الكتاب: تفسير الآلوسي
المؤلف: الآلوسي
الجزء: ٢٣
الوفاة: ١٢٧٠
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

* (ومآ أنزلنا على قومه من بعده من جند من السمآء وما كنا منزلين) *.
* (وما أنزلنا على قومه) * أي قوم الرجل الذي قيل له ادخل الجنة * (من بعده) * أي من بعد قتله، وقيل: من بعد رفعه إلى السماء حيا * (من جند) * أي جندا فمن مزيدة لتؤكيد النفي، وقيل: يجوز أن تكون للتبعيض وهو خلاف الظاهر، والجند العسكر لما فيه من الغلظة كأنه من الجند أي الأرض الغليظة التي فيها حجارة، والظاهر أن المراد بهذا الجند جند الملائكة أي ما أنزلنا لاهلاكهم ملائكة * (من السماء وما كنا منزلين) * وما صح في حكمتنا أن ننزل الجند لاهلاكهم لما أنا قدرنا لكل شيء سببا حيث أهلكنا بعض من أهلكنا من الأمم بالحاصب وبعضهم بالصيحة وبعضهم بالخسف وبعضهم بالاغراق وجعلنا إنزال الجند من خصائصك في الانتصار لك من قومك وكفينا أمر هؤلاء بصيحة ملك صاح بهم فهلكوا كما قال سبحانه:
* (إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خ‍امدون) *.
* (إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون) * وفي ذلك استحقار لهم ولا هلاكهم وإيماء إلى تفخيم شأن النبي صلى الله عليه وسلم، وفسر أبو حيان الجند بما يعم الملائكة فقال: كالحجارة والريح وغير ذللك والمتبادر ما تقدم، وقيل: الجند ملائكة الوحي الذين ينزلون على الأنبياء عليهم السلام أي قطعنا عنهم الرسالة حين فعلوا ما فعلوا ولم نعبأ بهم وأهلكناهم، وعن الحسن ومجاهد قالا قطع الله تعالى عنهم الرسالة حين قتلوا رسله، وهذا التفسبر بعيد جدا، وقتل الرسل الثلاثة محكى في البحر بقيل وهو ظاهر هذا المروى لكن المعروف أنهم لم يقتلوا وإنما قتل حبيب فقط، وذهبت فرقة إلى أن ما في قوله تعالى: * (وما كنا منزلين) * موصولة معطوفة على * (جند) * والمراد ما أنزلنا على قومه من بعده جندا من السماء وما أنزلنا الذي كنا منزليه على الذين من قبلهم من حجارة وريح وغير ذلك.
وتعقبه أبو حيان بأنه يلزم عليه زيادة * (من) * في المعرفة، ومن هنا قيل الأولى جعلها نكرة موصوفة، وأجيب بأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع، ولا يخفى أن هذا لا يدفع بعده، ومن أبعد ما يكون قول أبي البقاء: يجوز أن تكون ما زائدة أي وقد كنا منزلين على غيرهم جندا من السماء بل هو ليس بشيء، وإن نافية وكان ناقصة واسمها مضمر و * (صيحة) * خبرها أي ما كانت هي أي الأخذة أو العقوبة إلا صيحة واحدة، روى أن الله تعالى بعث عليهم جبريل عليه السلام حتى أخذ بعضادتي باب المدينة فصاح بهم صيحة واحدة فماتوا جميعا، وإذا فجائية وفيها إشارة إلى سرعة هلاكهم بحيث كان مع الصيحة، وقد شبهوا بالنار على سبيل الاستعارة المكنية والخمود تخييل، وفي ذلك رمز إلى أن الحي كشعلة النار والميت كالرماد كما قال لبيد: وما المرء إلا كالشهاب وضوئه * يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
ويجوز أن تكون الاستعارة تصريحية تبعية في الخمود بمعنى البرودة والسكون لأن الروح لفزعها عند الصيحة تندفع إلى الباطن دفعة واحدة ثم تنحصر فتنطفىء الحرارة الغريزية لانحصارها، ولعل في العدول عن
2

هامدون إلى * (خامدون) * رمزا خفيا إلى البعث بعد الموت، والظاهر أنه لم يؤمن منهم سوى حبيب وانهم هلكوا عن آخرهم، وفي بعض الآثار أنه إمن الملك وأمن قوم من حواشيه ومن لم يؤمن هلك بالصيحة، وهذا بعيد فإنه كان الظاهر أن يظاهر أولئك المؤمنون الرسل كما فعل حبيب ولكان لهم في القرآن الجليل ذكر ما بوجه من الوجوه اللهم إلا أن يقال: إنهم آمنوا خفية وكان لهم ما يعذرون به عن المظاهرة، ومع هذا لا يخلو بعد عن بعد، وقرأ أبو جعفر. وشيبة. ومعاذ بن الحرق القارىء * (صيحة) * بالرفع على أن كان تامة أي ما حدثت ووقعت إلا صيحة وينبغي أن لا تلحق الفعل تاء التأنيث في مثل هذا التركيب فلا يقال ما قامت إلا هند بل ما قام إلا هند لأن الكلام على معنى ما قام أحد إلا هند والفاعل فيه مذكر، ولم يجوز كثير من النحويين ألا لحاق إلا في الشعر كقول ذي الرمة:
طوى التحز والإجراز ما في غروضها * وما بقيت ألا الضلوع الجراشع
وقول الآخر: ما برئت من ريبة وذم * في حربنا إلا بنات العم
ومن هنا أنكر الكثير كما قال أبو حاتم هذه القراءة، ومنهم من أجاز ذلك في الكلام على قلة كما في قراءة الحسن. ومالك بن دينار. وأبي رجاء. والجحدري. وقتادة. وأبي حيوة. وابن أبي عبلة. وأبي بحرية * (لا ترى إلا مساكنهم) * بالتاء الفوقية، ووجهه مراعاة الفاعل المذكور، وكأني بك تميل إلى هذا القول، وقرأ ابن مسعود * (إلا زقية) * من زقي الطائر يزقو ويزقي زقا وزقاء إذا صاح، ومنه المثل أثقل من الزواقي وهي الديكة لأنهم كانوا يسمرون إلى أن تزقوا فإذا صاحت تفرقوا.
* (ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون) *.
* (يا حسرة على العباد) * الحسرة على ما قال الراغب الغم على ما فات والندم عليه كأن المتحسر انحسر عنه قواه من فرط ذلك أو ادركه إعياء عن تدارك ما فرط منه، وفي البحر هي أن يركب الإنسان من شدة الندم ما لا نهاية بعده حتى يبقى حسيرا، والظاهر أن * (يا) * للنداء و * (حسرة) * هو المنادي ونداؤها مجاز بتنزيلها منزلة العقلاء كأنه قيل: يا حسرة احضري فهذا الحال من الأحوال التي من حقها أن تحضري فيها وهي ما دل عليها قوله تعالى: * (ما تأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون) * والمراد بالعباد مكذبو الرسل ويدخل فيهم المهلكون المتقدمون دخولا أوليا، وقيل: هم المراد وليس بذاك وبالحسرة المناداة حسرتهم والمستهزؤون بالناصحين المخلصين المنوط بنصحهم خير الدارين أحقاء بأن يتحسروا على أنفسهم حيث فوتوا عليها السعادة الأبدية وعوضوها العذاب المقيم، ويؤيد هذا قراءة ابن عباس. وأبي. وعلي بن الحسين. والضحاك. ومجاهد. والحسن * (يا حسرة العباد) * بالإضافة، وكون المراد حسرة غيرهم عليهم والإضافة لأدنى ملابسة خلاف الظاهر؛ وأخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة أنه قال في بعض القرآن * (يا حسرة العباد على أنفسها ما يأتيهم) * الخ.
وجوز أن تكون حسرة الملائكة عليهم السلام والمؤمنين من الثقلين، وعن الضحاك تخصيصها بحسرة الملائكة عليهم السلام وزعم أن المراد بالعباد الرسل الثلاثة وأبو العالية فسر * (العباد) * بهذا أيضا لكنه حمل الحسرة على حسرة الكفار المهلكين قال: تحسروا حين رأوا عذاب الله تعالى وتلهفوا على ما فاتهم، وقيل: المراد بالعباد المهلكون والتحسر الرجل الذي جاء من اقصى المدينة تحسر لما وثب القوم لقتله، وقيل: المراد بالعباد أولئك والمتحسر الرسل حين قتلوا ذلك الرجل وحل بهم العذاب ولم يؤمنوا، ولا يخفى حال هذه الأقوال وكان مراد
3

من قال: المتحسر الرجل ومن قال المتحسر الرسل عني أن القول المذكور قول الرجل أو قول الرسل، في كلام أبي حيان ما هو ظاهر في ذلك، ومع هذا لا ينبغي أن يعول على شيء مما ذكر، وجوز أن يكون التحسر منه سبحانه وتعالى مجازا عن استعظام ما جنوه على أنفسهم، وأيد بأنه قرىء * (يا حسرتا على العباد) * فإن الأصل عليها يا حسرتي فقلبت الياء ألقا، ونحوها قراءة ابن عباس كما قال ابن خالويه * (يا حسرة على العباد) * بغير تنوين فإن الأصل أيضا يا حسرتي فقلبت الياء ألفا ثم حذفت الألف واكتفى عنها بالفتحة، وقرأ أبو الزناد. وابن هرمز. وابن جندب * (يا حسرة على العباد) * بالهاء الساكنة، قال في المنتقى: وقف * (على حسره) * وقفا طويلا تعظيما للأمر ثم قيل * (على العباد) *.
وفي اللوامح وقفوا على الهاء مبالغة في التحسر لما في الهاء من التأهه كالتأوه، ثم وصلوه على تلك الحال.
وقال الطيبي: إن العرب إذا أخبرت عن الشيء غير معتد به أسرعت فيه ولم تأت على اللفظ المعبر عنه نحو قلت لها قفي قالت لنا قاف أي وقفت فانتصرت من جملة الكلمة على حرف منها تهاونا بالحال وتثاقلا عن الإجابة، ولا يخفى أن هذا لا يناسب المقام، وينبغي على هذه القراءة أن لا يكون * (على العباد) * متعلقا بحسرة أو صفة له إذ لا يحسن الوقف حينئذ بل يجعل متعلقا بمضمر يدل عليه * (حسرة) * نحو يتحسر أو أتحسر على العباد، وتقدير انظروا ليس بذاك أو خبر مبتدأ محذوف لبيان المتحسر عليه أي الحسرة على العباد وتخريج قراءة * (يا حسرتا) * بالألف على هذا الطرز بأن يقال: قدر الوقف على المنصوب المنون فإنه يوقف عليه بالألف كان الله على كل شيء قديرا، وضرب زيد عمرا ليس بشيء ولو سلم أنه شيء لا ينافي التأييد، وقيل * (يا) * للنداء والمنادي محذوف و * (حسرة) * مفعول مطلق لفعل مضمر و * (على العباد) * متعلق بذلك الفعل أي يا هؤلاء تحسروا حسرة على العباد.
ولعل الأوفق للمقام المتبادر إلى الأفهام أن المراد نداء حسرة كل من يتأتى منه التحسر ففيه من المبالغة ما فيه.
وقوله تعالى: * (ما يأتيهم) * الخ استئناف لبيان ما يتحسر منه، و * (به) * متعلق بيستهزؤون. وقدم عليه للحصر الادعائي وجوز أن يكون لمراعاة الفواصل.
* (ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون) *.
* (ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون) * الضمير لأهل مكة والاستفهام للتقرير وكم خبرية في موضع نصب بأهلكنا و * (من القرون) * بيان لكم، وجوز بعض المتأخرين كون * (كم) * مبتدأ والجملة بعده خبره وهو كلام من لا خبر عنده والجملة معمولة ليروا نافذ معناها فيها و * (كم) * معلقة لها عن العمل في اللفظ لأنها وإن كانت خبرية لها صدر الكلام كالاستفهامية فلا يعمل فيها عامل متقدم على اللغة الفصيحة إلا إذا كان حرف جر أو اسما مضافا نحو على كم فقير تصدقت أرجو الثواب وابن كم رئيس صحبته.
وحكى الأخفش على ما في الحبر جواز تقدم عامل عليها غير ذلك عن بعضهم نحو ملكت كم غلام أي ملكت كثيرا من الغلمان عاملوها معاملة كثير؛ والرؤية علمية لا بصرية خلافا لابن عطية لأنها لا تعلق على المشهور ولأن أهل مكة لم يحضروا إهلاك من قبلهم حتى يروه بل علموه بالأخبار ومشاهدة الآثار، والقرون جمع قرن وهم القوم المقترنون في زمن واحد كعاد وثمود وغيرهم * (أنهم) * الضمير عائد على معنى * (كم) * وهي القرون أي إن القرون المهلكين * (إليهم) * أي إلى أهل مكة * (لا يرجعون) * وأن وما بعدها في تأويل المفرد
4

بدل من جلمة * (كم أهلكنا) * على المعنى كما نقل عن سيبويه وتبعه الزجاج أي ألم يروا كثرة اهلاكنا من قبلهم وكونهم غير راجعين إليهم.
وقيل على المعنى لأن الكثرة المذكورة وعدم الرجوع ليس بينهما اتحاد بجزئية ولا كلية ولا ملابسة كما هو مقتضى البدلية لكن لما كان ذلك في معنى الذين أهلكناهم وأنهم لا يرجعون بمعنى غير راجعين اتضح فيه البدلية على أنه بدل اشتمال أو بدل كل من كل قاله الخفاجي: وأفاد صاحب الكشف على أنه من بدل الكل بجعل كونهم غير راجعين كثرة اهلاك تجوزا، وعندي أن هذا الوجه وإن لم يكن فيه إبدال مغرد من جملة وتحقق فيه مصحح البدلية على ما مسعت ولا يخلو عن تكلف، وسيبويه ليس بنبي النحو ليجب اتباعه.
وقال السيرافي: يجوز أن يجعل * (أنهم) * الخ صلة أهلكناهم أي أهلكناهم بأنهم لا يرجعون أي بهذا الضرب من الهلاك، وجوز ابن هشام في المغنى أن يكون أن وصلتها معمول * (يروا) * وجملة * (كم أهلكنا) * معترضة بينهما وأن يكون معلقا عن * (كم أهلكنا) * وأنهم إليهم لا يرجعون مفعولا لأجله، قال الشمني: ليروا والمعنى أنهم علموا لأجل أنهم لا يرجعون اهلاكهم. ورد بأنه لا فائدة يعتد بها فيما ذكر من المعنى. وتعقبه الخفاجي بقوله: لا يخفى أن ما ذكر وارد على البدلية أيضا، والظاهر أن المقصود من ذكره إما التهكم بهم وتحميقهم وإما إفادة ما يفيد تقديم * (إليهم) * من الحصر أي أنهم لا يرجعون إليهم بل إلينا فيكون ما بعده مؤكدا له اه‍ وهو كما ترى، وقال الجلبي: لعل الحق أن يجعل أول الضميرين لمعنى * (كم) * وثانيهما للرسل وان وصلتها مفعولا لأجله لأهلكناهم، والمعنى أهلكناهم لاستمرارهم على عدم الرجوع عن عقائدهم الفاسدة إلى الرسل وما دعوهم إليه فاختيار * (لا يرجعون) * على لم يرجعوا للدلالة على استمرار النفي مع مراعاة الفاصلة انتهى. وهو على بعده ركيك معنى، وأرك منه ما قيل الضميران على ما يتبادر فيهما من رجوع الأول لمعنى * (كم) * والثاني لمن نسبت إليه الرؤية وأن
وصلتها علة لاهلكنا، والمعنى أنهم لا يرجعون إليهم فيخبروهم بما حل بهم من العذاب وجزاء الاستهزاء حق ينزجر هؤلاء فلذا أهلكناهم، ونقل عن الفراء أنه يعمل * (يروا) * في * (كم أهلكنا) * وفي * (أنهم) * الخ من غير إبدال ولم يبين كيفية ذلك.
وزعم ابن عطية أن أن وصلتها بدل من * (كم) * ولا يخفى أنه إذا جعلها معمول * (أهلكنا) * كما هو المعروف لا يسوغ ذلك لأن البدل على نية تكرار العامل ولا معنى لقولك أهلكنا أنهم لا يرجعون ولعله تسامح في ذلك، والمراد بدل من * (كم أهلكنا) * على المعنى كما حكى عن سيبويه، وأما جعل * (كم) * معمولة ليروا والإبدال منها نفسها إذ ذاك فلا يخفى حاله، وقال أبو حيان: الذي تقتضيه صاعة العربية أن * (انهم) * الخ معمول لمحذوف دل عليه المعنى وتقديره قضينا أو حكمنا أنهم إليهم لا يرجعون والجملة حال من فاعل * (أهلكنا) * على ما قال الغفجاي وأراه أبعد عن القيل والقال بيد أن في الدلالة على المحذوف خفاء فإن لم يلصق بقلبك لذلك فالأقوال بين يديك ولا حجر عليك.
وكأني بك تختار ما نقل عن السيرافي ولا بأس به، وجوز على بعض الأقوال أن يكون الضمير في * (أنهم) * عائدا على من أسند إليه يروا وفي * (إليهم) * عائدا على المهلكين، والمعنى أن الباقين لا يرجعون إلى المهلكين ينسب ولا ولادة أي أهلكناهم وقطعنا نسلهم والاهلاك مع قطع النسل أتم وأعم، ويحسن هذا على الوجه المحكى عن السيرافي. وقرأ ابن عباس. والحسن * (إنه) * بكسر الهمزة على الاستئناف وقطع الجملة عما قبلها من جهة الإعراب. وقرأ عبد الله * (ألم يروا من أهلكنا فإنهم) * الخ على قراءة الفتح بدل اشتمال، ورد بالآية على القائلين بالرجعة كما ذهب إليه الشيعة.
5

وأخرج عبد بن حميد. وابن المنذر عن أبي إسحق قال: قيل لابن عباس أن ناسا يزعمون أن عليا كرم الله تعالى وجهه مبعوث قبل يوم القيامة؟ فسكت ساعة ثم قال: يئس القوم نحن إن نكحنا نساءه واقتسمنا ميراثه أما تقرؤون * (ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون) *.
* (وإن كل لما جميع لدينا محضرون) *.
* (وإن كل لما جميع لدينا محضرون) * بيان لرجوع الكل إلى المحشر بعد بيان عدم الرجوع إلى الدنيا و * (إن) * نافية و * (كل) * مبتدأ وتنوينه عوض عن المضاف إليه، و * (لما) * بمعنى إلا ومجيئها بهذا المعنى ثابت في " لسان العرب " بنقل الثقات فلا يلتفت إلى زعم الكسائي أنه لا يعرف ذلك. وقال أبو عبد الله الرازي: وفي كونها بهذا المعنى معنى مناسب وهو أنها كأنها حرفا نفي أكد أولهما بثانيهما وهما لم وما وكذلك إلا كأنها حرفا نفي وهما إن النافية ولا فاستعمل أحدهما مكان الآخر، وهو عندي ضرب من الوساوس و * (جميع) * خبر المبتدأ وهو فعيل بمعنى مفعول فيفيد ما لا تفيده * (كل) * لأنها تفيد إحاطة الأفراد وهذا يفيد اجتماعها وانضمام بعضها إلى بعض و * (لدينا) * ظرف له أو لمحضرون و * (محضرون) * خبر ثان أو نعت وجمع على المعنى، والمعنى ما كلهم إلا مجموعون لدينا محضرون للحساب والجزاء.
وقال ابن سلام: محضرون أي معذبون فكل عبارة عن الكفرة، ويجوز أن يراد به هذا المعنى على الأول.
وفي الآية تنبيه على أن المهلك لا يترك. وقرأ جمع من السبعة * (لما) * بالتخفيف على أن إن مخففة من الثقيلة واللا فارقة وما مزيدة للتأكيد والمعنى أن الشأن كلهم مجموعون الخ وهذا مذهب البصريين، وذهب الكوفيون إلى أن إن نافية واللام بمعنى إلا وما مزيدة والمعنى كما في قراءة التشديد.
* (وءاية لهم الارض الميتة أحيين‍اها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون) *.
* (وءعاية لهم الأرض الميتة) * بالتخفيف وقرأ نافع بالتشديد، و * (آية) * خبر مقدم للاهتمام وتنكيرها للتفخيم و * (لهم) * إما متعلق بها لأنها بمعنى العلامة أو متعلق بمضمر هو صفة لها وضمير الجمع لكفار أهل مكة ومن يجري مجراهم في إنكار الحشر، و * (الأرض) * مبتدأ و * (الميتة) * صفتها، وقوله تعالى: * (أحييناها) * استئناف مبين لكيفية كونها آية، وقيل في موضع الحال والعامل فيها آية لما فيها من معنى الاعلام وهو تكلف ركيك، وقيل * (آية) * مبتدأ أول و * (لهم) * صفتها أو متعلق بها وكل من الأمرين مسوغ للابتداء بالنكرة و * (الأرض الميتة) * مبتدأ ثان وصفة وجملة * (أحييناها) * خبر المبتدأ الثاني وجملة المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول ولكونها عين المبتدأ كخبر ضمير الشأن لم تحتج لرابط، قال الخفاجي: وهذا حسن جدا إلا أن النحاة لم يصرحوا به في غير ضمير الشأن، وقيل إنها مؤولة بمدلول هذا القول فلذا لم يحتج لذلك ولا يخفى بعده، وقيل * (آية) * مبتدأ و * (الأرض) * خبره وجملة * (أحييناها) * صفة الأرض لأنها لم يرد بها أرض معينة بل الجنس فلا يلزم توصيف المعرفة بالجملة التي هي في حكم النكرة، ونظير ذلك قوله:
ولقد أمر على اللئيم يسبني * فمضيت ثمت قلت لا يعنيني
وأنكر جواز ذلك أبو حيان مخالفا للزمخشري. وابن مالك في التسهيل وجعل جملة يسبني حالا من اللئيم، وأنت تعلم أن المعنى على استمرار مروره على من يسبه وإغماضه عنه ولهذا قال: أمر وعطف عليه فمضيت والتقييد بالحال لا يؤذي هذا المؤدي، ثم إن مدار الخبرية إرادة الجنس فليس هناك أخبار بالمعرفة عن النكرة ليكون مخالفا للقواعد كما قيل نعم أرجح الأوجه ما قرر أولا وقد مر المراد بموت الأرض وأحيائها فتذكر.
* (وأخرجنا منها حبا) * أي جنس الحب من الحنطة والشعير والأرز وغيرها، والنكرة قد تعم كما إذا كانت
6

في سياق الامتنان أو نحوه، وفي ذكر الإخراج وكذا الجعل الآتي تنبيه على كمال الإحياء * (فمنه) * أي من الحب بعد إخراجنا إياه، والفاء داخلة على المسبب ومن ابتدائية أو تبعيضية والجار والمجرور متعالق بقوله تعالى * (يأكلون) * والتقديم للدلالة على أن الحب معظم ما يؤكل ويعاش به لما في ذلك من إيهام الحصر للاهتمام به حتى كأنه لا مأكول غيره.
* (وجعلنا فيها جن‍ات من نخيل وأعن‍ابوفجرنا فيها من العيون) *.
* (وجعلنا فيها جنات من نخيل) * جمع نخل كعبيد جمع عبد كما ذهب إليه أكثر الأئمة وصرح به في القاموس، وقيل اسم جمع، وقال الجوهري: النخل والنخيل بمعنى واحد وعلى الأول المعول * (وأعناب) * جمع عنب ويقال على الكرم نفسه وعلى ثمرته كما قال الراغب: ولعله مشترك فيهما، وقيل حقيقة في الثمرة مجاز في الشجرة، وأيا ما كان فالمراد الأول بقرينة العطف على النخيل، وجمعا دون الحب قيل لتدل الجمعية على تعدد الأنواع أي من أنواع النخل وأنواع العنب وذلك لأن النخل والعنب اسمان لنوعين فكل منهما مقول على افراد حقيقة واحدة فلا يدلان على اختلاف ما تحتهما وتعدد أنواعه إلا إذا عبر عنهما بلفظ الجمع بخلاف الحب فإنه اسم جنس وهو يشعر باختلاف ما تحته لأنه المقول على كثرة مختلفة الحقائق قولا ذاتيا فلا يحتاج في الدلالة على الاختلاف إلى الجمعية، وقولهم جمع العالم في قوله تعالى: * (الحمد لله رب العالمين) * (الفاتحة: 2) وهو اسم جنس ليشمل ما تحته من الأجناس لا ينافي ذلك قيل لأن المراد ليشمل شمولا ظاهرا متعينا وان حصل الاشعار بدونه، وقيل جمعا للدلالة على مزيد النعمة، وأما الحب ففيه قوام البدن وهو حاصل بالجنس.
وامتن عز وجل في معرض الاستدلال على أمر الحشر بجعل الجنات من النخيل والأعناب المراد بها الأشجار ولم يمتن سبحانه وتعالى بجعل ثمرات تلك الأشجار من التمر والعنب كما امتن جل جلاله بإخراج الحب أعظاما للمنة لتضمن ذلك الامتنان بالثمار وغيرها من منافع تلك الأشجار أنفسها بسائر أجزائها للإنسان نفسه بلا واسطة لا سيما النخيل ولا دلالة في الكلام على حصر ثمر الجعل بأكل الثمرة، وثمرة التنصيص على ذلك من بين المنافع ظاهرة وهذا بخلاف أشجار الحبوب فإنها ليست بهذه المثابة ولذا غير الأسلوب ولم يعامل ثمر ذلك معاملة الحبوب وكلام البيضاوي عليه الرحمة ظاهر في أن المراد بالأعناب الثمار المعروفة لا الكروم وعلل ذكر النخيل دون ثمارها مع أنه الأوفق بما قبل وما بعد باختصاصها بمزيد النفع وآثار الصنع وتفسبر الأعناب بالثمار دون الكروم بعيد عندي لمكان العطف مع أن الجار والمجرور في موضع الصفة لجنات، والمعروف كونها من أشجار لا من ثمار.
قال الراغب: الجنة كل بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض، وقد تسمى الأشجار الساترة جنة وعلى ذلك حمل قوله: من النواضح تسقى جنة سحقا
على أن في الآية بعد ما يؤيد إرادة الثمار فتدبر. * (وفجرنا فيها) * أي شققنا في الأرض. وقرأ جناح بن حبيش * (فجرنا) * بالتخفيف والمعنى واحد بيد أن المشدد دال على المبالغة والتكثير * (من العيون) * أي شيئا من العيون على أن الجار والمجرور في موضع الصفة لمحذوف، ومن بيانية وجوز كونها تبعيضية وليس بذاك، وقيل المفعول محذوف و * (من العيون) * متعلق بفجر ومن ابتدائية على معنى فجرنا من المنابع ما ينتفع به من الماء، وذهب الأخفش إلى زيادة من وجعل العيون مفعول فجرنا لأنه يرى جواز زيادتها في الإثبات مع تعريف مجرورها.
* (ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون) *.
* (ليأكلوا من ثمره) * متعلق بجعلنا
7

وتأخيره عن تفجير العيون لأنه من مبادىء الثمر أي وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب ورتبنا مبادىء ثمرها ليأكلوا، وضمير ثمره عائد على المجعول وهو الجنات ولذا أفرد وذكر ولم يقل من ثمرها أي الجنات أو من ثمرهما أي النخيل والأعناب، ومثله ما قيل عائد على المذكور والضمير قد يجري مجرى اسم الإشارة كما في قول رؤبة:
فيها خطوط من سواد وبلق * كأنه في الجلد توليع البهق
فإنه أراد كما قال لأبي عبيدة وقد ساله كأنه ذاك، وقيل عائد على الماء لدلالة العيون عليه أو لكون الكلام على حذف مضاف أي ماء العيون، وقيل على النخيل واكتفى به للعلم باشتراك الأعناب معه في ذلك، وقيل على التفجير المفهوم من * (فجرنا) * والمرادبثمره فوائده كما تقول ثمرة التجارة الريح أو هو ظاهره والإضافة لأدنى ملابسة والكل كما ترى، وجوز أن يكون الضمير له عز وجل وإضافة الثمر إليه تعالى لأنه سبحانه خالقه فكأنه قيل: ليأكلوا مما خلقه الله تعالى من الثمر. وكان الظاهر من ثمرنا لضمير العظمة على قياس ما تقدم إلا أنه التفت من التكلم إلى الغيبة لأن الأكل والتعيش مما يشغل عن الله تعالى فيناسب الغيبة فالالتفات في موقعه.
وزعم بعضهم أن هذا ليس من مظانه لأنه أولى بضمير الواحد المطاع لأنه المقصود بالإحياء والجعل والتفجير وقد أسندت إليه. ورد بأن ما سبق أفخم لأنها أفعال عامة النفع ظاهرة في كمال القدرة والثمر أحط مرتبة من الحب ولذا لم يورد على سبيل الاختصاص فلا يستحق ذلك التفخيم كيف وقد جعل بعضهم الثمر خلق الله تعالى وكماله بفعل الآدمي، وبما تقدم يستغني عما ذكر. وقرأ طلحة. وابن وثاب. وحمزة. والكسائي * (من ثمره) * بضمتين وهي لغة فيه أو هو جمع ثمار.
وقرأ الأعمش * (من ثمره) * بضم فسكون * (وما عملته أيديهم) * * (ما) * موصولة في محل جر عطف على * (ثمره) * وجعله في محل نصب عطفا على محل * (من ثمره) * خلاف الظاهر أي وليأكلوا من الذي عملوه أو صنعوه بقواهم، والمراد به ما يتخذ من الثمر كالعصير والدبس وغيرهما، وقال الزمخشري: أي من الذي عملته أيديهم بالغرس والسقي والآبار وليس بذاك، وجوز أن تكون ما نكرة موصوفة أي ومن شيء عملته أيديهم والأول أظهر، وقيل: ما نافية وضمير * (عملته) * راجع إلى الثمر والجملة في موضع الحال، والمراد من نغي عمل أيديهم إياه أنه بخلق الله تعالى لا بفعلهم ولا تقول المشايخ بالتوليد، وروي القول بأنها نافية عن ابن عباس. والضحاك، وظاهر كلام الحبر أن الضمير راجع إلى شيئا الموصوف المحذوف والجملة حال منه، فقد روى سعيد بن منصور. وابن المنذر عنه أنه قال: وجدوه معمولا لم تعمله أيديهم يعني الفرات ودجلة ونهر بلخ وأشباهها وفيه بعد. وأيد القول بالموصولية بقراءة طلحة. وعيسى. وحمزة. والكسائي. وأبي بكر * (وما علمت) * بلا هاء، ووجه التأييد أن الموصول مع الصلة كاسم واحد فيحسن معه لاستطالته ولاقتضائه إياه ودلالته عليه يكون كالمذكور، وتقدير اسم ظاهر غير
ظاهر، وقال الطيبي: جعلها نافية أولى من جعلها موصولة لئلا يوهم استقلالهم بالعمل لأن ذكر الأيدي للتأكيد في هذا المقام كما في قوله تعالى: * (أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما) * لأن التركيب من باب أخذته بيدي ورأيته بعيني وحينئذ لا يناسب أن يكون قوله تعالى: * (أحييناها) * الخ تفسيرا لكون الأرض الميتة آية. وتعقبه في الكشف بأنه ليس بشيء لأن
8

العمل من العباد بمعنى الكسب وقد جاء بما قدمت أيديكم وبما قدمت يداك فهذا التأكيد دافع للإيهام انتهى فلا تغفل.
وجوز على هذه القراءة كون ما مصدرية أي وعمل أيديهم ويراد بالمصدر اسم المفعول أي معمول أيديهم فيعود إلى معنى الموصولة ولا يخفى ما فيه * (أفلا يشكرون) * إنكارا واستقباح لعدم شركهم للمنعم بالنعم المعدودة بالتوحيد والعبادة، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أيرون هذه النعم أو أيتنعمون بها فلا يشكرون المنعم بها.
* (سبح‍ان الذى خلق الازواج كلها مما تنبت الارض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون) *.
* (سبحان الذي خلق الأزواج كلها) * استئناف مسوق لتنزيهه تعالى عما فعلوه من ترك شكره عز وجل واستعظام ما ذكر في حيز الصلة من بدائع آثار قدرته وأسرار حكمته وروائع نعمائه الموجبة لشكره تعالى وتخصيص العبادة به سبحانه والتعجيب من إخلالهم بذلك والحال هذه، وقد تقدم الكلام في * (سبحان) *. وفي الإرشاد هنا أنه علم للتسبيح الذي هو التبعيد عن السوء اعتقادا وقولا أي اعتقاد البعد عنه والحكم به من سبح في الأرض والماء إذا بعد فيهما وأمعن وانتصابه على المصدري أي أسبح سبحانه أي أنزهه عمالا يليق به عقدا وعملا تنزيها خاصا به حقيقا بشأنه عز شأنه، وفيه مبالغة من جهة الاشتقاق وجهة العدول إلى التفعيل وجهة العدول عن المصدر الدار على الجنس إلى الاسم الموضوع له خاصة لا سيما العلم وجهة إقامته مقام المصدر مع الفعل، وقيل: هو مصدر كغفران أريد به التنزه التام والتباعد الكلي عن السوء ففيه مبالغة من جهة إسناد التنزه إلى الذات المقدس فالمعنى تنزه بذاته عن كل ما لا يليق به تعالى تنزها خاصا به سبحانه، فالجملة على هذا إخبار منه تعالى بتنزهه وبراءته عن كل ما لا يليق به مما فعلوه وما تركوه؛ وعلى الأول حكم منه عز وجل بذلك وتلقين للمؤمنين أن يقولوه ويعتقدوا مضمونه ولا يخلو به ولا يغفلوا عنه. وقدر بعضهم الفعل الناصب أمرا أي سبحوا سبحان، والمراد بالأزواج الأنواع والأصناف، وقال الراغب: الأزواج جمع زوج ويقال لكل واحد من القرينين ولكل ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادا وكل ما في العالم زوج من حيث أن له ضدا ما أو مثلا ما أو تركيبا ما بل لا ينفعك بوجه من تركيب صورة ومادة وجوهر وعرض.
* (مما تنبت الأرض) * بيان للأزواج والمراد به كل ما ينبت فيها من الأشياء المذكورة وغيرها * (ومن أنفسهم) * أي وخلق الأزواج من أنفسهم أي الذكر والأنثى * (ومما لا يعلمون) * أي والأزواج مما لم يطلعهم الله تعالى ولم يجعل لهم طريقا إلى معرفته بخصوصياته وإنما اطلعهم سبحانه على ذلك بطريق الإجمال على منهاج * (ويخلق ما لا تعلمون) * لما نيط به وقوفهم على عظم قدرته وسعة ملكه وجلاله سلطانه عز وجل، ولعله لما كان العلم من أخص صفات الربوبية لم يثبت على وجه الكمال والإحاطة لأحد سواه سبحانه ولو كان بطريق الفيض منه تبارك وتعالى على أن ظرف الممكن يضيق عن الإحاطة فما يجهله كل أحد أكثر مما يعلمه بكثير، وقد يقال على بعض الاعتبارات: إن ما يعلمه كل أحد متناه وما يجهله غير متناه ولا نسبة بين المتناهي وغير المتناهي أصلا فلا نسبة بين معلوم كل أحد ومجهوله، وتأمل في هذا مع دعوى بعض الأكابر الوقوف على الأعيان الثابتة والإطلاع عليها وقل رب زدني علما.
* (سبح‍ان الذى خلق الازواج كلها مما تنبت الارض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون) *.
* (وءاية لهم الليل) * بيان لقدرته تعالى الباهرة في الزمان بعدما بينها سبحانه في المكان، و * (آية) * خبر مقدم و * (الليل) * مبتدأ مؤخر وقوله تعالى: * (نسلخ منه النهار) * استئناف لبيان كونه آية، وفي التركيب احتمالات أخر تعلم مما مر إلا أن الأرجح ما ذكر أي نكشف ونزيل الضوء من مكان الليل وموضع إلقاء ظله وظلمته وهو الهواء
9

فالنهار عبارة عن الضوء إما على التجوز أو على حذف المضاف، وقوله تعالى: * (منه) * على حذف مضاف وذلك لأن النهار والليل عبارتان عن زمان كون الشمس فوق الأفق وتحته ولا معنى لكشف أحدهما عن الآخر وأصل السلخ كشط الجلد نحو الشاة فاستعير لكشف الضوء عن مكان الليل وملقى ظلمته وظله استعارة تبعية مصرحة والجامع ما يعقل من ترتب أمر على آخر فإنه يترتب ظهور اللحم على كشط الجلد وظهور الظلمة على كشف الضوء عن مكان الليل، وجوز أن يكون في النهار استعارة مكنية وفي السلخ استعارة تخييلية والجمهور على ما ذكرنا ومن ابتدائية، وقيل: تبعيضية وجعلها سببية ليس بشيء، وهذا التفسير محكي عن الفراء ونحوه تفسير السلخ بالنزع، واستعمال الفاء في قوله تعالى: * (فإذا هم مظلمون) * أي داخلون في الظلام كما يفيده همزة الأفعال عليه ظاهر، ووقع في عبارة الشيخ عبد القاهر والإمام السكاكي أن المستعار له في الآية ظهور النهار من ظلمة الليل والمستعار منه ظهور المسلوخ من جلده وذلك على ما قال العلامة الطيبي والفاضل اليمني مأخوذ من قول الزجاج معنى نسلخ منه النهار نخرج منه النهار إخراجا لا يبقى معه شيء من ضوئه فالظهور في عبارتهما بمعنى الخروج وهو يتعدى بمن فلا حاجة إلى جعلها بمعنى عن.
وقد جاء بهذا المعنى كما في قول عمر لأبي عبيدة رضي الله تعالى عنهما اظهر بمن معك من المسلمين إليها أي الأرض يعني أخرج إلى ظاهرها، وفي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها كان صلى الله عليه وسلم يصلي العصر ولم يظهر الفيء بعد من الحجرة أي لم يخرج إلى ظاهرها فسقط ما أورد عليه من أنه لو أريد الظهور لقيل * (فإذا هم مبصرون) * ولم يقل * (فإذا هم مظلمون) * لأن الواقع عقيب ظهور النهار من ظلمة الليل إنما هو الإبصار لا الأظلام من غير حاجة إلى حمل العبارة
على القلب أي ظهور ظلمة الليل من النهار، وبعضهم رفع هذا الإيراد بأن النهار عبارة عن مجموع المدة من طلوع الفجر أو الشمس إلى الغروب لا عن بعضها فالواقع عقيب هذه المدة كلها الدخول في الظلام. وتعبه السالكوتي بأن الدخول في الظلام مترتب على السلخ لا على انقضاء مدة النهار.
ولعل مراد البعض أن السلخ بمعنى ظهور النهار لا يتحقق إلا بظهور كل أجزائه ومتى ظهرت أجزاء النهار كلها انقضت مدته، وذكر العلامة القطب أن السلخ قد يكون بمعنى النزع نحو سلختا الأهاب عن الشاة وقد يكون بمعنى الإخراج نحو سلخت الشاة من الأهاب والشاة مسلوخة فذهب الشيخ عبد القاهر والسكاكي إلى الثاني وغيرهما إلى الأول فاستعمال الفاء في * (فاذاهم) * ظاهر على قول الغير وأما على قولهما فإنما يصح من جهة أنها موضوعة لما يعد في العادة مرتبا غير متراخ وهذا يختلف باختلاف الأمور والعادات فقد يطول الزمان والعادة في مثله تقتضي عدم اعتبار المهلة وقد يكون بالعكس كما في هذه الآية فإن زمان النهار وإن توسط بين إخراج النهار من الليل وبين دخول الظلام لكن لعظم دخول الظلام بعد إضاءة النهار وكونه مما ينبغي أن لا يحصل إلا في أضعاف ذلك الزمان عد الزمان قريبا وجعل الليل كأنه يفاجئهم عقيب إخراج النهار من الليل بلا مهلة.
ثم لا يخفى أن إذا المفاجأة إنما تصح إذا جعل السلخ بمعنى الإخراج كما يقال: أخرج النهار من الليل ففاجأه دخول الليل فإنه مستقيم بخلاف ما إذا جعل بمعنى النزع فإنه لا يستقيم أن يقال: نزع ضوء الشمس عن الهواء ففاجأه الظلام كما لا يستقيم أن يقال كسرت الكوز ففاجأه الانكسار لأن دخولهم في الظلام عين حصول الظلام فيكون نسبة دخولهم في الظلام إلى نزع ضوء النهار كنسبة الانكسار إلى الكسر فلهذا جعلا السلخ
10

بمعنى الإخراج دون النزع اه‍ كلامه، وقواه العلامة الثاني بأنه لا شك أن الشيء إنما يكون آية إذا اشتمل على نوع استغراب واستعجاب بحيث يفتقر إلى نوع اقتدار وذلك إنما هو مفاجأة الظلام عقيب ظهور النهار لا عقيب زوال ضوء النهار.
وقال السالكوتي: إن عدم استقامة المفاجأة فيما ذكر لأنها إنما تتصور فيما لا يكون مترقبا بل يحصل بغتة وحينئذ يمكن أن يقال في الجواب: إن نزع الضوء عن الليل لكون ظهوره في غاية الكمال كان المترقب فيه أن يكون في مدة مديدة فحصول الظلال بعده في مدة قصيرة أمر غير مترقب ثم قال وبهذا ظهر الجواب عن التقوية، وقيل إن الظلمة لكونها مما تنفر عنها الطباع وتركهها النفوس يكون حصولها كأنه غير مترتقب ويكفي نفس السلخ في الدلالة على الاقتدار، والذي يقتضيه ما سبق عن الطيبي واليمني أن الشيخ والسكاكي أرادا إخراج النهار من الليل إخراجا لا يبقى معه شيء من ضوئه كما قال الزجاج، ومآله إزالة ضوء النهار من مكان الليل وموضع ظلمته كما قال الفراء، وجاء في كلامهم الظهور بمعنى الزوال كما في قول أبي ذؤيب: وعيرها الواشون أنى أحبها * وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
وحكى الجوهري. يقال هذا أمر ظاهر عنك عاره أي زائل. وقال المرزوقي في قول الحماسي: وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر
أيضا كذلك فلا مانع من أن يكون في كلام الشيخين بهذا المعنى ويراد بالظهور الإظهار، والتعبير به مساهلة لظهور أن نسلخ متعد فيرجع الأمر إلى الأزالة فيتحد كلامهما بما قاله الفراء وكذا على ما قيل المراد بالظهور الخروج على وجه المفارقة لظهور الزوال فيه حينئذ وأمر المساهلة على حاله، وعلى القول بالاتحاد يجيء اعتراض العلامة والجواب هو الجواب فتأمل والله تعالى الهادي إلى الصواب.
وفي الآية على ما قال غير واحد دلالة على أن الأصل الظلمة والنور طارىء عليها يسترها بضوئه وفي الحديث ما يشعر بذلك أيضا، روى الإمام أحمد. والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من نور اهتدى ومن أخطأه ضل ".
* (والشمس تجرى لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم) *.
* (والشمس) * عطف على * (الليل) * أي وآية لهم الشمس.
وقوله تعالى: * (تجري) * الخ استئناف لبيان كونها آية، وقيل: * (الشمس) * مبتدأ وما بعده خبر والجملة عطف على * (الليل نسلخ) * وقيل غير ذلك فلا تغفل، والجري المر السريع، وأصله لمر الماء ولما يجري بجريه والمعنى تسير سريعا * (لمستقر لها) * لحد معين تنتهي إليه من فلكها في آخر السنة شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره من حيث أن في كل انتهاء إلى محل معين وإن كان للمسافر قرار دونها، وروى هذا عن الكلبي واختاره ابن قتيبة، والمستقر عليه اسم مكان واللام بمعنى إلى وقرىء بها بدل اللام، وجوز أن تكون تعليلية أو لمنتهى لها من المشارق اليومية والمغارب لأنها تتقصاها مشرقا مشرقا ومغربا مغربا حتى تبلغ أقصاها ثم ترجع فذلك حدها ومستقرها لأنها لا تعدوه.
وروى هذا عن الحسن وهو متفق في أن المستقر اسم مكان واللام على ما سمعت، ومختلف باعتبار أن الأول من استقرار المسافر تشبيها لانتهاء الدورة بانتهاء السفرة وهذا باعتبار مقنطرات الارتفاع وبلوغ
11

أقصاها ومقنطرات الانخفاض كذلك والاستقرار باعتبار عدم التجاوز عن الأول في استقصاء المشارق وعن الثاني في استقصاء المغارب أو لحد لها من مسيرها كل يوم في رأي عيوننا وهو المغرب، والمستقر عليه اسم مكان أيضا واللام كما سمعت أو لكبد السماء ودائرة نصف النهار فالمستقر واللام على نظير ما تقدم.
وكون ذلك محل قرارها إما مجاز عن الحركة البطيئة أو هو باعتبار ما يتراىء؛ قال ذو الرمة يصف فرسه وجريه في الظهيرة وشدة الحر:
معروريا رمض الرضراض تركضه * والشمس حيرى لها بالجو تدويم
أو لاستقرار لها ومكث في كل برج من البروج الإثني عشر على نهج مخصوص فالمستقر مصدر ميمي واللام داخلة على الغاية أو الحامل، وقيل: تجري لبيتها وهو
برج الأسد، واستقرارها عبارة عن حسن حالها فيه، وهذا غير مقبول إلا عند أهل الأحكام ولا يخفى حكمهم على محققي الإسلام، وقال قتادة. ومقاتل المعنى تجري إلى وقت لها لا تتعداه، قال الواحدي: وعلى هذا مستقرها انتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا وهذا اختيار الزجاج كما قال النووي: في " شرح صحيح مسلم "، ومستقر عليه اسم زمان وفي غير واحد من الصحاح عن أبي ذر أتدري أين تذهب هذه الشمس؟ قلت الله تعالى ورسوله أعلم قال: تذهب لتسجد فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها فيقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله عز وجل: * (والشمس تجري لمستقر لها) * وفي رواية أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قالوا: الله تعالى ورسوله أعلم قال إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها وتحت العرش فتخر ساجدة الحديث وفي ذلك عدة رواسات وقد روى مختصرا جدا.
وأخرج أحمد. والبخاري. ومسلم. وأبو داود. والترمذي. والنسائي. وابن أبي حاتم. وأبو الشيخ وابن مردويه. والبيهقي عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: * (والشمس تجري لمستقر لها) * قال مستقرها تحت العرش فالمستقر اسم مكان والظاهر أن للشمس فيه قرارا حقيقة، قال النووي: قال جماعة بظاهر الحديث، قال الواحدي: وعلى هذا القول إذا غربت الشمس كل يوم استقرت تحت العرش إلى أن تطلع، ثم قال النووي: وسجودها بتمييز وإدراك يخلقه الله تعالى فيها.
وذكر ابن حجر الهيتمي في " فتيه الحديثية " أن يسجودها تحت العرش إنما هو عند غروبها وحكى فيها عن بعضهم أنها تطلع من حيث جئت فتنزل من سماء إلى سماء حتى تطلع من المشرق وبنزولها إلى سماء الدنيا يطلع الفجر، وفيها أيضا أخرج أبو الشيخ عن عكرمة أنها إذا غربت دخلت نهرا تحت العرش فتسبح ربها حتى إذا أصبحت استعفت ربها عن الخروج فيقول سبحانه لم فتقول أنى إذا خرجت عبدت من دونك، والسجود تحت العرش قد جاء أيضا من روايات الإمامية ولهم في ذلك أخبار عجيبة منها أن الشمس عليها سبعون ألف كلاب وكل كلاب يجره سبعون ألف ملك من مشرقها إلى مغربها ثم ينزعون منها النور فتخر ساجدة تحت العرش ثم يسألون
12

ربهم هل نلبسها لباس النور أم لا؟ فيجابون بما يريده سبحانه ثم يسألونه عز وجل هل نطلعها من مشرقها أو مغربها؟ فيأتيهم النداء بما يريد جل شأنه ثم يسألون عن مقدار الضوء فيأتيهم النداء بما يحتاج إليه الخلق من قصر النهار وطوله.
وفي الهيئة السنية للجلال السيوطي أخبار من هذا القبيل والصحيح من الإخبار قليل، وليس لي على صحة إخبار الإمامية وأكثر ما في الهيئة السنية تعويل نعم ما تقدم عن أبي ذر مما لا كلام في صحته وماذا يقال في أبي ذر وصدق لهجته، والأمر في ذلك مشكل إذا كان السجود والاستقرار كل ليلة تحت العرش سواء قيل إنها تطلع من سماء إلى سماء حتى تصل إليه فتسجد أن قيل إنها تستقر وتسجد تحته من غير طلوع فقد صرح إمام الحرمين وغيره بأنه لا خلاف في أنها تغرب عند قوم وتطلع على آخرين والليل يطول عند قوم ويقصر عند آخرين وبين الليل والنهار اختلاف ما في الطول والقصر عند خط الاستواء، وفي بلاد بلغار قد يطلع الفجر قبل أن يغيب شفق الغروب، وفي عرض تسعين لا تزال طالعة ما دامت في البروج الشمالي وغاربة ما دامت في البروج الجنوبية فالسنة نصفها ليل ونصفها نهار على ما فصل في موضعه، والأدلة قائمة على أنها لا تسكن عند غروبها وإلا لكانت ساكنة عند طلوعها بناء على أن غروبها في أفق طلوع في غيره، وأيضا هي قائمة على أنها لا تفارق فلكها فكيف تطلع من سماء إلى سماء حتى تصل إلى العرش بل كون الأمر ليس كذلك أظهر من الشمس لا يحتاج إلى بيان أصلا وكذا كونها تحت العرش دائما بمعنى احتوائه عليها وكونها في جوفه كسائر الأفلاك التي فوق فلكها والتي تحته وقد سألت كثيرا من أجلة المعاصرين عن التوفيق بين ما سمعت من الأخبار الصحيحة وبين ما يقتضي خلافها من العيان والبرهان فلم أوفق لأن أفوز منهم بما يروي الغليل ويشفي العليل، والذي يخطر بالبال في حل ذلك الإشكال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال أن الشمس وكذا سائر الكواكب مدركة عاقلة كما ينبىء عن ذلك قوله تعالى الآتي: * (كل في فلك يسبحون) * حيث جيء بالفعل مسندا إلى ضمير جمع العقلاء وقوله تعالى: * (إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) * (يوسف: 4) لنحو ما ذكر يدل وعليه ظاهر ما روى عن أبي ذر من أنها تسجد وتستأذن فإن المتبادر من الاستئذان ما يكون بلسان القال دون لسان الحال.
وخلق الله تعالى الإدراك والتمييز فيها حال السجود والاستئذان ثم سلبه عنها مما لا حاجة إلى التزامه بل هو بعيد غاية البعد والشواهد من الكتاب والسنة وكلام العترة على كونها ذات إدراك وتمييز مما لا تكاد تحصى كثرة وبعض يدل على ثبوت ذلك لها بالخصوص وبعضها يدل على ثبوته لها باعتبار دخولها في العموم أو بالمقايسة إذ لا قائل بالفرق ومتى كانت كذلك فلا يبعد أن يكون لها نفس ناطقة كنفس الإنسان بل صرح بعض الصوفية بكونها ذات نفس ناطقة كاملة جدا، والحكماء أثبتوا النفس للفلك وصرح بعضهم بإثباتها للكواكب أيضا وقالوا: كل ما في العالم العلوي من الكواكب والأفلاك الكلية والجزئية والتداوير حي ناطق والأنفس الناطقة الإنسانية إذا كانت قدسية قد تنسلخ عن الأبدان وتذهب متمثلة ظاهرة بصور أبدانها أو بصور أخرى كما يتمثل جبريل عليه السلام ويظهر بصورة دحية أو بصورة بعض الأعراب كما جاء في " صحيح الأخبار " حيث يشاء الله عز وجل مع بقاء نوع تعلق لها بالأبدان الأصلية يتأتى معه صدور الأفعال منها كما يحكى عن بعض الأولياء قدست أسرارهم أنهم يرون في وقت واحد في عدة مواضع وما ذاك إلا لقوة تجرد أنفسهم وغاية تقدسها فتمثل وتظهر في موضع وبدنها الأصلي في موضع آخر.
13

لا تقل دارها بشرقي نجد * كل نجد للعامرية دار
وهذا أمر مقرر عند السادة الصوفية مشهور فيما بينهم وهو غير طي المسافة وإنكار من ينكر كلا منهما عليهم مكابرة لا تصدر إلا من جاهل أو معاند، وقد عجب العلامة التفتازاني من بعض فقهاء أهل السنة أي كابن مقاتل حيث حكم بالكفر على معتقد ما روى عن إبراهيم بن أدهم قدس سره أنهم رأوه بالبصرة يوم التروية ورؤي ذلك اليوم بمكة، ومبناه زعم أن ذلك من جنس المعجزات الكبار وهو مما لا يثبت كرامة لولي وأنت تعلم أن المعتمد عندنا جواز ثبوت الكرامة للولي مطلقا إلا فيما يثبت بالدليل
عدم إمكانه كالإتيان بسورة مثل إحدى سور القرآن، وقد أثبت غير واحد تمثل النفس وتطورها لنبينا صلى الله عليه وسلم بعد الوفاة وادعى أنه عليه الصلاة والسلام قد يرى في عدة مواضع في وقت واحد مع كونه في قبره الشريف يصلي، وقد تقدم الكلام مستوفي في ذلك، وصح أنه صلى الله عليه وسلم رأى موسى عليه السلام يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر ورآه في السماء وجرى بينهما ما جرى في أمر الصلوات المفروضة، وكونه عليه السلام عرج إلى السماء بجسده الذي كان في القبر بعد أن رآه النبي صلى الله عليه وسلم مما لم يقله أحد جزما والقول به احتمال بعيد، وقد رأى صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به جماعة من الأنبياء غير موسى عليه السلام في السموات مع أن قبورهم في الأرض ولم يقل أحد إنهم نقلوا منها إليها على قياس ما سمعت آنفا، وليس ذلك مما ادعى الحكميون استحالته من شغل النفس الواحدة أكثر من بدن واحد بل هو أمر وراءه كما لا يخفى على من نور الله تعالى تعالى بصيرته فيمكن أن يقال: إن للشمس نفسا مثل تلك الأنفس القدسية وأنها تنسلخ عن الجرم المشاهد المعروف مع بقاء نوع من التعلق لها به فتعرج إلى العرش فتسجد تحته بلا واسطة وتستقر هناك وتستأذن ولا ينافي ذلك سير هذا الجرم المعروف وعدم سكونه حسبما يدعيه أهل الهيئة وغيرهم ويكون ذلك إذا غربت ولجاوزت الأفق الحقيقي وانقطعت رؤية سكان المعمور من الأرض إياها ولا يضر فيه طلوعها إذ ذاك في عرض تسعين ونحوه لأن ما ذكرنا من كون السجود والسكون باعتبار النفس المنسلخة المتمثلة بما شاء الله تعالى لا ينافي سير الجرم المعروف بل لو كانا نصف النهار في خط الاستواء لم يضر أيضا، ويجوز أن يقال سجودها بعد غروبها عن أفق المدينة ولا يضر فيه كونها طالعة إذ ذاك في أفق آخر لما سمعت إلا أن الذي يغلب على الظن ما ذكر أولا، وعلى هذا الطرز يخرج ما يحكي أن الكعبة كانت تزور واحدا من الأولياء بأن يقال إن الكعبة حقيقة غير ما يعرفه العامة وهي باعتبار تلك الحقيقة تزور واحدا من الأولياء بأن يقال إن الكعبة حقيقة غير ما يعرفه العامة وهي باعتبار تلك الحقيقة تزول والناس يشاهدونها في مكانها أحجارا مبنية.
وقد ذكر الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات كلاما طويلا ظاهرا في أن لها حقيقة غير ما يعرفه العامة وفيه أنه كان بينه وبينها زمان مجاورته مراسلات وتوسلات ومعاتبة دائمة وأنه دون بعض ذلك في جزء سماه تاج الوسائل ومنهاج الرسائل وقد سأل نجم الدين عمر النسفي مفتي الإنس والجن عما يحكي أن الكعبة كانت تزور الخ هل يجوز القول به فقال: نقض العادة على سبيل الكرامة لأهل الولاية جائز عند أهل السنة وارتضاه العلامة السعد وغيره لكن لم أرض من خرج زيارتها على هذا الطرز، وظاهر كلام بعضهم أن ذلك بذهاب الجسم المشاهد منها إلى المزور وانتقاله من مكانه، ففي عدة الفتاوي والولوالجية وغيرهما لو ذهبت الكعبة لزيارة بعض الأولياء فالصلاة إلى هوائها، ويمكن أن يكون أريد به غير ما يحكى فإنه والله تعالى أعلم لم يكن بانتقال
14

الجسم المشاهد ثم الجمع بين الحديث في الشمس وبين ما يقتضيه الحس وكلام أهل الهيئة بهذا الوجه لم أره لأحد بيد أني رأيت في بعض مؤلفات عصرينا الرشتي رئيس الطائفة الإمامية الكشفية أن سجدة الشمس عند غروبها تحت العرش عبارة عن رفع الآنية ونزع جلباب الماهية وهو عندي نوع من الرطانة لا يفهمه من لا خبرة له باصطلاحاته ولو كان ذا فطانة: وقال في موضع آخر بعد أن ذكر حديث الكلاليب السابق إن ذلك لا ينافي كلام أهل الهيئة ولا بقدر سم الخياط ولم يبين وجه عدم المنافاة مع أنها أظهر من الشمس معتذرا بأن الكلام فيه طويل ولا أظنه لو كان آتيا به إلا من ذل القبيل، وهذا ما عندي فليتأمل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وقرأ عبد الله. وابن عباس. وزين العابدين. وابنه الباقر. وعكرمة. وعطاء بن أبي رباح * (لا مستقر لها) * بلا نافية للجنس وبناء * (مستقر) * على الفتح فتقتضي انتفاء كل مستقر حقيقي لجرمها المشاهد وذلك في الدنيا أي هي تجري في الدنيا دائما لا تستقر. وقرأ ابن أبي عبلة بلا أيضا إلا أنه رفع * (مستقر) * ونونه على إعمالها إعمال ليس كما في قوله:
تعز فلا شيء على الأرض باقيا * ولا وزر مما قضى الله واقيا
* (ذالك) * إشارة إلى الجري المفهوم من * (تجري) * أي ذلك الجري البديع الشأن المنطوي على الحكم الرائقة التي تحار في فهمها العقول والأذهان * (تقدير العزيز) * الغالب بقدرتها على كل مقدور * (العليم) * المحيط علمه بكل معلوم، وذكر بعضهم في حكمة جريها حتى تسجد كل ليلة تحت العرش ما يقتضيه الخبر السابق تجدد اكتساب النور من العرش ويترتب عليه في عال الطبيعة والعناصر ما يترتب وباكتسابها النور من العرش صرح به غير واحد، ومن العجيب ما ذكره الرشتي أنها تستمد النور من ظاهر العرش وتمد فلك القمر ومن باطن العرش وتمد فلك زحل وتستمد من ظاهر الكرسي وتمد فلك عطارد ومن باطنه وتمد فلك المشتري وتستمد من ظاهر تقاطع نقطتي المنطقتين وتمد فلك الزهرة ومن باطنه وتمد فلك المريخ، وليت شعري من أين استمد فقال ما قال وذلك مما لم نجد فيه نقلا ولا نظن أنه مر بخيال، وقال الشيخ الأكبر: قدس سره إن نور الشمس ما هو من حيث عينها بل هو من تجل دائم لها من اسمه تعالى النور ونور سائر السيارات من نورها وهو في الحقيقة من تجلي اسمه سبحانه النور فما ثم إلا نوره عز وجل.
وادعى كثير من أجلة المحققين أن نور جميع الكواكب ثوابتها وسياراتها مستفاد من ضوء الشمس وهو مفاض عليها من الفياض المطلق جل جلاله وعم نواله. وفي الآية رد على القائلين بأن الشمس ساكنة وهي مركز العالم والكواكب والأرض كرات دائرة عليها.
* (والقمر قدرن‍اه منازل حتى عاد ك العرجون القديم) *.
* (والقمر قدرناه) * أي صيرنا مسيره أي محله الذي يسير فيه * (منازل) * فقدر بمعنى صير الناصب لمفعولين والكلام على حذف مضاف والمضاف المحذوف مفعوله الأول و * (منازل) * مفعوله الثاني. واختار أبو حيان تقدير مصدر مضاف وقدر متعد إلى واحد و * (منازل) * منصوب على الظرفية أي قدرنا سيره في مناز وقدر بعضهم نورا أي قدرنا نوره في منازل فيزيد مقدار النور كل يوم في المنازل الاجتماعية وينقص في المنازل الاستقبالية لما أن نوره مستفاد من ضوء الشمس لاختلاف تشكلاته
15

بالقرب والبعد منها مع خسوفه بحيلولة الأرض بنيه وبنيها وبهذا يتم الاستدلال، والحق أنه لا قطع بذلك وليس هناك إلا غلبة الظن، ويجوز أن يكون قدر متعديا لاثنين و * (منازل) * بتقدير ذا منازل، وأن يكون متعديا لواحد وهو * (منازل) * والأصل قدرنا له منازل على الحذف والإيصار واختاره أبو السعود، ونصب * (القمر) * بفعل يفسره المذكور أي وقدرنا القمر قدرناه وفي ذلك من الاعتناء بأمر التقدير ما فيه، وكأنه لما أن شهرهم باعتباره ويعلم منه سر تغيير الأسلوب.
وقرأ الحرميان. وأبو عمرو. وأبو جعفر. وابن محيصن. والحسن بخلاف عنه * (والقمر) * بالرفع قال غير واحد، على الابتداء وجملة * (قدرناه) * خبره، ويجوز فيما أرى أن يجري في التركيب ما جرى في قوله تعالى: * (والشمس تجري) * من الإعراب تدبر، والمنازل جمع منزل والمراد به المسافة التي قطعها القمر في يوم وليلة وهي عند أهل الهند سبعة وعشرون لأن القمر يقطع فلك البروج في سبعة وعشرين يوما وثلث فحذفوا الثلث لأنه ناقص عن النصف كما هو مصطلح أهل التنجيم، وعند العرب وساكني البدو ثمانية وعشرون لا لأنهم تمموا الثلث واحدا كما قال بعضهم بل لأنه لما كانت سنوهم باعتبار الأهلة مختلفة الأوائل لوقوعها في وسط الصيف تارة وفي وسط الشتاء أخرى وكذا أوقات تجارتهم وزمان أعيادهم احتاجوا إلى ضبط سنة الشمس لمعرفة فصول السنة حتى يشتغلوا في استقبال كل فصل بما يهمهم في ذلك الفصل من الانتقال إلى المراهي وغيرها فاحتالوا في ضبطها فنظروا أولا إلى القمر فوجدوه يعود إلى وضع له من الشمس في قريب من ثلاثين يوما ويختفي آخر الشهر لليلتين أو أقل أو أكثر فاسقطوا يومين من زمان الشهر فبقي ثمانية وعشرون وهو زمان ما بين أول ظهوره بالعشيات مستهلا أول الشهر وأخر رؤيته بالغدوات مستترا آخره فقسموا دور الفلك عليه فكان كل قسم اثنتي عشرة درجة وإحدى وخمسين دقيقة تقريبا وهو ستة أسباع درجة فنصيب كل برج منه منزلان وثلث ثم لما انضبط الدور بهذه القسمة احتالوا في ضبط سنة الشمس بكيفية قطعها لهذه المنازل فوجدوها تستر دائما ثلاثة منازل ما هي فيه بشعاعها وما قبلها بضياء الفجر وما بعدها بضياء الشمس ورصدوا ظهور المستتر بضياء الفجر ثم بشعاعها ثم بضياء الشفق فوجدوا الزمان بين كل ظهوري منزلتين ثلاثة عشر يوما تقريبا فأيام جميع المنازل تكون ثلثمائة وأربعة وستين لكن الشمس تقطع جميعها في ثلثمائة وخمس وستين فزادوا يوما في أيام منزل غفر وزادوه ههنا اصطلاحا منهم أو لشرفه على ما تسمعه إن شاء الله تعالى وقد يحتاج إلى زيادة يومين ليكون انقضاء الثمانية والعشرين مع انقضاء السنة ويرجع الأمر إلى النجم الأول، واعلم أن العرب جعلت علامات الأقسام الثمانية والعشرين من الكواكب الظاهرة القريبة من المنطقة مما يقارب طريقة القمر في ممره أو يحاذيه فيرى القمر كل ليلة نازلا بقرب أحدها وأحوال كواكب المنازل مع المنازل كأحوال كواكب البروج مع البروج عند أهل الهيئة من أنها مسامتة للمنازل وهي في فلك الأفلاك وإذا أسرع القمر في سيره فقد يخلي منزلا في الوسط وإن أبطأ فقد يبقى ليلتين في منزل أول الليلتين في أوله وآخرهما في آخره وقد يرى في بعض الليالي بين منزلتين، وما يقال في الشهور إن الظاهر من المنازل في كل ليلة يكون أربعة عشر وكذا الخفي وأنه إذا طلع منزل غاب رقيبه وهو الخامس عشر من الطالع سمي به تشبيها له برقيب يرصده ليسقط في المغرب إذا ظهر ذلك في المشرق ظاهر الفساد لأنها ليست على نفس المنطقة ولا أبعاد ما بينها متساوية ولهذا
16

قد يكون الظاهر ستة عشر وسبعة عشر وقد يكون الخفي ثلاثة عشر وهذه الكواكب المسماة بالمنازل المسامتة للمنازل الحقيقية على ما روي عن ابن عباس وغيره أولها الشرطان بفتح الشين والراء مثنى شرط بفتحتين وهي العلامة وهما كوكبان نيران من القدر الثالث على قرني الحمل معترضان بين الشمال والجنوب بينهما ثلاثة أشبار وبقرب الجنوبي منهما كوكب صغير سمت العرب الكل أشراطا لأنها بسقوطها علامات المطر والريح والقمر يحاذيهما وبقرب الشمالي منهما كوكب نير هو الشرطان عند بعض ويقال للشرطين الناطح أيضا ثم البطين تصغير البطن وهو ثلاثة كواكب خفية من القدر الخامس على شكل مثلث حاد الزوايا على فخذي الحمل بينه وبين الشرطين قيد رمح والقمر يجتاز بها أحيانا ثم الثريا تصغير ثروى من الثراء وهو الكثرة ويسمى بالنجم وهي على المشهور عند المنجمين ستة كواكب مجتمعة كشكل مروحة مقبضها نحو المشرق وفيه انحناء في جانب الشمال، وقيل هي شبيهة بعنقود عنب وعليه قول أحيحة بن الجلاح أو قيس بن الأسلت: وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى * كعنقود ملاحية حين نورا
والمرصود منها أربعة كلها من القدر الخامس وموضعها سنام الثور، وفي " الشكف " هي الية الحمل وربما يكسفها القمر ثم الدبران بفتحتين سمي به لأنه دبر الثريا وخلفها وهو كوكب أحمر نير من القدر الأول على طرف صورة السبعة من رقوم الهند ويسمى المجدح وموقعه عين الثور والذي على طرفه الآخر من القدر الثالث على عينه الأخرى والثلاثة الباقية وهي من الثالث أيضا على وجهه وزاوية هذا الرقم على خطم الثور وبعضهم يسمى الدبران بقلب الثور وقد يكسفه القمر ثم الهقعة بفتح الهاء وسكون القاف وفتح العين المهملة وهي ثلاثة كواكب خفية مجتمعة شبيهة بنقط الثاء كأنها لطخة سحابية شبهت بالدائرة التي تكون في عرض زور الفرس أو بحيث تصيب رجل الفارس أو بلمعة بياض تكون في جنب الفرس الأيسر تسمى بذلك وتسمى الأثافي أيضا وهي على رأس الجبار المسمى بالجوزاء والقمر يحاذيها ولا يقاربها ثم الهنعة بوزن الهقعة وثانيه نون وهي كوكبان من القدر الرابع والثالث شبهت بسمة في منخفض عنق الفرس وهما على رجلي التوأمين مما يلي الشمال وفي " الكشف " هي منكب الجوزاء الأيسر والقمر يمر بهما ثم الذراع وهما كوكبان أزهران من القدر الثاني على رأسي التوأمين يعنون بهما ذراع الأسد المبسوطة إذ المقبوضة هي الشعرى الشامية مع مرزمها والقمر يقارب المبسوطة ثم النثرة وهي الفرجة بين الشاربين حيال وترة الأنف وهو أنف الأسد وهما كوكبان خفيان من الرابع بينهما قيد ذراع ولطخة سحابية وهي على وسط السرطان ويقربها كوكبان يسميانب الحمارين واللطخة التي بينهما بالمعلف تشبيها لها بالتبن وبممحظة الأسد أي موضع استتاره ويكسب القمر كلا منهما ثم الطرف وهما كوكبان صغيران من الرابع أحدهما: على رأس الأسد قدام عينيه والآخر: قدام يده المقدمة والقمر يحاذي أشملهما ويكسف أجنبهما ويعنون بالطرف غين الأسد ثم الجبهة ويعنون بها جبهة الأسد وهي أربعة كواكب على سطر فيه تعويج آخذ من الشمال إلى الجنوب أعظمها على طرف السطر مما يلي الجنوب يسمى قلب الأسد لكونه في موضعه ويسمى الملكي أيضا وهو من القدر الأول والقمر يمر به وبالذي يليه ثم الزبرة بضم الزاي
17

وسكون الباء وهما كوكبان نيران على أثر الجبهة بينهما أرجح من ذراع وهما على زبرة الأسد أي كاهله عند العرب وعند المنجمين عند مؤخرة فزبرة الأسد شعره الذي يزبر عند الغضب في قفاه أجنبهما من الثالث وأشملهما م
ن الثاني وتسمى ظهر الأسد والقمر يحاذيهما من جهة الجنوب ثم الصرفة وهو كوكب واحد على طرف ذنب الأسد ويسمى ذنب الأسد والقمر يحاذيه من جهة الجنوب وسمي بذلك لأن البرد ينصرف عند سقوطه ثم العواء يمد ويقصر والقصر أجود وهي خمسة كواكب من الثالث على هيئة لام في الخط العربي ثلاثة منها آخذة من منكب العذراء الأيسر إلى تحت ثديها الأيسر وهي على سطر جنوبي من الصرفة ثم ينعطف اثنان على سطر يحيط مع الأول بزاوية منفرجة زعمت العرب أنها كلاب تعوي خلف الأسد ولذلك سميت العواء، وقيل في ذلك كأنها تعوي في أثر البرد ولهذا سميت طاردة البرد، وقيل هي من عوي الشيء عطفه فلما فيها من الانعطاف سميت بذلك.
وفي " الكشف " العوا سافلة الإنسان ويقال أنها ورك الأسد والقمر يخرقها ثم السماك الأعزل وهو كوكب نير من الأول على كتف العذراء اليسرى قريب من المنطقة والقمر يمر به ويكسفه ويقابل السماك الأعزل السماك الرامح وليس من المنازل وسمي رامحا لكوكب يقدمه كأنه رمحه وسمي سماكا لأنه سمك أي ارتفع ثم الغفر وهي ثلاثة كواكب من الرابع على ذيل العذراء ورجلها المؤخرة على سطر معوج كدبته إلى الشمال وقيل كوكبان والقمر يمر بجنوبيهما وقد يحاذي الشمالي وهو منزل خير بعد عن شرين مقدم الأسد ومؤخر العقرب ويقال إنه طالع الأنبياء والصالحين وسميت غفرا لسترها ونقصان نورها وذكر بعضهم أنها من كواكب الميزان ثم الزبانا بالضم وآخره ألف وهما كوكبان نيران من الثاني متباعدان في الشمال والجنوب بينهما قيد رمح على كفتي الميزان. وقال غير واحد هما قرنا العقرب والقمر قد يكسف جنوبيهما ثم الإكليل وهي ثلاثة كواكب خفية معترضة من الشمال إلى الجنوب على سطر مقوس يشبه شكلها شكل الغفر الأوسط منها متقدم والاثنان تاليان وهي من الرابع والقمر يمر بجميعها، وقيل هي أربعة كواكب برأس العقرب ولذا سميت به وأصل معناه التاج ثم القلب وهو قلب العقرب كوكب أحمر نير أوسط الثلاثة التي على بدن العقرب على استقامة من المغرب إلى المشرق وهو من الثاني واللذان قبله وبعده ويسميان نياطين من الثالث والقمر يمر به ويكسفه من المنطقة ثم الشولة بفتح الشين المعجمة واللام وتسمى إبرة العقرب عند الحجازيين كوكبان من الثاني أزهران متقاربان على طرف ذنب العقرب في موضع الحمة والقمر يحاذيهما ثم النعائم أربعة كواكب من الثالث على منحرف تابع للشولة وتسمى النعائم الواردة أي إلى المجرة والقمر يمر باثنين منها ويحاذي الباقية ويقرب منها أربعة أخرى من الثالث على منحرف هي النعائم الصادرة أي من المجرة وكلها من صورة الرامي وسميت نعائم تشبيها بالخشبات التي تكون على البئر، ثم البلدة وهي قطعة من السماء خالية من الكواكب مستديرة شبهت ببلدة الثعلب وهي ما يكنسه بذنبه وتسمى أيضا بالمفازة والفرجة، وقيل سميت بذلك تشبيها بالفرجة التي تكون بين الحاجبين وموضعها خلف الكواكب التي تسمى بالقلادة وهي عصابة الرامي ثم سعد الذابح كوكبان على قرني الجدي بينهما قدر باع جنوبيهما من الثالث والقمر يقاربه ولا يكسفه ويقرب الشمالي كوكب صغير يكاد يلتصق به يقال إنه شاته التي يريد أن يذبحها، وقيل: إنه في مذبحه ولهذا يسمى بالذابح ثم سعد بلع كوكبان على كف ساكب
18

الماء اليسرى فوق ظهر الجدي بينهما قدر باع غربيهما من الثالث وشرقيهما من الرابع ويقرب متقدمهما كوكب صغير كأنه ابتلعه فلهذا سمي به، وفي " القاموس " سعد بلع كزفر معرفة منزل للقمر طلع لما قال الله تعالى: * (يا أرض ابلعي ماءك) * وهو نجمان مستويان في المجرى أحدهما خفي والآخر مضىء يسمى بالعا كأنه بلع الآخر، وقيل: لأنه ليس له ما لسعد الذابح فكأنه بلغ شاته والقمر يقارب أجنبهما ولا يكسفه ثم سعد السعود كوكبان، وقيل: ثلاثة على خط مقوس بين الشمال والجنوب حدبته إلى المغرب أجنبهما والقمر يقرب منه من الخامس على طرف ذنب الجدي وأشملهما من الثالث وهو مع الآخر في القول الآخر من كواكب القوس والقمر يقارب أجنبهما وسمي بذلك لأنه في وقت طلوعه ابتداء ما به يعيشون وتعيش مواشيهم ثم سعد الأخبية أربعة كواكب من الثالث ومن كواكب الرامي على يد ساكب الماء اليمنى ثلاثة منها على شكل مثلث حاد الزوايا والرابع وسطه وهو السعد والثلاث خباؤه ولذا سمي بذلك، وقيل: لأنه يطلع قبل الدفء فيخرج من الهوام ما كان مختبئا والقمر يقاربها من ناحية الجنوب ثم الفرغ المقدم ويقال الأعلى كوكبان نيران من الثاني بينهما قيد رمح أجنبهما على متن الفرس الأكبر المجنح وأشملهما على منكبه والقمر يمر بالبعد منهما ثم الفرغ المؤخر كوكبان نيران من الثاني بينهما قيد رمح أيضا أجنبهما على جناح الفرس وأشملهما مشترك بين سرته ورأس المسلسلة شبهت العرب الأربعة بفرغ الدلو وهو بفتح الفاء وسكون الراء المهملة وغين معجمة مصب الماء منها لكثرة الأمطار في وقتها ثم بطن الحوت ويقال له الرشاء بكسر الراء أي رشاء الدلو وقلب الحوت أيضا كوكب نير من الثالث على جنب المرأة المسلسلة يحاذيه القمر ولا يقاربه وإنما سمي به لوقوعه في بطن سمكة عظيمة تحت نحر الناقة تصورها العرب من سطرين عليهما كواكب خفية بعضها من المسلسلة وبعضها من إحدى سمكتي الحوت.
هذا واعلم أن هذه المنازل الثمانية والعشرين تسمى العرب الأربعة عشر الشمالية منها التي أولها الشرطان وآخرها السماك شامية والباقية منها التي أولها الغفر وآخرها بطن الحوت يمانية وأنها تسمى خروج المنزل من ضياء الفجر طلوعه وغروب رقيبه وقت الصبح سقوطه والمنازل التي يكون طلوعها في مواسم المطر الأنواء ورقباؤها إذا طلعت في غير مواسم المطر البوارح قاله القطب، وقال الجوهري: النوء سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر وطلوع رقيبه من المشرق يقابله من ساعته في كل ليلة إلى مضي ثلاثة عشر يوما ما خلا الجبهة فإن لها أربعة عشر يوما، قال أبو عبيد: ولم يسمع في النوء أنه السقوط إلا في هذا الموضع والعرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها، وقال الأصمعي: إلى الطالع في سلطانه فتقول مطرنا بنوء الثريا مثلا والجمع أنواء ونوآن مثل عبد وعبدان، وذكر الطيبي عن المرزوقي أن نوء الشرطين ثلاثة أيام ونوء البطين ثلاث ليال ونوء الثريا خمس ليال ونوء الدبران ثلاث ليال ونوء الهقعة ست ليال ولا يذكرون نوأها إلا بنوء الجوزاء ونوء الهنعة لا يذكر أيضا وإنما يكون في أنواء الجوزاء والذراع لا نوء له ونوء النثرة سبع ليال ونوء الطرف ثلاث ليال ونوء الجبهة سبع والزبرة أربع
والصرفة ثلاث والعواء ليلة والسماك أربع والغفر ثلاث وقيل ليلة والزبانا ثلاث والإكليل أربع والقلب ثلاث والشولة كذلك والنعائم ليلة والبلدة ثلاث، وقيل: ليلة وسعد الذابح ليلة وبلع وسعد السعود وسعد الأخبية والفرغ المقدم ثلاث والمؤخر أربع ولم يذكر في نسختي للرشاء نوءا. ثم إن قول الإنسان مطرنا فنوء كذا إن أراد به أن النوء
19

نزل بالماء فهو كفر والقائل كافر حلال دمه إن لم يتب كما نص عليه الشافعي وغيره، وفي " الروضة " من اعتقد أن النوء يمطر حقيقة كفر وصار مرتدا وإن أراد به أن النوء سبب ينزل الله تعالى به الماء حسبما علم وقدر فهو ليس بكفر بل مباح لكن قال ابن عبد البر: هو وإن كان مباحا كفر بنعمة الله تعالى وجهل بلطيف حكمته.
وفي " الصحيحين " عن زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إثر سماء: " هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا: الله تعالى ورسوله أعلم قال: قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر. فأما من قال مطرنا بفضل الله تعالى ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا فهو كافر بي مؤمن بالكوكب " وظاهره أن الكفر مقابل الإيمان فيحمل على ما إذا أراد القائل ما سمعت أولا والله تعالى الحافظ من كل سوء لا رب غيره ولا يرجى الأخيرة.
والقمر في العرف العام هو الكوكب المعروف في جميع ليالي الشهر، والمشهور عند اللغويين أنه بعد الاجتماع مع الشمس ومفارقته إياها لا يسمى قمرا إلا من ثلاث ليال وست وعشرين ليلة وفيما عدا ذلك يسمى هلالا ولعل الأظهر في الآية حمله على المعنى الأول وهو الشائع إذا ذكر مع الشمس أي قدرنا هذا الجرم المعروف منازل ومسافات مخصوصة فسار فيها ونزلها منزلة منزلة * (حتى عاد) * أي صار في أواخر سيره وقربه من الشمس في رأي العين * (ك العرجون) * هو عود عزق النخلة من بين الشمراخ إلى منبته منها وروي ذلك عن الحسن وقتادة، وعن ابن عباس أنه أصل العذق، وقيل الشمراخ وهو ما عليه البسر من عيدان العذق والكباسة، والمشهور الأول، ونونه على ما حكى عن الزجاج زائدة فوزنه فعلون من الانعراج وهو الاعوجاج والانعطاف، وذهب قوم واختاره الراغب. والسمين. وصاحب " القاموس " إلى أنها أصلية فوزنه فعلول، وقرأ سليمان التيمي * (كالعرجون) * بكسر العين وسكون الراء وفتح الجيم وهي لغة فيه كالبزيون والبزيون وهو بساط رومي أو السندس.
* (القديم) * أي العتيق الذي مر عليه زمان يبس فيه ووجه الشبه الإصفرار والدقة والاعوجاج، وقيل: أقل مدة القدم حول فلو قال رجل كل مملوك لي قديم فهو حر عتق منهم من مضى له حول وأكثر، وقيل: ستة أشهر وحكاه بعض الإمامية عن أبي الحسن الرضا رضي الله تعالى عنه.
* (لا الشمس ينبغى لهآ أن تدرك القمر ولا اليل سابق النهار وكل فى فلك يسبحون) *.
* (لا الشمس ينبغي لها) * أي يتسخر ويتسهل كما في قولك النار ينبغي أن تحرق الثوب أو يحسن ويليق أي حكمة كما في قولك الملك ينبغي أن يكرم العالم، واختار غير واحد المعنى الأول، وأصل * (ينبغي) * مطاوع بغي بمعنى طلب وما طاوع وقبل الفعل فقد تسخر وتسهل، والنفي راجع في الحقيقة إلى * (ينبغي) * فكأنه قيل: لا يتسهل للشمس ولا يتسخر * (أن تدرك القمر) * أي في سلطانه بأن تجتمع معه في الوقت الذي حده الله تعالى له وجعله مظهرا لسلطانه فإنه عز وجل جعل لتدبير هذا العالم بمقتضى الحكمة لكل من النيرين الشمس والقمر حدا محدودا ووقتا معينا يظهر فيه سلطانه فلا يدخل أحدهما في سلطان الآخر بل يتعاقبان إلى أن يأتي أمر الله عز وجل، وهذه الجملة لنفى أن تدرك الشمس القمر فيما جعل له وقوله تعالى: * (ولا الليل سابق النهار) * لنفى أن يدرك القمر الشمس فيما جعل لها أي ولا آية الليل سابقة آية النهار وظاهر سلطانها في وقت ظهور سلطانها وإلى هذا المعنى يشير كلام قتادة. والضحاك. وعكرمة. وأبي صالح. واختاره الزمخشري ليناسب قوله تعالى: * (لا الشمس ينبغي لها) * ولأن الكلام في الآيتين دل عليه قوله تعالى: * (والشمس تجري) * الآيتان وآخرا * (كل في فلك يسبحون) * وعبر بالإدراك أولا وبالسبق ثانيا على ما في " الكشاف " لمناسبة
20

حال الشمس من بطء السير وحال القمر من سرعته، ولم يقل ولا القمر سابق الشمس ليؤذن على ما قال الطيبي بالتعاقب بين الليل والنهار وبنصوصية التدبير على المعاقبة فإنه مستفاد من الحركة اليومية التي مدار تصرف كل منهما عليها. وفي " الكشف " التحقيق أن المقصود بيان معاقبة كل من الشمس والقمر في ترتب الإضاءة وسلطانه على الاستقلال وكذلك اختلاف الليل والنهار فقيل: * (ولا الليل سابق النهار) * كناية عن سبق آيته آيته فحصل الدلالة على الاختلاف أيضا إدماجا لأنها لا تنافي إرادة الحقيقة، وجاء من ضرورة التقابل هذا المعنى في النهار أيضا من قوله تعالى: * (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر) * ولما ذكر مع الشمس الإدراك المؤذن بأنها طالبة للحاق قيل: * (لا ينبغي) * رعاية للمناسبة وجىء بالفعل المؤذن بالتجدد ولما نفى السبق في المقابل أكد ذلك بأن جىء بالجملة الاسمية المحضة من دون الابتغاء لأنه مطلوب اللحوق اه‍.
ولم يذكر السر في إدخال حرف النفي على الشمس دون الفعل المؤذن بصفتها ويوشك أن يكون أخفى من السها وكان ذلك ليستشعر منه في المقام الخطابي أن الشمس إذا خليت وذاتها تكون معدومة كما هو شأن سائر الممكنات وإنما يحصل لها ما يحصل من علته التي هي عبارة عن تعلق قدرته تعالى به على وفق إرادته سبحانه الكاملة التي لا يأبى عنها شيء من أشياء عالم الإمكان ويفيد ذلك في غاية كونها مسخرة في قبضة تصرفه عز وجل لا شيء فوق تلك المسخرية وفيه تأكيد لما يفيده قوله تعالى: * (ذلك تقدير العزيز العليم) * (يس: 38) ورد بليغ لمن إليها يسند التأثير.
وجوز أن يكون ذلك لإفادة كونها مسخرة لا يتسهل لها إلا ما أريد بها من حيث تقديم المسند إليه على الفعل وجعله بعد حرف النفي نحو ما أنا قلت هذا وما زيد سعى في حاجتك يفيد التخصيص أي ما أنا قلت هذا بل غيري وما زيد سعى في حاجتك بل غيره على ما حققه علماء البلاغة والمقصود من نفي تسهل إدراك القمر في سلطانه عن الشمس نفى أن يتسهل لها أن تطمس نوره وتذهب سلطانه ويرجع ذلك إلى نفي قدرتها على الطمس وإذهاب السلطان فيكون المعنى بناء على قاعدة التقديم أن الشمس لا تقدر على ذلك بل غيرها يقدر عليه وهو الله عز وجل وهذا بعد إثبات الجريان لها بتقدير العزيز العليم مشعر بكونها مسخرة لا يتسهل لها إلا ما أريد بها.
وقال بعض الفضلاء فيما كتبه على هامش تفسير البيضاوي عند قوله: وإلاء حرف النفي الشمس للدلالة على أنها مسخرة لا يتيسر لها إلا ما أريد بها وجه الدلالة أن الإيلاء المذكور يفيد التخصيص والابتغاء بمعنى الصحة والتسهيل المساوقين للاقتدار فيفيد الكلام أن الشمس ليس لها قدرة على إدراك القمر وسرعة المسير التي هي ضد لحركتها الخاصة بل القدرة عليهما لله سبحانه فهو فاعل لحركتها حقيقة ولها مجرد المحلية للحركة فصحت الدلالة المذكورة ثم قال: وتفصيل الكلام أن الله سبحانه ذكر أولا أن الشمس تجري لمستقر لها إشارة إلى حركتها الخاصة ثم ذكر سبحانه أنه قدر القمر أيضا في منازل الشمس حتى عاد كالعرجون القديم أي رجع إلى الشكل الهلالي وذلك إنما يكون عند قربه إلى الشمس ورجوعه إليها ولما كان للوهم سبيل إلى أن يتوهم أن جرى الشمس وسيرها وتقدير أنوار القمر وجرمه المرئي مما يستند إلى إرادتهما على سبيل إرادتنا التي تتعلق تارة بالشيء وأخرى بضده فيصح ويتيسر للنيرين الأمران كما يصحان لنا وأن يتوهم أن إسناد أمر
21

الشمس والقمر إلى التقدير الإلهي من قبيل إسناد أفعالنا إليه من حيث أن الأقدار والتمكين منه تعالى وأنه سبحانه المبدأ والمنتهي إلى غير ذلك من الاعتبارات.
نبه جل شأنه بالتخصيص المذكور على دفع على هذا التوهم على سبيل التنبيه على كون الشيء مسخرا مضطرا في أمره بسلب اقتداره على ضده وإن لم يذكر جميع أضداده فأشار سبحانه إلى أن الحركة السريعة المفضية إلى إدراك القمر التي هي ضد الحركة الخاصة للشمس لا يصح استنادها إليها والقدرة عليها مختصة بغيرها * (وهو العزيز العليم) * حتى يظهر أن وجود الحركة الخاصة لها مستند إلى تقديره تعالى وتدبيره جل شأنه من غير مشاركة للشمس معه سبحانه ثم أردفع ذلك بحكم القمر حيث قال تعالى: * (ولا الليل سابق النهار) * فإن الأقرب كون المعنى فيه ليس لآية الليل القدرة على أن تسبق آية النهار بحيث تفوتها ولا تكون لها مراجعة إليها ولحوق بها تنبيها على أن تقدير القمر في المنازل على الوجه المرصود الذي يعود به إلى الشكل الهلالي الشبيه بالعرجون ويفضي إلى مقاربة الشمس مستند أيضا إلى تقديره تعالى وتدبيره سبحانه من غير مشاركة للقمر فيه فالجملتان في قوة التأكيد للآيتين السابقتين ولهذا فصلتا اه‍، وفيه دغدغة لا تخفى على ذكي فتأمل.
وما أشار إليه من أن معنى * (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر) * أن الشمس لا قدرة لها على أن تدرك القمر في سيره لبطء حركتها الخاصة وسرعة حركته كذلك قاله غير واحد. وادعى النحاس أنه أظهر ما قيل في معناه وبينه وبين ما تقدم من المعنى قرب ما بل قال بعضهم: الفرق بين الوجهين بالاعتبار، وقال بعض من ذهب إليه في * (ولا الليل سابق النهار) * إن المراد أن القمر لا يسبق الشمس بالحركة اليومية وهي ما تكون له وكذا لسائر الكواكب بواسطة فلك الأفلاك فإن هذه الحركة لا يقع بسببها تقدم ولا تأخر وقيل المراد بقوله تعالى: * (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر) * إنه لا ينبغي لها أن تدركه في آثاره ومنافعه فإنه سبحانه خص كلا منهما بآثار ومنافع كالتلوين بالنسبة للقمر والنضج بالنسبة للشمس، وعن الحسن أن المراد أنهما لا يجتمعان فيما يشاهد من السماء ليلة الهلال خاصة أي لا تبقى الشمس طالعة إلى أن يطلع القمر ولكن إذا غربت طلع، وقال يحيى: ابن سلام: المراد لا تدركه ليلة البدر خاصة لأنه يبادر المغيب قبل طلوعها وكلا القولين لا يعول عليهما ولا ينبغي أن يلتفت إليهما، وقيل في معنى الجملة الثانية إن الليل لا يسبق النهار ويتقدم على وقته فيدخل قبل مضيه.
وفي " الدر المنثور " عن بعض الأجلة أي لا ينبغي إذا كان ليل أن يكون ليل آخر حتى يكون النهار، وعليك بما تقدم فهو لعمري أقوم، واستدل بالآية أن النهار سابق على الليل في الخلق. روى العياشي في تفسيره بالإسناد عن الأشعث بن حاتم قال كنت بخراسان حيث اجتمع الرضا رضي الله تعالى عنه والمأمون والفضل بن سهل في الإيوان بمرو فوضعت المائدة فقال الرضا: إن رجلا من بني إسرائيل سألني بالمدينة: فقال النهار خلق قبل أم الليل فما عندكم؟ فأرادوا الكلام فلم يكن عندهم شيء فقال الفضل للرضا: أخبرنا بها أصلحك الله تعالى قال نعم من القرآن أم من الحساب؟ قال له الفضل: من جهة الحساب فقال رضي الله تعالى عنه: قد علمت يا فضل أن طالع الدنيا السرطان والكواكب في مواضع شرفها فزحل في الميزان والمشتري في السرطان والمريخ في الجدي والشمس في الحمل والزهرة في الحوت وعطارد في السنبلة والقمر في الثور فتكون الشمس في العاشر وسط السماء فالنهار قبل الليل، ومن القررن قوله تعالى: * (ولا الليل سابق النهار) * أي الليل قد سبقه النهار اه‍.
22

وفي الاستدلال بالآية بحث ظاهر وأما بالحساب فله وجه في الجملة. ورأى المنجمون أن ابتداء الدورة دائرة نصف النهار وله موافقة لما ذكر، والذي يغلب على الظن عدم صحة الخبر من مبتدئه فالرضي أجل من أن يستدل بالآية على ما سمعت من دعواه وفهم الإمام من قوله تعالى: * (ولا الليل سابق النهار) * أن الليل مسبوق لا سابق ومن قوله سبحانه: * (يغشى الليل النهار) * يطلبه حثيثا أن الليل سابق لأن النهار يطلبه، وأجاب عما يلزم عليه من كون الليل سابقا مسبوقا بأن المراد من الليل هنا آيته وهو القمر وهو لا يسبق الشمس بالحركة اليومية والمراد من الليل هناك نفس الليل وكل واحد لما كان في عقب الآخر كان طالبه. وتعقبه أبو حيان بأن فيه جعل الضمير الفاعل في * (يطلبه) * عائدا على النهار وضمير المفعول عائدا على * (الليل) * والظاهر أن ضمير الفاعل عائد على ما هو الفاعل في المعنى وهو الليل لأنه كان قبل دخول همزة النقل * (يغشى الليل النهار) * وضمير المفعول عائد على * (النهار) * لأنه المفعول قبل النقل وبعده وحينئذ كلتا الآيتين تفيد أن النهار سابق فلا سؤال انتهى. فتأمل ولا تغفل.
وقرأ عمار بن عقيل * (سابق) * بغير تنوين * (النهار) * بالنصب قال المبرد: سمعته يقرأ فقلت ما هذا؟ قال: أردت سابق النهار بالتنوين فحذفت لأنه أخذ. وفي " البحر " حذف التنوين لالتقاء الساكنين * (وكل) * أي كل واحد من الشمس والقمر إذ هما المذكوران صريحا والتنوين عوض عن المضاف إليه وقدره بعضهم ضمير جمع العقلاء ليوافق ما بعد أي كلهم وقدره آخر اسم إشارة أي كل ذلك أي المذكور الشمس والقمر * (في فلك) * هو كما قال الراغب مجرى الكوكب سمي به لاستدارته كفلكة المغزل وهي الخشبة المستديرة في وسطه وفلكة الخيمة وهي الخشبة المستديرة التي توضع على رأس العمود لئلا تتمزق الخيمة.
* (يسبحون) * أي يسيرون فيه بانبساط وكل من بسط في شيء فهو يسبح فيه، ومنه السباحة في الماء، وهذا المجرى في السماء ولا مانع عندنا أن يجري الكوكب بنفسه في جوف السماء وهي ساكنة لا تدور أصلا وذلك بأن يكون فيها تجويف مملوء هواء أو جسما آخر لطيفا مثله يجري الكوكب فيه جريان السمكة في الماء أو البندقة
في الأنبوب المستدير مثلا أو تجويف خال من سائر ما يشغله من الأجسام يجري الكوكب فيه أو بأن تكون السماء بأسرها لطيفة أو ما هو مجرى الكوكب منها لطيفا فيشق الكوكب ما يحاذيه وتجري كما تجري السمكة في البحر أو في ساقية منه وقد انجمد سائره وانقطاع كرة الهواء عند كرة النار المماسة لمقعر فلك القمر عند الفلاسفة وانحصار الأجسام اللطيفة بالعناصر الثلاثة وصلابة جرم السماء وتساوي أجزائها واستحالة الخرق والالتئام عليها واستحالة وجود الخلاء لم يتم دليل على شيء منه، وأقوى ما يذكر في ذلك شبهات أوهن من بيت العنكبوت وأنه ورب السماء لأوهن البيوت.
ويجوز أن يكون الفلك عبارة عن جسم مستدير ويكون الكوكب فيه يجري بجريانه في ثخن السماء من غير دوران للسماء، ولا مانع من أن يعتبر هذا الفلك لبعض الكواكب الفلك الكلي ويكون فيه نحو ما يثبته أهل الهيئة لضبط الحركات المختلفة من الأفلاك الجزئية لكن لا يضطر إلى ذلك بناء على القواعد الإسلامية كما لا يخفى إلا أن في نسبة السبح إلى الكوكب نوع أباء بظاهره عن هذا الاحتمال، وفي كلام الأئمة من الصحابة وغيرهم إيماء إلى بعض ما ذكرنا.
23

أخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم. وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس أنه قال في الآية؛ * (كل في فلك) * فلكة كفلكة المغزل يسبحون يدورون في أبواب السماء كما تدور الفلكة في المغزل. وأخرج الأخيران عن مجاهد أنه قال: لا يدور المغزل إلا بالفلكة ولا تدور الفلكة إلا بالمغزل والنجوم في فلكة كفلكة المغزل فلا يدرن إلا بها ولا تدور إلا بهن. وفي الفتوحات المكية للشيخ الأكبر قدس سره جعل الله تعالى السموات ساكنة وخلق فيها سبحانه نجوما وجعل لها في عالم سيرها وسباحتها في هذه السموات حركات مقدرة لا تزيد ولا تنقص وجعلها عاقلة سامعة مطيعة وأوحى في كل سماء أمرها ثم أنه عز وجل لما جعل السباحة للنجوم في هذه السموات حدثت لسيرها طرق لكل كوكب طريق وهو قوله تعالى: * (والسماء ذات الحبك) * (الذاريات: 7) فسميت تلك الطرق أفلاكا فالأفلاك تحدث بحدوث سير الكواكب وهي سريعة السير في جرم السماء الذي هو مساحتها فتخرق الهواء المماس لها فيحدث لسيرها أصوات ونغمات مطربة لكون سيرها على وزن معلوم فتلك نغمات الأفلاك الحادثة من قطع الكواكب المسافات المساوية فهي تجري في هذه الطرق بعادة مستمرة قد علم بالرصد مقادير ودخول بعضها على بعض في السير وجعل سيرها للناظرين بين بطء وسرعة وجعل سبحانه لها تقدما وتأخرا في أماكن معلومة من السماء تعينها أجرام الكواكب لإضائتها دونها إلى آخر ما قال. وقال الإمام: إن الله تعالى قادر على أن يجعل الكوكب بحيث يشق السماء فيجعل دائرة متوهمة كما لو جرت سمكة في الماء على الاستدارة وهذا هو المفهوم من قوله تعالى: * (في فلك يسبحون) * والظاهر أن حركة الكوكب على هذا الوجه.
وأرباب الهيئة انكروا ذلك للزوم الخرق والالتئام ان انشق موضع الجري والتأم أو الخلاء ان انشق ولم يلتئم والكل محال عندهم وعندنا لا محالية في ذلك وما يلزم هنا الخرق والالتئام لأنه المفهوم من يسبحون ولا دليل لهم على الاستحالة فيما عدا المحدد وهو هناك شبهة ضعيفة لا دليل، وظاهر الآية أن كل واحد من من النيرين في فلك أي في محرى خاص به وهذا مما يشهد به الحس وذهب إلى نحوه فلاسفة الإسلام كغيرهم من الفلاسفة بيد أنه يقولون باتحاد الفلك والسماء ولما سمعوا عن قبلهم أن كلا من السبع السيارة في فلك وكل الكواكب الثوابت في فلك وفوق كل ذلك فلك يحرك الجميع من المشرق إلى المغرب ويسمى فلك الأفلاك لتحريكه إياها والفلك الأعظم لاحاطته بها والفلك الأطلس لأنه كاسمه غير مكوكب وسمعوا عن الشارع ذكر السموات السبع والكرسي والعرش أرادوا أن يطبقوا بين الأمرين فقالوا: السموات السبع في كلام الشارع هي الأفلاك السبعة في كلام الفلاسفة فلكل من السيارات سماء من السموات والكرسي هو فلك الثوابت والعرش هو الفلك المحرك للجميع المسمى بفلك الأفلاك وقد أخطؤوا في ذلك وخالفوا سلف الأمة فيه فالفلك غير السماء، وقوله تعالى مع ما هنا * (ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا * وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا) * (نوح: 15، 16) لا يدل على الاتحاد لما قلنا من أن الكواكب في الفلك والفلك في السماء فيكون الكوكب فيها بلا شبهة فلا يحوج الجمع إلى القول بالعينية ولم يقم دليل على كرية العرش بل ظاهر ما ورد في الأخبار من أن له قوائم يدل على عدم الكرية، نعم ورد ما يدل بظاهره أنه مقبب وهذا شيء غير ما يزعمونه فيه وكذا الكرسي لم يدل دليل على كريته كما يزعمون ومع هذا ليس عندهم دليل تام على كون الثوابت كلها في فلك فيجوز أن تكون في أفلاك كممثلات كلها فوق زحل أو بعضها فوقه وبعضها بين أفلاك العلوية وهي لا تكسف
24

الثوابت التي عروضها أكثر من عروضها ولا لها اختلاف منظر ليعرف بأحد الوجهين كون الجميع فوق العلوية أو كتداوير ولا يلزم اختلاف أبعاد بعضها من بعض لجواز تساوي أجرام التداوير وحركاتها ولا اختلاف حركاتها بالسرعة والبطء للبعد والقرب وموافقة الممثل ومخالفته لأنا لا نسلم أن حركاتها لا تختلف بذلك المقدار ولا اختلاف أبعادها من الأرض لأنها غير محققة، ويجوز أيضا أن تكون كلها مركوزة في محدب ممثل زحل على أنه يتحرك الحركة البطيئة والمعدل الحركة السريعة، وأيضا يجوز أن يكون فيما سموه الفلك الأطلس كواكب لا ترى لصغرها جدا أو ترى وهي سريعة الحركة ولم يرصد كل كوكب ليتحقق بطء حركة الجميع، وأيضا يجوز أن تكون السيارات أكثر من سبع فيحتاج إلى أزيد من سبع سموات، ويقرب هذا ظفر أهل الارصاد الجديدة بكوكب سيار غير السبع سموع باسم من ظفر به وأدركه وهو هرشل، وبالجملة لا قاطع فيما قالوه، وللشيخ الأكبر قدس سره في هذا الباب كلام رخر مبناه الكشف وهو أن العرش الذي استوى الرحمن سبحانه عليه سرير ذو أركان أربعة ووجوه أربعة هي قوائمه الأصلية وهي الماء الجامد وفي جوفه الكرسي وهو على شكله في التربيه لا في القوائم ومقره على الماء الجامد أيضا وبين مقعر العرش وبينه فضاء واسع وهواء مخترق وفي. جوق الكرسي خلق الله تعالى الفلك الأطلس جسما شفافا مستديرا مقسما إلى اثنين عشر قسما هي البروج المعروفة وفي جوفه الفلك المكوكب وما بينهما الجنات وبعد أن خلق الله تعالى الأرضين واكتسى الهواء صورة الدخان خلق الله سبحانه السموات السبح وجعل في كل منها كوكبا وهي الجواري، وزعم الخفاجي أن المراد بالفلك في الآية الفلك الأعظم لأن الشمس والقمر وكذا سائر الكواكب تتحرك بحركته فالسباحة عنده عبارة عن الحركة القسرية، وفي القلب من ذلك شيء، ثم على ما هو الظاهر من أن لكل واحد فلكا يخصه ذهبوا إلى أن فلك الشمس فوق فلك القمر لما أنه يكسفها والمكسوف فوق التكاسف ضرورة
، وذكر معظم أهل الهيئة أن الفلك الأدنى فلك القمر وفوقه فلك عطارد وفوقه فلك الزهرة وفوقه فلك الشمس وفوقه فلك المريخ وفوقه فلك المشتري وفوقه فلك زحل واستدلوا على بعض ذلك بالكسف وعلى بعضه الآخر بأن فيه حسن الترتيب وجودة النظام، ولا مانع فيما أرى من القول بذلك لكن لا على الوجه الذي قال به أهل الهيئة من كون السموات هي الأفلاك الدائرة بل على وجه يتأتى معه القول بسكون السموات ودوران الكواكب في أفلاكها ومجاريها بعضها فوق بعض، وقد مر لك ما ينفعك في هذا المقام فراجعه، وجوز كون ضمير * (يسبحون) * عائدا على الكواكب ويشعر بها ذكر الشمس والقمر والليل والنهار، ورجح على الأول بأن الاتيان بضمير الجمع عليه ظاهر لا يحتاج إلى تكلف بخلافه على الأول فإنه محوج إلى أن يقال اختلاف أحوال الشمس والقمر في المطالع وغيرها نزل منزلة تعدد أفرادهما فكان المرجح شموسا وأقمارا، وظني أنه لا يحتاج إلى ذلك بناء على أنه قد يعتبر الإثنان جمعا أو بناء على ما قال الإمام من أن لفظ كل يجوز أن يوحد نظرا إلى لفظه وأن يجمع نظرا إلى كونه بمعنى الجميع وأما التثنية فلا يد عليها اللفظ ولا المعنى قال: فعلى هذا يحسن أن يقال زيد وعمرو كل جاء وكل جاؤوا ولا يحسن كل جاءا بالتثنية، واستدل بالاتيان بضمير جمع العقلاء على أن الشمس والقمر من ذوي العقول. وأجيب بأن ذاك لما أن المسند إليهما فعل ذوي العقول كما في قوله تعالى في حق الأصنام * (ما لكم لا تنطقون) * وقوله سبحانه: * (ألا تأكلون) * والظواهر غير ما ذكر مع المستدلين. واستدل بالآية بعض فلاسفة الإسلام القائلين باتحاد السماء والفلك على استدارة السماء وجعلوا من اللطائف فيها أن * (كل في فلك) *
25

لا يستحيل بالانعكاس نحو كلامك كمالك وسر فلا كبابك الفر من وقالوا: لا يعكر على ذلك أنه سبحانه سماها سقفا في قوله عز قائلا: * (والسقف المرفوع) * لأن السقف المقبب لا يخرج عن كونه سقفا بالتعبيب، وأنت تعلم أن السموات غير الأفلاك ومع هذا أقول باستدارة السموات كما ذهب إليه بعض السلف، وبعض ظواهر الأخبار يقتضي أنها أنصاف كرات كل سماء نصف كرة كالقبة على أرض من الأرضين السبع وإليه ذهب الشيخ الأكبر وقال بالاستدارة لفلك المنازل دون السموات السبع وادعى أن تحت الأرضين السبع التي على كل منها سماء ماء، وتحته هواء، وتحته ظلمة وعليه فليتأمل في كيفية سير الكوكب بعد غروبه حتى يطلع.
ثم إن الفلاسفة الذاهبين إلى استدارة السماء تمسكوا في ذلك بأدلة أقربها على ما قيل دليلان، الأول أنامتي قصدنا عدة مساكن على خط واحد من عرض الأرض وحصلنا الكواكب المارة على سمت رأس في كل واحدة منها ثم اعتبرنا أبعاد ممرات تلك الكواكب في دائرة نصف النهار بعضها من بعض وجداناها على نسب المسافات الأرضية بين تلك المساكن، وكذلك وجدنا ارتفاع القطب فيها متفاضلا بمثل تلك النسب فتحدب السماء في العرض مشابه لتحدب الأرض فيه لكن هذا التشابه موجود في كل خط من خطوط العرض وكذا في كل خط من خطوط الطول فسطح السماء بأسره مواز لسطح الظاهر من الأرض بأسره وهذا السطح مستدير حسا فكذا سطح السماء الموازي له، والثاني أن أصحاب الأرصاد دونوا في كتبهم مقادير اجرام الكواكب وأبعاد ما بينها في الأماكن المختلفة في وقت واحد كما في أنصاف نهار تلك الأماكن مثلا متساوية وهذا يدل على تساوي أبعاد مراكز الكواكب عن مناظر الأبصار المستلزم لتساوي أبعادها عن مركز العالم لاستدارة الأرض المستلزم لكون جرم السماء كربا. ونوقش في هذا بأنه إنما يصح أن لو كان الفلك ساكنا والكوكب متحركا إذ لو كان الفلك متحركا جاز أن يكون مربعا وتكون مساواة أبعاد مراكز الكواكب عن مناظر الأبصار وتساوي مقادير الإجرام للكواكب حاصلة، وفي الأول بأنه إنما يصح لو كان الاعتبار المذكور موجودا في كل خط من خطوط الطول والعرض ولا يخفى جريان كل من المناقشتين في كل من الدليلين، ولهم غير ذلك من الأدلة مذكورة بما لها وعليها في مطولات كتبهم.
* (وءاية لهم أنا حملنا ذريتهم فى الفلك المشحون) *.
* (وءاية لهم أنا حملنا ذريتهم) * أي أولادهم، قال الراغب: الذرية أصلها الصغار من الأولاد ويقع في التعارف على الصغار والكبار معا ويستعمل للواحد والجمع وأصله للجمع، وفيه ثلاثة أقوال فقيل هو من ذرأ الله الخلق فترك همزته نحو برية وروية، وقيل: أصله ذروية، وقيل: هو فعلية من الذر نحو قمرية واستظهر حمله على الأولاد مطلقا أبو حيان، وجوز غير واحد أن يحمل على الكبار لأنهم المبعوثون للتجارة أي حملناهم حين يبعثونهم للتجارة * (في الفلك) * أي السفينة سميت بذلك على ما في مجمع البيان لأنها تدور في الماء * (المشحون) * أي اللمملوء، وقيل: هو مستعمل على أصله وهم الأولاد الصغار الذين يستصحبونهم، وقيل: المراد به النساء فإنه يطلق عليهن، وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن قتل الدراري وفسر بالنساء.
وفي الفائق قال حنظلة الكاتب: كنا في غزاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى امرأة مقتولة فقال: هاه ما كانت هذه تقاتل الحق خالدا وقل لا تقتلن ذرية ولا عسيفا، وهي نسل الرجل وأوقعت على النساء كقولهم للمطر سماء ويراد بالنساء اللاتي يستصحبونهن وتخصيص الذرية على هذين القولين بالذكر لأن استقراره
26

وتماسكهم في الفلك أعجب، وقيل: تطلق الذرية على الآباء وعلى الابناء قاله أبو عثمان. وتعقبه ابن عطية بأنه تخليط لا يعرف في اللغة، وقيل: الذرية النطف والفلك المشحون بطون النساء ذكره الماوردي ونسب إلى علي كرم الله تعالى وجهه، والظاهر أنه لم يصح ذلك عنه رضي الله تعالى عنه وفي الآية ما يبعده وهو أشبه شيء بتأويلات الباطنية، والمراد بالفلك جنسه والوصف بالمشحون أقوى في الامتنان بسلامتهم فيه، وقيل: لأنه أبعد من الخطر، وإرادة الجنس مروية عن ابن عباس. ومجاهد. والسدى [بم وفسر ما في قوله تعالى:
* (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) *.
* (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) * عليه بالابل فإنها سفائن البر لكثرة ما تحمل وقلة كلالها في المسير، واطلاق السفائن عليها شائع كما قيل: سفائن بر والسراب بحارها
وروي ذلك عن الحسن وعبد الله بن سداد، وفسره مجاهد بالأنعام الإبل وغيرها، وعن أبي مالك وأبي صالح وغيرهما وهي رواية عن ابن عباس أيضا أن المراد بالفلك
سفينة نوح عليه السلام على أن التعريف للعهد فما عبارة عما سمعت أيضا عند بعض وعند آخرين هي السفن والزوارق التي كانت بعد تلك السفينة. واستشكل حمل ذريتهم في سفينة نوح عليه السلام. وأجيب بأن ذلك يحمل آبائهم الأقدمين وفي أصلابهم هؤلاء وذريتهم، وتخصيص الذرية مع أنهم محمولون بالتبع لأنه أبلغ في الامتنان حيث تضمن بقاء عقبهم وادخل في التعجب ظاهرا حيث تضمن حمل ما لا يكاد يحصى كثرة في سفينة واحدة مع الإيجاز لأنه كان الظاهر أن يقال حملتاهم ومن معهم ليبقى نسلهم فذكر الذرية يدل على بقاء النسل وهو يستلزم سلامة أصولهم فدل بلفظ قليل على معنى كثير، وقال الإمام: يحتمل عندي أن التخصيص لأن الموجودين كانوا كفارا لا فائدة في وجودهم أي لم يكن الحمل حملا لهم وإنما كان حملا لما في أصلابهم من المؤمنين، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي حملنا ذريات جنسهم وهو كما ترى، وقيل: ضمير * (لهم) * لأهل مكة وضمير * (ذريتهم) * للقرون الماضية الذين هم منهم وحكى ذلك عن علي بن سليمان وليس بشيء، وجوز الإمام كون الضميرين للعباد في قوله تعالى: * (يا حسرة على العباد) * (يس: 30) ولا يكون المراد في كل أشخاصا معينين بل ذلك على نحو هؤلاء القوم هم قتلوا أنفسهم على معنى قتل بعضهم بعضا فالمعنى آية لكل بعض منهم أنا حملنا ذرية كل بعض منهم أو ذرية بعض منهم وفيه من البعد ما فيه، ورجح تفسير * (ما) * بالإبل ونحوها من الأنعام دون السفن بأن المتبادر من الخلق الإنشاء والاختراع فيبعد أن يتعلق بما هو مصنوع العباد. وتعقب بأن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى عند أهل الحق وتبادر الإنشاء ممنوع وعليه يكون في الآية رد على المعتزلة كما قيل في قوله تعالى: * (والله خلقكم وما تعملون) * (على تقدير كون ما موصولة، و * (من) * تحتمل أن تكون للبيان وأن تكون للتبعيض؛ وجوز زيادتها على نظر الأخفش ورأيه، والظاهر أن ضمير * (لهم) * الثاني عائد على ما عاد عليه ضمير الأول، وجوز عوده على الذرية، وجوز أيضا عود ضمير * (مثله) * على معلوم غير مذكور تقديره من مثل ما ذكرنا من المخلوقات في قوله سبحانه: * (سبحان الذي خلق الأزواج كلها مم تنبت الأرض) * (يس: 33) وهو أبعد من العيوق، وأيا ما كان فلا يخفى مناسبة هذه الآية لقوله تعالى: * (كل في فلك يسبحون) * (يس: 40) وإنما لم يؤت بها على أسلوب إخواتها بأن يقال وآية لهم الفلك حملنا ذريتهم فيه كما قال سبحانه: * (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها) * (يس: 33) * (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار) * (يس: 37) لأنه ليس الفلك نفسه عجبا وإنما حملهم فيه هو العجب، وقرأ نافع. وابن عامر. والأعمش. وزيد بن علي. وأبان بن عثمان * (ذرياتهم) * بالجمع، وكسر زيد. وأبان الذال.
* (وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون) *.
* (وان نشأ) * اغراقهم * (نغرقهم) * في الماء مع ما حملناهم فيه من الفلك وما يركبون
27

من السفن والزوارق فالكلام من تمام ما تقدم فإن كان المراد بما هناك السفن والزوارق فالأمر ظاهر وإن كان المراد بها الإبل ونحوها كان الكلام من تمام صدر الآية أي نغرقهم مع ما حملناهم فيه من الفلك وكان حديث خلق الإبل ونحوها في البين استطرادا للتماثل، ولما في ذلك من نوع بعد قيل إن قوله سبحانه: * (وإن نشأ) * الخ يرجح حمل * (الفلك) * على الجنس و * (ما) * على السفن والزوارق الموجودة بين بني آدم إلى يوم القيامة، وفي تعليق الإغراق بمحض المشيئة اشعار بأنه قد تكامل ما يستدعى اهلاكهم من معاصيهم ولم يبق إلا تعلق مشيئته تعالى به، وقيل إن ذلك ذلك إشارة إلى الرد على من يتوهم إن حمل الفلك الذرية من غير أن يغرق أمر تقتضيه الطبيعة ويستدعيه امتناع الخلاء، وقرأ الحسن * (نغرقهم) * بالتشديد * (فلا صريخ لهم) * أي فلا مغيث لهم يحفظهم من الغرق، وتفسير الصريخ بالمغيث مروى عن مجاهد. وقتادة، ويكون بمعنى الصارخ وهو المستغيث ولا يراد هنا، ويكون مصدرا كالصراخ ويتجوز به عن الاغاثة لأن المستغيث ينادي من يستغيث به فيصرح له ويقول جاءك العون والنصر قال المبرد في أول الكامل: قال سلامة بن جندل: كنا إذا ما أتانا صارخ فزع * كان الصراخ له فزع المطانيب
يقول إذا أتانا مستغيث كانت إغاثته الجد في نصرته، وجوز إرادته هنا أي فلا إغاثة لهم * (ولا هم ينقذون) * أي ينجون من الموت به بعد وقوعه.
* (إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين) *.
* (إلا رحمة منا ومتاعا) * استثناء مفرغ من أعم العلل الشاملة للباعث المتقدم والغاية المتأخرة أي لا يغاثون ولا ينقذون لشيء من الأشياء إلا لرحمة عظيمة من قبلنا داعية إلى الإغاثة والإنقاذ وتمتيع بالحياة مترتب عليهما، ويجوز أن يراد بالرحمة ما يقارن التمتيع بالحياة الدنيوية فيكون كلاهما غاية للإغاثة والإنقاذ أي لنوع من الرحمة وتمتيع، وإلى كونه استثناء مفرغا مما يكون مفعولا لأجله ذهب الزجاج والكسائي، والاستثناء على ما يقتضيه الظاهر متصل، وقيل: الاستثناء منقطع على معنى ولكن رحمة منا ومتاع يكونان سببا لنجاتهم وليس بذاك، وجوز أن يكون النصب بتقدير الباء أي إلا برحمة ومتاع، والجار متعلق بينقذون ولما حذف انتصب مجروره بنزع الخافض. وقيل هو على المصدرية لفعل محذوف أي إلا أن نرحمهم رحمة ونمتعهم تمتيعا، ولا يخفى حاله وكذا حال ما قبله * (إلى حين) * أي إلى زمان قدر فيه حسبما تقتضيه الحكمة آجالهم، ومن هنا أخذ أبو الطيب قوله: ولم أسلم لكي أبقى ولكن * سلمت من الحمام إلى الحمام
والظاهر أن المحدث عنه من يشاء الله تعالى إغراقهم، وقال ابن عطية: إن * (فلا صريخ لهم) * الخ استئناف أخبار عن المسافرين في البحر ناجين كانوا أو مغرقين أي لا نجاة لهم إلا برحمة الله تعالى، وليس مربوطا بالمغرقين وقد يصح ربطه به والأول أحسن فتأمله اه‍، وقد تأملناه فوجدناه لا حسن فيه فضلا عن أن يكون أحسن.
والفاء ظاهرة في تعلق ما بعدها بما قبلها.
* (وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون) *.
* (وإذا قيل لهم) * الخ بيان لاعراضهم عن الآيات التنزيلية بعد بيان إغراضهم عن الآيات الآفاقية التي كانوا يشاهدونها وعدم تأملهم فيها أي إذا قيل لأهل مكة بطريق الإنذار بما نزل من الآيات أو بغيره * (اتقوا ما بين أيديكم) * قال قتادة. ومقاتل: أي عذاب الأمم التي قبلكم، والمراد
28

اتقوا مثل عذابهم * (وما خلفكم) * أي عذاب الآخرة، وقال مجاهد في رواية عكس ذلك، وجاء عنه في رواية أخرى ما بين أيديهم ما تقدم من ذنوبهم وما خلفهم ما يأتي منها، وعن الحسن مثله، وقيل ما بين أيديهم نوازل السماء وما خلفهم نوائب الأرض، وقيل ما بين أيديهم المكاره من حيث يحسبون وما خلفهم المكاره من حيث لا يحتسبون، وحاصل الأمر على ما قيل اتقوا العذاب أو اتقوا ما يترتب العذاب عليه * (لعلكم ترحمون) * حال من واو اتقوا أو غاية له راجعين أن ترحموا أو كي ترحموا، وفسرت الرحمة بالانجاء من العذاب، وجواب إذا محذوف ثقة بانفهامه من قوله تعالى:
* (وما تأتيهم من ءاية من ءاي‍ات ربهم إلا كانوا عنها معرضين) *.
* (وما تأتيهم من ءاية من ءايات ربهم إلا كانوا عنها معرضين) * انفهاما بينا، أما إذا كان الإنذار بالآية الكريمة فبعبارة النص، وأما إذا كان بغيرها فبدلالته لأنهم حين أعرضوا عن أيات ربهم فلأن يعرضوا عن غيرها بطريق الأولى كأنه قيل: وإذا قيل لهم اتقوا العذاب أو اتقوا ما يوجبه أعرضوا لأنهم اعتادوه وتمرنوا عليه، وما نافية وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار التجددي، ومن الأولى مزيدة لتأكيد العموم والثانية تبعيضية متعلقة بمحذوف وقع صفة لآية، وإضافة الآيات إلى اسم الرب المضاف إلى ضميرهم لتفخيم شأنها المستتبع لتهويل ما اجترأوا عليه في حقها، والمراد بها إما هذه الآيات الناطقة بما فصل من بدائع صنع الله تعالى وسوابغ آلائه تعالى الموجبة للإقبال عليها والإيمان وإيتاؤها نزول الوحي بها أي ما نزل الوحي بآية من الآيات الناطقة بذلك إلا كانوا عنها معرضين على وجه التكذيب والاستهزاء، وإما ما يعمها والآيات التكوينية الشاملة للمعجزات وتعاجيب المصنوعات التي من جملتها الآية الثلاث المعدودة آنفا وإيتاؤها ظهورها لهم أي ما ظرت لهم آية من الآيات التي من جملتها ما ذكر من شؤونه تعالى الشاهدة بوحدانيته سبحانه وتفرده تعالى بالألوهية إلا كانوا عنها معرضين تاريكن للنظر الصحيح فيما المؤدي إلى الإيمان به عز وجل. وفي الكلام إشارة إلى استمرارهم على الأعراض حسب استمرار إتيان الآيات، و * (عن) * متعلقة بمعرضين قدمت عليه للحصر الإدعائي مبالغة في تقبيح حالهم، وقيل للحصر الإضافي أي معرضين عنها لا عما عم عليه من الكفر وقيل لرعاية الفواصل والجملة في حيز النصب على أنها حال من مفعول تأتي أو من فاعله المتخصص بالوصف لاشتمالها على ضمير كل منهما والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي ما تأتيهم آية من آيات ربهم في حال من أحوالهم إلا حال إعراضهم عنها أو ما تأتيهم آية منها في حال من أحوالها إلا حال اعراضهم عنها.
وجملة * (وما تأتيهم) * الخ - على ما يشعر به كلام الكشاف - تذييل يؤكد ما سبق من حديث الاعراض، وإلى كونه تذييلا ذهب الخفاجي ثم قال: فتكون معترضة أو حالا مسوقة لتأكيد ما قبلها لشمولها لما تضمنه مع زيادة إفادة التعليل الدال على الجواب المقدر المعلل به فليس من حقها الفصل لأنها مستأنفة كما توهم فتأمل.
* (وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين ءامنوا أنطعم من لو يشآء الله أطعمه إن أنتم إلا فى ضل‍ال مبين) *.
* (وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله) * أي أعطاكم سبحانه بطريق التفضل والانعام من أنواع الأموال، وعبر بذلك تحقيقا للحق وترغيبا في الإنفاق على منهاج قوله تعالى: * (وأحسن كما أحسن الله إليك) * (القصص: 77) وتنبيها على عظم جنايتهم في ترك الامتثال بالأمر، وكذلك الاتيان بمن التبعيضية، والكلام على ما قيل لذمهم على ترك الشفقة على خلق الله تعالى أثر ذمهم على ترك تعظيمه عز وجل بترك التقوى، وفي ذلك إشارة إلى أنهم أخلوا بجميع التكاليف لأنها كلها ترجع إلى أمرين التعظيم لله تعالى والشفقة على خلقه سبحانه، وقيل هو للإشارة إلى عدم مبالاتهم بنصح الناصح وإرشاده إياهم إلى مايدفع
29

البلاء عنهم قوله تعالى: * (وإذا قيل لهم اتقوا) * (يس: 45) الخ والمعنى عليه، إذا قيل لهم بطريق النصيحة والإرشاد إلى ما فيه نفعهم انفقوا بعض ما آتاكم الله من فضله على المحتاجين فإن ذلك مما يرد البلاء ويدفع المكاره * (قال الذين كفروا للذين ءامنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه) * والأول أظهر، والظاهر أن الذين كفروا هم الذين قيل لهم انفقوا وعدل عن ضميرهم إلى الظاهر إيماء إلى علة القول المذكور، وفي كون القول للذين آمنوا إيماء إلى أنهم القائلون، قيل: لما أسلم حواشي الكفار من أقربائهم ومواليهم من المستضعفين قطعوا عنهم ما كانوا يواسونهم به وكان ذلك بمكة قبل نزول آيات القتال فندبهم المؤمنون إلى صلة حواشيهم فقالوا: * (أنطعم) * الخ، وقيل: سحت قريش بسبب أزمة على المساكين من مؤمن وغيره فندبهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى النفقة عليهم فقالوا هذا القول، وقيل: قال فقراء المؤمنين أعطونا ما زعمتم من أموالكم أنها لله تعالى فحرموا وقالوا ذلك، وروي هذا عن مقاتل، وقال ابن عباس: كان بمكة زنادقة إذا أمروا بالصدقة قالوا لا والله أيفقره الله تعالى ونطعمه نحن وكانوا يسمعون المؤمنين يعلقون الأفعال بمشيئة الله تعالى يقولون لو شاء الله تعالى لأغنى فلانا ولو شاء لأعزه ولو شاء سبحانه لكان كذا فأخرجوا هذا الجواب مخرج الاستهزاء بالمؤمنين وبما كانوا يقولون.
وقال القشيري أيضا: إن الآية نزلت في قوم من الزنادقة لا يؤمنون بالصانع وأنكروا وجوده فقولهم لو يشاء الله من باب الاستهزاء بالمسلمين. وجوز أن يكون مبنيا على اعتقاد المخاطبين ويفهم من هذا أن الزنديق من ينكر الصانع، وقد حقق الأمر فيه على الوجه الأكمل ابن الكمال في رسالة مستقلة فارجع إليها إن أردت ذلك. وعن الحسن. وأبي خالد أن الآية نزلت في اليهود أمروا بالإنفاق على الفقراء فقالوا ذلك.
وظاهر ما تقدم يقتضي أنها في كفار مكة أمروا بالإنفاق مما رزقهم الله تعالى وهو عام في الإطعام وغيره فأجابوا بنفي الإطعام الذي لم يزالوا يفتخرون به دلالة على نفس غيره بالطريق الأولى ولذا لم يقل أنفق.
وقيل لم يقل ذلك لأن الإطعام هو المراد من الإنفاق أو لأن * (نطعم) * بمعنى نعطي وليس بذاك، و * (أطعمه) * جواب * (لو) * وورود الموجب جوابا بغير لام فصيح ومه * (أن لو نشاء أصبناهم) * (لو نشاء جعلناه اجاجا) * (الواثعة: 70) نعم الأكثر محيئه باللام.
والظاهر أن قوله تعالى: * (إن أنتم إلا في ضلال مبين) * من تتمة قول الذين كفروا للذين آمنوا أي ما أنتم إلا في ضلال ظاهر حيث طلبتم منا ما يخالف مشيئة الله عز
وجل، ولعمري أن الإناء ينضح بما فيه فإن جوابهم يدل على غاية ضلالهم وفرط جهلهم حيث لم يعلموا أنه تعالى يطعم بأسباب منها حث الأغنياء على إطعام الفقراء وتوفيقهم سبحانه له، ويجوز أن يكون جوابا من جهته تعالى زجر به الكفرة وجهلهم به أو حكاية لجواب المؤمنين لهم فيكون على الوجهين استئنافا بيانيا جوابا لما عسى أن يقال ما قال الله تعالى أو ما قال المؤمنون في جوابهم؟ [بموقوله تعالى:
* (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم ص‍ادقين) *.
* (ويقولون) * عطف على الشرطية السابقة مفيد لإنكارهم البعث الذي هو مبدأ كل قبيح والنبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يعدهم بذلك، ومما يستحضر في أذهانهم ما تقدم من الأوامر فلذا أتوا بالإشارة إلى القريب في قولهم * (متى ه‍اذا الوعد) * يعنون وعد البعص، وجوز أن يكون ذلك من باب الاستهزاء وأرادوا متى يكون ذلك ويتحقق في الخارج * (إن كنتم ص‍ادقين) * فيما تقولون وتعدون فاخبرونا بذلك، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم
30

والمؤمنين لما أنهم أيضا كانوا يتلون عليهم الآيات الدالة عليه والآمرة بالإيمان به وكأنه لم يعتبر كونه شرا لهم ولذا عبروا بالوعد دون الوعيد، وقيل: إن ذاك لأنهم زعموا إن لهم الحسنى عند الله تعالى إن تحقق البعث بناء على أن الآية في غير المعطلة.
* (ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون) *.
* (ما ينظرون) * جواب من جهته تعالى أي ما ينتظرون * (إلا صيحة) * عظيمة * (واحدة) * وهي النفخة الأولى في الصور التي يموت بها أهل الأرض. وعبر بالانتظار نظرا إلى ظاهر قوللهم دمتى هذا الوعد) * أو لأن الصيحة لما كانت لا بد من وقوعها جعلوا كأنهم منتظروها * (تأخذهم) * تقهرهم وتستولي عليهم فيهلكون * (وهم يخصمون) * أي يتخاصمون ويتنازعون في معاملاتهم ومتاجرهم لا يخطر ببالهم شيء من مخايلها كقوله تعالى: * (فاخدتهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون) * فلا يغتروا بعدم ظهور علائمها حسبما يريدون ولا يزعمون أنها لا تأتي، وأخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عن ابن عمر قال: " لينفخن في الصور والناس في طرفهم وأسواقهم ومجالسهم حتى أن الثوب ليكون بين الرجلين يتساومان فما يرسله أحدهما من يده حتى ينفح في الصور فيصعق به " وهي التي قال الله تعالى * (ما ينظرون ءلا صيحة واحدة) * الخ، وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتومن الساعة والرجل يليط حوضه فلا يسقي منه ولتقو من الساعة وقد انصرف الرجل بلبن نعجته فلا يطعمه ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فمه فلا يطعمها " وأصل يخصمون يختتصمون وبه قرأ أبي فسكنت التاء وأدغمت في الصاد بعد قلبها صادا ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين، وجوز أن يكون الكسر لاتباع حركة الصاد الثانية والساكن لا يضر حاجزا.
وقرأ الحرميان. وأبو عمرو. والأعرج. وشبل. وابن قسطنين بادغام التاء في الصاد ونقل حركتها وهي الفتحة إلى الخاء، وأبو عمرو أيضا. وقالوا بخلف باختلاس حركة الخاء وتشديد الصاد، وعنهما إسكان الخاء وتخفيف الصاد من خصمه إذا جادله، والمفعول عليها محذوف أي يخصم بعضهم بعضا، وقيل يخصمون مجادلتهم عن أنفسهم، وبعضهم يكسر ياء المضارعة إتباعا لكسرة الخاء وشد الصاد، وكسر ياء المضارعة لغة حكاها سيبويه عن الخليل في مواضع، وعن نافع أنه قرى بفتح الياء وسكون الخاء وتشديد الصاد المكسورة، وفيها الجمع بين الساكنين على حده المعروف، وكأنه يجوز الجمع بينهما إذا كان الثاني مدغما كان الأول حرف مد أيضا أم لا، وهذا ما اخترناه في نقل القراءات تبعا لبعض الأجلة والرواة في ذلك مختلفون.
* (فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون) *.
* (فلا يستطيعون توصية) * في شيء من أمورهم إذا كانوا فيما بين أهليهم، ونصب * (توصية) * على أنه مفعول به ليستطيعون، وجوز أن يكون مفعولا مطلقا لمقدر * (ولا إلى أهلهم يرجعون) * إذا كانوا في خارج أبوابهم بل تبغتهم الصيحة فيموتون حيثما كانوا ويرجعون إلى الله عز وجل لا إلى غيره سبحانه. وقرأ ابن محيصن * (يرجعون) * بالبناء للمفعول والضمائر للقائلين * (متى هذا الوعد) * (يسن: 48) لا من حيث أعيانهم أعني أهل مكة الذين كانوا وقت النزول بل لمنكري البعث مطلقا.
* (ونفخ فى الصور فإذا هم من الاجداث إلى ربهم ينسلون) *.
* (ونفخ في الصور) * هي النفخة الثانية بينها وبين الأولى أربعون أي ينفح فيه، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع.
وقرأ الأعرج * (الصور) * بفتح الواو وقد مر الكلام في ذلك * (فإذا هم من الأجداث) * أي القبور جمع
31

جدث بفتحتين، وقرىء بالفاء بدل الثاء والمعنى واحد * (إلى ربهم) * مالك أمرهم * (ينسلون) * يسرعون بطريق الأجبار لقوله تعالى: * (لدينا محضرون) * (يس: 32) قيل: وذكر الرب للإشارة إلى إسراعهم بعد الإساءة إلى من أحسن إليهم حين اضطروا إليه، ولا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى: * (فإذا هم قيام ينظرون) * (الزمر: 68) لجواز اجتماع القيام والنظر والمشي أو لتقارب زمان القيام ناظرين وزمان الإسراع في المشي. وقرأ ابن أبي إسحق. وأبو عمرو بخلاف عنه بضم السين.
* (قالوا ياويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحم‍ان وصدق المرسلون) *.
* (قالوا) * أي في ابتداء بعثهم من القبور * (يا ويلنا) * أي هلاكنا أحضر فهذا أوانك وقيل أي يا قومنا أنظروا ويلنا وتعجبوا منه. وعلى حذف المنادي قيل وي كلمة تعجب ولنا بيان ونسب للكوفيين وليس بشيء.
وقرأ ابن أبي ليلى يا ويلتنا بتاء التأنيث، وعنه أيضا * (يا ويلتي) * بتاء بعدها ألف بدل من ياء الإضافة، والمراد أن كل واحد منهم يقول يا ويلتي * (من بعثنا من مرقدنا) * أي رقادنا على أنه مصدر ميمي أو محل رقادنا على أنه اسم مكان ويراد بالمفرد الجمع أي مراقدنا، وفيه تشبيه الموت بالرقاد من حيث عدم ظهور الفعل والاستراحة من الأفعال الاختيارية، ويجوز أن يكون المرقد على حقيقته والقوم لاختلاط عقولهم ظنوا أنهم كانوا نياما ولم يكن لهم ءدراك لعذاب القبر لذلك فاستفهموا عن موقظهم، وقيل سموا ذلك مرقدا مع علمهم بما كانوا يقاسون فيه من العذاب لعظم ما شاهدواه فكأن ذلك مرقد بالنسبة إليه فقد روي أنهم إذا عاينوا جهنم وما فيها من ألوان العذاب يرون ما كانوا فيه مثل النوم في جبنها فيقولون ذلك.
وأخرج الفريابي. وعبد بن حميد. وابن جرير وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن أبي بن كعب أنه قال: ينامون قبل البعث نومة، وأخرج هؤلاء ما عدا ابن جرير عن مجاهد قال: للكفار هجعة يجدون فيها طعم النون قبل يوم القيامة فإذا صيح بأهل القبور يقولون * (يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا) * وروي عن ابن عباس أن الله تعالى يرفع عنهم العذاب بين النفختين فيرقدون فإذا بعثوا بالنفخة الثانية وشاهدوا الأهوال قالوا: ذلك.
وفي البحر أن هذا غير صحيح الإسناد واختار أن المرقد استعارة عن مضجع الموت.
وقرأ أمير المؤمنين علي. وابن عباس. والضحاك. وأبو نهيك * (من بعثنا) * بمن الجارة والمصدر المجرور وهو متعلق بويل أو بمحذوف وقع حالا منه. ونحوه في الخبر. ويلي عليك وويلي منك يا رجل. ومن الثانية متعلق ببعث.
وعن ابن مسعود أنه قرأ * (من أهبنا) * بمن الاستفهامية وأهب بالهمزة من هب من نومه إذا انتبه وأهببته أنا أي أنبهته.
وعن أبي أنه قرأ * (هبنا) * بلا همز قال ابن جنى: وقراءة ابن مسعود أقيس فهبني بمعنى أيقظني لم أر لها أصلا ولا مر بنا في اللغة مهبوب بمعنى موقظ اللهم إلا أن يكون حرف الجر محذوفا أي هب بنا أي أيقظنا ثم حذف وأوصل الفعل، وليس المعنى على من هب فهببنا معه وإنما معناه من أيظنا، وقال البيضاوي: هبنا بدون الهمة بمعنى أهبنا بالهمز، وقرىء * (من هبنا) * بمن الجارة والمصدر من هب يهب * (هذا م وعد الرحم‍ان) * جملة من مبتدأ وخبر * (وصدق المرسلون) * عطف على ما في حيز ما، وعطفه على الجملة الاسمية أو جعله حالا بتقدير قد بدونه خلاف الظاهر، وما موصولة محذوفة العائد أي هذا الذي وعده الرحمن والذي صدقه المرسلون أي صدق فيه من قولهم صدقت زيدا الحديث أي صدقته فيه ومنه قولهم صدقني سن بكره أو مصدرية أي هذا وعد الرحمن وصدق المرسلين على تسمية الموعود والمصدوق فيه بالوعد والصدق، وهو على ما قيل جواب
32

من جهته عز وجل على ما قال الفراء من قبل الملائكة وعلى ما قال قتادة ومجاهد من قبل المؤمنين؛ وكان الظاهر أن يجابوا بالفاعل لأنه الذي سألوا عنه بأن يقال الرحمن أو الله بعثكم لكن عدل عنه إلى ما ذكر تذكيرا لكفرهم وتقريعا لهم عليه مع تضمنه الإشارة إلى الفاعل، وذكر غير واحد أنه من الأسلوب الحكيم على أن المعنى لا تسألوا عن الباعث فإن هذا الباعث ليس كبعث النائم وإن ذلك ليس مما يهمكم الآن وإنما الذي يهمكم أن تسألوا ما هذا البعث ذو الأهوال والأفزاع، وفيه من تقريعهم ما فيه.
وزعم الطيبي أن ذكر الفاعل ليس بكاف في الجواب لأن قولهم * (من بعثنا من مرقدنا) * حكاية عن قولهم ذلك عند البعث بعدما سبق من قولهم * (متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) * (يس: 48) فلا بد في الجواب من قول مضمن معنيين فكان مقتضى الظاهر أن يقال بعثكم الرحمن الذي وعدكم البعث وأنبأكم به الرسل لكن عدل إلى ما يشعر بتكذيبهم ليكون أهول وفي التقريع أدخل، وهو وارد على الأسلوب الحكيم وفي دعوى عدم كفاية ذكر الفاعل في الجواب نظر، وفي إيثارهم اسم الرحمن قيل إشارة إلى زيادة التقريع من حيث أن الوعد بالبعث من آثار الرحمة وهم لم يلقوا له بالا ولم يلتفتوا إليه وكذبوا به ولم يستعدوا لما يقتضيه، وقيل آثره المجيبون من المؤمنين لما أن الرحمة قد غمرتهم فهي نصب أعينهم، واختصاص رحمة الرحمة بما يكون في الدنيا ورحمة الرحيم بما يكون في الأخرى ممنوع فقد ورد يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما.
وقال ابن زيد: هذا الجواب من قبل الكفار على أنهم أجابوا أنفسهم حيث تذكروا ما سمعوه من المرسلين عليه السلام أو أجاب بعضهم بعضا، وآثروا اسم الرحمن طمعا في أن يرحمهم وهيهات ليس لكافر نصيب يومئذ من رحمته عز وجل، وجوز الزجاج كون * (هذا) * صفة لمرقدنا لتأويله بمشتق فيصح الوقف عليه، وقد روى عن حفص أنه وقف عليه وسكت سكتة خفيفة فحكاية إجماعة القراء على الوقف على * (مرقدنا) * غير تامة، وما مبتدأ محذوف الخبر أي حق أو مبتدأ خبره محذوف أي هو أو هذا ما وعد، وفيه من البديع صنعة التجاذب وهو أن تكون كلمة محتملة أن تكون من الساق وأن تكون من اللاحق، ومثله كما قال الشيخ الأكبر قدس سره في " تفسيره " المسمى ب " إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن " ومن خطه الشريف نقلت * (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه) * (البقرة: 146) الآية بعد قوله تعالى: * (ولئن اتبعت أهواءهم من بعدما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمن) * (البقرة: 145) وقوله تعالى: * (فيه هدى - بعد - لا ريب) * فليحفظ.
* (إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون) *.
* (إن كانت) * أي ما كانت الفعلة أو النفخة التي حكيت آنفا * (إلا صيحة واحدة) * حصلت من نفخ إسرافيل عليه السلام في الصور، وقيل: هي قول إسرائيل عليه السلام أيتها العظام النخرة والأوصال المتقطعة والشعور المتمزقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. وقرىء برفع * (صيحة) * ومر توجيهها * (فإذا هم جميع) * مجمع * (لدينا) * عندنا وفي محل حكمنا وانقطاع التصرف الظاهري من غيرنا * (محضرون) * لفصل الحساب من غير لبث ما طرفة عين، وفيه من تهوين أمر البعث والحشر والإيذان باستغنائهما عن الأسباب ما لا يخفى.
* (فا اليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون) *.
* (فاليوم) * الحاضر أو المعهود وهو يوم القيامة الدال نفخ الصور عليه؛ وانتصب على الظرف والعامل فيه قوله تعالى: * (لا تظلم نفس) * من النفوس برة كانت أو فاجرة * (شيئا) * من الظلم فهو نصب على المصدرية أو شيئا
33

من الأشياء على أنه مفعول به على الحذف والإيصال * (ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون) * أي إلا جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا على الاستمرار من الكفر والمعاصي فالكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه للتنبيه على قوة التلازم والارتباط بينهما كأنهما شيء واحد أو إلا بما كنتم تعملونه أي بمقابلته أو بسببه، وقيل: لا تجزوم إلا نفس ما كنتم تعملونه بأن يظهر بصورة العذاب، وهذا حكاية عهما يقال للكافرين حين يرون العذاب المعد لهم تحقيقا للحق وتقريعا لهم، واستظهر أبو حيان أن الخطاب يعم المؤمنين بأن يكون الكلام إخبارا من الله تعالى عما لأهل المحشر على العموم كما يشير إليه تنكير * (نفس) * واختاره السكاكي، وقيل: عليه يأباه الحصر لأنه تعالى يوفي المؤمنين أجورهم ويزيدهم من فضله أضعافا مضاعفة. ورد بأن المعنى أن الصالح لا ينقص ثوابه والطالح لا يزاد عقابه لأن الحكمة تأبى ما هو على صورة الظالم أما زيادة الثواب ونقص العقاب فليس كذلك أو المراد بقوله تعالى: * (ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون) * إنكم لا تجزون إلا من جنس عملكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر. [بم وقوله تعالى:
* (إن أصح‍ابالجنة اليوم فى شغل فاكهون) *.
* (إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون) * على تقدير كون الخطاب السابق خاصا بالكفرة من جملة ما سيقال لهم يومئذ زيادة لحسرتهم وندامتهم فإن الإخبار بحسن حال أعدائهم إثر بيان سوء حالهم مما يزيدهم مساءة على مساءة وفي حكاية ذلك مزجرة لهؤلاء الكفرة عما هم عليه ومدعاة إلى الاقتداء بسيرة المؤمنين، وعلى تقدير كونه عاما ابتداء كلام وإخبار لنا بما يكون في يوم القيامة إذا صار كل إلى ما أعد لهم من الثواب والعقاب، والشغل هو الشأن الذي يصدر المرء ويشغله عما سواه من شؤنه لكونه أهم عنده من الكل إما لإيجابه كمال المسرة أو كمال المساءة والمراد ههنا هو الأول، وتنكيره للتعظيم كأنه شغل لا يدرك كنهه، والمراد به ما هم فيه من النعيم الذي شغلهم عن كل ما يخطر بالبال، وعن ابن عباس. وابن مسعود. وقتادة هو افتضاض الأبكار وهو المروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه، وفي رواية أخرى عن ابن عباس ضرب الأوتار.
وقيل السماع وروى عن وكيع. وعن ابن كيسان التزاور، وقيل ضيافة الله تعالى وهي يوم الجمعة في الفردوس الأعلى عند كيب المسك وهناك يتجلى سبحانه لهم فيرونه جل شأنه جميعا، وعن الحسن نعيم شغلهم عما فيه أهل النار من العذاب، وعن الكلبي شغلهم عن أهاليهم من أهل النار لا يذكرونهم لئلا يتنغصوا، ولعل التعميم أولى.
وليس مراد أهل هذه الأقوال بذلك حصر شغلهم فيما ذكروه فقط بل بيان أنه من جملة أشغالهم، وتخصيص كل منهم كلا من تلك الأمور بالذكر محمول على اقتضاء مقام البيان إياه، وأفرد الشغل باعتبار أنه نعيم وهو واحد بهذا الاعتبار، والجار مع مجروره متعلق بمحذوف وقع خبرا لأن و * (فاكهون) * خبر ثان لها وجوز أن يكون هو الخبر و * (في شغل) * متعلق به أو حال من ضميره؛ والمراد بفاكهون على ما أخرج ابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. عن ابن عباس فرحون، وأخرجوا عن مجاهد أن المعنى يتعجبون بما هم فهي.
وقال أبو زيد: الفاكه الطيب النفس الضحوك ولم يسمع له فعل من الثلاثي، وقال أبو مسلم: إنه مأخوذ من الفاكهة بالضم وهي التحدث بمايسر، وقيل: التمتع والتلذذ قيل * (فاكهون) * ذووا فاكهة نحو لابن وتامر.
وظاهر صنيع أبي حيان اختياره، والتعبير عن حالهم هذه بالجملة الاسمية قبل تحققها لتنزيل المترقب المتوقع منزلة الواقع للإيذان بغاية سرعة تحققها ووقوعها، وفيه على تقدير خصوص الخطاب زيادة لمساءة المخاطبين.
وقرأ الحرميان. وأبو عمرو * (شغل) * بضم الشين وسكون الغين وهي لغة في شغل بضمتين للحجازيين كما قال الفراء.
34

وقرأ مجاهد. وأبو السمال. وابن هبيرة فيما نقل عنه ابن خالويه بفتحتين، ويزيد النحوي. وابن هبيرة أيضا فيما نقل عنه أبو الفضل الرازي بفتح الشين وإسكان العين وهما لغتان أيضا فيه. وقرأ الحسن. وأبو جعفر. وقتادة. وأبو حيوة. ومجاهد. وشيبة. وأبو رجاء. ويحيى بن صبيح. ونافع في رواية * (فكهون) * جمع فكه كحذر وحذرون وهو صفة مشبهة تدل على المبالغة والثبوت، وقرأ طلحة. والأعمش * (فاكهين) * بالألف وبالياء نصبا على الحال و * (في شغل) * هو الخبر، وقرىء * (فكهين) * بغير ألف وبالياء كذلك، وقرىء * (فكهون) * بفتح الفاء وضم الكاف وفعل بضم العين من أوزان الصفة المشبهة كنطس وهو الحاذق الدقيق النظر الصادق الفراسة [بم وقوله تعالى:
* (هم وأزواجهم فى ظل‍ال على الارآئك متكئون) *.
* (هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون) * استئناف مسوق لبيان كيفية شغلهم وتفكههم وتكميلها بما يزيدهم بهجة وسرورا من شركة أزواجهم، فهم مبتدأ و * (أزواجهم) * عطف عليه و * (متكئون) * خبر والجاران صلة له قيل قدما عليه لمراعاة الفواصل أو هو والجاران بما تعلقا به من الاستقرار أخبار مترتبة، وجوز أن يكون الخبر هو الرف الأول والظرف الثاني متعلق بمتكئون وهو خبر مبتدأ محذوف أي هم متئكون على الأرائك أو الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم و * (متئكون) * مبتدأ مؤخر والجملة على الوجهين استئناف بياني، وقيل: * (هم) * تأكيد للمستكن في خبر إن أعني فاكهون أو في شغل.
ومنعه بعضهم زعما منه أن فيه الفصل بين المؤكد والمؤكد بأجنبي و * (متكئون) * خبر آخر لها و * (على الأرائك) * متعلق به وكذا * (في ظلال) * أو هو
متعلق بمحذوف هو حال من المعطوف والمعطوف عليه، ومن جوز مجيء الحال من المبتدأ جوز هذا الاحتمال على تقدير أن يكون * (هم) * مبتدأ أيضا، والضلال جمع ظل وجمع فعل على فعال كثير كشعب وشعاب وذئب وذئاب، ويحتمل أن يكون جمع ظلة بالضم كقبة وقباب وبرمة وبرام، وأيد بقراءة عبد الله. والسلمي. وطلحة. وحمزة. والكسائي * (في ظلل) * بضم ففتح فإنه جمع ظلة لا ظل والأصل توافق القراءات، ومنذر بن سعيد يقول: جمع ظلة بالكسر وهي لغة في ظلة بالضم فيكون كلقحة ولقاح وهو قليل.
وفسر الإمام الظل بالوقاية عن مظان الألم؛ ولأهل الجنة من ظل الله تعالى ما يقيهن الأسواء والجمع باعتبار مالك واحد منهم من ذلك أو هو متعدد للشخص الواحد باعتبار تعدد ما منه الوقاة. ويحتمل أنه جمع باعتبار كونه عظيم الشأن جليل القدر كجمع اليد بمعنى القدرة على قول في قوله تعالى: * (والسماء بنيناها بأيد) * (الذاريات: 47).
وفسر أبو حيان الظلال جمع ظلة بالملابس ونحوها من الأشياء التي تظل كالستور، وأقول قال ابن الأثير الظل الفيء الحاصل من الحاجز بينك وبين الشمس أي شيء كان، وقيل هو مخصوص بما كان منه إلى زوال الشمس وما كان بعده فهو الفىء، وأنت تعلم أن الظل بالمعنى الذي تعتبر فيه المس لا يتصور في الجنة إذ لا شمس فيها، ومن هنا قال الراغب: الظل ضد الضح وهو أعم من الفيء فإنه يقال ظل الليل وظل الجنة، وجاء في ظلها ما يدل على أنه كالظل الذي يكون في الدنيا قبل طلوع الشمس، فقد روى ابن القيم في حادي الأرواح عن ابن عباس أنه سئل ما أرض الجنة؟ قال: مرمرة بيضاء من فضة كأنها مرآة قيل: ما نورها؟ قال: ما رأيت الساعة التي قبل طلوع الشمس فذلك نورها إلا أنها ليس فيها شمس ولا زمهرير، وذكر ابن عطية نحو هذا لكن لم يعزه. وتعقبه أبو حيان بأنه يحتاج إلى نقل صحيح وكيف يكون ذلك وفي الحديث ما يدل على أن حوراء من حور الجنة
35

لو ظهرت لأضاءت منها الدنيا أو نحو من هذا، ويمكن الجواب بأن المراد تقريب الأمر لفهم السائل وإيضاح الحال بما يفهمه أو بيان نورها في نفسها لا الأعم منه ومما يحصل فيها من أنوار سكانها الحوار العين وغيرهم.
نعم نورها في نفسها أتم من نور الدنيا قبل طلوع الشمس كما يومىء إليه ما أخرجه ابن ماجه عن أسامة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا هل مشمر للجنة فإن الجنة لا خطر لها أي لا عدل ولا مثل وهي ورب الكعبة نور يتلألأ " الحديث، ويجوز حمل الظلال جمع ظل هنا على المعنى وجمعه للتعدد الاعتباري، ويجوز حمل الظل على العزة والمناعة فإنه قد يعبر به عن ذل وبهذا فسر الراغب قوله تعالى: * (إن المتقين في ظلال وعيون) * (المرسلات: 41) وهو غير معنى الوقاية عن مظان الألم الذي ذكره الإمام، ويجوز حمله على أنه جمع ظلة على الستور التي تكون فوق الرأس من سقف وشجر ونحوهما ووجود ذلك في الجنة مما لا شبهة فيه فقد جاء في الكتاب وصح في السنة أن فيها غرفا وهي ظاهرة فيما كان ذا سقف بل صرح في بعض الأخبار بالسقف وجاء فيها أيضا ما هو ظاهر في أن فيها شجرا مرتفعا يظل من تحته، وقد صح من رواية الشيخين أنه صلى الله عليه وسلم قال: " إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها فاقرؤا إن شئتم * (وظلم ممدود) * " وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن عباس أنه قال الظل الممدود شجرة في الجنة على ساق قدر ما يسير الراكب المجد في ظلها مائة عام في كل نواحيها يخرج إليها أهل الجنة أهل الغرف وغيرهم فيتحدثون في ظلها الخبر، وابن الأثير يقول: معنى في ظلها في ذراها وناحيتها، وكان هذا لدفع أنها تظل من الشمس أو نحوها، و * (الأرائك) * جمع أريكة وهو السرير في قول، وقيل: الوسادة حكاه الطبرسي. وقال الزهري: كل ما اتكىء عليه فهو أريكة، وقال ابن عباس: لا تكون أريكة حتى يكون السرير في الحجلة فإن كان سرير بغير حجلة لا تكون أريكة وإن كانت حجلة بغير سرير لم تكن أريكة فالسرير والحجلة أريكة. وفي " حادي الأرواح " لا تكون أريكة إلا أن يكون السرير في الحجلة وأن يكن على السرير فراش، وفي " الصحاح الأريكة " سرير منجد مزين في قبة أو بيت، وقال الراغب: الأريكة حجلة على سرير والجمع أرائك، وتسميتها بذلك إما لكونها في الأرض متخذة من أراك وهو شجر معروف أو لكونها مكانا للإقامة من قولهم أرك بالمكان أروكا، وأصل الأروك الإقامة على رعي الأراك ثم تجوز به في غيره من الإقامات.
وبالجملة إن كلام الأكثرين يدل على أن السرير وحده لا يسمى أريكة نعم يقال للمتكىء على أريكة متكىء على سرير فلا منافاة بين ما هنا وقوله تعالى: * (متكئين على سرر مصفوفة) * (الطور: 20) لجواز أن تكون في السرر في الحجال فتكون أرائك، ويجوز أن يقال: إن أهل الجنة تارة يتكئون على الأرائك وأخرى يتكئون على السرر التي ليست بارائك، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما ورد في وصف سررهم رزقنا الله تعالى وإياكم الجلوس على هاتيك السرر والاتكاء مع الأزواج على الأرائك، والظاهر أن المراد بالأزواج أزواجهم المؤمنات اللاتي كن لهم في الدنيا، وقيل أزواجهم اللاتي متن ولم يتزوجن في الدنيا فزوجهن الله تعالى في الجنة من شاء من عباده بل الأعم من ذلك كله ومن المؤمنات اللاتي تزوجن في الدنيا بأزواج ماتوا كفارا فأدخلوا النار مخلدين فيها وأدخلن الجنة كامرأة فرعون فقد جاء في الأخبار أنها تكون زوجة نبينا صلى الله عليه وسلم وجوز أن يكون المراد بأزواجهم أشكالهم في الإحسان وأمثالهم في الايمان كما قال سبحانه: * (وآخر من شكله أزواج) * وقريب منه ما قيل
36

المراد به أخلاؤهم كما في قوله تعالى: * (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم) * (الصافات: 22) وقيل يجوز أن يراد به ما يعم الاشكال والإخلاء ومن سمعت أولا، وأنت تعلم بعد إرادة ذلك وكذا إرادة الاشكال أو الإخلاء بالخصوص.
* (لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون) *.
* (لهم فيها فاكهة) * بيان لما يتمتعون به في الجنة من المآكل والمشارب وما يتلذذون به من الملاذ الجسماني والروحانية بعد بيان ما لهم فيها من مجالس الإنس ومحافل
القدس تكميلا لبيان كيفية ما هم فيه من الشغل والبهجة كذا قيل، ويجوز أن يكون استئنافا بيانيا وقع جواب سؤال نشأ مما يدل عليه الكلام السابق من اشتغالهم بالإنس واتكائهم على الأراشك عدم تعاطيهم أسباب المأكل والمشرب فكأنه قيل: إذا كان حالهم ما ذكر فكيف يصنعون في أمر مأكلهم؟ فأجيب بقوله سبحانه: * (لهم فيها فاكهة) * وهو مشير إلى أن لهم من المأكل ما لهم على أتم وجه، وأفيد أن فيه إشارة إلى أنه لا جوع هناك وليس الأكل لدفع ألم الجوع وإنما مأكولهم فاكهة ولو كان لحما، والتنوين للتفخيم أي فاكهة جليلة الشأن، وفي قوله سبحانه: * (لهم فيها فاكهة) * دون يأكلون فيها فاكهة إشارة إلى كون زمام الاختيار بأيديهم وكونهم مالكين قادرين فإن شاؤا أكلوا وإن شاؤا أمسكوا.
* (ولهم ما يدعون) * أي ما يدعون به لأنفسهم أي لهم كل ما يطلبه أحد لنفسه لا أنهم يطلبون فإنه حاصل كما إذا سألك أحد فقلت: لك ذلك تعني فلم تطلب أو لهم ما يطلبون بالفعل على أن هناك طلبا وإجابة لأن الغبطة بالإجابة توجب اللذة بالطلب فإنه مرتبة سنية لا سيما والمطلوب منه والمجيب هو الله تعالى الملك الجيل جل جلاله وعم نواله، فيدعون من الدعاء بمعنى الطلب، وأصله يد تعيون على وزن يفتعلون سكنت الياء بعد أن ألقيت حركتها على ما قبلها وحذفت لسكونها وسكون الواو بعدها، وقيل: بل ضمت العين لأجل واو الجمع ولم يلق حركة الياء عليها وإنما حذفت استثقالا ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين فصار يدتعون فقلبت التاء دالا وأدغمت، وافتعل بمعنى فعل الثلاثي كثير ومنه اشتوى بمعنى شوى واجتمل بمعنى جمل أي أذاب الشحم.
قال لبيد: فاشتوى ليلة ريح واجتمل.
و * (لهم) * خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وهي موصولة والجملة بعدها صلة والعائد محذوف وهو إضما ضمير مجرور أو ضمير منصوب على الحذف والإيصال، وجوز أن تكون منا نكرة موصوفة وأن تكون مصدرية فالمصدر حينئذ مبتدأ وهو خلاف الظاهر، والجملة عطف على الجملة قبلها، وعدم الاكتفاء بعطف * (ما) * على * (فاكهة) * لئلا يتوهم كونها عبارة عن توابع الفاكهة ومتمماتها.
وجوز أن يكون * (يدعون) * من الافتعال بمعنى التفاعل كارتموه بمعنى تراموه أي لهم ما يتداعون، والمعنى كل ما يصح أن يطلبه أحد من صاحبه فهو حاصل لهم أو ما يطلبه بعضهم من بعض بالفعل لما في ذلك من التحاب، وأن يكون من الافتعال على ما سمعت أولا إلا أن الادعاء بمعنى التمني.
قال أبو عبيدة: العرب تقول ادع على ما شئت بمعنى تمن على، وتقول فلان في خير ما ادعى أي تمني أي لهم ما يتمنون، قال الزجاج: وهو مأخوذ من الدعاء أي كل ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم، وقيل: افتعل بمعنى فعل فيدعون بمعنى يدعون من الدعاء بمعناه المشهور أي لهم ما كان يدعون به الله عز وجل في الدنيا من الجنة ودرجاتها.
وقوله تعالى: * (سلام قولا من رب رحيم) *.
* (سلام) * جوز أن يكون بدلا من ما بدل بعض من كل ولزوم الضمير غير مسلم، وقوله تعالى:
37

* (قولا) * مفعول مطلق لفعل محذوف والجملة صفة لاسما، وقوله تعالى: * (من رب رحيم) * صفة * (قولا) * أي سلام يقال لهم قولا من جهة رب رحيم أي يسلم عليهم من جهته تعالى بلا واسطة تعظيما لهم. فقد أخرج ابن ماجه وجماعة عن جابر قال: " قال النبي صلى الله عليه وسلم بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرعوا رؤسهم فإذا الرب قد أشرف عليهم من فوقهم فقال السلام عليكم يا أهل الجنة وذلك قول الله تعالى: * (سلام قولا من رب رحيم) * قال فينظر إليه وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم " وقيل بواسطة الملائكة عليهم السلام لقوله تعالى: * (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم) * (الرعد: 23، 24) وروى ذلك عن ابن عباس وعلى الأول الأكثرون، وأما ما قيل إن ذلك سلام الملائكة على المؤمنين عند الموت فليس بشيء، والبدلية المذكورة مبنية على أن ما عامة.
وجوز أن يكون بدل كل من كل على تقدير أن يراد بها خاص أو على ادعاء الاتحاد تعظيما، ولا بأس في إبدال هذه النكرة منها على تقدير موصوليتها لأنها نكرة موصوفة بالجملة بعدها، على أنه يجوز أن يلتزم جواز إبدال النكرة من المعرفة مطلقا من غير قبح. ويجوز أن يكون * (سلام) * خبر مبتدأ محذوف والجملة بعده صفته أي هو أو ذلك سلام يقال قولا من رب رحيم، والضمير لما وكذا الإشارة، وجوز أن يكون صفة لما أي لهم ما يدعون سالم أو ذو سلامة مما يكره، و * (قولا) * مصدر مؤكد لقوله تعالى: * (لهم ما يدعون) * (يس: 57) سلام أي عدة من رب رحيم، وهذه الوصفية على تقدير كون ما نكر موصوفة ولا يصح على تقدير كونها موصولة للتخالف تعريفا وتنكيرا وأن يكون خبرا لما، و * (لهم) * متعلق به لبيان الجهة كما يقال لزيد الشرف متوفر أي ما يدعون سالم لهم خالص لا شوب فيه، ونصب * (قولا) * على ما سمعت آنفا.
وفي " الكشاف " الأوجه أن ينتصب على الاختصاص وهو من محازه فيكون الكلام جملة مفصولة عما سبق ولا ضير في نصب النكرة على ذلك، وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي ولهم سلام يقال قولا من رب رحيم، وقد الخبر مقدما لتكون الجملة على أسلوب أخواتها لا ليسوغ الابتداء بالنكرة فإن النكرة موصوفة بالجملة بعدها، وظاهر كلامهم تقدير العاطف أيضا ويمكن أن لا يقدر، وفصل الجملة على ما قيل لأنها كالتعليل لما تضمنته لآي قبلها فإن سلام الرب الرحيم منشأ كل تعظيم وتكريم، وجوز على تقدير كونه مبتدأ تقدير الخبر المحذوف عليهم؛ قال الإمام: فيكون ذلك إخبارا من الله تعالى في الدنيا كأنه سبحانه حكى لنا وقال جل شأنه: * (إن أصحاب اليوم في شغل) * (يس: 55) ثم لما كمل بيان حالهم قال: * (سلام عليهم) * وهذا كما قال سبحانه: * (سلام على نوح) * (الصافات: 79) * (وسلام على المرسلين) * (الصافات: 181) فيكون جل وعلا قد أحسن إلى عباده المؤمنين كما أحسن إلى عباده المرسلين ثم قال: وهذا وجه مبتكر جيد ما يدل عليه فنقول: أو
نقول تقديره سلام عليكم ويكون هذا نوعا من الالتفات حيث قال تعالى لهم كذا وكذا ثم قال سبحانه: * (سلام عليكم) * اه‍. ووجه الابتداء بسلام في مثل هذا التركيب موصوفا كان أم لا معروف عند أصاغر الطلبة. وقرأ محمد بن كعب القرظي * (سلم) * بكسر السين وسكون اللام ومعناه سلام. وقال أبو الفضل الرازي: مسالم لهم أي ذلك مسالم وليس بذاك.
وقرأ أبي. وعبد الله. وعيسى. والغنوي * (سلاما) * بالنصب على المصدر أي يسلم عليهم سلاما أو على الحال من ضمير ما في الخبر أو منها على القول بجواز مجيء من المبتدأ أي ولهم مرادهم خالصا.
38

* (وامتازوا اليوم أيها المجرمون) *.
* (وامتازوا اليوم أيها المجرمون) * أي انفردوا عن المؤمنين إلى مصيركم من النار. وأخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة أي اعتزلوا عن كل خير، وعن الضحاك لكل كافر بيت من النار يكون فيه لا يرى ولا يرى أي على خلاف ما للمؤمنين من الاجتماع مع من يحبون، ولعل هذا بعد زمان من أول دخولهم فلا ينافي عتاب بعضهم بعضا الوارد في آيات أخر كقوله تعالى: * (وإذ يتحاجون في النار) * (غافر: 47) ويحتمل أنه أراد لكل صنف كافر كاليهود والنصارى، وجوز الإمام كون الأمر أمر تكيون كما في * (كن فيكون) * على معنى أن الله تعالى يقول لهم ذلك فتظهر عليهم سيماء يعرفون بها كما قال سبحانه: * (يعرف المجرمون بسيماهم) * (الرحمن: 41) ولا يخفى بعده، والجملة عطفا ما على الجملة السابقة المسوقة لبيان أحوال أصحاب الجنة من عطف القصة على القصة فلا يضر التخالف إنشائية وخبرية، وكأن تغيير السبك لتخييل كمال التباين بين الفريقين وحاليهما، وإما على مضمر ينساق إليه حكاية حال أصحاب الجنة كأنه قيل إثر بيان كونهم في شغل عظيم الشأن وفوزهم بنعيم مقيم يقصر عنه البيان فليقروا بذلك عينا وامتازوا عنهم أيها المجرمون.
قاله أبو السعود، وقال الخفاجي: يجوز أن يكون بتقدير ويقال امتازا على أنه معطوف على يقال المقدر العامل في قولا وهو أقرب وأقل تكلفا لأن حذف القول وقيام معموله مقامه كثير حتى قيل فيه هو البحر حدث عنه ولا حرج، وفيه بحث يظهر بأدنى تأمل، وقيل: إن المذكور من قوله تعالى: * (إن أصحاب الجنة) * (يس: 55) إلى هنا تفصيل للمجمل السابق أعني قوله تعالى: * (ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون) * (:) وبني عليه أن المعطوف عليه متضمن لمعنى الطلب على معنى فليمتز المؤمنون عنكم يا أهل المحشر إلى الجنة وامتازوا عنهم إلى النار، وتعقبه في " الكشف " بأنه ليس بظاهر إذ بأحد الأمرين غنية عن الآخر ثم قال: والوجه أن المقصود عطف جملة قصة أصحاب النار على جملة قصة أصحاب الجنة وأوثرها هنا الطلب زيادة للتهويل والتعنيف ألا ترى إلى قوله تعالى: * (اصلوها اليوم) * (يس: 64) وإن كان لا بد من التضمين فالمعطوف أولى بأن يجعل في معنى الخبر على المعنى وأن المجرمون ممتازون منفردون.
وفائدة العدول ما في الخطاب والطلب من النكتة اه‍، وما ذكره من حديث إغناء أحد الأمرين عن الآخر سهل لكون الأمر تقديريا مع أن الامتياز الأول على وجه الإكرام وتحقيق الوعد والآخر على وجه الإهانة وتعجيل الوعيد فيفيد كل منهما ما لا يفيده الآخر، نعم قال العلامة أبو السعود في ذلك: إن اعتبار فليمتز المؤمنون وإضماره بمعزل عن السداد لما أن المحكى عنهم ليس مصيرهم إلى ما ذكر من الحال المرضية حتى يتسنى ترتيب الأمر المذكور عليه بل إنما هو استقرارهم عليها بالفعل، وكون ذلك تنزيل المترقب منزلة الواقع لا يجدي نفعا لأن مناط الاعتبار والإضمار انسياق الافهام إليه وانصباب نظم الكلام عليه فبعد التنزيل المذكور وإسقاط الترقب عن درجة الاعتبار يكون التصدي لاضمار شيء يتعلق به إخراجا للنظم الكريم عن الجزالة بالمرة، والظاهر أنه لا فرق في هذا بين التضمين والإضمار، والذي يغلب على الظن أن ما ذكر لا يفيد أكثر من أولوية تقدير فليقروا عينا على تقدير فليمتازوا فليفهم، وقال بعض الأذكياء: يجوز أن يكون * (امتازوا) * (يس: 59) فعلا ماضيا والضمير للمؤمنين أي انفرد المؤمنون عنكم بالفوز بالجنة ونعيمها أيها المجرمون ففيه تحسير لهم والعطف حينئذ من عطف الفعلية الخبرية على الاسمية الخبرية ولا منع منه، وتعقب بأنه مع ما فيه من المخالفة للأسلوب المعروف من وقوع النداء مع الأمر نحو * (يوسف أعرض عن هذا) * (يوسف: 29) قليل الجدوى وما ذكره من التحسير يكفي فيه ما قبل من ذكر ما هم عليه من
39

التنعم وأيضا للمأثور يأبى عنه غاية الإباء وهو كالنص في أن * (امتازوا) * فعل أمر ولا يكاد يخطر لقارىء ذلك.
* (ألم أعهد إليكم يابنىءادم أن لا تعبدوا الشيط‍ان إنه لكم عدو مبين) *.
* (ألم أعهد إليكم يا بني ءادم أن لا تعبدوا الشيطان) * من جملة ما يقال لهم بطريق لتقريع والإلزام والتبكيت بين الأمر والامتياز والأمر بمقاساة حر جهنم، والعهد الوصية والتقدم بأمر فيه خير ومنعة، والمراد به ههنا ما كان منه تعالى على ألسنة الرسل عليهم السلام من الأوامر والنواهي التي من جملتها قوله تعالى: * (يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة) * (الأعراف: 27) الآية، وقوله تعالى: * (ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) * (البقرة: 168) وغيرهما من الآيات الواردة في هذا المعنى، وقيل: هو الميثاق المأخوذ عليهم في عالم الذر إذ قال سبحانه لهم: * (ألست بربكم) * (الأعراف: 172) وقيل: هو ما نصب لهم من الحجج العقلية والسمعية الآمرة بعبادة الله تعالى الزاجرة عن عبادة غيره عز وجل فكأنه استعارة لإقامة البراهين والمراد بعبادة الشيطان طاعته فيما يوسوس به إليهم ويزينه لهم عبر عنها بالعباة لزيادة التحذير والتنفير عنها ولوقوعها في مقابلة عبادته عز وجل، وجوز أن يراد بها عبادة غير الله تعالى من الآلهة الباطل وإضافتها إلى الشيطان لأنه الآمر بها والمزين لها فالتجوز في النسبة، وقرأ طلحة. والهذيل بن شرحبيل الكوفي * (إعهد) * بكسر الهمزة قاله " صاحب اللوامح " وقال هي لغة تميم، وهذا الكسر في النون والتاء أكثر من بين أحرف المضارعة؛ وقال ابن عطية قرأ الهذيل وابن وثاب * (ألم إعهد) * بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء وهي من كسر حرف المضارعة سوى الياء، وروى عن ابن وثاب * (ألم أعهد) * بكسر الهاء ويقال عهد وعهد اه‍. ولعله أراد أن كسر الميم يدل على كسر الهمزة
لأن حركة الميم هي الحركة التي نقلت إليها الهمزة وحذفت الهمزة بعد نقل حركتها لا إن الميم مكسروة والهمزة بعدها مكسورة أيضا فتلفظ بها، وقال الزمخشري: قرىء * (إعهد) * بكسر الهمزة وباب فعل كله يجوز في حروف مضارعته الكسر إلا في الياء و * (أعهد) * بكسر الهاء وقد جوز الزجاج أن يكون من باب نعم ينعم وضرب يضرب و * (احهد) * بإبدال العين وحدها حاء مهملة و * (احد) * بإبدالها مع إبدال الهاء وإدغامها وهي لغة تميم ومنه قولهم دحا محا أي دعها معها وما ذكره من قوله: إلا في الياء مبني على بعض اللغات وعن بعض كلب أنهم يكسرون الياء أيضا فيقولون يعلم مثلا وقوله في أحد وأحد لغة بني تميم هو المشهور، وقيل: أحهد لغة هذيل وأحد لغة بني تميم وقولهم دحا محا إما يريدوا به دع هذه القربة مع هذه المرأة أو دع هذه المرأة مع هذه القربة * (إنه لكم عدو مبين) * أي ظاهر العداوة وهو تعليل لوجوب الانتهاب، وقيل: تعليل للنهي وعداوة اللعين جاءت من قبل عداوته لآدم عليه السلام والنداء بوصف النبوة لآدم كالتمهيد لهذا التعليل والتأكيد لعدم جريهم على مقتضى العلم فهم والمنكرون سواء.
* (وأن اعبدونى ه‍اذا صراط مستقيم) *.
* (وأن اعبدوني) * عطف على * (أن لا تعبدوا الشيطان) * (يس: 60) على أن * (أن) * فيها مفسرة للعهد الذي فيه معنى القول دون حروفه أو مصدرية حذف عنها الجار أي ألم اعهد إليكم في ترك عبادة الشيطان وفي عبادتي وتقديم النهي على الأمر لما أن حق التخلية التقدم على التحلية قيل: وليتصل به قوله تعالى: * (ه‍اذا صراط مستقيم) * بناء على أن الإشارة إلى عبادته تعالى لأنه المعروف في الصراط المستقيم، وجعل بعضهم الإشارة إلى ما عهد إليهم من ترك عبادة الشيطان وفعل عبادة الله عز وجل.
ورجح بأن عبادته تعالى إذا لم تنفرد عن عبادة غيره سبحانه لا تسمى صراطا مستقيما فتأمل والجملة استئنافية جيء بها لبيان المقتضى للعهد بعبادته تعالى أو للعهد بشقيه والتنكير للمبالغة والتعظيم أي هذا صراط بليغ
40

في استقامته جامع لكل ما يجب أن يكون عليه واصل لمرتبة يقصر عنها التوصيف والتعريف ولذا لم يقل هذا الصراط المستقيم أو هذا هو الصراط المستقيم وإن كان مفيدا للحصر، وجوز أن يكون التنكير للتبعيض على معنى هذا بعض الصرط المستقيمة وهو للهضم من حقه على الكلام المنصف، وفيه إدماج التوبيخ على معنى أنه لو كان بعض الصراط الموصوفة بالاستقامة لكفى ذلك في انتهاجه كيف وهو الأصل والعدة كما قيل:
وأقول بعض الناس عنك كناية * خوف الوشاة وأنت كل الناس
وفيه أن المطلوب الاستقامة والأمر دائر معها وقليلها كثير.
* (ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون) *.
* (ولقد أضل منكم جبلا كثيرا) * استئناف مسوق لتشديد التوبيخ وتأكيد التقريع ببيان عدم اتعاظهم بغيرهم إثر بيان نقضهم العهد فالخطاب لمتأخريهم الذين من جملتهم كفار خصوا بزيادة التوبيخ والتقريع لتضاعف جناياتهم، وإسناد الإضلال إلى ضمير الشيطان لأنه المباشر للإغواء.
والجبل - قال الراغب - الجماعة العظيمة أطلق عليهم تشبيها بالجبل في العظم، وعن الضحاك أقل الجبل وهي الأمة العظيمة عشرة آلاف، وفسره بعضهم بالجماعة وبعض بالأمة بدون الوصف وقيل هو الطبع المخلوق عليه الذي لا ينتقل كأنه جبل وهو هنا خلاف الظاهر.
وقرأ العربيان. والهذيل * (جبلا) * بضم الجيم وإسكان الباء. وقرأ ابن كثير. وحمزة. والكسائي بضمتين مع تخفيف اللام. والحسن. وابن أبي إسحاق. والزهري. وابن هرمز. وعبد الله بن عبيد بن عمير. وحفص بن حميد بضمتين وتشديد اللام، والأشهب العقيلي. واليماني. وحماد بن سلمة عن عاصم بكسر الجيم وسكون الباء، والأعمش بكسرتين وتخفيف اللام جمع جبلة نحو فطرة وفطر، وقرأ أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه. وبعض الخراسانيين * (جيلا) * بكسر الجيم بعدها ياء آخر الحروف واحد الأجيال وهو الصنف من الناس كالعرب والروم.
* (أفلم تكونوا تعقلون) * عطف على مقدر يقتضيه المقام أي أكنتم تشاهدون آثار عقوباتهم فلم تكونوا تعقلون أنها لضلالهم أو فلم تكونوا تعقلون شيئا أصلا حتى ترتدعوا عما كانوا عليه كيلا يحيق بكم العذاب الأليم.
وقرأ طلحة. وعيسى. وعاصم في رواية عبد بن حميد عنه بياء الغيبة فالضمير للجبل. [بم وقوله تعالى:
* (ه‍اذه جهنم التى كنتم توعدون) *.
* (ه‍اذه جهنم التي كنتم توعدون) * استئناف يخاطبون به بعد تمام التوبيخ والتقريع والإلزام والتبكيت عند إشرافهم على شفير جهنم أي هذه التي ترونها حهنم التي لم تزالوا توعدون بدخولها على ألسنة الرسل عليهم السلام والمبلغين عنهم بمقابلة عبادة الشيطان.
* (اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون) *.
* (إصلوها اليوم) * أمر تحقير وإهانة كقوله تعالى: * (ذق إنك أنت) * الخ أي قاسوا حرها في هذا اليوم الذي لم تستعدوا له، وقال أبو مسلم: أي صيروا صلاها أي وقودها.
وقال الطبرسي: ألزموا العذاب بها وأصل الصلا اللزوم ومنه المصلي الذي يجىء في أثر السابق للزومه أثره.
* (بما كنتم تكفرون) * كفركم المستمر في الدنيا فالباء للسببية وما مصدرية واحتمال كونها موصولة بعيد.
* (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنآ أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون) *.
* (اليوم نختم على أفواههم) * كناية عن منعهم من التكلم، ولا مانع من أن يكون هناك ختم على أفواههم حقيقة.
وجوز أن يكون الختم مستعارا لمعنى المنع بأن يشبه إحداث حالة في أفواههم مانعة من التكلم بالختم الحقيقي ثم يستعار له الختم ويشتق منه نختم فالاستعارة تبعية أي اليوم نمنع أفواههم من الكلام منعا شبيها بالختم، والأول
41

أولى في نظري * (وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون) * أي بالذي استمروا على كسبه في الدنيا وكأن الجار والمجرور قد تنازع فيه تكلم وتشهد، ولعل المعنى والله تعالى أعلم تكلمنا أيديهم بالذي استمروا على عمله ولم يتوبوا عنه وتخبرنا به وتقول إنهم فعلوا بنا وبواسطتنا كذا وكذا وتشهد عليهم أرجلهم بذلك.
ونسبة التكليم إلى الأيدي دون الشهادة لمزيد اختصاصها بمباشرة الأعمال حتى أنها كثر نسبة العمل إليها بطريق الفاعلية كما في قوله تعالى: * (يوم ينظر المرء ما قدمت يداه) * (النبأ: 40) وقوله سبحانه: * (وما عملته أيديهم) * (يس: 35) وقوله عز وجل: * (بما كسبت أيدي الناس) * (الروم: 41) وقوله جل وعلا: * (فبما كسبت أيديكم) * (السورى: 30) إلى غير ذلك ولا كذلك إلا رجل فكانت الشهادة أنسب بها لما أنها لم تضف إليها الأعمال فكانت كالأجنبية، وكان التكليم أنسب بالأيدي لكثرة مباشرتها الأعمال وإضافتها إليها فكأنها هي العاملة، هذا مع ما في جمع التكليم مع الختم على الأفواه المراد منه المنع من التكلم من الحسن.
وكأنه سبحانه لما صدر آية النور وهي قوله تعالى: * (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم) * (النور: 24) بالشهادة وذكر جل وعلا الأعضاء من الأعالي إلى الأسافل أسندها إلى الجميع ولم يخص سبحانه الأيدي بالتكليم لوقوعها بين الشهود مع أن ما يصدر منها شهادة أيضا في الحقيقة فإن كونها عاملة ليس على الحقيقة بل هي آلة والعامل هو الإنسان حقيقة وكان اعتبار الشهادة من المصدر هناك أوفق بالمقام لسبق قصة الإفك وما يتعلق بها ولذا نص فيها على الألسنة ولم ينص ههنا عليها بل الآية ساكتة عن الإفصاح بأمرها من الشهادة وعدمها، والختم على الأفواه ليس بعدم شهادتها إذ المراد منه منع المحدث عنهم عن التكلم بألسنتهم وهو أمر وراء تكلم الألسنة أنفسها وشهادتها بأن يجعل فيها علم وإرادة وقدرة على التكلم فتتكلم هي وتشهد بما تشهد وأصحابها مختوم على أفواههم لا يتكلمون.
ومنه يعلم أن آية النور ليس فيها ما هو نص في عدم الختم على الأفواه، نعم الظاهر هناك أن لا ختم وهنا أن لا شهادة من الألسنة، وعلى هذا الظاهر يجوز أن يكون المحدث عنه في الآيتين واحدا بأن يختم على أفواههم وتنطق أيديهم وأرجلهم أولا ثم يرفع الختم وتشهد ألسنتهم إما مع تجدد ما يكون من الأيدي والأرجل أو مع عدمه والاكتفاء بما كان قبل منهما وذلك إما في مقام واحد من مقامات يوم القيامة أو في مقامين، وليس في كل من الآيتين ما يدل على الحصر ونفي شهادة غير ما ذكر من الأعضاء فلا منافاة بينهما وبين قوله تعالى: * (حتى إذا ما جاؤها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون) * (فصلت: 20) فيجوز أن يكون هناك شهادة السمع والإبصار والألسنة والأيدي والأرجل وسائر الأعضاء كما يشعر بهذا ظاهر قوله تعالى والجلود في آية السجدة لكن لم يذكر بعض من ذلك في بعض من الآيات اكتفاء بذكره في البعض الآخر منها أو دلالته عليه بوجه، ويجوز أن يكون المحدث عنه في كل طائفة من الناس، وقد جعل بعضهم المحدث عنه في آية السجدة قوم ثمود، وحمل أعداء الله عليهم بقوله تعالى بعد * (وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس) * (فصلت: 25) ولا يبعد أن يكون المحدث عنه في آية النور أصحاب الإفك من المنافقين والذين يرمون المحصنات ثم إن آية السجدة ظاهرة في أن الشهادة عند المجىء إلى النار وآية النور ليس فيها ما يدل على ذلك، وأما هذه الآية فيشعر كلام البعض بأن الختم والشهادة فيها بعد خطاب المحدث عنهم بقوله تعالى: * (هذه جهنم التي كنتم توعدون * اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون) * (يس: 63، 64) فيكون ذلك عند المجىء إلى النار أيضا، قال في إرشاد العقل السليم: إن قوله تعالى: * (اليوم نخت) * الخ التفات إلى الغيبة للإيذان بأن ذكر أحوالهم القبيحة استدعى أن يعرض عنهم وتحكي أحوالهم الفظيعة لغيرهم مع ما فيه من الإيماء إلى أن
42

ذلك من مقتضيات الختم لأن الخطاب لتلقي الجواب وقد انقطع بالكلية، لكن قال في موضع آخر: إن الشهادة تتحقق في موقف الحساب لا بعد تمام السؤال والجواب وسوقهم إلى النار، والأخبار ظاهرة في ذلك.
أخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم. عن أبي موسى الأشعري من حديث " يدعى الكافر والمنافق للحساب فيعرض ربه عليه عمله فيجحد ويقول أي رب وعزتك لقد كتب على هذا الملك ما لم أعمل فيقول له الملك أما عملت كذا في يوم كذا في مكان كذا فيقول لا وعزتك أي رب ما عملته فإذا فعل ذلك ختم على فيه فإني أحسب أول ما تنطق منه فخذه اليمنى ثم تلا اليوم تختم على أفواههم الآية " وفي حديث أخرجه مسلم. والترمذي. والبيهقي عن أبي سعيد. وأبي هريرة مرفوعا " إنه يلقى العبد ربه فيقول الله تعالى له أي فل ألم أكرمك إلى أن قال صلى الله عليه وسلم فيقول آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت وتصدقت ويثنى بخير ما استطاع فيقول: ألا نبعث شاهدنا عليك فيفكر في نفسه من الذي يشهد على فيختم على فيه. ويقال لفخذه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله ".
وفي بعض الأخبار ما يدل على أن العبد يطلب شاهدا منه فيختم على فيه، أخرج أحمد. ومسلم وابن أبي الدنيا واللفظ له عن أنس في قوله تعالى: * (اليوم نختم على أفواههم) * قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه قال: أتدرون مم ضحكت؟ قلنا: لا يا رسول الله قال: من مخاطبة العبد ربه يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى فيقول: إني لا أجيز على ألا شاهدا مني فيقول كفى بنفسك عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا فيختم على فيه ويقال لأركانه انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول: بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل " والجمع بالتزام القول بالتعدد فتارة يكون ذلك عند الحساب وأخرى عند النار والقول باختلاف أحوال الناس فيما ذكر.
وما تقدم في حديث أبي موسى من أن الفخذ اليمنى أول ما تنطق على ما يحسب جزم به الحسن، وأخرج أحمد وجماعة عن عقبة بن عامر أنه سمع رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: " إن أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل الشمال " ثم الظاهر أن التكلم والشهادة بنطق حقيقة وذلك بعد إعطاء الله تعالى الأعضاء حياة وعلما وقدرة فيرد بذلك على من زعم أن البينة المخصوصة شرط فيما ذكر وإسناد الختم إليه تعالى دون ما بعد قيل لئلا يحتمل الجبر على الشهادة والكلام فدل على أن ذلك باختيار الأعضاء المذكورة بعد إقدار الله تعالى فإنه أدل على تفضيح المحدث عنهم، وهل يشهد كل عضو بما فعل به أو يشهد بذلك وبما فعل بغيره فيه خلاف والثاني أبلغ في التفظيع، والعلم بالمشهود به يحتمل أن يكون حصوله بخلق الله تعالى إياه في ذلك الوقت ولا يكون حاصلا في الدنيا ويحتمل أن يكون حصوله في الدنيا بأن تكون الأعضاء قد خلق الله تعالى فيها الإدراك فهي تدرك الأفعال كما يدركها الفاعل فإذا كان يوم القيامة رد الله تعالى لها ما كان وجعلها مستحضرة لما عملته أولا وأنطقها نطقا يفقهه المشهود عليه، وهذا نحو ما قالوا من تسبيح جميع الأشياء بلسان القال والله تعالى عل كل شيء قدير والعقل لا يحيل ذلك وليس هو بأبعد من خلق الله تعالى فيها العلم والإرادة والقدرة حتى تنطق يوم القيامة فمن يؤمن بهذا فليؤمن بذلك، والتشبث بذيل الاستبعاد يجر إلى إنكار الحشر بالكلية والعياذ بالله تعالى أو تأويله بما أوله به الباطنية الذين قتل واحد منهم - قال حجة الإسلام الغزالي - أفضل من قتل مائة كافر، وعلى هذا تكون الآية من مؤيدات القول بالتسبيح القالي للجمادات ونحوها، وعلى الاحتمال الأول يؤيد القول بجواز شهادة الشاهد إذا حصل عنده العلم الذي يقطع به بأي وجه حصل وإن لم يشهد ذلك ولا حضره. وقد أفاد الشيخ الأكبر
43

قدس سره في تفسيره المسمى بإيجاز البيان في ترجمة القرآن أن قوله تعالى: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) * (البقرة: 143) يفيد جواز ذلك، وذكر فيه أن الشاهد يأثم إن لم يشهد بعلمه، ولا يخفى عليك ما للفقهاء في المسألة من الكلام، وكأن الشهادة على الاحتمال الثاني بعد الاستشهاد بأن يقال للأركان ألم يفعل كذا فتقول بلى فعل.
ويمكن أن تكون بعد أن تؤمر الأركان بالشهادة بأن يقال لها اشهدي بما فعلوا فتشهد معددة أفعالهم، وهذا إما بأن تذكر جميع أفعالهم من المعاصي وغيرها غير مميزة المعصية عن غيرها، وكون ذلك شهادة عليهم باعتبار الواقع لتضمنها ضررهم بذكر ما هو معصية في نفس الأمر، وإما بأن تذكر المعاصي فقط، وهذا يحتاج إلى التزام القول بأن الأركان تميز في الدنيا ما كان معصية من الأفعال ما لم يكن كذلك ولا أظنك تقول به ولم أسمع أن أحدا يدعيه. وذهب بعضهم إلى أن تكليم الأركان وشهادتها دلالتها على أفعالها وظهور آثار المعاصي عليها بأن يبدل الله تعالى هيآتها بأخرى يفهم منها أهل الحشر ويستدلون بها على ما صدر منهم فجعلت الدلالة الحالية بمنزلة المقالية مجازا، وفيه أنه لا يصار إلى المجاز مع إمكان الحقيقة لا سيما وما يأتي في سورة السجدة من قوله تعالى: * (قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء) * (فصلت: 21) ظاهر جدا في النطق القالي والإخبار أظهر وأظهر، نعم يهون على هذا القول أمر الاستبعاد ولا يكاد يترك لأجله الظواهر العلماء الأمجاد، هذا والآية كالظاهرة في تكليف الكفار بالفروع إذ لو لم يكونوا مكلفين بها لا فائدة في شهادة الأعضاء بما كسبوا، وإتمام الحجة عليهم بها وتخصيص ما كسبوا بالكفر مما لا يكاد يلتفت إليه ولا أظن أن أحدا يقول به بل ربما يدعي تخصيصه بما سوى الكفر بناء على أنه من أفعال القلب دون الأعضاء التي تشهد لكن الذي يترجح في نظري العموم.
وشهادتها به إما بشهادتها بما يدل عليه من الأفعال البدنية والأقوال اللسانية أو بالعلم الضروري الذي يخلقه الله تعالى لها ذلك اليوم أو بالعلم الحاصل لها بخلق لله تعالى في الدنيا فتعلمه بواسطة الأفعال والأقوال الدالة عليه أو بطريق آخر يعلمه الله تعالى، وهي ظاهرة في أن الحشر يكون بأجزاء البدن الأصلية لا ببدن آخر ليس فيه الأجزاء الأصلية للبدن الذي كان في الدنيا إذ أركان ذلك البدن لم تكن الأعمال السيئة معمولة بها فلا يحسن الشهادة بها منها فليحفظ. وقرىء * (يختم مبنيا) * للمفعول * (وتتكلم أيديهم) * بتاءين، وقرىء * (ولتكملنا أيديهم ولتشهد أرجلهم) * بلام الأمر على أن الله تعالى يأمر الأعضاء بالكلام والشهادة. وروى عبد الرحمن بن محمد بن طلحة عن أبيه عن جده طلحة أنه قرأ * (ولتكلمنا أيديهم ولتشهد) * بلام كي والنصب على معنى لتكليم الأيدي إيانا ولشهادة الأجل نختم على أفواههم.
* (ولو نشآء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون) *.
* (ولو نشاء لطمسنا على أعينهم) * بيان أنهم اليوم في قبضة القدرة ومستحقون للعذاب إلا أنه عز وجل لم يشأ ذلك لحكمته جل وعلا الباهرة، والطمس إزالة الأثر بالمحو، والمعنى لو نشاء الطمس على أعينهم وإزالة ضوئها وصورتها بالكلية بحيث تعود ممسوحة لطمسنا عليها وأذهبنا أثرها.
وجوز أن يراد بالطمس إذهاب الضوء من غير إذهاب العضو وأثره أي ولو نشاء لأعميناهم، وإيثار صيغة الاستقبال وإن كان المعنى على المضي لإفادة أن عدم الطمس على أعينهم لاستمرار عدم المشيئة فإن المضارع المنفي الواقع موقع المضي ليس بنص في إفادة انتفاء استمرار الفعل بل قد يفيد استمرار انتفائه.
وقوله تعالى: * (فاستبقوا الصراط) * عطف على * (لطمسنا) * على الفرض والصراط منصوب بنزع الخافض أي فأرادوا الاستباق إلى الطريق الواضح المألوف لهم * (فأنى يبصرون) * أي فكيف يبصرون ذلك الطريق
44

وجهة السلوك والمقصود إنكارا أبصارهم، وحاصله لو نشاء لأذهبنا أحداقهم وأبصارهم فلو أرادوا الاستبقاق وسلوك الطريق الذي اعتادوا سلوكه لا يقدرون عليه ولا يبصرونه، وتأويل استبقوا بأرادوا الاستباق مما ذهب إليه البعض، وقيل لا حاجة لتأويله فإن الأعمى يجوز شروعه في السابق، ونصب * (الصراط) * بنزع الخافض ولم ينصب على الظرفية لأنه كالطريق مكان مختص ومثله لا ينتصب على الظرفية، وجوز كونه مفعولا به لتضمين استبقوا معنى ابتدروا، ونقل عن الأساس في قسم الحقيقة * (استبقوا الصراط) * ابتدروه، قال في " الكشف ": فعليه لا تضمين، وادعى بعضهم توهم دعوى أن ذلك معنى حقيقي وصاحب الأساس إنما ذكره في آخر قسم المجاز والمعنى لو شئنا لفعلنا ما فعلنا في أعينهم فلو أرادوا الاستباق متبدرين الطريق لا يبصرون، وقيل يجوز كونه مفعولا به على أن استبقوا بمعنى سبقوا ويجعل الطريق مسبوقا على التجوز في النسبة أو الاستعارة المكنية أو على أنه بمعنى جاوزوا، قال في " القاموس ": استبق الصراط جاوزه وظاهره أنه حقيقة في ذلك، وقال غير واحد: هو مجاز والعلاقة اللزوم، والمعنى ولو نشاء لفعلنا ما فعلنا في أعينهم فلو طلبوا أن يخلفوا الصراط الذي اعتادوا المشي فيه لعجزوا ولم يعرفوا
طريقا يعني أنهم لا يقدرون إلا على سلوك الطريق المعتاد دون ما وراءه من سائر الطرق والمسالك كما ترى العميان يهتدون فيما ألفوا وضربوا به من المقاصد دون غيرها.
وذهب ابن الطراوة إلى أن الصراط والطريق وما أشبههما من الظروف المكانية ليست مختصة فيجوز انتصابها على الظرفية، وهذا خلاف ما صرح به سيبويه وجعل انتصابها على الظرفية من الشذوذ وأنشد: لدن بهز الكف يعسل متنه * فيه كما عسل الطريق الثعلب
والمعنى في الآية لو انتصب على الظرفية لو نشاء لفعلنا ما فعلنا في أعينهم فلو أرادوا أن يمشوا مستبقين في الطريق المألوف كما كان ذلك هجيراهم لم يستطيعوا، وحمل الأعين على ما هو الظاهر منها أعني الأعضاء المعروفة والصراط على الطريق المحسوس هو المروى عن الحسن. وقتادة، وعن ابن عباس حمل الأعين على البصائر والصراط على الطريق المعقول.
أخرج ابن جرير. وجماعة عنه أنه قال: ولو نشاء لطمسنا على أعينهم أعميناهم وأضللناهم عن الهدى فأنى يبصرون فكيف يهتدون وهو خلاف الظاهر. وقرأ عيسى * (فاستبقوا) * على الأمر وهو على إضمار القول أي فيقال لهم استبقوا وهو أمر تعجيز إذ لا يمكنهم الاستباق مع طمس الأعين.
* (ولو نشآء لمسخن‍اهم على مك‍انتهم فما استط‍اعوا مضيا ولا يرجعون) *.
* (ولو نشاء لمسخناهم) * أي لحولنا صورهم إلى صور أخرى قبيحة. عن ابن عباس أي لمسخناهم قردة وخنازير، وقيل: لمسخناهم حجارة وروي ذلك عن أبي صالح، ويعلم من هذا الخلاف أن في مسخ الحيوان المخصوص لا يشترط بقاء الصورة الحيوانية، وسمي بعضهم قلب الحيوان جمادا رسخا وقلبه نباتا فسخا وخص المسخ بقلبه حيوانا آخر، ومفعول المشيئة على قياس السابق أي ولو نشاء مسخهم على مكانتهم لمسخناهم * (على مكانتهم) * أي مكانهم كالمقامة والمقام.
وأخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في معنى الآية لو نشاء لأهلكناهم في مساكنهم. وقال الحسن. وقتادة. وجماعة المعنى لو نشاء لأقعدناهم وأزمناهم وجعلناهم كسحا لا يقومون. وقرأ الحسن. وأبو بكر * (مكاناتهم) * بالجمع لتعددهم * (فما استطاعوا) * لذلك * (مضيا) * أي ذهابا إلى مقاصدهم * (ولا يرجعون) *
45

قيل هو عطف على * (مضيا) * المفعول به لاستطاعوا وهو من باب - تسمع بالمعيدي خير من أن تراه - فيكون التقدير فما استطاعوا مضيا ولا رجوعا وإلا فمفعول استطاعوا لا يكون جملة، والتعبير بذلك دون الاسم الصريح قيل للفواصل مع الإيماء إلى مغايرة الرجوع للمضي بناء على ما قال الإمام من أنه أهون من المضي لأنه ينبىء عن سلوك الطريق من قبل والمضي لا ينبي عنه، وقيل لذلك مع الإيماء إلى استمرار النفي نظرا إلى ظاهر اللفظ ويكون هناك ترق من جهتين إذا لوحظ ما أومأ إليه الإمام، وقيل له مع الإيماء إلى أن الرجوع المنفي ما كان عن إرادة واختيار فإن اعتبارهما في الفعل المسند إلى الفاعل أقرب إلى التبادر من اعتبارهما في المصدر.
واقتصر بعضهم في النكتة على رعاية الفواصل، والإمام بعد الاقتصار على رعاية الفواصل في بيان نكتة العدول عن الظاهر تقصيرا؛ وقيل هو عطف على جملة ما استطاعوا، والمراد ولا يرجعون عن تكذيبهم لما أنه قد طبع على قلوبهم، وقيل هو عطف على ما ذكر ما استطاعوا، والمراد ولا يرجعون عن تكذيبهم لما أنه قد طبع على قلوبهم، وقيل هو عطف على ما ذكر إلا أن المعنى ولا يرجعون إلى ما كانوا عليه قبل المسخ وليس بالبعيد.
وعلى القولين المراد بالمضي الذهاب عن المكان ونفي استطاعته مغن عن نفي استطاعة الرجوع، وأيا ما كان فالظاهر أن هذا وكذا ما قبله لو كان لكان في الدنيا، وقال ابن سلام: هذا التوعد كله يوم القيامة وهو خلاف الظاهر ولا يكاد يصح على بعض الأقوال.
وأصل * (مضيا) * مضوي اجتمعت الواو ساكنة مع الياء فقلبت ياء كما هو القاعدة وأدغمت الياء في الياء وقلبت ضمة الضاد كسرة لتخف وتناسب الياء. وقرأ أبو حيوة. وأحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي * (مضيا) * بكسر الميم إتباعا لحركة الضاد كالعتي بضم العين والعتي بكسرها. وقرىء * (مضيا) * بفتح الميم فيكون من المصادر التي جاءت على فعيل كالرسيم والوجيف والصئي بفتح الصاد المهملة بعدها همزة مكسورة ثم ياء مشددة مصدر صأى الديك أو الفرخ إذا صاح.
* (ومن نعمره ننكسه فى الخلق أفلا يعقلون) *.
* (ومن نعمره) * أي نطل عمره.
* (ننكسه في الخلق) * نقلبه فيه فلا يزال يتزايد ضعفه وانتقاص بنيته وقواه عكس ما كان عليه بدء أمره، وفيه تشبيه التنكيس المعنوي بالتنكيس الحسي واستعارة الحسي له، وعن سفيان أن التنكيس في سن ثمانين سنة، والحق أن زمان ابتداء الضعف ونتقاص البنية مختلف لاختلاف الأمزجة والعوارض كما لا يخفى.
والكلام عطف على قوله تعالى: * (ولو نشاء لطمسنا) * (يس: 66) الخ عطف العلة على المعلول لأنه كالشاهد لذلك.
وقرأ جمع من السبعة * (ننكسه) * مخففا من الإنكاس * (أفلا يعقلون) * أي أيرون ذلك فلا يعقلون أن من قدر على ذلك يقدر على ما ذكر من الطمس والمسخ وأن عدم إيقاعهما لعدم تعلق مشيئته تعالى بهما.
* (وما علمن‍اه الشعر وما ينبغى له إن هو إلا ذكر وقرءان مبين) *.
* (وما علمناه) * بتعليم الكتاب المشتمل على هذا البيان والتلخيص في أمر المبدأ والمعاد * (الشعر) * إذ لا يخفى على من به أدنى مسكة أن هذا الكتاب الحكيم المتضمن لجميع المنافع الدينية والدنيوية على أسلوب أفحم كل منطيق يباين الشعر ولا مثل الثريا للثرى، أما لفظا فلعدم وزنه وتقفيته، وأما معنى فلأن الشعر تخيلات مرغبة أو منفرة أو نحو ذلك وهو مقر الأكاذيب، ولذا قيل أعذبه أكذبه، والقرآن حكم وعقائد وشرائع.
والمراد من نفي تعليمه صلى الله عليه وسلم بتعليم الكتاب الشعر نفى أن يكون القرآن شعرا على سبيل الكناية لأن
46

ما علمه الله تعالى هو القرآن وإذا لم يكن المعلم شعرا لم يكن القرآن شعرا البتة، وفيه أنه عليه الصلاة والسلام ليس بشاعر إدماجا وليس هناك كناية تلويحية كما قيل، وهذا رد لما كانوا يقولونه من أن القرآن شعر والنبي صلى الله عليه وسلم شاعر وغرضهم من ذلك أن ما جاء به عليه الصلاة والسلام من القرآن افتراء وتخيل وحاشاه ثم حاشاه من ذلك * (وما ينبغي له) * اعتراض لتقرير ما أدمج أي لا يليق ولا يصلح له صلى الله عليه وسلم الشعر لأنه يدعو إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ والوزن ولأن أحسنه المبالغة والمجازفة والإغراق في الوصف وأكثره تحسين ما ليس بحسن وتقبيح ما ليس بقبيح وكل ذلك يستدعي الكذب أو يحاكيه الكذب وجل جناب الشارع عن ذلك كذا قيل.
وقال ابن الحاجب: أي لا يستقيم عقلا أن يقول صلى الله عليه وسلم الشعر لأنه لو كان ممن يقوله لتطرقت التهمة عند كثير من الناس في أن ما جاء به من قبل نفسه وأنه من تلك القوة الشعرية ولذا عقب هذا بقوله تعالى: * (ويحق القول على الكافرين) * (يس: 70) لأنه إذا انتفت الريبة لم يبق إلا المعاندة فيحق القول عليهم. وتعقب بأن الإيجاز يرفع التهمة وإلا فكونه عليه الصلاة والسلام في المرتبة العليا من الفصاحة والبلاغة في النثر ليس بأضعف من قول الشعر في كونه مظنة تطرق التهمة بل ربما يتخيل أنه أعظم من قول الشعر في ذلك فلو كانت علة منعه عليه الصلاة والسلام من الشعر ما ذكر لزم أن يمنع من الكلام الفصيح البليغ سدا لباب الريبة ودحضا للشبهة وإعظاما للحجة فحيث لم يكن ذلك اكتفاء بالإعجاز وأن التهمة والريب معه مما لا ينبغي أن يصدر من عاقل ولذا نفى الريب مع أنه وقع علم أن العلة في أنه عليه الصلاة والسلام لا ينبغي له الشعر شيء آخر، واختار هذا ابن عطية وجعل العلة ما في قول الشعر من التخييل والتزويق للقول وهو قريب مما سمعت أولا، وهو الذي ينبغي أن يعول عليه، وفي الآية عليه دلالة على غضاضة الشعر وهي ظاهرة في أنه عليه الصلاة والسلام لم يعط طبيعة شعرية اعتناء بشأنه ورفعا لقدره وتبعيدا له صلى الله عليه وسلم من أن يكون فيه مبدأ لما يخل بمنصبه في الجملة.
وإنما لم يعط صلى الله عليه وسلم القدرة على الشعر مع حفظه عن إنشائه لأن ذلك سلب القدرة عليه في الإبعاد عما يخل بمنصبه الجليل صلى الله عليه وسلم ونظير ما ذكرنا العصمة والحفظ، ويفهم من كلام المواهب اللدنية أن من الناس من ذهب إلى أنه عليه الصلاة والسلام كان له قدرة على الشعر إلا أنه يحرم عليه أن يشعر وليس بذاك، نعم القول بحرمة إنشاء الشعر مقبول ومعناه على القول السابق على ما قيل حرمة التوصل إليه، وقد يقال: لا حاجة إلى التأويل وحرمة الشيء تجامع عدم القدرة عليه، وهل عدم الشعر خاص به عليه الصلاة والسلام أو عام لنوع الأنبياء قال بعضهم هو عام لهذه الآية إذ لا يظهر للخصوص نكتة، وقيل يجوز أن يكون خاصا والنكتة زيادة التكريم لما أن مقامه صلى الله عليه وسلم فوق مقام الأنبياء عليهم السلام ويكون الثابت لهم الحفظ عن الإنشاء مع ثبوت القدرة عليه وإن صح خبر إنشاء آدم عليه السلام يوم قتل ولده: تغيرت البلاد ومن عليها * ووجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي طعم ولون * وقل بشاشة الوجه الصبيح
اتضح أمر الخصوص وعلم أن لا حفظ من الإنشاء أيضا، ولعل الحفظ حينئذ مما فيه ما يشين ويخل بمنصب النبوة مطلقا، والنكتة في الخصوص ظاهرة على ما نقل عن ابن الحاجب لأن أعظم معجزاته عليه الصلاة
47

والسلام القرآن فربما تحصل التهمة فيه لو قال صلى الله عليه وسلم الشعر وكذلك معجزات الأنبياء عليهم السلام فتأمل.
وأيا ما كان لا يرد أنه عليه الصلاة والسلام قال يوم حنين وهو على بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحرث آخذ بزمامها ولم يبق معه عليه الصلاة والسلام من الناس إلا قليل - أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب - لأنا لا نسلم أنه شعر فقد عرفوه بأنه الكلام المقفى الموزون على سبيل القصد وهذا مما اتفق له عليه الصلاة والسلام من غير قصد لوزنه ومثله يقع كثيرا في الكلام المنثور ولا يسمى شعرا ولا قائله شاعرا، ولا يتوهم من انتسابه صلى الله عليه وسلم فيه إلى جده دون أبيه دليل القصد لأن النسبة إلى الجد شائعة ولأنه هو الذي قام بتربيته حيث توفى أبوه عليه الصلاة والسلام وهو حمل فحين ولقد قام بأمره فوق ما يقوم الوالد بأمر الولد ولأنه كان مشهورا بينهم بالصدق والشرف والعزة فلذا خصه بالذكر ليكون كالدليل على ما قبل أو كمانع آخر من الانهزام ولأن كثيرا من الناس كانوا يدعونه عليه الصلاة والسلام بابن عبد المطلب. ومنه حديث ضمام بن ثعلبة أيكم ابن عبد المطلب على أن منهم من لم يعد الرجز مطلقا وأصله ما كان على مستفعلن ست مرات شعرا ولذا يسمى قائله راجزا لا شاعرا، وعن الخليل أن المشطور منه وهو ما حذف نصفه فبقي وزنه مستفعلن ثلاث مرات؛ والمنهوك وهو ما حذف ثلثاه فبقي وزنه مستفعلن مرتين ليسا بشعر، وفي رواية أخرى عنه أن المجزو وهو ما حذف من كل مصراع منه جزء فبقي وزنه مستفعلن أربع مرات كذلك فقوله صلى الله عليه وسلم أنا النبي لا كذب إن كان نصف بيت فهو مجزو فليس بشعر على هذه الرواية وأن فرض أن هناك قصدا وإن كان بيتا تاما فهو فليس منهوك بشعر أيضا على الرواية الأولى وكونه ليس بشعر على قول من لا يرى الرجز مطلقا شعرا ظاهر.
وجاء في بعض الروايات أنه عليه الصلاة والسلام حرك الباء من كذب والمطلب فلا يكون ذلك موزونا فكونه ليس بشعر أظهر وأظهر، والقول بأن ضمير * (له) * للقرآن المعلوم من السياق أي وما يصح للقرآن أن يكون شعرا فيجوز صدور الشعر عنه صلى الله عليه وسلم ولا يحتاج إلى توجيه ليس بشيء فإنه يكفي في نفي الشعر عنه عليه الصلاة والسلام قوله سبحانه: * (وما علمناه الشعر) * مكع أن الظاهر عود الضمير عليه عليه الصلاة والسلام، وأولى التوجيهات إخراج ذلك من الشعر بانتفاء القصد وبذلك يخرج ما وقع في القرآن من نظائره منه، وقد ذكرنا لك فيما مر كثيرا منها، وليس في الآية ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينبغي له التكلم بشعر قاله بعض الشعراء والتمثل به، وفي الأخبار ما يدل على وقوع التكلم بالبيت متزنا نادرا كما روي أنه عليه الصلاة والسلام أنشد بيت ابن رواحة: يبيت
يجافي جنبه عن فراشه * إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
وإنشاده إياه كذلك مذكور في البحر "، وروي أنه صلى الله عليه وسلم أصاب أصبعه الشريفة حجر في بعض غزواته فدميت فتمثل بقول الوليد بن المغيرة: على ما قاله ابن هشام في السيرة أو ابن رواحة على ما صححه ابن الجوزي:
48

ما أنت إلا أصبع دميت * وفي سبيل الله ما لقيت
وقيل: هو له عليه الصلاة والسلام والكلام فيه كالكلام في قوله صلى الله عليه وسلم أنا النبي الخ إلا أن هذا يحتمل أن يكون مشطورا إذا كان كل من شطريه بيتا وعلى وقوع التكلم بالبيت غير متزن مع إحراز المعنى كثيرا كما روي أنه عليه الصلاة والسلام أنشد: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا * ويأتيك من لم تزود بالأخبار
فقال أبو بكر. رضي الله تعالى عنه ليس هكذا يا رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام: " إني والله ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي " وفي خبر أخرجه أحمد. وابن أبي شيبة عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استراث الخبر تمثل ببيت طرفة ويأتيك من لم تزود بالأخبار.
وأخرج ابن سعد. وابن أبي حاتم عن الحسن أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت: كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا
فقال أبو بكر: أشهد أنك رسول الله ما علمك الشعر وما ينبغي لك، وأخرج ابن سعيد عن عبد الرحمن بن أبي الزناد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للعباس بن مرداس: أرأيت قولك: أتجعل نهبي ونهب العبي‍ * د بين الأقرع وعيينة
فقال له أبو بكر: رضي الله تعالى عنه بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما أنت بشاعر ولا رواية ولا ينبغي لك إنما قال بين عيينة والأقرع، وروي أنه قيل له عليه الصلاة والسلام: من أشعر الناس؟ فقال: الذي يقول: ألم ترياني كلما جئت طارقا * وجدت بها وإن لم تطيب طيبا
وأخرج البيهقي في سننه بسند فيه مجهول عن عائشة قالت ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت شعر قط إلا بيتا واحدا: تفاءل بما تهوى يكن فلقلما * يقال لشيء كان إلا تحقق
قالت عائشة ولم يقل تحققا لئلا يعربه فيصير شعرا، ثم إنه عليه الصلاة والسلام مع هذا لم يكن يحب الشعر ففي مسند أحمد بن حنبل عن عائشة قالت: كان أبغض الحديث إليه صلى الله عليه وسلم الشعر، وفي " الصحيحين " وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلىء شعرا " وهذا ظاهر في ذم الإكثار منه، وما روي عن الخليل أنه قال كان الشعر أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام مناف لما سمعت عن المسند، ولعل الجمع بالتفصيل بين شعر وشعر، وقد تقدم الكلام في الشعر مفصلا في سورة الشعراء فتذكر.
* (إن هو) * أي ما القرآن * (إلا ذكر) * أي عظة من الله عز وجل وإرشاد للثقلين كما قال سبحانه: * (إن هو إلا ذكر للعالمين) * (يوسف: 104) * (وقرآن مبين) * أي كتاب سماوي ظاهر أنه ليس من كلام البشر لما فيه من الإعجاز الذي ألقم من تصدى للمعارضة الحجر.
* (لينذر من كان حيا ويحق القول على الك‍افرين) *.
* (لينذر) * أي القرآن أو الرسول عليه الصلاة والسلام، ويؤيده قراءة نافع. وابن عارم * (لتنذر) * بتاء الخطاب. وقرأ اليماني * (لينذر) * مبنيا للمفعول ونقلها ابن خالويه عن الجحدري وقال: عن أبي السمال. واليماني أنهما قرءا * (ليذنر) * بفتح الياء والذال مضارع نذر بالشيء بكسر الذال إذا علم به.
* (من كان حيا) * أي عاقلا كما أخرج ذلك ابن جرير. والبيهقي في شعب الإيمان عن الضحاك، وفيه استعارة
49

مصرحة بتشبيه العقل بالحياة أو مؤمنا بقرينة مقابلته بالكافرين، وفيه أيضا استعارة مصرحة لتشبيه الإيمان بالحياة، ويجوز كونه مجازا مرسلا لأنه سبب للحياة الحقيقية الأبدية، والمضي في * (كان) * باعتبار ما في علمه عز وجل لتحققه، وقيل كان بمعنى يكون، وقيل في الكلام مجاز المشارفة ونزلت منزلة المضي وهو كما ترى، وتخصيص الإنذار به لأنه المنتفع بذلك * (ويحق القول) * أي تجب كلمة العذاب * (على الكافرين) * الموسومين بهذا الوسم المصرين على الكفر، وفي إيرادهم بمقابلة من كان حيا إشعار بأنهم لخلوهم عن آثار الحياة وأحكامها كالمعرفة أموات في الحقيقة، وجوز أن يكون في الكلام استعارة مكنية قرينتها استعارة أخرى. وكأنه جىء بقوله سبحانه: * (لينذر) * الخ رجوعا إلى ما بدىء به السورة من قوله عز وجل: * (لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم) * ولو نظرت إلى هذا التخلص من حديث المعاد إلى حديث القرآن والإنذار لقضيت العجب من حسن موقعه.
* (أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينآ أنع‍اما فهم لها م‍الكون) *.
* (أو لم يروا) * الهمزة للإنكار والتعجيب والواو للعطف على جملة منفية مقدرة مستتبعة للمعطوف أي ألم يتفكروا أو ألم يلاحظوا أو ألم يعلموا علما يقينيا مشابها للمعاينة زعم بعضهم أن هذا عطف على قوله تعالى: * (ألم يروا كم أهلكنا) * الخ والأول للحث على التوحيد بالتحذير من النقم وهذا بالتذكير بالنعم المشار إليها بقوله تعالى: * (أنا خلقنا لهم) * أي لأجلهم وانتفاعهم * (مما عملت أيدينا) * أي مما تولينا إحداثه بالذات من غير مدخل لغيرنا فيه لا خلقا ولا كسبا.
والكلام استعارة تمثيلية فيما ذكر، وجوز أن يكون قد كني عن الإيجاد بعمل الأيدي فيمن له ذلك ثم بعد الشيوع أريد به ما أريد مجازا متفرعا على الكناية، وقال بعضهم: المراد بالعمل الإحداث وبالأيدي القدرة مجازا، وأوثرت صيغة التعظيم والأيدي مجموعة تعظيما لشأن الأثر وإنه أمر عجيب وصنع غريب وليس بذاك، وقيل الأيدي مجاز عن الملائكة المأمورين بمباشرة الأعمال حسبما يريده عز وجل في عامل الكون والفساد كملائكة التصوير وملائكة نفخ الأرواح في الأبدان بعد إكمال تصويرها ونحوهم، ولا يخفى ما فيه.
ونحوه ما قيل الأيدي مجاز عن الأسماء فإن كل أثر في العالم بواسطة اسم خاص من أسمائه عز وجل.
وأنت تعلم أن الآية من المتشابه عند السلف وهم لا يجعلون اليد مضافة إليه تعالى بمعنى القدرة أفردت - كيد الله فوق أيديهم - أو ثنيت كخلقت بيدي أو جمعت كما هنا بل يثبتون اليد له عز وجل كما أثبتها لنفسه مع التنزيه الناطق به قوله سبحانه: * (ليس كمثله شيء) * وارتضاه كثير ممن وفقه الله تعالى من الخلق، ولا أرى الطاعنين عليهم إلا جهلة * (أنعاما) * مفعول * (خلقنا) * وأخر عن الجارين المتعلقين به اعتناء بالمقدم وتشويقا إلى المؤخر وجمعا بينه وبين ما يتعلق به من أحكامه المتفرعة عليه، والمراد بالأنعام الأزواج الثمانية وخصها بالذكر لما فيها من بدائع القطرة وكثرة المنافع، وهذا كقوله تعالى: أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * (فهم لها مالكون) * أي متملكون لها بتمليكنا إياها لهم، والفاء قيل للتفريع على مقدر أي خلقنا لهم أنعاما وملكناها لهم فهم بسبب ذلك مالكون لها، وقيل للتفريع على خلقها لهم وفيه خفاء. وجوز أن يكون الملك بمعنى القدرة والقهر من ملكت العجيب إذا أجدت عجنه، ومنه قول الربيع بن منيع الفزاري وقد سئل عن حاله بعد إذ كبر: أصبحت لا أحمل السلاح ولا * أملك رأس البعير إن نفرا
50

والأول أظهر ليكون ما بعد تأسيسا لا تأكيدا، وأيا ما كان فلها متعلق بمالكون واللام مقوية للعمل وقدم لرعاية الفواصل مع الاهتمام، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على استقرار مالكيتهم لها واستمرارها.
* (وذللن‍اها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون) *.
* (وذللناها لهم) * أي وصيرناها سهلة غير مستعصية عليهم في شيء مما يريدون بها حتى الذبح حسبما ينطق به قوله تعالى: * (فمنها ركوبهم) * فإن الفاء فيه لتفريع أحكام التذليل عليه وتفصيلها أي فبعض منها مركوبهم فركوب فعول بمعنى مفعول كحصور وحلوب وقزوع وهو مما لا ينقاس. وقرأ أبي. وعائشة * (ركوبتهم) * بالتاء وهي فعولة بمعنى مفعولة كحلوبة، وقيل جمع ركوب، وتعقب بأنه لم يسمع فعولة بفتح الفاء في الجموع ولا في أسمائها. وقرأ الحسن. والأعمش. وأبو البرهسم * (ركوبهم) * بضم الراء وبغير تاء وهو مصدر كالقعود والدخول فإما أن يؤول بالمفعول أو يقدر مضاف في الكلام إما في جانب المسند إليه أي ذو ركوبهم أو في جانب المسند أي فمن منافعها ركوبهم * (ومنها يأكلون) * أي وبعض منها يأكلون لحمه، والتبعيض هنا باعتبار الأجزاء وفيما قيل باعتبار الجزئيات والجملة معطوفة على ما قبلها، وغير الأسلوب لأن الأكل عام في الأنعام جميعها وكثير مستمر بخلاف الركوب كذا قيل، وقيل الفعل موضوع موضع المصدر وهو بمعنى المفعول للفاصلة.
* (ولهم فيها من‍افع ومش‍ارب أفلا يشكرون) *.
* (ولهم فيها) * أي في الأنعام بكلا قسميها * (منافع) * جمع مشرب مصدر بمعنى المفعول والمراد به اللبن، وخص مع دخوله في المنافع لشرفه واعتناء العرب به، وجمع باعتبار أصنافه ولا ريب في تعددها، وتعميم المشارب للزبد والسمن والجبن والأقط لا يصح إلا بالتغليب أو التجوز لأنها غير مشروبة ولا حاجة إليه مع دخولها في المنافع، وجوز أن تكون المشارب جمع مشرب موضع الشرب.
قال الإمام: وهو الآنية فإن من الجلود يتخذ أواني الشرب من القرب ونحوها، وقال الخفاجي: إذا كان موضعا فالمشارب هي نفسها لقوله سبحانه: * (فيها) * فإنها مقرة، ولعله أظهر من قول الإمام * (أفلا يشكرون) * أي يشاهدون هذه النعم فلا يشكرون المنعم بها ويخصونه سبحانه بالعبادة.
* (واتخذوا من دون الله ءالهة لعلهم ينصرون) *.
* (واتخذوا من دون الله) * أي متجاوزين الله تعالى الذي رأوا منه تلك القدرة الباهرة والنعم الظاهرة وعلموا أنه سبحانه المتفرد بها * (ءالهة) * من الأصنام وأشركوها به عز وجل في العبادة * (لعلهم ينصرون) * رجاء أن ينصروا أو لأجل أن ينصروا من جهتهم فيما نزل بهم وأصابهم من الشدائد أو يشفعوا لهم في الآخرة [بم وقوله تعالى:
* (لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون) *.
* (لا يستطيعون نصرهم) * الخ استئناف سيق لبيان بطلان رأيهم وخيبة رجائهم وانعكاس تدبيرهم أي لا تقدر آلهتهم على نصرهم، وقول ابن عطية، يحتمل أن يكون ضمير * (يستطيعون) * للمشركين وضمير * (نصرهم) * للأصنام ليس بشيء أصلا * (وهم) * أي أولئك المتخذون المشركون * (لهم) * أي لآلهتهم * (جند محضرون) * أي معدون لحفظهم والذب عنهم في الدنيا.
أخرجه ابن أبي حاتم. وابن المنذر. عن الحسن. وقتادة، وقيل:
51

المعنى أن المشركين جند لآلهتهم في الدنيا محضرون للنار في الآخرة، وجاء بذلك في رواية أخرجها ابن أبي حاتم عن الحسن، واختار بعض الأجلة أن المعنى والمشركون لآلهتهم جند محضرون يوم القيامة أثرهم في النار وجعلهم جندا من باب التهكم والاستهزاء. وكذلك لام لهم الدالة على النفع، وقيل * (هم) * للآلهة وضمير * (لهم) * للمشركين أي وإن الآلهة معدون محضرون لعذاب أولئك المشركين يوم القيامة لأنهم يجعلون وقود النار أو محضرون عند حساب الكفرة إظهارا لعجزهم وإقناطا للمشركين عن شفاعتهم وجعلهم جندا، والتعبير باللام في الوجهين على ما مر آنفا، واختلاف مراجع الضمائر في الآية ليس من التفكيك المحظور، والواو في قوله سبحانه: * (وهم) * الخ على جميع ما مر إما عاطفة أو حالية إلا أن الحال مقدرة في بعض الأوجه كما لا يخفى. [بم والفاء في قوله تعالى:
* (فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون) *.
* (فلا يحزنك قولهم) * فصيحة أي إذا كان هذا حالهم مع ربهم عز وجل فلا تحزن بسبب قولهم عليك هو شاعر أو إذا كان حالهم يوم القيامة ما سمعت فلا تحزن بسبب قولهم على الله سبحانه إن له شركاء تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا أو عليك هو شاعر أو على الله تعالى وعليك ما لا يليق بشأنه عز وجل وشأنك، والاقتصار في بيان قولهم عليه صلى الله عليه وسلم بأنه وحاشاه شاعر لأنه الأوفق بما تقدم من قوله تعالى: * (وما علمناه الشعر وما ينبغي له) * (يس: 69) وقد يعمم فيشمل جميع ما لا يليق بشأنه عليه الصلاة والسلام من الأقوال، وتفسير الشرط الذي أفصحت عنه الفاء بما ذكرنا أولا هو المناسب لما روي عن الحسن. وقتادة. في معنى قوله تعالى: * (وهم لهم جند محضرون) * وبما ذكرنا ثانيا هو المناسب لما ذكر بعد في معنى ذلك، وقيل التقدير على الأول إذا كانوا في هذه المرتبة من سخافة العقول حيث اتخذوا رجاء النصر آلهة من دون الله عز وجل لا يقدرون على نصرهم والذب عنهم بل هم يذبون عن تلك الآلهة فلا تحزن بسبب قولهم عليك ما قالوا ولعل الأول أولى، وأيا ما كان فالنهي وإن كان بحسب الظاهر متوجها إلى قولهم لكنه في الحقيقة كما أشرنا إليه متوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد نهيه عليه الصلاة والسلام عن التأثر من الحزن بطريق الكناية على أبلغ وجه وأكده كما لا يخفى.
وقرأ نافع * (فلا يحزنك) * بضم الياء وكسر الزاي من أحزن المنقول من حزن اللازم وجاء حزنه وأحزنه.
* (إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون) * تعليل صريح للنهي بطريق الاستئناف بعد تعليلة بطريق الإشعار بناء على التقدير الثاني في الشرط فإن العلم بما ذكر مجاز عن مجازاتهم عليه أو كناية عنها للزومها إياه إذ علم الملك القادر الحكيم بما جرى من عدوه الذي تقتضي الحكمة الانتقام منه مقتض لمجازاته والانتقام منه، وهو على التقدير الأول قيل استئناف بياني وقع جواب سؤال مقدر كأنه قيل: يا رب فإذا كان حالهم معك ومع نبيك ذلك فماذا تصنع بهم؟ فقيل: * (إنا نعلم) * الخ أي نجازيهم بجميع جناياتهم، وقيل هو تعليل لترتيب النهي على الشرط فتأمل، وما موصلة والعائد محذوف أي نعلم الذي يسرونه من العقائد الزائغة والعداوة لك ونحو ذلك والذي يعلنونه من كلمات الإشراك والتكذيب ونحوها، وجوز أن تكون مصدرية أي نعلم إسرارهم وإعلانهم والمفعول محذوف أو الفعلان منزلان منزلة اللازم والمتبادر الأول وهو الأولى.
وتقديم السر على العلن لبيان إحاطة علمه سبحانه بحيث أن علم السر عنده تعالى كأنه أقدم من علم العلن، وقيل: لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شيء يعلن إلا وهو أو مباديه مضمر في القلب قبل ذلك فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية حقيقة، وقيل: للإشارة إلى الاهتمام بإصلاح الباطن فإنه ملاك الأمر ولأنه محل الاشتباه المحتاج للبيان، وشاع أن الوقف على * (قولهم) * متعين، وقيل: ليس به
52

لأنه جوز في * (أنا نعلم) * الخ كونه مقول القول على أن ذلك من باب الإلهاب والتعريض كقوله تعالى: * (ولا تكونن من المشركين) * أو على أن المراد فلا يحزنك قولهم على سبيل السخرية والاستهزاء إنا نعلم الخ، ومنه يعلم أنه لو قرأ قارىء أنا نعلم بالفتح وجعل ذلك بدلا من * (قولهم) * لا تنتقض صلاته ولا يكفر لو اعتقد ما يعطيه من المعنى كما لو جعله تعليلا على حذف حرف التعليل، والحق أن مثل هذا التوجيه لا بأس بقبوله في درء الكفر، وأما أمر الوقف فالذي ينبغي أن يقال فيه أنه على قولهم كالمتعين.
* (أولم ير الإنس‍ان أنا خلقن‍اه من نطفة فإذا هو خصيم مبين) *.
* (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة) * كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان إنكارهم البعث بعد ما شاهدوا في أنفسهم ما يوجب التصديق به كما أن ما سبق مسوق لبيان بطلان إشراكهم بالله عز وجل بعدما عاينوا فيما بأيديهم ما يوجب التوحيد والإسلام، وقيل: إنه تسلية له عليه الصلاة والسلام كقوله تعالى: * (فلا يحزنك قولهم) * وذلك بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر وليس بشيء.
والهمزة للإنكار والتعجب والواو للعطف على جملة مقدرة هي مستتبعة للمعطوف كما مر في قوله تعالى: * (أولم يروا) * الخ أي ألم يتفكر الإنسان ولم يعلم أنا خلقناه من نطفة أو هي عين تلك الجملة أعيدت تأكيدا للنكير السابق وتمهيدا لإنكار هو أحق منه بالإنكار لما أن المنكر عين علمهم بما يتعلق بخلق أنفسهم، ولا ريب في أن علم الإنسان بأحوال نفسه أهم وإحاطته بها أسهل وأتم فالإنكار والتعجيب من الإخلال بذلك كأنه قيل ألم يعلموا خلقه تعالى لأسباب معايشتهم ولم يعلموا خلقه تعالى لأنفسهم أيضا مع كون العلم بذلك في غاية الظهور ونهاية الأهمية، ويشير كلام بعض الأجلة إلى أن العطف على * (أو لم يروا) * السابق والجامع ابتناء كل منهما على التعكيس فإنه تعالى خلق للإنسان ما خلق ليشكر فكفر وجحد المنعم والنعم وخلقه سبحانه من نطفة قذرة ليكون منقادا متذللا فطغى وتكبر وخاصم، وإيراد الإنسان مورد الضمير لأن مدار الإنكار متعلق بأحواله من حيث هو إنسان.
وقوله تعالى: * (فإذا هو خصيم) * أي مبالغ في الخصومة والجدال الباطل * (مبين) * ظاهر متجاهر في ذلك عطف على الجملة المنفية داخل في حيز الإنكار والتعجيب كأنه قيل: أولم يرانا خلقناه من أخس الأشياء وأمهنها ففاجأ خصومتنا في أمر يشهد بصحته مبدأ فطرته شهادة بينة، وإيراد الجملة اسمية للدلالة على استقراره في الخصومة واستمراره عليها. وفي " الحواشي الخفاجية " أن تعقيب الإنكار بالفاء وإذا الفجائية على ما يقتضي خلافه مقو للتعجيب، والمراد بالإنسان الجنس، والخصيم إنما هو الكافر المنكر للبعث مطلقا، نعم نزلت الآية في كافر مخصوص، أخرج جماعة منهم الضياء في المختارة عن ابن عباس قال: جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم حائل ففته بيده فقال: يا محمد أيحيي الله تعالى هذا بعد ما أرم؟ قال: نعم يبعث الله تعالى هذا ثم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم فنزلت الآيات * (أولم ير الإنسان) * إلى آخر السورة، وفي رواية ابن مردويه عنه أن الجائي القائل ذلك أبي بن خلف وهو الذي قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بالحربة، وروي ذلك عن أبي مالك. ومجاهد. وقتادة. والسدي. وعكرمة. وغيرهم كما في " الدر المنثور "، وفي رواية أخرى عن الحبر أنه أبو
جهل بن هشام، وفي أخرى عنه أيضا أنه عبد الله بن أبي، وتعقب ذلك أبو حيان بأن نسبة ذلك إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهم لأن السورة والآية مكية بإجماع ولأن عبد الله بن أبي لم يجاهر قط هذه المجاهرة، وحكي عن مجاهد. وقتادة أنه أمية بن خلف، والذي اختاره وادعى أنه أصح الأقوال أنه أبي بن خلف ثم قال: ويحتمل أن كلا من هؤلاء الكفرة وقع منه ذلك، وقيل معنى قوله تعالى: * (فإذا هو خصيم مبين) * فإذا هو بعدما كان ماء مهينا رجل مميز
53

منطيق قادر على الخصام مبين معرب عما في ضميره فصيح فهو حينئذ معطوف على * (خلقناه) * والتعقيب والمفاجأة ناظران إلى خلقه، و * (مبين) * متعد والكلام من متممات شواهد صحة البعث [بم فقوله تعالى:
* (وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحى العظ‍ام وهى رميم) *.
* (وضرب لنا مثلا) * معطوف حينئذ على الجملة المنفية داخل في حيز الإنكار، وأما على الأول فهو عطف على الجملة الفجائية، والمعنى ففاجأ خصومتنا وضرب لنا مثلا أي أورد في شأننا قصة عجيبة في نفس الأمر هي في الغرابة كالمثل وهي إنكار أحيائنا العظام أو قصة عجيبة في زعمه واستبعدها وعدها من قبيل المثل وأنكرها أشد الإنكار وهي أحياؤنا إياها أو جعل لنا مثلا ونظيرا من الخلق وقاس قدرتنا على قدرتهم ونفى الكل على العموم، وقوله تعالى: * (ونسي خلقه) * أي خلقنا إياه على الوجه المذكور الدال على بطلان ما ضربه إما عطف على * (ضرب) * داخل في حيز الإنكار والتعجيب أو حال من فاعله بإضمال قد أو بدونه، ونسيان خلقه بأن لم يتذكره على ما قيل وفيه دغدغة أو ترك تذكره لكفره وعناده أو هو كالناسي لعدم جريه على مقتضى التذكر وقوله سبحانه: * (قال) * استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية ضربه المثل كأنه قيل: أي مثل ضرب أو ماذا قال؟ فقيل: قال: * (من يحيي العظام وهي رميم) * منكرا ذلك ناكرا من أحوال العظام ما تبعد معه من الحياة غاية البعد وهو كونها رميما أي بالية أشد البلى، والظاهر أن * (رميم) * صفة لا اسم جامد فإن كان من رم اللازم بمعنى بلى فهو فعيل بمعنى فاعل، وإنما لم يؤنث لأنه غلب استعماله غير جار على موصوف فالحق بالأسماء الجامدة أو حمل على فعيل بمعنى مفعول وهو يستوي فيه المذكر والمؤنث، وقال محيي السنة: لم يقل رميمة لأنه معدول من فاعلة فكل ما كان معدولا عن وجهه ووزنه كان مصروفا عن أخواته، ومثله * (بغيا) * في قوله تعالى: * (ما كانت أمك بغياف) * أسقط الهاء منها لأنها كانت مصروفة عن باغية، وقال الأزهري: إن عظاما لكونه بوزن المفرد ككتاب وقراب عومل معاملته فقيل رميم دون رميمة وذكر له شواهد وهو غريب، وإن كان من رم المتعدي بمعنى إبلي يقال رمه أي أبلاه؛ وأصل معناه الأكل كما ذكره الأزهري من رمث الإبل الحشيش فكان ما بلى أكلته الأرض فهو فعيل بمعنى مفعول، وتذكيره على هذا ظاهر للإجماع على أن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث. وفي المطلع الرميم اسم غير صفة كالرمة والرفات لا فعيل بمعنى فاعل أو مفعول ولأجل أنه اسم لا صفة لا يقال لم لم يؤنث وقد وقع خبرا لمؤنث؟ ولا يخفى أن له فعلا وهو رم كما ذكره أهل اللغة وهو وزن من أوزان الصفة فكونه جامدا غير ظاهل.
* (قل يحييها الذىأنشأهآ أول مرة وهو بكل خلق عليم) *.
* (قل) * تبكيتا له بتذكير ما نسيه من فطرته الدالة على حقيقة الحال وإرشاده إلى طريقة الاستشهاد بها * (يحييها الذي أنشأها) * أي أوجدها ورباها * (أول مرة) * أي في أول مرة إذ لم يسبق لها إيجاد ولا شك أن الأحياء بعد أهون من الإنشاء قبل فمن قدر على الإنشاء كان على الأحياء أقدر وأقدر، ولا احتمال لعروض العجز فإن قدرته عز وجل ذاتية لا تقبل الزوال ولا التغير بوجه من الوجوه. وفي " الحواشي الخفاجية " كان الفارابي يقول وددت لو أن أرسطو وقف على القياس الجلي في قوله تعالى: * (قل يحييها) * الخ وهو الله تعالى أنشأ العظام وأحياها أول مرة وكل من أنشأ شيئا أولا قادر على إنشائه وإحيائه ثانيا فيلزم أن الله عز وجل قادر على إنشائها وإحيائها بقواها ثانيا، والآية ظاهرة فيما ذهب إليه الإمام الشافعي قيل ومالك. وأحمد من أن العظم تحله الحياة فيؤثر فيه الموت كسائر الأعضاء وبنوا على ذلك الحكم بنجاسة عظم الميتة ومسألة حلول الحياة
54

في العظم وعدمه مما اختلف فيه الفقهاء والحكماء، واستدل من قال منهما بعدم حلولها فيه بأن الحياة تستلزم الحس والعظم لا إحساس له فإنه لا يتألم بقطعه كما يشاهد في القرن، وما قد يحصل في قطع العظم من التألم إنما هو لما يجاوره، وقال ابن زهر في كتاب التيسير: اضطرب كلام جالينوس في العظام هل لها إحساس أم لا والذي ظهر لي أن لها حسا بطيئا وليت شعري ما يمنعها من التعفن والتفتت في الحياة غير حلول الروح الحيواني فيها انتهى.
وبعض من ذهب من الفقهاء إلى أن العظام لا حياة فيها بني عليه الحكم بطهارتها من الميتة إذ الموت زوال الحياة فحيث لم تحلها الحياة لم يحلها الموت فلم تكن نجسة. وأورد عليهم هذه الآية فقيل المراد بالعظام فيها صاحبها بتقدير أو تجوز أو المراد بإحيائها ردها لما كانت عليه غضة رطبة في بدن حي حساس، ورجح هذا على إرادة صاحبها بأن سبب النزول لا بد من دخوله وعلى تلك الإرادة لا يدخل، ويدخل على تأويل إحيائها بإعادتها لما كانت عليه، ولا يخفى أن حمل الآية على ذلك خلاف الظاهر، والظاهر مع الشافعية ومن الفقهاء القائلين بعدم نجاسة عظام الميتة من رأى قوة الاستدلال بالآية على أن العظام تحلها الحياة فعلل الطهارة بغير ما سمعت فقال: إن نجاسة الميتة ليست لعينها بل لما فيها من الرطوبة والدم السائل والعظم ليس فيه ذلك فلذا لم يكن نجسا، ومنع الشافعية كون النجاسة للرطوبة وتمام الكلام في الفروع * (وهو) * عز وجل * (بكل خلق) * أي مخلوق * (عليم) * مبالغ في العلم فيعلم جل وعلا بجميع الأجزاء المتفتتة المتبددة لكل شخص من الأشخاص أصولها وفروعها وأوضاع بعضها من بعض من الاتصال والانفصال والاجتماع والافتراق فيعيد كلا من ذلك على النمط السابق مع القوى التي كانت قبل، والجملة إما اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما تقدم أو معطوفة على الصلة، والعدول إلى الاسمية للتنبيه على أن علمه تعالى بما ذكر أمر مستمر ليس كإنشائه للمنشآت. [بم وقوله تعالى:
* (الذى جعل لكم من الشجر الاخضر نارا فإذآ أنتم منه توقدون) *.
* (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا) * بدل من الموصول الأول وعدم الاكتفاء بعطف صلته على صلته للتأكيد ولتفاوتهما في كيفية الدلالة، والظرفان متعلقان بجعل قدما على * (نارا) * مفعوله الصريح للاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، و * (الأخضر) * صفة الشجر وقرىء الخضراء، وأهل الحجاز يؤنثون الجنس المميز واحده بالتاء مثل الشجر إذ يقال في واحده شجرة، وأهل نجد يذكرونه إلا ألفاظا استثنيت في كتب النحو، وذكر بعضهم أن التذكير لعاية اللفظ والتأنيث لرعاية المعنى لأنه في معنى الأشجار والجمع تؤنث صفته، وقيل لأنه في معنى الشجرة وكما يؤنث صفته يؤنث ضميره كما في قوله تعالى: * (من شجر من زقوم * فمالئون منها البطون) * (الواقعة: 52، 53) والمشهور أن المراد بهذا الشجر المرخ والعفار يتخذ من المرخ وهو ذكر الزند الأعلى ومن العفار بفتح العين وهو أنثى الزندة السفلى ويسحق الأول على الثاني وهما خضراوان يقطر منهما الماء فتنقدح النار بإذن الله تعالى، وكون المرخ بمنزلة الذكر والعفار بمنزله الأنثى هو ما ذكره الزمخشري وغيره واللفظ كالشاهد له، وعكس الجوهري. وعن ابن عباس. والكلبي في كل شجر نار إلا العناب قيل ولذا يتخذ منه مدق القصارين، وأنشد الخفاجي لنفسه: أيا شجر العناب نارك أوقدت * بقلبي وما العناب من شجر النار
واشتهر العموم وعدم الاستثناء ففي المثل في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار أي استكثرا من
55

النار من مجدت الإبل إذا وقعت في مرعى واسع كثير، ومنه رجل ماجد أي مفضال، واختار بعضهم حمل الشجر الأخضر على الجنس وما يذكر من المرخ والعفار من باب التمثيل، وخصا لكونهما أسرع وريا وأكثر نارا كما يرشد إليه المثل، ومن إرسال المثل المرخ والعفار لا يلدان غير النار.
* (فإذا أنتم منه توقدون) * كالتأكيد لما قبله والتحقيق له أي فإذا أنتم من ذلك الشجر الأخضر توقدون النار لا تشكون في أنها نار حقيقة تخرج منه وليست كنار الحباحب، وأشار سبحانه بقوله تعالى: * (الذي) * الخ إلى أن من قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادة لها بكيفيته فإن الماء بارد رطب والنار حارة يابسة كان جل وعلا أقدر على إعادة الغضاضة إلى ما كان غضا فيبس وبلى، ثم إن هذه النار يخلقها الله تعالى عند سحق إحدى الشجرتين على الأخرى لا أن هناك نارا كامنة تخرج بالسحق و * (من الشجر) * لا يصلح دليلا لذلك، وفي كل شجر نار من مسامحات العرب فلا تغفل، وإياك واعتقاد الكمون. [بم وقوله تعالى:
* (أوليس الذى خلق السم‍اوات والارض بق‍ادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخل‍اق العليم) *.
* (أوليس الذي خلق السموات والأرض) * الخ استئناف مسوق من جهته تعالى لتحقيق مضمون الجواب الذي أمر صلى الله عليه وسلم أن يخاطبهم به ويلزمهم الحجة، والهمزة للإنكار والنفي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أليس الذي أنشأها أول مرة وليس الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا وليس الذي خلق السموات والأرض مع كبر جرمهما وعظم شأنهما * (بقادر على أن يخلق مثلهم) * في الصغر والحقارة بالنسبة إليهما على أن المراد بمثلهم هم وأمثالهم أو على أن المراد به هم أنفسهم بطريق الكناية كما في مثلك يفعل كذا، وقال بعضهم: مثلهم في أصول الذات وصفاتها وهو المعاد، وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل الكلام في هذا المقام، وزعم جماعة من المفسرين عود ضمير * (مثلهم) * للسموات والأرض لشمولهما لمن فيهما من العقلاء فلذا كان ضمير العقلاء تغليبا والمقصود بالكلام دفع توهم قدم العالم المقتضى لعدم إمكان إعادته وهو تكلف ومخالف للظاهر والمشركون لا يقولون بقدم العالم فيما يظهر. وتعقب أيضا بأن قدم العام لو فرض مع قدم النوع الإنساني وعدم تناهي أفراده في جانب المبدأ لا يأبى الحشر الجسماني إذ هو بالنسبة إلى المكلفين وهم متناهون. وزعم أن ما ثبت قدمه استحال عدم غير تام كما قرر في محله فلا تغفل، وقرأ الجحدري. وابن أبي إسحاق. والأعرج. وسلام. ويعقوب في رواية * (يقدر) * بفتح الياء وسكون القاف فعلا مضارعا.
* (بلى) * جواب من جهته تعالى وتصريح بما أفاده الاستفهام الإنكاري من تقرير ما بعد النفي من القدرة على الخلق وإيذان بتعيينه للجواب نطقوا به أو تلعثموا فيه مخافة الالتزام، وقوله تعالى: * (وهو الخلاق العليم) * عطف على ما يفيده الإيجاب أي بلى هو سبحانه قادر على ذلك وهو جل وعلا المبالغ في الخلق والعلم كيفا وكما.
وقرأ الحسن. والجحدري. وزيد بن علي. ومالك بن دينار * (الخالق) * بزنة الفاعل.
* (إنمآ أمره إذآ أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) *.
* (إنما أمره) * أي شأنه تعالى شأنه في الإيجاد، وجوز فيه أن يراد الأمر القولي فيوافق قوله تعالى: * (إنما قولنا لشيء) * ويراد به القول النافذ.
* (إذا أراد شيئا) * أي إيجاد شيء من الأشياء * (أن يقول له كن) * أي أوجد * (فيكون) * أي فهو يكون ويوجد، والظاهر أن هناك قولا لفظيا هو لفظ كن وإليه ذهب معظم السلف وشؤون الله تعالى وراء ما تصل إليه الأفهام فدع عنك الكلام والخصام، وقيل ليس هناك قول لفظي لئلا يلزم التسلسل، ويجوز أن يكون
56

هناك قول نفسي وقوله للشيء تعلقه به، وفيه ما يأباه السلف غاية الإباء، وذهب غير واحد إلى أنه لا قول أصلا وإنما المراد تمثيل لتأثير قدرته تعالى في مراده بأمر الآمر المطاع للمأمور المطيع في سرعة حصول المأمور به من غير امتناع وتوقف على شيء.
وقرأ ابن عامر. والكسائي * (فيكون) * بالنصب عطفا على * (يقول) * وجوز كونه منصوبا في جواب الأمر، وأباه بعضهم لعدم كونه أمرا حقيقة، وفيه بحث.
* (فسبح‍ان الذى بيده ملكوت كل شىء وإليه ترجعون) *.
* (فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء) * تنزيه له عز وجل مما وصفوه به تعالى وتعجيب عما قالوا في شأنه عز شأنه، والفاء جزائية أي إذا علم ذلك فسبحان أو سببية لأن ما قبل سبب لتنزيهه سبحانه، والملكوب مبالغة في الملك كالرحموت والرهبوت فهو الملك التام، وفي تعليق سبحانه بما في حيزه إيماء إلى أن كونه تعالى
مالكا للملك كله قادرا على كل شيء مقتضى للتسبيح، وفسر الملكوت أيضا بعالم الأمر والغيب فتخصيصه بالذكر قيل لاختصاص التصرف فيه به تعالى من غير واسطة بخلاف عالم الشهادة.
وقرأ طلحة. والأعمش * (ملكة) * على وزن شجرة أي بيده ضبط كل شيء، وقرىء * (مملكة) * على وزن مفعلة وقرىء * (ملك) * * (وإليه ترجعون) * لا إلى غيره تعالى وهذا وعد للمقرين ووعيد للمنكرين فالخطاب عام للمؤمنين والمشركين، وقيل هو وعيد فقط على أن الخطاب للمشركين لا غير توبيخا لهم ولذا عدل عن مقتضى الظاهر وهو وإليه يرجع الأمر كله ففيه دلالة على أنهم استحقوا غضبا عظيما. وقرأ زيد بن علي * (ترجعون) * مبنيا للفاعل. هذا ما لخص من كلامهم في هذه الآيات الكريمة وفيها دلالة واضحة على المعاد الجسماني وإيماء إلى دفع بعض الشبه عنه، وهذه المسألة من مهمات الدين وحيث أن هذه السورة الكريمة قد تضمنت من أمره ماله كانت عند أجلة العلماء الصدور قلب القرآن لا بأس بأن يذكر في إتمام الكلام فيها ما للعلماء في تحقيق أمر ذلك فأقول طالبا من الله عز وجل التوفيق إلى القول المقبول: اعلم أولا أن المسلمين اختلفوا في أن الإنسان ما هو فقيل هو هذا الهيكل المحسوس مع أجزاء سارية فيه سريان ماء الورد في الورد والنار في الفحم وهي جسم لطيف نوارني مخالف بالحقيقة والماهية للأجسام التي منها ائتلف هذا الهيكل وإن كان لسريانه فيه بشبهه صورة ولا نعلم حقيقة هذا الجسم وهو الروح المشار إليها بقوله تعالى: * (قل الروح من أمر ربي) * (الإسراء: 85) عند معظم السلف الصالح وبينه وبين البدن علاقة يعبر عنها بالروح الحيواني وهو بخار لطيف إذا فسد وخرج عن الصلاحية لأن يكون علاقة تخرج الروح عن البدن علاقة بعير عنها بالروح الحيواني وهو بخار لطيف إذا فسد وخرج عن الصلاحية لأن يكون علاقة تخرج الروح عن البدن خروجا اضطراريا وتزول الحياة، وما دام باقيا على الوجه الذي يصلح به لأن يكون علاقة تبقي الروح والحياة، وهذا الجسم المعبر عنه بالروح على ما قال الإمام القرطبي في التذكرة مما له أول وليس له آخر بمعنى أنه لا يفنى وإن فارق البدن المحسوس، وذكر فيها أن من قال إنه يفنى فهو ملحد، وقيل هو هذا الهيكل المحسوس مع النفس الناطقة التي هي جوهر مجرد بل هو الإنسان حقيقة على ما صرح به بعضهم، وإلى إثبات هذا الجوهر ذهب الحليمي. والغزالي. والراغب. وأبو زيد الدبوسي. ومعمر من قدماء المعتزلة. وجمهور متأخري الإمامية. وكثير من الصوفية وهو الروح الأمرية وليس وليست داخلة البدن ولا خارجة عنه فنسبتها إليه نسبة الله سبحانه وتعالى إلى العالم وهي بعد حدوثها الزماني عندهم لا تفنى أيضا.
ورد هذا المذهب ابن القيم في كتاب الروح بما لا مزيد عليه، وكما اختلفوا في ذلك اختلفوا في أن البدن هل يتفرق بعد الموت فقط أم يتفرق وتعدم ذاته بكل قال بعض، ولعل من قال بالثاني استثنى عجب الذنب لصحة خبر
57

استثنائه من البلى، وكل هؤلاء المختلفين اتفقوا على القول بالحشر الجسماني إلا أن منهم من قال بالحشر الجسماني فقط بمعنى أنه لا يحشر إلا جسم إذ ليس وراء الجسم عندهم جوهر مجرد يسمى بالنفس الناطقة، ومنهم من قال بالحشر الجسماني والحشر الروحاني معا بمعنى أنه يحشر الجسم متعلقا به أمر ليس بجسم هو النفس الناطقة وكل من أصحاب هذين القولين منهم من يقول بأن البدن إذا تفرق تجمع أجزاؤه يوم القيامة للحشر وتقوم فيها الروح أو تتعلق كما في الدنيا بل القيام أو التعلق هناك أتم إذ لا انقطاع له أصلا بعد تحققه فالحشر عند هؤلاء يجمع الأجزاء المتفرقة وعود قيام الروح أو تعلقها إليها، والمراد بالأجزاء الأجزاء الأصلية وهي أجزاء البدن حال نفخ الروح فيه الدنيا لا الذرة التي أخذ عليها العهد يوم * (ألست بربكم) * (الأعراف: 172) كما قيل: والله تعالى قادر على حفظها من التحلل والتبدل وكذا على حفظها من أن تكون أجزاء بدن آخر وإن تفرقت في أقطار الأرض واختلطت بالعناصر، وقيل: يجوز أن تكون الأجزاء الأصلية يقبضها الملك بإذن الله تعالى عند حضور الموت فلا يتعلق بها الأكل ولا تختلط بالتراب ولا يحصل منها نماء أو حيوان؛ وهو مجرد احتمال لا دليل عليه بل مخالف لقوله سبحانه: * (قال من يحيى العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) * فإنه ظاهر في أن المحشور أجزاء رميمة مخلوطة بالتراب، ويجوز أن تكون الأجزاء الأصلية هي الأجزاء الترابية التي ينثرها الملك في الرحم على المنى كما ورى في الحديث الصحيح وهو لا ينثر ترابا واحدا مرتين ويحشر البدن بعد الجمع على أكمل حالاته كما يشير إليه قوله عليه الصلاة والسلام: " يحشر الناس حفاة عراة غرلا " ثم يزاد في إجساد أهل الجنة فيكون أحدهم كآدم عليه السلام طولا وعرضا، وكذا يزاد في أجساد أهل النار خلافا للمعتزلة حتى أن سن أحدهم لتكون كجبل أحد، وجاء كل من الزيادتين في الحديث فالمقطوع أو المجذوع مثلا لا يحشر إلا كامل كما كان قبل القطع أو الجذع ومن خلق في الدنيا بأربع أيد مثلا يحشر على ما هو المعتاد المعروف في بني نوعه وكذا من خلق بلا يد أو رجل مثلا، والقول بأنه يلزم تعذيب جسد لم يعص وترك تعذيب جسد عصى ناشيء عن غفلة عظيمة إذ المعذب إنما هو الروح وهو الذي عصى ولا يعقل العصيان والتعذيب لنفس الجسد وحرقه بالنار ليس تعذيبا له نفسه وءلا لكان حرق الخشب تعذيبا له بل هو وسيلة إلى تعذيب الروح وهذا كما لو جعل شخص في صندوق حديد مثلا ووضع في النار أو لف في ثوب وضرب بالسياط حتى تخرق الثوب فالروح بمنزلة هذا الشخص والجسد بمنزلة الصندوق أو الثوب، وعلى القول بأن لكل شيء حياة لائقة به لا يلزم التعذيب أيضا إذ ليس كل حي تؤلمه النار، واعتبر ذلك بالسمند وبالنعامة وكذا بخزنة جهنم وحياتها وعقاربها والعياذ بالله عز وجل. ومنهم من يقول: إن البدن يعدم لا أنه تتفرق أجزاؤه فقط ثم يعاد للحشر بعينه، ومنهم من يقول يعدم ثم يخلق يوم القيامة مثله فتقوم فيه الروح أو تتعلق به. واستدل للقول الأول بقوله تعالى: * (قال من يحيى العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) * فإنه ظاهر في أن العظام لا تعدم ذواتها في الخارج ولا يكاد يفهم من الرميم أكثر من تفرق الأجزاء وكأن المنكرين استبعدوا جمعها فأشير إلى دفع استبعادهم بأن الإنشاء أبعد وقد وقع ثم دفع ما عسى يتوهم من أن اختلاط الأجزاء بعد تفرقها وعودها إلى عناصرها يوجب عدم تميزها فلا يتيسر جمعها بقوله سبحانه: * (وهو بكل خلق عليم) * (يس: 78، 79) ثم أشير إلى دفع ما يتوهم من أن الإنشاء كان تدريجيا نقلت فيه الأجزاء من حالة إلى حالة حتى حصل استعدادها للحياة ومناسبتها للروح ولا كذلك ما يكون
58

يوم القيامة فلا مناسبة بين الأجزاء التي تجمع وبين الروح والحياة فلا يلزم من صحة الإنشاء صحة الحشر بقوله تعالى: * (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا) * (يس: 80) وحيث كان هذا معروفا بينهم يشاهده الكبير والصغير منهم أشار سبحانه إلى الدفع به وإلا فإنشاؤه تعالى لما يكون بالتولد من الحيوان كالفار والذباب دافع لذلك.
ومن الناس من زعم أن ما يكون قبيل الساعة من الزلازل وإنزال مطر كمني الرجال ونحو ذلك لتحصيل استعداد للروح في تلك الأجزاء، وهو مما لا يحتاج إلى التزامه، وكذا استدل لذلك القول بما أرشد إليه إبراهيم عليه السلام حين قال: * (رب أرني كيف تحيي الموتى) * (البقرة: 260) وبقوله تعالى: * (أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه * بلى قادرين على أن نسوى بنانه) * (القيامة: 3، 4) إلى غير ذلك من الآيات وفي الأخبار ما يقتضيه أيضا، واستدل لدعوى أن البدن يعدم ذاتا في القول الثاني بقوله سبحانه: * (كل شيء هالك إلا وجهه) * (القصص: 88) وقوله تعالى: * (كل من عليها فان) * (الرحمان: 26) ورد بأنه يجوز أن يكون التفرق هلاكا بل قال بعض المحققين: إن معنى الآية كل شيء ليس بموجود في الحال في حد نفسه إلا ذات الواجب تعالى بناء على أن وجود الممكن مستفاد من الغير فلا وجود فيه مع قطع النظر عن الغير بخلاف وجود الواجب تعالى فإنه من ذاته سبحانه بل عين ذاته، ويقال نظير ذلك في الآية الثانية لو سلم دخول البدن في عموم من، واستدل لدعوى أنه يخلق يوم القيامة مثله في القول الثالث بقوله تعالى: * (أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى) * (يس: 81) وأجيب بأن المراد مثلهم في الصغر والقماة على ما سمعت فيما تقدم، ولا يراد أنه تعالى قادر على أن يخلق يوم القيامة مثل أبدانهم التي كانت في الدنيا ويعيد أرواحهم إليها إذ لا يكاد يفهم هذا من الآية ولا داعي لالتزام القول بأن الحشر بخلق مثل البدن السابق وإن قيل بأن ذلك البدن تعدم ذاته في الخارج. ومن الناس من توهم وجوب التزامه إن قيل بذلك لاستحالة إعادة المعدوم.
واستدل على الاستحالة بأنه لو أعيد لزم تخلل العدم بين الشيء ونفسه وهو محال.
ورد بناء على أن الوقت ليس من المشخصات المعتبرة في الوجود بأنا لا نسلم أن التخلل ههنا محال لأن معناه أنه كان موجودا زمانا ثم زال عنه الوجود في زمان آخر ثم اتصف بالوجود في الزمان الثالث وهو في الحقيقة تخلل العدم وقطع الاتصال بين زماني الوجوي ولا استحالة فيه لوجود الطرفين المتغايرين بالذات إنما المحال تخلل العدم بين ذات الشيء ونفسه بمعنى قطع الاتصال بين الشيء ونفسه بأن يكون الشيء موجودا ولم يكن نفسه موجودا ثم يوجد نفسه وههنا ليس كذلك فإن الشيء وجد مع نفسه في الزمان الأول ثم اتصف مع نفسه بالعدم في الزمان الآخر ثم اتصف بالوجود مع نفسه في الزمان الثالث فلم يتحقق قطع الاتصال بين الشيء ونفسه في زمان من الأزمنة وهل هذا إلا كلبس شخص ثوبا معينا ثم خلعه ثم لبسه. واستدل أيضا بأنه لو جاز إعادة المعدوم بعينه لجاز إعادته مع مثله من كل وجه واللازم باطل لأن المتماثلين إما أن يكون أحدهما معادا دون الآخر وذلك باطل مستلزم للتحكم والترجيح بلا مرجح، وإما أن يكونا معادين وهو أيضا باطل مستلزم لاتحاد الإثنين، وإما أن لا يكون شيء منهما معادا وهو أيضا باطل مستلزم خلاف المفروض إذ قد فرض كون أحدهما معادا، وفيه أنه لا يتم إلا باثبات فقدان الذات وبطلان الهوية فيما بين الوجودين السابق واللاحق فإنه مدار لزوم التحكم، ويجوز أن يقال: الشيء إذا عدم في الخارج بقي في نفس الأمر بحسب وجوده الذهني فيحفظ وحدته الشخصية بحسب ذلك الوجود كما لو كان متميزا ثابتا في العدم ثبوتا منفكا عن الوجود الخارجي كما
59

ذهب إليه المعتزلة وموافقوهم، وزعم أن وحدته الشخصية غير محفوظة في الذهن إلا لا وحدة بدون الوجود ولا وجود بدون التشخص سواء كان وجودا خارجيا أو ذهنيا، والهوية الذهنية إنما تكون موجودة في الذهن بمشخصاها الذهنية وهي بتلك المشخصات ليست هوية خارجية وإلا لزم اتصاف الهوية الخارجية بالعوارض المختصة بالوجود الذهني وهو ضروري البطلان بل بشرط تجريدها عنها، وقولهم باتحادها معها بمعنى أنها بعد التجريد عينها فليست إياها مطلقا بالفعل يتجه عليه أنه ليس معنى تجريد الهوية عن مشخصاتها جعلها خالية عنها في الواقع بل معناه قطع النظر عنها وعدم اعتبارها ولا يلزم من عدم اعتبارها اعتبار عدمها فضلا عن عدمها في الواقع وقطع النظر لا يمنع من الاتحاد في الواقع، والقول بأن قولنا: هذا معاذ وهذا مبدأ قضية شخصية خارجية يتوقف صدقها على وجود الموضوع في الخارج لا ذهنية يكفي في صدقها وجود الموضوع في الذهن فقط فلا بد من انحفاظ الوحدة في الخارج ولا يكفي انحفاظها في الذهن يتجه عليه أن صدق الحكم الذهني كاف في اندفاع التحكم فتدبر، وقيل: كما أن المعدوم موجود في الذهن كذلك المبتدأ المفروض موجود فيه أيضا فليست نسبة الموجود الثاني إلى المعدوم السابق أولى من نسبته إلى المبتدأ المفروض. وتعقب بأن فيه بحثا، أما على مذهب الفلاسفة فلأن صورة المعدوم السابق مرتسمة في القوى المنطبقة للأفلاك عندهم بناء على أن صور جميع الحوادث الجسمانية منطبعة فيها بزعمهم فله صورة خيالية جزئية محفوظة الوحدة الشخصية بعد عدمه بخلاف المستأنف فإنه ليس له تلك الصورة قبل وجوده بصورته الجزئية فإذا وجد بتلك الصورة الجزئية كان معادا وإذا وجد بالصورة الكلية كان مستأنفا، وأما على مذهب الأشاعرة من المتكلمين فلأن للمعدوم أيضا صورة جزئية حاصلة بتعلق صفة البصر من الموجد تعالى شأنه وليس تلك الصورة للمستأنف وجوده فإنها وإن كانت جزئية حقيقية أيضا إلا أنها لم تترتب على تعلق صفة البصر، ولا شك أن المرتب على تعلق صفة البصر أكمل من غير المترتب عليه فبين الصورتين تمايز واضح، وإذا انخفض وحدة الموجود الخارجي بالصورة الجزئية الخيالية لنا فانحفاضها بالصورة الجزئية الحاصلة له سبحانه بواسطة تعلق البصر بالطريق الأولى، والقول بأن نسبة الصورة الخيالية وما هو بمنزلتها إلى كل من المعاد والمستأنف سواء أيضا فتكون الوحدة المحفوظة نوعية لا شخصية يلزم عليه أن لا تكون الصورة الخيالية جزئية بل كلية وو خلاف ما صرحوا.
واستدل أيضا بأنه لو جاز إعادة المعدوم بعينه لما حصل القطع بحدوث شيء إذ يجوز أن يكون لكل ما نعتقده حادثا وجود سابق يعدم تارة ويعاد أخرى واللازم باطل باتفاق العقلاء. وتعقب بأن التجويز العقلي لا ينكر إلا أن الأصل عدم الوجود السابق وبه يحصل نوع من العلم، ولعل ذلك من قبيل علمنا بأن جبل أحد لا ينقلب ذهبا مع تجويز
العقل انقلابه وبالجملة أدلة استحالة إعادة المعدوم غير سليمة من القوادح كما لا يخفى على من راجع المطولات من كتب الكلام، وقد أشير فيما تقدم من الآيات إلى دفع شبهة عدم انخفاض الوحدة الشخصية بقوله تعالى: * (وهو بكل خلق عليم) * (يس: 79) والذي يترجح من هذه المذاهب أن الحشر بجمع الأجزاء الأصلية الباقية من أول العمر إلى آخره وهي إما أجزاء عنصرية أكثرها ترجع إلى التراب وتختلط به كما تختلط سائر الأجزاء بعناصرها أو أجزاء ترابية فقط على ما سمعت فيما تقدم غير بعيد، وهذا هو الذي ينبغي أن يعول عليه إذ حديث العناصر الأربعة وتركب البدن منها لا سيما حديث عنصر النار لم يصح فيه
60

شيء من الشارع صلى الله عليه وسلم ولم يذكر في كتب السلف بل هو شيء ولع فيه الفلاسفة، على أن أصحاب الفلسفة الجديدة نسمعهم ينكرون كرة النار التي قال بها المتقدمون فالأجزاء الأصلية بعد أن تتفرق وتصير ترابا يجمعها الله تعالى حيث كانت وهو سبحانه بها عليم * (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) * (الملك: 14) وهذا إن ضم إليه القول بإعادة الصورة التي هي جزء جوهري من الجسم عند القائلين بتركبه منها ومن الهيولي أو العوارض المختصة بالأنواع التي هي جزء من أفرادا النوع كالصورة النوعية الجوهرية كما هومذهب النافين لتركب الجسم من الهيولي والصورة من المتكلمين يتوقف القول به على جواز إعادة المعدوم وإذا لم يضم إليه ذلك بل اكتفى بالقول بجمع الأجزاء الأصلية العنصرية وتشكليها بشكل مثل الشكل الأول وتحليتها بعوارض مشابهة للعوارض السابقة لم يتوقف القول به على ذلك أصلا والمغايرة في الشكل وعمد اتجاد العوارض بالذات مما لا يضر في كون المحشور هو المبدأ شرعا وعرفا، ولا يلزم على ذلك التناسخ المصطلح كما لا يخفى. وفي إبكار الأفكار للآمدي بعد التفصيل المشبع بذكر الآيات والأحدايث الدالة على وقوع المعاد الجسماني والأدلة السمعية في ذلك لا يحويها كتاب ولا يحصرها خطاب وكلها ظاهرة في الدلالة على حشر الأجساد ونشرها مع إمكان ذلك في نفسه فلا يجوز تركها من غير دليل لكن هل الإعادة للأجسام بإيجادها بعد عدمها أو بتأليف أجزائها بعد تفرقها فقد اختلف فيه، والحق إمكان كل واحد من الأمرين والسمع موجب لأحدهما من غير تعيين، وبتقدير أن تكون الإعادة للأجسام بتأليف أجزائها بعد تفرقها فهل تجب إعادة عين ما تقضي ومضى من التأليفات في الدنيا أو أن الله تعالى يجوز أن يؤلفها بتأليف آخر فذهب أبو هاشم إلى المنع من إعادتها بتأليف آخر مصيرا منه إلى أن جواهر الأشخاص متماثلة وإنما يتميز كل واحد من الأجزاء بتعيينه وتأليف الخاص فإذا لم يعد ذلك التأليف الخاص به فذلك الشخص لا يكون هو العائد بل غيره وهو مخالف حينئذ لما ورد به السمع من حشر أجساد الناس على صورهم، ومذهب من عداه من أهل الحق أن كل واحد من الأمرين جائز عقلا ولا دليل على التعيين من سمع وغيره، وما قيل من أن تعيين كل شخص إنما هو بخصوص تأليفه غير مسلم بل جاز أن يكون بلونه أو بعض آخر مع التأليف. ومذهب أبي هاشم أنه لا تجب إعادة غير التأليف من الإعراض فما هو جوابه عن غير التأليف فهو جواب لنا في التأليف وما ورد من حشر الناس على صورهم ليس فيه ما يدل على إعادة عين ما قضي من التأليف ولا مانع أن يكون الإعادة بمثل ذلك التأليف لا عينه اه‍.
وزعم الإمام إجماع المسلمين على المعاد بجمع الأجزائية بعد افتراقها وليس بذاك لما سمعت من الخلاف في كيفيته وهو مذكور في المواقف وغيره. ومسألة إعادة الأعراض أكثر خلافا من مسألة إعادة الجواهر فذهب معظم أهل الحق إلى جواز إعادتها مطلقا حتى أن منهم من جوز إعادتها في غير محالها. والمعتزلة اتفقوا على جواز إعادة ما كان منها على أصولهم باقيا غير متولد واختلفوا في جواز إعادة ما لا بقاء له كالحرارة والأصوات والإرادات فذهب الأكثرون منهم إلى المنع من إعادتها وجوزها الأقلون كالبلخي وغيره. وذهب إلى عدم جواز إعادة المعدوم مطلقا من المسلمين أبو الحسن البصري وبعض الكرامية. ومن الناس من خص المنع فيما عدم ذاتا ووجودا وجوز فيما عدم وجودا. وإلى القول بالمعاد الجسماني ذهب اليهود والنصارى على ما نص
61

عليه الدواني لكن ذكر الإمام في المحصل أن سائر الأنبياء سوى نبينا صلى الله عليه وسلم لم يقولوا إلا بالمعاد الروحاني.
وقال المحقق الطوسي في " تلخيصه ": أما الأنبياء المتقدمون على نبينا صلى الله عليه وسلم فالظاهر من كلام أممهم أن موسى عليه السلام لم يذكر المعاد البدني ولا أنزل عليه في التوراة لكن جاء ذلك في كتب الأنبياء الذين جاؤا بعده كحزقيل وشعيا عليهما السلام ولذا أقر اليهود به، وأما الإنجيل فالأظهر أن المذكور فيه المعاد الروحاني وهو مخالف لما سمعت عن الإمام، ويخالفهما ما قاله حجة الإسلام الغزالي في كتابه الموسوم بالمضنون به على غير أهله من أن في التوراة أن أهل الجنة يمكثون في النعيم خمسة عشر ألف سنة ثم يصيرون ملائكة وأن أهل النار يمكثون بها كذا وأزيد ثم يصيرون شياطين فإنه ظاهر في أن موسى عليه السلام ذكر المعاد الجسماني ونزل عليه في التوراة، والحق أن الأناجيل مملوأة ظاهرا على الإنسان يحشر نفسا وجسما وأما التوراة فليس ما ذكر فيها على سبيل التصريح على ما نقل لي بعض المطلعين من مسلمين أهل الكتاب على ذلك وأنكره الفلاسفة الإلهيون وقالوا بالمعاد الروحاني فقط، وهذا الإنكار مبني إما على زعم استحالة إعادة المعدوم وفيه ما فيه أو على استحالة عدم تناهي الأبعاد فإن منهم من قال: الإسان قديم بالنوع والنفوس الناطقة غير متناهية كالأبدان فلو قيل بالحشر الجسماني يلزم اجتماع الأبدان الغير المتناهية في الوجود إذ لا بد لكل نفس من بدن مستقل فيلزم بعد غير متناه لتجتمع فيه تلك الأبدان الغير المتناهية. وقال بعضهم: إن الإنسان افراده غير متناهية والعناصر متناهية فأجزاؤها لا تفي بتلك الأبدان فكيف تحشر. وتعقب بأن القدم النوعي للإنسان وعدم التناهي لإفراده مما لا يتم لهم عليه برهان.
وقال ابن الكمال: بناء استحالة الحشر الجسماني على استحالة عدم تناهي الابعاد وهم سبق إليه وهم بعض أجلة الناظرية وليس الأمر كما توهم فإن حشر الأجساد اللازم على تقدير وقوع المعاد الجسماني هو حشر المكلفين من المطيع المستحق للثواب والعاصي المستحق للعقاب لا حشر جميع أفراد البشر مكلفا كان أو غيره فإنه ليس من ضروريات الدين لأن الاخبار فيه لم تصل إلى حد التواتر ولم ينعقد عليه الإجماع وقد نبه عليه المحقق الطوسي في التجريد حيث قال: والسمع دل عليه ويتناول في المكلف بالتفريق، وقال الشارح: يعني لا إشكال في غير المكلفين فإنه يجوز أن ينعدم بالكلية ولا يعاد وأما بالنسبة إلى المكلفين فإنه يتأول العدم بتفريق الأجزاء.
وفي " تلخيص المحصل " أيضا حيث قال: وقال القائلون بإمكان إعادة المعدوم أن الله تعالى يعدم المكلفين ثم يعيدهم ونبه على ذلك أيضا الآمدي في إبكار الأفكار حيث
قرر الخلاف في إعادة المكلف ولا خفاء في أن عدم تناهي جميع أفراد البشر لا يستلزم عدم تناهي المكلفين منهم ليحتاج أمر حشرهم إلى الابعاد الغير المتناهية اه‍.
والحق الطعن في قولهم بالقدم النوعي وعدم تناهي أفراد الإنسان وبرهان التطبيق متكفل عندنا بإبطال الغير المتناهي اجتمعت أجزاؤه في الوجود أم لم تجتمع ترتب أم لم تترتب، وأما قصر الحشر على المكلفين دون غيرهم من المجانين والصغار والذين لم تبلغهم الدعوة ونحوهم فليس بشيء، والأخبار في ذلك كثيرة ولعلها من قبيل المتواتر المعنوي على أنها لو لم تكن كذلك لا داعي إلى عدم اعتبارها والقول بخلاف ما تدل عليه كما لا يخفى، وذهب القدماء من الفلاسفة الطبيعيين إلى عدم ثبوت شيء من الحشر الجسماني والحشر الروحاني، ويحكى ذلك عن التناسخية ما عدا اليهود والتناسخ عندهم غير مستمر بل يقع للنفس الواحدة ثلاث مرات على ما قيل.
62

وحكى عن جالينوس التوقف في أمر الحشر فإنه قال: لم يتبين لي أن النفس هل هي المزاج الذي ينعدم عند الموت فيستحيل إعادتها أو هي جوهر باقي بعد فساد البنية فيمكن المعاد، والمشركون في شك منه مريب ولذا ترى كلامهم مضطربا فيه، والمسلمون مجمعون على وقوعه إلا أنهم مختلفون كما سمعت في كيفيته وكذا هم مختلفون في وجوبه سمعا أو عقلا، فأهل السنة على وجوبه سمعا مطلقا، والمعتزلة على أنه للمكلفين واجب عقلا لوجوب الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية عندهم وكل من الأمرين يتوقف على الحشر، وفيه نظر والله تعالى أعلم. وقد اشتملت هذه السورة الكريمة على تقرير مطالب علية وتضمنت أدلة جليلة جلية ألا ترى أنه تعالى أقسم على كونه صلى الله عليه وسلم أكمل الرسل وأن طريقه أوضح السبل وأشار سبحانه إلى أن المقصود ما ذكر بقوله تعالى: * (لتنذر) * الخ ثم بينه إجمالا أنه اتباع الذكر وخشية الرحمن بالغيب وتممه بضرب المثل مدمجا فيه التحريض على التمسك بحبل الكتاب والمنزل عليه وتفضيلهما على الكتب والرسل والتنبيه عليه ثانيا بأنه عبادة من إليه الرجعى وحده ثم أخذ في بيان المقدمات بذكر الآيات وأوثر منها الواضحات الدالة على العلم والقدرة والحكمة والرحمة وضمن فيه أن العبادة شكر المنعم وتلقي النعمة بالصرف في رضاه والحذر من الركون إلى من سواه ثم في بيان المتمم بذكر الوعد والوعيد بما ينال في المعاد وأدرج فيه حديث من سلك ومن ترك وذكر غايتهما ولخص فيه أن الصراط المستقيم هو عبادة الله تعالى بالإخلاص عن شائبتي الهوى والرياء حيث قدم على الأمر بعبادته تعالى التجنب عن عبادة الشيطان وضمن فيه أن أساسها التوحيد وكما أنه ذكر الآيات لئلا يكون الكلام خطابيا في المقدمات ختم بالبرهان على الإعادة ليكون على منواله في المتممات وجعل سبحانه ختام الخاتمة أنه عز وجل لا يتعاظمه شيء ولا ينقص خزائنه عطاء وأنه لا يخرج عن ملكته من قربه قبول أو بعد إباء تحقيقا لكل ما سلف على الوجه الأتم، ولما كان كلاما صادرا عن مقام العظمة والجلال وجب أن يراعى فيه نكتة الالتفات في قوله تعالى: * (وإليه ترجعون) * ليكون إجمالا لتوضيح التفصيل كذا قرره " صاحب الكشف " والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل.
ومن باب الإشارة: قيل إن قوله سبحانه: * (يس) * إشارة إلى سيادته عليه الصلاة والسلام على جميع المخلوقات فالسيد المتولي للسواد أي الجماعة الكثيرة وهي ههنا جميع الخلق فكأنه قيل: يا سيد الخلق وتوليته عليه الصلاة والسلام عليهم لأنه الواسطة العظمى في الإفاضة والإمداد؛ وفي الخبر الله تعالى المعطي وأنا القاسم فمنزلته صلى الله عليه وسلم من العالم بأسره بمنزلة القلب من البدن فما ألطف افتتاح قلب القرآن بقلب الأكوان وفي السين بيناتها وزبرها أسرار لا تحصى وكذا في مجموع * (يس * والقرآن) * (يس: 1، 2) قد يكون إشارة إليه صلى الله عليه وسلم فقد ذكر الصوفية أنه يشار به إلى الإنسان الكامل وكذا الكتاب المبين وعلى ذلك جاء قول الشيخ الأكبر قدس سره: إنا القرآن والسبع المثاني * وروح الروح لا روح الأواني
ولا أحد أكمل من النبي عليه الصلاة والسلام، وطبق بعضهم قصة أهل إنطاكية على ما في الأنفس بجعل القرية إشارة إلى القلب وأصحابها إشارة إلى النفس وصفاتها والإثنين إشارة إلى الخاطر الرحماني والإلهام الرباني والثالث المعزز به إشارة إلى الجذبة والرجل الجائي من أقصى المدينة إشارة إلى الروح، وطبق كثيرا من آيات هذه السورة
63

على هذا الطرز، وقيل: في قوله سبحانه: * (طائركم معكم) * (يس: 19) إنه إشارة إلى استعدادهم السيء الذي طار بهم عنقاء مغربة: إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم
وقيل: في * (أصحاب الجنة) * في قوله تعالى: * (إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون * وهم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكؤون) * (يس: 55، 56) إنه إشارة إلى طائفة من المؤمنين كان الغالب عليهم في الدنيا طلب الجنة ولذا أضيفوا إليها وهم دون أهل الله تعالى وخاصته الذين لم يلتفتوا إلى شيء سواه عز وجل فأولئك مشغولون بلذائذ ما طلبوه وهؤلاء جلساء الحضرة المشغولون بمولاهم جل شأنه المتنعمون بوصاله ومشاهدة جماله وفرق بين الحالين وشتان ما بين الفريقين، ولذا قيل: أكثر أهل الجنة البله فافهم الإشارة.
والشيطان في قوله تعالى: * (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان) * (يس: 60) إشارة إلى كل ما يطاع ويذل له غير الله عز وجل كائنا ما كان وعداوته لما أنه سبب الحجاب عن رب الأرباب، وفي قوله تعالى: * (فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون) * (يس: 76) إشارة إلى أنه لا ينبغي الاكتراث بأذى الأعداء والالتفات إليه فإن الله تعالى سيجازيهم عليه إذا أوقفهم بين يديه، هذا ونسأل الله تعالى أن يحفظنا من شر الأرار وأن ينور قلوبنا بمعرفته كما نور قلوب عباده الأبرار ونصلي ونسلم على حبيبه قلب جسد الأعيان وعلى آله وصحبه ما دامت سورة يس قلب القرآن.
سورة الصافات
مكية ولم يحكوا في ذلك خلافا وهي مائة وإحدى وثمانون آية عند البصريين ومائة واثنتان وثمانون عند غيرهم، وفيها تفصيل أحوال القرون المشار إلى إهلاكها في قوله تعالى في السورة المتقدمة * (ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون) * (يس: 31) وفيها من تفصيل أحوال المؤمنين وأحوال أعدائهم الكافرين
يوم القيامة ما هو كالإيضاح لما في تلك السورة من ذلك، وذكر فيها شيء مما يتعلق بالكواكب لم يذكر فيما تقدم، ولمجموع ما ذكر ذكرت بعدها. وفي " البحر " مناسبة أول هذه السورة لآخر سورة يس أنه تعالى لما ذكر المعاذ وقدرته سبحانه على إحياء الموتى وأنه هو منشئهم وأنه إذا تعلقت إرادته بشيء كان ذكر عز وجل هنا وحدانيته سبحانه إذ لا يتم ما تعلقت به الإرادة إيجادا وإعداما إلا بكون المريد واحدا كما يشير إليه قوله تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * (الأنبياء: 22).
* (والص‍افات صفا) *.
بسم الله الرحم‍ان الرحيم * (والصافات صفا) * اقسام من الله تعالى بالملائكمة عليهم السلام كما روى عن ابن عباس. وابن مسعود. ومسروق. ومجاهد. وعكرمة. وقتادة. والسدي، وأبى أبو مسلم ذلك وقال: لا يجوز حمل هذه اللفظ وكذا ما بعد على الملائكة لأن اللفظ مشعر بالتأنيث والملائكة مبرؤن عن هذه الصفة، وفيه أن هذا في معنى جمع الجمع فهو جمع صافة أي طائفة أو جماعة صافة، ويجوز أن يكون تأنيث المفرد باعتبار أنه ذات ونفس والتأنيث المعنوي هو الذي لا يحسن أن يطلق عليهم وأما اللفظ فلا مانع منه كيف وهم المسمون بالملائكة، والوصف المذكور منزل منزلة اللازم على أن المراد إيقاع نفس الفعل من غير قصد إلى المفعول أي الفاعلان للصفوف أو المفعول محذوف أي الصافات أنفسها أي الناظمات لها في سلك الصفوف بقيامها في مقاماتها المعلومة حسبما ينطق به قوله تعالى: * (وما منا إلا له مقام معلوم) * (الصافات: 164) وذلك باعتبار تقديم الرتبة والقرب
64

من حظيرة القدس أو الصافات أنفسها القائمات صفوفا للعبادة، وقيل: الصافات أقدامها للصلاة، وقيل: الصافات أجنحتها في الهواء منتظرات أمر الله تعالى، وقيل: المراد بالصافات الطير من قوله تعالى: * (والطير صافات) * (النور: 41) ولا يعول على ذلك، و * (صفا) * مصدر مؤكد وكذا * (زجرا) * في قوله تعالى:
* (فالزاجرات زجرا) *.
* (فالزاجرات زجرا) * وقيل: صفا مفعول به وهو مفرد أريد به الجمع أي الصافات صفوفها وليس بذاك، والمراد بالزاجرات الملائكة عليهم السلام أيضا عند الجمهور، والزجر في الأصل الدفع عن الشيء بتسلط وصياح وأنشدوا: زجر أبي عروة السباع إذا * أشفق أن يختلطن بالغنم
ويستعمل بمعنى السوق والحث وبمعنى المنع، والنهي وإن لم يكن صياح والوصف منزل منزلة اللازم أو مفعوله محذوف أي الفاعلات للزجر أو الزاجرات ما نيط بها زجره من الأجرام العلوية والسفلية وغيرها على وجه يليق بالمزجور، ومن جملة ذلك زجر العباد عن المعاصي بالهام الخير وزجر الشياطين عن الوسوسة والإغواء وعن استراق السمع كما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى، وعن قتادة المراد بالزاجرات آيات القرآن لتضمنها النواهي الشرعية، وقيل كل ما زجر عن معاصي الله عز وجل، والمعول عليه ما تقدم، وكذا المراد كما روي عن ابن عباس. وابن مسعود. وغيرهما في قوله تعالى:
* (فالت‍الي‍ات ذكرا) *.
* (فالتاليات ذكرا) * الملائكة عليهم السلام.
و * (ذكرا) * نصب على أنه مفعول وتنوينه للتفخيم، وهو بمعنى المذكور المتلو وفسر بكتاب الله عز وجل.
قال أبو صالح: هم الملائكة يجيئون بالكتاب والقرآن من عند الله عز وجل إلى الناس فالمراد بتلاوته تلاوته على الغير، وفسره بعضهم بالآيات والمعارف الإلهية والملائكة يتلونهما على الأنبياء والأولياء، وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الإشارة ما يتعلق بتلاوة الملائكة ذلك على الأولياء قدس الله تعالى أسرارهم، وقال بعض: أي فالتاليات آيات الله تعالى وكتبه المنزلة على الأنبياء عليهم السلام وغيرها من التسبيح والتقديس والتحميد والتمجيد، ولعل التلاوة على هذا أعم من التلاوة على الغير وغيرها، وقيل * (ذكرا) * نصب على أنه مصدر مؤكد على غير اللفظ لتكون المنصوبات على نسق واحد، وقال قتادة: التاليات ذكرا بنو آدم يتلون كتابه تعالى المنزل وتسبيحه وتكبيره، وجوز أن يكون الله تعالى أقسم بنفوس العلماء العمال الصافات أنفسها في صفوف الجماعات أو أقدامها في الصلوات الزاجرات بالمواعظ والنصائح التاليات آيات الله تعالى الدارسات شرائعه وأحكامه أو بطوائف قواد الغزاة في سبيل الله تعالى التي تصف الصفوف في مواطن الحروب الزاجرات الخيل للجهاد سوقا أو العدو في المعارك طردا التاليات آيات الله سبحانه وذكره وتسبيحه في تضاعيف ذلك.
وجوز أيضا أن يكون أقسم سبحانه بطوائف الأجرام الفلكية المرتبة كالصفوف المرصوصة بعضها فوق بعض والنفوس المدبرة لتلك الأجرام بالتحريك ونحوه والجواهر القدسية المستغرقة في بحار القدس يسبحون الليل والنهار لا يفترون وهم الملائكة الكروبيون ونحوهم؛ وهذا بعيد بمراحل عن مذهب السلف الصالح بل عن مذهب أهل السنة مطلقا كما لا يخفى، والفاء العاطفة للصفات قد تكون لترتيب معانيها الوصفية في الوجود الخارجي إذا كانت الذات المتصفة بها واحدة كما في قوله: يا لهف زيابة للحادث الس‍ * - ابح فالغانم فالآيب
65

أي الذي صبح فغنم فآب ورجع أو لترتيب معانيها في الرتبة إذا كانت الذات واحدة أيضا كما في قولك: أتم العقل فيك إذا كنت شابا فكهلا أو لترتيب الموصوفات بها في الوجود كما في قولك: وفقت كذا على بني بطنا فبطنا أو في الرتبة نحو رحم الله تعالى المحلقين فالمقصرين، وكلاهما مع تعدد الموصوف والترتيب الرتبي إما باعتبار الترقي أو باعتبار التدلي، وهي إذا كانت الذات المتصفة بالصفات هنا واحدة وهم الملائكة عليهم السلام بأسرهم تحتمل أن تكون للترتيب الرتبي باعتبار الترقي فالصف في الرتبة الأولى لأنه عمل قاصر والزجر أعلى منه لما فيه من نفع الغير والتلاوة أعلى وأعلى لما فيها من نقع الخاصة الساري إلى نفع العامة بما فيه صلاح المعاش
والمعاد أو للترتيب الخارجي من حيث وجود ذوات الصفات فالصف يوجد أولا لأنه كمال للملائكة في نفسها ثم يوجد بعده الزجر للغير لأنه تكميل للغير يستعد به الشخص ما لم يكمل في نفسه لا يتأهل لأن يكمل غيره ثم توجد التلاوة بناء على أنها إفاضة على الغير يستعد به الشخص ما لم يكمل في نفسه لا يتأهل لأن يكمل غيره ثم توجد التلاوة بناء على أنها إفاضة على الغير المستعد لها وذا لا يتحقق إلا بعد حصول الاستعداد الذي هو من آثار الزجر، وإذا كانت الذات المتصفة بها من الملائكة عليهم السلام متعددة بمعنى أن صنفا منهم كذا وصنفا آخر كذا فالظاهر أنها للترتيب الرتبي باعتبار الترقي كما في الشق الأول فالجماعات الصافات كاملون والزاجرات أكمل منها والتاليات أكمل وأكمل كما يعلم مما سبق، وقيل يجوز أن يكون بعكس ذلك بأن يراد بالصافات جماعات من الملائكة صافات من حول العرش قائمات في مقام العبودية وهم الكروبيون المقربون أو ملائكة آخرون يقال لهم كما ذكر الشيخ الأكبر قدس الله سره المهيمون مستغرقون بحبه تعالى لا يدري أحدهم أن الله عز وجل خلق غيره وذكر أنهم لم يؤمروا بالسجود لآدم عليه السلام لعدم شعورهم باستغراقهم به تعالى وأنهم المعنيون بالعالين في قوله تعالى: * (أستكبرت أم كنت من العالين) * (ص: 75) وبالزاجرات جماعات أخر أمرت بتسخير العلويات والسفليات وتدبيرها لما خلقت له وهي في الفضل على ما لها من النفع للعباد دون الصافات وبالتاليات ذكرا جماعات أخر أمرت بتلاوة المعارف على خواص الخلق وهي لخصوص نفعها دون الزاجرات أو المراد بالزاجرات الزاجرات الناس عن القبيح بالهام جهة قبحه وما ينفر عن ارتكابه وبالتاليات ذكرا المهمات للخير والجهات المرغبة فيه، ولكون دفع الضر أولى من جلب الخير ودرء المفاسد أهم من جلب المصالح ولذا قيل التخلية بالخاء مقدمة على التحلية كانت التاليات دون الزاجرات، وحال الفاء على سائر الأقوال السابقة في السفات لا يخفى على من له أدنى تأمل ويجوز عندي والله تعالى أعلم أن يراد بالصافات المصطفون للعبادة من صلاة ومحاربة كفرة مثلا ملائكة كانوا أم أناسى أم غيرهما وبالزاجرات الزاجرون عن ارتكاب المعاصي بأقوالهم أو أفعالهم كائنين من كانوا وبالتاليات ذكرا التالون لآيات الله تعالى على الغير للتعليم أو نحو كذلك، ولا عناد بين هذه الصفات فتجتمع في بعض الأشخاص، ولعل الترتيب على سبيل الترقي باعتبار نفس الصفات فالاصطفاف للعبادة كمال والزجر عن ارتكاب المعاصي أكمل والتلاوة لآيات الله تعالى للتعليم لتضمنه الأمر بالطاعات والنهي عن المعاصي والتخلي عن الرذائل والتحلي بالمعارف إلي أمور أخر أكمل وأكمل؛ وجعل الصفات المذكورة لموصوف وأحد من الملائكة على ما مر بأن تكون جماعات منهم صافات بمعنى صافات أنفسها في سلك الصفوف بالقيام في مقاماتها المعلومة أو القائمات صفوفا للعبادة وتاليات ذكرا بمعنى تاليات الآيات بطريق الوحي على الأنبياء عليهم السلام لا يخلو عن بعد فيما أرى على أن
66

تعدد الملائكة التالين للوحي سواء كان صنفا مستقلا أم لا مما يشكل عليه ما ذكره غير واحد أن الأمين على الوحي التالي للذكر على الأنبياء هو جبريل عليه السلام لا غير، نعم من الآيات ما ينزل مشيعا بجمع من الملائكة عليهم السلام ونطق الكتاب الكريم بالرصد عند إبلاغ الوحي وهذا أمر والتلاوة على الأنبياء عليهم السلام أمر آخر فتأمل جميع ذلك، وفي المراد بالصفات المتناسقة احتمالات غير ما ذكر فلا تغفل.
وأيا ما كان فالقسم بتلك الجماعات أنفسها ولا حجر على الله عز وجل فله سبحانه أن يقسم بما شاء فلا حاجة إلى القول بأن الكلام على حذف مضاف أي ورب الصافات مثلا، والآية ظاهرة الدلالة على مذهب سيبويه. والخليل في مثل * (والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى) * (الليل: 1، 2) من أن الواو الثانية وما بعدها للعطف خلافا لمذهب غيرهما من أنها للقسم لوقوع الفاء فيها موقع الواو إلا أنها تفيد الترتيب. وأدغم ابن مسعود. ومسروق. والأعمش وأبو عمرو. وحمزة التاآت الثلاث فيما يليها للتقارب فإنها من طرف اللسان وأصول الثنايا.
* (إن إل‍اهكم لواحد) *.
* (إن إلاهكم لواحد) * جواب للقسم وقد جرت عادتهم على تأكيد ما يهتم به بتقديم القسم ولذا قدم ههنا فلا يقال: إنه كلام مع منكر مكذب فلا فائدة في القسم، وما قيل من أن وحدة الصانع قد ثبتت بالدليل النقلي بعد ثبوتها بالعقل ففائدته ظاهرة هنا غير تام لأن الكلام مع من لا يعترف بالتوحيد، وقد أشير إلى البرهان [بم في قوله سبحانه:
* (رب السم‍اوات والارض وما بينهما ورب المش‍ارق) *.
* (رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق) * فإن وجودها على هذا النمط البديع أوضح دليل على وحدته عز وجل بل في كل ذرة من ذرات العالم دليل على ذلك. وفي كل شيء له آية. تدل على أنه واحد. ورب خبر ثان لأن على مذهب من يجوز تعدد الأخبار أو خبر مبتدأ محذوف أو هو رب السموات الخ.
وجوز أبو البقاء. وغيره كونه بدلا من * (واحد) * فهو المقصود بالنسبة أي خالق السموات والأرض وما بينهما من الموجودات ويدخل في عموم الموصول أفعال العباد فتدل الآية على أنها مخلوقة له تعالى ولا ينافي ذلك كون قدرة العبد مؤثرة بإذنه عز وجل كما ذهب إليه معظم السلف حتى الأشعري نفسه في آخر الأمر على ما صرح به بعض الأجلة، وفسر بعضهم الرب هنا بالمالك وبالمربي، ولعل الأول أظهر. وفي دلالة الآية على كون أفعال العباد مخلوقة له على ذلك بحث، والمرادب المشارق عند جمع مشارق الشمس لأنها المعروفة الشائعة فيما بينهم وهي بعدد أيام السنة فإنها في كل يوم تشرق من مشرق وتغرب في مغرب فالمغارب متعددة تعدد المشارق، وكأن الاكتفاء بها لاستلزامها ذلك مع أن الشروق أدل على القدرة وأبلغ في النعمة، ولهذا استدل به إبراهيم عليه السلام عند محاجة النمروذ، وعن ابن عطية أن مشارق الشمس مائة وثمانون، ووفق بعضهم بين هذا وما يقتضيه ما تقدم من مضاعفة العدد بأن مشارقها من رأس السرطان وهو أول بروج الصيف إلى رأس الجدي وهو أول بروج الشتاء متحدة معها من رأس الجدي إلى رأس السرطان وهو أول بروج الصيف إلى رأس الجدي وهو أول بروج الشتاء متحدة معها من رأس الجدي إلى رأس السرطان فإن اعتبر ما كانت عليه وما عادت إليه واحدا كانت مائة وثمانين وإن نظر إلى تغايرهما كانت ثلثمائة وستين، وفي هذا إسقاط الكسر فإن السنة الشمسية
تزيد على ذلك العدد بنحو ستة أيام على ما بين في موقعه، وفسرت المشارق أيضا بمشارق الكواكب، ورجح بأنه المناسب لقوله تعالى بعد * (أنا زينا) * الخ، وهي للسيارات منها متفاوتة في العدد، وأكثرها مشارق على ما هو المعروف عند المتقدمين زحل ومشارقه إلى أن يتم دورته أكثر من مشارق الشمس إلى أن تتم دورتها بألوف، ومشارق الثوابت إلى أن تتم الدورة أكثر وأكثر فلا تغفل وتبصر، وتثنية المشرق والمغرب في قوله تعالى: * (رب المشرقين ورب
67

المغربين) * (الرحمان: 17) على إرادة مشرق الصيف ومشرق الشتاء ومغربيهما، وإعادة * (رب) * هنا مع المشارق لغاية ظهور آثار الربوبية فيها وتجددها كل يوم.
* (إنا زينا السمآء الدنيا بزينة الكواكب) *.
* (إنا زينا السماء الدنيا) * أي أقرب السموات من أهل الأرض فالدنيا هنا مؤنث أدنى بمعنى أقرب أفعل تفضيل * (بزينة) * عجبية بديعة * (الكواكب) * بالجر بدل من * (زينة) * بدل كل على أن المراد بها الاسم أي ما يزان به لا المصدر فإن الكواكب بأنفسها وأوضاع بعضها من بعض زينة وأي زينة: فكأن أجرام النجوم لوامعا * درر نثرن على بساط أزرق
وجوز أن تكون عطف بيان. وقرأ الأكثرون * (بزينة الكواكب) * بالإضافة على أنها بيانية لما أن الزينة مبهمة صادقة على كل ما يزان به فتقع الكواكب بيانا لها، ويجوز أن تكون لامية على أن الزينة للكواكب أضواؤها أو أوضاعها، وتفسيرها بالأضواء منقول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وجوز أن تكون الزينة مصدرا كالنسبة وإضافتها من إضافة المصدر إلى مفعوله أي زينا السماء الدنيا بتزييننا الكواكب فيها أو من إضافة المصدر إلى فاعله أي زيناها بأن زينتها الكواكب، وقرأ ابن وثاب. ومسروق. بخلاف عنهما. والأعمش. وطلحة. وأبو بكر * (بزينة) * منونا * (الكواكب) * نصبا فاحتمل أن يكون زينة مصدرا والكواكب مفعول به كقوله تعالى: * (أو طعام في يوم ذي مسغبة * يتيما) * (البلد: 14، 15) وليس هذا من المصدر المحدود كالضربة حتى يقال لا يصح إعماله كما نص عليه ابن مالك لأنه وضع مع التاء كالكتابة والإصابة وليس كل تاء في المصدر للوحدة، وأيضا ليست هذه الصيغة صيغة الوحدة، واحتمل أن يكون * (الكواكب) * بدلا من * (السماء) * بدل اشتمال واشتراط الضمير معه للمبدل منه إذا لم يظهر اتصال أحدهما بالآخر كما قرروه في قوله تعالى: * (قتل أصحاب الأخدود النار) * (). وقيل: اللام بدل منه، وجوز كونه بدلا من محل الجار والمجرور أو المجرور وحده على القولين، وكونه منصوبا بتقدير أعني. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما * (بزينة) * منونا * (الكواكب) * رفعا على أنها خبر مبتدأ محذوف أي هي الكواكب أو فاعل المصدر ورفعه الفاعل قد أجازه البصريون على قلة، وزعم الفراء أنه ليس بمسموع. وظاهر الآية أن الكواكب في السماء الدنيا ولا مانع من ذلك وإن اختلفت حركاتها وتفاوتت سرعة وبطأ لجواز أن تكون في أفلاكها وأفلاكها في السماء الدنيا وهي ساكنة ولها من الثخن ما يمكن معه نضد تلك الأفلاك المتحركة بالحركات المتفاوتة وارتفاع بعضها فوق بعض. وحكى النسيابوري في تفسير سورة التكوير عن الكلبي أن الكواكب في قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور وتلك السلاسل بأيدي الملائكة عليهم السلام، وهو مما يكذبه الظاهر ولا أراه إلا حديث خرافة. وأما ما ذهب إليه جل الفلاسفة من أن القمر وحده في السماء الدنيا وعطارد في السماء الثانية والزهرة في الثالثة والشمس في الرابعة والمريخ في الخامسة والمشتري في السادسة وزحل في السابعة والثوابت في فلك فوق السابعة هو الكرسي بلسان الشرع فمما لا يقوم عليه برهان يفيد اليقين، وعلى فرض صحته لا يقدح في الآية لأنه يكفي لصحة كون السماء الدنيا مزينة بالكواكب كونها كذلك في رأي العين.
* (وحفظا من كل شيط‍ان مارد) *.
* (وحفظا) * نصب على أنه مفعول مطلق لفعل معطوف على * (زينا) * أي وحفظناها حفظا أو عطف على * (زينة) * باعتبار المعنى فإنه معنى مفعول له كأنه قيل: إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا لها، والعطف على المعنى كثير وهو غير العطف على الموضع وغير عطف التوهم
68

وجوز كونه مفعولا له بزيادة الواو أو على تأخير العامل أي ولحفظها زيناها. وقوله تعالى:
* (من كل شيط‍ان مارد) * متعلق بحفظنا المحذوف أو بحفظا، والمارد كالمريد المتعري عن الخيرات من قولهم شجر أمرد إذا تعرى من الورق، ومنه قيل رملة مرداء إذا لم تنبت شيئا، ومنه الأمر لتجرده عن الشعر، وفسر هنا أيضا بالخارج عن الطاعة وهو في معنى التعري عنها [بم وقوله تعالى:
* (لا يسمعون إلى الملإ الاعلى ويقذفون من كل جانب) *.
* (لا يسمعون إلى الملأ الأعلى) * أي لا يتسمعون وهذا أصله فأدغمت التاء في السين، وضمير الجمل لكل شيطان لأنه بمعنى الشياطين.
وقرأ الجمهور * (لا يسمعون) * بالتخفيف، والملأ في الأصل جماعة يجتمعون على رأي فيملؤن العيون رواء والنفوس جلالة وبهاء، ويطلق على مطلق الجماعة وعلى الأشراف مطلقا، والمراد بالملأ إلا على الملائكة عليهم السلام كما روي عن السدي لأنهم في جهة العلو ويقابله الملأ الأسفل وهم الإنس والجن لأنهم في جهة السفل.
وقال ابن عباس: هم أشراف الملائكة عليهم السلام، وفي رواية أخرى عنه أنهم كتابهم، وفسر العلو على الروايتين بالعلو المعنوي.
وتعدية الفعل على قراءة الجمهور بإلى لتضمينه معنى الإصغاء أي لا يسمعون مصغين إلى الملأ الأعلى، والمراد نفي سماعهم مع كونهم مصغين، وفيه دلالة على مانع عظيم ودهشة تذهلهم عن الإدراك، وكذا على القراءة الأخرى وهي قراءة ابن عباس بخلاف عنه. وابن وثاب. وعبد الله بن مسلم. وطلحة. والأعمش. وحمزة. والكسائي. وحفص بناء على ما هو الظاهر من أن التفعل لا يخالف ثلاثيه في التعدية، واستعمال تسمع مع إلى لا يقتضي كونه غير مضمن، وقيل لا يحتاج إلى اعتبار
التضمين عليها والتفعل مؤذن بالطلب فتسمع بمعنى طلب السماع، قيل: ويشعر ذلك بالإصغاء لأن طلب السماع يكون بالإصغاء فتتوافق القراءتان وإن لم يقل بالتضمين في قراءة التشديد، ولعل الأولى القول بالتضمين ونفي طلبهم السماع مع وقوعه منهم حتى قيل: إنه يركب بعضهم بعضا لذلك إما ادعائي للمبالغة في نفي سماعهم أو هو على ما قيل بعد وصولهم إلى محل الخطر لخوفهم من الرجم حتى يدهشوا عن طلب السماع، وقال أبو حيان: إن نفي التسمع لانتفاء ثمرته وهو السمع.
وقال ابن كمال: عدي الفعل في القراءتين بإلى لتضمنه معنى الانتهاء أي لا ينتهون بالسمع أو التسمع إلى الملأ الأعلى وليس بذاك كما لا يخفى على المتأمل الصادق، والجملة في المشهور مستأنفة استئنافا نحويا ولم يجوز كونها صفة لشيطان قالوا إذ لا معنى للحفظ من شياطين لا تسمع أو لا تسمع مع إيامه لعدم الحفظ عمن عداها. وكذا لم يجوز كونها استئنافا بيانيا واقعا جواب سؤال مقدر إذ المتبادر أن يؤخذ السؤال من فحوى ما قبله فتقديره حينئذ لم تحفظ فيعود محذور الوصفية، وكذا كونها حالا مقدرة لأن الحال كذلك يقدرها صاحبها والشياطين لا يقدرون عدم السماع أو عدم التسمع ولا يريدونه، وجوز ابن المنير كونها صفة والمراد حفظ السموات ممن لا يسمع أو لا يسمع بسبب هذا الحفظ، وهو نظير * (ثم أرسلنا رسلنا) * (المؤمنون: 44) * (وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره) * (النحل: 12) ومن هنا لم يجعل بعض الأجلة قوله عليه الصلاة والسلام: " من قتل قتيلا فله سلبه " من مجاز الأول. وتعقب بأن ذلك خلاف المتبادر ولا يكاد يفهم من أضرب الرجل المضروب كونه مضروبا بهذا الضرب المأمور به لا بضرب آخر قبله، وكذا جوز صاحب الكشف كونها صفة وكونها مستأنفة استئنافا بيانيا أيضا ودفع المحذور وأبعد في ذلك المغزى كعادته في سائر تحقيقاته فقال: المعنى لا يمكنون من السماع
69

مع الإصغاء أولا يمكنون من التسمع مبالغة في نفي السماع كأنهم مع مبالغتهم في الطلب لا يمكنهم ذلك، ولا بد من ذلك جعلت الجملة وصفا ولا جمعا بين القراءتين وتوفية لحق الإصغاء المدلول عليه بإلى وحينئذ يكون الوصف شديد الطباق؛ ورد الاستئناف البياني وارد على تقدير السؤال لم تحفظ؟ وليس كذلك بل السؤال عما يكون عند الحفظ وعن كيفيته لأن قوله سبحانه: * (وحفظا من كل شيطان مارد) * (الصافات: 7) مما يحرك الذهن له فقيل * (لا يسمعون) * جوابا عما يكون عنده * (ويقذفون) * لكيفية الحفظ، وهذا أولى من جعلها مبدأ اقتصاص مستطرد لئلا ينقطع ما ليس بمنقطع معنى انتهى.
واستدقه الخفاجي واستحسنه وذكر أن حاصله أنه ليس المنفي هنا السماع المطلق حتى يلزم ما ظنوه من فساد المعنى لأنه لما تعدى بإلى وتضمن معنى الإصغاء صار المعنى حفظناها من شياطين لا تنصت لما فيها إنصاتا تاما تضبط به ما تقوله الملائكة عليهم السلام، ومآله حفظناها من شياطين مسترقة للسمع، وقوله سبحانه: * (إلا من خطف) * (الصافات: 9) الخ ينادي على صحته، والمناقشة بحديث الأوصاف قبل العلم بها أخبار إن جاءت لا تتم فالحديث غير مطرد، وقيل: إن الأصل لأن لا يسمعوا على أن الجار متعلق بحفظا فحذفت اللام كما في جئتك أن تكرمني ثم حذفت أن ورفع الفعل كما في قوله: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى * وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
وفيه أن حذف اللام وحذف أن ورفع الفعل وإن كان كل منهما واقعا في الفصيح إلا أن اجتماع الحذفين منكر يصان كلام الله تعالى عنه. وأبو البقاء يجوز كون الجملة صفة وكونها استئنافا وكونها حالا فلا تغفل.
* (ويقذفون) * أي يرمون ويرجمون * (من كل جانب) * من جوانب السماء إذا قصدوا الصعود عليها، وليس المراد أن كل واحد يرمي من كل جانب بل هو على التوزيع أي كل من صعد من جانب رمى منه.
وقرأ محبوب عن أبي عمرو * (يقذفون) * بالبناء للفاعل ولعل الفاعل الملائكة، وجوز أن يكون الكواكب، وأمر ضمير العقلاء سهل [بم وقوله تعالى:
* (دحورا ولهم عذاب واصب) *.
* (دحورا) * مفعول له وعلة للقذف أي للدحور وهو الطرد والإبعاد أو مفعول مطلق ليقذفون كقعدت جلوسا لتنزيل المتلازمين منزلة المتحدين فيقام دحورا مقام قذفا أو * (يقذفون) * مقام يدحرون، وعلى التقديرين هو مصدر مؤكد أو حال من ضمير * (يقذفون) * على أنه مصدر باسم المفعول على القراءة الشائعة وهو في معنى الجمع لشموله للكثير أي مدحورين، وجوز كونه جمع داحر بمعنى مدحور كقاعد وقعود، وكونه جمع داحر من غير تأويل بناء على القراءة الأخرى، وجوز أن يكون منصوبا بنزع الخافض وهو الباء على أنه جمع دحر كدهر ودهور وهو ما يدحر به أي يقذفون بدحور. وقرأ السلمي. وابن أبي عبلة. والطبراني عن أبي جعفر * (دحورا) * بفتح الدال فاحتمل كونه نصبا بنزع الخافض أيضا وهو على هذه القراءة أظهر لأن فعولا بالفتح بمعنى ما يفعل به كثير كطهور وغسول لما يتطهر ويغسل به، واحتمل أن يكون صفة كصبور لموصوف مقدر أي قذفا دحورا طاردا لهم، وأن يكون مصدرا كالقبول وفعول في المصادر نادر ولم يأت في كتب التصريف منه إلا خمسة أحرف الوضوء والطهور والولوع والوقود والقبول كما حكي عن سيبويه وزيد عليه الوزوع بالزاي المعجمة والهوى بفتح الهاء بمعنى السقوط والرسول بمعنى الرسالة.
70

* (ولهم) * أي في الآخرة * (عذاب) * آخر غير ما في الدنيا من عذاب الرجم بالشهب * (واصب) * أي دائم كما قال قتادة. وعكرمة. وابن عباس، وأنشدوا لأبي الأسود: لا أشتري الحمد القليل بقاؤه * يوما بذم الدهر أجمع واصبا
وفسره بعضهم بالشديد، قيل والأول حقيقة معناه وهذا تفسير له بلازمه. والآية على ما سمعت كقوله تعالى: * (وأعتدنا لهم عذاب السعير) * (الملك: 5) وجوز أبو حيان أن يكون هذا العذاب في الدنيا وهو رجمهم دائما وعدم بلوغهم ما يقصدون من استراق السمع.
* (إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب) *.
* (إلا من خطف الخطفة) * استثناء متصل من واو * (يسمعون) * و * (من) * بدل منه على ما ذكره الزمخشري ومتابعوه، وقال ابن مالك: إذا فصل بين المستثنى والمستثنى منه فالمختار النصب لأن الإبدال للتشاكل وقد فات بالتراخي، وذكره في " البحر " هنا وجها ثانيا، وقيل: هو منقطع على أن * (من) * شرطية جوابها الجملة المقرونة بالفاء بعد وليس بذاك، والخطف الاختلاس والأخذ بخفة وسرعة على غفلة المأخوذ منه، والمراد اختلاس كلام الملائكة مسارقة كما يعرب عنه تعريف الخطفة بلام العهد لأن المراد بها أمر معين معهود فهي نصب على المصدرية، وجوز أن تكون مفعولا به على إرادة الكلمة. وقرأ الحسن وقتادة * (خطف) * بكسر الخاء والطاء مشددة، قال أبو حاتم: ويقال هي لغة بكر بن وائل. وتميم بن مر والأصل اختطف فسكنت التاء للإدغام وقبلها خاء ساكنة فالتقى ساكنان فحركت الخاء بالكسر على الأصل وكسرت الطاء للاتباع وحذفت ألف الوصل للاستغناء عنها. وقرىء * (خطف) * بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة ونسبها ابن خالويه إلى الحسن. وقتادة. وعيسى، واستشكلت بأن فتح الخاء سديد لإلقاء حركة التاء عليها، وأما كسر الطاء فلا وجه له، وقيل في توجيهها: إنهم نقلوا حركة الطاء إلى الخاء وحذفت ألف الوصل ثم قلبوا التاء وأدغموا وحركوا الطاء بالكسر على أصل التقاء الساكنين وهو كما ترى، وعن ابن عباس * (خطف) * بكسر الخاء والطاء مخففة أتبع على ما في " البحر " حركة الخاء لحركة الطاء كما قالوا نعم * (فأتبعه) * أي تبعه ولحقه على أن أتبع من الأفعال بمعنى تبع الثلاثي فيتعدى لواحد * (شهاب) * هو في الأصل الشعلة الساطعة من النار الموقدة، والمراد به العارض المعروف في الجو الذي يرى كأنه كوكب منقض من السماء * (ثاقب) * مضىء كما قال الحسن. وقتادة كأنه ثقب الجو بضوئه، وأخرج ابن أبي شيبة. وعبد بن حميد. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن يزيد الرقاضي أنه قال: يثقب الشيطان حتى يخرج من الجانب الآخر فذكر ذلك لأبي مجلز فقال: ليس ذاك ولكن ثقوبه ضوؤه، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد * (الثاقب) * المتوقد وهو قريب مما تقدم.
وأخرج عن السدي * (الثاقب) * المحرق، وليست الشهب نفس الكواكب التي زينت بها السماء فإنها لا تنقض وإلا لانتقصت زينة السماء بل لم تبق، على أن المنقض إن كان نفس الكواكب بمعنى أنه ينقلع عن مركزه ويرمي به الخاطف فيرى لسرعة الحركة كرمح من نار لزم أن يقع على الأرض وهو إن لم يكن أعظم منها فلا أقل من أن ما انقض من الكواكب من حين حدث الرمي إلى اليوم أعظم منها بكثير فيلزم أن تكون الأرض اليوم مغشية بإجرام الكواكب والمشاهدة تكذب ذلك بل لم نسمع بوقوع جرم كوكب أصلا.
وأصغر الكواكب عند الإسلاميين كالجبل العظيم، وعند الفلاسفة أعظم وأعظم بل صغار الثوابت عندهم
71

أعظم من الأرض وإن التزم أنه يرمي به حتى إذا تم الغرض رجع إلى مكانه قيل عليه: إنه حينئذ يلزم أن يسمع لهويه صوت هائل فإن الشهب تصل إلى محل قريب من الأرض، وأيضا عدم مشاهدة جرم كوكب هابطا أو صاعدا يأبى احتمال انقلاع الكوكب والرمي به نفسه، وإن كان المنقض نوره فالنور لا أذى فيه فالأرض مملوءة من نور الشمس وحشوها الشياطين، على أنه إن كان المنقض جميع نوره يلزم انتقاص الزينة أوذهابها بالكلية، وإن كان بعض نوره يلزم أن تتغير أضواء الكواكب ولم يشاهد في شيء منها ذلك، وأمر انقضاضه نفسه أو انفصال ضوئه على تقدير كون الكواكب الثوابت في الفلك الثامن المسمى بالكرسي عند بعض الإسلاميين وأنه لا شيء في السماء الدنيا سوى القمر أبعد وأبعد. والفلاسفة يزعمون استحالة ذلك لزعمهم عدم قبول الفلك الخرق والالتئام إلى أمور أخر، ويزعمون في الشهب أنها أجزاء بخارية دخانية لطيفة وصلت كرة النار فاشتعلت وانقلبت نارا ملتهبة فقد ترى ممتدة إلى طرف الدخان ثم ترى كأنها طفئت وقد تمكث زمانا كذوات الأذناب وربما تتعلق بها نفس على ما فصلوه، وهم مع هذا لا يقولون بكونها ترمي بها الشياطين بل هم ينكرون حديث الرمي مطلقا، وفي النصوص الإلهية رجوم لهم، ولعل أقرب الاحتمالات في أمر الشهب أن الكوكب يقذف بشعاع من نوره فيصل أثره إلى هواء متكيف بكيفية مخصوصة يقبل بها الاشتعال بما يقع عليه من شعاع الكوكب بالخاصية فيشتعل فيحصل ما يشاهد من الشهب، وإن شئت قلت: إن ذلك الهواء المتكيف بالكيفية المخصوصة إذا وصل إلى محل مخصوص من الجو أثرت فيه أشعة الكواكب بما أودعه الله تعالى فيها من الخاصية فيشتعل فيحصل ما يحصل، وتأثير الأشعة الحرق في القابل له مما لا ينكر فإنا نرى شعاع الشمس إذا قوبل ببعض المناظر على كيفية مخصوصة أحرق قابل الإحراق ولو توسط بين المنظرة وبين القابل إناء بلور مملوء ماء، ويقال: إن الله تعالى يصرف ذلك الحاصل إلى الشيطان المسترق للسمع وقد يحدث ذلك وليس هناك مسترق، ويمكن أن يقال: إنه سبحانه يخلق الكيفية التي بها يقبل الهواء الإحراق في الهواء الذي في جهة الشيطان، ولعل قرب الشيطان من بعض أجزاء مخصوصة من الهواء معد بخاصية أحدثها الله تعالى فيه لخلقه عز وجل تلك الكيفية في ذلك الهواء القريب منه مع أنه عز وجل يخلق تلك الكيفية في بعض أجزاء الهواء الجوية حيث لا شيطان هناك أيضا.
وإن شئت قلت: إنه يخرج شؤبوب من شعاع الكوكب فيتأذى به المارد أو يحترق، والله عز وجل قادر على أن يحرق بالماء ويروى بالنار والمسببات عند الأسباب لا بها وكل الأشياء مسندة إليه تعالى ابتداء عند الأشاعرة، ولا يلزم على شيء مما ذكر انتقاص ضوء الكوكب، ولو سلم أنه يلزم انتقاص على بعض الاحتمالات قلنا: إنه عز وجل يخلق بلا فصل في الكوكب بدل ما نقص منه وأمره سبحانه إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون. ولا ينافي ما ذكرنا قوله تعالى: * (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين) * (الملك: 5) لأن جعلها رجوما يجوز أن يكون لأنه بواسطة وقوع أشعتها على ما ذكرنا من الهواء تحدث الشهب فهي رجوم بذلك الاعتبار ولا يتوقف جعلها رجوما على أن تكون نفسها كذلك بأن تنقلع عن مراكزها ويرجم بها، وهذا كما تقول: جعل الله تعالى الشمس يحرق بها بعض الأجسام فإنه صادق فيما إذا أحرق بها بتوسيط بعض المناظر وانعكاس شعاعها على قابل الإحراق. وزعم بعضالناس أن الشهب شعل نارية تحدث من أجزاء متصاعدة
72

إلى كرة النار وهي الرجوم ولكونها بواسطة تسخين الكواكب للأرض قال سبحانه: * (وجعلناها رجوما) * على التجوز في إسناد الجعل إليها أو في لفظها، ولا يخفى أن كرة النار مما لم تثبت في كلام السلف ولا ورد فيها عن الصادق عليه والصلاة والسلام خبر، وقيل: يجوز أن تكون المصابيح هي الشهب وهي غير الكواكب وزينة
السماء بالمصابيح لا يقتضي كونها فيها حقيقة إذ يكفي كونها في رأي العين كذلك، وقيل: يجوز أن يراد بالسماء جهة العلو وهي مزينة بالمصابيح والشهب كما مزينة بالكواكب. وتعقب هذا بأن وصف السماء بالدنيا يبعد إرادة الجهة منها. وتعقب ما قبله بأن المتبادر أن المصابيح هي الكواكب ولا يكاد يفهم من قوله تعالى: * (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب) * (الصافات: 6) وقوله سبحانه: * (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح) * إلا شيء واحد، وأن كون الشهب المعروفة زينة السماء مع سرعة تقضيها وزوالها وربما دهش من بعضها مما لا يسلم، والقول بأنه يجوز اطلاق الكوكب على الشهاب للمشابهة فيجوز أن يراد بالكواكب ما يشمل الشهب وزينة السماء على ما مر آنفا زيد فيه على ما تقدم ما لا يخفى ما فيه، نعم يجوز أن يقال: إن الكوكب ينفصل منه نور إذا وصل إلى محل مخصوص من الجو انقلب نارا ورؤي منقضا ولا يعجز الله عز وجل شيء، وقد يقال: إن في السماء كواكب صغارا جدا غير مرئية ولو بالأرصاد لغاية الصغر وهي التي يرمي بها أنفسها، وقوله تعالى: * (وقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين) * (الملك: 5) من باب عندي درهم ونصفه و * (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب * وحفظا) * (الصافات: 6، 7) الآية ان كان على معنى وحفظا بها فهو من ذلك الباب أيضا وإلا فالأمر أهون فتدبر. واختلف في أن المرجوم هل يهلك بالشهاب إذا أصابه أو يتأذي به من غير هلاك فعن ابن عباس أن الشياطين لا تقتل بالشهاب ولا تموت ولكنها تحرق وتخبل أي يفسد منها بعض أعضائها، وقيل تهلك وتموت ومتى أصاب الشهاب من اختطف منهم كلمة قال للذي يليه كان كذا وكذا قبل أن يهلك، ولا يأبى تأثير الشهاب في كونهم مخلوقين من النار لأنهم ليسوا من النار الصرفة كما أن الإنسان ليس من التراب الخالص مع أن النار القوية إذا استولت على الضعيفة استهلكتها، وأيا ما كان لا يقال: إن الشياطين ذوو فطنة فكيف يعقل منهم العود إلى استراق السمع مرة بعد مرة مع أن المسترق يهلك أو يتأذى الأذى الشديد واستمرار انقضاض الشهب دليل استمرار هذا الفعل منهم لأنا نقول: لا نلسم استمرار هذا الفعل منهم واستمرار الانقضاض ليس دليلا عليه لأن الانقضاض يكون للاستراق ويكون لغيره فقد أشرنافيما سبق أن الهواء قد يتكيف بكيفية مخصوصه فيحترق بسبب أشعة الكواكب وإن لم يكن هناك مسترق، وقيل: يجوز أن ترى الشهب لتعارض في الأهوية واصطكاك يحصل منه ما ترى كما يحصل البرق باصطكاك السحاب على ما روي عن بعض السلف وحوادث الجو لا يعلمها إلا الله تعالى فيجوز أن يكونوا قد استرقوا أولا فشاهدوا ما شاهدوا فتركوا واستمرت الشهب تحدث لما ذكر لا لاستراق الشياطين، ويجوز أن يقع أحيانا مم حدث منهم ولم يعلم بما جرى على رؤوس المسترقين قبله أو ممن لا يبالي بالأذى ولا بالموت حبا لأن يقال ما أجسره أو ما أشجعه مثلا كما يشاهد في كثير من الناس يقدمون في المعارك على ما يتيقنون هلاكهم به حبا لمثل ذلك، ولعل في وصف الشياطين بالمارد ما يستأنس به لهذا الاحتمال، وأما ما قيل: إن الشهاب قد يصيب الصاعد مرة وقد لا يصيب كالموج لراكب السفينة ولذلك لا يرتدعون عنه رأسا فخلاف المأثور، فقد أخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ
73

في العظمة عن ان عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إذا رمي بالشهاب لم يخطىء من رمي به، ثم إن ما ذكر من احتمال أنهم قد تركوا بعد أن صحت عندهم التجربة لا يتم إلا على ما روي عن الشعبي من أنه لم يقذف بالنجوم حتى ولد النبي صلى الله عليه وسلم فلما قذف بها جعل الناس يسيبون أنعامهم ويعتقون رقيقهم يظنون أنه القيامة فأتوا عبد ياليل الكاهن وقد عمي وأخبروه بذلك فقال: انظروا إن كانت النجوم المعروفة من السيارة والثوابت فهو قيام الساعة وإلا فهو أمر حادث فنظروا فإذا هي غير معروفة فلم يمض زمن حتى أتى خبر النبي صلى الله عليه وسلم، ووافق على عدم حدوثه قبل ابن الجوزي في المنتظم لكنه قال: إنه حدث بعد عشرين يوما من مبعثه، والصحيح أن القذف كان قبل ميلاده عليه الصلاة والسلام، وهو كثير في أشعار الجاهلية إلا انه يحتمل انه لم يكن طاردا للشياطين وأن يكون طاردا لهم لكن لا بالكلية وان يكون طاردا لهم بالكلية، وعلى هذا لا يتأتى الاحتمال السابق، وعلى الاحتمال الأول من هذه الاحتمالات يكون الحادث يوم الميلاد طردهم بذلك، وعلى الثاني طردهم بالكلية وتشديد الأمر عليهم لينحسم أمرهم وتخليطهم ويصح الوحي فتكون الحجة أقطع، والذي يترجح أنه كان قبل الميلاد طاردا لكن لا بالكلية فكان يوجد استراق على الندرة وشدد في بدء البعثة، وعليه يراد بخبر لم يقذف بالنجوم حتى ولد النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكثر القذف بها، وعلى هذا يخرج غيره إذا صح كالخبر المنقول في السير أن إبليس كان يخترق السموات قبل عيسى عليه السلام فلما بعث أو ولد حجب عن ثلاث سموات ولما ولد النبي صلى الله عليه وسلم حجب عنها كلها وقذفت الشياطين بالنجوم فقال قريش: قامت الساعة فقال عتبة بن ربيعة: انظروا إلى العيوق فإن كان رمي به فقد آن قيام الساعة وإلا فلا، وقال بعضهم: اتفق المحدثون على أنه كان قبل لكن كثر وشدد لما جاء الإسلام ولذا قال تعالى: * (ملئت حرسا شديدا وشهبا) * (الجن: 8) ولم يقل حرست، وبالجملة لا جزم عندنا بأن ما يقع من الشهب في هذه الاعصار ونحوها رجوم للشياطين والجزم بذلك رجم بالغيب هذا وقد استشكل أمر الاستراق بأمور، منها إن الملائكة في السماء مشغولون بأنواع العبادة أطت السماء وحق لها أن نئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد فماذا تسترق الشياطين منهم؟ وإذا قيل: إن منهم من يتكلم بالحوادث الكونية فهم على * (محدبها) * والشياطين تسترق تحت مقعرها وبينهما كما صح في الأخبار خمسمائة عام فكيف يتأتى السماع لا سيما والظاهر أنهم لا يرفعون أصواتهم إذا تكلموا بالحوادث إذ لا يظهر غرض برفعها، وعلى تقدير أن يكون هناك رفع صوت فالظاهر أنه ليس بحيث يسمع من مسيرة خمسمائة عام. وعلى تقدير أن يكون بهذه الحيثية فكرة الهواء تنقطع عند كرة النار ولا يسمع صوت بدون هواء.
وأجيب بأن الاستراق من ملائكة العنان وهم يتحدثون فيما بينهم بما أمروا به من السماء من الحوادث الكونية، و * (لمسنا السماء) * طلبنا خبرها أو من الملائكة النازلين من السماء بالأمر فإن ملائكة على أبواب السماء ومن حيث ينزلون يسألونهم بماذا تذهبون؟ فيخبونهم، وليس الاستراق من الملائكة الذين على محدب السماء، وأمر كرة النار لا يصح، والهواء غير منقطع وهو كلما رق ولطف كان أعون على السماع، على أن وجود الهواء مما لا يتوقف عليه السماع على أصول الأشاعرة ومثله عدم البعد المفرط، وظاهر خبر أخرجه ابن أبي حاتم. عن عكرمة أن الاستراق من الملائكة في السماء قال: " إذا قضي الله تعالى أمرا تكلم تبارك وتعالى فتخر
74

الملائكة كلهم سجدا فتحسب الجن أن أمرا يقضي فتسترق فإذا عن قلوب الملائكة عليهم السلام ورفعوا لأرؤوسهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا جميعا: الحق وهو العلي
الكبير " وجاء في خبر أخرجه ابن أبي شيبة. وعبد بن حميد. وابن المنذر عن إبراهيم التيمي: " إذا أراد ذو العرش أمرا سمعت الملائكة كجر السلسلة على الصفا فيغشى عليهم فإذا قاموا قالوا: ماذا قال ربكم؟ قال من شاء الله: الحق وهو العلي الكبير " ولعله بعد هذا الجواب يذكر الأمر بخصوصه فيما بين الملائكة عليهم السلام، وظاهر ما جاء في بعض الروايات عن ابن عباس من تفسير الملأ الأعلى بكتبة الملائكة عليهم السلام أيضا أن الاستراق من ملائكة في السماء إذ الظاهر أن الكتبة في السماء، ولعله يتلى عليهم من اللوح ما يتلى فيكتبونه لأمر ما فتطمع الشياطين باستراق شيء منه، وأمر البعد كأمر الهواء لا يضر في ذلك على الأصول الأشعرية، ويمكن أن يدعى أن جرم السماء لا يحجب الصوت وإن كثف، وكم خاصية أثبتها الفلاسفة للافلاك ليس عدم الحجب أغرب منها.
ومنها أنه يغني عن الحفظ من استراق الشياطين عدم تمكينهم من الصعود إلى حيث يسترق السمع، أو أمر الملائكة عليهم السلام بإخفاء كلامهم بحيث لا يسمعونه، أو جعل لغتهم مخالفة للغتهم بحيث لا يفهمون كلامهم. وأجيب بأن وقوع الأمر على ما وقع من باب الابتلاء، وفيه أيضا من الحكم ما فيه، ولا يخفى أن مثل هذا الاشكال يجري في أشياء كثيرة إلا أن كون الصانع حكيما وأنه جل شأنه قد راعى الحكمة فيما خلق وأمر على أتم وجه حتى قيل: ليس في الإمكان أبدع مما كان يحل ذلك ولا يبقى معه سوى تطلب وجه الحكمة وهو مما يتفضل الله تعالى به على من يشاء من عباده، والكلام في هذا المقام قد مر شيء منه فارجع إليه، ومما هنا وما هناك يحصل ما يسر الناظرين ويرضي العلماء المحققين.
* (فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنآ إنا خلقن‍اهم من طين لازب) *.
* (فاستفتهم) * أي فاستخبرهم، وأصل الاستفتاء الاستخبار عن أمر حدث، ومنه الفتى لحداثة سنه، والضمير لمشركي مكة، قيل: والآية نزلت في أبي الأشد بن كلدة الجمحي وكني بذلك لشدة بطشه وقوته واسمه أسيد، والفاء فصيحة أي إذا كان لنا من المخلوقات ما سمعت أو إذا عرفت ما مر فاستخبر مشركي مكة واسألهم على سبيل التبكيت * (أهم أشد خلقا) * أي أقوى خلقة وأمتن بنية أو أصعب خلقا وأشق إيجادا * (أم من خلقنا) * من الملائكة والسموات والأرض وما بينهما والمشارق والكواكب والشياطين والشهب الثواقب، وتعريف الموصول عهدي أشير به إلى ما تقدم صراحة ودلالة وغلب العقلاء على غيرهم والاستفهام تقريري، وجوز أن يكون انكاريا، وفي مصحف عبد الله * (أم من عددنا) * وهو مؤيد لدعوى العهد بل قاطع بها. وقرأ الأعمش * (أمن) * بتخفيف الميم دون أم جعله استفهاما ثانيا تقريريا فمن مبتدأ خبره محذوف أي أمن خلقنا أشد * (إنا خلقناهم من طين لازب) * أي ملتصق كما أخرج ذلك ابن جرير. وجماعة عن ابن عباس، وفي رواية أخرى بلفظ ملتزق وبه أجاب ابن الأزرق وأنشد له قول النابغة: فلا تحسبون الخير لا شر بعده * ولا تحسبون الشر ضربة لازب
قيل: والمراد ملتزق بعضه ببعض، وبذلك فسره ابن مسعود كما أخرجه ابن أبي حاتم ويرجع إلى حسن العجن جيد التخمير، وأخرج ابن المنذر. وغيره عن قتادة أنه يلزق باليد إذا مس بهاد وقال الطبري: خلق آدم من تراب وماء وهواء ونار وهذا كله إذا خلط صار طينا لازبا يلزم ما جاوره، واللازب عليه بمعنى اللازم وهو قريب مما تقدم، وقد قرىء * (لازم) * بالميم بدل الباء و * (لاتب) * بالتاء بدل الزاي والمعنى واحد. وحكي في
75

البحر عن ابن عباس أنه عبر عن اللازب بالحر أي الكريم الجيد، وفي رواية أنه قال: اللازب الجيد.
وأخرج عبد بن حيمد. وابن المنذر عن مجاهد أنه قال: لازب أي لازم منتن، ولعل وصفه بمنتن مأخوذ من قوله تعالى: * (من حمأ مسنون) * (الحجر: 26) لكن أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال: اللازب والحماء والطين واحد كان أوله ترابا ثم صار حمأ منتنا ثم صار طينا لازبا فخلق الله تعالى منه آدم عليه السلام.
وأيا ما كان فخلقهم من طين لازب إما شهادة عليهم بالضعف والرخاوة لأن ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة أو احتجاج عليهم في أمر البعث بأن الطين اللازب الذي خلقوا منه في ضمن خلق أبيهم آدم عليه السلام تراب فمن أين استنكروا أن يخلقوا منه مرة ثانية حيث قالوا: * (أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون) * (الصافات: 16) ويعضد هذا على ما في الكشاف ما يتلوه من ذكر إنكارهم البعثث. [بم وقوله تعالى:
* (بل عجبت ويسخرون) *.
* (بل عجبت) * خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وجوز أن يكون لكل من يقبله. * (وبل) * للاضراب إما عن مقدر يشعر به * (فاستفتهم) * الخ أي هم لا يقرون ولا يجيبون بما هو الحق بل مثلك ممن يذعن ويتعجب من تلك الدلائل أو عن الأمر بالاستفتاء أي لا تستفتهم فإنهم معاندون لا ينفع فيهم الاستفتاء ولا يتعجبون من تلك الدلائل بل مثلك ممن يتعجب منها * (ويسخرون) * أي وهم يسخرون منك ومن تعجبك ومما تريهم من الآيات، وجوز أن يكون المعنى بل عجبت من إنكارهم البعث مع هذه الآيات وهم يسخرون من أمر البعث، واختير أن يكون المعنى بل عجبت من قدرة الله تعالى على هذه الخلائق العظيمة وإنكارهم البعث وهم يسخرون من تعجبك وتقريرك للبعث، وزعم بعضهم أن المراد بمن خلقنا الأمم الماضية وليس بشيء إذ لم يسبق لهذه الأمم ذكر وإنما سبق الذكر للملائكة عليهم السلام وللسموات والأرض وما سمعت مع أن حرف التعقيب مما يدل على خلافه، ومن قال كصاحب الفرائد عليه جمهور المفسرين سوى الإمام ووجهه بأنه لما احتج عليهم بما هم مقرون به من كونه رب السموات والأرض ورب المشارق وألزمهم بذلك وقابلوه بالعناد قيل لهم: فانتظروا الإهلاك كمن قبلكم لأنهكم لستم أشد خلقا منهم فوضع موضعه * (فاستفتهم أهم أشد خلقا) * وقوله تعالى: * (إنا خلقناهم) * (الصافات: 11) تعليل لأنهم ليسوا أشد خلقا أو دليل لاستكبارهم المنتج للعناد. وأيده بدلالة الإضراب واستبعاد البعث بعده لدلالته على أنه غير متعلق بما قبل الاضراب فقد ذهب عليه أن اللفظ خفي الدلالة على ما ذكر من العناد واستحقاق الاهلاك كسالف الأمم؛ وتعليل نفي الأشدية بما علل ليس بشيء لوضوح أن السابقين أشد في ذلك، وكم من ذلك في الكتاب العزيز، وأما الاضراب فعن الاستفتاء إلى أن مثلك ممن يذعن ويتعجب من تلك الدلائل ولذا عطف عليه * (ويسخرون) * وجعل ما أنكروه من البعث من بعض مساخرهم قاله صاحب الكشف فلا تغفل. وقرأ حمزة. والكسائي. وابن سعدان.
وابن مقسم * (عجبت) * بتاء المتكلم ورويت عن علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس. وابن مسعود. والنخعي. وابن وثاب. وطلحة وشقيق. والأعمش.
وأنكر شريح القاضي هذه القراءة وقال: إن الله تعالى لا يعجب من شيء وإنما يعجب من لا يعلم، وانكار هذا القاضي مما أفتى بعدم قبوله لأنه في مقابل بينة متواترة، وقد جاء أيضا في الخبر عجب ربكم من الكم وقنوطكم.
وأولت القراءة بأن ذلك من باب الفرض أي لو كان العجب مما يجوز علي لعجبت من هذه الحال أو التخييل فيجعل تعالى كأنه لانكاره لحالهم يعدها أمرا غريبا ثم يثبت له سبحانه العجب منها، فعلى الأول تكون الاستعارة
76

تخييلية تمثيلية كما في قولهم: قال الحائط للوتد لم تشقني فقال سل من يدقني، وعلى الثاني تكون مكنية وتخييلية كما في نحن لسان الحال ناطق بكذا والمشهور في أمثاله الحمل على اللازم فيكون مجازا مرسلا فيحمل العجب على الاستعظام وهو رؤية الشيء عظيما أي بالغا الغاية في الحسن أو القبح، والمراد هنا رؤية ما هم عليه بالغا الغاية في القبح، وليس استعظام الشيء مسبوقا بانفعال يحصل في الروع عن مشاهدة أمر غريب كما توهم ليقال: إن التأويل المذكور لا يحسم مادة الاشكال.
وقال أبو حيان: يؤول على أنه صفة فعل يظهرها الله تعالى في صفة المتعجب منه من تعظيم أو تحقير حتى يصير الناس متعجبين منه فالمعنى بل عجبت من ضلالتهم وسوء نحلتهم وجعلتها للناظرين فيها وفيما اقترن بها من شرعي وهداي متعجبا، وقال مكي. وعلي بن سليمان: ضمير * (عجبت) * للنبي عليه الصلاة والسلام والكلام بتقدير القول أي قب بل عجبت، وعندي لو قدر القول بعد بل كان أحسن أي بل قل عجبت، والذي يقتضيه كلام السلف ان العجب فينا انفعال يحصل للنفس عند الجهل بالسبب ولذا قيل: إذ ظهر السبب بطل العجب وهو في الله تعالى بمعنى يليق لذاته عز وجل هو سبحانه أعلم به فلا يعينون المراد والخلف يعينون.
* (وإذا ذكروا لا يذكرون) *.
* (وإذا ذكروا لا يذكرون) * أي ودأبهم أنهم إذا وعظوا بشيء لا يتعظون به أو أنهم إذا ذكر لهم ما يدل على صحة الحشر لا ينتفعون به لبلادتهم وقلة فكرهم، واستفادة الاستمرار من مقام الذم، ولعل في إذا والعطف على الماضي ما يؤيده، وقرأ ابن حبيش * (ذكروا) * بتخفيف الكاف.
* (وإذا رأوا ءاية يستسخرون) *.
* (وإذا رأوا ءاية) * أي معجزة تدل على صدق من يعظهم ويدعوهم إلى ترك ما هم فيه إلى ما هو خير أو معجزة تدل على صدق القائل بالحشر * (يستسخرون) * أي يبالغون في السخرية ويقولون إنه سحر أو يطلب بعضهم من بعض أن يسخر منها، روي أن ركانة رجلا من المشركين من أهل مكة لقيه الرسول صلى الله عليه وسلم في جبل خال يرعى غنما له وكان من أقوى الناس فقال له: يا ركانة أرأيت أن صرعتك أتؤمن بي؟ قال: نعم فصرعه ثلاثا ثم عرض له بعض الآيات دعا عليه الصلاة والسلام شجرة فاقبلت فلم يؤمن وجاء إلى مكة فقال: يا بني هاشم ساحروا بصاحبكم أهل الأرض فنزلت فيه وفي اضرابه. وقرىء * (يستسحرون) * بالحال المهملة أي يعدونها سحرا.
* (وقالوا إن ه‍اذآ إلا سحر مبين) *.
* (وقالوا إن ه‍اذا) * ما يرونه من الآيات الباهرة * (إلا سحر مبين) * ظاهر سحريته في نفسه.
* (أءذا متنا وكنا ترابا وعظ‍اما أءنا لمبعوثون) *.
* (ءإذا متنا وكنا ترابا وعظاما) * أي كان بعض أجزائنا ترابا وبعضها عظاما وتقديم التراب لأنه منقلب عن الأجزاء البادية، وإذا إما شرطية وجوابها محذوف دل عليه قوله تعالى: * (ءإنا لمبعوثون) * أي نبعث وفي عاملها الكلام المشهور، وإما متمحضة للظرفية فلا جواب لها ومتعلقها محذوف يدل عليه ذلك أيضا لا هو لأن ما بعد إن واللام لا يعمل فيما قبله أي انبعث إذا متنا، وإن شئت فقدره مؤخرا فتقديم الظرف لتقوية الإنكار للبعث بتوجيهه إلى حالة منافية لع غاية المنافاة، وكذا تكرير الهمزة للمبالغة والتشديد في ذلك وكذا تحلية الجملة بأن، واللام لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد كما يوهمه ظاهر النظم الكريم فإن تقديم الهمزة لاقتضائها الصدارة. وقرأ ابن عامر بطرح الهمزة الأولى. وقرأ نافع. والكسائي. ويعقوب بطرح الثانية.
* (أو ءابآؤنا الاولون) *.
* (أو ءاباؤنا الأولون) * مبتدأ حذف خبره لدلالة خبر إن عليه أي أو آباؤنا الأولون مبعوثون أيضا
77

والجملة معطوفة على الجملة قبلها. وهذا أحد مذاهب في نحو هذا التركيب. وظاهر كلام أبي حيان في شرح التسهيل أن حذف الخبر واجب فقد قال: قال من نحا إلى هذا المذهب الأصل في هذه المسألة عطف الجمل إلا أنهم لما حذفوا الخبر لدلالة ما قبل عليه أنابوا حرف العطف مكانه ولم يقدروا إذ ذاك الخبر المحذوف في اللفظ لئلا يكون جمعا بين العوض والمعوض عنه فأشبه عطف المفردات من جهة أن حرف العطف ليس بعده في اللفظ إلا مفرد. وثاني المذاهب أن يكون معطوفا على الضمير المستتر في خبر إن إن كان مما يتحمل الضمير وكان الضمير مؤكدا أو كان بينه وبين المعطوف فاصل ما والا ضعف العطف. ونسب ابن هشام هذا المذهب والذي قبله إلى المحققين من البصريين. وفي تأتيه هنا من غير ضعف للفصل بالهمزة بحث فقد قال أبو حيان: إن همزة الاستفهام لا تدخل على المعطوف إلا إذا كان جملة لئلا يلزم عمل ما قبل الهمزة فيما بعدها وهو غير جائز لصدارتها. والجواب بأن الهمزة هنا مؤكدة للاستبعاد فهي في النية مقدمة داخلة على الجملة في الحقيقة لكن فصل بينهما بما فصل قد بحث فيه بأن الحرف لا يكرر للتوكيد بدون مدخوله والمذكور في النحو أن الاستفهام له الصدر من غير فرق بين مؤكد ومؤسس مع أن كون الهمزة في نية التقديم يضعف أمر الاعتداد بالفصل بها لا سيما وهي حرف واحد فلا يقاس الفصل بها على الفصل بلا في قوله تعالى: * (ما أشركنا ولا آباؤنا) * (الأنعام: 148).
وثالثها أن يكون عطفا على محل إن مع ما عملت فيه، والظاهر أنه حينئذ من عطف الجمل في الحقيقة، ورابعها أن يكون عطفا على محل اسم إن لأنه كان قبل دخولها في موضع رفع، والظاهر أنه حينئذ من عطف المفردات. واعترض بأن الرفع كان بالابتداء وهو عامل معنوي، وقد بطل بالعامل اللفظي. وأجيب بأن وجوده كلا وجود لشبهة بالزائد من حيث أنه لا يغير معنى الجملة وإنما يفيد التأكيد فقط. واعترض أيضا بأن الخبر المذكور كمبعوثون في الآية يكون حينئذ خبرا عنهما وخبر المبتدأ رافعه الابتداء أو المبتدأ أو هما وخبر إن رافعه إن فيتوارد عاملان على معمول واحد. وأجيب بأن العوامل النحوية ليست مؤثرات حقيقية بل هي بمنزلة العلامات فلا يضر تواردها على معمول واحد وهو كما ترى، وتمام الكلام في محله، وعلى كل حال الأولى ما تقدم من كونه مبتدأ حذف خبره؛ وقد قال أبو حيان: إن أرباب الأقوال الثلاثة الأخيرة متفقون على جواز القول الأول وهو يؤيد القول بأولويته، وأيا ما كان فمراد الكفرة زيادة استبعاد بعث آبائهم بناء على أنهم أقدم فبعثهم أبعد على عقولهم القاصرة. وقرأ أبو جعفر. وشيبة. وابن عامر. ونافع في رواية. وقالوا: * (أو) * بالسكون على أنها حرف عطف وفيه الاحتمالات الأربعة إلا أن العطف على الضمير على هذه القراءة ضعيف لعدم الفصل بشيء أصلا.
* (قل نعم وأنتم داخرون) *.
* (قل نعم) * أي تبعثون أنتم وآباؤكم الأولون والخطاب في قوله سبحانه: * (وأنتم داخرون) * لهم ولآبائهم بطريق التغليب، والجملة في موضع الحال من فاعل ما دل عليه * (نعم) * أي تبعثون كلكم والحال إنكم صاغرون أذلاء، وهذه الحال زيادة في الجواب نظير ما وقع في جوابه عليه الصلاة والسلام لأبي بن خلف حين جاء بعظم قد رم وجعل يفته بيده ويقول: يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما رم فقال صلى الله عليه وسلم له على ما في بعض الروايات " نعم ويبعثك ويدخلك جهنم " وقال غير واحد: إن ذلك من الأسلوب الحكيم. وتعقب بأن عد الزيادة منه لا توافق ما قرر في المعاني وإن كان ذلك اصطلاحا جديدا فلا مشاحة في الاصطلاح واكتفى في جواب عن إنكارهم البعث على هذا المقدار ولم يقم دليل عليه اكتفاء بسبق ما يدل على جواز في قوله سبحانه
78

* (فاستفتهم) * (الصافات: 11) الخ مع أن المخبر قد علم صدقه بمعجزاته الواقعة في الخارج التي دل عليها قوله سبحانه: * (وإذا راوا آية) * (الصافات: 14) الآية. وهزؤهم وتسميتهم لها سحرا لا يضر طالب الحق، والقول بأن ذلك للاكتفاء بقيام الحجة عليهم في القيامة ليس بشيء. وقرأ ابن وثاب. والكسائي * (نعم) * بكسر العين وهي لغة فيه. وقرىء * (قال) * أي الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم.
* (فإنما هى زجرة واحدة فإذا هم ينظرون) *.
* (فإنما هي زجرة واحدة) * الضمير راجع إلى البعثة المفهومة مما قبل، وقيل للبعث والتأنيث باعتبار الخبر. والزجرة الصيحة من زجر الراعي غنمه صاح عليها. والمراد بها النفخة الثانية في الصور ولما كانت بعثتهم ناشئة عن الزجرة جعلت إياها مجازا. والفاء واقعة في جواب شرط مقدر أو تعليلية لنهي مقدر أي إذا كان كذلك فإنما البعثة زجرة واحدة أو لا تستصعبوها فإنما هي زجرة. وجوز الزجاج أن تكون للتفسير والتفصيل وما بعدها مفسر للبعث. وتعقب بأن تفسير البعث الذي في كلامهم لا وجه له والذي في الجواب غير مصرح به. وتفسير ما كني عنه بنعم مما لم يعهد. والظاهر أنه تفسير لما كني عنه بنعم وهو بمنزلة المذكور لا سيما وقد ذكر ما يقوى إحضاره من الجملة الحالية. وعدم عهد التفسير في مثل ذلك مما لا جزم لي به.
وأبو حيان نازع في تقدير الشرط فقال: لا ضرورة تدعو إليه ولا يحذف الشرط ويبقى جوابه إلا إذا انجزم الفعل في الذي يطلق عليه أنه جواب الأمر والنهي وما ذكر معهما على قول بعضهم أما ابتداء فلا يجوز حذفه والجمهور على خلافه والحق معهم، وهذه الجلمة اما من تتمة المقول وإما ابتداء كلام من قبله عز وجل.
* (فإذا هم ينظرون) * أي فإذا هم قيام من مراقدهم أحياء يبصرون كما كانوا في الدنيا أو ينتظرون ما يفعل بهم وما يؤمرون به.
* (وقالوا ياويلنا ه‍اذا يوم الدين) *.
* (وقالوا) * أي المبعوثون، وصيغة الماضي لتحقق الوقوع * (يا ويلنا) * أي يا هلاكنا احضر فهذا أوان حضورك * (ه‍اذا يوم الدين) * استئناف منهم لتعليل دعائهم الويل.
والدين بمعنى الجزاء كما في كما تدين تدان أي هذا اليوم الذي نجازي فيه بأعمالنا، وإنما علموا ذلك لأنهم كانوا يسمعون في الدنيا أنهم يبعثون ويحاسبون ويجزون بأعمالهم فلما شاهدوا البعث أيقنوا بما بعده أيضا [بم وقوله تعالى:
* (ه‍اذا يوم الفصل الذى كنتم به تكذبون) *.
* (ه‍اذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون) * كلام الملائكة جوابا لهم بطريق التوبيخ والتقريع، وقيل: هو من كلام بعضهم لبعض أيضا، ووقف أبو حاتم على * (يا ويلنا) * وجعل ما بعده كلام الله تعالى أو كلام الملائكة عليهم السلام لهم كأنهمأجابوهم بأنه لا تنفع الولولة والتلهف، والفصل القضاء أو الفرق بين المحسن والمسيء وتمييز كل عن الآخر بدون قضاء.
* (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون) *.
* (احشروا الذين ظلموا) * خطاب من الله تعالى للملائكة أو من الملائكة بعضهم لبعض.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تقول الملائكة للزبانية: احشروا الخ، وهو أمر بحشر الظالمين من أماكنهم المخلتلفة إلى موقف الحساب؛ وقيل من الموقف إلى الجحيم، والسباق والسياق يؤيدان الأول * (وأزواجهم) * أخرج عبد الرزاق. وابن أبي شيبة. وابن منيع في مسنده. والحاكم وصححه.
وجماعة من طريق النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: أزواجهم أمثالهم الذين هم مثلهم يحشر أصحاب الربا من أصحاب الربا وأصحاب الزنا مع أصحاب الزنا وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر. وأخرج جماعة عن ابن عباس في لفظ أشباههم وفي آخر نظراءهم. وروي تفسير
79

الأزواج بذلك أيضا عن ابن جبير. ومجاهد. وعكرمة، وأصل الزوج المقارن كزوجي النعل فأطلق على لازمه وهو المماثل. وجاء في رواية عن ابن عباس أنه قال: أي نساءهم الكافرات ورجحه الرماني. وقيل قرناءهم من الشياطين وروي هذا عن الضحاك. والواو للعطف وجوز أن تكون للمعية. وقرأ عيسى بن سليمان الحجازي دوأزواجهم) * بالرفع عطفا على ضمير * (ظلموا) * عل ما في البحر أي وظلم أزواجهم.
وأنت تعلم ضعف العطف على الضمير المرفوع في مقله، والقراءة شاذة * (وما كانوا يعبدون) *.
* (من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم) *.
* (من دون الله) * من الأصنام ونحوها، وحشرهم معهم لزيادة التحسير والتخجيل، و * (ما) * قيل عام في كل معبود حتى الملائكة والمسيح وعزير عليهم السلام لكن خص منه البعض بقوله تعالى: * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى) * (الأنبياء: 101) الآية.
وقيل * (ما) * كناية عن الأصنام والأوثان فهي لما لا يعقل فقط لأن الكلام في المشركين عبدة ذلك، وقيل * (ما) * على عمومها والأصنام ونحوها غير داخلة لأن جميع المشركين إنما عبدوا الشياطين التي حملتهم على عبادتها، ولا يناسب هذا تفسير * (أزواجهم) * بقرنائهم من الشياطين، ومع هذا التخصيص أقرب، وفي هذا العطف دلالة على أن الذين ظلموا المشركون وهم الأحقاء بهذا الوصف فإن الشركح لظلم عظيم * (فاهدوهم إلى صراط الجحيم) * فعرفوهم طريقها وأروهم إياه، والمراد بالجحيم النار ويطلق على طبقة من طبقاتها وهو من الجحمة شدة تأجج النار، والتعبير بالصراط والهداية للتهكم بهم.
* (وقفوهم إنهم مسئولون) *.
* (وقفوهم) * أي احبسوهم في الموقف * (إنهم مسؤولون) * عن عقائدهم وأعمالهم، وفي الحديث * (لا تزول قدما عبد حتى يسئل عن خمس عن شبابه فيما أبلاه وعن عمره فيما أفناه وعن ماله مما كسبه وفيما أنفقه وعن علمه ماذا عمل به وعن ابن مسعود يسألون عن لا إله إلا الله، وعنه أيضا يسألون عن شرب الماء البارد على طريق الهزء بهم. وروي بعض الأمامية عن ابن جبير عن ابن عباس يسألون عن ولاية علي كرم الله تعالى وجهه، ورووه أيضا عن أبي سعيد الخدري وأولي هذه الأقوال أن السؤال عن العقائد والأعمال. ورأس ذلك لا إله إلا الله، ومن أجله ولاية علي كرم الله تعالى وجهه وكذا ولاية إخوانه الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وظاهر الآية أن الحبس للسؤال بعد هدايتهم إلى صراط الجحيم بمعنى تعريفهم إياه ودلالتهم عليه لا بمعنى إدخالهم فيه وإيصالهم إليه، وجوز أن يكون صراط الجحيم طريقهم له من قبورهم إلى مقرهم وهو ممتد فيجوز كون الوقف في بعض منه مؤخرا عن بعض، وفيه من البعد ما فيه، وقيل: إن الوقف للسؤال قبل الأمر المذكور والواو لا تقتضي الترتيب، وقيل الوقف بعد الأمر عند مجيئهم النار والسؤال عما ينطق به قوله تعالى:
* (ما لكم لا تن‍اصرون) *.
* (ما لكم لا تناصرون) * أي لا ينصر بعضكم بعضا، والخطاب لهم وآلهتهم أو لهم فقط أي ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم تزعمون في الدنيا، فقد روي أن أبا جهل قال يوم بدر: نحن جميع منتصر، وتأخير هذا السؤال إلى ذلك الوقت لأنه وقت تنجيز العذاب وشدة الحاجة إلى النصرة وحالة انقطاع الرجال والتقريع والتوبيخ حينئذ أشد وقعا وتأثيرا، وقيل: السؤال عن هذا في موقف المحاسبة بعد استيفاء حسابهم والأمر بهدايتهم إلى الجحيم كأن الملائكة عليهم السلام لما أمروا بهدايتهم إلى النار وتوجيههم إليها سارعوا إلى ما أمروا به فقيل لهم قفوهم أنهم مسؤولولن، والذي يترجح عندي أن الأمر بهدايتهم إلى الجحيم إنما هو بعد إقامة الحجة عليهم وقطع أعذارهم وذلك بعد محاسبتهم، وعطف * (اهدوهم) * على * (أحشروا) * بالفاء
80

إشارة إلى سرعة وقوع حسابهم، وسؤالهم ما لكم لا تناصرون الأليق أن يكون بعد تحقق ما يقتضي التناصر وليس ذلك إلا بعد الحساب والأمر بهم إلى النار فلعل الوقف لهذا السؤال في ابتداء توجههم إلى النار والله تعالى أعلم. وقرأ عيسى * (أنهم) * بفتح الهمزة بتقدير لأنهم، وقرأ البزي عن ابن كثير * (لا تتناصرون) * بتاءين بلا إدغام إحداهما في الأخرى.
* (بل هم اليوم مستسلمون) *.
* (بل هم اليوم مستسلمون) * منقادون لعجزهم وانسداد الحيل عليهم، وأصل الاستسلام طلب السلامة والانقياد لازم لذلك عرفا فلذا استعمل فيه أو متسالمون كأنه يسلم بعضهم بعضا للهلاك ويخذله، وجوز في الإضراب أن يكون عن مضمون ما قبله أي لا ينازعون في الوقوف وغيره بل ينقادون أو يخدلون أو عن قوله سبحانه: * (لا تناصرون) * أي لا يقدر بعضهم على نصر بعض بل هم منقادون للعذاب أو مخذولون.
* (وأقبل بعضهم على بعض يتسآءلون) *.
* (وأقبل بعضهم على بعض) * هم الأتباع والرؤساء المضلون أو الكفرة من الإنس وقرناؤهم من الجن، وروى هذا عن مجاهد. وقتادة. وابن زيد * (يتساءلون) * يسأل بعضهم بعضا سؤال تقريع بطريق الخصومة والجدال.
* (قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين) *.
* (قالوا) * استئناف بياني كأنه قيل: كيف يتساءلون؟ فقيل: قالوا أي الأتباع للرؤساء أو الكفرة مطلقا للقرناء * (إنكم كنتم تأتوننا) * في الدنيا * (عن اليمين) * أي من جهة الخير وناحيته فتنهونا عنه وتصدونا قاله قتادة، ولشرف اليمين جاهلية وإسلاما دنيا وأخرى استعيرت لجهة الخير استعارة تصريحية تحقيقية، وجعلت اليمين مجازا عن جهة الخير مع أنه مجاز في نفسه فيكون ذلك مجازا على المجاز لأن جهة الخير لشهرة استعماله التحق بالحقيقة فيجوز فيه المجاز على المجاز كما قالوا في المسافة فإنها موضع الشم في الأصل لأنه من ساف التراب إذا شمه فإن الدليل إذا اشتبه عليه الطريق أخذ ترابا فشمه ليعرف أنه مسلوك أولا ثم جعل عبارة عن البعد بين المكانين ثم استعير لفرق ما بين الكلامين ولا بعد هناك، واستظهر بعضهم حمل الكلام على الاستعارة التمثيلية واعتبار التجوز في مجموع * (تأتوننا عن اليمين) * لمعنى تمنعوننا وتصدوننا عن الخير فيسلم الكلام من دعوى المجاز على المجاز؛ وكأن المراد بالخير الايمان بما يجب الايمان به، وجوز أن يكون المراد به الخير الذي يزعمه المضلون خيرا وأن المعنى تأتوننا من جهة الخير وتزعمون ما أنتم عليه خيرا ودين حق فتخدعوننا وتضلوننا وحكى هذا عن الزجاج.
وقال الجبائي: المعنى كنتم تأتوننا من جهة النصيحة واليمن والبركة فترغبوننا بما أنتم عليه فتضلوننا وهو قريب مما قبله، وجوزوا أن تكون اليمين مجازا مرسلا عن القوة والقهر فإنها موصوفة بالقوة وبها يقع البطش فكأنه أطلق المحل على الحال أو السبب على المسبب، ويمكن أن يكون ذلك بطريق الاستعارة وتشبيه القوة بالجانب الأيمن في التقدم ونحوه، والمعنى إنكم كنتم تأتوننا عن القوة والقهر وتقصدوننا عن السلطان والغلبة حتى تحملونا على الضلال وتقسرونا عليه وإليه ذهب الفراء، وأن يكون اليمين حقيقة بمعنى القسم ومعنى إتيانهم عنه أنهم يأتونهم مقسمين لهم على حقية ما هم عليه من الباطل، والجار والمجرور في موضع الحال، وعن بمعنى الباء كما في قوله تعالى: * (وما ينطق عن الهوى) * (النجم: 3) أو هو ظرف لغو، وفيه بعد، وأبعد منه أن يفسر اليمين بالشهوة والهوى لأن جهة اليمين موضع الكبد، وهو مخالف لما حكى عن بعض من أن من أتاه الشيطان من جهة
81

اليمين أتاه من قبل الدين فلبس عليه الحق ومن أتاه من جهة الشمال أتاه من قبل الشهوات ومن أتاه من بين يديه أتاه من قبل التكذيب بالقيامة والثواب والعقاب ومن أتاه من خلفه خوفه الفقر على نفسه وعلى من يخلف بعده فلم يصل رحما ولم يؤد زكاة.
* (قالوا بل لم تكونوا مؤمنين) *.
* (قالوا) * استئناف على طرز السابق أي قال الرؤساء أو قال القرناء في جوابهم بطريق الإضراب عما قالوه لهم * (بل لم تكونوا مؤمنين) * وهو إنكار لإضلالهم إياهم أي أنتم أضللتم أنفسكم بالكفر ولم تكونوا مؤمنين في حد ذاتكم لا أنا نحن أضللناكم [بم وقولهم:
* (وما كان لنا عليكم من سلط‍ان بل كنتم قوما ط‍اغين) *.
* (وما كان لنا عليكم من سلط‍ان) * أي من قهر وتسلط نسلبكم به اختياركم * (بل كنتم قوما طاغين) * مجاوزين الحد في العصيان مختارين له مصرين عليه جواب آخر تسليمي على فرض إضلالهم بأنهم لم يجبروهم عليه وإنما دعوهم له فأجابوا باختيارهم لموافقة ما دعوا له هواهم، وقيل: الكل جواب واحد محصله إنكم اتصفتم بالكفر من غير جبر عليه [بم وقولهم:
* (فحق علينا قول ربنآ إنا لذآئقون) *.
* (فحق علينا قول ربنا إن لذائقون) * تفريع على صريح ما تقدم من عدم إيمان أولئك المخاصمين لهم وكونهم قوما طاغين في حد ذاتهم وعلى ما اقتضاه وأشعر به خصامهم من كفر هؤلاء المجيبين لأولئك الطاغين وغوايتهم في أنفسهم، وضمائر الجمع للفريقين فكأنهم قالوا: ولأجل أنا جميعا في حد ذاتنا لم نكن مؤمنين وكنا قوما طاغين لزمنا قول ربنا وخالقنا العالم بما نحن عليه وبما يقتضيه استعدادنا وثبت علينا وعيده سبحانه بأنا ذائقون لا محالة لعذابه عز وجل، ومرادهم أن منشأ الخصام في الحقيقة الذي هو العذاب أمر مقضي لا محيص عنه وأنه قد ترتب على كل منا بسبب أمر هو عليه في نفسه وقد اقتضاه استعداده وفعله باختياره فلا يلومن بعضنا بعضا ولكن ليلم كل منا نفسه، ونظموا أنفسهم معهم في ذلك للمبالغة في سد باب اللوم والخصام من أولئك القوم، والفاء في قولهم:
* (فأغوين‍اكم إنا كنا غ‍اوين) *.
* (فأغويناكم) * أي فدعوناكم إلى الغي لتفريع الدعاء المذكور على حقية الوعيد عليهم لا لمجرد التعقيب كما قيل، وعلية ذلك للدعاء باعتبار أن وجوده الخارجي متعلقا بهم كان متفرعا عن ذلك في نفس الأمر لا باعتبار أن إصداره وإيقاعه منهم على المخاطبين كان بملاحظة ذلك كما تلاحظ العلل الغائية في الأفعال الاختيارية لأن الظاهر أن رؤساء الكفر لم يكونوا عالمين في الدنيا حقية الوعيد عليهم، نعم لا يبعد أن يكون القرناء من الشياطين عالمين بذلك من أبيهم، وكذا تسمية دعائهم إياهم إلى ما دعوهم إليه إغواء أي دعاء إلى الغي بناء على أن الكلام المذكور من الرؤساء باعتبار نفس الأمر التي ظهرت لهم يوم القيامة، ومثل هذا يقال في قولهم: * (إنا كنا غاوين) * بناء على أنهم إنما علموا ذلك يوم التساؤل والخصام، والجملة مستأنفة لتعليل ما قبلها، وكأن ما أشعر به التفريع باعتبار تعلق الإغواء بالمخاطبين وهذا باعتبار صدور الإغواء نفسه منهم، وهو تصريح بما يستفاد من التفريع السابق.
ويجوز أن يكون إشارة إلى وجه ترتب إغوائهم إياهم على حقية الوعيد عليهم وهو حب أن يتصف أولئك المخاطبون بنحو ما اتصفوا به من الغي ويكونوا مثلهم فيه. وملخص كلامهم أنه ليس منافي حقكم على الحقيقة سوى حب أن تكونوا مثلنا وهو غير ضار لكم وإنما الضار سوء اختياركم وقبح استعدادكم فذلك الذي ترتب عليه حقية الوعيد عليكم وثبوت هذا العذاب لكم، وجوز أن يقال: إنهم نفوا عنهم الايمان والاعتقاد الحق وأثبتوا لهم الطغيان ومجاوزة الحد في العصيان حيث لم يلتفتوا إلى ما يوجب الاعتقاد
82

الصحيح مع كثرته وظهوره ورتبوا على ذلك مع ما يقتضيه البحث حقية الوعيد وفرعوا على مجموع الأمرين أنهم دعوهم إلى الغير مرادا به الكفر لاعتقاد أمر فاسد لا مجرد عدم الايمان أي عدم التصديق بما يجب التصديق به بدون اعتقاد أمر آخر يكفر باعتقاده، وأشاروا إلى وجه ترتب ذلك على ما ذكر وهو محبة أن يكونوا مثلهم فكأنهم قالوا: كنتم تاركين الاعتقاد الحق غير ملتفتين إليه مع ظهور أدلته وكثرتها وكنا جميعا قد حق علينا الوعيد فدعوناكم إلى ما نحن عليه من الاعتقاد الفاسد حبا لأن تكونوا أسوة أنفسنا وهذا كقولهم * (ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا) * (القصص: 63) قال الراغب: هو إعلام منهم أنا قد فعلنا بهم غاية ما كان في وسع الإنسان أن يفعل بصديقه ما يريد بنفسه أي أفدناهم ما كان لنا وجعلناهم أسوة أنفسنا وعلى هذا فأغويناكم إنا كنا غاوين انتهى، وجوز على هذا التقدير أنيكون * (فأغويناكم) * مفرعا على شرح حال المخاطبين من انتفاء كونهم مؤمنين وثبوت كونهم طاغين وعن الآيات معرضين، وقولهم: * (فحق علينا) * الخ اعتراض لتعجيل بيان أن ما الفريقان فيه أمر مقضي لا ينفع فيه القيل والقال والخصام والجدال، ويجوز على هذاأن يراد بضمير الجمع في * (فحق علينا) * الخ الرؤساء أو القرناء لا ما يعمهم والمخاذبين وأشاروا بذلك إلى أن ما هم فيه يكفي عن اللوم ويومىء إلى زيادة عذابهم، ولا يخفى أن تجويز الاعتراض لا يخلو عن اعتراض، وتجويز كون الضمير في * (علينا) * الخ للرؤساء أو القرناء يجري على غير هذا الاحتمال فتدبر.
وأيا ما كان فقولهم * (إنا لذائقون) * هو قول ربهم عز وجل ووعيده سبحانه إياهم، ولو حكى كما قيل لقيل إنكم لذائقون ولكنه عدل إلى لفظ المتكلم لأنهم متكلمون بذلك من أنفسهم. ونحوه قول القائل: لقد زعمت هوزان قل مالي * وهل لي غير ما أنفقت مال
ولو حكى قولها لقال قل مالك ومنه قول المحلف للحالف احلف لأخرجن ولتخرجن الهمزة لحكاية لفظ الحالف والتاء لإقبال المحلف على المحلف. وقال بعض الأجلة: قول الرب عز وجل هو قوله سبحانه وتعالى: * (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) * (ص: 85) والربط على ما تقدم أظهر.
* (فإنهم يومئذ فى العذاب مشتركون) *.
* (فإنهم) * أي الفريقين المتسائلين، والكلام تفريع على ما شرح من حالهم * (يومئذ) * أي يوم إذ يتساءلون والمراد يوم القيامة * (في العذاب مشتركون) * كما كانوا مشتركين في الغواية. واستظهر أن المغوين أشد عذابا وذلك في مقابلة أوزارهم وأوزار مثل أوزارهم فالشركة لا تقتضي المساواة.
* (إنا كذلك نفعل بالمجرمين) *.
* (إنا كذالك) * أي مثل ذلك الفعل البديع الذي تقتضيه الحكمة التشريعية * (نفعل بالمجرمين) * أي بالمشركين [بم لقوله سبحانه وتعالى:
* (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إل‍اه إلا الله يستكبرون) *.
* (إنهم كانوا إذا قيل لهم) * بطريق الدعوة والتلقين * (لا إل‍اه إلا الله يستكبرون) * عن القبول.
وفي إعراب هذه الكلمة الطيبة أقوال. الأول: أن يكون الاسم الجليل مرفوعا على البدلية من اسم لا باعتبار المحل الأصلي وهو الرفع على الابتداء بدل بعض من كل وإلا مغنية عن الربط بالضمير. وإذا قلنا أن البدل في الاستثناء قسم على حدة مغاير لغيره من الإبدال اندفع عن هذا الوجه كثير من القيل والقال وهو الجاري على ألسنة المعربين والخبر عليه عند الأكثرين مقدر والمشهور تقديره موجود، والكلمة الطيبة في مقابلة المشركين وهم إنما يزعمون وجود آلهة متعددة ولا يقولون بمجرد الإمكان. على أن الوجود في هذا
83

المقام يستلزم نفي الإمكان وكذا نفي الامكان عمن عدان عز وجل يستلزم ثبوت الوجود بالفعل له تعالى.
وجوز تقديره مستحق للعبادة ونفي استحقاقها يستلزم نفي التعدد لكن لا يتم هذا التقدير على تفسير الإله بالمستحق بالعبادة كما لا يخفى. واختار البازلي تقدير الخبر مؤخرا عن إلا الله بناء على أن تقديره مقدما يوهم كون الاسم مستثنى مفرغا من ضمير الخبر وهو لا يجوز عند المحققين وأجازه بعض وهو القول الثاني، والثالث ونسب إلى الكوفيين أن إلا عاطفة والاسم الجليل معطوف على الإله باعتبار المحل وهي عندهم بمنزلة لا العاطفة في أن ما بعدها يخالف ما قبلها إلا أن لا لنفي الإيجاب وإلا لإيجاب النفي، والرابع أن الاسم الكريم هو الخبر ولا عمل لها فيه على رأي سيبويه من أن الخبر مرفوع بما كان مرفوعا به قبل دخولها فلا يلزم عملها في المعارف على رأيه وهو لازم على رأي غيره، وضعف هذا القول به وكذا بلزوم كون الخاص خبرا عن العام.
وكون الكلام مسوقا لنفي العموم والتخصيص بواحد من أفراد ما دل عليه العام لا يجدي نفعا ضرورة أن لا هذه عند الجمهور من نواسخ المبتدأ والخبر، والخامس أن إلا بمعنى غير وهي مع اسمه عز اسمه صفة لاسم لا باعتبار المحل أي لا إله غير الله تعالى في الوجود، ولا خلل فيه صناعة وإنما الخلل فيه كما قيل معنى لأن المقصود نفي الألوهية عن غيره تعالى وإثباتها له سبحانه وعلى الاستثناء يستفاد كل من المنطوق وعلى هذا لا يفيد المنطوق إلا نفي الألوهية من غيره تعالى دون إثباتها له عز وجل، واعتبار المفهوم غير مجمع عليه لا سيما مفهوم اللقب فإنه لم يقل به إلا الدقاق وبعض الحنابلة، والسادس ونسب إلى الزمخشري أن لا إله في موضع الخبر وإلا الله في موضع المبتدأ والأصل الله إله فلما أريد قصر الصفة على الموصوف قدم الخبر وقرن المبتدأ بإلا إذ المقصور عليه هو الذي يلي إلا والمقصور هو الواقع في سياق النفي والمبتدأ إذا قرن بإلا وجب تقديم الخبر عليه كما هو مقرر في موضعه، وفيه تمحل مع أنه يلزم عليه أن يكون الخبر مبنيا مع لا وهي لا يبني معها إلا المبتدأ وأنه لو كان الأمر كما ذكر لم يكن لنصب الاسم الواقع بعد الأوجه وقد جوزه جماعة في هذا الترتيب وترك كلامهم لواحد إن التزمته لا تجد لك ثانيا فيه، والسابع أن الاسم المعظم مرفوع بإله كما هو حال المبتدأ إذا كان وصفا فإن إلها بمعنى مألوه من أله إذا عبد فيكون قائما مقام الفاعل وسادا مسد الخبر كما في مضروب العمران.
وتعقب بمنع أن يكون إله وصفا وإلا لوجب إعرابه وتنوينه ولا قائل به. ثم إن هذه الكلمة الطيبة يندرج فيها معظم عقائد الايمان لكن المقصود الأهم منا التوحيد ولذا كان
المشركون إذا لقنوها أو لا يستكبرون وينفرون.
* (ويقولون أءنا لتاركوءالهتنا لشاعر مجنون) *.
* (ويقولون أئنا لتاركوا ءالهتنا لشاعر مجنون) * يعنون بذلك قاتلهم الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد جمعوا بين إنكار الوحدانية وإنكار الرسالة. ووصفهم الشاعر بالمجنون قيل تخليط وهذيان لأن الشعر يقتضي عقلا تاما به تنظم المعاني الغريبة وتصاغ في قوالب الألفاظ البديعة. وفيه نظر وكم رأينا شعراء ناقصي العقول ومنهم من يزعم أنه لا يحسن شعره حتى يشرب المسكر فيسكر ثم يقول، نعم كل من الوصفين هذيان في حقه صلى الله عليه وسلم.
* (بل جآء بالحق وصدق المرسلين) *.
* (بل جاء بالحق وصدق المرسلين) * رد عليهم وتكذيب لهم ببيان إن ما جاء به عليه الصلاة والسلام من التوحيد هو الحق الثابت الذي قام عليه البرهان وأجمع عليه كافة المرسلين فأين الشعر والجنون من ساحته صلى الله عليه وسلم الرفيعة الشأن.
84

وقرأ عبد الله * (وصدق) * بتخفيف الدال * (المرسلون) * بالواو رفعا أي وصدق المرسلون في التبشير به وفي أنه يأتي آخرهم.
* (إنكم لذآئقو العذاب الاليم) *.
* (إنكم) * بما فعلتم من الإشراك وتكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام والاستكبار * (لذائقوا العذاب الأليم) * والالتفات لإظهار كمال الغضب عليهم بمشافهتهم بهذا الوعيد وعدم الاكتراب بهم وهو اللائق بالمستكبرين. وقرأ أبو السماء. وأبان رواية عن عاصم * (لذائقوا العذاب) * بالنصب على أن حذف النون للتخفيف كما حذف التنوين لذلك في قول أبي الأسود: فالفيته غير مستعتب * ولا ذاكر الله إلا قليلا
بجر ذاكر بلا تنوين ونصب الاسم الجليل. وهذا الحذف قليل في غير ما كان صلة لأل. أما فيما كان صلة لها فكثير الورود لاستطالة الصلة الداعية للتخفيف نحو قوله: الحافظو عورة العشيرة لا * يأتيهم من ورائهم نطف
ونقل ابن عطية عن أبي السمال أنه قرأ * (لذائق) * بالأفراد والتنوين * (العذاب) * بالنصب، وخرج الأفراد على أن التقدير لجمع ذائق، وقيل: على تقدير إن جمعكم لذائق. وقرىء * (لذائقون) * بالنون * (العذاب) * بالنصب على الأصل.
* (وما تجزون إلا ما كنتم تعملون) *.
* (وما تجزون إلا ما كنتم تعملون) * أي الأجزاء ما كنتم تعملونه من السيآت أو إلا بما كنتم تعملونه منها.
* (إلا عباد الله المخلصين) *.
* (إلا عباد الله المخلصين) * استثناء منقطع من ضمير ذائقو وما بينهما اعتراض جيء به مسارعة إلى تحقيق الحق ببيان أن ذوقهم العذاب ليس إلا من جهتهم لا من جهة غيرهم أصلا فإلا مؤولة بلكن وما بعد كخبرها فيصير التقدير لكن عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق وفواكه الخ.
ويجوز إن يكون المعنى لكن عباد الله المخلصين ليسوا كذلك، وقيل: استثناء منقطع من ضمير * (تجزون) * على أن المعنى تجزون بمثل ما عملتم لكن عباد الله المخلصين يجزون أضعافا مضاعفة بالنسبة إلى ما عملوا، ولا يخفى بعده، وأبعد منه جعل الاستثناء من ذلك متصلا بتعميم الخطاب في * (تجزون) * لجميع المكلفين لما فيه مع احتياجه إلى التكلف الذي في سابقه من تفكيك الضمائر، و * (المخلصين) * صفة مدح حيث كانت الإضافة للتشريف.
* (أول‍ائك لهم رزق معلوم) *.
* (أولئك) * أي العباد المذكورون، وفيه إشارة إلى أنهم ممتازون بما اتصفوا به من الإخلاص في عبادته تعالى عمن عداهم امتيازا بالغا، وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإشعار بعلو طبقتهم وبعد منزلتهم في الفضل.
وهو مبتدأ وقوله تعالى: * (لهم) * أما خبر له وقوله سبحانه: * (رزق) * مرتفع على الفاعلية للظرف وإما خبر مقدم و * (رزق) * مبتدأ مؤخر والجملة خبر المبتدأ والمجموع كالخبر للمستثنى المنقطع على ما أشرنا إليه أو استئناف لما أفاده الاستثناء إجمالا بيانا تفصيليا وقوله تعالى: * (معلوم) * أي معلوم الخصائص ككونه غير مقطوع ولا ممنوع حسن المنظر لذيذ الطعم طيب الرائحة إلى غير ذلك من الصفات المرغوبة، فلا يقال إن الرزق لا يكون معلوما إلا إذا كان مقدرا بمقدار وقد جاء في آية أخرى * (يرزقون فيها بغير حساب) * (غافر: 40) وما لا يدخل تحت الحساب لا يحد ولا يقدر فلا يكون معلوما، وقيل المراد معلوم الوقت لقوله تعالى: * (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) * (مريم: 62) وعن قتادة الرزق المعلوم الجنة، وتعقب بأن * (في جنات) * بعد يأباه. واعترض بأنه إذا كان المعنى وهم مكرمون فيها لم يكن به بأس. وأجيب بأن جعلها مقر المرزوقين لا يلائم جعلها رزقا
85

وأما إذا كان قيدا للرزق فهو ظاهر الإباء، وكون المساكن رزقا للساكن فإذا اختلف العنوان لم يكن به بأس لا يدفع ما قرر كما لا يخفى على المنصف، وقوله تعالى: * (فواكه) * بدل من * (رزق) * بدل كل من كل، وفيه تنبيه على أنه مع تميزه بخواصه كله فواكه أو خبر مبتدأ محذوف والجملة مستأنفة أي ذلك الرزق فواكه والمراد بها ما يؤكل لمجرد التلذذ دون الاقتيات وجميع ما يأكله أهل الجنة كذلك حتى اللحم لكونهم مستغنين عن القوت لأحكام خلقتهم وعدم تحلل شيء من أبدانهم بالحرارة الغريزية ليحتاجوا إلى بدل يحصل من القوت، فالمراد بالفاكهة هنا غير ما أريد بها في قوله تعالى: * (وفاكهة مما يتخيرون * ولحم طير مما يشتهون) * (الواقعة: 20، 21) وهي هناك بالمعنى المعروف فلا منافاة. وجوز أن يكون عطف بيان للرزق المعلوم فوجه الاختصاص ما علم به من بين الأرزاق أنه فواكه، وقيل
: هو بدل بعض من كل، وتخصيصها بالذكر لأنها من أتباع سائر الأطعمة فتدل على تحقق غيرها * (وهم مكرمون) * عند الله تعالى لا يلحقهم هوان وذلك أعظم المثوبات وأليقها بأولى الهمم، ولعل هذا إشارة إلى النعيم الروحاني بعد النعيم الجسماني الذي هو بواسطة الأكل.
وقيل مكرمون في نيل الرزق حيث يصل إليهم من غير كسب وكد وسؤال كما هو شأن أرزاق الدنيا.
وقرىء * (مكرمون) * بالتشديد.
* (فى جن‍ات النعيم) *.
* (في جنات النعيم) * أي في جنات ليس فيها إلا النعيم على أن الإضافة على معنى لام الاختصاص المفيدة للحصر. والظرف متعلق بمكرمون أو بمعلوم أو بمحذوف حال من المستكن في * (مكرمون) * أو خبر ثان لأولئك أو * (لهم) * وقوله تعالى:
* (على سرر متق‍ابلين) *.
* (على سرر) * يحتمل أن يكون حالا من المستكن في * (مكرمون) * أو في الظرف قبله وأن يكون خبرا فيكون قوله سبحانه: * (متقابلين) * حالا من المستكن في أو في * (مكرمون) * أو في الظرف أعني * (في جنات) * وأن يتعلق بمتقابلين فيكون حالا من المستكن في غيره.
وأشير بتقابلهم إلى استئناف بعضهم ببعض فبعضهم يقابل بعضا للاستئناف والمحادثة. وفي بعض الأحاديث أنه ترفع عنهم الستور أحيانا فينظر بعضهم إلى بعض، وقرأ أبو السمال * (سرر) * بفتح الراء وهي لغة بعض تميم وكلب يفتحون ما كان جمعا على فعل من المضعف إذا كان اسما، واختلف النحويون في الصفة فمنهم من قاسها على الاسم ففتح فيقول ذلل بفتح اللام على تلك اللغة. ومنهم من خص ذلك بالاسم وهو مورد السماع. [بم وقوله تعالى:
* (يطاف عليهم بكأس من معين) *.
* (يطاف عليهم) * إما استئناف لبيان ما يكون فهم في مجالس أنسهم أو حال من الضمير في * (متقابلين) * أو في أحد الجارين: وجوز كونه صفة لمكرمون. وفاعل الطواف على ما قيل من مات من أولاد المشركين قبل التكليف. ففي " الصحيح " أنهم خدم أهل الجنة. وقد صرح به في موضع آخر وهو قوله تعالى: * (يطوف عليهم ولدان مخلدون) * (الواقعة: 17) وقوله سبحانه: * (يطوف عليهم غلمان لهم) * (الطور: 24) * (بكأس) * أي بخمر كما روى عن ابن عباس. وأخرج ابن أبي شيبة. وابن جرير. وغيرهما عن الضحاك قال: كل كأس ذكره الله تعالى في القرآن إنما عني به الخمر. ونقل ذلك أيضا عن الحبر. والأخفش وهو مجاز مشهور بمنزلة الحقيقة. وعليه قول الأعشى: وكأس شربت على لذة * وأخرى تداويت منها بها
ويدل على أنه أراد بها الخمر إطلاقا للمحل على الحال قوله شربت. وتقدير شربت ما فيها تكلف. والقرينة ههنا
86

ما يأتي بعد. وجوز تفسيره بمعناه الحقيقي وهو إناء فيه خمر، وأكثر اللغويين على أن إناء الخمر لا يسمى كأسا حقيقة إلا وفيه خمر فإن خلا منه فهو قدح، والخمر ليس بمتعين، قال في " البحر " الكأس ما كان من الزجاج فيه خمر أو نحوه من الأنبذة ولا يسمى كأسا إلا وفيه ذلك، وقال الراغب: الكأس الإناء بما فيه من الشراب ويسمى كل واحد منهما بانفراده كأسا يقال كأس خال ويقال شربت كأسا وكأس طيبة، ولعل كلامه أظهر في أن تسمية لخالي كأسا مجاز، وحكى عن بعضهم أنه قال: الكأس من الأواني كل ما اتسع فمه ولم يكن مقبض ولا يراعى كونه لخمر أو لغيره * (من معين) * في موضع الصفة لكأس أي كائنة من شراب معين أو نهر معين أي ظاهر للعيون جار على وجه الأرض كما تجري الأنهار أو خارج من العيون والمنابع. وأصله معيون من عان الماء إذا ظهر أو نبع على أن ميمه زائدة أو هو من معن فهو فعيل على أن الميم أصلية.
ووصف به خمر الجنة تشبيها لها بالماء لكثرتها حتى تكون أنهارا جارية في الجنان. ويؤذن ذلك برقتها ولطافتها وأنها لم تدس بالأقدام كخمر الدنيا كما ينبىء عن دوسها بها قوله: بنت كرم يتموها أمها * ثم هانوها بدوس بالقدم
ثم عادوا حكموها فيهم * ويلهم من جور مظروم حكم
وقول الآخر: وشمولة من عهد عاد قد غدت * صرعى تداس بأرجل العصار
لانت لهم حتى انتشوا فتمكنت * منهم فصاحب فيهم بالثار
وهذا مبني على أنها خمر في الحقيقة، وجوز أن تكو ماء فيه لذة الخمر ونشأته فالوصف بذلك ظاهر، وتفيد الآية وصف مائهم باللذة والنشأة، وما ذكر أولا هو الظاهر نعم قال غير واحد: لا اشتراك بين ما في الدنيا وما في الجنة إلا بالأسماء فحقيقة خمر الجنة غير حقيقة خمر الدنيا وكذا سائر ما فيهما.
* (بيضآء لذة للش‍اربين) *.
* (بيضاء) * وصف آخر للكاس يدل على أنها مؤنثة. وعن الحسن أن خمر الجنة أشد بياضا من اللبن. وأخرج ابن جرير عن السدي أن عبد الله قرأ * (صفراء) * وقد جاء وصف خمر الدنيا بذلك كما في قول أبي نواس: صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها * لو مسها حجر مسته سراء
والمشهور أن هذا بعد المزج وإلا فهي قبله حمراء كما قال الشاعر: وحمراء قبل المزج صفراء بعده * أتت في ثيابي نرجس وشقائق
حكت وجنة المحبوب صرفا فسلطوا * عليها مزاجا فاكتست لون عاشق
* (لذة للشاربين) * وصفت بالمصدر للمبالغة بجعلها نفس اللذة، وجوز أن تكون لذة تأنيث لذ بمعنى لذيذ كطب بمعنى طبيب حاذق، وأنشدوا قوله: ولذا كطعم
الصرخدي تركته * بأرض العدا من خشية الحدثان
يريد وعيش لذيذ كطعم الخمر المنسوب لصرخد بلد بالشام، وفسره الزمخشري بالنوم وأراد أنه بمعنى لذيذ غلب على النوم لا أنه اسم جامد، وقوله: بحديثك اللذ الذي لو كلمت * أسد الفلاة به أتين سراعا
87

وفي قوله تعالى: * (للشاربين) * دون لهم إشارة إلى أنها يلتذ بها الشارب كائنا من كان.
* (لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون) *.
* (لا فيها غول) * أي غائلة كما في خمر الدنيا من غاله يغوله إذا أفسده، وقال الراغب: الغول إهلاك الشيء من حيث لا يحسن به يقال غاله يغوله غولا واغتاله اغتيالا، ومنه سمي السعلاة غولا، والمراد هنا نفي أن يكون فيها ضرر أصلا.
وروى البيهقي. وجماعة عن ابن عباس أنه قال في ذلك ليس فيها صداع؛ وفي رواية ابن أبي حاتم عنه لا تغول عقولهم من السكر، وأخرج الطستي عنه أن نافع بن الأرزق قال: أخبرني عن قوله تعالى: * (لا فيها غول) * فقال: ليس فيها نتن ولا كراهية كخمر الدنا قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال: نعم أما سمعت قول امرىء القيس: رب كأس شربت لا غول فيها * وسقيت النديم منها مزاجا
وفي رواية أخرى عنه أنه فسر ذلك بوجع البطن، وروى ذلك عن مجاهد. وابن زيد. وابن جبير.
واختير التعميم وإن التنصيص على مخصوص من باب التمثيل، وتقديم الظرف على ما قيل للتخصيص، والمعنى ليس فيها ما في خمور الدنيا من الغول، وفيه كلام في كتب المعاني * (ولا هم عنها ينزفون) * أي لا يسكرون كما روى عن ابن عباس وغيره، وهو بيان لحاصل المعنى، وأصل النزف نزع الشيء وإذهابه بالتدريج يقال نزفت الماء من البئر إذا نزحته ونزعته كله منها شيئا بعد شيء، ونزف الهم دمعه نزعه كله، ويقال شارب نزيف أي نزفت الخمر عقله بالسكر وأذهبته كما ينزف الرجل البئر وينزع ماءها فكأن الشارب ظرف للعقل فنزع منه، فلا ينزفون مبنيا للمفعول كما قرأ الحرميان. والعربيان معناه لا تنزع عقولهم أي لا تنزع الخمر عقولهم ولا تذهبها أو الفاعل هو الله تعالى وتعدية الفعل بعن قيل لتضمينه معنى يصدرون، وقيل عن للتعليل والسببية، وأفرد هذا الفساد بالنفي وعطف على ما يعمه لأنه من عظم فساده كأنه جنس برأسه، وله سميت الخمر أم الخبائث، والمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار وقرأ حمزة. والكسائي * (ينزفون) * بضم الياء وكسر الزاي وتابعهما عاصم في الواقعة على أنه من أنزف الشارب إذا صار ذا نزف أي عقل أو شراب نافد ذاهب فالهمزة فيه للصيرورة، وقيل للدخول في الشيء ولذا صار لازما فهو مثل كبه فأكب، وهو أيضا بمعنى السكر لنفاد عقل السكران أو نفاد شرابه لكثرة شربه فيلزمه عليهما السكر ثم صار حقيقة فيه، قال الأبيرد اليربوعي: لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم * لبئس الندامى كنتم آل أبجرا
وفي " البحر " أنزف مشترك بين سكر ونفد فيقال أنزف الرجل إذا سكر وأنزف إذا نفد شربه، وتعدية الفعل للتضمين كما سبق، وجوز إرادة معنى النفاد من غير إرادة معنى السكر أي لا ينفد ولا يفنى شرابهم حتى ينغص عيشهم وليس بذاك. وقرأ ابن أبي إسحاق * (ينزفون) * بفتح الياء وكسر الزاي، وطلحة بفتح الياء وضم الزاي، والمراد في جميع ذلك نفي السكر على ما هو عن الجمهور. ومن الغريب ما أخرج ابن أبي حاتم. وابن مردويه عن ابن عباس قال: في الخمر أربع خصال السكر والصداع والقيء والبول فنزه الله تعالى خمر الجنة عنها لا فيها غول لا تغول عقولهم من السكر ولا هم عنها ينزفون لا يقيئون عنها كما يقيء صاحب خمر الدنيا عنها، وهو أقرب لاستعمال النزف في الأمور الحسية كنزف البئر والركية وما أشبه القىء
88

وإخراج الفضلات من الجوف بنزف البئر وإخراج مائها عند نزحها، ولولا أن الجمهور على ما سمعت أولا حتى ابن عباس في أكثر الروايات عنه لقلت: إن هذا التفسير هو الأولى.
* (وعندهم ق‍اصرات الطرف عين) *.
* (وعندهم قاصرات الطرف) * قصرن أبصارهن على أزواجهن لا يمددن طرفا إلى غيرهم قاله ابن عباس. ومجاهد. وابن زيد فمتعلق القصر محذوف للعلم به، والكلام إما على ظاهره أو كناية عن فرط محبتهن لأزواجهن وعدم ميلهن إلى سواهم، وقيل المراد لا يفتحن أعينهن دلالا وغنجا، والوصف على القولين متعد، وجوز كونه قاصرا على أن المعنى ذابلات الجفن مراضه، وما أحيل ذبول الأجفان في الغواني الحسان، ولذا كثر التغزل بذلك قديما وحديثا، ومنه قول ابن الأزدي: مرضت سلوتي وصح غرامي * من لحاظ هي المراض الصحاح
والطرف في كل ذلك طرفهن، وجوز أن يكون الوصف متعديا والطرف طرف غيرهن، والمعنى قاصرات طرف غيرهن عن التجاوز إلى سواهن لغاية حسنهن فلا يتجاوزهن طرف الناظر إليهن كقول المتنبي: وخصر تثبت الأبصار فيه * كأن عليه من حدق نطاقا
وقد ذكر هذا المعنى أيضا ابن رشيق في قول امرىء القيس: من القاصرات الطرف لو دب محول * من الذر فوق الأنف منها لأثرا
وهو لعمري رشيق بيد أني أقول: الظاهر هنا أن العندية في مجالس الشرب إتماما للذة فلعل الأوفق للغيرة وإن كانت الحظيرة حظيرة قدس المعنى الأول، والجمهور قد قصروا الطرف عليه ولا يظن بهم أنهم من القاصرين، والجملة قيل عطف على ما قبلها، وقيل: في موضع الحال أي يطاف عليهم بكأس والحال عندهم نساء قاصرات الطرف * (عين) * جمع عيناء وهي الواسعة العين في جمال، ومنه قيل للبقر الوحشي عين، وقيل: العيناء واسعة العين أي كثيرة محاسن عينها، والحق أن السعة اتساع الشق والتقييد بالجمال يدفع ما عسى أن يقال، وما ألطف وأظرف ذكر عين بعد قاصرات الطرف.
* (كأنهن بيض مكنون) *.
* (كأنهن بيض مكنون) * البيض معروف وهو اسم جنس الواحدة بيضة ويجمع على بيوض كما في قوله: بتيهاء قفر والمطي كأنها * قطاء الحزن قد كانت فراخا بيوضها
والمراد تشبيههن بالبيض الذي كنه الريش في العش أو غيره في غيره فلم تمسه الأيدي ولم يصبه الغبار في الصفاء وشوب البياض بقليل صفرة مع لمعان كما في الدر، والأكثرون على تخصيصه ببيض النعام في الأداحي لكونه أحسن منظرا من سائر البيض وأبعد عن مس الأيدي ووصول ما يغير لونه إليه، والعرب تشبه النساء بالبيض ويقولون لهن بيضات الخدور، ومنه قول امرىء القيس: وبيضة خدر لا يرام خباؤها * تمتعت من لهو بها غير معجل
والبياض المشوب بقليل صفرة في النساء مرغوب فيه جدا؛ قيل وكذا البياض المشوب بقليل حمرة في الرجال وأما البياض الصرف فغير محمود ولذا ورد في الحلية الشريفة أبيض ليس بالأمهق. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس وهو وغيره عن ابن جبير. وابن أبي حاتم. وابن جرير عن السدي
89

أن البيض المكنون ما تحت القشر الصلب بينه وبين اللباب الأصفر والمراد تشبيههن بذلك بعد الطبخ في النعومة والطراوة فالبيضة إذا طبخت وقشرت ظهر ما تحت القشرة على أتم نعومة وأكمل طراوة، ومن هنا تسمع العامة يقولون في مدح المرأة: كأنها بيضة مقشرة، ورجح ذلك الطبري بأن الوصف بمكنون يقتضيه دون المشهور لأن خارج قشر البيضة ليس بمكنون، وفيه أن المتبادر من البيض مجموع القشر وما فيه وأكلت كذا بيضة الأكل فيه قرينة إرادة ما في القشر دون المجموع إذ لا يؤكل عادة وحينئذ لا يتم ما قاله الطبري فالأول هو المقبول، ومعنى المكنون فيه ظاهر على ما سمعت، وقد نقل الخفاجي هذا المعنى عن بعض المتأخرين وتعقبه بأنه ناشىء من عدم معرفة كلام العرب وكأنه لم يقف على روايته عن الحبر ومن معه وإلا لا يتسنى له ما قال، ولعل الرواية المذكورة غير ثابتة وكذا ما حكاه أبو حيان عن الحبر من أن البيض المكنون الجوهر المصون لنبو ظاهر اللفظ عن ذلك، وقالت فرقة: المراد تشبيههن بالبيض في تناسب الأجزاء والبيضة أشد الأشياء تناسب أجزاء والتناسب ممدوح، ومن هنا قال بعض الأدباء متغزلا: تناسبت الأعضاء فيه فلا ترى * بهن اختلافا بل أتين على قدر
وأنت تعلم بعد فرض تسليم أن تناسب الأجزاء في البيضة معروف بينهم أن الوصف بالمكنون مما لا يظهر له دخل في التشبيه، واستشكل التشبيه على ما تقدم بآية عروس القرآن * (كأنهن الياقوت والمرجان) * (الرحمان: 58) فإنها ظاهرة في أن في ألوانهن حمرة وأين هذا من التشبيه بالبيض المكنون على ما سمعت قبل فيتعين أن يراد التشبيه من حيث النعومة والطراوة كما روي ثانيا أو من حيث تناسب الأجزاء كما قيل أخيرا. وأجيب بأنه يجوز أن يكون المشبهات بالبيض المكنون غير المشبهات بالياقوت والمرجان، وكون البياض المشوب بالصفرة أحسن الألوان في النساء غير مسلم بل هو حسن ومثله في الحسن البياض المشوب بحمرة على أن الأحسنية تختلف باختلاف طباع الرائي: وللناس فيما يعشقون مذاهب
والجنة فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
وقيل يجوز أن يكون تشبيههن بالبيض المكنون بالنظر إلى بياض أبدانهن المشوب بصفرة ما عدا وجوههن وتشبيههن بالياقوت والمرجان بالنظر إلى بياض وجوههن المشوب بحمرة، وقيل تشبيههن بهذا ليس من جهة أن بياضهن مشوب بحمرة بل تشبيههن بالياقوت من حيث الصفاء وبالمرجان من حيث الأملاس وجمال المنظر.
وإذا أريد بالمرجان الدرر الصغار كما ذهب إليه جمع دون الخرز الأحمر المعروف يجوز أن يكون التشبيه من حيث البياض المشوب بصفرة فلا إشكال أصلا.
* (فأقبل بعضهم على بعض يتسآءلون) *.
* (فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) * معطوف على * (يطاف) * وما بينهما معترض أو من متعلقات الأول أي يشربون فيتحادثون على الشرب كما هو عادة المجتمعين عليه قال محمد بن فياش: وما بقيت من اللذات إلا * محادثة الكرام على الشراب
ولثمك وجنتي قمر منير * يجول بوجهه ماء الشباب
وعبر بالماضي مع أن المعطوف عليه مضارع للإشعار بالاعتناء بهذا المعطوف بالنسبة إلى المعطوف عليه فكيف لا يقبلون على الحديث وهو أعظم لذاتهم التي يتعاطونها مع ما في ذلك من الإشارة إلى تحقق الوقوع حتما وتساؤلهم عن المعارف والفضائل وما جرى لهم وعليهم في الدنيا، وما أحلى تذكر ما فات عند رفاهية
90

الحال وفراغ البال.
* (قال قآئل منهم إنى كان لى قرين) *.
* (قال قائل منهم) * في تضاعيف محاورتهم * (إني كان لي) * في الدنيا * (قرين) * مصاحب.
* (يقول أءنك لمن المصدقين) *.
* (يقول) * لي على طريق التوبيخ بما كنت عليه من الإيمان والتصديق بالبعث المفضي إلى ما أنا عليه اليوم * (ءإنك لمن المصدقين) * أي بالبعث [بم كما ينبىء عنه قوله سبحانه:
* (أءذا متنا وكنا ترابا وعظ‍اما أءنا لمدينون) *.
* (ءإذا متنا وكنا ترابا وعظاما ءإنا لمدينون) * أي لمبعوثون ومجازون من الدين بمعنى الجزاء؛ وقيل لمسوسون مربوبون من دانه إذا ساسه ومنه الحديث " العاقل من دان نفسه ". وقرىء * (المصدقين) * بتشديد الصاد من التصدق، واعترضت هذه القراءة بأن الكلام عليها لا يلائم قوله سبحانه: * (أئذا متنا) * الخ، وتعقب بأن
فيه غفلة عن سبب النزول، أخرج عبد الرزاق. وابن المنذر عن عطاء الخراساني قال: كان رجلان شريكان وكان لهما ثمانية آلاف دينار فاقتسماها فعمد أكبرهما فاشترى بألف دينار أرضا فقال صاحبه: اللهم إن فلانا اشترى بألف دينار أرضا وإني أشتري منك بألف دينار أرضا في الجنة فتصدق بألف دينار ثم ابتنى صاحبه دارا بألف دينار فقال: اللهم إن فلانا قد ابتنى دارا بألف دينار وإني أشتري منك في الجنة دارا بألف دينار فتصدق بألف دينار ثم تزوج امرأة فأنفق عليها ألف دينار فقال: اللهم إن فلانا تزوج امرأة فأنفق عليها ألف دينار وإني أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار فتصدق بألف دينار ثم اشترى خدما ومتاعا بألف دينار فقال: اللهم إن فلانا اشترى خدما ومتاعا بألف دينار وإني أشتري منك خدما ومتاعا في الجنة بألف دينار فتصدق بألف دينار ثم أصابته حاجة شديدة فقال لو أتيت صاحبي هذا لعله ينالني منه معروف فجلس على طريقه حتى مر به في حشمه وأهله فقام إليه فنظر الآخر فعرفه فقال: فلان قال: نعم فقال: ما شأنك؟ فقال: أصابتني بعدك حاجة فأتيتك لتصيبني بخير قال: فما فعلت بمالك؟ فقص عليه القصة فقال: أئنك لمن المصدقين بهذا اذهب فوالله لا أعطيك شيئا فرده فقضى لهما أن توفيا فكان مآل المتصدق الجنة ومآل الآخر النار وفيهما نزلت الآية، وقيل هما أخوان ورثا ثمانية آلاف دينار واقتسماها فكان من خبرهما ما كان، وكان الاثنان من بني إسرائيل وهذا السبب يدل على أن أحدهما كان مصدقا ومتصدقا أيضا والآخر وهو القرين أنكر عليه أنه أنفق ليجازي على إنفاقه بما هو أعظم وأبقى فقد ضيع بزعمه ماله فيما لا أصل له وهو الجزاء الأخروي ولا يكون هذا بدون البعث فلذا أنكره، وليت شعري كيف يتوهم عدم الملاءمة مع قوله تعالى: * (أئنا لمدينون) * ولعله أنسب بتلك القراءة، وحاصل المعنى أنت المتصدق طلبا للجزاء في الآخرة فهل نحن بعد ما نفني نبعث ونجازي، وذكر العظام مع التراب مع أن ذكر التراب يكفي ويغني عن ذلك لتصوير حال ما يشاهده ذلك الشخص من الأجساد البالية من مصير اللحم وغيره ترابا عليه عظام نخرة ليذكره ويخطر بباله ما ينافي مدعاه، وكونه للتنزل في الإنكار أو للتأكيد لا يرجحه بل يجوزه.
* (قال هل أنتم مطلعون) *.
* (قال) * أي ذلك القائل الذي كان قرين لجلسائه بعد ما حكى لهم مقالة قرينة له في الدنيا * (هل أنتم مطلعون) * على أهل النار لأريكم ذلك القرين الذي قال لي ما حكيت لكم، والمراد من الاستفهام العرض أو الأمر على ما قيل، والغرض من ذلك إراءتهم سوء حال القرين ليؤنسهم نوع إيناس وقيل يريد بذلك بيان صدقه فيما حكاه، ولا يخفى أن ظن الكذب في غاية البعد واطلاع أهل الجنة على أهل النار ومعرفة من فيها مع ما بينهما من التباعد غير بعيد بأن يخلق الله تعالى فيهم حدة نظر ويعرفهم من أرادوا الاطلاع عليه، ولعلهم إذا أرادوا ذلك وقفوا
91

على الأعراف فاطلعوا على من أرادوا من أهل النار؛ وقيل إن لهم طاقات في الجنة ينظرون منها من علو إلى أهل النار وعلم القائل بأن القرين من أهل النار لعلمه بأنه كان ينكر البعث ومنكره منهم قطعا والأصل بقاؤه على الكفر وقيل علم ذلك بأخبار الملائكة عليهم السلام إياه، وقيل قائل * (هل أنتم) * الخ هو الله تعالى أو بعض الملائكة عليهم السلام يقول للمتحادثين من أهل الجنة هل تحبون أن تطلعوا على أهل النار لأريكم ذلك القرين فتعلموا أين منزلتكم من منزلتهم، وقيل القائل من كان له قرين والمخاطبون بأنتم الملائكة عليهم السلام وفي الكلام حذف كأنه قيل: فقال لهذا القائل حاضروه من الملائكة قرينك هذا يعذب في النار فقال للملائكة الذين أخبروه: هل أنتم مطلعون ولا يخفى ما فيه.
* (فاطلع فرءاه فى سوآء الجحيم) *.
* (فاطلع) * أي على أهل النار * (فرءاه) * أي فرأى قرينه * (في سواء الجحيم) * أي في وسطها، ومنه قول عيسى بن عمر لأبي عبيدة كنت أكتب حتى ينقطع سوائي، وسمي الوسط سواء لاستواء المسافة منه إلى الجوانب. وقرأ أبو عمرو في رواية حسين الجعفي * (مطلعون) * بإسكان الطاء وفتح النون * (فاطلع) * بضم الهمزة وسكون الطاء وكسر اللام فعلا ماضيا مبنيا للمفعول، وهي قراءة ابن عباس. وابن محيصن. وعمار ابن أبي عمار. وأبي سراج، وقرىء * (مطلعون) * مشددا * (فاطلع) * مشددا أيضا مضارعا منصوبا على جواب الاستفهام.
وقرىء مطلعون بالتخفيف * (فأطلع) * مخففا فعلا ماضيا و * (فأطلع) * مخففا مضارعا منصوبا. وقرأ أبو البرهسم. وعمار بن أبي عمار فيما ذكره خلف عنه * (مطلعون) * بتخفيف الطاء وكسر النون * (فاطلع) * ماضيا مبنيا للمفعول. ورد هذه القراءة أبو حاتم وغيره لجمعها بين نون الجمع وياء المتكلم والوجه مطلعي كما قال عليه الصلاة والسلام: " أو مخرجي هم " ووجهها أبو الفتح على تنزيل اسم الفاعل منزلة المضارع فيقال عنده ضاربونه مثلا كما يقال يضربونه وعليه قوله: هم الآمرون الخير والفاعلونه * إذا ما خشوا من محدث الدهر معظما
وأنشد الطبري قول الشاعر: وما أدري وظني كل ظن * أمسلمني إلى قومي شراحي
ومثله قول الآخر: فهل فتى من سراة الحي يحملني * وليس حاملني إلا ابن حمال
وهذه النون عند جمع نون الوقاية ألحقت مع الوصف حملا له على الفعل وليست مثل النون في القراءة، وفي البيت وإن كان إلحاق كل للحمل. وقال بعضهم: إنها نون التنوين وحركت لالتقاء الساكنين، ورد بأنه سمع إلحاقها مع أل كقوله:
وليس الموافيني ومع أفعل التفضيل كما وقع في الحديث غير الدجال أخوفني عليكم.
ويعلم من هذا عدم اختصاص إلحاقها بالشعر نعم هو في غيره قليل، وضعف بعضهم ما وجه به أبو الفتح وقال: إن ذلك لا يقع إلا في الشعر وخرجت أيضا على أنها من وضع المتصل موضع المنفصل وأريد بذلك أن الأصل مطلعون إياي ثم جعل المنفصل متصلا فقيل مطلعوني ثم حذفت الياء واكتفى عنها بالكسرة كما في قوله تعالى:
* (فكيف كان نكير) *. ومثله يقال في الفاعلونه في البيت السابق، ورد ذلك أبو حيان بأن ما ذكر ليس من محال المنفصل حتى يدعي أن المتصل وقع موقعه وادعى أولوية تخريج أبي الفتح، والبيت قيل مصنوع لا يصح الاستشهاد به،
92

وقيل إن الهاء هاء السكت حركت للضرورة وهو فرار من ضرورة لأخرى إذ تحريكها وإثباتها في الوصل غير جائز، وللنحاة في مسألة إثبات النون مع إضافة الوصف إلى الضمير كلام طويل، حاصله أن نحو ضاربك وضارباك وضاربوك ذهب سيبويه إلى أن الضمير فيه في محل جر بالإضافة ولذا حذف التنوين ونون التثنية والجمع، وذهب الأخفش. وهشام إلى أن الضمير في محل نصب وحذفهما للتخفيف حتى وردتا ثابتين كما في الفاعلونه وأمسلمني فالنون عندهما في الأخير ونحوه تنوين حرك لالتقاء الساكنين وقد سمعت ما فيه، وحديث الحمل على الفعل على العلات أحسن ما قيل في التوجيه، هذا وطلع واطلع بالتشديد وأطلع بالتخفيف بمعنى واحد والكل لازم ويجىء الاطلاع متعديا يقال أطلعه على كذا فاطلع، و * (مطلعون) * في قراءة أبي عمرو بمعنى مطلعون بالتشديد ونائب فاعل أطلع ضمير القائل والفاعل هم المخاطبون واطلاعهم إياه باعتبار التسبب كأنه لما أراد الاطلاع وأحب أن لا يستبد به أدبا عرض عليهم أن يطلعوا فرغبوا وأطلعوا فكان ذلك وسيلة إلى اطلاعه فكأنهم هم الذين أطلعوه ففاء * (فاطلع) * فصيحة والعطف على مقدر، والمعنى على القراءة التي بعدها هل أنتم مطلعون حتى أطلع أنا أيضا فاطلعوا وأطلع هو بعد ذلك فرآه في سواء الجحيم ولا بد من تقدير اطلع بعد ذلك ليصلح ترتب * (فرآه) * على ما قبله و * (هل أنتم مطلعون) * عليه بمعنى الأمر تأدبا ومبالغة وعلى القراءة الثانية وهي قراءة التخفيف في الكلمتين والثانية فعل ماض المعنى كما في قراءة الجمهور، وكذا على القراءة التي بعدها، وعلى قراءة أبي البرهسم ومن معه هل أنتم مطلعي فاطلعوه فرآه الخ، واطلاعهم إياه إذا كان الخطاب للجلساء بطريق التسبب كأنه طلب أن يطلعوا ليوافقهم فيطلع وهو إذا كان الخطاب للملائكة عليهم السلام على ما يتبادر إلى الذهن، وعن صاحب اللوامح أن طلع واطلع اطلاعا بمعنى أقبل وجاء والقائم مقام الفاعل على قراءة أطلع مبنيا للمفعول ضمير المصدر أو جار ومجرور محذوفان أي أطلع به لأن أطلع لازم كأقبل وقد علمت أن أطلع يجىء متعديا كأطلعت زيدا. ورد أبو حيان الاحتمال الثاني بأن نائب الفاعل لا يجوز حذفه كالفاعل فتأمل جميع ما ذكرنا ولا تغفل.
* (قال ت الله إن كدت لتردين) *.
* (قال) * أي القائل لقرينه * (تالله إن كدت لتردين) * أي لتهلكني، وفي قراءة عبد الله * (لتغوين) *، و * (إن) * مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة. وفي " البحر " أن القسم فيه التعجب من سلامته منه إذ كان قرينه قارب أن يرديه.
* (ولولا نعمة ربى لكنت من المحضرين) *.
* (ولولا نعمة ربي) * علي وهي التوفيق والعصمة * (لكنت من المحضرين) * للعذاب كما أحضرته أنت وأضرابك.
* (أفما نحن بميتين) *.
* (أفما نحن بميتين) * الخ رجوع إلى محاورة جلسائه بعد إتمام الكلام مع قرينه تبجحا وابتهاجا بما أتاح الله تعالى له من الفضل العظيم والنعيم المقيم وتعريضا للقرين بالتوبيخ، وجوز أن يكون من كلام المتسائلين جميعا وأن يكون من تتمة كلام القائل يسمع قرينه على جهة التوبيخ له، واختير الأول، والهمزة للتقرير وفيها معنى التعجب والفاء للعطف على مقدر يقتضيه نظم الكلام على ما ذهب إليه الزمخشري ومتبعوه أي أنحن مخلدون فما نحن بميتين أي ممن شأنه الموت كما يؤذن به الصفة المشبهة.
وقرىء * (بمائتين) *.
* (إلا موتتنا الاولى وما نحن بمعذبين) *.
* (إلا موتتنا الأولى) * التي كانت في الدنيا وهي متناولة عند أهل السنة لما في القبر بعد الإحياء للسؤال لعدم الاعتداد بالحياة فيه لكونها غير تامة ولا قارة وزمانها قليل جدا، والاستثناء مفرغ من مصدر مقدر كأنه
93

قيل أفما نحن بميتين موتة إلا موتتنا الأولى، وجوز أن يكون منقطعا أي لكن الموتة الأولى كانت لنا في الدنيا وعلمهم بأنهم لا يموتون ناشىء من إخبار أنبيائهم لهم في الدنيا وإعلامهم إياهم بأن أهل الجنة لا يموتون أو من قول الملائكة عليهم السلام لهم حين دخول الجنة * (طبتم فادخلوها خالدين) * (الزمر: 73) وقولهم: * (ادخلوها بسلام آمنين) * (الحجر: 46) وقيل إن أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت فحينئذ يعلمونه فيقولون ذلك تحدثا بنعمة الله تعالى واغتباطا بها، ولا يخفى أن كون هذا القول المحكي هنا عند علمهم بعدم الموت من ذبحه بعيد في هذا المقام والظاهر أن هذا بعد الاطلاع والكلام مع القرين * (وما نحن بمعذبين) * كأصحاب النار، والمراد استمرار النفي وتأكيده وكذا فيما تقدم واستمرار هذا النفي نعمة جليلة وهو متضمن نفي زوال نعيمهم المحكي في قوله تعالى: * (أولئك لهم رزق معلوم) * (الصافات: 41) الآيات فإن زوال النعيم نوع من العذاب بل هو من أعظم أنواعه بل تصور الزوال عذاب أيضا لا يلذ معه عيش، ولذا قيل: إذا شئت أن تحيا حياة هنية * فلا تتخذ شيئا تخاف له فقدا
وكذا يتضمن نفي الهرم واختلال القوي الذي يوهمه نفي الموت فإن ذلك نوع من العذاب أيضا، وأنه إنما اختير التعرض لاستمرار نفي العذاب دون إثبات استمرار النعيم لأن نفي العذاب أسرع خطورا ببال من لم يعذب عند مشاهدة من يعذب، وقيل إن ذاك لأن درء الضرر أهم من جلب المنفعة.
* (إن ه‍اذا لهو الفوز العظيم) *.
* (إن ه‍اذا لهو الفوز العظيم) * الظاهر أن الإشارة إلى ما أخبروا به من استمرار نفي الموت واستمرار نفي التعذيب عنهم، ويجوز أن تكون إشارة إلى ما هم فيه من
النعيم مع استمرار النفيين فإذا كان الكلام من تتمة كلام القائل * (أفما نحن بميتين) * الخ فهو متضمن إشارة ذلك القائل إلى ظهور النعيم ويكون ترك التعرض للتصريح به للاستغناء بذلك الظهور.
وجوز أن يكون هذا كلامه تعالى قاله سبحانه تقريرا لقول ذلك القائل وتصديقا له مخاطبا جل وعلا به حبيبه عليه الصلاة والسلام وأمته والتأكيد للاعتناء بشأن الخبر. وقرىء * (لهو الرزق العظيم) * وهو ما رزقوه من السعادة العظمى.
* (لمثل ه‍اذا فليعمل الع‍املون) *.
* (لمثل هاذا فليعمل العاملون) * أي لنيل مثل هذا الأمر الجليل ينبغي أن يعمل العاملون لا للحظوظ الدنيوية السريعة الانصرام المشوبة بفنون الآلام فتقديم الجار والمجرور للحصر وهذا إن كان إشارة إلى مشخص من حيث تشخصه فمثل غير مقحمة وإن كان إشارة إلى الجنس فهي مقحمة كما في - مثلك لا يبخل - والكلام يحتمل أن يكون من تتمة كلام القائل ولا يعكر عليه أن الآخرة ليست بدار عمل إذ ليس المراد الأمر بالعمل فيها ويحتمل أن يكون من كلامه عز وجل. [بم وأما قوله سبحانه:
* (أذالك خير نزلا أم شجرة الزقوم) *.
* (أذالك خير نزلا أم شجرة الزقوم) * فمن كلامه جل وعلا عند الأكثرين وهو متعلق بقوله تعالى: * (أولئك لهم رزق معلوم) * والقصة بينهما ذكرت بطريق الاستطراد فالإشارة إلى الرزق المعلوم.
وزعم بعضهم جواز كونه من كلام القائل السابق وما هو من كلامه عز وجل قطعا هو ما يأتي إن شاء الله تعالى.
وأصل النزل الفضل والريع في الطعام ويستعمل في الحاصل من الشيء ومنه العسل ليس من إنزال الأرض
94

أي مما يحصل منها، وقول الشافعي لا يجب في العسل العشر لأنه نزل طائر ويقال لما يعد للنازل من الرزق.
والزقوم اسم شجرة صغيرة الورق مرة كريهة الرائحة ذات لبن إذا أصاب جسد إنسان تورم تكون في تهامة وفي البلاد المجدبة المجاورة للصحراء سميت بها الشجرة الموصوفة بما في الآية، وكلا المعنيين للنزل محتمل هنا بيد أنه يتعين على الأول انتصابه على التمييز أي أذلك الرزق المعلوم الذي حاصله اللذة والسرور خير نزلا وحاصلا أم شجرة الزقوم التي حاصلها الألم والغم، ومعنى التفاضل بين النزلين التوبيخ والتهكم وهو أسلوب كثير الورود في القرآن، والحمل على المشاكلة جائز، وعلى الثاني الظاهر انتصابه على الحال، والمعنى أن الرزق المعلوم نزل أهل الجنة وأهل النار نزلهم شجرة الزقوم فأيهما خير حال كونه نزلا، وفيه ما مر من التهكم.
والحمل على التمييز لا مانع منه لفظا كما في نحوهم أكفاهم ناصرا ولكن المعنى على الحال أسد لأن المعنى المفاضلة بين تلك الفواكه وهذا الطعام في هذه الحال لا التفاضل بينهما في الوصف وأن ذلك في النزلية أدخل من الآخر فافهم.
* (إنا جعلن‍اها فتنة للظ‍المين) *.
* (إنا جعلناها فتنة للظالمين) * محنة وعذابا لهم في الآخرة وابتلاء في الدنيا فإنهم سمعوا أنها في النار قالوا كيف يمكن ذلك والنار تحرق الشجر وكذا قال أبو جهل ثم قال استخفافا بأمرها لا إنكارا للمدلول اللغوي: والله ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد فتزقموا ولم يعلموا أن من قدر على خلق حيوان يعيش في النار ويتلذذ بها أقدر على خلق الشجر في النار وحفظه من الإحراق فالنار لا تحرق إلا بإذنه أو أن الإحراق عندها لا بها.
* (إنها شجرة تخرج فىأصل الجحيم) *.
* (إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم) * منبتها في قعر النار وأغصانها ترتفع إلى دركاتها. وقرىء * (نابتة) * في أصل الجحيم.
* (طلعها كأنه رءوس الشي‍اطين) *.
* (طلعها) * أي حملها، وأصله طلع النخل وهو أول ما يبدو وقبل أن تخرج شماريخه أبيض غض مستطيل كاللوز سمي به حمل هذه الشجرة إما لأنه يشابهه في الشكل أو الطلوع ولعله الأولى لمكان التشبيه بعد فيكون استعارة تصريحية أو لاستعماله بمعنى ما يطلع مطلقا فيكون كالمرسل للأنف فهو مجاز مرسل.
* (كأنه رؤس الشياطين) * أي في تناهي الكراهة وقبح المنظر والعرب تشبه القبيح الصورة بالشيطان فيقولون كأنه وجه شيطان أو رأس شيطان وإن لم يروه لما أنه مستقبح جدا في طباعهم لاعتقادهم أنه شر محض لا يخلطه خير فيرتسم في خيالهم بأقبح صورة، ومن ذلك قول امرىء القيس: أتقتلني والمشرفي مضاجعي * ومسنونة زرق كأنياب أغوال
فشبه بأنياب الأغوال وهي نوع من الشياطين ولم يرها لما ارتسم في خياله، وعلى عكس هذا تشبيههم الصورة الحسنة بالملك وذلك أنهم اعتقدوا فيه أنه خير محض لا شرفيه فارتسم في خيالهم بأحسن صورة، وعليه قوله تعالى: * (ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم) * (يوسف: 31) وبهذا يرد على بعض الملاحدة حيث طعن في هذا التشبيه بأنه تشبيه بما لا يعرف، وحاصله أنه لا يشترط أن يكون معروفا في الخارج بل يكفي كونه مركوزا في الذهن والخيال.
وحمل التشبيه في الآية على ما ذكر هو المروي عن ابن عباس. ومحمد بن كعب القرظي. وغيرهما، وزعم الجبائي أن الشياطين حين يدخلون النار تشوه صورهم جدا وتستبشع أعضاؤهم فالمراد كأنه رؤوس الشياطين
95

الذين في النار، وفيه أن التشبيه عليه أيضا غير معروف في الخارج عند النزول، وقيل: رؤوس الشياطين شجرة معروفة تكون بناحية اليمن منكرة الصورة يقال لها الاستن وإياها عنى النابغة بقوله: تحيد عن استن سود أسافله * مثل الإماء الغوادي تحمل الحزما
قال الأصمعي: ويقال لها الصوم وأنشد: موكل بشدوف الصوم يرقبه * من المغارب مهضوم الحشا زرم
وقيل: الشياطين جنس من الحيات ذوات أعراف، وأنشد الفراء: عجيز تحلف حين أحلف * كمثل شيطان الحماط أعرف
أي له عرف، وأنشد المبرد: وفي البقل إن لم يدفع الله شره * شياطين يعدو بعضهن على بعض
* (فإنهم لاكلون منها فمالئون منها البطون) *.
* (فإنهم لآكلون منها) * تفريع على جعلها فتنة أي محنة وعذابا للظالمين، وضمير المؤنث للشجرة، ومن ابتدائية أو تبعيضية وهناك مضاف مقدر أي من طلعها، وقيل: من تبعيضية والضمير للطلع وأنث لإضافته إلى المؤنث أو لتأويله بالثمرة أو للشجرة على التجوز، ولا يخلو كل عن بعد ما * (فمالئون منها البطون) * لغلبة الجوع وإن كرهوها أو للقسر على أكلها.
* (ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم) *.
* (ثم إن لهم عليها) * أي على الشجرة التي ملؤا منها بطونهم * (لشوبا من حميم) * أي لشرابا مموجا بماء شديد الحرارة وهذا الشراب هو الغساق أي ما يقطر من جراح أهل النار وجلودهم، وقيل: هذا هو الصديد وأما الغساق فعين في النار تسيل إليها سموم الحيات والعقارب أو دموع الكفرة فيها، وشربهم ذلك لغلبة عطشهم بما أكلوا من الشجرة فإذا شربوا تقطعت أمعاؤهم.
وقرىء * (لشوبا) * بضم الشين وهو اسم لما يشاب به، وعلى الأول هو مصدر سمي به، وكلمة ثم قيل للتراخي الزماني وذلك أنه بعد أن يملؤا البطون من تلك الشجرة يعطشون ويؤخر سقيهم زمانا ليزداد عطشهم فيزداد عذابهم.
واعترض بأنه يأباه عطف الشرب بالفاء في قوله تعالى: * (فمالؤن منها البطون فشاربون عليه من الحميم) * فلا بد من عدم توسط زمان. وأجيب بأنه يجوز أن يكون شرب الشراب الممزوج بالحميم متأخرا بزمان عن ملئهم البطون دون شرب الحميم وحده، وكذا يجوز أن يكون الحال مختلفا فتارة يتآخر الشرب مطلقا زمانا وأخرى لا يتأخر كذلك، وقال بعضهم: ملؤهم البطون أمر ممتد فباعتبار ابتدائه يعطف بثم وباعتبار انتهائه بالفاء.
وجوز كون ثم للتراخي الرتبي لأن شرابهم أشنع من مأكولهم بكثير، وعطف ملئهم البطون بالفاء لأنه يعقب ما قبله، ولا يحسن فيه اعتبار التفاوت الرتبي حسنه في شرب الشراب المشوب بالحميم مع الأكل.
* (ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم) *.
* (ثم إن مرجعهم) * أي مصيرهم، وقد قرىء كذلك، وقرىء أيضا * (ثم إن منفذهم) * * (لإلى الجحيم) * أي إلى مقرهم من النار فإن في جهنم مواضع أعد في كل موضع منها نوع من البلاء فالقوم يخرجون من محل قرارهم حيث تأجج النار ويساقون إلى موضع آخر مما دارت عليه جهنم فيه ذلك الشراب ليردوه ويسقوا منه ثم يردون إلى محلهم كما تخرج الدواب إلى مواضع الماء في البلد مثلا لترده ثم ترد إلى محلها، وإلى هذا المعنى أشار قتادة ثم تلا قوله تعالى:
96

* (هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون * يطوفون بينها وبين حميم آن) * (الرحمان: 43، 44) ويؤيده قراءة ابن مسعود * (ثم إن منقلبهم) * إذ الانقلاب أظهر في الرد أو المراد ثم إن مرجعهم إلى دركات الجحيم فهم يرددون في الجحيم من مكان إلى آخر أدنى منه، وقيل: إن الشراب يقدم إليهم قبل دخول النار فيشربون ويصيرون إلى الجحيم، وهذا يحتاج إلى توقيف وإلا فهو خلاف الظاهر، وكأن بين خروج القوم للشرب وعودهم إلى مساكنهم زمانا غير يسير يتجرعون فيه ذلك الشراب ولذا جيء بثم، وهذا الشراب في مقابلة ما لأهل الجنة من الشراب المدلول عليه بقوله تعالى: * (يطاف عليهم بكأس من معين * بيضاء لذة للشاربين) * (الصافات: 45، 46) الخ كما أن الزقوم في مقابلة ما لهم من الفواكه. وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لو أن قطرة من زقوم جهنم أنزلت إلى الأرض لأفسدت على الناس معايشهم أخرجه ابن أبي شيبة فكيف بمن هو طعامه وشرابه الغساق والصديد مع الحميم، نسأل الله تعالى رضاه والجنة ونعوذ به عز وجل من غضبه والنار [بم وقوله سحبانه:
* (إنهم ألفوا ءابآءهم ضآلين * فهم على ءاثارهم يهرعون) *.
* (إنهم ألفوا ءاباءهم ضالين * فهم على ءاثارهم يهرعون) * تعليل لاستحقاقهم ما ذكر من فنون العذاب بتقليد الآباء في أصول الدين من غير أن يكون لهم ولا لآبائهم شيء يتمسك به أصلا أي وجدوهم ضالين في نفس الأمر ليس لهم ما يصلح شبهة فضلا عن صلاحية كونه دليلا فهم من غير أن يتدبروا أنهم على الحق أولا مع ظهور كونهم على الباطل بأدنى تأمل، والإهراع الإسراع الشديد، وقيل: هو إسراع فيه شبه رعدة.
وفي بناء الفعل للمفعول إشارة إلى مزيد رغبتهم في الإسراع على آثارهم كأنهم يزعجون ويحثون حثا عليه.
* (ولقد ضل قبلهم أكثر الاولين) *.
* (ولقد ضل قبلهم) * أي قبل هؤلاء الظالمين الذين جعلت شجرة الزقوم فتنة لهم وهم قريش * (أكثر الأولين) * من الأمم السابقة، وهو جواب قسم محذوف [بم وكذا قوله تعالى:
* (ولقد أرسلنا فيهم منذرين) *.
* (ولقد أرسلنا فيهم منذرين) * أنبياء أنذروهم سوء عاقبة ما هم عليه من الباطل، وتكرير القسم لإبراز كمال الاعتناء بتحقيق مضمون كل من الجملتين.
* (فانظر كيف كان ع‍اقبة المنذرين) *.
* (فانظر كيف كان عاقبة المنذرين) * من الهول والفظاعة لما لم يلتفتوا إلى الإنذار ولم يرفعوا إليه رأسا.
والخطاب إما لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى منه مشاهدة آثارهم، وحيث كان المعنى أنهم أهلكوا إهلاكا فظيعا استثنى عنهم المخلصين بقوله عز وجل:
* (إلا عباد الله المخلصين) *.
* (إلا عباد الله المخلصين) * أي الذين أخلصهم الله تعالى بتوفيقهم للايمان والعمل بموجب الإنذار. وقرىء * (المخلصين) * بكسر اللام أي الذين أخلصوا دينهم لله سبحانه وتعالى، والاستثناء على القراءتين إما منقطع إن خصص المنذرين وإما متصل أن عمم.
* (ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون) *.
* (ولقد ناديانا نوح) * نوع تفصيل لما أجمل فيما قبل ببيان أحوال بعض المرسلين وحسن عاقبتهم متضمن لبيان سوء عاقبة بعض المنذرين كقوم نوح عليه السلام ولبيان حسن عاقبة بعضهم الذين أخلصهم الله تعالى أو أخلصوا دينهم على القراءتين كقوم يونس عليه السلام، وتقديم قصة نوح عليه السلام على سائر القصص غي عن البيان، ونداؤه عليه السلام يتضمن الدعاء على كفار قومه وسؤاله النجاة وطلب النصرة، واللام واقعة في جواب قسم محذوف، وكذا ما في قوله تعالى: * (فلنعم المجيبون) * والمخصوص بالمدح فيه محذوف والفاء
97

فصيحة أي وتالله لقد دعانا نوح حين أيس من إيمان قومه بعد أن دعاهم أحقابا ودهورا فلم يزدهم دعاؤه إلا فرارا ونفورا فأجبناه أحسن الإجابة فوالله لنعم المجيبون نحن فحذف ما حذف ثقة بدلالة ما ذكر عليه، والجمع للعظمة والكبرياء وفيه من تعظيم أمر الإجابة ما فيه؛ وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى في بيتي فمر بهذه الآية * (ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون) * قال: صدقت ربنا أنت أقرب من دعى وأقرب من بغي فنعم المدعو ونعم المعطى ونعم المسؤل ونعم المولى أنت ربنا ونعم النصير ".
* (ونجين‍اه وأهله من الكرب العظيم) *.
* (ونجيناه وأهله من الكرب العظيم) * من الغرق على ما روى عن السدي، وقيل: أذى قومه ولا مانع من الجمع، والكرب على ما قال الراغب: الغم الشديد، وأصل ذلك من كرب الأرض وهو قلبها بالحفر فالغم يثير النفس إثارة ذلك، ويصح أن يكون من كربت الشمس إذا دنت للمغيب وقولهم إناء كربان نحو قربان أي قريب من الملء أو من الكرب وعو عقد غليظ في رشاء الدلو، وقد يوصف الغم بأنه عقدة على القلب.
* (وجعلنا ذريته هم الب‍اقين) *.
* (وجعلنا ذريته هم الباقين) * فحسب حيث أهلكنا الكفرة بموجب دعائه * (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) * (نوح: 26) وقد روى أنه مات كل من في السفينة ولم يعقبوا عقبا باقيا غير أبنائه الثلاث سام وحام ويافث وأزواجهم فإنهم بقوا متناسلين إلى يوم القيامة.
أخرج الترمذي وحسنة. وابن سعد. وأحمد. وأبو يعلى. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. والطبراني. والحاكم وصححه عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم " وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا نحوه، نعم أخرج البزار. وابن أبي حاتم. والخطيب في تالي التلخيص عنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد نوح ثلاثة: سام وحام ويافث فولد سام العرب وفارس والروم والخير فيهم وولد يافث يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة ولا خير فيهم وولد حام القبط والسودان " ولا أعرف حال الخبر، والأكثرون على أن الناس كلهم في مشارق الأرض ومغاربها من ذرية نوح عليه السلام ولذا قيل له آدم الثاني. وإن صح أن لكنعان المغرب ولدا في السفينة لا يبعد إدراجه في الذرية فلا يقتصر على الأولاد الثلاثة، وعلى كون الناس كلهم من ذريته عليه السلام استدل بعضهم بالآية. وقالت فرقة: أبقى الله تعالى ذرية نوح عليه السلام ومد في نسله وليس الناس منحصرين في نسله بل من الأمم من لا يرجع إليه حكاه في البحر، وكأن هذه الفرقة لا تقول بعموم الغرق، ونوح عليه السلام إنما دعا على الكفار وهو لم يرسل إلى أهل الأرض كافة فإن عموم البعثة ابتداء من خواص خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم ووصول خبر دعوته وهو في جزيرة العرب إلى جميع الأقطار كقطر الصين وغيره غير معلوم.
والحصر في الآية بالنسبة إلى من في السفينة ممن عدا أولاده وأزواجهم فكأنه قيل: وجعلنا ذريته هم الباقين لا ذرية من معه في السفينة وهو لا يستلزم عدم بقاء ذرية من لم يكن معه وكان في بعض الأقطار الشاسعة التي لم تصل إليها الدعوة ولم يستوجب أهلها الغرق كأهل الصين فيما يزعمون، ويجوز أن تكون قائلة بالعموم وتجعل الحصر بالنسبة إلى المغرقين وتلتزم القول بأنه لم يبق عقب لأحد من أهل السفينة هو من ذرية أحد من المغرقين أي وجعلنا ذريته هم الباقين لا ذرية أحد غيره من المغرقين، وولد كنعان إن صح وصح بقاء نسله داخل في ذريته والله تعالى أعلم.
* (وتركنا عليه فى الاخرين) *.
* (وتركنا عليه في الآخرين) * في الباقين غابر الدهر.
* (سل‍ام على نوح فى الع‍المين) *.
* (سلام على نوح) * مبتدأ وخبر
98

وجاز الابتداء بالنكرة لما فيه من معنى الدعاء، والكلام وارد على الحكاية كقولك: قرأت * (سورة أنزلناها) * وهو على ما قال الفراء وغيره من الكوفيين محكى - بترك - في موضع نصب بها أي تركنا عليه هذا الكلام بعينه.
وقال آخرون: هو محكي بقول مقدر أي تركنا عليه في الآخرين قولهم سلام على نوح، والمراد أبقينا له دعاء الناس وتسليمهم عليه أمة بعد أمة، وقيل: هذا سلام منه عز وجل لا من الآخرين، ومفعول * (تركنا) * محذوف أي تركنا عليه الثناء الحسن وأبقيناه له فيمن بعده إلى آخر الدهر، ونسب هذا إلى ابن عباس.
99

ومجاهد. وقتادة. والسدي؛ وجملة * (سلام على نوح) * معمول لقول مقدر على ما ذكر الخفاجي أي وقلنا سلام الخ، وقال أبو حيان: مستأنفة سلم الله تعالى عليه عليه السلام ليقتدي بذلك البشر فلا يذكره أحد بسوء، وقرأ عبد الله * (سلاما) * بالنصب على أنه مفعول * (تركنا) * وقوله تعالى: * (في العالمين) * متعلق بالظرف لنيابته عن عامله أو بما تعلق الظرف به. وجوز كونه حالا من الضمير المستتر فيه، وأيا ما كان فهو من تتمة الجملة السابقة وجيء به للدلالة على الاعتناء التام بشأن السلام من حيث أنه أفاد الكلام عليه ثبوته في العالمين من الملائكة والثقلين أو أنه حال كونه في العالمين على نوح. وهذا كما تقول سلام على زيد في جميع الأمكنة وفي جميع الأزمنة. وزعم بعضهم جواز جعله بدلا من قوله تعالى: * (في الآخرين) * ويوشك أن يكون غلطا كما لا يخفى. [بم قوله تعالى:
* (إنا كذلك نجزى المحسنين) *.
* (إنا كذالك نجزي المحسنين) * تعليل لما فعل به مما قصه الله عز وجل بكونه عليه السلام من زمرة المعروفين بالإحسان الراسخين فيه فيكون ما وقع من قبيل مجازاة الإحسان بالإحسان، وإحسانه مجاهدته أعداء الله تعالى بالدعوة إلى دينه والصبر الطويل على أذاهم ونحو ما ذكر وذلك إشارة إلى ما ذكر من الكرامات السنية التي وقعت جزاء له عليه السلام، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبته وبعد منزلته في الفضل والشرف، والكاف متعلقة بما بعدها أي مثل ذلك الجزاء الكاملين في الإحسان لإجزاء أدنى [بم وقوله تعالى:
* (إنه من عبادنا المؤمنين) *.
* (إنه من عبادنا المؤمنين) * تعليل لكونه عليه السلام محسنا المفهوم من الكلام بخلوص عبودتيه وكمال إيمانه، وفيه من الدلالة على جلالة قدرهما ما لا يخفى وإلا فمنصب الرسالة منصب عظيم والرسول لا ينفك عن الخلوص بالعبودية وكمال الايمان فالمقصود بالصفة مدحها نفسها لا مدح موصوفها.
* (ثم أغرقنا الاخرين) *.
* (ثم أغرقنا الآخرين) * أي المغايرين لنوح عليه السلام وأهله وهم كفار قومه أجمعين، وثم للتراخي الذكري إذ بقاؤه عليه السلام ومن معه متأخر عن الإغراق * (وإن من شيعته) * أي ممن شايع نوحا وتابعه في أصول الدين.
* (وإن من شيعته لإبراهيم) *.
* (لابراهيم) * وإن اختلفت فروع شريعتيهما أو ممن شايعه في التصلب في دين الله تعالى ومصابرة المكذبين ونقل هذا عن ابن عباس، وجوز أن يكون بين شريعتيهما اتفاق كلي أو أكثري وللأكثر حكم الكل، ورأيت في بعض الكتب ولا أدري الآن أي كتاب هو أن نوحا عليه السلام لم يرسل إلا بالتوحيد ونحوه من أصول العقائد ولم يرسل بفروع، قيل: وكان بين إبراهيم وبينه عليهما السلام نبيان هود وصالح لا غير، ولعله أريد بالنبي الرسول لا ما هو أعم منه، وهذا بناء على أن ساما كان نبيا وكان بينهما على ما في " جامع الأصول " ألف سنة ومائة واثنتان وأربعون سنة، وقيل ألفان وستمائة وأربعون سنة.
وذهب الفراء إلى أن ضمير * (شيعته) * لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والظاهر ما أشرنا إليه وهو المروي عن ابن عباس. ومجاهد. وقتادة. والسدي، وقلما يقال للمتقدم هو شيعة للمتأخر، ومنه قول الكميت الأصغر بن زيد: وما لي إلا آل أحمد شيعة * وما لي إلا مشعب الحق مشعب
وذكر قصة إبراهيم عليه السلام بعد قصة نوح لأنه كآدم الثالث بالنسبة إلى الأنبياء والمرسلين بعده لأنهم من ذريته إلا لوطا وهو بمنزلة ولده عليهما السلام، ويزيد حسن الإرداف أن نوحا نجاه الله تعالى من الغرق وإبراهيم نجاه الله تعالى من الحرق.
* (إذ جآء ربه بقلب سليم) *.
* (إذ جاء ربه) * منصوب باذكر كما هو المعهود في نظائره، وجوز تعلقه بفعل مقدر يدل عليه قوله تعالى: * (وإن من شيعته) * كأنه قيل: متى شايعه؟ فقيل: شايعه إذ جاء ربه، وقيل: هو متعلق بشيعة لما فيه من معنى المشايعة. ورد بأنه يلزم عمل ما قبل لام الابتداء فيما بعدها وهم لا يجوزون ذلك للصدارة فلا يقال: إن ضاربا لقادم علينا زيدا، وكذا يلزم الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي وهو لا يجوز.
وأجيب بأنه لا مانع من كل إذا كان المعمول ظرفا لتوسعهم فيه * (بقلب سليم) * أي سالم من جميع السلامة من الشرك، والتعميم الذي ذكرناه أولى أو سالم من العلائق الدنيوية بمعنى أنه ليس فيه شيء من محبتها والركون إليها وإلى أهلها، وقيل سليم أي حزين وهو مجاز من السليم بمعنى اللديغ من حية أو عقرب فإن العرب تسميه سليما تفاؤلا بسلامته وصار حقيقة فيه، وما تقدم أنسب بالمقام، والباء قيل للتعدية.
والمراد بمجيئه ربه بقلبه إخلاصه قلبه له تعالى على سبيل الاستعارة التبعية التصريحية، ومبناها تشبيه إخلاصه قلبه له عز وجل بمجيئه إليه تعالى بتحفة في أنه سبب للفوز بالرضا، ويكتفي بامتناع الحقيقة مع كون المقام مقام المدح قرينة، فحاصل معنى التركيب إذ أخلص عليه السلام لله تعالى قلبه السليم من الآفات أو المنقطع عن العلائق أو الحزين المنكسر. وتعقب بأن سلامة القلب عن الآفات لا تكون بدون الإخلاص وكذا الانقطاع عن العلائق لا يكون بدونه. وأجيب بأنهما قد يكونان بدون ذلك
كما في القلوب البله. وفي المطلع معنى مجيئه ربه بقلبه أنه أخلص قلبه لله تعالى وعلم سبحانه ذلك منه كما يعلم الغائب وأحواله بمجيئه وحضوره فضرب المجيء مثلا لذلك اه‍، وجعل في الكلام عليه استعارة تمثيلية بأن تشبه الهيئة المنتزعة من إخلاص إبراهيم عليه السلام قلبه لربه تعالى وعلمه سبحانه ذلك الإخلاص منه موجودا بالهيئة المنتزعة من إخلاص إبراهيم عليه السلام قلبه لربه تعالى وعلمه سبحانه ذلك الإخلاص منه موجودا بالهيئة المنتزعة من المجيء بالغائب بمحضر شخص ومعرفته إياه وعلمه بأحواله ثم يستعار ما يستعار، ولتأدية هذا المعنى عدل عن جاء ربه سليم القلب إلى ما في النظم الجليل، وقيل الباء للملابسة ولعله المتبادر، والمراد بمجيئه ربه حلوله في مقام الامتثال ونحوه، وذكر أن نكتة العدول عما سمعت إلى ما في النظم سلامته من توهم أن الحال منتقلة لما أن الانتقال أغلب حاليها مع أنه أظهر في أن سلامة القلب كانت له عليه السلام قبل المجيء أيضا فليتدبر.
* (إذ قال لابيه وقومه ماذا تعبدون) *.
* (إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون) * بدل من إذ الأولى أو ظرف لجاء أو لسليم أي أي شيء تعبودن؟.
* (أءفكا ءالهة دون الله تريدون) *.
* (أئفكا آلهة دون الله تريدون) * أي أتريدون آلهة من دون الله تعالى إفكا أي للإفك فقدم المفعول به على الفعل للعناية لأن إنكاره أو التقرير به هو المقصود وفيه رعاية الفاصلة أيضا ثم المفعول لأجله لأن الأهم مكافحتهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم.
100

ويجوز أن يكون * (إفكا) * مفعولا به بمعنى أتريدون * (إفكا) * وتكون آلهة بدلا منه بدل كل من كل، وجعلها عين الإفك على المبالغة أو الكلام على تقدير مضاف أي عبادة آلهة وهي صرف للعبادة عن وجهها. وجوز كونه حالا من ضمير تريدون أي أفاكين أو مفعوله أي مأفوكة. وتعقب بأن جعل المصدر حالا لا يطرد إلا مع أما نحو إما علما فعالم.
* (فما ظنكم برب الع‍المين) *.
* (فما ظنكم برب العالمين) * أي أي شيء ظنكم بمن هو حقيق بالعبادة لكونه ربا للعالمين أشككتم فيه حتى تركتم عبادته سبحانه بالكلية أو أعلمتم أي شيء هو حتى جعلتم الأصنام شركاءه سبحانه وتعالى أو أي شيء ظنكم بعقابه عز وجل حتى اجترأتم على الإفك عليه تعالى ولم تحافوا، وكان قومه عليه السلام يعظمون الكواكب المعروفة ويعتقدون السعود والنحوس والخير والشر في العالم منها ويتخذون لكل كوكب منها هيكلا ويجعلون فيها أصناما تناسب ذلك الكوكب بزعمهم ويجعلون عبادتها وتعظيمها ذريعة إلى عبادة تلك الكواكب واستنزال روحانياتها وكانوا يستدلون بأوضاعها على الحوادث الكونية عامة أو خاصة فاتفق إن دنا يوم عيد لهم يخرجون فيه فأرسل ملكهم إلى إبراهيم عليه السلام أن غدا عيدنا فأحضر معنا فاستشعر حصول الفرصة لحصول ما عسى أن يكون سببا لتوحيدهم فأراد أن يعتذر عن الحضور على وجه لا ينكرونه عليه.
* (فنظر نظرة فى النجوم) *.
* (فنظر نظرة في النجوم) * أي فتأمل نوعا من التأمل في أحوالها وهو في نفس الأمر على طرز تأمل الكاملين في خلق السموات والأرض وتفكرهم في ذلك إذ هو اللائق به عليه السلام لكنه أوهمهم أنه تفكر في أحوالها من الاتصال والتقابل ونحوهما من الأوضاع التي تدل بزعمهم على الحوادث ليرتب عليه ما يتوصل به إلى غرضه الذي يكون وسيلة إلى إنقاذهم مما هم فيه، والظاهر بعد اعتبار الإيهام أنه إيهام التفكر في أحكام طالع ولادته عليه السلام وما يدل عليه بزعمهم ما تجدد له من الأوضاع في ذلك الوقت، وهذا من معاريض الأفعال نظير ما وقع في قصة يوسف عليه السلام من تفتيش أوعية إخوته بني علاته قبل وعاء شقيقه فإن المفتش بدأ بأوعيتهم مع علمه أن الصاع ليس فيها وأخر تفتيش وعاء أخيه مع علمه بأنه فيها تعريضا بأنه لا يعرف في أي وعاء هو ونفيا للتهمة عنه لو بدأ بوعاء الأخ.
* (فقال إنى سقيم) *.
* (فقال) * أي لهم * (إني سقيم) * أراد أنه سيسقم ولقد صدق عليه السلام فإن كل إنسان لا بد أن يسقم وكفى باعتلال المزاج أول سريان الموت في البدن سقاما، وقيل أراد مستعد للسقم الآن أو خارج المزاج عن الاعتدال خروجا قل من يخلو عنه أو سقيم القلب لكفركم والقوم توهموا أنه أراد قرب اتصافه بسقم لا يستطيع معه الخروج معهم إلى معيدهم، وهو على ما روى عن سفيان وابن جبير سقم الطاعون فإنهما فسرا * (سقيم) * بمطعون وكان كما قيل أغلب الأسقام عليهم وكانوا شيدي الخوف منه لاعتقادهم العدوى فيه، وهذا وكذا قوله عليه السلام * (بل فعله كبيرهم هذا) * وقوله في زوجته سارة هي أختي من معاريض الأقوال كقول نبينا صلى الله عليه وسلم لمن قال له في طريق الهجرة: ممن الرجل؟ من ماء حيث أراد عليه الصلاة والسلام ذكر مبدأ خلقه ففهم السائل أنه بيان قبيلته وكقول صاحبه الصديق وقد سئل عنه عليه الصلاة والسلام في ذاك أيضا: هو هاد يهديني حيث أراد شيئا وفهم السائل آخر ولا يعد ذلك كذبا في الحقيقة.
وتسميته به في بعض الأحاديث الصحيحة بالنظر لما فعم الغير منه لا بالنسبة إلى ما قصده المتكلم وجعله ذنبا في حديث الشفاعة قيل لأنه ينكشف لإبراهيم عليه السلام أنه كان منه خلاف الأولى لا أن كل تعريض هو
101

كذلك فإنه قد يجب والإمام لضيق محرابه ومجاله ينكر الحديث الوارد في ذلك وهو في الصحيحين ويقول: إسناد الكذب إلى راويه أهون من إسناده إلى الخليل عليه السلام، وقد مر الكلام في ذلك، وقيل: كانت له عليه السلام حمى لها نوبة معينة في بعض ساعات الليل فنظر ليعرف هل هي تلك الساعة فإذ هي قد حضرت فقال لهم إني سقيم، وليس شيء من ذلك من المعاريض، ونحوه ما أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: أرسل إليه عليه السلام ملكهم فقال: إن غدا عيدنا فاخرج معنا
فنظر إلى نجم فقال إن ذا النجم لم يطلع قط إلا طلع بسقم لي.
وأنت تعلم أن النظر المعدي بفي بمعنى التأمل والتفكر والنظر المشار إليه لا يحتاج إلى تفكر، وعن أبي مسلم أن المعنى نظر وتفكر في النجوم ليستدل بأحوالها على حدوثها وأنها لا تصلح أن تكون آلهة فقال إني سقيم أي سقيم النظر حيث لم يحصل له كمال اليقين انتهى، وهذا لعمري يسلب فيما أرى عن أبي مسلم الإسلام وفيه من الجهل بمقام الأنبياء لا سيما الخليل عليه وعليهم السلام ما يدل على سقم نظره نعوذ بالله تعالى من خذلانه ومكره.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن * (نظر نظرة في النجوم) * كلمة من كلام العرب تقول إذا تفكر الشخص: نظر في النجوم وعليه فليس هو من المعاريض بل قوله: * (إني سقيم) * فقط منها وهذا إن أيده نقل من أهل اللغة حسن جدا، وقيل: المعنى نظر في أحوال النجوم أو في علمها أو في كتبها وأحكامها ليستدل على ما يحدث له والنظر فيها للاستدلال على بعض الأمور ليس بممنوع شرعا إذا كان باعتقاد أن الله تعالى جعلها علامة عليه والممنوع الاستدلال باعتقاد أنها مؤثرة بنفسها والجزم بكلية أحكامها، وقد ذكر الكرماني في مناسكه على ما قال الخفاجي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل أراد السفر في آخر الشهر أتريد أن تخسر صفقتك ويخيب سعيك اصبر حتى يهل الهلال انتهى.
وهذا البحث من أهم المباحث فإنه لم يزل معترك العلماء والفلاسفة الحكماء، وقد وعدنا بتحقيق الحق فيه وبيان كذره وصافيه فنقول وبالله تعالى التوفيق إلى سلوك أقوم طريق.
اعلم أن بعض الناس أنكروا أن يكون للكواكب تأثير في هذا العالم غير وجود الضياء في المواضع التي تطلع عليها الشمس والقمر وعدمه فيما غابا عنه وما جرى هذا المجرى، وهذا خروج عن الإنصاف وسلوك في مسالك الجور والاعتساف، وبعضهم قالوا: إن لها تأثيرا ما يجري على الأمر الطبيعي مثل أن يكون البلد القيل العرض ذا مزاج مائل عن الاعتدال إلى الحر واليبس وكذا مزاج أهله وتكون أجسامهم ضعيفة وألوانهم سود وصفر كالنوبة والحبشة، وأن يكون البلد الكثير العرض ذا مزاج مائل عن الاعتدال إلى البرد والرطوبة وكذا مزاج أهله وتكون أجسامهم عبلة وألوانهم بيض وشعورهم شقر مثل الترك والصقالبة، ومثل نمو النبات واشتداده ونضج ثمره بالشمس والقمر ونحو ذلك مما يدرك بالحس، ولا بأس في نسبته إلى الكوكب على معنى أن الله تعالى أودع فيه قوة مؤثرة فاثر بإذن الله تعالى كما ينسب الإحراق إلى النار والري إلى الماء مثلا على معنى ذلك وهو مذهب السلف على ما قال الشيخ إبراهيم الكوراني في جميع الأسباب والمسببات وصرح به بعض الماتريدية، أو على معنى أن الله تعالى أودع فيه قوة مؤثرة فاثر بإذن الله تعالى كما ينسب الإحراق إلى النار والري إلى الماء مثلا على معنى ذلك وهو مذهب السلف على ما قال الشيخ إبراهيم الكوراني في جميع الأسباب والمسببات وصرح به بعض الماتريدية، أو على معنى أن الله تعالى خلق ذلك عنده وليس فهي قوة مؤثرة مطلقا على ما يقوله الأشاعرة في كل سبب ومسبب فلا فرق بين الماء والنار مثلا عندهم في أنه ليس في كل ثوة يترتب عليها ما يترتب وإنما الفرق في أنه جرت عادة الله تعالى بأن يخلق الإحراق دون الري عند النار دون الماء ويخلق الري دون الإحراق عند الماء دون النار وليس للنار والماء مدخل في الأثر من الإحراق والري سوى أن كلا مقارن لخلق الله تعالى الأثر بلا واسطة.
102

وظواهر الأدلة مع الأولين ولا ينافي مذهبهم توحيد الأفعال وأنه عز وجل خالق كل شيء كما حقق في موضعه.
وبعضهم زعم أن لها تأثيرا يعرفه المنجم غير ذلك كالسعادة والنحوسة وطول العمر وقصره وسعة العيش وضيقه إلى غير ذلك مما لا يخفى على من راجع كتب أحكام طوالع المواليد وطوالع السنين والكسوف والخسوف والأعمال ونحوها، وهو مما لا ينبغي أن يعول عليه أو يلتفت إليه فليس له دليل عقلي أو نقلي بل الأدلة قائمة على بطلانه متكفلة بهدم أركانه، والقائلون به بعد اتفاقهم على أن الخير والشر والإعطاء والمنع وما أشبه ذلك يكون في العالم بالكواكب على حسب السعود والنحوس وكونها في البروج المنافرة لها أو الموافقة وحسب نظر بعضها إلى بعض بالتسديس والتربيع والتثليث والمقابلة وحسب كونها في شرفها وهبوطها ووبالها ورجعتها واستقامتها وإقامتها اختلفوا في كثير من الأصول وتكلموا بكلام يضحك منه أرباب العقول، وذلك أنهم اختلفوا في أنه على أي وجه يكون ذلك؟ فزعم قوم منهم أن فعلها بطبائعها، وزعم آخرون أن ذلك ليس فعلا لها لكنها تدل عليه بطبائعها، وزعم آخرون أنها تفعل في البعض بالعرض وفي البعض بالذات، وزعم آخرون أنها تفعل بالاختيار لا بالطبع إلا أن السعد منها لا يختار إلا الخير والنحس لا يختار إلا الشر وهذا مع قولهم إنها قد تتفق على الخير وقد تتفق على الشر مما يتعجب منه، وزعم آخرون أنها لا تفعل بالاختيار بل تدل به وهو كلام لا يعقل معناه.
واختلفوا أيضا فقالت فرقة: من الكواكب ما هو سعد ومنها ما هو نحس وهي تسعد غيرها وتنحسه.
وقالت أخرى: هي في أنفسها طبيعة واحدة وإنما تختلف دلالتها على السعود والنحوس، وهذا قول من يقول منهم إن للفلك طبيعة مخالفة لطبيعة الاستقصات الكائنة الفاسدة وأنها لا حارة ولا باردة ولا يابسة ولا رطبة ولا سعد ولا نحس فيها وإنما يدل بعض أجرامها وبعض أجزائها على الخير والبعض على الشر وارتباط الخير والشر والسعد والنحس بها ارتباط المدلولات بادلتها لا ارتباط المعلولات بعللها وهو أعقل من أصحاب القول بالاقتضاء الطبيعي والعلية وإن كان قوله أيضا عند بعض الأجلة ليس بشيء لأن الدلالة الحسية لا تختلف ولا تتناقض.
واختلفوا أيضا فقالت فرقة تفعل في الأبدان والأنفس جميعا وهو قول بطليموس وأتباعه، وقال الأكثرون: تفعل في الأنفس دون الأبدان، ولعل الخلاف لفظي، واختلف رؤساؤهم بطليموس ودوروسوس وانطيقوس وريمس وغيرهم من علماء الروم والهند وبابل في الحدود وغيرها وتضادوا في المواضع التي يأخذون منها دليلهم، ومن ذلك اختلافهم في أمر سهم السعادة فزعم بطليموس أنه يعلم بأن يؤخذ أبدا العدد الذي يحصل من موضع الشمس إلى موضع القمر ويبتدىء من الطالع فيرصد منه مثل ذلك
العدد على التوالي فمنتهى العدد موضع السهم، وزعم بعضهم أنه يبتدىء من الطالع فيعد مثل ذلك على خلاف التوالي، وزعم بعض الفرس أن سهم السعادة يؤخذ بالليل من القمر إلى الشمس وبالنهار من الشمس إلى القمر، وزعم أهل مصر في الحدود أنها تؤخذ من أرباب البيوت وزعم الكلدانيون أنها تؤخذ من مدبري المثلثات، واختلفوا أيضا فرتبت طائفة البروج المذكرة والمؤنثة من الطالع فعدوا واحدا مذكرا وآخر مؤنثا وصيروا الابتداء بالمذكر، وقسمت طائفة أخرى البروج أربعة أجزاء وجعلوا المذكرة هي التي من الطالع إلى وسط السماء والتي تقابلها من الغارب إلى وتد الأرض وجعلوا الربعين الباقيين مؤنثين، ومما يضحك العقلاء أنهم جعلوا البروج قسمين حار المزاج وبارده وجعلوا الحار منها ذكرا والبارد أنثى وابتدؤا بالحمل فقالوا: هو ذكر حار والذي بعده مؤنث بارد وهكذا إلى آخرها فصارت ستة ذكورا وستة إناثا.
103

وقال بعضهم: الأول ذكر والثلاثة بعده إثاه والخامس ذكر والثلاثة بعده إناث والتاسع ذكر وما بعده إناث فالذكور ثلاثة وبعد كل ذكر إناث ثلاث مخالفة له في الطبيعة، ثم إن هذه القسمة للمذكر والمؤنث ذاتية للبروج ولها قسمة ثانية بالعرض وهي أنهم يبدؤن من الطالع إلى الثاني عشر فيأخذون واحدا ذكرا وآخر أنثى.
وبعضهم يقول هي أربعة أقسام فمن وتد المشرق إلى وتد العاشر ذكر شرقي مجفف سريع، ومن وتد العاشر إلى وتد الغارب مؤنث جنوبي محرق وسط، ومن وتد الغارب إلى وتد الرابع ذكر معتل رطب غربي بطيء، ومن وتد الرابع إلى الطالع مؤنث ذليل مبرد شمالي وسط، وبعض الأوائل منهم لم يقتصر على ذلك بل ابتدأ بالدرجة الأولى من الحمل فقال هي ذكر والدرجة الثانية أنثى وهكذا إلى آخر الحوت، ولبطليموس هذيان آخر فإنه ابتدأ بأول درجة كل برج ذكر فنسب منها إلى تمام اثنتي عشرة درجة ونصف إلى الذكورية ومنه إلى تمام خمس وعشرين درجة إلى الأنوثية ثم قسم باقي البروج إلى قسمين فنسب النصف الأول إلى الذكر والآخر إلى الأنثى وفعل مثل ذلك في كل برج أنثى، ولدوروسوس هذيان فإنه يقسم البروج كل برج ثمانية وخمسين دقيقة ومائة وخمسين دقيقة ثم ينظر إلى الطالع فإن كان برجا ذكرا أعطى القسمة الأولى للذكر ثم الثانية للأثنى إلى أن يأتي على البروج كلها وإن كان أنثى أعطى القسمة الأولى للأنثى ثم الثانية للذكر إلى أن يأتي على آخرها، وما لهم في شيء من ذلك دليل مع أن قولهم ببساطة الفلك يأبى اختلاف أجزائه بالحرارة والبرودة والذكورة والأنوثة، ومثل هذيانهم في قسمة الأجزاء الفلكية إلى ما ذكر قسمتهم الكواكب إلى ذلك فزعموا أن القمر والزهرة مؤنثان وأن الشمس وزحل والمشتري والمريخ مذكرة وإن عطارد ذكر أنثى وإن سائر الكواكب تذكر وتؤنث بسبب الأشكال التي تكون لها بالقياس إلى الشمس وذلك أنها إذا كانت مشرقة متقدمة على الشمس فهي مذكرة وإن كانت مغربة تابعة كانت مؤنثة وإن ذلك يكون لها بالقياس إلى أشكالها من الأفق، وذلك أنها إذا كانت في الأشكال التي من المشرق إلى وسط السماء مما تحت الأرض فهي مذكرة وإذا كانت في الربعين الباقيين فهي مؤنثة، ويلزم عليه انقلاب المذكر مؤنثا والمؤنث مذكرا.
وأجاب بعضهم عن هذا الهذيان أنه لا مانع من اتصاف شيء بأمر بالقياس إلى شيء وبضده بالقياس إلى آخر وهو في نفسه غير متصف بشيء منهما كالأدكن فإنه يقال فيه أبيض بالقياس إلى الأسود وأسود بالقياس إلى الأبيض وهو في نفسه لا أسود ولا أبيض فكذا الكواكب يقال إنها ذكران وإناث بالقياس إلى الأشكال أعني الجهات والجهات إلى الرياح كالصبا والدبور والرياح إلى الكيفيات لا أنها ذكران وإناث في أنفسها، وهو تلبيس فإن الأدكن فيه شائبة بياض وسواد فمقتضى التشبيه يلزم أن يكون في الكوكب شائبة ذكورة وأنوثة، وأيضا الظاهر أن الانقسام المذكور بحسب الطبيعة والتأثير والتأثر ولا يكاد بعرف انقلاب الحقيقة والطبيعة بحسب الموضع والقرب والبعد، ومنه يعلم فساد ما قالوا: إن القمر من أولى ما يهل إلى وقت انتصافه الأول في الضوء يكون فاعلا للرطوبة خاصة ومن ذلك إلى وقت الامتلاء يكون فاعلا للحرارة ومنه إلى وقت الانتصاف الثاني في الضوء يكون فاعلا لليبس ومن ذلك إلى وقت خفائه يكون فاعلا للبرودة وقاسوا ذلك على تأثيرات الشمس في الفصول والفرق مثل الشمس ظاهر، ويلزم عليه كون الشهر الواحد ذا فصول والحس يدفعه، وأيضا كلامهم هذا يخالف ما قالوه من أن قوة القمر الترطيب لقرب فلكه من الأرض وقبوله للبخارات الرطبة التي ترتفع منها إليه، ثم إن هذا الوقل باطل في نفسه لما أنه يلزم عليه ازدياد رطوبة القمر
104

في كل يوم لو سلم تصاعد البخارات الرطبة إليه وتأثره منها، وكذا القول بأن قوة زحل أن يبرد ويجفف تجفيفا يسيرا لبعده عن حرارة الشمس والبخارات الرطبة، وأن قوة المريخ مجففة محرقة لمشاكلة لونه لون النار ولقربه من الشمس، وكوكب الدب الأكبر كالمريخ، وأن عطاردا معتدل في التجفيف والترطيب لأنه لا يبعد عن الشمس بعدا كثيرا ولا وضعه فوق كرة القمر. ومن العجائب استدلال فضلائهم على اختلاف طبائع الكواكب باختلاف ألوانها حيث قالوا: لما كان لون زحل الغبرة والكمودة حكما بأنه على طبع السوداء وهو البرد واليبس فإن لها من الألوان الغبرة، ولما كان لون المريخ كلون النار قلنا طبعه حار يابس والحرارة واليبس في الشمس ظاهرتان، ولما كان لون الزهرة كالمركب من البياض والصفرة والبياض أظهر فيها قلنا طبعها البرودة والرطوبة كالبلغم، ولما كان صفرة المشتري أكثر مما في الزهرة كانت سخونته أكثر من سخونة الزهرة وكان في غاية الاعتدال، وأما القمر فهو أبيض وفيه كمودة فيدل بياضه على البرودة. / جسم]
وأما عطارد فتختلف ألوانه فربما رأيناه أخضر وربما رأيناه أغبر وربما رأيناه على خلاف هذين اللونين وذلك في أوقات مختلفة مع كونه من الأفق على ارتفاع واحد فلا جرم يكون له طبائع مختلفة إلا أنا لما وجدناه في الأغلب أغبر كالأرض قلنا هو مثلها في الطبع، ويرد عليه أن المشاركة في بعض الصفات لا تقتضي المشاركة في الطبيعة ولا في صفة أخرى، وأن دلالة مجرد اللون على الطبيعة ضعيفة جدا لاشتراك الكثير في لون مع اختلاف الطبائع، وأيضا الزرقة أظهر في الزهرة واختلاف ألوان عطارد لأنا نراه قريب الأفق فيكون بيننا وبينه بخارات مختلفة، وقال أبو معشر: إن القمر لا ينسب لونه إلى البياض إلا من عدم قوة الحس البصري وفيه بعد ما فيه ولو سلم جميع ما قالوه من اختلاف طبائع البروج والكواكب بالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة فقصارى ما يترتب على ذلك ما نجده من اختلاف الأقاليم حرارة وبرودة مثلا واختلاف أشجارها وأثمارها واختلاف أجسام أهلها وألوانهم واختلاف حيواناتها إلى غير ذلك من الاختلافات، ومع هذا نقول: إن الكواكب جزء السبب في ذلك لكن من أين لهم القول بأن جميع الحوادث في هذا العالم خيرها وشرها وصلاحها وفسادها وجميع أشخاصه وأنواعه وصوره وقواه ومدد بقاء أشخاصه وجميع
أحوالها العارضة لها وتكون الجنين ومدة لبثه في بطن أمه وخروجه إلى الدنيا وعمره ورزقه وشقاوته وحسنه وقبحه وأخلاقه وحذقه وبلادته وجهله وعلمه إلى ما لا يحصى من أحواله وانقسام الحيوان إلى الطير وأصنافه وإلى الحيوان البحري وأنواعه والبري وأقسامه واختلاف صور الحيوانات وأفعالها وأخلاقها وثبت العداوة بين أفراد نوع وأفراد نوع آخر منها كالذئاب والغنم وثبوت الصداقة كذلك وكذا ثبوت العداوة أو الصداقة بين أفراد النوع الواحد إلى غير ذلك مما يكون في العالم لا يكون إلا بتأثير الكواكب وهو مما لا يكاد يصح لأن طريق صحته إما الخبر الصادق أو الحس الذي يشترك فيه الناس أو ضرورة العقل أو نظيره وشيء من هذا كله غير موجود، ولا يمكن الأحكاميين أن يدعوا واحدا من الثلاثة الأول وغايتهم أن يدعوا أن التجربة قادتهم إلى ذلك، ولا شك أن أقل ما لا بد منه فيها أن يحصل ذلك الشيء على حالة واحدة مرتين والوضع المعين لمجموع الكواكب لا يتكرر أصلا أو يتكرر بعد ألوف ألوف من السنين وعمر الإنسان الواحد
105

بل عمر البشر لا تفي به. وزعم بعضهم لذلك أن مجموع الاتصالات ونسب الكواكب بعضها إلى بعض غير شرط في التأثير لتتوقف التجربة على تكراره بل يكفي بعض الاتصالات وقد يكفي واحد منها وذلك يتكرر في أزمنة قليلة فتتأتى التجربة، مثلا رداءة السفر وقد نزل القمر برج العقرب يستند إلى هذا النزول بالتجربة فإنا وجدنا تكرر ذلك وترتب الرداءة عليه كل مرة وهذا هو التجربة وكذا يقال في نظائره. وأنت تعلم أن التجارب التي دلت على كذب ما يقولون بوقوع خلافه أضعاف التجارب التي دلت على صدقه، فقد أجمع حذاقهم سنة سبع وثلاثين عام خروج علي كرم الله تعالى وجهه إلى صفين على أنه يقتل ويقهر جيشه فانتصر على أهل الشام ولم يقدروا على التخلص إلا بالحيلة، وإن لم يسلم هذا الإجماع فإجماعهم على مثله في خروجه كرم الله تعالى وجهه لحرب الخوارج حيث كان القمر في العقرب وقوله رضي الله تعالى عنه: نخرج ثقة بالله تعالى وتوكلا عليه سبحانه وتكذيبا لقول المنجم، ونصرته الخارجة عن القياس مما شاع وذاع ولو قيل بتواتره لم يبعد، وأجمعوا سنة ست وستين على غلبة عبيد الله بن زياد وقد سار بنحو من ثمانين ألف مقاتل على المختار بن أبي عبيد فلقيه إبراهيم بن الأشتر صاحب المختار بأرض نصيبين فيما دون سبعة آلاف مقاتل فقتل من عسكره نحوا من ثلاثة وسبعين ألفا وضربه وهو لا يعرفه فقتله ولم يقتل من أصحابه أكثر من مائة.
وأجمعوا يوم أسست بغداد سنة ست وأربعين ومائة على أن طالعها يقضي بأنه لا يموت فيها خليفة وشاع ذلك حتى قال بعض شعراء المنصور مهنئا له: يهنيك منها بلدة تقضي لنا * أن الممات بها عليك حرام
لما قضت أحكام طالع وقتها * أن لا يرى فيها يموت امام
فأول ما ظهر كذب ذلك بقتل الأمين بشارع باب الأنبار فقال بعض الشعراء: كذب المنجم في مقالته التي * كان أدعاها في بنا بغدان
قتل الأمين بها لعمري يقتضي * تكذيبهم في سائر الحسبان
ثم مات فيها جماعة من الخلفاء كالواثق. والمتوكل. والمعتضد. والناصر. وغيرهم إلى أمور أخر لا تكاد تحصى أجمعوا فيها على حكم وتبين كذبهم فيه، على أنه قد يقال لهم: المؤثر في السعود والنحوس ونحوهما هل هو الكوكب وحده أو البرج وحده أو الكوكب بشرط حصوله في البرج؟ فإن قالوا بأحد الأمرين الأولين لزمهم دوام الأثر لدوام المؤثر، وإن قالوا بالثالث لزمهم القول باختلاف البروج في الطبيعة وإلا لاتحدت آثار الكوكب فيها وكلهم مجموعون على أن الفلك بسيط لا تركيب فيه، والتزام التركيب من طبائع مختلفة ينافي قولهم بامتناع الانحلال. وزعم بعضهم أنها تفعل ما تفعل بالاختيار يستدعي إلغاء أمر الاتصال والانفصال والمقارنة والهبوط ونحو ذلك؛ وكون ما ذكر شرطا للاختيار لا يخفى حاله، والقول بأنها تستدعي من حيث طبيعة أشعتها التسخين مثلا يقتضي حرارة وحدة في المزاج يفعل بها شخص غاية الخير والأفعال الحميدة وآخر غاية الشر والأفعال الخبيثة فلا بد لهذا الاختلاف من موجب غير التسخين، وأيضا هم يقولون: جميع الحوادث الكونية مستند إلى الكواكب وحديث التسخين والتبريد واستلزامهما اختلاف أفعال النفس لا يتم به
106

هذا الغرض، وذكر الإمام الرازي عليه الرحمة أن المثبتين لعلم الأحكام والتأثيرات أي من الإسلاميين احتجوا من كتاب الله تعالى بآيات وهي أنواع، الأول: الآيات الدالة على تعظيم الكواكب فمنها قوله تعالى: * (فلا أقسم الخنس * الجواري الكنس) * (التكوير: 15، 16) وأكثر المفسرين على أن المراد هو الكواكب التي تصير راجعة تارة ومستقيمة أخرى، ومنها قوله تعالى: * (فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تلعمون عظيم) * (الواقعة: 75، 76) وقد صرح سبحانه بتعظيم هذا القسم وذلك يدل على غاية جلالة مواقع النجوم ونهاية شرفها، ومنها قوله تعالى: * (والسماء والطارق * وما أدراك ما الطارق * النجم الثاقب) * (الطارق: 1 - 3) قال ابن عباس: الثاقب هو زحل لأنه يثقب بنوره سمك السموات السبع، ومنها قوله تعالى: * (والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) * (الأعراف: 54) فقد بين سبحانه إلهيته بكون هذه الكواكب تحت تدبيره وتسخيره، النوع الثاني: ما يدل على وصفه تعالى بعض الأيام بالنحوسة كقوله سبحانه: * (فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات) * (فصلت: 16) النوع الثالث: الآيات الدالة على أن لها تأثيرا في هذا العالم كقوله تعالى: * (فالمدبرات أمرا) * (النازعات: 5) وقوله تعالى: * () * فالمقسمات أمرا (الذاريات: 4) قال بعضهم المراد هذه الكواكب.
الرابع: الآيات الدالة على أنه تعالى جعل حركات هذه الأجرام وخلقها على وجه ينتفع بها في مصالح هذا العالم كقوله تعالى: * (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق) * (يونس: 10) وقوله تعالى: * (تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا) * (الفرقان: 61).
النوع الخامس: أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه تمسك بعلم النجوم فقال سبحانه: * (فنظر نظرة في النجوم * فقال إني سقيم) * (الصافات: 88، 89) السادس: أنه تعالى قال: * (لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * (غافر: 57) ولا يكون المراد كبر الجثة لأن كل أحد
يعلمه فوجب أن يكون المراد كبر القدر والشرف، وقال سبحانه: * (ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا) * (آل عمران: 191) ولا يجوز أن يكون المراد أنه تعالى خلقها ليستدل بتركيبها وتأليفها على وجود الصانع لأن هذا القدر حاصل في تركيب البعوضة ودلالة حصول الحياة في بنية الحيوانات على وجود الصانع أقوى من دلالة تركيب الأجرام الفلكية عليه لأن الحياة لا يقدر عليها غيره تعالى وجنس التركيب يقدر عليه الغير فلما خصها سبحانه وتعالى بهذا التشريف المستفاد من قوله تعالى: * (ربنا ما خلقت هذا باطلا) * (آل عمران: 191) علمنا أن في تخليقها أسرارا عالية وحكما بالغة تتقاصر عقول البشر عن إدراكها، ويقرب من هذه الآية قوله تعالى: * (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا) * (ص: 27) ولا يمكن أن يكون المراد أنه تعالى خلقها على وجه يمكن الاستدلال بها على وجود الصانع الحكيم لأن كونها دالة على الافتقار إلى الصانع أمر ثابت لها لذاتها لأن كل متحيز محدث وكل محدث مفتقر إلى الفاعل فثبت أن دلالة المتحيزات على وجود الفاعل أمر ثابت لها لذواتها وأعيانها وما كان كذلك لم يكن سبب الفعل والجعل فلم يمكن حمل الآية على هذا الوجه فوجب حملها على الوجه الذي ذكر.
النوع السابع: روي أن عمر بن الخيام كان يقرأ كتاب المجسطي على أستاذه فدخل عليهم واحد من المتفقهة فقال: ما تقرءون؟ فقال عمر: نحن في تفسير آية من كتاب الله تعالى: * (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج) * (ق: 6) فنحن ننظر كيف خلق السماء وكيف بناها وكيف صانها عن الفروج.
الثامن: أن إبراهيم عليه السلام لما استدل على إثبات الصانع تعالى بقوله: * (ربي الذي يحيي ويميت) * (البقرة: 258) قال له نمروذ:
107

أتدعي أنه يحيي ويميت بواسطة الطبائع والعناصر أولا بواسطتها فإن ادعيت الأول فذلك مما لا تجده البتة لأن كل ما يحدث في هذا العالم فهو بواسطة العناصر والحركات الفلكية وإن ادعيت الثاني فمثل هذا الإحياء والإماتة حاصل مني ومن كل أحد وهو المراد بقوله: * (أنا أحيي وأميت) * (البقرة: 258) ثم إن إبراهيم عليه السلام لم ينازع في كون هذه الحوادث السفلية مرتبطة بالحركات الفلكية بل أجاب بأن الله تعالى هو المبدأ لتلك الحركات فيكون الفعل منه سبحانه حقيقة والواحد منا لا يقدر على تحريك الأفلاك على خلاف التحريك الإلهي وهذا هو المراد بقوله: * (فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) * (البقرة: 258) وإذا عرفت نهج الكلام في هذا الباب عرفت أن القرآن العظيم مملوء من تعظيم الأجرام الفلكية وتشريف الكرات الكوكبية، وأما الأخبار فكثيرة منها ما روي أنه عليه الصلاة والسلام نهي عن استقبال الشمس والقمر واستدبارهما عند قضاء الحاجة، ومنها أنه لما مات ولده صلى الله عليه وسلم إبراهيم انكسفت الشمس فقال: الناس إنما انكسفت لموت إبراهيم فقال عليه الصلاة والسلام: " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة " ومنها ما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا ذكر القدر فأمسكوا وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا وإذا ذكر النجوم فأمسكوا " ومن الناس من يروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: " لا تسافروا والقمر في العقرب " ومنهم من يرويه عن علي كرم الله تعالى وجهه وإن كان المحدثون لا يقبلونه، وأما الآثار فكثيرة أيضا فعن علي كرم الله تعالى وجهه أن رجلا أتاه آخر الشهر فقال: أريد الخروج في تجارة فقال: تريد أن يمحق الله تعالى تجارتك استقبل هلال الشهر بالخروج.
وعن عكرمة أن يهوديا منجما قال له ابن عباس: ويحك تخبر الناس بما لا تدري فقال: إن لك ابنا في المكتب يحم غدا ويموت في اليوم العاشر فقال ابن عباس: ومتى تموت أنت؟ قال: على رأس السنة ثم قال له: ولا تموت أنت حتى تعمى فكان كل ذلك. وعن الشعبي قال: " قال أبو الدرداء لقد فارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركنا ولا طائر يطير بجناحيه إلا ونحن ندعي فيه علما " وليست الكواكب موكلة بالفساد والصلاح ولكن فيها دليل بعض الحوادث عرف ذلك بالتجربة، وجاء في الآثار أن أول من أعطى هذا العلم آدم عليه السلام وذلك أنه عاش حتى أدرك من ذريته أربعين ألف أهل بيت وتفرقوا عنه في الأرض وكان يغتم لخفاء خبرهم فأكرمه الله تعالى بهذا العلم فكان إذا أراد أن يعرف حال أحدهم نظر في النجوم فعرفه.
وعن ميمون بن مهران أنه قال: إياكم والتكذيب بالنجوم فإنه من علم النبوة، وروي عن الشافعي أنه كان عالما بالنجوم، وجاء لبعض جيرانه ولد فحكم له بأن هذا الولد ينبغي أن يكون على عضوه الفلاني خال صفته كذا وكذا فوجد الأمر كما قال، وروى ابن إسحاق أن المنجمين أخبروا فرعون أنه سيجىء ولد من بني إسرائيل يكون هلاكه على يده. وكذا كان كما قص الله تعالى: * (يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم) * (القصص: 4) وأما المعقول فهو أن هذا العلم ما خلت عنه ملة من الملل ولا أمة من الأمم ولم يزالوا مشتغلين به معولين عليه في معرفة المصالح، ولو كان فاسدا بالكلية لاستحال إطباق أهل المشرق والمغرب من أول بناء العالم إلى آخره عليه، والتجارب في هذا الباب أكثر من أن تحصى اه‍ كلامه.
ولعمري لقد نثر الكنانة ونفض الجعبة واستفرغ الوسع وبذل الجهد وروج وبهرج وقعقع وفرقع ومن غير
108

طحن جعجع وجمع بين ما يعلم بالضرورة أنه كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه وما يعلم بالضرورة أنه خطأ في تأويل كلام الله تعالى ومعرفة مراده سبحانه، ولا يروج ما ذكره إلا على مفرط في الجهل أو مقلد لأهل الباطل من المنجمين * (وإن أردت الإيضاح وأحببت الاتضاح) * فاسمع لما نقول: ما ذكره من الاستدلالات أو هي من بيوت العناكب وأشبه شيء بنار الحباحب؛ فأما الاستدلال بقوله تعالى: * (فلا أقسم بالخنس * الجواري الكنس) * (التكوير: 15، 16) ففيه أنا لا نسلم أن هناك قسما بالنجوم فقد روي عن ابن مسعود أن المراد بالخنس بقر الوحش وهي رواية عن ابن عباس واختاره ابن جبير، وحكى الماوردي أنها الملائكة، وإذا سلم ذلك بناء على أنه الذي ذهب إليه الجمهور فأي دلالة فيه على التأثير وقد أقسم سبحانه بالليل والنهار والضحى ومكة والوالد وما ولد والفجر وليال عشر والشفع والوتر والسماء والأرض واليوم الموعود وشاهد ومشهود والمرسلات والعاصفات والناشرات والفارقات والنازعات والناشطات والسابحات والسابقات والتين والزيتون وطور سينين إلى غير ذلك فلو كان الإفسام بشيء دليلا على تأثيره لزم أن يكون جميع ما أقسم به تعالى مؤثرا وهم لا يقولون به وإن لم يكن دليلا فالاستدلال به
باطل، ومثله في ذلك الاستدلال بقوله تعالى: * (فلا أقسم بمواقع النجوم) * (الواقعة: 75) وقد فسر غير واحد مواقع النجوم بمنازل القرآن ونجومه التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في مدة ثلاث وعشرين سنة، وكذا الاستدلال بقوله سبحانه وتعالى: * (والسماء والطارق) * (الطارق: 1).
وأما قوله تعالى: * (فالمدبرات أمرا) * (النازعات: 5) فلم يقل أحد من الصحابة والتابعين وعلماء التفسير أنه إقسام بالنجوم فهذا ابن عباس. وعطاء. وعبد الرحمن بن سابط. وابن قتيبة. وغيرهم قالوا: إن المراد بالمدبرات أمرا الملائكة حتى قال ابن عطية: لا أحفظ خلافا في ذلك، وكذلك * (المقسمات أمرا) * (الذاريات: 4) فتفسيرهما بالنجوم تفسير المنجمين ومن سلك سبيلهم وهو تفسير بالرأي والعياذ بالله تعالى، وأما وصفه تعالى بعض الأيام بالنحوسة كما في الآية التي ذكرها فليس ذلك لتأثير الكواكب ونحوستها بحسب ما يزعم المنجم بل لأن الله تعالى عذب أعداءه فيها فهي أيام مشائيم على الأعداء فوصف تلك الأيام بنحسات كوصف يوم القيامة بأنه عسير على الكافرين.
وكذا يقال في قوله تعالى: * (في يوم نحس مستمر) * (القمر: 19) وليس * (مستمر) * فيه صفة * (يوم) * بل هو صفة * (نحس) * أي نحس دائم لا يقلع عنهم كما تقلع مصائب الدنيا عن أهلها، والقول بأنه صفة * (يوم) * وأن المراد به يوم أربعاء آخر الشهر وأنه نحس أبدا غلط ولا يكاد المنجم يزعم نحوسة يوم أربعاء آخر الشهر ولو شهر صفر أبدا بل كثيرا ما يحكم بغاية سعده حسبما تقتضيه الأوضاع الفلكية فيه بزعمه.
وأما استدلاله بالآيات الدالة على أنه سبحانه وضع حركات هذه الأجرام على وجه ينتفع بها في مصالح هذا العالم فمن الطرائف إذ الأليق لو صح زعم المنجم أن يذكر في الآية ما تقتضيه النجوم من السعد والنحس وتعطيه من السعادة والشقاوة وتهبه من الأعمار والأرزاق والعلوم والمعارف وسائر ما في العالم من الخير والشر فإن العبرة بذلك أعظم من العبرة بمجرد الضياء والنور ومعرفة عدد السنين والحساب، وأما ما ذكره عن إبراهيم عليه السلام من أنه تمسك بعلم النجوم حين قال: * (إني سقيم) * فسقيم جيدا وقد سمعت ما قيل في الآية، ولا ينبغي أن يظن بإمام الحنفاء وشيخ الأنبياء وخليل رب الأرض والسماء أنه كان يتعاطى علم النجوم ويأخذ منه أحكام الحوادث ولو فتح هذا الباب على الأنبياء عليهم السلام لاحتمل أن يكون جميع أخبارهم عن المستقبلات من
109

أوضاع النجوم لا من الوحي وهو كما ترى، وأما الاستدلال بقوله تعالى: * (لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس) * (غافر: 57) وإن المراد به كبر القدر والشرف لا كبر الجثة ففي غاية الفساد فإن المراد من الخلق ههنا الفعل لا المفعول، والآية للدلالة على المعاد أي إن الذي خلق السموات والأرض وخلقهما أكبر من خلقكم كيف يعجزه أن يعيدكم بعد الموت، ونظيرها قوله تعالى: * (أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم) * (يس: 81) وأين هذا من بحث أحكام النجوم وتأثيراتها، ومثل هذا الاستدلال بقوله تعالى: * (ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا) * (آل عمران: 191) فإن خلق السموات والأرض من أعظم الأدلة على وجود فاطرهما وكمال قدرته وحكمته وعلمه وانفراده بالربوبية ومن سوى بينهما وبين البقة فقد كابر، ولذا ترى الأشياء الضعيفة كالبعوضة والذباب والعنكبوت إنما تذكر في سياق ضرب الأمثال مبالغة في الاحتقار والضعف ولا تذكر في سياق الاستدلال على عظمة ذي الجلال جل شأنه، على أن الآية لو دلت على أن للكواكب تأثيرا لدلت على أن للأرض تأثيرا أيضا كالكواكب وهم لم يقولوا به، وما ذكره بعد من أن دلالة حصول الحياة في أبدان الحيوانات أقوى من دلالة السموات والأرض إلى آخر ما قال في حيز المنع، ونظير ذلك الاستدلال بقوله تعالى: * (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا) * (ص: 27) فإنه لا يدل أيضا على أن للكواكب تأثيرا، وغاية ما تدل عليه هذه الآية ونظائرها أن تلك المخلوقات فيها حكم ومصالح وليست باطلة أي خالية عن ذلك، ونحن نقول بما تدل عليه ولكن لا نقول بأن تلك الحكم هي الإسعاد والإشقاء وهبة الأعمار والأرزاق إلى غير ذلك مما يزعمه المنجمون بل هي الآثار الظاهرة في عالم الطبيعة على ما سمعت ونحوها كالدلالة على وجود الصانع وكثير من صفاته جل شأنه التي ينكرها الكفرة ولا مانع من أن يقال خلق الله تعالى كذا لتظهر دلالته على كذا، ولا تتعين العبارة التي ذكرها على أنه لا بأس بها عند تدقيق النظر، ولعل ما قاله من فروع كون الماهيات غير مجعولة والكلام فيه شهير، وأما ما ذكره عن عمر بن الخيام فهو على طرف الثمام، وأما ما ذكره في محاجة إبراهيم عليه السلام وتقرير المناظرة على ما قرره فلم يقل به أحد من المفسرين سلفهم وخلفهم بل قد يقطع بأنه لم يخطر بقلب المشرك المناظر وما هو إلا تفسير بالرأي والتشهي نعوذ بالله تعالى من ذلك، وأما استدلاله بما روي من نهيه عليه الصلاة والسلام عن استقبال الشمس والقمر عند قضاء الحاجة فبعيد عن حاجته بل لا دلالة للنهي المذكور على تأثير الكواكب الذي يزعمونه وإلا لدل النهي عن استقبال الكعبة عند قضاء الحاجة على أن لها تأثيرا، على أن بعض الأجلة قد ذكر أن ذلك النهي لم ينقل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة واحدة لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا متصل ولا مرسل وإنما قال بعض الفقهاء في آداب التخلي ولا يستقبل الشمس والقمر فقيل لأن ذلك أبلغ في التستر، وقيل: لأن نورهما من نوره تعالى، وقيل: لأن اسم الله تعالى مكتوب عليهما.
وأما ما ذكر من حديث كسوف الشمس يوم موت إبراهيم وقوله عليه الصلاة والسلام ما قال فصحيح لكن لا يدل على ما يزعمه المنجمون، وصدر الحديث يدل على أن الشمس والقمر آيتان وليسا بربين ولا إلهين ففيه إشارة إلى نفي التصرف عنهما، وفي قوله عليه الصلاة والسلام لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته قولان، أحدهما: أن موت أحد وحياته لا يكونان سببا لانكسافهما، وثانيهما: أنه لا يحصل عن انكسافهما موت ولا حياة وإنما
110

ذلك تخويف من الله تعالى لعباده أجرى العادة بحصوله في أوقات معلومة بالحساب لطلوع الهلال وإبداره وسراره، فأما سبب كسوف الشمس فتوسط القمر بين جرم الشمس وأبصارنا كسحابة تمر تحتها فإن لم يكن للقمر عرض ستر عنا كل الشمس وإن كان له عرض فبقدر ما يوجبه عرضه، وأما سبب خسوف القمر فهو توسط الأرض بينه وبين الشمس حتى يصير ممنوعا من اكتساب النور من الشمس ويبقى ظلام ظل الأرض المخروط في ممره فقد يقع كله في المخروط وقد يقع بعضه فيه ويبقى بعضه الآخر خارجا إلى آخر ما قرر في موضعه وليس في الشرع ما يأباه والوقوف على وقت الكسوف والخسوف ومقدارهما أمر سهل ولا يلزم من صدق المنجم
في ذلك صدقه فيما يزعم من التأثيرات وما الأخبار بهما إلا كالأخبار بوقت طلوع الشمس في يوم كذا في ساعة كذا وكالأخبار بوقت الهلال والإبدار والسرار، ثم إنا لا ننكر أن الله تعالى يحدث عند الكسوفين من أقضيته وأقداره ما يكون بلاء لقوم ومصيبة لهم ويجعل الكسوف سببا لذلك ولهذا أمر صلى الله عليه وسلم عند الكسوف بالفزع إلى ذكر الله تعالى والصلاة والعتاقة والصدقة لأن هذه الأشياء تكون سببا لدفع موجب الكسف الذي جعله الله تعالى سببا لما جعله فلولا انعقاد سبب التخويف لما أمر عليه الصلاة والسلام بدفع موجبه بهذه العبادات، ولله تعالى في أيام دهره أوقات يحدث فيها ما يشاء من البلاء والنعماء ويقضي من الأسباب بما يدفع موجب تلك الأسباب لمن قامت به أو يقلله أو يخففه فمن فرغ إلى تلك الأسباب أو بعضها اندفع عنه الشر الذي جعل الله تعالى الكسوف سببا له أو بعضه، ولهذا قل ما يسلم أطراف الأرض حيث يخفى الإيمان وما جاءت به الرسل فيها من شر عظيم يحصل بسبب الكسوف ويسلم منه الأماكن التي يظهر فيها نور النبوة والقيام بما جاءت به الرسل أو يقل فيها جدا.
وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم لما كسفت الشمس في عهده قام فزعا مسرعا يجر رداءه ونادى في الناس الصلاة جامعة وخطبهم بتلك الخطبة البليغة وأخبر أنه لم ير كيومه ذلك في الخير والشر وأمرهم عند حصول مثل تلك الحالة بالعتاقة والصدقة والصلاة والتوبة وما ذلك إلا لكونه عليه الصلاة والسلام أعلم الخلق بالله تعالى وبأمره وشأنه وتصريفه أمور مخلوقاته وتدبيره وأنصحهم للأمة وأشفقهم على العباد ولم يبين لهم عليه الصلاة والسلام أسباب الكسوفين وحسابهما لأن الجهل بذلك لا يضر والعلم به لا ينفع نفع العلم بما جاءت به الرسل عليهم السلام. وقد يقال: الأمر بالصلاة عندهما كالأمر بالصلاة عند طلوع الفجر والغروب والزوال مع تضمن ذلك رفع موجبهما الذي جعلهما الله تعالى سببا له، ومن الناس من أنكر أن يكون الكسوفان سببين لشيء من البلاء أصلا وأن سبب حصولهما ليس ما أطال الكلام فيه المنجمون ومر بعضه بل السبب هو تجلي الله تعالى عليهما لما أخرجه ابن ماجه في سننه. والإمام أحمد. والنسائي من حديث النعمان بن بشير قال: " انكسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فخرج فزعا يجر ثوبه حتى أتى المسجد فلم يزل يصلي حتى انجلت ثم قال: إن ناسا يزعمون أن الشمس والقمر لا ينكسفان إلا لموت عظيم من العظماء وليس كذلك إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا تجلى الله تعالى لشيء من خلقه خشع له وأن الأمر بالصلاة لظهور آثار تجلي الجلال في هذين الجرمين العظيمين أو هو كالأمر بالصلاة عند غروب الشمس وطلوع الفجر مثلا وحكمته كحكمته والقائلون بهذا مكابرون للفلاسفة في أشياء لا ينبغي المكابرة فيها ولعلها تضر بالدين وتصير سببا لطعن الملحدين
111

فيكابرون في كون الأفلاك مستديرة والأرض كرية وأن نور القمر مستفاد من ضياء الشمس وأن الكسوف القمري عبارة عن انحاء نور القمر بتوسط الأرض بينه وبين الشمس من حيث أن نوره مقتبس منها وأن الكسوف الشمسي عبارة عن وقوع جرم القمر بين الناظر والشمس عند اجتماعهما في العقدتين على دقيقة واحدة وقولهم بتأثير الأسباب المحسوسة في مسبباتها وإثبات القوى والطبائع والأفعال والانفعالات إلى غير ذلك مما تقوم عليه الأدلة اليقينية ولا تعارضه النصوص الشرعية القطعية، وما ذكروه من الحديث تعقبه حجة الإسلام الغزالي فقال: إن زيادة فإن الله الخ لم يصح نقلها فيجب تكذيب قائلها ولو صحت لكان تأويلها أهون من مكابرة أمور قطعية فكم من ظواهر أولت بالأدلة العقلية التي لم تبلغ في الوضوح إلى هذا الحد وأعظم ما يفرح به الملحدة أن يصرح ناصر الشرع بأن هذا وأمثاله على خلاف الشرع فيسهل عليه إبطال الشرع إن كان شرطه أمثال ذلك اه‍ وليس الأمر في هذه كما قال من عدم الصحة فإن إسنادها لا مطعن فيه، فابن ماجه يروي الحديث بهذه الزيادة عن محمد بن المثنى. وأحمد بن ثابت. وحميد بن الحسن وهم يروونه عن عبد الوهاب عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن النعمان بن بشير وكل هؤلاء ثقات حفاظ، نعم الحديث الخالي عنها رواه بضعة عشر صحابيا منهم علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس. وعائشة. وأسماء أختها. وأبي بن كعب. وجابر بن عبد الله. وسمرة بن جندب. وقبيصة الهلالي. وعبد الله بن عمرو، ومن هنا خاف بعض الأجلة أن تكون مدرجة في الحديث لكنه خلاف الظاهر وحينئذ يقال: إن كسوف الشمس والقمر يوجب لهما ضعف سلطانهما وبهائهما وذلك يوجب لهما من الخشوع والخضوع لرب العالمين وعظمته وجلاله سبحانه ما يكون سببا لتجليه عز وجل لهما، ولا يستنكر أن يكون تجلي الله سبحانه لهما في وقت معين كما يدنو سبحانه من أهل الموقف عشية عرفة وكما ينزل تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا عند مضي نصف الليل فيحدث لهما ذلك التجلي خشوعا آخر ليس هو الكسوف فإنه إنما حدث بالسبب الذي عرفت ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى إذا تجلى لهما انكسفا بل قال فإذا تجلى الله لشيء من خلقه خشع له. وفي رواية الإمام أحمد " إذا بدا الله لشيء من خلقه خشع له " فههنا خشوعان خشوع أوجبه كسوفهما الحادث من وضعهما الخاص وخشوع أوجبه تجليه تعالى لهما لذلك الخشوع الذي أوجبه الكسوف، وهذا توجيه لطيف المنزع يقبله العقل المستقيم والفطرة السليمة إن شاء الله تعالى. وأما استدلاله بحديث ابن مسعود ففيه على ما قيل أن الحديث لو ثبت لكان حجة عليه لا له إذ لو كان علم النجوم حقا لم يأمر صلى الله عليه وسلم بالإمساك عند ذكر النجوم فالظاهر أنه عليه الصلاة والسلام لم يأمر بذلك إلا لأن الخوض في ذلك خوض فيما لا علم للخائض به فتأمل.
وأما حديث النهي عن السفر والقمر في العقرب فصحيح من كلام المنجمين دون رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم، وروايته عن علي كرم الله تعالى وجهه كذب أيضا والمشهور عنه خلاف ذلك كما سمعت في قصة خروجه لقتال الخوارج، وأما ما احتج به من الأثر عن علي كرم الله تعالى وجهه أن رجلا أتاه الخ فلا يعلم ثبوته عنه رضي الله تعالى عنه، والكذابون كثيرا ما ينفقون سلعهم الباطلة بنسبتها إليه أو إلى أهل بيته، ثم لو صح عنه فليس فيه تعرض لثبوت أحكام النجوم بوجه، وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: " اللهم بارك لأمتي في بكورها " ونسبة أول الشهر إليه كنسبة أول النهار إليه، وكان صخر راوي الحديث إذا بعث تجارة له بعثها في
112

أول النهار فأثرى وكثر ماله ولا يبعد أن يكون أول السنة كأول النهار أيضا فللأوائل مزية القوة كما هو مشاهد في الشباب والشيوخة، ولله تعالى تجليات في الأزمنة والأمكنة والأشخاص وليس ذلك من تأثير الكواكب في شيء، ومثل هذا يقال فيما ذكره الكرماني وقد مر، وأما ما ذكره عن اليهودي الذي أخبر ابن عباس رضي الله
تعالى عنه فلا نسلم صحته، وإن سلم ذلك فهو من جنس إخبار الكهان بشيء من المغيبات، وقد أخبر ابن الصياد النبي صلى الله عليه وسلم بما أخبر فقال عليه الصلاة والسلام له " إنما أنت من إخوان الكهان " وعلم مقدمة المعرفة لا يختص بما ذكر المنجمون بل له عدة أسباب يصدق الحكم معها ويكذب منها الكهانة ومنها المنامات ومنها الفأل والزجر وضرب الحصى والخط والكتف والكشف المستند إلى الرياضة وهو كشف جزئي عن بعض الحوادث ويشترك فيه المؤمن والكافر ومنها غير ذلك، وللعمال في البحر والسعاة ونحوهم في البلا علامات يعرفون بها أوقات المطر والصحو والبرد والريح وغيرها وقلما يخطؤون في أخبارهم بل صوابهم في ذلك أكثر من صواب المنجم. / جسم]
وأما ما ذكره من حديث أبي الدرداء فالمحفوظ فيه " توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركنا وما طائر يقلب جناحيه إلا وقد ذكر لنا منه علما " وفيه روايات أخر صحيحة أيضا وكلها ليس فيها وليست الكواكب الخ فهو من أعظم الأدلة على بطلان دعوى المنجمين إذ لم يذكر عليه الصلاة والسلام من أحكام النجوم شيئا البتة وقد علمهم علم كل شيء حتى الخرأة، وأما قوله إنه جاء في الآثار أن أول من أعطى هذا العلم آدم عليه السلام الخ فكذب وافتراء على آدم عليه السلام، وقد عمل هذا الكاذب المفتري بالمثل السائر إذا كذبت فأبعد شاهدك، ونحوه ما روي عن ميمون بن مهران، وأما ما نسب إلى الشافعي فهو بعض من حكاية ذكرها أبو عبد الله الحاكم فيما ألفه في مناقبه والحكايات التي ذكرت عنه في أحكام النجوم ثلاث. احداها قال الحاكم: قرىء على أبي يعلى حمزة بن محمد العلوي وأكثر ظني أني حضرته تنا أبو إسحق إبراهيم بن محمد بن العباس الأزدي في آخرين قالوا ثنا محمد بن أبي يعقوب الجوال الدينوري ثنا عبد الله بن محمد البلوي حدثني خالي عمارة بن زيد قال: كنت صديقا لمحمد بن الحسن فدخلت معه يوما على هارون الرشيد فسأله ثم إني سمعت محمد بن الحسن وهو يقول: إن محمد بن إدريس يزعم أنه للخلافة أهل قال فاستشاط هارون من قوله غضبا ثم قال: على به فلما مثل بين يديه أطرق ساعة ثمرفع رأسه إليه فقال: أيها قال الشافعي: ما أيها يا أمير المؤمنين أنت الداعي وأنا المدعو وأنت السائل وأنا المجيب فذكر حكاية طويلة سأله فيها عن العلوم ومعرفته بها إلى أن قال: كيف علمك بالنجوم؟ قال: أعرف الفلك الدائر والنجم السائر والقطب الثابت والمائي والناري وما كانت العرب تسميه الأنواء ومنازل النيرين والاستقامة والرجوع والنحوس والسعود وهيآتها وطبائعها وما استدل به في بري وبحري وأستدل في أوقات صلاتي وأعرف ما مضي من الأوقات في إمسائي وأصباحي وظعني في أسفاري ثم ساق العلوم على هذا النحو، ومن له علم بالمنقولات يعلم أن هذه الحكاية كذب مختلق وافك مفتري على الشافعي والبلاء فيها من عند محمد بن عبد الله البلوي فإنه كذاب وضاع وهو الذي وضع رحلة الشافعي وذكر فيها مناظرته لأبي يوسف بحضرة الرشيد ولم ير الشافعي أبا يوسف ولا اجتمع به قط وإنما دخل بغداد بعد موته ويشهد بكذبها أنها تدل على أن محمدا وشى بالشافي إلى الرشيد وأراد قتله ومحمد أجل من أن ينسب إليه ذلك
113

وتعظيمه للشافعي ومحبته إياه هو المعروف كتعظيم الشافعي له وثنائه عليه، وفيها شواهد أخر على الكذب يعرفها العالم بالمنقول إذا اطلع عليها كلها، وثانيتها وهي التي أخذت منها ما ذكرها الإمام، قال الحاكم: أخبرنا أبو الوليد الفقيه قال حدثت عن الحسن بن سفيان عن حرملة: قال: كان الشافعي يديم النظر في كتب النجوم وكان له صديق وعنده جارية قد حبلت فقال: إنها تلد إلى سبعة وعشرين يوما ويكون في فخذ الولد الأيسر خال أسود ويعيش أربعة وعشرين يوما ثم يموت فكان الأمر كما قال فاحرق بعد ذلك تلك الكتب وما عاود النظر في شيء منها، وهذا الإسناد رجاله ثقات لكن الشأن فيمن حدث أبا الوليد عن الحسن بن سفيان أو فيمن حدث الحسن عن حرملة، ويدل على كذب الحكاية أنها لو صحت لوجب أن تثنى الخناصر على هذا العلم وتشد به الأيدي لا أن تحرق كتبه ولا يعاود النظر في شيء منها، وإن الطالع عند المنجمين طالعان طالع مسقط النطفة وهو الطالع الأصلي الذي يزعمون دلالته على وقت الولادة والحكاية لم تتضمن أن الشافعي نظر فيه ولو كان لتضمنته وطالع الولادة وإخبار الشافعي قبلها ضرورة أنه قال: إنها تلد إلى سبعة وعشرين يوما، وثالثتها قال الحاكم: أنبأني عبد الرحمن بن الحسن القاضي أن زكريا بن يحيى الساجي حدثهم قال أخبرني أحمد بن محمد بن بنت الشافعي قال سمعت أبي يقول: كان الشافعي وهو حدث ينظر في النجوم وما نظر في شيء إلا فاق فيه فجلس يوما وامرأة تلد فحسب فقال: تلد جارية عوراء على فرجها خال أسود وتموت إلى كذا وكذا فولدت فكان كما قال فجعل على نفسه أن لا ينظر فيه أبدا، وأمر هذه الحكاية كالتي قبلها فإن ابن بنت الشافعي لم يلق الشافعي ولارآه والشأن فيمن حدث بها عنه، وأيضا طالع مسقط النطفة لم يؤخذ والخبر قبل تحقق طالع الولادة، ثم إن تحقق هذه الحكاية إن كان قبل تحقق الحكاية التي قبلها لم تكد تحقق وإن كان تحقق تلك قبل لم تكد هذه تحقق كما لا يخفى على المنصف، والذي صح عن الشافعي في أمر النجوم أنه كان يعرف ما كانت العرب تعرفه من علم المنازل والاهتداء بالنجوم في الطرقات وأما غير ذلك من الأحكام التي زعمها المنجمون فلا، وكان رضي الله تعالى عنه شديد الإنكار على المتكلمين مزريا بهم حكمه فيهم أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في القبائل فما تراه يرى في المنجمين الذين شاع هذيانهم وقبح عند ذوي العقول السليمة شأنهم، نعم كان له رضي الله تعالى عنه اليد الطولي في علم الفراسة وقد خرج إلى اليمن لجمع كتبه فجمع منها ما جمع وله فيها حكايات يقضي منها العجب، ولعل إخباره بأمر المولود لو صح من ذلك العلم والناقل لجهله أو لأمر آخر أسنده للنظر في أحكام النجوم وقال ما قال: وأما ما ذكر عن ابن إسحق من أن فرعون كان يقتل أبناء بني إسرائيل لأخبار المنجمين إياه بأنه سيولد لهم مولود يكون هلاكه على يده فهو كما قال بعض الأجلة من أخبار أهل الكتاب ومخالف لروايات أكثر المفسرين فإنهم أحالوا ذلك على إخبار الكهان. وروي بعضهم أن قومه أخبروه بأن بني إسرائيل يزعمون أنه يولد منهم مولود يكون هلاكه على يديه وفي أخبار الكهان ما هو أعجب من ذلك. ومنها خبرهم بظهور خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم وانتشار أمره، ونحن لا ننكر علم تقدمة المعرفة بأسباب مفضية إلى مثل ذلك يختلف قوى الناس في إدراكها وتحصيلها وإنما كلامنا مع المنجمين في أصول علم الأحكام وبيان فسادها وكذب أكثر الأحكام التي يسندونها إليها، وأما ما ذكره في الاستدلال بالمعقول من أنه ما خلت عن هذا العلم ملة من الملل ولا أمة من الأمم وأنهم لم يزالوا مشتغلين
114

به معولين في معرفة المصالح عليه إلى آخر ما قال ففرية من غير مرية، ويا عجبا من دعواه إطباق أهل المشرق والمغرب من أول بناء العالم إلى آخره عليه وهم يقولون إنما أسست أصوله وأوضاعه في زمن هرمس الهرامس يعنون به إدريس عليه السلام وهو بعد بناء العالم بكثير، وأيضا قد رده كثير من الفلاسفة وجمع غفير من أساطين الإسلام حتى أنه قد ألف ما يزيده على مائة مصنف في رده وأبطاله، وقد قال أبو نصر الفارابي: اعلم أنك لو قلبت أوضاع المنجمين فجعلت الحار باردا والبارد حارا والسعد نحسا والنحس سعدا والذكر أنثى والأنثى ذكرا ثم حكمت لكانت أحكامك من جنس أحكامهم تصيب تارة وتخطىء تارات، وقد زيف أمرهم ابن سينا في كتابيه الشفاء والنجاة، وكذا أبو البركات البغدادي في كتاب " التعبير له "، هذا ما اختاره بعض المحققين في الرد على المنجمين وأعود فأقول: الذي أراه في هذا المقام ويترجح عندي من كلام العلماء الأعلام أن الله عز وجل لم يخلق شيئا باطلا خاليا عن حكمة ومنفعة بل خلق الأشياء علويها وسفليها جليلها ودنيها مشتملة على حكم لا تحصى ومنافع لا تستقصى وإن تفاوتت في أفرادها قلة وكثرة وخص كلا منها بخاصة لا توجد في غيرها مع اشتراك الكل في الدلالة على وجوده تعالى ووحدته وعلمه وقدرته: / جسم]
ولله في كل تحريكة * وتسكينة أبدا شاهد
وفي كل شيء له آية * تدل على أنه واحد
فالاجرام العلوية مشتركة في هذه الدلالة مختص كل منها بخاصة وشأن الكواكب في خواصها وتأثيراتها كشأن النباتات والمعدنيات والحيوانيات في خواصها وتأثيراتها، فمنها ما خاصته في نفسه غير متوقفة على ضم شيء آخر إليه، ومنها ما خاصته متوقفة على ضم شيء آخر، ومنها ما إذا ضم إليه شيء أسقط خاصته، وأبطل منفعته ومنها ما يعقل وجه تأثيره ومنها ما لا يعقل، ومنها ما يؤثر في مكان دون مكان وزمان دون زمان، ومنها ما يؤثر في جميع الأزمنة والأمكنة إلى غير ذلك من الأحوال، وكونها زينة للسماء لا يستدعي نفي أنه يكون فيها منفعة أخرى على حد ما في الأرض فقد قال سبحانه: * (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها) * (الكهف: 7) مع اشتمال الأزهار وغيرها على ما تعلم وما لا تعلم من المنافع، وكذلك كونها علامات يهتدي بها في ظلمات البر والبحر وكونها رجوما للشياطين. ولا أقول ببساطة الأفلاك ولا ببساطة الكواكب ولا بانحصارها فيما يشاهد ببصر أو رصد ولا بذكورة بعض وأنوثة آخر إلى كثير مما يزعمه المنجمون، وأقول: إن الله تعالى أودع في بعضها تأثيرا حسبما أودع في أزهار الأرض ونحوها وانها لا تؤثر إلا باذنه عز وجل كما هو مذهب السلف في سائر الأسباب العادية وإن شئتفقل كما قال الأشاعرة فيها، وأنه لا يبعد أن يكون بعضها علامات لاحداثه تعالى أمورا لا بواسطتها في أحد العاملين العلوي والسفلي يعرفها من يوقفه الله تعالى عليها من ملائكته وخواص عباده، وارتباط كثير من السفليات بالعلويات مما قال به الأكابر ولا ينكره إلا مكابر، ولا أنسب أثرا من الآثار إلى كوكب بخصوصه على القطع لاحتمال شركة كوكب أو أمر آخر، نعم الظاهر يقتضي كثرة مدخلية بعض الكواكب في بعض الآثار كالقمر في مد البحار وجزرها فإن منها ما يأخذ في الازدياد حين يفارق القمر الشمس إلى وقت الامتلاء ثم إنه يأخذ في الانتقاص ولا يزال نقصانه يستمر بحسب نقصان القمر إلى المحاق ومنها ما يحصل فيه المد في كل يوم وليلة مع طلوع القمر وغروبه كبحر فارس وبحر الهند وبحر الصين، وكيفيته إنه إذا بلغ
115

القمر مشرقا من مشارق البحر ابتدأ البحر بالمد ولا يزال كذلك إلى أن يصير القمر في وسط سماء ذلك الموضع فإذا زال عن مغرب ذلك الموضع ابتدأ المد من تحت الأرض ولا يزال زائدا إلى أن يصل القمر إلى وتد الأرض فحينئذ ينتهي المد منتهاه ثم يبتدىء الجزر ثانيا ويرجع الماء كما كان، ومثل المد والجزر بحرانات الأمراض فإنها بحسب زيادة القمر ونقصانه على معنى كثرة مدخلية ذلك ظاهرا فيها إلى أمور كثيرة، ولا أقول: إن لكوكب تأثيرا في السعادة والشقاوة ونحوهما، ولا يبعد أن يكون كوكب أو كواكب باعتبار بعض الأحوال علامة لنحو ذلك يعرفها بعض الخواص، ولا وثوق بما قاله الأحكاميون وكل ما يقولونه ظن وتخمين لا دليل لهم عليه وهم فيما أسسوا عليه أحكامهم متناقضون وفي المذاهب مختلفون فللبابليين مذهب وللفرس مذهب ولأهل الهند مذهب ولأهل الصين مذهب وقد رد بعضهم على بعض وشهد بعض على بعض بفساد أصولهم ومبني أحكامهم فقد كان أوائلهم من الأقدمين وكبار رصادهم من عهد بطليموس وطيمو حارس ومانالارس قد حكموا حكما في الكواكب واتفقوا على صحته وأقام الناس على تقليدهم وبناء الأمر على ما قالوه أكثر من سبعمائة سنة فجاء من بعدهم خالد بن عبد الملك المروزي. وحسن صاحب الزيج المأموني. ومحمد بن الجهم. ويحيى بن أبي منصور فامتحنوا ما قالوا فوجدوهم غالطين وأجمعوا على غلطهم وسموا رصدهم الرصد الممتحن.
ثم حدثت ويحيى بن أبي منصور فامتحنوا ما قالوا فوجدوهم غالطين وأجمعوا على غلطهم وسموا رصدهم الرصد الممتحن.
ثم حدثت بعدهم بنحو ستين سنة طائفة أخرى زعيمهم أبو معشر محمد بن جعفر فرد عليهم وبين خطاهم كما ذكره أبو سعيد شاذان المنجم في كتاب " أسرار النجوم " له وفيه قلت لأبي معشر الذنب بارد يابس فلم قلتم إنه يدل على التأنيث؟ فقال: هكذا قالوا قلت: فقد قالوا انه ليس بصادق اليبس لكنه بارد عفن ملتوي كل الأعراض الغائية توهم لا يكون شيء منها يقينيا وإنما يكون توهم أقوى من توهم.
ومن تأمل أحوال القوم علم أن ما معهم تفرس يصيبون معه ويخطؤون، ثم حدثت بعدهم طائفة أخرى بنحو سبعين سنة منهم أبو الحسين عبد الرحمن بن عمر المعروف بالصوفي فرد على من قبله وغلطه وألف كتابا بين فيه من الأغلاط ما بين وحمله إلى عضد الدولة ابن بويه فاستحسنه وأجزل ثوابه، ثم جاءت بعد نحو ثلاثين سنة طائفة أخرى منهم كوشيار الديلمي فألف المجمل في الأحكام وجهل فيه من يحتج للأحكام من الأحكاميين، وقال عن صناعة التنجيم: هي صناعة غير مبرهنة وللخواطر والظنون فيها مجال إلى أن قال: ومن المنفردين بعلم الأحكام من يأتي على جزئياته بحجج على سبيل النظر والجدل فيظن أنها براهيم لجهله بطريق البرهان وطبيعته، ثم حدثت طائفة أخرى منهم منجم الحاكم بالديار المصرية المعروف بالفكري فوضع هو وأصحابه رصدا آخر سموه الرصد الحاكمي فخالفوا فيه أصحاب الرصد الممتحن
وبنوا أمر الأحكام عليه.
ثم حدثت طائفة أخرى منهم أبو الريحان البيروتي مؤلف كتاب " التفهيم إلى صناعة التنجيم " وكان بعد كوشيار بنحو أربعين سنة فخالف من تقدمه وأتي من مناقضاتهم والرد عليهم بما هو دال على فساد صناعتهم وختم كتابه بقوله في الخبء والضمير ما أكثر افتضاح المنجمين فيه وما أكثر إصابة الزاجرين بما يستعمل من الكلام وقت السؤال ويرونه باديا من الآثار والأفعال على السائل إلى آخر ما قال، ثم حدثت طائفة أخرى منهم أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي وكان بعد البيروتي بنحو ثمانين عاما وكان رأسا في الصناعة ومع هذا اعترف بأن قول المنجمين هذيان، ثم حدثت طائفة أخرى بالمغرب منهم أبو اسحق الزر قال
116

وأصحابه وكان بعد أبي الصلت بنحو مائة سنة فخالف الأوائل والأواخر في الصناعتين الرصدية والأحكامية. وآخرما نعلم حدوثه زيج لالنت والقسيني وفيه من المخالفة لما قبله من الإزياح ما فيه. وقد ذكر فيه تقويم هرشل ومقدار حركته وهو كوكب سيار ظفر به هرشل أحد فلاسفة الإفرنج وسماه باسمه ولم يظفر به أحد قبله، وهذا الزيج أضبط الأزياج فيما يزعم المنجمون اليوم، والافرنج وسماه باسمه ولم يظفر به أحد قبله، وهذا الزيج أضبط الأزياج فيما يزعم المنجمون اليوم، والإفرنج على مهارة كثير منهم بعلم الرصد لا يقولون بشيء مما يقول به الأحكاميون الأوائل والأواخر ويسخرون منهم، وقد ذكر من يوثق به وجوها تدل على فساد ما بأيديهم من العلم وأنه لا يوثق به، الأول ان معرفة جميع المؤثرات الفلكية مما لا تتأتى، اما أولا فلأنه لا سبيل إلى معرفة الكواكب إلا بواسطة القوى الباصرة وإذا كان المرئى صغيرا أو في غاية البعد يتعذر رؤيته فإن أصغر الكواكب التي في فلك الثوابت وهو الذي به قوة البصر مثل كرة الأرض بضعة عشر مرة وكرة الأرض أعظم من كرة عطارد كذا مرة فلو قدرنا أنه حصل في الفلك الأعظم كواكب كثيرة كل منها كعطارد حجما فكيف ترى، ونفي هذا الاحتمال لا بدله من دليل ومع قيامه لا يحصل الجزم بمعرفة جميع المؤثرات، وان قالوا: جاز ذلك إلا أن آثار هذا الكوكب لصغره ضعيفة فلا تصل إلى هذا العالم، قلنا: صغر الجرم لا يوجب ضعف الأثر فقد أثبتم لعطارد آثارا قوية مع صغره بالنسبة إلى سائر السيارات بل أثبتم للرأس والذنب وسهم السعادة وسهم الغيب آثارا قوية وهي أمور وهمية، وأما ثانيا فالمرصود من الكواكب المرئية أقل قليل بالنسبة إلى غير المرصود فمن أين لهم الوقوف على طبيعة غير المرصود؟ وأما ثالثا فلأنه لم يحصل الوقوف على طبائع جميع المرصود أيضا وقلما تكلموا في معرفة غير الثوابت التي من القدر الأول والثاني، وأما رابعا فآلات الرصد لا تفي بضبط الثواني والثوالث فما فوق ولا شك أن الثانية الواحدة مثل الأرض كذا ألف مرة أو أقلأو أكثر، ومع هذا التفاوت العظيم كيف الوصول إلى الغرض وقد قيل إن الإنسان الشديد الجري بين رفعه رجله ووضعه الأخرى يتحرك جرم الفلك الأقصى ثلاثة آلاف ميل فإذا كان كذلك فكيف ضبط هذه المؤثرات؟ وأما خامسا فبتقدير انهم عرفوا طبائع هذه الكواكب حال بساطتها فهل وقفوا على طبائعها حال امتزاج بعضها ببعض والامتزاجات الحاصلة من طبائع ألف كوكب أو أكثر بحسب الأجزاء الفلكية تبلغ في الكثرة إلى حيث لا يقدر العقل على ضبطها. وأما سادسا فيقال: هب أنا عرفنا تلك الامتزاجات الحاصلة في ذلك الوقت فلا ريب أنه لا يمكننا معرفة الامتزاجات التي كانت حاصلة قبله مع أنا نعلم قطعا ان الاشكال السالفة ربما كانت عائقة ومانعة عن مقتضيات الاشكال الحاصلة في الحال، ولا ريب إنا نساهد أشخاصا كثيرة من النبات والحيوان والإنسان تحدث مقارنة لطالع واحد مع أن كل واحد منها مخالف للآخر في أكثر الأمور، وذلك أن الأحوال السابقة في حق كل واحد تكون مخالفة للأحوال السابقة في حق الآخر وذلك يدل على أنه لا اعتماد على مقتضى طالع الوقت بل لا بد من الإحاطة بالطوالع السالفة وذلك مما لا وقوف عليه فإنه ربما كانت تلك الطوالع دافعة، مقتضيات هذا الطالع الحاضر، وعلى هذا الوجه عول ابن سينا في كتابيه " الشفاء والنجاة " في إبطال هذا العلم، الثاني أن تأثير الكواكب يختلف باختلاف أقدارها فما كان من القدر الأول أثر بوقوعه على الدرجة وان لم تضبط الدقيقة، وما كان من القدر الأخير لم يؤثر إلا بضبط الدقيقة، ولا ريب بجهالة مقادير جميع الكواكب فكيف تضبط الآثار، الثالث فساد أصولهم وتناقض آرائهم واختلافهم
117

اختلافا عظيما من غير دليل ومتى تعارضت الأقوال وتعذر الترجيح فيما بينها لا يعول على شيء منها.
الرابع أن أرضادهم لا تنفك عن نوع خلل وهي مبني أحكامهم، وقد صنف أبو علي بن الهيثم رسالة بليغة في أقسام الخلل الواقع في آلات الرصد وبين أن ذلك ليس في وسع الإنسان دفعه وإزالته وإصابتهم في أوقات الخسوف والكسوف مع ذلك الخلل لا تستدعي إصابتهم في غيرها معه، الخامس أنا نشاهد عالما كثيرا يقتلون في ساعة واحدة في حرب وخلقا كثيرا يغرقون في ساعة واحدة مع اختلاف طوالعهم واقتضائها أحوالا مختلفة عندكم وهذا يدل على عدم اعتبار ما اعتبرتموه أولا، فإن قلتم: إن الطوالع قد يكون بعضها أقوى من بعض فلعل طالع الوقت أقوى من طالع الأصل فكان الحكم، قلنا: هذا بعينه يبطل عليكم اعتبار طالع المولود فإن الطوالع بعده مختلفة كثيرة ولعل بعضها أقوى منه فلا يفيد اعتباره شيئا، السادس ان العقل لا مساغ له في اقتضاء كوكب معين أو وضع معين تأثيرا خاصا والتجربة على قصورها معارضة بتجربة اقتضت خلافها إلى غير ذلك من الوجوه، وأبو البركات البغدادي وإن زيف ما هم عليه إلا أنه يقر بقبول بعض الأحكام فإنه قال بعد ذكر شيء من أقوالهم التي لا دليل لهم عليها: وهذه أقوال قالها قائل فقبلها قابل ونقلها ناقل فحسن بها ظن السامع واغتربها من لا خبرة له ولا قدرة له على النظر ثم حكم بحسبها الحاكمون بجيد ورديء وسلب وإيجاب وسعد ونحوس فصادف بعضه موافقة الوجود فصدق فاغتر به المغترون ولم يلتفتوا إلى كذب فيه بل عذروه وقالوا: هو منجم ما هو نبي حتى يصدق في كل ما يقول واعتذروا له بأن العلم أوسع من أن يحيط به ولو أحاط به لصدق في كل شيء، ولعمر الله تعالى أنه لو أحاط به علما صادقا لصدق والشأن أن يحيط به على الحقيقة لا على أن يفرض فرضا ويتوهم وهما فينقله إلى الوجود ويثبته في الموجود وينسب إليه ويقيس عليه، والذي يصح منه ويلتفت إليه العقلاء هي أشياء. غير هذه الخرافات التي لاأصل لها مما حصل بتوقيف أو تجربة حقيقية كالقرانات والانتقالات والمقابلة وممر كوكب من المتحيرة تحت كوكب من الثابتة وام يعرض للمتحيرة من رجوع واستقامة ورجوع في شمال وانخفاض في جنوب وغير ذلك، وكأني أريد أن أختصر الكلام ههنا وأوافق إشارتك وأعمل بحساب اختيارك رسالة في ذلك أذكر ما قيل فيها من علم أحكام النجوم من أصول حقيقية أو مجازية أو وهمية أو غليطة وفروع نتائج أنتجت عن تلك الأصول وأذكر الجائز من ذلك
والممتنع والقريب والبعيد فلا أرد علم الأحكام من كل وجه كما رده من جهله ولا أقبل فيه كل قول كماقبله من لم يعقله بل أوضح موضع القبول والرد وموضع التوقيف والتجويز والذي من المنجم والذي من التنجيم والذي منهما وأوضح لك أنه لو أمكن الإنسان أن يحيط بشكل كل ما في الفلك علما لأحاط بكل ما يحويه الفلك لأن منه مبادىء الأسباب لكنه لا يمكن ويبعد عن الإمكان بعدا عظيما والبعض الممكن منه لا يهدي إلى بعض الحكم لأن البعض الآخر المجهول قد يناقض المعلوم في حكمه ويبطل ما يوجبه فنسبة المعلوم إلى المجهول من الأحكام كنسبة المعلوم إلى المجهول من الأسباب وكفى بذلك بعدا انتهى، وفيه من التأييد لبعض ما تقدم من الأوجه ما فيه.
وأنا أقول: إن الإحاطة بالأسرار المودعة في الأجرام لا يبعد أن تحصل بعض الخواص ذوي النفوس القدسية لكن بطريق الكشف أو نحوه دون الاستدلال الفكري والأعمال الرصدية مثلا وهو الذي
118

يقتضيه كلام الشيخ الأكبر قدس سره قال في الباب الثالث والسبعين من الفتوحات: ومن الأولياء النقباء وهم اثنا عشر نقيبا في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون على عدد البروج الأثنى عشر كل نقيب عالم بخاصية كل برج وبما أودع الله تعالى في مقامه من الأسرار والتأثيرات وما يعطي للنزلاء فيه من الكواكب السيارة والثوابت ثم قال: ومنهم النجباء وهم ثمانية في كل زمان إلى أن قال: ولهم القدم الراسخة في علم تسيير الكواكب من جهة الكشف والاطلاع لا من جهة الطريقة المعلومة عند العلماء بهذا الشأن، والنقباء هم الذين حازوا علم الفلك التاسع والنجباء حازوا علم الثمانية الأفلاك التي دونه وهي كل فلك فيه كوكب، ويفهم من هذا القول بالتأثيرات وأنها مفاضة من البرج على النازل فيه من الكواكب.
وقد تكررت الإشارة منه إلى ذلك ففي الفصل الثالث من الباب الحادي والسبعين والثلثمائة من الفتوحات أن الله تعالى خلق في جوف الكرسي جسما شفافا مستديرا يعني الفلك الأطلس قسمه اثنى عشر قسما هي البروج وأسكن كل برج منها ملكا إلى أن قال: وجعل لكل نائب من هؤلاء الأملاك الاثنى عشر في كل برج ملكه إياه ثلاثين خزانة تحتوي كل خزانة منها على علوم شتى يهبون منها لمن نزل بهم ما تعطيه مرتبته وهي الخزائن التي قال الله تعالى فيها * (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) * (الحجر: 21) وهذه الخزائن تسمى عند أهل التعاليم درجات الفلك والنازلون بها هم الجواري والمنازل وعيوقاتها من الثوابت والعلوم الحاصلة من هذه الخزائن الإلهية هي ما يظهر في عالم الأركان من التأثيرات بل ما يظهر في مقعر فلك الثوابت إلى الأرض، وجعل لهؤلاء الأثنى عشر نظرا في الجنان وأهلها وما فيها مخلصا من غير حجاب فما في الجنان من حكم فهو تولى هؤلاء بنفوسهم تشريفا لأهل الجنة وأما أهل الدنيا وأهل النار فما يباشرون ما لهم من الحكم إلا بالنواب وهم النازلون عليهم الذين ذكرناهم، وقال قدس سره: في الفصل الرابع إن الله تعالى جعل لكل كوكب من هذه الكواكب قطعا في الفلك الأطلس ليحصل من تلك الخزائن التي في بروجه وبأيدي ملائكته الأثنى عشر من علوم التأثير ما تعطيه حقيقة كل كوكب وجعلها على حقائق مختلفة. انتهى المراد منه.
وله قدس سره كلام غير هذا أيضا وقد صرح بنحو ما صرح به المنجمون من اختلاف طبائع البروج وأن كل ثلاثة منها على مرتبة واحدة في المزاج وأنا لا أزيد على القول بأن للإجرام العلوية كواكبها وأفلاكها أسرارا وحكما وتأثيرات غير ذاتية بل مفاضة عليها من جانب الحق والفياض المطلق جل شأنه وعظم سلطانه ومنها ما هو علامة لما شاء الله تعالى ولا يتم دليل على نفي ما ذكر ولا يعلم كمية ذلم ولا كيفيته ولا أن تأثير كذا من كوكب كذا أو كوكب كذا علامة لكذا في نفس الأمر إلا الله تعالى العليم البصير * (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) * (الملك: 14) إلا أنه سبحانه قد يطلع بعض خواص عباده من البشر والملك على شيء من ذلك، ولا يبعد أن يطلع سبحانه البعض على الكل ووقوع ذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم مما لا أكاد أشك فيه.
وقد نص بعض ساداتنا الصوفية قدست أسرارهم وأشرقت علينا أنوارهم على أن علومه عليه الصلاة والسلام التي وهبت له ثلاثة أنواع نوع أوجب عليه إظهاره وتبليغه وهو علم الشريعة والتكاليف الالهية وقوله تعالى: * (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) * (المائدة: 67) ناظر إلى ذلك دون العموم
119

المطلق أو خصوص خلافة علي كرم الله تعالى وجهه كما يقوله الشيعة، ونوع أوجب عليه كتمانه وهو علم الأسرار الإلهية التي لا تتحملها قوة غير قوته القدسية عليه الصلاة والسلام فكما أن لله تعالى علما استأثر به دون أحد من خلقه كذلك لحبيبه الأعظم صلى الله عليه وسلم علم استأثر به بعد ربه سبحانه لكنه مفاض منه تعالى عليه ولعله أشير إليه في قوله تعالى: * (فأوحى إلى عبده ما أوحى) * (النجم: 10) وقد يكون بين المحب والمحبوب من الأسرار ما يضمن به على الأغيار، ومن هنا قيل: ومستخبر عن سر ليلى تركته * بعمياء من ليلى بغير يقين
يقولون خبرنا فأنت أمينها * وما أنا إن خبرتهم بامين
ونوع خيره الله تعالى فيه بين الأمرين، وهذا منها ما أظهره لمن رآه أهلا له ومنه ما لم يظهره لأمر ما فلعل ما وهب له عليه الصلاة والسلام من العلم بدقائق أسرار الإجرام العلوية وحكمها وما أراد اللهتعالى بها مما لم يظهره للناس كعلم الشريعة لأنه مما لا يضبط بقاعدة وتفصيل الأمر فيه لا يكاد يتيسر والبعض مرتبط بالبعض ومع هذا لا يستطيع العالم به أن يجعل الإقامة سفرا ولا الهزيمة ظفرا ولا العقد فلا ولا الإبرام نقضا ولا اليأس رجاء والعدو صديقا ولا البعيد قريبا ولا ولا ويوشك لو انتشر أمره وظهر حلوه ومره أن يضعف توكل كثير من العوام على الله تعالى والانقطاع إليه والرغبة فيما عنده وأن يلهوا به عن غيره وينبذوا ما سواه من العلوم النافعة لأجله فكل يتمنى أن يعلم الغيب ويطلع عليه ويدرك ما يكون في غد أو يجد سبيلا إليه بل ربما يكون ذلك سببا لبعض الأشخاص مفضيا إلى الاعتقاد القبيح والشرك الصريح، وقد كان في العرب شيء من ذلك فلو فتح هذا الباب لا تسع الخرق وعظم الشر، وقد ترك صلى الله عليه وسلم هدم الكعبة وتأسيسها على قواعد إبراهيم عليه السلام لنحو هذه الملاحظة، فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قال لعائشة رضي الله تعالى عنها: " لولا قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة وأسستها على قواعد إبراهيم " ولا
يبعد أيضا أن يكون في علم الله تعالى أظهار ذلك وعلم الناس به سببا لتعطل المصالح الدنيوية ومنافيا للحكمة الإلهية فأوجب على رسوله صلى الله عليه وسلم كتمه وترك تعلميه كما علم الشرائع. ويمكن أن يكون قد علم صلى الله عليه وسلم أن العلم بذلك من العلوم الوهبية التي يمن الله تعالى بها على من يشاء من عباده وأن من وهب سبحانه له من أمته قوة قدسية يهب سبحانه له ما تتحمله قوته منه، وقد سمعت ما سمعت في النقباء والنجباء، ويمكن أن يكون قد علم عليه الصلاة والسلام ذلك أمثالهم ومن هو أعلى قدرا منهم كالأمير علي كرم الله تعالى وجهه وهو باب مدينة العلم بطريق من طرق التعليم ومنها الإفاضة التي يذكرها بعض أهل الطرائق من الصوفية، ويجوز أن يقال: إن سر البعثة إنما هو إرشاد الخلق إلى ما يقربهم إليه سبحانه زلفى، وليس في معرفة التأثيرات الفلكية والحوادث الكونية قرب إلى الله تعالى والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأل جهدا في دعوة الخلق وإرشادهم إلى ما يقربهم لديه سبحانه وينفعهم يوم قدومهم عليه جل شأنه وما يتوقف عليه من أمر النجوم أمور دياناتهم كمعرفة القبلة وأوقات العبادات قد أرشد إليه من أرشد منهم وترك ما يحتاجون إليه من ذلك في أمور دنياهم كالزراعة إلى عاداتهم وما جربه كل قوم في أماكنهم وأشار إشارة إجمالية إلى بعض الحوادث الكونية لبعض الكواكب في بعض أحوالها كما في حديث
120

الكسوف والخسوف السابق وأرشدهم إلى ما ينفعهم إذا ظهر مثل ذلك ويتضمن الإشارة الإجمالية أيضا أمره تعالى بالاستعاذة من شر القمر في بعض حالاته وذلك في قوله تعالى: * (قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب) * على ما جاء في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها ويقرب في بعض الوجوه من شأنه صلى الله عليه وسلم شأنه عليه الصلاة والسلام في أمر النباتات ونحوها فبين لهم ما يحل ويحرم من ذلك وأشار منفعة بعض الأشياء من نبات وغيره ولم يفصل القول في الخواص وترك الناس فيما يأكلون ويشربون مما هو حلال على عاداتهم إلا أنه قال: * (كلوا واشربوا ولا تسرفوا) * (الأعراف: 31) نعم نهى صلى الله عليه وسلم عن الخوض في علم النجوم لطلب معرفة الحوادث المستقبلة بواسطة الأوضاع المتوقف بزعم المنجمين على معرفة الطبائع سدا لباب الشر والوقوع في الباطل لأن معرفة ذلك على التحقيق ليست كسبية كمعرفة خواص النباتات ونحوها والمعرفة الكسبية التي يزعمها المنجمون ليست بمعرفة وإنما هي ظنون لا دليل لهم عليها كما تقدم وصار به أرسطاليس أيضا فإنه قال في أول كتابه السماع الطبيعي: إنه لا سبيل إلى اليقين بمعرفة تأثير الكواكب وحكى نحوه عن بطليموس، وكون المنهي عنه ذلك هو الذي صرح به بعض الأجلة وعليه حمل خبر أبي داود. وابن ماجه " من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر " وأما الخوض في علم النجوم لتحصيل ما يعرف به أوقات الصلوات وجهة القبلة وكم مضى من الليل أو النهار وكم بقى وأوائل الشهور الشمسية ونحو ذلك ومنه فيما أرى ما يعرف به وقت الكسوف والخسوف فغير منهى عنه بل العلم المؤدى لبعض ما ذكر من فروض الكفاية بل إن كان علم النجوم عبارة عن العلم الباحث عن النجوم باعتبار ما يعرض لها من المقارنة والمقابلة والتثليث والتسديس وكيفية سيرها ومقدار حركاتها ونحو ذلك مما يبحث عنه في الزيج أو كان عبارة عما يعم ذلك والعلم الذي يتوصل به إلى معرفة ارتفاع الكوكب وانخفاضه ومعرفة الماضي من الليل والنهار ومعرفة الأطوال والأعراض ونحو ذلك مما تضمنه علم الأسطرلاب والربع المجيب ونحوهما فهو مما لا أرى بأسا في تعلمه مطلقا وإن كان عبارة عن العلم الباحث عن أحكامها وتأثيراتها التي تقتضيها باعتبار أوضاعها وطبائعها على ما يزعمه الإحكاميون.
فهذا الذي اختلف في أمره فقال بعضهم بحرمة تعلمه لحديث أبي داود. وابن ماجه السابق والقائل بهذا قائل بحرمة تعلم السحر وهو أحد أقوال في المسألة فيها الإفراط والتفريق، ثانيها أنه مكروه، ثالثها أنه مباح، رابعها أنه فرض كفاية، خامسها أنه كفر والجمهور على الأول ولأن فيه ترويج الباطل وتعريض الجهلة لاعتقاد أن أحكام النجوم المعروفة بين أهلها حق والكواكب مؤثرة بنفسها، وقيل: يحرم تعلمه لأنه منسوخ فقد قال الكرماني في عجائبه: كان علم النجوم علما نبويا فنسخ. وتعقب هذا بأنه لا معنى لنسخ العلم نفسه وإن حمل الكلام على معنى كان تعلمه مباحا فنسخ ذلك إلى التحريم كان في الاستدلال مصادرة، وقال بعضهم: لا حرمة في تعلمه إنما الحرمة في اعتقاد صحة الأحكام وتأثيرات الكواكب على الوجه الذي يقوله جهلة الإحكاميين لا مطلقا، وأجيب عن الخبر السابق بأنه محمول على تعلم شيء من علم النجوم على وجه الاعتناء بشأنه كما يرمز إليه - اقتبس - وذلك لا يتم بدون اعتقاد صحة حكمه وأن الكواكب مؤثرات، وتعلمه على هذا الوجه حرام وبدون مباح وفيه بحث.
وقيل: في الجواب أن الخبر فيمن ادعى علما بحكم من الأحكام آخذا له من النجوم قائلا الأمر كذا ولا بد لأن النجم يقتضيه البتة وهو لا شك في إثمه وحرمة دعواه التي قامت الأدلة على كذبها وهو كما ترى، وكلام بعض
121

أجلة العلماء صريح في إباحة تعلمه متى اعتقد أن الله تعالى أجرى العادة بوقوع كذا عند حلول الكوكب الفلاني منزلة كذا مثلا مع جواز التخلف، واستظهر بعض حرمة التعلم مطلقا متى كان فيه إغراء الجهلة بذلك العلم وإيقاعهم في محذور اعتقاد التأثير أو كان فيه غير ذلك من المفاسد وكراهته إن سلم من ذلك لما فيه من تضييع الأوقات فيما لا فائدة فيه ومبناه ظنون وأوهام وتخيلات، ولا يبعد القول بأنه يباح للعالم الراسخ النظر في كتبه للإطلاع على ما قالوا والوقوف على مناقضاتهم واختلافاتهم التي سمعت بعضا منها لينفر عنها الناس ويرد العاكفين عليها كما يباح له النظر في كتب سائر أهل الباطل كاليهود والنصارى لذلك بل لو قيل بسنيته لهذا الغرض لم يبعد لكن أنت تعلم أن السلف الصالح لم يحوموا حول شيء منه بسوى ذمه وذم أهله ولم يتطلبوا كتابا من كتبه لينظروا فيه على أي وجه كان النظر؛ ونسبة خلاف ذلك إلى أحد منهم لا تصح فالحزم اتباعهم في ذلك وسلوك مسلكهم فهو لعمري أقوم المسالك، هذا واعترض القول بإطلاعه صلى الله عليه وسلم على ما ذكر من شأن الأجرام العلوية بأن فيه فتح باب الشبهة في كون أخباره صلى الله عليه وسلم بالغيوب من الوحي لجواز أن تكون من أحكام النجوم على ذلك القول. وأجيب بأن الشبهة إنما تتأتى لو ثبت أنه عليه الصلاة والسلام رصد ولو مرة كوكبا من الكواكب وحقق منزلته وأخبر بغيب إذ مجرد العلم بأن لكوكب كذا حكم كذا إذا حل بمنزلة كذا لا يفيد بدون معرفة أنه حل في تلك المنزلة فحيث لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لا يفتح باب الشبهة وفيه بحث ظاهر، وبأن علمه صلى الله عليه وسلم بما تدل عليه الأوضاع عند
القائلين به ليس إلا عن وحي فغاية ما يلزم على تلك الشبهة أن يكون خبره بالغيب بواسطة علم أحكام النجوم الذي علمه بالوحي وأي خلل يحصل من هذا في نبوته عليه الصلاة والسلام بل هذه الشبهة تستدعي كونه نبيا كما أن عدمها كذلك. وتعقب بأنه متى سلم أن للأوضاع الفلكية دلالة على الأمور الغيبية وأنه صلى الله عليه وسلم يعلم ما تدل عليه يقع الاشتباه بينه وبين غيره من علماء ذلك العلم المخبرين بالغيب إذا وقع كما أخبروا والتفرقة بأنه عليه الصلاة والسلام قد أوحى إليه بذلك دون الغير فرع كونه نبيا وهو أول المسألة، واختير في الجواب أن يقال: إن أخباره صلى الله عليه وسلم بالغيب إن كان بعد ثبوت نبوته بمعجز غير ذلك لا تتأتى الشبهة إن أفهم أن خبره بواسطة الوحي ولا تضر إن لم يفهم إذ غاية ما في الباب أنه نبي لظهور المعجز على يده قبل أن أخبر بغيب بواسطة وضع فلكي وشاركه غيره في ذلك، وإن كان قبل ثبوت نبوته بمعجز غيره بأن كان التحدي بذلك الخبر ووقوع ما أخبر به فالذي يدفع الشبهة حينئذ عدم القدرة على المعارضة فلا يستطيع منجم أن يخبر صادقا بمقل ذلك بمقتضى علمه بالأوضاع ومقتضياتها فتدبر، ثم الظاهر على ما ذكره الشيخ الأكبر قدس سره في النقباء والنجباء أن لكل من الأنبياء عليهم السلام اطلاعا على ذلك إذ رتبة النبي فوق رتبة الولي وعلمه فوق علمه إذ هو الركن الأعظم في الفضل.
ولا حجة في قصة موسى والخضر عليهما السلام على خلافه، أما على القول بنبوة الخضر عليه السلام فظاهر وكذا على القول بولايته وأنه فعل ما فعل عن أمر الله تعالى بواسطة نبي، وأما على القول بولاسته وأنه فعل ذلك لعلم أوتيه بلا واسطة نبي فلأنه لا يدل إلا على فقدان موسى عليه السلام العلم بتلك الأمور الثلاثة وعلم الخضر بها ولا يلزم من ذلك أن يكون الخضر أعلم منه مطلقا وهو ظاهر، وعلى هذا جوز إبقاء الآية على ظاهرها فيكون إبراهيم عليه السلام قد نظر في النجوم حسبما علمه الله تعالى من أحوال الملكوت الأعلى
122

واستدل على أنه سيسقم بما استدل، ولعل نظره كان في طالع الوقت أو نحوه أو طالع ولادته أو طالع سقوط النطفة التي خلق منها والعلم به بالوحي أو بواسطة العلم بطالع الولادة؛ والاعتراض على ذلك بأنه يلزم عليه تقويته عليه السلام ما هم عليه من الباطل في أمر النجوم وارد أيضا على حمل ما في الآية على التعريض والجواب هو الجواب، هذا وإذا أحطت خبرا بجميع ما ذكرت لك في هذا المقام فأحسن التأمل فيما تضمنه من النقض والإبرام وقد جمعت لك ما لم أعلم أنه جمع في تفسير ولا أبرىء نفسي عن الخطأ والسهو والتقصير والله سبحانه ولي التوفيق وبيده عز وجل أزمة التحقيق [بم وقوله تعالى:
* (فتولوا عنه مدبرين) *.
* (فتولوا عنه مدبرين) * تفريع على قوله عليه السلام: * (إني سقيم) * أي أعرضوا وتركوا قربه، والمراد أنهم ذهبوا إلى معيدهم وتركوه، و * (مدبرين) * إما حال مؤكدة أو حال مقيدة بناء على أن المراد بسقيم مطعون أو أنهم توهموا مرضا له عدوى مرض الطاعون أو غيره فإن المرض الذي له عدوى بزعم الأطباء لا يختص بمرض الطاعون فكأنه قيل: فاعرضوا عنه هاربين مخافة العدوى.
* (فراغ إلى ءالهتهم فقال ألا تأكلون) *.
* (فراغ إلى ءالهتهم) * فذهب بخفية إلى أصنامهم التي يعبدونها، وأصل الروغان ميل الشخص في جانب ليخدع من خلفه فتجوز به عما ذكر لأنه المناسب هنا * (فقال) * للأصنام استهزاء * (ألا تأكلون) * من الطعام الذي عندكم، وكان المشركون يضعون في أيام أعيادهم طعاما لدى الأصنام لتبرك عليه، وأتى بضمير العقلاء لمعاملته عليه السلام إياهم معاملتهم.
* (ما لكم لا تنطقون) *.
* (ما لكم لا تنطقون) * بجوابي.
* (فراغ عليهم ضربا باليمين) *.
* (فراغ عليهم) * فمال مستعليا عليهم وقوله تعالى: * (ضربا) * مصدر لراغ عليهم باعتبار المعنى فإن المراد منه ضربهم أو لفعل مضمر هو مع فاعله حال من فاعله أي فراغ عليهم يضربهم ضربا أو هو حال منه على أنه مصدر بمعنى الفاعل أي ضاربا أو مفعول له أي لأجل ضرب. وقرأ الحسن * (سفقا وصفقا) * أيضا * (باليمين) * أي باليد اليمين كما روى عن ابن عباس، وتقييد الضرب باليمين للدلالة على شدته وقوته لأن اليمين أقوى الجارحتين وأشدهما في الغالب وقوة الآلة تقتضي شدة الفعل وقوته أو بالقوة على أن اليمين مجاز عنها.
روى أنه عليه السلام كان يجمع يديه في الآلة التي يضربها بها وهي الفأس فيضربها بكمال قوته، وقيل المراد باليمين الحلف، وسمي الحلف يمينا إما لأن العادة كانت إذا حلف شخص لآخر جعل يمينه بيمينه فحلف أو لأن الحلف يقوي الكلام ويؤكده، وأريد باليمين قوله عليه السلام * (تالله لأكيدن أصنامكم) * (الأنبياء: 57) والباء عليه للسببية أي ضربا بسبب اليمين الذي حلفه قبل وهي على ما تقدم للاستعانة أو للملابسة.
* (فأقبلوا إليه يزفون) *.
* (فأقبلوا إليه) * أي إلى إبراهيم عليه السلام بعد رجوعهم من عيدهم وسؤالهم عن الكاسر وقولهم: * (فأتوا به على أعين الناس) * (الأنبياء: 61) * (يزفون) * حال من واو أقبلوا أي يسرعون من زف النعام أسرع لخلطه الطيران بالمشي ومصدره الزف والزفيف، وقيل: * (يزفون) * أي يمشون على تؤدة ومهل من زفاف العروس إذا كانوا في طمأنينة من أن ينال أصنامهم بشيء لعزتها، وليس بشيء.
وقرأ حمزة. ومجاهد. وابن وثاب. والأعمش * (يزفون) * بضم الياء من أزف دخل في الزفيف فالهمزة ليس للتعدية أو حمل غيره على الزفيف فهي لها قاله
الأصمعي. وقرأ مجاهد أيضا. وعبد الله بن يزيد. والضحاك
123

ويحيى بن عبد الرحمن المقري. وابن أبي عبلة * (يزفون) * مضارع وزف بمعنى أسرع، قال الكسائي، والفراء: لا نعرف وزف بمعنى زف وقد أثبته الثقات فلا يضر عدم معرفتهما. وقرىء * (يزفون) * بالبناء للمفعول، وقرىء * (يزفون) * بسكون الزاي من زفاه إذا حداه كأن بعضهم يزفو بعضا لتسارعهم إليه.
* (قال أتعبدون ما تنحتون) *.
* (قال) * بعد أن أتوا به عليه السلام وجرى ما جرى من المحاورة على سبيل التوبيخ والإنكار عليهم * (أتعبدون ما تنحتون) * أي الذي تنحتونه من الأصنام فما موصولة حذف عائدها وهو الظاهر المتبادر، وجوز كونها مصدرية أي أتعبدوننحتكم، وتوبيخهم على عبادة النحت معأنهم يعبدون الأصنام وهي ليست نفس النحت للإشارة إلى أنهم في الحقيقة إنما عبدوا النحت لأن الأصنام قبله حجارة ولم يكونوا يعبدونها وإنما عبدوها بعد أن نحتوها ففي الحقيقة ما عبدوا إلا نحتهم، وفيه ما فيه.
* (والله خلقكم وما تعملون) *.
* (والله خلقكم وما تعملون) * في موضع الحال من ضمير * (تعبدون) * لتأكيد الإنكار والتوبيخ والاحتجاج على أنه لا ينبغي تلك العبادة، وما موصولة حذف عائدها أيضا أي خلقكم وخلق الذي تعملونه أي من الأصنام كما هو الظاهر، وهي عبارة عن مواد وهي الجواهر الحجرية وصور حصلت لها بالنحت؛ وكون المواد مخلوقة له عز وجل ظاهر، وكون الصور والأشكال كذلك مع أنها بفعلهم باعتبار أن الأقدار على الفعل وخلق ما يتوقف عليه من الدواعي والأسباب منه تعالى، وكون الأصنام وهي ما سمعت معمولة لهم باعتبار جزئها الصوري فهو مع كونه معمولا لهم مخلوق لله تعالى بذلك الاعتبار فلا إشكال.
وفي المتمة للمسألة المهمة تأليف الشيخ إبراهيم الكوراني عليه الرحمة صريح الكلام دال على أن الله تعالى خالق للأصنام بجميع أجزائها التي منها الأشكال، ومعلوم أن الأشكال إنما حصلت بتشكيلهم فتكون الأشكال مخلوقة لله تعالى معمولة لهم لكون نحتهم وتشكيلهم عين خلق الله تعالى الأشكال بهم.
ولا استحالة في ذلك لأن العبد لا قوة له إلا بالله تعالى بالنص ومن لا قوة له إلا بغيره فالقوة لذلك الغير لإله فلا قوة حقيقة إلا لله تعالى، ومن المعلوم أنه لا فعل للعبد إلا بقوة فلا فعل له إلا بالله تعالى فلا فعل حقيقة إلا لله تعالى، وكل ما كان كذلك كان النحت والتشكيل عين خلق الله سبحانه الأشكال بهم وفيهم بالذات وغيره بالاعتبار فيكون المعمول عين المخلوق بالذات وغيره بلاعتبار فإن إيجاد الله عز وجل يتعلق بذات الفعل من حيث هو وفعل العبد بالمعنى المصدري يتعلق بالفعل بمعنى الحاصل بالمصدر من حيث كونه طاعة أو معصية أو مباحا لكونه مكلفا والله تعالى له الإطلاق ولا حاكم عليه سبحانه انتهى فافهم.
والزمخشري جعل أيضا ما موصولة إلا أنه جعل المخلوق له تعالى هو الجواهر ومعمولهم هو الشكل والصورة إما على أن الكلام على حذف مضاف أي وما تعملون شكله وصورته، وإما على أن الشائع في الاستعمال ذلك فإنهم يقولون عمل النجار الباب والصائغ الخلخال والبناء البناء ولا يعنون إلا عمل الشكل بدون تقدير شكل في النظم كأن تعلق العمل بالشيء هو هذا التعلق لا تعلق التكوين، وهو مبني على اعتقاده الفاسد من أن أفعال العباد مخلوقة لهم، والاحتجاج في الآية على الأول بأن يقال: إنه تعالى خلق العابد والمعبود مادة وصورة فكيف يعبد المخلوق المخلوق؟ وعلى الثاني بأنه تعالى خلق العابد ومادة المعبود فكيف يعبد المخلوق المخلوق على أن العابد منهما هو الذي عمل صورة المعبود، والأول أظهر وعدل عن ضمير * (ما تنحتون) * أو
124

الإتيان به دون ما تعملون للإيذان بأن مخلوقية الأصنام لله عز وجل ليس من حيث نحتهم لها فقط بل من حيث سائر أعمالهم أيضا من التصوير والتحلية والتزيين. وفي " الكشف " فائدة العدول الدلالة على أن تأثيرهم فيها ليس النحت ثم العمل يقع على النحت والأثر الحاصل منه ولا يقع النحت على الثاني فلا بد من العدول لهذه النكتة وبه يتم الاحتجاج أي الذي قيل على اعتبار الزمخشري. وجوز أن يكون الموصول عاما للأصنام وغيرها وتدخل أوليا ولا يتأتى عليه حديث العدول، وقيل ما مصدرية والمصدر مؤول باسم المفعول ليطابق * (ما تنحتون) * على ما هو الظاهر فيه ويتحد المعنى مع ما تقدم على احتمال الموصولية، وجوز بقاء المصدر على مصدريته والمراد به الحاصل بالمصدر أعني الأثر وكثيرا ما يراد به ذلك حتى قيل: إنه مشترك بينه وبين التأثير والإيقاع أي خلقكم وخلق عملكم، واحتج بالآية على المعتزلة. وتعقب بأنه لا يصح لأن الاستدلال بذلك على أن العابد والمعبود جميعا خلق الله تعالى فكيف يعبد المخلوق مخلوقا ولو قيل: إن العابد وعمله من خلق الله تعالى لفات الملاءمة والاحتجاج، ولأن * (ما) * في الأول موصولة فهي في الثاني كذلك لئلا ينفك النظم، وما قاله القاضي البيضاوي من أنه لا يفوت الاحتجاج بل أنه أبلغ فيه لأن فعلهم إذا كان بخلق الله تعالى كان مفعولهم المتوقف على فعلهم أولى بذلك، وأيد بأن الأسلوب يصير من باب الكناية وهو أبلغ من التصريح ولا فائدة في العدول عن الظاهر إلا هذا فيجب صونا لكلام الله تعالى عن العبث تعقبه في " الكشف " بأنه لا يتم لأن الملازمة ممنوعة عند القوم ألا ترى أنهم معترفون بأن العبد وقدرته وإرادته من خلق الله تعالى ثم المتوقف عليهما وهو الفعل يجعلونه خلق العبد، والتحقيق أنه يفيد التوقف عليه تعالى وهم لا ينكرونه إنما الكلام في الإيجاد والأحداث ثم قال: وأظهر منه أن يقال: لأن المعمول من حيث المادة كانوا لا ينكرون أنه من خلق الله تعالى فقيل هو من حيث الصورة أيضا خلقه فهو مخلوق من جميع الوجوه مثلكم من غير فرق فلم تسوونه بالخالق وما ازداد بفعلكم إلا بعد استحقاق عن العبادة ولما كان هذا المعنى في تقرير الزمخشري على أبلغ وجه كان هذا البناء متداعيا كيفما قرر، على أن فائدة العدول قد اتضحت حق الوضوح فبطل الحصر أيضا، وقد قيل عليه: إن المراد بالفعل الحاصل بالمصدر لأنه بالمعنى الآخر أعني الإيقاع من النسب التي ليست بموجودة عندهم، وتوقف الحاصل بالإيقاع على قدرة العبد وإرادته توقف بعيد بخلاف توقفه على الإيقاع الذي لا وجود له فيكون ما ذكره في معرض السند مجتمعا مع المقدمة الممنوعة فلا يصلح للسندية، والمراد بمفعولهم أشكال الأصنام المتوقف على ذلك المعنى القائم بهم. إذا كان ذاك بخلقه تعالى فلأن يكون الذي لا يقوم بهم بل بما يباينهم بخلقه تعالى أولى.
ولا مجال للخصم أن يمنع هذه الملازمة إذ قد أثبت خلق المتولدات مطلقا للعباد بواسطة خلقهم لما يقوم بهم، وانتفاء الأول ملزوم لانتفاء الثاني فتأمل، وقال في " التقريب " انتصارا لمن قال بالمصدرية: إن الجواهر مخلوقة له تعالى وفاقا والأعمال مخلوقة أيضا لعموم الآية فكيف يعبد ما لا مدخل له في الخلق فدعوى فوات الاحتجاج باطلة وكذلك فك النظم والتبتير، وتعقبه في " الكشف " أيضا فقال فيه: إن المقدمة الوفاقية إذا لم يكن بد منها ولم تكن معلومة من هذا السياق يلزم فوات الاحتجاج، وأما الحمل على التغليب في الخطاب فتوجيه لا ترجيح والكلام في الثاني.
ثم قال: وأما أن المصدرية أولى لئلا يلزم حذف الضمير فمعارض بأن الموصولة أكثر
125

استعمالا وهي أنسب بالسياق السابق على أنه لا بد من تقدير عملهم في المنحوت فيزداد الحذف.
واعترض بانا لا نسلم الأكثرية وكذا لا نسلم أنها أنسب بالسياق لما سمعت من أن الأسلوب على ذلك من باب الكناية وهو أبلغ من التصريح والتقدير المذكور ليس بلازم لجواز إبقاء الكلام على عمومه الشامل للمنحوت بالطريق الأولى أو يقدر بمصدر مضاف إضافة عهدية، وبعضهم جعلها موصولة كناية عن العمل لئلا ينفك النظم ويظهر احتجاج الأصحاب على خلق أفعال العباد. وتعقبه أيضا بأنه أفسد من الأول لما فيه من التعقيد وفوات الاحتجاج، وكون الموصول في الأول عبارة عن الأعيان وفي الثاني كناية عن المعاني وانفكاك النظم ليس لخصوص الموصولية والمصدرية بل لتباين المعنيين وهو باق. و " صاحب الانتصاف " قال بتعين حملها على المصدرية لأنهم لم يعبدوا الأصنام من حيث كونها حجارة وإنما عبدوها من حيث أشكالها فهم في الحقيقة إنما عبدوا عملهم وبذلك تبتلج الحجة عليهم بأنهم وعملهم مخلوقان لله تعالى فكيف يعبد المخلوق مخلوقا مثله مع أن المعبود كسب العابد وعمله، وأجاب عن حديث لزوم انفكاك النظم بأن لنا أن نحمل الأولى على المصدرية أيضا فإنهم في الحقيقة إنما عبدوا نحتهم، وفي دعوى التعين بحث، وجوز كون ما الثانية استفهامية للإنكار والتحقير أي وأي شيء تعملون في عبادتكم أصناما نحتموها أي لا عمل لكم يعتبر، وكونها نافية أي وما أنتم تعملون شيئا في وقت خلقكم ولا تقدرون على شيء، ولا يخفى أن كلا الاحتمالين خلاف الظاهر بل لا ينبغي أن يحمل عليه التنزيل، وأظهر الوجوه كونها موصولة وتوجيه ذلك على ما يقوله الأصحاب ثم كونها مصدرية، والاستدلال بالآية عليه ظاهر، وقول " صاحب الكشف ": والانصاف أن استدلال الأصحاب بهذه الآية لا يتم إن أراد به ترجيح احتجاج المعتزلة خارج عن دائرة الإنصاف، ثم إنها على تقدير أن لا تكون دليلا لهم لا تكون دليلا للمعتزلة أيضا كما لا يخفى على المنصف، هذا ولما غلبهم إبراهيم عليه السلام بالحجة مالوا إلى الغلبة بقوة الشوكة.
* (قالوا ابنوا له بني‍انا فألقوه فى الجحيم) *.
* (قالوا ابنوا له بنيانا) * حائطا توقدون فيه النار، وقيل: منجنيقا.
* (فألقوه في الجحيم) * في النار الشديد من الجحمة وهي شدة التأجج والاتقاد، واللام بدل عن المضاف إليه أو للعهد، والمراد جحيم ذلك البنيان التي هي فيه أو عنده.
* (فأرادوا به كيدا فجعلن‍اهم الاسفلين) *.
* (فأرادوا به كيدا) * سوأ باحتيال فإنه عليه السلام لما قهرهم بالحجة قصدوا تعذيبه بذلك لئلا يظهر للعامة عجزهم * (فجعلناهم الأسفلين) * الأذلين بإبطال كيدهم وجعله برهانا ظاهرا ظهور نار القرى ليلا على علم على علو شأنه عليه السلام حيث جعل سبحانه النار عليه بردا وسلاما، وقيل: أي الهالكين، وقيل: أي المعذبين في الدرك الأسفل من النار والأول أنسب.
* (وقال إنى ذاهب إلى ربى سيهدين) *.
* (وقال إني ذاهب إلى ربي) * إلى حيث أمرني أو حيث أتجرد فيه لعبادته عز وجل جعل الذهاب إلى المكان الذي أمره ربه تعالى بالذهاب إليه ذهابا إليه وكذا الذهاب إلى مكان يعبده تعالى فيه لا أن الكلام بتقدير مضاف، والمراد بذلك المكام الشام، وقيل مصر وكأن المراد إظهار اليأس من إيمانهم وكراهة البقاء معهم أي إني مفارقكم ومهاجر منكم إلى ربي * (سيهدين) * إلى ما فيه صلاح ديني أو إلى مقصدي.
والسين لتأكيد الوقوع لأنها في مقابلة لن المؤكد للنفي كما ذكره سيبويه، وبت عليه السلام القول لسبق وعده تعالى إياه بالهداية لما أمره سبحانه بالذهاب أو لفرط توكله عليه السلام أو للبناء على عادته تعالى معه
126

وإنما لم يقل موسى عليه السلام مثل ذلك بل قال: * (عسى ربي أن يهديني سواء السبيل) * (القصص: 22) بصيغة التوقع قيل: لعدم سبق وعد وعدم تقدم عادة واقتضاء مقامه رعاية الأدب معه تعالى بأن لا يقطع عليه سبحانه بأمر قبل وقوعه، وتقديمه على رعاية فرط التوكل ومقامات الأنبياء متفاوتة وكلها عالية، وقيل لأن موسى عليه السلام قال ما قال قبل البعثة وإبراهيم عليه السلام قال ذلك بعدها، وقيل لأن إبراهيم كان بصدد أمر ديني فناسبه الجزم وموسى كان بصدد أمر دنيوي فناسبه عدم الجزم، ومن الغريب ما قيل ونحا إليه قتادة أنه لم يكن مراد إبراهيم عليه السلام بقوله: إني الخ الهجرة وإنما أراد بذلك لقاء الله تعالى بعد الإحراق ظانا إنه يموت في النار إذا ألقى فيها وأراد بقوله: * (سيهديني) * الهداية إلى الجنة، ويدفع هذا القول دعاؤه بالولد حيث قال:
* (رب هب لى من الص‍الحين) *.
* (رب هب لي من الصالحين) * بعض الصالحين يعينني على الدعوة والطاعة ويؤنسني في الغربة، والتقدير ولدا من الصالحين وحذف لدلالة الهبة عليه فإنها في القرآن وكلام العرب غلب استعمالها مع العقلاء في الأولاد، وقوله تعالى: * (ووهبنا له أخاه هارون نبيا) * من غير الغالب أو المراد فيه هبة نبوته لا هبة ذاته وهو
شيء آخر [بم ولقوله تعالى:
* (فبشرن‍اه بغل‍ام حليم) *.
* (فبشرناه بغلام حليم) * فإنه ظاهر في أن ما بشر به عين ما استوهبه مع أن مثله إنما يقال عرفا في حق الأولاد، ولقد جمع بهذا القول بشارات أنه ذكر لاختصاص الغلام به وأنه يبلغ أو أن البلوغ بالسن المعروف فإنه لازم لوصفه بالحليم لأنه لازم لذلك السن بحسب العادة إذ قلما يوجد في الصبيان سعة صدر وحسن صبر وإغضاء في كل أمر، وجوز أن يكون ذلك مفهوما من قوله تعالى: * (غلام) * فإنه قد يختص بما بعد البلوغ وإن كان ورد عاما وعليه العرف كما ذكره الفقهاء وأنه يكون حليما وأي حلم مثل حلمه عرض عليه أبوه وهو مراهق الذبح فقال: * (ستجدني إن شاء الله من الصابرين) * (الصافات: 102) فما ظنك به بعد بلوغه، وقيل مانعت الله تعالى نبيا بالحلم لعزة وجوده غير إبراهيم وابنه عليهما السلام، وحالهما المذكورة فيما بعد تدل على ما ذكر فيهما. [بم والفاء في قوله تعالى:
* (فلما بلغ معه السعى قال يابنى إنىأرى فى المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت افعل ما تؤمر ستجدنىإن شآء الله من الص‍ابرين) *.
* (فلما بلغ معه السعي) * فصيحة تعرب عن مقدر قد حذف تعويلا على شهادة الحال وإيذانا بعدم الحاجة إلى التصريح به لاستحالة التخلف أي فوهبناه له ونشأ فلما بلغ رتبة أن يسعى معه في أشغاله وحوائجه، و * (مع) * ظرف للسعي وهي تدل على معنى الصحبة واستحداثها، وتعلقها بمحذوف دل عليه المذكور لأن صلة المصدر لا تتقدمه لأنه عند العمل مؤول بأن المصدرية والفعل ومعمول الصلة لا يتقدم على الموصول لأنه كتقدم جزء الشيء المرتب الأجزاء عليه أو لضعفه عن العمل فيه بحث، أما أولا: فلأن التأويل المذكور على المشهور في المصدر المنكر دون المعرف، وأما ثانيا: فلأنه إذا سلم العموم فليس كل ما أول بشيء حكمه حكم ما أول به، وأما ثالثا: فلأن المقدم هنا ظرف وقد اشتهر أنه يغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره. وصرحوا بأنه يكفيه رائحة الفعل وبهذا يضعف حديث المنع لضعف العامل عن العمل فالحق أنه لا حاجة في مثل ذلك إلى التقدير معرفا كان المصدر أو منكرا كقوله تعالى: * (ولا تأخذكم بهما رأفة) * (النور: 2) وهو الذي ارتضاه الرضى وقال به العلامة الثاني، واختار " صاحب الفرائد " كونها متعلقة بمحذوف وقع حالا من * (السعي) * أي فلما بلغ السعي حال كون ذلك السعي كائنا معه، وفيه أن السعي معه معناه اتفاقهما فيه فالصحبة بين الشخصين فيه، وما قدره يقتضي الصحبة بين السعي وإبراهيم عليه السلام ولا يطابق المقام، وجوز تعلقه ببلغ، ورد بأنه يقتضي بلوغهما معا حد السعي لما سمعت من معنى مع وهو غير صحيح، وأجيب بأن مع على ذلك لمجرد الصحبة على
127

أن تكون مرادفة عند نحو فلان يتغنى مع السلطان أي عنده ويكون حاصل المعنى بلغ عند أبيه وفي صحبته متخلقا بأخلاقه متطبعا بطباعه ويستدعي ذلك كمال محبة الأب إياه، ويجوز على هذا أن تتعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل * (بلغ) * ومن مجيء مع لمجرد الصحبة قوله تعالى حكاية عن بلقيس: * (أسلمت مع سليمان لله رب العالمين) * (النمل: 44) فلتكن فيما نحن فيه مثلها في تلك الآية. وتعقب بأن ذاك معنى مجازي والحمل على المجاز هنالك للصارف ولا صارف فيما نحن فيه فليحمل على الحقيقة على أنه لا يتعين هنالك أن تكون لمعية الفاعل لجواز أن يراد أسلمت لله ولرسوله مثلا، وتقديم * (مع) * إشعارا منها بأنها كانت تظن أنها على دين قبل وأنها مسلمة لله تعالى فيما كانت تعبد من الشمس فدل على أنه إسلام يعتد به من أثر متابعة نبيه لا إسلام كالأول فاسد، قال " صاحب الكشف ": وهذا معنى صحيح حمل الآية عليه أولى وإن حمل على معية الفاعل لم يكن بد من محذوف نحو مع بلوغ دوعته وإظهار معجزته لأن فرق ما بين المقيد ومطلق الجمع معلوم بالضرورة، وزعم بعض أنه لا مانع من إرادة الحقيقة واستحداث إسلامهما معا على معنى أنه عليه السلام وافقها أو لقنها وليس بشيء كما لا يخفى.
وقيل يراد بالسعي على تقدير تعلق مع ببلغ المسعى وهو الجبل المقصود إليه بالمشي وهو تكلف لا يصار إليه.
وبالجملة الأولى تعلقها بالسعي، والتخصيص لأن الأب أكمل في الرفق وبالاستصلاح له فلا يستسعيه قبل أو أنه أو لأنه عليه السلام استوهبه لذلك، وفيه على الأول بيان أوانه وأنه في غضاضة عوده كان فيه ما فيه من رصانة العقل ورزانة الحلم حتى أجاب بما أجاب، وعلى الثاني بيان استجابة دعائه عليه السلام وكان للغلام يومئذ ثلاث عشرة سنة والولد أحب ما يكون عند أبيه في سن يقدر فيه على إعانة الأب وقضاء حاجة ولا يقدر فيه على العصيان * (قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك) * يحتمل أنه عليه السلام رأى في منامه أنه فعل ذبحه فحمله على ما هو الأغلب في رؤيا الأنبياء عليهم السلام من وقوعها بعينها، ويحتمل أنه رأى ما تأويل ذلك لكن لم يذكره وذكر التأويل كما يقول الممتحن وقد رأى أنه راكب في سفينة رأيت في المنام أني ناج من هذه المحنة، وقيل إنه رأى معالجة الذبح ولم ير إنهار الدم فأني أذبحك إني أعالج ذبحك، ويشعر صنيع بعضهم اختيار أنه عليه السلام أتى في المنام فقيل له اذبح ابنك ورؤيا الأنبياء وحي كالوحي في اليقظة، وفي رواية أنه رأى ليلة التروية كأن قائلا يقول إن الله تعالى يأمرك بذبح ابنك فلما أصبح روأ في ذلك وفكر من الصباح إلى الرواح أمن الله تعالى هذا الحلم أم من الشيطان فمن ثم سمي يوم التروية فلما أمسى رأي مثل ذلك فعرف أنه من الله تعالى فمن ثم سمي يوم عرفة ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره فسمي يوم النحر، وقيل إن الملائكة حين بشرته بغلام حليم قال هو إذن ذبيح الله فلما ولد وبلغ حد السعي معه قيل له أوف بنذرك، ولعل هذا القول كان في المنام وإلا فما يصنع بقوله: * (إني أرى في المنام أني أذبحك) * (الصافات: 102) وفي كلام التوراة التي بأيدي اليهود اليوم ما يرمز إلى أن الأمر بالذبح كان ليلا فإنه بعد أن ذكر قول الله تعالى له عليه السلام خذ ابنك وامض إلى بلد العبادة وأصعده ثم قربانا على أحد الجبال الذي أعرفك به قيل فأدلج إبراهيم بالغداة الخ فالأمر إما مناما وإما يقطة لكن وقع تأكيدا لما في المنام إذ لا محيص عن الايمان بما قصه الله تعالى علينا فيما أعجز به الثقلين من القرآن والحزم الجزم بكونه في المنام لا غير إذ لا يعول على ما في أيدي اليهود وليس في الأخبار الصحيحة ما يدل على وقوعه يقطة أيضا.
128

ولعل السر في كونه مناما لا يقظة أن تكون المبادرة إلى الامتثال أدل على كمال الانقياد والإخلاص.
وقيل: كان ذلك في المنام دون اليقظة ليدل على أن حالتي الأنبياء يقظة ومناما سواء في الصدق، والأول أولى، والتأكيد لما في تحقق المخبر به من الاستبعاد، وصيغة المضارع في الموضعين قيل لاستحضار الصورة الماضية لنوع غرابة، وقيل: في الأول لتكرر الرؤية وفي الثاني للاستحضار المذكور أو لتكرر الذبح حسب تكرر الرؤيا أو للمشاكلة؛ ومن نظر بعد ظهر له غير ذلك.
* (فانظر ماذا ترى) * من الرأي؛ وإنما شاوره في ذلك وهو حتم ليعلم ما عنده فيما نزل من بلاء الله عز وجل فيثبت قدمه إن جزع ويأمن عليه إن سلم وليوطن نفسه عليه فيهون عليه ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله تعالى قبل نزوله وليكون سنة في المشاورة، فقد قيل: لو شاور آدم الملائكة في أكله من الشجرة لما فرط منه ذلك، وقرأ حمزة. والكسائي * (ماذا ترى) * بضم التاء وكسر الراء خالصة أي ما الذي تريني إياه من الصبر وغيره أو أي شيء تريني على أن ما مبتدأ وذا موصول خبره ومفعولي ترى محذوفان أو ماذا كالشيء الواحد مفعول ثان لترى والمفعول الأول محذوف، وقرىء * (ماذا ترى) * بضم التاء وفتح الراء على البناء للمفعول أي ماذا تريك نفسك من الرأي، و * (انظر) * في جميع القراءات معلقة عن العمل وفي * (ماذا) * الاحتمالان فلا تغفل.
* (قال يا أبت افعل ما تؤمر) * أي الذي تؤمر به فحذف الجار والمجرور دفعة أو حذف الجار أولا فعدى الفعل بنفسه نحو أمرتك الخير ثم حذف المجرور بعد أن صار منصوبا ثانيا، والحذف الأول شائع مع الأمر حتى كاد يعد متعديا بنفسه فكأنه لم يجتمع حذفان أو افعل أمرك على أن ما مصدرية والمرادب المصدر الحاصل بالمصدر أي المأمور به، ولا فرق في جواز إرادة ذلك من المصدر بين أن يكون صريحا وأن يكون مسبوكا.
وإضافته إلى ضمير إبراهيم إضافة إلى المفعول ولا يخفى بعد هذا الوجه، وهذا الكلام يقتضي تقدم الأمر وهو غير مذكور فإما أن يكون فهم من كلامه عليه السلام أنه رأى أنه يذبحه مأمورا أو علم أن رؤيا الأنبياء حق وأن مثل ذلك لا يقدمون عليه إلا بأمر، وصيغة المضارع للإيذان بغرابة ذلك مثلها في كلام إبراهيم على وجه وفيه إشارة إلى أن ما قاله لم يكن إلا عن حلم غير مشوب بجهل بحال المأمور به، وقيل: للدلالة على أن الأمر متعلق به متوجه إليه مستمر إلى حين الامتثال به، وقيل: لتكرر الرؤيا، وقيل: جىء بها لأنه لم يكن بعد أمر وإنما كانت رؤيا الذبح فأخبره بها فعلم لعلمه بمقام أبيه وأنه ممن لا يجد الشيطان سبيلا بإلقاء الخيالات الباطلة إليه في المنام أنه سيكون ذلك ولا يكون إلا بأمر إلهي فقال له افعل ما تؤمر بعد من الذبح الذي رأيته في منامك، ولما كان خطاب الأب * (يا بني) * على سبيل الترجم قال هو * (يا أبت) * على سبيل التوقير والتعظيم ومع ذلك أتى بجواب حكيم لأنه فوض الأمر حيث استشاره فأجاب بأنه ليس مجازها وإنما الواجب إمضاء الأمر.
* (ستجدني إن شاء الله من الص‍ابرين) * على قضاء الله تعالى ذبحا كان أو غيره، وقيل: على الذبح والأول أولى للعموم ويدخل الذبح دخولا أوليا، وفي قوله: * (من الصابرين) * دون صابرا وإن كانت رؤوس الآي تقتضي ذلك من التواضع ما فيه، قيل ولعله وفق للصبر ببركته مع بركة الاستثناء وموسى عليه السلام لما لم يسلك هذا المسلك من التواضع في قوله: * (ستجدني إن شاء الله صابرا) * (الكهف: 69) حيث لم ينظم نفسه الكريمة في سلك
129

الصابرين بل أخرج الكلام على وجه لا يشعر بوجود صابر سواه لم يتيسر له الصبر مع أنه لم يهمل أمر الاستثناء. وفيه أيضا إغراء لأبيه عليه السلام على الصبر لما يعلم من شفقته عليه مع عظم البلاء حيث أشار إلى أن لله تعالى عبادا صابرين وهي زهرة ربيع لا تتحمل الفرك.
* (فلما أسلما وتله للجبين) *.
* (فلما أسلما) * أي استسلما وانقادا لأمر الله تعالى فالفعل لازم أو سلم الذبيح نفسه وإبراهيم ابنه على أنه متعد والمفعول محذوف.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس. وعبد الله. ومجاهد. والضحاك. وجعفر بن محمد. والأعمش. والثوري * (سلما) * وخرجت على ما سمعت، ويجوز أن يكون المعنى فوضا إليه تعالى في قضائه وقدره، وقرىء * (استسلما) * وأصل الأفعال الثلاثة سلم هذا لفلان إذا خلص له فإنه سلم من أن ينازع فيه * (وتله للجبين) * صرعه على شقه فوقع جبينه على الأرض، وأصل التل الرمي على التل وهو التراب المجتمع ثم عمم في كل صرع، والجبين أحد جانبي الجبهة وشذ جمعه على أجبن وقياسه في القلة أجبنة ككثيب وأكثبة وفي الكثرة جبنان وجبن ككثبان وكثب، واللام لبيان ما خر عليه كما في قوله تعالى: * (يخرون للأذقان) * (الإسراء: 107) وقوله: وخر صريعا لليدين وللفم
وليست للتعدية، وقيل المراد كبه على وجهه وكان ذلك بإشارة منه. أخرج غير واحد عن مجاهد أنه قال لأبيه: لا تذبحني وأنت تنظر إلى وجهي عسى أن ترحمني فلا تجهز علي اربط يدي إلى رقبتي ثم ضع وجهي للأرض ففعل فكان ما كان، ولا يخفى أن إرادة ذلك من الآية بعيد، نعم لا يبعد أن يكون الذبيح قال هذا.
وفي الآثار حكاية أقوال غير ذلك أيضا، منها ما في خبر للسدي أنه قال لأبيه عليهما السلام: يا أبت اشدد رباطي حتى لا اضطرب واكفف عني ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمي شيء فتراه أمي فتحزن وأسرع مر السكين على حلقي فيكون أهون للموت علي فإذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام مني فأقبل عليه إبراهيم يقبله. وكل منهما يبكي، ومنها ما في حديث أخرجه أحمد. وجماعة عن ابن عباس أنه قال لأبيه وكان عليه قميص أبيض يا أبت ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره فاخلعه حتى تكفنني فيه فعالجه ليخلعه فكان ما قص الله عز وجل.
وكان ذلك عند الصخرة التي بمنى، وعن الحسن في الموضع المشرف على مسجد منى، وعن الضحاك في المنحر الذي ينحر فيه اليوم، وقيل كان ببيت المقدس وحكي ذلك عن كعب، وحكى الإمام مع هذا القول أنه كان بالشام.
* (ون‍ادين‍اه أن ياإبراهيم * قد صدقت الرؤيآ إنا كذلك نجزى المحسنين) *.
* (وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا) * قيل ناداه من خلفه ملك من قبله تعالى بذلك، و * (أن) * مفسرة بمعنى أي وقرأ زيد بن علي قد صدقت بحذفها،
وقرىء * (صدقت) * بالتخفيف، وقرأ فياض * (الريا) * بكسر الراء والإدغام، وتصديقه عليه السلام الرؤيا توفيته حقها من العمل وبذل وسعه في إيقاعها وذلك بالعزم والإتيان بالمقدمات ولا يلزم فيه وقوع ما رآه بعينه، وقيل هو إيقاع تأويلها وتأويلها ما وقع، ويفهم من كلام الإمام أنه الاعتراف بوجوب العمل بها، ولا يدل على الإتيان بكل ما رآه في المنام، وهل أمر عليه السلام الشفرة على حلقه أم لا قولان ذهب إلى الثاني منهما كثير من الأجلة، وقد أخرج الإمام أحمد عن ابن عباس أنه عليه السلام لما أخذ الشفرة وأراد أن يذبحه نودي من خلفه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، وأخرج هو. وابن جرير. وابن أبي حاتم. والطبراني. وابن مردويه. والبيهقي في " شعب الإيمان " عنه أنه عالج قميصه ليخلعه فنودي بذلك.
وأخرج ابن المنذر. والحاكم وصححه من طريق مجاهد عنه أيضا فلما أدخل يده ليذبحه فلم يحمل المدية حتى نودي أن يا أبراهيم قد صدقت الرؤيا فأمسك يده، وأخرج عبد بن حميد. وغيره عن مجاهد فلما أدخل يده ليذبحه
130

نودي أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا فأمسك يده ورفع رأسه فرأى الكبش ينحط إليه حتى وقع عليه فذبحه، وفي رواية أخرى عنه أخرجها عبد بن حميد أيضا. وابن المنذر أنه أمر السكين فانقلبت، وإلى عدم الإمرار ذهبت اليهود أيضا لما في توراتهم مد إبراهيم يده فأخذ السكين فقال له ملاك الله من السماء قائلا: يا إبراهيم يا إبراهيم قال: لبيك قال: لا تمد يدك إلى الغلام ولا تصنع به شيئا، وذهب إلى الأول طائفة فمنهم من قال: أنه أمرها ولم تقطع مع عدم المانع لأن القطع بخلق الله تعالى فيها أو عندها عادة وقد لا يخلق سبحانه، ومنهم من قال: أنه أمرها ولم تقطع مع عدم المانع لأن القطع بخلق الله تعالى فيها أو عندها عادة وقد لا يخلق سبحانه، ومنهم من قال: أنه أمرها ولم تقطع لمانع، فقد أخرج سعيد بن منصور. وابن المنذر عن عطاء بن يسار أنه عليه السلام قام إليه بالشفرة فبرك عليه فجعل الله تعالى ما بين لبته إلى منحره نحاسا لا تؤثر فيه الشفرة، وأخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عن السدي أنه عليه السلام جر السكين على حلقه فلم ينحر وضرب الله تعالى على حلقه صفيحة من نحاس، وأخرج الخطيب في تالي التلخيص عن فضيل بن عياض قال: أضجعه ووضع الشفرة فقلبها جبريل عليه السلام، وأخرج الحاكم بسند فيه الواقدي عن عطاء أنه نحر في حلقه فإذا هو قد نحر في نحاس فشحذ الشفرة مرتين أو ثلاثا بالحجر، وضعف جميع ذلك. وقيل إنه عليه السلام ذبح لكن كان كلما قطع موضعا من الحق أوصله الله تعالى، وزعموا ورود ذلك في بعض الأخبار ولا يكاد يصح، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ما يتعلق بهذا المقام من الكلام، وجواب لما محذوف مقدر بعد * (صدقت الرؤيا) * أي كان ما كان مما تنطق به الحال ولا يحيط به المقال من استبشارهما وشكرهما الله تعالى على ما أنعم عليهما من دفع البلاء بعد حلوله والتوفيق لما لم يوفق غيرهما لمثله وإظهار فضلهما مع إحراز الثواب العظيم إلى غير ذلك؛ وهو أولى من تقدير فإذا ونحوه، وقدره بعض البصريين بعد * (وتله للجبين) * أي أجز لنا أجرهما، وعن الخليل. وسيبويه تقديره قبل * (وتله) * قال في " البحر ": والتقدير فلما أسلما أسلما وتله، وقال ابن عطية: وهو عندهم كقول امرىء القيس: فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
أي أجزنا وانتحى، وهو كما ترى، وقال الكوفيون: الجواب مثبت وهو * (وناديناه) * على زيادة الواو، وقالت فرقة: هو و * (تله) * على زيادتها أيضا، ولعل الأولى ما تقدم.
وقوله تعالى: * (إنا كذلك نجزي المحسنين) * ابتداء كلام غير داخل في النداء وهو تعليل لإفراج تلك الشدة المفهوم من الجواب المقدر أو من الجواب المذكور أعني نادينا الخ على القول بأنه الجواب أو منه وإن لم يكن الجواب والعلة في المعنى إحسانهما، وكونه تعليلا لما انطوى عليه الجواب من الشكر ليس بشيء.
* (إن ه‍اذا لهو البلاء المبين) *.
* (إن ه‍اذا لهو البلاء المبين) * أي الابتلاء والاختبار البين الذي يتميز فيه المخلص من غيره أو المحنة البينة وهي المحنة الظاهرة صعوبتها وما وقع لا شيء أصعب منه ولا تكاد تخفى صعوبته على أحد ولله عز وجل أن يبتلي من شاء بما شاء وهو سبحانه الحكيم الفعال لما يريد. ولعل هذه الجملة لبيان كونهما من المحسنين، وقيل لبيان حكمة ما نالهما، وعلى التقديرين هي مستأنفة استئنافا بيانيا فليتدبر.
* (وفدين‍اه بذبح عظيم) *.
* (وفديناه بذبح) * بحيوان يذبح بدله * (عظيم) * قيل أي عظيم الجثة سمين وهو كبش أبيض أقرن أعين وفي رواية أملح بدل أبيض، وعن الحسن أنه وعل أهبط عن ثبير، والجمهور على الأول ووافقهم الحسن في رواية رواها عنه ابن أبي حاتم وفيها أن اسمه حرير، واليهود على أنه كبش أيضا. وفسر المعظم العظيم بعظيم القدر
131

وذلك على ما روي عن ابن عباس لأنه الكبش الذي قربه هابيل فتقبل منه وبقي يرعى في الجنة إلى يوم هذا الفداء، وفي رواية عنه وعن ابن جبير أنهما قالا: عظمه كونه من كباش الجنة رعى فيها أربعين خريفا.
وقال مجاهد وصف بالعظم لأنه متقبل يقينا، وقال الحسن بن الفضل: لأنه كان من عند الله عز وجل، وقال أبو بكر الوراق: لأنه لم يكن عن نسل بل عن التكوين؛ وقال عمرو بن عبيد: لأنه جرت السنة به وصار دينا باقيا آخر الدهر، وقيل لأنه فدى به نبي وابن نبي، وهبوطه من ثبير كما قال الحسن في الوعل وجاء ذلك في رواية عن ابن عباس.
وفي رواية عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه وجده عليه السلام قد ربط بسمرة في أصل ثبير. وعن عطاء بن السائب أنه قال: كنت قاعدا بالمنحر فحدثني قرشي عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: إن الكبش نزل على إبراهيم في هذا المكان. وفي رواية عن ابن عباس أنه خرج عليه كبش من الجنة قد رعى فيها أربعين خريفا فأرسل إبراهيم عليه السلام ابنه واتبعه فرماه بسبع حصيات وأحرجه عند الجمرة الأولى فأفلت ورماه بسبع حصيات وأحرجه عند الجمرة الوسطى فأفلت
ورماه بسبع حصيات وأحرجه عند الجمرة الكبرى فأتى به المنحر من منى فذبح قيل وهذا أصل سنية رمي الجمار، والمشهور أن أصل السنية رمي الشيطان هناك ففي خبر عن قتادة أن الشيطان أراد أن يصيب حاجته من إبراهيم وابنه يوم أمر بذبحه فتمثل بصديق له فأراد أن يصده عن ذلك فلم يتمكن فتعرض لابنه فلم يتمكن فأتى الجمرة فانتفخ حتى سد الوادي ومع إبراهيم ملك فقال له: ارم يا إبراهيم فرمى بسبع حصيات يكبر في أثر كل حصاة فافرج له عن الطريق ثم انطلق حتى أتى الجمرة الثانية فسد الوادي أيضا فقال الملك: ارم يا إبراهيم فرمى كما في الأولى وهكذا في الثالثة، وظاهر الآية أن الفداء كان بحيوان واحد وهو المعروف. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس أنه فدى بكبشين أملحين أقرنين أعينين ولا أعرف له صحة، ويراد بالذبح عليه لو صح الجنس، والفادي على الحقيقة إبراهيم عليه السلام، وقال سبحانه: * (فديناه) * على التجوز في الفداء أي أمرنا أو أعطينا أو في إسناده إليه تعالى، وجوز أن يكون هناك استعارة مكنية أيضا، وفائدة العدول عن الأصل التعظيم.
* (وتركنا عليه فى الاخرين * سل‍ام على إبراهيم) *.
* (وتركنا عليه في الآخرين * سلام على إبراهيم) * سبق ما يعلم منه بيانه عند تفسير نظيره في آخر قصة نوح، ولعل ذكر في العالمين هناك وعدم ذكره هنا لما أن لنوح عليه السلام من الشهرة لكونه كآدم ثان للبشر ونجاة من نجا من أهل الطوفان ببركته ما ليس لإبراهيم عليه السلام.
* (كذلك نجزى المحسنين) *.
* (كذلك نجزي المحسنين) * ذلك إشارة إلى إبقاء ذكره الجميل فيما بين الأمم لا إلى ما يشير إليه فيما سبق فلا تكرار وطرح هنا * (إنا) * قيل مبالغة في دفع توهم اتحاده مع ما سبق كيف وقد سيق الأول تعليلا لجزاء إبراهيم وابنه عليهما السلام بما أشير إليه قبل وسيق هذا تعليلا لجزاء إبراهيم وحده بما تضمنه قوله تعالى: * (وتركنا عليه) * الخ وما ألطف الحذف هنا اقتصارا حيث كان فيما قبله ما يشبه ذلك من عدم ذكر الابن والاقتصار على إبراهيم.
وقيل لعل ذلك اكتفاء بذكر * (أنا) * مرة في هذه القصة، وقال بعض الأجلة: إنه للإشارة إلى أن قصة إبراهيم عليه السلام لم تتم فإن ما بعد من قوله تعالى: * (وبشرناه بإسحق) * (الصافات: 112) الخ من تكملة ما يتعلق به عليه السلام بخلاف سائر القصص التي جعل * (إنا كذلك نجزي المحسنين) * (الصافات: 80) مقطعا لها فإن ما بعد ليس مما يتعلق بما قبل ومع هذا لم تخل القصة من مثل تلك الجملة بجميع كلماتها وسلك فيها هذا المسلك اعتناء بها فتأمل [بم وقوله تعالى:
* (إنه من عبادنا المؤمنين) *.
* (إنه من عبادنا المؤمنين) *
132

الكلام فيه كما تقدم.
* (وبشرن‍اه بإسح‍اق نبيا من االص‍الحين) *.
* (وبشرناه بإسح‍اق نبيا) * حال من إسحاق، وكذا قوله تعالى: * (من الصالحين) * وفي ذلك تعظيم شأن الصلاح، وفي تأخيره إيماء إلى أنه الغاية لها لتضمنها معنى الكمال والتكميل، والمقصود منهما الإتيان بالأفعال الحسنة السديدة وهو في الاستعمال يختص بها. وجوز كون * (من الصالحين) * حالا وكون * (نبيا) * حالا من الضمير المستتر فيه، وقدم في اللفظ للاهتمام ولئلا تختل رؤوس الآي وفيه من البعد ما فيه، على أن في جواز تقديم الحال مطلقا أو إطراده في مثل هذا التركيب كلاما لا يخفى على من راجع الألفية وشروحها وفيه ما فيه بعد، وجوز أيضا كونه في موضع الصفة لنبيا والكلام على الأول وهو الذي عليه الجمهور أمدح كما لا يخفى، والمراد كونه نبيا وكونه من الصالحين في قضاء الله تعالى وتقديره أي مقضيا كونه نبيا مقضيا كونه من الصالحين وإن شئت فقل مقدرا ولا يكونان بذلك من الحال المقدرة التي تذكر في مقابلة المقارنة بل هما بهذا الاعتبار حالان مقارنان للعامل وهو فعل البشارة أو شيء آخر محذوف أي بشرناه بوجود إسحاق نبيا الخ، وأوجب غير واحد تقدير ذلك معللا بأن البشارة لا تتعلق بالأعيان بل بالمعاني. وتعقب بأنه إن أريد أنها لا تستعمل إلا متعلقة بالأعيان فالواقع خلافه كبشر أحدهم بالأنثى، فإن قيل إنما يصح بتقدير ولادة ونحوه من المعاني فهو محل النزاع فلا وجه له، والذي يميل إليه القلب أن المعنى على إرادة ذلك، وربما يدعى أن معنى البشارة تستدعي تقدير معنى من المعاني، وقيل هما حالان مقدران كقوله تعالى: * (ادخلوها خالدين) * وفيه بحث.
* (وباركنا عليه وعلى إسح‍اق ومن ذريتهما محسن وظ‍الم لنفسه مبين) *.
* (وباركنا عليه) * أي على إبراهيم عليه السلام * (وعلى إسحاق) * أي أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا بأن كثرنا نسلهما وجعلنا منهم أنبياء ورسلا.
وقرىء * (بركنا) * بالتشديد للمبالغة * (ومن ذريتهما محسن) * في عمله أو على نفسه بالإيمان والطاعة.
* (وظالم لنفسه) * بالكفر والمعاصي ويدخل فيها ظلم الغير * (مبين) * ظاهر ظلمه، وفي ذلك تنبيه على أن النسب لا أثر له في الهدى والضلال وأن الظلم في الأعقاب لا يعود على الأصول بنقيصة وعيب، هذا وفي الآيات بعد أبحاث * (الأول) * أنهم اختلفوا في الذبيح فقال - على ما ذكره الجلال السيوطي في رسالته القول الفصيح في تعيين الذبيح - علي. وابن عمر، وأبو هريرة. وأبو الطفيل. وسعيد بن جبير. ومجاهد. والشعبي. ويوسف بن مهران. والحسن البصري. ومحمد بن كعب القرظي. وسعيد بن المسيب. وأبو جعفر الباقر. وأبو صالح. والربيع بن أنس. والكلبي. وأبو عمرو بن العلاء. وأحمد بن حنبل وغيرهم أنه إسماعيل عليه السلام لا إسحاق عليه السلام وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس ورجحه جماعة خصوصا غالب المحدثين وقال أبو حاتم: هو الصحيح، وفي الهدى أنه الصواب عند علماء الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وسئل أبو سعيد الضرير عن ذلك فأنشد: إن الذبيح هديت إسماعيل * نص الكتاب بذاك والتنزيل
شرف به خص الإله نبينا * وأتى به التفسير والتأويل
إن كنت أمته فلا تنكر له * شرفا به قد خصه التفضيل
وفي دعواه النص نظر وهو المشهور عند العرب قبل البعثة أيضا كما يشعر به أبيات نقلها الثعالبي في تفسير عن أمية بن أبي الصلت واستدل له بأنه الذي وهب لإبراهيم عليه السلام أثر الهجرة وبان البشارة بإسحاق
133

بعد معطوفة على البشارة بهذا الغلام، والظاهر التغاير فيتعين كونه إسماعيل وبأنه بشر بأن يوجد وينبأ فلا يجوز ابتلاء إبراهيم عليه السلام بذبحه لأنه علم أن شرط وقوعه منتف، والجواب بأن الأول بشارة بالوجود وهذا بشارة بالنبوة ولكن بعد الذبح - قال صاحب الكشف - ضعيف لأن نظم الآية لا يدل على أن البشارة بنبوته بل على أن البشارة بأمر مقيد بالنبوة فإما أن يقدر بوجود إسحاق بعد الذبح ولا دلالة في اللفظ عليه وإما أن يقدر الوجود مطلقا وهو المطلوب، فإن قلت: يكفي الدلالة تقدم البشارة بالوجود أولا قلت: ذاك عليك لا لك ومن يسلم أن المتقدم بشارة بإسحاق حتى يستتب لك المرام وبأن البشارة به وقعت مقرونة بولادة يعقوب منه على ما هو الظاهر في قوله تعالى في هود: * (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) * (هود: 71) ومتى بشر بالولد وولد الولد دفعة كيف يتصور الأمر بذبح الولد مراهقا قبل ولادة ولده، ومنع كونه إذ ذاك مراهقا لجواز أن يكون بالغا كما ذهب إليه اليهود قد ولد له يعقوب وغيره مكابرة لا يلتفت إليها وبأنه تعالى وصف إسماعيل عليه السلام بالصبر في قوله سبحانه: * (وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين) * (الأنبياء: 85) وبأنه عز وجل وصفه بصدق الوعد في قوله تعالى: * (إنه كان صادق الوعد) * (مريم: 54) ولم يصف سبحانه إسحاق بشيء منهما فهو الأنسب دونه بأن يقول القائل: * (يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين) * (الصافات: 102) المصدق قوله بفعله وبأن ما وقع كان بمكة وإسماعيل هو الذي كان فيها وبأن قرني الكبش كانا معلقين في الكعبة حتى احترقا معها أيام حصار الحجاج بن الزبير رضي الله تعالى عنه وكانا قد توارثهما قريش خلفا عن سلف، والظاهر أن ذاك لم يكن منهم إلا للفخر ولا يتم لهم إذا كان الكبش فدى لإسحاق دون أبيهم إسماعيل، وبأنه روى الحاكم في " المستدرك " وابن جرير في تفسيره. والأموي في مغازيه. والخلعي في فوائده من طريق إسماعيل بن أبي كريمة عن عمر بن أبي محمد الخطابي عن العتبي عن أبيه عن عبد الله بن سعيد الصنابحي قال: حضرنا مجلس معاوية فتذاكر القوم إسماعيل وإسحاق أيهما الذبيح؟ فقال بعض القوم: إسماعيل وقال بعضهم: بل إسحاق فقال معاوية: على الخبير سقطتم كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه أعرابي فقال: يا رسول الله خلفت الكلأ يابسا والماء عابسا هلك العيال وضاع المال فعد على مما أفاء الله تعالى عليك يا ابن الذبيحين فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه فقال القوم: من الذبيحان يا أمير المؤمنين؟ قال: إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر لله تعالى إن سهل أمرها أن ينحر بعض بنيه فلما فرغ أسهم بينهم فكانوا عشرة فخرج السهم على عبد الله فأراد أن ينحره فمنعه أخواله بنو مخزوم وقالوا: أرض ربك وافد ابنك ففداه بمائة ناقة قال معاوية: هذا واحد والآخر إسماعيل وبأنه ذكر في التوراة أن الله تعالى امتحن إبراهيم فقال له: يا إبراهيم فقال: لبيك قال: خذ ابنك وحيدك الذي تحبه وامض إلى بلد العبادة وأصعده ثم قربانا على أحد الجبال الذي أعرفك به فإن معنى وحيدك الذي ليس لك وغيره لا يصدق ذلك على إسحاق حين الأمر بالذبح لأن إسماعيل كان موجودا إذ ذاك لأنه ولد لإبراهيم على ما في التوراة وهو ابن ست وثمانين سنة وولد إسحاق على ما فيها أيضا وهو ابن مائة سنة، وأيضا قوله تعالى الذي تحبه أليق بإسماعيل لأن أول ولد له من المحبة في الأغلبة ما ليس لمن بعده من الأولاد، ويعلم مما ذكر أن ما في التوراة الموجودة بأيدي اليهود اليوم من ذكر هو إسحاق بعد الذي تحبه من زياداتهم وأباطيلهم التي أدرجوها في كلام الله تعالى إذ لا يكاد يلتئم مع ما قبله، وأجاب بعض اليهود عن ذلك بأن إطلاق الوحيد على إسحاق لأن
134

إسماعيل كان إذ ذاك بمكة وهو تحريف وتأويل باطل لأنه لا يقال الوحيد وصفا للابن إلا إذا كان واحدا في البنوة ولم يكن له شريك فيها، وقال لي بعض منهم: إن إطلاق ذلك عليه لأنه كان واحدا لأمه ولم يكن لها ابن غيره فقلت: يبعد ذلك كل التبعيد إضافته إلى ضمير إبراهيم عليه السلام، ويؤيد ما قلنا ما قاله ابن إسحاق ذكر محمد بن كعب أن عمر بن عبد العزيز أرسل إلى رجل كان يهوديا فأسلم وحسن إسلامه وكان من علمائهم فسأله أي ابن إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال إسماعيل: والله يا أمير المؤمنين وأن يهود لتعلم بذلك ولكنهم يحسدونكم معشر العرب، وذكر ابن كثير أن في بعض نسخ التوراة بكرك بدل وحيدك وهو أظهر في المطلوب، وقيل: هو إسحاق ونسبه القرطبي للأكثرين وعزاه البغوي. وغيره إلى عمر. وعلي. وابن مسعود. والعباس. وعكرمة. وسعيد بن جبير. ومجاهد. والشعبي. وعبيد بن عمير. وأبي ميسرة. وزيد بن أسلم. وعبد الله بن شقيق. والزهري. والقاسم بن يزيد. ومكحول. وكعب. وعثمان بن حاضر. والسدي. والحسن. وقتادة. وأبي الهذيل. وابن سابط. ومسروق. وعطاء. ومقاتل وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس واختاره أبو جعفر بن جرير الطبري وجزم به القاضي عياض في الشفاء. والسهيلي في التعريف والأعلام واستدل له بأنه لم يذكر الله تعالى أنه بشر بإسماعيل قبل كونه فهو إسحاق لثبوته بالنص ولأنه لم تكن تحته هاجر أم إسماعيل فالمدعو ولد من سارة، وأجيب بأنه كفى هذه الآية دليلا على أنه مبشر به أيضا لأن قوله تعالى: * (وبشرناه بإسحاق) * بعد استيفاء هذه القصة وتذييلها بما ذيل ظاهر الدلالة على أن هنالك بشارتين متغايرتين ثم عدم الذكر لا يدل على عدم الوجود ولا يلزم أن يكون طلب ولد من سارة ولا علم أنه عليه السلام دعا بذلك قبل أن وهبت هاجر منه لأنها أهديت إليه في حران قبل الوصول إلى الشام على أن البشارة بإسحاق كانت في الشام نصا فظاهر هذه الآية أنها قبل الوصول إليها لأن البشارة عقيب الدعاء وكان قبل الوصول إلى الشام قاله في " الكشف ".
وبما رواه ابن جرير عن أبي كريب عن زيد بن حباب عن الحسن بن دينار عن علي بن زيد بن جدعان عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الذبيح إسحاق ".
وتعقب بأن الحسن بن دينار متروك وشيخه منكر الحديث، وبما أخرج الديلمي في مسند الفردوس من طريق عبد الله بن ناجية عن محمد بن حرب النسائي عن عبد المؤمن
بن عباد عن الأعمش عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن داود سأل ربه مسألة فقال اجعلني مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب فأوحى الله تعالى إليه إني ابتليت إبراهيم بالنار فصبر وابتليت إسحاق بالذبح فصبر وابتليت يعقوب فصبر " وبما أخرجه الدارقطني. والديلمي في مسند الفردوس من طريقه عن محمد بن أحمد بن إبراهيم الكاتب عن الحسين بن فهم عن خلف بن سالم عن بهز بن أسد عن شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذبيح إسحاق " وبما أخرجه الطبراني في الأوسط. وابن أبي حاتم في تفسيره من طريق الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى خيرني بين أن يغفر لنصف أمتي أو شفاعتي فاخترت شفاعتي ورجوت أن تكون أعم لأمتي ولولا الذي سبقني إليه العبد الصالح لعجلت دعوتي إن الله تعالى لما فرج عن إسحاق كرب الذبح قيل له: يا إسحاق سل تعطه قال: أما والله لأتعجلنها قبل نزغات الشيطان
135

اللهم من مات لا يشرك بك شيئا قد أحسن فاغفر له " وتعقب هذا بأن عبد الرحمن ضعيف، وقال ابن كثير الحديث غريب منكر وأخشى أن يكون فيه زيادة مدرجة وهي قوله: إن الله تعالى لما فرج الله الخ وإن كان محفوظا فالأشبه أن السياق عن إسماعيل وحرفوه بإسحاق إلى غير ذلك من الأخبار وفيها من الموقوف والضعيف والموضوع كثير، ومتى صح حديث مرفوع في أنه إسحاق قبلناه ووضعناه على العين والرأس.
والذاهبون إلى هذا القول يدعون صحة شيء منها في ذلك. وأجيب عن بعض ما استدل به للأول بأن وقوع القصة بمكة غير مسلم بل كان ذلك بالشام وتعليق القرنين في الكعبة لا يدل على وقوعها بمكة لجواز أنهما نقلا من بلاد الشام إلى مكة فعلقا فيها، وعلى تسليم الوقوع بمكة لا مانع من أن يكون إبراهيم قد سار به من الشام إليها بل قد روي القول به، أخرج عبد الله بن أحمد في " زوائد الزهد " عن سعيد بن جبير قال: لما رأى إبراهيم في المنام ذبح إسحاق سار به من منزله إلى المنحر بمنى مسيرة شهر في غداة واحدة فلما صرف عنه الذبح وأمر بذبح الكبش ذبحه ثم راح به رواحا إلى منزله في عشية واحدة مسيرة شهر طويت له الأودية والجبال، وأمر الفخر لو سلم ليس بالاستدلال به كثير فخر، والخبر الذي فيه يا ابن الذبيحين غريب وفي إسناده من لا يعرف حاله وفيه ما هو ظاهر الدلالة على عدم صحته من قوله فلما فرغ أسهم بينهم فكانوا عشرة فخرج السهم على عبد الله فإن عبد الله بإجماع أهل الإخبار لم يكن مولودا عند حفر زمزم، وقصة نذر عبد المطلب ذبح أحد أولاده تروى بوجه آخر وهو أنه نذر الذبح إذا بلغ أولاده عشرا فلما بلغوها بولادة عبد الله كان ما كان.
وما شاع من خبر أنا ابن الذبيحين قال العراقي: لم أقف عليه، والخبر السابق بعد ما عرف حاله لا يكفي لثبوته حديثا فلا حاجة إلى تأويله بأنه أريد بالذبيحين فيه إسحاق وعبد الله بناء على أن الأب قد يطلق على العم أو أريد بهما الذابحان وهما إبراهيم وعبد المطلب يحمل فعيل على معنى فاعل لا مفعول، وحمل هؤلاء * (وبشرناه بإسحاق نبيا) * على البشارة بنبوته وما تقدم على البشارة بأن يوجد قبل ولما كان التبشير هناك قبل الولادة والتسمية إنما تكون بعدها في الأغلب لم يسم هناك وسماه هنا لأنه بعد الولادة واستأنس للاتحاد بوصفه بكونه من الصالحين لأن مطلوبه كان ذلك فكأنه قيل له هذا الغلام الذي بشرت به أولا هو ما طلبته بقولك: * (رب هب لي من الصالحين) * (الصافات: 100) وأنت تعلم أن حمله على البشارة بالنبوة خلاف الظاهر إذ كان الظاهر أن يقال لو أريد ذلك بشرناه بنبوته ونحوه. وتقدير أن يوجد نبيا لا يدفعه كما لا يخفى وكذا وصفه بالصلاح الذي طلبه فتأمل.
ومن العلماء من رأى قوة الأدلة من الطرفين ولم يترجح شيء منها عنده فتوقف في التعيين كالجلال السيوطي عليه الرحمة فإنه قال في آخر رسالته السابقة: كنت ملت إلى القول بأن الذبيح إسحاق في التفسير وأنا الآن متوقف عن ذلك، وقال بعضهم كما نقله الخفاجي: إن في الدلالة على كونه إسحاق أدلة كثيرة وعليه جملة أهل الكتاب ولم ينقل في الحديث ما يعارضه فلعله وقع مرتين مرة بالشام لإسحاق ومرة بمكة لإسماعيل عليهما السلام، والتوقف عندي خير من هذا القول، والذي أميل أنا إليه أنه إسماعيل عليه السلام بناء على أن ظاهر الآية يقتضيه وأنه المروى عن كثير من أئمة أهل البيت ولم أتيقن صحة حديث مرفوع يقتضي خلاف ذلك، وحال أهل الكتاب لا يخفى على ذوي الألباب.
136

البحث الثاني: أنه استدل بما في القصة على جواز النسخ قبل الفعل وهو مذهب كثير من الأصوليين وخالف فيه المعتزلة والصيرفي، ووجه الاستدلال على ما قرره بعض الأجلة أن إبراهيم عليه السلام أمر بذبح ولده بدليل قوله: * (أفعل ما تؤمر) * ولأنه عليه السلام أقدم على الذبح وترويع الولد ولو لم يكن مأمورا به لكان ذلك ممتنعا شرعا وعادة ونسخ عنه قبل الفعل لأنه لم يفعل ولو كان ترك الفعل مع حضور الوقت لكان عاصيا.
واعترض عليه بانا لا نسلم أنه لو لم يفعل وقد حضر الوقت لكان عاصيا لجواز أن يكون الوقت موسعا فيحصل التمكن فلا يعصى بالتأخير ثم ينسخ. وأجيب أما أولا فبأنه لو كان موسعا لكان الوجوب متعلقا بالمستقبل لأن الأمر باق عليه قطعا فإذا نسخ فقد نسخ تعلق الوجوب بالمستقبل وهو المانع من النسخ عندهم فإنه يقولون: إذا تعلق الوجوب بالمستقبل مع بقاء الأمر عليه امتنع رفع ذلك التعلق بالنهي عنه والإلزم توارد الأمر والنهي على شيء واحد وهو محال، فإذا جوزوا النسخ في الواجب الموسع في وقته قبل فعله مع أن الوجوب فيه تعلق بالمستقبل والأمر باق عليه فقد اعترفوا بجواز ما منعوه وهو المطلوب، وأما ثانيا فبأنه لو كان موسعا لأخر الفعل ولم يقدم على الذبح وترويع الولد عادة إما رجاء أن ينسخ عنه وإما رجاء أن يموت فيسقط عنه لعظم الأمر ومثله ما يؤخر عادة. وتعقب هذا بأن عادة الأنبياء عليهم السلام المبادرة إلى امتثال أمر الله تعالى على خلاف عادة أكثر الناس ولا تستبعد منهم خوارق العادات وإبراهيم من أجلهم قدرا سلمنا أن العادة ولو بالنسبة إلى الأنبياء تقتضي التأخير لكن من أين علم أنه عليه السلام لم يؤخر إلى آخر الوقت اتباعا للعادة فالمعول عليه الجواب الأول وبه يتم الاستدلال، وربما دفعوه بوجوه أخر، منها أنه لم يؤمر بشيء وإنما توهم ذلك توهما باراءة الرؤيا ولو سلم فلم يؤمر بالذبح إنما أمر بمقدماته من إخراج الولد وأخذه المدية وتله للجبين، وتعقب هذا بأنه ليس بشيء لما مر من قوله: *
(افعل ما تؤمر) * وأقدامه على الذبح والترويع المحرم لولا الأمر كيف ويدل على خلافه قوله تعالى: * (إن هذا لهو البلاء المبين) * (الصافات: 106) وقوله سبحانه: * (وفديناه بذبح عظيم) * (الصافات: 107) ولولا الأمر لما كان بلاء مبينا ولما احتاج إلى الفداء، وكون الفداء عن ظنه أنه مأمور بالذبح لا يخفى حاله، وعلى أصل المعتزلة هو توريط لإبراهيم عليه السلام في الجهل بما يظهر أنه أمر وليس بأمر وذلك غير جائز، ومن لا يجوز الظن الفاسد على الأنبياء عليهم السلام فهذا عنده أدنى من لا شيء، ومنها أنا لا نسلم أنه لم يذبح بل روي أنه ذبح وكان كلما قطع شيئا يلتحم عقيب القطع وأنه خلق صفيحة نحاس أو حديد تمنع الذبح، وتعقب بأن هذا لا يسمع، أما أولا فلأنه خلاف العادة والظاهر ولم ينقل نقلا معتبرا. وأجيب بأن الرواية سند للمنع والضعف لا ينافيه والاحتمال كاف في المقام ولا ريب في جوازه كإرسال الكبش من الجنة، وأما ثانيا فلأنه لو ذبح لما احتيج إلى الفداء، وكونه لأن الازهاق لم يحصل ليس بشيء، ولو منع الذبح بالصفيحة مع الأمر به لكان تكليفا بالمحال وهو لا يجوزونه ثم قد نسخ عنه وإلا لأثم بتركه فيكون نسخا قبل التمكن فهو لنا لا علينا. ومن السادة الحنفية من قال: ما نحن فيه ليس من النسخ لأنه رفع الحكم لا إلى بدل وهنا له بدل قائم مقامه كالفدية للصوم في حق الشيخ الفاني فعلم أنه لم يرفع حكم المأمور به. وفي التلويح فإن قيل: هب أن الخلف قام مقام الأصل لكنه استلزم حرمة الأصل أي ذبحه وتحريم الشيء بعد وجوبه نسخ لا محالة لرفع حكمه، قيل: لا نسلم كونه نسخا وإنما يلزم للو كان حكما شرعيا
137

وهو ممنوع فإن حرمة ذبح الولد ثابتة في الأصل فزالت بالوجوب ثم عادت بقيام الشاة الولد فلا تكون حكما شرعيا حتى يكون ثبوتها نسخا للوجوب انتهى، وتعقب بأن هذا بناء على ما تقرر من أن رفع الإباحة الأصلية ليس نسخا أما على أنه نسخ كما التزمه بعض الحنفية إذ لا إباحة ولا تحريم إلا بشرع كما قرروه يكون رفع الحرمة الأصلية نسخا وإذا كان رفعها نسخا أيضا يبقى الإيراد المذكور من غير جواب على ما قرر في " شرح التحرير "، هذا وتمام الكلام في حجة الفريقين مفصل في أصول الفقه وهذا المقدار كاف لغرض المفسر.
البحث الثالث: أنه استدل أبو حنيفة بالقصة على أن لو نذر أن يذبح ولده فعليه شاة، ووافقه في ذلك محمد، ونقله الإمام القرطبي عن مالك. وفي تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار نذر أن يذبح ولده فعليه شاة لقصة الخليل عليه السلام وألغاه الثاني والشافعي كنذره قتله ونقل الجصاص أن نذر القتل كنذر الذبح، واعترض على الإمام بأنه نذر معصية وجاء لا نذر في معصية الله تعالى، وقال هو: إن ذلك في شرع إبراهيم عليه السلام عبارة عن ذبح شاة ولم يثبت نسخه فليس معصية، وقال بعض الشافعية: ليس في النظم الجليل ما يدل على أنه كان نذرا من إبراهيم عليه السلام حتى يستدل به. وأجيب بأنه ورد في التفسير المؤثور أنه نذر ذلك وهو في حكم النص ولذا قيل له لما بلغ معه السعي: أوف بنذرك، وبأنه إذا قامت الشاة مقام ما أوجبه الله تعالى عليه علم قيامها مقام ما يوجبه على نفسه بالطريق الأولى فيكون ثابتا بدلالة النص، والانصاف أن مدرك الشافعي. وأبي يوسف عليهما الرحمة أظهر وأقوى من مدرك الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه في هذه المسألة فتأمل.
* (ولقد مننا على موسى وه‍ارون) *.
* (ولقد مننا على موسى وهارون) * أنعمنا عليهما بالنبوة وغيرها من المنافع الدينية والدنيوية.
* (ونجين‍اهما وقومهما من الكرب العظيم) *.
* (ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم) * هذا وما بعده من قبيل عطف الخاص على العام، والكرب العظيم تغلب فرعون ومن معه من القبط، وقيل الغرق وليس بذاك.
* (ونصرن‍اهم فكانوا هم الغ‍البون) *.
* (ونصرناهم) * الضمير لهما مع القوم وقيل لهما فقط وجيء به ضمير جمع لتعظيمهما * (فكانوا هم الغالبين) * بسبب ذلك على فرعون وقومه؛ و * (هم) * يجوز أن يكون فصلا أو توكيدا أو بدلا، والتنجية وإن كانت بحسب الوجود مقارنة لما ذكر من النصر لكنها لما كانت بحسب المفهوم عبارة عن التلخيص عن المكروه بدأ بها ثم بالنصر الذي يتحقق مدلوله بمحض تنجية المنصور من عدوه من غير تغلب عليه ثم بالغلبة لتوفية مقام الامتنان حقه بإظهار أن كل مرتبة من هذه المراتب الثلاث نعمة جليلة على حيالها.
* (وءاتين‍اهما الكت‍ابالمستبين) *.
* (وءاتيناهما) * بعد ذلك * (الكتاب المستبين) * أي البليغ في البيان والتفصيل كما يشعر به زيادة البنية وهو التوراة.
* (وهدين‍اهما الصراط المستقيم) *.
* (وهديناهما) * بذلك * (الصراط المستقيم) * الموصل إلى الحق والصواب بما فيه من تفاصيل الشرائع وتفاريع الأحكام.
* (وتركنا عليهما فى الاخرين * سل‍ام على موسى وه‍ارون * إنا كذلك نجزى المحسنين * إنهما من عبادنا المؤمنين) *.
* (وتركنا عليهما في الآخرين * سلام على موسى وهارون * إنصا كذالك نجزي المحسنين * إنهما من عبادنا المؤمنين) * الكلام فيه نظير ما سبق في نظيره.
* (وإن إلياس لمن المرسلين) *.
قال الطبري: هو إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون أخي موسى عليهما السلام فهو إسرائيلي من سبط هارون، وحكى القتيبي أنه من سبط
138

يوشع، وحكى الطبرسي أنه ابن عم اليسع وأنه بعث بعد حزقي، وفي العجائب للكرماني أنه ذو الكفل، وعن وهب أنه عمر كما عمر الخضر ويبقى إلى فناء الدنيا.
وأخرج ابن عساكر عن الحسن أنه موكل بالفيافي والخضر بالبحار والجزائر وإنهما يجتمعان بالموسم في كل عام، وحديث اجتماعه مع النبي صلى الله عليه وسلم في
بعض الأسفار وأكله معه من مائدة نزلت عليهما عليهما الصلاة والسلام من السماء هي خبز وحوت وكرفس وصلاتهما العصر معا رواه الحاكم عن أنس وقال: هذا حديث صحيح الإسناد وكل ذلك من التعمير وما بعده لا يعول عليه. وحديث الحاكم ضعفه البيهقي، وقال الذهبي. موضوع قبح الله تعالى من وضعه ثم قال: وما كنت أحسب ولا أجوز أن الجهل يبلغ بالحاكم إلى أن يصحح هذا، وأخرج عبد بن حميد. وابن جرير. وابن المنذر وابن أبي حاتم. وابن عساكر: عن ابن مسعود أن إلياس هو إدريس، ونقل عنه أنه قرأ * (وإن إدريس لمن المرسلين) * والمستفيض عنه أنه قرأ كالجمهور نعم قرأ ابن وثاب. والأعمش. والمنهال بن عمرو. والحكم لن عتيبة الكوفي كذلك.
وقرىء * (إدراس) * وهو لغة في إدريس كإبراهام في إبراهيم، وإذا فسر إلياس بإدريس على أن أحد اللفظين اسم والآخر لقب فإ كان المراد بهما من سمعت نسبه فلا بأس به وإن كان المراد بهما إدريس المشهور الذي رفعه الله تعالى مكانا عليا وهو على ما قيل أخنوخ بن يزد بن مهلاييل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم وكان على ما ذكره المؤرخون قبل نوح، وفي المستدرك عن ابن عباس أن بينه وبين نوح ألف سنة، وعن وهب أنه جد نوح أشكل الأمر في قوله تعالى: * (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم * ووهبنا له إسحق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين) * (الأنعام: 83 - 86) لأن ضمير * (ذريته) * إما أن يكون لإبراهيم لأن الكلام فيه وإما أن يكون لنوح لأنه أقرب ولأن يونس ولوطا ليسا من ذرية إبراهيم، وعلى التقديرين لا يتسنى نظم إلياس المراد به الذي هو قبل نوح على ما مسعت في عداد الذرية، ويرد على القول بالاتحاد مطلقا أنه خلاف الظاهر فلا تغفل.
وقرأ عكرمة. والحسن بخلاف عنهما. والأعرج. وأبو رجاء. وابن عامر. وابن محيصن * (وإن الياس) * بوصل الهمزة فاحتمل أن يكون قد وصل همزة القطع واحتمل أن يكون اسمه يأسا ودخلت عليه أل كما قيل في اليسع، وفي حرف أبي ومصحفه و * (ان) * إيليس بهمزة مكسورة بعدها ياء أيضا ساكنة آخر الحروف بعدها لام مكسورة بعدها ياء أيضا ساكنة وسين مهملة مفتوحة.
* (إذ قال لقومه ألا تتقون) *.
* (إذ قال لقومه) * وهم على المشهور في الياس سبط من بني إسرائيل أسكنهم يوشع لما فتح الشام المدينة المعروفة اليوم ببعلبك وزعم بعضهم أنها كانت تسمى بكة وقيل بك بلا هاء ثم سميت بما عرف على طريق التركيب المزجي، و * (إذ) * عند جمع مفعول اذكر محذوفا أي اذكر وقت قوله لقومه * (ألا تتقون) * عذاب اللهتعالى ونقمته بامثتال أوامره واجتناب نواهيه.
* (أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخ‍القين) *.
* (أتدعون بعلا) * أي أتعبدونه أو تطلبون حاجكم منه، وهو اسم صنم لهم كما قال الضحاك. والحسن وابن زيد، وفي بعض نسخ القاموس أنه لقوم يونس، ولا مانع من أن يكون لهما أو ذلك تحريف، قيل وكان من ذهب طوله عشرون ذراعا وله أربعة أوجه فتنوا به وعظموه حتى
139

أخدموه أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياءه فكان الشيطان يدخل في جوفه ويتكلم بشريعة الضلالة والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس، وقيل هو اسم امرأة أتتهم بضلالة فاتبعوها واستؤنس له بقراءة بعضهم، * (بعلاء) * بالمد على وزن حمراء، وظاهر صرفه أنه عربي على القولين فلا تغفل.
وقال عكرمة. وقتادة، البعل الرب بلغة اليمن: وفي رواية أخرى عن قتادة بلغة أزد شنوءة، واستام ابن عباس ناقة رجل من حمير فقال: له أنت صاحبها؟ قال: بعلها فقال ابن عباس أتدعون بعلا: أتدعون ربما من أنت؟ قال: من حمير، والمراد عليها أتدعون بعض البعول أي الأرباب والمراد بها الأصنام أو المعبودات الباطلة فالتنكير للتبعيض فيرجع لما قيل قبله * (وتذرون أحسن الخالقين) * أي وتتركون عبادته تعالى أو طلب جميع حاجكم منه عز وجل على أن الكلام على حذف مضاف؛ وقيل إن المراد بتركهم إياه سبحانه تركهم عبادته عز وجل والمراد بالخالق من يطلق عليه ذلك، وله بهذا الاعتبار أفراد وان اختلفت جهة الاطلاق فيها فلا اشكال في إضافة افعل إلى ما بعده، وهاهنا سؤال مشهور وهو ما وجه العدول عن تدعون بفتح التاء والدال مضارع ودع بمعنى ترك إلى * (تذرون) * مع مناسبته ومجانسته لتدعون قبله دون تذرون وأجيب عن ذلك بأجوبة. الأول أن في ذلك نوع تكلف والجناس المتكلف غير ممدوح عند البلغاء ولا يمدح عندهم ما لم يجىء عفوا بطريق الاقتضاء ولذا ذموا متكلفه فقيل فيه: طبع المجنس فيه نوع قيادة * أو ما ترى تأليفه للأحرف
قاله الخفاجي، وفي كون هذا البيت في خصوص المتكلف نظر وبعد فيه ما فيه، الثاني أن في تدعون إلباسا على من يقرأ من المصحف دون حفظ من العوام بأن يقرأه كتدعون الأول ويظن أن المراد إنكار بين دعاء بعل ودعاء احسن الخالقين، وليس بالوجه إذ ليس من سنة الكتاب ترك ما يلبس على العوام كما لا يخفى على الخواص.
والصحابة أيضا لم يراعوهم وإلا لما كتبوا المصحف غير منقوط ولا ذا شكل كما هو المعروف اليوم، وفي بقاء الرسم العثماني معتبرا إلى انقضاء الصحابة ما يؤيد ما قلنا، والثالث أن التجنيس تحسين وإنما يستعمل في مقام الرضا والإحسان لا في مقام الغضب والتهويل، وفيه أنه وقع فيما نفاه قال تعالبى: * (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة) * (الروم: 55) وقال سبحانه: * (يكادسنا برقة يذهب بالابصار * يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) * وفيهما الجناس التام ولا يخفى حال المقام، الرابع ما نقل عن الإمام فإنه سئل عن سبب ترك تدعون إلى * (تذرون) * فقال: ترك لأنهم اتخذوا الأصنام آلهة وتركوا الله تعالى بعدما علموا أن الله سبحانه ربهم ورب ابائهم الأولين استكبارا فلذلك قيل: * (وتذرون) * ولم يقل وتدعون، وفيه القول بأن دع أمر بالترك قبل العلم وذر أمر بالترك بعده ولا تساعده اللغة والاشتقاق، الخامس أن لانكار كل من فعلى دعاء بعل وترك احسن الخالقين علة غير علة إنكار الآخر فترك التجنيس رمزا إلى شدة
المغايرة بين الفعلين، السادس أنه لما لم يكن مجانسة بين المفعولين بوجه من الوجوه ترك التجنيس في الفعلين المتعلقين بهما وإن كانت المجانسة المنفية بين المفعولين شيئا والمجانسة التي نحن بصددها بين الفعلين شيئا آخر، وكلا الجوابين كما ترى، السابع أن يدع إنما استعملته العرب في الترك الذي لا يذم مرتكبه لأنه من الدعة بمعنى الراحة ويذر بخلافه لأنه يتضمن إهانة وعدم اعتداد لأنه من الوذر قطعة اللحم الحقيرة التي لا يعتد بها. واعترض بأن المتبادر من قوله بخلافه أن يذر إنما استعملته العرب في الترك
140

الذي يذم مرتكبه فيرد عليه قوله تعالى: * (فذرهم وما يفترون) * (الأنعام: 112، 137) وقوله سبحانه: * (وذروا ما بقي من الربا) * (البقرة: 278) إلى غير ذلك وفيه تأمل. الثامن أن يدع أخص من يذر لأنه بمعنى ترك الشيء مع اعتناء به بشهادة الاشتقاق نحو الإيداع فإنه ترك الوديعة مع الاعتناء بحالها ولهذا يختار لها من هو مؤتمن عليها ونحوه موادعة الأحباب وأما يذر فمعناه الترك مطلقا أو مع الأعراض والرفض الكلي، قال الراغب: يقال فلأن يذر الشيء أي يقذفه لقلة الاعتداد به ومنه الوذر وهو ما سمعت آنفا، ولا شك أن السياق إنما يناسب هذا دون الأول إذ المراد تبشيع حالهم في الاعراض عن ربهم وهو قريب من سابقه لكنه سالم عن بعض ما فيه، التاسع أن في تدعون بفتح التاء والتدال ثقلا ما لا يخفى على ذي الذوق السليم والطبع المستقيم * (وتذرون) * سالم عنه فلذا اختير عليه فتأمل والله تعالى أعلم، وقد أشار سبحانه وتعالى بقوله:) * أحسن الخالقين) * إلى المقتضى للإنكار المعنى بالهمز وصرح به للاعتناء بشأنه في قوله تعالى:
* (الله ربكم ورب ءابآئكم الاولين) *.
* (الله ربكم ورب ءابائكم الأولين) * بالنصب على البدلية من أحسن الخالقين، قال أبو حيان: ويجوز كون ذاك عطف بيان إن قلنا إن إضافة أفعل التفضيلل محضة، وقرأ غير واحد من السبعة بالرفع على أن الاسم الجليل مبتدأ و * (ربكم) * خبره أو هو خبر مبتدأ محذوف وربكم عطف بيان أو بدل منه، وروي عن حمزة أنه إذا وصل نصب وإذا وقف رفع، والتعرض لذكر ربوبيته تعالى لآبائهم الأولين لتأكيد إنكار تركهم إياه تعالى والأشعار ببطلان آراء آبائهم أيضا.
* (فكذبوه فإنهم لمحضرون) *.
* (فكذبوه) * فيما تضمنه كلامه من إيجاب الله تعالى التوحيد وتحريمه سبحانه الإشراك وتعذيبه تعالى عليه، وجوز أن يكون تكذيبهم راجعا إلى ما تضمنه قوله الله ربكم * (فإنهم) * بسبب ذلك * (لمحضرون) * أي في العذاب وإنما اطلقه اكتفاء بالقرينة أو لأن الاحضار المطلق مخصوص بالشر في العرف العام أو حيث استعمل في القرآن لاشعاره بالجبر.
* (إلا عباد الله المخلصين) *.
* (إلا عباد الله المخلصين) * استثناء متصل من الواو في كذبوه فيدل على أن من قومه مخلصين لم يكذبوه، ومنع كونه استثناء متصلا من ضيمر * (محضرون) * لأنه للمكذبين فإذا استثنى منه اقتضى أنهم كذبوه ولم يحضروا وفساده ظاهر، وقيل: لأنه إذا لم يستثن من ضمير كذبوا كانوا كلهم مكذبين فليس فيهم مخلص فضلا عن مخلصين ومآله ما ذكر، لكن اعترضه ابن كمال بأنه لا فساد فيه لأن استثناءهم من القوم المحضرين لعدم تكذيبهم على ما دل عليه التوصيف بالمخلصين لا من المكذبين فمآل المعنى واحد.
ورد بأن ضمير محضرين للقوم كضمير كذبوا، وقال الخفاجي: لا يهفى أن اختصاص الاحضار بالعذاب كما صرح به غير واحد يعين كون ضمير محضرين للمكذبين لا لمطلق القوم فإن لم يسلمه فهو أمر آخر، وفي البحر ولا يناسب أن يكون استثناء منقطعا إذ يصير المعنى لكن عباد الله المخلصين من غير قومه لا يحضرون في العذاب وفيه بحث.
* (وتركنا عليه فى الاخرين * سل‍ام على إل ياسين * إنا كذلك نجزى المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين) *.
* (وتركنا عليه في الآخرين * سلام على ال ياسين * إنا كذالك نجزي المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين) * الكلام فيه كما في تظيره بيد أنه يقال ههنا إن ال ياسين لغة في الياس وكثيرا ما يتصرفون في الأسماء الغير العربية. وفي الكشاف لعل لزيادة الياء والنون معنى في اللغة السريانية، ومن هذا الباب سيناء وسينين، واختار هذه اللغة هنا رعاية للفواصل، وقيل: هو جمع إلياس على طريق التغليب بإطلاقه على قومه وأتباعه كالمهلبين للمهلب وقومه.
وضعف بما ذكر النحاة من أن العلم إذا جمع أو ثنى وجب تعريفه باللام جبرا لما فاته من العلمية، ولا فرق فيه بين ما فيه تغليب وبين غيره كما صرح به ابن الحاجب في " شرح المفصل "، لكن هذا غير متفق عليه، قال ابن يعيش
141

في " شرح المفصل ": يجوز استعماله نكرة بعد التثنية والجمع نحو زيدان كريمان وزيدون كريمون؛ وهو مختار الشيخ عبد القاهر وقد أشبعوا الكلام على ذلك في مفصلات كتب النحو، ثم أن هذا البحث إنما يتأتى مع من لم يجعل لام الياس للتعريف أما من جعها له فلا يتأتى البحث معه، وقيل: هو جمع الياسي بياء النسبة فخفف لاجتماع الياآتفي الجر والنصب كما قيل اعجمين في أعجميين وأشعرين في أشعريين، والمراد بالياسين قوم الياس المخلصون فإنهم الأحقاء بأن ينسبوا إليه، وضعف بقلة ذلك والباسه بالياس إذا جمع وإن قيل: حذف لام الياس مزيل للإلباس، وأيضا هو غير مناسب للسياق والسباق إذ لم يذكر آل أحد من الأنبياء.
وقرأ نافع. وابن عامر. ويعقوب. وزيد بن علي * (آل ياسين) * بالإضافة، وكتب في المصحف العثماني منفصلا ففيه نوع تأييد لهذه القراءة، وخرجت عن أن ياسين اسم أبي الياس ويحمل الآل على الياس وفي الكناية عنه تفخيم له كما في آل إبراهيم عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وجوز أن يكون الآل مقحما على أن ياسين هو الياس نفسه.
وقيل: ياسين فيها اسم لمحمد صلى الله عليه وسلمفآل ياسين آله عليه الصلاة والسلام، أخرج ابن أبي حاتم. والطبراني. وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في * (سلام على آل ياسين) * نحن آل محمد آل ياسين، وهو ظاهر في جعل ياسين اسمال له صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو اسم للسورة المعروفة، وقيل: اسم للقرآن فآل ياسين هذه الأمة المحمدية أو خواصها.
وقيل: اسم لغير القررن من الكتب، ولا يخفى عليك أن السياق والسباق يا بيان أكثر هذه الأقوال.
وقرأ أبو رجاء. والحسن * (على الياسين) * بوصل الهمزة وتخريجها يعلم مما مر. وقرى ابن مسعود ومن قرأ معه فيما سبق ادريس * (سلام على إدراسين) * وعن قتادة * (وأن إدريس) * وقرأ * (على إدريسين) * وقرأ أبي * (على أيليس) * كما قرأ * (وإن إيليس لمن المرسلين) *.
* (وإن لوطا لمن المرسلين * إذ نجين‍اه وأهله أجمعين * إلا عجوزا فى الغ‍ابرين * ثم دمرنا الاخرين) *.
* (وإن لوطا لمن المرسلين * إذ نجيناه وأهله أجمعين * إلا عجوزا في الغابرين * ثم دمرنا الآخرين) * سبق بيانه في الشعراء.
* (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين) *.
* (وإنكم) * يا أهل مكة * (لتمرون عليهم) * على منازلهم في متاجركم إلى الشام فإن سذوم في طريقه * (مصبحين) * داخلين في الصباح.
* (وباليل أفلا تعقلون) *.
وبالليل) * قيل أي ومساء بأن يراد بالليل أوله لأنه زمان السير ولوقوعه مقابل الصباح، وقيل: أي نهارا وليلا وهو تأويل قبل الحاجة ولذا اختير الأول، ووجه التخصيص عليه بأنه لعل سدوم وقعت قريب منزل يمر بها المرتحل عنه صباحا والقاصد مساء، وقال بعض الأجلة: لو أبقى على ظاهره لأن ديار العرب لحرها يسافر فيها في الليل إلى الصباح خلا عن التكلف في توجيه المقابلة * (أفلا تعقلون) * أتشاهدون ذلك فلا تعقلون حتى تعتبروا به وتخافوا أن يصيبكم مثل ما أصابهم فإن منشأ ذلك مخالفتهم رسولهم ومخالفة الرسول قدر مشترك بينكم.
* (وإن يونس لمن المرسلين) *.
* (وإن يونس لمن المرسلين) * يروى على ما في البحر أنه عليه السلام نبىء وهو ابن ثمان وعشرين سنة، وحكى في البحر أنه كان في زمن ملوك الطوائف من الفرس وهو ابن متى بفتح الميم وتشديد التاء القوقية مقصور، وهل هذا اسم أمه أو أبيه فيه خلاف فقيل اسم امه وهو المذكور في تفسير عبد الرزاق، وقيل:
142

اسم أبيه وهذا - كما قال ابن حجر - أصح، وبعض أهل الكتاب يسميه يونان ابن ماثي، وبعضهم يسميه يونه ابن امتياي؛ ولم نقف في شيء من الأخبار على اتصال نسبه، وفي اسمه عند العرب ست لغات تثليث النون مع الواو والياء والهمزة، والقراءة المشهورة بضم النون مع الواو. وقرأ أبو طلحة بن مصرف بكسر النون قيل أراد أن يجعله عربيا مشتقا من أنس وهو كما ترى.
* (إذ أبق إلى الفلك المشحون) *.
* (إذ أبق) * هرب، وأصله الهرب من السيد لكن لما كان هربه من قومه بغير اذن ربه كما هو الأنسب بحال الأنبياء عليهم السلام حسن اطلاقه عليه فهو إما استعارة أو مجاز مرسل من استعمال المقيد في المطلق، والأول أبلغ، وقال بعض الكمل: الاباق الفرار من السيد بحيث لا يهتدي إليه طالب أي بهذا القصد، وكان عليه السلام هرب من قومه بغير اذن ربه سبحانه إلى حيث طلبوه فلم يحده فاستعير الاباق لهربه باعتبار هذا القيد لا باعتبار القيد الأول، وفيه بعد تسليم اعتبار هذا القيد على ما ذكره بعض أهل اللغة أنه لا مانع من اعتبار ذلك القيد فلا اعتبار بنفي اعتباره * (إلى الفلك المشحون) * المملوء.
* (فس‍اهم فكان من المدحضين) *.
* (فساهم) * فقارع عليه السلام من في الفلك واستدل به من قال بمشروعية القرعة * (فكان من المدحضين) * فصار من المغلوبين بالقرعة، وأصله المزلق اسم مفعول عن مقام الظفر.
يروى أنه وعد قومه العذاب وأخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام فلما كان اليوم الثالث خرج يونس قبل أن يأذن الله تعالى له ففقده قومه فخرجوا بالكبير والصغير والدواب وفرقوا بين كل والدة وولدها فشارف نزول العذاب بهم فعجوا إلى الله تعالى وأنابوا واستقالوا فأقالهم الله تعالى وصرف عنهم العذاب فلما لم يريونس نزول العذاب استحى أن يرجع إليهم وقال: لا أرجع إليهم كذابا أبدا ومضى على وجهه فأتى سفينة فركبها فلما وصلت اللجة وقفت فلم تسر فقال صاحبها. ما يمنعها أن تيسر إلا أن فيكم رجلا مشؤونا فاقترعوا ليلقوا من وقعت عليه القرعة في الماء فوقعت على يونس ثم أعادوا فوقعت عليه ثم أعادوا فوقعت عليه فلما رأى ذلك رمى بنفسه في الماء.
* (فالتقمه الحوت وهو مليم) *.
* (فالتقمه الحوت) * أي ابتلعه من اللقمة، وفي خبر أخرجه أحمد. وغيره عن ابن مسعود أنه أتى قوما في سفينة فحملوه وعرفوه فلما دخلها ركدت والسفن تسير يمينا وسمالا فقال: ما بال سفينتكم؟ قالوا: ما ندري قال: ولكني أدري إن فيها عبدا آبق من ربه وإنها والله لا تسير حتى تلقوه قالوا: أما أنت والله يا نبي الله فلا نلقيك فقال لهم: اقترعوا فمن قرع فليلق فاقترعوا ثلاث مرات وفي كل مرة تقع القرعة عليه فرمى بنفسه فكان ما قص الله تعالى. وكيفية اقتراعهم على ما في البحر عن ابن مسعود أنهم أخذوا لكل سهما على أن من طفا سهمه فهو ومن غرق سهمه فليس إياه فطفا سهم يونس. وروي أنه لما وقف على شفير السفينة ليرمي بنفسه رأى حوتا - واسمه على ما أخرج ابن أبي حاتم وجماعة عن قتادة نجم - قد رفع رأسه من المار قدر ثلاثة أذرع يرقبه ويترصده فذهب إلى ركن آخر فاستقبله الحوت فانتقل إلى آخر
فوجده وهكذا حتى استدار بالسفينة فلما رأى ذلك عرف أنه أمر من الله تعالى فطرح نفسه فأخذه أن يصل إلى الماء * (وهو مليم) * أي داخل في الملامة على أن بناء افعل للدخول في الشيء نحو أحرم إذا دخل الحرم أو آت بما يلام عليه على أن الهمزة فيه للصيرورة نحو أغد البعير أي صار ذا غدة فهو هنا لما أتى بما يستحق اللوم عليه صار ذا لوم أو مليم نفسه على أن الهمزة فيه للتعدية نحو أقدمته والمفعول محذوف، وما روي عن ابن عباس. ومجاهد من تفسيره
143

بالمسيء والمذنب فبيان لحاصل المعنى وحسنات الأبرار سيئات المقربين. وقرىء * (مليم) * بفتح أوله اسم مفعول وقياسه ملوم لأنه واوي يقال لمته ألومه لوما لكنه جيء به على ليم كما قالوا مشيب ومدعى في مشوب ومدعو بناء على شيب ودعى وذلك أنه لما قلبت الواو ياء في المجهول جعل كالأصل فحمل الوصف عليه.
* (فلولا أنه كان من المسبحين) *.
* (فلولا أنه كان من المسبحين) * أي من الذاكرين الله تعالى كثيرا بالتسبيح كما قيل، وفي كلام قتادة ما يشعر باعتبار الكثرة، واستفادتها على ما قال الخفاجي من جعله من المسبحين دون أن يقال مسبحا فإنه يشعر بأنه عريق فيهم منسوب إليهم معدود في عدادهم ومثله يستلزم الكثرة، وقيل: من التفعيل. ورد بأن معنى سبح لم يعتبر فيه ذلك إذ هو قال سبحان الله، وقد يقال: هي من إرادة الثبوت من * (المسبحين) * فإنه يشعر بأن التسبيح ديدن لهم، والمراد بالتسبيح ههنا حقيقته وهو القول المذكور أو ما في معنها وروي ذلك عن ابن جبير. وهذا الكون عند بعض قبل التقام الحوت إياه أيام الرخاء، واستظهر أبو حيان أنه في بطن الحوت وأن التسبيح ما ذكره الله تعالى في قوله سبحانه: * (فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) * (الأنبياء: 87) وحمله بعضهم على الذكر مطلقا وبعض آخر على العبادة كذلك، وجماعة منهم ابن عباس على الصلاة بل روي عنه أنه قال: كل ما في القرآن من التسبيح فهو بمعنى الصلاة، وأنت تعلم أنه إن كان اللفظ فيما ذكر حقيقة شرعية ولم يكن للتسبيح حقيقة أخرى شرعية أيضا لم يحتج إلى قرينة، وإن كان مجازا أو كان للتسبيح حقيقة شرعية أخرى احتيج إلى قرينة فإن وجدت فذاك وإلا فالأمر غير خفي عليك، وكما اختلف في زمان التسبيح بالمعنى السابق اختلف في زمانه بالمعاني الأخر. أخرج أحمد في الزهد. وغيره عن ابن جبير في قوله تعالى: * (فلولا أنه كان من المسبحين) * قال: من المصلين قبل أن يدخل بطن الحوت، وأخرج أحمد وغيره أيضا عن الحسن في الآية قال: ما كان إلا صلاة أحدثها في بطن الحوت فذكر ذلك لقتادة فقال: لا إنما كان يعمل في الرخاء، وروي عن الحسن غير ما ذكر، فقد أخرج عنه ابن أبي حاتم. والبيهقي في شعب الإيمان. والحاكم أنه قال في الآية: كان يكثر الصلاة في الرخاء فلما حصل في بطن الحوت ظن أنه الموت فحرك رجليه فإذا هي تتحرك فسجد وقال: يا رب اتخذت لك مسجدا في موضع لم يسجد فيه أحد.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الضحاك بن قيس قال: اذكروا الله تعالى في الرخاء يذكركم في الشدة فإن يونس عليه السلام كان عبدا صالحا ذاكرا لله تعالى فلما وقع بطن الحوت قال الله تعالى: * (فلولا أنه كان من المسبحين) * الخ وإن فرعون كان عبدا طاغيا ناسيا لذكر الله تعالى فلما أدركه الغرق قال: * (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) * (يونس: 90) فقيل له * (آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) *.
والأولى حمل زمان كونه من المسبحين على ما يعم زمان الرخاء وزمان كونه في بطن الحوت فإن لاتصافه بذلك في كلا الزمانين مدخلا في خروجه من بطن الحوت المفهوم من قوله تعالى: * (فلولا أنه كان من المسبحين) *.
* (للبث فى بطنه إلى يوم يبعثون) *.
* (للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) * كما يشعر به ما في حديث أخرجه عبد الرزاق. وابن جرير. وابن أبي حاتم. وابن مردويه عن أنس مرفوعا من أنه عليه السلام لما التقمه الحوت وهوى به حتى انتهى إلى ما انتهى من الأرض سمع تسبيح الأرض فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فأقبلت الدعوة نحو العرش فقالت الملائكة: يا ربنا انا نسمع صوتا ضعيفا من بلاد غربة قال سبحانه: وما تدرون
144

ماذا كم؟ قالوا: لا يا ربنا قال: ذاك عبدي يونس قالوا: الذي كنا لا نزال نرفع له عملا متثبلا ودعوة مجابة؟ قال: نعم قالوا: يا ربنا ألا ترحم ما كان يصنع في الرخاء وتنجيه عند البلاء؟ قال: بلى فأمر عز وجل الحوت فلفظه.
واستظهر أبو حيان أن المراد بقوله سبحانه: * (للبث في بطنه) * الخ لبقي في بطنه حيا إلى يوم البعث وبه أقول. وتعقب بأنه ينافيه ما ورد من أنه لا يبقى عند النفخة الأولى ذو روح من البشر والحيوان في البر والبحر. وأجيب بعد تسليم ورود ذلك أو ما يدل عليه بأنه مبالغة في طول المدة مع أنه في حيز لو فلا يرد رأسا أو المراد بوقت البعث ما يشتمل زمان النفخة لأنه من مقدماته فكأنه منه، وعن قتادة لكان بطن الحوت قبرا له، وظاهره أنه أريد للبث ميتا في بطنه إلى يوم البعث، ولا مانع من بقاء بنية الحوت كبنيته من غير تسلط البلاء إلى ذلك اليوم، وضمير * (يبعثون) * لغير مذكور وهو ظاهر.
* (فنبذن‍اه بالعرآء وهو سقيم) *.
* (فنبذناه) * بأن حملنا الحوت على لفظه فالإسناد مجازي، والنبذ على ما في " القاموس " طرحك الشيء أماما أو وراء أو هو عام.
وقال الراغب: النبذ إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به، والمراد به هنا الطرح والرمي والقيد الذي ذكره الراغب لا أرغب فيه فإنه عليه السلام وإن أبق وخرج من غير إذن مولاه واعتراه من تأديبه تعالى ما اعتراه فالرب عز وجل بأنبيائه رحيم وله سبحانه في كل شأن اعتداد بهم عظيم فهو عليه السلام معتد به في حال الإلقاء وإن كان ذلك * (بالعراء) * أي بالمكان الخالي عما يغطيه من شجر أو نبت، يروى أن الحوت سار مع السفينة رافعا رأسه يتنفس ويونس يسبح حتى انتهوا إلى البر فلفظه. ورد بأنه يأباه قوله تعالى * (فنادى في الظلمات) * (الأنبياء: 87) وأجيب بأنه بمجرد رفع رأسه للتنفس لا يخرج منها، ثم إن هذا لئلا يختنق يونس أو تنحصر
نفسه بحكم العادة لا ليمتنع دخول الماء جوف الحوت حتى يقال السمك لا يحتاج لذلك، ومع هذا نحن لا نجزم بصحة الخبر فقد روى أيضا أنه طاف به البحار كلها ثم نبذه على شط دجلة قريب نينوى بكسر النون الأولى وضم الثانية كما في " الكشف " من أرض الموصل، والالتقام كان في دجلة أيضا على ما صرح به البعض وخالف فيه أهل الكتاب، وسيأتي إن شاء الله تعالى نقل كلامهم لك في هذه القصة لتقف على ما فيه.
والظاهر أن الحوت من حيتان دجلة أيضا وقد شاهدنا فيها حيتانا عظيمة جدا، وقيل كان من حيتان النيل. أخرج ابن أبي شيبة عن وهب أنه جلس هو وطاوس ونحوهما من أهل ذلك الزمان فذكروا أي أمر الله تعالى أسرع؟ فقال بعضهم: قول الله تعالى * (كلمح البصر) * (النحل: 77) وقال بعضهم: السرير حين أتى به سليمان، وقال وهب: أسرع أمر الله تعالى أن يونس على حافة السفينة إذ أوحى الله سبحانه إلى نون في نيل مصر فما خر من حافتها إلا في جوفه، ولا شبهة في ان قدرة الله عز وجل أعظم من ذلك لكن الشبهة في صحة الخبر وكأني بك تقول لا شبهة في عدم صحته. واختلف في مدة لبثه فأخرج عبد الله بن أحمد في " زوائد الزهد ". وغيره عن الشعبي. قال: التقمه الحوت ضحى ولفظه عشية وكأنه أراد حين أظلم الليل، وأخرج عبد بن حميد. وغيره عن قتادة قال: إنه لبث في جوفه ثلاثا، وفي كتب أهل الكتاب ثلاثة أيام وثلاث ليال، وعن عطاء وابن جبير سبعة أيام، وعن الضحاك عشرين يوما، وعن ابن عباس. وابن جرير. وأبي مالك. والسدي. ومقاتل بن سليمان. والكلبي. وعكرمة أربعين يوما، وفي " البحر " ما يدل على أنه لم يصح خبر في مدة لبثه عليه
145

السلام في بطن الحوت * (وهو سقيم) * مما ناله، قال ابن عباس. والسدي: إنه عاد بدنه كبدن الصبي حين يولد، وعن ابن جبير أنه عليه السلام ألقى ولا شعر له ولا جلد ولا ظفر، ولعل ذلك يستدعي بحكم العادة أن لمدة لبثه في بطن الحوت طولا ما.
* (وأنبتنا عليه شجرة من يقطين) *.
* (وأنبتنا عليه شجرة من يقطين) * أي أنبتناها مطلة عليه مظلة له كالخيمة فعليه حال من * (شجرة) * قدمت عليها لأنها نكرة، واليقطين يفعيل من قطن بالمكان إذا قام به، وزاد الطبرسي إقامة زائل لا إقامة راسخ، والمراد به على ما جاء عن الحسن السبط. وابن عباس في رواية. وابن مسعود. وأبي هريرة. وعمرو بن ميمون. وقتادة. وعكرمة. وابن جبير. ومجاهد في إحدى الروايتين عنهما الدباء وهو القرع المعروف، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، وأنبتها الله تعالى مطلة عليه لأنها تجمع خصالا برد الظل والملمس وعظم الورق وأن الذباب لا يقع عليها على ما قيل، وكان عليه السلام لرقة جلده بمكثه في بطن الحوت يؤذيه الذباب ومماسة ما فيه خشونة ويؤلمه حر الشمس ويستطيب بارد الظل فلطف الله تعالى به بذلك، وذكر أن ورق القرع أنفع شيء لمن ينسلخ جلده؛ واشتهر أن الشجر ما كان على ساق من عود فيشكل تفسير الشجرة هنا بالدباء.
وأجاب أبو حيان بأنه يحتمل أن الله تعالى أنبتها على ساق لتظله خرقا للعادة، وقال الكرماني: العامة تخصص الشجر بما له ساق، وعند العرب كل شيء له أرومة تبقى فهو شجر وغيره نجم، ويشهد له قول أفصح الفصحاء صلى الله عليه وسلم شجرة الثوم انتهى.
وقال بعض الأجلة: لك أن تقول أصل معناه ما له أرومة لكنه غلب في عرف أهل اللغة على ما له ساق وأغصان فإذا أطلق يتبادر منه المعنى الثاني وإذا قيد كما هنا.
وفي الحديث يرد على أصله وهو الظاهر، ثم ذكر أن ما قاله أبو حيان تمحل في محل لا مجال للرأي فيه. وأخرج عبد بن حميد. وابن جرير عن ابن جبير أنه قال: كل شجرة لا ساق لها فهي من اليقطين والذي يكون على وجه الأرض من البطيخ والقثاء، وفي رواية أخرى عنه أنه سئل عن اليقطين أهو القرع؟ قال: لا ولكنها شجرة سماها الله تعالى اليقطين أظلته.
وفي رواية عن ابن عباس أنه كل شيء ينبت ثم يموت من عامه، وفي أخرى كل شيء يذهب على وجه الأرض.
وقيل: شجرة اليقطين هي شجرة الموز تغطي بورقها واستظل بأغصانها وأفطر على ثمارها، وقيل شجرة التين والأصح ما تقدم.
وروى عن قتادة أنه عليه السلام كان يأكل من ذلك القرع، وجاء في رواية عن أبي هريرة أنه قال: طرح بالعراء فأنبت الله تعالى عليه يقطينة فقيل له: ما اليقطينة؟ قال: شجرة الدباء هيأ الله تعالى له أروية وحشية تأكل من حشاش الأرض فتفسح عليه فترويه من لبنها كل عشية وبكرة حتى نبتت، وقيل: إنه كان يستظل بالشجرة وتختلف إليه الأروية فيشرب من لبنها، وفي بعض الآثار أنها نبتت وأظلته في يومها.
أخرج أحمد في الزهد. وغيره عن وهب أنه لما خرج من البحر نام نومة فأنبت الله تعالى عليه شجرة من يقطين وهي الدباء فأظلته وبلغت في يومها فرآها قد أظلته ورأى خضرتها فأعجبته ثم نام نومة فاستيقظ فإذا هي قد يبست فجعل يحزن عليها فقيل له: أنت الذي لم تخلق ولم تسق ولم تنبت تحزن علهيا وأنا الذي خلقت مائة ألف من الناس أو يزيدون ثم رحمتهم فشق عليك وهؤلاء هم أهل نينوى المعنيون بقوله تعالى:
* (وأرسلن‍اه إلى مائة ألف أو يزيدون) *.
146

* (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) * والإرسال على ما أخرج غير واحد عن مجاهد. والحسن. وقتادة هو الإرسال الأول الذي كان قبل أن يلتقمه الحوت فالعطف على قوله تعالى: * (وإن يونس) * الخ على سبيل البيان لدلالته على ابتداء الحال وانتهائه وعلى ما هو المقصود من الإرسال من الايمان، واعترض بينهما بقصته اعتناء بها لغرابتها. وأورد عليه أنه يأبى عن حمله على الإرسال الأول الفاء في قوله تعالى:
* (فاامنوا فمتعن‍اهم إلى حين) *.
* (فآمنوا) * فإن أولئك لم يؤمنوا عقيب إرساله الأول بل بعدما فارقهم. وأجيب بأنه تعقيب عرفي نحو تزوج فولد له.
وقيل: الأقرب أن الفاء للتفصيل أو السببية، وقيل هو إرسال ثان إليهم بعد أن أصابه فالعطف على ما عنده.
وأورد عليه أن المروي أنهم بعد مفارقته لهم رأوا العذاب أو خافوه فآمنوا فقوله تعالى: * (فآمنوا) * في النظم الجليل هنا يأبى عن حمله على إرسال ثان. وأجيب بأنه يجوز أن يكون الايمان المقرون بحرف التعقيب إيمانا مخصوصا أو أن آمنوا بتأويل أخلصوا الايمان وجددوه لأن الأول كان إيمان باس، وقيل هو إرسال إلى غيرهم، وقيل: إن الأولين بعد أن آمنوا سألوه أن يرجع إليهم فأبى لأن النبي إذا هاجر عن قومه لم يرجع إليهم مقيما فيهم وقال لهم: إن الله تعالى باعث إليكم نبيا. وفي خبر طويل أخرجه أحمد في الزهد. وجماعة عن ابن مسعود أنه عليه السلام بعد أن نبذ بالعراء وأنبت الله تعالى عليه الشجرة وحسن حاله خرج فإذا هو بغلام يرعى غنما فقال: ممن أنت يا غلام؟ قال: من قوم يونس قال: فإذا رجعت إليهم فاقرئهم السلام وأخبرهم أنك لقيت يونس فقال له الغلام: إن تكن يونس فقد تعلم أنه من كذب ولم يكن له بينة قتل فمن يشهد لي؟ قال: تشهد لك هذه الشجرة وهذه البقعة فقال الغلام ليونس: مرهما فقال لهما يونس: إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدا له قالتا: نعم فرجع الغلام إلى قومه وكان له إخوة فكان في منعة فأتى الملك فقال: إني لقيت يونس وهو يقرأ عليكم السلام فأمر به الملك أن يقتل فقال: إن لي بينة فأرسل معه فانتهوا إلى الشجرة والبقعة فقال لهما الغلام نشدتكما بالله هل أشهدكما يونس قالتا: نعم فرجع القوم مذعورين يقولون: تشهد لك الشجرة والأرض فاتوا الملك فحدثوه بما رأوا فتناول الملك يد الغلام فاجلسه في مجلسه وقال: أنت أحق بهذا المكان منى وأقام لهم أمرهم ذلك الغلام أربعين سنة، وهذا دال بظاهره أنه عليه السلام لم يرجع بعد أن أصابه ما أصابه إليهم فإن صح يراد بالإرسال هنا إما الإرسال الأول الذي تضمنه قوله تعالى: * (وإن يونس لمن المرسلين) * وإما إرسال آخر إلى غير أولئك القوم، والمعروف عند أهل الكتاب أنه عليه السلام لم يرسل إلا إلى أهل نينوى، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا تفصيل قصته عندهم؛ و * (أو) * على ما نقل عن ابن عباس بمعنى بل، وقيل: بمعنى الواو وبها قرأ جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما، وقيل: للإبهام على المخاطب، وقال المبرد. وكثير من البصريين: للشك نظرا إلى الناظر من البشر على معنى من رآهم شك في عددهم وقال مائة ألف أو يزيدون والمقصود بيان كثرتهم أو أن الزيادة ليست كثيرة كثرة مفرطة كما يقال هم ألف وزيادة، وقال ابن كمال: المراد يزيدون باعتبار آخر وذلك أن المكلفين بالفعل منهم كانوا مائة ألف وإذا ضم إليهم المراهقون الذين بصدد التكليف كانوا أكثر؛ ومن ههنا ظهر وجه التعبير بصيغة التجدد دون الثبات. وتعقب بأنه مع أن المناسب له الواو تكلف ركيك، وأقرب منه أن الزيادة بحسب الإرسال الثاني ويناسبه صيغة التجدد وإن كانت للفاصلة، وهو معطوف على جملة * (أرسلنا) * بتقديرهم يزيدون على * (مائة) * بتقدير أشخاص يزيدون أو تجريده للمصدرية
147

فإنه ضعيف، والزيادة على ما روى عن ابن عباس ثلاثون ألفا، وفي أخرى عنه بضعة وثلاثون ألفا، وفي أخرى بضعة وأربعون ألفا، وعن نوف. وابن جبير سبعون ألفا، وأخرى الترمذي. وابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. وابن مردويه عن أبي بن كعب قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: * (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) * قال: يزيدون عشرين ألفا، وإذا صح هذا الخبر بطل ما سواه.
* (فمتعناهم) * بالحياة * (إلى حين) * إلى آجالهم المسماة في الأزل قاله قتادة. والسدي، وزعم بعضهم أن تمتيعهم بالحياة إلى زمان المهدي وهم إذا ظهر من أنصاره فهم اليوم أحياء في الجبال والقفار لا يراهم كل أحد كالمهدي عند الإمامية والخضر عند بعض العلماء والصوفية، وربما يكشف لبعض الناس فيرى أحدا منهم وهو كذب مفتري، ولعل عدم ختم هذه القصة والقصة التي قبلها بنحو ما ختم به سائر القصص من قوله تعالى: * (وتركنا عليه في الآخرين * سلام) * (الصافات: 78، 79) الخ تفرقة بين شأن لوط. ويونس عليهما السلام وشأن أصحاب الشرائع الكبر وأولى العزم من المرسلين مع الاكتفاء فيهما بالتسليم الشامل لكل الرسل المذكور في آخر السورة ولتأخرهما في الذكر قربا منه والله تعالى أعلم.
والمذكور في شأن يونس عليه السلام في كتب أهل الكتاب أن الله عز وجل أمره بالذهاب إلى دعوة أهل نينوى وكانت إذ ذاك عظيمة جدا لا تقطع إلا في نحو ثلاثة أيام وكانوا قد عظم شرهم وكثر فسادهم فاستعظم الأمر وهرب إلى ترسيس فجاء يافا فوجد سفينة يريد أهلها الذهاب بها إلى ترسيس فاستأجر وأعطى الأجرة وركب السفينة فهاجت ريح عظيمة وكثرت الأمواج وأشرفت السفينة على الغرق ففزع الملاحون ورموا في البحر بعض الأمتعة لتخف السفينة وعند ذلك نزل يونس إلى بطن السفينة ونام حتى علا نفسه فتقدم إليه الرئيس فقال له: ما بالك نائما؟ قم وادع إلهك لعله يخلصنا مما نحن فيه ولا يهلكنا، وقال بعضهم: تعالوا نتقارع لنعرف من أصابنا هذا الشر بسببه فتقارعوا فوقعت القرعة على يونس فقالوا له: أخبرنا ماذا عملت ومن أين أتيت وإلى أين تمضي ومن أي كورة أنت ومن أي شعب أنت؟ فقال لهم: أنا عبد البر إله السماء خالق البر والبحر وأخبرهم خبره فخافوا خوفا عظيما. وقالوا له: لم صنعت ما صنعت يلومونه على ذلك ثم قالوا له: ما نصنع الآن بك ليسكن البحر عنا؟ فقال: ألقوني في البحر يسكن فإنه من أجلي صار هذا الموج العظيم فجهد الرجال أن يردوها إلى البر فلم يستطيعوا فأخذوا يونس وألقوه في البحر لنجاة جميع من في السفينة فسكن البحر وأمر الله تعالى حوتا عظيما فابتلعه فبقي في بطنه ثلاثة أيام وثلاث ليال وصلى في بطنه إلى ربه واستغاث به، فأمر سبحانه الحوت فألقاه إلى اليبس ثم قال عز وجل له: قم وامض إلى نينوى وناد في أهلها كما أمرتك من قبل فمضى عليه السلام ونادى وقال: تخسف نينوى بعد ثلاثة أيام فآمنت رجال نينوى بالله تعالى ونادوا بالصيام ولبسوا المسوح جميعا ووصل الخبر إلى الملك فقام عن كرسيه ونزع حلته ولبس مسحا وجلس على الرماد ونودي أن لا يذق أحد من الناس والبهائم طعاما ولا شرابا وجأروا إلى الله تعالى ورجعوا عن الشر والظلم فرحهمهم الله تعالى فلم ينزل بهم العذاب فحزن يونس وقال: إلهي من هذا هربت فإني علمت أنك الرحيم الرؤوف الصبور التواب يا رب خذ نفسي فالموت خير لي من الحياة فقال: يا يونس حزنت من هذا جدا؟ فقال: نعم يا رب وخرج يونس وجلس مقابل المدينة وصنع له هناك مظلة وجلس تحتها إلى أن يرى ما يكون في المدينة
148

فأمر الله تعالى يقطينا فصعد على رأسه ليكون ظلا له من كربه فرح باليقطين فرحا عظيما وأمر الله تعالى دودة فضربت اليقطين فجف ثم هبت ريح سموم وأشرقت الشمس
على رأس يونس عليه السلام فعظم الأمر عليه واستطيب الموت فقال له الرب: يا يونس أحزنت جدا على اليقطين؟ فقال: نعم يا رب حزنت جدا فقال سبحانه: حزنت عليه وأنت لم تتعب فيه ولم تربه بل صار من ليلته وهلك من ليلته فأنا لا أشفق على نينوى المدينة العظيمة التي فيها سكان أكثر من اثني عشر ربوة من الناس قوم لا يعلمون يمينهم ولا شمالهم وبهائمهم كثيرة انتهى، وفيه من المخالف للحق ما فيه؛ ولتطلع على حاله نقلته لك وكم لأهل الكتاب من باطل:
* (فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون) *.
* (فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون) * أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في صدور السورة الكريمة بتبكيت قريش وإبطال مذهبهم في إنكار البعث بطريق الاستفتاء وساق البراهين الناطقة بتحققه لا محالة وبين وقوعه وما يلقونه عند ذلك من فنون العذاب واستثنى منهم عباده المخلصين وفصل سبحانه ما لهم من النعيم المقيم، ثم ذكر سبحانه أنه قد ضل من قبلهم أكثر الأولين وأنه تعالى أرسل إلهيم منذرين على وجه الإجمال، ثم أورد قصص بعض الأنبياء عليهم السلام بنوع تفصيل متضمنا كل منها ما يدل على فضلهم وعبوديتهم له عز وجل، ثم أمره صلى الله عليه وسلم ههنا بتبكيتهم بطريق الاستفتاء عن وجه ما تنكره العقول بالكلية وهي القسمة الباطلة اللازمة لما كانوا عليه من الاعتقاد الزائغ حيث كانوا يقولون كبعض أجناس العرب جهينة. وسليم. وخزاعة. وبني مليح: الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا، ثم بتبكيتهم بما يتضمنه كفرهم المذكور من الاستهانة بالملائكة عليهم السلام بجعلهم إناثا، ثم أبطل سبحانه أصل كفرهم المنطوي على هذين الكفرين وهو نسبة الولد إليه سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، ولم ينظمه سبحانه في سلك التبكيت لمشاركتهم اليهود القائلين عزيز ابن الله والنصارى المعتقدين عيسى ابن الله تعالى الله عن ذلك، والفاء قيل لترتيب الأمر على ما يعلم مما سبق من كون أولئك الرسل إعلام الخلق عليهم السلام عباده تعالى فإن ذلك مما يؤكد التبكيت ويظهر بطلان مذهبهم الفاسد فكأنه قيل: إذا كان رسل ربك من علمت حالهم فاستخبر هؤلاء الكفرة عن وجه كون البنات وهن أوضع الجنسين له تعالى بزعمهم والبنين الذين هم أرفعهما لهم فإنهم لا يستطيعون أن يثبتوا له وجها لأنه في غاية البطلان لا يقوله من له أدنى شيء من العقل، وقال بعض الأجلة: الكلام متصل بقوله تعالى في أول السورة * (فاستفتهم أهم أشد خلقا) * (الصافات: 11) على أن الفاء هنا للعطف على ذاك، والتعقيب لأنه أمر بهما من غير تراخ، وهي هناك جزائية في جواب شرط مقدر، وبهذا القول أقول. وأورد عليه أبو حيان أن فيه الفصل الطويل وقد استقبح النحاة الفصل بجملة نحو أكلت لحما واضرب زيدا وخبزا فما ظنك بالفصل بجمل بل بما يقرب من سورة. وأجيب بأن ما ذكر في عطف المفردات وأما الجمل فلاستقلالها يغتفر لها ذلك، والكلام هنا لما تعانقت معانيه وارتبطت مبانيه وأخذ بعضها بحجز بعض حتى كأن الجميع كلمة واحدة لم يعد البعد بعدا كما قيل. وليس يضير البعد بين جسومنا * إذا كان ما بين القلوب قريبا
ووجه ترتب المعطوف على ما قبل كوجه ترتب المعطوف عليه فإن كونه تعالى رب السموات والأرض وتلك الخلائق العظيمة كما دل على وحدته تعالى وقدرته عز وجل دال على تنزهه سبحانه عن الولد، ألا ترى إلى قوله جل شأنه: * (بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد) * (الأنعام: 101) والمناسبة بين الرد على منكري البعث
149

والرد على مثبتي الولد ظاهرة، وقد اتحد في الجملتين السائل والمسؤول والأمر؛ وجوز بعضهم كون ضمير * (استفتهم) * للمذكورين من الرسل عليهم السلام والبواقي لقريش، والمراد الاستفتاء ممن يعلم أخبارهم ممن يوثق بهم ومن كتبهم وصحفهم أي ما منهم أحد إلا وينزه الله تعالى عن أمثال ذلك حتى يونس عليه السلام في بطن الحوت، ولعمري أن الرجل قد بلغ الغاية من التكلف من غير احتياج إليه، ولعله لو استغنى عن ارتكاب التجوز بالتزام كون الاستفتاء من المرسلين المذكورين حيث يجتمع رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم اجتماعا روحانيا كما يدعيه لنفسه الشيخ محيي الدين قدس سره مع غير واحد من الأنبياء عليهم السلام ويدعي أن الأمر بالسؤال المستدعي للاجتماع أيضا في قوله تعالى: * (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون) * (الزخرف: 45) على هذا النمط لكان الأمر أهون وإن كان ذلك منزعا صوفيا.
وأضيف الرب إلى ضميره عليه الصلاة والسلام دون ضميرهم تشريفا لنبيه صلى الله عليه وسلم وإشارة إلى أنهم في قولهم بالبنات له عز وجل كالنافين لربوبيته سبحانه لهم [بم وقوله سبحانه:
* (أم خلقنا المل‍ائكة إن‍اثا وهم ش‍اهدون) *.
* (أم خلقنا الملائكة إناثا) * إضراب وانتقال من التبكيت بالاستفتاء السابق إلى التبكيت بهذا أي بل أخلقنا الملائكة الذين هم من أشرف الخلائق وأقواهم وأعظمهم تقدسا عن النقائص الطبيعية إناثا والأنوثة من أخس صفات الحيوان.
وقوله تعالى: * (وهم شاهدون) * استهزاء بهم وتجهيل لهم كقوله تعالى: * (أشهدوا خلقهم) * فإن أمثال هذه الأمور لا تعلم إلا بالمشاهدة إذ لا سبيل إلى معرفتها بطريق العقل وانتفاء النقل مما لا ريب فيه فلا بد أن يكون القائل بأنوثتهم شاهدا عند خلقهم، والجملة إما حال من فاعل * (خلقنا) * أي بل أخلقناهم إناثا والحال أنهم حاضرون حينئذ أو عطف على * (خلقنا) * أي بل أهم شاهدون. [بم وقوله تعالى:
* (ألا إنهم من إفكهم ليقولون * ولد الله وإنهم لك‍اذبون) *.
* (ايلا إنهم من إفكهم ليقولون * ولد الله) * استئناف من جهته تعالى غير داخل تحت الاستفتاء مسوق لإبطال أصل مذهبهم الفاسد ببيان أن مبناه ليس إلا الإفك الصريح والافتراء القبيح من غير أن يكون لهم دليل أو شبهة * (وإنهم لكاذبون) * فيما يتدينون به مطلقا في هذا القول، وفيه تأكيد لقوله تعالى: * (من إفكهم) * وقرء * (ولد الله) * بالإضافة ورفع ولد على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ليقولون الملائكة ولد الله والولد فعل بمعنى مفعول يقع على المذكر والمؤنث والواحد والجمع ولذا وقع هنا
خبرا عن الملائكة المقدر.
* (أصطفى البنات على البنين) *.
* (أصطفى البنات على البنين) * بهمزة مفتوحة هي حرف استفهام حذفت بعدها همزة الوصول والاستفهام للإنكار والمراد إثبات إفكهم وتقرير كذبهم، والإصطفاء أخذ صفوة الشيء لنفسه.
وقرأ نافع في رواية إسمعيل. وابن جماز. وجماعة. وإسماعيل عن أبي جعفر. وشيبة * (اصطفى) * بكسر الهمزة وهي همزة الوصل وتكسر إذا ابتدىء بها وخرجت على حذف أداة الاستفهام لدلالة أم بعد وإن كانت منقطعة غير معادلة لها لكثرة استعمالها معها، وجوز إبقاء الكلام على الإخبار إما على إضمار القول أي لكاذبون في قولهم اصطفى الخ أو يقولون اصطفى الخ على ما قيل: أو على الإبدال من قولهم ولد الله أو الملائكة ولد الله وليس دخيلا بين نسيبين، والأولى التخريج على حذف الأداة وحسم البحث فتأمل.
* (مالكم كيف تحكمون) *.
* (ما لكم كيف تحكمون) * بهذا الحكم الذي تقضي ببطلانه بداهة العقول والالتفات لزيادة التوبيخ.
* (أفلا تذكرون) *.
150

* (أفلا تذكرون) * بحذف أحد التاءين من تتذكرون. وقرأ طلحة بن مصرف تذكرون بسكون الذال وضم الكاف من ذكر. والفاء للعطف على مقدر أي تلاحظون ذلك فلا تتذكرون بطلانه فإنه مركوز في عقل كل ذكي وغبي.
* (أم لكم سلط‍ان مبين) *.
* (أم لكم سلطان مبين) * إضراب وانتقال من توبيخهم وتبكيتهم بما ذكر بتكليفهم ما لا يدخل تحت الوجود أصلا أي بل ألكم حجة واضحة نزلت من السماء بأن الملائكة بناته تعالى ضرورة أن الحكم بذلك لا بد له من سند حسي أو عقلي وحيث انتفى كلاهما فلا بد من سند نقلي.
* (فأتوا بكت‍ابكم إن كنتم ص‍ادقين) *.
* (فأتوا بكتابكم) * الناطق بصحة دعواكم * (إن كنتم صادقين) * فيها، والأمر للتعجيز، وإضافة الكتاب إليهم للتهكم، وفي الآيات من الأنباء عن السخط العظيم والإنكار الفظيع لأقاويلهم والاستبعاد الشديد لأباطيلهم وتسفيه أحلامهم وتركيك عقولهم وأفهامهم مع استهزاء بهم وتعجيب من جهلهم ما لا يخفى على من تأمل فيها [بم وقوله تعالى:
* (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون) *.
* (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) * التفات إلى الغيبة للإيذان بانقطاعهم عن الجواب وسقوطهم عن درجة الخطاب واقتضاء حالهم أن يعرض عنهم وتحكي لآخرين جناياتهم، واستظهر أن المراد بالجنة الشياطين وأريد بالنسب المجعول المصاهرة.
أخرج آدم بن أبي أياس. وعبد بن حميد. وابن جرير. وغيرهم عن مجاهد قال: قال كفار قريش الملائكة بنات الله تعالى فقال لهم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أي على سبيل التبكيت: فمن أمهاتهم؟ فقالوا: بنات سروات الجن وروى هذا ابن أبي حاتم عن عطية، أو أريد جعلوا بينه سبحانه وبينهم مناسبة حيث أشركوهم به تعالى في استحقاق العبادة وروى هذا عن الحسن، وقيل إن قوما من الزنادقة يقولون الله عز وجل وإبليس عليه اللعنة أخوان فالله تعالى هو الخير الكريم وإبليس هو الشرير اللئيم وهو المراد بقوله سبحانه: * (وجعلوا) * الخ وحكى هذا الطبرسي عن الكلبي، وقال الإمام الرازي: وهذا القول عندي أقرب الأقاويل وهو مذهب المجوس القائلين بيزدان وأهرمن ويعبرون عنهما بالنور والظلمة، ويبعد هذا القول عندي أن الظاهر أن ضمير * (جعلوا) * كالضمائر السابقة لقريش ولم يشتهر ذلك عنهم بل ولا عن قبيلة من قبائل العرب وليس المقام للرد على الكفرة مطلقا.
وأخرج غير واحد عن مجاهد. وعبد بن حميد عن عكرمة. وابن أبي شيبة عن أبي صالح أن المراد بالجنة الملائكة، وحكاه في " مجمع البيان " عن قتادة واختاره الجبائي، والمراد بالجعل المذكور ما تضمنه قولهم الملائكة بنات الله، وأعيد تمهيدا لما يعقبه، وهو مبني على أن الجن والملك جنس واحد مخلوقون من عنصر واحد وهو النار لكن من كان من كثيفها الدخاني فهو شيطان وهو شرذ وتمرد ومن كان من صافي نورها فهو ملك وهو خير كله، ووجه التسمية بالجن الاستتار عن عيوننا فالجن والجنة بمعنى مفعول من جنه إذا ستره، ويكون على هذا تخصيص الجن بأحد نوعيه تخصيصا طارئا كتخصيص الدابة، وعلى الأصل جاء ما هنا، ونقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن نوعا من الملائكة عليهم السلام يسمى الجن ومنهم إبليس؛ وعبر عن الملائكة بالجنة حطا لهم مع عظم شأنهم في أنفسهم أن يبلغوا منزلة المناسبة التي أضافوها إليهم في قولهم ذلك، وقد يقال: إن الاستتار كالداعي لهم إلى ذلك الزعم الباطل بناء على توهمهم بأنه إنما يليق بالإناث فقالوا: لو لم يكونوا بناته سبحانه وتعالى لما سترهم عن العيون فلذا عبر عنهم بالجنة.
* (ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون) * أي والله لقد علمت الشياطين أي جنسهم إن الله تعالى يحضرهم ولا بد النار ويعذبهم بها ولو كانوا مناسبين له تعالى
151

شركاء في استحقاق العبادة أو التصرف لما عذبهم سبحانه فضمير * (إنهم) * للجنة على ما عدا الوجه الأخير من الأجه السابقة وإما عليه فهو للكفرة أي والله لقد علمت الملائكة الذين جعلوا بينه تعالى وبينهم نسبا وقالوا هم بناته أن الكفرة لمحضرون النار معذبون بها لكذبهم وافترائهم في قولهم ذلك، والمراد به المبالغة في التكذيب
ببيان أن الذين يدعى لهم هؤلاء تلك النسبة ويعلمون أنهم أعلم منهم بحقيقة الحال يكذبونهم في ذلك ويحكمون بأنهم معذبون لأجله حكما مؤكدا، ويجوز على الأجه الأول عود الضمير على الكفرة أيضا والمعنى على نحو ما ذكر، وعلم الملائكة أن الكفرة معذبون ظاهر، وعلم الشياطين بأنهم أنفسهم وكذا سائر الكفرة معذبون لما أن الله عز وجل توعد إبليس عليه اللعنة بما يدل على ذلك. [بم وقوله سبحانه:
* (سبح‍ان الله عما يصفون) *.
* (سبحان الله عما يصفون) * على جميع الأوجه السابقة تنزيه من جهته تعالى لنفسه عن الوصف الذي لا يليق به [بم وقوله تعالى:
* (إلا عباد الله المخلصين) *.
* (إلا عباد الله المخلصين) * استثناء منقطع من المحضرين وما بينهما اعتراض أي ولكن المخلصون ناجون، وجوز كونه استثناء متصلا منه ويفسر ضمير * (أنهم) * بما يعم وهو خلاف الظاهر وجوز كونه استثناء منقطعا من ضمير * (يصفون) * وكونه استثناء متصلا منه وهو خلاف الظاهر أيضا.
وجوز كونه استثناء من ضمير * (جعلوا) * على الانقطاع لا غير وما في البين اعتراض، واختار الواحدي الوجه الأول. قال الطيبي: ويحسن كل الحسن إذا فسر الجنة بالشياطين أي وضمير * (أنهم) * بالكفرة ليرجع معناه إلى قوله تعالى حكاية عن اللعين: * (لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين) * (ص: 82، 83) أي أنهم لمحضرون النار ومعذبون حيث أطاعونا في إغوائنا إياهم لكن الذين أخلصوا الطاعة لله تعالى وطهروا قلوبهم من أرجاس الشرك وأنجاس الكفر والرذائل ما عمل فيهم كيدنا فلا يحضرون ويكون ذلك مدحا للمخلصين وتعريضا بالمشركين وإرغاما لأنوفهم ومزيدا لغيظهم أي أنهم بخلاف ما هم عليه من سفه الأحلام وجهل النفوس وركاكة العقول اه‍. وفي بيان المعنى نوع قصور [بم وقوله تعالى:
* (فإنكم وما تعبدون * مآ أنتم عليه بف‍اتنين * إلا من هو صال الجحيم) *.
* (فإنكم وما تعبدون * ما أنتم عليه بفاتنين * إلا من هو صال الجحيم) * عود إلى خطابهم، والفاء في جواب شرط مقدر أي إذا علمتم هذا أو إذا كان المخلصون ناجين * (فإنكم) * الخ، والواو للعطف * (وما تعبدون) * معطوف على الضمير في * (إنكم) * وضمير * (عليه) * لله عز وجل والجار متعلق بفاتنين وعدي بعلى لتضمنه معنى الاستيلاء وهو استعارة من قولهم فتن غلامه أو امرأته عليه إذا أفسده والباء زائدة وهو خبر ما، والجملة خبر إن والاستثناء مفرغ من مفعول فاتنين المقدر و * (أنتم) * خطاب للكفرة ومعبوديهم على سبيل التغليب نحو أنت وزيد تخرجان أي ما أنتم ومعبودوكم مفسدين أحدا على الله عز وجل بإغوائكم إلا من سبق في علم الله تعالى أنه من أهل النار يصلاها ويدخلها لا محالة.
وجوز كون الواو هنا مثلها في قولهم كل رجل وضيعته فجملة * (ما أنتم عليه) * الخ مستقلة ليست خبرا لإن وضمير * (عليه) * لما بتقدير مضاف وهو متعلق بفاتنين أيضا بتضمينه معنى البعث أو الحمل ولا تغليب في الخطاب كأنه قيل: إنكم وآلهتكم قرناء لا تبرحون تعبدونها ثم قيل ما أنتم على عبادة ما تعبدون بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة والإضلال أحدا إلا من سبق في علمه تعالى أنه من أهل النار، وظاهر صنيع بعضهم أن أمر
152

التغليب في * (أنتم) * على هذا على حاله، وأنت تعلم أن الظاهر الاتصال، وجوز أن يراد معنى المعية وخبر إن جملة * (ما أنتم عليه) * الخ ويكون الكلام على أسلوب قول الوليد بن عقبة بن أبي معيط عامله الله تعالى بما هو أهلة يحض معاوية على حرب الأمير علي كرم الله تعالى وجهه: فإنك والكتاب إلى علي * كدابغة وقد حلم الأديم
قال في " الكشف ": ومعنى الآية أي عليه أنكم يا كفرة مع معبوديكم لا يتسهل لكم إلا أن تفتنوا من هو ضال مثلكم، وهو بيان لخلاصة المعنى، واستظهر أبو حيان العطف وكون الضمير للعبادة وتضمين فاتنين معنى الحمل وتغليب المخاطب على الغائب في * (أنتم) * وكون الجملة المنفية خبر إن. وحكي عن بعضهم القول بأن على بمعنى الباء والضمير المجرور به لما تعبدون فتأمل.
وقرأ الحسن. وابن أبي عبلة * (صالوا الجحيم) * بالواو على ما في كتاب الكامل للهذلي، وفي كتاب ابن خالويه عنهما * (صال) * بالضم ولا واو. وفي " اللوامح " و " الكشاف " عن الحسن * (صالوا الجحيم) * بضم اللام فعلى إثبات الواو هو جمع سلامة سقطت النون للإضافة، وفي الكلام مراعاة لفظ من أولا ومعناها ثانيا كما هو قوله تعالى: * (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) * (البقرة: 8) وعلى عدم إثباتها فيه ثلاثة أوجه، الأول: أن يكون جمعا حذفت النون منه للإضافة ثم واو الجمع لالتقاء الساكنين وأتبع الخط اللفظ.
الثاني: أن يكون مفردا حذفت لامه وهي الياء تخفيفا وجعلت كالمنسي وجرى الإعراب على عينه كما جرى على عين يد ودم وعلى ذلك قوله تعالى: * (وجني الجنتين دان) * (الرحمن: 54) وقوله سبحانه: * (وله الجوار المنشآت) * بضم نون * (دان) * وراء * (الجوار) * وقولهم ما باليت به بالة فإن أصل بالة بالية بوزن عافية حذفت لامه فأجري الإعراب على عينه ولما لحقته الهاء انتقل إليها، الثالث: أن يكون مفردا أيضا ويكون أصله صائل على القلب المكاني بتقديم اللام على العين ثم حذفت اللام المقدمة وهي الياء فبقي صال بوزن فاع وصار معربا كباب ونظيره شاك الجاري إعرابه على الكاف في لغة [بم وقوله تعالى:
* (وما منآ إلا له مقام معلوم) *.
* (وما منا إلا له مقام معلوم) * حكاية لاعتراف الملائكة بالعبودية للرد على من يزعم فيهم خلافها فهو من كلامه تعالى لكنه حكى بلفظهم وأصله وما منهم إلا الخ أي وما منا إلا له مقام معلوم في العبادة والانتهاء إلى أمر الله تعالى في تدبير العالم مقصور عليه لا يتجاوزه ولا يستطيع أن يزل عنه خضوعا لعظمته تعالى وخشوعا لهيبته
سبحانه وتواضعا لجلاله جل شأنه كما روي " فمنهم راكع لا يقيم صلبه وساجد لا يرفع رأسه " وقد أخرج الترمذي وحسنه. وابن ماجه. وابن مردويه عن أبي ذر قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون إن السماء أطت وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك واضعا جبهته ساجدا لله ".
وأخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم. وأبو الشيخ. ومحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما في السماء موضع قدم إلا عليه ملك ساجد أو قائم وذلك قول الملائكة وما منا إلا له مقام معلوم وإنا لنحن الصافون " وعن السدي * (إلا له مقام معلوم) * في القرب والمشاهدة، وجعل بعضهم ذلك من كلام الجنة بمعنى الملائكة متصلا بما قبله من كلامهم وهو من قوله تعالى: * (سبحان الله عما يصفون) * إلى * (المسبحون) * فقال بعد أن فسر الجنة بالملائكة: إن * (سبحان الله عما يصفون) * حكاية
153

لتنزيه الملائكة إياه تعالى عما وصفه المشركون به بعد تكذيبهم لهم في ذلك بتقدير قول معطوف على * (علمت) * و * (إلا عباد الله المخلصين) * (الصافات: 40) شهادة منهم ببراءة المخلصين من أن يصفوه تعالى بذلك متضمنة لتبرئتهم منه بحكم اندراجهم في زمرة المخلصين على أبلغ وجه وآكده على أنه استثناء منقطع من واو * (يصفون) * كأنه قيل: ولقد علمت الملائكة أن المشركين لمعذبون لقولهم ذلك وقالوا سبحان الله عما يصفون لكن عباد الله الذين نحن من جملتهم برآء من ذلك الوصف، و * (فإنكم) * الخ تعليل وتحقيق لبراءة المخلصين عما ذكر ببيان عجزهم عن إغوائهم وإضلالهم، والالتفات إلى الخطاب لإظهار كمال الاعتناء بتحقيق مضمون الكلام وما تعبدون الشياطين الذين أغووهم وفيه إيذان بتبريهم عنهم وعن عبادتهم كقولهم: * (بل كانوا يعبدون الجن) * (سبأ: 41) وقولهم: * (وما منا إلا له مقام) * الخ تبيين لجلية أمرهم وتعيين لحيزهم في موقف العبودية بعد ما ذكر من تكذيب الكفرة فيما قالوا وتنزيه الله تعالى عن ذلك وتبرئة المخلصين عنه وإظهار لقصور شأنهم وجعل تفسير الجنة بالملائكة هو الوجه لاقتضاء ربط الآيات وتوجيهها بما ذكر إياه وفي التعليل شيء، نعم إن هذه الآية تقوي قول من يقول: المراد بالجنة فيما سبق الملائكة عليهم السلام تقوية ظاهرة جدا وإن الربط الذي ذكر في غاية الحسن، وقيل: هو من قول الرسول عليه الصلاة والسلام أي وما من المسلمين إلا له مقام معلوم على قدر أعماله يوم القيامة وهو متصل بقوله: * (فاستفتهم) * كأنه قيل فاستفتهم وقال وما منا الخ على معنى بكتهم بذلك وانع عليهم كفرانهم وعدد ما أنت وأصحابك متصف به من أضدادها، وإن شئت لم تقدر قل بعد علمك بأن المعنى ينساق إليه وهو بعيد فافهم والله تعالى أعلم.
و * (منا) * خبر مقدم والمبتدأ محذوف للاكتفاء بصفته وهي جملة له مقام أي * (ما منا) * أحد إلا له مقام معلوم.
وحذف الموصوف بجملة أو شبهها إذا كان بعض ما قبله من مجرور بمن أوفى مطرد وهذا اختيار الزمخشري.
وقال أبو حيان * (منا) * صفة لمبتدأ محذوف والجملة المذكورة هي الخبر أي وما أحد كائن منا إلا له مقام معلوم.
وتعقب ما مر بأنه لا ينعقد كلام من ما منا أحد، وقوله سبحانه: * (إلا له مقام معلوم) * هو محط الفائدة فيكون هو الخبر وإن تخيل أن إلا بمعنى غير وهي صفة لا يصح لأنه لا يجوز حذف موصوفها وفارقت غيرا إذا كانت صفة في ذلك لتمكن غير في الوصف وقلة تمكن إلا فيه، وقال غيره: إن فيه أيضا التفريغ في الصفات وهم منعوا ذلك، ودفع بأنه ينعقد منه كلام مفيد مناسب للمقام إذ معناه ما منا أحد متصف بشيء من الصفات إلا أحد إلا أحد له مقام معلوم لا يتجاوزه والمقصود بالحصر المبالغة أو يقال إنه صفة بدل محذوف أي ما منا أحد إلا أحد له مقام معلوم كما قاله ابن مالك في نظيره، وفيه أن فيه اعترافا بأن المقصود بالإفادة تلك الجملة وهو يستلزم أولوية كونها خبرا وما ذكر من احتمال كونه صفة لبدل محذوف فليس بشيء لأن فيه حذف المبدل والمبدل منه ولا نظير له، وبالجملة ما ذكره أبو حيان أسلم من القيل والقال، نعم قيل يجوز أن يقال: القصد هنا ليس إفادة مضمون الخبر بل الرد على الكفرة ولذا جعل الظرف خبرا وقدم فالمعنى ليس منا أحد يتجاوز مقام العبودية لغيرها بخلافكم أنتم فقد صدر منكم ما أخرجكم عن رتبة الطاعة، وفيه نظر.
* (وإنا لنحن الصآفون) *.
* (وإنا لنحن الصافون) * أنفسنا أو أقدامنا في الصلاة، وقال ناصر الدين: أي في أداء الطاعة ومنازل الخدمة، وقيل: الصافون حول العرش ننتظر الأمر الإلهي، وفي " البحر " داعين للمؤمنين، وقيل: صافون أجنحتنا في الهواء منتظرين ما يؤمر.
154

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن الوليد بن عبد الله بن مغيث قال: كانوا لا يصفون في الصلاة حتى نزلت * (وإنا لنحن الصافون) * وأخرج مسلم عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض مسجدا وجعلت لنا ترتبها طهورا إذا لم نجد الماء " وأخرج هو أيضا. وأبو داود. والنسائي. وابن ماجه عن جابر بن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم " وهذه الأخبار ونحوها ترجح التفسير الأول.
* (وإنا لنحن المسبحون) *.
* (وإنا لنحن المسبحون) * أي المنزهون الله تعالى عما لا يليق به سبحانه ويدخل فيه ما نسبه إليه تعالى الكفرة، وقيل: أي القائلون سبحان الله.
وأخرج عبد بن حميد. وغيره عن قتادة أنه قال: المسبحون أي المصلون ويقتضيه ما روي عن ابن عباس أن كل تسبيح في القرآن بمعنى الصلاة، والظاهر ما تقدم، ولعل الأول إشارة إلى مزيد أدبهم الظاهر مع ربهم عز وجل والثاني إشارة إلى كمال عرفانهم به سبحانه، وقال ناصر الدين: لعل الأول إشارة إلى درجاتهم في الطاعة وهذا في المعارف، وما في إن واللام وتوسيط الفصل من التأكيد والاختصاص لأنهم المواظبون على ذلك دائما من غير فترة وخواص البشر لا تخلو من الاشتغال
بالمعاش، ولعل الكلام لا يخلو عن تعريض بالكفرة، والظاهر أن الآيات الثلاث أعني قوله تعالى: * (وما منا) * إلى هنا نزلت كما نزلت أخواتها.
وعن هبة الله المفسر أنها نزلت لا في الأرض ولا في السماء وعد معها آيتين من آخر سورة البقرة وآية من الزخرف * (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا) * (الزخرف: 45) الآية قال ابن العربي: ولعله أراد في الفضاء بين السماء والأرض. وقال الجلال السيوطي: لم أقف على مستند لما ذكره إلا آخر البقرة فيمكن أن يستدل به بما أخرجه مسلم عن ابن مسعود لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى سدرة المنتهى الحديث وفيه فأعطى الصلوات الخمس وأعطى خواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك من أمته بالله شيئا المقحمات انتهى فلا تغفل.
* (وإن كانوا ليقولون) *.
* (وإن كانوا ليقولون) * إن هي المخففة واللام هي الفارقة والضمير لكفار قريش كانوا يقولون قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم.
* (لو أن عندنا ذكرا من الاولين) *.
* (لو أن عندنا ذكرا من الأولين) * أي كتابا من جنس الكتب التي نزلت عليهم ومثلها في كونه من عند الله تعالى:
* (لكنا عباد الله المخلصين) *.
* (لكنا عباد الله المخلصين) * لأخلصنا العبادة له تعالى ولكنا أهدى منهم [بم والفاء في قوله تعالى:
* (فكفروا به فسوف يعلمون) *.
* (فكفروا به) * فصيحة مثلها في قوله تعالى: * (أن اضرب بعصاك البحر فانفلق) * (الشعراء: 63) أي فجاءهم ذكر وأي ذكر سيد الاذكار وكتاب مهيمن على سائر الكتب والأخبار فكفروا به * (فسوف يعلمون) * أي عاقبة كفرهم وما يحل بهم من الانتقام، وقيل أريد بالذكر العلم أي لو أن عندنا علما من الذين تقدموا وما فعل الله تعالى بهم بعد أن ماتوا هل أثابهم أم عذبهم لأخلصنا العبادة له تعالى فجاءهم ذلك في القرآن العظيم فكفروا به، ولا يخفى بعده.
* (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين) *.
* (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين) * استئناف مقرر للوعيد وتصديره بالقسم لغاية الاعتناء بتحقيق مضمونه أي وبالله لقد سبق وعدنا لهمب النصرة والغلبة وهو قوله تعالى:
* (إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغ‍البون) *.
* (إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغ‍البون) * فيكون تفسيرا أو بدلا من * (كلمتنا) * وجوز أن يكون مستأنفا والوعد ما في محل آخر من قوله تعالى: * (لأغلبن أنا ورسلي) * (المجادلة: 21) والأول أظهر، والمراد بالجند اتباع المرسلين وأضافهم
155

إليه تعالى تشريفا لهم وتنويها بهم، وقال بعض الأجلة: هو تعميم بعد تخصيص وفيه من التأكيد ما فيه، والمراد عند السدي بالنصرة والغلبة ما كان بالحجة، وقال الحسن: المراد النصرة والغلبة في الحرب فإنه لم يقتل نبي من الأنبياء في الحرب وإنما قتل من قتل منهم غيلة أو على وجه آخر في غير الحرب وإن مات نبي قبل النصرة أو قتل فقد أجرى الله تعالى أن ينصر قومه من بعده فيكون في نصرة قومه نصرة له، وقريب منه ما قيل إن القصرين باعتبار عاقبة الحال وملاحظة المآل، وقال ناصر الدين: هما باعتبار الغالب والمقضي بالذات لأن الخير هو مراده تعالى بالذات وغيره مقضي بالتبع لحكمة وغرض آخر أو للاستحقاق بما صدر من العباد، ولذا قيل بيده الخير ولم يذكر الشر مع أن الكل من عنده عز وجل، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إن لم ينصروا في الدنيا نصروا في الآخرة، وظاهر السياق يقتضي أن ذلك في الدنيا وأنه بطريق القهر والاستيلاء والنيل من الأعداء أما بقتلهم أو تشريدهم أو إجلائهم عن أوطانهم أو استئسارهم أو نحو ذلك، والجملتان دالتان على الثبات والاستمرار فلا بد من أن يقال: إن استمرار ذلك عرفي، وقيل: هو على ظاهره واستمرار الغلبة للجند مشروط بما تشعر به الإضافة فلا يغلب اتباع المرسلين في حرب إلا لاخلالهم بما تشعر به بميل ما إلى الدنيا أو ضعف التوكل عليه تعالى أو نحو ذلك، ويكفي في نصرة المرسلين إعلاء كلمتهم وتعجيز الخلق عن معارضتهم وحفظهم من القتل في الحروب ومن الفرار فيها ولو عظمت هنالك الكروب فافهم، ولا يخفى وجه التعبير بمنصورون مع المرسلين وبالغالبون مع الجند فلا تغفل، وسمى الله عز وجل وعده بذلك كلمة وهي كلمات لأنها لما اجتمعت وتضامنت وارتبطت غاية الارتباط صارت في حكم شيء واحد فيكون ذلك من باب الاستعارة، والمشهور أن إطلاق الكلمة على الكلام مجاز مرسل من إطلاق الجزء على الكل، وقال بعض العلماء: إنه حقيقة لغوية واختصاص الكلمة بالمفرد اصطلاح لأهل العربية فعليه لا يحتاج إلى التأويل، وقرأ الضحاك * (كلماتنا) * بالجمع، ويجوز أن يراد عليها وعودنا فتفطن، وفي قراءة ابن مسعود * (على عبادتنا) * على تضمين * (سبقت) * معنى حقت.
* (فتول عنهم حتى حين) *.
* (فتول عنهم) * فأعرض عنهم واصبر * (حتى حين) * إلى وقت انتهاء مدة الكف عن القتال، وعن السدي إلى يوم بدر ورجحه الطبري وقيل: إلى يوم الفتح وكان قبله مهادنة الحديبية، وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أنه قال: إلى يوم موتهم وحكاه الطبرسي عن ابن عباس أيضا، وقال ابن زيد: إلى يوم القيامة، وهو والذي قبله ظاهران في عدم اختصاص النصرة بما كان في الدنيا.
* (وأبصرهم فسوف يبصرون) *.
* (وأبصرهم) * وهم حينئذ على أسوأ حال وأفظع نكال قد حل بهم ما حل من الأسر والقتل أو أبصر بلاءهم على أن الكلام على حذف مضاف، والأمر بمشاهدة ذلك وهو غير واقع للدلالة على أنه لشدة قربه كأنه حاضر قدامه وبين يديه مشاهد خصوصا إذا قيل إن الأمر للحال أو الفور.
* (فسوف يبصرون) * ما يكون لك من التأييد والنصر، وقيل: المعنى أبصر ما يكون عليهم يوم القيامة من العذاب فسوف يبصرون ما يكون لك من مزيد الثواب، وسوف للوعيد لا للتسويف والتبعيد الذي هو حقيقتها وقرب ما حل بهم مستلزم لقرب ما يكون له عليه الصلاة والسلام فهو قرينة على عدم إرادة التبعيد منه.
* (أفبعذابنا يستعجلون) *.
* (أفبعذابنا يستعجلون) * استفهام توبيخ أخرج جويبر عن ابن عباس قال قالوا يا محمد أرنا العذاب الذي تخوفنا به وعجلنه لنا فنزلت، وروي أنه لما نزل * (فسوف يبصرون) * قالوا متى هذا؟ فنزلت.
* (فإذا نزل بساحتهم فسآء صباح المنذرين) *.
* (فإذا نزل) * أي العذاب الموعود
156

* (بساحتهم) * وهي العرصة الواسعة عند الدور والمكان الواسع مطلقا وتجمع على سوح قال الشاعر: فكان سيان أن لا يسرحوا نعما * أو يسرحوه بها واغبرت السوح
وفي الضمير استعارة مكنية شبه العذاب بجيش يهجم على قوم وهم في ديارهم بغتة فيحل بها والنزول تخييل.
وقرأ ابن مسعود * (نزل) * بالتخفيف والبناء للمجهول وهو لازم فالجار والمجرور نائب الفاعل، وقرىء نزل بالتشديد والبناء للمجهول أيضا وهو متعد فنائب الفاعل ضمير العذاب * (فساء صباح المنذرين) * أي فبئس صباح المنذرين صباحهم على أن ساء بمعنى بئس وبها قرأ عبد الله والمخصوص بالذم محذوف واللام في المنذرين للجنس لا للعهد لاشتراطهم الشيوع فيما بعد فعلي الذم والمدح ليكون التفسير بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال ولو كان ساء بمعنى قبح على أصله جاز اعتبار العهد من غير تقدير، والصباح مستعار لوقت نزول العذاب أي وقت كان من صباح الجيش المبيت للعدو وهو السائر إليه ليلا ليهجم عليه وهو في غفلته صباحا، وكثيرا ما يسمون الغارة صباحا لما أنها في الأعم الأغلب تقع فيه، وهو مجاز مرسل أطلق فيه الزمان وأريد ما وقع فيه كما يقال أيام العرب لوقائعهم.
وجوز حمل الصباح هنا على ذلك، وفي " الكشاف " مثل العذاب النازل بهم بعد ما أنذروه فأنكروه بجيش أنذر بهجومه قوما بعض نصاحهم فلم يلتفتوا إلى إنذاره ولا أخذوا اهبتهم ولا دبروا أمرهم تدبيرا ينجيهم حتى أناخ بفنائهم بغتة فشن عليهم الغارة وقطع دابرهم، وكانت عادة مغاويرهم أصباحا فسميت الغارة صباحا وإن وقعت في وقت آخر؛ وما فصحت هذه الآية ولا كانت لها الروعة التي يحس بها ويروقك موردها على نفسك وطبعك إلا لمجيئها على طريقة التمثيل انتهى، وظاهره أن الكلام على الاستعارة التمثيلية وفضلها على غيرها أشهر من أن يذكر وأجل من أن ينكر، وقيل: ضمير نزل للنبي صلى الله عليه وسلم ويراد حينئذ نزوله يوم الفتح لا يوم بدر لأنه ليس بساحتهم إلا على تأويل ولا بخيبر لقوله صلى الله عليه وسلم حين صبيحها: الله أكبر خربت خيبر أنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين لأن تلاوته عليه الصلاة والسلام ثمت لاستشهاده بها والكلام هنا مع المشركين، ولا يخفى بعد رجوع الضمير إليه عليه الصلاة والسلام.
* (وتول عنهم حتى حين * وأبصر فسوف يبصرون) *.
* (وتول عنهم حتى حين * وأبصر فسوف يبصرون) * تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم أثر تسلية وتأكيد لوقوع الميعاد غب تأكيد مع ما في إطلاق الفعلين عن المفعول من الإيذان ظاهرا بأن ما يبصره عليه الصلاة والسلام حينئذ من فنون المسار وما يبصرونه من فنون المضار لا يحيط به الوصف والبيان، وجوز أن يراد بما تقدم عذاب الدنيا وبهذا عذاب الآخرة.
* (سبح‍ان ربك رب العزة عما يصفون) *.
* (سبحان ربك رب العزة عما يصفون) * تنزيه لله تعالى شأنه عن كل ما يصفه المشركون به مما لا يليق بجناب كبريائه وجبروته مما حكى عنهم في السورة الكريمة وما لم يحك من الأمور التي من جملتها ترك إنجاز الموعود على موجب كلمته تعالى السابقة لا سيما في حق الرسول صلى الله عليه وسلم كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الربوبية المعربة عن التربية والتكميل والمالكية الكلية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام أولا وإلى العزة ثانيا كأنه قيل: سبحان من هو مربيك ومكملك ومالك العزة والغلبة على الإطلاق عما يصفه المشركون به من الأشياء التي منها ترك نصرتك عليهم كما يدل عليه استعجالهم
157

بالعذاب، ومعنى ملكه تعالى العزة على الإطلاق أنه ما من عزة لأحد من الملوك وغيرهم إلا وهو عز وجل مالكها، وقال الزمخشري: أضيف الرب إلى العزة لاختصاصه تعالى بها كأنه قيل ذو العزة كما تقول صاحب صدق لاختصاصه بالصدق، ثم ذكر جواز إرادة المعنى الذي ذكرناه، والفرق أن الإضافة على ما ذكرنا على أنه سبحانه المعز وعلى الآخر على أنه عز وجل العزيز بنفسه، ولكل وجه من المبالغة خلا عنه الآخر [بم وقوله تعالى:
* (وسل‍ام على المرسلين) *.
* (وسلام على المرسلين) * تشريف للرسل كلهم بعد تنزيهه تعالى عما ذكر وتنويه بشأنهم وإيذان بأنهم سالمون عن كل المكاره فائزون بكل المآرب [بم وقوله سبحانه:
* (والحمد لله رب الع‍المين) *.
* (والحمد لله رب العالمين) * إشارة إلى وصفه تعالى بصفاته الكريمة الثبوتية بعد التنبيه على اتصافه عز وجل بجميع صفاته السلبية وإيذان باستتباعها للأفعال الحميدة
التي من جملتها إفاضته تعالى على المرسلين من فنون الكرامات السنية والكمالات الدينية والدنيوية وإسباغه جل وعلا عليهم وعلى من تبعهم من صنوف النعماء الظاهرة والباطنة الموجبة لحمده تعالى وإشعار بأن ما وعده عليه السلام من النصرة والغلبة قد تحقق، والمراد تنبيه المؤمنين على كيفية تسبيحه سبحانه وتحميده والتسليم على رسله عليهم السلام الذين هم وسائط بينه تعالى وبينهم في فيضان الكمالات مطلقا عليهم.
وهو ظاهر في عدم كراهة إفراد السلام عليهم، ولعل توسيط التسليم على المرسلين بين تسبيحه تعالى وتحميده لختم السورة الكريمة بحمده تعالى مع ما فيه من الإشعار بأن توفيقه تعالى للتسليم من جملة نعمه تعالى الموجبة للحمد كذا في إرشاد العقل السليم، وقد يقال: تقديم التنزيه لأهميته ذاتا ومقاما، ولما كان التنزيه عما يصف المشركون وقد ذكر عز وجل إرشاد الرسل إياهم وتحذيرهم لهم من أن يصفوه سبحانه بما لا يليق به تعالى وضمن ذلك الإشارة إلى سوء حالهم وفظاعة منقلبهم أردف جل وعلا ذلك بالإشارة إلى حسن حال المرسلين الداعين إلى تنزيهه تعالى عما يصفه به المشركون، وفيه من الاهتمام بأمر التنزيه ما فيه، وأتى عز وجل بالحمد للإشارة إلى أنه سبحانه متصف بالصفات الثبوتية كما أنه سبحانه متصف بالصفات السلبية وهذا وإن استدعى إيقاع الحمد بعد التسبيح بلا فصل كما في قولهم سبحان الله والحمد لله وهو المذكور في الأخبار والمشهور في الأذكار إلا أن الفصل بينهما هنا بالسلام على المرسلين مما اقتضاه مقام ذكرهم فيما مر وجدد الالتفات إليهم تقديم التنزيه عما يصفه به من يرسلون إليه، ولعل من يدقق النظر يرى أن السلام هنا أهم من الحمد نظرا للمقام وإن كان هواهم منه ذاتا والأهمية بالنظر للمقام أولى بالاعتبار عندهم ولذا تراهم يقدمون المفضول على الفاضل إذا اقتضى المقام الاعتناء به، ولعله من تتمة جملة التسبيح وبهذا ينحل ما يقال من أن حمده تعالى أجل من السلام على الرسل عليهم السلام فكان ينبغي تقديمه عليه على ما هو المنهج المعروف في الكتب والخطب، ولا يحتاج إلى ما قيل: إن المراد بالحمد هنا الشكر على النعم وهي الباعثة عليه ومن أجلها إرسال الرسل الذي هو وسيلة لخيري الدارين فقدم عليه لأن الباعث على الشيء يتقدم عليه في الوجود وإن كان هو متقدما على الباعث في الرتبة فتدبر.
وهذه الآية من الجوامع والكوامل ووقوعها في موقعها هذا ينادي بلسان ذلق أنه كلام من له الكبرياء ومنه العزة جل جلاله وعم نواله. وقد أخرج الخطيب عن أبي سعيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعد أن يسلم: سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على
158

المرسلين والحمد لله رب العالمين.
وأخرج الطبراني عن زيد بن أرقم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قال دبر كل صلاة " سبحان رب رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ثلاث مرات فقد اكتال بالمكيال الأوفى من الأجر " وأخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم سبحان ربك رب العزة " إلى آخر السورة، وأخرجه البغوي من وجه آخر متصل عن علي كرم الله تعالى وجهه موقوفا، وجاء في ختم المجلس بالتسبيح غير هذا ولعله أصح منه، فقد أخرج أبو داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات لا يتكلم بهن أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات إلا كفر بهن عنه ولا يقولهن في مجلس خير وذكر إلا ختم له بهن عليه كما يختم بخاتم على الصحيفة سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك " لكن المشهور اليوم بين الناس أنهم يقرؤون عند ختم مجلس القراءة أو الذكر أو نحوهما الآية المذكورة * (سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين) *.
ومن باب الإشارة في الآيات ما قالوا: * (والصافات صفا) * (الصافات: 1) هي الأرواح الكاملة المكملة من الصف الأول وهو صف الأنبياء عليهم السلام والصف الثاني وهو صف الأصفياء * (فالزاجرات زجرا) * (الصافات: 2) عن الكفر والفسوق بالحجج والنصائح والهمم القدسية * (فالتاليات ذكرا) * (الصافات: 3) آيات الله تعالى وشرائعه عز وجل، وقيل الصافات جماعة الملائكة المهيمين والزاجرات جماعة الملائكة الزاجرين للأجرام العلوية والأجسام السفلية بالتدبير والتاليات جماعة الملائكة التالية آيات الله تعالى وجلايا قدسه على أنبيائه وأوليائه، وتنزل الملائكة على الأولياء مما قال به الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم وقد نطق بأصل التنزل عليهم قوله تعالى: * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) * (فصلت: 30) وقد يطلقون على بعض الأولياء أنبياء الأولياء.
قال الشعراوي في رسالة الفتح في تأويل ما صدر عن الكمل من الشطح: أنبياء الأولياء هم كل ولي أقامه الحق تعالى في تجل من مظهر تجلياته وأقام له محمد صلى الله عليه وسلم ومظهر جبريل عليه السلام فاسمعه ذلك المظهر الروحاني خطاب الأحكام المشروعة لمظهر محمد صلى الله عليه وسلم حتى إذا فرغ من خطابه وفزع عن قلب هذا الولي عقل صاحب هذا المشهد جميع ما تضمنه ذلك الخطاب من الأحكام المشروعة الظاهرة في هذه الأمة المحمدية فيأخذها هذا الولي كما أخذها المظهر المحمدي فيرد إلى حسه وقد وعى ما خاطب الروح به مظهر محمد صلى الله عليه وسلم وعلم صحته علم يقين بل عين يقين فمثل هذا يعمل بما شاء من الأحاديث لا التفات له إلى تصحيح غيره أو تضعيفه فقد يكون ما قال بعض المحدثين بأنه صحيح لم يقله النبي عليه الصلاة والسلام وقد يكون ما قالوا فيه إنه ضعيف سمعه هذا الولي من الروح الأمين يلقيه على حقيقة محمد صلى الله عليه وسلم كما سمع بعض الصحابة حديث جبريل في بيان الإسلام والإيمان والإحسان فهؤلاء هم أنبياء الأولياء ولا ينفردون قط بشريعة ولا يكون لهم خطاب بها إلا بتعريف أن هذا هو شرع محمد عليه الصلاة والسلام أو يشاهدن المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم في حضرة التمثل الخارج عن ذاتهم والداخل المعبر
159

عنه بالمبشرات في حق النائم غير أن الولي يشترك مع النبي في إدراك ما تدركه العامة في النوم في حال اليقظة فهؤلاء في هذه الأمة كالأنبياء في بني إسرائيل على مرتبة تعبد هارون بشريعة موسى مع كونه نبيا وهم الذين يحفظون الشريعة الصحيحة التي لا شك فيها على أنفسهم وعلى هذه الأمة فهم أعلم الناس بالشرع غير أن غالب
علماء الشريعة لا يسلمون لهم ذلك وهم لا يلزمهم إقامة الدليل على صدقهم لأنهم ليسوا مشرعين فهم حفاظ الحال النبوي والعلم اللدني والسر الإلهي وغيرهم حفاظ الأحكام الظاهرة، وقد بسطنا الكلام على ذلك في الميزان اه‍، وقال بعيد هذا في رسالته المذكورة: اعلم أن بعض العلماء أنكروا نزول الملك على قلب غير النبي صلى الله عليه وسلم لعدم ذوقه له، والحق أنه ينزل ولكن بشريعة نبيه صلى الله عليه وسلم فالخلاف إنما ينبغي أن يكون فيما ينزل به الملك لا في نزول الملك وإذا نزل على غير نبي لا يظهر له حال الكلام أبدا إنما يسمع كلامه ولا يرى شخصه أو يرى شخصه من غير كلام فلا يجمع بين الكلام والرؤية إلا نبي والسلام اه‍، وقد تقدم لك طرف من الكلام في رؤية الملك فتذكر. * (إن إلهكم لواحد) * (الصافات: 4) إخبار بذلك ليعلموه ولا يتخذوا من دونه تعالى آلهة من الدنيا والهوى والشيطان، ومعنى كونه عز وجل واحدا تفرده في الذات والصفات والأفعال وعدم شركة أحد معهس بحانه في شيء من اوشياء، وطبقوا أكثر الآيات بعد على ما في الأنفس، وقيل في قوله تعالى: * (وقفوهم إنهم مسؤولون) * (الصافات: 24) فيه إشارة إلى أن للسالك في كل مقام وقفة تناسب ذلك المقام وهو مسؤول عن أداء حقوق ذلك المقام فإن خرج عن عهدة جوابه أذن له بالعبور وإلا بقي موقوفا رهينا بأحواله إلى أن يؤدي حقوقه، وكذا طبقوا ما جاء من قصص المرسلين بعد على ما في الأنفس، وقيل في قوله تعالى: * (وما منا إلا له مقام معلوم) * (الصافات: 164) يشير إلى أن الملك لا يتعدى مقامه إلى ما فوقه ولا يهبط عنه إلى ما دونه وهذا بخلاف نوع الإنسان فإن من أفراده من سار إلى مقام قاب قوسين بل طار إلى منزل أو أدنى وجر هناك مطارف * (فأوحى إلى عبده ما أوحى) * (النجم: 10) ومنها من هوى إلى أسفل سافلين وانحط إلى قعر سجين * (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين) * (الأعراف: 175) وقد ذكروا أن الإنسان قد يترقى حتى يصل إلى مقام الملك فيعبره إلى مقام قرب النوافل ومقام قرب الفرائض وقد يهبط إلى درك البهيمية فما دونها * (أولئك كالأنعام بل هم أضل) * (الأعراف: 179) نسأل الله تعالى أن يرقينا إلى مقام يرضاه ويرزقنا رضاه يوم لقاه وأن يجعلنا من جنده الغالبين وعباده المخلصين بحرمة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
سورة ص
مكية كما روي عن ابن عباس وغيره، وقيل مدنية وليس بصحيح كما قال الداني؛ وهي ثمان وثمانون آية في الكوفي وست وثمانون في الحجازي والبصري والشامي وخمس وثمانون في عد أيوب بن المتوكل وحده، قيل ولم يقل أحد إن * (ص) * وحدها آية كما قيل في غيرها من الحروف في أوائل السور، وفيه بحث؛ وهي كالمتممة لما قبلها من حيث أنه ذكر فيها ما لم يذكر في تلك من الأنبياء عليهم السلام كداود وسليمان، ولما ذكر سبحانه فيما قبل عن الكفار أنهم قالوا: * (لو أن عندنا ذكرا من الأولين * لكنا عباد الله المخلصين) * (الصافات: 168، 169) وأنهم كفروا بالذكر لما جاءهم بدأ عز وجل في هذه السورة بالقرآن ذي الذكر وفصل ما أجمل هناك من كفرهم وفي ذلك من المناسبة ما فيه، ومن دقق النظر لاح له مناسبات أخر والله تعالى الموفق.
160

* (صوالقرءان ذى الذكر) *.
* (ص) * بالسكون على الوقف عند الجمهور، وقرأ أبي. والحسن. وابن أبي إسحق وأبو السماء. وابن أبي عبلة. ونصر بن عاصم * (صاد) * بكسر الدال؛ والظاهر أنه كسر لالتقاء الساكنين وهو حرف من حروف المعجم نحو * (ق) * و * (ن) *. وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه أمر من صادي أي عارض، ومنه الصدى وهو ما يعارض الصوت الأول ويقابله بمثله في الأماكن الخالية والأجسام الصلبة العالية، والمعنى عارض القرآن بعملك أي إعمل بأوامره ونواهيه، وقال عبد الوهاب: أي أعرضه على عملك فانظر أين عملك من القرآن، وقيل هو أمر من صادى أي حادث، والمعنى حادث القرآن، وهو رواية عن الحسن أيضا وله قرب من الأول. وقرأ عيسى. ومحبوب عن أبي عمرو. وفرقة * (صاد) * بفتح الدار، وكذا قرؤا قاف ونون بالفتح فيهما فقيل هو لالتقاء الساكنين أيضا طلبا للخفة، وقيل هو حركة إعراب على أن * (صاد) * منصوب بفعل مضمر أي اذكر أو اقرأ صاد أو بفعل القسم بعد نزع الخافض لما فيه من معنى التعظيم المتعدي بنفسه نحو الله لأفعلن أو مجرور بإضمار حرف القسم، وهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث بناء على أنه علم للسورة، وقد ذكر الشريف أنه إذا اشتهر مسمى بإطلاق لفظ عليه يلاحظ المسمى في ضمن ذلك اللفظ وأنه بهذا الاعتبار يصح اعتبار التأنيث في الاسم. وقرأ ابن أبي إسحق في رواية * (صاد) * بالجر والتنوين، وذلك إما لأن الثلاثي الساكن الوسط يجوز صرفه بل قيل إن الأرجح، وإما لاعتبار ذلك اسما للقرآن كما هو أحد الاحتمالات فيه فلم يتحقق فيه العلتان فوجب صرفه، والقول بأن ذاك لكونه علما لمعنى السورة لا للفظها فلا تأنيث فيه مع العلمية ليكون هناك علتان لا يخلو عن دغدغة. وقرأ ابن السميقع. وهرون الأعور. والحسن في رواية * (صاد) * بضم الدال، وكأنه اعتبر اسما للسورة وجعل خبر مبتدأ محذوف أي هذه صاد، ولهم في معناه غير متقيدين بقراءة الجمهور اختلاف كاضرابه من أوائل السور، فأخرج عبد بن حميد عن أبي صالح قال: سئل جابر بن عبد الله وابن عباس عن * (ص) * فقالا: ما ندري ما هو، وهو مذهب كثير في نظائره، وقال عكرمة: سئل نافع بن الأزرق عبد الله بن عباس عن * (ص) * فقال: ص كان بحرا بمكة وكان عليه عرش الرحمن إذ لا ليل ولا نهار.
وقال ابن جبير: هو بحر يحيي الله تعالى به الموتى بين النفختين، والله تعالى أعلم بصحة هذين الخبرين.
وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال * (ص) * صدق الله، وأخرج ابن مردويه عنه أنه قال: * (ص) * يقول إني أنا الله الصادق، وقال محمد بن كعب القرظي: هو مفتاح أسماء الله تالى صمد وصانع المصنوعات وصادق الوعد.
وقيل هو إراشة إلى صدور الكفار عن القرآن، وقيل حرف مسرود على منهاج التحدي، وجنح إليه غير واحد من أرباب التحقيق، وقيل اسم للسورة وإليه ذهب الخليل. وسيبويه. والأكثرون، وقيل اسم للقرآن وقيل غير ذلك باعتبار بعض القراآت كما سمعت عن قريب، ومن الغرييب أن المعنى صاد محمد صلى الله عليه وسلم قلوب
الخلق واستمالها حتى آمنوا به، ولعل القائل به اعتبره فعلا ماضيا مفتوح الآخر أو ساكنه للوقف، وأنا لا أقول به ولا أرتضيه وجهال، وهو على بعض هذه الأوجه لا حظ له من الإعراب، وعلى بعضها يجوز أن يكون مقسما به ومفعولا لمضمر وخبر مبتدأ محذوف، وعلى بعضها يتعين كونه مقسما به، وعلى بعض ما تقدم في القراءات يتأتى ما يتأتى مما لا يخفى عليك، وبالجملة إن لم يعتبر مقسما به فالواو في قوله سبحانه: * (والقرآن ذي الذكر) * للقسم وإن اعتبر
161

مقسما به فهي للعطف عليه لكن إذا كان قسما منصوبا على الحذف والإيصال يكون العطف عليه باعتبار المعنى والأصل، ثم المغايرة بينهما قد تكون حقيقية كما إذا أريد بالقرآن كله و * (بص) * السورة أو بالعكس أو أريد * (بص) * البحر الذي قيل به فيما مر وبالقرآن كله أو السورة، وقد تكون اعتبارية كما إذا أريد بكل السورة أو القرآن على ما قيل، ولا يخفى ما تقتضيه الجزالة الخالية عن التكلف.
وضعف جعل الواو للقسم أيضا بناء على قول جمع أن توارد قسمين على مقسم عليه واحد ضعيف، والذكر كما أخرج ابن جرير عن ابن عباس الشرف ومه قوله تعالى: * (وإنه لذكر لك ولقومك) * (الزخرف: 44) أو الذكرى والموعظة للناس على ما روى عن قتادة. والضحاك، أو ذكر ما يحتاج إليه في أمر الدين من الشرائع والأحكام وغيرها من أقاصيص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأخبار الأمم الدارجة والوعد والوعيد على ما قيل، وجواب القسم قيل مذكور فقال الكوفيون. والزجاج: هو قوله تعالى: * (إن ذلك لحق تخاصم أهل الناس) * (ص: 68) وتعقبه الفراء بقوله: لا نجده مستقيما لتأخر ذلك جدا عن القسم، وقال الأخفش هو * (إن كل إلا كذب الرسل) * وقال قوم: * (كم أهلكنا من قبلهم من قرن) * (الأنعام: 6) وحذفت اللام أي لكم لما طال الكلام كما حذفت من * (قد أفلح) * بعد قوله تعالى: * (والشمس) * حكاه الفراء. وثعلب، وتعقبه الطبرسي بأنه غلط لأن اللام لا تدخل على المفعول و * (كم) * مفعول.
وقال أبو حيان: إن هذه الأقوال يجب إطراحها، ونقل السمرقندي عن بعضهم أنه * (بل الذين كفروا) * الخ فإن * (بل) * لنفي ما قبله وإثبات ما بعده فمعناه ليس الذين كفروا إلا في عزة وشقاق.
وجوز أن يريد هذا القائل أن * (بل) * زائدة في الجواب أو ربط بها الجواب لتجريدها لمعنى الإثبات، وقيل هو صاد إذ معناه صدق الله تعالى أو صدق محمد صلى الله عليه وسلم ونسب ذلك إلى الفراء. وثعلب، وهو مبني على جواز تقدم جواب القسم واعتقاد أن * (ص) * تدل على ماذكر، ومع هذا في كون ص نفسه هو الجواب خفاء، وقيل هو جملة هذه صاد على معنى السورة التي أعجزت العرب فكأنه: قيل هذه السورة التي أعجزت العرب والقرآن ذي الذكر وهذا كما تقول: هذا حاتم والله تريد هذا هو المشهور بالسخاء والله، وهو مبني على جواز التقدم أيضا، وقيل هو محذوف فقدره الحوفي لقد جاءكم الحق ونحوه، وابن عطية ما الأمر كما تزعمون ونحوه، وقدره بعض المحققين ما كفر من كفر لخلل وجده ودل عليه بقوله تعالى: * (بل الذين) * الخ، وآخر إنه لمعجز ودل عليه ما في * (ص) * من الدلالة على التحدي بناء على أنه اسم حرف من حروف المعجم ذكر على سبيل التحدي والتنبيه على الإعجاز أو ما في أقسم بص أو هذه ص من الدلالة على ذلك بناء على أنه اسم للسورة أو أنه لواجب العمل به دل عليه * (ص) * بناء على كونه أمرا من المصاداة، وقدره بعضهم غير ذلك، وفي " البحر " ينبغي أن يقدر هنا ما أثبت جوابا للقسم بالقرآن في قوله تعالى: * (يس * والقرآن الحكيم * إنك لمن المرسلين) *.
ويقوى هذا التقدير ذكر النذارة هنا في قوله تعالى: * (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم) * (ص: 4) وهناك في قوله سبحانه: * (لتنذر قوما) * فالرسالة تتضمن النذارة والبشارة [بم وجعل بل في قوله تعالى:
* (بل الذين كفروا فى عزة وشقاق) *.
* (بل الذين كفروا في عزة وشقاق) * للانتقال من هذا القسم والمقسم عليه إلى ذكر حال تعزز الكفار ومشاقتهم في قبولهم رسالته صلى الله عليه وسلم وامتثال ما جاء به وهي كذلك على كثير من الوجوه السابقة، وقد تجعل على بعضها للإضراب عن الجواب بأن يقال مثلا: إنه لمعجز بل الذين كفروا في استكبار من الإذعان لإعجازه أو هذه السورة التي
162

أعجزت العرب بل الذين كفروا لا يذعنون، وجعلها بعضهم للإضراب عما يفهم مما ذكر ونحوه من أن من كفر لم يكفر لخلل فيه فكأنه قيل: من كفر لم يكفر لخلل فيه بل كفر تكبرا عن اتباع الحق وعنادا، وهو أظهر من جعل ذلك إضرابا عن صريحه، وإن قدر نحو هذا المفهوم جوابا فالإضراب عنه قطعا. وفي " الكشف " عد هذا الإضراب من قبيل الإضراب المعنوي على نحو زيد عفيف عالم بل قومه استخفوا به على الإضراب عما يلزم الأوصاف من التعظيم كما نقل عن بعضهم عدول عن الظاهر، ويمكن أن يكون الجواب الذي عنه الإضراب ما أنت بمقصر في تذكير الذين كفروا وإظهار الحق لهم، ويشعر به الآيات بعد وسبب النزول الآتي ذكره إن شاء الله تعالى فكأنه قيل ص والقرآن ذي الذكر ما أنت بمقصر في تذكير الذين كفروا وإظهار الحق لهم بل الذين كفروا مقصرون في اتباعك والاعتراف بالحق، ووجه دلالة ما في النظم الجليل على قولنا بل الذين كفروا مقصرون الخ ظاهر، وهذه عدة احتمالات بين يديك وإليك أمر الاختيار والسلام عليك.
والمراد بالعزة ما يظهرونه من الاستكبار عن الحق لا العزة الحقيقية فإنها لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وأصل الشقاق المخالفة وكونك في شق غير شق صاحبك أو من شق العصا بينك وبينه، والمراد مخالفة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والتنكير للدلالة على شدتهما، والتعبير بفي على استغراقهم فيهما.
وقرأ حماد بن الزبرقان. وسورة عن الكسائي. وميمونة عن أبي جعفر. والجحدري من طريق العقيلي في * (غرة) * بالغين المعجمة المكسورة والراء المهملة أي في غفلة عظيمة عما يجب عليهم من النظر فيه، ونقل عن ابن الأنباري أنه قال في كتاب الرد على من خالف الإمام: إنه قرأ بها رجل وقال: إنها أنسب بالشقاق وهو القتال بجد واجتهاد وهذه القراءة افتراء على الله تعالى اه‍ وفيه ما فيه.
* (كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص) *.
* (كم أهلكنا من قبلهم من قرن) * وعيد لهم على كفرهم واستكبارهم ببيان ما أصاب اضرابهم، و * (كم) * مفعول * (أهلكنا) * و * (من قرن) * تمييز، والمعنى، قرنا كثيرا أهلكنا من القرون الخالية * (فنادوا) * عند نزول بأسنا وحلول نقمتنا استغاثة لينجوا من ذلك، وقال الحسن. وقتادة: رفعوا أصواتهم بالتوبة حين عاينوا العذاب لينجو منه * (ولات حين مناص) * حال من ضمير * (نادوا) * والعائد مقدر وإن لم يلزم أي مناصهم ولات هي لا المشبهة بليس عند سيبويه زيدت عليها تاء التأنيث لتأكيد معناها وهو النفي لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى أو لأن التاء تكون للمبالغة كما في علامة أو لتأكيد شبهها بليس بجعلها على ثلاثة أحرف ساكنة الوسط، وقال الرضى: إنها لتأنيث الكلمة فتكون فتأكيد التأنيث واختصت بلزوم الأحيان ولا يتعين لفظ الحين إلا عند بعض وهو محجوج بسماع دخولها على مرادفه، وقول المتنبي: لقد تصبرت حتى لات مصطبر * والآن أقحم حتى لات مقتحم
وإن لم يهمنا أمره مخرج على ذلك بجعل المصطبر والمقتحم اسمي زمان أو القول بأنها داخلة فيها على لفظ حين مقدر بعدها؛ والتزموا حذف أحد الجزأين والغالب حذف المرفوع كما هنا على قراءة الجمهور أي ليس الحين حين مناص، ومذهب الأخفش أنها لا النافية للجنس العاملة عمل إن زيدت عليها التاء فحين مناص اسمها والخبر محذوف أي لهم، وقيل إنها لا النافية للفعل زيدت عليها التاء ولا عمل لها أصلا فإن وليها مرفوع فمبتدأ حذف خبره أو منصوب كما هنا فبعدها فعل مقدر عامل فيه أي ولا ترى حين مناص، وقرأ أبو السمال * (ولات حين) * بضم التاء ورفع النون فعلى مذهب سيبويه * (حين) * اسم * (لات) * والخبر محذوف أي ليس حين مناص حاصلا
163

لهم، وعلى القول الأخير مبتدأ خبره محذوف وكذا على مذهب الأخفش فإن من مذهبه كما في " البحر " أنه إذا ارتفع ما بعدها فعلى الابتداء أي فلاحين مناص كائن لهم. وقرأ عيسى بن عمر * (ولات حين) * بكسر التاء مع النون كما في قول المنذر بن حرملة الطائي النصراني: طلبوا صلحنا ولات أوان * فأجبنا أن لات حين بقاء
وخرج ذلك إما على أن لات تجر الأحيان كما أن لولا تجر الضمائر كلولاك ولولاه عند سيبويه، وإما على إضمار من كأنه قيل: لات من حين مناص ولات من أوان صلح كما جروا بها مضمرة في قولهم على كم جذع بيتك أي من جذع في أصح القولين، وقولهم: ألا رجل جزاه الله خيرا
يريدون ألا من رجل، ويكون موضع من حين مناص رفعا على أنه اسم لات بمعنى ليس كما تقول ليس من رجل قائما، والخبر محذوف على قول سيبويه وعلى أنه مبتدأ والخبر محذوف على قول غيره، وخرج الأخفش ولات أوان على إضمار حين أي ولات حين أوان صلح فحذفت حين وأبقى أوان على جره، وقيل: أن أوان في البيت مبني على الكسر وهو مشبه باذ في قول أبي ذؤيب: نهيتك عن طلابك أم عمرو * بعاقبة وأنت إذ صحيح
ووجه التشبيه أنه زمان قطع عنه المضاف إليه لأن الأصل أوان صلح وعوض التنوين فكسر للالتقاء الساكنين لكونه مبنيا مثله فهما شبهان في أنهما مبنيان مع وجود تنوين في آخرها للعوض يوجب تحريك الآخر بالكسر وإن كان سبب البناء في أوان دون إذ شبه الغايات حيث جعل زمانا قطع عنه المضاف إليه وهو مراد وليس تنوين العوض مانعا عن الإلحاق بها فإنها تبني إذا لم يكن تنوين لأن علته الاحتياج إلى المحذوف كاحتياج الحرف إلى ما يتم به، وهذا المعنى قائم نون أو لم ينون فإن التنوين عوض لفظي لا معنوي فلا تنافي بين التعويض والبناء لكن اتفق أنهم لم يعوضوا التنوين إلا في حال إعرابها وكأن ذلك لئلا يتمحض للتعويض بل يكون فيها معنى التمكن أيضا فلا منافاة، وثبت البناء فيما نحن فيه بدليل الكسر وكانت العلة التي في الغايات قائمة فأحيل البناء عليها، واتفق أنهم عوضوا التنوين ههنا تشبيها باذ في أنها لما قطعت عن الإضافة نونت أو توفية لحق اللفظ لما فات حق المعنى، وخرجت القراءة على حمل * (مناص) * على أوان في البيت تنزيلا لما أضيف إليه الظرف وهو * (حين) * منزلة الظرف لأن المضاف والمضاف إليه كشيء واحد فقدرت ظرفيته وهو قد كان مضافا إذا أصله مناصهم فقطع وصار كأنه ظرف مبني مقطوع عن الإضافة منون لقطعه ثم بنى ما أضيف إليه وهو * (حين) * على الكسر لإضافته إلى ما هو مبني فرضا وتقديرا وهو * (مناص) * المشابه لأوان. وأورد عليه أن ما ذكر من الحمل لم يؤثر في المحمول نفسه فكيف يؤثر فيما يضاف إليه على أن في تخريج الجر في البيت على ذلك ما فيه، والعجب كل العجب ممن يرتضيه، وضم التاء على قراءة أبي السمال وكسرها على قراءة عيسى للبناء، وروى عن عيسى * (ولات حين) * بالضم * (مناص) * بالفتح، قال " صاحب اللوامح ": فإن صح ذلك فلعله بني * (حين) * على الضم تشبيها بالغايات وبني * (مناص) * على الفتح مع * (لات) * وفي الكلام تقديم وتأخير أي ولات مناص حين لكن لا إنما تعمل في النكرات المتصلة بها دون المنفصلة عنها ولو بظرف، وقد يجوز أن يكون لذلك معنى لا أعرفه انتهى، وأهون من هذا فيما أرى كون * (حين) * معربا مضافا إلى * (مناص) * والفتح لمجاورة واو العطف في قوله تعالى: * (وعجبوا) * نظير فتح الراء من غير في قوله:
164

لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت * حمامة في غصون ذات أرقال
على قول والأغلب على الظن عدم صحة هذه القراءة. وقرأ عيسى أيضا كقراءة الجمهور إلا أنه كسر تاء * (لات) * وعلم من هذه القراءات أن في تائها ثلاث لغات، واختلفوا في أمر الوقف عليها فقال سيبويه، والفراء وابن كيسان. والزجاج: يوقف عليها بالتاء، وقال الكسائي: والمبرد. بالهاء، وقال أبو علي: ينبغي أن لا يكون خلاف في أن الوقف بالتاء لأن قلب التاء هاء مخصوص بالأسماء؛ وزعم قوم أن التاء ليست ملحقة بلا وإنما هي مزيدة في أول ما بعدها واختاره أبو عبيدة، وذكر أنه رأى في الإمام * (ولا تحين مناص) * برسم التاء مخلوطا بأول حين، ولا يرد عليه أن خط المصحف خارج عن القياس الخطي إذ لم يقع في الإمام في محل آخر مرسوما على خلاف ذلك حتى يقال ما هنا مخالف للقياس والأصل اعتباره إلا فيما خصه الدليل، ومن هنا قال السخاوي في " شرح الرائية " أنا أستحب الوقف على لا بعد ما شاهدته في مصحف عثمان رضي الله تعالى عنه، وقد سمعناهم يقولون: اذهب تلان وتحين بدون لا وهو كثير في النثر والنظم انتهى، ومنه قوله: / جسم]
العاطفون تحين لا من عاطف * والمطعمون زمان ما من مطعم
وكون أصله العاطفونه بها السكت فلما أثبتت في الدرج قلبت تاء مما لا يصغى إليه، نعم الأول اعتبار التاء مع لا لشهرة حين دون تحين، وقال بعضهم: إن لات هي ليس بعينها وأصل ليس ليس بكسر الياء فأبدلت ألفا لتحركها بعد فتحة وأبدلت السين تاء كما في ست فإن أصله سدس، وقيل: إنها فعل ماض ولات بمعنى نقص وقل فاستعملت في النفي كقل وليس بالمعول عليه، والمناص المنجا والفوت يقال: ناصه ينوصه إذا فاته، وقال الفراء: النوص التأخر يقال ناص عن قرنه ينوص نوصا ومناصا أي فروزاغ، ويقال استناص طلب المناص قال حارثة بن بدر يصف فرسا له: غمر الجراء إذا قصرت عنانه * بيدي استناص ورام جرى المسحل
وعلى المعنى الأول حمله بعضهم هنا وقال: المعنى نادوا واستغاثوا طلبا للنجاة والحال أن ليس الحين حين فوات ونجاة؛ وعن مجاهد تفسيره بالفراء، وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له: اخبرني عن قوله تعالى: * (ولات حين مناص) * فقال: ليس بحين فرار وأنشد له قول الأعشى: تذكرت ليلى لات حين تذكر * وقد بنت عنها والمناص بعيد
وعن الكلبي أنه قال: كانوا إذا قاتلوا فاضطروا قال بعضهم لبعض: مناص أي عليكم بالفرار فلما أتاهم العذاب قالوا: مناص فقال الله تعالى: * (ولات حين مناص) * قال القشيري: فعلى هذا يكون التقدير فنادوا مناص فحذف لدلالة ما بعده عليه أي ليس الوقت وقت ندائكم به، والظاهر أن الجملة على هذا التفسير حالية أي نادوا بالفرار وليس الوقت وقت فرار، وقال أبو حيان: في تقرير الحالية وهم لات حين مناص أي لهم، وقال الجرجاني: أي فنادوا حين لا مناص أي ساعة لا منجا ولا فوت فلما قدم لا وأخر حين اقتضى ذلك الواو كما يقتضي الحال إذا جعل مبتدأ وخبرا مثل جاء زيد راكبا ثم تقول جاء زيد وهو راكب فحين ظرف لقوله تعالى: * (فنادوا) * انتهى.
وكون الأصل ما ذكر أن * (حين) * ظرف لنادوا دعوى أعجمية مخالفة لذوق الكلام العربي لا سيما ما هو أفصح الكلام ولا أدري ما الذي دعاه لذلك.
* (وعجبوا أن جآءهم منذر منهم وقال الك‍افرون ه‍اذا س‍احر كذاب) *.
* (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم) * حكاية لأباطيلهم المتفرعة على ما حكى
165

من استكبارهم وشقاقهم أي عجبوا من أنجاءهم رسول من جنسهم أي بشر أو من نوعهم وهم معروفون بالأمية فيكون المعنى رسول أمي، والمراد أنهم عدوا ذلك أمرا عجيبا خارجا عن احتمال الوقوع وأنكروه أشد الإنكار لا أنهم اعتقدوا وقوعه وتعجبوا منه * (وقال الك‍افرون) * وضع فيه الظاهر موضع الضمير غضبا عليهم وذما لهم وإيذانا بأنه لا يتجاسر على مثل ما يقولون إلا المتوغلون في الكفر والفسوق * (ه‍اذا ساحر) * فيما يظهره مما لا نستطيع له مثلا * (كذاب) * فيما يسنده إلى الله عز وجل من الإرسال والإنزال.
* (أجعل الالهة إل‍اها واحدا إن ه‍اذا لشىء عجاب) *.
* (أجعل الآلهة إل‍اها واحدا) * بأن نفي الألوهية عنها وقصرها على واحد فالجعل بمعنى التصيير وليس تصييرا في الخارج بل في القول والتسمية كما في قوله تعالى: * (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا) * (الزخرف: 19) وليس ذلك من باب إنكار وحدة الوجود في شيء ليقال إن الله سبحانه نعى على الكفرة ذلك الإنكار فتثبت الوحدة فإنه عليه الصلاة والسلام ما قال باتحاد إلهتهم معه عز وجل في الوجود * (إن هذا لشيء عجاب) * أي بليغ في العجب فإن فعالا بناء مبالغة كرجل طوال وسراع، ووجه تعجبهم أنه خلاف ما ألفوا عليه آباءهم الذين أجمعوا على تعدد الآلهة وواظبوا على عبادتها وقد كان مدارهم في كل ما يأتون ويذرون التقليد فيعدون خلاف ما اعتادوه عجيبا بل محالا، وقيل مدار تعجبهم زعمهم عدم وفاء علم الواحد وقدره بالأشياء الكثيرة وهو لا يتم إلا إن ادعوا لآلهتهم علما وقدرة، والظاهر أنهم لم يدعوهما لها * (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله) * (لقمان: 25).
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. والسلمي. وعيسى. وابن مقسم * (عجاب) * بشد الجيم وهو أبلغ من المخفف، وقال مقاتل * (عجاب) * لغة أزد شنوءة، أخرج أحمد. وابن أبي شيبة. وعبد بن حميد. والترمذي وصححه. والنسائي. وابن جرير. وغيرهم عن ابن عباس قال: لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جعفل فقالوا: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويقول ويقول فلو بعثت إليه فنهيته فبعث إليه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس فخشى أبو جهل إن جلس إلى أبي طالب أن يكون أرق عليه فوثب فجلس في ذلك المجلس فلم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا قرب عمه فجلس عند الباب فقال له أبو طالب: أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول قال وأكثروا عليه من القول وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها يدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية ففرحوا لكلمته ولقوله فقال القوم: ما هي؟ وأبيك لنعطينكها وعشرا قال؛ لا إله إلا الله فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون: أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب. وفي رواية أنهم قالوا: سلنا غير هذا فقال عليه الصلاة والسلام: " لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها فغضبوا وقاموا غضابا وقالوا والله لنشتمنك وإلهك الذي يأمرك بهذا.
* (وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على ءالهتكم إن ه‍اذا لشىء يراد) *.
* (وانطلق الملأ منهم) * أي وانطلق الأشراف من قريش من مجلس أبي طالب بعدما بكتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاهدوا تصلبه في الدين ويئسوا مما كانوا يرجونه منه عليه الصلاة والسلام بواسطة عمه وكان منهم أبو جهل. والعاص بن وائل. والأسود بن المطلب بن عبد يغوث. وعقبة بن أبي معيط.
166

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مجلز قال: قال رجل يوم بدر ما هم إلا النساء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هم الملأ وتلا * (وانطلق الملأ منهم) * * (أن
امشوا) * الظاهر أنه أمر بالمشي بمعنى نقل الأقدام عن ذلك المجلس، و * (أن) * مفسرة فقيل في الكلام محذوف وقع حالا من الملأ أي انطلق الملأ يتحاورون والتفسير لذلك المحذوف وهو متضمن معنى القول دون لفظه، وقيل لا حاجة إلى اعتبار الحذف فإن الانطلاق عن مجلس التقاول يستلزم عادة تفاوض المنطلقين وتحاورهم بما جرى فيه وتضمن المفسر لمعنى القول أعم من كونه بطريق الدلالة وغيرها كالمقارنة ومثل ذلك كاف فيه، وقيل الانطلاق هنا الاندفاع في القول فهو متضمن لمعنى القول بطريق الدلالة وإطلاق الانطلاق على ذلك الظاهر أنه مجاز مشهور نزل منزلة الحقيقة، وجوز أن يكون التجوز في الإسناد وأصله انطلقت ألسنتهم والمعنى شرعوا في التكلم بهذا القول، وقال بعضهم: المراد بامشوا سيروا على طريقتكم وداوموا على سيرتكم، وقيل هو من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها ومنه الماشية وسميت بذلك لأنها من شأنها كثرة الولادة أو تفاؤلا بذلك والمراد لازم معناه أي أكثروا واجتمعوا، وقيل: هو دعاء بكثرة الماشية افتتحوا به كلامهم للتعظيم كما يقال أسلم أيها الأمير واختاروه من بين الأدعية لعظم شأن الماشية عندهم. وتعقب بأنه خطأ لأن فعله مزيد يقال أمشي إذا كثرت ماشيته فكان يلزم قطع همزته والقراءة بخلافه مع أن إرادة هذا المعنى هنا في غاية البعد، وأيا ما كان فالبعض قال للبعض ذلك، وقيل قال الأشراف لأتباعهم وعوامهم، وقرىء * (امشوا) * بغير أن على إضمار القول دون إضمارها أي قائلين امشوا * (واصبروا على ءالهتكم) * أي أثبتوا على عبادتها متحملين لما تسمعونه في حقها من القدح.
وقرأ ابن مسعود * (وانطلق الملأ منهم يمشون أن اصبروا) * فجملة * (يمشون) * حالية أو مستأنفة والكلام في * (ان اصبروا) * كما في * (ان امشوا) * سواء تعلق تعليق بانطلق أو بما يليه * (إن ه‍اذا لشبيء يراد) * تعليل للأمر بالصبر أو لوجوب الامتثال به، والإشارة إلى ما وقع وشاهدوه من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وتصلبه في أمر التوحيد ونفي ألوهية آلهتهم أي إن هذا لشيء عظيم يراد من جهته صلى الله عليه وسلم إمضاؤه وتنفيذه لا محالة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه لا قول يقال من طرف اللسان أو أمر يرجى فيه المسامحة بشفاعة إنسان فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله إلى إراتكم واصبروا على عبادة آلهتكم، وقيل: إن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد بنا فلا حيلة إلا تجرع مرارة الصبر، وقيل: إن هذا الذي يدعيه من أمر التوحيد أو يقصده من الرياسة والترفع على العرب والعجم لشيء يتمنى أو يرده كل أحد ولكن لا يكون لكل ما يتمنتاه أو يريده فاصبروا، وقيل: أن هذا أي دينكم يطلب لينتزع منكم ويطرح أو يراد إبطاله، وقيل: الإشارة إلى الصبر المفهوم من * (اصبروا) * أي أن الصبر لشيء مطلوب لأنه محمود العاقبة.
وقال القفال: هذه كلمة تذكر للتهديد والتخويف، والمعنى أنه ليس غرضه من هذا القول تقرير الدين وإنما غرضه أن يستولي علينا فيحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد فتأمل.
* (ما سمعنا به‍اذا فى الملة الاخرة إن ه‍اذا إلا اختلاق) *.
* (ما سمعنا بهذا) * الذي يقوله * (في الملة الآخرة) * قال ابن عباس. ومجاهد. ومحمد بن كعب. ومقاتل أرادوا ملة النصارى، والتوصيف بالآخرة بحسب الاعتقاد لأنهم الذين لا يؤمنون بنبوة محمد صلى الله عليه
167

وسلم ومرادهم من قولهم ما سمعنا الخ إنا سمعنا خلافه وهو عدم التوحيد فإن النصارى كانوا يثلثون ويزعمون أنه الدين الذي جاء به عيسى عليه السلام وحاشاه، وعن مجاهد أيضا. وقتادة أرادوا ملة العرب ونحلتها التي أدركوا عليها آباءهم، وجوز أن يكون في الملة الآخرة حالا من اسم الإشارة لا متعلقا بسمعنا أي ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه من التوحيد كائنا في الملة التي تكون آخر الزمان أرادوا أنهم لم يسمعوا من أهل الكتاب والكهان الذين كانوا يحدثونهم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بظهور نبي أن في دينه التوحيد ولقد كذبوا في ذلك فإن حديث إن النبي المبعوث آخر الزمان يكسر الأصنام ويدعو إلى توحيد الملك العلام كان أشهر الأمور قبل الظهور، وإن أرادوا على هذا المعنى إنا سمعنا خلاف ذلك فكذبهم أقبح * (إن ه‍اذا) * أي ما هذا.
* (إلا اختلاق) * أي افتعال وافتراء من غير سبق مثل له.
* (أءنزل عليه الذكر من بيننا بل هم فى شك من ذكرى بل لما يذوقوا عذاب) *.
* (ءأنزل عليه الذكر) * أي القرآن * (من بيننا) * ونحن رؤساء الناس وأشرافهم كقولهم: * (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) * (الزخرف: 31) ومرادهم إنكار كونه ذكرا منزلا من عند الله تعالى كقولهم * (لو كان خيرا ما سبقونا إليه) * وأمثال هذه المقالات الباطلة دليل على أن مناط تكذبهم ليس إلا الحسد وقصر النظر على الحطام الدنيوي * (بل هم في شك من ذكري) * من القرآن الذي أنزلته على رسولي المشحون بالتوحيد لميلهم إلى التقليد وإعراضهم عن الأدلة المؤدية إلى العلم بحقيته وليس في عقيدتهم ما يقطعون به فلذا تراهم ينسبونه إلى السحر تارة وإلى الاختلاق أخرى فبل للإضراب عن جميع ما قبله، وبل في قوله تعالى: * (بل لما يذوقوا عذاب) * إضراب عن مجموع الكلامين السابقين حديث الحسد في قوله تعالى: * (أأنزل) * الخ وحديث الشك في قوله تعالى: * (بل هم في شك) * أي لم يذوقوا عذابي بعد فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الحسد والشك حينئذ يعني أنهم لا يصدقون إلا أن يمسهم العذاب فيضطروا إلى التصديق أو إضراب عن الإضراب قبله أي لم يذوقوا عذابي بعد فإذا ذاقوه زال شكهم واضطروا إلى التصديق بذكري، والأول على ما في " الكشف " هو الوجه السديد وينطبق عليه ما بعد من الآيات، وقيل المعنى لم يذوقوا عذابي الموعود في القرآن ولذلك شكوا فيه وهو كما ترى " وفي التعبير بلما دلالة على أن ذوقهم العذاب على شرف الوقوع [بم وقوله تعالى:
* (أم عندهم خزآئن رحمة ربك العزيز الوهاب) *.
* (أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب) * في مقابلة قوله سبحانه: * (أأنزل) * الخ، ونظيره في رد نظيره * (أهم يقسمون رحمة ربك) * (الزخرف:
32) وأم منقطعة مقدرة ببل والهمزة، والمراد بالعندية الملك والتصرف لا مجرد الحضور.
وتقديم الظرف لأنه محل الإنكار أي بل أيملكون خزائن رحمته تعالى ويتصرفون فيها حسبما يشاؤن حتى أنهم يصيبون بها من شاؤا ويصرفونها عمن شاؤا ويتحكمون فيها بمقتضى رأيهم فيتخيروا للنبوة بعض صناديدهم.
وإضافة الرب إلى ضميره صلى الله عليه وسلم للتشريف واللطف به عليه الصلاة والسلام، والعزيز القاهر على خلقه، والوهاب الكثير المواهب المصيب بها مواقعها، وحديث العزة والقهر يناسب ما كانوا عليه من ترفعهم بالنبوة عنه صلى الله عليه وسلم تجبرا.
والمبالغة في الوهاب من طريق الكمية تناسب قوله تعالى: * (خزائن) * وتدل على حرمان لهم عظيم، وفي ذلك إدماج أن النبوة ليست عطاء واحدا بالحقيقة بل يتضمن عطايا جمة تفوت الحصر وهي من طريق الكيفية المشار إليها بإصابة المواقع للدلالة على أن مستحق العطاء ومحله من وهب ذلك وهو النبي صلى الله عليه وسلم وفي الوصف المذكور
168

أيضا إشارة إلى أن النبوة موهبة ربانية [بم وقوله تعالى:
* (أم لهم ملك السم‍اوات والارض وما بينهما فليرتقوا فى الاسباب) *.
* (أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما) * ترشيح لما سبق أي بل ألهم ملك هذه الأجرام العلوية والأجسام السفلية حتى يتكلموا في الأمور الربانية ويتحكموا في التدابير الإلهية التي يستأثر بها رب العزة والكبرياء، وقوله تعالى: * (فليرتقوا في الأسباب) * جواب شرط محذوف أي إن كان لهم ما ذكر من الملك فليصعدوا في المعارج والمناهج التي يتوصل بها إلى السموات فليدبروها وليتصرفوا فيها فإنهم لا طريق لهم إلى تدبيرها والتصرف فيها إلا ذاك أو إن ادعوا ما ذكر من الملك فليصعدوا وليتصرفوا حتى يظن صدق دعواهم فإنه لا أمارة عندهم على صدقها فلا أقل من أن يجعلوا ذلك امارة، وقال الزمخشري ومتابعوه: أي فليصعدوا في المعارج والطرق التي يتوصل بها إلى العرش حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم وملكوت الله تعالى وينزلوا الوحي إلى من يختارون ويستصوبون، وهو مناسب للمقام بيد أن فيه دغدغة، وأيا ما كان ففي أمرهم بذلك تهكم بهم لا يخفى، والسبب في الأصل الوصلة من الحبل ونحوه.
وعن مجاهد الأسباب هنا أبواب السموات، وقيل السموات أنفسها لأن الله تعالى جعلها أسبابا عادية للحوادث السفلية.
* (جند ما هنالك مهزوم من الاحزاب) *.
* (جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب) * أي هم جند الخ، فجند خبر مبتدأ محذوف مقدر مقدما كما هو الظاهر وما مزيدة قيل للتقليل والتحقير نحو أكلت شيئا ما، وقيل للتعظيم والتكثير، واعترض بأنه لا يلائمه * (مهزوم) * وأجيب بأن الوصف بالعظمة والكثرة على سبيل الاستهزاء فهي بحسب اللفظ عظمة وكثرة وفي نفس الأمر ذلة وقلة، ورجح بأن الأكثر في كلامهم كونها للتعظيم نحو لأمر ما جدع قصير أنفسه - لأمر ما يسود من يسود. وقول امرىء القيس: وحديث الركب يوم هنا * وحديث ما على قصره
مع أن الكلام لتسليته صلى الله عليه وسلم وتبشيره بانهزامهم وذلك أكمل على هذا التقدير بل قيل إن التبشير بخذلان عدد حقير ربما أشعر بإهانة وتحقير. أم تر أن السيف ينقص قدره * إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
وفيه نظر، و * (هنالك) * صفة * (جند) * أو ظرف * (مهزوم) * وهو إشارة إلى المكان البعيد وأريد به على قول المكان الذي تفاوضوا فيه مع الرسول صلى الله عليه وسلم بتلك الكلمات السابقة وهو مكة وجعل ذلك إخبارا بالغيب عن هزيمتهم يوم الفتح، وقيل يوم بدر وروي ذلك عن مجاهد. وقتادة، وأنت خبير بأن هنالك إذا كان إشارة إلى مكة ومتعلقا بمهزوم لا يتسنى هذا إلا إذا أريد من مكة ما يشمل بدرا، و * (مهزوم) * خبر بعد خبر، وأصل الهزم غمز الشيء اليابس حتى ينحطم كهزم الشن وهزم القثاء والبطيخ ومنه الهزيمة لأنه كما يعبر عنه بالحطم والكسر، والتعبير عما لم يقع باسم المفعول المؤذن بالوقوع على ما في بعض شروح الكشاف للإيذان بشدة قربه حتى كأنه محقق، و * (من الأحزاب) * صفة * (جند) * أي هم جند قليلون أذلاء أو كثيرون عظماء كائنون هنالك من الكفار المتحزبين على الرسل مكسورون عن قريب أو جند من الأحزاب مكسورون عن قريب في مكانهم الذي تكلموا فيه بما تكلموا فلا تبال بما يقولون ولا تكترث بما يهذون. وقال أبو البقاء * (جند) * مبتدأ وما زائدة وهنالك نعت وكذا من الأحزاب ومهزوم خبر، وتعقبه أبو حيان بأن فيه بعد التفاتة عن
169

الكلام الذي قبله، واعتبر الزمخشري الحصر أي ما هم إلا جند من المتحزبين مهزوم عن قريب لا يتجاوزون الجندية المذكورة إلى الأمور الربانية، وهو حسن إلا أنه اختلف في منشأ ذلك فقيل: إنه كان حق الجند أن يعرف لكونه معلوما فنكر سوقا للمعلوم مساق المجهول كأنه لا يعرف منهم إلا هذا القدر وهو أنهم جند بهذه الصفة.
وقال صاحب الكشف: إنه التفخيم المدلول عليه بالتنكير، وزيادة ما الدالة على الشيوع وغاية التعظيم لدلالتهما على اختصاص الوصف بالجندية من بين سائر الصفات كأنه لا وصف لهم غيرها، وفيه منع ظاهر، ويفهم كلام العلامة الثاني أنه اعتبار كون * (جند) * خبرا مقدما لمبتدأ محذوف لأن المقام يقتضي الحصر فتدبر ولا تغفل.
وجعل الزمخشري * (هنالك) * الموضع للإشارة إلى المكان البعيد مستعارا للمرتبة من العلو والشرف على أنه إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم كما في قولهم لمن انتدب لأمر ليس من أهله لست هنالك؛ وفيه إيماء إلى علة الذم؛ وجوز على هذا أن تكون ما نافية أي هم جند ليسوا حيث وضعوا أنفسهم.
وتعقب بأنه مما لم يقله أحد من أهل العربية ولا يليق بالمقام وفيه بحث، وجوز أن تكون * (هنالك) * إشارة إلى الزمان البعيد وهي كما قال ابن مالك قد يشار بها إليه نحو قوله تعالى: * (هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت) * (يونس: 30) وتتعلق بمهزوم، والكلام إخبار بالغيب إما عن هزيمتهم يوم الفتح أو يوم بدر كما تقدم حكايته أو يوم الخندق ولا يخفى ما فيه، وقيل: إشارة إلى زمان الارتقاء في الأسباب أي هؤلاء القوم جند مهزوم إذا ارتقوا في الأسباب وليس بالمرضى، وقيل: ما اسم موصول مبتدأ وهنالك في موضع الصلة وجند خبر مقدم ومهزوم ومن الأحزاب صفتان وهما المقصودان بالإفادة وما هنالك إشارة إلى مكة، والمراد من الذين فيها المشركون والتعبير عنهم بما لأنهم كالأنعام بل هم أضل، وقيل الأصنام وعبدتها، وأمر التعبير بما عليه أظهر ويقال فيه نحو ما قاله أبو حيان في كلام أبي البقاء وزيادة لا تخفى. [بم وقوله تعالى:
* (كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الاوتاد) *.
* (كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد) * إلى آخره استئناف مقرر لمضمون ما قبله ببيان أحوال العتاة الطغاة مما فعلوا من التكذيب وفعل بهم من العقاب، و * (ذو الأوتاد) * صفة فرعون لا لجميع ما قبله وإلا لقيل ذوو الأوتاد، و * (الأوتاد) * جمع وتد وهو معروف، وكسر التاء فيه أشهر من فتحها ويقال وتد واتد كما يقال شغل شاغل قاله الأصمعي وأنشد: لاقت على الماء جذيلا واتدا * ولم يكن يخلفها المواعدا
وقالوا: ود بإبدال التاء دالا والإدغام ووت بإبدال الدال تاء، وفيه قلب الثاني للأول وهو قليل، وأصل إطلاق ذلك على البيت المطنب بأوتاده وهو لا يثبت بدونها كما قال الأعشى: والبيت لا يبتنى إلا على عمد * ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
فقيل إنه شبه هنا فرعون في ثبات ملكه ورسوخ سلطنته ببيت ثابت أقيم عماده وثبتت أوتاده تشبيها مضمرا في النفس على طريق الاستعارة المكنية ووصف بذي الأوتاد على سبيل التخييل، فالمعنى كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون الثابت ملكه وسلطنته وقيل: شبه الملك الثابت من حيث الثبات والرسوخ بذي الأوتاد وهو البيت المطنب بأوتاده واستعير ذو الأوتاد له على سبيل الاستعارة التصريحية قيل وهو أظهر مما مر نهايته أنه
170

وصف بذلك فرعون مبالغة لجعله عين ملكه، والمعنى على وصفه بثبات الملك ورسوخ السلطنة واستقامة الأمر.
وقال ابن مسعود. وابن عباس في رواية عطية: الأوتاد الجنود يقوون ملكه كما يقوى الوتد الشيء أي وفرعون ذو الجنود فالاستعارة عليه تصريحية في الأوتاد، وقيل: هو مجاز مرسل للزوم الأوتاد للجند، وقيل المباني العظيمة الثابتة وفيه مجاز أيضا، وقال ابن عباس في رواية أخرى. وقتادة. وعطاء: كانت له عليه اللعنة أوتاد وخشب يلعب له بها وعليها، وقيل: كان يشبح المعذب بين أربع سوار كل طرف من أطرافه إلى سارية ويضرب في كل وتدا من حديد ويتركه حتى يموت، وروي معناه عن الحسن. ومجاهد. وقيل: كان يمده بين أربعة أوتاد في الأرض ويرسل عليه العقارب والحيات، وقيل: يشده بأربعة أوتاد ثم يرفع صخرة فتلقى عليه فتشدخه.
وعلى هذه الأقوال الأربعة فالأوتاد ثابتة على حقيقتها.
* (وثمود وقوم لوط وأصح‍ابل‍ايكة أول‍ائك الاحزاب) *.
* (وثمود وقوم لوط وأصحاب الئيكة) * أصحاب الغيضة وهم الذين أرسل إليهم شعيب عليه السلام نسبوا إلى غيضة كانوا يسكنونها، وقيل الأيكة اسم بلد لهم * (أول‍ائك) * المكذبون * (الأحزاب) * أي الكفار المتحزبون على الرسل عليهم السلام المهزومون؛ وهو مبتدأ وخبر ويفهم من ذلك أن الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم هم وأنهم الذين وجد منهم التكذيب لأن المبتدأ والخبر في مثله متعاكسان رأسا برأس لا لأن * (أولئك) * إشارة إلى الأحزاب أولا والأحزاب ثانيا هم المكذبون [بم وقوله تعالى:
* (إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب) *.
* (إن كل إلا كذب الرسل) * استئناف جيء به تقريرا لتكذيبهم على أبلغ وجه وتمهيدا لما يعقبه، فإن نافية ولا عمل لها لانتقاض النفي بإلا، و * (كل) * مبتدأ والاستثناء مفرغ من أعم العام وهو الخبر أي ما كل حزب من الأحزاب محكوما عليه بحكم إلا محكوما عليه بأنه كذب الرسل أو مخبرا عنه بخبر إلا مخبرا عنه بأنه كذب الرسل لأن الرسل يصدق كل منهم الكل وكلهم متفقون على الحق فتكذيب كل واحد منهم تكذيب لهم جميعا، وجوز أن يكون من مقابلة الجمع بالجمع أي ما كلهم محكوما عليه بحكم أو مخبرا عنه بشيء إلا محكوما عليه أو إلا مخبرا عنه بأنه كذب رسوله، والحصر مبالغة كأن سائر أوصافهم بالنظر إلى ما أثبت لهم بمنزلة العدم فيدل على أنهم غالون في التكذيب، ويدل على غلوهم فيه أيضا إعادته متعلقا بالرسل وتنويع الجملتين إلى اسمية استثنائية وغيرها أعني قوله تعالى: * (كذبت قبلهم) * الخ، وجعل كل فرقة مكذبة للجميع على الوجه الأول، ويسجل ذلك عليهم استحقاقهم أشد العقاب ولذا رتب عليه قوله تعالى: * (فحق عقاب) * أي ثبت ووقع على كل منهم عقابي الذي كانت توجبه جناياتهم من أصناف العقوبات فأغرق قوم نوح وأهلك فرعون بالغرق وقوم هود بالريح وثمود بالصيحة وقوم لوط بالخسف وأصحاب الأيكة بعذاب الظلة. وجوز أن يكون * (أولئك الأحزاب) * بدلا من الطوائف المذكورة والجملة بعد مستأنفة لما سمعت وأن يكون مبتدأ والجملة بعده خبر بحذف العائد أي أن كل منهم أو كلهم إلا كذب الرسل، والمجموع استئناف مقرر لما قبله مع ما فيه من بيان كيفية تكذيبهم وكلاهما خلاف الظاهر، وأما ما قيل من أنه خبر والمبتدأ قوله تعالى: * (وعاد) * الخ أو قوله تعالى: * (وقوم لوط) * الخ فمما يجب تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله.
* (وما ينظر ه‍اؤلآء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق) *.
* (وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق) * شروع في بيان عقاب كفار مكة إثر بيان عقاب اضرابهم فإن الكلام السابق مما يوجب ترقب السامع بيانه،
والنظر بمعنى الانتظار وعبر به مجازا بجعل محقق
171

الوقوع كأنه أمر منتظر لهم، والإشارة بهؤلاء للتحقير، والمراد بالصيحة الواحدة النفخة الثانية، أي ما ينتظر هؤلاء الكفرة الحقيرون الذين هم أمثال أولئك الطوائف المهلكة في الكفر والتكذيب شيئا إلا النفخة الثانية التي تقوم بها الساعة قاله قتادة وليس المراد أنها نفسها عقاب لهم لعمومها للبر والفاجر من جميع الأمم بل المراد أنه ليس بينهم وبين ما أعد لهم من العذاب إلا هي لتأخير عقوبتهم إلى الآخرة لما أن تعذيبهم بالاستئصال حسبما يستحقونه والنبي صلى الله عليه وسلم موجود خارج عن السنة الإلهية المبنية على الحكم الباهرة كما نطق به قوله تعالى: * (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) * (الأنفال: 33) إذ المراد من * (وأنت فيهم) * وجوده عليه الصلاة والسلام لا مجاورته لهم كما توهم حتى يقال: لا دلالة في الآية على امتناع وقوعه بعد الهجرة لمخالفته للتفسير المشهور، وقيل المراد بالصيحة المذكورة النفخة الأولى. وتعقب بأنه مما لا وجه له أصلا لما أنه لا يشاهد هولها ولا يصعق بها إلا من كان حيا عند وقوعها وليس عقابهم الموعود واقعا عقيبها ولا العذاب المطلق مؤخرا إليها بل يحل بهم من حيث موتهم.
وقيل المراد صيحة يهلكون بها في الدنيا كما هلكت ثمود، ولا يخفى أن هذا تعذيب بالاستئصال وهو مما لا يقع كما سمعت فلا يكون منتظرا، وقال أبو حيان: الصيحة ما نالهم من قتل وأسر وغلبة كما تقول صاح بهم الدهر فهي مجاز عن الشر كما في قولهم ما ينتظرون إلا مثل صيحة الحبلى أي شرا يعاجلهم، وفيه بعد. وجوز جعل هؤلاء إشارة إلى الأحزاب ولما سبق ذكرهم مكررا مؤكدا استحضرهم المخاطب في ذهنه فنزل الوجود الذهني منزلة الخارجي المحسوس وأشير إليهم بما يشار به للحاضر المشاهد، واحتمال التحقير قائم ولا ينبو عنه التعبير بأولئك لأن البعد في الواقع مع أنه قد يقصد به التحقير أيضا والكلام بيان لما يصيرون إليه في الآخرة من العقاب بعد ما نزل بهم في الدنيا من العذاب، وجعلهم منتظرين له لأن ما أصابهم من عذاب الاستئصال ليس هو نتيجة ما جنوه من قبيح الأعمال إذ لا يعتد به بالنسبة إلى ما ثمت من الأهوال فهو تحذير لكفار قريش وتخويف لمن يساق له الحديث فلا وجه لما قاله أبو السعود من أن هذا ليس في حيز الاحتمال أصلا لأن الانتظار سواء كان حقيقة أو استهزاء إنما يتصور في حق من لم يترتب على أعماله نتائجها بعد، وبعد ما بين عقاب الأحزاب واستئصالهم بالمرة لم يبق مما أريد بيانه من عقوباتهم أمر منتظر بخلاف كفار قريش حيث ارتكبوا ما ارتكبوا ولما يلاقوا بعد شيئا قاله الخفاجي، ولا يخفى أن المنساق إلى الذهن هو الاحتمال الأول وهو المأثور عن السلف، والفواق الزمن الذي بين حلبتي الحالب ورضعتي الراضع ويقال للبن الذي يجتمع في الضرع بين الحلبتين فيقة ويجمع على أفواق وأفاويق جمع الجمع، والكلام على تقدير مضافين أي ما ينتظرون إلا صيحة واحدة ما لها من توقف مقدار فواق أو على ذكر الملزوم الذي هو الفواق وإرادة اللازم الذي هو التوقف مقداره، وهو مجاز مشهور والمعنى أن الصيحة إذا جاء وقتها لم تستأخر هذا القدر من الزمان.
وعن ابن عباس. ومجاهد. وقتادة تفسيره بالرجوع والترداد، وهو مجاز أطلق فيه الملزوم وأريد اللازم فإن في الزمان بين الحلبتين يرجع اللبن إلى الضرع، والمعنى أنها صيحة واحدة فحسب لا تثنى ولا تردد فالجملة عليه صفة مؤكدة لوحدة الصيحة.
وقرأ السلمي. وابن وثاب. والأعمش. وحمزة. والكسائي. وطلحة بضم الفاء فقيل هما بمعنى واحد وهو ما تقدم كقصاص الشعر وقصاصه، وقيل: المفتوح اسم مصدر من أفاق المريض إفاقة وفاقة إذا رجع إلى الصحة
172

وإليه يرجع تفسير ابن زيد. والسدي. وأبي عبيدة. والفراء له بالإفاقة والاستراحة، والمضموم اسم ساعة رجوع اللبن للضرع. [بم وقوله تعالى:
* (وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب) *.
* (وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب) * حكاية لما قالوه عند سماعهم بتأخير عقابهم إلى الآخرة أي قالوا بطريق الاستهزاء والسخرية ربنا عجل لنا قسطنا ونصيبنا من العذاب الذي توعدنا به ولا تؤخره إلى يوم الحساب الذي مبدؤه الصيحة المذكورة، وتصدير دعائهم بالنداء المذكور للإمعان في الاستهزاء كأنهم يدعون ذلك بكمال الرغبة والابتهال والقائل على ما روي عن عطاء النضر بن الحرث بن علقمة بن كلدة وهو الذي قال الله تعالى فيه: * (سأل سائل بعذاب واقع) * (المعارج: 1) وأبو جهل على ما روي عن قتادة، وعلى القولين الباقون راضون فلذا جىء بضمير الجمع، والقط القطعة من الشيء من قطه إذا قطعه ويقال لصحيفة الجائزة قط لأنها قطعة من القرطاس، ومن ذلك قول الأعشى: ولا الملك النعمان يوم لقيته * بنعمته يعطي القطوط ويطلق
قيل وهو في ذلك أكثر استعمالا وقد فسره بها هنا أبو العالية. والكلبي أي عجل لنا صحيفة أعمالنا لننظر فيها وهي رواية عن الحسن، وجاء في رواية أخرى عنه أنهم أرادوا نصيبهم من الجنة، وروي هذا أيضا عن قتادة. وابن جبير، وذلك أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر وعد الله تعالى المؤمنين الجنة فقالوا على سبيل الهزء: عجل لنا نصيبنا منها لنتنعم به في الدنيا، قال السمرقندي: أقوى التفاسير أنهم سألوا أن يعجل لهم النعيم الذي كان يعده عليه الصلاة والسلام من آمن لقولهم ربنا ولو كان على ما يحمله أهل التأويل من سؤال العذاب أو الكتاب استهزاء لسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسألوا ربهم، وفيه بحث يعلم مما مر آنفا.
* (اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الايد إنه أواب) *.
* (إصبر على ما يقولون) * على ما يتجدد من أمثال هذه المقالات الباطلة المؤذية * (واذكر عبدنا داود) * أي اذكر لهم قصته عليه السلام تعظيما للمعصية في أعينهم وتنبيها لهم على كمال قبح ما اجترؤا عليه فإنه عليه السلام مع علو شأنه وإيتائه النبوة والملك لما ألم بما هو خلاف الأولى ناله ما ألمه وأدام غمه وندمه فما الظن بهؤلاء الكفرة الأذلين الذين لم يزالوا على أكبر الكبائر مصرين أو اذكر قصته عليه السلام في نفسك وتحفظ من ارتكاب ما يوجب العتاب، وقيل إنه تعالى أمره عليه الصلاة والسلام أن يذكر قصص الأنبياء عليهم السلام الذين عرض لهم ما عرض فصبروا حتى فرج الله تعالى عنهم وأحسن عاقبتهم، ترغيبا له في الصبر وتسهيلا لأمره عليه
وإيذانا ببلوغ ما يريده بذلك، وهو كما ترى، وقيل أمره بالصبر وذكر قصص الأنبياء ليكون ذلك برهانا على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم، والذكر على هذا والأول لساني وعلى ما بينهما قلبي وهو مراد من فسر * (اذكر) * على ذلك بتذكر * (ذا الأيد) * أي ذا القوة يقال فلان أيد وذو أيد وذو آد وأياد بمعنى وأياد كل شيء ما يتقوى به.
* (إنه أواب) * أي رجاع إلى الله تعالى وطاعته عز وجل، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس. ومجاهد أنهما قالا: الأواب المسبح، وعن عمرو بن شرحبيل أنه المسبح بلغة الحبشة، وأخرج الديلمي عن مجاهد قال: سألت ابن عمر عن الأواب فقال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنه فقال: هو الرجل يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله تعالى، وهذا إن صح لا يعدل عنه، والجملة تعليل لكونه عليه السلام ذا الأيد وتدل بأي معنى كان الأواب فيها على أن المراد
173

بالأيد القوة الدينية وهي القوة على العبادة كما قال مجاهد. وقتادة. والحسن. وغيرهم إذ لا يحسن التعليل لو حملت القوة على القوة في الجسم، نعم قد كان عليه السلام قوي الجسم أيضا إلا أن ذلك غير مراد هنا؛ وفي التعبير عنه بعبدنا ووصفه بذي الأيد والتعليل بما ذكر دلالة على كثرة عبادته ووفور طاعته.
وقد أخرج البخاري في تاريخه عن أبي الدرداء قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر داود وحدث عنه قال: كان أعبد البشر، وأخرج الديلمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينبغي لأحد أن يقول إني أعبد من داود، وروي أنه كان يصوم يوما ويفطر يوما وكان يقوم نصف الليل وفي ذلك دلالة على قوته في العبادة لما في كل من الصيام والقيام المذكورين من ترك راحة تذكرها قريبا.
* (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والإشراق) *.
* (إنا سخرنا الجبال معه) * استئناف لبيان قصته عليه السلام، وجوز كونه لتعليل قوته في الدين وأوا بيته إلى الله عز وجل، ومع متعلقة بسخر، وإيثارها على اللام لأن تسخير الجبال له عليه السلام لم يكن بطريق تفويض التصرف الكلي فيها إليه كتسخير الريح وغيرها لسليمان عليه السلام بل بطريق الاقتداء به في عبادة الله تعالى.
وأخر الظرف المذكور عن * (الجبال) * وقدم في سورة الأنبياء فقيل: * (وسخرنا مع داود الجبال) * (الأنبياء: 79) قال بعض الفضلاء: لذكر داود. وسليمان ثمت فقدم مسارعة للتعيين ولا كذلك هنا، وجوز تعلقها بقوله تعالى: * (يسبحن) * وهو أقرب بالنسبة إلى آية الأنبياء، وتسبيحهن تقديس بلسان قال لائق بهن نظير تسبيح الحصى المسموع في كف النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: تقديس بلسان الحال وتقييد بالوقتين المذكورين بعد يأباه إذ لا اختصاص لتسبيحهن الحالي بهما وكذا لا اختصاص له بكونه معه، وقيل المعنى يسرن معه على أن يسبحن من السباحة، والجملة حال من * (الجبال) * والعدول عن مسبحات مع أن الأصل في الحال الأفراد للدلالة على تجدد التسبيح حالا بعد حال نظير ما في قول الأعشى: لعمري لقد لاحت عيون كثيرة * إلى ضوء نار في يفاع تحرق
وجوز أن تكون مستأنفة لبيان كيفية التسخير ومقابلتها بمحشورة هنا كالمعينة للحالية * (بالعشي) * هو كما قال الراغب: من زوال الشمس إلى الصباح أي يسبحن بهذا الوقت وليس ذلك نصا في استيعابه بالتسبيح * (والإشراق) * أي ووقت الإشراق، قال ثعلب: يقال شرقت الشمس إذا طلعت وأشرقت إذا أضاءت وصفت فوقت الإشراق وقت ارتفاعها عن الأفق الشرقي وصفاء شعاعها وهو الضحوة الصغرى، وروي عن أم هانىء بنت أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الضحى وقال: هذه صلاة الإشراق، وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن عطاء الخراساني أن ابن عباس قال: لم يزل في نفسي من صلاة الضحى شيء حتى قرأت هذه الآية * (يسبحن بالعشي والإشراق) * (ص: 18) وفي رواية عنه أيضا ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية، ووجه فهم الحبر إياها من الآية أي كل تسبيح ورد في القرآن فهو عنده ما لم يرد به التعجب والتنزيه بمعنى الصلاة فحيث كانت صلاة لداود عليه السلام وقصت على طريق المدح علم منه مشروعيتها. وفي " الكشف " وجهه أن الآية دلت على تخصيصه عليه السلام ذينك الوقتين بالتسبيح وقد علم من الرواية أنه كان يصلي مسبحا فيهما فحكى في القرآن ما كان عليه وإن لم يذكر كيفيته فيكون في الآية ذكر صلاة الضحى وهو المطلوب أو نقول: إن تسبيح الجبال
174

غير تسبيح داود عليه السلام لأن الأول مجاز فحمل تسبيح داود على المجاز أيضا لأن المجاز بالمجاز أنسب اه‍.
وتعقب بأنه إذا علم من الرواية فكيف يقال إنه أخذه من الآية والتجوز ينبغي تقليله ما أمكن، وهذا بناء على أن * (معه) * متعلق بيسبحن حتى يكون هو عليه السلام مسبحا أي مصليا وإلا فتسبيح الجبال لا دلالة له على الصلاة، ومع هذا ففيه حينئذ جمع بين معنيين مجازيين إلا أن يقال به، أو يجعل بمعنى يعظمن ويجعل تعظيم كل محمولا على ما يناسبه، وبعد اللتيا والتي لا يخلو عن كدر، وارتضى الخفاجي الأول وأراه لا يخلو عن كدر أيضا.
وقال الجلبي: في ذلك يجوز أن يقال: تخصيص هذين الوقتين بالذكر دل على اختصاصهما بمزيد شرف فيصلح ذلك الشرف سببا لتعيينهما للصلاة والعبادة فإن لفضيلة الأزمنة والأمكنة أثرا في فضيلة ما يقع فيهما من العبادات، وهذا عندي أصفى مما تقدم، ويشعر به ما أخرجه الطبراني في الأوسط. وابن مردويه عن ابن عباس قال: كنت أمر بهذه الآية * (يسبحن بالعشي والإشراق) * فما أدري ما هي حتى حدثتني أم هانىء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يوم فتح مكة صلاة الضحى ثمان ركعات فقال ابن عباس: قد ظننت أن لهذه الساعة صلاة لقوله تعالى: * (يسبحن بالعشي والإشراق) * (ص: 18) هذا ولهم في صلاة الضحى كلام طويل والحق سنيتها وقد ورد فيها كما قال الشيخ ولي الدين ابن العراقي: أحاديث كثيرة صحيحة مشهورة حتى قال محمد بن جرير الطبري أنها بلغت مبلغ التواتر.
ومن ذلك حديث أم هانىء الذي في " الصحيحين " وزعم أن تلك الصلاة كانت صلاة شكر لذلك الفتح العظيم صادفت ذلك الوقت لا أنها عبادة مخصوصة فيه دون سبب أو أنها كانت قضاء عما شغل صلى الله عليه وسلم تلك الليلة من حزبه فيها خلاف ظاهر الخبر السابق عنها.
وكذا ما رواه أبو داود من طريق كريب عنها أنها قالت صلى عليه الصلاة والسلام سبحة الضحى، ومسلم في كتاب الطهارة من طريق أبي مرة عنها أيضا ففيه ثم صلى
ثماني ركعات سبحة الضحى. وابن عبد البر في التمهيد من طريق عكرمة بن خالد أنها قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فصلى ثمان ركعات فقلت ما هذه الصلاة؟ قال: هذه صلاة الضحى، واحتج القائلون بالنفي بحديث عائشة إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم وما سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط وإني لأسبحها، رواه البخاري. ومسلم. وأبو داود. وأبو مالك، وحمله القائلون بالإثبات على نفي رؤيتها ذلك لما أنه روي عنها مسلم. وأحمد. وابن ماجه أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعا ويزيد ما شاء الله تعالى، وقد شهد أيضا بأنه عليه الصلاة والسلام كان يصليها على ما قال الحاكم أبو ذر الغفاري وأبو سعيد. وزيد بن أرقم. وأبو هريرة. وبريدة الأسلمي، وأبو الدرداء. وعبد الله بن أبي أوفى. وعتبان بن مالك. وعتبة بن عبد السلمي. ونعيم بن همام الغطفاني. وأبو أمامة الباهلي. وأم هانىء. وأم سلمة. ومن القواعد المعروفة أن المثبت مقدم على النافي مع أن رواية الإثبات أكثر بكثير من رواية النفي وتأويلها أهون من تأويل تلك، وذكر الشافعية أنها أفضل التطوع بعد الرواتب لكن النووي في شرح المهذب قدم عليها صلاة التراويح فجعلها في الفضل بين الرواتب والضحى والمذهب عنهم وجوبها عليه صلى الله عليه وسلم وأن ذلك من خصوصياته عليه الصلاة والسلام، واحتج له بما أخرجه ابن العربي بسنده عن عكرمة عن ابن عباس قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب على النحر ولم يكتب عليكم وأمرت بصلاة الضحى ولم تؤمروا
175

بها " رواه الدارقطني أيضا، وقال شيخ الحفاظ أبو الفضل بن حجر: إنه لم يثبت ذلك في خبر صحيح، وفي الأخبار ما يعكر على القول به، وذكر أن أقلها ركعتان لخبر البخاري عن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام أوصاه بهما وأن لا يدعهما، وأدنى كمالها أربع لما صح كان صلى الله عليه وسلم يصلى الضحى أربعا ويزيد ما شاء فست فثمان وأكثرها اثنتا عشرة ركعة لخبر ضعيف يعمل به في مثل ذلك، وذهب الكثير إلى أن الأكثر ثمان.
وذكروا أنها أفضل من اثنتي عشرة والعمل القليل قد يفضل الكثير فما يقتضيه أجرك على قدر نصبك أغلبي.
وصرح ابن حجر الهيتمي عليه الرحمة بالمغايرة بين صلاة الضحى وصلاة الإشراق قال: ومما لا يسن جماعة ركعتان عقب الإشراق بعد خروج وقت الكراهة وهي غير الضحى، وتقدم لك ما يفيد اتحادهما ويدل عليه غير ذلك من الأخبار، وصح إطلاق صلاة الأوابين على صلاة الضحى كإطلاقها على الصلاة المعروفة بعد المغرب، هذا وتمام الكلام فيها في كتب الفقه والحديث.
* (والطير محشورة كل له أواب) *.
* (والطير) * عطف على * (الجبال) * على ما هو الظاهر.
* (محشورة) * حال من * (الطير) * والعامل سخرنا أي وسخرنا الطير حال كونها محشورة، عن ابن عباس كان عليه السلام إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح واجتمعت إليه الطير فسبحت وذلك حشرها، ولم يؤت بالحال فعلا مضارعا كالحال السابقة ليدل على الحشر الدفعي الذي هو أدل على القدرة وذلك بتوسط مقابلته للفعل أو لأن الدفعية هي الأصل عند عدم القرينة على خلافها.
وقرأ ابن أبي عبلة. والجحدري * (والطير محشورة) * برفعهما مبتدأ وخبرا، ولعل الجملة على ذلك حال من ضمير يسبحن * (كل له أواب) * استئناف مقرر لمضمون ما قبله مصرح بما فهم منهم إجمالا من تسبيح الطير، واللام تعليلية، والضمير لداود أي كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيحه رجاع إلى التسبيح، ووضع الأواب لأن الأواب موضع المسبح إما لأنها كانت ترجع التسبيح والمرجع رجاع لأنه يرجع إلى فعله رجوعا بعد رجوع وإما لأن الأواب هو التواب الكثير الرجوع إلى الله تعالى كما هو المشهور ومن دأبه إكثار الذكر وإدامة التسبيح والتقديس، وقيل يجوز أن يكون المراد كل من الطير فالجملة للتصريح بما فهم، وكذا يجوز أن يراد كل من داود عليه السلام ومن الجبال والطير والضمير لله تعالى أي كل من داود والجبال والطير لله تعالى أواب أي مسبح مرجع للتسبيح.
* (وشددنا ملكه وءاتين‍اه الحكمة وفصل الخطاب) *.
* (وشددنا ملكه) * قويناه بالهيبة والنصرة وكثرة الجنود ومزيد النعمة، واقتصر بعضهم على الهيبة، والسدي على الجنود، وروى عنه ابن جرير. والحاكم أنه كان يحرسه كل يوم وليلة أربعة آلاف.
وحكي أنه كان حول محرابه أربعون ألف مستلئم يحرسونه، وهذا في غاية البعد عادة مع عدم احتياج مثله عليه السلام إليه، وكذا القول الأول كما لا يخفى على منصف، وأخرج عبد بن حميد. وابن جرير. وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ادعى رجل من بني إسرائيل عند داود عليه السلام رجلا ببقرة فجحده فسئل البينة فلم تكن بينة فقال لهما عليه السلام: قوما حتى أنظر في أمركما فقاما من عنده فأتى داود في منامه فقيل له: اقتل الرجل المدعى عليه فقال: إن هذه رؤيا ولست أعجل فأتى الليلة الثانية فقيل له: اقتل الرجل فلم يفعل ثم أتى الليلة الثالثة فقيل له: اقتل الرجل أو تأتيك العقوبة من الله تعالى فأرسل عليه السلام إلى الرجل فقال: إن الله تعالى أمرني أن أقتلك فقال: تقتلني بغير بينة ولا ثبت قال نعم: والله لأنفذن أمر الله عز وجل فيك فقال له الرجل
176

لا تعجل علي حتى أخبرك إني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكنني كنت اغتلت والد هذا فقتلته فبذلك أخذت فأمر به داود عليه السلام فقتل فعظمت بذلك هيبته في بني إسرائيل وشد به ملكه.
وقرأ ابن أبي عبلة بشد الدال * (وآتيناه الحكمة) * النبوة وكمال العلم وإتقان العمل، وقيل الزبور وعلم الشرائع، وقيل كل كلام وافق الحكمة فهو حكمة * (وفصل الخطاب) * أي فصل الخصام بتمييز الحق عن الباطل فالفصل بمعناه المصدري والخطاب الخصام لاشتماله عليه أو لأنه أحد أنواعه خص به لأنه المحتاج للفصل أو
الكلام الذي يفصل بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والصواب والخطأ وهو كلامه عليه السلام في القضايا والحكومات وتدابير الملك والمشورات، فالخطاب الكلام المخاطب به والفصل مصدر بمعنى اسم الفاعل أو الكلام الذي ينبه المخاطب على المقصود من غير
التباس يراعى فيه مظان الفصل والوصل والعطف والاستئناف والاضمار والحذف والتكرار ونحوها فالخطاب بمعنى الكلام المخاطب به أيضا والفصل مصدر إما بمعنى اسم الفاعل أي الفاصل المميز للمقصود عن غيره أو بمعنى اسم المفعول أي المقصود أي الذي فصل من بين أفراد الكلام بتلخيصه مراعاة ما سمعت فيه أو الذي فصل بعضه عن بعض ولم يجعل ملبسا مختلطا.
وجوز أن يراد بفصل الخطاب الخطاب القصد الذي ليس فيه اختصار مخل ولا إشباع ممل كما جاء في وصف كلام نبينا صلى الله عليه وسلم: " لا نزر ولا هذر " فالخطاب بمعنى الكلام المخاطب به كام سلف والفصل إما بمعنى الفاصل لأن القصد أي المتوسط فاصل بين الطرفين وهما هنا المختصر المخل والمطنب الممل أو لأن الفصل والتمييز بين المقصود وغيره أظهر تحققا في الكلام القصد لما في أحد الطرفين من الإخلال وفي الطرف الآخر من الاملال المفضي إلى إهمال بعض المقصود وإما بمعنى المفصول ون الكلام المذكور مفصول مميز عند السامع على المخل والممل بسلامته عن الاخلال والإملال، والإضافة على الوجه الأول من إضافة المصدر إلى مفعوله وعلى ما عداه من إضافة الصفة لموصوفها، وما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه. والشعبي وحكاه الطبرسي عن الأكثرين من أن فصل الخطاب هو قوله: البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه فقيل هو داخل في فصل الخطاب على الوجه الثاني فإن فيه الفصل بين المدعى عليه وهو من الفصل بين الحق والباطل، وجاء في بعض الروايات هو إيجاب البينة على المدعى عليه فلعله أريد أن فصل الخطاب على الوجه الأول أعني فصل الخصام كان بذاك وجعله نفسه على سبيل المبالغة، وما روي عن ابن عباس. ومجاهد. والسدى من أنه القضاء بين الناس بالحق والإصابة والفهم فهو ليس شيئا وراء ما ذكر أولا، وأخرج ابن جرير عن الشعبي وابن أبي حاتم. والديلمي عن أبي موسى الأشعري أن فصل الخطاب الذي أوتيه عليه السلام هو أما بعد، وذكر أبو موسى أنه عليه السلام أول من قال ذلك فقيل: هو داخل في فصل الخطاب وليس فصل الخطاب منحصرا فيه لأنه يفصل المقصود عما سيق مقدمة له من الحمد والصلاة أو من ذكر الله عز وجل مطلقا، وظاهره اعتبار فصل الخطاب بمعنى الكلام الذي ينبه المخاطب على المقصود إلى آخر ما مر، ويوهم صنيع بعضهم دخوله فيه باعتبارالمعنى الثاني لفصل الخطاب ولا يتسنى ذلك، وحمل الخبر على الانحصار مما لا ينبغي إذ ليس في إيتاء هذا اللفظ كثير امتنان، ثم الظاهر أن المراد من أما بعد ما يؤدي مؤداه من الألفاظ لا نفس هذا اللفظ لأنه لفظ
177

عربي وداود لم يكن من العرب ولا نبيهم بل ولا بينهم فالظاهر أنه لم يكن يتكلم بالعربية، والذي يترجح عندي أن المراد بفصل الخطاب فصل الخصام وهو يتوقف على مزيد علم وفهم وتفهيم وغير ذلك فايتاؤه يتضمن إيتاء جميع ما يتوقف هو عليه وفيه من الامتنان ما فيه، ويلائمه أتم ملاءمة قوله تعالى:
* (وهل أتاك نبؤا الخصم إذ تسوروا المحراب) *.
* (وهل أتي‍اك نبؤا الخصم) * استفهام يراد منه التعجب والتشويق إلى استماع ما في حيزه لإيذانه بأنه من الأنباء البديعة التي حقها أن تشيع فيما بين كل حاضر وبادي، والجملة قيل عطف على * (إنا سخرنا) * من قبيل عطف القصة، وفيل: على اذكر. والخصم في الأصل مصدر لخصمه بمعنى خاصمه أو غلبه ويراد منه المخاصم ويستعمل للمفرد والمذكر وفروعهما؛ وجاء للجمع هنا على ما قال جمع لظاهر ضمائره بعد وربما ثنى وجمع على خصوم واخصام، وأصل المخاصمة على ما قال الراغب أن يتعلق كل واحد بخصم الآخر أي بجانبه أو أن يجذب كل واحد خصم الجوالق من جانب.
* (إذ تسوروا المحراب) * أي علوا سوره ونزلوا إليه فتفعل للعلو على أصله نحو تسنم الجمل أي علا سنامه وتذري الجبل علا ذروته، والسور الجدار المحيط المرتفع، والمحراب الغرفة وهي العلية ومحراب المسجد مأخوذ منه لانفصاله عما عداه أو لشرفه المنزل منزلة علوه قاله الخفاجي، وقال الراغب: محراب المسجد قيل: سمي بذلك لأنه موضع محاربة الشيطان والهوى، وقيل: لكون حق الإنسان فيه أن يكون حريبا من أشغال الدنيا ومن توزع الخاطر، وقيل: الأصل فيه أن محراب البيت صدر المجلس ثم لما اتخذت المساجد سمي صدره به، وقيل: بل المحراب أصله في المجد وهو اسم خص به صدر المجلس فسمي صدر البيت محرابا تشبيها بمحراب المسجد وكأن هذا أصح انتهى، وصرح الجلال السيوطي أن المحاريب التي في المساجد بهيئتها المعروفة اليوم لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وله رسالة في تحقيق ذلك، وإذ متعلقة بمحذوف مضاف إلى الخصم أي نبأ تخاكم الخصم إذ تسوروا أو بنبأ على أن المراد به الواقع في عهد داود عليه السلام، وإسناد الاتيان إليه على حذف مضاف أي قصة نبأ الخصم، وجوز تعلقها به بلا حذف على جعل إسناد الاتيان إليه مجازيا أو بالخصم وهو في الأصل مصدر والظرف قنوع يكفيه رائحة اللفعل، وزعم الحوفي تعلقها بأتى ولا يكاد يصح لأن اتيان نبأ الخصم لم يكن وقت تسورهم المحراب.
* (إذ دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنآ إلى سوآء الصراط) *.
* (إذ دخلوا على داود) * إذ هذه بدل من إذ الأولى بدل كل من كل بأن يجعل زمان التسور وزمان الدخول لقربهما بمنزلة المتحدين أو بدل اشتمال بأن يعتبر الامتداد أو ظرف لتسوروا ويعتبر امتداد وقته وإلا فالتسور ليس في وقت الدخول، ويجوز أن يراد بادخول إرادته وفيه تكلف لأنه مع كونه مجازا لا يتفرع عليه قوله تعالى: * (ففزع منهم) * فيحتاج إلى تفريعه على التسور وهو أيضا كما ترى، وجوز تعلقه باذكر مقدرا، والفزع انقباض ونفار يعترى الإنسان من الشيء المخيف. روي أن الله تعالى بعث إليه ملكين في صورة انسانين قبل هما جبريل وميكائيل عليهما السلام فطلبا أن يدخلا عليه فوجداه في يوم عبادته فمنعهما الحرس فتسورا عليه المحراب فلم يشعر إلا وهما بين يديه جالسان، وكان عليه السلام كما روي عن ابن عباس جزأ زمانه أربعة أجزاء يوما للعبادة ويوما للقضاء ويوما للاشتغال بخاصة نفسه ويوما لجميع
بني إسرائيل فيعظهم ويبكيهم، وسبب الفزع قيل: إنهم نزلوا من فوق الحائط وفي يوم الاحتجاب والحرس حوله لا يتركون من يريد الدخول عليه فخاف عليه السلام أن يؤذوه لا سيما على ما حكى أنه كان ليلا، وقيل: إن الفزع من أجل أنه ظن أن أهل مملكته قد استهانوه
178

حتى ترك بعضهم الاستئذان فيكون في الحقيقة فزعا من فساده السيرة لا من الداخلين، وقال أبو الأحوص: فزع منهم لأنهما دخلا عليه وكل منهما آخذ برأس صاحبه، وقيل: فزع منهم لما رأى من تسورهم موضعا مرتفعا جدا لا يمكن أن يرتقي إليه بعد أشهر مع أعوان وكثرة عدد، والظاهر أن فزعه ليس إلا لتوقع الأذى لمخالفة المعتاد فلما رأوه قد فزع * (قالوا لا تخف) * وهو استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية فزعه عليه السلام كأنه قيل: فماذا قالوا عند مشاهدتهم فزعه؟ فقيل: قالوا له إزالة لفزعه لا تخف * (خصمان) * خبر مبتدأ محذوف أن نحن خصمان، والمراد هنا فوجان لا شخصان متخاصمان وقد تقدم أن الخصم يشمل الكثير فيطابق ما مر من جمع الضمائر، ويؤيده على ما قيل قوله سبحانه: * (بغى بعضنا على بعض) * فإن نحو هذا أكثر فيطابق استعمالا في قول الجماعة، وقراءة بعضهم * (بغى بعضهم على بعض) * أظهر في التأييد، ولا يمنع ذلك كون التحاكم إنما وقع بين اثنين لجواز أن يصحب كلا منهما من يعاضده والعرف يطلق الخصم على المخاصم ومعاضده وإن لم يخاصم بالفعل، وجوز أن يكون المراد اثنين والضمائر المجموعة مراد بها التثنية فيتوافقان وأيد بقوله سبحانه * (إن هذا أخي) * (ص: 23) وقيل: يجوز أن يقدر خصمان مبتدأ خبره محذوف أي فينا خصمان وهو كما ترى، والظاهر أن جملة * (بغي) * الخ في موضع الصفة لخصمان وأن جملة نحن خصمان الخ استئناف في موضع التعليل للنهي فهي موصولة بلا تخف، وجوز أن يكونوا قد قالوا لا تخف وسكتوا حتى سألوا ما أمركم؟ فقالوا: خصمان بغي الخ أي جار بعضنا على بعض، واستشكل قولهم هذا على القول بأنهم كانوا ملائكة بأنه إخبار عن أنفسهم بما لم يقع منهم وهو كذب والملائكة منزهون عنه. وأجيب بأنه إنما يكون كذبا لو كانوا قصدوا به الأخبار حقيقة أما لو كان فرضا لأمر صوروه في أنفسهم لما أتوا على صورة البشر كما يذكر العالم إذا صور مسألة لأحد أو كان كناية وتعريضا بما وقع من داود عليه السلام فلا، وقرأ أبو يزيد الجرار عن الكسائي * (خصمان) * بكسر الخاء.
* (فاحكم بيننعا بالحق ولا تشطط) * أي ولا تتجاوزه، وقرأ أبو رجاء. وابن أبي عبلة وقتادة. والحسن. وأبو حيوة * (ولا تشطط) * من شط ثلاثيا أي ولا تبعد عن الحق، وقرأ قتادة أيضا * (تشط) * مدغما من أشط رباعيا، وقرأ زر * (تشاطط) * بضم التاء وبألف على وزن تفاعل مفكوكا، وعنه أيضا * (تشطط) * من شطط، والمراد في الجميع لا تجر في الحكومة وأرادوا بهذا الأمر والنهي إظهار الحرص على ظهور الحق والرضا به من غير ارتياب بأنه عليه السلام يحكم بالحق ولا يجوز في الحكم وأحد الخصمين قد يقول نحو ذلك للإيماء إلى أنه المحق وقد يقوله اتهاما للحاكم وفيه حينئذ من الفظاظة ما فيه؛ وعلى ما ذكرنا أولا فيه بعض فظاظة، وفي تحمل داود عليه السلام لذلك منهم دلالة على أنه يليق بالحاكم تحمل نحو ذلك من المتخاصمين لا سيما إذا كان ممن معه الحق فحال المرء وقت التخاصم لا يخفى.
والعجب من حاكم أو محكم أو من للخصوم نوع رجوع إليه كالمفتي كيف لا يقتدي بهذا النبي الأواب عليه الصلاة والسلام في ذلك بل يغضب كل الغضب لأدنى كلمة تصدر ولو فلتة من أحد الخصمين يتوهم منها الحط لقدره ولو فكر في نفسه لعلم أنه بالنسبة إلى هذا النبي الأواب لا يعدل والله العظيم متك ذباب، اللهم وفقنا لأحسن الاخلاق واعصمنا من الاغلاط * (واهدنا إلى سواء الصراط) * أي وسط طريق الحق بزجر الباغي عما سلكه من طريق الجور وإرشاده إلى منهاج العدل.
* (إن هذآ أخى له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزنى فى الخطاب) *.
* (إن ه‍اذا أخي) * الخ استئناف لبيان ما فيه الخصومة، والمراد
179

بالاخوة أخوة الدين أو اخوة الصداقة والألفة أو أخوة الشركة والخلطة لقوله تعالى: * (وإن كثيرا من الخلطاء) * (ص: 24) وكل واحد من هذه الأخوات يدلي بحق مانع من الاعتداء والظلم، وقيل: هي أخوة في النسب وكان المتحاكمان أخوين من بني إسرائيل لأن وام، ولا يخفى أن المشهور أنهما كانا من الملائكة بل قيل لا خلاف في ذلك.
و * (اخي) * بيان عند ابن عطية وبدل أو خبر لأن عند الزمخشري، ولعل المقصود بالإفادة على الثاني قوله تعالى: * (له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة) * وهي الأنثى من بقر الوحش ومن الضأن والشاء والجبلي وتستعار للمرأة كالشاة كثيرا نحو قول ابن عون: أنا أبوهن ثلاث هنه * رابعة في البيت صغرا هنه
ونعجتي خمسا توفيهنه * ألا فتى سحج يغذيهنه
وقول عنترة: يا شاة ما قنص لمن حلت له * حرمت على وليتها لم تحرم
وقول الأعشى: فرميت غفلة عينه عن شاته * فاصبت حبة قلبها وطحالها
والظاهر إبقاؤها على حقيقتها هنا ويراد بها أنثى الضان، وجوز إرادة الامرأة، وسيأتي إن شاء تعالى ما يتعلق بذلك، وقرأ الحسن. وزيد بن علي * (تسع وتسعون) * بفتح التاء فيهما، وكثر مجيء الفعل والفعل بمعنى واحد نحو السكر والسكر ولا يبعد ذلك في التسع لا سيما وقد جاور العشر، والحسن. وابن هرمز * (ونعجة) * بكسر النون وهي لغة لبعض بني تميم، وقرأ ابن مسعود * (ولي نعجة أنثى) * ووجه ذلك الزمخشري بأنه يقال امرأة أنثى للحسناء الجميلة والمعنى وصفها بالعراقة في لين الأنوثة وفتورها وذلك أملح لها وأزيد في تكسرها وتثنيها ألا ترى إلى وصفهم لها بالكسول والمكسال، وقوله: فتور القيام قطيع الكلام * لغوب العشاء إذا لم تنم
وقول قيس بن الخطيم: تنام عن كبر شأنها فإذا * قامت رويدا تكاد تنغرف
وفي الكلام عليه توفية حق القسمين أعني ما يرجع إلى الظالم وما يرجع إلى المظلوم كأنه قيل: إنه مع وفور استغنائه وشدة حاجتي ظلمني حقي، وهذا ظاهر إذا كانت
النعجة مستعارة وإلا فالمناسب تأكيد الأنوثة بأنها كاملة فيها فيكون أدر وأحلب لما يطلب منها على أن فيه رمزا إلى ما وري عنه * (فقال أكفلنيها) * ملكنيها، وحقيقته اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي، وقال ابن كيسان: اجعلها كفلى أي نصيبي، وعن ابن عباس. وابن مسعود تحول لي عنها وهو بيان للمراد وألصق بوجه الاستعارة * (وعزني) * أي غلبني، وفي المثل من عز بز أي من غلب سلب وقال الشاعر: قطاة عزها شرك فباتت * تجاذبه وقد علق الجناح
* (في الخطاب) * أي مخاطبته إياي محاجة بأن جاء بحجاج لم أطق رده، وقال الضحاك: أي إن تكلم
180

كان أفصح مني وإن حارب كان أبطش مني، وقال ابن عطية: كان أوجه مني وأقوى فإذا خاطبته كان كلامه أقوى من كلامي وقوته أعظم من قوتي، وقيل: أي غلبني في مغالبته إياي في الخطبة على أن الخطاب من خطبت المرأة وخطبها هو فخاطبني خطابا أي غالبني في الخطبة فغلبني حيث زوجها دوني، وهو قول من يجعل النعجة مستعارة، وتعقبه صاحب الكشف فقال: حمل الخطاب على المغالبة في خطبة النساء لا يلائم فصاحة التنزيل لأن التمثيل قاصر عنه لنبو قوله: * (ولي نعجة) * عن ذلك أشد النبوة وكذا قوله: * (أكفلنيها) * إذ ينبغي على ذلك أن يخاطب به ولي المخطوبة إلا أن يجعل الأول مجازا عما يؤول إليه الحال ظنا والشرط في حسنه تحقق الانتهاء كما في * (أعصر خمرا) * والثاني مجاز عن تركه الخطبة، ولا يخفى ما فيهما من التعقيد، ثم إنه لتصريحه ينافي الغرض من التمثيل وهو التنبيه على عظم ما كان منه عليه السلام وأنه أمر يستحي من كشفه مع الستر عليه والاحتفاظ بحرمته انتهى فتأمل.
وقرأ أبو حيوة. وطلحة * (وعزني) * بتخفيف الزاي، قال أبو الفتح: حذفت إحدى الزائين تخفيفا كما حذفت إحدى السينين في قول أبي زيد: أحسن به فهن إليه شوس
وروي كذلك عن عاصم.
وقرأ عبد الله. وأبو وائل. ومسروق. والضحاك. والحسن. وعبيد بن عمير * (وعازني) * بألف بعد العين وتشديد الزاي أي وغالبني.
* (قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطآء ليبغىبعضهم على بعض إلا الذين ءامنوا وعملوا الص‍الح‍ات وقليل ما هم وظن داوود أنما فتن‍اه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب) *.
* (قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه) * جواب قسم محذوف قصد به المبالغة في إنكار فعل ذي النعجات الكثيرة وتهجين طمعه، وليس هذا ابتداء من داود عليه السلام إثر فراغ المدعى من كلامه ولا فتيا بظاهر كلامه قبل ظهور الحال لديه فقيل: ذلك على تقدير * (لقد ظلمك) * إن كان ما تقول حقا؛ وقيل ثم كلام محذوف أي فاقر المدعى عليه فقال * (لقد ظلمك) * الخ ولم يحك في القرآن اعتراف المدعى عليه لأنه معلوم من الشرائع كلها انه لا يحكم الحاكم إلا بعد إجابة المدعى عليه، وجاء في رواية أنه عليه السلام لما سمع كلام الشاكي قال للآخر ما تقول فاقر فقال له: لترجعن إلى الحق أو لأكسرن الذي فيه عيناك، وقال للثاني: * (لقد ظلمك) * الخ فتبسما عند ذلك وذهبا ولم يرهما لحينه، وقيل: ذهبا نحو السماء بمرأى منه، وقال الحليمي: إنه عليه السلام رأى في المدعى مخايل الضعف والهضيمة فحمل أمره على أنه مظلوم كما يقول فدعاه ذلك إلى أن لا يسأل المدعي عليه فاستعجل بقوله: * (لقد ظلمك) * ولا يخفى أنه قول ضعيف لا يعول عليه لأن مخايل الصدق كثيرا ما تظهر على الكاذب والحيلة أكثر من أن تحصى قديما وحديثا؛ وفيما وقع من إخوة يوسف عليه السلام ولم يكونوا أنبياء على الأصح ما يزيل الاعتماد في هذا الباب، وبعض الجهلة ذهب إلى نحو هذا، وزعم أن ذنب داود عليه السلام ما كان إلا أنه صدق أحدهما على الآخر وظلمه قبل مسألته، والسؤال مصدر مضاف إلى مفعوله وتعديته إلى مفعول آخر بإلى لتضمنه معنى الإضافة كأنه قيل: * (لقد ظلمك) * بإضافة نعجتك إلى نعاجه على وجه السؤال والطلب أو لقد ظلمك بسؤال نعجتك مضافة إلى نعاجه * (وإن كثيرا من الخلطاء) * أي الشركاء الذي خلطوا أموالهم الواحد خليط وهي الخلطة وقد غلبت في الماشية وفي حكمها عند الفقهاء كلام ذكر بعضا منه الزمخشري * (ليبغي) * ليتعدى * (بعضهم على بعض) * غير مراع حق الشركة والصحبة.
181

إلا الذين ءامنوا وعملوا الص‍الح‍ات) * منهم فانهم يتحامون عن البغي والعدوان * (وقليل ما هم) * أي وهو قليل جدا فقليل خبر مقدم و * (هم) * مبتدأ وما زائدة، وقد جاءت المبالغة في القلة من التنكير وزيادة ما الإبهامية ويتضمن ذلك التعجب فإن الشيء إذا بولغ فيه كان مظنة للتعجب منه فكأنه قيل: ما أقلهم، والجملة اعتراض تذييلي، وقرىء * (ليبغي) * بفتح الياء على تقدير حذف النون الخفيفة وأصله ليبغين كما قال طرفة بن العبد: اضرب عنك الهموم طارقها * ضربك بالسيف قونس الفرس
يريد اضربن، ويكون على تقدير قسم محذوف وذلك القسم وجوابه خبر لأن، وعلى قراءة الجمهور اللام هي الواقعة في خبر ان وجملة * (يبغي) * الخ هو الخبر، وقرىء * (ليبغ) * بحذف الياء للتخفيف كما في قوله تعالى: * (والليل إذا يسر) * وقوله: محمد تفد نفسك كل نفس * إذا ما خفت من أمر تبالا
والظاهر أن قوله تعالى: * (وإن كثيرا من الخلطاء) * الخ من كلام داود عليه السلام تتمة لما ذكره أولا وقد نظر فيه ما كان عليه التداعي كما هو ظاهر التعبير بالخلطاء فإنه غالب في الشركاء الذين خلطوا أموالهم في الماشية وجعل على وجه استعارة النعجة ابتداء تمثيل لم ينظر فيه إلى ما كان عليه التداعي كأنه قيل: وان البغي أمر يوجد فيما بين المتلابسين وخص الخلطاء لكثرته فيما بينهم فلا عجب مما شجر بينكم وترتب عليه قصد الموعظة الحسنة والترغيب في إيثار عادة الخلطاء الذين حكم لهم بالقلة وأن يكره إليهم الظلم والاعتداء الذي عليه أكثرهم مع التأسف على حالهم وأن يسلى المظلوم عما جرى عليه من خليطة وأن له في أكثر الخلطاء أسوة أو كأنه قيل: إن هذا الأمر الذي جرى بينكما أيها الخليطان كثيرا ما يجرى بين الخلطاء فينظر فيه إلى خصوص حالهما، قال في الكشف: والمحمل الأظهر هذا.
وعلى التقديرين هو تذييل يترتب عليه ما ذكر. ثم قال: ولعل الأظهر حمل الخلطاء على مالتعارفين والمتضادين واضرابهم ممن بينهم ملابسة شديدة وامتزاج على نحو:
إن الخليط أجدوا البين فانجردوا
والغلبة في الشركاء الذي خلطوا أموالهم في عرف الفقهاء فذكر الخلطاء لا ينافي ذكر الحلائل إذا لم ترد الخلطة اه‍. وأنت خبير بأن ذلك وإن لم يناف ذكر الحلائل لكن أولوية عدم إرادة الحلائل وإبقاء النعجة على معناها الحقيقي مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان * (وظن داود أنما فتناه) * الظن مستعار للعلم الاستدلالي لما بينهما من المشابهة الظاهرة، وفي البحر لما كان الظن الغالب يقارب العلم استعير له، فالمعنى وعلم داود وأيقن بما جرى في مجلس الحكومة أن الله تعالى ابتلاه، وقيل لما قضى بينهما نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك ثم صعدا إلى السماء حيال وجهه فعلم بذلك أنه تعالى ابتلاه، وجوز إبقاء الظن على حقيقته، وأنكر ابن عطية مجيء الظن بعد العلم اليقيني وقال: لسنا نجده في كلام العرب وإنما هو توقيف بين معتقدين غلب أحدهما على الآخر وتوقعه العرب على العلم الذي ليس بواسطة الحواس فإنه اليقين التام ولكن يخلط الناس في هذا ويقولون: ظن بمعنى أيقن إلى آخر ما أطال، ويفهم منه أن إطلاق الظن على العلم الاستدلالي حقيقة والمشهور أنه مجاز، وظاهر ما بعد أنه هنا بمعنى العلم و * (أنما) * المفتوحة على ما حقق بعض الأجلة لا تدل على الحصر كالمكسورة، ومن قال بإفادتها إياه
182

حملا على المكسورة كالزمخشري لم يدع الأطرد فليس المقصود ههنا قصر الفتة عليه عليه السلام لأنه يقتضي انفصال الضمر، ولا قصر ما فعل به على الفعل لأن كل فعل ينحل إلى عام وخاص فمعنى ضربته فعلت ضربه على أن المعنى ما فعلنا به إلا الفتنة كما قال أبو السعود لأنه على ما قيل تعسف وإلغاز، ومن يدعي الأطراد يلتزم الثاني من القصرين المنفيين ويمنع كون ما ذكر تعسفا وإلغازا.
وقرأ عمر بن الخطاب. وأبو رجاء. والحسن بخلاف عنه * (فتناه) * بتشديد التاء والنون مبالغة، والضحاك * (افتناه) * كقوله على ما نقله الجوهري عن أبي عبيدة: لئن فتنتني لهي بالأمس افتنت * سعيدا فأمسى قد غوى كل مسلم
وقتادة. وأبو عمرو في رواية * (أنما فتناه) * بضمير التثنية وهو راجع إلى الخصمين * (فاستغفر ربه) * إثر ما علم أن ما صدر عنه ذنب * (وخر راكعا) * أي ساجدا على أن الركوع مجاز عن الجسود لأنه لا فضائه إليه جعل كالسبب ثم تجوز به عنه أو هو استعارة لمشابهته له في الانحناء والخضوع والعرب تقول نخلة راكعة ونخلة ساجدة، وقال الشاعر: فخر على وجهه راكعا * وتاب إلى الله من كل ذنب
وقيل أي خر للسجود راكعا أي مصليا على أن الركوع بمعنى الصلاة لاشتهار التجوز به عنها، وتقدير متعلق لخر يدل عليه غلبة فحواه لأنه بمعنى سقط على الأرض كما في قوله تعالى: * (فخر عليهم السقف من فوقهم) * (النحل: 26).
وقال الحسين بن الفضل: أي خر من ركوعه أي سجد بعد إن كان راكعا، وظاهره إبقاء الركوع على حقيقته وجعل خر بمعني سجد. والجمهور على ما قدمنا، واستشهد به أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وأصحابه على أن الركوع يقوم مقام السجود في سجدة التلاوة وهو قول الخطابي من الشافعية ولا فرق في ذلك بين الصلاة وخارجها كما في البزازية وغيرها. وفي الكشف قالوا أي الحنفية: إن القياس يقتضي أن يقوم الركوع مقام السجود لأن الشارع جعله ركوعا وتجوز بأحدهما عن الآخر لقيامه مقامه وإغنائه غناءه.
وأيدوه بأن السجود لم يؤمر به لعينه ولهذا لم يشرع قربة مقصودة بل للخضوع وهو حاصل بالركوع * (فإن قلت) *: إن سجدة داود عليه السلام كانت سجدة شكر والكلام في سجدة التلاوة قلت: لا علي في ذلك لأني لم أستدل بفعل داود عليه السلام بل بجعل الشارع إياه مغنيا غناء السجود، ولأصحابنا يعني الشافعية أن يمنعوا أن علاقة المجاز ما ذكروه بل مطلق الميل عن الخصوع المشترك بينهما أو لأنه مقدمته كما قال الحسن: لا يكون ساجدا حتى يركع أو خر مصليا والمعتبر غاية الخضوع وليست في الركوع اه‍. ولا يخفى أن المعروف من النبي صلى الله عليه وسلم السجود ولم نقف في خبر على أنه عليه الصلاة والسلام ركع للتلاوة بدله ولو مرة وكذا أصحابه رضي الله تعالى عنهم، وليس أمر القياس المذكور بالقوى فالأحوط فعل الوارد لا غير بل قال بعض الشافعية: إن قول الأصحاب لا يقوم الركوع مقام السجدة ظاهر في جواز الركوع وهو بعيد والقياس حرمته، وعني صاحب الكشف بما ذكر في السؤال من أن سجدة داود عليه السلام كانت سجدة شكر أنها كانت كذلك من نبينا صلى الله عليه وسلم فقد أخرج النسائي. وابن مردويه بسند جيد عن ابن عباس أن النبي
183

صلى الله عليه وسلم سجد في * (ص) * وقال: سجدها داود توبة ونسجدها شكرا أي على قبول توبة داود عليه السلام من خلاف الأولى بعلى شأنه وقد لقي عليه السلام على ذلك من القلق المزعج ما لم يلقه غيره كما ستعلمه إن شاء الله تعالى، وآدم عليه السلام وإن لقي أمرا عظيما أيضا لكنه كان مشوبا بالحزن على فراق الجنة فجوزى لذلك بأمر هذه الأمة بمعرفة قدره وانه أنعم عليه نعمة تستوجب دوام الشكر إلى قيام الساعة، ولقصته على ما في بعض الروايات شبه لما وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم في قصة زينب المقتضى للعتب عليه بقوله تعالى: * (وتخفى في نفسك) * (الأحزاب: 37) الآية فيكون ذكرها مذكرا له عليه لصلاة والسلام ما وقع وما آل الأمر إليه مما هو أرفع وأجل فكأن ذلك اقتضى دوام الشكر بإظهار السجود له، ولعل ذلك وجه تخصيص داود بذلك مع وقوع نظيره لغيره من الأنبياء عليهم السلام فتأمله، ولا تغفل عن كون السورة مكية على الصحيح وقصة زينب رضي الله تعالى عنها مدنية، وينحل الإشكال بالتزام كون السجود بعد القصة فلينقر، وهي عند الحنفية إحدى سجدات التلاوة الواجبة كما ذكر في الكتب الفقهية، ومن فسر * (خر راكعا) * بخر للسجود مصليا ذهب إلى أن ما وقع من داود عليه السلام صلاة مشتملة على الجسود وكانت للاستغفار وقد جاء في شريعتنا مشروعية صلاة ركعتين عند التوبة لكن لم نقف في خبر على ما يشعر بحمل ما هنا على صلاة دواد عليه السلام لذلك وإنما وقفنا على أنه سجد * (وأناب) * أي رجع إلى الله تعالى بالتوبة.
* (فغفرنا له ذالك وإن له عندنا لزلفى وحسن م‍ااب) *.
* (فغفرنعا له ذالك) * أي ما استغفرنا منه.
أخرج أحمد. وعبد بن حميد عن يونس بن حبان أن داود عليه السلام بكى أربعين ليلة حتى نبت العشب حوله من دموعه ثم قال: يا رب قرح الجبين ورقأ الدمع وخطيئتي على كما هي فنودي يا داود أجائع فتطعم؟ أم طمآن فتسقي؟ أم مظلوم فينتصر لك؟ فنحب نحبة هاج ما هنالك من الخضرة فغفر له عند ذلك، وفي رواية عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن مجاهد أنه خر ساجدا أربعين ليلة حتى نبت من دموع عينيه من البقل ما غطى رأسه ثم قال الخ، وروي أنه لم يشرب ماء إلا وثلثاه من دمعه وجهد نفسه راغبا إلى الله تعالى في العفو عنه حتى كاد يهلك واشتغل بذلك عن الملك حتى وثب ابن له يقال له إيشا على ملكه ودعا إلى نفسه فاجتمع إليه أهل الزيغ من بني إسرائيل فلما غفر لهحاربه فهزمه.
وأخرج أحمد عن ثابت أنه عليه السلام اتخذ سبع حشايا وحشاهن من الرماد حتى أنفذها دموعا ولم يشرب شرابا إلا مزجه بدمع عينيه، وأخرج عن وهب أنه اعتزل النساء وبكى حتى رعش وخددت الدموع في وجهه، ولم ينقطع خوفه عليه السلام وقلقه بعد المغفرة، فقد أخرج أحمد. والحكيم الترمذي. وابن جرير عن عطاء الخراساني أن داود نقش خطيئته في كفه لكي لا ينساها وكان إذا رآها اضطربت يداه.
وأخرج أحمد. وغيره عن ثابت عن صفوان. وعبد بن حميد من طريق عطاء بن السائب عن أبي عبد الله الجدلي ما رفع داود رأسه إلى السماء بعد الخطيئة حتى مات * (وإن له عندنا لزلفى) * قرية بعد المغفرة.
* (وحسن مآب) * وحسن مرجع في الجنة، وأخرج عبد بن حميد عن عبيد بن عمير أنه قال في الآية: يدنو من ربه سبحانه حتى سضع يده عليه، وهو إن صح من المتشابه. وأخرج أحمد في الزهد. والحكيم الترمذي. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن مالك بن دينار أنه قال فيها: يقام داود عليه السلام يوم القيامة عند ساق العرش ثم يقول الرب عز وجل: يا داود مجدني بذلك الصوت الحسن الخرمي الذي كنت تمجدني به في
184

الدنيا فيقول: يا رب كيف وقد سلبته؟ فيقول: إني راده عليك اليوم فيندفع بصوت يستغرق نعيم أهل الجنة.
هذا واختلف في أصل قصته التي ترتب عليها ما ترتب فقيل إنه عليه السلام رأى امرأة رجل يقال له أوريا من مؤمني قومه - وفي بعض الآثار أنه وزيره - فمال قلبه إليها فسأله أن يطلقها فاستحى أن يرده ففعل فتزوجها وهي أم سليمان وكان ذلك جائزا في شريعته معتادا فيما بين أمته غير مخل بالمروءة حيث كان يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته، وقد كان الرجل من الأنصار في صدر الإسلام بعد الهجرة إذا كانت له زوجتان نزل عن إحداهما لمن اتخذه أخا له من المهاجرين لكنه عليه السلام لعظم منزلته وارتفاع مرتبته وعلو شأنه نبه بالتمثيل على أنه لم يكن ينبغي له أن يتعاطى ما يتعاطاه آحاد أمته ويسأل رجلا ليس له إلا امرأة واحدة أن ينزل عنها فيتزوجها مع كثرة نسائه بل كان يجب عليه أن يغالب ميله الطبيعي ويقهر نفسه ويصبر على ما امتحن به، وقيل إنه أضمر في نفسه إن قتل أوريا تزوج بها وإليه مال ابن حجر في تحفته.
وقيل لم يكن أوريا تزوجها بل كان خطبها ثم خطبها هو فآثره عليه السلام أهلها فكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن، وفي بعض الآثار أنه فعل ذلك ولم يكن عالما بخطبة أخيه فعوتب على ترك السؤال هل خطبها أحد أم لا؟ وقيل إنه كان في شريعته أن الرجل إذا مات وخلف امرأة فأولياؤه أحق بها إلا أن يرغبوا عن التزوج بها فلما قتل أوريا خطب امرأته ظانا أن أولياءه رغبوا عنها فلما سمعوا منعتهم هيبته وجلالته أن يخطبوها.
وقيل أنه كان في عبادة فأتاه رجل وامرأة متحاكمين إليه فنظر إلى المرأة ليعرفها بعينها وهو نظر مباح فمالت نفسه ميلا طبيعيا إليها فشغل عن بعض نوافله فعوتب لذلك، وقيل إنه لم يتثبت في الحكم وظلم المدعى عليه قبل سؤاله لما ناله من الفزع وكانت الخصومة بين المتخاصمين وكانا من الإنس على الحقيقة إما على ظاهر ما قص أو على جعل النعجة فيه كناية عن المرأة، ونقل هذا عن أبي مسلم، والمقبول من هذه الأقوال ما بعد من الإخلال بمنصب النبوة، وللقصاص كلام مشهور لا يكاد يصح لما فيه من مزيد الإخلال بمنصبه عليه السلام.
ولذا قال علي كرم الله تعالى وجهه على ما في بعض الكتب: من حدث بحديث داود عليه السلام على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين وذلك حد الفرية على الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين، وهذا اجتهاد منه كرم الله تعالى وجهه، ووجه مضاعفة الحد على حد الأحرار أنهم عليهم السلام سادة السادة وهو وجه مستحسن إلا أن الزين العرافي ذكر أن الخبر نفسه لم يصح عن الأمير كرم الله تعالى وجهه، وقال أبو حيان: الذي نذهب إليه ما دل عليه ظاهر الآية من أن المتسورين المحراب كانوا من الإنس دخلوا عليه من غير المدخل وفي غير وقت جلوسه للحكم وأنه فزع منهم ظانا أنهم يغتالونه إذ كان منفردا في محرابه لعبادة ربه عز وجل فلما اتضلح له أنهم جاؤا في حكومة وبرز منهم اثنان للتحاكم كما قص الله تعالى وأن داود عليه السلام ظن دخولهم عليه في ذلك الوقت ومن تلك الجهة ابتلاء من الله تعالى له أن يغتالوه فلم يقع ما كان ظنه فاستغفر من ذلك الظن حيث أخلف ولم يكن ليقع مظنونه وخر ساجدا ورجع إلى الله تعالى وأنه سبحانه غفر له ذلك الظن فإنه عز وجل قال: * (فغفرنا له ذلك) * ولم يتقدم سوى قوله تعالى: * (وظن داود أنما فتناه) * (ص: 24) ونعلم قطعا أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الخطايا لا يمكن وقوعهم في شيء منها ضرورة إنا لو جوزنا عليهم شيئا من ذلك بطلت الشرائع ولم يوثق بشيء مما يذكرون أنه وحي من الله تعالى فما حكى الله تعالى في كتابه يمر على ما أراده الله تعالى وما حكى القصاص مما فيه
185

نقص لمنصب الرسالة طرحناه، ونحن كما قال الشاعر: ونؤثر حكم العقل في كل شبهة * إذا آثر الأخبار جلاس قصاص
انتهى؛ ويقرب من هذا من وجه ما قيل إن قوما قصدوا أن يقتلوه عليه السلام فتسوروا المحراب فوجدوا عنده أقواما فتصنعوا بما قص الله تعالى من التحاكم فعلم غرضهم
فقصد أن ينتقم منهم فظن أن ذلك ابتلاء من الله تعالى وامتحان له هل يغضب لنفسه أم لا فاستغفر ربه مما عزم عليه من الانتقام منهم وتأديبهم لحق نفسه لعدوله عن العفو الأليق به، وقيل: الاستغفار كان لمن هجم عليه وقوله تعالى: * (فغفرنا له) * على معنى فغفرنا لأجله، وهذا تعسف وإن وقع في بعض كتب الكلام، وعندي أن ترك الأخبار بالكلية في القصة مما لا يكاد يقبله المنصف، نعم لا يقبل منها ما فيه إخلال بمنصب النبوة ولا يقبل تأويلا يندفع معه ذلك ولا بد من القول بأنه لم يكن منه عليه السلام إلا ترك ما هو الأولى بعلى شأنه والاستغفار منه وهو لا يخل بالعصمة.
* (ياداوود إنا جعلن‍اك خليفة فى الارض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) *.
* (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض) * إما حكاية لما خوطب به عليه السلام مبنية لزلفاه عنده عز وجل وإما مقول لقول مقدر معطوف على * (غفرنا) * أو حال من فاعله أي وقلنا له أو قائلين له يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض أي استخلفناك على الملك فيها والحكم فيما بين أهلها أو جعلناك خليفة ممن قبلك من الأنبياء القائمين بالحق، وهو على الأول: مثل فلان خليفة السلطان إذا كان منصوبا من قبله لتنفيذ ما يريده، وعلى الثاني: من قبيل هذا الولد خليفة عن أبيه أي ساد مسده قائم بما كان يقوم به من غير اعتبار لحياة وموت وغيرهما، والأول أظهر والمنة به أعظم فهو عليه السلام خليفة الله تعالى بالمعنى الذي سمعت، قال ابن عطية: ولا يقال خليفة الله تعالى إلا لرسوله وأما الخلفاء فكل واحد منهم خليفة من قبله، وما يجىء في الشعر من تسمية أحدهم خليفة الله فذلك تجوز كما قال قيس الرقيات: خليفة الله في بريته * جفت بذاك الأفلام والكتب
وقالت الصحابة لأبي بكر: خليفة رسول الله وبذلك كان يدعي إلى أن توفي فلما ولي عمر قالوا خليفة خليفة رسول الله فعدل عنه اختصارا إلى أمير المؤمنين. وذهب الشيخ الأكبر محيي الدين قدس سره إلى أن الخليفة من الرسل من فوض إليه التشريع ولعله من جملة اصطلاحاته ولا مشاحة في الاصطلاح، واستدل بعضهم بالآية على احتياج الأرض إلى خليفة من الله عز وجل وهو قول من أوجب على الله تعالى نصب الإمام لأنه من اللطف الواجب عليه سبحانه، والجماعة لا يقولون بذلك والإمامة عندهم من الفروع وإن ذكروها في كتب العقائد، وليس في الآية ما يلزم منه ذلك كما لا يخفى وتحقيق المطلب في محله * (فاحكم بين الناس بالحق) * الذي شرعه الله تعالى لك فالحق خلاف الباطل وأل فيه للعهد، وجوز أن يراد به ما هو من أسمائه تعالى أي بحكم الحق أي الله عز وجل للعلم بأن الذوات لا يكون محكوما بها. وتعقب بأن مقابلته بالهوى تأبى ذلك، ولعل من يقول به يجعل المقابل المضاف المحذوف والمقابلة باعتبار أن حكم الله تعالى لا يكون إلا بالحق، وفرع الأمر بالحكم بالحق على ما تقدم لأن الاستخلاف بكلا المعنيين مقتض للحكم العدل لا سيما على المعنى الأول لظهور اقتضاء كونه عليه السلام خليفة له تعالى أن لا يخالف حكمه حكم من استخلفه بل يكون على وفق إرادته ورضاه.
وقيل المترتب مطلق الحكم لظهور ترتبه على كونه خليفة. وذكر الحق لأن به سداده، وقيل ترتب ذلك لأن
186

الخلافة نعمة عظيمة شكرها العدل. وفي " البحر " أن هذا أمر بالديمومة وتنبيه غليره ممن ولي أمور الناس أن يحكم بينهم بالحق وإلا فهو من حيث أنه معصوم لا يحكم إلا بالحق، وعلى نحو هذا يخرج النهي عندي في قوله سبحانه وتعالى: * (ولا تتبع الهوى) * فإن اتباع الهوى مما لا يكاد يقع من المعصوم. وظاهر السياق أن المراد ولا تتبع هوى النفس في الحكومات، وعمم بعضهم فقال: أي في الحكومات وغيرها من أمور الدين والدنيا.
وأيد بهذا النهي ما قيل إن ذنبه عليه السلام المبادرة إلى تصديق المدعي وتظليم الآخر قبل مساءلته لا الميل إلى امرأة أوريا فكأنه قيل ولا تتبع الهوى في الحكم كما اتبعته أولا، وفيه أن اتباع الهوى وحكمه بغير ما شرع الله تعالى له غير مناسب لمقامه لا سيما وقد أخبر الله تعالى قبل الإخبار بمسألة المتحاكمين أنه أتاه الحكم وفصل الخطاب فليس هذا إلا إرشادا لما يقتضيه منصب الخلافة وتنبيها لمن هو دونه عليه السلام، وأصل الهوى ميل النفس إلى الشهوة، ويقال للنفس المائلة إليها ويكون بمعنى المهوى كما في قوله: هواي مع الركب اليمانين مصعد * جنيب وجثماني بمكة موثق
وبه فسره هنا بعضهم فقال: أي لا تتبع ما تهوى الأنفس * (فيضلك عن سبيل الله) * بالنصب على أنه جواب النهي، وقيل هو مجزوم بالعطف على النهي مفتوح لالتقاء الساكنين أي فيكون الهوى أو اتباعه سببا لضلالك عن دلائله التي نصبها على الحق وهي أعم من الدلائل العقلية والنقلية، وصد ذلك عن الدلائل إما لعدم فهمها أو العمل بموجبها، وقوله تعالى: * (إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد) * تعليل لما قبله ببيان غائلته وإظهار سبيل الله في موضع الإضمار لزيادة التقرير والإيذان بكمال شناعة الضلال عنه، وخبر إن إما جملة * (لهم عذاب) * على أن * (لهم) * خبر مقدم وعذاب مبتدأ وأما الظرف وعذاب مرتفع على الفاعلية بما فيه من الاستقرار.
وقرأ ابن عباس. والحسن بخلاف عنهما. وأبو حيوة * (يضلون) * بضم الياء قال أبو حيان: وهذه القراءة أعم لأنه لا يضل إلا ضال في نفسه، وقراءة الجمهور أوضح لأن المرادب الموصول من أضلهم اتباع الهوى وهم بعد أن أضلهم صاروا ضالين.
وقوله تعالى: * (بما نسوا) * متعلق بالاستقرار والباء سببية وما مصدرية، وقوله سبحانه: * (يوم الحساب) * مفعول * (نسوا) * على ما هو الظاهر أي ثابت لهم ذلك العذاب بسبب نسيانهم وعدم ذكرهم يوم الحساب؛ وعليه يكون تعليلا صريحا لثبوت العذاب الشديد لهم بنسيان يوم الحساب بعد الإشعار بعلية ما يستتبعه ويستلزمه أعني الضلال عن سبيل الله تعالى فإنه مستلزم لنسيان يوم الحساب بالمرة بل هذا فرد من أفراده.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن الكلام من التقديم والتأخير أي لهم يوم الحساب عذاب شديد بما نسوا فيكون يوم الحساب ظرفا لقوله تعالى: * (لهم) * وجعل النسيان
عليه مجازا عن ضلالهم عن سبيل الله بعلاقة السببية ومن ضرورته جعل مفعول النسيان سبيل الله تعالى، وعليه يكون التعليل المصرح به عين التعليل المشعر به بالذات غيره بالعنوان فتدبر.
* (وما خلقنا السمآء والارض وما بينهما باطلا ذالك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) *.
* (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا) * أي خلقا باطلا فهو منصوب على النيابة عن المفعول المطلق نحو كل هنيئا أي أكلا هنيئا، والباطل ما لا حكمة فيه، وجوز كونه حالا من فاعل * (خلقنا) * بتقدير مضاف
187

أي ذوي باطل، والباطل اللعب والعبث أي ما خلقنا ذلك مبطلين لاعبين كقوله تعالى: * (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين) * (الدخان: 38) وجوز كونه حالا من المفعول أيضا بنحو هذا التأويل، وأيا ما كان فالكلام مستأنف مقرر لما قبله من أمر المعاد والحساب فإن خلق السماء والأرض وما بينهما من المخلوقات مشتملا على الحكم الباهرة والأسرار البالغة والفوائد الجمة أقوى دليل على عظم القدرة وأنه لا يتعاصاها أمر المعاد والحساب فإن خلق ذلك كذلك مؤذن بأنه عز وجل لا يترك الناس إذا ماتوا سدى بل يعيدهم ويحاسبهم ولعله الأولى.
وجوز كون الجملة في موضع الحال في فاعل * (نسوا) * جىء بها لتفظيع أمر النسيان كأنه قيل: بما نسوا يوم الحساب مع وجود ما يؤذن به وهو كما ترى، وجوز كون * (باطلا) * مفعولا له ويفسر بخلاف الحق ويراد به متابعة الهوى كأنه قيل: ما خلقنا هذا العالم للباطل الذي هو متابعة الهوى بل للحق الذي هو مقتضى الدليل من التوحيد والتدرع بالشرع كقوله تعالى: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56) ولا يخفى بعده، وعليه تكون الجملة مستأنفة لتقرير أمر النهي عن اتباع الهوى، وقيل: تكون عطفا على ما قبلها بحسب المعنى كأنه قيل: لا تتبع الهوى لأنه يكون سببا لضلالك ولأنه تعالى لم يخلق العالم لأجل متابعة الهوى بل خلقه للتوحيد والتمسك بالشرع فلا تغفل.
* (ذالك) * إشارة إلى ما نفى من خلق ما ذكر باطلا * (ظن الذين كفروا) * أي مظنونهم ليصح الحمل أو يقدر مضاف أي ظن ذلك ظن الذين كفروا فإن إنكارهم المعاد والجزاء قول بأن خلق ما ذكر خال عن الحكمة وإنما هو عبث ولذا قال سبحانه: * (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون) * (المؤمنون: 115) أو فإن إنكارهم ذلك قول بنفي عظم القدرة وهو قول بنفي دليله وهو خلق ما ذكر مشتملا على الحكم الباهرة والإسرار، وهذا بناء على الوجه الأول في بيان التقرير وهو كما ترى * (فويل للذين كفروا) * مبتدأ وخبر والفاء لإفادة ترتب ثبوت الويل لهم على ظنهم الباطل كما أن وضع الموصول موضع ضميرهم لإشعار ما في حيز الصلة بعلية كفرهم له، ولا تنافي بينهما لأن ظنهم من باب كفرهم فيتأكد أمر التعليل، و * (من) * في قوله تعالى: * (من النار) * ابتدائية أو بيانية أو تعليلية كما في قوله تعالى: * (فويل لهم مما كتبت أيديهم) * (البقرة: 79) ونظائره وتفيد على هذا علية النار لثبوت الويل لهم صريحا بعد الإشعار بعلية ما يؤدى إليها من ظنهم وكفرهم أي فويل لهم بسبب النار المترتبة على ظنهم وكفرهم، قيل والكلام عليه على تقدير مضاف أي من دخول النار.
* (أم نجعل الذين ءامنوا وعملوا الص‍الح‍ات ك المفسدين فى الارض أم نجعل المتقين ك الفجار) *.
* (أم نجعل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض) * أم منقطعة وتقدر ببل والهمزة، والهمزة لإنكار التسوية بين الفريقين ونفيها على أبلغ وجه وآكده، وبل للإضراب الانتقالي من تقرير أمر البعث والحساب بما مر من نفي خلق العالم باطلا إلى تقريره وتحقيقه بإنكار التسوية بين الفريقين أي بل أنجعل المؤمنين المصلحين كالكفرة المفسدين في الأرض التي جعلت مقرا له كما يقتضيه عدم البعث وما يترتب عليه من الجزاء لاستواء الفريقين في التمتع في الحياة الدنيا بل أكثر الكفرة أوفر حظا منها من أكثر المؤمنين لكن ذلك الجعل محال مخالف للحكمة فتعين البعث والجزاء حتما لرفع الأولين إلى أعلى عليين ورد الآخرين إلى أسفل سافلين كذا قالوا، وظاهره أن محالية جعل الفريقين سواء حكمة تقتضي تعين المعاد الجسماني، وفيه خفاء، والظاهر أن المعاد الروحاني يكفي لمقتضى الحكمة من إثابة الأولين وتعذيب الآخرين فالدليل العقلي الذي تشير إليه الآية ظاهر في إثبات معاد لكن بعد إبطال التناسخ وهو كاف في الرد على كفرة
188

العرب فإنهم لا يقولون بمعاد بالكلية ولم يخطر ببالهم التناسخ أصلا، ولإثبات المعاد الجسماني طريق آخر مشهور بين المتكلمين، وجعل هذا الدليل العقلي طريقا لإثباته يحتاج إلى تأمل فتأمل، وقوله تعالى: * (أم نجعل المتقين كالفجار) * إضراب وانتقال عن إثبات ما ذكر بلزوم المحال الذي هو التسوية بين الفريقين المذكورين على الإطلاق إلى إثباته بلزوم ما هو أظهر منه استحالة وهي التسوية بين أتقياء المؤمنين وأشقياء الكفرة، وحمل الفجار على فجرة المؤمنين مما لا يساعده المقام، ويجوز أن يراد بهذين الفريقين عين الأولين ويكون التكرير باعتبار وصفين آخرين هما أدخل في إنكار التسوية من الوصفين الأولين، وأيا ما كان فليس المراد من الجمعين في الموضعين أناسا بأعيانهم ولذا قال ابن عباس: الآية عامة في جميع المسلمين والكافرين.
وقيل: هي في قوم مخصوصين من مشركي قريش قالوا للمؤمنين إنا نعطي في الآخرة من الخير ما لا تعطون فنزلت، وأنت تعلم أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أخرجها ابن عساكر أنه قال: الذين آمنوا علي. وحمزة. وعبيدة بن الحرث رضي الله تعالى عنهم والمفسدين في الأرض عتبة. والوليد بن عتبة. وشيبة وهم الذين تبارزوا يوم بدر، ولعله أراد أنهم سبب النزول [بم وقوله تعالى:
* (كت‍ابأنزلن‍اه إليك مب‍ارك ليدبروا ءاي‍اته وليتذكر أولو الالب‍اب) *.
* (كت‍اب) * خبر مبتدأ محذوف هو عبارة عن القرآن أو السورة، ويجوز على الثاني تقديره مذكرا أي هو أو هذا وهو الأولى عند جمع رعاية للخبر وتقديره مؤنثا رعاية للمرجع، وقوله تعالى: * (أنزلناه إليك) * صفته، وقوله سبحانه: * (مبارك) * أي كثير المنافع الدينية والدنيوية خبر ثان للمبتدأ أو صفة * (كتاب) * عند
من يجوز تأخير الوصف الصريح عن غيرا لصريح. وقرىء * (مباركا) * بالنصب على أنه حال من مفعول * (أنزلنا) * وهي حال لازمة لأن البركة لا تفارقه جعلنا الله تعالى في بركاته ونفعنا بشريف آياته، وقوله عز وجل: * (ليدبروا ءاياته) * متعلق بأنزلناه، وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف يدل عليه وأصله ليتدبروا بتاء بعد الياء آخر الحروف، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه بهذا الأصل أي أنزلناه ليتفكروا في آياته التي من جملتها هذه الآيات المعربة عن أسرار التكوين والتشريع فيعرفوا ما يدبر ويتبع ظاهرها من المعاني الفائقة والتأويلات اللائقة، وضمير الرفع لأولي الألباب على التنازع واعمال الثاني أو للمؤمنين فقط أو لهم وللمفسدين، وقرأ أبو جعفر * (لتدبروا) * بتاء الخطاب وتخفيف الدال وجاء كذلك عن عاصم. والكسائي بخلاف عنهما، والأصل لتتدبروا بتاءين فحذفت إحداهما على الخلاف الذي فيها أهي تاء المضارعة أم التاء التي تليها، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وعلماء أمته على التغليب أي لتدبر أنت وعلماء أمتك * (وليتذكرا أولوا الألباب) * أي وليتعظ به ذوو العقول الزاكية الخالصة من الشوائب أو ليستحضروا ما هو كالمركوز في عقولهم لفرط تمكنهم من معرفته لما نصب عليه من الدلائل فإن إرسال الرسل وإنزال الكتب لبيان ما لا يعرف إلا من جهة الشرع كوجوب الصلوات الخمس والإرشاد إلى ما يستقل العقل بإدراكه كوجود الصانع القديم جل جلاله وعم نواله.
* (ووهبنا لداوود سليم‍ان نعم العبد إنه أواب) *.
* (ووهبنا لداود سليمان نعم العبد) * وقرىء * (نعم) * على اوصل، والمخصوص بالمدح محذوف أي نعم العبد هو أي سليمان كما ينبىء عنه تأخيره عن داود مع كونه مفعولا صريحا لوهبنا ولأن قوله تعالى: * (إنه أواب) * أي رجاع إلى الله تعالى بالتوبة كما يشعر به السياق أو إلى التسبيح مرجع له أو إلى مرضاته عز وجل تعليل للمدح وهو من حاله لما أن الضمير المجرور في قوله سبحانه:
* (إذ عرض عليه بالعشى الص‍افن‍ات الجياد) *.
* (إذ عرض عليه) * يعود
189

إليه عليه السلام قطعا، وإذ منصوب باذكر، والمراد من ذكر الزمان ذكر ما وقع فيه أو ظرف لأواب أو لنعم والظرف قنوع لكن يرد على الوجهين أن التقييد يخل بكمال المدح فالأول أولى وهو كالاستشهاد على أنه أواب أي اذكر ما صدر عنه إذ عرض عليه * (بالعشي) * الخ فإنه يشهد بذلك، والعشي على ما قال الراغب من زوال الشمس إلى الصباح، وقال بعض: منه إلى آخر النهار، والظرفان متعلقان بعرض، وقوله تعالى: * (الصافنات) * نائب الفاعل وتأخيره عنهما لما مر غير مرة من التشويق إلى المؤخر، والصافن من الخيل الذي يرفع إحدى يديه أو رجليه ويقف على مقدم حافرها وأنشد الزجاج: ألف الصفون فما يزال كأنه * مما يقوم على الثلاث كثيرا
وقال أبو عبيدة: هو الذي يجمع يديه ويسويهما وأما الذي يقف على طرف الحافر فهو المتخيم، وعن التهذيب ومتن اللغة هو المخيم، وقال القتبي الصافن الواقف في الخيل وغيرها، وفي الحديث " من سره أن يقوم الناس له صفونا فليتبوأ مقعده من النار " أي يديمون له القيام حكاه قطرب وأنشد للنابغة: لنا قبة مضروبة بفنائها * عتاق المهاري والجياد الصوافن
وقال الفراء: رأيت العرب على هذا وأشعارهم تدل على أنه القيام خاصة والمشهور في الصفوف ما تقدم وهو من الصفات المحمودة في الخيل لا تكاد تتحقق إلا في العرب الخلص * (الجياد) * جمع جواد للذكر والأنثى يقال جاد الفرس صار رائضا يجود جودة بالضم وهو جواد ويجمع أيضا على أجواد وأجاويد، وقال بعضهم: هو جمع جود كثوب وأثواب وفسر بالذي يسرع في مشيه، وقيل هو الذي يجود بالركض، وقيل: وصفت بالصفون والجودة لبيان جمعها بين الوصفين المحمودين واقفة وجارية أي إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقعها وإذا جرت كانت سراعا خفافا في جريها، والخيل تمدح بالسكون في الموقف كما تمدح بالسرعة في الجري، ومن ذلك قول مسلم بن الوليد: وإذا احتبى قربوسه بعنانه * علك الشكيم إلى انصراف الزائر
وقيل جيد ككيس ضد الردىء ويجمع على جيادات وجيائد، وضعف بأنه لا فائدة في ذكره مع * (الصافنات) * حينئذ وبأنه يفوت عليه مدح الخيل باعتبار حاليها وكون الجياد أعم فذكره تعميم بعد تخصيص فيه نظر.
وفي " البحر " قيل الجياد الطوال الأعناق من الجيد وهو العنق، وأنا في شك من ثبوته، قال في " القاموس ": الجيد بالكسر العنق أو مقلده أو مقدمه جمعه أجياد وجيود وبالتحريك طولها أو دقتها مع طول وهو أجيد وهي جيداء وجيدانة جمعه جود اه‍، وراجعت غيره فلم أجد فيه زيادة على ذلك فلينقر، ويمكن أن يقال: أن الجياد جمع شاذ لأجيد أو جيداء أو جيدانة أو هو جمع لجيد بالتحريك كجعل وجمال ويراد بجيد أجيد أو نحوه نظير ما يراد بالخلق المخلوق والله تعالى أعلم، وأيا ما كان فالوصفان يوصف بهما المذكر والمؤنث من الخيل، والجمع بألف وتاء لا يخص المؤنث فلا حاجة بعد القول بأن ما عرض كان مشتملا على ذكور الخيل وإناثها إلى القول بأن في الصافنات تغليب المؤنث على المذكر وأنه يجوز بقلة، وأريد بالجمع هنا الكثرة فعن الكلبي أن هذه الخيل كانت
190

ألف فرس غزا سليمان عليه السلام دمشق ونصيبين فأصابها. واستشكلت هذه الرواية بأن الغنائم لم تحل لغير نبينا صلى الله عليه وسلم كما ورد في الحديث الصحيح. وأجيب بأنه يحتمل أن تكون فيئا لا غنيمة، وعن مقاتل أنها ألف فرس ورثها من أبيه داود وكان عليه السلام قد أصابها من العمالقة وهم بنو عمليق بن عوص بن عاد بن ارم.
واستشكلت هذه زيادة على الأولى بأن الأنبياء عليهم السلام لا يورثون كما جاء في الحديث الذي رواه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه محتجا به في مسألة فدك والعوالي بمحضر الصحابة وهم الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم.
وأجيب بأن المراد بالإرث حيازة التصرف لا الملك، وعقرها تقربا على ما في الأوجه في الآية بعد وجاء في بعض الروايات لا يتقضي الملك، وقال عوف: بلغني أنها كانت خيلا ذات أجنحة أخرجت له من البحر لم تكن لأحد قبله ولا بعده، وروي كونها كذلك عن الحسن، وأخرج ابن جرير وغيره عن إبراهيم التيمي أنها كانت عشرين ألف فرس ذات أجنحة، وليس في هذا شيء سوى الاستبعاد، وإذا لم يلتفت إلى الأخبار في ذلك إذ ليس فيها خبر صحيح مرفوع أو ما في حكمه يعول عليه فيما أعلم فلنا أن نقول: هي خيل كانت له كالخيل التي تكون عند الملوك وصلت إليه بسبب من أسباب الملك فاستعرضها فلم تزل تعرض عليه حتى غربت الشمس، قيل وغفل عن صلاة العصر، وحكى هذا الطبرسي عن علي كرم الله تعالى وجهه. وقتادة. والسدي ثم قال: وفي روايات أصحابنا أنه فات أول الوقت. وقال الجبائي: لم يفته الفرض وإنما فاته نفل كان يفعله آخر النهار.
* (فقال إنىأحببت حب الخير عن ذكر ربى حتى توارت بالحجاب) *.
* (فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي) * قاله عليه السلام اعترافا بما صدر عنه من الاشتغال وندما عليه وتمهيدا لما يعقبه من الأمر بردها وعقرها على ما هو المشهور، والخير كثر استعماله في المال ومنه قوله تعالى: * (إن ترك خيرا) * (البقرة: 180) وقوله سبحانه: * (وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم) * (البقرة: 273) وقوله عز وجل: * (وإنه لحب الخير لشديد) * (العاديات: 8) وقال بعض العلماء: لا يقال للمال خير حتى يكون كثيرا ومن مكان طيب كما روي أن عليا كرم الله تعالى وجهه دخل على مولى له فقال: ألا أوصي يا أمير المؤمنين؟ قال، لا لأن الله تعالى يقول: * (إن ترك خيرا) * وليس لك مال كثير، وروى تفسيره بالمال هنا عن الضحاك. وابن جبير، وقال أبو حيان: يراد بالخير الخيل والعرب تسمى الخيل الخير، وحكي ذلك عن قتادة. والسدي، ولعل ذلك لتعلق الخير بها، ففي الخبر " الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة " والأحباب على ما نقل عن الفراء مضمن معنى الإيثار وهو ملحق بالحقيقة لشهرته في ذلك، وظاهر كلام بعضهم أنه حقيقة فيه فهو مما يتعدى بعلى لكن عدى هنا بعن لتضمينه معنى الإنابة * (وحب الخير) * مفعول به أي آثرت حب الخير منيبا له عن ذكر ربي أو أنبت حب الخير عن ذكر ربي مؤثرا له.
وجوز كون * (حب) * منصوبا على المصدر التشبيهي ويكون مفعول * (أحببت) * محذوفا أي أحببت الصافنات أو عرضها حبا مثل حب الخير منيبا لذلك عن ذكر ربي، وليس المرادب الخير عليه الخيل وذكر أبو الفتح الهمداني أن أحببت بمعنى لزمت من قوله: ضرب بعير السوء إذ أحبا
واعترض بأن أحب بهذا المعنى غريب لم يرد إلا في هذا البيت وغرابة اللفظ تدل على اللكنة وكلام الله عز وجل منزه عن ذلك، مع أن اللزوم لا يتعدى بعن إلا إذا ضمن معنى يتعدى به أو تجوز به عنه فلم يبق فائدة في العدول عن المعنى المشهور مع صحته أيضا بالتضمين وجعل بعضهم الأحباب من أول الأمر بمعنى التقاعد والاحتباس وحب الخير مفعولا لأجله أي تقاعدت واحتبست عن ذكر ربي لحب الخير. وتعقب بأن الذي يدل عليه كلام اللغويين أنه لزوم عن تعب أو مرض ونحوه فلا يناسب تقاعد النشاط والتلهي الذي كان عليه السلام فيه وقول بعض الأجلة: بعد التنزل عن جواز استعمال المقيد في المطلق لما كان لزوم المكان لمحبة الخيل على خلاف مرضاة الله تعالى جعلها من
191

الأمراض التي تحتاج إلى التداوي بأضدادها ولذلك عقرها ففي * (أحببت) * استعارة تبعية لا يخفى حسنها ومناسبتها للمقام ليس بشيء لخفاء هذه الاستعارة نفسها وعدم ظهور قرينتها، وبالجملة ما ذكره أبو الفتح مما لا ينبغي أن يفتح له باب الاستحسان عند ذوي العرفان، وجوز حمل * (أحببت) *، وجوز في عن كونها تعليلية وسيأتي إن شاء الله تعالى و * (ذكر) * مضاف إلى مفعوله وجوز أن يكون مضافا إلى فاعله. وقيل الإضافة على معنى اللام ولا يراد بالذكر المعنى المصدري بل يراد به الصلاة فمعنى عن ذكر ربي عن صلاة ربي التي شرعها وهو كما ترى.
وبعض من جعل عن للتعليل فسر ذلك الرب بكتابه عز وجل وهو التوراة أي أحببت الخيل بسبب كتاب الله تعالى وهو التوراة فإن فيه مدح ارتباطها وروي ذلك عن أبي مسلم، وقرأ أبو جعفر. ونافع. وابن كثير. وأبو عمرو * (إني أحببت) * بفتح الياء * (حتى توارت بالحجاب) * متعلق بقوله تعالى: * (أحببت) * باعتبار استمرار المحبة ودوامها حسب استمرار العرض أي أنبت حب الخير عن ذكر ربي واستمر ذلك حتى غربت الشمس تشبيها لغروبها في مغربها بتواري المخباة بحجابها على طريق الاستعارة التبعية، ويجوز أن يكون هناك استعارة مكنية تخييلية وأيا ما كان فما أخرجه ابن المنذر. وابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن كعب، قال: الحجاب هو حجاب من ياقوت أخضر محيط بالخلائق منه اخضرت السماء، وما قيل إنه جبل دون قاف بسنة تغرب الشمس وراءه لا يخفى حاله، والناس في ثبوت جبل قاف بين مصدق ومكذب والقرافي يقول لا وجود له وإليه أميل وإن قال المثبتون ما قالوا، والباء للظرفية أو الاستعانة أو الملابسة، وعود الضمير إلى الشمس من غير ذكر لدلالة العشي عليها، والضمير المنصوب في قوله تعالى:
* (ردوها على فطفق مسحا بالسوق والاعناق) *.
* (ردوها علي) * للصافنات على ما قال غير واحد.
وظاهر كلامهم أنه للصافنات المذكور في الآية، ولعلك تختار أنه للخيل الدال عليها الحال المشاهدة أو الخير في قوله: * (إني أحببت حب الخير) * لأن ردوها من تتمة مقالته عليه السلام والصافنات غير مذكورة في كلامه بل في كلام الله تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم، والكلام على ما قال الزمخشري على إضمار القول أي قال ردوها علي، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل: فماذا قال سليمان؟ فقيل قال: ردوها، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يحتاج إلى الإضمار إذ الجملة مندرجة تحت حكاية القول في قوله تعالى: * (فقال إني) * الخ؛ والفاء في قوله تعالى: * (فطفق مسحا) * فصيحة مفصحة عن جملة قد حذفت ثقة بدلالة الحال عليها وإيذانا بغاية
سرعة الامتثال بالأمر كما في قوله تعالى: * (فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا) * (البقرة: 60) أي فردوها عليه فطفق الخ وطفق من أفعال الشروع واسمها ضمير سليمان و * (مسحا) * مفعول مطلق لفعل مقدر هو خبرها أي شرع يمسح مسحا لا حال مؤول بماسحا كما جوزه أبو البقاء إذ لا بد لطفق من الخبر وليس هذا مما يسد الحال فيه مسده، وقرأ زيد بن علي * (مساحا) * على وزن قتال * (بالسوق والأعناق) * أي بسوقها وأعناقها على أن التعريف للعهد وإن أل قائمة مقام الضمير المضاف إليه، والباء متعلقة بالمسح على معنى شرع يمسح السيف بسوقها وأعناقها، وقال: جمع هي زائدة أي شرع يمسح سوقها وأعناقها بالسيف، ومسحته بالسيف كما قال الراغب: كناية عن الضرب.
وفي " الكشاف " يمسح السيف بسوقها وأعناقها يقطعها تقول مسح علاوته إذا ضرب عنقه ومسح المسفر
192

الكتاب إذا قطع أطرافه بسيفه، وعن الحسن كسف عراقيبها وضرب أعناقها أراد بالكسف القطع ومنه الكسف في ألقاب الزحاف والعروض ومن قاله بالشين المعجمة فمصحف، وكون المراد القطع قد دل عليه بعض الأخبار.
أخرج الطبراني في " الأوسط ". والإسمعيلي في " معجمه ". وابن مردويه بسند حسن عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى: * (فطفق مسحا بالسوق والأعناق) * قطع سوقها وأعناقها بالسيف، وقد جعلها عليه السلام بذلك قربانا لله تعالى وكان تقريب الخيل مشروعا في دينه، ولعل كسف العراقيب ليتأتى ذبحها بسهولة، وقيل: إنه عليه السلام حبسها في سبيل الله تعالى وكان ذلك المسح الصادر منه وسما لها لتعرف أنها خيل محبوسة في سبيل الله تعالى وهو نظير ما يفعل اليوم من الوسم بالنار ولا بأس به في شرعنا ما لم يكن في الوجه، ولعل عليه السلام رأى الوسم بالسيف أهون من الوسم بالنار فاختاره أو كان هو المعروف في تلك الإعصار بينهم، ويروى أنه عليه السلام لما فعل ذلك خر له الريح كرامة له، وقيل: إنه عليه السلام أراد بذلك إتلافها حيث شغلته عن عبادة ربه عز وجل وصار تعلق قلبه بها سببا لغفلته، واستدل بذلك الشبلي قدس سره على حل تحريق ثيابه بالنار حين شغلته عن ربه جل جلاله؛ وهذا قول باطل لا ينبغي أن يلتفت إليه وحاشا نبي الله أن يتلف مالا محترما لمجرد أنه شغل به عن عبادة وله سبيل لأن يخرجه عن ملكه مع نفع هو من أجل القرب إليه عز وجل على أن تلك الخيل لم يكن عليه السلام اقتناها واستعرضها بطرا وافتخارا معاذ الله تعالى من ذلك وإنما اقتناها للانتفاع بها في طاعة الله سبحانه واستعرضها للتطلع على أحوالها ليصلح من شأنها ما يحتاج إلى إصلاح وكل ذلك عبارة فغاية ما يلزم عليه السلام نسى عبادة لشغله بعبادة أخرى فاستدلال الشبلي قدس سره غير صحيح، وقد نبه أيضا على عدم صحته عبد الوهاب الشعراني من السادة الصوفية في كتابه اليواقيت والجواهر في عقائد الأكابر ولكن بحمل الآية على محمل آخر، وما ذكرناه في محمولها وتفسيرها هو المشهور بين الجمهور ولهم فيها كلام غير ذلك فقيل ضمير * (ردوها) * للشمس والخطاب للملائكة عليهم السلام الموكلين بها، قالوا: طلب ردها لما فاته صلاة العصر لشغله بالخيل فردت له حتى صلى العصر، وروى هذا القول عن علي كرم الله تعالى وجهه كما قال الخفاجي. والطبرسي. وتعقب ذلك الرازي بأن القادر على تحريك الأفلاك والكواكب هو الله تعالى فكان يجب أن يقول ردها على دون * (ردوها) * بضمير الجمع.
فإن قالوا: هو للتعظيم كما في * (رب ارجعون) * قلنا. لفظ ردوها مشعر بأعظم أنواع الإهانة فكيف يليق بهذا اللفظ رعاية التعظيم؛ وأيضا إن الشمس لو رجعت بعد الغروب لكان مشاهدا لكل أهل الدنيا ولو كان كذلك لتوفرت الدواعي على نقله وحيث لم ينقله أحد علم فساده.
والذي يقول برد الشمس لسليمان يقول هو كردها ليوشع وردها لنبينا صلى الله عليه وسلم في حديث العير ويوم الخندق حين شغل عن صلاة العصر وردها لعلي كرم الله تعالى وجهه ورضي عنه بدعائه عليه الصلاة والسلام، فقد روى عن أسماء بنت عميس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوحي إليه ورأسه في حجر علي كرم الله تعالى وجهه فلم يصل العصر حتى غربت الشمس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صليت يا علي؟ قال: لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس قالت أسماء: فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعدما غربت ووقعت على الأرض وذلك بالصهباء في خيبر، وهذا الخبر في صحته خلاف فقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات، وقال إنه موضوع
193

بلا شك وفي سنده أحمد بن داود وهو متروك الحديث كذاب كما قاله الدارقطني، وقال ابن حبان: كان يضع الحديث، وقال ابن الجوزي: قد روى هذا الحديث ابن شاهين فذكره ثم قال: وهذا حديث باطل ومن تغفل واضعه أنه نظر إلى صورة فضيلة ولم يلمح عدم الفائدة فيها وأن صلاة العصر بغيبوبة الشمس تصير قضاء ورجوع الشمس لا يعيدها أداء انتهى. وقد أفرد ابن تيمية تصنيفا في الرد على الروافض ذكر فيه الحديث بطرقه ورجاله وأنه موضوع. وقال الإمام أحمد: لا أصل له، وصححه الطحاوي. والقاضي عياض، ورواه الطبراني في " معجمه الكبير " بإسناد حسن كما حكاه شيخ الإسلام ابن العراقي في " شرح التقريب " عن أسماء أيضا لكن بلفظ آخر ورواه ابن مردويه عن أبي هريرة وكان أحمد بن صالح يقول: لا ينبغي لمن سبيله العلم التخلف عن حفظ حديث أسماء لأنه من علامات النبوة، وكذا اختلف في حديث الرد يوم الخندق فقيل ضعيف، وقيل؛ موضوع، وادعى العلامة ابن حجر الهثمي صحته، وما في حديث العير وأظن أنهم اختلفوا في صحته أيضا ليس صريحا في الرد فإن لفظ الخير أنه لما أسرى بالنبي صلى الله عليه وسلم وأخبر قومه بالرفقة والعلامة التي في العير قالوا: متى يجيء؟ قال: يوم الأربعاء فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينظرون وقد ولي النهار ولم يجيء فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزيد له في النهار ساعة وحبست عليه الشمس والحبس غير الرد ولو كان هناك رد لأدركه قريش ولقالوا فيه ما قالوا في انشقاق القمر ولم ينقل، وقيل: كأن ذلك كان بركة في الزمان نحو ما يذكره الصوفية مما يعبرون عنه بنشر الزمان وإن لم يتعلقه الكثير وكذا ما كان ليوشع عليه السلام فقد جاء في الحديث الصحيح لم تحبس الشمس على أحد الا ليوشع بن نون والقصة مشهورة وهذا الحديث الصحيح عند الكل يعارض جميع ما تقدم، وتأويله بأن المراد لم تحبس على أحد من الأنبياء غيري إلا ليوشع أو بالتزام أن المتكلم غير داخل في عموم كلامه بعد تسليم قبوله لا ينفي
معارضته خبر الرد لسليمان عليه السلام فإنه بظاهره يستدعي نفي الرد الذي هو أعظم من الحبس له عليه السلام.
وبالجملة القول برد الشمس لسليمان عليه السلام غير مسلم، وعدم قولي بذلك ليس لامتناع الرد في نفسه كما يزعمه الفلاسفة بل لعدم ثبوته عندي، والذوق السليم يأبى حمل الآية على ذلك لنحو ما قال الرازي ولغيره من تعقيب طلب الرد بقوله تعالى: * (فطفق) * الخ ثم ما قدمنا نقله من وقوع الصلاة بعد الرد قضاء هو ما ذهب إليه البعض.
وفي تحفة العلامة ابن حجر الهيتمي لو عادت الشمس بعد الغروب عاد الوقت كما ذكره ابن العماد، وقضية كلام الزركشي خلافه وأنه لو تأخر غروبها عن وقته المعتاد قدر غروبها عنده وخرج الوقت وإن كانت موجودة انتهى كلام الزركشي، وما ذكر آخرا بعيد وكذا أولا فالأوجه كلام ابن العماد ولا يضركون عودها معجزة له صلى الله عليه وسلم لأن المعجزة نفس العود وأما بقاء الوقت بعودها فحكم الشرع ومن ثم لما عادت صلى علي كرم الله تعالى وجهه العصر أداء بل عودها لم يكن إلا لذلك انتهى. ولا يحضرني الآن ما لأصحابنا الحفنية في ذلك بيد أني رأيت في " حواشي تفسير البيضاوي " لشهاب الدين الخفاجي وهو من أجلة الأصحاب ادعاء أن الظاهر أن الصلاة بعد الرد أداء ثم قال: وقد بحث الفهقاء فيه بحثا طويلا ليس هذا محله، وقيل ضمير * (توارت) * للخيل كضمير * (ردوها) * واختاره جمع فقيل الحجاب اصطبالاتها أي حتى دخلت اصطبلاتها، وقيل حتى توارت في المسابقة بما يحجبها عن النظر، وبعض من قال بإرجاع الضمير للخيل جعل عن للتعليل ولم يجعل المسح بالسوق والأعناق بالمعنى السابق فقالت طائفة: عرض على سليمان
194

الخيل وهو في الصلاة فأشار إليهم إني في صلاة فأزالوها عنه حتى دخلت في الاصطبلات فقال لما فرغ من صلاته: * (إني أحببت حب الخير) * (ص: 32) أي الذي لي عند الله تعالى في الآخرة بسبب ذكر ربي كأنه يقول فشغلني ذلك عن رؤية الخيل حتى دخلت اصطبلاتها ردوها على فطفق يمسح أعرافها وسوقها محبة لها وتكريما. وروى أن المسح كان لذلك عن ابن عباس. والزهري. وابن كيسان ورجحه الطبري، وقيل كان غسلا بالماء ولا يخفى أن تطبيق هذه الطائفة الآية على ما يقولون ركيك جدا.
وقال الرازي: قال الأكثرون إنه عليه السلام فاته صلاة العصر بسبب اشتغاله بالنظر إلى الخيل فاستردها وعقر سوقها وأعناقها تقربا إلى الله تعالى، وعندي أنه بعيد ويدل عليه وجوه، الأول: أنه لو كان مسح السوق والأعناق قطعها لكان معنى قوله تعالى: * (وامسحوا برؤسكم) * (المائدة: 6) اقطعوها وهذا لا يقوله عاقل بل لو قيل مسح رأسه بالسيف فربما فهم منه ضرب العنق أما إذا لم يذكر لفظ السيف لم يفهم منه ذلك البتة، الثاني: أن القائلين بهذا القول جمعوا على سليمان أنواعا من الأفعال المذمومة، فأولها: ترك الصلاة، وثانيها: أنه استولى عليه الاشتغال بحب الدنيا إلى حيث نسي الصلاة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: " حب الدنيا رأس كل خطيئة " وثالثها: أنه بعد الاتيان بهذا الذنب العظيم لم يشتغل بالتوبة والإنابة، ورابعها: على القول برجوع ضمير * (ردوها) * إلى الشمس أنه خاطب رب العالمين بكلمة لا يذكرها الرجل الحصيف إلا مع الخادم الخسيس، وخامسها: أنه أتبع هذه المعاصي بعقر الخيل سوقها وأعناقها وقد ورد النهي عن ذبح الحيوان إلا لأكله. فهذه أنواع من الكبائر نسبوها إلى سليمان عليه السلام مع أن لفظ القرآن لا يدل على شيء منها، وسادسها: أن ذكر هذه القصة وكذا التي قبلها بعد أمره بالصبر على سفاهة الكفار يقتضي أن تكون مشتملة على الأعمال الفاضلة والأخلاق الحميدة والصبر على طاعة الله تعالى والإعراض عن الشهوات واللذات وأما اشتمالها على الإقدام على الكبائر العظيمة والذنوب الجسيمة فبمراحل عن مقتضى التعقيب أن كتاب الله تعالى ينادي على القول المذكور بالفساد. والصواب أن يقال: إن رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم كما أن كذلك في دين نبينا صلى الله عليه وسلم ثم أن سليمان احتاج إلى الغزو فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها وذكر إني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس وإنما أحبها لأمر الله تعالى وتقوية دينه وهو المراد من قوله: * (عن ذكر ربي) * ثم أنه عليه السلام أمر باعدائها وتسييرها حتى توارت بالحجاب أي غابت عن بصره ثم أمر الرائضين بأن يردوا تلك الخيل إليه فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها والغرض من ذلك المسح أمور.
الأول: تشريف لها وإبانة لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو، والثاني: أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والملك يتضع إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه، والثالث: أنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها فكان يمتحنها ويمسح سوقها وأعناقها حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض، فهذا التفسير الذي ينطبق عليه لفظ القرآن انطباقا موافقا، ولا يلزمنا نسبة شيء من تلك المنكرات والمحذورات إلى نبي من الأنبياء عليهم السلام، ثم قال: وأقول أنا شديد التعجب من الناس كيف قبلوا ما شاع من الوجوه السخيفة مع أن العقل والنقل يراد أنها وليس لهم في إثباتها شبهة فضلا عن حجة ولفظ الآية لا يدل على شيء من تلك الوجوه التي يذكرها الجمهور كما قد ظهر ظهورا لا يرتاب العاقل فيه، وبفرض الدلالة يقال: إن الدلائل الكثيرة
195

قامت على عصمة الأنبياء عليهم السلام ولم يدل دليل على صحة تلك الحكايات ورواية الآحاد لا تصلح معارضة للدلائل القوية فكيف الحكايات عن أقوام لا يبالي بهم ولا يلتفت إلى أقوالهم انتهى كلامه.
وكان عليه الرحمة قد اعترض القول برجوع ضمير * (توارت) * إلى الشمس دون الصافنات بأن الصافنات مذكورة بصريحها والشمس ليست كذلك وعود الضمير إلى المذكور أولى من عوده إلى المقدر، وأيضا أنه * (قال إني أحبب حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب) * وظاهره يدل على أنه كان يعيد ويكرر قوله إني أحبب حب الخير عن ذكر ربي إلى أن توارت بالحجاب فإذا كانت المتوارية الشمس يلزم القول بأنه كرر ذلك من العصر إلى المغرب وهو بعيد، وإذا كانت الصافنات كان المعنى أنه حين وقع بصره عليها حال عرضها كان يقول ذلك إلى أن غابت عن عينه وذلك مناسب، وأيضا القائلون بالعود إلى الشمس قائلون بتركه عليه السلام صلاة العصر ويأباه أني أحببت الخ لأن تلك المحبة لو كانت عن ذكر الله تعالى لما نسي الصلاة ولما ترك ذكر الله عز وجل، وأقول: ما عند الجمهور أولى بالقبول وما
ذكره عليهم من الوجوه لا يلتفت إليه ولا يعول عليه.
أما ما قاله من أنه لو كان مسح السوق والأعناق بمعنى القطع لكان امسحوا برؤسكم أمرا بقطعها ففيه أن هذا إنما يتم لو قيل إن المسح كلما ذكر بمعنى القطع ولم يقل ولا يقال وإنما قالوا: إن المسح في الآية بمعنى القطع وقد قال بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في خبر حسن وقد قدمناه لك عن الطبراني والإسمعيلي. وابن مردويه وليس بعد قوله عليه الصلاة والسلام قول لقائل، ويكفي مثل ذلك الخبر في مثل هذا المطلب إذ ليس فيه ما يخالف العقل أو نقلا أقوى كما ستعرفه إن شاء الله تعالى.
وقد ذكر هذا المعنى للمسح الزمخشري أيضا وهو من أجلة علماء هذا الشأن، وصح نقله عن جماعة من السلف، وقال الخفاجي: استعمال المسح بمعنى ضرب العنق استعارة وقعت في كلامهم قديما، نعم احتياج ذلك للقرينة مما لا شبهة فيه، والقرينة عند من يدعيه ههنا السياق وعود ضمير * (توارت) * على الشمس وهو كالمتعين كما سيتضح لك إن شاء الله تعالى.
وأما قوله: إنهم جمعوا على سليمان عليه السلام أنواعا من الأفعال المذمومة ففرية من غير مرية. وقوله: أولها: ترك الصلاة فيه أن الترك المذموم ما كان عن عمد وهم لا يقولون به وما يقولون به الترك نسيانا وهو ليس بمذموم إذ النسيان لا يدخل تحت التكليف على أن كون ما ترك فرضا مما لم يجزم به الجميع، وقوله: ثانيها: أنه استولى عليه الاشتغال بحب الدنيا إلى حيث ترك الصلاة، فيه أن ذلك اشتغال بخيل الجهاد وهو عبادة.
وقوله: ثالثها: أنه بعد الإتيان بهذا الذنب العظيم لم يشتغل بالتوبة والإنابة، فيه أنا لا نسلم أنه عليه السلام ارتكب ذنبا حقيقة فضلا عن كونه عظيما، نعم ربما يقال: إنه عليه السلام لم يستحسن ذلك بمقامه فاتبعه التقرب بالخيل التي شغل بسببها وذلك يدل على التوبة دلالة قوية ولم يكن ليتعطل أمر الجهاد به فقد أوتي عليه السلام عير ذلك على أن كون ما ذكر كالاستشهاد على قوله تعالى: * (إنه أواب) * مشعر بتضمنه الأوبة وإن ذهبنا إلى تعلق * (إذ عرض) * بأواب يكاد لا يرد هذا الكلام رأسا.
وقوله: رابعها: أنه خاطب ربه عز وجل بلفظ غير مناسب، فيه أنه إن ورد فإنما يرد على القول برجوع ضمير * (ردوها) * إلى الشمس ونحن لا نقول به فلا يلزمنا الجواب عنه، والذي نقوله: إن الضمير للخيل والخطاب
196

لخدمته ومع هذا لم يقل تلك الكلمة تهورا وتجبرا كما يتوهم، وقوله: خامسها: أنه اتبع هذه المعاصي بعقر الخيل وقد ورد النهي الخ، فيه أنه عليه السلام لم يفعل معصية ليقال اتبع هذه المعاصي وأن الخيل عقرت قربانا وكان تقريبها مشروعا في دينه فهو طاعة، ومن مجموع ما ذكرنا يعلم ما في قوله سادسها: الخ على أنه قد تقدم لك وجه ربط هذه القصص بما قبلها وهو لا يتوقف على التزام ما قاله في هذه القصة وما زعمه من أنه الصواب ففي إرجاع ضمير توارت إلى الخيل، ولا يخفى على ذي ذوق سليم وطبع مستقيم أن توارى الخيل بالحجارة عبارة ركيكة يجل عنها الكتاب المتين، وفيه أيضا أنه لا يكاد ينساق إلى الذهن متعلق * (حتى توارت) * الذي أشار إليه في تقرير ما زعم صوابيته وتعلقه بقال على ما يشير إليه كلامه المنقول آخرا مما يستبعد جدا فإن الظاهر أن قوله: * (حتى توارت بالحجاب) * من المحكي كالذي قبله والذي بعده لا من الحكاية، وأيضا كون الرد للمسح الذي ذكره خلاف ما جاء في الخبر الحسن وهو في نفسه بعيد، والأغراض التي ذكرها فيه لا يخفى حالها، ودعواه أن هذا التفسير هو الذي ينطبق عليه لفظ القرآن مما لا يتم لها دليل ولعل الدليل على عدم الانطباق ظاهر.
وقوله: أنا شديد التعجب من الناس الخ أقول فيه: أنا تعجبي منه أشد من تعجبه من الناس حيث خفي عليه حسن الوجه الذي استحسنه الجمهور ولم يطلع على ما ورد فيه من الأخبار الحسان وظن أن القول به مناف للقول بعصمة الأنبياء عليهم السلام حتى قال ما قال ورشق على الجمهور النبال، وقوله في ترجيح رجوع ضمير * (توارت) * إلى * (الصافنات) * على رجوعه إلى الشمس أنها مذكورة بصريحها دون الشمس ليس بشيء فإن رجوعه إلى الشمس يجعل الكلام ركيكا فلا ينبغي ارتكابه لمجرد أن فيه رجوع الضمير إلى مذكور صريحا على أن في كونه راجعا إلى الصافنات المذكورة صريحا بحثا، ولا يرد على الجمهور لزوم تخالف الضمائر في المرجع وهو تفكيك لأن التخالف مع القرينة لا ضير فيه، وأعجب مما ذكر زعمه أنه يلزم على ما قال الجمهور أن سليمان عليه السلام كرر قوله: * (إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي) * من العصر إلى المغرب فإن الجمهور ما حاموا حول ما يلزم منه ذلك أصلا إذ لم يقل أحد منهم بأن حتى متعلق بقال كما زعم هو بل هي عندهم متعلقة بأحببت على المعنى الذي أسلفناه، ومن أنصف لا يرتضي أيضا القول بأنه عليه السلام كرر ذلك القول إلى أن غابت الخيل عن عينه كما قاله به هذا الإمام، ويرد على قوله القائلون بالعود إلى الشمس قائلون بتركه عليه السلام صلاة العصر ويأباه * (إني أحببت) * الخ. لأن تلك المحبة لو كانت عن ذكر الله تعالى لما نسي الصلاة أن الجمهور لا يقولون بأن على للتعليل والاباء المذكور على تقدير تسليمه لا يتسنى إلا على ذلك وما يقولونه وقد أسلفناه لك بمراحل عنه.
وبالجملة قد اختلت أقوال هذا الإمام في هذا المقام ولم ينصف مع الجمهور وهم أعرف منه بالمأثور نعم ما ذكره في الآية وجه ممكن فيها على بعد إذا قطع النظر عن الاخبار وما جاء عن السلف من الآثار، وقد ذكر نحوه عبد الوهاب الشعراني في كتابه اليواقيت والجواهر وهو في الحقيقة والله تعالى أعلم من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين قدس سره وقد خالف الجمهور كالإمام، قال في الباب المائة والعشرين من الفتوحات: ليس للمفسرين الذين جعلوا التواري للشمس دليل فإن الشمس ليس لها هنا ذكر ولا للصلاة التي يزعمون ومساق الآية لا يدل على ما قالوه بوجه ظاهر البتة، وأما استرواحهم فيما فسروه بقوله تعالى: * (ولقد فتنا سليمان) * فالمراد بتلك الفتنة إنما هو الاختبار بالخيل هل يحبها عن ذكر ربه تعالى لها أو يحبها لعينها فأخبر عليه السلام عن نفسه
197

أنه أحبها عن ذكر ربه سبحانه إياها لا لحسنها وكمالها وحاجته إليها إلى آخر ما قال، وقد كان قدس سره معاصرا للإمام وكتب إليه رسالة يرغبه فيها بسلوك طريقة القوم ولم يجتمعا، وغالب الظن أنه لم يأخذ أحدهما من الآخر ما قال في الآية بل لم يسمعه وعلم كل منهما لا ينكر والشيخ بحر لا يدرك قعره، وما ذكره في الاسترواح
مما لم أقف عليه لأحد من المفسرين والله تعالى أعلم. وقرأ ابن كثير * (بالسؤق) * بهمزة ساكنة قال أبو علي: وهي ضعيفة لكن وجهها في القياس أن الضمة لما كانت تلي الواو وقدر أنها عليها كما يفعلون بالواو المضمومة حيث يبدلونها همزة، ووجهها من القياس أن اباحية النميري كان يهمز كل واو ساكنة قبلها ضمة وكان ينشد. / جسم]
أحب الوافدين إلى مؤسي
وقال أبو حيان: ليست ضعيفة لأن الساق فيه الهمزة فوزنه فعل بسكون العين فجاءت هذه القراءة على هذه اللغة. وتعقب بأن همز الساق إبدال على غير القياس إذ لا شبهة في كونه أجوف فلا بد من التوجيه بما تقدم. وقرأ ابن محيصن * (بالسؤوق) * بهمزة مضمومة بعدها واو ساكنة بوزن الفسوق، ورواها بكار عن قنيل وهو جمع ساق أيضا. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما * (بالساق) * مفردا اكتفى به عن الجمع لأمن اللبس.
* (ولقد فتنا سليم‍ان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب) *.
* (ولقد فتنا سليم‍ان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب) * أظهر ما قيل في فتنته عليه السلام أنه قال: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله تعالى ولم يقل إن شاء الله فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة وجاءت بشق رجل وقد روى ذلك الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة مرفوعا وفيه: " فوالذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا فراسنا " لكن الذي في " صحيح البخاري " أربعين بدل سبعين وأن الملك قال له: قل إن شاء الله فلم يقل وغايته ترك الأولى فليس بذنب وإن عده هو عليه السلام ذنبا، فالمراد بالجسد ذلك الشق الذي ولد له، ومعنى إلقائه على كرسيه وضع القابلة له عليه ليراه.
وروى الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه ولد لسليمان ابن فقالت الجن والشياطين: إن عاش له ولد لنلقين منه من أبيه من البلاء فأشفق عليه السلام منهم فجعله وظئره في السحاب من حيث لا يعلمون فلم يشعر إلا وقد ألقى على كرسيه ميتا تنبيها على أن الحذر لا ينجي من القدر وعوتب على تركه التوكل اللائق بالخواص من ترك مباشرة الأسباب، وروى ذلك عن الشعبي أيضا، ورواه بعضهم عن أبي هريرة على وجه لا يشك في وضعه إلا من يشك في عصمة الأنبياء عليهم السلام، وأنا في صحة هذا الخبر لست على يقين بل ظاهر الآية أن تسخير الريح بعد الفتنة وهو ظاهر في عدم صحة الخبر لأن الوضع في السحاب يقتضي ذلك.
وأخرج عبد بن حميد. والحكيم الترمذي من طريق علي بن زيد عن سعيد بن المسيب أن سليمان عليه السلام احتجب عن الناس ثلاثة أيام فأوحى الله تعالى إليه أن يا سليمان احتجبت عن الناس ثلاثة أيام فلم تنظر في أمور عبادي ولم تنصف مظلوما من ظالم وكان ملكه في خاتمه وكان إذا دخل الحمام وضع خاتمه تحت فراشه فجاء الشيطان فأخذه فأقبل الناس على الشيطان فقال سليمان: يا أيها الناس أنا سليمان نبي الله تعالى فدفعوه فساح أربعين يوما فأتى أهل سفينة فأعطوه حوتا فشقها فإذا هو بالخاتم فيها فتختم به ثم جاء فأخذ بناصيته فقال عند ذلك: * (رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) * (ص: 35).
وأخرج النسائي. وابن جرير. وابن أبي حاتم قال ابن حجر. والسيوطي بسند قوي عن ابن عباس أراد سليمان عليه السلام أن يدخل الخلاء فأعطى الجرادة خاتمه وكانت امرأته وكانت أحب نسائه إليه فجاء الشيطان
198

في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي فأعطته فلما لبسه دانت الإنس والجن والشياطين فلما خرج سليمان قال لها: هاتي خاتمي قالت: قد أعطيته سليمان قال أنا سليمان قالت كذبت لست سليمان فجعل لا يأتي أحدا فيقول له أنا سليمان إلا كذبه حتى جعل الصبيان يرمونه بالحجارة فلما رأى ذلك عرف أنه من أمر الله تعالى وقام الشيطان يحكم بين الناس فلما أراد الله تعالى أن يرد عليه سلطانه ألقى في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان فأرسلوا إلى نساء سليمان فقالوا: أتنكرن من سليمان شيئا؟ قلن: نعم إنه يأتينا ونحن حيض وما كان يأتينا قبل ذلك فلما رأى الشيطان أنه قد فطن له ظن أن أمره قد انقطع فأمر الشياطين فكتبوا كتبا فيها سحر ومكر فدفنوها تحت كرسي سليمان ثم أثاروها وقرؤها على الناس وقالوا: بهذا كان يظهر سليمان على الناس ويغلبهم فاكفر الناس سليمان وبعث ذلك الشيطان بالخاتم فطرحه في البحر فتلقته سمكة فأخذته وكان عليه السلام يعمل على شط البحر بالأجر فجاء رجل فاشترى سمكا فيه تلك السمكة، فدعا سليمان فحمل معه السمك إلى باب داره فأعطاه تلك السمكة فشق بطنها فإذا الخاتم فيه فأخذه فلبسه فدانت له الإنس والجن والشياطين وعاد إلى حاله وهرب الشيطان إلى جزيرة في البحر فأرسل في طلبه وكان مريدا فلم يقدروا عليه حتى وجدوه نائما فبنوا عليه بنيانا من رصاص فاستيقظ فأوثقوه وجاؤا به إلى سليمان فأمر فنقر له صندوق من رخام فأدخل في جوفه ثم سد بالنحاس ثم أمر به فطرح في البحر. وذكر في سبب ذلك أنه عليه السلام كان قد غزا صيدون في الجزائر فقتل ملكها وأصاب ابنته وهي جرادة المذكورة فأحبها وكان لا يرقأ دمعها جزعا على أبيها فأمر الشياطين فمثلوا لها صورته وكان ذلك جائزا في شريعته وكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدن لها كعادتهن في ملكه فأخبره آصف فكسر الصورة وضرب المرأة فعوتب بذلك حيث تغافل عن حال أهله. واختلف في اسم ذلك الشيطان فعن السدي أنه حبقيق؛ وعن الأكثرين أنه صخر وهو المشهور، وإنما قال سبحانه: * (جسدا) * لأنه إنما تمثل بصورة غيره وهو سليمان عليه السلام وتلك الصورة المتمثلة ليس فيها روح صاحبها الحقيقي وإنما حل في قالبها ذلك الشيطان فلذا سميت جسدا وعبارة " القاموس " صريحة في أن الجسد يطلق على الجني.
وقال أبو حيان وغيره: إن هذه المقالة من أوضاع اليهود وزنادقة السوفسطائية ولا ينبغي لعاقل أن يعتقد صحة ما فيها، وكيف يجوز تمثل الشيطان بصورة نبي حتى يلتبس أمره عند الناس ويعتقدوا أن ذلك المتصور هو النبي، ولو أمكن وجود هذا لم يوثق بإرسال نبي نسأل الله تعالى سلامة ديننا وعقولنا ومن أقبح ما فيها زعم تسلط الشيطان على نساء نبيه حتى وطئهن وهن حيض الله أكبر هذا بهتان عظيم وخطب جسيم ونسبة الخير إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا تسلم صحتها، وكذا لا تسلم دعوى قولا سنده إليه وإن قال بها من سمعت.
وجاء عن ابن عباس برواية عبد الرزاق. وابن المنذر ما هو ظاهر في أن ذلك من أخبار كعب ومعلوم أن كعبا يرويه عن كتب اليهود وهي لا يوثق بها على أن إشعار ما يأتي بأن تسخير الشياطين بعد الفتنة يأبى صحة هذه المقالة كما لا يخفى، ثم إن أمر خاتم سليمان عليه السلام في غاية الشهرة بين الخواص والعوام ويستبعد جدا أن يكون الله تعالى قد ربط ما أعطى نبيه عليه السلام من الملك بذلك الخاتم وعندي أنه لو كان في ذلك الخاتم السر الذي يقولون لذكره الله عز وجل في كتابه والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
وقال قوم: مرض سليمان عليه السلام مرضا كالإغماء حتى صار على كرسيه كأنه جسد بلا روح وقد شاع
199

قولهم في الضعيف: لحم على وضم وجسد بلا روح فالجسد الملقى على الكرسي هو عليه السلام نفسه.
وروى ذلك عن أبي مسلم وقال في قوله تعالى: * (ثم أناب) * أي رجع إلى الصحة وجعل * (جسدا) * حالا من مفعول * (ألقينا) * المحذوف كأنه قيل ولقد فتنا سلميان أي ابتليناه وأمرضناه وألقيناه على كرسيه ضعيفا كأنه جسد بلا روح ثم رجع إلى صحته، ولا يخفى سقمه، والحق ما ذكر أولا في الحديث المرفوع، وعطف * (أناب) * بثم وكان الظاهر الفاء كما في قوله تعالى: * (واستغفر ربه) * قيل إشارة إلى استمرار إنابته وامتدادها فإن الممتد يعطف بها نظرا لأواخره بخلاف الاستغفار فإنه ينبغي المسارعة إليه ولا امداد في وقته، وقيل: إن العطف بثم هنا لما أنه عليه السلام لم يعلم الداعي إلى الإنابة عقيب وقوعه وهذا بخلاف ما كان في قصة داود عليه السلام فإن العطف هناك على ظن الفتنة واللائق به أن لا يؤخر الاستغفار عنه، وقيل: العطف بها هنا لما إن بين زمان الإنابة وأول زمان ما وقع منه عليه السلام من ترك الاستثناء مدة طويلة وهي مدة الحمل وليس بين زمان استغفار داود عليه السلام وأول زمان ما وقع منه كذلك.
* (قال رب اغفر لى وهب لى ملكا لا ينبغى لاحد من بعدىإنك أنت الوهاب) *.
* (قال) * بدل من * (أناب) * وتفسير له على ما في " إرشاد العقل السليم " وهو الظاهر. ويمكن أن يكون استئنافا بيانيا نشأ من حكاية ما تقدم كأنه قيل فهل كان له حال لا يضر معه مسح الخيل سوقها وأعناقها وهل كان بحيث تقتضي الحكمة فتنته؟ فأجيب بما أجيب وحاصله نعم كان له حال لا يضر معه المسح وكان بحيث تقتضي الحكمة فتنته فد دعا بملك عظيم فوهب له، ويمكن أن يقرر الاستئناف على وجه آخر، وكذا يمكن أن يكون استئنافا نحويا لحكاية شيء من أحواله عليه السلام فتأمل * (رب اغفر لي) * ما لم أستحسن صدوره عني.
* (وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) * أي لا يصح لأحد غيري لعظمته فبعد هنا نظير ما في قوله تعالى: * (فمن يهديه من بعد الله) * (الجاثية: 23) أي غير الله تعالى، وهم أعم من أن يكون الغير في عصره، والمراد وصف الملك بالعظمة على سبيل الكناية كقولك لفلان ما ليس لأحد من الفضل والمال وربما كان في الناس أمثاله تريد أن له من ذلك شيئا عظيما لا أن لا يعطي أحد مثله ليكون منافسة، وما أخرج عبد بن حميد. والبخاري. ومسلم. والنسائي. والحكيم الترمذي في " نوادر الأصول "، وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن عفريتا جعل يتفلت على البارحة ليقطع على صلاتي وإن الله تعالى أمكنني منه فلقد هممت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا فتنظوا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان * (رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) * فرده الله تعالى خاسئا " لا ينافي ذلك لأنه عليه الصلاة والسلام أراد كمال رعاية دعوة أخيه سليمان عليه السلام بترك شيء تضمنه ذلك الملك العظيم وإلا فالملك العظيم ليس مجرد ربط عفريت إلى سارية بل هو سائر ما تضمنه قوله تعالى الآتي: * (فسخرنا له الريح) * الخ. وقيل: إن عدم المنافاة لأن الكناية تجامع إرادة الحقيقة كما تجامع إرادة عدمها، ولعله إنما طلب عليه السلام ذلك ليكون علامة على قبول سؤاله المغفرة وجبر قلب عما فاته بترك الاستثناء أو ليتوصل به إلى تكثير طاعته لله عز وجل ونعمة الدنيا الصالحة للعبد الصالح فلا إشكال في طلب الملك في هذا المقام إذا قلنا بما يقتضيه ظاهر النظم الجليل من صدور الطلبين معا.
وقال الزمخشري: كان سليمان عليه السلام ناشئا في بيت الملك والنبوة ووارثا لهما فأراد أن يطلب من ربه عز وجل معجزة فطلب على حسب إلفه ملكا زائدا على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حد الإعجاز ليكون
200

ذلك دليلا على نبوته قاهرا للمبعوث إليهم ولن تكون معجزة حتى تخرق العادات فذلك معنى * (لا ينبغي لأحد من بعدي) * فقوله من بعدي بمعنى من دوني وغيري كما في الوجه السابق، وحسن طلب ذلك معجزة مع قطع النظر عن الألف أنه عليه السلام كان زمن الجبارين وتفاخرهم بالملك ومعجزة كل نبي من جنس ما اشتهر في عصره، ألا ترى أنه لما اشتهر السحر وغلب في عهد الكليم عليه السلام جاءهم بما يتلقف ما أتوا به. ولما اشتهر الطب في عهد المسيح عليه السلام جاءهم بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، ولما اشتهر في عهد خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم الفصاحة أتاهم بكلام لم يقدروا على أقصر فصل من فصوله. واعترض بأن اللائق بطلب المعجزة أن يكون في ابتداء النبوة وظاهر " النظم الجليل " أن هذا الطلب كان بعد الفتنة والإنابة كيف لا وقوله تعالى: * (قال) * الخ بدل من * (أناب) * وتفسير له والفتنة لم تكن في الابتداء كما يشعر به النظم. وأجيب بأنا لا نسلم أن اللائق بطلب المعجزة كونها في ابتداء النبوة وإن سلم فليس في الآية ما ينافي وقوعه، وكذا وقوع الفتنة في ابتدائها لا سيما إن قلنا: إن قوله تعالى: * (قال رب اغفر لي) * الخ ليس تفسيرا لأناب. وأجيب على القول بأن الفتنة كانت سلب الملك بأن رجوعه بعد كالابتداء.
وذكر بعض الذاهبين إلى ذلك أنه عليه السلام أقام في ملكه قبل هذه الفتنة عشرين سنة وأقام بعدها عشرين سنة أيضا وقالوا في هذه الآية: إن مصب الدعاء الوصف فمعنى الآية هب لي ملكا لا ينبغي لأحد غيري ممن هو في عصري بأن يسلبه مني كهذه السلبة.
وروي هذا المعنى عن عطاء بن أبي رباح. وقتادة، وحاصله الدعاء بعدم سلب ملكه عنه في حياته، ويفهم مما في سياق التفريع إحابة سؤاله عليه السلام وأن ما وهب
له لا يسلب عنه بعد. وجوز أن يكون هذا دعاء بعدم السلب وإن لم يتقدم سلب ودوام نعمة الله عز وجل مما يحسن الدعاء به والآثار ملأى من ذلك فهذا الوجه لا يتعين بناؤه على تفسير الفتنة بسلب الملك على ما حكى سابقا.
وقال الجبائي: إنه عليه السلام طلب ملكا لا يكون لغيره أبدا ولم يطلب ذلك إلا بعد الإذن فإن الأنبياء عليهم السلام لا يطلبون إلا ما يؤذن لهم في طلبه وجائز أن يكون الله تعالى قد أعلمه أنه إن سأل ذلك كان أصلح له في الدين وأعلمه أن لا صلاح لغيره فيه وهو نظير قول القائل: اللهم اجعلني أكثر أهل زماني مالا إذا علمت أن ذلك أصلح لي فإنه حسن لا ينسب قائله إلى شح اه‍. قيل ويجوز أن يكون معنى الآية عليه هب لي ملكا ينبغي لي حكمة ولا ينبغي حكمة لأحد غيري وأراد بذلك طلب أن يكون عليه السلام متأهلا لنعم الله عز وجل وهو كما ترى. وقيل غير ذلك، ومن أعجب ما رأيت ما قاله السيد المرتضى: إنه يجوز أن يكون إنما سأل ملك الآخرة وثواب الجنة ويكون معنى قوله: * (لا ينبغي لأحد من بعدي) * لا يستحقه بعد وصوله إليه من حيث لا يصح أن يعمل ما يستحق به ذلك لانقطاع التكليف، ولا يخفى أنه مما لا يرتضيه الذوق والتفريع الآتي آب عنه كل الإباء، واستدل بعضهم بالآية على بعض الأقوال المذكورة فيها على تكفير من ادعى استخدام الجن وطاعتهم له وأيد ذلك بالحديث السابق، والحق أن استخدام الجن الثابت لسليمان عليه السلام لم يكن بواسطة أسماء ورياضات بل هو تسخير إلهي من غير واسطة شيء وكان أيضا على وجه أتم وهو مع
201

ذلك بعض الملك الذي استوهبه فالمختص على تقدير إفادة الآية الاختصاص مجموع ما تضمنه قوله تعالى: * (فسخرنا) * الخ فالظاهر عدم إكفار من يدعي استخدام شيء من الجن، ونحن قد شاهدنا مرارا من يدعي ذلك وشاهدنا آثار صدق دعواه على وجه لا ينكره إلا سوفسطائي أو مكابر.
ومن الاتفاقيات الغريبة أني اجتمعت يوم تفسيري لهذه الآية برجل موصلي يدعي ذلك وامتحنته بما يصدق دعواه في محفل عظيم ففعل وأتى بالعجب العجاب، وكانت الأدلة على نفي احتمال الشعبذة ونحوها ظاهرة لذوي الألباب إلا أن لي إشكالا في هذا المقام وهو أن الخادم الجني قد يحضر الشيء الكثيف من نحو صندوق مقفل بين جمع في حجرة أغلقت أبوابها وسدت منافذها ولم يشعر به أحد، ووجه الإشكال أن الجني لطيف فكيف ستر الكثيف فلم ير في الطريق وكيف أخرجه من الصندوق وأدخله الحجرة وقد سددت المنافذ، وتلطف الكثيف ثم تكثفه بعد مما لا يقبله إلا كثيف أو سخيف، ومثل ذلك كون الإحضار المذكور على نحو إحضار عرش بلقيس بالإعدام والإيجاد كما يقوله الشيخ الأكبر أو بوجه آخر كما يقول غيره، ولعل الشرع أيضا يأبى هذا، وسرعة المرور إن نفعت ففي عدم الرؤية في الطريق، وقصارى ما يقال لعل للجني سحرا أو نحوه سلب به الإحساس فتصرف بالصندوق ومنافذ الحجرة حسبما أراد وأتى بالكثيف يحمله ولم يشعر به أحد من الناس فإن تم هذا فبها وإلا فالأمر مشكل، وظاهر جعل جملة * (قال رب اغفر لي) * تفسيرا للإنابة يقتضي أن الاستغفار مقصود لذاته لا وسيلة للاستيهاب، وفي كون الاستيهاب مقصودا لذاته أيضا احتمالان.
وتقديم الاستغفار على تقدير كونهما مقصودين بالذات لمزيد اهتمامه بأمر الدين وقد يجعل مع هذا وسيلة للاستيهاب المقصود أيضا فإن افتتاح الدعاء بنحو ذلك أرجى للإجابة، وجوز على بعد بعد التزام الاستئناف في الجملة كون الاستيهاب هو المقصود لذاته والاستغفار وسيلة له، وسيجىء إن شاء الله تعالى ما قيل في الاستئناس له.
وقرىء * (من بعدي) * بفتح الياء وحكى القراءة به في لي، وقوله تعالى: * (إنك أنت الوهاب) * تعليل للدعاء بالمغفرة والهبة معا لا للدعاء بالأخيرة فقط فإن المغفرة أيضا من أحكام وصف الوهابية قطعا، ومن جوز كون الاستيهاب هو المقصود استأنس له بهذا التعليل ظنا منه أنه للدعاء بالأخيرة فقط وكذا بعدم التعرض لإجابة الدعاء بالأولى فإن الظاهر أن قوله تعالى:
* (فسخرنا له الريح تجرى بأمره رخآء حيث أصاب) *.
* (فسخرنا له الريح) * إلى آخره تفريع على طلبه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ولو كان الاستغفار مقصودا أيضا لقيل فغفرنا له وسخرنا له الريح الخ. وأجيب بأنه يجوز أن يقال: إن المغفرة لمن استغفر لا سيما الأنبياء عليهم السلام لما كانت أمرا معلوما بخلاف هبة ملك لمن استوهب لم يصرح بها واكتفى بدلالة ما ذكر في حيز الفاء مع ما في الآية بعد على ذلك، وتقوى هذه الدلالة على تقدير أن يكون طلب الملك علامة على قبول استغفاره وإجابة دعائه فتأمل، والتسخير التذليل أي فذللناها لطاعته إجابة لدعوته، وقيل أدمنا تذليلها كما كان وقرأ الحسن. وأبو رجاء. وقتادة. وأبو جعفر * (الرياح) * بالجمع قيل: وهو أوفق لما شاع من أن الريح تستعمل في الشر والرياح في الخير، وقد علمت أن ذلك ليس بمطرد، وقوله تعالى: * (تجري بأمره) * بيان لتسخيرها له عليه السلام أو حال أي جارية بأمره * (رخاء) * أي لينة من الرخاوة لا تحرك لشدتها. واستشكل هذا بأنه ينافي قوله تعالى: * (ولسليمان الريح عاصفة) * لوصفها ثمت بالشدة وهنا باللين.
وأجيب بأنها كانت في أصل الخلقة شديدة لكنها صارت لسليمان لينة سهلة أو أنها تشتد عند الحمل وتلين
202

عند السير فوصفت باعتبار حالين أو أنها شديدة في نفسها فإذا أراد سليمان عليه السلام لينها لانت على ما يشير إليه قوله تعالى: * (بأمره) * أو أنها تلين وتعصف باقتضاء الحال، وقال ابن عباس. والحسن. والضحاك: رخاء مطيعة لا تخالف إرادته كالمأمور المنقاد، فالمراد بلينها انقيادها له وهو لا ينافي عصفها، واللين يكون بمعنى الإطاعة وكذا الصلابة تكون بمعنى العصيان * (حيث أصاب) * أي قصد وأراد كما روي عن ابن عباس. والضحاك. وقتادة، وحكى الزجاج عن العرب أصاب الصواب فأخطأ الجواب، وعن رؤبة أن رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن هذه الكلمة فخرج إليهما فقال: أن تصيبان؟ فقالا: هذه طلبتنا ورجعا ويقال أصاب الله تعالى بك خيرا، وأنشد الثعلبي: أصاب الكلام فلم يستطع * فأخطأ الجواب لدى المعضل
وعن قتادة أن أصاب بمعنى أراد لغة هجر وقيل لغة حمير، وجوز أن يكون أصاب من صاب يصوب بمعنى نزل، والهمزة للتعدية أي حيث أنزل جنوده، وحيث متعلقة
بسخرنا أو بتجري.
* (والشي‍اطين كل بنآء وغواص) *.
* (والشياطين) * عطف على الريح * (كل بناء وغواص) * بدل من * (الشياطين) * وهو بدل كل من كل إن أريد المعهودون المسخرون أو أريد من له قوة البناء والغوص والتمكن منهما أو بدل بعض إن لم يرد ذلك فيقدر ضمير أي منهم والغوص لاستخراج الحلية وهو عليه السلام على ما قيل أول من استخرج الدر.
* (وءاخرين مقرنين فى الاصفاد) *.
* (وآخرين مقرنين في الأصفاد) * عطف على * (كل) * لا على * (الشياطين) * لأنهم منهم إلا أن يراد العهد ولا على ما أضيف إليه * (كل) * لأنه لا يحسن فيه إلا الإضافة إلى مفرد منكر أو جمع معرف، والأصفاد جمع صفد وهو القيد في المشهور، وقيل الجامعة أعني الغل الذي يجمع اليدين إلى العنق قيل وهو الأنسب بمقرنين لأن التقرين بها غالبا ويسمى به العطاء لأنه ارتباط للمنعم عليه ومنه قول علي كرم الله تعالى وجهه: من برك فقد أسرك ومن جفاك فقد أطلقك؛ وقول القائل: غل يدا مطلقها وفك رقبة معتقها، وقال أبو تمام: هممي معلقة عليك رقابها * مغلولة إن العطاء إسار
وتبعه المتنبي في قوله: وقيدت نفسي في ذراك محبة * ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا
وفرقوا بين فعليهما فقالوا: صفده قيده وأصفده أعطاه عكس وعده وأوعده. ولهم في ذلك كلام طويل قال فيه الخفاجي ما قال ثم قال: والتحقيق عندي أن ههنا مادتين في كل منهما ضار ونافع وقليل اللفظ وكثيره وقد ورد في إحداهما الضار بلفظ قليل مقدم والنافع بلفظ كثير مؤخر وفي الأخرى عكسه ووجهه في الأول أنه أمر واقع لأنه وضع للقيد ثم أطلق على العطاء لأنه يقيد صاحبه وعبر بالأقل في القيد لضيقه المناسب لقلة حروفه وبالأكثر في العطاء لأنه من شأن الكرم. وقدم الأول لأنه أصل أخف وعكس ذلك في وعد وأوعد فعبر في النافع بالأقل وقدم وأخر الضار وكثر حروفه لأنه مستقبل غير واقع والخير الموعود به يحمد سرعة إنجازه وقلة مدة وقوعه فإن أهنا البر عاجله وهذا يناسب قلة حروفه وفي الوعيد يحمد تأخيره لحسن الخلف والعفو عنه فناسب كثرة حروفه ثم قال: وهذا تحقيق في غاية الحسن وما عداه وهم فارغ فاعرفه والمراد بهؤلاء المقرنين المردة فتفيد الآية تفصيل الشياطين إلى عملة استعملهم عليه السلام في الأعمال الشاقة كالبناء والغوص
203

ومردة قرن بعضهم ببعض بالجوامع ليكفوا عن الشر، وظاهره أن هناك تقييدا حقيقة وهو مشكل لأن الشياطين إما أجسام نارية لطيفة قابلة للتشكل، وإما أرواح خبيثة مجردة، وأيا ما كان لا يمكن تقييدها ولا إمساك القيد لها. وأجيب باختيار الأول وهو الصحيح.
والأصفاد غير ما هو المعروف بل هي أصفاد يتأتى بها تقييد اللطيف على وجه يمنعه عن التصرف، والأمر من أوله خارق للعادة، وقيل: إن لطافة أجسامهم بمعنى شفافتها والشفافة لا تأبى الصلابة كما في الزجاج والفلك عند الفلاسفة فيمكن أن تكون أجسامهم شفافة وصلبة فلا ترى لشفافتها ويتأتى تقييدها لصلابتها، وأنكر بعضهم الصلابة لتحقق نفوذ الشياطين فيما لا يمكن نفوذ الصلب فيه وأنهم لا يدركون باللمس والصلب يدرك به.
وقيل: لا مانع من أنه عليه السلام يقيدهم بشكل صلب فيقيدهم حينئذ بالأصفاد والشيطان إذا ظهر متشكلا بشكل قد يتقيد به ولا يمكنه التشكل بغيره ولا العود إلى ما كان، وقد نص الشيخ الأكبر محيي الدين قدس سره أن نظر الإنسان يقيد الشيطان بالشكل الذي يراه فيه فمتى رأى الإنسان شيطانا بشكل ولم يصرف نظره عنه بالكلية لم يستطع الشيطان الخفاء عنه ولا التشكل بشكل آخر إلى أن يجد فرصة صرف النظر عنه ولو برمشة عين.
وزعم الجبائي أن الشياطن كان كثيف الجسم في زمن سليمان عليه السلام ويشاهده الناس ثم لما توفي عليه السلام أمات الله عز وجل ذلك الجن وخلق نوعا آخر لطيف الجسم بحيث لا يرى ولا يقوى على الأعمال الشاقة، وهذا لا يقبل أصلا إلا برواية صحيحة وأنى هي، وقيل: الأقرب أن المراد تمثيل كفهم عن الشرور بالأقران في الصفد وليس هناك قيد ولا تقييد حقيقة.
* (ه‍اذا عطآؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب) *.
* (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب) * إما حكاية لما خوطب به سليمان عليه السلام مبينة لعظم شأن ما أوتي من الملك وأنه مفوض إليه تفويضا كليا، وإما مقول لقول مقدر هو معطوف على * (سخرنا) * أو حال من فاعله أي وقلنا أو قائلين له هذا الخ والإشارة إلى ما أعطاه مما تقدم أي هذا الذي أعطيناكه من الملك العظيم والبسطة والتسليط على ما لم يسلط عليه غيرك عطاؤنا الخاص بك فأعط من شئت وامنع من شئت غير محاسب على شيء من الأمرين ولا مسؤول عنه في الآخرة لتفويض التصرف فيه إليك على الإطلاق، فبغير حساب حال
204

من المستكن في الأمر والفاء جزائية و * (هذا عطاؤنا) * مبتدأ وخبر، والإخبار مفيد لما أشرنا إليه من اعتبار الخصوص أي عطاؤنا الخاص بك أو يقال: إن ذكره ليس للإخبار به بل ليترتب عليه ما بعده كقوله: هذه دارهم وأنت مشوق * ما بقاء الدموع في الآماق
وجوز أن يكون * (بغير حساب) * حالا من العطاء نحو * (هذا بعلي شيخا) * أي هذا عطاؤنا متلبسا بغير حساب عليه في الآخرة أو هذا عطاؤنا كثيرا جدا لا يعد ولا يحسب لغاية كثرته، وأن يكون صلة العطاء واعتبره بعضهم قيدا له لتتم الفائدة ولا يحتاج لاعتبار ما تقدم، وعلى التقديرين ما في البين اعتراض فلا يضر الفصل به، والفاء اعتراضية وجاء اقتران الاعتراض بها كما جاء بالواو كقوله: واعلم فعلم المرء ينفعه * أن سوف يأتي كل ما قدرا
وقيل: الإشارة إلى تسخير الشياطين، والمراد بالمن والإمساك إطلاقهم وإبقاؤهم في الأصفاد، والمن قد يكون بمعنى الإطلاق كما في قوله تعالى: * (فإما منا بعد وإما فداء) * (محمد: 4) والأولى في قوله تعالى: * (بغير حساب) * حينئذ كونه حالا من المستكن في الأمر، وهذا القول رواه ابن جرير. وابن أبي حاتم عن ابن
عباس، وما روي عنه من أنه إشارة إلى ما وهب له عليه السلام من النساء والقدرة على جماعهن لا يكاد يصح إذ لم يجر لذلك ذكر في الآية، وإلى الأول ذهب الجمهور وهو اوظهر، وقرأ ابن مسعود * (هذا فامنن أو أمسك عطاؤنا بغير حساب) *.
* (وإن له عندنا لزلفى وحسن م‍ااب) *.
* (وإن له عندنا لزلفى) * لقربة وكرامة مع ماله من الملك العظيم فهو إشارة إلى أن ملكه لا يضره ولا ينقصه شيئا من مقامه.
* (وحسن مآب) * حسن مرجع في الجنة وهو عطف على * (زلفى) * وقرأ الحسن. وابن أبي عبلة * (وحسن) * بالرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف أي له، والوقف عندهما على * (لزلفى) * هذا وأمر سليمان عليه السلام من أعظم الأمور وكان مع ما آتاه الله تعالى من الملك العظيم يعمل الخوص بيده ويأكل خبز الشعير ويطعم بني إسرائيل الحواري أخرجه أحمد في الزهد عن عطاء، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رفع سليمان عليه السلام طرفه إلى السماء تخشعا " حيث أعطاه الله تعالى ما أعطاه وكان في عصره من ملوك الفرس كيخسرو فقد ذكر الفقيه أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري في تاريخه أنه عليه السلام ورث ملك أبيه في عصر كيخسرو بن سباوش وسار من الشام إلى العراق فبلغ خبره كيخسرو فهرب إلى خراسان فلم يلبث حتى هلك ثم سار سليمان إلى مرو ثم إلى بلاد الترك فوغل فيها ثم جاوز بلاد الصين ثم عطف إلى أن وافى بلاد فارس فنزلها أياما ثم عاد إلى الشام ثم أمر ببناء بيت المقدس فلما فرغ سار إلى تهامة ثم إلى صنعاء وكان من حديثه مع صاحبتها ما ذكره الله تعالى وغزا بلاد المغرب الأندلس وطنجة وغيرهما ثم انطوى البساط وضرب له بين عساكر الموتى الفسطاط فسبحان الملك الدائم الذي لا يزول ملكه ولا ينقضي سلطانه.
* (واذكر عبدنآ أيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الشيط‍ان بنصب وعذاب) *.
* (واذكر عبدنا أيوب) * قال ابن إسحاق: الصحيح أنه كان من بني إسرائيل ولم يصح في نسبه شيء غير أن اسم أبيه أموص، وقال ابن جرير: هو أيوب بن أموص بن روم بن عيص بن إسحاق عليه السلام، وحكى ابن عساكر أن أمه بنت لوط وأن أباه ممن آمن بإبراهيم فعلى هذا كان عليه السلام قبل موسى، وقال ابن جرير: كان بعد شعيب، وقال ابن أبي خيثمة: كان بعد سليمان، وقوله تعالى: * (اذكر) * الخ عطف على * (اذكر عبدنا داود) * وعدم تصدير قصة سليمان عليه السلام بهذا العنوان لكمال الاتصال بينه وبين داود عليهما السلام، و * (أيوب) * عطف بيان لعبدنا أو بدل منه بدل كل من كل، وقوله تعالى: * (إذ نادى ربه) * بدل اشتمال منه أو من * (أيوب) * * (أني) * أي بأني.
وقرأ عيسى بكسر همزة * (إني) * * (مسني الشيطان) * وقرىء بإسكان ياء * (مسني) * وبإسقاطها * (بنصب) * بضم النون وسكون الصاد التعب كالنصب بفتحتين، وقيل: هو جمع نصب كوثن ووثن، وقرأ أبو جعفر. وشيبة. وأبو عمارة عن حفص. والجعفي عن أبي بكر. وأبو معاذ عن نافع بضمتين وهي لغة، ولا مانع من كون الضمة الثانية عارضة للاتباع، وربما يقال: إن في ذلك رمزا إلى ثقل تعبه وشدته، وقرأ زيد بن علي. والحسن. والسدي. وابن أبي عبلة. ويعقوب. والجحدري بفتحتين وهي لغة أيضا كالرشد والرشد، وقرأ أبو حيوة. ويعقوب في رواية وهبيرة عن حفص بفتح النون وسكون الصاد، قال الزمخشري: على أصل المصدر، ونص ابن عطية على أن ذلك لغة أيضا قال: بعد ذكر القراآت: وذلك كله بمعنى واحد وهو المشقة وكثيرا ما يستعمل النصب في مشقة الاعياء.
وفرق بعض الناس بين هذه الألفاظ والصواب أنها لغات بمعنى من قولهم أنصبني الأمر إذا شق علي انتهى.
205

والتنوين للتفخيم وكذا في قوله تعالى: * (وعذاب) * وأراد به الألم وهو المراد بالضر في قوله: * (إني مسني الضر) *.
وقيل: النصب والضر في الجسد والعذاب في الأهل والمال، وهذا حكاية لكلامه عليه السلام الذي نادى به ربه عز وجل بعبارته وإلا لقيل إنه مسه الخ بالغيبة، وإسناد المس إلى الشيطان قيل على ظاهره وذلك أنه عليه اللعنة سمع ثناء الملائكة عليهم السلام على أيوب عليه السلام فحسده وسأل الله تعالى أن يسلطه على جسده وماله وولده ففعل عز وجل ابتلاء له، والقصة مشهورة. وفي بعض الآثار أن الماس له شيطان يقال له مسوط، وأنكر الزمخشري ذلك فقال: لا يجوز أن يسلط الله تعالى الشيطان على أنبيائه عليهم السلام ليقضي من إتعابهم وتعذيبهم وطره، ولو قدر على ذلك لم يدع صالحا إلا وقد نكبه وأهلكه، وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب، وجعل إسناد المس أليه هنا مجازا فقال: لما كانت وسوسته إليه وطاعته له فيما وسوس سببا فيما مسه الله تعالى به من النصب والعذاب نسبه إليه، وقد راعى عليه السلام الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله سبحانه في دعائه مع أنه جل وعلا فاعله ولا يقدر عليه إلا هو، وهذه الوسوسة قيل وسوسته إليه عليه السلام أن يسأل الله تعالى البلاء ليمتحن ويجرب صبره على ما يصيبه كما قال شرف الدين عمر بن الفارض. وبما شئت في هواك اختبرني * فاختياري ما كان فيه رضاكا
وسؤاله البلاء دون العافية ذنب بالنسبة لمقامه عليه لا حقيقة، والمقصود من ندائه بذلك الاعتراف بالذنب.
وقيل إن رجلا استغاثه على ظالم فوسوس إليه الشيطان بترك إغاثته فلم يغثه فمسه الله تعالى بسبب ذلك بما مسه.
وقيل: كانت مواشيه في ناحية ملك كافر فداهنه ولم يغزه وسوسة من الشيطان فعاتبه الله تعالى بالبلاء، وقيل وسوس إليه فأعجب بكثرة ماله وولده فابتلاه الله تعالى لذلك وكل هذه الأقوال عندي متضمنة ما لا يليق بمنصب الأنبياء عليهم السلام. وذهب جمع إلى أن النصب والعذاب ليسا ما كانا له من المرض والألم أو المرض وذهاب الأهل والمال بل أمران عرضا له وهو مريض فاقد الأهل والمال فقيل هما ما كانا له من وسوسة الشيطان إليه في مرضه من عظم البلاء والقنوط من الرحمة والإغراء على الجزع كان الشيطان يوسوس إليه بذلك وهو يجاهده في دفع ذلك حتى تعب وتألم على ما هو فيه من البلاء فنادى ربه يستصرفه عنه ويستعينه عليه * (إني مسني الشيطان بنصب وعذاب) * وقيل كانا من وسوسة الشيطان إلى غيره فقيل: إن الشيطان تعرض لامرأته بصورة طبيب فقالت له: إن ههنا مبتلى فهل لك أن تداويه فقال:
نعم بشرط أن يقول: إذا شفيته أنت شفيتني فمالت لذلك وعرضت كلامه لأيوب عليه السلام فعرف أنه الشيطان وكان عليه ذلك أشد مما هو فيه * (فنادى ربه أني مسني) * الخ؛ وقيل: إن الشيطان طلب منها أن تذبح لغير الله تعالى إذا عالجه وبرأ فمالت لذلك فعظم عليه عليه السلام الأمر فنادى، وقيل: إنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين فارتد أحدهم فسأل عنه فقيل له: ألقى إليه الشيطان أن الله تعالى لا يبتلي الأنبياء والصالحين فتألم من ذلك جدا فقال ما قال وفي رواية مر به نفر من بني إسرائيل فقال بعضهم لبعض: ما أصابه هذا إلا بذنب أصابه وهذا نوع من وسوسة الشيطان فعظم عليه ذلك فقال ما قال، والإسناد على جميع ما ذكر باعتبار الوسوسة، وقيل: غير ذلك والله تعالى أعلم. وقوله سبحانه:
* (اركض برجلك ه‍اذا مغتسل بارد وشراب) *.
* (اركض برجلك) * إما حكاية لماق يل له أو مقول لقول مقدر معطوف على * (نادى) * أي فقلنا له أركض برجلك
206

أي اضرب بها وكذا قوله تعالى: * (ه‍اذا مغتسل بارد وشراب) * فإنه أيضا إما حكاية لما قيل له بعد امتثاله بالأمر ونبوع الماء أو مقول لقول مقدر معطوف على مقدر ينساق إليه الكلام كأنه قيل: فضربها فنبعت عين فقلنا له هذا مغتسل تغتسل به وتشرب منه فيبرأ ظاهرك وباطنك، فالمغتسل اسم مفعول على الحذف والإيصال وكذا الشراب، وعن مقاتل أن المغتسل اسم مكان أي هذا مكان تغتسل فيه وليس بشيء، وظاهر الآية اتحاد المخبر عنه بمغتسل وشراب، وقيل: إنه عليه السلام ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل منها وبرجله اليسرى فنبعت باردة فشرب منها، وقال الحسن: ركض برجله فنبعت عين فاغتسل منها ثم مشى نحوا من أربعين ذراعا ثم ركض برجله فنبعت أخرى فشرب منها، ولعله عنى بالأولى عينا حارة، وظاهر النظم عدم التعدد.
و * (بارد) * على ذلك صفة * (شراب) * مع أنه مقدم عليه صفة * (مغتسل) * وكون هذا إشارة إلى جنس النابع أو يقدر وهذا بارد الخ تكلف لا يخرج ذلك عن الضعف، وقيل أمر بالركض بالرجل ليتناثر عنه كل داء بجسده.
وكان ذلك على ما روي عن قتادة. والحسن. ومقاتل بأرض الجابية من الشام، وفي الكلام حذف أيضا أي فاغتسل وشرب فكشفنا بذلك ما به من ضر.
* (ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لاولى الالب‍اب) *.
* (ووهبنا له أهله) * بإحيائهم بعد هلاكهم على ما روي عن الحسن.
وروى الطبرسي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أن الله تعالى أحيا له أهله الذين كانوا ماتوا قبل البلية وأهله الذين ماتوا وهو في البلية، وفي " البحر " الجمهور على أنه تعالى أحيا له من مات من أهله وعافى المرضى وجمع عليه من تشتت منهم، وقيل وإليه أميل وهبه من كان حيا منهم وعافاه من الأسقام وأرغد لهم العيش فتناسلوا حتى بلغ عددهم عدد من مضى * (ومثلهم معهم) * فكان له ضعف ما كان، والظاهر أن هذه الهبة كانت في الدنيا، وزعم بعض أن هذا وعد وتكون تلك الهبة في الآخرة * (رحمة منا) * أي لرحمة عظيمة عليه من قبلنا.
* (وذكرى لأولي الألباب) * وتذكيرا لهم بذلك ليصيروا على الشدائد كما صبر ويلجؤا إلى الله تعالى فيما يصيبهم كما لجأ ليفعل سبحانه بهم ما فعل به من حسن العاقبة. روي عن قتادة أنه عليه السلام ابتلي سبع سنين وأشهرا وألقي على كناسة بني إسرائيل تختلف الدواب في جسده فصبر ففرج الله تعالى عنه وأعظم له الأجر وأحسن، وعن ابن عباس أنه صار ما بين قدميه إلى قرنه قرحة واحدة وألقى على الرماد حتى بدا حجاب قلبه فكانت امرأته تسعى إليه فقالت له يوما: أما ترى يا أيوب قد نزل بي والله من الجهد والفاقة ما إن بعت قروني برغيف فأطعمتك فادع الله تعالى أن يشفيك ويريحك فقال: ويحك كنا في النعيم سبعين عاما فاصبري حتى نكون في الضر سبعين عاما فكان في البلاء سبع سنين ودعا فجاء جبريل عليه السلام فأخذ بيده ثم قال: قم فقام عن مكانه وقال: * (اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب) * (ص: 42) فاغتسل وشرب فبرأ وألبسه الله تعالى حلة من الجنة فتنحى فجلس في ناحية وجاءت امرأته فلم تعرفه فقالت: يا عبد الله أين المبتلى الذي كان ههنا؟ لعل الكلاب ذهبت به أو الذئاب وجعلت تكلمه ساعة فقال: ويحك أنا أيوب قد رد الله تعالى على جسدي ورد الله تعالى عليه ماله وولده ومثلهم معهم وأمطر عليه جرادا من ذهب فجعل يأخذ الجراد بيده ويجعله في ثوبه وينشر كساءه فيجعل فيه فأوحى الله تعالى إليه يا أيوب أما شبعت؟ قال: يا رب من الذي يشبع من فضلك ورحمتك، وفي " البحر " روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أن أيوب بقي في محنته ثماني عشرة سنة يتساقط لحمه حتى
207

مله العالم ولم يصبر عليه إلا امرأته " وعظم بلائه عليه السلام مما شاع وذاع ولم يختلف فيه اثنان لكن في بلوغ أمره إلى أن ألقي على كناسة ونحو ذلك فيه خلاف قال الطبرسي: قال أهل التحقيق إنه لا يجوز أن يكون بصفة يستقذره الناس عليها لأن في ذلك تنفيرا فأما الفقر والمرض وذهاب الأهل فيجوز أن يمتحنه الله تعالى بذلك.
وفي هداية المريد للقاني أنه يجوز على الأنبياء عليهم السلام كل عرض بشري ليس محرما ولا مكروها ولا مباحا مزريا ولا مزمنا ولا مما تعافه الأنفس ولا مما يؤدي إلى النفرة ثم قال بعد ورقتين، واحترزنا بقولنا ولا مزمنا ولا مما تعافه الأنفس عما كان كذلك كالإقعاد والبرص والجذام والعمى والجنون، وأما الإغماء فقال النووي لا شك في جوازه عليهم لأنه مرض بخلاف الجنون فإنه نقص، وقيد أبو حامد الإغماء بغير الطويل وجزم به البلقيني، قال السبكي: وليس كإغماء غيرهم لأنه إنما يستر حواسهم الظاهرة دون قلوبهم لأنها معصومة من النوم الأخف، قال: ويمتنع عليهم الجنون وإن قل لأنه نقص ويلحق به العمى ولم يعم نبي قط، وما ذكر عن شعيب من كونه كان ضريرا لم يثبت، وأما يعقوب فحصلت له غشاوة وزالت اه‍.
وفرق بعضهم في عروض ذلك بين أن يكون بعد التبليغ وحصول الغرض من النبوة فيجوز وبين أن يكون قبل فلا يجوز، ولعلك تختار القول بحفظهم مما تعافه النفوس ويؤدي إلى الاستقذار والنفرة مطلقا وحينئذ فلا بد من القول بأن ما ابتلي به أيوب عليه السلام لم يصل إلى حد الاستقذار والنفرة كما يشعر به ما روي عن قتادة ونقله
القصاص في كتبهم، وذكر بعضهم أن داءه كان الجدري ولا أعتقد صحة ذلك والله تعالى أعلم. [بم وقوله تعالى:
* (وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدن‍اه صابرا نعم العبد إنه أواب) *.
* (وخذ بيدك ضغثا) * عطف على * (اركض) * أو على * (وهبنا) * بتقدير قلنا خذ بيدك الخ. والأول أقرب لفظا وهذا أنسب معنى فإن الحاجة إلى هذا الأمر لا تمس إلا بعد الصحة واعتدال الوقت فإن امرأته رحمة بنت إفرائيم أو مشيا بن يوسف أوليا بنت يعقوب أو ما خير بنت ميشا بن يوسف على اختلاف الروايات.
ولا يخفى لطف * (رحمة منا) * على الرواية الأولى ذهبت لحاجة فأبطأت أو بلغت أيوب عن الشيطان أن يقول كلمة محذورة فيبرأ وأشارت عليه بذلك فقالت له إلى متى هذا البلاء كلمة واحدة ثم استغفر ربك فيغفر لك أو جاءته بزيادة على ما كانت تأتي به من الخبز فظن أنها ارتكبت في ذلك محرما فحلف ليضربنها إن برىء مائة ضربة فأمره الله تعالى بأخذ الضغث وهو الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو قضبان، وقيل: القبضة الكبيرة من القضبان، ومنه ضغث على إبالة والإبالة الحزمة من الحطب والضغث القبضة من الحطب أيضا عليها، ومنه قول الشاعر: وأسفل مني نهدة قد ربطتها * وألقيت ضغثا من خلى متطيب
وقال ابن عباس هنا: الضغث عثكال النخل، وقال مجاهد: الأثل وهو نبت له شوك، وقال الضحاك: حزمة من الحشيش مختلفة، وقال الأخفش: الشجر الرطب، وعن سعيد بن المسيب أنه عليه السلام لما أمر أخذ ضغثا من ثمام فيه مائة عود، وقال قتادة: هو عود فيه تسعة وتسعون عودا والأصل تمام المائة فإن كان هذا معتبرا في مفهوم الضغث ولا أظن فذاك وإلا فالكلام على إرادة المائة فكأنه قيل: خذ بيدك ضغثا فيه مائة عود * (فاضرب به) * أي بذلك الضغث * (ولا تحنث) * بيمينك فإن البر يتحقق به ولقد شرع الله تعالى ذلك رحمة عليه وعليها لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها وهي رخصة باقية في الحدود في شريعتنا وفي غيرها أيضا لكن غير
208

الحدود يعلم منها بالطريق الأولى فقد أخرج عبد الرزاق. وسعيد بن منصور. وابن جرير. وابن المنذر عن أبي إمامة بن سهل بن حنيف قال: حملت وليدة في بني ساعدة من زنا فقيل لها: ممن حملك؟ قالت: من فلان المقعد فسئل المقعد فقال: صدقت فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خذوا عثكولا فيه مائة شمراخ فاضربوه به ضربة واحدة ففعلوا، وأخرج عبد الرزاق. وعبد بن حميد عن محمد بن عبد الرحمن عن ثوبان أن رجلا أصاب فاحشة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض على شفا موت فأخبر أهله بما صنع فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقنو فيه مائة شمراخ فضرب به ضربة واحدة، وأخرج الطبراني عن سهل بن سعد أن النبي عليه الصلاة والسلام أتى بشيخ قد ظهرت عروقه قد زنى بامرأة فضربه بضغث فيه مائة شمراخ ضربة واحدة، ولا دلالة في هذه الأخبار على عموم الحكم من يطيق الجلد المتعارف لكن القائل ببقاء حكم الآية قائل بالعموم لكن شرطوا في ذلك أن يصيب المضروب كل واحدة من المائة إما بأطرافها قائمة أو بأعراضها مبسوطة على هيئة الضرب.
وقال الخفاجي: إنهم شرطوا فيه الايلام أما مع عدمه بالكلية فلا فلو ضرب بسوط واحد له شعبتان خمسين مرة من حلف على ضربه مائة بر إذا تألم فإن لم يتألم لا يبر ولو ضربه مائة لأن الضرب وضع لفعل مئلم بالبدن بآلة التأديب، وقيل: يحنث بكل حال كما فصل في " شروح الهداية " وغيرها انتهى.
وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس لا يجوز ذلك لأحد بعد أيوب إلا الأنبياء عليهم السلام، وفي أحكام القرآن العظيم للجلال السيوطي عن مجاهد قال: كانت هذه لأيوب خاصة، وقال الكيا: ذهب الشافعي. وأبو حنيفة. وزفر إلى أن من فعل ذلك فقد بر في يمينه، وخالف مالك ورآه خاصا بأيوب عليه السلام، وقال بعضهم: إن الحكم كان عاما ثم نسخ والصحيح بقاء الحكم، واستدل بالآية على أن للزوج ضرب زوجته وأن يحلف ولا يستثنى وعلى أن الاستثناء شرطه الاتصال إذ لو لم يشترط لأمره سبحانه وتعالى بالاستثناء ولم يحتج إلى الضرب بالضغث.
واستدل عطاء بها على مسألة أخرى فأخرج سعيد بن منصور بسند صحيح عنه أن رجلا قال له: إني حلفت أن لا أكسو امرأتي درعا حتى تقف بعرفة فقال: احملها على حمار ثم اذهب فقف بها بعرفة فقال: إنما عنيت يوم عرفة فقال عطاء: أيوب حين حلف ليجلدن امرأته مائة جلدة أنوي أن يضربها بالضغث إنما أمره الله تعالى أن يأخذ ضغثا فيضربها به ثم قال: إنما القرآن عبر إنما القرآن عبر، وللبحث في ذلك مجال، وكثير من الناس استدل بها على جواز الحيل وجعلها أصلا لصحته، وعندي أن كل حيلة أوجبت إبطال حكمة شرعية لا تقبل كحيلة سقوط الزكاة وحيلة سقوط الاستبراء وهذا كالتوسط في المسألة فإن من العلماء من يجوز الحيلة مطلقا ومنهم من لا يجوزها مطلقا، وقد أطال الكلام في ذلك العلامة ابن تيمية * (إنا وجدناه صابرا) * فيما أصابه في النفس والأهل والمال.
وقد كان عليه السلام يقول كلما أصابته مصيبة: اللهم أنت أخذت وأنت أعطيت ويحمد الله عز وجل، ولا يخل بذلك شكواه إلى الله تعالى من الشيطان لأن الصبر عدم الجزع ولا جزع فيما ذكر كتمني العافية وطلب الشفاء مع أنه قال ذلك على ما قيل خيفة الفتنة في الدين كما سمعت فيما تقدم، ويروى أنه قال في مناجاته: الهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي ولم يتبع قلبي بصري ولم يلهني ما ملكت يميني ولم آكل إلا ومعي يتيم ولم أبت شبعان ولا كاسيا ومعي جائع أو عريان فكشف الله تعالى عنه * (نعم العبد) * أي أيوب * (إنه أواب) * تعليل لمدحه
209

وتقدم معنى الأواب.
* (واذكر عبادنآ إبراهيم وإسح‍اق ويعقوب أولى الايدى والابص‍ار) *.
* (واذكر عبادنا إبراهيم واسحاق ويعقوب) * الثلاثة عطف بيان لعبادنا أو بدل منه.
وقيل: نصب باضمار أعني، وقرأ ابن عباس. وابن كثير. وأهل مكة * (عبدنا) * بالإفراد فإبراهيم وحده بدل أو عطف بيان أو مفعول أعني، وخص بعنوان العبودية لميزد شرفه، وما بعده عطف على * (عبدنا) * وجوز أن يكون المراد بعبدنا عبادنا وضعا للجنس موضع الجمع فتتحد القراءتان * (أولى الأيدي والأبصار) * أولى
القوة في الطاعة والبصيرة في الدين على أن الأيدي مجاز مرسل عن القوة، والأبصار جمع بصر بمعنى بصيرة وهو مجاز أيضا لكنه مشهور فيه أو أولي الأعمال الجليلة والعلوم الشريفة على أن ذكر الأيدي من ذكر السبب وإرادة المسبب، والأبصار بمعنى البصائر مجاز عما يتفرع عليها من العلوم كالأول أيضا، وفي ذلك على الوجهين تعريض بالجهلة الباطلين أنهم كفاقدى الأيدي والأبصار وتوبيخ على تركهم المجاهدة والتأمل مع تمكنهم منهما، وقيل: الأيدي النعم أي أولى التي اسداها الله تعالى إليهم من النبوة والمكانة أو أولى النعم والإحسانات على الناس بإرشادهم وتعليمهم إياهم، وفيه ما فيه. وقرىء * (الأيادي) * على جمع الجمع كأوطف وأواطف، وقرأ عبد الله. والحسن. وعيسى. والأعمش * (الأيد) * بغير ياء فقيل يراد الأيدي بالياء وحذفت اجتزاء بالكسرة عنها، ولما كانت أل تعاقب التنوين حذفت الياء معها كما حذفت مع التنوين حكاه أبو حيان ثم قال: وهذا تخريج لا يسوغ لأن حذف هذه الياء مع وجود أل ذكره سيبويه في الضرائر، وقيل: الأيد القوة في طاعة الله تعالى نظر ما تقدم. وقال الزمخشري بعد تعليل الحذف بالاكتفاء بالكسرة وتفسيره بالأيد من التأييد قلق غير متمكن وعلل بأن فيه فوات المقابلة وفوات النكتة البيانية فلا تغفل.
* (إنآ أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار) *.
* (إنا أخلصناهم بخالصة) * تعليل لما وصفوا به، والباء للسببية وخالصة اسم فاعل وتنوينها للتفخيم، وقوله تعالى: * (ذكرى الدار) * بيان لها بعد إبهامها للتفخيم، وجوز أن يكون خبرا عن ضميرها المقدر أي هي
210

ذكرى الدار، وأيا ما كان فذكرى مصدر مضاف لمفعوله وتعريف الدار للعهد أي الدار الأخرة، وفيه إشعار بأنها الدار في الحقيقة وإنما الدنيا مجاز أي جعلناهم خالصين لنا بسبب خصلة خالصة جليلة الشأن لا شوب فيها هي نذكرهم دائما الدار الآخرة فإن خلوصهم في الطاعة بسبب تذكرهم إياها وذلك لأن مطمح انظارهم ومطرح أفكارهم في كل ما يأتون ويدرون جواز الله عز وجل والفوز بلقائه ولا يتسنى ذلك إلا في الآخرة.
وقيل أخلصناهم بتوفيقهم لها واللطف بهم في اختيارها والباء كما في الوجه الأول للسببية والكلام نحو قولك: أكرمته بالعلم أي بسبب أنه عالم أكرمته أو أكرمته بسبب أنك جعلته عالما، وقد يتخيل في الثاني أنه صلة، ويعضد الوجه الأول قراءة الأعمش. وطلحة * (بخالصتهم) *.
وأخرج ابن المنذر عن الضحاك أن ذكرى الدار تذكيرهم الناس الآخرة وترغيبهم إياهم فيها وتزهيدهم إياهم فيها على وجه خالص من الحظوظ النفسانية كما هو شأن الأنبياء عليهم السلام، وقيل المراد بالدار الدار الدنيا وبذكراها الثناء الجميل ولسان الصدق الذي ليس لغيرهم. وحكى ذلك عن الجبائي. وأبي مسلم وذكره ابن عطية احتمالا، وحاصل الآية عليه كما قال الطبرسي إنا خصصناهم بالذكر الجميل في الأعقاب.
وقرأ أبو جعفر. وشيبة. والأعرج. ونافع. وهشام بإضافة * (خالصة) * إلى * (ذكرى) * للبيان أي بما خلص من ذكرى الدار على معنى أنهم لا يشوبون ذكراها بهم آخر أصلا أو على غير ذلك من المعاني، وجوز على هذه القراءة أن تكون * (خالصة) * مصدرا كالعاقبة والكاذبة مضافا إلى الفاعل أي أخلصناهم بأن خلصت لهم ذكرى الدار. وظاهر كلام أبي حيان أن احتمال المصدرية ممكن في القراءة الأولى أيضا لكنه قال: الأظهر أن تكون اسم فاعل.
* (وإنهم عندنا لمن المصطفين الاخيار) *.
* (وإنهم عندنا لمن المصطفين) * أي المختارين من بين أبناء جنسهم، وفيه إعلال معروف.
وعندنا يجوز فيه أن يكون من صلة الخبر وإن يكون من صلة محذوف دل عليه * (لمن المصطفين) * أي وإنهم مصطفون عندنا، ولم يجوزوا أن يكون من صلة * (المصطفين) * المذكور لأن أل فيه موصولة ومصطفين صلة وما في حيز الصلة لا يتقدم معمولة على الموصول لئلا يلزم تقدم الصلة على الموصول. واعترض بأنا لا نسلم أن أل فيه موصولة إذ لم يرد منه الحدوث ولو سلم فالمتقدم ظرف وهو يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره، والظاهر أن الجملة عطف على ما قبلها، وتأكيدها لمزيد الاعتناء بكونهم عنده تعالى من المصطفين من الناس. * (الأخيار) * الفاضلين أن لا يجمع على أفعال لكنه للزوم تخفيفه حتى أنه لا يقال أخير إلا شذوذا أو في ضرورة جعل كأنه بنية أصلية؛ وقيل جمع خير المشدد أو خير المخف منه كأموات في جمع ميت بالتشديد أو ميت بالتخفيف.
* (واذكر إسم‍اعيل واليسع وذا الكفل وكل من الاخيار) *.
* (واذكر إسماعيل) * فصل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه اعتنار بشأنه من حيث أنه لا يشرك العرب فيه غيرهم أو للأشعار بعراقته في الصبر الذي هو المقصود بالذكر * (واليسع) * قال ابن جرير هو ابن أخطوب بن العجوز، وذكر أنه استخلفه إلياس على بني إسرائيل ثم استنبىء، واللام فيه زائدة لازمة لمقارنتها للوضع، ولا ينافي كونه غير عربي فإنها قد لزمت في بعض الأعلام الأعجمية كالاسكندر فقد لحن التبريزي من قال اسكندر مجردا له منها، والأولى عندي أنه إذا كان اسما أجميا وأل فيه مقار نة للوضع أن لا يقال بزيادتها فيه، وقيل هو اسم عربي منقول من يسع مضارع وسع حكاه الجلال السيوطي في الاتقان. وفي القاموس يسع كيضع اسم أعجمي أدخل عليه أل ولا تدخل على نظائره كيزيد.
وقرأ حمزة. والكسائي * (والليسع) * بلامين والتشديد كان أصله ليس بوزن فيعل من اللسع دخل عليه أل تشبيها بالمنقول الذي تدخله للمح أصله، وجزم بعضهم بأنه على هذه القراءة أيضا علم أعجمي دخل عليه اللام.
* (وذا الكفل) * قيل هو ابن أيوب، وعن وهب أن الله تعالى بعث بعد أيوب شرف بن أيوب نبيا وسماه الكفل وأمره بالدعاء إلى توحيده وكان مقيما بالشام عمره حتى مات وعمره خمس وسبعون سنة. وفي العجائب للكرماني قيل هو الياس، وقيل هو يوشع بن نون، وقيل هو نبي اسمه ذو الكفل، وقيل كان رجلا صالحا تكفل بأمور فوفي بها، وقيل هو زكريا من قوله تعالى: * (وكفلها زكريا) * (آل عمران: 37) اه‍، وقال ابن عساكر: هو نبي تكفل الله تعالى له في عمله بضعف عمل غيره
من الأنبياء، وقيل لم يكن نبيا وان البسع استخلفه فتكفل له أن يصوم النهار ويقوم الليل، وقيل أن يصلي كل يوم مائة ركعة، وقيل: كان رجلا من الصالحين كان في زمانه أربعمائة نبي من بني إسرائيل فقتلهم ملك جبار إلا مائة منهم فروا من القتل فآواهم وأخفاهم وقام بمونتهم فسماه الله تعالى ذا الكفل، وقيل هو اليسع وأن له اسمين ويأباه ظاهر النظم * (وكل) * أي ولكهم * (من الأخيار) *
211

المشهورين بالخيرية.
* (ه‍اذا ذكر وإن للمتقين لحسن م‍ااب) *.
* (هاذا) * إشارة إلى ما تقدم من الآيات الناطقة بمحاسنهم * (ذكر) * أي شرف لهم وشاع الذكر بهذا المعنى لأن الشرف يلزمه الشهرة والذكر بين الناس فتجوز به عنه بعلاقة اللزوم، والمراد في ذكر قصصهم وتنويه الله تعالى بهم شرف عظيم لهم أو المعنى هذا المذكور من الآيات نوع من الذكر الذي هو القرآن، وذكر ذلك للانتقال من نوع من الكلام إلى آخر كما يقول الجاحظ في كتبه: فهذا باب ثم شرع في باب آخر ويقول الكاتب إذا فرغ من فصل من كتابه وأراد الشروع في آخر: هذا وكان كيت وكيت، ويحذف على ما قيل الخبر في مثل ذلك كثيرا وعليه * (هذا وإن للطاغين لشر مآب) * وستسمع إن شاء الله تعالى الكلام فيه فلا يقال: إنه لا فائدة فيه لأنه معلوم أنه من القرآن. وقال ابن عباس: هذا ذكر من مضي من الأنبياء عليهم السلام، وقوله تعالى: * (وإن للمتقين لحسن مآب) * أي مرجع شروع في بيان أجرهم الجزيل في الآجل بعد بيان ذكرهم الجميل في العاجل، والمراد بالمتقين إما الجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا وإما نفس المذكورين عبر عنهم بذلك مدحا لهم بالتقوى التي هي الغاية القصوى في الكمال، والجلمة فيما أرى عطف على الجملة قبلها كأنه قيل: هذا شرف لهم في الدنيا وإن لهم ولأضرابهم أو إن لهم في الآخرة لحسن مآب أو هي من قبيل عطف القصة على القصة، وقال الشهاب الخفاجي عليه الرحمة: هي حالية ولم يبين صاحب الحال، ويبعد أن يكون * (ذكرا) * لأنه نكرة متقدمة وأن يكون * (هذا) * لأنه مبتدأ ومع ذلك في المعنى على تقدير الحالية خفاء، وقال بعض أجلة المعاصرين. إنه أراد أن الكلام على معنى والحال كذا أي الأمر والشأن كذا ولم يرد أن الجملة حال بالمعنى المعروف الذي يقتضي ذا حال وعاملا في الحال إلى غير ذلك وادعى أن الأمر كذلك في كل جملة يقال إنها حال وليس فيها ضمير يعود على ما قبلها نحو جاء زيد والشمس طالعة وقال: إنه الذي ينبغي أن يعول عليه وإن لم يذكره النحويون اه‍، والحال لا يخفي على ذي تمييز، وإضافة * (حسن) * إلى * (مآب) * من إضافة الصفة إلى الموصوف إما بتأويل مآب ذي حسن أو حسن وأما بدونه قصدا للمبالغة. [بم وقوله تعالى:
* (جن‍ات عدن مفتحة لهم الابواب) *.
* (جنات عدن) * بدل اشتمال، وجوز أن يكون نصبا على المدح، وجعله الزمخشري عطف بيان لحسن مآب، وعدن قيل من الإعلام الغالبة غلبة تقديرية ولزوم الإضافة فيها أو تعريفها باللام أغلبي كما صرح به ابن مالك في التسهيل، وجنات عدن كمدينة طيبة لا كإنسان زيد فإنه قبيح، وقيل العلم مجموع * (جنات عدن) * وهو أيضا من غير الغالب لأن المراد من الإضافة التي تعوضها العلم بالغلبة إضافة تفيده تعريفا، وعلى القولين هو معين فيصلح للسان لكن تعقب ذلك أبو حيان بأن للنحويين في عطف البيان مذهبين، أحدهما أن ذلك لا يكون إلا في المعارف فلا يكون عطف البيان إلا تابعا لمعرفة وهو مذهب البصريين، والثاني أنه يجوز أن يكون في النكرات فيكون عطف البيان تابعا لنكرة كما تكون المعرفة فيه تابعة لمعرفة وهذا مذهب الكوفيين وتبعهم الفارسي؛ وأما تخالفهما في التنكير والتعريف فلم يذهب إليه أحد سوى الزمخشري كما قد صرح به ابن مالك في التسهيل فهو بناء للأمر على مذهبه.
وذهب آخرون أن عدنا مصدر عدن بمكان كذا استقر، ومنه المعدن لمستقر الجواهر ولا علمية ولا نقل هناك ومعنى * (جنات عدن) * جنات استقرار وثبات فإن كان عطف بيان فهو على مذهب الكوفيين والفارسي.
ومن الغريب ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال: سألت كعبا عن قوله تعالى: * (جنات عدن) * فقال: جنات
212

كروم وأعناب بالسريانية، وفي تفسير ابن جرير أنه بالرومية، وقوله تعالى:
* (مفتحة لهم الأبواب) * إما صفة لجنات عدن وإليه ذهب ابن اسحق وتبعه ابن عطية أو حال من ضميرها المستتر في خبر إن والعامل فيه الاستقرار المقدر أو نفس الظرف لتضمنه معناه ونيابته عنه وإليه ذهب الزمخشري ومختصر وكلامه أو حال من ضميرها المحذوف مع العامل لدلالة المعنى عليه والتقدير يدخلونها مفتحة وإليه ذهب الحوفي، و * (الأبواب) * نائب فاعل * (مفتحة) * عند الجمهور والرابط العائد على الجنات محذوف تقديره الأبواب منها، واكتفى الكوفيون عن ذلك بأل لقيامها مقام الضمير فكأنه قيل: مفتحة لهم أبوابها، وذهب أبو على إلى أن نائب فاعل * (مفتحة) * ضمير الجنات والأبواب بدل منه بدل اشتمال كما هو ظاهر كلام الزمخشري، ولا يصح أن يكون بدل بعض من كل لأن أبواب الجنات ليست بعضا من الجنات على ما قال أبو حيان. وقرأ زيد بن علي، وعبد الله بن رفيع. وأبو حيوة * (جنات عدن مفتحة) * برفعهما على أنهما خبران لمحذوف أي هو أي المآب جنات عدن مفتحة لهم أبوابه أو هو جنات عدن هي مفتحة لهم أبوابها أو على أنهما مبتدأ وخبر.
ووجه ارتباط الجملة بما قبلها انها مفسرة لحسن المآب لأن محصلها جنات أبوابها فتحت أكراما لهم أو هي معترضة. [بم وقوله تعالى:
* (متكئين فيها يدعون فيها بف‍اكهة كثيرة وشراب) *.
* (متكئين فيها) * وقوله سبحانه: * (يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب) * قيل حالان من ضمير * (لهم) * وهما حالان مقدران لأن الاتكاء وما بعده ليس في حال تفتيح الأبواب بل بعده، وقيل: الأول حال مقدرة من الضمير المذكور الثاني حال من ضمير متكئين، وجوز جعلهما حالين من المتقين، ولا يصح إلا إن قلنا بأن الفاصل
ليس بأجنبي والظاهر أنه أجنبي، وقال بعض الأجلة: الأظهر ان * (متكئين) * حال من ضمير * (يدعون) * قدم رعاية للفاصلة ويدعون استئناف لبيان حالهم كأنه قيل ما حالهم بعد دخولها؟ فقيل: يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب متكئين فيها، والاقتصار على الفاكهة للإيذان بأن مطاعمهم لمحض التفكه والتلذذ دون التعدي فإنه لتحصيل بدل ولا تحلل ثمت ولما كانت الفاكهة تتنوع وصفها سبحانه بالكثرة وكثرتها باختلاف أنواعها وكثرة كل نوع منها، ولما كان الشراب نوعا واحدا وهو الخمر افرد، وقيل: وصفت الفاكهة بالكثرة ولم يوصف الشراب للإيذان بأنه يكون على الشراب نقل كثير سواء تعددت أنواعه أم اتحدت، ويمكن أن يقال والله تعالى أعلم: التقدير وشراب كثير لكن حذفت كثير لدلالة ما قبل ورعاية للفاصلة.
* (وعندهم ق‍اصرات الطرف أتراب) *.
* (وعندهم قاصرات الطرف) * أي على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم أو قاصرات طرف أزواجهن عليهن فلا ينظرون إلى غيرهن لشدة حسنهن، وتمام الكلام قد مر وحلا * (أتراب) * أي لذات على سن واحدة تشبيها في التساوي والتماثل بالترائب التي هي ضلوع الصدر أو لسقوطهن معا على الأرض حين الولادة ومسهن ترابها فكأن الترب بمعنى المتارب كالمثل بمعنى المماثل، والظاهر أن هذا الوصف بينهن فيكون في ذلك إشارة إلى محبة بعضهن لبعض وتصادقهن فيما بينهن فإن النساء الأتراب يتحابين ويتصادقن وفي ذلك راحة عظيمة لأزواجهن كما أن في تباغض الضرائر نصبا عظيما وخطبا جسيما لهم، وقد جرب ذلك وصح نسأل الله تعالى العفو والعافية.
وقيل: إن ذلك بينهن وبين أزواجهن أي أن اسنانهن كأسنانهم ليحصل كمال التحاب، ورجح بأن اهتمام الرجل بحصول المحبة بينه وبين زوجته أشد من اهتمامه بحصولها بين زوجاته، وفيه توقف، ثم أن الوصف الأول
213

على المعنى الأول متكفل بالدلالة على محبتهن لأزواجهن وعلى المعنى الثاني متكفل بالدلالة على محبة أزواجهن لهن وإذا حصلت المحبة من طرف فالغالب حصولها من الطرف الآخر، وقد قيل: من القلب إلى القلب سبيل والأمر في الشاهد أن كون الزوجات أصغر من الأزواج أحب لهم لا التساوي، واختار بعضهم كون ذلك بينهن وبين أزواجهن ويلزم منه مساواة بعضهن لبعض وهذا إذا كان المراد بقوله تعالى: * (وعنده) * الخ وعند كل واحد منهم ولو كان المراد وعند مجموعهم وكان الجمع موزعا بأن يكون لكل واحد واحد من أهل الجنة واحدة واحدة من قصارات الطرف الأتراب كان اعتبار كون الوصف بينهن وبين الأزواج كالمتعين لكن هذا الفرض خلاف ما نطقت به الأخبار سواء قلنا بما روي عن ابن عباس من أن الآية في الآدميات أو قلنا بما قاله صاحب الفينان من أنها في الحور، وقيل بناء على ما هو الظاهر في الوصف إن التساوي في الأعمار بين الحور وبين نساء الجنة فالآية فيهما.
* (ه‍اذا ما توعدون ليوم الحساب) *.
* (ه‍اذا ما توعدون ليوم الحساب) * أي لأجل يوم الحساب فإن ما وعدوه لأجل طاعتهم وأعمالهم الصالحة وهي تظهر بالحساب فجعل كأنه علة لتوقف إنجاز الوعد فالنسبة لليوم والحساب مجازية، وجوز أن يكون اللام بمعنى بعد كما في كتب لخمس خلون من جمادي الآخرة مثلا وهو أقل مؤونة.
وقرأ ابن كثير. وأبو عمرو * (يوعدون) * بياء الغيبة وعلى قراءة الجمهور بتاء الخطاب فيها التفات.
* (إن ه‍اذا لرزقنا ما له من نفاد) *.
* (إن هاذا) * أي ما ذكر من ألوان النعم والكرامات * (لرزقنا) * أعطيناكموه * (ماله من نفاذ) * انقطاع أبدا.
* (ه‍اذا وإن للط‍اغين لشر م‍ااب) *.
* (ها - اذا) * قال الزجاج: أي الأمر هذا على أنه خبر مبتدأ محذوف، وقال أبو علي: أي هذا للمؤمنين على أنه مبتدأ خبره محذوف وقدره بعضهم كما ذكر.
وجوز أبو البقاء احتمال كونه مبتدأ محذوف الخبر واحتمال كونه خبرا محذوف المبتدأ، وجوز بعضهم كونه فاعل فعل محذوف أي مضي هذا وكونه مفعولا للفعل محذوف أي خذ هذا، وجوز أيضا كون ها اسم فعل بمعنى خذ وذا مفعوله من غير تقدير ورسمه متصلا يبعده والتقدير أسهل منه، وقوله تعالى: * (وإن للطاغين لشر مآب) * عطف على ما قبله، ولزوم عطف الخبر على الإنشاء على بعض الاحتمالات جوابه سهل، وأشار الخفاجي إلى الحالية هنا أيضا ولعل أمرها على بعض الأقوال المذكورة هين، والطاغون هنا الكفار كام يدل عليه كلام ابن عباس حيث قال: أي الذين طغوا علي وكذبوا رسلي، وقال الجبائي: أصحاب الكبائر كفارا كانوا أو لم يكونوا، وإضافة * (شر) * إلى * (مآب) * كإضافة * (حسن) * إليه فيما تقدم، وظاهر المقابلة يقتضي أن يقال: لقبح مآب هنا أو لبخير مآب فيما مضى لكن مثله لا يلتفت إليه إذا تقابلت المعاني لأنه من تكلف الصنعة البديعية كما صرح به المرزوفي في " شرح الحماسة " كذا قيل، وقيل إنه من الاحتباك وأصله إن للمتقين لخير مآب وحسن مآب وإن للطاغين لقبح مآب وشر مآب واستحسنه الخفاجي وفيه نوع بعد [بم وقوله تعالى:
* (جهنم يصلونها فبئس المهاد) *.
* (جهنم) * يعلم إعرابه مما سلف؛ وقوله سبحانه: * (يصلونها) * أي يدخلونها ويقاسون حرها حال من جهنم نفسها أو من الضمير المستتر في خبر إن الراجع لشر مآب المراد به هي والحال مقدرة * (فبئس المهاد) * أي هي يعني جهنم فالمخصوص بالذم محذوف، والمهاد كالفراش لفظا ومعنى وقد استعير مما يفترشه النائم، والمهد كالمهاد وقد يخص بمقر الطفل.
* (ه‍اذا فليذوقوه حميم وغساق) *.
* (هاذا) * خبر مبتدأ محذوف أي العذاب هذا، وقوله تعالى: * (فليذوقوه) * جملة
214

مرتبة على الجملة قبلها فهي بمنزلة جزاء شرط محذوف، وقوله تعالى: * (حميم وغساق) * خبر مبتدأ محذوف أي هو حميم وغساق وذا قد يشاربه للمتعدد أو مبتدأ محذوف الخبر أي منه حميم ومنه غساق كما في قوله: حتى إذا ما أضاء الصبح في غلس * وغودر البقل ملوى ومحصود
أي منه ملوى ومنه محصود أو * (هذا) * مبتدأ خبره * (حميم) * وجملة * (فليذوقوع) * معترضة كقولك زيد فافهم رجل صالح أو هذا مبتدأ خبره * (فليذوقوه) * على مذهب الأخفش في إجازته زيد فاضربه مستدلا بقوله: وقائلة خولان فانكح فتاتهم
أو * (هذا) * في محل نصب بفعل مضمر يفسره * (فليذوقوه) * أي ليذوقوا هذا فليذوقوه، ولعلك تختار القول بأن * (هذا) * مبتدأ وحميم خبره وما في البين اعتراض وقد قدمه في الكشاف والفاء تفسيرية تعقيبية وتشعر بأن لهم إذاقة بعد إذاقة، وفي حميم وغساق على هذين الوجهين الاحتمالان المذكوران أولا والحميم الماء الشديد الحرارة.
والغساق بالتشديد كما قرأ به ابن أبي اسحاق. وقتادة. وابن وثاب. وطلحة. وحمزة. والكسائي. وحفص والفضل. وابن سعدان. وهارون عن أبي عمرو، وبالتخفيف كما قرأ به باقي السبعة اسم لما يجري من صديد أهل النار كما روي عن عطاء. وقتادة. وابن زيد، وعن السدى ما يسيل من دموعهم. وأخرج ابن جرير عن كعب أنه عين في جهنم تسيل إليها حمة كل ذي حمة من حية وعقرب وغيرهما يغمس فيها الكافر فيتساقط جلده ولحمه وأخرج ابن جرير. وابن المنذر عن ابن عباس أنه الزمهرير، وقيل: هو مشددا ومخففا وصف من غسق كضرب وسمع بمعنى سال يقال غسقت العين إذا سال دمعها فيكون على ما في البحر صفة حذف موصوفها أي ومذوق غساق ويراد به سائل من جلود أهل النار مثلا، والوصيفة في المشدد أظهر لأن فعالا بالتشديد قليل في الأسماء، ومنه الغياد ذكر البوم والخطار دهن يتخذ من الزيت والعقار ما يتداوي به من النبات، ومن الغريب ما قاله الجواليقي. والواسطي أن الغساق هو البارد المنتن بلسان الترك والحق أنه عربي نعم النتونة وصف له في الواقع وليست مأخوذة في المفهوم، فقد أخرج أحمد. والترمذي. وابن حبان. وجماعة وصححه الحاكم عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولو أن دلو من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا " وقيل الغساق عذاب لا يعلمه إلا الله عز وجل ويبعده هذا الخبر.
* (وءاخر من شكله أزواج) *.
* (وآخر) * أي ومذوق آخر وفسره ابن مسعود كما رواه عنه جمع بالزمهرير أو وعذاب آخر.
وقرأ الحسن. ومجاهد. والجحدري. وابن جبير. وعيسى. وأبو عمرو و * (أخر) * على الجمع أي ومذوقات أو أنواع عذاب آخر * (من شكله) * أي من مثل هذا المذوق أو العذاب في الشدة والفظاعة، وتوحيد الضمير دون تثنيته نظرا للحميم والغساق على أنه لما ذكر أو للشراب الشامل للحميم والغساق أو للغساق. وقرأ مجاهد * (شكله) * بكسر الشين وهي لغة فيه كمثل وإذا كان بمعنى الغنج فهو بالكسر لا غير * (أزواج) * أي أجناس و * (آخر) * على القراءتين يحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي وهذا مذوق أو عذاب آخر أو هذه مذوقات أو أنواع عذاب آخر، والجلمة معطوفة على هذا حميم، وإن شئت فقدر هو أو هي واعطف الجملة على هو حميم، وأن يكون مبتدأ خبره محذوف أي ومنه مذوق أو عذاب آخر أو ومنه مذوقات أو أنواع عذاب
215

أخر والعطف على منه حميم وجوز أن يقدر الخبر لهم أي ولهم مذوق أو عذاب آخر أو ولهم مذوقات أو أنواع عذاب أخر والعطف على * (هذا فليذوقوه) * ومن شكله وأزواج في جميع ذلك صفتاه لآخر أو أخر. و * (آخر) * وإن كان مفردا في اللفظ فهو جمع وصادق على متعدد في المعنى.
ويحتمل أن يكون آخر أو أخر مبتدأ و * (من شكله) * صفته و * (أزواج) * خبر والجواب عن عدم المطابقة على قراءة الأفراد ما سمعت، وأن يكون ذلك عطفا على حميم عطف المفرد على المفرد ومن شكله صفته وأزواج صفة للثلاثة المتعاطفة، وجوز أن يكون آخر مبتدأ ومن شكله خبره وأزواج فاعل الظرف، وأن يكون الأول مبتدأ ومن شكله خبر مقدم وأزواج مبتدأ والجملة خبر المبتدأ الأول أعني آخر، وصح الابتداء به لأنه من باب ضعيف عاذ بقرملة فالمبتدأ في الحقيقة الموصوف المحذوف أي نوع آخر أو مذوف آخر، وقيل لأنه جيء به للتفصيل، ومما ذكروا من المسوغات أن تكون النكرة للتفصيل نحو الناس رجلان رجل أكرمته ورجل أهنته وبحث فيه ابن هشام في المغنى، وجعلوا ضمير شكله على الوجهين عائدا على آخر وهما لا يكادات يتسنيان على القراءة بالجمع فتدبر ولا تغفل.
* (ه‍اذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالو النار) *.
* (هاذا فوج) * جمع كثير من أتباعكم في الضلال.
* (مقتحم) * راكب الشدة داخل فيها أو متوسط شدة مخيفة * (معكم) * والمراد هذا فوج داخل معكم النار مقاس فيها ما تقاسونه، وهذا حكاية ما تقوله ملائكة العذاب لرؤساء الضلال عند دخول النار تقريعا لهم فهو بتقدير فيقال لهم عند الدخول هذا الخ.
وفي الكشاف واستظهره أبو حيان أنه حكابة كلام الطاغين بعضهم مع بعض يخاطب بعضهم بعضا في شأن أتباعهم يقول هذا فوج مقتحم معكم، والظرف متعلق بمقتحم، وجوز فيه أن يكون نعتا ثانيا لفوج أو حالا منه لأنه قد وصف أو من الضمير المستتر فيه، ومنع أبو البقاء جواز كونه طرفا قائلا: إنه يلزم عليه فساد المعنى وتبعه الكواشي وصاحب الأنوار. وتعقبه صاحب الكشف بأنه إن كان الفساد لانبائه عن تزاحمهم في الدخول وليس المعنى على المزاحمة بين الفريقين الأتباع والمتبوعين ونهم بعد الدخول يقولون ذلك لا عند المزاحمة غير لازم لأن الاقتحام لا ينبىء عن التزاحم ولا هو لازم له وإنما مثل ضربت معه زيدا ينبىء عن المشاركة في الضرب والمقارنة فكذلك اقتحام المتبوعين النار مع الأتباع ينبىء عن المشاركة في ركوب كل من الطائفتين قحمة النار ومقاساة شدتها في زمان متقارب عرفا، ولو قيل هذا فوج
معكم مقتحمون لم يفد أن المخاطبين أيضا كذلك وفسد المعنى المقصود، والعجب ممن جوز أن يكون حالا من ضمير * (مقتحم) * ولم يجوز أن يكون ظرفا وإن كان بغير ذلك فليفد أولا ثم ليعترض انتهى، وقال بعضهم: إن وجه فساد الظرفية دون الحالية أنه ليس المراد أنهم اقتحموا في الصحبة ودخلوا فيها بل اقتحموا في النار مصاحبين لكم ومقارنين إياكم، وهو كلام فاسد لا محصل له لأن مدلول مع المعبر عنه بالصحبة معناه الاجتماع في التلبس بمدلول متعلقها فيفيد اشتراك الطائفتين في الاقتحام لا في الصبحة كما توهمه ولا يدل على اتحاد زمانيهما كما صرح به في المغنى، ولو سلم فهو لتقاربه عد متحدا كما أشير في عبارة الكشف إليه فالحق أنه لا فساد، وقوله تعالى: * (لا مرحبا بهم) * دعاء من المتبوعين على أتباعهم سواء كان قائل ما تقدم الملائكة عليهم السلام أو بعض الرؤساء لبعض أو صفة لفوج أو حال منه لوصفه أو من ضميره، وأيا ما كان يؤول بمقول لهم لا مرحبا لأنه دعاء فهو إنشاء لا يوصف به، وكذا لا يكون حالا بدون تأويل، والمعنى على استحقاقهم أن يقال لهم ذل لا أنهم قيل لهم ذلك بالفعل، وهو على الوصفية والحالية من كلام الملائكة
216

عليهم السلام إن كانوا هم القائلين أو من كلام بعض الرؤساء، وجوز كونه ابتداء كلام منهم و * (مرحبا) * من الرهب بضم الراء وهو السعة ومنه الرحبة للفضاء الواسع وهو مفعول به لفعل واجب الإضمار و * (بهم) * بيان للمدعو عليهم، وتكون الباء للبيان كاللام في نحو سقيا له، وكون اللام دون الباء كذلك دعوى من غير دليل أي ما أتوا بهم رحبا وسعة، وقيل: الباء للتعدية فمجرورها مفعول ثان لأتوا وهو مبني على زعم أن اللام لا تكون للبيان، وكفى بكلام الزمخشري وأبي حيان دليلا على خلافه، ويقال: مرحبا بك على معنى رحبت بلادك رحبا كما يقال على معنى أتيت رحبا من البلاد لا ضيقا؛ ويفهم من كلام بعضهم جواز أن يكون * (مرحبا) * مفعولا مطلقا لمحذوف أي لارحبت بهم الدار مرحبا، والجمهور على الأول، وأيا ما كان فالمراد بذلك مثبتا الدعاء بالخير ومنفيا الدعاء بالسوء.
* (إنهم صالوا النار) * تعليل من جهة الملائكة لاستحقاقهم الدعاء عليهم أو وصفهم بما ذكر أو تعليل من الرؤساء لذلك، والكلام عليه يتضمن الإشارة إلى عدم انتفاعهم بهم كأنه قيل: إنهم داخلون النار بأعمالهم مثلنا فأي نفع لنا فلا مرحبا بهم.
* (قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار) *.
* (قالوا) * أي الأتباع وهم الفوج المقتحم للرؤساء.
* (بل أنتم لا مرحبا بكم) * أي بل أنتم أحق بما قيل لنا أو بما قلتم لنا، ولعلهم إنما خاطبوهم بذلك على تقدير كون القائل الملائكة الخزنة عليهم السلام مع أن الظاهر أن يقولوا بطريق الاعتذار إلى أولئك القائلين بل هم لا مرحبا بهم قصدا منهم إلى إظهار صدقهم بالمخاصمة مع الرؤساء والتحاكم إلى الخزنة طمعا في قضائهم بتخفيف عذابهم أو تضعيف عذاب خصائصهم. وفي " البحر " خاطبوهم لتكون المواجهة لمن كانوا لا يقدرون على مواجهتهم في الدنيا بقبيح أشفى لصدورهم حيث تسببوا في كفرهم وأنكى للرؤساء، وهذا أيضا بتأويل القول بناء على أن الإنشاء لا يكون خبرا أي بل أنتم مقول فيكم لا مرحبا بكم * (أنتم قدمتموه لنا) * تعليل لأحقيتهم بذلك، وضمير الغيبة في * (قدمتموه) * للعذاب لفهمه مما قبله أو للمصدر الذي تضمه * (صالوا) * وهو الصلي أي أنتم قدمتم العذاب أو الصلى ودخول النار لنا بإغوائنا وإغرائنا على ما قدمنا من العقائد الزائغة والأعمال السيئة لا أنا باشرناها من تلقاء أنفسنا.
وفي الكلام مجازان عقليان، الأول إسناد التقديم إلى الرؤساء لأنهم السبب فيه بإغوائهم، والثاني إيقاعه على العذاب أو الصلي مع أنه ليس المقدم بل المقدم عمل السوء الذي هو سبب له، وقيل: أطلق الضمير الذي هو عبارة عن العذاب أو الصلى المسبب عن العمل على العمل مجازا لغويا، وقيل: لا حاجة إلى ارتكاب المجاز فيه فتقديم العذاب أو الصلى المسبب عن العمل على العمل مجازا لغويا، وقيل: لا حاجة إلى ارتكاب المجاز فيه فتقديم العذاب أو الصلى بتأخير الرحمة منهم * (فبئس القرار) * أي فبئس المقر جهنم، وهو من كلام الأتباع وكأنهم قصدوا بذلك التشفي والإنكار وإن ذلك المقر مشترك، وقيل: قصدوا بالذم المذكور تغليظ جناية الرؤياء عليهم.
* (قالوا ربنا من قدم لنا ه‍اذا فزده عذابا ضعفا فى النار) *.
* (قالوا) * أي الأتباع أيضا، وقول ابن السائب: القائل جميع أهل النار خلاف الظاهر جدا فلا يصار إليه، وتوسيط الفعل بين كلاميهم لما بينهما من التباين ذاتا وخطابا أي قالوا معرضين عن خصومة رؤسائهم متضرعين إلى الله عز وجل: * (ربنا من قدمم لنا ه‍اذا فزده عذابا ضعفا في النار) * أي مضاعفا ومعناه ذا ضعف أي مثل وهو أن يزيد على عذابه مثله فيصير بتلك الزيادة مثلين لعذاب غيره، ويطلق الضعف على الزيادة المطلقة.
وقال ابن مسعود هنا: الضعف حيات وعقارب، والظاهر من بعض عباراتهم أن * (من) * موصولة، ونص الخفاجي
217

على أنها شرطية. وفي " البحر " * (من قدم) * هم الرؤساء، وقال الضحاك: هو إبليس وقابيل، وهو أنسب بخلاف الظاهر المحكي عن ابن السائب.
* (وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الاشرار) *.
* (وقالوا) * الضمير للطاغين عند جمع أي قال الطاغون بعضهم لبعض على سبيل التعجب والتحسر * (ما لنا لا نرى رجالا كنا) * في الدنيا * (نعدهم من الأشرار) * أي الأراذل الذين لا خير فيهم ولا جدوى يعنون بذلك فقراء المؤمنين وكانوا يسترذلونهم ويسخرون منهم لفقرهم ومخالفتهم إياهم في الدين، وقيل: الضمير لصناديد قريش كأبي جهل. وأمية بن خلف. وأصحاب القليب، والرجال عمار. وصهيب. وسلمان. وخباب. وبلال وأضرابهم رضي الله تعالى عنهم بناء على ما روي عن مجاهد من أن الآية نزلت فيهم، واستضعف " صاحب الكشف " وسبب النزول لا يكون دليلا على الخصوص، واستظهر بعضهم أن الضمير للأتباع لأنه فيما قبل يعني قوله تعالى: * (قالوا بل أنتم) * الخ لهم أيضا، وكانوا أيضا يسخرون من فقراء المؤمنين تبعا لرؤسائهم، وأيا ما كان فجملة * (كنا) * الخ صفة * (رجالا) *.
وقوله تعالى:
* (أتخذن‍اهم سخريا أم زاغت عنهم الأبص‍ار) *.
* (أتخذناهم سخريا) * بهمزة استفهام سقطت لأجلها همزة الوصل كما قرأ بذلك الحجازيان وابن عامر. وعاصم. وأبو جعفر. والأعرج. والحسن. وقتادة استئناف لا محل له من الإعراب قالوه حيث لم يروهم معهم إنكارا على أنفسهم وتأنيبا لهم في الاستسخار منهم، وقوله تعالى: * (أم زاغت عنهم الأبصار) * متصل بقوله تعالى: * (ما لنا لا نرى) * الخ، وأم فيه متصلة وتقدم ما فيه معنى الهمزة يغني عن تقدمها على ما يقتضيه كلام الزمخشري، والمعنى ما لنا لا نراهم في النار أليسوا فيها فلذلك لا نراهم بل أزاغت عنهم أبصارنا فلا نراهم وهم فيها أو بقوله تعالى: * (اتخذناهم) * الخ، وأم فيه إما متصلة أيضا، والمقابلة باعتبار اللازم، والمعنى أي الأمرين فعلنا بهم الاستسخار منهم أم الإزدراء بهم وتحقيرهم وإن أبصارنا تعلو عنهم وتقتحمهم على معنى إنكار الأمرين جميعا على أنفسهم، وعن الحسن كل ذلك قد فعلوا اتخذوهم سخريا وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم، وإما منقطعة كأنهم أضربوا عن إنكار الاستسخار وأنكروا على أنفسهم أشد منه وهو أنهم جعلوهم محقرين لا ينظر إليهم بوجه، وفي * (زاغت) * دون أزغنا مبالغة عظيمة كأن العين بنفسها تمجهم لقبح منظرهم وأين هذا من السخر فقد يكون المسخور منه محبوبا مكرما. وجوز أن يكون معنى أم زاغت على الانقطاع بل زاغت أبصارنا وكلت أفهامنا حتى خفي عنا مكانهم وأنهم على الحق المبين. وقرأ النحويان. وحمزة * (اتخذناهم) * بغير همزة فجوز أن تكون مقدرة لدلالة أم عليها فتتحد القراءتان، وأن لا تكون كذلك ويكون الكلام إخبارا فقال ابن الأنباري: الجملة حال أي وقد اتخذناهم، وجوز كونها مستأنفة لبيان ما قبلها. وقال الزمخشري. وجماعة: صفة ثانية لرجالا و * (أم زاغت) * متصل بقوله تعالى: * (ما لنا لا نرى) * الخ كما سمعت أولا.
وجوز أن تكون أم فيه منقطعة كأنهم أضربوا عما قبل وأنكروا على أنفسهم ما هو أشد منه أو أضربوا عن ذلك إلى بيان إن ما وقع منهم في حقهم كان لزيغ أبصارهم وكلال أفهامهم عن إدراك أنهم على الحق بسبب رثاثة حالهم، وقرأ عبد الله. وأصحابه. ومجاهد. والضحاك وأبو جعفر. وشيبة. والأعرج. ونافع. وحمزة. والكسائي * (سخريا) * بضم السين ومعناه على ما في " البحر " من السخرة والاستخدام، ومعنى سخريا بالكسر على المشهور من السخر وهو الهزء وهو معنى ما حكى عن أبي عمرو قال: ما كان من مثل العبودية فسخري بالضم وما كان من مثل الهزء فسخري بالكسر، وقيل: هو بالكسر من التسخير.
* (إن ذلك لحق تخاصم أهل النار) *.
* (إن ذالك) * أي الذي حكى عنهم
218

* (لحق) * لا بد أن يتكلموا به فالمراد من حقيته تحققه في المستقبل.
وقوله تعالى: * (تخاصم أهل النار) * خبر مبتدأ محذوف أي هو تخاصم، والجملة بيان لذلك، وفي الإبهام أولا والتبيين ثانيا مزيد تقرير له، وقال ابن عطية: بدل من حق والمبدل منه ليس في حكم السقوط حقيقة، وقيل بدل من محل اسم إن، والمراد بالتخاصم التقاول، وجوز إرادة ظاهره فإن قول الرؤساء لا مرحبا بهم وقول الأتباع * (بل أنتم لا مرحبا بكم) * (ص: 60) من باب الخصومة فسمي التفاوض كله تخاصما لاشتماله عليه، قيل وهذا ظاهر أن التقاول بين المتبوعين والأتباع أما لو جعل الكل من كلام الخزنة فلا، ولو جعل * (لا مرحبا) * من كلام الرؤساء و * (هذا فوج) * من كلام الخزنة فيصح أن يجعل تخاصما مجازا. وقرأ ابن أبي عبلة * (تخاصم) * بالنصب فهو بدل من ذلك.
وقال الزمخشري: صفة له، وتعقب بأن وصف اسم الإشارة وإن جاز أن يكون بغير المشتق إلا أنه يلزم أن يكون معرفا بأل كما ذكره في المفصل من غير نقل خلاف فيه فبينه وبين ما يستدعيه القول بالوصفية تناقض مع ما في ذلك من الفصل الممتنع أو القبيح. وأجاب " صاحب الكشف " بأن القياس يقتضي التجويز لأن اسم الإشارة يحتاج إلى رافع لإبهامه دال على ذات معينة سواء كان فيه اختصاص بحقيقة أخرى أو بحقائق أولا، وهذا القدر لا يخرج الاسم عن الدلالة على حقيقة الذات المعينة التي يصح بها أن يكون وصفا لاسم الإشارة، وأما الاستعمال فمعارض بأصل الاستعمال في الصفة فكما أن الجمهور حملوا على الصفة في نحو هذا الرجل مع احتمال البدل والبيان كذلك الزمخشري حمل على الوصف مع احتمال البدل لأنه التفت لفت المعنى، ولا يناقض ما في المفصل لأنه ذكر ذلك في باب النداء خاصة على تقدير عدم استقلال اسم الإشارة ولأن حال الاستقلال أقل لم يتعرض له، وقد بين في موضعه أنه في النداء خاصة يمتنع وصف اسم الإشارة إذا لم يستقل بالمضاف إلى المعرف باللام على أنه كثيرا ما يخالف في أحد الكتابين الكشاف والمفصل الآخر، والإشكال بأنه يلزم الفصل غير قادح فإنه يجوز لاسيما على تقدير استقلال اسم الإشارة اه‍. ولا يخلو عن شيء.
وقرأ ابن السميقع * (تخاصم) * فعلا ماضيا * (أهل) * بالرفع على أهل فاعل له.
* (قل إنمآ أنا منذر وما من إل‍اه إلا الله الواحد القهار) *.
* (قل) * يا محمد لمشركي مكة * (إنما أنا منذر) * أنذرتكم عذاب الله تعالى للمشركين، والكلام رد لقولهم هذا ساحر كذاب فإن الإنذار ينافي السحر والكذب.
وقد يقال: المراد إنما أنا رسول منذر لا ساحر كذاب، وفيه من الحسن ما فيه فإن كل واحد من وصفي الرسالة والإنذار ينافي كل واحد من وصفي السحر والكذب لكن منافاة الرسالة للسحر أظهر وبينهما طباق فكذلك الإنذار للكذب، وضم إلى ذلك قوله تعالى: * (وما من إلاه إلا الله) * لإفادة أن له صلى الله عليه وسلم صفة الدعوة إلى توحيده عز وجل أيضا فالأمران مستقلان بالإفادة.
و * (من) * زائدة للتأكيد أي ما إله أصلا إلا الله * (الواحد) * أي الذي لا يحتمل الكثرة في ذاته بحسب الجزئيات بأن يكون له سبحانه ماهية كلية ولا بحسب
الأجزاء * (القهار) * لكل شيء.
* (رب السم‍اوات والارض وما بينهما العزيز الغفار) *.
* (رب السم‍اوات والأرض وما بينهما) * من الموجودات منه سبحانه خلقها وإليه تدبير جميع أمورها * (العزيز) * الذي يغلب ولا يغلب في أمر من أموره جل شأنه فتندرج في ذلك المعاقبة * (الغفار) * المبالغ في المغفرة يغفر ما يشاء لمن يشاء تقرير للتوحيد، أما الوصف الأول فظاهر في ذلك غير محتاج للبيان، وأما القهار
219

لكل شيء فلأنه لو كان إله غيره سبحانه لم يكن قهارا له ضرورة أنه لا يكون حينئذ إلها بل ربما يلزم أن يكون مقهورا وذلك مناف للألوهية تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وأما * (رب السموات) * (الرعد: 16) الخ فلأنه لو أمكن غيره معه تعالى شأنه جاء دليل التمانع المشار إليه بقوله سبحانه: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * (الأنبياء: 22) فلم تتكون السماوات والأرض وما بينهما، وقيل: لأن معنى * (رب السموات) * الخ رب كل موجود فيدخل فيه كل ما سواه فلا يكون إلها، وأما العزيز فلأنه يقتضي أن يغلب غيره ولا يغلب ومع الشكرة لا يتم ذلك.
وأما الغفار فلأنه يقتضي أن يغفر ما يشاء لمن يشاء فربما شاء مغفرة لأحد وشاء لآخر منه العقاب فإن حصل مراده فالآخر ليس بإله وإن حصل مراد الآخر ولم يحصل مراده لم يكن هو إلها تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وما قيل في برهان التمانع سؤالا وجوابا يقال هنا، وفي هذه الأوصاف من الدلالة على الوعد والوعيد ما لا يخفى، وللاقتصار على وصف الإنذار صريحا فيما تقدم قدم وصف القهار على وصف الغفار هنا، وجوز أن يكون المقصود هو تحقيق الإنذار وجيء بالثاني تتميما له وإيضاحا لما فيه من الإجمال أي قل لهم ما أنا إلا منذر لكم بما أعلم وإنما أنذرتكم عقوبة من هذه صفته فإن مثله حقيق بأن يخاف عقابه كما هو حقيق بأن يرجى ثوابه، والوجه الأول أوفق لمقتضى المقام لأن التعقيب بتلك الصفات في الدلالة على أن الدعوة إلى التوحيد مقصودة بالذات بمكان لا ينكر ولأن هذا بالنسبة إلى ما مر من صدر السورة إلى هنا بمنزلة أن يقول المستدل بعد تمام تقريره فالحاصل فالأولى أن يكون على وزان المبسوط وفيه قوله تعالى: * (أجعل الآلهة إلها واحدا) * (ص: 5) فافهم.
* (قل هو نبأ عظيم) *.
* (قل) * تكرير الأمر للإيذان بأن المقول أمر جليل له شأن خطير لا بد من الاعتناء به أمرا وائتمارا * (هو) * أي ما أنبأتكم به من كوني رسولا منذرا وأن الله تعالى واحدا لا شريك له * (نبؤ عظيم) * خبر ذو فائدة عظيمة جدا لا ريب فيه أصلا.
* (أنتم عنه معرضون) *.
* (أنتم عنه معرضون) * متمادون في الإعراض عنه لتمادي غفلتكم، وهذه الجملة صفة ثانية لنبأ والكلام بجملته تحير لهم وتنبيه على مكان الخطأ وإظهار لغاية الرأفة والعطف الذي يقتضيه مقام الدعوة. واستظهر بعض الأجلة أن * (هو) * للقرآن كما روى عن ابن عباس. ومجاهد. وقتادة، واستشهد بآخر السورة وقال: إنه يدخل ما ذكر دخولا أوليا، واختار كون هذه الجملة استئنافا ناعيا عليهم سوء حالهم بالنسبة إليه وأنهم لا يقدرون قدره الجليل مع غاية عظمته الموجبة للإقبال عليه وتلقيه بحسن القبول؛ وكأن الكلام عليه ناظر إلى ما في أول السورة من قوله تعالى: * (والقرآن ذي الذكر * بل الذين كفروا في عزة وشقاق) * (ص: 1، 2) جيء به ليستدل على أنه وارد من جهته تعالى بما يشير إليه قوله تعالى:
* (ما كان لى من علم بالملإ الاعلى إذ يختصمون) *.
* (ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون) * الخ حيث تضمن ذكر نبأ من أنبائه على التفصيل من غير سابقة معرفة به ولا مباشرة سبب من أسبابها المعتادة كالنظر في الكتب الإلهية والسماع من الكتابين وهو حجة بينة دالة على أنه بطريق الوحي من عند الله تعالى وأن سائر أنبائه أيضا كذلك؛ وهو على ما قلنا تذكير لإثبات النبوة بذكر مختصر منه تمهيدا لإرشاد الطريق وتذكيرا للباقي وتسلقا منه إلى استماع ما ذكره لطف للمدعوين وتنويه للداعي، وعدم التعرض لنحو ذلك في أمر التوحيد لظهور أدلته مع كونه ذكر شيء منها غضا طريا وهو ما أشارت إليه الصفات المذكورة آنفا، فلا يقال: إن التعرض لإثبات النبوة دون التوحيد دليل على
220

أن المقصود بالإفادة هو النبوة وأن الثاني جيء به تتميما لذلك.
وأنت تعلم أن النبوة وكون القرآن وحيا من عند الله تعالى متلازمان متى ثبت أحدهما ثبت الآخر، لكن يرجح جعل الآية في النبوة وإثباتها القرب وتصدير هذه الآية بنحو من صدرت به الآية المتضمنة دعوى النبوة قبلها من قوله تعالى: * (قل) * فإن سلم لك هذا المرجح فذاك وإلا فلا تعدل عما روى عن ابن عباس ومن معه، وعن الحسن أن ذلك يوم القيامة كما في قوله تعالى: * (عم يتساءلون * عن النبأ العظيم) * (النبأ: 1، 2) وقيل: ما تقدم من أنباء الأنبياء عليهم السلام، وقيل تخاصم أهل النار، وعدى العلم بالباء نظرا إلى معنى الإحاطة، والملأ الجماعة الإشراف لأنهم يملؤن العيون رواء والنفوس جلالة، وبهاء وهو اسم جمع ولذا وصف بالمفرد أعني * (الأعلى) * والمراد به عند ملأ الملائكة وآدم عليهم السلام وإبليس عليه اللعنة وكانوا في السماء فالعلو حسي وكان التقاول بينهم على ما ستعلمه إن شاء الله تعالى، وإذ متعلقة بمحذوف يقتضيه المقام إذ المراد نفي علمه عليه الصلاة والسلام بحالهم لا بذواتهم، والتقدير ما كان لي فيما سبق علم ما بوجه من الوجوه بحال الملا إلا على وقت اختصامهم، وهو أولى من تقدير الكلام كما ذهب إليه الجمهور أي ما كان لي علم بكلام الملا إلا على وقت اختصامهم لأن علمه صلى الله عليه وسلم غير مقصور على ما جرى بينهم من الأقوال فقط بل عام لها وللأفعال أيضا من سجود الملائكة عليهم السلام وإباء إبليس واستكباره حسبما ينطق به الوحي فالأولى اعتبار العموم في نفيه أيضا، وقيل: إذ بدل اشتمال من * (الملأ) * أو ظرف لعلم وفيه بحث والاختصام فيما يشير إليه سبحانه بقوله عز وجل: * (إذ قال ربك) * (البقرة: 30) الخ، والتعبير بيختصمون المضارع لأنه أمر غريب فأتى به لاستحضاره حكاية للحال، وضمير الجمع للملأ. وحكى أبو حيان كونه لقريش وابتعده وكأن
في * (يختصمون) * حينئذ التفاتا من الخطاب في * (أنتم عنه معرضون) * إلى الغيبة والاختصام في شأن رسالته صلى الله عليه وسلم أو في شأن القرآن أو شأن المعاد وفيه عدول عن المأثور وارتكاب لما لا يكاد يفهم من الآية من غير داع إلى ذلك ومع هذا لا يقبله الذوق السليم، وقوله تعالى:
* (إن يوحى إلى إلا أنمآ أنا نذير مبين) *.
* (إن يوحى إلي إلا إنما أنا نذير مبين) * اعتراض وسط بين إجمال اختصامهم وتفصيله تقريرا لثبوت علمه عليه الصلاة والسلام وتعيينا لسببه إلا أن بيان انتفائه فيما سبق لما كان منبئا عن ثبوته الآن، ومن البين عدم ملابسته صلى الله عليه وسلم بشيء من مباديه المعهودة تعين أنه ليس إلا بطريق الوحي حتما فجعل ذلك أمرا مسلم الثبوت غنيا عن الاخبار به قصدا وجعل مصب الفائدة إخباره بما هو داع إلى الوحي ومصحح له، فالقائم مقام الفاعل ليوحي إما ضمير عائد إلى الحال المقدر كما أشير إليه سابقا أو ما يعمه وغيره، فالمعنى ما يوحى إلى حال الملأ الأعلى أو ما يوحى إلى الذي يوحى من الأمور الغيبية التي من جملتها حالهم لأمر من الأمور إلا لأني نذير مبين من جهته تعالى فإن كونه عليه الصلاة والسلام كذلك من دواعي الوحي إليه ومصححاته، وجوز كون الضمير القائم مقام الفاعل عائدا إلى المصدر المفهوم من * (يوحى) * أي ما يفعل الإيحاء إلى بحال الملأ الأعلى أو بشيء من الأمور الغيبية التي من جملتها حالهم لأمر من الأمور إلا لأني الخ.
وجوز أيضا كون الجار والمجرور نائب الفاعل * (وإنما) * على تقدير اللام، قال في " الكشف ": ومعنى الحصر أنه صلى الله عليه وسلم لم يوح إليه لأمر إلا لأنه نذير مبين وأي مبين كقولك: لم تستقض يا فلان إلا لأنك عالم عامل مرشد.
وجوز الزمخشري أن يكون بعد حذف اللام مقاما مقام الفاعل، ومعنى الحصر أني لم أومر إلا بهذا لأمر
221

وحده وليس إلى غير ذلك لأنه الأمر الذي يشتمل على كل الأوامر إما تضمنا وإما التزاما أو لم أومر إلا بإنذاركم لا بهدايتكم وصدكم عن العناد فإن ذلك ليس إلى، وما ذكر أولا أوفق بحال الاعتراض كما لا يخفى على من ليس أجنبيا عن إدراك اللطائف. وقرأ أبو جعفر * (إنما) * بالكسر على الحكاية أي ما يوحى إلى إلا هذه الجملة وإيحاؤها إليه أمر عليه الصلاة والسلام أن يقولها وحاصل معنى الحصر قريب مما ذكر آنفا، وجوز أن يراد لم أومر إلا بأن أقول لكم هذا القول دون أن أقول أعلم الغيب بدون وحي مثلا فتدبر ولا تغفل.
وقوله تعالى:
* (إذ قال ربك للمل‍ائكة إنى خ‍الق بشرا من طين) *.
* (إذ قال ربك للملائكة) * الخ شروع في تفصيل ما أجمل من الاختصام الذي هو ما جرى بينهم من التقاول فهو بدل من * (إذ يختصمون) * بدل كل من كل، وجوز كونه بدل بعض، وصح إسناد الاختصام إلى الملائكة مع أن التقاول كان بينهم وبين الله تعالى كما يدل عليه * (إذ قال ربك) * الخ لأن تكليمه تعالى إياهم كان بواسطة الملك فمعنى المقاولة بين الملا الأعلى مقاولة ملك من الملائكة مع سائر الملائكة عليهم السلام في شأن الاستخلاف ومع إبليس في شأن السجود ومع آدم في قوله: * (أنبئهم بأسمائهم) * (البقرة: 33) ومعنى كون المقاولة بين الملائكة وآدم وإبليس وجودها فيما بينهم في الجملة. ولا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في الإسناد فالكل حقيقة لأن الملا الأعلى شامل للملك المتوسط وهو المقاول بالحقيقة وهو عز وجل مقاول بالمجاز، ولا تقل المخاصم ليكون الأمر بالعكس، وما يقال: إن قوله تعالى: * (إذ قال ربك) * يقتضي أن تكون مقاولته تعالى إياهم بلا واسطة فهو ممنوع لأنه إبدال زمان قصة عن زمان التفاوض فيها، والغرض أن تعلم القصة لا مطابقة كل جزء جزء لكل جزء جزء فذلك غير لازم ومراد، ثم فيه فائدة جليلة وهي أن مقاولة الملك إياهم أو إياهما عن الله تعالى فهم مقاولوه تعالى أيضا، وأريد هذا المعنى من هذا الإيراد لا من اللفظ ليلزم الجمع المذكور آنفا، وجعل الله عز وجل من الملا الأعلى بأن يراد به ما عدا البشر ليكون الاختصام قائما به تعالى وبهم على معنى أنه سبحانه في مقابلتهم يخاصمونه ويخاصمهم مع ما فيه من إيهام الجهة له عز وجل ينبو المقام عنه نبوا ظاهرا، ولم يذكر سبحانه جواب الملائكة عليهم السلام لتتم المقاولة اختصارا بما كرر مرارا ولهذا لم يقل جل شأنه إني خالق خلقا من صفته كيت وكيت جاعل إياه خليفة. وروعي هذا النسق ههنا لنكتة سرية وهي أن يجعل مصب الغرض من القصة حديث إبليس ليلائم ما كان فيه أهل مكة وأنه بامتناعه عن امتثال أمر واحد جرى عليه ما جرى فكيف يكون حالهم وهم مغمورون في المعاصي؛ وفيه أنه أول من سن العصيان فهو إمامهم وقائدهم إلى النار، وذكر حديث سجود الملائكة وطي مقاولتهم في شأن الاستخلاف ليفرق بين المقاولتين وأن السؤال قبل الأمر ليس مثله بعده فإن الثاني يلزمه التواني، ثم فيه حديث تكريم آدم عليه السلام ضمنا دلالة على أن المعلم والناصح يعظم وأنه شرع منه تعالى قديم، وكان على أهل مكة أن يعاملوا النبي صلى الله عليه وسلم معاملة الملائكة لآدم لا معاملة إبليس له قاله " صاحب الكشف " وهو حسن بيد أن ما علل به الاختصار من تكرار ذلك مرارا لا يتم إلا إذا كان ذلك في سورة مكية نزلت قبل هذه السورة، وقد علل بعضهم ترك الذكر بالاكتفاء بما في البقرة، وفيه أن نزولها متأخر عن نزول هذه السورة لأنها مدنية وهذه مكية فلا يصح الاكتفاء إحالة عليها قبل نزولها، وكون المراد اكتفاء السامعين للقرآن بعد ذلك لا يخفى حاله، ولعل القصة كانت معلومة سماعا منه صلى الله عليه وسلم وكان عالما بها بواسطة الوحي
222

وإن لم تكن إذ ذاك نازلة قرآنا فاختصرت ههنا لما ذكر في " الكشف " اكتفاء بذلك، وقال فيه أيضا: وذلك أن تقول التقاول بين الملائكة وآدم عليهم السلام حيث قال: * (أنبؤني بأسماء هؤلاء) * (البقرة: 31) تبكيتا لهم بما نسبوا إليه من قولهم * (أتجعل) * فيها وبينه وبين إبليس إما لأنه داخل في الإنكار والتبكيت بل هو أشدهم في ذلك لكن غلب الله تعالى الملائكة لأنه أخس من أن يقرن مع هؤلاء مفردا في الذكر أو لأنه أمر بالسجود لمعلمه فامتنع وأسمعه لما أسمع.
وقوله تعالى: * (وإذ قال ربك) * الخ للإتيان بطرف مشتمل على قصة المقاولة وتصوير أصلها فلم يلزم منه أن يكون الرب جل شأن من المقاولين وإن كان بينه
سبحانه وبينهم تقاول قد حكاه الله تعالى، وهذا أقل تكلفا مما فيه دعوى أن تكليمه تعالى كان بواسطة الملك إذ للمانع أن يمنع التوسط على أصلنا وعلى أصل المعتزلة أيضا لا سيما إذ جعل المبكتون الملائكة كلهم، وعلى الوجهين ظهر فائدة إبدال * (إذ قال ربك) * من * (إذ يختصمون) * على وجه بين، والاعتراض بأنه لو كان بدلا لكان الظاهر إذ قال ربي لقوله * (ما كان لي من علم) * (ص: 69) فليس المقام مما يقتضي الالتفات غير قادح فإنه على أسلوب قوله تعالى: * (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهم العزيز العليم * الذي جعل لكم الأرض) * (الزخرف: 9، 10) فالخطاب بلكم نظرا إلى أنه من قول الله تعالى تمم قولهم وذنبه كذلك ههنا هو من قول الله تعالى لتتميم قول النبي صلى الله عليه وسلم وهذا على نحو ما يقول: مخاطبك جاءني الأمير فتقول الذي أكرمك وحباك أو يقول رأيت الأمير يوم الجمعة فتقول: يوم خلع عليك الخلعة الفلانية، ومنه علم أنه ليس من الالتفات في شيء وإن هذا الإبدال على هذا الأسلوب لمزيد الحسن انتهى، وجوز أن يقال: إن * (إذ) * قوله تعالى: * (إذ قال ربك) * ظرف ليختصمون، والمراد بالملا الأعلى الملائكة وباختصامهم قولهم لله تعالى * (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) * (البقرة: 30) في مقابلة قوله تعالى: * (إني جاعل في الأرض) * (البقرة: 30) إلى غير ذلك، ولا يتوقف صحة إرادة ذلك على جعل الله تعالى من الملأ ولا على أنه سبحانه كلمهم بواسطة ملك ولا تقدم تفصيل الاختصام مطلقا بل يكفي ذكره بعد النزول سواء ذكر قرآنا أم لا، ويجرح تفسير الملأ بما ذكر على تفسيره بما يعم آدم عليه السلام أن ذاك على ما سمعت يستدعي القول بأن آدم كان في السماء وهو ظاهر في أنه عليه السلام خلق في السماء أو رفع إليها بعد خلقه في الأرض وكلا الأمرين لا يسلمهما كثير من الناس، وقد نقل ابن القيم في كتابه مفتاح دار السعادة عن جمع أن آدم عليه السلام إنما خلق في الأرض وأن الجنة التي أسكنها بعد أن جرى ما جرى كانت فيها أيضا وأتى بأدلة كثيرة قوية على ذلك ولم يجب عن شيء منها فتدبر. وذهب بعضهم إلى أن الملأ الأعلى الملائكة وأن اختصامهم كان في الدرجات والكفارات، فقد أخرج الترمذي وصححه. والطبراني. وغيرهما عن معاذ بن جبل قال: " احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة من صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس فخرج سريعا فثوب بالصلاة فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سلم دعا بصوته فقال: على مصفاكم ثم التفت إلينا ثم قال: أما إني أحدثكم بما حبسني عنكم الغداة إني قمت الليلة فقمت وصليت ما قدر لي ونعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة فقال: يا محمد قلت: لبيك ربي قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري فوضع كفه بين كتفي فوجدت برد أنامله بين ثديي فتجلى لي كل شيء وعرفته فقال: يا محمد قلت: لبيك قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الدرجات والكفارات فقال: ما الدرجات؟ فقلت: إطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام قال: صدقت فما الكفارات؟ قلت: إسباغ الوضوء في المكاره وانتظار الصلاة بعد الصلاة ونقل الإقدام
223

إلى الجماعات قال: صدقت سل يا محمد فقلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وإن تغفر لي وترحمني وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون اللهم إني أسألك حبك وحب من أحبك وحب عمل يقربني إلى حبك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " تعملوهن وادرسوهن فإنهم حق " ومعنى اختصامهم في ذلك على ما في البحر اختلافهم في قدر ثوابه، ولا يخفى أن حمل الاختصام في الآية على ما ذكر بمراحل عن السياق فإنه مما لم يعرفه أهل الكتاب فلا يسلمه المشكرون له عليه الصلاة والسلام أصلا، نعم هو اختصام آخر لا تعلق له بالمقام، وجعل هؤلاء - إذ - في * (إذ قال) * منصوبا باذكر مقدرا، وكذا كل من قال: إن الاختصام ليس في شأن آدم عليه السلام يجعله كذلك. والشهاب الخفاجي قال: الأظهر أي مطلقا تعلق إذ باذكر المقدر على ما عهد في مثله ليبقى * (إذ يختصمون) * على عمومه ولئلا يفصل بين البدل والمبدل منه وليشتمل ما في الحديث الصحيح من اختصامهم في الكفارات والدرجات ولئلا يحتاج إلى توجيه العدول عن ربي إلى * (ربك) * انتهى، وفيه شيء لا يخفى.
ومن غريب ما قيل في اختصامهم ما حكاه الكرماني في عجائبه أنه عبارة عن مناظرتهم بينهم في استنباط العلوم كمناظرة أهل العلم في الأرض، ويرد به على من يزعم أن جميع علومهم بالفعل، والمعروف عن السلف أنه المقاولة في شأن آدم عليه السلام والرد به حاصل أيضا، والمراد بالملائكة في * (إذ قال ربك للملائكة) * ما يعم إبليس لأنه إذ ذاك كان مغمورا فيهم، ولعل التعبير بهم دون الضمير الراجع إلى الملا الأعلى على القول بالاتحاد لشيوع تعلق القول بهم بين أهل الكتاب بهذا العنوان أو لشهرة المقابلة بين الملك والبشر فيلطف جدا قوله سبحانه: * (إذ قال ربك للملائكة) * * (إني خالق بشرا من طين) * وقيل: عبر بذلك إظهارا للاستغراق في المقول له، والمراد إني خالق فيما سيأتي، وفي التعبير بما ذكر ما ليس في التعبير بصيغة المضارع من الدلالة على أنه تعالى فاعل البتة من غير صارف، والبشر الجسم الكثيق يلاقي ويباشر أو بادي البشرة أو بادي البشرة ظاهر الجلد غير مستور بشعر أو وبر أو صوف، والمراد به آدم عليه السلام؛ وذكر هنا خلقه من طين وفي آل عمران خلقه من تراب وفي الحجر من صلصال من حمإ مسنون وفي الأنبياء من عجل ولا منافاة غاية ما في الباب أنه ذكر في بعض المادة القريبة في بعض المادة البعيدة، ثم إن ما جرى عند وقوع المحكي ليس اسم البشر الذي لم يخلق مسماه حينئذ فضلا عن تسميته به بل عبارة كاشفة عن حاله وإنما عبر عنه بهذا الاسم عند الحكاية.
* (فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له س‍اجدين) *.
* (فإذا سويته) * أي صورته بالصورة الإنسانية والخلقة البشرية أو سويت أجزاء بدنه بتعديل طبائعه * (ونفخت فيه من روحي) * تمثيل لإفاضة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها فليس ثمت نفخ ولا منفوخ أي فإذا أكملت استعداده وأفضت عليه ما يحيا به من الروم الطاهرة التي هي أمري * (فقعوا له) * أمر من وقع، وفيه دليل على أن المأمور به ليس مجرد الانحناء كما قيل: أي فاسقطوا له * (ساجدين) * تحية له وتكريما.
* (فسجد المل‍ائكة كلهم أجمعون) *.
* (فسجد الملائكة) * أي فخلقه فسواه فنفخ فيه الروح فسجد له الملائكة * (كلهم) * بحيث لم يبق أحد منهم إلا سجد * (أجمعون) * أي بطريق المعية بحيث لم يتأخر أحد منهم عن أحد فكل للإحاطة وأجمع للاجتماع، ولا اختصاص لإفادته ذلك بالحالية خلافا لبعضهم، وتحقيقه على ما في " الكشف " أن الاشتقاق الواضح يرشد إلى أن فيه معنى الجمع والضم والأصل في الإطلاق الخطابي التنزيل على أكمل أحوال الشيء ولا
224

خفاء في أن الجمع في وقت واحد أكمل أصنافه لكن لما شاع استعماله تأكيدا أقيم مقام كل في إفادة الإحاطة من غير نظر إلى الكمال فإذا فهمت الإحاطة بلفظ آخر لم يكن بد من ملاحظة الأصل صونا للكلام عن الإلغاء ولو سلم فكل تأكيد الشمول بإخراجه عن الظهور إلى النصوص، و * (أجمعون) * تأكيد ذلك التأكيد فيفيد أتم أنواع الإحاطة وهو الإحاطة في وقت واحد، واستخراج هذه الفائدة من جعله كإقامة المظهر مقام المضمر لا يلوح وجهه، والنقض بقوله سبحانه: * (لأغوينهم أجمعين) * (ص: 82) منشؤه عدم تصور وجه الدلالة، وظاهر هذه الآية وآية الحجر أن سجودهم مترتب على ما حكي من الأمر التعليقي وكثير من الآيات الكريمة كالتي في البقرة والأعراف وغيرهما ظاهرة في أنه مترتب على الأمر التنجيزي وقد مر تحقيق ذلك فليراجع. [بم وقوله تعالى:
* (إلا إبليس استكبر وكان من الك‍افرين) *.
* (إلا إبليس) * استثناء متصل لما أنه وإن كان جنيا معدود في زمرة الملائكة موصوف بصفاتهم لا يقوم ولا يقعد إلا معهم فشملته الملائكة تغليبا ثم استثني استثناء واحد منهم أو لأن من الملائكة جنسا يتوالدون وهو منهم أو هو استثناء منقطع، وقوله تعالى: * (استكبر) * على الأول: استئناف مبين لكيفية ترك السجود المفهوم من الاستثناء فإن تركه يحتمل أن يكون للتأمل والتروي وبه يتحقق أنه للإباء والاستكبار وعلى الثاني: يجوز اتصاله بما قبله أي لكن إبليس استكبر وتعظيم * (وكان من الكافرين) * أي وصار منهم باستكباره وتعاظمه على أمر الله تعالى، وترك الفاء المؤذنة بالسببية إحالة على فطنة السامع أو لظهور المراد.
وكون التعاظم على أمره عز وجل لا سيما الشفاهي موجبا للكفر مما لا ينبغي أن يشك فيه على أن هذا الاستكبار كان متضمنا استقباح الأمر وعده جورا، ويجوز أن يكون المعنى وكان من الكافرين في علم الله تعالى لعلمه عز وجل أنه سيعصيه ويصدر عنه ما يصدر باختياره وخبث طويته واستعداده.
* (قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى أستكبرت أم كنت من الع‍الين) *.
* (قال) * عز وجل على سبيل الإنكار والتوبيخ * (يا إبليس ما منعك أن تسجد) * أي من السجود * (لما خلقت) * أي للذي خلقته على أن ما موصولة والعائد محذوف، واستدل به على جواز إطلاق * (ما) * على آحاد من يعقل ومن لم يجز قال: إن * (ما) * مصدرية ويراد بالمصدر المفعول أي أن تسجد لمخلوق * (بيدي) * وهذا عند بعض أهل التأويل من الخلف تمثيل لكونه عليه السلام معتني بخلقه فإن من شأن المعتنى به أن يعمل باليدين، ومن آثار ذلك خلقه من غير توسط أب وأم وكونه جسما صغيرا انطوى فيه العالم الأكبر وكونه أهلا لأن يفاض عليه ما لا يفاض على غيره إلى غير ذلك من مزايا الآدمية. وعند بعض آخر منهم اليد بمعنى القدرة والتثنية للتأكيد الدال على مزيد قدرته تعالى لأنها ترد لمجرد التكرير نحو * (ثم ارجع البصر كرتين) * (الملك: 4) فأريد به لازمه وهو التأكيد وذلك لأن لله تعالى في خلقه أفعالا مختلفة من جعله طينا مخمرا ثم جسما ذا لحم وعظم ثم نفخ الروح فيه وإعطائه قوة العلم والعمل ونحو ذلك مما هو دال على مزيد قدرة خالق القوى والقدر، وجوز أن يكون ذلك لاختلاف فعل آدم فقد يصدر منه أفعال ملكية كأنها من آثار اليمين وقد يصدر منه أفعال حيوانية كأنها من آثار الشمال وكلتا يديه سبحانه يمين. وعند بعض اليد بمعنى النعمة والتثنية إما لنحو ما مرو إما على إرادة نعمة الدنيا ونعمة الآخرة.
والسلف يقولون: اليد مفردة وغير مفردة ثابتة لله عز وجل على المعنى اللائق به سبحانه ولا يقولون في مثل هذا الموضع إنها بمعنى القدرة أو النعمة، وظاهر الأخبار أن للمخلوق بها مزية على غيره، فقد ثبت
225

في " الصحيح " أنه سبحانه قال في جواب الملائكة: اجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة وعزتي وجلالي لا أجعل من خلقته بيدي كمن قلت له كن فكان.
وأخرج ابن جرير. وأبو الشيخ في العظمة. والبيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: خلق الله تعالى أربعا بيده. العرش. وجنات عدن. والقلم. وآدم ثم قال لكل شيء كن فكان، وجاء في غير ما خبر أنه تعالى كتب التوراة بيده، وفي حديث محاجة آدم وموسى عليهما السلام ما يدل على أن المخلوقية بها وصف تعظيم حيث قال له موسى: أنت آدم الذي خلقك الله تعالى بيده، وكذلك في حديث الشفاعة أن أهل الموقف يأتون آدم ويقولون له: أنت آدم أبو الناس خلقك الله تعالى بيده، ويعلم من ذلك أن ترتيب الإنكار في * (ما منعك أن تسجد) * (ص: 75) على خلق الله تعالى إياه بيديه لتأكيد الإنكار وتشديد التوبيخ كأنه قيل: ما منعك أن تعظم بالسجود من هو أهل للتعظيم للعناية الربانية التي حفت إيجاده.
وزعم الزمخشري أن * (خلقت بيدي) * من باب رأيته بعيني فبيدي لتأكيد أنه مخلوق لا شك فيه وحيث أن إبليس ترك السجود لآدم عليه السلام لشبهة أنه سجود لمخلوق وانضم إلى ذلك أنه مخلوق من طين وأنه هو مخلوق من نار وزل عنه أن الله سبحانه حين أمر من هو أجل منه وأقرب عباده إليه زلفى وهم الملائكة امتثلوا ولم يلتفتوا إلى التفاوت بين الساجد والمسجود له تعظيما لأمر ربهم وإجلالا لخطابه ذكر له ما يتشبث به من الشبهة وأخرج له الكلام مخرج القول بالموجب مع التنبيه على مزلة القدم فكأنه قيل له ما منعك من السجود لشيء هو كما تقول مخلوق خلقته بيدي لا شك في كونه مخلوقا امتثالا لأمري وإعظاما لخطابي كما فعلت الملائكة ولا يخفى أن المقام ناب عما ذكره أشد النبو، وجعل ذلك من باب رأيت بعيني لا يفيد إلا تأكيد المخلوقية، وإخراج الكلام مخرج القول بالموجب مما لا يكاد يقبل فإن سياق القول بالموجب أن يسلم له ثم ينكر عليه لا أن يقدم الإنكار أصلا ويؤتى به كالرمز بل كالألغاز، وأيضا الأخبار الصحيحة ظاهرة في أن ذاك وصف تعظيم لا كما زعمه، وأيضا جعل سجود الملائكة لآدم راجعا إلى محض الامتثال من غير نظر إلى تكريم آدم عليه السلام مردود بما سلم في عدة مواضع أنه سجود تكريم كيف وهو يقابل * (
أتجعل فيها) * (البقرة: 30) وكذلك تعليمه إياهم فليلحظ فيه جانب الآمر تعالى شأنه وجانب المسجود له عليه الصلاة والسلام توفية للحقين وكأنه قال ما قال وأخرج الآية على وجه لم يخطر ببال إبليس حذرا من خرم مذهبه ولا عليه أن يسلم دلالة الآية على التكريم ويخصه بوجه وحينئذ لا تدل على الأفضلية مطلقا حتى يلزم خرم مذهبه، ولعمري أن هذا الرجل عق أباه آدم عليه السلام في هذا المبحث من كشافه حيث أورد فيه مثالا لما قرره في الآية جعل فيه سقاط الحشم مثالا لآدم عليه السلام وبر عدو الله تعالى إبليس حيث أقام له عذره وصوب اعتقاده أنه أفضل من آدم لكونه من نار وآدم من طين وإنما غلطه من جهة أخرى وهو أنه لم يقس نفسه على الملائكة إذ سجدوا له على علمهم أنه بالنسبة إليهم محطوط الرتبة ساقط المنزلة وكم له من عثرة لا يقال لصاحبها لعامع الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم في هذا المقام، نسأل الله تعالى أن يعصمنا من مهاوي الهوى ويثبت لنا الأقدام، وقرىء * (بيدي) * بكسر الدال كمصرخي و * (بيدي) * على التوحيد * (أستكبرت) * بهمزة الإنكار وطرح همزة الوصل أي أتكبرت من غير استحقاق * (أم كنت من العالمين) * أو كنت مستحقا للعلو فائقا فيه، وقيل المعنى أحدث لك الاستكبار أم لم تزل منذ كنت من المستكبرين فالتقابل على الأول: باعتبار الاستحقاق وعدمه
226

وعلى الثاني: باعتبار الحدوث والقدم ولذا قيل * (كنت من العالين) * دون أنت من العالين، وقيل إن العالين صنف من الملائكة يقال لهم المهيمون مستغرقون بملاحظة جمال الله تعالى وجلاله لا يعلم أحدهم أن الله تعالى خلق غيره لم يؤمروا بالسجود لآدم عليه السلام أو هم ملائكة السماء كلهم ولم يؤمروا بالسجود وإنما المؤمور ملائكة الأرض فالمعنى أتركت السجود استكبارا أم تركته لكونك ممن لم يؤمر به ولا يخفى ما فيه، وأم في كل ذلك متصلة ونقل ابن عطية عن كثير من النحويين أنها لا تكون كذلك إذا اختلف الفعلان نحو أضربت زيدا أم قتلته.
وتعقبه أبو حيان بأنه مذهب غير صحيح وأن سيبويه صرح بخلافه. وقرأت فرقة منهم ابن كثير فيما قيل * (استكبرت) * بصلة الألف وهي قراءة أهل مكة وليست في مشهور ابن كثير فاحتمل أن تكون همزة الاستفهام قد حذفت لدلالة أم عليها كقوله: بسبع رمينا الجمر أم بثمان
واحتمل أن يكون الكلام إخبارا وأم منقطعة والمعنى بل أنت من العالين والمراد استخفافه سبحانه به.
* (قال أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين) *.
* (قال أنا خير منه) * قيل هو جواب عن الاستفهام الأخير يؤدي مؤدى أنه كذلك أي هو من العالين على الوجه الأول وأنه ليس من الاستكبار سابقا ولاحقا في شيء على الوجه الثاني ويجري مجرى التعليل لكونه فائقا إلا أنه لما لم يكن وافيا بالمقصود لأنه مجرد دعوى أوثر بيانه بما يفيد ذلك وزيادة وهو قوله: * (خلقتني من نار وخلقته من طين) * أما الأول: فظاهر وأما الثاني: فلأنه ذكر النوعين تنبيها على أن المماثلة كافية فضلا عن الأفضلية ولهذا أبهم وفصل وقابل وآثر * (خلقتني. وخلقته) * دون أنا من نار وهو من طين ليدل على أن المماثلة في المخلوقية مانعة فكيف إذا انضم إليها خيرية المادة، وفيه تنبيه على أن الآمر كان أولى أن يستنكف فإنه أعني السجود حق الآمر، واستلطفه صاحب الكشف ثم قال: ومنه يعلم أن جواب إبليس من الأسلوب الأحمق. وجعل غير واحد قوله: * (أنا خير منه) * جوابا أولا وبالذات عن الاستفهام بقوله تعالى: * (ما منعك أن تسجد) * (ص: 75) بادعاء شيء مستلزم للمانع من السجود على زعمه، وقوله: * (خلقتني) * الخ تعليلا لدعوى الخيرية.
وأيا ما كان فقد أخطأ اللعين إذ لا مماثلة في المخلوقية فمخلوقية آدم عليه السلام باليدين ولا كذلك مخلوقيته وأمر خيرية المادة على العكس في النظر الدقيق ومع هذا الفضل غير منحصر بما كان من جهتها بل يكون من جهة الصورة والغاية أيضا وفضل آدم عليه السلام في ذلك لا يخفى، وكأن خطأه لظهوره لم يتعرض لبيانه بل جعل جوابه طرده وذلك قوله تعالى:
* (قال فاخرج منها فإنك رجيم) *.
* (قال فاخرج منها) * والفاء لترتيب الأمر على ما ظهر من اللعين من المخالفة للأمر الجليل وتعليلها بأظهر الأباطيل أي فاخرج من الجنة، والإضمار قبل ذكرها لشهرة كونه من سكانها.
وعن ابن عباس أنه كان في عدن لا في جنة الخلد ثم إنه يكفي في صحة الأمر كونه ممن اتخذ الجنة وطنا ومسكنا ولا تتوقف على كونه فيها بالفعل وقت الخطاب كما هو شائع في المحاورات يقول من يخاصم صاحبه في السوق أو غيره في دار: أخرج من الدار مع أنه وقت المخاصمة ليس فيها بالفعل وهذا إن قيل: إن المحاورة لم تكن في الجنة، وقيل: منها أي من زمرة الملائكة المعززين وهو المراد بالهبوط لا الهبوط من السماء كما قيل فإن وسوسته لآدم عليه السلام كانت بعد هذا الطرد وكانت على ما روي عن الحسن بطريق النداء من باب الجنة على أن كثيرا من العلماء أنكروا الهبوط من السماء بالكلية، بناء على أن الجنة التي أسكنها آدم عليه السلام كانت في الأرض، وقيل: أخرج من الخلقة التي أنت فيها وانسلخ منها والأمر للتكوين، وكان عليه اللعنة يفتخر
227

بخلقته فغير الله تعالى خلقته فاسود بعد ما كان أبيض وقبح بعد ما كان حسنا وأظلم بعد ما كان نورانيا.
وقوله تعالى: * (فإنك رجيم) * تعليل للأمر بالخروج أي مطرود يرجم بالحجارة أو شيطان يرجم بالشهب كذا قالوا، وقد يقال: المراد برجيم ذليل فإن الرجم يستدعي الذلة، وهو أبعد من توهم التكرار مع الجملة بعد من الوجه الأول وأوفق لما في الأعراف من قوله تعالى: * (فاخرج إنك من الصاغرين) *.
* (وإن عليك لعنتىإلى يوم الدين) *.
* (وإن عليك لعنتي) * أي إبعادي عن الرحمة، وفي الحجر * (اللعنة) * فإن كانت أل فيه للعهد أو عوضا عن الضمير المضاف إليه فعدم الفرق بين ما هناك وما
هنا ظاهر وإن أريد كل لعنة فذاك لما أن لعنة اللاعنين من الملائكة والثقلين أيضا من جهته تعالى فهم يدعون عليه بلعنة الله تعالى وإبعاده من رحمته * (إلى يوم الدين) * يوم الجزاء والعقوبة، وفيه إيذان بأن اللعنة مع كمال فظاعتها ليست كافية في جزاء جنايته بل هي أنموذج مما سيلقاه مستمرة إلى ذلك اليوم، لكن لا على أنها تنقطع يومئذ كما يوهمه ظاهر التوقيت ونسب القول به إلى بعض الصوفية بل على أنه سيلقى يومئذ من ألوان العذاب وأفانين العقاب ما تنسى عنده اللعنة وتصير كالزائل ألا يرى إلى قوله تعالى: * (فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين) * (الأعراف: 44) وقوله تعالى: * (ويلعن بعضكم بعضا) * (العنكبوت: 25).
* (قال رب فأنظرنىإلى يوم يبعثون) *.
* (قال رب فأنظرني) * أي أمهلني وأخرني، والفاء متعلقة بمحذوف ينسحب عليه الكلام كأنه قال: إذا جعلتني رجيما فامهلني ولا تمتني * (إلى يوم يبعثون) * أي آدم وذريته للجزاء بعد الموت وهو وقت النفخة الثانية، وأراد اللعين بذلك أن يجد فسحة من إغوائهم ويأخذ منهم ثاره وينجو من الموت لأنه لا يكون بعد البعث وكان أمر البعث معروفا بين الملائكة فسمعه منهم فقال ما قال، ويمكن أن يكون قد عرفه عقلا حيث عرف ببعض الأمارات أو بطريق آخر من طرق المعرفة أن أفراد هذا الجنس لا تخلو من وقوع ظلم بينها وأن الدار ليست دار قرار بل لا بد من الموت فيها وأن الحكمة تقتضي الجزاء.
* (قال فإنك من المنظرين) *.
* (قال فإنك من المنظرين) * ورود الجواب بالجملة الاسمية مع التعرض لشمول ما سأله الآخرين على وجه يشعر بأن السائل تبع لهم في ذلك صريح في أنه إخبار بالانظار المقدر لهم أزلا لا إنشاء لإنظار خاص به قد وقع إجابة لدعائه وأن استنظاره كان طلبا لتأخير الموت إذ به يتحقق كونه منهم لا لتأخير العقوبة كما قيل فإن ذلك معلوم من إضافة اليوم إلى الدين أي إنك من جملة الذين أخرت آجالهم أزلا حسبما تقتضيه حكمة التكوين.
* (إلى يوم الوقت المعلوم) *.
* (إلى يوم الوقت المعلوم) * الذي قدرته وعينته لفناء الخلائق وهو وقت النفخة الأولى لا إلى وقت البعث الذي هو المسؤول فالفاء ليست لربط نفس لإنظار بالاستنظار بل لربط الاخبار المؤكد به كما في قوله تعالى: * (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) * (يوسف: 77) وقول الشافعي: فإن ترحم فأنت لذلك أهل
* (قال فبعزتك لاغوينهم أجمعين) *.
* (قال فبعزتك) * قسم بسلطان الله عز وجل وقهره وهو كما يكون بالذات يكون بالصفة فالباء للقسم على ما عليه الأكثرون والفاء لترتيب مضمون الجملة على الإنظار أي فاقسم بعزتك * (لأغوينهم أجمعين) * أي أفراد هذا النوع بتزيين المعاصي لهم.
* (إلا عبادك منهم المخلصين) *.
* (إلا عبادك منهم المخلصين) * وهم الذين أخلصهم الله تعالى لطاعته وعصمهم عن الغواية. وقرىء * (المخلصين) * على صيغة الفاعل أي الذين أخلصوا قلوبهم أو أعمالهم لله تعالى.
* (قال فالحق والحق أقول) *.
228

قال) * أي الله عز وجل * (فالحق والحق أقول) * برفع الأول على أنه مبتدأ محذوف الخبر أو خبر محذوف المبتدأ ونصب الثاني على أنه مفعول لما بعده قدم عليه للقصر أي لا أقول إلا الحق، والفاء لترتيب مضمون ما بعدها على ما قبلها أي فالحق قسمي.
* (لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) *.
* (لأملأن جهنم) * على أن الحق إما اسمه تعالى أو نقيض الباطل عظمه الله تعالى بإقسامه به، ورجح بحديث إعادة الاسم معرفة أو فأنا الحق أو فقولي الحق، وقوله تعالى: * (لأملأن) * الخ حينئذ جواب لقسم محذوف أي والله لأملأن الخ، وقوله تعالى: * (والحق أقول) * على تقدير اعتراض مقرر على الوجهين الأولين لمضمون الجملة القسمية وعلى الوجه الثالث لمضمون الجملة المتقدمة أعني فقولي الحق.
وقول * (فالحق) * مبتدأ خبره * (لأملأن) * مبتدأ خبره * (لأملأن) * لأن المعنى أن أملأ ليس بشيء أصلا. وقرأ الجمهور * (فالحق والحق) * بنصبهما وخرج على أن الثاني مفعول مقدم كما تقدم والأول مقسم به حذف منه حرف القسم فانتصب كما في بيت الكتاب: إن عليك الله أن تبايعا * تؤخذ كرها أو تجىء طائعا
وقولك: الله لأفعلن وجوابه * (لأملأن) * وما بينهما اعتراض وقيل هو منصوب على الإغراء أي فالزموا الحق و * (لأملأن) * جواب قسم محذوف، وقال الفراء: هو على معنى قولك حقا لآتينك ووجود أل وطرحها سواء أي لأملأن جهنم حقا فهو عنده نصب على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة، ولا يخفى أن هذا المصدر لا يجوز تقديمه عند جمهور النحاة وأنه مخصوص بالجملة التي جزآها معرفتان جامدان جمودا محضا. وقال صاحب البسيط: وقد يجوز أن يكون الخبر نكرة والمبتدأ يكون ضميرا نحو هو زيد معروفا وهو الحق بينا وأنا الأمير مفتخرا ويكون ظاهرا نحو زيد أبوك عطوفا وأخوك زيد معروفا اه‍ فكأن الفراء لا يشترط في ذلك ما يشترطون.
وقرأ ابن عباس. ومجاهد. والأعمش بالرفع فيهما، وخرج رفع الأول على ما مر ورفع الثاني على أنه مبتدأ والجملة بعده خبر والرابط محذوف أي أقوله كقراءة ابن عامر * (وكل وعد الله الحسنى) * وقول أبي النجم: قد أصبحت أم الخيار تدعي * علي ذنبا كله لم أصنع
برفع كل ليتأتى السلب الكلي المقصود للشاعر، وقرأ الحسن. وعيسى. وعبد الرحمن بن أبي حماد عن أبي بكر بجرهما، وخرج على أن الأول: مجرور بواو القسم محذوفة أي فوالحق، والثاني: مجرور بالعطف عليه كما تقول: والله والله لأقومن، و * (أقول) * اعتراض بين القسم وجوابه، وجعله الزمخشري مفعولا مقدما
لأقول والجر على حكاية لفظ المقسم به قال: ومعناه التوكيد والتشديد وإفادته ذلك زيادة على ما يفيده أصل الاعتراض لأن العدول عما يقتضيه من الإعراب إلى الحكاية لما كان لاستبقاء الصورة الأولى دل على أنها من العناية في شأنها بمكان وهذا جار في كل حكاية من دون فعل قول وما يقوم مقامه فيدل فيما نحن فيه على فضل عناية بشأن القسم ويفيد التشديد والتوكيد. وقرىء بجر الأول على إضمار حرف القسم ونصب الثاني على المفعولية * (منك) * أي من جنسك من الشياطين * (وممن تبعك) * في الغواية والضلالة * (منهم) * من ذرية آدم عليه السلام * (أجمعين) * توكيد للضمير في * (منك) * والضمير المجرور بمن الثانية، والمعنى لأملأن جهنم من المتبوعين والتابعين أجمعين لا أترك منهم أحدا أو توكيد للتابعين فحسب والمعنى لأملأنها من الشياطين وممن تبعهم من جميع الناس لا تفاوت في ذلك بين ناس وناس بعد وجود الأتباع منهم من أولاد الأنبياء وغيرهم، وتأكيد التابعين دون المتبوعين لما
229

أن حال التابعين إذا بلغ إلى أن اتصل إلى أولاد الأنبياء فما بال المتبوعين. وقال صاحب الكشف: صاحب هذا القول اعتبر القرب وأن الكلام بين الحق تعالى شأنه وبين الملعون في شأن التابعين فأكد ما هو المقصود وترك توكيد الآخر للاكتفاء. هذا واعلم أن هذه القصة قد ذكرت في عدة سور وقد ترك في بعضها بعض ما ذكر في البعض الآخر للإيجاز ثقة ما ذكر في ذلك وقد يكون فيها في موضعين مثلا لفظان متحدان مآلا مختلفان لفظا رعاية للتفنن، وقد يحمل الاختلاف على تعدد الصدور فيقال مثلا: إن اللعين أقسم مرة بالعزة فحكى ذلك في سورة * (ص) * بقوله تعالى: * (قال فبعزتك) * وأخرى بإغواء الله تعالى الذي هو أثر من آثار قدرته وعزته عز وجل وحكم من أحكام سلطانه فحكى ذلك في سورة (الأعراف: 16) بقوله تعالى: * (قال فبما أغويتني) * وقد يحمل الاختلاف على اختلاف المقامات كترك الفاء من قوله: * (انظرني إلى يوم يبعثون) * (الأعراف: 14) ومن قوله تعالى: * (إنك من المنظرين) * (الأعراف: 15) في الأعراف مع ذكرها فيهما في * (ص) * والذي يجب اعتباره في نقل الكلام إنما هو أصل معناه ونفس مدلوله الذي يفيده وأما كيفية إفادته له فليس مما يجب مراعاته عند النقل البتة بل قد تراعي وقد لا تراعي حسب اقتضاء المقام، ولا يقدح في أصل الكلام تجريده عنها بل قد تراعي عند نقله كيفيات وخصوصيات لم يراعها المتكلم أصلا حيث أن مقام الحكاية اقتضتها وهي ملاك الأمر ولا يخل ذلك بكون المنقول أصل المعنى كما قد حققه صدر المفتين أبو السعود وأطال الكلام فيه فليراجع.
* (قل مآ أس‍الكم عليه من أجر ومآ أنآ من المتكلفين) *.
* (قل ما أسئلكم عليه) * أي على القرآن كما روي عن ابن عباس أو على تبليغ ما يوحى إلي أو على الدعاء إلى الله تعالى على ما قيل * (من أجر) * أي أجرا دنيويا جل أو قل * (وما أنا من المتكلفين) * من الذين يتصنعون ويتحلون بما ليسوا من أهله وما عرفتموني قط متصنعا ولا مدعيا ما ليس عندي حتى انتحل النبوة وأتقول القرآن فأمره صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم عن نفسه هذه المقالة ليس لإعلامهم بالمضمون بل للاستشهاد بما عرفوه منه عليه الصلاة والسلام وللتذكير بما علموه وفي ذلك ذم التكلف.
وأخرج ابن عدي عن أبي برزة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أنبئكم بأهل الجنة؟ قلنا: بلى يا رسول الله قال: هم الرحماء بينهم قال: ألا أنبئكم بأهل النار؟ قلنا: بلى قال: هم الآيسون القانطون الكذابون المتكلفون " وعلامة المتكلف كما أخرجه البيهقي في " شعب الإيمان " عن ابن المنذر ثلاث أن ينازل من فوقه ويتعاطى ما لا ينال ويقول ما لا يعلم، وفي " الصحيحين " أن ابن مسعود قال: أيها الناس من علم منكم علما فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله تعالى أعلم قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: * (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين) *.
* (إن هو إلا ذكر للع‍المين) *.
* (إن هو) * أي ما هو أي القرآن * (إلا ذكر) * جليل الشأن من الله تعالى * (للعالمين) * للثقلين كافة.
* (ولتعلمن نبأه بعد حين) *.
* (ولتعلمن نبأه) * أي ما أنبأ به من الوعد والوعيد وغيرهما أو خبره الذي يقال فيه في نفس الأمر وهو أنه الحق والصدق * (بعد حين) * قال ابن عباس. وعكرمة. وابن زيد: يعني يوم القيامة، وقال قتادة. والفراء. والزجاج: بعد الموت، وكان الحسن يقول: يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين، وفسر نبؤه بالوعد والوعيد الكائنين في الدنيا، والمراد لتعلمن ذلك بتحققه إذا أخذتكم سيوف المسلمين وذلك يوم بدر وأشار إلى هذا السدي، وأيا ما كان ففي الآية من التهديد ما لا يخفى.
230

هذا ومما قاله بعض السادة الصوفية في بعض الآيات: قالوا في قوله تعالى: * (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق * والطير محشورة كل له أواب) * (ص: 18، 19) إنه ظاهر في أن الجماد والحيوان الذي هو عند أهل الحجاب غير ناطق حي دراك له علم بالله عز وجل، ونقل الشعراني عن شيخه على الخواص قدس سره القول بتكليف البهائم من حيث لا يشعر المحجوبون، وجوز أن يكون نذيرها من ذواتها وأن يكون خارجا عنها من جنسها، وقال: ما سميت بهائم إلا لكون أمر كلامها وأحوالها قد أبهم على غالب الخلق لا لأن الأمر مبهم عليها نفسها. وحكي عنه أنه كان يعامل كل جماد في الوجود معاملة الحي ويقول: إنه يفهم الخطاب ويتألم كما يتألم الحيوان.
وقيل: في قوله تعالى: * (وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * (ص: 24) إشارة إلى أن النفوس مجبولة على الظلم وسائر الصفات الذميمة وإلى أن الذين تزكت أنفسهم قليل جدا بالنسبة إلى الآخرين * (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض) * (ص: 26) نقل الشعراني أن خلافته عليه السلام وكذا خلافة آدم كانت في عالم الصور وعالم الأنفس المدبرة لها دون العالم النوراني فإن لكل شخص من أهله مقاما معلوما عينه له ربه سبحانه، وللشيخ الأكبر قدس سره كلام طويل في الخلافة، ويحكى عن بعض الزنادقة أن الخليفة لا يكتب عليه خطيئة ولا هو داخل في ربقة التكليف لأن مرتبته مرتبة مستخلفة
وهو كفر صراح، وفرق العلماء بين الخليفة والملك.
أخرج الثعلبي من طريق العوام بن حوشب قال: حدثني رجل من قومي شهد عمر رضي الله تعالى عنه أنه سأل طلحة. والزبير. وكعبا. وسلمان رضي الله تعالى عنهم ما الخليفة من الملك؟ فقال طلحة. والزبير: ما ندري فقال سلمان: الخليفة الذي يعدل في الرعية ويقسم بينهم بالسوية ويشفق عليهم شفقة الرجل على أهله ويقضي بكتاب الله تعالى فقال كعب: ما كنت أحسب أحدا يعرف الخليفة من الملك غيري فقوله تعالى: * (فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى) * (ص: 26) كالتفسير لهذه الخلافة وفيه إشارة إلى ذم الهوى، وفي بعض الآثار ما عبد إله في الأرض أبغض على الله تعالى من الهوى فهو أعظم الأصنام.
وقوله تعالى: * (فطفق مسحا بالسوق والأعناق) * (ص: 33) فيه إشارة بناء على المشهور في القصة إلى أن كل محبوب سوى الله تعالى إذا حجبك عن الله تعالى لحظة يلزمك أن تعالجه بسيف نفى لا إله إلا الله وقد سمعت استدلال الشبلي بذلك على تخريق ثيابه وما قيل فيه قال: * (رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) * (ص: 35) لم يقصد بذلك السؤال إلا ما يوجب مزيد القرب إليه عز وجل وليس فيه ما يخل بكماله عليه السلام وإلا لعوتب عليه، وقد تقدم الكلام في ذلك ومنه يعلم كذب ما في الجواهر والدرر نقلا عن الخواص قال: بلغنا أن النملة التي كلمت سليمان عليه السلام قالت: يا نبي الله أعطني الأمان وأنا أنصحك بشيء ما أظنك تعلمه فأعطاها الأمان فأسرت إليه في أذنه وقالت: إني أشم من قولك: * (هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) * (ص: 35) رائحة الحسد فتغير سليمان واغبر لونه ثم قالت له: قد تركت الأدب مع الله تعالى من وجوه، منها عدم خروجك من شح النفس الذي نهاك الله تعالى عنه إلى حضرة الكرم الذي أمرك الله تعالى به، ومنها مبالغتك في السؤال بأن لا يكون ذلك العطاء لأحد من عبيد سيدك من بعدك فحجرت على الحق تعالى بأن لا يعطى أحدا بعد موتك ما أعطاه كل ذلك لمبالغتك في شدة الحرص، ومنها طلبك أن يكون ملك سيدك لك وحدك تقول هب لي وغاب عنك أنك عبد له لا يصح
231

أن تملك معه شيئا مع أن فرحك بالعطاء لا يكون إلا مع شهود ملكك له، وكفى بذلك جهلا ثم قالت له: يا سليمان وماذا ملكك الذي سألته أن يعطيكه فقال: خاتمي قالت: اف الملك يحويه خاتم انتهى، ويدل على كذب ما بلغه وجوه أيضا لا تخفى على الخواص والعجب من أنها خفيت على الخواص، وقوله تعالى: * (يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) * (ص: 75) يشير إلى فضل آدم عليه السلام وأنه أكمل المظاهر، واليدان عندهم إشارة إلى صفتي اللطف والقهر وكل الصفات ترجع إليهما، ولا شك عندنا في أنه أفضل من الملائكة عليهم السلام. وذكر الشعراني أنه سأل الخواص عن مسألة التفضيل الذي أشرنا إليه فقال: الذي ذهب إليه جماعة من الصوفية أن التفاضل إنما يصح بين الأجناس المشتركة كما يقال أفضل الجواهر الياقوت وأفضل الثياب الحلة وأما إذا اختلفت الأجناس فلا تفاضل فلا يقال أيما أفضل الياقوت أم الحلة؟ ثم قال: والذي نذهب إليه أن الأرواح جميعها لا يصح فيها تفاضل إلا بطريق الإخبار عن الله تعالى فمن أخبره الحق تعالى بذلك هو الذي حصل له العلم التام وقد تنوعت الأرواح إلى ثلاثة أنواع. أرواح تدبر أجسادا نورية وهم الملأ الأعلى. وأرواح تدبر أجسادا نارية وهم الجن وأرواح تدبر أجسادا ترابية وهم البشر، فالأرواح جميعها ملائكة حقيقة واحدة وجنس واحد فمن فاضل من غير علم إلهي فليس عنده تحقيق فإنا لو نظرنا التفاضل من حيث النشأة مطلقا قال العقل بتفضيل الملائكة ولو نظرنا إلى كمال النشأة وجمعيتها حكمنا بتفضيل البشر، ومن أين لنا ركون إلى ترجيح جانب على آخر مع أن الملك جزء من الإنسان من حيث روحه لأن الأرواح ملائكة فالكل من الجزء والجزء من الكل، ولا يقال أيما أفضل جزء الإنسان أو كله فافهم انتهى، والكلام في أمر التفضيل طويل محله كتب الكلام ثم إن حظ العارف من القصص المذكورة في هذه السورة الجليلة لا يخفى إلا على ذوي الأبصار الكليلة نسأل الله تعالى أن يوفقنا لفهم كتابه بحرمة سيد أنبيائه وأحبابه صلى الله عليه وسلم وشرف وعظم وكرم.
سورة الزمر
وتسمى سورة الغرف كما في " الإتقان " و " الكشاف " لقوله تعالى: * (لهم غرف من فوقها غرف) * (الزمر: 20) أخرج أن الضريس. وابن مردويه. والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنها أنزلت بمكة ولم يستثن، وأخرج النحاس عنه أنه قال: نزلت سورة الزمر بمكة سوى ثلاث آيات نزلت بالمدينة في وحشي قاتل حمزة * (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) * (الزمر: 53) إلى ثلاث آيات، وزاد بعضهم * (قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم) * (الزمر: 10) الآية ذكره السخاوي في جمال القراءة وحكاه أبو حيان عن مقاتل، وزاد بعض: * (الله نزل أحسن الحديث) * (الزمر: 23) حكاه ابن الجوزي، والمذكور في " البحر " عن ابن عباس استثناء * (الله نزل أحسن الحديث) * وقوله تعالى: * (قل يا عبادي الذين أسرفوا) * الخ، وعن بعضهم إلا سبع آيات من قوله سبحانه: * (قل يا عبادي الذين أسرفروا) * إلى آخر السبع وآيها خمس وسبعون في الكوفي وثلاث في الشامي واثنتان في الباقي وتفصيل الاختلاف في " مجمع البيان " وغيره، ووجه اتصال أولها بآخر صاد أنه قال سبحانه هناك: * (إن هو إلا ذكر للعالمين) * (يوسف: 104) وقال جل شأنه هنا: * (تنزيل الكتاب من الله) * (الزمر: 1) وفي ذلك كمال الالتئام بحيث لو أسقطت البسملة لم يتنافر الكلام ثم إنه تعالى ذكر آخر * (ص) * قصة خلق آدم وذكر في صدر هذه قصة خلق زوجه منه وخلق الناس كلهم منه وذكر خلقهم في بطون أمهاتهم خلقا من بعد خلق ثم ذكر أنهم ميتون ثم ذكر سبحانه القيامة
232

والحساب والجنة والنار وختم بقوله سبحانه: * (وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين) * (الزمر: 75) فذكر جل شأنه أحوال الخلق من المبدأ إلى آخر المعاد متصلا بخلق آدم عليه السلام المذكور في السورة قبلها وبين السورتين أوجه أخر من الربط تظهر بالتأمل فتأمل.
* (تنزيل الكت‍ابمن الله العزيز الحكيم) *.
* (تنزيل الكتاب) * قال الفراء. والزجاج: هو مبتدأ وقوله تعالى:
* (من الله العزيز الحكيم) * خبره أو خبر مبتدأ محذوف أي هذا المذكور تنزيل، و * (من الله) * متعلق بتنزيل والوجه الأول لوجه كما في " الكشف "، والكتاب القرآن كله وكأن الجملة عليه تعليل لكونه ذكرا للعالمين أو لقوله تعالى: * (لتعلمن نبأ بعد حين) * (ص: 88) والظاهر أن المراد بالكتاب على الوجه الثاني السورة لكونها على شرف الذكر فهي أقرب لاعتبار الحضور الذي يقتضيه اسم الإشارة فيها، و * (تنزيل) * بمعنى منزل أو قصد به المبالغة، وقدر أبو حيان المبتدأ هو عائدا على الذكر في * (إن هو إلا ذكر) * وجعل الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل هذا الذكر ما هو فقيل هو تنزيل الكتاب والكتاب عليه القرآن عليه القرآن وفي * (تنزيل) * الاحتمالان، وجوز على احتمال كونه خبر مبتدأ محذوف كون * (من الله) * خبرا ثانيا وكونه خبر مبتدأ محذوف أيضا أي هذا أو هو تنزيل الكتاب هذا أو هو من الله وكونه حالا من * (الكتاب) * وجاز الحال من المضاف إليه لأن المضاف مما يعمل عمل الفعل وكونه حالا من الضمير المستتر في * (تنزيل) * على تقدير كونه بمعنى منزل وكونه حالا من * (تنزيل) * نفسه والعامل فيه معنى الإشارة. وتعقب بأن معاني الأفعال لا تعمل إذا كان ما هي فيه محذوفا ولذلك ردوا على المبرد قوله في بيت الفرزدق: وإذ ما مثلهم بشر أن مثلهم منصوب على الحالية وعامله الظرف المقدر أي ما في الوجود بشر مماثلا لهم بأن الظرف عامل معنوي لا يعمل محذوفا، وقرأ ابن أبي عبلة. وزيد بن علي. وعيسى * (تنزيل) * بالنصب على إضمار فعل نحو اقرأ والزم. والتعرض لوصفي العزة والحكمة للإيذان بظهور أثريهما في الكتاب بجريان أحكامه ونفاذ أوامره ونواهيه من غير مدافع ولا ممانع وبابتناء جمع ما فيه على أساس الحكم الباهرة [بم وقوله تعالى:
* (إنآ أنزلنآ إليك الكت‍ابب الحق فاعبد الله مخلصا له الدين) *.
* (إنا أنزلنا إليك الكت‍اببالحق) * بيان لكونه نازلا بالحق وتوطئة لما يذكر بعد. وفي " إرشاد العقل السليم " أنه شروع في بيان المنزل إليه وما يجب عليه إثر بيان شأن المنزل وكونه من عند الله تعالى، وإيا ما كان لا يتكرر مع ما تقدم، نعم كان الظاهر على تقدير كون المراد بالكتاب هناك القرءان الإتيان بضميره ههنا إلا أنه أظهر قصدا إلى تعظيمه ومزيد الاعتناء بشأنه. وقال ابن عطية: الذي يظهر لي أن الكتاب الأول عام لجميع ما تنزل من عند الله تعالى والكتاب الثاني خاص بالقرآن فكأنه أخبر إخبارا مجردا أن الكتب الهادية الشارعة تنزيلها من الله عز وجل وجعله توطئة لقوله سبحانه. * (إنا أنزلنا إليك الكتاب) * اه‍ وهو كما ترى، والباء متعلقة بالإنزال وهي للسببية أي أنزلناه بسبب الحق أي إثباته وإظهاره أو بمحذوف وقع حالا من المفعول وهي للملابسة أي أنزلناه ملتبسا بالحق والصواب، والمراد أن كل ما فيه موجب للعمل والقبول حتما، وجوز كون المحذوف حالا من الفاعل أي أنزلناه ملتبسين بالحق أي في ذلك، والفاء في قوله تعالى: * (فاعبد الله مخلصا له الدين) * لترتيب الأمر بالعبادة على إنزال الكتاب إليه عليه الصلاة والسلام بالحق أي فاعبده تعالى ممحضا له الدين من شوائب الشرك والرياء حسبما
233

بين في تضاعيف ما أنزل إليك، والعدول إلى الاسم الجليل مما يلائم هذا الأمر أتم ملاءمة. وقرأ ابن أبي عبلة * (الدين) * بالرفع كما رواه الثقاة فلا عبرة بإنكار الزجاج، وخرج ذلك الفراء على أنه مبتدأ خبره الظرف المقدم للاختصاص أو لتأكيده. واعترض بأنه يتكرر مع قوله تعالى:
* (ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أوليآء ما نعبدهم إلا ليقربونآ إلى الله زلفىإن الله يحكم بينهم فى ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدى من هو ك‍اذب كفار) *.
* (ألا لله الدين الخالص) * وأجيب بأن الجملة الأول استئناف وقع تعليلا للأمر بإخلاص العبادة وهذه الجملة تأكيد لاختصاص الدين به تعالى أي ألا هو سبحانه الذي يجب أن يخص بإخلاص الدين له تعالى لأنه المتفرد بصفات الألوهية التي من جملتها الإطلاع على السرائر والضمائر، وهي على قراءة الجمهور استئناف مقرر لما قبله من الأمر بإخلاص الدين له عز وجل ووجوب الامتثال به، وفي الإتيان بالا واسمية الجملة وإظهار الجلالة والدين ووصفه بالخالص والتقديم المفيد للاختصاص مع اللام الموضوعة له عند بعض ما لا يخفى من الدلالة على الاعتناء بالدين الذي هو أساس كل خير، قيل ومن هنا يعلم أنه لا بأس يجعل الجملة تأكيدا للجملة قبلها على القراءة الأخيرة وإليه ذهب " صاحب التقريب " وقال: بتغاير دلالتي الجملتين إجمالا وتفصيلا. ورد بذلك زعم إباء هذه الجملة صحة تخريج الفراء.
والحق إنه تخريج لا يعول عليه، ففي " الكشف " لما كان قوله تعالى: * (لله الدين الخالص) * بمنزلة التعليل لقوله سبحانه: * (فاعبد الله مخلصا) * كان الأصل أن يقال فلله الدين الخالص ثم ترك إلى * (ألا لله الدين الخالص) * مبالغة لما عرفت من أنه أقوى الوصلين ثم صدر بحرف التنبيه زيادة على زيادة وتحقيقا بأن غير الخالص كالعدم فلو قدر الاستئناف التعليلي أولا من دون الوصف المطلوب الذي هو الأصل في العلة ومن دون حرف التنبيه للفائدة المذكورة كان كلاما متنافرا ويلزم زيادة التنافر من وصف الدين بالخلوص ثانيا لدلالته على العي في الأول إذ ليس فيه ما يرشد إلى هذا الوصف حتى يجعل من باب الاجمال والتفصيل؛ وأما جعله تأكيدا فلا وجه له للوصف المذكور ولأن حرف التنبيه لا يحسن موقعها حينئذ فإنها يؤتى بها في ابتداء الاستئناف المضاف لقصد التأكيد اه‍.
ونص العلامة الثاني أيضا على أن كون الجملة الثانية تأكيدا للأولى فاسد عند من له معرفة بأساليب الكلام وصياغات المعاني ففيها ما ينبو عنه مقام التأكيد ولا يكاد يقترن به المؤكد لكن في قول " صاحب الكشف ": ليس في الأول ما يرشد إلى وصف الخلوص حتى يجعل من باب الاجمال والتفصيل بحثا إذ لقائل أن يقول: إن * (له الدين) * على معنى له الدين الكامل ومن المعلوم أن كمال الدين بكونه خالصا فيكون في الأول ما يرشد إلى هذا الوصف نعم وهن ذلك التخريج على حاله قبل هذا البحث أم لم يقبل.
وقال أبو حيان: الدين مرفوع على أنه فاعل بمخلصا الواقع حالا والراجع لذي الحال محذوف على رأي البصريين أي الدين منك أو تكون أل عوضا من الضمير أي دينك وعليه يكون وصف الدين بالإخلاص وهو وصف صاحبه من باب الإسناد المجازي كقولهم شعر شاعر، وفي الآية دلالة على شرف الإخلاص بالعبادة وكم من آية تدل على ذلك.
وأخرج ابن مردويه عن يزيد الرقاشي أن رجلا قال: يا رسول الله إنا نعطي أموالنا التماس الذكر فهل لنا من أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا قال: يا رسول الله إنا نعطي التماس الأجر والذكر فهل لنا أجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى لا يقبل إلا من أخلص له " ثم تلا رسول الله عليه الصلاة والسلام
234

هذه الآية * (ألا لله الدين الخالص) * ويؤيد هذا أن المراد بالدين في الآية الطاعة لا كما روى عن قتادة من أنه شهادة أن لا إله إلا الله وعن الحسن من أنه الإسلام، وقوله تعالى: * (والذين اتخذوا من دونه أولياء) * الخ تحقيق لحقية التوحيد ببطلان الشرك ليعلم منه حقية الإخلاص وبطلان تركه وفيه من ترغيب المخلصين وترهيب غيرهم ما لا يخفى، والموصول عبارة عن المشركين من قريش وغيرهم كما روى عن مجاهد، وأخرج جويبر عن ابن عباس أن الآية نزلت في ثلاثة أحياء. عامر. وكنانة. وبني سلمة كانوا يعبدون الأوثان ويقولون: الملائكة بنات الله فالموصول إما عبارة عنهم أو عبارة عما يعمهم وأضرابهم من عبدة غير الله سبحانه وهو الظاهر فيكون الأولياء عبارة عن كل معبود باطل كالملائكة وعيسى عليهم السلام والأصنام، ومحل الموصول رفع على الابتداء خبره الجملة الآتية المصدرية بأن، وقوله تعالى: * (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) * حال بتقدير القول من واو * (اتخذوا) * مبينة لكيفية إشراكهم وعدم خلوص دينهم أي اتخذوا قائلين ذلك، وجوز أن يكون القول المقدر قالوا ويكون بدلا من * (اتخذوا) * وأن يكون المقدر ذلك ويكون هو الخبر للموصول والجملة الآتية استئناف بياني كأنه قيل بعد حكاية ما ذكر: فماذا يفعل الله تعالى بهم؟ فقيل إن الله يحكم بينهم الخ، والوجه الأول هو المنساق إلى الذهن، نعم قرأ عبد الله. وابن عباس. ومجاهد. وابن جبير قالوا: * (ما نعبدهم) * الآية لكن لا يتعين فيه البدلية أو الخبرية، وقد اعترض البدلية " صاحب الكشف " بأن المقام ليس مقام الإبدال إذ ليس فيه إعادة الحكم لكون الأول غير واف بالغرض اعتناء بشأنه لا سيما وحذف البدل ضعيف بل ينافي الغرض من الإتيان به، والاستثناء مفرغ من أعم العلل و * (زلفى) * مصدر مؤكد على غير لفظ المصدر أي والذين لم يخلصوا العبادة لله تعالى بل شابوها بعبادة غيره سبحانه قائلين ما نعبدهم لشيء من الأشياء إلا ليقربونا إلى الله تعالى تقريبا.
وقرىء * (نعبدهم) * بضم النون اتباعا لحركة الباء * (إن الله يحكم بينهم) * أي وبين خصمائهم الذين هم المخلصون للدين وقد حذف لدلالة الحال عليه كما في قوله تعالى: * (لا نفرق بين أحد من رسله) * على أحد الوجهين أي بين أحد منهم وبين غيره، وعلى قول النابغة: فما كان بين الخير لو جاء سالما * أبو حجر إلا ليال قلائل
أي بين الخير وبيني، وقيل الضمير للفريقين المتخذين والمتخذين وكذا الكلام في ضميري الجمع في قوله تعالى: * (فيما هم فيه يختلفون) * والمعنى على الأول أنه تعالى يفصل الخصومة بين المشركين والمخلصين فيما اختلفوا فيه من التوحيد والإشراك وادعى كل صحة ما اتصف به بإدخال المخلصين الموحدين الجنة وإدخال المشركين النار أو يميزهم سبحانه تمييزا يعلم منه حال ما تنازعوا فيه بذلك، والمعنى على الثاني أنه تعالى يحكم بين العابدين والمعبودين فيما يختلفون حيث يرجو العابدون شفاعتهم وهم يتبرؤن منهم ويلعنونهم قالا أو حالا بإدخال من له أهلية دخول الجنة من المعبودين الجنة وإدخال العابدين ومن ليس له أهلية دخول الجنة ممن عبد كالأصنام النار، وإدخال الأصنام النار ليس لتعذيبها بل لتعذيب عبدتها بها، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ما يضعفه.
وأجاز الزمخشري كون الموصول السابق عبارة عن المعبودين على حذف العائد إليه وإضمار المشركين من
235

غير ذكر تعويلا على دلالة السياق عليهم ويكون التقدير والذين اتخذهم المشركون أولياء قائلين ما نعبدهم إلا ليقربونا عند الله زلفى إن الله يحكم بينهم وبين عبدتهم فيما الفريقان فيه يختلفون حيث يرجو العبدة شفاعتهم وهم يلعنوهم بإدخال ما هو منهم أهل للجنة الجنة وإدخال العبدة مع أصنامهم النار. وتعقب بأنه بعد الإغضاء عما فيه من التعسفان بمعزل من السداد كيف لا وليس فيما ذكر من طلب الشفاعة واللعن مادة يختلف فيها الفريقان اختلافا محوجا إلى الحكم والفصل فإنما ذاك ما بين فريقي الموحدين والمشركين في الدنيا من الاختلاف في الدين الباقي إلى يوم القيامة فتدبر ولا تغفل.
وقرىء * (ما نعبدكم إلا لتقربونا) * حكاية لما خاطبوا به آلهتهم * (إن الله لا يهدى) * أي لا يوفق للاهتداء الذي هو طريق النجاة عن المكروه والفوز بالمطلوب * (من هو كاذب كفار) * في حد ذاته وموجب سيء استعداده لأنه غير قابل للاهتداء والله عز وجل لا يفيض على القوابل إلا حسب القابليات كما يشير إليه قوله سبحانه: * (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) * (طه: 50) وقوله تعالى: * (قل كل يعمل على شاكلته) * (الإسراء: 84) وقوله عز وجل: * (وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) * (النحل: 118) وهذا هو الذي حتم عليه جل شأنه لسيء استعداده بالموافاة على الضلال قاله بعض الأجلة، وقال الطبرسي: لا يهدي إلى الجنة أي يوم القيامة من هو كاذب كفار في الدنيا.
وقال ابن عطية: المراد لا يهدي الكاذب الكافر في حال كذبه وكفره وهذا ليس بشيء أصلا، والمراد بمن هو كاذب كفار قيل من يعم أولئك المحدث عنهم وغيرهم، وقيل: أولئك المحدث عنهم وكذبهم في دعواهم استحقاق غير الله تعالى للعبادة أو قولهم في بعض من اتخذوهم أولياء من دون الله إنهم بنات الله سبحانه أو أن المتخذ ابن الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا، فمن هو كاذب من الظاهر الذي أقيم مقام المضمر على معنى أن الله تعالى لا يهديهم أي المتخذين تسجيلا عليهم بالكذب والكفر وجعل تمهيدا لما بعده، وقال بعضهم: الجملة تعليل للحكم.
وقرأ أنس بن مالك. والجحدري. والحسن. والأعرج. وابن يعمر * (كذاب كفار) * وقرأ زيد بن علي * (كذوب كفور) * وحملوا الكاذب هنا على الراسخ في الكذب لهاتين القراءتين وكذا حملوا الكفر على كفر النعم دون الكفر في الاعتقاد لقراءة زيد، وذكر الإمام فيه احتمالين.
* (لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشآء سبح‍انه هو الله الواحد القهار) *.
* (لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء) * استئناف مسوق لتحقيق الحق وإبطال القول بأن الملائكة بنات الله وعيسى ابنه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ببيان استحالة اتخاذ الولد في حقه سبحانه على الإطلاق ليندرج فيه استحالة ما قيل اندراجا أوليا، وحاصل المعنى لو أراد الله سبحانه اتخاذ الولد لامتنعت تلك الإرادة لتعلقها بالممتنع أعني الاتخاذ لكن لا يجوز للباري إرادة ممتنعة لأنها ترجح بعض الممكنات على بعض.
وأصل الكلام لو اتخذ الولد لامتنع لاستلزامه ما ينافي الألوهية فعدل إلى لو أراد الاتخاذ لامتنع أن يريده ليكون أبلغ وأبلغ ثم حذف هذا الجواب وجيء بدله لاصطفى تنبيها على أن الممكن هذا لا الأول وإنه لو كان هذا من اتخاذ الولد في شيء لجاز اتخاذ الولد عليه سبحانه وتعالى شأنه عن ذلك فقد تحقق التلازم وحق نفي اللازم وإثبات الملزوم دون صوبة؛ ويجوز أن يكون المراد لو أراد الله أن يتخذ لامتنع ولم يصح لكن على إرادة نفي الصحة على كل تقدير من تقديري الإرادة وعدمها من باب - لو لم يخف الله لم يعصه - فلا ينفي الثاني إذ ذاك ولا يحتاج إلى بيان الملازمة وإذا امتنع ذلك فالممكن الاصطفاء وقد اصطفى سبحانه من
236

مخلوقاته من شاء كالملائكة وعيسى وذهب عليكم أن الاصطفاء ليس باتخاذ، والجواب على هذا الوجه أيضا محذوف أقيم مقامه ما يفيد زيادة مبالغة، وإنما لم يجعل لاصطفى هو الجواب عليه لصيرورة المعنى حينئذ لو أراد اتخاذ الولد لاصطفى ولو لم يرد لاصطفى من طريق الأولى وحينئذ يكون إثبات الاصطفاء هو المطلوب من الإيراد كما أن التمدح بنفي العصيان في مثال الباب هو المطلوب وليس الكلام فيه، وعلى الوجهين هو من أسلوب: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم * بهن فلول من قراع الكتائب
وجوز أن يكون المعنى في الآية لو أراد الله تعالى أن يتخذ ولدا لجعل المخلوق ولدا إذ لا موجود سواه إلا وهو مخلوق له تعالى والتالي محال للمباينة التامة بين المخلوق والخالق والولدية تأبى تلك المباينة فالمقدم مثله ويكون قوله تعالى * (لاصطفى مما يخلق ما يشاء) * على معنى لاتخذه ابنا على سبيل الكناية وما تقدم أولى لما فيه من المبالغة التي نبهت عليها، وقوله تعالى: * (سبحانه) * تقرير لما ذكر من استحالة اتخاذ الولد في حقه تعالى وتأكيد له ببيان تنزهه سبحانه عنه أي تنزهه الخاص به تعالى على أن سبحان مصدر من سبح إذا بعض أو أسبحه تسبيحا لائقا به لأنه علم للتسبيح مقول على ألسنة العباد أو سبحوه تسبيحا لائقا بشأنه جل شأنه، وقوله تعالى:
* (هو الله الواحد القهار) * استئناف مقرر لتنزهه عن ذلك أيضا فإن اتخاذ الولد يقتضي تبعضا وانفصال شيء من شيء وكذا يقتضي المماثلة بين الولد والوالد والوحدة الذاتية الحقيقية التي هي في أعلى مراتب الوحدة الواجبة له تعالى بالبراهين القطعية العقلية تأبى التبعض والانفصال إباء ظاهرا لأنهما من خواص الكم وقد اعتبر في مفهوم الوحدة الذاتية سلبه فتأبى الاتخاذ المذكور وكذا تأبى المماثلة سواء فسرت بما ذهب إليه قدماء المعتزلة كالجبائي وابنه أبي هاشم وهي المشاركة في أخص صفات الذات كمشاركة زيد لعمرو في الناطقية أم فسرت بما ذهب إليه المحققون من الماتريدية وهي المشاركة في جميع الصفات الذاتية كمشاركته له في الحيوانية والناطقية أم فسرت بما نسب إلى الأشعري وهو التساوي بين الشيئين من كل وجه، ولعل مراده نحو ما مر عن الماتريدي وإلا فمع التساوي من كل وجه ينتفي التعدد فينتفي التماثل بناء على ما قرروا من أن الوحدة الذاتية كما تقتضي نفي الأبعاض المقدارية تقتضي نفي الكثرة العقلية وأن التماثل يقتضي التعدد وهو يقتضي ثبوت الأجزاء المذكورة كذا قيل، وفيه بحث طويل وكلام غير قليل وسنذكر بعضا منه إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الإخلاص فالأولى أن يقتصر على منافاة الوحدة الذاتية للتبعض والانفصال لاستلزامهما التركب الخارجي والحكماء والمتكلمون مجمعون على استحالته في حقه تعالى ودليلها أظهر من يذكر، وكذا وصف القهارية يأبى اتخاذ الولد وقرر ذلك على أوجه، فقيل وجه إبائها ذلك أن القهارية تقتضي الغنى الذاتي الذي هو أعلى مراتب الغنى وهو يقتضي التجرد عن المادة وتولد الولد عن الشيء يقتضيها، وقيل إن القهارية تقتضي كمال الغنى وهو يقتضي كمال التجرد الذي هو البساطة من كل الوجوه فلا يكون هناك جنس وفصل ومادة وصورة وإعراض وأبعاض إلى غير ذلك مما يخل بالبساطة الكاملة الحقيقية واتخاذ الولد لما فيه من الانفصال والمثلية مخل بتلك البساطة فيخل بالغنى فيخل بالقهارية، وقد أشار سبحانه إلى أن الغنى ينافي أن يكون له سبحانه ولد بقوله تعالى: * (قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغنى) * (يونس: 68) وقيل: إن اتخاذ الولد
237

يقتضي انفصال شيء عنه تعالى وذلك يقتضي أن يكون متأثرا مقهورا لا مؤثرا قهارا تعالى عن ذلك علوا كبيرا، فحيث كان جل وعلا قهارا كما هو مقتضى الألوهية استحال أن يكون له عز وجل ولد، وقيل: إن القهارية منافية للزوال لأن القهار لو قبله كان مقهورا إذ المزيل قاهر له ولذا قيل سبحانه من قهر العباد بالموت.
والولد من أعظم فوائده عندهم قيامه مقام الأب بعد زواله فإذا لم يكن الزوال لم يكن حاجة إلى الولد وهذا مع كونه إلزاميا لا يخلو عن بحث كما لا يخفى.
والزمخشري جعل قوله تعالى: * (سبحانه هو الله) * الخ متصلا بقوله عز وجل: * (والذين اتخذوا من دونه أولياء) * الخ على أنه مقرر نفى أن يكون له تعالى ولي ونفى أن يكون له ولد، ولعل بيان ذلك لا يخفى فتدبر. [بم وقوله سبحانه:
* (خلق السم‍اوات والارض بالحق يكور اليل على النهار ويكور النهار على اليل وسخر الشمس والقمر كل يجرى لاجل مسمى ألا هو العزيز الغفار) *.
* (خلق السموات والأرض بالحق) * إثبات لما ذكر أولا من الوحدة والقهر، وفيه أيضا ما ستعمله إن شاء الله تعالى أي خلق هذا العالم المشاهدة ملتبسا بالحق والصواب مشتملا على الحكم والمصالح.
وقوله تعالى: * (يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل) * بيان لكيفية تصرفه فيما ذكر بعد بيان الخلق فإن حدوث الليل والنهار منوط بتحريك أجرام سماوية، والتكوير في الأصل هو اللف واللي من كان العمامة على رأسه وكورها، والمراد على ما روى عن قتادة يغشى أحدهما الآخر، وهو على ماقيل على معنى يذهب أحدهما ويغشى مكانه الآخر أي يلبسه مكانه فيصير أسود مظلما بعد ما كان أبيض منيرا وبالعكس فالمغشى حقيقة المكان، ويجوز أن يكون المغشي الليل والنهار على الاستعارة ويكون المكان ظرفا، والمقصود أنه لما كان أحدهما غاشيا للآخر أشبه اللباس الملفوف على لابسه في ستره إياه واشتماله عليه وتغطيه به.
وتحقيقه أن أحدهما لما كان محيطا على جميع ما أحاط به الآخر من غير أن يكون ثم شيء زائد غير الظهور والخفاء جعل إحاطته على محاط الآخر إحاطة عليه مجاز ملابسته وعبر عنها بالغشيان والتكوير للشبه المذكور.
وجوز أن يكون المراد أن كل واحد من الليل والنهار يغيب الآخر إذا طرأ عليه فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار ورجح الأول بأن فيه مع اعتبار الستر اعتبار اللي وإحاطة الأطراف ثم إن هذا لظهوره تشبيه مبذول وأن يكون المراد أن هذا يكر على هذا كرورا متتابعا فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على إثر بعض قيل وهو الأرجح لأنه اعتبر فيه ما اعتبر مع الأول مع النظر إلى المطرد فيه لفظ الكور فإنه لف بعد لف وهو أيضا كذلك إلا أن أكوار العمامة متظاهرة وفيما نحن فيه متعاورة وهذا مما لا بأس به فإن كل لية تسمى كورا حقيقة.
وأخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن المعنى يحمل أحدهما على الآخر، وفسر هذا الحمل بالضم والزيادة أي يزيد الليل على النهار ويضمه إليه بأن يجعل بعض أجزاء الليل نهارا فيطول النهار ويقصر الليل ويزيد النهار على الليل ويضمه إليه بأن يجعل سبحانه بعض أجزاء النهار ليلا فيطول الليل ويقصر النهار.
وإلى هذا ذهب الراغب وهو معنى واضح والآية عليه كقوله تعالى: * (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) * (الحج: 61) في قول، وذكر بعض الفضلاء أنها على المعنى الأول فيها شيء من قوله تعالى: * (جعل الليل والنهار خلفه لمن أراد أن يذكر) * (الفرقان: 62) وعلى المعنى الثاني فيها شيء من قوله تعالى: * (والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى) * (الأعراف: 54) وعلى الثالث شيء من قوله سبحانه: * (يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا) * (:) وإنها يحتمل أن يكون فيها الاستعارة التبعية والمكنية
238

والتخييلية والتمثيلية والتمثيل أولى بالاعتبار؛ وأيا ما كان فصيغة المضارع للدلالة على التجدد.
* (وسخر الشمس والقمر) * جعلهما منقادين لأمره عز وجل * (كل يجري لأجل مسمى) * بيان لكيفية تسخيرهما أي كل منهما يجري لمنتهى دورته أو منقطع حركته، وقد مر تمام الكلام عليه، وفيه دليل على أن الشمس متحركة، وزعم بعض الكفرة أنها ساكنة وأنها مركز العالم وسمعت في هذه الآيام أنه ظهر في الإفرنج منذ سنتين تقريبا من يزعم أنها تتحرك على مركز آخر كما تتحرك الأرض عليها نفسها بزعمهم وزعم بعض المتقدمين، ولهم في الهيئة كلام غير هذا وفيه الغث والسمين إلا أن نفيهم السماوات الناطقة بها الشرائع بالكلية من العجب العجاب وأنظارهم السخيفة تفضي بهم إلى ما هو أعجب من ذلك عند ذوي العقول السليمة نسأل الله تعالى السلامة والتوفيق، ولي عزم على تأليف كتاب أبين فيه إن شاء الله تعالى ما هو الأقرب إلى الحق من الهيئتين القديمة والجديدة متحركا على محور الانصاف ساكتا عن سلوك مسالك الاعتساف والله تعالى الموفق لذلك.
* (ألا هو العزيز) * القادر على عقاب المصرين * (الغفار) * لذنوب التائبين أو الغالب الذي يقدر أن يعاجلهم بالعقوبة وهو سبحانه يحلم عليهم ويؤخرهم إلى أجل مسمى فيكون قد سمي الحلم عنهم وقد ترك تعجيل العقوبة بالمغفرة التي هي ترك العقاب على طريق الاستعارة للمناسبة بينهما في الترك. وجوز كون ذلك من باب المجاز المرسل، والأول أبلغ وأحسن، وهذان الوجهان في * (العزيز الغفار) * قد ذكرهما الزمخشري، وظن بعضهم أن الداعي للأول رعاية مذهب الاعتزال حيث خص فيه المغفرة بذنوب التائبين فتركه وقال: العزيز القادر على كل ممكن الغالب على كل شيء الغفار حيث لم يعاجل بالعقوبة وسلب ما في هذه الصنائع من الرحمة وعموم المنفعة وما علينا أن نفسر كما فسر ونقول بأن مغفرته تعالى لا تخص التائبين بل قد يغفر جل شأنه لغيرهم إلا أن التقييد ليلائم ما تقدم أتم ملاءمة، ففي " الكشف " أن الوجه الأول من ذينك الوجهين المذكورين يناسب قوله تعالى: * (خلق السموات والأرض بالحق) * من وجهين. أحدهما: ما فيه من الدلالة على كمال القدرة وكمال الرحمة المقتضي لعقاب المصر وغفران ذنوب التائب، وثانيهما: أن قوله تعالى: * (خلق السموات) * الخ مسوق لأمرين إثبات الوحدة والقهر المذكورين فيما قبل نفيا للولد بل حسبما للشرك من أصله والتسلق إلى ما مهد أولا من العبادة والإخلاص لئلا يزول عن الخاطر فقيل * (بالحق) * كما قيل هنالك * (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق) * (الزمر: 2) وادمج فيه أن إنزال الكتاب كما يدل على استحقاقه تعالى للعبادة فكذلك خلق السموات والأرض بالحق والحكمة التي منها الجزاء على ما سلف فالتذييل بإلا هو العزيز الغفار للترغيب في طلب المغفرة بالعبادة والإخلاص والتحذير عن خلاف ذلك سواء خالف أصل الدين كالكفر أو خالف الإخلاص فيه كسائر المعاصي في غاية الملاءمة، وإنما أفرد مخالفة الدين بالذكر صريحا في قوله تعالى: * (والذين اتخذوا) * الخ تحذيرا من حالهم لأنها هاتكة لعصمة النجاة فكانت أحق بالتحذير، ورمز إلى هذا الثاني بالتذييل المذكور تكميلا للمعنى المراد ومدار هذه السورة الكريمة على الأمر بالعبادة والإخلاص والتحذير من الكفر والمعاصي، والوجه الثاني من ذينك الوجهين يناسب حديث الشرك والتذييل به لتوكيد تفظيع ما نسبوا إليه، ولما ذكر تنزيل الكتاب وعقب بالأوصاف المقتضية للعبادة والإخلاص ذيله بقوله سبحانه:
239

* (ألا لله الدين الخالص) * (الزمر: 3) على ما تحقق وجهه وقد نقلناه نحن عنه فيما مر، ثم لما ذكر بعده عظيم ما نسبوا إليه سبحانه: من الشرك والأولاد وما دل على تنزهه تعالى بالألوهية ناسب أن يذيله بقوله تعالى: * (ألا هو العزيز الغفار) * (الزمر: 5) للتوكيد المذكور، وقد آثر هذا العلامة الطيبي ويعلم مما ذكرنا وجه رجحان الأول اه‍، والوجه الثاني من وجهي المناسبة على الوجه الأول أولى الوجهين، والآية على ما ذكره البعض يجوز ارتباطها بما عندها من الخلق والتكوير والتسخير [بم وقوله تعالى:
* (خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الانع‍ام ثم‍انية أزواج يخلقكم فى بطون أمه‍اتكم خلقا من بعد خلق فى ظلم‍ات ثل‍اث ذلكم الله ربكم له الملك لاإل‍اه إلا هو فأنى تصرفون) *.
* (خلقكم من نفس واحدة) * الخ دليل آخر على الوحدة والقهر.
وترك عطفه على * (خلق السموات) * للإيذان باستقلاله في الدلالة ولتعلقه بالعالم السفلي، والبداءة بخلق الإنسان لأنه أقرب وأعجب بالنسبة إلى غيره باعتبار ما فيه من العقل وقبول الأمانة الإلهية وغير ذلك حتى قيل: وتزعم أنك جرم صغير * وفيك انطوى العالم الأكبر
والمراد بالنفس آدم عليه السلام، وقوله تعالى: * (ثم جعل منها زوجها) * أي حواء فإنها خلقت من قصيري ضلعه عليه السلام اليسرى وهي أسفل الأضلاع على معنى أنها خلقت من بعضها أو خلقت منها كلها وخلق الله تعالى لآدم مكانها عطف على محذوف هو صفة ثانية لنفس أي من نفس واحدة خلقها ثم جعل منها زوجها، أو على * (واحدة) * لأنه في الأصل اسم مشتق فيجوز عطف الفعل عليه كقوله تعالى: * (فالق الأصباح وجعل الليل سكنا) * ويعتبر ماضيا لأن اسم الفاعل قد يكون للمضي إذا لم يعمل أي من نفس وحدت ثم جعل منها زوجها ورجح بسلامته من التقدير الذي هو خلاف الأصل أو على * (خلقكم) * لتفاوت ما بينهما في الدلالة فإنهما وإن كانتا آيتين دالتين على ما مر من الصفات الجليلة لكن خلق حواء من الضلع أعظم وأجلب للتعجب ولذا عبر بالجعل دون الخلق فثم للتراخي الرتبي، ويجوز فيه كون الثاني أعلى مرتبة من الأول وعكسه، وقيل إنه تعالى أخرج ذرية آدم عليه السلام من ظهره كالذر ثم خلق منه حواء فالمراد بخلقهم منه إخراجهم من ظهره كالذر فالعطف على * (خلقكم) * وثم على ظاهرها، وهذا لا يقبل إلا إذا صح مرفوعا أو في حكمه، وقد تضمنت الآية ثلاث آيات خلق آدم عليه السلام بلا أب وأم وخلق حواء من قصيراه وخلق ذريته التي لا يحصى عددها إلا الله عز وجل، وقوله تعالى: * (وأنزعل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) * استدلال بنوع آخر من العالم السفلي، والإنزال مجاز عن القضاء والقسمة فإنه تعالى إذا قضى وقسم أثبت ذلك في اللوح المحفوظ ونزلت به الملائكة الموكلة بإظهاره، ووصفه بالنزول مع أنه معنى شائع متعارف كالحقيقة والعلاقة بين الإنزال والقضاء الظهور بعد الخفاء ففي الكلام استعارة تبعية، وجوز أن يكون فيه مجاز مرسل، ويجوز أن يكون التجوز في نسبة الإنزال إلى الأنعام والمنزل حقيقة أسباب حياتها كالأمطار ووجه ذلك الملابسة بينهما، وقيل يراد بالأزواج أسباب تعيشها أو يجعل الإنزال مجازا عن إحداث ذلك بأسباب سماوية وهو كما ترى، وقيل الكلام على ظاهره والله تعالى خلق الأنعام في الجنة ثم أنزلها منها ولا أرى لهذا الخبر صحة، والأنعام الإبل والبقر والضان والمعز وكانت ثمانية أزواج لأن كلا منها ذكر وأنثى، وتقديم الظرفين على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاعتناء بما قدم والتشويق إلى ما أخر، وقوله تعالى: * (يخلقكم في بطون أمهاتكم) * بيان لكيفية خلق من ذكر من الأناسي والأنعام إظهارا لما فيه من عجائب القدرة، وفيه تغليبان تغليب أولى العقل على غيرهم وتغليب الخطاب
240

على الغيبة كذا قيل، والأظهر أن الخطاب خاص وصيغة المضارع للدلالة على التدرج والتجدد، وقوله تعالى: * (خلقا من بعد خلق) * مصدر مؤكد أن تعلق من بعد بالفعل وإلا فغير مؤكد أي يخلقكم فيها خلقا مدرجا حيوانا سويا من بعد عظام مكسوة لحما من بعد عظام عارية من بعد مضغ غير مخلقة من بعد علقة من بعد نطفة فقوله سبحانه: " خلقا من بعد خلق " لمجرد التكرير كما يقال مرة بعد مرة لا أنه مخصوص بخلقين. وقرأ عيسى. وطلحة * (يخلقكم) * بادغام القاف في الكاف * (في ظلمات ثلاث) * ظلمة البطن والرحم والمشيمة، وقيل ظلمة الصلب والبطن والرحم، والجار والمجرور متعلق بيخلقكم، وجوز الشهاب تعلقه بخلقا بناء على أنه غير مؤكد وكونه بدلا من قوله تعالى: * (في بطون أمهاتكم) * * (ذلكم الله ربكم) * إشارة إليه تعالى باعتبار أفعاله المذكورة على وجه بدل على بعد منزلته تعالى في العظمة والكبرياء، واسم الإشارة مبتدأ والاسم الجليل خبره و * (ربكم) * خبر بعد خبر والاسم الجليل نعت أو بدل وهو الخبر أي ذلكم العظيم الشأن الذي عددت أفعاله الله مربيكم فيما ذكر من الأطوار وفيها بعدها ومالككم المستحق لتخصيص العبادة به سبحانه * (له الملك) * على الإطلاق في الدنيا والآخرة ليس لغيره تعالى شركة ما في ذلك بوجه من الوجوه والجملة خبر آخر، وقوله تعالى: * (لا إلاه إلا هو) * جملة متفرعة على ما قبلها ولم يصرح معها بالفاء التفريعية اعتمادا على فهم السامع. وفي إرشاد العقل السليم أنه خبر آخر، والفاء في قوله تعالى: * (فاني تصرفون) * لترتيب ما بعدها على ما ذكر من شؤونه عز وجل أي فكيف تصرفون عن عبادته تعالى مع وفور موجباتها ودواعيها وانتفاء الصارف عنها بالكلية إلى عبادة غيره سبحانه من غير داع إليها مع كثرة الصوارف عنها.
* (إن تكفروا فإن الله غنى عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور) *.
* (إن تكفروا) * به تعالى مع مشاهدة ما ذكر من موجبات الإيمان والشكر * (فإن الله غني عنكم) * أي فاخبركم أنه عز وجل غنى عن إيمانكم وشكركم غير متأثر من انتفائهما * (ولا يرضى لعباده الكفر) * لما فيه من الضرر عليهم * (وإن تشكروا يرضه) * أي الشكر * (لكم) * لما فيه من نفعكم، ومن قال بالحسن والقبح العقليين قال: عدم الرضا بالكفر لقبحه العقلي والرضا بالشكر لحسنه العقلي، والرضا إما بمعنى المحبة أو بمعنى الإرادة مع ترك الاعتراض ويقابلة السخط كما في " شرح المسايرة " فعباده على ظاهره من العموم، ومنهم من فسره بالإرادة من غير قيد ويقابله الكره وهؤلاء يقولون قد يرضى بالكفر أي يريده لبعض الناس كالكفرة ونقله السخاوي عن النووي في كتابه " الأصول والضوابط ". وابن الهمام عن الأشعري. وإمام الحرمين كذا قاله الحفاجي في حواشيه على تفسير البيضاوي. والذي رأيته في الضوابط وهي نسخة صغيرة جدا ما نصه مسألة مذهب أهل الحق الإيمان بالقدر وإثباته وأن جميع الكائنات خيرها وشرها بقضاء الله تعالى وقدره وهو مريد لها كلها ويكره المعاصي مع أنه سبحانه مريد لها لحكمة يعلمها جلا وعلا، وهل يقال إنه تعالى يرضي المعاصي ويحبها فيه مذهبان لأصحابنا المتكلمين حكاهما إمام الحرمين وغيره، قال إمام الحرمين في الإرشاد: مما اختلف فيه أهل الحق إطلاق المحبة والرضاء، فقال بعض أصحابنا لا يطلق القول بأن الله تعالى يحب المعاصي ويرضاها لقوله تعالى: * (ولا يرضى لعباده الكفر) * (الزمر: 7) ومن حقق من أتنا لم يلتفت إلى تهويل المعتزلة
241

بل قال الله تعالى يريد الكفر ويحبه ويرضاه والإرادة والمحبة والرضا بمعنى واحد قال: والمراد بعباده في الآية الموفقون للإيمان وأضيفوا إلى الله تعالى تشريفا لهم كما
في قوله تعالى: * (يشرب بها عباد الله) * (الإنسان: 6) أي خواصهم لأكلهم اه‍ فلا تغفل عن الفرق بينه وبين ما ذكره الخفاجي، وحكى تخصيص العباد في البحر عن ابن عباس.
وقيل يجوز مع ذلك حمل العباد على العموم ويكون المعنى ولا يرضى لجميع عباده الكفر بل يرضاه ويريده لبعضهم نظير قوله تعالى: * (لا تدركه الأبصار) * (الأنعام: 103) على قول، ولعلامة الأعصار صاحب الكشف تحقيق نفيس في هذا المقام لم أره لغيره من العلماء الأعلام وهو أن الرضا يقابل السخط وقد يستعمل بعن والباء ويعدي بنفسه فإذا قلت: رضيت عن فلان فإنما يدخل على العين لا المعنى ولكن باعتبار صدور معنى منه يوجب الرضا في مقابلة سخطت عليه وبينهما فرقان أنك إذا قلت: رضيت عن فلان بإحسانه لم يتعين الباء للسببية بل جاز أن يكون صلة مثله في رضيت بقضاء الله تعالى وإذا قلت: سخطت عليه باساءته تعين السببية فكان الأصل ههنا ذكر الصلة لكنه كثر الحذف في الاستعمال بخلافه ثمت إذ لا حذف، وإذا قيل: رضيت به فهذا يجب دخوله على المعنى إلا إذا دخل على الذات تمهيدا للمعنى ليكون أبلغ تقول: رضيت بقضاء الله تعالى ورضيت بالله عز وجل ربا وقاضيا، وقريب منه سمعت حديث فلان وسمعته يتحدث وإذا عدى بنفسه جاز دخوله على الذات كقولك: رضيت زيدا وإن كان باعتبار المعنى تنبيها على أن كله مرضى بتلك الخصلة وفيه مبالغة وجاز دخوله على المعنى كقولك: رضيت إمارة فلان، والأول أكثر استعمالا وهو على نحو قولهم: حمدت زيدا وحمدت علمه، وأما إذا استعمل باللام تعدى بنفسه كقولك رضيت لك هذا فمعناه ما سيجيء إن شاء الله تعالى قريبا، وإذا تمهد هذا لاح لك أن الرضا في الأصل متعلقة المعنى وقد يكون الذات باعتبار تعلقه بالمعنى أو باعتبار التمهيد فهذه ثلاثة أقسام حققت بأمثلتها وأنه في الحقيقة حالة نفسانية تعقب حصول ملائم مع ابتهاج به واكتفاء فهو غير الإرادة بالضرورة لأنها تسبق الفعل وهذا يعقبه، وهذا المعنى في غير المستعمل باللام من الوضوح بمكان لا يخفى على ذي عينين، وأما فيه فإنما اشتبه الأمر لأنك إذا قلت: رضيت لك التجارة فالمراضي بالتجارة هو مخاطبك وإنما أنت بينت له أن التجارة مما يحق أن يرضى به وليس المعنى رضيت بتجارتك بل المعنى استحمادك التجارة له فالملاءمة ههنا بين الواقع عليه الفعل والداخل عليه اللام ثم إنه قد يرضى بما ترضاه له إذا عرف وجه الملاءمة وقد لا يرضى، وفيه نجوز إما لجعل الرضا مجازا عن الاستحماد لأن كل مرضى محمود أو لأنك جعلت كونه مرضيا له بمنزلة كونه مرضيا لك فاعلم أن الرضا في حق الله تعالى شأنه محال لأنه سبحانه لا يحدث له صفة عقيب أمر البتة فهو مجاز كما أن الغضب كذلك إما من أسماء الصفات إذا فسر بإرادة أن يثيبهم إثابة من رضي عمن تحت يده وإما من أسماء الأفعال إذا أريد الاستحماد وأن مثل قوله تعالى: * (رضي الله عنهم ورضوا عنه) * (المائدة: 119) إما من باب المشاكلة وإما من باب المجاز المذكور، وأن مثل قوله سبحانه: * (رضيت لكم الإسلام دينا) * (المائدة: 3) متعين أن يكون من ذلك الباب بالنسبة إلى من يصح اتصافه بالرضا حقيقة أيضا فإذن قوله تعالى: * (ولا يرضى لعباده الكفر) * (الزمر: 7) كلام وارد على نهجه من غير تأويل دال على أنه جل شأنه لا يستحمد الكفر لعباده كما يستحمد الاسلام لهم ويرتضيه، وأما أنه لا يرد الكفر أن يوجد فليس من هذا الباب في شيء ولا هو من مقتضيات هذا التركيب وأن الخروج إلى تخصيص العباد من ضيق العطن وأن قول المحققين
242

رضي الله تعالى عنهم: إن الطاعات برضى الله تعالى والمعاصي ليست كذلك ليس لهذه الآية بل لأن الرضا بالمعنى الأصلي يستحيل عليه تعالى وقد أخبر أنه رضي عن المؤمنين بسبب طاعتهم في مواضع عديدة من كتابه الكريم.
والزخشري عامله الله تعالى بعدله فسر الرضا في نحوه بالاختيار وهو لا ينفك عن الإرادة، وأنت تعلم سقوطه مما حقق هذا ثم إنا نقول: لما أرشد سبحانه إلى الحق وهدد على الباطل إكمالا للرحمة على عباده كلهم الفريقين بقوله تعالى: * (إن تفكروا) * إلى قوله سبحانه * (يرضه لكم) * تنبيها على الغني الذاتي وأنه سبحانه تعالى أن يكون أمره بالخير لانتفاعه به ونهيه عن الشر لتضرره منه، ثم في العدول عن مقتضى الظاهر من الخطاب إلى قوله تعالى: * (ولا يرضى لعباده الكفر) * ما ينبه على أن عبوديتهم وربوبيته جل شأنه يقتضي أن لا يرضى لهم ذلك، وفيه أنهم إذا اتصفوا بالكفر فكأنهم قد خرجوا عن رتبة عبوديته تعالى وبقوا في الذل الدائم ثم قيل * (يرضه لكم) * للتنبيه على مزيد الاختصاص فهذا هو النظم السري الذي يحاردون إدراك طائفة من لطائفة الفكر البشري والله تعالى أعلم اه‍. وهو كلام رصين وبالقبول قمين إلا أنه ربما يقال إنه: لا يتمشى على مذهب السلف حيث أنهم لا يؤولون الرضا في حقه تعالى وكونه عبارة عن حالة نفسانية إلى آخر ما ذكر في تفسيره إنما هو فينا وحيث أنه ذاته تعالى مباينة لسائر الذوات فصفاته سبحانه كذلك فحقيقة الرضا في حقه تعالى مباينة لحقيقته فينا وأين التراب من رب الأرباب، وقد تقدم الكلام في هذا المقام على وجه يروي الأوام ويبرىء السقام فنقول عمد التأويل لا يضر فيما نحن بصدده فالرضا ان أول أو لم يؤول غير الإرادة لحديث السبق والتأخر الساق، وممن صرح بذلك ابن عطية قال: تأمل الإرادة فإن حقيقتها إنما هي فيما لم يقع بعد والرضا حقيقته إنما هي فيما وقع واعتبر هذا في آيات القرآن تجده وإن كانت العرب قد تستعمل في أشعارها على جهة التجوز هذا بدل هذا.
وقد ذهب إلى المغايرة بينهما بما ذكر هنا ابن المنير أيضا إلا أنه أول الرضا وذكر أنه لا يتأتى حمله في الآية على الإرادة وشنع على الزمخشري في ذلك جزاء ما تكلم على بعض أهل السنة المخالفين للمعتزلة في زعمهم اتحاد الرضا والإرادة وأنه تعالى قد يريد ما لا يفعله العبد وقد يفعل العبد ما لا يريده عز وجل فقال: هب أن المصر على هذا المعتقد على قلبه رين أو في ميزان عقله غين اليس يدعى أو يدعي له أنه الخريت في معابر العبارات فكيف هام عن جادة الإجادة في بهماء وأعار منادي الحذاقة أذنا صماء اللهم إلا أن يكون الهوى إذا تمكن أرى الباطل حقا وغطى على مكشوف العبارة فسحقا سحقا أليس مقتضى العربية فضلا عن القوانين العقلية أن المشروط مرتب على الشرط فلا يتصور وجود المشروط قبل الشرط عقلا ولا مضيه واستقبال الشرط لغة ونقلا واستقر باتفاق الفريقين أهل السنة وأهل البدعة أن إرادة الله تعالى لشكر العباد مثلا مقدمة على وجود الشكر منهم فحينئذ كيف ينساغ حمل الرضا على الإرادة وقد جعل في الآية مشروطا وجزاء وجعل وقوع الشكر شرطا ومجزيا
واللازم من ذلك عقلا تقدم المراد وهو الشكر على الإرادة وهي الرضا ولغة تقدم المشروط على الشرط فإذا ثبت بطلان حمل الرضا على الإرادة عقلا ونقلا تعين المحمل الصحيح له وهو المجازاة على الشكر بما عهد أن يجازي به المرضى عنه من الثواب والكرامة فيكون معنى الآية والله تعالى أعلم وان تشكروا يجازكم على شكركم جزاء المرضى عنه، ولا شك أن المجازاة مستقبلة بالنسبة إلى الشكر فجري الشرط والجزاء على مقتضاهما لغة وانتظم
243

ذلك بمقتضى الأدلة العقلية على بطلان تقدم المراد على الإرادة عقلا، ومثل هذا يقال في قوله تعالى: * (ولا يرضى لعباده الكفر) * أي لا يجازي الكافر مجازاة المرضى عنه بل مجازاة المغضوب عليه من النكال والعقوبة انتهى.
لا يقال: حيث كان قوله تعالى: * (فإن الله غني عنكم) * جزاء باعتبار الأخبار كما أشير إليه فيما سلف فليكن قوله تعالى * (يرضه لكم) * جزاء بذلك الاعتبار فحينئذ لا يلزم أن يكون نفس الرضا مؤخرا لأنا نقول: مثل هذا الاعتبار شائع في الجملة الاسمية المتحقق مضمونها قبل الشرط نحو * (وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير) * (الأنعام: 17) وفي الفعل الماضي إذا وقع جزاء نحو * (إن يسرق فقد شرق أخ له من قبل) * (يوسف: 77) وأما في الفعل المضارع فليس كذلك والذوق السليم يأبى هذا الاعتبار فيه ومع هذا أي حاجة تدعو إلى ذلك هنا ولا أراها إلا نصرة الباطل والعياذ بالله تعالى، ثم أنه يعلم من مجموع ما قدمنا حقية ما قالوا من أنه لا تلازم بين الإرادة والرضا كما أن الرضا ليس عبارة عن حقيقة الإرادة لكن ابن تيمية وتلميذه ابن القيم قسما الإرادة إلى قسمين تكوينية وشرعية، وذكرا أن المعاصي كالكفر وغيره واقعة بإرادة الله تعالى التكوينية دون إرادته سبحانه الشرعية وعلى هذا فالرضا لا ينفك عن الإرادة الشرعية فكل مراد لله تعالى بالإرادة الشرعية مرضى له سبحانه وهذا التقسيم لا أتعقله إلا أن تكون الإرادة الشرعية هي الإرادة التي يرتضي المراد بها فتدبر هذا، وقرأ ابن كثير. ونافع في رواية، وأبو عمرو. والكسائي * (يرضه) * باشباع ضمة الهاء، والقاعدة في أشباع الهاء وعدمه أنها إن سكن ما قبلها لم تشبع نحو عليه وإليه وإن تحرك أشبعت نحو به وغلامه وههنا قبلها ساكن تقديرا وهو الألف المحذوفة للجازم فإن جعلت موجودة حكما لم تشبع كما في قراءة ابن عامر. وحفص وإن قطع النظر عنها أشبعت كما في قراءة من سمعت وهذا هو الفصيح وقد تشبه وتختلس في غير ذلك وقد يحسن أشباعها مع فقد الشرط لنكتة، وقرأ أبو بكر * (يرضه) * بسكون الهاء ولم يرضه أبو حاتم وقال: هو غلط لا يجوز، وفيه أنه لغة لبني كلاب، وبني عقيل إجراء للوصول مجرى الوقف.
* (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * بيان لعدم سراية كفر الكافر إلى غيره، وقد تقدم الكلام في هذه الجملة وكذا في قوله تعالى: * (ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور) * فتذكر.
* (وإذا مس الإنس‍ان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسى ما كان يدعوإليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصح‍ابالنار) *.
* (وإذا مس الإنسان ضر) * من مرض وغيره من المكاره * (دعا ربه منيبا إليه) * راجعا ممن كان يدعوه في حالة الرخاء من دون الله عز وجل لعلمه بأنه بمعزل من القدرة على كشف ضره وهذا وصف للجنس بحال بعض أفراده كقوله تعالى: * (إن الإنسان لظلوم كفار) * (إبراهيم: 34)، واستظهر أبو حيان أن المراد بالإنسان جنس الكافر، وقيل: هو معين كعتبة بن ربيعة * (ثم إذا خوله نعمة منه) * أي أعطاه نعمة عظيمة من جنابه من الخول بفتحتين وهو تعهد الشيء أي الرجوع إليه مرة بعد أخرى واطلق على العطاء لما إن المعطي الكريم يتعهد من هو ربيب احسانه ونشو امتنانه بتكرير العطاء عليه مرة بعد أخرى، وقال بعضهم: معنى دخولة) * في الأصل أعطاه خولا بفتحتين أي عبيدا وخدما أو أعطاه ما يحتاج إلى تعهده والقيام عليه ثم عمم لمطلق العطاء، وجوز الزمخشري كونه من خال يخول خولا بسكون الواو إذا افتخر، واعترض بأنه صرح في الصحاح أن خال بمعنى افتخر يائي والخيلاء بمعنى التكبر يدل عليه دلالة بينة، وأيضا خول متعد إلى مفعولين وأخذه منه لا يقضي أن يتعدى للمفعول الثاني. وأجيب عن الأول بأن الزمخشري من أئمة النقل وقد ثبت عنده وأصله من الخال الذي هو العلامة، وقد نقل
244

فيه الواو والياء ثم قيل لسيما الجمال والخير خال من ذلك وأخذ منه الخيال وأما الاختيال بمعنى التكبر فهو مأخوذ من الخيال لأنه خال نفسه فوق قدره أو جعل لنفسه خال الخير كما يقال: أعجب الرجل فقد وضح أن الاشتقاق يناسبهما ولا ينكر ثبوت الياء بدليل الخيلاء لكن لا مانع من ثبوت الياء أيضا وليس الاختيال مأخوذا من الخيلاء بل الخيلاء هو الاسم منه فلا يصلح مانعا لكن يصلح مثبتا للياء، وعن الثاني بأنه ليس المراد أن خول مضعف خال بمعنى افتخر حتى يشكل تعديته للمفعول الثاني بل أنه موضوع في اللغة لمعنى أعطى وما ذكر بيان لما أخذ اشتقاقه وأصل معناه الملاحظ في وضعه له ومثله كثير فاصل خوله جعله مفتخرا بما أنعم عليه ثم قطع النظر عنه وصار بمعنى أعطاه مطلقا * (نسى ما كان يدعوا إليه) * أي نسي الضر الذي كان يدعو الله تعالى إلى إزالته وكشفه * (من قبل) * التخويل فما واقعة على الضر ودعا من الدعوة وهو يتعدى بإلى يقال دعا المؤذن الناس إلى الصلاة ودعا فلان الناس إلى مأدبته والدعوة مجاز عن الدعاء، والمعنى على اعتبار المضاف كما أشير إليه، ويجوز أن يراد بما معنى من للدلالة على الوصفية والتفخيم واقعا عليه تعالى كما في قوله تعالى: * (وما خلق الذكر والأنثى) * (الليل: 3) وقوله سبحانه: * (ولا أنتم عابدون ما أعبد) * (الكافرون: 3) والدعاء على ظاهره وتعديته بإلى لتضمينه معنى الإنابة أو التضرع والابتهال، والمعنى نسى ربه الذي كان يدعو منيبا أو متضرعا إليه وهو وجه لا بأس به، وما قيل من أنه تكلف إذ لا يقال دعا إليه بمعنى دعاه ولا حاجة إلى جعل ما بمعنى من مردود لحسن موقف التضمين واستعمال ما في مقام التفخيم. وفي الإرشاد أن في ذلك الجعل إيذانا بأن نسيانه بلغ إلى حيث لا يعرف مدعوه ما هو فضلا من أن يعرفه من هو، وقيل: ما مصدرية أي نسي كونه يدعو، وقيل: هي نافية وتم الكلام عند قوله تعالى * (نسي) * أي نسي ما كان فيه من الضر ثم نفي أن يكون دعاء هذا الكافر خالصا لله تعالى من قبل أي من قبل الضر ولا يخفى ما فيه * (وجعل لله أندادا) * شركاء في العبادة، والظاهر من استعمالاتهم اطلاق الأنداد على الشركاء مطلقا، وفي البحر أندادا أى أمثالا يضاد بعضها
ويعارض، قال قتادة: أي الرجال يطيعهم في المعصية، وقال غيره أوثانا * (ليضل) * الناس بذلك * (عن سبيله) * عز وجل الذي هو التوحيد.
وقرأ ابن كثير. وأبو عمرو، وعيسى * (ليضل) * بفتح الياء أي ليزداد ضلالا أو ليثبت عليه وإلا فاصل الضلال غير متأخر عن الجعل المذكور، واللام لام العاقبة كما في قوله تعالى: * (فالتقطته آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) * بيد أن هذا أقرب إلى الحقيقة لأن الجاعل ههنا قاصد بجعله المذكور حقيقة الإضلال والضلال وأن لم يعرف بجهله إنهما اضلال وضلال وأما آل فرعون فهم غير قاصدين بالتقاطهم العداوة أصلا.
* (قل) * تهديدا لذلك الجاعل وبيانا لحاله ومآله * (تمتع بكفرك قليلا) * أي تمتعا قليلا أو زمانا قليلا * (إنك من أصحاب النصار) * أي ملازميها والمعذبين فيها على الدوام، وهو تعليل لقلة التمتع وفيه من الاقناط من النجاة وذم الكفر ما لا يخفى كأنه قيل: إذ قد أبيت ما أمرت به من الإيمان والطاعة فمن حقك أن تؤمر بتركه لتذوق عقوبته.
* (أمن هو قانت ءانآء اليل س‍اجدا وقآئما يحذر الاخرة ويرجوا رحمة ربه قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الالب‍اب) *.
* (أمن هو قانت ءاناء الليل) * الخ من تمام الكلام المأمور به في قول، وأم إما متصلة قد حذف معادلها ثقة بدلالة مساق الكلام عليه كأنه قيل له تأكيدا للتهديد وتهكما به أأنت أحسن حالا ومآلا أم من هو قائم بمواجب الطاعات ودائم على وظائف العبادات في ساعات الليل التي فيها العبادة أقرب إلى القبول
245

وأبعد عن الرياء حالتي السراء والضراء لا عند مساس الضر فقط كدأ بك حال كونه * (ساجدا وقائما) * وإلى كون المحذوف المعادل الأول ذهب الأخفش ووافقه غير واحد ولا بأس به عند ظهور المعنى لكن قال أبو حيان: إن مثل ذلك يحتاج إلى سماع من العرب، ونصب * (ساجدا وقائما) * على الحالية كما أشير إليه أي جامعا بين الوصفين المحمودين وصاحب الحال الضمير المستتر في * (قانت) *.
وجوز كون الحال من ضمير * (يحذر) * الآتي قدم عليه ولا داعي لذلك. وقرأ الضحاك * (ساجد وقائم) * برفع كل على أنه خبر بعد خبر، وجوز أبو حيان كونه نعتا لقانت وليس بذاك، والواو كما أشير إليه للجمع بين الصفتين، وترك العطف على * (قانت) * قيل لأن القنوت مطلق العبادة فلم يكن مغايرا للسجود والقيام فلم يعطفا عليه بخلاف السجود والقيام فإنهما وصفان متغايران فلذا عطف أحدهما على الآخر، وتقديم السجود على القيام لكونه أدخل في معنى العبادة، وذهب المعظم إلى أنه أفضل من القيام لحديث " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد " وقوله تعالى: * (يحذر الآخرة) * حال أخرى على التداخل أو الترادف أو استئناف وقع جوابا عما نشأ من حكاية حاله كأنه قيل ما باله يفعل ذلك؟ فقيل: يحذر الآخرة أي عذاب الآخرة كما قرأ به ابن جبير.
* (ويرجوا رحمة ربه) * فينجو بذلك مما يحذره ويفوز بما يرجوه كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضمير الراجي لا أنه يحذر ضر الدنيا ويرجو خيرها فقط، واما منقطعة وما فيها من الاضراب للانتقال من التبكيت بتكليف الجواب الملجيء إلى الاعتراف بما بينهما من التباين البين كأنه قيل: بل أمن هو قانت الخ، وقدر الزمخشري كغيره مثلك أيها الكافر. وقال النحاس: أم بمعنى بل ومن بمعنى الذي والتقدير بل الذي هو قانت الخ أفضل مما قبله. وتعقبه في البحر بأنه لا فضل لمن قبله حتى يجعل هذا أفضل بل يقدر الخبر من أصحاب الجنة لدلالة مقابلة أعني * (إنك من أصحاب النار) * عليه ولا يبعد أن يقدر أفضل منك ويكون ذلك من باب التهكم.
وقرأ ابن كثير. ونافع. وحمزة. والأعمش. وعيسى. وشيبة. والحسن في رواية * (أمن) * بتخفيف الميم وضعفها الأخفش وأبو حاتم ولا التفات إلى ذلك، وخرجت على إدخال همزة الاستفهام التقريري على من والمقابل محذوف أي الذي هو قانت الخ خير أم أنت أيها الكافر، ومثله في حذف المعادل قوله: دعاني إليها القلب إني لأمره * سميع فما أدرى أرشد طلابها
فإنه أراد أم غي، وقال الفراء: الهمزة للنداء كأنه قيل يا من هو قانت وجعل قوله تعالى: * (قل) * خطابا له، وضعف هذا القول أبو علي الفارسي وهو كذلك، وقوله تعالى: * (قل) * على معنى قل له أيضا بيانا للحق وتصريحا به وتنبيها على شرف العلم والعمل دهل يستوي الذين يعلمون) * فيعملون بمقتضى علمهم ويقنتون الليل سجدا وركعا يحذرون الآخرة ويرجون رحمة ربهم * (والذين لا يعلمون) * فيعلمون بمقتضى جهلهم وضلالهم كدأبك أيها الكافر الجاعل لله تعالى أندادا والاستفهام للتنبيه على أن كون الأولين في أعلى معارج الخير وكون الآخرين في أقصى مدارج الشر من الظهور بحيث لا يكاد يخفى على أحد من منصف ومكابر، ويعلم مما ذكرنا
246

أن المراد بالذين يعلمون العاملون من علماء الديانة وصرح بإرادة ذلك بعض الأجلة على تقديري الاتصال والانقطاع وأن الكلام تصريح بنفي المساواة بين القانت وغيره المضمنة من حرفي الاستفهام أعني الهمزة وأم على الاتصال أو من التشبيه على الانقطاع وعلى قراءة التخفيف أيضا قال: وإنما عدل إلى هذه العبارة دلالة على أن ذلك مقتضى العلم وأن العلم الذي لا يترتب عليه العمل ليس بعلم عند الله تعالى سواء جعل من باب إقامة الظاهر مقام المضمر للاشعار المذكور أو استئناف سؤال تبكيتي توضيحا للأول من حيث التصريح ومن حيث أنهم وصفوا بوصف آخر يقتضي اتصافهم بتلك الأوصاف ومباينتهم لطبقة من لا يتصف. وهذا أبلغ وأظهر لفظا لقوله تعالى: * (قل) * وجوز أن يكون الكلام واردا على سبيل التشبيه فيكون مقررا لنفي المساواة لا تصريحا بمقتضى الأول أي كما لا استواء بين العالم وغيره عندكم من غير ريبة فكذلك ينبغي أن لا يكون لكم ارتياب في نفي المساواة بين القانت المذكور وغيره، وكونه للتصريح بنفي المساواة وحمل الذين يعلمون على العاملين من علماء الديانة على ما سمعت مما لا لا ينبغي أن يختار غيره لتكثير الفائدة، وأما من ارتاب في ذلك الواضح فلا يبعد منه الارتياب في هذا الواضح أيضا فجوابه أن الاستنكاف عن الجهل مركوز في الطباع بخلاف الأول، ويشعر كلام كثير ان قوله تعالى: * (أم من هو) * الخ غير داخل في حيز القول والمعنى عليه كما في الأول بتغيير يسير لا
يخفى، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه تلا * (أم من هو قانت) * الآية فقال: نزلت في عثمان بن عفان، وأخرج ابن سعد في طبقاته، وابن مردويه. وابن عساكر عن ابن عباس أنها نزلت في عمار بن ياسر، وأخرج جويبر عنه أنها نزلت في عمار. وابن مسعود. وسالم مولى أبي حذيفة، وعن عكرمة الاقتصار على عمار، وعن مقاتل المراد بمن هو قانت عمار. وصهيب. وابن مسعود. وأبو ذر، وفي رواية الضحاك عن ابن عباس. أبو بكر. وعمر، وقال يحيى بن سلام: رسول الله صلى الله عليه وسلم، والظاهر أن المراد المتصف بذلك من غير تعيين ولا يمنع من ذلك نزولها فيمن علمت وفيها دلالة على فضل الخوف والرجاء، وقد أخرج الترمذي. والنسائي. وابن ماجه عن أنس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وهو في الموت فقال: كيف تجدك؟ قال: أرجو وأخاف فقال عليه الصلاة والسلام: لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الذي يرجو وآمنه الذي يخاف، وفيها رد على من ذم العبادة خوفا من النار ورجاء الجنة وهو الإمام الرازي كما قال الجلال السيوطي، نعم العبادة لذلك ليس إلا مذمومة بل قال بعضهم بكفر من قال: لولا الجنة والنار ما عبدت الله تعالى على معنى نفي الاستحقاق الذاتي، وفيها دلالة أيضا على فضل صلاة الليل وأنها أفضل من صلاة النهار، ودل قوله تعالى: * (هل يستوي) * الخ على فضل العلم ورفعة قدره وكون الجهل بالعكس. واستدل به بعضهم على أن الجاهل لا يكافىء العالمة كما أنه لا يكافىء بنت العالم، وقوله تعالى: * (إنما يتذكر أولوا الألباب) * كلام مستقل غير داخل عند الكافة في الكلام المأمور وارد من جهته تعالى بعد الأمر بما تضمن القوارع الزاجرة عن الكفر والمعاصي لبيان عدم تأثيرها في قلوب الكفرة لاختلال عقولهم كما في قوله:
عوجوا فحيوا لنعمي دمنة الدار * ماذا تحيون من نؤى وأحجار
وهو أيضا كالتوطئة لأفراد المؤمنين بعد بالخطاب والاعراض عن غيرهم أي إنما يتعظ بهذه البيانات الواضحة أصحاب العقول الخالصة عن شوائب الخلل وأما هؤلاء فبمعزل عن ذذلك. وقرىء * (يذكر) * بالادغام.
247

* (قل ياعباد الذين ءامنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا فى ه‍اذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الص‍ابرون أجرهم بغير حساب) *.
* (قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم) * أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذكر المؤمنين ويحملهم على التقوى والطاعة إثر تخصيص التذكر بأولي الألباب وفيه إيذان بأنهم هم أي قل لهم قولي هذا بعينه وفيه تشريف لهم باضافتهم إلى ضمير الجلالة ومزيد اعتناء بشأن المأمور به فإن نقل عين أمر الله تعالى أدخل في إيجاب الامتثال به، وقوله تعالى: * (للذين أحسنوا) * إلى آخره تعليل للأمر أو لوجوب الامتثال به، والجار والمجرور متعلق بمحذوف هو خبر مقدم وقوله سبحانه: * (في هذه الدنيا) * متعلق بأحسنوا واسم الإشارة للاحضار، وقوله تبارك وتعالى * (حسنة) * مبتدأ وتنوينه للتفخيم أي للمحسنين في الدنيا حسنة في الآخرة أي حسنة والمراد بها الجنة، وقوله عزو جل: * (وأرض الله واسعة) * جملة معترضة ازاحة لما عسى أن يتوهم من التعلل في التفريط بعدم التمكن في الوطن من رعاية الأوامر والنواهي على ما هي عليه، وقوله تعالى: * (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) * من تتمة الاعتراض فكأنه قيل: اتقوا ربكم فإن للمحسنين في هذه الدنيا الجنة في الأخرى ولا عذر للمفرطين في الإحسان بعدم التمكن في الأوطان فإن أرض الله تعالى واسعة وبلاده كثيرة فليتحولوا إن لم يتمكنوا عنها وليهاجروا إلى ربهم لنيل الرضوان فإن لهم في جنب ذلك ما يتقاصر عنه الجنة ويستلذ له كل محنة وكأنه لما أزاح سبحانه علتهم بأن في أرض الله تعالى سعة وقع في خلدهم هل نكون نحن ومن يتمكن من الإحسان في بلدته فارغ البال رافغ الحال سواء بسواء فأجيبوا إنما يوفى الصابرون الذين صبروا على الهجرة ومفارقة المحاب والاقتداء بالأنبياء والصالحين أجرهم بغير حساب، وأصله إنما توفون أجوركم بغير حساب على الخطاب وعدل عنه إلى المنزل تنبيها على أن المقتضى لذلك صبرهم فيفيد أنكم توفون أجوركم بصبركم كما وفى أجر من قبلكم بصبرهم وهو محمول على العموم شامل للصبر على كل بلاء غير مخصوص بالصبر على المهاجرة لكنه إنما جيء به في الآية لذلك وليشمل الصابرين على ألم المهاجرة شمولا أوليا، والجار والمجرور في موضع الحال إما من الأجر أي إنما يوفون أجرهم كائنا بغير حساب وذلك بأن يغرف لهم غرفا ويصب عليهم صبا، واما من الصابرين أي إنما يوفون ذلك كائنين بغير حساب عليه، والمراد على الوجهين المبالغة في الكثرة وهو المراد بقول ابن عباس لا يهتدي إليه حساب الحساب ولا يعرف، وجوز جعل احال من الصابرين على معنى لا يحاسبون أصلا، والمتبادر ما يفيد المبالغة في كثرة الأجر، ومعنى القصر ما يوفى الصابرون أجرهم إلا بغير حساب جعل الجار والمجرور حالا من المنصوب أو المرفوع لأن القصر في الجزء الأخير، وفيه من الاعتناء بأمر الأجر ما فيه، وأما اختصاصه بالصابرين دون غيرهم فمن ترتب الحكم على المشتق، هذا ونقل عن السدى أن قوله تعالى: * (في هذه الدنيا) * متعلق بحسنة من حيث المعنى فقيل. هو حينئذ حال من * (حسنة) * ورد بأنها مبتدأ ولا يجوز الحال منه على الصحيح، فإن قيل: يلتزم جعلها فاعل الظرف قيل: لا يتسنى إلا على مذهب الأخفش وهو ضعيف.
وقيل حال من الضمير المستتر في الخبر الراجع إلى * (حسنة) * وقال الزمخشري: هو بيان لحسنة والتقدير هي في الدنيا، والمراد بها الصحة والعافية أي للمحسنين صحة وعافية في الدنيا، قال في الكشف: وإنما آثر كونه بيانا مع جواز كونه حالا عن الضمير الراجع إلى * (حسنة) * في الخبر لأن المعنى على البيان لا على التقييد بالحال وذلك لأن المعنى على هذا الوجه أن للمحسنين جزاء يسيرا في الدنيا هو الصحة والعافية وإنما توفية أجورهم
248

في الآخرة ولو قيد بالحال لم يلائم على ما لا يخفى، وحق قوله تعالى: * (وأرض الله واسعة) * على هذا أن يكون اعتراضا إزاحة لما قد يختلج في بعض النفوس من خلاف ذلك الجزاء بواسطة اختلاف الهواء والتربة وغير ذلك مما يؤدي إلى آفات في البدن فقيل وأرض الله تعالى واسعة فلا يعدم أحد محلا يناسب حاله فليتحول عنه إليه إن لم يلائمه ثم يكون فيه تنبيه على أن من جعل الأرض ذات الطول والعرض قطعا متجاورات تكميلا لانتعاشهم وارتياشهم يجب أن تقابل نعمه بالشكر ليعدوا من المحسنين ثم قيل: * (إنما يوفى الصابرون) * أي توفية الأجر لهؤلاء المحسنين إنما يكون في الآخرة والذي نالوه في الدنيا عاجل حظهم وأما الأجر الموفى بغير
حساب فذلك للصابرين، ومن سلبناه تلك العاجلة تمحيصا له وتقريبا وفي ذلك تسلية لأهل البلاء وتنشيط للعباد على مكابدة العبادات وتحريض على ملازمة الطاعات ثم قال: وهذا أيضا وجه حسن دقيق والرجحان للأول من وجوه.
أحدها: أن الاعتراض لإزاحة العلة في التفريط أظهر لأنه المقصود من السياق على ما يظهر من قوله تعالى: * (اتقوا ربكم) *. الثاني: أنه المطابق لما ورد في التنزيل من نحو * (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها - إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون) *. الثالث: أن تعلق الظرف بالمذكور المتقدم هو الوجه ما لم يصرف صارف.
الرابع: أنه على ذلك التقدير ليس بمطرد ولا أكثري فإن الحسنة بذلك المعنى في شأن المخالفين أتم والقول بأنها استدراج في شأنهم لا حسنة ليس بالظاهر فقد قال سبحانه: * (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه) * انتهى، ولعمري أن ما رجحه بالترجيح حقيق وما استحسنه واستدقه ليس بالحسن ولا الدقيق، والذي نقله الطبرسي عن السدي تفسير الحسنة في الدنيا بالثناء الحسن والذكر الجميل والصحة والسلامة، وفسرها بعضهم بولاية الله تعالى وعليه فليس للمخالفين منها نصيب، وفي الآية أقوال أخر فعن عطاء أرض الله تعالى المدينة قال أبو حيان: فعلى هذا يكون * (أحسنوا) * هاجروا و * (حسنة) * راحة من الأعداء، وقال قوم: أرض الله تعالى الجنة، وتعقبه ابن عطية بأنه تحكم لا دليل عليه.
وقال أبو مسلم: لا يمتنع ذلك لأنه تعالى أمر المؤمنين بالتقوى ثم بين سبحانه أنه من اتقى له في الآخرة الحسنة وهي الخلود في الجنة ثم بين جل شأنه أن أرض الله واسعة لقوله تعالى: * (وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء) * (الزمر: 74) وقوله تعالى: * (وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين) * (آل عمران: 133) والرجحان لما سمعت أولا، واختير فيه شمول الحسنة لحسنات الدنيا والآخرة، والمراد بالإحسان الإتيان بالأعمال الحسنة القلبية والقالبية، قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسيره في حديث جبريل عليه السلام: " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " والآية على ما في بعض الآثار نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين عزموا على الهجرة إلى أرض الحبشة وفيها من الدلالة على فضل الصابرين ما فيها * (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين) * أي من كل ما يخل به من الشرك والرياء وغير ذلك؛ أمر عليه الصلاة والسلام ببيان ما أمر به نفسه من الإخلاص في عبادة الله عز وجل الذي هو عبارة عما أمر به المؤمنون من التقوى مبالغة في حثهم على الإتيان بما كلفوه وتمهيدا لما يعقبه مما خوطب به المشركون.
وعدم التصريح بالآمر لتعين أنه الله عز وجل، وقيل: للإشارة إلى أن هذا الأمر مما ينبغي امتثاله سواء صدر منه تعالى أم صدر من غيره سبحانه.
* (وأمرت لان أكون أول المسلمين) *.
* (وأمرت لأن أكون أول المسلمين) * أي وأمرت بذلك لأجل أن أكون
249

مقدم المسلمين في الدنيا والآخرة لأن إحراز قصب السبق في الدين بالإخلاص فيه وإخلاصه عليه الصلاة والسلام أتم من إخلاص كل مخلص فالمراد بالأولية الأولية في الشرف والرتبة، والعطف لمغايرة الثاني الأول بتقييده بالعلة والإشعار بأن العبادة المذكورة كما تقتضي الأمر بها لذاتها تقتضيه لما يلزمها من السبق في الدين، وإلى حذف متعلق الأمر وكون اللام تعليلية ذهب البصريون في هذه الآية ونحوها؛ وذهب غيرهم إلى أنها زائدة، واستدل له بتركها في قوله تعالى: * (وأمرت أن أكون من المسلمين. وأمرت أن أكون من المؤمنين. وأمرت أن أكون أول من أسلم) * وكل ذلك محتمل لتقدير اللام فلا تغفل؛ ولا تزاد إلا مع أن لفظا أو تقديرا دون الاسم الصريح وذلك لأن الأصل في المفعول به أن يكون اسما صريحا فكأنها زيدت عوضا من ترك الأصل إلى ما يقول مقامه كما يعوض السين في اسطاع عوضا من ترك الأصل الذي هو أطوع، وهذه الزيادة وإن كانت شاذة قياسا إلا أنها لما كثرت استعمالا جاز استعمالها في القرآن والكلام الفصيح، ومثل هذا يقال في زيادتها مع فعل الإرادة نحو أردت لأن أفعل. وجعل الزمخشري وجه زيادتها معه أنها لما كان فيها معنى الإرادة زيدت تأكيدا لها وجعل وجها في زيادتها مع فعل الأمر أيضا لا سيما والطلب والإرادة عندهم من باب واحد، وفي المعنى أوجه أن أكون أول من أسلم في زماني ومن قومي أي إسلاما على وفق الأمر، وأن أكون أول الذين دعوتهم إلى الإسلام إسلاما، وأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره لأكون مقتدى بي قولي وفعلي جميعا ولا تكون صفتي صفة الملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون، وأن أفعل ما أستحق به الأولية والشرف من أعمال السابقين دلالة على السبب وهي الأعمال التي يستحق بها الشرف بالمسبب وهو الأولية والشرف المذكور في " النظم الجليل " ذكر ذلك الزمخشري. وفي " الكشف " المختار من الأوجه الأربعة الوجه الثاني فإنه المكرر الشائع في القرآن الكريم وفيه سائر المعاني الأخر من موافقة القول الفعل ولزوم أولية الشرف من أولية التأسيس مع أنه ليس فيه أنه أمر بأن يكون أشرف وأسبق فافهم.
* (قل إنىأخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم) *.
* (قل إني أخاف إن ععصيت ربي) * بترك الإخلاص والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك، وجوز العموم أي أخاف إن عصيته بشيء من المعاصي * (عذاب يوم عظيم) * هو يوم القيامة، ووصفه بالعظمة لعظمة ما فيه من الدواهي والأهوال، وهو مجاز في الظرف أو الإسناد وهو أبلغ ولذا عدل عن توصيف العذاب بذاك والمقصود من قول ذلك لهم تهديدهم والتعريض لهم بأنه عليه الصلاة والسلام مع عظمته لو عصى الله تعالى ما أمن العذاب فكيف بهم.
* (قل الله أعبد مخلصا له دينى) *.
* (قل الله أعبد) * لا غيره سبحانه لا استقلالا ولا اشتراكا * (مخلصا له ديني) * حال من فاعل * (أعبد) * فقيل مؤكدة لما أن تقديم المفعول قد أفاد الحصر وهو يدل على إخلاصه عن الشرك الظاهر والخفي، وقيل: مؤسسة وفسر إخلاص الدين له تعالى بعبادته سبحانه لذاته من غير طلب شيء كقول رابعة: سبحانك ما عبدتك
خوفا من عقابك ولا رجاء ثوابك أو يفسر بتجريده عن الشرك بقسميه وأن يكون معه ما يشينه من غير ذلك كما أشير إليه آنفا؛ والفرق بين هذا وقوله سبحانه: * (قل إني أمرت) * الخ أن ذاك أمر ببيان كونه عليه الصلاة والسلام مأمورا بعبادته تعالى مخلصا له الدين وهذا أمر بالإخبار بامتثاله بالأمر على أبلغ وجه وآكده إظهارا لتصلته صلى الله عليه وسلم في الدين وحسما لأطماعهم الفارغة حيث أن كفار قريش دعوه صلى الله عليه وسلم إلى دينهم فنزلت لذلك وتمهيدا لتهديدهم بقوله عز وجل:
* (فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخ‍اسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القي‍امة ألا ذلك هو الخسران المبين) *.
250

* (فاعبدوا ما شئتم) * أن تعبدوه * (من دونه) * عز وجل، وفيه من الدلالة على شدة الغضب عليهم ما لا يخفى كأنهم لما لم ينتهوا عما نهوا عنه أمروا به كي يحل بهم العقاب * (قل إن الخ‍اسرين) * أي الكاملين في الخسران وهو إضاعة ما بهم وإتلاف ما لا بد منه لجمعهم أعاظم أنواع الخسران * (الذين خسروا أنفسهم وأهليهم) * باختيارهم الكفر لهما فالمراد بالأهل أتباعهم الذين أضلوهم أي أضاعوا أنفسهم وأضاعوا أهليهم وأتلفوهما * (يوم القيامة) * حين يدخلون النار حيث عرضوهما للعذاب السرمدي وأوقعوهما في هلكة ما وراءها هلكة؛ ولو أبقى يوم القيامة على ظاهره لأنه يتبين فيه أمرهم ويتحقق مبدأ خسرانهم صح على ما قيل، وقيل: المراد بالأهل الاتباع مطلقا وخسرانهم إياهم لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروا هم كما خسروا أنفسهم وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا إياب بعده، وتعقب بأن المحذور ذهاب من لو آب لانتفع به الخاسر وذلك غير متصور في الشق الأخير، وقيل: المراد بالأهل ما أعده الله تعالى لمن يدخل الجنة من الخاصة أي وخسروا أهليهم الذين كانوا يكونون لهم في الجنة لو آمنوا، أخرج عبد الرزاق. وعبد بن حميد عن قتادة قال: ليس أحد إلا قد أعد الله تعالى له أهلا في الجنة إن أطاعه، وأخرج نحوه عن مجاهد، وروي أيضا عن ميمون بن مهران وكلهم ذكروا ذلك في الآية، وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس أنه قال فيها أيضا: خسروا أهليهم من أهل الجنة كانوا أعدوا لهم لو عملوا بطاعة الله تعالى فغبنوهم، وهو الذي يقتضيه كلام الحسن فقد روي عنه أنه فسر الأهل بالحور العين، ولا يخفى أن حمل الآية على ذلك لا يخلو عن بعد.
وأيا ما كان فليس المراد مجرد تعريف الكاملين في الخسران بما ذكر بل بيان أنهم المخاطبون بما تقدم إما بجعل الموصول عبارة عنهم أو بجعله عبارة عما هم مندرجون فيه اندراجا أوليا، وما في قوله تعالى: * (ألا ذلك هو الخسران المبين) * من استئناف الجملة، وتصديرها بحرف التنبيه والإشارة بذلك إلى بعد منزلة المشار إليه في الشر وأنه لعظمه بمنزلة المحسوس وتوسيط ضمير الفصل وتعريف الخسران والإتيان به على فعلان الأبلغ من فعل ووصفه بالمبين من الدلالة على كمال هوله وفظاعته وأنه لا نوع من الخسر وراءه ما لا يخفى.
وقوله تعالى:
* (لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذالك يخوف الله به عباده ياعباد فاتقون) *.
* (لهم من فوقهم ظلل من النار) * إلى آخره نوع بيان لخسرانهم بعد تهويله بطريق الإبهام على أن * (لهم) * خبر لظلل و * (من) * فوقهم متعلق بمحذوف حال من ضميرها في الظرف المقدم لا منها نفسها لضعف الحال من المبتدأ، وجعلها فاعل الظرف حينئذ اتباع لنظر الأخفش وهو ضعيف، و * (من النار) * صفة لظلل.
والكلام جار مجرى التهكم بهم ولذا قيل لهم وعبر عما علاهم من النار بالظلل أي لهم كائنة من فوقهم ظلل كثيرة متراكمة بعضها فوق بعض كائنة من النار * (ومن تحتهم ظلل) * كائنة من النار أيضا، والمراد أطباق كثيرة منها وتسميتها ظللا من باب المشاكلة. وقيل هي ظلل لمن تحتهم في طبقة أخرى من طبقات النار ولا يطرد في أهل الطبقة الأخيرة من هؤلاء الخاسرين إلا أن يقال: إنها للشياطين ونحوهم مما لا ذكر لهم هنا، وقيل: إن ما تحتهم يلتهب ويتصاعد منه شيء حتى يكون ظلة فسمي ظلة باعتبار ما آل إليه أخيرا وليس بذاك، والمراد أن النار محيطة بهم * (ذلك) * العذاب الفظيع * (يخوف الله به عباده) * يذكره سبحانه لهم بآيات الوعيد ليخافوا
251

فيجتنبوا ما يوقعهم فيه، وخص بعضهم العباد بالمؤمنين لأنهم المنفعون بالتخويف وعمم آخرون.
وكذا في قوله سبحانه: * (يا عباد فاتقون) * ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي، ويختلف المراد بالأمر على الوجهين كما لا يخفى، وهذه عظة من الله جل جلاله وعم نواله منطوية على غاية اللطف والرحمة. وقرىء * (يا عبادي) * بالياء.
* (والذين اجتنبوا الط‍اغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد) *.
* (والذين اجتنبوا الطاغوت) * الخ قال ابن زيد: نزلت في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون لا إله إلا الله. زيد بن عمرو بن نفيل، وسلمان، وأبي ذر. وقال ابن إسحاق: أشير بها إلى عبد الرحمن بن عوف. وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد. والزبير وذلك أنه لما أسلم أبو بكر سمعوا ذلك فجاءوه وقالوا: أسلمت قال نعم وذكرهم بالله تعالى فآمنوا بأجمعهم فنزلت فيهم وهي محكمة في الناس إلى يوم القيامة، والطاغوت فعلوت من الطغيان كما قالوا لا فاعول كما قيل بتقديم اللام على العين نحو صاعقة وصاقعة، ويدل على ذلك الاشتقاق وأن طوغ وطيغ مهملان.
وأصله طغيوت أو طغووت من الياء أو الواو لأن طغى يطغى ويطغو كلاهما ثابتان في العربية نقله الجوهري، ونقل أن الطغيان والطغوان بمعنى وكذا الراغب، وجمعه على الطواغيت يدل على أن الجمع بني على الواو، وقولهم: من الطغيان لا يريدون به خصوص الياء بل أرادوا المعنى وهو على ما في " الصحاح " الكاهن والشيطان وكل رأس في الضلال، وقال الراغب: هو عبارة عن كل متعد وكل معبود من دون الله تعالى وسمي به الساحر والكاهن والمارد من الجن والصارف عن الخير ويستعمل في الواحد والجمع.
وقال الزمخشري في هذه السورة: لا يطلق على غير الشيطان، وذكر أن فيه مبالغات من حيث البناء فإن صيغة فعلوت للمبالغة ولذا قالوا الرحموت الرحمة الواسعة،
ومن حيث التسمية بالمصدر، ومن حيث القلب فإنه للاختصاص كما في الجاه، وقد أطلقه في النساء على كعب بن الأشرف وقال: سمي طاغوتا لإفراطه في الطغيان وعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو على التشبيه بالشيطان فلعله أراد لا يطلق على غير الشيطان على الحقيقة، وكأنه جعل كعبا على الأول من الوجهين من شياطين الإنس، وفي " الكشف " كأنه لما رآه مصدرا في الأصل منقولا إلى العين كثير الاستعمال في الشيطان حكم بأنه حقيقة فيه بعد النقل مجاز في الباقي لظهور العلاقة إما استعارة وإما نظر إلى تناسب المعنى، والذي يغلب على الظن أن الطاغوت في الأصل مصدر نقل إلى البالغ الغاية في الطغيان وتجاوز الحد، واستعماله في فرد من هذا المفهوم العام شيطانا كان أو غيره يكون حقيقة ويكون مجازا على ما قرروا في استعمال العام في فرد من أفراده كاستعمال الإنسان في زيد، وشيوعه في الشيطان ليس إلا لكونه رأس الطاغين، وفسره هنا بالشيطان مجاهد، ويجوز تفسيرها بالشياطين جمعا على ما سمعت عن الراغب ويؤيده قراءة الحسن * (اجتنبوا الطواغيت) * * (أن يعبدوها) * بدل اشتمال من الطاغوت وعبادة غير الله تعالى عبادة للشيطان إذ هو الآمر بها والمزين لها، وإذا فسر الطاغوت بالأصنام فالأمر ظاهر * (وأنابوا إلى الله) * وأقبلوا إليه سبحانه معرضين عما سواه إقبالا كليا * (لهم البشرى) * بالثواب من الله تعالى على ألسنة الرسل عليهم السلام أو الملائكة عند حضور الموت وحين يحشرون وبعد ذلك.
* (فبشر عباد) *.
* (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أول‍ائك الذين هداهم الله وأول‍ائك هم أولو الالب‍اب) *.
* (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) * مدح لهم بأنهم نقاد في الدين يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل فإذا اعترضهم أمران واجب وندب اختاروا الواجب وكذلك المباح والندب.
252

وقيل يستمعون أوامر الله تعالى فيتبعون أحسنها نحو القصاص والعفو والانتصار والإغضاء والإبداء والإخفاء لقوله تعالى: * (وأن تعفوا أقرب للتقوى) * (البقرة: 237). * (وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) * (البقرة: 271) والفرق بين الوجهين أن هذا أخص لأنه مخصوص بأوامر فيها تخيير بين راجح وأرجح كالعفو والقصاص مثلا كأنه قيل يتبعون أحسن القولين الواردين في معين وفي الأول يتبعون الأحسن من القولين مطلقا كالإيجاب بالنسبة إلى الندب مثلا.
وعن الزجاج يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن. وقيل يستمعون القول ممن كان فيتبعون أولاه بالقبول وأرشده إلى الحق ويلزم من وصفهم بذلك أنهم يميزون القبيح من الحسن ويجتنبون القبيح، وأريد بهؤلاء العباد الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم لئلا ينفك النظم فإن قوله تعالى: * (فبشر) * مرتب على قوله سبحانه: * (لهم البشرى) * ووضع الظاهر موضع الضمير ليشرفهم تعالى بالإضافة إليه ولتكرير بيان الاستحقاق وليدل على أنهم نفادون حرصا على إثار الطاعة ومزيد القرب عند الله تعالى وفيه تحقيق للإنابة وتتميم حسن، وقيل الوقف على * (عبادي) * فيكون الذين مبتدأ خبره جملة قوله تعالى: * (أولائك الذين هدياهم الله) * أي لدينه، والكلام استئناف بإعادة صفة من استؤنف عنه الحديث؛ وما تقدم أرجح لما سلف من الفوائد من إقامة الظاهر مقام المضمر والتتميم فإن ذلك دون الوصف لا يتم، ولأن محرك السؤال المجاب بالجملة بعد قوله تعالى: * (يتبعون أحسنه) * أقوى وذلك الأصل في حسن الاستئناف * (وأولئك هم أولوا الألباب) * أي هم أصحاب العقول السليمة عن معارضة الوهم ومنازعة الهوى المستحقون للهداية لا غيرهم، وفي الآية دلالة على حط قدر التقليد المحض ولذا قيل: شمر وكن في أمور الدين مجتهدا * ولا تكن مثل عير قيد فانقاد
واستدل بها على أن الهداية تحصل بفعل الله تعالى وقبول النفس لها كما ذهب إليه الأشاعرة [بم وقوله تعالى:
* (أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من فى النار) *.
* (أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار) * بيان لأضداد المذكورين على طريقة الإجمال وتسجيل عليهم بحرمان الهداية وهم عبدة الطاغوت ومتبعوا خطواتها كما يلوح به التعبير عنهم بمن حق عليه كلمة العذاب فإن المراد بتلك الكلمة قوله تعالى: * (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) * (ص: 85) والآية على ما قيل نزلت في أبي جهل وأضرابه، والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر ومن شرطية على ما ذهب إليه الحوفي وغيره وجواب الشرط * (فأنت تنقذ) * الخ والهمزة قبله لاستطالة الكلام على نحو قوله: لقد علم الحزب اليمانون أنني * إذا قلت أما بعد أني خطيبها
لأن دخول الهمزة في الجواب أو الشرط كاف تقول: أإن أكرمك تكرمه كما تقول إن أكرمك أتكرمه ولا تكررها فيهما إلا للتأكيد لأن الجملتين أعني الشرط والجزاء بعد دخول الأداة مفردان والاستفهام إنما يتوجه على مضامين الجمل إذا كان المطلوب تصديقا والإنكار المفاد بالهمزة متعلق بمضمون المعطوف والمعطوف عليه إلا أن المقصود في المعطوف إنكار الجزاء والتقدير أأنت مالك أمر الناس قادر على التصرف فيه فمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه على معنى لست أنت مالك أمر الناس ولا أنت تقدر على الإنقاذ بل المالك والقادر على الإنقاذ هو الله عز وجل، وعدل عن فأنت تنقذه إلى ما في " النظم الكريم " لمزيد تشديد الإنكار والاستبعاد مع ما فيه من الإشارة إلى أنه نزل استحقاقهم للعذاب وهم في الدنيا المشعر به الشرط
253

منزلة دخولهم النار وأنه مثل حاله عليه الصلاة والسلام في المبالغة في تحصيل هدايتهم والاجتهاد في دعائهم إلى الإيمان بحال من يريد أن ينقذ من في النار منها. وفي " الحواشي الخفاجية " نقلا عن السعد أن في هذه الآية استعارة لا يعرفها إلا فرسان البيان وهي الاستعارة التمثيلية المكنية لأنه نزل ما يدل عليه قوله تعالى: * (أفمن) * الخ من استحقاقهم العذاب وهم في الدنيا منزلة دخولهم النار في الآخرة حتى يترتب عليه تنزيل بذله عليه الصلاة والسلام جهده في دعائهم إلى الإيمان منزلة إنقاذهم من النار الذي هو من ملائمات دخول النار ثم قال: وقد عرفت من مذهبه أن قرينة المكنية قد تكون تحقيقية كما في نقض العهد انتهى فتأمل.
وقيل: إن النار مجاز عن الضلال من باب إطلاق اسم المسبب على السبب والإنقاذ بدل الهداية من ترشيح المجاز أو مجاز عن الدعاء للإيمان والطاعة وليس بذاك، وجوز أن يكون الجزاء محذوفا وجملة * (فأنت تنقذ) * الخ مستأنفة مقررة للجملة الأولى والتقدير أفمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تخلصه أفأنت تنقذ من في النار.
ولا فرق بين الوجهين في أن الفاء في الأولى للعطف على محذوف ولا في كون المعنى على تنزيل استحقاق العذاب وهم في الدنيا منزلة دخولهم النار وتمثيل حاله عليه الصلاة والسلام في المبالغة في تحصيل هدايتهم بحال من يريد أن ينقذ من في النار منها، نعم الكلام على الأول جملة وعلى الثاني جملتان، واستظهر أبو حيان أن * (من) * موصولة مبتدأ والخبر محذوف، وحكي أن منهم من يقدره يتأسف عليه ومنهم من يقدره يتخلص منه ومنهم من يقدره فأنت تخلصه، ولا يخفى أن التقدير الأخير أولى، وذكر أن النحاة على أن الفاء في مثل هذا التركيب للعطف وموضعها قبل الهمزة لكن قدمت الهمزة لأن لها صدر الكلام وقال: إن القول بأن كلا منهما في مكانه قول انفرد به الزمخشري
فيما علمنا وفي " المغني " ترجيح القول بأن الهمزة مقدمة من تأخير وعليه يقدر المعطوف عليه ما أنت مالك أمرهم أو ما أخبر الله تعالى به واقع لا محالة أو كل كافر مستحق للعذاب أو نحو ذلك مما يناسب المعنى المراد.
* (ل‍اكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجرى من تحتها الانه‍ار وعد الله لا يخلف الله الميعاد) *.
* (لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف) * استدراك بين ما يشبه النقيضين والضدين وهما المؤمنون والكافرون وأحوالهما، والمراد بالذين اتقوا الموصوفون بما عدد من الصفات الفاضلة، والغرف جمع غرفة وهي العلية أي لهم علالي كثيرة جليلة بعضها فوق بعض * (مبنية) * قيل: هو كالتمهيد لقوله تعالى: * (تجري من تحتها) * أي من تحت تلك الغرف الفوقانيات والتحتانيات * (الأنه‍ار) * أي مبنية بناءا يتأتى معه جري الأنهار من تحتها وذلك على خلاف علالي الدنيا فيفيد الوصف بذلك أنها سويت تسوية البناء على الأرض وجعلت سطحا واحدا يتأتى معه جري الأنهار عليه على أن مياه الجنة لما كانت منحدرة من بطنان العرش على ما في الحديث فهي أعلى من الغرف فلا عجب من جري الماء عليها فوقا وتحتا لكن لا بد من وضع يتأتى معه الجري فالوصف المذكور لإفادة ذلك.
وقال بعض الأجلة: الظاهر أن هذا الوصف تحقيق للحقيقة وبيان أن الغرف ليست كالظلل حيث أريد بها المعنى المجازي على الاستعارة التهكمية، وقال بعض فضلاء إخواننا المعاصرين: فائدة التوصيف بما ذكر الإشارة إلى رفعة شأن الغرف حيث آذن أن الله تعالى بانيها وماذا عسى يقال في بناء بناه الله جل وعلا.
وأقول والله تعالى أعلم: وصفت الغرف بذلك للإشارة إلى أنها مهيأة معدة لهم قد فرغ من أمرها كما هو ظاهر الوصف لا أنها تبنى يوم القيامة لهم، وفي ذلك من تعظيم شأن المتقين ما فيه، وفي الآية على هذا رد على المعتزلة وكأن
254

الزمخشري لذلك لم يحم حول هذا الوجه واقتصر على ما حكيناه أولا مع أن ما قلناه أقرب منه فليحفظ.
* (وعد الله) * مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله فإنه وعد أي وعد * (لا يخلف الله الميعاد) * لما في خلفه من النقص المستحيل عليه عز وجل.
* (ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء فسلكه ينابيع فى الارض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حط‍اما إن فى ذلك لذكرى لاولى الالب‍اب) *.
* (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء) * استئناف وارد إما لتمثيل الحياة الدنيا في سرعة الزوال وقرب الاضمحلال بما ذكر من أحوال الزرع تحذيرا من الاغترار بزهرتها أو للاستشهاد على تحقق الموعود من الأنهار الجارية من تحت الغرف بما يشاهد من إنزال الماء من السماء وما يترتب عليه من آثار قدرته سبحانه وإحكام حكمته ورحمته، والمراد بالماء المطر وبالسماء جهة العلو، وقيل: الأجرام العلوية وكون إنزال المطر منها باعتبار أنه بأسباب ناشئة منها فإن تصاعد الأبخرة وتكون الغيوم بسبب جذب الشمس واختلاف أوضاعها ونحو ذلك من الأسباب التي يعلمها الله تعالى، وأما كون إنزال المطر نفسه من جرم السماء المعروفة نفسها فكثير ما يرتفع سحاب ويمطر مطرا غزيرا وهناك من هو على ذروة جبل لا سحاب عنده ولا مطر والتزام أن المطر في ذلك نازل من جرم السماء أيضا على السحاب لكن لا يشاهده من هو مشرف على السحاب وواقف فوق الجبل لا يخفى حاله؛ وقيل: المراد بالماء كل ماء في الأرض، والمراد بالإنزال المذكور الإنزال في مبدأ الخليقة وذلك أنه عز وجل لما خلق الأرض خلقها خالية من الماء فأنزل من بحر تحت العرش ماء * (فسلكه) * فأدخله * (ينابيع في الأرض) * أي في ينابيع أي عيون ومجاري كائنة في الأرض كالعروق في الأجساد فعلى الأول: يقتضي ظاهر الآية أن ماء العيون والقنوات من ماء المطر وعلى الثاني: ليس منه، وشاع عن الفلاسفة أن ماء العيون وما جرى مجراها من الأبخرة قالوا: إن البخار إذا احتبس في الأرض يميل إلى جهة وتبرد بها فتنقلب مياه مختلطة بأجزاء بخارية فإذا كثر بحيث لا تسعه الأرض أوجب انشقاقها فانفجر منها العيون، ورده أبو البركات البغدادي فقال في " المعتبر ": السبب في العيون وما يجري مجراها هو ما يسيل من الثلوج ومياه الأمطار لأنا نجدها تزيد بزيادتها وتنقص بنقصانها وأن استحالة الأهوية والأبخرة المنحصرة في الأرض لا مدخل لها في ذلك فإن باطن الأرض في الصيف أشد بردا منه في الشتاء فلو كان سبب هذه استحالتها لوجب أن تكون العيون والقنوات ومياه الآبار في الصيف أزيد وفي الشتاء أنقص مع أن الأمر بخلاف ذلك على ما دلت عليه التجربة، وقال الميبدي: الحق أن السبب الذي ذكره صاحب المعتبر معتبر لا محالة إلا أنه غير مانع من اعتبار السبب الذي ذكر يعني ما شاع، واحتجاجه في المنع إنما يدل على أنه لا يجوز أن يكون ذلك هو السبب التام لا على أنه لا يجوز أن يكون ذلك سببا في الجملة اه‍. وفي شرح المواقف اختلفوا في أن المياه متولدة من أجزاء مائية متفرقة في عمق الأرض إذا اجتمعت أو من الهواء البخاري الذي ينقلب ماء. وهذا الثاني وإن كان ممكنا إلا أن الأول أولى لأن مياه العيون والقنوات والآبار تزيد بزيادة الثلوج والأمطار، والأولى عندي أن يحمل الماء في الآية على المطر ونحوه من الثلج، والآية تدل على أن ذلك الماء يسلكه الله تعالى في ينابيع في الأرض ولا تدل على أن ما في الينابيع
ليس إلا ذلك الماء فيجوز أن يكون بعض ما فيها هو الماء المنزل من السماء والبعض الآخر حادثا من الهواء البخاري بانقلابه ماء بأسباب يعلمها الله عز وجل، وحمل الإنزال على الإنزال في مبدأ الخليقة على ما سمعت مع كونه مما لم أقف
255

على خبر صحيح يقتضيه خلاف الظاهر في الآية جدا لأن الخطاب في * (ألم تر) * عام ولا يتأتى العموم في رؤية ذلك، وكأنه يتعين عليه جعل الخطاب خاصا بسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم والمراد ألم تعلم ذلك بالوحي ومع ذلك لا يخفى حال حمل الآية على ما ذكر، وقريب مما قيل ما حكاه الزمخشري في الآية عن بعض من أن كل ماء في الأرض فهو من السماء ينزل منها إلى الصخرة ثم يقسمه الله تعالى بين البقاع، هذا لكن يعكر على ما اخترناه ظاهر ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية: ليس في الأرض ماء إلا ما أنزل الله تعالى من السماء ولكن عروق في الأرض تغيره فمن سره أن يعود الملح عذبا فليصعد. وأخرج نحوه عن سعيد بن جبير. والشعبي، فإن صح هذا الخبر وقلنا إنه في حكم المرفوع فما علينا إذا قلنا بظاهره فالعقل لا يأباه والله تعالى على كل شيء قدير، هذا وجوز أن تكون الينابيع جمع ينبوع بمعنى النابع فإنه كما يطلق على المنبع يطلق على ما ذكر وحينئذ تكون منصوبة على الحال، والمعنى فسلكه مياها نابعة في الأرض، ولا يخلو من الكدر لأنه لو قصد هذا كان الظاهر أن يقال من الأرض وعلى ما هو المشهور يكون * (ينابيع) * منصوبا بنزع الخافض كما أشرنا إليه.
واحتمال كونه منصوبا على المصدرية في إطلاقيه بأن يكون الأصل فسلكه سلوكا في ينابيع أي مجاري فحذف المصدر وأقيم ما هو في موضع الصفة مقامه أو يكون الأصل فسلكه سلوك ينابيع أي مياه نابعة فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه بعيد كما لا يخفى.
* (ثم يخرج به) * أي بواسطته مراعاة للحكمة لا لتوقف الإخراج عليه في نفس الأمر، وقالت الأشاعرة: أي يخرج عنده بلا مدخلية له بوجه من الوجوه سوى المقارنة * (زرعا مختلفا ألوانه) * أي أنواعه وأصنافه من بر وشعير وغيرهما أو كيفياته المدركة بالبصر من خضرة وحمرة وغيرهما أو كيفياته مطلقا من الألوان والطعوم وغيرهما على ما قيل، وشمل الزرع المقتات وغيره، وثم للتراخي في الرتبة أو الزمان، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة * (ثم يهيج) * ييبس، وظاهر كلام أهل اللغة أن هذا معنى حقيقي للهيجان، ويفهم من كلام بعض المفسرين أن يهيج بمعنى يثور واستعماله بمعنى ييبس من مجاز المشارفة لأن الزرع إذا يبس وتم جفافه يشرف على أن يثور ويذهب من منابته * (فتراه مصفر) * من بعد خضرته ونضارته. وقرىء * (مصفارا) * * (ثم يجعله حطاما) * فتاتا متكسرا كأن لم يغن بالأمس، ولكون هذه الحالة من الآثار القوية علقت بجعل الله تعالى كالإخراج. وقرأ أبو بشر * (ثم يجعله) * بالنصب قال صاحب الكامل: وهو ضعيف ولم يبين وجه النصب، وكأنه إضمار أن كما في قوله: / جسم]
إني وقتلي سليكا ثم أعقله
ولا يخفى وجه ضعفه هنا * (إن في ذلك) * إشارة إلى ما ذكر تفصيلا، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الغرابة والدلالة على ما قصد بيانه * (لذكرى) * لتذكيرا عظيما * (لأولي الألباب) * لأصحاب العقول الخالصة عن شوائب الخلل وتنبيها لهم على حقيقة الحال يتذكرون بذلك حال الحياة الدنيا وسرعة تقضيها فلا يغترون ببهجتها ولا يفتنون بفتنتها أو يجزمون بأن من قدر على إنزال الماء من السماء والتصرف به على أتم وجه قادر على إجراء الأنهار من تحت تلك الغرف، وكأن الأول أولى ليكون ما تقدم ترغيبا في الآخرة وهذا تنفيرا عن الدنيا، وقيل المعنى إن في ذلك لتذكيرا وتنبيها على أنه لا بد لذلك من صانع حكيم وأنه كائن على تقدير وتدبير لا عن تعطيل وإهمال وهو بمعزل عما يقتضيه
256

السياق على أن الأنسب بإرادة ذلك ذكر الآثار غير مسندة إليه عز وجل فحيث ذكرت مسندة إليه سبحانه فالظاهر أن يكون متعلق التذكير والتنبيه شؤونه تعالى أو شؤون آثاره حسبما أشير إليه لا وجوده جل وعلا. [بم وقوله تعالى:
* (أفمن شرح الله صدره للإسل‍ام فهو على نور من ربه فويل للق‍اسية قلوبهم من ذكر الله أول‍ائك فى ضل‍ال مبين) *.
* (أفمن شرح الله صدره للإسلام) * الخ استئناف جار مجرى التعليل لما قبله من تخصيص الذكرى بأولى الألباب، والشرح في الأصل البسط والمد للحم ونحوه ويكنى به عن التوسيع، وتجوز به هنا عن خلق النفس الناطقة مستعددة استعدادا تاما للقبول بجامع عدم التأبي عن القبول وسهولة الحصول وذلك بعد التجوز في الصدر، وإرادة النفس الناطقة منه من حيث أنه محل للقلب وفي تجويفه بخار لطيف يتكون من صفوة الأغذية وبه تتعلق النفس أولا وبواسطته تتعلق بسائر البدن تعلق التدبير والتصريف، وتلك النفس هي التي تتصف بالإسلام والإيمان، وجعل بعض الأجلة شرح الله صدره استعارة تمثيلية، والهمزة للإنكار دالة على محذوف على أحد القولين المارين آنفا، والفاء للعطف على ذلك المحذوف، وخبر من محذوف لدلالة ما بعده عليه والتقدير أكل الناس سواء فمن شرح الله تعالى صدره وخلقه مستعدا للإسلام فبقي على الفطرة الأصلية ولم تتغير بالعوارض المكتسبة القادحة فيها * (فهو) * بموجب ذلك مستقر * (على نور) * عظيم * (من ربه) * وهو اللطف الإلهي المشرق عليه من بروج الرحمة عند مشاهدة الآيات التكوينية والتنزيلية والتوفيق للإهتداء بها إلى الحق كمن قسا قلبه وحرج صدره بتبديل فطرة الله تعالى بسوء اختياره واستولى عليه ظلمات الغي والضلال فأعرض عن تلك الآيات بالكلية حتى لا يتذكر بها ولا يغتنمها، وعدل عن فعنده أو فله نور إلى ما في النظم الجليل للدلالة على استمرار ذلك واستقراره في النور وهو مستعار للطف والتوفيق للاهتداء، وقد يقال: أمر إليه غير اللطف والتوفيق يدرك به الحق؛ وجاء برواية الثعلبي في " تفسيره ". والحاكم في " مستدركه ". والبيهقي في " شعب الايمان ". وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية * (أفمن شرح الله صدره) * الخ فقلنا: يا رسول الله كيف انشراح الصدر؟ قال: إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح قلنا. فما علامة ذلك يا رسول الله؟ فقال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزوله. واستشكل ذلك بأن ظاهر الآية ترتب دخول النور على ألا نشرح، لأنه الاستعداد لقبوله وما في الحديث الشريف عكسه والظاهر أن
السؤال عما في الآية وأن الجواب بيان لكيفيته. وأجيب بأن الإهتداء له مراتب بعضها مقدم وبعضها مؤخر وانشراح الصدر بحسب الفطرة والخلق وبحسب ما يطرأ عليه بعد فيض الألطاف عليه وبينهما تلازم، والمراد بانشراح الصدر في الحديث ما يكون بعد المكن فيه، وفي الآية ما تقدم وقس عليه النور، والجواب من قبيل الأسلوب الحكيم فتأمل.
* (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) * أي من أجل ذكره سبحانه الذي حقه أن تلين منه القلوب أي إذا ذكر الله تعالى عندهم أو آياته عز وجل اشمأزوا من ذلك وزادت قلوبهم قساوة. وقرىء * (عن ذكر الله) * والمتواترة أبلغ لأن القاسي من أجل الشيء أشد تأبيا من قبوله من القاسي عنه بسبب آخر، وللمبالغة في وصف أولئك بالقبول وهؤلاء بالامتناع ذكر شرح الصدر لأن توسعته وجعله محلا للإسلام دون القلب الذي فيه يدل على شدته وإفراط كثرته التي فاضت حتى ملأت الصدر فضلا عن القلب، وإسناده إلى الله تعالى الظاهر
257

في أنه على أتم الوجوه لأنه فعل قادر حكيم وقابله بالقساوة مع أن مقتضى المقابلة أن يعبر بالضيق لأن القساوة كما في الصخرة الصماء تقتضي عدم قبول شيء بخلال الضيق فإنه مشعر بقبول شيء قليل، وعدل عن التعبير بما يفيد مجعولية القساوة له تعالى وخلقه إياها للإشارة إلى غاية لزومها لهم حتى كأنها لو لم تجعل لتحققت فيهم بمقتضى دواتهم، وإما إسنادها إلى القلوب دون الصدور فللتنصيص على فساد هذا العضو الذي إذا فسد فسد الجسد كله، واعتبر الجمع في هؤلاء الكفرة والإفراد في أولئك المؤمنين حيث قال سبحانه: * (أفمن شرح الله صدره) * دون أفمن شرح الله صدورهم للإشارة إلى أن المؤمنين وأن تعددوا كرجل واحد ولا كذلك الكفار.
* (أولائك) * البعداء المتصفون بما ذكر من قساوة القلوب * (في ضلال مبين) * ظاهر كونه ضلالا لكل أحد.
والآية نزلت في علي. وحمزة رضي الله تعالى عنه ممن شرح الله تعالى صدره للإسلام وأبو لهب. وابنه من القاسية قلوبهم.
* (الله نزل أحسن الحديث كت‍ابا متش‍ابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدى به من يشآء ومن يضلل الله فما له من هاد) *.
* (الله نزل أحسن الحديث) * هو القرآن الكريم، وكونه حديثا بمعنى كونه كلاما محدثا به لا بمعنى كونه مقابلا للقديم، ومن قال بالتلازم من الأشاعرة القائلين بحدوث الكلام اللفظي جعل الأوصاف الدالة على الحدوث لذلك الكلام، وجوز أن يكون إطلاق الحديث هنا على القرآن من باب المشاكلة. عن ابن عباس أن قوما من الصحابة قالوا: يا رسول الله حدثنا بأحاديث حسان وبأخبار الدهر فنزلت، وعن ابن مسعود أن الصحابة ملوا ملة فقالوا له عليه الصلاة والسلام حدثنا فنزلت أي إرشادا لهم إلى ما يزيل مللهم وهو تلاوة القرآن واستماعه منه صلى الله عليه وسلم غضا طريا. وفي إيقاع اسم الله تعالى مبتدأ أو بناء * (نزل) * عليه تفخيم لأحسن الحديث واستشهاد على أحسنيته وتأكيد لاستناده إلى الله عز وجل وأن مثله لا يمكن أن يتكلم به غيره سبحانه، أما التفخيم فلأنه من باب الخليفة عند فلان، وأما الاستشهاد على أحسنيته فلكونه ممن لا يتصور أكمل منه بل لا كمال لشيء ما في جنبه بوجه، وأما توكيد الاستناد إليه تعالى فمن التقوى، وأما إن مثله لا يمكن أن يتكلم به غيره سبحانه فلمكان التناسب لأن أكمل الحديث إنما يكون من أكمل متكلم ضرورة، ومذهب الزمخشري أن مثل هذا التركيب يفيد الحصر وأنه لا تنافي بينه وبين التقوى جمعا فافهم.
* (كتابا) * بدل من * (أحسن الحديث) * أو حال منه كما قال الزمخشري، وليس مبنيا على القول بأن إضافة أفعل التفضيل تفيده تعريفا كما ظن أبو حيان فإن مطلق الإضافة كافية في صحة الحالية كما لا يخفى على من له أدنى إلمام بالعربية، ووقوعه حالا مع كونه اسما لا صفة إما لوصفه بقوله تعالى: * (متشابها) * أو لكونه في قوة مكتوبا.
والمراد بكونه متشابها هنا تشابه معانيه في الصحة والأحكام والابتناء على الحق والصدق واستتباع منافع الخلق في المعاد والمعاش وتناسب ألفاظه في الفصاحة وتجاوب نظمه في الإعجاز، وما أشبه هذا بقول العرب في الوجه الكامل حسنا وجه متناصف كأن بعضه أنصف بعضا في القسط من جمال، وقوله تعالى: * (مثاني) * صفة أخرى لكتابا أو حال أخرى منه، وهو جمع مثنى بضم الميم وفتح النون المشددة على خلاف القياس إذ قياسه مثنيات بمعنى مردد ومكرر لما كرر وثنى من أحكامه ومواعظه وقصصه، وقيل: لأنه يثني في التلاوة.
وجوز أن يكون جمع مثنى بالفتح مخففا من التثنية بمعنى التكرير والإعادة كما كان قوله تعالى: * (فارجع البصر
258

كرتين) * (الملك: 4) بمعنى كرة بعد كرة وكذلك لبيك وسعديك، والمراد أنه جمع لمعنى التكرير والإعادة كما ثنى ما ذكر لذلك لكن استعمال المثنى في هذا المعنى أكثر لأنه أول مراتب التكرار، ويحتمل أن يراد أن مثنى بمعنى التكرير والإعادة كما أن صريح المثنى كذلك في نحو كرتين ثم جمع للمبالغة، وقيل: جمع مثنية لاشتماله آياته على الثناء على الله تعالى أو لأنها تثني ببلاغتها وإعجازها على المتكلم بها، ولا يخفى أن رعاية المناسبة مع * (متشابها) * تجعل ذلك مرجوحا وأنه حسن إذا حمل على الثناء باعتبار الإعجاز، وفي " الكشف " الاقيس بحسب اللفظ أن * (مثاني) * اشتقت من الثناء أو الثني جمع مثنى مفعل منهما إما بمعنى المصدر جمع لما صير صفة أو بمعنى المكان في الأصل نقل إلى الوصف مبالغة نحو أرض مأسدة لأن محل الثناء يقع على سبيل المجاز على الثاني والمثنى عليه وكذلك محل الثني انتهى، ووقوعه صفة لكتاب باعتبار تفاصيله وتفاصيل الشيء هي جملته لا غير ألا تراك تقول: القرآن أسباع وأخماس وسور وآيات فكذلك تقول: هو أحكام ومواعظ وأقاصيص مثاني ونظيره قولك الإنسان عروق وعظام وأعصاب إلا أنك تركت الموصوف إلى الصفة والأصل كتابا متشابها فصلا مثاني، ويجوز أن يكون تمييزا محولا عن الفاعل والأصل متشابها مثانيه فحول ونكر لأن الأكثر فيه التنكير وهذا كقولك: رأيت رجلا حسنا شمائل، وقرأ هشام. وأبو بشر * (مثاني) * بسكون الياء فاحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف وإن يكون منصوبا وسكن الياء على لغة من يسكنها في كل الأحوال لانكسار ما قبلها استثقالا للحركة عليها، وقوله تعالى: * (تقشعر منه
جلود الذين يخشون ربهم) * قيل صفة لكتابا أو حال منه لتخصصه بالصفة، وقال بعض: الأظهر أنه استئناف مسوق لبيان آثاره الظاهرة في سامعيه بعد بيان أوصافه في نفسه ولتقرير كونه أحسن الحديث.
والإقشعرار التقبض يقال اقشعر الجلد إذا تقبض تقبضا شديدا وتركيبه من القشع وهو الأديم اليابس قد ضم إليه الراء ليكون رباعيا ودالا على معنى زائد يقال: اقشعر جلده وقف شعره إذا عرض له خوف شديد من أمر هائل دهمه بغتة، والمراد تصوير خوفهم بذكر لوازمه المحسومة ويطلق عليه التمثيل وإن كان من باب الكناية.
وقيل: هو تصوير للخوف بذكر آثارها وتشبيه حالة بحالة فيكون تمثيلا حقيقة، والأول أحسن لأن تشبيه القصة بالقصة على سبيل الاستعارة ههنا لا يخلو عن تكلف، واستظهر كون المراد بيان حصول تلك الحالة وعروضها لهم بطريق التحقيق، والمعنى أنهم إذا سمعوا القرآن وقوارع آيات وعيده أصابتهم رهبة وخشية تقشعر منها جلودهم وإذا ذكروا رحمة لله تعالى عند سماع آيات وعده تعالى والطافه تبدلت خشيتهم رجاء ورهبتهم رغبة وذلك قوله تعالى: * (ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) * أي ساكنة مطمئنة إلى ذكر رحمته تعالى، وإنما لم يصرح بالرحمة إيذانا بأنها أول ما يخطر بالبال عند ذكره تعالى لأصالتها كما يرشد إليه خبر سبقت رحمتى غضبي، وذكر القلوب لتقدم الخشية التي هي من عوارضها ولعله إنما لم تذكر هناك على طرز ذكرها هنا لأنها لا توصف بالإقشعرار وتوصف باللين، وليس في الآية أكثر من نعت أوليائه باقشعرار الجلود من القرآن ثم سكونهم إلى رحمته عز وجل، وليس فيها نعتهم بالصعق والتواجد والصفق كما يفعله بعض الناس، أخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر. وابن مردويه. وابن أبي حاتم. وابن عساكر عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال: قلت لجدتي أسماء كيف كان يصنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اقرؤا القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم الله تعالى تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم قلت: فإن ناسا ههنا إذا سمعوا ذلك تأخذهم غشية قالت: أعوذ بالله تعالى من الشيطان، وأخرج الزبير بن بكار في
259

الموفقيات عن عامر عن عبد الله بن الزبير قال: جئت أمي فقلت وجدت قوما ما رأيت خيرا منهم قط يذكرون الله تعالى فيرعد أحدهم حتى يغشى عليه من خشية الله تعالى فقالت: لا تقعد معهم ثم قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن ورأيت أبا بكر. وعمر يتلوان القرآن ورأيت أبا بكر. وعمر يتلوان القرآن فلا يصيبهم هذا أفتراهم أخشى من أبي بكر وعمر، وقال ابن عمر وقد رأى ساقطا من سماع القرآن فقال إنا لنخشى الله تعالى وما نسقط: هؤلاء يدخل الشيطان في جوف أحدهم، وأخرج عبد الرزاق. وعبد بن حميد. وابن المنذر عن قتادة أنه قال في الآية هذا نعت أولياء الله تعالى قال: تقشعر جلودهم وتبكي أعينهم وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله تعالى ولم ينعتهم الله سبحانه بذهاب عقولهم والغشيان عليهم إنما هذا في أهل البدع وإنما هو من الشيطان، وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن جبير: قال الصعقة من الشيطان، وقال ابن سيرين: بيننا وبين هؤلاء الذين يصرعون عند قراءة القرآن أن يجعل أحدهم على حائط باسطا رجليه ثم يقرأ عليهم القرآن كله فإن رمي بنفسه فهو صادق، فهذه أخبار ناعية على بعض المتصوفة صعقهم وتواجدهم وضرب رؤسهم الأرض عند سماع القرآن ويقول مشايخهم: إن ذلك لضعف القلوب عن تحمل الوارد وليس فاعلو ذلك في الكمال كالصحابة أهل الصدر الأول في قوة التحمل فما هو إلا دليل النقص بدليل إن السالك إذا كمل رسخ وقوي قلبه ولم يصدر منه شيء من ذلك ويقولون: ليس في الآية أكثر من إثبات الإقشعرار واللين وليس فيها نفي أن يعتريهم حال آخر بل في الآية إشعار بأن المذكور حال الراسخين الكاملين حيث قال سبحانه: * (الذين يخشون ربهم) * (الأنبياء: 49) فعبر بالموصول ومقتضى معلومية الصلة أن لهم رسوخا في الخشية حتى يعلموا بها فلا يلزم من كون حالهم ما ذكر ليس إلا على فرض دلالتها على الحصر كون حال غيرهم كذلك ثم إنه متى كان الأمر ضروريا كالعطاس لا اعتراض على من يتصف به، وفي كلام ابن سيرين ما يؤيد ذلك، وهذا غاية ما يقال في هذا المجال ونحن نسأل الله تعالى أن يتفضل علينا بما تفضل به على أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم * (ذلك هدى الله) * الإشارة إلى الكتاب الذي شرح أحواله * (يهدي به من يشاء) * أي من يشاء الله تعالى هدايته بأن يوفقه سبحانه للتأمل فيما في تضاعيفه من شواهد الحقية ودلائل كونه من عنده عز وجل، وجوز أن يكون ضمير * (يشاء) * لمن والمعنى يهدي به الله تعالى من يشاء هداية الله تعالى وليس بذاك.
* (ومن يضلل الله) * أي يخلق سبحانه فهي الضلال لإعراضه عما يرشده إلى الحق بسوء استعداده * (فما له من هاد) * يخلصه من ورطة الضلال، وقيل: الإشارة بذلك إلى المذكور من الإقشعرار واللين والمعنى ذلك من ذكر من الخشية والرجاء أثر هداه تعالى يهدي بذلك الأثر من يشاء من عباده ومن يضلله أي ومن لم يؤثر فيه لقسوة قلبه وإصراره على فجوره فما له من هاد أي من مؤثر فيه بشيء قط وهو كما ترى.
* (أفمن يتقى بوجهه سوء العذاب يوم القي‍امة وقيل للظلمين ذوقوا ما كنتم تكسبون) *.
* (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة) * استئناف جار مجرى التعليل لما قبله من تباين حال المهتدي والضال، والكلام في الهمزة والفاء والخبر كالذي مر في نظائره، ويقال هنا على أحد القولين: التقدير أكل الناس سواء فمن شأنه أن يتقي بوجهه الذي هو أشرف أعضائه يوم القيامة العذاب السيء الشديد لكون يده التي بها كان يتقي المكاره مغلولة إلى عنقه كمن هو آمن لا يعتريه مكروه ولا حتاج إلى الاتقاء بوجه من الوجوه فالوجه على حقيقته وقد يحمل على ذلك من غير حاجة إلى حديث كون اليد مغلولة تصويرا لكمال اتقائه وجده فيه وهو أبلغ، وفي هذا المضمار يجري قول الشاعر:
260

يلقى السيوف بوجهه وبنحره * ويقيم هامته مقام المغفر
وجوز أن يكون الوجه بمعنى الجملة والمبالغة عليه دون المبالغة فيما قبله. وقيل: الاتقاء بالوجه كناية عن عدم ما يتقي به إذ الاتقاء بالوجه لا وجه له لأنه مما لا يتقي به، ولا يخلو عن خدش، وإضافة سوء إلى العذاب من إضافة الصفة إلى الموصوف و * (يوم القيامة) * معمول يتقي كما أشرنا إلى ذلك. وجوز أن يكون من تتمة سوء العذاب، والمعنى أفمن يتقي عذاب يوم القيامة كالمصر على كفره، وهو وجه حسن والوجه حينئذ كما في الوجه السابق إما الجملة مبالغة في تقواه وإما على
الحقيقة تصويرا لكمال تقواه وجده فيها وهو أبلغ. والمتبادر إلى الذهن المعنى السابق، والآية قيل نزلت في أبي جهل * (وقيل للظالمين) * عطف على يتقي أي ويقال لهم من جهة خزنة النار، وصيغة الماضي للدلالة على التحقيق والتفرر؛ وقيل الواو للحال والجملة حال من ضمير * (يتقي) * بإضمار قد أو بدونه، ووضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالظلم والإشعار بعلة الأمر في قوله تعالى: * (ذوقوا ما كنتم تكسبون) * أي وبال ما كنتم تكسبون في الدنيا على الدوام من الكفر والمعاصي.
* (كذب الذين من قبلهم فأت‍اهم العذاب من حيث لا يشعرون) *.
* (كذب الذين من قبلهم) * استئناف مسوق لبيان ما أصاب بعض الكفرة من العذاب الدنيوي إثر بيان ما يصيب الكل من العذاب الأخروي أي كذب الذين من قبلهم من الأمم السالفة * (فأتاهم العذاب) * المقدر لكل أمة منهم * (من حيث لا يشعرون) * من الجهة التي لا يحتسبون ولا يخطر ببالهم إتيانه منها لأن ذلك أشد على النفس.
* (فأذاقهم الله الخزى فى الحيواة الدنيا ولعذاب الاخرة أكبر لو كانوا يعلمون) *.
* (فأذاقهم الله الخزي) * أي الذل والصغار * (في الحياة الدنيا) * كالمسخ والخسف والقتل والسبي والإجلاء وغير ذلك من فنون النكال، والفاء تفسيرية مثلها في قوله تعالى: * (فاستجبنا له فنجيناه) * * (ولعذاب الآخرة) * المعد لهم * (أكبر) * لشدته وسرمديته * (لو كانوا يعلمون) * أي لو كانوا من شأنهم أن يعلموا شيئا لعلموا ذلك واعتبروا به.
* (ولقد ضربنا للناس فى ه‍اذا القرءان من كل مثل لعلهم يتذكرون) *.
* (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن) * العظيم الشأن * (من كل مثل) * يحتاج إليه الناظر في أمور دينه * (لعلهم يتذكرون) * أي كي يتذكروا ويتعظوا أو مرجوا تذكرهم واتعاظهم، والرجاء بالنسبة إلى غيره تعالى والتعليل أظهر.
* (قرءانا عربيا غير ذى عوج لعلهم يتقون) *.
* (قرآنا عربيا) * حال من هذا والاعتماد فيها على السفة أعني عربيا وإلا فقرآنا جامدا لا يصلح للحالية وهو أيضا عين ذي الحال فلا يظهر حاله فالحال في الحقيقة * (عربيا) * وقررنا للتمهيد ونظيره جاء زيد رجلا صالحا، قيل وذلك بمنزلة عربيا محققا.
وجوز أن يكون منصوبا بمقدر تقديره أعني أو أخص أو أمدح ونحوه، وأن يكون مفعول * (يتذكرون) * وهو كما ترى * (غير ذي عوج) * لا اختلال فيه بوجه من الوجوه وهو أبلغ من مستقيم لأن عوجا نكرة وقعت في سياق النفي لما في غير من معناه، والاستقامة يجوز أن تكون من وجه دون وجه ونفي مصاحبة العوج عنه يقتضي نفي اتصافه به بالطريق الأولى فهو أبلغ من غير معوج، والعوج بالكسر يقال فيما يدرك بفكر وبصيرة والعوج بالفتح يقال فيما يدرك بالحس، وعبر بالأول ليدل على أنه بلغ إلى حد لا يدرك العقل فيه عوجا فضلا عن الحسن، وتمام الكلام مر في الكهف. وقيل المراد بالعوج الشك واللبس، وروى ذلك عن مجاهد وأنشدوا قول الشاعر:
261

وقد أتاك يقين غير ذي عوج * من الإله وقول غير مكذوب
ولا استدلال به على أن العوج بمعنى الشك لأن عوج اليقين هو الشك لا محالة، والقول في وجه الاستدلال أن الشاعر فهم هذا المعنى من الآية لأنه اقتباس وإذا فهمه الفصيح مع صحة التجوز كان محملا تعسف ظاهر لأنه لم يتبين أنه اقتبسه منها ولو سلم يكون محتملا لما يحتمله العوج في النظم الذي لا عوج فيه، وقد يقال: مراد من قال أي لا لبس فيه ولا شك نفي بعض أنواع الاختلال، وعلى ذلك ما روى عن عثمان بن عفان من أنه قال: أي غير مضطرب ولا متناقض وما قيل أي غير ذي لحن. وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: غير ذي عوج غير مخلوق ولعله إن صح الخبر تفسير باللازم فتأمل.
* (لعلهم يتقون) * علة أخرى مترتبة على الأولى.
* (ضرب الله مثلا رجلا فيه شركآء متش‍اكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) *.
* (ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون) * إيراد لمثل من الأمثال القرآنية بعد بيان أن الحكمة في ضربها هو التذكر والاتعاظ بها وتحصيل التقوى، والمراد بضرب المثل ههنا تطبيق حالة عجيبة بأخرى مثلها وجعلها مثلها، و * (مثلا) * مفعول ثان لضرب و * (رجلا) * مفعوله الأول أخر عن الثاني للتشويق إليه وليتصل به ما هو من تتمته التي هي العمدة في التمثيل أو * (مثلا) * مفعول ضرب و * (رجلا) * الخ بدل منه بدل منه بدل كل من كل.
وقال الكسائي: انتصب * (رجلا) * على إسقاط الخافض أي مثل في رجل وقيل غير ذلك وقد تقدم الكلام في نظيره.
و * (فيه) * خبر مقدم و * (شركاء) * مبتدأ و * (متشاكسون) * صفته والنكرة وإن وصفت يحسن تقديم خبرها. والجملة صفة * (رجلا) * والرابط الهاء أو الجار والمجرور في موضع الصفة له و * (شركاء) * مرتفع به على الفاعلية لاعتماده على الموصوف، وقيل * (فيه) * صلة شركاء وهو مبتدأ خبره متشاكسون، وفيه أنه ليس لتقديمه نكتة ظاهرة.
والمعنى ضرب الله تعالى مثلا للمشرك حسبما يقول إليه مذهبه من ادعاء كل من معبوديه عبوديته عبدا يتشارك فيه جماعة متشاجرون لشكاسة أخلاقهم وسوء طبائعهم يتجاذبونه ويتعاورونه في مهماتهم المتباينة في تحيره وتوزع قلبه * (ورجلا) * أي وضرب للموحد مثلا رجلا * (سلما) * أي خالصا * (لرجل) * فرد ليس لغيره سبيل إليه أصلا فهو في راحة عن التحير وتوزع القلب وضرب الرجل مثلا لأنه أفطن لما شقى به أو سعد فإن الصبي والمرأة قد يغفلان عن ذلك.
وقرأ عبد الله. وابن عباس. وعكرمة. ومجاهد. وقتادة. الزهري. والحسن بخلاف عنه. والجحدري. وابن كثير. وأبو عمرو * (سالما) * اسم فاعل من سلم أي خالصا له من الشركة. وقرأ ابن جبير * (سلما) * بكسر السين وسكون اللام، وقرىء * (سلما) * بفتح فسكون وهما مصدران وصف بهما مبالغة في الخلوص من الشركة.
وقرىء * (ورجل سالم) * برفعهما أي وهناك رجل سالم، وجوز أن لا يقدر شيء ويكون رجل مبتدأ وسالم خبره لأنه موضع تفصيل إذ قد تقدم ما يدل عليه فيكون كقول امرىء القيس: إذا ما بكى من خلفها انحرفت له * بشق وشق عندنا لم يحول
وقوله تعالى: * (هل يستويان مثلا) * إنكار واستبعاد لاستوائهما ونفي له على أبلغ وجه وآكده وإيذان بأن ذلك من الجلاء والظهور بحيث لا يقدر أحد أن يتفوه باستوائهما أو يتلعثم في الحكم بتباينهما ضرورة
262

أن أحدهما في لوم وعناء والآخر في راحة بال ورضاء، وقيل ضرورة أن أحدهما في أعلى عليين والآخر في أسفل سافلين، وأيا ما كان فالسر في إبهام الفاضل والمفضول الإشارة إلى كمال الظهور عند من له أدنى شعور.
وانتصاب * (مثلا) * على التمييز المحول عن الفاعل إذ التقدير هل يستوي مثلهما وحالهما، والاقتصار في التمييز على الواحد لبيان الجنس والاقتصار عليه أولا في قوله تعالى: * (ضرب الله مثلا) * وقرىء * (مثلين) * أي هل يستوي مثلاهما وحالاهما، وثني مع أن المقصود من التمييز حاصل بالإفراد من غير لبس لقصد الإشعار بمعنى زائد وهو اختلاف النوع، وجوز أن يكون ضمير يستويان للمثلين لأن التقدير فيما سبق مثل رجل ومثل رجل أي هل يستوي المثلان مثلين وهو على نحو كفى بهما رجلين وهو من باب - لله تعالى دره فارسا - ويرجع ذلك إلى هل يستويان رجلين فيما ضرب من المثال ولما كان المثل بمعنى الصفة العجيبة التي هي كالمثل كان المعنى هل يستويان فيما يرجع إلى الوصفية، وقوله تعالى: * (الحمد لله) * تقرير لما قبله من نفي الاستواء بطريق الاعتراض وتنبيه للموحدين على أن مالهم من المزية بتوفيق الله تعالى وأنها نعمة جليلة تقتضي الدوام على حمده تعالى وعبادته أو على أن بيانه تعالى بضرب المثل أن لهم المثل الأعلى وللمشركين مثل السوء صنع جميل ولطف تام منه عز وجل مستوجب لحمده تعالى وعبادته، وقوله تعالى: * (بل أكثرهم لا يعلمون) * إضراب وانتقال من بيان عدم الاستواء على الوجه المذكور إلى بيان أن أكثر الناس وهم المشركون لا يعلمون ذلك مع كمال ظهوره أو ليسوا من ذوي العلم فلا يعلمون ذلك فيبقون في ورطة الشرك والضلال، وقيل المراد أنهم لا يعلمون أن الكل منه تعالى وأن المحامد إنما هي له عز وجل فيشركون به غيره سبحانه فالكلام من تتمة * (الحمد لله) * ولا اعتراض، ولا يخفى أن بناء الكلام على الاعتراض كما سمعت أولى [بم وقوله تعالى:
* (إنك ميت وإنهم ميتون) *.
* (إنك ميت وإنهم ميتون) * تمهيد لما يعقبه من الاختصام يوم القيامة. وفي " البحر " أنه لما لم يلتفتوا إلى الحق ولم ينتفعوا بضرب المثل أخبر سبحانه بأن مصير الجميع بالموت إلى الله تعالى وأنهم يختصمون يوم القيامة بين يديه وهو عز وجل الحكم العدل فيتميز هناك المحق والمبطل.
وقال بعض الأجلة: إنه لما ذكرت من أول السورة إلى هنا البراهين القاطعة لعرق الشركة المسجلة لفرط جهل المشركين وعدم رجوعهم مع جهده صلى الله عليه وسلم في ردهم إلى الحق وحرصه على هدايتهم اتجه السؤال منه عليه الصلاة والسلام بعد ما قاساه منهم بأن يقول ما حالي وحالهم؟ فأجيب بأنك ميت وإنهم ميتون الآية.
وقرأ ابن الزبير. وابن أبي إسحاق. وابن محيصن. وعيسى. واليماني. وابن أبي غوث. وابن أبي عبلة * (إنك مائت وإنهم مائتون) * والفرق بين ميت ومائت أن الأول: صفة مشبهة وهي تدل على الثبوت ففيها إشعار بأن حياتهم عين الموت وأن الموت طوق في العنق لازم والثاني: اسم فاعل وهو يدل على الحدوث فلا يفيد هنا مع القرينة أكثر من أنهم سيحدث لهم الموت، وضمير الخطاب على ما سمعت للرسول صلى الله عليه وسلم قال أبو حيان: ويدخل معه عليه الصلاة والسلام مؤمنو أمته، وضمير الجمع الغائب للكفار وتأكيد الجملة في * (إنهم ميتون) * للإشعار بأنهم في غفلة عظيمة كأنهم ينكرون الموت وتأكيد الأولى دفعا لاستبعاد موته عليه الصلاة والسلام، وقيل للمشاكلة، وقيل إن الموت مما تكرهه النفوس وتكره سماع خبره طبعا فكان مظنة أن لا يلتفت إلى الإخبار به أو أن
263

ينكر وقوعه ولو مكابرة فأكد الحكم بوقوعه لذلك ولا يضر في ذلك عدم الكراهة في بعض لخصوصية فيه كسيد العالمين صلى الله عليه وسلم.
* (ثم إنكم يوم القي‍امة عند ربكم تختصمون) *.
* (ثم إنكم) * على تغليب المخاطب على الغيب.
* (يوم القيامة عند ربكم) * أي مالك أموركم * (تختصمون) * فتحتج أنت عليهم بأنك بلغتهم ما أرسلت به من الأحكام والمواعظ التي من جملتها ما في تضاعيف هذه الآيات واجتهدت في دعوتهم إلى الحق حق الاجتهاد وهم قد لجوا في المكابرة والعناد ويعتذرون بالأباطيل مثل * (أطعنا سادتنا) * (الأحزاب: 67) و * (وجدنا آباءنا) * (الأنبياء: 53) * (وغلبت علينا شقوتنا) * (المؤمنون: 106) والجمع بين * (يوم القيامة) * (البقرة: 85) و * (عند ربكم) * (البقرة: 76) لزيادة التهويل ببيان أن اختصامهم ذلك في يوم عظيم عند مالك لأمورهم نافذ حكمه فيهم ولو اكتفى بالأول لاحتمل وقوع الاختصام فيما بينهم بدون مرافعة أو بمرافعة لكن ليست لدى مالك لأمورهم، والاكتفاء بالثاني على تسليم فهم كون ذلك يوم القيامة معه بدون الاحتمال لا يقوم مقام ذكرهما لما في التصريح بما هو كالعلم من التهويل ما فيه، وقال جمع: المراد بذلك الاختصام العام فيما جرى في الدنيا بين الأنام لا خصوص الاختصام بينه عليه الصلاة والسلام وبين الكفرة الطغام، وفي الآثار ما يأبى الخصوص المذكور.
أخرج عبد الرزاق. وعبد بن حميد. وابن جرير. وابن عساكر عن إبراهيم النخعي قال: نزلت هذه الآية * (إنك ميت) * الخ فقالوا: وما خصومتنا ونحن إخوان فلما قتل عثمان بن عفان قالوا هذه خصومة ما بيننا. وأخرج سعيد بن منصور عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت * (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) * كنا نقول: ربنا واحد وديننا واحد فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا: نعم هو هذا.
وأخرج عبد بن حميد. والنسائي. وابن أبي حاتم. والطبراني. وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: لقد لبثنا برهة من دهرنا ونحن نرى أن هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين من قبل * (إنك ميت وإنهم ميتون) * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون قلنا: كيف نختصم ونبينا واحد وكتابنا واحد حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف فعرفت أنها نزلت فينا، وفي رواية أخرى عنه بلفظ نزلت علينا الآية * (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) * (الزمر: 31) وما ندري فيم نزلت قلنا: ليس بيننا خصومة فما التخاصم حتى وقعت الفتنة فقلت: هذا الذي وعدنا ربنا أن نختصم فيه.
وأخرج أحمد. وعبد الرزاق. وعبد بن حميد. والترمذي وصححه. وابن أبي حاتم. والحاكم وصححه. وابن مردويه. وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في البعث والنشور عن الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه قال: لما نزلت: * (إنك ميت وإنهم ميتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) * (الزمر: 30، 31) قلت: يا رسول الله أينكر علينا ما يكون بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب قال: نعم ينكر ذلك عليكم حتى يؤدي إلى كل ذي حق حقه قال الزبير: فوالله إن الأمر لشديد.
وزعم الزمخشري أن الوجه الذي يدل عليه كلام الله تعالى هو ما ذكر أولا واستشهد بقوله تعالى: * (فمن أظلم) * (الأنعام: 144) الخ وبقوله سبحانه: * (والذي جاء بالصدق) * (الزمر: 33) الخ لدلالتهما على أنهما اللذان تكون الخصومة بينهما، وكذلك ما سبق من قوله تعالى: * (ضرب الله مثلا رجلا) * (الزمر؛ 29) الخ. وتعقب ذلك في " الكشف " فقال: أقول قد نقل عن جلة الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم ما يدل على أنهم فهموا الوجه الثاني أي العموم بل ظاهر قول النخعي
264

قالت الصحابة: ما خصومتنا ونحن إخوان يدل على أنه قول الكل فالوجه إيثار ذلك.
وتحقيقه أن قوله تعالى: * (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن) * (الروم: 58) كلام مع الأمة كلهم موحدهم ومشركهم وكذلك قوله تعالى ضرب الله مثلا رجلاف ورجلا بل أكثرهم دون بل هم كالنص على ذلك فإذا قيل: إنك ميت وجب أن يكون على نحو * (يا أيها النبي إذا طلقتم) * (الطلاق: 1) أي إنكم أيها النبي والمؤمنون وأبهم ليعم القبيلين ولا يتنافر النظم فقد روعي من مفتتح السورة إلى هذا المقام التقابل بين الفريقين لا بينه عليه الصلاة والسلام وحده وبين الكفار ثم إذا قيل: * (ثم إنكم) * على التغليب يكون تغليبا للمخاطبين على جميع الناس فهذا من حيث اللفظ والمساق الظاهر ثم إذا كان الموت أمرا عمه والناس جميعا كان المعنى عليه أيضا، وأما حديث الاختصام والطباق الذي ذكره فليس بشيء لأنه لعمومه يشمله شمولا أوليا كما حقق هذا المعنى مرارا. والتعقيب بقوله تعالى: * (فمن أظلم) * للتنبيه على أنه مصب الغرض وأن المقصود التسلق إلى تلك الخصومة، ولا أنكر أن قوله تعالى: * (عند ربكم) * يدل على أن الاختصام يوم القيامة ولكن أنكر أن يختص باختصام النبي صلى الله عليه وسلم وحده والمشركين بل يتناوله أولا وكذلك اختصام المؤمنين والمشركين واختصام المؤمنين بعضهم مع بعض كاختصام عثمان رضي الله تعالى عنه يوم القيامة وقاتليه، وهذا ما ذهب إليه هؤلاء وهم هم رضي الله تعالى عنهم انتهى، وكأنه عنى بقوله ولا أنكر الخ رد ما يقال إن * (عند ربكم) * يدل على أن الاختصام يوم القيامة، وقد صرح في " النظم الجليل " بذلك فيكون تأكيدا مشعرا بالاهتمام بأمر ذلك الاختصام فليس هو إلا اختصام حبيبه صلى الله عليه وسلم مع أعدائه الطغام، ووجه الرد أنه إن سلم أن فائدة الجمع ما ذكر فلا نسلم استدعاء ذلك لاعتبار الخصوص بل يكفي للاهتمام دخول اختصام الحبيب مع أعدائه عليه الصلاة والسلام فتأمله، ثم أنت تعلم أنه لو لم يكن في هذا المقام سوى الحديث الصحيح المرفوع لكفى في كون المراد عموم الاختصام فالحق القول بعمومه وهو أنواع شتى، فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في الآية: يخاصم الصادق الكاذب والمظلوم الظالم والمهتدي الضال والضعيف المستكبر، وأخرج الطبراني. وابن مردويه بسند لا بأس به عن أبي أيوب رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أول من يختصم يوم القيامة الرجل وامرأته والله ما يتكلم لسانها ولكن يداها ورجلاها يشهدان عليها بما كان لزوجها وتشهد يداه ورجلاه بما كان لها ثم يدعى الرجل وخادمه بمثل ذلك ثم يدعى أهل الأسواق وما يوجد ثم دانق ولا قراريط ولكن حسنات هذا تدفع إلى هذا الذي ظلمه وسيئات هذا الذي ظلمه توضع عليه ثم يؤتى بالجبارين في مقامع من حديد فيقال أوردوهم إلى النار فوالله ما أدري يدخلونها أو كما قال الله وإن منكم إلا واردها " وأخرج البزار عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاء بالأمير الجائر فتخاصمه الرعية " وأخرج أحمد. والطبراني بسند حسن عن عقبة بن عامر قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أول خصمين يوم القيامة جاران " ولعل الأولية إضافية لحديث أبي أيوب السابق.
وجاء عن ابن عباس اختصام الروح مع الجسد أيضا بل أخرج أحمد بسند حسن عن أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليختصمن يوم القيامة كل شيء حتى الشاتان فيما انتطحا ". تم الجزء الثالث والعشرون ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الرابع والعشرون وأوله * (فمن أظلم) *
* (فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جآءه أليس فى جهنم مثوى للك‍افرين) *.
265