الكتاب: لمحات الأصول
المؤلف: تقريرات البروجردي ، للسيد الخميني
الجزء:
الوفاة: ١٣٨٣
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قده) - قم
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٢١ - بهار ١٣٧٩ ش
المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج
الناشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قده) - قم
ردمك:
ملاحظات:

لمحات الاصول
إفادات الفقيه الحجة
اية الله العظمى البروجردي
بقلم
مؤسس الثورة الإسلامية ومجدد مذهب الإمامية
الفقيه المحقق آية الله العظمى
الإمام الخميني
تحقيق
مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني
هوية الكتاب 1

هوية الكتاب
* اسم الكتاب: لمحات الاصول *
* المؤلف: الإمام الخميني (قدس سره) *
* تحقيق ونشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره) *
* سنة الطبع: بهار 1379 - 1421 *
* الطبعة: الاولى *
* المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج *
* الكمية: 3000 نسخة *
* السعر: 16000 ريال *
جميع الحقوق محفوظة للناشر
هوية الكتاب 2

بسم الله الرحمن الرحيم
هوية الكتاب 3

مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل الكتاب تبيانا لكل شيء، وجعل السنة الشريفة
مفتاحا لفهمه، ومبينة لمعضلاته، والصلاة والسلام على أفضل من اوتي
الحكمة، وفصل الخطاب، وآله الطاهرين الأطياب، الذين هم عيبة علمه،
وموئل حكمه، صلاة دائمة ما دامت السماوات ذات أبراج، والأرض ذات فجاج.
أما بعد، فمن دواعي الخير وبواعث الفخر والاعتزاز أن أحظى بكتابة
مقدمة لسفر أملاه أحد مشايخي العظام؛ أعني السيد المحقق البروجردي،
ودبجته يراعة استاذي الكبير الإمام الخميني - قدس الله سرهما -.
استعرض في هذه الكلمة الموجزة الأدوار التي اجتازها علم الاصول؛
طوال قرون متوالية في الأوساط العلمية الشيعية الإمامية؛ ليكون القارئ
العزيز على بصيرة من تاريخ هذا العلم، ومراحله وأدواره، وكيفية نشوئه
وتطوره.
أتقدم بكلمتي هذه إلى رحاب الاستاذين الجليلين اللذين لهما حق عظيم
على العلم وأهله، كما أن لهما دورا في تطوير علم الاصول وتكامله في
المرحلة النهائية.
المقدمة 1

ولست بصدد الإدلاء بترجمتهما (قدس سرهما) وما تركا من الآثار الجليلة
والتصانيف، وأخص بالذكر الإمام الخميني وما قام به من خدمة كبيرة للإسلام
من خلال ثورته الإسلامية المباركة، والتي أعقبتها صحوة إسلامية على نطاق
واسع.
كيف، والإمام هو النجم الساطع، والجبل الأشم الذي لا ترقى إليه أنظار
المتطلعين، وليس بوسعي أن اقدم صورة واضحة المعالم عن سيرته وخدماته،
وجهاده والبصمات التي تركها على العقل الإسلامي، ولعل في هذا التقديم أداء
لجزء يسير مما علي من الحقوق الكبيرة للاستاذين العلمين، والرجاء الواثق أن
يحظى بالقبول لدى القراء الأعزاء.
اصول الفقه.. نشوؤه وأدواره
الإسلام عقيدة وشريعة. والعقيدة هي الإيمان بالله سبحانه وصفاته
والتعرف على أفعاله. والشريعة هي الأحكام والقوانين الكفيلة ببيان وظيفة
الفرد والمجتمع في حقول مختلفة تجمعها العبادات، والمعاملات، والإيقاعات،
والسياسات.
فالمتكلم الإسلامي من تكفل ببيان العقيدة، وبرهن على الإيمان بالله
سبحانه وصفاته الجمالية والجلالية، وأفعاله من لزوم بعث الأنبياء ونصب
الأوصياء لهداية الناس وحشرهم يوم المعاد.
كما أن الفقيه من قام ببيان الأحكام الشرعية الكفيلة بإدارة الفرد
المقدمة 2

والمجتمع، والتنويه بوظيفتهما أمام الله سبحانه ووظيفة كل منهما بالنسبة إلى
الآخر.
بيد أن لفيفا من العلماء أخذوا على عاتقهم بكلتا الوظيفتين، فهم في مجال
العقيدة أبطال الفكر وسنامه، وفي مجال التشريع أساطين الفقه وأعلامه، ولهم
الرئاسة التامة في فهم الدين على مختلف الأصعدة.
والكتاب الذي تزفه مؤسسة نشر آثار الإمام الخميني (قدس سره) إلى القراء
الكرام له صلة بالفقه والشريعة؛ حيث يعرف لنا القواعد الممهدة في استنباط
الأحكام الشرعية وما ينتهي إليه المجتهد في مقام العمل، وقد سمي منذ أول يوم
دون بعلم اصول الفقه لصلته الوثيقة بعلم الفقه، فهو أساس ذلك العلم وركنه،
وعماد الاجتهاد وسناده.
والاجتهاد: عبارة عن بذل الوسع في استنباط الأحكام الشرعية من
مصادرها، وهو رمز خلود الدين وحياته، وجعله غضا طريا مصونا عن
الاندراس عبر القرون، ومغني المسلمين عن التطفل على موائد الأجانب. ويتضح
ذلك من خلال امور:
1 - إن طبيعة الدين الإسلامي - وأنه خاتم الأديان إلى يوم القيامة -
تقتضي فتح باب الاجتهاد؛ لما سيواجه الدين في مسيرته من أحداث وتحديات
مستجدة، وموضوعات جديدة لم يكن لها مثيل أو نظير في عصر النص، فلا
محيص عن معا لجتها؛ إما من خلال بذل الجهود الكافية في فهم الكتاب والسنة
وغيرهما من مصادر التشريع واستنباط حكمها، وإما اللجوء إلى القوانين
الوضعية، أو عدم الإفصاح عن حكمها وإهمالها.
والأول هو المطلوب، والثاني سيشكل نقصا في التشريع الإسلامي، وهو
المقدمة 3

سبحانه قد أكمل دينه بقوله: (أليوم أكملت لكم دينكم)، والثالث لا ينسجم
مع طبيعة الحياة ونواميسها.
2 - لم يكن كل واحد من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) متمكنا من دوام الحضور
عنده (صلى الله عليه وآله وسلم) لأخذ الأحكام عنه، بل كان في مدة حياته يحضره بعضهم دون
بعض، وفي وقت دون وقت، وكان يسمع جواب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - عن كل مسألة
يسأل عنها - بعض الأصحاب ويفوت عن الآخرين، فلما تفرق الأصحاب بعد
وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) في البلدان، تفرقت الأحكام المروية عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها، فتروى في
كل بلدة منها جملة، وتروى عنه في غير تلك البلدة جملة اخرى؛ حيث إنه قد
حضر المدني من الأحكام ما لم يحضره المصري، وحضر المصري ما لم يحضره
الشامي، وحضر الشامي ما لم يحضره البصري، وحضر البصري ما لم يحضره
الكوفي إلى غير ذلك، وكان كل منهم يجتهد فيما لم يحضره من الأحكام (1).
إن الصحابي قد يسمع من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في واقعة حكما، ويسمع الآخر في
مثلها خلافه، وتكون هناك خصوصية في أحدهما اقتضت تغاير الحكمين، وغفل
أحدهما عن الخصوصية، أو التفت إليها وغفل عن نقلها مع الحديث، فيحصل
التعارض في الأحاديث ظاهرا؛ بالرغم من عدم تنافيهما واقعا، ولهذه الأسباب
وأضعاف أمثالها، احتاج حتى نفس الصحابة - الذين فازوا بشرف الحضور - في
معرفة الأحكام إلى الاجتهاد والنظر في الحديث، وضم بعضه إلى بعض،
والالتفات إلى القرائن الحالية، فقد يكون للكلام ظاهر ومراد النبي خلافه
اعتمادا على قرينة في المقام، والحديث نقل والقرينة لم تنقل.
وكل واحد من الصحابة - ممن كان من أهل الرأي والرواية - تارة يروي

1 - المقريزي، الخطط: 2 / 333.
المقدمة 4

نفس ألفاظ الحديث للسامع من بعيد أو قريب، فهو في هذا الحال راو ومحدث،
وتارة يذكر الحكم الذي استفاده من الرواية أو الروايات بحسب نظره، فهو في
هذا الحال مفت وصاحب رأي (1).
3 - وهناك وجه ثالث: وهو أن صاحب الشريعة ما عني بالتفاصيل
والجزئيات؛ لعدم سنوح الفرصة لبيانها، أو تعذر بيان حكم موضوعات لم يكن
لها نظير في حياتهم، بل كان تصورها - لعدم وجودها - أمرا صعبا على المخاطبين،
فلا محيص لصاحب الشريعة عن إلقاء اصول كلية ذات مادة حيوية قابلة لاستنباط
الأحكام وفقا للظروف والأزمنة.
4 - إن حياة الدين مرهونة بمدارسته ومذاكرته، ولو افترضنا أن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكر التفاصيل والجزئيات وأودعها بين دفتي كتاب، لاستولى الركود
الفكري على عقلية الامة، ولا نحسر كثير من المفاهيم والقيم الإسلامية عن
ذهنيتها، وأوجب ضياع العلم وتطرق التحريف إلى أصوله وفروعه؛ حتى إلى
الكتاب الذي فيه تلك التفاصيل.
وعلى هذا لم تقم للإسلام دعامة، ولا حفظ كيانه ونظامه، إلا على ضوء
هذه البحوث العلمية والنقاشات الدارجة بين العلماء، أو رد صاحب فكر على
ذي فكر آخر بلا محاباة.
وقد حكى شيخنا العلامة المتضلع شيخ الشريعة الأصفهاني (قدس سره) (1266 -
1339 ه‍) في مقدمة كتابه " إبانة المختار " عن بعض الأعلام كلاما يعرب عما
قلناه، قال: " إن عدم محاباة العلماء بعضهم لبعض، من أعظم مزايا هذه الامة التي
أعظم الله بها عليهم النعمة؛ حيث حفظهم عن وصمة محاباة أهل الكتابين، المؤدية

1 - كاشف الغطاء، أصل الشيعة: 118.
المقدمة 5

إلى تحريف ما فيهما واندراس تينك الملتين، فلم يتركوا لقائل قولا فيه أدنى
دخول إلا بينوه، ولفاعل فعلا فيه تحريف إلا قوموه، حتى اتضحت الآراء،
وانعدمت الأهواء، ودامت الشريعة البيضاء على ملء الآفاق بأضوائها، وشفاء
القلوب بها من أدوائها، مأمونة عن التحريف، ومصونة عن التصحيف.
فإذا كان هذه مكانة الاجتهاد ومنزلته ودوره في خلود الشريعة، فعلم
الاصول هو الذي يتطرق إلى كيفية الاجتهاد والاستنباط، ويذلل للفقيه استنباط
الحكم من مصادره الشرعية.
القواعد الكلية في أحاديث الأئمة
لم يكن علم الاصول بمحتواه أمرا مغفولا عنه، فقد أملى الإمام الباقر (عليه السلام)
وأعقبه الصادق (عليه السلام) على أصحابهم قواعد كلية في الاستنباط، رتبها بعض
الأصحاب على ترتيب مباحث اصول الفقه.
وممن ألف في ذلك المضمار:
1 - المحدث الحر العاملي (ت عام 1104) مؤلف كتاب " الفصول المهمة
في اصول الأئمة "، وهذا الكتاب يشتمل على القواعد الكلية المنصوصة في
اصول الفقه وغيرها.
2 - السيد العلامة شبر عبد الله بن محمد الرضا الحسيني الغروي (ت عام
1242) له كتاب " الاصول الأصلية ".
3 - السيد الشريف الموسوي، هاشم بن زين العابدين الخوانساري
الأصفهاني، له كتاب " اصول آل الرسول "، وقد وافته المنية عام 1318 ه‍.
فهذه الكتب الحاوية على النصوص المروية عن أئمة أهل البيت في
القواعد والاصول الكلية في مجال اصول الفقه، تعرب عن العناية التي يوليها
المقدمة 6

أئمة أهل البيت (عليهم السلام) لهذا العلم.
وقد تبعهم أصحابهم، فهذا هو:
يونس بن عبد الرحمان (ت 208 ه‍)
يقول النجاشي: كان يونس بن عبد الرحمن وجها في أصحابنا متقدما عظيم
المنزلة، روى عن أبي الحسن موسى والرضا (عليهما السلام). فقد صنف كتاب " اختلاف
الحديث ومسائله "، وهو نفس باب التعادل والتراجيح في الكتب الاصولية.
أبو سهل النوبختي إسماعيل بن علي (237 - 311 ه‍)
يقول النجاشي: كان شيخ المتكلمين من أصحابنا وغيرهم، له جلالة في
الدنيا والدين... إلى أن قال: له كتاب " الخصوص والعموم "، و " الأسماء
والأحكام " (1).
ويقول ابن النديم: هو من كبار الشيعة، وكان فاضلا عالما متكلما، وله
مجلس تحضره جماعة من المتكلمين... إلى أن قال: له كتاب " إبطال
القياس " (2).
الحسن بن موسى النوبختي
عرفه النجاشي بقوله: شيخنا المتكلم المبرز على نظرائه في زمانه قبل

1 - النجاشي، الرجال، برقم 67.
2 - ابن النديم، الفهرست: 225.
المقدمة 7

الثلاثمائة وبعدها. وذكر من كتبه " خبر الواحد والعمل به " (1).
يقول ابن النديم: الحسن بن موسى ابن اخت أبي سهل بن نوبخت، متكلم
فيلسوف، كان يجتمع إليه جماعة من النقلة لكتب الفلسفة (2).
يقول ابن حجر: الحسن بن موسى النوبختي، أبو محمد، من متكلمي
الإمامية، وله تصانيف كثيرة (3).
اصول الفقه وأدواره
اجتاز علم الاصول من لدن تأسيسه إلى زماننا هذا مرحلتين،
وامتازت المرحلة الثانية بالإبداع والابتكار وطرح مسائل مستجدة، لم تكن
مذكورة في كتب الفريقين.
المرحلة الاولى:
ابتدأت المرحلة الاولى منذ أوائل القرن الثالث إلى عصر العلامة الحلي
(648 - 726) وقد اجتازت أدوارا ثلاثة.
الدور الأول (دور النشوء)
وقد بدئ بإفراد بعض المسائل الاصولية بالتأليف، دون أن يعم كافة

1 - النجاشي، الرجال، برقم 146.
2 - ابن النديم، الفهرست: 225.
3 - ابن حجر، لسان الميزان 2: 258 برقم 175.
المقدمة 8

المسائل المعنونة في هذا العلم يومذاك، ولم نقف في هذا الدور على كتاب عام
يشمل جميع مسائله، وقد عرفت أن يونس بن عبد الرحمن صنف كتاب " اختلاف
الحديث ومسائله "، وأبا سهل النوبختي كتاب " الخصوص والعموم " و " إبطال
القياس "، والحسن بن موسى النوبختي كتاب " خبر الواحد والعمل به "، وبالرغم
من ذلك فقد ازدهرت حركة الاستنباط والاجتهاد بين أصحابنا في هذا الدور،
فهذا هو " الحسن بن علي العماني " شيخ فقهاء الشيعة، المعاصر للشيخ الكليني
(ت 329 ه‍) ألف كتاب " المتمسك بحبل آل الرسول ".
يقول النجاشي: أبو محمد العماني فقيه متكلم ثقة، له كتب في الفقه
والكلام، منها كتاب " المتمسك بحبل آل الرسول " كتاب مشهور في الطائفة.
وقيل: ما ورد الحاج من خراسان إلا طلب واشترى منه نسخا (1).
كما ألف الشيخ الكبير أبو علي الكاتب الإسكافي (ت 381 ه‍) كتاب
" تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة " في الفقه، وهو كتاب كبير جامع، ذكر فهرس
كتبه الشيخ النجاشي في رجا له، وله كتاب " الأحمدي في الفقه المحمدي ".
يقول النجاشي: وجه في أصحابنا ثقة جليل القدر صنف فأكثر (2).
الدور الثاني (دور النمو)
إن حاجة المستنبط في علم الاصول لم تكن مقصورة على عصر دون
عصر، بل كلما تقدمت عجلة الحضارة نحو الأمام، ازدادت الحاجة إلى تدوين

1 - النجاشي، الرجال، برقم 99.
2 - المصدر السابق، برقم 1048.
المقدمة 9

قواعد الاستنباط؛ للإجابة على الحوادث المستجدة وملابساتها التي كان الفقهاء
يواجهونها طي الزمان، مما ترك تأثيرا إيجابيا على علم الاصول وساهم في نموه،
فأفردوا جميع المسائل - بدل البعض كما في الدور الأول - بالتأليف، وقد تحمل
ذلك العبء ثلة من أساطين العلم وسنامه منهم:
أ - شيخنا وشيخ الامة محمد بن النعمان، المشهور بالمفيد (336 - 413)
صنف كتابا باسم " التذكرة باصول الفقه " وطبعت في ضمن مصنفاته (1)، ونقل
خلاصته شيخنا الكراجكي (ت 449) في كتابه " كنز الفوائد ".
ب - السيد الشريف علي بن الحسين، المعروف بالمرتضى (355 - 436).
قال النجاشي: حاز من العلوم ما لم يدانه أحد في زمانه، وسمع من الحديث
فأكثر، وكان متكلما شاعرا أديبا عظيم المنزلة في العلم والدين والدنيا، وعد من
كتبه " الذريعة "، وقد طبع الكتاب في جزءين طباعة منقحة، وقد عثرت على
نسخة خطية منها في مدينة " قزوين " جاء في آخرها أن المؤلف فرغ من تأليفها
عام 400 ه‍، وقد نقل عنه جل من تأخر من السنة والشيعة.
ج - محمد بن الحسن، المعروف بالشيخ الطوسي (358 - 460).
يقول النجاشي: أبو جعفر، جليل من أصحابنا، ثقة عين، من تلامذة شيخنا
أبي عبد الله، وعد من كتبه كتاب " العدة في اصول الفقه " (2)، وقد طبع غير مرة،
وهو كتاب مفصل مبسوط يحتوي على الآراء الاصولية المطروحة في عصره.
د - سلار بن عبد العزيز الديلمي (000 - 463) ألف " التقريب في اصول

1 - المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى الألفية لوفاة الشيخ المفيد، المصنفات 9 / 5.
2 - النجاشي، الرجال، برقم 1069.
المقدمة 10

الفقه " ذكره في الذريعة (1).
الدور الثالث (دور الازدهار)
بدأ هذا الدور منذ أواخر القرن السادس إلى أواسط القرن الثامن، وقد صنف
أصحابنا كتبا خاصة في اصول الفقه تعرب عن الإنجازات الضخمة، والمنزلة
الراقية التي بلغها علم الاصول من خلال دراسة مسائله بإسهاب ودقة وإمعان
أكثر، ومن المصنفين في هذا الحقل:
أ - الفقيه البارع السيد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي (511 - 558)
مؤلف كتاب " غنية النزوع إلى علمي الاصول والفروع "، وكتابه هذا يدور على
محاور ثلاثة: العقائد والمعارف، اصول الفقه، والفروع. وقد طبع الكتاب محققا
في مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام) في جزءين، والناظر في قسم اصول الفقه يرى
فيه التفتح والازدهار بالنسبة إلى ما سبقه.
ب - الشيخ سديد الدين محمود بن علي بن حسن الحمصي الرازي، وقد
صنف كتابه " المنقذ من التقليد والمرشد إلى التوحيد " عام 581 في الحلة
الفيحاء، عند منصرفه من زيارة الحرمين بالحجاز (2).
وقال منتجب الدين الرازي: الشيخ الإمام سديد الدين علامة زمانه في
الاصولين، ورع ثقة، وذكر مصنفاته التي منها: " المصادر في اصول الفقه "
و " التبيين والتنقيح في التحسين والتقبيح " (3).

1 - الطهراني، الذريعة 4: 365، وذكر أنه توفي في السفر سنة 448 وهو موضع تأمل.
2 - لاحظ المنقذ من التقليد، مقدمة المؤلف: 17.
3 - منتجب الدين، الفهرست، برقم 389.
المقدمة 11

ج - نجم الدين جعفر بن الحسن بن أبي زكريا الهذلي الحلي، المكنى بأبي
القاسم، الملقب بنجم الدين، والمشتهر بالمحقق (602 - 676).
قال ابن داود في رجا له: جعفر بن الحسن، المحقق المدقق الإمام العلامة
واحد عصره، كان ألسن أهل زمانه، وأقومهم بالحجة، وأسرعهم استحضارا،
قرأت عليه ورباني صغيرا، وكان له علي إحسان عظيم. وذكر من تأليفه:
" المعارج في اصول الفقه " (1)، وقد طبع غير مرة، وهو وإن كان صغير الحجم،
لكنه كثير المعنى شأن كل ما جادت به قريحته في عالم التأليف، فهذا كتابه
" شرائع الإسلام " عكف عليه العلماء في جميع الأعصار، وكتبوا عليه شروحا
وتعاليق وقد طبع في إيران ولبنان.
وقال في أعيان الشيعة: ومن كتبه " نهج الوصول إلى معرفة علم
الاصول " (2).
د - الحسن بن يوسف المطهر، المعروف بالعلامة الحلي (648 - 726)
وهو غني عن التعريف، برع في المعقول والمنقول، وتقدم على العلماء الفحول،
وهو في عصر الصبا، أخذ عن فقيه أهل البيت الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر
بن الحسن، خاله، وعن أبيه سديد الدين يوسف بن مطهر الحلي، وأخذ العلوم
العقلية عن نصير الدين الطوسي وغيره.
وقد ألف في غير واحد من الموضوعات النقلية والعقلية، كما ألف في
اصول الفقه تصانيف عديدة ذكرها السيد الأمين في أعيانه، نشير إليها:
1 - النكت البديعة في تحرير الذريعة للسيد المرتضى.

1 - ابن داود، الرجال: 83.
2 - السيد الأمين، أعيان الشيعة 4: 92، لاحظ الذريعة: 24 / 426.
المقدمة 12

2 - غاية الوصول وإيضاح السبل في شرح مختصر منتهى الوصول لابن
الحاجب.
3 - " مبادئ الوصول إلى علم الاصول " مطبوع في ذيل " المعارج "
للمحقق.
4 - " نهاية الوصول إلى علم الاصول " في أربعة أجزاء (1).
5 - " تهذيب الوصول في علم الاصول " صنفه باسم ولده فخر الدين، وهو
مطبوع. وقد كتب عليه شروح وتعاليق مذكورة في أعيان الشيعة (2).
ه‍ - عبد المطلب بن أبي الفوارس بن محمد بن علي الأعرجي الحسيني،
ابن اخت العلامة الحلي.
وصفه الشهيد الأول بقوله: السيد الإمام فقيه أهل البيت (عليهم السلام) في
زمانه، عميد الحق والدين، أبو عبد الله عبد المطلب بن الأعرج الحسيني.
كما وصفه غيره بقوله: درة الفخر وفريد الدهر، مولانا الإمام الرباني،
وهو ابن اخت العلامة الحلي (رحمه الله) وقد ألف كتبا كثيرة في الفقه وغيره، كما ألف في
اصول الفقه كتابه " منية اللبيب في شرح التهذيب " (3) لخاله العلامة الحلي،
وقد فرغ منه في الخامس عشر من رجب سنة 740 ه‍ (4).
و - السيد ضياء الدين عبد الله بن أبي الفوارس ابن اخت العلامة الحلي،
فقد شرح كتاب تهذيب الاصول لخاله، وقام الشهيد بالجمع بين الشرحين،

1 - نحتفظ بنسخة منها في مكتبة مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام) في قم المقدسة.
2 - السيد الأمين، أعيان الشيعة 5: 404.
3 - نحتفظ بنسخة من هذا الكتاب في مكتبة مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام) في قم المقدسة.
4 - السيد الخوانساري، روضات الجنات: 261.
المقدمة 13

وسماه ب‍ " جامع البين الجامع بين شرحي الأخوين ".
ز - فخر المحققين محمد بن الحسن نجل العلامة الحلي المتوفى سنة
(771 ه‍) فقد شرح تهذيب والده وسماه ب‍ " غاية السئوال ".
كان الأمل أن يواكب التأليف تقدم العصر، ولكن الركب توقف عن متابعة
هذا التطور وأخلد إلى الركود، فلا نكاد نعثر على تصانيف اصولية بعد شيخنا
عميد الدين إلا ما ندر، كمقدمة المعالم للمحقق الشيخ حسين صاحب المعالم
نجل الشهيد الثاني (ت 1011).
نعم انصبت الجهود على تدوين القواعد الفقهية وتنظيمها بشكل بديع
نستعرض بعضها:
1 - ألف محمد بن مكي، المعروف ب‍ " الشهيد الأول " (734 - 786) كتاب
" القواعد والفوائد "، وقد استعرض فيه 302 قاعدة، ومع الاعتراف بفضله
وتقدمه في التأليف، لم يفصل القواعد الفقهية عن الاصولية أو العربية، كما لم
يرتب القواعد الفقهية على أبواب الفقه المشهورة؛ مما حدا بتلميذه المقداد
عبد الله السيوري إلى ترتيب تلك القواعد كما سيوافيك.
2 - الفقيه المتبحر والاصولي المتكلم مقداد بن عبد الله السيوري
(ت 826 ه‍) من أكابر رجال العلم والتحقيق، فقد قام بترتيب كتاب القواعد لشيخه
الشهيد، وسماه ب‍ " نضد القواعد الفقهية على مذهب الإمامية "، وقد طبع محققا
عام (1404 ه‍).
3 - الشيخ الأجل زين الدين بن نور الدين علي بن أحمد، المعروف
ب‍ " الشهيد الثاني " (911 - 965)، ولد في عائلة نذرت نفسها للدين والعلم، وقد
ألف في غير واحد من الموضوعات، ومن آثاره كتابه: " تمهيد القواعد "، جمع في
المقدمة 14

هذا الكتاب بين فني تخريج الفروع على الاصول وتخريج الفروع على القواعد
العربية، وهو كتاب قل نظيره عظيم المنزلة، طبع مرة مع كتاب " الذكرى " للشهيد
الأول، كما طبع أخيرا محققا في مشهد الرضا. استعرض المؤلف فيه مئتي قاعدة،
وفرغ منها في مستهل عام 958 ه‍.
إلى هنا تمت المرحلة الاولى التي طواها علم الاصول، وحان الآن
استعراض المرحلة الثانية.
المرحلة الثانية: مرحلة الإبداع والابتكار
ظهرت الأخبارية في أواخر القرن العاشر وبداية القرن الحادي عشر على
يد الشيخ محمد أمين الأسترآبادي (ت 1033) فشن حملة شعواء على الاصول
والاصوليين، وزيف مسلك الاجتهاد المبني على القواعد الاصولية، وزعم أن
طريقة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وأصحابه تخالف ذلك المسلك، فمما قاله في ذم
الاجتهاد:
وأول من غفل عن طريقة أصحاب الأئمة (عليهم السلام) واعتمد على فن الكلام
وعلى اصول الفقه، المبنيين على الأفكار العقلية المتداولة بين العامة، محمد
بن أحمد بن الجنيد العامل بالقياس، وحسن بن علي بن أبي عقيل العماني
المتكلم، ولما أظهر الشيخ المفيد حسن الظن بتصانيفهما بين أصحابه - ومنهم
السيد الأجل المرتضى وشيخ الطائفة - شاعت طريقتهما بين متأخري أصحابنا
حتى وصلت النوبة إلى العلامة الحلي، فالتزم في تصانيفه أكثر القواعد
الاصولية من العامة، ثم تبعه الشهيدان والفاضل الشيخ علي - رحمهم الله
المقدمة 15

تعالى - (1).
أقول: الأخبارية منهج مبتدع؛ ولم يكن بين علماء الشيعة إلى زمان
ظهورها منهجان متقابلان متضادان في مجال الفروع باسم المنهج الاصولي
والأخباري؛ حتى يكون لكل منهج، مبادئ مستقلة يناقض أحدهما الآخر، بل
كان الجميع على خط واحد، وكان الاختلاف في لون الخدمة وكيفية أداء
الوظيفة.
والعجب أنه استدل على انقسام علماء الإمامية إلى أخباريين واصوليين
بأمرين:
1 - ما ذكره شارح المواقف؛ حيث قال: " كانت الإمامية أولا على مذهب
أئمتهم حتى تمادى بهم الزمان فاختلفوا وتشعب متأخروهم إلى المعتزلة وإلى
الأخباريين ".
وما ذكره الشهرستاني في أول كتاب " الملل والنحل " من أن الإمامية كانوا
في الأول على مذهب أئمتهم في الاصول، ثم اختلفوا في الروايات عن أئمتهم
حتى تمادى بهم الزمان، فاختارت كل فرقة طريقة، فصارت الإمامية بعضها
معتزلة إما وعيدية وإما تفضيلية، وبعضها أخبارية مشبهة وإما سلفية.
2 - ما ذكره العلامة في " نهايته " عند البحث عن جواز العمل بخبر
الواحد، فقال:
" أما الإمامية: فالأخباريون منهم لم يعولوا في اصول الدين وفروعه إلا
على أخبار الآحاد، والاصوليون منهم - كأبي جعفر الطوسي وغيره - وافقوا على
خبر الواحد، ولم ينكره سوى المرتضى وأتباعه ".

1 - الأسترآبادي، الفوائد المدنية: 44، الطبعة الحجرية.
المقدمة 16

ولابد هنا من تعليقة مختصرة:
إن كلا الشاهدين أجنبيان عما يرومه الأمين.
أما الشاهد الأول: فهو نقله بالمعنى، ولو نقل النص بلفظه لظهر للقارئ
الكريم ما رامه شارح المواقف وإليك نصه: "... وتشعب متأخروهم إلى
" المعتزلة ": إما وعيدية أو تفضيلية (ظ. تفضلية) وإلى " أخبارية " يعتقدون
ظاهر ما وردت به الأخبار المتشابهة، وهؤلاء ينقسمون إلى " مشبهة " يجرون
المتشابهات على أن المراد بها ظواهرها، و " سلفية " يعتقدون أن ما أراد الله بها
حق بلا تشبيه كما عليه السلف، وإلى ملتحقة بالفرقة الضالة.
وبالتأمل في نص كتاب " المواقف " يظهر فساد الاستنتاج؛ وذلك لأن مسلك
الأخبارية الذي ابتدعه الشيخ الأمين ليس إلا مسلكا فقهيا قوامه عدم حجية
ظواهر الكتاب أولا، ولزوم العمل بالأخبار قاطبة من دون إمعان النظر في
الأسناد، وعلاج التعارض بالحمل على التقية وغيرها ثانيا، وعدم حجية العقل
في استنباط الأحكام ثالثا.
وما ذكره شارح المواقف والشهرستاني - من تقسيم الشيعة إلى أخبارية
وغيرها - راجع إلى المسائل العقائدية دون الفقهية، فعلى ما ذكراه فالشيعة
تشعبت في تفسير الصفات الخبرية - كاليد والاستواء والوجه وغير ذلك مما
ورد في الأخبار بل الآيات - إلى طوائف ثلاث: مشبهة، وسلفية، وملتحقة
بالفرق الضالة.
والحكم بأن ما ذكره شارح المواقف راجع إلى المسلك الذي ابتدعه
الأسترآبادي، عجيب جدا مع اختلافهما في موضوع البحث، فأين العمل بظواهر
الأخبار في صفاته سبحانه، عن الأخبارية التي ابتدعها الأمين الأسترآبادي
المقدمة 17

في سبيل استخراج الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة، مضافا إلى أن مسلكه
مبني على اسس وقوائم لم تكن معروفة عند غيره.
وأما الشاهد الثاني - أعني ما ذكره العلامة -: فهو أيضا لا يمت بصلة إلى
مسلك الأخبارية المبتدع، بل هو راجع إلى مسألة خلافية بين علماء الإمامية
منذ زمن بعيد؛ وهل أن الخبر الواحد حجة في الاصول كما هو حجة في الفروع
أو لا؟ فالمحدثون والذين سبروا غور الأخبار، ذهبوا إلى القول الأول،
والاصوليون الذين حكموا العقل في مجال العقائد قالوا بالثاني.
فالأخباري في كلام العلامة هو من يمارس الخبر ويدونه شأن كل
محدث، لا من يسلك مسلك الأخباريين في استنباط الأحكام الشرعية.
إن هذه الفكرة الخاطئة الشاذة عن الكتاب والسنة وإجماع الأصحاب
الأوائل، شغلت بال العلماء من أصحابنا ما يقرب من قرنين، وأضحت تلك البرهة
فترة ركود الاصول وتألق نجم الأخبارية، فترى أن أكثر مؤلفاتهم تعلو عليها
صبغة الأخبارية، وهم بين متطرف كالأمين الأسترآبادي، ومعتدل كالشيخ
يوسف البحراني (ت 1186 ه‍) صاحب الحدائق الناضرة.
ومن سوء الحظ أن النزاع بين أصحاب المسلكين لم يقتصر على نطاق
المحافل العلمية، بل تسرب إلى الأوساط العامة والمجتمعات، فاريقت دماء
طاهرة، وهتكت أعراض من جراء ذلك، وقتل فيها الشيخ أبو أحمد الشريف محمد
بن عبد النبي المحدث النيسابوري، المعروف بميرزا محمد الأخباري (1178 -
1233) لما تجاهر بذم الاصوليين قاطبة والنيل منهم، فلقي حتفه عند هجوم
العامة عليه عن عمر يناهز 55 عاما.
بالرغم من الهجوم العنيف الذي شنه الأمين الأسترآبادي واتباعه على
المقدمة 18

الحركة الاصولية، نرى أن هناك من أخذ بزمام الحركة؛ بتأليف كتب استطاعت
حينها أن تصمد بوجه الإخبارية وتذود عن كيان الحركة الاصولية، وقاموا
بمحاولات:
1 - فقد قام الشيخ عبد الله التوني (ت 1071) بتصنيف كتاب " الوافية في
علم الاصول " وقد طبع أخيرا محققا.
2 - كما ألف المحقق الجليل السيد حسين الخوانساري (ت 1098) كتاب
" مشارق الشموس في شرح الدروس "، وهو وإن كان كتابا فقهيا، ولكنه طرح
فيه أفكارا اصولية بلون فلسفي.
3 - صنف الشيخ المحقق محمد حسن الشيرواني (ت 1098) تعليقته على
" المعالم "، وهو مطبوع على متن كتاب " المعالم ".
4 - قام المحقق جمال الدين محمد بن الحسين الخوانساري (ت 1121 أو
1125) بتصنيف تعليقة على شرح مختصر الاصول للعضدي، كما هو مذكور في
ترجمته.
وهذه الكتب - المؤلفة في فترة انقضاض الحركة الأخبارية على
المدرسة الاصولية - مهدت لظهور حركة اصولية جديدة تبناها المحقق
الوحيد البهبهاني (1118 - 1206) الذي فتح بأفكاره آفاقا جديدة في علم
الاصول.
دور المحقق البهبهاني في إنعاش المذهب
وكان للاستاذ الأكبر الشيخ محمد باقر الوحيد البهبهاني (1118 - 1206)
دور فعال في إخماد نائرة الفتنة؛ بالرد القاطع على الأخباريين، وتزييف
المقدمة 19

أفكارهم، وتربية جيل من العلماء والمفكرين على اسس مستقاة من الكتاب
والسنة والعقل الصريح، واتفاق الأصحاب، واستطاع أن يشيد للاصول أركانا
جديدة، ودعامات رصينة، فنهض بالاصول من خموله الذي دام قرنين، معلنا
بانتهاء عصر الركود وابتداء عصر التطور والابتكار.
وبذر البذرة الاولى التي تلقفها العلماء بعده بالرعاية حتى أينعت وأثمرت
ثمارها على يد أساطين من العلماء في غضون الأدوار الآتية، وبها امتازت هذه
المرحلة عما سبقها من المرحلة الاولى:
1 - الدور الأول (دور الانفتاح)
ابتدئ هذا الدور بنخبة من تلامذة الوحيد البهبهاني، وفي طليعتهم:
أ - السيد مهدي الطباطبائي المعروف ببحر العلوم (1155 - 1212).
ب - الشيخ جعفر كاشف الغطاء النجفي (ت 1228 ه‍) صاحب كتاب
" كشف الغطاء ".
ج - الاصولي المتبحر الميرزا أبو القاسم الجيلاني القمي (1150 -
1231 ه‍) صاحب كتاب " القوانين ".
د - الفقيه الفحل السيد علي (1161 - 1231) صاحب كتاب " رياض
المسائل "، الذي طبع أخيرا في عشرة أجزاء محققا.
2 - الدور الثاني (دور النضوج)
ابتدأ هذا الدور بتلاميذ خريجي مدرسة البهبهاني، فقاموا بوضع صياغة
جديدة للاسس الاصولية من منظار جديد، وعلى رأسهم:
المقدمة 20

أ - الشيخ محمد تقي بن عبد الرحيم الأصفهاني (ت 1248) صاحب
" الحاشية على معا لم الاصول ".
ب - أخوه الجليل الشيخ محمد حسين الأصفهاني (ت 1261) صاحب
" الفصول ".
ج - الشيخ الجليل محمد شريف الآملي المازندراني، المعروف بشريف
العلماء (ت 1245 ه‍) وكفى به فخرا أن الشيخ مرتضى الأنصاري - ذلك النجم
اللامع في سماء الاصول - ممن استسقى من فياض علمه، وقد بقيت من آثاره
العلمية رسالة " جواز أمر الآمر مع العلم بانتفاء الشرط ".
3 - الدور الثالث (دور التكامل)
بلغ فيه علم الاصول الذروة في التحقيق والتعميق والبحث، وتطرقت إليه
مسائل جديدة لم تكن مألوفة فيما سبق، ويعتبر الشيخ مرتضى الأنصاري
(1214 - 1281) هو البطل المقدام في هذا الحقل؛ حيث استطاع بعقليته الفذة أن
يشيد أركانا جديدة لعلم الاصول، بلغ بها قمة التطور والتكامل.
وأنت إذا قارنت المؤلفات الاصولية في هذه البرهة مع ما الف في
المرحلة الاولى وحتى مستهل المرحلة الثانية، تجد بينهما بونا شاسعا يتراءى
في بادئ النظر كأنهما علمان، وما هذا إلا بفضل التطور والتكامل الذي طرأ على
بنية الاصول على يد هذا العبقري الفذ، ولم يزل ينبوعه فياضا إلى يومنا هذا.
وخرج من مدرسته العديد من الفطاحل والعباقرة، وأخص بالذكر منهم:
أ - السيد الإمام المجدد الشيرازي (1224 - 1312).
ب - المحقق الكبير الشيخ محمد كاظم الخراساني (1255 - 1329) مؤلف
المقدمة 21

كتاب " كفاية الاصول " ويعد كتابه هذا محور البحوث الاصولية في الحوزات
العلمية إلى يومنا هذا.
وقد تخرج على يدهما - خاصة الأخير - نخبة من رجال الفكر والعلماء
البارعين في علم الاصول:
منهم: المحقق البارع الميرزا حسين النائيني (1274 - 1355) وقد دون
آراءه تلميذه البارع الشيخ محمد علي الكاظمي (1309 - 1365) وقد نشر كتابه
باسم " فوائد الاصول "، كما دون تلك الآراء أيضا تلميذه الآخر المرجع الديني
السيد أبو القاسم الخوئي (1317 - 1413).
ومنهم: الشيخ المحقق ضياء الدين العراقي (1278 - 1361) صاحب
كتاب " المقالات في علم الاصول "، وقد دون أفكاره العالم البارع الشيخ هاشم
الآملي (1322 - 1412) في كتاب " بدائع الأفكار ".
ومنهم: المحقق الكبير الشيخ محمد حسين الأصفهاني (1296 - 1361)
وقد تخرج من مدرسته طليعة من العلماء، منهم سيدنا المحقق العلامة
الطباطبائي (1321 - 1401) والسيد المحقق محمد هادي الميلاني (1313 -
1395).
وأخيرهم لا آخرهم سيد مشايخنا السيد المحقق حسين البروجردي
(1292 - 1380) فقد قضى عشرة أعوام من عمره الشريف في درس المحقق
الخراساني، ودون شيئا من أفكار استاذه، وناقشها في موارد خاصة تتجلى في
تعليقته الثمينة على " كفاية الاصول " في جزءين.
المقدمة 22

قم المقدسة حرم أهل البيت (عليهم السلام)
إن مدينة قم المقدسة كانت بلدة عامرة بالعلم والفقه منذ القرن الثاني إلى
أواخر القرن الرابع، اكتظت بعباقرة الحديث والفقه والرجال، ومنها انتشر العلم
إلى سائر الأمصار.
فالمحدثون القميون عرفوا في سماء الحديث والفقه، وكفاك أن إبراهيم بن
هاشم، وابنه علي بن إبراهيم، وأحمد بن محمد بن خالد البرقي، وأحمد بن محمد
بن عيسى الأشعري، ومحمد بن أحمد بن عمران الأشعري، وغيرهم من جهابذة
الحديث والفقه، خريجوا مدرسة قم، وقد تركوا مصنفات ثمينة بقيت مصونة
عن حوادث الزمان.
نعم: لم يبق تألق نجم العلم في هذه البلدة على منوال واحد، بل توالى
عليه طلوع وغروب مرة تلو اخرى إلى أن ساق القضاء رجل العلم والفضيلة،
مثال الزهد والتقى، آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي - إليها عام
1340، فقام بتأسيس الحوزة العلمية فيها ونفض الغبار عن كاهل حوزتها
القديمة، ونفث روحا جديدة في عروقها في حين كانت رياح الضلال تعصف في
أرجاء العالم كله، ووقعت إيران العزيزة في مهب رياحه، لكن شاءت الأقدار
الإلهية أن تكون الحوزة العلمية سدا منيعا أمام التيارات الإلحادية، ووتدا
راسخا يحول دون الهزة العلمانية، فأضحت منارا فياضا يشع نورا وهداية في
قلوب الامة الإسلامية؛ على وجه تمثل قول أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في حق
هذه البلدة الطيبة.
هبط المؤسس آية الله الحائري مدينة قم في 22 من شهر رجب المرجب
المقدمة 23

من عام 1340 ه‍، وتقاطر رواد العلم إليها من كل فج عميق، فانتعش العلم
ببركته، وخرج طليعة من رواد العلم والعلماء إلى أن لبى نداء ربه في أواخر
سنة 1355 ه‍، وبذلك فقدت الحوزة العلمية أكبر زعيم لها ومؤسسها، ولكن
استمر عطاء الحوزة العلمية على يد تلامذته، فقاموا برعاية الجامعة العلمية
بعد رحيله أحسن رعاية، وأخذوا بزمام الامور بعزم سديد ويد من حديد في جو
مشحون بأنواع من المحن والشدائد، التي كادت أن تقلع جذور تلك الشجرة
المباركة الطيبة، وينبغي علينا ذكرهم إجلالا للجهود الثمينة التي بذلوها
والعناية التي أولوها.
1 - آية الله السيد محمد الحجة (1301 - 1372).
2 - آية الله السيد صدر الدين الصدر (1299 - 1373).
3 - آية الله السيد محمد تقي الخوانساري (1305 - 1371).
وهؤلاء الأقطاب الثلاثة كانوا مراجع العلم وأساتذة الحوزة وزعماءها
صابرين للمحن والكوارث، غير مكترثين بما ينتابهم من صروف الدهر، وغير
الزمان، مجابهين ضوضاء الباطل بحكمة عملية وعظة بالغة.
هكذا كانوا ناهضين بأعباء الرعاية والإصلاح والدراسة والتعليم، إلى أن
شاءت الأقدار الإلهية أن شاركهم أحد أفذاذ العلم وأقطاب الفقه والحديث
والاصول؛ أعني آية الله العظمى السيد حسين البروجردي (قدس الله سره) حيث
غادر مسقط رأسه متوجها إلى قم في مستهل سنة 1364 ه‍، بعد فترة قصيرة من
مكوثه في طهران لتدهور صحته، فاستقبله العلماء بحفاوة بالغة، فعادت روح
جديدة في عروق الحوزة، وتجسدت الآمال الكبيرة في شخصه وشخصيته
وزعامته.
المقدمة 24

إقامة السيد البروجردي في قم المقدسة
قام السيد بإلقاء الدروس ورعاية الحوزة، إلى أن هز نبأ وفاة زعيم الشيعة
آية الله العظمى السيد أبو الحسن الأصفهاني البلاد الإسلامية في اليوم الثامن
من ذي الحجة الحرام من عام 1365 ه‍ (رضوان الله عليه)، ومنذ ذلك الحين
استقطب سيدنا البروجردي أنظار الشيعة في كل أرجاء المعمورة، وتجسدت فيه
الزعامة الدينية للشيعة الإمامية.
وكان - قدس الله سره - ذا ولع شديد بإلقاء الدروس والمحاضرات وتربية
الفقهاء على الرغم من قيامه بأعباء الزعامة.
وتعبر محاضراته الفقهية عن أبكار أفكاره، فتناول إلى غير واحد من
أبواب الفقه، كالإجارة، والوصية، والصلاة، والخمس، والطهارة، وغير ذلك.
وأما اصول الفقه فقد جعل محور دراستها كتاب " كفاية الاصول " لاستاذه
المحقق الخراساني، فألقى محاضرات في معظم مباحث الألفاظ، ثم في المباحث
العقلية، فأكمل البحث في القطع والظن والبراءة وشئ من مباحث الاشتغال،
حتى عاقته امور الزعامة عن مواصلتها.
كان السيد البروجردي آية في جل العلوم الإسلامية فما منعه سبر الغور
في الفقه واصوله، عن دراسة المعقول والكلام والتاريخ والرجال؛ مما أدى إلى
انكباب الفضلاء وعلماء الحوزة على محاضراته؛ مع أنهم كانوا في الرعيل الأول
من الأساتذة.
وممن كان يحضر محاضرات سيدنا البروجردي، الزعيم الأكبر والإمام
الأعظم سيدنا آية الله العظمى السيد روح الله الموسوي الخميني (قدس الله سره
المقدمة 25

ونور الله ضريحه) فقد كان (قدس سره) أحد المتلهفين والمتحمسين لإقامة السيد
البروجردي في حوزة قم، وقد تحمل جهودا مضنية في هذا السبيل، وشكلت فيما
بعد إحدى الدوافع الرئيسية إلى حضوره وزملائه في درس السيد البروجردي؛
حتى أضفى طابع النشاط والحيوية على محاضراته، وأعطاها تألقها وتميزها عن
سائر الدروس.
لم يكن حضور سيدنا الإمام الخميني أندية دروس السيد البروجردي
حضورا شكليا ولإضفاء الجلال والإكبار للمحاضرة فقط، بل كان هناك دافع آخر،
وهو الاستقاء من منهل علمه ورحيق فكره، وكنت أحس حينما أنظر إليه أنه
ينصت إلى دروس الاستاذ بوعي ودقة وشغف ولم يكن يدور بخلدي أنه يدون
ما يسمعه، ولكنه (رضوان الله عليه) أدرك بصفاء ذهنه - كما حدثني به شفهيا -
جدارة كتابة تلك الدروس لئلا تذهب جهود المحاضر سدى.
ويرجع تاريخ كتابة تلك الدروس إلى عام 1364 ه‍ وامتدت إلى
1370 ه‍، وقد عاقت بعض الحوادث سيدنا الإمام الخميني عن متابعة العمل،
ومع ذلك فالكتاب يشتمل على معظم مباحث الألفاظ ومباحث القطع وشئ من
مباحث حجية الظن.
كان السيد الإمام الخميني ينقل آراء السيد البروجردي في دروسه - التي
كنت أحضرها - في علم الاصول بدقة، ثم يتابعها بالدراسة والنقاش، وكان
المصدر الوحيد لنقل آرائه هو ما كتبه من محاضراته، وقد شاهدت ما كتبه
بخطه الشريف في هذا المضمار، غير أنه مما يؤسف له أن بعض الطوارق أتلفت
بعض أوراقه، ومع ذلك ففي الباقي غنى وكفاية.
وأتقدم بالشكر الجزيل إلى الهيئة العلمية المشرفة على نشر آثار الإمام
المقدمة 26

الخميني (قدس سره) على وجه يلائم روح العصر ومتطلباته، وأخص بالذكر حفيده السيد
حسن الخميني، فهو كوالده المغفور له حجة الإسلام السيد أحمد الخميني (قدس سره)،
قد أديا بعض ما للإمام (قدس سره) من حقوق عليهما وعلى الامة، فلهما ولمساعيهما
أسمى آيات الثناء والتقدير.
كلمة حول شخصية الإمام الخميني (قدس سره)
إن السيد الإمام الخميني (قدس الله سره) من الشخصيات القلائل التي يضن
بهم الدهر إلا في فترات يسيرة، والكلام عنه وعن خدماته الجليلة وآثاره
ومعطياته للامة، خاصة تلك الثورة الإسلامية العظيمة التي رجت البلاد
وقوضت عروش الطواغيت، رهن مقال مسهب أو كتاب مفرد، وقد قمنا ببعض
وظيفتنا تجاه استاذنا الكبير عام رحيله سنة 1309 ه‍، ونشير في هذا المقال إلى
الدورات الاصولية المختلفة التي أقامها، والآثار التي تركها في ذاك المضمار:
أ - ابتدأ بتدريس خارج الاصول بعد حلول السيد البروجردي بقم
المقدسة، وبما أن السيد البروجردي بدأ بمباحث الألفاظ، نزل الإمام عند رغبة
ثلة من الفضلاء - وعلى رأسهم الشهيد المطهري - إلى إلقاء محاضرات حول
الأدلة الاجتهادية والاصول العملية، وكان يكتب ما يلقي تحت عنوان التعليقة
على " الكفاية ".
فلما انتهت دراسته إلى قاعدة " لا ضرر ولا ضرار " أعرض عن ضبط
المباحث بصورة التعليقة، وعدل إلى كتابتها بصورة مستقلة، حتى انتهت هذه
الدورة إلى دراسة مبحث الاجتهاد والتقليد، وتمت المحاضرات في شعبان
المعظم من عام 1370، وقد كنا نحضر محاضراته في هذه الدورة من أواسط
المقدمة 27

الاستصحاب.
وما نشر من الإمام بصورة التعليقة على " الكفاية " إلى قاعدة لا ضرر،
ومنها إلى مبحث الاجتهاد والتقليد باسم " الرسائل "، فهو من نتاج هذه الدورة
المختصة بالمباحث العقلية فقط.
ب - بدأ (قدس الله سره) بتدريس دورة جديدة كاملة في مختتم عام
1370 ه‍، وانتهت تلك الدورة عام 1377 ه‍.
وهذه الدورة هي التي كتبناها وأشرف (قدس سره) على كل ما حررناه، وكتب تقريظا
في صدر الكتاب، وطبع باسم " تهذيب الاصول " في جزءين، غير أنا لم ننشر ما
يرجع إلى الاستصحاب والتعادل والتراجيح؛ وذلك لأنه قد سبقنا نشر ما كتبه
الاستاذ بقلمه الشريف في الدورة الاولى المختصة بالمباحث العقلية.
ثم إن ما نشر منه أخيرا باسم " مناهج الوصول إلى علم الاصول " في
المباحث اللفظية، فهو نتاج هذه الدورة، وقد تم بدر تمامه في شهر شوال
المكرم من عام 1373 ه‍.
ج - ثم بدأ بدورة ثالثة استغرقت بين خمس أو ست سنوات، وقد علق في
هذه الدورة بعض ما بدأ له من الأنظار، وسجلها في كتيب خاص إكمالا
للمحاضرات السابقة التي كتبتها باسم " تهذيب الاصول "، ولكن العوائق حالت
دون إكمالها، وتوقف ركب البحث والدراسة في ثنايا مباحث الاشتغال، عقب
إقصاء الاستاذ إلى تركيا ومنها إلى العراق.
فهذا جل ما قام به الاستاذ من محاضرات قيمة في اصول الفقه، وأما
سائر محاضراته في الفقه وغيره فحدث عنها ولا حرج، وللحديث عنه مجال
آخر.
المقدمة 28

وللاستاذ (قدس سره) رسالة اخرى باسم " الفوائد "، سجل فيها ما بدأ لاستاذه
الكبير آية الله الحائري من أبكار أفكار، ونتاجات جديدة في علم الاصول وراء
ما جاء في كتابه " درر الاصول ".
فأرجوا من المسؤولين في مؤسسة نشر آثار الإمام، نشر هذه الرسالة
والتي كانت تضم أشياء اخرى سجلها فيها.
وفي الختام أرفع آيات الاعتذار إلى سماحة استاذي الكبير الإمام
الخميني (قدس سره)، فإن ما قدمت له من الترجمة لم تكن إلا لمحة خاطفة، لا تحيط
بجزء من جوانب شخصيته الفذة. والعذر عند كرام الناس مقبول.
جعفر السبحاني
قم، مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام)
المقدمة 29

عملنا في التحقيق
1 - لقد جعلنا النسخة المخطوطة بيد المؤلف (قدس سره) مصدرا أساسيا،
وقابلناها بالنسخ الاخرى بدقة وصبر، وحيث لم يكن هذا الكتاب مطبوعا في
حياة المؤلف (قدس سره)، فلم يصححه ثانيا، ولهذا فقد قومنا نصه وقطعناه، وجعلنا له
علامات للترقيم، ووضعنا له العناوين المناسبة مما يحتاجه القارئ الكريم في
المتن.
2 - قمنا بتحقيق الكتاب تحقيقا عصريا من حيث تخريج الآيات القرآنية
والأحاديث الشريفة والأقوال الواردة من أهل السنة والشيعة بقدر ما استطعنا.
3 - لقد فقدت بعض أوراق الكتاب، مما اضطرنا إلى إدخال بعض العبارات
المستخلصة من تقريرات نهاية الاصول أو التعليقات على كفاية الاصول في
المكان المفقود وذلك من أجل تكميل بعض فصول الكتاب.
4 - إن الكتاب خال من كل نظر أو حاشية تحقيقية للمؤلف مع إن الإمام
الخميني (قدس سره) صاحب الفكر الثاقب والرأي السديد يخالف كثيرا آراء استاذه آية
الله العظمى البروجردي. وحيث يكون للكتاب موقعه المناسب عند أهل العلم
جعلنا بهامشه بعض ما خالف رأي الإمام عن المتن، وتركنا بعضها، الذي كان
المقدمة 30

البحث فيه استطراديا.
5 - إعداد الفهارس العامة في آخر الكتاب تسهيلا لأمر الإخوة المحققين
والاستفادة الكاملة من الكتاب.
والحمد لله رب العالمين.
مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره)
المقدمة 31

نموذج من خط الإمام (قدس سره) للصفحة الاولى من كتاب لمحات الاصول
المقدمة 32

نموذج من خط الإمام (قدس سره) من كتاب لمحات الاصول
المقدمة 33

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله
على محمد وآله الطاهرين
3

المقدمة
5

فصل
البحث حول موضوع العلم
وبعد، اعلم: أن من مسلمات أهل الفنون من الحكماء وأصحاب الميزان،
أمرين:
أولهما: أن موضوعات العلوم هي التي يبحث في تلك العلوم عن عوارضها
الذاتية (1) (1).

1 - الإشارات والتنبيهات 1: 298 - 299، البصائر النصيرية: 5 - 6، شرح الشمسية: 14 /
السطر 13 - 14، الحكمة المتعالية 1: 30، الشواهد الربوبية: 19.
1 - اعلم: أن القضايا المركبة منها العلوم، مختلفة: فمن العلوم ما يكون جميع قضاياه أو
غالبها، قضايا حقيقية أو بحكمها، كالعقليات والفقه واصوله، ومنها ما تكون جزئية
حقيقية، كالتأريخ والجغرافيا وغالب مسائل الهيئة وعلم العرفان.
ونسبة موضوع المسائل إلى ما قيل: إنه موضوع العلم، قد تكون كنسبة الطبيعي إلى
أفراده، وقد تكون كنسبة الكل إلى أجزائه، بل قد يكون موضوع جميع المسائل هو
موضوع العلم، فمن الأول الأمثلة الاول، ومن الثاني الثانية غالبا، ما عدا العرفان، ومن
الثالث العرفان؛ فإن موضوعه هو الله تعالى، وهو عين موضوع مسائله.
فاتضح مما ذكر: أن ما اشتهر - من أن موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه
الذاتية - مما لا أصل له، سواء فسرناها بما فسرها القدماء، أو بأنها ما لا تكون لها
واسطة في العروض؛ ضرورة أن عوارض موضوعات المسائل - التي تكون نسبتها إلى
موضوع العلم كنسبة الأجزاء إلى الكل، لا الجزئيات إلى الكلي - لا تكون من عوارضه
الذاتية بالتفسيرين إلا بتكلف. (مناهج الوصول 1: 38 - 39).
ضرورة أن عارض الجزء وخاصته، عارض لنفس الجزء الذي هو قسمة من الكل،
ومتشعب عنه، لا لنفس الكل الذي تركب منه ومن غيره، اللهم إذا تشبث القائل بالمجاز
في الإسناد. (تهذيب الاصول 1: 2).
وأما فيما كانت النسبة بينهما كنسبة الكلي إلى أفراده، كالفقه والفلسفة فنقول:
فأي داع للالتزام بكون موضوع علم الفقه هو فعل المكلف، وأن موضوع كل علم ما يبحث
فيه عن عوارضه الذاتية، مع أن الأحكام ليست من العوارض؟!
ومع التسليم وتعميم الأعراض للاعتباريات، ليست كلها من الأعراض الذاتية لموضوعات
المسائل؛ فإن وجوب الصلاة لا يمكن أن يكون من الأعراض الذاتية لها بوجودها
الخارجي؛ لكون الخارج ظرف السقوط لا الثبوت، ولا بوجودها الذهني، وهو واضح، ولا
للماهية من حيث هي؛ ضرورة عدم كونها مطلوبة، فمعنى وجوبها أن الآمر نظر إلى
الماهية وبعث المكلف نحو إيجادها، وبهذا الاعتبار يقال: إنها واجبة، لا بمعنى اتصافها
بالوجوب في وعاء من الأوعية، ووعاء الاعتبار ليس خارجا عن الخارج والذهن.
هذا، مع لزوم الاستطراد في كثير من مهمات مسائل الفقه، كأبواب الضمان، وأبواب
المطهرات والنجاسات، وأبواب الإرث، وغير ذلك.
أو أي داع لجعل موضوع الفلسفة هو الوجود، ثم التكلف بإرجاع المسائل فيها إلى البحث
عن أعراضه الذاتية له، بما تكلف به بعض أعاظم فن الفلسفة، ثم الالتزام باستطراد
كثير من المباحث، كمباحث الماهية والأعدام، بل مباحث المعاد وأحوال الجنة والنار
وغيرها، أو التكلف الشديد البارد بإدخالها فيها.
هذا، مع أن كثيرا من العلوم، مشتمل على قضايا سلبية بالسلب التحصيلي.
والتحقيق في السوالب المحصلة: أن مفادها هو قطع النسبة وسلب الربط، لا إثبات
النسبة السلبية، كما أوضحناه بما لا مزيد عليه في مباحث الاستصحاب. (مناهج
الوصول 1: 41 - 42).
7

وثانيهما: أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات (1).
وهاهنا شيء آخر قد تسالم عليه أصحاب فن الاصول من السابقين الأولين:
وهو أن موضوع علم الاصول الأدلة الأربعة بما هي متصفة بالوصف العنواني (2).
واستشكل عليه بعض المحققين: بأن عمدة المباحث الاصولية، [تخرج]
عن كونها اصولية على هذا الفرض، مثل حجية الخبر الواحد، ومباحث التعادل
والترجيح وأمثالهما، وتندرج في المبادئ (3).
وقد يقال: إن الموضوع ذوات الأدلة، لا بما هي متصفة بهذا الوصف،
فيكون البحث عن حجية الخبر، بحثا عن العوارض الذاتية لذات الموضوع؛
فإن الخبر من السنة، وهي الموضوع، واتصافه بالحجية من العوارض الذاتية
للموضوع (4).
واستشكل على هذا أيضا: بأن حجية الخبر الواحد، لا تكاد تعد من عوارض
السنة، بل هي من عوارض الخبر الواحد، والخبر بما هو لا يكون موضوعا للعلم (5).
وقد تصدى العلامة الخراساني (رحمه الله) لدفع تمام الإشكالات؛ بأن موضوع
العلم لا هذا ولا ذاك، بل هو الكلي المتحد مع موضوعات المسائل خارجا، على

1 - شرح المطالع: 18 / السطر 5، شوارق الإلهام: 6 / السطر 18، شرح الشمسية: 5 /
السطر 5.
2 - نسب إلى المشهور، واختاره المحقق القمي في حاشيته على القوانين 1: 8.
3 - الفصول الغروية: 11 / السطر 32 و 12 / السطر 10.
4 - نفس المصدر: 12 / السطر 10.
5 - فرائد الاصول: 67 / السطر 8.
9

وزان اتحاد الطبيعي مع أفراده، والمغايرة من حيث المفهوم، كما هو الشأن في
الطبيعي مع الأفراد (1).
والإشكال عليه تارة: بأنه ربما لا نعرف في بعض العلوم، جهة مشتركة
متحدة مع موضوعات المسائل، كي تكون هي الموضوع للعلم (2).
واخرى: بأنه مع عدم تشخيص الموضوع، ربما تتداخل العلوم في
المسائل، ولا يعلم أنها من أي علم من العلوم، وقد تسالم القوم على أن تمايز
العلوم بالموضوعات.
مندفع:
أما الأول: فبأنه لابد وأن تكون بين المسائل جهة مشتركة سارية في
جميع موضوعات مسائل كل فن من الفنون، وهذه هي موضوع العلم وإن لم نعرف
اسمها؛ إذ الأسماء لادخل لها في المعاني.
وأما الثاني: فبأنه لا نسلم هذا التسالم، بل نقول في قبالهم: إن تمايز
العلوم بتمايز الأغراض، لا الموضوعات، وكل مسألة دخيلة في غرض المدون،
تكون لا محالة من مسائل العلم المدون (2).

1 - كفاية الاصول: 22.
2 - نهاية الأفكار 1: 9 - 11.
2 - إن كل علم عبارة عن عدة قضايا مرتبطة تجمعها خصوصية بها يترتب عليها غرض واحد
وفائدة واحدة بالوحدة السنخية. ووحدة العلم - كوجوده - اعتبارية لا حقيقية؛ ضرورة
امتناع حصول الوحدة الحقيقية المساوقة للوجود الحقيقي للقضايا المتعددة؛ لأن المركب
من الشيئين أو الأشياء لا يكون موجودا آخر غير الأجزاء، اللهم إلا المركب الحقيقي
الحاصل من الكسر والانكسار المتحصلة منهما صورة غير صورة الأجزاء.
ولا إشكال في أن العلوم كلها - عقلية كانت أو غيرها - إنما نشأت من النقص إلى الكمال،
فكل علم لم يكن في أول أمره إلا قضايا معدودة، لعلها لم تبلغ عدد الأصابع، فأضاف إليها
الخلف بعد السلف، وكم ترك الأول للآخر، والفرط للتابع. (مناهج الوصول 1: 35 - 36).
ثم إن منشأ الوحدة في العلوم هو سنخية قضاياها المتشتتة، ومنشأ امتيازها هو اختلاف
ذاتها وسنخ قضاياها، ولا يمكن أن يكون ما به اختلافها وامتيازها هو الأغراض أو الفوائد
المترتبة عليها؛ لتأخرها رتبة عن القضايا، فمع عدم امتيازها لا يمكن أن يترتب عليها
فوائد مختلفة.
نعم، قد تتداخل العلوم في بعض القضايا؛ بمعنى أن تكون لقضية واحدة فائدة أدبية مثلا
يبحث الأديب عنها لفائدتها الأدبية، والاصولي لفهم كلام الشارع، كبعض مباحث
الألفاظ، فالاصولي والأديب يكون غرضهما فهم كون " اللام " للاستغراق، و " ما " و " إلا "
للحصر، لكن يكون ذلك هو الغرض الأقصى للأديب بما أنه أديب، أو يكون أقصى مقصده
أمرا أدبيا، وللاصولي غرض آخر، هو فهم كلام الشارع لتعيين تكليف العباد.
وتداخل العلوم في بعض المسائل لا يوجب أن تكون امتيازها بالأغراض، بما أنها واحدة
بالوحدة الاعتبارية؛ فإن المركب من مسائل شتى إذا اختلف مع مركب آخر بحسب
مسائله، واتحد معه في بعضها، يكون مختلفا معه بما أنه واحد اعتباري ذاتا، خصوصا
إذا كان التداخل قليلا، كما أن الأمر كذلك في العلوم.
فتحصل مما ذكر: أن اختلاف العلوم إنما يكون بذاتها، لا بالأغراض والفوائد؛ فإنه غير
معقول. (مناهج الوصول 1: 43 - 44).
10

تمايز العلوم بتمايز الموضوعات
هذا، والذي يؤدي إليه النظر: أن مسائل العلوم والفنون؛ من الأدبية،
والعقلية، والفقهية، والاصولية وغيرها، كلها تكون في حدود ذواتها - مع قطع
النظر عما عداها من المدون وأغراضه - ذات خصوصية، بها تمتاز مسائل كل
علم عما سواها من مسائل العلم الآخر.
وإن شئت قلت: إن كل مسألة من كل علم، لها بنفسها خصوصية ذاتية،
11

تشترك هذه المسألة في لواء هذه الخصوصية مع عدة مسائل اخرى، فتكون هذه
وتلك جميعا من فروع علم واحد، وهذه الحيثية المشتركة ثابتة وسارية في
جميع مسائل الفن، من دون نظر إلى ما هو الغرض من التدوين أصلا.
مثلا: عند الإمعان في مسائل علم النحو، يتضح أن ما يبحث عنه في
تمامها ليس إلا كيفية أواخر الكلمة؛ من المرفوعية، والمنصوبية،
والمجرورية، وتلك الخصوصية سارية في جميع مسائل علم النحو ولو مع
الغفلة عما هو الغرض من التدوين؛ إذ من الواضح أن تلك الخصوصية
السارية، لا تكون إلا لذوات المسائل بما هي مسائل، بدون أن يكون للأغراض
الداعية إلى التدوين دخل فيها أصلا.
وهكذا علم الصرف والمعاني والبيان والفلسفة وغيرها، فإن الخصوصية
الموجودة سارية في جميع مسائل الفلسفة الإلهية، وثابتة لتمامها، من غير
دخالة للأغراض فيها؛ بل هي بنفس ذواتها واجدة لتلك الخصوصية
المشتركة (1).
ولباب الكلام: أن المسائل المتشتتة في كل علم مع تشتتها، لها خصوصية

1 - ومما يؤيد ذلك بل يدل عليه: ما أفاده المحقق الطوسي (رحمه الله) في أول مبحث طبيعيات
" الإشارات ": من أن مباحث الهيولى والصورة التي يبتني عليها العلم الطبيعي، مصادرات
فيه، ومسائل من الفلسفة الاولى (أ).
إذ موضوع الفلسفة هو الموجود بما هو موجود وإثبات وجود المادة والصورة من فروع
الفلسفة، لا العلم الطبيعي، بل من مبادئه؛ لأن الموضوع فيه الجسم الطبيعي المتألف من
المادة والصورة، مع أن الغرض في العلم الطبيعي يشمل البحث عن الهيولى والصورة.
(خارج عما أفاد الأستاذ) (ب).
أ - الإشارات والتنبيهات 2: 3.
ب - ما بين الهلالين أيضا بخط المؤلف.
12

جامعة لشتاتها، وحافظة لمتفرقاتها، وتلك الخصوصية ثابتة في حد ذاتها مع
قطع النظر عن الأغراض؛ فإن الأغراض جهات طارئة خارجة عن ذوات
المسائل، ولا تكاد تكون مميزة للعلوم؛ لأن المميز لابد وأن يكون من
الخصوصيات الثابتة لذوات المسائل؛ إذ الغرض الأول من الفلسفة وإن كان
العلم بموجودية الأشياء، والعلم هو التصديق، إلا أن العلم كيف يمكن أن يكون
الجهة المميزة للفلسفة عن غيرها من العلوم؛ بحيث يكون جامعا لمسائلها،
ومانعا عن غيرها؟! فإن العلوم كلها مما يتعلق هذا الغرض بها، وتكون مسائل
جميع الفنون واجدة لتلك الخصوصية من حيث تعلق الغرض بها.
نعم، الأغراض إنما تكون متفرعة على تلك الخصوصيات الذاتية
الثابتة لجميع المسائل في المرتبة الثانية، وهذا مما لا ينكر البتة؛ فإن الغرض
من تدوين النحو مثلا؛ هو العلم بكيفية أواخر الكلمة، ومن المعلوم أن هذا
الغرض لا يتعلق إلا بعد ما كانت لمسائل النحو خصوصية ذاتية؛ هي كيفية
أواخر الكلمة. هذا كله إذا كان المراد من " الغرض " الأولي.
وأما إذا كان المراد الأغراض الثانوية، كتحصيل نفع أو مصلحة من
المسائل الشخصية أو النوعية، مثل التقرب إلى الله تعالى، أو غير ذلك، فهي مما
تختلف باختلاف الأشخاص، فكيف يحصل بها مميز كلي في العلوم؟!
فانقدح بذلك: أن موضوع العلم هو الحيثية المشتركة الجامعة التي
تشترك فيها المسائل بأجمعها، وعين هذه الحيثية هي الجهة المميزة بين العلوم.
هذا بالنسبة إلى موضوعات العلوم.
حول تمايز المسائل
وأما امتياز نفس المسائل بعضها عن بعض، فهو أيضا بنفس ذوات المسائل؛
13

فإن الخصوصية التي تكون في هذه المسألة، غير ما تكون في غيرها، لكن هذه
الجهات المميزة بين المسائل، إنما تنتزع من الحيثية المشتركة الكلية التي
تكون موضوعا للعلم، وتكون تلك الجهات خارجة عن ذات الموضوع مفهوما،
ومتحدة معها خارجا، على وزان خارجات المحمول، لا المحمولات بالضميمة
التي تكون حقائق غير حقيقة الموضوع.
كيف؟! ولا يمكن أن تكون تلك الجهات المميزة بين المسائل، هي عين
الجهة المشتركة ذاتا ومفهوما؛ لأن الحيثية المشتركة لا يعقل أن تكون عين
الحيثيات المتمايزة في المسائل، ولا جزءها، بل إنما تكون مغايرة لها مفهوما،
ومن عوارضها التي تتحد معها وجودا، كما هو الشأن في العوارض التي من قبيل
خارجات المحمول، فتحمل هذه الجهات المتمايزة المائزة بين المسائل على
الجهة المشتركة الوحدانية، وتكون محمولات لها.
ومن هنا ينقدح: الفرق بين العرض المصطلح في لسان الطبيعي (1)،
والعرض المصطلح في لسان المنطقي (2)، وتنقدح أيضا مواضع الخلط بين
الاصطلاحين؛ إذ العرض في اصطلاح الطبيعي: هو ما إذا وجد وجد في
الموضوع، في قبال الجوهر الذي يوجد لا في الموضوع، بل على نحو
الاستقلال.
والعرض في لسان المنطقي: هو ما يكون خارجا عن مقام الذات ولو كان
منتزعا عنها، وبهذا الاصطلاح يكون مفهوم الناطق عرضا بالنسبة إلى مفهوم
الحيوان؛ لأن الناطق مفهوم خارج عن مفهوم الحيوان، وكذلك الحيوان بالنسبة
إلى مفهوم الناطق، ولكنهما ذاتيان بالنسبة إلى الإنسان، ولذا كان حمل

1 - الحكمة المتعالية 4: 235، شرح المنظومة، قسم الحكمة: 137 / السطر 6.
2 - الإشارات والتنبيهات 1: 40، شرح المطالع: 69 / السطر ما قبل الأخير.
14

" الإنسان " على " الحيوان الناطق " حملا أوليا مفهوميا.
وعلى هذا، فقد يكون ما في الاصطلاح المنطقي بالنسبة إلى شيء عرضا،
وبالنسبة إلى شيء آخر ذاتيا، وأما الأعراض في لسان الحكيم الطبيعي، فهي
مما لا تختلف بالوجوه والاعتبارات.
إذا عرفت ذلك يظهر: أن الجهات المائزة المتمايزة في المسائل التي حكمنا
بأنها من عوارض الجهة المشتركة، إنما هي عوارض لها في اصطلاح المنطقي،
لا العوارض باصطلاح الطبيعي؛ فإنها تكون بالنسبة إلى الجامع من قبيل خارج
المحمول؛ بمعنى أنها متحدة في الخارج معها بحيث لا يكون في الخارج شيء غير
تلك الحيثية المشتركة، مثل أن الجسمية ليست إلا ما تكون في الخارج
موجودة، حيث لا يكون في الخارج شيء بحذاء الجسمية، وشئ آخر بحذاء
الموجودية، وهكذا العقل، وكل ما يقال: " إنه موجود " بالحمل الشائع.
فما هو الجهة المشتركة في جميع مسائل علم الفلسفة، ويكون موضوعا
للعلم، هو الموجود بما هو موجود، والحيثيات المائزة المتمايزة - كالجسمية،
والهيولى، والصورة، والعقل، وكل ما يقال: " إنه موجود " - إنما هي الجهات
المنتزعة من الوجود، وتكون من عوارض الموجود بما هو موجود؛ بحيث
لا يكون في الخارج إلا نفس أنه موجود.
لا يقال: بناء على هذا، فالجهة المشتركة التي تكون موضوعا للعلم، هي
محمول المسائل، لا أنها موضوع المسائل، كما يقال: " الجسم موجود " و " العقل
موجود ".
لأنا نقول: المتداول بين ألسنة أهل الميزان، هو حمل الأخص على
15

الأعم (1)، وإلا فموضوعية الموجود مما لا شك فيها، كما أن عرضية الجسم
بالمعنى الذي ذكرناه، ليس مشكوكا فيها.
وأما ما أفاده صاحب " الفصول " تارة: بأن العرض الذاتي هو ما كان عارضا
للمعروض بلا واسطة عارض آخر (2).
واخرى: بأن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات المتقيدة بالحيثيات،
كالكلمة والكلام من حيث الإعراب والبناء (3).
فواضح الفساد؛ لما في الأول: من أن المراد بالعرض كما حققناه، ليس ما
هو مصطلح في باب الطبيعيات، كي يقال: " إن العرض الذاتي كذا " وهذا من
الخلط بين الاصطلاحين.
ولما في الثاني: من أن تمايز العلوم بتمايز الحيثيات المشتركة السارية
في جميع المسائل؛ بحيث يكون الموضوع نفس تلك الحيثية، وهي الجامعة
المائزة، لا أنه بتمايز الموضوعات المتقيدة بالحيثيات (4).

1 - انظر البصائر النصيرية: 51 - 55.
2 - الفصول الغروية: 10 / السطر 23.
3 - نفس المصدر: 11 / السطر 20.
4 - هذا ما أفاده سيدنا الاستاذ في درسه، ولكن الذي يخطر بالبال، أن الحيثية المشتركة
الذاتية السارية في جميع المسائل، وإن كانت مما لا تنكر كما أفاده دام ظله، إلا أنه
من الممكن فرض حيثية مشتركة ذاتية، تكون أعم من الاولى؛ فإن حيثية الإنسان مثلا
في علم الإنسان، تكون حيثية مشتركة ذاتية، لازمة للحيثية الحيوانية، ويدون العلم
لأجلها كما في علم الحيوان، فتكون الحيثية الإنسانية من المسائل، فهذا الاختلاف الذي
يجعل الحيثية تارة من المسائل، واخرى يجعلها موضوعا للعلم، إنما نشأ من قبل أغراض
المدونين الداعية للتدوين.
والذي أظنه في تمايز العلوم؛ هو أن الحيثية المشتركة بنفسها - مع قطع النظر عن
أغراض المدونين - مما لا يمكن الاكتفاء بها في سبيل التمايز، كما أن الأغراض أيضا
بنفسها لا يمكن الاكتفاء بها، بل ما هو المميز للعلوم هو الحيثيات المتعلقة لغرض
التدوين، فعليك بالتأمل [الإمام الخميني قدس سره الشريف].
16

وأما تمثيله بالكلمة والكلام من حيث الإعراب والبناء، فغير خال من
التسامح كما لا يخفى، ولعله لتفهيم المتعلمين.
وأما ما أفاده المحقق الخراساني (رحمه الله): من أن موضوع العلم هو نفس
موضوعات المسائل، وما يتحد معها خارجا، كالطبيعي وأفراده (1).
ففيه: أن الطبيعي تمام حقيقة كل فرد من أفراده، كالإنسان بالنسبة إلى
أفراده، وليست الأفراد خارجة عنه كي تكون من عوارضه، وتكون من
خارجات المحمول، وقد عرفت: أن الجهات المائزة بين المسائل، جهات
منتزعة من الجهة المشتركة، وتكون بالنسبة إلى الجامع من قبيل خارج
المحمول، وأنها عوارض ذاتية بحسب اصطلاح المنطقي. هذا كله فيما هو
الموضوع للعلوم، وما هو المميز فيها على النحو الكلي.
موضوع علم الاصول
وأما موضوع علم الاصول، فقد قال مؤسسه الأول في رسالة له تسمى
ب‍ " الرسالة الشافعية ": إن موضوع العلم هو عنوان " الحجة في الفقه " لأنه
يبحث فيه عن أن القياس حجة أم لا، أو أن قول الصحابي حجة في الفقه أم
لا (2)، أو أن الاستصحاب حجة في الفقه أم لا، أو أن الاستحسان حجة، أو خبر

1 - كفاية الاصول: 21.
2 - لم نعثر في رسالة الشافعي على تصريحه بهذا. نعم بحث الشافعي عن حجية الحجج
الشرعية من الكتاب والسنة وغيرهما، ومنه يعلم أن موضوع علم الاصول هو الحجة
في الفقه، انظر نهاية الاصول: 16.
17

الواحد - أو غير ذلك من موضوعات المسائل - حجة في الفقه أم لا.
وعنوان " الحجة في الفقه " بما أنه جار وسار في جميع المسائل، هو
الموضوع للعلم، وهو بعينه موضوع المسائل أيضا، وإن وقع محمولا في قضايا
المسائل، وحمل على موضوعاتها، كما أشرنا إليه (1) في قضية " الجسم موجود "
وهذا هو صراح الحق في موضوع علم الاصول كما يؤدي إليه النظر، وبه تندفع
جميع الإشكالات:
أما ما أفاده صاحب " القوانين ": من أن البحث عن دليلية الدليل، بحث عن
المبادئ (2)، فمردود: بأن الموضوع ليس الأدلة بما هي أدلة، بل الموضوع هو
عنوان " الحجة في الفقه " وكل ما يكون خارجا عن ذات هذا العنوان ومحمولا
عليه، يكون من عوارض الموضوع حسب اصطلاح المنطقي.
وعلى هذا، فكل مسألة من المسائل، لو كان البحث فيها عن حجيتها، فهي
من عوارض الحجة، فتكون من المسائل:
أما خبر الواحد، فيبحث فيه عن أنه حجة في الفقه أم لا، كما أن الشهرة
أو الإجماع أو حجية أي من الخبرين في باب التعارض كذلك.
وأما سائر المسائل، فمسألة الاشتغال يبحث فيها عن حجية العلم
الإجمالي؛ وأنه كالعلم التفصيلي في الحجية تنجيزا أم لا.
والقطع وإن كان من شدة الوضوح بمثابة لا يبحث في حجيته، بل حجية
كل شيء بالقطع، وحجية القطع بمقتضى ذاته، إلا أنه إذا توهم المتوهم وشك

1 - تقدم في الصفحة 15.
2 - قوانين الاصول 1: 8.
18

في حجيته، فإثبات حجيته حينئذ يجعله من المسائل.
وقد أفاد المحقق الخراساني: أنه بمسائل الكلام أشبه (1).
وأنت خبير بما في هذا الكلام؛ لأن البحث في علم الكلام عن إثبات واجب
الوجود وتوحيده وصفاته تعالى، وإثبات النبوة والولاية والعقائد الإسلامية،
وليست حجية القطع من جملة هذه الامور.
وأما مسألة حجية الظواهر، فهي وإن كانت مما لا ريب فيها، إلا أن
القدماء يعنونون هذا البحث في خصوص الموارد التي يعرض للكلام اعتلال ما من
التقييد والتخصيص؛ مما يوجب اضطراب الظهور، وكانوا يبحثون في أن العام
والمطلق بعد التخصيص والتقييد، باقيان على الحجية أم لا (2).
ولكن هذا البحث في كتب المتأخرين، معنون على النحو الأعم الأبسط،
من دون اقتصار على تلك الموارد. فعلى كل حال البحث عن حجية الظهور بحث
عن عوارض الحجة، ويكون من المسائل.
ومن الموارد التي كان الظهور فيها ضعيفا قابلا للترديد والإنكار، هو البحث
عن حجية المفاهيم، وسنبرهن في محله (3) على أن وجود المفهوم ولو على نحو
الإبهام وغاية الضعف، مما لا يقبل الإنكار، إنما الكلام في حجية هذا الظهور
وعدمها، وهذا بخلاف ما هو المعروف عن الشيخ (رحمه الله) في باب المفاهيم (4). وعلى
هذا كان البحث عن حجية المفاهيم من المسائل أيضا.
وأما مسألة البراءة، فالبحث فيها يرجع إلى أن احتمال التكليف - كالقطع

1 - كفاية الاصول: 296.
2 - الذريعة إلى اصول الشريعة 1: 332 - 337، عدة الاصول 2: 424 - 430.
3 - يأتي في الصفحة 269 - 270.
4 - مطارح الأنظار: 169 / السطر 26.
19

به - منجز أم لا، ومنجزية الاحتمال عبارة اخرى عن الحجية في الفقه.
وأما الاستصحاب، ففيه يبحث أيضا عن حجية البقاء والبناء على الحالة
السابقة أم لا.
وفي التخيير عند عدم إمكان الاحتياط، أو ترجيح أحد الجانبين، يبحث في
الاصول عن أن هذا الجانب، هل هو حجة في الفقه أم لا؟ وحينئذ لا مجال
للتخيير، بل هو من باب التعادل والترجيح، وأما مع عدم الترجيح وتساوي
الطرفين، فيبحث فيه عن أن التخيير بالنسبة إلى كل من الطرفين، معذر عن
التكليف وحجة في الفقه، وتؤلف منه قضية حملية؛ من موضوع خاص،
ومحمول عام؛ هو عنوان " الحجة في الفقه ".
نعم، بعض المباحث والمسائل التي لا يمكن إيقاعها موضوعا لهذا المحمول
- كبعض مباحث الألفاظ مثل مسألة الوضع، والحقيقة والمجاز، والمشتق
وغيرها، أو كبعض المسائل العقلية مثل مسألة الضد، واجتماع الأمر والنهي -
هي إما من المبادئ اللغوية، أو من المبادئ الأحكامية، كبحث مقدمة الواجب،
كما سيأتي إن شاء الله تعالى (1).
هذا تمام الكلام في تمايز العلوم، وموضوع علم الاصول.
وأما تعريفه، فبعدما حققناه في موضوعه، واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.
هذا هو الحق، ونحن معه حيثما دار؛ فإن (الحق أحق أن يتبع) (2) ولو
كان في " الرسالة الشافعية " فافهم وتأمل في المقام.

1 - يأتي في الصفحة 111 و 161 و 215.
2 - يونس (10): 36.
20

فصل
البحث في الوضع
قال المحقق الخراساني: الوضع نحو اختصاص للفظ بالمعنى (1).
ولا يخفى: أن هذا الكلام ليس إلا إحالة إلى مجهول، وليس له معنى
محصل دال على كيفية تعلق الألفاظ بالمعاني. على أن الوضع ليس هو اختصاص
اللفظ وارتباط بالمعنى، بل الارتباط والاختصاص ما يحصل من الوضع، فحينئذ
لابد وأن يكون المراد ب‍ " الوضع " هاهنا بمعنى اسم المصدر، كي يصح أن يقال:
" إنه نحو اختصاص للفظ بالمعنى ".
فنقول: الوضع باعتبار هذا المعنى، ليس إلا الدلالة الشأنية، وجعل
اللفظ بحيث إذا سمع يفهم منه المعنى، وينتقل الذهن من هذا الكيف المسموع
إلى المعنى.
وهذه الدلالة الشأنية باعتبار سببها تنقسم إلى ما هي بالتعيين، أو بكثرة
الاستعمال.
وملخص الكلام: هو أن وضع اللفظ بمعناه الاشتقاقي المفعولي، أو بمعنى

1 - كفاية الاصول: 24.
21

اسم المصدر، هو الدلالة الشأنية على المعنى بنحو الاندكاك والمرآتية، بحيث
إذا سمع يفهم منه المعنى، وهذه الدلالة بهذه الحيثية لا تحصل بصرف الوضع،
بل إنما تحصل باتباع الواضع في الوضع التعييني، وبكثرة الاستعمال في الوضع
التعيني (3).
فالدلالة الشأنية للألفاظ تارة: تحصل بتعيين الواضع بشرط اتباعه.
واخرى: بكثرة الاستعمال.
وثالثة: باستعمال اللفظ بداعي الوضع.
حول أقسام الوضع والموضوع له
ثم إنه لو كان اللحاظ على نحو المفهوم، ووضع اللفظ لهذا الملحوظ العام،
كان الوضع عاما، والموضوع له كذلك.
ولو كان الملحوظ حين الوضع عاما، لكن الوضع بإزاء الخواص
والجزئيات، كان الوضع عاما، والموضوع له خاصا.
وإن كان الملحوظ خاصا، والوضع بإزاء هذا الخاص، فالوضع والموضوع
له خاصان، كما في الأعلام الشخصية (4). وهذه الأقسام الثلاثة مما لا يكاد

3 - إن الوضع - على ما يظهر من تصاريفه - هو جعل اللفظ للمعنى وتعيينه للدلالة عليه،
وهذا لا ينقسم إلى قسمين؛ لأن التعيني لا يكون وضعا وجعلا.
والاختصاص الواقع في كلام المحقق الخراساني ليس وضعا، بل أثره. (مناهج الوصول
1: 57).
4 - في كونها منه إشكال؛ للزوم كون نحو: " زيد موجود " قضية ضرورية، كقولنا: " زيد
زيد "، وكون حمله عليه كحمل الشيء على نفسه، ومجازية مثل قولنا: " زيد معدوم "،
وقولنا: " زيد إما موجود، وإما معدوم "، مع عدم الفرق وجدانا بينه وبين قولنا: " زيد إما
قائم، أو قاعد " في عدم العناية فيه، فلا يبعد أن يلتزم بأنها وضعت للماهية الكلية التي
لا تنطبق إلا على الفرد الواحد.
وتوهم: أن الماهية الكذائية مغفول عنها حين الوضع بالوجدان.
مدفوع: بأن الارتكاز مساعد لذلك، كما نرى من إخبار العوام والنساء بمعدومية المسميات
في الأعلام وموجوديتها.
والموضوع في هذا الحكم ليس الماهية الكلية القابلة للانطباق على الكثيرين، ولا
الشخص الموجود بما هو كذلك، بل الماهية التي لا تنطبق إلا على الفرد الخارجي، وهي
متصورة ارتكازا، والأعلام الشخصية موضوعة لها، وهذا أهون من الالتزام بمجازية كثير
من الاستعمالات الرائجة بلا عناية وجدانا. تأمل. (مناهج الوصول 1: 67 - 68).
22

يشك في تصويرها.
إنما الكلام في تصوير قسم رابع؛ هو الوضع الخاص والموضوع له عام،
كما يتراءى تصويره من كلام المحقق الرشتي (1).
ولكن الحق على خلاف ما فرضه؛ إذ الجزئي ليس بكاسب ولا مكتسب،
ولا يمكن أن يكون بجزئيته وجها وعنوانا للعام، كما يمكن أن يكون العام وجها
وعنوانا للأفراد، هذا هو السر في استحالة القسم الرابع. هذا كله بحسب مقام
الفرض والثبوت (5).

1 - بدائع الأفكار، المحقق الرشتي: 40 / السطر 23.
5 - وما يقال: من عدم امتناع كون العام مرآة للخاص ووجها له، دون الخاص للعام، غير
صحيح؛ لأن العام - أيضا - لا يمكن أن يكون مرآة للخاص بما أنه خاص؛ لأن
الخصوصيات وإن اتحدت مع العام وجودا، لكن يخالفها عنوانا وماهية، ولا يمكن أن
يحكي عنوان إلا عما بحذائه، فالإنسان لا يحكي إلا عن حيثية الإنسانية، لا
خصوصيات الأفراد، فلا يكفي للوضع للأفراد تصور نفس عنوان العام الذي ينحل الخاص
والفرد إليه وإلى غيره، بل لابد من لحاظ الخاص، ولا يعقل الوضع إلا مع تصور الطرفين،
ولو بالإجمال، فلو تقوم الوضع بمرآتية العنوان للموضوع له، كان عموم الوضع
وخصوص الموضوع له كالعكس محالا، وإلا - كما هو الحق - يكون كلاهما ممكنين.
والتحقيق: أن تصور العام قد يكون موجبا لانتقال الذهن إلى مصاديقه بوجه إجمالي،
فيتصور العام ويوضع اللفظ بإزاء ما هو مصداقه، ويكون هذا العنوان الإجمالي المشير،
آلة للوضع للأفراد، ولا يحتاج في الوضع إلى تصورها بخصوصياتها تفصيلا، بل لا يمكن
ذلك؛ لعدم إمكان الإحاطة بها تفصيلا، لعدم تناهي أفراد الطبيعي، وبهذا المعنى يكون
خصوص الوضع وعموم الموضوع له ممكنا. (مناهج الوصول 1: 59 - 60).
وبذلك يظهر: ضعف ما عن بعض الأفاضل من أن الطبيعة كما يمكن أن تلاحظ مهملة
جامدة، يمكن لحاظها سارية في أفرادها، مندرجة في مصاديقها، وعليه تكون عين
الخارج ونفس المصاديق؛ ضرورة اتحاد الماهية والوجود في الخارج، والانفصال إنما
هو في الذهن، فتصح مرآتيتها للأفراد؛ إذ الاتحاد الخارجي لا يصحح الحكاية، وإلا
لكانت الأعراض حاكية عن جواهرها، ومن الواضح: أن المشخصات غير داخلة في
مفهوم العام فكيف يحكي عنها، والحكاية تدور مدار الوضع والدخول في الموضوع له.
ثم إن هناك قسما خامسا بحسب التصور وإن كان ثبوته في محل المنع وهو: أن عموم
الموضوع له قد يكون بوضع اللفظ لنفس الطبائع والماهيات كأسماء الأجناس؛ فإنها
موضوعة لما هو عام بالحمل الشائع، من دون أخذ مفهوم العموم فيه، وإلا يلزم التجريد
والتجوز دائما؛ لكونها بهذا القيد آبية عن الحمل، واخرى يكون الموضوع له هو العام بما
هو عام، كما أنه في الخاص كذلك دائما؛ إذ الموضوع له هو الخاص بما هو خاص.
(تهذيب الاصول 1: 8 - 9).
23

المعنى الحرفي
وأما بحسب مقام الإثبات، فذكرت لكل من الأقسام المفروضة أمثال، وقد
اضطربت أفهام الأعلام في خصوص القسم الثاني؛ وهو الوضع العام والموضوع
له الخاص، الذي يتمثل بالحروف، فالاختلاف كله إنما هو فيما هو الموضوع
له في الحروف.
24

فقد قال المحقق الرضي: إن الاسم والحرف كليهما في مرتبة الذات سيان،
من دون فرق جوهري بينهما، والخصوصية الاستقلالية والغيرية ناشئة من قبل
الاستعمال.
وقال أيضا في تحقيق كلامه: إن الاسم ما دل على معنى في نفسه،
والحرف ما دل على معنى في غير هذه الكلمة.
وهذا في قبال من قال: إن معنى التعريف؛ أن الاسم كلمة دلت في نفس هذا
المعنى، والحرف كلمة دلت على معنى في غير هذا المعنى، والفرق بين الاسم
والحرف هو الفرق بين العرض والجوهر.
وخلاصة هذا النزاع: إنما هو في ضمير " في نفسه " و " في غيره "
بإرجاعه تارة: إلى الكلمة، واخرى: إلى المعنى (1).
وقد اختار المحقق الخراساني كلام الرضي، وقال: بأن المعنى في حد ذاته
لا مستقل، ولا لا مستقل، والخصوصيات ناشئة عن طور الاستعمالات (2).
وقال السيد الشريف في حاشيته على " المطول ": إن المعنى إن كان
ملحوظا على النحو الآلي والمرآتي يكون حرفيا، وإن كان ملحوظا على نحو
الاستقلال والنفسية يكون اسميا، ومناط المعنى الاسمي والحرفي هو اللحاظ
الاستقلالي والآلي (3).
وقال بعض المحشين على " القوانين ": إن المعنى الحرفي هو الارتباط بين
المفاهيم المستقلة، والألفاظ والحروف موضوعة بإزاء تلك الارتباطات، وأما
المعنى الاسمي فهو نفس هذه المفاهيم المستقلة التي لا ربط بينها في حد ذاتها

1 - شرح الكافية 1: 9 و 10.
2 - كفاية الاصول: 26 - 27.
3 - المطول: 372 - 374.
25

مع قطع النظر عن المعاني الحرفية (1).
وقال المحقق العلامة صاحب " الحاشية ": إن المعنى الحرفي هو
الإنشائي الإيقاعي، والمعنى الاسمي ما ليس كذلك (2).
وأنت خبير: بأن في تمام هذه الأقوال ما لا يخفى:
أما ما أفاده المحقق الرضي والذي اختاره المحقق الخراساني، فهو أن من
المعلوم عدم إمكان استعمال " من " و " إلى " على نحو الخبرية أو الابتدائية، وهذا
مما لا يمكن إنكاره، فإن لم يكن فرق ذاتي بين الحروف والأسماء بحسب المعنى،
فلم لا يمكن استعمال كل واحد في محل الآخر؟!
وأما ما أفاده الآخرون في تحقيق التعريف، ففيه: أنه على خلاف تعريف
المشهور: بأن " من " للابتداء، و " إلى " للانتهاء (3) مع أنه لو دلت على معنى في
غير هذا المعنى، فكيف يمكن دلالتها على الابتداء والانتهاء؟!
وأما ما أفاده صاحب " الحاشية " فليس على ما ينبغي؛ فإن المعاني
الإنشائية ما توجد في عالم الاعتبار؛ بحيث لا تكون حقيقتها إلا حقيقة
اعتبارية صرفة، مثل الملكية، والزوجية وأمثالهما، وأما المعاني الحرفية
فكلها وجودات حقيقية، وهذا مما لا يقبل الإنكار.
وأما ما أفاده الآخرون (4) من نقد كلامهم فتامها قد يخلو من التأمل (5)

1 - قوانين الاصول 1: 10 / السطر 5، عند قول المصنف " وكذلك الفعل "، حاشية السيد
علي القزويني.
2 - لم نعثر عليه في هداية المسترشدين، وانظر نهاية الاصول: 20.
3 - شرح الكافية 2: 319 و 324، مغني اللبيب 1: 74 و 218.
4 - فوائد الاصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 47، درر الفوائد، المحقق
الحائري: 36 - 40، نهاية الأفكار 1: 38 - 52.
5 - كذا في المتن ولعله يدل على صحة بعض الآراء.
26

وارتكاب المشقات التي لا تزيد المتعلمين إلا مرارة وكلالة.
نعم، يمكن إرجاع بعض هذه المقالات إلى ما نحن بصدد تحقيقه، كما
سيجيء إن شاء الله تعالى.
فنقول ومن الله التوفيق: إننا إذا سلخنا أذهاننا عن الألفاظ في مثال " سرت
من البصرة إلى الكوفة " أو " سر من البصرة إلى الكوفة " لا نرى إلا السير
الخارجي ممتدا بهذا الامتداد الخاص، والبصرة، والكوفة، وأما أولية السير
وآخريته فليس بحذائهما شيء في الخارج قبال تلك الأشياء الخارجية
المذكورة.
نعم، هذا الامتداد المعين الذي يقال له: " السير " إذا وقع في الخارج كان
له حد؛ هو الانقطاع والتناهي بالنسبة إلى الطرفين؛ أعني طرفيه المحاذي
أحدهما للبصرة، وآخرهما للكوفة، فتعين امتداد السير في الخارج إنما هو
بانقطاع أطرافه وتناهيها المحاذي أحدهما للمبدأ، والآخر للمقصد.
وهذا التناهي والانقطاع الخارجي، إنما هو منشأ لانتزاع مفهوم الأولية
والآخرية، وهذا من غير أن يكون بإزاء نفس الأولية والآخرية شيء في
الخارج، كما يكون بإزاء السير والبصرة والكوفة شيء في الخارج، مع قطع
النظر عما يوجد في وعاء الذهن.
وأما اللحاظ الذهني فهو على نحوين:
تارة: يلاحظ عين ما يكون واقعا في الخارج؛ بأن يلاحظ ذلك الامتداد
المتناهي الأطراف بالبصرة والكوفة، بدون تعقل للوصف الانتزاعي من الأولية
والآخرية اللتين لا حقيقة لهما في الخارج، فتكون حينئذ القضية المعقولة في
الذهن قضية تامة مرتبطة بعض أجزائها ببعض، حاكية عما يكون واقعا في
الخارج، فيكون نفس هذا الربط بين السير والبصرة وبين السير والكوفة - أي
27

نفس تناهي السير وانقطاعه المعقول في الذهن - هو معنى " من " و " إلى " هذا إذا
لوحظ عين ما هو واقع موجود في الخارج.
واخرى: تلاحظ بالإضافة لما في الخارج، مفاهيم اخرى انتزاعية من
الخصوصيات والنفسيات الخارجية، مثلما إذا لوحظ قبال تصور السير والبصرة
والكوفة، مفهوم الأولية والآخرية؛ بانتزاعهما من السير المتناهي الأطراف،
فيكون في وعاء الذهن الأولية والآخرية والسير والبصرة والكوفة، فالمعقول في
الذهن هذه المفاهيم المتشتتة التي لا ربط بينها، وهذه المتشتتات ليست إلا
المتصورات الذهنية التي قد تصلح لأن تكون قضية.
اللهم إلا أن ينقسم إلى روابط تربط بين هذه المتشتتات المتفرقات، فيقال:
" إن أول سيري من البصرة، وآخره من الكوفة " فحينئذ لوحظ أيضا السير
الخاص الخارجي المقتطع الطرفان بما أنه وقع في الخارج.
وخلاصة الكلام: أن تعقل ما يكون واقعا في الخارج، هو بعينه تعقل
الأشياء المرتبطة بعضها ببعض، ويكون الربط بينها حقيقة الربط وما يكون ربطا
بالحمل الشائع الصناعي، لا الربط بالحمل الأولي، والأولية والآخرية والربط
والارتباط، ليست إلا مفاهيم الربط، ومفاهيم الربط ليست بمقيدة للارتباط بين
الأشياء والمفاهيم الكلية حقيقة، ولذا كانت مفاهيم الأولية والآخرية والبصرة
والكوفة والسير في حد ذاتها، ليست إلا صرف المتصورات الذهنية، وما
لا ينقسم إليها ما يكون بالحمل الشائع ربطا، ومع الانضمام تكون القضية العقلية
حاكية عما وقع في الخارج، ويصير السير حينئذ مرتبطا بالسير المتناهي بالبصرة
والكوفة.
فهذه الروابط كلها مصاديق الربط، ومصاديق الربط عبارة اخرى عن السير
الذي وقع في الخارج، والمعاني الحرفية ما يوجد بها الارتباط بين المفاهيم
28

المتفرقة، وهي هذه الروابط الحقيقية، والابتداء والانتهاء هما الروابط بالحمل
الأولي.
وإن شئت قلت: المعاني الحرفية ما يوجد بها الارتباط بين المفاهيم
المتفرقة المتشتتة، والمعاني الاسمية نفس هذه المتفرقات. هذا هو الفرق بين
المعنى الاسمي والمعنى الحرفي.
وأما مناط الفرق وسر هذا الافتراق، فهو ما أشرنا إليه؛ من أن الملحوظ
المتعقل في الذهن، لابد وأن يكون عين ما وقع أو عين ما سيقع في الخارج من
المفاهيم المرتبطة؛ فإن السير الذي يقع في الخارج، لابد وأن يكون مقطوع
الطرفين، وانقطاع الطرفين في الخارج عين الارتباط في الذهن، وهذا هو معنى
الربط الحقيقي الذي يكون الحرف موضوعا بإزائه.
وأما إذا كان الملحوظ هو المفاهيم، لا بما أنها عين ما وقع في الخارج، بل
بما أنها مفاهيم تصورية، أو بما أن الارتباطات الملحوظة في الذهن، ارتباطات
مفهومية انتزاعية، مثل مفهوم الابتداء والانتهاء، فلا يكون حينئذ إلا صرف
التصورات الذهنية المتشتتة، لا ربط بعضها ببعض، فهذه هي المعاني الاسمية
غير المشوبة بالمعاني الحرفية.
ومن هنا انقدح ما في كلام بعض المحققين: من أنه لافرق بين الأسماء... (1).

1 - هاهنا سقط في أصل النسخة الخطية.
29

المقصد الأول
في الأوامر
31

المطلب الأول
فيما يتعلق بمادة الأمر
الجهة الثالثة
الطلب والإرادة
دليلا الأشاعرة على وجود صفة نفسانية قبال العلم
أحدهما: أن الطلب اللفظي، قد يتحقق بلا إرادة قائمة بذات المتكلم تكون
مبدء له، كأمره تعالى إبراهيم (عليه السلام) بذبح ولده، وأمثاله من الأوامر الامتحانية،
ولابد لهذا الطلب اللفظي من مبدأ حال في نفس المتكلم، وحيث لم يكن الإرادة
بالضرورة، وليس شيء آخر من الأوصاف النفسانية صالحا للمبدئية، فلا
محالة يكون هو الطلب النفسي. فإذا وقع في مورد، ثبت الإمكان، فليكن كذلك
في سائر الأوامر، بل في مطلق الكلام (1).
وأجاب عنه المحقق الخراساني (قدس سره) على مسلكه في تحرير محل النزاع:
بأن الإرادة الإنشائية كالطلب الإنشائي في مورد النقض محققان، والإرادة

1 - انظر شرح القوشجي على التجريد: 246 / السطر 11.
33

الحقيقية كالطلب الحقيقي غير محققين (1) وقد عرفت ما فيه (6).
والتحقيق في الجواب: أن المنشأ لتلك الأوامر هو الإرادة الحقيقية أيضا،
لكنها الإرادة المتعلقة بالغايات والمقدمات التي لا تحصل إلا بالأمر بنفس ذي
المقدمة.
بيان ذلك: أن الكما لات الفعلية التي لأجلها شرعت التكا ليف الإلهية، قد
لا تحصل إلا بإتيان نفس المأمور به، كالأوامر الحقيقية؛ فإن في صدور متعلقاتها
من المكلف مصا لح لا تحصل إلا به، وقد تحصل بنفس المقدمات المسببة
لذيها؛ بنحو يعتقد المكلف أن الآمر أراد صدور ذي المقدمة، فمن إرادة الغاية
ينبعث إرادة إلى المقدمات التي بوجودها تحصل الغاية، ولما كان حصول الغاية
متوقفا على نفس طلب ذي المقدمة، فلا محالة ينبعث إرادة إلى طلبه.
مثلا: في أمر الخليل (عليه السلام) الذي هو مورد النقض، لو أراد الله تعالى حصول
مرتبة من الكمال له، التي لا تحصل إلا بتقديم إرادة الله على إرادته، وإعراضه
عما سواه تعالى بإعراضه عن أحب أعزته وفلذة كبده وقرة عينه، فهذه الإرادة
لاستكمال الخليل تصير مبدء لإرادة مقدمات ذبح الولد؛ بحيث يقطع الخليل (عليه السلام)
بأنه تعالى أراد منه الذبح؛ فإن الغاية كما تحصل بالذبح تحصل بنفس
المقدمات.
بل الذبح بما هو نتيجة فعله الاختياري، غير دخيل في حصول الكمال

1 - كفاية الاصول: 86.
6 - إنه لا معنى محصل للإرادة الإنشائية، بل لا معنى للوجود الإنشائي والاعتباري للحقائق
المتحققة، كالسماء والأرض والإنسان. نعم، يعتبر العقلاء امورا، لا حقيقة لها لمسيس
الحاجة إليها، كالزوجية والملكية وسائر الاعتباريات، فليس للإرادة والطلب فرد
حقيقي، وفرد إنشائي. (الطلب والإرادة: 27).
34

المطلوب، بل الكمال يحصل بتسليمه لأمر المولى، وإتيان ما في قدرته من
أسباب الذبح؛ من تله للجبين، ووضع المدية على الحلقوم، والإمرار بشدة
لإرادة الذبح فلم يبق من أسبابه الاختيارية شيء إلا أتى به، فوقع منه ما في
قدرته، وما لم يقع لم يكن تحت قدرته. فإذا سلم لهذا الأمر العظيم الذي تصغر
دونه المعظمات، حصل له الكمال التام المتوقع الذي لا يحصل إلا بالمقدمات.
فإرادة حصول هذه الغاية العظمى، صارت سببا لإرادة المقدمات على نحو اعتقد
الخليل (عليه السلام) مطلوبية ذي المقدمة منه؛ فإن الغاية لم تكن مترتبة على
المقدمات إلا بهذا النحو، وحصولها به لم يكن ممكنا إلا بالأمر بالذبح، فالأمر
به مسبب عن هذه الإرادة، فلم يكن غير الإرادة شيء نسميه " الطلب " (7).

7 - وبالجملة: ما هو فعل اختياري للآمر هو الأمر الصادر منه، وهو مسبوق بالمبادئ
الاختيارية، سواء فيه بين الأوامر الامتحانية وغيرها، وإنما الفارق بينهما بالدواعي
والغايات.
فالداعي للأوامر غير الامتحانية - وما يكون باعثا للأمر وغاية له - هي الخاصية
المدركة من المتعلقات، فالداعي إلى الأمر بإتيان الماء للشرب هو الوصول إلى الخاصية
المدركة.
وأما الداعي إلى الأوامر الامتحانية والإعذارية هو امتحان العبد واختباره، أو إعذار
نفسه. (الطلب والإرادة: 24).
هذا كله في الأوامر الصادرة من الموالي العرفية. وأما الأوامر والنواهي الإلهية - مما
أوحى الله إلى أنبيائه - فهي ليست كالأوامر الصادرة منا في كيفية الصدور، ولا في
المعللية بالأغراض والدواعي؛ لأن الغايات والأغراض والدواعي كلها مؤثرات في
الفاعل، ويصير هو تحت تأثيرها، وهو غير معقول في المبادئ العالية الروحانية فضلا
عن مبدأ المبادئ جلت عظمته؛ لاستلزامه للقوة التي حاملها الهيولى، وتركب الذات من
الهيولى والصورة والقوة والفعل والنقص والكمال، وهو عين الإمكان والافتقار، تعالى
عنه.
فما هو المعروف بينهم: " إنه - تعالى - يفعل للنفع العائد إلى العباد "، مشترك في الفساد
والامتناع مع فعله للنفع العائد إليه.
ولا يلزم مما ذكرنا أن يكون فعله لا لغرض وغاية، فيكون عبثا؛ لأن الغاية في فعله -
وهو النظام الأتم التابع للنظام الرباني - هو ذاته تعالى، والفاعل والغاية فيه تعالى
واحد، لا يمكن اختلافهما، لا بمعنى كونه تعالى تحت تأثير ذاته في فعله؛ فإنه - أيضا -
مستحيل بوجوه، بل بمعنى أن حب ذاته مستلزم لحب آثاره استجرارا وتبعا، لا استقلالا
واستبدادا. فعلمه بذاته علم بما عداه في مرتبة ذاته، وعلة لعلمه بما عداه في مرآة
التفصيل، وحبه بذاته كذلك، وإرادته المتعلقة بالأشياء على وجه منزه عن وصمة
التغير والتصرم لأجل محبوبية ذاته وكونها مرضية، لا محبوبية الأشياء، وكونها مرضية
استقلالا. وإلى ذلك أشار الحديث القدسي المعروف: " كنت كنزا مخفيا فأحببت أن اعرف
فخلقت الخلق لكي اعرف " فحب ظهور الذات ومعروفيتها، حب الذات لا الأشياء.
وليعلم: أن إيحاء الوحي وإنزال الكتب وإرسال الرسل، جزء من النظام الأتم الكياني التابع
للنظام الأجمل الرباني، وكيفية تعلق الإرادة بها ككيفية تعلقها بالنظام الكياني، بنحو
التبعية والاستجرار للنظام الرباني؛ أي حضرة الأسماء والصفات، وهي الكنز المخفي
المحبوب بالذات، والمحب والمحبوب والحب عين الذات.
فتحصل مما ذكرنا: وهن تمسك الأشعري لإثبات مطلوبه بالأوامر الامتحانية؛ فإنه - مع
ما عرفت بطلانه - لو فرض كلام نفسي، وطلب نفسي لنا فيها لا يمكن تصوره في ذات
القيوم الواجب جل وعلا، وهل هذا إلا قياس الحق بالخلق والتراب ورب الأرباب ولعل
النملة ترى أن لله زبانيتين. (الطلب والإرادة: 26 - 27).
35

ثانيهما: أنه لو كان مبدأ الأوامر اللفظية هي الإرادة، لوجب أن يكون في
أمر الكفار بالإسلام وأمر الناس بإتيان شيء، حصول المأمور به بالضرورة؛ لعدم
تخلف مراد الله تعالى عن إرادته الواجبة؛ لكن يتخلف حصول المأمور به عن
الطلب كثيرا، فيجب أن لا يكون مبدؤه الإرادة. وحيث لابد للطلب اللفظي من
36

مبدأ، ولا يكون غير الطلب النفسي شيء آخر، فيكون هو المبدأ (1).
فبرهانهم على هيئة قياس استثنائي، ينتج من رفع التالي رفع المقدم،
فيقال: لو كانت الإرادة الواجبة مبدء للطلب اللفظي، لزم حصول المطلوب
بالضرورة، لكن المطلوب لا يحصل كثيرا ما بالضرورة، فلم تكن الإرادة مبدء له.
ثم ينضم إليه: أن الطلب اللفظي لابد له من مبدء، وليس سوى الطلب
النفسي ما يكون مبدء، فيكون هو المبدأ لا غير. ولما ثبت في مورد، فليكن سائر
الموارد كذلك.
وأجاب عنه العدلية بما حاصله: أن الإرادة التي لا تتخلف عن المراد،
هي إرادته تعالى فعل نفسه، وأما إرادته فعل غيره فلا يلزم أن لا تتخلف (2).
وأجاب المحقق الخراساني بما يرجع إلى جوابهم؛ فإن الإرادة التكوينية
هي إرادة فعله تعالى، والإرادة التشريعية هي إرادة فعل غيره (3).
الجبر والتفويض
وإلى هنا تم كلام الفريقين، ولا يحتاج إلى شيء آخر، لكن المحقق
الخراساني (قدس سره) أضاف شيئا آخر غير مربوط بالنزاع؛ وهو تفسير الإرادة بالعلم
بالنظام الأتم الأصلح على ما هو مذاق الحكماء (4).
ثم عقبه: بأن الإرادة التكوينية والتشريعية إذا توافقتا فلابد من الإطاعة

1 - انظر شرح القوشجي على التجريد: 340 / السطر 21، والفصول الغروية: 68 / السطر
28 و 36، وكفاية الاصول: 88.
2 - الفصول الغروية: 68 / السطر 38.
3 - كفاية الاصول: 88 - 89.
4 - القبسات: 322، الحكمة المتعالية 6: 333، شوارق الإلهام: 55 / السطر 12.
37

والإيمان، وإذا تخالفتا فلا محيص عن أن يختار الكفر والعصيان (1).
فتولد منه الإشكال المعروف، الذي أشار إليه قائلهم بقوله:
مى خوردن من، حق ز أزل ميدانست * گر مى نخورم، علم خدا جهل بود (2)
فأجاب عنه (قدس سره) بما لا يشفي العليل، ولا يحسم مادة الإشكال، بل يؤكده
ويؤيده، حتى انتهى الأمر إلى كسر رأس القلم (3).
فلابد من بيان أصل الإشكال، والتفصي عنه بنحو الإجمال؛ فإن دفعه
تفصيلا متوقف على مقدمات لا يمكن تحصيلها إلا في مقره من العلوم العالية.
فنقول: أصل الإشكال هو أن الإرادة إذا كانت هي العلم بالنظام الأتم، وقد
تعلق العلم بوجود الفعل عن العبد، فيكون واجب الحصول، وهو مضطر في
إيجاده، فكيف يكون مثل هذا الفعل موردا للحسن والقبح والمثوبة والعقوبة؟!
وبالجملة: إن فعل العبد إن علم الله وجوده، وتعلق به قضاؤه وإرادته،
فهو واجب الصدور، وإلا فيكون ممتنع الصدور، فكيف يكون العبد قادرا عليه،
ويستحق به الثواب والعقاب كما عليه العدلية؟!
ولقد أجاب عنه المحقق البارع نصير الملة والدين (قدس سره): بأن العلم تابع
للمعلوم، لا المعلوم للعلم، فلا يكون تعلق العلم موجبا للوجوب والامتناع في
المعلوم (4).
ورده بعض المحققين من الفلاسفة: بأن تابعية العلم للمعلوم إنما هي في

1 - كفاية الاصول: 89 - 90.
2 - رباعيات عمر الخيام: 250، وقد عربه السيد الصافي النجفي إلى قوله:
درى الله قدما بارتشافي للطلا * فإن أجتنبها ينقلب علمه جهلا
3 - كفاية الاصول: 89 - 90.
4 - نقد المحصل: 328.
38

العلوم الانفعالية، لا الفعلية، وهو تعالى علمه فعلي، فالمعلوم تابع للعلم (1).
وهذا الإشكال واضح الورود على ظاهر كلامه، ولكن يمكن توجيهه بما
لا يرد عليه.
توضيحه: أن علية كل مرتبة من مراتب نظام الكل لمرتبة تا لية منه،
إنما تكون لخصوصية ذاتية فيها، وهي غير مجعولة، بل الجاعل أوجدها،
والخصوصية ذاتية ثابتة لها بلا جعل، فما كان العلم بالنسبة إليه فعليا هو
وجود النظام، وأما كون المراتب ذات خصوصية ذاتية - أي خصوصية العلية
والمعلولية - فليس العلم بالنسبة إليها فعليا، بل هو شبيه بالانفعالي، وتابع
للمعلوم (8).

1 - الحكمة المتعالية 6: 384 - 385.
8 - إنه بعدما علم: أن التفويض - وهو استقلال الممكن في الإيجاد والفاعلية - والجبر - وهو
سلب التأثير عن الموجود، ومزاولته تعالى للأفعال والآثار مباشرة وبلا وسط - مستحيلان،
اتضح سبيل الأمر بين الأمرين، وهو كون الموجودات الإمكانية مؤثرات، لكن
لا بالاستقلال، وفيها الفاعلية والعلية والتأثير، لكن من غير استقلال واستبداد، وليس في
دار التحقق فاعل مستقل سوى الله تعالى. وسائر الموجودات كما أنها موجودات
لا بالاستقلال، بل روابط محضة، ووجودها عين الفقر والتعلق، ومحض الربط والفاقة،
تكون في الصفات والآثار والأفعال كذلك، فمع أنها ذات صفات وآثار وأفعال، لم تكن
مستقلات في شيء منها، كما تقدم برهانه.
فمن عرف حقيقة كون الممكن ربطا محضا، عرف أن فعله مع كونه فعله، فعل الله سبحانه،
فالعالم بما أنه ربط صرف وتعلق محض، ظهور قدرة الله وإرادته وعلمه وفعله، وهذا عين
المنزلة بين المنزلتين والأمر بين الأمرين.
ولعله إليه أشار في قوله - وهو الحق -: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)؛ حيث أثبت
الرمي من حيث نفاه فقال: " رميت وما رميت "؛ فإن الرمي كونه منه لم يكن بقوته
واستقلاله، بل بقوة الله وحوله. وقوله: (وما تشآءون إلا أن يشآء الله) فأثبت المشية لله
من حيث كونها لهم، لا بأن يكون المؤثر شيئين أو فعلين بالاشتراك، بل بما أن مشية
الممكن ظهور مشيته تعالى وعين الربط والتعلق بها. (الطلب والإرادة: 36 - 37).
ثم إن علمه وإرادته تعلقا بالنظام الكوني على الترتيب العلي والمعلولي، ولم يتعلقا بالعلة
في عرض معلوله، وبالمعلول بلا وسط؛ حتى يقال: إن الفاعل مضطر في فعله، فأول ما
خلق الله تعالى هو حقيقة بسيطة روحانية، بوحدتها كل كمال وجمال، وجف القلم بما
هو كائن، وتم القضاء الإلهي بوجوده، ومع ذلك، لما كان نظام الوجود فانيا في ذاته ذاتا
وصفة وفعلا، يكون كل يوم هو في شأن.
فمن عرف كيفية ربط الموجودات على ترتيب سببي ومسببي إليه تعالى يعرف أنها - مع
كونه ظهوره تعالى - تكون ذات آثار خاصة، فيكون الإنسان مع كونه فاعلا مختارا ظل
الفاعل المختار وفاعليته تعالى (وما تشآءون إلا أن يشآء الله).
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن تعلق إرادته تعالى بالنظام الأتم، لا ينافي كون الإنسان
فاعلا مختارا، كما أن كون علمه العنائي منشاء للنظام الكياني لا ينافيه، بل يؤكده، هذا.
(الطلب والإرادة: 65).
إرشاد: مع أن أثر كل ذي أثر وفعل كل فاعل، منسوب إلى الله تعالى وإليها - كما عرفت -
لكن خيراتها وحسناتها وكمالاتها وسعاداتها كلها من الله، وهو تعالى أولى بها منها،
وشرورها وسيئاتها ونقائصها وشقاواتها ترجع إلى نفسها، وهي أولى بها منه تعالى؛ فإنه
تعالى لما كان صرف الوجود، فهو صرف كل كمال وجمال، وإلا يلزم عدم كونه صرفا، وهو
يرجع إلى التركيب والإمكان، فالخيرات كلها مجعولات، ومبدأ الجعل فيها هو الحق
تعالى.
والشرور التي في دار الطبيعة المظلمة، من تصادمات الماديات وضيق عالم الطبيعة،
وكلها ترجع إلى عدم وجود أو عدم كما له، والأعدام مطلقا غير متعلقة للجعل، بل
المضافة منها من لوازم المجعول وتضايق دار البوار وتصادم المسجونين في سجن الطبيعة
وسلاسل الزمان، فكلها ترجع إلى الممكن.
فما أصابك من حسنة وخير وسعادة وكمال فمن الله، وما أصابك من سيئة وشر ونقص
وشقاء فمن نفسك، لكن لما كانت النقائص والشرور اللازمة للوجودات الإمكانية من
قبيل الأعدام المضافة والحدود والماهيات، كان لها وجود بالعرض، وما كان كذلك فمن
عند الله، لكن بالعرض، فالخيرات من الله بالذات، ومنسوب إلى الممكنات بالعرض،
والشرور من الممكنات بالذات، ومنسوب إليه تعالى بالعرض.
فحينئذ يصح أن يقال: كل من عند الله؛ فإنه لولا الإيجاد والإفاضة وبسط الخيرات، لم
يكن وجود ولا حده ولا طبيعة ولا ضيقها، ولعل تغيير الاسلوب وتخلل لفظة " عند " في
قوله تعالى: (قل كل من عند الله) للإشارة إلى المجعولية بالعرض. (الطلب والإرادة:
38 - 40).
39

وليعلم: أن مناط استحقاق العبد للثواب والعقاب، ليس هو إرادية الفعل
ومجرد صدوره عن العلم والإرادة، كيف! وجميع الحيوانات تكون أفعالها عن علم
وإرادة بالضرورة، فلو كان مجرد صدور الفعل عن علم وإرادة، مصححا لاستحقاق
العقوبة، للزم الالتزام بصحة عقوبة الحيوان، مع قضاء الضرورة ببطلانه.
والتحقيق: أن مناط الاستحقاق وصحة العقوبة، هو اختيارية الفعل،
وليست الاختيارية بمجرد الصدور عن علم وإرادة كما يظهر من المحقق
الخراساني (1) وغيره (2) وإلا لعاد المحذور.
ولتوضيح الحال لابد من تمهيد مقدمة؛ وهي أن الإنسان مخلوق من رقائق
مختلفة، هي رقائق العوالم العلوية والعوالم السفلية، وله بحسب اقتضاء كل
رقيقة ميل، فله ميول مختلفة، فباقتضاء رقائقه العلوية له ميل إلى جهة العلو
وعا لم التقديس والتنزيه، فيحن إلى الكمال وحقيقة العبودية، وباقتضاء
رقائقه السفلية يميل إلى جهة السفل والمنزلة الحيوانية والشيطانية، ويحن

1 - كفاية الاصول: 89.
2 - درر الفوائد، المحقق الحائري: 337، وقاية الأذهان: 185.
41

إلى الشيطنة والشهوة البهيمية والغضب السبعي.
والإنسان دائما بين هاتين الجاذبتين، ومعركة جنود الرحمن والشيطان،
وقد أعطاه الله تعالى عقلا محيطا مميزا للمصالح والمفاسد في العاجل والآجل،
حاكما على سائر القوى.
ثم إنه تعالى مع إعطائه القوة المميزة العاقلة، لم يتركه سدى، بل بعث
إليه النبيين والمرسلين، وأنزل الكتب السماوية، هاديا إلى الطريق القويم،
مرشدا إلى الصراط المستقيم، داعيا إلى ما به كما له وسعادته، زاجرا عما به
نقصه وشقاوته.
ثم إن الإنسان في صدور كل فعل منه، لابد من تصوره وترجيحه أحد
جانبي الفعل والترك، وحيث كان له عقل مميز، وله ميول مختلفة - حسبما
عرفت - يجعل الفعل والترك في كفتي ميزان عقله، فإن رجح جانب الفعل يختار
لنفسه فعله، ويفعله بإرادته، أو يختار تركه ويتركه كذلك، فقد يرجح النفع
الدنيوي العاجل على الضرر الاخروي الآجل فيختاره؛ أي يعتقده خيرا لنفسه،
فيفعله باختياره وإرادته، وقد يرجح تركه فيتركه كذلك.
ولعل إلى ما ذكرنا أشار تعالى في سورة الدهر، حيث قال: (هل أتى على
الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا * إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج
نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا * إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) (1).
ولعل " النطفة " هي النطفة الروحانية التي أشارت إليها أخبار الطينة (2)
كما يظهر للمتدبر فيها. والمشج هو المختلط، والجمع للإشارة إلى كثرة الاختلاط،

1 - الإنسان (76): 2 - 4.
2 - بصائر الدرجات: 35 / 5 و 37 / 10، بحار الأنوار 25: 50 / 10.
42

وهذا الاختلاط إشارة إلى الرقائق العلوية والسفلية.
والدليل على أن " النطفة " هي الروحانية، قوله: (نبتليه) فإن الابتلاء
مناسب للروح، لا للجسد والمادة الجسمانية. والسمع والبصر أيضا هما
الروحانيان منهما؛ بمناسبة الابتلاء والهداية، فبهما يميز الصلاح من الفساد.
وهداية السبيل عبارة عن بعث الأنبياء، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب.
وقوله: (إما شاكرا وإما كفورا) إشارة إلى اختيار الطاعة، فيكون شاكرا
لأنعم الله، أو المعصية فيكون كفورا.
إذا عرفت ذلك علمت: أن مجرد إتيان العمل بالإرادة، لا يوجب استحقاق
العقوبة والمثوبة، بل المناط هو الإتيان باختيار وترجيح بحسب ميزان العقل،
فالله - تعالى شأنه - قد مكنه من تحصيل السعادة، وهداه إلى طرقها، وأعطاه
المؤيدات الداخلية والخارجية، فإذا كفر بأنعم الله واختار لنفسه الشقاوة،
فلا يلومن إلا نفسه، وإذا اختار السعادة فليشكر ربه (9).

9 - في المسألة إشكال وتحقيق، أما الإشكال:
إن الإرادة الإنسانية إن كانت واردة من الخارج بأسباب وعلل منتهية إلى الإرادة
القديمة، كانت واجبة التحقق، من غير دخالة العبد في ذلك، فيكون مضطرا وملجأ في
إرادته، ولازمه الاضطرار في فعله؛ لأن ما يكون علته التامة اضطرارية يكون هو
- أيضا - كذلك، وإن كانت إرادته بإرادته، ننقل الكلام إلى إرادة إرادته، فإما أن يتسلسل،
أو يلزم الاضطرار والجبر. (الطلب والإرادة: 47).
وأما التحقيق الذي به يدفع الإشكال:
اعلم: أن الأفعال الاختيارية الصادرة من النفس على ضربين:
أحدهما: ما يصدر منها بتوسط الآلات الجرمانية، كالكتابة والصياغة والبناء، ففي مثلها
تكون النفس فاعلة الحركة أولا، وللأثر الحاصل منها، ثانيا وبالعرض. وفي هذا الفعل
تكون بين النفس المجردة والفعل، وسائط ومباد من التصور إلى العزم وتحريك العضلات.
والضرب الثاني: ما يصدر منها بلا وسط، أو بوسط غير جسماني، كبعض التصورات التي
يكون تحققها بفعالية النفس وإيجادها، لو لم نقل جميعها كذلك - مثل كون النفس لأجل
الملكة البسيطة الحاصلة لها من ممارسة العلوم خلاقة للتفاصيل، ومثل اختراع نفس
المهندس صورة بديعة هندسية - فإن النفس مع كونها فعالة لها بالعلم والإرادة
والاختيار، لم تكن تلك المبادئ حاصلة بنحو التفصيل، كالمبادئ للأفعال التي بالآلات
الجسمانية؛ ضرورة أن خلق الصور في النفس لا يحتاج إلى تصورها والتصديق بفائدتها
والشوق والعزم وتحريك العضلات، بل لا يمكن توسيط تلك الوسائط بينها وبين النفس؛
بداهة عدم إمكان كون التصور مبدأ للتصور، بل نفسه حاصل بخلاقية النفس.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن العزم والإرادة والتصميم والقصد من أفعال النفس، ولم تكن
سبيلها سبيل الشوق والمحبة من الامور الانفعالية، فالنفس مبدأ الإرادة والتصميم، ولم
تكن مبدئيتها بالآلات الجرمانية، بل هي موجدة لها بلا وسط جسماني، وما كان حاله
كذلك في صدوره من النفس لا يكون بل لا يمكن أن يكون بينه وبينها إرادة زائدة متعلقة
به، بل هي موجدة له بالعلم والاستشعار الذي في مرتبة ذاتها؛ لأن النفس فاعل إلهي،
واجد لأثره بنحو أعلى وأشرف، فكما أن المبدأ للصور العلمية واجد لها في مرتبة ذاته
البسيطة بنحو أعلى وأشرف وأكمل، فكذا الفاعل للإرادة. (الطلب والإرادة: 53 - 55).
43

الجهة الرابعة
في أن الأمر إذا كان مطلقا بلا قرينة
هل يحمل على الوجوب أو الندب؟
ولابد قبل تحقيق المقام من تقديم امور:
الأول: في معنى الطلب
قد عرفت أن الطلب النفساني الذي ادعاه الأشاعرة (1) مما لا أساس له،
فاعلم أن الطلب عبارة عن البعث والإغراء نحو المطلوب.
وبيان ذلك: أن المريد لوجود شيء في الخارج، قد تتعلق إرادته بإتيانه
مباشرة، فإرادته تصير مبدء لتحريك عضلاته وآلاته الفعالة نحو المطلوب،
فيوجده ويحققه في الخارج.
وقد تتعلق إرادته بإيجاد الغير لمطلوبه، فيحركه ويبعثه نحوه بواسطة
طلبه وأمره، فكأنه يستخدم غيره ويجعله كعضلاته وآلاته الفعالة، فيحركه
نحوه، كتحريك عضلاته.
وهذا البعث والإغراء عبارة عن الطلب، استحبابيا كان أو وجوبيا، وقبل هذا
البعث لا يصدق " أنه طلب منه " وبعده يصدق كما لا يخفى.
الثاني: ما به الامتياز بين مبدأ الطلب الندبي والوجوبي
الثاني: في تحصيل معنى الطلب الندبي والوجوبي، وبيان ما به الافتراق

1 - انظر شرح القوشجي على التجريد: 245 / السطر الأخير.
45

بينهما.
فاعلم: أن ما به الامتياز بين الشيئين قد يكون تمام الذات، كامتياز
الأجناس العالية بعضها مع بعض.
وقد يكون بعض الذات، كامتياز الأنواع من الجنس الواحد.
وقد يكون المنضمات والامور الخارجة عن الذات، كامتياز الأشخاص
من النوع الواحد.
وهاهنا قسم رابع عند طائفة من الفلاسفة (1)، وهو كون نفس الذات
والحقيقة المشتركة ما به الامتياز والافتراق؛ بأن يكون لنفس الحقيقة والذات
عرض عريض ومراتب مختلفة، كامتياز مراتب الحقائق البسيطة، كالخط
القصير والطويل، ومراتب الشدة والضعف في الألوان البسيطة، كما هو المقرر
في محاله (2).
إذا عرفت ذلك يشبه أن يكون الامتياز بين مبدأ الطلب الذي هو الإرادة في
الوجوبي والندبي، هو هذا القسم، وأن الإرادة لما كانت من الحقائق البسيطة
كالعلم والوجود والوحدة، تكون لها مراتب مختلفة، وما به الامتياز فيها عين ما
به الاشتراك، وتكون بينها ذات عرض عريض.
وأما الاختلاف بتمام الذات، حتى تكون الإرادة الوجوبية متباينة مع
الندبية، فواضح الفساد.
كما أن الامتياز ببعض الذات باطل؛ فإنها حقيقة بسيطة، ولا يكون
اختلافها بالعوارض، حتى تكون الإرادتان واحدة، وتكون الإرادة الوجوبية في

1 - هم فلاسفة الإشراق، انظر المطارحات: 292 - 303، وشرح حكمة الإشراق: 233 -
238 و 303 - 305.
2 - انظر الحكمة المتعالية 1: 427.
46

درجة واحدة مع الندبية؛ فإنه خلاف الضرورة.
بل تكون الإرادة الشديدة والضعيفة اللتان هما المبدأ للوجوب والندب،
المرتبتين المختلفتين بتمام ذاتهما، والمشتركتين بتمام ذاتهما - كما هو الشأن في
الامتياز بنحو القسم الرابع من الأقسام - كالوجود وسائر البسائط، فلما كانت
الإرادتان مختلفتين، يكون الطلب الناشئ منهما مختلفا بالتبع، فيكون الطلب
الوجوبي هو الطلب المتأكد الناشئ عن الإرادة الشديدة القوية، والطلب الندبي
هو الطلب الغير المتأكد الناشئ من الإرادة الضعيفة.
الثالث: الفرق بين الطلب الندبي والوجوبي
إن الطلب الذي هو البعث والإغراء نحو العمل، قد يكون متأكدا ببعض أداة
التأكيد، كنوني التأكيد وغيرهما، وقد يكون مقرونا بترخيص الترك، وقد يكون
مطلقا غير مقترن بشيء منهما.
وقد عرفت: أن الفرق بين مبدئي الندبي والوجوبي بالشدة والضعف، وأما
الفرق بين نفس الطلبين، فيكون بالاقتران بالترخيص وعدمه، كما سيأتي عن
قريب (1).
وأما ما قيل: من أن الافتراق بينهما إنما يكون بصحة المؤاخذة على الترك
وعدمها (2).
وما قيل: من أن الوجوب هو الرجحان مع المنع من الترك، والندب هو
الرجحان مع الإذن في الترك (3).

1 - يأتي في الصفحة 51.
2 - انظر هداية المسترشدين: 191 / السطر 35، والفصول الغروية: 87 / السطر 38.
3 - معا لم الدين: 63 / السطر 5.
47

فيرد على الأول: أن صحة المؤاخذة إنما هي من الآثار العقلية التي يتأخر
وجودها عن تحصل الأمر، ولا يمكن دخالتها في تقوم الأمر المتقدم عليها.
وعلى الثاني: أن الرجحان والرضا بالترك وعدمه، من مبادئ تحصل
الأمر الوجوبي والندبي، فلا يعقل تقومهما بهما.
الرابع: دلالة الطلب على الإرادة دلالة عقلية
إن دلالة الطلب على الإرادة وكشفه عنها، لا تكون دلالة وضعية
جعلية، بل دلالة عقلية، كدلالة المعلول على علته وكشف الصادر عن منشئه
ومصدره؛ فإن اللفظ الصادر عن المتكلم بما أنه فعل صادر منه كسائر أفعاله،
يدل بالدلالة العقلية على أن فاعله مريد له، ومبدأ صدوره هو إرادة الفاعل
واختياره.
كما يدل على أن صدوره إنما يكون لأجل إفادة، ولا يكون لغوا باطلا.
وكذا يدل على أن قائله أراد إفادة مضمون الجملة؛ أي الفائدة الخبرية أو
الإنشائية مثلا، لا الفائدة الهزلية، وكل هذه دلالات عقلية، لا وضعية جعلية.
ويدل من حيث إنه لفظ موضوع، على أن المتكلم به أراد المعنى
الموضوع له، لا المعاني المجازية، وسيأتي إن شاء الله في باب المفاهيم، أن
دلالتها أيضا من قبيل الدلالات العقلية (1).
ومما ذكرنا يظهر النظر فيما أفاده المحقق الخراساني (رحمه الله): من أن صيغة
الطلب والاستفهام والترجي وغيرها، تدل بالدلالة الالتزامية على ثبوت هذه
الصفات، أو انصراف إطلاقها إلى هذه الصورة (2). انتهى.

1 - يأتي في الصفحة 267 - 271.
2 - كفاية الاصول: 88.
48

فإن هذه المبادئ - مثل الإرادة في الطلب - مبدأ لوجود الإنشائيات،
ومتقدمة عليها تقدم العلة على المعلول، ولا يعقل تقيد المتأخر بالمتقدم،
وتجافي العلة عن مقامها، وصيرورتها قيدا لمعلولها المتأخر عنها، حتى يكون
الموضوع له هو المعلول المتقيد بالعلة.
مع ما عرفت: من أن دلالة الإنشائيات على مبادئها، إنما هي دلالة
عقلية، لا وضعية جعلية، وكشفها عن مبادئها هو كشف المعلول عن العلة، لا
كشف اللفظ عن معناه الموضوع له.
الخامس: تحرير محل النزاع
إنه قد يقرر ويحرر محل النزاع في حمل الأمر على الوجوب أو
الندب؛ بأن موضوع حكم العقلاء باستحقاق العبد للعقوبة والمذمة واللوم؛
لخروجه عن مراسم العبودية ومخالفته لسيده ومولاه، هل هو الأمر المتأكد
ببعض أداة التأكيد، ويكون المجرد عن المؤكدات غير موضوع لهذا الحكم
العقلائي؟
أو يكون تمام الموضوع هو الأمر، سواء كان مطلقا، أو مقرونا بأداة التأكيد،
ويكون الاقتران بالترخيص رافعا لحكم العقلاء؟
وبالجملة: مجرد صدور الطلب تمام موضوعه، إلا أن يقترن بالترخيص،
هذا بحسب مقام الثبوت.
وهل يحكمون في مقام الشك في الاقتران وعدمه بالعقوبة أم لا؟
وقد يحرر النزاع، بأن الأمر المقرون بأداة التأكيد، هل يكشف عن الإرادة
49

الشديدة التي هي موضوع حكم العقلاء للعقوبة، أم الطلب المطلق الذي لا يقترن
بالترخيص موضوعه؟
فعلى التقرير الثاني، يكون المدعى أن موضوع حكم العقلاء باستحقاق
الذم والعقوبة، هو الإرادة الشديدة؛ بحيث لو اطلع العبد عليها، ويكون
المولى غافلا غير آمر أصلا، يجب عليه الإتيان بالمراد، ولو لم يأت يكون
عاصيا مستحقا لها، ويكون النزاع في الكاشف، وأنه هل هو الأمر مطلقا، أو
المتأكد منه، وعلى أي شيء يحمل في مقام الشك في الاقتران بالترخيص أو
التأكيد؟
تحقيق المقام:
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنه لا إشكال في أن صرف الطلب إذا صدر من
المولى المنعم الذي له حق المولوية والسيادة، متوجها إلى العبد الذي له
العبودية، بأي نحو من أنحاء التحقق - باللفظ، أو بالإشارة، أو الكتابة، أو غير
ذلك - يجب على العبد إطاعته، ولو خالفه يستحق عند العقلاء العقوبة واللوم
والمذمة، ولا يقبلون منه العذر أصلا، سواء قلنا: بأن الطلب تمام الموضوع لهذا
الحكم، أو قلنا: بأن الطلب كاشف عن الموضوع الذي هو الإرادة الغير المقترنة
بالرضا بالترك.
بل لو قلنا: بأن الطلب تمام الموضوع، لابد من الالتزام بأن الموضوع هو
الطلب الذي يكون مبدؤه إرادة الانبعاث، لا مطلق الطلب ولو كان مبدؤه إرادة
التعجيز والسخرية مثلا أو غير ذلك.
وعلى أي حال: مجرد إحراز الطلب من المولى، موضوع لحكم العقلاء؛ إما
50

ذاتا، وإما كشفا.
بل لو شك في مقارنة أمر المولى للترخيص، أو إرادته للرضا بالترك،
يكون حكم العقلاء ثابتا. ولو ترك العبد أمر المولى؛ معتذرا بالشك في مقارنته
للترخيص، أو مقارنة إرادته للرضا بالترك، عد عاصيا مستحقا للعقوبة والذم
عند العقلاء كافة.
وهذا هو العمدة في حمل الطلب المطلق على الوجوب، وإن دل على ذلك
أيضا قوله تعالى: (ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك) (1) بعد قوله: (قلنا
للملائكة اسجدوا لادم) (2) فإن ذمه تعالى لإبليس لمخالفته مجرد أمره
بالسجود، كما يظهر من صدر الآية.
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن الطلب المطلق سواء كان مجردا عن
الترخيص، أو مشكوك التجرد عنه، محمول على الوجوب، وإنما يحمل على
الندب إذا احرزت مقارنته للترخيص، أو مقارنة الإرادة للرضا بالترك.
بل المحقق القمي (رحمه الله)، ذهب إلى أن الطلب مطلقا محمول على الوجوب (3)
ولا تعقل مقارنة الطلب للترخيص؛ فإن البعث إلى الفعل والترخيص في الترك،
متنافيان غير مجتمعين، وليست للإرادة مراتب، بل الإرادة مطلقا حتمية وجوبية،
والأوامر الندبية كلها إرشادية؛ ترشد إلى ما في متعلقاتها من المصالح، فالآتي
بها لا ينال إلا تلك المصالح، والتارك لها يحرم عنها، وليس في البين طلب أصلا.
وعلى هذا: يكون الوجوب والندب سنخين متباينين، أحدهما من سنخ

1 - الأعراف (7): 13.
2 - الأعراف (7): 12.
3 - قوانين الاصول 1: 81 / السطر 18.
51

الطلب، دون الآخر، وهذا ليس ببعيد عن الصواب (10).

10 - اعلم: أنه تختلف إرادة الفاعل فيما صدر منه قوة وضعفا، حسب اختلاف أهمية
المصالح المدركة عنده، فالإرادة المحركة لعضلاته لنجاة نفسه عن الهلكة، أقوى من
الإرادة المحركة لها للقاء صديقه، وهي أقوى من المحركة لها للتفرج والتفريح، فمراتب
الإرادات - قوة وضعفا - تابعة لإدراك أهمية المصالح أو اختلاف الاشتياقات، واختلاف
حركة العضلات - سرعة وقوة - تابع لاختلاف الإرادات كما هو ظاهر. (مناهج الوصول
1: 247).
وأن الإرادة لما كانت من الحقائق البسيطة كالعلم والوجود، يكون التشكيك الواقع فيها
خاصيا - ما به الافتراق بين مراتبها عين ما به الاشتراك - ولا يكون الاختلاف بينها بتمام
الذات المستعمل في باب الماهيات، أو بعضها، أو خارجها؛ ضرورة عدم التباين الذاتي بين
الإرادة القوية والضعيفة، ولا يكون اختلافهما ببعض الذات؛ لبساطتها، ولا بأمر خارج؛
حتى تكونا في مرتبة واحدة، والشدة والضعف لاحقان بها، فالإرادة كسائر الحقائق
البسيطة يكون افتراق مراتبها كاشتراكها بتمام الذات، وتكون ذات عرض عريض ومراتب
شتى.
وأن صدور الأمر من الآمر - بما أنه فعل إرادي له كسائر أفعاله الإرادية - مسبوق
بمقدمات من التصور إلى الإرادة وتحريك العضلات، غاية الأمر أن العضلات فيه
عضلات اللسان، وتكون الإرادة فيه - قوة وضعفا - تابعة لإدراك أهمية الفعل المبعوث
إليه؛ ضرورة أن الإرادة الباعثة إلى إنجاء الولد من الغرق، أقوى من الباعثة إلى شراء
اللحم.
ثم إنه قد يظهر آثار الشدة في المقال، بل في كيفية تأدية الكلام شدة، أو في الصوت
علوا وارتفاعا، وقد يقرن أمره بأداة التأكيد والوعد والوعيد، كما أنه قد يقرنه بالترخيص
في الترك، أو بما يفهم منه الوجوب أو الاستحباب. (مناهج الوصول 1: 248 - 249).
52

المطلب الثاني
فيما يتعلق بصيغة الأمر
وفيه مباحث:
المبحث الأول: في صيغ الأمر
قد ينشأ الطلب بنحو قوله: " أطلب منك الضرب " أو " آمرك بالإكرام " وقد
ينشأ بنحو " اضرب " و " أكرم " ولا إشكال في تحقق حقيقة الطلب بكل من
الإنشائين، فيبقى سؤال الفرق بينهما.
وقد التزم بعض أساتيذنا بأن نحو " اضرب " و " أكرم " ليس مفاده إلا النسبة
الصدورية إلى الفاعل، ولا يكون مفاده إنشاء الطلب، بخلاف مثل " أطلب "
و " آمر " (1).
وفيه: أن النسبة الصدورية إما تصورية، أو تصديقية، وكل منهما
أجنبي عن مفاد هذه الصيغ الإنشائية؛ فإن الضرورة قاضية بأن معنى " اضرب

1 - تشريح الاصول: 97 / السطر ما قبل الأخير.
53

زيدا " ليس صدور الضرب من زيد بنحو المعنى التصوري، ولا صدوره بنحو
المعنى التصديقي، وليست النسبة خارجة عنهما.
وبالجملة: لا إشكال في تحقق الطلب بكل من نحو " أطلب " و " آمر "
وبالهيئات الإنشائية، فحينئذ يمكن أن يقال: الفرق بينهما أن الطلب مطلقا وإن
كان وسيلة إلى حصول المطلوب، وتكون الغاية والمتوجه إليه هو المطلوب،
وليس للطلب إلا سمة المقدمية والتوصل إليه، لكن قد يلاحظ الطلب بنحو
المعنى الحرفي، فيكون فانيا في المطلوب غير منظور فيه، وهذا مفاد نحو
" اضرب " و " أكرم ".
وقد يكون نفس الطلب منظورا فيه بالنظر الاستقلالي وبنحو المعنى
الاسمي، ويكون عنوان " الطلب والأمر " حاضرا في الذهن، وإن كان وسيلة إلى
حصول المطلوب، وهذا مفاد نحو " أطلب " و " آمر ".
وبالجملة: قد تنشأ حقيقة طلب الضرب بنحو المعنى الحرفي فانية في
المطلوب، وقد تنشأ بنحو المعنى الاسمي مستقلة في الملحوظية، وإن كانت في
كلا الصورتين وسيلة إلى المطلوب.
ومنه يظهر عدم التفاوت فيما هو الملاك في حمل الطلب على الوجوب،
سواء أنشئ بمادته أو بهيئته؛ فإن الملاك هو تحقق الطلب بأي نحو كان.
54

المبحث الثاني
كثرة استعمال الأمر في الندب
ادعى صاحب " المعالم " (رحمه الله)، أن كثرة استعمال الأمر في الندب في
الأحاديث المروية عن أئمتنا (عليهم السلام)، جعلته من المجازات الراجحة في
الاستعمال، المساوية للوجوب في الاحتمال، فإذا ورد منهم أمر بلا قرينة نتوقف
فيه، ولا نحمله على الوجوب (1).
وأجاب عنه المحقق الخراساني (رحمه الله) تارة: حلا بأن كثرة الاستعمال فيه في
الكتاب والسنة وغيرهما، لا يوجب صرف ظهوره عن معناه الوضعي؛ لأن
الاستعمال إنما هو مع القرينة المصحوبة، وهو وإن كثر لا يوجب صيرورته
مشهورا ليرجح أو يتوقف.
وتارة: نقضا بالعام فإنه مع كثرة استعماله في الخاص حتى قيل: " مامن
عام إلا وقد خص " (2) لم ينثلم ظهوره في العموم ما لم تقم قرينة (3).
ويرد عليه: - مضافا إلى عدم ادعائه كثرة الاستعمال في الكتاب والسنة،
بل ادعاها في الأخبار المروية عن الأئمة (عليهم السلام)، ولا ملازمة بينهما؛ فإن ما ورد
عنهم وإن كان مأخوذا عنهما، ولهذا قال الصادق (عليه السلام) في جواب من قال له: إني
احب أن تروي ما تروي لي مسندا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن كل ما أقوله فهو مما

1 - معا لم الدين: 48 / السطر 13.
2 - المستصفى من علم الاصول 2: 57.
3 - كفاية الاصول: 92.
55

حدثني أبي، عن أبيه، عن أبيه، عن أبيه أميرا لمؤمنين (عليهم السلام)، عن رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " (1) لكن لا يلزم أن تكون استعمالاتهم مطابقة لاستعمال رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل يمكن أن يكون استعمالهم الأمر في الندب أكثر بكثير من استعماله
فيه كما لا يخفى - أن الحل والنقض كليهما مخدوشان:
أما الحل ففيه: أن استعمال الأمر في الندب مع القرينة المصحوبة، ليس
معناه أن الأمر مع القرينة يستعمل في المعنى المجازي، بل معناه أن الأمر
يستعمل بنفسه فيه، والمعين لهذا الاستعمال هو القرينة، كما هو الشأن في سائر
المجازات (11)، فإذا كان كذلك فكثرة استعمال اللفظ فيه توجب انسا للذهن

1 - انظر الكافي 1: 42 / 14، وأما لي المفيد: 42 / 10، وبحار الأنوار 104: 44، ووسائل
الشيعة 18: 58 و 69 و 74، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 8، الحديث 26
و 67 و 86.
11 - والحق الحقيق بالتصديق هو ما اختاره بعض أجلة العصر (رحمه الله) في وقايته وتبعه غيره: أن
اللفظ في مطلق المجاز - مرسلا كان أو استعارة أو مجازا في الحذف، مفردا كان أو مركبا -
وكذا في الكناية، مستعمل فيما وضع له لاغير، لكن يكون جده على خلاف استعماله،
وإنما يكون تطبيق المعنى الموضوع له على ما أراده جدا بادعاء كونه مصداقه، كما في
الكليات، وعينه كما في الأعلام الشخصية.
فقوله: (ما هذا بشرا ان هذا إلا ملك كريم) استعمل " الملك " في الماهية المعهودة من
الروحانيين، وإنما حملها عليه بادعاء كونه من مصاديقها، فالادعاء على مذهب
السكاكي وقع قبل الإطلاق، فاطلق اللفظ على المصداق الادعائي، دون هذا؛ فإن الادعاء
بناء عليه وقع بعد الاستعمال، وحين إجراء الطبيعة الموضوع لها اللفظ على المصداق
الادعائي، وفي قوله: " رأيت حاتما " اريد ب‍ " حاتم " هو الشخص المعروف وادعي أن فلانا
هو هو، فالادعاء لتصحيح إجراء المعنى على المعنى، فحسن الكلام في باب المجازات
إنما هو بتبادل المعاني والتلاعب بها، لا بعارية الألفاظ وتبادلها، والشاهد على صحة هذا
المذهب هو الطبع السليم والذوق المستقيم.
ثم لا وجه لتخصيص ما ذكر بالاستعارة، بل هو جار في المجاز المرسل أيضا، فلا يطلق
العين على الربيئة إلا بدعوى كونه نفس العين لكمال مراقبته، لا بعلاقة الجزئية
والكلية، ولا الميت على المريض المشرف على الهلاك إلا بدعوى كونه ميتا، والمصحح
للدعوى إشرافه عليه وانقطاع أسباب الصحة عنه، وفي قوله: (وسئل القرية...)
يدعى كون القضية بمثابة تجيب عنها القرية والعير، وتقدير " الأهل " فيه يحط الكلام
من ذروة البلاغة والحسن إلى حضيض البرودة والسوقية.
وكذا الحال في المجاز المركب، فإذا قيل: " أراك تقدم رجلا وتؤخر اخرى " للمتحير
والمتردد، لم تستعمل الألفاظ المفردة إلا في معانيها الحقيقية، لكن ادعي كون المتردد
والمتحير شخصا متمثلا كذلك، وليس للمركب وضع على حدة بحيث كانت أجزاؤه بمنزلة
حروف الهجاء في المفردات؛ بالضرورة ولعدم الاحتياج إليه ولغويته، حتى يقال: إن
اللفظ الموضوع لمعنى استعمل في غيره. (مناهج الوصول 1: 104 - 107).
هذا حال المجازات، أما الأوامر فنقول: لا إشكال في حكم العقلاء كافة على تمامية
الحجة على العبد مع صدور البعث من المولى بأي دال كان، وقطع عذره وعدم قبوله
باحتمال نقص الإرادة وعدم حتمية البعث وغير ذلك.
ولا ريب في حكمهم بلزوم إطاعة الأوامر الصادرة من المولى من غير توجه إلى التشكيك
العلمي من احتمال كونه صادرا عن الإرادة غير الحتمية، أو ناشئا عن المصلحة غير
الملزمة، وليس ذلك للدلالة اللفظية، أو لجهة الانصراف، أو لاقتضاء مقدمات
الحكمة، أو لكشفه عن الإرادة الحتمية، بل لبناء منهم على أن بعث المولى لا يترك بغير
جواب، كما لا يترك باحتمال الندب، فتمام الموضوع لحكمهم بوجوب الطاعة هو نفس
البعث ما لم يرد فيه الترخيص.
هذا، من غير فرق بين ما دل على الإغراء والبعث، سواء كان الدلالة بآلة الهيئة، أو
بإشارة من يده أو رأسه، فالإغراء - بأي دال كان - هو تمام الموضوع لحكم العقلاء
بتمامية الحجة إلا أن يدل دليل على الترخيص. (تهذيب الاصول 1: 110).
وهنا إشكال يرد على كل من قال بدلالة الأمر على الوجوب أو الندب بأي دليل تمسك،
ومن قال باستعماله فيهما حقيقة أو مجازا؛ إذ انتزاعهما أو اعتبارهما - على الفرق المقرر
في محله بين الانتزاعيات والاعتباريات - إن كان بلحاظ الإرادة الحتمية، أو المصلحة
الملزمة في الوجوب وعدمهما في الندب، فمن البين أن ذلك من مبادئ الاستعمال، وهو
مقدم بالطبع على الاستعمال، وإن كان بلحاظ حتمية الطاعة أو عدمها، فمن الواضح أنهما
منتزعتان بعد الاستعمال، فلا يعقل الاستعمال فيهما على جميع الأقوال. (تهذيب الاصول 1:
109 - 110).
56

بالنسبة إليه؛ بحيث أنه ربما يصير هذا الانس موجبا للترجيح وتقديم اقتضائه
على اقتضاء الوضع أو التوقف وعدم الترجيح.
وأما النقض، ففيه:
أولا: أن العام لا يستعمل في الخاص، بل هو مستعمل في العام دائما،
والتخصيص إنما هو إخراج ما دخل فيه، وحينئذ فلا معنى لانثلام ظهوره، بخلاف
الأمر فإنه مستعمل في الندب، فكثرته توجب الانس.
وثانيا: أن استعمال العام في الخاص لو سلم، ليس استعمالا في عنوان
الخاص، حتى يصير الذهن مأنوسا به، ويصير اللفظ ظاهرا فيه؛ بحيث يزاحم
ظهوره في العموم، بل يكون استعمالا فيما هو بالحمل الشائع خاص، فيكون
المستعمل فيه مختلفا متكثرا، وينتزع عنوان الخاص من كل منهما.
وبالجملة: لا تكون كثرة الاستعمال في معنى واحد، موجبة للانس
والظهور المزاحم لظهور العام، وهذا بخلاف استعمال الأمر في الندب، فإن كثرة
استعماله فيه توجب الظهور المزاحم؛ لكونه معنى واحدا.
هذا، ولكن إشكال " المعالم " لا يرد على طريقتنا في حمل الأمر على
الوجوب؛ فإن الطلب - على ما ذهبنا إليه - إذا صدر من المولى، فإما هو بنفسه
58

موضوع لحكم العقلاء بوجوب الإطاعة وقبح المخالفة، إلا إذا احرز الإذن في
الترك، وإما لكشفه عن الإرادة الحتمية كشف المعلول عن العلة، وليس من
قبيل الاستعمال حتى يرد عليه ما ذكر.
تنبيه: في الأحكام السلطانية
ومما ذكرنا في باب حمل الطلب على الوجوب، وأن الطلب بأي نحو كان
إما تمام الموضوع، أو كاشف عنه؛ يعرف حال الجمل الخبرية التي تستعمل في
الطلب، فلا نحتاج إلى بيانها وبيان سائر المباحث المربوطة بحمل الطلب على
الوجوب، لكن لا بأس بصرف عنان الكلام إلى ذكر نكتة كثيرا ما نحتاج إليها في
الفقه.
وهي أن الأوامر الصادرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن الأئمة المعصومين (عليهم السلام)،
قد تكون صادرة بعنوان السلطنة الإلهية؛ وبما أنهم مسلطون على الرعية من
قبل الله تعالى، ولهم الرئاسة العامة، كأمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالخروج مع جيش اسامة بن
ثابت، وكأمر أميرا لمؤمنين (عليه السلام) بخروج الجيش للشام، وأشباههما، فهذه الأوامر
بما أنها صادرة منهم، واجبة الإطاعة، والتخلف عنها - بنفسها وبما أنها
أوامرهم - حرام موجب للفسق.
وبالجملة: إن لأوامرهم ونواهيهم الكذائية موضوعية، ولعل قول بريرة:
أتأمرني يا رسول الله؟ كان استفسارا منه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أن أمره هل صدر بجهة
السلطنة الإلهية؟
فقال: " لا، بل أنا شافع " (1).

1 - مستدرك الوسائل 2: 600، كتاب الطهارة، أبواب نكاح العبيد، الباب 36، الحديث 3.
59

وقد تكون أوامرهم ونواهيهم صادرة لا بجهة السلطنة والحكومة
الإلهية، بل لبيان الأحكام الإلهية والفتوى، فلا تكون مولوية، ومخالفتها
لا تكون حراما موجبا للفسق بما أنها مخالفتهم، بل بما أنها مخالفة لأحكام الله؛
فإن أوامرهم الكذائية إرشادية إلى الأحكام الإلهية كفتوى الفقيه، فلا تكون لها
إطاعة ومعصية، ولا مخالفتها موجبة للعقاب، بل هي كاشفة عن أحكام الله.
نعم، إنها لو كانت مطلقة غير مقارنة للترخيص، أو قرينة الندب، تكون
كاشفة عن الأوامر المولوية الوجوبية.
وإن شئت قلت: لما كانت كاشفة عن الطلب الإلهي، فلا مناص من وجوب
إطاعتها، إلا مع الإذن في الترك.
فتحصل مما ذكرنا: أن الأوامر والنواهي المنقولة عن أئمتنا
المعصومين (عليهم السلام)، بل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، جلها إرشادية ليست بمولوية.
نعم، قد تكون إرشادا إلى الأوامر والنواهي الإلهية، وقد تكون إرشادا إلى
الصحة والفساد، أو إلى الشرطية والمانعية، أو المصلحة والمفسدة؛ حسبما ما
يستفاد من تفاصيلها وتضاعيفها.
60

المبحث الثالث
في التعبدي والتوصلي
كان الترتيب الطبيعي يقتضي بيان التعبدي والتوصلي وماهيتهما وما
تقتضيه كل منهما، ثم تفريع مورد الشك فيهما واقتضاء الأصل عليه، لكن
المحقق الخراساني (رحمه الله) جعل حال الشك أصلا، وجعل بيان ماهيتهما من
مقدماته (1).
وكيف كان، فهاهنا امور:
الأمر الأول: في تعريفهما
الواجب والندب التعبديان، ما لا يسقط الغرض منهما إلا بإتيانهما مرتبطين
بالمولى، ومتقربا بهما إليه، سواء تعلق بهما أمر أم لا، فتعظيم المولى ومدحه
وثناؤه، تكون تعبدية وإن فرض عدم تعلق الأمر بها، لكن لابد من إتيانها تقربا
إليه تعالى؛ لأن الإتيان بها لا يسقط الغرض كيفما اتفق، بل لابد وأن تكون
مرتبطة بالمولى، ومقصودا بها حصول عناوينها.
والتوصليان منهما ما يسقط الغرض بنفس وجودهما مطلقا، سواء اتي بهما
تقربا إليه تعالى أم لا، وسواء قصدت عناوينهما أم لا، بل لو وجدا بلا إرادة
واختيار وفي حال النوم والغفلة، لحصل الغرض منهما (12).

1 - كفاية الاصول: 94 و 98.
12 - إن الواجبات بل المستحبات في الشريعة على أقسام:
أحدها: ما يحصل الغرض بها كيفما تحققت؛ أي يكون المطلوب فيها نفس التحقق والوجود
بأي نحو حصل، كستر العورة وإنقاذ الغريق والنظافة.
ثانيها: ما لا يحصل الغرض بها إلا مع قصد عناوينها من غير احتياج إلى قصد التقرب
والتعبد، كرد السلام وكالنكاح الواجب أو المستحب.
ثالثها: ما لا يحصل بها بصرف قصد العناوين، بل لابد في سقوط أمرها من الإتيان بها
متقربا إلى الله تعالى. وهذا على قسمين:
أحدهما: ما ينطبق عليه عنوان العبودية لله تعالى المعبر عنه في لغة الفرس
ب‍ " پرستش "، كالصلاة والحج والاعتكاف.
وثانيهما: ما ليس كذلك وإن كان قربيا؛ أي يعتبر فيه قصد التقرب والطاعة، كالزكاة
والخمس، بل والصوم؛ فإن إتيان الزكاة - مثلا - وإن يعتبر فيه قصد التقرب، لكن لا تكون
عبادة بالمعنى المساوق ل‍ " پرستش "؛ ضرورة أن كل فعل قربي لا ينطبق عليه عنوان
العبودية، ألا ترى أنه لو أطاع أحد والديه أو السلطان بقصد التقرب إليهم، لا تكون
إطاعته عبادة لهم، فستر العورة والاستبراء بقصد الأمر والتقرب إلى الله ليسا عبودية له،
بل إطاعة لأمره.
فالواجبات المعتبرة فيها القربة على قسمين: تعبدي وتقربي، فالأول ما يؤتى به لأجل
عبودية الله تعالى والثناء عليه بالمعبودية، كالصلاة التي هي أظهر مصاديقها؛ فإنها في
الحقيقة ثناء عليه تعالى بعنوان العبودية، بخلاف الثاني؛ فإن إعطاء الزكاة إطاعة له
تعالى لا ثناء عليه بالمعبودية، فلا يجوز إتيان عمل بعنوان التعبد لغيره تعالى بخلاف
الإتيان بعنوان التقرب.
فحينئذ نقول: المراد بالواجب التعبدي - فيما نحن فيه - هو الواجب التقربي بالمعنى الأعم
من التعبدي بالمعنى المتقدم، وهو ما لا يسقط الغرض بإتيانه إلا بوجه مرتبط إلى الله
تعالى، سواء قصد الامتثال له، أو التقرب إليه تعالى والتوصلي بخلافه، سواء سقط
الغرض بإتيانه كيفما اتفق، أو احتاج إلى قصد العنوان.
واتضح مما ذكرنا وجه الخلل في تعريف التعبدي: بأنه الذي شرع لأجل التعبد به لربه
المعبر عنه بالفارسية ب‍ " پرستش "؛ فإن الواجبات التعبدية بالمعنى المبحوث عنه أعم
مما ذكر. (مناهج الوصول 1: 258 - 259).
61

إن قلت: كما أن تعلق الأمر بشيء غير إرادي محال، كذا تعلقه بالأعم منه
أيضا محال.
قلت: ليس المراد أن الأمر في التوصلي تعلق بأمر أعم من الإرادي، بل
الأمر مطلقا - تعبديا كان أو توصليا - ليس إلا لإيجاد الداعي في المأمور، وبعثه
إلى المأمور به لأن يريده ويفعله، لكن قد يكون لتسبيبه للداعي أو لنفس
الداعي والإرادة، دخالة في الغرض، وقد لا يكون لها دخالة أصلا، بل الغرض
يحصل بنفس الفعل بأي نحو اتفق وجوده، فالمولى يتوصل بالأمر لإيجاد الداعي
للعبد كي يفعل بإرادته.
ولكن كونه في التوصلي مرادا، أو معنونا بداعي الأمر، أو قصد حصول
العنوان وأمثال ذلك، غير دخيل في الغرض من الأمر؛ بحيث لو اتفق تحققه بلا
إرادة وشعور لحصل به الغرض، وسقط الأمر المسبب من الغرض.
الأمر الثاني: في أخذ قصد التقرب في متعلق الأمر
إن الأصحاب رضوان الله عليهم من الصدر الأول - على ما اطلعنا على
كلماتهم - كانوا ينظمون قصد التقرب وامتثال الأمر وأشباههما، في سلك سائر
القيود والشرائط الشرعية من غير تفريق بينها (1) إلى عصر الشيخ العلامة
الأنصاري (رحمه الله)، فأبدى التفرقة بينه وبين سائر القيود والشرائط، وذهب إلى

1 - انظر مفتاح الكرامة 2: 319 - 323.
63

محالية أخذه في متعلق الأوامر (1) فأصبح ذلك كالضروريات بين المتأخرين
منه؛ بحيث تلقوه بالقبول أولا، ثم تكلفوا في إقامة الدليل عليه ثانيا.
وقد اختلفت كلمات تلامذته وأدلتهم في وجه الاستحالة، فجعله بعض
منهم من ناحية الأمر؛ وأن تعلق الأمر بهذا المقيد محال (2) وبعضهم من ناحية
الإتيان؛ وأن الإتيان بهذا النحو من المقيد محال (3).
والذي حرره المحقق المقرر لبحثه الشريف، هو أن هذه القيود إنما تتحقق
بعد تعلق الأمر بالمتعلق، ولا يمكن أخذ ما يأتي من قبل الأمر في موضوعه؛
لوجوب تقدم الموضوع على الأمر الذي هو بحكم الموضوع (4).
وبالجملة: يلزم من أخذه في الموضوع، تقدم الشيء على نفسه؛ لأن
الأمر متوقف على الموضوع، وهو بالفرض متوقف على الأمر.
وقرر بعضهم وجه الاستحالة؛ بأن الأمر لا يتعلق إلا بما هو المقدور،
فلابد من كون المتعلق مقدورا، والفرض أنه غير مقدور إلا بعد تعلق الأمر به (5).
وقال بعض أساتيذنا: إن وجه الاستحالة لا ذاك ولا ذاك، بل وجهها أن
تعلق الأمر بذلك المقيد، موجب للجمع بين اللحاظين؛ أي الآلي والاستقلالي، لأن
الموضوع لابد وأن يكون ملحوظا بنحو الاستقلال، والأمر لكونه آلة لحصول
المطلوب، ليس ملحوظا إلا بنحو الآلية والحرفية، فإذا قيد الموضوع بما يأتي

1 - مطارح الأنظار: 60 / السطر 26.
2 - بدائع الأفكار، المحقق الرشتي: 237 / السطر 16.
3 - كفاية الاصول: 95.
4 - مطارح الأنظار: 60 / السطر 26.
5 - كفاية الاصول: 95.
64

من قبل الأمر، فلابد وأن يكون الأمر ملحوظا بنحو الاستقلال؛ لمكان
الموضوعية، فيجمع بين اللحاظين المتنافيين.
وقال المحقق الخراساني (رحمه الله) (1): إن لزوم المحال إنما هو من ناحية إتيان
المأمور به، وإن الإتيان بالمتعلق الكذائي ممتنع.
بيانه: أن داعوية الأمر إنما تكون إلى ما لو وجد يكون مصداقا لعنوان
المأمور به، فإن كان المأمور به مثلا نفس الصلاة، تكون الداعوية إليها، وإن
كان الصلاة متقيدة بالداعوية، فداعويته لا محالة تكون إليها مع هذا التقيد، مع
أن هذا التقيد إنما يتحقق بعد الداعوية، فداعوية الأمر تتوقف على أن ما وجد
يكون معنونا بالداعوية، وهو يتوقف على داعوية الأمر.
وإن شئت قلت: إن الأمر لا يدعو إلا إلى متعلقه، والمتعلق بالفرض متقيد
بالداعوية، فالأمر لابد وأن يدعو إلى داعويته، فتحقق المتعلق في الخارج
مستلزم للدور المحال.
ولك أن تقول: إن الأمر في المقام لا يدعو إلا إلى المتقيد بالداعوية؛ أي
الصلاة بداعي الأمر، فتكون داعوية الأمر إلى داعويته، فننقل الكلام إلى
الداعوية الثانية، هل هي تدعو إلى الصلاة، أو إلى الصلاة بداعي الأمر؟ فإن
كانت تدعو إليها مطلقا فلا تكون مأمورا بها؛ لأنه هو المتقيد، وإن دعت إلى
المتقيد فلابد من فرض داعوية ثالثة، فيذهب الأمر إلى غير نهاية، ولا تقف
السلسلة إلا إذا كانت الصلاة بنفسها مأمورا بها.
هذا كله إن قلنا: بأن قصد التقرب المعتبر في المأمور به، هو قصد الأمر.
وأما إن قلنا: بأنه عبارة عن قصد المحبوبية، أو حسن الفعل، أو

1 - نقل السيد... هذا التقرير من مجلس بحث صاحب الكفاية (رحمه الله) [منه (قدس سره)].
65

المصلحة، فلا يلزم منه محال.
هذه جملة من الإشكالات الواردة في المقام، وقد عرفت أن بعضها راجع
إلى استحالة الأمر، وبعضها إلى استحالة المأمور به.
ويرد على الأول منها: أن الموقوف والموقوف عليه متغايران، فلا دور في
البين؛ فإن الأمر إنما يتوقف على الموضوع في الوجود الذهني؛ أي على الوجود
الذهني للموضوع، والموضوع يتوقف بوجوده الخارجي على الأمر.
وعلى الثاني: أن الأمر إنما يتوقف على القدرة في زمان إيجاد المأمور به،
وفي زمان الإيجاد يصير المكلف قادرا ولو بنفس الأمر.
وإن شئت قلت: إن التوقف هاهنا لا يستلزم تقدم الموقوف عليه على
الموقوف، والتقدم هو مناط الدور، بل التوقف هاهنا بمعنى أن الأمر لا يحسن أو
لا يجوز، إلا مع علم الآمر بقدرة العبد في موطنه ولو حصلت بنفس الأمر، فملاك
الدور هاهنا غير متحقق أصلا.
وعلى الثالث: أن المحال غير لازم، واللازم غير محال؛ فإن اجتماع
اللحاظين - بمعنى كون لحاظ واحد آليا واستقلاليا - وإن كان محالا، إلا أنه غير
لازم، وما هو لازم هو لحاظ الأمر استقلالا بما أنه قيد للمتعلق بلحاظ، ولحاظه
آليا بما أنه بعث إلى المتعلق بلحاظ آخر، فيكون الشيء الواحد ملحوظا بلحاظ
آلي واستقلالي في آنين؛ آن تصور الموضوع، وآن تعلق الأمر، وهو غير
محال (13).

13 - إن الموضوع مع قيد قصد امتثال الأمر ملحوظ قبل الإنشاء، واستعمال الأمر آلة للبعث،
فالاستعمال الآلي لا يجتمع مع اللحاظ الاستقلالي الذي لابد منه قبل الإنشاء.
وأما في مقام الإنشاء فتقييد الموضوع يكون في الآن المتأخر عن الاستعمال الإيجادي
الآلي، فيلحظ ما هو آلة للبعث في الآن المتأخر بنحو الاستقلال، كما في جميع القيود
الواردة على المعاني الحرفية، بل الاسمية أيضا، ففي قوله: " زيد في الدار يوم الجمعة "
يكون " يوم الجمعة " ظرفا للكون الرابط الذي هو معنى حرفي، وهو ملحوظ في الآن
المتأخر استقلالا. (مناهج الوصول 1: 263).
66

وعلى الأخير: أن التفصيل بين قصد الأمر وغيره مما لا وجه له؛ فإن
الإشكال وارد حتى بناء على جعل قصد التقرب عبارة عن قصد المحبوبية، أو
حسن الفعل، أو المصلحة، طابق النعل بالنعل، بل الإشكال فيها أشد ورودا.
بيانه: أن وجه الاستحالة على هذا الوجه، لا يكون هو الدور
المصطلح، بل وجهها مناطه؛ فإن داعوية الأمر لا تتوقف على عنوان كون
المأتي به منطبقا على المأمور به بالحمل الأولي، حتى يختلف الموقوف
والموقوف عليه، بل تتوقف على ما هو بالحمل الشائع مأمور به، ولما كانت
هاهنا نفس الداعوية مأخوذة في المتعلق، تصير الداعوية متوقفة على نفسها؛
أي كون الداعوية داعوية إلى داعوية نفسها، وهذا مناط الدور.
وهذا بعينه وارد على إتيان الشيء بقصد المحبوبية والمرادية وشقيقيهما؛
فإن ذوات الأعمال لا تكون متعلقة للأمر، بل هي مع تقيدها بداعي المحبوبية، لا
الحسن أو المصلحة، فالمدعو إليه بداعي المحبوبية وأمثالها؛ هو أفعال مع
الداعي، فالداعوية تتوقف على الداعوية.
وبالجملة: إن الصلاة مثلا لا تكون بنفسها محبوبة، ولا ذات مصلحة،
فلا يمكن أن تكون ذاتها داعية إلى إتيانها بداعي المحبوبية والمصلحة، بل لابد
من كونها متقيدة بداعي المحبوبية والمصلحة، داعية إلى إتيانها كذلك، وهذا هو
67

عين الإشكال ومناط الدور (14).
وإنما قلنا: إن الإشكال فيها أشد ورودا؛ لأن الأمر لما كان أمرا اختياريا،

14 - وأيضا لما كانت المصلحة قائمة بالمقيد يكون الفعل غير ذي المصلحة، فلا يمكن
قصدها إلا على وجه دائر؛ لأن قصد المصلحة يتوقف عليها، وهي تتوقف على قصدها
فرضا.
وأيضا أن الداعي مطلقا في سلسلة علل الإرادة التكوينية، فلو اخذ في العمل الذي في
سلسلة المعاليل، لزم أن يكون الشيء علة لعلة نفسه، فإذا امتنع تعلق الإرادة
التكوينية، امتنع تعلق التشريعية؛ لأنها فرع إمكان الاولى.
ويمكن دفع الأول ببعض ما ذكرنا في دفع الإشكال في قصد الأمر.
مضافا إلى أن يقال: إن للصلاة مصلحة بنحو الجزء الموضوعي، ولما رأى المكلف أن
قصدها متمم للمصلحة، فلا محالة يصير داعيا إلى إتيانها بداعي المصلحة، من غير لزوم
كون الداعي داعيا.
وبهذا يجاب عن الإشكال الثاني ويقطع الدور؛ فإن قصد المصلحة - التي هي جزء
الموضوع - يتوقف عليها، وهي لا تتوقف على القصد، ولما رأى المكلف أن هذا القصد
موجب لتمامية الموضوع وحصول الغرض، فلا محالة يدعوه ذلك إلى القصد إلى الفعل.
نعم، لا يمكن قصد تلك المصلحة مجردة ومنفكة عن الجزء المتم، وفيما نحن فيه
لا يمكن التفكيك بينهما.
وأما الجواب عن الثالث: فبمثل ما سبق، من أن الداعي والمحرك إلى إتيان المأمور به،
بعض المبادئ الموجودة في نفس المكلف، كالحب والخوف والطمع، وتصير هذه المبادئ
داعية إلى إطاعة المولى بأي نحو أمر وشاء.
فإذا أمر بإتيان الصلاة بداعي المصلحة، تصير تلك المبادئ المتقدمة داعية إلى إتيانها
بداعي المصلحة، من غير لزوم تأثير الشيء في علته، ألا ترى أنك إذا أحببت شخصا حبا
شديدا، فأمرك بإتيان شيء مبغوض أن تأتي به لأجله، صارت تلك المحبة داعية إلى
إتيانه بداعي إطاعته وطلبا لمرضاته من غير لزوم الدور. (مناهج الوصول 1:
273 - 274).
أما الجواب عن كلام المحقق الخراساني فيأتي في الصفحة 81.
68

يمكن أن يتعلق بما هو أوسع دائرة من الغرض؛ للتوسل به إليه، فيكون الأمر
داعيا إلى نفس الفعل بلا قيد، وإتيانه متقيدا إنما يكون بإرشاد من الشرع وحكم
من العقل، لكن في الحب والحسن والمصلحة لا يمكن أن يقال: إنها تعلقت بأوسع
من الغرض؛ لأنها امور غير اختيارية، كما لا يخفى.
تفصيات عن عويصة أخذ قصد التقرب
وهاهنا تفصيات عن هذه العويصة، نذكر بعضها وما فيها:
أحدها: ما عن الشيخ الأنصاري (قدس سره)؛ من أن الإشكال إنما يكون، إذا كان
اعتبار قصد الأمر وأمثاله بأمر واحد، وأما إذا كان بأمرين؛ تعلق أحدهما: بذات
العمل، وثانيهما: بإتيانه بداعي أمره، فلا محذور أصلا (1).
وفيه: - مضافا إلى ما أفاده المحقق الخراساني (رحمه الله) (2) (15) - أن قصد امتثال

1 - مطارح الأنظار: 60 / السطر ما قبل الأخير.
2 - كفاية الاصول: 96 - 97.
15 - قد استشكل المحقق الخراساني (رحمه الله): - مضافا إلى القطع بأنه ليس في العبادات إلا أمر
واحد كغيرها - " بأن الأمر الأول إن يسقط بمجرد موافقته ولو لم يقصد الامتثال، فلا يبقى
مجال لموافقة الثاني مع موافقة الأول، فلا يتوسل الآمر إلى غرضه بهذه الوسيلة، وإن لم
يسقط، فلا يكون إلا لعدم حصول الغرض، ومعه لا يحتاج إلى الثاني؛ لاستقلال العقل
بوجوب الموافقة بما يحصل به الغرض ".
وفيه أولا: أن دعوى القطع بعدم الأمرين بهذا النحو ممنوعة، بل لولا محذور عقلي،
يكون مدعي القطع بخلافه غير مجازف؛ ضرورة أن ألفاظ العبادات موضوعة لمعنى غير
مقيد بشرائط آتية من قبل الأمر، كما حققناه في الصحيح والأعم، فحينئذ لا تكفي الأوامر
المتعلقة بنفس الطبائع لإفادة مثل هذا القيد ولو قلنا بجواز أخذه في المتعلق، فلابد للمولى
لإفادته: إما من بيان متصل لو جاز، والمفروض عدم الجواز، بل مع جوازه ليس منه في
الأوامر المتعلقة بالطبائع عين ولا أثر.
وإما من بيان منفصل، وقد قام الإجماع بل الضرورة على لزوم قصد التقرب أو الأمر أو
نحو ذلك في العبادات، وهو يكشف عن أمر آخر لولا المحذور، ومعه لابد من التشبث
بشيء آخر.
وثانيا: - بعد القطع بأن الأمر الأول لا يسقط بمجرد الإتيان؛ لقيام الإجماع والضرورة على
عدم صحة العبادات بلا قصد أمر أو تقرب أو نحو ذلك، وصحتها مع قصده - أن هذا
الإجماع وتلك الضرورة كاشفان عن تقيد الطبائع بمثل هذا القيد، ومع فرض عدم إمكان
الأخذ في موضوع الأمر المتعلق بها، يعلم أن ذلك كان بأمر آخر وبيان مستقل، ولولا هذا
الإجماع والضرورة، لكنا شاكين في اعتبار مثل قصد الامتثال، ومعه كان على المولى بيان
ما هو دخيل في غرضه وموضوع حكمه.
إن قلت: إن العقل يستقل بالاشتغال، ومعه لا مجال لأمر مولوي.
قلت: - مضافا إلى جريان البراءة في المورد كما سيأتي بيانه - إن حكم العقل بالاشتغال لم
يكن ضروريا؛ وإلا لما اختلفت فيه الأنظار والآراء، ومعه يبقى للمولى مجال التعبد
والمولوية ولو لردع القائلين بالبراءة.
وثالثا: أن قوله: " إن المولى لا يتوسل لغرضه بهذه الوسيلة "، مدفوع: بأن ترك الأمر
الثاني ولو برفع موضوعه موجب للعقوبة، فيحكم العقل بلزوم إطاعته، وليس للمولى
وسيلة للتوصل إلى أغراضه إلا الأمر والإيعاد بالعقاب على تركه. هذا. (مناهج
الوصول: 1: 269 - 271).
69

هذا الأمر الصوري الذي لا روح فيه، ولا يترتب عليه غرض، ولا يكون ذا
مصلحة وحسن ومحبوبية أصلا، لا يكون مقربا للمولى أبدا، فقصد هذا الأمر
الصوري مع لا قصده سواء، فلا يصل المولى بهذه الحيلة إلى غرضه مطلقا (16).

16 - والجواب عنه: أن الممتنع هو تعلق الإرادة والبعث بالمجرد عن القيد مع الاكتفاء به،
وأما مع إرادة إفهام القيد بدليل آخر فلا، فكما يجوز للآمر الذي تعلق غرضه بإتيان مركب
أو مقيد أن يأمر بهما، يجوز له أن يأمر بالأجزاء واحدا بعد واحد، مع إفهام أن الغرض
متعلق بالمركب، وأن يأمر بالخالي عن القيد ويأمر بالقيد مستقلا، وهذا مما لا محذور
فيه، لا سيما في المقام الذي لا يمكن غير ذلك فرضا.
وأما عدم مقربية قصد الأمر المتعلق بالمجرد عن القيد، فهو - أيضا - ممنوع فيما نحن
فيه؛ ضرورة أن تمام المحصل للغرض هو الصلاة مع قصد أمرها.
نعم، في الأجزاء والقيود التي لم تكن بتلك المثابة، لا يمكن قصد أمرها فقط، ولا يكون
قصده مقربا، لا في مثل المقام الذي يكون قصد الأمر قيدا متمما للغرض. (مناهج الوصول
1: 272).
70

وثانيها: ما أفاده بعض الأعاظم (قدس سره) في " الدرر " بما حاصله: أن المعتبر في
العبادة ليس إلا وقوع الفعل على وجه يوجب القرب عند المولى، وهذا لا يتوقف
على الأمر؛ لأن الفعل على قسمين:
أحدهما: ما ليس للقصد دخل في تحققه.
وثانيهما: ما يكون قوامه بالقصد، كالتعظيم والإهانة.
ولا إشكال في أن تعظيم من له الأهلية بما هو أهل له حسن عقلا،
ومقرب ذاتا، بلا احتياج إلى الأمر.
نعم، قد يشك في أن التعظيم المناسب للمولى ماذا؟ وقد يتخيل كون عمل
تعظيما له، والواقع خلافه.
إذا تمهد ذلك نقول: لا إشكال في أن ذوات الأفعال والأقوال الصلاتية -
من دون إضافة قصد إليها - ليست محبوبة ولا مجزية قطعا، لكن من الممكن
كون صدورها مقرونة بقصد نفس هذه العناوين، مناسبا لمقام الباري عز شأنه،
غاية الأمر أن الإنسان لقصور إدراكه لا يدرك ذلك، ويحتاج إلى إعلام الله تعالى،
فلو فرضت إحاطته بجميع الخصوصيات لم يحتج إلى الإعلام.
والحاصل: أن العبادة عبارة عن إظهار عظمة المولى والشكر على نعمائه،
71

ومن الواضح أن محققات هذه العناوين مختلفة باعتبار المعظم والمعظم، وبعد
إعلام الله - على ما هو المناسب لشأنه - لا يتوقف حصولها على الأمر حتى يلزم
الدور، بل يكفي قصد نفس العناوين (1).
وفيه: أن الإجماع قائم، بل الضرورة على لزوم قصد التقرب في
العبادات (2) ولولا ذلك لأمكن لنا إنكار أصل قصد القربة والامتثال فيها؛ لكونه
أسهل من دفع هذه العويصة، وإنما أوقع الأصحاب في حيص وبيص، قيام هذا
الإجماع والضرورة، وعلى ما ذكره (قدس سره) يلزم أن لا يعتبر في العبادات قصد التقرب؛
فإن العناوين القصدية إذا اتي بها بقصد تحقق عناوينها، تتحقق في الوعاء
المناسب لها، مثل المعاني الإنشائية.
وليس هذا القصد - أي قصد تحقق العناوين - كقصد الامتثال والتقرب
معتبرا في المتعلق، حتى يرد إشكال الدور، بل هو نظير المعاني الإنشائية التي
تتحقق بنفس قصد عناوينها، مع مظهر دال عليها، فكما أن البيع إذا قصد تحققه
بإنشاء مفهومه؛ يتحقق عنوانه، كذلك حقيقة التواضع والتعظيم والعبادة إذا قصد
بالأفعال حصول عناوينها، وقصد التقرب والمحبوبية وأمثالهما، أمر خارج غير
دخيل في تحقق عناوينها.
فإذا كان الأمر كما عرفت، فلابد وأن يلتزم القائل بأن المعتبر في العبادات
ليس إلا قصد حصول عناوينها، مع عدم اعتبار قصد التقرب والامتثال فيها، فلو

1 - درر الفوائد، المحقق الحائري: 95 - 97.
2 - الظاهر استناد دعوى الإجماع إلى تتبع الموارد الخاصة من العبادات كالصوم،
والصلاة، وإلا فلم يقم إجماع على اشتراط النية في مطلق ما يسمى بالعبادة، انظر غنية
النزوع 1: 33، الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 40.
72

أوجد المكلف الصلاة والحج وغيرهما من العبادات، قاصدا حصول عناوينها ولو
بشهوة نفسه، التزم بالصحة والإجزاء، مع أن هذا خلاف الإجماع، بل الضرورة.
وثالثها: ما أفاده في " الدرر " أيضا بما ملخصه: أن ذوات الأفعال - مقيدة
بعدم صدورها عن الدواعي النفسانية - متعلقة للأمر، وهذا ليس تمام المطلوب،
لكن يتحد في الخارج معه؛ فإن المطلوب هو الأفعال مع الدليل الإلهي، وصرف
الدواعي النفسانية، وهما متحدان في الخارج، والمولى إنما أمر بأحد الجزءين
لتعذر الأمر بكليهما، والأمر بأحد الجزءين إنما يكون للغير، كالغسل قبل الفجر لا
غيريا، فلهذا لا يكون الأمر صوريا، بل حقيقيا، والإشكال من ناحية القدرة قد
عرفت دفعه.
فتحصل: أن ما اخذ في المتعلق، لا يكون قصد التقرب وأمثاله، ولكن يتحد
معه، فلا محذور فيه (1).
وفيه: - بعد الاعتراف بأن هذا التقرير أسلم من الإشكال مما أفاده الشيخ
من تصور الأمرين (2) مع أنه يرد عليه ما أوردنا على مقالة الشيخ (رحمه الله)؛ فإن ما
هو المطلوب هو الأجزاء مع كلا القيدين بالفرض، فقصد أحد القيدين؛ أي صرف
الدواعي النفسانية فقط، لا يكون مقربا، بل الأمر به صوري لا حقيقي - أنه
لا دليل على اعتبار صرف الدواعي النفسانية في العبادات.
نعم، إنه ملازم لما قام الدليل - من الإجماع والضرورة - على اعتباره؛ وهو
قصد التقرب.
وفي الحقيقة: هذا التزام بالإشكال، لا دفع له؛ فإنه بعد اعتبار قصد
التقرب في العبادات بالإجماع نشأ هذا الإشكال، فلابد من دفعه مع هذا الفرض.

1 - درر الفوائد، المحقق الحائري: 97 - 98.
2 - مطارح الأنظار: 60 / السطر ما قبل الأخير.
73

تحقيق ودفع
ولنا في المقام تحقيق تحسم به مادة الإشكال، ولابد لتوضيحه من تمهيد
مقدمات:
الاولى: أنحاء أخذ القصد
إن قصد الأمر والامتثال والمحبوبية وأمثالها، قد يؤخذ في المأمور به
على نحو الجزئية مثل سائر الأجزاء.
وقد يؤخذ على نحو القيدية؛ بنحو يكون التقيد بالمعنى الحرفي داخلا،
والقيد خارجا.
وقد يؤخذ لا بنحو الجزئية ولا القيدية، بل يكون المأمور به عنوانا
لا ينطبق على الأجزاء إلا في حال إتيانها مع هذا القيد.
مثلا: يمكن أن يكون للصلاة عنوان حقيقي، لا يتحقق في الخارج إلا بعد
كون الأجزاء والشرائط المعهودة، متقيدة بقصد الأمر أو المحبوبية، لكن لما كان
هذا أمرا لا يعلم إلا من قبل الله، فلابد وأن يكشف عنه الشارع.
وبالجملة: على هذا الفرض، لا تكون الصلاة عبارة عن الأجزاء والشرائط
المعهودة مطلقا، بل هي عنوان لا ينطبق عليها إلا في حال مقارنتها مع قصد التقرب
أو المحبوبية.
الثانية: الميزان في مقربية المقدمات
إن المقدمات مطلقا - داخلية أو خارجية، تحليلية عقلية أو غيرها -
74

لا تكون واجبة بوجوب آخر غير وجوب ذي المقدمة، حتى يكون لها امتثال
ومعصية، بل لو فرض ترشح الوجوب عليها من ذيها، لا يكون وجوبها المقدمي
بما هو، مقربا للمولى ومحصلا لغرضه، وليس لهذا الوجوب امتثال ولا عصيان،
بل مقربية المقدمات وامتثالها بنفس مقربية ذي المقدمة وامتثاله.
فالمقدمات إنما تكون مقربة؛ لكونها وسيلة لإتيان ذي المقدمة،
ومقربية ذي المقدمة بواسطة كونه امتثالا لأمر المولى، ومحصلا لغرضه،
وهذا المعنى موجود في المقدمات، تعلق بها أمر أم لا، ولو لم يأت المكلف
بالمقدمات وسيلة إلى حصول ذيها، لا تكون مقربة، تعلق بها الأمر أم لا.
فالميزان في مقربيتها كونها وسيلة إلى حصول ذيها، الذي يكون إتيانه
طاعة لأمر المولى، وعملا بوظيفة العبودية، ويكون تعلق الأمر كالحجر بجنب
الإنسان.
وبالجملة: لا يكون للأوامر المتعلقة بالمقدمات نفسية، بل هي فانية في
الأمر النفسي المتعلق بذي المقدمة.
الثالثة: فيما هو الباعث نحو العمل
إن الأمر لا يكون محركا وباعثا نحو العمل مطلقا، بل هو موضوع لتحقق
الإطاعة، وإنما المحرك والباعث نحو العمل، مبادئ اخر موجودة في نفس
المكلف، على تفاوت مراتب العباد ومقاماتهم؛ فإن المبدأ المحرك قد يكون حب
المولى، وقد يكون إدراك عظمته وصيرورة العبد مقهورا تحت نور سطوته
وجلاله، وهذان المبدءان من أعلى مراتب العبودية، وتكون العبادة المتحققة
بهما من أعلى مدارج العبادة.
وبعد هاتين المرتبتين مرتبة رؤية العبد نعماء المولى، ومشاهدة استغراقه
75

في بحار جوده ونواله؛ من أول نشأة وجوده، إلى آخر مراتبه، من النعم الظاهرة
والباطنة والحسية والمعنوية، وهذا الشعور والإدراك مبدأ محرك له نحو
طاعة أوامره ونواهيه؛ أداء لبعض حقوقه تبارك وتعالى، وشكرا لبعض آلائه
ونعمائه.
وبعد هذه المرتبة مرتبة الخوف من ناره وأليم عذابه، ومرتبة الطمع في
جنته ونعيمه، وهاتان المرتبتان من أدنى مراتب العبودية وأخسها.
فإذا وجدت في نفس العبد إحدى تلك المبادئ الخمسة، تصير محركة
له نحو طاعته، فالأوامر والنواهي موضوعات لتحقق الطاعة، لا محركات
نحوها، وإنما المحرك ما عرفت.
إذا عرفت ما مهدنا لك من المقدمات فاعلم: أن عمدة الإشكال في المقام هو
الدور الوارد في ناحية إتيان المأمور به، وهذا هو الإشكال الدائر على لسان
المحقق الخراساني (قدس سره) وتصدى لجوابه (1)، وأما الإشكالات الاخر - مثل الدور
من ناحية تعلق الأمر، ومن ناحية القدرة، والإشكال من ناحية الجمع بين
اللحاظين - فقد عرفت الجواب عنها (2).
وأما هذا الإشكال العويص والعويصة المشكلة، التي هي كالشبهة في
مقابل الضرورة والبديهة؛ فإن الضرورة - كما عرفت - قائمة على اعتبار قصد
التقرب في العبادات، ومن لدن تأسيس الشرائع إلى الآن كان الأمر على هذا
المنوال.
فيمكن دفعه: بأنك قد عرفت (3) في المقدمة الثانية، أن المقدمات إذا

1 - كفاية الاصول: 95.
2 - تقدم في الصفحة 66 - 67.
3 - تقدم في الصفحة 74 - 75.
76

اوجدت واتي بها وسيلة إلى إتيان ذيها، تكون مقربيتها بعين مقربية ذي المقدمة،
فالمكلف إذا علم بأن الإتيان بأجزاء المأمور به بقصد التقرب والتوسل إلى
المأمور به، يلازم في الخارج حصول هذا القيد الذي لا يمكن داعوية الأمر
إليه، فلا محالة يأتي بها، ويتحقق المأمور به بتمام الأجزاء والشرائط في
الخارج.
غاية الأمر: يتحقق بعضها بداعوية الأمر، وبعضها بالملازمة بينه وبين
سائر الأجزاء والشرائط في الخارج.
إن قلت: الأمر لا يدعو إلا إلى متعلقه، وتكون دعوته للأجزاء في ضمن
دعوته للكل، فلا يعقل أن يدعو إلى بعض الأجزاء ويحرك إليه إلا في ضمن
تحريكه إلى الكل.
قلت: بعدما عرفت في المقدمة الثالثة، أن الأمر لا يكون باعثا ومحركا
نحو المأمور به، وإنما هو الموضوع المحقق للطاعة، والباعث المحرك هو أحد
المبادئ الخمسة، نقول:
إن الأمر لا يدعو إلا إلى ما ليس بحاصل من الأجزاء والشرائط، والفرض
أن قيد التقرب يحصل بنفس تحقق الأجزاء بقصد التوسل إلى المأمور به،
والتقرب في الأجزاء والمقدمات عين التقرب في الكل وذي المقدمة، فلا يلزم أن
يكون قيد التقرب مدعوا إليه حتى يلزم الإشكال.
إن قلت: فإذن تكون داعوية الأمر إلى بعض المأمور به، وهذا التزام
بالإشكال، مع أن الأمر لا يدعو إلا إلى متعلقه.
قلت: بعدما عرفت (1) في المقدمة الاولى، أن أخذ قصد التقرب يتصور
على وجوه، نقول: إن اخذ على نحو القيدية أو على نحو المحصلية، لا على نحو

1 - تقدم في الصفحة 74.
77

الجزئية، ويكون هذا القيد حاصلا متحققا، فلا يلزم أن تكون الدعوة إليه، بل
لا يمكن؛ لأنها تكون من قبيل تحصيل الحاصل، كما أن الأمر كذلك في سائر
القيود والشرائط، مثل الستر، والتوجه إلى القبلة، وطهارة اللباس، فلو كان
المكلف مستور العورة، متوجها إلى القبلة ولو بغير داعوية الأمر، تكون دعوته
إلى سائر القيود التي ليست بحاصلة.
إن قلت: بعد اللتيا والتي، فالإشكال بحاله؛ فإن داعوية الأمر تتوقف
على كون المدعو إليه - على تقدير وجوده - مصداقا للمأمور به، ومعنونا
بعنوانه، والفرض أن كونه مصداقا معنونا به، يتوقف على الداعوية؛ لكونها من
قيود المأمور به، وهذا كر على ما فر منه.
قلت: كلا؛ فإن داعوية الأمر لا تتوقف على ما ذكر؛ بمعنى لزوم تقدم كون
الأفعال معنونة به على الداعوية، بل لو صارت الأجزاء معنونة بعنوان المأمور
به، ومصداقا له ولو بنفس داعوية الأمر، يكون كافيا، فالمكلف إذا وجد في
نفسه أحد المبادئ الخمسة المحركة نحو طاعة المولى، وكان متهيئا لإطاعة
أوامره، منتظرا لصدورها عنه، ورأى إيجاد الأجزاء في الخارج بقصد التقرب إلى
المولى إيجادا لما هو مصداق حقيقي للمأمور به ولتمام المطلوب، ومعنونا بعنوان
الطاعة له، يصير الأمر - لا محالة - داعيا إلى إتيانها.
وقد عرفت (1) في المقدمة الثانية: أن التقرب الحاصل من الأجزاء، عين
التقرب الحاصل من الكل، وأن الأمر الترشحي - لو كان - هو عين الأمر المتعلق
بالكل باعتبار، ولا نفسية له أصلا، فالمكلف يقصد التقرب بإتيان الأجزاء؛
لكونها وسيلة إلى تحقق المأمور به في الخارج.
وبما ذكرنا من أول البحث إلى هاهنا، يظهر النظر فيما أفاده المحقق

1 - تقدم في الصفحة 74 - 75.
78

الخراساني (رحمه الله) في جواب من قال: إن ذات الصلاة صارت مأمورا بها بالأمر بها
مقيدة، بقوله: كلا؛ لأن ذات المقيد لا تكون مأمورا بها، فإن الجزء التحليلي
العقلي لا يتصف بالوجوب (1).
وجه النظر: أن الجزء التحليلي وإن كان لا يتصف بالوجوب، لكن لا
احتياج إليه في حصول التقرب به إلى المولى، إذا اتي به للتوسل إلى الكل - كما
عرفت - والفرض أن ذات الصلاة إذا اتيت بقصد التوسل إلى تمام المطلوب،
يحصل بها القرب وتمام المطلوب؛ أي الصلاة المقيدة، وقد عرفت (2) أن التقرب
بالمقدمات إنما يكون بنفس التقرب بذيها.
وبالجملة: ذات الصلاة وإن لم تكن مأمورا بها، لكنها مقدمة لحصول
المأمور به - أي الصلاة المقيدة - وما كان كذلك يمكن قصد التقرب به؛ لأجل
التوصل إلى المطلوب.
وأما ما أفاده (قدس سره) في جواب أخذ الامتثال شطرا لا شرطا: بأنه ممتنع اعتباره
كذلك؛ فإنه موجب لتعلق الوجوب بأمر غير اختياري، فإن الإرادة غير
اختيارية (3).
ففيه أولا: أن اختيارية الأربعة بنفس ذاتها، واختيارية غيرها بها.
وثانيا: أن الإشكال بعينه وارد بناء على تعلق الأمر بنفس الصلاة، وعدم
سقوط الغرض إلا بإتيانها بقصد الامتثال؛ فإن الإتيان بقصد الامتثال إذا كان غير
اختياري، فلا يمكن أن يكون تحصيل الغرض المتوقف عليه واجبا؛ لإناطة

1 - كفاية الاصول: 95.
2 - تقدم في الصفحة 75.
3 - كفاية الاصول: 96.
79

الامتثال بأمر غير اختياري، وهذا واضح (17).

17 - والحق في الجواب عن كلام المحقق الخراساني، يظهر بتوضيح أمرين:
الأول: أن متعلقات الأوامر ليست إلا المهيات المعقولة، لا أقول: إن المأمور به إنما هي
الصلاة في الذهن، حتى يصير امتثاله محالا، بل طبيعة الصلاة بما أنها مهية كلية قابلة
للانطباق على كثيرين، والوجود الذهني آلة تصورها، فالبعث إليها في الحقيقة أمر
بإيجادها وتحصيلها، فهي بما أنها مفهوم، مأمور به ومعروض للوجوب ومتعلق للحكم
على تسامح في إطلاق العرض عليه، والوجود الخارجي مصداق للمأمور به لا نفس
الواجب، ولذلك يكون الخارج ظرف السقوط دون الثبوت. وعليه: فالموضوع في المقام
ليس إلا الصلاة المتصورة مع قصد أمرها، والإنشاء والأمر إنشاء على ذلك المقيد.
الثاني: أن الأمر ليس إلا المحرك والباعث الإيقاعي، لا المحرك الحقيقي والباعث
التكويني، ولهذا ليس شأنه إلا تعيين موضوع الطاعة، من غير أن يكون له تأثير في بعث
المكلف تكوينا، وإلا لوجب اتفاق الأفراد في الإطاعة، بل المحرك والداعي حقيقة
ليست إلا بعض المبادئ الموجودة في نفس المكلف، كمعرفته لمقام ربه، ودرك عظمته
وجلاله وكبريائه، أو الخوف من سلاسله وناره، أو الطمع في رضوانه وجنته.
فحينئذ نقول: إن أراد القائل - من كون الأمر محركا إلى محركية نفسه - أن الأمر الإنشائي
المتعلق بالعنوان المقيد موجب لذلك المحال، فقد عرفت أن الإنشاء والإيقاع لا يحتاج إلى
مؤنة أزيد من تصور الطرفين، مع أنه قد أقر بصحة ذلك الإيقاع.
وإن أراد: أن الأمر المحرك للمكلف تكوينا محرك إلى محركية نفسه، فهو باطل بحكم
الأمر الثاني، وأن نسبة التحريك إليه بضرب من التشبيه؛ إذ العبد إذا أدرك استحقاق
المولى للإطاعة أو خاف من ناره وغضبه ورأى أن الإطاعة لا يحقق إلا بالإتيان بالصلاة
المقيدة، فلا محالة يقوم بامتثاله كيف ما أمر.
وأما قوله: إن الصلاة غير متعلقة بالأمر، حتى يأتي بها بقصد أمرها؛ لأن المفروض أن
الأمر لم يتعلق إلا بالمقيد بقصد الأمر.
فالجواب عنه يتوقف على رفع الحجاب عن كيفية دعوة الأمر في المركبات والمقيدات
إلى أجزائها وقيودها.
ومجمل القول فيه: أن الأوامر المتعلقة بالمركبات والمقيدات إنما تتعلق بهما بما أنهما
موضوعات وحدانية ولو اعتبارا، ولها أمر واحد لا ينحل إلى أوامر متعددة، ولا فرق بينهما
وبين البسائط في ناحية الأمر، فهو بعث وحداني تعلق بالبسيط أو المركب والمقيد،
فالمطابق للبرهان والوجدان هو: أن البعث في هذه الأقسام الثلاثة على وزان واحد،
لا ينحل الأمر إلى أوامر، ولا الإرادة إلى إرادات وإن كانت تفترق في انحلال الموضوع في
الأولين دون الثالث، ولكن دعوة الأمر إلى إيجاد القيود والأجزاء بعين الدعوة إلى إيجاد
المركب والمقيد، وإيجاد القيد أو الجزء امتثال للأمر المتعلق بالمقيد والمركب، لا امتثال
لأمرهما الضمني أو الانحلالي، كما اشتهر بين القوم؛ لأن العقل حاكم على أن كيفية امتثال
الأمر المتعلق بالمركب والمقيد، إنما هو بالإتيان بالأجزاء وإيجاد القيود، فحينئذ فالجزء
أو القيد ليس غير مدعو إليهما رأسا، ولا مدعو إليهما بدعوة خاصة منحلة، بل مدعو إليهما
بعين دعوته إلى المركب أو المقيد؛ إذ الأمر واحد والمتعلق فارد.
إذا عرفت ذلك، تقدر على حل العويصة؛ إذ المأمور به وإن كان هو المقيد بقصد الأمر
- وهو قد تعلق بنعت التقيد - إلا أن نفس الصلاة المأتي بها تكون مدعوة بنفس دعوة الأمر
المتعلق بالمقيد، لا بأمرها الخاص، وهذا يكفي في مقام الإطاعة. (تهذيب الاصول 1:
116 - 117).
80

رجع
وفذلكة الكلام فيما ذكرنا من دفع الإشكال: أن الأمر بالشيء كما أنه
يدعو إلى ذلك الشيء، كذلك يدعو إلى مقدماته الداخلية، تحليلية كانت أو
غيرها، وإلى مقدماته الخارجية، وداعوية الأمر ليست بمعنى محركيته، بل
المحرك هو المبادئ الخمسة السالفة المتحققة في النفس، ويكون الأمر
موضوعا لتحقق الطاعة.
ولما كان الداعي إلى إتيان ما هو مصداق المأمور به، موجودا في النفس
بواسطة إحدى المبادئ، ورأى المكلف أن إتيان الأجزاء في الخارج - بعد تحقق
81

الداعي في نفسه - مصداق حقيقي للمأمور به، يصير الأمر داعيا إلى إتيان
الأجزاء الغير الموجودة، لا إلى إتيان هذا القيد أو الجزء المتحقق في النفس
بعلله؛ لأن الأمر لا يدعو إلا إلى ما ليس بحاصل من المقدمات الخارجية
والداخلية.
والفرض أن داعي الامتثال حاصل لا من قبل الأمر، بل من قبل المبادئ
السالفة، فالأمر قد تعلق بالصلاة بداعي الأمر، وقد عرفت (1) سابقا أنه لا
محذور فيه، ولما كان الداعي موجودا فلا يدعو إلا إلى غيره - وهو بقية الأجزاء -
فاندفع الإشكال من أصله، فتدبر جيدا.
وهاهنا وجه آخر لعله يكون أقرب إلى الأفهام؛ وهو أنه بعدما عرفت (2) في
المقدمة الاولى أن قصد الأمر والامتثال وأمثالهما، قد يؤخذ بنحو الجزئية، أو
بنحو القيدية، وقد لا يؤخذ في المأمور به، بل يكون من قيود محصل المأمور
به، وفي المقدمة الثانية (3) أن المحرك الداعي إلى امتثال أوامر المولى هو
إحدى المبادئ الخمسة.
فاعلم: أن المكلف إذا كان في نفسه المبدأ المحرك متحققا، فلا محالة
يصير هذا المبدأ أولا داعيا إلى امتثال أوامر المولى بنحو العنوان الكلي، ثم ينشأ
من هذا الداعي داع إلى ما يكون مصداقا لهذا العنوان الكلي، كالصلاة والحج مثلا،
ويمكن أن يكون المأمور به هو عنوان " الصلاة " وتعلق الأمر بهذا العنوان، دون
نفس الأجزاء والشرائط، وتكون الأجزاء في حال تحقق الشرائط ورفع الموانع
مصداقا له.

1 - تقدم في الصفحة 76 - 78.
2 - تقدم في الصفحة 74.
3 - تقدم في الصفحة 74 - 75.
82

ثم ينشأ من الداعي إلى إتيان الصلاة - التي هي المأمور به بعنوانها - داع
إلى إتيان الأجزاء والشرائط.
فهي مع الداعي المحقق في النفس بمبادئه، محصلة لعنوان " الصلاة "
ولا يلزم من ذلك محذور؛ فإن تحقق عنوان " الصلاة " في الخارج يتوقف على قصد
الامتثال، لكن تحقق قصد الامتثال غير متوقف على تحقق الصلاة، بل هو متوقف
على إحدى المبادئ المحققة في النفس بعللها، وهذا واضح جدا.
الأمر الثالث: في مقام الشك في التعبدية والتوصلية
إذا عرفت حال التعبدي والتوصلي، فاعلم: أنهم عنونوا البحث عنهما في
المقام؛ لاستنتاج النتيجة في مقام الشك في التعبدية والتوصلية؛ من جواز
التمسك بأصالة الإطلاق مع تمامية مقدماته وعدمه، وجواز التمسك بأصالة
البراءة وعدمه.
ولما كان البحث عن كلا الأمرين، محتاجا إلى إشباع الكلام والنقض
والإبرام، وليس المقام مناسبا له، فيجب إيكال الأمر إلى المباحث المناسبة لهما
من ذي قبل، بعون الله وحسن توفيقه.
83

المبحث الرابع
في " المرة والتكرار " و " الفور والتراخي "
لا إشكال في أن الظاهر من صيغة الأمر، هو إيجاد الطبيعة، والمرة
والتكرار والفور والتراخي، كلها خارجة عن مدلولها؛ فإن المادة هي نفس
الطبيعة بلا قيد، ومفاد الهيئة هو البعث والإغراء نحوها.
والمراد من " المرة والتكرار " إما الأفراد، أو الدفعة والدفعات، والفرق
بينهما أن الآتي بعدة أفراد دفعة، آت بما هو مصداق المأمور به على الثاني، دون
الأول، ولا إشكال في شيء من ذلك.
إنما الإشكال في أنه على المختار؛ من دلالتها على طلب الطبيعة، لو أتى
المكلف بعدة أفراد معا، هل يكون امتثالا واحدا؛ حيث إن الطبيعة كما تتحقق في
ضمن فرد ما، تتحقق في ضمن جميع الأفراد، وهي أمر وحداني؟
أو امتثالات بعدد الأفراد؛ حيث إن الطبيعة تتكثر بتكثر أفرادها، ولا يكون
فردان من الطبيعة موجودا على حدة، حتى يكون المجموع وجودا وحدانيا
للطبيعة، بل الطبيعة اللا بشرط تتكثر، وكل فرد من الأفراد محقق للطبيعة،
ولما كان المطلوب هو الطبيعة بلا تقيد بالمرة والتكرار، فحينئذ لو أتى المكلف
بأفراد متعددة فقد أوجد المطلوب - أي الطبيعة - بإيجاد كل فرد، ويكون كل فرد
امتثالا برأسه، - كما أنه موجود برأسه - وتكون الطبيعة مع كل فرد موجودة
برأسها على نعت الكثرة؟ الحق هو الثاني.
ومن هذا القبيل الواجب الكفائي، حيث إن الأمر فيه متعلق بنفس
الطبيعة، ويكون جميع المكلفين مأمورين بإتيانها، فلو أتى واحد منهم بها تسقط
84

عن الباقي، ولا مجال للإمتثال ثانيا، ولو أتى عدة منهم بها دفعة، يكون كل واحد
منهم ممتثلا، وتتحقق امتثالات، لا امتثال واحد من الجميع (18).
تنبيه:
لا ضابط في الأوامر الواقعة عقيب الحظر، حتى نرجع إليه في موارده، بل
الفقيه لابد له من الاجتهاد في كل مورد مورد حسب اختلاف المقامات،
ويستظهر من كل مورد ما هو مقتضى المقامات.

18 - وفيه: أن مناط وحدة الامتثال وكثرته بوحدة الطلب وكثرته ولو بالانحلال بوجه، فلو
تعلق أمر بإكرام كل فرد من العلماء، يكون إكرام كل فرد واجبا برأسه، وله امتثال برأسه.
وأما مع تعلق الأمر بنفس الطبيعة متوجها إلى مكلف واحد، فلا يعقل أن يتكثر الامتثال
بتكثر الأفراد ولا بتكثر الطبيعة؛ فإن تكثرها لا يوجب تكثر الطلب والوجوب ولو انحلالا،
فلا يوجب تكثر الامتثال؛ ولهذا لو ترك الطبيعة القابلة للكثرة، لم يعاقب بعدد كثرة
الأفراد، فلو تعلق الطلب بإكرام العالم بحيث لو أكرم واحدا منهم سقط الطلب، فترك العبد
الإكرام مطلقا، لم يكن له إلا عقاب واحد بالضرورة، ومعه كيف يمكن أن يكون له
امتثالات مع الإتيان بإكرام عدة منهم؟! فالامتثال فرع الطلب، كما أن العقوبة فرع ترك
المطلوب، فلا يمكن الامتثالات مع وحدة الطلب، ولا استحقاق عقوبة واحدة مع كثرته.
ومما ذكرنا يظهر فارق قياسه بالواجب الكفائي؛ فإن الطلب هناك - على فرض كون
الكفائي كما ذكر - توجه إلى كل مكلف بإتيان الطبيعة، فكل فرد ممتثل مع الإتيان دفعة
ومعاقب مع الترك رأسا، ومع إتيان واحد منهم يسقط الطلب عن الباقي لرفعه موضوعه،
فهناك طلبات كثيرة فامتثالات كثيرة، بخلاف ما نحن فيه، فلا تغفل.
إذا عرفت ذلك: فالحق عدم دلالة الأمر على المرة والتكرار؛ لأن المادة موضوعة
للماهية بلا شرط، والهيئة للإغراء والبعث، أو لطلب الوجود، أو الإيجاد، وليس لهما
وضع على حدة، ولا قرائن عامة تدل على واحد منهما، كما لا يخفى. (مناهج الوصول 1:
290 - 291).
85

المطلب الثالث
في الإجزاء
وقبل الخوض في المقصود، لابد من تمهيد امور:
الأمر الأول: تحرير محل النزاع
قد اختلفت تعبيرات الاصوليين في تحرير محل الكلام، فقد يقال: هل الأمر
يقتضي الإجزاء على فرض الإتيان بمتعلقه على وجهه أم لا (1)؟
وقد يقال: إتيان المأمور به على وجهه، هل يقتضي الإجزاء أم لا (2)؟
والاقتضاء على التعبيرين مختلف؛ فإنه على التعبير الأول يكون الاقتضاء
بمعنى الدلالة، أي هل يدل الأمر على أن الإتيان بمتعلقه مجز أم لا؟
وعلى الثاني يكون بمعنى العلية، وإن لم تكن العلية بمعناها المصطلح،
ويرجع المعنى إلى أن الإتيان الكذائي، هل يوجب الإجزاء وامتناع التعبد به ثانيا
أم لا (19)؟

1 - الذريعة إلى اصول الشريعة 1: 121، الفصول الغروية: 116 / السطر 9.
2 - مطارح الأنظار: 18 / السطر 23، كفاية الاصول: 104.
19 - لكن كون النزاع في دلالة الأمر بعيد عن الصواب؛ فإن الدلالة المتوهمة: إن كانت
وضعية، فلا أظن بأحد يتوهم دلالة هيئة الأمر، أو مادته على الإجزاء إذا أتى المكلف
بالمأمور به على وجهه؛ بحيث يكون جميع هذه المداليل من دلالة الأمر هيئة أو مادة.
وإن كانت هذه الدلالة التزامية - بأن يدل على أن المأمور به مشتمل على غرض للآمر،
ولا محالة أن ذلك الغرض يتحقق في الخارج بتحقق المأمور به، وحينئذ يسقط الأمر
لحصول الغاية الداعية إليه - فكذا لا يتوهمها أحد؛ فإن عد تلك القضايا العقلية المتكثرة
من دلالة الأمر التزاما، مما لا مجال للالتزام به، مع ظهور فساده، فحينئذ لا يكون في
دلالة الدليل.
وهذا من غير فرق بين إرجاع النزاع إلى الأوامر الاختيارية الواقعية، أو الاضطرارية
والظاهرية؛ لأن دلالة الأمر لا تخرج عن مادته وهيئته.
وليس الاقتضاء بمعنى العلية والتأثير؛ لعدم تأثير لإتيان المكلف في الإجزاء، سواء فسر
بالمعنى اللغوي - وهو الكفاية - وهو واضح؛ فإنها عنوان انتزاعي ليس موردا للتأثر
والتأثير، والعجب من المحقق الخراساني، حيث جمع بين الالتزام بكون الاقتضاء بمعنى
العلية، وبين القول بأن الإجزاء هو الكفاية، أو فسر بإسقاط الأمر ونحوه؛ فإن الإتيان
ليس علة مؤثرة في الإسقاط، وهو - أيضا - ليس شيئا قابلا لكونه أثرا لشيء.
وما يمكن أن يقال: إن الأمر لما صدر لأجل غرض هو حصول المأمور به، فبعد حصوله
ينتهي اقتضاء بقائه، فيسقط لذلك، كما أن الحال كذلك في إرادة الفاعل المتعلقة بإتيان
شيء لأجل غرض، فإذا حصل الغرض سقطت الإرادة لانتهاء أمدها، لا لعلية الفعل
الخارجي لسقوطها.
والأولى في عنوان البحث أن يقال: إن الإتيان بالمأمور به هل مجز أم لا؟ (مناهج الوصول
1: 298 - 300).
87

الأمر الثاني: المراد من " على وجهه "
أن المراد من قولهم: " على وجهه " هو ما ينبغي أن يؤتى به؛ أي إتيانه مع
كل ما يعتبر فيه، ويكون دخيلا في المصلحة الحاصلة منه والغرض الذي
88

امر به لأجله، ولعل إضافة هذا القيد رد على القاضي عبد الجبار، حيث أنكر
الإجزاء؛ مستدلا بأن الطهارة الاستصحابية لا تجزي عن الواقع (1).
فرد: بأن إتيان الصلاة معها لا يكون إتيانا بالمأمور به على وجهه (2).
وأما احتمال أن الوجه هو قصد الوجه (3) فلا وجه لتخصيصه بالذكر.
كما أن ما أفاده المحقق الخراساني (رحمه الله): من أن المقصود به إفادة ما يعتبر في
المأمور به عقلا، ولا يمكن أخذه فيه شرعا كقصد التقرب، حتى لا يكون القيد
توضيحيا (4) منظور فيه؛ فإن التفرقة بين الشرائط والقيود وإحداث القول بامتناع
أخذ قصد القربة في المأمور به، إنما هو من زمن الشيخ العلامة
الأنصاري (رحمه الله) (5) وتقييد العنوان بهذا القيد يكون في كلام المتقدم عليه.
الأمر الثالث: الفرق بين هذه المسألة وبعض اخرى
الفرق بين مسألة المرة والتكرار وهذه المسألة، هو ما أفاده المحقق
الخراساني (6) لكن الفرق بينها وبين مسألة تبعية الأداء للقضاء ليس كما أفاد (7)،
بل ما أفاده لا يخلو من غرابة من مثله؛ فإنه ليس بين المسألتين مشابهة ومناسبة
أصلا، حتى نحتاج إلى إبداء التفرقة؛ فإن المبحوث عنه في مسألة الإجزاء، هو

1 - فواتح الرحموت، المطبوع بذيل المستصفى 1: 393 - 394.
2 - نفس المصدر 1: 394، الفصول الغروية: 118 / السطر 13.
3 - ذكر في مطارح الأنظار: 19 / السطر 8، وكفاية الاصول: 105 وغيرهما.
4 - كفاية الاصول: 105.
5 - مطارح الأنظار: 60 / السطر 26.
6 - كفاية الاصول: 106.
7 - نفس المصدر: 107.
89

أن الإتيان بالمأمور به على وجهه، هل يقتضي الإجزاء أم لا؟ والمبحوث في
مسألة تبعية الأداء للقضاء، هو أن الأمر المتعلق بالصلاة في الوقت، هل ينحل
إلى الأمر بالصلاة وإلى الأمر بإيجادها في الوقت، حتى إذا لم يؤت بالقيد يجب
الإتيان بالمطلق أم لا؟
وبعبارة اخرى: هل يقتضي الأمر بالصلاة في الوقت، وجوب إتيانها خارج
الوقت إذا لم يؤت بها فيه، أم لا؟ فالمفروض في هذه المسألة عدم الإتيان في
الوقت، والمفروض في مسألة الإجزاء هو الإتيان على وجهه، فأي مشابهة
بينهما حتى نتصدى لبيان التفرقة؟!
إذا عرفت ما ذكرنا، فالكلام يقع في ثلاثة مواضع:
الموضع الأول
في إجزاء الإتيان بالمأمور به مطلقا عن التعبد ثانيا
أن الإتيان بالمأمور به الواقعي أو الاضطراري أو الظاهري، يجزي عن
التعبد به ثانيا؛ فإن المولى قبل الأمر بموضوع، لابد له من ملاحظة موضوع
حكمه وكل ما له دخالة في سقوط غرضه؛ من الأجزاء والشرائط ورفع
الموانع، ثم الأمر به، فلو أتى المكلف به مع كل ما له دخل عقلا في حصول
غرضه، يستقل العقل بأنه لا مجال ثانيا لإتيانه تداركا، ولا مجال لأمر المولى
ثانيا - في الوقت أو خارجه - بعنوان التدارك، وهذا واضح.
وأما مسألة تبديل الامتثال فيما لا يسقط به الغرض، فهو أمر آخر خارج
عن موضوع البحث؛ لرجوعه إلى كون الأمر بما لا يحصل الغرض منه فقط،
90

مقدميا (20).

20 - وفيه: أنه لو كان الوجوب المتعلق بشيء لأجل تحصيل غرض من قبيل الوجوب
المقدمي، كانت جميع الوجوبات النفسية من قبيل المقدمي، وهو لا يلتزم به، فما نحن
فيه من قبيل الوجوب النفسي، لا المقدمي، حتى يأتي فيه ما ذكر، وقد حققنا في محله
ميزان النفسية والمقدمية. (مناهج الوصول 1: 308).
التحقيق: أنه فرق بين تبديل امتثال بامتثال وتبديل مصداق المأمور به بمصداق آخر ولو
لم يكن امتثالا؛ فإن تبديل الامتثال يتوقف على تحقق امتثالين مترتبين؛ بمعنى أنه يكون
للمولى أمر متعلق بطبيعة، فيمتثل المكلف ويبقى الأمر، ثم يمتثل ثانيا، ويجعل المصداق
الثاني الذي تحقق به الامتثال بدل الأول الذي كان الامتثال تحقق به.
وأما تبديل مصداق المأمور به - الذي تحقق به الامتثال بمصداق آخر غير محقق
للامتثال، لكن محصل للغرض اقتضاء مثل المصداق الأول أو بنحو أوفى - فهو لا يتوقف
على بقاء الأمر، بل من قبيل تبديل مصداق المأمور به بمصداق آخر، لا بصفة كونه
مأمورا به.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن محل كلام الأعلام إنما هو الأول؛ أي تبديل الامتثال بالامتثال،
كما هو ظاهر العنوان، ولهذا تصدى المحقق الخراساني لإقامة البرهان على بقاء الأمر.
والتحقيق: عدم الإمكان مطلقا فيما هو محل كلامهم، والجواز فيما ذكرنا إذا لم يكن
المصداق الأول علة تامة لحصول الغرض.
أما الثاني: فلحكم العقل بحسن تحصيل غرض المولى ولو لم يأمر به، ولزوم تحصيله إذا
كان لازم التحصيل. ألا ترى أنه إذا وقع ابن المولى في هلكة، وغفل المولى عنه ولم
يأمر عبده بإنجائه، لزم بحكم العقل عليه إنجاؤه، ولو تركه يستحق العقوبة؛ وذلك لأن
الأمر وسيلة لتحصيل الغرض ولا موضوعية له، وبعد علم المكلف بغرض المولى
لا يجوز له التقاعد عنه مع لزوم تحصيله.
وكذا لو كان له غرض غير لازم التحصيل ولم يأمر بتحصيله واطلع المكلف عليه،
يحسن له تحصيله، ومعه يصير مأجورا عليه وموردا للعناية مع عدم كونه امتثالا، فلو
أمره بإتيان الماء للشرب، فأتى بمصداق منه، ثم رأى مصداقا آخر أوفى بغرضه فأتى به؛
ليختار المولى أحبهما إليه، يكون ممتثلا بإتيان الأول لا غير، وموردا للعناية؛ لإتيانه ما
هو أوفى بغرض المولى، لا لصدق الامتثال وتبديل الامتثال بالامتثال، وهذا واضح.
وأما عدم الإمكان فيما هو محل كلامهم؛ فلعدم تعقل بقاء الأمر مع الإتيان بمتعلقه بجميع
الخصوصيات المعتبرة فيه؛ لعين ما ذكر من البرهان. (مناهج الوصول 1: 305 - 306).
91

الموضع الثاني
في الأوامر الاضطرارية
ظاهر كلام من عبر بأن الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري، هل يجزي
عن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي؟ (1) هو أن محل البحث والنقض والإبرام،
أنه إذا تعلق أمر بشيء بملاحظة حال الاختيار، ثم تعلق أمر آخر بشيء
بملاحظة حال الاضطرار، هل يجزي الإتيان بالاضطراري عن الاختياري أم لا؟
فعليه لابد وأن يكون هنا أمران متعلقان بموضوعين، حتى نبحث عن إجزاء
إتيان متعلق الاضطراري منهما عن الاختياري، مع أن الأمر ليس كذلك، بل لا
معنى للبحث عنه؛ فإن الإتيان بمتعلق أمر لا معنى لأن يسقط أمرا آخر من
متعلقه.
مضافا إلى أن البحث كذلك لا موضوع له؛ فإن الأوامر إنما تتعلق
بالطبائع، وإنما الاختلاف في أفراد المأمور به وخصوصياتها الشخصية؛ من
حيث الجزء والشرط بالنسبة إلى حال الاختيار والاضطرار، لا أن الأمر بها في
حال الاختيار غيره في حال الاضطرار.

1 - مطارح الأنظار: 20 / السطر 8، كفاية الاصول: 108.
92

فطبيعة الصلاة المتعلقة للأمر، تكون أجزاؤها وشرائطها مختلفة بحسب
أحوال المكلفين؛ فالمختار لابد له من القيام والسجود والطهارة، والمضطر يتبدل
قيامه بالقعود، وسجوده بالإيماء، وطهارته المائية بالترابية، مع أن الطبيعة
هي المأمور بها في جميع الأحوال، والاختلاف إنما هو في مصاديقها وأفرادها التي
لم يتعلق الأمر بها.
فالبحث هاهنا: في أن الإتيان بالطبيعة مع هذه الشرائط والأجزاء في حال
الاضطرار، هل يجزي عن الأمر المتعلق بها، حتى لا يحتاج إلى الإعادة والقضاء
إذا صار المكلف مختارا، أم لا؟
إذا عرفت ذلك، فيقع البحث في مقتضى الأوامر الاختيارية؛ وأن الإتيان
بالفرد الاضطراري للطبيعة، هل يجزي عنها؛ بحيث يسقط الأمر المتعلق بها، أم
لا، بل تدل الأوامر المتوجهة إلى الطبيعة، على لزوم الإتيان بالفرد الاختياري
بعد الإتيان بالفرد الاضطراري؟ فلابد أولا من تنقيح موضوع البحث حتى يتضح
الحكم.
فنقول: تارة يكون المكلف مختارا من أول الوقت إلى آخره، وتارة: يكون
مضطرا كذلك، وتارة: يكون مختارا في بعضه، ومضطرا في بعض.
وعلى الأخير: تارة نقول بأن الاضطرار المأخوذ في الأدلة - من فقدان
الماء، والعجز عن القيام، والتكتف حال التقية مثلا - هو الاضطرار المستوعب
للوقت، وتارة نقول: إنه الاضطرار في كل وقت بالنسبة إلى الأداء.
وبعبارة اخرى: هو صرف وجود الاضطرار في كل وقت تحقق.
وما يكون موضوع الكلام في باب الإجزاء عن الإعادة، هو هذا الفرض
الأخير، وأما الفروض الاخر فهي خارجة عن مورد البحث؛ أما الأولان فواضح.
وأما الثالث: فلأن المأتي به لم يكن فرد المأمور به؛ أي الفرد الاضطراري
93

منه، وموضوع البحث فيما إذا أتى المكلف بالفرد الاضطراري من الطبيعة.
فالبحث ينحصر في الفرض الرابع؛ أي ما إذا كانت الطبيعة متعلقة للأمر
في وقت مضروب لها، مثل الصلاة من دلوك الشمس إلى غروبها، ويكون المكلف
مخيرا بين الإتيان بها في كل زمان من الوقت المضروب لها تخييرا شرعيا - كما
قيل (1) - أو عقليا - كما هو المتصور - ويكون لها فردان أحدهما: اختياري، والآخر:
اضطراري، ويكون المكلف على هذا الفرض مخيرا في كل وقت بين الإتيان
بالفرد الاضطراري في حال الاضطرار، أو الانتظار إلى زمان الاختيار والإتيان
بالفرد الاختياري، فإذا أتى بالاضطراري، هل الأمر المتعلق بالطبيعة والداعي
إلى الفرد الاختياري، يدعو إلى إتيان الاختياري بعد رفع الاضطرار أم لا؟
ولعل الحكم بعد تنقيح موضوع البحث، صار متضحا أيضا؛ لأنه من
القضايا التي قياساتها معها؛ فإن بقاء الأمر بطبيعة مع الإتيان بفردها الذي تتحقق
الطبيعة به، غير معقول.
وإن شئت قلت: بقاء الأمر بالطبيعة تخييرا مع الإتيان بأحد الأفراد غير
معقول، وقد عرفت (2) أن الفرد الاضطراري لم يكن له أمر مستقل، وكذلك
الاختياري ليس له أمر استقلالي، حتى نبحث في أن الإتيان بمتعلق أحد
الأمرين، هل يجزي عن الأمر الآخر أم لا؟ بل لا معنى لذلك، إلا أن يقوم دليل
عليه، وهو أيضا خارج عن مسألة الإجزاء كما لا يخفى.
بل لو قلنا: بأن المأمور به الاضطراري، بدل ونائب عن الاختياري في
ظرف الاضطرار، فلنا أن نقول - بعد الغض عن بطلان المبنى -: إن ذلك يقتضي
الإجزاء؛ فإنه أيضا يرجع إلى التخيير بين الإتيان بالفرد الاضطراري البدلي في

1 - معا لم الدين: 79 / السطر ما قبل الأخير.
2 - تقدم في الصفحة 92.
94

ظرفه، والإتيان بالفرد الاختياري في ظرف رفع الاضطرار، والإتيان بأحد فردي
الواجب مسقط لأمره، كما هو واضح.
ومن ذلك يتضح الأمر بالنسبة إلى القضاء أيضا؛ فإنه لو فرض استيعاب
العذر لجميع الوقت، أو يكون التكليف من قبيل المضيق، فيكون - بحسب أدلة
الاضطرار - انقلاب الفرد الاختياري بالفرد الاضطراري، وأتى به المكلف، فلا
مجال للتشكيك في الإجزاء، وعدم شمول أدلة القضاء للمورد؛ ضرورة أن الآتي
بالفرد الاضطراري - بعد فرض كونه متعينا له مع العذر المستوعب - آت
بالطبيعة التي هي الفريضة، فلا معنى لشمول قوله: " من فاتته فريضة
فليقضها " (1).
هذا كله بحسب مقتضى أدلة الواجبات وأدلة تشريع الفرد الاضطراري،
وقد عرفت أنه لا يعقل بقاء الأمر بالطبيعة مع الإتيان بفردها، وكما لا يعقل ذلك
لا يعقل ورود أمر آخر بعنوان التدارك أداء أو قضاء؛ لأنه فرع عدم الإتيان، وهذا
خلف.
نعم، للشارع أن يأمر استقلالا بإتيان فرد آخر من الطبيعة بملاك آخر، كما
أنه لو قام دليل على عدم الإجزاء، نستكشف منه أن الاضطرار في بعض الوقت -
الذي كان مقتضى ظاهر الأدلة الأولية - لم يكن موضوعا للحكم، وهذان
الفرضان خارجان عن موضوع البحث في مبحث الإجزاء.
وقد اتضح بما تلوناه عليك، وقوع الخلط في كلام المحقق الخراساني (رحمه الله)
وغيره من المتأخرين في تحرير محل البحث، وأن التشقيقات التي تكلفوها (2) مما

1 - بحار الأنوار 85: 298 / 40، و 86: 92 / 10.
2 - كفاية الاصول: 108 - 109، فوائد الاصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1:
244 - 246.
95

لا أساس لها، ولا تغني من الحق شيئا.
ثم إنه لو تمت دلالة أدلة الاضطرار على أنه أعم من المستوعب فهو،
وإلا فالأصل هو الاشتغال بلا ريب ولا إشكال؛ لرجوعه إلى الشك في التعيين
والتخيير.
وإن شئت قلت: لرجوعه إلى الشك في سقوط التكليف عن الطبيعة
بالإتيان بالفرد الاضطراري.
تنبيه:
ما ذكرنا: من كون الإتيان بالفرد الاضطراري يقتضي الإجزاء، إنما هو فيما
كان الأمر المتعلق بالطبيعة باقيا في حال الاضطرار، ودلت أدلة الاضطرار على
كون الفرد الاضطراري في حاله مصداقا للطبيعة.
وبعبارة اخرى: فيما إذا دلت أدلة الاضطرار على اتساع دائرة الطبيعة،
وشمولها للفرد الفاقد للجزء أو الشرط، أو الواجد للمانع في حال الاضطرار.
وأما لو اقتضى الاضطرار رفع الأمر عن الإتيان بالطبيعة عند الاضطرار،
فهو خارج عما ذكرنا، مثلا لو حكم قاضي العامة يوم الثلاثين من شهر رمضان
بكونه عيدا، يجب الإفطار بمقتضى التقية، كما قال (عليه السلام): " أفطر يوما من شهر
رمضان أحب إلي من أن يضرب عنقي " (1) لكن يجب قضاؤه؛ لأن التقية تقتضي
رفع الأمر عن الصوم في هذا اليوم، لا رفع مفطرية الأكل والشرب كما لا يخفى.

1 - الكافي 4: 83 / 9، وسائل الشيعة 7: 95، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم،
الباب 57، الحديث 4.
96

الموضع الثالث
في أن الإتيان بالمأمور به الظاهري
هل يقتضي الإجزاء أم لا؟
وقبل الخوض في المقصود، لابد من تنقيح محل البحث؛ حتى لا يختلط
الأمر.
فنقول: محل الكلام في المقام أيضا حسبما حررنا في الأوامر الاضطرارية
فيما إذا تعلق أمر بطبيعة، ويكون لها مصداق واقعي جامع لكافة الشرائط
والأجزاء، وفاقد لجميع الموانع، ودلت أدلة الأحكام الظاهرية - أصلا كانت أو
أمارة - على عدم كون شيء جزء أو شرطا أو مانعا في حال الجهل بالواقع، فهل
الإتيان بمصداق الطبيعة - حسب اقتضاء الأدلة الظاهرية - يجزي عن المأمور
به أم لا؟
وأما إذا دل دليل على وجوب شيء، فأتى به المكلف، ثم تبين عدم
وجوبه، وإنما الواجب شيء آخر، فهو خارج عن محط البحث، كما لو دل الدليل
على وجوب صلاة الجمعة في يومها، فصلى المكلف صلاة الجمعة، ثم تبين
وجوب الظهر، فإن هذا خارج عن بحث الإجزاء؛ لأنه لا معنى لكون الإتيان
بمتعلق أمر، مجزيا عن أمر آخر متعلق بموضع آخر.
وكذلك إذا دل دليل على عدم وجوب شيء، فلم يأت به المكلف في
وقته، ثم تبين وجوبه، فهو أيضا خارج عن بحث الإجزاء، وهو ظاهر.
فتحصل من ذلك: أن محط البحث أن الإتيان بالمصداق الظاهري للمأمور
به، هل يكون مجزيا عن الأمر المتعلق بالطبيعة أم لا؟
97

إذا عرفت ذلك فيتم الكلام في مقامين:
المقام الأول: في الإتيان بالمأمور به حسبما تقتضيه الاصول الشرعية
فاعلم: أن المحقق الخراساني (رحمه الله) لم يستقص جميع الاصول المنقحة
لموضوع التكليف بلسان تحقق ما هو شرطه أو شطره، وأما الاصول الحكمية
الجارية في الأجزاء والشرائط، فغير مذكورة في كلامه.
نعم، قد تعرض في آخر كلامه للاصول الحكمية الجارية في أصل
التكليف، كصلاة الجمعة والظهر (1) فلابد لنا من استقصاء الكلام في جميع
الاصول والأمارات.
ثم اعلم: أنا نتعرض أولا لمقام الإثبات؛ وأن مقتضى ملاحظة الأدلة
الواقعية المثبتة للأجزاء والشرائط والموانع والأدلة الظاهرية بحسب الإثبات
ما هو؟ ثم لو دلت الأدلة على الإجزاء إثباتا نتشبث بها، إلا أن يدل دليل عقلي
على الامتناع فنتركها بمقدار دلالته، ونأخذ بالباقي.
ثم اعلم: أن من الاصول ما تتعرض لبيان تنقيح الموضوع في الشبهة
الموضوعية، مثل قاعدة التجاوز والفراغ.
ومنها: ما تتعرض لتنقيح المأمور به في الشبهة الحكمية، مثل أصالة
البراءة المستفادة من مثل حديث الرفع (2) (21).

1 - كفاية الاصول: 112.
2 - التوحيد: 353 / 34، الخصال: 417 / 9، وسائل الشيعة 11: 295، كتاب الجهاد،
أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.
21 - قد يقال: باختصاص الحديث بالشبهة الحكمية؛ لأن الموضوعات الخارجية غير
متعلقة للأحكام، وإنما هي متعلقة بنفس العناوين، فرفع حكم عن الموضوعات المشتبهة
فرع وضع الحكم لها، وهو ممنوع.
وفيه أولا: أنه منقوض بسائر العناوين؛ فإن الاضطرار والإكراه إنما يحصلان في
الموضوع، كالطلاق المكره عليه، مع أنه مشمول للحديث بلا إشكال، كما في صحيح
البزنطي.
وثانيا: أن الحديث رفع الحكم عن العناوين، كالبيع المكره عليه، والشرب المضطر إليه،
والخمر المجهول حكما أو موضوعا، إلا أن معنى رفع الحكم هو رفع إيجاب الاحتياط، أو
رفع الفعلية، أو رفع المؤاخذة، على اختلاف المسالك، ورفع الموضوع كذلك إن لم نقل
برفع الحكم عن الموضوع المجهول حقيقة، كما في سائر العناوين، والظاهر عدم التزامهم
به في بعض الموارد. (أنوار الهداية 2: 39 - 40).
98

وفي أمثال هذه الاصول المنقحة للمتعلق والمأمور به مطلقا، لا إشكال في
أن الظاهر منها هو الإجزاء؛ فإن الظاهر من قوله: " كل ما شككت فيه مما قد
مضى فأمضه كما هو " (1) هو البناء على إتيان الجزء المشكوك فيه، والبناء على
إتيان الشرط المشكوك فيه وعدم المانع المشكوك فيه.
ومعنى البناء على ذلك، أن المصلي الذي أتى بالصلاة لغرض إسقاط الأمر
المتوجه إليه، وصيرورته مستريحا من التكليف الإلهي وتبعاته، قد صار
مستريحا منه بإتيان هذا الفرد المشكوك فيه من حيث الصحة بعد التجاوز.
وإن شئت قلت: إن دليل القاعدة بلسان الحكومة، يدل على توسعة
المأمور به؛ بحيث يشمل ذيله هذا الفرد المشكوك فيه ولو كان ناقصا بحسب
الواقع.
وهكذا الكلام في مقتضى أدلة أصالة الطهارة والحلية الجاريتين في
الشبهات الموضوعية، فإنهما أيضا مما ينقح الموضوع بلسان الحكومة؛ فإن

1 - تهذيب الأحكام 2: 344 / 1426، وسائل الشيعة 5: 336، كتاب الصلاة، أبواب
الخلل الواقع في الصلاة، الباب 23، الحديث 3.
99

معنى البناء على الطهارة في اللباس، هو صحة إتيان الصلاة به، وكون هذا
المأتي به هو الصلاة المأمور بها.
وهكذا الاصول الجارية في الشبهات الحكمية، فإنها أيضا كذلك؛ فإن
دليل رفع الجزئية والشرطية والمانعية، يدل - بلسان الحكومة - على أن
الصلاة الفاقدة للجزء أو الشرط أو الواجدة للمانع واقعا لدى الشك، صلاة حقيقة،
وتكون الصلاة في حق الشاك هي هذا المأتي به؛ فإن مقتضى التعبد بالبناء على
عدم جزئية مشكوك الجزء وشرطية مشكوك الشرطية ومانعية مشكوك
المانعية، هو البناء العملي؛ أي الإتيان بالفرد الناقص، والبناء العملي على كونه
صلاة في حقه، وهذا يدل على توسعة المأمور به في زمان الشك، وتنزيل هذا
الفرد منزلة المأمور به التام، وهو المقصود من الإجزاء.
وبالجملة: جميع أدلة الاصول الجارية في الأجزاء والشرائط والموانع،
حاكمة على الأدلة الأولية، ويكون مفادها توسعة دائرة المأمور به.
لا يقال: إن ما ذكرت حق لو لم ينكشف الخلاف، بخلاف ما إذا انكشف؛ فإن
قوله: " كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر " (1) وقوله: " كل ما شككت فيه مما
قد مضى فأمضه كما هو " (2) يدل على الإجزاء ما دام الشك باقيا، وأما إذا ارتفع
الشك، فلابد من إتيان المأمور به على ما هو عليه في نفس الأمر، وبحسب
الأدلة الواقعية.
فإنه يقال: لا إشكال في أن الشك المأخوذ في هذه الأدلة، هو الشك

1 - تهذيب الأحكام 1: 284 / 832، وسائل الشيعة 2: 1054، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 37، الحديث 4.
2 - تهذيب الأحكام 2: 344 / 1426، وسائل الشيعة 5: 336، كتاب الصلاة، أبواب
الخلل الواقع في الصلاة، الباب 23، الحديث 3.
100

الحادث، سواء كان مستمرا أو لا، لا الشك المستمر إلى آخر العمر؛ فإن التعبد
بالعمل على طبق الأصل مع الشك المستمر غير ممكن؛ لأن وقت العمل على
طبقه هو حين حدوثه، فلا معنى لكون التعبد بالعمل بالأصل متفرعا على الشك
إلى آخر الوقت أو العمر، فإذا كان كذلك، فلا يضر انكشاف الخلاف بما نحن
بصدده.
بل لا معنى لكشف الخلاف؛ فإن الظاهر من الأدلة - كما بينا - هو كون
الفرد الناقص في زمن الشك، مصداقا للمأمور به حقيقة، فإذا اتسعت دائرة
المأمور به، فلا معنى لكشف الخلاف أصلا، فتدبر جيدا.
المقام الثاني: في الإتيان بالمأمور به حسبما تقتضيه الأمارات الشرعية
سواء كانت قائمة على تحقق الموضوع في الشبهات الموضوعية، كما لو
قامت البينة على إتيان القراءة أو الركوع مثلا مع الشك في الإتيان، أو قامت على
طهارة اللباس، أو كونه من المأكول والمذكى مع الشك فيها.
أم كانت قائمة على نفي الجزئية والشرطية والمانعية مع الشك في
الشبهة الحكمية، كما لو قام خبر الثقة على عدم جزئية السورة، أو على عدم
شرطية طهارة اللباس، أو عدم مانعية المذكى.
وهي أيضا تدل على الإجزاء؛ فإن الأمارات وإن كانت لها جهة الكشف
والطريقية عن الواقع بأنفسها، لكن أدلة اعتبارها تكون بعينها من هذه الجهة
مثل أدلة الاصول؛ فإن معنى تصديق العادل هو البناء العملي على صدقه، وكون
خبره مطابقا للواقع، والإتيان بالمأمور به على طبق إخباره، فإذا أخبر العدلان
بطهارة اللباس، أو كونه مذكى، فمعنى تصديقهما في عالم التشريع والتعبد، هو
البناء العملي على طبق قولهما، وإتيان المأمور به مع اللباس المشكوك فيه،
101

وخروج المكلف عن عهدة التكليف؛ بإتيان الفرد المشكوك فيه على طبق
قولهما، وكذلك الحال في الشبهات الحكمية بلا تفاوت.
وبالجملة: إن لسان أدلة اعتبار الأمارات من هذه الجهة عينا، لسان
أدلة الاصول؛ من البناء التعبدي على تحقق المأمور به، وتنقيح الموضوع في
عالم التشريع، فهي بلسانها حاكمة على الأدلة الواقعية، وموسعة لنطاق
أفرادها، ودائرة ماهياتها (22).
إن قلت: فعلى ما ذكرت من كون مفاد أدلة اعتبار الأمارات وأدلة الاصول
هو البناء العملي، وأن مفادها واحد لا تفاوت فيه، فلا معنى لحكومة الأمارات
على الاصول، وهو كما ترى.
قلت: تحكيم بعض الأدلة على بعضها، إنما هو ببركة لسان الدليل وكيفية
أداء مفاده، فربما يكون مفاد الدليلين من حيث النتيجة واحدا، ولكن يكون لسان
أحدهما وكيفية أداء المعنى، بنحو يكون عند العرف حاكما ومقدما على الآخر.
إذا عرفت ذلك نقول: إن الأمارات والاصول مشتركتان في النتيجة؛ وهي
كون مفادهما البناء العملي على وجود شيء أو عدمه، فلا فرق بين أصل الطهارة
وقيام البينة عليها من هذه الجهة؛ فإن معنى قوله: " كل شيء نظيف " (2) هو

22 - هذا الكلام غير تام؛ لأن إيجاب تصديق العادل لأجل ثقته وعدم كذبه وإيصال المكلف
إلى الواقع المحفوظ، كما هو كذلك عند العقلاء في الأمارات العقلائية، ولا يفهم العرف
والعقلاء من مثل هذا الدليل إلا ما هو المركوز في أذهانهم من الأمارات، لا انقلاب الواقع
عما هو عليه، بخلاف أدلة الاصول.
وبالجملة: أن الإجزاء مع جعل الأمارة وإيجاب العمل على طبقها - لأجل الكشف عن
الواقع كما هو شأن الأمارات - متنافيان لدى العرف والعقلاء، هذا من غير فرق فيما ذكرنا
بين الأمارات القائمة على الأحكام أو الموضوعات. (مناهج الوصول 1: 316).
2 - تهذيب الأحكام 1: 284 / 832، وسائل الشيعة 2: 1054، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 37، الحديث 4.
102

البناء على الطهارة عملا، وجواز لبس ما شك في طهارته في المشروط بها، كما
أن مفاد اعتبار دليل البينة أيضا هو البناء العملي على الطهارة، وجواز لبس ما
قامت البينة على طهارته في المشروط بها، من غير تفرقة بينهما من هذه الجهة.
لكن كيفية تأديتهما لهذا المعنى مختلفة؛ فإن لسان الاصول هو البناء على
الطهارة لدى الشك فيها، فالشك مأخوذ في موضوع الدليل، وأما لسان الأمارات
فهو البناء على تصديق العادل عملا، وكون خبره مطابقا للواقع، وهذا لسان إزالة
الشك في عالم التشريع، فيكون رافعا لموضوع الأصل لدى العرف، فيقدم عليه،
وهذا لا ينافي كون مفادهما هو البناء العملي - كما عرفت (1) -.
فإن قلت: لازم ما ذكرت هو تنويع المكلف؛ وأن تكليف العالم غير تكليف
الجاهل، وأن الأجزاء والشرائط والموانع، إنما تختص بالعالم بها، وهذا مما
لا يمكن الالتزام به؛ فإنه - مع ورود الدور في الشبهات الحكمية - مخالف
لظاهر أدلة الأمارات والاصول؛ فإن الظاهر من تشريع التعبد بشيء والحكم
بالبناء العملي على شيء؛ هو كونه بحسب الواقع ذا حكم حتى في زمان الشك.
مثلا قوله: " كل شيء نظيف " يدل على البناء على طهارة اللباس في زمان
الشك وجواز الصلاة به، فلو لم تكن الطهارة شرطا للباس المصلي حتى في زمان
الشك، فلا معنى لهذا التعبد، فمن نفس هذا الحكم بالبناء على الطهارة، يعلم كون
الطهارة شرطا حتى في زمان الشك فيها، حتى يصح التعبد.
وكذلك ظاهر قوله: " رفع... ما لا يعلمون " (2) أن الحكم الموجود بحسب

1 - تقدم في الصفحة 101.
2 - التوحيد: 353 / 24، الخصال: 417 / 9، وسائل الشيعة 11: 295، كتاب الجهاد،
أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.
103

الواقع، والمجهول لدى المكلف، مرفوع تعبدا وفي عالم التشريع.
وقس على ذلك موارد الأمارات وسائر الاصول؛ فإن ظاهرها كون الحكم
الواقعي مطلقا لمورد الشك، ولا يمكن تقييد الأدلة الواقعية بالأدلة الظاهرية؛
فإن المقيد والمطلق لابد وأن يردا على موضوع واحد، فإنهما من أقسام التعارض
وإن كان أحدهما مقدما - بحسب الظهور - على الآخر؛ لأن دليل المطلق ظاهر في
كونه تمام الموضوع للحكم، ودليل المقيد ظاهر في دخالة القيد فيتعارضان،
لكن ظهور المقيد في دخالة القيد أقوى من ظهور المطلق في تمامية
الموضوعية، فيقدم عليه.
وبالجملة: إن المطلق والمقيد لابد وأن يردا على موضوع واحد حتى
يتحقق التعارض، ولما كانت أدلة الأحكام الظاهرية في طول الأحكام الواقعية،
ومتأخرة عنها برتبتين - لأن الشك فيها مأخوذ في موضوعها - فلا يمكن تقييدها
بها؛ لعدم ورودهما على موضوع واحد، ولا يمكن تجافي أحدهما عن موطنه.
قلت: لا محيص عما ذكرت؛ فإنه حق لا مرية فيه، إلا أنه مع ذلك يكون
بين الأدلة الواقعية والظاهرية تناف وتعارض لابد من رفعه؛ فإن الزجر الفعلي
عن شرب الخمر مثلا حتى في زمان الشك، مع الترخيص الفعلي بشربه، متنافيان،
وكذلك الأمر الفعلي بإتيان الجزء والشرط مع الترخيص الفعلي لدى الشك
متنافيان، ولا مناص إلا بالالتزام بكون الأحكام الواقعية إنشائية؛ بمعنى أن
الحكم المنشأ يكون مطلقا شاملا لحال العلم والجهل، لئلا يلزم الدور المستحيل.
ولكن فعلية الحكم تكون مختصة بحال العلم؛ جمعا بين الأدلة الواقعية
والظاهرية، ولا يمكن الالتزام بفعلية الأحكام الواقعية (23).

23 - لا إشكال في عدم اختصاص الأحكام الواقعية بالعالم بها، كما أن الخطابات الشرعية
متعلقة بعناوين محفوظة في حال العلم والجهل، فإن الحرمة قد تعلقت بذات الخمر،
والوجوب تعلق بذات الصلاة من غير تقيد بالعلم والجهل، فهي بحسب المفاد شاملة
للعالم والجاهل، كما لا يخفى.
فالخطابات - كما عرفت - وإن لم تكن مقيدة بحال العلم، ولا مختصة بالعالم بها، ولكن
هنا أمر آخر، وهو: أن الخطابات إنما تتعلق بالعناوين وتتوجه إلى المكلفين؛ لغرض
انبعاثهم نحو المأمور به، ولتحريكها إياهم نحوه، ولا إشكال في أن التكليف والخطاب
بحسب وجوده الواقعي لا يمكن أن يكون باعثا وزاجرا؛ لامتناع محركية المجهول، وهذا
واضح جدا.
فالتكاليف إنما تتعلق بالعناوين وتتوجه إلى المكلفين؛ لكي يعلموا فيعملوا، فالعلم
شرط عقلي للباعثية والتحريك، فلما كان انبعاث الجاهل غير ممكن، فلا محالة تكون
الإرادة قاصرة عن شمول الجاهلين، فتصير الخطابات بالنسبة إليهم أحكاما إنشائية. وإن
شئت قلت: إن لفعلية التكليف مرتبتين:
أحداهما: الفعلية التي هي قبل العلم، وهي بمعنى تمامية الجهات التي من قبل المولى،
وإنما النقصان في الجهات التي من قبل المكلف، فإذا ارتفعت الموانع التي من قبل العبد،
يصير التكليف تام الفعلية، وتنجز عليه.
وثانيتهما: الفعلية التي هي بعد العلم وبعد رفع سائر الموانع التي تكون من قبل العبد، وهو
التكليف الفعلي التام المنجز. (أنوار الهداية 1: 199 - 200).
إذا عرفت ما ذكرنا من المقدمات سهل لك سبيل الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية؛
فإنه لابد من الالتزام بأن التكا ليف الواقعية مطلقا سواء كانت في موارد قيام الطرق
والأمارات، أو في موارد الاصول مطلقا، فعلية بمعناها الذي قبل تعلق العلم، ولا إشكال
في أن البعث والزجر الفعليين غير محققين في موارد الجهل بها؛ لامتناع البعث والتحريك
الفعليين بالنسبة إلى القاصرين، فالتكاليف بحقائقها الإنشائية والفعلية التي من قبل
المولى - بالمعنى الذي أشرنا إليه - تعم جميع المكلفين، ولا تكون مختصة بطائفة دون
طائفة، لكن الإرادة قاصرة عن البعث والزجر الفعلي بالنسبة إلى القاصرين.
فإذا كان التكليف قاصرا عن البعث والزجر الفعليين بالنسبة إليهم، فلا بأس بالترخيص
الفعلي على خلافها، ولا امتناع فيه أصلا، ولا يلزم منه اجتماع الضدين أو النقيضين أو
المثلين وأمثالها.
فتحصل مما ذكرنا: أن الأحكام الواقعية والخطابات الأولية - بحسب الإنشاء والجعل،
وبحسب الفعلية التي قبل العلم - عامة لكلية المكلفين جاهلين كانوا أو عالمين، لكنها
قاصرة عن البعث والزجر الفعليين بالنسبة إلى الجهال منهم، ففي هذه المرتبة التي هي
مرتبة جريان الأصل العقلي، لا بأس في جعل الترخيص. (أنوار الهداية 1: 199 - 200).
104

بل كل من تصدى للجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية، لا مناص له
من ذلك، والمحقق الخراساني (رحمه الله)، القائل: بجعل العذر لدى التخلف أيضا (1) لا
مناص له من القول بشأنية الأحكام؛ فإنه مع فعلية الحكم لا معنى لجعل العذر
أصلا كما لا يخفى.
تذييل استطرادي: الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية
وحيث انجر الكلام إلى كيفية الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية،
لا بأس بصرف عنان الكلام إليها على سبيل الاختصار.
فنقول: محصل الكلام فيها، أنه لا إشكال في عدم إمكان تعلق الحكم
بالعالم به؛ فإن العلم بالشيء يتوقف على تحصل الشيء وتحققه بالضرورة، فما
لا وجود له أصلا لا يمكن تعلق العلم به، فالحكم لابد وأن يكون متحققا حتى
يتعلق به العلم، فالعلم بالحكم يتوقف على الحكم، وتعلق الحكم بالعالم به
لابد وأن يتوقف على العلم به؛ لأن عنوان " العالم بالحكم " لا يتحقق إلا بتحقق
العلم به، فالعلم يتوقف على الحكم، والحكم على العلم، وهذا دور واضح.
فلابد وأن يتعلق الحكم بعنوان آخر ذاتي أو عرضي، مثل: " أيها الناس " أو

1 - كفاية الاصول: 319.
106

" أيها المؤمنون " ويكون متعلق الحكم نفس العنوان بلا تقيد بحال العلم والجهل،
وهذا لا إشكال فيه.
كما أنه لا إشكال في أن الأوامر والنواهي الصادرة من كل متكلم آمر، إنما
تصدر لغرض انبعاث المكلف نحو العمل، والانبعاث بها نحوه لا يمكن إلا بعد
العلم بالأوامر والنواهي؛ لأن العلم بها في سلسلة علل الانبعاث، فإذا علم
المكلف أوامر المولى؛ وأن موافقتها موجبة لآثار وخواص مطلوبة، ومخالفتها
مورثة لنكال وعقوبة، يشتاق إلى موافقتها، ويشتد الشوق إليها، ويتحقق الجزم
والعزم والإرادة، فينبعث نحو العمل، وأما الجاهل بها فلا يمكن أن ينبعث
ويتحرك بها.
وأما الانبعاث في محتمل الوجوب والحرمة احتياطا، فلا يكون بباعثية
الأمر الواقعي ونهيه إذا كانا موجودين واقعا، بل بواسطة احتمال الأمر والنهي،
سواء كان أمر ونهي في الواقع أو لا، فوجوبهما وعدمهما - بحسب الواقع - على
السواء، ونسبتهما إلى الإتيان واللا إتيان سواء، وما كان كذلك لا يمكن أن يكون
باعثا، فباعثية الأوامر والنواهي لا تمكن إلا بعد العلم بهما.
فإذا كان الأمر كذلك، فلابد وأن تكون إرادة المولى في الأوامر والنواهي،
مقصورة على العالمين بها قهرا ومن باب الاضطرار، وإن كان غرضه متعلقا
بالأعم، وخطابه متعلقا بعنوان شامل للعالم والجاهل، لكن الخطاب لما كان
لغرض الانبعاث، وهو لا يحصل إلا من العالم به، ولا يمكن الانبعاث بالنسبة
إلى الجاهل به، فلا محالة تكون إرادته قاصرة عن شمول الجاهل، ومقصورة
على العالم.
ولو تعلق غرضه بعدم مخالفة أمره الواقعي مطلقا، فلابد له من إيجاب
الاحتياط بخطاب آخر طريقي؛ لغرض حفظ المأمور به بالأمر الأولي عن
107

المخالفة، حتى يعلم المكلف هذا الخطاب الاحتياطي، فينبعث نحو الاحتياط.
ولا يخفى: أن إيجاب الاحتياط في الشبهات التحريمية والوجوبية،
موجب للعسر الشديد زائدا عما تقتضيه ذات التكليف، ولهذا ما أوجب الشارع
الاحتياط؛ لمصلحة التسهيل، والأوامر الواقعية الأولية لا تصلح للباعثية إلا
للعالم ونحو المعلوم، لا الشاك ونحو المجهول - كما عرفت -.
وهذا طريق الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية، فتدبر تعرف.
إن قلت: إن ما ذكرت هو التصويب المجمع على بطلانه؛ فإن الإجماع قائم
على اشتراك التكليف بين العالم والجاهل (1).
قلت: مناط حجية الإجماع عندنا هو الكشف عن رأي الحجة؛ فإن اتفاق
الفقهاء والمحدثين خلفا بعد سلف على المسائل التي لا سبيل للعقل إليها، يكشف
كشفا قطعيا عن رأي الحجة، وهذا المناط ليس بمتحقق في هذه المسألة؛ لأن
أول من تعرض للمسائل الاصولية وجمع شتاتها من أصحابنا، هو شيخ الطائفة
في كتاب " العدة " فإن " ذريعة " السيد وإن كانت متقدمة عليها، لكنها غير
متعرضة إلا لعدة مسائل محصورة بنحو الاختصار، وأما " العدة " فهي مشتملة على
نوع المسائل الاصولية.
والشيخ (رحمه الله) لما تعرض لهذه المسألة، نقل إجماع المتكلمين خلفا عن
سلف على اشتراك التكليف (2) وإجماعهم لا يكشف عن وجود النص المعتبر، أو
عن رأي الحجة، فالمسألة إذن عقلية صرفة، لا تكون إجماعية بالمعنى
المصطلح.

1 - عدة الاصول 2: 725 - 726، تمهيد القواعد: 322.
2 - عدة الاصول 2: 725 - 726.
108

فما قام الدليل العقلي عليه، هو اختصاص العالم بالخطاب - كما
عرفت (1) - وأما كون الأحكام في صورة الجهل إنشائية غير فعلية، فلا مناص
منه، ولا دليل عقلا ولا نقلا على خلافه.
هذا، فقد تحصل من جميع ما ذكرنا: أن ظاهر أدلة الاصول والأمارات، في
مشكوك الجزئية والشرطية والمانعية، وفيما هو مشكوك التحقق وقام الدليل
على تحققه؛ هو الإجزاء (24)، وتوسعة دائرة المأمور به في حال الشك - كما
عرفت (3) - ولا دليل عقلا أو نقلا على خلاف ذلك الظاهر، فلابد من الأخذ به حتى
يقوم دليل على خلافه في المسائل الفرعية، التي محلها الكتب الفقهية.

1 - تقدم في الصفحة 107.
24 - التحقيق: هو عدم الإجزاء في الأمارات مطلقا، والإجزاء في الاصول مطلقا. (مناهج
الوصول 1: 315 - 317).
3 - تقدم في الصفحة 98 - 102.
109

المطلب الرابع
في مقدمة الواجب
وهي كل ما يتوقف عليه الواجب في تحققه، ويحتاج إليه في وجوده،
وقبل الخوض في المقصود نقدم امورا تبعا للقوم:
الأمر الأول: في عدم كون المسألة اصولية
المبحوث عنه في هذه المسألة وإن كان هو الملازمة بين وجوب الشيء
ووجوب ما يتوقف عليه (25)، لكن مع ذلك لا تكون المسألة اصولية، بل هي من

25 - إن ما يمكن أن يقع محل البحث أحد أمرين:
الأول: أنه هل تكون ملازمة بين إرادة بعث المولى عبده نحو ذي المقدمة، وبين إرادة
بعثه نحو ما يراه مقدمة، أو لا، أو تكون ملازمة بين إرادتهما أو لا؟
وأما البحث عن الملازمة بين إرادة ذي المقدمة وإرادة المقدمة الواقعية بالحمل الشائع،
فساقط؛ ضرورة عدم تعقل الملازمة بينهما؛ لعدم تعلق الإرادة بالواقع من غير تشخيص
مقدميته، وعدم إمكان تحقق الملازمة بين الموجود والمعدوم.
الثاني: أن يقع النزاع في الملازمة العقلية بين وجوب ذي المقدمة أو الإرادة المتعلقة
به، وبين وجوب عنوان ما يتوقف عليه ذو المقدمة، أو عنوان ما يتوصل به إليه، أو
الإرادة المتعلقة بأحد العنوانين.
وهذا يصح بناء على تعلق الوجوب بأحد العنوانين، وتكون حيثية التوقف أو التوصل
حيثية تقييدية، كما هو التحقيق في الأحكام العقلية، وأما بناء على تعلق الوجوب بذات
المقدمة، وما يتوقف عليه ذو المقدمة بالحمل الشائع، وعدم رجوع الحيثيات التعليلية
إلى التقييدية - كما يظهر من بعضهم - فلا محيص عن الوجه الأول.
ثم إن ما ذكرنا من إمكان تخلف الواقع عن تشخيص المريد في الوجه الأول، إنما هو في
غير الشارع، وأما فيه فلا يمكن التخلف، كما هو واضح، وفي الموالي العرفية إذا رأى
المأمور تخلف إرادة الآمر عن الواقع لسوء تشخيصه، لا يلزم - بل لا يجوز في بعض
الأحيان - اتباعه، بل يجب عليه تحصيل غرضه بعد العلم به. (مناهج الوصول 1:
325 - 326).
111

المبادئ الأحكامية، وقد حققنا في محله الفرق بين المسائل الاصولية
وغيرها، ووجه امتياز مسائل العلوم بعضها عن بعض (1) فالمسألة ليست اصولية
على ما حققنا (26).

1 - تقدم في الصفحة 17 - 20.
26 - وأما كونها مسألة اصولية فلا شك أنها كذلك؛ لما وقفت في مقدمة الكتاب على ميزانها
من أنها عبارة: عن القواعد الآلية التي يمكن أن تقع كبرى لاستنتاج الحكم الفرعي
الإلهي، أو الوظيفة العملية، فحينئذ، لو ثبت وجود الملازمة، يستكشف منها وجوب
مقدمات الصلاة وغيرها؛ لأن البحث عن وجود الملازمة ليس لأجل الاطلاع على
حقيقة من الحقايق، حتى يصير البحث فلسفيا، بل لأنها مما ينظر بها إلى مسائل وفروع
هي المنظور فيها، ولا نعني من الاصولية غير هذا. (تهذيب الاصول 1: 156).
وربما يقال: إنها من المبادئ الأحكامية وإن كان البحث عن الملازمة؛ لأن موضوع
الاصول هو الحجة في الفقه، والبحث إذا كان عن حجية شيء يكون من العوارض،
فيبحث في الخبر الواحد عن أنه حجة في الفقه أو لا، وكذا سائر المسائل، فعليه يكون
البحث عن الملازمات خارجا عن المسألة الاصولية؛ لعدم كون البحث في الحجة في
الفقه.
وفيه: ما عرفت في محله - بما لا مزيد عليه - من عدم تطبيق ما ذكر وما ذكروا في
موضوع العلوم ومسائلها على الواقع، هذا هو الفقه، فقد جعلوا موضوعه أعمال
المكلفين، وادعوا أن موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، مع أن مسائل
الفقه ليست كذلك، حتى الأحكام التكليفية؛ فإنها ليست من العوارض، حتى يقال: إنها
أعراض ذاتية، ولو سلم فيها فكثير من مباحث الفقه لا ينطبق عليها هذا العنوان،
كالنجاسات والطهارات وأبواب الضمان وأمثالها، وإن ترجع بالأخرة إلى ثمرة عملية،
وبالجملة: فالمسألة على ما ذكرنا من الضابط، اصولية. (مناهج الوصول 1:
328 - 329).
112

الأمر الثاني: تقسيمات المقدمة
لما كان عنوان البحث في مقدمة الواجب؛ هو أن مقدمة الواجب هل هي
واجبة أم لا؟ جرت عادة الاصوليين على البحث عن المقدمة وتقسماتها،
والواجب وتقسماته، والمحصل أن للمقدمة تقسمات:
منها: تقسيمها إلى الداخلية والخارجية
منها: إلى الداخلية؛ وهي الأجزاء المأخوذة في ماهية المأمور به،
والخارجية؛ وهي الامور الخارجة عنها، مما يتوقف وجودها عليها، ولا توجد
بدونها.
وربما يقال: إن الأجزاء بالأسر عين المركب في المقدمات الداخلية (1).
فيستشكل تارة: بأن ذا المقدمة يحتاج إلى المقدمات، والاحتياج نحو

1 - الفصول الغروية: 86 / السطر 25، كفاية الاصول: 115.
113

إضافة بين الشيئين، ولا يعقل أن يكون المحتاج عين المحتاج إليه (1).
واخرى: بأن المتوقف عليه لابد وأن يكون مقدما على ما يتوقف عليه،
والشيء الواحد لا يعقل أن يكون متوقفا ومتوقفا عليه؛ للزوم الدور (2).
ولعل هذا الإشكال مأخوذ من الإشكال المعروف في فن المعقول؛ وهو أن
العلة التامة بجميع أجزائها، لابد وأن تكون متقدمة على معلولها، مع أن المادة
والصورة من أجزائها، وهما عين الماهية المركبة منهما (3).
والجواب: أن المركبات الاعتبارية عبارة عن عدة امور متكثرة حقيقة،
اعتبرت بنعت الوحدة في جهة من الجهات، كاشتراكها في تحصيل الغرض مثلا،
فالكثرة في المركبات الاعتبارية حقيقية، والوحدة اعتبارية.
كما أن الأمر بعكس ذلك في المركبات الحقيقية التي لها وحدة حقيقية،
فإنه قد تكون الكثرة اعتبارية، والوحدة حقيقية، كاعتبار الكثرة في الماهية
الواحدة.
وبالجملة: ما لم تعتبر في الامور المتكثرة المتحققة بوجودات متعددة
وحدة، لا يصير المجموع مركبا، ولا الكثرات أجزاءه.
فإذا عرفت ذلك فاعلم: أن المركب في المركب الاعتباري، عبارة عن
الأجزاء بالأسر مع اعتبار الوحدة فيها، وهذا هو ذو المقدمة، والمقدمة عبارة
عن كل واحد واحد من الأجزاء، فالعسكر مثلا عبارة عن عدة أفراد تعتبر فيها
الوحدة، وكل واحد واحد من الأفراد مقدمة له، فذو المقدمة الأجزاء بالأسر

1 - انظر نهاية الأفكار 1: 262 - 263.
2 - قوانين الاصول 1: 108 (حاشية المحقق السيد علي القزويني).
3 - انظر الحكمة المتعالية 2: 189 - 190 مع تعليقة الحكيم السبزواري عليه، وشرح
المنظومة، قسم الحكمة: 104 / السطر الأول.
114

مع اعتبار الوحدة، والمقدمة هي كل واحد واحد من الأجزاء والأفراد.
لا يقال: فإذا كان كل واحد من الأجزاء مقدمة، فالمجموع يصير مقدمة،
مع أنه عين المركب، فلا محالة يكون الاختلاف بينهما اعتباريا.
فإنه يقال: كلا، فإن المجموع مقدمات متكثرة، لا مقدمة واحدة حتى يرد
الإشكال، كما أن كون كل واحد من زيد وعمرو وبكر إنسانا لا يلزم أن يكون
المجموع منهم إنسانا واحدا، بل أناسي كثيرة، فإن الكثير ليس موجودا على حدة
[مغايرا] لوجود المتكثرات.
ألا ترى: أنه يصدق على كل واحد من أجزاء المركب: " أنه بعض
المركب " ولا يصدق على جميعها: " أنه بعض المركب " ويصدق: " أنها أبعاض
بنحو الكثرة ونعت العموم الأفرادي ".
فقد علم مما ذكرنا: أن المركب غير الأجزاء حقيقة؛ فإن المركب أمر
وحداني بالوحدة الاعتبارية، والأجزاء - وهي المقدمات - امور متكثرة،
موجودة بالوجودات الحقيقية.
ومن هذا ظهر الخلل في ما أفاده المحقق الخراساني وغيره: من أن
الاختلاف بين المقدمات وذيها بالاعتبار؛ وأن الأجزاء بالأسر هي المقدمة،
وبشرط الاجتماع هي ذوها (1).
ثم اعلم: أن الوجوب المتعلق بالمركب هو وجوب وحداني منبسط على
الأجزاء، وباعتبار انبساطه عليها يعتبر فيه الأبعاض، فالوجوب واحد حقيقي،
والأبعاض كثيرة اعتبارا، وكل بعض متعلق بجزء من الأجزاء، والأجزاء واجبة
بعين وجوب المركب، لكن بالمعنى الذي ذكرنا؛ أي يعتبر فيه أبعاض كثيرة
حسب كثرة الأجزاء، فكل جزء تمام المتعلق لبعض الوجوب، وبعض المتعلق

1 - كفاية الاصول: 115، مقا لات الاصول 1: 291.
115

لنفس الوجوب (27).
ومن هذا يظهر فساد احتمالات اخر (2): من كون الأجزاء واجبة بالوجوب
الغيري فقط، أو النفسي فقط إن أريد منه كون كل جزء متعلقا لتمام الوجوب، أو
هما معا.
وأسخف الأقوال هو الأول؛ فإن وجوب المقدمة يترشح من وجوب

27 - لا إشكال في أن المركبات المتعلقة للأوامر كالصلاة - مثلا - موضوعات وحدانية ولو في
الاعتبار، ولها أمر واحد من غير أن ينحل إلى أوامر عديدة، لا في الموضوعات المركبة
ولا في المقيدة، فلا فرق بينهما وبين الموضوعات البسيطة في ناحية الأمر.
فالأمر بعث وحداني، سواء تعلق بالمركب أو البسيط، فلا ينحل الأمر إلى أوامر، ولا
الإرادة إلى إرادات كثيرة، فالانحلال في ناحية الموضوع، لكن الموضوع المركب لما كان
تحققه بإيجاد الأجزاء، يكون الإتيان بكل جزء جزء بعين الدعوة إلى الكل، والأجزاء
مبعوث إليها بعين البعث إلى المركب، فكل جزء يأتي به المكلف، امتثال للأمر المتعلق
بالمركب.
فإذا قال المولى لعبده: " ابن مسجدا "، وشرع في بنائه، لا يكون المأمور به إلا واحدا
والامتثال كذلك، لكن كيفية امتثاله بإيجاد أجزائه، فلا تكون الأجزاء غير مدعو إليها
رأسا، ولا مدعوا إليها بدعوة خاصة بها؛ بحيث تكون الدعوة منحلة إلى الدعوات. بل ما
يكون مطابقا للبرهان والوجدان أنها مدعو إليها بعين دعوة المركب، فالأمر واحد والمتعلق
واحد؛ فإن الصلاة المتقيدة بقصد الامتثال متعلقة للأمر، فنفس الصلاة المأتي بها إنما
تكون مدعوا إليها بعين دعوة الأمر المتعلق بالمقيد، لا بأمر متعلق بنفسها، وهذا كاف في
تحقق الإطاعة، فإذا علم العبد أن الأمر متعلق بالصلاة بداعي امتثال أمرها، ويرى أن
الإتيان بها بداعوية ذلك الأمر موجب لتحقق المأمور به بجميع قيوده، فلا محالة يأتي
بها كذلك، ويكون ممتثلا لدى العقلاء. (مناهج الوصول 1: 267 - 268).
2 - مجموع الاحتمالات سبعة على ما في حاشية المحقق المشكيني على كفاية الاصول
1: 140.
116

ذيها (28)، فإذا لم يكن للأجزاء وجوب نفسي، فمن أين يترشح الوجوب الغيري؟!
منها: تقسيمها إلى مقدمة الوجوب، والواجب، والصحة، والعلم
لا إشكال في خروج مقدمة الوجوب عن حريم النزاع؛ لتوقف وجوب
ذي المقدمة على وجودها، فلا يعقل وجوبها من قبل وجوبه.
ومقدمة الصحة ترجع إلى مقدمة الوجود ولو على القول بالأعم؛ لتعلق
الوجوب بالصحيح لا الأعم.
والمقدمات العلمية أيضا خارجة عن حريم النزاع؛ لعدم ترشح الوجوب
عليها من الواجب في البين.
منها: تقسيمها إلى السبب، والشرط، وعدم المانع، والمعد
وعرف السبب: بما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم (2). وهذا
ينطبق على العلة التامة، وأخص من المقتضي.

28 - ومعنى تبعية إرادة المقدمة لذي المقدمة ليس نشأها وتولدها منها؛ بحيث تكون إرادة
ذي المقدمة موجدة لإرادتها، كما هو ظاهر تعبيراتهم، بل معناها أن الفاعل بعد تشخيص
التوقف يريد المقدمة بعد تحقق مبادئها؛ لأجل تحصيل ذي المقدمة، لا لنفسها. (مناهج
الوصول 1: 324).
فالإرادة المتعلقة بذي المقدمة لم تكن مبدأ للإرادة المتعلقة بالمقدمة بنحو النشو
والرشح والإيجاد، وإذا كان حال الإرادات كذلك، فالوجوب أسوأ حالا؛ لأنه ينتزع من
تعلق البعث بالشيء، ولا يعقل أن يترشح بعث من بعث آخر، كما هو واضح. (مناهج
الوصول 1: 335).
2 - شرح المولى صالح المازندراني على المعالم: 78 / السطر 1، وأضاف المحقق القمي (قدس سره)
في قوانين الاصول 1: 100 / السطر 11 قيد " لذاته " إلى آخر التعريف.
117

والأولى أن يقال: إن ما يتوقف عليه الشيء إما أن يكون ما منه الوجود،
وهو الذي يكون المعلول أثره ومقتضاه، وهو السبب والمقتضي؛ أو لا يكون منه
الوجود، بل يكون به الوجود. وهو إما يكون بوجوده دخيلا في تحقق المعلول،
أو بعدمه، أو بوجوده وعدمه، فالأول الشرط، والثاني المانع، والثالث المعد.
ولا يخفى: أن المقصود من كون العدم دخيلا، هو مضادة وجود المانع
وممانعته للوجود، ولما كان كذلك يقال: إن عدمه دخيل، وإلا فليس العدم دخيلا
حقيقة في شيء. كما أن المراد من كون العدم والوجود دخيلين في المعد - مثل
الأقدام لتحقق الكون على السطح؛ فإنها بوجودها وعدمها تكون معدة - هو أن
الحركة بوجودها الاستمراري معدة، لا أن العدم دخيل. وفي الحقيقة: أن
الشرط إن كان من قبيل الحركة يقال له: المعد. ويمكن إرجاع غير السبب إلى
الشرط، والأمر سهل.
ثم إنه قد وقع بينهم نزاع في السبب والمسبب في الأفعال التوليدية - مثل
حركة اليد والمفتاح وفتح الباب - غير نزاع وجوب المقدمة، وهو أن الأمر
المتعلق بالمسبب بحسب ظاهر الدليل هل هو أمر بسببه لبا وحقيقة، أم لا، أو
يفصل بين الأسباب التي تكون آلة لإيصال قوة الفاعل إلى المسبب، كحركة اليد
والمفتاح، وبين غيرها، كالإحراق والإلقاء في المسبعة (1)؟
وتحقيق الحال يحتاج إلى مقدمة: هي أنه لا إشكال في أن الإرادة سبب
لوجود المسبب التوليدي، لكن السبب الذي هو محل الكلام هو الفعل الصادر من
الإرادة لانفسها، فإذا صدرت حركة اليد من إرادة الفاعل، وترتبت عليها حركة
المفتاح، وترتب عليها فتح الباب، تحققت امور ثلاثة:

1 - أوائل المقالات: 125، الموافقات في اصول الشريعة 1: 193 وما بعدها، درر الفوائد،
المحقق الحائري: 119 - 122.
118

أحدها: الحركة القائمة باليد.
الثاني: الحركة القائمة بالمفتاح.
الثالث: فتح الباب.
فقد تتعلق إرادة الفاعل استقلالا وأولا وبالذات بفتح الباب، وقد تتعلق
بحركة المفتاح مثل أن يتعلق غرضه بامتحان المفتاح، وقد تتعلق بحركة اليد
مثل أن يتعلق غرضه بامتحان قوة يده، فيحركها فيترتب على حركتها حركة
المفتاح، وعليها فتح الباب.
فهاهنا وجودات ثلاثة، وإيجادات ثلاثة؛ لأن الإيجاد والوجود واحد
حقيقة، متكثر اعتبارا؛ لأن الوجود إذا اعتبر في نفسه [فهو] وجود، وإذا اعتبر
انتسابه الصدوري [إلى] الفاعل [فهو] إيجاد، فلا يمكن أن يكون الوجود متعددا،
والإيجاد واحدا، بل هما في الوحدة والتعدد متكافئان.
لكن مع كونها وجودات وإيجادات، يكون انتسابها إلى الفاعل بواسطة
الإرادة الواحدة، المتعلقة بأقدم الأسباب؛ أي الفعل المباشري، فحركة اليد
متعلقة للإرادة بلا واسطة، وحركة المفتاح وفتح الباب منتسبان إليها مع
الواسطة، لا أن هاهنا إرادات ثلاثة مستقلة، بل إرادة واحدة متعلقة بالفعل
المباشري، وبالفعل التوليدي بواسطته، وبالمولد عن التوليدي بواسطة
التوليدي... إلى آخر الأسباب والمسببات.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنه قد استدل القائلون بلزوم صرف التكاليف
المتعلقة بالمسببات إلى أسبابها:
تارة: بعدم مقدورية المسببات (1).
وفيه: أن المقدور مع الواسطة مقدور.

1 - الموافقات في اصول الشريعة 1: 191 - 193.
119

وتارة: بأن التكليف لابد وأن يتعلق بالفعل الصادر من المكلف، وما هو
صادر منه هو السبب المباشري، دون غيره من الأسباب والمسببات المتأخرة
عنه (1).
وفيه: أنه إن اريد من الفعل الصادر منه ما هو صادر بلا واسطة،
فالكبرى ممنوعة؛ لعدم الدليل عليها، بل الضرورة قاضية بأن التكليف يحسن
تعلقه بما هو فعل اختياري له ولو مع الواسطة. وإن اريد منه ما هو صادر
مطلقا، فالصغرى ممنوعة؛ لقضاء الضرورة بصدور كل من الأسباب والمسببات
منه اختيارا.
ومنه يظهر الخلل في المؤيد الذي ذكروه: وهو أن الفاعل بعد إصدار الفعل
المباشري قد يموت قبل تحقق الفعل التوليدي، كما لو فرض موت الرامي قبل
إصابة السهم الغرض، فانتساب الفعل إلى الرامي انتساب إلى الميت، وهو باطل
بالضرورة (2).
وفيه: أن الانتساب إليه إنما هو بصدور الرمي منه وهو في حال حياته،
وأما المسبب فلا يكون بإرادة مستقلة، ولا بقوة فاعلة اخرى، وهو واضح.
فاتضح من ذلك: أنه لا وجه لصرف ظاهر الأدلة الدالة على تعلق
التكليف بالمسببات؛ ضرورة صحة التكليف بها، كما يصح بالأسباب.
ومما ذكرنا يعلم: أن مقارنة الأسباب والمسببات زمانا غير لازم، بل يمكن
انفكاكهما، كما أن التأخر الزماني أيضا غير لازم، نعم التأخر الرتبي للمسبب
- قضاء لحق المعلولية - لازم.
هذا حال الأسباب والمسببات التوليدية من الفواعل الطبيعية الواقعة في

1 - انظر درر الفوائد، المحقق الحائري: 20.
2 - نفس المصدر: 120.
120

عمود الزمان.
وأما الأسباب والمسببات في الفواعل الإلهية - التي يتقوم المسبب [فيها]
بالسبب، ويكون المسبب عين التعلق بسببه - فلا يمكن انفكاكهما زمانا، كما
لا يمكن الانفكاك بين العلة التامة ومعلولها مطلقا.
منها: تقسيمها إلى المقارن والمتقدم والمتأخر
وقد استشكل في الأخيرين: بأن المقارنة بين أجزاء العلة ومعلولها
لازمة؛ لاستحالة تأخر العلة عن المعلول، وكذلك تقدمها عليه، فأشكل الأمر
في المقدمة المتأخرة كالأغسال الليلية المعتبرة في صحة صوم المستحاضة
عند بعض (1) وكالإجازة في صحة العقد على الكشف (2)، وفي المقدمة
المتقدمة أيضا كالشرائط والمقتضيات والمتصرمات زمانا، والمتقضية أجزاؤها؛
لعدم بقائها حين العقد بجميع أجزائها المؤثرة في العقد، فيعم إشكال انخرام
القاعدة العقلية في غير الشروط والمقتضيات المقارنة (3).
والتحقيق في الجواب أن يقال: إن الموارد التي توهم ورود الإشكال، إما أن
يكون المتقدم أو المتأخر شرطا للتكليف، وإما شرطا للمكلف به، وإما لأمر
وضعي:
أما الأول: فكون شيء شرطا للتكليف - مثل الشرائط العامة، كالقدرة،
والتمييز بين الحسن والقبيح، وأمثال ذلك - إنما هو بمعنى دخالة الشرط في

1 - انظر مفتاح الكرامة 1: 397.
2 - انظر مفتاح الكرامة 4: 184 - 185، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 133 / السطر 19.
3 - كفاية الاصول: 118.
121

إمكان تعلق التكليف بالمكلف.
وبعبارة اخرى: لا يكون توجه التكليف إلى المكلف، وتعلقه بالمكلف به
- من المولى الحكيم - ممكنا، إلا مع شرائط وقيود في المكلف؛ من كونه قادرا
مميزا بين الحسن والقبح، وفي المكلف به؛ من كونه مقدورا ممكن التحقق،
ولا تكون تلك الشروط مؤثرة في وجود التكليف حتى يرد الإشكال؛ لاستحالة
دخالة ما هو من شرائط إمكان تعلق التكليف بالمكلف به أو توجهه إلى
المكلف في المؤثرية في وجوده، فعلل وجود التكليف امور اخرى كلها مقدمة
عليه، وأما تلك الشروط الدخيلة في إمكان التكليف، فلا محذور في تقدمها أو
تأخرها عنه، كما لا يخفى (29).

29 - إن ما يتراءى من تقدم الشرط على المشروط ليس شيء منها كذلك:
أما في شرائط التكليف كالقدرة المتأخرة بالنسبة إلى التكليف المتقدم، فلأن ما هو شرط
لتمشي الإرادة من الآمر والبعث الجدي هو تشخيص الآمر قدرة العبد مع سائر شرائط
التكليف في ظرف الإتيان، كانت القدرة حاصلة أولا، فإذا قطع المولى بأن العبد قادر غدا
على إنقاذ ابنه، يصح منه الإرادة والبعث الحقيقي نحوه، فإذا تبين عجز العبد لا يكشف
ذلك عن عدم الأمر والبعث الحقيقي في موطنه، بل يكشف عن خطائه في التشخيص،
وأن بعثه الحقيقي صار لغوا غير مؤثر. هذا حال الأوامر المتوجهة إلى الأشخاص.
وأما الأوامر المتوجهة إلى العناوين الكلية، مثل: (أيها الناس) و (أيها المؤمنون)،
فشرط تمشي الإرادة والبعث الحقيقي هو تشخيص كون هذا الخطاب صالحا لبعث من كان
واجدا - من بين المخاطبين - لشرائط التكليف، من غير لزوم تقييده بالقدرة وسائر الشرائط
العقلية، بل التقييد إخلال في بعض الموارد، فإذا علم المولى بأن إنشاء الأمر على العنوان
الكلي صالح لانبعاث طائفة من المكلفين كل في موطنه، يصح منه التكليف والأمر،
فشرط التكليف حاصل حين تعلق الأمر.
ولعله إلى ذلك يرجع كلام المحقق الخراساني، وإن كان إلحاق الوضع بالتكليف - كما
صنعه - ليس في محله. (مناهج الوصول 1: 340 - 341).
122

وأما الثاني: فكون شيء شرطا للمكلف به ليس بمعنى كونه مؤثرا في
وجوده، بل بمعنى أنه من حدوده وقيوده.
فتارة: يكون المكلف به هو عنوان " الصلاة " التي يقارنها الستر، أو يتقدم
عليها الوضوء مثلا، أو يتأخر عنها شيء، ومن هذا القبيل صوم المستحاضة؛ فإن
المأمور به هو الصوم المتقيد بكونه متعقبا بالأغسال الليلية.
وتارة: يتعلق التكليف بعنوان بسيط، غير منطبق بحسب الواقع إلا على
شيء، يكون مقارنا أو مسبوقا أو ملحوقا بشيء.
وكل ذلك مما لا إشكال فيه أصلا، وليس في البين تأثير وتأثر وعلية
ومعلولية.
ومن ذلك يعلم حال الوضع أيضا؛ فإن ما هو موضوع انتزاع النقل والانتقال
منه هو العقد المتعقب بالإجازة، وليس العقد من قبيل العلة المؤثرة؛ بمعنى ما
منه الوجود، بل هو موضوع لأمر اعتباري عند العقلاء بلا تأثير وتأثر في البين،
كما هو واضح (30).

30 - وهاهنا طريق آخر لدفع الشبهة وتحقيقه يتضح بعد مقدمة وهي: أن للزمان - بما أنه
أمر متصرم متجدد متقض بذاته - تقدما وتأخرا ذاتيا، لا بالمعنى الإضافي المقولي، وإن كان
عنوان المتقدم والمتأخر معنيين إضافيين، ولا يلزم أن يكون المنطبق عليه للمعنى الإضافي
إضافيا، كالعلة والمعلول؛ فإنهما بعنوانهما إضافيان، لكن المنطبق عليهما؛ أي ذات المبدأ
تعالى - مثلا - ومعلوله، لا يكونان من الامور الإضافية، وكالضدين؛ فإنهما مقابل
المتضايفين، لكن عنوان الضدية من التضايف، وذات الضدين ضدان.
فالزمان - بهويته التصرمية - متقدم ومتأخر بالذات، والزمانيات متقدمة بعضها على
بعض بتبع الزمان؛ فإن الهوية الواقعة في الزمان الماضي بما أن لها نحو اتحاد معه،
تكون متقدمة على الهوية الواقعة في الزمان الحال، وهي متقدمة على الواقعة في
الزمان المستقبل، وهذا النحو من التقدم التبعي ثابت لنفس الهويتين؛ بواسطة وقوعهما في
الزمان المتصرم بالذات، وليس من المعاني الإضافية والإضافات المقولية. فالحوادث
الواقعة في هذا الزمان متقدمة بواقع التقدم - لا بالمفهوم الإضافي - على الحوادث الآتية،
لكن بتبع الزمان.
إذا عرفت ذلك يمكن لك التخلص عن الإشكال؛ بجعل موضوع الحكم الوضعي والمكلف
به هو ما يكون متقدما بحسب الواقع على حادث خاص، فالعقد الذي هو متقدم بتبع
الزمان على الإجازة تقدما واقعيا، موضوع للنقل، ولا يكون مقدما عليها بواقع التقدم التبعي
إلا أن تكون الإجازة متحققة في ظرفها، كما أن تقدم الحوادث اليومية إنما يكون على
الحوادث الآتية، لا على ما لم يحدث بعد من غير أن تكون بينها إضافة كما عرفت.
وموضوع الصحة في صوم المستحاضة ما يكون متقدما تقدما واقعيا؛ تبعا للزمان على
أغسال الليلة الآتية، والتقدم الواقعي عليها لا يمكن إلا مع وقوعها في ظرفها، ومع عدم
الوقوع يكون الصوم متقدما على سائر الحوادث فيها، لا على هذا الذي لم يحدث،
والموضوع هو المتقدم على الحادث الخاص.
وبما ذكرنا يدفع جميع الإشكالات، وكون ما ذكر خلاف ظواهر الأدلة مسلم، لكن الكلام
هاهنا في دفع الإشكال العقلي، لا في استظهار الحكم من الأدلة. (مناهج الوصول 1:
341 - 343).
123

نعم، قد تكون الشروط من أجزاء العلة التي منها الوجود، وحينئذ فتقدمها
الطبعي على المعلول مما يحكم به العقل، أما مقارنتها الزمانية في غير الزمانيات
فمما لا معنى لها، وأما فيما هو واقع في سلسلة الأزمان، فلزوم المقارنة بينه
وبين المعلول محل تأمل وإشكال، تأمل.
إذا عرفت ما تلوناه عليك فاعلم: أن الكلام واقع في أن شروط المأمور به -
التي هي من قيوده - هل هي واجبة بالوجوب الترشحي المقدمي - كما في
المقدمات الوجودية الخارجية على القول بوجوبها (1) - أم هي واجبة بعين

1 - اختاره الأكثر كما في معالم الدين: 57، الوافية في اصول الفقه: 219 وغيرهما.
124

وجوب ذي المقدمة (1) كالمقدمات الداخلية على ما عرفت حالها؟
الحق هو الثاني؛ لأن التقيدات المأخوذة في المأمور به موجودة بعين
وجود القيود، لا بوجود آخر، ويكون الوجوب المنبسط عليها منبسطا على القيود
أيضا، ولا يكون لها وجوب على حدة، فحالها حال المقدمات الداخلية التي
عرفت أنها واجبة بعين وجوب ذيها.
الأمر الثالث: في أقسام الواجب
قد عرف الواجب: بما يستحق على فعله الثواب، وعلى تركه العقاب (2).
وهذا لازم المعنى، كما لا يخفى.
والأولى تعريفه: بأنه ما تتعلق به الإرادة المؤكدة، وقد ذكرنا سابقا
حال الإرادة في الواجب والمستحب، فراجع.
وكيف كان، فقد قسم الواجب بتقسيمات:
منها: تقسيمه إلى المطلق والمشروط
وقد عرفهما القوم بتعريفات شتى، وأطالوا النقض والإبرام في أطرافها.
فقيل: إن المطلق ما لا يتوقف وجوبه على شيء (3).
وقيل: هو ما لا يتوقف وجوبه على شيء سوى الشرائط العامة (4).

1 - مطارح الأنظار: 90 / السطر 33، كفاية الاصول: 159.
2 - انظر المستصفى من علم الاصول 1: 27 / السطر 6، ونهاية الوصول: 9 / السطر 15،
وشرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 81.
3 - ضوابط الاصول: 70 / السطر 31.
4 - كذا عرفه عميد الدين في شرحه على التهذيب كما في مطارح الأنظار: 43 / السطر 2،
واختاره في الفصول الغروية: 79 / السطر 21.
125

وقيل: ما لا يتوقف وجوبه على ما يتوقف عليه وجوده (1).
والمشروط في كل من التعاريف مقابل المطلق.
والحق: ما أفاد المحقق الخراساني (رحمه الله): من أن الإطلاق والاشتراط وصفان
إضافيان، ومن قبيل المتضايفين، وهما لا يجتمعان في موضع واحد بجهة واحدة،
كالابوة والبنوة اللتين لا تجتمعان في موضع واحد باعتبار واحد، وأما بجهتين فلا
مانع من اجتماعهما، فيمكن أن يكون شخص واحد أبا وابنا من جهتين، والمطلق
والمشروط من هذا القبيل؛ فإن كل شيء يلاحظ مع الواجب، فإما أن يكون
وجوبه بالنسبة إليه مشروطا، أو لا.
والثاني مطلق بالإضافة إليه، وإن أمكن أن يكون مشروطا بالإضافة إلى
غيره (2) وهذا واضح.
والظاهر أن تخصيص التفتازاني وبعض آخر الكلام بالمقدمات الوجودية
- حيث عرفوه: بما لا يتوقف وجوبه على ما يتوقف عليه وجوده - ليس لأجل أن
في المطلق والمشروط اصطلاحا خاصا؛ بل لأن كلامهم لما كان في وجوب
المقدمة، وكانت المقدمة الوجودية التي هي مقدمة للوجوب أيضا من
مستثنيات وجوب المقدمة، خصصوا الكلام بذلك، وإلا فليس في البين اصطلاح
خاص، ولا ينبغي النقض والإبرام فيما لا تترتب عليه ثمرة مهمة.
ثم الظاهر من الفقهاء والاصوليين والمتكلمين وكل من تصدى لبيان
الواجب المشروط، هو رجوع الشرط إلى الهيئة (3) إلى زمن الشيخ (قدس سره) وهو أيضا

1 - نسبه في المطارح: 43 / السطر 4 إلى التفتازاني والمحقق الشريف واختاره المحقق
القمي في قوانين الاصول 1: 100 / السطر 4 مع قيد: " وإن كان في العادة أو في نظر الآمر ".
2 - انظر كفاية الاصول: 121.
3 - تقدمت الإشارة لبعض المصادر في الحواشي السابقة، وانظر أيضا المبسوط 3: 22 في
قوله (قدس سره): وما كان واجبا... لا يجوز أن يتعلق وجوبه بشرط مستقبل.
126

اعترف بأن مقتضى القواعد العربية رجوعه إليها، كما أن المتفاهم العرفي ذلك (1)
إلا أنه أشكل فيه على ما في تقريرات بحثه.
وما يمكن أن يكون وجه الإشكال امور:
منها: أن الطلب عقلا لابد وأن يتعلق بالمادة لبا؛ لأن العاقل إذا توجه إلى
شيء، فإما أن يكون مما فيه المصلحة مطلقا، فيصير متعلقا لشوقه وإرادته
وطلبه كذلك، وإما أن تكون فيه مصلحة على تقدير خاص. وذلك التقدير: تارة
يكون من الامور الاختيارية، واخرى لا يكون كذلك. وما كان من قبيل الأول: قد
يكون مأخوذا على نحو يكون موردا للتكليف، أو لا.
وعلى أي حال: يتعلق الشوق والإرادة والطلب به على نحو ما يكون فيه
المصلحة، ولا معنى لعدم تعلق الإرادة والطلب به، وتوقفه على شيء (2).
ومحصل مرامه: أن الأوامر إنما تتعلق بالمتعلقات لأجل المصالح
الكامنة فيها، وفي الواجبات المشروطة لابد وأن تتعلق بالمقيد؛ لكون
المصلحة فيه دون المطلق.
لكن لما أشكل الأمر في القيود الاختيارية من أن تعلق الأمر بالمقيد بها
مستلزم لوجوب تحصيل القيد أيضا؛ لأن الطلب المطلق إذا تعلق بالمطلوب المقيد
يجب تحصيل قيده بلا إشكال، مع أن في الواجبات المشروطة لم يكن تحصيل
الشرط واجبا بالضرورة.
فأجاب عنه: بأن المصلحة كما أنها قد تكون في المقيد بنحو يكون القيد
موردا للتكليف كما في الصلاة المقيدة - بالوضوء والغسل، فإنهما دخيلان في
المصلحة، فتعلق التكليف بهما - كذلك قد تكون في المقيد بنحو يكون القيد غير

1 - مطارح الأنظار: 52 / السطر 24 و 53 / السطر 7.
2 - انظر مطارح الأنظار: 52 / السطر 35.
127

مكلف به، عكس الصورة المتقدمة، كما في الحج المقيد بالاستطاعة،
فالاستطاعة وإن كان تحصيلها من الامور الاختيارية القابلة لتعلق التكليف بها،
لكن المصلحة إنما هي في الحج المقيد بالاستطاعة، التي اخذت على نحو لم
يتعلق التكليف بها؛ أي حصولها من باب الاتفاق مثلا، فالطلب المتعلق بالحج
المقيد لا يسري إلى القيد؛ لقيام المصلحة [به] بهذا النحو.
هذا ملخص ما أفاده المقرر (رحمه الله).
ويرد عليه: - مضافا إلى أن عدم كون شيء موردا للتكليف ليس من الامور
الدخيلة في المصلحة؛ فإن الأعدام لا معنى لدخالتها في شيء، بل هذا في
الحقيقة يرجع إلى أن نفس ذات المقيد مصلحة؛ بلا دخالة شيء آخر فيها،
فقياس ذلك على مورد يكون الأمر العبادي دخيلا في المأمور به كالوضوء
والغسل، ليس على ما ينبغي - أن لرجوع القيود إلى الواجب أو إلى الوجوب
ملاكات بحسب مقام الثبوت والواقع، لا يمكن التخلف عنها، فلابد أولا من بيان
تلك الملاكات الواقعية؛ حتى يتضح الأمر، ويرتفع الخلط.
فنقول: إن الأوامر قد تتعلق بالمتعلقات لغرض جلب المنافع الكامنة
فيها، وقد تتعلق لغرض دفع المفاسد والمضار، فكل قيد يكون دخيلا بحسب
الثبوت في جلب المنافع أو دفع المضار - بحيث يكون المتعلق بلا تقيده به
لا يجلب المصلحة، أو لا يدفع المفسدة - لابد وأن يرجع إلى الواجب لا الوجوب؛
فإن الوجوب والإيجاب آلة لتحصيل تلك المصلحة أو دفع المفسدة، ووسيلة
لإيصالها إلى العباد محضا، وأما المصلحة فقائمة بنفس المقيد بما أنه مقيد،
ففي مثل تلك الموارد يرجع القيد إلى الواجب والمادة، لا الوجوب والهيئة، فلو
فرض أن الصلاة لا تكون بنفس ذاتها بلا تقيدها بالطهارة ذات مصلحة، لا يعقل
تعلق الطلب بها بنحو الإطلاق، كما لا يعقل أن يكون الطلب المتعلق بها مشروطا،
128

بل الطلب المطلق يتعلق بالصلاة المقيدة بها.
هذا ملاك القيود التي لابد من إرجاعها إلى المادة لبا (31).
وأما ملاك القيود التي لا يعقل رجوعها إليها، بل لابد من رجوعها إلى
الهيئة بحسب الثبوت، فإنما يكون في موارد:
الأول: ما إذا كانت المصلحة في فعل مطلقا وبلا شرط، ولكن يكون في
بعث المولى نحوه بنحو الإطلاق مانع، كموارد عجز المكلف وجنونه، أو كونه
غير مميز، أو كونه غافلا أو نائما... إلى غير ذلك من موارد قصوره، فإذا كان الفعل
على نحو الإطلاق ذا مصلحة، فلا يمكن أن يرجع القيد إلى المادة عقلا؛ ضرورة
عدم دخالة تلك القيود في المصلحة، فلا معنى لتقيدها بها، ولما لم يمكن أن
يتعلق البعث بالقاصر على نحو الإطلاق، فلابد وأن ترجع القيود إلى الوجوب لا
الواجب، وهذا واضح.
الثاني: ما إذا كانت المصلحة في ذات الفعل مطلقا بلا قيد وشرط، ويمكن

31 - اعلم: أن القيود الراجعة إلى المادة هي كل ما يكون بحسب الواقع دخيلا في تحصيل
الغرض المطلق، من غير أن يكون دخيلا في ثبوت نفس الغرض.
مثلا: قد يكون الغرض اللازم التحصيل هو الصلاة في المسجد - بحيث تكون الصلاة فيه
متعلقة لغرضه الذي لا يحصل إلا بها، كان المسجد متحققا أو لا - فلا محالة تتعلق
إرادته بها مطلقا، فيأمر بإيجاد الصلاة فيه، فلابد للمأمور - إطاعة لأمره - أن يبني
المسجد على فرض عدمه ويصلي فيه.
وقد يكون الغرض لا يتعلق بها كذلك، بل يكون وجود المسجد دخيلا في تحقق غرضه
- بحيث لو لم يكن ذلك، لم يتعلق غرضه بالصلاة كذلك، بل قد يكون وجوده مبغوضا له،
لكن على فرض وجوده تكون الصلاة فيه متعلقا لغرضه - فلا محالة تتعلق إرادته بها
على فرض تحقق المسجد، ففي مثله يرجع القيد إلى الهيئة.
ثم إن للقيود الراجعة إلى الهيئة موارد اخر. (مناهج الوصول 1: 348)
129

أن يتعلق الأمر به على نحو الإطلاق، لكن لطف المولى بالعبد يقتضي أن يتعلق
الطلب به على نحو خاص، ويجعل للوجوب شرطا أو شرائط؛ لأجل التسهيل
على العباد والتوسعة عليهم، أو لأن المولى يرى أن الأمر إذا تعلق بالفعل بنحو
الإطلاق يقع نوع المكلفين في المعصية، فلأجل لطفه عليهم يشترط وجوبه
بشرائط تسهل الأمر عليهم، فلو فرض أن في الحج مصلحة مطلقا، كان المكلف
مستطيعا شرعا أو لا، وفي الزكاة مصلحة، بلغ المال الزكوي حد النصاب أو لم
يبلغ، لكن مصلحة التسهيل واللطف الإلهي اقتضت أن يشترط الوجوب
بالاستطاعة وبلوغ النصاب، ففي مثل تلك الموارد لا يمكن أن يتوجه القيد إلى
الواجب والمادة؛ فإن القيد لا دخالة له في المصلحة بالفرض، فلا معنى
لتقيدها به، بل المانع في الإيجاب والأمر على نحو الإطلاق.
الثالث: - وهو أوضح الموارد - أن لا يكون الغرض من الأمر جلب
المنافع، بل الغرض منه دفع منقصة متوجهة إلى العبد، أو رفع مفسدة ابتلى بها،
كما في باب الكفارات.
مثلا: لو فرض أن الظهار، أو الإفطار متعمدا في شهر رمضان، وحنث النذر
والعهد، والصيد حال الإحرام... وأمثال ذلك، توجب منقصة للعبد لا تنجبر إلا
بالكفارات، فلابد من تعلق الطلب بالكفارات بعد تحقق تلك المنقصة؛ لأجل رفعها.
ولا يعقل أن ترجع الشروط والقيود الكذائية إلى المادة، ولا يعقل أن يتقيد
المكلف به بتلك القيود؛ فإنها موجبة للمنقصة، ولا يعقل دخالتها في رفعها،
فلا يمكن أن يقال: إن المصلحة قائمة بالكفارة المقيدة بإفطار شهر رمضان، ففي
قوله: " إن أفطرت متعمدا وجبت الكفارة " (1) لابد وأن يرجع الشرط إلى الهيئة،

1 - هذا مضمون الروايات الواردة في المقام فانظر وسائل الشيعة 7: 28، كتاب الصوم،
أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 8.
130

ولا يعقل رجوعه إلى المادة.
وإن شئت فانظر إلى الأمثلة العرفية، مثل قول الطبيب للمريض: " إذا
مرضت فاشرب الدواء " فهل يمكن أن يقال: إن الأمر تعلق بشرب الدواء المتعقب
بالمرض، وإن المرض له دخالة في المصلحة أو دفع المفسدة؟! تدبر ولا تغفل.
إذا عرفت ما ذكرنا: من حال القيود في عالم اللب والثبوت، وأن بعضها
يرجع إلى المادة، وبعضها إلى الهيئة، ومعلوم أن مقتضى القواعد العربية (1)
والمتفاهم العرفي رجوع القيود إلى الهيئات، فلابد مع عدم إحراز الرجوع إلى
المادة [من] إرجاعها إلى الهيئة لا المادة في مقام الإثبات؛ ضرورة أن إفهام مثل
هذا المعنى؛ أي الوجوب المشروط، من ضروريات أهل اللسان، فحكمة الوضع
تقتضي أن يكون بإزاء هذا المعنى - الذي هو مورد الاحتياج كثيرا في
المحاورات - لفظ دال عليه، فالشبهات الواردة في المورد من قبيل الشبهة في
مقابل البديهة، مع أنها كلها قابلة للدفع:
منها: أن الهيئة لما كانت آلة إيجاد الطلب وتحققه، لا يمكن أن تكون
معلقة ومشروطة بشيء؛ فإن الإيجاد هو المساوق للوجود والتحقق، والتعليق
هو اعتبار اللا تحقق، وهما لا يجتمعان (2).
والجواب عنه: أن الإيجاد الاعتباري أمره سهل، والمغالطة إنما وقعت
من اشتباه الأمر المحصل بالأمر الاعتباري، وإلا فالإيجاد الاعتباري قابل

1 - انظر شرح الكافية 2: 108 / السطر 28، ولا يبعد أن يكون المراد هو الظهور العرفي
للقضية الشرطية في أن الطلب معلق على المجيء، لا أن الواجب مقيد والطلب مطلق،
فيكون عطف المتفاهم العرفي على القواعد العربية من العطف التفسيري. انظر كفاية
الاصول: 121.
2 - ذكره المحقق المشكيني في حاشيته على الكفاية بقوله: " الثاني: إن... " 1: 154.
131

للإطلاق والاشتراط والتعليق.
ومنها: أن الهيئة من المعاني الحرفية، فلا يعقل أن تكون مستقلة
باللحاظ، مع أنه لابد في الاشتراط والتعليق من اللحاظ الاستقلالي في
المشروط والمعلق (1).
والجواب: أنها قابلة للحاظ ولو بنظرة ثانية، مع أن لنا أن نقول بمقالة
المحقق القمي (رحمه الله)؛ من أن حقيقة الاشتراط هي رجوع الشرط إلى المكلف،
وتنويع المكلفين إلى نوعين (2) فقوله: (لله على الناس حج البيت من استطاع إليه
سبيلا) (3) أن المستطيع يجب عليه الحج، كما أن الظاهر من الآية الشريفة ذلك
أيضا؛ فإن الموصول بدل [من] الناس بدل الجزء من الكل.
وبالجملة: في جميع الموارد التي ترجع القيود فيها إلى الهيئة، يمكن
التخلص عن كافة الإشكالات بإرجاع القيود إلى المكلفين.
ومنها: أن الهيئة جزئية حقيقية؛ فإن الوضع فيها عام، والموضوع له
خاص، ولا يمكن تقييد الجزئيات الحقيقية (4).
والجواب أولا: بمنع الصغرى (32). وثانيا: برجوع الشرط إلى المكلف، كما

1 - حاشية كفاية الاصول، المحقق المشكيني 1: 154 عند قوله: " الثالث... ".
2 - قوانين الاصول 1: 124 / السطر 11.
3 - آل عمران (3): 97.
4 - مطارح الأنظار: 45 / السطر 32 و 52 / السطر 32.
32 - التحقيق: أن هيئات الأفعال حروف، لها معان حرفية غير مستقلة بالمفهومية
ولا بالموجودية، ويكون وضعها كالحروف عاما والموضوع له خاصا.
أما كون معانيها حرفية؛ فلأن هيئة الماضي وضعت للحكاية عن تحقق صدور الحدث من
فاعل على ما هو عليه؛ من أن الصدور وتحققه يكون بتبع الفاعل، أو للحكاية عن الكون
الرابط أي حلول الحدث في الفاعل، كبعض الأفعال اللازمة، ك‍ " حسن وقبح "، وبالجملة:
الهيئات موضوعة لتحقق المعاني الربطية بالحمل الشائع. (مناهج الوصول 1: 205).
راجع حول وضع الحروف إلى مناهج الوصول 1: 68 - 72.
132

عرفت (33).
وبالجملة: لا محيص عن رجوع القيد إلى الوجوب، ولابد من رد
الشبهات الواردة في مقابل الحقيقة الرائجة، تدبر ولا تغفل.
ومنها: تقسيمه إلى المعلق والمنجز
وهذا تقسيم واصطلاح من صاحب " الفصول " (رحمه الله). قال في ما ملخصه:
وينقسم باعتبار آخر إلى ما يتعلق وجوبه بالمكلف، ولايتوقف حصوله
على أمر غير مقدور له كالمعرفة، وليسم منجزا. وإلى ما يتعلق وجوبه به،
ويتوقف حصوله على أمر غير مقدور له، وليسم معلقا كالحج؛ فإن وجوبه في
أول زمن الاستطاعة، ويتوقف فعله على مجيء وقته، وهو غير مقدور. والفرق
بين هذا النوع وبين الواجب المشروط هو أن التوقف هناك للوجوب، وهنا
للفعل (2).
ثم شرع في سد ثغوره بما محصله: أن الوجوب في الواجب المعلق حالي،
والواجب استقبالي، والوجوب الحالي إنما هو مشروط بأمر انتزاعي متحقق في
الحال، وإن انتزع من أمر متأخر، فوجوب الحج قبل مجيء ذي الحجة معلق على
أمر انتزاعي؛ هو كون المكلف بحيث يدرك ذا الحجة قادرا على الحج، وهذا

33 - جوابنا: أن تعليق الجزئي وتقييده ممكن واقع، فزيد قابل للتقييد بالنظر إلى طوارئه؛ ولهذا
تجري فيه مقدمات الحكمة إذا وقع موضوعا للحكم. (مناهج الوصول 1: 352).
2 - الفصول الغروية: 79 / السطر 36.
133

الأمر الانتزاعي صادق على المكلف في الحال، وإن كان انكشافه في الاستقبال،
فلا يكون الزمان المقدم ظرفا للوجوب والواجب؛ حتى يلزم التكليف بالمحال،
ولا يكون نفس بلوغ المكلف إلى الوقت شرطا للوجوب؛ حتى يتعلق الوجوب به
بعد حضور الوقت، بل الشرط هو هذا الأمر الانتزاعي المتحقق في الحال
والمنطبق على المكلف، ويكون الوجوب - لأجل حصول شرطه - حاليا،
والواجب استقباليا.
والفرق بين الواجب المعلق والمشروط: أن الأول مشروط بأمر انتزاعي،
والثاني مشروط بنفس الأمر الخارجي، ففرق إذا بين قول القائل: " إذا دخل وقت
كذا فافعل كذا " وبين قوله: " افعل كذا في وقت كذا " فإن الأول جملة شرطية،
مفادها تعلق الأمر والوجوب بالمكلف عند دخول الوقت، والثاني جملة طلبية
مفادها إلزام المكلف بالفعل في الوقت الآتي.
ومن هذا النوع كل واجب مطلق توقف وجوده على مقدمات مقدورة غير
حاصلة، فإنه يجب قبل وجود المقدمات إيجاد الفعل بعد زمن يمكن إيجادها
فيه، وإلا لزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا، أو التكليف بما
لا يطاق، وكلاهما ضروري الفساد (1).
ومحصل مرامه: أنه كما أن الحج قبل دخول ذي الحجة يكون واجبا
على من يدركه قادرا عليه، وظرف الإتيان هو ذو الحجة، فكذلك الصلاة في
أول الوقت واجبة على من يأتي بالمقدمات قادرا على إتيانها بعدها، فلا فرق بين
كون المكلف به غير ممكن الوجود [لأجل] تقيده بزمان استقبالي أو أمر آخر
استقبالي لم يكن تحت قدرة العبد، وبين كونه كذلك [لأجل] امتناع تحققه عقلا
قبل حصول المقدمات، ففي كليهما يكون الوجوب حاليا والواجب استقباليا.

1 - الفصول الغروية: 80 / السطر 1.
134

ثم شرع في بيان أمر آخر سيأتي في باب الترتب إن شاء الله تعالى (1).
فتحصل مما لخصنا من كلامه: أنه لم يقسم الواجب إلى المطلق
والمشروط، والمطلق إلى المعلق والمنجز، كما قيل (2).
وأيضا لم يجعل المعلق قسما ثالثا في مقابل المطلق والمشروط، بل هو
قسم الواجب - باعتبار - إلى المطلق والمشروط، وباعتبار آخر إلى المعلق
والمنجز، وباعتبار آخر إلى غيرهما.
وبما ذكرنا - من تصوير الواجب التعليقي، وأن ظرف الواجب في
الاستقبال، ولكن الوجوب حالي - اندفع الإشكال المعروف في وجوب بعض
المقدمات في الواجبات الموقتة قبل وقتها، كغسل الجنابة الذي هو شرط
لصحة الصوم، فإنه واجب قبل الفجر، مع أن وجوب الصوم من أول الفجر، فيلزم
وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها (3).
فأجاب عن الإشكال صاحب " الفصول " (رحمه الله): بكون الواجب في مثله
تعليقي (4).
وأجاب أخوه المحقق (رحمه الله) عنه: بأن الغسل واجب نفسي تهيئي (5).
وأجاب الشيخ العلامة (رحمه الله) عنه - بعد الإشكال على صاحب الفصول:
بعدم الفرق لبا بين المثالين المتقدمين؛ أي قوله: " إذا دخل الوقت " إلى آخره (6) -
بأن الوجوب في مثل تلك المقدمات لا يكون بملاك الوجوب الترشحي المقدمي،

1 - يأتي البحث عن الترتب في الصفحة 170.
2 - درر الفوائد، المحقق الحائري: 106.
3 - انظر منتهى المطلب 1: 93 / السطر 17، وجواهر الكلام 16: 246 - 247.
4 - الفصول الغروية: 79 - 80.
5 - هداية المسترشدين: 217 / السطر 35.
6 - مطارح الأنظار: 51 / السطر 30.
135

بل بملاك تفويت الواجب، فكما أن العقل يحكم بقبح مخالفة الواجب، كذلك
يحكم بقبح ترك أمر يفوت به الواجب، وإن لم يكن الوجوب في الحال، فترك
الغسل قبل وجوب الصوم موجب لتفويته، والعقل يحكم بوجوب إتيانه حتى
يتمكن من صوم اليوم (1).
هذا، ولا يخلو كلام الشيخ (رحمه الله) في المقام من تهافت مع ما اختاره في
الواجب المشروط (2)؛ فإن الوجوب المشروط - بما حققه - يكون كالوجوب
المعلق على مذهب صاحب " الفصول "، مع أن ما ذكره من حكم العقل بلزوم إتيان
أمثال ذلك لا بملاك المقدمية، بل بملاك آخر، في محل المنع (34).

1 - مطارح الأنظار: 53 / السطر 9.
2 - نفس المصدر: 46 / السطر 2.
34 - اعلم: أن الملاك في إرادة المقدمة هو علمه بتوقف التوصل إلى ذي المقدمة عليها، فإذا
كان ذو المقدمة مرادا فعليا فلا محالة تتعلق إرادة بما يراه مقدمة بملاك التوصل؛ بناء
على الملازمة.
وأما إذا فرض عدم تعلق إرادة فعلا بتحصيل ذي المقدمة فعلا، لكن يعلم المولى أنه عند
حصول شرطه مطلوب له لا يرضى بتركه، ويرى أن له مقدمات لابد من إتيانها قبل
حصول الشرط، وإلا يفوت الواجب في محله بفوتها، فلا محالة تتعلق إرادة آمرية
بتحصيلها؛ لأجل التوصل بها إليه في محله وبعد تحقق شرطه، لا لشيء آخر.
بل إذا علم المكلف بأن المولى أنشأ البعث على تقدير يعلم حصوله، ويرى أنه يتوقف
على شيء قبل تحقق شرطه؛ بحيث يفوت وقت إتيانه، يجب عليه عقلا إتيانه؛ لحفظ
غرض المولى في موطنه.
فإذا قال: " أكرم صديقي إذا جاءك "، ويتوقف إكرامه على مقدمات يكون وقت إتيانها قبل
مجيئه، يحكم عقله بإتيانها لتحصيل غرضه، بل لو كان المولى غافلا عن مجيء صديقه
لكن يعلم العبد مجيئه، وتعلق غرض المولى بإكرامه على تقديره، وتوقفه على مقدمات
كذائية، يحكم العقل بإتيانها لحفظ غرضه، ولا يجوز له التقاعد عنه. (مناهج الوصول
1: 357 - 358).
136

ثم إن هاهنا إشكالا على الواجب المعلق (1): وهو أن وزان الإرادة التشريعية
كوزان الإرادة التكوينية، طابق النعل بالنعل، وحذو القذة بالقذة، وهي في
الإمكان والامتناع تابعة للتكوينية، فكما أن الإرادة التكوينية ممتنعة التعلق
بأمر يكون متقيدا بشيء غير مقدور كالزمان المتأخر، أو أمر آخر لا يكون تحت
قدرة العبد، فكذلك الإرادة التشريعية التي هي بإزاء التكوينية.
والحاصل: أنه فرق بين الفعل المقيد بأمر غير مقدور - كالحج في ذي
الحجة قبل حضور الموسم - وبين الفعل الذي يكون مقدورا، لكن يتوقف على
مقدمات مقدورة تدريجية الحصول، ربما يطول إتيانها عدة ساعات أو أيام، ففي
الأول يمتنع تعلق الإرادة التكوينية الفعلية على إيجاد الفعل، وإنما تكون الإرادة
تعليقية مشروطة؛ بأنه " لو أدركت ذا الحجة مثلا قادرا على الحج لحججت "
بخلاف الثاني، فإن الإرادة الفعلية لا مانع من تعلقها به؛ فإن المقدور بالواسطة
مقدور، فقبل الزوال لا يمكن تعلق الإرادة الفعلية بإتيان الصلاة، خصوصا إذا لم
يكن لها مقدمات، أو كانت حاصلة، ويكون المكلف منتظرا لدخول الوقت،
فلا يمكن فعلية الإرادة ضرورة، وأما بعد تحقق الزوال فتتعلق الإرادة بها [وإن]
توقف وجودها على عدة مقدمات غير حاصلة تكون تحت قدرة العبد، كتحصيل
الساتر والماء وغيرهما من المقدمات؛ فإن الصلاة مقدورة مع القدرة على
مقدماتها، فتتعلق الإرادة بها.
هذا حال الإرادة التكوينية، والإرادة التشريعية مثلها طابق النعل بالنعل،

1 - ذكره باختصار في الفصول الغروية: 79 / السطر ما قبل الأخير، ثم أجاب عنه، وكذا
في كفاية الاصول: 130.
137

فلا يمكن تعلقها بأمر متأخر يتوقف حصوله على أمر غير مقدور - كالزمان
وشبهه - إلا على سبيل الاشتراط، ويمكن تعلقها بأمر متوقف على مقدمات
مقدورة.
فإذا فرق بين تأخر الفعل لأجل عدم حضور وقته، وتأخره لأجل التوقف
على مقدمات تدريجية مقدورة، تأمل (35).

35 - والجواب: أما عن الإرادة التكوينية، فغاية ما يمكن أن يقال في بيان كونها علة تامة
لحركة العضلات: إن القوى العاملة للنفس وآلاتها المنبثة هي فيها لما كانت تحت
سلطان النفس وقدرتها، بل هي من مراتبها النازلة وشؤونها، فلا يمكن لها التعصي على
إرادتها، فإذا أرادت قبضها، تنقبض، أو بسطها تنبسط، من غير تعص وتأخر مع عدم آفة
للآلات، هذا أمر برهاني ووجداني، لكن كون القوى تحت إرادة النفس وإطاعتها أنها إذا
أرادت تحريكها في الحال تحركت، لا عدم إمكان تعلق الإرادة بأمر استقبالي.
فما اشتهر بينهم - من أن الإرادة علة تامة للتحريك، ولا يمكن تخلفها عن المراد، حتى
أخذوه كالاصول الموضوعة، ونسجوا على منواله ما نسجوا - مما لم يقم عليه برهان إلا
ما ذكرنا، ولازم ذلك هو ما عرفت: من أن الإرادة إذا تعلقت بتحريك عضلة في الحال ولم
يكن مانع في البين، تتحرك إطاعة للنفس.
وأما عدم إمكان التعلق بأمر استقبالي، فيحتاج إلى برهان مستأنف، ولم يقم عليه، لو لم
نقل بقيامه على إمكانه، وقضاء الوجدان بوقوعه، كيف وإرادة الله - تعالى - قد تعلقت
أزلا بإيجاد ما لم يكن موجودا على الترتيب السببي والمسببي، من غير إمكان التغير
والحدوث في ذاته وإرادته، كما برهن عليه في محله؟! (مناهج الوصول 1: 360).
هذا كله في الإرادة التكوينية.
وأما التشريعية: فإمكان تعلقها بأمر استقبالي أوضح من أن يخفى ولو سلمنا امتناعه في
التكوينية؛ فإنها وإن تتعلق بالأمر لغرض البعث، ومعه لابد وأن يكون الانبعاث ممكنا،
لكن يكفي إمكانه على طبق البعث في إمكانه وصحته، والبعث إلى أمر استقبالي يقتضي
إمكان الانبعاث إليه لا إلى غيره، والأغراض المتعلقة للبعث في الحال كثيرة، بل قد
عرفت أن البعث القانوني لا يمكن إلا بهذا النحو، فلا ينبغي الإشكال فيه. (مناهج الوصول
1: 363).
138

فذلكة
وفذلكة مرام صاحب " الفصول ": أن اعتبار انقسام الواجب إلى المشروط
والمطلق غير اعتبار انقسامه إلى المنجز والمعلق، وإن كان المعلق قسما من
المشروط بحسب الواقع، لكن الاعتبارين مختلفان؛ فإن التعليق باعتبار كون
الواجب كأنه مراعى إلى حصول وقته، وإن كان الوجوب فعليا باعتبار اشتراطه
بأمر انتزاعي متحقق بالفعل، وإنما الباعث على هذا التقسيم عدم تصويره الشرط
المتأخر.
وأما نحن ففي فسحة من ذلك، فإن الشرط المتأخر مما لا مجال لإنكاره؛
ألا ترى أن القدرة على العمل شرط التكليف عقلا (36)، مع عدم لزوم كونها مقارنة
للتكليف، بل اللازم عقلا كون المكلف قادرا حين الإتيان، بل كل الأعمال
التدريجية مشروطة بالشرط المتأخر، وهو القدرة على العمل إلى تمامه.
والإيرادات التي أوردوا على صاحب " الفصول " (2) وإن لم تكن واردة
عليه، لكن يرد عليه - مضافا إلى عدم الداعي إلى هذا التقسيم بعد تصور الشرط
المتأخر - أن إشكال الشرط المتأخر وارد على الواجب التعليقي أيضا؛ فإن الامور

36 - راجع التعليقة 29.
2 - كإشكال الشيخ الأعظم على ما في مطارح الأنظار: 51 / السطر 24، وإشكال المحقق
صاحب الكفاية: 128 عند قوله: نعم يمكن أن يقال، وفي الصفحة: 130 عند قوله: ثم
لا وجه...، وإشكال المحقق النهاوندي في تشريح الاصول: 186 وما بعدها، وقد ذكر
المحقق المشكيني تسعة منها في حاشيته فراجع الكفاية 1: 161، 165.
139

الانتزاعية التي جعلها شروطا للواجب لا تكون شروطا بمفاهيمها، بل بوجوداتها،
ومعلوم أن الامور الانتزاعية موجوديتها بعين مناشئ انتزاعها، والغرض أن
المناشئ متأخرة وجودا.
وعلى أي حال: إن الإشكال المعروف - وهو وجوب المقدمة في بعض
الواجبات قبل وجوب ذيها - مرتفع؛ إما بتصوير الواجب التعليقي، أو بالالتزام
بالشرط المتأخر، أو بالالتزام بالوجوب النفسي لأجل الغير لو دل دليل عليه.
بقيت تتمات لعلنا نتعرض لها إن شاء الله تعالى.
ومنها: تقسيمه إلى الأصلي والتبعي (1)
وهذا تقسيم بحسب مقام الإثبات والدلالة، كما أن التقسيم إلى النفسي
والغيري بحسب مقام الثبوت والواقع.
فالأصلي - على ما عرفه المحقق القمي (رحمه الله) - هو ما فهم وجوبه من
خطاب مستقل غير لازم لخطاب آخر، وبعبارة اخرى ما يكون المتكلم قاصدا
لإفهامه من الكلام.
والتبعي بخلافه، مثل دلالة الإشارة، كأقل الحمل المفهوم من قوله
تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) (2)، وقوله: (وحمله
وفصاله ثلاثون شهرا) (3)، فإن دلالتها على أقل الحمل تكون بدلالة الإشارة،
ولا تكون مقصودة، والواجب التبعي أيضا كذلك (4).

1 - مطارح الأنظار: 78 / السطر 33، كفاية الاصول: 152.
2 - البقرة (2): 233.
3 - الأحقاف (46): 15.
4 - انظر قوانين الاصول 1: 100 / السطر 1 و 101 / السطر 17 و 102 / السطر 7 و 104 / السطر 11.
140

هذا، لكن يرد عليه: أن دلالة الإشارة إنما تتأتى فيما إذا كان للمدلول
واقع ونفس أمرية، مع قطع النظر عن الدلالة واللفظ، وأما فيما لا يكون كذلك،
كالإنشائيات التي لا تحصل لها إلا بنفس الإنشاء، ويكون استعمال ألفاظها في
معانيها استعمالا إيجاديا، فلا يتأتى فيها ذلك؛ فإن ما يكون تحصله متقوما
بالإنشاء لا يمكن فيه عدم إرادة الإفهام حتى يكون الإفهام بدلالة الإشارة؛ لأن
تحقق المعاني الإنشائية إنما يكون بالإنشاء والإيجاد المتقومين بالقصد، فكيف
يمكن مع عدم قصد الإفهام - الذي يرجع إلى عدم قصد الإنشاء، وإلى عدم
الإنشاء - تحقق ما هو متقوم ومتحقق به؟!
والشيخ المحقق الأنصاري - على ما في تقريرات بحثه - أرجع هذا
التقسيم إلى الثبوت واللب، لا الدلالة والإثبات، فحينئذ يرتفع الفرق بينه وبين
التقسيم إلى النفسي والغيري، فراجع (1) (37).

1 - مطارح الأنظار: 66 / السطر 9 و 78 / السطر 33 و 79 / السطر 9.
37 - والظاهر أن التقسيم إلى الأصلي والتبعي بحسب مقام الإثبات ولحاظ الخطاب، وهو
تقسيم معقول في مقابل سائر التقسيمات، وإن لا يترتب عليه أثر مرغوب فيه.
والمحقق الخراساني أرجعه إلى مقام الثبوت: بأن الشيء إذا كان متعلقا للإرادة والطلب
مستقلا - للالتفات إليه بما هو عليه مما يوجب طلبه، سواء كان طلبه نفسيا أو غيريا -
يكون الطلب أصليا، وإذا كان متعلقا لها تبعا لإرادة غيره - لأجل كون إرادته لازمة
لإرادته من دون التفات إليه بما يوجب إرادته - يكون تبعيا.
ولكن ورد عليه: أن الاستقلال إن كان بمعنى الالتفات التفصيلي يكون في مقابله
الإجمال والارتكاز، لا عدم الاستقلال بمعنى التبعية، فيكون الواجب النفسي - أيضا -
تارة مستقلا، وتارة غير مستقل، مع أنه لا شبهة في أن إرادته أصلية لا تبعية، وإن كان
بمعنى عدم التبعية فلا يكون الواجب الغيري مستقلا، سواء التفت إليه تفصيلا أولا. (مناهج
الوصول 1: 406)
141

ومنها: تقسيمه إلى النفسي والغيري
وقد عرف النفسي: بما امر به لأجل نفسه، والغيري: بما امر به لأجل
غيره (1).
واشكل عليه: بأن جل الواجبات - إن لم يكن الكل - مطلوبات لأجل
الغايات الخارجية، فيلزم أن تكون واجبات غيرية، وهو كما ترى (2).
وما قيل: من أن الغايات لا يتعلق بها الطلب؛ لكونها غير اختيارية (3)،
مدفوع: ضرورة كونها تحت الاختيار ولو مع الواسطة، فإن القدرة على السبب
قدرة على المسبب، وإلا لما صح وقوع مثل التطهير والتزويج والتمليك وأمثالها
موردا للأحكام التكليفية.
كما أن ما قيل: من أنه لا يلزم أن يكون الغير - الذي يكون لأجله هذا
المراد - مرادا أيضا؛ حتى يرد الإشكال، مدفوع أيضا: بأن ما تتعلق به الإرادة
لأجل غيره، لابد وأن ينتهي إلى ما تتعلق به الإرادة لأجل ذاته؛ فإن كل ما
بالعرض لابد وأن ينتهي إلى ما بالذات، وإلا لتسلسل. فالمراد بالذات هو أول
سلسلة المرادات، وتتعلق به الإرادة أولا، ثم تنشأ منها إرادة إلى مقدمته، ومن
مقدمته إلى مقدمة مقدمته... وهكذا حتى ينتهي إلى ما لا مقدمة له، فتنقطع
السلسلة، فما تتعلق به الإرادة آخرا يتعلق به الإيجاد أولا.
والتحقيق في الجواب أن يقال: إن الواجبات النفسية هي ما تكون واجبة

1 - هداية المسترشدين: 193 / السطر 6، الفصول الغروية: 80 / السطر 37.
2 - مطارح الأنظار: 66 / السطر 21، وقد ذكره المحققان صاحبا الفصول والهداية وأجابا
عليه، فانظر الفصول الغروية: 80 / السطر 38، وهداية المسترشدين: 193 / السطر 7.
3 - مطارح الأنظار: 66 / السطر 14.
142

لأجل ذاتها، لا لأجل بعث آخر، ويكون بعث المولى متعلقا بها أولا، ويكون لها
استقلال في عالم البعث والطلب وإن كان تترتب عليها فوائد.
بخلاف الواجبات الغيرية، فإن الطلب الغيري طلب فان في الغير مترشح
عنه مستظل به غير مستقل في عالم البعث، فالبعث في الواجبات الغيرية يكون
ظل بعث آخر وفيئه؛ بحيث يمكن أن يقال: إنه ليس بطلب وبعث باعتبار،
ويمكن أن يقال: إنه بعث مندك في بعث، فيمكن أن يقال: أن لا بعث إلا إلى ذي
المقدمة، ويكون البعث إلى المقدمات بعين البعث إلى ذيها، لا أن لها بعثا مستقلا
منظورا إليه، بخلاف البعث إلى ذي المقدمة، فإنه مستقل منظور إليه ولو لأجل
ترتب فوائد عليه (38).

38 - قد مر الكلام في عدم ترشح الإرادة والوجوب عن غيرهما (الصفحة 88، الهامش 39).
والصحيح: أن إرادة الفاعل والآمر لشيء وإن كانت لأغراض متصاعدة إلى أن تبلغ مقصودا
بالذات، لكن تقسيم الواجب إلى أقسامه ليس باعتبار الإرادة أو الغرض؛ فإنهما خارجان
عن اعتبار الوجوب والواجب، بل تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري باعتبار تعلق البعث
والوجوب، فقد يتعلق البعث بشيء لأجل التوصل إلى مبعوث إليه فوقه وتوقفه عليه،
وقد يتعلق به من غير أن يكون فوقه مبعوث إليه، فالأول غيري، والثاني نفسي.
ولا يرد على هذا ما قد يقال: من أن الواجبات مطلقا مطلوبة لأجل التوصل إلى أغراض
ولأجل حصول ملاكات، فتكون كلها غيريات؛ وذلك لأن التقسيم باعتبار الوجوب والبعث،
من غير دخالة الأغراض والملاكات فيه.
فإذا أمر المولى ببناء مسجد ولم يكن فوق ذلك أمر متوجه إلى المأمور، يكون ذلك نفسيا
وإن كان لأجل غرض، وإذا أمر ذلك المأمور بإحضار الأحجار والأخشاب لأجل التوصل
إلى ذلك المبعوث إليه وتوقفه عليها، يكون غيريا، لكن إذا صدر منه أوامر ابتداء إلى
أشخاص، فأمر شخصا بشراء الأحجار، وآخر بإحضارها، وثالثا بتحجيرها وتنقيشها،
تكون تلك الأوامر نفسية، وإذا أمر لأجل التوصل إلى تلك المبعوث إليها يكون غيريا، مع
أن كلها لأغراض، وهي ترجع إلى غرض أقصى فوقها، والأمر سهل. (مناهج الوصول 1:
371 - 372)
143

هذا، وقال المحقق الخراساني (رحمه الله) في رفع الإشكال ما محصله: إن
الواجبات التي لها آثار وخواص مطلوبة، يتعلق الطلب بها لأجل تلك الآثار
والخواص، وإن كانت واجبات غيرية بهذا اللحاظ، لكن لا ينافي ذلك أن تكون لها
عناوين حسنة منطبقة عليها، تكون بواسطتها واجبات نفسية. فالفرق بين
الواجب النفسي والغيري: أن الغيري ما يكون وجوبه لأجل التوصل إلى الغير بما
أنه متوصل به إليه، وهذا لا ينافي أن تكون له جهة نفسية أيضا، يكون بها
واجبا نفسيا (1).
وفيه: أن تلك الواجبات التي يدعى أن لها جهة نفسية وغيرية، إما أن
تكون بالنسبة إلى الغير من قبيل الأسباب بالنسبة إلى المسببات، كحركة اليد
والمفتاح، [فحينئذ يكون صدور المسببات بنفس إرادة أسبابها، لا بإرادة اخرى
مستقلة، فلا يكون الثابت إلا وجوبا واحدا، لا وجوبين: نفسي وغيري.
وإما أن تكون جزء المؤثر في وجود الغير، ويكون الجزء الآخر للعلة
خارجا عن قدرة المكلف، فحينئذ لا يكون الغير مقدورا للمكلف، فكيف يتعلق به
وجوب نفسي؟!] (2).
حكم الشك في النفسية والغيرية
ثم إنه لا إشكال فيما إذا علم أحد القسمين، وأما مع الشك في واجب بأنه

1 - كفاية الاصول: 136.
2 - ما بين المعقوفتين إضافة مستفادة من تقريرات بعض مقرري بحث آية الله البروجردي،
ولم يكمل الإشكال في المخطوط.
144

نفسي أو غيري، فقد قال المحقق الخراساني (رحمه الله) في بحثه: إن مقتضى الإطلاق
هو الحمل على النفسية (1)؛ سواء كان ذلك الغير واجبا في بعض الأحيان وغير
واجب في بعضها، أو كان واجبا على كل حال.
أما في الأول فواضح؛ أن إطلاق الهيئة يقتضي أن يكون هذا واجبا، وجب
غيره أو لم يجب.
وأما في الفرض الثاني؛ فلأن مطلق اشتراط شيء بشيء آخر تقييد
لإطلاقه، وأصالة الإطلاق ترفع الشك في التقييد.
هذا مضافا إلى أن الوجوب منصرف إلى النفسي.
وفيه: أن ما أفاد في الشق الثاني - من تقييد الوجوب الغيري - غير
معقول؛ لأن الوجوب الغيري ناش من النفسي ومعلول له، ولا يمكن أن يتقيد
المعلول بعلته؛ للزوم تجافي العلة عن محلها، فالبعث الغيري المتأخر عن
البعث النفسي لا يمكن تقيده به... للزوم تأخر الشيء عن نفسه ومحله.
وأما الانصراف الذي ادعاه فهو في محله، لكن على ما قررنا من الفرق بين
النفسي والغيري؛ فإن الواجب الغيري هو الواجب الفاني في الغير، ولا نفسية له
أصلا، والواجب منصرف عنه، كما لا يخفى (39).

1 - كفاية الاصول: 136.
39 - إذا شككنا في واجب بأنه نفسي أو غيري، يحمل على النفسي؛ لأجل الانصراف كما
لا يبعد، لا بمعنى انصراف جامع إلى أحد أقسامه؛ فإن التحقيق أن الموضوع له في الهيئة
خاص، وأنها في النفسي والغيري لا تستعمل إلا استعمالا إيجاديا لنفس البعث والإغراء،
والنفسية والغيرية انتزاعيتان، لا من مقوماته؛ بل لما كان البعث لأجل الغير نادرا،
لا يعتني باحتماله العقلاء.
ويمكن أن يقال: إن البعث المتعلق بشيء حجة على العبد، ولا يجوز التقاعد عن طاعته
باحتمال كونه مقدمة لغيره إذا سقط أمره. (مناهج الوصول 1: 372).
145

تذنيبان:
الأول: في استحقاق المثوبات
قد اختلف كلمة أصحاب الكلام في أن هذه المثوبات - التي تكون في فعل
الواجبات والمستحبات، وترك المحرمات والمكروهات - هل هي بصرف التفضل
منه تعالى شأنه (1) أم العقل يحكم باستحقاق العبد؛ بحيث يعد عدم إعطائها قبيحا
عليه تعالى (2)؟
والقائلون بالاستحقاق استدلوا: بأن حمل المشاق على الغير بلا أجر قبيح
عقلا، ولا شك أنه في إطاعة المولى مشقات ورياضات للعبد، فلابد من جبرانها
بالأجر والثواب (3).
ولا يخفى ما فيه من الوهن والخطأ؛ فإنه - مضافا إلى أن العبد وجوده
وقواه وحركاته وسكناته مملوكة لله تعالى بالملكية الحقيقية القيومية، وفي
مثلها لا معنى للاستحقاق - أن أوامر الله ونواهيه ألطاف عقلية؛ لإصلاح حال
العباد وتزكيتهم وتطهيرهم، وإيصالهم إلى مدارج الكما لات النفسانية والفضائل
الروحانية، أو حفظ النظام الذي يرجع نفعه إليهم.
وبالجملة: ليس في أوامره ونواهيه تعالى نفع له؛ فإنه غني عن
العالمين، بل المنافع ترجع إليهم، وإنما أوامره ونواهيه كأوامر الطبيب ونواهيه؛

1 - شرح المقاصد 6: 126، أنوار الملكوت في شرح الياقوت: 170 وانظر شرح القوشجي
على التجريد: 384 / السطر 19.
2 - المسلك في اصول الدين: 17، إرشاد الطالبين: 413.
3 - إرشاد الطالبين: 413 وانظر شرح المقاصد 6: 125 - 126.
146

لإصلاح حال المريض، فهل يجوز عند العقل أن يرجع المريض إلى الطبيب،
ويطالبه بالأجر على إطاعة أوامره ونواهيه - من شرب الأدوية البشعة، وترك
المشتهيات النفسانية - ويقول: إن حمل المشقة على الغير بلا أجر قبيح. وهذا
واضح لدى التفكر في حال العبد مع الله، ونسبة العبودية إلى الربوبية.
ولعمري إن القول بالاستحقاق لا يخلو عن جسارة على ساحته المقدسة،
وعجب بالأعمال، وجهل بحقيقة الحال.
وأما استحقاق العقاب في مخالفة المولى، فهو مما حكم به العقل؛ فإن
الخروج عن إطاعة المولى هتك لمقام الربوبية، وفي مثله يحكم العقل
بالاستحقاق، ومعناه أنه لو عذبه المولى يكون في محله، لا أنه يعذبه
[حتما]؛ فإن باب الرحمة والعفو واسعة.
هذا، ولو التزمنا بالاستحقاق في امتثال الواجبات النفسية، فهل امتثال
الأوامر الغيرية - على فرض وجوب المقدمة - يوجب الاستحقاق (1)، أم لا (2)؟
التحقيق: - حسبما عرفت من أن الواجبات الغيرية لا نفسية لها، بل
باعتبار يمكن سلب الوجوب عنها - عدم الاستحقاق.
ولكن هاهنا أمر آخر، وهو أن إتيان المقدمات مع عدم تعلق الوجوب
الغيري بها - كما هو التحقيق - إذا كان لأجل الإتيان بذي المقدمة، يوجب
استحقاق المثوبة؛ فإن العقل لا يفرق بين الإتيان بالواجب النفسي، وبين الإتيان
بالواجب الغيري؛ لأجل إطاعة المولى، لا للشهوات، فإذا كان الباعث للعبد نحو
المقدمة إطاعة أمر ذي المقدمة، ولا داعي له إلا الامتثال فيستحق المثوبة
على القول بالاستحقاق؛ فإنه تحمل المشقة له تعالى، والعقل يجد الفرق بين

1 - المستصفى من علم الاصول 1: 72، إشارات الاصول: 72 / السطر 11.
2 - مطارح الأنظار: 68 / السطر 34، كفاية الاصول: 138 - 139.
147

من يتحمل المشقة بإتيان مقدمات كثيرة للواجب النفسي، ومات قبل إتيانه، وبين
من لم يتحملها، فالاستحقاق إنما هو لأجل إطاعة الواجب النفسي وإن كان على
مقدماته (40).
إشكال ودفع
ربما يشكل في بعض المقدمات - كالطهارات الثلاث - من جهتين:
الاولى: من حيث ترتب الثواب عليها، مع أن الأمر الغيري لا مثوبة فيه (2).

40 - أما استحقاق الثواب عليها باعتبار الواجب النفسي، فهو غير صحيح؛ فإن الآتي بالمقدمات
لأجل الإتيان بالواجب النفسي، لو لم يأت به لعذر أو لغيره، لم يأت بمتعلق الأمر النفسي،
ومعه لا يعقل الاستحقاق بالمعنى الذي هو مورد البحث أي كون ترك الثواب ظلما وقبيحا؛
لأن استحقاق من لم يأت به: إما للأمر الغيري، فقد عرفت حاله، وإما للأمر النفسي، فمع
عدم الإتيان بمتعلقه لا وجه للاستحقاق.
فلو أمر شخص أحدا برد ضالته، فتحمل المشقة الكثيرة ولم يوفق إلى ردها ورجع صفر
الكف، فطالب بالأجر، فهل تراه محقا أو مبطلا؟ لا أظنك - بعد تشخيص محل النزاع - أن
تشك في عدم الاستحقاق.
نعم، إذا كان لذي المقدمة مقدمات كثيرة وتحصيلها مستلزم للمشقات، يكون أجر نفس
العمل بحسب المقدمات مختلفا، لا بمعنى التقسيط عليها، بل يكون التفاوت بلحاظها،
فالآتي بالحج من البلاد النائية بأمر شخص، يكون اجرته أكثر من اجرة الآتي بالحج من
غيرها، ولو أتى بجميع المقدمات ولم يأت بالحج، فليس له استحقاق للاجرة؛ لعدم
الإتيان بمتعلق الأمر، فكذا الحال في أوامره - تعالى - بناء على الاستحقاق.
وظني أنهم خلطوا بين الاستحقاق وممدوحية العبد؛ بمعنى إدراك العقل صفاء نفسه،
وكونه بصدد إطاعة أمره، وكونه ذا ملكة فاضلة وسريرة حسنة؛ ضرورة أن الآتي
بالمقدمات مع عدم توفيقه لإتيان ذي المقدمة ممدوح، لا مستحق للأجر بالمعنى
المتقدم. (مناهج الوصول 1: 380 - 381).
2 - انظر مطارح الأنظار: 70 / السطر 19، وكفاية الاصول: 139.
148

الثانية: من حيث إنه يعتبر فيها قصد التقرب والامتثال، فلابد من تعلق
الأمر الغيري بالطهارات بداعي أمرها، فيأتي الإشكال المعروف في الواجبات
التعبدية: من كون الأمر داعيا إلى داعوية نفسه (1) ولا يأتي الجواب الذي قال
به المحقق الخراساني (رحمه الله) هناك: من تعلق الأمر بالأوسع من الغرض (2)؛ لأن
الأمر الغيري إنما يتعلق بالمقدمة بملاك المقدمية، ولم يكن الملاك إلا في
الطهارة المقيدة بالتقرب.
هذا، والتحقيق في الجواب عن الأول ما عرفت: من أن الثواب لم يكن
لأجل وجوبها الغيري، بل لأجل الوجوب النفسي المتعلق بذي المقدمة (41).
مضافا إلى أن الوضوء والغسل من المستحبات النفسية، فإن أتى المكلف
بهما بداعي استحبابهما النفسي، فلا إشكال في ترتب الثواب عليهما، وإن لم يكن
له داع إلا الإتيان بذي المقدمة، فيأتي بهما لأجله، فيكون مثابا لأجل داعوية
الأمر النفسي لإتيانهما، كما عرفت.
وعن الثاني: أن الجواب عن الإشكال هاهنا أهون؛ فإن الطهارة مع داعي
الامتثال إذا كانت مقدمة للصلاة، تكون نفس الطهارة أيضا مقدمة؛ فإنها مقدمة
المقدمة، فيتعلق الأمر بذات الطهارة لأجل المقدمية، وقد مر منا التحقيق في
مثل المقام، فتذكر (42).

1 - مطارح الأنظار: 60 / السطر 30، كفاية الاصول: 95.
2 - كفاية الاصول: 95.
41 - قد مر الكلام في عدم ترتب الثواب على الواجب الغيري (التعليقة 40) مع أن الثواب
جعلي ليس باستحقاقي، وهو تابع للجعل، وقد يجعل على المقدمات. (مناهج الوصول
1: 382).
42 - فالتحقيق: أن الطهارات الثلاث بما هي عبادات جعلت مقدمة للصلاة وغيرها، وعباديتها
لا تتوقف على الأمر الغيري حتى ترد الإشكالات المتقدمة.
بل التحقيق: أن المعتبر في صحة العبادة ليس الأمر الفعلي النفسي أيضا، بل مناط الصحة
صلوح الشيء للتعبد به، وهذا مما لا يمكن الاطلاع عليه غالبا إلا بوحي الله تعالى،
وبعدما علم صلوح شيء للتعبد به واتي به بقصد التقرب إليه - تعالى - يقع صحيحا، قصد
الأمر أو لا، بل لا يبعد دعوى ارتكاز المتشرعة في إتيان الواجبات التعبدية بقصد التقرب
إليه - تعالى - مع الغفلة عن الأمر بها، تأمل.
فلو فرض سقوط الأمر بواسطة عروض شيء، فأتى به متقربا، تكون العبادة صحيحة.
ولا يحتاج في عبادية الشيء ووقوعه صحيحا زائدا عن قصد التقرب بما هو صالح للتعبد
به إلى شيء آخر، فالأمر النفسي المتعلق بذي المقدمة يدعو إلى الوضوء بقصد التقرب؛
فإنه مقدمة للصلاة، فلا محالة يأتي المكلف به كذلك.
وبما ذكر ينحل جميع الشبهات. (مناهج الوصول 1: 383 - 385).
149

الثاني: في الوضوء التهيئي
قد انقدح بما ذكرنا - من داعوية الوجوب النفسي المتعلق بذي المقدمة
إلى إتيان المقدمات بلا احتياج إلى تعلق الوجوب الغيري بها -: إمكان تطبيق
الوضوء التهيئي - المفتى به بين الأصحاب (1) - على القاعدة وإن لم نلتزم
بالوجوب التعليقي بالنسبة إلى ذي المقدمة؛ فإن علم المكلف بأمر المولى في
موطنه يدعوه إلى إتيان مقدمته قبل الوقت، فإن التوقيت لذي المقدمة لا
لمقدمته، فالوضوء مقدمة للصلاة مطلقا؛ أتى به قبل دخول وقتها أو بعده،
فالإتيان به بداعي حصول مقدمتها عند حضور وقتها مما لا إشكال فيه، فتدبر.
كما أنه قد انقدح بما حققنا سابقا: أنه ليس الوضوء متعلقا لأوامر كثيرة

1 - الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 49، الدروس الشرعية: 1 / 86، جواهر الكلام 1:
17 - 18.
150

حسب تكثر الغايات، بل له أمر نفسي استحبابي فقط، نعم الأمر بالغايات يدعو
إلى إتيانه لأجل المقدمية بلا تعلق أمر غيري به، فالأمر الغيري لا أساس له
أصلا، فالإشكال المعروف: من لزوم اجتماع المثلين أو الأمثال في الوضوء (1) لا
أساس له.
الأمر الرابع: في بيان ما هو الواجب في باب المقدمة
لا إشكال في أن وجوب المقدمة - بناء على الملازمة - يتبع في الإطلاق
والاشتراط وجوب ذي المقدمة، فما عن صاحب " المعالم " (رحمه الله): من أن وجوبها
مشروط بإرادة المكلف إتيان ذي المقدمة (2) منظور فيه (43).
مضافا إلى أن تعلق الأمر بشيء إنما هو لأجل الداعوية والتحريك نحوه،
فإذا كان المكلف مريدا لإتيان ذي المقدمة، فمن الضروري تعلق إرادته بإتيان

1 - انظر مطارح الأنظار: 70 / السطر 23، حاشية كفاية الاصول، المحقق القوچاني 1:
100 - 101، حاشية كفاية الاصول، المحقق المشكيني 1: 178.
2 - معا لم الدين: 74 / السطر 3.
43 - نسب إلى صاحب " المعالم " أنه قال: باشتراط وجوبها بإرادة ذي المقدمة، ورد بأن
المقدمة تابعة لصاحبها في الإطلاق والاشتراط، فيلزم أن يشترط وجوب الشيء بإرادة
وجوده، وهو واضح البطلان.
لكن عبارة " المعالم " خالية عن ذكر الاشتراط، بل نص في أن الوجوب في حال كون
المكلف مريدا للفعل المتوقف عليها، وهو وإن كان غير صحيح، لكن لم يكن بذلك الوضوح
من الفساد.
نعم يرد عليه: أن حال إرادة ذي المقدمة غير دخيلة في ملاك وجوبها، مع أنه حال
إرادته لا معنى لإيجاب مقدمته؛ لأنه يريدها لا محالة. (مناهج الوصول 1: 388).
151

مقدمته، فبعد تعلقها به يصير تعلق الأمر به لغوا باطلا غير صالح للداعوية.
وهل يعتبر في وقوعها على صفة الوجوب أن يكون الإتيان بها بداعي
التوصل بها إلى ذي المقدمة كما يتراءى من ظاهر كلام بعض محققي مقرري بحث
الشيخ العلامة أعلى الله مقامه (1)، أو يعتبر فيه أن يترتب ذو المقدمة عليها
بحيث لو لم يترتب يكشف عن عدم وقوعها على صفة الوجوب كما ذهب إليه
صاحب الفصول (رحمه الله) (2)، أو يعتبر فيه كلا الأمرين - أي قصد التوصل،
والموصلية -، أو لا يعتبر شيء منهما (3)؟
والتحقيق عدم اعتبارهما:
أما عدم اعتبار قصد التوصل: فلأن تمام الملاك في تعلق الوجوب
بالمقدمة - على القول بالملازمة - هو كونها مقدمة؛ ومما يتوقف عليها ذوها،
ومعلوم أن قصد التوصل لا يكون مما يتوقف عليه الواجب، فلا معنى لترشح
الوجوب عليه منه؛ لفقدان ما هو الملاك.
وليعلم: أن المتراءى من صدر كلام المحقق المقرر وإن كان ما ذكر، لكن بعد
التأمل في تمام كلامه واحتجاجاته يعلم أن قصد التوصل إنما اعتبره في التقرب
بالمقدمة، لا في وقوعها على صفة الوجوب، وهذا موافق للتحقيق؛ فإن التقرب
بها لا يحصل إلا مع قصد الامتثال، وهو لا يحصل إلا مع قصد الإيصال إلى ذي
المقدمة، ولعل هذا موافق لما قلنا (4): من أن استحقاق الثواب على المقدمة إنما

1 - مطارح الأنظار: 72 / السطر 7.
2 - الفصول الغروية: 81 / السطر 4 و 86 / السطر 12.
3 - كفاية الاصول: 143.
4 - تقدم في الصفحة 147.
152

يكون لأجل الأمر النفسي، المتعلق بذي المقدمة الذي يدعو إلى مقدمته. هذا
حال قصد التوصل.
وأما المقدمة الموصلة: فحاصل ما أفاد صاحب " الفصول " (رحمه الله): أن
الموصوف بالوجوب هو المقدمة مع قيد الإيصال، وإلا يلزم الالتزام بجواز إتيان
المقدمة المحرمة بلا توصل إلى ذي المقدمة، فيجوز دخول الملك الغصبي
الذي يكون مقدمة لإنقاذ الغريق مع عدم إنقاذه، وهو كما ترى.
نعم، لو قصد التوصل ولم يتوصل أتى بالمحرم الواقعي، لكنه معذور فيه،
كما أنه لو أتى بالمقدمة المحرمة بلا قصد الإيصال، ولكن بداله التوصل إلى
ذي المقدمة فتوصل، أتى بالواجب الواقعي، لكنه متجر.
وبالجملة: ما هو الواجب هو المقدمة مع قيد الإيصال (1).
ويرد عليه: أنه إن أراد بوجوب المقدمة الموصلة التفصيل بين المقدمة
التي هي موصلة بالحمل الشائع - أي ما يلزم من عدمه العدم ومن وجوده
الوجود - وبين غيرها؛ أي ما يلزم من عدمه العدم، كما هو شأن المقدمية، لكن
لا يلزم من وجوده الوجود، فهذا تفصيل بين المقدمة السببية وغيرها؛ أي بين
الأفعال التوليدية التي لم تكن إرادة الفاعل متوسطة بينها وبين أسبابها، وبين
غيرها (44)، وليس هذا خلافا جديدا، بل هو ما نسب إلى علم الهدى السيد

1 - الفصول الغروية: 81 / السطر 9.
44 - إن المراد بالإيصال أعم من الإيصال مع الواسطة، فالقدم الأول بالنسبة إلى الحج قد
يكون موصلا ولو مع الوسائط إليه؛ أي يتعقبه الحج، وقد لا يكون كذلك، والواجب هو
الأول. (مناهج الوصول 1: 395).
153

المرتضى (رحمه الله) (1)، وأنكره صاحب " المعالم " (2). ويأتي حينئذ النزاع المعروف في
التسبيبيات (3): من أن الأوامر هل هي متعلقة بالأسباب أو بمسبباتها؟
وإن أراد بوجوبها وجوب جميع المقدمات، لكنه ذهب إلى أن اتصافها
بالوجوب لا يكون إلا مع الإيصال، فتجب على المكلف المقدمة وتحصيل قيد
الإيصال.
ففيه: أن تحصيل هذا القيد لا يكون إلا بإتيان ذي المقدمة، فبناء على
الملازمة يترشح الوجوب الغيري من نفس ذي المقدمة على نفسها بعدد
المقدمات، فيكون متعلقا لوجوب واحد نفسي ووجوبات كثيرة غيرية مترشحة
من ذاتها إلى ذاتها.
وبالجملة: يلزم أن يكون ذو المقدمة مقدمة لنفسها، وهو ضروري
البطلان (45).

1 - حكى هذا القول عن السيد، العلامة في نهاية الوصول: 129 / السطر 14، انظر
الذريعة إلى اصول الشريعة 1: 83.
2 - معا لم الدين: 57 / السطر 5.
3 - تقدم في الصفحة 119 - 120.
45 - لأنه يتعلق به الوجوب الغيري، بل وجوبات غيرية بعدد المقدمات، بل يلزم أن يجب
ذو المقدمة الموصل إلى نفسه ولو بوسط، وهو أفحش.
وجوابه: أن القائل بهذه المقالة يقول: إن ما يتعلق به الوجوب الغيري هو المقدمة، مع
قيد الإيصال إلى ذي المقدمة، فلابد فيه من جهتين: الاولى كونه موقوفا عليه، والثانية
كونه موصلا إلى ذي المقدمة، ونفس ذي المقدمة لا يكون موقوفا على نفسه، ولا يكون
موصلا إلى نفسه، فلا يتعلق به الوجوب الغيري، وتوقف وصف المقدمة على وجوده
لا يوجب تعلق الوجوب به. (مناهج الوصول 1: 394 - 395).
154

إيقاظ:
لا يخفى: أن كلا من صاحبي " المعالم " و " الفصول " والعلامة الأنصاري
رحمهم الله أرادوا - بما التزموا في باب مقدمة الواجب - تصحيح العبادة التي
يتوقف على تركها فعل الواجب؛ بناء على كون ترك الضد مقدمة لفعل ضده، فإن
تركها - على مبنى صاحب " المعالم " - لا يكون مطلقا واجبا، بل الواجب هو الترك
في حال إرادة فعل الواجب، ومعلوم أن الآتي بالضد لا يريد فعل ضده، فلا يكون
تركه مقدمة.
وسيأتي في باب الضد زيادة توضيح لذلك، وكذا توضيح ما أراد صاحب
" الفصول " والشيخ العلامة الأنصاري رحمهما الله، فانتظر.
تذنيب: في ثمرة النزاع في هذه المسألة
لا يخفى: أنه لا ثمرة مهمة في هذه المسألة؛ ضرورة أن وجوب المقدمة
- على القول به - لا يكون وجوبا يترتب عليه أثر؛ فإن هذا الوجوب الترشحي
لا يكون له إطاعة ومعصية، ولا في إتيانه وتركه استحقاق مثوبة وعقوبة،
ولابد بحكم العقل من إتيان المقدمة، تعلق بها الوجوب الشرعي أو لا.
وما قيل به من سائر الثمرات - مثل البر بالنذر وغيره (1) - كلها مخدوش،
ومنها الثمرة التي سيأتي ذكرها في باب الضد مفصلا (2)، فلا داعي للتعرض لها
هاهنا.

1 - الفصول الغروية: 81 / السطر 9 و 87 / السطر 18، مطارح الأنظار: 80 / السطر 30.
2 - يأتي في الصفحة 164.
155

تتمة: حول الأصل عند الشك في الملازمة
لا أصل في المسألة يعول عليه عند الشك؛ فإن الملازمة لا حالة
سابقة لها (1) (46). ووجوب المقدمة وإن كان مسبوقا بالعدم (3)، لكن جريان
الأصل فيه مشكل، فإن أصالة عدم تنجز التكليف؛ بمعنى عدم استحقاق
العقوبة على تركها، غير جارية؛ فإن التنجز - مضافا إلى كونه أمرا عقليا، ليس
بيد الشارع جعله ورفعه - لا معنى له في باب المقدمة، فإنه في تركها
ليس استحقاق العقوبة، ولا في فعلها استحقاق المثوبة.
وإن كان المراد بأصالة عدم الوجوب رفع فعليته، ففيه: أنه لا يعقل رفع
فعلية وجوب المقدمة مع فعلية وجوب ذيها؛ فإن وجوب المقدمة تابع لذيها
في الوجود ومرتبته، فلا يعقل انفكاكهما في الفعلية، والفرض أن الشك في
وجوب المقدمة ناش عن الشك في الملازمة وعدمها، وليس الشك في وجوب
مستقل يمكن رفعه ووضعه.
حول استدلال القائلين بوجوب المقدمة
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن المشهور بين الاصوليين وجوب المقدمة (4)

1 - كفاية الاصول: 155 - 156.
46 - بل لو كانت معلومة بنحو الليس الناقص لما جرى الأصل؛ لعدم ترتب حكم عليها
بلا توسط أمر عقلي؛ لأن الملازمة لم تكن موضوعة لحكم شرعي، بل العقل يحكم بعدم
الوجوب على فرض عدم الملازمة، وبتحققه على فرض تحققها. (مناهج الوصول 1:
409 - 410)
3 - كفاية الاصول: 156.
4 - معا لم الدين: 57، الوافية في اصول الفقه: 219، الفصول الغروية: 82 / السطر 18.
156

ومقصودهم منه هو الوجوب الشرعي، لا اللابدية العقلية؛ فإنها غير قابلة
للنزاع والنقض والإبرام (1).
وليعلم: أن الشهرة في المسائل الأصلية الفقهية وإن لم تبعد حجيتها، بل
تترجح عندنا، لكن ليست مسألتنا هذه منها؛ فإن الاشتهار في هذه المسألة -
على الظاهر - لا يكون إلا بملاك إدراك الملازمة العقلية، لا الأمر التعبدي
الواصل إليهم دوننا، ففي مثلها لا حجية لاتفاق الآراء فضلا عن الشهرة؛ فإن
الحاكم في مثلها العقل، فإن أدرك الملازمة فهو، وإلا فلا موجب لحكمه
بالوجوب.
نعم، ربما يتوهم: أن تفصيل بعضهم بين السبب وغيره (2) وبعضهم بين
الشرط الشرعي وغيره (3) - مع أن الملاك العقلي مطرد في جميعها - يرجح كون
الوجوب شرعيا، لا عقليا محضا، وإلا فلا معنى للتفصيل.
وفيه: أن التفصيلين مبنيان على اشتباه وخطأ لابد من رفعهما؛ حتى يرفع
التوهم:
أما التفصيل بين السبب وغيره، فمبنى الاشتباه فيه أن المسببات التوليدية
لا يعقل تعلق الأمر بها، بل لابد من صرف الأوامر المتعلقة بها ظاهرا إلى أسبابها؛
فإن القدرة إنما تتعلق بأسبابها، وإيجاد الأسباب عين إيجادها، وليس بينها وبين
أسبابها تخلل إرادة وقدرة (4).

1 - قوانين الاصول 1: 101 / السطر 15، إشارات الاصول: 68 / السطر 12، مطارح
الأنظار: 80 / السطر 8.
2 - انظر الذريعة إلى اصول الشريعة 1: 83، والمحصول في علم اصول الفقه 1: 289.
3 - شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 90، 91.
4 - انظر الذريعة إلى اصول الشريعة 1: 84 و 85، وقوانين الاصول 1: 105.
157

ولا يخفى: أن هذا ليس تفصيلا في مقدمة الواجب، بل هو أجنبي عنها
تماما، مع أنها في حد نفسها أيضا باطلة؛ فإن المقدور مع الواسطة مقدور
كما مر (1).
وأما التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره، فغاية ما يتوهم فيه أن الشرطية
- فيما لا يكون عند العقل شرطا - إنما تنتزع من تقييد المكلف به به، كما إذا قيل:
" صل مع الطهارة " فلابد من تعلق الطلب المتعلق بالمركب به أيضا (2).
ولا يخفى ما فيه؛ فإنه - مضافا إلى خروجه عن مورد النزاع في باب
مقدمة الواجب، فإن النزاع إنما يكون في المقدمات الخارجية، لا القيود
والشرائط - أن الشرائط الشرعية ترجع إلى العقلية، فما يرى أنه يمكن وجوده
بغير المقدمة الشرعية، كالصلاة التي يتوهم إمكان وجودها بلا طهارة عقلا،
لا يكون كذلك واقعا؛ فإنها حقيقة واقعية لا يمكن تحققها إلا بالطهور، فالشرائط
الشرعية مقدمات عقلية كشف عنها الشارع.
إذا عرفت ما ذكرنا: فقد استدل على وجوب المقدمة أبو الحسين البصري،
وتبعه غيره: بأنه لو لم تجب المقدمة لجاز تركها، وحينئذ إن بقي الواجب على
وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق، وإلا خرج الواجب المطلق عن كونه واجبا
مطلقا؛ لصيرورته مشروطا بإتيان مقدمته، لكن اللازمين باطلان، فالملزوم
مثلهما، فإذا بطل الملزوم - أي جواز الترك - وجبت المقدمة، وهذا هو
المطلوب (3).

1 - تقدم في الصفحة 119 - 120.
2 - انظر شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 91 / السطر 16، وكفاية الاصول: 159.
3 - انظر المعتمد في اصول الفقه 1: 95، 100، والمحصول في علم اصول الفقه 1: 289،
ومعارج الاصول: 74، وكفاية الاصول: 157.
158

والجواب عنه: أن ما يضاف إليه الظرف إما أن يكون الجواز، وإما أن
يكون الترك، فعلى الأول لا تصدق الشرطية الثانية؛ فإنه بمجرد جواز الترك
لا يلزم التكليف بما لا يطاق، وعلى الثاني لا ينتج القياس؛ لعدم تكرار الوسط (47).
وقد يستدل على وجوب المقدمة: بتعلق الأوامر الشرعية والعرفية بها،
كما هو واضح (2).
وفيه: أن الأمر بالمقدمة إنما هو تحريك إلى المطلوب النفسي، لا تحريك
إلى المقدمة.
وقد يقال - كما عن بعض المعاصرين -: إن وزان الإرادة التشريعية كوزان
الإرادة التكوينية في جميع الخصوصيات، فكما أن الإرادة التكوينية إذا تعلقت
بشيء تتولد منها إرادة اخرى تتعلق بمقدماته، كذلك الإرادة التشريعية طابق
النعل بالنعل، فلابد من طلب غيري مقدمي متولد من الطلب النفسي (3).
وفيه: أنه ممنوع؛ فإن الإرادة التشريعية ليست إلا البعث والتحريك نحو
الفعل، ليحصل في نفس المكلف حبه واشتياقه وإرادته، ليتحرك نحو إيجاده،
وهذا ليس إلا إنشاء البعث النفسي نحو ذي المقدمة، بدون أن يكون هناك
إنشاءات بعثية اخرى.
ألا ترى: أنه لو سئل الآمر عن ذلك، لا يعترف بأزيد من بعث واحد متعلق
بذي المقدمة. نعم، لا بأس بافتراض الوجوب الذي ليس له ثواب ولا عقاب

47 - مضافا إلى أنه منقوض بالمتلازمين؛ لأن برهانه آت فيهما، مع أن تعلق الإرادة بملازم ما
فيه المصلحة مع خلوه عنها مما لا يعقل؛ للزوم تعلقها بلا ملاك، وهو ممتنع. (مناهج
الوصول 1: 414).
2 - انظر مناهج الأحكام والاصول: 50 / السطر 15، وكفاية الاصول: 157.
3 - فوائد الاصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 284.
159

ولا بعث ولا تحريك نحو المقدمة؛ فإن البعث إليها هو البعث إلى ذيها حقيقة، لا
إليها، تدبر (48).

48 - اعلم: أن المريد لإيجاد الفعل لما رأى توقفه على المقدمة، فلا محالة يكون جميع
مبادئ إرادة المقدمة موجودة في نفسه، من التصور، والتصديق بالفائدة، والاشتياق
التبعي في بعض الأحيان، والغاية هي التوصل إلى ذي المقدمة.
وأما الإرادة التشريعية، فليست إلا إرادة البعث إلى الشيء، وأما إرادة نفس عمل الغير،
فغير معقولة؛ لأن عمل كل أحد متعلق إرادة نفسه، لا غيره. نعم، يمكن اشتياق صدور
عمل من الغير، لكن قد عرفت مرارا: أن الاشتياق غير الإرادة التي هي تصميم العزم على
الإيجاد، وهذا مما لا يتصور تعلقه بفعل الغير. فإرادة البعث لابد لها من مباد موجودة في
نفس المولى، وهي بالنسبة إلى ذي المقدمة موجودة؛ لأن غاية البعث هو التوصل إلى
المبعوث إليه ولو إمكانا، وهو حاصل.
وأما إرادة البعث إلى المقدمات، فمما لا فائدة لها ولا غاية؛ لأن البعث إلى ذي المقدمة إن
كان مؤثرا في نفس العبد، فلا يمكن انبعاث فوق الانبعاث، وإلا فلا يمكن أن يكون البعث
الغيري موجبا لانبعاثه مع كونه لنفس التوصل إلى ذي المقدمة، ومع عدم ترتب أثر
عليه من الثواب والعقاب، فحينئذ تكون إرادة البعث من دون تمامية المبادئ من قبيل
وجود المعلول بلا علة تامة. نعم، يمكن تعلقها بها إرشادا، أو لتأكيد ذي المقدمة كناية.
هذا، مع أن الضرورة قاضية بعدم إرادة البعث نحو المقدمات؛ لعدم تحقق البعث في غالب
الموارد، فيلزم تفكيك الإرادة عن معلولها، فإرادة البعث غير حاصلة. (مناهج الوصول 1:
412 - 413).
160

المطلب الخامس
في مسألة الضد
الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده أم لا؟ أقوال (1).
وتحقيق الحال يستدعي رسم امور:
الأول: كون المسألة من المبادئ الأحكامية
تقدم أن المراد بالمبادئ الأحكامية هي لوازم الأحكام الشرعية
ومعانداتها، وحيث إن موضوع علم الاصول هو الحجة على الحكم الشرعي، لذا
ناسب الاصولي أن يبحث عن حال الأحكام من حيث استلزامها للمقدمية، وللنهي
عن الضد وهكذا، فتكون مسألتنا من المبادئ الأحكامية.
الثاني: في الضد العام
اختلفوا في الضد العام؛ أي الترك، فقيل: بأن الأمر بالشيء عين النهي عن
ضده العام، بدعوى أن الأمر بشيء - كالإزالة - هو عين النهي عن تركها وجودا؛

1 - انظر بدائع الأفكار، المحقق الرشتي: 387 / السطر 27 و 388 / السطر 7.
161

لأن حقيقة النهي عبارة عن طلب الترك، فإذا صار متعلق الترك تركا، يصير معنى
النهي طلب ترك الترك، وهو عين طلب الفعل.
وفيه: أن حقيقة النهي عبارة عن الزجر عن الفعل، لا طلب الترك،
فلا تصح دعوى العينية.
نعم، لا بأس بأن يقال: إن الأمر عين النهي عن ضده العام؛ فإنه يصح أن
ينسب إلى الآمر بفعل: " أنه زاجر عنه " على نحو من المسامحة، كما ينسب إلى
الناهي عن فعل: " أنه طا لب لتركه ".
لكن لا بمعنى ثبوت تكليفين، حتى يلزم تعدد العقاب في صورة العصيان،
بل بمعنى اتحاد البعث نحو الفعل مع الزجر عن تركه في الواقع ونفس الأمر، وإن
اختلفا مفهوما (1).
الثالث: في الضد الخاص
قد استدل على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده الخاص بوجهين:
أحدهما: أن إتيان الضد مستلزم لترك ضده، وترك الضد حرام؛ لكونه ضدا
عاما للواجب، فإتيان الضد مستلزم للترك الحرام، والمستلزم للترك الحرام حرام،
فضد الواجب حرام (2) (49).

1 - هذه العبارات تتميم موافق لما أفاد آية الله البروجردي، استفدنا من بعض تقريرات
بحثه.
2 - انظر معا لم الدين: 67 / السطر 13، وقوانين الاصول 1: 114 / السطر 21.
49 - وهذا الدليل يبتني على ثلاث مقدمات:
إحداها: أن وجود كل من العينين مع عدم ضده متلازمان.
ثانيتها: أن المتلازمين محكومان بحكم واحد لا محالة.
ثالثتها: أن الأمر بالشيء مقتض للنهي عن ضده العام.
والدليل على الاولى: أن الضد لا يصدق مع ضده لبطلان اجتماعهما، فإذا لم يصدق هو لابد
من صدق نقيضه؛ لبطلان ارتفاع النقيضين، ولما لم يمكن الصدق الذاتي بين الوجود
والعدم فلابد وأن يكون عرضيا بنحو التلازم في الصدق، وهو المطلوب.
والجواب عنه: أن نقيض صدق إحدى العينين على الاخرى عدم صدقها عليها على نعت
السلب التحصيلي لا الإيجاب العدولي، وإلا لزم ارتفاع النقيضين؛ ضرورة كذب الإيجاب
العدولي أيضا؛ للزوم كون العدم صادقا على الوجود ومتلازما معه فيه.
هذا، مع أنه لا شيئية له حتى يكون ملازما لشيء.
مضافا إلى أن التلازم في الوجود يقتضي عروض الوجود للمتلازمين، فيلزم اجتماع
النقيضين، فالغلط ناش من عدم اعتبار الحيثيات وتقديم الحمل على السلب وعدم التفريق
بين السوالب المحصلة والموجبات المعدولة، وكم له من نظير.
والدليل على الثانية: أن المتلازم مع وجوب ملازمه إن لم يكن واجبا، فلابد وأن يكون
محكوما بحكم آخر؛ لعدم خلو الواقعة عن حكم، والجامع بين ما عدا الوجوب هو جواز
الترك، ومع جوازه يلزم إما خروج الواجب عن كونه واجبا، وإما التكليف بما لا يطاق.
والجواب أما أولا: أن العدم ليس من الوقائع؛ فإنه بطلان محض لا يمكن أن يكون - بما هو
- محكوما بحكم، وما ترى من نسبة الحكم إلى بعض الأعدام، لابد من إرجاعه إلى
مقابلاته، كوجوب تروك الإحرام وتروك المفطرات.
وثانيا: لم يقم دليل على عدم خلو الواقعة عن الحكم، بل الدليل على خلافه؛ فإن
الواقعة لو لم يكن لها اقتضاء أصلا، ولم يكن لجعل الإباحة - أيضا - مصلحة، فلابد وأن
لا تكون محكومة بحكم، والإباحة العقلية غير الشرعية المدعاة، ومع خلوها عن
الجواز الشرعي لا يلزم المحذور المتقدم.
هذا، مع أنه لو سلم، فلزوم ما ذكر ممنوع.
وقد مر الجواب عن الثالثة. (مناهج الوصول 2: 17 - 19).
162

وثانيهما: أن ترك الضد مقدمة لفعل ضده الواجب، ومقدمة الواجب
واجبة، فترك الضد واجب، فإذا وجب ترك الضد يكون فعله حراما؛ لكونه ضدا
163

عاما له (1).
ولا يخفى: أن هذين الدليلين مأخوذان من نفس عنوان البحث، أحدهما: من
إتيان الضد، والآخر: من تركه.
ثم لا يخفى: أن مقتضى مجموع الدليلين هو الدور الواضح؛ فإن مقتضى
الأول أن فعل كل من الضدين علة لترك ضده، فإن الضدية من الإضافات
المتشابهة الأطراف، فإذا كان وجود أحد الضدين مستلزما لترك ضده وعلة له
- لمكان الضدية - يكون وجود الآخر أيضا كذلك، ومقتضى الثاني أن ترك كل من
الضدين مقدم على ضده؛ لعين ما ذكرنا، فوجود كل من الضدين مقدم على ضده،
وكل منهما مقدم على وجود ضده، وهذا دور مستلزم لاجتماع النقيضين، كما
لا يخفى (50).
ثم إنهم اختلفوا في مقدمية عدم الضد:
فمنهم: من يظهر منه أن فعل كل منهما مقدمة لترك الآخر، وتركه مقدمة
لفعله، فالتوقف من الجانبين.
وهذا القائل وإن لم يصرح بذلك، لكنه لازم قوله في البابين، فإنه فيما
نحن فيه رد الاستدلال - بأن ترك الضد مقدمة، ومقدمة الواجب واجبة - بأن
وجوب المقدمة ممنوع (3)، فيظهر منه قبول المقدمية.
وفي رد قول الكعبي - بنفي الإباحة المستدل عليه: بأن كل فعل وجودي

1 - انظر معا لم الدين: 67 / السطر 10، وقوانين الاصول 1: 114 / السطر 10.
50 - وفيه: أن التمانع إذا اقتضى توقف وجود أحد الضدين على عدم الآخر توقف الشيء على
عدم المانع، يقتضي - بمقتضى المقابلة - توقف وجود الضد الآخر على عدم ضده أيضا،
لا توقف عدمه على وجوده؛ لأن العدم ليس بشيء حتى يتوقف تحققه على شيء. (مناهج
الوصول 2: 13 - 14).
3 - شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 201 - 202.
164

مقدمة لترك واجب - قال: إن مقدمة الواجب ليست بواجبة (1) فيظهر منه قبول
مقدمية الوجود للعدم.
ومنهم من قال: بتوقف وجود الضد على ترك ضده (2).
ومنهم: من فصل بين الضد الموجود وغيره، فقال بالتوقف في الأول دون
الآخر (3).
والحق: عدم التوقف من الجانبين مطلقا، وفاقا للمحققين (4) لأن التوقف
- إن كان - إنما هو من جهة التعاند والضدية، لا من جهات اخرى؛ فإنها خارجة
عن حريم البحث، فإذا كان المدعى التوقف من جهة الضدية، فلا إشكال في
أنها لا تقتضي إلا عدم اجتماع الضدين في محل واحد في زمان واحد، ورفع هذا
الاجتماع والاستحالة إنما هو بقيام عدم أحد الضدين - مع وجود الضد الآخر -
مقام وجوده، وهذا لا يقتضي تقدم العدم على الوجود.
وبعبارة اخرى: أن ما يرفع الاجتماع المستحيل هو رفع أحد الضدين مع
وجود ضده، وهذا لا يقتضي إلا كون الرفع مع وجود ضده لا مقدما عليه،
والفرض أنه لا مقتضي آخر للتقدم غير التعاند والضدية (51).

1 - شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 96 - 97.
2 - قوانين الاصول 1: 108 / السطر 20، وقد نسبه غير واحد إلى المشهور كما في بدائع
الأفكار، المحقق الرشتي: 372 / السطر 17.
3 - القائل هو المحقق الخوانساري كما في مطارح الأنظار: 104 / السطر 10.
4 - مطارح الأنظار: 107 / السطر 33، كفاية الاصول: 161.
51 - والتحقيق: أن التوقف مطلقا باطل فيهما؛ لأن العدم ليس بشيء، بل باطل محض،
فلا يمكن أن يكون دخيلا في تحقق شيء أو متأثرا من شيء، فما لا شيئية له يسلب عنه
بالسلب التحصيلي جميع الامور الثبوتية، ولا شك أن التوقف من طرف الموقوف
والموقوف عليه ثبوتي، وثبوته له فرع ثبوت المثبت له، بل ثبوت كل شيء لشيء فرع
ثبوته، فما لا شيئية له لا تقدم له ولا تأخر ولا مقارنة، فكل الحيثيات مسلوبة عنه
سلبا تحصيليا، لا بمعنى سلب شيء عن شيء، بل السلب عنه من قبيل الإخبار عن
المعدوم المطلق: بأنه لا يخبر عنه؛ لأجل التوسل بالعناوين المتحصلة في الذهن.
(مناهج الوصول 2: 14).
165

نعم، يكون التزاحم بين علتي وجود الضدين في مرتبة متقدمة، فإذا
اقتضى كل من علتي الضدين وجود معلوله يقع التزاحم لأجل التعاند بين
المعلولين، فيقدم الغالب، فيوجد معلوله، أو يتمانعان إذا لم يغلب أحدهما الآخر.
الرابع: في ثمرة المسألة
تظهر الثمرة في بطلان العبادة إذا كانت ضدا للمنهي عنه، بناء على
الاقتضاء.
وعن البهائي (رحمه الله) إنكارها؛ بدعوى أن الأمر بالضد وإن لم يقتض النهي عن
ضده، لكن يقتضي عدم الأمر به؛ ضرورة امتناع تعلق الأمر بالضدين، مع أن
صحة العبادة تتقوم بقصد التقرب، وهو لا يحصل إلا بقصد امتثال الأمر (1).
ولا يخفى: أن ما اشتهر - من أن الأمر بالضدين قبيح لا يصدر من الحكيم (2) -
ليس على ما ينبغي، بل الحق أن الأمر بالضدين؛ بإرادة البعث مع الالتفات إلى
الضدية واستحالة تحققهما في الخارج، محال لا يمكن صدوره من مريد مطلقا،
فإن البعث إلى المحال مع الالتفات مما لا يمكن صدوره من العاقل، لا لأجل
القبح، بل لأجل امتناع البعث إلى المحال.

1 - زبدة الاصول: 82 - 83.
2 - الذريعة إلى اصول الشريعة 1: 178، درر الفوائد، المحقق الحائري: 145، نهاية
الوصول: 136 / السطر 16.
166

ثم إن القوم تشبثوا لرد إيراد البهائي (رحمه الله) بوجوه:
الوجه الأول: أن مجرد الرجحان والمحبوبية يكفي لصحة التقرب،
ولا تحتاج العبادة إلى الأمر، ولا يجد العقل فرقا بين الفرد المبتلى بالمزاحم وغيره
في وجدان تمام الملاك، من غير منقصة في المبتلى لأجل التزاحم (1).
الوجه الثاني: بناء على احتياج صحة العبادة للأمر، لا نسلم امتناع تعلق
الأمر بشيئين؛ يكون أحدهما موسعا، والآخر مضيقا، بل المسلم امتناع تعلقه
بالمضيقين، فيجوز تعلق الأمر بالصلاة من دلوك الشمس إلى غسق الليل،
وبإزالة النجاسة عن المسجد في أول الوقت (2).
لكن لا يخفى: أنه في الأوامر الموسعة - إذا التزمنا بالتخيير الشرعي بين
الأفراد - لا تدفع الاستحالة؛ ضرورة امتناع تعلق الأمر بشيء معينا وتعلق الأمر
بضده على نحو التخيير؛ لاستلزامه الأمر بالضدين.
نعم، ما هو الحق والظاهر من الأدلة - من أن الأوامر إنما تتعلق بالطبائع،
ويكون الزمان مع كونه كلا ذا أجزاء وهمية، لا كليا ذا أفراد، ظرفا لوقوع
الطبيعة فيه، وتكون الطبيعة متكثرة الأفراد باعتبار وقوعها في الزمان الموسع -
يدفع الاستحالة؛ ضرورة عدم تعلق الأمر بالأفراد، بل ما يتعلق الأمر به هو
الكلي الطبيعي، والأفراد بخصوصياتها غير مأمور بها، ولا يكون تحقق الامتثال بها
لأجل تعلق الأمر بالخصوصية، بل لأجل تعلقه بالكلي.
وبالجملة: لا ضدية بين الأمر المتعلق بالطبيعة في ظرف موسع -
كالزمان، مثل إيقاع الصلاة من دلوك الشمس إلى غسق الليل، وكالمكان الموسع،
مثل الوقوف في عرفات - وبين الأمر المتعلق بفرد مضاد مع فرد منها؛ لعدم سراية

1 - كفاية الاصول: 166.
2 - جامع المقاصد 5: 13 - 14، قوانين الاصول 1: 116 / السطر 2.
167

الأمر المتعلق بالطبيعة إلى الأفراد، وعدم كون الفرد بخصوصياته متعلقا للأمر.
وبما ذكرنا: - من عدم سراية الأمر المتعلق بالطبيعة إلى الخصوصيات
المميزة الفردية - يظهر فساد ما قيل: من أن الأمر بالموسع على سبيل الإطلاق
يضاد الأمر بالفرد المعين، فلا يمكن إرادة كليهما ولا إيجابهما، فإن الممتنع
الشرعي كالعقلي، فإذا صار إطلاق الأمر بالطبيعة منشأ لتفويت الواجب المضيق،
فلابد من تقييده أو تخصيصه بغير الفرد المعين (1)؛ فإن المنافاة بينهما إنما تكون لو
سرى الأمر بالطبيعة إلى الخصوصيات المشخصة المميزة الفردية، مع أن الأمر
ليس كذلك؛ لأن متعلقه في الموسع هو الطبيعة المجردة عن الخصوصيات،
وهي متعلق واحد لأمر واحد، فلا معنى للتقييد والتخصيص فيها.
وبالجملة: نشأ الاشتباه من توهم سراية الأمر بالطبيعة إلى أفرادها، مع
أنها ممنوعة؛ ضرورة أن المولى لابد وأن يأخذ في متعلق تكليفه كل ما هو دخيل
في تحصيل المصلحة، وتكون حدود الموضوع - بجميع أجزائه وشرائطه -
مأخوذة في متعلق أمره لا يشذ منها شيء، ولا يجوز أخذ ما ليس دخيلا في
المصلحة فيه؛ للزوم اللغو والجزاف، فكما أن عدم أخذ ما هو دخيل في
المصلحة ممتنع؛ للزوم التفويت، كذلك أخذ ما ليس دخيلا فيها في المتعلق
ممتنع؛ للزوم اللغو والجزاف.
فإذا قامت المصلحة بالطبيعة الكلية في الظرف الموسع الزماني أو
المكاني، فلا يمكن أخذ خصوصية من الظرفين - أية خصوصية كانت - في
متعلق التكليف، فلو تعلق التكليف بالصلاة من دلوك الشمس إلى الغروب،
لا يكون شيء من أجزاء الزمان متعلقا للتكليف، ومأخوذا في المتعلق على نعت

1 - انظر جامع المقاصد 5: 13، ومطارح الأنظار: 119 / السطر 24، درر الفوائد، المحقق
الحائري: 140، الهامش.
168

الخصوصية المميزة، ولو مضى من أول الوقت مقدار أربع ركعات لا تصير الطبيعة
مخصصة؛ فإن القدرة على الطبيعة بحالها وإن سلبت عن الفرد، فالفرد الخارج
عن تحت القدرة بواسطة مضي الوقت لم يكن متعلق الأمر، والطبيعة المأمور بها
مقدورة ما دام الوقت باقيا، ولو مضى الوقت، ولم يبق منه إلا مقدار أربع ركعات،
لا يصير الفرد بخصوصيته متعلقا للأمر لأن الخصوصية غير دخيلة في تحصيل
المصلحة، فأخذها في المتعلق جزاف.
نعم، مع ضيق الوقت يصير تحريك الأمر نحو الطبيعة تحريكا لإتيان الفرد
بالتبع؛ بمعنى أن العقل يحكم بلزوم إتيان الفرد، لخروج الطبيعة مع مضي هذا
الزمان أيضا عن تحت القدرة، ويكون في تركه تفويت المصلحة.
وبالجملة: إن الفرد بخصوصيته لا يكون متعلقا للأمر، ولا يكون الأمر
بالطبيعة مضادا مع الأمر بالفرد.
وبهذا يظهر فساد ما قيل: من أن الفرد إذا كان مبتلى بالضد في الأفراد
الطولية كالزمان، فلابد وأن تصير الطبيعة مخصصة بالنسبة إليه؛ لأن الطبيعة
غير مقدورة؛ لعدم تصور فرد لها مقدور في الزمان المبتلى بالضد، وهذا بخلاف
الأفراد العرضية؛ فإن القدرة عليها محفوظة مع فرد ما.
وجه الفساد: أن الطولية والعرضية لا دخالة لهما فيما ذكرنا من أن
الطبيعة الكلية تحت الأمر، وهي مقدورة ما دام فرد ما منها مقدورا، ففي الزمان
الذي يكون الفرد مبتلى بالضد، تكون الطبيعة مقدورة لأجل الأفراد الاخر،
ولا تكون الطبيعة مقيدة بزمان خاص حتى تصير غير مقدورة فيه إذا ابتلي بالضد.
ولعمري إن هذا الاشتباه ناش من اشتباه الكلي بالفرد؛ فإن الغير المقدور
هو الطبيعة المقيدة بالزمان، لا الطبيعة الكلية الغير المقيدة (52).

52 - هذا، ويمكن أن يقال: إن ملاك استحالة الأمر بالضدين - وهو التكليف بالمحال - موجود
مع تضييق الوقت، أو انحصار الفرد، أو كون الأفراد طولية؛ فإن معنى تعلق الأمر بالطبيعة
هو البعث إلى إيجادها، والأمر وإن تعلق بنفس الماهية لكن البعث إليها هو البعث إلى
إيجادها، فمع ضيق الوقت إن كان البعث إلى إيجادها فعليا، وكذلك إلى ضد مصداقها، ينتهي
الأمر إلى التكليف بالمحال؛ لأن إيجاد الطبيعة وضد المصداق مما لا يمكن في الوقت
المضيق، وكذا الحال مع انحصار المصداق، بل مع كون الأفراد طولية؛ فإن فعلية الأمر
بالطبيعة في وقت يكون فردها مبتلى بالضد الواجب، لازمها التكليف بالمحال.
هذا، لكن سيأتي تحقيق الحال بما يدفع الإشكال، فانتظر. (مناهج الوصول 2: 22).
169

هذا حال الموسع والمضيق، وقد عرفت صحة تعلق الأمرين بالطبيعة
والفرد بلا لزوم محال.
تحقيق في مسألة الترتب
الوجه الثالث: تصوير تعلق الأمرين بشيئين مضيقين على نحو الترتب،
وبيانه يتوقف على مقدمات:
الاولى: - وهي العمدة في هذا الباب وإن غفل عنها القائلون بالترتب، أو لم
يعتنوا بها كما هو حقها، واعتنوا بمقدمات اخر ليست كثيرة الدخالة في تحقيق
المطلب - أن الملاك في بطلان الأمر بالضدين واستحالته ليس هو الأمر
بالمحال؛ فإن الأمر المتعلق بكل من الضدين أمر بالمقدور الممكن لا المحال،
ومجموع الأمرين ليس موجودا على حدة، فالأمر بالصلاة في أول الزوال أمر
بمقدور ممكن، والأمر بأداء الدين فيه أمر أيضا بممكن مقدور، وليس هاهنا أمر
آخر يكون أمرا بممكن أو محال، فليس ملاك استحالة الأمرين بضدين هو الأمر
بالمحال.
بل الملاك هو أن البعث إلى أحد الضدين في رتبة البعث إلى الضد الآخر،
يكون مشتركا في الاستحالة مع الأمر بجمع الضدين؛ ضرورة عدم إمكان العبد
170

من الجمع بين الضدين، فالمولى إذا توجه إلى ذلك لا يمكن أن يأمره بأحد
الضدين في رتبة الأمر بالضد الآخر؛ فإن البعث إلى أحدهما - في رتبة البعث
إلى الآخر - شريك الأمر بالجمع بين الضدين في الملاك، لا هو نفس الأمر
بالضدين، فإذا أمر بالصلاة في أول الزوال، لا يمكن أن يأمر بإزالة النجاسة من
المسجد في رتبة هذا الأمر، لا للأمر بالجمع بين الضدين، بل لوجدان ملاكه.
الثانية: أن رتبة عصيان كل أمر متأخرة عن نفس الأمر، كما أن رتبة
اطاعته كذلك، فما لم يكن هنا أمر، لم يكن ولم يمكن عصيان ولا إطاعة، فهما
متأخران عن الأمر والنهي المتعلقين بالموضوع، وهذه واضحة (53).

53 - إن العصيان لا يكون متأخرا رتبة عن الأمر؛ لعدم ملاك التأخر الرتبي فيه؛ فإنه إما من
ناحية العلية والمعلولية، أو كون شيء جزء للعلة أو جزء للماهية أو شرطا للتأثير أو
التأثر، وكلها مفقود بالنسبة إلى العصيان.
لا يقال: إن إطاعة كل أمر متأخرة عن الأمر رتبة؛ لأنها عبارة عن الانبعاث عن البعث،
ولا إشكال في تأخر الانبعاث عن البعث رتبة تأخر المعلول عن علته أو عن جزئها،
والعصيان عبارة عن ترك الامتثال بلا عذر، وهو مصداق نقيض الإطاعة، والماهية
ومصداقها ليسا في رتبتين؛ لمكان اتحادهما الذاتي، فالعصيان في رتبة نقيض الإطاعة،
ونقيض الإطاعة في رتبتها؛ لأن النقيضين في رتبة واحدة، وما مع المتأخر رتبة متأخر
كذلك، فينتج أن العصيان متأخر عن الأمر. (مناهج الوصول 2: 46 - 47).
فإنه يقال: منع كون النقيضين في رتبة واحدة؛ لأن نقيض كل شيء رفعه، فنقيض البياض
في المرتبة رفعه على أن يكون القيد للمسلوب لا للسلب، فإذا لم يصدق كون المعلول في
رتبة علته، صدق عدم كونه في رتبتها بنحو السلب التحصيلي مفاد الهلية المركبة، أو
بنحو السلب المحمولي للمقيد على أن يكون القيد للمسلوب، وإن كذب كون عدمه في
رتبتها، فنقيض كون المعلول في رتبة العلة عدم كونه في رتبتها، لا كون العدم في رتبتها.
(مناهج الوصول 2: 12 - 13).
نعم، العصيان يتأخر عن الأمر زمانا لو اغمض عن الإشكال الآتي، وهو غير التأخر
الرتبي.
هذا، مضافا إلى أن العصيان عبارة عن ترك المأمور به بلا عذر، وهو معنى عدمي لا يمكن
أن يتصف بحيثية وجودية مطلقا. وقد تكرر منا: أن القضايا الصادقة التي موضوعاتها
امور عدمية لابد وأن تكون من السالبة المحصلة أو ترجع إليها، والموجبات مطلقا
لاتصدق في الأعدام إلا بتأول، وفي بعض القضايا الغير المعتبرة، كقوله: " العدم عدم "،
فالعصيان بما أنه عدمي لا يمكن أن يتأخر عن شيء أو يتقدم، ولا يمكن أن يكون موضوعا
لحكم ولا شرطا لشيء أو مانعا عنه.
وبما ذكرنا ينهدم أساس الترتب؛ لأنه مبني على التقدم والتأخر الرتبيين، وهما بين الأمر
وإطاعته - على تأمل فيه أيضا - لا بينه وبين عصيانه. اللهم إلا أن يجعل الموضوع هو
الذي لا يأتي بالمأمور به بلا عذر، لكن مع ذلك لا يكون التقدم رتبيا. (مناهج الوصول 2:
47 - 48).
171

الثالثة: أن شرائط التكا ليف متقدمة عليها نحو تقدم الموضوعات على
الأحكام، فالاستطاعة متقدمة رتبة على الأمر المتعلق بالحج بشرط
الاستطاعة.
وإن شئت قلت: إن الشرائط كلها ترجع إلى تقيد الموضوع بها، فتقدمها على
الأمر تقدم الموضوع على الحكم، فكما أن الأمر إذا تعلق بالمستطيع، فقيل:
" يجب على المستطيع الحج "، تكون الاستطاعة متقدمة عليه، كذلك الأمر
المشروط، بل تقدم الشرط عليه أوضح (54).

54 - أقول: ما ذكره من عدم تأخر الحكم عن شرطه زمانا متين، سواء رجعت الشرائط إلى
قيود الموضوع أو لا...، لكن كل شرط إنما يتقدم على مشروطه رتبة في ظرف تحققه،
لا حال عدمه.
وبعبارة اخرى: أن وجود الشرط يتقدم على المشروط تقدما رتبيا، فقبل وجود الشرط
لا يمكن تحقق المشروط بالضرورة، فحينئذ يلاحظ فإن كان الشرط أمرا زمانيا فلابد من
تحققه في زمانه حتى يتحقق بعده مشروطه بلا تخلل آن بينهما، وكذا لو كان غير زماني.
فإذا فرضنا واجبين مضيقين أحدهما أهم، كإنقاذ الابن في أول الزوال وإنقاذ العم في أوله،
ويكون ظرف إنقاذ كل منهما ساعة بلا نقيصة ولا زيادة، فمع أمر المولى بإنقاذ الابن مطلقا
لا يعقل تعلق أمره بإنقاذ العم مشروطا بعصيان أمر الأهم؛ لأن العصيان عبارة عن ترك
المأمور به بلا عذر في مقدار من الوقت يفوت به الإتيان به، ولا محالة يكون ذلك في
زمان، ولا يعقل أن يكون الترك في غير الزمان؛ أي في ظرفه محققا للمعصية؛ لعدم
محققية الفوت به، ففوت الأهم المحقق لشرط المهم لا يتحقق إلا بمضي زمان لا يتمكن
المكلف من إطاعة أمره، ومضي هذا الزمان كما أنه محقق لفوت الأهم، محقق لفوت
المهم أيضا، فلا يعقل تعلق الأمر بالمهم في ظرف فوته، ولو فرض الإتيان به قبل عصيان
الأهم، يكون بلا أمر، وهو خلاف مقصود القائل بالترتب. (مناهج الوصول 2: 38 - 39).
وهذا الإشكال يهدم أساس الترتب، سواء في مضيقين، أو مضيق وموسع.
أما الأول: فقد عرفت.
وأما الثاني: فبعين ما ذكرنا؛ لأنه إذا فرض كون أحدهما موسعا، لكن يكون أول زمانه
أول الزوال الذي هو ظرف إتيان المضيق، لا يعقل تعلق الأمر بالموسع أول الزوال مشروطا
بعصيان المضيق؛ لما عرفت من أن العصيان ترك المأمور به في مقدار من الزمان يفوت به
الأهم، فلابد من تعلق الأمر بالموسع بعد مضي زمان يتحقق به العصيان، وهو هدم أساس
الترتب.
وكذا الحال لو فرض أن العصيان آني الوجود؛ لأنه قبل مضي هذا الآن لا يتحقق شرط
المهم، فيكون ظرف تحقق أمر الأهم فقط، وبتحققه سقط أمر الأهم بحصول العصيان
ومضي أمد اقتضائه، ولا يعقل بقاؤه على فعليته بعد عصيانه ومضي وقته، فتفويت متعلق
الأهم في رتبة متقدمة أو آن متقدم على تعلق أمر المهم، وسقوط أمر الأهم وثبوت أمر
المهم في رتبة واحدة أو آن واحد، فأين اجتماعهما؟!
وإن شئت قلت: إن اجتماعهما مستلزم لتقدم المشروط على شرطه، أو بقاء فعلية الأمر
بعد عصيانه ومضي وقته، وهما باطلان. (مناهج الوصول 2: 40 - 41).
172

إذا عرفت ذلك يتضح لك تصوير الترتب، ولا تحتاج إلى طول مقدمات غير
دخيلة في المقصود؛ فإن الأمر بالمهم أمر بمقدور، وكذا الأمر بالأهم، فلا يكون
173

ملاك الاستحالة هو الأمر بالمحال، كما عرفت في اولى المقدمات، فلابد للقول
بالاستحالة من التشبث بالكبرى الاخرى، وهي وحدة الملاك بين الأمر بهما
وبين الأمر بالجمع بين الضدين في الاستحالة، ووحدة الملاك إنما هي مسلمة
إذا كان البعثان في رتبة واحدة، فيتعلق البعث بالمهم في رتبة تعلقه بالأهم.
لكن الأمر فيما نحن فيه ليس كذلك؛ فإن البعث بالمهم متأخر رتبة عن
البعث بالأهم بمرتبتين، فإن البعث بالمهم مشروط بعصيان الأهم، فالعصيان
متقدم عليه تقدم الموضوع على حكمه، وعصيان الأهم متأخر رتبة عن الأمر
بالأهم فالأمر بالأهم متقدم على عصيانه، وهو متقدم على الأمر بالمهم، فالأمر
بالأهم متقدم على الأمر بالمهم برتبتين، فملاك الاستحالة - أي كون البعثين في
رتبة واحدة - غير موجود، فالترتب حق.
فتلخص مما ذكرنا: أن ملاك الاستحالة في الأمر بالضدين ليس موجودا
فيما نحن فيه؛ فإن أحد الأمرين مشروط بعصيان الآخر، ومتأخر عنه.
فإن قلت: بناء على ما ذكرت: - من أن الأمر بالأهم لا يكون في رتبة
عصيانه - لابد أن يشترط الأمر به بعدم عصيانه، كما أن الأمر بالمهم مشروط
بعصيانه، فالأمران كلاهما مشروطان، أحدهما: بعدم عصيان نفسه، وثانيهما:
بعصيان ضده، مع أن اشتراط الشيء بعصيانه ولا عصيانه غير معقول؛ للزوم
التناقض وتحصيل الحاصل، كما أن إطلاقه أيضا غير معقول؛ لأن الإطلاق
والاشتراط توأمان في الجواز واللاجواز.
قلت: إن الأمر بالأهم لا يكون مشروطا بشيء أصلا، بل هو متعلق بذات
العاصي والمطيع - أي الإنسان - وهو الذي يعبر عنه بالإطلاق الذاتي،
ولا محذور فيه.
إن قلت: إن الأمر بالأهم طارد للأمر بالمهم؛ لمكان المضادة وإطلاقه
174

الذاتي، وإن كان الأمر بالمهم غير طارد للأمر بالأهم؛ لمكان الاشتراط.
قلت: كلا؛ فإن رتبة العصيان رتبة غيبة الأمر وعدم تأثيره في تحريك
العبد، والأمر وإن كان موجودا، لكنه في موضوعه المتقدم على العصيان، وهو
أمر غير ذي أثر في رتبة العصيان، والأمر بالأهم متقدم على الأمر بالمهم
برتبتين، ولا يمكن التجافي لا من ناحية الأمر بالأهم المتقدم، ولا من ناحية
الأمر بالمهم المتأخر، فلا يعقل أن يكون واحد منهما طاردا لصاحبه.
وقد عرفت: أن ملاك الاستحالة هو المطاردة، وملاكها هو كون الأمرين
في رتبة واحدة.
إن قلت: إن كان اختلاف الرتبة مصححا للأمر بالضدين وموجبا لرفع
المطاردة، فليجز الأمر بالضدين مع اشتراط أحدهما بإطاعة الآخر؛ فإن ملاك
رفع المطاردة - وهو التقدم والتأخر الرتبيان - موجود في ذلك أيضا (1).
قلت: كلا، فإن الفرق بينهما كالنار على المنار؛ فإن الأمر بإيجاد شيء مع
اشتراطه بإيجاد ضده في هذا الزمان بعث نحو الضدين وتحريك نحو المتنافيين،
وفيه ملاك الأمر بالضدين، بل يكون أسوأ حالا من الأمر بشيئين في مرتبة
واحدة؛ يكون كل واحد منهما مقدورا في ذاته، وغير مقدور في رتبة البعث إلى
الآخر.
فإن قلت: على هذا لو ترك المكلف الضدين فلابد من الالتزام بعقابين، مع
أنه عقاب بأمر غير مقدور؛ لعدم القدرة على إيجادهما (2).
قلت: أي مانع عقلي من الالتزام بعقابين بعد فرض توجه أمرين على نحو
الترتب؛ لأن القدرة متحققة، لكن على سبيل الترتب. فالعبد قادر على إتيان

1 - انظر كفاية الاصول: 167.
2 - كفاية الاصول: 168.
175

الأهم، وحينئذ لا عقاب له أصلا، وقادر على إتيان المهم فحينئذ عليه عقاب
واحد على ترك الأهم، وقادر على ترك المهم أيضا، فله عقابان وليس العقابان
على أمر غير مقدور.
وبالجملة: ما هو المصحح لتعلق الأمرين هو المصحح لصحة العقوبتين.
ثم إنه قد يشتبه الأمر بسبب اختلاط العصيان الرتبي بالخارجي، فيقال:
إن شرط الأمر بالمهم لما كان هو عصيان الأمر بالأهم، وهو لا يتحقق إلا بمضي
زمان الأهم، فيكون الأمر بالمهم بعد مضي زمان إتيانه؛ لأن المفروض اتحاد
زمان الأهم والمهم، وهو كما ترى (1).
والجواب: أن الشرط هو العصيان الرتبي، وهو يحصل قبل انقضاء الزمان،
لا العصيان الزماني المتوقف على مضي زمانه (55).

1 - انظر فوائد الاصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 346.
55 - ما سلكناه في هذا المضمار، وهو تصوير الأمر بالأهم والمهم في عرض واحد بلا تشبث
بالترتب، وهو يبتني على مقدمات:
المقدمة الاولى: أنه سيأتي في محله أن الأوامر متعلقة بالطبائع، وأن الخصوصيات
الفردية مطلقا خارجة عن المتعلق وإن كانت متحدة معها خارجا.
المقدمة الثانية: أن الإطلاق بعد تمامية مقدماته يباين العموم في أن الحكم فيه لم
يتعلق إلا بنفس الماهية أو الموضوع من غير دخالة فرد أو حال أو قيد فيه، وليس
الحكم متعلقا بالأفراد والحالات والطوارئ، ففي قوله: " اعتق الرقبة " تكون نفس
الطبيعة - لا أفرادها أو حالاتها - موضوعا للحكم؛ فإن الطبيعة لا يمكن أن تكون حاكية
ومرآة للأفراد والخصوصيات وإن كانت متحدة معها خارجا، وهذا بخلاف العموم، فإن
أداته وضعت لاستغراق أفراد المدخول، فيتعلق الحكم فيه بالأفراد المحكية بعنوان الكل
والجميع.
المقدمة الثالثة: أن التزاحمات الواقعة بين الأدلة بالعرض لأجل عدم قدرة المكلف
على الجمع بين امتثالها - كالتزاحم بين وجوب إزالة النجاسة من المسجد ووجوب
الصلاة، حيث تكون متأخرة عن تعلق الحكم بموضوعاتها وعن ابتلاء المكلف بالواقعة -
لم تكن ملحوظة في الأدلة، ولا تكون الأدلة متعرضة لها، فضلا عن التعرض لعلاجها،
فقوله: " أزل النجاسة عن المسجد " - مثلا - لا يكون ناظرا إلى حالات الموضوع - كما
عرفت في المقدمة المتقدمة - فضلا عن أن يكون ناظرا إلى حالاته مع موضوع آخر
ومزاحمته معه، فضلا عن أن يكون ناظرا إلى علاج المزاحمة، فاشتراط المهم بعصيان
الأهم - الذي هو من مقدمات الترتب - لا يمكن أن يكون مفاد الأدلة إن كان المراد شرطا
شرعيا مأخوذا في الأدلة، ولا يكون بنحو الكشف عن الاشتراط؛ لما سيأتي من عدم
لزومه بل عدم صحته، وسيأتي حال حكم العقل.
المقدمة الرابعة: أن الأحكام الشرعية القانونية المترتبة على موضوعاتها على قسمين:
أحدهما: الأحكام الإنشائية، وهي التي انشئت على الموضوعات ولم تبق على ما هي
عليه في مقام الإجراء، كالأحكام الكلية قبل ورود المقيدات والمخصصات ومع قطع
النظر عنهما، أو لم يئن وقت إجرائها، كالأحكام التي بقيت مخزونة لدى ولي العصر
- عجل الله فرجه - ويكون وقت إجرائها زمان ظهوره؛ لمصا لح تقتضيها العناية الإلهية.
ثانيهما: الأحكام الفعلية، وهي التي آن وقت إجرائها، وبلغت موقع عملها بعد تمامية
قيودها ومخصصاتها، ف‍ (أوفوا بالعقود) بهذا العموم حكم إنشائي، والذي بقي بعد ورود
المخصصات عليه بلسان الكتاب والسنة هو الحكم الفعلي، ونجاسة بعض الطوائف
المنتحلة للإسلام وكفرهم حكمان إنشائيان في زماننا، وإذا بلغا وقت إجرائهما يصيران
فعليين.
وأما الفعلية والشأنية بما هو معروف - من أن الحكم بالنسبة إلى الجاهل والغافل
والساهي والعاجز يكون شأنيا، وبالنسبة إلى مقابليهم يصير فعليا - فليس لهما وجه
معقول؛ لأن الاشتراط الشرعي في بعضها غير معقول، مع عدم الدليل عليه في جميعها،
والتصرف العقلي غير معقول، كما سيتضح لك.
وبالجملة: إن الأحكام المضبوطة في الكتاب والسنة لا يعقل فيها غير هاتين المرتبتين،
فقوله: (لله على الناس حج البيت...) إلخ لا يختلف بالنسبة إلى الجاهل والعالم،
ولا معنى للفعلية والشأنية في هذا الحكم المجعول المنضبط، وكذا لا يعقل تغيير إرادة
الله - تعالى - الصادع بالشرع؛ لامتناع تغيرها، كما هو معلوم لدى أهله.
وأما الاقتضاء والتنجز فليسا من مراتب الحكم: أما الأول فواضح، وأما الثاني فلأنه حكم
عقلي غير مربوط بمراتب الأحكام المجعولة، ومعنى تنجزه قطع عذر المكلف في
المخالفة، وعدمه كونه معذورا فيها، من غير تغيير وتبديل في الحكم ولا في الإرادة.
المقدمة الخامسة: أن الأحكام الكلية القانونية تفترق عن الأحكام الجزئية من
جهات، صار الخلط بينهما منشأ لاشتباهات:
منها: حكمهم بعدم منجزية العلم الإجمالي إذا كان بعض الأطراف خارجا عن محل
الابتلاء؛ بتوهم أن الخطاب بالنسبة إليه مستهجن.
وقد ذكرنا في محله أن الاستهجان ليس في الخطابات الكلية المتوجهة إلى عامة
المكلفين، فراجع.
ومنها: توهم أن الخطاب لا يعقل أن يتوجه إلى العاجز والغافل والساهي؛ ضرورة أن
الخطاب للانبعاث، ولا يعقل انبعاث العاجز ومثله.
وهذا - أيضا - من موارد الخلط بين الحكم الكلي والجزئي؛ فإن الخطاب الشخصي إلى
العاجز ومثله لغو ممتنع صدوره من الملتفت، وهذا بخلاف الخطابات الكلية المتوجهة
إلى العناوين الكلية، كالناس والمؤمنين، فإن مثل تلك الخطابات تصح من غير استهجان
إذا كان فيهم من ينبعث عنها، ولا يلزم أن تكون باعثة أو ممكنة البعث بالنسبة إلى جميعها
في رفع الاستهجان.
ألا ترى أن الخطاب الشخصي إلى من كان عاصيا، أو الكلي إلى عنوان العصاة، مستهجن
غير ممكن الصدور من العاقل الملتفت، ولكن الخطاب العمومي غير مستهجن بل واقع؛
لأن الضرورة قائمة على أن الخطابات والأوامر الإلهية شاملة للعصاة؛ وأن بناء
المحققين على أنها شاملة للكفار أيضا، مع أن الخطاب الخصوصي إلى الكفار المعلومي
176



الطغيان من أقبح المستهجنات، بل غير ممكن لغرض الانبعاث، فلو كان حكم الخطاب
العام كالجزئي فلابد من الالتزام بتقييد الخطابات بغيرهم، وهو كما ترى.
وكذا الحال في الجاهل والغافل والنائم وغيرهم مما لا يعقل تخصيصهم بالحكم، ولا يمكن
توجه الخطاب الخصوصي إليهم، وإذا صح في مورد فليصح فيما هو مشترك معه في
المناط، فيصح الخطاب العمومي لعامة الناس من غير تقييد بالقادر، فيعم جميعهم، وإن
كان العاجز والجاهل والناسي والغافل وأمثالهم معذورين في مخالفته، فمخالفة الحكم
الفعلي قد تكون لعذر كما ذكر، وقد لا تكون كذلك.
والسر فيما ذكرنا: هو أن الخطابات العامة لا ينحل كل منها إلى خطابات بعدد نفوس
المكلفين؛ بحيث يكون لكل منهم خطاب متوجه إليه بالخصوص، بل يكون الخطاب
العمومي خطابا واحدا يخاطب به العموم، وبه يفترق عن الخطاب الخصوصي في كثير
من الموارد.
هذا، مضافا إلى أن الإرادة التشريعية ليست إرادة إتيان المكلف وانبعاثه نحو العمل، وإلا
يلزم في الإرادة الإلهية عدم انفكاكها عنه وعدم إمكان العصيان، بل هي عبارة عن إرادة
التقنين والجعل على نحو العموم، وفي مثله يراعى الصحة بملاحظة الجعل العمومي
القانوني، ومعلوم أنه لا تتوقف صحته على صحة الانبعاث بالنسبة إلى كل الأفراد، كما
يظهر بالتأمل في القوانين العرفية.
المقدمة السادسة: أن الأحكام الشرعية غير مقيدة بالقدرة لا شرعا ولا عقلا:
أما شرعا فظاهر؛ فإنه ليس في الأدلة ما يوجب التقييد بالقدرة العقلية، ولو فرض التقييد
الشرعي للزم الالتزام بجواز إيجاد المكلف العذر لنفسه، ولا أظن التزامهم به، وللزم
جريان البراءة عند الشك في القدرة، ولا يلتزمون به، وليس ذلك إلا لعدم تقييد شرعي.
ومن ذلك يعلم عدم كشف التقييد الشرعي عقلا.
وأما التقييد العقلي - بمعنى تصرفه في الأدلة - فهو لا يرجع إلى محصل؛ بل تصرف العقل
في إرادة المولى أو جعله مما لا معنى معقول له، والتقييد والتصرف لا يمكن إلا للجاعل لا
لغيره.
نعم للعقل الحكم في مقام الإطاعة والعصيان، وأن مخالفة الحكم في أي مورد توجب
استحقاق العقوبة، وفي أي مورد لا توجب لمعذورية العبد، وليس للعقل إلا الحكم بأن
الجاهل والعاجز ونظيرهما معذورون في ترك الواجب أو إتيان الحرام، من غير تصرف في
الدليل.
المقدمة السابعة: أن الأمر بكل من الضدين أمر بالمقدور الممكن، والذي يكون غير
مقدور هو جمع المكلف بين الإتيان بمتعلقهما، وهو غير متعلق للتكليف، فإذا أمر المولى
بإزالة النجاسة عن المسجد وأمر بالصلاة لا يكون له إلا أمر بهذه وأمر بتلك، ومجموع
الأمرين ليس موجودا على حدة، والأمر بالجمع أو المجموع غير صادر من المولى، وقد
تقدم أن الأمر لا يتعلق إلا بنفس الطبائع، من غير نظر إلى الخصوصيات والحالات الطارئة
وجهات التزاحم وعلاجه.
إذا عرفت ما ذكر فاعلم: أن متعلقي التكليفين قد يكونان متساويين في الجهة
والمصلحة، وقد يكون أحدهما أهم.
فعلى الأول لا إشكال في حكم العقل بالتخيير؛ بمعنى أن العقل يرى أن المكلف مخير في
إتيان أيهما شاء، فإذا اشتغل بأحدهما، يكون في مخالفة الأمر الآخر معذورا عقلا، من غير
أن يكون تقييد واشتراط في التكليف والمكلف به، ومع عدم اشتغاله بذلك لا يكون معذورا
في ترك واحد منهما؛ فإنه قادر على إتيان كل واحد منهما، فتركه يكون بلا عذر؛ فإن
العذر عدم القدرة، والفرض أنه قادر على كل منهما، وإنما يصير عاجزا عن عذر إذا اشتغل
بإتيان أحدهما، ومعه معذور في ترك الآخر، وأما مع عدم اشتغاله به، فلا يكون معذورا
في ترك شيء منهما، والجمع لا يكون مكلفا به حتى يقال: إنه غير قادر عليه، وهذا
واضح بعد التأمل.
وأما إذا كان أحدهما أهم: فإن اشتغل بإتيان الأهم، فهو معذور في ترك المهم؛ لعدم القدرة
عليه مع اشتغاله بضده بحكم العقل، وإن اشتغل بالمهم، فقد أتى بالمأمور به الفعلي،
لكن لا يكون معذورا في ترك الأهم، فيثاب بإتيان المهم ويعاقب بترك الأهم.
فقد اتضح مما ذكرنا أمران:
أحدهما: أن الأهم والمهم كالمتساويين في الأهمية؛ كل منهما مأمور به في عرض
الآخر، والأمران العرضيان فعليان متعلقان بعنوانين كليين، من غير تعرض لهما لحال
التزاحم وعجز المكلف، والمطاردة التي تحصل في مقام الإتيان لا توجب تقييد الأمرين أو
أحدهما أو اشتراطهما أو اشتراط أحدهما بحال عصيان الآخر، لا شرعا ولا عقلا، بل تلك
المطاردة لا توجب عقلا إلا المعذورية العقلية عن ترك أحد التكليفين حال الاشتغال
بالآخر، وعن ترك المهم حال اشتغاله بالأهم.
فظهر: أن الأمر بالشيء لا يقتضي عدم الأمر بضده في التكا ليف الكلية القانونية، كما فيما
نحن فيه. فما ادعى شيخنا البهائي ليس على ما ينبغي، كما أن ما أجابوا عنه بنحو الترتب
وتصوير الأمر بالمهم مشروطا بعصيان الأهم مما لا أساس له، كما سيتضح لك.
وثانيهما: أن المكلف مع ترك الأهم والمهم يستحق عقابين؛ لما تقدم تفصيله.
ولو تأملت فيما تقدم تأملا صادقا، وتدبرت فيه تدبرا أكيدا، يسهل لك التصديق بما ذكرنا،
والله ولي الأمر. (مناهج الوصول 2: 23 - 30).
176

نقل كلام لتحقيق مرام
إن للشيخ العلامة الأنصاري (رحمه الله) كلاما، حاصله: أنه - بناء على الالتزام
بالسببية في باب حجية خبر الواحد - إذا تعارض الخبران - يكونان لا محالة
من قبيل المتزاحمين؛ لقيام المصلحة فيهما على هذا المبنى، فيتقيد إطلاق كل
منهما بعدم الآخر، ولا يسقط الخطابان؛ لأن التزاحم يرتفع بواسطة هذا التقييد (1).
وقد أورد عليه بعض المعاصرين على ما في تقريرات بحثه: بأنه التزام
بترتبين، فضلا عن ترتب واحد؛ فإن الالتزام بخطابين - يكون كل منهما مترتبا على
عدم امتثال الآخر - التزام بما ذكرنا، مع أن الشيخ (قدس سره) أنكر إمكان الترتب، والتزم
بسقوط خطاب المهم رأسا، لا بسقوط إطلاقه فقط (2). انتهى.

1 - فرائد الاصول: 438 / السطر 9.
2 - انظر فوائد الاصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 338، 339.
181

ولكن بعد إعطاء التأمل في كلام الشيخ (رحمه الله)، يعرف أن ما أورده عليه أجنبي
عما هو مراده، فإن مراده أنه بعد الالتزام بالسببية يكون التعارض بينهما من قبيل
التزاحم، ويكون نتيجة تزاحمهما تقييدا لإطلاق كل منهما بعدم إتيان الآخر، وهو
عبارة اخرى عن التخيير العقلي، وبهذا يرتفع محذور التزاحم، ولا يحتاج إلى
سقوط الخطابين، وهذا غير التقييد بالعصيان الذي هو مناط صحة الترتب؛ كي
يكون كل منهما مترتبا على الآخر، بل المراد تعين كل منهما في ظرف عدم الآخر
بما أنه عدمه، لا بما أنه عصيانه.
نعم، لو كان عدم الآخر بمعنى التمرد والعصيان، وكان وجوب كل منهما
مشروطا بعصيان صاحبه، لكان الإشكال واردا، ولكن تفسير كلامه بذلك
ضروري البطلان.
هذا تمام الكلام في مسألة الترتب، والزائد عليه من قبيل الزام ما لا يلزم،
أو من قبيل التوضيح والتشريف لها.
182

المطلب السادس
في أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه
إعلم: أنه قد وقع تحريف من المتأخرين في هذا المبحث (1)، وما هو عند
القدماء منه غير ذلك (2)؛ ضرورة أنه لا محصل لهذا العنوان، فإنه مع انتفاء
الشرط ينتفي المشروط، فبانتفاء شرط الأمر ينتفي الأمر بالضرورة، فيصير
ملخص هذا العنوان: أنه مع عدم الأمر هل يجوز الأمر أم لا؟ وهل هذا إلا
التناقض؟ والذي يكون معقولا في هذا المبحث، ويكون معنونا عند القدماء هو
أنه هل يجوز أمر الآمر مع وجدانه لشرائطه حين الأمر، لكنه يعلم فقدان
شرطه حين حضور العمل، أم لا؟ كما في أمره مع علمه بالنسخ قبل حضور وقت
العمل، كما في أمره تعالى بذبح إسماعيل (عليه السلام) مع علمه بالفداء وفقدان شرطه
حين حضور العمل.

1 - انظر معا لم الدين: 85، وقوانين الاصول 1: 124 / السطر 5، والفصول الغروية: 109 /
السطر 15 وغيرها.
2 - انظر الذريعة إلى اصول الشريعة 1: 430، وعدة الاصول 2: 518، ومعارج الاصول:
167 و 168.
183

فالأشاعرة لما التزموا بالكلام النفسي غير الإرادة وسائر الصفات
النفسانية (1)، فقد التزموا بإمكانه، فإن الطلب - الذي هو الكلام النفسي عندهم -
قد يتعلق بأمر مع علم الآمر بفقدان شرطه حين العمل (2).
والمعتزلة لما أبطلوا ذلك، وذهبوا إلى أنه ليس وراء العلم والإرادة وسائر
الصفات النفسانية الوجدانية شيء في النفس يكون هو الكلام النفسي أو
الطلب (3)، فقد التزموا بمحالية تعلق الإرادة بشيء يكون الآمر عالما بفقدان
شرط أمره وقت حضور العمل.
وأما قضية إسماعيل (عليه السلام) وأمثالها فقد فرغنا من تحقيقها في محلها،
فراجع (56).

1 - شرح المواقف 8: 91 - 104، شرح المقاصد 4: 147 - 151.
2 - انظر شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 106، 108، والمستصفى من علم
الاصول 1: 112 - 116، والمحصول في علم اصول الفقه 1: 541.
3 - انظر المعتمد في اصول الفقه 1: 376.
56 - ثم إن البحث قد يقع في الأوامر الشخصية، كأمره - تعالى - للخليل (عليه السلام)، وقد يقع في
الأوامر الكلية القانونية، فعلى الأول فلا إشكال في امتناع توجه البعث لغرض الانبعاث
إلى من علم الآمر فقدان شرط التكليف فيه.
وأما الأوامر الكلية القانونية المتوجهة إلى عامة المكلفين، فلا تجوز مع فقد عامتهم
للشرط، وأما مع كون الفاقد والواجد غير معينين مع وجودهما في كل عصر ومصر - كما هو
الحال خارجا - فلا يلزم تقييد التكليف بعنوان الواجد مثلا، وإلا يلزم تقييده بعنوان غير
العاصي وغير الجاهل وغير النائم، وهكذا، وهو كما ترى.
وإن شئت قلت: لا يكون الخطاب العام خطابات مستقلة لكل منها غاية مستقلة، فتدبر.
(مناهج الوصول 2: 60 - 61).
184

المطلب السابع
في الواجب التخييري
قد عرف الاصوليون - في سالف الزمان - الوجوب ببعض لوازمه
وتوابعه، كقولهم: الواجب ما يستحق فاعله الثواب وتاركه العقاب (1)، ولما
وصلوا إلى البحث عن الواجب التخييري أرادوا تطبيقه على التعريف المتقدم،
فقال بعضهم: إن الواجب هو الواحد لا بعينه (2)، وقال الآخر: إنه الواحد بعينه
معلوما عند الله، غير معلوم عندنا (3)، ولازمه أن يكون الواجب مختلفا باختلاف
اختيار المكلفين... إلى غير ذلك من [التخيلات] (4).
والحق: أن الواجب التخييري - الكثير الوقوع في الشرع والعرف - نحو
وجوب في مقابل التعييني، ويكون الوجوب - أي البعث المؤكد - متعلقا بكل من

1 - انظر نهاية الوصول: 9 / السطر 15، والمستصفى من علم الاصول 1: 27 / السطر 6،
والفصول الغروية: 64 / السطر 13.
2 - انظر عدة الاصول 1: 220، والمستصفى من علم الاصول 1: 67، ومناهج الأحكام
والاصول: 71 / السطر 24.
3 - انظر المحصول في علم اصول الفقه 1: 274.
4 - انظر الذريعة إلى اصول الشريعة 1: 88، المعتمد في اصول الفقه 1: 79.
185

الأطراف، لكن على سبيل الترديد النفس الأمري، لا الترديد النفساني، وهو نحو
من التعلق، كتعلق العلم الإجمالي بأطراف المعلوم بالإجمال، فإنه أيضا نحو من
التعلق، فبعد إمكان تعلق الوجوب بكل من الأطراف بنحو ما ذكرنا، لا داعي إلى
صرف الوجوب التخييري إلى التعييني، كما أنه لا داعي إلى تطبيق التعريف
المتقدم عليه؛ فإنه تعريف للواجب التعييني ببعض لوازمه.
وبالجملة: الواجب التعييني والتخييري مفترقان بذاتهما ولوازمهما،
ولا يمكن إرجاع أحدهما إلى الآخر، لا في الذات، ولا في جميع اللوازم (57).

57 - ما يمكن أن يقال في وجه الامتناع: أن الإرادة التكوينية لا يمكن أن تتعلق بما هو مردد
واقعا، فكذلك التشريعية.
والسر في عدم الإمكان: أن الوجود - أي وجود كان - مساوق للتشخص والتعين الواقعي،
والتردد النفس الأمري مضاد للموجودية، فلا يمكن أن يكون وجود مترددا واقعا بين
شيئين ترديدا بحسب نفس الأمر، سواء كان وجودا خارجيا أو ذهنيا.
وفيه: منع لزوم ما ذكر من الإبهام والتردد الواقعي في شيء من المذكورات؛ لأن المولى إذا
رأى أن في شيء أو أشياء مصلحة ملزمة، واف كل منها بغرضه؛ بحيث يكون كل من
الطرفين أو الأطراف محصلة، ولم يكن جامع بينها قابل لتعلق الأمر به - على فرض لزوم
الجامع على مبنى بعضهم - فلا محالة يتوسل لتحصيل غرضه بهذا النحو بإرادة بعث
متعلق بهذا وإرادة بعث آخر متعلق بذاك، مع تخلل لفظة " أو " وما في معناها بينهما؛ لإفهام
أن كل واحد منهما محصل لغرضه، ولا يلزم الجمع بينهما.
فهاهنا إرادة متعلقة بمراد، وبعث متعلق بمبعوث إليه، كلها معينات مشخصات لا إبهام في
شيء منها، وإرادة اخرى متعلقة بمراد آخر، وبعث آخر إلى مبعوث إليه آخر، كلها معينات
مشخصات، وبتخلل كلمة " أو " وما يرادفها يرشد المأمور إلى ما هو مراده، وهو إتيان
المأمور بهذا أو ذاك، وبالضرورة ليس في شيء من الإرادة والمراد وغيرهما إبهام بحسب
الواقع ونفس الأمر.
وأنت إذا راجعت وجدانك في أوامرك التخييرية ترى أن الواقع هو ما ذكرنا، فلا تكون
الإرادة في الواجب التعييني والتخييري سنخين، ولا البعث والواجب. (مناهج الوصول 2:
85 - 87).
186

فالأحسن في تعريف الواجب إذا اريد تعريفه بهذا اللازم أن يقال: الواجب
ما يستحق فاعله الثواب وتاركه - لا إلى بدل - العقاب، كما عرفه أصحابنا
الإمامية (1)، لكن ليس مقصودهم من البدل ما هو المتفاهم عرفا: من كون أحدهما
أصلا والآخر بديله كما هو واضح، فيكون هذا التعبير من باب ضيق العبارة بعد
وضوح المقصود.
ثم إنه قد وقع الكلام في إمكان التخيير بين الأقل والأكثر وعدمه (2).
ومحصل الكلام في المقام: أنه لابد من فرض الكلام في مورد يكون
الأقل لا بشرط شيء وداخلا في الأكثر؛ بحيث يكون الأكثر مشتملا عليه مع
الزيادة، ويكون الأقل فاقدا لبعض ما للأكثر فقدانا بالحمل الشائع، لا مقيدا
بالفقدان، وإلا لو فرضنا أن الأقل يكون بشرط لا، ومقيدا بالفقدان - بحيث يكونان
متباينين - خرج عن محل الكلام ومورد النقض والإبرام، ومعلوم أن التخيير بين
المتباينين ولو بهذا المعنى ممكن، لا معنى للنزاع فيه، فمحل الكلام هو الأقل
والأكثر بنحو ما أشرنا إليه.
والتحقيق: عدم معقولية التخيير بينهما؛ فإن الأقل إذا كان وافيا بتمام
المقصود والغرض، يكون الأكثر - المشتمل عليه مع الزيادة - مشتملا على ما هو
الوافي بتمام الغرض مع الزيادة، فما هو الوافي بالغرض والمحصل له يكون
واجبا تعيينيا، لا يرضى الآمر بتركه، ولا دخالة للزيادة في تحصيل ذلك الغرض،

1 - انظر زبدة الاصول: 44، والوافية في اصول الفقه: 80.
2 - انظر قوانين الاصول 1: 117 / السطر 10، والفصول الغروية: 103 / السطر 36،
وكفاية الاصول: 175.
187

وإنما القائم بها مصلحة اخرى ندبية لا إلزامية.
وبالجملة: ما يتراءى منه صورة التخيير بين الأقل والأكثر، ينحل إلى
وجوب تعييني متعلق بالأقل، وإلى أمر ندبي متعلق بالزيادة، وإنما التخيير بين
الوجود والعدم بالنسبة إليها، فلو أتى بها تكون على صفة الندبية؛ لتعلق الأمر
بها مع الرضا بالترك، وهذا واضح بعد التأمل في موضوع البحث وتشخيص الأقل
والأكثر (58).
نعم، يمكن التخيير بينهما في موردين:
أحدهما: ما إذا كان الأقل والأكثر تحت طبيعة واحدة، تكون بحسب
الوجود مشككة، ويكون ما به الاشتراك بين الأفراد عين ما به الامتياز، كالخط
القصير والطويل، فإن التخيير بين الفردين منها ممكن؛ لأن تعين الخط لفردية
الطبيعة إنما يكون إذا صار محدودا، وأما ما دام مستمرا متدرجا في الوجود،
فلا يتعين للفردية، فكأنه مبهم قابل لكل تعين، فيحصل الغرض إذا كان فردا لها،
ولا يصير الفرد القصير فردا لها إلا مع محدوديته، كما لا يصير الطويل فردا إلا
معها، فالفردان وإن كان التفاوت بينهما بالأقلية والأكثرية، لكن صيرورتهما
فردين للطبيعة ومحصلين للغرض غير ممكنة إلا بتحقق الفردية، وهي متقومة
بالمحدودية بالحمل الشائع (59).

58 - هذا في التدريجيات، وأما الدفعيات، فقد يكون الغرضان قابلين للاجتماع، ولا يكون
اجتماعهما مبغوضا وإن لم يكن مرادا أيضا، فالتخيير بينهما جائز؛ لأن الأقل مشتمل على
غرض مطلوب، والأكثر على غرض آخر مطلوب، فإذا وجد متعلق الغرضين، كان للمولى
أن يختار منهما ما يشاء. (مناهج الوصول 2: 91).
59 - فيه خلط نشأ من الخلط بين اللا بشرطية والبشرط لائية؛ لأن الخط الذي لا يتعين
بالمصداقية للطبيعة هو الخط المحدود بحد القصر الذي هو بشرط لا، وأما نفس طبيعة
الخط بمقدار الذراع - مثلا - بلا شرط بالمحدودية وغيرها، فلا إشكال في تحققها إذا
وصل الخط المتدرج إلى مقدار الذراع وإن لم يتوقف عند ذلك الحد؛ ضرورة أن الخط
الموجود في الخارج لا يمكن أن لاتصدق عليه طبيعة الخط، وإذا وصل إلى ذراع لا يمكن
عدم موجودية الذراع اللا بشرط.
فما هو الموجود يصدق عليه طبيعة الذراع من الخط وإن لم يصدق عليه الخط
المحدود، ومورد الكلام هو الأول؛ أي اللا بشرط المتحقق مع المحدود وغيره.
فقوله: لا يصير الفرد القصير فردا لها إلا مع محدوديته إن أراد به أن اللا بشرط لا يتحقق،
فهو مدفوع بما ذكرنا.
وإن أراد أن المحدود بالقصر لا يتحقق، فهو خارج عن محط البحث.
ومما ذكرنا يتضح النظر في الفرض الثاني؛ لأن الأقل اللا بشرط إذا وجد، يكون محصلا
للعنوان الذي هو محصل للغرض، فلا يبقى مجال لتحصيل الأكثر ذلك العنوان المحصل له.
(مناهج الوصول 2: 90).
188

وثانيهما: ما إذا كان الأقل والأكثر محصلين لعنوان آخر، يكون ذلك
العنوان محصلا للغرض، كما قلنا سابقا في الصحيح والأعم: من أن صلاة الحاضرة
والمسافر تكونان محصلتين لعنوان، يكون ذلك العنوان محصلا للغرض، ففي مثل
هذا المورد أيضا يمكن التخيير بينهما؛ فإن صلاة الحاضر والمسافر مع كونهما
مختلفتين بالأقلية والأكثرية، لكن كل واحدة منهما محصلة لعنوان يكون
محصلا للغرض، فصلاة القصر للمسافر والتمام للحاضر محصلتان لذلك العنوان،
تدبر.
189

المطلب الثامن
في الواجب الكفائي
وهو نحو وجوب يقتضي عند العقلاء المثوبة والسقوط بفعل واحد من
المكلفين إذا أتى به، والعقوبة لجميعهم إذا تركوه. وهذا النحو من الوجوب واقع
في الشرعيات والعرفيات كثيرا، ولا إشكال في أنه بفعل واحد من المكلفين
يسقط الأمر، ويحصل غرض المولى، ولا إشكال أيضا في استحقاق جميعهم
للعقوبة عند الترك، إنما الكلام في حقيقة هذا النحو من الوجوب (1).
والتحقيق أن يقال: إن التكليف له نحو إضافة إلى المكلف - بالكسر -
ونحو إضافة إلى المكلف - بالفتح - ونحو إضافة إلى المكلف به، وعند التأمل
يظهر: أن ما به الافتراق بين الواجبات العينية والكفائية ليس في الإضافتين
الأولتين:
أما الاولى منهما: فلأنها إضافة صدورية في كليهما.

1 - انظر قوانين الاصول 1: 120 / السطر 20، وهداية المسترشدين: 268 / السطر 9،
والفصول الغروية: 107 / السطر 10.
191

وأما الثانية: فلأن المأمور - بإتيان المكلف به في كليهما جميع
المكلفين، لا مجموعهم؛ لعدم وجود المجموع بما هو مجموع وجودا قابلا لتعلق
البعث به، وإنما هو أمر انتزاعي، ولا واحد منهم لا بعينه أو على نحو الترديد (60)؛
لعدم تعقل تعلق البعث بالواحد لا بعينه، ولا بنحو الترديد الواقعي بين المكلفين،
وعدم باعثية الأمر بنحو ما ذكر، مع أن الغرض من الأمر هو البعث والإغراء، بل
المأمور والمكلف هو جميعهم على نحو الاستغراق.
ولا فرق من هذه الجهة بينه وبين الواجب العيني، وإنما الافتراق بينهما
في الإضافة الثالثة؛ فإن المكلف به في الواجب الكفائي هو أصل الطبيعة
بلا تقيدها بشيء، فكل واحد من المكلفين مأمور بإتيان أصل الطبيعة الغير
المقيدة. وأما في الواجب العيني فكل واحد منهم مأمور بإتيان الطبيعة المقيدة
بكون تحققها بمباشرته خاصة.
فغرض المولى في الواجب الكفائي إنما تعلق بحصول الطبيعة من كل
واحد منهم، ولازمه أن يحصل الغرض بإتيان واحد منهم؛ لأن الطبيعة الغير
المقيدة لا تكرار فيها، والفرض أن تمام الغرض قائم بها، فسقوط الأمر عن سائر

60 - وما قيل: من أن الفرد الغير المعين لا وجود له حق لو قيد بعنوان غير المعين، وأما عنوان
فرد من المكلفين فمما له وجود في الخارج؛ فإن كل واحد منهم مصداقه، ومع ذلك
لا يلزم بعث الجميع في عرض واحد.
وكذا يجوز التكليف بالفرد المردد بنحو التخيير، كالتخيير في المكلف به.
وما قيل: من أن المردد لا وجود له، ولا يجوز البعث التخييري، لا يصغى إليه؛ ضرورة
صحة التكليف التخييري بين الفردين فصاعدا، ولم يكن عنوان الترديد قيدا؛ حتى يقال: لا
وجود له.
والإشكال العقلي في الواجب التخييري مر دفعه. (مناهج الوصول 2: 94 - 95).
192

المكلفين لا يكون جزافا، ولا سقوطا بالعصيان، بل سقوط بالإطاعة، لكن المطيع
هو الآتي بالمأمور به، ومع عدم الإتيان رأسا يكون المستحق للعقوبة جميعهم؛
لأن الجميع مأمورون بالإتيان، ومع الترك يكون جميعهم عصاة.
وهذا بخلاف الواجب العيني؛ فإن الغرض منه إنما تعلق بإتيان كل واحد
منهم بالطبيعة لا على نحو الإطلاق، بل تكون الطبيعة مضافة إلى كل واحد
منهم إضافة صدورية مباشرية، فلا يسقط فعل واحد منهم ما هو المأمور به
للآخرين؛ لأن سقوطه عنهم يكون جزافا بلا وجه، وهذا واضح (61).

61 - والتحقيق: أن للكفائي صورا:
منها: ما لا يمكن له إلا فرد واحد، كقتل المرتد.
ومنها: ما يمكن، وحينئذ: تارة: يكون المطلوب فيه فردا من الطبيعة، واخرى: يكون
صرف وجودها.
فعلى الأول: إما أن يكون الفرد الآخر مبغوضا، أو لا يكون مبغوضا ولا مطلوبا. لا يمكن أن
يكون المكلف جميع المكلفين في الصورة الاولى؛ فإن التكليف المطلق لهم في عرض
واحد بالنسبة إلى ما لا يمكن فيه كثرة التحقق لغرض انبعاثهم، مما لا يمكن، وهذا واضح.
وكذا الحال في الثانية والثالثة؛ فإن انبعاثهم وإن كان ممكنا، لكن مع مبغوضية الزائد من
الفرد الواحد أو عدم مطلوبيته، لا يمكن بعثهم إليه؛ لأدائه إلى البعث إلى المبغوض في
الاولى، وإلى غير المطلوب في الثانية.
وأما الصورة الرابعة: فلازم بعثهم إليه بنحو الإطلاق هو اجتماعهم في إيجاد الصرف، وكون
المتخلف عاصيا.
ومما ذكرنا يظهر: أن التكليف بصرف وجود المكلف غير جائز في بعض الصور، فلابد من
القول بتعلق التكليف فيه بفرد من المكلفين بشرط لا في بعض الصور، ولا بشرط في
الاخرى، ويمكن في بعض الصور أن يكون المكلف به صرف الوجود، وكذا المكلف،
ولازمه عصيان الجميع مع الترك، وإطاعتهم مع إتيانهم عرضا، والسقوط عن الغير مع إتيان
البعض. (مناهج الوصول 2: 93 - 95).
193

بقي تنبيهان:
الأول: أن المحقق الخراساني (رحمه الله) - في أوائل مبحث الأوامر - ذهب إلى
جواز التمسك بإطلاق المأمور به لكون الأمر عينيا فيما إذا شك في العينية
والكفائية.
وأفاد في وجهه: أن الواجب الكفائي مقيد بعدم إتيان الآخر، وأما الواجب
العيني فلا قيد له من هذه الجهة (1).
وقد عرفت مما قدمنا: أن الواجب الكفائي ليس من قبيل الواجب المشروط
والمقيد بعدم إتيان الآخر، بل هو متعلق بجميع المكلفين على نحو الإطلاق،
وسقوطه عن المكلفين بإتيان واحد منهم لا يدل على الاشتراط، بل إنما هو بحصول
تمام المقصود وتمام متعلق الأمر، ولا يعقل أن يكون الأمر مشروطا بحصول
متعلقه، مع أنه يلزم منه أن يكون الواجب العيني أيضا مشروطا، وهو كما ترى.
بل مقتضى التمسك بالإطلاق هو كون الوجوب كفائيا، فإن الواجب
الكفائي - كما عرفت - لا يفترق عن العيني إلا في الإضافة إلى المتعلق؛ لأن
متعلق الكفائي هو نفس الطبيعة، ومتعلق العيني هو الطبيعة المقيدة بصدوره عن
كل واحد من المكلفين، وهو قيد زائد يرفع بالأصل.
نعم، ظاهر الأوامر هو العينية لا الكفائية، لكن التمسك بالظهور غير
التمسك بالإطلاق، كما لا يخفى (62).

1 - كفاية الاصول: 99.
62 - إذا شك في كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا أو مقابلاتها، فالظاهر لزوم الحمل عليها دون
المقابلات؛ لأن أمر المولى وبعثه بأي دال كان - بلفظ أو إشارة أو غيرهما - تمام الموضوع
عند العقلاء لوجوب الطاعة، ومعه يقطع عذر المكلف، كما مر في باب دوران الأمر بين
الوجوب والاستحباب؛ فإن الهيئة وإن لم توضع إلا لمجرد البعث والإغراء، وما ذكر
ومقابلاته خارجة عن مدلولها، لكن مجرد صدور الأمر عن المولى موضوع لوجوب
الطاعة.
فإذا تعلق أمر بشيء يصير حجة عليه، فإذا عدل المكلف إلى غيره باحتمال التخييرية، أو
تركه مع إتيان الغير باحتمال الكفائية، أو تركه مع سقوط الوجوب عن غيره باحتمال
الغيرية، لا يكون معذورا لدى العقلاء، لا لدلالة الهيئة وضعا على شيء منها؛ ولهذا لو
أشار المولى بإتيان شيء يجب عقلا إتيانه، والأعذار المتقدمة ليست موجهة، مع أنه لا
وضع للإشارة.
وأما قضية مقدمات الحكمة - مع إطلاق الأمر - ذلك، فمحل إشكال ومنع؛ لأن مقدمات
الحكمة لا يمكن أن تنتج هاهنا؛ لأنه إما أن يراد: أن تنتج مطلق البعث الجامع بين النفسي
والغيري... وهكذا، فمع كونه خلاف المقصود ممتنع؛ لعدم إمكان الجامع بين المعاني
الحرفية كما سبق بيانه، هذا، مضافا إلى القطع بعدم إرادة الجامع في المقام. أو تنتج
الوجوب النفسي وأخواته - كما ذكر المحقق الخراساني - فلا يمكن أيضا؛ لأن النفسية
متباينة مع الغيرية، كل منهما يمتاز عن الآخر بقيد وجودي أو عدمي، فالنفسي ما يكون
البعث إليه لذاته أو لا لغيره، والغيري بخلافه، ويحتاج كلاهما في مقام التشريع والبيان
إلى قيد زائد ولو من باب زيادة الحد على المحدود. (مناهج الوصول 1: 282 - 283).
194

الثاني: أنه لو أتى عدة من المكلفين بالمأمور به في عرض واحد، هل
يكون المجموع مطيعا، أو واحد منهم، أو كل واحد منهم؟
التحقيق: هو الأخير؛ لأن المجموع - كما عرفت - لا وجود له حتى يطيع
أو يعصي، بل الموجود هو كل واحد، ولا معنى لمطيعية واحد بعينه أو لا بعينه،
بل المطيع هو الجميع؛ فإن التكليف - كما عرفت - إنما تعلق بهم على نحو
الاستغراق، والفرض أن كل واحد منهم آت بالطبيعة المأمور بها، فيكون
مطيعا (63).

63 - قد مر في التعليقة 61.
195

وهذا فيما نحن فيه أوضح مما ذكرنا في مبحث المرة والتكرار (1) من أن
المكلف لو أتى بفردين أو أفراد من المأمور به، يكون مثابا بعدد الأفراد المأتي
بها؛ لأن الطبيعة المأمور بها حصلت بكل واحد من الأفراد.
وجه الأوضحية: أن المكلف في ذلك المبحث لما كان واحدا، ونفس
الطبيعة هي المأمور بها، يمكن أن يقال: إن الطبيعة المطلقة مع تكثر الأفراد
لا تخرج عن وحدتها، والمأتي بها إنما هي الطبيعة المشتركة، وهي واحدة،
ولكن فيما نحن فيه لما كان المكلف كل واحد من أفراد المكلفين، فإتيان كل
واحد منهم بالطبيعة في عرض واحد، إتيان بنفس الطبيعة المأمور بها،
والإطاعة لا تنتزع إلا من ذلك، فكل واحد منهم مطيع مثاب.

1 - تقدم في الصفحة 84.
196

المطلب التاسع
ينقسم الواجب باعتبار إلى المطلق والموقت
فالأول: ما لا دخالة للزمان في متعلقه، ويكون تمام ملاك الأمر فيه هو
نفس الطبيعة؛ بحيث لو فرض إتيانها في خارج الزمان يكون تمام الملاك
حاصلا، والمصلحة الداعية إلى الأمر متحققة، فكون المكلف والمكلف به
زمانيا غير دخالة الزمان في موضوع التكليف، كما أن كونهما مكانيين ومحفوفين
بالعوارض المادية غير دخيل في المأمور به.
والثاني: ما له دخالة فيه، وهو على قسمين: مضيق وهو ما كان الزمان
المأخوذ فيه بمقداره، كصوم اليوم، وموسع وهو ما كان أوسع منه كالصلاة من
دلوك الشمس إلى غسق الليل.
والموسع كلي ذو أفراد عرضية وطولية، والتخيير بين أفراده عقلي لا
شرعي، ومعنى عقليته أن العقل لما رأى أن الأمر قد تعلق بالطبيعة في هذا
الظرف الموسع - كالصلاة من الزوال إلى الليل - حكم بأن الإتيان بها في أي قطعة
من الزمان إتيان بمتعلق الأمر؛ لأن المتعلق هو الطبيعة المتقيدة بهذه القطعة
الوسيعة، والفرد عين الطبيعة خارجا.
وهاهنا نكتة يجب التنبيه عليها، وهي أن الواجب الموسع لا يصير مضيقا
197

لو بقي من آخر الوقت بمقداره، كما هو المعروف في الألسنة (1).
ووجهه واضح؛ لأن تمام متعلق الأمر هو الطبيعة المقيدة بكونها في
القطعة الوسيعة؛ من غير دخالة لخصوصيات الزمان - كأول الوقت أو وسطه
أو آخره - فيه.
ومعنى صيرورة الواجب مضيقا هو تعلق الأمر بالطبيعة في القطعة
الأخيرة من الزمان، مع أن خصوصية القطعة الأخيرة لا دخالة لها في متعلق
الأمر، وتكون دخالتها فيه جزافا بلا ملاك، فكما أن الآتي بالمأمور به في أول
الوقت، يكون تمام الملاك في كونه مطيعا هو إتيان الطبيعة المقيدة بكونها في
القطعة الوسيعة، لا إتيانها في أول الوقت؛ فإن أوليته غير دخيلة في
المصلحة، كذلك الآتي بها في وسطه أو آخره، وكون آخر الوقت آخر زمان
يمكن فيه الإطاعة، لا يصير الواجب مضيقا، ولا يوجب كون الخصوصية التي
لا دخالة لها في المتعلق دخيلة فيه، كما لا يخفى على المتأمل.
ثم إنه لا إشكال في أنه لا دلالة للأمر بالموقت على الأمر به في خارج
الوقت إذا فات فيه؛ لأن التقيد بالوقت يدل على دخالته في متعلق التكليف،
وكون المتعلق هو الطبيعة المقيدة لا المطلقة، ومع فوت القيد لا معنى لبقاء الأمر
في المطلق؛ لعدم كونه متعلق الأمر.
وبعبارة اخرى: إن تمام تحصل الأمر بالموقت إنما هو بتعلقه بالموقت بما
أنه موقت، وبعد فوت الوقت إن بقي الأمر:
فإما أن يدعو إلى الموقت الذي فات وقته، وهو غير معقول؛ لكونه تكليفا
بالمحال.

1 - انظر المحصول في علم اصول الفقه 1: 285، وشرح العضدي على مختصر ابن
الحاجب: 89، ومبادئ الوصول إلى علم الاصول: 104.
198

وإما أن يدعو إلى المطلق، وهو أيضا غير معقول؛ لعدم كونه متعلقا له،
والأمر لا يدعو إلا إلى متعلقه.
وبالجملة: حال الوقت مثل حال سائر القيود، فإذا تعلق الأمر بالصلاة
المقيدة بالطهور، وتعذر الطهور، فلا معنى لدعوته إلى الصلاة المطلقة،
وهذا واضح.
إنما الكلام فيما أفاده المحقق الخراساني (رحمه الله) من أنه لو كان التوقيت بدليل
منفصل، لم يكن له إطلاق في التقييد بالوقت، وكان لدليل الواجب إطلاق، لكان
قضية إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت، وكون التقييد به بحسب تمام
المطلوب لا أصله، ويكون من قبيل تعدد المطلوب (1). انتهى.
وأنت خبير بما فيه، فإن حمل المطلق على المقيد إنما هو فيما إذا احرزت
وحدة المطلوب؛ لأجل تقديم ظهور المقيد في دخالة القيد على ظهور المطلق
في كونه تمام المطلوب، فإذا احرزت فصار الدليل مقيدا، فلا معنى لدلالته على
مطلوبية المطلق خارج الوقت؛ لما ذكرنا آنفا.
وإن لم تحرز وحدة المطلوب - سواء احتمل أن يكون في البين مطلوبان
مستقلان، أو مطلوب ذو درجتين، تكون درجته الضعيفة متعلقة للمطلق،
ودرجته الشديدة متعلقة للمقيد - فلا معنى لحمل المطلق على المقيد؛ لعدم
المعارضة بينهما أصلا، كما كان الأمر كذلك في المستحبات؛ لعدم حمل المطلق
على المقيد فيها؛ لعدم التنافي بينهما. فإذا كان الأمر كذلك يخرج الكلام عما نحن
فيه؛ لأن المطلق بإطلاقه يدل على [ثبوت الوجوب] خارج الوقت، والمقيد
يدل على مطلوب آخر مستقل، أو مرتبة اخرى من المطلوب في الوقت، وهو
أجنبي عما نحن بصدده.

1 - كفاية الاصول: 178.
199

المطلب العاشر
هل متعلق الأوامر والنواهي الطبايع أو الأفراد؟
الحق أن الأوامر والنواهي متعلقة بالطبائع دون الأفراد، لا بمعنى تعلقها
بنفس الطبائع؛ أي الماهيات من حيث هي، فإنها ليست إلا هي، لا مطلوبة ولا
لا مطلوبة، والنقائض كلها منتفية عن مرتبة ذاتها، ولا يمكن إثبات شيء لها - من
حيث ذاتها - إلا ذاتها وذاتياتها، بل بمعنى أن الإرادة والطلب بحسب مقام الثبوت
والإثبات إنما تتعلق بإيجاد نفس الطبيعة، من غير دخالة للخصوصيات المفردة
الحافة بها في تعلق الإرادة والطلب والبعث؛ بحيث لو فرض إمكان إيجادها
مجردة عن كافة الخصوصيات الزائدة عن أصل وجود الطبيعة، تكون تمام
متعلق الإرادة والبعث.
وبالجملة: إن كافة الخصوصيات اللاحقة بالفرد خارجة عن حريم
تعلق الإرادة والطلب حقيقة.
والبرهان عليه: أن الطلب من الحقائق التي لها إضافة إلى الطالب إضافة
صدورية، وإلى المطلوب منه، وإلى المطلوب، ولا يمكن تحققها مجردة عن تلك
الإضافات:
201

أما المطلوب منه فلابد من وجوده في الخارج، حتى تتعلق به إضافة
الطلب؛ لعدم تعقل الطلب من المعدوم.
وأما المطلوب فلا يمكن أن يكون طرف الإضافة بوجوده الخارجي؛ للزوم
تحصيل الحاصل، ولزوم عدم تعلق التكليف بالعصاة، أو تعلقه بالمعدوم إذا لم
يتحقق المطلوب، وهو محال، ولا يمكن أن لا يكون متحققا أصلا - لا في الخارج
ولا في غيره - لاستحالة تعلق الإضافة بالمعدومات، فلابد له من وجود ذهني،
لكن لا بما أنه وجود ذهني متقيد به؛ لاستحالة تحققه في الخارج مع ذاك
التقيد، فلا محالة يكون المطلوب موجودا في الذهن، والطالب لا يرى إلا
نفسه، لا موجوديته في الذهن، ويتعلق الطلب بالموجود الذهني، أي الطبيعة
المتحققة في الذهن؛ ليجعلها المكلف موجودة في الخارج.
فتحصل مما ذكرنا: أن الطلب قد تعلق بالطبيعة المتحققة في الذهن
بحسب الواقع، وإن كان الطالب غير ناظر إلى تحققها الذهني، فطلب من المكلف
إيجادها في الخارج، فإذا كان كذلك فلا يمكن أن يتعلق الطلب بالعوارض
الخارجية الحافة بالطبيعة في الخارج؛ لأنها بوجودها الخارجي غير موجودة
في الذهن، ولا يمكن أن تكون نفس الطبيعة الموجودة في الذهن مرآة للحاظها؛
فإن الطبيعة إنما تكون مرآة للحاظ ما به الاشتراك بين الأفراد - أي نفس
الطبيعة المتحققة - لا مرآة لما به الامتياز بينها؛ لأنها مباينة مع الطبيعة،
ولا يمكن أن يكون المباين مرآة للمباين، فلا يمكن تعلق الإرادة والأمر بغير وجود
الطبيعة؛ أي الوجود السعي منها.
ثم إن المحقق الخراساني (رحمه الله) فصل بين متعلق الطلب ومتعلق الأمر؛ بأن
الأول هو وجود الطبيعة، فالطلب يتعلق بالوجود المتعلق بالطبيعة، لا الطبيعة
من حيث هي، فإنها ليست إلا هي. وأما الأمر فهو متعلق بالطبيعة؛ لأنه هو
202

طلب الوجود (1).
وفيه: - مضافا إلى ما مر (2) من أن الأمر والطلب شيء واحد - أنه يمكن
أن يقال: إن الطلب متعلق بنفس الطبيعة بحسب العرف والمتفاهم من الألفاظ،
فتكون نفس المادة المتعلقة لهيئة الأمر في قولنا: " اضرب " و " انصر " متعلقة
للطلب حقيقة عند العرف، ويكون البعث والإغراء متوجها إليها، ولا يلزم منه أن
تكون الطبيعة - التي هي مقسم للموجود والمعدوم - متعلقة للطلب، حتى لا يدل
الأمر على إيجادها خارجا؛ وذلك لأن الطبيعة لا تكون حقيقة مقسما للموجود
والمعدوم؛ حتى يكون المعدوم أيضا هو الطبيعة المتصفة بالمعدومية، بل
المعدوم ليس بشيء، وهو باطل محض، بل الطبيعة لا تكون طبيعة إلا في ظرف
الوجود، وكذلك كل الماهيات والطبائع لاتصدق نفسها على نفسها إلا في ظرف
الوجود، فلا يكون المعدوم بما أنه معدوم مبعوثا إليه، فالطلب إنما يتعلق
بالطبيعة نفسها عرفا، لكن تحصيل الطبيعة وإطاعة أمر المولى لا يمكن إلا
بإيجادها خارجا، لا بأن يكون الطلب متعلقا بالوجود، بل بأن يكون متعلقا بنفس
الطبيعة، لكن كون الطبيعة طبيعة لا يمكن إلا بالوجود وفي ظرفه، وما ليس
بموجود يكون " ليسا " صرفا، لا يصدق عليه ذاته وذاتياته.
وأما قضية أصالة الوجود والماهية فقضية عقلية فلسفية، خارجة
عن متفاهم العرف ومداليل الألفاظ، وهي أمر دقيق غير مربوط بهذا الوادي.
وأما ما يقال: من أن الماهية من حيث هي ليست إلا هي (3) فهو مطلب
صحيح، لكن معناه أن الماهية من حيث ذاتها لا تكون مصداقا لشيء ولا يحمل

1 - كفاية الاصول: 171 - 172.
2 - تقدم في الصفحة 53 - 54.
3 - كشف المراد: 86، الحكمة المتعالية 2: 3 - 4، شرح المنظومة، قسم الحكمة: 93.
203

عليها شيء غير ذاتها وذاتياتها، لا أنها لا يمكن أن تكون طرفا لإضافة؛ فإن
طرفيتها للإضافة غير حمل شيء عليها، فالماهية من حيث هي يمكن أن تكون
متعلقة للأمر؛ أي طرفا لإضافة الطلب، فينتزع منها المطلوبية باعتبار تلك
الإضافة التي هي خارجة عن ذاتها من حيث هي، فذاتها من حيث هي ليست
إلا هي، لكنها تصير طرفا للإضافة، وباعتبار طرفيتها لها يحمل عليها: أنها
مطلوبة، وهذا أمر خارج عن ذاتها، كما عرفت.
فتحصل من ذلك: أن الأمر والطلب، - وهما شيء واحد - إنما يتعلق
بالطبيعة لا بالوجود.
والحمد لله أولا وآخرا.
204

المقصد الثاني
في النواهي
205

فصل
في اختلاف الأمر والنهي
قال المحقق الخراساني (قدس سره) ما محصله: إن الأمر والنهي مشتركان في
الدلالة على الطلب، إلا أن الأمر يدل على طلب الوجود، والنهي على طلب
العدم، فمتعلق أحدهما الوجود، والآخر العدم، ولا يدلان على الدوام والتكرار،
لكنهما مختلفان عقلا مع وحدة المتعلق، فإن الأمر إذا تعلق بالطبيعة يكون
امتثاله بتحقق فرد ما؛ ضرورة وجود الطبيعة بوجوده، وعصيانه بترك جميع
الأفراد، وأما النهي إذا تعلق بها من غير قيد، يكون امتثاله بترك الطبيعة،
وعصيانه بإتيان فرد ما.
فالأمر والنهي متعاكسان عقلا وإن كان متعلقهما طلب وجود الطبيعة
وعدمها (1). انتهى (64).

1 - كفاية الاصول: 182، 183.
64 - والتحقيق: امتناع ذلك ثبوتا، ومخالفته للظواهر إثباتا؛ ضرورة أن العدم ليس بشيء،
ولا يمكن أن يكون ذا مصلحة تتعلق به إرادة واشتياق ولا بعث وتحريك وطلب. (مناهج
الوصول 2: 103).
207

أقول: لو كان مفاد النهي هو طلب عدم الطبيعة، للزم أن يكون الطلب
ساقطا مع ترك إتيان فرد ما، وأن لا يكون باقي الأفراد المتعاقبة عصيانا؛ لسقوط
الطلب كما أن الحال كذلك في جانب الأمر، مع أن العقلاء يحكمون بخلاف ذلك؛
فإن للنهي عندهم إطاعات وعصيانات، فلو ترك العبد المنهي عنه لله تعالى - مع
شهوته لارتكابه - مرات عديدة، عد مطيعا بحسب المرات، كما أنه لو أتى به
مرات عديدة عد عاصيا كذلك، ولو أتى به مرة، وترك لله تعالى مرة اخرى، لعد
عاصيا ومطيعا، وهذه الأحكام ثابتة بالضرورة عند العقلاء، وهذا يكشف عن
كون مفاد النهي غير ما ذكر (قدس سره) وفاقا للمشهور (1).
والتحقيق حسبما يؤدي إليه النظر الدقيق: أن الأمر والنهي متخالفان
بحسب الذات والمبادئ والأحكام.
أما اختلافهما ذاتا: فلأن الأمر هو البعث نحو وجود الطبيعة أو نحو
الطبيعة حسبما عرفت، فهو طلب وبعث وإغراء، والنهي هو الزجر والإزعاج عن
الوجود أو الطبيعة، فمتعلقهما واحد، وإنما اختلافهما بحسب الذات، فالبعث
الإنشائي في الأمر بمنزلة الإغراء الخارجي والإلقاء التكويني نحو العمل،
والزجر الإنشائي بمنزلة الدفع التكويني والمنع الخارجي عن الارتكاب.
وأما اختلافهما بحسب المبادئ: فمبادئ الأمر - بعد التصور - هو التصديق
بالفائدة والاشتياق، ومبادئ النهي هو التصديق بالمفسدة والكراهة.
وأما بحسب الأحكام: فلما كان الأمر متعلقا بالطبيعة، كان تمام المتعلق له
هو الطبيعة، فبتحقق فرد ما منها يتحقق تمام المطلوب، فبقاء الأمر مع تحقق تمام
المطلوب جزاف باطل.

1 - انظر هداية المسترشدين: 316 / السطر 1، ومناهج الأحكام والاصول: 74 / السطر 2،
والفصول الغروية: 120 / السطر 1.
208

وأما النهي فلما كانت حقيقته الزجر عن الوجود، لا طلب العدم، كان
حكمه العقلائي هو دفع الطبيعة والزجر عنها بتمام حقيقتها، فلا يكون - مع
الانتهاء في زمان - مطلوب المولى حاصلا، ولا مع الإتيان بفرد من المنهي عنه
نهيه ساقطا؛ فإن المعصية لا يعقل أن تكون مسقطة، لا في جانب الأمر ولا
النهي (65).
وما اشتهر بينهم: من أن سقوط الأمر قد يكون بالطاعة، وقد يكون
بالمعصية (2)، مما لا أساس له، فإن الأمر إذا لم يكن موقتا لا يسقط إلا بموت
المكلف، وسقوطه به لا يكون للمعصية، بل لتعذر توجه الأمر إلى الميت.
وإذا كان موقتا فما دام وقته باقيا لا يسقط إلا بالموت - وقد عرفت حاله -
وبعد الوقت يسقط لا للمعصية بل لخروج وقته، والموقت لا يعقل بقاؤه بعد وقته
كما أنه لا يعقل بعثه قبله، فلا يكون السقوط مستندا إلى المعصية في شيء من
الموارد.
فتحصل مما ذكرنا: أن الفرق بين الأمر والنهي - بعد وحدة المتعلق - أن
الطبيعة في جانب الأمر لما كانت تمام المتعلق وتمام المطلوب - وهو معنى

65 - ما ذكر: من أن الافتراق لأجل كون مفاد النهي هو الزجر والمنع لا الطلب.
مدفوع: بأن المولى لو صرح بطلب ترك شرب الخمر كان الحكم العقلائي والعرفي عينا
كالزجر عن الشرب، بل لو فرض تعلق الزجر بصرف الوجود أي ناقض العدم لسقط النهي
مع العصيان؛ لانتهاء اقتضائه، كما لو نهاه عن ذكر الله في الملأ لغرض عدم معروفيته، فمع
ذكره يسقط. (مناهج الوصول 2: 107 - 108).
نعم، الظاهر أن ذلك حكم العرف؛ لأن الطبيعة لدى العرف العام توجد بوجود فرد، وتنعدم
بعدم جميع الأفراد، وعليه تحمل المحاورات العرفية، فإذا تعلق نهي بطبيعة، يكون
حكمه العقلائي أن امتثاله بترك جميع الأفراد. (مناهج الوصول 2: 105).
2 - انظر كفاية الاصول: 146.
209

إطلاق الأمر في مقابل الإهمال - يكون الإتيان بفرد ما منها إتيانا لتمام المطلوب،
فلا يعقل بقاء الأمر بعده.
وأما في جانب النهي لما كان إتيان الطبيعة المتعلقة للنهي عصيانا له،
لا يعقل أن يكون النهي ساقطا لأجله؛ لتقوم السقوط بالإطاعة، وعدم كون
العصيان مسقطا - كما عرفت - فسقوط النهي مع الإتيان بفرد من الطبيعة - الذي
هو المحقق للعصيان - بلا ملاك ولا وجه.
وأما ما قيل: من أن متعلق الأمر هو الطبيعة المهملة، و [متعلق] النهي [هو
الطبيعة] المطلقة (1)، فلا ربط له بما نحن فيه، فإن الإطلاق والإهمال
المصطلحين في باب المطلق والمقيد - أي كون المتعلق تمام المطلوب في طرف
الإطلاق، وعدمه في طرف الإهمال - غير مربوط بالمقام، وإرسال المتعلق في
جانب النهي دون الأمر وإن كان هو الفارق بينهما، إلا أن السر ما أشرنا إليه،
فتدبر جيدا.
تنبيه:
قد ذكرنا سابقا (2): أن الأمر بالشيء متحد مع النهي عن ضده العام، لا بمعنى
اتحادهما مفهوما، بل بمعنى أن العقل يحكم بأن الأمر بشيء والبعث نحوه هو
الزجر عن نقيضه؛ لأن اجتماع النقيضين ممتنع.
وبعبارة اخرى: إن النهي عن النقيض منتزع من الأمر بنقيضه، لا بمعنى أن
في ذهن الآمر أمرا ونهيا متوجهين بنقيضين، بل بمعنى أن العقل يحكم بذلك،
وينتزع من نفس الأمر بشيء النهي عن نقيضه، ويكون المنتزع موجودا بعين

1 - انظر مقا لات الاصول 1: 348.
2 - تقدم في الصفحة 162.
210

منشأ انتزاعه. وهذا منشأ ما اشتهر بينهم في الأمر الوجوبي: أنه هو الطلب مع
المنع من الترك (1)، فإن المنع من الترك لم يكن منظورا إليه؛ بحيث يكون في ذهن
الآمر طلب متعلق بالفعل، ومنع متعلق بالترك.
ومعلوم: أن ما ينتزعه العقلاء من الأمر بالشيء، هو النهي عن نقيضه
الذي هو العدم بلا قيد أصلا؛ فإن منشأ الانتزاع هو المناقضة لا غير.
وما ذكرنا جار في النهي طابق النعل بالنعل؛ فإن النهي عن الشيء عين
الأمر بنقيضه، لا بمعنى أن هاهنا نهيا وأمرا، ولا بمعنى اتحادهما مفهوما، بل بمعنى
اتحادهما خارجا، وكون النهي منشأ لانتزاع الأمر بنقيضه، ولما كانت حقيقة
النهي عبارة عن الزجر عن الوجود، ونقيض الوجود هو العدم، كان الأمر بالعدم
منتزعا منه.
وبما ذكرنا: انهدم أساس الخلاف الذي اختص بالنهي من أنه هل هو نفس
الترك وأن لا يفعل (2)، أو الكف (3)؟ فإن هذا النزاع إنما له وجه معقول لو كان النهي
عبارة عن الطلب، فينازع بأنه طلب الترك أو الكف، وأما بعدما عرفت - من أن
النهي عبارة عن الزجر عن الوجود - فلا معنى له.
نعم، لما كان نقيض الوجود هو العدم ونفس أن لا تفعل، يكون النهي عن
الشيء متحدا خارجا معه، لا مع الكف؛ فإن الكف هو العدم مع اعتبار زائد، وفي
الحقيقة الكف ضد النهي، لا نقيضه، ويجوز ارتفاعهما، بخلاف النقيضين، لكن

1 - معا لم الدين: 63 / السطر 5، مناهج الأحكام والاصول: 37 / السطر 31، ضوابط
الاصول: 45 / السطر ما قبل الأخير.
2 - قوانين الاصول 1: 137 / السطر 3، الفصول الغروية: 120 / السطر 25، كفاية
الاصول: 182.
3 - المحصول في علم اصول الفقه 1: 350، 351، شرح العضدي على مختصر ابن
الحاجب: 208، 209.
211

كون الترك نقيضا للزجر عن الوجود، لا يقتضي أن يكون متعلقا للطلب حقيقة؛
بمعنى أن يكون في ذهن المولى طلب ترك الفعل حقيقة.
كما أنه بما ذكرنا انهدم أساس تقسيم النهي إلى التعبدي والتوصلي (1)؛ فإن
منشأ هذا التقسيم أيضا هو كون النهي عبارة عن طلب العدم، وأما بعد كونه زجرا
عن الوجود فلا معنى لهذا التقسيم؛ فإن قيد التقرب إذا اخذ في الوجود فلابد
وأن يكون العصيان تعبديا، وهو كما ترى، ولا معنى لأخذه في العدم الذي هو
نقيضه؛ لأن العدم لا يكون متعلقا للأمر حقيقة، ولا يكون منظورا إليه، فلا مجال
للتعبدية فيه.
نعم، لو ترك المكلف المنهي عنه بعد تعلق شهوته بإتيانه لأجل نهي
المولى، يكون مستحقا للمثوبة عقلا.

1 - مطارح الأنظار: 59 / السطر 20، بدائع الأفكار، المحقق الرشتي: 334 / السطر 21.
212

فصل
اجتماع الأمر والنهي
اختلفوا في جواز اجتماع الأمر والنهي في واحد (1) وامتناعه (2) (66)، وقبل

1 - معا لم الدين، حاشية سلطان العلماء: 98، قوانين الاصول 1: 140 / السطر 20،
وقد اختاره أيضا السيد المحقق الفشاركي (قدس سره) على ما حكى عنه تلميذه في وقاية
الأذهان: 343.
2 - الفصول الغروية: 125 / السطر 14، كفاية الاصول: 195.
66 - محط البحث في الباب هو: أنه هل يجوز تعلق الأمر والنهي بعنوانين متصادقين على
واحد؟
فحينئذ يكون المراد بالواحد هو الواحد الشخصي؛ لأنه الذي تتصادق عليه العناوين،
وأما الواحد الجنسي فلا تتصادق عليه، بل يكون جنسا لها، مع أن النزاع في الواحد
الجنسي مع قطع النظر عن التصادق على الواحد الشخصي مما لا معنى له؛ ضرورة أن
الحركة في ضمن الصلاة يمكن أن يتعلق بها الأمر، وفي ضمن الغصب أن يتعلق بها النهي
مع قطع النظر عن تصادقهما خارجا على الواحد الشخصي، ومعه يكون محط البحث هو
ما ذكرنا؛ لأنه المنشأ لقول الامتناعي.
وأما إبقاء العنوان على ظاهره فمما لا يمكن، سواء اريد بالواحد الشخصي أو الجنسي أو
الأعم، أما الجنسي فلما عرفت، وأما الشخصي فلأن الأمر والنهي لا يتعلقان به؛ لأن
الخارج لا يمكن أن يكون ظرف ثبوت التكا ليف، فاجتماع الأمر والنهي فيه مما لا معنى
له. (مناهج الوصول 2: 109 - 110)
213

الخوض في المقصود لابد من تمهيد مقدمات:
المقدمة الاولى:
إنه لا شبهة ولا إشكال عقلا في امتناع توجه الأمر والنهي من شخص
واحد إلى مكلف واحد في زمان واحد بجهة واحدة؛ ضرورة استحالة اجتماع حالة
بعثية وزجرية مع وحدة تلك الامور، وهذه قضية ضرورية لا تعتريها الشبهة،
ولا يحوم حولها الإشكال.
إنما الإشكال في أن الأمر من مولى واحد، إذا تعلق بعنوان متوجها إلى
مكلف في زمان، والنهي تعلق بعنوان آخر متوجها إليه في هذا الزمان، وكان بين
المأمور به والمنهي عنه تصادق في مصداق واحد في ظرف التحقق والوجود؛
بحيث يكون الموجود الخارجي مصداقا لعنوانين يكون بينهما عموم من وجه
مثلا، كعنواني التصرف في مال الغير والصلاة، فهل اختلاف العنوانين كذلك يرفع
غائلة امتناع اجتماع الأمر والنهي، وأن العقل يحكم بجواز توجه الأمر والنهي
الكذائيين من مولى واحد إلى مكلف واحد في زمان واحد، أو يحكم بامتناعه
بمجرد تصادق العنوانين خارجا وإن اختلفا عنوانا، ويكون هذا الفرض والمورد
في نظر العقل من صغريات تلك القضية الضرورية المتقدمة (67)؟

67 - ومما ذكرنا يتضح أن الأولى في عقد البحث أن يقال: هل يجوز اجتماع الأمر والنهي على
عنوانين متصادقين على واحد، أو لا؟ ويكون حينئذ النزاع كبرويا، لا صغرويا كما زعموا.
(مناهج الوصول 2: 110).
214

وبعبارة اخرى: إن الأمر والنهي إذا تعلقا بعنوانين من مولى واحد، متوجها
إلى مكلف واحد في زمان واحد، فهل يجب أن يكون بينهما تباين كلي بحسب
الصدق، أو يمكن أن يكون بينهما تصادق، وجمع المكلف - بسوء اختياره - بين
المأمور به والمنهي عنه في موجود شخصي وفرد خارجي، مما لا يوجب امتناع
تعلق الأمر والنهي بعنوانين مختلفين؟
المقدمة الثانية:
بناء على ما ذكرنا - من تحرير محل النزاع والجهة المبحوث عنها في
المسألة - إن المراد من الواحد في عنوانها هو الواحد الشخصي، الذي يكون
مصداقا لمفهومين ومعنونا بعنوانين، لا الأعم منه ومن الواحد الجنسي أو النوعي؛
فإن الوجود هو ناظم شتات المفاهيم، وجامع متفرقاتها، والهوية الوجودية مما
يمكن أن تتصادق عليها المفاهيم الكثيرة، وتتصالح فيها العناوين المختلفة.
وأما المفاهيم الكلية - مثل مفهوم الصلاة في المغصوب - فلا تكون واحدا
بوجه، فإن مفهوم الصلاة شيء، ومفهوم المغصوب شيء آخر؛ لأن المفاهيم من
ذاتيها الاختلاف والغيرية، واجتماعهما مجرد اجتماع لفظي أو اعتباري؛ بحيث
لا يرجع إلى الوحدة حقيقة.
وبالجملة: الواحد في عنوان البحث هو الواحد الشخصي الذي يكون
معنونا بعنوانين، يكون أحدهما مأمورا به، والآخر منهيا عنه.
المقدمة الثالثة:
قد فرغنا سابقا عن ميزان المسألة الاصولية، فلا نطيل بالإعادة، وبحسب
ما ذكرنا - من كون موضوع علم الاصول هو الحجة في الفقه - لا تندرج تلك
215

المسألة في المسائل الاصولية، بل هي من المبادئ الأحكامية (68).
المقدمة الرابعة:
وبما ذكرنا - من معنى تعلق الأحكام بالأفراد (2) - يعلم: أن النزاع لا يجري
إلا بناء على تعلق الأحكام بالطبائع (69)؛ فإن معنى تعلقها بالأفراد هو أنها بجميع

68 - فالتحقيق: أن المسألة اصولية؛ لصحة وقوعها في طريق الاستنباط، وإن جعلنا موضوع
علم الاصول الحجة في الفقه؛ لأن جعل موضوعه كذلك لا يستلزم البحث عن عوارض
العنوان بالحمل الأولي، بل المراد من كون مسألة حجة في الفقه أنها حجة بالحمل
الشائع؛ أي يستنتج منها نتيجة فقهية، وهي كذلك. (مناهج الوصول 2: 113).
2 - تقدم في الصفحة 167 - 169.
69 - الظاهر أن النزاع لا يبتني على تعلق الأمر والنهي بالطبائع، بل يجري في بعض فروض
تعلقهما بالأفراد.
كأن يراد بتعلقهما بها تعلقهما بالعنوان الإجمالي منها؛ بأن يقال: معنى " صل " أوجد فرد
الصلاة، فيكون عنوان فرد الصلاة غير عنوان فرد الغصب، فيجري النزاع فيهما.
أو يراد به تعلقهما بالطبيعة الملازمة للعناوين المشخصة، أو أمارات التشخص، كطبيعي
الأين والمتى والوضع وهكذا، فيجري النزاع لاختلاف العنوانين.
أو يراد به تعلقهما بعنوان وجودات الصلاة والغصب في مقابل " الوجود السعي "، فإنه
لا يخرج به عن العنوانين المختلفين.
نعم، لو اريد من الفرد هو الخارجي منه فلا إشكال في عدم جريانه فيه، لكنه بديهي
البطلان، وإن يظهر من بعضهم أنه مراد القائل به.
وكذا لو اريد به الطبيعة مع كل ما يلازمها ويقارنها حتى الاتفاقيات منها، كما قيل: إن
الأمر متعلق بالصلاة المقارنة لكل ما يشخصها ويقارنها حتى وقوعها في محل مغصوب،
واخذت هذه العناوين في الموضوع، فلا يجري النزاع فيه أيضا، لكنه بمكان من الفساد.
فتحصل: أن النزاع جار على القول بتعلقها بالأفراد على الفروض التي تصح أن تكون محل
النزاع. (مناهج الوصول 2: 114 و 115).
216

خصوصياتها الشخصية وحيثياتها الخارجية متعلقة لها، ومعه لا محيص إلا من
القول بالامتناع، وأما مع تعلقها بالطبائع فيجري النزاع، كما لا يخفى.
فما أفاده المحقق الخراساني (رحمه الله) - من أن النزاع يجري حتى بناء على
تعلقها بالأفراد (1) - لا وجه له، وما أفاده في وجهه مخدوش؛ لأنه يرجع إلى
التعلق بالطبائع لا الأفراد.
المقدمة الخامسة:
محط النزاع في باب الاجتماع هو الإمكان والامتناع بنحو الكبرى
الكلية، بلا نظر إلى الوقوع واللاوقوع، فتقييد محل النزاع بما إذا كان في كل
واحد من متعلقي الإيجاب والتحريم مناط الحكم مطلقا حتى في مورد التصادق
والاجتماع - كما صنعه المحقق الخراساني (رحمه الله) (2) - مما لا أساس له، وفيه خلط
بين الإمكان والامتناع كبرويا، وبين ثمرة النزاع في الفقه ومحل الوقوع، فالقائل
بالجواز يقول: إن اجتماع الأمر والنهي في واحد ذي جهتين ممكن، وقع أو لم يقع،
والقائل بالامتناع ينكره.
نعم، تظهر الثمرة في الشرعيات في مورد يكون ملاك الحكم متحققا في
صور الاجتماع، وهو أمر آخر وراء محل النزاع، كما لا يخفى.
وهاهنا امور اخر ذكرها المحقق الخراساني (رحمه الله) على سبيل المقدمية (3)،
ونحن نذكر المهم منها في تنبيهات المسألة؛ لمناسبتها معها وعدم دخالتها في
المقدمية.

1 - كفاية الاصول: 188 - 189.
2 - نفس المصدر: 189.
3 - انظر كفاية الاصول: 190 - 192.
217

دليل امتناع الاجتماع
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن الاصوليين - من سالف الزمان - استدلوا على
الامتناع بدليل (1) قد شيد أركانه وأحكم بنيانه المحقق الخراساني (رحمه الله) بذكر
مقدمات:
ملخص أولها: أن الأحكام بأسرها متضادة في مقام فعليتها وبلوغها مرتبة
البعث والزجر، فاجتماع الأمر والنهي يكون من قبيل التكليف المحال،
لا بالمحال.
وثانيها: أنه لا شبهة في أن متعلق الأحكام هو فعل المكلف وما هو
صادر منه خارجا وما هو جاعله، لا ما هو اسمه ولفظه، وهو واضح، ولا ما
هو عنوانه ومفهومه الذهني؛ ضرورة أن البعث لا يكون نحوه، والزجر لا يكون
عنه، وإنما يؤخذ العنوان في متعلق الأحكام آلة للحاظ متعلقاتها، لا بما هو
وبنفسه استقلالا.
وثالثها: أن تعدد الوجه والعنوان لا يوجب تعدد المعنون، ولا تنثلم به
وحدته؛ لجواز انطباق المفاهيم الكثيرة على الواحد البسيط المحض، كمفاهيم
الأسماء الحسنى الصادقة على الواحد البسيط الحق جلت آلاؤه.
ورابعها: أن الواحد وجودا واحد ماهية وذاتا، فالمفهومان المتصادقان
على شيء واحد لا يكون كل منهما ماهية حقيقة، فالمجمع وإن تصادق عليه
متعلقا الأمر والنهي، إلا أنه كما يكون واحدا وجودا يكون واحدا ماهية وذاتا،
ويتصادق المفهومان على الفرد في الخارج تصادق الطبيعي على فرده؛ من غير

1 - انظر عدة الاصول 1: 263، والمحصول في علم اصول الفقه 1: 342، والمستصفى من
علم الاصول 1: 76، ونهاية الوصول: 157 - 159.
218

فرق في ذلك - أي في كون الواحد وجودا، واحدا ماهية - بين أصالة الوجود أو
الماهية.
ومنه ظهر عدم ابتناء الجواز والامتناع على القولين، كما ظهر عدم الابتناء
على تعدد وجود الجنس والفصل في الخارج وعدمه؛ ضرورة عدم كون العنوانين
من قبيلهما.
إذا عرفت ذلك: عرفت أن المجمع حيث كان واحدا وجودا وذاتا، كان تعلق
الأمر والنهي به محالا ولو كان التعلق بعنوانين؛ لما عرفت: من أن التعلق حقيقة
إنما يكون بما هو فعل المكلف خارجا، لا بالعناوين الطارئة والمفاهيم، فالفعل
الخارجي يكون مجمع الأمر والنهي، ولمكان تضادهما يجتمع الضدان في واحد
شخصي، وهو ضروري البطلان (1). انتهى.
ولقد تصدى القوم لجوابه بما يرجع كلها أو جلها إلى تكثير متعلق الأمر
والنهي، مع اعترافهم بتضاد الأحكام (2).
وعندي فيه إشكال، يبتني توضيحه على بيان مقدمة:
وهي أن تضاد الأحكام وإن كان مما تسالمت عليه كلمة الأصحاب قديما
وحديثا (3)، واشتهر بينهم غاية الاشتهار، لكنه مما لا أساس له؛ فإن الضدين
أمران وجوديان يتواردان على محل واحد بينهما غاية الخلاف، وليس الوجوب
والحرمة وسائر الأحكام من الامور الوجودية الحالة في متعلقاتها، وإن يصدق
عليها أنها واجبة أو محرمة مثلا، فإنه لا يلزم في صدق كل مفهوم على شيء

1 - كفاية الاصول: 193 - 195.
2 - درر الفوائد، المحقق الحائري: 180، وقاية الأذهان: 345.
3 - انظر عدة الاصول 1: 261، ومعا لم الدين: 101 / السطر 1، ومطارح الأنظار: 126 /
السطر 25.
219

أن يكون منشأ الانتزاع أمرا موجودا أو عرضا حالا في موضوعه ومتعلقه.
وإن شئت توضيح ذلك فاعلم: أن الأمر أو النهي إذا صدر من المولى متوجها
إلى المكلف ومتعلقا بالمكلف به، يكون له إضافة إلى المولى إضافة
صدورية؛ لقيامه به صدورا، وإضافة إلى المكلف وإلى المكلف به، ويكون
تحقق هاتين الإضافتين بنفس تحقق منشأ انتزاعهما، وهو الأمر والنهي القائمان
بالمولى قياما صدوريا، ولا نفسية لهما، وليس لهما قيام وعروض على المكلف،
ولا على المكلف به. ولهذا ترى أن مفهوم المأمور به والواجب والمنهي عنه
والمحرم، تصدق على متعلقات الأحكام بعد بعث المولى وزجره، وقبل إيجاد
المكلف إياها، فالصلاة واجبة ومأمور بها قبل إتيانها، والغيبة حرام ومزجور
عنها قبل ارتكابها، بل الخارج ظرف سقوط التكليف، فكيف يمكن أن يكون ظرف
ثبوته؟! فهل يكون ثبوته فيه - بعد تحقق المتعلق - إلا من قبيل تحصيل
الحاصل في الواجبات؟!
وبالجملة: إن وزان الأمر والنهي - القائمين بنفس المولى، المضافين إلى
المتعلق بلا عروض شيء خارجي موجود فيه - وزان العلم والإرادة والقدرة
القائمات بنفس الإنسان، المضافات إلى متعلقاتها قبل تحققها، فكما أن العلم قد
يتعلق بأمر متأخر قبل تحققه، وينتزع منه مفهوم المعلوم بواسطة نفس إضافة
العلم إليه، وكذا الإرادة والقدرة، فكذلك الأمر والنهي من هذه الحيثية.
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن الوجوب والحرمة وكذا سائر الأحكام ليست
مما يتحقق بينها تضاد؛ لعدم تحققها في الخارج، وعدم عروضها للمتعلقات، وإنما
هي إضافات متحققة بنفس الأمر والنهي، القائمين بنفس المولى قياما صدوريا،
وهي تابعة لمناشئها، فإن كانت مناشؤها ممكنة الاجتماع، تكون هي ممكنة
الاجتماع، وان كانت ممتنعة الاجتماع فكذلك، بل هي في الوجود والوحدة
220

والكثرة وجواز الاجتماع وعدمه تابعة لها، فلابد من عطف النظر إلى المناشئ.
فنقول: لا يكون مطلق اجتماع الأمر والنهي في نفس المولى ممتنعا؛
ضرورة اجتماعهما في نفسه بالنسبة إلى متعلقات متشتتة كثيرة، بل ما يكون
ممتنعا - ويكون من قبيل اجتماع الضدين - اجتماع الأمر والنهي من مولى واحد،
متوجها إلى عبد واحد بجهة واحدة في زمن واحد.
وأما تعلق الأمر بحيثية، وكذا تعلق الإرادة بها، وتعلق النهي والكراهة
بحيثية اخرى، فغير ممتنع، ولو أوجدهما المكلف بسوء اختياره في مصداق واحد
وموجود فارد؛ ضرورة أن معنى تعلق البعث بحيثية أن تكون تلك الحيثية تمام
المتعلق للأمر والبعث، وعدم دخالة حيثية اخرى فيه، كما أن معنى تعلق الزجر
والنهي بحيثية أيضا كذلك، فلا يعقل أن يتجاوز الأمر ما تعلق به وقامت
المصلحة الملزمة فيه إلى حيثية اخرى أية حيثية كانت؛ اتحدت معه في
الخارج أو لا، فما هو متعلق العلم بالصلاح هو متعلق الاشتياق والإرادة والبعث؛
لا يمكن أن يتخلف أحدها عنه ويصير شيء آخر دخيلا فيه بنحو من الدخالة،
وكذا في جانب النهي.
ووزان الإرادة التشريعية وزان الإرادة التكوينية في ذلك طابق النعل
بالنعل والقذة بالقذة، فكما أن ما تعلق العلم بالمصلحة فيه، يصير متعلقا
للاشتياق وتوقان النفس والإرادة التكوينية للإيجاد، ولا يمكن أن يتعلق الشوق
والإرادة بما يقارنه ويتحد معه في الوجود، فإكرام الصديق الذي هو متعلق
الشوق والإرادة هو تمام الموضوع والمتعلق لهما، ولا يكون شيء من مقارناته
والمتحدات معه في الوجود - من كونه في زمان كذا، أو مكان كذا، ومتعلقا
لإضافات كذائية، وأوضاع كذائية - متعلقا لهما؛ فإنها كلها خارجة عن
الموضوع الذي قامت المصلحة به، ويكون تعلق الشوق والإرادة بها بلا ملاك
221

يوجبه، فكذلك الإرادة التشريعية؛ لاشتراكهما في جميع المقدمات، وافتراقهما
في أن إحداهما متعلقة بإيجاد الغير للمتعلق، والاخرى بإيجاد نفسه إياه.
فتحصل مما ذكرنا: أن الصلاة مثلا متعلقة للإرادة والبعث، وهي بذاتها تمام
الموضوع لهما، ولا يمكن أن يتعلقا بغيرها؛ مما هو خارج عن عنوان الصلاة وإن
اتحد معها في الخارج، والتصرف في مال الغير بغير إذنه متعلق للكراهة
والزجر، وهو أيضا تمام الموضوع لهما من غير دخالة شيء فيه من مقارناته
والمتحدات معه، ولا يعقل سراية الإرادة المتعلقة بالصلاة إلى التصرف
الكذائي؛ لفقدان الملاك ومنافاته لتمام الموضوعية، فالبعث إلى الصلاة بعث
إليها فقط لا إلى غيرها؛ اتحد معها في الخارج أو لم يتحد، والزجر عن التصرف
في مال الغير زجر عنه فقط دون غيره، وهما لا يجتمعان في ظرف من الظروف
ووعاء من الأوعية.
ولو كان هذا النحو من التعلق والاجتماع ممتنعا؛ لإدائه إلى اجتماع
الضدين، لكان اجتماع العلم والجهل المتعلقين بجهتين - يتفق اجتماعهما في
موجود واحد - محالا؛ لعين ما ذكر.
مثلا: لو علمنا بمجيء زيد غدا، وعلمنا أنه عالم، وشككنا في عدالته،
اجتمع العلم والجهل في موجود واحد؛ فإن المجيء الشخصي يصدق عليه أنه
معلوم ومجهول، معلوم كونه مجيء عالم، ومجهول كونه مجيء عادل.
وكذا من صلى في دار مجهولة غصبيتها، يصدق على الحركات الخاصة أنها
معلومة ومجهولة؛ معلومة من حيثية صلاتيتها، ومجهولة من حيثية غصبيتها،
ولو كان هذا النحو من التعلق نحو عروض شيء موجود على شيء موجود، للزم
اجتماع الضدين في واحد شخصي، أو الالتزام بعدم حصول هذا النحو من العلم
والجهل في موجود شخصي، أو الالتزام بعدم التضاد بين العلم والجهل مطلقا:
222

والأول: ضروري البطلان.
والثاني: خلاف الوجدان.
والثالث: خلاف الضرورة؛ بداهة امتناع تعلق العلم والجهل بشيء واحد
من جهة واحدة.
فإذا بطلت التوالي بأسرها بطل المقدم وهو كون هذا التعلق نحو عروض
الأعراض الموجودة الحالة في محالها.
ومورد النقض هو عين ما نحن فيه، والحل بما عرفت: وهو أن العلم
والجهل إنما يكون قيامهما بنفس العالم والجاهل، ولهما نحو تعلق بالمعلوم
والمجهول، ويكون تحقق تلك الإضافة إلى المعلوم والمجهول - أي المشكوك
فيه - بعين تحقق العلم والشك، وليس لهما وجود على حدة يكون عارضا على
المعلوم والمشكوك فيه، فهما في تحققهما وامتناع اجتماعهما وجوازه تابعان
لمنشأ انتزاعهما، وهما العلم والشك القائمان بنفس العالم والجاهل، فإذا عطفنا
النظر إلى المنشأ نرى أن الممتنع هو اجتماع العلم والشك في شيء واحد من جهة
واحدة. وأما تعلق العلم بجهة والشك بجهة اخرى، فغير ممتنع، وإن اتفق
اجتماعهما في موجود شخصي، وانطباقهما على واحد خارجي، كالحركة
الخارجية الشخصية المتصفة بالمعلومية والمشكوكية بجهتين.
ثم إنا لا نحتاج إلى إقامة البرهان على الجواز حتى يقال: لعل الاجتماع
يكون ممتنعا بجهة اخرى غير ما ذكر ولم نتنبه عليها، فلابد لإثباته من إقامة
البرهان؛ وذلك لأن رفع اليد عن إطلاق الأدلة وعمومها لا يجوز إلا بدليل شرعي
أو عقلي مفقود في المقام، ومجرد احتمال جهة واقعية تكون موجبة للامتناع
لا يصحح رفع اليد عن الأدلة - كما هو واضح - فلابد للمانع من إقامة الدليل، لا
للمجوز.
223

لكن المجوزين استدلوا على الجواز بامور:
منها: أن العقلاء يعدون من أتى بالمأمور به في ضمن الفرد المحرم مطيعا
وعاصيا، فإذا أمر المولى عبده بخياطة ثوبه، ونهاه عن التصرف في فضاء
خاص، فأوجد المكلف الخياطة بحركاته الخاصة المتحدة مع الخياطة
والتصرف، فنفس الحركات الخاصة مصداق لكلا العنوانين، ومحقق للمأمور به
والمنهي عنه، ويكون مطيعا لإيجاد المأمور به، وعاصيا للتخلف عن النهي (1).
تنبيهات:
التنبيه الأول: حكم العبادة في الدار المغصوبة
ما ذكر - من كون العبد مطيعا وعاصيا إذا أتى بمجمع العنوانين ومصداق
الطبيعتين - إنما هو في التوصليات، وهل يجري في التعبديات أيضا أو لا؟
والتحقيق هو الثاني.
وليعلم أولا: أن القول بجواز الاجتماع لا يلازم القول بصحة العبادة
المتحدة مع المنهي عنه في الخارج؛ لإمكان التزام القائل بالجواز بالبطلان من
جهة اخرى وملاك آخر غير الامتناع، وهو أن العبادة تتقوم بقصد التقرب، وكون
الموضوع مما يمكن فيه التقرب وصالحا لذلك. ولما كان الموجود الخارجي هو
مصداق عنوان المعصية، ومتحدا بتمام هويته مع المنهي عنه - لا بجهة دون
جهة -، كان المصداق الخارجي - بتمام هويته - مبعدا للعبد، ومعصية للمولى،
ومخرجا له عن رسم العبودية، وما يكون كذلك لا يمكن أن يصير مقربا للعبد

1 - انظر المحصول في علم اصول الفقه 1: 341، وقوانين الاصول 1: 148 / السطر 7.
224

وطاعة للمولى.
وليس للموجود الخارجي جهتان متحققتان، يكون بإحداهما معصية،
وبالاخرى إطاعة، بل عنوان المأمور به - كعنوان المنهي عنه - منطبق عليه
تمام الانطباق، ويكون بتمام هويته وشراشر حيثياته الخارجية مصداقا
للعنوانين، فالصلاة في الدار المغصوبة بتمام هويتها مصداق لعنوان الغصب
ومعنونة بعنوان المنهي عنه، وما يكون كذلك لا يمكن أن يكون مقربا ولا
إطاعة وعبادة للمولى، وهذا أمر يصدقه العقل والوجدان، وبذلك ظهر وجه
المختار (70).

70 - بعد البحث عن إمكان اجتماع الأمر والنهي يتضح الجواب عن سائر إشكالات الباب،
كلزوم كون شيء واحد متعلقا للإرادة والكراهة، وكون شيء واحد محبوبا ومبغوضا، وذا
صلاح وفساد، ومقربا ومبعدا.
وأما لزوم كون الموجود الخارجي محبوبا ومبغوضا فلا محذور فيه؛ لأن المحبوبية
والمبغوضية ليستا من الصفات القائمة بالموضوع خارجا، كالسواد والبياض، حتى يكون
المحبوب متصفا بصفات خارجية بعدد المحبين، والله - تعالى - محبوب الأولياء ولا يمكن
حدوث صفة حالة فيه بعددهم، فالمحبوبية والمبغوضية من الصفات الانتزاعية التي
يكون لهما منشأ انتزاع، فلابد من لحاظ المنشأ؛ فإن المنتزع تابع لمنشئه في الوحدة
والكثرة.
وأما حديث قيام المصلحة والمفسدة بشيء واحد فهو - أيضا - لا محذور فيه؛ لأنهما -
أيضا - لا يجب أن يكونا من الأعراض الخارجية القائمة بفعل المكلف، مثلا: التصرف في
مال الغير بغير إذنه ظلم قبيح له مفسدة؛ لأن ذلك موجب للهرج والمرج والفساد، من غير
أن تكون هذه العناوين أوصافا خارجية قائمة بالموضوع، والخضوع لله - تعالى -
والركوع له قيام بأمر العبودية، وله حسن ومصلحة، وموجب لأداء حق العبودية، من
غير أن تكون هذه العناوين أعراضا خارجية، بل هي ومقابلاتها من الوجوه والاعتبارات
التي يمكن أن يتصف شيء واحد بهما.
فمس رأس اليتيم في الدار المغصوبة من جهة أنه رحمة به حسن ذو مصلحة، ومن
جهة أنه تصرف في مال الغير قبيح ذو مفسدة، من غير أن يكون ذلك من اجتماع الضدين
بالضرورة.
ومما ذكرنا يتضح: إمكان أن يكون شيء واحد مقربا ومبعدا؛ لأنهما - أيضا - من الوجوه
والاعتبارات التي يمكن اجتماعها في شيء واحد بجهات مختلفة؛ ضرورة أن العقل يدرك
الفرق بين من ضرب ابن المولى في الدار المغصوبة، ومن أكرمه فيها، فحركة اليد لإكرام
ابن المولى من جهة أنها إكرام، محبوبة وصالحة للمقربية، ومن جهة أنها تصرف في
مال الغير عدوانا، مبغوضة ومبعدة، فالحركة الصلاتية في الدار المغصوبة من جهة أنها
مصداق الصلاة، محبوبة ومقربة، ومن جهة أنها مصداق الغصب، مبغوضة مبعدة.
(مناهج الوصول 2: 132 - 135).
لكن عدم صحة الصلاة ليس لأجل الغصب، بل لأجل التصرف في مال الغير بلا إذنه،
وهو عنوان آخر غير الغصب؛ لأنه قد يكون التصرف في ما له بلا إذن ولا يتحقق عنوان
الغصب؛ أي استقلال اليد عليه، وقد يتحقق الغصب بلا تصرف خارجي في ما له، فبطلان
الصلاة في الدار المغصوبة - على فرضه - ليس لأجل استقلال اليد على ملك الغير؛ لأنه
اعتباري لا ينطبق على الصلاة، بل لأجل التصرف فيه؛ لأن الحركة الركوعية
والسجودية عين التصرف فيه، بل السجود على سبعة أعظم والكون الركوعي والقيامي
وغيرهما تصرف ومبعد، فلا يجوز التقرب به على الفرض، قيل بجواز الاجتماع أو لا.
(مناهج الوصول 2: 121 - 122).
225

وليعلم أيضا: أن ما اشتهر بين المتأخرين - من أن المشهور بين الإمامية
عدم جواز اجتماع الأمر والنهي (1) - ليس له مأخذ صحيح، فإنه بعد التتبع في
كلمات قدماء أصحابنا الإمامية - رضوان الله عليهم - يظهر أن ما هو المشهور
بينهم إنما هو عدم صحة الصلاة في الدار المغصوبة، وكذا عدم صحة كل عبادة

1 - معا لم الدين: 97، الفصول الغروية: 125 / السطر 12، مطارح الأنظار: 129 /
السطر 9.
226

متحدة مع المنهي عنه في الخارج.
واستدلوا على بطلانها بما ذكرنا: من أن المبعد لا يمكن أن يصير مقربا ويقع
عبادة (1)، وقد عرفت أن هذا أمر آخر غير مربوط بمسألة جواز الاجتماع، ولا
ملازمة بين المسألتين.
نعم، يظهر من بعض المتأخرين: أن مدرك المسألة هو عدم الجواز (2)، وهو
ليس في محله.
وبما ذكرنا في وجه مختار المشهور، ظهر ما في كلام المحقق
الخراساني (رحمه الله) في عاشر المقدمات: من أنه لا إشكال في سقوط الأمر وحصول
الامتثال بإتيان المجمع بداعي الأمر، على الجواز مطلقا ولو في العبادات وإن كان
معصية للمنهي عنه أيضا (3).
وذلك لما عرفت من وجه الإشكال، وأن ذهاب أصحابنا إلى بطلان العبادة
في الدار المغصوبة هو لهذا الوجه، لا للذهاب إلى الامتناع؛ فإن بحث اجتماع
الأمر والنهي بهذا العنوان المعروف بين المتأخرين، لم يكن إلى زمن العلامة (قدس سره)،
وإنما حدث في زمانه (4)، وتبعه المتأخرون، فالوجه في ذهاب المشهور إلى
البطلان هو الوجه المتقدم.
وأما ما أفاده بقوله: وكذا الحال على الامتناع مع ترجيح جانب الأمر، إلا
أنه لا معصية في إتيانه بناء عليه (5).

1 - انظر الذريعة إلى اصول الشريعة 1: 191، غنية النزوع 1: 67.
2 - جواهر الكلام 8: 285.
3 - كفاية الاصول: 191.
4 - نهاية الوصول: 157 / السطر 13.
5 - كفاية الاصول: 191.
227

ففيه ما لا يخفى: فإن ترجيح جانب الأمر إنما يؤثر في تقييد النهي بغير
مورد الاجتماع إذا لم تكن مندوحة في البين، وأما مع وجودها - كما هو محط
البحث - فلا معنى للتقييد ولو بلغ مناط الأمر ما بلغ من القوة والترجيح؛ فإن
التقييد معها يكون بلا ملاك وجهة.
وهاهنا أمر: وهو أن ما ذكر في وجه بطلان العبادة، إنما يجري فيما إذا كان
النهي مؤثرا فعليا؛ حتى يكون صدور الفعل من الفاعل قبيحا، ويكون عصيانا
وطغيانا على المولى، وأما مع عدم كونه كذلك - كالجاهل بالموضوع أو بالحكم
مع قصوره - فصحة العبادة وصيرورتها مقربة وإطاعة لأمر المولى، مما لا مانع
منه، كما لا يخفى (71).

71 - أما مع القصور فصحتها تتوقف على أمرين:
أحدهما: إثبات وجدانها في مورد الاجتماع للملاك التام.
وثانيهما: كون الملاك المرجوح قابلا للتقرب.
والأمر الأول: محل إشكال بناء على كون الامتناع لأجل التكليف المحال؛ وذلك للتضاد
بين ملاكي الغصب والصلاة، فإن رفع تضادهما باختلاف الحيثيتين، رفع التضاد بين
الحكمين أيضا، فلا محيص عن القول بالجواز، فالقائل بالامتناع لابد له من الالتزام بأن
الحيثية التي تعلق بها الأمر عين ما تعلق به النهي؛ حتى يحصل التضاد، ومع وحدة
الحيثية لا يمكن تحقق الملاكين، فلابد وأن يكون المرجوح بلا ملاك، فعدم صحتها لأجل
فقدانه، ومعه لا دخالة للعلم والجهل في البطلان والصحة.
وأما الأمر الثاني - بعد تصوير الملاك - فلا إشكال فيه؛ لأن الحيثية الحاملة لملاك
الصلاة غير الحيثية الحاملة لملاك الغصب، فأتمية ملاكه من ملاكها، وترجيح مقتضاه
على مقتضاها لا يوجب تنقيصا في ملاكها، فملاكها تام، لكن عدم إنشاء الحكم على طبقه
لأجل المانع، وهو أتمية ملاك الغصب، وفي مثله لا مانع من صحتها بعد عدم تأثير النهي
للجهل قصورا؛ لكفاية الملاك التام في صحتها مع قصد التقرب، وكون الموضوع مما
يمكن التقرب به.
بل يمكن أن يقال بصحتها حينئذ مع العلم والعمد - أيضا - لعين ما ذكر وإمكان التقرب بها
مع تمامية الملاك، فعدم الأمر هاهنا كعدم الأمر في باب الضدين المتزاحمين. (مناهج
الوصول 2: 123 - 124).
228

التنبيه الثاني: جريان النزاع في العامين من وجه
إن جريان النزاع في العامين من وجه مما لا إشكال فيه، وكذا يجري فيما
إذا كان المنهي عنه أخص مطلقا بحسب المورد، لا من قبيل المطلق والمقيد
مفهوما - أي ما اخذ مفهوم المطلق في المقيد - لتأتي مناط الجواز الذي ذكرنا في
العامين من وجه فيه، طابق النعل بالنعل؛ لأن الأمر إنما تعلق بجهة، وتكون تلك
الجهة تمام الموضوع للأمر، ولا يعقل تسريته من موضوعه إلى عنوان آخر - أي
عنوان كان - والنهي كذلك. ففي الصقع الشامخ من النفس - الذي يكون مورد
تقدير موضوعات الأوامر والنواهي، ومحط تعلق الإرادة وتقدير المصالح
والمفاسد، الذي هو قبل تحقق المتعلقات - لم تكن موضوعات الأوامر والنواهي
مختلطات بعضها مع البعض، ولا متحدات كذلك، وإنما الاتحاد يتحقق في صقع
متأخر ووعاء نازل، هو وعاء الوجود العيني التكويني، لا وعاء الوجود العقلي
التقديري.
وقد عرفت: أن الوجود الخارجي لم يكن معروضا للأمر ولا النهي، ولا أن
الوجوب والحرمة عرضان خارجيان حالان في الموضوعات الخارجية.
وقد عرفت [أيضا]: أن معنى إطلاق المتعلق في الأمر والنهي هو كونه تمام
الموضوع لهما من غير دخالة شيء آخر - أي شيء - فيه. وفي مقابله عدم
الإطلاق، وهو كون المتعلق - بحسب الإرادة الاستعمالية - هو بعض الموضوع،
229

لاتمامه، وافيدت قيوده ومتمماته بدليل آخر مقيد له، وليس معنى الإطلاق هو
سريان البعث والزجر إلى الأفراد الخارجية؛ حتى يقال: إن المولى لابد له من
تقييد متعلق أمره أو نهيه بغير مورد الاجتماع.
نعم، آثار الإطلاق في الأوامر والنواهي والأحكام الوضعية مختلفة، كما
أشرنا إليه سابقا (1).
هذا كله في العامين من وجه والأخص المطلق بحسب المورد.
وهل يجري النزاع في الأخص المطلق بحسب المفهوم؛ بأن يكون الأمر
متعلقا بمفهوم، والنهي متعلقا بنفس المفهوم مع قيد زائد كالصلاة، والصلاة في
الدار المغصوبة؟
الظاهر جريان النزاع فيه أيضا، والتزام المجوز بجوازه (2)، كالعامين من
وجه، فلو فرض أن خياطة الثوب تكون ذات مصلحة تامة ملزمة، وكانت تمام
الموضوع لتلك المصلحة بلا دخالة شيء وجودي أو عدمي فيها، فلابد أن يتعلق
الأمر بها بنفس ذاتها بنحو الإطلاق؛ أي بلا دخالة قيد فيها، لا بمعنى السراية إلى
الأفراد، كما عرفت آنفا.
ولو فرض أن في خياطته في دار زيد مفسدة تامة - بحيث تكون الخياطة
فيها تمام الموضوع للمفسدة - فلابد أن يتعلق النهي بها، فلو خاط المكلف الثوب
في دار زيد أتى بمورد الأمر بلا إشكال وكلام؛ لتحقق الخياطة التي هي تمام
الموضوع بلا دخالة قيد وجودي أو عدمي فيه، وأتى بمورد النهي أيضا الذي هو
الخياطة في دار زيد، وتكون تمام الموضوع للمفسدة والنهي، فأصل الخياطة
مأمور بها، وهي مع التقيد الكذائي منهي عنها، فهما مفهومان قد تعلق النهي

1 - تقدم في الصفحة 208 - 209.
2 - انظر قوانين الاصول 1: 142 / السطر 18 و 153 / السطر 17.
230

بأحدهما، والأمر بالآخر، وأخذ أحدهما في الآخر لا يوجب اجتماع الأمر والنهي
في شيء واحد بجهة واحدة، واجتماعهما في الوجود بسوء اختيار المكلف
لا يوجب امتناعا في ناحية التكليف، كما عرفت (72).
التنبيه الثالث: جريان النزاع عند أخصية المنهي عنه مطلقا
كما أن تعلق الأمر والنهي بشيء واحد بجهة واحدة من مولى واحد،
متوجهين إلى مكلف واحد في زمان واحد، لا يمكن ولا يكون موردا للنزاع (2)،
كذلك لا يجري في مفهومين متساويين في الصدق، ولا في مفهومين متلازمين
بحسب الوجود، ولا في مورد يكون الأمر أخص مطلقا من النهي - سواء كانت
الأخصية بحسب المورد أو بحسب المفهوم - فإن في جميع الصور يكون اجتماع
الأمر والنهي محالا، ولا يجري النزاع فيها، وقد عرفت جريانه في العامين من

72 - وأما العام والخاص بحسب المفهوم ففي جريانه فيهما إشكال؛ من حيث إن المطلق عين
ما اخذ في المقيد، ووصف الإطلاق ليس بشيء، بل المطلق عبارة عن نفس الطبيعة بلا
شرط، والمقيد هو هذه مع قيد، فلا يمكن أن تكون الطبيعة موردا لحكمين مختلفين،
فلا يجري فيهما؛ ومن حيث إن المقيد بما هو كذلك عنوان غير المطلق، وليس الحكم فيه
على المطلق مع قيده، بل على المقيد بما هو كذلك، وهو غير المطلق، والأمر الضمني لا
أساس له؛ فيجري فيهما.
والمسألة محل إشكال وتأمل، وإن كان عدم جريانه أشبه.
وأما العامان من وجه فلا إشكال في جريانه فيهما، إلا إذا اخذ مفهوم أحدهما في الآخر،
كقوله: " صل الصبح " و " لا تصل في الدار المغصوبة "، فيأتي فيه الإشكال المتقدم.
(مناهج الوصول 2: 126 - 127).
2 - نهاية الوصول: 157 / السطر 23، الوافية في اصول الفقه: 91، قوانين الاصول 1:
140 / السطر 6.
231

وجه، وهذا المورد متسا لم عليه بينهم (1)، وفيما إذا كان المنهي عنه أخص مطلقا
- سواء كانت الأخصية بحسب المورد أو بحسب المفهوم - وهذان الموردان محل
الإشكال في جريانه، وقد عرفت أن التحقيق جريانه فيهما وتحقق ملاكه فيهما،
بل كل مورد يكون فيه بين العنوانين عموم وخصوص يرجع إلى العموم المطلق؛
فإن النهي ينحل إلى نواه مستقلة، فكل تصرف في المغصوب يكون متعلقا لنهي
مستقل، ونسبة هذا النهي الانحلالي إلى الأمر تكون بالأخصية المطلقة، كما
هو واضح.
التنبيه الرابع: لافرق في جريان النزاع بين أقسام الأمر والنهي
لا فرق في جريان النزاع بين الأمر الوجوبي والندبي (2) والنهي التحريمي
والتنزيهي (3)، فعلى القول بالامتناع يمتنع اجتماعهما - بأي نحو كان الأمر
والنهي - فإن تمام الملاك للامتناع هو الضدية، ومعلوم أن الأحكام الخمسة
بأسرها متضادة، فكما يمتنع اجتماع الأمر الوجوبي والنهي التحريمي بملاك
الضدية، كذلك يمتنع اجتماع كل أمر ونهي - بأي مرتبة كانا - في شيء واحد بجهة
واحدة؛ لتحقق الملاك في الجميع (73).

1 - نهاية الوصول: 157 / السطر 24، معا لم الدين: 98، الفصول الغروية: 125 /
السطر 8.
2 - الوافية في اصول الفقه: 96، الفصول الغروية: 129 / السطر 8، خلافا لما في مطارح
الأنظار: 127 / السطر 25.
3 - الوافية في اصول الفقه: 94، الفصول الغروية: 129 / السطر 8.
73 - عرف الضدان: بأنهما أمران وجوديان لا يتوقف تعقل أحدهما على الآخر، بينهما غاية
الخلاف، يتعاقبان على موضوع واحد، لا يتصور اجتماعهما فيه.
قا لوا: ومن شرط التضاد أن تكون الأنواع الأخيرة التي توصف به، داخلة تحت جنس
واحد قريب، فلا يكون بين الأجناس ولابين صنفين من نوع واحد ولا شخصين منه تضاد.
وهذا التعريف لا يصدق على الأحكام الخمسة، سواء جعلت الإرادات المظهرة أو نفس
البعث والزجر؛ لأنه إن جعلت الإرادات فلم تكن الأحكام أنواعا مختلفة تحت جنس
قريب.
أما الواجب والمستحب وكذا الحرام والمكروه، فواضح؛ لأن الإرادة الوجوبية
والاستحبابية مشتركتان في حقيقة الإرادة، وممتازتان بالشدة والضعف، وكذا الحال في
الحرمة والكراهة؛ لأن المبدأ القريب للزجر - تحريميا كان أو تنزيهيا - هو الإرادة، فإذا
أدرك المولى مفسدة شرب الخمر، يتوسل إلى سد بابه بزجر العبيد تشريعا، فيريد الزجر
التشريعي، فيزجرهم عنه، فإرادة الزجر المظهرة إذا كانت إلزامية، ينتزع منها التحريم
على هذا المبنى، وإذا كانت غير إلزامية، ينتزع منها الكراهة، فالإرادة مبدأ الزجر والبعث
والإباحة الشرعية.
وما اشتهر بينهم: من تقابل الإرادة والكراهة، وجعلوا الكراهة مبدأ للنهي، والإرادة للأمر،
ليس على ما ينبغي؛ لأن الكراهة لصدور الفعل من المكلف ليست في مقابل إرادة البعث،
بل مقابلة للاشتياق إلى صدوره منه، فكما أن استحسان عمل والاشتياق إلى صدوره من
المكلف صارا مبدأ لإرادة بعثه نحو الفعل، فكذا استقباح عمل وكراهة صدوره منه صارا
مبدأ لإرادة الزجر التشريعي والنهي عنه، فنفس الكراهة ليست بمبدأ قريب للنهي؛
ضرورة مبدئية الإرادة لصدور جميع الأفعال.
فبناء على انتزاع الحكم من الإرادة المظهرة لا فرق بين الوجوب وغيره في كون مبدئها
الإرادة، فلا تكون الأحكام أنواعا مختلفة مندرجة تحت جنس قريب، فلا تضاد بينها،
ومطلق عدم الاجتماع لا يوجب الاندراج تحت تقابل التضاد، مع أن غاية الخلاف - لو
اعتبرت فيه - لا تتحقق في جميع الأحكام، بل التعاقب على موضوع واحد - المراد به
الموضوع الشخصي لا الماهية النوعية - مما لا معنى له فيها؛ لأن متعلقاتها لا يمكن أن
تكون الموجود الخارجي، فلا معنى للتعاقب وعدم الاجتماع فيه.
وبهذا يظهر عدم التضاد بينها؛ بناء على أن الأحكام عبارة عن البعث والزجر المنشأين
بوسيلة الآلات الموضوعة لذلك، كهيئة الأمر والنهي وغيرهما، ولا شك في أنهما -
حينئذ - من الامور الاعتبارية، فلم تكن وجودية ولا حالة في الموضوع الخارجي، بل
قائمة بنفس المعتبر قياما صدوريا، فالتضاد بين الأحكام مما لا أساس له، فتدبر. (مناهج
الوصول 2: 136 - 138).
232

نعم، بين النهي التحريمي والتنزيهي فرق من جهة اخرى، غير ما هو محل
البحث ومحط النزاع، وهو أن القائل بالاجتماع يمكن أن يذهب إلى بطلان العبادة
في مورد الاجتماع في الموجود الخارجي؛ لما عرفت (1) من أن المبعد لا يمكن أن
يصير مقربا، وهذا الملاك إنما يكون في النهي التحريمي.
وأما النهي التنزيهي فلا يكون متعلقه مبغوضا للمولى، ولا إتيانه عصيانا
وطغيانا عليه، ولا مبعدا للعبد، فصحة العبادة في مورد الأمر والنهي التنزيهي
مما لا مانع منه عقلا.
التنبيه الخامس: بعض أدلة المجوزين
استدل المجوز على مدعاه - مضافا إلى ما عرفت - بأن أول الدليل على
الإمكان هو الوقوع، وقد وقع الاجتماع في الشريعة، كالعبادات المكروهة، مثل
الصلاة في مواضع التهمة، وفي الحمام، والصوم في السفر، وبعض الأيام مثل يوم
عاشوراء، وقد عرفت أن ملاك الامتناع - على فرضه - موجود في الأوامر
والنواهي قاطبة لتضاد الأحكام بأسرها، فإذا وقع في مورد الأمر الإيجابي
والنهي التنزيهي، أو الأمر الندبي والنهي التنزيهي، فذلك يدل على الإمكان
والجواز في مطلق الأوامر والنواهي (2).

1 - تقدم في الصفحة 224 - 225.
2 - انظر قوانين الاصول 1: 142 / السطر 13.
234

وقد أجاب المحقق الخراساني (رحمه الله) عنه: تارة على نحو الإجمال، وتارة
على نحو التفصيل.
أما جوابه الإجمالي فحاصله: أن الظواهر لا تصادم البرهان العقلي، فإذا
قام البرهان على الامتناع، فلا وجه للتمسك بالظهور في مقابله، فلابد من
التصرف والتأويل فيه، مع أن في بعض تلك الموارد اجتمع الأمر والنهي بعنوان
واحد وجهة واحدة، مثل صوم يوم عاشوراء والنوافل المبتدأة في الحمام مما لا
بدل لها، فإنه في كل حين تستحب الصلاة ففي الحمام أيضا تستحب، ولا بدل لها (1).
هذا، ولنا جواب إجمالي عن الدليل: وهو أن غاية ما يدل عليه الدليل في
هذه الموارد - من الإجماع (2) والأخبار (3) - هو كراهة هذه العناوين، مثل صوم
يوم عاشوراء والصلاة في الحمام وأمثالهما، وصحتها على فرض الإتيان بها،
ومجرد هذا لا يدل على مدعاه - أي اجتماع الأمر والنهي - إذ لعل الصحة تكون
بواسطة الملاك لعدم احتياجها إلى الأمر، فمجرد الصحة مع الكراهة لا يدل
على وقوع الاجتماع، وذلك واضح.
وأما جوابه التفصيلي: فهو أن العبادات المكروهة على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما تعلق النهي بعنوانه وذاته ولا بدل له، كصوم يوم عاشوراء
والنوافل المبتدأة في بعض الأوقات.
وثانيها: ما تعلق النهي بعنوان أخص من المأمور به، كالنهي عن الصلاة

1 - كفاية الاصول: 197.
2 - مفتاح الكرامة 2: 207 / السطر 21، جواهر الكلام 8: 339.
3 - انظر الكافي 3: 390 / 12 و 4: 146 / 3، والفقيه 1: 156 / 725، ووسائل الشيعة
3: 441، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، الباب 15، الحديث 6 - 7، و 7: 341،
كتاب الصوم، أبواب الصوم المندوب، الباب 21، الحديث 6.
235

في الحمام.
وثالثها: ما تعلق به لا بذاته، بل بما هو مجامع معه وجودا، أو ملازم له
خارجا، كالصلاة في مواضع التهمة؛ بناء على أن المنهي عنه هو الكون في
مواضعها.
ثم أجاب (قدس سره) عن كل قسم تفصيلا (1).
ونحن في فسحة من القسمين الأخيرين؛ لاختيارنا الجواز فيهما، كما
تقدم (2).
وأما القسم الأول فلابد لنا من الجواب عنه - كالقائل بالامتناع - لورود
النقض على كلا الفريقين، فلابد من البحث عنه تفصيلا.
فنقول: حاصل ما أفاد المحقق المتقدم (قدس سره) في الجواب عنه: أن النهي في
مثله إما يرجع إلى النهي عن الترك؛ لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة عليه،
فيكون فعل الصوم ذا مصلحة، وتركه كذلك؛ لأجل انطباق ذاك العنوان عليه،
لكن الترك أرجح، فيكونان من قبيل المستحبين المتزاحمين، فيحكم بالتخيير
بينهما لولا الأهمية، وإلا فيقدم الأهم وإن كان المهم أيضا يقع صحيحا؛ لرجحانه
وموافقته للغرض، وأرجحية الترك لا توجب منقصة في الفعل، بل الفعل يكون
ذا مصلحة خالصة، وإن كان الترك لأجل انطباق عنوان مرجوح عليه ذا مفسدة
غالبة.
وإما لأجل ملازمة الترك لعنوان كذائي من دون انطباق عليه، فيكون
حاله حال الانطباق.
والفرق بينهما: أن الطلب المتعلق به حقيقي على الأول، وعرضي على

1 - انظر كفاية الاصول: 197 - 201.
2 - تقدم في الصفحة 223 - 228.
236

الثاني، وإنما يتعلق حقيقة بما يلازمه من العنوان (1). انتهى.
وفيه أولا: أن إرجاع النهي إلى طلب الترك خلاف التحقيق، كما عرفت
مفصلا من أن النهي عبارة عن الزجر عن الفعل، لا طلب الترك (2).
وثانيا: لو سلم أن النهي عبارة عن طلب الترك، لكن إرجاعه إلى طلب
ترك عنوان آخر - منطبق عليه أو ملازم له - خلاف ظواهر الأدلة الناهية عن
الصوم يوم عاشوراء (3)، أو الصلاة في زمان كذا (4).
وثالثا: لا داعي إلى تصوير عنوان أرجح منطبق أو لازم؛ لجواز كون نفس
الترك له رجحان، كما أن للفعل رجحانا، ويكون الترك أرجح من الفعل، ومعلوم
أن رجحان الفعل والترك غير كون الفعل ذا مصلحة ومفسدة مع كون المفسدة
أرجح، حتى يقال: إن هذا ينافي صحة الفعل؛ فإن الفعل إذا كان فيه مصلحة
خالصة، والترك كان فيه مفسدة خالصة، فمع تساويهما يكون المكلف مخيرا
بينهما، ومع أرجحية الترك يصير الزجر مقدما، ولكن لو أتى به يكون صحيحا؛
لكون الفعل ذا مصلحة خالصة، فتصوير العنوان الآخر تبعيد للمسافة بلا داع
يدعو إليه.
ورابعا: لازم ما أفاده أن التارك للصوم يكون آتيا بأمر مستحب وعبادة قهرا؛
من دون الالتفات إلى عنوان المأمور به، وهو كما ترى.
والتحقيق في التفصي عن هذا الإشكال أن يقال: إن الفعل فيه مصلحة

1 - كفاية الاصول: 198 - 199.
2 - تقدم في الصفحة 162 و 208.
3 - وسائل الشيعة 7: 339، كتاب الصوم، أبواب الصوم المندوب، الباب 21.
4 - انظر تهذيب الأحكام 2: 174 / 694، والاستبصار 1: 290 / 1065، ووسائل الشيعة
3: 170، كتاب الصلاة، أبواب مواقيت الصلاة، الباب 38، الحديث 1.
237

خالصة، ولكن ينطبق على ذلك الفعل عنوان آخر يكون فيه مفسدة راجحة؛
فالنهي عن الفعل إنما هو لأجل انطباق تلك العناوين عليه.
مثلا: صوم يوم عاشوراء بما أنه صوم، فيه مصلحة خالصة ولا مفسدة
فيه، لكن ينطبق عليه عنوان التشبه ببني امية وبني مرجانة - لعنهم الله - وهذا
التشبه فيه مفسدة غالبة على الصوم المندوب، وكذلك النوافل عند غروب
الشمس وطلوعها تكون فيها مصلحة خالصة بما أنها صلاة، ولكن ينطبق عليها
عنوان التشبه بعبدة الشمس، وهذا فيه مفسدة راجحة على مصلحة النافلة،
ولأجل ذلك وقع النهي عنها.
التنبيه السادس: حكم توسط الأرض المغصوبة
قد وقع الخلاف بين الأعلام بأن المتوسط في أرض مغصوبة إذا كان
دخوله فيها غصبا، وكان التخلص عن الغصب منحصرا بالتصرف فيها بغير إذن
صاحبها، هل يتصف تصرفه للتخلص بالحرمة (1)، أو الوجوب مع جريان حكم
المعصية عليه (2)، أو بدونه (3)، أو يتصف بكليهما (4)؟ على أقوال.
وهذه مسألة معنونة بينهم، واختار كل مسلكا، وقد قدم المحقق
الخراساني (رحمه الله) لتحقيقها مقدمة، لعلها غير دخيلة فيه.
قال ما محصله بتوضيح منا: أن الاضطرار إلى ارتكاب الحرام إما أن يكون

1 - إشارات الاصول: 221.
2 - الفصول الغروية: 138 / السطر 25.
3 - مطارح الأنظار: 153 / السطر 33.
4 - قوانين الاصول 1: 153 / السطر 22.
238

بسوء اختيار المكلف أو لا.
وعلى الثاني فلا إشكال في أن الحرمة والعقوبة مرتفعان، وحينئذ لو كان
له ملاك الوجوب لأثر في إيجابه أيضا، فيصير واجبا - كما لو لم يكن بحرام -
وهذا مما لا كلام فيه.
وأما على الأول - بأن يختار ما يؤدي إلى الحرام لا محالة - فإن الخطاب
بالزجر عنه وإن كان ساقطا، إلا أنه حيث يصدر عنه عصيانا لذلك الخطاب،
ومبغوضا ومستحقا عليه العقاب، لا يصلح لأن يتعلق به الإيجاب بلا إشكال ولا
ارتياب، وإنما الإشكال فيما إذا كان ما اضطر إليه بسوء اختياره مما ينحصر به
التخلص عن محذور الحرام، كالخروج عن الدار المغصوبة فيما إذا توسطها
بالاختيار (1). انتهى.
وفيه أولا: أن ما أفاد في الصورة الثانية - من أن ملاك الوجوب يصير
مؤثرا في إيجابه بعد ارتفاع الحرمة والعقوبة - منظور فيه، فإن المفروض أن
ملاك الحرمة - أي المفسدة الكامنة في المتعلق - تكون أقوى من ملاك
الوجوب، ومعه كيف يمكن فعلية الوجوب ولو مع ارتفاع خطاب الحرمة؟!
فإن المزاحم للوجوب هو غلبة ملاك الحرمة.
مثلا: أن الخمر مع كونه ذا مصلحة ومنفعة، لكن لما كانت مفسدته
راجحة، وإثمه أكبر من نفعه، صار حراما؛ لغلبة الملاك، فلو فرضنا الاضطرار
إلى شربه لمرض أو شبهه، وارتفع الخطاب لأجله، فلا يصير راجحا أو واجبا
بمجرده.
نعم، لو حدث في ظرف الاضطرار مصلحة اخرى ملزمة وراجحة على
المفسدة صار الفعل لا محالة واجبا، لكن هذا غير ما أفاده (رحمه الله).

1 - كفاية الاصول: 203.
239

وثانيا: أن ما أفاده في الشق الأول - من وقوع الفعل مبغوضا وعصيانا -
بإطلاقه ممنوع؛ فإن الفعل الاختياري الذي يؤدي إلى المحرم اضطرارا، قد يكون
مباحا، وقد يكون محرما.
وعلى أي حال: تارة يكون المكلف ملتفتا إلى تأديته إلى المحرم، وتارة
لا يكون ملتفتا إليها.
فإن لم يكن ملتفتا إلى التأدية، وكان الفعل مباحا، فلا إشكال في عدم
وقوع الفعل المضطر إليه عصيانا ومبغوضا، ولا معاقبا عليه، كما أنه لو كان
الفعل محرما مع عدم الالتفات، لم يقع الفعل المضطر إليه محرما ومبغوضا، وإن
كان الفعل الاختياري المؤدي إلى ذاك المحرم حراما ومبغوضا.
ولا فرق في ذلك بين الاضطرار العقلي والعادي العرفي، إلا أن العقلي منه
مرفوع عقلا، والعرفي بدليل الرفع.
وإن كان ملتفتا إلى التأدية - سواء كان الفعل المؤدي إلى الحرام مباحا أو
حراما - يأتي فيه النزاع الآتي.
وليعلم مقدمة: أن الفعل المضطر إليه اختيارا قد يكون واحدا معينا، كمن
أوجد لنفسه مرضا فاضطر إلى شرب الخمر، وقد يكون أحد الفعلين. وعلى الثاني:
قد يكون الفعلان من سنخين من المحرم، وقد يكونان من سنخ واحد. وعلى
الأول: تارة يكون أحدهما أهم من الآخر، كمن اضطر إلى شرب أحد إناءين:
أحدهما خمر، والآخر متنجس، وقد يكونان متساويين في الملاك. وعلى الثاني -
أي ما إذا كانا من سنخ واحد -: تارة يكون أحدهما أكثر عددا، أو زمانا من الآخر،
كمن اضطر إلى التصرف في المغصوب ساعة أو ساعتين، أو مرة أو مرتين، وفي
المتساويين من حيث الأهمية يأتي احتمال الأكثرية من حيث العدد والزمان.
وحكم كل واحد من الصور معلوم عقلا.
240

حول التصرف التخلصي
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنه لا إشكال في حرمة الدخول في أرض الغير
بغير إذنه، والبقاء فيها، والتصرفات الزائدة عن التخلص. وإنما الإشكال في
التصرف التخلصي - أي ما هو في طريق التخلص، سواء كان من قصده الخروج
والتخلص أو لا، كمن يريد التفرج والتفريح لكن في طريق التخلص - فهل يقع
مأمورا به مع جريان حكم المعصية عليه أو بدونه، أو منهيا عنه، أو مأمورا به
ومنهيا عنه كليهما، أو منهيا عنه بالنهي السابق الساقط، أو مأمورا به ومنهيا عنه
على نحو الترتب؟
وجوه واحتمالات:
اختار شيخنا المرتضى (قدس سره) عدم الحرمة، بل كونه واجبا صرفا.
وملخص ما أفاده في وجهه: أن التصرف الخروجي قبل الدخول لا يتصف
بالحرمة ولا بالوجوب على نحو الإطلاق؛ لعدم كون المكلف قادرا عليه، ولو
تعلق به أمر أو نهي فإنما يتعلق به على نحو التقدير، فيكون الأمر أو النهي
متوجها إليه على فرض الدخول، ولا إشكال في أن المولى إذا لاحظ تقدير
الدخول لا يكون له إلا الأمر بالخروج، لا النهي عنه، نظير شرب الخمر
المتوقف عليه النجاة من الهلاك، فهل ترى من نفسك أن من أوجد المرض لنفسه
بسوء اختياره، وتوقفت نجاته على شرب الخمر، بقي شربه للخمر على
حرمته، أو يكون الشرب واجبا على هذا التقدير؟ فشرب الخمر العلاجي
لا يكون حراما في حال من الحالات - كالتصرف الخروجي - وقبل الدخول
لا يكون الخروج منهيا عنه أو مأمورا به بنحو الإطلاق، وبعد تحقق التقدير
241

لا يكون إلا الأمر بالخروج، لا النهي عنه (1). انتهى.
وسيتضح ما فيه عند تحقيق ما هو الحق عندنا.
وأما كون الخروج مأمورا به ومنهيا عنه جميعا، كما اختاره الفاضل
القمي (رحمه الله) (2) تبعا لأبي هاشم من العامة (3)، ففيه ما لا يخفى؛ للزوم اجتماع الأمر
والنهي في واحد شخصي مع عدم المندوحة، فيلزم منه التكليف بالمحال
والجمع بين الضدين (74).
وأما كونه منهيا عنه بالنهي السابق الساقط، كما اختاره المحقق
الخراساني (رحمه الله) (5) ففيه: أن النهي إذا سقط فلا معنى للعصيان والمخالفة، ومجرد
كون الاضطرار بسوء الاختيار، لا يوجب المخالفة والعصيان مع عدم النهي
الفعلي.

1 - انظر مطارح الأنظار: 155 / السطر 27.
2 - قوانين الاصول 1: 153 / السطر 22.
3 - انظر شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 94.
74 - لو سلم بوجوب رد المال إلى صاحبه، أو وجوب التخلص عن التصرف، أو ترك التصرف،
وكون التصرف الخارجي مقدمة للواجب، فإن قلنا بجواز تعلق النهي بالتصرف فيقوي قول
أبي هاشم، وإلا فقول صاحب الفصول.
وما قيل: من لزوم تعلق الأمر والنهي بشيء واحد ممنوع؛ لأن النهي متعلق بعنوان التصرف
في مال الغير، والأمر المقدمي بحيثية ما يتوقف عليه ذو المقدمة، أو ما يتوصل به إليه،
وهما بما لهما من العنوان قابلان لتعلق الأمر والنهي بهما، لا بما هما كذلك بالحمل الشائع؛
لأنهما بالحمل الشائع - أي الوجود الخارجي - لا يمكن تعلق الأمر والنهي بهما، فاتحاد
مقدمة الواجب مع التصرف في مال الغير في الوجود الخارجي دون وعاء تعلق التكليف.
فحينئذ إن قلنا: بأن قيد " المندوحة " لا يعتبر في باب اجتماع الأمر والنهي، فلا محيص عن
قول أبي هاشم، وإلا فعن قول صاحب الفصول. (مناهج الوصول 2: 145 - 146).
5 - كفاية الاصول: 204.
242

وأما كونه منهيا عنه ومأمورا به على نحو الترتب، فهو مما لا يحتمله
أحد، وإنما هو احتمال أبديناه.
ويمكن أن يقال في تقريره: إنه كما يمكن أن يتعلق الأمر بالأهم والمهم في
صورة التزاحم بشيئين في وقت واحد بنحو الترتب؛ بأن يأمر المولى بالأهم بنحو
الإطلاق، لكن لما احتمل أن يكون أمره بالأهم غير مؤثر في نفس المكلف -
فتركه وترك المهم أيضا؛ لعدم الأمر به فلا يصل إلى شيء من غرضيه - يأمر
بالمهم على فرض عدم تأثير الأمر بالأهم؛ حتى لا يكون زمان عصيان الأمر
بالأهم خاليا عن إتيان المهم، كما مر (1) ذكره في الترتب مستوفى، فكذلك في
المقام أن النهي إنما تعلق بالتصرف في ملك الغير بغير إذنه بنحو الإطلاق، وتعلق
أمر آخر بنحو الاشتراط؛ بأنه لو لم يؤثر النهي في نفس المكلف، فعصى ودخل
في ملك الغير، يجب عليه الخروج تخلصا من التصرف.
هذا، وفيه: أن قياس المقام بالترتب مع الفارق:
فإن في الترتب يكون أمران: أحدهما بالأهم، والآخر بالمهم، ومع تركهما
يكون المكلف عاصيا ومعاقبا بالنسبة إليهما؛ لتركه التكليفين، وارتكابه
المعصيتين.
وأما في المقام فلا يكون إلا النهي عن التصرف في ملك الغير بغير إذنه
فقط، ولا يكون أمر في البين، وإنما يحكم العقل بلزوم الخروج؛ لأن أمره دائر بين
البقاء والخروج، ويكون البقاء أكثر تصرفا وأشد محذورا من الخروج، فيحكم
العقل بالخروج.

1 - تقدم في الصفحة 173 - 176.
243

نعم، قد ذكر في مبحث الضد (1): أن الأمر بالشيء نهي عن ضده العام،
لا بمعنى أن هنا أمرا ونهيا مستقلين وإطاعة وعصيانا؛ حتى يكون الآتي بالمأمور
به مطيعا من جهتين، إحداهما إطاعة الأمر، والاخرى إطاعة طلب ترك الترك،
بل لا يكون إلا أمر فقط، والنهي عن ضده العام فان فيه، ويكون متحققا بعين
تحقق الأمر، فهما واحد باعتبار، ومتعدد باعتبار.
وبالجملة: لا يكون للنهي استقلال، ولا إطاعة ومعصية.
ونظير ذلك ما مر (2) في مبحث مقدمة الواجب: من كون المقدمات واجبات
بعين وجوب ذيها، وفانيات فيه، ولا استقلال لها في الجعل، فلا إطاعة ولا
معصية لها.
ونظير ذلك ما نحن فيه، فإن النهي عن التصرف في ملك الغير مقتض للأمر
بضده العام - أي ترك التصرف - ولكن لا يكون ترك التصرف مأمورا به بالأمر
الاستقلالي جعلا وتحققا، ولا يكون له إطاعة ومعصية؛ حتى يكون هنا أمر
ونهي، ويقال: النهي مطلق، والأمر مشروط على نعت الترتب.
وبما ذكرنا من التحقيق يظهر المختار في المقام.
وحاصله: أن التصرف في مال الغير بغير إذنه، أو مع نهيه، حرام مبغوض
من قبل المولى، ويكون ذلك التصرف خروجا عن طاعته وعصيانا له؛ من دون
فرق بين التصرف الدخولي والخروجي في نظر العقل، فإنه يرى جميع التصرفات
متساوية في كونها معصية وخروجا عن رسم العبودية، ولا يكون الخروج واجبا
أو ترك الغصب واجبا؛ حتى تكون التصرفات الخروجية مقدمات له، بل
التصرف حرام، لكن العقل يحكم - عند دوران الأمر بين التصرف الطويل

1 - تقدم في الصفحة 162.
2 - تقدم في الصفحة 143.
244

والقصير - باختيار القصير، من غير أن يكون للمولى أمر وبعث، بل ما يكون من
قبله ليس إلا النهي عن التصرف (75).

75 - والأقوى أن التصرف حرام فعلي ولا يكون واجبا:
أما عدم الوجوب: فلعدم دليل عليه بعنوان الخروج من الأرض المغصوبة، أو التخلص
عن الغصب، أو رد المال إلى صاحبه، أو ترك التصرف في مال الغير.
نعم، دل الدليل على حرمة الغصب وحرمة التصرف في مال الغير بلا إذنه، والعناوين
الاخر لا دليل على تعلق الوجوب بها، وما في بعض الروايات: من أن (المغصوب كله
مردود) لا يدل على وجوب الرد بعنوانه، بل لما كان الغصب حراما، يرد المغصوب تخلصا
عن الحرام عقلا، فهو إرشاد إليه.
نعم، بناء على أن النهي عن الشيء مقتض للأمر بضده العام ووجوب مقدمة الواجب يمكن
القول بوجوب بعض تلك العناوين؛ لأن التصرف في مال الغير إذا كان حراما، يكون ترك
التصرف واجبا، والخروج عن الدار مقدمة لتركه على إشكال، لكن المقدمتين ممنوعتان،
كما حقق في محله.
وأما حرمة التصرف الخروجي فعلا: فلما تكرر منا: من أن الأحكام المتعلقة بالعناوين
الكلية - كقوله: (لا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير إذنه) - فعليه على عناوينها
من غير لحاظ حالات كل واحد من المكلفين، وصحة الخطاب العمومي لا تتوقف على
صحة الباعثية بالنسبة إلى جميع الأفراد، وأن الخطابات لم تكن مقيدة بالقادر العالم
الملتفت، لا من ناحية الحكم، ولا من ناحية العقل كشفا أو حكومة، لكن العقل يحكم
بمعذورية المكلف في بعض الأحيان.
فالحكم بعدم جواز التصرف في مال الغير فعلي على عنوانه، غير مقيد بحال من الأحوال،
لكن العقل يحكم بمعذورية العاجز إذا طرأ عليه لا بسوء اختياره، وأما معه فلا يراه معذورا
في المخالفة.
فالحكم الفعلي بالمعنى المتقدم قد يخالف بلا عذر، وقد يخالف معه، وما نحن فيه من
قبيل الأول، وإن حكم العقل بلزوم التخلص؛ لكونه أقل المحذورين، وهكذا الحال في
جميع الموارد التي سلب المكلف قدرته اختيارا. (مناهج الوصول 2: 143 - 144).
245

حكم من تاب بعد دخوله في ملك الغير
نعم، هنا أمر آخر: وهو أن العبد - بعد دخوله في ملك الغير عن عصيان -
لو تنبه وتاب عن عمله صارت تصرفاته السابقة بحكم أدلة التوبة مغفورة،
خارجة عن حكم العصيان، وتصير تصرفاته اللاحقة الاضطرارية بعد التوبة،
تصرفات غير مسبوقة بالمعصية المؤثرة، فيصير حاله بالنسبة إلى التصرفات
الخروجية لأجل التخلص عن التصرف، كمن اضطر إلى الدخول واختار الخروج
من أقصر الطرق للتخلص، فكما أن العقل يحكم بمعذورية الثاني؛ حيث لا يكون
ارتكابه للتصرف الخروجي إلا باضطرار محض غير مسبوق بالمعصية، يمكن أن
يقال: إن التائب من ذنبه وتصرفه - إذا اختار الخروج لأجل التخلص من أقرب
الطرق - تكون تصرفاته الخروجية غير مبغوضة للمولى؛ للفرق بين من كان
خروجه كدخوله بنفس الإرادة للظلم والعصيان، وبين من كان تائبا عن ذنبه،
ويكون خروجه لأجل التخلص من معصية المولى، ويرى نفسه مضطرا في تلك
التصرفات الخروجية لأجل التخلص من التصرفات الزائدة.
وبما ذكرنا وحققنا يتضح ما فيما أفاده شيخنا المرتضى (قدس سره) (1) فإن كلامه
مبني على وجوب ترك التصرف أو وجوب الخروج، وقد عرفت عدم وجوبهما.
وأما ما أفاد: من أن الخروج لم يكن مقدورا قبل الدخول، فلم يكن حراما
مطلقا، وعلى تقدير الدخول لا يكون إلا واجبا، وجعله نظير شرب الخمر
العلاجي (2).

1 - مطارح الأنظار: 155 / السطر 27.
2 - التنظير بشرب الخمر مذكور في توجيه صاحب الكفاية لمختار الشيخ قدس سرهما،
ولم نعثر عليه في المطارح، فلاحظ الكفاية: 205.
246

ففيه أولا: أن ما تعلق به النهي لم يكن عنوان الخروج؛ حتى يقال: إنه
غير مقدور، بل ما تعلق به النهي إنما هو التصرف في ملك الغير، ولا إشكال في
أن التصرف في ملك الغير - قبل الدخول - بأنحائه مقدورا للعبد، فيمكن له
التصرف الطويل والقصير وبمقدار ساعة يكون نصفه الدخول ونصفه الخروج.
وبالجملة: إن جميع تصرفاته تكون مبغوضة للمولى وإن سقط الخطاب
بعد اضطراره، ولا ينافي سقوط الخطاب المبغوضية وكون التصرف طغيانا.
وثانيا: أن تنظير المقام بشرب الخمر العلاجي مع الفارق؛ فإنه بعد
الاضطرار لا تحدث فيما نحن فيه مصلحة ملزمة خارجية، يكون ارتكاب
المحرم مقدمة لاستيفائها؛ فإنه ليس في البين إلا حرمة التصرف في ملك الغير
- كما عرفت - وأما بعد الاضطرار إلى شرب الخمر للمرض، يصير شربه مقدمة
لحفظ النفس الأهم منه، فشربه مقدمة لاستيفاء مصلحة ملزمة خارجية
تكون أهم منه.
تذنيب: التصرفات الخروجية مقدمة للكون في الخارج
قد قاس بعضهم المقام بمسألة الضدين، وقال: إنه لا مقدمية بين التصرف
الخروجي والكون في خارج الدار لأجل التضاد بين الكونين، كما لا مقدمية بين
الضدين من ناحية العدم والوجود (1).
ولا يخفى ما فيه لوضوح الفرق بين المقامين، فإن زمان وجود الضدين
واحد في الخارج، ويكون بينهما تمانع، ويكون أحدهما مقارنا لعدم الآخر، فيقع
البحث في مقدمية أحدهما للآخر وإن كان التحقيق عدمها.

1 - انظر مقا لات الاصول 1: 378.
247

وأما فيما نحن فيه فلا يكون زمان الكون في خارج الدار، عين زمان
التصرفات الخروجية، بل التصرفات مقدمة للكون في خارج الدار، وكذا لترك
التصرف؛ فإن الكون في الخارج وترك التصرف في ملك الغير، إنما يتحققان
بالخطوة الأخيرة التي تقع خارج الدار، وتكون الخطوات الواقعة في داخلها
مقدمة للخروج وترك التصرف، وأين ذاك من مسألة الضدين.
وقال بعض آخر: إن رد المال المغصوب إلى مالكه واجب، والتصرفات
الخروجية مقدمة له، فتقع واجبة (1).
وفيه: أن عنوان الغصب - وهو الاستيلاء على مال الغير عدوانا - غير
عنوان التصرف في مال الغير بغير إذنه؛ فإن التصرف فيه لا يتوقف على
الاستيلاء، فالداخل في ملك الغير بغير إذنه، لا يلزم أن يكون غاصبا ومستوليا
عليه، بل ربما يكون الملك تحت استيلاء صاحبه، ويتصرف غيره فيه بغير
إذنه، ولا يخفى أن عدم التفريق بين العنوانين صار منشأ للاشتباه في كثير من
الفروع الفقهية. هذا، مضافا إلى أن وجوب رد المال المغصوب ممنوع، وإنما
يكون الغصب حراما، ووجوب الرد ليس أمرا مستقلا بالجعل والاعتبار، بل هو
أمر منتزع من حرمة الغصب، كما مرت نظائره (2).

1 - فوائد الاصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 451 - 452.
2 - " در مشهد مقدس، روز آخر صيام 1366 مبيضه شد " كذا في هامش الكتاب بخط
المصنف (قدس سره).
248

فصل
اقتضاء النهي للفساد
هل النهي المتعلق بالعبادة - سواء كانت بالمعنى الأخص أو الأعم - أو
المتعلق بالمعاملة، يقتضي الفساد، أم لا؟
وقبل تحقيق المقام لابد من ذكر ما هو دخيل في ماهية الدعوى، وإن أطال
المتأخرون الكلام في تمهيد مقدمات غير دخيلة فيها، وليس في الخوض فيها
ثمرة معتد بها، كالبحث عن أن المسألة من أي علم (1)؟ أو الفرق بينها وبين
اجتماع الأمر والنهي (2)... وغير ذلك (3).
فنقول: ما هو الدخيل في جوهر النزاع وماهية الدعوى هو تحصيل معنى
الصحة والفساد.
اعلم: أن الصحة والفساد - في العبادات مطلقا، وفي المعاملات، بل في
الامور التكوينية - بمعنى واحد ومفهوم فارد، وهما معنيان إضافيان، يتصف بهما
الوجود الخارجي باعتبار نسبته إلى المفهوم المتوقع وجوده به، وأما نفس

1 - مطارح الأنظار: 157 / السطر 34، كفاية الاصول: 217، 218.
2 - مطارح الأنظار: 157 / السطر 26، كفاية الاصول: 217.
3 - مطارح الأنظار: 157 / السطر ما قبل الأخير، كفاية الاصول: 218.
249

المفهوم من حيث هو فلا يتصف بهما، كما أن الموجود من حيث هو لا يتصف بهما،
وإنما يتصف الموجود لأجل انطباق المفهوم المتوقع وجوده عليه وعدمه. فكل
موجود يتوقع لدى تحققه انطباق المفهوم والعنوان الذي له آثار عليه، يكون
صحيحا إذا تحقق المفهوم به وانطبق عليه، ولا محالة تترتب عليه الآثار
المتوقعة من هذا العنوان، وفاسدا إذا لم ينطبق عليه؛ لأجل فقدان ما يعتبر فيه
من جزء أو شرط أو عدم مانع. فالصلاة من حيث مرتبة ذاتها وماهيتها لا تتصف
بالفساد، بل هي ليست إلا هي؛ فإن الماهية من حيث هي ليست إلا هي، كما أن
ما وجد في الخارج من التكبيرة والقراءة والركوع والسجود من حيث هي
وجودات لا تتصف به، بل المتصف بالصحة والفساد هو هذا الموجود المركب؛
باعتبار ملاحظتها مع مفهوم الصلاة المتوقع وجودها به، فإذا انطبق عليه عنوان
الصلاة يتصف بالصحة ويترتب عليه آثارها، وذلك لا يكون إلا بعد [تحقق]
الموجود الخارجي بجميع ما يعتبر في ماهية الصلاة وجودا وعدما، وإذا لم ينطبق
عليه لنقصان فيه يتصف بالفساد، وإذا انطبق عليه الصلاة يكون لا محالة
مسقطا للقضاء والإعادة، وموافقا للأمر والشريعة.
فما وقع في كلمات القوم من الاصوليين والمتكلمين (1) تعريفات باللوازم،
لا تحصيل معنى الصحة والفساد.
وعلى ما ذكرنا: لا مانع من تفسير الصحيح بالتام، والفاسد بالناقص؛
بالمعنى الذي ذكرنا (76).

1 - انظر المستصفى من علم الاصول 1: 94، 95، والمحصول في علم اصول الفقه 1: 26،
والفصول الغروية: 140 / السطر 1، ومطارح الأنظار: 159 / السطر 3.
76 - قالوا: الصحة والفساد أمران إضافيان بينهما تقابل العدم والملكة، مساوقان معنى للتمام
والنقص لغة وعرفا، وكذا في نظر الفقهاء والمتكلمين، واختلاف تعبير الفريقين لأجل ما هو
المهم في نظرهما.
أقول: أما مساوقتهما للتمام والنقص عرفا ولغة فهو واضح الفساد؛ لاختلاف مفهومهما
وموارد استعمالهما، فلا يقال لإنسان فاقد لبعض الأعضاء: إنه فاسد، ويقال: ناقص، والدار
التي بعض مرافقها ناقصة لا يقال: إنها فاسدة، ولا لما تمت مرافقها: إنها صحيحة بهذا
الاعتبار.
فالتمام والصحة عنوانان بينهما عموم من وجه بحسب المورد، فالنقص بحسب الأجزاء
غالبا، والتمام مقابله.
وأما الصحة فغالب استعمالها في الكيفيات المزاجية أو الشبيهة بها، ومقابلها الفساد،
وهو كيفية وجودية عارضة للشيء منافرة لمزاجه، ومخالفة لطبيعته النوعية،
فالفاكهة الفاسدة ما عرضتها كيفية وجودية منافرة لمزاجها، تتنفر عنها الطباع غالبا،
فبين الصحة والفساد تقابل التضاد لو سلم كون الصحة وجودية، وبين النقص والتمام
تقابل العدم والملكة. هذا بحسب اللغة والعرف.
وأما في العبادات والمعاملات، فلا إشكال في استعمال الصحة والفساد فيها مع فقد جزء أو
شرط أو وجود مانع، فكأنهما مساوقان للتمام والنقص أو قريبان منهما، لكن يمكن أن
يكون بوضع جديد، وهو بعيد عن الصواب، ويمكن أن يكون باستعمالهما مجازا ثم بلغا إلى
حد الحقيقة.
فالصحة في الماهيات المخترعة صفة لمصداق جامع لجميع الأجزاء والشرائط، مطابق
للمخترع والقانون، والفساد مقابلها، وبينهما في هذا المورد تقابل العدم والملكة، وبهذا
المعنى يمكن أن يقال: إنهما أمران إضافيان؛ لإمكان أن يكون عبادة تامة الأجزاء ناقصة
الشرائط، وبالعكس.
وأما الصحة بالمعنى المتعارف، فليست كذلك، إلا بالإضافة إلى حالات المكلفين.
وأما اختلاف الأنظار في صحة عبادة وعدمها، فلا يوجب إضافيتهما؛ لأن الأنظار طريق إلى
تشخيص الواقع، فكل يخطئ الآخر، فما في كلام المحقق الخراساني - من إثبات إضافيتهما
بذلك - غير تام. (مناهج الوصول 2: 153 - 154).
250

وما ذكرنا هو ميزان الصحة والفساد في العبادات والمعاملات، فالغسل
251

الصحيح ما يكون مصداقا لذلك العنوان، فيترتب عليه أثره، وهو الطهارة،
والمعاملة الصحيحة ما ينطبق عليها العنوان الكذائي، فيترتب عليها أثرها لا
محالة.
ولا يخفى: أن بين مفهومي الصحة والفساد تقابلا شبيها بتقابل العدم
والملكة؛ لأجل كون الموجود الفاسد غير صحيح متوقعا منه الصحة، ولأجل
هذا التوقع يشبه بتقابلهما لأنفسهما؛ فإن الحقيقي منهما ما يكون في العدمي
شأنية الوجود، كالكوسجية والالتحاء، والتوقع شبيه الشأنية.
تنبيه: الميزان في الاتصاف بالصحة والفساد
ليس كل عنوان يوجد في الخارج - وقد يترتب عليه أثر وقد لا يترتب -
يتصف بالصحة والفساد؛ كما أن الملاقي للنجس قد يترتب عليه أثر وهو
النجاسة، وقد لا يترتب كماء الاستنجاء، لكن لا يقال للأول: إنه صحيح، وللثاني:
إنه فاسد، وأن القتل قد يترتب عليه أثر وهو القصاص، وقد لا يترتب كقتل الأب
ابنه، ولا يتصف بالصحة والفساد.
بل الميزان في الاتصاف بهما: أن كل ما يوجده العقلاء بما هم عقلاء أو
المتشرعة بما هم كذلك؛ بترقب حصول أثر أو آثار منه، ويترتب عليه ذاك الأثر
تارة، ولا يترتب عليه اخرى، يقال: إنه صحيح أو فاسد، كالمعاملات؛ فإن
العقلاء إنما يقدمون على إيجادها لأجل ترتب الأثر عليها، فإذا وجدت في
الخارج - بحيث تكون مناشئ لتلك الآثار - يقال: إنها صحيحة، وإلا يقال: إنها
فاسدة، وكالعبادات، فإن المكلفين يأتون بها لأجل ترقب ترتب الآثار عليها، فإذا
وجدت كذلك يقال: إنها صحيحة، وإلا يقال: إنها فاسدة.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن للقوم مسلكين في إثبات دلالة النهي على الفساد:
252

أحدهما: من جهة ظهور النواهي المتعلقة بالعبادات والمعاملات في
الإرشاد إلى الفساد (1).
وتقريره: أن العناوين على قسمين:
أحدهما: ما تكون مطلوبة لنفسها.
وثانيهما: ما تكون مطلوبة لا لنفسها، بل لآثار مترتبة عليها، وتكون نفس
تلك العناوين آلة - أو كآلة - لتحصيل تلك الآثار.
فعلى الثاني: قد يكون الموجد لتلك العناوين يعلم كيفية إيجادها؛ بحيث
يترتب عليها الآثار، وقد لا يعلم.
وعلى الثاني إن رجع إلى العالم بكيفية ترتب الآثار عليها، فأمر بإتيانها
بكيفية خاصة، أو نهى عنه كذلك، يكون أمره ظاهرا في أن الكيفية الكذائية دخيلة
في حصول هذا العنوان وترتب الأثر عليه، ونهيه ظاهرا في أن الكيفية الكذائية
مانعة عن حصول العنوان الكذائي بحيث يترتب عليه الأثر. كل ذلك لأن الإتيان
بتلك العناوين مما كان لترقب الآثار، لا لكونها امورا مطلوبة لنفسها. فإذا أمر
العالم بالواقعيات بالصلاة مع الطهور أو إلى القبلة، أو نهى عن لبس الحرير فيها،
يكون ذلك ظاهرا في الإرشاد إلى أن تلك الحقيقة المترقبة منها الآثار، لا تترتب
عليها الآثار إلا مع الطهور وإلى القبلة، وذاك إلى عدم ترتب الآثار المرغوبة
عليها مع لبس الحرير.
وأوضح من العبادات في ذلك، المعاملات؛ فإنها آلات صرفة لحصول
مسبباتها، ولا تكون منظورا إليها لنفسها أصلا، فالأوامر والنواهي المتعلقة بها من
العالم بكيفية ترتب الآثار عليها، تكون ظاهرة في الإرشاد بلا إشكال.
والمسلك الثاني: من ناحية منافاة المبغوضية مع الصحة، وكون النهي

1 - انظر مطارح الأنظار: 163 / السطر 6 و 164 / السطر 3، وكفاية الاصول: 226.
253

لدلالته على التحريم مناف لها عقلا (1).
ولا يخفى: أن المسلكين مختلفان؛ من جهة أن الأول يثبت المطلوب
بواسطة الدلالة اللفظية، فلابد وأن يكون في البين نهي لفظي متعلق بها. وفي
الثاني يثبت من جهة الدلالة العقلية؛ سواء ثبتت الحرمة بدليل لفظي أو لبي.
وأيضا يفترقان من حيث إن ظهور النهي في الإرشاد يعم العبادات
والمعاملات مطلقا، بخلاف منافاة الحرمة مع الصحة عقلا، فإنها تختص
بالعبادات بالمعنى الأخص - أي ما يشترط فيها قصد التقرب - وأما في غيرها فلا
منافاة بينهما، إلا على بعض التقريرات الآتية.
وبالجملة: المسلكان مختلفان من حيث الموضوع، والدال، وكيفية الدلالة.
تتميم: أقسام النهي المتعلق بالمعاملات
قد قسم العلامة الأنصاري (قدس سره) النهي المتعلق بالمعاملات إلى أقسام (2)،
وزاد المحقق الخراساني (رحمه الله) قسما آخر، وأما في العبادات فلم يذكرا إلا قسما
واحدا (3).
ومحصل ما أفاد المحقق الخراساني - بتوضيح منا -: أن النهي الدال على
الحرمة المتعلق بالمعاملات على وجوه:
أحدها: أن يتعلق بنفس المعاملة بما هي فعل مباشري - أي يكون صدور
الإيجاب والقبول محرما - كالبيع وقت النداء.
ثانيهما: أن يتعلق بمضمونها بما هو فعل بالتسبيب، كبيع المصحف من كافر.

1 - انظر مطارح الأنظار: 163 / السطر 11 و 28، وكفاية الاصول: 225 - 226.
2 - الأقسام أربعة كما في مطارح الأنظار: 163 - 164.
3 - انظر نفس المصدر: 163 / السطر 6.
254

ثالثها: أن يتعلق النهي من جهة التسبب بها إلى الأثر وإن لم يكن الأثر
والمؤثر - بما هما - حرامين، ويمكن أن يكون الظهار من هذا القبيل؛ فإن نفس
التلفظ بصيغة الظهار ليس بحرام، وفراق الزوجة أيضا ليس بمبغوض، بل
التوصل إلى الفراق بهذه الطريقة حرام.
وتعلق النهي بالوجوه الثلاثة لا يدل على الفساد (77).
رابعها: أن تكون الحرمة متعلقة بما لا يكاد يحرم مع صحة المعاملة،
مثل النهي عن أكل الثمن والمثمن في بيع أو بيع شيء، فإن حرمته تدل على
الفساد.

77 - فيه منع، كالحيازة بالآلة الغصبية، تأمل. فأية منافاة بين تحقق الوضع والحرمة
التكليفية؟!
مضافا إلى أن المعاملات عقلائية لابد فيها من الردع، ومجرد ذلك لا يكون رادعا، كما
لا يكون مخصصا أو مقيدا؛ لما دل على تنفيذ الأسباب. نعم لو تعلق النهي بالمعاملة لأجل
مبغوضية ترتيب الآثار المطلوبة عليها، لفهم منه الفساد عرفا؛ لأن حرمة ترتيب الأثر
على معاملة مساوقة لفسادها عرفا.
هذا كله لو احرز تعلقه بأحد العناوين، ومع عدمه فلا ينبغي الإشكال في ظهوره في النحو
الأخير.
فإذا ورد " لا تبع ما ليس عندك " واحرزت حرمة النهي، يفهم منه أنها متعلقة بالبيع
باعتبار ترتيب الآثار، والمبغوض هو العمل على طبقه، كسائر معاملاته، ولا ينقدح في
ذهن العرف حرمة التلفظ بالألفاظ الخاصة؛ لأنها آلات لا ينظر إليها، ولا حرمة
المسبب الذي هو أمر اعتباري لا يكون مبغوضا نوعا، ولا التسبب بها إلى المسبب، بل ما
ينقدح في أذهانهم هو الزجر عن المعاملة على نحو سائر المعاملات من ترتيب الأثر
عليها، فالنهي متوجه إلى المعاملة باعتبار ترتيب الآثار، وهو مساوق للفساد.
ومنه يظهر ما في كلام الشيخ الأعظم: من دعوى ظهور تعلقه بصدور الفعل المباشري، مع
أنه أبعد الاحتمالات لدى العرف والعقلاء، فتدبر. (مناهج الوصول 2: 162 - 163).
255

خامسها: أن يكون النهي إرشادا إلى الفساد، كالأمر الإرشادي من دون
الدلالة على الحرمة والوجوب، ولا يبعد ظهور النواهي المتعلقة بها فيه، لكن
في المعاملات بمعنى العقود والإيقاعات، لا بالمعنى الأعم (1). انتهى.
وفيه أولا: أن النهي عن نفس المعاملة بما هي فعل مباشري - أي بما هي
ألفاظ صادرة من المتكلم - لا معنى له؛ فإنها بهذا المعنى ليست لها نفسية،
ولا تتعلق بها المحبوبية والمبغوضية عند العقلاء، ولا أظن أن يكون في
الشريعة المطهرة نهي متعلق بها من هذه الحيثية.
والنهي عن البيع وقت النداء ليس عن التلفظ به، بل هو نهي عن الاشتغال
بغير ذكر الله؛ إرشادا إلى حضور الجمعة، ولما كان اشتغال الناس نوعا
بالمعاملات والنقل والانتقالات، تعلق النهي بما هو مانع نوعي عن حضورهم إلى
الجمعة، ومعلوم أن المعاملات المتعارفة بينهم إنما هي حقائقها لا ألفاظها.
مضافا إلى أن النهي عن البيع وقت النداء لم يكن تحريميا، بل هو نهي
غيري، وإرشاد إلى الاشتغال بذكر الله، وعدم الاشتغال بغيره في هذا الوقت.
وثانيا: ما أفاد - من عدم دلالة النهي على الفساد في القسم الثالث - ليس
على ما ينبغي لإمكان دعوى دلالته عليه فيه؛ لأن التسبب بمعاملة إلى حصول
أثرها إذا كان مبغوضا، لا يمكن أن تكون المعاملة ممضاة من الشارع، وعدم
إمضائها يدل على عدم ترتب الأثر عليها عنده، وهذا معنى الفساد.
وثالثا: أن ما أفاد من أن النهي يكون ظاهرا في الإرشاد إلى الفساد في
خصوص العقود والإيقاعات، لا المعاملات بالمعنى الأعم.
مخدوش؛ لأن الإرشاد إلى الفساد، يعم المعاملات بالمعنى الأعم بالتقريب
الذي ذكرنا في المعاملات بالمعنى الأخص؛ فإن النهي إذا تعلق بغسل الثوب بنحو

1 - انظر كفاية الاصول: 225 - 226.
256

خاص - كغسله بالماء المضاف من عالم بكيفية ترتب الأثر المتوقع من الغسل -
إنما يدل على الإرشاد إلى عدم حصوله معه، كما ذكرنا سابقا.
تذنيب: الاستدلال على الفساد بفهم العلماء
قد يستدل على دلالة النهي على الفساد بأن علماء الأعصار لا يزالون
يتمسكون بالنهي على الفساد، وذلك يكشف عن كون النهي يدل عليه شرعا (1).
أقول: لا إشكال في تمسكهم بذلك عليه، كما لا إشكال في أن المفهوم من
النواهي أيضا ذلك، كما لا إشكال في عدم الوضع الشرعي فيها، وأن تمسك العلماء
بها للفساد إنما هو بما هم أهل اللسان، لا بما هم أهل الشريعة، كل ذلك واضح
لا ينبغي الإشكال فيه.
إنما الإشكال في سر استفادة الفساد منها، ويمكن أن يكون السر فيها امورا:
الأول: ما ذكرنا آنفا (2) من أن المعاملات لما كانت آلات إلى حصول آثار
متوقعة عند العقلاء، فإذا تعلق نهي - من عالم بترتب الآثار وعدم ترتبها -
بمعاملة أو معاملة شيء أو كيفية منها، يفهم منه عرفا أن النهي لم يكن عن
الآلة بما هي أمر مستقل؛ إذ لا استقلال لها في نظر العقلاء، وليست منظورا إليها،
بل إنما تعلق بها بما أنها منشأ للآثار، ومتوقع منها آثار مخصوصة، فإذن يكون
النهي إرشادا إلى عدم حصول الأثر المتوقع منها، وهو مساوق للفساد.
الثاني: أن النهي دال على مبغوضية حصول المسبب أو التسبب، ومع
مبغوضيتهما لا يمكن إمضاء المعاملة، وعدم الإمضاء مساوق للفساد.

1 - الذريعة إلى اصول الشريعة 1: 184، 187 - 190، شرح العضدي على مختصر ابن
الحاجب: 209 - 210.
2 - تقدم في الصفحة 253.
257

الثالث: - وهو المعول عليه - أنه لا إشكال في أن ألفاظ المعاملات - بما
هي ألفاظ - لا تكون منظورا إليها عند العقلاء وليست لها شأنية إلا الآلية الصرفة
لتحقق مسبباتها كما أن حصول المسببات - بما أنها امور اعتبارية عند العقلاء،
كالملكية والزوجية وأمثالهما - أيضا ليست لها مطلوبية عندهم، وإنما غرضهم
منها حصول الآثار وترتبها عليها؛ من أكل الثمن والمثمن، والسلطنة عليهما،
والتصرف فيهما بما هو موافق لأغراضهم. فالنواهي إذا تعلقت بالمعاملات،
لا يكون تعلقها بالآلة - بما أنها لفظ معتمد على مخرج الفم - ولا بالمعنى
الاعتباري الصرف - بما أنه أمر اعتباري عند العقلاء - ضرورة عدم مفسدة
ومصلحة في هذه الامور الاعتبارية، وإنما تنصرف النواهي إلى ترتيب الآثار
التي تتوقع منها، فإذا نهى عن البيع الربوي، لا يكون النهي عن لفظ " بعت " و
" اشتريت "، ولا عن حصول الملكية الاعتبارية - بما أنها أمر اعتباري عند
العقلاء - بل إنما يكون النهي عن ترتيب الآثار المطلوبة من المعاملات؛ من أكل
الثمن والمثمن، والتصرف فيهما كتصرف الملاك في أملاكهم، فإذن تكون النواهي
دائما متعلقة بالمعاملات على نحو يترتب عليها الآثار، ولا إشكال في أن المعاملة
إذا كانت صحيحة لا معنى لتعلق النهي بآثارها، فالنهي عنها ملازم للفساد.
تتمة: في الاستدلال بالروايات
ربما يستدل على الفساد بروايات:
منها: ما رواه في الكافي عن زرارة؛ حيث دل على أن النكاح لو كان مما
حرمه الله، وكان فيه عصيان الله، كان فاسدا (1)، فيدل على أن المعاملة

1 - الكافي 5: 478 / 2 و 3، الفقيه 3: 283 / 1349 و 350 / 1675، تهذيب الأحكام
7: 351 / 1431، 1432، وسائل الشيعة 14: 524، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد
والإماء، الباب 24، الحديث 1 و 2.
258

المحرمة فاسدة (1).
هذا، لكن الظاهر أن المراد بالروايات أن العبد وإن كان عاصيا بالنسبة إلى
السيد، ويكون عصيانه للسيد عصيانا لله تعالى؛ من جهة أن الله أمره أن يطيع
سيده، ولا يخرج عن طاعته، لكنه لم يأت بالنكاح الذي يكون بعنوانه من
الأنكحة المحرمة، كنكاح المحارم المذكورة في الكتاب الإلهي كما تشير إلى ما
ذكرنا رواية موسى بن بكير عن زرارة؛ حيث قال فيها: " إنما أتى شيئا حلالا،
وليس بعاص لله، إنما عصى سيده، ولم يعص الله؛ إن ذلك ليس كإتيان ما حرم الله
عليه؛ من نكاح في عدة وأشباهه "، فإن التمثيل بالنكاح في العدة، يدل على أن
علة عدم الفساد إنما هو عدم كونه من العناوين المحرمة ذاتا، كنكاح الام
ومثله (78).

1 - الوافية في اصول الفقه: 104 - 106.
78 - والتحقيق أن يقال: إن مورد السؤال والجواب النكاح بما له من المعنى المتعارف؛ أي ما
صنعه العبد بلا إذن مولاه، هو عصيان سيده، وليس بعصيان الله: أما عصيان السيد، فلأن
ارتكابه هذا الأمر المهم بلا إذنه مخالفة لسيده، وخروج عن رسم العبودية، وأما عدم
كون النكاح عصيان الله تعالى، فلأن ما حرم الله - تعالى - على العبد هو عنوان مخالفته
لمولاه، ومتعلق النهي هذا العنوان، ولا يكاد يتجاوز عنه إلى عنوان آخر، كالنكاح
والطلاق.
فالتزويج الخارجي مصداق لعنوان محرم هو مخالفة المولى، وعنوان غير محرم بل
محلل، هو النكاح، فالتزويج بعنوانه حلال ليس بمحرم، ولا تسري حرمة مخالفة المولى
إلى ذلك العنوان في وعاء من الأوعية، وإنما يتحد مصداق النكاح مع مصداق المخالفة
في الخارج الذي لم يكن ظرف تعلق الحكم. (مناهج الوصول 2: 165 - 166).
259

ختام: حول كلام أبي حنيفة
حكي عن أبي حنيفة أن النهي يدل على الصحة (1).
ويمكن تقرير كلامه: بأن الصحة من كل عنوان عبارة عن التام منه؛
بحيث يكون ما وجد في الخارج، ويكون متوقعا منه أن يكون مصداق ذلك
العنوان، يكون جامعا لجميع الخصوصيات المعتبرة في ذلك العنوان؛ بحيث يصدق
عليه العنوان، فالصحة أو الفساد لا يمكن أن يكون وصفا لذات العنوان؛ لأن كل
عنوان لا يكون إلا نفسه، فطبيعة الصلاة لا تنقسم إلى الصحيح والفاسد؛ للزوم
انقسام الشيء إلى نفسه وغيره، بل ما يتصف بهما إنما هو الموجود الخارجي
الذي يتوقع منه كونه مصداقا للعنوان، فإن كان جامعا للخصوصيات المعتبرة في
العنوان يكون صحيح ذلك العنوان، وإلا يكون فاسده، فإذن إذا تعلق نهي تحريمي
بمعاملة أو عبادة، دل النهي على أن تحقق هذا العنوان في الخارج يكون مبغوضا،
وأن المكلف قادر على إيجاد مصداقه في الخارج بجميع الخصوصيات المعتبرة
فيه؛ لأن النهي لا يمكن أن يتعلق بغير المقدور، فإذا حرم على الحائض الصلاة
أيام حيضها، يكون لا محالة إيجاد المصداق الجامع لجميع الخصوصيات مقدورا
لها، والفرض أن الصحة من كل عنوان عبارة عن ذلك، وهذا معنى دلالة النهي
على الصحة. هذا.
وفيه: أنه مغالطة وخلط؛ فإن المقصود من دلالة النهي على الصحة
في العبادات إن كان أن عنوان هذا المفهوم يمكن أن يوجد في الخارج ولو لم يتقيد
بقصد التقرب، فهذا أمر ممكن، لكنه ليس موردا لبحث الأعلام.

1 - روضة الناظر وجنة المناظر: 123 - 124، شرحا البدخشي والأسنوي: 69 - 73.
260

وإن كان المقصود أن العبادة مع تعلق النهي بها - أي بذاتها وعنوانها - يمكن
أن تتحقق في الخارج مع تعلق النهي بها، فهذا أمر غير معقول؛ لأن تعلق النهي بما
يتعلق به الأمر فعلا من جهة واحدة محال، والتقرب بما يكون منهيا عنه
مستحيل.
وما يكون موردا للنقض والإبرام هو هذا الشق، لا الأول (79).

79 - أما المعاملات، فأجاب عنه المحقق الخراساني: بأن النهي عن المسبب أو التسبب يدل
على الصحة؛ لاعتبار القدرة في متعلقه، وأما إذا كان عن السبب فلا؛ لكونه مقدورا وإن
لم يكن صحيحا. انتهى.
ولا يخفى: أن نظرهما إلى المعاملات العقلائية على ما هي رائجة بينهم لولا نهي الشارع،
فإيقاع السبب - بما أنه فعل مباشري - ليس معاملة، ولا مورد نظرهما، ولا متعلقا لنهي
في الشريعة في مورد من الموارد.
وادعى بعض المدققين سقوط قولهما على جميع التقادير؛ بما محصله: أن ذات العقد
الإنشائي غير ملازم للصحة، فمقدوريته لذاته لا ربط لها بمقدوريته من حيث هو مؤثر
فعلي، وإيجاد الملكية عين وجودها حقيقة، غيرها اعتبارا، والنهي عنه وإن دل عقلا
على مقدوريته، لكن لا يتصف هو بالصحة؛ لأن الاتصاف إن كان بلحاظ حصول
الملكية، فهي ليست أثرا له؛ لأن الشيء ليس أثرا لنفسه، وإن كان بلحاظ الأحكام
المترتبة على الملكية المعبر عنها بآثارها، فنسبتها إليها نسبة الحكم إلى موضوعه، لا
المسبب إلى سببه ليتصف بلحاظه بالصحة. انتهى.
وأنت خبير: بأن محط نظرهما هو النهي المتعلق بالمعاملة على نحو أوجده العقلاء؛ أي
العقد المتوقع ترتب المسبب عليه فلا يرد عليهما هذا الإشكال، ولو سلم تعلق النهي
بإيجاد الملكية، فلا محالة يكون إيجادها مقدورا، كما اعترف به المستشكل.
فمقدوريته كاشفة عن صحة المعاملة، لا عن صحة الإيجاد؛ حتى يقال: إنه لا يتصف
بها، فالحق معهما إذا احرز أن النهي تكليفي لا إرشادي، وإلا فظهوره في الفساد لا ينبغي
أن ينكر.
هذا إذا لم نقل: بأن النهي إذا تعلق بمعاملة لأجل مبغوضية ترتيب الآثار المطلوبة عليها،
يدل على الفساد في نظر العقلاء، وإلا فيصير نظير الإرشاد إلى الفساد. تدبر.
وأما العبادات: فكلامهما فيها خال عن التحصيل على أي تقدير:
أما على قول الأعمي، فواضح.
وأما على الصحيحي فهو - أيضا - كذلك؛ لأن الصحيحي لم يكن قائلا بالصحيح حتى من
قبل الشرائط الآتية من قبل الأمر على ما قيل.
وأما لو قلنا بالصحة الفعلية، فلأن العبادة تتقوم بالأمر أو الملاك، وشئ منهما لا يتعقل
مع النهي: أما الأمر، فواضح؛ لأن العنوان واحد، وأما الملاك، فلا يمكن أن يكون عنوان
واحد مبغوضا ومحبوبا وذا صلاح وفساد، فلا يجتمع النهي مع الصحة الفعلية مطلقا.
(مناهج الوصول 2: 168 - 169).
261

المقصد الثالث
في المفاهيم
263

مقدمة
في كيفية الدلالة على المفهوم
الظاهر أن المفهوم من صفات المدلول بما هو مدلول؛ بمعنى أن دلالة
اللفظ قد تكون بحيثية وخصوصية يكون المدلول بهذه الدلالة منطوقا، وقد
تكون بحيثية وخصوصية يكون المدلول بهما مفهوما، فهما من صفات المدلول،
لكن بواسطة الدلالة.
وقد وقع النقض والإبرام في تعريفهما:
فعن المشهور: أن المنطوق ما دل عليه اللفظ في محل النطق، والمفهوم
ما دل عليه لا في محله (1).
ويظهر من العلامة الأنصاري (رحمه الله): أن ما يكون دلالة اللفظ عليه بمثل
" لاغير " كمفهوم المخالفة، أو بمثل الترقي من الداني إلى العالي كمفهوم
الموافقة، مثل (فلا تقل لهما اف) (2)، فهو مفهوم اصطلاحا وما ليس كذلك لا يقال
له المفهوم (3).

1 - قوانين الاصول 1: 167 / السطر 21، الفصول الغروية: 145 / السطر 20.
2 - الإسراء (17): 23.
3 - مطارح الأنظار: 168 / السطر الأخير.
265

ولكنه (قدس سره) اعترف: بأن الخصوصية التي لأجلها يقال: إنه مفهوم أو
منطوق، غير معلومة، وما ذكرنا أيضا إحالة على المجهول (1).
وقيل: إن دلالة اللفظ على تمام ما وضع له منطوق، ودلالته على جزئه
أيضا منطوق على إشكال، فإنه يمكن أن يكون مفهوما؛ لأنه مدلول بتبع الدلالة
على التمام، ودلالته على الخارج اللازم مفهوم (2).
أقول: قد استقر اصطلاح أهل الميزان على تقسيم الدلالات بالنسبة إلى
المفردات، فعندهم دلالة اللفظ المفرد على تمام ما وضع له مطابقة ولو سمع
اللفظ من غير شاعر مريد، فما فهم من اللفظ المفرد ودل على تمام الموضوع له
هو المدلول المطابقي، ولا محالة له دلالة على جزئه بنحو دلالة التضمن (3).
وإن أشكل بعض الاصوليين في دلالة التضمن: بأنه قد تكون الدلالة
على تمام ما وضع له من دون أن تكون على جزئه؛ لكونه مغفولا عنه.
نعم، الدلالة التفصيلية على تمام ما وضع له متضمنة للدلالة على
جزئه، لكن الدلالة على الجزء مقدمة على الدلالة على التمام.
هذا، والدلالة على الخارج اللازم دلالة الالتزام، وشرطها اللزوم الذهني
لا الخارجي، فقد يكون شيء لازما لشيء في الذهن، ومناف له في الخارج،
كدلالة الأعمى على البصر (4).
واللازم: قد يكون لزومه بينا، وقد لا يكون كذلك.
والبين: قد يكون بينا بالمعنى الأخص، وهو الذي يلزم تصوره من تصور
الملزوم، ويستحيل انفكاكه عنه ذهنا، وقد يكون بالمعنى الأعم، وهو الذي يلزم

1 - مطارح الأنظار: 169 / السطر 16.
2 - انظر الفصول الغروية: 146 / السطر 31 مع حاشية المؤلف.
3 - انظر الجوهر النضيد: 8، وشرح المطالع: 28 / السطر 18، وشرح الشمسية: 19.
4 - شرح الشمسية: 21، 22.
266

من تصوره وتصور ملزومه والنسبة بينهما، الجزم باللزوم؛ أي يكون بعد تلك
التصورات بينا غير محتاج إلى تجشم الاستدلال عليه.
وغير البين من كل قسم ما يقابله (1).
وأما الاصوليون فيقسمون الدلالات باعتبار دلالة الكلام، لا بمعنى أن
للكلام وضعا غير وضع المفردات، ودلالة غير دلالتها، بل بمعنى أن ما فهم من
قوله: " زيد قائم " - ولو بدلالة " زيد " على الذات و " قائم " على الوضع الخاص،
والهيئة على اتحاد المحمول اللا بشرط مع الموضوع خارجا - يسمى بدلالة
المطابقة، ولا محالة يدل على جزء المعنى، فيدل القيام باعتبار كونه من مقولة
الوضع؛ بمعنى تمام المقولة، على الهيئة الحاصلة من النسبتين؛ نسبة الأجزاء
بعضها إلى بعض، ونسبة المجموع إلى الخارج، فيدل على الوضع؛ بمعنى جزء
المقولة، بدلالة التضمن. وإن دل على أمر لازم له في الخارج تكون تلك
دلالة الالتزام.
فالدلالة الالتزامية في اصطلاحهم هي الدلالة على اللازم الذي يمكن
الاحتجاج به؛ فإن نظرهم في تقسيم الدلالات إلى ما يحتج به على المتكلم
وله، والدلالات الثلاثة - بالمعنى الذي ذكرنا - يمكن الاحتجاج بها عليه وله،
فإذا قال المتكلم: " إن الشمس طالعة " كما يمكن الاحتجاج عليه بإخباره
بطلوع الشمس، كذلك يمكن الاحتجاج عليه بإخباره بوجود النهار، اللازم
خارجا لطلوع الشمس، ويكون إخباره بوجود النهار بعين إخباره بطلوع الشمس.
وهذه الدلالات الثلاثة دلالات لفظية في محل النطق، وتكون حجة بلا إشكال،
والقدماء من القوم أيضا يعدون هذه الدلالات دلالات لفظية، ودلالة المفهوم
عندهم أمر خارج عنها، وهي الدلالة لا في محل النطق (2)، وهي نحو دلالة تفهم

1 - شرح المطالع: 72 / السطر 3، الحاشية على تهذيب المنطق: 54 - 55.
2 - انظر الذريعة إلى اصول الشريعة 1: 323 - 324، وعدة الاصول 1: 409 - 410،
وشرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 306.
267

من اللفظ، لكن لا يمكن الاحتجاج على المتكلم بأنه نطق بها، فإذا قال المتكلم:
" إن جاءك زيد فأكرمه " يفهم منه أنه إذا لم يتحقق المجيء لا يجب الإكرام، لكن
لا يجوز أن يحتج على المتكلم بأنك قلت: إذا لم يتحقق المجيء لا يجب الإكرام،
وإذا قيل له: لم قيدت كلامك بالمجيء؟ له أن يعتذر بأعذار.
وبالجملة: إن دلالة المفهوم خارجة عن الدلالات الثلاث، التي هي في
محل النطق (80).
لكن المتأخرين لما لم يتأملوا في كلام القدماء حق التأمل، وظنوا أن دلالة
المفهوم من قبيل دلالة الالتزام - أي ما يكون لازم المعنى خارجا (2) - وقعوا في
" حيص بيص " في توجيه المفاهيم، فقالوا: إن أداة الشرط تدل على العلية
المنحصرة (3)، والوصف المعتمد يشعر بالعلية (4)، وتجاوزوا عن الإشعار إلى
الدلالة، وعنها إلى الدلالة المنحصرة (5) (81).

80 - المراد: أن المفهوم مستفاد من وجود القيد، وأن الظاهر من إتيان القيد - بما أنه فعل
اختياري للمتكلم - دخالته في الموضوع، وأنه مع انتفائه ينتفي الحكم، فتكون دلالته
عليه بغير الدلالات اللفظية الالتزامية، كما هو كذلك عند المتأخرين بناء على استفادة
الحصر من الإطلاق، وسيتضح الفرق بينهما. (مناهج الوصول 2: 176).
2 - مفاتيح الاصول: 221 / السطر 21، ضوابط الاصول: 105 / السطر 29.
3 - انظر الفصول الغروية: 148 / السطر 1.
4 - قوانين الاصول 1: 181 / السطر 6، الفصول الغروية: 152 / السطر 31، مطارح
الأنظار: 183 / السطر 30.
5 - شرح المولى صالح المازندراني على المعالم: 107 / السطر 13، وانظر مفاتيح الاصول:
218 / السطر 20، وذكرى الشيعة 1: 53.
81 - يمكن انطباق تعريف الحاجبي على كل من المسلكين؛ فإنه عرف المنطوق بما دل عليه
اللفظ في محل النطق، والمفهوم بما دل عليه اللفظ لا في محل النطق.
فيمكن أن يقال: أراد من دلالته في محل النطق دلالة المطابقة، أو هي مع التضمن، ومن
دلالته لا في محله دلالة الالتزام؛ حيث إن اللفظ دال على اللازم بواسطة دلالته على
المعنى المطابقي، مع عدم كون الدلالة عليه في محل النطق، فإذا أخبر المتكلم: بأن
الشمس طالعة، دل لفظه على طلوع الشمس في محل النطق؛ أي كان لفظه قالبا للمعنى
المطابقي، ودل على وجود النهار مع عدم النطق به.
أو يقال: أراد من محل النطق الدلالات اللفظية مطلقا، ومن غيره دلالة اللفظ - بما أنه
فعل اختياري للمتكلم - على دخالته في موضوع الحكم، فدل على الانتفاء عند الانتفاء.
وأنت خبير: بأن ظاهر الحاجبي هو الأول، ولهذا يمكن أن يكون مراد القدماء - أيضا -
موافقا للمتأخرين، مضافا إلى بعد دعواهم استفادة المفهوم من صرف وجود القيد، مع كونه
ظاهر الفساد.
وبالجملة: في صحة النسبة المتقدمة إلى القدماء تردد.
وكيف كان، فالمفهوم هو قضية غير مذكورة مستفادة من المذكورة، وهذا ينطبق على
المسلكين؛ فإن طريق الاستفادة قد يكون بدلالة اللفظ، وقد يكون بأصل عقلائي. (مناهج
الوصول 2: 176 - 178).
268

وهكذا وقعوا في حيرة اخرى؛ حيث نظروا في كلام القدماء [فوجدوهم]
يقولون: إن المفهوم الكذائي هل هو حجة أم لا (1)؟ مع أن الدلالة الالتزامية
حجة بلا إشكال، فأولوا كلامهم بأن المقصود أن المفهوم ثابت أو لا؟ وإلا فمع
ثبوته فهو حجة بلا إشكال، فالنزاع صغروي، لا كبروي (2).
كل ذلك للاختلاط الواقع منهم؛ لأجل قلة التتبع في كلام القوم، وما يظهر
للمتأمل فيه بعد التتبع أن دلالة المفهوم عندهم دلالة اخرى خارجة عن
الدلالات اللفظية، ومع كون الكلام ذا مفهوم بهذا المعنى - أي لا في محل النطق -

1 - انظر غنية النزوع 1: 64، تمهيد القواعد: 108 - 110.
2 - انظر هداية المسترشدين: 280 / السطر 21، ومطارح الأنظار: 169 / السطر 26،
وكفاية الاصول: 231.
269

وقع البحث بينهم في أن هذه الدلالة هل هي حجة، ويمكن الاستدلال عليها
والاحتجاج بها أم لا؟ فالنزاع كان بينهم كبرويا لا صغرويا (82).
والشاهد عليه - بعد ظهور كلماتهم - كيفية استدلالاتهم للحجية في
المفاهيم؛ لأن مدار احتجاجهم على لزوم لغوية القيد الزائد، فإذا وجب إكرام زيد
مطلقا يكون إيراد قيد المجيء لغوا، وإذا وجب التبين عن كلام المخبر مطلقا،
فلماذا التوصيف بالفسق (2)؟ إلى غير ذلك (3).
وأما المتأخرون فاستدلوا عليه بدلالة الأدوات على العلية المنحصرة (4)،
مع أنه لا وجه لها أصلا.
ومما ذكرنا - من أن مدار استدلال القوم في باب المفاهيم مطلقا هو إيراد
المتكلم القيد الزائد في الكلام، وهو يدل على أن الحكم لمورد القيد، وعند فقده

82 - أقول: النزاع عليه صغروي أيضا؛ لأن القائل بالمفهوم يدعي أن إتيان القيد الزائد يدل -
بما أنه فعل اختياري - على كون القيد ليس إلا موضوع الحكم، ومع عدمه لا ينوب منابه
شيء، والمنكر إنما ينكر هذه الدلالة، لا حجيتها بعد تسليم الدلالة، كما هو ظاهر
استدلال النافين من نفي الدلالات، بل ظاهر كلام السيد المرتضى أيضا؛ فإن قوله: - " إن
تأثير الشرط إنما هو تعليق الحكم به، وليس يمتنع أن يخلفه وينوب منابه شرط آخر " -
ظاهر في أن المستفاد من الشرط دخالته، لا عدم دخالة شرط آخر حتى يفيد المفهوم،
فهو ينكر المفهوم، لا حجيته بعد ثبوته، كما يظهر منه أن مدعي المفهوم يدعي دلالة
الكلام على عدم نيابة قيد آخر مناب القيد المذكور، وهو عين مسلك المتأخرين، فتدبر.
(مناهج الوصول 2: 178 - 179).
2 - إشارة إلى قوله تعالى: (إن جاءكم فاسق بنباء...) الحجرات (49): 6.
3 - انظر شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 311 / السطر 14، ومعارج الاصول:
144.
4 - انظر قوانين الاصول 1: 175 / السطر 15، والفصول الغروية: 147 / السطر 27،
ومطارح الأنظار: 171 / السطر 15.
270

ينتفي الحكم - يظهر [سر] ما أفاد علم الهدى السيد الشريف المرتضى (رحمه الله) من رد
استدلالهم بالتمسك بقوله تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم...) (1) إلى
آخره، فإنه يمنع عن قبول الشاهد الواحد حتى ينضم إليه شاهد آخر، ثم علمنا
أن انضمام امرأتين إلى الشاهد الأول، قائم مقام الرجل الواحد، ثم علمنا أن ضم
اليمين يقوم مقامه أيضا (2). فأشكل عليه (رحمه الله) بوجوه كثيرة (3).
وربما يقال: إن ما صدر منه في الرد على المفهوم لا ينبغي أن يصدر من
أصاغر الطلبة، فضلا من مثله؛ فإن الآية الشريفة غير مربوطة بباب المفاهيم.
لكن بما ذكرنا يظهر وجهه؛ فإن ما يستدل به للمفهوم - في جميع
المفاهيم - شيء واحد، هو مدار الاستدلال عند القدماء، والوجه الفريد الذي
كانوا يعتمدون عليه؛ وهو أن إيراد القيد الزائد لو لم يكن لإفادة المفهوم، كان لغوا
لا يصدر من الحكيم.
ولقد أجاب السيد (رحمه الله) بما أفاد عن هذا الاستدلال: بأن القيد قد يجيء لا
لإفادة المفهوم، بل لأمر آخر، كما في الآية الشريفة (4).
ثم اعلم: أن الكلام في المفاهيم إنما يكون في قسميه - أي مفهوم الموافقة
والمخالفة كليهما - ومدار الكلام فيهما إنما هو في القيود الزائدة في الكلام، لكن
البحث في مفهوم الموافقة في أن بعض القيود لا يفهم منه القيدية لدى
العرف، ويكون موضوع الحكم نفس الذات من دون تقيدها بالقيد، كما في قوله:

1 - البقرة (2): 282.
2 - الذريعة إلى اصول الشريعة 1: 406.
3 - انظر معا لم الدين: 81، ومطارح الأنظار: 171 / السطر ما قبل الأخير.
4 - الذريعة إلى اصول الشريعة 1: 404، 406 - 407.
271

" رجل شك في صلاته بين الاثنين والثلاث " (1)، فإن الموضوع في نظر العرف هو
المصلي الشاك من غير دخالة للرجولية فيه، فالقيود إذا كانت بنظر العرف ملغاة
غير دخيلة في الحكم، وكان الحكم بنظرهم ثابتا لغير مورد القيد، كان ذلك من
مفهوم الموافقة؛ سواء كانت نسبة المنطوق إلى المفهوم هي الأولوية، كقوله
تعالى: (فلا تقل لهما اف) (2)، أو لا كالمثال المتقدم، والقدماء جعلوا القول
بالمفهوم - فيما إذا كانت النسبة هي الأولوية - قولا بالتفصيل في المسألة (3)، لا
أن البحث في المفهوم مختص بها.
وبالجملة: إن موضوع البحث في المفاهيم أعم من المفهوم الموافق
والمخالف، وفي الأول أعم مما يكون بالأولوية أو لا، والجامع بين المفهومين
في البحث هو القيد الزائد، وإن كان القيد في مفهوم المخالفة على طبق القاعدة
- أي كونه للاحتراز والقيدية - وفي الموافقة على غير القاعدة - أي الإتيان به -
إنما هو من جهة كونه أحد الأفراد، ويكون القيد ملغى بنظر العرف.
ومفهوم الموافقة عند القدماء هو الذي يعبر عنه المتأخرون ب‍ " إلغاء
الخصوصية " (4)، وهو غير تنقيح المناط؛ فإن الثاني أمر عقلي، والأول من
المداليل العرفية (83).

1 - انظر وسائل الشيعة 5: 319، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 9،
الحديث 1 - 3.
2 - الإسراء (17): 23.
3 - انظر الذريعة إلى اصول الشريعة 1: 392 - 393، 399 - 400، وشرح العضدي على
مختصر ابن الحاجب: 308.
4 - فوائد السيد بحر العلوم: 124 / السطر 13 - الفائدة 37.
83 - واختلفت التعبيرات في تفسيره، ونحن نذكر الاحتمالات، ونتكلم فيها.
فنقول: فيه احتمالات:
الاحتمال الأول: ما يعبر عنه المتأخرون بإلغاء الخصوصية، مثل قوله: " رجل شك بين
الثلاث والأربع... " ولا شبهة في أن العرف يرى أن الحكم إنما هو للشك بينهما من غير
دخالة للرجولية فيه.
الاحتمال الثاني: المعنى الكنائي الذي سيق الكلام لأجله، مع عدم ثبوت الحكم
للمنطوق، كقوله: (فلا تقل لهما اف) إذا فرض كونه كناية عن حرمة إيذائهما، ولم يكن
الاف محكوما بحكم.
الاحتمال الثالث: ما إذا سيق الكلام لأجل إفادة حكم، فاتي بأخف المصاديق - مثلا -
للانتقال إلى سائرها، مثل الآية المتقدمة إذا كان الاف محكوما بالحرمة أيضا.
الاحتمال الرابع: الحكم الغير المذكور الذي يقطع العقل به بالمناط القطعي من الحكم
المذكور، كقوله: " أكرم خدام العلماء " حيث يعلم بالمناط القطعي وجوب إكرام العلماء.
الاحتمال الخامس: الحكم المستفاد من القضية التعليلية، كقوله: " الخمر حرام لأنه
مسكر ".
فيمكن أن يكون المراد من الموافق بعض هذه الاحتمالات، أو جميعها، والجامع بينها هو
الحكم في غير محل النطق، الموافق للحكم في محله - على فرضه - في الإيجاب
والسلب. (مناهج الوصول 2: 297 - 299).
272

رجع
قد أشرنا (1) إلى أن المفهوم ليس من المداليل اللفظية - أي المطابقة
والتضمن والالتزام - بل المداليل المذكورة من المنطوق ولو مع الواسطة
وبالتبعية، فلابد من بيان كيفية دلالة الكلام عليه، وأن المفهوم من أية
خصوصية من خصوصيات الكلام يستفاد.
التحقيق أن يقال: إن الأصل العقلائي في الكلام الصادر من المتكلم - بما

1 - تقدم في الصفحة 267 - 268.
273

أنه فعل من أفعاله الاختيارية - الحمل على أنه صدر لأجل فائدة وغرض،
ولم يصدر منه لغوا باطلا، وهذا الأصل ليس مختصا بالكلام، بل هو جار في كل
فعل من أفعاله الاختيارية، فإذا شككنا في أن تكلمه الكذائي صدر منه لغوا،
أو لأجل غاية وغرض، حمل على كونه ذا غاية وغرض، ثم لو شككنا في أن
غرضه فيه هل هو التفهيم أم شيء آخر غيره من الأغراض؟ يحمل على الأول؛
وذلك أيضا لأصل عقلائي؛ فإن الكلام آلة للتفهيم، فاستعماله لأجل غايات
نادرة خلاف الأصل العقلائي.
ثم لو شككنا في أن غرضه هو تفهيم المعنى الحقيقي أو غيره، يحمل على
الأول؛ لأصالة الحقيقة التي هي أصل عقلائي آخر، ولا تصل النوبة إلى أصالة
الحقيقة إلا بعد الأصلين السابقين.
ثم اعلم: أنه كما في أصل صدور الكلام يجري الاصول العقلائية، كذلك
في الخصوصيات الزائدة فيه، فإذا شككنا في قيد في كلامه أنه أتى به لغوا أو
لغرض، يحمل على الثاني. ولو شككنا في أنه للتفهيم أولا، يحمل على الأول.
فالبناء العقلائي في القيود الزائدة في الكلام على الحمل على غرض التفهيم، وما
تكون القيود آلة لتفهيمه هو دخالتها في الموضوع، إن كان الموضوع مقيدا بها
مثلا، وهذا ليس من قبيل دلالة اللفظ على المعنى الذي وضع له، أو على جزئه
أو خارجه، بل هو خارج عنها، وإنما هو من قبيل دلالة الفعل الاختياري -
الصادر من الإنسان - على شيء بحسب الأصل العقلائي، لا الوضع؛ لكون
المتكلم ممن صدر منه الكلام لأجل غرض، لا لمحض اللغوية، وليس من
الدلالات الثلاث. وكذا دلالة الكلام على كونه بصدد التفهيم ليست منها.
فدلالة القيد على دخالته في الموضوع أو الحكم بالأصل العقلائي لا بها،
فأداة الشرط والأوصاف المعتمدة على موصوفها، لا تكون دلالتها على دخالتها
في الموضوع أو الحكم بالوضع؛ حتى تكون من سنخ الدلالات، بل بالأصل
العقلائي بما هي أفعال اختيارية، وبما هي ألفاظ وآلات للتفهيم.
274

وبما ذكرنا يتضح أمر آخر: وهو أن القضايا المشروطة قد يكون سوقها
لأجل إفادة كون المشروط علة للجزاء، وقد يكون لأجل إفادة أن الجزاء ثابت
للمشروط بهذا الشرط.
فالأول: كقول الطبيب: " إن شربت السقمونيا فيسهل الصفراء ".
والثاني: كقوله (عليه السلام): " إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شيء " (1).
فإن سيقت لإفادة العلية فلا مفهوم لها؛ لأن المتكلم لم يأت في كلامه بقيد
زائد، بل أفاد أن " السقمونيا " مثلا علة لإسهال الصفراء.
وبالجملة: كلما كان إتيان الشرط لإفادة عليته للجزاء، ولا يكون فيه قيد
زائد، لا يكون له مفهوم.
وإن سيقت على النحو الثاني، يكون لها مفهوم إن تم ما ذكر من أن القيود
الزائدة في الكلام تفيد دخالتها على نحو ينتفي الحكم عند انتفائها (84).
إبانة: في دخالة القيد في الموضوع أو الحكم
اعلم أنه بعدما ذكرنا (3): من أن مدار حجية المفهوم عند القدماء في جميع
المفاهيم شرطا أو غيره على وجود القيد، وإن الظاهر من إتيان القيد في الكلام

1 - انظر وسائل الشيعة 1: 117، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9،
الحديث 1 و 2 و 6.
84 - وأنت خبير: بأن ذلك لا يفيد ما لم يضم إليه شيء آخر، وهو أن عدم الإتيان بشيء آخر في
مقام البيان، يدل على عدم القرين له، وبه يتم المطلوب، وإلا فصرف عدم لغوية القيود
لا يدل على المفهوم ما لم تفد الحصر.
فإثبات المفهوم إنما هو بإطلاق الكلام، وهو أحد الطرق التي تشبث بها المتأخرون.
(مناهج الوصول 2: 182).
3 - تقدم في الصفحة 270 - 271.
275

دخالته في الموضوع أو الحكم - لابد وأن يعلم أن غاية ما يقتضيه إتيان القيد أن
الذات المجردة عن القيد لا تكون تمام الموضوع للحكم، ويكون تمام الموضوع
له هو المقيد بما هو مقيد، وإلا يكون إتيان القيد لغوا مخالفا للأصل العقلائي،
وأما عدم كون الموضوع مع قيد آخر نائبا مناب هذا القيد في تمامية الموضوع
للحكم؛ فلا دلالة للقيد عليه، ولا يكون مقتضى التقيد بشيء عدم كون قيد آخر
نائبا عنه في الدخالة في الموضوع.
مثلا: إذا سئل الإمام (عليه السلام) عن غدير ماء تلغ فيه الكلاب، فقال: " إذا بلغ
الماء قدر كر لا ينجسه شيء " يدل ذلك على أن تمام الموضوع لعدم التنجس،
ليس الماء المجرد عن بلوغ الكرية، وإلا يكون إتيان القيد لغوا، وإنما تمام
الموضوع هو ذات الماء مع قيد الكرية، لكن لا يدل ذلك على أن الماء - مع
وصف آخر غير الكرية - لا يكون موضوعا لعدم التنجس؛ حتى يكون قوله:
" الماء الجاري لا ينجسه شيء " (1) منافيا ومعارضا له.
نعم، لو احرز أن المتكلم كان بصدد بيان تمام ما له دخل في الموضوع،
واكتفى بذكر قيد أو قيود، لاستفيد منه المفهوم، كما لو سئل: " ما هو الماء الذي
لا ينجسه شيء؟ " فقال: " إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شيء "، فإنه بضميمة
مسبوقيته بالسؤال يكون ظاهرا في المفهوم، ولكن مع قيام القرينة يكون للقب
أيضا مفهوما، كما لو سئل: " ما المائع الذي لا ينفعل؟ " فقال: " الماء لا ينفعل "، فإن
المفهوم عرفا - مع قيام هذه القرينة - أن غير الماء ينفعل.
ومما ذكرنا يتضح: أن احتجاج علم الهدى (رحمه الله) على عدم المفهوم احتجاج
متين في غاية التحقيق؛ فإن مدار المفهوم - كما عرفت - على لغوية القيد الزائد،

1 - الجعفريات، ضمن قرب الإسناد: 11، مستدرك الوسائل 1: 190، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المطلق، الباب 5، الحديث 1.
276

فأجاب السيد عن هذا الاستدلال: بأن القيد لا يقتضي إلا كونه دخيلا في
الموضوع، ولا يكون الموضوع المجرد عنه تمام الموضوع، وأما عدم نيابة قيد
آخر منابه، فلا يدل عليه التقييد، واستشهد بقوله تعالى: (واستشهدوا شهيدين
من رجالكم...) (1) إلى آخره (2).
ثم إن المحقق الخراساني (رحمه الله) قد عرف المفهوم بأنه عبارة عن حكم إنشائي
أو إخباري تستتبعه خصوصية المعنى، الذي اريد من اللفظ بتلك الخصوصية
ولو بقرينة الحكمة (3).
والظاهر - بقرينة ما أفاد في مفهوم الشرط (4) - أن مراده من الخصوصية
هو انحصار العلية، وبالمعنى هو ذات المعنى الدال على أصل العلية.
ولكن يرد عليه: أن تلك الخصوصية إما أن تكون زائدة على المعنى
المراد؛ بحيث لا تكون مرادة، ولا اللفظ دالا عليها، وإما أن تكون مرادة من اللفظ،
وتكون من خصوصيات المعنى المراد بما أنه مراد.
فعلى الأول: لا وجه لعد لازم مثل تلك الخصوصية من المفاهيم؛ فإن
الخصوصية الملزومة إذا لم تكن مرادة فلا يكون اللازم أيضا مرادا، فلا وجه لعد
المفهوم من المداليل، وأنه حكم غير مذكور، أو حكم لغير مذكور.
مثلا: لو دلت القضية الشرطية على صرف علية الشرط للجزاء، لكن
عرضت العلية خصوصية الانحصار من غير أن تكون تلك الخصوصية مرادة،
وكان المفهوم لازما لتلك الخصوصية الغير المرادة، فلا وجه لعد المفهوم اللازم

1 - البقرة (2): 282.
2 - انظر الذريعة إلى اصول الشريعة 1: 406.
3 - كفاية الاصول: 230.
4 - نفس المصدر: 231.
277

لغير المراد مدلولا.
وعلى الثاني: تصير الخصوصية جزء المعنى المراد، ويصير المفهوم لازما
للمعنى، فلا داعي لتعريفه بما ذكر مما يخل بالمقصود؛ فإن المعنى هو ما اريد من
اللفظ، فإذا اريد من اللفظ شيء مع تلك الخصوصية، يصير الشيء المتخصص
بتلك الخصوصية معنى اللفظ، لا أن المعنى أمر، والخصوصية أمر آخر، كما
يوهمه التعريف المذكور.
فالأولى تعريفه - على مسلكه - بأن المفهوم حكم إنشائي أو إخباري لازم
للمعنى المراد من اللفظ.
ولقد تصدى بعض الأعاظم المتأخر عنه لتعريف المفهوم بما حاصله: أن
المفهوم هو اللازم البين بالمعنى الأخص، وأما اللازم البين بالمعنى الأعم فيكون
من الدلالات السياقية، وينقسم إلى دلالة الاقتضاء والتنبيه والإشارة (1). انتهى.
ولازمه أن تكون أقسام الدلالات أكثر من دلالة المنطوق والمفهوم؛ فإن
دلالة المنطوق بناء عليه تكون منحصرة بدلالة المطابقة، ودلالة المفهوم هي
دلالة الالتزام؛ أي الدلالة على اللازم البين بالمعنى الأخص، فدلالة اللفظ
على اللازم البين بالمعنى الأعم - التي جعلها مقسما لدلالة الإشارة واختيها -
تكون خارجة عنهما.
وهنا قسم رابع: وهو الدلالة على اللازم الغير البين في مقابل اللازم البين
بالمعنى الأعم - أي ما لا يكون نفس تصور اللازم والملزوم والنسبة بينهما كافيا
في الجزم باللزوم، بل يحتاج إلى برهان - مع أن القوم حصروا الدلالات بالدلالة
المنطوقية والمفهومية، وقد عرفت أن دلالة المطابقة وشقيقتيها من الدلالات

1 - انظر فوائد الاصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 477 وفيه: " ولعل دلالة
الاقتضاء... يكون اللازم فيه من اللازم بالمعنى الأعم ".
278

المنطوقية.
وأما دلالة الإشارة واختيها فهي أيضا من الدلالات المنطوقية؛ فإن
المنطوق منقسم إلى الصريح وغير الصريح. والثاني إلى ما دل عليه اللفظ بدلالة
اقتضاء وتنبيه - يقال له: " الإيماء " أيضا (1) - وإشارة؛ لأن ما يدل عليه اللفظ: إن
كان غير مقصود للمتكلم فهو المدلول عليه بدلالة الإشارة، كدلالة الآيتين على
أقل الحمل (2). وإن كان مقصودا: فإن كان صدق الكلام أو صحته يتوقف عليه؛
فهو المدلول عليه بدلالة الاقتضاء، نحو " رفع عن امتي... الخطأ والنسيان " (3)
ونحو (واسأل القرية) (4) فإنهما يدلان على مقدر مصحح للكلام. وإن اقترن
بالحكم ما فهم منه العلية فهو المدلول عليه بدلالة الإيماء والتنبيه كما لو قال
السائل: " واقعت امرأتي في نهار رمضان "، فاجيب: " كفر " (5)، فإن اقتران قوله
بقول السائل مما يفهم منه علية المواقعة للكفارة، وهذه كلها دلالات منطوقية
عند القوم.
هذا تمام الكلام في معنى المفهوم، وقد عرفت التحقيق فيه.

1 - الوافية في اصول الفقه: 228، قوانين الاصول 1: 168 / السطر 6.
2 - البقرة (2): 233، الأحقاف (46): 15.
3 - التوحيد: 353 / 24، الخصال: 417 / 9، وسائل الشيعة 11: 295، كتاب الجهاد،
أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.
4 - يوسف (12): 82.
5 - انظر الكافي 4: 102 / 2، الفقيه 2: 72 / 309، تهذيب الأحكام 4: 206 / 595.
279

فصل
الجملة الشرطية
هل الجملة الشرطية تدل على الانتفاء عند الانتفاء، كما تدل على
الثبوت عند الثبوت، أم لا؟
أما على طريقة القدماء: فقد اتضح لك بما أشرنا إليه (1): أن غاية ما يدل
عليه القيد الزائد هو دخالته في ثبوت الحكم، أما عدم قيام قيد آخر مقامه،
فلا يدل عليه إلا مع قيام القرينة (2).
وأما على طريقة المتأخرين المتشبثين بذيل العلة المنحصرة، وأن المفهوم
من الدلالات الالتزامية، المدلول عليها في الكلام بواسطة الدلالة على حصر
علية الشرط للجزاء (3)، فأحسن ما افيد في المقام هو ما أفاده المحقق
الخراساني (رحمه الله) من تقرير الدلالة على ترتب الجزاء على الشرط - بنحو الترتب
على العلة المنحصرة - بوجوه:
التبادر.

1 - تقدم في الصفحة 275 - 276.
2 - انظر الذريعة إلى اصول الشريعة 1: 406.
3 - انظر الفصول الغروية: 147 / السطر 26، ومطارح الأنظار: 171 / السطر 15.
281

والانصراف (85).
وقضية الإطلاق بمقدمات الحكمة، كدلالة صيغة الأمر على الوجوب
النفسي (86).
والتمسك بإطلاق الشرط على الانحصار؛ ضرورة أنه لو قارنه أو سبقه
الآخر لما أثر وحده، وقضية الإطلاق أنه مؤثر مطلقا كذلك (87).
والتمسك بإطلاق الشرط، بتقريب أن مقتضاه تعينه، كما أن مقتضى إطلاق
الأمر التعيين لا التخيير (4).
وهذه وجوه خمسة يمكن التمسك بها لتقريب المقصود.
ولقد أجاب (رحمه الله) عنها بما يغني عن الأتعاب (5)، وإن أصر بعض أعاظم
العصر (رحمه الله) على تتميم الوجه الخامس (6)، لكنه لم يأت بشيء مقنع، فراجع.
وهاهنا وجه سادس لإثبات الانحصار؛ وهو أن الشرط إذا كان علة
منحصرة، يكون مؤثرا في الجزاء بخصوصيته، بخلاف ما إذا لم يكن بمنحصر،

85 - ولا يخفى ما فيهما. (مناهج الوصول 2: 183).
86 - وقد مر الإشكال في المقيس عليه (في الهامش 62)، ويرد نظيره هاهنا، مع أن القياس
مع الفارق. (مناهج الوصول 2: 184).
87 - وفيه: أن ذلك ليس قضية الإطلاق؛ فإنها ليست إلا أن ما جعل شرطا، هو تمام الموضوع
لإناطة الجزاء به، وإلا لكان عليه بيانه، كما هو الحال في جميع موارد الإطلاق.
وبعبارة اخرى: أن الإطلاق في مقابل التقييد، ودخالة شيء آخر في موضوع الحكم،
وكون شيء آخر موضوعا للحكم أيضا لا يوجب تقييدا في الموضوع بوجه. (مناهج
الوصول 2: 184).
4 - كفاية الاصول: 233 - 234.
5 - نفس المصدر.
6 - أجود التقريرات 1: 418 - 419.
282

فإنه حينئذ يؤثر بجهة جامعة بينه وبين شريكه؛ لأن الخصوصية المميزة لا تعقل
دخالتها مع عدم الانحصار، والظاهر من القضية الشرطية أن الشرط
بخصوصيته مؤثر في الجزاء، لا بالقدر الجامع بينه وبين غيره (88).
ولقد أبديت هذا الوجه لدى المحقق الخراساني (رحمه الله) فأجاب عنه: أن ذلك
حكم عقلي بحسب الدقة العقلية، مخالف للأنظار العرفية المتبعة في أمثال
المقامات.
بقي امور:
الأمر الأول: المفهوم في الجمل الإنشائية
إنه لا اشكال في أن انتفاء شخص الحكم عن الموضوع عقلي، لا يكون من
قبيل المفهوم، فلا يكون من المفهوم مثل قوله: " أوقفت داري على أولادي إن كانوا

88 - وفيه أولا: أن استفادة العلية من القضية الشرطية في محل المنع، بل لا يستفاد منها إلا
نحو ارتباط بين المقدم والتالي ولو كان على نحو الاتفاق، مثلا: لو فرض مصاحبة
الصديقين غالبا في الذهاب والإياب، صح أن يقال: " إن جاء أحدهما يجيء الآخر " من
غير ارتكاب تجوز وتأول بلا إشكال. نعم، لا يصح استعمال الشرطية فيما لا ربط بينهما
بلا تأول، مثل ناهقية الحمار وناطقية الإنسان، فلا تستفاد العلية حتى يقال ذلك.
وثانيا: أن العلية والمعلولية في المجعولات الشرعية ليست على حذو التكوين، من
صدور أحدهما من الآخر، حتى يأتي فيها القاعدة المعروفة، فيجوز أن يكون الكر -
بعنوانه - دخيلا في عدم الانفعال، والجاري والمطر بعنوانهما، كما هو كذلك، فقياس
التشريع بالتكوين باطل ومنشأ لاشتباهات كثيرة.
وثالثا: أن لجريان القاعدة موردا خاصا وشرائط، وما نحن فيه ليس بمورده.
ورابعا: ما أفاده المحقق الخراساني في الجواب عنه: من أن طريق استفادة الأحكام من
القضايا هو الاستظهارات العرفية، لا الدقائق الحكمية. (مناهج الوصول 2: 186 -
187).
283

عدولا "، أو " على أولادي العدول "، وكذا في الوصية والنذر؛ فإن مثل هذه
العناوين - التي توجد بنفس الإنشاء، ولا وجود لها غير ما ينشئه المنشئ،
وتكون عناوين شخصية لموضوع خاص - لا يكون انتفاؤها عن غير موضوعاتها
بدلالة المفهوم، بل إنما هو بحكم العقل، فالوقف على الأولاد العدول لا يمكن أن
يكون وقفا على غيرهم، وهذا مما لا إشكال فيه.
وكذا لا إشكال في أن القضايا الإخبارية مما يمكن أن تكون حكاية عن
عنوان كلي أو جزئي، مثل: " إن جاءك زيد فيجب إكرامه " بنحو القضية
الإخبارية، تكون دلالتها على الانتفاء بدلالة المفهوم على فرضه.
ومن هذا القبيل القضايا الإنشائية التي تكون إرشادا إلى الأحكام الإلهية،
كفتاوى الفقهاء، فإذا قال الفقيه للمستفتي: " إذا شككت بين الأربع والثلاث فابن
على الأربع، وصل ركعتين من جلوس، أو ركعة من قيام "، تكون هذه القضية
الإنشائية حكاية عن الحكم الواقعي الإلهي، ويمكن أن يكون الحكم الكلي
مرتفعا عند فقدان الشرط، وتكون دلالتها عليه من قبيل دلالة المفهوم على القول
به، وكذا الأخبار الصادرة عن المعصومين (عليهم السلام) فإنها أيضا إرشادات إلى الأحكام
الإلهية المنشأة، وتكون دلالتها على الانتفاء من قبيل المفهوم.
إنما الإشكال في القضايا الإنشائية التي تكون بصدد إنشاء الأحكام،
كالأوامر الصادرة عن الله تعالى معلقة على الشرط، وكذا ما صدر عن الموالي
العرفية معلقا عليه؛ مما تكون آلة لإيجاد الوجوب، مما تكون نحو تحققها
بنفس الإنشاء، ويكون إيجادها ووجودها الإنشائي واحدا حقيقة ومختلفا
بالاعتبار؛ فإن الألفاظ المستعملة في المعاني الإنشائية يكون نحو استعمالاتها
فيها استعمالا إيجاديا - كما حقق في المعاني الحرفية (1) - فلا وجود لها قبل

1 - تقدم في الصفحة 27 - 29.
284

الاستعمال يكون الاستعمال حاكيا عنه، ففي مثل هذه المعاني يقع الإشكال في
أن ما علق على الشرط لا يمكن أن يكون نفس ماهية الفرد؛ فإن الماهيات من
حيث هي ليست إلا هي، وليست هي - في مرتبة ذاتها مع قطع النظر عن الوجود -
صالحة لحمل شيء عليها إلا ذاتياتها، فلا تصلح لتعلق شيء عليها، ولا لتعلقها
على شيء، والوجود ليس إلا أمرا متشخصا وجزئيا خارجيا، والحكم الكلي
وسنخ الحكم لا يكون مذكورا في القضية اللفظية، ولا يكون معلقا على الشرط.
ولا إشكال في أن المفهوم قضية غير مذكورة، يكون موضوعها ومحمولها
متحدين مع المذكورة، كما لا يكون مفهوم " إن جاءك زيد فأكرمه " - مما يكون
إكرام زيد موضوعه، والوجوب محموله - قضية مختلفة الموضوع مع القضية
المنطوقة، مثل: " إن لم يجئك فلا يجب ضربه "، أو مختلفة المحمول معها، أو
مختلفة الطرفين؛ كل ذلك لأجل لزوم اتحاد المنطوق والمفهوم في الموضوع
والمحمول، والاختلاف في السلب والإيجاب.
وبالجملة: كل ما علق على الشرط، ويكون هو علة منحصرة له، يكون
منتفيا بانتفائه لاغير، والفرض أن ما يصلح للتعليق في القضايا الإنشائية - التي
يكون نفس استعمالها في معانيها إيجادها لها، ويكون مفادها تكا ليف جزئية
ومعان شخصية - هو هذا المعنى الشخصي والأمر الجزئي؛ لأن الفرد ينحل إلى
ماهية كلية ووجود، والماهية لا تصلح لتعلقها بالعلة، والوجود المعلق جزئي،
يكون انتفاؤه بانتفاء الشرط عقليا، لا من باب المفهوم، وسنخ الوجوب وكليه غير
مذكور في القضية حتى ينتفي بانتفائه.
وبما ذكرنا ظهر ما في كلام المحقق صاحب الكفاية ومن تأخر عنه ممن
عبر بتعبيره: من أن المفهوم انتفاء سنخ الحكم المعلق على الشرط عند انتفائه،
285

لا انتفاء شخصه؛ ضرورة انتفائه عقلا بانتفاء موضوعه ولو ببعض قيوده (1)...
إلى آخره.
فإن فيه: - مضافا إلى أن الشرط لا يكون من قيود الموضوع على طريقة
المتأخرين في باب المفهوم؛ لأنه علة منحصرة للجزاء عندهم، والعلة متقدمة
تحصلا على المعلول، فلا يكون من قيود الموضوع الذي يكون مع الحكم في
التحصل وإن كان له نحو تقدم في العقل، نعم على طريقة القدماء يكون الشرط
من قيوده كما عرفت (2) - أن ما علق في الكلام ليس إلا وجوب إكرام زيد، وهو أمر
شخصي وموجود جزئي؛ سواء ذكر بنحو القضية الإنشائية أو الإخبارية في
مقام الإنشاء، والجزئي غير قابل للكثرة.
نعم، أصل وجوب الإكرام أو أصل الوجوب كلي، لكنهما غير مذكورين في
القضية، وما ذكر جزئي، فإذا كان الشرط علة منحصرة لشخص الحكم ينتفي
- لا محالة - بانتفائه.
وأما على طريقة القدماء، فما هو قيد في الكلام يكون قيدا لموضوع
الحكم الشخصي المذكور في القضية، ولا محالة مع عدم القيد يكون الحكم
منتفيا، وأما انتفاء أمر آخر - غير مذكور في الكلام - فلا معنى له.
فتحصل مما ذكرنا: أنه ليس هناك معنى محصل لما استقرت عليه آراء
المتأخرين: من أن المفهوم انتفاء سنخ الحكم (89).

1 - كفاية الاصول: 236، فوائد الاصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 484،
مقا لات الاصول 1: 396، درر الفوائد، المحقق الحائري: 196.
2 - تقدم في الصفحة 270 - 271.
89 - ولكن مع ذلك يمكن دفع الإشكال: بأن ظاهر القضايا بدوا وإن كان تعليق الوجوب على
الشرط، لكن حكم العقل والعقلاء في مثل تلك القضايا أن لطبيعة المادة مناسبة مع
الشرط تكون سببا لتعلق الهيئة بها، فيكون الإيجاب المتعلق بالمادة في الجزاء متفرعا
على التناسب الحاصل بينها وما يتلو أداة الشرط، فإذا قال: " إن أكرمك زيد أكرمه " يفهم
العرف والعقلاء منه، أن التناسب الواقعي بين إكرام زيد إياه وإكرامه، دعا المولى لإيجابه
عند تحققه، فالإيجاب متفرع على التناسب الواقعي، وإلا كان لغوا، فإذا فرض دلالة
الأداة على انحصار العلة، تدل على أن التناسب بينهما يكون بنحو العلية المنحصرة، ففي
الحقيقة يكون التناسب بين طبيعة ما يتلو أداة الشرط ومادة الهيئة، فإذا دلت الأداة على
الانحصار، تتم الدلالة على المفهوم وإن كان مفادها جزئيا.
ولك أن تقول: إن الهيئة وإن كانت جزئية لكن تناسب الحكم والموضوع يوجب إلغاء
الخصوصية، وجعل الشرط علة منحصرة لنفس الوجوب وطبيعيه، فبانتفائه ينتفي
طبيعي الوجوب. (مناهج الوصول 2: 188 - 189).
286

وأما ما في " تقريرات " العلامة الأنصاري (رحمه الله): من أن النزاع ليس في
شخص الحكم، فإنه ينفد بنفاد الكلام، وليس له بقاء وثبات (1).
ففيه: أن ما ينفد بنفاد التكلم هو التلفظ بالحكم؛ ضرورة أن الكلام غير
قار الذات، ولكن الحكم المعلق على الشرط غيره بالضرورة، وما هو معلق هو
الحكم المنشأ بهذا الإنشاء والمنتزع منه، وله بقاء وثبات عند العقلاء وإن كان
من الامور الاعتبارية.
الأمر الثاني: إذا تعدد الشرط مع وحدة الجزاء
مثل: " إذا خفي الأذان فقصر "، " إذا خفي الجدران فقصر "، فبناء على
المفهوم يقع التعارض بين منطوق كل منهما مع مفهوم الآخر (90)، وفي مقام رفع

1 - مطارح الأنظار: 173 / السطر 8.
90 - هل التعارض بين المنطوقين أولا وبالذات، أو بين مفهوم كل منهما ومنطوق الآخر؟
الظاهر هو الأول، سواء قلنا: بأن المتبادر من الشرطية هو العلية المنحصرة، أو قلنا:
بانصرافها إليها، أو بأن ذلك مقتضى الإطلاق:
أما على الأول: فلأن حصر العلية بشيء ينافي إثباتها لشيء آخر، فضلا عن حصرها به؛
ضرورة التنافي بين قوله: " العلة المنحصرة للقصر خفاء الأذان "، وقوله: " العلة
المنحصرة له خفاء الجدران ". وكذا لو قلنا بانصرافها إلى العلة المنحصرة، فيقع التعارض
بينهما لأجله. وكذا على الأخير؛ لوقوع التعارض بين أصالتي الإطلاق في الجملتين.
ثم بعد وقوع التنافي بينهما يقع الكلام في التوفيق بينهما، فنقول: تختلف كيفية التوفيق
باختلاف المباني في استفادة المفهوم.
فلو قلنا: بأن استفادة الحصر تكون لأجل الوضع، فيقع التعارض بين أصالتي الحقيقة في
الجملتين، ومع عدم الترجيح - كما هو المفروض - تصيران مجملتين؛ لعدم ترجيح بين
المجازات. وكون العلة التامة أقرب إلى المنحصرة واقعا، لا يكون مرجحا في تعيينه؛ لأن
المعين له هو الانس الذهني، بحيث يرجع إلى الظهور العرفي.
وإن قلنا: بأن استفادته لأجل الانصراف، فحينئذ إن قلنا: بأن الأداة موضوعة للعلة
التامة ومنصرفة إلى المنحصرة، فمع تعارض الانصرافين، تكون أصالة الحقيقة في كل
منهما محكمة بلا تعارض بينهما. وكذا لو قلنا: بوضعها لمطلق اللزوم، أو الترتب، أو
غيرهما.
وإن قلنا: بأن استفادته مقتضى الإطلاق، فحينئذ إن قلنا: بأن الأداة موضوعة للعلة
التامة، فمع تعارض أصالتي الإطلاق، يؤخذ بأصالة الحقيقة بلا تعارض بينهما.
وإن قلنا: بأن العلية التامة - أيضا - مستفادة من الإطلاق، فمقتضى إطلاق قوله: " إذا
خفي الأذان فقصر " هو عدم الشريك وعدم العديل، فإذا ورد: " إذا خفي الجدران فقصر "
فكما يحتمل أن يكون خفاء الجدران قيدا لخفاء الأذان، يحتمل أن يكون عدلا له، فيقع
التعارض بين أصالتي الإطلاق؛ أي من جهة نفي الشريك، ومن جهة نفي العديل، ومع
عدم المرجح يرجع إلى الاصول العملية.
لكن لأحد أن يقول: إن العلم الإجمالي بورود قيد - إما على الإطلاق من جهة نفي
الشريك، وإما عليه من جهة نفي البديل - منحل بالعلم التفصيلي بعدم انحصار العلة، إما
لأجل تقييد الإطلاق من جهة البديل، وإما من جهة تقييده لأجل الشريك الرافع لموضوع
الإطلاق من جهة البديل، فيشك في تقييد الإطلاق من جهة الشريك بدوا، فيتمسك
بأصالة الإطلاق.
اللهم إلا أن يقال: إن العلم الإجمالي بورود قيد - إما على الإطلاق من جهة الشريك، أو
من جهة العديل - مولد للعلم التفصيلي بعنوان الآخر، وهو عدم انحصار العلة، وفي مثله
لا يعقل الانحلال؛ لأن العلم التفصيلي معلول للعلم الإجمالي الفعلي، فكيف يمكن أن يكون
رافعا له؟!
وإن شئت قلت: إن الانحلال - أينما كان - يتقوم بالعلم التفصيلي بأحد الأطراف والشك في
الآخر، كما في الأقل والأكثر، وفيما نحن فيه لا يكون كذلك؛ لأن العلم الإجمالي
محفوظ، ومنه يتولد علم تفصيلي آخر، وفي مثله يكون الانحلال محالا، فيجب الرجوع
إلى قواعد اخر. (مناهج الوصول 2: 189 - 192).
287

التعارض والجمع بينهما احتمالات:
أحدها: رفع اليد عن كل من المفهومين.
الثاني: تقييد كل من المفهومين بمنطوق الآخر.
الثالث: جعل الشرط هو القدر المشترك بينهما.
الرابع: تقييد كل من المنطوقين بالآخر.
فعلى الاحتمالات الثلاثة الاول تكون النتيجة هي تحقق القصر بتحقق
كل منهما، والانتفاء بانتفائهما جميعا.
نعم، بناء على أول الاحتمالات منها، لو دل دليل على اعتبار أمر آخر
لا يكون معارضا لهما؛ لعدم المفهوم لهما.
وأما على الاحتمال الرابع فلا يتحقق القصر إلا بتحققهما، ويكون الانتفاء
بانتفاء واحد منهما.
ثم إن الاحتمال الأول - في المثال المذكور - أبعد الاحتمالات؛ لأن حكم
289

الإتمام والقصر في الحضر والسفر كان معروفا بين المسلمين، فليست الشرطيتان
لإفادة أصل حكم القصر، بل لإفادة تحديد حد السفر، ومعلوم أن ما قبل الحد
يكون باقيا على الحكم الأول - وهو التمام - فتدل القضيتان على انتفاء حكم
القصر عند فقدان الحد فيكون لهما مفهوم.
ويتلوه في الضعف الاحتمال الثاني؛ لأن المفهوم لازم المنطوق وتابع له،
وليس له استقلال بالإنشاء؛ حتى يرد عليه التخصيص، وتختلف الإرادة
الاستعمالية مع الجدية - كما في باب التخصيص - فإذا كان الشرط علة
منحصرة للجزاء، ويفهم منها المفهوم، فلا معنى لتقييده وتخصيصه.
وأما الاحتمالان الآخران، فلا يبعد أظهرية أولهما؛ أي كون الشرط هو أمرا
آخر يكون كل منهما أمارة عليه؛ بأن يقال: إن الميزان في القصر مقدار من البعد؛
بحيث إذا أراد المسافر تشخيصه بحس بصره خفيت الجدران عنه، وإذا أراد
تشخيصه بحس سمعه خفي أعلى صوت البلد عنه؛ أي أذان المؤذنين.
الأمر الثالث: تعدد الشرط واتحاد الجزاء [تداخل الأسباب والمسببات]
إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء، فهل يتعدد الجزاء؛ أي يجب الإتيان به
متعددا حسب تعدد الشرط (1)، أو يتداخل، ويكتفي بإتيانه دفعة واحدة (2)؟
ولا يخفى: أنه ليست هذه المسألة من المسائل التي تكون الشهرة فيها
حجة؛ حتى نبحث عن تحققها وعدمه؛ للعلم بعدم كاشفيتها عن النص، فليس
في البين إلا ظهور القضية.
ثم إن الكلام يقع في مقامين:

1 - اختاره المشهور كما في مطارح الأنظار: 175 / السطر 21.
2 - مشارق الشموس: 61 / السطر 31، عوائد الأيام: 297.
290

أحدهما: في اقتضاء كل من الشرطيتين وجوبا مستقلا وعدمه، وهو معنى
تداخل الأسباب وعدمه.
ثانيهما: بعد فرض عدم التداخل، هل يجوز امتثال التكليفين في مصداق
واحد؟ وهذا معنى تداخل المسببات.
ثم إنه لا ربط بين هذه المسألة والمسألة السابقة بوجه؛ فإن الكلام
هناك بعد تسليم المفهوم، وهاهنا غير مربوط به، بل لو فرضنا عدم المفهوم يقع
البحث في أن القضية الشرطية - الظاهرة في الحدوث عند الحدوث - إذا تعددت
مع وحدة الجزاء، هل تكون ظاهرة في لزوم الإتيان به متعددا، أو تتداخل
الأسباب؟ فلا جهة اشتراك بين المسألتين.
هذا، مضافا إلى أن خفاء الأذان والجدران مما لا سببية لهما لوجوب
القصر، بل لتحديد البعد الموجب لذلك، فلا يكون خفاء الأذان سببا للقصر، وخفاء
الجدران سببا آخر له، بخلاف المسألة السابقة؛ فإن كل شرط سبب مستقل،
له سببيته، فما وقع من بعض الأعاظم من ابتناء المسألة على المسألة
السابقة (1) مما لا وجه له.
ثم اعلم: أن العلامة الأنصاري أقام البرهان على عدم التداخل: بأن ظاهر
القضية هو استقلال علية كل من الشروط للجزاء، وحفظ هذا الظهور يقتضي
الحكم بتعدد الجزاء عند تعدد الشرط.
نعم، إطلاق الجزاء يقتضي أيضا أن تتداخل الشروط، لكن ظهور الإطلاق
لا يتعارض مع ظهور الشرطية في الاستقلال؛ لأنه معلق على عدم البيان،
وظهور الشرطية بيان له (2).

1 - كفاية الاصول: 239 قوله (قدس سره): فلا إشكال على الوجه الثالث.
2 - انظر مطارح الأنظار: 179 / السطر 15.
291

وقريب منه ما أفاد المحقق الخراساني، لكنه عدل عن ظهورها في
الاستقلال إلى ظهورها في الحدوث عند الحدوث (1).
والفرق بينهما: أن تقرير المحقق الخراساني لا يتم فيما إذا تقارنت
الشروط؛ لأنه معه ليس التداخل مخالفا للظهور المدعى، فإذا حدث وجوب
الوضوء عند تقارن النوم والبول، يكون ظهور الشرطيتين في الحدوث عند
الحدوث محفوظا مع التداخل.
نعم، مع تقدم إحداهما لابد وأن لا تتداخل؛ حفظا لظهور الشرطيتين في
الحدوث.
وأما على تقرير الشيخ يكون التداخل - مطلقا - مخالفا للقاعدة؛ أي ظهور
الشرطية في الاستقلال.
فتحصل مما أفاداه: أنه لابد من تقييد إطلاق الجزاء؛ حفظا لظهور
الشرطية في الاستقلال أو الحدوث.
أقول: لا إشكال في إمكان تعلق الأمر بفردين من الطبيعة، مثل " أكرم زيدا
إكرامين "؛ سواء تعلق بمجموع الفردين، أو بكل منهما استقلالا؛ بحيث ينحل إلى
أمرين، ولا إشكال في أن كل فرد يكون في الغرض متعلقا لأمر؛ من غير امتياز
بينهما بحسب الواقع، فإذا أوجد المكلف إكراما بقصد إطاعة المولى يعد مطيعا
له؛ من غير أن تكون إطاعة لواحد معين من الأمرين؛ لعدم الامتياز الواقعي،
وهذا مما لا إشكال فيه.
كما أنه لا إشكال في جواز سببية الأمرين لوجوبين متعلقين على فردين
من الطبيعة في عرض واحد، مثل " إذا بلت ونمت توضأ وضوءين ".
إنما الإشكال في إمكان تعلق الوجوب بفردين من الطبيعة تعاقبا، مثل " إذا

1 - كفاية الاصول: 240 - 242.
292

بلت فتوضأ "، و " إذا نمت فتوضأ " فإن تعلق الوجوب في الشرطية الاولى
بطبيعة، وفي الثانية بالطبيعة الاخرى، أو في الاولى بفرد منها، وفي الثانية بفرد
آخر، مما لا يعقل؛ فإن النوم قد يكون مقدما، وقد يكون مؤخرا، وكذا البول،
وليست القضيتان ناظرتين إلى حال الاجتماع.
وحينئذ: لا يمكن تقييد أحد الجزاءين بكونه فردا آخر غير الجزاء الآخر،
أو طبيعة اخرى غير مقتضى الشرطية الاخرى، ومعه أيضا لا يكون قيد صالح
لتقييد الطبيعة، ومع عدم إمكان التقييد يكون التداخل مما لا محيص عنه،
وفقدان القيد الصالح لتقييد متعلق الأمر يظهر بمراجعة الواجدان (91).
وأما إرجاع سببية الشرط إلى نفس الطبيعة - بأن يقال: إن النوم سبب
لطبيعة الوضوء، والبول كذلك، وهي قابلة للتكرار - فمما لا مجال له؛ ضرورة
ظهور الشرطية في سببية النوم والبول للوجوب المتعلق بالطبيعة، لا لنفسها،
كما لا يخفى.
وما عن العلامة من أنه لا يخلو: إما أن يؤثر كل واحد من الشرطيات في
الجزاء مستقلا، أو يؤثر المجموع في واحد، أو يؤثر واحد معين لا غير، أو غير
معين، أو لا يؤثر واحد منها، والكل معلوم البطلان إلا الأول (2).

91 - وفيه: أنه إذا فرض ظهور القضيتين الشرطيتين في عدم التداخل واريد رفع اليد عنه
لأجل عدم معقولية تقييد الجزاء بما ذكر، فلنا تصوير قيد آخر ولو لم يكن في الكلام، مثل
التقييد بالوضوء من قبل النوم، ومن قبل البول، أو قيد آخر.
وبالجملة: لا يجوز رفع اليد عن الظاهر حتى يثبت امتناع كافة القيود، وهو بمكان من
المنع، فلا يجوز الالتزام بالتداخل لأجل هذه الشبهة.
ومما ذكرنا يظهر: أنه مع ظهور الدليل لا يلزم إثبات الإمكان، بل مع عدم ثبوت الامتناع
يؤخذ به. (مناهج الوصول 2: 196).
2 - انظر مختلف الشيعة 2: 423، ومنتهى المطلب 1: 90 / السطر 24، ومطارح الأنظار:
177 / السطر 17.
293

ففيه: أنه يمكن أن يقال: إن المؤثر أولها وجودا لا غير، كما يمكن اختيار
ثاني الاحتمالات.
واستدل بعض آخر على عدم التداخل بما يقرب من ذلك. وحاصله: أن
ظهور الشرط إنما يكون في العلية بالنسبة إلى الجزاء، فلو كان هو مع غيره أو
أحدهما - معينا أو غير معين - شرطا، كان خلاف ظاهر أخذ كل شرط مستقلا في
القضيتين، فلا مناص من الالتزام بعدم التداخل (1).
وفيه: أنه عبارة اخرى عما قربه المحقق الخراساني (2) مع تصرف مخل
بالاستدلال.
وقد يظهر من التقريرات إشكال على عدم التداخل، محصله: أن ظاهر إطلاق
الجزاء في كل من الشرطيات هو إيجاد صرف الطبيعة، وهو مما لا يتكثر كالفرد (3).
والجواب: أنه لو كان الإشكال ذلك لكان واضح البطلان؛ لأن الطبيعة
قابلة للتكرار مع عدم انسلاخها عن الوحدة النوعية - كما قيل: إن المفهوم إن لم
يمتنع صدقه على الكثيرين فهو كلي (4) - بل الإشكال في أن كلا من الشرطيات
علة للوجوب المتعلق بالطبيعة، وهو غير قابل للتكثر (92).

1 - مقا لات الاصول 1: 406 - 407.
2 - كفاية الاصول: 240 - 242.
3 - مطارح الأنظار: 179 / السطر 9.
4 - الحاشية على تهذيب المنطق: 38، وانظر شرح المطالع: 48 / السطر 5.
92 - لكن بعد اللتيا والتي لا شبهة في أن فهم العرف مساعد على عدم التداخل، وأن
الشرطيات المتعددة مقتضية للجزاء متعددا. وهل هذا من جهة ارتكاز مقايسة التشريع
بالتكوين وإن أبطلناها، لكن إذا كان هذا الارتكاز منشأ للظهور العرفي وتحكيم ظهور على
آخر، فلابد من اتباعه، أو من جهة ارتكاز تناسب الشرط مع متعلق الأمر في الجزاء؛
لحكم العرف بأن لوقوع الفأرة - مثلا - في البئر تناسبا مع نزح سبع دلاء، ولوقوع الوزغة
تناسبا معه، وأن الأمر إنما تعلق به لأجل التناسب بينهما، وإلا كان جزافا، فيرى بعد ذلك
أن لوقوع كل منهما اقتضاء خاصا بها، وارتباطا مستقلا لا يكون في الاخرى، وهو يوجب
تعدد وجوب نزح المقدر أو استحبابه، وهذا يوجب تحكيم ظهور الشرطية على إطلاق
الجزاء؟
ثم إنه على فرض استقلال كل شرط في التأثير لابد من إثبات كون أثر الثاني غير أثر
الأول. (مناهج الوصول 2: 204 - 205).
فالأولى في هذا المقام - أيضا - التشبث بذيل فهم العرف، تعدد الجزاء لأجل مناسبات
مغروسة في ذهنه كما تقدم؛ ولهذا لا ينقدح في ذهنه التعارض بين إطلاق الجزاء وظهور
الشرطية في التعدد، فتدبر جيدا.
ثم إنه بعد تسليم المقدمتين - أي ظهور الشرطية في استقلال التأثير، وكون الأثر الثاني
غير الأول - فهل يمكن تداخل المسببين ثبوتا، أو لا؟ وعلى الأول فما حال مقام الإثبات؟
أما مقام الثبوت: فالوضوء في قوله: " إذا نمت فتوضأ "، و " إذا بلت فتوضأ " ماهية واحدة،
ولأجل تسليم المقدمتين لابد من كونها مقيدة بقيدين، حتى يكون كل سبب علة مستقلة
للإيجاب على أحد العنوانين، لكن لا يجب أن يكون بين العنوانين التباين، حتى يمتنع
تصادقهما على الفرد الخارجي، فمع عدم قيام دليل على امتناعه لا يجوز رفع اليد عن
الدليل الدال على التداخل فرضا، فقوله: لا يعقل ورود دليل على التداخل، فرع إثبات
الامتناع، وهو مفقود.
بل لنا أن نقول: لازم ظهور الشرطيتين فيما ذكر، وورود الدليل على التداخل، كون
المقيدين قابلين للتصادق. هذا حال مقام الثبوت.
وأما في مقام الإثبات: فما لم يدل دليل على التداخل لا مجال للقول به، فلابد في مقام
العمل من الإتيان بفردين، حتى يتيقن بالبراءة؛ للعلم بالاشتغال بعد استقلال الشرطيتين في
التأثير، وكون أثر كل غير الآخر، كما هو المفروض. (مناهج الوصول 2: 208 - 210).
294

وقال أيضا: إن مقتضى القضيتين هو اشتغال الذمة بإيجاد الطبيعة مرتين (1).

1 - مطارح الأنظار: 180 / السطر 1.
295

وفيه: أن اشتغال الذمة ليس أمرا معقولا سوى وجوب إيجاد الطبيعة
فالإشكال على حاله.
الأمر الرابع: المفهوم فيما أفاد السلب الكلي
هل المفهوم في مثل قوله (عليه السلام): " إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء " (1)
- مما يفيد السلب الكلي - هو الإيجاب الكلي، فيستفاد منه تنجس الماء القليل
بكل شيء قذر، أو لا يفيد إلا الإيجاب الجزئي، فيستفاد منه التنجس ببعض
النجاسات على سبيل الإهمال؟
اختار أولهما الشيخ الأنصاري؛ بتقريب أن المنطوق لما كان منحلا إلى
قضايا حسب تكثر الموضوع؛ لكونه قضية حقيقية - وهو كذلك - فلابد وأن
يكون المفهوم على طبقه؛ لعدم الفرق بين المفهوم والمنطوق إلا في الإيجاب
والسلب لا غيرهما (2).
واختار ثانيهما المحقق صاحب " الحاشية "؛ لأن نقيض السالبة الكلية
هو الموجبة الجزئية (3).
وهو الحق؛ لأن الظاهر من القضية المتقدمة هو عاصمية الكر عن تأثير
أي شيء من النجاسات، ومقتضى المفهوم عدم هذه العاصمية الثابتة في
المنطوق، وهو مساوق عرفا للإيجاب الجزئي.

1 - انظر وسائل الشيعة 1: 117، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9،
الحديث 1 و 2 و 6.
2 - مطارح الأنظار: 174 / السطر 18.
3 - انظر هداية المسترشدين: 291 / السطر 108.
296

تنبيه: البحث حول باقي المفاهيم
اعلم أنه على ما بنينا عليه تبعا للقدماء - من أن المفهوم على القول به،
إنما هو لأجل القيد الزائد في الكلام، ولزوم اللغوية لولاه (93) - لا تفترق أقسام
المفاهيم في ذلك، ولا ينبغي لكل مفهوم بحث مستقل؛ لوحدة المناط فيها.
نعم، قد يقع الخلاف في شيء آخر في بعض المفاهيم:
كالخلاف في أن الغاية داخلة في المغيى مطلقا، أو لا مطلقا، أو التفصيل
بين غاية الموضوع والحكم (2).
وكالخلاف في أن الدلالة في الغاية والاستثناء من دلالة المنطوق أو
المفهوم (3).
قد يقال: إن أداة الغاية والاستثناء والحصر حيث يستفاد منها الانتهاء
- ومعنى الانتهاء هو انتفاء الحكم عما بعدها - تكون الدلالة منطوقية، وهو غير
بعيد.
وكالإشكال المشهور في كلمة التوحيد؛ من أن المقدر إن كان " الممكن "
فلا تدل على وجوده تعالى، وإن كان " الموجود " فلا تدل على نفي إمكان الشريك
له تعالى (4).

93 - لاحظ البحث حول باقي المفاهيم في مناهج الوصول. (مناهج الوصول 2: 215 - 226).
2 - الفصول الغروية: 153 / السطر 1، مطارح الأنظار: 185 / السطر 7، كفاية الاصول:
246.
3 - شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 321 - 323، مطارح الأنظار: 188 /
السطر 10.
4 - انظر الفصول الغروية: 154 / السطر 28، وكفاية الاصول: 248.
297

والجواب عنه: أن الأعراب في زمان الجاهلية إنما يعبدون غير الله تعالى
من صنوف الأصنام، ولا يعتقدون الوهيتها، وكان شركهم في العبادة لا غيرها،
وكلمة التوحيد إنما هي لنفي المعبود الآخر سوى الله، فمعنى كلمة التوحيد: أنه
لا إله معبود إلا الله، فالإقرار بها مقابل للاعتقاد الرائج، وموجب لتوحيد الله تعالى
الذي هو محل النزاع بينهم.
والحمد لله أولا وآخرا.
298

المقصد الرابع
العام والخاص
299

فصل
تعريف العام والخاص
قد عرف العام بتعاريف (1)، فاشكل عليها طردا وعكسا (2)، مع أن التعاريف
لفظية - لا حقيقية - كما قيل (3).
ومعنى الاطراد: أن المعرف - بالفتح - إذا جعل موضوعا، وحمل عليه
المعرف - بالكسر - يصدق عليه بنحو الإيجاب الكلي، فإذا صدق المعرف
- بالكسر - على كل ما يصدق عليه المعرف، يقال: إن التعريف مطرد وجامع؛ أما
الاطراد فلأجل صدقه الكذائي، وأما الجامعية فلكونه جامعا لجميع ما يصدق
عليه المعرف.
ومعنى الانعكاس: أن تنعكس هذه القضية كلية، فإذا صدق المعرف
- بالفتح - على المعرف صدقا كليا، يقال: إنه منعكس ومانع؛ أما انعكاسه

1 - زبدة الاصول: 108 - 109، المعتمد في اصول الفقه 1: 189، المستصفى من علم
الاصول 2: 32.
2 - انظر هداية المسترشدين: 339 - 341، والفصول الغروية: 158 - 160.
3 - انظر الفصول الغروية: 146 / السطر 27، وكفاية الاصول: 252.
301

فظاهر، وأما مانعيته فلكونه مانعا عن دخول غيره في التعريف.
وكيف كان، فقد عرف العام بأنه لفظ مستغرق لما يصلح أن ينطبق عليه (1).
وفيه أولا: أن العموم ليس من صفات اللفظ، بل هو من صفات المفهوم
والمعنى، إلا أن يراد اللفظ بما له من المعنى.
وثانيا: أن العام لا ينطبق على المصاديق؛ لأن " زيدا " مثلا ليس " كل عالم "
أو " العلماء ".
فالأولى أن يعرف: بأنه ما دل على شمول مفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق
عليه، فلفظة " الكل " و " الجميع " وأمثالهما دالة على استغراق ما يتلوها لجميع
ما يصلح أن ينطبق عليه، فالصيغ الدالة على العموم إنما هي آلات لاستغراق
المفهوم - كالعا لم والإنسان - لكل ما يصلح أن ينطبق عليه (94).

1 - المعتمد في اصول الفقه 1: 189، عدة الاصول 1: 273.
94 - ينبغي التنبيه لشيء يتضح من خلاله تعريف العام:
وهو أنه لا إشكال في أن الألفاظ الموضوعة للطبائع بلا شرط، كأسماء الأجناس
وغيرها، لا تكون حاكية إلا عن نفس الطبائع الموضوعة لها، فالإنسان لا يدل إلا على
الطبيعة بلا شرط، وخصوصيات المصاديق لا تكون محكية به، واتحاد الإنسان خارجا
مع الأفراد لا يقتضي حكايتها؛ لأن مقام الدلالة التابعة للوضع غير مقام الاتحاد خارجا.
وكذا نفس الطبيعة لا يمكن أن تكون مرآة وكاشفة عن الأفراد، سواء كان التشخص
بالوجود والعوارض أماراته، أو بالعوارض؛ ضرورة أن نفس الطبيعة تخالف الوجود
والتشخص وسائر عوارضها خارجا أو ذهنا، ولا يمكن كاشفية الشيء عما يخالفه،
فالماهية لا تكون مرآة للوجود الخارجي والعوارض الحافة به.
فحينئذ نقول: إن العموم والشمول إنما يستفاد من دوال اخر، مثل: الكل والجميع والجمع
المحلى مما وضعت للكثرات، أو تستفاد الكثرة منه بجهة اخرى، فإذا اضيفت هذه
المذكورات إلى الطبائع، تستفاد كثرتها بتعدد الدال والمدلول. فقوله: " كل إنسان حيوان "
يدل على أن كل مصداق من الإنسان حيوان، لكن " الإنسان " لا يدل إلا على نفس الطبيعة
من غير أن يكون لفظه حاكيا عن الأفراد، أو الطبيعة المحكية به مرآة لها، وكلمة " كل "
تدل على الكثرة، وإضافتها إلى الإنسان تدل على أن الكثرة كثرة الإنسان، وهي الأفراد
بالحمل الشائع.
فما اشتهر في الألسن: من أن الطبيعة في العام تكون حاكية عن الأفراد، ليس على ما
ينبغي؛ لأن العموم مستفاد من كلمة " كل " و " جميع " وغيرهما، فهي ألفاظ العموم،
وبإضافتها إلى مدخولاتها يستفاد عموم أفرادها بالكيفية التي ذكرناها.
وعلى هذا يصح أن يعرف العام: بما دل على تمام مصاديق مدخوله مما يصح أن ينطبق
عليه.
وأما تعريفه: بأنه ما دل على شمول مفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه، فلا يخلو من
مسامحة؛ ضرورة أن الكل لا يدل على شمول الإنسان لجميع أفراده، والأمر سهل. (مناهج
الوصول 2: 229 - 231).
302

ثم إن هذا التعريف إنما هو للعام الاستغراقي، وأما العام المجموعي فليس
له صيغة تخصه، وإنما مثل القدماء له بمثل " الدار " التي هي مركبة من عدة
أجزاء مختلفة الحقيقة (1)، وإذا اعتبر في مصاديق مفهوم واحد وحدة واجتماعا،
يصير أيضا من العام المجموعي، ولكنه مجرد فرض، وليس له صيغة خاصة،
وسيأتي أن الأحكام الجارية في العام الاستغراقي جارية في المجموعي (2)، مثل
الدار وسائر المركبات التي نحوها.
ولا يخفى: أن الألفاظ المتداولة الدالة على العموم إنما تدل على
الاستغراقي، مثل الجمع المحلى باللام والكل والمفرد المضاف.
أما دلالتها على العموم: فلأنها متساوية النسبة إلى جميع المصاديق،

1 - انظر المعتمد في اصول الفقه 1: 189، وشرح العضدي على مختصر ابن الحاجب:
213 - 214.
2 - يأتي في الصفحة 313.
303

فلا يعقل اختصاصها ببعض دون بعض.
وأما اختصاصها بالاستغراقي - أي العام الاصولي -: فلأنها آلة لحاظ
الكثرات والمصاديق، ومعلوم أن المصاديق إنما هي الأفراد بنعت الكثرة لا
الاجتماع، فزيد وعمرو فردان من " العالم "، ومجموعهما ليس فردا له، فجميع
أفراد العلماء مصاديق كثيرة له، وليس مجموعهم مما ينطبق عليه العلماء، فهذه
الصيغ تختص بالعام الاستغراقي، لا البدلي والمجموعي (95).
ثم إن المحقق الخراساني (رحمه الله) ذهب إلى أن ما ذكر للعام من الأقسام (2)، إنما
هو لاختلاف كيفية تعلق الحكم به، ومع قطع النظر عنها فليس للأقسام
اعتبار (3).
وأنت خبير بما فيه؛ ضرورة أن هذه الاعتبارات إنما هي قبل تعلق الحكم،

95 - ينقسم العموم إلى الاستغراقي والمجموعي والبدلي؛ لأن اللفظ الدال على العموم إن دل
على مصاديق الطبيعة عرضا بلا اعتبار الاجتماع بينها مثل: " كل "، و " جميع "، و " تمام "
وأشباهها، يكون العام استغراقيا، ف‍ " كل عالم " دال بالدوال الثلاثة على أفراد طبيعة
العالم، من غير اعتبار اجتماعها وصيرورتها موضوعا واحدا، مع كون شموله لها عرضيا.
فإذا اعتبرت الوحدة والاجتماع في الأفراد؛ بحيث عرضتها الوحدة الاعتبارية، وصارت
الأفراد بمنزلة الأجزاء، كان العام مجموعيا، ولا يبعد أن يكون لفظ المجموع مفيدا له
عرفا، ولذا اختص هذا اللفظ ارتكازا به، فلفظ " مجموع العلماء " يشمل الأفراد مع
صيرورتها واحدة اعتبارا.
وإذا دل اللفظ على الأفراد لا في عرض واحد يكون بدليا، مثل " أي " الاستفهامية، كقوله:
(فأي آيات الله تنكرون) وقوله: (أيكم يأتيني بعرشها). وقد يكون البدلي في غير
الاستفهامية، مثل: " زك ما لك من أي مصداق شئت " و " اذهب من أي طريق أردت " فإنها
تدل بالدلالة الوضعية على العموم البدلي. (مناهج الوصول 2: 234 - 235).
2 - هداية المسترشدين: 341 / السطر 17، الفصول الغروية: 160 / السطر 7.
3 - كفاية الاصول: 253.
304

فالكل يدل على الاستغراق، تعلق به حكم أو لا.
وبالجملة: إن اللاحظ - مع قطع النظر عن الحكم - قد يلاحظ الأفراد
مستقلا من مرآة المفهوم كما هي في الخارج، وقد يلاحظها بنعت الاجتماع
والوحدة؛ حتى تكون الأفراد أجزاء معنى واحد، وقد يلاحظ واحد منها بنعت
البدلية، وتعلق الحكم إنما هو متأخر عن لحاظ الموضوع، ولا يعقل أن يكون
دخيلا في اعتباره.
ثم إن المتراءى من ذكر العام والخاص أنهما متقابلان، ويكون للعام صيغة،
وللخاص صيغة اخرى مقابلة له، لكن الواقع ليس كذلك؛ فإن القدماء قد عرفوا
الخاص: بأنه ما قصر شموله (1)، والظاهر منه أن صيغة العام منقسمة إلى
قسمين:
أحدهما: ما يكون مستغرقا لما يصلح أن ينطبق عليه.
وثانيهما: ما قصر شموله عنه.
وبعبارة اخرى: أن العموم إن بقي على عمومه فهو عام، وإن قصر شموله
عن جميع الأفراد فهو خاص. وهذا تقسيم للعام إلى قسمين، ولا يكون للخاص في
مقابل العام صيغة تخصه.
وبما ذكرنا ظهر: أن للعام صيغة تخصه دون الخاص.
وما يقال في أولوية كون الصيغ حقيقة في الخاص: تارة: لأجل أن
الخاص متيقن في المرادية: إما بنفسه، وإما في ضمن العام (2).

1 - انظر المعتمد في اصول الفقه 1: 234، وشرح العضدي على مختصر ابن الحاجب:
247 - 248.
2 - انظر شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 217، وقوانين الاصول 1: 193 /
السطر 22، والفصول الغروية: 161 / السطر الأخير.
305

واخرى: لأجل كون الخاص أكثر من العام، حتى قيل: " مامن عام إلا وقد
خص "، فكونها حقيقة في الخاص تقليل للمجاز (1).
ففيه: إن اريد بالأولوية هي الأولوية بحسب الوضع، فقد ذكرنا سابقا:
أن سبب الوضع هو الاحتياج، فكما يحتاج الناس إلى إفادة الخاص، يحتاجون
إلى إفادة العام بأنحائه.
وإن كان المراد بعد الوضع والاستعمال، ففيه: - مضافا إلى عدم كفاية هذه
الاستدلالات لإثبات الحقيقة - يرد على الأول: أن تعين الخاص - على أي حال -
مما لا معنى له:
أما أولا: فلأنه يتفرع على الشك.
وأما ثانيا: فلأن المراد بالخاص ليس هو مفهومه؛ لأنه واضح الفساد، بل
المراد هو ما دون العام من الأفراد الباقية، وللبقية مراتب، وتعين اللفظ - من بين
تلك المراتب - لمرتبة دون اخرى بلا معين.
وعلى الثاني: أن التخصيص لا يوجب المجازية حتى يوضع اللفظ بإزاء
الخاص تقليلا للمجاز.

1 - انظر شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 217 - 218، وقوانين الاصول 1: 196 /
السطر 15، والفصول الغروية: 162 / السطر 2.
306

فصل
النكرة واسم الجنس في سياق النفي
ولا يخفى: أن النكرة وكذا اسم الجنس في سياق النفي تفيدان العموم (96)؛
سواء كان السلب بسيطا مثل " لا رجل "، أو مركبا مثل " لا رجل في الدار "؛ وذلك
لأن النفي المتعلق بالطبيعة لا يصدق إلا مع عدم جميع أفرادها، ومع تحقق فرد
منها لا يجوز نسبة النفي إلى الطبيعة، ولا يحتاج إلى أخذها مرسلة، كما قال

96 - عد النكرة واسم الجنس في سياق النفي أو النهي من ألفاظ العموم وضعا، مما لا مجال
له، فإن اسم الجنس موضوع لنفس الطبيعة بلا شرط، وتنوين التنكير لتقييدها بقيد
الوحدة الغير المعينة، لكن بالمعنى الحرفي لا الاسمي، وألفاظ النفي والنهي وضعت لنفي
مدخولها، أو الزجر عنه، فلا دلالة فيها على نفي الأفراد، ولا وضع على حدة للمركب،
فحينئذ تكون حالها حال سائر المطلقات في احتياجها إلى مقدمات الحكمة، فلا فرق بين:
" أعتق رقبة " و " لا تعتق رقبة " في أن الماهية متعلقة للحكم، وفي عدم الدلالة على
الأفراد، وفي الاحتياج إلى المقدمات.
نعم، بعد تماميتها قد تكون نتيجتها في النفي والإثبات مختلفة عرفا؛ لما تقدم من حكمه
بأن المهملة توجد بوجود فرد ما، وتنعدم بعدم جميع الأفراد، وإن كان حكم العقل
البرهاني على خلافه. (مناهج الوصول 2: 237 و 238).
307

المحقق الخراساني (1)، كما سيأتي توضيحه في المطلق والمقيد (2).
ثم لا يخفى: أن لفظة " لا " في السلب البسيط لا تحتاج إلى الخبر، كما
عليه سيبويه (3) - على ما ببالي - ففي قوله: " لا رجل " لا يقدر " موجود " خبرا
لها؛ لأن نفي الطبيعة بسيطا يفيد المقصود من غير تقدير.
ولا دليل على كون " لا " في ذلك التركيب معنى حرفيا؛ حتى يقال: إنها
تحتاج إلى المرتبطين؛ لعدم تعقل تركيب كلام من الحرف والاسم؛ لأن " لا " في
هذا التركيب مساوق لقولنا: " نيست " في الفارسية، فإذا قيل: " زيد نيست "،
" انسان نيست " لا نحتاج إلى التقدير، كما لا يخفى، فلعل " لا " تكون اسما في هذا
التركيب.

1 - كفاية الاصول: 254.
2 - يأتي في الصفحة 385.
3 - لم نعثر عليه في كتابه " الكتاب "، ولعل منه قوله (عليه السلام): (يا أشباه الرجال ولا رجال).
نهج البلاغة، صبحي الصالح: 70، الخطبة 27.
308

فصل
في حجية العام المخصص
لا شبهة في أن العام المخصص حجة في الباقي، كان الخاص متصلا أو
منفصلا.
وربما يفصل بين المتصل والمنفصل؛ بأنه حجة في الأول دون الثاني (1).
احتج النافي: بأن استعمال العام في الخاص مجاز، والمخصص - متصلا أو
منفصلا - قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي، وحيث تكون مراتب المجازات
كثيرة، وفي كل مرتبة عددها كثير، بل يمكن أن يكون العام مستعملا في معنى
مجازي آخر غيرها، وليست قرينة معينة في البين يصير العام مجملا، وتعين أحد
المجازات من بينها بلا معين ترجيح بلا مرجح.
ودعوى: تعين البقية بعد التخصيص؛ لكونه أقرب المجازات.
مدفوعة: لأن الأقربية إنما هي بحسب انس الذهن، وليست البقية كذلك (2).
وأجاب عنه المحقق الخراساني (رحمه الله) بما حاصله: أنه لا يلزم من
التخصيص كون العام مجازا:

1 - انظر شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 221، ومطارح الأنظار: 192 / السطر 7.
2 - انظر قوانين الاصول 1: 266 / السطر 3، ومطارح الأنظار: 192 / السطر 13.
309

أما في المتصل: فلأن أداة العموم مستعملة في معناها، وهو شمول
مدخولها وإن كانت دائرته مختلفة سعة وضيقا، فلفظة " كل " في مثل " كل
رجل " و " كل رجل عالم " قد استعملت في العموم وإن اختلفت دائرة مدخولها (1).
وهذا وإن كان بظاهره منقوضا بالاستثناء، لكن حال الاستثناء حال
المخصص المنفصل؛ لورود الاستثناء على المستثنى منه بعد استعماله في
العموم، فالاستثناء إخراج من العموم (97)، فيأتي فيه الجواب الآتي في المنفصل.
ثم قال في المنفصل: إن إرادة الخصوص واقعا لا تستلزم استعماله فيه
وكون الخاص قرينة عليه، بل الممكن قطعا استعماله معه في العموم قاعدة (3).
ومحصله: الفرق بين الإرادة الاستعمالية والجدية؛ وأن العام مستعمل
في العموم بحسب الإرادة الاستعمالية ضربا للقاعدة، ويكون الخاص مانعا عن
حجية ظهوره؛ تحكيما للنص أو الأظهر على الظاهر، لا مصادما لأصل ظهوره
حتى يصير مجملا.
ويتراءى ورود إشكال عليه: وهو أن ما ذكر كر على ما فر منه؛ فإن ما
يكون حجة عند العقلاء - بين العبد والمولى - هو ما يراد من اللفظ جدا لا
استعمالا، والخاص قرينة على عدم تعلق الإرادة الجدية بالعموم، ولا معين
لتعلقها بأية مرتبة من مراتب الخصوص، فالعام الحجة مجمل (4).

1 - كفاية الاصول: 255 - 256.
97 - إن كل لفظ في المخصص المتصل مستعمل في معناه، وإن إفادة المحدودية إنما هي لأجل
القيود، والإخراج بالاستثناء، فلفظ " كل " موضوع لاستغراق مدخوله، فإذا كان مدخوله
" العلماء إلا الفساق " يستغرقه من غير أن يكون الاستثناء مانعا عن ظهوره؛ لعدم ظهوره
إلا في استغراق المدخول؛ أي شيء كان. (مناهج الوصول 2: 242 - 243).
3 - كفاية الاصول: 256.
4 - انظر نهاية النهاية 1: 279.
310

وفيه: أن أصالة تطابق الإرادتين محكمة عند العقلاء حتى يعرف خلافها.
والتحقيق في بيان مرامه في الإرادة الجدية والاستعمالية، يتوقف على
تحقيق باب الحقائق والمجازات، وإن مر سابقا (1).
فنقول: إن استعمال اللفظ في المعنى عبارة عن طلب عمل اللفظ فيه؛ أي
جعل اللفظ بإزائه، وإحضاره في ذهن المخاطب بواسطته، فحينئذ قد يستعمل
اللفظ في المعنى، ويريد المتكلم أن يثبت المعنى في ذهن المخاطب، ويكون
غرضه إفهام المعنى الموضوع له وإثبات حكم له، فيقال له: الحقيقة، من
" حق الشيء "؛ أي ثبت (2)، والحقيقة هي الثابت، وهي صفة المعنى حقيقة،
واللفظ يتبعه. وقد يستعمل فيه، ويريد المتكلم أن لا يثبت المعنى الموضوع له
في ذهنه، بل ينتقل منه إلى معنى آخر، فيكون اللفظ مستعملا في المعنى
الموضوع له، والمعنى الموضوع له مستعملا في المعنى الآخر.
ومعنى استعمال المعنى الموضوع له في غيره؛ هو طلب عمله فيه - أي
إحضاره في الذهن بواسطته، بادعاء اتحاده معه - كأن يقال: " جاء حاتم " إذا جاء
شخص سخي، فاستعمل لفظ " حاتم " في الشخص المعروف من بني طي، واريد
الانتقال منه إلى الجائي؛ بدعوى اتحاده معه، ويقال لهذا الاستعمال استعمالا
مجازيا، وللمعنى مجازا، من " جاز الشيء "؛ أي عبره (3)؛ لكون المعنى الموضوع
له محل عبور الذهن وانتقاله إلى المعنى الغير الموضوع له، فاللفظ مطلقا
لا يستعمل إلا في الموضوع له.

1 - تقدم في الصفحة 55، إشارة إلى المعنى المجازي، والبحث عن الحقيقة والمجاز من
المباحث التي قد سقطت من النسخة.
2 - المصباح المنير: 143.
3 - انظر القاموس المحيط 2: 176، والمصباح المنير: 114.
311

والفرق بين الحقيقة والمجاز: أن الاستعمال في الأول لإحضار المعنى في
الذهن وإثباته فيه، وفي الثاني لإحضاره فيه؛ لكونه عبرة إلى الآخر؛ بدعوى
اتحاده معه، ولولا ذلك لما كان مصحح للاستعمال؛ فإن مصححه هو الوضع،
ولما استحسنت الاستعمالات المجازية.
ألا ترى: أنه إذا جاء شخص موصوف بكمال البخل والضنة، فقيل:
" جاء حاتم " يكون استعمالا [هزيلا] ومضحكا للحضار، ولولا استعمال اللفظ في
معناه الحقيقي، واستعمال المعنى في المعنى بدعوى الاتحاد والعينية، لما صار
[هزيلا] ومضحكا.
والشاهد عليه: أيضا - بعد شهادة الوجدان السليم - أنه قد يكون عدة
ألفاظ لها معان خاصة، لايراد من واحد منها المعنى المجازي، بل من مجموعها،
ولا يمكن أن يقال: إن المجموع مستعمل فيه، مثل قوله تعالى: (ولما سقط في
أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا...) (1) حكاية عن قوم موسى وندامتهم على عبادة
العجل، فعبر تعالى عن وحشتهم وندامتهم بقوله: (سقط في أيديهم)، مدعيا
اتحادهم مع من سقط في يده شيء فجأة، فأخذته الوحشة، ومعلوم أن كل واحد
من ألفاظ الجملة لم يستعمل إلا في معناه، واريد إحضار معنى الجملة في
الذهن؛ عبرة إلى المعنى المجازي المقصود.
وبالجملة: لا إشكال في أن حال المجازات والحقائق ما ذكرنا: من أن
استعمال الألفاظ إنما هو في المعاني الموضوعة لها في الجميع، فيصح أن يقال:
إن المعاني الحقيقية تكون مرادة استعمالا وجدا في الاستعمالات الحقيقية،
وتكون مرادة استعمالا - لا جدا‍ - في الاستعمالات المجازية، والمعاني المجازية
تكون مرادة جدا - لا استعمالا - أي لا تكون الألفاظ مستعملة فيها ابتداء

1 - الأعراف (7): 149.
312

ومستقيما، بل هي مستعملة في المعاني الحقيقية، والمعاني مستعملة في
المعاني المجازية.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن العام قد يكون مستعملا في العموم، ويجعل
المتكلم المعنى العام عبرة للخاص؛ بدعوى اتحادهما، مثل قول بعضهم في مدح
بعض الامراء: " إن جميع العالم بلد الأمير، وجميع الناس هو الأمير "، وحينئذ
يكون حاله حال سائر المجازات.
وقد يستعمل العام في معناه الموضوع له، لكن لا يريد بقاء تمام أفراده في
ذهن السامع وتعلق الحكم بجميعها، بل يريد إحضار العام وإخراج ما لا يريد أن
يتعلق به الحكم؛ لعدم لفظ خاص للباقي، أو تعلق غرضه بإفهامه كذلك جريا
على العادة، فإذا قال: " أكرم العلماء "، وأراد جميعهم بالإرادة الاستعمالية، ولم
يكن العام مستعملا في الخاص - كما عرفت في المجازات - فقد يريد بقاء العام
على عمومه، وقد يريد إخراج بعض الأفراد منه، فيستعمل العام توطئة لإخراج
الخاص وبقاء الباقي.
وهذا الاستعمال لا يكون بمثابة الاستعمالات الحقيقية؛ لعدم تعلق
الغرض ببقاء تمام الموضوع له في ذهن السامع وثباته فيه كالحقائق،
ولا بمثابة الاستعمالات المجازية؛ لعدم ادعاء في البين، وعدم عبرة العام إلى
المعنى الغير الموضوع له، فهو أمر متوسط بينهما، فاريد الخاص بالإرادة
الاستعمالية في ضمن العام، واريد الباقي بالجدية والاستعمالية في ضمنه.
ولافرق في ذلك بين العام الاستغراقي والمجموعي؛ أي اللفظ الموضوع
للمركبات، كالدار والبستان والبيت، فإذا قيل: " بع داري إلا عشرها " يكون حاله
حال العام الاستغراقي المخصص، وقد عرفت (1): أن القدماء مثلوا للعام

1 - تقدم في الصفحة 303.
313

المجموعي بمثل المركبات (1)، وأما المجموعي - بمعنى جميع الأفراد التي يعتبر
فيها الوحدة والاجتماع - فليس له لفظ خاص موضوع (98).
ثم إن ما ذكرنا هو تفسير مرام المحقق الخراساني، وهو (رحمه الله) وإن ذهب في
المجازات إلى غير ما ذكرنا، وقال: إن الألفاظ فيها مستعملة في المعاني
المجازية، ومصحح الاستعمال هو موافقة الطبع (3)، لكن سلك في المقام ما هو
التحقيق الحقيق بالتصديق (4).
نعم، إنه قال: إن استعمال ألفاظ العام في العموم، إنما هو لضرب القاعدة
وللاحتجاج به في مقام الشك (5)، ونحن قلنا: إنه أمر عادي طبيعي متعارف (99).

1 - كالعشرة، انظر المعتمد في اصول الفقه 1: 189، وشرح العضدي على مختصر ابن
الحاجب: 213 - 214.
98 - قد مر في التعليقة 95، أن لفظ " المجموع " مفيد له عرفا.
3 - كفاية الاصول: 28.
4 - نفس المصدر: 256.
5 - نفس المصدر.
99 - إن قوله تعالى: (اوفوا بالعقود) استعمل جميع ألفاظه فيما وضعت له، لكن البعث
المستفاد من الهيئة لم يكن في مورد التخصيص لداعي الانبعاث، بل إنشاؤه على نحو
الكلية مع عدم إرادة الانبعاث في مورد التخصيص، إنما هو لداع آخر، وهو إعطاء
القاعدة؛ ليتمسك بها العبد في الموارد المشكوكة، فالإرادة الاستعمالية التي هي في
مقابل الجدية قد تكون بالنسبة إلى الحكم بنحو الكلية إنشائيا، وقد تكون جديا لغرض
الانبعاث، وقوله سبحانه: (اوفوا بالعقود) إنشاء البعث إلى الوفاء بجميع العقود، وهو
حجة ما لم تدفعها حجة أقوى منها.
فإذا ورد مخصص يكشف عن عدم مطابقة الجد، للاستعمال في مورده، ولا ترفع اليد عن
العام في غير مورده؛ لظهور الكلام وعدم انثلامه بورود المخصص، وأصالة الجد التي
هي من الاصول العقلائية حجة في غير ما قامت الحجة على خلافها. (تهذيب الاصول
2: 11).
314

ثم إن ما فصلناه هو تحقيق المقام بحسب البرهان، وإلا فالأمر أسهل من
ذلك، فإنا قد ذكرنا مرارا: أن موضوع علم الاصول هو الحجة في الفقه، والعام
المخصص مما يحتج به في الفقه؛ لأن بناء العقلاء هو على التمسك بالعمومات
الصادرة من الموالي بعد التخصيص، من غير اعتناء بمثل هذه الشبهة - أي
صيرورة العام مجملا - فهذه وأمثالها شبهة في مقابل البديهة لدى العقلاء فتدبر.
315

فصل
في الخاص المجمل
لا إشكال في أن الخاص المجمل بحسب المفهوم - بأن كان دائرا بين الأقل
والأكثر - لا يسري إجماله إلى العام إذا كان منفصلا؛ لعدم حجيته إلا في القدر
المتيقن، فيكون العام حجة من غير معارض في مقدار إجمال الخاص (100).
كما لا إشكال في سراية إجماله إليه مطلقا إذا كان متصلا به؛ لعدم انعقاد
ظهوره من أول الأمر.
وأما المنفصل المردد بين المتباينين - سواء كانا متساويين بحسب الأفراد،
أو لا - فيسري إجماله حكما إلى العام، ولا يتبع ظهوره في واحد منهما
بالخصوص، لكنه حجة في أحدهما المردد، ونتيجتها عدم جريان الاصول
فيهما. فإذا علم تخصيص " أكرم العلماء " بواحد من زيد وعمرو، لا يجوز التمسك
به في واحد منهما لكنه حجة بالنسبة إلى واحد منهما، فلا تجري البراءة أو
استصحاب عدم التكليف فيهما.

100 - نعم، لو كان الخاص بلسان الحكومة على نحو التفسير والشرح، كما في بعض أنحاء
الحكومات، فسراية إجماله إليه وصيرورة العام معنونا غير بعيدة. والمسألة محل
إشكال. (مناهج الوصول 2: 246).
317

وأما إذا كان الخاص مجملا بحسب المصداق؛ بأن يكون مفهومه مبينا، لكن
شك بالشبهة الخارجية في كون فرد مصداقا له، بعد العلم بكونه فردا للعام.
فإن كان الخاص متصلا به، فلا إشكال في عدم جواز التمسك بالعام؛ لعدم
انعقاد ظهور له من رأس.
وإن كان منفصلا منه، ففيه خلاف بين المحققين (1).
واستدل المجوز:
بأن المصداق الخارجي لما كانت فرديته للعام معلومة، يكون العام حجة
فيه؛ لضم صغرى وجدانية إلى كبرى شرعية، فيقال: " هذا خمر، والخمر حرام "
فلابد من رفع اليد عن الحجة الفعلية بحجة أقوى، لكن الخاص لم يكن حجة
على الفرد؛ لعدم العلم بكونه مصداقا له، فلا يمكن تشكيل القياس بالنسبة
إليه.
لا يقال: إن العام بعد التخصيص يصير معنونا، فلا يمكن التمسك به.
لأنه يقال: هذا خلط بين التخصيص والتقييد؛ لأن الثاني يوجب ذلك، لا
الأول، فالخاص يخرج الأفراد من العام من غير تقييده بعنوانه، والأفراد الباقون
في المثال واجبو الإكرام بملاك كونهم علماء، لا بملاك كونهم علماء عدولا.
لا يقال: إن الفرد المشكوك فيه يكون مشكوك الاندراج تحت المراد
الجدي للعام، فلا يمكن التمسك به.
فإنه يقال: لما كان مندرجا تحته بالإرادة الاستعمالية نحكم بكونه

1 - نسب القول بالجواز إلى المشهور بين القدماء والشهيد وجماعة من الأخباريين. انظر
مطارح الأنظار: 192 / السطر 33، واختاره المحقق النهاوندي في تشريح الاصول:
261 / السطر 21.
318

مرادا جديا لأصالة تطابقهما (1).
هذا محصل الاستدلال في جواز التمسك.
وقد أجاب عنه المحقق الخراساني (رحمه الله) بما حاصله: أن الفرد المشتبه، وإن
كان فردا للعام بلا كلام، إلا أنه لم يعلم كونه فردا له بما هو حجة؛ لاختصاص
حجيته بغير الفاسق، فإن الخاص وإن لا يزاحم ظهور العام، لكن يزاحمه بما هو
حجة، فتخصص حجيته بغير عنوانه، فحينئذ يكون الفرد المشتبه غير معلوم
الاندراج تحت إحدى الحجتين (2).
وتوضيحه: أن هاهنا مقامين:
أحدهما: مقام حجية العام بالنسبة إلى الحكم الكلي.
ثانيهما: مقام حجيته بالنسبة إلى الأفراد الخارجية.
لا إشكال في أن حجيته بالنسبة إلى الحكم الكلي، لا تتوقف على
معلومية الفرد، فقوله: " أكرم العلماء " حجة بالنسبة إلى وجوب إكرام كل عالم
واقعي؛ علم مصداقه أو لم يعلم، ولهذا تجري الاصول في إحراز موضوعه
ونفيه، فيستصحب بقاء عالمية زيد مثلا أو نفيها، ولولا حجيته بالنسبة إلى
الواقع مطلقا، لكان جريان الأصل بلا محل، فالعام حجة على الأفراد الواقعية،
وليس العبد معذورا في ترك الفحص، ولا حجة له في ترك إكرام المصداق
الواقعي، بعد قيام الحجة على وجوب إكرام كل رجل عالم واقعي.
وبالجملة: إن العام ظاهر في وجوب إكرام كل فرد واقعي، والأصل
العقلائي يقتضي مطابقة الإرادة الاستعمالية للجدية، فيكون حجة على
وجوب إكرام الأفراد الواقعية، فإذا ورد خاص - كقوله: " لا تكرم الفساق من

1 - انظر تشريح الاصول: 261 - 263.
2 - كفاية الاصول: 259.
319

العلماء " - يكون هو أيضا حجة على الحكم الكلي؛ من غير توقف على معلولية
الأفراد - كما عرفت في بيان حجية العام - فيدل الخاص على أن إكرام العالم
الفاسق ليس بواجب، وتكون الإرادة الاستعمالية في العام بالنسبة إلى الفساق
الواقعيين من العلماء مخالفة للإرادة الجدية، فالأفراد من العلماء العدول
داخلة في العام بحسب الحجية والإرادة الجدية، والفساق الواقعيون خارجون
عنه بحسب الإرادة الجدية، فالفرد المشتبه كما لا يكون الخاص حجة
بالنسبة إليه؛ لإمكان كونه عادلا، لا يكون العام حجة عليه؛ لإمكان كونه
فاسقا واقعا، والفاسق الواقعي خارج من العام جدا.
لا يقال: بعد اللتيا والتي يكون الفرد المشتبه - بعد كونه فردا للعام بحسب
الإرادة الاستعمالية - مشكوكا فيه من حيث مطابقة الجد والاستعمال، والأصل
العقلائي يقتضي المطابقة، فيكون العام حجة عليه، ولا ترفع اليد عنه بغير
حجة قاطعة.
فإنه يقال: إن كان المقصود من إجراء أصالة التطابق إحراز الحكم
الواقعي - أي كون الفرد المشتبه واجب الإكرام واقعا، ومصداقا للعالم العادل -
فهي لا تصلح لذلك؛ للعلم بخروج الفاسق الواقعي، والفرد مشكوك فيه فرضا، ولا
يحرز الأصل عدالته.
وإن كان المقصود من إجرائها؛ أن الحكم الظاهري عند الشك في الفسق هو
التعبد بوجوب الإكرام، فيكون العام كفيلا للحكم الواقعي والظاهري، فلا يمكن
ذلك؛ لكون الحكمين في رتبتين، والحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي.
إن قلت: العام بعمومه الأفرادي يشمل كل فرد، وبإطلاقه الأحوالي يعم
كل حال من حالات الموضوع، ومشكوكية الفرد ومعلوميته منها، والخاص
لا يكون حجة إلا بالنسبة إلى الفرد المعلوم، والمشكوك فيه باق تحت العام،
320

ويكون حكما ظاهريا.
قلت: - مضافا إلى ما أشرنا إليه من عدم إمكان تكفل العام للحكمين
المترتبين؛ للاحتياج إلى استئناف نظر من المنشئ للحكم - يرد عليه: أن معنى
الإطلاق ليس لحاظ القيود المتكثرة؛ والأحوال المتخالفة اللاحقة للموضوع؛
لامتناع كون العنوان الواحد آلة للحاظ الكثير، فلا يمكن أن يكون العالم مثلا
مرآة للكثرات إلا بما أنها عالم، لا بجهات وحالات اخرى من المشكوكية
والمعلولية والطول والقصر، بل المراد من الإطلاق هو عدم تقيد ما هو الموضوع
بأمر، ولا يكون موضوع الحكم في القضية إلا العنوان المأخوذ فيها.
وبعبارة اخرى: معناه هو كون العنوان المأخوذ في القضية تمام الموضوع
للحكم؛ من غير تقيده بقيد آخر، وهو معنى الإرسال أيضا - أي كونه مرسلا من
القيود - فالعا لم في قولنا: " أكرم العالم " تمام الموضوع للوجوب، من غير دخالة
شيء آخر فيه، ولازمه أنه كلما تحقق عنوان العالم يجب الإكرام؛ تحقق عنوان
آخر أو لا، ومع جميع المقارنات يكون الموضوع هو عنوان العالم، وتكون القيود
والمقارنات كالحجر جنب الإنسان.
فاتضح بذلك: أن العالم المشكوك في فسقه، لا يكون موضوع الحكم إلا
بما أنه عالم، فلا يعقل أن يكون الحكم المتعلق بالعنوان الواقعي - من غير أخذ
الشك فيه - حكما ظاهريا؛ لتقوم الحكم الظاهري بكون موضوعه عنوان
المشكوك فيه بما أنه كذلك.
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن العام تعلق حكمه بجميع الأفراد الواقعية
بما أنها أفراد العالم بالإرادة الاستعمالية، والأصل العقلائي يحكم بمطابقتها
للإرادة الجدية، والمخصص قد أخرج الأفراد الواقعية بعنوانه من تحت العام،
ودل على أن المتكلم بالعام تكون إرادته الجدية في مورد الخاص مخالفة
321

للاستعمالية، فيكون الحكم الواقعي - بعد التخصيص - وجوب إكرام العالم الغير
الفاسق، وعدم وجوب إكرام العالم الفاسق؛ فعند الشك في كون فرد من العالم
أنه فاسق، فإن اريد بالتمسك بالعام أو الأصل العقلائي وجوب إكرام الفرد
المشكوك فيه واقعا ولو كان فاسقا، فلا يمكن التزامه؛ لأن الفاسق الواقعي غير
واجب الإكرام واقعا.
وإن اريد إثبات حكم ظاهري لدى الشك، فلا يعقل تكفل العام لحكمين
واقعي وظاهري. فلو رجع كلام المحقق الخراساني إلى ما ذكرنا فهو، وإلا
فإتمامه مشكل.
وقد يستدل لعدم جواز التمسك بالعام: بأن بناء العقلاء في التمسك بالعام
في التخصيص، إنما يكون فيما إذا لزم من خروج الفرد التخصيص الزائد، كما لو
شك في خروج الفساق من قوله: " أكرم العلماء ". وأما إذا خرج عنوان، وشك في
كون فرد منه أو لا، فلا؛ لعدم لزوم التخصيص الزائد لو كان الفرد من عنوان
الخاص؛ لأن ما خرج هو عنوان الفاسق لا أفراده (1).
هذا كله حال المخصصات اللفظية.
وأما اللبيات منها: فيظهر من تقريرات العلامة الأنصاري (رحمه الله): أن جواز
التمسك وعدم جوازه، مبتنيان على معنونية المخصص بعنوان خاص، كعنوان
الفاسق وعدمه، مثل ما إذا أخرج ذوات الأفراد من غير عنوان، فلا يجوز على
الأول، دون الثاني (2).
ثم قال - في ذيل كلامه -: إن الغالب في المخصصات اللفظية هو الأول،

1 - انظر مطارح الأنظار: 194 / السطر 18، وتشريح الاصول: 261 / السطر 17، وقد نسب
هذا القول في نهاية الوصول: 332 إلى بعض مشايخه.
2 - مطارح الأنظار: 194 / السطر 26.
322

وفي اللبية هو الثاني، كما إذا قال المولى: " أكرم العلماء " وعلم المكلف بعدم
إرادته إكرام عدوه (1).
ويرد عليه: أنه لو لم يكن المخصص اللبي معنونا بعنوان - بل اخرج
ذوات الأفراد - خرجت الشبهة عن كونها مصداقية، فأن معنى الشبهة
المصداقية كون الفرد مشكوك الاندراج تحت عنوان الخاص، ومع عدم معنونية
الخاص يرجع الشك إلى الشك في التخصيص الزائد، وسيجئ توجيه لكلامه.
حاصله: أن المخصص ربما لا يكون معنونا بعنوان خاص، بل يكون مخرجا
لذوات الأفراد، لكن بحيثية تعليلية وعلة سارية (101)، كما سيأتي تفصيله.
وأما المحقق الخراساني (رحمه الله): ففصل في اللبيات بين ما يصح أن يتكل عليه
المتكلم - إذا كان بصدد البيان في مقام التخاطب - وغيره، فجوز في الثاني، دون
الأول؛ لعدم انعقاد الظهور فيه للعام إلا في الخصوص، وأما في الثاني فالظاهر
بقاء العام في الفرد المشتبه على حجيته (3).
وفيه: أنه قد علم مما سلف: أن المناط في الحجية هو الكبرى الكلية
الملقاة من الشارع؛ من غير فرق بين ما ألقاها باللفظ، وما التفت إليه العقل، أو
القيت بدليل آخر من اللب، فالمخصص - سواء كان لفظيا أو لبيا - هو الأفراد
بوجودها الواقعي بحسب الكبرى الكلية، والفرد المشكوك فيه، كما أنه
مشكوك في اندراجه تحت كبرى المخصص، كذلك بالنسبة إلى كبرى العام بما

1 - مطارح الأنظار: 194 / السطر 29.
101 - وفيه: أن الجهات التعليلية في الأحكام العقلية موضوع لها، فلا يكون المخرج هو
الأفراد، بل العنوان، ومعه لا يجوز التمسك به.
ومع التسليم بخروج ذوات الأفراد يخرج الكلام عن الشبهة المصداقية للمخصص، مع أن
الكلام فيها. (مناهج الوصول 2: 253 - 254).
3 - كفاية الاصول: 259 - 260.
323

هي حجة ومراد جدي؛ من غير فرق بين اللفظيات واللبيات. ولو كان العام كفيلا
للحكم الواقعي والظاهري لزم ما أسلفناه من لزوم الجمع بين الحكمين المترتبين.
ويمكن توجيه كلامه بما لا يخلو من إشكال أيضا: وهو أن المولى كما اتكل
على عقل المكلف في المخصص المتصل بحسب الكبرى الكلية، كذلك يمكن أن
يتكل عليه في تشخيص صغرياتها؛ أي لم يكتف في التخصيص باللبي بالاتكال
على عقله في الكبرى فقط، فحينئذ لا يكفي في التخصيص صرف معلومية
عنوان المخصص بحسب الكبرى الكلية، بل لابد في إخراج الأفراد عن العموم
من تشخيص الصغرى وضمها إلى الكبرى حتى يخرج الفرد من تحت العام،
فيكون هاهنا حكم واقعي لأفراد واقعية بحسب الإرادة الجدية في العام، وحكم
ظاهري لأفراد مشكوك في كونها من الخاص، لا بحسب الإرادة الجدية، بل
لأجل حفظ الحمى؛ بمعنى أن لزوم إكرام الأفراد المشكوك فيها لأجل محفوظية
الأفراد النفس الأمرية للعام؛ حيث لا تنحفظ إلا بذلك، ولا مانع عقلا من تصوير
هذا النحو من الحكم الواقعي والظاهري للعام بعد تخصيصه على النحو المتقدم،
لكنه أيضا لا يخلو من إشكال.
بقي هاهنا امور:
الأمر الأول: في إخراج الأفراد بجهة تعليلية
لو كان المخصص ذوات الأفراد، لكن بحيثية تعليلية، كما لو ورد " أكرم
العلماء "، ثم ورد " لا تكرم زيدا وعمرا وبكرا؛ لأنهم فساق "، فهل يكون
كالتخصيص الزائد في مورد الشك في فسق مصداق، ويجوز التمسك بالعام، أو
كالمخصص اللفظي المعنون بعنوان، مثل " لا تكرم الفساق منهم "، فلا يجوز
التمسك به؟
324

لا يبعد الجواز؛ لأن الفرد المشكوك فيه لا يكون من قبيل الشبهة
المصداقية فرضا، بل من قبيل الشك في التخصيص الزائد؛ وإن كان منشؤه الشك
في سريان العلة في المشكوك فيه (102).
الأمر الثاني: في العامين من وجه المتنافيي الحكم
إذا ورد حكمان متنافيان على عنوانين مستقلين يكون بينهما عموم من وجه،
كقوله: " أكرم العلماء "، و " لا تكرم الفساق "، أو " لا تكرم كل رجل فاسق "، فإن
علم تصادقهما على موضوع ومصداق خارجي، فلا إشكال في تقديم أقوى
المقتضيين، والحكم بالتخيير والتساوي في صورة عدم رجحانهما؛ لأن المورد من
قبيل تزاحم المقتضيين.
وأما لو علم صدق أحد العامين على فرد، وشك في كونه مصداقا للآخر،
كأن علم كون زيد عالما، وشك في فسقه، فهل يتمسك بعموم " أكرم العلماء "؛
بملاك أن حجية العام تامة، وكون الفرد مصداقا له محرزا بالوجدان، ونشك في
وجود حجة مزاحمة له، أو لا يجوز؛ لأن الخارج عن العام - على فرض
التصادق - هو الأفراد الواقعية، فالشك في الفرد هو الشك في حجية العام
بالنسبة إليه، كما ذكرنا سالفا (2)؟
والحق هو الأول؛ لأن الحكم الثابت لعنوان مستقل آخر، ليس من قبيل
الإخراج والتخصيص؛ حتى يأتي فيه ما ذكرناه سابقا، بل من قبيل إثبات حكم

102 - وفيه نظر؛ لأن الظاهر من إخراج أفراد بجهة تعليلية أن المخرج هو العنوان، لا
الأشخاص برأسها، ومعه تكون الشبهة في مصداق المخصص. وكذا الحال في اللبيات.
(مناهج الوصول 2: 255).
2 - تقدم في الصفحة 319 - 322.
325

لموضوع مقتض له، فالموارد المتصادقة من قبيل تزاحم الحجتين، لا تخصيص
أحدهما بالآخر، فالفرد المشكوك فيه - بعد تمامية إحدى الحجتين بالنسبة
إليه، وعدم تمامية الاخرى - لا محيص عن التمسك بالحجة، وليس رفع اليد
عنها إلا بغير الحجة، وهذا مما لا إشكال فيه (103).
الأمر الثالث: في إحراز المشتبه بالأصل
لعلك سمعت أن القضايا مطلقا تنقسم إلى الهلية البسيطة والمركبة:
والاولى: ما كان الوجود محمولا لموضوعها، كقولنا: " زيد موجود "، أو
" ليس بموجود "، فالوجود محمولي، والقضية بسيطة؛ لكونها أبسط من

103 - إذا ورد حكمان متنافيان على عنوانين مستقلين بينهما عموم من وجه، فقد يكون أحدهما
حاكما على الآخر، فيصير من قبيل المخصص، فمع الشبهة المصداقية في مصداق الحاكم
لا يجوز التمسك بالعام المحكوم؛ لعين ما تقدم.
وإن لم تكن حكومة بينهما، فإن قلنا: بأن العامين من وجه مشمولان لأدلة التعارض،
وقدمنا أحدهما بأحد المرجحات، أو كانا من قبيل المتزاحمين، وقلنا: إن المولى ناظر إلى
مقام التزاحم، فكان حكمه إنشائيا بالنسبة إلى المرجوح، فيكون حاله حال المخصص،
فلا يجوز التمسك؛ للملاك المتقدم.
وأما إن قلنا: بأن الحكمين في المتزاحمين فعليان على موضوعهما، والانطباق الخارجي
وعدم القدرة على إطاعتهما لا يوجبان شأنية المرجوح، بل العقل يحكم بمعذورية
المكلف عن امتثال كليهما من غير تغيير في ناحية الحكم، فالظاهر جواز التمسك في
مورد الشك في انطباق الدليل المزاحم الذي هو أقوى ملاكا؛ لأن الحكم الفعلي على
موضوعه حجة على المكلف ما لم يحرز العذر القاطع، ولا يجوز رفع اليد عن الخطاب
الفعلي بلا حجة، نظير الشك في القدرة، فإذا أمر المولى بشيء وشك المكلف في قدرته
عليه، لا يجوز عقلا التقاعد عنه لاحتمال العجز؛ لعين ما ذكر. (مناهج الوصول 2:
255 - 256).
326

المركبة، أو لكون الوجود البسيط الغير المتقيد محمولا لها.
والثانية: ما كان الوجود رابطا فيها، والمحمول غير الوجود، كقولنا: " زيد
قائم "، أو " ليس بقائم "، فإن الوجود فيها رابط بين الموضوع والمحمول وليس
محمولا، ولذا قيل إن الوجود الرابط يختص بالهليات المركبة.
ثم لا يخفى: أن النسبة السلبية - كالنسبة الإيجابية - نسبة برأسها (104)،
لا كما قيل من أن السلب في السلبيات وارد على النسبة الإيجابية (105)، ويعتبر
في القضية السالبة الإيجاب أولا، ثم يرد السلب عليه، ويكون أجزاء القضية
أربعة (3). فإنه خلاف الوجدان في السالبات، بل القضية السالبة مركبة من
ثلاثة أجزاء كالموجبة، والنسبة السلبية نسبة بسيطة كالإيجابية، كما أن
إيقاع النسبة وانتزاعها ليسا من أجزاء القضية؛ لأن أجزاءها إنما هي ما تكون
ثابتة في المادة النفس الأمرية - أي الخارج - ومعلوم أنه ليس في الخارج
شيء وراء الموضوع والمحمول والنسبة التي بينهما؛ كي يكون هو إيقاع النسبة
أو انتزاعها.

104 - ما ذكر فاسد في السوالب المحصلة مطلقا؛ لأن حرف السلب فيها آلة لسلب الهوهوية
في الحمليات الصريحة، ولسلب الكون الرابط في الحمليات المؤولة، فلا يكون للسوالب
نسبة بين الموضوع والمحمول بحسب الواقع. (مناهج الوصول 1: 91).
105 - التحقيق في السوالب: أن في حمليتها يدل حرف السلب على سلب الهوهوية، فيرد على
الحمل، فيكون مفاد السوالب سلب الحمل، لا حمل السلب، أو حمل هو السلب كما
يتوهم، فقولنا: " زيد إنسان " حمل يدل على الهوهوية، و " زيد ليس بحجر " سلب حمل
يدل على نفي الهوهوية، وأما السوالب الحملية بالتأويل، كقولنا: " زيد ليس في الدار "
و " عمرو ليس له البياض " فحرف السلب يرد على الكون الرابط، فيسلب به الكينونة في
الدار. (مناهج الوصول 1: 89 - 90).
3 - انظر الشفاء، قسم المنطق 1: 34 - 35.
327

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم: أن العام المخصص بالمنفصل، أو بمثل الاستثناء
من المتصل، لما كان غير معنون بعنوان خاص، بل بكل عنوان غير عنوان الخاص،
ويكون جميع الأفراد مشمولة له بعنوان واحد هو عنوان العام، والمخصص إنما
يخرج بعض الأفراد من غير حصول قيد في العام، ومن غير تعنونه بعنوان، كان
إحراز المشتبه منه بالأصل الموضوعي غالبا ممكنا، وذلك بوجهين:
الوجه الأول في تقرير الأصل: ما أفاد المحقق الخراساني (رحمه الله)، وهو بنحو
السالبة الهلية البسيطة كما إذا شك في امرأة أنها قرشية أو غيرها، بعد ورود
قوله: " إن المرأة ترى الدم إلى خمسين " (1)، وقد خرجت بالمنفصل أو بنحو
الاستثناء المرأة القرشية، فيقال - لأجل إحراز الموضوع -: إن انتساب هذه المرأة
إلى قريش لم يكن سابقا، والآن كما كان، فهذه القضية هلية بسيطة سالبة،
موضوعها انتساب المرأة إلى قريش، ومحمولها هو الوجود، والنسبة سلبية.
وكون القضية المتيقنة سالبة بسلب الموضوع، والمشكوك فيها سالبة
بسلب المحمول، لا يضر بالاستصحاب؛ فإن القضية السالبة بسلب الموضوع أو
المحمول لم تكن قضيتين؛ لأن القضايا تنقسم إلى الموجبات والسوالب، ولا
ثالث لهما، فالقضية السلبية أعم من السلب الموضوعي أو المحمولي، وهي
قضية واحدة.
فتحصل مما ذكرنا: أن أصالة عدم انتساب المرأة إلى قريش تجدي في
تنقيح الموضوع، وأنها ممن لا تحيض إلا إلى خمسين.
لا يقال: إن أصالة عدم الانتساب لا تجدي في تنقيح الموضوع إلا بالأصل
المثبت؛ لأن ما خرج من العام هي المرأة القرشية، وما بقي هي المرأة الغير
القرشية، والأصل بنحو الهلية البسيطة لا يثبت كونها غير قرشية، أو عدم كونها

1 - انظر وسائل الشيعة 2: 580، كتاب الطهارة، أبواب الحيض، الباب 31.
328

قرشية بنحو الهلية المركبة، التي هي موضوع الحكم.
قلت: نعم، لا يجدي ذلك لو احتجنا إليه، لكن لا نحتاج إليه؛ لأن العام
شامل لجميع الأفراد، والمانع منه هو عنوان الخاص، وأصالة عدم الانتساب
تدفع المانع، فيبقى الفرد تحت العام.
والحاصل: أن تمام الموضوع في الحكم هو العنوان المأخوذ فيه، فالمرأة
تمام الموضوع لرؤية الدم إلى خمسين، وبعد خروج القرشية يكون الموضوع
أيضا هو عنوان العام من غير تقييده بشيء، والفرض أن المرأة محرزة بالوجدان،
والمانع من تعلق الحكم هو الشك في كونها من عنوان الخاص، وهو أيضا مدفوع
بالأصل، فأصالة عدم الانتساب إلى قريش مما يجدي لإثبات الحكم لها؛ من
غير احتياج إلى إثبات كونها غير قرشية بنحو " ليس " الناقصة (1).
هذا حاصل ما أفاده المحقق الخراساني بتوضيح منا.
ولا يخفى: أن قوله: " إن الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل أو
كالاستثناء من المتصل، لما كان غير معنون بعنوان خاص، بل بكل عنوان لم يكن
ذاك بعنوان الخاص " في غاية الإشكال والسقوط، إن أراد بمعنونية العام بكل
عنوان أن جميع العناوين المقارنة للأفراد دخيلة في موضوعية الحكم، حتى
تكون المرأة في قوله: " إن المرأة ترى الدم إلى خمسين " موضوعا للحكم مع
جميع حالاتها اللاحقة بها، كالعا لمية والجاهلية والقرشية وغيرها لأن ذلك
واضح الفساد، فإن كل عنوان اخذ في موضوع الحكم، لا يمكن أن يتجاوز الحكم
عنه إلى غيره.
نعم، لا يضر مقارنته بكل عنوان خارجي، فالمرأة في المثال المذكور

1 - كفاية الاصول: 261.
329

موضوع للحكم من غير دخالة شيء آخر فيه، ومع كل مقارن تكون هي بنفسها
موضوعا له، ولعل مراده يرجع إلى ما ذكرنا.
ثم إنه يرد عليه: أن أصالة عدم الانتساب مما لا أصل لها؛ لأن القضية
المتيقنة في الاستصحاب لابد وأن تكون عين القضية المشكوك فيها، وفيما نحن
فيه ليست كذلك؛ لأن هذه المرأة لم تكن قبل وجودها قابلة للإشارة، وليست
هذيتها محفوظة، فانتساب هذه المرأة في الأزل؛ مما لا يجوز أن يقال معدومة أو
موجودة وليست معدومية انتسابها تقابل موجوديته تقابل الإيجاب والسلب، بل
كتقابل العدم والملكة.
وإن شئت قلت: إن الانتساب لما كان من الامور الإضافية والاعتبارية،
فلا تحقق له إلا بعد تحقق المرأة ووجودها، وقبله لا يعتبر الانتساب، لا أنه
يعتبر عدم الانتساب.
هذا، مضافا إلى أن العام بعد التخصيص، يصير بحسب مقام الثبوت والواقع
معنونا بعنوان وجودي أو عدمي، ولا يعقل أن تكون الأفراد بعد التخصيص نفس
ذاتها؛ من غير حصول عنوان مقابل للخاص لها؛ ضرورة أن المرأة في قوله:
" المرأة ترى الدم إلى خمسين " بعد تخصيصه: ب‍ " أن المرأة القرشية ترى الدم
إلى ستين " (1) لا يمكن أن تكون تمام الموضوع لرؤية الدم إلى خمسين، بل
الموضوع هي المرأة الغير القرشية، أو المرأة التي ليست بقرشية على نعت
الليسية الناقصة والعدم النعتي، فلا مجرى للاستصحاب لإثبات كونها غير قرشية.
وبما ذكرنا: يتضح الإشكال على الإيراد الذي أورده بعض المتأخرين من
أعاظم المعاصرين على ما في " الكفاية " بأن التخصيص إن كان كالتقييد - يخرج
العام عن تمام الموضوعية إلى بعضها - يكون الأصل مجديا.

1 - وسائل الشيعة 2: 580، كتاب الطهارة، أبواب الحيض، الباب 31، الحديث 5 و 9.
330

ولكن التحقيق خلافه؛ فإن شأن المخصص إخراج الفرد مع إبقاء العام على
تمام الموضوعية، وإنما يقلل العام بلا انقلاب فيه، نظير موت بعض الأفراد،
فلا يبقى مجال لجريان الأصل؛ إذ الأصل السالب ليس شأنه إلا نفي الحكم
الخاص عن مورده، لا إثبات حكم العام عليه، ونفي أحد الحكمين بالأصل
لا يثبت الآخر (1).
وفيه: أنه إن أراد من [كون] باب التخصيص غير باب التقييد، أن ظهور
العام لا ينقلب عما هو عليه، ولا تصير البقية - بعد التخصيص - متقيدة بحسب
مقام الظهور، فهو مسلم، لكن لا يضر بجريان الأصل.
وإن أراد أن الحكم بحسب الواقع والإرادة الجدية كذلك، وأن العام بعد
التخصيص يبقى على تمام الموضوعية واقعا، فهو ظاهر البطلان كما عرفت.
الوجه الثاني في تقرير الأصل: ما يظهر من العلامة الأنصاري - على ما
في تقريرات بحثه - من إجراء أصالة عدم القرشية بنحو الهلية المركبة،
فيقال: إن هذه المرأة لم تكن قرشية قبل وجودها، والآن كما كانت (2).
ويرد عليه عين ما أوردنا على المحقق الخراساني.
وهم وإزاحة:
قال المحقق الخراساني ما حاصله: إنه ربما يظهر من بعضهم (3): التمسك
بالعمومات فيما إذا شك في فرد، لا من جهة احتمال التخصيص، بل من جهة

1 - مقا لات الاصول 1: 444 - 445.
2 - انظر مطارح الأنظار: 194 / السطر 30.
3 - انظر الدروس الشرعية 2: 151، عند قوله (قدس سره): ولا تجزئ الخمس (أي الركعات)
فصاعدا بتسليمة إلا أن يقيده في نذره على تردد.
331

اخرى، كما إذا شك في صحة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف، فيستكشف صحته
بعموم مثل: " أوفوا بالنذر " (1) فيما إذا وقع متعلقا للنذر.
ثم رده قائلا: بأن ذلك مما لا يكاد يتوهمه عاقل (2).
وأنت خبير: بأن عدم جواز التمسك بأدلة وجوب الوفاء بالنذر لصحة
الوضوء بالمائع المضاف، ليس إلا من جهة عدم جواز التمسك بالعام في
الشبهة المصداقية؛ فإن أدلة النذر - بعد تقييدها بقوله: " لا نذر إلا في طاعة
الله " (3) - تكون من قبيل العام المخصص؛ مما لا يجوز التمسك بها فيما شك في
كونه طاعة الله من جهة الشبهة المصداقية.
نعم، هنا أمر آخر: وهو دعوى كشف حال الفرد بعد التمسك بالعام، فيحكم
بصحة الوضوء، وكونه طاعة الله، فهو من أفراد العام لا المخصص، وهذا ظاهر
الفساد، وأما صرف التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فليس ظاهر الفساد
ولا ينبغي التعبير عنه بما عبر به.
اللهم إلا أن يقال: إن قوله: " لا نذر إلا في طاعة الله " من قبيل المقيد لدليل
" أوفوا بالنذر " فيصير معنونا بعنوانه فيكون التمسك به من قبيل التمسك بالعام
في الشبهة المصداقية لنفس العام، وهو مما لا يلتزم به عاقل، كما أفاد.
ثم لا يخفى: أن تأييد كلام هذا القائل بما ذكر في " الكفاية " - من أدلة
صحة الإحرام قبل الميقات والصيام في السفر إذا تعلق بهما النذر (4) - مما لم يظهر
له وجه، فإن مدعى هذا القائل هو جواز الوضوء والغسل بالمائع المضاف مطلقا؛

1 - هذا إشارة إلى قوله تعالى (وليوفوا نذورهم) الحج (22): 29.
2 - كفاية الاصول: 261 - 262.
3 - انظر وسائل الشيعة 16: 239، كتاب النذر والعهد، أبواب النذر والعهد، الباب 17.
4 - كفاية الاصول: 262.
332

تعلق به النذر أو لا، واستدل عليه: بإطلاق أدلة وجوب الوفاء بالنذر؛ لكشف
حال الفرد المشكوك فيه. ولا يؤيد ذلك هذا المدعى؛ لأن الإحرام قبل الميقات
والصوم في السفر مما لا يجوزان شرعا، وما يكون جائزا هو الإحرام قبل الميقات
والصوم في السفر مع تعلق النذر بهما، لا مطلقا، فما ذكر من التأييد غير مربوط
بالمدعى.
ثم إن المحقق الخراساني ذكر - لتصحيح نذر الإحرام قبل الميقات والصيام
في السفر ثبوتا مع حرمتهما قبله وقيام الدليل على الصحة في مقام الإثبات (1) -
وجوها:
أحدها: أن الدليل الدال على الصحة إثباتا، يكشف عن رجحانهما ذاتا قبل
الميقات وفي السفر، لكن لم يؤمر بهما استحبابا أو وجوبا؛ لمانع مرتفع بالنذر.
ورده: بأنه مخالف لما دل على أن الإحرام قبل الميقات كالصلاة قبل
الوقت (2).
ثانيها: أنهما يصيران راجحين بنفس تعلق النذر بهما، بعد عدم كونهما
كذلك.
لا يقال: كيف يعقل ذلك مع قيام الدليل على أن " لا نذر إلا في طاعة الله "؟!
لأن لازمه توقف النذر على الرجحان والرجحان على النذر، مضافا إلى لزوم
صيرورتهما توصليين؛ لأن وجوب الوفاء بالنذر توصلي.
لأنه يقال: إن دليل صحتهما يكشف عن عروض عنوان راجح عليهما، غير

1 - انظر وسائل الشيعة 7: 139، كتاب الصوم، أبواب ما يصح الصوم، الباب 10، وسائل
الشيعة 8: 236، كتاب الحج، أبواب المواقيت، الباب 13.
2 - انظر وسائل الشيعة 8: 234، كتاب الحج، أبواب المواقيت، الباب 11، الحديث 3 و 6،
كفاية الاصول: 263.
333

عنوان الإحرام والصوم، وغير عنوان النذر، بل عنوان آخر ملازم لتعلق النذر
بهما، وذلك مما يصحح عباديتهما (1).
ثالثها: تخصيص عموم دليل اعتبار الرجحان في متعلق النذر بهذا الدليل،
وحينئذ يمكن أن يقال: بكفاية الرجحان الطارئ من قبل النذر.
لا يقال: إن الرجحان الطارئ من قبله لا يصحح العبادية، كما أشرنا إليه
آنفا.
فإنه يقال: عباديتهما إنما هي لأجل تعلق النذر بإتيانهما عباديا ومتقربا
بهما منه تعالى؛ فإنه وإن لم يتمكن من إتيانهما كذلك قبله، إلا أنه يتمكن منه
بعده، ولا يعتبر في صحة النذر إلا التمكن من الوفاء ولو بسببه (2). انتهى.
ويرد على الوجه الثاني: أنه لا معنى لصيرورتهما عباديين لأجل طرو
عنوان مجهول يغفل عنه المكلف، ولا يكون مقصودا له، لا تفصيلا ولا إجمالا،
وإنما هو أمر يخترعه عقل بعض المدققين؛ لتصوير الإمكان ثبوتا.
وعلى الوجه الثالث: أن تصوير العبادية بما ذكر - من أخذها في متعلق
النذر، وتعلق الأمر بالوفاء به على الموضوع المتقيد بقصد التقرب - كر على ما
فر منه (قدس سره) في باب التعبدي من عدم إمكان أخذ التقرب في متعلق الأمر، وأنه
مستلزم لعدم إمكان إتيان المأمور به؛ لتوقف داعوية الأمر على داعويته (3)
بالتفصيل الذي مر ذكره (4).
نعم، بناء على ما ذكرنا من تصويره، لا مانع منه، فراجع.

1 - كفاية الاصول: 263.
2 - نفس المصدر.
3 - نفس المصدر: 95.
4 - تقدم في الصفحة 65.
334

الأمر الرابع: الشك بين التخصيص والتخصص
لو ورد عام، وعلم بعدم كون فرد محكوما بحكمه، وشك في كونه من باب
التخصيص أو التخصص، فهل يجوز التمسك بأصالة عدم التخصيص لكشف حال
الفرد؛ بأن يقال: إكرام كل عالم واجب بحكم أصالة العموم، فمن لا يجب إكرامه
فليس بعالم؛ بحكم عكس النقيض اللازم للقضية، فزيد مثلا ليس بعالم؟
الظاهر عدم جريانها لذلك؛ لأن جريانها مخصوص بما إذا شك في كون فرد
محكوما بحكم العام بعد إحراز كونه منه، وأما بعد العلم بالمراد والشك في
التخصيص والتخصص، فلا؛ لأن معنى أصالة العموم، هو أن كل فرد مراد
بالإرادة الاستعمالية، مراد بالجدية أيضا، فاللفظ لا يتكفل إلا وجوب إكرام كل
عالم بالإرادة الاستعمالية، والأصل العقلائي يقتضي كون الإرادة الاستعمالية
في كل فرد مطابقة للجدية، ولا يتعرض العموم لحال الفرد إثباتا ونفيا، لعدم
كونه مفاده، وإنما هو في مقام إثبات الحكم الكلي، لا بيان حال الأفراد، وكذا
الأصل العقلائي لا يتعرض إلا لتطابق الإرادتين، من غير تعرض لحال الفرد.
الأمر الخامس: لو دار الأمر بين التخصيص والتخصص لإجمال الخاص
لو قامت الحجة على عدم وجوب إكرام زيد، وكان مشتركا بين زيد العالم
والجاهل، وشك في التخصيص والتخصص، فقد يكون زيد محكوما - بحسب
الحجة - بحكم غير إلزامي، كعدم وجوب إكرامه، وقد يكون محكوما بحكم
إلزامي، كحرمة إكرامه.
فعلى الأول: لا إشكال في جريان أصالة العموم، ويكون العام حجة على
وجوب إكرام زيد العالم، ولا ترفع اليد عنه لأجل الدليل المجمل، للشك في
335

التخصيص بعد قيام الحجة على وجوب إكرامه.
ومعلوم أن هذه المسألة غير السابقة التي حكمنا بأن أصالة العموم
لا تكشف عن حال الفرد.
وعلى الثاني: يمكن أن يتمسك أيضا بأصالة العموم؛ بأن يقال: إن
مقتضاها كون زيد العالم واجب الإكرام، ولازم وجوب إكرامه عدم حرمة
إكرامه، ولازم ذلك أن يكون زيد المحرم إكرامه هو زيد الجاهل، لا العالم،
ولوازم الاصول العقلائية حجة؛ لكونها أمارة على الواقع، وحينئذ تنحل الحجة
الإجمالية، لا بمعنى الانحلال الاصطلاحي، بل بمعنى أنها تنحل إلى قيام الحجة
بوجوب إكرام زيد العالم، وحرمة إكرام زيد الجاهل، فانحلالها بحسب أثرها؛
فإنه لولا أصالة العموم يكون أثر الحجة الإجمالية تنجز الحرمة الواقعية،
ولزوم ترك إكرام كليهما عقلا.
وقد يقال: إن الحجة الإجمالية تنحل إذا قامت الحجة على وجوب
إكرام زيد العالم بالخصوص، كما لو قامت البينة على وجوب إكرام زيد العالم،
وأما العام فلا يتكفل لحكم الأفراد بالخصوص، بل هو حكم عام متعلق بعنوان عام
هو عنوان " العالم "؛ من غير تعرض للفرد بخصوصه، والحجة الإجمالية
القائمة على حرمة إكرام زيد، المردد بين العالم والجاهل - التي يجب عقلا
الخروج عن عهدتها؛ بترك إكرام كليهما - تقدم على العام (1).
وفيه: أنه لا فرق - من هذه الجهة - بين إفادة حكم زيد العالم بدليل
خاص أو حجة عامة، فإن زيدا مصداق العالم وجدانا، ومحكوم بوجوب الإكرام؛
بضم الصغرى الوجدانية إلى الكبرى الكلية، فإذا وجب إكرامه لا يحرم إكرامه،
ولازمه حرمة إكرام زيد الجاهل، ولازم الاصول اللفظية حجة، كما عرفت.

1 - انظر أجود التقريرات 1: 457 - 458.
336

الأمر السادس: دفع توهم
قد يتوهم: أن ما هو المشهور بين الأصحاب - بل المتفق عليه بينهم (1) -
الحكم بالضمان فيما إذا دار أمر اليد بين أن تكون يدا عادية أو أمينة؛ للاشتباه من
جهة الامور الخارجية، إنما هو لأجل التمسك بعموم قوله: " على اليد ما
أخذت حتى تؤدي " (2)، مع أنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية، وهذا مع
كونه مخالفا للتحقيق، مخالف لقواعد باب القضاء، لأن عدم الضمان موافق
للأصل، وللمدعي إثباته (3).
ويدفع: بأن فتوى المشهور ليس لما ذكر، بل للروايات الواردة في هذا
الباب (4)؛ مما يستفاد منها هذا الحكم.

1 - انظر مفتاح الكرامة 5: 209، وجواهر الكلام 25: 262.
2 - عوالي اللآلي 1: 224 / 106، مسند أحمد بن حنبل 5: 8، سنن أبي داود 2: 318 /
3561.
3 - ذكر حاصله في فوائد الاصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 529.
4 - انظر الكافي 5: 238 / 3 - 4، ووسائل الشيعة 13: 137، كتاب الرهن، أبواب أحكام
الرهن، الباب 16، الحديث 2 و 3.
337

فصل
هل يجوز العمل بالعام قبل الفحص عن مخصصه؟
فيه خلاف (1): وربما يدعى الإجماع على عدم الجواز (2)، لكن هذه
المسألة ليست من المسائل التي تكشف الشهرة أو الاتفاق عن نص خاص،
فلا تكون من المسائل الإجماعية، مع أنها لم تكن معنونة قبل القرن الرابع على
ما يشهد به التتبع؛ فإن أول من تعرض لها هو أبو العباس بن سريج في أواخر
القرن الثالث، أو أوائل القرن الرابع، واختار عدم الجواز (3)، وأنكر عليه تلميذه
أبو بكر بن الصيرفي قائلا: بأنه لولا جواز العمل بالعام قبل الفحص عن
مخصصه، لوجب أن لا يجوز العمل بالحقيقة قبل الفحص عن قرينة المجاز (4).
ثم بعد ذلك صارت المسألة معنونة في كتب القوم، وقد عثرنا على هذا
البحث - وكلامهم فيه - في مطاوي كلماتهم في جواز إسماع المتكلم العام

1 - انظر قوانين الاصول 1: 272، ومطارح الأنظار: 197 / السطر 30.
2 - انظر المستصفى من علم الاصول 2: 157.
3 - المحصول في علم اصول الفقه 1: 404 - 405 وشرح الأسنوي، ذيل شرح البدخشي
2: 126 - 127.
4 - نفس المصدر.
339

المخصص من غير ذكر مخصصه متصلا به، بل أورد المخصص منفصلا (1).
ومن المعلوم: أن البحث عن حجية العام قبل الفحص، متفرع على جواز
إسماع العام المخصص بدون ذكر مخصصه.
وليعلم: أنه لا دخالة للعام - بما أنه عام - في الجهة المبحوث عنها في
هذه المسألة، ولا بما أنه من الأدلة اللفظية، بل البحث يطرد في جميع الاصول
اللفظية والعقلية.
فيقال: هل يجوز العمل بالظهور قبل الفحص عن معارضه، وهو يعم
أصالة الحقيقة والعموم والإطلاق.
وهل يجوز العمل بالاصول العقلية - كأصل البراءة - قبل الفحص عن
البيان؟
فلا فرق في الاصول اللفظية والعقلية مطلقا في الجهة المبحوث عنها.
وما أفاده المحقق الخراساني (رحمه الله): من الفرق بين الفحص هاهنا وبينه في
الاصول العملية؛ بأنه هاهنا عما يزاحم الحجة، بخلافه هناك، فإنه بدونه لا
حجية؛ ضرورة أن العقل بدونه يستقل باستحقاق المؤاخذة على المخالفة،
فلا يكون العقاب بدونه بلا بيان، والنقل وإن دل على البراءة أو الاستصحاب في
موردهما مطلقا، إلا أن الإجماع بقسميه على تقييده به (2).
ليس على ما ينبغي، ضرورة أن العام - بما أنه لفظ كاشف عن الإرادة
الاستعمالية - لا يكون حجة إلا إذا جرت فيه أصالة تطابق الإرادة
الاستعمالية للجدية وهي لا تجري قبل الفحص عن المخصص، فلا يكون العام

1 - الذريعة إلى اصول الشريعة 1: 390 - 391، عدة الاصول 2: 465، المعتمد في اصول
الفقه 1: 331 - 333.
2 - كفاية الاصول: 265 - 266.
340

قبل الفحص حجة؛ حتى يكون الفحص عن مزاحمها بعد تمامية الحجة، بل
الفحص من متممات الحجية، كما أن النقل الدال على البراءة والاستصحاب
[يكون] من العمومات أو الإطلاقات التي تكون مورد البحث في جواز التمسك بها
قبل الفحص، وقد عرفت أن المسألة ليس من المسائل الإجماعية.
ثم اعلم: أن " الجواز " في عنوان البحث ليس الجواز التكليفي؛ بمعنى أنه
لو عمل به قبل الفحص لارتكب محرما، بل بمعنى صحة الاحتجاج وعدمه،
كما هو الشأن في سائر المسائل الاصولية، فلو عمل به قبل الفحص، فصار
مخالفا لمطلوب المولى - لأجل ورود التخصيص - لم يكن معذورا، ويكون معاقبا
على مخالفة الواقع، لا على ترك الفحص والعمل بالعام قبله، كما أنه لو عمل
به بعده يكون معذورا، وله الحجة على المولى.
ثم إن محل البحث في المسألة - كما يظهر من المحقق الخراساني - إنما هو
بعد الفراغ عن اعتبار أصالة العموم بالخصوص من باب الظن النوعي، لا من باب
الظن المطلق، ولا من الظن الخاص الفعلي، ولا يكون العلم الإجمالي حاصلا
بوجود المخصص (1)؛ ضرورة أن مع القول باعتبارها من باب الظن المطلق أو الظن
الفعلي، يكون الأمر دائرا مدار حصولهما، فلا مجال للبحث عن الحجية قبل
الفحص أو بعده، كما أنه لو علم إجمالا بورود المخصص، فلا مجال للتشكيك في
لزوم الفحص، وإن يظهر من استدلال بعض المحققين على لزومه بالعلم
الإجمالي بورود المخصصات (2)، أعمية البحث.
وكيف كان: فقد استدل المحقق الخراساني (رحمه الله) على عدم الجواز فيما إذا كان

1 - كفاية الاصول: 264.
2 - انظر مطارح الأنظار: 202 / السطر 15، وفوائد الاصول (تقريرات المحقق النائيني)
الكاظمي 1: 540، ومقالات الاصول 1: 455.
341

العام في معرض التخصيص دون غيره: بأنه لولا القطع باستقرار سيرة العقلاء
على عدم العمل به قبله، فلا أقل من الشك (1).
ولم يظهر مراده من المعرضية؛ هل هي عبارة عن احتمال المخصص أو
الظن به، أو العلم الإجمالي به؟
فعلى الأول: يكون هذا الاحتمال حاصلا لجميع العمومات من غير فرق
بينها، وليس بناء العقلاء على الاعتناء بمثل هذا الاحتمال، ولا الفحص عن
المخصص المحتمل، كما يظهر بالتأمل في بنائهم على العمل بالعمومات الصادرة
عن الموالي العرفية.
وعلى الثاني: لا يكون دليل على اعتبار هذا الظن، وليس بناء العقلاء على
عدم العمل معه.
وعلى الثالث: يكون خلاف المفروض؛ لأن الكلام فيما إذا لم يكن علم
إجمالي في البين.
اللهم إلا أن يكون مراده: ما هو موافق للتحقيق - كما يظهر من ذيل كلامه -
وهو أن العمومات قد تكون في لسان أهل المحاورة من الموالي والعبيد لدى
التخاطب مشافهة أو مكاتبة، وفي هذه الصورة لا شبهة في حجيتها ولو مع
احتمال التخصيص، وكذا لا شبهة في حجية سائر الظواهر - من الإطلاقات
والحقائق - مع احتمال المعارض لها، بل ولو مع العلم بأن المولى قد يعول على
مخصص ومقيد منفصلين. والدليل على ذلك بناء العقلاء وسيرتهم، وليس للعبد بعد
ورود العام من المولى أن يترك العمل باحتمال ورود المخصص، ولا للمولى أن
يعاقب العبد على العمل بالعام مع ترك الفحص، وذلك ظاهر.
وقد تكون العمومات وأمثالها في لسان المشرع والمقنن، ويكون له كتاب

1 - كفاية الاصول: 265.
342

قانون وتشريع الذي من شأنه أن تذكر فيه المخصصات والمقيدات وسائر القيود
والحدود. وهذا المقنن قد لا يبالي بمخالفة أحكامه عند الجهل بها، وقد لا يكون
كذلك، بل يكون معتنيا بها، ففي هذه الصورة لا يكون للعبد عذر في ترك الفحص
عن أحكامه الواقعية.
والأمر في الأحكام الشرعية كذلك؛ فإن أحكامه تعالى قوانين مدونة في
الكتاب والسنة النبوية وأخبار أهل العصمة - عليهم صلوات الله - ويكون من
شأنها ورود المخصصات والمقيدات عليها، وقد أمر الله تعالى عباده بتعلم
أحكامه، فقال: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين...) (1)
إلى آخره، وورد: أن " طلب العلم فريضة على كل مسلم " (2) و " هلا تعلمت " (3)
وأمثالها (4).
والذي يظهر بالتأمل في الآيات والأخبار أن المراد بالعلم ليس هو العلم
الوجداني، بل هو بمعنى العلم بالأحكام من طريق الأدلة - أي الخطابات الواردة
في لسان الكتاب والسنة - كما هو الظاهر من قوله تعالى: (أو أثارة من
علم) (5)؛ أي العلم المأثور، ومعلوم أن وجوب التعلم ليس نفسيا يعاقب المكلف
على تركه، بل يكون العقاب على ترك الأحكام الواقعية.
وبالجملة: قد قطع الله تعالى العذر عن عباده في ترك الفحص وترك التعلم
لأحكامه الواقعية، فلله على الناس حجة بالغة (6)، وليس لهم عليه تعالى

1 - التوبة (9): 122.
2 - الكافي 1: 23 / 1.
3 - أما لي الطوسي: 9 - 10.
4 - الكافي 3: 68 / 4 - 5.
5 - الأحقاف (46): 4.
6 - إشارة إلى الآية 149 من سورة الأنعام.
343

حجة، فلابد لكل مكلف أن يتفحص عن مرادات الله وأحكامه الواقعية بالمقدار
الميسور له (106).
هذا حال لزوم الفحص بناء على ما ذهبنا إليه، وقد عرفت: أن المناط فيه

106 - التحقيق ما أفاد المحقق الخراساني في المقام، وتوضيحه: أن الشارع لم يسلك في
مخاطباته غير ما سلك العقلاء، بل جرى في قوانينه على ما جرت به عادة العقلاء
وسيرتهم، لكن ديدنهم في المخاطبات العادية والمحاورات الشخصية بين الموالي
والعبيد وغيرهم، عدم فصل المخصصات والمقيدات والقرائن؛ ولهذا تكون العمومات
والمطلقات الصادرة منهم في محيط المحاورات حجة بلا احتياج إلى الفحص، ولا يعتني
العقلاء باحتمال المخصص والمقيد المنفصلين، ويعملون بالعمومات والإطلاقات بلا
انتظار. هذا حال المحاورات الشخصية.
وأما حال وضع القوانين وتشريع الشرائع لدى جميع العقلاء، فغير حال المحاورات
الشخصية، فترى أن ديدنهم في وضع القوانين ذكر العمومات والمطلقات في فصل ومادة،
وذكر مخصصاتها ومقيداتها وحدودها تدريجا ونجوما في فصول اخر.
والشارع الصادع جرى في ذلك على ما جرت به طريقة كافة العقلاء، فترى أن القوانين
الكلية في الكتاب والسنة منفصلة عن مخصصاتها ومقيداتها، فالأحكام والقوانين نزلت
على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نجوما في سنين متمادية، وبلغها حسب المتعارف في تبليغ القوانين
للامة، وجمع علماؤها بتعليم أهل بيت الوحي القوانين في اصولهم وكتبهم.
فإذن تكون أحكامه - تعالى - قوانين مدونة في الكتاب والسنة والعمومات والمطلقات
التي فيها في معرض التخصيص والتقييد، حسب ديدن العقلاء في وضع القوانين السياسية
والمدنية، وما هذا حاله ليس بناء العقلاء على التمسك فيه بالاصول بمجرد العثور على
العمومات والمطلقات من غير فحص؛ لأن كونهما في معرض المعارضات يمنعهم عن
إجراء أصالة التطابق بين الاستعمال والجد، ولا يكون العام حجة إلا بعد جريان هذا
الأصل العقلائي، وإلا فبمجرد ظهور الكلام وإجراء أصالة الحقيقة والظهور لا تتم
الحجية، فأصالة التطابق من متمماتها لدى العقلاء. (مناهج الوصول 2: 275 - 276).
344

ليس هو العلم الإجمالي، فلا مورد لبعض الإشكالات (1):
منها: أنه لا يجوز العمل بالعام قبل انحلال العلم ولو بعد الفحص الكثير.
ومنها: أنه بعد الانحلال لا يجب الفحص عن مخصصات العمومات
المشكوك في تخصيصها.
وذلك لما عرفت: من أن المناط للفحص هو ما دل على وجوب التعلم من
الآيات والأخبار، فبعد الفحص والتعلم تصير العمومات حجة، وليس للعبد عذر
قبل الفحص ولو في الشبهة البدوية.
نعم، بناء على أن لزوم الفحص إنما هو من جهة العلم الإجمالي، لا يجوز
التمسك بالعموم ولو بعد الفحص عنه ما لم ينحل العلم؛ لعدم خروجه عن
الطرفية بالفحص عنه.
والجواب عن هذه الشبهة - بأنه بعد الفحص عنه يعلم أنه خارج عن
طرف العلم من أول الأمر (2) - كما ترى.
هذا حال الفحص.
وأما مقداره فيتفاوت بحسب الوجوه التي استدل بها له؛ فإن كان المبنى
هو العلم الإجمالي (3)، فلابد من الفحص حتى ينحل العلم، وإن كان حصول
الظن (4) فإلى أن يحصل.
وبناء على ما ذكرناه فلابد من الفحص بالمقدار الميسور له؛ بحيث لا يقع
في العسر والحرج، فلابد من تحصيل التكا ليف الواقعية، وتهيئة وسائله من

1 - انظر مقا لات الاصول 1: 455.
2 - مقا لات الاصول 1: 455.
3 - مطارح الأنظار: 202 / السطر 15.
4 - انظر الوافية في اصول الفقه: 129 - 130.
345

تعلم العلوم العربية، والمنطق، واصول الفقه بمقدار الاحتياج، والتتبع لفتاوى
الفقهاء لكي لا يقع في خلاف الإجماع أو الشهرة المتبعة، وتعلم القرآن ولا أقل
من آيات أحكامه، بل ربما يكون العلم بغيرها دخيلا في فهم بعض الأحكام،
وتعلم علم الحديث والرجال، والبحث عن الأسانيد وطبقات الرجال، والفحص
عن الروايات، بل عن روايات أهل السنة وفتاويهم، فإنها أيضا قد تكون دخيلة
في فهم أحكام الله.
وبالجملة: لابد للمكلف أن يبذل جهده لتحصيل الأحكام، وليس له
العذر في تركه، ونسأل الله التوفيق والتأييد له، وعلى الله التكلان.
346

فصل
هل الخطابات الشفاهية تختص بالحاضرين
أو تعم غيرهم حتى المعدومين؟
هذا النزاع كان معنونا بين الاصوليين من قديم الأيام (1).
والمحقق الخراساني جعل ما يمكن أن يكون محل النزاع أحد امور ثلاثة:
الأول: أن التكليف - ولو لم يكن بنحو المخاطبة - هل يمكن تعلقه
بالمعدومين أم لا؟
ومحصل ما أفاده في هذا المضمار: أن التكليف الحقيقي مستحيل،
والإيقاعي الإنشائي ممكن بلا بعث وزجر فعليين، بل بغرض أن يصير فعليا بعد
وجودهم وحصول شرائط التكليف، فلا يكون لغوا، كما أن التكليف الفعلي - مقيدا
بوجود المكلف ووجدان الشرائط - بمكان من الإمكان (2).
هذا، ولا يخفى: أن النزاع على الوجه الأول مما لا معنى له؛ فإن أحدا من
العقلاء لا يمكن أن يجوز تعلق التكليف بالمعدوم في حال عدمه، كما أن التكليف

1 - نهاية الوصول: 189 - 190، المحصول في علم اصول الفقه 1: 393 - 394.
2 - كفاية الاصول: 266 - 267.
347

الإيقاعي الإنشائي لا لغرض البعث، لا يصير فعليا عند وجود الشرائط، والبعث
الإنشائي الإيقاعي مما لا يمكن تعلقه وتوجهه بالمعدومين ويكون لغوا.
وليعلم: أن طرفي النزاع قد تسالما على أن التكا ليف مشتركة بين
الموجودين والمعدومين، وأن حكمه تعالى على الأولين حكمه على
الآخرين (1)، ولكن النزاع في أن الاشتراك إنما هو ثابت بنفس الخطابات
المشتملة على التكا ليف، أو بغيرها مثل إجماع أو ضرورة أو دليل لفظي، ومعلوم
أنه بعد هذا التسالم لم يكن النزاع فيما أفاده (رحمه الله).
ولا يخفى: أن نفس العناوين المأخوذة في التكا ليف - مثل قوله تعالى:
(ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) (2) وقوله تعالى: (يا أيها
الناس) (3) و (يا أيها الذين آمنوا) (4) - لاتصدق إلا على الموجودين، فلا يكون
المعدوم ناسا، ولا مستطيعا، ولا مؤمنا، ولا مصداقا لأمر من الامور، وعنوانا من
العناوين، فالنزاع إنما يكون في أن التكا ليف المتعلقة بالعناوين، هل تختص
بالمصاديق المتحققة حال الخطاب أو في مجلس المخاطبة، أو تعم غيرهم ممن
سيوجد تدريجا، ويصير مصداقا لها في عمود الزمان؟
وإن شئت قلت: إن القضايا المتضمنة للتكاليف، هل هي قضايا خارجية،
أو حقيقية، وتكون التكا ليف متعلقة بالعناوين بغرض البعث والزجر، لكن بنحو
القضايا الحقيقية؛ من غير تقيدها بزمن الخطاب، فتصير فعلية لدى وجود

1 - قوانين الاصول 1: 240 / السطر 17، الفصول الغروية: 185 / السطر 5، فوائد الاصول
(تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 549.
2 - آل عمران (3): 97.
3 - النساء (4): 170.
4 - البقرة (2): 104.
348

المكلف، وصيرورته مصداقا للعناوين، وجامعا لشرائط التكليف؟
وهذا النزاع - مضافا إلى إمكانه - واقع (1).
والحق: هو الثاني، وأن كل فرد من الأفراد - في ظرف وجوده، وصيرورته
مصداقا لها - مبعوث بنفس الخطابات الصادرة، وتكون حجة عليه في ظرف
تحققه من دون أن تعم التكا ليف المعدومين، أو تقيد بوجود المكلف ووجدانه
الشرائط.
وما يقال: من أن التكليف إضافة متقومة بمتضايفين، ولا يمكن أن تتحقق
بين الموجود والمعدوم، فلابد في التكليف - ولو إنشائيا بغرض البعث - من وجود
المكلف بالكسر والفتح (2). خلط بين الإضافة من الإضافة التي من المقولات،
وبين الأوصاف الحقيقية ذات الإضافة، مثل العلم والقدرة والإرادة؛ فإن الثانية
تكون تحققها بقيامها بنفس العالم والقادر والمريد، مضافة - بنحو من الأنحاء -
إلى المعدوم، كالعلم بالأشياء المستقبلة، وكعلمه تعالى قبل الإيجاد.
نعم، الإضافة المقولية لا يمكن تحققها إلا بين الموجودين.
الثاني: هل تصح المخاطبة مع المعدومين وتوجيه الخطاب إليهم ولو لم
يكن متضمنا للتكليف؟
حاصل ما أفاده في هذا المقام: أنه يمتنع الخطاب الحقيقي إلى المعدوم
حال عدمه، وأما بملاحظة حال وجوده فلا مانع منه، كما أن الخطاب الإيقاعي
الإنشائي مما لا مانع منه حتى إلى المعدوم، ونتيجته صيرورته فعليا عند وجوده
وحصول شرائطه.

1 - انظر معا لم الدين: 108 / السطر 11، والفصول الغروية: 179 / السطر 37، ومطارح
الأنظار: 203 / السطر 10.
2 - انظر قوانين الاصول 1: 229 / السطر 21.
349

والظاهر أن مثل أدوات النداء لم يكن موضوعا للخطاب الحقيقي، بل هو
موضوع للإيقاعي الإنشائي منه، فالمتكلم ربما يوقع الخطاب بها تحسرا أو تأسفا
أو حزنا، كقوله: يا كوكبا ما كان أقصر عمره (1). فلا يوجب استعماله في معناه
الحقيقي حينئذ التخصيص بمن يصح مخاطبته.
نعم، لا يبعد دعوى الانصراف إلى الخطاب الحقيقي، كما هو الحال في أداة
الاستفهام والتمني والترجي (2). انتهى موضع الحاجة.
أقول: حقيقة الخطاب عبارة عن توجيه كلام إنشائي أو إخباري إلى
شخص لغرض إفهامه، ولا يتقوم تحصل الخطاب بتضمن الكلام لأداة الخطاب،
كالكاف وحروف النداء وأمثالها، فلو ألقى متكلم كلاما إخباريا إلى شخص، فقال
- متوجها إليه ولغرض إفهامه -: " زيد قائم "، يكون الكلام خطابا بالحمل
الشائع، والسامع مخاطبا كذلك؛ من غير احتياج إلى أداة الخطاب. نعم، مع اشتمال
الكلام عليها يكون آكد فيه من عدمه.
فالخطاب عبارة عن توجيه الكلام إلى الغير لغرض إفهامه وإعلامه؛
[ليصل] المتكلم - بواسطة فهم المخاطب - إلى ما هو مقصده الأعلى.
وليس هذا المعنى من المعاني التي يقع بإزائها لفظ، كسائر الألفاظ
الموضوعة للمعاني، بل التكلم بما هو فعل من الأفعال الاختيارية للمتكلم،
يكون بحسب طبعه عند العقلاء آلة للتوسل بها إلى التخاطب؛ بحيث لو سلب
عنها ذلك، ويتوسل بها إلى غيره من المقاصد - كإظهار التأثر والتأسف أو الإشفاق
والشوق - يكون مجازا عقلائيا، لا لفظيا لغويا؛ بمعنى أن هذا الفعل الاختياري

1 - عجزه: وكذاك عمر كواكب الأسحار. وهذا بيت من قصيدة لأبي الحسن التهامي أنشدها
في رثاء ولده الصغير. انظر الكنى والألقاب 1: 48. وله ديوان شعر مطبوع.
2 - كفاية الاصول: 267 - 268.
350

الذي يكون بحسب طبعه آلة للتوجه إلى الغير لغرض الإفهام، إذا توجه بها إلى
ما ليس له شعور وإدراك، لغرض آخر غير الإفهام - كالتحسر في قوله: " يا كوكبا
ما كان أقصر عمره... " - لا تكون ألفاظه مستعملة في غير معانيها اللغوية،
فحرف النداء في المثال وكذا سائر ألفاظه استعملت في معانيها الموضوعة لها،
لكن وقع هنا انحراف وتجوز في التكلم الذي هو من الأفعال الاختيارية، لا من
الألفاظ الموضوعة للمعاني، فالمجاز عقلائي لإيجاد ما يكون إيجاده طبعا
لغرض الإفهام؛ لا لهذا الغرض، بل لمقاصد اخر.
وإنما قلنا: إنه مجاز وانحراف، لأن العقلاء يحملون إيجاد هذا الفعل
الاختياري على طبق طبعه لو خلي ونفسه، فلو قال المولى لعبده: " أكرم زيدا "،
ليس له أن يعتذر عن تركه؛ باحتمال صدور الكلام منه لغرض آخر غير
الإفهام، من الامور المترتبة على هذا الفعل الاختياري، فإنه لا يصار إليه إلا مع
نصب قرينة، ومع عدمها يحمل التكلم على ما هو طبعه.
واتضح مما ذكرنا: أن ما أفاده المحقق الخراساني - من أن الخطاب موضوع
للإيقاعي والإنشائي، ولكنه منصرف إلى الحقيقي (1) - ليس على ما ينبغي؛ لما
عرفت من أن الخطاب لم يكن من الألفاظ الموضوعة؛ حتى يقال: إنه موضوع
لمعنى كلي، ومنصرف إلى أحد أفراده أو أقسامه، بل هو فعل اختياري كسائر
الأفعال الاختيارية، كما أن الأمر في الطلب وأمثاله ليس على ما أفاده، بل كما
ذكرنا على ما مر تفصيله.
هذا مضافا إلى أن الخطابات الإلهية في الكتاب العزيز، ليست صادرة لغير
غرض الإفهام، كالتأسف والتحزن والتحسر وأمثالها بالضرورة.
مع أن نسبة الخطابات الإلهية إلى المعدومين والموجودين - في زمن

1 - كفاية الاصول: 267 - 268.
351

الخطاب وفي محضر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - على السواء؛ فإنها إنما نزلت على قلب سيد
المرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما قال تعالى: (نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من
المنذرين) (1)، ومعلوم أنها لم تكن من الخطابات اللفظية التي يسمعها كل سامع
ولو كان حاضرا في مجلس الوحي، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما هو حاك عن تلك
الخطابات الغيبية، لا أنها هي نفس الخطابات كما هو واضح وحكايته عن
الوحي وصل إلينا بالواسطة؛ فلا يضر بالمدعى تصرم الألفاظ وعدم سماعها، بعد
كون الحكاية مستمرة بالكتابة أو بالنقل، كما قال تعالى: (لانذركم به ومن
بلغ) (2)، فنفس الخطاب غير مسموع لأحد، ولا مستمر الوجود، لكن الحكاية
عنه مستمرة باقية إلى آخر الأبد.
ومما ذكرنا يتضح النظر فيما أفاده (قدس سره).
فتحصل مما ذكرنا: أن النزاع في باب شمول الخطابات للمعدومين، ليس في
شمولها في حال عدمهم؛ بحيث يكون المعدوم طرف المخاطبة مع كونه معدوما؛
فإنه ضروري البطلان ولا يمكن أن يكون مورد النقض والإبرام بين الأعلام، بل
الكلام في أن تلك الخطابات، هل صدرت لغرض إفهام الموجودين حال الخطاب
أو الأعم منهم ومن المعدومين في زمنهم؛ ممن سيوجد في عمود الزمان بحسب
التدريج - كل في وعائه وزمانه - لا حال عدمه (107)، فقوله تعالى: (لله على

1 - الشعراء (26): 193 - 194.
2 - الأنعام (6): 19.
107 - النزاع العقلي المعقول يمكن أن يكون في أن ألفاظ العموم التي جاءت تلو أداة النداء
وأشباهها مما تكون خطابا، هل تعم المعدومين والغائبين، كما تعمهم ولو في ظرف
وجودهم لو لم تكن مقرونة بها، أو لا، حتى يرجع النزاع العقلي إلى أنه هل يستلزم
التعميم مخاطبتهما، حتى يمتنع، أو لا؛ فيكون النزاع في الملازمة وعدمها؟
وهذا يناسب مبحث العام، لا ظاهر العنوان؛ لأن إمكان مخاطبتهما وعدمه غير مربوط به،
بل المناسب له هو شمول ألفاظ العموم لهم وعدمه، بعد كونها تلو الخطابات الشفاهية.
(مناهج الوصول 2: 283 - 284).
352

الناس حج البيت) (1) مثلا صدر لإفهام كل من كان مصداقا لهذا المفهوم في الأزمنة
المتدرجة، وهذا نزاع معقول يمكن الذهاب إلى طرفيه.
والحق أن يقال: إن الخطاب الصادر من المتكلم إذا لم يكن له ثبات بوجه
- ولو بحفظه بالدفاتر والخواطر - لا يمكن أن يكون خطابا إلى غير الموجود في
مجلس الخطاب. وإن كان له ثبات ولو بالكتب والحفظ - ولو في بعض الآلات -
فلا إشكال في إمكان تعميمه كالخطابات الواردة في الكتب، مثل قوله: " اعلم "،
" افهم " وكالوصايا من الأشخاص إلى أولادهم نسلا بعد نسل، ولا إشكال في أن
الخطابات الإلهية من هذا القبيل.

1 - آل عمران (3): 97.
353

فصل
تعقب العام بالضمير
إذا تعقب العام بضمير راجع إلى بعض أفراده، فهل يوجب ذلك تخصيصه أم
لا (108)؟ كقوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) إلى قوله:
(وبعولتهن أحق بردهن) (2) حيث اختص حكم الأحقية بالرد بالرجعيات.
قال المحقق الخراساني: إنه دار الأمر بين التصرف في العام؛ بإرادة
خصوص ما اريد من الضمير، أو التصرف في الضمير، بإرجاعه إلى بعض ما هو

108 - ولا يخلو هذا العنوان عن مسامحة؛ لما سيتضح لك: من أن الضمير لا يرجع إلى بعض
الأفراد في مورد، بل الحكم بحسب الجد يختص ببعضها، فعوده إلى بعضها لم يكن مفروغا
عنه.
وليعلم: أنه لم يتضح من كلامهم أن النزاع يختص بما إذا علم من الخارج أن الحكم غير
عام لجميع أفراد المرجع، كالآية الشريفة، أو يختص بما إذا علم ذلك بقرينة عقلية أو
لفظية حافة بالكلام، مثل قوله: " أهن الفساق، واقتلهم " حيث علم المخاطب حين إلقاء
الكلام إليه أن حكم القتل ليس لجميع أفراد الفساق أو يعمهما.
ظاهر التمثيل بالآية الشريفة عدم الاختصاص بالثاني، بل لا يبعد أن يكون ذيل كلام
المحقق الخراساني شاهدا على التعميم لهما على تأمل. (مناهج الوصول 2: 293 - 294).
2 - البقرة (2): 228.
355

مرجعه، أو بارتكاب التجوز في نسبة الحكم إلى الكل توسعا، ومع الدوران بينها
تكون أصالة العموم بلا معارض؛ لأن المراد من الضمير معلوم؛ لرجوعه إلى
الرجعيات مثلا، وإنما الشك في كونه من باب الحقيقة أو المجاز في الكلمة أو
الإسناد، ولم يثبت بناء العقلاء على اتباع الظهور في ذلك، بل المتيقن منه اتباعه
في تعيين المراد، لا في كيفية الاستعمال.
هذا، إذا انعقد للكلام ظهور في العموم.
وأما مع اكتنافه بما يصلح للقرينية، فيحكم بالإجمال، ويرجع إلى ما
تقتضيه الاصول (1). انتهى ملخصا.
أقول: إن الاحتمالين الأخيرين ساقطان رأسا. أما احتمال رجوع الضمير
إلى بعض ما اريد من المرجع (109)، فلما عرفت في محله: من أن المبهمات - ومنها
الضمائر - إنما وضعت لما هو إشارة بالحمل الشائع؛ أي لإيجادها، لا لمفهومها (3)،
ولا لمصداق المشار إليه (4)، كما يتراءى من بعض حواشي " المطول "، ولابد

1 - كفاية الاصول: 271 - 272.
109 - ما في كلامهم: من كون المقام من قبيل الدوران بين التخصيص والاستخدام في الضمير،
من غريب الأمر؛ لأنه يخالف مذاق المتأخرين في باب التخصيص من عدم كونه تصرفا
في ظهور العام، فقوله: (والمطلقات يتربصن...) مستعمل في العموم، وضمير بعولتهن -
أيضا - يرجع إليها من غير استخدام وتجوز، والمخصص الخارجي في المقام ليس حاله
إلا كسائر المخصصات من كشفه عن عدم تعلق الإرادة الجدية إلا ببعض الأفراد في
الحكم الثاني؛ أي الأحقية، وذلك لا يوجب أن يكون الحكم الأول كذلك بوجه، بل هذا
أولى بعدم رفع اليد عنه من العام الواحد إذا خصص بالنسبة إلى البقية. (مناهج الوصول
2: 295).
3 - توهمه جماعة كما في حاشية السيد الشريف على المطول: 70.
4 - كما اختاره السيد الشريف، فانظر نفس المصدر.
356

للإشارة من تعين المشار إليه بوجه: إما بنحو الحضور خارجا، أو ذهنا، أو بنحو
التخاطب كضمير المخاطب، أو التكلم كضمير المتكلم. ف‍ " أنت " وأخواتها وضعت
للإشارة إلى متعين بالتخاطب، و " هو " وأخواتها وضعت للإشارة إلى متعين في
الذهن، أو سابق في اللفظ، وإذا لم يكن للمرجع تعين بوجه، فلا يكون للإشارة
مورد، فلابد وأن يرجع الضمير إلى كل ما اريد من العام؛ لأنه المذكور في الكلام
والمتعين في المقام، ولا يكون بعض ما اريد من العام متعينا بوجه؛ لا لفظا وذكرا،
ولا عقلا وذهنا، فاحتمال رجوعه إلى البعض ساقط.
وإن شئت قلت: إن الضمير لما وضع لأن يكون آلة للإشارة إلى متعين،
يكون تابعا للمشار إليه في العموم والخصوص، فأصالة الظهور في الضمير
تابعة لأصالة العموم؛ فجريان الأصل في العام يرفع الشك من الضمير، ويكون
من قبيل الأصل الحاكم.
وأما حديث المجاز في الإسناد - بإسناد أحقية الرجوع في الآية إلى كل
المطلقات توسعا - فهو أيضا ساقط، لأن إسناد ما للبعض إلى الكل، إنما يحسن إذا
اعتبر الكل شيئا واحدا، وادعي أن ما صدر من البعض صادر من الكل؛ لمكان
اتحاده معه، كقوله: " بنو فلان قتلوا فلانا "؛ بدعوى أنهم بمنزلة شخص واحد،
فإذا صدر من واحد منهم أمر، فقد صدر منهم، وأما مع إرادة الاستغراق من العموم،
فحيث يكون كل واحد من أفراده مستقلا في الحكم من غير ادعاء الوحدة، فلا
مصحح للتجوز وإرجاع الضمير إلى الكل توسعا، فإذا سقط الاحتمالان، بقي
الاحتمال الأول.
والتحقيق: أن العام باق على عمومه، والضمير راجع إليه والإسناد واقع
عليه بحسب الإرادة الاستعمالية، والمخصص الخارجي أخرج بعض ما اريد -
بحسب الاستعمال - عن العام، كما هو الحال في كلية المخصصات.
357

وبما ذكرنا يظهر النظر فيما أفاده من إمكان اكتناف العام بما يصلح للقرينية
- أي كون الضمير صالحا للقرينية - لما عرفت من أن الضمير تابع لمرجعه،
وأصالة العموم حاكمة على أصالة الظهور فيه، فلا يصلح الضمير للقرينية،
وإنما المخصص للعام أمر آخر خارج والمخصص الخارجي يوجب عدم تطابق
الإرادتين في الضمير لا العام؛ لأن حكم التربص ثابت لجميع المطلقات،
والاختلاف إنما هو في جواز الرجوع وعدمه (110).

110 - أما إذا كان الكلام مقترنا - عقلا أو لفظا - بما يجعل الحكم خاصا ببعض الأفراد، فالظاهر
طرو الإجمال في الغالب؛ لعدم إحراز بناء العقلاء على إجراء أصالة التطابق في مثل ما
حف الكلام بما يصلح للاعتماد عليه، فصحة الاحتجاج بمثل: " أهن الفساق واقتلهم "
لإهانة غير الكفار، مشكلة. (مناهج الوصول 2: 296).
358

فصل
فرق بين المفهوم المخالف والموافق
قد عرفت - فيما سبق (1) - الفرق بين المفهوم المخالف والموافق، وأن
الثاني يرجع إلى إلقاء الخصوصية (111)، ولا يشترط فيه الأولوية، كما في
قوله: الرجل يشك بين الثلاث والأربع، قال: " يبني على الأربع " (3) فإن العرف
يلقي الخصوصية مع أن المرأة لا أولوية لها وبعد فرض إلقاء الخصوصية
يخصص العام.
وما أفاده في " الكفاية " - من كون التخصيص به مورد الاتفاق (4) - غير
مسلم، بل قد يظهر وجود الخلاف بين القدماء، كما في كلام العضدي (5) بعد
الترديد " أن الأظهر هو التخصيص به " فالتعبير به مما يتراءى منه الخلاف في
المسألة.

1 - تقدم في الصفحة 271 - 272.
111 - انظر التعليقة 83.
3 - انظر وسائل الشيعة 5: 322، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 10،
الحديث 7.
4 - كفاية الاصول: 272.
5 - انظر شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 275.
359

وأما الأول - أي المفهوم المخالف - فهو يرجع إلى دخالة القيد، وأن
الحكم ثابت للذات مع تقيدها بقيد، وليست الذات تمام الموضوع للحكم، وقد
عرفت (1): أن ذلك هو مورد بحث القدماء (112)، دون ما هو المبحوث عنه لدى
المتأخرين من أن أداة الشرط يستفاد منها العلية المنحصرة، أو الوصف مثلا يشعر
بالعلية المنحصرة.
وبالجملة: إن الملاك في كلية المفاهيم عند القدماء شيء واحد هو
دخالة القيد في الحكم، فعلى هذا يكون التقييد أو التخصيص بالمفهوم المخالف
راجعا دائما إلى حمل المطلق على المقيد، والسر فيه هو السر فيه.
مثلا: ما روته العامة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أنه قال: " خلق الله الماء
طهورا لم ينجسه شيء، إلا ما غير لونه أو طعمه أو رائحته " (3) تكون نسبته
إلى قوله: " إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء " (4)، نسبة المطلق إلى المقيد؛
فإن الأول يدل على أن الماء تمام الموضوع لعدم التنجس، والثاني يدل على أن
للكرية دخالة فيه، فتقع المعارضة بين المنطوقين، ولا إشكال في أظهرية
المقيد في دخالة القيد من المطلق في تمام الموضوعية، فيحمل عليه.
وأما إذا لم يكن الماء كرا فلا يدل الثاني على شيء؛ فإن المفهوم منه ليس
إلا دخالة القيد، وأما عدم دخالة شيء آخر، فلا يمكن أن يقع قيد آخر مقام
القيد المذكور، فيكون الماء مثلا مع الجريان أو مع المادة أيضا غير منفعل.

1 - تقدم في الصفحة 268 - 271.
112 - قد مر في مبحث المفاهيم أن في هذه النسبة تردد. لاحظ التعليقة 81.
3 - انظر اتحاف السادة المتقين 2: 332، والمغني عن حمل الحكمة المتعالية 1: 129،
والتفسير الكبير 24: 95، والسرائر 1: 64.
4 - مختلف الشيعة 1: 24، وانظر وسائل الشيعة 1: 117، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 9، الحديث 1 و 2 و 6.
360

وبالجملة: إن التخصيص بالمفهوم المخالف - عند القدماء - من صغريات
حمل المطلق على المقيد، والكلام فيه هو الكلام فيه (113). وأما عند المتأخرين،
فعلى القول بالعلية المنحصرة ليس دلالة مفهومية، بل هي دلالة بالمنطوق؛
حيث تدل أداة الشرط أو الوصف المعتمد على الموصوف على العلية المنحصرة،
فتدل على عدم الحكم عند عدم القيد، وحينئذ ليس من قبيل المطلق والمقيد، كما
لا يخفى؛ ولهذا تدل على عدم مدخلية قيد آخر سوى القيد المذكور، فتدبر.

113 - لا إشكال في أن الكلام بعد الفراغ عن المفهوم، وأن يكون التعارض بين عام ومفهوم، كما
لو ورد: " أكرم كل عالم " وورد: " إن جاءك زيد لا تهن فساق العلماء " مما كان مفهومه
أخص من العام مطلقا، ومثل: " أكرم العلماء " و " إن جاءك زيد أكرم الفساق " مما كان
مفهومه أعم من وجه معه.
وأما ما قيل: من أن الكلام في تخصيص العام بالمفهوم عند القدماء هو الكلام في باب
الإطلاق والتقييد، فهو خروج عن ظاهر البحث وعنوانه بلا دليل. (مناهج الوصول
2: 302).
361

فصل
الاستثناء المتعقب لجمل متعددة
الاستثناء المتعقب لجمل متعددة، هل يمكن رجوعه إلى الكل أم لا؟
وعلى الأول هل الظاهر رجوعه إلى الكل، أو الأخيرة، أو لا ظهور له؟
قد عرفت في مبحث الحروف: أن معانيها غير مستقلة في الوجود، وأن
موجوديتها بنفس المعاني الاستقلالية التي هي فانية فيها، والاستثناء ب‍ " إلا " من
المعاني الحرفية الربطية الغير المستقلة، الفانية في المعاني الاسمية، فحينئذ
قد يعتبر الجمل المتعددة بنعت الوحدة، فيخرج ب‍ " إلا " من مجموعها من حيث
المجموع، وهذا مما لا محذور فيه.
وقد يعتبر القضايا متعددة كثيرة، فيراد أن يستثنى ب‍ " إلا " من كل واحد منها،
فمحذوره أشد من استعمال لفظ واحد في معان متعددة؛ فإن الحروف آلة للحاظ
المعاني الاسمية وفانية فيها، ولا يمكن فناء شيء واحد في امور كثيرة، ولا
يقاس ذلك بالاستثناءات المتعددة؛ فإن حروف العطف فيها رابطة، فيخرج الأول
ب‍ " إلا " ويرتبط الثاني به بحرف العطف... وهكذا، فلا محذور فيه، بخلاف
الاستثناء الواحد من الجمل الكثيرة، فإنه من قبيل استعمال اللفظ الواحد في
363

معان متعددة، بل أشد محذورا منه (114).
اللهم إلا أن يقال: إن الاستعمال ليس إلا من قبيل العلامة (2)، فبعد تصور
الجمل المتعددة، وكون المستثنى خارجا من كل منها، يجعل علامة للإخراج من
كل منها، فيفهم المخاطب بواسطتها كونه خارجا من جميعها.
أو يقال: ربما يلاحظ الجمل الكثيرة بلحاظ واحد حين استعمال الأداة
الاستثنائية، وإن تلاحظ تلك الجمل مستقلة حين استعمالها، فيستثنى باللحاظ
الواحد من جميعها. ويؤيد ذلك: عدم إمكان إلزام أئمة الأدب بالإشكال المتقدم.

114 - التحقيق أن يقال: إن تلك الحروف لما كانت تابعة للأسماء في التحقق الخارجي والذهني
وفي أصل الدلالة على معانيها، كانت تابعة لها في كيفية الدلالة؛ أي الدلالة على
الواحد والكثير، فتكون دالة على واحد عند كون الأطراف كذلك، وعلى الكثير إذا كانت
الأطراف كذلك. ففي قولنا: " كل عالم في الدار " يكون العالم دالا على عنوان المتلبس
بالعلم، والكل على أفراده، ولفظة " في " على الروابط الحاصلة بينها وبين الدار، فيكون
من قبيل استعمال اللفظ في المعاني الكثيرة، لا استعماله في كلي منطبق على الكثيرين؛
لعدم تعقل ذلك وإمكان ما ذكرنا بل وقوعه.
وهذا النحو من الاستعمال في الكثير كالوضع له والحكاية عنه مما لا مانع منه، ولو
كان المستعمل فيه غير متناه؛ لأن تكثير الدلالة والاستعمال تبعي فلا محذور فيه ولو
قلنا بعدم جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى في الأسماء؛ لعدم جريان البرهان المتوهم
في الحروف؛ لما عرفت: من أن استعمالها ودلالتها وتعقلها وتحققها تبعية غير مستقلة.
(مناهج الوصول 1: 85).
هذا، مع منع لزوم استعمال الأداة في أكثر من معنى؛ فإن المستثنى إذا كان كليا قابلا للصدق
على الكثيرين فاخرج ب‍ " إلا " وغيرها، يكون الاستثناء بإخراج واحد مخرجا للكثيرين،
فقوله: " أكرم العلماء، وأضف التجار إلا الفساق منهم " إخراج واحد للفساق قابل
للانطباق على فساق العلماء والتجار، فلا يكون استعمال الأداة في أكثر من معنى. (مناهج
الوصول 2: 307).
2 - انظر كفاية الاصول: 53.
364

هذا بحسب مقام الثبوت.
وأما بحسب مقام الدلالة والظهور: فلا إشكال في عدم الظهور في
شيء (115)، ولكن القدر المتيقن هو الأخير، وغيره يحتاج إلى الدليل.

115 - والظاهر رجوع الاستثناء إلى جميع الجمل إذا ذكر الاسم الظاهر في الجملة الاولى،
وعطف سائر الجمل عليها مشتملا على الضمير الراجع إليه، واشتمل المستثنى - أيضا -
على الضمير، كقوله: " أكرم العلماء وسلم عليهم وألبسهم إلا الفساق منهم " لأن الضمير -
كما مر - موضوع لنفس الإشارة إلى الغائب، كما أن أسماء الإشارة موضوعة للإشارة إلى
الحاضر، فإذا اشتمل المستثنى على الضمير يكون إشارة إلى شيء، ولم يكن في الجمل
شيء صالح للإشارة إليه إلا الاسم الظاهر المذكور في صدرها، وأما سائر الجمل
فلا تصلح لإرجاع الضمير إليها؛ لعدم عود الضمير إلى الضمير.
وبالجملة: لما كان الاسم الظاهر مرجعا للضمائر التي في جميع الجمل، فإذا رجع ضمير
الاستثناء إليه، يخرجه عن تحت جميع الأحكام المتعلقة به، كما هو المتفاهم به عرفا
أيضا.
وكذا لا يبعد أن يكون الاستثناء من الجميع إذا لم يشتمل المستثنى على الضمير مع اشتمال
الجمل عليه، كما لو قال في المثال المتقدم: " إلا بني فلان ". أما إذا قلنا: بأن الضمير في
مثله منوي، فلما ذكرنا، وإن قلنا بعدم النية؛ فلأن الضمائر في سائر الجمل غير صالحة
لتعلق الاستثناء بها؛ فإنها بنفسها غير محكومة بشيء، فلا محالة يرجع الاستثناء إلى ما
هو صالح له.
وأما إذا تكرر الاسم الظاهر، كما لو قال: " أكرم العلماء وأضف التجار وألبس الفقراء إلا
الفساق منهم " فرجوعه إلى الجميع وإلى الأخيرة محتمل، ولا يكون ظاهرا في واحد منهما.
وما قيل: من أن الظاهر رجوعه إلى الأخيرة؛ لأن تكرار عقد الوضع في الجملة الأخيرة
مستقلا يوجب أخذ الاستثناء محله من الكلام، لا يرجع إلى محصل، بل المستثنى إن
اشتمل على الضمير، يكون الاستثناء تابعا له في السعة والضيق، وهو محتمل الرجوع
إلى الأخيرة وإلى الجميع من غير تأول وتجوز، ومع عدم الاشتمال يحتمل الأمرين - أيضا
- بانطباق العنوان على الجميع أو الأخيرة، بل رجوع الضمير وانطباق العنوان على الجميع
لو لم يكن أولى، فلا أقل من المساواة احتمالا.
ومما ذكرنا يظهر حال ما إذا اشتمل بعض الجمل المتوسطة على الاسم الظاهر، وما بعده
على الضمير الراجع إليه، مثل قوله: " أكرم العلماء وسلم عليهم وأضف التجار وأكرمهم إلا
الفساق منهم " من احتمال الرجوع إلى المشتمل على الاسم الظاهر في الجملة الأخيرة
وما بعدها، وإلى الجميع. (مناهج الوصول 2: 307 - 308).
ثم إنه فيما إذا لم يظهر رجوعه إلى الأخيرة أو الجميع، فالأخيرة متيقنة؛ لأن الرجوع إلى
غيرها خلاف قانون المحاورة، فهل يجوز التمسك بالعام في سائر الجمل التي شك في
رجوعه إليها، أو لا، أو يفصل بين ما إذا قلنا باحتياج العموم إلى مقدمات الحكمة،
وعدمه؟
الظاهر عدم الجواز مطلقا؛ لعدم إحراز بناء العقلاء على التمسك بأصالة الجد فيما إذا حف
الكلام بشيء صالح لتقييد مدخول أداة العموم، فلا محالة يصير الكلام مجملا.
وما قيل: من أن ذلك مخل بغرض المتكلم، منظور فيه؛ لإمكان تعلق غرضه بإلقاء الكلام
المجمل، وإلا لوجب أن لا يصدر منه المجملات، وهو كما ترى.
وقد يقال: إن أصالة الإطلاق في الاستثناء والمستثنى جارية لولا حكومة أصالة العموم
عليها، ومعها لا مجال لقرينة الإطلاق؛ لأنه دوري.
وفيه أولا: أن المستثنى إن اشتمل على الضمير، يتبع إطلاقه له، ولا يكون الإطلاق
مشخصا لمرجع الضمير؛ للزوم الدور.
وثانيا: أن العموم وإن لم يحتج إلى المقدمات، لكن يتوقف الاحتجاج به على جريان
أصالة الجد، وفي مثل الكلام المحفوف بما ذكر جريانها غير محرز.
ومع عدم اشتماله على الضمير - أيضا - محل إشكال؛ لصحة انطباق عنوانه على الجميع،
كان الضمير منويا أو لا، ومعه لا تكون أصالة الجد محرزة، فتدبر. (مناهج الوصول 2:
309 - 310).
365

فصل
جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد
الحق جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد المعتبر بالخصوص؛ للسيرة
المستمرة في جميع الأعصار عليه، ولولاه لما قام للمسلمين فقه؛ ضرورة ندرة
خبر لم يكن على خلافه عموم الكتاب.
واستدل على عدم الجواز بامور:
الأول: أن الخبر الواحد ظني، والكتاب قطعي، ولا يجوز رفع اليد عنه به (1).
والجواب: أن التصرف ليس في السند، بل في العموم، وأصالة العموم
ظنية، فرفع اليد عن العموم به رفع لليد عن الدليل الظني بالدليل الظني الأقوى؛
للسيرة العقلائية.
الثاني: أن دليل حجية الخبر هو الإجماع، وهو قاصر عن المورد؛ لأن
القدر المتيقن منه غيره (2).

1 - عدة الاصول 1: 344، وانظر شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 247 /
السطر 13.
2 - عدة الاصول 1: 344 - 345، وانظر كفاية الاصول: 275.
367

وفيه: أن الدليل هو السيرة القطعية العقلائية، ولم يرد ردع عنها،
والإجماع أيضا عملي يرجع إليها، لا إلى الإجماع المصطلح، كما أن سيرة
المسلمين ترجع إلى السيرة العقلائية، لا المتشرعة، وقد عرفت: أن السيرة في
جميع الأعصار [جارية] على تخصيص الكتاب بالخبر.
الثالث: أنه لو جاز التخصيص لجاز النسخ؛ لأن النسخ هو التخصيص
الزماني، ولا يجوز نسخه به قطعا (1).
وفيه: منع الملازمة؛ لقيام الإجماع على عدم جواز النسخ، دون التخصيص.
مضافا إلى منع عدم جواز النسخ أيضا.
الرابع: أن الأخبار المتواترة معنى أو إجمالا، تدل على وجوب طرح
الأخبار المخالفة للقرآن (2)، فكيف يخصص القرآن به (3).
والجواب عنه: أن تلك الأخبار - على كثرتها - على طوائف:
الاولى: ما دلت على وجوب عرض الخبر على كتاب الله، فإن وجد فيه
شاهد أو شاهدان عليه فيعمل به، وإلا فلا (4).
وهذه الطائفة تدل على عدم حجية الأخبار من رأس، فإنه لو وجد شاهد
أو شاهدان من كتاب الله على شيء، ويكون شرط العمل به ذلك، يكون المعمول
عليه هو الكتاب فقط، فلا معنى لحجيته، فهذه الطائفة معارضة لجميع ما دل

1 - انظر عدة الاصول 1: 345، ومعا لم الدين: 147 - 148.
2 - تأتي الإشارة لمصادرها.
3 - انظر عدة الاصول 1: 350، وكفاية الاصول: 275 - 276.
4 - انظر الكافي 1: 55 / 2 و 2: 176 / 4، والمحاسن: 225 / 145، ووسائل الشيعة 18:
78، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 11.
368

على حجية الخبر الواحد، وقد دلت الأخبار المتواترة على إمضاء السيرة
العقلائية في العمل بالأخبار، كما أن عمل الأصحاب عليه خلفا عن سلف،
فلا يمكن أن تكون تلك الأخبار رادعة عنها.
مع أنها أخبار آحاد لا تبلغ حد التواتر، فرادعيتها عنها دورية.
الثانية: ما دل على الترجيح بكتاب الله عند تعارض الخبرين (1).
وهذه الطائفة غير مربوطة بما نحن فيه.
الثالثة: الأخبار الدالة على عدم صدور الأخبار المخالفة - أو غير
الموافقة - للقرآن منهم، وأن الخبر الكذائي (زخرف)، و (باطل)، و (يضرب على
الجدار) (2).
الرابعة: ما دلت على أن الأخبار المخالفة - أو غير الموافقة - لا يجوز
العمل بها، ويجب رد علمها إليهم (3). فالعمدة هي هاتان الطائفتان.
والجواب عنهما: أنه لا محيص عن حملهما على المخالفة بالتباين؛
ضرورة ورود الأخبار المخالفة لعموم الكتاب وإطلاقه منهم، بل ما من خبر إلا
وهو مخالف لعموم الكتاب أو إطلاقه، وقلما يتفق أن تكون الأخبار المتواترة
على خلافه، مع أن لسان [تينك] الطائفتين طرح الأخبار المخالفة مطلقا؛ واحدة

1 - كما في الكافي 1: 7، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 20 / 45، وسائل الشيعة 18: 80 -
81، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 19 و 21.
2 - كما في الكافي 1: 55 / 4، تفسير العياشي 1: 9 / 7، التبيان في تفسير القرآن 1: 5،
عدة الاصول 1: 350، وسائل الشيعة 18: 78، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي،
الباب 9.
3 - مستطرفات السرائر: 69 / 17، جامع أحاديث الشيعة 1: 66، باب 6 من أبواب
المقدمات.
369

كانت أو متواترة.
هذا، مضافا إلى أن المخالفة بالعموم والخصوص والإطلاق والتقييد ليست
مخالفة عرفا؛ فإن المخالفة - أو غير الملائمة والموافقة - عند العرف هي
المباينة عندهم.
فتحصل مما ذكرنا: أن تخصيص الكتاب بالخبر الحجة جائز.
370

المقصد الخامس
المطلق والمقيد
371

فصل
تعريف المطلق
عرف المطلق: بأنه ما دل على شائع في جنسه، والمقيد بخلافه (1).
وقد استشكل عليه بعدم الاطراد والانعكاس (2).
وقال المحقق الخراساني: إن مثله شرح الاسم، وليس بتعريف حقيقي،
وهو مما يجوز ألا يكون بمطرد، ولا بمنعكس (3). وهو كما ترى.
ويرد على هذا التعريف إشكالات:
منها: أنه إن كان المراد بالجنس فيه، هو الطبيعة التي مدلول اللفظ،
يلزم أن يكون المطلق شائعا في نفسه، وهو كما ترى.
وإن كان الجنس الذي فوق مدلول المطلق، يلزم أن يكون شائعا فيما
فوقه، وهو أشد محذورا.
وإن كان المراد بالجنس هو الأفراد، ففيه: أنها ليست جنس الكلي.
ومنها: أنه يظهر من هذا التعريف: أن الإطلاق والتقييد وصفان للفظ

1 - شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 284، معا لم الدين: 54 / السطر 3.
2 - الفصول الغروية: 218 / السطر 12.
3 - كفاية الاصول: 282.
373

باعتبار المعنى الموضوع له، فبعض الألفاظ وضع لمعنى شائع في جنسه، وهو
المطلق، وبعض الألفاظ وضع لمعنى غير شائع فيه وهو المقيد، فالموضوع له
في المطلق غيره في المقيد.
وإن شئت قلت: إن الأعلام الشخصية والجزئيات الحقيقية مما لا شيوع لها
تكون من المقيدات، والماهيات الكلية - من أسماء الأجناس وأعلامها
والنكرات؛ مما لها شمول استغراقي أو بدلي - من المطلقات، وهذا خلاف التحقيق
في المطلق والمقيد حسب ما يستفاد من موارد استعمالاتهما لدى الفقهاء
والاصوليين (1).
والتحقيق: أن المطلق والمقيد ليسا من صفات المعنى الموضوع له، وليس
للمطلق معنى، وللمقيد معنى آخر موضوع له لفظ آخر في قباله، بل المطلق
والمقيد صفتان لموضوع الحكم بما إنهما موضوعه، فربما جعل شيء تمام
الموضوع في ثبوت حكم عليه، وربما لا يكون كذلك، بل جعل موضوعا مع قيد زائد.
فالمطلق: ما يكون موضوعا لحكم من الأحكام بلا دخالة قيد فيه غير
ذاته، ويقال له: المطلق؛ لإطلاقه عن القيود والسلاسل، ولكونه جاريا على
مقتضى ذاته.
والمقيد: ما يكون موضوعا لحكم مع دخالة شيء آخر فيه، ويقال له:
المقيد؛ لتقيده، كالمحبوس المقيد بالسلسلة.
ومما ذكرنا يتضح امور:
الأول: أن المطلق لابد له من شيوع، سواء كان شيوعا فرديا، أو حاليا، فما

1 - انظر الذريعة إلى اصول الشريعة 1: 275 - 277، وعدة الاصول 1: 329 - 333.
374

لا شيوع له أصلا - لا بحسب الأفراد، ولا بحسب الحالات والأزمان - لا يعد
مطلقا.
الثاني: أن الشائع أيضا لا يعد مطلقا إلا إذا اخذ موضوعا لحكم، ويكون
تمام الموضوع له بلا دخالة شيء فيه، فقوله: " أعتق رقبة " مطلق، كقوله:
" أكرم زيدا ".
الثالث: أن الإطلاق والتقييد صفتان لأمر واحد باعتبارين، فالرقبة إذا
كانت تمام الموضوع لحكم تكون مطلقة، وإذا كانت مع قيد الإيمان موضوعا له
تكون مقيدة، فالإطلاق والتقييد وصفان للرقبة في المثال؛ باعتبار تمام
الموضوعية للحكم وعدمه.
الرابع: أن الإطلاق والتقييد وصفان إضافيان، فربما كان شيء باعتبار قيد
مطلقا، وباعتبار قيد آخر مقيدا، فعتق الرقبة بالنسبة إلى الإيمان يمكن أن يكون
مقيدا، وبالنسبة إلى الصحة والمرض مطلقا.
الخامس: أن بين المطلق والمقيد تقابل العدم والملكة، فالمطلق هو غير
المقيد مما من شأنه أن يكون مقيدا (116).
السادس: أن الإطلاق والتقييد وصفان للمعنى أولا وبالذات، وللفظ الدال
عليه ثانيا وبالعرض، فالرقبة - في مقام الثبوت - إذا كانت تمام الموضوع
لحكم، تكون مطلقة، وإلا تكون مقيدة، واللفظ الدال على الأول مطلق بواسطة،

116 - ومنها: أن بين الإطلاق والتقييد شبه العدم والملكة؛ لأن الإطلاق متقوم بعدم التقييد،
وكان من شأنه ذلك، وما لا يكون من شأنه التقييد لا يكون مطلقا ولا مقيدا.
وإنما قلنا: شبههما؛ لأن التقابل الحقيقي إنما يكون فيما إذا كان للشيء استعداد حقيقة؛
بحيث يخرج من القوة إلى الفعل بحصول ما يستعد له، فالأعمى إذا صار بصيرا خرج من
القوة إلى الفعل، وفي باب المطلق والمقيد ليس الأمر كذلك. (مناهج الوصول 2: 315).
375

والدال على الثاني مقيد كذلك.
السابع: أن الإطلاق متقوم بأمر عدمي، وهو عدم أخذ شيء في الموضوع
سوى الذات، ولا يحتاج إلى لحاظ السريان والشيوع في الأفراد، ولا إلى تقيدها
بالسريان فيها (1).
فتحصل مما ذكرنا: أن ملاك الإطلاق - أي صيرورة الموضوع متساوي
النسبة إلى جميع الأفراد بالنسبة إلى حكم، شموليا كان أو بدليا - هو كونه تمام
الموضوع ثبوتا، وملاك التقييد كونه الموضوع مع قيد.
وهذا هو ملاك السريان، لا تقييده بالسريان أو لحاظه فيه، بل التقييد به
يوجب عدم السريان، فالاختلاف بين الإطلاق والتقييد إنما هو باعتبار مقام
الموضوعية لحكم، لا بحسب مقام الوضع، فلا يكون الموضوع له فيهما مختلفا.
تنبيه: الألفاظ المطلقة
بناء على ما ذكرنا في تحقيق المطلق والمقيد، لا حاجة إلى تحقيق أسماء
الأجناس وأعلامها وأمثالهما، لكن نذكر ما هو التحقيق فيهما استطرادا وتبعا
ل‍ " الكفاية " (2).
فنقول: أما اسم الجنس - كإنسان وفرس وسواد وبياض من الجواهر
والأعراض - فوضع لنفس الطبيعة اللا بشرط، التي هي نفس الماهيات من حيث
هي، المنتفية عن مرتبة ذاتها غير ذاتها وذاتياتها، حتى النقائض، فالإنسان بما
أنه إنسان، لا موجود ولا لا موجود، ولا واحد ولا كثير، ولا أسود ولا لا أسود...
وهكذا، فالأوصاف التي تكون من قبيل الخارج المحمول، والتي من قبيل

1 - كما هو المشهور على ما في مطارح الأنظار: 221 / السطر 34.
2 - كفاية الاصول: 282 - 286.
376

المحمول بالضميمة، كلها مرتفعة عن مرتبة ذات الماهية، كما أن مقابلاتها
كذلك، وهذا لا يحتاج إلى تحقيق أقسام الماهية، لكنا نشير إليها تبعا للقوم.
فنقول: إنهم قسموها إلى الماهية بشرط شيء، وبشرط لا، ولا بشرط.
فعرفوا الاولى: بأنها عبارة عن الماهية مع لحاظ شيء معها، كالإنسان
الموجود أو الكاتب.
والثانية: بأنها هي مع لحاظ التجرد عن كل شيء واعتبار عدمه.
والثالثة: بأنها هي مع عدم لحاظ شيء معها (1).
فاشكل عليهم: بأن المقسم فيها عين القسم الثالث؛ أي الماهية لا بشرط
شيء (2)، فأطالوا الكلام والنقض والإبرام لدفع الإشكال وتحصيل الفرق بينهما (3).
والذي يساعد عليه النظر الدقيق: أن تلك الأقسام ليست لنفس الماهية،
بل هي أقسام للحاظها على أنحاء، فقد تلحظ بشرط شيء، وقد تلحظ بشرط لا،
وقد تلحظ لا بشرط شيء، فأصل اللحاظ مقسم - وهو غير أقسامه - وليست
الأقسام للماهية حتى يرد الإشكال. وليست الماهية اللا بشرط على قسمين:
مقسمي وقسمي، وكل من تصدى لتقسيم الماهية قسمها بلحاظ هذه الاعتبارات،
وإن غفل عن كون التقسيم للاعتبار واللحاظ لا لنفسها.
بل لا يمكن أن يكون التقسيم لنفسها؛ فإن الماهية المجردة - أي التي
بشرط لا - لا حقيقة لها أصلا بحسب الواقع، لا في الخارج ولا في الذهن، فكيف
تكون من أقسامها؟!

1 - انظر الحكمة المتعالية 2: 16 - 18.
2 - نفس المصدر: 19.
3 - نفس المصدر 2: 19، شرح المنظومة، قسم الحكمة: 97، مطارح الأنظار: 216 /
السطر 26، فوائد الاصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 569.
377

كما أن اللا بشرط - بما أنها لا بشرط - لا حقيقة لها، فتحققهما وتقررهما
بحسب الاعتبار واللحاظ وإن كان نفس الاعتبار مغفولا عنه، فالتقسيم باعتبار
اللحاظ، والمقسم لحاظ الماهية، لكن اللحاظ مغفول عنه، فالأقسام وإن كانت
متقومة باللحاظ، ولكنه مغفول عنه (117).
وهذا بوجه نظير الجواب عن الإشكال في باب " أن المجهول المطلق
لا يخبر عنه " بأن هذا إخبار (2).
فيجاب: بأن هذا الإخبار باعتبار معلوميته بحسب اللحاظ؛ وإن كان

117 - وأبعد شيء في المقام هو توهم: كون التقسيم للحاظ الماهية، لانفسها، فلا أدري أنه أي
فائدة في تقسيم اللحاظ. ثم أي ربط بين تقسيمه وصيرورة الماهية باعتباره قابلة للحمل
وعدمه. (مناهج الوصول 2: 321).
والذي يؤدي إليه النظر الدقيق - وإن لم أر المصرح به - أن كلية التقسيمات التي في باب
الماهية والأجناس والفصول تكون بلحاظ نفس الأمر ومرآة إلى الواقع، والاختلاف بين
المادة والجنس والنوع واقعي....، وكذا الحال في أقسام الماهية، فإنها بحسب حالها في
نفس الأمر؛ فإنها إذا قيست إلى أي شيء، فلا يخلو إما أن يكون لازم الالتحاق بها بحسب
ذاتها، أو وجودها، أو ممتنع الالتحاق بها، أو ممكن الالتحاق، فالأول كالزوجية بالنسبة
إلى الأربعة، وكالتحيز بالنسبة إلى الجسم الخارجي، والثاني كالفردية بالنسبة إلى
الأربعة، وكالتجرد بالنسبة إلى الجسم الخارجي، والثالث كالوجود بالنسبة إلى
الماهية، وكالبياض بالنسبة إلى الجسم الخارجي.
فالماهية بحسب الواقع لا تخلو عن أحد الأقسام، وهو مناط صحيح في تقسيمها إلى
بشرط شيء ولا بشرط وبشرط لا، من غير ورود إشكال عليه، ومن غير أن تصير الأقسام
متداخلة.
وحينئذ يكون الفرق بين المقسم واللا بشرط القسمي واضحا؛ لأن المقسم نفس ذات
الماهية، وهي أعم من الأقسام، واللا بشرط القسمي مقابل للقسمين بحسب نفس الأمر،
ومضاد لهما. (مناهج الوصول 2: 320 - 321).
2 - انظر الحكمة المتعالية 1: 345 - 347.
378

اللحاظ مغفولا عنه.
هذا حال اسم الجنس.
وأما علمه: وهو كما ذكره المحقق الخراساني - تبعا لأعاظم أئمة النحو،
كسيبويه في " الكتاب " (1) وابن ما لك (2) - أنه لا فرق بين أسماء الأجناس
وأعلامها (118)؛ فإنهما موضوعتان لنفس الطبيعة من غير لحاظ شيء آخر معها،
ولا معنى لوضع اللفظ بإزاء الطبيعة المتعينة بالتعين الذهني (4)؛ فإنه معه
لا يمكن أن يحمل على الخارج (5).

1 - الكتاب 1: 307.
2 - في شرح التسهيل، انظر شرح الاشموني مع حاشية الصبان 1: 135.
118 - ويمكن أن يقال: إن اسم الجنس المجرد عن اللام والتنوين وغيرهما موضوع لنفس
الطبيعة من حيث هي، وهي ليست معرفة ولا نكرة، وهما تلحقانها في رتبة متأخرة عن
ذاتها؛ لأن التعريف - في مقابل التنكير - عبارة عن التعين الواقعي المناسب لوعائه،
والتنكير عبارة عن اللاتعين كذلك، فالماهية بذاتها لا تكون متعينة ولا لا متعينة؛ ولهذا
تصلح لعروضهما عليها، فلو كانت متعينة ومعرفة بذاتها لم يمكن أن يعرضها ما يضادها،
وبالعكس، هذا مع أن لازم ذلك كونهما جزءها أو عينها، وهو كما ترى.
فحينئذ نقول: يمكن أن يفرق بينهما بأن يقال: إن اسم الجنس موضوع لنفس الماهية التي
ليست نكرة ولا معرفة، وعلمه موضوع للماهية المتعينة بالتعين العارض لها متأخرا عن
ذاتها في غير حال عروض التنكير عليها، والفرق بين علم الجنس واسم الجنس المعرف أن
الأول يفيد بدال واحد ما يفيد الثاني بتعدد الدال.
فالماهية بذاتها لا معروفة ولا غيرها، وبما أنها معنى معين بين سائر المعاني وطبيعة
معلومة - في مقابل غير المعين - معرفة، فاسامة موضوعة لهذه المرتبة، واسم الجنس
لمرتبة ذاتها. (مناهج الوصول 2: 323).
4 - انظر شرح الاشموني مع حاشية الصبان 1: 135 - 136، وهمع الهوامع 1: 70، وشرح
التصريح على التوضيح 1: 125.
5 - كفاية الاصول: 283.
379

هذا إذا كان المراد بالتعين الذهني مفهومه، وإن كان المراد هو التعين
الماهوي - أي ما هو بالحمل الشائع كذلك - فلا يحتاج إلى التقيد؛ لأن ثبوت الشيء
لنفسه ضروري، وإثبات أحكام المعرفة على علم الجنس - دون اسمه - ليس
باعتبار التعين الذهني، بل إنما تعريفه لفظي مسموع من العرب، كالتأنيث
اللفظي (119).
وأما المفرد المعرف باللام: فينقسم إلى أقسام، حيث إنه إما أن يتعين
الشيء في الخارج، ويحكم عليه بأنه كذلك، أو لا.
فالأول: هو المعرف بلام العهد، كقوله تعالى: (فعصى فرعون
الرسول) (2)، وقولنا: " انظر إلى الرجل كيف يضحك ".
والثاني: لا يخلو إما أن يكون الملحوظ نفس الماهية من غير لحاظ
اتحادها مع الأفراد، أو لا - أي مع لحاظها كذلك -.
والثاني: إما أن يلاحظ اتحادها مع جميع الأفراد، أو مع بعضها.
ويقال لجميع الشقوق الثلاثة: المعرف بلام الجنس، إلا أن الشق الأخير
هو المعرف بالعهد الذهني في الاصطلاح (3)، كقوله: " ولقد [أمر] على اللئيم

119 - إن الظاهر أن اللام وضعت مطلقا للتعريف، وإفادة العهد وغيره بدال آخر، فإذا دخلت على
الجنس وعلى الجمع، تفيد تعريفهما، وإفادة الاستغراق لأجل أن غير الاستغراق من سائر
المراتب لم يكن معينا، والتعريف هو التعيين، وهو حاصل في استغراق الأفراد لا غير.
وما ذكرنا غير بعيد عن الصواب، وإن لم يقم دليل على كون علم الجنس كذلك، لكن مع
هذا الاحتمال لا داعي للذهاب إلى التعريف اللفظي البعيد عن الأذهان. (مناهج الوصول
2: 324).
2 - المزمل (73): 16.
3 - مغني اللبيب: 25 / السطر 21، المطول: 63 / السطر 20.
380

يسبني " (1). والمقصود منه هو بعض الأفراد المعلومة عنده.
إذا عرفت ما تلوناه عليك فاعلم: إنه وقع البحث عندهم في أن
الخصوصيات المتقدمة (2) هل تتأتى من قبل اللام (3)، أو القرائن من غير دخالة
اللام في إفادتها (4)؟ والحق هو الثاني.
والتحقيق: أن التعين الواقعي بالحمل الشائع كاف في التعريف، ولا يلزم
فيه أخذ مفهوم التعين الذهني في الشيء؛ ليلزم منه عدم الانطباق على الخارج
إلا بتجرده عن التعين، والتعين الواقعي اللازم للتعريف حاصل في جميع أقسام
المعارف؛ من غير احتياج إلى التقييد المضر بالحمل على الخارج، فالمعارف
لا تحتاج في معرفيتها إلى اللام؛ لأن التعين حاصل لذاتها بذاتها، فلا تفيد اللام
التعريف، كما لا تفيد الإشارة - كما قيل (5) - أو مفهوم المشار إليه حتى لا ينطبق
على الخارج، ولا إيجاد الإشارة، وما هو بالحمل الشائع كذلك؛ لأنه يلزم منه
إفادة إشارتين في مثل قولنا: " هذا الإنسان عالم " إحداهما: من " هذا "، والاخرى:
من اللام.
والمحقق الخراساني ذهب إلى كون اللام في مثله للتزيين، كالحسن
والحسين (6).

1 - عجزه: فمضيت ثمت قلت لا يعنيني، وهو لعميرة بن جابر الحنفي كما في شروح
التلخيص 1: 325 / السطر 25.
2 - من كون العهد ذهنيا أو جنسيا....
3 - مغني اللبيب: 25 / السطر 18، شرح الكافية، الرضي 2: 130 و 131، المطول: 63 /
السطر 9.
4 - كفاية الاصول: 284 - 285.
5 - مقا لات الاصول 1: 499.
6 - كفاية الاصول: 284 - 285.
381

وفيه: أن اللام لا يدخل إلا في المعاني الوصفية التي تفيد الكلية،
كوصف الحسن؛ وإدخال اللام على الأعلام الشخصية إنما هو للتلميح على النقل
عن الوصفية، كما قال ابن ما لك:
" وبعض الأعلام عليه دخلا * للمح ما قد كان عنه نقلا " (1)
فلا يكون اللام للتزيين مطلقا، حتى ما تدخل على الأعلام الشخصية.
والتحقيق: أنه لا فرق وجدانا - فيما يستفاد من اللفظ - بين مدخول اللام
كالرجل، ومدخول التنوين كرجل، وغيرهما كالمضاف، فإذا لم يكن فرق بين
دخول اللام وعدمه، فكيف يفيد التعريف أو شيئا آخر! فحينئذ يكون تعريف اللام
لفظيا كالتأنيث اللفظي.
وأما الجمع المعرف باللام: فقد يقال في تقريب دلالته على العموم: إن
اللام تدل على التعيين، ولا تعين إلا لجميع الأفراد، فلابد من الدلالة على
العموم (2).
فأشكل عليه المحقق الخراساني: بأن المتيقن من بين مراتب الجمع هو أقل
مراتبه، وهو المتعين (3).
وفيه ما لا يخفى: فإن أقل مراتب الجمع - أي الثلاثة - كلي يصدق على
كل ثلاثة من مدلول الجمع، فتعين إحداها بلا معين.
والتحقيق: أن منشأ دلالة الجمع على العموم هو نفس المفهوم؛ فإنه حاك
عن جميع الأفراد؛ بحيث لا يشذ فرد عن كونه مصداقا له، فلا معنى لتعين بعض؛
لأن لازمه دلالته على ذلك البعض دون الآخر من غير مرجح، فنفس الجمع دال

1 - الألفية: 15.
2 - الفصول الغروية: 169 / السطر 33.
3 - كفاية الاصول: 285.
382

على جميع الأفراد؛ من غير احتياج إلى دخول اللام فيه، فتعريف الجمع المعرف
أيضا لفظي، وقد عرفت: أن أخذ مفهوم التعين فيه مخل بالصدق، ومصداقه
حاصل لنفس المدخول بذاته.
ومن المطلقات النكرة:
وهي دالة إما على فرد معين واقعا غير معين عند المخاطب، كقوله:
(وجاء رجل من أقصى المدينة...) (1) وإما على الطبيعة المهملة المأخوذة مع
قيد الوحدة، كقولنا: " جئني برجل ".
والحق: أن القسمين بمعنى واحد، وهو الطبيعة المهملة مع قيد الوحدة،
إلا أن الدلالة على التعين الواقعي عند المتكلم نشأت من دال آخر، مثل " جاء "
في المثال المتقدم على نحو تعدد الدال والمدلول (120)، فلا وجه للنزاع في أن
المعنى الموضوع له في النكرات، هل هو الفرد المردد، كما اختاره صاحب
" الفصول " (3)، أو الكلي المأخوذ مع قيد مفهوم الوحدة حيث إن ضم مفهوم كلي هو

1 - القصص (28): 20.
120 - الظاهر أنها دالة بحكم التبادر على الطبيعة اللا معينة؛ أي المتقيدة بالوحدة بالحمل
الشائع، لكن بتعدد الدال فالمدخول دال على الطبيعة، والتنوين على الوحدة، وعليه فهي
كلي قابل للصدق على الكثيرين، سواء وقع في مورد الإخبار، نحو " جاءني رجل " أم في
مورد الإنشاء، نحو " جئني برجل ".
وما يقال: - من أن الأول جزئي؛ لأن نسبة المجيء إليه قرينة على تعينه في الواقع؛
ضرورة امتناع صدور المجيء عن الرجل الكلي، - غير تام؛ لأن المتعين الذي يستفاد عن
القرينة الخارجية كما في المقام، لا يخرج النكرة عن الكلية، ومن هنا يظهر النظر في
كلمات شيخنا العلامة أعلى الله مقامه. (تهذيب الاصول 2: 70).
3 - الفصول الغروية: 163 / السطر 7.
383

مفهوم الوحدة إلى كلي آخر، لا يوجب صيرورة الشيء جزئيا، كما اختاره صاحب
" القوانين " (1) وهو الحق؛ لأنه لا معنى للفرد المردد إن كان مراده هو الذي ظهر
من كلامه؛ أي كون كل فرد هذا أو غيره؛ فأن ما في الخارج ليس هو أو غيره، بل
هو من مصاديق الطبيعة الواحدة.
وإن كان مراده منه هو لحاظ الفرد على نحو الترديد القابل للانطباق على
كل واحد من الأفراد، كالعلم الإجمالي فهو مما لا إشكال فيه، إلا أنه راجع إلى
ما اختاره المحقق القمي.
ثم إن ما قيل في المقام: من أن الإطلاق إن كان هو بمعنى الإرسال
والشمول، لا يمكن عروض التقييد عليه إلا تجوزا (2)، يرد عليه: أن التقييد هو
إضافة قيد إلى ما يدل على المطلق، فتقييد المطلق ليس بمعنى استعمال المطلق
في المقيد حتى يلزم المجاز، كان معنى المطلق هو الإرسال، أو لا، بل بمعنى إفادة
الخصوصية بدال آخر، فلا يلزم التجوز.

1 - انظر قوانين الاصول: 204 / السطر 1 و 208 / السطر 10، و 312 / السطر 1.
2 - انظر مطارح الأنظار: 221 / السطر 34، وكفاية الاصول: 286، ومقالات الاصول
1: 495.
384

فصل
الشياع والسريان
قال المحقق الخراساني (رحمه الله) ما محصله بتوضيح منا: إنه بعدما ظهر أنه
لا دلالة لمثل " رجل " إلا على الماهية المبهمة بحسب الوضع، وأن الشياع
والسريان ليس ذاتيا لها، ولا لازما لذاتها، بل يكون من العوارض والطوارئ
الخارجة عما وضع له، فلابد من لحاظ هذا السريان بحسب مقام الثبوت،
والدلالة عليه بحسب مقام الإثبات والدلالة، وهي مقدمات الحكمة (1).
فهاهنا دعاو:
الاولى: أن كل ماهية وضعت لنفس الذات من حيث هي.
الثانية: أن الشايع خارج عن ذاتها، وليس لازما لذاتها، بل يكون من
العوارض المفارقة.
الثالثة: أن حصول الشياع والسريان لا يمكن إلا بلحاظها كذلك بحسب
مقام الثبوت.

1 - كفاية الاصول: 287.
385

الرابعة: أنه لابد من قيام الدليل عليه بحسب مقام الإثبات، وهو
مقدمات الحكمة.
أقول: إن كان المراد من الشياع هو سريان الماهية نفسها في أفرادها، فلا
إشكال في أنه من ذاتياتها، لا بمعنى دخوله في مفهومها، بل بمعنى أنها شائعة
واقعا - أي متحدة مع الأفراد - وليس هذا الشيوع والاتحاد قابلا للافتراق عنها حتى
يكون من قبيل الأعراض المفارقة، فالماهية بذاتها متحدة مع الأفراد وسارية
فيها، ولا يمكن افتراقها عنها.
وإن كان المراد من الشياع والسريان هو الشياع بحسب موضوعية
الماهية للحكم، وأن الماهية إذا كانت موضوعا لحكم فلابد في شيوعها في
جميع الأفراد من لحاظ شيوعها وسريانها فيها، وإلا فنفس جعل الماهية موضوعا
للحكم لا يوجب سريانه في الأفراد، فلابد في السريان من لحاظه لبا وقيام
الدليل عليه إثباتا، فهذا له وجه.
ومن الممكن أن يكون مرادهم ذلك؛ فإن الأول بعيد، لكنه أيضا خلاف
التحقيق؛ فإن لحاظ سريان ماهية في الأفراد معنى العموم، لا الإطلاق (121)،
ولا يمكن أن تجعل الماهية آلة للحاظ بعض أفرادها في التقييد الذي يقابل
الإطلاق، فالإطلاق والتقييد بحسب اللحاظ مما لا أصل لهما، بل الإطلاق
والتقييد - على ما يستفاد من موارد استعمالهما في لسان الأصحاب (2) - وصفان
لشيء واحد، له سريان ما ولو بلحاظ الحالات؛ باعتبار جعله تمام الموضوع
لحكم، أو لا، كالرقبة، فإنها في كفارة اليمين مطلقة، وفي كفارة قتل الخطأ
مقيدة بالمؤمنة، وفي كفارة الظهار مختلف فيها، فالرقبة قد تكون مطلقة، وقد

121 - لاحظ التعليقة 94.
2 - انظر الذريعة إلى اصول الشريعة 1: 275 - 277، وعدة الاصول 1: 329 - 333.
386

تكون مقيدة.
وهذا الإطلاق والتقييد قد يتحققان في الأعلام الشخصية بالنظر إلى
الحالات، فزيد قد يجعل تمام الموضوع لحكم، فيكون مطلقا، وقد يجعل زيد
العالم موضوعا له، فيكون زيد بعض الموضوع، فيكون مقيدا، مثال الأول: " أكرم
زيدا "، ومثال الثاني: " أكرم زيدا العالم "، أو " الجائي "، أو " يوم الجمعة ".
إذا عرفت ذلك: فهل يدل دليل - في مقام الإثبات، في صورة الشك في أن
ما جعل موضوعا لحكم مطلق أو مقيد - يثبت واحدا منهما.
قد يقال: إن بعض القدماء - قبل سلطان العلماء - استدل بأصالة الحقيقة
على حمل اللفظ على الإطلاق (1)، وهو - على فرض الصحة - في غاية
السقوط؛ فإن اللفظ في المقيد لا يستعمل إلا فيما وضع له. ولا أظن بأحد أن
يتخيل أن " الرقبة " في قوله: " أعتق رقبة مؤمنة "، استعملت في " الرقبة
المؤمنة " حتى يكون مجازا؛ ضرورة أن كلا من الطبيعة والقيد مستعمل فيما
وضع له، ويستفاد منهما - بنحو تعدد الدال والمدلول - ما هو موضوع الحكم،
وهذا مما لا إشكال فيه.
الاستدلال على الإطلاق بدليل الحكمة
واستدل المحقق الخراساني على الإطلاق بدليل الحكمة، وهو مركب من
مقدمات، واستدلاله إنما يكون على مبناه من كون الإطلاق هو السريان في
موضوع الحكم وهو من العوارض المفارقة، يعرض الماهية لأجل لحاظها
سارية.

1 - انظر نهاية الوصول: 240 / السطر 2، وشرح العضدي على مختصر ابن الحاجب:
286 / السطر 3.
387

المقدمة الاولى: كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد، وليس المقصود
كونه في مقام بيان تمام مراده؛ فإن كل متكلم في تكلمه يكون بصدد بيان تمام
مراده، بل المقصود كونه في مقام بيان تمام الموضوع لحكمه؛ أي بيان كل ما هو
دخيل في موضوع حكمه، لا في مقام الإهمال والإجمال (122).
الثانية: [انتفاء قيد يوجب التعيين.
الثالثة:] انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب؛ أي لا يكون في ذهن
المخاطب - في حين التخاطب - جهات توجب العلم الإجمالي بين الأقل
والأكثر؛ بحيث يكون الأقل هو القدر المتيقن، كما إذا ورد: " أعتق رقبة "، ويكون
في ذهن المخاطب جهات توجب العلم بأن الموضوع إما تمام أفراد الرقبات بنحو
البدلية، أو الرقبات المؤمنات؛ بمعنى أنه إما جعل الرقبة مرآة لتمام الأفراد، أو
مرآة للمؤمنات منها، فتكون المؤمنات متيقنة منها؛ إذ لو كان المتيقن في البين،
لما أخل بغرضه لو كان تمام مراده المؤمنات؛ لأن المخاطب يعلم بأن المؤمنات
موضوع الحكم ويشك في بقيتها، فالمتكلم بين موضوع حكمه، وأدخله في
ذهن [المخاطب] ولم يخل ببيان ما هو موضوع حكمه، وإنما أخل ببيان كون
البعض تمام الموضوع؛ لاحتمال أن يكون البعض الآخر أيضا موضوعا، وهذا غير
الإخلال بالغرض. بل يمكن أن يقال بالنظر الثانوي: بين أنه تمام الموضوع؛ فإن
المفروض أن المتكلم في مقام تبيين تمام الموضوع، فبين أن المتيقن موضوع، ولم

122 - إن الدواعي لإلقاء الحكم مختلفة، فربما يكون الداعي هو الإعلان بأصل وجوده مع
إهمال وإجمال، فهو حينئذ بصدد بيان بعض المراد، ومعه كيف يحتج به على المراد.
وربما يكون بصدد بيان حكم آخر، وعليه، لابد من ملاحظة خصوصيات الكلام
المحفوف بها، ومحط وروده وأنه في صدد بيان أي خصوصية منها، فربما يساق الكلام
لبيان إحدى الخصوصيات دون الجهات الاخر، فلابد من الاقتصار في أخذ الإطلاق على
المورد الذي أحرزنا وروده مورد البيان. (تهذيب الاصول 2: 71).
388

يبين غيره، فيجب أن لا يكون موضوعا، وإلا لبينه، فينتج: أن المتيقن تمام
الموضوع.
وإنما قيد المتيقن بكونه في مقام التخاطب؛ لأن الخارج عنه لا يضر
بالإطلاق، فإن المخاطب إذا علم بالقدر المتيقن من برهان خارجي ومقدمات
عقلية خارجة عن مقام التخاطب، لا يمكن أن يقال: إن المتكلم بين تمام
موضوع حكمه؛ فإن البرهان الخارجي لادخل له ببيان المتكلم، ولا يكون
المتكلم حين بيانه للحكم مبينا لموضوعه، بخلاف مقام التخاطب؛ فإن المتكلم
إذا علم أن المخاطب يرد في ذهنه القدر المتيقن حين التخاطب، يتبين له أن
كلامه كأنه محفوف بالبيان لموضوع حكمه (1).
هذا مفاد كلام المحقق الخراساني بتوضيح منا.
ولا يخفى: أن المقدمة الثانية لا مقدمية لها، فإن الموضوع في باب
الإطلاق، هو ما إذا جعلت الماهية موضوع الحكم بلا قيد، وشك في أن المراد
هو الإطلاق أو التقييد، فعدم بيان القيد محقق موضوع البحث، لا من مقدمات
إثبات الإطلاق.
وأورد بعض الأعاظم على المقدمة الثالثة:
أولا: بأن القدر المتيقن لو كان مخلا بالإطلاق، لما جاز التمسك به فيما إذا
ورد في مورد [جواب السؤال عن] بعض الأفراد، كما لو سئل: " هل يجب إكرام
زيد العالم؟ " فقال: " يجب إكرام العالم " مع أنه يتمسك أحيانا بتلك المطلقات.
وثانيا: لافرق بين القدر المتيقن في مقام التخاطب وغيره، فالتفصيل
بلا وجه.
وثالثا: أن الإخلال بالغرض لازم ولو مع القدر المتيقن؛ فإن موضوع

1 - كفاية الاصول: 287.
389

حكمه لو كان الأفراد المتيقنة، لم يبين ولم ينصب دليل عليه، وهذا معنى
الإخلال به (1).
أقول: أما قضية القدر المتيقن في مقام التخاطب، والفرق بينه وبين غيره،
فقد مر ذكره (2).
وأما قضية الإخلال بالغرض مع وجود القدر المتيقن، فلا وجه له لو بنينا
على كون الإطلاق هو جعل الماهية مرآة لتمام الأفراد، والتقييد جعلها مرآة
للبعض، كما أفاده الشيخ، وتبعه غيره، حتى المورد (3)؛ فإن المفروض أن معنى
بيان موضوع الحكم تبيين أن تمام الأفراد أو بعضها هو موضوعه، فإذا كان في
البين قدر متيقن، فلا إشكال في تبيين كون الماهية مرآة للمتيقن، وعدم تبيين
كونها مرآة للأفراد الغير المتيقنة، ومع عدم تبيينها يعلم أنها ليست موضوع
حكمه، لأن المفروض كون المتكلم في مقام بيان تمام الموضوع للحكم، وقد بين
القدر المتيقن؛ أي أورده في ذهن المخاطب، ولم يبين غيره، مع كون المخاطب
شاكا في كونه مرادا (123).

1 - انظر فوائد الاصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 575 - 576، وأجود
التقريرات 1: 530 - 531.
2 - تقدم في الصفحة 306.
3 - انظر مطارح الأنظار: 215 / السطر 10 و 22، وكفاية الاصول: 287، وأجود التقريرات
1: 525 / السطر 20.
123 - اعتبار انتفائه في مقدمات الحكمة محل إشكال؛ لأن المتكلم إذا كان في مقام البيان،
وجعل الطبيعة موضوع حكمه، وتكون الطبيعة بلا قيد مرآة بذاتها إلى جميع الأفراد،
ولا يمكن أن تصير مرآة لبعضها إلا مع القيد، فلا محالة يحكم العقلاء بأن موضوع حكمه
هو الطبيعة السارية في جميع المصاديق، لا المتقيدة؛ ولهذا ترى أن العرف لا يعتني بالقدر
المتيقن في مقام التخاطب وغيره، فلا يضر ذلك بالإطلاق إذا لم يصل إلى حد الانصراف.
(مناهج الوصول 2: 327 - 328).
390

نعم، بناء على ما سلكناه في معنى الإطلاق، وقلنا: إن الإطلاق عبارة عن
جعل الماهية تمام الموضوع للحكم من غير جعلها مرآة للأفراد (1)، تكون تلك
المقدمة حشوا غير محتاج إليها، فإن القدر المتيقن في مقام التخاطب مما لا دخل
له بمقدمات الحكمة؛ ضرورة أن الأحكام حينئذ إنما تثبت للحيثيات، لا للأفراد،
فإذا قال المولى: " أعتق رقبة "، وكان في مقام بيان تمام موضوع حكمه، يعلم بأن
موضوع حكمه هو حيثية الرقبة صرفا؛ من غير دخالة حيثية اخرى - أية
حيثية كانت - فيه، وإلا لكان عليه البيان. وليست الأفراد على هذا المبنى
المنصور موضوعا للحكم؛ حتى يكون القدر المتيقن في مقام التخاطب مضرا
بالإطلاق؛ ضرورة أن الأفراد إذا لم تكن - بما أنها أفراد؛ وبنعت الكثرة - محكومة
بحكم، لا يكون عدم القدر المتيقن في مقام التخاطب دخيلا في الإطلاق.
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن المقدمات التي مهدها المحقق الخراساني (رحمه الله)
لا تكون دخيلة في التمسك بالإطلاق - على مسلكنا - إلا المقدمة الاولى؛ أي
كون المتكلم في مقام البيان.
فذلكة: في ملخص ما حققناه في معنى الإطلاق والتقييد
وملخص ما حققناه في معنى الإطلاق والتقييد إنما نذكره في ضمن امور؛
لمكان أهميتها:
الأول: قد عرفت أن أهل المعقول قد قسموا الماهية إلى: اللا بشرط
وبشرط شيء وبشرط لا (2)، فاشكل عليهم بأن المقسم هو اللا بشرط؛ حيث

1 - تقدم في الصفحة 374 - 376.
2 - انظر الحكمة المتعالية 2: 16، 18.
391

لا يمكن أن يكون بشرط لا ولا بشرط شيء؛ لعدم انطباق كل منهما على صاحبه،
فيلزم اتحاد القسم والمقسم (1).
وأجاب عنه المحقق السبزواري: بأن اللا بشرط القسمي مقيد
باللابشرطية دون المقسمي (2).
وقد أجبنا عن الإشكال: بأن المقسم ليس هو الماهية كي يرد الإشكال، بل
هو اعتبار الماهية ولحاظها، فيكون نفس الملحوظ مما يقبل الوجود في قسم،
ولا يقبله في آخر، ولا بشرط في ثالث (3).
وبالجملة: المقسم لحاظ الماهية، ولذلك نلتزم بأن المقسم لا يكون كليا
طبيعيا، بخلاف الماهية اللا بشرط القسمي؛ فإن ذاتها - مع قطع النظر عن
الاعتبار - تكون هي الماهية اللا بشرط، واللحاظ غير مأخوذ في الأقسام (124).
ثم إنه قد وقع النزاع في وجود الكلي الطبيعي (5) الذي هو معروض
الكلية، ويكون كليا بالحمل الشائع. وعلى فرض وجوده، هل هو اللا بشرط
القسمي، أو المقسمي؟ بعد وضوح أنه لم يكن الماهية بشرط لا التي لاتقبل
الوجود، ويكون وجوده الذهني على وزان وجود المعدوم المطلق في الذهن. كما

1 - انظر الحكمة المتعالية 2: 19، شرح المنظومة، قسم الحكمة: 97.
2 - شرح المنظومة، قسم الحكمة: 97.
3 - تقدم في الصفحة 377.
124 - راجع التعليقة 117.
5 - اختلفوا في وجود الكلي الطبيعي في الخارج فنفاه بعض كشارح المطالع: 59 /
السطر 15، وذهب جملة منهم: المحقق الطوسي إلى وجود الكلي الطبيعي في الخارج
وإنه عين اللا بشرط القسمي كما تجده في شرح التجريد: 87، وخالف المحقق
السبزواري ذاهبا إلى أنه اللا بشرط المقسمي فلاحظ شرح المنظومة، قسم المنطق: 21،
22 وقسم الحكمة: 97.
392

أنه لا يمكن أن يكون الطبيعي هو بشرط شيء؛ لأنه كلي يصدق على كثيرين،
والماهية بشرط شيء ليس كذلك.
اختار من ذهب إلى الطريق الأول في حل الإشكال - كالمحقق السبزواري -:
أن الطبيعي هو اللا بشرط المقسمي؛ حيث لا يمكن كون القسمي هو الكلي
الطبيعي على مختارهم؛ لأن الطبيعي غير مقيد بقيد، واللا بشرط القسمي مقيد
عندهم، ولأن الماهية المقيدة باللابشرطية كلي عقلي، والطبيعي ليس كذلك.
وأما على مختارنا: فالطبيعي هو اللا بشرط القسمي؛ لأن المقسم هو اعتبار
الماهية لانفسها، والطبيعي هو الماهية، والماهية اللا بشرط تقع مقسما
للمخلوطة والمجردة فقط، والمقسم بين الثلاثة هو اعتبار الماهية.
وبالجملة: المقسم لحاظ الماهية والأقسام نفسها.
الثاني: قد اتضح أن الإطلاق عبارة عن كون شيء تمام الموضوع لحكم،
فكل ما يكون تمام الموضوع لحكم، ويكون جميع أفراده أو حالاته متساويا
بالنسبة إلى الحكم، يكون مطلقا؛ والمقيد بخلافه. وليس معنى الإطلاق ما دل
على شائع في جنسه حتى تكون الطبائع الكلية بحسب الوضع من المطلقات،
والجزئيات الحقيقية من المقيدات.
الثالث: ما أشرنا إليه من أن مناط الإطلاق ليس ما ذهب إليه المحقق
الخراساني (1) - تبعا للشيخ الأنصاري (2) - لحاظ السريان والشياع؛ فإنهما
حاصلان لنفس الطبيعة ذاتا من غير احتياج إلى اللحاظ، بل اللحاظ يخرجها عن
إمكان الانطباق على جميع الأفراد، بل مناط الإطلاق حمل الطبيعة تمام
الموضوع للحكم بحيث لا يلاحظ في الموضع قيد زائد على نفس الطبيعة.

1 - كفاية الاصول: 287.
2 - انظر مطارح الأنظار: 215 / السطر 8.
393

فقد علم: أن مقوم الإطلاق ليس إلا عدم ملاحظة شيء في موضوع
الحكم.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن الألفاظ التي تدل على المعاني المطلقة - كأسماء
الأجناس وأعلامها والنكرة - ليست موضوعة إلا للطبيعة من حيث هي، ونفس
وقوعها في موضوع الحكم من غير قيد هو مناط الإطلاق، من غير فرق بين
الشمولي والبدلي. والسريان والشياع غير مأخوذين في الموضوع له ولا في
موضوع الحكم.
ولا ينطبق ذلك [إلا] على الماهية اللابشرط القسمي؛ لأنها متساوية
النسبة إلى جميع أفرادها.
ومن ذلك يعلم: أن النزاع في أن الشياع والسريان في المطلقات، هل هو
من الوضع أو من مقدمات الحكمة، ليس على ما ينبغي.
تنبيه: حول مقالة سلطان العلماء
ويقرب مما ذكرنا كلام سلطان العلماء على ما في التقريرات (1)؛ قال: يمكن
العمل بالمطلق والمقيد من غير الإخراج عن حقيقته، فلا يجب ارتكاب التجوز لو
عمل بالمقيد، ويبقى المطلق على إطلاقه؛ فإن مدلول المطلق ليس صحة العمل
بأي فرد فرد حتى ينافي المقيد، بل هو أعم منه ومما يصلح للتقييد، بل المقيد في
الواقع.
ألا ترى أنه معروض للتقييد كقولنا: " رقبة مؤمنة " وإلا يلزم حصول
المقيد بدون المطلق مع أنه لا يصلح لأي رقبة كانت.

1 - مطارح الأنظار: 217 / السطر 1.
394

فظهر أن مقتضى المطلق ليس ذلك وإلا لم يتخلف فيه " (1). انتهى.
ولا يخفى: أن المطلق لا يبقى على إطلاقه مع التقييد، فقوله: - بأن يعمل
بالمقيد، ويبقى المطلق على إطلاقه - مسامحة، فمراده أن التقييد لا يوجب
خروج المطلق عن معناه الموضوع له.
وبعد التأمل في كلامه يتضح: أن كلامه ظاهر فيما ذكرنا من معنى
الإطلاق، وأن حقيقته عدم التقييد بقيد، وأن ذات الطبيعة بنفسها مطلقة، من غير
اعتبار قيد السريان والشياع، كما هو ظاهر قوله: إن مدلول المطلق ليس صحة
العمل بأي فرد كان؛ حتى ينافي مدلول المقيد، بل هو أعم منه ومما يصلح
للتقييد (2)، فما ذكره راجع إلى ما ذكرنا، إلا أن الذي ذكره في معنى الإطلاق
والتقييد، مربوط بمقام الوضع، لا الموضوعية للحكم، كلفظ " الرقبة "، وما نحن
فيه هو الإطلاق؛ بمعنى تمام الموضوعية للحكم، والتقييد في مقابله.
ولعل مراد المشهور من السريان والشياع في المطلق (3) - على فرض ثبوت
الشهرة - هو السريان بالحمل الشائع، لا أن مفهومه قيد في الموضوع له (4).
وينبغي التنبيه على امور:
الأمر الأول: طريق إحراز كون المتكلم في مقام البيان
بعدما عرفت من أن كون المتكلم في مقام بيان تمام موضوع حكمه مما

1 - معالم الدين، حاشية سلطان العلماء: 155، باختلاف.
2 - نفس المصدر.
3 - حيث عرفوا المطلق بما دل على شائع في جنسه، انظر قوانين الاصول 1: 321 /
السطر 16، وشرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 248.
4 - انظر مطارح الأنظار: 221 / السطر 34، وكفاية الاصول: 286.
395

لابد منه في الإطلاق، فطريق إحراز كونه في مقام البيان أن ظهور حال المتكلم
في أن كلامه الصادر منه - بما أنه فعل من أفعاله الاختيارية - إنما هو لبيان
مراده. فكلامه بما أنه عمل من أعماله، لا بما أنه لفظ دال، يدل دلالة عقلائية
على كونه بصدد بيان موضوع حكمه (125).
كما أن بناء العقلاء وديدنهم على التمسك بهذا الظهور الفعلي، فترى أنهم
عند فقدان القيد في الكلام يحملونه على الإطلاق؛ أي على كون ما اخذ موضوعا
أنه تمام الموضوع. وإذا ورد بعد ذلك قيد، واحرز وحدة الحكم، يقع التعارض
بين الإطلاق والتقييد، ويحمل الإطلاق على التقييد؛ لأن منشأ ظهور المطلق في
الإطلاق، إنما هو متقوم بأمر عدمي - هو عدم التقييد - ومع وصول القيد ترفع اليد
عن ظهور المطلق في الإطلاق، كما أن بناء العقلاء على أصالة الحقيقة، إنما هو
عند عدم القرينة، ومعها ترفع [اليد] عنها، وكذا الحال في أصالة العموم عند
فقدان المخصص.
وقد يقال: إن ذلك صحيح إذا لم يكن من دأب المتكلم ذكر قيود كلامه -
من المخصصات والمقيدات - منفصلة وأما معه فلم يثبت بناء العقلاء على ما
ذكر؛ أي الحمل على الإطلاق (2).

125 - لا شبهة في أنه إذا شك في أن المتكلم هل هو في مقام بيان جميع ما هو دخيل في مراده
- بعد إحراز كونه في مقام بيان الحكم - أو أنه بصدد الإجمال والإهمال، يكون الأصل
العقلائي هو كونه في مقام بيان تمامه، وبه جرت سيرة العقلاء.
نعم، إذا شك في أنه في مقام بيان هذا الحكم أو حكم آخر، فلا أصل لإحراز كونه في
مقامه، فالأصل بعد إحراز كونه بصدد بيان الحكم يقتضي أن يكون بصدد بيان تمام ما
يدخل في الموضوع في مقابل الإهمال والإجمال، لا كونه بصدد بيان هذا الحكم دون
غيره، فلابد فيه من الإحراز الوجداني، أو بدليل آخر. (مناهج الوصول 2: 328 - 329).
2 - انظر مطارح الأنظار: 202 / السطر 15.
396

وفيه: أنا لا نسلم خروج الشارع عن دأب العقلاء في إلقاء كلامه، وإلا
فيشكل الأمر في باب أصالة الحقيقة والعموم أيضا (126).
الأمر الثاني: إشكال ودفع
قد يستشكل على القول المنسوب إلى المشهور: بأن الشياع المأخوذ في

126 - إن الشارع لم يسلك في مخاطباته غير ما سلك العقلاء، بل جرى في قوانينه على ما
جرت به عادة العقلاء وسيرتهم، لكن ديدنهم في المخاطبات العادية والمحاورات
الشخصية بين الموالي والعبيد وغيرهم عدم فصل المخصصات والمقيدات والقرائن، ولهذا
تكون العمومات والمطلقات الصادرة منهم في محيط المحاورات حجة بلا احتياج إلى
الفحص، ولا يعتني العقلاء باحتمال المخصص والمقيد المنفصلين، ويعملون بالعمومات
والإطلاقات بلا انتظار. هذا حال المحاورات الشخصية.
وأما حال وضع القوانين وتشريع الشرائع لدى جميع العقلاء، فغير حال المحاورات
الشخصية، فترى أن ديدنهم في وضع القوانين ذكر العمومات والمطلقات في فصل ومادة،
وذكر مخصصاتها ومقيداتها وحدودها تدريجا ونجوما في فصول اخر.
والشارع الصادع جرى في ذلك على ما جرت به طريقة كافة العقلاء، فترى أن القوانين
الكلية في الكتاب والسنة منفصلة عن مخصصاتها ومقيداتها، فالأحكام والقوانين نزلت
على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نجوما في سنين متمادية، وبلغها حسب المتعارف في تبليغ القوانين
للامة، وجمع علماؤها بتعليم أهل بيت الوحي القوانين في اصولهم وكتبهم.
فإذن تكون أحكامه - تعالى - قوانين مدونة في الكتاب والسنة والعمومات والمطلقات
التي فيها في معرض التخصيص والتقييد، حسب ديدن العقلاء في وضع القوانين السياسية
والمدنية، وما هذا حاله ليس بناء العقلاء على التمسك فيه بالاصول بمجرد العثور على
العمومات والمطلقات من غير فحص؛ لأن كونهما في معرض المعارضات يمنعهم عن
إجراء أصالة التطابق بين الاستعمال والجد، ولا يكون العام حجة إلا بعد جريان هذا
الأصل العقلائي، وإلا فبمجرد ظهور الكلام وإجراء أصالة الحقيقة والظهور لا تتم
الحجية، فأصالة التطابق من متمماتها لدى العقلاء. (مناهج الوصول 2: 275 - 276).
397

معاني الألفاظ المطلقة إما أن يكون شياعا بدليا - كما في باب الأوامر - وإما أن
يكون شياعا استغراقيا - كما في أغلب النواهي والأحكام الوضعية - كقوله:
(أحل الله البيع...) (1).
فعلى الأول: يلزم التجوز في إطلاقات باب النواهي وما يكون مثلها في
الشياع الاستغراقي.
وعلى الثاني: يلزم ذلك في إطلاقات باب الأوامر ومثلها، ولا جامع بين
الشياعين؛ حتى يقال: إن المأخوذ هو الشياع الجامع (2).
وهذا الإشكال لا يرد على مقالتنا في باب الإطلاق؛ لأن المأخوذ في
الموضوع ليس إلا نفس الطبيعة، من غير قيد الشياع وغيره وإن كانت الطبيعة
شائعة ذاتا.
و [أما] الاختلاف الحاصل في جانب الأوامر والنواهي، فقد ذكرنا منشأه
في مبحث النواهي (3). وملخصه: أن مقتضى أخذ الطبيعة في متعلق البعث هو
مطلوبية إيجادها في الخارج، وبعد وجودها بوجود فرد ما منها يحصل المطلوب،
فيسقط الأمر، وإلا يلزم تحصيل الحاصل.
وأما النهي فلما كانت حقيقته عبارة عن الزجر عن الطبيعة، والطبيعة
تتكثر بتكثر الأفراد، فكل ما فرض من الطبيعة يكون الزجر بالنسبة إليه
موجودا، ولا يسقط الزجر بعصيان بعض الأفراد، كما فصلناه في ذلك الباب.
وقد ذكرنا (4): أن ما هو المعروف - من أن الأمر أو النهي كما يسقطان

1 - البقرة (2): 275.
2 - انظر مقا لات الاصول 1: 491.
3 - تقدم في الصفحة 208 - 210.
4 - تقدم في الصفحة 209.
398

بالإطاعة يسقطان بالعصيان (1) - ليس بصحيح، فإن الإسقاط بالعصيان مما لا
معنى له.
فتحصل مما ذكرنا: أن الطبيعة في جانب الأوامر والنواهي غير ملحوظة
إلا نفس ذاتها، فالسريان غير ملحوظ فيها؛ لا في مقام الوضع، ولا مقام الإطلاق،
فلا نحتاج إلى تصوير الجامع بين الشياعين.
نعم، إنما يرد الإشكال على مقالة المشهور؛ أي أخذ الشياع والسريان في
وضع تلك الألفاظ على ما نسب إليهم (2).
الأمر الثالث: أقسام المطلق
الطبيعة المجعولة الموضوعة لحكم قد تكون موضوعا له بنفس ذاتها
من غير حكايتها عن الأفراد، كما في متعلق الأوامر والنواهي؛ فإن أفراد طبيعة
الإكرام أو الشرب - المتعلق للأمر والنهي - لا تكون موجودة في الخارج حتى
تكون حاكية عنها، فلا محالة يكون الأمر والنهي متعلقين بنفس الطبيعة، لا
الطبيعة الحاكية عن الخارج.
وقد تكون موضوعا له بما أنها حاكية عن الأفراد، كقوله تعالى: (إن
الإنسان لفي خسر) (3)، فإن الخسران ليس للطبيعة قبل وجودها، بل لها بحسب
الوجود الخارجي، وكقوله: (أحل الله البيع) (4)، فإن الحلية إنما هي للوجود
الخارجي منه، ولابد في هذا النحو من الإطلاق من لحاظ الأفراد تحت عنوان

1 - كفاية الاصول: 146، فوائد الاصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 350.
2 - انظر قوانين الاصول 1: 324 / السطر 2، ومطارح الأنظار: 221 / السطر 34.
3 - العصر (103): 2.
4 - البقرة (2): 275.
399

الطبيعة (127).
ومن هذه الجهة فرق بين الإطلاق في القسم الأول والثاني، ولكن ملاك
الإطلاق في كلا القسمين هو عدم أخذ القيد الزائد في المتعلق:
أما في القسم الأول: فقد فرغنا عن بيانه.
وأما في القسم الثاني: فملاك الإطلاق فيه أيضا عدم أخذ قيد آخر؛ لتكون
الطبيعة متساوية النسبة بالنسبة إلى جميع الأفراد، ومع القيد تكون حاكية
عن بعضها، ومعلوم أن الطبيعة الكلية المطلقة لا تحكي إلا عن وجود أفرادها،
لا أمر آخر وخصوصية اخرى، ولا تحتاج إلى قيد السريان والشياع؛ لأنهما
ذاتيان لها، فهذا الإطلاق كسابقه يتقوم بأمر عدمي؛ هو عدم لحاظ قيد زائد، لا
أمر وجودي هو سريان الطبيعة، فهي حاكية بذاتها عن تمام الأفراد.
وهذا الإطلاق أشبه بالعموم. ومن قال: " إن المفرد المحلى باللام يفيد
العموم " (2) لعل منشأه ذلك، فإن " العالم " ك‍ " العلماء " من حيث حكايتهما عن
الأفراد، فعنوان " العالم " يحكي عن كل من له العلم، فالقول بإفادته العموم من
جهة شبهه بالعام، مع أنه مطلق لا عام - كما عرفت -.
ولكن فرق بين إطلاقه وإطلاق النكرة، فإن الثاني من القسم الأول من
الإطلاق؛ لأن في " أعتق رقبة " لا يكون الملحوظ إلا طبيعة الرقبة بما هي،
لا بما هي حاكية.

127 - (احل الله البيع) بناء على الإطلاق، وتمامية المقدمات، يثبت النفوذ والحلية لنفس
طبيعة البيع من غير أن يكون للموضوع كثرة، وإنما يثبت نفوذ البيع الخارجي لأجل تحقق
الطبيعة التي هي موضوع الحكم به. (مناهج الوصول 2: 232).
2 - عدة الاصول 1: 275، شرح الكافية، الرضي 2: 129 / السطر 13، المستصفى من علم
الاصول 2: 89.
400

هذا حال الإطلاق بكلا قسميه.
وأما منشأ اختلاف كيفية الإطلاق من الشمولي والبدلي، فليس بنحوين من
اللحاظ؛ أي لحاظ نحو من السريان في الشمولي، ونحو آخر في البدلي، بل
يكون منشأ اختلافهما من أخذ نفس الطبيعة في متعلق الأمر وفي متعلق النهي،
واختلاف مقتضاهما كما أشرنا إليه (1)، وهذا من غير فرق بين قسمي الإطلاق.
الأمر الرابع: شرط الاحتياج إلى مقدمات الحكمة
الاحتياج إلى مقدمات الحكمة في باب الإطلاق، إنما هو فيما إذا لا ينافي
إطلاق المطلق في الكلام مع إرادة المقيد واقعا، وأما مع تنافيهما فيكفي التمسك
بأصالة الحقيقة لإثبات الإطلاق؛ من غير احتياج إلى إثبات كون المتكلم في
مقام البيان، أو سائر المقدمات على فرض احتياجنا إليها.
توضيحه: أنه قد لا تكون الطبيعة بذاتها تمام الموضوع لحكم، بل تكون
هي مع قيد زائد تمامه، إلا أن المتكلم يريد إيكال بيان القيد إلى دليل منفصل عن
المطلق، ولا يضر ذلك باستعمال اللفظ المطلق فيما هو موضوع له (2)، كما إذا قال:
" أعتق رقبة "، مع عدم كون طبيعة " الرقبة " تمام الموضوع للعتق، بل " الرقبة
المؤمنة " تمامه، وأراد بيان قيد الإيمان بدليل منفصل، فحينئذ لا يكون استعمال
لفظ " الرقبة " إلا في الطبيعة الموضوع لها، ويكون بيان القيد من قبيل تعدد
الدال والمدلول بالنسبة إلى إفادة تمام الموضوع، فحينئذ لو شككنا في أن
" الرقبة " تمام الموضوع، لا يمكن إثباته بأصالة الحقيقة؛ لما عرفت (3) من أن

1 - تقدم في الصفحة 208 - 210.
2 - خلافا لما حكاه الشيخ عن البعض كما في مطارح الأنظار: 217 / السطر الأخير.
3 - تقدم في الصفحة 387.
401

اللفظ المطلق مستعمل في معناه الحقيقي، ولو مع عدم كونه تمام الموضوع،
فنحتاج في إثباته إلى مقدمات الإطلاق ودليل الحكمة.
وأما إذا كان التقييد بالقيد المنفصل منافيا لاستعمال بعض الألفاظ المذكورة
في الكلام الأول فيما وضع له؛ فيمكن كشف الإطلاق من أصالة الحقيقة من
غير احتياج إلى دليل الحكمة، وإحراز كون المتكلم في مقام البيان، كالنكرة
الواقعة في سياق النفي؛ فإن حرف النفي وضع لنفي مدخوله ليس إلا،
فالخصوصية الزائدة إذا اخذت قيدا للمدخول ينفي حرف النفي المدخول
بخصوصيته، واستعمل في معناه الموضوع له.
وأما مع انفصال القيد، وذكر الطبيعة بلا قيد عقيب النفي، فمقتضاه نفي
الطبيعة المطلقة المدخولة، فإذا اريد نفي الطبيعة المقيدة من غير ذكر القيد،
يكون استعمال حرف النفي في غير ما هو موضوع له. فإذا شك في ذلك، يرجع
الشك إلى استعمال حرف النفي في معناه الموضوع له أو غيره، فيجوز التمسك
بأصالة الحقيقة؛ والحكم بأن الطبيعة المنفية هي تمام الموضوع للحكم، فلو
قيل: " لا رجل في الدار "، وشك في أن مراده مطلق الرجل، أو الرجل العالم،
يكفي في كشف الإطلاق نفس أصالة الحقيقة؛ لأن اللام وضعت لنفي مدخولها
لا غير، فإن استعملت في ذلك تكون مستعملة في معناها الحقيقي، وإن استعملت
واريد منها نفي أمر زائد على المدخول، تكون مستعملة في غير ما هي موضوعة
له، فأصالة الحقيقة تكشف عن إطلاق مدخولها من غير احتياج إلى مقدمات
الإطلاق.
ولا يبعد أن تكون النواهي الواردة على الطبائع أيضا كذلك، أي لا تحتاج في
إثبات إطلاق مدخولاتها إلا إلى أصالة الحقيقة، دون مقدمات الإطلاق، بخلاف
الطبائع الواقعة في سياق الإثبات؛ فإن بيان القيد الزائد فيها لا ينافي استعمال
402

المطلق في الإطلاق، ولا يوجب استعمال لفظ في غير ما هو موضوع له.
وأما في النواهي فيوجب ذلك استعمال حرف النهي في غير الموضوع له،
كما قلنا في النفي (128)، فتدبر.
والحمد لله أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا.

128 - ألفاظ النفي والنهي وضعت لنفي مدخولها، أو الزجر عنه، فلا دلالة فيها على نفي
الأفراد، ولا وضع على حدة للمركب، فحينئذ تكون حالها حال سائر المطلقات في
احتياجها إلى مقدمات الحكمة. فلا فرق بين " أعتق رقبة " و " لا تعتق رقبة " في أن
الماهية متعلقة للحكم، وفي عدم الدلالة على الأفراد، وفي الاحتياج إلى المقدمات.
(مناهج الوصول 2: 238).
403

بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
405

المقصد السادس
في بيان
الأمارات المعتبرة
عقلا أو شرعا
وقبل الخوض فيما هو المهم، لا بأس بتقديم فصول:
407

الفصل الأول
تمهيدات لمباحث القطع
يذكر فيه امور:
الأمر الأول: إن مبحث القطع اصولية
إن مبحث القطع - بناء على ما ذكرنا في موضوع علم الاصول: من أنه هو
الحجة في الفقه (1) - من مسائل علم الاصول (129)؛ ضرورة كونه حجة فيه
كسائر الأمارات المعتبرة، وإن كانت حجيته ذاتية ضرورية، وليس من مسائل
علم الكلام؛ لأن علم الكلام هو ما يبحث عما يجب على الله، أو يقبح عليه، وفي
مسائل القطع لا يبحث عن أمثاله.

1 - تقدم في الصفحة 17 - 18.
129 - إن الملاك في كون الشيء مسألة اصولية هو كونها موجبة لإثبات الحكم الشرعي
الفرعي؛ بحيث يصير حجة عليه، ولا يلزم أن يقع وسطا للإثبات بعنوانه، بل يكفي كونه
موجبا لاستنباط الحكم كسائر الأمارات العقلائية والشرعية. وإن شئت فاستوضح المقام
بالظن؛ فإنه لا يقع وسطا بعنوانه، بل هو واسطة لإثبات الحكم وحجة عليه؛ إذ
الأحكام تتعلق بالعناوين الواقعية، لا المقيدة بالظن، فما هو الحرام هو الخمر، دون
مظنونها، والقطع والظن تشتركان في كون كل واحد منهما أمارة على الحكم وموجبا لتنجزه
وصحة العقوبة عليه مع المخالفة إذا صادف الواقع. (تهذيب الاصول 2: 81).
409

وأما ما أفاده الشيخ الأنصاري في معنى الحجية: من أنها هي التي وقعت
وسطا في الإثبات (1)، فهي الحجة على طريقة المنطقيين، لا على طريقة
الاصوليين؛ لأن الوقوع وسطا في الإثبات أو اللا وقوع كذلك، لا مساس له
بالحجية الاصولية التي هي بمعنى المنجز والمعذر كما لا يخفى (130).
مضافا إلى أن الحجة في المنطق عبارة عن كلتا مقدمتي القياس (3) لا مجرد
الوسط في الإثبات.
الأمر الثاني: المراد ب‍ " المكلف " في تقسيم الشيخ (قدس سره)
إن المراد من " المكلف " في المقسم في رسالة الشيخ (4) هو المكلف
الفعلي بالنسبة إلى بعض الأحكام الضرورية؛ فإنه إذا التفت إلى حكم غير ما

1 - فرائد الاصول: 2 / السطر 13.
130 - اعلم أن للحجية معنيين:
الأول: الوسطية في الإثبات والطريقية إلى الواقع، وبهذا المعنى تطلق الحجة على
المعلومات التصديقية الموصلة إلى المجهولات، وعلى الأمارات العقلائية أو الشرعية،
باعتبار كونها برهانا عقلائيا أو شرعيا على الواقع، لا باعتبار صيرورتها بعناوينها وسطا في
الإثبات.
الثاني: الغلبة على الخصم وقاطعية العذر، وإطلاق الحجة بهذا المعنى على الأمارات
أنسب.
ثم إن الحجية بالمعنى الأول تستلزم - وجودا وعدما - جواز الانتساب إلى الشارع
وعدمه؛ إذ ليس للطريقية والوسطية في الإثبات معنى سوى ذلك. وأما بالمعنى الثاني
فلا تلازم بينهما أصلا؛ فإن الظن على الحكومة حجة بالمعنى الثاني، لكونه قاطعا للعذر،
ومع ذلك لا يصح معه الانتساب إليه. (تهذيب الاصول 2: 154 و 155).
3 - البصائر النصيرية: 78 / السطر 15، شرح الشمسية: 17 / السطر 3.
4 - فرائد الاصول: 2 / السطر 2.
410

يكون لأجله مكلفا، فإما أن يحصل له القطع، أو الظن... إلى آخره، لا المكلف
الفعلي بالنسبة إلى ذلك الحكم الذي يحصل له الأقسام؛ ضرورة عدم كونه
مقسما لها، ولا المكلف الشأني؛ فإنه [لا يكون] مكلفا، بل له شأنية التكليف،
والظاهر من قوله (رحمه الله): " اعلم أن المكلف... " إلى آخره، هو المكلف الفعلي، كما
هو الشأن في كلية العناوين المأخوذة في موضوع حكم.
الأمر الثالث: مراتب الحكم
إن المحقق الخراساني جعل للحكم مراتب؛ من الاقتضائي، والإنشائي
- أي [الذي] يكتب في الدفاتر - والفعلي، والمنجز (1). وإن جعل للفعلي مرتبتين؛
الفعلي قبل التنجز، وبعده، [ف‍] تصير المراتب خمسا.
ولا يخفى: أنه لا يصير الشيء [ذا] مراتب إلا إذا كان محفوظا بذاته في
جميع المراتب، ويختلف شدة وضعفا، كمراتب البياض والسواد، أو زيادة ونقصا
كالكم، وأما مع عدم محفوظيته فيها فلا يكون ذا مراتب.
ومن ذلك يتضح: أن ما ذكره من المراتب للحكم منظور فيه:
لأن مقام الاقتضاء - أي كون موضوع الحكم ذا مصلحة أو مفسدة - لا يكون
من مراتب الحكم؛ لعدم تحققه في هذا المقام، ولا يكون الاقتضاء قوة واستعدادا
بالنسبة إلى الحكم، كالنطفة بالنسبة إلى الصورة الإنسانية؛ فإنها استعداد
بالنسبة إلى الصورة، ولها إمكان استعدادي بالنسبة إلى النطفة، فيمكن أن يقال:
إن الاستعداد من مراتب وجود الشيء.
وأما الاقتضاء، فلا يكون كذلك، ولا يتبدل بالحكم كما هو واضح، فعده من

1 - حاشية المحقق الخراساني على فرائد الاصول: 36 / السطر 4 و 314 / السطر 9،
كفاية الاصول: 297.
411

مراتبه مما لا وجه له، كما أن إطلاق " الحكم " عليه غير صحيح.
وكذا الحال في الحكم الإنشائي على اصطلاحه - أي ما يكتبه الحاكم في
الدفاتر لأجل النظر إليه والحك والإصلاح حتى تتم حدوده، ثم يحكم حكما
فعليا - فإنه أيضا لو اطلق عليه " الحكم " لا يكون من مراتبه؛ بمعنى صيرورته
حكما فعليا بعد كونه إنشائيا، بحيث تكون ذات واحدة لها مرتبتان.
وكذا التنجز ليس من مراتب الحكم؛ فإنه وصف عقلي اعتباري للحكم
الفعلي، لأجل تعلق علم المكلف به، أو قيام الحجة عليه، من غير أن تكون
للحكم مرتبتان شدة وضعفا؛ فإن الحكم الفعلي لا يكون ناقصا قبل العلم، ولا يصير
بعده تاما أو مؤكدا، بل الحكم على ما هو عليه، لكنه قبل تعلق العلم لا يمكن أن
يكون باعثا فعليا ومحركا، بخلافه بعد تعلقه، وليست له إلا مرتبة واحدة؛
منجزة بعد تعلق العلم به، وغير منجزة قبله (131).
لا يقال: إن الحكم قبل تعلق العلم به، قد يكون محركا، كما في الاحتياط

131 - اعلم أن للحكم الشرعي مرتبتين ليس غير:
الاولى: مرتبة الإنشاء وجعل الحكم على موضوعه، كالأحكام الكلية القانونية قبل
ملاحظة مخصصاتها ومقيداتها، نحو قوله تعالى: (اوفوا بالعقود) أو (احل الله البيع)
وكالأحكام الشرعية التي نزل به الروح الأمين على قلب نبيه، ولكن لم يأن وقت
إجرائها؛ لمصا لح اقتضته السياسة الإسلامية، وترك إجرائها إلى ظهور الدولة الحقة
عجل الله تعالى فرجه.
الثانية: مرتبة الفعلية، وهي تقابل الاولى من كلتا الجهتين، فالأحكام الفعلية عبارة عن
الأحكام الباقية تحت العموم والمطلق بعد ورود التخصيصات والتقييدات حسب الإرادة
الجدية، أو ما آن وقت إجرائها. فالذي قام الإجماع على أنه بين العالم والجاهل
سواسية، إنما هو الأحكام الإنشائية المجعولة على موضوعاتها، سواء قامت عليه
الأمارة، أم لا، وقف به المكلف، أم لا. (تهذيب الاصول 2: 138).
412

مع احتمال التكليف.
فإنه يقال: لا يعقل أن يكون المحرك في الاحتياط، هو الحكم الواقعي
المجهول؛ لأن وجوده الواقعي وعدمه سواء في تحرك العبد، بل المحرك فيه
نفس الاحتمال مع مقدمات اخرى، فالاحتياط قد يصادف الواقع، وقد
لا يصادفه، وما يكون كذلك لا يمكن أن يكون المحرك فيه هو الحكم الواقعي.
الأمر الرابع: تقسيم الحكم إلى الواقعي والظاهري
إن للحكم تقسيمات؛ من التكليفي، والوضعي، ولكل منهما أقسام.
وينقسم أيضا إلى الحكم الواقعي والظاهري.
والأول: ما يتعلق بالموضوعات بعناوينها الأولية، كالمستطيع، والبالغة
غلاته حد النصاب.
والثاني: ما يتعلق بالعناوين الثانوية - أي مع الشك في الأحكام
الأولية - فيكون جعلها بلحاظ الأحكام الأولية، من غير أن تكون لنفسها
مصلحة، ويكون الجعل لتلك المصلحة؛ فإنه إذا كان الجعل بلحاظها يكون
حكما واقعيا، لا ظاهريا.
مثلا: لو كان تعلق الشك بحكم، موجبا لحصول مصلحة مورثة لتعلق
الحكم به، ويكون تعلق الحكم به لأجلها، فلا يكون حكما ظاهريا وحجة على
الحكم الواقعي، فجعل وجوب الاتباع في خبر الثقة - إذا كان لمصلحة في نفس
اتباعه - لا يصير حجة على الحكم الواقعي، ولا أمارة عليه، بل يكون حكما
واقعيا في عرض سائر الأحكام الواقعية.
فالأحكام الظاهرية ما يكون جعلها لحفظ الأحكام الواقعية الأولية، فلو
أمر المولى بالاحتياط، أو جعل خبر الثقة حجة لحفظ الواقعيات، يصير الواقع
413

منجزا بواسطة الحكم الظاهري، فالحكم الفعلي قد يصير منجزا بتعلق العلم به،
وقد يصير منجزا بواسطة الأحكام الظاهرية.
والمراد من " التنجيز " صيرورة الحكم الفعلي بحيثية تكون مخالفته
خروجا عن رسم العبودية، وتكون العقوبة عليها غير قبيحة عند العقلاء. وهو
منحصر بالأحكام الإلزامية في الواجبات والمحرمات، دون المرغبات
والمنزهات. وأما كون الحكم محركا فعليا، فلا يكون مختصا بالإلزاميات.
فالعلم بالحكم الإلزامي منجز، وبمطلق الأحكام يوجب الباعثية الفعلية،
فعد التنجيز لمطلق الأحكام - كما هو ظاهر كلام المحقق الخراساني (1) - ليس على
ما ينبغي.
وقولنا " إن الباعثية مختصة بحال العلم " ليس معناه أن الحكم جعل للعالم
به؛ فإنه دور باطل.
بل التحقيق: أن الحكم الفعلي جعل لكل مكلف، لكنه لا يكون باعثا
ومحركا إلا بعد العلم، وإنما أمر المولى ليعلم المكلف وينبعث نحو المطلوب،
فالعلم بالحكم من مقدمات الانبعاث، لا أن الحكم مجعول للعالم به.
الأمر الخامس: تقسيم حالات المكلف باعتبار وجود المنجز وعدمه
إن الشيخ الأعظم قد ثلث حالات المكلف إلى القطع، والظن، والشك (2).
ولما ورد عليه إشكال التداخل، عدل عنه المحقق الخراساني إلى التثنية،
فقال: " إما أن يحصل له القطع، أو لا " وجعل القطع بالأحكام الظاهرية من

1 - حاشية المحقق الخراساني على فرائد الاصول: 36 / السطر 7، كفاية الاصول: 297.
2 - فرائد الاصول: 2 / السطر 2.
414

أقسام القطع (1).
ويرد عليه (132): أن القطع لما كان منجزا قاطعا للعذر، تنحصر منجزيته
بتعلقه بالأحكام الواقعية؛ إذ لا معنى لتنجيزه الأحكام الظاهرية، فإن القطع
بحجية الخبر الواحد لا يكون منجزا، بل المنجز هو الخبر القائم على الواقع، لا
القطع المتعلق بحجيته، مضافا إلى ورود إشكالات اخر عليه كما سيتضح لك.
فالتحقيق أن يقال (133): إن المكلف إذا التفت إلى حكم فعلي، فإما أن يكون

1 - كفاية الاصول: 296.
132 - بل يرد عليه: أن المراد إن كان هو القطع التفصيلي، فالبحث عن الإجمالي منه في المقام
يصير استطراديا، ولا يرضى به القائل، وإن كان أعم يلزم دخول مسائل الظن والشك في
المقام، حتى الظن على الحكومة؛ فإنه من مسائل العلم الإجمالي، إلا أن دائرته أوسع
من العلم الإجمالي المذكور في مبحث القطع، وكون دائرته أوسع غير دخيل في جهة
البحث.
وأما مسائل الشك فلوجود العلم بالحكم الظاهري في الاصول الشرعية، بل بناء عليه
يمكن إدراج عامة المباحث في مبحث القطع، حتى الاصول العقلية، بأن نجعل متعلق
القطع وظيفة المكلف، فيصير المباحث مبحثا واحدا، ولا يرضى به القائل. (تهذيب
الاصول 2: 82).
133 - والأولى أن يقال: إذا التفت المكلف إلى حكم كلي، فإما أن يحصل له القطع به ولو
إجمالا، أو لا:
والأول مبحث القطع ويدخل فيه مبحث الانسداد؛ بناء على أن وجوب العمل بالظن في
حال الانسداد لأجل العلم الإجمالي بالحكم، وكون دائرة المعلوم بالإجمال فيه أوسع
لا يضر بالمطلوب. وكذا يدخل فيه أصل الاشتغال والتخيير في غير الدوران بين
المحذورين؛ فإنهما أيضا من وادي العلم الإجمالي إذا تعلق العلم الإجمالي بالحكم. نعم،
في الدوران بين المحذورين يكون التخيير للابدية العقلية، لا العلم الإجمالي، إلا إذا قلنا
بوجوب الموافقة الالتزامية وحرمة مخالفتها.
وعلى الثاني: فإما أن يقوم عليه أمارة معتبرة أو لا؛ فالأول مبحث الظن ويدخل فيه سائر
مباحث الاشتغال والتخيير؛ أي فيما تعلق العلم الإجمالي بالحجة، لا بالحكم، كما إذا علم
بقيام حجة كخبر الثقة ونحوه إما بوجوب هذا أو ذاك، وعليه يكون أصل الاشتغال
والتخيير خارجان عن مبحث الشك وداخلان في مبحث القطع والظن؛ وعلى الثاني: إما أن
يكون له حالة سابقة ملحوظة، أو لا. فالأول مجرى الاستصحاب والثاني مجرى
البراءة.
وعلى هذا التقسيم، يجب البحث عن الانسداد في مبحث القطع إن كان من مقدماته العلم
الإجمالي بالأحكام الواقعية، وفي مبحث الأمارات إن كان من مقدماته العلم الإجمالي
بالحجة.
ويمكن المناقشة في هذا التقسيم أيضا: بأن الأولى أن يكون التقسيم في صدر الكتاب
إجمال ما يبحث فيه في الكتاب تفصيلا، وعليه لا يناسب التقسيم حسب المختار في
مجاري الاصول وغيرها، والأمر سهل. (تهذيب الاصول 2: 83).
415

له منجز أو لا، فيدخل في الأول القطع بالحكم، والأمارات المعتبرة؛ فإنها
منجزات للواقع؛ بمعنى أنه إذا خالف المكلف مفادها، وكان موافقا للواقع، يصير
مستحقا للعقوبة على الواقع، وإن عمل بها وتخلف مفادها عن الواقع، لا يكون
معاقبا عليه.
وأما أصالة الاشتغال، فراجعة إلى منجزية القطع الإجمالي للواقع الذي
في الأطراف، فمع المخالفة يكون معاقبا على الواقع المعلوم على فرض
المصادفة، فأصل الاشتغال بأقسامه من باب منجزية القطع للواقع.
وأما أصل التخيير، فقد يكون مع منجزية الواقع بنحو، كما لو علم
بالتكليف إجمالا ولم تمكن الموافقة القطعية، ولكن أمكنت الموافقة
الاحتمالية.
416

وكذا المخالفة القطعية، كمن علم بوجوب صلاة الجمعة أو الظهر عليه،
ولم يمكنه الإتيان بكلتيهما، وأمكنه تركهما وإتيان إحداهما، فالواقع حينئذ منجز
في صورة، وغير منجز في اخرى؛ لأنه لو تركهما يكون معاقبا على الواقع
المتروك، ولو أتى بواحدة منهما لا يكون مستحقا للعقوبة ولو كان الواقع غير ما
أتى به.
والعقل إنما يحكم بوجوب إتيان إحداهما مخيرا بينهما، إذا لم يكن
لإحداهما مرجح، كما لو ظن بكون الواقع إحداهما خاصة؛ فإن الأخذ بالراجح
لازم عقلا، فيحكم العقل بمنجزية الواقع على فرض ترك الأخذ بالمرجح،
وعدمها على فرض الأخذ به. فلو ظن بأن الواجب هو الجمعة، وتركها وصادف
الواقع، يستحق العقوبة عليه، دون ما إذا أتى بها وخالف الواقع؛ فإنه معذور.
والسر فيه: أن المكلف العالم بالواقع، لابد له - بحكم العقل - من
التحفظ عليه بمقدار الميسور؛ وهو الأخذ بالمظنون، فلابد له من الأخذ به
مراعاة للواقع وتحفظا عليه.
فتحصل من ذلك: أن أصالة التخيير أيضا من أقسام منجزية القطع للواقع،
كما أن الأخذ بالمظنون منها.
وأما أصالة التخيير في الدوران بين المحذورين، فهي ترجع إلى عدم
منجزية القطع للواقع، فتكون من قبيل أصالة البراءة، وإن افترقتا في أن التنجيز
في مورد أصل البراءة مما لا مقتضي له، وأما في مورد أصالة التخيير فالمقتضي
له - وهو العلم بالتكليف - وإن كان موجودا، لكن المانع منه متحقق.
وأما الاستصحاب، فهو أيضا راجع إلى منجزية الواقع؛ فإن المكلف لو
خالف الاستصحاب وصادف الواقع، يكون مستحقا للعقوبة عليه، سواء كانت
417

الشبهة حكمية أو موضوعية، فالاستصحاب منجز كسائر المنجزات.
فتحصل مما ذكرنا: أن المكلف إما أن يحصل له منجز أو لا، فيدخل في
الأول جميع المنجزات؛ من القطع، والأمارات، وأصالتي الاشتغال والتخيير في
غير الدوران بين المحذورين، والاستصحاب، وفي الثاني أصا لتا البراءة، والتخيير
في الدوران بينهما.
واتضح أن عد أصالتي الاشتغال والتخيير في مقابل القطع كما صنعه
الأعلام (1) مما لاوجه له.
ولا يخفى: أن المراد من وجوب العمل بالقطع، ليس هو الوجوب الشرعي،
بل المراد منه هو الوجوب العقلي، وهو يرجع إلى منجزية الواقع كما عرفت.
كما أن التخيير في أصالة التخيير مطلقا، ليس هو التخيير الشرعي، بل هو
التخيير العقلي بالتفصيل الذي عرفت، فصح أن يقال: إن جميع حالات المكلف
ترجع إلى وجود المنجز وعدمه، فلا تغفل.
ومما ذكرنا - من أن أصالة الاشتغال والتخيير عقلية لا شرعية، وأصالة
البراءة - بحسب اصطلاح الاصوليين - هي الأصل العقلي (2) وأما المستفاد من
الشرع فلا يطلق عليه أصل البراءة - يظهر النظر فيما أفاده الشيخ الأنصاري: من
أن المرجع عند الشك هو القواعد الشرعية الثابتة للشاك (3).

1 - فرائد الاصول: 2 / السطر 2، كفاية الاصول: 296 - 297، فوائد الاصول (تقريرات
المحقق النائيني) الكاظمي 3: 4.
2 - قوانين الاصول 2: 13 / السطر الأخير، هداية المسترشدين: 444 / السطر 28.
3 - فرائد الاصول: 2 / السطر 1.
418

نعم، هو يصح بالنسبة إلى الاستصحاب؛ فإنه قاعدة شرعية (134).

134 - أقول: هذا ما أدى إليه نظري في سالف الزمان قبل الوصول إلى مباحث الاستصحاب،
ولقد جددت النظر حين انتهاء بحثنا إليه فوجدت أنه ليس أمارة شرعية، بل هو أصل
تعبدي، كما عليه المشايخ؛ لأن عمدة ما أوقعنا في هذا التوهم أمران:
أحدهما: توهم أن اليقين السابق كاشف عن الواقع كشفا ناقصا في زمان الشك، فهو قابل
للأمارية كسائر الكواشف عن الواقع.
وثانيهما: توهم أن العناية في اعتباره وجعله إنما هي إلى هذه الجهة بحسب الروايات،
فتكون روايات الاستصحاب بصدد إطالة عمر اليقين وإعطاء تمامية الكشف له، وبعد
إمعان النظر في بناء العقلاء وأخبار الباب ظهر بطلان المقدمتين:
أما الاولى: فلأن اليقين لا يعقل أن يكون كاشفا عن شيء في زمان زواله، والمفروض أن
زمان الشك زمان زوال اليقين، فكيف يمكن أن يكون كاشفا عن الواقع في زمان الشك؟!
نعم، الكون السابق - فيما له اقتضاء البقاء - وإن يكشف كشفا ناقصا عن بقائه، لكن
لا يكون كشفه عنه أو الظن الحاصل منه؛ بحيث يكون بناء العقلاء على العمل به من
حيث هو من غير حصول اطمئنان ووثوق.
وأما الثانية: فلأن العناية في الروايات ليست إلى جهة الكشف والطريقية؛ أي إلى أن
الكون السابق كاشف عن البقاء، بل العناية إنما هي إلى أن اليقين لكونه أمرا مبرما
لا ينبغي أن ينقض بالشك الذي ليس له إبرام، فلا محيص عن القول: بأن الاستصحاب
أصل تعبدي شرعي، كما عليه المشايخ المتأخرون.
وأما الاستصحاب العقلائي الذي في كلام المتقدمين، فهو غير مفاد الروايات، بل هو عبارة
عن الكون السابق الكاشف عن البقاء في زمن لاحق، وقد عرفت أن بناء العقلاء ليس على
ترتيب الآثار بمجرد الكون السابق ما لم يحصل الوثوق والاطمئنان. (أنوار الهداية 1:
110 و 111).
419

الفصل الثاني
معنى حجية القطع
قال الشيخ: لا إشكال في وجوب متابعة القطع والعمل عليه ما دام
موجودا (1).
أقول: يحتمل أن يكون المراد من " وجوب متابعة القطع " هو الوجوب
الشرعي الثابت للواقع المقطوع به؛ لكون متابعة الواقع هو العمل بالقطع بالحمل
الشائع. والمراد من " عدم الإشكال " هو عدم الإشكال لدى القاطع.
فالمعنى المحصل: أنه لا إشكال لدى القاطع في وجوب متابعة الواقع
وجوبا شرعيا، فإذا قطع بوجوب صلاة الجمعة، أو وجوب ترك شرب الخمر، فلا
إشكال عنده في وجوبهما عليه، فيرجع إلى أن القاطع بوجوب صلاة الجمعة
وترك شرب الخمر، قاطع بوجوب العمل بهما شرعا، فتصير القضية ضرورية؛
يكون المحمول فيها عين الموضوع.
ويحتمل أن يكون المراد منه أنه لا إشكال لدى القاطع وغيره من العقلاء،
في وجوب متابعة القاطع لقطعه وجوبا عقليا؛ أي يكون عند العقلاء القطع منجزا

1 - فرائد الاصول: 2 / السطر 11.
421

للتكليف الواقعي، بمعنى أنه لو خالف قطعه، وكان مصادفا للواقع، ليستحق
العقوبة على الواقع.
وبهذا المعنى تكون سائر الأمارات أيضا واجبة العمل بها؛ أي لا إشكال في
منجزيتها للواقع، والفرق بينه وبينها أنه لا يحتاج في ذلك إلى جعل بخلافها (135).
والظاهر من كلامه الآتي بعد هذا الكلام هو المعنى الأول؛ فإنه قال في
مقام الفرق بين القطع وغيره من الأمارات:
إنه لا يصير وسطا في الإثبات، فلا يقال: " هذا مقطوع الخمرية، وكل
ما كان كذلك يجب الاجتناب عنه " بل يقال: " هذا خمر، وكل خمر يجب
الاجتناب عنه ".
بخلاف سائر الأمارات، فإنه يقال: " هذا مظنون الخمرية، وكل مظنون
الخمرية يجب الاجتناب عنه " فتقع وسطا في الإثبات (2).
فإن الظاهر منه: أن مراده من " وجوب العمل بالقطع " هو الوجوب

135 - إن الكشف من آثار وجود القطع، لا من لوازم الماهية، وآثار الوجود مطلقا مجعولة؛
لأن مناط الافتقار إلى الجعل موجود في الوجود وآثاره.
وعليه، فإن اريد من امتناع الجعل هو الجعل التكويني، فلا نسلم امتناعه، بل لا يصح
بدونه؛ بناء على أصالة الوجود ومجعوليته.
وإن اريد الجعل التشريعي - فلو سلمنا كون هذه العناوين الثلاثة من لوازم وجوده - فهو
صحيح؛ فإن الجعل التشريعي لا يتعلق بما هو لازم وجود الشيء فلا معنى لجعل النار حارة
تشريعا، لا لأن الحرارة من لوازم ذاتها؛ بل لأنها من لوازم وجودها المحققة تكوينا بوجود
الملزوم، والقطع حسب الفرض طريق تكويني وكاشف بحسب وجوده، ولا يتعلق الجعل
التشريعي به للزوم اللغوية.
نعم، الحجية وقاطعية العذر ليستا من الآثار التكوينية المتعلقة للجعل، ولا من لوازم
الماهية، بل من الأحكام العقلية الثابتة بوجوده. (تهذيب الاصول 2: 85).
2 - فرائد الاصول: 2 / السطر 12.
422

الشرعي الثابت للواقع، وإنما يكون ذلك عملا بالقطع؛ لانطباق العمل به على
العمل بالواقع المقطوع به، فيكون وجوبا شرعيا.
إذا عرفت ذلك نقول: إنه لا إشكال في أن إطلاق " الحجة " على الأمارات
عند الاصوليين، ليس إلا لأنها حجة على الأحكام الواقعية الثابتة
لموضوعاتها؛ بمعنى أنها منجزات لها، فتكون الأمارات حجة على الواقع،
ومنجزة لها، ولا تطلق عليها " الحجة " باعتبار وجوب العمل على طبقها وجوبا
ظاهريا في مقابل الواقع؛ فإن وجوب العمل بالأمارات لدى الشك في الواقع،
حكم ظاهري اخذ في موضوعه الشك في الواقع، ويكون مجعولا بلحاظ التحفظ
على الواقع، فها هنا أمران:
أحدهما: الأحكام الواقعية المنجزة بواسطة قيام الأمارات عليها.
ثانيهما: الأحكام الظاهرية الثابتة للأمارات، وتكون هي موضوعات لها.
فالأمارات منجزات للأحكام الواقعية، وموضوعات للأحكام الظاهرية؛
أي يجب العمل على طبقها لدى الشك في الواقع، فإذا قيل: " إنها حجة " إنما يراد
كونها منجزات للواقع، لا أنه يجب العمل على طبقها وجوبا ظاهريا.
وبهذا المعنى من إطلاق " الحجة " على الأمارات، تطلق على القطع أيضا؛
لكونه أيضا منجزا للواقع كسائر الأمارات، ولا يقع القطع ولا غيره من المنجزات
وسطا في الإثبات في قياس باعتبار منجزيتها للواقع.
وأما وقوع الأمارات وسطا في قولنا: " هذا قامت الأمارة الكذائية على
وجوبه، وكل ما كان كذلك يجب العمل به " فإنما هو بالنسبة إلى الحكم
الظاهري الثابت بها لدى الشك؛ أي الحكم الذي تكون الأمارات القائمة على
الواقع موضوعات له، لا الموضوعات الواقعية، فتدبر ولا تغفل.
ثم إنه قد اتضح: أن الظاهر من كلام الشيخ - أي قوله: لاشك في وجوب
423

العمل بالقطع - هو الاحتمال الأول، لكن صريح كلام المحقق الخراساني هو
المعنى الثاني، حيث قال: " لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلا " (1).
لكن بقي إشكال في قوله: إن القطع موجب لتنجز التكليف فيما أصاب؛
باستحقاق الذم والعقاب على مخالفته، وكونه عذرا فيما أخطأ قصورا (2).
وهو أن القطع إذا كان منجزا للتكيف، فلا يعقل أن يكون موجبا للعذر؛
ضرورة أن عدم القطع بالحكم حينئذ موجب للعذر، لا القطع بعدمه، فنسبة
المعذرية إلى القطع بعدم الحكم، غير تامة.
بل الجمع بين العبارتين تناقض وتهافت؛ فإنه إذا صار القطع موجبا
للتنجز، فلابد وأن يكون الحكم في حد ذاته - بلا تعلق القطع به - غير مقتض
للتنجز، ولازم كون القطع بالعدم عذرا، أن الحكم بحسب وجوده الواقعي وفي حد
ذاته، مقتض للتنجز، والقطع بخلافه عذر.

1 - كفاية الاصول: 297.
2 - نفس المصدر.
424

الفصل الثالث
قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي والطريقي
لا إشكال في أن معنى اعتبار أمارة، هو أنه إذا قامت على حكم أو موضوع
ذي حكم، يجب ترتيب آثار القطع بهما عليها. فكما أن القطع بهما منجز وموجب
لوجوب العمل على وفقه عقلا، كذلك الأمارة المعتبرة. فمعنى وجوب تصديق
العادل، جعل مؤدى قوله موافقا للواقع عملا، ووجوب العمل على طبقه، وجعل
مؤداه كمؤدى القطع في مقام العمل، فلابد وأن يكون المكلف شاكا في الحكم أو
الموضوع الذي هو ذو حكم، حتى يكون لقيام الأمارة معنى معقول.
فإذا كانت صلاة الجمعة مشكوكا فيها، وقامت الأمارة على وجوبها،
وحكم الشارع باعتبار تلك الأمارة، يجب عقلا ترتيب آثار القطع بوجوبها. وكذا
إذا شك في حياة زيد، فقامت على حياته، يجب ترتيب آثار القطع بحياته.
فالحكم الواقعي يصير منجزا بالأمارة المعتبرة، كتنجزه بالقطع بلا افتراق
بينهما من هذه الحيثية، وهذا معنى قيام الأمارة مقام القطع الطريقي، وهو مما لا
425

إشكال فيه (136).

136 - اعلم: أن الأمارات المتداولة على ألسنة أصحابنا المحققين كلها من الأمارات العقلائية
التي يعمل بها العقلاء في معاملاتهم وسياساتهم وجميع امورهم؛ بحيث لو ردع الشارع عن
العمل بها لاختل نظام المجتمع ووقفت رحى الحياة الاجتماعية، وما هذا حاله لا معنى
لجعل الحجية له وجعله كاشفا محرزا للواقع بعد كونه كذلك عند كافة العقلاء، وها هي
الطرق العقلائية - مثل الظواهر وقول اللغوي وخبر الثقة واليد وأصالة الصحة في فعل
الغير - ترى أن العقلاء كافة يعملون بها من غير انتظار جعل وتنفيذ من الشارع، بل لا دليل
على حجيتها - بحيث يمكن الركون إليه - إلا بناء العقلاء، وإنما الشارع عمل بها كأنه
أحد العقلاء. وفي حجية خبر الثقة واليد بعض الروايات التي يظهر منها بأتم ظهور أن
العمل بهما باعتبار الأمارية العقلائية، وليس في أدلة الأمارات ما يظهر منه - بأدنى
ظهور - جعل الحجية وتتميم الكشف، بل لا معنى له أصلا.
ومن ذلك علم: أن قيام الأمارات مقام القطع بأقسامه مما لا معنى له؛ أما في القطع
الموضوعي فواضح؛ فإن الجعل الشرعي قد عرفت حاله وأنه لا واقع له، بل لا معنى
له.
وأما بناء العقلاء بالعمل بالأمارات، فليس وجهه تنزيل المؤدى منزلة الواقع، ولا تنزيل
الظن منزلة القطع، ولا إعطاء جهة الكاشفية والطريقية أو تتميم الكشف لها، بل لهم
طرق معتبرة يعملون بها في معاملاتهم وسياساتهم، من غير تنزيل واحد منها مقام الآخر،
ولا التفات إلى تلك المعاني الاختراعية والتخيلية، كما يظهر لمن يرى طريقة العقلاء
ويتأمل فيها أدنى تأمل.
ومن ذلك يعلم حال القطع الطريقي؛ فإن عمل العقلاء بالطرق المتداولة حال عدم العلم
ليس من باب قيامها مقام العلم، بل من باب العمل بها مستقلا ومن غير التفات إلى تلك
المعاني.
نعم، القطع طريق عقلي مقدم على الطرق العقلائية، والعقلاء إنما يعملون بها عند فقد
القطع، وذلك لا يلزم أن يكون عملهم بها من باب قيامها مقامه؛ حتى يكون الطريق منحصرا
بالقطع عندهم، ويكون العمل بغيره بعناية التنزيل والقيام مقامه.
وما اشتهر بينهم: من أن العمل بها من باب كونها قطعا عاديا، أو من باب إلقاء احتمال
الخلاف - على فرض صحته - لا يلزم منه التنزيل أو تتميم الكشف وأمثال ذلك.
وبالجملة: من الواضح البين أن عمل العقلاء بالطرق لا يكون من باب كونها علما وتنزيلها
منزلة العلم، بل لو فرضنا عدم وجود العلم في العالم، كانوا يعملون بها، من غير التفات
إلى جعل وتنزيل أصلا.
ومما ذكرنا تعرف وجه النظر في كلام هؤلاء الأعلام المحققين (رحمهم الله) من التزام جعل المؤدى
منزلة الواقع تارة، والتزام تتميم الكشف وجعل الشارع الظن علما في مقام الشارعية
وإعطاء مقام الإحراز والطريقية له اخرى، إنها كلمات خطابية لا أساس لها.
والعجب أن بعض المشايخ المعاصرين - على ما في تقريرات بحثه - قد اعترف كرارا بأنه
ليس للشارع في تلك الطرق العقلائية تأسيس أصلا، وفي المقام قد أسس بنيانا رفيعا في
عالم التصور يحتاج إلى أدلة محكمة، مع خلو الأخبار والآثار عن شائبتها فضلا عن
الدلالة. هذا حال الأمارات. (أنوار الهداية 2: 105 - 108).
426

وأما إذا كان القطع موضوعا لحكم أو جزء موضوع له، فيكون القطع
بالخمرية أو الخمر المقطوع به، موضوعا للحرمة، فلا يعقل قيام الأمارة مقامه:
أما أولا: فلأن قيام الأمارة على شيء، إنما يعتبر مع الشك في تحققه، دون
ما إذا قطع بعدم تحققه؛ فإنه حينئذ لا معنى لقيامها عليه، والمفروض أنه مع
الشك في الخمرية يقطع بعدم تحقق موضوع الحكم؛ فإن موضوعه هو المقطوع
به، لا المشكوك فيه.
وأما ثانيا: فلأن اعتبار الأمارة، إنما هو فيما إذا قامت على حكم أو موضوع
ذي حكم، والفرض أن الموضوع هو " مقطوع الخمرية " لا الخمر، فقيامها على
الخمرية قيام على غير ما هو الموضوع، فلا معنى لاعتبارها وقيامها مقام القطع،
ولو فرض قيام الأمارة على نفس الموضوع، فقامت البينة على أنك قاطع
بالخمرية، مع كونك شاكا فيها، تقطع بكذبها، ومعه لا يعقل اعتبارها.
فقيام الأمارة - بما لها من المعنى، من كونها أمارة للواقع ومعتبرة - مقام
427

القطع الموضوعي، مما لا معنى له.
نعم، لا بأس بقيامها مقامه بمعنى آخر؛ وهو تنزيل قيام الأمارة مقام القطع
الموضوعي، كتنزيل الطهارة الترابية مقام المائية، كما لو دل دليل على أن
الأمارة إذا قامت على خمرية شيء، يكون قيامها بمنزلة تعلق القطع به في
كونه ذا مصلحة أو مفسدة ملزمة، فيكون حينئذ حكما واقعيا كسائر الأحكام
الواقعية، لكنه خارج عن الأمارية التي يكون اعتبارها بلحاظ الشك في
الواقع.
وما أفاده الشيخ مما ظاهره المنافاة لما ذكرناه: من أن القطع المأخوذ في
الموضوع على قسمين؛ فإنه تارة: يؤخذ على نحو الطريقية، وتارة: على نحو
الصفتية، فتقوم الأمارات بأدلة اعتبارها مقام القطع الموضوعي على النحو
الأول، دون الثاني (1).
فالظاهر رجوعه إلى ما ذكرناه؛ وأن مراده من ذلك أنه قد يكون القطع في
ظاهر الدليل ومقام الإثبات والدلالة، مأخوذا في الموضوع، لكنه ليس موضوعا
في مقام الثبوت والواقع، بل الحكم ثابت للواقع بلا دخالة القطع فيه؛ لا بنحو
تمام الموضوع، ولا بنحو جزئه، بل يكون طريقا محضا إلى المتعلق، كسائر
الموارد التي لم يؤخذ في ظاهر الدليل أيضا في الموضوع.
فإذا قال: " إذا قطعت بخمرية شيء اجتنب عنه " ويكون المراد هو
الاجتناب عن الخمر الواقعي، ويكون القطع كاشفا وطريقا محضا إلى الموضوع
الواقعي، تقوم الأمارات مقامه؛ لأن الحكم ثابت للواقع، لا المقطوع وإن اخذ في
ظاهر الدليل في الموضوع، بخلاف ما إذا اخذ في الموضوع بحسب مقام الثبوت،
كما أخذه كذلك بحسب الإثبات.

1 - فرائد الاصول: 4 / السطر الأول.
428

وبالجملة: ليس مراده التفصيل بين القطع المأخوذ في الموضوع ثبوتا
على نحو الطريقية والصفتية، بل مراده التفصيل بين القطع المأخوذ في
الموضوع وغيره؛ أي ما كان طريقا محضا، ولو اخذ في ظاهر الدليل في
الموضوع.
ويؤيد ما ذكرنا بل يدل عليه، قوله: ثم من خواص القطع الذي هو طريق
إلى الواقع، قيام الأمارات الشرعية وبعض الاصول العملية مقامه (1)؛ فإن عد
هذا من خواص القطع الطريقي، ينافي التفصيل بين قسمي القطع الموضوعي وقيام
الأمارات مقام قسم منه؛ فإن خاصة الشيء ما لا يشترك معه غيره فيها.
ويؤيده أيضا ما أفاده بعد ذلك في مقام بيان القطع المأخوذ في الموضوع
بقوله: فإنه تابع لدليله؛ فإن ظهر منه أو من دليل خارج، اعتباره على وجه
الطريقية للموضوع، قامت الأمارات وبعض الاصول مقامه (2).
فإن الظاهر من قوله: على وجه الطريقية للموضوع، أن متعلق القطع هو
تمام الموضوع، لا بعضه وبعضه الآخر هو القطع؛ فإنه لا يناسب هذا التعبير كما
لا يخفى.
ودون هذا التوجيه لكلامه توجيه آخر وهو أن القطع لما كان من الصفات
الحقيقية ذات الإضافة، فله إضافة إلى القاطع، وإضافة إلى الأمر المقطوع
به؛ لكشفه عنه، فيمكن أن يؤخذ في الموضوع بما أنه صفة خاصة للقاطع،
وأن يؤخذ فيه بما أنه كاشف عن الواقع، فإن اخذ على النحو الثاني قامت
الأمارات مقامه، دون ما إذا اخذ على النحو الأول (3).

1 - فرائد الاصول: 3 / السطر الأخير.
2 - نفس المصدر: 4 / السطر الأول.
3 - كفاية الاصول: 303.
429

وفيه ما عرفت: أن معنى اعتبار الأمارة القائمة على حكم أو موضوع ذي
حكم، هو ترتيب آثار الواقع عليه لدى الشك فيه، وأما مع القطع بعدمه فلا
معنى لاعتبارها، فإذا اخذ القطع في موضوع، فقامت الأمارة على ذلك الموضوع
للشاك، يقطع بعدم تحقق موضوع حكمه.
وأيضا: قيام الأمارة على الخمرية، لا على القطع بها، والموضوع هو
الثاني، لا الأول، ولو قامت على الثاني تكون كذبا قطعا.
وهاهنا احتمال ثالث في توجيه عبارته وهو أن المراد من القطع الملحوظ
على الصفتية ملاحظته من حيث أنه كشف تام، ومن الملحوظ على نحو
الطريقية ملاحظته من حيث أنه أحد مصاديق الطرق المعتبرة؛ أي ملاحظة
الجامع بين القطع وبين سائر الطرق المعتبرة.
فإن اخذ في الموضوع على النحو الأول، لا تقوم الأمارات مقامه، بخلاف
ما إذا اخذ فيه على النحو الثاني، فإنها تقوم مقامه بواسطة الأدلة الدالة على
اعتبارها.
فإن كان القطع بعض الموضوع، وبعضه الآخر هو الواقع المقطوع به،
فيكفي في إثبات جزء الموضوع واعتبار الأمارة بالنسبة إليه، كونه ذا أثر
تعليقي؛ أي لو انضم إليه الجزء الآخر يكون ذا أثر فعلي شرعي، وكم له من نظير،
فإن إثبات بعض الأجزاء بالأصل أو الأمارة، والباقي بالوجدان، غير عزيز.
وأما إن كان تمام الموضوع، فلا معنى لاعتبار الأمارة إلا إذا كان للموضوع
أثر آخر تعتبر الأمارة بلحاظه، مثل أن يكون الخمر موضوعا للحرمة واقعا، وما
علم خمريته يكون موضوعا للنجاسة مثلا، فحينئذ يمكن إحراز الخمر تعبدا
بقيام البينة؛ لكونها ذات أثر شرعي، وبعد قيامها يترتب عليها الحكم الآخر الذي
430

رتب على العلم من حيث أنه طريق إلى تحقق موضوعه (1).
وفيه: أنه فيما إذا كان القطع جزء الموضوع، يكون اعتبار الأمارة متوقفا
على كونه ذا أثر، وكونه ذا أثر متوقف على اعتبار الأمارة، فقيام الأمارة لا يمكن
إلا على وجه دوري.
وإذا كان تمام الموضوع، وكان له أثر آخر - كما في المثال المتقدم - فلا
مانع منه، إلا أنه يلزم منه أن يكون الحكم الواقعي، مترتبا على الحكم
الظاهري بعكس المتعارف؛ فإن وجوب ترتيب آثار الحرمة على الأمارة
القائمة على الخمرية، حكم ظاهري يترتب عليه الحكم الواقعي الذي هو
النجاسة.

1 - درر الفوائد، المحقق الحائري: 330 - 332.
431

الفصل الرابع
في التجري
تحرير محل النزاع
ولابد قبل تحقيق المقام من تحرير محل النزاع، فنقول: ما يمكن أن يكون
محل النزاع أحد امور أربعة:
الأول: أن القطع إذا تعلق بحرمة شيء أو وجوبه، هل هو موجب للحرمة
الشرعية على مخالفته - سواء صادف الواقع أو لا - أم لا يوجب؟
الثاني: إذا تعلق القطع بهما، هل هو موجب للحرمة على المخالفة إذا لم
يصادف الواقع أم لا؟
الثالث: الصورة الاولى بحالها، لكن يقع النزاع في أن العقل هل يحكم
باستحقاق العقوبة على المخالفة أم لا؟
الرابع: الصورة الثانية بحالها، ويقع النزاع في الحكم العقلي كالثالثة.
ثم إن النزاع يمكن أن يقع في أن التجري هل له ملاك غير ملاك التجري
الذي في المعصية، أم لابل ملاكهما واحد؟
وتوضيحه: أن في المعصية جهتين، إحداهما: قبح نفس الفعل بما أنه ذو
433

مفسدة محضة أو غالبة، وثانيتهما: قبح مخالفة المولى والتجري عليه، فيمكن
النزاع في أن ملاك قبح التجري، هل هو ملاك قبح المعصية من الجهة الثانية، أم
له ملاك مستقل غير الملاك الذي في المعصية؟
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنه لا إشكال في أن النزاع إنما هو في الصورة
الرابعة؛ فإنها قابلة للنقض والإبرام، وأما كون الحرمة الشرعية متعلقة بنفس
مقطوع الحرمة بما أنه كذلك، فمقطوع العدم؛ لعدم الدليل عليها.
بل لازم تعلق الحرمة به، أن تتحقق في المعصية الواحدة الصادرة من
المكلف، معاص غير متناهية؛ فإن مقطوع الحرمة حرام بالفرض، فإذا تعلق
القطع بمقطوع الحرمة، يتحقق حرام آخر، وهكذا في صورة تعلق القطع
بالقطع... إلى ما لا نهاية له، فتتضاعف المحرمات حسب تضاعف القطع.
وأما القول: بأن في التجري ملاكا مستقلا غير ملاك التجري الذي في
المعصية (1).
فهو غير محقق؛ ضرورة أن الملاك الآخر المستقل مقطوع العدم، فالنزاع
إنما هو في أن القطع إذا تعلق بحرمة شيء أو وجوبه، فكما أنه في صورة
الإصابة موجب لاستحقاق العقوبة على المخالفة، فهل هو في صورة عدمها
أيضا موجب لاستحقاقها عقلا أم لا؟
وأما تعبير الشيخ العلامة: بأن النزاع في أن القطع حجة عليه وإن لم
يصادف الواقع أو لا (2) ففي غير محله؛ فإن معنى الحجية - كما مر مرارا - هو
تنجيز الواقع على المكلف، ومعلوم أنه لا معنى لتنجيز القطع الغير المصادف
للواقع.

1 - انظر فوائد الاصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 48 - 49.
2 - فرائد الاصول: 4 / السطر 20.
434

تحقيق المقام
ثم إنه قد استدل على قبح التجري بالإجماع (1) والعقل (2).
أما الإجماع، فلا شبهة في عدم تحققه؛ فإنه مضافا إلى كون المسألة
عقلية - كما قال الشيخ (3) - أنها ليست من المسائل الأصلية المعنونة في كلام
قدماء أصحابنا، بل من المتفرعات التي ليست دعوى الإجماع عليها في محلها.
وأما العقل، فقد يقرر: بأن الحكم باستحقاق عقوبة العاصي دون
المتجري، إناطة لاستحقاق العقاب بما هو خارج عن الاختيار؛ لأن العاصي
والمتجري متساويان إلا في تصادف قطع أحدهما للواقع دون الآخر، وهو غير
اختياري (4).
وقد يقال: إن العقل يحكم باستحقاق المتجري للعقاب (5).
وأجاب عنهما الشيخ الأنصاري (رحمه الله): بأن العقاب على العصيان، إنما يكون
على شرب الخمر اختيارا؛ فإن العاصي شرب الخمر اختيارا، والعقل إنما يحكم
بتساويهما في استحقاق الذم من حيث شقاوة الفاعل، وسوء سريرته مع المولى،
وخبث طينته، لا في استحقاق المذمة على الفعل المقطوع به (6).
أقول: ما أفاده من أن العاصي والمتجري مستحقان للذم من حيث خبث

1 - فرائد الاصول: 4 / السطر 22.
2 - كفاية الاصول: 298.
3 - فرائد الاصول: 5 / السطر 7.
4 - انظر ذخيرة المعاد: 210 / السطر 3.
5 - جعله الشيخ الأعظم (قدس سره) مؤيدا، انظر فرائد الاصول: 5 / السطر 3.
6 - فرائد الاصول: 5 / السطر 17 وما قبل الأخير.
435

طينتهما، وسوء سريرتهما، وشقاوتهما الذاتية، ليس كذلك مطلقا، بل قلما يتفق
أن يكون صدور العصيان والتجري على المولى، ناشئين عن سوء السريرة مع
المولى، ولو فرض كون العبد مع مولاه كذلك، لكشف ذلك عن كفره وعناده مع
مولاه.
لكن الأمر ليس كذلك نوعا؛ فإنه كثيرا ما يكون العاصي أو المتجري حسن
السريرة معه، خاضعا لربوبيته، مائلا لطاعته، محبا له، لكن غلبته الشهوات
والميول الباطنية، وأعانت عليه الوساوس الشيطانية، فإذا ارتكب المعصية
ندم على ما فعل غاية الندامة، وذم نفسه، ورجع إلى ربه. ومثله تكون
سريرته حسنة، وطينته طيبة، وليس من الأشقياء، بل ربما يكون من السعداء،
فلا يصح أن يقال عمن عصى واجترأ على مولاه: " إنه سيء السريرة، خبيث
الطينة... " إلى غير ذلك.
والتحقيق أن يقال: إن الذم لا يكون على سوء السريرة وخبث الطينة كما
ذكره، ولا على العزم والجزم على المعصية، وكونه بصدد هتك المولى، مع كون
الفعل المتجرى به على ما هو عليه كما عليه المحقق الخراساني (1).
بل لأن المتجري والعاصي، إنما يكونان متوافقين في أن مبدأ المخالفة
للمولى كان فيهما بالقوة، فصار فعليا بحركتهما الاختيارية، فالمتجري خرج من
قوة مخالفة المولى إلى فعليتها بذلك الفعل الاختياري كالعاصي، وإنما الفرق
بينهما أن العاصي وقع في مفسدة الفعل بما أنه فعل ذو مفسدة، دون المتجري (137).

1 - كفاية الاصول: 298 - 299.
137 - إن بين التجري والمعصية جهة اشتراك، وجهة امتياز:
أما الثاني: فيمتاز التجري عنها في انطباق عنوان المخالفة عليها دونه، ولا إشكال في
حكم العقل بقبح مخالفة أمر المولى ونهيه مع الاختيار، والعقلاء مطبقون على صحة
المؤاخذة على مخالفة المولى بترك ما أمره، وارتكاب ما نهى عنه، ولا ريب أن تمام
الموضوع في التقبيح هو المخالفة فقط، من غير نظر إلى عناوين اخر، كهتكه وظلمه
وخروجه عن رسم العبودية إلى غير ذلك، كما أنها تمام الموضوع أيضا عند العقلاء الذين
أطبقوا على صحة مؤاخذة المخالف، من غير فرق فيما ذكرنا بين أن يكون نفس العمل مما
يحكم العقل بقبحه مستقلا، كالفواحش، أو لا، كصوم يوم العيد والإحرام قبل الميقات.
والحاصل: أن العقل إذا لاحظ نفس مخالفة المولى عن اختيار، يحكم بقبحه مجردة عن
كافة العناوين؛ من الجرأة وأشباهها.
وأما الأول: - أعني الجهة المشتركة بينهما - فهي الجرأة على المولى والخروج من رسم
العبودية وزي الرقية والعزم والبناء على العصيان وأمثالها.
وأما الهتك فليس من لوازم التجري، ولا المعصية؛ فإن مجرد المخالفة أو التجري ليس
عند العقلاء هتكا للمولى وظلما عليه.
وعند ذلك يقع البحث في أن التجري هل هو قبيح عقلا أو لا؟ وعلى فرض قبحه هل هو
مستلزم للعقاب أو لا؟ لما عرفت من عدم الملازمة بين كون الشيء قبيحا وكونه مستلزما
للعقوبة.
والذي يقوي في النفس سالفا وعاجلا عدم استلزامه للعقوبة، سواء قلنا بقبحه أم لا،
والشاهد عليه: أنه لو فرض حكم العقل بقبح التجري واستحقاق العقوبة عليه، فليس
هذا الحكم بملاك يختص بالتجري ولا يوجد في المعصية، بل لو فرض حكمه بالقبح
وصحة المؤاخذة فلابد أن يكون بملاك مشترك بينه وبين المعصية، كأحد العناوين
المتقدمة المشتركة، ولو كانت الجهة المشتركة بينهما ملاكا مستقلا للقبح واستحقاق
العقوبة، لزم القول بتعدد الاستحقاق في صورة المصادفة؛ لما عرفت أن مخالفة المولى
علة مستقلة للقبح والاستحقاق، فيصير الجهة المشتركة ملاكا مغايرا موجبا لاستحقاق
آخر. (تهذيب الاصول 2: 89 - 90).
436

وبعبارة اخرى: إن الأفعال - مع قطع النظر عن انتسابها إلى المولى - لها
مفاسد ومصالح ذاتية قبل تعلق التكليف بها، فالخمر فيها مفسدة غالبة على
437

مصلحتها، تعلق بها تكليف أو لا، وإذا تعلق التكليف بها يصير منسوبا إلى المولى
لأجله، فيصير ارتكاب شرب الخمر - مضافا إلى إيصال المكلف إلى المفسدة
الذاتية - موجبا لمخالفة المولى وخروج العبد عن رسم العبودية وطريق
الطاعة، والمتجري القاطع بأن المائع الكذائي خمر يكون شريكا للعاصي في
الجهة الثانية للعصيان، لا الاولى.
فالفعل المتجرى به يصير قبيحا لا بعنوانه الذاتي، بل بعنوان عرضي ثابت
له بواسطة قطع العبد بكونه متعلقا للتكليف. ولا فرق في نظر العقل من هذه
الجهة بين تصادف القطع للواقع وعدمه، فكما أن ارتكاب شرب الخمر المقطوع
به مذموم عند العقلاء، ويكون خروجا عن رسم العبودية، وقبيحا بالعنوان
المنطبق عليه - وهو عنوان مخالفة المولى والجرأة عليه - كذلك الفعل
المتجرى به من هذه الحيثية، طابق النعل بالنعل.
نعم، الخمر في ذاتها مع قطع النظر عن تعلق النهي بها ذات مفسدة، والماء
المقطوع بكونه خمرا ليس كذلك.
فتحصل مما ذكرنا: أن الفعل المتجرى به كالعصيان من جهة، ويفترق عنه
من جهة اخرى (138).

138 - الظاهر أن الفعل المتجرى به لا يخرج عما هو عليه، ولا يصير فعلا قبيحا ولو قلنا بقبح
التجري؛ فإن توهم قبحه لو كان بحسب عنوانه الواقعي فواضح الفساد؛ فإن الفعل
الخارجي أعني شرب الماء ليس بقبيح، وإن كان لأجل انطباق عنوان قبيح عليه، فليس
هنا عنوان ينطبق عليه حتى يصير لأجل ذلك الانطباق متصفا بالقبح؛ فإن ما يتصور هنا
من العناوين فإنما هي التجري والطغيان والعزم وأمثالها، ولكن التجري وأخويه من
العناوين القائمة بالفاعل، والمتصف بالجرأة إنما هو النفس، والعمل يكشف عن كون
الفاعل جريئا، وليس ارتكاب مقطوع الخمرية نفس الجرأة على المولى، بل هو كاشف عن
وجود المبدأ في النفس، وقس عليه الطغيان والعزم، فإنهما من صفات الفاعل، لا الفعل
الخارجي.
وأما الهتك والظلم، فهما وإن كانا ينطبقان على الخارج، إلا أنك قد عرفت عدم الملازمة
بينهما وبين التجري. فتحصل: أن الفعل المتجرى به باق على عنوانه الواقعي، ولا يعرض
له عنوان قبيح.
نعم، لو قلنا: بسراية القبح إلى العمل الخارجي الكاشف عن وجود هذه المبادئ في النفس،
فلا بأس بالقول باجتماع الحكمين لأجل اختلاف العناوين، ولا يصير المقام من باب
اجتماع الضدين؛ فإن امتناع اجتماع الضدين يرتفع باختلاف المورد.
وقد وافاك بما لا مزيد عليه: أن مصب الأحكام وموضوعاتها إنما هي العناوين والحيثيات
فلا إشكال لو قلنا: بإباحة هذا الفعل أعني شرب الماء بما أنه شرب، وحرمته من أجل
الهتك والتجري والطغيان، فالعنوانان منطبقان على مصداق خارجي، والخارجي مصداق
لكلا العنوانين، وهما مصبان للأحكام على ما أوضحناه في مبحث الاجتماع. (تهذيب
الاصول 2: 91 - 92).
438

مقالة المحقق الخراساني في هذا المقام
ثم إن المحقق الخراساني، قد أرخى عنان القلم إلى بحث لا ينبغي الخوض
فيه كثيرا، وأعاد ما أفاد في باب الطلب والإرادة (1): من أن العقاب على قصد
العصيان والعزم على الطغيان، وأنهما وإن لم يكونا بالاختيار لكونهما من مبادئه
فيتسلسل، إلا أن بعض مبادئ الاختيار غالبا يكون وجوده بالاختيار؛ للتمكن من
عدمه.
مضافا إلى إمكان أن يقال: إن حسن المؤاخذة والعقوبة، إنما يكون من
تبعة بعده عن سيده بتجريه عليه، كما كان من تبعة العصيان، فكما أنه يوجب
البعد، كذلك لا غرو في أن يوجب حسن العقوبة؛ فإنه وإن لم يكن باختياره، إلا

1 - كفاية الاصول: 89 - 90.
439

أنه بسوء سريرته وخبث باطنه؛ بحسب نقصانه واقتضاء استعداده ذاتا وإمكانا.
وإذا انتهى الأمر إليه يرتفع الإشكال، وينقطع السؤال ب‍ " لم " فإن الذاتيات
ضرورية الثبوت للذات، والسؤال عن أن الكافر لم اختار الكفر، والعاصي
العصيان؟ كالسؤال عن أن الحمار لم يكون ناهقا، والإنسان ناطقا؟... إلى
آخره (1).
وقد مر الكلام فيه سالفا (2) وملخص المقال (139): أن الظاهر وقوع الخلط
في معنى الاختيار، وظن أن الفعل بمجرد كونه عن إرادة وعزم، موجب لصحة
العقوبة أو المثوبة عليه، مع أن الأمر ليس كذلك؛ فإن الحيوانات أيضا لها عزم
وإرادة، ويكون صدور الأفعال منها عن إرادة وعزم في مقابل صدورها عن الطبائع،
مع أن العقوبة والمثوبة على أفعالها مما لا وجه لهما.
بل التحقيق: أن ما يوجب استحقاقهما عليهما عقلا إنما هو الاختيار، وهو
عبارة عن تشخيص الخير وطلبه، وقد مر (4) أن الإنسان خلق من لطائف العوالم
العلوية ولطائف العوالم السفلية، كما قال الله تعالى: (إنا خلقنا الإنسان من
نطفة أمشاج نبتليه) (5) والنطفة الأمشاج - أي المختلطة (6) - هي النطفة المعنوية
والتخمير الإلهي من اللطائف العلوية والسفلية.
ولكل من اللطيفتين ميول إلى عالمها؛ فالإنسان باللطيفة العلوية يميل إلى
العالم العلوي، ودار ثواب الله، ويتوجه إلى الحقائق الغيبية، وباللطيفة السفلية

1 - كفاية الاصول: 300 - 301.
2 - تقدم في الصفحة 37 - 39.
139 - لاحظ حول هذه المسألة أنوار الهداية 1: 60 - 89.
4 - تقدم في الصفحة 41 - 43.
5 - الإنسان (76): 2.
6 - تاج العروس 2: 100 - 101.
440

يميل إلى العالم السفلي، ويتوجه إلى الشهوات النفسانية، والله تعالى جعل فيه
قوة العقل والتمييز، وأيده بالعقول الكاملة الخارجية؛ من الأنبياء والمرسلين،
والأولياء والعلماء الكاملين.
فهو دائما يكون بين الميول المختلفة العلوية والسفلية، وله قوة العقل
والتمييز بين الحسن والقبح، فإن رجح - بحسب ميوله العلوية، وتأييد العقل
الداخلي والخارجي - جانب العلو، ورأى خيره فيه واصطفاه واختاره، يشتاق
إليه ويريده، ويفعل ما يناسبه.
وإن رأى خيره في العاجل، وغلبته الشهوات والميول النفسانية، واختار
الخير العاجل - وإن كان قليلا فانيا - على الآجل وإن كان كثيرا باقيا، يشتاق إليه
ويريده ويفعل على منواله، فمناط استحقاق العقاب إنما هو هذا الاختيار، الذي
يكون بقوة العقل والتمييز، مع تمامية الحجة من الله تعالى عليه.
ويؤيد ما ذكرناه: ما ورد في الروايات من أن في قلب كل إنسان نكتتين؛
بيضاء وسوداء، فإذا أطاع تزداد النكتة البيضاء حتى تحيط بالقلب، وإذا عصى
تزداد النكتة السوداء كذلك (1).
وما ورد: من أن للقلب اذنين ينفث فيهما الملك والشيطان (2).
وما ورد في كيفية خلق الإنسان من أخذ طينته من السماوات السبع
والأرضين السبع (3)... إلى غير ذلك مما يظهر للمتتبع (4).

1 - الكافي 2: 273، بحار الأنوار 73: 332 / 17.
2 - مجمع البيان 10: 570 - 571.
3 - بحار الأنوار 25: 50 / 10 من غير تقييد للأرضين بكونها سبعا.
4 - بصائر الدرجات: 35 / 5 و 37 / 10.
441

تفصيل صاحب الفصول (رحمه الله)
ثم إنه يظهر من صاحب " الفصول " (رحمه الله) التفصيل؛ وهو أن العبد مستحق
للعقوبة على فعله المتجري به، إلا أن يعتقد تحريم واجب غير مشروط بقصد
القربة، فإنه لا يبعد عدم استحقاق العقاب عليه مطلقا أو في بعض الموارد؛ نظرا
إلى معارضة الجهة الواقعية للجهة الظاهرية؛ فإن قبح التجري ليس ذاتيا،
بل يختلف بالوجوه والاعتبار، فمن اشتبه عليه مؤمن ورع عالم بكافر واجب
القتل، وتجرى ولم يقتله، فإنه لا يستحق الذم على هذا الفعل عقلا عند من
انكشف له الواقع... (1) إلى آخره.
أقول: تحقيق المقام يتم بذكر امور:
الأول: أن معنى مزاحمة الجهات المحسنة والمقبحة في الأفعال، ليس
هو انمحاء جهات الحسن في صورة غلبة جهات القبح عليها، أو بالعكس، بل
تكون الجهات بحالها بحسب الواقع، لكن حسن الفعل أو قبحه تابع للجهة
الغالبة، فالخمر التي فيها نفع وصلاح، لكن فسادها وضرها أكثر منهما، وإثمها
أكبر من نفعها، ويكون حكمها تابعا للجهة الغالبة، لا ينمحي صلاحها الجزئي
ونفعها السير، بل يكون باقيا مغلوبا عند تزاحم المقتضيين.
الثاني: أن التحقيق في كون الحسن والقبح ذاتيين أو بالوجوه والاعتبار،
أن بعض العناوين المتصورة، تكون بحسب ذاتها حسنة أو قبيحة عقلا، فيحكم
العقل بحسنها أو قبحها الذاتيين، إذا وجدت في الخارج بذاتها مع قطع النظر عن
الطوارئ والعوارض الخارجية الملحقة بها في الخارج، كالصدق والكذب من

1 - الفصول الغروية: 431 / السطر 36.
442

حيث ذاتهما، مع قطع النظر عن اللواحق فهذا معنى ذاتية الحسن والقبح.
لكن تلك العناوين الحسنة أو القبيحة، إذا وجدت في الخارج، قد
تتصادق عليها عناوين اخر في الوجود الخارجي والهوية العينية، فتتزاحم
معها، فحينئذ يكون الحسن والقبح بالوجوه والاعتبار؛ لأجل التزاحم الخارجي
بين المقتضيات التابعة للعناوين الصادقة على الهوية العينية.
فقتل ابن المولى قبيح ذاتا، إذا تحقق في الخارج بذاته من غير لواحق اخر
مزاحمة له في المقتضى، ولكن قد يصير حسنا إذا عرضه عنوان راجح، مثل
كونه قاتلا للمولى، وإكرام المولى حسن ذاتا، وقد يتصادق مع عنوان آخر في
الخارج، فيصير قبيحا بالعرض؛ لكونه معرفا له عند العدو القاهر الذي يريد
قتله (140).
الثالث: قد عرفت أن الأفعال بذاتها مع قطع النظر عن أمر المولى أو نهيه،
مشتملة على مصا لح ومفاسد ذاتية، وبعد تعلقهما بها ينطبق عليها عنوان آخر،
لأجله يحكم العقل بحسنها أو قبحها، فإذا أمر المولى بشيء، وأطاع العبد، يكون
فعله حسنا لأجل انطباق عنوان طاعته عليه، ولو تركه يكون تركه قبيحا
لأجل انطباق عنوان العصيان عليه، وكذا في النواهي، وكل ذلك من متفرعات
أمره ونهيه.
وقد عرفت أيضا: أن ملاك حكم العقل بقبح التجري، هو عين ملاك حكمه
بقبح المعصية؛ وهو الخروج عن رسم العبودية، وكون الفعل الخارجي منتهى ما
يمكن للعبد أن يظهر به المخالفة للمولى، من غير فرق من هذه الحيثية بين
العصيان والتجري، ويختص العصيان بوقوع المكلف في المفسدة الذاتية للفعل.
إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم: أن ما أفاده صاحب " الفصول " من كون العبد غير

140 - لاحظ حول هذه المسألة المكاسب المحرمة، الإمام الخميني (رحمه الله) 2: 112 - 114.
443

مستحق للعقوبة مع مصادفة فعله لما هو واجب واقعا (1) غير صحيح؛ لما عرفت
من أن تزاحم الجهات المحسنة مع الجهات المقبحة، ليس بمعنى انمحائها،
فحينئذ يكون التجري على المولى - بعنوانه القبيح - متحققا، وله أن يعاقب العبد
عليه؛ لعدم سقوط قبحه، والمصلحة الواقعية لا توجب زوال القبح من جهة
التجري.
نعم، هنا أمر آخر؛ وهو أن هذا التجري في نظر المولى قبيح، وموجب
لسخطه على العبد بما أنه متجرئ عليه، ونجاة ابنه من الهلاك ذات مصلحة
تامة، فحينئذ قد يكون قبح التجري أقوى في نظره، وقد يكون ملاك نجاة ابنه
أقوى. فأيهما يكون أقوى يكون مؤثرا في نفسه؛ أي قد يصير مسرورا لأجل
تحقق الواقعة، وقد يصير محزونا.
وهذا غير مربوط بعدم استحقاق المتجري للعقوبة؛ لأن المتجري كان
إقدامه وحركته نحو مخالفة المولى، وهو أمر، والمزاحمة بين عنوان التجري
والمصلحة الواقعية أمر آخر لا يوجب خروج التجري عن كونه قبيحا وجرأة
على المولى وهتكا لحرمته.
لا يقال: إن استحقاق العقوبة تابع لإتيان العبد ما هو مبغوض المولى،
والفعل المتجرى به إذا انطبق عليه عنوان ذو مصلحة غالبة، لا يكون
مبغوضا له.
لأنا نقول: هذا ممنوع، بل استحقاق العقوبة إنما هو على مخالفة المولى.
ألا ترى أن مخالفة الأوامر والنواهي الامتحانية، موجبة لاستحقاق العقوبة،
مع عدم كون الفعل إذا تركه مبغوضا له؟!
هذا، ثم إنه قد تحصل من جميع ما ذكرناه: أن الحق في باب التجري مع

1 - الفصول الغروية: 431 / السطر 37.
444

المثبتين (1) لكن بالمعنى الذي ذكرنا في محل النزاع؛ من أن النزاع في حكم العقل
باستحقاق العقوبة وعدمه.
وبما ذكرناه: من أن المدعى إثبات استحقاق العقوبة لا فعليتها - فإنها أمر
ليس للعقل فيه دخالة وحكم حتى في مورد المعصية - يظهر الجواب عما
يمكن أن يقال: من أن ظاهر الأدلة الشرعية أن العقوبة على فعل المعصية،
فشرب الخمر وقتل المؤمن وترك الصلاة والصوم وأمثالها موجبة للعقوبة
بحسب الأدلة، ولا دليل على العقوبة على غيرها (2).
فإن هذه الظواهر تدل على أن العصيان له عقوبة فعلية، ولا تدل على نفي
استحقاقها على التجري، والمدعى أن التجري موجب لاستحقاقها لا فعليتها.
ثم قال صاحب " الفصول " في ذيل كلامه (3): إن التجري إذا صادف
المعصية الواقعية يتداخل عقابهما.
وفيه: أن محل الكلام هو ما إذا لم يصادف الواقع، وإلا فهو معصية.
اللهم إلا أن يريد به أنه إذا قطع المكلف بكون مائع خمرا وشربه، فتبين
عدم كونه خمرا، وأنه مغصوب، فصادف التجري معصية واقعية، يتداخل
العقابان.
وفيه: أنه لو كفى في تنجز التكليف الواقعي العلم بجنس التكليف ولو في
ضمن نوع آخر، يكون المثال المذكور معصية لا تجريا، ولو توقف التنجز على
العلم بنوع التكليف يكون تجريا لا معصية، والجمع بينهما مما لا يمكن فتدبر.

1 - ذخيرة المعاد: 209 / السطر الأخير، كفاية الاصول: 298 - 299.
2 - انظر فوائد الاصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 39.
3 - بل في بحث مقدمة الواجب، انظر الفصول الغروية: 87 / السطر 34.
445

الفصل الخامس
هل العلم الإجمالي كالتفصيلي مطلقا،
أو لا مطلقا، أو فيه تفصيل؟
وجوه.
والكلام يقع تارة: في إثبات التكليف به، وتارة: في إسقاطه.
المقام الأول: في إثبات التكليف
والأقوال المعروفة فيه ثلاثة:
الأول: كونه كالشك البدوي، وهو منسوب إلى المحققين الخوانساري
والقمي (رحمهما الله) (1) وسيجئ حال النسبة (2).
الثاني: كونه كالقطع التفصيلي بالنسبة إلى المخالفة القطعية؛ أي كونه
علة تامة بالنسبة إليها، دون الموافقة القطعية، فإنه بالنسبة إليها بنحو

1 - مشارق الشموس: 281 - 282، قوانين الاصول 2: 25 / السطر 3 و 36، حاشية
المحقق القمي على كلام الخوانساري و 37 / السطر 3، الفصول الغروية: 358 / السطر 3.
2 - يأتي في الصفحة 453.
447

الاقتضاء لا العلية، فمع عروض المانع - وهو ترخيص الشارع - لا يكون منجزا
للواقع، وهو مختار الشيخ الأنصاري (قدس سره) (1).
الثالث: كونه بنحو الاقتضاء لا العلية مطلقا، وهو مختار المحقق
الخراساني (رحمه الله) (2).
وهنا احتمالات اخر لا يعلم لها قائل، ولابد أولا من تنقيح محل البحث.
فنقول: تارة يقع الكلام في العلم الإجمالي - أي الذي لا يحتمل خلافه -
وتارة في الحجة الإجمالية.
أما الكلام في العلم الإجمالي، فحاصله: أن محل البحث ما إذا تعلق العلم
بتكليف متعلق بأمر واقعي معين واقعا، ومردد لدى المكلف، كعلمه بوجوب صلاة
في يوم الجمعة، إما الظهر، وإما الجمعة.
ولا إشكال في منجزية هذا العلم الذي لا يحتمل خلافه للتكليف الواقعي؛
لأن معنى تنجز التكليف، أن يصير بحيث يستحق المكلف العقوبة على مخالفته.
ومعنى منجزية العلم أن يصير التكليف بسبب تعلقه به كذلك، فلو علم المكلف
بتكليف أكيد لا يرضى المولى بتركه، متعلق بصلاة معينة واقعا، وترددت بين
الظهر والجمعة فتركها، يكون عند العقل مستحقا للعقوبة على التكليف المعين
الواقعي، فإذا ترك إحداهما، فصادفت المتروكة التكليف الواقعي، يكون مستحقا
للعقاب عليها، من غير فرق بين الصورتين؛ لأن استحقاق العقوبة في صورة ترك
المشتبهين، ليس لأجل ترك مجموعهما، ولا لترك كل منهما، بل إنما يكون لأجل
ترك التكليف الواقعي المنجز، وهو حاصل في الصورة الثانية؛ أي ترك إحداهما
المصادفة للواقع.

1 - فرائد الاصول: 21 / السطر 15 و 242 / السطر 8.
2 - كفاية الاصول: 314.
448

وبالجملة: العلم الجازم بالتكليف الفعلي الذي لا يرضى المولى بتركه،
منجز للواقع، ومعنى تنجزه صحة العقوبة على تركه، سواء تركه في ضمن ترك
المجموع، أو ترك أحدهما (141).
وأما حديث جعل البدل (2) فإن كان المراد منه جعله في الواقع - أي جعل
عدل للتكليف الواقعي في ظرف عروض الاشتباه - فهو خلاف الفرض؛ لأنه
يرجع إلى التكليف التخييري بأحد المشتبهين، والمفروض في العلم الإجمالي أن
يكون التكليف الواقعي معينا بحسب الواقع، ومرددا عند المكلف.
وإن كان المراد جعل البدل في الظاهر - أي جعل التكليف الظاهري عند
اشتباه التكليف - فهو مما لا يمكن؛ لأن التكليف الواقعي المتعلق للعلم الإجمالي،
فعلي لا شأني؛ لأن معنى الفعلية هو صيرورة التكليف بحيث يكون باعثا وزاجرا
نحو المتعلق، وهو حاصل مع العلم الإجمالي، كالتفصيلي.
توضيحه: أن التكا ليف - بعثية كانت أو زجرية - لا يمكن أن تتقيد
بالعلم بها، بل إنما تتعلق بمتعلقاتها، من غير تقييد بعلم المكلف وجهله، ولكن

141 - إنه مع العلم القطعي بالتكليف لا يمكن العلم بالترخيص؛ لاستلزامه العلم بالمتناقضين،
كما لا يجوز العلم به مع احتمال التكليف القطعي؛ لأن الترخيص الفعلي مع احتمال
التكليف من باب احتمال اجتماع النقيضين ويعد من اجتماعهما على فرض المصادفة.
وبهذا يعلم: أن وجه الامتناع هو لزوم اجتماع النقيضين مع التصادف، واحتماله مع الجهل
بالواقع، وأنه لا فرق في عدم جواز الترخيص بين العلم القطعي بالتكليف أو احتمال ذلك
التكليف، وأنه ليس ذلك لأجل كون العلم علة تامة للتنجيز أو مقتضيا له؛ فإن وجه
الامتناع مقدم رتبة على منجزية العلم، فالامتناع حاصل، سواء كان العلم منجزا أم لا،
كان علة تامة أم لا، فوجه الامتناع هو لزوم التناقض أو احتماله. (تهذيب الاصول 2:
124 - 125).
2 - فرائد الاصول: 242 / السطر 8.
449

مع ذلك تكون إرادة المولى قاصرة عن بعث الجاهل، وكذا تكا ليفه تكون قاصرة
عنه، لا لكونها متقيدة بحال العلم، بل لعدم إمكان بعث الجاهل.
وإن شئت قلت: إن المولى إنما ينشئ التكا ليف؛ ليعلم بها المكلف، وينبعث
منها نحو متعلقاتها، أو ينزجر عنها، فإذا كانت التكا ليف الواقعية غير قابلة للتأثير
في المكلف بعثا أو زجرا، تكون شأنية، وحينئذ يمكن للمولى جعل الترخيص
والحكم الظاهري؛ من الاحتياط والترخيص.
وقد عرفت سابقا (1): أن التكليف الواقعي غير صالح للباعثية، وأن
احتمال التكليف وإن كان أحيانا باعثا، لكن بما أنه نفس الاحتمال؛ فإن وجود
التكليف الواقعي وعدمه بالنسبة إليه سواء، فالاحتمال باعث، سواء كان
محتمل واقعا أو لا.
لا يقال: إن القطع بالتكليف أيضا كذلك؛ فإنه مع عدم مطابقته للواقع يكون
أيضا باعثا، فوجود التكليف الواقعي وعدمه سواء.
فإنه يقال: نحن لا ننكر باعثية القطع ولو مع عدم مطابقته للواقع، لكن
نقول: إن التكليف إذا صار معلوما يكون هو الباعث، ولا نقول: بانحصار الباعث
في التكليف حتى يرد الإشكال.
وبالجملة: إن التكليف الواقعي غير قابل للبعث والزجر بوجوده الواقعي
مع الشك فيه.
فحينئذ، إن أراد المولى حفظ تكليفه الواقعي لأجل أهميته، فلابد له من
جعل تكليف طريقي؛ هو إيجاب الاحتياط لحفظ الواقع، حتى يعلم المكلف هذا
التكليف الظاهري بالاحتياط، فيعمل على طبقه.
وإن لم يكن بنظره بهذه المثابة من الأهمية، أو كانت مصلحة التوسعة

1 - تقدم في الصفحة 106 - 107 و 412 - 413.
450

على المكلف أهم من حفظ الواقع، يجوز له الترخيص في إتيان المشتبه.
لكن قد عرفت: أن ذلك فيما إذا لم يكن التكليف الواقعي باعثا فعليا أو
زاجرا كذلك، ومع كونه كذلك فلا يمكن جعل الترخيص، ولا جعل البدل، ولا
جعل حكم ظاهري آخر، والمفروض أن التكليف الواقعي المعلوم بالإجمال،
يكون منجزا وباعثا وزاجرا فعليا، ويكون التكليف الفعلي المتعلق بموضوعه،
معلوما لا يحتمل خلافه، وفي مثله لا معنى للحكم الظاهري.
ولا فرق في مورده بين الموافقة والمخالفة القطعيتين؛ لأن المخالفة إنما
هي بترك الواجب الواقعي وإتيان المحرم الواقعي، سواء في ضمن المخالفة
القطعية أو الاحتمالية.
نعم، مع المخالفة الاحتمالية يكون المكلف متجريا مع عدم المصادفة
للواقع.
إن قلت: إن الركعة المفصولة في الشك في عدد الركعات، وجواز المضي
في الشك بعد التجاوز والفراغ والوقت، من قبيل جعل البدل، فما تلتزم به في
تلك الموارد، نلتزم به هاهنا.
قلت: كلا؛ فإنه فيها لا يكون من قبيل جعل البدل، ولا ربط بينها وبين ما
نحن فيه:
أما الركعة المفصولة في الشك في عدد الركعات، فالإتيان بها من قبيل
كيفية مصداق المأمور به بحسب حال المكلف؛ فإن الأمر بالصلاة إنما تعلق
بطبيعتها، فإذا عرض للمكلف عارض، ودل الدليل على إتيان الصلاة في هذه
الحالة بكيفية كذائية، يستفاد منه أن المصداق الكذائي مصداق للطبيعة في
هذه الحالة، فالصلاة مع الطهارة الترابية في حال فقدان الماء، عين الطبيعة مع
المائية في حال وجدانه، لا أن المولى رفع اليد عن الصلاة مع المائية، وجعل
451

الصلاة مع الترابية بدلها.
وكذا الصلاة مع الركعة المفصولة حال الشك، عين الطبيعة المأمور بها،
لا بدلها.
وبالجملة: إن الدليل الدال على إتيان الطبيعة في حال عروض العارض
بكيفية خاصة، حاكم على الأدلة الأولية، ومعين لمصداق المأمور به.
ومنه يعلم الحال في الشك بعد التجاوز والفراغ.
وأما الشك بعد المحل - أي الشك في إتيان الصلاة بعد الوقت - فجواز
المضي وعدم الاعتناء به ليس من قبيل جعل البدل، وإلا لزم أن يكون عدم
الصلاة بدلا منها، وهو كما ترى.
بل هو لأجل الإرفاق بالمكلفين، ورفع اليد عن التكليف الواقعي؛ فإنه مع
عدمه يقع المكلف في الحرج والعسر؛ لأن عروض الشك مع مضي الأزمنة
المتطاولة نوعي أكثري، قلما يتفق عدم عروضه، فشرعت قاعدة الشك بعد
الوقت؛ لرفع الحرج عن المكلف، وصرف النظر عن التكليف.
فتحصل من جميع ما ذكرناه: أن جعل البدل مما لا معنى له.
هذا مضافا إلى أن قرين المعلوم بالإجمال لا يصلح للبدلية عن المعلوم،
ومجرد كونه قرينا له في تعلق الشك به، لا يوجب صلاحيته للبدلية، فترك
الماء المشكوك فيه بدلا عن الخمر، مما لا معنى له كما لا يخفى.
ثم إنه لا فرق في العلم الإجمالي - أي العلم الجازم الذي لا يحتمل
خلافه - بين الشبهة المحصورة وغيرها، فمع فرض تعلق العلم بالتكليف الفعلي
الذي لا يرضى المولى بمخالفته، يحكم العقل بوجوب الاجتناب عن أطراف
الشبهة - محصوره كانت أو غيرها - هذا كله في العلم الإجمالي.
وأما الكلام في الحجة الإجمالية، فمحصله: أنه لو قامت الحجة - من
452

عموم أو إطلاق - على حرمة الخمر حتى في أطراف الشبهة، ودلت أدلة أصالة
الحل على حلية كل مشكوك فيه، فيتعارض الدليلان في الموضوع المشكوك
فيه، فوقع الكلام والنقض والإبرام في تقديم إطلاق دليل حرمة الخمر، أو إطلاق
دليل حلية كل مشكوك فيه (1).
وهذا هو مورد بحث المحققين القمي والخوانساري، لا العلم الإجمالي؛
لتصريحهما بلزوم الموافقة القطعية في العلم الإجمالي (2) فكلامهما في الحجة
الإجمالية، لا العلم الإجمالي.
وكلمات الشيخ الأنصاري في هذا المقام مضطربة؛ فإنه عقد البحث في
العلم الإجمالي، مع أن غالب الأمثلة التي أوردها من قبيل الحجة الإجمالية،
لا العلم الإجمالي (3).
والتحقيق في العلم هو ما ذكرنا، وأما في الحجة الإجمالية فموكول إلى
باب البراءة والاشتغال؛ فإن المناسب هنا هو البحث عن العلم، لا عن الحجة.
المقام الثاني: في إسقاط التكليف
والأولى صرف عنان القلم إلى ما تعرض له الشيخ في الامتثال الإجمالي،
وهو المقام الثاني (4).
ومجمل الكلام فيه: أن البحث في جواز الامتثال الإجمالي، ليس في

1 - مشارق الشموس: 281 - 282، قوانين الاصول 2: 25 / السطر 3 و 27 / السطر 3،
الفصول الغروية: 357 - 358.
2 - نفس المصدر.
3 - فرائد الاصول: 21 / السطر 15.
4 - نفس المصدر: 14 / السطر 23.
453

المحرمات، ولا في الواجبات التوصلية، ولا في الواجبات التعبدية مع عدم
إمكان تحصيل العلم التفصيلي أو الحجة التفصيلية، والامتثال على الوجه
المعين؛ فإن المطلوب في المحرمات ليس إلا صرف الترك - وهو يحصل مع ترك
الأطراف - وفي التوصليات إلا التحقق بأي وجه اتفق - وهو يحصل مع إتيانها -
وإذا لم يمكن الامتثال في التعبديات إلا على نحو الإجمال، فلا كلام في جوازه؛
فإنه غاية قدرة المكلف في امتثال أمر المولى.
وإنما الكلام والإشكال في التعبديات مع إمكان رفع الإجمال علما أو
بطريق معتبر، فيقع الكلام فيها تارة: في الأقل والأكثر، واخرى: في المتباينين.
وعلى الأول: يقع الكلام تارة: في الشك في الجزء، وتارة: في الشك في
الشرط.
وعلى الأول تارة: يكون المشكوك فيه مرددا بين كونه جزء واجبا أو
مستحبا، واخرى: يكون مرددا بين الجزئية وعدمها مع عدم احتمال المانعية.
فإن كان الترديد بين الأقل والأكثر في الجزء، مع الترديد في كونه واجبا أو
مستحبا، فلا إشكال في جواز الاحتياط بإتيانه، وعدم لزوم رفع الإجمال؛ لعدم
الإخلال مع إتيانه بشيء مما يعتبر أو قيل باعتباره في العبادة، حتى قصد الوجه
والتميز والتقرب؛ لما عرفت في مبحث الصحيح والأعم من أن الصلاة ليست
عبارة عن نفس الأجزاء بالأسر؛ ضرورة أنه مع كونها كذلك، لا يمكن صدقها
على الأفراد المختلفة بحسب الأجزاء والشرائط، والاشتراك اللفظي معلوم
البطلان.
فلابد وأن يقال: إن الصلاة عبارة عن عنوان عرضي مقول بالتشكيك، صادق
على الأفراد المتفاوتة في النقص والزيادة والكمال وغيره، نحو صدق كل طبيعة
مقولة بالتشكيك على أفرادها، فالمصداق التام الكامل للمختار الحاضر صلاة،
454

والناقص هو الذي يشتمل على أربع تكبيرات، كصلاة المطاردة أيضا (142).
ولا يتوهم: أن المصداق الناقص من حيث الأجزاء والشرائط، ناقص في
الصلاتية؛ إذ قد يكون الناقص من هذه الجهة، أتم من المشتمل على جميع
الأجزاء والشرائط؛ لأن الميزان في النقص والتمام في الصلاتية، هو تمامية
هذا العنوان العرضي الصادق على الأفراد ونقصه، مثل عنوان المتوجه الخاص
إلى المولى.
إذا عرفت هذا فاعلم: أن الأجزاء المستحبة ليست خارجة عن الصلاة،
ولكن اتي بها فيها، بل هي موجبة لتمامية المصداق وكما له، فالقنوت إذا جيء
به يكون متمما لمصداق الصلاة، وتصدق " الصلاة " على الفرد الواجد له، وتتحد
الطبيعة مع الفرد الواجد اتحاد الطبيعي مع أفراده، فالمصداق الواجد للجزء
المستحب، مصداق للصلاة الواجبة، لكنه مصداق أتم من الفاقد له، لا أن
الصلاة شيء، والجزء المستحبي شيء آخر.
فمعنى استحباب الجزء أو الجزء المستحبي، أن الصلاة مع عدم الإتيان به
تكون صحيحة، لكنها أنقص من الواجدة له.
فحينئذ يكون الآتي بالجزء المشكوك فيه، آتيا بالمأمور به على وجهه،
متقربا إلى الله، ممتازا عما عداه، لأن الأمر الصلاتي متعلق بالطبيعة، ولا تكون
الأجزاء أو كل واحد منها متعلقة للأمر ووجها للوجوب، وإن كان المصداق فردا
كاملا للواجب.
ومما ذكرنا يظهر حال الشرط أيضا، فإن الشرائط الاستحبابية أيضا من
مكملات الصلاة، كالأجزاء المستحبة.
وأما الكلام في المردد بين كون شيء جزء أو لا، أو شرطا أو لا، مع القطع

142 - لاحظ حول هذه المسألة مناهج الوصول 1: 154 - 157.
455

بعدم المانعية، فقد يقال: إن قصد التقرب متعذر في هذا الجزء أو الشرط؛ فإن
قصد التقرب عبارة عن كون الأمر داعيا إلى إتيان المأمور به، والفرض أن تعلق
الأمر الضمني بهما مشكوك فيه، فلا يمكن قصد التقرب بهما (1).
والجواب: أن قصد التقرب إنما يكون بالأمر المتعلق بالطبيعة المأمور بها،
لا الأوامر الضمنية، والفرض أنه حاصل.
مع أن المكلف ليس له داع في إتيان الجزء أو الشرط إلا احتمال أمر
المولى، فهو قاصد للأمر الاحتمالي على فرضه، ولا يعتبر في قصد التقرب شيء
زائدا على ذلك، - كما سنشير إليه - فالاحتياط في المشكوك فيه من هذه الجهة
أيضا لا مانع منه؛ أي أن الإتيان بهما احتياط لإتيان كل ما يحتمل أن يكون دخيلا
في المأمور به؛ من قصد التقرب وغيره، فيكون جائزا.
وأما الكلام في المتباينين فيما يستلزم الاحتياط فيه تكرار مجموع
العبادة، كتردد الواجب بين كونه ظهرا أو جمعة، وتردد القبلة بين الجهات،
فالأقوى فيه أيضا أن الإتيان بهما احتياط - أي إتيان للمأمور به الواقعي بجميع
ما يعتبر فيه - فيجوز الإتيان بهما من باب الاحتياط؛ لأن الإشكال إن كان من
باب قصد التقرب المعتبر في العبادة، فلا إشكال في حصوله؛ لأن المكلف لم
يأت بهما إلا لأجل أمر المولى - أي لحصول المأمور به الواقعي - فهو متقرب به
بما هو في الواقع مأمور به، وإن لم يعلم حين الإتيان أن القرب بأيهما حصل.
نعم، يحتمل أن يعتبر في العبادة العلم التفصيلي بالمأمور به حين الإتيان
به، ولا يمكن رفعه بالتمسك بأصالة الإطلاق؛ لأنها إنما يتمسك بها فيما يمكن
أخذه في المتعلق، والعلم بالأمر متأخر عنه، فلا يمكن أخذه فيه، وما لا يمكن

1 - انظر الرسائل الفشاركية: 129.
456

التقييد به لا يمكن فيه التمسك بالإطلاق؛ لأن معنى أصالة الإطلاق أنه لو كان
القيد معتبرا في المأمور به، فعلى المولى أن يقيده به، فعدم التقيد يكشف عن
عدم الدخالة، ومع امتناع التقييد يحتمل أن يكون عدم الأخذ لامتناعه، لا لعدم
دخالته.
لكن أصالة البراءة العقلية والنقلية جارية؛ لأنه على المولى بيان
القيد، ومع عدمه يكون العقاب عليه بلا بيان، فالإشكال مرتفع من جهة قصد
التقرب، وكذا من جهة احتمال دخالة العلم التفصيلي (143).
وأما كون التكرار لعبا بأمر المولى فممنوع؛ لأن المفروض أن الآتي بهما إنما
يأتي احتياطا، لا لعبا.
ودعوى الإجماع على عدم جواز التكرار وبطلان الاحتياط (2) ممنوعة؛ لأن
المسألة عقلية أولا، وغير معنونة لدى القدماء ثانيا، ومع ذلك كيف يمكن
دعواه؟!
ومما ذكرنا يظهر الحال فيما لا يستلزم التكرار، بل هو أولى بالجواز.
كما أن الاحتياط في الشبهة البدوية الغير المقرونة بالعلم الإجمالي مع
إمكان رفعها بالفحص والاجتهاد أيضا لا مانع منه، لا من جهة قصد التقرب، ولا
من جهة اخرى، كما يظهر بالتأمل فيما ذكرنا.
والأولى صرف عنان القلم فيما هو المهم من مباحث الأمارات الغير العلمية.

143 - الحاكم في باب الإطاعات هو العقل، وهو لا يشك في أن الآتي بالمأمور به على ما هو
عليه بقصد إطاعة أمره ولو احتمالا، محكوم عمله بالصحة ولو لم يعلم حين الإتيان أن
ما أتى به هو المأمور به؛ لأن العلم طريق إلى حصول المطلوب، لا أنه دخيل فيه.
وعليه، فدعوى دخالة العلم التفصيلي في حصول المطلوب دعوى بلا شاهد، فلا تصل
النوبة إلى الشك حتى نتمسك بالقواعد المقررة للشاك. (تهذيب الاصول 2: 129).
2 - فرائد الاصول: 15 / السطر 4.
457

الفصل السادس
الأمارات الغير العلمية
وفيه مباحث:
المبحث الأول: في إمكان التعبد بها
المراد بالإمكان
و " الإمكان " يطلق في العلوم العقلية على معان، لا يهمنا التعرض لها (1).
والظاهر أن المراد به هاهنا غيرها، بل يطلق هاهنا باصطلاح خاص بالاصولي؛
وهو الإمكان الوقوعي (144) - أي ما لا يلزم من وقوعه محال - وهو غير الإمكان

1 - انظر الحكمة المتعالية 1: 149 - 154.
144 - بل المراد الإمكان الاحتمالي الواقع في كلام الشيخ رئيس الصناعة من أنه " كلما قرع
سمعك من الغرائب، فذره في بقعة الإمكان، ما لم يذدك عنه قائم البرهان ". والإمكان
الاحتمالي معناه تجويز وقوعه، في مقابل ردعه وطرحه بلا برهان، وإن شئت قلت: عدم
الأخذ بأحد طرفي القضية والجزم بإمكانه أو امتناعه، كما هو ديدن غير أصحاب
البرهان. وهذا من الأحكام العقلية، يحكم به العقل السليم، ولو جرى عليه العقلاء في
اجتماعهم، فلأجل حكم عقولهم الصحيحة، وليس بناء منهم على الإمكان لمصلحة من
المصالح الاجتماعية، كما هو الحال في سائر اصولهم العقلائية.
ثم إن ما هو المحتاج إليه في هذا المقام هو الإمكان الاحتمالي، فلو دل دليل على حجية
الظنون وجواز العمل بآحاد الأخبار، لا يجوز رفع اليد عن ظواهر تلك الأدلة ما لم يدل
دليل قطعي على امتناعه.
نعم، لو دل دليل قطعي على امتناعه، يؤول ما دل على حجيتها بظواهره، فاللازم رد ما
استدل به القائل على الامتناع، حتى ينتج الإمكان الاحتمالي، فيؤخذ بظواهر أدلة
الحجية.
وبذلك يظهر: أن تفسير الإمكان بالذاتي والوقوعي في غير محله؛ إذ مع أنه لا طريق
إليه، غير محتاج إليه. (تهذيب الاصول 2: 130).
459

الوقوعي باصطلاح أهل المعقول؛ فإنه مرادف للإمكان الاستعدادي كما عرفوه به (1).
وبالجملة: مرادهم في المقام، أن التعبد بالأمارات أو بمطلق الأحكام
الظاهرية، هل يلزم من وقوعه محال - كما عليه ابن قبة (2) - أو لا؟
وليعلم: أن الإمكان ليس مقتضى أصل عقلي أو عقلائي، ليرجع إليه عند
الشك، ولكن لو لم يدل دليل عقلي على امتناع التعبد بالأحكام الظاهرية،
فلا محيص عن أخذ ظواهر الأدلة الدالة عليها. ومجرد احتمال الامتناع وعدم
الدليل على الإمكان، لا يوجب جواز رفع اليد عن الحجج الظاهرية والأدلة
المعتبرة الدالة على حجية الأمارات والاصول ولزوم التعبد بها.
وأما ما يقال: من أن أدل دليل على الإمكان هو الوقوع، فوقوع التعبد بها
شرعا يكشف عن الإمكان (3).

1 - شرح القوشجي على التجريد: 41 / السطر 15، شوارق الإلهام: 96 / السطر 3.
2 - حكى عنه في معارج الاصول: 141.
3 - كفاية الاصول: 317 - 318.
460

فهو صحيح لو كان وقوع التعبد بها قطعيا، وليس كذلك؛ لأن الأدلة الدالة
عليه ظنيات سندا، أو دلالة، أو كليهما (145)، ومثلها لا تدل على الإمكان،
ولا تكشف عنه حقيقة. وليس الإمكان أمرا يمكن التعبد به شرعا؛ فإنه أمر
عقلي، لا أثر عملي.
استدلال ابن قبة لامتناع التعبد بالأمارات
ثم إن ابن قبة قد استدل على الامتناع بدليلين (2):
أحدهما: أنه لو جاز التعبد بخبر الواحد في الإخبار عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
لجاز التعبد به في الإخبار عن الله تعالى، والثاني باطل إجماعا، فكذا الأول (3).
والظاهر أن مراده من " الإخبار عن الله " هو إخبار المتنبي عن الله تعالى

145 - اعلم: أن الأمارات المتداولة على ألسنة أصحابنا المحققين كلها من الأمارات العقلائية
التي يعمل بها العقلاء في معاملاتهم وسياساتهم وجميع امورهم؛ بحيث لو ردع الشارع عن
العمل بها، لاختل نظام المجتمع ووقفت رحى الحياة الاجتماعية، وما هذا حاله لا معنى
لجعل الحجية له وجعله كاشفا محرزا للواقع بعد كونه كذلك عند كافة العقلاء، وها هي
الطرق العقلائية - مثل الظواهر وقول اللغوي وخبر الثقة واليد وأصالة الصحة في فعل
الغير - ترى أن العقلاء كافة يعملون بها من غير انتظار جعل وتنفيذ من الشارع، بل لا دليل
على حجيتها - بحيث يمكن الركون إليه - إلا بناء العقلاء، وإنما الشارع عمل بها كأنه
أحد العقلاء. وفي حجية خبر الثقة واليد بعض الروايات التي يظهر منها بأتم ظهور، أن
العمل بهما باعتبار الأمارية العقلائية، وليس في أدلة الأمارات ما يظهر منه بأدنى ظهور
جعل الحجية وتتميم الكشف، بل لا معنى له أصلا. (أنوار الهداية 1: 105 و 106).
2 - وقد حكيا عن الجبائي أيضا، انظر فواتح الرحموت، المطبوع في ذيل المستصفى من علم
الاصول 2: 131.
3 - معارج الاصول: 141.
461

بأحكام شريعته.
والجواب عنه: أن المقصود لو كان قبول قول المتنبي تعبدا من غير دليل،
فنمنع الملازمة؛ لعدم الملازمة بين جواز التعبد بخبر الواحد في الإخبار عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - مع قيام الدليل عليه - وبين جواز التعبد في الإخبار عن الله مع فقد
الدليل على النبوة.
وإن كان المقصود قبول قوله مع قيام دليل قطعي عليه، فنمنع بطلان
التالي، وليست المسألة بكلا شقيها إجماعية، بل هي أمر عقلي، يدل على عدم
قبول قول المتنبي بلا دليل، وقبول قوله مع الدليل القطعي.
اللهم إلا أن يكون مراده من " إمكان التعبد في الإخبار عن الله " هو التعبد
من قبل النبي الثابت النبوة بالنسبة لإخبار شخص مدع للنبوة، أو شخص غير
مدع لها، بل مخبر عنه بواسطة صفاء نفسه.
فحينئذ نقول: أما على الفرض الأول، فعدم وقوعه لقيام الضرورة على
ختم النبوة، فلا ملازمة بين التعبد بهما.
وأما على الثاني: فلا مانع منه عقلا وإن لم يثبت وقوعه، ولا ملازمة
أيضا بين عدم وقوعه أو عدم ثبوت وقوعه، مع عدم وقوع التعبد بالأمارات أو
مطلق الأحكام الظاهرية، فهذا الدليل لا يرجع إلى محصل معتد به.
ثانيهما: أنه يلزم من التعبد بها تفويت المصلحة، والإيقاع في المفسدة،
والجمع بين المثلين والضدين، والجمع بين الإرادتين المتضادتين، وهذه كلها
مفاسد تحليل الحرام، وتحريم الحلال المذكورين في كلامه (1).
والجواب عن تفويت المصلحة والإيقاع في المفسدة؛ أما على طريقية
الأمارات كما هو الحق - لعدم كونها تأسيسيه، بل هي امور عقلائية أمضاها

1 - حكاه عنه في معارج الاصول: 141.
462

الشارع، ومعلوم أن الأمارات عند العقلاء ليست إلا طريقا إلى الواقع، وكاشفات
عنه - فقبح إيجاب العمل بالأمارات والتعبد بها، إنما هو فيما إذا فوتت الأمارة
المصلحة، أو أوقعت في المفسدة.
وأما مع جهل المكلف بالأحكام الواقعية؛ بحيث لو تركه الشارع على
جهله يرى وقوعه في خلاف الواقع كثيرا، ويرى أن في جعل الأمارة على الواقع
إيصالا له إليه، أكثر مما لو تركه على حاله، فلا قبح فيه، وتخلف الأمارة عن
الواقع إذا كان قليلا - في مقابل الإصابة، وفي مقابل جعل الأمارة - شر قليل، في
قبال الخير الكثير، ولا يترك الخير الكثير لأجل الشر القليل.
مع أن وقوعه في الخلاف أيضا، من تبعات جهله، لا من تبعات التعبد
بالأمارة، وعدم القبح في هذه الصورة إنما هو بحسب تشخيص الشارع كثرة
الإصابة وقلة المخالفة.
ولو فرض أن المكلف يرى انفتاح باب علمه إلى الواقع، وتوهم أن التعبد
بالأمارة موجب لصرفه عن علمه بالواقع، ورأى الشارع أنه جاهل مركب،
فلا يكون تعبده بالأمارة قبيحا.
نعم، لو فرض انفتاح باب العلم حقيقة، وأن التعبد بالأمارات موجب
لتفويت المصلحة، والإيقاع في المفسدة، يكون التعبد بها قبيحا (146)، لكنه فرض

146 - إن في إيجاب تحصيل العلم التفصيلي في زمان الحضور، وفي إيجاب الاحتياط في زمن
الغيبة أو الحضور مع عدم إمكان الوصول إليه (عليه السلام) مفسدة غالبة.
توضيحه: أما في زمان الانفتاح؛ فلأن السؤال عن الأئمة (عليهم السلام) وإن كان أمرا ممكنا غير
معسور، إلا أن إلزام الناس في ذلك الزمان على العمل بالعلم كان يوجب ازدحام الشيعة
على بابهم، وتجمعهم حول دارهم، وكان التجمع حول الإمام أبغض شيء عند الخلفاء،
وكان موجبا للقتل والهدم وغيرهما.
فلو فرض وجوب العلم التفصيلي في زمن الصادقين (عليهم السلام)، كان ذلك موجبا لتجمع الناس
حول دارهم وديارهم، بين سائل وكاتب، وقارئ ومستفسر، وكان نتيجة ذلك تسلط
الخلفاء على الشيعة وردعهم، وقطع اصولهم عن أديم الأرض، وعدم وصول شيء من
الأحكام الشرعية موجودة بأيدينا. فدار الأمر بين العمل بالأخبار الواردة عنهم (عليهم السلام)
بطريق الثقات الموصلة إلى الواقع غالبا وإن خالفت أحيانا، وبين إيجاب العلم حتى يصل
بعض الشيعة إلى الواقع ويحرم آلاف من الناس عن الأحكام والفروع العملية؛ لما عرفت
أن الإلزام على تحصيل العلم كان ذلك مستلزما للتجمع على باب الأئمة، وكان نتيجة
ذلك صدور الحكم من الخلفاء بأخذهم وشدهم، وضربهم وقتلهم، واضطهادهم تحت كل
حجر ومدر.
وأما الاحتياط في هذه الأزمان أو زمن الحضور - لمن لم يمكن له الوصول إليهم (عليهم السلام) -
ففساده أظهر من أن يخفى؛ فإنه مستلزم للحرج الشديد واختلال النظام ورغبة الناس عن
الدين الحنيف، بل موجب للخروج من الدين، فإن الحكيم الشارع لابد له ملاحظة
طاقة الناس واستعدادهم في تحمل الأحكام والعمل بها، ومثله التبعيض في الاحتياط؛
فإنه لو لم يوجب حرجا شديدا، لكنه موجب رغبة جمهرة الناس عن الدين.
وبالجملة: البناء على الاحتياط المطلق، أو بمقدار ميسور في جميع التكا ليف من
العبادات والمعاملات والمناكحات وغيرها، يستلزم الحرج الشديد في بعض الأحوال،
ورغبة الناس عن الدين، وقلة العاملين من العباد للأحكام في بعض آخر، فلأجل هذا
كله امضي عمل العقلاء وبناؤهم في العمل بالظنون، وأخبار الآحاد بمقدار يؤسس لهم
نظاما صحيحا، وهذا وإن استلزم فسادا وتفويتا، غير أنه في مقابل إعراض الناس عنه
وخروجهم منه وقلة المتدينين به، لا يعد إلا شيئا طفيفا يستهان به. (تهذيب الاصول 2:
133 - 134).
463

صرف لا واقع له، هذا كله على الطريقية.
التعبد بالأمارات بناء على السببية
وأما على الموضوعية والسببية، فهي على صور:
464

إحداها: عدم حكم مشترك بين الجاهل والعالم متعلق بالعناوين الواقعية،
وكون الحكم تابعا لقيام الأمارة لأجل مصلحة حاصلة للمتعلق بواسطة قيامها،
وهذا تصويب باطل مجمع على بطلانه (1)، والأخبار متواترة على بطلانه (2).
ثانيتها: كون الواقع ذا حكم مشترك بين المكلفين، مع تقيده بعدم قيام
الأمارة على خلافه، وأما مع قيامها فيكون الحكم تابعا للأمارة؛ لغلبة مصلحة
مؤدى الأمارة على مصلحة الواقع، وهذا أيضا تصويب باطل بالأخبار والإجماع،
وإن لم يكن وضوحه كالأول.
ثالثتها: أن لا يكون لقيام الأمارة تأثير في الفعل، ولا تحدث فيه مصلحة
بقيامها، بل يكون لسلوك الأمارة أو الأمر بسلوكها مصلحة، يتدارك بها ما فوت
على المكلف من مصلحة الواقع.
وليعلم: أن نسخ " الفرائد " مختلفة في هذا المقام المذكور، فإن في
النسخة المطبوعة أولا في حدود سنة مائتين وسبعين: أن في سلوك الأمارة
مصلحة كذائية.
وفي النسخة المطبوعة في حدود سنة ثمانين قريبا من وفاة الشيخ (رحمه الله):
أن في الأمر بالعمل على طبق الأمارة مصلحة كذائية.
قال بعض المشايخ: إن مسلك الشيخ كان أولا مطابقا للنسخة الاولى،
فأشكل بعض تلامذته عليه، فأمر بتغيير العبارة بما في النسخة الثانية، ووجه
الإشكال غير معلوم ولا مذكور في كلامه (3).
أقول: نحن نناقش في كلا المسلكين:

1 - عدة الاصول 2: 723 و 725، تمهيد القواعد: 322.
2 - انظر الاصول الأصلية: 273 - 283.
3 - أجود التقريرات 2: 71.
465

أما المسلك الثاني - أي كون الأمر بالسلوك ذا مصلحة جابرة، من غير أن
تكون في المأمور به مصلحة، كما تكرر نظيره في كلمات المحقق
الخراساني (1) - فأمر غير معقول؛ فإن الأمر وزانه وزان الإرادة التكوينية في عدم
النفسية له، وكونه فانيا في المأمور به، ويتوسل به إليه، من غير أن يكون
ملحوظا بذاته.
كما أن الإرادة بالنسبة إلى المراد كذلك، فلا يمكن أن تتحقق الإرادة
لمصلحة في نفسها؛ لعدم النفسية لها، وكذا لا يمكن أن يتحقق الأمر لمصلحة فيه،
وهكذا النهي، فإذا انسلخ الأمر عن كونه آلة للتوسل إلى المأمور به، وكانت له
نفسية ملحوظة، يخرج عن كونه أمرا، وكذلك النهي، فلا يعقل أن يكون الأمر أو
النهي لمصلحة فيهما.
مضافا إلى أنه لا يمكن أن تكون تلك المصلحة القائمة بنفس الأمر الغير
المربوطة بالمكلف، جابرة للمصلحة الفائتة عليه، فأية مناسبة بين المصلحة
في الأمر، والمصلحة في الواقع حتى تكون الاولى جابرة للثانية؟!
وأما المسلك الأول - أي كون نفس سلوك الأمارة ذا مصلحة كذائية - ففيه:
أن معنى سلوكها ليس إلا العمل بمؤداها على أنه مؤدى الأمارة، فلو فرض
وجوب شيء، فأدت الأمارة إلى حرمته، فلازم هذا المبنى أن يكون في ترك
العمل به - بما أنه مؤدى الأمارة - مصلحة جابرة لمصلحة الواقع، مع عدم
تعقل كون العدم ذا مصلحة أو مفسدة.
مضافا إلى أن النهي عن الشيء، إنما ينشأ عن مفسدة العمل، والنهي هو

1 - حاشية المحقق الخراساني على فرائد الاصول: 37 / السطر 17، كفاية الاصول: 179
و 319.
466

الزجر عن العمل لمفسدة فيه، لا طلب الترك - كما عرفت سابقا (1) - ولازم ذلك أن
تجتمع في الفعل مصلحة ومفسدة، ويكون ترك المفسدة جابرا لمصلحة الفعل،
وهو كما ترى.
ولو أدت الأمارة إلى استحباب ما هو واجب واقعا، فلازم هذا المسلك أن
يصير الفعل - بواسطة المصلحة الغير التامة العائدة إلى المكلف - موجبا لرفع
الوجوب، مع عدم تعقل أن يصير الواجب لأجل تزايد المصلحة الغير الملزمة،
خارجا عن وجوبه.
ولو أدت إلى كراهة ما هو الواجب، يلزم أن يخرج الواجب عن وجوبه؛
لأجل مفسدة غير مؤكدة.
ولو أدت إلى إباحته، يلزم أن يكون عدم اشتمال الفعل على المصلحة
والمفسدة، جابرا لمفسدة ترك الواجب.
وقس على ما ذكر ما لو فرض كون الواقع حراما، وأدت الأمارة إلى أمثال ما
ذكر، فتصحيح جعل الأمارات بمثل ذلك مما لا يمكن.
وأما قضية الجمع بين المثلين، فليست بمحذور؛ فإن التحقيق أن الأحكام
ليس لها وجود خارجي في الموضوع، حتى يقرر محذور اجتماع المثلين في
الحكمين المتوجهين إلى موضوع واحد؛ بأن المثلين مشتركان في الماهية
ولوازمها، واختلافهما إنما يكون باختلاف الموضوع، ومع عدم اختلافه لا تعدد،
حتى تصحح المثلية والامتياز، ومع الامتياز يخرج عن اجتماع المثلين؛ فإن كل
ذلك للعرضين الحالين في موضوع، والأحكام ليست من عوارض المتعلقات بما
أنها موجودات خارجية؛ فإن الخارج ظرف سقوط الحكم، ولا يعقل بقاؤه في

1 - تقدم في الصفحة 161 - 162.
467

الوجود الخارجي؛ لأن البعث والتحريك إنما هما لإتيان المتعلق وإيجاده،
ولا يعقل بقاؤهما بعد الإتيان والإيجاد (147).
ومن ذلك يتضح: أن اجتماع الضدين لأجل أن الأحكام متضادات، ليس
بمحذور أيضا؛ لعين ما ذكرنا في المثلين.
نعم، المحذور الذي لابد من جوابه؛ هو لزوم اجتماع الإرادتين
المتضادتين في متعلق واحد؛ ضرورة امتناع تعلق الإرادة الحتمية الوجوبية مع
الإرادة الحتمية التحريمية، أو الراجحة الاستحبابية، أو التنزيهية، أو
الترخيصية، على موضوع واحد، من مريد واحد، متوجهة إلى مكلف واحد، في
زمان واحد.

147 - اعلم: أن الإنشائيات كلها من الامور الاعتبارية لا تحقق لها إلا في وعاء الاعتبار؛ فإن
دلالة الألفاظ المنشأ بها على معانيها إنما هي بالمواضعة والوضع الاعتباريين، فلا يعقل
أن يوجد بها معنى حقيقي تكويني أصيل، فهيئة الأمر والنهي وضعت للبعث والزجر
الاعتباريين في مقابل البعث والزجر التكوينيين، فقول القائل: " صل " مستعمل في إيجاد
البعث والحث والتحريك الاعتباري، فالعلة اعتباري والمعلول مثله.
وعلى هذا الأساس فالأحكام التكليفية كلها من الامور الاعتبارية لا وجود حقيقي لها إلا
في وعاء الاعتبار.
إذا عرفت ذلك، تقف على بطلان القول بأن الأحكام الخمسة امور متضادة، كما اشتهر عنهم
في باب الترتب واجتماع الأمر والنهي، والجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية وغيرها.
وأظن أنك بعد الوقوف على ما ذكرنا تقف على أن بطلان الضدية فيها ليس لأجل انتفاء
شرط الضدية أو قيدها فيها، بل البطلان لأجل أن التضاد والتماثل والتخالف من مراتب
الحقيقة؛ أي الموجودة في المادة الخارجية، فالأحكام لا حظ لها من الوجود الخارجي
حتى يتحمل أحكامه، وقس عليه سائر القيود؛ فإنها أيضا منتفية، كما ذكرنا. (تهذيب
الاصول 2: 136 و 137).
468

بعض الأجوبة عن شبهة ابن قبة
ولقد تصدى بعض الأعاظم للجواب عنه (1). وما يظهر من المحقق
الخراساني (رحمه الله) في دفعه طرق:
الأول: ما في تعليقته - بعد بيان مراتب الأحكام؛ أي الشأنية،
والإنشائية، والفعلية، والتنجيزية - وهو أن التضاد إنما هو بين الأحكام
الفعلية، دون الإنشائية والشأنية، وأن الأحكام الواقعية في مورد مخالفتها مع
الأمارات، إنما تصير شأنية وإنشائية، ويكون الحكم الفعلي ما أدت إليه
الأمارة (2).
وأجاب عن لزوم التصويب وبطلانه إجماعا: بأن الإجماع كما قام على
بطلانه - أي عدم حكم مشترك بين العالم والجاهل مطلقا - كذلك قام الإجماع بل
الضرورة على عدم فعلية الأحكام الواقعية لكل من يشترك في الحكم (3).
الثاني: ما في " الكفاية " وهو أن وجوب اتباع الأمارة إذا كانت موافقة
للحكم الواقعي لا يكون إلا الحكم الواقعي - بناء على الطريقية - ومع التخلف
يكون حكما صوريا، لا بعثا وزجرا فعليا، فاختلف الحكمان بحسب الفعلية
والإنشائية، ورفع التضاد بينهما (4).
الثالث: ما فيها أيضا؛ وهو أن التعبد بالأمارات إنما هو بجعل الحجية،
وليست الحجية مستتبعة لأحكام تكليفية بحسب ما أدى إليه الطريق، بل

1 - المراد به آية الله العظمى السيد محمد الفشاركي. انظر وقاية الأذهان: 143 - 145.
2 - حاشية المحقق الخراساني على فرائد الاصول: 36 / السطر 11.
3 - نفس المصدر: 36 / السطر 24.
4 - كفاية الاصول: 319.
469

لا تكون الأمارات إلا منجزة للواقع في صورة الإصابة، وموجبة لصحة الاعتذار
في صورة المخالفة، فلا يلزم اجتماع الضدين أو المثلين (1).
وأجاب عن الإشكال بعض أعاظم تلامذة العلامة الميرزا الشيرازي (2) -
وقيل: إنه منه (قدس سره) (3) - وقد شيد أركانه هذا العظيم؛ بأن الأحكام الواقعية
المتعلقة بالموضوعات الواقعية، لا يمكن إطلاقها بالنسبة إلى حال الشك في
الحكم؛ فإنه من الحالات الطارئة للموضوع والمكلف بعد تعلق الحكم،
فلا يمكن الإطلاق والتقييد بالنسبة إليها.
فموضوع الحكم الواقعي، هو الذي لا يمكن فيه لحاظ الإطلاق والتقييد
بالنسبة إلى الحالات اللاحقة المتأخرة عنه، وموضوع الحكم الظاهري هو
مشكوك الحكم بما هو مشكوك، وهو متأخر رتبة عن الذات، ولا يمكن الجمع
بينهما في اللحاظ؛ فإن أحدهما مما يمتنع تقييده وإطلاقه بالنسبة إلى الشك،
والآخر ما يكون الشك موضوعا له، فتختلف رتبتهما، ويرتفع التضاد بينهما.
كما أن الصواب في باب الترتب ورفع التضاد فيه، هو اختلاف الرتبة؛ فإن
الأمر بالأهم لا يمكن إطلاقه بالنسبة إلى حال العصيان؛ فإنه من الحالات
اللاحقة للحكم، ولا يمكن تقييد الموضوع به، ولا إطلاقه بالنسبة إليه،
والأمر بالمهم يكون متقيدا بعصيان الأهم، فهو متأخر رتبة عن الأمر بالأهم.
فكما أن رفع التضاد في باب الضدين باختلاف الرتبة، فكذلك فيما نحن فيه (4).
هذا، ولا يخفى ما فيه؛ فإن الإطلاق - كما مر ذكره (5) - ليس عبارة عن جعل

1 - كفاية الاصول: 319 - 320.
2 - هو العلامة المحقق البارع السيد محمد الفشاركي طاب ثراه.
3 - أجود التقريرات 2: 79.
4 - انظر درر الفوائد، المحقق الحائري: 140 و 351 - 354، ووقاية الأذهان: 487 - 490.
5 - تقدم في الصفحة 374.
470

الماهية آلة للحاظ الخصوصيات والحالات، حتى تكون ملحوظة ودخيلة في
تعلق الحكم، بل حقيقته عبارة عن جعل الطبيعة تمام الموضوع للحكم، خالية
عن كافة القيود والحالات.
فموضوع وجوب الحج في قوله (ولله على الناس حج البيت من استطاع
إليه سبيلا) (1) ليس إلا المستطيع، من غير دخالة شيء من الحالات السابقة
على تعلق الحكم به، أو اللاحقة له، ومن غير لحاظ شيء سوى نفس طبيعة
المستطيع في موضوع الحكم.
و (البيع) في قوله: (أحل الله البيع) (2) ليس آلة للحاظ شيء من
الحالات أو الخصوصيات، بل معنى إطلاقه أنه بنفسه - من غير قيد - موضوع
للحلية، ويكون تمام الموضوع لها هو البيع بما أنه هو.
فبناء عليه، يكون الحكم المتعلق بالموضوع المطلق، محفوظا مع
الحالات السابقة واللاحقة. فوجوب صلاة الجمعة ثابت لها مع الشك في
وجوبها، ومع العلم به، كما أنه ثابت لها مع الحالات السابقة على تعلق الحكم.
فالإطلاق محفوظ مع الطوارئ السابقة على تعلق الحكم واللاحقة له؛
لما عرفت (3) من أن معنى الإطلاق ليس عبارة عن لحاظ القيود، حتى يقال:
بامتناع لحاظ الحالات المتأخرة عن تعلق الحكم، بل هو عبارة عن كون الشيء
موضوعا للحكم، من غير دخالة قيد من القيود أو لحاظه، والذات الموضوعة
للحكم محفوظة مع كافة الحالات السابقة واللاحقة، من غير دخالتها في
الحكم.

1 - آل عمران (3): 98.
2 - البقرة (2): 276.
3 - تقدم في الصفحة 374.
471

إذا علم ذلك يظهر: أن اختلاف الرتبة لا يرفع التضاد؛ لا فيما نحن فيه، ولا
في باب الضدين. ولو صار اختلاف الرتبة مسببا لدفع التضاد، لجاز فيما نحن
فيه أن يتعلق الوجوب بالموضوع، والحرمة بمعلوم الوجوب؛ لأن الشك في
الحكم والعلم به كليهما من الحالات المتأخرة، ولجاز في باب الضدين تقييد
الأمر بالمهم بإطاعة أمر الأهم؛ لأن الطاعة والمعصية أيضا كلتيهما متأخرتان
عن تعلق الحكم بالموضوع.
بل الجواب عن إشكال التضاد في باب الضدين، هو ما عرفت سابقا (1)
وسيأتي الجواب عنه فيما نحن فيه (2).
وأما ما أجاب به المحقق الخراساني (رحمه الله) في تعليقته: من شأنية الحكم
الواقعي (3) وفي " الكفاية " أخيرا - مع تسليم انتزاع الحجية عن الحكم
التكليفي -: بأن حكم الأمارة لما كان طريقيا للتوسل إلى الحكم الواقعي، فمع
المصادفة لا يكون إلا الحكم الواقعي، ومع المخالفة يكون حكما صوريا، وإنما
حكم به لأجل عدم الامتياز بين صورة المصادفة وغيرها، وإلا لا يحكم إلا على
طبق ما هو المصادف لا غير (4).
فيمكن تصحيحهما بأن يقال: إن إرادة المولى - التي هي روح الحكم - إنما
تعلقت بوجود الواجب الواقعي، أو عدم المحرم الواقعي، وهذه الإرادة صارت
سببا للخطاب الواقعي؛ ليتوسل به إلى المطلوب، أو إلى رفع المكروه؛ أي أراد
المولى بالخطاب انبعاث المكلف نحو المطلوب، أو انزجاره عن المكروه، إلا أن

1 - تقدم في الصفحة 468.
2 - يأتي في الصفحة الآتية.
3 - حاشية المحقق الخراساني على فرائد الاصول: 36 / السطر 11.
4 - كفاية الاصول: 319 - 320.
472

الخطاب لا يمكن أن يؤثر إلا في حال العلم به؛ ضرورة عدم باعثيته مع الجهل.
لكن لا بمعنى أن إرادة وجود الفعل أو عدمه ناقصة، بل بمعنى أن الخطاب
مع كونه متعلقا بذات الفعل من غير تقييد بالعلم والجهل، ناقص عن بعث
الجاهل، لكن الإرادة متحققة في هذا الحال.
فحينئذ قد يكون المطلوب بوجه لا يرضى المولى بتركه مطلقا، فيأمر
بالاحتياط؛ ليعلم المكلف بالخطاب الاحتياطي، ويتوسل المولى لأجله إلى
المطلوب الواقعي.
وقد لا يكون كذلك، أو يرى في إيجاب الاحتياط محذورا، فيتوسل إلى
مراده بخطاب آخر غير إيجاب الاحتياط؛ وهو جعل أمارة أو أمارات للتوسل بها
إلى المطلوب الواقعي، فيأمر بمتابعة خبر الثقة أو أمارة اخرى.
وهذا الخطاب أيضا خطاب طريقي توسلي، يتوسل به إلى المطلوب
الواقعي، فإذا طابقت الأمارة الواقع، لا يكون إلا الحكم الواقعي والإرادة
الواقعية، التي يكون الخطاب الأولي والخطاب الثانوي وسيلة إلى تحصيل
متعلقها، وإذا خالفته لا يكون الخطاب إلا صوريا، كالقصد الضروري في الإرادة
التكوينية.
فحينئذ نقول: إن لوحظت الإرادة المتوسلة بالخطاب الواقعي لتحريك
العبد نحو المطلوب، يجوز أن يقال: إن الإرادة التي تتسبب بالخطاب الواقعي
الأولي لتحريك المكلف، شأنية في حال الجهل، لا لقصور فيها، بل لقصور في
الخطاب.
وإن لوحظت الإرادة مطلقة، وكان نطاق النظر أوسع من غير تقييد
بالخطاب الواقعي، يجوز أن يقال: إن الإرادة الواقعية التي هي روح الحكم
فعلية، علم المكلف بالخطاب الواقعي أو لا، ولأجل فعليتها توسل بالخطاب
473

الثانوي، وجعل الأمارة وسيلة إلى مراده الواقعي (148).

148 - اعلم: أن للحكم الشرعي مرتبتين ليس غير:
الاولى: مرتبة الإنشاء وجعل الحكم على موضوعه، كالأحكام الكلية القانونية قبل
ملاحظة مخصصاتها ومقيداتها، نحو قوله تعالى: (اوفوا بالعقود) أو (احل الله البيع)
وكالأحكام الشرعية التي نزل به الروح الأمين على قلب نبيه، ولكن لم يأن وقت
إجرائها؛ لمصا لح اقتضته السياسة الإسلامية، وترك إجرائها إلى ظهور الدولة الحقة
عجل الله تعالى فرجه.
الثانية: مرتبة الفعلية، وهي تقابل الاولى من كلتا الجهتين.
فالأحكام الفعلية عبارة: عن الأحكام الباقية تحت العموم والمطلق بعد ورود
التخصيصات والتقييدات حسب الإرادة الجدية، أو ما آن وقت إجرائها، فالذي قام
الإجماع على أنه بين العالم والجاهل سواسية إنما هو الأحكام الإنشائية المجعولة
على موضوعاتها، سواء قامت عليه الأمارة، أم لا، وقف به المكلف، أم لا، وهكذا، وهي
لا يتغير عما هي عليه، وأما الفعلية فيختلف فيها الأحوال كما سيوضح.
وأما توضيح الجواب وحسم الإشكال فهو ما مر منا: أن مفاسد إيجاب الاحتياط كلا أو
تبعيضا صارت موجبة لرفع اليد في مقام الفعلية عن الأحكام الواقعية في حق من قامت
الأمارة، أو الاصول على خلافها، وليس هذا أمرا غريبا منه، بل هذا نظام كل مقنن؛ إذ في
التحفظ التام على الواقعيات من الأحكام مفسدة عظيمة لا تجبر بشيء أيسرها خروج
الناس من الدين، ورغبتهم عنه، وتبدد نظام معاشهم ومعادهم، فلأجل هذا كله رفع اليد
عن إجراء الأحكام في الموارد التي قام الأمارة أو الأصل على خلافها، وليس هذا من
قبيل قصور مقتضيات الأحكام وملاكاتها في موارد قيام الأمارات والاصول على خلافها،
حتى يتقيد الأحكام الواقعية بعدم القيام، بل من قبيل رفع اليد لجهة اللابدية ومزاحمة
الفاسد والأفسد في مقام الإجراء. فالأحكام الواقعية تنشأ على موضوعاتها من غير تقييد.
ويكفي في صحة ما ذكرنا ملاحظة القوانين العالمية، أو المختصة بجيل دون جيل
وطائفة دون اخرى؛ فإن الأحكام ينشأ على وجه الإنشاء على موضوعاتها العارية من
كل قيد وشرط، ثم إذا آن وقت إجرائه، يذكر في لوح آخر قيوده ومخصصاته، فالمنشأ
على الموضوعات قبل ورود التخصيص والتقييد هو الحكم الإنشائي، والحكم الفعلي
اللازم الإجراء ما يبقى تحت العموم والمطلق بعد وردهما عليه. (تهذيب الاصول 2: 138
- 139).
474

فتحصل من ذلك: أن التقريبين كليهما صحيحان، وإن كان ما في " الكفاية "
أتم وأصح؛ ضرورة عدم موجب للحاظ الإرادة الواقعية متقيدة بتسببها الخطاب
الأولي؛ لعدم دخالته فيها، ضرورة عدم تقيد الإرادة الواقعية التي صارت منشأ
للخطاب، بالتوسل إلى تحصيل المراد بالخطاب؛ فإن العلة لا يعقل أن تتقيد
بطولها.
وليعلم: أن ما ذكرنا من ترجيح ما في " الكفاية " على ما في التعليقة - من
بقاء الحكم الواقعي على فعليته، وعدم صيرورته شأنيا - إنما هو فيما إذا علم
المكلف بالأمارة المؤدية إليه، وأما مع جهله بالحكم الواقعي وبالخطاب
الأولي والثانوي المتعلق بالأمارة، فلا تعقل فعليته؛ ضرورة امتناع توجه الإرادة
الفعلية والحكم الفعلي لغاية بعث الجاهل المطلق.
كلام حول جعل الحجية والطريقية وأمثالهما
ثم إن ما أفاده المحقق الخراساني: من جعل الحجية (1) وكذا ما ادعى بعض
الأعاظم من جعل الطريقية والوسطية في الإثبات والمحرزية (2) مما لا يرجع
شيء منها إلى محصل؛ فإن الحجية وقاطعية العذر، ليست إلا حكم العقل
والعقلاء باستحقاق المكلف للعقوبة في صورة مصادفة الطرق للواقع إذا ترك
مؤداها، وحكمهما بقبح مؤاخذته وعقوبته في صورة عدم المصادفة إذا عمل

1 - كفاية الاصول: 319.
2 - فوائد الاصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 106 - 108.
475

بها، ومثله ليس بيد الجاعل، ولا من الأحكام الوضعية القابلة للجعل،
كالولاية، والحكومة.
وكذا الطريقية والمحرزية والوسطية في الإثبات، ليست قابلة للجعل؛
فإن الظن كاشف ذاتا عن الواقع كشفا ناقصا، ولا يمكن جعل هذه الكاشفية
الذاتية له، ولا إعطاء كشف آخر فوق هذا الكشف الذاتي له، كما لا يمكن
جعل الكاشفية للشك.
هذا مضافا إلى ما ذكرنا في أول القطع (1): من أن الوسطية في الإثبات
أجنبية عن باب حجية الأمارات، وأن الحجية التي فيما نحن فيه غير الحجية
المنطقية (149).
والعجب ممن أصر على أن الأمارات التي بأيدينا كلها عقلائية أمضاها
الشارع (3) ومع ذلك ذهب إلى جعل ما ذكر مما لا معنى معقول لها (4).
ظهور دليل الحكم الظاهري في الإجزاء
ثم إن ما ذكرنا: من الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية، إنما هو في
الوجوب والحرمة الواقعيين مع قيام دليل الحكم الظاهري على خلافهما.
وأما الكلام في أدلة الأحكام الظاهرية الحاكمة على أدلة الأحكام
الواقعية، والموسعة لنطاق المأمور به، فقد مر الكلام فيها في مباحث الإجزاء (5).

1 - تقدم في الصفحة 410.
149 - راجع التعليقة 130.
3 - فوائد الاصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 106 - 107.
4 - نفس المصدر 3: 101 - 105.
5 - تقدم في الصفحة 97 - 104.
476

ومحصله: أن قوله: " كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر " (1) حاكم على
الأدلة الدالة على مانعية نجاسة ثوب المصلي وبدنه من الصلاة، أو الأدلة
الدالة على شرطية الطهارة لها، وهو ظاهر عرفا في أن الصلاة مع الطهارة
الظاهرية، مصداق للمأمور به، ومسقطة لأمرها.
فلا يرد عليه: أن ذلك صحيح مع عدم كشف الخلاف، وأما معه فإطلاق
أدلة شرطية الطهارة الواقعية يحكم بوجوب الصلاة معها؛ وذلك لأن المفروض
أن دليل الحكم الظاهري - كما عرفت - ظاهر في كون المأتي به مصداقا للمأمور
به، فبعد الإتيان بمصداقه لا يعقل بقاء الأمر، ولا تجب على المكلف في كل يوم
إلا صلاة واحدة، فالإعادة مما لا وجه لها، بل المكشوف خلافه إنما هو نفس
الطهارة، لا الآثار المترتبة عليها (150).
وبعبارة اخرى: إنه بعد ظهور الأدلة في كون المأتي به مع الطهارة
الظاهرية، مصداقا للمأمور به، لا يعقل كشف خلاف ذلك، فهو مصداق للمأمور
به حتى مع كشف كون الثوب أو البدن نجسا.
إن قلت: إن الحكم الواقعي في طول الظاهري، ورتبته مقدمة عليه،
ولا يعقل تقييده به وتوسعته لأجله؛ لأن الحاكم والمحكوم لابد وأن يكونا في
مرتبة واحدة.
قلت: - بعد تسليم إطلاق دليل الحكم الظاهري، وتسليم ظهوره في
الإجزاء - لا محيص من التصرف في دليل الحكم الواقعي، وتوسعة دائرة

1 - تهذيب الأحكام 1: 284 - 285 / 199، وسائل الشيعة 2: 1054، كتاب الطهارة،
أبواب النجاسات، الباب 37، الحديث 4.
150 - بل لا معنى لانكشاف الخلاف هاهنا؛ لأن الأصل ليس طريقا للواقع يطابقه تارة
ويخالفه اخرى مثل الأمارة؛ حتى يقال: انكشف الخلاف. (مناهج الوصول 1: 317).
477

المأمور به، وإلا لزم رفع اليد عن الحكم الظاهري، أو إطلاقه بلا موجب يوجبه.
إن قلت: لعل مفاد دليل الحكم الظاهري، هو المعذورية لدى المخالفة،
فلا يفيد الإجزاء بعد الانكشاف.
قلت: لا معنى لجعل العذر فيما نحن فيه؛ لأنه لو انكشف الخلاف في
الوقت، فلم تتحقق المخالفة بعد، حتى يكون الحكم الظاهري عذرا لبقاء وقت
إطاعة الحكم الواقعي، والمفروض أن دليل الحكم الظاهري مطلق؛ انكشف
الخلاف في الوقت أو لا، بل لا معنى لتقييده بعدم انكشاف الخلاف؛ للزوم لغويته.
ولو لم ينكشف الخلاف إلى ما بعد الوقت، فلا معنى لكون مفاده جعل العذر
أيضا؛ لأن نفس دليل الحكم الظاهري أوقع المكلف في المخالفة؛ إذ لولا دليله
لحصل المكلف الطهارة الواقعية، فلا معنى لكونه معذرا بعد كونه موقعا في
المخالفة، فلا يمكن الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري؛ بحمل الحكم
الظاهري على جعل العذر أو جعل الحجية، فإنه أيضا مما لا معنى له فيما نحن
فيه، كما لا يخفى.
فلابد من التصرف في الحكم الواقعي؛ بحمله على الشأنية، لكن فرق بين
الالتزام بالشأنية في باب الإجزاء، وفيما ذكرنا في الجمع بين الحكم الواقعي
والظاهري؛ فإن المكلف في الثاني لما كان جاهلا بالحكم الواقعي والخطاب
المتعلق به، لا يعقل كون الخطاب باعثا له؛ لتوقف باعثيته على العلم به، فلابد
وأن يكون شأنيا.
بخلاف الأول، فإن المكلف يعلم بشرطية الطهارة في الصلاة، ويمكن له
تحصيل الطهارة الواقعية، ومع ذلك جعل المولى الحكم الظاهري، وأجاز الصلاة
مع الطهارة الظاهرية، فحينئذ يقع الإشكال في جعل الحكم الظاهري مع إمكان
تحصيل الشرط الواقعي.
478

ويمكن أن يقال: إن المقتضي للحكم الواقعي وإن كان موجودا، فيكون
اشتراط الصلاة بالطهارة الواقعية عن اقتضاء وملاك، لكن مع الشك في الطهارة
يكون تحصيلها ملازما لمشقة زائدة على أصل التكليف، فمصلحة التوسعة ورفع
المشقة عن العبد، صارت مزاحمة لمصلحة التكليف بالطهارة الواقعية،
ولأجل رجحانها عليها رخص في الصلاة مع الطهارة الظاهرية، فمصلحة
التسهيل على المكلف صارت موجبة لجعل الحكم الظاهري.
إن قلت: فما الداعي إلى جعل الحكمين، إذ لو جعل المانع عدم العلم
بالنجاسة لكفى؟!
قلت: بعد ظهور الأدلة في جعل الحكمين، حتى أن أدلة الأحكام
الظاهريه أيضا دالة على اشتراط الصلاة بالطهارة الواقعية؛ لمكان قوله: " حتى
تعلم أنه قذر " (1) وبعد عدم إمكان رفع اليد عن الحكم الظاهري، لا لمكان
رواية عمار الساباطي، بل للسيرة المستمرة القطعية القائمة على ترتيب آثار
الطهارة على المشكوك فيه؛ بحيث توجب القطع بكون هذا الحكم ثابتا في
الشريعة، يمكن أن يقال في الجواب عن هذا الإشكال العقلي: بأنه من الممكن
أن يكون إذن الشارع وأمره، دخيلا في الملاكات والمصالح الواقعية، فالصلاة
إنما صارت معراج المؤمن (2) ومقربة للعبد، لا لاشتمالها ذاتا على تلك
الخصوصية أمر بها الشارع أو لا، بل لأمر الشارع، وكونها إطاعة لأمره،
ومحصلة للعبودية، فأمر الشارع وإذنه دخيل في الملاك والمصلحة.
نعم، تعلق الأمر بالأركان المخصوصة وبهذه الكيفية الخاصة؛ لترجيح

1 - تهذيب الأحكام 1: 284 - 285 / 199، وسائل الشيعة 2: 1054، كتاب الطهارة،
أبواب النجاسات، الباب 37، الحديث 4.
2 - اعتقادات، العلامة المجلسي: 39.
479

وملاك ومصلحة كائنة فيها، لكنها لم تكن تمام الملاك، فالشارع أمر بتلك
الأركان لرجحان ما فيها، وأراد بأمره تمكين العبد من تحصيل تمام الملاك
والمصلحة التامة الملزمة الموجبة لقرب العبد، وعروجه معراج الكمال،
فأمر أولا بالصلاة، وجعل شرطها الطهارة الواقعية؛ لملاك واقعي.
وهذا الأمر مع الشرط الكذائي، مكن المكلف من تحصيل المصلحة
التامة النفس الأمرية. وإذا شك المكلف في طهارة لباسه، صار موضوعا لإذنه
بإتيانها مع اللباس المشكوك فيه؛ لملاك التسهيل كما عرفت.
وهذا الإذن في هذا الموضوع، يمكن أن يكون دخيلا في تحصيل
المصلحة التامة، ويكون الإذن ممكنا للعبد من تحصيلها، وقبل الشك لا يكون
الموضوع محققا، بل يكون الحكم الواقعي ممكنا له، ومع الشك يكون الإذن
وجعل الطهارة الظاهرية كذلك، فجعل الحكمين الظاهري والواقعي، مما لا مانع
عقلي منه.
وهذه الدعوى وإن لم تكن مقرونة بدليل مثبت لها، لكن مجرد الإمكان
كاف في لزوم الأخذ بظهور دليلي الحكم الواقعي والظاهري؛ إذ لاترفع اليد عن
الظهور الحجة إلا بدليل قاطع عقلي أو نقلي، ومع هذا الاحتمال ترفع دعوى
الامتناع، فيجب الأخذ به.
ثم إن ما ذكرنا: من ظهور دليل الحكم الظاهري في الإجزاء، يأتي في أدلة
الأمارات أيضا طابق النعل بالنعل؛ فإن ظاهر ما دل على وجوب العمل بقول
الثقة أو جوازه، هو صيرورة الصلاة مع الطهارة الظاهرية المخبر بها، مصداقا
للصلاة المأمور بها، فدليل حجية الأمارات يوجب التوسعة في مصاديق المأمور
به، كدليل الأصل من غير فرق بينهما من هذه الجهة.
فلا فرق بين قوله: " يجب العمل على طبق الحالة السابقة لدى الشك "
480

وقوله: " يجب العمل على طبق قول الثقة " في دلالتهما على أن المأتي به
مصداق للمأمور به، وأن المكلف مع الإتيان بمصداق المأمور به مع الطهارة
الظاهرية، ينال جميع الآثار المتوقعة من إتيان المأمور به؛ من المثوبات
الاخروية، وعدم وجوب القضاء والإعادة، كما ذكرناه مفصلا في مبحث
الإجزاء (1) (151).

1 - تقدم في الصفحة 97 - 104.
151 - وهذا غير تام؛ لأن إيجاب تصديق العادل لأجل ثقته وعدم كذبه وإيصال المكلف إلى
الواقع المحفوظ، كما هو كذلك عند العقلاء في الأمارات العقلائية، ولا يفهم العرف
والعقلاء من مثل هذا الدليل إلا ما هو المركوز في أذهانهم من الأمارات، لا انقلاب الواقع
عما هو عليه، بخلاف أدلة الاصول.
وبالجملة: أن الإجزاء مع جعل الأمارة وإيجاب العمل على طبقها - لأجل الكشف عن
الواقع كما هو شأن الأمارات - متنافيان لدى العرف والعقلاء، هذا من غير فرق فيما ذكرنا
بين الأمارات القائمة على الأحكام أو الموضوعات. (مناهج الوصول 1: 316).
481

الفهارس العامة
1 - الآيات الكريمة
2 - الأحاديث الشريفة
3 - أسماء المعصومين (عليهم السلام)
4 - الأعلام
5 - الكتب
6 - مصادر التحقيق
7 - الموضوعات
483

1 - فهرس الآيات الكريمة
الآية رقمها الصفحة
البقرة (2)
أحل الله البيع... 276 398، 399، 471
واستشهدوا شهيدين من رجالكم... 282 271، 277
والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء 228 355
والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين 233 140
يا أيها الذين آمنوا 104 348
آل عمران (3)
لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا 97 132، 348، 352،
352، 471
النساء (4)
يا أيها الناس 170 348
485

الأنعام (6)
لانذركم به ومن بلغ 19 352
الأعراف (7)
قلنا للملائكة اسجدوا لآدم 12 51
ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك 13 51
ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا... 149 312
توبة (9)
فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين... 122343
يونس (10)
الحق أحق أن يتبع 36 20
يوسف (12)
واسأل القرية 82 279
الإسراء (17)
فلا تقل لهما أف 23 26، 272
486

الشعراء (26)
نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين 193 - 194352
القصص (28)
وجاء رجل من أقصى المدينة... 20 383
الأحقاف (46)
أو أثارة من علم 4 343
وحمله وفصاله ثلاثون شهرا 15 140
المزمل (73)
فعصى فرعون الرسول 16 380
الإنسان (76)
هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا... 2 - 4 42، 43، 440
العصر (103)
إن الإنسان لفي خسر 2 399
487

2 - فهرس الأحاديث الشريفة
إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء 275، 276، 296،
360
أفطر يوما من شهر رمضان أحب إلي من أن يضرب عنقي 96
إن كل ما أقوله فهو مما حدثني أبي، عن أبيه،
عن أبيه، عن أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) 56
إنما أتى شيئا حلالا، وليس بعاص لله، إنما
عصى سيده، ولم يعص الله... 259
إن المرأة ترى الدم إلى خمسين 328، 329، 330
باطل 369
رفع عن امتي... ما لا يعلمون 103، 279
زخرف 369
طلب العلم فريضة على كل مسلم 343
على اليد ما أخذت حتى تؤدي 337
كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر 100، 102، 103،
488

477، 479
كل ما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو 99، 100
لا، بل أنا شافع 59
الماء الجاري لا ينجسه شيء 276
من فاتته فريضة فليقضها 95
هلا تعلمت 343
يبني على الأربع 359
يضرب على الجدار 369
489

3 - فهرس المعصومين (عليهم السلام)
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) 55، 56، 59، 60، 352، 360،
461، 462
الأئمة (عليه السلام) 55، 59، 60، 343
أمير المؤمنين (عليه السلام) 56، 59
الصادق (عليه السلام) 55
إبراهيم (عليه السلام) 33، 34، 35
إسماعيل (عليه السلام) 183، 184
موسى (عليه السلام) 312
490

4 - فهرس الأعلام
ابن قبة 460، 461، 469
ابن مالك 379، 382
أبو بكر بن الصيرفي 339
أبو الحسين البصري 158
أبو حنيفة 260
أبو العباس بن سريج 339
أبو هاشم 242
اسامة بن ثابت 59
الأصفهاني، محمد تقي 26، 135، 296
الأنصاري، الشيخ الأعظم 19، 63، 64، 69، 73، 89، 126، 135،
136، 141، 152، 155، 181، 182، 241،
249، 254، 265، 287، 291، 292، 293،
296، 322، 331، 390، 393، 410، 414،
418، 421، 423، 428، 434، 435، 448،
491

453، 465.
بريرة 59
بني امية 238
بني طي 311
بني مرجانة 238
البهائي 166، 167
حاتم 311
المحقق الخراساني 9، 17، 19، 21، 25، 26، 33، 37،
41، 48، 55، 61، 65، 69، 76، 79، 89، 95،
98، 106، 126، 144، 145، 149، 194،
199، 202، 207، 217، 218، 227، 235،
236، 238، 254، 277، 281، 283، 285،
292، 294، 304، 308، 309، 314، 319،
322، 323، 328، 329، 331، 333، 340،
341، 347، 351، 355، 373، 379، 381،
382، 385، 387، 389، 391، 393، 411،
414، 424، 436، 439، 448، 466، 469،
472، 475
المحقق الخوانساري 447، 453
المحقق الرشتي 23
المحقق الرضي 24، 25، 26
492

زرارة 258، 259
المحقق السبزواري 392، 393
سلطان العلماء 387، 394
سيبويه 308، 379
السيد الشريف 25
الميرزا الشيرازي 470
الشيخ الطوسي 108
الطوسي، نصير الدين 38
العضدي 359
عمار الساباطي 479
المحقق القمي 51، 132، 140، 242، 384، 447، 453
الكعبي 164
السيد المرتضى 153، 271، 276
493

5 - فهرس الكتب
القرآن 55، 343، 346، 351، 352، 367،
368، 369، 370
تعليقة المحقق الخراساني على الرسائل 472، 475
درر الفوائد 71، 73
الذريعة إلى أصول الشريعة 108
الرسالة الشافعية 17، 20
عدة الاصول 108
فرائد الاصول 410، 465
الفصول 16، 133، 135، 136، 139، 152،
153، 155، 383، 442، 443، 445
القوانين 18، 25، 384
الكافي 258
الكتاب 379
494

الكفاية 285، 330، 332، 359، 376، 469،
472، 475
مطارح الأنظار 287، 294، 322، 394
المطول 25، 356
المعالم 55، 58، 151، 154، 155
495

6 - فهرس مصادر التحقيق
" القرآن الكريم ".
" أ "
1 - اتحاف السادة المتقين. أبو الفيض السيد محمد بن محمد الحسيني الزبيدي،
بيروت، دار الفكر.
2 - أجود التقريرات. السيد أبو القاسم ابن السيد علي أكبر الموسوي الخوئي، قم،
مكتبة المصطفوي.
3 - إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين. جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري
الحلي، قم، مكتبة آية الله المرعشي، 1405.
4 - الاستبصار فيما اختلف من الأخبار. أبو جعفر شيخ الطائفة محمد بن الحسن
الطوسي، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1390.
5 - إشارات الاصول. حاج محمد إبراهيم بن محمد حسن الكافي الأصفهاني،
الكلباسي، طهران، الحجرية، 1245.
6 - الإشارات والتنبيهات. شيخ الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا،
مطبعة الحيدري، 1377.
496

7 - الاصول الأصلية. مولى محمد بن المرتضى، الفيض الكاشاني، قم، دار إحياء
الأحياء، 1412.
8 - اعتقادات. العلامة الشيخ محمد باقر بن محمد تقي المجلسي، أصفهان، مكتبة
المجلسي، 1409.
9 - الألفية. ابن مالك، المطبوع مع شرح ابن عقيل والسيوطي.
10 - أمالي الطوسي. أبو جعفر شيخ الطائفة محمد بن الحسن، الشيخ الطوسي،
تحقيق قسم الدراسات الإسلامية، قم، دار الثقافة، 1414.
11 - أمالي المفيد. أبو عبد الله محمد بن النعمان البغدادي، الشيخ المفيد، تحقيق
الحسين استاد ولي وعلي أكبر الغفاري، قم، مؤسسة النشر الإسلامي،
1403.
12 - أنوار الملكوت في شرح الياقوت. جمال الدين حسن بن يوسف بن المطهر،
العلامة الحلي، تحقيق محمد النجمي الزنجاني، قم، منشورات الرضي وبيدار،
1363 ش.
13 - أوائل المقالات. أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان البغدادي، الشيخ المفيد.
" ب "
14 - بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار. العلامة محمد باقر بن محمد
تقي المجلسي، طهران، دار الكتب الإسلامية.
15 - بدائع الأفكار. الميرزا حبيب الله الرشتي، قم، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لاحياء
التراث.
16 - بصائر الدرجات. أبو جعفر محمد بن الحسن بن فروخ الصفار. تحقيق الميرزا
497

محسن كوچه باغي، طهران، منشورات الأعلمي، 1404.
17 - البصائر النصيرية في المنطق. زين الدين عمر بن سهلان الساوجي، قم، مدرسة
الرضوية.
" ت "
18 - تاج العروس من جواهر القاموس. السيد محمد بن محمد مرتضى الحسيني
الزبيدي، مصر، المطبعة الخيرية، 1306، 1307.
19 - تشريح الاصول. الشيخ مولى علي بن مولى فتح الله النهاوندي، طهران، دار
الخلافة، 1320.
20 - تفسير التبيان. أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، تحقيق أحمد حبيب قصير
العاملي، بيروت، دار إحياء التراث العربي.
21 - تفسير العياشي. أبو النضر محمد بن مسعود بن محمد بن عياش السمرقندي،
تحقيق السيد هاشم الرسولي، طهران، المكتبة العلمية الإسلامية.
22 - التفسير الكبير. محمد بن عمر الخطيب فخر الدين الرازي، بيروت، دار إحياء
التراث العربي.
23 - تلخيص المحصل. أبو جعفر محمد بن محمد بن الحسن الطوسي، الخواجة
نصير الدين الطوسي، بيروت، دار الأضواء، 1405.
24 - تمهيد القواعد. الشهيد الثاني زين الدين بن علي بن أحمد العاملي، التحقيق
مكتب الإعلام الإسلامي فرع خراسان، قم، مكتب الإعلام الإسلامي،
1416.
25 - تهذيب الأحكام. أبو جعفر محمد بن الحسن، الشيخ الطوسي، إعداد السيد
حسن الموسوي الخرسان، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1364 ش.
498

26 - التوحيد. أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، الشيخ الصدوق،
تحقيق على أكبر الغفاري والسيد هاشم الحسيني الطهراني، قم، مؤسسة
النشر الإسلامي، 1398.
" ج "
27 - جامع أحاديث الشيعة. الحاج آقا حسين الطباطبائي البروجردي، قم، مطبعة
مهر، 1414.
28 - جامع المقاصد في شرح القواعد. المحقق الثاني علي بن الحسين بن عبد العالي
الكركي، قم، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، 1408 - 1411.
29 - الجعفريات أو الأشعثيات (المطبوع مع قرب الإسناد). يرويه أبو علي، محمد
بن محمد الأشعث، طهران، مكتبة نينوى الحديثة.
30 - جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام. الشيخ محمد حسن بن باقر النجفي،
طهران، دار الكتب الإسلامية، 1398.
31 - الجوهر النضيد في شرح كتاب التجريد. جمال الدين حسن بن يوسف بن
المطهر، العلامة الحلي، قم، منشورات بيدار، 1413.
" ح "
32 - حاشية الصبان على شرح الاشموني. محمد بن علي الصبان، قم، منشورات
زاهدي، 1412.
33 - الحاشية على تهذيب المنطق التفتازاني. المولى عبد الله بن شهاب الدين
الحسين اليزدي، طهران، المكتبة العلمية الإسلامية.
499

34 - حاشية كتاب فرائد الاصول. الآخوند الخراساني المولى محمد كاظم بن
حسين الهروي، قم، مكتبة بصيرتي.
35 - حاشية كفاية الاصول. الشيخ علي القوچاني، قم، مكتبة الوجداني.
36 - حاشية كفاية الاصول. الميرزا أبو الحسن المشكيني، قم، منشورات دار
الحكمة، 1413.
37 - الحكمة المتعالية " الأسفار ". محمد بن إبراهيم صدر الدين الشيرازي، صدر
المتألهين، قم، مكتبة المصطفوي.
" خ "
38 - الخصال. أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، الشيخ
الصدوق، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1403.
" د "
39 - درر الفوائد. الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي المهرجردي الميبدي، قم،
مؤسسة النشر الإسلامي، 1408.
40 - الدروس الشرعية في فقه الإمامية. الشهيد الأول شمس الدين محمد بن مكي
العاملي، قم، مكتبة صادقي، بالاوفست عن طبعته الحجرية، 1398.
" ذ "
41 - ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد. المحقق السبزواري محمد باقر بن محمد
مؤمن، قم، الطبعة الحجرية، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.
500

42 - الذريعة إلى اصول الشريعة. أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي، الشريف
المرتضى وعلم الهدى، طهران، جامعة طهران، 1348 ش.
43 - ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة. الشهيد الأول شمس الدين محمد بن مكي
العاملي، قم، الطبعة الحجرية، بصيرتي.
" ر "
44 - الرسائل الفشاركية. السيد محمد الطباطبائي الفشاركي، قم، مؤسسة النشر
الإسلامي، 1413.
45 - روضة الناظر وجنة المناظر. موفق الدين أحمد بن قدامة المقدسي، مصر،
المطبعة السلفية، 1342.
" ز "
46 - زبدة الاصول. الشيخ البهائي الحسين بن عبد الصمد، طهران، الطبعة الحجرية،
1319.
" س "
47 - السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي. أبو جعفر محمد بن منصور بن أحمد بن
إدريس الحلي، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1410 - 1411.
48 - سنن أبي داود. أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، دار إحياء السنة
النبوية.
" ش "
* شرحا البدخشي والأسنوي = مناهج العقول.
501

49 - شرح التصريح على التوضيح. خالد بن عبد الله الأزهري، مصر، دار إحياء
الكتب العربية.
50 - شرح الشمسية. قطب الدين محمد بن محمد الرازي البويهي، إيران، الطبعة
الحجرية، 1304.
51 - شرح العضدي على مختصر ابن حاجب. القاضي عضد الملة والدين
عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار، إسلامبول، مطبعة العالم، 1310.
52 - شرح تجريد العقائد. علاء الدين علي بن محمد القوشجي، الطبعة الحجرية،
1285.
53 - شرح الكافية. الشيخ رضي الدين محمد بن الحسن الأسترآبادي، بيروت،
دارالكتب العلمية، 1399.
54 - شرح حكمة الإشراق. قطب الدين الشيرازي، قم، الطبعة الحجرية، منشورات
بيدار.
55 - شرح المطالع. قطب الدين الرازي، قم، مكتبة النجفي.
56 - شرح المقاصد. مسعود بن عمر بن عبد الله المعروف بسعد الدين التفتازاني،
تحقيق عبد الرحمن عميرة، قم، منشورات الرضي، 1370 - 1371 ش،
" بالاوفست عن طبعته السابقة، مصر، 1409 ".
57 - شرح المنظومة. المولى هادي بن مهدي السبزواري، قم، مكتبة العلامة،
1369 ش.
58 - شرح المواقف. السيد الشريف علي بن محمد الجرجاني، إعداد السيد محمد
بدر الدين النسعاني، قم، منشورات الرضي، 1412، " بالاوفست عن طبعة
مصر، 1325 ".
502

59 - الشفاء، الشيخ الرئيس أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا، قم، مكتبة آية الله
المرعشي، 1405.
60 - شروح التلخيص. وهي مختصر سعد الدين التفتازاني على " تلخيص المفتاح "،
خطيب القزويني ومواهب الفتاح في شرح " تلخيص المفتاح " ابن يعقوب
المغربي وعروس الأفراح في شرح " تلخيص المفتاح "، بهاء الدين السبكي،
قم، نشر أدب الحوزة.
61 - شوارق الإلهام في شرح تجريد الكلام، المولى عبد الرزاق بن علي بن الحسين
اللاهيجي، أصفهان، نشر مهدوي، الطبعة الحجرية.
62 - الشواهد الربوبية في المناهج السلوكية. محمد بن إبراهيم صدر الدين
الشيرازي، صدر المتألهين، تعليق وتصحيح السيد جمال الدين آشتياني،
مركز نشر دانشگاهي، 1360 ش.
" ض "
63 - ضوابط الاصول. السيد إبراهيم بن محمد باقر القزويني الحائري، الطبعة
الحجرية.
" ع "
64 - عدة الاصول. أبو جعفر محمد بن الحسن، الشيخ الطوسي، الطبعة الحجرية.
65 - عوائد الأيام. المولى أحمد بن محمد مهدي بن أبي ذر النراقي، قم، مكتب
الإعلام الإسلامي، 1417.
66 - عوالي اللآلي العزيزية في الأحاديث الدينية. محمد بن علي بن إبراهيم
الأحسائي، ابن أبي جمهور، تحقيق مجتبى العراقي، قم، مطبعة سيد الشهداء،
503

1403 - 1405.
67 - عيون أخبار الرضا (عليه السلام). أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي،
الشيخ الصدوق، تصحيح السيد مهدي الحسيني اللاجوردي، قم، مطبعة
الطوسي، 1363 ش.
" غ "
68 - الغنية " غنية النزوع إلى علمي الاصول والفروع "، أبو المكارم السيد حمزة بن
علي بن زهرة الحسيني الحلبي، ضمن " الجوامع الفقهية "، قم، مكتبة آية الله
المرعشي، 1404، " بالاوفست عن طبعته الحجرية ".
" ف "
69 - فرائد الاصول، الشيخ الأعظم مرتضى بن محمد أمين الأنصاري الدزفولي،
الطبعة الحجرية، تبريز، 1314.
70 - الفصول الغروية في الاصول الفقهية، الشيخ محمد حسين بن عبد الرحيم
الطهراني الأصفهاني الحائري، قم، دار إحياء العلوم الإسلامية، 1404.
71 - الفقيه " من لا يحضره الفقيه ". أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه
القمي، الشيخ الصدوق، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1390.
72 - فوائد الاصول، الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، تقريرات بحث الميرزا
محمد حسين الغروي النائيني، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1404.
73 - الفوائد الاصولية، العلامة السيد محمد بحر العلوم الطباطبائي، طهران، الطبعة
الحجرية.
74 - فواتح الرحموت، عبد العلي محمد بن نظام الدين الأنصاري، " المطبوع مع
504

المستصفى من علم الاصول "، قم، الطبعة الثانية، منشورات دار الذخائر،
1368 ش.
" ق "
75 - قاموس المحيط. أبو طاهر مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، بيروت،
دار الجيل.
76 - القبسات. المير محمد باقر بن محمد الحسيني الأسترآبادي، تهران، منشورات
دانشگاه، 1374 ش.
77 - قوانين الاصول، المحقق ميرزا أبو القاسم القمي بن المولى محمد حسين
الجيلاني، الميرزا القمي، الطبعة الحجرية، طهران، المكتبة العلمية الإسلامية،
1378.
" ك "
78 - الكافي. أبو جعفر ثقة الإسلام محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي،
تحقيق علي أكبر الغفاري، طهران، المكتبة الإسلامية، 1388.
79 - الكتاب. سيبويه، مجلدان، قم، طبع أدب الحوزة، 1404.
80 - كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد. العلامة الحلي جمال الدين الحسن بن
يوسف بن المطهر، تحقيق حسن حسن زاده الآملي، قم، مؤسسة النشر
الإسلامي، 1407.
81 - كفاية الاصول. الآخوند الخراساني المولى محمد كاظم بن حسين الهروي،
إعداد مؤسسة النشر الإسلامي، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1414.
82 - الكنى والألقاب. المحدث القمي عباس بن محمد رضا، طهران، مكتبة الصدر،
1368 ش.
505

" م "
83 - مبادئ الوصول إلى علم الاصول. العلامة الحلي جمال الدين حسن بن يوسف
بن المطهر، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1404.
84 - المبسوط. أبو جعفر شيخ الطائفة محمد بن الحسن، الشيخ الطوسي، إعداد
السيد محمد تقي الكشفي ومحمد باقر البهبودي، طهران، المكتبة المرتضوية
لإحياء الآثار الجعفرية، 1387 - 1393.
85 - مجمع البيان لعلوم القرآن. أبو علي أمين الإسلام الفضل بن الحسن الطبرسي،
طهران، المكتبة الإسلامية، 1395.
86 - المحاسن. أبو جعفر أحمد بن محمد بن خالد البرقي، تحقيق جلال الدين
الحسيني، المحدث الارموي، قم، دار الكتب الإسلامية.
87 - المحصول في علم اصول الفقه. فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي،
بيروت، دار الكتب العلمية، 1408.
88 - مختلف الشيعة في أحكام الشريعة. العلامة الحلي جمال الدين حسن بن
يوسف بن المطهر، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1412 - 1418.
89 - مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل. الحاج ميرزا حسين المحدث النوري،
تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، 1407.
90 - المستصفى من علم الاصول. أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، قم، مطبعة دار
الذخائر، 1368 ش.
91 - مستطرفات السرائر. أبو عبد الله محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس العجلي
الحلي، قم، مدرسة الإمام المهدي (عليه السلام)، 1408.
92 - المسلك في اصول الدين. نجم الدين أبو القاسم جعفر بن الحسن بن سعيد،
506

المحقق الحلي، مشهد، مجمع البحوث الإسلامية، 1414.
93 - مسند أحمد. أحمد بن محمد بن حنبل، مصر، المطبعة الميمنية، 1313.
94 - مشارق الشموس في شرح الدروس. العلامة حسين بن جمال الدين محمد
الخوانساري، الطبعة الحجرية، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.
95 - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير. أحمد بن محمد بن علي الفيومي،
بيروت، دار الكتب العلمية، 1398.
96 - مطارح الأنظار. العلامة أبو القاسم كلانتري، قم، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء
التراث، " بالاوفست عن طبعته الحجرية ".
97 - المطارحات. الشيخ شهاب الدين السهروردي.
98 - المطول " كتاب المطول في شرح تلخيص المفتاح ". مسعود بن عمر بن عبد الله
المعروف بسعد الدين التفتازاني، وبهامشه حاشية المير سيد شريف، قم،
منشورات مكتبة آية الله المرعشي، 1407.
99 - معارج الاصول. المحقق الحلي نجم الدين جعفر بن حسن بن يحيى بن سعيد
الهذلي، قم، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، 1403.
100 - معالم الدين وملاذ المجتهدين. أبو منصور جمال الدين الحسن بن زين الدين
العاملي، قم، منشورات الرضي.
101 - المعتمد في أصول الفقه. أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري
المعتزلي، بيروت، دار الكتب العلمية، 1403.
102 - مغني اللبيب عن كتب الأعاريب. أبو محمد عبد الله بن يوسف بن هشام
الأنصاري المصري، طهران، الطبعة الحجرية، المكتبة العلمية الإسلامية،
1291.
507

103 - مفاتيح الاصول. السيد محمد ابن آقا مير سيد علي السيد محمد الطباطبائي،
قم، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، " بالاوفست عن طبعته
الحجرية ".
104 - مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة. السيد محمد جواد الحسيني العاملي،
قم، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، " بالاوفست عن طبعته
السابقة ".
105 - مقالات الاصول. الشيخ ضياء الدين العراقي، قم، مكتبة الكتبي النجفي.
106 - المكاسب. الشيخ مرتضى بن محمد أمين الأنصاري الدزفولي، تبريز، الطبعة
الحجرية، 1375.
107 - المكاسب المحرمة. الإمام الخميني (قدس سره)، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام
الخميني (قدس سره)، قم، 1373 ش.
108 - مناهج الأحكام والاصول. المولى أحمد بن محمد مهدي بن أبي ذر النراقي،
الطبعة الحجرية.
109 - مناهج العقول، محمد بن الحسن البدخشي، المطبوع على " نهاية السؤل "،
لجمال الدين عبد الرحيم الأسنوي، كلاهما شرح " منهاج الوصول في علم
الاصول "، للقاضي البيضاوي، بيروت، دار الكتاب العربي، 1405.
110 - منتهى المطلب في تحقيق المذهب. العلامة الحلي جمال الدين حسن بن
يوسف بن المطهر، إيران، الطبعة الحجرية، 1333.
111 - الموافقات في اصول الشريعة. إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي المالكي،
بيروت، دار المعرفة.
508

" ن "
* نقد المحصل = تلخيص المحصل
112 - نهاية الاصول. تقريرا لأبحاث الحاج آقا حسين الطباطبائي البروجردي، بقلم
الشيخ حسينعلي المنتظري، قم، نشر تفكر، 1415.
113 - نهاية الأفكار. الشيخ محمد تقي بن عبد الكريم البروجردي النجفي، تقريرات
بحث استاذه آية الله آغا ضياء الدين العراقي، قم، مؤسسة النشر الإسلامي،
1405.
114 - نهاية النهاية في شرح الكفاية. الحاج ميرزا علي الإيرواني النجفي، قم، مكتب
الإعلام الإسلامي، 1370 ش.
115 - نهاية الوصول. جمال الدين حسن بن يوسف بن المطهر، العلامة الحلي،
مخطوطة مكتبة آية الله المرعشي، المرقمة 277.
" ه‍ "
116 - هداية المسترشدين في شرح معالم الدين. الشيخ محمد تقي الأصفهاني، قم،
مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، " بالاوفست عن طبعته الحجرية ".
117 - همع الهوامع. السيوطي، قم، منشورات الرضي.
" و "
118 - الوافية في اصول الفقه. المولى عبد الله بن محمد البشروي الخراساني، الفاضل
التوني، تحقيق السيد محمد حسين الرضوي الكشميري، قم، مؤسسة
إسماعيليان، 1412.
509

119 - وسائل الشيعة " تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة "، الشيخ
محمد بن الحسن الحر العاملي، طهران، المكتبة الإسلامية، 1383 -
1389.
120 - الوسيلة إلى نيل الفضيلة. عماد الدين أبو جعفر محمد بن علي الطوسي
المعروف بابن حمزة، إعداد الشيخ محمد الحسون، قم، مكتبة آية الله
المرعشي، 1408.
121 - وقاية الأذهان. الشيخ أبو المجد محمد رضا بن محمد حسين النجفي
الأصفهاني، تحقيق مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، قم، مؤسسة
آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، 1413.
510