الكتاب: أضواء البيان
المؤلف: الشنقيطي
الجزء: ٩
الوفاة: ١٣٩٣
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: مكتب البحوث والدراسات.
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤١٥ - ١٩٩٥م
المطبعة: بيروت. - دار الفكر للطباعة والنشر.
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر
ردمك:
ملاحظات:

((سورة التين))
* (والتين والزيتون * وطور سينين * وهاذا البلد الا مين * لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون * فما يكذبك بعد بالدين * أليس الله بأحكم الحاكمين) * * (والتين والزيتون * وطور سينين * وهاذا البلد الا مين) *. التين هو الثمرة المعروفة التي لا عجم لها ولا قشرة، والزيتون هو كذلك الثمرة التي منها الزيت، وطور سينين هو جبل الطور الذي ناجى موسى عنده ربه، والبلد الأمين هو مكة المكرمة، والواو للقسم.
وقد اختلف في المراد بالمقسم به في الأول، والثاني التين والزيتون، واتفقوا عليه في الثالث والرابع على ما سيأتي.
أما التين والزيتون، فمن ابن عباس رضي الله عنهما (أنهما الثمرتان المعروفتان) وهو قول عكرمة والحسن ومجاهد. كلهم يقول: التين: تينكم الذي تأكلون، والزيتون: زيتونكم الذي تعصرون.
وعن كعب: التين: مسجد دمشق، والزيتون بيت المقدس. وكذا عن قتادة. وأرادوا منابت التين والزيتون بقرينة الطور والبلد الأمين، على أن منبت التين والزيتون لعيسى، وطور سنيين لموسى، والبلد الأمين لمحمد صلى الله عليه وسلم.
ولكن حمل التين والزيتون على منابتهما لا دليل عليه، فالأولى إبقاؤهما على أصلهما، ويشهد لذلك الآتي:
أولا التين: قالوا: إنه أشبه ما يكون من الثمار بثمر الجنة، إذ لا عجم له ولا قشر، وجاء عنه في السنة (أنه صلى الله عليه وسلم أهدى له طبق فيه تين، فأكل منه ثم قال لأصحابه: فلو قلت: إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه، لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوه، فإنه يقطع البواسير وينفع من النقرس)، ذكره النيسابوري ولم يذكر من خرجه.
وذكره ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد، قائلا: ويذكر عن أبي الدرداء (أهدى إلى
3

النبي صلى الله عليه وسلم طبق من تين) وساق النص المتقدم. ثم قال: وفي ثبوت هذا نظر.
وقد ذكر المفسرون وابن القيم وصاحب القاموس: للتين خواص، وقالوا: إنها مما تجعله محلا للقسم به، وجزم ابن القيم: أنه المراد في السورة.
ومما ذكروا من خواصه، قالوا: إنه يجلو رمل الكلى والمثانة ويؤمن من السموم، وينفع خشونة الحلق والصدر وقصبة الرئة، ويغسل الكبد والطحال، وينقي الخلط البلغمي من المعدة، ويغذي البدن غذاء جيدا، ويابسه يغذي وينفع العصب.
وقال جالينوس: وإذا أكل مع الجوز والسذاب، قبل أخذ السم القاتل نفع، وحفظ من الضر، وينفع السعال المزمن ويدر البول ويسكن العطش الكائن عن البلغم المالح، ولأكله على الريق منفعة عجيبة.
وقال ابن القيم: لما لم يكن بأرض الحجاز والمدينة، لم يأت له ذكر في السنة، ولكن قد أقسم الله به في كتابه، لكثرة منافعه وفوائده.
والصحيح: أن المقسم به هو التين المعروف. ا ه.
وكما قال ابن القيم رحمة الله: لم يذكر في السنة لعدم وجوده بالحجاز والمدينة، فكذلك لم يأت ذكره في القرآن قط إلا في هذا الموضع، ولم يكن من منابت الحجاز والمدينة لمنافاة جوه لجوها، وهو وإن وجد أخيرا إلا أنه لا يجود فيها جودته في غيرها.
فترجح أن المراد بالتين هو هذا المأكول، كما جاء عمن سمينا: ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن.
أما الزيتون، فقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في المقدمة، أن من أنواع البيان إذا اختلف في المعنى المراد، وكان مجيء أحد المعنيين أو المعاني المحتملة أكثر في القرآن، فإنه يكون أولى بحمل اللفظ عليه.
وقد جاء ذكر الزيتون في القرآن عدة مرات مقصودا به تلك الشجرة المباركة، فذكر في ضمن الأشجار خاصة في قوله تعالى من سورة الأنعام * (وجنات من أعناب والزيتون والرمان) * إلى قوله * (إن فى ذالكم لا يات لقوم يؤمنون) *، وسماها بذاتها في قوله تعالى من سورة المؤمنين * (وشجرة تخرج من طور سينآء تنبت
4

بالدهن وصبغ للأكلين) *، وذكرها مع النحل والزرع في عبس في قوله تعالى: * (فأنبتنا فيها حبا * وعنبا وقضبا * وزيتونا ونخلا) *، وذكر من أخص خصائص الأشجار، في قوله في سورة النور في المثل العظيم المضروب * (الله نور السماوات والا رض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح فى زجاجة الزجاجة كأنها كوكب درى يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضىء ولو لم تمسسه نار نور على نور) *. فوصفها بالبركة ووصف زيتها بأنه يكاد يضيء، ولو لم تمسسه نار، وأختيارها لهذا المثل العظيم، يجعلها أهلا لهذا القسم العظيم هنا.
أما طور سينين: فأكثرهم على أنه جبل الطور، الذي ناجى الله موسى عنده، كما جاء في عدة مواطن، وذكر الطور فيها للتكريم وللقسم فمن ذكره للتكريم قوله تعالى: * (وناديناه من جانب الطور الا يمن) *، ومن ذكره للقسم به قوله تعالى: * (والطور * وكتاب مسطور) *.
وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الطور قوله، وقد أقسم الله بالطور في قوله تعالى: * (والتين والزيتون * وطور سينين) *. ا ه.
أما البلد الأمين فهو مكة لقوله تعالى: * (ومن دخله كان ءامنا) *، فالأمين بمعنى الأمن، أي من الأعداء، أن يحاربوا أهله أو يغزوهم، كما قال تعالى: * (أولم يروا أنا جعلنا حرما ءامنا ويتخطف الناس من حولهم) *، والأمين بمعنى أمن جاء في قول الشاعر: أولم يروا أنا جعلنا حرما ءامنا ويتخطف الناس من حولهم) *،
والأمين بمعنى أمن جاء في قول الشاعر:
* ألم تعلمي يا أسم ويحك أنني
* حلفت يمينا لا أخون أميني
*
يريد: آمني. * (لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم) *. وهذا هو المقسم عليه، والتقويم التعديل كما في قوله: * (الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما) *، وأحسن تقويم شامل لخلق الإنسان حسا ومعنى أي شكلا وصورة وإنسانية، وكلها من آيات القدرة ودلالة البعث.
وروى عن علي رضي الله عنه: وروى عن علي رضي الله عنه:
* دواؤك منك ولا تشعر
* وداؤك منك ولا تبصر
*
5

* ونزعم أنك جرم صغير
* وفيك انطوى العالم الكبير
*
وقد بين تعالى خلقه ابتداء من نطفة فعلقة إلى آخره في أكثر من موضع، كما في قوله: * (ألم يك نطفة من منى يمنى * ثم كان علقة فخلق فسوى * فجعل منه الزوجين الذكر والا نثى * أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى) *.
وكذلك في هذه السورة التنبيه على البعث بقوله: * (فما يكذبك بعد بالدين) *.
أما الجانب المعنوي فهو الجانب الإنساني، وهو المتقدم في قوله: * (ونفس وما سواها) *، على ما قدمنا هناك، من أن النفس البشرية هي مناط التكليف، وهو الجانب الذي به كان الإنسان إنسانا، وبهما كان خلقه في أحسن تقويم، ونال بذلك أعلى درجات التكريم: * (ولقد كرمنا بنىءادم) *.
والإنسان وإن كان لفظا مفردا إلا أنه للجنس بدلالة قوله: * (ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون) *، وهذا مثل ما في سورة * (والعصر * إن الإنسان لفى خسر * إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) *، فباستثناء الجمع منه، علم أن المراد به الجنس.
والتأكيد بالقسم المتقدم على خلق الإنسان في أحسن تقويم، يشعر أن المخاطب منكر لذلك، مع أن هذا أمر ملموس محسوس، لا ينكره إنسان.
وقد أجاب الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب على ذلك: بأن غير المنكر إذا ظهرت عليه علامات الإنكار، عومل معاملة المنكر، كقول الشاعر: وقد أجاب الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب على ذلك: بأن غير المنكر إذا ظهرت عليه علامات الإنكار، عومل معاملة المنكر، كقول الشاعر:
* جاء شقيق عارضا رمحه
* وإن بني عمك فيهم رماح
*
وأمارات الإنكار على المخاطبين، إنما هي عدم إيمانهم بالبعث، لأن العاقل لو تأمل خلق الإنسان، لعرف منه أن القادر على خلقه في هذه الصورة، قادر على بعثه.
وهذه المسألة أفردها الشيخ في سورة الجاثية بتنبيه على قوله تعالى: * (وفى خلقكم وما يبث من دآبة ءايات لقوم يوقنون) *، وتكرر هذا البحث في عدة مواضع، وأصرح دلالة على هذا المعنى ما جاء في آخر يس، * (وضرب لنا مثلا ونسى
6

خلقه قال من يحى العظام وهى رميم * قل يحييها الذى أنشأهآ أول مرة وهو بكل خلق عليم) *. * (ثم رددناه أسفل سافلين) *. قيل: رد إلى الكبر والهرم وضعف الجسم والعقل. ثم رددناه أسفل سافلين) *. قيل: رد إلى الكبر والهرم وضعف الجسم والعقل.
* إن الثمانين وبلغتها
* قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
*
كما في قوله تعالى: * (ومن نعمره ننكسه فى الخلق) *.
وذكر الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه هذا القول، وساق معه قوله: * (الله الذى خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة) *، وساق آية التين هذه * (ثم رددناه أسفل سافلين) *، وقال: على أحد التفسيرين، وقوله: * (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا) *، وهذا
المعنى مروي عن ابن عباس رواه ابن جرير.
وقيل: رد إلى النار بسبب كفره، وهذا مروي عن مجاهد والحسن.
وقد رجح ابن جرير المعنى الأول، وهو كما ترى، ما يشهد له القرآن في النصوص التي قدمنا، واستدل لهذا الوجه من نفس السورة. وذلك لأن الله تعالى قال في آخرها * (فما يكذبك بعد بالدين) *، أي بعد هذه الحجج الواضحة، وهي بدء خلق الإنسان وتطوره إلى أحسن أمره، ثم رده إلى أحط درجات العجز أسفل سافلين، وهذا هو المشاهد لهم، يحتج به عليهم.
أما رده إلى النار فأمر لم يشهده ولم يؤمنوا به، فلا يصلح أن يكون دليلا يقيمه عليهم، لأن من شأن الدليل أن ينقل من المعلوم إلى المجهول والبعث هو موضع إنكارهم، فلا يحتج عليهم لإثبات ما ينكرونه بما ينكرونه، وهذا الذي ذهب إليه واضح.
ومما يشهد لهذا الوجه: أن حالة الإنسان هذه في نشأته من نطفة، فعلقة، فطفلا، فغلاما، فشيخا، فهرم، وعجز. جاء مثلها في النبات وكلاهما من دلائل البعث، كما في قوله: * (اعلموا أنما الحيواة الدنيا لعب ولهو) * إلى قوله * (كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفى الا خرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان) *،
7

وقوله: * (ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء فسلكه ينابيع فى الا رض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن فى ذلك لذكرى لا ولى الا لباب) *.
فكذلك الإنسان، لأنه كالنبات سواء كما قال تعالى: * (والله أنبتكم من الا رض نباتا * ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا) *.
ويكون الاستثناء إلا الذين آمنوا فإنهم لا يصلون إلى حالة الخوف وأرذل العمر، لأن المؤمن مهما طال عمره، فهو في طاعة، وفي ذكر الله فهو كامل العقل، وقد تواتر عند العامة والخاصة أن حافظ كتاب الله المداوم على تلاوته، لا يصاب بالخرف ولا الهذيان.
وقد شاهدنا شيخ القراء بالمدينة المنورة للشيخ حسن الشاعر، لا زال على قيد الحياة عند كتابة هذه الأسطر تجاوز المائة بكثير، وهو لا يزال يقرئ تلاميذه القرآن، ويعلمهم القراءات العشر، وقد يسمع لأكثر من شخص يقرءون في أكثر من موضع وهو يضبط على الجميع.
وقد روى الشوكاني مثله، عن ابن عباس أنه قال، ذلك. * (فلهم أجر غير ممنون) *. أي غير مقطوع أو غير ممنون به عليهم.
وعلى الأول: فالأجر هو الثواب، إما بدوام أعمالهم لكمال عقولهم، وإما بأن الله يأمر الملائكة أن تكتب لهم من الأجر ما كانوا يعلمونه في حال قوتهم من صيام وقيام، وتصدق من كسبهم ونحو ذلك، للأحاديث في حق المريض والمسافر، فيظل ثواب أعمالهم مستمرا عليهم غير مقطوع.
وعلى الثاني: فيكون الأجر هو النعيم في الجنة يعطونه ولا يمن به عليهم، ولا يقطع عنهم كما قال تعالى: * (أكلها دآئم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا) *.
تنبيه
وهنا وجهة نظر من وجهين: وجه خاص وآخر عام.
8

أما الخاص: فإن كلمة رددناه، فالرد يشعر إلى رد لأمر سابق، والأمر السابق هو خلق الإنسان في أحسن تقويم، وأحسن تقويم شامل لشكله ومعناه، أي جسمه وإنسانيته، فرده إلى أسفل سافلين، يكون بعدم الإيمان كالحيوان بل هو في تلك الحالة أسفل دركا من الحيوان، وأشرس نفسا من الوحش، فلا إيمان يحكمه ولا إنسانية تهذبه، فيكون طاغية جبارا يعيث في الأرض فسادا، وعليه يكون الاستثناء، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فبإيمانهم وعملهم الصالحات يترفعون عن السفالة، ويرتفعون إلى الأعلى فلهم أجر غير ممنون.
والوجهة العامة وهي الشاملة لموضوع السورة من أولها ابتداء من التين والزيتون وما معه في القسم إلى * (لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين ءامنوا) *.
فإنه إن صح ما جاء في قصة آدم في قوله: * (فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) *. روى المفسرون أن آدم لما بدت له سوأته ذهب إلى أشجار الجنة ليأخذ من الورق ليستر نفسه، وكلما جاء شجرة زجرته ولم تعطه، حتى مر بشجرة التين فأعطته، فأخلفها الله الثمرة مرتين في السنة، وكافأها بجعل ثمرتها باطنها كظاهرها لا قشر لها ولا عجم.
وقد روى الشوكاني في أنها شجرة التين التي أخذ منها الورق. فقال: وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: (لما أسكن الله آدم الجنة كساه سربالا من الظفر، فلما أصاب الخطيئة سلبه السربال فبقى في أطراف أصابعه).
قال: وأخرج الفريابي وعبد ابن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر عن ابن عباس قال: (كان لباس آدم وحواء كالظفر وذكر الأثر وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) قال: ينزعان ورق التين، فيجعلانه على سوأتهما.
وبهذا النقل يكون ذكر التين هنا مع خلق الإنسان في أحسن تقويم، ثم رده أسفل سافلين إلا الذين آمنوا سر لطيف جدا، وهو إشعار الإنسان الآن، أن جنس الإنسان كله بالإنسان الأول أبي البشر، وقد خلقه الله في أحسن حالة حسا ومعنى، حتى رفعه إلى
9

منزلة إسجاد الملائكة له وسكناه الجنة، فهي أعلى منزلة التكريم، وله فيها أنه لا يجوع ولا يعرى ولا يظمأ فيها ولا يضحى، وظل كذلك على ذلك إلى أن أغواه
الشيطان ونسي عهد ربه إليه، ووقع فيما وقع فيه وكان له ما كان، فدلاهما بغرور وانتقلا من أعلى عليين إلى أسفل سافلين، فنزل إلى الأرض يحرث ويزرع ويحصد ويطحن ويعجن ويخبز، حتى يجد لقمة العيش، فهذا خلق الإنسان في أحسن تقويم ورده أسفل سافلين.
وهذا شأن أهل الأرض جميعا، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فلهم أجر غير ممنون، برجوعهم إلى الجنة كما رجع إليها آدم بالتوبة، فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه، ثم اجتباه ربه، فتاب عليه وهدى.
وإن في ذكر البلد الأمين لترشيح لهذا المعنى، لأن الله جعل الحرم لأهل مكة أمنا كصورة الآمن في الجنة، فإن امتثلوا وأطاعوا تعموا بهذا الأمن، وإن تمردوا وعصوا، فيخرجون منها ويحرمون أمنها.
وهكذا تكون السورة ربطا بين الماضي والحاضر، وانطلاقا من الحاضر إلى المستقبل، فما يكذبك بعد بالدين أليس الله بأحكم الحاكمين. فيما فعل بآدم وفيما يفعل بأولئك، حيث أنعم عليهم بالأمن والعيش الرغد، وإرسالك إليهم وفيما يفعل لمن آمن أو بمن يكفر، اللهم بلى. * (فما يكذبك بعد بالدين) *. فالدين هو الجزاء كما في سورة الفاتحة * (مالك يوم الدين) * والخطاب قيل للرسول صلى الله عليه وسلم. وأن ما في قوله: فما هي بمعنى من أي، فمن الذي يكذبك بعد هذا البيان، بمجيء الجزاء والحساب ليلقى كل جزاء عمله. * (أليس الله بأحكم الحاكمين) *. السؤال كما تقدم في * (ألم نشرح) *، أي للإثبات، وهو سبحانه وتعالى بلا شك أحكم الحاكمين، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأها قال: (اللهم بلى) كما سيأتي.
وأحكم الحاكمين، قيل: أفعل تفضيل من الحكم أي أعدل الحاكمين، كما في
10

قوله تعالى: * (ولا يظلم ربك أحدا) *.
وقيل: من الحكمة، أي في الصنع والإتقان والخلق، فيكون اللفظ مشتركا، ولا يبعد أن يكون من المعنيين معا، وإن كان هو في الحكم أظهر، لأن الحكيم من الحكمة يجمع على الحكماء.
فعلى القول بالأمرين: يكون من استعمال المشترك في معنييه معا، وهو هنا لا تعارض بل هما متلازمان، لأن الحكيم لا بد أن يعدل، والعادل لا بد أن يكون حكيما يضع الأمور في مواضعها.
وقد بين تعالى هذا المعنى في عدة مواطن كقوله تعالى: * (أم نجعل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين فى الا رض أم نجعل المتقين كالفجار) *، الجواب: لا، وكقوله: * (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين ءامنوا وعملوا الصالحات سوآء محياهم ومماتهم سآء ما يحكمون) *، وفي قوله * (سآء ما يحكمون) * بيان لعدم عدالتهم في الحكم، وبعده عن الحكمة.
ومعلوم أن عدم التسوية بينهم في مماتهم أنه بالبعث والجزاء، فهو سبحانه أحكم الحاكمين في صنعه وخلقه. خلق الإنسان في أحسن تقويم، وأعدل الحكام في حكمه لم يسو بين المحسن والمسيء.
وقد اتفق المفسرون على رواية الترمذي لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: (من قرأ والتين والزيتون، فقرأ أليس الله بأحكم الحاكمين، فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين).
ومثله عن جابر مرفوعا، وعن ابن عباس قوله: (سبحانك اللهم، فبلى). والعلم عند الله تعالى.
11

((سورة العلق))
* (اقرأ باسم ربك الذى خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الا كرم * الذى علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم * كلا إن الإنسان ليطغى * أن رءاه استغنى * إن إلى ربك الرجعى * أرأيت الذى ينهى * عبدا إذا صلى * أرءيت إن كان على الهدى * أو أمر بالتقوى * أرءيت إن كذب وتولى * ألم يعلم بأن الله يرى * كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة * فليدع ناديه * سندع الزبانية * كلا لا تطعه واسجد واقترب) * * (اقرأ باسم ربك الذى خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الا كرم * الذى علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم) *. في هذه الآيات الخمس تسع مسائل مرتبط بعضها ببعض ارتباط السبب بالمسبب، والعام بالخاص، والدليل بالمدلول عليه، وكلها من منهج هذا الكتاب المبارك. وفي الواقع أنها كلها مسائل أساسية بالغة الأهمية عظيمة الدلالة.
وقد قال عنها شيخ الإسلام ابن تيمية: إنها وأمثالها من السور التي فيها العجائب، وذلك لما جاء فيها من التأسيس لافتتاحية تلك الرسالة العظيمة، ولا تستطيع إيفاءها حقها عجزا وقصورا.
وقد كتب فيها شيخ الإسلام ابن تيمية بأسلوبه مائتين وعشرين صفحة متتالية، وفصلا آخر في مباحث تتصل بها، ولو أوردنا كل ما يسعنا مما تحتمله، لكان خروجا عن موضوع الكتاب، ولذا فإنا نقصر القول على ما يتصل بموضوعه، إلا ما جرى القلم به مما لا يمكن تركه، وبالله تعالى التوفيق.
أما المسائل التسع التي ذكرت هنا، فإنا نوردها لنتقيد بها وهي:
أولا: الأمر بالقراءة، يوجه لنبي أمي.
والثانية: كون القراءة هذه باسم الرب سبحانه مضافا للمخاطب صلى الله عليه وسلم باسم ربك.
الثالثة: وصف للرب الذي خلق بدلا من اسم الله، واسم الذي يحيي ويميت أو غير ذلك.
الرابعة: خلق الإنسان بخصوصه، بعد عموم خلق وإطلاقه.
12

الخامسة: خلق الإنسان من علق، ولم يذكر ما قبل العلقة من نطفة أو خلق آدم من تراب.
السادسة: إعادة الأمر بالقراءة مع وربك الأكرم، بدلا من أي صفة أخرى، وبدلا من الذي خلق المتقدم ذكره.
الثامنة: التعليم بالقلم.
التاسعة: تعليم الإنسان ما لم يعلم.
لما كانت هذه السورة هي أول سورة نزلت من القرآن، وكانت تلك الآيات الخمس أول ما نزل منها على الصحيح، فهي بحق افتتاحية الوحي، فكانت موضع عناية المفسرين وغيرهم، والكلام على ذلك مستفيض في كتب التفسير والحديث والسيرة، فلا موجب لإيراده هنا. ولكن نورد الكلام على ما ذكرنا من موضوع الكتاب إن شاء الله.
أما المسألة الأولى: قوله تعالى: * (اقرأ) *، فالقراءة لغة الإظهار، والإبراز، كما قيل في وصف الناقة: لم تقرأ جنينا، أي لم تنتج.
وتقدم للشيخ بيان هذا المعنى لغة وتوجيه الأمر بالقراءة إلى نبي أمي لا تعارض فيه، لأن القراءة تكون من مكتوب وتكون من متلو، وهنا من متلو يتلوه عليه جبريل عليه السلام، وهذا إبراز للمعجزة أكثر، لأن الأمي بالأمس صار معلما اليوم. وقد أشار السياق إلى نوعي القراءة هذين، حيث جمع القراءة مع التعليم بالقلم.
وفي قوله تعالى: * (اقرأ) * بدء للنبوة وإشعار بالرسالة، لأنه يقرأ كلام غيره.
وقوله تعالى: * (باسم ربك) *، تؤكد لهذا الإشعار، أي ليس من عندك ولا من عند جبريل الذي يقرئك.
وقد قدمنا الرد على كونه صلى الله عليه وسلم لم يكتب ولا يقرأ مكتوبا، من أنه صيانة للرسالة، كما أنه لم يكن يقول الشعر وما ينبغي له، إذا لارتاب المبطلون.
كما قال تعالى: * (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك) *. وذلك عند قوله تعالى: * (هو الذى بعث فى الأميين رسولا منهم يتلو عليهم ءاياته) *.
13

وهنا لم يبين ما يقرؤه ولكن مجيء سورة القدر بعدها بمثابة البيان لما يقرؤه وهي: * (إنا أنزلناه فى ليلة القدر) *، وجاء بيان ما أنزل في سورة الدخان * (حم والكتاب المبين إنآ أنزلناه فى ليلة مباركة) *.
وللشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان لذلك عند قوله تعالى: * (وعلمك ما لم تكن تعلم) *، فكأنه في قوة اقرأ ما يوحي إليك من ربك، والمراد به هو القرآن بالإجماع.
المسألة الثانية: قوله: * (باسم ربك) *، أي اقرأ باسم ربك منشئا ومبتدئا القراءة باسم ربك، وقد تكلم المفسرون على الباء أهي صلة، ويكون اقرأ اسم ربك، أي قل باسم الله، كما في أوائل السور.
وقيل: الباء بمعنى على، أي على اسم ربك، وعليه: فالمقروء محذوف.
والذي يظهر والله تعالى أعلم أن قوله: * (باسم ربك) * أي أن ما تقرؤه هو من ربك، وتبلغه للناس باسم ربك، وأنت مبلغ عن ربك على حد قوله: * (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى) *.
وقوله: * (ما على الرسول إلا البلاغ) *، أي عن الله تعالى.
وكقوله: * (ومآ أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) *.
ونظير هذا في الأعراف الحاضرة خطاب الحكم، أو ما يسمى خطاب العرش، حينما يقول ملقيه باسم الملك، أو باسم الأمة، أو باسم الشعب، على حسب نظام الدولة، أي باسم السلطة التي منها مصدر التشريع والتوجيه السياسي.
وهنا باسم الله، باسم ربك، وصفة ربك هنا لها مدلول الربوبية الذي ينبه العبد إلى ما أولاه الله إياه من التربية والرعاية والعناية، إذ الرب يفعل لعبده ما يصلحه، ومن كمال إصلاحه أن يرسل إليه من يقرأ عليه وحيه بخبري الدنيا والآخرة، وفي إضافته إلى المخاطب إيناس له.
المسألة الثالثة: وصف الرب بالذي خلق مع إطلاق الوصف، وذلك لأن صفة الخلق هي أقرب الصفات إلى معنى الربوبية، ولأنها أجمع الصفات للتعريف بالله
14

تعالى لخلقه، وهي الصفة التي يسلمون بها * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والا رض ليقولن الله) *.
* (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) *.
ولأن كل مخلوق لا بد له من خالق * (أم خلقوا من غير شىء أم هم الخالقون) *، وقد أطلق صفة الخلق عن ذكر مخلوق ليعم ويشمل الوجود كله، خالق كل شيء في قوله: * (ذالكم الله ربكم لا إلاه إلا هو خالق كل شىء) *.
* (الله خالق كل شىء وهو على كل شىء وكيل) *.
* (هو الله الخالق البارىء المصور) *.
وتلك المسائل الثلاث: هي الأصول في الرسالة وما بعدها دلالة عليها، فالأمر بالقراءة تكليف لتحمل الوحي، وباسم ربك بيان لجهة التكليف، والذي خلق تدليل لتلك الجهة، أي الرسالة والرسول والمرسل مع الدليل المجمل. ولا شك أن المرسل إليهم لم يؤمنوا ولا بواحدة منها، فكان لا بد من إقامة الأدلة على ثبوتها بالتفصيل.
ولما كانت جهة المرسل هي الأساس وهي المصدر، كان التدليل عليها أولا، فجاء التفصيل في شأنها بما يسلمون به ويسلمونه في أنفسهم، وهي المسألة الرابعة.
والخامسة: خلق الإنسان من علق، وهذا تفصيل بعد إجمال ببيان للبعض من الكل فالإنسان بعض مما خلق، وذكره من ذكر العام بعد الخاص أولا، ومن إلزامهم بما يسلمون به ثم لانتقالهم مما يعلمون، ويقرون به إلى مالا يعلمون وينكرون.
وفي ذكر الإنسان بعد عموم الخلق تكريم له، كذكر الروح بعد عموم الملائكة، تنزل الملائكة والروح فيها ونحوه، والإنسان هنا الجنس بدليل الجمع في علق جمع علقة، ولأنه أوضح دلالة عنده، ليستدل بنفسه من نفسه كما سيأتي.
وقوله: * (من علق) *، وهو جمع علقة، وهي القطعة من الدم، كالعرق أو الخيط بيان على قدرته تعالى، وذلك لأنهم يشاهدون ذلك أحيانا فيما تلقى به الرحم، ويعلمون أنه مبدأ خلقة الإنسان.
15

فالقادر على إيجاد إنسان في أحسن تقويم من هذه العلقة، قادر على جعلك قارئا وإن لم تكن تعلم القراءة من قبل، كما أوجد الإنسان من تلك العلقة ولم يكن موجودا من قبل، ولأن الذي يتعهد تلك العلقة حتى تكتمل إنسانا يتعهدها بالرسالة.
وقد يكون في اختيار الإنسان بالذات وبخصوصه لتفصيل مرحلة وجوده، أن غيره من المخلوقات لم تعلم مبادئ خلقتها كعلمهم بالإنسان، ولأن الإنسان قد مر ذكره في السورة قبلها * (لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم) *، فبين أنه من هذه العلقة كان في أحسن تقويم، ومن حسن تقويم إنزال الكتاب القيم.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن المقام هنا مقام دلالة على وجود الله، فبدأ بما يعرفونه ويسلمون به لله، ولم يبدأ من النطفة أو التراب، لأن خلق آدم من تراب لم يشاهدوه، ولأن النطفة ليست بلازم لها خلق الإنسان، فقد تقذف في غير رحم كالمحتلم، وقد تكون فيه، ولا تكون مخلقة. ا ه.
وهذا في ذاته وجيه، ولكن لا يبعد أن يقال: إن السورة في مستهل الوحي وبدايته، فهي كالذي يقول: إذا كنت بدأت بالوحي إليه ولم يكن من قبل، ولم يوجد منه شيء بالنسبة إليك، فليس هو بأكثر من إيجاد الإنسان من علقة، بعد أن لم يكن شيئا.
وعليه يقال: لقد تركت مرحلة النطفة مقابل مرحلة من الوحي، قد تركت أيضا وهي فترة الرؤيا الصالحة، كما في الصحيحين (أنه صلى الله عليه وسلم كان أول ما بدىء به الوحي الرؤيا الصالحة، يراها فتأتي كفلق الصبح) فكان ذلك إرهاصا للنبوة وتمهيدا لها لمدة ستة أشهر، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح، أو ترى له جزء من ست وأربعين جزءا من النبوة) وهي نسبة نصف السنة من ثلاث وعشرين مدة الوحي، ولكن الرؤيا الصالحة قد يراها الرجل الصالح، ومثل ذلك تماما فترة النطفة، فقد تكون النطفة ولا يكون الإنسان، كما تكون الرؤيا ولا تكون النبوة، أما العلقة فلا تكون إلا في رحم وقرار مكين، ومن ثم يأتي الإنسان مخلقا كاملا، أو غير مخلق على ما يقدر له.
فلما كانت فترة النطفة ليست بلازمة لخلق الإنسان، وكان مثلها فترة الرؤية ليست لازمة للنبوة ترك كل منها مقابل الآخر، ويبدأ الدليل بما هو الواقع المسلم على أن الله تعالى هو الخالق، والخالق للإنسان من علقة، فكان فيه إقامة الدليل من ذاتية المستدل،
16

فالدليل هو خلق الإنسان، والمستدل به هو الإنسان نفسه، كما في قوله تعالى: * (وفى أنفسكم أفلا تبصرون) *، فيستدل لنفسه من نفسه على قدرة خالقه سبحانه.
وإذا تم بهذا الاستدلال على قدرة الرب الخالق، كان بعده إقامة الدليل على صحة النبوة ورسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، فجاءت المسألة السادسة وهي إعادة القراءة في قوله: * (اقرأ وربك الا كرم) *، إذ أقام الدليل على أنك مرسل من الله تبلغ عنه وتقرأ باسمه، فاعلم أن تلك القراءة وهذا الوحي من ربك الأكرم، والأكرم قالوا: هو الذي يعطي بدون مقابل، ولا انتظار مقابل، والواقع أن مجيء الوصف هنا بالأكرم بدلا من أي صفة أخرى، لما في هذه الصفة من تلاؤم للسياق، ما لا يناسب مكانها غيرها لعظم العطاء وجزيل المنة.
فأولا: رحمة الخليقة بهذه القراءة التي ربطت العباد بربهم. وكفى.
وثانيا: نعمة الخلق والإيجاد، فهما نعمتان متكاملتان: الإيجاد من العدم بالخلق، والإيجاد الثاني من الجهل إلى العلم، ولا يكون هذا كله إلا من الرب الأكرم سبحانه.
ثم تأتي المسألة الثامنة: وهي من الدلالة على النبوة والرسالة، وربك الأكرم الذي علم بالقلم، سواء كان الوقف على: اقرأ، وابتداء الكلام: وربك الأكرم الذي علم بالقلم. أو الوقف على الأكرم وابتداء الكلام. الذي علم بالقلم، لأن من يعلم الجاهل بالقلم، يعلم غيره بدون القلم بجامع التعليم بعد الجهل. فالقادر على هذا قادر على ذلك.
والتاسعة: بيان لهذا الإجمال حيث لم يبين ما الذي علمه بالقلم. فقال: * (علم الإنسان ما لم يعلم) *، وهذا مشاهد ملموس في أشخاصهم * (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا) *.
فالله الذي علم الإنسان ما لم يعلم، وكل ما تعلمه الإنسان فهو من الله تعلمونهن مما علمكم الله، وهل الرسالة والنبوة إلا تعليم الرسول ما لم يكن يعلم؟ وبهذا تم إقامة الدليل على صحة النبوة، أي الرسالة والرسول والمرسل، وهي أسس الدعوة والبعثة الجديدة.
وقد اشتهر عند الناس أنه نبىء (باقرأ) وأرسل (بالمدثر) ولكن في
17

نفس هذه السورة معنى الرسالة، لما قدمنا من أن القراءة باسم ربك، إشعار بأنه مرسل من ربه إلى من يقرأ عليهم، ففيها إثبات الرسالة من أول بدء الوحي.
تنبيه
في قوله تعالى: * (الذى علم بالقلم) *، مبحث التعليم ومورد سؤال، وهو إذا كان تعالى تمدح بأنه علم بالقلم وأنه علم الإنسان ما لم يعلم، فكان فيه الإشادة بشأن القلم، حيث إن الله تعالى قد علم به، وهذا أعلى مراتب الشرف مع أنه سبحانه قادر على التعليم بدون القلم، ثم أورده في معرض التكريم في قوله: * (ن والقلم وما يسطرون * مآ أنت بنعمة ربك بمجنون) *، وعظم المقسم عليه وهو نعمة الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بالوحي، يدل على عظم المقسم به، وهو القلم وما يسطرون به من كتابة الوحي وغيره.
وقد ذكر القلم في السنة أنواعا متفاوتة، وكلها بالغة الأهمية.
منها: أولها وأعلاها: القلم الذي كتب ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة، والوارد في الحديث (أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب) الحديث.
فعلى رواية الرفع، يكون هو أول المخلوقات ثم جرى بالقدر كله، وبما قدر وجوده كله.
ثانيها: القلم الذي يكتب مقادير العام في ليلة القدر من كل سنة، المشار إليه بقوله: * (فيها يفرق كل أمر حكيم) *.
ثالثها: القلم الذي يكتب به الملك في الرحم ما يخص العبد من رزق وعمل.
ثالثها: القلم الذي بأيدي الكرام الكاتبين المنوه عنه بقوله تعالى: * (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) *، أي بالكتابة كما في قوله: * (كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون) *، إذا قلنا إن الكتابة في ذلك تستلزم قلما، كما هو الظاهر.
رابعا: القلم الذي بأيدي الناس يكتبون به ما يعلمهم الله، ومن أهمها أقلام كتاب الوحي، الذين كانوا يكتبون الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتابة سليمان لبلقيس
18

.
وقوله تعالى: * (الذى علم بالقلم) *، شامل لهذا كله، إذا كان هذا كله شأن القلم وعظم أمره، وعظيم المنة به على الأمة، بلى وعلى الخليقة كلها.
وقد افتتحت الرسالة بالقراءة والكتابة، فلماذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم الذي أعلن عن هذا الفضل كله للقلم! لم يكن هو كاتبا به، ولا من أهله بل هو أمي لا يقرأ ولا يكتب، كما في قوله: * (هو الذى بعث فى الأميين رسولا منهم) *.
والجواب: أنا أشرنا أولا إلى ناحية منه، وهي أنه أكمل للمعجزة، حيث أصبح النبي الأمي معلما كما قال تعالى: * (يتلوا عليهم ءاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) *.
وثانيا: لم يكن هذا النبي الأمي مغفلا شأن القلم، بل عنى به كل العناية، وأولها وأعظهما أنه اتخذ كتابا للوحي يكتبون ما يوحى إليه بين يديه، مع أنه يحفظه ويضبطه، وتعهد الله له بحفظه وبضبطه في قوله تعالى: * (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شآء الله) *، حتى الذي ينساه يعوضه الله بخير منه أو مثله، كما في قوله تعالى: * (ما ننسخ من ءاية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) *، ووعد الله تعالى بحفظه في قوله: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) *.
ومع ذلك، فقد كان يأمر بكتابة هذا المحفوظ وكان له عدة كتاب، وهذا غاية في العناية بالقلم.
وذكر ابن القيم من الكتاب الخلفاء الأربعة، ومعهم تتمة سبعة عشر شخصا، ثم لم يقتصر صلى الله عليه وسلم في عنايته بالقلم والتعليم به عند كتابة الوحي، بل جعل التعليم به أعم، كما جاء خبر عبد الله بن سعيد بن العاص (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يعلم الناس الكتابة بالمدينة، وكان كاتبا محسنا) ذكره صاحب الترتيبات الإدارية عن ابن عبد البر في الاستيعاب.
وفي سنن أبي داود عن عبادة بن الصامت قال: (علمت ناسا من أهل الصفة الكتابة والقرآن).
وقد كانت دعوته صلى الله عليه وسلم، الملوك إلى الإسلام بالكتابة كما هو معلوم.
وأبعد من ذلك، ما جاء في قصة أسارى بدر، حيث كان يفادي بالمال من يقدر
19

على الفداء، ومن لم يقدر. وكان يعرف الكتابة كانت مفاداته أن يعلم عشرة من الغلمان الكتابة، فكثرت الكتابة في المدينة بعد ذلك.
وكان ممن تعلم: زيد بن ثابت وغيره.
فإذا كان المسلمون وهم في بادىء أمرهم وأحوج ما يكون إلى المال والسلاح، بل واسترقاق الأسارى فيقدمون تعليم الغلمان الكتابة على ذلك كله، ليدل على أمرين:
أولهما: شدة وزيادة العناية بالتعليم.
وثانيهما: جواز تعليم الكافر للمسلم ما لا تعلق له بالدين، كما يوجد الآن من الأمور الصناعية، في الهندسة، والطب، والزراعة، والقتال، ونحو ذلك.
وقد كثر المتعلمون بسبب ذلك، حتى كان عدد كتاب الوحي اثنين وأربعين رجلا ثم كان انتشار الكتابة مع الإسلام، وجاء النص على الكتابة في توثيق الدين في قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) *، وهي أطول آية في كتاب الله تعالى رسمت فيها كتابة العدل الحديثة كلها.
وإذا كان هذا شأن القلم وتعلمه، فقد وقع الكلام في تعليمه للنساء على أنهن شقائق الرجال في التكليف والعلم، فهل كن كذلك في تعلم الكتابة أم لا؟
مبحث تعليم النساء الكتابة
وقع الخلاف بسبب نصين في المسألة:
الأول: حديث الشفاء بنت عبد الله قالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة، فقال لي: ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة؟) رواه المجد في المنتقى عن أحمد وأبي داود وقال بعده: وهو دليل على جواز تعلم النساء الكتابة.
والثاني: حديث عائشة رواه الحاكم وصححه البيهقي مرفوعا: (لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة يعني النساء وعلموهن الغزل وسورة النور) قال الشوكاني في نيل الأوطار، على حديث المنتقى وحديث عائشة: إن حديث الشفاء دليل على جواز تعليمهن، وحديث النهي: محمول على من يخشى من تعليمها الفساد، أعني تعليم الكتابة والقراءة.
20

أما تعليم العلم فليس محل خلاف، والواقع أن هذه المسألة واضحة المعالم، إذا نظرت كالآتي:
أولا: لا شك أن العلم من حيث هو خير من الجهل، والعلم قسمان: علم سماع وتلقي، وهذه سيرة زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعائشة كانت القدوة الحسنة في ذلك في فقه الكتاب والسنة، وكم استدركت على الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وهذا مشهور ومعلوم.
والثاني: علم تحصيل بالقراءة والكتابة، وهذا يدور مع تحقق المصلحة من عدمها، فمن رأى أن تعليمهن مفسدة منعه، كما روي عن علي رضي الله عنه: أنه مر على رجل يعلم امرأة الكتابة فقال: لا تزد الشر شرا.
وروي عن بعض الحكماء: أنه رأى امرأة تتعلم الكتابة، فقال: أفعى تسقى سما، وأنشدوا الآتي: وروي عن بعض الحكماء: أنه رأى امرأة تتعلم الكتابة، فقال: أفعى تسقى سما، وأنشدوا الآتي:
* ما للنساء وللكتا
* بة والعمالة والخطابة
*
* هذا لنا ولهن منا
* أن يبتن على جنابه
*
ومثله ما قاله المنفلوطي: ومثله ما قاله المنفلوطي:
* يا قوم لم تخلق بنات الورى
* للدرس والطرس وقال وقيل
*
* لنا علوم ولها غيرها
* فعلموها كيف نشر الغسيل
*
* والثوب والإبرة في كفها
* طرس عليه كل خط جميل
*
وهذا نظر إلى تعليمهن وموقفهن من زاوية واحدة. كما قال الشاعر الآخر: وهذا نظر إلى تعليمهن وموقفهن من زاوية واحدة. كما قال الشاعر الآخر:
* كتب القتل والقتال علينا
* وعلى الغانيات جر الذيول
*
مع أننا وجدنا في تاريخ المرأة نسوة شاركن في القتال، حتى عائشة رضي الله عنها كانت تسقي الماء، وأم سلمة تداوي الجرحى، إذ لا يؤخذ قول كل منهما على عمومه.
قال صاحب التراتيب الإدارية: أورد القلنشدي أن جماعة من النساء كن يكتبن، ولم ير أن أحدا من السلف أنكر عليهن. ا ه.
ومن المعلوم رواية (كريمة) لصحيح البخاري، وهي من الرواية المعتبرة عن المحدثين، فقد رأيت بنفسي وأنا مدرس بالأحساء نسخة لسنن أبي داود عند آل المبارك
21

وعليها تعليق لأخت صلاح الدين الأيوبي، وذكر صاحب التراتيب الإدارية قوله: وقد ثبت عن كثير من نساء أهل الصحراء الإفريقية خصوصا شنقيط: شنجط، أي شنقيط، وهي المعروفة الآن بموريتانيا، وتيتبكتو، وقبيلة كنت العجب، حتى جاء أن الشيخ المختار الكنتي الشهير، ختم مختصر خليل للرجال، وختمته زوجته في جهة أخرى للنساء. ا ه.
ومما يؤيد ما ذكره أننا ونحن في بعثة الجامعة الإسلامية لإفريقيا، سمعنا ونحن في مدينة أطار وهي على مقربة من مدينة شنجيط المذكورة، سمعنا من كبار أهلها أنه كان يوجد بها سابقا مائتا فتاة يحفظن المدونة كاملة.
وقد سمعت في الآونة الأخيرة، أنه كانت توجد امرأة تدرس في المسجد النبوي، الحديث، والسيرة، واللغة العربية وهي شنقيطية.
ويجب أن تكون النظرة لهذه المسألة على ضوء واقع الحياة اليوم وفي كل يوم، وقد أصبح تعليم المرأة من متطلبات الحياة، ولكن المشكلة تكمن في منهج تعليمها، وكيفية تلقيها العلم.
فكان من اللازم أن يكون منهج تعليمها قاصرا على النواحي التي يحسن أن تعمل فيها كالتعليم والطب وكفى.
أما كيفية تعليمها، فإن مشكلتها إنما جاءت من الاختلاط في مدرجات الجامعات، وفصول الدراسة في الثانويات في فترة المراهقة، وقلة المراقبة، وفي هذا يكمن الخطر منها وعليها في آن واحد، فإذا كان لا بد من تعليمها، فلا بد أيضا من المنهج الذي يحقق الغاية منه ويضمن السلامة فيه، والتوفيق من الله سبحانه.
أما ما يخشى عليها من الاتصال عن طريق الكتابة، فقد وجد ما هو أقرب وأسرع منها لمن شاءت وهو الهاتف في البيوت، فإنه في متناول المتعلمة والجاهلة. والمدار في ذلك كله على الحصانة التربوية والمتانة الدينية والقوة الأخلاقية.
وقد أوردت هذا المبحث استطرادا لبيان وجهة النظر في هذه المسألة، اقتباسا من قوله تعالى: * (الذى علم بالقلم) *، وبالله التوفيق.
22

مسألة
بيان أولية الكتابة عامة والعربية خاصة، وأول من خط بالقلم على الأرض:
جاء في المطالع النصرية للمطابع المصرية في الأصول الخطية المطبوع سنة 4031 ه ما نصه: وإنما أصول الكتابة اثني عشر على ما قاله ابن خلكان، وتبعه كثير من المؤلفين، كالدميري في حياة الحيوان، والحلبي في السيرة وغيرهما.
قال: إن جميع كتابات الأمم من سكان المشرق والمغرب اثنتي عشرة كتابة، خمس منها ذهب من يعرفها وبطل استعمالها وهي: الحميرية، والقبطية، والبربرية، والأندلسية، واليونانية، وثلاث منها فقد من يعرفها في بلاد الإسلام ومستعملة في بلادها، وهي السريانية والفارسية والعبرانية والعربية. ا ه. كلامه باختصار وفيه ما فيه.
قال: والحميرية: هي خط أهل اليمن قوم هود وهم عاد الأولى، وهي عاد إرم، وكانت كتابتهم تسمى المسند الحميري، وكانت حروفها كلها منفصلة، وكانوا يمنعون العامة من تعلمها فلا يتعاطاها أحد إلا بإذنهم، حتى جاءت دولة الإسلام، وليس بجميع اليمن من يكتب ويقرأ.
وقال المقريزي في الخطط: القلم المسند، هو القلم الأول من أقلام حمير وملوك عاد. ا ه.
والمعروف الآن أن الحروف المستعملة في الكتابة في العالم كله بصرف النظر عن اللغات المنطوق بها هي ثلاثة فقط، الخط العربي بحروف ألف باء وبها لغات الشرق. والحروف اللاتينية وبها لغات أوروبا والحروف الصينية.
أما اللغات، وهي فوق ألفي لغة (والأمهرية بحرف قريب من اللاتيني).
أما أولية الكتابة العربية، فقال صاحب المطالع النصرية: فقد اختلفت الروايات فيها، كما قاله الحافظ السيوطي في الأوائل.
وكذا في المزهر في النوع الثاني والأربعين، قال: إنه يرى أن آدم عليه السلام أول من كتب بالقلم، وأن الكتابات كلها من وضعه، كان قد كتبها في طين وطبخه، يعني
23

أحرقه ودفنه قبل موته بثلاثمائة سنة، وبعد الطوفان وجد كل قوم كتابا فتعلموه، وكانت اثنى عشر كتابا، فتعلموه بإلهام إلهي.
وقيل: إن أول من خط بالعربي إسماعيل عليه السلام. ا ه.
24

وقد أطال السيوطي في المزهر الكلام في هذه المسألة، نقلا عن ابن فارس الشدياقي.
وعن العسكري عن الأوائل في ذلك أقوال، فقيل إسماعيل، وقيل: مرار بن مرة، وهما من أهل الأنبار، وفي ذلك يقول الشاعر: وعن العسكري عن الأوائل في ذلك أقوال، فقيل إسماعيل، وقيل: مرار بن مرة، وهما من أهل الأنبار، وفي ذلك يقول الشاعر:
* كتبت أبا جاد وخطى مرامر
* وسورت سربالي ولست بكاتب
*
وقيل: أول من وضعه أبجد، وهوز وحطي، وكلمن، وصعفص، وقرشت، وكانوا ملوكا فسمي الهجاء بأسمائهم.
وذكر عن الحافظ أبي طاهر السلفي بسنده عن الشعبي قال: أول من كتب بالعربية حرب بن أمية بن عبد شمس، تعلم من أهل الحيرة، وتعلم أهل الحيرة من أهل الأنبار.
وقال أبو بكر بن أبي داود في كتاب المصاحف: حدثنا عبد الله بن محمد الزهري حدثنا سفيان عن مجالد عن الشعبي قال: سألنا المهاجرين من أين تعلمتم الكتابة؟ قالوا: تعلمنا من أهل الحيرة، وسألنا أجل الحيرة: من أين تعلمتم الكتابة؟ قالوا: من أهل الأنبار، ثم قال ابن فارس: والذي نقوله إن: الخط توقيفي، وذلك لظاهر قوله
تعالى: * (الذى علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم) *.
وقوله: * (ن والقلم وما يسطرون) *.
وإذا كان هذا فليس ببعيد، أن يوقف الله آدم أو غيره من الأنبياء عليهم السلام على الكتابة، فأما أن يكون شيئا مخترعا اخترعه من تلقاء نفسه، فهذا شيء لا نعلم صحته إلا من خبر صحيح.
قال السيوطي: قلت يؤيد ما قاله من التوقيف، ما أخرجه ابن شقة من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (أول كتاب أنزله الله من السماء أبا جاد).
وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي ذر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول من خط بالقلم إدريس عليه السلام). ا ه.
وقد أطال النقول في ذلك مما يرجع إلى الأول، وليس فيه نقل صحيح يقطع به.
وقد أوردنا هذه النبذة بخصوص كلام ابن فارس، من أن تعليم الكتابة أمر توقيفي، وما استدل به السيوطي من أول كتاب أنزله الله من السماء، فإن في القرآن ما يشهد لإمكان ذلك، وهو أن الله تعالى أنزل الصحف لموسى مكتوبة.
وفي الحديث (إن الله كتب الألواح لموسى بيده، وغرس جنة عدن بيده).
وإذا كان موسى تلقى ألواحا مكتوبة، فلا بد أن تكون الكتابة معلومة له قبل إنزالها، وإلا لما عرفها.
أما المشهور في الأحرف التي نكتب بها الآن، فكما قال السيوطي في المزهر، ونقله عنه صاحب المطالع المصرية ما نصه:
المشهور عند أهل العلم ما رواه ابن الكلبي عن عوانة، قال: أول من كتب بخطنا هذا. وهو الجزم مرامر بن مرة، وأسلم بن سدرة، وعامر بن حدرة. كما في القاموس. وهم من عرب طيء تعلموه من كتاب الوحي لسيدنا هود عليه السلام، ثم علموه أهل الأنبار، ومنهم انتشرت الكتابة في العراق والحيرة وغيرها، فتعلمها بشر بن عبد الملك أخو أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل، وكانت له صحبة بحرب بن أمية فتعلم حرب منه، ثم سافر معه بشر إلى مكة فتزوج الصهباء بنت حرب أخت أبي سفيان. فتعلم منه جماعة من أهل مكة.
فبهذا كثر من يكتب بمكة من قريش قبيل الإسلام.
ولذا قال رجل كندي من أهل دومة الجندل، يمن على قريش بذلك: ولذا قال رجل كندي من أهل دومة الجندل، يمن على قريش بذلك:
* لا تجحدوا نعماء بشر عليكم
* فقد كان ميمون النقيبة أزهرا
*
* أتاكم بخط الجزم حتى حفظتموا
* من المال ما قد كان شتى مبعثرا
*
* وأتقنتموا ما كان بالمال مهملا
* وطأمنتموا ما كان منه مبقرا
*
* فأجريتم الأقلام عودا وبدأة
* وضاهيتم كتاب كسرى وقيصرا
*
* وأغنيتم عن مسند إلى حميرا
* وما زبرت في الصحف أقلام حميرا
*
قال: وكذلك ذكر النووي في شرح مسلم نقل عن الفراء، أنه قال: إنما كتبوا الربا في المصحف بالواو، لأن أهل الحجاز تعلموا الخط من أهل الحيرة، ولغتهم الربوا، فعلموهم صورة الخط على لغتهم. ا ه.
25

تنبيه آخر
* (الذى علم بالقلم) *، لا يمنع تعليمه تعالى بغير القلم، كما في قصة الخضر مع موسى عليه السلام في قوله تعالى: * (فوجدا عبدا من عبادنآ ءاتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما) *.
وكما في حديث (نفث في روعي أنه لن تموت نفس، حتى تستكمل رزقها وأجلها) الحديث.
وكما في حديث الرقية بالفاتحة لمن لدغته العقرب في قصة السرية المعروفة، فلما سأله صلى الله عليه وسلم (وما يدريك أنها رقية؟ قال: شيء نفث في روعي).
وحديث علي لما سئل (هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلم؟ قال: لا، إلا فهما يؤتيه الله من شاء في كتابه. وما في هذه الصحيفة).
وقوله: واتقوا الله ويعلمكم الله. نسأل الله علم ما لم نعلم، والعلم بما نعلم. وبالله التوفيق. * (كلا إن الإنسان ليطغى * أن رءاه استغنى) *. ظاهر هذه الآية أن الاستغناء موجب للطغيان عند الإنسان، ولفظ الإنسان هنا عام، ولكن وجدنا بعض الإنسان يستغني ولا يطغى، فيكون هذا من العام المخصوص، ومخصصه إما من نفس الآية أو من خارج عنها، ففي نفس الآية ما يفيده قوله تعالى: * (أن رءاه) *، أي إن رأي الإنسان نفسه، وقد يكون رأيا واهما ويكون الحقيقة خلاف ذلك، ومع ذلك يطغى، فلا يكون الاستغناء هو سبب الطغيان.
ولذا جاء في السنة: ذم العائل المتكبر، لأنه مع فقره يرى نفسه استغنى، فهو معنى في نفسه لا بسبب غناه.
أما من خارج الآية، فقد دل على هذا المعنى قوله تعالى: * (فأما من طغى * وءاثر الحيواة الدنيا * فإن الجحيم هى المأوى) *، فإيثار الحياة الدنيا هو موجب الطغيان، وكما في قوله: * (الذى جمع مالا وعدده يحسب أن ماله أخلده كلا) *.
26

ومفهومه: أن من لم يؤثر الحياة الدنيا، ولم يحسب أن ماله أخلده، لن يطغيه ماله ولا غناه، كما جاء في قصة النفر الثلاثة الأعمى والأبرص والأقرع من بني إسرائيل.
وقد نص القرآن على أوسع غنى في الدنيا في نبي الله سليمان، آتاه الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، ومع هذا قال: * (إنى أحببت حب الخير عن ذكر ربى حتى توارت بالحجاب ردوها على) *.
وقصة الصحابي الموجودة في الموطأ: لما شغل ببستانه في الصلاة، حين رأى الطائر لا يجد فرجة من الأغصان، ينفذ منه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله: إني فتنت ببستاني في صلاتي، فهو في سبيل الله) فعرفنا أن الغنى وحده ليس موجبا للطغيان، ولكن إذا صحبه إيثار الحياة الدنيا على الآخرة، وقد يكون طغيان النفس من لوازمها لو لم يكن غنى. إن النفس لأمارة بالسوء. وأنه لا يقي منه إلا التهذيب بالدين كما قال تعالى: * (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا فى الا رض ولاكن ينزل بقدر ما يشآء) *.
وقد ذكر عن فرعون تحقيق ذلك حين قال: * (أليس لى ملك مصر وهاذه الا نهار تجرى من تحتى أفلا تبصرون) *، وكذلك قال قارون * (إنمآ أوتيته على علم عندى) *، وقال: ثالث الثلاثة من بني إسرائيل (إنما ورثته كابرا عن كابر بخلاف المسلم) إلى آخره. فلا يزيده غناه إلا تواضعا وشكرا للنعمة، كما قال نبي الله سليمان * (قال هاذا من فضل ربى ليبلونى أءشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربى غنى كريم) *، وقد نص في نفس السورة أنه شكر الله * (فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعنى أن أشكر نعمتك التى أنعمت على وعلى والدى وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلنى برحمتك فى عبادك الصالحين) *.
وفي العموم قوله: * (حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعنى أن أشكر نعمتك التى أنعمت على وعلى والدى وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لى فى ذريتى إنى تبت إليك وإنى من المسلمين) *.
وقد كان في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحاب المال الوفير فلم يزدهم إلا قربا لله، كعثمان بن عفان رضي الله عنه، وعبد الرحمان بن عوف، وأمثالهم، وفي الآية
27

ربط لطيف بأول السورة، إذا كان خلق الإنسان من علق، وهي أحوج ما يكون إلى لطف الله وعنايته ورحمته في رحم أمه، فإذا بها مضغة ثم عظام، ثم تكسى لحما، ثم تنشأ خلقا آخر، ثم يأتي إلى الدنيا طفلا رضيعا لا يملك إلا البكاء، فيجري الله له نهرين من لبن أمه، ثم ينبت له الأسنان، ويفتق له الأمعاء، ثم يشب ويصير غلاما يافعا، فإذا ما ابتلاه ربه بشيء من المال أو العافية، فإذا هو ينسى كل ما تقدم، وينسى حتى ربه ويطغى ويتجاوز جده حتى مع الله خالقه ورازقه، كما رد عليه تعالى بقوله: * (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم م بين وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحى العظام وهى رميم قل يحييها الذى أنشأهآ أول مرة) *.
ومما في الآية من لطف التعبير قوله تعالى: * (أن رءاه استغنى) *، أي أن الطغيان الذي وقع فيه عن وهم، تراءى له، أنه استغنى سواء بماله أو بقوته. لأن حقيقة المال ولو كان جبالا، ليس له منه إلا ما أكل ولبس وأنفق.
وهل يستطيع أن يأكل لقمة واحدة إلا بنعمة العافية، فإذا مرض فماذا ينفعه ماله، وإذا أكلها وهل يستفيد منها إلا بنعمة من الله عليه.
ومن هذه الآية أخذ بعض الناس، أن الغني الشاكر أعظم من الفقير الصابر، لأن الغنى موجب للطغيان.
وقد قال بعض الناس: الصبر على العافية، أشد من الصبر على الحاجة. * (لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة) *. قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب: أسند الكذب إلى الناصية، وفي مواضع أخرى أسنده إلى غير الناصية، كقوله: * (إنما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولائك هم الكاذبون) *.
وذكر الجواب بأنه أطلق الناصية وأراد صاحبها على أسلوب لإطلاق البعض وإيراد الكل، وذكر الشواهد عليه القرآن كقوله تعالى: * (تبت يدآ أبى لهب وتب) *.
والذي ينبغي التنبيه عليه من جهة البلاغة: أن البعض الذي يطلق ويراد به الكل، لا
28

بد في هذا البعض من مزيد مزية للمعنى المساق فيه الكلام.
فمثلا هنا ذم الكذب وأخذ الكاذب بكذبه، فجاء ذكر الناصية وهي مقدم شعر الرأس، لأنها أشد نكارة على صاحبها ونكالا به، إذ الصدق يرفع الرأس والكذب ينكسه ذلة وخزيا.
فكانت هي هنا أنسب من اليد أو غيرها، بينما في أبي لهب تطاول بماله، والغرض مذمة ماله وكسبه الذي تطاول به، واليد هي جارحة الكسب وآلة التصرف في المال، فكانت اليد أولى فيه من الناصية.
وهكذا كما يقولون: بث الأمير عيونه: يريدون جواسيس له، لأن العين من الإنسان أهم ما فيه لمهمته تلك. ولم يقولوا: بث أرجله ولا رؤوسا ولا أيد، لأنها كلها ليست كالعين في ذلك.
ومن هذا القبيل * (قلوب يومئذ واجفة) *، * (ياأيتها النفس المطمئنة) *.
لأن القلب هو مصدر الخوف والنفس هي محط الطمأنينة، على أن النفس جزء من الإنسان، وهكذا، ومنه الآتي * (واسجد واقترب) *، أطلق السجود وأراد الصلاة، لأن السجود أخص صفاتها. * (واسجد واقترب) *. ربط بين السجود والاقتراب من الله كما قال: * (ومن اليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا) * وقوله: في وصف أصحابه رضي الله عنهم: * (تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا) *، فقوله: * (يبتغون فضلا من الله ورضوانا) *، في معنى يتقربون إليه يبين قوله: * (واسجد واقترب) *.
وهذا مما يدل لأول وهلة أن الصلاة أعظم قربة إلى الله، حيث وجه إليها الرسول صلى الله عليه وسلم من أول الأمر، كما بين تعالى في قوله: * (واستعينوا بالصبر والصلواة) *.
وقال صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد).
29

((سورة القدر))
* (إنا أنزلناه فى ليلة القدر * ومآ أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر * تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر * سلام هى حتى مطلع الفجر) * * (إنا أنزلناه فى ليلة القدر) *. الضمير في أنزلناه للقرآن قطعا.
وحكى الألوسي عليه الإجماع، وقال: ما يفيد أن هناك قولا ضعيفا لا يعتبر من أنه لجبريل.
وما قاله عن الضعف لهذا القول، يشهد له السياق، وهو قوله تعالى: * (تنزل الملائكة والروح فيها) *.
والمشهور: أن الروح هنا هو جبريل عليه السلام، فيكون الضمير في أنزلنا لغيره، وجئ بضمير الغيبة، تعظيما لشأن القرآن، وإشعارا بعلو قدره.
وقد يقال: ذكر سورة القدر قبلها مشعرة به في قوله: * (اقرأ باسم ربك) *، ثم جاءت * (إنا أنزلناه) *، أي القرآن المقروء، والضمير المتصل في إنا، ونا في إنا أنزلناه مستعمل للجمع وللتعظيم، ومثلها نحن، وقد اجتمعا في قوله تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر) *، والمراد بهما هنا التعظيم قطعا لاستحالة التعدد أو إرادة معنى الجمع.
فقد صرح في موضع آخر باللفظ الصريح في قوله تعالى: * (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني) *، والمراد به القرآن قطعا، فدل على أن المراد بتلك الضمائر تعظيم الله تعالى.
وقد يشعر بذلك المعنى وبالاختصاص تقديم الضمير المتصل إنا، وهذا المقام مقام تعظيم واختصاص لله تعالى سبحانه، ومثله * (إنآ أعطيناك الكوثر) *، وقوله: * (إنآ أرسلنا نوحا) *، * (إنا نحن نحى ونميت) *، وإنزال القرآن منة عظمى.
30

وقد دل على تعظيم المنة وتعظيم الله سبحانه في قوله: * (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا ءاياته) *، فقال: كتاب أنزلناه بضمير التعظيم، ثم قال في وصف الكتاب: مبارك.
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه التنصيص على أنه للتعظيم عند الكلام على آية ص هذه * (كتاب أنزلناه إليك مبارك) *.
والواقع أنه جاءت الضمائر بالنسبة إلى الله تعالى بصيغ الجمع للتعظيم وبصيغ الإفراد، فمن صيغ الجمع ما تقدم، ومن صيغ الإفراد قوله: * (إني جاعل فى الأرض خليفة) *، وقوله: * (إنى خالق بشرا من طين) *، وقوله: * (إني أعلم ما لا تعلمون) *.
ويلاحظ في صيغ الإفراد: أنها في مواضع التعظيم والإجلال، كالأول في مقام خلق البشر من طين، ولا يقدر عليه إلا الله.
والثاني: في مقام أنه يعلم ما لا تعلمه الملائكة، وهذا لا يكون إلا لله سبحانه، فسواء جيء بضمير بصيغة الجمع أو الإفراد، ففيها كلها تعظيم لله سبحانه وتعالى سواء بنصها، وأصل الوضع أو بالقرينة في السياق. والثاني: في مقام أنه يعلم ما لا تعلمه الملائكة، وهذا لا يكون إلا لله سبحانه، فسواء جيء بضمير بصيغة الجمع أو الإفراد، ففيها كلها تعظيم لله سبحانه وتعالى سواء بنصها، وأصل الوضع أو بالقرينة في السياق.
* ثم اختلف في المنزل ليلة القدر،
* هل هو الكل أو البعض؟
*
فقيل: وهو رأي الجمهور أنه أوائل تلك السورة فقط أي بداية الوحي بالقرآن، وهو مروي عن ابن عباس، قال: (ثم تتالى نزول الوحي، بعد ذلك وكان بين أوله وآخره عشرون سنة).
وقيل: المنزل في تلك الليلة، هو جميع القرآن جملة واحدة، وكله إلى سماء الدنيا، ثم صار ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم منجما حسب الوقائع.
وهذا الأخير هو رأي الجمهور كما قدمنا، وقد اختاره الشيخ رحمه الله تعالى علينا وعليه عند الكلام على قوله تعالى: * (شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن) *، وحكاه الألوسي وحكى عليه الإجماع.
وعن ابن حجر في فتح الباري، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قول يجمع فيه بين القولين الأخيرين،
31

وهو أنه لا منافاة بين القولين، ويمكن الجمع بينهما، بأن يكون نزل جملة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، وبدء نزول أوله * (اقرأ باسم ربك) *، في ليلة القدر.
وقد أثير حول هذه المسألة جدال ونقاش كلامي حول كيفية نزول القرآن، وأدخلوا فيها القول بخلق القرآن، وأن جبريل نقله من اللوح المحفوظ، وأن الله لم يتكلم به، عند نزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد سئل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله عن ذلك، وكتب جوابه وطبع، فكان كافيا. وقد نقل فيه كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وبين أن الله تعالى تكلم به عند وحيه، ورد على كل شبهة في ذلك.
والواقع أنه لا تعارض كما تقدم، بين كونه في اللوح المحفوظ ونزوله إلى السماء الدنيا جملة، ونزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم منجما، لأن كونه في اللوح المحفوظ، فإن اللوح فيه كل ما هو كائن وما سيكون إلى يوم القيامة، ومن جملة ذلك القرآن الذي سينزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم.
ونزوله جملة إلى سماء الدنيا، فهو بمثابة نقل جزء مما في اللوح وهو جملة القرآن، فأصبح القرآن موجودا في كل من اللوح المحفوظ كغيره مما هو فيه، وموجودا في سماء الدنيا ثم ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم منجما.
ومعلوم أنه الآن هو أيضا موجود في اللوح المحفوظ، لم يخل منه اللوح، وقد يستدل لإنزاله جملة ثم تنزيله منجما بقوله: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) *، لأن نزل بالتضعيف تدل على التكرار كقوله: * (تنزل الملائكة) *، أي في كل ليلة قدر.
وقد جاء * (أنزلناه) *، فتدل على الجملة.
وقد بينت السنة تفصيل تنزيله مفرقا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله: كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك، حتى إذا فزع عن قلوبهم. قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، وهو العلي الكبير) الحديث في صحيح البخاري.
32

وفي أبي داود وغيره (إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كجر السلسلة على الصفوان).
وعلى هذا يكون القرآن موجودا في اللوح المحفوظ حينما جرى القلم بما هو كائن وما سيكون، ثم جرى نقله إلى سماء الدنيا جملة في ليلة القدر، ثم نزل منجما في عشرين سنة. وكلما أراد الله إنزال شيء منه تكلم سبحانه بما أراد أن ينزله، فيسمعه جبريل عليه السلام عن الله تعالى. ولا منافاة بين تلك الحالات الثلاث. والله تعالى أعلم.
وقد قدمنا الكلام على صور كيفية نزول الوحي وتلقى الرسول صلى الله عليه وسلم للوحي.
وقيل: معنى * (أنزلناه فى ليلة القدر) *، أي أنزلنا القرآن في شأن ليلة القدر تعظيما لها، فلم تكن ظرفا على هذا الوجه.
والواقع: أن هذا القول وإن كان من حيث الأسلوب ممكنا إلا أن ما بعده يغني عنه، لأن إعظام ليلة القدر وبيان منزلتها قد نزل فيها قرآن فعلا، وهو ما بعدها مباشرة في قوله: * (ومآ أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر) *، إلى آخر السورة.
وعليه، فيكون أول السورة في شأن إنزال القرآن وبيان ظرف إنزاله، وآخر السورة في ليلة القدر وبيان منزلتها.
وقد ذكرت ليلة القدر مبهمة، ولكن جاء في القرآن ما بين الشهر التي هي فيه، وهو شهر رمضان لقوله تعالى: * (شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن) *.
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الدخان بيان ذلك، وأنها الليلة التي فيها يبرم كل أمر حكيم، وليست ليلة النصف من شعبان كما يزعم بعض الناس.
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيان الحكمة من إنزاله مفرقا عند قوله تعالى: * (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا ءاياته وليتذكر أولو الا لباب) *. * (ليلة القدر خير من ألف شهر) *. القدر: الرفعة، والقدر: بمعنى المقدار.
33

قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في مذكرة الإملاء ووجه تسميتها ليلة القدر فيه وجهان:
أحدهما: أن معنى القدر الشرف والرفعة، كما تقول العرب: فلان ذو قدر، أي رفعة وشرف.
الوجه الثاني: أنها سميت ليلة القدر، لأن الله تعالى يقدر فيها وقائع السنة، ويدل لهذا التفسير الأخير قوله تعالى: * (إنآ أنزلناه فى ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنآ) *.
وهذا المعنى قد ذكره رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الدخان من الأضواء.
والواقع أن في السورة ما يدل للوجه الأول وهو القدر والرفعة، وهو قوله: * (ومآ أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر) *.
فالتساؤل بهذا الأسلوب للتعظيم كقوله: * (القارعة * ما القارعة * ومآ أدراك ما القارعة) *، وقوله: * (خير من ألف شهر) *، فيه النص صراحة على علو قدرها ورفعتها، إذ أنها تعدل في الزمن فوق ثلاث وثمانين سنة، أي فوق متوسط أعمار هذه الأمة.
وأيضا كونها اختصت بإنزال القرآن فيها، وبتنزل الملائكة والروح فيها، وبكونها سلاما هي حتى مطلع الفجر، لفيه الكفاية بما لم تختص وتشاركها فيه ليلة من ليالي السنة.
وعليه: فلا مانع من أن تكون سميت بليلة القدر، لكونها محلا لتقدير الأمور في كل سنة، وأنها بهذا وبغيره علا قدرها وعظم شأنها، والله تعالى أعلم، تذكير بنعمة كبرى.
إذا كانت أعمال العبد تتضاعف في تلك الليلة، حتى تكون خيرا من ألف شهر، كما في هذا النص الكريم. فإذا صادفها العبد في المسجد النبوي يصلي، وصلاة فيه بألف صلاة، فكم تكون النعمة وعظم المنة، من المنعم المتفضل سبحانه، إنه لمما يعلي الهمة ويعظم الرغبة.
وقد اقتصرت على ذكر المسجد النبوي دون المسجد الحرام، مع زيادة المضاعفة
34

فيه، لأن بعض المفسرين قال بمضاعفة السيئة فيها.
كذلك أي أن المعصية في ليلة القدر كالمعصية في ألف شهر، والمسجد الحرام يحاسب فيه العبد على مجرد الإرادة، فيكون الخطر أعظم، وفي المدينة أسلم.
ولعل ما يؤيد ذلك أن ليالي القدر كلها، كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وقد أثبتها أهل السنة كافة، وادعت الشيعة نسخها ورفعها كلية، وهذا لا يلتفت إليه لصحة النصوص وشبه المتواترة.
تنبيه
لم يأت تحديد لتلك الليلة من أي رمضان تكون، وقد أكثر العلماء في ذلك القول وإيراد النصوص.
فالأقوال منها على أعم ما يكون، من أنها من عموم السنة، وهذا لم يأت بجديد، وهو عن ابن مسعود وإنما أراد الاجتهاد.
ومنها: أنها في عموم رمضان، وهذا حسب عموم نص القرآن.
ومنها: أنها في العشر الأواخر منه، وهذا أخص من الذي قبله.
ومنها: أنها في الوتر من العشر الأواخر، وهذا أخص من الذي قبله.
ومنها: أنها في آحاد الوتر من العشر الأواخر.
فقيل: في إحدى وعشرين.
وقيل: ثلاث وعشرين.
وقيل: خمس وعشرين.
وقيل: سبع وعشرين.
وقيل: تسع وعشرين.
وقيل: آخر ليلة من رمضان على التعيين، وفي كل من ذلك نصوص.
ولكن أشهرها وأكثرها وأصحها، ما جاء أنها في سبع وعشرين، وإحدى
35

وعشرين، ولا حاجة إلى سرد النصوص الواردة في كل ذلك، فلم يبق كتاب من كتب التفسير إلا ذكرها، ولا سيما ابن كثير والقرطبي.
تنبيه
إذا كانت كل النصوص التي وردت في الوتر من العشر الأواخر صحيحة، فإنه لا يبعد أن تكون ليلة القدر دائرة بينها، وليست بلازمة في ليلة منها ولا تخرج عنها، فقد تكون في سنة هي ليلة إحدى وعشرين، بينما في سنة أخرى ليلة خمس أو سبع وعشرين، وفي أخرى ليلة ثلاث أو تسع وعشرين، وهكذا. والله تعالى أعلم.
وقد حكى هذا الوجه ابن كثير عن مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وقال: وهو الأشبه، والله تعالى أعلم.
وقد قيل: إنه صلى الله عليه وسلم قد أنسيها، لتجتهد الأمة في الشهر كله أو في العشر كلها، ومما يؤكد أنها في العشر الأواخر اعتكافه صلى الله عليه وسلم، التماسا لليلة القدر.
وقد جاء في فضلها ما استفاضت به كتب الحديث والتفسير، ويكفي فيها نص القرآن الكريم.
وفي هذه الليلة مباحث عديدة يطول تتبعها، منها ما يذكر من أماراتها.
ومنها: محاولة البعض استخراجها من القرآن.
ومنها: علاقتها بحكم بني أمية، وليس على شيء من ذلك نص يمكن التعويل عليه، لذا لا حاجة إلى إيراده، اللهم إلا ما جاء في بعض أمارات نهارها صبيحتها، حيث
جاء التنويه عن شيء منه في الحديث (ورأيتني أسجد صبيحتها في ماء وطين).
فذكروا من علامات يومها أن تطلع الشمس بيضاء، وقالوا: لأن أنوار الملائكة عند صعودها، تتلاقى مع أشعة الشمس فتحدث فيها بياض الضوء، وهذا مروي عن أبي في صحيح مسلم.
ومنها: اعتدال هوائها وجوها ونحو ذلك، ومما يمكن أن يكون له صلة بالسورة ذاتها، ما حكاه ابن كثير أن بعض السلف، أراد استخراجها من كتاب الله في نفس السورة، فقال: إن كلمة هي في قوله: * (سلام هى) *، تقع السابعة
36

والعشرين من عد كلماتها، فتكون ليلة سبع وعشرين.
وقيل أيضا: إن حروف كلمة ليلة القدر تسعة أحرف، وقد تكررت ثلاث مرات، فيكون مجموعها سبعة وعشرين حرفا، فتكون ليلة سبع وعشرين.
ولعل أصوب ما يقال: هو ما قدمنا من أنها تتصل في ليالي الوتر من العشر الأواخر، ولا تخرج عنها. والله تعالى أعلم. * (تنزل الملائكة والروح فيها) *. قيل: الروح هو جبريل، كما في قوله: * (فنفخنا فيها من روحنا) *، ويكون فيها أي في جماعة الملائكة، أو معطوف على الملائكة من عطف الخاص على العام.
وقيل: إن الروح نوع من الملائكة مستقل، ويكون فيها ظرف للنزول أي في تلك الليلة. * (من كل أمر) *. الأمر يكون واحد الأمور وواحد الأوامر، والذي يظهر أنه شامل لهما معا، لأن الأمر من الأمور لا يكون إلا بأمر من الأوامر * (إنمآ أمره إذآ أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) *.
ويشهد له ما جاء في شأنها في سورة الدخان * (فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنآ) *.
والذي يفرق من الأمر، هو أحد الأمور. حيث يفصل بين الخير والشر والضر والنفع إلى آخره، ثم قال: * (أمرا من عندنآ) *، كما أشار إليه السياق * (لا إلاه إلا هو يحى ويميت) *، فكل أمر من الأمور يقتضي أمرا من الأوامر، وهذا يمكن أن يكون من الألفاظ المشتركة المستعملة في معنييها، والله تعالى أعلم.
37

* (سلام هى حتى مطلع الفجر) *. قيل: سلام، هي أي أن الملائكة تسلم على كل مؤمن لقيته.
وقيل: سلام، هي أي كل أمر فيها فهو سلام، ولا يصاب أحد فيها بسوء، وعلى كل فلا تعارض بين القولين، فالأول جزء من الثاني، لأن الثاني يجعلها ظرفا لكل خير، وينفي عنها كل شر، ومن الخير العظيم، سلام الملائكة على المؤمنين.
لطيفة
كون إنزال القرآن هنا في الليل دون النهار، مشعر بفضل اختصاص الليل.
وقد أشار القرآن والسنة إلى نظائره، فمن القرآن قوله تعالى: * (سبحان الذى أسرى بعبده ليلا) *، ومنه قوله: * (ومن اليل فتهجد به نافلة لك) *، * (ومن اليل فسبحه وأدبار السجود) *، * (إن ناشئة اليل هى أشد وطأ وأقوم قيلا) *. وقوله: * (كانوا قليلا من اليل ما يهجعون) *.
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان ثلث الليل الآخر، ينزل ربنا إلى سماء الدنيا) الحديث.
وهذا يدل على أن الليل أخص بالنفحات الإلهية، وبتجليات الرب سبحانه لعباده، وذلك لخلو القلب وانقطاع الشواغل وسكون الليل، ورهبته أقوى على استحضار القلب وصفائه.
38

((سورة البينة))
* (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة * رسول من الله يتلو صحفا مطهرة * فيها كتب قيمة * وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جآءتهم البينة * ومآ أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفآء ويقيموا الصلواة ويؤتوا الزكواة وذلك دين القيمة * إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين فى نار جهنم خالدين فيهآ أولائك هم شر البرية * إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات أولائك هم خير البرية * جزآؤهم عند ربهم جنات عدن تجرى من تحتها الا نهار خالدين فيهآ أبدا رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشى ربه) *
الألوسي: وتسمى سورة القيامة، وسورة البلد، وسورة المنفكين، وسورة البرية، وسورة لم يكن.
بسم الله الرحمن الرحيم * (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة * رسول من الله يتلو صحفا مطهرة * فيها كتب قيمة * وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جآءتهم البينة) *. ذكر هنا الذين كفروا، ثم جاءت من، وجاء بعدها أهل الكتاب والمشركين، مما يشعر بأن وصف الكفر يشمل كلا من أهل الكتاب والمشركين، كما يشعر مرة أخرى أن المشركين ليسوا من أهل الكتاب لوجود العطف، وأن أهل الكتاب ليسوا من المشركين.
وهذا المبحث معروف عند المتكلمين وعلماء التفسير، واتفقوا على: أن أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وأن المشركين هم عبدة الأوثان، والكفر يجمع القسمين.
وأهل الكتاب مختص باليهود والنصارى، ولكن الخلاف هل الشرك يجمعهما أيضا أم لا؟
فبين الفريقين عموم وخصوص، عموم في الكفر وخصوص في أهل الكتاب لليهود والنصارى، وخصوص في المشركين لعبدة الأوثان.
ولكن جاءت آيات تدل على أن مسمى الشرك يشمل أهل الكتاب أيضا، كما في قوله تعالى: * (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذالك قولهم
39

بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون * اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم ومآ أمروا إلا ليعبدوا إلاها واحدا لا إلاه إلا هو سبحانه عما يشركون) *.
فجعل مقالة كل من اليهود والنصارى إشراكا.
وجاء عن عبد الله بن عمر منع نكاح الكتابية وقال: (وهل كبر إشراكا من قولها: * (اتخذ الله ولدا) *، فهو وإن كان مخالفا للجمهور في منع الزواج من الكتابيات، إلا أنه اعتبرهن مشركات.
ولهذا الخلاف والاحتمال وقع النزاع في مسمى الشرك، هل يشمل أهل الكتاب أم لا؟ مع أننا وجدنا فرقا في الشرع في معاملة أهل الكتاب ومعاملة المشركين، فأحل ذبائح أهل الكتاب ولم يحلها من المشركين، وأحل نكاح الكتابيات ولم يحله من المشركات، كما قال تعالى: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) *.
وقوله: * (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) *.
وقال: * (لا هن حل لهم ولا هم يحلون) *، بين ما في حق الكتابيات قال: * (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذآ ءاتيتموهن أجورهن) *، فكان بينهما مغايرة في الحكم.
وقد جمع والدنا الشيخ محمد الأمين رحمه الله تعالى علينا وعليه بين تلك النصوص في دفع إيهام الاضطراب عند قوله تعالى: * (وقالت اليهود عزير ابن الله) *، المتقدم. ذكرها جمعا مفصلا مفاده أن الشرك الأكبر المخرج من الملة أنواع، وأهل الكتاب متصفون ببعض دون بعض، إلى آخر ما أورده رحمه الله تعالى علينا وعليه.
ولعل في نفس آية * (وقالت اليهود عزير ابن الله) *، فيها إشارة إلى ما ذكره رحمة الله تعالى علينا وعليه من وجهين:
الأول: قوله تعالى: * (يضاهئون قول الذين كفروا) * أي يشابهونهم في مقالتهم، وهذا القدر اتصف به المشركون من أنواع الشرك.
الثاني: تذييل الآية بصيغة المضارع عما يشركون بين ما وصف عبدة الأوثان في سورة البينة بالاسم والمشركين.
40

ومعلوم أن صيغة الفعل تدل على التجدد والحدوث، وصيغة الاسم تدل على الدوام والثبوت، فمشركو مكة وغيرهم دائمون على الإشراك وعبادة الأصنام، وأهل الكتاب يقع منهم حينا وحينا.
وقد أخذ بعض العلماء: أن الكفر ملة واحدة، فورث الجميع من بعض، ومنع الآخرون على أساس المغايرة والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
بقي المجوس وجاءت السنة أنهم يعاملون معاملة أهل الكتاب لحديث: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب).
وقوله تعالى: * (منفكين حتى تأتيهم البينة) *، اختلف في منفكين اختلافا كثيرا عند جميع المفسرين، حتى قال الفخر الرازي عند أول هذه السورة ما نصه: قال الواحدي في كتاب البسيط: هذه الآية من أصعب ما في القرآن العظيم نظما وتفسيرا، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء.
ثم إنه رحمه الله لم يلخص كيفية الإشكال فيها.
وأنا أقول وجه الإشكال: أن تقدير الآية: * (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة) *، التي هي الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم إنه لم يذكر أنهم منفكون عماذا لكنه معلوم، إذ المراد هو الكفر الذي كانوا عليه.
فصار التقدير: لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة، التي هي الرسول، ثم قال بعد ذلك * (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جآءتهم البينة) *، وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول عليه السلام، فحينئذ يحصل بين الآية الأولى والآية الثانية تناقض في الظاهر، هذا منتهى الإشكال فيما أظن. ا ه. حرفيا.
وقد سقت كلامه لبيان مدى الإشكال في الآيتين، وهو مبني على أن منفكين بمعنى تاركين: وعليه جميع المفسرين.
والذي جاء عن الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه: أن منفكين أي
41

مرتدعين عن الكفر والضلال، حتى تأتيهم البينة، أي أتتهم.
ولكن في منفكين، وجه يرفع هذا الإشكال، وهو أن تكون منفكين بمعنى متروكين لا بمعنى تاركين، أي لم يكونوا جميعا متروكين على ما هم عليه من الكفر والشرك حتى تأتيهم البينة على معنى قوله تعالى: * (أيحسب الإنسان أن يترك سدى) *، وقوله: * (ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون) *، أي لن يتركوا وقريب منه قوله تعالى: * (قالوا ياهود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركى ءالهتنا عن قولك) *.
وقد حكى أبو حيان قولا عن ابن عطية قوله، ويتجه في معنى الآية قول ثالث بارع المعنى، وذلك أن يكون المراد: لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله تعالى وقدرته ونظره لهم، حتى يبعث الله تعالى إليهم رسولا منذرا، تقوم عليهم به الحجة، ويتم على من آمن النعمة، فكأنه قال: ما كانوا ليتركوا سدى، ولهذا نظائر في كتاب الله تعالى ا ه.
فقول ابن عطية يتفق مع ما ذكرناه، ويزيل الإشكال الكبير عن المفسرين، كما أسلفنا.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قول في ذلك نسوقه لشموله، وهو ضمن كلامه على هذه السورة في المجموع مجلد 61 ص 594 قال:
وفي معنى قوله تعالى: لم يكن هؤلاء وهؤلاء منفكين. ثلاثة أقوال ذكرها غير واحد من المفسرين.
هل المراد: لم يكونوا منفكين عن الكفر؟
أو هل لم يكونوا مكذبين بمحمد حتى بعث، فلم يكونوا منفكين من محمد والتصديق بنبوته حتى بعث.
أو المراد: أنهم لم يكونوا متروكين حتى يرسل إليهم رسول.
وناقش تلك الأقوال وردها كلها ثم قال: فقوله: * (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين) *، أي لم يكونوا متروكين باختيار أنفسهم يفعلون ما يهوونه
42

لا حجر عليهم، كما أن المنفك لا حجر عليه، وهو لم يقل مفكوكين، بل قال: منفكين، وهذا أحسن، إلى أن قال: والمقصود أنهم لم يكونوا متروكين لا يؤمرون ولا ينهون ولا ترسل إليهم رسل.
والمعنى: أن الله لا يخليهم ولا يتركهم، فهو لا يفكهم حتى يبعث إليهم رسولا، وهذا كقوله: * (أيحسب الإنسان أن يترك سدى) *، لا يؤمر، ولا ينهى، أي: أيظن أن هذا يكون؟ هذا ما لا يكون البتة، بل لا بد أن يؤمر وينهى.
وقريب من ذلك قوله تعالى: * (إنا جعلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون * وإنه فى أم الكتاب لدينا لعلى حكيم * أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين) *. وهذا استفهام إنكار أي لأجل إسرافكم نترك إنزال الذكر، ونعرض عن إرسال الرسل.
تبين من ذلك كله أن الأصح في (منفكين) معنى (متروكين) وبه يزول الإشكال الذي أورده الفخر الرازي، ويستقيم السياق، ويتضح المعنى، وبالله تعالى التوفيق * (حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة) *. أجمل البينة ثم فصلها فيما بعدها * (رسول من الله يتلو صحفا) *.
وفي هذا قيل: إن البينة هي نفس الرسول في شخصه، لما كانوا يعرفونه قبل مجيئه، كما في قوله: * (ومبشرا برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد) *، وقوله: * (يعرفونه كما يعرفون أبنآءهم) *.
فكأن وجوده صلى الله عليه وسلم بذاته بينة لهم.
ولذا جاء في الآثار الصحيحة أنهم عرفوا يوم مولده بظهور نجم نبي الختان إلى آخر أخباره صلى الله عليه وسلم، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا، وكذلك المشركون كانوا يعرفونه عن طريق أهل الكتاب، وبما كان متصفا به صلى الله عليه وسلم، ومن جميل الصفات كما قالت له خديجة عند بدء الوحي له وفزعه منه: (كلا والله لن يخزيك الله، والله إنك لتحمل الكل وتعين على نوائب الدهر) إلى آخره.
وقول عمه أبي طالب: (والله ما رأيته لعب مع الصبيان ولا علمت عليه كذبة) إلخ. وقد لقبوه بالأمين.
43

وحادثة شق الصدر في رضاعه، بل وقيل ذلك في قصة أبيه عبد الله، لما تعرضت له المرأة تريده لنفسها، فأبى. ولما تزوج ودخل بآمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم لقيها بعد ذلك، فقالت له: لا حاجة لي بك، فقال: وكيف كنت تتعرضين لي؟ فقالت: رأيت نورا في وجهك، فأحببت أن يكون لي، فلما تزوجت وضعته في آمنة ولم أره فيك الآن، فلا حاجة لي فيك.
فكلها دلائل على أنه صلى الله عليه وسلم كان في شخصه بينة لهم، ثم أكرمه الله بالرسالة، فكان رسولا يتلو صحفا مطهرة، من الأباطيل والزيغ وما لا يليق بالقرآن.
ومما استدل به لذلك قوله تعالى عنه: * (وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا) * فعليه يكون رسول من الله بدل من البينة مرفوع على البدلية، أو أن البينة ما يأتيهم به الرسول مما يتلوه عليهم من الصحف المطهرة فيها كتب قيمة.
فالتشريع الذي فيها والإخبار الذي أعلنه تكون البينة. وعلى كل، فإن البينة تصدق على الجميع، كما تصدق على المجموع، ولا ينفك أحدهما عن الآخر، فلا رسول إلا برسالة تتلى، ولا رسالة تتلى إلا برسول يتلوها.
وقد عرف لفظ البينة، للإشارة إلى وجود علم عنها مسبق عليها.
فكأنه قيل: حتى تأتيهم البينة الموصوفة لهم في كتبهم، ويشير إليها ما قدمنا في أخبار عيسى عليه السلام عنه، وآخر سورة الفتح * (ذلك مثلهم فى التوراة ومثلهم فى الإنجيل كزرع أخرج شطأه) *. قوله تعالى: * (فيها كتب) *. جمع كتاب، وقال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه: كتب: بمعنى مكتوبات.
وقال ابن جرير: في الصحف المطهرة كتب من الله قيمة. يذكر القرآن بأحسن الذكر، ويثني عليه بأحسن الثناء.
وحكاه ابن كثير واقتصر عليه.
وقال القرطبي: إن الكتب بمعنى الأحكام، مستدلا بمثل قوله تعالى: * (كتب عليكم الصيام) * وقوله: * (كتب الله لاغلبن أنا ورسلى) *.
44

وقيل: الكتب القيمة: هي القرآن، فجعله كتبا، لأنه يشتمل على أبواب من البيان.
وذكر الفخر الرازي: أنه يحتمل في كتب أي الآيات المكتوبة في المصحف، وهو قريب من قول الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه.
وقال الشوكاني: المراد: الآيات والأحكام المكتوبة فيها، وهذه المعاني وإن كانت صحيحة، إلا أن ظاهر اللفظ أدل على تضمن معنى كتب منه على معنى كتابة أحكام.
والذي يظهر أن مدلول كتب على ظاهرها، وهو تضمن تلك الصحف المطهرة لكتب سابقة قيمة، كما ينص عليه قوله تعالى: * (بل تؤثرون الحيواة الدنيا * والا خرة خير وأبقى) *، ثم قال: * (إن هاذا لفى الصحف الا ولى * صحف إبراهيم وموسى) *، وكقوله في عموم الكتب الأولى: * (قالوا ياقومنآ إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه) *، وقوله: * (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل) *.
ولذا قال: * (والذين ءاتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق) *، أي بما فيه من كتبهم القيمة المتقدم إنزالها، كما في قوله: * (ولقد أنزلنآ إليكم ءايات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم) *.
وقوله: * (إن هاذا القرءان يقص على بنى إسراءيل أكثر الذى هم فيه يختلفون) *.
وقال: * (وهاذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذى بين يديه) *، ونحو ذلك من الآيات، مما يدل على أن آي القرآن متضمنة كتبا قيمة مما أنزلت من قبل، وقد جاء عمليا في آية الرحمان وقوله: * (وكتبنا عليهم فيهآ) * أي في التوراة * (أن النفس بالنفس والعين بالعين) *، فهذه من الكتب القيمة التي تضمنها القرآن الكريم، كما قال: * (ولكم في القصاص حيواة) *.
ولعل هذا بين وجه المعنى فيما رواه المفسرون عن الإمام أحمد، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب (أمرت أن أقرأ عليك سورة البينة، فقال: أو ذكرت، ثم).
45

وبكى رضي الله عنه، لأن فيها زيادة طمأنينة له على إيمانه بأنه آمن بكتاب تضمن الكتب القيمة المتقدمة، والتي يعرفها عبد الله بن سلام أن الرجم في التوراة لما غطاها الآتي بها، كما هو معروف في القصة. والعلم عند الله تعالى. * (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جآءتهم البينة) *. يلاحظ أن السورة في أولها عن الكفار عموما من أهل الكتاب والمشركين معا، وهنا الحديث عن أهل الكتاب فقط، وذلك مما يخصهم في هذا المقام دون المشركين، وهو أنهم لأنهم أهل كتاب، وعندهم علم به صلى الله عليه وسلم، وبما سيأتي به، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.
وكقوله صراحة: * (وما تفرقوا إلا من بعد ما جآءهم العلم بغيا بينهم) *، فلمعرفتهم به قبل مجيئه، واختلافهم فيه بعد مجيئه، وخصهم هنا بالذكر في قوله: * (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جآءتهم البينة) *.
تنبيه
مما يدل على ما ذكرنا من معنى كتب قيمة، أمران من كتاب الله.
الأول منهما: اختصاص أهل الكتاب هنا بعدم عموم الحديث من الذين كفروا، وما قدمنا من نصوص.
الثاني: أن القرآن لما ذكر الرسول يتلو على المشركين قال: * (هو الذى بعث فى الأميين رسولا منهم يتلو عليهم ءاياته) *، فهذا نفس الأسلوب، ولكن قال: آياته، لأنهم لم يكن لهم علم بالكتب الأخرى، فاقتصر على الآيات. * (ومآ أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفآء) *. وهذا لا يستوجب التفرق في أمره صلى الله عليه وسلم.
ولكن هنا لم يبين موضع الأمر عليهم بعبادة الله مخلصين له الدين، هل هو في كتبهم السابقة، أم في هذا القرآن الذي يتلى عليهم في صحف مطهرة؟
وقد بين القرآن العظيم أن هذا الأمر موجود في كل من كتبهم والقرآن الكريم،
46

فما في كتبهم قوله تعالى: * (ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا أن اعبدوا الله) *.
وقوله: * (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينآ إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا) *.
فإقامة الدين وعدم التفرقة فيه، هو عين عبادة الله مخلصين له الدين.
ومما في القرآن قوله تعالى: * (يابنى إسراءيل اذكروا نعمتي التى أنعمت عليكم وأوفوا بعهدى أوف بعهدكم وإياى فارهبون * وءامنوا بمآ أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياى فاتقون * ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون * وأقيموا الصلواة وآتوا الزكواة واركعوا مع الراكعين) *.
فقد نص على كامل المسألة هنا، أن الكتب القيمة المنصوص عليها في الصحف المطهرة هي كتب أهل الكتاب، لقوله تعالى: * (وءامنوا بمآ أنزلت مصدقا لما معكم) *، وأنهم أمروا في هذا القرآن بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة مع التعليمات المذكورة نفسها، وإقام الصلاة لا يكون إلا عبادة الله بإخلاص.
وهذه الأوامر سواء كانت في كتبهم أو في القرآن لا تقتضي التفرق، بل تستوجب الاجتماع والوحدة. * (وذلك دين القيمة) *. القيمة: فيعلة من القوامة، وهي غاية الاستقامة.
وقد جاء بعد قوله: * (فيها كتب قيمة) *، أي مستقيمة بتعاليمها.
وقد نص تعالى على أن القرآن أقومها وأعدلها كما في قوله: * (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) *، وقال تعالى: * (الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما) *، فنفى عنه العوج، وأثبت له الاستقامة.
وهذا غاية في القوامة كما قدمنا من قبل، من أن المستقيم قد يكون فيه انحناء كالطريق المعبد المستقيم عن المرتفعات والمنخفضات، لكنه ينحرف تارة يمينا وشمالا
47

مع استقامته، فهو مع الاستقامة لم يخل من العوج.
ولكن ما ينتفي عنه العوج وتثبت له الاستقامة، هو الطريق الذي يمتد في اتجاه واحد بدون أي اعوجاج إلى أي الجانبين، مع استقامته في سطحه.
وهكذا هو القرآن، فهو الصراط المستقيم، ولذا قال تعالى: * (وذلك دين القيمة) * الملة القيمة، قيمة في ذاتها، وقيمة على غيرها: ومهيمنة عليه، وكقوله: * (
ذالك الدين القيم) *، وقوله: * (قل إننى هدانى ربى إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين * قل إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين * لا شريك له وبذالك أمرت وأنا أول المسلمين) *.
تنبيه
إن في هذه الآية ردا صريحا على أولئك الذين ينادون بدون علم إلى دعوة لا تخلو من تشكيك، حيث لم تسلم من لبس، وهي دعوة وحدة الأديان، ومحل اللبس فيها أن هذا القول منه حق، ومنه باطل.
أما الحق فهو وحدة الأصول، كما قال تعالى: * (ومآ أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفآء ويقيموا الصلواة ويؤتوا الزكواة) *، وأما الباطل فهو الإبهام، بأن هذا ينجر على الفروع مع الجزم عند الجميع، بأن فروع كل دين قد لا تتفق كلها مع فروع الدين الآخر، فلم تتحد الصلاة في جميع الأديان ولا الصيام، ونحو ذلك.
وقد أجمع المسلمون على أن العبرة بما في القرآن من تفصيل للفروع والسنة، تكمل تفصيل ما أجمل.
وهنا النص الصريح بأن ذلك الذي جاء به القرآن هو دين القيمة، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم، وهي أفعل تفضيل، فلا يمكن أن يعادل ويساوي مع غيره أبدا مع نصوص القرآن، بأن الله أخذ العهد على جميع الأنبياء لئن أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم ليؤمنن به، ولينصرنه وليتبعنه، وأخذ عليهم العهد بذلك. وقد أخبر الرسل أممهم بذلك. فلم يبق مجال في هذا الوقت ولا غيره لدعوة الجاهلية بعنوان مجوف وحدة الأديان، بل الدين الإسلامي وحده * (إن الدين عند الله الإسلام) *، * (ومن يبتغ غير الإسلام
48

دينا فلن يقبل منه) *، وبالله تعالى التوفيق. * (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين فى نار جهنم خالدين فيهآ أولائك هم شر البرية) *. قرئت البرية بالهمزة وبالياء، فقرأ بالهمز: نافع وابن ذكوان. والباقون بالياء، فاختلف في أخذها.
قال القرطبي: قال الفراء: إن أخذت البرية من البراءة بفتح الباء والراء: أي التراب. فأصله غير مهموز بقوله منه: براه الله يبروه بروا، أي خلقه، وقيل: البرية من بريت القلم أي قدرته.
وقد تضمنت هذه الآية مسألتين: الأولى منهما: أن أولئك في نار جهنم خالدين فيها، ومبحث خلود الكفار في النار، تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه وافيا.
والمسألة الثانية أنهم شر البرية، والبرية أصلها البريئة، قلبت الهمزة ياء تسهيلا، وأدغمت الياء في الباء، والبريئة الخليقة والله تعالى بارىء النسم، هو الخالق البارىء المصور سبحانه.
ومن البرية الدواب والطيور، وهنا النص على عمومه، فأفهم أن أولئك شر من الحيوانات والدواب.
وقد جاء النص صريحا في هذا المعنى في قوله تعالى: * (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) *، وقد بين أن المراد بهم الكفار في قوله: * (أولائك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) *، وقال عنهم: * (أفأنت تسمع الصم أو تهدى العمى ومن كان فى ضلال مبين) *، فهم لصممهم وعماهم في ضلال مبين.
وقد ثبت أن الدواب ليست في ضلال مبين، لأنها تعلم وتؤمن بوحدانية الله، كما جاء في هدهد سليمان، أنكر على بلقيس وقومها سجودهم للشمس والقمر من دون الله.
ونص مالك في الموطأ في فضل يوم الجمعة (أنه وما من دابة إلا تصيخ بأذنها من
49

فجر يوم الجمعة إلى طلوع الشمس خشية الساعة)، وهذا كله ليس عند الكافر منه شيء، ثم في الآخرة لما يجمع الله جميع الدواب ويقتص للعجماء من القرناء، فيقول لها: كوني ترابا، فيتمنى الكافر لو كان مثلها فلم يحصل له، كما قال: * (يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر ياليتنى كنت ترابا) *.
وذلك والله تعالى أعلم: أن الدواب لم تعمل خيرا فتبقى لتجازى عليه، ولم تعمل شرا لتعاقب عليه فكانت لا لها ولا عليها إلا ما كان فيما بينها وبين بعضها، فلما اقتص لها من بعضها انتهى أمرها، فكانت نهايتها عودتها إلى منبتها وهو التراب. بخلاف الكافر فإن عليه حساب التكاليف وعقاب المخالفة فيعاقب بالخلود في النار، فكان شر البرية. * (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات أولائك هم خير البرية) *. الحكم هنا بالعموم، كالحكم هناك. ولكنه هنا بالخيرية والتفضيل.
أما من حيث الجنس فلا إشكال، لأن الإنسان أفضل الأجناس * (ولقد كرمنا بنىءادم) *.
وأما من حيث العموم، فقال بعض العلماء فيها ما يدل على أن صالح المؤمنين أفضل من الملائكة.
ولعل مما يقوي هذا الاستدلال، هو أن بعض أفراد جنس الإنسان أفضل من عموم أفراد جنس الملائكة، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا فضل بعض أفراد الجنس لا يمنع في البعض الآخر ولكن هل بعض أفراد الأمة بعده أفضل من عموم أو بعض أفراد الملائكة؟ هذا هو محل الخلاف.
وللقرطبي مبحث في ذلك: مبناه على أصل المادة وورود النصوص من جهة أصل المادة إن كانت البرية مأخوذة من البري وهو التراب. فلا تدخل الملائكة تحت هذا التفضيل وإلا فتدخل.
وأما من جهة النصوص، فقال في سورة البقرة عند قوله: * (قال ياءادم أنبئهم بأسمآئهم) *، قال المسألة الثالثة: اختلف العلماء في هذا الباب أيهما أفضل، الملائكة أو بنو آدم؟ على قولين، فذهب قول إلى أن الرسل من البشر أفضل من الرسل من الملائكة، والأولياء من البشر أفضل من الأولياء من الملائكة.
50

وذهب آخرون إلى أن الملأ الأعلى أفضل، واحتج من فضل الملائكة بأنهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون وقوله لا يعصون لا يعصون الله ما أمرهم
ويفعلون ما يؤمرون. وقوله: * (قل لا أقول لكم عندى خزآئن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إنى ملك) *.
وبما في البخاري يقول الله: (من ذكرني في ملأ ذكرته في ملإ خير منه) وهذا نص على أن الملأ الأعلى خير من ملا الأرض.
واحتج من فضل بني آدم بقوله تعالى: * (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات أولائك هم خير البرية) *، بالهمز من برأ الله الخلق، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم) أخرجه أبو داود.
وبأن الله يباهي بأهل عرفات الملائكة، ولا يباهي إلا بالأفضل والله تعالى أعلم.
وقال بعض العلماء: ولا طريق إلى القطع بأن الملائكة خير منهم، لأن طريق ذلك خبر الله، وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع الأمة.
وليس ها هنا شيء من ذلك خلافا للقدرية والقاضي أبي بكر، حيث قالوا: الملائكة أفضل. قال: وأما من قال من أصحابنا والشيعة: إن الأنبياء أفضل، لأن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم، إلى آخره.
ثم رد هذا الاستدلال.
وقد سقنا هذا البحث لبيان الخلاف في هذه المسألة المشتمل عليها لفظ البرية، وأعتقد أن المفاضلة جزئية لا كلية، وذلك أن جنس البشر خلاف جنس الملائكة، والملائكة فيهم النص بأنهم * (عباد مكرمون) *، والبشر فيهم النص * (ولقد كرمنا بنىءادم) *، والفرق بينهما، كالفرق بين الاسم والفعل في الدلالة.
ففي الملائكة بالاسم: مكرمون، وهو يدل على الدوام والثبوت، وفي بني آدم كرمنا، وهو يدل على التجدد والحدوث.
وهذا هو الواقع، فالتكريم ثابت ولازم ودائم للملائكة بخلافه في بني آدم إذ فيهم
51

وفيهم، ولا يبعد أن يقال: إن التفضيل في الأعمال من حيث صدورها من بني آدم ومن الملائكة، إذ الملائكة تصدر عنهم أعمال الخير جبلة أو بدون نوازع شر، بخلاف بني آدم، وإن أعمال الخير تصدر عنها بمجهود مزدوج، حيث ركبت فيهم النفس اللوامة والأمارة بالسوء. ونحو ذلك من الجانب الحيواني.
وازدواجية المجهود، هو أنه ينازع عوامل الشر حتى يتغلب عليها، ويبذل الجهد في فعل الخير، فهو يجاهد للتخليص من نوازع الشر، هو يجاهد للقيام بفعل الخير، وهذا مجهود يقتضي التفضيل على المجهود من جانب واحد.
وقد جاء في السنة ما يشهد لذلك، لما ذكر صلى الله عليه وسلم لأصحابه (أن يأتي بعدهم من أن العامل منهم له أجر خمسين، فقالوا: خمسين منا أو منهم يا رسول الله قال: بل خمسين منكم، لأنكم تجدون أعوانا على الخير وهم لا يجدون).
وحديث (سبق درهم مائة ألف درهم) وبين صلى الله عليه وسلم، أن الدرهم سبق الأضعاف المضاعفة، لأنه ثاني اثنين فقط، والمائة ألف جزء من مجموع كثير.
فالنفس التي تجود بنصف ما تملك، ولا يتبقى لها إلا درهم، خير بكثير ممن تنفق جزءا ضئيلا مما تملك ويتبقى لها المال الكثير، فكانت عوامل التصدق ودوافعه مختلفة منزلة في النفس متضادة. فالدرهم في ذاته وماهيته من جنس الدراهم الأخرى، لم تتفاوت الماهية ولا الجنس، ولكن تفاوتت الدوافع والعوامل لإنفاقه، ولعل المفاضلة المقصودة تكون من هذا القبيل أولى. والله تعالى أعلم. * (جزآؤهم عند ربهم جنات عدن تجرى من تحتها الا نهار خالدين فيهآ أبدا) *. فيه أربع مسائل. ثلاثة مجملة جاء بيانها في القرآن. والرابعة مفصلة ولها شواهد.
وأما الثلاثة المجملة فأولها قوله: * (جزآؤهم عند ربهم) *، إذ الجزاء في مقابل شيء يستوجبه، وعند ربهم تشعر بأنه تفضل منه، وإلا لقال: جزاؤهم على ربهم.
وقد بين ذلك صريح قوله تعالى: * (إن للمتقين مفازا * حدآئق وأعنابا * وكواعب أترابا * وكأسا دهاقا * لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا * جزآء من ربك عطآء حسابا) *، فنص على أن هذا الجزاء كله من ربهم عطاء لهم من عنده.
52

الثانية والثالثة قوله: * (جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار) *، فأجمل ما في الجنات، ونص على أنها تجري من تحتها الأنهار، مع إجمال تلك الأنهار، وقد فصلت آية * (عم يتسآءلون) * ما أعد لهم في الجنة من حدائق وأعناب وكواعب وشراب وطمأنينة، وعدم سماع اللغو إلى آخره. كما جاء تفصيل الأنهار في سورة القتال، في قوله تعالى: * (مثل الجنة التى وعد المتقون فيهآ أنهار من مآء غير ءاسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم) *، والخلود في هذا النعيم هو تمام النعيم. * (رضى الله عنهم ورضوا عنه) *. يعتبر هذا الإخبار من حيث رضوان الله تعالى على العباد في الجنة، من باب العام بعد الخاص.
وقد تقدم في سورة الليل في قوله تعالى: * (وسيجنبها الا تقى * الذى يؤتى ماله يتزكى) * إلى قوله * (ولسوف يرضى) *، واتفقوا على أنها في الصديق رضي الله عنه كما تقدم، وجاء في التي بعدها سورة والضحى قوله تعالى: * (ولسوف يعطيك ربك فترضى) *، أي للرسول صلى الله عليه وسلم.
وهنا في عموم * (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات أولائك هم خير البرية) *، فهي عامة في جميع المؤمنين الذين هذه صفاتهم، ثم قال رضي الله عنهم، وقد جاء ما يبين سبب رضوان الله تعالى عليهم وهو بسبب أعمالهم، كما في قوله تعالى: * (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) * فكانت المبايعة سببا للرضوان.
وفي هذة الآية الإخبار بأن الله رضي عنهم ورضوا عنه، ولم يبين زمن هذا الرضوان أهو سابق في الدنيا أم حاصل في الجنة، وقد جاءت آية تبين أنه سابق في الدنيا، وهي قوله تعالى: * (والسابقون الا ولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيهآ
أبدا ذالك الفوز العظيم) *، فقوله تعالى: * (رضى الله عنهم ورضوا عنه) *، ثم يأتي بعدها * (وأعد لهم جنات) *.
53

فهو في قوة الوعد في المستقبل، فيكون الإخبار بالرضى مسبقا عليه.
وكذلك آية سورة الفتح في البيعة تحت الشجرة إذ فيها * (لقد رضي الله عن المؤمنين) *، وهو إخبار بصيغة الماضي، وقد سميت (بيعة الرضوان).
تنبيه
في هذا الأسلوب الكريم سؤال، وهو أن العبد حقا في حاجة إلى أن يعلم رضوان الله تعالى عليه، لأنه غاية أمانيه، كما قال تعالى: * (ذالك الفوز العظيم) *.
أما الإخبار عن رضي العبد عن الله، فهل من حق العبد أن يسأل عما إذا كان هو راضيا عن الله أم لا؟ إنه ليس من حقه ذلك قطعا، فيكون الإخبار عن ذلك بلازم الفائدة، وهي أنهم في غاية من السعادة والرضى فيما هم فيه من النعيم إلى الحد الذي رضوا تجاوز رضاهم حد النعيم إلى الرضى عن المنعم.
كما يشير إلى شيء من ذلك آخر آية النبأ * (عطآء حسابا) *، قالوا: إنهم يعطون حتى يقولوا: حسبنا حسبنا، أي كافينا. * (ذلك لمن خشى ربه) *. اسم الإشارة منصب على مجموع الجزاء المتقدم، وقد تقدم أنه للذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهنا يقول: إنه لمن خشي ربه، مما يفيد أن تلك الأعمال تصدر منهم عن رغبة ورهبة.
رغبة فيما عند الله، ورهبة من الله، ومثله قوله تعالى: * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) *، وقوله: * (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هى المأوى) *.
والواقع أن صفة الخوف من الله تعالى، هي أجمع صفات الخير في الإنسان، لأنها صفة للملائكة المقربين.
كما قال تعالى عنهم: * (يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) *.
54

وقد عم الحكم في ذلك بقوله تعالى: * (إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير) *.
وفي هذه الآية السر الأعظم، وهو كون الخشية في الغيبة عن الناس، وهذا أعلى مراتب المراقبة لله، والخشية أشد الخوف.
55

((سورة الزلزلة))
* (إذا زلزلت الا رض زلزالها * وأخرجت الأرض أثقالها * وقال الإنسان ما لها * يومئذ تحدث أخبارها * بأن ربك أوحى لها * يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم * فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * * (إذا زلزلت الا رض زلزالها * وأخرجت الأرض أثقالها * وقال الإنسان ما لها * يومئذ تحدث أخبارها * بأن ربك أوحى لها * يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم) *. الزلزلة: الحركة الشديدة بسرعة، ويدل لذلك فقه اللغة من وجهين:
الأول: تكرار الحروف، أو ما يقال تكرار المقطع الواحد، مثل صلصل وقلقل وزقزق، فهذا التكرار يدل على الحركة.
والثاني: وزن فعل بالتضعيف كغلق وكسر وفتح، فقد اجتمع في هذه الكلمة تكرار المقطع وتضعيف الوزن.
ولذا، فإن الزلزال أشد ما شهد العالم من حركة، وقد شوهدت حركات زلزال في أقل من ربع الثانية، فدمر مدنا وحطم قصورا.
ولذا فقد جاء وصف هذا الزلزال بكونه شيئا عظيما في قوله تعالى: * (إن زلزلة الساعة شىء عظيم) *، ويدل على هذه الشدة تكرار الكلمة في زلزلت وفي زلزالها، كما تشعر به هذه الإضافة.
وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، إيراد النصوص المبينة لذلك في أول سورة الحج كقوله تعالى: * (وحملت الا رض والجبال فدكتا دكة واحدة) *، وقوله: * (إذا رجت الا رض رجا * وبست الجبال بسا) *، وقوله: * (يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة) *، وساق قوله: * (وأخرجت الأرض أثقالها) *.
واختلف في الأثقال ما هي على ثلاثة أقوال:
56

فقيل: موتاها. وقيل: كنوزها، وقيل: التحدث بما عمل عليها الإنسان. ولعل الأول أرجح هذه الثلاثة، لأن إخراج كنوزها سيكون قبل النفخة، والتحدث بالأعمال منصوص عليه بذاته، فليس هو الأثقال. ورجحوا القول الأول لقوله تعالى: * (ألم نجعل الا رض كفاتا * أحيآء وأمواتا) *.
وقالوا: الإنس والجن ثقلان على ظهرها، فهما ثقل عليها، وفي بطنها فهم ثقل فيها، ولذا سميا بالثقلين. قال الفخر الرازي وابن جرير.
وروي عن ابن عباس: أنه موتاها.
وشبيه بذلك قوله: * (وإذا الا رض مدت * وألقت ما فيها وتخلت) *، ولا يبعد أن يكون الجميع إذا راعينا صيغة الجمع أثقالها، ولم يقل ثقلها وإرادة الجمع مروية أيضا عن ابن عباس. ذكره الألوسي، وابن جرير عنه وعن مجاهد.
وحكى الشيخ رحمه الله تعالى علينا وعليه القولين في إملائه: أي موتاها، وقيل: كنوزها وقوله تعالى: * (وقال الإنسان ما لها) *، لفظ الإنسان هنا عام وظاهره أن كل إنسان يقول ذلك، ولكن جاء ما يدل على أن الذي يقول ذلك هو الكافر. أما المؤمن فيقول: * (هذا ما وعد الرحمان وصدق المرسلون) *، وذلك في قوله: * (ونفخ فى الصور فإذا هم من الا جداث إلى ربهم ينسلون * قالوا ياويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمان وصدق المرسلون) *.
فالكافر يدعو بالويل والمؤمن يطمئن للوعد، ومما يدل على أن الجواب من المؤمنين، لا من الملائكة، كما يقول بعض الناس، ما جاء في آخر السياق قوله: * (فإذا هم جميع) * أي كلا الفريقين * (لدينا محضرون) *.
وقوله: * (ما لها) * سؤال استيضاح، وذهول من هول ما يشاهد. وقوله: * (يومئذ تحدث أخبارها) *، التحديث هنا صريح في الحديث وهو على حقيقته، لأن في ذلك اليوم تتغير أوضاع كل شيء وتظهر حقائق كل شيء، وكما أنطق الله الجلود ينطق الأرض، فتحدث بأخبارها، * (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا
57

أنطقنا الله الذى أنطق كل شىء) *، وتقدم تفصيل ذلك عند أول سورة الحشر، لأن الله أودع في الجمادات القدرة على الإدراك والنطق، والمراد بإخبارها أنها تخبر عن أعمال كل إنسان عليها في حال حياته.
ومما يشهد لهذا المعنى حديث المؤذن (لا يسمع صوته حجر ولا مدر إلا وشهد له يوم القيامة)، وذكر ابن جرير وجها آخر، وهو أن إخبارها هو ما أخرجته من أثقالها بوحي الله لها والأول أظهر لأنه يثبت معنى جديدا. ويشهد له الحديث الصحيح. * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) *. في هاتين الآيتين مبحثان أحدهما في معنى من لعمومه، والآخر في صيغة يعمل.
أما الأول فهو مطروق في جميع كتب التفسير على حد قولهم: من للعموم المسلم والكافر، مع أن الكافر لا يرى من عمل الخير شيئا، لقوله تعالى: * (وقدمنآ إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هبآء منثورا) *، وفي حق المسلم، قد لا يرى كل ما عمل من شر، لقوله تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء) *.
وقد بحث الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه هذه المسألة بتوسع في دفع إيهام الاضطراب بما يغني عن إيراده.
أما المبحث الثاني فلم أر من تناوله بالبحث، وهو في صيغة يعمل، لأنها صيغة مضارع، وهي للحال والاستقبال.
والمقام في هذا السياق * (يومئذ يصدر الناس أشتاتا) *، وهو يوم البعث، وليس هناك مجال للعمل، وكان مقتضى السياق أن يقال: فمن عمل مثقال ذرة خيرا يره. ولكن الصيغة هنا صيغة مضارع، والمقام ليس مقام عمل، ولكن في السياق ما يدل على أن المراد يعمل مثقال ذرة أي من الصنفين ما كان من ذلك، لقوله تعالى * (يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم) *، فهم إنما يروا في ذلك اليوم أعمالهم التي عملوها من قبل، فتكون صيغة المضارع هنا من باب الالتفات، حيث كان السياق أولا من أول
58

السورة في معرض الإخبار عن المستقبل: إذا زلزلزت الأرض زلزالها، وإذا أخرجت الأرض أثقالها، وإذا قال الإنسان ما لها. في ذلك اليوم الآتي تحدث أخبارها، وفي ذلك اليوم يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم التي عملوها من قبل كما في قوله: * (يوم ينظر المرء ما قدمت يداه) *، وقوله: * (ووجدوا ما عملوا حاضرا) *.
ثم جاء الالتفات بمخاطبتهم على سبيل التنبيه والتحذير، فمن يعمل الآن في الدنيا مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل الآن في الدنيا مثقال ذرة شرا يره في الآخرة، ومثقال الذرة، قيل: هي النملة الصغيرة، لقول الشاعر: هي النملة الصغيرة، لقول الشاعر:
* من القاصرات الطرف لو دب محول
* من الذر فوق الإتب منها لأثرا
*
والإتب: قال في القاموس: الإتب بالكسر، والمئبتة كمكنسة برد يشق، فتلبسه المرأة من غير جيب ولا كمين، وقيل: هي الهباء التي ترى في أشعة الشمس، وكلاهما مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وسيأتي زيادة إيضاح لكيفية الوزن في سورة القارعة إن شاء الله.
ولعل ذكر الذرة هنا على سبيل المثال لمعرفتهم لصغرها، لأنه تعالى عمم العمل في قوله: * (يوم ينظر المرء ما قدمت يداه) *، أيا كان هو مثقال ذرة أو مثاقيل القناطير، وقد جاء النص صريحا بذلك في قوله تعالى: * (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الا رض ولا فى السمآء ولا أصغر من ذالك ولا أكبر إلا فى كتاب مبين) *.
وهنا تنبيهان: الأول من ناحية الأصول، وهو أن النص على مثقال الذرة من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، فلا يمنع رؤية مثاقيل الجبال، بل هي أولى وأحرى.
وهذا عند الأصوليين ما يسمى الإلحاق بنفي الفارق، وقد يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به، وقد يكون مساويا له، فمن الأول هذه الآية وقوله: * (فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما) *، ومن المساوي قوله تعالى: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون فى بطونهم نارا) *، فإن إحراق ماله وإغراقه
59

ملحق بأكله، بنفي الفارق وهو مساو لأكله في عموم الإتلاف عليه، وهو عند الشافعي ما يسمى القياس في معنى الأصل، أي النص.
التنبيه الثاني في قوله تعالى: * (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الا رض ولا فى السمآء ولا أصغر من ذالك) *.
رد على بعض المتكلمين في العصر الحاضر، والمسمى بعصر الذرة، إذ قالوا: لقد اعتبر القرآن الذرة أصغر شيء، وأنها لا تقبل التقسيم، كما يقول المناطفة: إنها الجوهر الفرد، الذي لا يقبل الانقسام.
وجاء العلم الحديث، ففتت الذرة وجعل لها أجزاء. ووجه الرد على تلك المقالة الجديدة، على آيات من كتاب الله هو النص الصريح من مثقال ذرة ولا أصغر من ذلك إلا في كتاب.
فمعلوم ذلك عند الله ومثبت في كتاب ما هو أصغر من الذرة، ولا حد لهذا الأصغر بأي نسبة كانت، فهو شامل لتفجير الذرة ولأجزائها مهما صغرت تلك الأجزاء.
سبحانك ما أعظم شأنك، وأعظم كتابك، وصدق الله إذ يقول: * (ما فرطنا فى الكتاب من شىء) *.
60

((سورة العاديات))
* (والعاديات ضبحا * فالموريات قدحا * فالمغيرات صبحا * فأثرن به نقعا * فوسطن به جمعا * إن الإنسان لربه لكنود * وإنه على ذلك لشهيد * وإنه لحب الخير لشديد * أفلا يعلم إذا بعثر ما فى القبور * وحصل ما فى الصدور * إن ربهم بهم يومئذ لخبير) * * (والعاديات ضبحا * فالموريات قدحا * فالمغيرات صبحا * فأثرن به نقعا * فوسطن به جمعا) *. قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه:
العاديات: جمع عادية، والعاديات: المسرعات في مسيرها.
فمعنى العاديات: أقسم بالمسرعات في سيرها.
ثم قال: وأكثر العلماء على أن المراد به الخيل، تعدو في الغزو، والقصد تعظيم شأن الجهاد في سبيل الله.
وقال بعض العلماء: المراد بالعاديات: الإبل تعدو بالحجيج من عرفات إلى مزدلفة ومنى.
ومعنى قوله: ضبحا: أنها تضبح ضبحا، فهو مفعول مطلق، والضبح: صوت أجواف الخيل عند جريها.
وهذا يؤيد القول الأول الذي يقول هي الإبل، ولا يختص الضبح بالخيل.
فالموريات قدحا: أي الخيل توري النار بحوافرها من الحجارة، إذا سارت ليلا.
وكذلك الذي قال: العاديات: الإبل. قال: برفعها الحجارة فيضرب بعضها بعضا.
ويدل لهذا المعنى قول الشاعر: ويدل لهذا المعنى قول الشاعر:
* تنفي يداها الحصا في كل هاجرة
* نفي الدراهم تنقاد الصياريف
*
61

فالمغيرات صبحا، الخيل تغير على العدو وقت الصبح.
وعلى القول الأول: فالإبل تغير بالحجاج صبحا من مزدلفة إلى منى يوم النحر.
فأثرن به نقعا: أي غبارا. قال به. أي: بالصبح أو به. أي بالعدو.
والمفهوم من العاديات: توسطن به جمعا، أي دخلن في وسط جمع أي خلق كثير من الكفار.
ونظير هذا المعنى قول بشر بن أبي حازم: ونظير هذا المعنى قول بشر بن أبي حازم:
* فوسطن جمعهم وأفلت حاجب
* تحت العجاجة في الغبار الأقتم
*
وعلى القول الثاني الذي يقول: العاديات الإبل تحمل، الحجيج.
فمعنى قوله: * (فوسطن به جمعا) *، أي صرن بسبب ذلك العدو، وسط جمع. وهي المزدلفة، وجمع اسم من أسماء المزدلفة.
ويدل لهذا المعنى قول صفية بنت عبد المطلب، عمة النبي صلى الله عليه وسلم وأم الزبير بن العوام رضي الله عنهما: وأم الزبير بن العوام رضي الله عنهما:
* فلا والعاديات مغبرات جمع
* بأيدها إذا سطع الغبار
*
وهذا الذي ساقه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، قد جمع أقوال جميع المفسرين في هذه الآيات، وقد سقته بحروفه لبيانه للمعنى كاملا.
ولكن مما قدمه رحمة الله تعالى علينا وعليه أن من أنواع البيان في الأضواء: أنه إذا اختلف علماء التفسير في معنى وفي الآية قرينة. ترد أحد القولين أو تؤيد أحدهما فإنه يشير إليه.
وقد وجدت اختلاف المفسرين في هذه الآيات في نقطة أساسية من هذه الآيات مع اتفاقهم في الألفاظ، ومعانيها والأسلوب وتراكيبه.
ونقطة الخلاف هي معنى الجمع الذي توسطن به، أهو المزدلفة لأن من أسمائها جمع كما في الحديث: (وقفت ها هنا وجمع كلها موقف). وهذا مروي عن علي رضي الله عنه، في نقاش بينه وبين ابن عباس. ساقه ابن جرير.
62

أم بالجمع جمع الجيش في القتال على ما تقدم، وهو قول ابن عباس وغيره. حكاه ابن جرير وغيره.
وقد وجدنا قرائن عديدة في الآية تمنع من إرادة المزدلفة بمعنى جمع، وهي كالآتي: أولا وصف الخيل أو الإبل على حد سواء بالعاديات، حتى حد الضبح وورى النار بالحوافر وبالحصا، لأنها أوصاف تدل على الجري السريع.
ومعلوم أن الإفاضة من عرفات ثم من المزدلفة لا تحتمل هذا العدو، وليس هو فيها بمحمود، لأنه صلى الله عليه وسلم كان ينادي (السكينة السكينة) فلو وجد لما كان موضع تعظيم وتفخيم.
ثانيا: أن المشهور أن إثارة النقع من لوازم الحرب، كما قاله بشار: ثانيا: أن المشهور أن إثارة النقع من لوازم الحرب، كما قاله بشار:
* كأن مثار النقع فوق رؤوسنا
* وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
*
أي: لشدة الكر والفر.
ثالثا: قوله تعالى: * (فالمغيرات صبحا * فأثرن به نقعا * فوسطن به جمعا) *، جاء مرتبا بالفاء، وهي تدل على الترتيب والتعقيب.
وقد تقدم المغيرات صبحا، وبعدها فوسطن به جمعا.
وجمع هي المزدلفة، وإنما يؤتى إليها ليلا. فكيف يقرن صبحا، ويتوس طن المزدلفة ليلا.
وعلى ما حكاه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، أنهم يغيرون صبحا من المزدلفة إلى منى، تكون تلك الإغارة صبحا بعد التوسط بجمع، والسياق يؤخرها عن الإغارة ولم يقدمها عليها.
فتبين بذلك أن إرادة المزدلفة غير متأتية في هذا السياق.
ويبقى القول الآخر وهو الأصح. والله تعالى أعلم.
ولو رجعنا إلى نظرية ترابط السور لكان فيها ترجيحا لهذا المعنى، وهو أنه في السورة السابقة، ذكرت الزلزلة وصدور الناس أشتاتا ليروا أعمالهم.
63

وهنا حث على أفضل الأعمال التي تورث الحياة الأبدية والسعادة الدائمة في صورة مماثلة، وهي عدوهم أشتاتا في سبيل الله لتحصيل ذاك العمل الذي يحبون رؤيته في ذلك الوقت، وهو نصرة دين الله أو الشهادة في سبيل الله، والعلم عند الله تعالى.
* (إن الإنسان لربه لكنود * وإنه على ذلك لشهيد * وإنه لحب الخير لشديد) *.
هذا الجواب قال القرطبي: الكنود: الكفور الجحود لنعم الله، وهو قول ابن عباس.
وقيل الحسن: يذكر المصائب وينسى النعم، أخذه الشاعر فنظمه: وقيل الحسن: يذكر المصائب وينسى النعم، أخذه الشاعر فنظمه:
* أيا أيها الظالم في فعله
* والظلم مردود على من ظلم
*
* إلى متى أنت وحتى متى
* تشكو المصيبات وتنسى النعم
*
وروى أبو أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكنود هو الذي يأكل وحده، ويمنع رفده، ويضرب عبده).
وروى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أبشركم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: من نزل وحده، ومنع رفده، وجلد عبده) خرجهما الترمذي الحكيم في نوادر الأصول.
وروى ابن عباس أيضا أنه قال: (الكنود بلسان كندة وحضرموت: العاصي، وبلسان ربيعة ومضر: الكفور، وبلسان كنانة: البخيل السيء الملكة).
وقال مقاتل. وقال الشاعر: وقال مقاتل. وقال الشاعر:
* كنود لنعماء الرجال ومن يكن
* كنودا لنعماء الرجال يبعد
*
أي كفور.
ثم قيل: هو الذي يكفر اليسير، ولا يشكر الكثير.
وقيل: الجاحد للحق.
وقيل: سميت كندة كندة، لأنها جحدت أباها.
64

وقال إبراهيم بن هرمة الشاعر: وقال إبراهيم بن هرمة الشاعر:
* دع البخلاء إن شمخوا وصدوا
* وذكري بخل غانية كنود
*
في نقول كثيرة وشواهد.
ومنها: الكنود الذي ينفق نعم الله في معصية الله.
وعن ذي النون: الهلوع والكنود: هو الذي إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا.
وقيل: الحسود الحقود.
ثم قال القرطبي رحمه الله في آخر البحث:
قلت: هذه الأقوال كلها ترجع إلى معنى الكفران والجحود.
وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم معنى الكنود بخصال مذمومة، وأحوال غير محمودة، فإن صح فهو أعلى ما يقال، ولا يبقى لأحد معه مقال. ا ه.
وهكذا كما قال: إن صح الأثر فلا قول لأحد، ولكن كل هذه الصفات من باب اختلاف التنوع، لأنها داخلة ضمن معنى الجحود للحق أو للنعم.
وقد استدل ذو النون المصري بالآية الكريمة، وهي مفسرة للكنود على المعاني المتقدمة بأنه هو الهلوع * (إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا) *.
ومثلها قوله: * (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربى أكرمن * وأمآ إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربى أهانن) *.
وقد عقب عليه هناك بمثل ما عقب عليه هنا.
فهناك قال تعالى: * (كلا بل لا تكرمون اليتيم * ولا تحاضون على طعام المسكين * وتأكلون التراث أكلا لما * وتحبون المال حبا جما) *.
وهنا عقب عليه بقوله: * (وإنه لحب الخير لشديد) *، والله تعالى أعلم.
وقوله: إن الإنسان عام في كل إنسان، ومعلوم أن بعض الإنسان ليس كذلك،
65

كما قال تعالى: * (فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى) *، مما يدل على أنه من العام المخصوص.
وأن هذه الصفات من طبيعة الإنسان إلا ما هذبه الشرع، كما قال تعالى: * (وأحضرت الأنفس الشح) *.
وقوله: * (ومن يوق شح نفسه فأولائك هم المفلحون) *.
ونص الشيخ في إملائه أن المراد به الكافر. * (وإنه على ذلك لشهيد) *. اختلف في مرجع الضمير في: وإنه، فقيل: راجع للإنسان، ورجحه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب، مستدلا بقوله تعالى بعده * (وإنه لحب الخير لشديد) *.
وقيل: راجع إلى رب الإنسان.
واختار هذا القرطبي وقدمه.
وجميع المفسرين يذكرون الخلاف، وقد عرفت الراجح منها، وعليه، فعلى أنه راجع لرب الإنسان فلا إشكال في الآية، وعلى أنه راجع للإنسان ففيه إشكال أورده الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب وأجاب عليه.
وهو أنه جاءت نصوص تدل على أنه ينكر ذلك، وأنه كان يحب أنه يحسن صنعا، ونحو ذلك.
ومن الجواب عليه: أن شهادته بلسان الحال.
وقد أورد بعض المفسرين شهادتهم بلسان المقال في قوله تعالى: * (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شهدين على أنفسهم بالكفر) *، إلا أن هذه الشهادة بالكفر هي الشرك. والله تعالى أعلم. * (وإنه لحب الخير لشديد) *. الخير عام، كما تقدم في قوله تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) *.
ولكنه هنا خاص بالمال، فهو من العام الذي أريد به الخاص من قصر العام على
66

بعض أفراده، لأن المال فرد من أفراد الخير، كقوله تعالى: * (إن ترك خيرا) *، أي مالا، لأن عمل الخير يصحبه معه ولا يتركه.
وفي معنى هذا وجهان: الأول وإنه لحب الخير أي بسبب حبه الخير لشديد بخيل، شديد البخل.
كما قيل: كما قيل:
* أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي
* عقيلة مال الفاحش المتشدد
*
أي شديد البخل على هذه الرواية من هذا البيت.
والوجه الثاني: وإنه لشديد حب المال. قالهما ابن كثير.
وقال: كلاهما صحيح، والواقع أن الثاني يتضمن الأول.
ويشهد للوجه الثاني، قوله تعالى: * (وتأكلون التراث أكلا لما * وتحبون المال حبا جما) *.
وقلنا: إن الثاني يتضمن الأول، لأن من أحب المال حبا جما سيحمله حبه على البخل.
وفي هذا النص مذمة حب المال وهو جبلة في الإنسان، إلا من هذبه الإسلام، إلا أن الذم ينصب على شدة الحب التي تحمل صاحبها على ضياع الحقوق أو تعدي الحدود.
وهذه الآية وما قبلها نازلة في الكفار كما قدمنا كلام الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه. * (أفلا يعلم إذا بعثر ما فى القبور) *. البعثرة: الانتثار.
وقال الزمخشري: إن هذه الكلمة مأخوذة من أصلين: البعث والنثر.
فالبعث: خروجهم أحياء.
والنثر: الانتشار كنثر الحب، فهي تدل على بعثهم منتشرين.
67

وقد نص تعالى على هذا المعنى في قوله: * (وإذا القبور بعثرت) *، أي بعثر من فيها.
وقوله: * (يوم يخرجون من الا جداث سراعا) *.
وقوله: * (كأنهم جراد منتشر) *.
وقوله: * (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث) *. * (وحصل ما فى الصدور) *. قيل: حصل أي أبرز. قاله ابن عباس.
وقيل: ميز الخير من الشر.
والحاصل من كل شيء ما بقي.
قال لبيد: قال لبيد:
* وكل امرئ يوما سيعلم سعيه
* إذا حصلت عند الإله الحصائل
*
والمراد بما في الصدور الأعمال، وهذا كقوله: * (يوم تبلى السرآئر) *.
ونص على الصدور هنا، مع أن المراد القلوب، لأنها هي مناط العمل ومعقد النية.
والعقيدة وصحة الأعمال كلها مدارها على النية، كما في حديث: (إنما الأعمال بالنيات) وحديث: (ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله) الحديث.
وقال الفخر الرازي: خصص القلب بالذكر، لأنه محل لأصول الأعمال.
ولذا ذكره في معرض الذم، فإنه * (ءاثم قلبه) *، وفي معرض المدح * (وجلت قلوبهم) *.
ويشهد لما قاله قوله: * (إلا من أتى الله بقلب سليم) *.
وقوله: * (ثم قست قلوبكم) *.
68

وقال: * (ثم تلين جلودهم وقلوبهم) *.
وقوله: * (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) *، ونحو ذلك.
ومما يدل على أن المراد بالصدور ما فيها هو القلب.
قوله: * (فإنها لا تعمى الا بصار ولاكن تعمى القلوب التى فى الصدور) *.
وقال الفخر الرازي: نص على الصدور ليشمل الخير والشر، لأن القلب محل الإيمان.
والصدر محل الوسوسة لقوله تعالى: * (الذى يوسوس فى صدور الناس) *.
وهذا وإن كان وجيها، إلا أن محل الوسوسة أيضا هو القلب، فيرجع إلى المعنى الأول والله أعلم. * (إن ربهم بهم يومئذ لخبير) *. ذكر الظرف هنا يشعر بقصر الوصف عليه مع أنه سبحانه خبير بهم في كل وقت في ذلك اليوم، وقبل ذلك اليوم، ولكنه في ذلك اليوم يظهر ما كان خفيا، فهو سبحانه يعلم السر وأخفى، وهو سبحانه لا ت خفى عليه خافية.
ولكن ذكر الظرف هنا للتحذير مع الوصف بخبير، أخص من عليم، كما في قوله: * (قال نبأنى العليم الخبير) *.
69

((سورة القارعة))
* (القارعة * ما القارعة * ومآ أدراك ما القارعة * يوم يكون الناس كالفراش المبثوث * وتكون الجبال كالعهن المنفوش * فأما من ثقلت موازينه * فهو فى عيشة راضية * وأما من خفت موازينه * فأمه هاوية * ومآ أدراك ما هيه * نار حامية) * * (القارعة * ما القارعة * ومآ أدراك ما القارعة) *. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في أول سورة الواقعة، وقال: كالطامة والصاخة، والآزفة، والقارعة. ا ه. أي وكذلك الصاخة والساعة.
ومعلوم أن الشيء إذا عظم خطره كثرت أسماؤه.
أو كما روي عن الإمام علي: كثرة الأسماء تدل على عظم المسمى.
ومعلوم أن ذلك ليس من المترادفات، فإن لكل اسم دلالة على معنى خاص به.
فالواقعة لصدق وقوعها، والحاقة لتحقق وقوعها، والطامة لأنها تطم وتعم بأحوالها، والآزفة من قرب وقوعها أزفت الآزفة مثل اقتربت الساعة، وهكذا هنا.
قالوا: القارعة: من قرع الصوت الشديد لشدة أهوالها.
وقيل: القارعة اسم للشدة.
قال القرطبي: تقول العرب: قرعتهم القارعة وفقرتهم الفاقرة، إذا وقع بهم أمر فظيع.
قال ابن أحمر: قال ابن أحمر:
* وقارعة من الأيام لولا
* سبيلهم لزاحت عندك حينا
*
وقال تعالى: * (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة) *، وهي الشديدة من شدائد الدهر.
70

وقوله: * (ومآ أدراك ما القارعة) *، تقدم قولهم: إن كل ما جاء وما أدراك أنه يدريه وما جاء وما يدريك لا يدريه.
وقد أدراه هنا بقوله: * (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث * وتكون الجبال كالعهن المنفوش) *، وهذا حال من أحوالها.
وقد بين بعض الأحوال الأخرى في الواقعة بأنها خافضة رافعة، وفي الطامة والصاخة: ينظر المرء ما قدمت يداه.
وقوله: * (يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه) *.
وأيضا فإن كل حالة يذكر معها الحال الذي يناسبها، فالقارعة من القرع وهو الضرب، ناسب أن يذكر معها ما يوهن قوى الإنسان إلى ضعف الفراش المبثوث، ويفكك ترابط الجبال إلى هباء العهن المنفوش. * (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث) *. الفراش: جمع فراشة.
وقيل: هي التي تطير وتتهافت في النار.
وقيل: طير رقيق يقصد النار ولا يزال يتقحم على المصباح ونحوه حتى يحترق.
وذكر الشيخ في إملائه قول جرير: وذكر الشيخ في إملائه قول جرير:
* إن الفرزدق ما علمت وقومه
* مثل الفراش غشين نار المصطلى
*
وقال الفراء: هو غوغاء الجراد الذي ينتشر في الأرض ويركب بعضه بعضا من الهول.
ونقل القرطبي عن الفراء: أنه الهمج الطائر من بعوض وغيره.
ومنه الجراد. ويقال: هو أطيش من فراشة قال: ومنه الجراد. ويقال: هو أطيش من فراشة قال:
* طويش من نفر أطياش
* أطيش من طائرة الفراش
*
وفي صحيح مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثلي ومثلكم كمثل رجل
71

أوقد نارا فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يذبهن عنها. وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي).
والمبثوث: المنتشر.
ومثله قوله: * (يخرجون من الا جداث كأنهم جراد منتشر) *.
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيانه في (سورة اقتربت الساعة)، سورة ق والقرآن، وسورة يس والقرآن الحكيم. بما يغني عن إعادته هنا.
وقد قيل: إن وصفها بالفراش في أول حالها في الاضطراب والحيرة.
ووصفها كالجراد في الكثرة ووحدة الاتجاه * (مهطعين إلى الداع) *. * (وتكون الجبال كالعهن المنفوش) *. تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في صورة الواقعة بيان أحوال الجبال يوم القيامة من بدئها بكثيب مهيل، ثم كالعهن المنقوش، ثم تسير كالسراب.
وأحال فيها على غيرها، كقوله: * (تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب) *.
وتقدمت الإشارة إلى ذلك في سورة سأل سائل. * (فأما من ثقلت موازينه * فهو فى عيشة راضية) *. في قوله: * (ثقلت موازينه) *، دلالة على وقع الوزن لكل إنسان.
والموازين: يراد بها الموزون، ويراد بها آلة الوزن، كالمعايير، وهما متلازمان.
وتقدم أن المعايير بالذرة وأقل منها.
وقد جاء نصوص على وضع الموازين وإقامتها بالعدل والقسط.
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان ذلك عند قوله تعالى: * (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) *.
72

وقوله: * (فهو فى عيشة راضية) *، قالوا: بمعنى مرضية، وراضية أصلها مرضية، كما في قوله: * (وجوه يومئذ ناعمة * لسعيها راضية) *، إسناد الرضى للعيشة، على أنها هي فاعلة الرضى، لأن كلمة العيشة جامعة لنعيم الجنة وأسباب النعيم، راضية طائعة لينة لأصحاب الجنة، فتفجر لهم الأنهار طواعية، وتدنو الثمار طواعية، كما في قوله: * (قطوفها دانية) *.
فالقول الأول: هو المعروف في البلاغة بإطلاق المحل وإرادة الحال، كقوله تعالى * (فليدع ناديه) *.
والنادي: مكان منتدى القوم، أي ينادي بعضهم بعضا للاجتماع فيه.
والمراد: من يحل في هذا النادي، ويكون هنا أطلق المحل وهو محل العيشة، وأراد الحال فيها.
وعلى الثاني: فهو إسناد حقيقي من إسناد الرضى لمن وقع منه أو قام به. ومما هو جدير بالذكر أن حمله على الأسلوب البياني ليس متجها كالآية الأخرى، لأن العيشة ليست محلا لغيرها بل هي حالة، والمحل الحقيقي هو الجنة والعيشة حالة فيها، وهي اسم لمعاني النعيم كما تقدم، فيكون حمل الإسناد على الحقيقة أصح.
وقد جاءت الأحاديث: أن الجنة تحس بأهلها وتفرح بعمل الخير، كما أنها تتزين وتبتهج في رمضان، وأنها تناظرت مع النار. وكل يدلي بأهله وفرحه بهم، حتى وعد الله كلا بملئها.
ونصوص تلقي الحور والولدان والملائكة في الجنة لأهل الجنة بالرضى والتحية معلومة.
وقوله: * (لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون) *، أي لا يتأخر عنهم شيء.
وقوله: * (وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) *.
وقوله: * (فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جآن) *.
وقاصرات الطرف عن رضى بأهلهن. ومنه * (حور مقصورات فى الخيام) *، أي على أزواجهن.
73

وقوله: * (ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا) *، ونحو ذلك، مما يشعر بأن نعيم الجنة بنفسه راض بأهل الجنة، والله سبحانه وتعالى أعلم. * (وأما من خفت موازينه * فأمه هاوية) *. وقع الخلاف في المراد من قوله: * (فأمه هاوية) *، هل المراد بأمه مأواه وهي النار، وأن هاوية من أسمائها، أم المراد بأمه رأسه وأن هاوية من الهوى، فيلقى في النار منكسا رأسه يهوي في النار.
وقد بحث الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ذلك في دفع إيهام الاضطراب، ولا يبعد من يقول إنه لا تعارض بين القولين.
فتكون أمه هاوية، وهي النار ويلقى فيها منكسا تهوي رأسه والعياذ بالله.
وحكى القرطبي على أن الأم بمعنى قول لبيد: وحكى القرطبي على أن الأم بمعنى قول لبيد:
* فالأرض معقلنا وكانت أمنا
* فيها مقابرنا وفيها نولد
*
وعلى معنى الهاوية البعيدة والداهية، قول الشاعر: وعلى معنى الهاوية البعيدة والداهية، قول الشاعر:
* يا عمرو لو نالتك رماحنا
* كنت كمن تهوى به الهاوية
*
والهاوية: مكان الهوى.
كما قيل: كما قيل:
* أكلت دما إن لم أرعك بضرة
* بعيدة مهوى القرط مياسة القد
*
أو طيبة النشر.
وفي الحديث: (إن أحدكم ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها في النار سبعين خريفا).
نسأل الله السلام.
وقد فسر الهاوية بما بعدها: * (ومآ أدراك ما هيه * نار حامية) *.
74

وقد فسر الهاوية بأنها أسفل دركات النار. عياذا بالله.
وقد جاء قوله تعالى: * (كلا لينبذن فى الحطمة * ومآ أدراك ما الحطمة * نار الله الموقدة) *.
والنبذ: الطرح، مما يرجح ما قلناه من إمكان إرادة المعنيين كون أمه هي الهاوية أي النار، يهوي فيها على أم رأسه، وذلك بالنبذ في الهاوية بعيدة المهوى، وعادة الجسم إذا ألقى من شاهق بعيدا يسبغه إلى أسفل أثقله، وأثقل جسم الإنسان رأسه. والله تعالى أعلم.
75

((سورة التكاثر))
* (ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر * كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون * كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين * ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) * * (ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر) *. ألهاكم: أي شغلكم، ولهاه: تلهيه، أي علله.
ومنه قول امرئ القيس: ومنه قول امرئ القيس:
* فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع
* فألهيتها عن ذي تمائم محول
*
أي شغلتها.
والتكاثر: المكاثرة. ولم يذكر هنا في أي شيء كانت المكاثرة، التي ألهتهم.
قال ابن القيم: ترك ذكره، إما لأن المذموم هو نفس التكاثر بالشيء لا المتكاثر به، وإما إرادة الإطلاق. ا ه.
ويعني رحمه الله بالأول: ذم الهلع، والنهم.
وبالثاني: ليعم كل ما هو صالح للتكاثر به، مال وولد وجاه، وبناء وغراس.
ولم أجد لأحد من المفسرين ذكر نظير لهذه الآية.
ولكنهم اتفقوا على ذكر سبب نزولها في الجملة، من أن حيين تفاخرا بالآباء وأمجاد الأجداد، فعددوا الأحياء، ثم ذهبوا إلى المقابر، وعدد كل منهما مالهم من الموتى يفخرون بهم، ويتكاثرون بتعدادهم.
وقيل: في قريش بين بني عبد مناف وبني سهم.
وقيل: في الأنصار.
وقيل: في اليهود وغيرهم، مما يشعر بأن التكاثر كان في مفاخر الآباء.
76

وقال القرطبي: الآية تعم جميع ما ذكر وغيره.
وسياق حديث الصحيح: (لو أن لابن آدم واديا من ذهب، لأحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب).
قال ثابت: عن أنس عن أبي: كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت * (ألهاكم التكاثر) *.
وكأن القرطبي يشير بذلك، إلى أن التكاثر بالمال أيضا.
وقد جاءت نصوص من كتاب الله تدل على أن التكاثر الذي ألهاهم، والذي ذمهم الله بسببه أو حذرهم منه، إنما هو في الجميع، كما في قوله تعالى: * (اعلموا أنما الحيواة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر فى الا موال والا ولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما) * إلى قوله * (وما الحيواة الدنيآ إلا متاع الغرور) *.
ففيه التصريح: بأن التفاخر والتكاثر بينهم في الأموال والأولاد.
ثم جاءت نصوص أخرى في هذا المعنى كقوله: * (وما الحيواة الدنيآ إلا لعب ولهو وللدار الا خرة خير للذين يتقون) *.
وقوله: * (وما هاذه الحيواة الدنيآ إلا لهو ولعب وإن الدار الا خرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون) *.
ولكون الحياة الدنيا بهذه المثابة، جاء التحذير منها والنهي عن أن تلههم، في قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولائك هم الخاسرون) *.
وبين تعالى أن ما عند الله للمؤمنين خير من هذا كله في قوله: * (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قآئما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين) *.
ومما يرجح أن التكاثر في الأموال والأولاد في نفس السورة، ما جاء في آخرها من
77

قوله: * (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) *، لمناسبتها لأول السورة.
كما هو ظاهر بشمول النعيم للمال شمولا أوليا.
وقوله: * (حتى زرتم المقابر) *.
أخذ منه من قال: إن تفاخرهم، حملهم على الذهاب إلى المقابر ليتكاثروا بأمواتهم، كما جاءت في أخبار أسباب النزول المتقدمة.
والصحيح في زرتم المقابر: يعني متم، لأن الميت يأتي إلى القبر كالزائر لأن وجوده فيه مؤقتا.
وقد روي: أن أعرابيا سمع هذه الآية، فقال: بعثوا ورب الكعبة، فقيل له في ذلك، فقال: لأن الزائر لا بد أن يرتحل.
تنبيه
قد بحث بعض العلماء مسألة زيارة القبور هنا لحديث: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر في الآخرة).
وقالوا: إن المنع كان عاما من أجل ذكر مآثر الآباء والموتى، ثم بعد ذلك رخص في الزيارة، واختلفوا فيمن رخص له. فقيل: للرجال دون النساء لعدم دخولهن في واو الجماعة في قوله: (فزوروها).
وقيل: هو عام للرجال وللنساء، واستدل كل فريق بأدلة يطول إيرادها.
ولكن على سبيل الإجمال لبيان الأرجح، نورد نبذة من البحث.
فقال المانعون للنساء: إنهن على أصل المنع، ولم تشملهن الرخصة، ومجئ اللعن بالزيارة فيهن.
وقال المجيزون: إنهن يدخلن ضمنا في خطاب الرجال، كدخولهن في مثل قوله: * (وأقيموا الصلواة وآتوا الزكواة) *، فإنهن يدخلن قطعا.
وقالوا: إن اللعن المنوه عنه جاء في الحديث بروايتين رواية: (لعن الله زائرات القبور).
وجاء (لعن الله زوارات القبور والمتخذات عليهن السرج) إلى آخره.
78

فعلى صيغة المبالغة: زوارات لا تشمل مطلق الزيارة، وإنما تختص للمكثرات، لأنهن بالإكثار لا يسلمن من عادات الجاهلية من تعداد مآثر الموتى المحظور في أصل الآية.
أما مجرد زيارة بدون إكثار ولا مكث، فلا.
واستدلوا لذلك بحديث عائشة رضي الله عنها لما ذكر لها صلى الله عليه وسلم، السلام على أهل البقيع، فقالت: (وماذا أقول يا رسول الله، إن أنا زرت القبور؟ قال: قولي: السلام عليكم آل دار قوم مؤمنين) الحديث.
فأقرها صلى الله عليه وسلم، على أنها تزور القبور وعلمها ماذا تقول إن هي زارت.
وكذلك بقصة مروره على المرأة التي تبكي عند القبر فكلمها، فقالت: إليك عني، وهي لا تعلم من هو، فلما ذهب عنها قيل لها: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءت تعتذر فقال لها: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى).
ولم يذكر لها المنع من زيارة القبور، مع أنه رآها تبكي.
وهذه أدلة صريحة في السماح بالزيارة. ومن ناحية المعنى، فإن النتيجة من الزيارة للرجال من في حاجة إليها كذلك، وهي كون زيارة القبور تزهد في الدنيا وترغب في الآخرة.
وليست هذه بخاصة في الرجال دون النساء، بل قد يكن أحوج إليه من الرجال.
وعلى كل، فإن الراجح من هذه النصوص والله تعالى أعلم، هو الجواز لمن لم يكثرن ولا يتكلمن بما لا يليق، مما كان سببا للمنع الأول، والعلم عند الله تعالى.
تنبيه آخر
من لطائف القول في التفسير، ما ذكره أبو حيان عن التكاثر في قوله: * (حتى زرتم المقابر) *، ما نصه:
وقيل هذا تأنيب على الإكثار من زيارة، تكثيرا بمن سلف وإشادة بذكره، وكان
79

رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور ثم قال: (فزوروها) أمر إباحة للاتعاظ بها، لا لمعنى المباهاة والتفاخر.
ثم قال: قال ابن عطية: كما يصنع الناس في ملازمتها وتسنيمها بالحجارة والرخام وتلوينها شرفا، وبيان النواويس عليها، أي الفوانيس، وهي السرج.
ثم قال أبو حيان، وابن عطية: لم ير إلا قبور أهل الأندلس، فكيف لو رأى ما يتباهى به أهل مصر في مدافنهم بالقرافة الكبرى والقرافة الصغرى، وباب النصر وغير ذلك. وما يضيع فيها من الأموال، لتعجب من ذلك ولرأى ما لم يخطر ببال.
وأما التباهي بالزيارة: ففي هؤلاء المنتمين إلى الصوفية أقوام ليس لهم شغل إلا زيارة القبور: زرت قبر سيدي فلان بكذا، وقبر فلان بكذا، والشيخ فلان بكذا، والشيخ فلان بكذا، فيذكرون أقاليم طافوها على قدم التجريد.
وقد حفظوا حكايات عن أصحاب تلك القبور وأولئك المشايخ، بحيث لو كتبت لجاءت أسفارا. وهم مع ذلك لا يعرفون فروض الوضوء ولا سننه.
وقد سخر لهم الملوك وعوام الناس في تحسين الظن بهم وبذل المال لهم، وأما من شذ منهم لأنه يتكلم للعامة فيأتي بعجائب، يقولون: هذا فتح من العلم اللدني على الخضر.
حتى إن من ينتمي إلى العلم، لما رأى رواج هذه الطائفة سلك مسلكهم، ونقل كثيرا من حكاياتهم، ومزج ذلك بيسير من العلم طلبا للمال والجاه وتقبيل اليد.
ونحن نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لطاعته. ا ه. بحروفه.
وهذا الذي قاله رحمه الله من أعظم ما افتتن به المسلمون في دينهم ودنياهم معا.
أما في دينهم: فهو الغلو الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم، صيانة للتوحيد، من سؤال غير الله.
وأما في الدنيا فإن الكثير من هؤلاء يتركون مصالح دنياهم من زراعة أو تجارة أو صناعة، ويطوف بتلك الأماكن تاركا ومضيعا من يكون السعي عليه أفضل من نوافل العبادات.
مما يلزم على طلبة العلم في كل مكان وزمان، أن يرشدوا الجهلة منهم، وأن يبينوا
80

للناس عامة خطأ وجهل أولئك، وأن الرحيل لتلك القبور ليس من سنة الرسل صلوات الله وسلامه عليه، ولا كان من عمل الخلفاء الراشدين، ولا من عامة الصحابة ولا التابعين، ولا من عمل أئمة المذاهب الأربعة رحمهم الله.
وإنما كان عمل الجميع زيارة ما جاورهم من المقابر للسلام عليهم والدعاء لهم، والاتعاظ بحالهم، والاستعداد لما صاروا إليه.
نسأل الله الهداية والتوفيق، لاتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاقتفاء بآثار سلف الأمة، آمين. * (كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون) *. كلا: زجر عن التلهي والتكاثر المذكور، وسوف تعلمون: أي حقيقة الأمر، ومغبة هذا التلهي، ثم كلا سوف تعلمون، تكرار للتأكيد.
وقيل: إنه لا تكرار، لما روي عن علي رضي الله عنه: أن الأولى في القبر، والثانية يوم القيامة. وهو معقول.
واستدل به بعضهم على عذاب القبر.
ومعلوم صحة حديث القبر (إنما القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار).
والسؤال فيه معلوم، ولكن أرادوا مأخذه من القرآن.
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في الكلام على سورة غافر، عند * (وحاق بأال فرعون سوء العذاب) *، إثبات عذاب القبر من القرآن.
وكذلك بيان معناه في آخر سورة الزخرف عند الكلام على قوله تعالى: * (فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون) *.
وهذا الزجر هنا والتحذير لهم ردا على ما كانوا عليه في التكاثر.
كما قال الشاعر: كما قال الشاعر:
* ولست بالأكثر منهم حصى
* وإنما العزة للكاثر
*
81

وأصرح دليل لإثبات عذاب القبر من القرآن، هو قوله تعالى: * (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا ءال فرعون أشد العذاب) *، لأن الأول في الدنيا، والثاني في الآخرة. * (كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين) *. لو: هنا شرطية، جوابها محذوف باتفاق قدره ابن كثير أي لو علمتم حق العلم، لما ألهاكم التكاثر عن طلب الآخرة، حتى صرتم إلى المقابر، وعلم اليقين: أجاز أبو حيان إضافة الشيء لنفسه، أي لمغايرة الوصف، إذ العلم هو اليقين، ولكنه آكد منه.
وعن حسان قوله: وعن حسان قوله:
* سرنا وساروا إلى بدر لحتفهم
* لو يعلمون يقين العلم ما ساروا
*
ولترون الجحيم: جواب لقسم محذوف.
وقال: المراد برؤيتها عند أول البعث، أو عند الورود، أو عندما يتكشف الحال في القبر.
ثم لترونها عين اليقين:
قيل: هذا للكافر عند دخولها، هذا حاصل كلام المفسرين.
ومعلوم أن هذا ليس لمجرد الإخبار برؤيتها، ولكن وعيد شديد وتخويف بها، لأن مجرد الرؤية معلوم.
وإن منكم إلا واردها، ولكن هذه الرؤية أخص، كما في قوله: * (ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها) *، أي أيقنوا بدليل قوله: * (ولم يجدوا عنها مصرفا) *.
وقد يبدو وجه في هذا المقام، وهو أن الرؤية هنا للنار نوعان:
الرؤية الأولى: رؤية علم وتيقن، في قوله: * (لو تعلمون علم اليقين) *، علما تستيقنون به حقيقة يوم القيامة لأصبحتم بمثابة من يشاهد أهواله ويشهد بأحواله، كما في حديث الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه)
82

.
وقد وقع مثله في قصة الصديق لما أخبر نبأ الإسراء، فقال: (صدق محمد، فقالوا: تصدقه وأنت لم تسمع منه؟ قال: إني لأصدقه على أكثر من ذلك).
فلعلمه علم اليقين بصدقه صلى الله عليه وسلم فيما يخبر، صدق بالإسراء كأنه يراه.
وتكون الرؤية الثانية، رؤية عين ومشاهدة، فهو عين اليقين.
وقد قدمنا مراتب العلم الثلاث: على اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين.
فالعلم: ما كان عن دلائل.
وعين اليقين: ما كان عن مشاهدة.
وحق اليقين: ما كان عن ملابسة ومخالطة، كما يحصل العلم بالكعبة، وجهتها فهو علم اليقين، فإذا رآها فهو عين اليقين بوجودها. فإذا دخلها وكان في جوفها فهو حق اليقين بوجودها. والله تعالى أعلم. * (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) *. أصل النعيم كل حال ناعمة من النعومة والليونة، ضد الخشونة واليبوسة، والشدائد، كما يشير إليه قوله تعالى: * (وما بكم من نعمة فمن الله) *.
ثم قال: * (إذا مسكم الضر فإليه تجأرون) *، فقابل النعمة بالضر.
ومثله قوله تعالى: * (ولئن أذقناه نعمآء بعد ضرآء مسته ليقولن ذهب السيئات عني) *.
وعلى هذا فإن نعم الله عديدة، كما قال: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوهآ) *.
وبهذا تعلم أن كل ما قاله المفسرون، فهو من قبيل التمثيل لا الحصر، كما قال تعالى: * (لا تحصوهآ) *.
وأصول هذه النعم أولها الإسلام * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الأسلام دينا) *.
ويدخل فيها نعم التشريع والتخفيف، عما كان على الأمم الماضية.
83

كما يدخل فيها نعمة الإخاء في الله * (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعدآء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا) *، وغير ذلك كثيرا.
وثانيها: الصحة، وكمال الخلقة والعافية، فمن كمال الخلقة الحواس * (ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين) *.
ثم قال: * (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولائك كان عنه مسؤولا) *.
وثالثها: المال في كسبه وإنفاقه سواء، ففي كسبه من حله نعمة، وفي إنفاقه في أوجهه نعمة.
هذه أصول النعم، فماذا يسأل عنه، منها جاءت السنة بأنه سيسأل عن كل ذلك جملة وتفصيلا.
أما عن الدين والمال والصحة، ففي مجمل الحديث (إذا كان يوم القيامة، لا تزل قدم عبد حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيم أبلاه، وعن علمه فيم عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن شبابه فيم أفناه).
ولعظم هذه الآية وشمولها، فإنها أصبحت من قبيل النصوص مضرب المثل، فقد فصلت السنة جزئيات ما كانت تخطر ببال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أورد القرطبي ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال: (ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟) قالا: الجوع يا رسول الله! قال: (وأنا، والذي نفسي بيدها لأخرجني الذي أخرجكما، قوموا) فقاموا معه، فأتى رجلا من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحبا! وأهلا! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أين فلان؟) قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء أي يطلب ماء عذبا. إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم قال: الحمد لله، ما أحد اليوم أكرم أضيافا مني. قال: فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب، فقال: كلوا من هذه، وأخذ المدية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياك والحلوب، فذبح لهم. فأكلوا من الشاة، ومن ذلك
العذق،
84

وشربوا، فلما أن شبعوا ورووا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: (والذي نفسي بيدها لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم) وخرجه الترمذي.
وقال فيه: (هذا والذي نفسي بيده، من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة، ظل بارد ورطب طيب، وماء بارد) وكنى الرجل الذي من الأنصار.
فقال: أبو الهيثم بن التيهان.
قال القرطبي: قلت: اسم هذا الرجل مالك بن التيهان، ويكنى أبا الهيثم.
وقد ذكر ابن كثير هذه القصة من عدة طرق.
ومنها: عند أحمد أن عمر رضي الله عنه أخذ بالفرق وضرب به الأرض، وقال: (إنا لمسؤولون عن هذا يا رسول الله؟ قال: نعم، إلا من ثلاثة: خرقة لف الرجل بها عورته، أو كسرة سد بها جوعته، أو جحر يدخل فيه من الحر والقر).
وقال سفيان بن عيينة: إن ما سد الجوع، وستر العورة من خشن الطعام، لا يسأل عنه المرء يوم القيامة، وإنما يسأل عن النعيم، والدليل عليه أن الله أسكن آدم الجنة فقال له: * (إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى) *.
فكانت هذه الأشياء الأربعة ما يسد به الجوع، وما يدفع به العطش، وما يسكن فيه من الحر ويستر به عورته، لآدم عليه السلام بالإطلاق، لا حساب عليه فيها لأنه لا بد له منها.
وذكر عن أحمد أيضا بسنده (أنهم كانوا جلوسا فطلع عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وعلى رأسه أثر ماء، فقلنا:
يا رسول الله، نراك طيب النفس؟
قال: أجل، قال: خاض الناس في ذكر الغنى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا بأس بالغنى لمن اتقى الله، والصحة لمن اتقى الله، خير من الغنى، وطيب النفس من النعم).
قال: ورواه ابن ماجة عن أبي هريرة.
وبهذا، فقد ثبت من الكتاب والسنة، أن النعيم الذي هو محل السؤال يوم القيامة
85

عام في كل ما يتنعم به الإنسان في الدنيا، حسا كان أو معنى.
حتى قالوا: النوم مع العافية، وقالوا: إن السؤال عام للكافر والمسلم، فهو للكافر توبيخ وتقريع وحساب، وللمؤمن تقرير بحسب شكر النعمة وجحودها وكيفية تصريفها. والعلم عند الله تعالى.
وكل ذلك يراد منه الحث على شكر النعمة، والإقرار للمنعم والقيام بحقه سبحانه فيها، كما قال تعالى عن نبي الله: * (رب أوزعنى أن أشكر نعمتك التى أنعمت على وعلى والدى وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لى فى ذريتى إنى تبت إليك وإنى من المسلمين) *.
اللهم أوزعنا شكر نعمتك، واجعل ما أنعمت به علينا عونا لنا على طاعتك.
86

((سورة العصر))
* (والعصر * إن الإنسان لفى خسر * إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) * * (والعصر * إن الإنسان لفى خسر) *. العصر: اسم للزمن كله أو جزء منه.
ولذا اختلف في المراد منه، حيث لم يبين هنا.
فقيل: هو الدهر كله، أقسم الله به لما فيه من العجائب، أمة تذهب وأمة تأتي، وقدر ينفذ، وآية تظهر، وهو هو لا يتغير، ليل يعقبه نهار، ونهار يطرده ليل، فهو في نفسه عجب.
كما قيل:
موجود شبيه المعدوم، ومتحرك يضاهي الساكن.
كما قيل: كما قيل:
* وأرى الزمان سفينة تجري بنا
* نحو المنون ولا نرى حركاته
*
فهو في نفسه آية، سواء في ماضيه لا يعلم متى كان، أو في حاضره لا يعلم كيف ينقضي، أو في مستقبله.
واستدل لهذا القول بما جاء موقوفا على علي رضي الله عنه، ومرفوعا من قراءة شاذة: والعصر ونوائب الدهر. وحمل على التفسير إذ لم يصح قرآنا، وهذا المعنى
مروي عن ابن عباس.
وعليه قول الشاعر: وعليه قول الشاعر:
* سبيل الهوى وعر، وبحر الهوى غمر
* ويوم الهوى شهر، وشهر الهوى دهر
*
وقيل العصر: الليل والنهار.
87

قال حميد بن ثور: قال حميد بن ثور:
* ولم يلبث العصران يوم ليلة
* إذا طلبا أن يدركا ما يتمما
*
والعصران: أيضا الغداة والعشي.
كما قيل: كما قيل:
* وأمطله العصرين حتى يملني
* ويرضى بنصف الدين والأنف راغم
*
والمطل: التسويف وتأخير الدين.
كما قيل: كما قيل:
* قضى كل ذي دين فوفى غريمه
* وعزة ممطول معنى غريمها
*
وقيل: إن العشي ما بعد زوال الشمس إلى غروبها، وهو قول الحسن وقتادة.
ومنه قول الشاعر: ومنه قول الشاعر:
* تروح بنا يا عمرو قد قصر العصر
* وفي الروحة الأولى الغنيمة والأجر
*
وعن قتادة أيضا: هو آخر ساعة من ساعات النهار، لتعظيم اليمين فيه، وللقسم بالفجر والضحى.
وقيل: هو صلاة العصر لكونها الوسطى.
وقيل: عصر النبي صلى الله عليه وسلم أو زمن أمته، لأنه يشبه عصر عمر الدنيا.
والذي يظهر والله تعالى أعلم: أن أقرب هذه الأقوال كلها قولان: إما العموم بمعنى الدهر للقراءة الشاذة، إذ أقل درجاتها التفسير، ولأنه يشمل بعمومه بقية الأقوال.
وإما عصر الإنسان أي عمره ومدة حياته الذي هو محل الكسب والخسران لإشعار السياق، ولأنه يخص العبد في نفسه موعظة وانتفاعا.
ويرجح هذا المعنى ما يكتنف هذه السورة من سور التكاثر قبلها، والهمزة بعدها، إذ الأولى تذم هذا التلهي والتكاثر بالمال والولد، حتى زيارة المقابر بالموت، ومحل ذلك هو حياة الإنسان
88

.
وسورة الهمزة في نفس المعنى تقريبا، في الذي جمع مالا وعدده، يحسب أن ماله أخلده.
فجمع المال وتعداده في حياة الإنسان وحياته محدودة، وليس مخلدا في الدنيا، كما أن الإيمان وعمل الصالحات مرتبط بحياة الإنسان.
وعليه، فإما أن يكون المراد بالعصر في هذه السورة العموم لشموله الجميع وللقراءة الشاذة، وهذا أقواها.
وإما حياة الإنسان، لأنه ألزم له في عمله، وتكون كل الإطلاقات الأخرى من إطلاق الكل، وإرادة البعض، والله تعالى أعلم.
وقوله: * (إن الإنسان لفى خسر) *.
لفظ الإنسان وإن كان مفردا، فإن أل فيه جعلته للجنس.
وقد بينه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب، وتقدم التنبيه عليه مرارا، فهو شامل للمسلم والكافر، إلا من استثنى الله تعالى.
وقيل: خاص بالكافر، والأول أرجح للعموم.
وإن الإنسان لفي خسر، جواب القسم، والخسر: قيل: هو الغبن، وقيل: النقص، وقيل: العقوبة، وقيل: الهلكة، والكل متقارب.
وأصل الخسر والخسران كالكفر والكفران، النقص من رأس المال، ولم يبين هنا نوع الخسران في أي شيء، بل أطلق ليعم، وجاء بحرف الظرفية، ليشعر أن الإنسان مستغرق في الخسران، وهو محيط به من كل جهة.
ولو نظرنا إلى أمرين وهما المستثنى والسورة التي قبلها، لاتضح هذا العموم، لأن مفهوم المستثنى يشمل أربعة أمور: عدم الإيمان وهو الكفر، وعدم العمل الصالح وهو العمل الفاسد، وعدم التواصي بالحق وهو انعدام التواصي كلية أو التواصي بالباطل، وعدم التواصي بالصبر، وهو إما انعدام التواصي كلية أو الهلع والجزع.
والسورة التي قبلها تلهي الإنسان بالتكاثر في المال والولد، بغية الغنى والتكثر فيه، وضده ضياع المال والولد وهو الخسران.
89

فعليه يكون الخسران في الدين من حيث الإيمان بسبب الكفر، وفي الإسلام وهو ترك العمل، وإن كان يشمله الإيمان في الاصطلاح والتلهي في الباطل وترك الحق، وفي الهلع والفزع.
ومن ثم ترك الأمر والنهي بما فيه مصلحة العبد وفلاحه وصلاح دينه ودنياه، وكل ذلك جاء في القرآن ما يدل عليه نجمله في الآتي:
أما الخسران بالكفر. فكما في قوله تعالى. * (لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) *.
وقوله: * (قد خسر الذين كذبوا بلقآء الله) *، أي لأنهم لم يعملوا لهذا اللقاء، وقصروا أمرهم في الحياة الدنيا فضيعوا أنفسهم، وحظهم في الآخرة.
وأما الخسران بترك العمل، فكما في قوله تعالى: * (ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم) *، لأن الموازين هي معايير الأعمال كما تقدم * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) *.
ومثله: * (ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا) *، لأنه سيكون من حزب الشيطان * (ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون) *، أي بطاعتهم إياه في معصية الله.
وأما الخسران بترك التواصي بالحق فليس بعد الحق إلا الضلال، والحق هو الإسلام بكامله، وقد قال تعالى: * (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الا خرة من الخاسرين) *.
وأما الخسران بترك التواصي بالصبر والوقوع في الهلع والفزع، فكما قال تعالى: * (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والا خرة ذالك هو الخسران المبين) *.
تحقيق المناط في حقيقة خسران الإنسان
اتفقوا على أن رأس مال الإنسان في حياته هو عمره. كلف بإعماله في فترة وجوده في الدنيا، فهي له كالسوق. فإن أعمله في خير ربح، وإن أعمله في شر خسر.
90

ويدل لهذا المعنى قوله تعالى: * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) *.
وقوله: * (هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله) *.
وفي الحديث عند مسلم: (الطهور شطر الإيمان).
وفي آخره (كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) مما يؤكد أن رأس مال الإنسان عمره.
ولأهمية هذا العمر جاء قسيم الرسالة والنذارة في قوله: * (أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجآءكم النذير) *.
وعلى هذا قالوا: إن الله تعالى أرسل رسوله بالهدى.
وهدى كل إنسان النجدين، وجعل لكل إنسان منزلة في الجنة ومنزلة في النار.
فمن آمن وعمل صالحا كان مآله إلى منزلة الجنة، وسلم من منزلة النار، ومن كفر كان مآله إلى منزلة النار، وترك منزلته في الجنة.
كما جاء في حديث القبر (أول ما يدخل في قبره إن كان مؤمنا يفتح له باب إلى النار، ويقال له: ذاك مقعدك من النار لو لم تؤمن ثم يقفل عنه، ويفتح له باب إلى الجنة ويقال له: هذا منزلك يوم تقوم الساعة، فيقول: رب، أقم الساعة).
وإن كان كافرا كان على العكس تماما، فإذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فيأخذ كل منزلته فيها، وتبقى منازل أهل النار في الجنة خالية فيتوارثها أهل الجنة، وتبقى منازل أهل الجنة في النار خالية، فتوزع على أهل النار، وهنا يظهر الخسران المبين، لأن من ترك منزلة في الجنة وذهب إلى منزلة في النار، فهو بلا شك خاسر، وإذا ترك منزلته في الجنة لغيره وأخذ هو بدلا عنها منزلة غيره في النار، كان هو الخسران المبين، عياذا بالله.
أما في غير الكافر وفي عموم المسلمين، فإن الخسران في التفريط بحيث لو دخل
91

الجنة ولم ينل أعلى الدرجات يحس بالخسران في الوقت الذي فرط فيه، ولم ينافس فعل الخير، لينال أعلى الدرجات.
فهذه السورة فعلا دافع لكل فرد إلى الجد والعمل المربح، ودرجات الجنة رفيعة ومنازلها عالية مهما بذل العبد من جهد، فإن أمامه مجال للكسب والربح، نسأل الله
التوفيق والفلاح.
وقد قالوا: لا يخرج إنسان من الدنيا إلا حزينا، فإن كان مسيئا فعلى إساءته، وإن كان محسنا فلتقصيره، وقد يشهد لهذا المعنى قوله تعالى: * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون) *.
فالخوف من المستقبل أمامهم، والحزن على الماضي خلفهم، والله تعالى أعلم.
ويبين خطر هذه المسألة: أن الإنسان إذا كان في آخر عمره، وشعر بأيامه المعدودة وساعاته المحدودة، وأراد زيادة يوم فيها، يتزود منها أو ساعة وجيزة يستدرك بعضا مما فاته، لم يستطع لذلك سبيلا، فيشعر بالأسى والحزن على الأيام والليالي والشهور والسنين التي ضاعت عليه في غير ما كسب ولا فائدة، كان من الممكن أن تكون مربحة له، وفي الحديث الصحيح: (نعمتان مغبون فيهما الإنسان: الصحة والفراغ).
أي أنهما يمضيان لا يستغلهما في أوجه الكسب المكتملة، فيفوتان عليه بدون عوض يذكر ثم يندم، ولات حين مندم.
كما قيل في ذلك:
* بدلت بالجمة رأسا أزعرا
* وبالثنايا الواضحات الدر دررا
*
* كما اشترى المسلم إذ تنصرا
تنبيه
في سورة التكاثر تقبيح التلهي بالتكاثر بالمال والولد ونحوه، ثم الإشعار بأن سببه الجهل، لأنهم لو كانوا يعلمون علم اليقين لما ألهاهم ذلك حتى باغتهم الموت.
وهنا إشعار أيضا بأن سبب هذا الخسران الذي يقع فيه الإنسان، هو الجهل الذي
92

يجر إلى الكفر والتمادي في الباطل، ويساعد على هذا قسوة القلب، وطول الأمل. كما قال تعالى: * (ألم يأن للذين ءامنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الا مد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون) *.
تنبيه
* (إن الإنسان لفى خسر) *، نص على الإنسان على ما تقدم وقد جاءت آية أخرى تدل على أن الجن كالإنس في قوله تعالى: * (تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم أين شركآئى قالوا ءاذناك ما منا من شهيد) *.
وتقدم بيان تكليف الجن بالدعوة واستجابتهم لها. والدعوة إليها. * (إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) *. هذا هو المستثنى من الإنسان المتقدم، مما دل على العموم كما قدمنا، والإيمان لغة التصديق وشرعا الاعتقاد الجازم بأركان الإيمان الستة، في حديث جبريل عليه السلام مع الرسول صلى الله عليه وسلم لما سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان.
وعملوا الصالحات: العطف يقتضي المغايرة.
ولذا قال بعض الناس: إن الأعمال ليست داخلة في تعريف الإيمان ومقالاتهم معروفة.
والجمهور: أن الإيمان اعتقاد بالجنان، ونطق باللسان، وعمل بالجوارح.
فالعمل داخل فيه ويزيد وينقص، وقد قدمنا: أن العمل شرط أقرب من أن يكون جزءا، أي أن الإيمان يصدق بالاعتقاد، ولا يتوقف وجوده على العمل، ولكن العمل شرط في الانتفاع بالإيمان، إذا تمكن العبد من العمل، ومما يدل لكون الإيمان يصدق عليه حد الاعتقاد والنطق، ولو لم يتمكن العبد من العمل، قصة الصحابي الذي أسلم عند بدء المعركة، وقاتل، واستشهد ولم يصل لله ركعة، فدخل الجنة.
والجمهور: على أن مجرد الاعتقاد لا ينفع صاحبه، كما كان يعتقد عم النبي صلى الله عليه وسلم صحة رسالته، ولكنه لم يقل كلمة يحاج له صلى الله عليه وسلم بها، وكذلك لو اعتقد ونطق بالشهادتين، ولم يعمل كان مناقضا لقوله.
93

وقد قدمنا هذه المسألة مفصلة.
والصالحات: جمع صالحة، وتقدم للشيخ رحمه الله تعالى علينا وعليه تعريفه وشروط كون العمل صالحا بأدلته من كونه موافقا لكتاب الله وعمله صاحبه خالصا لوجه الله وكونه صادرا من مؤمن بالله، إلخ.
وقوله: * (وتواصوا بالحق) *.
يعتبر التواصي بالحق، من الخاص بعد العام، لأنه داخل في عمل الصالحات.
وقيل: إن التواصي، أن يوصي بعضهم بعضا بالحق.
وقيل: الحق كل ما كان ضد الباطل، فيشمل عمل الطاعات، وترك المعاصي.
واعتبر هذا أساسا من أسس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بقرينة التواصي بالصبر، أي على الأمر والنهي، على ما سيأتي إن شاء الله.
وقيل: الحق، هو القرآن، لشموله كل أمر وكل نهي، وكل خير، ويشهد لذلك قوله تعالى في حق القرآن * (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) *.
وقوله: * (إنآ أنزلنآ إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين) *.
وقد جاءت آيات في القرآن تدل على أن الوصية بالحق تشمل الشريعة كلها، أصولها وفروعها، ماضيها وحاضرها، من ذلك ما وصى الله به الأنبياء وعموما، من نوح وإبراهيم ومن بعدهم في قوله تعالى: * (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينآ إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) *.
وإقامة الدين للقيام بكليته، وقد كانت هذه الوصية عمل الرسل لأممهم ومن بعدهم، فنفذها إبراهيم عليه السلام كما قال تعالى: * (ووصى بهآ إبراهيم بنيه ويعقوب يابنى إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) *.
ومن بعد إبراهيم يعقوب كما قال تعالى: * (أم كنتم شهدآء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدى قالوا نعبد إلاهك وإلاه آبآئك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق
94

إلاها واحدا ونحن له مسلمون) *.
فهذا تواصي الأمم بأصل الإيمان وعموم الشريعة، وكذلك بالعبادة من صلاة وزكاة، كما في قوله تعالى عن نبي الله عيسى عليه السلام: * (وأوصانى بالصلواة والزكواة ما دمت حيا وبرا بوالدتى) *.
وكذلك الحالة الاجتماعية ماثلة في الوصية بالوالدين والأولاد، لترابط الأسرة، ففي الوالدين قوله تعالى: * (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله فى عامين أن اشكر لى ولوالديك إلى المصير وإن جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما فى الدنيا معروفا) *.
وفي الأبناء قال: * (يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الا نثيين) *.
وفي الحقوق العامة أوامر ونواهي، عبادات ومعاملات، جاءت آيات الوصايا العشر التي قال عنها ابن مسعود رضي الله عنه: (من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمة فليقرأ: * (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق ذالكم وصاكم به لعلكم تعقلون * ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذالكم وصاكم به لعلكم تذكرون * وأن هاذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذالكم وصاكم به لعلكم تتقون) *.
تلك الوصايا الجامعة أبواب الخير الموصدة أبواب الشر والمذيلة بهذا التبيين والتعريف، وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه لا تتبعوا السبل.
ولو أردنا أن نربط بين هذا وبين التواصي بالحق وبينهما وبين فاتحة الكتاب، لكانت النتيجة كالآتي في قوله: * (وتواصوا بالحق) *، إحالة على تلك الوصايا، وهي شاملة جامعة ومعنون لها بأنها صراط الله المستقيم.
95

فكأن قوله: * (وتواصوا بالحق) *، مساويا لقوله: وتواصوا بالصراط المستقيم. واستقيموا عليه.
ثم في سورة الفاتحة: * (اهدنا الصراط المستقيم) *، وهذا صراط الله المستقيم فاتبعوه.
فكانت سورة العصر مشتملة على التواصي بالاستقامة على صراط الله المستقيم واتباعه، ويأتي عقبها قوله: * (وتواصوا بالصبر) *، بمثابة التثبيت على هذا الصراط المستقيم إذ الصبر لازم على عمل الطاعات، كما هو لازم لترك المنكرات.
وتلك الوصايا العشر جمعت أمرا ونهيا فعلا وتركا وكذلك فيه الإشارة إلى ما يقوله دعاة الإسلام من أن العمل الصالح والدعوة إلى الحق والتواصي به، فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغالبا من يقوم به يتعرض لأذى الناس، فلزمهم التواصي بالصبر، كما قال لقمان لابنه يوصيه وجامعا في وصيته وصية سورة العصر إذ قال: * (يابنى أقم الصلواة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على مآ أصابك إن ذلك من عزم الا مور) *.
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتفصيل عند قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل) *، في سورة المائدة.
فصارت هذه السورة بحق جامعة لأصول الرسالة.
كما روي عن الشافعي رحمه الله أنه قال: لو تأمل الناس هذه السورة لكفتهم.
قوله: * (وتواصوا بالحق) *، جاء الحث على التواصي بالرحمة أيضا مع الصبر، في قوله تعالى: * (ثم كان من الذين ءامنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) *.
وبهذه الوصايا الثلاث: بالتواصي بالحق، والتواصي بالصبر والتواصي بالمرحمة، تكتمل مقومات المجتمع المتكامل قوامه الفضائل المثلى، والقيم الفضلى.
لأن بالتواصي بالحق إقامة الحق، والاستقامة على الطريق المستقيم.
96

وبالتواصي بالصبر، يستطيعون مواصلة سيرهم على هذا الصراط، ويتخطون كل عقبات تواجههم.
وبالتواصي بالمرحمة: يكونون مرتبطين كالجسد الواحد، وتلك أعطيات لم يعطها إلا القرآن وأعطاها في هذه السورة الموجزة. وبالله التوفيق.
تنبيه
قال الفخر الرازي: إن الله تعالى لما أخبر عن هؤلاء بالنجاة من الخسران، وفوزهم بالعمل الصالح والإيمان، أخبر عنهم أنهم لم يكتفوا بما يتعلق بهم أنفسهم بل تعدوا إلى غيرهم، فدعوهم إلى ما فازوا به على حد قوله صلى الله عليه وسلم: (حب لأخيك ما تحب لنفسك) ا ه. ملخصا.
ويشهد لهذا قوله تعالى: * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة) * إلى قوله * (ومن أحسن قولا ممن دعآ إلى الله وعمل صالحا وقال إننى من المسلمين ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاهآ إلا ذو حظ عظيم) *.
فقد بين تعالى أن الناس أقسام ثلاثة، إزاء دعوة الرسل.
قوم آمنوا وقالوا: ربنا الله، واستقاموا على ذلك بالعمل الصالح.
وقوم: ارتفعت همتهم إلى دعوة غيرهم وهم أحسن قولا بلا شك.
وقوم: عادوا الدعاة وأساؤوا إليهم.
ثم بين موقف الدعاة من أولئك المسيئين في غضون قوله تعالى: * (ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع) *، أي إساءة المسيئين * (بالتى هى أحسن) *، فيصبحوا أولياء لك وبين أن هذه المنزلة * (وما يلقاها إلا الذين صبروا) *، ثم بين أن من ارتفع إليها وسلك مسلكها * (إنه لذو حظ عظيم) *.
97

تنبيه
كنت سمعت من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، قوله للدعاة عدوان: أحدهما: من الإنس. والآخر من الشياطين.
وقد أرشدنا الله لكيفية التغلب عليهما واكتفاء شرهما.
أما عداوة الإنس فبمقابلة الإساءة بالإحسان، فيصبح وليا حميما.
وأما عدو الجن فبالاستعاذة منه * (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم) *.
نسأل الله تعالى الهداية والتوفيق.
وقد أشرنا إلى أن الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه قدم مبحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) *.
وذكر سورة العصر عندها، وعقد مسائل متعددة في منهج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بما لا غنى عنه.
98

((سورة الهمزة))
* (ويل لكل همزة لمزة * الذى جمع مالا وعدده * يحسب أن ماله أخلده * كلا لينبذن فى الحطمة * ومآ أدراك ما الحطمة * نار الله الموقدة * التى تطلع على الا فئدة * إنها عليهم مؤصدة * فى عمد ممددة) * * (ويل لكل همزة لمزة) *. اختلف في معنى كلمة ويل.
فقيل: هو واد في جهنم.
وقيل: هي كلمة عذاب وهلاك.
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، ذكر هذين المعنيين في سورة الجاثية عند قوله تعالى: * (ويل لكل أفاك أثيم) *، وبين أنها مصدر لا لفظ له من فعله، وأن المسوغ للابتداء بها مع أنها نكرة كونها في معرض الدعاء عليهم بالهلاك.
وقد استظهر رحمه الله تعالى هذا المعنى.
ومما يشهد لما استظهره رحمه الله، ما جاء في حق أصحاب الجنة التي أصبحت كالصريم، أنهم قالوا عند رؤيتهم إياها * (قالوا ياويلنآ إنا كنا ظالمين) *، فهي كلمة تقال عند نزول المصائب، وعند التقبيح.
وقال الفخر الرازي: أصل الويل لفظة السخط والدم، وأصلها نوى لفلان، ثم كثرت في كلامهم فوصلت باللام، ويقال: ويح بالحاء للترحم ا ه.
ومما يدل لقول الرازي أيضا قول قارون * (ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشآء من عباده ويقدر) *.
ومثله للتعجب في قوله: * (قالت ياويلتا ءألد وأنا عجوز وهاذا بعلى شيخا) *.
وقوله: * (قال ياويلتا أعجزت أن أكون مثل هاذا الغراب فأواري سوءة أخى) *.
99

فالظاهر: أنها كلمة تقال عند الشدة والهلكة، أو شدة التعجب مما يشبه المستبعد.
والذي يشهد له القرآن: هو هذا المعنى، وسبب الخلاف قد يرجع لمجيئها تارة مطلقة كقوله: * (ويل يومئذ للمكذبين) *، وهنا * (ويل لكل همزة لمزة) *.
ويجيء مع ذكر ما يتوعد به كقوله: * (فويل للذين كفروا من النار) *، وقوله: * (فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم) *، فذكر النار والعذاب الأليم.
وكذلك قوله: * (فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم) *، فهي في هذا كله للوعيد الشديد، مما ذكر معها من النار والعذاب الأليم ومشهد يوم عظيم، وليست مقصودة بذاتها دون ما ذكر معها، والعلم عند الله تعالى.
وقوله: * (همزة لمزة) *، قيل: هما بمعنى واحد، وهو الغيبة.
وأنشد ابن جرير قول زياد الأعجم: وأنشد ابن جرير قول زياد الأعجم:
* تدلى بودي إذا لاقيتني كذبا
* وإن أغيب فأنت الهامز الهمزة
*
وعزا هذا لابن عباس، وهو الذي يصيب الناس ويطعن فيهم.
وقد جاء في القرآن استعمال كل من الكلمتين مفردة عن الأخرى، بما يدل على المغايرة.
ففي الهمزة قوله: * (ولا تطع كل حلاف مهين * هماز مشآء بنميم) *، مما يدل على الكذب والنميمة.
وفي الهمزة قوله تعالى: * (ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالا لقاب) *.
وقوله: * (ومنهم من يلمزك في الصدقات) *، مما يدل على أنها أقرب للتنقص والعيب في الحضور لا في الغيبة، فتغاير الهمز في المعنى، وفي الصفة، والجمع بينهما جمع بين القبيحين، فكان مستحقا لهذا الوعيد الشديد بكلمة ويل.
وقد قيل: الهمز باليد: وقيل: باللسان في الحضرة، والهمز في الغيبة.
100

وقيل: الهمز باليد، واللمز باللسان، والغمز بالعين، وكلها معان متقاربة تشترك في تنقص الآخرين. * (الذى جمع مالا وعدده) *. هذا الوصف يشعر بأنه علة فيما قبله، إذ الموصول هنا يدل من كل المتقدمة، وليس العيب في جمع مالا بل في عدده. يحسب أن ماله أخلده. وفي عدده عدة معان:
قيل: عده كل وقت وآخر، تحفظا عليه.
وقيل: عدده كنزه.
وقيل: عدده أعده للحاجة.
وقرئ: جمع وعدد بالتشديد وبالتخفيف. والمراد به من لم يؤد حق الله فيه شحا وبخلا، كما تقدم في سورة * (ألهاكم التكاثر) *. * (يحسب أن ماله أخلده) *. هذا الحسبان هو المذموم عليه، والمنصب عليه الوعيد، لأنه كفر بالبعث. كما قال صاحب الجنة في الكهف * (ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال مآ أظن أن تبيد هاذه أبدا ومآ أظن الساعة قائمة) *. * (كلا لينبذن فى الحطمة) *. كلا: ردع وزجر له على حسبانه الباطل، ولينبذن في جواب قسم محذوف دل عليه قوله: كلا.
وهذا يفسره ما تقدم في قوله: * (فأمه هاوية) *، أي ينبذ نبذا، فيهوي على أم رأسه. عياذا بالله.
والحطمة: فعلة من الحطم، وهو الكسر، ثم الأكل الكثير.
وقد فسرت بما بعدها * (نار الله الموقدة) *، وسميت (حطمة) لأنها تحطم كل ما ألقي فيها، وتقول: هل من مزيد.
101

* (إنها عليهم مؤصدة * فى عمد ممددة) *. قيل: مؤصدة في عمد. بأن العمد صارت وصدا للباب كالقفل، والغلق له.
وقيل: في عمد: أنهم يدخلون في عمد كالقصبة، مجوفة الداخل.
وقيل: في عمد: أي توضع أرجلهم في العمد على صورة القيد في الخشبة الممتدة، يشد فيها عدد من الأشخاص في أرجلهم.
وكنت سمعت من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في ذلك: أن العمد بمعنى القصبة المجوفة تضيق عليهم، كما في قوله: * (وإذآ ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا) *.
فيكون أرجح في هذا المعنى.
وقد نص عليه في إملائه رحمة الله تعالى علينا وعليه.
102

((سورة الفيل))
* (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل * ألم يجعل كيدهم فى تضليل * وأرسل عليهم طيرا أبابيل * ترميهم بحجارة من سجيل * فجعلهم كعصف مأكول) * * (وأرسل عليهم طيرا أبابيل * ترميهم بحجارة من سجيل) *. اختلف في معنى السجيل هنا.
فقال قوم: هو السجين، أبدلت النون لاما، والسجين النار.
وقيل: إن السجيل من السجل، كأنه علم للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفار، كما أن سجينا لديوان أعمالهم واشتقاقه من الإسجال وهو الإرسال، ومنه السجل الدلو المملوء ماء، وهي حجارة مرسلة لقوله: * (وأرسل عليهم طيرا أبابيل) *.
وقوله: إن سجينا، عن الديوان أعمالهم، يعني قوله تعالى: * (كلا إن كتاب الفجار لفى سجين) *.
وقيل: معنى سجيل ستك وطين، يعني بعض حجر وبعض طين.
وقيل: معناه الشديد.
وقيل: السجيل اسم لسماء الدنيا.
وتقدم للشيح رحمة الله تعالى علينا وعليه، ترجيح أنها من طين شديد القوة.
وهذا ما يشهد له القرآن لما في سورة الذاريات * (قالوا إنآ أرسلنآ إلى قوم مجرمين * لنرسل عليهم حجارة من طين * مسومة عند ربك للمسرفين) * فنص على أنها من طين.
والحجارة من الطين: هي الآجر وهو الطين المطبوخ حتى يتحجر.
وجاء النص الآخر أنها من سجيل منضوض في قوله: * (فلما جآء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود) *.
103

وقيل فيها: كالحمصة والعدسة، والضمير في عليهم راجع لأصحاب الفيل، وقصتهم طويلة مشهورة.
تنبيه
قد أوردنا نصوص معنى سجيل، وترجيح الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه: أنها حجارة من طين شديد القوة تنبيها على ما قيل من استبعاد ذلك، وردا على من صرف معناها إلى غير الحجارة المحسوسة.
أما من استبعدها، فقد حكاه الفخر الرازي بقوله: واعلم أن من الناس من أنكر ذلك.
وقالوا: لو جوزنا أن يكون في الحجارة التي تكون مثل العدسة من الثقل ما يقوى به على أن ينفذ من رأس الإنسان ويخرج من أسفله، لجوزنا أن يكون الجبل العظيم خاليا عن الثقل، وأن يكون في وزن التبنة، وذلك يرفع الأمان عن المشاهدات.
فإنه متى جاز ذلك فليجز أن يكون بحضرتنا شموس وأقمار، ولا نراها، وأن يحصل الإدراك في عين الضرير، حتى يكون هو بالمشرق، ويرى قطعة من الأرض بالأندلس، وكل ذلك محال.
ثم قال: واعلم أن ذلك جائز في مذهبنا، إلا أن العادة جارية بأنها لا تقع.
وهذا القول يحكيه الفخر الرازي المتوفى سنة 606 ستمائة وست، فنرى استبعادهم إياها مبني على تحكيم العقل، وهذا باطل لأن خوارق العادات دائما فوق قانون العقل، بل إن تصورات العقل نفسه منشؤها من تصوراتنا لما نشاهده.
وإذا حدث العقل بما لم يشهده أو يعلم كنه وجوده لاستبعده كما هو في واقعنا اليوم، لو حدثت به العقول سابقا من نقل الحديث، والصورة على الأثير، وتوجيه الطائرات وأمثالها، لما قوي على تصورها لأنها فوق نطاق محسوساته ومشاهداته.
وحتى نحن لو لم يسايرها من علم بما يحمله الأثير من تيار كهربائي، وما له من دور فعال في ذلك لما أمكننا تصوره، ثم من يمنع شيئا من ذلك على قدرته تعالى.
وقد أخبرنا أن تلك الجبال سيأتي يوم تكون فيه كالعهن المنفوش أخف من التبنة،
104

التي مثلوا بها، بل ستكون أقل من ذلك، كما قال تعالى: * (وسيرت الجبال فكانت سرابا) *، فظهر بطلان هذا القول الذي استبعدها لعدم إدراك العقل لها.
أما من يؤول هذا المعنى إلى معنى آخر، فهو قريب من الأول من حيث المبدأ، إلا أنه أثبت الأصل وفسره بما يتناسب والعقل.
وهو محكي عن الإمام محمد عبده وتلميذه السيد رشيد رضا، إذ فسر الحجارة من سجيل، بأنه وباء الجدري.
وبالتالي: فالطير الأبابيل: هي البعوض وما أشبهه.
وقد اعتذر له السيد قطب: بأن الدافع لذلك هو ما كان شائعا في عصره من موجات متضاربة، موجة انحراف في التفكير نحو الإسلام واستغلال الإسرائيليات، كمثال على ما يشبه الأباطيل في تشويه حقائق الإسلام عند غير المسلمين.
ومن ناحية أخرى طوفان علمي حديث، من إنتاج العقل البشري فبدلا من أن تثبت حادثة كهذه صرفت إلى ما يألفه العقل من إيقاع ميكروب الجدري بجيش أبرهة حتى أهلكه، لكي لا يتصادم في إثبات الحادثة على ما نص عليه القرآن بواقع العقلية العلمانية الحديثة.
هذا ملخص ما اعتذر به السيد قطب عن هذا القول.
ولكن من الناحية العلمية والنصوص القرآنية، فقد تقدم: أن الحجارة التي من سجيل، جاء النص على أنها ليست خاصة بهؤلاء القوم، بل ألقيت على قوم لوط، بعد أن جعل عاليها سافلها، فما موقع الجدري منهم بعد إهلاكهم بإفكها المذكورة؟
ثم جاء أيضا: أنها من طين، فأين الطين من الجراثيم الجدرية؟
ومن الناحية العلمية: من أين جيء بمكروب الجدري؟ وأين كان قبل أن تأتي به الطير الأبابيل؟
ومتى كان ميكروب الجدري أو غيره يميز بين قرشي وحبشي؟
ومتى كان أي ميكروب يفتك بقوم وبسرعة، يجعلهم كعصف مأكول، مع أن: فجعلهم، تشعر بالسرعة في إهلاكهم، والعصف اليابس الذي تعصف به الريح لخفته.
105

ومتى كان وجود الجدري طفرة وفجاءه، إنه يظهر في حالات فردية، ثم ينتشر هذا من الناحية العلمية، وإدراك العقل، لما عرف من ميكروب الجدري.
ولكن ملابسات الحادثة تمنع من تصور ذلك عقلا لعدم انتشاره في جميع أفراد المنطقة، ولعدم تأثيره فعلا بهذه الصورة، ولعدم أيضا تصور مجيئه فجاءة، فدل العقل نفسه على عدم صحة هذا القول.
ثم من ناحية أخرى إذا رددنا خوارق العادات لعدم تصور العقل لها، فكيف نثبت مثل: حنين الجذع، ونبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك، وتسبيح الحصى في كفه صلوات الله وسلامه عليه؟
وقد شاهد العقل الصورة، وهي خروج الناقة من الصخرة لقوم صالح، بل إننا الآن بالحس والعقل نشاهد ما لا ندرك كنهه في وسائل الإعلام، ونسمع الصوت من الجماد مسجلا على شريط بسيط جدا.
فهل ينفي الباقي؟ بل كيف أثبت النصارى لعيسى ابن مريم عليه السلام إبراء الأكمه والأبرص. وإحياء الموتى، وعمل الطير من الطين، ثم ينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله.
وكيف أثبت اليهود لموسى أمر العصا وشق البحر؟ وأين العقل من ذلك كله؟
الواقع أننا في كل زمان ومع كل قضية، يجب أن نلتزم جانب الاعتدال، لا هو جري وراء كل خبر، ولو كان إسرائيليا ولا هو رد لكل نص ولو كان صريحا قرآنيا، بل كما قال السيد قطب في ذلك:
يجب أن نستمد فكرنا من نصوص القرآن، وأن ما يقرره نعتقده ونقول به.
وقد ناقشنا هاتين الفكرتين القديمة التي استبعدت ذلك كلية، والحديثة التي أولتها.
ونضيف شيئا آخر في جانب الفكرة الثانية، وهي لعل مما حدا بأصحابها إلى ذلك ما جاء عن قتادة قوله: إنه لم ير الجدري بأرض العرب مثل تلك السنة.
وقيل أيضا: لم ير شجر الحنظل، إلا في ذلك التاريخ.
فيقال أيضا: إن العقل لا يستبعد هنا أن يكون إهلاك هذا الجيش الكبير بتلك
106

الحجارة في مكان معسكره في بطن الوادي، ووقوع الجثث مصابة بها، لا يمنع أن تتعفن ثم يتولد منها مكروب الجدري، ولا مانع من ذلك. والعلم عند الله تعالى.
تنبيه آخر
قالوا: إن أصحاب هذا الجيش نصارى وهم أهل دين وكتاب، وأهل مكة وثنيون لا دين لهم، والكعبة ممتلئة بالأصنام، فكيف أهلك الله النصارى أصحاب الدين ولم يسلطهم على الوثنيين؟
وأجيب عن ذلك بعدة أجوبة.
منها: أن الجيش ظالم باغ، والبغي مرتعه وخيم، ولو كان المظلوم أقل من الظالم، ويشهد لذلك الحديث (في نصرة المظلوم، واستجابة دعوته ولو كان كافرا).
ومنها: أن الوثنية اعتداء على حق الله في العبادة، وغزو هذا الجيش اعتداء على حقوق العباد.
ومنها: أنه إرهاص لمولد النبي صلى الله عليه وسلم، إذ ولد في هذا العام نفسه.
وكلها وإن كانت لها وجه من النظر، إلا أنه يبدو لي وجه، وهو أن الأصل في نشأة البيت وإقامته، إنما هو الله رفع قواعده وأقام الصلاة في رحابه، وكان طاهرا مطهرا للعاكفين فيه والركع السجود، وإنما الوثنية طارئة عليه وإلى أمد قصير مداه ودنا منتهاه، لدين جديد.
والمسيحية بنفسها تعلم ذلك وتنص عليه وتبشر به، فكانت معتدية على الحقين معا، حق الله في بيته، والذي تعلم حرمته وماله، وحق العباد الذين حوله.
وكانت لو سلطت عليه بمثابة المنتصر على مبدأ صحيح، مع فسادها مبدأ صحة وسلامة بناء البيت، ووضعه البيت الذي من خصائصه أن يكون مثابة للناس وأمنا.
فكيف لا يأمن هو نفسه من غزو الغزاة وطغيان الطغاة، فصانه الله تعالى صيانة لمبدإ وجوده، وحفاظا على أصل وضعه في الأرض، ويكفي نسبته لله بيت الله.
وقد أدرك أبو طالب هذا المعنى بعينه إذ قال لأبرهة:
107

أنا رب الإبل وللبيت رب يحميه. وأتى باب الكعبة فتعلق بها وقال:
لاهم إن العبد يمنع رحله فامنع حلالكلاهم إن العبد يمنع رحله فامنع حلالك
* لا يغلبن صليبهم
* ومحالهم عددا يوالك
*
* إن يدخلوا البلد الحرا
* م فأمر ما بدا لك
*
وقيل: إنه قال: وقيل: إنه قال:
* يا رب لا أرجو لهم سواكا
* يا رب فامنع منهم حماكا
*
* إن عدو البيت من عاداكا
* إنهم لن يقهروا قواكا
*
108

((سورة قريش))
* (لإيلاف قريش * إيلافهم رحلة الشتآء والصيف * فليعبدوا رب هاذا البيت * الذى أطعمهم من جوع وءامنهم من خوف) * * (لإيلاف قريش * إيلافهم رحلة الشتآء والصيف) *. اختلف في اللام في لإيلاف قريش، هل هي متعلقة بما قبلها، وعلى أي معنى. أم متعلقة بما بعدها، وعلى أي معنى.
فمن قال: متعلقة بما قبلها، قال متعلقة بجعل في قوله: * (فجعلهم كعصف مأكول) *.
وتكون بمعنى لأجل إيلاف قريش يدوم لهم ويبقى تعظيم العرب إياهم، لأنهم أهل حرم الله، أو بمعنى إلى أي جعلنا العدو كعصف مأكول، هزيمة له ونصرة لقريش نعمة عليهم، إلى نعمة إيلافهم رحلة الشتاء والصيف.
ومن قال: متعلقة بما بعدها، قال لإيلاف قريش إيلافهم الذي ألقوه أي بمثابة التقرير له، ورتب عليه، فليعبدوا رب هذا البيت. أي أثبته إليهم وحفظه لهم.
وهذا القول الأخير هو اختيار ابن جرير، ورواه ابن عباس، ورد جواز القول الأول، لأنه يلزمه فصل السورتين عن بعض.
وقيل: إنها للتعجب، أي أعجبوا لإيلاف قريش، حكاه القرطبي عن الكسائي والأخفش، والقول الأول لغيره.
وروي أيضا عن ابن عباس وغيره، واستدلوا بقراءة السورتين معا في الصلاة في ركعة قرأ بهما عمر بن الخطاب، وبأن السورتين في أبي بن كعب متصلتان، ولا فصل بينهما.
وحكى القرطبي القولين، ولم يرجح أحدهما، ولا يبعد اعتبار الوجهين لأنه لا يعارض بعضها بعضا.
109

وما اعترض به ابن جرير بأنه يلزم عليه اتصال السورتين فليس بلازم، لأنه إن أراد اتصالهما في المعنى، فالقرآن كله متصلة سورة معنى.
ألا ترى إلى فاتحة الكتاب وفيها * (اهدنا الصراط المستقيم) *، فجاءت سورة البقرة: * (ذالك الكتاب لا ريب فيه) *، وبعدها ذكر أوصافهم وقال: * (أولائك على هدى من ربهم) *، فأي ارتباط أقوى من هذا، كأنه يقول: الهدى الذي تطلبونه في هذا الكتاب فهو هدى للمتقين، وإن أراد اتصالا حسا بعدم البسملة، فنظيرها سورة براءة مع الأنفال، ولكن لا حاجة إلى ذلك، لأن إجماع القراء على إثبات البسملة بينهما، اللهم إلا مصحف أبي بن كعب، وليس في هذين الوجهين وجه أرجح من وجه.
ولذا لم يرجح بينهما أحد من المفسرين، سوى ابن جرير رحمه الله:
وصحة الوجهين أقوى وأعم في الامتنان وتعداد النعم.
والإيلاف: قيل من التأليف، إذ كانوا في رحلتيهم يألفون الملوك في الشام واليمن، أو كانوا هم في أنفسهم مؤلفين ومجمعين، وهو امتنان عليهم بهذا التجمع والتألف، ولو سلط عليهم لفرقهم وشتتهم، وأنشدوا: والإيلاف: قيل من التأليف، إذ كانوا في رحلتيهم يألفون الملوك في الشام واليمن، أو كانوا هم في أنفسهم مؤلفين ومجمعين، وهو امتنان عليهم بهذا التجمع والتألف، ولو سلط عليهم لفرقهم وشتتهم، وأنشدوا:
* أبونا قصي كان يدعي مجمعا
* به جمع الله القبائل من فهر
*
وقيل: من الألف والتعود، أي ألفوا الرحلتين.
فللإبقاء لهم على ما ألقوه وقريش قال أبو حيان: علم على القبيلة.
وقيل: أصلها من النقرش، وهو الاجتماع أو التكسب والجمع.
وقيل: من دابة البحر المسماة بالقرش وهي أخطر حيواناته، وهو مروي عن ابن عباس في جوابه لمعاوية.
وأنشد قول الشاعر: وأنشد قول الشاعر:
* وقريش هي التي تسكن الب
* حر بها سميت قريش قريشا
*
110

* تأكل الرث والسمين ولا تترك
* فيها لذي جناحين ريشا
*
* هكذا في البلاد حي قريش
* يأكلون البلاد أكلا كميشا
*
* ولهم آخر الزمان نبي
* يكثر القتل فيهم والخموشا
*
وقوله تعالى * (رحلة الشتآء والصيف) *، هو تفسير لإيلاف سواء على ما كانوا يؤالفون بين الملوك في تلك الرحلات، أو ما كانوا يألفونه فيهما. * (فليعبدوا رب هاذا البيت) *. المراد بالبيت: البيت الحرام، كما جاء في دعوة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام * (ربنآ إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم) *. وقوله تعالى: * (الذى أطعمهم من جوع وءامنهم من خوف) *. بمثابة التعليل لموجب أمرهم بالعبادة، لأنه سبحانه الذي هيأ لهم هاتين الرحلتين اللتين كانتا سببا في تلك النعم عليهم، فكان من واجبهم أن يشكروه على نعمه ويعبدوه وحده.
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان هذا المعنى، عند قوله تعالى: * (أولم يروا أنا جعلنا حرما ءامنا ويتخطف الناس من حولهم) * وساق النصوص بهذا المعنى بما أغنى عن إعادته.
تنبيه
في قوله تعالى: * (فليعبدوا رب هاذا البيت * الذى أطعمهم من جوع وءامنهم من خوف) *، ربط بين النعمة وموجبها، كالربط بين السبب والمسبب.
ففيه بيان لموجب عبادة الله تعالى وحده، وحقه في ذلك على عباده جميعا، وليس خاصا بقريش.
وهذا الحق قرره أول لفظ في القرآن، وأول نداء في المصحف، فالأول قوله تعالى: * (الحمد لله رب العالمين) *، كأنه يقول هو سبحانه مستحق للحمد، لأنه رب العالمين، أي خالقهم ورازقهم، وراحمهم إلى آخره.
111

والثاني: * (ياأيها الناس اعبدوا ربكم) *.
ثم بين الموجب بقوله: * (الذى خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) *.
ثم عدد عليهم نعمه بقوله: * (الذى جعل لكم الا رض فراشا والسمآء بنآء وأنزل من السمآء مآء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) *.
فهذه النعم تعادل الإطعام من جوع، والأمن من خوف، في حق قريش، ومن ذلك قوله تعالى: * (إنآ أعطيناك الكوثر * فصل لربك وانحر) *.
وقد بين تعالى أن الشكر يزيد النعم والكفر يذهبها، إلا ما كان استدراجا، فقال في شكر النعمة: * (لئن شكرتم لأزيدنكم) *.
وقال في الكفران وعواقبه: * (وضرب الله مثلا قرية كانت ءامنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) *.
وبهذه المناسبة إن على كل مسلم أفرادا وجماعات، أن يقابلوا نعم الله بالشكر، وأن يشكروها بالطاعة والعبادة لله، وأن يحذروا كفران النعم.
تنبيه آخر
في الجمع بين إطعامهم من جوع وآمنهم من خوف، نعمة عظمى لأن الإنسان لا ينعم ولا يسعد إلا بتحصيل النعمتين هاتين معا، إذ لا عيش مع الجوع، ولا أمن مع الخوف، وتكمل النعمة باجتماعهما.
ولذا جاء الحديث (من أصبح معافى في بدنه آمنا في سربه عنده قوت يومه، فقد اجتمعت عنده الدنيا بحذافيرها).
تنبيه آخر
إن في هذه السورة دليلا على أن دعوة الأنبياء مستجابة، لأن الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام دعا لأهل الحرام بقوله: * (فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات) *.
112

وقال: * (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك) *، فأطعمهم الله من جوع وآمنهم من خوف، وبعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته.
113

((سورة الماعون))
* (أرءيت الذى يكذب بالدين * فذلك الذى يدع اليتيم * ولا يحض على طعام المسكين * فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون * الذين هم يرآءون * ويمنعون
الماعون) * * (أرءيت الذى يكذب بالدين * فذلك الذى يدع اليتيم * ولا يحض على طعام المسكين) *. الذي يكذب بالدين، فيه اسم الموصول مبهم بينه ما بعده، وهو الذي يدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين.
وقد بين تعالى في آية آخرى، أن الإيمان بيوم الدين يحمل صاحبه على إطعام اليتيم والمسكين في قوله تعالى: * (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) *.
ثم قال مبينا الدافع على إطعامهم إياهم: * (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزآء ولا شكورا * إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا) *.
وهنا سؤال: وهو لم خص المكذبين بيوم الدين عمن يرتكب هذين الأمرين دع اليتيم، وهو دفعه وزجره، وعدم الحض على إطعام المسكين، وبالتالي عدم إطعامه هو من عنده؟
والجواب: أنهما نموذجان، ومثالان فقط.
والأول منهما: مثال للفعل القبيح.
والثاني: مثال للترك المذموم.
ولأنهما عملان إن لم يكونا إسلاميين فهما إنسانيان، قبل كل شيء.
وفي الآية الأخرى توجيه للجواب، وهو أن المؤمن يخاف من الله يوما عبوسا، وعبر بالعبوس في حق يوم القيامة، لئلا يعبس هو في وجه اليتيم والمسكين لضعفهما.
ومن جانب آخر فإن كان التكذيب بيوم الدين، يحمل على كل الموبقات، إلا أنها
114

قد تجد ما يمنع منها، كالقتل والزنى والخمر لتعلق حق الآخرين، وكذلك السرقة والنهب.
أما إيذاء اليتيم وضياع المسكين، فليس هناك من يدفع عنه، ولا يمنع إيذاء هؤلاء عنهما، وليس لديهما الجزاء الذي ينتظره أولئك منهم على الإحسان إليهم.
وجبلت النفوس على ألا تبدل إلا بعوض، ولا تكف إلا عن خوف، فالخوف مأمون من جانبي اليتيم والمسكين، والجزاء غير مأمول منهما، فلم يبق دافع للإحسان إليهما، ولا رادع عن الإساءة لهما إلا الإيمان بيوم الدين والجزاء، فيحاسب الإنسان على مثقال الذرة من الخير.
وقيل: إن دع اليتيم: هو طرده عن حقه، وعدم الحض على طعام المسكين: عدم إخراج الزكاة.
ولكن في الآية ما يمنع ذلك، لأن الزكاة إنما يطالب بها المؤمن والسياق فيمكن يكذب بيوم الدين فلا زكاة. * (فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون) *. اختلف في المصلين الذين توجه إليهم الوعيد بالويل هنا.
والجمهور: على أنهم الذين يسهون عن آدائها، ويتساهلون في أمر المحافظة عليها.
وقيل: عن الخشوع فيها وتدبر معانيها.
ولكن الصحيح أنه الأول.
وقد جاء عن عطاء وعن ابن عباس أنهما قالا: الحمد لله الذي قال عن صلاتهم، ولم يقل في صلاتهم، كما أن السهو في الصلاة لم يسلم منه أحد، حتى أنه وقع من النبي صلى الله عليه وسلم لما سلم من ركعتين في الظهر كما هو معلوم من حديث ذي اليدين، وقال: (إني لا أنسى، ولكني أنسى لأسن) فكيف ينسيه الله ليسن للناس أحكام السهو، ويقع الناس في السهو بدون عمد منهم.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه).
115

وقد عقد الفقهاء باب سجود السهو تصحيحا لذلك.
لذلك بقي من المراد بالذين هم عن صلاتهم ساهون.
قيل: نزلت في أشخاص بأعيانهم.
وقيل: في كل من أخر الصلاة عن أول وقتها، أو عن وقتها كله، إلى غير ذلك، أو عن أدائها في المساجد وفي الجماعة.
وقيل: في المنافقين.
وفي السورة تفسير صريح لهؤلاء، وهو قوله تعالى: * (الذين هم يرآءون * ويمنعون الماعون) *.
والمرائي في صلاته قد يكون منافقا، وقد يكون غير منافق.
فالرياء أعم من جهة، والنفاق أعم من جهة أخرى، أي قد يرائي في عمل ما، ويكون مؤمنا بالبعث والجزاء وبكل أركان الإيمان، ولا يرائي في عمل آخر، بل يكون مخلصا فيه كل الإخلاص.
والمنافق دائما ظاهره مخالف لباطنه في كل شيء، لا في الصلاة فقط.
ولكن جاء النص: بأن المراءاة في الصلاة، من أعمال المنافقين.
وجاء النص أيضا. بأن منع الماعون من طبيعة الإنسان إلا المصلين، كما في قوله تعالى: * (إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا * إلا المصلين) *.
وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيان السهو عنها وإضاعتها عند قوله تعالى: * (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلواة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا إلا من تاب) *.
وبين في آخر المبحث تحت عنوان: مسألة في حكم تاركي الصلاة جحدا أو كسلا. وزاده بيانا، عند قوله تعالى: * (والذين هم على صلواتهم يحافظون) * في دفع إيهام الاضطراب للجمع بين هذه الآية وآية * (ما سلككم فى سقر) *.
116

وذكر قول الشاعر:
* دع المساجد للعباد تسكنها
على ما سنذكره بعد، ثم نبه قائلا: إذا كان الوعيد عمن يسهو عنها فكيف بمن يتركها؟! ا ه.
وقد تساءل بعض المفسرين عن موجب اقتران هذه الآية بالتي قبلها.
وأجابوا: بأن الكل من دوافع عدم الإيمان بالبعث، ومن موجبات التكذيب بيوم الدين، فهي مع ما قبلها في قوة، فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين، وعن صلاتهم ساهون، فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون.
فجمعهم مع الأول، ونص على وعيده الشديد، وبين وصفا ولهم، وهو أنهم يمنعون الماعون.
تنبيه
في هذه السورة، وفي آية * (والذين هم على صلواتهم يحافظون) *، التي هي من صفات المؤمنين معادلة كبيرة.
إحداهما: في المنافقين تاركي الصلاة أو مضيعيها.
والأخرى في المؤمنين المحافظين عليها، أي أن الصلاة هي المقياس والحد الفاصل.
وعليه قوله صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن ترك الصلاة فقد كفر).
أما أثر الصلاة في الإسلام، وعلى الفرد والجماعة، فهي أعظم من أن تذكر.
وقد وجدنا بعض آثارها وهو المراءاة في العمل، أي ازدواج الشخصية والانعزال في منع الماعون، أي لا يمد يد العون ولو باليسير لمجتمعه الذي يعيش فيه، وقد جاءت نصوص صريحة في مهمة الصلاة عاجله وآجلة.
ففي العاجل قوله تعالى: * (إن الصلواة تنهى عن الفحشآء والمنكر) *، ومن الفحشاء: دع اليتيم وعدم إطعام المسكين، في الدرجة الأولى.
117

ومنها: كل رذيلة. منكرة، فهي إذن سياج للإنسان يصونه عن كل رذيلة. وهي عون على كل شديدة، كما قال تعالى: * (واستعينوا بالصبر والصلواة) * فجعلها قرينة الصبر في التغلب على الصعاب، وهي في الآخرة نور، كما قال تعالى: * (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم) *، مع قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أمتي يأتون يوم القيامة غرا محجلين من أثر الوضوء).
وقوله: * (ويمنعون الماعون) *، قيل: في الماعون الزكاة لقلتها، والماعون: القليل، والماعون: المال في لغة قريش.
وقيل: هو ما يعين على أي عمل، ومنه الدلو والفأس والإبرة والقدر. ونحو ذلك.
وإذا كان السهو عن الصلاة يحمل على منع الماعون، فإن من يمنع الماعون وهو الآلة أو الإناء يقضي به الحاجة ثم يرد، كما هو بدون نقصان، فلأن يمنع الصدقة أو الزكاة من باب أولى.
ومن هنا: لم يكن المنافق ليزكي ماله ولا يتصدق على محتاج، بل ولا يقرض آخر قرضا حسنا. ولذا نجد تفشي الربا في المنافقين أشد وأكثر.
وهنا يأتي مبحثان:
الأول منهما: حكم الرياء وما حده؟
والثاني: حكم العارية.
أما الرياء: فقيل هو مشتق من الرؤية، والمراد به إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمد عليها، وقد جاء في الحديث تسميته الشرك الخفي: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الخفي، قالوا: وما الشرك الخفي يا رسول الله؟ قال: الرياء، فإنه أخفى في نفوسكم من دبيب النمل).
وجاء قوله تعالى: * (فمن كان يرجو لقآء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) *.
وبيان الشرك فيه أنه يعمل العمل مما هو أصلا لله، كالصلاة أو الصدقة أو الحج، ولكنه يظهره لقصد أن يحمده الناس عليه.
118

فكأن هذا الجزء منه مشاركة مع الله، حيث أصبح من عمله جزء لطلب الثناء من الناس عليه.
وقد جاء حديث أبي هريرة عند مسلم: يقول الله تعالى: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك معي غيري تركته وشركه).
أما حكم الرياء في العمل، ففي هذا النص دلالة على رد العمل على صاحبه، وتركه له.
فقيل: إنه يكون لا له فيه، ولا عليه منه.
فقيل: لا يخلو من ذم، كما حذر الله تعالى منه بقوله: * (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئآء الناس) *.
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من راءى راءى الله به، ومن سمع سمع الله به) رواه مسلم.
والتسميع: هو العمل ليسمع الناس به كما في حديث الوليمة (في اليوم الأول والثاني والثالث سمعة. ومن سمع سمع به).
فالرياء مرجعه إلى الرؤية، والتسميع مرجعه إلى السماع.
ومعلوم أنها نزلت في قريش يوم بدر، وقد أحبط الله عملهم، وردهم على أعقابهم.
وفي حديث أبي هريرة، وقيل: إنه محبط للأعمال لمسمى الشرك لقوله تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به) *.
وأجيب: بأنه يحبط العمل الذي هو فيه فقط، فإن راءى في الصلاة أحبطها ولا يتعدى إلى الصوم، وإن راءى في صلاة نافلة لا يتعدى إحباطها إلى صلاة فريضة، وهكذا، قد يبدأ عملا خالصا لله، ثم يطرأ عليه شبح الرياء، فهل يسلم له عمله أو يحبطه ما طرأ عليه من الرياء؟
فقالوا: إن كان خاطرا ودفعه عنه فلا يضره، وإن استرسل معه. فقد رجح أحمد
119

وابن جرير، عدم بطلان العمل نظرا لسلامة القصد ابتداء.
ودليلهم في ذلك: ما روى أبو داود في مراسيله عن عطاء الخراساني أن رجلا قال: يا رسول الله، إن بني سلمة كلهم يقاتل، فمنهم من يقاتل للدنيا، ومنهم من يقاتل نجدة، ومنهم من يقاتل ابتغاء وجه الله تعالى قال: (كلهم إذا كان أصل أمره، أن تكون كلمة الله هي العليا).
وذكر عن ابن جرير: أن هذا في العمل الذي يرتبط آخره بأوله، كالصلاة والصيام.
أما ما كان مثل القراءة والعلم. فإنه يلزمه تجديد النية الخالصة لله، أي لأن كل جزء من القراءة، وكل جزء من طلب العلم مستقل بنفسه، فلا يرتبط بما قبله.
وهناك مسألة: وهي أن العبد يعمل العمل لله خالصا، ثم يطلع عليه بعض الناس، فيحسنون الثناء عليه فيعجبه ذلك. فلا خلاف أنه ليس من الرياء في شيء لما جاء في حديث أبي ذر رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يعمل من الخير يحمده الناس عليه، فقال صلى الله عليه وسلم (عاجل بشرى المسلم) رواه مسلم.
وقد ذكر بعض العلماء: أن من كان يعمل عملا خفيا، ثم حضر بعض الناس فتركه من أجلهم خشية الرياء، أنه يدخل في الرياء، لأنه يضعف في نفسه أن يخلص النية لله، وفي هذا بعد ومشقة.
أما منع الماعون وإعطاؤه، وهو العارية كما تقدم.
فإن مبحث العارية في ناحيتين: ما هي العارية، والثاني: حكمها أواجب أم مباح، وحكم ضمانها مضمونة أم لا؟
أما تعريفها عند الفقهاء: هي إباحة الانتفاع بعين من أعيان المال، مع بقاء عينه.
وقولهم مع بقاء عينه: كالقدر والفأس والإبرة والمنخل، ونحو ذلك، بخلاف ما يكون إتلافه في استعماله، كالشمع للإضاءة، والزيت للدهن، والكحل للاكتحال، ونحو ذلك، مما تنفد عينه باستعماله، فلا يكون عارية، ولكن يكون قرضا، والقرض يكون معاوضته بمثله.
أما حكم العارية. فقيل: جائز.
120

وقيل: بل واجب.
وقيل: مستحب.
وحكى ابن قدامة الإجماع على استحبابها، ودليل من قال بالوجوب بنص الآية: * (ويمنعون الماعون) *، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه في حق الإبل لما ذكر الزكاة (وأن حقها إعارة دلوها، وإطراق فحلها، ومنحه لبنها، يوم ورودها).
والواقع أن هذا الحديث ذكر فيه ما ليس بعارية قطعا، مثل طرق الفحل ومنح اللبن، مما يضعف الاستدلال به.
وقد ساق المجد في المنتقى برواية أحمد ولهم.
أما الوعيد في الآية فقالوا: هو منصب على الصفات الثلاث: السهو عن الصلاة، والرياء في العمل، ومنع الماعون جميعا، ومن اتصف بواحدة فله قدره من الوعيد بحسبه.
وأقل ما يقال فيها ما جاء في قوله تعالى: * (وتعاونوا على البر والتقوى) *، والحديث الصحيح في حق الزكاة، لما ذكر صلى الله عليه وسلم الذهب والفضة والإبل والبقر والخيل، وقال: (ولا ينسى حق الله في ظهرها).
ثم سئل عن الحمر، فقال: (لم أجد إلا الآية الشاذة الفاذة: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) *).
وإعارة المتاع إباحة المنفعة وهي خير كثير.
والحديث الآخر: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس).
ونقل الشوكاني عن الكشاف قولا: أنها تكون واجبة عند الاضطرار، وقبيح في غير الضرورة مروءة. ا ه.
والضرورة: مثل الدلو إذا وردت الماء ولا دلو معك، وفي اضطرار إلى الماء.
وقياس الفقهاء: أنه لو تلف شيء بسبب ذلك لضمن المانع.
كما قالوا في الامتناع في بعض الصور: هل هو فعل أو ترك؟ مثل من كان عنده
121

خيط، واحتيج إليه في خياطة جرح إنسان، أو قطنة فمات، فهل يعد ترك إعطاء الخيط مجرد ترك لا يؤاخذ عليه، أو يعتبر فعلا لأنه تسبب عنه موت إنسان. ومثله منع الدلو ليروي أو يسقي إبله أو يشرب هو؟
والصحيح عندهم: أن الترك في مثل هذه الحالة يؤاخذ عليه مؤاخذة الفعل، كما قال صاحب مراقي السعود.
* والترك فعل في صحيح المذهب
وهنا ما يشهد له الاستعمال العربي الصحيح، كما قيل في بناء المسجد: وهنا ما يشهد له الاستعمال العربي الصحيح، كما قيل في بناء المسجد:
* لئن قعدنا والنبي يعمل
* لذاك منا العمل المضلل
*
فسمي القعود عن العمل عملا مضللا، فتحصل من هذا أن العارية مستحبة شرعا ومروءة وعرفا في حالة الاختيار، وواجبة في حالة الاضطرار، مع ملاحظة أن حالات الاستعارة أغلبها اضطرار، إلا أن حالات الاضطرار تتفاوت ظروفها.
وقد امتدح الله الأنصار بأنهم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فالعارية من باب أولى، لأنه ينتفع بها وترد لصاحبها.
وقد امتدح الشاعر القوم بعدم منعهم الماعون، بقوله: وقد امتدح الشاعر القوم بعدم منعهم الماعون، بقوله:
* قوم على الإسلام ولما يمنعوا
* ماعونهم ويضيع التهليلا
*
وإن كان بعض الناس حمل الماعون هنا على الزكاة، ولكن قول الشاعر: قوم على الإسلام، يتضمن إخراجهم الزكاة ضمن إسلامهم، فيكون الباقي امتداد حالهم في خصوص الماعون.
بقي مبحث ضمانها: تختلف الأقوال في ضمان العارية، فبعضهم يعتبرها أمانة، وعليه فلا تكون مضمونة وهذا مذهب الحنفية والمالكية، إذا لم يحصل منه تعد.
وعند الشافعي وأحمد: أنها مضمونة، إلا إذا كانت على الوجه المأذون فيه.
كما قالوا في السيف: يستعيره فينكسر في القتال فلا ضمان فيه.
واستدل من قال بضمانها بالحديث العام (على اليد ما أخذت، حتى تؤديه) رواه
122

المجد في المنتقى، وقال: رواه الخمسة إلا النسائي.
وبحديث صفوان بن أمية، أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه يوم حنين أذرعا قيل ثلاثين، وقيل ثمانين، وقيل مائة. فقال: أغصبا يا محمد؟ قال: (بل عارية مضمونة، فقال: فضاع بعضها، فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يضمنها له، فقال: أنا اليوم في الإسلام أرغب) رواه أحمد وأبو داود.
ونص الفقهاء: أن ضمانها بقيمتها يوم تلفت أو بمثلها، إن كانت مثلية، ويستدل له بما جاء في قصعة حفصة لما ضربتها عائشة فسقطت على الأرض فانكسرت، وانتثر الطعام، فأخذ صلى الله عليه وسلم قصعة عائشة وردها إلى حفصة، وقال: (قصعة بقصعة، وطعام بطعام) أي أن الضمان إما بالمثل إن كان مثليا، أو بالقيمة إن كان مقوما.
وإذا كانت العارية مضمونة وحكمها الجواز، فللمستعير طلب ردها متى شاء، إلا إذا تعلقت بها مصلحة المستعير، ولا يمكن ردها إلا بمضرة عليه.
قالوا: كمن أعار سفينة وتوسط بها المستعير عرض البحر، فلا يملك المعير ردها لتعذر ذلك وسط البحر.
وقيل: له طلبها، وتكون بالأجرة على المستعير، والأول أرجح.
وكالذي أعار أرضا للزرع، وقبل أن يستحصد الزرع يطلبها صاحبها، وهكذا. والله تعالى أعلم.
حكم من جحد العارية
إن حديث المرأة المخزومية مشهور، وهو أنها كانت تستعير المتاع وتجحده، فاشتهرت بذلك، ثم إنها سرقت فقطعت في السرقة، لا في جحد المتاع المستعار، وهذا هو الأصح. لأن السرقة لا تكون إلا على وجه التخفي ومن حرز.
والاستعارة خلاف ذلك، وإنما تدخل في قوله تعالى: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الاحمانات إلى أهلها) *.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه).
123

وحديث (أد الأمانة لمن ائتمنك، ولا تخن من خانك) رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن.
وهذا مجمل مباحث العارية، وتفصيل فروعها في كتب الفقه أوجزنا منه ما يتعلق بمنع الماعون وعدم جواز منعه، وما يتعلق ببذله، وبالله تعالى التوفيق.
تنبيه
في هذه السورة بيان منهج علمي يلزم كل باحث، وهو جمع أطراف النصوص وعدم الاقتصار على جزء منه، وذلك في قوله تعالى: * (فويل للمصلين) *، وهي آية مستقلة، ولو أخذت وحدها لكانت وعيدا للمصلين.
كما قال الشاعر الماجن في قوله: كما قال الشاعر الماجن في قوله:
* دع المساجد للعباد تسكنها
* وسر إلى خانة الخمار يسقينا
*
* ما قال ربك ويل للألى سكروا
* وإنما قال ويل للمصلينا
*
ولذا لا بد من ضميمة ما بعدها للتفسير والبيان، الذين هم عن صلاتهم ساهون، ثم فسر هذا التفسير أيضا بقوله: * (الذين هم يرآءون * ويمنعون الماعون) *.
ومثل هذه الآية من الحديث، ما جاء عند ابن ماجة ما نصه بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن مسيرة المسجد تعطلت: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من عمر مسيرة المسجد كتب له كفلان من الأجر).
هذا الحديث وإن كان في الزوائد، قال عنه: في إسناده ليث بن أبي سليم ضعيف، إلا أنه نص فيما تمثل له لأن من اقتصر على جوابه صلى الله عليه وسلم اعتبر مسيرة المسجد أفضل، ومن جمع طرفي الحديث عرف المقصود منه.
ويتفرع على هذا ما أخذه مالك رحمه الله في باب الشهادة: أن الشخص لا يحق له أن يشهد على مجرد قول سمعه، إلا إذا استشهدوه عليه، وقالوا: أشهد عليه، أو إلا إذا سمع الحديث من أوله مخافة أن يكون في أوله ما هو مرتبط بآخره، كما لو قال المتكلم للآخر: لي عندك فرس، ولك عندي مائة درهم، فيسمع قوله: لك عندي مائة درهم
124

، ولم يسمع ما قبلها، فإذا شهد على ما سمع كان إضرارا بالمشهود عليه، وهذه السورة تدل لهذا المأخذ، والله تعالى أعلم.
125

((سورة الكوثر))
* (إنآ أعطيناك الكوثر * فصل لربك وانحر * إن شانئك هو الا بتر) * * (إنآ أعطيناك الكوثر) *. الكوثر فوعل من الكثرة، وأعطيناك قرىء: أنطيناك، بإبدال العين نونا، وليست النون مبدلة عن العين، كإبدال الألف من الواو أو العين في الأجوف ونحوه، ولكن كلا منهما أصل بذاته، وقراءة مستقلة. قاله أبو حيان.
واختلف في الكوثر.
فقيل: علم.
وقيل: وصف.
وعلى العلمية قالوا: إنه علم على نهر في الجنة، وعلى الوصف قالوا: الخير الكثير.
ومما استدل به على العلمية، ما جاء في السنة من الأحاديث الصحاح، ذكرها ابن كثير وغيره.
وفي صحيح البخاري عن أنس قال: لما عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء قال: (أتيت نهر حافتاه قباب اللؤلؤ مجوف. فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر).
وبسنده أيضا عن عائشة رضي الله عنها (سئلت عن قوله تعالى: * (إنآ أعطيناك الكوثر) *، قالت: هو نهر أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم، شاطئاه عليهما در مجوف، آنيته كعدد النجوم).
وبسنده أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الكوثر: هو الخير الذي أعطاه الله إياه.
قال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير: فإن الناس يزعمون أنه نهر في الجنة، فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير، الذي أعطاه الله إياه.
وذكر ابن كثير هذه الأحاديث وغيرها عن أحمد رحمه الله: ومنها بسند أحمد إلى
126

أنس بن مالك قال: (أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة، فرفع رأسه متبسما إما قال لهم، وإما قالوا له: لم ضحكت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه نزلت علي انفا سورة، فقرأ بسم الله الرحمان الرحيم، إنا أعطيناك الكوثر، حتى ختمها، فقال: هل تدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة، عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب يختلج العبد منهم، فأقول: يا رب إنه من أمتي، فيقال: إنك لا تدري
ما أحدثوا بعبدك).
وذكر ابن كثير ما جاء في صفة الحوض، وهذه النصوص على أن الكوثر نهر في الجنة، أعطاه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث الأخير عن الإمام أحمد قوله: (عليه خير كثير) يشعر بأن معنى الوصفية موجود.
ولذا قال بعض المفسرين: إنه الخير الكثير.
وممن قال ذلك ابن عباس، كما تقدم في حديث البخاري عنه.
واستدلوا على المعنى، بقول الشاعر الكميت: واستدلوا على المعنى، بقول الشاعر الكميت:
* وأنت كثير يا ابن مروان طيب
* وكان أبوك ابن الفصائل
*
والذي تطمئن إليه النفس أن الكوثر، هو الخير الكثير، وأن الحوض أو النهر من جملة ذلك.
وقد أتت آيات تدل على إعطاء الله لرسوله الخير الكثير، كما جاء في قوله تعالى: * (ولقد ءاتيناك سبعا من المثاني والقرءان العظيم) *.
وفي القريب سورة الضحى وفيها: * (ولسوف يعطيك ربك فترضى) *، أعقبها بنعم جليلة من شرح الصدور، ووضع الوزر، ورفع الذكر، واليسر بعد العسر.
وبعدها في سورة التين جعل بلده الأمين، وأعطى المؤمنين الذين يعملون الصالحات أجرا غير ممنون.
وبعدها سورة اقرأ. امتن عليه القرآن، وعلمه ما لم يكن يعلم.
127

وبعدها سورة القدر: أعطاه ليلة خيرا من ألف شهر.
وبعدها سورة البينة: جعل أمته خير البرية، ومنحهم رضاه عنهم، وأرضاهم عنه.
وبعدها سورة الزلزلة: حفظ لهم أعمالهم، فلم يضيع عليهم مثقال الذرة من الخير.
وفي سورة العاديات: أكبر عمل الجهاد، فأقسم بالعاديات في سبيل الله، والنصر على الأعداء.
وفي سورة التكاثر: تربيتهم على نعمه ليشكروها، فيزيدهم من فضله.
وفي سورة العصر: جعل أمته خير أمة أخرجت للناس، تؤمن بالله وتعمل الصالحات، وتتواصى بالحق وتدعو إليه، وتتواصى بالصبر، وتصبر عليه.
وبعدها في سورة قريش: أكرم الله قومه، فآمنهم وأعطاهم رحلتيهم.
وفي السورة التي قبلها مباشرة، وهي سورة الماعون: يمكن عمل مقارنة تامة أولا.
وفي الجملة، لئن كان المنافقون يمنعون الماعون، فقد أعطيناك الخير الكثير، ثانيا.
وعلى التفصيل ففي الأولى: وصف المنافقين والمكذبين بدع اليتيم، وفي الضحى قد بين له حق اليتيم * (فأما اليتيم فلا تقهر) *، فكان هو خير موكل، وخير كافل، ووصفهم هنا بأنهم لا يحضون على طعام المسكين.
وقد أوضح له في الضحى، * (وأما السآئل فلا تنهر) *، فكان يؤثر السائل على نفسه، وهؤلاء ساهون عن صلاتهم يراءون بأعمالهم.
وفي هذه السورة * (فصل لربك) *، أداء الصلاة وخالصة لربه، وإطعام المسكين بنحر الهدى والضحية والصدقة، وكل ذلك خير كثير، يضاف إليه ما جاءت به السنة، كما في حديث: (أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة، وحلت لي الغنائم، ولم تكن تحل لأحد قبلي. وكان النبي يبعث لقومه خاصة، فبعث للناس كافة، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل).
128

وقوله: (رفع لي عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه).
وفي قوله تعالى: * (ربنا لا تؤاخذنآ إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنآ أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) *.
قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى قال: قد فعلت، قد فعلت).
وقوله تعالى: * (ومن اليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) *، وهو المقام الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون.
إلى غير ذلك من النصوص، بما يؤكد قول ابن عباس، عند البخاري: إن الكوثر: الخير الكثير.
وأن النهر في الجنة من هذا الكوثر الذي أعطيه صلى الله عليه وسلم. * (فصل لربك وانحر) *. في هذا مع ما قبله ربط بين النعم وشكرها، وبين العبادات وموجبها، فكما أعطاه الكوثر فليصل لربه سبحانه ولينحر له، كما تقدم في سورة لإيلاف قريش، في قوله تعالى: * (فليعبدوا رب هاذا البيت * الذى أطعمهم من جوع وءامنهم من خوف) *.
وهناك * (إنآ أعطيناك الكوثر) *، وهو أكثر من رحلتيهم وأمنهم، * (فصل لربك) * مقابل * (فليعبدوا رب هاذا البيت) *.
وقيل: إنه لما كان في السورة قبلها بيان حال المنافقين في السهو عن الصلاة والرياء في العمل، جاء هنا بالقدوة الحسنة * (فصل لربك) * مخلصا له في عبادتك، كما تقدم في السورة قبلها * (فمن كان يرجو لقآء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) *.
وقوله تعالى في تعليم الأمة، في خطاب شخصه صلى الله عليه وسلم * (لئن أشركت ليحبطن عملك) *، مع عصمته صلى الله عليه وسلم من أقل من ذلك، والصلاة عامة والفريضة أحصها.
129

وقيل: صلاة العيد، والنحر: قيل فيه أقوال عديدة:
أولها: في نحر الهدى أو نحر الضحية: وهي مرتبطة بقول من حمل الصلاة على صلاة العيد، وأن النحر بعد الصلاة كما في حديث البراء بن عازب (لما ضحى قبل أن يصلي، وسمع النبي صلى الله عليه وسلم يحث على الضحية بعد الصلاة، فقال: إني علمت اليوم يوم لحم فعجلت بضحيتي، فقال له: شاتك شاة لحم؟ فقال: إن عندنا لعناقا أحب إلينا من شاة، أفتجزىء عني؟ قال: اذبحها، ولن تجزىء عن أحد غيرك).
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه مبحث الضحية وافيا عند قوله تعالى: * (فكلوا منها وأطعموا البآئس الفقير) *، وقد ذكروا في معاني: وانحر: أي ضع يدك اليمنى على اليسرى على نحرك في الصلاة، وهذا مروي عن علي رضي الله عنه.
وأقوال أخرى ليس عليها نص.
والنحر: هو طعن الإبل في اللبة عند المنحر ملتقى الرقبة، بالصدر.
وأصح الأقوال في الصلاة.
وفي النحر هو ما تقدم من عموم الصلاة وعموم النحر أو الذبح لما جاء في قوله تعالى: * (قل إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين) *.
واتفق الفقهاء على أن النحر للإبل، والذبح للغنم، والبقر متردد فيه بين النحر والذبح، وأجمعوا على أن ذلك هو الأفضل، ولو عمم النحر في الجميع، أو عمم الذبح في الجميع لكان جائزا، ولكنه خلاف السنة.
وقالوا: إن الحكمة في تخصيص الإبل بالنحر، هو طول العنق، إذ لو ذبحت لكان مجرى الدم من القلب إلى محل الذبح بعيدا فلا يساعد على إخراج جميع الدم بيسر، بخلاف النحر في المنحر، فإنه يقرب المسافة ويساعد القلب على دفع الدم كله، أما الغنم فالذبح مناسب لها، والعلم عند الله تعالى. * (إن شانئك هو الا بتر) *. قال البخاري، عن ابن عباس رضي الله عنهما: شانئك: عدوك ا ه.
130

والأبتر: هو الأقطع الذي لا عقب له.
وأنشد أبو حيان، قول الشاعر: وأنشد أبو حيان، قول الشاعر:
* لئيم بدت في أنفه خنزوانة
* على قطع ذي القربى أجذ أباتر
*
وقال: شانئك: مبغضك.
وفي هذه الآية يخبر سبحانه وتعالى: أن مبغض رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأقطع.
فقيل: نزلت في العاصي بن وائل.
قال لقريش: دعوه، فإنه أبتر لا عقب له، إذا مات استرحتم، فأنزلها الله تعالى ردا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد جاء مصداقها بالفعل في قوله تعالى: في غزوة بدر في قوله تعالى: * (ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين) *.
فقتل صناديد قريش، وصدق الوعيد فيهم.
ومثله عموم قوله تعالى: * (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) *.
وجاء: * (تبت يدآ أبى لهب وتب) *.
فهي في معناها أيضا.
وبقي ذكر رسول صلى الله عليه وسلم في عقبه من آل بيته، وفي أمته كلها.
كما تقدم في قوله تعالى: * (ورفعنا لك ذكرك) *.
131

((سورة الكافرون))
* (قل ياأيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون مآ أعبد * ولا أنآ عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون مآ أعبد * لكم دينكم ولى دين) * * (قل ياأيها الكافرون) *. نداء للمشركين بمكة، لما عرضوا عليه صلى الله عليه وسلم أن يترك دعوته ويملكوه عليهم أو يعطوه من المال ما يرضيه ونحوه فرفض، فقالوا: تقبل منا ما نعرضه عليك: تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فسكت عنهم فنزلت، وقالوا له: إن يكن الخير معنا أصبته، وإن يكن معك أصبناه.
وفي مجيء: قل، مع أن مقول القول كان قد يكفي في البلاغ، ولكن مجيئها لغاية فما هي؟
قال الفخر الرازي: إما لأنهم عابوه صلى الله عليه وسلم في السورة التي قبلها بقولهم: * (أنه) * فجاء قوله: * (قل) *، إشعارا بأن الله يرد عن رسوله بهذا الخطاب، الذي ينادي عليهم في ناديهم بأثقل الأوصاف عليهم، فقال له: * (قل ياأيها الكافرون) *.
أو أنه لما كان هذا الخطاب فيه مغايرة المألوف من تخاطبه معهم من أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة، وكان فيه من التقريع لهم ومجابهتهم، قال له: قل: إشعارا بأنه مبلغ عن الله ما أمر به، وجاءت يا، وهي لنداء البعيد، لبعدهم في الكفر والعناد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. * (لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون مآ أعبد * ولا أنآ عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون مآ أعبد) *. قيل، تكرار في العبارات للتوكيد، كتكرار * (ويل يومئذ للمكذبين) *، وتكرار: * (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *.
ونظيره في الشعر أكثر من أن يحصر، من ذلك ما أورده القرطبي رحمه الله
132

: ونظيره في الشعر أكثر من أن يحصر، من ذلك ما أورده القرطبي رحمه الله:
* هل لا سألت جموع كندة
* يوم ولو أين أينا
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* يا علقمة يا علقمة
* خير تميم كلها وأكرمه
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* يا أقرع بن حابس يا أقرع
* إنك إن يصرع أخوك تصرع
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* ألا يا سلمى ثم اسلمي ثمت اسلمي
* ثلاث تحيات وإن لم تكلم
*
وقد جاءت في أبيات لبعض تلاميذ الشيخ رحمه الله تعالى، ضمن مساجلة له معه قال فيها: وقد جاءت في أبيات لبعض تلاميذ الشيخ رحمه الله تعالى، ضمن مساجلة له معه قال فيها:
* تالله إنك قد ملأت مسامعي
* درا عليه قد انطوت أحشائي
*
* زدني وزدني ثم زدني ولتكن
* منك الزيادة شافيا للداء
*
فكرر قوله: زدني ثلاث مرات
وقيل: ليس فيه تكرار، على أن الجملة الأولى عن الماضي والثانية عن المستقبل.
وقيل: الأولى عن العبادة، والثانية عن المعبود.
وقيل غير ذلك، على ما سيأتي إن شاء الله.
والسورة في الجملة نص على أنه صلى الله عليه وسلم لا يعبد معبودهم، ولا هم عابدون معبوده، وقد فسره قوله تعالى: * (فقل لى عملى ولكم عملكم أنتم بريئون ممآ أعمل وأنا برىء مما تعملون) *.
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه الكلام على هذا المعنى، عند آية يونس تلك، وذكر هذه السورة هناك.
وقد ذكر أيضا في دفع إيهام الاضطراب جوابا على إشكال في السورة وهو قوله تعالى: * (لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون مآ أعبد) *، نفى لعبادة كل منهما معبود
133

الآخر مطلقا، مع أنه قد آمن بعضهم فيما بعد وعبد ما يعبده صلى الله عليه وسلم، وأجاب عن ذلك بأحد أمرين: موجزهما أنها من جنس الكفار، وإن أسلموا فيما بعد فهو خطاب لهم ما داموا كفارا إلى آخره، أو أنها من العام المخصوص، فتكون في خصوص من حقت عليهم كلمات ربك. ا ه. ملخصا.
وقد ذكر أبو حيان وجها عن الزمخشري: أن ما يتعلق بالكفار خاص بالحاضر، لأن ما إذا دخلت على اسم الفاعل تعينه للحاضر.
وناقشه أبو حيان، بأن ذلك في مغالب لا على سبيل القطع.
والذي يظهر من سياق السورة، قد يشهد لما ذهب إليه الزمخشري، وهو أن السورة تتكلم عن الجانبين على سبيل المقابلة جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وجهة الكفار في عدم عبادة كل منهما معبود الآخر.
ولكنها لم تساو في اللفظ بين الطرفين، فمن جهة الرسول صلى الله عليه وسلم جاء في الجملة الأولى * (لا أعبد ما تعبدون) * عبر عن كل منهما بالفعل المضارع الدال على الحال: أي لا أعبد الآن ما تعبدون الآن بالفعل. ثم قال: * (ولا أنتم عابدون مآ أعبد) * فعبر عنهم بالاسمية وعنه هو بالفعلية، أي ولا أنتم متصفون بعبادة ما أعبد الآن.
وفي الجملة الثانية قال: * (ولا أنآ عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون مآ أعبد) *. فعبر عنه بأنه ليس متصفا بعبادة ما يعبدون ولا هم عابدون ما يعبد، فكان وصفه هو صلى الله عليه وسلم في الجملتين بوصفين مختلفين بالجملة الفعلية تارة وبالجملة الاسمية تارة أخرى، فكانت إحداهما لنفي الوصف الثابت، والأخرى لنفي حدوثه فيما بعد.
أما هم فلم يوصفوا في الجملتين إلا بالجملة الاسمية الدالة على الوصف الثابت، أي في الماضي إلى الحاضر، ولم يكن فيما وصفوا به جملة فعلية من خصائصها التجدد والحدوث، فلم يكن فيها ما يتعرض للمستقبل فلم يكن إشكال، والله تعالى أعلم.
فإن قيل: إن الوصف باسم الفاعل يحتمل الحال والاستقبال، فيبقى الإشكال محتملا.
قيل: ما ذكره الزمخشري من أن دخول ما عليه تعينه للحال، يكفي في نفي هذا الاحتمال، فإن قيل: قد ناقشه أبو حيان.
وقال: إنها أغلبية وليست قطعية.
134

قلنا: يكفي في ذلك حكم الأغلب، وهو ما يصدقه الواقع، إذ آمن بعضهم وعبد معبوده صلى الله عليه وسلم، وما في قوله: * (ما تعبدون ولا أنتم عابدون مآ أعبد) *، واقعة في الأولى على غير ذي علم، وهي أصنامهم وهو استعمالها الأساسي.
وفي الثانية: في حق الله تعالى وهو استعمالها في غير استعمالها الأساسي، فقيل: من أجل المقابلة، وقد استعملت فيمن يعلم، كقوله تعالى: * (فانكحوا ما طاب لكم من النسآء) *، لأنهن في معرض الاستمتاع بهن، فللقرينة جاز ذلك.
وقيل: إنها مع ما قبلها مصدرية، أي ما مصدرية بمعنى عبادتكم الباطلة، ولا تعبدون عباداتي الصحيحة.
وهذا المعنى قوي، وإن تعارض مع ما ذكر من سبب النزول، إلا أن له شاهدا من نفس السورة ويتضمن المعنى الأول، ودليله من السورة قوله تعالى في آخر السورة: * (لكم دينكم ولى دين) *، فأحالهم على عبادتهم، ولم يحلهم على معبودهم. * (لكم دينكم ولى دين) *. هو نظير ما تقدم في سورة يونس * (أنتم بريئون ممآ أعمل وأنا برىء مما تعملون) *.
وكقوله: * (ولنآ أعمالنا ولكم أعمالكم) *.
وليس في هذا تقريرهم على دينهم الذي هم عليه، ولكن من قبيل التهديد والوعيد كقوله: * (وقل الحق من ربكم فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها) *.
وفي هذه السورة قوله: * (قل ياأيها الكافرون) * وصف يكفي بأن عبادتهم وديانتهم كفر.
وقد قال لهم الحق * (لا أعبد ما تعبدون) * لأنها عبادة باطلة. عبادة الكفار، وبعد ذلك إن أبيتم إلا هي، فلكم دينكم ولي دين
135

.
تنبيه
في هذه السورة منهج إصلاحي، وهو عدم قبول ولا صلاحية أنصاف الحلول، لأن ما عرضوه عليه صلى الله عليه وسلم من المشاركة في العبادة، يعتبر في مقياس المنطق حلا وسطا لاحتمال إصابة الحق في أحد الجانبين، فجاء الرد حاسما وزاجرا وبشدة، لأن فيه أي فيما عرضوه مساواة للباطل بالحق، وفيه تعليق المشكلة، وفيه تقرير الباطل، إن هو وافقهم ولو لحظة.
وقد تعتبر هذه السورة مميزة وفاصلة بين الطرفين، ونهاية المهادنة، وبداية المجابهة.
وقد قالوا: إن ذلك بناء على ما أمره الله به في السورة قبلها * (إنآ أعطيناك الكوثر) *، أي وإن كنت وصحبك قلة، فإن معك الخير الكثير، ولمجيء قل لما فيها من
إشعار بأنك مبلغ عن الله، وهو الذي ينصرك، ولذا جاء بعدها حالا سورة النصر وبعد النصر: تب العدو.
وهذا في غاية الوضوح، ولله الحمد.
136

((سورة النصر))
* (إذا جآء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون فى دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا) * * (إذا جآء نصر الله والفتح) *. فيه ذكر النصر والفتح، مع أن كلا منهما مرتبط بالآخر: فمع كل نصر فتح، ومع كل فتح نصر.
فهل هما متلازمان أم لا؟
كما جاء النصر مضافا إلى الله تعالى، والفتح مطلقا.
أولا اتفقوا على نزول هذه السورة بعد فتح مكة.
ومعلوم: أنه سبق فتح مكة عدة فتوحات.
منها فتح خيبر، ومنها صلح الحديبية، سماه الله تعالى فتحا في قوله: * (فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا) *.
والنصر يكون في معارك القتال ويكون بالحجة والسلطان، ويكون بكف العدو، كما في الأحزاب. * (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا) *.
وكما في اليهود قوله: * (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف فى قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا * وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شىء قديرا) *.
فالنصر حق من الله، * (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم) *.
وقد علم المسلمون ذلك، كما جاء في قوله تعالى: * (مستهم البأسآء والضرآء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين ءامنوا معه متى نصر الله) *، فهم يتطلعون إلى النصر.
137

ويأتيهم الجواب * (ألا إن نصر الله قريب) *.
وجاء قوله صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالرعب مسيرة شهر).
وقد قال تعالى لموسى وأخيه * (لا تخافآ إننى معكمآ أسمع وأرى) *، فهو نصر معية وتأييد، فالنصر هنا عام.
وكذلك الفتح في الدين بانتشار الإسلام، وأعظم الفتح فتحان: فتح الحديبية، وفتح مكة.
إذ الأول تمهيد للثاني، والثاني قضاء على دولة الشرك في الجزيرة، ويدل لإرادة العموم في النصر والفتح. * (ورأيت الناس يدخلون فى دين الله أفواجا) *. فكأن الناس يأتون من كل جهة حتى من اليمن، وهذا يدل على كمال الدعوة ونجاح الرسالة.
ويدل لهذا مجيء آية * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الأسلام دينا) *، وكان نزولها في حج تلك السنة.
ويلاحظ أن النصر هنا جاء بلفظ نصر الله، وفي غير هذا جاء نصر الله، وما النصر إلا من عند الله.
ومعلوم أن هذه الإضافة هنا لها دلالة تمام وكمال، كما في بيت الله. مع أن المساجد كلها بيوت لله، فهو مشعر بالنصر كل النصر، أو بتمام النصر كله لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
والفتح، هنا قيل: هو فتح مكة، وقيل فتح المدائن وغيرها.
وتقدمت الإشارة إلى فتوحات عديدة، قبل مكة.
وهناك فتوحات موعود بها بعد فتح مكة نص صلى الله عليه وسلم عليها منها في غزوة الأحزاب وهم يحفرون الخندق، لما اعترضتهم كدية وأعجزتهم، ودعى إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأخذ ماء وتمضمض ودعا ما شاء الله أن يدعو ثم ضرب، فكانت كالكثيب.
138

وقد جاء فيها ابن كثير بعدة روايات وطرق مختلفة، وكلها تذكر أنه صلى الله عليه وسلم ضرب ثلاث ضربات، فأبرقت تحت كل ضربة برقة، وكبر صلى الله عليه وسلم عند كل واحدة منها، فسألوه فقال (في الأولى: أعطيت مفاتيح فارس) وذكر اليمن والشام، وكلها روايات لا تخلو من نقاش، ولكن لكثرتها يقوي بعضها بعضا.
وأقواها رواية النسائي بسنده قال: (لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، عرضت لهم صخرة حالت بينهم وبين الحفر، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ المعول ووضع رداءه ناحية الخندق، وقال: وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا، لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم، فندر ثلث الحجر وسلمان الفارسي قائم ينظر، فبرق مع ضربة رسول الله صلى الله عليه وسلم برقة ثم ضرب الثانية، وقرأ ما قرأه أولا، وبرقت أيضا. ثم الثالثة، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تكسرت، فأخذ رداءه صلى الله عليه وسلم وجلس، فسأله سلمان لما رأى من البرقات الثلاث: فقال له: أرأيت ذلك؟ قال: أي والذي بعثك بالحق يا رسول الله، فأخبرهم أنه رفعت له في الأولى مدائن كسرى وما حولها ومدائن كثيرة حتى رآها بعينه، فقالوا: ادعو الله لنا أن يفتح علينا.
فدعا لهم، وفي الثانية: رفعت له مدائن قيصر وما حولها، وفي الثالثة مدائن الحبشة، وكلها يطلبون منه صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم فتفتح عليهم، فدعا لهم إلا في
الحبشة، فقال صلى الله عليه وسلم: (دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم) انتهى ملخصا.
وقد رواه كل من ابن كثير والنسائي مطولا، فهذه الروايات وإن كانت تحتمل مقالا.
فقد جاء في الموطأ ما لا يحتمل مقالا، ولا شك في صحته، ولا في دلالته، وهو ما رواه مالك عن هشام عن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير عن سفيان بن أبي زهير أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يفتح اليمن فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح الشام، فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، ويفتح العراق فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون).
فهذا نص صحيح صريح منه صلى الله عليه وسلم في حياته بفتح اليمن والشام والعراق، وما فتحت كلها إلا من بعده صلى الله عليه وسلم إلا اليمن.
139

ويؤيد هذا القول ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، إذ قال: الله أكبر، الله أكبر، جاء نصر الله والفتح، جاء أهل اليمن، قيل: يا رسول الله، وما أهل اليمن؟ قال: قوم رقيقة قلوبهم، لينة طباعهم، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية) رواه ابن كثير عنه.
وقد كان فتح مكة عام ثمان من الهجرة، وجاءت الوفود في دين الله أفواجا عام تسع منها، وجاء وفد اليمن وأرسل صلى الله عليه وسلم عماله إلى اليمن بعد فتح مكة، وقدم عليه علي رضي الله عنه من اليمن في العام العاشر في موسم الحج، ففتحت اليمن بعد فتح مكة في حياته صلى الله عليه وسلم.
وعليه: تكون فتوحات قد وقعت بعد فتح مكة، يمكن أن يشملها هنا قوله تعالى: * (والفتح) *، وليس مقصورا على فتح مكة كما قالوا.
وقد يؤخذ بدلالة الإيماء: الوعد بفتوحات شاملة، لمناطق شاسعة من قوله تعالى: * (وأذن فى الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) *، لأن الإتيان من كل فج عميق، يدل على الإتيان إلى الحج من بعيد، والإتيان إلى الحج يدل على الإسلام، وبالتالي يدل على مجيء المسلمين من بعيد، وهو محل الاستدلال والله تعالى أعلم. * (فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا) *. تقدم الكلام على التسبيح ومتعلقه وتصريفه.
وهنا قرن التسبيح بحمد الله، وفيه ارتباط لطيف بأول السورة وموضوعها، إذ هي في الدلالة على كمال مهمة الرسالة بمجيء نصر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ولدينه. ومجئ الفتح العام على المسلمين لبلاد الله بالفعل أو بالوعد الصادق كما تقدم، وهي نعمة تستوجب الشكر ويستحق موليها الحمد.
فكان التسبيح مقترنا بالحمد في مقابل ذلك وقوله: * (بحمد ربك) *، ليشعر أنه سبحانه المولى للنعم، كما جاء في سورة الضحى في قوله تعالى: * (ما ودعك ربك وما قلى) *.
140

وقوله في سورة اقرأ: * (اقرأ باسم ربك) *، وتكرارها * (اقرأ وربك الا كرم) *، لأن صفة الربوبية مشعرة بالإنعام.
وقوله: * (ربك واستغفره) *، قال بعضهم: إن الاستغفار عن ذنب فما هو. وتقدم الكلام على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عند قوله تعالى: * (ووضعنا عنك وزرك) *.
ومما تجدر الإشارة إليه أن التوبة دعوة الرسل، ولو بدأنا مع آدم عليه السلام مع قصته ففيها * (فتلقىءادم من ربه كلمات فتاب عليه) *، ومعلوم موجب تلك التوبة.
ثم نوح عليه السلام يقول: * (رب اغفر لى ولوالدى ولمن دخل بيتى مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات) *.
وإبراهيم عليه السلام يقول: * (وأرنا مناسكنا وتب علينآ إنك أنت التواب الرحيم) *.
وبناء عليه قال بعض العلماء: إن الاستغفار نفسه عبادة كالتسبيح، فلا يلزم منه وجود ذنب.
وقيل: هو تعليم لأمته.
وقيل: رفع لدرجاته صلى الله عليه وسلم.
وقد جاء في السنة، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (توبوا إلى الله، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة)، فتكون أيضا من باب الاستكثار من الخير، والإنابة إلى الله.
تنبيه
جاء في التفسير عند الجميع أنه صلى الله عليه وسلم منذ أن نزلت هذه السورة وهو لم يكن يدع قوله: (سبحانك اللهم وبحمدك) تقول عائشة رضي الله عنها: (يتأول القرآن) أي يفسره، ويعمل به.
ونقل أبو حيان عن الزمخشري أنه قال: والأمر بالاستغفار مع التسبيح تكميل للأمر
141

بما هو قوام أمر الدين، من الجمع بين الطاعة والاحتراز من المعصية، وليكون أمره بذلك مع عصمته لطفا لأمته، ولأن الاستغفار من التواضع وهضم النفس فهو عبادة في نفسه.
وفي هذا لفت نظر لأصحاب الأذكار والأوراد الذين يحرصون على دوام ذكر الله تعالى، حيث هذا كان من أكثر ما يداوم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في أذكار الصباح والمساء دون الملازمة على ذكر اسم من أسماء الله تعالى وحده، منفردا مما لم يرد به نص صحيح ولا صريح.
ولا شك أن الخير كل الخير في الاتباع لا في الابتداع، وأي خير أعظم مما اختاره الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في آخر حياته، ويأمره به، ويلازم هو عليه.
وقلنا في آخر حياته: لأنه صلى الله عليه وسلم توفي بعدها بمدة يسيرة.
وفي هذه الآية دلالة الإيماء، كما قالوا: ودلالة الالتزام كما جاء عن ابن عباس في قصة عمر رضي الله عنه مع كبار المهاجرين والأنصار، حينما كان يسمح له بالجلوس معهم، ويرى في وجوههم، وسألوه وقالوا:
إن لنا أولادا في سنه، فقال: إنه من حيث علمتم.
وفي يوم اجتمعوا عنده فدعاه عمر، قال ابن عباس: فعلمت أنه ما دعاني إلا لأمر، فسألهم عن قوله تعالى: * (إذا جآء نصر الله والفتح) *، السورة.
فقالوا: إنها بشرى بالفتح وبالنصر، فقال: ما تقول أنت يا ابن عباس؟
قال: فقلت، لا والله، إنها نعت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرنا.
فقال عمر: وأنا لا أعرف فيها إلا كما قلت، أي أنه صلى الله عليه وسلم جاء لمهمة، وقد تمت بمجيء النصر والفتح والدخول في الدين أفواجا.
وعليه يكون قد أدى الأمانة وبلغ الرسالة. فعليه أن يتأهب لملاقاة ربه ليلقى جزاء عمله، وهو مأخذ في غاية الدقة، وبيان لقول علي رضي الله عنه: أو فهم أعطاه الله من شاء في كتاب الله.
142

((سورة المسد))
* (تبت يدآ أبى لهب وتب * مآ أغنى عنه ماله وما كسب * سيصلى نارا ذات لهب * وامرأته حمالة الحطب * فى جيدها حبل من مسد) * * (تبت يدآ أبى لهب وتب) *. التب: القطع.
ومن المادة: بت بتقديم الباء، فهي تدور على معنى القطع، كما يفيده فقه اللغة في دوران المادة على معنى واحد.
وقال: التب، والتبب، والتباب، والتبيب، والتتبيب: النقص والخسار، إلى أن قال: وتبت يداه: ضلتا وخسرتا.
وقال الفخر الرازي: التبات: الهلاك، ونظيره قوله تعالى: * (وما كيد فرعون إلا فى تباب) *، أي في هلاك.
وذلك لأن أبا لهب أهلك نفسه بفساد اعتقاده وسوء فعاله، كما جاء في السنة قول الأعرابي: هلكت وأهلكت: أي بوقاعه أهله في رمضان، وجاء قوله تعالى: * (فما أغنت عنهم ءالهتهم التى يدعون من دون الله من شىء لما جآء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب) *.
فقالوا: غير خسران، والخسران يؤدي إلى الهلاك، والقطع.
كما جاء في معناه في قصة صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. قوله تعالى: * (فمن ينصرنى من الله إن عصيته فما تزيدوننى غير تخسير) *، فظهر من هذا كله أن معنى: تبت يدا أبي لهب، دائر بين معنى القطع والهلاك والخسران.
أما قطعها فلم يقدر عليه قطع يديه قبل موته.
وأما الهلاك والخسران: فقد هلك بالغدة.
وأما الخسران: فما أشد خسرانه بعد هذا الحكم عليه من الله تعالى.
143

وإذا كان المعنى قد تعين بنص القرآن في الهلاك والخسران، فما معنى إسناد التب لليدين؟
الجواب: أن ذلك من باب إطلاق البعض وإرادة الكل كما تقدم في قوله تعالى: * (ناصية كاذبة) *، مع أن الكاذب هو صاحبها.
وقد قدمنا هناك أن مثل هذا الأسلوب لا بد فيه من زيادة اختصاص للجزء المنطوق في المعنى المراد.
فلما كان الكذب يسود الوجه ويذل الناصية، وعكسه الصدق يبيض الوجه ويعز الناصية، أسند هناك الكذب إلى الناصية لزيادة اختصاصها بالكذب عن اليد مثلا.
ولما كان الهلاك والخسران غالبا بما تكسبه الجوارح، واليد أشد اختصاصا في ذلك أسند إليها البت.
ومما يدل على أن المرد صاحب اليدين، ما جاء بعدها، قوله تعالى: * (وتب) *، أي أبو لهب نفسه.
وسواء كان قوله تعالى: * (تبت يدآ أبى لهب) *، على سبيل الإخبار أو الإنشاء، فإنه محتمل من حيث اللفظ.
ولكن قوله تعالى بعده: * (وتب) *، فهو إخبار، فيكون الأول للإنشاء كقوله: * (قتل الإنسان مآ أكفره) *.
ثم جاء الثاني تصديقا له، وجاءت قراءة ابن مسعود * (وتب) *. * (مآ أغنى عنه ماله وما كسب) *. سواء كانت ما استفهامية فهو استفهام إبكار، أو كانت نافية فإنه نص، على أن ماله لم يغن عنه شيئا.
وقوله: * (وما كسب) *.
فقيل: أي من المال الأول ما ورثه أو ما كسب من عمل جر عليه هذا الهلاك، وهو عداؤه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونظير هذه الآية المتقدمة * (وما يغنى عنه ماله إذا تردى) *.
144

وتقدم الكلام عليه هناك.
وتقدم للشيخ رحمه الله تعالى علينا وعليه بيان معنى * (مآ أغنى عنه ماله وما كسب) *، عند قوله تعالى: * (من ورآئهم جهنم ولا يغنى عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما
اتخذوا من دون الله أوليآء ولهم عذاب عظيم) *.
وساق كل النصوص في هذا المعنى بتمامها.
تنبيه
في هذه الآية سؤالان هما:
أولا: لقد كان صلى الله عليه وسلم مع قومه في مكة ملاطفا حليما، فكيف جابه عمه بهذا الدعاء: * (تبت يدآ أبى لهب) *؟ والجواب: أنه كان يلاطفهم ما دام يطمع في إسلامهم، فلما يئس من ذلك، كان هذا الدعاء في محله، كما وقع من إبراهيم عليه السلام، كان يلاطف إياه * (ياأبت لا تعبد الشيطان) *. * (ياأبت إنى قد جآءنى من العلم ما لم يأتك فاتبعنى أهدك صراطا سويا) *، فلما يئس منه تبرأ منه كما قال تعالى: * (فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم) *.
والسؤال الثاني: وهو مجيء قوله تعالى: * (وتب) *، بعد قوله: * (تبت يدآ أبى لهب) *، مع أنها كافية سواء كانت إنشاء للدعاء عليه أو إخبارا بوقوع ذلك منه.
والجواب، والله تعالى أعلم: أن الأول لما كان محتملا الخبر، وقد يمحو الله ما يشاء ويثبت، أو إنشاء وقد لا ينفذ كقوله: * (قتل الإنسان مآ أكفره) *، أو يحمل على الذم فقط، والتقبيح فجاء (وتب) لبيان أنه واقع به لا محالة، وأنه ممن حقت عليهم كلمات ربك لييأس صلى الله عليه وسلم، والمسلمون من إسلامه. وتنقطع الملاطفة معه، والله تعالى أعلم.
وقد وقع ما أخبر الله به، فهو من إعجاز القرآن أن وقع ما أخبر به، كما أخبر ولم يتخلف.
* (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا) *، وقوله: * (كذلك حقت
145

كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون) *.
نسأل الله العافية، إنه سميع مجيب.
146

((سورة الإخلاص))
* (قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد) * * (قل هو الله أحد) *. الأحد: قال القرطبي: أي الواحد الوتر، الذي لا شبيه له ولا نظير، ولا صاحبة، ولا ولد، ولا شريك. ا ه.
ومعلوم أن كل هذه المعاني صحيحة، في حقه تعالى.
وأصل أحد: وحد، قلبت الواو همزة.
ومنه قول النابعة: ومنه قول النابعة:
* كأن رحلي وقد زال النهار بنا
* بذي الجليل على مستأنس وحد
*
وقال الفخر الرازي في أحد وجهان:
أحدهما: أنه بمعنى واحد.
قال الخليل: يجوز أن يقال: أحد اثنان ثلاثة، ثم ذكر أصلها وحد، وقلبت الواو همزة للتخفيف.
والثاني: أن الواحد والأحد لبسا اسمين مترادفين.
قال الأزهري: لا يوصف شيء بالأحدية غير الله تعالى، لا يقال: رجل أحد ولا درهم أحد، كما يقال: رجل واحد أي فرد به، بل أحد صفة من صفات الله تعالى استأثر بها فلا يشركه فيها شيء.
ثم قال: ذكروا في الفرق بين الواحد والأحد وجوها:
أحدها: أن الواحد يدخل في الأحد، والأحد لا يدخل فيه.
وثانيها: أنك لو قلت: فلان لا يقاومه واحد، جاز أن يقال: لكنه يقاومه اثنان بخلاف الأحد.
147

فإنك لو قلت: فلان لا يقاومه أحد، لا يجوز أن يقال: لكنه يقاومه اثنان.
وثالثها: أن الواحد، يستعمل في الإثبات، والأحد يستعمل في النفي.
تقول في الإثبات رأيت رجلا واحدا.
وتقول في النفي: ما رأيت أحدا، فيفيد العموم.
أما ما نقله عن الخليل، وقد حكاه صاحب القاموس فقال: ورجل واحد وأحد، أي خلافا لما قاله الأزهري.
وأما قوله: إن أحدا تستعمل في النفي فقد جاء استعمالها في الإثبات أيضا.
كقوله: * (أو جآء أحد منكم من الغائط) *.
فتكون أغلبية في استعمالها ودلالتها في العموم واضحة.
وقال في معجم مقاييس اللغة في باب الهمزة والحاء وما بعدها: أحد، إنها فرع والأصل الواو وحد.
وقد ذكر في الواو وفي مادة وحد. قال: الواو والحاء والدال أصل واحد يدل على الانفراد من ذلك الوحدة بفتح الواو وهو واحد قبيلته، إذا لم يكن فيهم مثله.
قال: قال:
* يا واحد العرب الذي
* ما في الأنام له نظير
*
وقيل: إن هذا البيت لبشار يمدح عقبة بن مسلم، أو لابن المولى يزيد من حاتم، نقلا عن الأغاني.
فيكون بهذا ثبت أن الأصل بالواو والهمزة فرع عنه.
وتقدم أن دلالتها على العموم أوضح أي أحد.
وقد دلت الآية الكريمة، على أن الله سبحانه وتعالى أحد، أي في ذاته وصفاته لا شبيه ولا شريك، ولا نظير ولا ند له، سبحانه وتعالى.
وقد فسره ضمنا قوله: * (ولم يكن له كفوا أحد) *.
148

وقوله: * (ليس كمثله شىء) *، أما المعنى العام فإن القرآن كله، والرسالة المحمدية كلها، بل وجميع الرسالات: إنما جاءت لتقرير هذا المعنى، بأن الله سبحانه واحد أحد. بل كل ما في الوجود شاهد على ذلك.
كما قيل: كما قيل:
* وفي كل شيء له آية
* تدل على أنه الواحد
*
أما نصوص القرآن على ذلك فهي أكثر من أن تحصى، لأنها بمعنى لا إله إلا الله.
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، إشارة إلي ذلك في أول الصافات وفي غيرها، وفي البقرة * (وإلاهكم إلاه واحد لا إلاه إلا هو الرحمان الرحيم) *.
وفي التوبة: * (ومآ أمروا إلا ليعبدوا إلاها واحدا لا إلاه إلا هو) *، فجاء مقرونا بلا إلاه إلا الله.
وفي ص قوله: * (قل إنمآ أنا منذر وما من إلاه إلا الله الواحد القهار) *.
وكما قدمنا أن الرسالة كلها جاءت لتقرير هذا المعنى، كما في قوله: * (هاذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إلاه واحد) *، سبحانه جل جلاله وتقدست أسماؤه، وتنزهت صفاته، فهو واحد أحد في ذاته وفي أسمائه وفي صفاته وفي أفعاله.
وقد جاء القرآن بتقرير هذا المعنى عقلا كما قرره نقلا، وذلك في قوله تعالى: * (قل لو كان معه ءالهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا * سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا) *.
وقوله: * (لو كان فيهمآ آلهة إلا الله لفسدتا) *.
فدل على عدم فسادهما بعدم تعددهما، وجمع العقل والنقل في قوله: * (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إلاه بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون) *.
149

* (الله الصمد) *. قال بعض المفسرين: يفسره ما بعده * (لم يلد ولم يولد) *.
وقال ابن كثير، وهذا معنى حسن.
وقال بعض العلماء: هو المتناهي في السؤدد، وفي الكمال من كل شيء.
وقيل: من يصمد الخلائق إليه في حاجاتهم، ولا يحتاج هو إلى أحد.
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، معنى الصمد في سورة الأنعام عند قوله تعالى: * (وهو يطعم ولا يطعم) * فذكر شواهد هذه الأقوال كلها.
وبإمعان النظر في مبدأ يفسره ما بعده، يتضح أن السورة كلها تفسير لأولها * (قل هو الله أحد) * لأن الأحدية، هي تفرده سبحانه بصفات الجلال والكمال كلها، ولأن المولود ليس بأحد، لأنه جزء من والده.
والوالد ليس بأحد، لأن جزءا منه في ولده.
وكذلك من يكون له كفء، فليس بأحد لوجود الكفء، وهكذا السورة كلها لتقرير * (قل هو الله أحد) *. * (لم يلد ولم يولد) *. تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيان شواهده عند قوله تعالى: * (الذى له ملك السماوات والا رض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك) * من سورة الفرقان.
تنبيه
ففي اتخاذ الولد لا يستلزم نفي الولادة، لأن اتخاذ الولد قد يكون بدون ولادة كالتبني أو غيره، كما في قصة يوسف في قوله تعالى عن عزيز مصر: * (أكرمى مثواه عسى أن ينفعنآ أو نتخذه ولدا) *.
ففي هذه السورة نفي أخص، فلزم التنبيه عليه في هذه السورة الكريمة وهي سورة
150

الإخلاص. والتي تعدل ثلث القرآن لاختصاصها بحق الله تعالى في ذاته وصفاته من الوحدانية والصمدية، ونفي الولادة والولد، ونفي الكفء، وكلها صفات انفراد لله سبحانه.
وقد جاء فيها النص الصريح بعدم الولادة، وأنه سبحانه وتعالى لم يلد ولم يولد، فهي أخص من تلك، وهذا من المسلمات عند المسلمين جميعا بدون شك ولا نزاع ولم يؤثر فيها أي خلاف.
ولكن غير المسلمين لم يسلموا بذلك، فاليهود قالوا: عزيز ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، والمشركون قالوا: الملائكة بنات الله.
فاتفقوا على ادعاء الولد لله، ولم يدع أحد أنه سبحانه مولود.
وقد جاءت النصوص الصريحة في نفي الولد عن الله سبحانه وتعالى، إلا أن مجرد النص الذي لم يؤمن به الخصم لا يكفي لإقناعه، وفي هذه السورة وهي المختصة بصفات الله، لم يأت التنويه فيها عن المانع من اتخاذ الله للولد، ومن كونه سبحانه لم يولد.
ولما كان بيان المانع أو الموجب من منهج هذا الكتاب، إذا كان يوجد للحكم موجب أو مانع ولم تتقدم الإشارة إلى ذلك، فيما تقدم من كلام الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه مع أنه رحمه الله، قد تكلم على آيات الأسماء والصفات جملة وتفصيلا، بما يكفي ويشفي.
ولكن جاء في القرآن الكريم ذكر ادعاء الولد لله، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
وجاء الرد من الله تعالى مع بيان المانع مفصلا مع الإشعار بالدليل العقلي، ولذا لزم التنويه عليه، وذلك في قوله تعالى: * (وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والا رض كل له قانتون * بديع السماوات والا رض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) *.
فهذا نص صريح فيما قالوه: * (اتخذ الله ولدا) *.
151

ونص صريح في تنزيه الله سبحانه وتسبيحه عما قالوا.
ثم جاء حرف الإضراب عن قولهم: * (بل له ما في السماوات والا رض كل له قانتون) *، ففيه بيان المانع عقلا من اتخاذ الولد بما يلزم الخصم، وذلك أن غاية اتخاذ الولد أن يكون بارا بوالده، وأن ينتفع الوالد بولده. كما في قوله تعالى: * (المال والبنون زينة الحيواة الدنيا) *، أو يكون الولد وارثا لأبيه كما في قوله تعالى عن نبي الله تعالى زكريا عليه السلام: * (فهب لى من لدنك وليا يرثنى ويرث من ءال يعقوب) *.
والله سبحانه وتعالى حي باق يرث ولا يورث كما قال تعالى: * (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك) *.
وقوله: * (ولله ميراث السماوات والا رض) *.
فإذا كان لله سبحانه وتعالى كل ما في السماوات والأرض في قنوت وامتثال طوعا أو كرها، كما قال تعالى: * (وما ينبغى للرحمان أن يتخذ ولدا * إن كل من فى السماوات والا رض إلا آتى الرحمان عبدا) *.
فهو سبحانه وتعالى ليس في حاجة إلى الولد لغناه عنه.
ثم بين سبحانه قدرته على الإيجاد والإبداع في قوله تعالى: * (بديع السماوات والا رض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) *.
وهذا واضح في نفي الولد عنه سبحانه وتعالى.
وقد تمدح سبحانه في قوله: * (وقل الحمد لله الذى لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك ولم يكن له ولى من الذل وكبره تكبيرا) *.
أما أنه لم يولد. فلم يدع أحد عليه ذلك. لأنه ممتنع عقلا، بدليل الممانعة المعروف وهو كالآتي:
لو توقف وجوده سبحانه على أن يولد لكان في وجوده محتاجا إلى من يوجده، ثم يكون من يلده في حاجة إلى والد، وهكذا يأتي الدور والتسلسل وهذا باطل.
152

وكذلك فإن الحاجة إلى الولد بنفيها معنى الصمدية المتقدم ذكره، ولو كان له والد لكان الوالد أسبق وأحق، تعالى الله عن ذلك.
وقد يقال: من جانب الممانعة العقلية لو افترض على حد قوله: * (قل إن كان للرحمان ولد فأنا أول العابدين) *.
فنقول على هذا الافتراض: لو كان له ولد فما مبدأ وجود هذا الولد وما مصيره؟ فإن كان حادثا فمتى حدوثه؟ وإن كان قديما تعدد القدم، وهذا ممنوع.
ثم إن كان باقيا تعدد البقاء، وإن كان منتهيا فمتى انتهاؤه؟
وإذا كان مآله إلى الانتهاء فما الحاجة إلى إيجاده مع عدم الحاجة إليه، فانتفى اتخاذ الولد عقلا ونقلا، كما انتفت الولادة كذلك عقلا ونقلا.
وقد أورد بعض المفسرين سؤالا في هذه الآية، وهو لماذا قدم نفي الولد على نفي الولادة؟ مع أن الأصل في المشاهد أن يولد ثم يلد؟
وأجاب بأنه من تقديم الأهم لأنه رد على النصارى في قولهم: عيسى ابن الله، وعلى اليهود في قولهم: عزيز ابن الله، وعلى قول المشركين: الملائكة بنات الله، ولأنه لم يدع أحد أنه سبحانه مولود لأحد، فكانت دعواهم الولد لله فرية عظمى. ا ه.
كما قال تعالى: * (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا) *.
وقوله: * (وقالوا اتخذ الرحمان ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الا رض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمان ولدا) *.
فلشفاعة هذه الفرية قدم ذكرها، ثم الرد على عدم إمكانها بقوله: * (وما ينبغى للرحمان أن يتخذ ولدا * إن كل من فى السماوات والا رض إلا آتى الرحمان عبدا) *.
وقد قدمنا دليل المنع عقلا ونقلا.
153

وهنا سؤال أيضا، وهو إذا كان ادعاء الولد قد وقع، وجاء الرد عليه: فإن ادعاء الولادة لم يقع، فلماذا ذكر نفيه مع عدم ادعائه؟
والجواب والله تعالى أعلم: أن من جوز الولادة له وأن يكون له ولد، فقد يجوز الولادة عليه، وأن يكود مولودا فجاء نفيها تتمة للنفي والتنزيه، كما في حديث البحر، كان السؤال عن الوضوء من مائة فقط، فجاء الجواب عن مائة وميتته، لأن ما احتمل السؤال في مائة يحتمل الاشتباه في ميتته. والله تعالى أعلم. * (ولم يكن له كفوا أحد) *. قالوا: كفؤا وكفوا وكفاء، بمعنى واحد، وهو المثل.
وقد تعددت أقوال المفسرين في معنى الآية، وكلها تدور على معنى نفي المماثلة.
فعن كعب وعطاء: لم يكن له مثل ولا عديل.
وروى ابن جرير عن ابن عباس: أنه بمعنى ليس كمثله شيء.
وعن مجاهد: أي لا صاحبة له.
وقد جاء نفي الكفء والمثل والند والعدل، فالكفء في هذه السورة والمثل في قوله: * (ليس كمثله شىء) *، وقوله: * (فلا تضربوا لله الا مثال) *.
والند في قوله: * (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) *.
والعدل في قوله: * (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) *.
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه عند آية الأنعام بيان لذلك، أي يساوونه بعيره من العدل بكسر أوله، وهو أحد شقي حمل البعير على أحد التفسيرين، والآخر من العدول عنه إلى غيره.
وفي هذه السورة مبحثان يوردهما المفسرون. أحدهما: أسباب نزولها، والآخر: ما جاء في فضلها، ولم يكن من موضوع هذا الكتاب تتبع ذلك، إلا ما كان له دوافع تتعلق بالمعنى.
154

أما ما جاء في فضلها، فقد قال أبو حيان في تفسيره: لقد أكثر المفسرون إيراد الآثار في ذلك، وليس هذا محلها، وهو كما قال، فقد أوردها ابن كثير والفخر الرازي والقرطبي وابن حجر في الإصابة في ترجمة معاذ بن جبل وغيرهم، وليس هذا محل إيرادها، اللهم إلا ما جاء في الصحيح: أن تلاوتها تعدل ثلث القرآن لتعلق موضوعها بالتوحيد.
أما المبحث الآخر وهو سبب نزولها، فقيل فيه. إن المشركين طلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن ينسب لهم ربه، فنزلت.
وقوله فيها * (لم يلد ولم يولد) *، رد على إثبات النسب له سبحانه وتعالى.
وقد جاء مثل هذا المعنى حينما سأل فرعون موسى عن ربه، فقال له: * (وما رب العالمين) *.
فجاء جوابه: * (قال رب السماوات والا رض وما بينهمآ إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب ءابآئكم الا ولين * قال إن رسولكم الذى أرسل إليكم لمجنون) *.
وكنت سمعت من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، أن موجب قول فرعون عن موسى لمجنون، لأنه سأله بما في قوله: * (قال فرعون وما رب العالمين) *، وما يسأل بها عن شرح الماهية فكان مقتضى السؤال بها أن يبين ماهية الرب سبحانه وتعالى، من أي شيء هو، كما يقال في جواب: ما الإنسان إنه حيوان ناطق.
ولكن موسى عليه السلام أعرض عن سؤال فرعون لجهله عن حقيقة الله تعالى أو لتجاهله، كما في قوله تعالى: * (وجحدوا بها واستيقنتهآ أنفسهم) *، وأجابه عما يخصه ويلزمه الاعتراف به من أنه سبحانه رب السماوات والأرض وما بينهما، لا ربوبية فرعون الكاذبة.
ومثل ذلك في القرآن، لما سألوا عن الأهلة، ما بالها تبدو صغيرة، ثم تكبر؟ فهو سؤال عن حقيقة تغيرها، فترك القرآن جوابهم على سؤالهم وأجابهم بما يلزمهم وينفعهم.
وكذلك جواب الخليل عليه السلام للنمروذ حينما حاجه في ربه * (إذ قال إبراهيم
155

ربي الذى يحى ويميت) *.
فذكره سبحانه بصفاته، وفي هذه السورة لما سألوا عن حقيقة الله ونسبه جاء الجواب بصفاته، لأن ما يسألون عنه إنما يكون في المخلوقات لا في الخالق سبحانه، وفي
الممكن لا في الواجب الوجود لذاته، سبحان من لا يدرك كنهه غيره، وصدق الله العظيم في قوله: * (ليس كمثله شىء وهو السميع البصير) *، * (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما) *.
156

((سورة الفلق))
* (قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفاثات فى العقد * ومن شر حاسد إذا حسد) *
قيل: إنه لما صرح تعالى بخالص التوحيد في سورة الإخلاص، وهي معركة الإيمان والشرك، ومثار الخلاف والخصومة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأعدائه، أمر صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ من شرور الخلق فلا يضروه. إلخ. بسم الله الرحمن الرحيم * (قل أعوذ برب الفلق) *. قال أبو حيان وغيره: الفلق فعل بمعنى مفعول أي مفلوق، واختلف في المراد بذلك.
فقيل: إنه الصبح يتفلق عنه الليل.
وقيل: الحس والنوى.
وقيل: هو جب في جهنم.
وقال بعض المفسرين: كل ما فلقه الله عن غيره، كالليل عن الصبح، والحب والنوى عن النبت، والأرض عن النبات، والجبال عن العون، والأرحام عن الأولاد، والسحاب عن المطر.
وقال ابن جرير: إن الله أطلق ولم يقيد، فتطلق كذلك كما أطلق.
والذي يظهر أن كل الأقوال ما عدا القول بأنه جب في جهنم من قبيل اختلاف التنوع، وأنها كلها محتملة، قال ابن جرير على الإطلاق.
أما القول بأنه جب في جهنم، فلم يثبت فيه نص، وليست فيه أية مشاهدة يحال عليها للدلالة على قدرة الله تعالى، كما في الأشياء الأخرى المشاهدة.
158

والذي يشهد له القرآن هو الأول، كما جاء النص الصريح في الصبح والحب والنوى، كقوله تعالى: * (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحى من الميت ومخرج الميت من الحى ذالكم الله فأنى تؤفكون * فالق الإصباح وجعل اليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذالك تقدير العزيز العليم) *.
وكلها آيات دالة على قدرة الله، وجاء في حديث عائشة رضي الله عنها في بدء الوحي، وأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يرى رؤيا، إلا جاءت كفلق الصبح.
والفلق: بمعنى الصبح معروف في كلام العرب.
وعليه قول الشاعر: وعليه قول الشاعر:
* يا ليلة لم أنمها بت مرتقبا
* أرعى النجوم إلى أن قدر الفلق
*
وقول الآخر مثله وفيه: إلى أن نور الفلق بدل قدر، والواقع أنه في قوة الإقسام برب الكون كله يتفلق بعضه عن بعض. * (من شر ما خلق) *. وهذا عام وهو على عمومه، حتى قال الحسن: إن إبليس وجهنم مما خلق.
وللمعتزلة في هذه الآية كلام حول خلق أفعال العباد، وأن الله لا يخلق الشر، وقالوا: كيف يخلقه ويقدره، ثم يأمر بالاستعاذة به سبحانه مما خلقه وقدره؟
وأجيب من أهل السنة: بأنه لا مانع من ذلك، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (وأعوذ بك منك).
وقد قال تعالى: * (الله خالق كل شىء) *.
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، مناقشة هذه المسألة في مناظرة الأسفرائيني مع الجبائي في القدر.
ومعلوم أن المخلوق لا يتأتى منه شيء قط إلا بمشيئة الخالق، وما تشاءون إلا أن يشاء الله. * (ومن شر غاسق إذا وقب) *.
159

الغاسق: قيل الليل، لقوله تعالى: * (أقم الصلواة لدلوك الشمس إلى غسق اليل) *.
ووقب: أي دخل.
وعليه قول الشاعر: وعليه قول الشاعر:
* إن هذا الليل قد غسقا
* واشتكيت الهم والأرقا
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* يا طيف هند قد أبقيت لي أرقا
* إذ جئتنا طارقا والليل قد غسقا
*
قال القرطبي: وهذا قول ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم.
وقيل: الغاسق: القمر إذا كان في آخر الشهر، لحديث عائشة عند الترمذي (أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لها: تعوذي من هذا فإنه الغاسق إذا وقب). أي القمر.
وقائل هذا القول يقول: إنه أنسب لما يجيء بعده من السحر، لأنه أكثر ما يكون عندهم في آخر الشهر.
ونقل القرطبي عن ثعلب، عن ابن الأعرابي، أن أهل الريب يتحينون وجبة القمر، أي سقوطه وغيوبته.
وأنشد قول الشاعر: وأنشد قول الشاعر:
* أراحني الله من أشياء أكرهها
* منها العجوز ومنها الكلب والقمر
*
* هذا يبوح وهذا يستضاء به
* وهذه ضمرز قوامة السحر
*
والضمرز: الناقة المسنة، والمرأة الغليظة.
والصحيح الأول: الذي هو الليل بشهادة القرآن.
والثاني: تابع له، لأن القمر في ظهوره واختفائه مرتبط بالليل، فهو بعض ما يكون في الليل، وفي الليل تنتشر الشياطين وأهل الفساد، من الإنسان والحيوان ويقل فيه المغيث إلا الله.
160

وفي الحديث: (أطفؤوا السرج فإن الفويسقة تضرم على الناس بيوتهم ليلا). أي الفأرة. * (ومن شر النفاثات فى العقد) *. المراد به السحرة قطعا، سواء كان النفث من النساء كما هو ظاهر اللفظ، أو من الرجال على معنى الجماعات، أو النفوس الشريرة فتشمل النوعين.
وأجمع المفسرون: أنها نزلت في لبيد بن الأعصم، لما سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه جبريل عليه السلام وأخبره.
وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه مبحث السحر وأقسامه وأحكامه وكل ما يتعلق به، عند الكلام على قوله تعالى: * (ولا يفلح الساحر حيث أتى) *، من سورة طه، ما عدا مسألة واحدة، وهي حكم ما لو قتل أو أتلف شيئا بسحره، فما يكون حكمه، ونوردها موجزة.
مسألة
ذكر ابن قدامة في المغني رحمه الله النوع السادس من أنواع القتل: أن يقتله بسحر يقتل غالبا فيلزمه القود، وإن كان مما لا يقتل غالبا، ففيه الدية ا ه.
وذكر النووي في المنهاج شرح مغني المحتاج للشافعية: التنبيه على أنه يقتل كذلك.
وذكر مثله ابن حجر في الفتح: أن الساحر يقتل إذا قتل بسحره.
تنبيه
يقع تأثير السحر على الحيوان كما يقع على الإنسان.
قال أبو حيان: أخبرني من رأى في بعض الصحراء عند بعضهم. خيطا أحمر، قد عقدت فيه عقد على فصلان أي جمع فصيل، فمنعت من رضاع أمهاتها بذلك، فكان إذا حل عقدة جرى ذلك الفصيل إلى أمه في الحين فرضع. ا ه.
كما يقع الحسد أيضا على الحيوان، بل وعلى الجماد أي عين العائن تؤثر في
161

الحيوان والجماد والنبات، كما تؤثر في الإنسان على ما سيأتي إن شاء الله. * (ومن شر حاسد إذا حسد) *. اقتران الحسد بالسحر هنا، يشير إلى وجود علاقة بين كل من السحر والحسد، وأقل ما يكون هو التأثير الخفي الذي يكون من الساحر بالسحر، ومن الحاسد بالحسد مع الاشتراك في عموم الضرر، فكلاهما إيقاع ضرر في خفاء، وكلاهما منهى عنه.
وقد أوضح فضيلة الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، أنواع السحر وأحكامه وأورد فيه كلاما وافيا.
وقد ظهر بما قدمنا: أن الحسد له علاقة بالسحر نوعا ما، فلزم إيضاحه وبيان أمره بقدر المستطاع، إن شاء الله.
أولا: تعريفه: قالوا: إن الحسد هو تمني زوال نعمة الغير، أو عدم حصول النعمة للغير شحا عليه بها.
وقد قيدت الاستعاذة من شر الحاسد إذا حسد، أي عند إيقاعه الحسد بالفعل، ولم يقيدها من شر الساحر إذا سحر.
وذلك والله تعالى أعلم: أن النفث في العقد هو عين السحر، فتكون الاستعاذة واقعة موقعها عند سحره الواقع منه بنفثه الحاصل منه في العقد.
أما الحاسد فلم يستعذ منه إلا عند إيقاعه الحسد بالفعل، أي عند توجهه إلى المحسود، لأنه قبل توجهه إلى المحسود بالحسد لا يتأتى منه شر، فلا محل للاستعاذة منه.
أما حقيقة الحسد: فيتعذر تعريفه منطقيا.
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه أنه قال في السحر: لا يمكن تعريفه لخفائه.
ومعلوم أن الحسد أشد خفاء، لأنه عمل نفسي وأثر قلبي، وقد قيل فيه: إنه كإشعاع غير مرئي، ينتقل من قلب الحاسد إلى المحسود، عند تحرقه بقلبه على المحسود، وقد شبه حسد الحاسد بالنار في قولهم
162

: ومعلوم أن الحسد أشد خفاء، لأنه عمل نفسي وأثر قلبي، وقد قيل فيه: إنه كإشعاع غير مرئي، ينتقل من قلب الحاسد إلى المحسود، عند تحرقه بقلبه على المحسود، وقد شبه حسد الحاسد بالنار في قولهم:
* اصبر على مضض الحسود
* فإن صبرك قاتله
*
* كالنار تأكل بعضها
* إن لم تجد ما تأكله
*
وقد أنكر بعض الفلاسفة وقوع الحسد، حيث إنه غير مشاهد وهم محجوجون بكل موجود غير مشاهد، كالنفس والروح والعقل.
وقد شوهدت اليوم أشعة (إكس) وهي غير مرئية، ولكنها تنقذ إلى داخل الجسم من إنسان وحيوان، بل وخشب ونحوه. ولا يردها إلا مادة الرصاص لكثافة معدنه، فتصور داخل جسم الإنسان من عظام وأمعاء وغيرها، فلا معنى لرد شيء لعدم رؤيته.
تنبيه
قد أطلق الحسد هنا ولم يبين المحسود عليه، ما هو مع أنه كما تقدم زوال النعمة عن الغير.
وقد نبه القرآن الكريم على أعظم النعمة التي حسد عليها المسلمون عامة، والرسول صلى الله عليه وسلم خاصة، وهي نعمة الإسلام ونعمة الوحي وتحصيل الغنائم.
فأهل الكتاب حسدوا المسلمين على الإسلام في قوله تعالى: * (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق) *.
والمشركون حسدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على نعمة الوحي إليه، كما في قوله تعالى: * (أم يحسدون الناس على مآ ءاتاهم الله من فضله) *.
والناس هنا عام أريد به الخصوص، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: * (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم) *.
فالناس الأولى عام أريد به خصوص رجل واحد، وهو نعيم ابن مسعود الأشجعي.
ومما جاء فيه الحسد عن نعمة متوقعة. قوله تعالى: * (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا) *.
163

فتبين بنص القرآن أن الحسد يكون في نعمة موجودة، ويكون في نعمة متوقع وجودها.
تنبيه آخر
توجد العين كما يوجد الحسد، ولم أجد من فرق بينهما مع وجود الفرق.
وقد جاء في الصحيح (إن العين لحق).
كما جاء في السنن: (لو أن شيئا يسبق القدر لسبقته العين).
ويقال في الحسد، حاسد، وفي العين: عائن، ويشتركان في الأثر، ويختلفان في الوسيلة والمنطلق.
فالحاسد: قد يحسد ما لم يره، ويحسد في الأمر المتوقع قبل وقوعه، ومصدره تحرق القلب واستكثار النعمة على المحسود، وبتمني زوالها عنه أو عدم حصولها له وهو غاية في حطة النفس.
والعائن: لا بعين إلا ما يراه والموجود بالفعل، ومصدره انقداح نظرة العين، وقد يعين ما يكره أن يصاب بأذى منه كولده وماله.
وقد يطلق عليه أيضا الحسد، وقد يطلق الحسد ويراد به الغبطة، وهو تمني ما يراه عند الآخرين من غير زواله عنهم.
وعليه الحديث: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الخير، ورجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها بين الناس).
وقال القرطبي: روي مرفوعا (المؤمن يغبط، والمنافق يحسد).
وقال: الحسد أول ذنب عصى الله به في السماء، وأول ذنب عصى به في الأرض، فحسد إبليس آدم وحسد قابيل هابيل ا ه.
تحذير
كنت سمعت من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه قوله: إن أول معصية وقعت هي الحسد، وجر شؤمها إلى غيرها، وذلك لما حسد إبليس أبانا آدم على ما آتاه الله من
164

الكرامات من خلقه بيديه، وأمر الملائكة بالسجود له، فحمله الحسد على التكبر، ومنعه التكبر من امتثال الأمر بالسجود، فكانت النتيجة طرده، عياذا بالله.
أسباب الحسد
وبتأمل القصة، يظهر أن الحامل على الحسد أصله أمران:
الأول: ازدراء المحسود.
والثاني: إعجاب الحاسد بنفسه، كما قال إبليس معللا لامتناعه من السجود: * (أنا خير منه) *.
ثم فصل معنى الخيرية المزعومة بقوله: * (خلقتني من نار وخلقته من طين) *، ويلحق بذلك جميع الأسباب.
وقد ذكروا منها التعزز في نفسه، ولا يريد لأحد أن يرتفع عليه، والتعجب بأن يعجب بنفسه، ولا يرى أحدا أولى منه، والخوف من فوات المقاصد عند شخص إذا رآه سيستغني عنه، وحب الرئاسة ممن لا يريد لأحد أن يتقدم عليه في أي فن أو مجال.
وذكرها الرازي نقلا عن الغزالي.
ومن هنا لا نرى معجبا بنفسه قط، إلا ويزدري الآخرين ويحسدهم على أدنى نعمة أنعمها الله عليهم. عافانا الله من ذلك.
تنبيه
إذا كانت أول معصية وقعت هي حسد إبليس لأبينا آدم على ما أنعم الله به عليه، وجاء حسد المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم على نعمة الوحي، وحسد أهل الكتاب للمسلمين على نعمة الإسلام، وجاءت هذه السورة في أواخر القرآن، فكأنها جاءت في أعقاب القرآن لتذكر المسلمين بعظم نعمته عليهم وشدة حسدهم عليه، ليحذروا أعداءهم الذين يكيدون لهم في دينهم، من كل من الجنة والناس، على ما سيأتي في السورة بعدها والأخيرة، إن شاء الله.
165

مسألة في حكم من قتل أو كسر أو أتلف شيئا بالعين
تقدم بيان ذلك في حق السحر، أما في حق العين، فقد قال ابن حجر في فتح الباري في كتاب الطب ما نصه وقد اختلف في جريان القصاص بذلك، يعني بالعين.
فقال القرطبي: لو أتلف العائن شيئا ضمنه لو قتل فعليه القصاص أو الدية إذا تكرر ذلك منه، بحيث يصير عادة وهو في ذلك كالساحر عند من لا يقتله كفرا. ا ه.
ولم يتعرض الشافعية للقصاص في ذلك بل منعوه، وقالوا: إنه لا يقتل غالبا ولا يعد مهلكا.
وقال النووي في الروضة: ولا دية فيه ولا كفارة، لأن الحكم إنما يترتب على منضبط عام دون ما يختص ببعض الناس في بعض الأحوال، مما لا انضباط له، كيف ولم يقع منه فعل أصلا، وإنما غايته حسد وتمن لزوال نعمة.
وأيضا، فالذي ينشأ عن الإصابة بالعين حصوله مكروه لذلك الشخص، ولا يتعين ذلك المكروه في زوال الحياة، فقد يحصل له مكروه بغير ذلك من أثر العين. ا ه.
ولا يعكر على ذلك إلا الحكم بقتل الساحر، فإنه في معناه، والفرق بينهما عسير.
ونقل ابن بطال عن بعض أهل العلم: أنه ينبغي للإمام منع العائن إذا عرف بذلك من مداخلة الناس، وأنه يلزمه بيته، فإن كان فقيرا رزقه ما يقوم به، فإن ضرره أشد من ضرر المجذوم الذي أمر عمر رضي الله عنه بمنعه من مخالطة الناس، وأشد من ضرر الثوم الذي منع الشارع آكله من حضور الجماعة.
قال النووي: وهذا القول صحيح متعين، لا يعرف عن غيره تصريح بخلافه. ا ه. من فتح الباري.
وبتأمل قول القرطبي والنووي بدقة، لا يوجد بينهما خلاف في الأصل، إذ القرطبي يقيد كلامه بما يتكرر منه بحيث يصير عادة له.
والنووي يقول: إنه لا يقتل غالبا، وعليه فلو ثبت أنه يقتل غالبا وتكرر ذلك منه
166

، فإنه يتفق مع كلام القرطبي تماما في أن من أتلف بعينه وكان معتادا منه ذلك فهو ضامن، وهذا معقول المعنى، والله تعالى أعلم.
وعند الحنابلة في كشاف القناع ما نصه: والمعيان الذي يقتل بعينه.
قال ابن نصر الله في حواشي الفروع: ينبغي أن يلحق بالساحر الذي يقتل بسحره غالبا، فإذا كانت عينه يستطيع القتل بها ويفعله باختياره وجب به القصاص اه.
مسألة بيان ما تعالج به العين
لما كان الحسد أضر ما يكون على الإنسان، والإصابة بالعين حق لا شك فيها وجاء فيها: (لو أن شيئا يسبق القدر لسبقته العين).
وحديث: (إن العين لحق) فقد فصلت السنة كيفية اتقائها قبل وقوعها، والعلاج منها إذا وقعت.
وذلك فيما رواه مالك في الموطأ وغيره من الصحاح، في حديث سهل بن حنيف، وبوب البخاري في صحيحه باب رقية العين، وذكر حديث عائشة أنها قالت: (أمرني النبي صلى الله عليه وسلم، أو أمر أن يسترقي من العين).
وعقد مالك في الموطأ بابا بعنوان (الوضوء من العين) وباب آخر بعده بعنوان (الرقية من العين)، وساق حديث سهل بتمامه وفيه بيان كيفية اتقائها وعلاجها، ولذا نكتفي بإيراده لشموله.
قال: عن محمد بن أبي أسامة بن سهل بن حنيف أنه سمع أباه يقول: اغتسل أبي سهل بن حنيف بالحرار فنزع جبة كانت عليه، وعامر بن ربيعة ينظر، قال: وكان سهل رجلا أبيض حسن الجلد، قال: فقال له عامر بن ربيعة: ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء، قال: فوعك سهل مكانه واشتد وعكه، فأوتي رسول الله فأخبروه أن سهلا وعك وأنه غير رائح معك يا رسول الله، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره سهل بالذي كان من أمر عامر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (علام يقتل أحدكم أخاه، ألا بركت، إن العين حق، توضأ له فتوضأ له عامر، فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس).
167

وساق مرة أخرى وفيه، فقال صلى الله عليه وسلم (هل تتهمون له أحدا؟ قالوا: نتهم عامر بن ربيعة، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عامرا فتغيظ عليه، وقال: علام يقتل أحدكم أخاه، ألا بركت، اغتسل له، فغسل عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه، وداخل إزاره في قدح ثم صب عليه فراح سهل مع الناس، ليس به بأس).
فهذه القصة تثبت قطعا وقوع العين، وهذا أمر مجمع عليه من أهل السنة وسلف الأمة، كما أنها ترشد إلى أن من برك، أي قال: تبارك الله.
وفي بعض الروايات لغير مالك: هلا كبرت، أي يقول: الله أكبر ثلاثا، فإن ذلك يرد عين العائن.
كما جاء في السنة (أن الدعاء يرد البلاء) فإذا لم تدفع عند صدورها وأصابت، فإن العلاج منها كما جاء هنا توضأ له، واللفظ الآخر: (اغتسل له).
وقد فصل المراد بالغسل له: أنه غسل الوجه واليدين أي الكفين فقط، والمرفقين والركبتين والقدمين وطرف الإزار الداخلي، ويكون ذلك في إناء لا يسقط الماء على الأرض، ويفرغ هذا الماء على المصاب من الخلف ويكفأ الإناء خلفه.
وقد ذكرها مفصلة القاضي الباجي في شرح الموطأ فقال: وروي عن يحيى بن يحيى عن ابن نافع في معنى الوضوء الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
يغسل الذي يتهم بالرجل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه ورجليه وداخلة إزاره، وقال: ولا يغسل ما بين اليد والمرفق، أي لا يغسل الساعد من اليد.
وروي عن الزهري أنه قال: الغسل الذي أدركنا علماءنا يصفونه: أي يؤتي العائن بقدح فيه ماء، فيمسك مرتفعا من الأرض فيدخل فيه كفه فيمضمض، ثم يمجه في القدح، ثم يغسل وجهه في القدح صبة واحدة، ثم يدخل يده اليسرى فيصب بها على كفه اليمنى، ثم يدخل يده اليمنى فيصب بها على ظهر كفه اليسرى صبة واحدة، ثم يدخل يده اليسرى فيصب بها على مرفقه الأيمن، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على مرفقه الأيسر، ثم يدخل يده اليسرى فيصب بها على قدمه اليمنى، ثم يدخل يده اليمنى فيصب بها على قدمه الأيسر، ثم يدخل يده اليسرى فيصب بها على ركبته اليمنى، ثم يدخل يده اليمنى فيصب بها على ركبته اليسرى، كل ذلك في قدح ثم يدخل داخلة إزاره في القدح ولا يوضع القدح
168

في الأرض، فيصب على رأس المعين من خلفه صبة واحدة، وقيل: يغتفل ويصب عليه، أي في حالة غفلته، ثم يكفأ القدح على ظهر الأرض وراءه.
وأما داخلة إزاره: فهو الطرف المتدلي الذي يفضي من مأزره إلى جلده مكانه، إنما يمر بالطرف الأيمن على الأيسر، حتى يشده بذلك الطرف المتدلي الذي يكون من داخل. ا ه.
ومما يرشد إليه هذا الحديث تغيظه صلى الله عليه وسلم على عامر بن ربيعة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (علام يقتل أحدكم أخاه) مما يبين شناعة هذا العمل، وأنه قد يقتل.
ومما ينبغي مراعاته من كل من الطرفين من ابتلى بالعين، فليبارك عند رؤيته ما يعجبه لئلا يصيب أحدا بعينه، ولئلا تسبقه عينه.
وكذلك من اتهم أحدا بالعين، فليكبر ثلاثا عند تخوفه منه. فإن الله يدفع العين بذلك. والحمد لله.
وقد ذكروا للحسد دواء كذلك، أي يداوي به الحاسد نفسه ليستريح من عناء الحسد المتوقد في قلبه المنغض عليه عيشه الجالب عليه حزنه، وهو على سبيل الإجمال في أمرين. العلم ثم العمل.
والمراد بالعلم هو أن يعلم يقينا أن النعمة التي يراها على المحسود، إنما هي عطاء من الله بقدر سابق وقضاء لازم، وأن حسده إياه عليها لا يغير من ذلك شيئا، ويعلم أن ضرر الحسد يعود على الحاسد وحده في دينه لعدم رضائه بقدر الله وقسمته لعباده، لأنه في حسده كالمعترض على قوله تعالى: * (نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحيواة الدنيا) *، وفي دنياه لأنه يورث السقام والأحزان والكآبة ونفرة الناس منه ومقتهم إياه، ومن وراء هذا وذاك، العقاب في الآخرة.
أما العمل فهو مجاهدة نفسه ضد نوازع الحسد، كما تقدمت الإشارة إليه في الأسباب، فإذا رأى ذا نعمة فازدرته عينه، فليحاول أن يقدره ويخدمه.
وإن راودته نفسه بالإعجاب بنفسه، ردها إلى التواضع وإظهار العجز والافتقار.
وإن سولت له نفسه تمني زوال النعمة عن غيره، صرف ذلك إلى تمني مثلها لنفسه. وفضل الله عظيم.
169

وإن دعاه الحسد إلى الإساءة إلى المحسود، سعى إلى الإحسان إليه، وهكذا فيسلم من شدة الحسد، ويسلم غيره من شره.
وكما في الأثر: (المؤمن يغبط، والمنافق يحسد).
نسأل الله العافية والمعافاة.
170

((سورة الناس))
* (قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إلاه الناس * من شر الوسواس الخناس * الذى يوسوس فى صدور الناس * من الجنة والناس) * * (قل أعوذ برب الناس *
ملك الناس * إلاه الناس) *. تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، الإحالة على هذه السورة عند كلامه على قوله تعالى: * (ألا تعبدوا إلا الله إننى لكم منه نذير وبشير) *، في سورة هود، فقال على تلك الآية: فيها الدلالة الواضحة على أن الحكمة العظمى التي أنزل القرآن من أجلها هي أن يعبد الله تعالى وحده ولا يشرك به في عبادته شيء.
وساق الآيات المماثلة لها ثم قال: وقد أشرنا إلى هذا البحث في سورة الفاتحة، وسنتقصى الكلام عليه إن شاء الله تعالى في سورة الناس، لتكون خاتمة هذا الكتاب المبارك حسنى ا ه.
وإن في هذه الإحالة منه رحمة الله تعالى علينا وعليه لتنبيها على المعاني التي اشتملتها هذه السورة الكريمة، وتوجيها لمراعاة تلك الخاتمة.
كما أن في تلك الإحالة تحميل مسؤولية الاستقصاء حيث لم يكتف بما قدمه في سورة الفاتحة، ولا فيما قدمه في سورة هود، وجعل الاستقصاء في هذة السورة، ومعنى الاستقصاء: الاستيعاب إلى أقصى حد.
وما أظن أحدا يستطيع استقصاء ما يريده غيره، ولا سيما ما كان يريده الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه وما يستطيعه هو.
ولكن على ما قدمنا في البداية: أنه جهد المقل ووسع الطاقة. فنستعين الله ونستهديه مسترشدين بما قدمه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورتي الفاتحة وهود، ثم نورد وجهة نظر في السورتين معا الفلق والناس، ثم منهما وفي نسق المصحف الشريف، آمل من الله تعالى وراج توفيقه ومعونته.
171

أما الإحالة فالذي يظهر أن موجبها هو أنه في هذه السورة الكريمة اجتمعت ثلاث صفات لله تعالى من صفات العظمة والكمال: رب الناس، ملك الناس، إلاه الناس، ولكأنها لأول وهلة تشير إلى الرب الملك هو الإله الحق الذي يستحق أن يعبد وحده.
ولعله ما يرشد إليه مضمون سورة الإخلاص قبلها: هو الله أحد، الله الصمد، وهذا هو منطق العقل والقول الحق، لأن مقتضى الملك يستلزم العبودية، والعبودية تستلزم التأليه والتوحيد في الألوهية، لأن العبد المملوك تجب عليه الطاعة والسمع لمالكه بمجرد الملك، وإن كان مالكه عبدا مثله، فكيف بالعبد المملوك لربه وإلهه، وكيف بالمسالك الإله الواحد الأحد الفرد الصمد؟
وقد جاءت تلك الصفات الثلاث: الرب الملك الإله، في أول افتتاحية أول المصحف: * (الحمد لله رب العالمين * الرحمان الرحيم * مالك يوم الدين) *، والقراءة الأخرى * (مالك يوم الدين) *.
وفي أول سورة البقرة أول نداء يوجه للناس بعبادة الله تعالى وحده، لأنه ربهم مع بيان الموجبات لذلك في قوله تعالى: * (ياأيها الناس اعبدوا ربكم) *.
ثم بين الموجب لذلك بقوله: * (الذى خلقكم والذين من قبلكم) *.
وقوله: * (الذى جعل لكم الا رض فراشا والسمآء بنآء وأنزل من السمآء مآء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) *.
وهذا كله من آثار الربوبية واستحقاقه تعالى على خلقه العبادة، ثم بين موجب إفراده وحده بذلك بقوله: * (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) *.
أي كما أنه لا ند له في الخلق ولا في الرزق ولا في شيء مما ذكر، فلا تجعلوا لله أندادا أيضا في عبادة، وأنتم تعلمون حقيقة ذلك.
وعبادته تعالى وحده ونفى الأنداد، هو ما قال عنه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه: معنى لا إلاه إلا الله نفيا وإثباتا.
فالإثبات في قوله تعالى: * (واعبدوا الله) *.
172

والنفي في قوله: * (فلا تجعلوا لله أندادا) *.
وكون الربوبية تستوجب العبادة، جاء صريحا في قوله تعالى: * (فليعبدوا رب هاذا البيت * الذى أطعمهم من جوع وءامنهم من خوف) *.
فالموصول وصلته في معنى التعليل لموجب العبادة، وسيأتي لذلك زيادة إيضاح إن شاء الله تعالى في نهاية السورة.
وقد جاء هنا لفظ * (برب الناس) *، بإضافة الرب إلى الناس، بما يشعر بالاختصاص، مع أنه سبحانه رب العالمين ورب كل شيء، كما في أول الفاتحة: * (الحمد لله رب العالمين) *.
وفي قوله: * (قل أغير الله أبغى ربا وهو رب كل شىء) *.
فالإضافة هنا إلى بعض أفراد العام.
وقد أضيف إلى بعض أفراد أخرى كالسماوات والأرض وغيرها من بعض كل شيء، كقوله: * (قل من رب السماوات والا رض قل الله) *.
وقوله: * (رب المشرق والمغرب لا إلاه إلا هو فاتخذه وكيلا) *.
وإلى البيت * (فليعبدوا رب هاذا البيت) *.
وإلى البلد الحرام * (إنمآ أمرت أن أعبد رب هذه البلدة) *.
وإلى العرش * (رب العرش الكريم) *.
وإلى الرسول * (اتبع مآ أوحى إليك من ربك) *.
وقوله: * (وربك فكبر) *، إلى غير ذلك.
ولكن يلاحظ أنه مع كل إضافة من ذلك ما يفيد العموم، وأنه مع إضافته لفرد من أفراد العموم، فهو رب العالمين، ورب كل شيء، ففي إضافته إلى السماوات والأرض جاء معها * (قل الله) *.
وفي الإضافة إلى المشرق والمغرب جاء * (لا إلاه إلا هو فاتخذه وكيلا) *.
173

وفي الإضافة إلى البيت جاء * (الذى أطعمهم من جوع وءامنهم من خوف) * وهو الله سبحانه.
وفي الإضافة إلى البلدة جاء * (الذى حرمها) *، وهو الله تعالى.
وفي الإضافة إلى العرش جاء قوله تعالى: * (فتعالى الله الملك الحق لا إلاه إلا هو رب العرش) *.
وفي الإضافة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم جاء قوله: * (ما ودعك ربك) *، وغير ذلك من الإضافة، إلى أي فرد من أفراد العموم يأتي معها ما يفيد العموم، وأن الله رب العالمين.
وهنا رب الناس جاء معها * (ملك الناس * إلاه الناس) *، ليفيد العموم أيضا. لأن إطلاق الرب قد يشارك فيه السيد المطاع، كما في قوله: * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) *.
وقول يوسف لصاحبه في السجن * (اذكرنى عند ربك) *، أي الملك على أظهر الأقوال، وقوله: * (ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة) *.
فجاء بالملك والإله للدلالة على العموم، في معنى رب الناس، فهو سبحانه رب العالمين ورب كل شيء، ولكن إضافته هنا إلى خصوص الناس إشعار بمزيد اختصاص، ورعاية الرب سبحانه لعبده الذي دعاه إليه ليستعيذ به من عدوه، كما أن فيه تقوية رجاء العبد في ربه بأنه سبحانه بربوبيته سيحمي عبده لعبوديته ويعيذه مما استعاذ به منه.
ويقوي هذا الاختصاص إضافة الرب للرسول صلى الله عليه وسلم في جميع أطواره منذ البدأين: بدء الخلقة وبدء الوحي، في قوله: * (اقرأ باسم ربك الذى خلق * خلق الإنسان من علق) *، ثم في نشأته * (ما ودعك ربك وما قلى) * إلى قوله * (ألم يجدك يتيما فآوى * ووجدك ضآلا فهدى * ووجدك عآئلا فأغنى) *.
وجعل الرغبة إليه في السورة بعدها * (وإلى ربك فارغب) *، تعداد النعم عليه من شرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر، ثم في المنتهى قوله: * (إن إلى ربك الرجعى) *.
174

* (ملك الناس) *، في مجيء ملك الناس بعد رب الناس، تدرج في التنبيه على تلك المعاني العظام، وانتقال بالعباد من مبدإ الإيمان بالرب لما شاهدوه من آثار الربوبية في الخلق والرزق، وجميع تلك الكائنات، كما تقدم في أول نداء وجه إليهم * (اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذى جعل لكم الا رض فراشا والسمآء بنآء وأنزل من السمآء مآء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) *.
كل هذه الآثار التي لمسوها وأقروا بموجبها، بأن الذي أوجدها هو ربهم، ومن ثم ينتقلون إلى الدرجة الثانية، وهي أن ربه الذي هذه أفعاله هو ملكه وهو المتصرف في تلك العوالم، وملك لأمره وجميع شؤونه، ومالك لأمر الدنيا والآخرة جميعا.
فإذا وصل بإقراره إلى هذا الإدراك، أقر له ضرورة بالألوهية وهي المرتبة النهاية. إله الناس أي مألوههم ومعبودهم وهو ما خلقهم إليه، * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) *.
وفي إضافة الملك إلى الناس من إشعار الاختصاص، مع أنه سبحانه ملك كل شيء، فيه ما في إضافة الرب للناس المتقدم بحثه، فهو سبحانه مالك الملك كما في قوله: * (قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشآء وتنزع الملك ممن تشآء وتعز من تشآء) *.
وقوله تعالى: * (له الملك وله الحمد) *.
وقوله: * (له ملك السماوات والأرض) *، وقوله: * (الملك القدوس) *.
فهو سبحانه وتعالى المتفرد بالملك لا شريك له في ملكه، كما قال تعالى: * (وقل الحمد لله الذى لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك) * فبدأ بالحمد أولا.
ومثله قوله: * (فسبحان الذى بيده ملكوت كل شىء) *، بدأ بتسبيح نفسه وتنزيهه لعموم الملك ومطلق التصرف ونفي الشريك لأن ملكه ملك تصرف وتدبير مع الكمال في الحمد والتقديس.
175

وكقوله: * (تبارك الذى بيده الملك وهو على كل شىء قدير) *.
وبهذه النصوص يعلم كمال ملكه تعالى، ونقص ملك ما سواه من ملوك الدنيا، ونعلم أن ملكهم بتمليك الله تعالى إياهم كما في قوله تعالى: * (والله يؤتى ملكه من يشآء) *.
وقوله: * (قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشآء وتنزع الملك ممن تشآء) *.
ومن المعلوم أن ملوك الدنيا ملكهم ملك سياسة ورعاية، لا ملك تملك وتصرف، وكما في قوله تعالى: * (وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتى ملكه من يشآء والله واسع عليم) *.
والجدير بالتنبيه عليه بهذه المناسبة أن (بريطانيا) تحترم نظام الملكية إلى هذا الوقت الحاضر، بدافع من هذا المعتقد، وأنه لا ملك إلا بتمليك الله إياه، وأن ملوك الدنيا باصطفاء من الله.
والآية تشير إلى ما نحن بصدد بيانه، من أن ملوك الدنيا لا يملكون أمر الرعية لأن طالوت ملكا، وليس مالكا لأموالهم.
بينما ملك الله تعالى ملك خلق وإيجاد وتصرف، كما في قوله تعالى: * (لله ملك السماوات والا رض يخلق ما يشآء يهب لمن يشآء إناثا ويهب لمن يشآء الذكور * أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشآء عقيما إنه عليم قدير) *.
وعليم قدير هنا من خصائصه سبحانه وتعالى، فيتصرف في ملكه بعلم وعن قدرة كاملين سبحانه، له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وتظهر حقيقة ذلك إذا جاء اليوم الحق، فيتلاشى كل ملك قل أو كثر، ويذل كل ملك كبر أو صغر، ولم يبق إلا ملكه تعالى يوم هم بارزون، لا يخفى على الله منهم شيء، لمن الملك اليوم لله الواحد القهار.
176

وفي سورة الفاتحة * (مالك يوم الدين) *.
والقراءة الأخرى * (مالك يوم الدين) *.
في القراءتين معا إشعار بالفرق بين ملك الله وملك العباد، كالفرق بين الملك المطلق والملك النسبي، إذ الملك النسبي لا يملك، والملك المطلق، فهو الملك القدوس، والذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجع الخلائق كلهم.
ومن كانت هذه صفاته، فهو المستحق لأن يعبد وحده سبحانه، ولا يشرك معه أحد، وهذا هو شعار العبد في الركن الخامس من أركان الإسلام، حين يهل بالتلبية: إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. * (إلاه الناس) *. هذه هي المرتبة الثالثة في كمال العبودية، وإفراد الله تعالى بالألوهية.
وهذا هو محل الإحالة، التي عناها الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه فيما يظهر، لأن العبد إذا أقر بأن الله ربه وخالقه، ومنعم عليه أوجده من العدم، ورباه بالنعم، لا رب له سواه، ثم تدرج بعلمه ويقينه إلى الإقرار بأن ربه هو مليكه والمتصرف في أمره وحده، وأنه لا يملك هو نفسه مع الله شيئا، ولا يملك له أحد من الله شيئا.
وأن كل تصرفات العالم كله بأمره فلا يصل إليه خير إلا بإذنه، ولا يصرف عنه ضرر إلا بأمره.
وعرف في يقين: أنه عبد مملوك لمن بيده ملكوت السماوات والأرض، توصل بعلمه هذا أن من كانت هذه صفاته، كان هو وحده المستحق لإفراده بالعبادة وبالألوهية، لا إلاه إلا هو.
فيكون في خاتمة المصحف الشريف انتزاع الإقرار من العبد لله سبحانه بطريق الإلزام، بالمعنى الذي أرسل الله به رسله، وأنزل من أجله كتبه، وهو أن يعبد الله وحده، وهو ما صرح الشيخ به في الإحالة السابقة.
وإذا كان الشيخ رحمه الله، قد نبه على مراعاة خاتمة المصحف، فإنا لو رجعنا إلى أول المصحف وآخره لوجدنا ربطا بديعا، إذ تلك الصفات الثلاث في سورة الناس
177

موجودة في سورة الفاتحة، فاتفقت الخاتمة مع الفاتحة في هذا المعنى العظيم، إذ في الفاتحة الحمد لله رب العالمين، وملك يوم الدين، فجاءت صفة الربوبية والملك والألوهية في لفظ الجلالة.
وتكون الخاتمة الشريفة من باب عود على بدء، وأن القرآن كله فيما بين ذلك شرح وبيان لتقدير هذا المعنى الكبير.
وسيأتي لذلك زيادة إيضاح في النهاية، إن شاء الله تعالى. * (من شر الوسواس الخناس) *. كلاهما صيغة مبالغة من الوسوسة والخنس، بسكون النون.
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان معنى الوسوسة، والوسواس لغة وشرعا، أي المراد عند كلامه على قوله تعالى: * (فوسوس إليه الشيطان قال ياأادم هل أدلك على شجرة الخلد) *.
وبين مشتقاتهما وأصل اشتقاقهما، وهو يدور على أن الوسوسة: الحديث الخفي. والخنس: التأخر، كما تكلم على ذلك في دفع إيهام الاضطراب، حيث اجتمع المعنيان المتنافيان.
لأن الوسواس: كثير الوسوسة، ليضل بها الناس. والخناس: كثير التأخر والرجوع عن إضلال الناس.
وأجاب بأن لكل مقام مقالا، وأنه يوسوس عند غفلة العبد عن ذكر ربه، خانس عند ذكر العبد ربه تعالى، كما دل عليه قوله تعالى: * (ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين) *، إلى آخره. ا ه. * (الذى يوسوس فى صدور الناس) *. اختلف في الظرف هنا، هل هو ظرف للوسواس حينما يوسوس، فيكون موجودا في الصدور، ويوسوس للقلب، أو هو ظرف للوسوسة. ويكون المراد بالصدور القلوب، لكونها حالة في الصدور من باب إطلاق المحل، وإرادة الحال على ما هو جار في الأساليب البلاغية.
178

وعلى حد قوله تعالى: * (فليدع ناديه) *، أطلق النادي، وأراد من يحل فيه من القوم.
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بحث تعدية الوسوسة تارة بإلى وتارة باللام، ففي سورة الأعراف * (فوسوس لهما الشيطان) *، وفي طه: * (فوسوس إليه الشيطان) *.
وحاصل ما ذكره في الجمع بينهما أحد أمرين: إما أن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض، وذكر شواهده، وإما أن يكون وسوس، أي لأجله ووسوس إليه أي أنهى
إليه الوسوسة، ولكن هنا قال: * (فى صدور الناس) *، ولم يقل: إلى صدور الناس، فهل هو من باب نيابة حروف الجر بعضها عن بعض أيضا؟ أم هي ظرف محض؟
والظاهر أنها ظرف، ولكن هل من الظرف للوسواس، أو ظرف للوسوسة نفسها؟
وبالنظر إلى كلام المفسرين، فإن كلام ابن جرير يحتمل اعتبار المعنيين بدون تعيين.
وأما القرطبي، والألوسي، فصرحا بما ظهر لهما ووصلا إليه.
فقال القرطبي، قال مقاتل: إن الشيطان في صورة خنزير يجري من مجرى الدم في العروق سلطه الله على ذلك وذكر الحديث (إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه).
وقال: إن أبا ثعلبة الخشني قال: سألت ربي أن يريني الشيطان، ومكانه من ابن آدم، فرأيته يداه في يديه ورجلاه في رجليه ومشاعيه في جسده، غير أن له خطما كخطم الكلب؟ فإذا ذكر الله خنس، وإذا سكت عن ذكر الله أخذ بقلبه.
أما الألوسي فقد صرح بالتقسيم الذي أوردناه، فقال: الذي يوسوس في صدور الناس.
قيل: أريد قلوبهم مجازا.
وقال بعضهم: إن الشيطان يدخل الصدر الذي هو بمنزلة الدهليز، فيلقي منه ما يريد إلقاءه إلى القلب ويوصله إليه، ولا مانع عقلا من دخوله في جوف إنسان. وساق الحديث أيضا (إن الشيطان يجري) إلى آخره.
179

ومراده بالمجاز ما قدمنا من إطلاق المحل وإرادة الحال.
وذكر ابن كثير عن ابن عباس ومجاهد أن الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، وإذا ذكر الله خنس.
والذي يظهر والله تعالى أعلم: أن الصدر ظرف للوسواس، وأنه يوقع الوسوسة في القلب. على ما قاله ابن عباس ومجاهد رحمهم الله.
وفي لفظ الناس هنا المضاف إليه الصدور: اختلاف في المراد منه، فقيل: الإنس الظاهر الاستعمال.
وقيل: الثقلان: الإنس والجن.
وإن إطلاق الناس على الجنس مسموع، كما حكاه القرطبي. قال عن بعض العرب:
إنه كان يحدث فجاء قوم من الجن فوقفوا، فقيل: من أنتم: فقالوا: ناس من الجن، وهذا معنى قول الفراء.
واستدل صاحب هذا القول بطريق القياس باستعمال لفظي رجال ونفر في قوله تعالى: * (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن) *، وقوله: * (وإذ صرفنآ إليك نفرا من الجن) *.
وعليه يكون الوسواس المستعاذ منه يوسوس في صدور الجن والإنس.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الوجه: ولكنه رده وضعفه، لأن لفظ الناس أظهر وأشهر في الإنس، وهو المعروف في استعمال القرآن، ولأنه على هذا يكون قسم الشيء قسما منه، لأنه يجعل الناس قسيم الجن، ويجعل الجن نوعا من الناس ا ه. ملخصا.
وعلى كل، فإن منهج الأضواء أن ما كان محتملا وكان أكثر استعمالات القرآن لأحد الاحتمالين، فإن كثرة استعماله إياه تكون مرجحا، وجميع استعمالات القرآن للفظ الناس إنما هو في خصوص الإنس فقط، ولم تستعمل ولا مرة واحدة في حق الجن مع مراعاة استعمالها في هذه السورة وحدها خمس مرات، حتى سميت سورة الناس.
180

أما القياس على لفظتي رجل ونفر، فقد رده شيخ الإسلام ابن تيمية أيضا بأنهما وردا مقيدين رجال من الجن، نفرا من الجن.
أما على الإطلاق فلم يردا، وهكذا لفظ الناس فلا مانع من استعماله مقيدا ناس من الجن. أما على الإطلاق فلا.
وعليه، فحيث ورد لفظ الناس هنا مطلقا فلا يصح حمله على الجن والإنس معا، بل يكون خاصا بالإنس فقط، ويكون في صدور الناس أي في صدور الإنس.
وقد ذكر أبو السعود معنى آخر في لفظ الناس: وهو أن الناسي عن النسيان، حذفت الياء تخفيفا لأن الوسواس لا يوسوس إلا في حين النسيان والغفلة.
وعليه، يكون حذف الياء كحذفها من الداع في قوله: * (يوم يدعو الداع) * ونحوه.
ولكن يبقى على هذا القول بيان من المراد بالناسي، أهو من الإنس أم من الجن، فلم يخرج عن الاحتمالين السابقين، مع أن هذا القول من لوازم معنى الوسواس الخناس.
ويرد على هذا القول جمع الصدور وإفراد الناس، والجمع لا يضاف إلا إلى جمع، أي جمع الصدور، لأن الفرد ليس له جمع من الصدور، فيقابل الجمع بجمع، أو يكتفي بالمفرد بمفرد.
وقد جاء في إضافة الجمع إلى المثنى في قوله: * (فقد صغت قلوبكما) *.
قال أبو حيان: وحسنه أن المثنى جمع في المعنى، والجمع في مثل هذا أكثر استعمالا من المثنى والتثنية دون الجمع.
كما قال الشاعر: كما قال الشاعر:
* فتخالسا نفسيهما بنوافذ
* كنوافذ العيط التي لا ترفع
*
181

وهذا كان القياس وذلك أن المعبر عن المثنى بالمثنى، لكن كرهوا اجتماع تثنيتين فعدلوا إلى الجمع بأن التثنية جمع في المعنى والإفراد، لا يجوز عند أصحابنا إلا في الشعر.
كقوله:
* حمامة بطن الواديين ترنمي
يريد بطني، وغلط ابن مالك في التسهيل إذ قال: ونختار الإفراد على لفظ التثنية، فتراه غلط ابن مالك في اختياره جواز إضافة الجمع إلى المفرد، كما أنه قال: ولا يجوز ذلك إلا في الشعر، وأنه مع المثنى لكراهية اجتماع التثنيتين، فظهر بطلان قول أبي السعود.
أما الراجح في الوجهين في معنى الناس المتقدم ذكرهما. فهو الوجه الأول، وهو أنهم الإنس، وأن قوله تعالى: * (من الجنة والناس) *، بيان لمن يقوم بالوسوسة، أي بيان للوسواس الخناس وأنه من كل من وسواس الجنة ووسواس الناس.
ويظهر ذلك من أمور:
منها: أن الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ولأمته تبعا له فهو في حق الناس أظهر.
ومنها: أننا لو جعلنا الناس الأولى عامة لمن يوسوس إليه كان من الجنة، والناس مصدر الوسوسة، فيكون من وسواس الناس من يوسوس في صدور الجن. وهذا بعيد.
ومنها: أنه لو كان لفظ الناس يشمل الجن والإنس، لما احتيج إلى هذا التقسيم الجنة والناس، واكتفى في الثانية بما اكتفى به في الأولى، وكان يكون الذي يوسوس في صدور الناس من الناس، ولكن جاء بيان محل الوسوسة صدور الناس، ثم جاء مصدر الوسوسة الجنة والناس، والله تعالى أعلم.
تنبيه
ذكر أبو حيان في آخر تفسيره مقارنة لطيفة بين سورتي المعوذتين، فقال: ولما كانت مضرة الدين، وهي آفة الوسوسة أعظم من مضرة الدنيا وإن عظمت، جاء البناء في الاستعاذة منها بصفات ثلاث: الرب، والملك، والإلاه، وإن اتحد المطلوب.
182

وفي الاستعاذة من ثلاث: الغاسق، والنفاثات، والحاسد، بصفة واحدة وهي الرب، وإن تكثر الذي يستعاذ منه.
وهذه الأخرى لفتة كريمة، طالما كنت تطلعت إليها في وجهتي نظر، إحداهما: بين السورتين، والأخرى بين سورة الناس ونسق المصحف الشريف، سيأتي إيرادهما إن شاء الله.
إلا أنه على وجهة نظر أبي حيان، وهي أنه تعالى في سورة الفلق جاء في الاستعاذة بصفة واحدة وهي رب الفلق.
وفي سورة الناس جاء في الاستعاذة بثلاث صفات، مع أن المستعاذ منه في الأولى ثلاثة أمور، والمستعاذ منه في الثانية أمر واحد، فلخطر الأمر الواحد جاءت الصفات الثلاث.
ويقال أيضا من جهة أخرى: إن المستعاذ منه في السورة الأولى أمور تأتي من خارج الإنسان، وتأتيه اعتداء عليه من غيره، وقد تكون شرورا ظاهرة، ومثل ذلك قد يمكن التحرز منه أو اتقاؤه قبل وقوعه، وتجنبه إذا علم به. بينما الشر الواحد في الثانية يأتيه من داخليته وقد تكون هواجس النفس وما لا يقدر على دفعه، إذ الشيطان يرانا ولا نراه، كما في قوله: * (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم) *.
وقد يثير عليه خلجات نفسه ونوازع فكره، فلا يجد له خلاصا إلا بالاستعاذة واللجوء إلى رب الناس ملك الناس إلاه الناس.
أما الوجهتان اللتان نوهنا عنهما، فالأولى بين السورتين وهي مما أورده أبو حيان: إذ في سورة الفلق قال: * (قل أعوذ برب الفلق) *، ورب الفلق تعادل قوله: * (رب العالمين) *.
لأنه ما من موجود في هذا الكون إلا وهو مفلوق عن غيره.
ففي الزرع: * (فالق الحب والنوى) *.
وفي الزمن * (فالق الإصباح) *.
183

وفي الحيوانات: * (الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونسآء) *.
وفي الجمادات يشير إليه قوله تعالى: * (أولم ير الذين كفروا أن السماوات والا رض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من المآء كل شىء حى أفلا يؤمنون وجعلنا فى الا رض رواسى أن تميد بهم) *.
فرب الفلق تعادل رب العالمين، فقابلها في الاستعاذة بعموم المستعاذ منه، من شر ما خلق.
ثم جاء ذكر الخاص بعد العام للاهتمام به، وهو من شر غاسق إذا وقب، والنفاثات في العقد، وحاسد إذا حسد.
فالمستعاذ به صفة واحدة، والمستعاذ منه عموم ما خلق جملة وتفصيلا، بينما في السورة الثانية جاء بالمستعاذ به ثلاث صفات هي صفات العظمة لله تعالى: الرب والملك والإله.
فقابل المستعاذ منه وهو شيء واحد فقط، وهو الوسواس الخناس، وهذا يدل على شدة خطورة المستعاذ منه.
وهو كذلك، لأننا لو نظرنا في واقع الأمر لوجدنا مبعث كل فتنة ومنطلق كل شر عاجلا أو آجلا، لوجدناه بسبب الوسواس الخناس. وهو مرتبط بتاريخ وجود الإنسان.
وأول جناية وقعت على الإنسان الأول، إنما هي من هذا الوسواس الخناس، وذلك أن الله تعالى لما كرم آدم، فخلقه بيده وأسجد الملائكة له وأسكنه الجنة هو وزوجه لا يجوع فيها ولا يعرى، ولا يظمأ فيها ولا يضحى، يأكلان منها رغدا حيث ما شاءا، إلا من الشجرة الممنوعة، فوسوس إليهما الشيطان حتى أكلا منها ودلاهما بغرور، حتى أهبطوا منها جميعا بعضهم لبعض عدو.
وبعد سكناهما الأرض أتى ابنيهما قابيل وهابيل فلاحقهما أيضا بالوسوسة، حتى طوعت نفس أحدهما قتل أخيه فأصبح من النادمين.
وهكذا بسائر الإنسان في حياته بالوسوسة حتى يربكه في الدنيا، ويهلكه في
184

الآخرة، ولقد اتخذ من المرأة جسرا لكل ما يريد. وها هو يعيد الكرة في نزع اللباس عن أبوينا في الجنة، فينتزعه عنهما في ظل بيت الله الحرام في طوافهم قبل البعثة ولا يزال يغويه، وعن طريق المرأة في كل زمان ومكان ليخرجه عن الاستقامة كما أخرج أبويه من الجنة.
ولا يزال يجلب على الإنسان بخيله ورجله بارا بقسمه بين يدي الله بعزته ليغوينهم أجمعين.
وإن أخطر أبواب الفساد في المجتمعات لهي عن المال أو الدم أو العرض، كما في الحديث في حجة الوداع: (ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا) إلى آخره.
وهل وجدت جناية على واحد منها، إلا من تأثير الوسواس الخناس. اللهم لا.
وهكذا في الآخرة.
وقد بين تعالى الموقف جليا في مقالة الشيطان البليغة الصريحة: * (وقال الشيطان لما قضى الا مر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى فلا تلومونى ولوموا أنفسكم مآ أنا بمصرخكم ومآ أنتم بمصرخى إنى كفرت بمآ أشركتمون من قبل) *.
ولقد علم عدو المسلمين أن أخطر سلاح على الإنسان، هو الشك ولا طريق إليه إلا بالوسوسة، فأخذ عن إبليس مهمته وراح يوسوس للمسلمين في دينهم وفي دنياهم، ويشككهم في قدرتهم على الحياة الكريمة مستقلين عنه، ويشككهم في قدرتهم على التقدم والاستقلال الحقيقي، بل وفي استطاعتهم على الإبداع والاختراع، ليظلوا في فلكه ودائرة نفوذه، فيبقى المسلمون يدورن في حلقة مفرغة، يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى.
والمتشكك في نتيجة عمل لا يقدم عليه أبدا، بل ما يبنيه اليوم يهدمه غدا، وقد أعلن عن هذه النتيجة الخطيرة رئيس مؤتمر المستشرقين في الشرق الأوسط، منذ أكثر من ثلاثين عاما، حينما انعقد المؤتمر في (بيروت) لعرض نتائج أعمالهم ودراسة أساليب تبشيرهم.
185

فتشكى المؤتمرون من أن لهم زهاء أربعين سنة من عملهم المتواصل، لم يستطيعوا أن ينصروا مسلما، واحدا، فقال رئيس المؤتمر: إذا لم نستطع أن ننصر مسلما، ولكن استطعنا أن نوجد ذبذبة في الرأي، فقد نجحنا في عملنا.
وهكذا منهج العدو، تشكيك في قضايا الإسلام ليوجد ذبذبة في عقيدة المسلمين، فعن طريق الميراث تارة، وعن طريق تعدد الزوجات أخرى، وعن دوافع القتال، وعن استرقاق الرقيق، وعن وعن.
حتى وجد من أبناء المسلمين من يتخطى حدود الشك إلى التصديق، وأخذ يدعو إلى ما يدعو إليه العدو، وما ذاك كله إلا حصاد ونتائج الوسواس الخناس.
فلا غرو إذا أن تجمع الصفات الجليلة الثلاث: رب الناس، ملك الناس، إله الناس.
هذه وجهة النظر الأولى بين سورتي الفلق والناس.
أما الوجهة الثانية وهي بين سورة الناس ونسق المصحف الشريف، بقوله تعالى: * (الحمد لله رب العالمين * الرحمان الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم) *.
وفي هذه البداية الكريمة بث الطمأنينة في القلب المعبر عنها بالحمد، عنوان الرضى والسعادة والإقرار لله بالربوبية، ثم الإيمان بالبعث والإقرار لله بملك يوم الدين، ثم الالتزام بالعبادة لله وحده والالتجاء إليه مستعينا به، مستهديا الصراط المستقيم، سائلا صحبة الذين أنعم عليهم.
ثم يأتي بعدها مباشرة في أول سورة البقرة * (ذالك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) *، أي إن الهدى الذي تنشده إلى الصراط المستقيم، فهو في هذا الكتاب لا ريب فيه، ثم بين المتقين الذين أنعم الله عليهم بقوله: * (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلواة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك وبالأخرة هم يوقنون) *.
ومرة أخرى للتأكيد: أولئك لا سواهم على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون.
186

ثم تترسل السورة في تقسيم الناس إلى الأقسام الثلاثة: مؤمنين وكافرين ومذبذبين بين بين، وهم المنافقون.
ثم يأتي النداء الصريح وهو أول نداء في المصحف لعموم الناس * (ياأيها الناس اعبدوا ربكم) *، ويقيم البراهين على استحقاقه للعبادة وعلى إمكان البعث بقوله: * (الذى خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذى جعل لكم الا رض فراشا والسمآء بنآء وأنزل من السمآء مآء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) *.
وبعد تقرير الأصل وهي العقيدة، تمضي السورة في ذكر فروع الإسلام، فتشتمل على أركان الإسلام كلها وعلى كثير من مسائل المعاملات والجهاد، وقل باب من أبواب الفقه إلا وله ذكر في هذه السورة، ويأتي ما بعدها مبينا لما أجمل فيها أو لما يذكر ضمنها.
وهكذا حتى ينتهي القرآن بكمال الشريعة وتمام الدين.
ولما جاء في وصف المتقين المهتدين في أول المصحف، أنهم يؤمنون بالغيب ومنه الإيمان باليوم الآخر وما فيه من حساب وعقاب وثواب، أمور الغيب تستلزم اليقين، لترتب الجزاء عليه ثوابا أو عقابا.
والثواب والعقاب هما نتيجة الفعل والترك.
والفعل والترك: هما مناط التكليف، لأن الإنسان يمتثل الأمر رجاء الثواب، ويكف عن متعلق النهي مخافة العقاب.
فلكأن نسق المصحف الشريف يشير إلى ضرورة ما يجب الانتباه إليه، من أن القرآن بدأ بالحمد ثناء على الله بما أنعم على الإنسان بإنزاله، وإرسال الرسول صاحبه به، ثم نقله من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة، وهو الأعظم قدرا وخطرا، ثم رسم له الطريق الذي سلكه المهتدون أهل الإنعام والرضى، ثم أوقفه عليه ليسلك سبيلهم.
وهكذا إلى أن جاء به بعد كمال البيان والإرشاد والهداية، جاء به إلى نهاية هذا الصراط المستقيم، فاستوقفه ليقول له إذا اطمأننت لهذا الدين، وآمنت بالله رب
187

العالمين، واعتقدت مجيء يوم الدين، وعرفت طريق المهتدين ورأيت أقسام الناس الثلاث مؤمنين وكافرين ومنافقين، ونهاية كل منهم، فالزم هذا الكتاب، وسر على هذا الصراط ورافق أهل الإنعام، وجانب المغضوب عليهم والضالين، وأحذر من مسلك المنافقين المتشككين، وحاذر كل الحذر من موجب ذلك كله، وهو الوسواس الخناس، أن يشككك في متعلقات الإيمان، أو في استواء طريقك واستقامته أو في عصمة كتابك وكماله، وكن على يقين مما أنت عليه، ولا تنس خطره على أبويك من قبل، إذ هما في الجنة دار السلام ولم يسلما منه، ودلاهما بغرور فحاذر منه ولذ بي كلما ألم بك أو مسك طائف منه، وكن كسلفك الصالح إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون.
وقد علمت عداوته لك من بعد، وعداوته ناشئة عن الحسد.
ولكأن ارتباط السورتين ليشير إلى منشأ تلك العداوة وارتباطها بها التحذير، إذ في الأولى: ومن شر حاسد إذا حسد، فحسد الشيطان آدم على إكرام الله إياه كما أسلفنا.
والعدو الحاسد لا يرضيه إلا زوال النعمة عن المحسود، ولئن كانت توبة آدم هي سبيل نجاته، كما في قوله تعالى: * (فتلقىءادم من ربه كلمات فتاب عليه) *.
فنجاتك أيضا في كلمات تستعيذ بها من عدوك: برب الناس ملك الناس إله الناس، لأن الرب هو الذي يرحم عباده، وملك الناس هو الذي يحميهم ويحفظهم ويحرسهم. وإله الناس الذي يتألهون إليه ويتضرعون ويلوذون به سبحانه.
تنبيه
إذا كان هذا كله خطر الوسواس الخناس من الجنة والناس، وهما عدو مشترك ومتربص حاقد حاسد، فما طريق النجاة منه؟
الذي يظهر، والله تعالى أعلم: أن طريق النجاة تعتمد على أمرين:
الأول: يؤخذ من عمومات الكتاب والسنة.
188

والثاني: سمعته من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه.
أما الأول فهو: إذا كانت مهمة الوسوسة التشكيك والذبذبة والتردد، فإن عمومات التكليف تلزم المسلم بالعزم واليقين والمضي دون تردد كما في قوله: * (فإذا عزمت فتوكل على الله) *، وامتدح بعض الرسل بالعزم وأمر بالاقتداء بهم * (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل) *.
وقال صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يربيك).
والقاعدة الفقهية (اليقين لا يرفع بشك).
والحديث: (يأتي الشيطان لأحدكم وهو في الصلاة فينفخ في مقعدته، فيخيل إليه أنه أحدث ولم يحدث، فلا ينصرف حتى يسمع صوتا، أو يجد ريحا).
ومن هنا كانت التكاليف كلها على اليقين، فالعقائد لا بد فيها من اليقين.
والفروع في العبادات لا بد فيها من النية (إنما الأعمال بالنيات).
والشرط في النية الجزم واليقين، فلو نوى الصلاة على أنه إن حضر فلان تركها، لا تنعقد نيته، ولو نوى صوما أنه إن شاء أفطر، لا ينعقد صومه.
ونص مالك في الموطأ: أنه إن نوى ليوم الشك في ليلته الصوم غدا، على أنه إن صح من رمضان فهو لرمضان، وإلا فهو نافلة، لا ينعقد صومه لا فرضا ولا نفلا حتى لو جاء رمضان لا يعتبر له منه، وعليه قضاؤه لعدم الجزم بالنية.
والحج: لو نواه لزمه ولزمه المضي فيه، ولا يملك الخروج منه باختياره.
وهكذا المعاملات في جميع العقود مبناها على الجزم حتى في المزح واللعب، يؤاخذ في البعض كالنكاح والطلاق والعتاق.
فمن هذا كله، كانت دوافع العزيمة مستقاة من التكاليف، مما يقضي على نوازع الشك والتردد، ولم يبق في قلب المؤمن مجال لشك ولا محل لوسوسة.
وقد كان الشيطان يفر من طريق عمر رضي الله عنه.
189

أما الذي كنت سمعته من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه فقوله: لقد علمنا الله كيفية اتقاء العدو من الإنس ومن الجن.
أما العدو من الإنس ففي قوله تعالى: * (ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم) *.
فدل على أن مقابلة إساءة العدو بالإحسان إليه تذهب عداوته، وتكسب صداقته، كما قال تعالى: * (ادفع بالتى هى أحسن) * السيئة.
وأما عدو الجن ففي قوله تعالى: * (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم) *.
وهو ما يدل عليه ما تقدم من الآثار من أن الشيطان يخنس إذا سمع ذكر الله.
وعلى قوله رحمه الله: فإن شيطان الجن يندفع بالاستعاذة منه بالله، ويكفيه ذلك، لأن كيد الشيطان كان ضعيفا.
أما شيطان الإنس فهو في حاجة إلى مصانعة ومدافعة والصبر عليه، كما يرشد إليه قوله تعالى: * (وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاهآ إلا ذو حظ عظيم) *.
رزقنا الله تعالى وجميع المسلمين حظا عظيما في الدنيا والآخرة، إنه المسؤول، وخير مأمول.
روى ابن كثير حديث أبي سعيد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يتعوذ من أعين الجن والإنس، فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سواهما) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وروي عن عبد الله الأسلمي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على صدره ثم قال: (قل): فلم أدر ما أقول. ثم قال لي: (قل). فقلت: هو الله أحد، ثم قال لي: قل. قلت: أعوذ برب الفلق من شر ما خلق حتى فرغت منها، ثم قال لي قل. قلت: أعوذ برب الناس حتى فرغت منها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هكذا فتعوذ. وما تعوذ المتعوذون بمثلهن قط).
190