الكتاب: معارج الأصول
المؤلف: المحقق الحلي
الجزء:
الوفاة: ٦٧٦
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق: إعداد : محمد حسين الرضوي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٠٣
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء (ع) - قم - ايران
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام للطباعة والنشر
ردمك:
ملاحظات:

معارج الأصول
للمحقق الحلي
الشيخ نجم الدين
أبي القاسم جعفر بن الحسن الهذلي
صاحب الشرائع
602 - 676 ه‍
اعداد
محمد حسين الرضوي
1

* الطبعة الأولى عام 1403 ه‍
* طبع من هذا الكتاب 2000 نسخة
* الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام للطباعة والنشر
* حقوق الطبع محفوظ للناشر
2

مطبعة
سيد الشهداء عليه السلام
إيران - قم
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين.
عن أمير المؤمنين عليه السلام: (عرف الله سبحانه بفسخ العزائم وحل العقود).
وبعد، فحين اطلعت على وجود النسخ الخطية لهذا السفر الجليل معارج
الأصول في المكتبات القريبة مني بحيث يسهل علي الاستفادة منها يومئذ
وعلمت بأنه لم يطبع طبعة جديدة، بعد الطبعة الحجرية، قررت أن أغتنم فرص
الفراغ لتحقيقه واخراجه إلى المكتبة الاسلامية بثوب جديد، وكان أملي هو
مقارنة نسخه أولا، ثم تخريج أحاديثه، ثم نسبة الأقوال إلى أصحابها مشيرا
إلى مواضع وجودها في كتبهم، ولكن لم يحالفني التوفيق الا لانجاز المرحلة
الأولى: ورغم ذلك رأيت تقديمه إلى الطبع حيث اني أفقد الامل فعلا في
اتمام الخطوات، متيحا بذلك الفرصة لمن يرغب في اكمال الأشواط، وخشية من تعرضه للضياع والتلف، والله ولي التوفيق.
3

حياة المؤلف (1):
هو أبو القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن بن أبي زكريا يحيى بن
الحسن بن سعيد الهذلي الحلي المعروف بالمحقق وبالمحقق الحلي.
مولده ووفاته:
ولد سنة 602 وتوفي على قول ابن داود في رجاله في ربيع الاخر سنة
676 فيكون عمره 74 سنة. وفي توضيح المقاصد للشيخ البهائي انه توفي
في 23 من جمادى الثانية من تلك السنة أ ه‍ وعن بعضهم ان تاريخ وفاته
يوافق بحساب الجمل - زبدة المحققين رحمه الله -.
وفي لؤلؤة البحرين: قال بعض الاجلاء الاعلام من متأخري المتأخرين
رأيت بخط بعض الأفاضل ما صورته: في صبح يوم الخميس 13 ربيع الاخر
سنة 676 سقط الشيخ الفقيه أبو القاسم جعفر بن الحسن بن سعيد الحلي من
أعلى درجة في داره فخر ميتا لوقته من غير نطق ولا حركة فتفجع الناس لوفاته
واجتمع لجنازته خلق كثير وحمل إلى مشهد أمير المؤمنين عليه السلام وسئل عن

(1) أخذنا هذه الترجمة من كتاب (أعيان الشيعة) للعلامة السيد الأمين (ج 15
ص 276 - 291 برقم 3064) بتصرف.
4

مولده فقال: سنة 602.
وفي منهج المقال بعد نقله: الشائع ان قبره في الحلة وهو مزور معروف
وعليه قبة وله خدام يتوارثون ذلك أبا عن جد وقد خرجت عمارته منذ سنين
فأمر الأستاذ العلامة دام علاه - هو البهبهاني - بعض أهل الحلة فعمروها وقد
تشرفت بزيارته قبل ذلك وبعده.
أقول يمكن أن يكون دفن بالحلة أولا ثم نقل إلى النجف كما جرى
للسيدين المرتضى والرضي والله أعلم.
وحكى في اللؤلؤة أيضا عن بعض أجلاء تلامذة المجلسي انه ولد سنة
638 وتوفي ليلة السبت في محرم الحرام سنة 726 ه‍ فعمره على هذا 88 سنة.
والظاهر أن تاريخ الوفاة اشتباه بتاريخ وفاة العلامة الحلي فإنه توفي
بهذا التاريخ.
والصواب في وفاته ما مر عن ابن داود تلميذه والمعاصر والمواطن له
الذي هو اعرف بوفاته من كل أحد أما تاريخ ولادته فالظاهر أن صوابه 602 كما
مر وان جعله 638 اشتباه والله أعلم.
أقوال العلماء فيه:
قال ابن داود في رجاله: جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الحلي شيخنا
نجم الدين أبو القاسم المحقق المدقق الامام العلامة واحد عصره كان ألسن
أهل زمانه وأقومهم بالحجة وأسرعهم استحضارا قرأت عليه ورباني صغيرا
وكان له علي احسان عظيم والتفات وأجاز لي جميع ما صنفه وقرأه ورواه و
كل ما يصح روايته عنه توفي رحمه الله في شهر ربيع الاخر سنة 676 له
تصانيف حسنة محققة محررة عذبة.
5

قال العلامة في اجازته لأبناء زهره: كان أفضل أهل عصره في الفقه وقال
الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني: لو ترك التقييد بأهل زمانه كان أصوب إذ لا
أرى في فقهائنا مثله.
وفي توضيح المقاصد للشيخ البهائي: الشيخ المحقق المدقق سلطان
العلماء في زمانه نجم الدين جعفر بن سعيد الحلي المعروف بالمحقق قدس
الله روحه إليه انتهت رياسة الشيعة الإمامية وحضر مجلس درسه بالحلة سلطان
الحكماء والمتألهين الخواجة نصير الدين محمد الطوسي أنار الله برهانه و
سأله نقض بعض المتكلمين - كذا -.
وفي أمل الآمل: الشيخ الأجل المحقق جعفر بن الحسن بن يحيى بن
الحسن بن سعيد الحلي حاله في الفضل وعظم القدر والثقة والجلالة والتحقيق
والتدقيق والفصاحة والشعر والأدب والانشاء وجمع العلوم والفضائل و
المحاسن أشهر من أن يذكر وكان عظيم الشأن جليل القدر رفيع المنزلة لا
نظير له في زمانه. وله شعر جيد وانشاء حسن بليغ وكان مرجع أهل عصره
في الفقه وغيره.
وفي لؤلؤة البحرين عند ذكر العلامة الحلي قال: وقد تلمذ على جملة
من الأفاضل الذين لا يفاضلهم مفاضل منهم بل هو أشهرهم ذكرا وأعلاهم
فخرا الشيخ نجم الدين أبو القاسم جعفر بن أبي زكريا يحيى بن الحسن بن
سعيد الهذلي الملقب بالمحقق كان محقق الفضلاء ومدقق العلماء وحاله في
الفضل والنبالة والعمل والفقه والجلالة والفصاحة والشعر والأدب والانشاء
أشهر من أن يذكر وأظهر من أن يسطر.
وكفاه جلالة قدر اشتهاره بالمحقق فلم يشتهر من علماء الإمامية على
كثرتهم في كل عصر بهذا اللقب غيره وغير الشيخ علي بن عبد العالي العاملي
6

الكركي وما أخذ هذا اللقب الا بجدارة واستحقاق.
وقد رزق في مؤلفاته حظا عظيما فكتابه المعروف بشرائع الاسلام هو
عنوان دروس المدرسين في الفقه الاستدلالي في جميع الأعصار وكل من
أراد الكتابة في الفقه الاستدلالي يكتب شرحا عليه كمسالك الافهام ومدارك
الاحكام وجواهر الكلام وهداية الأنام ومصباح الفقيه وصنف بعض العلماء
شرحا لتردداته خاصة وعليه من التعليقات والحواشي عدد كثير ونسخه
المخطوطة النفيسة لا تحصى كثرة وطبع طبعات كثيرة في إيران ولا يكاد يوجد
واحد من العلماء أو طلبة العلوم الدينية ليس عنده منه نسخة وطبع في لندن
عاصمة بلاد الانكليز ومختصره المسمى بالمختصر النافع عليه شروح كثيرة
مثل كشف الرموز لتلميذه الابي اليوسفي والتنقيح الرائع للمقداد السيوري
والبرهان القاطع وغيرها وعليه من التعليقات والحواشي شئ كثير لأجلاء
العلماء.
اخباره:
في لؤلؤة البحرين: نقل غير واحد من أصحابنا ان المحقق الطوسي
الخواجة نصير الملة والدين حضر ذات يوم حلقة درس المحقق بالحلة حين
ورود الخواجة إليها فقطع المحقق الدرس تعظيما له واجلالا لمنزلة فالتمس
منه اتمام الدرس فجرى البحث في استحباب التياسر قليلا لأهل العراق عن
يمين القبلة فأورد المحقق الخواجة نصير الدين بأنه لا وجه لهذا الاستحباب
لان التياسر ان كان من القبلة إلى غير القبلة فهو حرام وان كان من غيرها
إليها فهو واجب. فقال المحقق الحلي (التياسر منها إليها) فسكت المحقق
الطوسي.
7

وتوضيح هذا الجواب يرجع إلى أن ذلك مبني على أن الكعبة قبلة من
في المسجد والمسجد قبلة من في الحرم والحرم قبلة من في الدنيا كما تدل
عليه بعض الروايات ولما كان الحرم على يسار الكعبة أكثر منه عن يمينها لأنه
عن يسارها ثمانية أميال وعن يمينها أربعة أميال استحب التياسر قليلا لكونه
أقرب إلى الظن باستقبال الحرم فالتياسر في الحقيقة احتياط لتحصيل الظن
بالاستقبال.
قال ثم إن المحقق الحلي ألف رسالة لطيفه في المسألة وأرسلها إلى
المحقق الطوسي فاستحسنها.
وقد أوردها الشيخ أحمد بن فهد في المهذب البارع في شرح المختصر
النافع بتمامها وسيأتي ذكرها قريبا.
وفي مجلد الصلاة من البحار: قد جرى في ذلك مراسلات بين المحقق
صاحب الشرائع والمحقق الطوسي قدس الله روحيهما وكتب المحقق الأول
في ذلك رسالة.
ثم قال والذي يخطر في ذلك بالبال ان الامر بالانحراف لان محاريب
الكوفة وسائر بلاد العراق أكثرها كانت منحرفة عن خط نصف النهار كثيرا
مع أن الانحراف في أكثرها يسير بحسب القواعد الرياضية كمسجد الكوفة
فان انحراف قبلته إلى اليمين أزيد مما تقتضيه القواعد بعشرين درجة تقريبا و
كذا مسجد السهلة ومسجد يونس ولما كان أكثر تلك المساجد مبنية في زمن خلفاء
الجور لم يمكنهم القدح فيها تقية فأكثروا بالتياسر وعللوا بتلك الوجوه
الخطابية لاسكاتهم وعدم التصريح بخطأ خلفاء الجور وأمرائهم وما ذكره
أصحابنا من أن محراب المعصوم لا يجوز الانحراف عنه انما يثبت إذا علم
أن الامام بناه ومعلوم انه عليه السلام لم يبنه وصلى فيه من غير انحراف وهو أيضا
8

غير ثابت بل ظهر لنا من بعض ما سنح لنا من الآثار عند تعمير المساجد في
زماننا ما يدل على خلافه مع أن الظاهر من بعض الاخبار ان هذا البناء غير
البناء الذي كان في زمن أمير المؤمنين عليه السلام.
وقال في كتاب المزار ويؤيده ما ورد في وصف مسجد غني وان قبلته
لقاسطة فهو يومي إلى أن سائر المساجد في قبلتها شئ على أنه لا يعلم بقاء
البناء الذي كان على عهد أمير المؤمنين عليه السلام بل يدل بعض الاخبار على هدمه
وتغيره.
رسالة المترجم في التياسر:
قال أحمد بن فهد في المهذب البارع في شرح المختصر النافع: اعلم أنه
اتفق حضور العلامة المحقق خواجة نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن
الطوسي قدس الله روحه مجلس المصنف طاب ثراه ودرسه فكان فيما قرئ
بحضوره درس القبلة فأورد اشكالا على التياسر فأجاب المصنف في الحال بما
اقتضاه في ذلك الزمان ثم عمل في المسألة رسالة وبعثها إليه فاستحسنها المحقق
حين وقف عليها وها انا موردها بلفظها:
بسم الله الرحمن الرحيم جرى في أثناء فوائد المولى أفضل علماء
الاسلام وأكمل فضلاء الأنام نصير الدنيا والدين محمد بن محمد بن الحسن
الطوسي - أيد الله بهمته العالية قواعد الدين ووطد أر كأنه ومهد بمباحثه
السامية عقائد الايمان وشيد بنيانه - اشكال على التياسر، وحكايته: الامر
بالتياسر لأهل العراق لا يتحقق معناه لان التياسر أمر إضافي لا يتحقق الا بالإضافة
إلى صاحب يسار متوجه إلى الجهة وحينئذ اما أن يكون الجهة محصلة واما
أن لا يكون ويلزم من الأول التياسر عما وجب التوجه إليه وهو خلاف مدلول
9

الآية ومن الثاني عدم امكان التياسر إذ تحققه موقوف على تحقق الجهة التي
يتياسر عنها ثم يلزم من تحقق هذا الاشكال تنزيل التياسر على التأويل أو
التوقف فيه حتى يوضحه الدليل.
وهذا الاشكال مما لم تقع عليه الخواطر ولا تنبه له الأوائل والأواخر
ولا كشف عن مكنونه الغطاء لكن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وفرض من
يقف على فوائد هذا المولى الأعظم من علماء الأنام ان يبسطوا له يد الانقياد
والاستسلام وأن يكون قصاراهم التقاط ما يصدر عنه من جواهر الكلام فإنها
شفاء أنفس الأنام وجلاء الافهام غير أنه - ظاهر الله جلاله ولا أعدم أولياء فضله
وأفضاله - سوغ لي الدخول في هذا الباب واذن لي ان أورد ما يحضرني في
الجواب ما يكون صوابا أو مقاربا للصواب.
فأقول ممتثلا لامره مشتملا ملابس صفحه وعفوه انه ينبغي أن يتقدم ذلك
مقدمة تشتمل على بحثين.
الأول لفقهائنا قولان: أحدهما ان الكعبة قبلة لمن كان في الحرم ومن
خرج عنه والتوجه إليها متعين على التقديرين فعلى هذا لا تياسر أصلا والثاني
انها قبلة لمن كان في المسجد والمسجد قبلة لمن كان في الحرم والحرم قبلة
لمن خرج عنه وتوجه المصلي على قول هذا القائل من الآفاق ليس إلى الكعبة
حتى أن استقبال الكعبة في الصف المتطاول متعذر لان عنده جهة كل واحد
من المصلين غير جهة الاخر إذ لو خرج من وجه كل واحد منهم خط مواز
للخط الخارج من وجه الاخر لخرج بعض تلك الخطوط عن ملاقاة الكعبة
فحينئذ يسقط اعتبار الكعبة بانفرادها في الاستقبال ويعود الاستقبال مختصا
باستقبال ما اتفق من الحرم.
لا يقال هذا باطل بقوله تعالى - فول وجهك شطر المسجد الحرام - و
10

بأنه لو كان كذا لمن وقف على طرف الحرم في جهة الحل أن يعدل عن
الكعبة إلى استقبال بعض الحرم.
لأنا - نجيب عن الأول بان المسجد قد يطلق على الحرم كما روي في
تأويل قوله تعالى - سبحان الذي اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام - وقد
ورد انه كان في بيت أم هانئ بنت أبي طالب وهو خارج عن المسجد ولأننا
نتكلم عن التياسر المبني على قول من يقول بذلك.
ونجيب عن الثاني بان استقبال جهة الكعبة متعين لمن تيقنها وانما يقتصر
على الحرم من تعذر عليه التيقن بجهتها ثم لو ضويقنا جاز أن نلتزم ذلك تمسكا
بظاهر الرواية.
البحث الثاني: من شاهد الكعبة استقبل ما شاء منها ولا تياسر عليه وكذا
من تيقن جهتها على التعيين اما من فقد القسمين فعليه البناء على العلامات
المنصوبة للقبلة لكن محاذاة كل علامة من العلامات بالعضو المختص بها من
المصلي ليس يوجب محاذاة القبلة بوجهه تحقيقا إذ قد يتوهم المحاذاة ويكون
منحرفا عن السمت انحرافا خفيفا خصوصا عند مقابلة الشئ الصغير.
إذا تقرر ذلك، رجعنا إلى الاشكال اما كون التياسر أمرا اضافيا لا يتحقق
الا بالمضاف فلا ريب فيه واما كون الجهة اما محصلة أو غير محصلة فالوجه
انها محصلة وبيان ذلك أن الشارع نصب علامات أوجب محاذاة كل واحدة
منها بشئ من أعضاء المصلي بحيث تكون الجهة المقابلة لوجهه حال محاذاة
تلك العلامة هي جهة الاستقبال فالتياسر حينئذ يكون عن تلك الجهة القابلة
لوجه المصلي، واما انه إذا كانت محصلة كانت هي جهة الكعبة والانحراف
عنها يزيل التوجه إليها، فالجواب عنه انا قد بينا ان الفرض هو استقبال الحرم
لا نفس الكعبة فان العلائم قد يحصل الخلل في مسافتها فالتياسر حينئذ استظهار
11

في مقابلة الحرم الذي يجب التوجه إليه في كل من حالتي الاستقبال والمتياسر
يكون متوجها إلى القبلة المأمور بها اما في حال الاستقبال فلأنها جهة الاجزاء
من حيث هو محاذاة لجهة من جهات الحرم تغليبا مستندا إلى الشرع واما في حال
التياسر فيتحقق محاذاة جهة الحرم ولهذا تحقق الاستحباب في طرفه لحصول
الاستظهار به. ان قيل: هنا ايرادات ثلاثة:
الأول - النصوص خالية عن هذا التعيين فمن أين صرتم إليه؟ -.
الثاني - ما الحكمة في التياسر عن الجهة التي نصب العلائم عليها فان
قلتم لأجل تفاوت مقدار الحرم عن يمين الكعبة ويسارها قلنا ان أريد بالتياسر
وسط الحرم فحينئذ يخرج المصلي عن جهة الكعبة يقينا وان أريد تياسر لا
يخرج به عن سمت الكعبة فحينئذ يكون ذلك قبلة حقيقية ثم لا يكون بينه وبين
التيامن اليسير فرق.
الثالث - الجهة المشار إليها ان كان استقبالها واجبا لم يجز العدول عنها
والتياسر عدول فلا يكون مأمورا به -.
قلنا - اما الجواب عن الأول فإنه وان كانت النصوص خالية عن تعيين
الجهة نطقا فإنها غير خالية من التنبيه عليه إذا لم يثبت وجوب استقبال الجهة
التي دلت عليها العلائم ويثبت الامر بالتياسر بمعنى انه عن السمت المدلول
عليه.
وعن الثاني بالتفصي عن إبانة الحكمة في التياسر فإنه غير لازم في كل موضع
بل غير ممكن في كل تكليف ومن شأن الفقيه تلقي الحكم مهما صح المستند،
أو نقول اما ان يكون الامر بالتياسر ثابتا، واما ان لا يكون فان كان لزم الامتثال
تلقيا عن صاحب الشرع وان لم يعط العلة الموجبة للتشريع وان لم يكن ثابتا
فلا حكمة ويمكن ان نتكلف إبانة الحكمة بان نقول لما كانت الحكمة متعلقة
12

باستقبال الحرم وكان المستقبل من أهل الآفاق قد يخرج من الاستناد إلى العلامات
عن سمته بان يكون منحرفا إلى اليمين وقدر الحرم يسير عن يمين الكعبة فلو
اقتصر على ما نظر انه جهة الاستقبال أمكن ان يكون مائلا إلى جهة اليمين فيخرج
عن الحرم وهو يظن استقباله ومحاذاة العلائم على الوجه المحرر قد يخفى
على المهندس الماهر فيكون التياسر يسيرا عن سمت العلامة مفضيا إلى سمت
المحاذاة.
ويشهد لهذا التأويل ما روي عن أبي عبد الله عليه السلام وقد سئل عن سبب التحريف
عن القبلة ذات اليسار فقال إن الحرم عن يسار الكعبة ثمانية أميال وعن يمينها
أربعة أميال فإذا انحرف ذات اليمين خرج عن حد القبلة وإذا انحرف ذات
اليسار لم يكن خارجا عن حد القبلة.
وهذا الحديث يؤذن بأن المقابلة قد يحصل معها احتمال الانحراف.
واما الجواب - عن الثالث فقد مر في أثناء البحث وهذا كله مبني على أن
استقبال أهل العراق إلى الحرم لا إلى الكعبة وليس ذلك بمعتمد بل الوجه
الاستقبال إلى جهة الكعبة إذا علمت أو غلب الظن مع عدم الطريق إلى العلم
سواء أكان في المسجد أو خارجه فيسقط حينئذ اعتبار التياسر والتعويل في
استقبال الحرم انما هو على اخبار آحاد ضعيفة وبتقدير ان يجمع جامع بين
هذا المذهب وبين التياسر يكون ورود الاشكال عليه أتم.
وبالله العصمة والتوفيق انه ولي الإجابة.
قال ابن فهد: هذا آخر رسالة المصنف قدس الله روحه ثم قال: وأعلم
ان غير المصنف أجاب عن هذا الاشكال بمنع الحصر لان حاصل السؤال ان
التياسر أما إلى القبلة فيكون واجبا لا مستحبا وأما عنها فيكون حراما، و
الجواب منع الحصر بل نقول التياسر فيها وجاز اختصاص بعض جهات القبلة
13

بمزيد الفضيلة
على بعض أو حصول الاستظهار بالتوسط بسبب الانحراف.
مشايخه في القراءة والرواية:
(1) نجيب الدين محمد بن جعفر بن أبي البقاء هبة الله بن نما الحلي
الربعي (2) السيد فخار بن معد الموسوي (3) والده الحسن بن يحيى بن الحسن
ابن سعيد وفي أمل الآمل يروي عن أبيه عن جده يحيى الأكبر (4) الشيخ مفيد
الدين محمد بن جهم الحلي وغيرهم.
تلاميذه:
(1) الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي الشهير بالعلامة الذايع الصيت
وهو ابن أخت المحقق (2) الحسن بن داود الحلي صاحب الرجال (3) السيد
غياث الدين عبد الكريم بن أحمد بن طاوس صاحب فرحة الغري (4) السيد
جلال الدين محمد بن علي بن طاوس الذي كتب أبوه لا جله كتاب البهجة
لثمرة المهجة (5) جلال الدين محمد بن محمد الكوفي الحارثي شيخ الشهيد
(6) صفي الدين عبد العزيز بن سرايا الحلي الشاعر المشهور (7) الشيخ عز
الدين الحسن ابن أبي طالب اليوسفي الابي صاحب كشف كشف الرموز (8) الوزير
شرف الدين أبو القاسم علي ابن الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي (9) الشيخ
شمس الدين محفوظ بن وشاح بن محمد الحلي (10) جمال الدين يوسف بن
حاتم الشامي صاحب الدر النظيم في مناقب الأئمة اللهاميم (11) صفي الدين
محمد بن نجيب الدين يحيى بن أحمد بن يحيى بن الحسن بن سعيد وهو ابن
ابن عم المحقق لان أباه يحيى صاحب الجامع ابن عم المحقق (12) شمس
الدين محمد بن صالح السيبي القسيني (13) جمال الدين أبو جعفر محمد بن
14

علي القاشي (14) رضى الدين علي بن يوسف صاحب العدد القوية أخو العلامة
الحلي (15) فخر الدين محمد ابن العلامة الحلي كما يستفاد من إجازة تلميذه
الشيخ علي بن عبد الحميد النيلي لأحمد بن فهد الحلي (16) نجم الدين طمان
ابن أحمد العاملي الشامي، ففي إجازة الشيخ حسن صاحب المعالم عند ذكر
الشيخ طمان هذا انه قد ورويت عن الفقيه المعظم السعيد الشيخ نجم الدين
جعفر بن سعيد جميع ما صنفه وألفه ورواه وكنت في زمن قراءتي على شيخنا
الفقيه نجيب الدين محمد بن نما أتردد إليه أواخر كل نهار وحفظت عليه كتابه
المسمى نهج الوصول إلى معرفة علم الأصول في أصول الفقه وشرحه قال و
قرأت كتاب الجامع في الشرايع تصنيف الفقيه السعيد المعظم شيخ الشيعة في
زمانه نجيب الدين أبي زكريا يحيى بن أحمد بن سعيد عليه أجمع الخ..
مؤلفاته:
1 - رسالة التياسر في القبلة. وهي الرسالة التي أوردناها سابقا.
2 - شرائع الاسلام في مسائل الحلال والحرام مطبوع في إيران طبعات
كثيرة وطبع في لندن. وطبع في لبنان والنجف، وهو أوسع المتون
الفقهية وأحسنها جمعا للفروع وقد ولع به الأصحاب منذ تأليفه إلى الان،
ولا يزال يعد من الكتب الدراسية في المعاهد الدينية وقد اعتمد عليه الفقهاء
خلال هذه القرون العديدة فجعلوا بحوثهم ودراساتهم على أساس منه، كما لهم
شروح وتعليقات عليه (1).
نسخة منه تحتوي على النصف الأول، بخط الشيخ محمد بن إسماعيل

(1) الذريعة (13 / 47).
15

ابن الحسين بن الحسن الهرقلي، فرغ منها (يوم الخميس 15 شهر رمضان
سنة 670) ثم قرأها على المصنف بتمامها فكتب المصنف بخطه الشريف الانهاء
في أولها مع الإجازة لكاتب النسخة في النجف بتاريخ (يوم الأربعاء المصادف
ليوم الغدير 671).
وفي مواضع منها إجازة من الشيخ علي بن الحسين بن عبد العال العاملي
الشهير بالمحقق الكركي المتوفى (0 و 94) بتاريخ (932). وعليها خط ابن فهد
الحلي (المتوفى 841) وخط شرف الدين البحراني اليزدي.
وكانت هذه النسخة عند الشيخ النوري، وقد انتقلت منه إلى السيد مهدي
الحيدري الكاظمي، ثم منه إلى الشيخ محمد السماوي في النجف.
والنصف الثاني من الكتاب بخط هذا الناسخ الهرقلي، كتبه في (يوم
الأربعاء 19 ذي القعدة سنة 703).
وكانت عند السيد محمد بن السيد كاظم اليزدي، ثم انتقلت منه في سنة
(1345) إلى السيد أبي القاسم المحرر، ثم إلى السيد ضياء شكاره المحامي
قائم مقام النجف (1).
ونسخة من الشرائع عليها خط المصنف في سنة (674) وإجازة مفصلة منه
بخطه وتوقيعه بتاريخ (675) كانت عند الشيخ محمد سلطان المتكلمين في
طهران، وهي اليوم في مكتبة مجد الدين النصيري.
وقد اختصره المؤلف في كتاب (النافع) وشرح المختصر في كتاب
(المعتبر).
3 - كنز المنطق.
كذا في كشف الحجب، ولكن في روضات الجنات نقلا عن ابن داود

(1) الذريعة (13 / 7 - 48).
16

تلميذ المصنف في رجاله (1) جاء: الكهنة في المنطق، ثم استظهر صاحب
الروضات ان الاسم (الكهانة) أي الصناعة لما يوجد من المؤلفات بهذا الاسم
كثيرا في الكتب القديمة.
أقول: حكى الشيخ محمد السماوي ان في نسخة صحيحة من رجال ابن
داود: (اللهنة) باللام، وهو ما يفك به الريق (2).
(4) مختصر المراسم في الفقه.
والمراسم لسلار الديلمي.
توجد نسخة منه في النجف بخط السيد محمد بن مطرف الحسيني تلميذ
المحقق، وقد قرأه عليه ويرويه عنه وفرغ من نسخه في حياة المصنف (يوم
الخميس 16 صفر 672).
والنسخة في النجف منضمة مع شرائع والد الصدوق وقد استنسخ السيد
محمد بن هاشم الهندي النجفي نسخة مختصر المراسم عن نسخة السيد
محمد بن مطرف ونقل صورة ما عليها رأيتها عند الشيخ محمد السماوي (3).
5 - فهرست المصنفين.
ينسب إلى المحقق الحلي (4).
6 - رسالة في الكلام.
توجد في مكتبة راجة فيض آباد كما في فهرسها (5).

(1) رجال ابن داود (ص 63) طبع النجف
(2) الذريعة (18 / 168 و 189).
(3) الذريعة (20 / 7 - 208).
الذريعة (16 / 395).
(5) الذريعة (18 / 106).
17

7 - المسائل البغدادية.
أو جوابات المسائل البغدادية.
هي (72) مسألة فقهية سألها تلميذه الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم
الشامي المشغري العاملي.
أوله: أما بعد حمد الله الذي أرشدنا لدينه وحفظ حدوده، وسددنا لبيانه
وحل معقوده.. فانا مجيبون عما تضمنته هذه الأوراق من المسائل لدلالتها
على فضيلة موردها ومعرفة عهدها، فهو حقيق ان نحقق أمله ونجيب إلى ما
سأله.
توجد في خزانة السيد حسن الصدر في الكاظمية.
ونسخة في الخزانة الرضوية بمشهد الرضا عليه السلام بتاريخ (987) بخط الشيخ
أحمد بن يحيى بن داود البحراني.
ونسخة بخط الشيخ شرف الدين المازندراني في (1060) بمكتبة الشيخ
هادي كاشف الغطاء.
ونسخة منضمة إلى المسائل العزية والمصرية (التاليتين) عند الميرزا نصر
الله بن الحاج المجتهد القزويني الشهيدي (1).
(8) المسائل العزية.
وهي عشرة مسائل كتبها لعز الدين.
أولها: الحمد لله رافع الدين ومظهره. وقامع الشر ومدمره وناصر الحق
وجابره، وقاهر الباطل وكاسره... فان الأمير الكبير عز الدين بن عبد العزيز
أعز الله أوليائه وأدام بقائه...
نسخة منه مخرومة الاخر عند السيد جعفر بحر العلوم..

(1) الذريعة (5 / 215) و (20 / 339).
18

ونسخة في كتب الطهراني بكربلاء.
ونسخة بخط الشيخ سليمان بن علي البحراني فرغ من كتابتها سنة (995)
في النجف، عند الميرزا عبد الله التفريشي الطهراني الخطاط.
ونسخة مع البغدادية عند الميرزا نصر الله القزويني كما مر (1).
9 - المسائل المصريات.
أو جوابات المسائل المصريات.
مجموع مسائلها خمسة (2).
نسخة منه بخط علي بن محمد المعاني فرغ منها سنة (671) في حياة
المؤلف، ونسخة منها في المكتبة الرضوية في مشهد الرضا عليه السلام بتاريخ (987)
مع البغدادية ونسخة مع المسائل السابقة عند نصر الله القزويني كما مر (3).
10 - المسلك في أصول الدين.
أوله: الحمد لله على ما أباح من النعم وأتاح من القسم.
مرتب على ثلاثة مطالب.
نسخة منه عند السيد شهاب الدين التبريزي بقم.
آخر الموجود: قال صلى الله عليه وآله: يا علي، أنت والأئمة من بعدك... إلى آخر
الحديث (4).
11 - معارج الأصول

(1) الذريعة (15 / 262).
(2) الذريعة (20 / 367).
(3) الذريعة (5 / 234).
(4) الذريعة (21 / 21).
19

وهو كتابنا هذا، وقد طبع بطهران سنة (1310) (1).
12 - المعتبر في شرح المختصر.
هو كالشرح للمختصر النافع الذي اختصر به الشرايع وهما للمؤلف كما
مر وسيأتي.
خرج منه العبادات إلى كتاب الحج، وذكر في أوله بعض المطالب
الأصولية، وكتبه باسم الأمير بهاء الدين محمد بن محمد الجويني وقد طبع
ثانيا طبعة جيدة في سنة (1318).
13 - النافع أو المختصر النافع، في مختصر الشرائع.
اختصره من كتابه الكبير المعروف بشرائع الاسلام.
وقد طبع عدة طبعات منها طبعة القاهرة سنة (1376) بأمر وزير الأوقاف
المصري الشيخ أحمد حسن الباقوري، وقد أقر تدريسه في الجامع الأزهر
ككتاب في فقه الشيعة الإمامية إلى جانب المذاهب الاسلامية الأخرى.
14 - نكت النهاية.
وقد يسمى: حل مشكلات النهاية.
وهو تعليقات على كتاب النهاية للشيخ الطوسي، طبع سنة (1276) ضمن
الجوامع الفقهية وهو الكتاب التاسع منها في (98) صفحة.
نسخة منه بخط ماجد بن فلاح الشيباني فرغ منه (980) مع المسائل
المصريات والبغداديات، وعليها تملك السيد مهدي القزويني.
ونسخة عليها تملك المحقق السبزواري صاحب الذخيرة وتملك المولى
الشريف العاملي صاحب ضياء العالمين والسيد حسين الخونساري وهي عند
السيد محمد رضا التبريزي في النجف.

(1) الذريعة (21 / 180).
20

ونسخ منه في الخزانة الرضوية والسيد محمد على الروضاني وغيرهم (1)
15) نهج الوصول إلى معرفة علم الأصول.
وقد شرحه الشيخ فتح الله بن علوان الكعبي بعنوان (نظام الفصول في
شرح نهج الوصول في علم الأصول) ويوجد بهذا العنوان عند (السيد شهاب
الدين - بقم) نسخة منه كتابتها رجب (707) وهو مرتب على عشرة أبواب.
أوله احمد الله على سابغ نعمته وسائغ عطيته (2).
ولعله هو معارج الأصول كتابنا هذا لاتحاده معه في عدد الأبواب وفى العبارة
المتقدمة من أوله.
نثره وشعره:
في مجموعة الشهيد التي هي بخط الشيخ محمد بن علي العاملي الجباعي
جد الشيخ البهائي قال الشيخ أبو القاسم جعفر بن سعيد الحلي:
بسم الله الرحمن الرحيم: لما وقف على ما أمر به الصاحب الصدر الكبير
العالم الكامل العارف المحقق بهاء الدنيا والدين غياث الاسلام والمسلمين
أدام الله أيامه في عز مؤيد وفخر ممهد ومجد مجدد ونعمة قارة العيون باسقة
الغصون دارة الحلب حميدة المنقلب محروسة الجوانب مرصونة من الشوائب
وتأملت ما برز عنه من الألفاظ التي هي أعذب من الماء الزلال وأطيب من
الغني بعد الاقلال فهي التي يعجز الطامع ببديعها ويعجب السامع حسن جمعها
وترصيعها فكأن الشاعر عناه بقوله:
ولا ذنب للأفكار أنت تركتها إذا احتشدت لم ينتفع باحتشادها

(1) الذريعة (24 / 6 - 307).
(2) انظر الذريعة (ج 24 ص 426 - 427).
21

تنوء بايراد المعاني والفت * خواطرك الألفاظ بعد شرادها
فان نحن حاولنا اختراع بديعة * حصلنا على مسروقها أو معادها
وليس بمستغرب تفرده ببديع النثر والنظم مع ما وهبه الله سبحانه من
جودة القريحة وقوة الفهم نسأل الله أن يديم لفضلاء الآداب ورؤساء الكتاب
ما كنفهم من ظله وشملهم من فضله وأباحهم من مراتعه وسوغهم من شرايعه
ليستمر نفاق سوقهم ويشمروا للاجتهاد فيه عن سوقهم، دلت ألفاظه الكريمة
على استدعاء ما يكون تذكرة لأهل الوداد وعهدا يجدد به ما أخلقته يد العباد
فعند ذلك أحببت أن أدخل فيمن سارع إلى امتثال أو امره لا كون في جملة
من شرفه بذكره وتخطره بخواطره - فأقول - ان الشعر من أفضل مشاعر
الأدب وأجمل مفاخر العرب. به تستماح المكارم وتستعطف الطباع الغواشم
وتشحذ الأذهان وتستل الأضغان ويستصلح الرأي الفاسد وتستثار الهمم الجوامد
لكنه عسر المطلب خطر المركب لافتقاره إلى أمور غريزية وأخرى كسبية
وهي شديدة الامتناع بعيدة الاجتماع فالمعتذر عن التعرض له معذور و
المعترف بالقصور عنه مشكور وقد كنت زمن الحداثة أتعرض لشئ منه ليس
بالمرضي فكتبت أبياتا إلى والدي رحمه الله اثني فيها على نفسي بجهل
الصبوة وهي:
ليهنك اني كل يوم إلى العلى * أقدم رجلا لا تزل بها النعل
وغير بعيد ان تراني مقدما * على الناس طرأ ليس في الناس لي مثل
تطاوعني بكر المعاني وعونها * وتنقاد لي حتى كأني لها بعل
ويشهد لي بالفضل كل مبرز * ولا فاضل الا ولي فوقه فضل
فكتب رحمه الله فوق هذه الأبيات ما صورته: لئن أحسنت في شعرك لقد
أسأت في حق نفسك أما علمت أن الشعر صناعة من خلع العفة ولبس الحرفة
22

والشاعر ملعون وان أصاب ومنقوص وان أتى بالشئ العجاب وكأني بك قد
أوهمك الشيطان فضيلة الشعر فجعلت تنفق ما تلفق بين جماعة لم يعرفوا لك
فضيلة غيره فسموك به وكان ذلك وصمة عليك آخر الدهر ألم تسمع:
ولست ارضى أن يقال شاعر * تبا لها من عدد الفضائل
فوقف خاطري عند ذلك حتى كأني لم أقرع له بابا ولم أرفع له حجابا
وأكد ذلك عندي ما رويته باسناد متصل ان رسول الله صلى الله عليه وآله دخل المسجد وبه
رجل قد أطاف به جماعة فقال ما هذا؟ قالوا علامة، فقال: ما العلامة؟ قالوا عالم
بوقايع العرب وأنسابها وأشعارها فقال عليه الصلاة والسلام ذلك علم لا يضر
من جهلة ولا ينفع من علمه، ومن البين ان الإجادة فيه تفتقر إلى تمرين الطبع
وصرف الهمة إلى الفكر في تناسب معناه ورشاقة ألفاظه وجودة سبكه وحسن
حشوه تمرينا متكررا حتى يصير خلقا وكما أن ذلك سبب الاستكمال فيه
فالاهمال سبب القصور عنه والى هذا المعنى أشرت من جملة أبيات:
هجرت صوغ قوافي الشعر مذ زمن * هيهات يرضى وقد أغضبته زمنا
وعدت أوقظ أفكاري وقد هجعت * عنفا وأزعج غربي بعدما سكنا
ان الخواطر كالآبار ان نزحت * طابت وان يبق فيها ماؤها آجنا
فاصفح شكرت أياديك التي سلفت * ما كنت أظهر عيبي بعد ما كمنا
ولمكان اضرابي عن نظمه واعراضي حتى ذكر اسمه لم يبق الا ما هو
حقيق أن يرفض ولا يعرض ويضمر ولا يظهر لكني مع ذلك أورد ما ادخل
به في حيز الامتثال وان كان ستره أنسب بالحال فمنه:
وما الاسراف من خلقي واني * لا جزأ بالقليل عن الكثير
ولا أعطي المطامع لي قيادا * ولو خودعت بالمال الخطير
وأغمض عن عيوب الناس * حتى أخال بأن يناجيني ضميري
23

واحتمل الأذى في كل حال * على مضض وأعفو عن كثير
ومن كان الاله له حسيبا * أراه النجح في كل الأمور
ومنه:
يا راقدا والمنايا غير راقدة * وغافلا وسهام الدهر ترميه
بم اغترارك والأيام مرصدة * والدهر قد ملا الاسماع داعيه
اما ارتك الليالي قبح دخلتها * وغدرها بالذي كانت تصافيه
رفقا بنفسك يا مغرور ان لها * يوما تشيب النواصي من دواهيه
وحسب تحصيل الغرض بهذا القدر فنحن نقتصر عليه ونستغفر الله سبحانه
وتعالى من فرطات الزلل وورطات الخلل ونستكفيه زوال النعم وحلول النقم
ونستعتبه محل العثار وسوء المرجع في القرار ومن أفضل ما يفتتح به النظام
ويختتم به الكلام ما نقل عن النبي صلى الله عليه وآله: من سلك طريقا إلى العلم سلك الله به
طريقا إلى الجنة، وقال صلى الله عليه وآله: لا خير في الحياة الا لعالم مطاع أو مستمع واع
وقال صلى الله عليه وآله: تلاقوا وتذاكروا وتحدثوا فان الحديث جلاء القلوب ان القلوب
ترين كما يرين السيف وقال صلى الله عليه وآله لا يزيد في العمر مثل الصدقة ولا يرد البلاء
مثل الدعاء ولا ينور العبد مثل الخلق الحسن ولا يذهب الذنوب الا الاستغفار
والصدقة ستر من النار وجواز على الصراط وأمان من العذاب.
وقال صلى الله عليه وآله: صلوا الأرحام يغفر لكم وتعاهدوا المساكين يبارك لكم في
أموالكم ويزداد في حسناتكم. وقال صلى الله عليه وآله: ان الله سبحانه يقول اطلبوا الحوائج
عند ذوي الرحمة من عبادي فان رحمتي لهم، ولا تطلبوها عند القاسية قلوبهم
فان غضبي فيهم، وقال صلى الله عليه وآله: صنايع المعروف تقي مصارع السوء وقال صلى الله عليه وآله
من اقتصر من الدنيا على ما أحل له سلم ومن أخذ العلم من أهل وعمل به
24

نجا ومن أراد به الدنيا فهو حظه.
وكتب جعفر بن الحسين بن يحيى بن سعيد الحلي ا ه‍، وفى كتابة أبيه إليه بما
مر دلالة على ما لأبيه من الرصانة وقوة الايمان فان العادة جارية في مثل
المقام أن يفرح الانسان بما يراه من ولده من شعر أو فخر وغيره ويرى
قليله كثيرا ولكن أباه حمله نظره الصائب وايمانه القوي على زجر ولده
عن الفخر ونظم الشعر.
المراسلة بينه وبين الشيخ محفوظ بن وشاح:
قال الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني: رأيت بخط الشهيد الأول في بعض
مجاميعه ان الشيخ شمس الدين محفوظ بن وشاح بن محمد كتب إلى الشيخ
المحقق نجم الدين بن سعيد أبياتا من جملتها:
أغيب عنك وأشواقي تجاذبني * إلى لقائك جذب المغرم العاني
إلى لقاء حبيب مثل بدر دجى * وقد رماه باعراض وهجران
ومنها:
قلبي وشخصك مقرونان في قرن * عند انتباهي وبعد النوم يغشاني
يا جعفر بن سعيد يا امام هدى * يا واحد الدهر يا من ماله ثاني
اني بحبك مغرى غير مكترث * بمن يلوم وفي حبيك يلحاني
فأنت سيد أهل الفضل كلهم * لم يختلف ابدا في فضلك اثنان
في قلبك العلم مخزون بأجمعه * تهدي به من ضلال كل حيران
وفوك فيه لسان حشوه حكم * تروي به من زلال كل ظمآن
وفخرك الشامخ السامي وزنت به * رضوي فزاد على رضوي وثهلان
25

فأجابه المحقق بهذه الأبيات:
لقد وافت قصائدك العوالي * تهز معاطف اللفظ الرشيق
فضضت ختامهن فخلت أني * فضضت بهن عن مسك فتيق
وجال الطرف منها في رياض * كسين بناضر الزهر الأنيق
فكم أبصرت من لفظ بديع * يدل به على المعني الدقيق
وكم شاهدت من علم خفي * يقرب مطلب الفضل السحيق
شربت بها كؤوسا من معان * غنيت بشربهن عن الرحيق
ولكني حملت بها حقوقا * أخاف لثقلهن من العقوق
فسر يابا الفضائل بي رويدا * فلست أطيق كفران الحقوق
وحمل ما أطيق به نهوضا * فان الرفق انسب بالصديق
وكتب بعدها نثرا من جملته: ولست أدري كيف سوغ لنفسه الكريمة
مع حنوه على إخوانه وشفقته على أوليائه وخلانه أثقال كاهلي بما لا يطيق
الرجال حمله بل تضعف الجبال أن تفله حتى صيرني بالعجز عن مجازاته أسيرا
ووقفني في ميدان محاورته حسيرا ا ه‍.
رثاؤه:
في أمل الآمل لما توفي رثاه جماعة منهم الشيخ محفوظ بن وشاح فرثاه
بقصيدة منها:
أقلقني الدهر وفرط الأسى * وزاد في قلبي لهيب الضرام
لفقد بحر العلم والمرتضى * في القول والفعل وفصل الخصام
أعني أبا القاسم شمس العلى * الماجد المقدام ليث الزحام
أزمة الدين بتدبيره * منظومة أحسن بداك النظام
26

شبه به البازي في بحثه * وعنده الفاضل فرخ الحمام
قد أوضح الدين بتصنيفه * من بعدما كان شديد الظلام
بعدك اضحى الناس في حيرة * عالمهم مشتبه بالعوام
لولا الذي بين في كتبه * لأشرف الدين على الاصطلام
قد قلت للقبر الذي ضمه * كيف حويت البحر والبحر طام
عليك مني ما حدا سائق * أو غرد القمري ألفا سلام
نسخ الكتاب.
نظرا لأهمية كتاب المعارج العلمية العلمية النابعة من مكانة مؤلفه المرموقة بين أهل
العلم، فان له نسخا كثيرة عند طلاب العلم ورواده، بحيث يعسر مقارنتها
أجمع لذا فاني اكتفيت بمقلة أربع منها، ومن خلالها يحصل الاطمئنان
بإصابة عبارة المصنف. وهذه النسخ هي:
1 - نسخة خطية في مكتبة السيد الحكيم العامة في النجف الأشرف برقم
(371) وقد نقلت إليها من مكتبة المرحوم الشيخ محمد السماوي وعليها ختمه
المؤرخ (1354) ه‍ مواصفاتها: عدد أوراقها (57) بقياس (17 في 12) سم عدد
الأسطر (19) يحتوي السطر الواحد على (10 - 14) كلمة تقريبا وكتبت العناوين
فيها باللون الأحمر وعليها بعض الحواشي، ناسخها (محمد مقيم) ظاهرا نسخها
بتاريخ (1117) ه‍، وهي قليلة السقط والأخطاء وفيها زيادات على بقية النسخ
وهي مكتوبة بالفارسي وكثيرا ما أهمل الناسخ وضع النقاط على الحرفين الياء
والتاء وغيرهما وبالأخص ما كان منهما في أول الكلمة.
2 - نسخة خطية في مكتبة آل كاشف العظاء في النجف الأشرف برقم (392)
تقع في (47) ورقة قياس (21 في 15) سم تحتوي الصفحة الواحدة على (17) سطرا
27

يحتوي السطر على (12 - 17) كلمة تقريبا. وعليها تملك الحجة الشيخ جعفر
كاشف الغطاء، كتب عليها بخطه (بسم الله الرحمن الرحيم ملك الأقل جعفر ابن
الشيخ خضر رحمه الله تعالى) وتملك ولده العلامة الشيخ موسى كتب عليها بخطه
(أوهبها أبي دام ظله صاحبها المزبور وأنا الأقل موسى بن الشيخ جعفر) و
عليها أيضا ختم ولد الشيخ موسى، الشيخ على وكتب عليها بخطه ولد الشيخ
علي، آية الله الحجة الشيخ محمد حسين ما يلي: (في ملك الوالد أيده الله
بتأييده وسدده بتسديده وأنا الأقل محمد حسين ابن الشيخ علي أبقاه الله ابن
الشيخ موسى ابن الشيخ جعفر كاشف الغطاء (ره) سنة 1311) وعليها كتابات
أخر. وهذه النسخة عليها حواشي الفيض على البابين الأولين من الكتاب
فقط وحواش أخر مختصره لم يشر إلى أصحابها، وناسخها (أحمد بن يوسف)
وقد أهمل كتابة تاريخ نسخها، لكن على جانب الصفحة الأخيرة كتب تاريخ
عام (1091) ه‍ يوم السبت غرة شهر ذي القعدة، ويبدو ان كاتبه أحد المقتنين
لهذه النسخة فتكون منسوخة قبل هذا التاريخ وتجدر الإشارة إلى أن هذه
النسخة كثيرة السقط والأخطاء، ومع ذلك فإنها تحتوي على بعض الإضافات
على غيرها.
3 - نسخة خطية في مكتبة المدرسة الفيضية في قم المقدسة برقم (2013)
تقع في (74) ورقه قياس (18 في 12) سم تقريبا عدد أسطر الصفحة الواحدة غالبا
(15 - 16) يحتوي السطر على (14 - 16) كلمة غالبا، ناسخها (أبو القاسم
ابن احمد الحسيني) بتاريخ عاشر جمادى الثاني من عام (1243) ه‍ في أصفهان.
وقد أفادتنا هذه النسخة في تصحيح كثير من الموارد التي أخطأت فيها بقية
النسخ لكنها مع ذلك لا تخلو من السقط والأخطاء.
4 - النسخة المطبوعة على الحجر في طهران عام (1310) ه‍ في (164)
صفحة من القطع الصعير قياس (17 في 11) سم وهي قليلة السقط والأخطاء
28

كما قد أشير فيها إلى بعض اختلافات النسخ مما يدل على أنها أخذت من
أكثر من نسخة
منهج التحقيق
1 - وضعت بين قوسين معقوفين الإضافات التي انفردت بها بعض النسخ
دون بعض.
2 - وضعت بين قوسين هلالين الألفاظ والعبارات التي اختلفت النسخ
فيها فوضعت النسخة الأصح - بما أرى - في المتن بين القوسين بينما أشرت
في الهامش إلى النسخة أو النسخ الأخرى المحتملة للصحة.
3 - أغفلت الإشارة إلى ما تضمنته إحدى النسخ مما لا نحتمل فيه الصحة،
فكثيرا ما يسهو الناسخ ويبدل ألفاظا أو حروفا بأخرى يقطع بخطأها، فمثلا
كلمة (الاستغراق) كتبت في أحد المواضع هكذا (الاستقراق)، وكلمة (منفيا)
كتبت هكذا (منسفا)، وكلمة (المشتركة) كتبت هكذا (المستولد) وكلمة
العبادة) كتبت هكذا (العبارة) وغير ذلك، فهذا كله لم نشر إليه لعدم الجدوى
في ذلك لان الإشارة إلى النسخ انما تلزم لاحتمال أن تكون عبارة المصنف
أحداهما اما الكلمة الخاطئة فلا يحتمل فيها ذلك.
كما أغفلت الإشارة إلى اختلاف النسخ في ذكر كلمة (تعالى) وحذفها
فكثيرا ما توجد في نسخة دون أخرى، وكذا اختلاف النسخ في (رحمه الله)
و (رضي الله عنه) و (قدس سره) فكثيرا ما توجد إحداها في نسخة وفي الأخرى
غيرها وقد حدث ذلك كثيرا بعد ذكر السيد المرتضى والشيخ الطوسي و
الشيخ المفيد، بينما لا يوجد أي شئ في نسخة أخرى. وكذا الاختلاف في
(عليه السلام) و (صلى الله عليه وآله) فكثيرا ما اختلفت النسخ في ذلك فتجد
29

بعد ذكر النبي في نسخة (عليه السلام) وفي أخرى (صلى الله عليه وآله) أو انها
ساقطة من النسخة الأخرى.
4 - نسخة مكتبة الحكيم قد أسقط الناسخ منها في أغلب الموارد عنوان
(المسألة) و (الفرع) عند تكررهما مراعاة للاختصار أو (الفائدة) فمثلا لا يكتب
(المسألة الثانية) بل (الثانية) وحدها، بينما نرى ذلك مثبتا في النسخ الأخرى
وكذا قد حدث ذلك أحيانا في نسخة كاشف الغطاء، فهذا الاختلاف لم نشر
إليه أيضا.
5 - ان النسخ قد حدث فيها خطأ كثير بالنسبة إلى التذكير والتأنيث لا سيما
في الياء والتاء في أول الفعل المضارع، والتنكير والتعريف، وبعض الأخطاء
الاعرابية أو الاملائية، فهذا كله صححناه طبقا للقواعد العربية.
6 - غيرت رسم بعض الكلمات التي جرت عادة المحدثين على كتابتها
على غير صورتها عند القدماء، فعلى سبيل المثال غيرت الكلمات
الآتية (ليكن، صلوته، شرايط، سايغ) إلى (لكن، صلاته، شرائط، سائغ)
وهكذا.
7 - الآيات القرآنية أثبتها كما هي في المصحف، معرضا عما يوجد من
من الاختلاف في النسخ، ثم إن بعض النسخ قد تورد الآية كاملة بينما تراها
ناقصة في النسخة الأخرى، فعندها أثبت النسخة الأكثر اشتمالا عليها.
8 - أغفلت الإشارة إلى اختلاف النسخ في كيفية الترقيم فبعض النسخ
يرقم كالآتي: (الأول، الثاني، الثالث الخ) وبعضها يرقم هكذا (أ، ب، ج)
9 - نسخة مكتبة المدرسة الفيضية لم أثبت كلما جاء فيها من اختلافات
بينها وبين بقية النسخ، بل اقتصرت على المهم من موارد الاختلاف دون
اليسيرة مما لا دخل لها في المعنى، ولا سيما موارد السقط فيها.
30

شكر وتقدير
وأخيرا، أقدم شكري وتقديري
إلى فضيلة العلامة الجليل السيد محمد مهدي الموسوي الخرسان على
توجيهاته وارشاداته.
والى أستاذي العلامة السيد محمد رضا الحسيني الجلالي على مراجعة الكتاب
بعد تحقيقه.
والى فضيلة الدكتور السيد عبد الهادي الحكيم.
والى الشيخ شريف نجل الحجة الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء.
والى حجة الاسلام الشيخ مجتبى المحمدي العراقي.
على منحهم إياي فرصة الاستفادة من النسخ الخطية التي تحت أيديهم.
والحمد لله أولا وآخرا.
قم المقدسة
3 / جمادي الثاني / 1403
محمد حسين السيد على الرضوي
31

نماذج مصورة من النسخ المخطوطة
33

الصفحة الأولى من نسخة مكتبة السيد الحكيم العامة برقم (371)
34

الصفحة الأخيرة من نسخة مكتبة السيد الحكيم العامة
35

الصفحة الأولى من نسخة مكتبة آل كاشف الغطاء برقم (392)
36

الصفحة الثانية من نسخة مكتبة آل كاشف الغطاء
37

الصفحة الأخيرة من نسخة مكتبة آل كاشف الغطاء
38

الصفحة الأولى من نسخة مكتبة المدرسة الفيضية برقم (2013)
39

الصفحة الأخيرة من نسخة مكتبة المدرسة الفيضية
40

معارج الأصول
للمحقق الحلي
الشيخ نجم الدين
أبي القاسم جعفر بن الحسن الهذلي
صاحب الشرائع
602 - 676 ه‍.
اعداد
محمد حسين الرضوي
41

بسم الله الرحمن الرحيم [وبه ثقتي]
(أحمد الله) (1) على سابغ نعمه، وسائغ عطيته، كما أشكره على جليل
هبته، وجميل هدايته حمد معترف بكمال قدرته، مقر بجلال عظمته، معتقد أنه
لا (شبه) (2) له في أحديته ولا مضاهي له في إلهيته، مذعن بقصور الأذهان عن
اكتناه هويته، وانسداد المخارج المفضية إلى الإحاطة بحقيقة معرفته، و
أصلي على خير بريته وأكرم خاصته، وعلى الطاهرين من عترته.
وبعد ذلك، فإنه تكرر من جماعة من الأصحاب - أيدهم الله بعصمته،
وشملهم بعام رحمته - التماس مختصر في الأصول، (مشتمل) (3) على المهم
من مطالبه، غير بالغ في الإطالة إلى حد يصعب على طالبه فأجبتهم (إلى) (4)
ذلك، مقتصرا على ما لابد من الاعتناء به، غير متطاول إلى إطالة مسائله، و
تغليق مذاهبه، ومن الله أستمد التوفيق، انه على ذلك قادر، وباسدائه حقيق.
وهو يشتمل على أبواب عشرة:

(1) في نسخة: الحمد لله، وفى أخرى: أحمده:
(2) في نسخة: شبيه.
(3) في نسخة: يشتمل.
(4) في نسخة: على.
43

الباب الأول
في المقدمات
وهي ثلاثة:
45

المقدمة الأولى
لما كان البحث في هذا الكتاب انما هو بحث في أصول الفقه، لم يكن
بد من معرفة [فائدة] هاتين اللفظتين:
(فالأصل) (1) في الأصل: هو ما يبتني عليه الشئ ويتفرع عليه.
والفقه: هو المعرفة بقصد [المتكلم]، وفي عرف الفقهاء: هو جملة من
العلم بأحكام شرعية عملية مستدل على أعيانها.
ونعني بالشرعية: ما استفيدت بنقل الشريعة لها عن حكم الأصل، (أو) (2)
باقرار الشريعة لها عليه.
وأصول الفقه في الاصطلاح هي: طرق الفقه على الاجمال.
فائدتان:
الأولى: الاحكام عندنا هي المنقسمة إلى كون الفعل حسنا - واجبا كان أو
مندوبا أو مباحا أو مكروها - والى كونه قبيحا.
فالواجب: ما للاخلال به مدخل في استحقاق الذم.

(1) في بعض النسخ: والأصل.
(2) في نسخة: و.
47

والمندوب: ما بعث المكلف على فعله على وجه ليس لتركه تأثير في استحقاق
الذم على حال.
والمباح: ما استوى (طرفا) (1) فعله وتركه في عدم استحقاق المدح والذم.
والمكروه: ما الأولى تركه، وليس لفعله تأثير في استحقاق الذم.
والقبيح: ما لفعله تأثير في استحقاق الذم، ولا يسمى القبيح حراما ولا
محظورا حتى يزجر عنه زاجر.
الفائدة الثانية: إذا عرفت أن أصول الفقه [انما] هي طرق الفقه على
الاجمال وكان المستفاد من تلك الطرق اما علم، أو ظن (من) (2) دلالة، أو
امارة بواسطة النظر، لم يكن بد من بيان فائدة كل واحد من هذه الألفاظ:
فالنظر: [هو] ترتيب علوم، أو ظنون، أو علوم وظنون ترتيبا صحيحا
ليتوصل به إلى علم أو ظن.
والعلم: هو الاعتقاد المقتضي سكون النفس [مع] أن معتقده على ما
(تناوله) (3) والأقرب أنه غني عن التعريف لظهوره.
والظن: هو تغليب أحد مجوزين ظاهري (التجويز) (4) بالقلب.
والدلالة: هي ما النظر الصحيح فيها يفضي إلى العلم.
والامارة: هي ما النظر الصحيح فيها يفضي إلى الظن.

(1) في بعض النسخ: طرف.
(2) في نسخة: عن.
(3) في نسخة: يتناوله.
(4) في بعض النسخ: التجوز.
48

المقدمة الثانية
الخطاب: هو الكلام الذي قصد به مواجهة الغير.
والكلام: هو ما انتظم من حرفين فصاعدا من الحروف المسموعة المتواضع
عليها إذا صدرت من ناظم واحد، (ومنهم) (1) من شرط الإفادة، ومنهم من
شرطه المواضعة، والثاني يبطل (بتقسيم) (2) أهل اللغة الكلام إلى المهمل
والمستعمل، ومورد التقسيم مشترك.
وعلى ما قلناه، فالكلام اما مهمل، وهو ما لم يوضع في اللغة لشيئ واما
مستعمل.
والمستعمل: اما أن لا يستقل بالمفهومية وهو الحرف، واما أن يستقل:
فان دل على الزمان المعين فهو الفعل، وان لم يدل فهو الاسم.
ثم الاسم: اما أن يكون تصور معناه مانعا من وقوع الشركة فيه (فهو) (3)
الجزئي، أولا يمنع [فهو الكلي] وحينئذ ان دل على الماهية فهو اسم الجنس عند
النحاة وان دل على موصوفيتها فهو المشتق.
تقسيم
اللفظ ومعناه:
ان اتحدا: فاما جزئي واما كلي، فان كان كليا وكان معناه في موارده بالسوية
فهو متواطئ، أو متفاوتا فهو مشكك.

(1) في نسخة: فمنهم
(2) في نسخة: تقسيم
(3) في نسخة: وهو
49

وان تكثرا فالألفاظ متباينة سواء كانت المعاني متصلة أو منفصلة.
وان تكثرت الألفاظ واتحد المعنى فهي مترادفة.
وان تكثرت المعاني واتحد اللفظ من وضع واحد، فان كانت دلالتها على
المعاني بالسوية فهي مشتركة، أو متفاوتة فالراجح حقيقة والمرجوح مجاز.
المقدمة الثالثة
في الحقيقة والمجاز: وهي ثلاثة فصول:
الفصل [الأول]
يشتمل على مسائل:
المسألة الأولى: في تعريفهما:
أظهر ما قيل في الحقيقة هي كل لفظة أفيد بها ما وضعت له في أصل الاصطلاح
الذي وقع التخاطب به.
والمجاز: (هو) (1) كل لفظة أفيد بها غير ما وضعت له في أصل الاصطلاح
الذي وقع التخاطب به لعلاقة بينهما.
المسألة الثانية: فيما يفصل [به] بينهما وهو اما (بنص) (2) أهل اللغة، بأن
(يقولوا) (3) هذا حقيقة، وذاك مجاز، أو بالاستدلال بعوائدهم كان يسبق إلى
أذهانهم عند سماع اللفظ المعنى من دون قرينة.
وههنا فروق أخر:

(1) في نسخة: هي
(2) في نسخه: لنص
(3) في نسخة: يقول
50

الأول: الاطراد في فائدتها دلالة على كون اللفظ حقيقة في تلك الفائدة.
الثاني: صحة التصرف - كالتثنية والجمع - دلالة على الحقيقة.
الثالث: استعمال أهل اللغة دلالة عليها أيضا.
الرابع: تعليق (اللفظة) (1) بما يستحيل تعلقها به دلالة على المجاز كقوله
تعالى " واسأل القرية " (2)
وفى الكل نظر.
المسألة الثالثة: اللفظ اما أن يستفاد وضعه للمعنى بالشرع أو بالوضع، والأول
هو الحقيقة الشرعية، والثاني: اما أن ينقل عن موضوعه لمواضعة طارئة، وهو
العرفية، أو لا ينقل، وهو اللغوية، وكل واحدة من هذه الألفاظ اما أن تكون
موضوعة لمعنى واحد، وهي المفردة، أو لمعنيين فصاعدا، وهي المشتركة
فوائد ثلاث
الأولى: لا شبهة في وجود الحقيقة الوضعية، وأما العرفية فكذلك، أما
الامكان فظاهر، وأما الوقوع فبالاستقراء (اما) (3) من عرف عام كالغائط للفضلة
وقد كان للمطمئن، والدابة للفرس وقد كان لمادب، واما من عرف خاص فكما
للنحاة من الرفع والنصب، ولأهل الكلام من الجوهر والكون.
تقسيم
العرف اما أن يجعل الاسم مستعملا في غير ما كان مستعملا فيه أو في بعضه

(1) في نسخة: اللفظية وفى أخرى اللفظ
(2) يوسف / 82
(3) في نسخة: واما
51

والثاني تخصيص كلفظ الدابة، والأول، اما أن يرجح العرف الطارئ ويرفض
السابق وهو نقل كالغائط و (الراوية) (1) أو لا يرجح فيكون مشتركا كقولنا:
كلام زيد، فإنه يقع على لفظه، وعلى حكاية كلامه، كقولنا: هذا كلام أمير -
المؤمنين، عند ايراد خطبه.
الفائدة الثانية: الحقيقة الشرعية موجودة، وصار جماعة من الأشعرية إلى
نفيها، ونعني بالشرعية: ما استفيد وضعها للمعنى بالشرع.
لنا: وجودها في ألفاظ الشارع، فان الصوم في اللغة: الامساك وفى الشرع
امساك خاص، والزكاة: الطهارة، وفى الشرع طهارة خاصة، والصلاة:
الدعاء وفى الشرع لمعان مختلفة أو متواطئة، تارة تعرى عن الدعاء كصلاة الأخرس
وتارة يكون الدعاء منضما كصلاة الصحيح.
تفريع
الأصل عدم النقل، لان احتمال النقل لو ساوى احتمال البقاء على الأصل
لما حصل التفاهم عند التخاطب مع الاطلاق، لان الذهن يعود مترددا بين
المعنيين، لكن التفاهم حاصل مع الاطلاق فكان الاحتمال منفيا.
الفائدة الثالثة: لا شبهة في وجود الحقيقة المفردة، واختلف في المشتركة
فمن الناس من أوجب وجودها نظرا إلى كثرة المعاني وقلة الألفاظ، ومنهم من
أحالها صونا للفهم عن الخلل، والأول باطل، لأنا لا نسلم كثرة المعاني عن
الألفاظ والثاني باطل لان الغرض قد يتعلق بالابهام كما يتعلق بالإبانة. وأما
وجودها فاستقراء اللغة يحققه.

(1) في نسخة: الرواية
52

فرعان
الأول: الأصل عدم الاشتراك، لأنه لولا ذلك لما حصل الفهم الا عند العلم
بعدمه، وهو باطل، لأنه (يلزم) (1) بطلان الاستدلال بالنصوص، لجواز أن تكون
ألفاظه موضوعة لغير ذلك المعنى.
الفرع الثاني: يجوز أن يراد باللفظ الواحد كلا معنييه - حقيقة كان فيهما
أو مجازا أو في أحدهما - نظرا إلى الامكان لا إلى اللغة.
وأحال أبو هاشم وأبو عبد الله ذلك، وشرط أبو عبد الله في المنع شروطا
أربعة: اتحاد المتكلم، والعبارة، والوقت، وكون المعنيين لا (تضمهما) (2)
فائدة واحدة، وقال القاضي: ذلك جائز ما لم يتنافيا كاستعمال لفظة (افعل) في
الامر والتهديد، (و) (3) الوجوب والندب.
لنا: أنه ليس بين إرادة اعتداد المرأة بالحيض واعتدادها بالطهر منافاة،
ولا بين إرادة الحقيقة وإرادة المجاز معا منافاة، و (إذ) (4) لم يكن ثمة منافاة
لم يمتنع اجتماع الإرادتين عند (المتكلم) (5) باللفظ.
حجة المانع: لو استعمل المتكلم اللفظة في حقيقتها ومجازها لكان جامعا بين
المتنافيين وانما قلنا ذلك لوجهين:
أحدهما: أنه يكون مريدا لاستعمالها فيما وضعت له والعدول بها عنه.

(1) في نسخة: يلزمه
(2) في بعض النسخ تنضمهما
(3) في نسخة: أو
(4) في نسخة: إذا
(5) في نسخة: التكلم
53

والثاني: أن المتجوز يضمر كاف التشبيه، ومستعمل الحقيقة لا يضمر،
فلو استعملها في المعنيين لأراد الا ضمار وعدمه.
الجواب: لا نسلم كونه جامعا بين المتنافيين. قوله: " يكون مريدا
لموضوعها والعدول عنه ". قلنا: يعني بالعدول كونه مريدا لاستعمالها في
غير ما وضعت [له] كما أراد استعمالها فيما وضعت له؟ أم يريد استعمالها فيما
وضعت له (ولا) (1) يستعملها فيه [و] الأول مسلم ولا ينفعك والثاني ممنوع.
قوله في الوجه الثاني: " يريد الاضمار وعدمه " قلنا: لا بالنسبة إلى شئ
واحد بل بالنسبة إلى شيئين، وذلك ليس بمتناف.
وأما بالنظر إلى اللغة، فتنزيل المشترك على معنييه باطل، لأنه لو نزل على
ذلك لكان استعمالا له في غير ما وضع له، لان اللغوي لم يضعه للمجموع، بل
لهذا وحده، (و) (2) لذاك وحده، فلو نزل عليهما معا لكان ذلك عدولا عن
وضع اللغة.
حجة المخالف وجهان:
الأول: قوله تعالى " ان الله وملائكته يصلون على النبي " (3).
الثاني: قول سيبويه: (الويل): دعاء وخبر.
جواب الأول: ان في الآية اضمارا، أما على قراءة النصب فلان ذلك
أدخل في باب التعظيم، وأما على قراءة الرفع فلان العطف على اسم (ان) لا
يصح الا بعد تمام الخبر عند البصريين، فكان التقدير: ان الله يصلي وملائكته
يصلون.

(1) في نسخة: وألا
(2) في نسخة: أو
(3) الأحزاب / 56
54

وعن الثاني: ان ذلك اخبار عن كون اللفظة موضوعة لهما معا، وذلك
غير موضع النزاع.
المسألة الرابعة: لا يجوز أن يخاطب الله عباده بما لا طريق لهم إلى العلم
بمعناه خلافا للحشوية.
لنا: أن ذلك عبث، فيكون [لله] قبيحا.
احتجوا: بقوله تعالى: " كأنه رؤوس الشياطين " (1) وبقوله تعالى " حم " (2)
و " ألم " وما أشبهها.
والجواب: لا نسلم خلو ذلك عن الفائدة، لان الأول كناية عن (القبيح) (4)
واستعارة فيه، والثاني اسم للسورة.
الفصل [الثاني]:
في المجاز وأحكامه، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أكثر الناس على امكانه ووجوده، ومنعه قوم امكانا،
وآخرون وقوعا.
لنا: [ان] اسم (الحمار) يستعمل في البليد، وليس حقيقة فيه، فهو مجاز.
احتجوا: بان المجاز ان دل بدون القرينة فهو حقيقة، ومعها لا يحتمل الا
ذاك، فهو حقيقة أيضا.

(1) الصافات / 65
(2) الآية الأولى من السور التالية: غافر، فصلت، الزخرف، الدخان، الجاثية،
الأحقاف
(3) الآية الأولى من: البقرة، وآل عمران، والعنكبوت، والروم، ولقمان والسجدة.
(4) في نسخة: القبح
55

جوابه: ان القرينة خارجة عن دلالة اللفظ، وكلامنا في دلالته مفردا.
على: ان القرينة قد لا تكون لفظية، وكلامنا في الدال بالوضع.
المسألة الثانية: المجاز ممكن الوجود في (خطاب) (1) الله تعالى، و
موجود، خلافا لأهل الظاهر.
لنا: قوله تعالى: " جدارا يريد أن ينقض " (2) و " جاء ربك " (3) وقوله:
" لما خلقت بيدي " (4) وليست هذه موضوعة في اللغة لما أراده الله تعالى بها
قطعا، ولا الشارع نقلها، لعدم سبق أذهان أهل الشرع عند اطلاقها إلى المراد
بها، فتعين أن يكون مجازا.
احتجوا: بأنه لو تجوز لكان ملغزا معميا.
وجوابه: أنه لا ألغاز مع القرينة.
المسألة الثالثة: اختلفوا في جواز تعدية المجاز [عن] (موضع) (5)
الاستعمال فأجازه قوم، ومنعه الأكثر.
[و] احتج المانع: بأنه لو كفت العلاقة لصح تسمية الحبل الطويل
نخلة، كما سمي به الرجل الطويل، ويسمى الأبخر أسدا.
المسألة الرابعة: تشتمل على فوائد:
الأولى: لا يجوز خلو اللفظ - بعد الاستعمال - من كونه حقيقة أو مجازا
لأنه: ان استعمل فيما وضع له فهو حقيقة، والا فهو مجاز.

(1) في نسخة: كلام
(2) الكهف / 77
(3) الفجر / 22
(4) ص / 75
(5) في نسخة: موضوع
56

الثانية: الحقيقة والمجاز لا يدخلان أسماء الألقاب، لأنها لم تقع على
مسمياتها المعينة بوضع من أهل اللغة ولا من الشرع، وإذا لم تكن كذلك لم
يكن مستعملها في الأشخاص تابعا لأهل اللغة، لا بالحقيقة ولا بالمجاز.
الثالثة: إذا تجرد اللفظ عن القرائن (نزل) (1) على حقيقته، لان واضع
اللغة وضعه للدلالة على معناه فكأنه قال: عند الاطلاق أريد به ذلك المعنى،
فلو لم يفد به عند الاطلاق كان (ناقضا) (2).
قال جماعة من الأصوليين: يجب اطراد الحقيقة في فائدتها دون المجاز
لأنا إذا علمنا أن أهل اللغة سموا الجسم طويلا عند اختصاصه (بالطول) (3)
ولولا ذلك لما سموه طويلا، وجب تسمية كل جسم (فيه) (4) طول بذلك،
قضية للعلة.
الفصل الثالث
في جملة من احكام الحروف:
الواو: للجمع المطلق، (لاجماع) (5) أهل اللغة على ذلك، وأيضا: فإنه
يستعمل فيما يمتنع فيه الترتيب، كقولنا: تقاتل زيد وعمرو.
واحتج: بانكار رسول الله صلى الله عليه وآله على قائل: من أطاع الله ورسوله فقد
هدي، ومن عصاهما فقد غوى، بقوله: " قل: ومن عصى الله ورسوله ".
والجواب: ان الافراد أدخل في باب التعظيم من الجمع، فلعله عليه السلام قصد

(1) في نسخة: يدل
(2) في نسخة: ناقصا
(3) في نسخة: بالطويل
(4) في نسخة: له
(5) في نسخة: لاطلاق
57

ذلك دون الترتيب.
الفاء: للتعقيب، باجماع أهل اللغة. (ومنهم) (1) من جعلها للتراخي أيضا
لقوله تعالى: " لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم " (2) والاسحات (متراخ) (3)
عن (الافتراء) (4)، ولأن الفاء تدخل على التعقيب.
وجوابه: ان الأول تجوز، والثاني تأكيد.
ثم: للمهلة، وقال آخرون: الا في عطف الجمل كقوله تعالى: " لمن تاب
وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى " (5).
في: للظرفية خاصة، وقيل: للسببية كقوله: عليه السلام " في خمس من الإبل
شاة "، ولا يعرفه أهل اللغة.
قيل: الباء إذا دخلت على المتعدي تبعيضية، وأنكر ذلك ابن جني.
انما: للحصر، لان (ان) للاثبات، و (ما) للنفي، فيجب أن يكون لنفي
ما لم يذكر واثبات ما ذكر، لاستحالة غيره من الأقسام، ويؤيده قول الشاعر:
... * وانما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي
وقوله:.... وانما العزة للكاثر
[ثم] احتج المخالف: بقوله: انما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت
قلوبهم " (6).
[و] جوابه: انه للمبالغة.

(1) في نسخة: وفيهم
(2) طه / 61
(3) في نسخة: يتراخى
(4) في نسخة: الفرية
(5) طه / 82
(6) الأنفال / 2
58

الباب الثاني
في الأوامر والنواهي
وفيه فصول
59

الفصل الأول
فيما يتعلق بصيغة الامر، وفيه مسائل:
[المسألة] الأولى: لا شبهة في وقوع لفظة الامر بالحقيقة على القول
المخصوص، واختلف في وقوعه على الفعل، فأنكر ذلك قوم، واعتمده آخرون
وتوسط أبو الحسين فقال: هو مشترك بين القول المخصوص وبين الشئ و
الصفة والشأن والطريق، وهو المختار.
لنا: ان القائل إذا قال: هذا أمر بالفعل علم القول، وان قال: مستقيم علم
الشأن، وان قال لأجله جاء زيد علم الشئ والغرض، وان اطلقه حصل التوقف
وهو دلالة الاشتراك، ولا يجوز أن يكون لفظ الامر حقيقة في مطلق الفعل،
والا لسمي الشرب اليسير أمرا.
احتج من خصه بالقول: بان الأصل عدم الاشتراك.
وجوابه: ان الأصل ظاهر لا قاطع، وقد (ترك) (1) الظاهر لقيام الدلالة.
واحتج من جعله حقيقة في الفعل بوجوه:
أحدها: قوله تعالى: " فاتبعوا أمر فرعون " (2).

(1) في نسخة: يترك
(2) هود / 97
61

الثاني: قوله تعالى: " وما أمرنا الا واحدة " (1).
الثالث: ان (أمرا) في الفعل جمعه (أمور)، والجمع دلالة الحقيقة.
الرابع: (انه) (2) مستعمل في الفعل، والاستعمال دلالة الحقيقة.
والجواب عن الأول: انه محمول على القول، [و] يؤيده قوله: " فاتبعوا ".
وعن الثاني: لا نسلم أن المراد بذلك الفعل، والا لكانت أفعاله كلها واحدة
بل الشأن، أي: شأننا ذلك.
وعن الثالث: لا نسلم أن التصرف دلالة الحقيقة.
سلمنا، لكن لا نسلم أن (أمورا) جمع (أمر)، فإنه لافرق بين قولهم: أمر
فلان مستقيم، وبين قولهم: (أمور فلان مستقيمة) (3).
سلمنا [ه]، لكن اطلاق ذلك (لخصوص) (4) كونه شأنا، لا (لعموم) (5)
كونه فعلا.
وعن الرابع: لا نسلم أن الأصل في الاستعمال الحقيقة.
سلمنا [ه] (لكن) (6) معارض بأن الأصل عدم الاشتراك.
المسألة الثانية: الامر القولي: هو استدعاء الفعل بصيغة (افعل) أو ما جرى
مجراها على طريق الاستعلاء، إذا صدرت (من مريد لايقاع الفعل) (7).

(1) القمر / 50
(2) في بعض النسخ: وهو
(3) في نسخة: أموره مستقيمة
(4) في نسخة: بخصوص
(5) في نسخة: بعموم
(6) في نسخة: لكنه
(7) في نسخة: من مريد الايقاع
62

شرطنا الصيغة المخصوصة احترازا من الخبر والتمني وشبهه إذا تضمن
الاستدعاء.
وشرطنا الاستعلاء احترازا ممن طلب متذللا ملتمسا.
وشرطنا الإرادة - على ما اختاره المرتضى رحمه الله - خلافا للأشعرية
وجماعة من الفقهاء.
لنا: ان الصيغة ترد أمرا كقوله تعالى: " أقم الصلاة " (1) وغير أمر
كقوله: افعلوا ما شئتم، ولا مخصص [له] الا الإرادة، لبطلان ما عداه من الأقسام
احتج المخالف بوجهين:
أحدهما: لو لم يكن الامر أمرا الا بالإرادة، لما صح الاستدلال بالامر
على الإرادة.
الثاني: ان أهل اللغة قالوا: الامر هو قول القائل لغيره: (افعل) [كذا]
مع الرتبة، ولم يشترطوا الإرادة، فجرى ذلك مجرى استعمال لفظ الانسان في
(موضوعه) (2) فإنه لا يفتقر إلى الإرادة.
وجواب الأول: انا لا نستدل على الإرادة بالامر من حيث كان أمرا، بل
من حيث هو على صيغة (افعل) وقد تجرد، لان هذه الصيغة موضوعة لطلب
المراد حقيقة، فإذا (تجردت) (3) وجب حملها على موضوعها.
وجواب الثاني: سلمنا (عدم) (4) اشتراطها (لفظا) (5) لظهورها، ولكن

(1) هود / 114
(2) في نسخة: موضعه
(3) في نسخة: تجرد
(4) في بعض النسخ: بعدم
(5) في بعض النسخ: نطقا
63

لا نسلم عدم اشتراطها في نفس الامر، كما لم يشترطوا انتفاء القرائن، وليس
تمثيل تسمية الانسان مما نحن فيه، (لأنا لا نخالف) (1) عند اطلاق هذه اللفظة
انها تحمل على الامر، بل الخلاف: هل يسمى أمرا وان لم يرد الفعل؟.
المسألة الثالثة: لفظة (افعل) حقيقة في الطلب بلا خلاف، وهل هي حقيقة
في التهديد أم لا؟ الأظهر عدمه، والا لتوقف الذهن في فهم أحد الامرين عند
الاطلاق وهو باطل.
وأيضا: فإنها حقيقة في الطلب، فليكن مجازا في غيره دفعا للاشتراك.
المسألة الرابعة: لفظة (افعل) حقيقة في الوجوب، وقال آخرون: الايجاب
[و] هو اختيار الشيخ أبي جعفر رحمه الله.
وقال أبو هاشم: هي للندب، إذا صدرت من الحكيم، وكان (المقول) (2)
له في دار التكليف.
وتوقف آخرون.
وقال المرتضى: هي مشتركة (بينهما)، (3) نظرا إلى اللغة قال: [و] أو امر
الشارع المطلقة تحمل على الوجوب، مدعيا في ذلك الاجماع. حجتنا:
ان العقلاء يذمون العبد الممتنع عند قول سيده: (افعل) مع اطلاق الامر، و
يعللون حسن ذمه بمجرد ترك الامتثال، ولا معنى للوجوب الا هذا. وما يشيرون
إليه من القرائن تفرض ارتفاعه، واستحقاق الذم باق بحاله قطعا.
احتج المرتضى رحمه الله: بأنها وردت للايجاب والندب، والأصل في
الاستعمال الحقيقة.

(1) في نسخة: لان سيدا لا يخالف وفى أخرى: لأنه لا نخالف
(2) في نسخة: القول
(3) في نسخة: بينها
64

وجوابه: كما أن الأصل [في الاستعمال] عدم التجوز، فالأصل عدم
الاشتراك.
المسألة الخامسة، صيغة الامر الواردة بعد الحظر كحالها قبله، وقال قوم:
تفيد بعد الحظر: الإباحة.
لنا: أن صيغة الامر تفيد طلب الفعل، والإباحة تفيد التخيير فيه، فلم يكن
مستفادا منها، وغير ممتنع انتقال الشئ من الحظر إلى الوجوب.
احتج الخصم: بقوله تعالى: " وإذا حللتم فاصطادوا " (1).
وجوابه: معارض بقوله: " فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين " (2).
المسألة السادسة: ذهب الجبائيان إلى أن الامر المطلق لا يقتضي التعجيل
وجوزا التأخير عن [أول] أوقات الامكان. وصار آخرون إلى تحريم التأخير
واختاره الشيخ. وقال المرتضى رحمه الله بالاشتراك.
والظاهر: أنه لا اشعار [فيه] بفور ولا تراخ.
لنا: انه [ورد] مع الفور تارة، ومع التراخي أخرى، فيجعل حقيقة في
القدر المشترك بينهما، صونا للكلام عن الاشتراك والتجوز.
وأيضا: فان قول القائل (افعل) هو طلب (الفعل) (3) في المستقبل (وجرى) (4)
مجرى (تفعل) في كونه اخبارا عن الفعل في المستقبل، وكما يجوز وقوعه
بعد مدة، فكذلك الامر.

(1) المائدة / 2
(2) التوبة / 5
(3) في نسخة: للفعل
(4) في بعض النسخ: فجرى
65

احتج القائلون بالفور: بقوله تعالى: " فاستبقوا الخيرات " (1) وبأنه لو
جاز تأخيره، فاما مع بدل، ويلزم سقوط المبدل وهو باطل، أو لا معه وهو
ينافي الوجوب.
وجواب الأول: انه استدلال على غير المطلوب.
وجواب الثاني: منقوض بما لو صرح بالتأخير
المسألة السابعة: الامر بالشئ على الاطلاق لا يقتضي التكرار، خلافا
لبعض الأصوليين.
لنا وجهان:
أحدهما ان السيد إذا أمر عبده بدخول الدار، ثم فعل، لم يحسن (منه) (2)
ذمه على ترك المعاودة.
الثاني: لو أفاد التكرار (لعم) (3) الأوقات - لعدم الأولوية - وهو باطل.
احتج المخالف بوجهين:
الأول: لو لم يفد التكرار لما اشتبه على سراقة حين قال لرسول الله [صلى الله عليه وآله]
" أحجتنا هذه لعامنا [هذا] أم للأبد؟ ".
الثاني: ان فيه احتياطا فيجب المصير إليه.
وجواب الأول: ان هذا لا يصلح حجة للقائلين بالتكرار، بل لأصحاب
الاشتراك، ولا (فرج) (4) أيضا لأولئك، لأنا لا نسلم أن الاشتباه بالنظر إلى
اللفظ، بل لم لا يجوز أن يكون اعتقده مماثلا للصلاة والصيام!؟ فأراد إزالة

(1) البقرة / 148
(2) في نسخة: فيه
(3) في نسخة: يعم.
(4) في نسخة: فرح
66

هذا الاشتباه.
ويدل على أنه ليس للتكرار قول النبي صلى الله عليه وآله: " لو قلت هذا (لوجب) (1)
لأنه اشعار بكون الوجوب مستفادا من قوله، لامن اللفظ.
وجواب الثاني: ان الاحتياط يجب مع عدم الدلالة على عدم وجوب
التكرار، وأما مع وجودها فلا.
المسألة الثامنة: الامر المعلق على شرط، أو صفة، لا يتكرر بتكررهما،
سواء كان شرطا حقيقيا كقوله: ان كان الزاني محصنا فارجمه، أو مؤثرا كقوله:
ان زنى فارجمه، ومثال الصفة: " السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " (2).
وقال قوم: انه يتكرر بتكررهما.
لنا وجهان:
الأول: ان السيد إذا قال لعبده: ان دخلت السوق فاشتر لحما، لا يقتضي
التكرار.
والثاني: لو أفاد الامر مع الشرط التكرار، لم يخل: اما أن يفيده لفظا
أو معنى، والقسمان باطلان:
أما اللفظ فظاهر.
وأما المعنى: فلانه لو أفاد [ذلك] لكان ذلك لكون الشرط كالعلة عندهم
وذلك باطل، لان الشرط يقف عليه تأثير المؤثر، فلا يمنع (تكرار) (3) الشرط
دون العلة، (فلا يحصل الحكم) (4) وإذا كان اللفظ لا يقتضي التكرار، والشرط

(1) في نسخة: وجب.
(2) المائدة / 38.
(3) في نسخة: تكرر.
(4) في نسخة: فلا يحصل العلم الحكم.
67

لا يقتضيه، (فمجموعهما) (1) كذلك.
المسألة التاسعة: الامر المقيد بالشرط منتف عند انتفاء الشرط خلافا للقاضي
لنا: ان قول القائل: اعط زيدا درهما ان أكرمك، جار مجرى قولنا:
الشرط في (اعطائه) (2) اكرامك، وفي الثاني ينتفي العطاء عند انتفاء الاكرام
فكذلك في مسألتنا.
وأيضا: فان الشرط: هو ما (يتوقف) (3) عليه الحكم، فلو حصل بدونه
لم يكن شرطا.
ولا حجة للمخالف في قوله تعالى: " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن
تحصنا " (4) لأنه لما ذكر الاكراه شرط إرادة التحصن ليتحقق الاكراه [فيها].
المسألة العاشرة: إذا تكررت الأوامر، فان اختلف المأمور به، تعدد
كقوله: صل صم. فان تماثلا: فاما أن يصح (فيهما) (5) التزايد أو لا يصح،
فان صح: فاما أن يكون الثاني معطوفا أو لا يكون، فهيهنا ثلاثة أقسام:
الأول: أن يصح فيه التزايد ولم يكن معطوفا، فعند القاضي يفيد غير ما
أفاده الأول، الا أن تمنع العادة منه، أو يكون الثاني معرفا كقولك: اسقني
ماءا... اسقني ماءا، فإنه لا يتكرر عادة، فكذلك: صل ركعتين. صل الركعتين
لان الظاهر أن الألف واللام للعهد، فإذا تجرد عن العادة والتعريف تعددا.
وتوقف أبو الحسين.

(1) في نسخة فبمجموعهما.
(2) في نسخة: عطائه.
(3) في بعض النسخ: يقف.
(4) النور / 33.
(5) في نسخة: فيها.
68

لنا: [انه] لو حمل الثاني على الأول، لكان الثاني تكرارا أو تأكيدا و
كلاهما خلاف الأصل.
الثاني: أن يكون الثاني معطوفا: فان لم يكن معرفا أفاد غير ما أفاده الأول
كقوله: صل ركعتين وصل ركعتين. (وان) (1) كان الثاني معرفا كقوله: صل
ركعتين وصل الركعتين، يجب هيهنا التوقف، لان اللام للعهد، والعطف يقتضي
المغايرة، فتعارضا.
الثالث: أن يكون مما لا يصح فيه التزايد: فان كانا عامين أو خاصين اتحدا
سواءا كان بعطف أو بغير عطف، [و] أما ان كان أحدهما عاما والاخر خاصا:
فان كان الثاني معطوفا قال القاضي: لا يدخل تحت الأول، مراعاة لحكم العطف
والأولى التوقف. وان كان الثاني غير معطوف كقوله: صم كل يوم. صم
يوم الجمعة، فان الثاني تأكيد قطعا، وقال قوم بالتوقف.
المسألة الحادية عشر: تعليق الحكم على العدد لا يدل على نفي ما زاد عليه
ولا ما نقص عنه، من حيث اللفظ، بل باعتبار زائد، لان الاعداد مختلفة فلم
يجب اتفاقها في الحكم.
احتج الخصم بوجهين:
أحدهما: أنه لو لم يدل لم يكن لذكر العدد فائدة.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وآله لما نزل عليه: " ان تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر
الله لهم " (2) قال صلى الله عليه وآله لأزيدن على السبعين، فلو لم يسبق إلى فهمه بأن ما زاد
بخلافه، لما قال ذلك.
وجواب الأول: انه يدل (بطريق دليل) (3) الخطاب، وسنبين ضعفه.

(1) في نسخة: فان
(2) التوبة / 80.
(3) في نسخة: بدليل طريق،
69

وعن الثاني: لا نسلم أنه عقل (من) (1) اللفظ، بل لان الأصل جواز
الغفران، ونحن لا نأبى العلم بذلك (بدليل) (2) آخر كما نعلم حظر ما زاد على
الثمانين في القذف بدليل الأصل.
المسألة الثانية عشر: الحكم المعلق على الاسم لا يدل على [نفي] حكم
ما عداه، سواءا كان خبرا كقوله: زيد في الدار، أو ايجابا كقوله: أكرم زيدا
خلافا لأبي بكر الدقاق.
لنا: لو صح ذلك لما صح الاخبار عن (الانسان) (3) بشئ الا بعد العلم
بانتفائه عما عداه، وهو باطل.
وأيضا: فكان يلزم أن يكفر الانسان بقوله: موسى رسول الله، لأنه يتضمن
نفي الرسالة عن غيره.
احتج: بأن تعليق الحكم على الاسم يقتضي فائدة، ولا فائدة الا اختصاصه
بالحكم.
وجوابه: منع المقدمة الأخيرة.
المسألة الثالثة عشر: تعليق الحكم على الصفة لا يدل على نفيه عما عداها
نظرا إلى اللفظ، ولا يمنع أن (يستدل) (4) على ذلك: بالأصل، أو بدليل آخر
خلافا لمعظم أصحاب الشافعي، وأبي عبد الله البصري.
لنا: لو دل لدل اما بلفظه، أو بفحواه ومعناه، والقسمان باطلان، أما
الملازمة فظاهرة، وأما بطلان دلالته بلفظه: فإنه ليس في اللفظ ذكر ما عدا الصفة

(1) في نسخة: عن،
(2) في نسخة: من دليل.
(3) في نسخة: انسان
(4) في نسخة: نستدل
70

وأما الفحوى: فلا تدل الا بطريق التعليق واللزوم، ولا لزوم بين تعلق الحكم
عند صفة وانتفائه عند أخرى (فإنه) (1) قد ورد معلقا على الصفة وانتفى عن
غيرها كقوله: " في سائمة الغنم زكاة "، وورد لامع انتفائه كقوله: " ولا تقتلوا
أولادكم خشية املاق " (2) فيجعل حقيقة للقدر المشترك بينهما، وهو ثبوته عند
الصفة حسب، صونا للكلام عن الاشتراك والمجاز.
احتج الخصم: بأنه لو ثبت الحكم مع انتفاء الصفة لكان تعليقه على الصفة
عريا عن الفائدة، ويجري مجرى قولك: الانسان الأشقر لا يعلم الغيوب، و:
الأسمر إذا نام لا يبصر.
وجواب الأول: منع الملازمة، وهذا لان هيهنا فوائد غير ما ذكروه:
منها: اعلام السامع أن الحكم متناول للصفة، لئلا يتوهم خروجها [عنه]
كقوله مثلا: " ولا تقتلوا أولادكم.. " الخ، لأنه لولا اعتبار الخشية لأمكن
أن يتوهم أن القتل جائز معها، فذكر ذلك ليعلم ثبوت التحريم عندها أيضا.
ومنها: أن تكون المصلحة تقتضي اعلام حكم الصفة بالنص، وما عداها
بالنظر والفحص.
وأما (التمثيل بالأشقر والأسمر فلا نسلم أن الاستقباح جاء من حيث)
ذكرهما (3) بل من حيث هو بيان للواضحات.
وأيضا: فما ذكروه معارض بقولنا: تجوز التضحية بالشاة العوراء فإنه

(1) في نسخة كتبت كلمة (الثاني) بدل (فإنه)
(2) الاسراء / 31
(3) في بعض النسخ: ذكروا
71

لا يدل على نفي (الصحة) (1) عن الصحيحة.
الفصل الثاني
في المأمور به، وفيه مسائل:
[المسألة] الأولى: الامر بالأشياء على طريق التخيير يفيد وجوب الكل
على البدل، وقال قوم: الواجب واحد لا بعينه، وقال آخرون: الواجب
واحد، وهو يتعين باختيار المكلف.
ومعنى كون الكل واجبا: أنه لا يجوز الاخلال بجميعها، ولا يجب الجمع
بين اثنين منها، فان كان الخصم يسلم ذلك، فهو وفاق، وان أنكره حصل
الخلاف.
لنا: لو كان الواجب معينا لما خير المكلف، والا لكان تخييرا بين الواجب
وغيره.
لا يقال: يتعين باختيار المكلف.
لأنا نقول: الوجوب حاصل قبل الاختيار، فالموصوف به قبل الاختيار
اما الكل على البدل، وهو مذهبنا، أو البعض، وذلك ينافي التخيير. وليست
المسألة كثيرة الفائدة.
المسألة الثانية: الامر يقتضي الاجزاء [و] نعني بذلك: سقوط التعبد عند
الاتيان بالمأمور [به] وقال القاضي: ان معنى وصف العبادة بكونها مجزية:
هو أنه لا يجب قضاؤها.
وهذا باطل، لان كثيرا من العبادات لا تقضى وان لم تكن مجزية كصلاة
الجمعة، والعيدين إذا اختل بعض شرائط صحتها. ولأن القضاء يمكن تعليله

(1) في بعض النسخ: الاجزاء
72

بأن العبادة غير مجزية، والعلة غير المعلول.
وانما قلنا ان الامر يقتضى الاجزاء بهذا التفسير، لان وجوب المأمور به
يدل على اختصاصه بالمصلحة، فلو لم يكن الاتيان [به] على ذلك الوجه (كافلا) (1)
(بتحصيل) (2) المصلحة المطلوبة، لما حصل الامر [به].
لا يقال: الحجة التي حصل الوطء فيها يجب اتمامها ولا تجزي.
لأنا نقول: تجزى في البراءة من عهدة الامر المتناول للمضي فيها، ولا
تجزي في سقوط القضاء.
المسألة الثالثة: الامر بالشئ ليس بنهي عن ضده نطقا. وخالف في ذلك
قوم.
لنا: أن أهل اللغة فرقوا بين صيغتي الأمر والنهي، والفرق دليل على قطع
الشركة.
حجة المخالف: ان الامر بالشئ مريد له، وارادته للشئ كراهية ضده.
وجوابه: منع الثانية.
وأما من جهة المعنى: فالامر بالشئ على وجه الوجوب يدل على كراهية
تركه وضده (إذا) (3) كان له ضد واحد، لان الواجب تركه قبيح الا أن هذا
ليس من دلالة اللفظ في شئ.
المسألة الرابعة: مالا يتم الواجب الا به: ان لم يتمكن المكلف من تحصيله
لم يكن واجبا، وان تمكن: فان توقف عليه الوجوب لم يجب، وان توقف
عليه الواجب لزم وذلك كنصب السلم لصعود السطح.

(1) في نسخة كافيا
(2) في نسخة: لتحصيل
(3) في نسخة: وان
73

لنا: ان الامر مطلق، والشرط مقدور، فيجب، والا لكان التكليف من دونه
تكليفا (بما) (1) لا يطاق.
الفصل الثالث
في مباحث الامر المؤقت، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: الفعل: اما أن يزيد على الوقت، ولا يجوز التعبد بايقاعه
فيه، أو يكون مساويا [له] كصوم يوم معين، وهو جائز اجماعا، أو يقصر عن
الوقت كقوله تعالى: " أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل " (2) والأكثرون
على جوازه. ومنع بعض الحنفية ذلك، وقال بعضهم: الوجوب مختص
بأول الوقت، وقال آخرون: بآخره، وقال (أبو الحسين) (3) هو مراعى.
لنا: ان الوجوب معلق على الوقت، فيجب أن يكون في كله، والا لكان
في بعضه، وهو ترجيح من غير مرجح، أو لا في شئ منه وهو باطل بالاجماع.
حجة المخالف: لو وجب في أول الوقت لقبح تركه فيه.
وجوابه: انا نقول: يترك إلى بدل، وهو العزم عند قوم، وعند آخرين:
هو فعله بعد ذلك، فلا يلزم قبح (تركه) (4)، كخصال الكفارة.
المسألة الثانية: إذا لم يفعل الموسع في أول الوقت، لا يجب العزم، و
قال الشيخ ره: يجب العزم.
لنا: لو وجب العزم، لسقط التكليف بالفعل في الثاني، لأنه ان قام العزم

(1) في بعض النسخ: لما
(2) الاسراء / 78
(3) في بعض النسخ: أبو الحسن
(4) في نسخة: لتركه،
74

مقامه، كفى في الاتيان بمقتضى الامر، فلو وجب في الثاني بذلك الامر، لزم
أن يكون الامر للتكرار، وقد أبطلناه.
فرعان:
الأول: الامر الموقت بزمان معين، لا يقتضى فعله فيما بعده إذا عصى
المكلف بتركه، لان الامر لا يدل على ما عدا ذلك الوقت، لا بمنطوقه، ولا
بمعناه.
الفرع الثاني: الامر المطلق إذا لم يفعله المكلف في أول وقت الامكان
هل يجب الاتيان به في الثاني؟
قال من نفى الفور: نعم. واختلف القائلون بالفور على قولين.
احتج مسقطوه: بان قوله: افعل، يجري مجرى قوله: افعل في الان الثاني
من الامر، ولو صرح بذلك، لما وجب الاتيان به فيما بعد، لما سلف.
احتج الموجب: بأن الامر يقتضي كون المأمور فاعلا على الاطلاق، و
ذلك يوجب استمرار الامر.
الفصل الرابع
في المباحث المتعلقة بالمأمور، وفيه مسألتان:
[المسألة] الأولى: إذا تناول الامر جماعة. فاما على سبيل الجمع ويسمى
فرض [عين، كقوله: " أقيموا الصلاة " (1)، أو لا على سبيل الجمع ويسمى] [فرض]
كفاية، والفرض فيه موقوف على العلم، أو غلبة الظن. فان [علم أو] ظن قوم
أن غيرهم يقوم به سقط عنهم، وان علموا [أو] ظنوا ان غيرهم لا يقوم به وجب عليهم.

(1) البقرة / 43.
75

المسألة الثانية: الكفار مخاطبون بالعبادات، وأنكر ذلك بعض الحنفية.
لنا: وجهان:
أحدهما: كل خطاب تناول الناس، تناولهم، كقوله: " يا أيها الناس
اعبدوا " (1) وعارض الكفر لا يصلح معارضا، لأنه يمكن ازالته.
الثاني: قوله تعالى: " ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين " (2) و
قوله: " وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة " (3)، ووجه الدلالة: توجيه
الذم إليهم على ترك [الصلاة و] الزكاة، والذم لا يتحقق مع عدم الوجوب.
لا يقال: الذم انما توجه بانضمام كونهم مشركين، وبانضمام التكذيب بيوم
الدين.
لأنا نقول: الظاهر (تعلق) (4) الذم بكل واحد من الخصال المذكورة.
الفصل الخامس
في مباحث النهي، [وفيه مسألتان]:
المسألة الأولى: النهي: هو قول القائل لغيره. لا تفعل، أو (ما جرى) (5)
مجراه، على سبيل الاستعلاء، مع كراهية المنهي عنه، وتقريره ما مر.
وهو يقتضي التحريم:

(1) البقرة / 21.
(2) المدثر / 42.
(3) فصلت / 6، 7.
(4) في نسخة: توجه.
(5) في نسخة: أجرى.
76

أما أولا: فلان العقلاء يستحسنون ذم من خالف مقتضى النهي، إذا صدر
ممن تجب طاعته.
وأما ثانيا: - وهو يخص مناهي النبي صلى الله عليه وآله - (لقوله) (1) تعالى: " وما
نهاكم عنه فانتهوا " (2).
المسألة الثانية: النهي يدل على فساد المنهي عنه في العبادات، لا في المعاملات
ونعني بالفساد: عدم ترتب الاحكام، كالاجزاء في العبادات، وكانتقال
الملك في البيع، وحصول البينونة بالطلاق.
وانما قلنا ذلك: لان النهي يقتضي كون ما تناوله مفسدة، والامر يقتضي
كونه مصلحة، وأحدهما ضد الاخر، فالآتي (بالمنهي) (3) [عنه] لا يكون آتيا
بالمأمور [به]، ويلزم عدم خروجه عن عهدة الامر.
وأما في المعاملات: فإنه لا يدل، لأنه لو دل: [لدل] أما بالمطابقة، أو
(الالتزام) (4)، والقسمان باطلان، أما المطابقة فظاهر.
وأما الالتزام: فلعدم اللزوم بين النهي و [بين] الفساد، لأنه لو صرح
(بالنهي) (5) وأخبر بأن المخالفة ليست مفسدة، لم يتناف، وذلك يدل على عدم
اللزوم.
احتج: بقوله عليه السلام: " من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد ".

(1) في نسخة: فقوله.
(2) الحشر / 7.
(3) في نسخة: بالنهي.
(4) في نسخة: بالالتزام.
(5) في نسخة: بالمنهى.
77

وأيضا: فان الصحابة كانت تحكم بفساد الحكم عند سماع النهي عنه.
وجواب الأول: لا نسلم أنه ادخل في الدين ما ليس منه، وانما يكون
ذلك باعتقاد كونه من الدين، وأما (أحكامه) (1) فلا نسلم انها ليست من الدين.
وجواب الثاني: سلمنا أن الصحابة حكمت عنده، لكن لا به، يدل على
ذلك حكمها في موضع آخر بالصحة مع سماع النهي، كالنهي عن بيع حاضر
لباد، وتلقي الركبان.

(1) في نسخة: الاحكام.
78

الباب الثالث
في العموم والخصوص
وفيه فصول:
79

[الفصل] الأول
في مباحث الألفاظ العامة
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: العام (1) [و] هو المستغرق لجميع ما يصلح له إذا أفاد
في الكل فائدة واحدة. وزاد قاضي القضاة: في أصل اللغة من غير زيادة. و
احترز به (من) (2) التثنية والجمع المنكر.
ووصف ما ليس بلفظ - بالعموم - مجاز، لعدم الاطراد، لأنه (لا يقال): (3)
(عمهم) (4) الاكل كما يقال: عمهم المطر. وأيضا: فان العموم يقتضي كون
المعنى حاصلا بجملته لكل واحد، وذلك غير حاصل في قولهم: عمهم المطر
وقال قوم: هو مشترك بين المعاني والألفاظ، وذلك غير بعيد.
المسألة الثانية: في اللغة ألفاظ موضوعة للعموم، وهو اختيار الشيخ
رحمه الله. وقال المرتضى: هي مشتركة كلها بين العموم والخصوص، نظرا

(1) في بعض النسخ: في الكلام العام
(2) في نسخة: عن
(3) في نسخة: لا قايل
(4) في نسخة: عموم
81

إلى الوضع لا إلى الشرع. وقال قوم: هي حقيقة في الخصوص، مجاز في
العموم. وتوقف آخرون.
لنا: (لو كانت) (1) " كل " و " جميع " - مثلا للعموم والخصوص - على
الاشتراك - لكان القائل: رأيت الناس كلهم أجمعين، مؤكدا للاشتباه، وذلك
باطل. بيان الملازمة: أن لفظة " كل " و " أجمعين " - عند الخصم - مشتركة
على سبيل الحقيقة، واللفظ الدال على شئ يتأكد بتكريره، فيلزم أن يكون
الالتباس (مؤكدا) (2) عند تكريره. وأما بطلان اللازم: فلانا نعلم ضرورة من
(تعاضد) (3) أهل اللغة إزالة الاشتباه بتكرير هذه الألفاظ.
الوجه الثاني: لاشك أن قول القائل: ضربت كل الناس، يناقضه: لم
أضرب كل الناس، فلو لم يكن الأول مستغرقا للكل، لم يكن (للثاني) (4)
نقيضا.
الوجه الثالث: ان ألفاظ العموم يصح الاستثناء فيها، والاستثناء دلالة
التناول لوجهين: أحدهما: النقل. والثاني أنه مشتق من (الثني) وهو: المنع
والصرف. وإذا كان للاخراج، فلو لم يتناول اللفظ [الأول] ذلك المخرج،
لما كان اخراجا.
احتج الآخرون بوجوه:
أحدها: لو كانت للاستغراق، لعلم ذلك اما بالبديهة، أو بالمشافهة، أو

(1) في نسخة: لو كان
(2) في بعض النسخ: متأكدا
(3) في نسخة: مقاصد
(4) في نسخة: الثاني
82

بالتواتر، أو بالآحاد، والثلاثة الأول باطلة، لأنها لو كانت (حقا) (1) لاستوينا فيها
والآحاد ليست طرقا إلى العلم.
الوجه الثاني: ألفاظ العموم مستعملة في العموم والخصوص، فتجعل
حقيقة فيهما.
الوجه الثالث: لو كانت للاستغراق، لسبق إلى الفهم عند سماع لفظه.
وجواب الأول: انه معلوم بطرق مركبة من العقل والنقل المتواتر، وهو
[ما] بيناه من الوجوه. ثم نقول: ان زعمتم أنه للخصوص فالحجة مقلوبة
عليكم. [وان قلتم بالاشتراك، فالحجة عليكم] لا لكم.
وجواب الثاني: لا نسلم أن الاستعمال دلالة على الحقيقة، والا لكان
استعمال البحر في الكريم كذلك. سلمنا [ه]، لكن: ان زعمتم أنها تستعمل
في الخصوص حقيقة، فهو موضع الخلاف. وان قلتم: تستعمل فيه بغير قرينة،
[فيكون حقيقة. قلنا: هذا باطل، لان المشترك لا يستعمل في أحد معنييه الا
بقرينة].
وجواب الثالث: منع وجوب سبق الذهن إلى فائدة اللفظ، (فإنه) (2)
ليس كل معلوم يعلم بأول وهلة. سلمنا، (لكن منعنا من) (3) الألفاظ ما هو كذلك
كلفظة (كل) وجميع.
فوائد ثلاث:
الأولى: (من) و (ما) إذا كانتا معرفتين بمعنى (الذي)، لا تعمان، وان

(1) في نسخة: حقة
(2) في نسخة: وانه
(3) في نسخة: لكن معناه من، وفى أخرى: منعنا عن
83

وقعتا للمجازاة أو الاستفهام، عمتا، (إذ لو كانتا) (1) مشتركتين، لوجب أن
يتوقف سامع: " من دخل داري أكرمته " على استفهام مستحق الاكرام، وعدم
التوقف دلالة على الاستغراق. وأيضا: فإنه يجوز الاستثناء منهما، وجواز
الاستثناء دلالة على التناول، وتقريره ما مر.
وكذلك، " متى ": تفيد الاستغراق في الأزمنة. و " أين ": في الأمكنة، و
تقريره ما ذكرناه.
الثانية: " كل " و " جميع " تفيدان الاستغراق، للتأكيد كانتا أو لغيره، و
تقريره ما مر. ونزيد هنا: ان الجزء نقيض الكل، فلو لم يكن الكل مستغرقا
لما كان الجزء نقيضه.
الثالثة: النكرة (في سياق النفي) (2) تعم (جمعا) (3) وفي الاثبات بدلا،
لوجهين: أحدهما: ان قولك: أكلت شيئا، يناقضه: ما أكلت شيئا، فلو لم تكن
الثانية عامة، لم تحصل المناقضة.
الثاني: لو لم تكن للعموم، لما كان قولنا: " لا إله إلا الله " توحيدا.
المسألة الثالثة: الجمع المعرف باللام - مشتقا كان أو غير مشتق - ان كان معهودا انصرف إليه، والا فهو للاستغراق، خلافا لأبي هاشم.
لنا: أنه يؤكد بما يقتضي العموم في قولك: قام القوم كلهم، ورأيت
المشركين كلهم، فلو لم يكن الأول للاستغراق، لما كان الثاني تأكيدا.
الثاني: ان قوله: رأيت رجالا، يفيد الجمع، فإذا دخلت اللام، فان

(1) في نسخة: إذا كانتا
(2) في نسخة: في سياق النفي منفية
(3) في نسخة: جميعا
84

(أفادت) (1) الجمع أيضا لم يكن ثمة فائدة، فلابد من إفادة الاستغراق، والا
لتجردت اللام عن تجديد فائدة.
حجة المخالف وجهان:
أحدهما ان قولهم: [جمع] الأمير الصاغة، لا يعقل أنه جمع كل صائغ.
الثاني: لو كان اللام - في صورة النزاع - للاستغراق، لكان في العهد
مجازا.
وجواب الأول: (ان ذلك) (2) علم بقرينة تعذر جمع صاغة الدنيا، و
يلزمهم تجويز: " جميع صاغة الدنيا " لأنهم [لا] يدفعون [عنه] الجواز (3).
وجواب الثاني: أن اللام تقتضي التعريف، وهو القدر المشترك بين
العهد والاستغراق، فان كان (ثمة) (4) عهد انصرف إليه، والا انصرف إلى
الاستغراق، لان المخاطبين به أعرف بما ليس بمعهود.
فائدة:
الجمع المضاف، كقولك: عبيدي، وعبيد زيد، للاستغراق، والحجة
عليه: جواز الاستثناء، وتقريره ما مر.

(1) في نسخة: أفاد
(2) في نسخة: انه علم
(3) من قوله: جميع - إلى آخر هذا السطر، كان مشوشا في النسخ، وصححناه
باعتبار المعنى، ففي نسخة مكتبة الفيضية: جميع صاغة الدنيا لأنهم لا يدفعون غير
الجواز، وفى سائر النسخ: جمع، ويرفعون الجواز
(4) في نسخة: ثم
85

الفصل الثاني
فيما الحق بالعموم وفيه مسائل:
[المسألة] الأولى: الاسم المفرد (إذا دخل) (1) عليه لام التعريف، أفاد
الجنس لا الاستغراق، مشتقا كان أو غير مشتق، وقال الشيخ ره: يعم.
لنا وجهان:
الأول: لو دل على الاستغراق، لأكد بمؤكدات الاستغراق، نحو (كل) و
(جميع)، وذلك باطل، لأنك لا تقول: رأيت الانسان كلهم، ولا: جاءني الكريم
أجمعون.
الثاني: لو استغرق، لصح الاستثناء منه مطردا، (والا) (2) فلا، أما الملازمة
فظاهرة، واما بطلان اللازم: فلأنك لا تقول: جاءني الرجل الا الطوال، ولا:
رأيت العالم الا النحاة.
احتج الخصم بوجهين:
أحدهما: انه يجوز وصفه بالجمع، كما يقال: أهلك الناس الدرهم
البيض، والدينار الصفر.
الثاني: يصح الاستثناء منه، كقوله [تعالى]: " ان الانسان لفي خسر الا
الذين آمنوا " (3).
والجواب عنهما: أن ذلك مجاز، لعدم الاطراد، فإنك لا تقول: جاءني

(1) في نسخة: لو أدخل
(2) في نسخة: ولا
(3) العصر / 2
86

الرجل القضاة، ولا: العالم الا الفقهاء، ولو قيل: إذا لم يكن (ثمة) (1) [له]
معهود وصدر من حكيم، فان قرينة حاله تدل على الاستغراق، لم ينكر ذلك.
المسألة الثانية: الجمع المنكر لا يدل على الاستغراق، وحمله الشيخ ره
على الاستغراق من جهة الحكمة، وهو اختيار الجبائي.
لنا: انه وضع للدلالة على الجمع، لأنه يفسر بالقلة والكثرة، فيجب ان لا يحمل على أحدهما الا لدلالة، [ظاهرة] [لكن أقل الجمع من ضروريات
محتملاته، فيجب أن يقتصر عليه، الا لدلالة زائدة].
احتج الجبائي: بأن حمل اللفظ على الاستغراق، حمل له على جميع
حقائقه، فكان أولى.
واحتج الشيخ ره: بأن هذه اللفظة إذا دلت على القلة والكثرة، وصدرت
من حكيم، فلو أراد القلة لبينها، وحيث لا قرينة، وجب حمله على الكل.
وجواب الأول: لا نسلم أن اللفظ موضوع لهما (2) حقيقة، بل موضوع
لمطلق الجمع، لا للقلة من حيث هي قلة، ولا للكثرة من حيث هي كذلك،
والدال على الكلي غير دال على الجزئي، سلمنا أنه حقيقة فيهما، لكن يجب
التوقف الا لقرينة، والقرينة موجودة مع أقل الجمع، لأنه مراد قطعا، ثم
نقول: (لم) (3) زعمتم انه يجب حمله على جميع حقائقه؟ لابد لهذا من
دليل.
وجواب الثاني: لا نسلم تجرده من القرينة، وقد بينا وجود ها، سلمنا انه
لا قرينة، ولكن لو أراد الكل لبينه أيضا.

(1) وفى نسخة: ثم
(2) في نسخة: لها
(3) في نسخة: ان
87

فائدتان
الأولى: الجمع في الاشتقاق: ضم الشئ إلى الشئ، فمعناه موجود في
الاثنين فصاعدا، وفي العرف: يفيد الفاظا مخصوصة، ولفظ الجمع كقولنا:
رجال، يفيد الثلاثة فما زاد، وقيل: يقع على الاثنين أيضا.
لنا: فرق أهل اللغة بين ألفاظ التثنية والجمع.
الثاني: [ان] ألفاظ الجمع توصف بالثلاثة فما زاد، فيقال: رجال ثلاثة،
ولا يقال: رجال اثنان.
الفائدة الثانية: ضمير الجماعة يبنى على ما يعود إليه، فان كان مستغرقا
كان كذلك والا فهو خاص.
المسألة الثالثة: نفي المساواة [بين الشيئين، لا يقتضى عموم نفي المساواة]
خلافا لبعض الشافعية.
لنا: ان المساواة (تفيد) (1) الاستواء في جميع الصفات، فنفي المساواة
نفي لذلك المجموع، ونفي المجموع من حيث هو كذلك يحصل بنفي بعضه
فلا يلزم نفي المساواة من كل وجه.
المسألة الرابعة: إذا اجتمع المذكر والمؤنث في لفظ غلب التذكير
فان ورد مجردا عن القرينة الدالة على المراد به، هل يحمل على الذكرين
منفردين؟ قال قوم: نعم. وحمله الشيخ ره عليهما.
حجة الأولين: ان (قاموا) مثلا يفيد تضعيف فائدة (قام)، وهو للمذكر
خاصة، فكذلك تضعيفه.
حجة الشيخ ره: نص أهل اللغة: أن مع اجتماعهما يغلب لفظ التذكير.

(1) في بعض النسخ: تقتضي
88

الفصل الثالث
في المباحث المتعلقة بالخصوص، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: وصف الكلام بأنه خصوص وخاص، يفيد أنه وضع
لشئ واحد. ووصف الكلام بأنه مخصوص: هو انه قصر على بعض فائدته.
وقولهم: خص فلان العموم، يستعمل بالحقيقة على أنه جعله خاصا، ولا
يجعله كذلك الا إذا استعمله في بعض فائدته، والتخصيص: ما دل على أن
المراد باللفظ بعض ما تناوله.
فائدة
الفرق بين النسخ والتخصيص من وجوه:
الأول: ان التخصيص لا يصح الا في الألفاظ، والنسخ: قد يكون لما علم
بدليل شرعي لفظا كان أو غيره.
الثاني: التخصيص يؤذن بأن المخصوص غير مراد من اللفظ عند
الخطاب، والنسخ يؤذن ان المنسوخ مراد عند الخطاب.
الثالث: ان النسخ يدخل على (عين) (1) واحدة، والتخصيص بخلاف
ذلك.
الرابع: التخصيص قد يكون بدلالة العقل والاستثناء وأخبار الآحاد،
والنسخ لا يقع بذلك.
الخامس: التخصيص مقارن، والنسخ متراخ.

(1) في نسخة: غير
89

المسألة الثانية: يجوز أن يستعمل الله تعالى العام في الخصوص، أما
الامكان: فلا أن أهل اللغة تجوزوا بمثل ذلك في كلامهم، وقد بينا أن المجاز
جائز الحصول في خطابه تعالى. وأما الوقوع فظاهر في القرآن والأحاديث
لا يقال: الحكمة تمنع من ذلك، لأنه يوهم الكذب. لأنا نقول: متى؟ إذا تجرد
عن القرينة أم لا (1)، ونحن لا نجيزه الا مع القرينة.
المسألة الثالثة: يجوز تخصيص ألفاظ العموم حتى يبقى واحد، وهو
اختيار الشيخ ره ومذهب القفال، وقيل: حتى يبقى ثلاثة، ومنهم من فصل
بين لفظ الجمع وغيره من الألفاظ، وقال أبو الحسين: حتى يبقى كثرة، الا
على سبيل التعظيم، وهو الأظهر، لأنا نعلم قبح قول القائل: [أكلت] كل ما
(في البستان) (2) من الرمان - وفيها ألف وقد أكل واحدة، وكذلك يقبح:
أخذت كل ما في الصندوق من الذهب - وفيه ألف - وقد أخذ دينارا.
المسألة الرابعة: يجوز تخصيص العام بالشرط، والغاية، والصفة، و
الاستثناء، ودلالة العقل، والكتاب، والاجماع، والسنة متواترة كانت أو
آحادا.
فالشرط هو: ما يقف عليه الحكم، وهو ضربان: مؤكد، كقوله: قم ان
استطعت، ومبين، كقوله: أكرمه ان فعل. وله صدر الكلام تقدم أو تأخر. ولا
يدخل [الا] على المتوقع لفظا أو تقديرا، ولا يدخل على الماضي والحاضر، و
لا يمتنع كون الشئ شرطا لأشياء كثيرة، [كما يكون للشئ الواحد شروط
كثيرة].

(1) ورد في نسخة إضافة كلمة (ممنوع) وفى أخرى وردت مكانها كلمة (عن)
وفى ثالثة هكذا (م ع)، وما أثبتاه في المتن مطابق لنسخة المكتبة الفيضية
(2) في بعض النسخ: بالسلة
90

والغاية: كقوله: " ولا تقربوهن حتى يطهرن " (1) وقد اختلف فيما بعد
الغاية، والأظهر انتفاء الحكم السابق معها.
والصفة: تخص العام، وتقيد المطلق، أما العام فكقولك، أكرم الرجال
الطوال.
ولنضع للمطلق مسألة على حيالها:
المسألة الخامسة: في المطلق والمقيد. والمطلق: هو الدال [على الماهية
والمقيد: هو الدال] عليها مع صفة. مثال الأول: قوله تعالى: " فتحرير رقبة "
[ومثال الثاني قوله: " فتحرير رقبة] مؤمنة " (2) فإذا وردا، فاما أن يكون بينهما
تعلق، ويجب تنزيل المطلق على المقيد. واما أن لا يكون بينهما تعلق: فان
كان (حكماهما) (3) مختلفين، كان المطلق على اطلاقه، كأن يأمر بالصلاة،
ثم يأمر بالصيام (متتابعا) (4) وان كان حكمهما متفقا، وكان سببهما واحدا، و
علم [أن] المراد بأحدهما هو الاخر، كان المطلق مقيدا بتلك الصفة، لان
المأمور به واحد، والتقييد يقتضي اشتراطه، فلو لم يقيد المطلق به لكان غيره
وان لم يعلم أن المراد بأحدهما هو الاخر، كان المطلق على اطلاقه، والمقيد
على تقييده، وتغايرا. وان كان سببهما مختلفا، بقى المطلق على اطلاقه، ولا
يجب تقييده بالصفة الا لدلالة. خلافا لبعض الشافعية.
لنا: ان الامر على الاطلاق لسبب معين، لا ينافي التقييد لسبب آخر، وإذا
لم يتنافيا لم يجب تنزيل أحدهما على الاخر، ولا تقييده به.

(1) البقرة / 222
(2) المجادلة / 3، والنساء / 92
(3) في نسخة: حكمهما
(4) في نسخة: فتتابعا
91

احتجوا: بأن القرآن كالكلمة الواحدة.
وجوابه: أن أردتم في عدم التناقض فمسلم. وان أردتم في وجوب
تنزيل المطلق على المقيد فممنوع.
الفصل [الرابع]
في مباحث الاستثناء، [وفيه مسائل]:
[المسألة] الأولى: الاستثناء (يخرج من) (1) الكلام ما لولاه لوجب دخوله
تحته، ولا تكفي الصلاحية، وهو اختيار أبى جعفر ره، لوجهين:
أحدهما: لو كفت الصلاحية لصح: (رأيت رجلا الا زيدا [أ] و:
رأيت رجالا الا زيدا) لان الصلاحية موجودة.
[و] الثاني: يصح الاستثناء من الاعداد، ولولاه لوجب دخوله، فيجب
في الكل، صونا للفظ الاستثناء عن الاشتراك.
والوجهان ضعيفان:
اما الأول: (فحيث انه لازم له) أيضا، (2) لأنه يقول النكرة يجب أن تعم
بدلا، ولو كفى الوجوب، لجاز الاستثناء حيث ذكر. فان أجاب: بأن الوجوب
مشروط بالشمول، كان لخصمه [منع] ذلك.
وأما الثاني: فنقول: لا نسلم صحة الاستثناء في الاعداد لخصوص
الوجوب، بل لعموم الصلاحية.
واستدل بعض الأصولية لذلك بأنه: لو كفت الصلاحية لتساوي قولنا:

(1) في بعض النسخ: مخرج عن، وفى نسخة: من
(2) في بعض النسخ: فحسنه لازم
92

اضرب (رجلا) (1) الا زيدا [أ] و: الرجال الا زيدا، وعدم التساوي دليل
على أن الاستثناء لا يكون حقيقة الا في (موضع) (2) الوجوب.
المسألة الثانية: شرط كون الاستثناء مخصصا، كونه متصلا أو متراخيا
بما جرت العادة بأن المتكلم (لم يستوف) (3) غرضه. ولا يجوز تراخيه عن
ذلك، خلافا لما حكي عن ابن عباس. ولا نزاع في الجواز عقلا، بل وضعا،
فان أهل اللغة يستقبحون قول القائل: اضرب الرجال، ثم يقول بعد سنة: الا
زيدا بمعنى: أنهم لا يعدون ذلك استثناءا، فمستعمله اذن خارج عن عرف
أهل اللغة. وجاء في شواذ أخبارنا جواز استثناء المشيئة في اليمين إلى أربعين
يوما، وليس بمعتمد.
المسألة الثالثة: الاستثناء من غير الجنس مجاز، لان الاستثناء (اخراج) (4)
ما لولاه لتناوله اللفظ، وليس كذلك صورة النزاع.
وهو واقع وضعا كقوله:
... وما بالربع من أحد الا أواري
وشرعا كقوله تعالى: " فسجد الملائكة كلهم أجمعون الا إبليس " (5).
فائدة
اختلفوا في جواز استثناء أكثر الشئ، فمنعه قوم، والأكثرون على
جوازه.

(1) في بعض النسخ: رجالا
(2) في نسخة: موضوع
(3) في نسخة: لا يوف
(4) في بعض النسخ: لاخراج
(5) الحجر / 30
93

والظاهر: أن الكثرة قد تنتهي إلى حد [يقبح استثناؤها، فإنه] يقبح عادة
أن يقال له: عندي مئة الا تسعة وتسعين درهما ونصفا، وهذا ظاهر.
المسألة الرابعة: الاستثناء إذا تعقب جملا معطوفة، ولم يكن الثاني اضرابا،
قال الشيخ أبو جعفر ره يرجع إلى جميعها. وقال السيد المرتضى: يرجع
إلى الأخير قطعا، وتوقف في رجوعه إلى الأول الا لدلالة.
احتج الشيخ ره بوجهين:
الأول: إذا تعقب الشرط جملا، (يرجع) (1) إلى الكل، فكذلك الاستثناء
والجامع كون كل واحد منهما لا يستقل بنفسه.
الثاني: ان حرف العطف يصير الجمل المعطوفة في حكم الجملة الواحدة
إذ لا فرق بين قولك: رأيت زيد بن عمرو، وزيد بن خالد، وبين قولك: رأيت
الزيدين، فيجب رجوع الاستثناء إليهما.
احتج المرتضى ره بوجهين:
أحدهما: حسن استفهام المستثني عقيبهما عن كل واحد منهما والاستفهام
دلالة الاشتراك:
الثاني: وجدنا الاستثناء تارة يعود (إليهما)، (2) وتارة إلى الأخيرة،
فيجعل (مشتركة) (3) (لان) (4) الأصل في الاستعمال الحقيقة.
المسألة الخامسة: إذا تعقب الاستثناء استثناءا آخر: فان كان معطوفا كانا
عائدين إلى الأول. وان لم يكن معطوفا: فان كان الاستثناء الثاني مثل الاستثناء

(1) في نسخة: رجع
(2) في نسخة: إليها
(3) في نسخة: مشترك
(4) في نسخة: الا أن
94

الأول فصاعدا، رجع إلى المستثنى منه أيضا. وان كان دونه، رجع إلى
الاستثناء، وقيل: يرجع إلى المستثنى منه، والأول أظهر.
الفصل الخامس
في بقية المخصصات، (وفيه مسائل):
المسألة الأولى: العام يخص بالدليل العقلي، لأنا نخرج الصبي والمجنون
من قوله تعالى: " يا أيها الناس اعبدوا ربكم " (1) هذا في حال كونهما كذلك
وان كانا عند البلوغ [والعقل] مخاطبين بالعبادة بتلك العبارة.
احتج المانع: بان المخصص مقارن، ودليل العقل متقدم.
وجوابه: لا نسلم اشتراط المقارنة في كل مخصص.
المسألة الثانية: تخصيص الكتاب بالكتاب جائز، كقوله تعالى: " فإذا لقيتم
الذين كفروا فضرب الرقاب " (2) ثم قال في موضع آخر: " حتى يعطوا
الجزية عن يد " (3).
وكذلك تخصيص الكتاب بالسنة قولا، كتخصيص آية المواريث (4)
بقوله عليه السلام: " القاتل لا يرث "، وفعلا، كتخصيص آية الجلد (5) برجمه عليه السلام
ماعزا.

(1) البقرة / 21
(2) محمد / 4
(3) التوبة / 29
(4) وهي قوله تعالى: " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين، إلى
قوله تعالى وصية من الله والله عليم حليم " النساء / 11، 12
(5) وهي قوله تعالى: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة "
الخ الآية. النور / 2
95

وبالاجماع، كالتسوية بين العبد والأمة في تنصيف الحد، تخصيصا لآية
الجلد.
وأما تخصيص السنة بالسنة، فقد أنكره قوم والأصح جوازه.
المسألة الثالثة: يجوز تخصيص العموم المقطوع به بخبر الواحد وأنكر
ذلك الشيخ أبو جعفر ره سواءا كان العموم مخصوصا أو لم يكن، وهو اختيار
جماعة من المتكلمين. ومن الأصولية من فصل.
احتج المجيز: بأنهما دليلان تعارضا، فيجب العمل بالخاص منهما،
لبطلان ما عداه من الأقسام.
احتج المانع: بأن العموم المقطوع يوجب العلم، والخبر يوجب الظن،
ولا يجوز ترك المعلوم للمظنون.
أجاب الأولون: بأن ما ذكرته منقوض بالبراءة الأصلية، فإنها تترك بالخبر
وأيضا: فان تناول العموم لموارده مظنون، وان كان مقطوع النقل، والخبر وان
كان مظنون النقل فتناوله (لما يتناوله) (1) والعمل به مقطوع، فتساويا في القطع
والظن. والأولى التوقف.
ونجيب عن الأول: بأنا لا نسلم أن خبر الواحد دليل على الاطلاق، لان
الدلالة على العمل به الاجماع على استعماله فيما لا يوجد عليه دلالة، فإذا
وجدت الدلالة القرآنية سقط وجوب العمل به، وما يدعونه من الاخبار التي
حكم بتخصيص العموم بها، عنه جوابان، عام، وخاص:
فالعام أن نقول: أحصل الاجماع على التخصيص؟ فان قالوا: لا، سقط
الاستدلال، وان قالوا: نعم، قلنا: لا نسلم أنه حصل التخصيص بها، بل بالاجماع
فان قالوا: لا بد للاجماع من مستند، قلنا: نعم، لكن لا نسلم أن المستند هو

(1) في نسخة: لما تناوله
96

ما ذكرتم.
الثاني: (انا) (1) نعارضهم بأخبار مثلها، فإذا استدلوا بخبر أبي هريرة في
تحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، ورجوع الصحابة إلى ذلك، عارضنا [هم]
بخبر فاطمة بنت قيس المتضمن لسقوط نفقة المبتوتة وسكناها، فان عمر طرحه
وعمل بالآية.
الفصل السادس
في العام المخصوص، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: العام إذا خص صار مجازا، سواء خص بدليل متصل أو
منفصل، وهو اختيار أبي جعفر ره، وجعله قوم حقيقة على الاطلاق. ومنهم
من فصل.
لنا: ان العموم حقيقة في الاستغراق، فإذا أريد به الخصوص كان مجازا
لأنه استعمال له في غير موضوعه لا يقال: العام مع القرينة حقيقة في الخصوص
لأنا نقول: ذلك يسد باب المجاز، فان المجاز لا ينفك عند استعماله (عن) (2)
القرينة.
المسألة الثانية: يجوز التمسك بالعام المخصوص - إذا لم يكن التخصيص
مجملا - مطلقا. ومنهم من فصل.
لنا: ان اللفظ متناول لما عدا المخصوص، فيجب استعماله فيه. وانما قلنا
أنه متناول له لأنا بينا أن ألفاظ العموم حقيقة في استغراق الكل، ولا معنى للكل
سوى مجموع الآحاد، والتخصيص لا يمنع التناول، والا لدار.

(1) في نسخة: أن
(2) في بعض النسخ: من
97

احتج ابن أبان بوجهين:
أحدهما: ان العام لما عرض له التخصيص، صار مجازا، فلم يجز التعلق به.
[و] الثاني: ان اخراج البعض المعين، يجرى مجرى قوله: لم أرد الكل
ولو قال ذلك، لمنع من التعلق بظاهره، فكذلك ما جرى مجراه.
وجواب الأول: سلمنا أنه مجاز بالنظر إلى تناول الكل، لكن لا نسلم أنه
مجاز في تناول الباقي، فانا [قد] بينا انه متناول له في أصل الوضع، سمي
مجازا أو لم يسم.
وجواب الثاني: انه قياس من غير جامع، والفرق بينهما: عدم امكان
الوصول إلى المراد في الأولى، وامكان الوصول إليه في الثانية.
المسألة الثالثة: إذا ورد عام وخاص متنافيي الظاهر - كقوله عليه السلام: " في
الرقة (1) ربع العشر " وقوله: " ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة " -
فاما أن يعلم تاريخهما أو يجهل فان علم: فأما أن يعلم اقترانهما، أو تقدم العام،
أو تأخره، (فههنا) (2) أربعة مباحث:
الأول: إذا علم اقترانهما، بني العام على الخاص بلا خلاف.
الثاني: إذا تقدم العام وتأخر الخاص: فان كان ورد بعد حضور وقت
العمل بالعام، فإنه يكون نسخا، وان كان قبله، كان تخصيصا للعام عند من
يجيز تأخير بيان العام.
الثالث: إذا كان الخاص متقدما، والعام متأخرا، فعند الشيخ أبي جعفر
ره يكون العام ناسخا، لأنه لا يجيز تأخير البيان. وقال الأكثرون: ان العام
يبنى على الخاص، وهو الأظهر.
لنا: دليلان تعارضا، فلو عمل بهما لتناقضا، ولو عمل بالعام لألغي الخاص
فيجب العمل بالخاص صونا لهما عن الالغاء.

(1) في نسخة: فهنا (2) في نسخة: الورق
98

الرابع: إذا جهل التأريخ (فيهما) (1) فالذي يجئ على ما اخترناه ان
يبنى العام على الخاص، وتوقف بعض الحنفية.
لنا: اما أن يكون مقارنا، أو متقدما، أو متأخرا، وعلى التقديرات الثلاثة،
وجب بناء العام عليه على ما قلناه، فكذلك في صورة الجهالة، لأنه لا يعدو
أحد الأقسام.
الفصل السابع
فيما ألحق بالمخصصات، [وفيه مسائل]:
المسألة الأولى: الخطاب العام الوارد على السبب الخاص: اما أن يكون
مستقلا بنفسه، واما أن لا يستقل، فان لم يستقل، كان مقصورا على سببه، كقول
النبي صلى الله عليه وآله - وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر - " أينقص إذا يبس، فقيل: نعم
فقال: لا اذن "، وان كان مستقلا: فان كان عاما في غير ما سئل، فلا شك في
عمومه، كقوله عليه السلام - وقد سئل عن ماء البحر - فقال: " هو الطهور ماؤه،
الحل ميتته ". وان كان أعم منه في ذلك الحكم، لم يقصر العام على السبب
الخاص، وهو اختيار أبي جعفر ره، وصار جماعة إلى قصره عليه.
لنا: ان المقتضى للعموم موجود، والعارض لا يصلح معارضا، أما وجود
المقتضي فما بيناه من كون الصيغة حقيقة في العموم، وأما فقدان العارض فلان
المانع هو ما يذكره المخالف، وسنبطله انشاء الله تعالى.
احتجوا: بأن الخطاب لو كان عاما لكان ابتداءا وجوابا، وذلك (يتنافى) (2)

(1) في بعض النسخ: بينهما
(2) في نسخة: متناف، وفى أخرى: لتنافي ما بين الخ،
99

لما بين الجواب والابتداء من التفاوت، وأيضا: فان من حق الجواب مطابقة
السؤال، وذلك انما يكون بالمساواة
وجواب الأول: لا نسلم التنافي بين الجواب والابتداء، كما لو صرح
بذلك.
وعن الثاني: لا نسلم انحصار المطابقة في المساواة، بل بمعنى انتظام
الجواب (مع) (1) السؤال، وهو موجود.
المسألة الثانية: إذا تعقب العام صفة أو استثناء أو حكم، وكان ذلك لا
يتأتى في جميع ما يتناوله العموم بل في بعضه، قال قوم يقصر العموم عليه، و
أنكره القاضي، وهو مذهب الشيخ أبي جعفر ره، والأولى التوقف، لان
صيغة العموم للاستغراق، وظاهر الكناية الرجوع إلى ما ذكر، فيجب التعارض
لعدم الترجيح.
لا يقال: التمسك بالعموم أولى، لأنه ظاهر.
لأنا نمنع الأولوية، ولعل الكناية أولى.
المسألة الثالثة: إذا عطف على العام، وكان في المعطوف اضمار مخصوص
قال القاضي لا يجب اضمار مثله في المعطوف عليه، كقوله عليه السلام: " لا يقتل
مؤمن بكافر، ولا ذو عهد (في عهده) " (2) (وفي) (3) الثاني اضمار مخصوص وهو
(بكافر حربي)، لان ذا العهد يقتل بالذمي بلا خلاف.
والأولى التوقف، لان العطف يقتضي الاشتراك، خصوصا في عطف
المفرد، وصيغة العموم تقتضي الاستغراق، وليس أحدهما أولى من الاخر.

(1) في بعض النسخ: لجميع.
(2) في بعض النسخ: بعهده.
(3) في نسخة: ففي.
100

المسألة الرابعة: لا يجوز تخصيص العموم بمذهب الراوي، لان المقتضي
للعموم موجود، وهو الصيغة الموضوعة للاستغراق، وعدول الراوي يجوز
أن يكون عن امارة أو نظر فاسد.
لا يقال: لو لم يعلم (من شاهد حال) (1) النبي صلى الله عليه وآله التخصيص، لبين
وجه العدول.
لأنا نقول: لا نسلم وجوب اظهار الوجه الا عند المطالبة، فلعلها لم
تحصل. سلمنا حصولها، لكن لم تنقل، لان نقلها ليس واجبا على السامع.
المسألة الخامسة: ذكر بعض ما (يتناوله) (2) العام لا يخص العموم، خلافا
لأبي ثور، لان التخصيص مشروط بالتنافي، ولا تنافي، وكذلك قصد المتكلم
بخطابه إلى المدح والذم لا يمنع [من] كونه عاما خلافا لبعض الشافعية، لان
قصد المتكلم ذلك لا ينافي صيغة العموم - لا وضعا ولا عادة - لصحة الجمع
بينهما.

(1) في نسخة: شاهد من حال.
(2) في نسخة: تناوله.
101

الباب الرابع
في المجمل والمبين
وفيه فصول:
103

الفصل الأول
في تفسير ألفاظ يحتاج إليها في هذا الباب
المجمل: قد يراد به ما أفاد جملة من الأشياء، من قولهم (1): أجملت
الحساب [و] في الاصطلاح: هو ما أفاد شيئا من جملة أشياء، هو معين في
نفسه، واللفظ لا يعينه.
والبيان في العرف: هو كلام أو فعل دال على المراد بخطاب لا يستقل
بنفسه في معرفة المراد.
والمبين: قد يطلق على ما يحتاج إلى بيان، وقد ورد عليه بيانه وقد
يطلق على الخطاب المبتدأ المستغني عن بيان.
والمفسر: له المعنيان أيضا.
والنص: هو الكلام الذي يظهر إفادته لمعناه، ولا يتناول أكثر (مما) (2)
هو مقول فيه.

(1) في نسخة: كقولهم.
(2) في نسخة: ما.
105

الفصل الثاني
فيما يحتاج إلى بيان
والضابط فيه: أن كل مالا يستقل بنفسه في معرفة المراد به (فهو) (1)
مجمل.
وتقسيم ذلك أن نقول: الأدلة الشرعية: اما أقوال أو أفعال.
فالأقوال على ضربين: ما يستقل بنفسه في معرفة المراد [به] وهو [ما]
يدل: اما بصريحه، كقوله تعالى: " ولا يظلم ربك أحدا " (2) وقوله: " والله بكل
شئ عليم " (3) أو بفحواه، كقوله: " فلا تقل لهما أف " (4) وهذا حقيقة عرفية
في نفي الأذية مطلقا. وقيل: يعلم ذلك بالقياس " وهو باطل، لأنه يعلمه من
لا يستحضر القياس ومن لا يعتقد صحته أيضا.
ومنه مالا يستقل بنفسه، وهو نوعان: أحدهما: يحتاج إلى بيان ما لم يرد
منه، كقوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " (5) وهذا يصح
التعلق به، ومنهم من أدخله في حيز المجمل، والأظهر ما ذكرناه [والنوع]
الثاني: ما يفتقر إلى بيان ما أريد به، وهو على أقسام:
الأول: ما وضع في اللغة لمعنى واحد، (موجود) (6) في أشخاص متعدده
فإنه بالنظر إليها أو إلى بعضها المعين، مجمل، كقوله تعالى: " وآتوا حقه

(1) في نسخة: هو.
(2) الكهف / 49.
(3) النساء / 176.
(4) الاسراء / 23.
(5) المائدة / 38.
(6) في نسخة: موضوع.
106

يوم حصاده " (1).
الثاني: ما وضع لمعان [مختلفة] متعددة - وهو المشترك - فهو مجمل أيضا
على ما مر بيانه، كقوله تعالى: " ثلاثة قروء " (2)
الثالث: ما استعمل في بعض موضوعه لمخصص، [مجمل]، كقوله
تعالى: " أحلت لكم بهيمة الأنعام الا ما يتلى عليكم "
(3). الرابع: ما استعمل في غير موضوعه وهو ضربان: [أحدهما]: الأسماء
الشرعية، منقولة كانت كقوله تعالى: " أقيموا الصلاة " (4) (أو) (5) مختصة
كقوله تعالى: " ثم أتموا الصيام إلى الليل " (6) [و] الثاني: ما استعمل في مجازه،
وتساوت المجازات بالنسبة إليه، فهو مجمل فيها.
وأما الافعال: فكلها محتاجة إلى البيان، لأنها لا تنبئ عن الوجوه التي
وقعت عليها، [وقد يقترن بها ما ينبئ عن الوجوه التي وقعت عليها] كما إذا
رؤي مثلا أنه صلى صلاة جماعة بأذان وإقامة، علم أنها واجبة، لان ذلك من
دلائل الوجوب.
الفصل الثالث
فيما أدخل في المجمل، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: التحريم والتحليل المعلقان على الأعيان، ينصرف إلى

(1) الانعام / 141.
(2) البقرة / 228.
(3) المائدة / 1.
(4) البقرة / 43.
(5) في نسخة: و.
(6) البقرة / 187.
107

المنفعة المطلوبة من تلك العين عرفا، وقال أبو عبد الله: هو مجمل.
لنا أن الذهن يسبق إلى ذلك، فان القائل: [هذا الطعام حرام، يسبق
إلى الذهن تحريم أكله. و] هذه المرأة حرام يسبق إلى الذهن تحريم الاستمتاع
بها، وسبق الذهن إلى الشئ دلالة على كون اللفظ حقيقة فيه.
احتج بأن الأعيان غير مقدورة، فلا يتناولها النهي، وليس مجاز أولى
من مجاز، فوجب التوقف.
وجوابه: منع الثانية، لقيام الأولوية البادية، بقضية العرف.
المسألة الثانية: قال الشيخ أبو جعفر ره: الباء في قوله تعالى: " و
امسحوا برؤوسكم " (1) للتبعيض، لان الفعل متعد بنفسه، فلو لم تفد التبعيض
لم يكن (ثمة) (2) فائدة.
وقال القاضي تفيد الالصاق فحسب، كما تقول: امسح يدك بالمنديل، فإنه
يوجب الصاق يده بالمنديل، اما بكله، أو ببعضه.
وقال بعض العراقيين: هي مجملة، لأنها تحتمل مسح الكل والبعض،
فإذا مسح النبي صلى الله عليه وآله بناصيته، كان ذلك بيانا للمجمل.
المسألة الثالثة: حرف النفي إذا دخل على المصدر كقوله: لا صلاة الا
بطهور، قال أبو عبد الله البصري: هو مجمل.
وقال قوم: ان كان الفعل شرعيا، انتفى عند انتفاء الصفة المذكورة،
كقوله: لا صلاة الا بفاتحة الكتاب "، لان الشرع (أخبر) (3) بانتفاء ذلك، و
ان كان حقيقة انصرف إلى حكمه: فان كان له حكم واحد، انتفى ذلك الحكم

(1) المائدة / 6.
(2) في نسخة: ثم.
(3) في نسخة: أخبرنا.
108

كقوله: لا شهادة لقاذف "، وان كان له أحكام متساوية، كان مجملا.
الفصل الرابع
في البيان، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: البيان يقع بأشياء:
الأول: القول، وهو ظاهر.
الثاني: الكتابة، كما بين الله تعالى لملائكته بما كتبه في اللوح، والرسول
بما كتبه لعماله، والأئمة من بعده.
الثالث: الإشارة، كما قال: الشهر هكذا وهكذا وهكذا، بأصابعه العشر
ثم أعاد وحبس إصبعه في الثالثة، وهذا القسم لا يصح في حق الله تعالى،
(لافتقاره) (1) إلى الأعضاء، واستحالتها قي حقه تعالى.
الرابع: الفعل، وأنكر ذلك قوم، والأصح جوازه، كما بين النبي صلى الله عليه وآله
الحج والوضوء بفعله، ولا يكون [ذلك] بيانا حتى يعلم ذلك من قصده، أو
بنصه كقوله: " صلوا كما رأيتموني أصلي "، أو بالدليل العقلي، كما إذا فعل
وقت الحاجة إلى بيان الخطاب.
[الخامس] الترك، كأن يتركه صلى الله عليه وآله - بعد فعله - عمدا، [أ] ويكون
الخطاب متناولا له ولأمته، ثم يتركه، فيعلم خروجه (عن) (2) العموم.
فرعان
الأول: الفعل أكشف من القول في البيان، لان الفعل ينبئ عن صفة

(1) في نسخة: لافتقارها.
(2) في نسخة: من.
109

المبين عيانا، والقول اخبار عن تلك الصفة، وليس الخبر كالعيان.
الفرع الثاني: إذا ورد عقيب المجمل قول وفعل، يحتمل أن يكون كل
واحد منهما بيانا، فان لم يتنافيا، وعلم تقدم أحدهما، كان هو البيان، والثاني
تأكيدا، وان جهل، كانا سواء في الاحتمال وان تنافيا، وعلم تقدم أحدهما
كان هو البيان، (وان) (1) جهل، كان القول هو البيان دون الفعل، لأنه يدل
بنفسه، وليس كذلك الفعل.
المسألة الثانية: لا يجب أن يكون البيان كالمبين في القوة، خلافا للكرخي
فإنه لا يعمل بخبر الأوساق، مع قوله عليه السلام: " فيما سقت السماء العشر ".
وانما قلنا ذلك لأنه لا يمتنع تعلق المصلحة به، وهو متضمن لحكم شرعي
عملي، فجاز استفادته بالخبر المظنون، على ما سيأتي انشاء الله تعالى.
الفصل الخامس
في المبين له، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: يجوز أن يؤخر النبي صلى الله عليه وآله [تبليغ] العبادة إلى وقت
الحاجة إليها، وأو جبه قوم قبل الحاجة.
لنا: لو علم ذلك، لعلم اما سمعا أو عقلا، والقسمان (منتفيان) (2).
احتجوا: بقوله تعالى: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " (3)
والامر للفور.

(1) في نسخة: فان.
(2) في بعض النسخ: منفيان.
(3) المائدة / 67.
110

وجوابه: أن المراد بذلك القرآن، لأنه هو المستفاد عند اطلاق التنزيل
المسألة الثانية: لا خلاف بين أهل العدل أن تأخير البيان (عن) (1) وقت
الحاجة غير جائز، إذا لم يكن للمكلف طريق إلى معرفة ما كلف به الا بالبيان
والا لكان تكليفا بما لا يطاق.
واختلفوا في جواز تأخيره عن وقت الخطاب، فأجازه جماعة من الشافعية
مطلقا. وأنكره أبو علي، وأبو هاشم. وأجاز أبو الحسين تأخير مالا ظاهر له
ومنع من تأخير ماله ظاهر استعمل في خلافه كالعام (إذا أريد به) (2) الخصوص
والنكرة إذا أريد بها المعين، والأسماء الشرعية.
احتج الأولون بوجوه.
الأول: أن البيان انما يراد ليتمكن المكلف من الاتيان بما كلف [به]، فلا
حاجة إليه عند الخطاب، كما لم يجب تقديم القدرة.
الثاني: لو قبح تأخيره زمانا طويلا، لقبح تأخيره زمانا قصيرا.
الثالث: لو قبح تأخير بيان العام، لقبح [تأخير] بيان المنسوخ.
الرابع: قوله تعالى: " فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه " (3)، و
" ثم " للتراخي.
الخامس: أمره تعالى بني إسرائيل بذبح بقرة، وهو لا يريد الاطلاق، و
أخر بيان صفتها إلى ما بعد السؤال. لا يقال: البيان توجه إلى تكليف ثان،
لان ظاهر الكنايات العود إلى المذكور.
ويمكن أن يجاب عن الأول: بأنا لا نسلم انحصار فائدة الخطاب فيما ذكرتم

(1) في نسخة: عند.
(2) في نسخة: كالعام في الخصوص
(3) القيامة / 18 - 19
111

بل له فائدة أخرى، وهو ارتفاع العبث وإزالة الاغراء باعتقاد الجهل، وهذه
الفائدة لا تحصل الا مع مقارنة البيان للخطاب.
وعن الثاني: باظهار الفرق، ومنع الملازمة، فان الانسان قد يتكلم بما لا
يفهم أصلا، ثم يبينه في الحال، ولا يقبح ذلك منه، ويقبح أن يتراخى ببيانه
عن الزمان القصير، ولأن الكلام إذا اتصل به البيان صار كالجملة الواحدة.
وعن الثالث: بالتزام التسوية بين النسخ والخصوص، فإنه لا يجوز
اسماع المنسوخ الا مع الاشعار بالنسخ.
وعن الرابع: بأن ظاهر الكناية عودها إلى جميع القرآن، وكله لا يفتقر
إلى بيان.
فان قلت: يجب تنزيلها على ما يفتقر منه إلى (بيان) (1) كالمجمل و
العموم.
قلت: ليس (ما ذكرته) (2) أولى من التمسك بظاهر الكناية، ويكون البيان
اظهاره بالتنزيل، أو يكون إشارة إلى (بيان التفصيل) (3).
احتج أبو الحسين: بأنه لو تأخر بيان ماله ظاهر، لكان المخاطب: اما أن
يريد افهامنا بذلك، واما أن لا يريد (4)، ويلزم من الأول بطلان كونه خطابا. ومن
الثاني تكليف ما لا يطاق، أو الاغراء باعتقاد الجهل، لأنه ان أراد منا فهم
ظاهره، لزم الاغراء بالجهل، والا (لكان) (5) تكليفا بما لا سبيل إليه.
وهذا ينتقض بجواز تأخير النسخ، وبأنه قد يتوجه الخطاب إلى من يموت

(1) في نسخة: البيان
(2) في نسخة: ما ذكره وفى أخرى: ما ذكرتم
(3) في بعض النسخ: البيان التفصيلي
(4) في نسخة: اما أن لا يريد افهامنا بذلك واما أن يريد
(5) في نسخة: كان
112

قبل تمكنه من الاتيان بالفعل، فيعلم خروجه عن الخطاب، ولم (يبين) (1) ذلك.
واحتج أبو هاشم: بأنه لو جاز تأخير بيان المجمل، لجاز مخاطبة العربي
بالزنجية، ولا يبين له في الحال، والجامع: كون السامع لا يعرف المراد في
الحالين.
وجوابه: منع الملازمة، وابداء الفرق، وهو أن العربي لا يفهم موضوع
الزنجية، وليس كذلك في صورة النزاع، لان السامع يعلم أن المتكلم أراد
أحد محتملات اللفظ، وقد يتعلق الغرض بإبانة مثل ذلك القدر.
المسألة الثالثة: يجوز اسماع العام من لم يعرف الخاص، سواءا كان
المخصص عقليا أو شرعيا، خلاف لأبي الهذيل، وأبي علي.
لنا: حصول الاتفاق على جواز اسماع العام المخصوص بالعقل، فليجز
مثله في الخصوص بالنقل، والجامع: كون السامع في كل واحد من الامرين
يتمكن من فهم المراد.
احتج الخصم بوجهين:
أحدهما: لو جاز ذلك لزم الاغراء بالجهل، أو الخطاب بما لا يفهم.
الثاني: لو جاز ذلك لما جاز العمل بالعام الا بعد العلم بانتفاء المخصص
وذلك يسد باب الاستدلال بالعمومات.
وجواب الأول: أن الاغراء والجهل منتفيان، لان السامع يجوز التخصيص
فيسعى في طلب المخصص.
وجواب الثاني: ان غلبة الظن بانتفاء المخصص، تكفى في جواز العمل
بالعام.

(1) في نسخة: تبين
113

الباب الخامس
في الافعال
وفيه فصلان:
115

الفصل الأول
في أفعال النبي صلى الله عليه وآله، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: التأسي في الفعل (هو) (1) أن يفعل صورة ما فعل (النبي
صلى الله عليه وآله) (2) على الوجه الذي فعل، لأجل أنه فعل.
وفي الترك: هو أن يترك مثل الذي ترك، لأجل أنه ترك.
والاتباع: قد يكون في القول، وهو: امتثال مقتضاه من وجوب أو ندب
أو حظر، وقد يكون في الفعل والترك، وهو مثل التأسي.
والموافقة: هي المشاركة في صورة ما يشتركان فيه، سواءا كان في عقيدة
أو في فعل.
والمخالفة: قد تكون في القول، وهي: العدول عن مقتضاه. وفي الفعل،
وهي: العدول عن مثل فعله إذا وجب، لأنه لو لم يجب، لم يسم العادل مخالفا
كما لا يقال: الحائض مخالفة للنبي - صلى الله عليه وآله - في ترك الصلاة.
والائتمام: هو فعل مثل ما فعله [تبعا له].

(1) في نسخة: وهو
(2) في بعض النسخ: الغير
117

المسألة الثانية: أفعال النبي صلى الله عليه وآله:
ان كانت بيانا لمجمل واجب، كانت على الوجوب في حقنا، أو لمندوب
كانت كذلك في حقنا.
وان لم تكن بيانا، وكانت شرعية، ولم يعلم الوجه الذي وقعت عليه، قال
ابن سريج: تدل على الوجوب في حقنا، وقال الشافعي. تدل على الندب، و
قال مالك: على الإباحة، والأولى: التوقف.
لنا: ان النبي - صلى الله عليه وآله - فعل الواجب وغيره، ولا اشعار للفعل بوجهه الذي
وقع عليه، ومع تساوي الاحتمال يجب التوقف.
احتج القائلون بالوجوب: بالقرآن والاجماع:
أما القرآن: فبقوله تعالى: " فليحذر الذين يخالفون عن أمره " (1)، والامر
حقيقة في الفعل، وقوله تعالى: " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " (2) و
قوله: " فاتبعوه " (3).
وأما الاجماع: فلان الصحابة خلعوا نعالهم لما خلع، وحلقوا لما حلق،
وذبحوا لما ذبح، ورجعوا إلى قول عائشة في الغسل من [التقاء] الختانين.
وجواب الأول: لا نسلم ان الامر حقيقة في الفعل، سلمنا [ه] لكن المشترك
لا ينزل على كلا معنييه، بل على أحدهما، والقول مراد قطعا، فالفعل غير
مراد.

(1) النور / 63
(2) الأحزاب / 21
(3) هذه الكلمة وردت في قوله تعالى: " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه "
الانعام / 153. ولكن ما يصلح للاستدلال هنا هو قوله تعالى: " فآمنوا بالله ورسوله النبي
الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه " الأعراف / 158
118

وجواب الثاني: لا نسلم أن التأسي هو الاتيان بمثل فعل الرسول صلى الله عليه وآله،
بل الاتيان به على الوجه الذي فعل، كما بيناه، وهو الجواب عن الآية
الأخرى.
وأما الاجماع: فلا نسلم أنهم فعلوه لأجل فعله مطلقا، بل لعله كان بين
ذلك لهم.
المسألة الثالثة: إذا علم الوجه الذي وقع عليه فعله - صلى الله عليه وآله -، قال أبو
جعفر الطوسي ره: يجب اتباعه في ذلك، وهو اختيار أبي الحسين البصري، و
توقف قوم في ذلك.
احتج الأولون بوجهين:
أحدهما: قوله تعالى: " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " (1) وقوله:
" فاتبعوه ".
[و] الثاني: الاجماع في الرجوع إلى أفعاله في تعريف الأحكام الشرعية.
ويمكن أن يجاب عن الأول: (بأن) (2) الأسوة ليست من ألفاظ العموم،
فتصدق بالمرة الواحدة، وقد توافقنا على وجوب التأسي [به] في بعض
الأشياء، فلعل ذلك هو المراد، وهذا هو الجواب عن الآية الأخرى.
لا يقال: العرف يقضي بوجوب التأسي به في كل الأمور، لأنه لا يقال:
فلان أسوة لفلان، إذا كان أسوة له في أمر واحد.
لأنا نقول: هذا ممنوع، فلابد له من دليل.
وأما الاجماع: فهو (استدلال) (3) بصورة خاصة على قضية عامة، ولئن

(1) الأحزاب / 21
(2) في نسخة: أن
(3) في نسخة: الاستدلال
119

سلمنا حصوله في تلك الصورة، فتعديته قياس.
الفصل الثاني
في الوجوه التي تقع عليها أفعاله، وفي حكم التعارض، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: فعله عليه السلام قد يكون بيانا، ويعلم ذلك بوجهين:
أحدهما: أن يتقدم فعله خطاب يفتقر إلى بيان، (ويعدم) (1) ما يمكن أن
يكون بيانا له.
الثاني: أن ينص على كون فعله (بيانا لخطاب) (2).
وقد يكون فعله ابتداء شرع، فيكون واجبا أو مندوبا أو مباحا.
فالواجب يعلم بخمس طرق: بنصه على الوجوب، أو بكون فعله بيانا
لواجب، أو يفعل - عليه السلام - معه امارة تدل على الوجوب، أو يفعله بدلا (من) (3)
واجب، أو يكون الفعل قبيحا لو لم يكن واجبا كركوعين في ركعة، ذكره
أبو الحسين.
والمندوب يعلم بأربعة أشياء: بنصه - عليه السلام -، أو يعلم أن له صفة زائدة على
حسنه ولا تدل دلالة على وجوبه، أو يكون بيانا لخطاب يدل على الندبية، أو
يكون امتثالا لخطاب دال عليها.
والإباحة تعلم بأربعة أشياء: بأن يعلم ذلك من قصده اما بنص أو امارة،
أو يدل على حسنه ولا تدل دلالة على وجوبه ولا ندبه، أو يكون بيانا لخطاب

(1) في نسخة: تقدم، وفى أخرى: يقدم
(2) في نسخة: بيان الخطاب
(3) في بعض النسخ: عن
120

دال على الإباحة، (أو امتثالا لخطاب دال عليها (1).
المسألة الثانية: التعارض بين فعليه بالنظر إليهما غير ممكن، لأنهما لا يقعان
الا في زمانين، بل [قد] يقترن بالفعل ما يدل على عمومه في الأشخاص، و
شموله (للأوقات) (2) فيصح تطرق التعارض، وفي التحقيق: التعارض راجع
إلى تلك القرينة.
وأما التعارض بين قوله وفعله - عليه السلام - فممكن، فعلى هذا، إذا تعارض
قوله وفعله، ولم يعلم تقدم أحدهما على الاخر، وجب التوقف، الا لدلالة غيرهما
سواءا كان التعارض من كل وجه أو من بعض، وقال جماعة: يجب المصير
إلى القول.
واحتجوا: بأن القول يدل بنفسه، والفعل (يفتقر) (3) في الدلالة إلى القول
فكان القول أولى. وبأن الفعل يحتمل الاختصاص به عليه السلام، وليس كذلك القول.
وجواب الأول، أن الكلام ليس في الفعل المطلق، بل في الفعل الذي
قام الدليل على وجوب متابعته عليه السلام فيه، فصار كالقول، وهذا هو الجواب
عن الثاني.
فائدة
اختلف الناس في النبي - صلى الله عليه وآله - هل كان متعبدا بشرع من قبله أم لا؟ و
هذا الخلاف عديم الفائدة، لأنا لا نشك أن جميع ما أتى به لم يكن نقلا عن
الأنبياء، عليهم السلام بل عن الله تعالى بواسطة الملك، ونجمع على أنه صلى الله عليه وآله أفضل
الأنبياء، وإذا أجمعنا على ثمرة المسألة، فالدخول بعد ذلك فيها كلفة.

(1) في نسخة: أو امتثال دال عليها
(2) في نسخة: الأوقات
(3) في نسخة: مفتقر
121

الباب السادس
في الاجماع
وفيه فصول:
123

الفصل الأول
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الاجماع - وان كان في وضع اللغة مشتركا بين الاتفاق
و (الازماع) - (1) فهو في الاصطلاح: اتفاق من يعتبر قوله في الفتاوى
الشرعية على أمر من الأمور الدينية، قولا كان أو فعلا، وهو ممكن الوقوع.
وفى الناس من أحاله، كما يستحيل اجماع أهل الإقليم الواحد على
الاشتراك في ملبس واحد ومأكل واحد، وهذا باطل، لما يعلم من الاتفاق على
كثير من مسائل الفقه ضرورة. ثم الفرق: أن التساوي في المأكل والمشرب
مما يتساوى فيه الاحتمال، وليس كذلك المسائل الدينية، لأنها يصار إليها
عند الأدلة، فجاز الاتفاق عليها.
ومن الناس من أحال العلم به الا في زمن الصحابة، نظرا إلى كثرة
المسلمين وانتشارهم، وكون ذلك لا يعلم الا بالمشافهة لهم أو التواتر عنهم،
وهما متعذران فيمن بلغ هذا الحد.
لا يقال: نحن نعلم اتفاق المسلمين على كثير من المسائل، كنبوة محمد

(1) في نسخة: الاعزام
125

صلى الله عليه وآله، والصلوات الخمس، ونعلم غلبة كثير من المذاهب على
بعض البلاد.
لأنا نجيب عن الأول: بأنه لا معنى للمسلم الا من قال بهذه الأشياء فكأن
القائل: أجمع المسلمون على النبوة، يقول: أجمع من قال بالنبوة على النبوة.
وأما غلبة بعض المذاهب، فلا نسلم أنا نعلم ذلك في أهل البلد كافة،
ولئن سلمنا أن الأكثر منهم قائل به، لكن هذا مما لا يجدي في باب الاجماع.
المسألة الثانية: عندنا أن زمان التكليف لا يخلو من امام معصوم حافظ
للشرع يجب الرجوع إلى قوله فيه. إذا تقرر هذا فمتى (أجمعت) (1) الأمة
على قول، كان ذلك الاجماع حجة، ولو فرضنا خلو الزمان من ذلك الامام
لم يكن الاجماع حجة.
وههنا بحثان:
الأول: مع وجوده عليه السلام الاجماع حجة للأمن على قوله من الخطأ، و
القطع على دخوله في جملة المجمعين، وعلى هذا، فالاجماع كاشف عن قول الإمام
، لا أن الاجماع حجة في نفسه من حيث هو اجماع.
البحث الثاني: لو خلا الاجماع (عن) (2) المعصوم - عليه السلام - لم يكن حجة
خلافا لساير الطوائف، ما عدا الخوارج، والنظام.
لنا: لو كان حجة لعلم ذلك اما بالعقل أو بالنقل، والقسمان باطلان، بما
يبطل به معتمد المخالف، وهم طائفتان: طائفة تتمسك بالمعقول، وأخرى
بالمنقول.

(1) في بعض النسخ: اجتمعت
(2) في بعض النسخ (من)
126

أما المعقول: فقالوا لو لم يكن الاجماع (حجة) (1)، لاستحال اجماعهم
عليه، كما يستحيل تواطؤهم على التلفظ بالعبارة الواحدة، والتحلي بالزي
الواحد.
الثاني: أن اجماع الخلق العظيم على الحكم يستدعى دلالة أو امارة، و
كلاهما حجة.
وجواب الأول: منع الملازمة، وابداء الفارق بأن صورة الوفاق مما
يتساوى فيه الاحتمال وتختلف فيه الدواعي، وليس كذلك الاجماع على
الحكم، لأنه قد يحصل (عن) (2) شبهة [ثم] تعم تلك الشبهة.
وجواب الثاني: منع الحصر، لجواز أن يجمعوا لشبهة.
ثم إن الوجهين منقوضان باجماع اليهود والنصارى، وغيرهم من الفرق
الموفين على عدد المسلمين، فإنهم أجمعوا على كثير من الأباطيل.
وأما المتمسكون بالمنقول، فاستدلوا بوجوه:
الأول: قوله تعالى: " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى و
يتبع غير سبيل المؤمنين... الآية " (3)، فلو لم يكن كل واحد منهما محظورا
لقبح الجمع بينهما، كما يقبح " من شاق الرسول وشرب ماءا، عاقبته " ومع
ثبوت ذلك يكون اتباع غير سبيل المؤمنين محظورا، فيكون اتباع سبيلهم
واجبا.
الثاني: قوله تعالى: " وكذلك جعلناكم أمة وسطا " (4)، والوسط: العدل

(1) في بعض النسخ: حقا
(2) في نسخة: عند
(3) النساء / 115
(4) البقرة / 143
127

والخيار، بالنقل عن أئمة اللغة وأهل التفسير، والموصوف بالعدالة مجانب
(لمواقعة) (1) الخطيئة، وذلك ينافي الاجماع عليها.
الثالث: قوله تعالى: " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعرف
وتنهون عن المنكر " (2) أخبر أنهم ينهون عن المنكر، وهو يعم كل منكر،
بما عرف في باب العموم، وهو ينافي الاجماع عليه.
الرابع: قوله صلى الله عليه وآله: " أمتي لا تجتمع على الخطأ " (3)، وصحة نقل الحديث
مشهورة، ولو دفع بعينه لكان معناه منقولا بالتواتر لوجود هذا المعنى في أخبار
لا تحصى كثرة.
وجواب الأول: (بمنع) (4) عموم السبيل، فلعله أراد في ترك (المشاقة) (5)
(الخاصة) (6). ولو سلمنا عمومه، لزم [ترك] اتباع اجماعهم، لأنهم ان أجمعوا
من غير دلالة، لم يجز الاتباع، وان كان لدلالة، لم يجز العمل بما أجمعوا عليه
الا بعد الظفر بتلك الدلالة، لأنه قد كان من شأنهم لولا الدلالة لما عملوا به، و
لو سلمنا ذلك، لم يكن فيه منافاة لمذهبنا، لان الواقع وجود الامام المعصوم
عليه السلام، وهو أحد المؤمنين، (واتباع) (7) غير سبيله غير جائز، ونحن
نتكلم على تقدير عدمه.

(1) في نسخة: لموافقة
(2) آل عمران / 110
(3) في بعض النسخ: على خطأ
(4) في بعض النسخ: نمنع
(5) في نسخة: المشاققة
(6) في نسخة: خاصة
(7) في نسخة: فاتباع
128

وجواب الثاني: منع عموم العدالة في الأشياء كلها، فلعلهم عدول في
الشهادة على الناس خاصة. ثم إن أراد بذلك أمة النبي صلى الله عليه وآله لم يتحقق الاجماع
الا بعد اتفاق كل من كان ويكون من الأمة، وان أراد البعض - وليس في الآية
اشعار به - دخل في حيز المجمل، فلعله أراد من ثبتت عصمته من الأئمة
عليهم السلام.
وجواب الثالث: ان (المنكر) اسم مفرد معرف باللام، وقد بينا أنه لا
يقتضى العموم، وإذا كان كذلك، جاز أن يراد به النهى عن الكفر، ومع قيام
(الاحتمال) (1) يبطل التعلق بالآية.
لا يقال: هذا حاصل في سائر الأمم، فلا يكون فيه مزية، وظاهر الآية
اثبات المزية.
لأنا نقول: المزية حاصلة، وهي مبالغتهم في النهي عن الكفر، كما [لو]
صرح بهذا المعنى لم تبطل المزية.
وجواب الحديث: منع أصله، ولو سلمنا تواتره، لقلنا بموجبة من حيث
أن أمته - عليه السلام - لا تخلو (عن) (2) المعصوم، فيكون قولها حجة لدخول
قوله في الجملة.
فرعان:
الأول: جاحد (الحكم) (3) المجمع عليه كافر، لأنه يجحد ما يعلم (حقيقة) (4)
من الشرع.

(1) في بعض النسخ: الاجمال
(2) في نسخة: من
(3) في نسخة: الحديث
(4) في نسخة: حقيته وفى أخرى: حقيقته
129

الفرع الثاني: الاجماع لا يصدر عن مستند ظني، لان معتمد المعصوم
عليه السلام الدليل القطعي، لا الحجة الظنية. نعم يجوز أن تكون أقوال
باقي الامامية مستندة إلى الظن، كخبر الواحد منضما إلى قوله الصادر عن
الدلالة.
المسألة الثالثة: لا يجوز أن ينعقد اجماع على مسألة، ثم ينعقد بعده
اجماع على خلافها، والا لكان قول المعصوم خطأ.
لا يقال: ربما كان قوله الأول تقية.
لأنا نقول: الاجماع لا يتقرر ما لم يعلم الاتفاق قصدا.
المسألة الرابعة: كل ما انعقد الاجماع عليه فهو حق، سواءا كان من العقائد
الدينية، أو الفروع الشرعية، أو غير ذلك، لكن كل ما يتوقف العلم بوجوب
وجود الامام المعصوم عليه السلام عليه، لم يصح الاستدلال عليه بالاجماع، والا
لدار، وكل مالا يكون كذلك، جاز الاستدلال عليه بالاجماع.
الفصل الثاني
في المجمعين، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال القاضي أبو بكر: يعتبر في الاجماع عوام الأمة،
نظرا إلى لفظ الخبر. وقال الأكثرون: المعتبر بقول العلماء وأهل الاجتهاد
خاصة. وقال أهل الظاهر: المعتبر باجماع الصحابة خاصة. والذي يجئ
على مذهبنا اعتبار من يعلم دخول المعصوم فيهم. فعلى هذا، ولو أجمع العلماء
أو الفقهاء أو أهل البيت لكفى ذلك في كونه حجة، لما قررناه.
130

فائدة
اعتبر قوم بلوغ المجمعين حد التواتر.
وعلى ما اخترناه، المعتبر من يعلم دخول المعصوم في جملتهم.
المسألة الثانية: اجماع أهل كل عصر حجة خلافا لأهل الظاهر
لنا: أن زمان التكليف لا يخلو من امام معصوم، ومتى كان كذلك فلابد
من دخوله في المجمعين، ومع دخوله يكون الاجماع حجة.
ولغيرنا: الظواهر الدالة على كون الاجماع حجة من غير تقييد.
المسألة الثالثة: إذا اتفقت الأمة على قولين، فان كان الثالث مما يلزم منه
الخروج (عن) (1) الاجماع كان باطلا بالاتفاق، وان لم يكن كذلك لم يجز
احداث الثالث عند قوم، لان الثالث ان كان باطلا لم يجز العمل به، وان كان
حقا لزم خلو الأمة عنه، وهو باطل.
وعلى ما أصلنا [ه] فالامام في إحدى الطائفتين فتكون محقة والخارج عن
الحق باطل.
المسألة الرابعة: إذا لم تفصل الأمة بين مسألتين: فان نصت على المنع
من الفصل فلا كلام، وان عدم النص:
فان كان بين المسألتين علقة، بحيث يلزم من العمل بأحدهما العمل
بالأخرى، لم يجز الفصل، كما في زوج وأبوين، وزوجة وأبوين، فمن قال
للام ثلث أصل التركة، قال في الموضعين، ومن قال ثلث الباقي. قال في
الموضعين، الا ابن سيرين.
وان لم يكن بينهما علقة، قال قوم: (يجوز) (2) الفصل بينهما.

(1) في نسخة: على.
(2) في نسخة: بجواز.
131

وعلى ما ذهبنا إليه، لم يجز، لان الإمام عليه السلام مع إحدى الطائفتين قطعا،
ويلزم من ذلك وجوب متابعته في (الجميع) (1).
المسألة الخامسة: لا يجوز انقسام المجمعين إلى فرقتين تجمع كل واحدة
منهما بين حق وباطل، لان الامام مع إحداهما، وهو يمنع من (اتفاقها) (2)
على الخطأ.
الفصل الثالث
في كيفية العلم بالاجماع، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قد عرفت أن الاجماع انما كان حجة لدخول الإمام عليه السلام
فيه، فالمعتبر حينئذ (قوله) (3) فعلى هذا، يعلم قول المعصوم عليه السلام بعينه
بأمرين:
أحدهما: السماع منه مع المعرفة [به].
[و] الثاني النقل المتواتر.
فان فقد الأمران، وأجمعت الامامية على أمر من الأمور على وجه يعلم
أنه لا عالم من الامامية الا وهو قائل به، فإنه يعلم دخول المعصوم عليه السلام فيه،
لقيام الدليل القاطع على حقية مذهبهم، والا من على المعصوم من ارتكاب
الباطل.
إذا تقرر هذا، فان علم أن لا مخالف ثبت الاجماع قطعا، وان علم المخالف
وتعين باسمه ونسبه كان الحق في خلافه، وان جهل نسبه، قدح ذلك في

(1) في نسخة: الجمع.
(2) في نسخة: اتفاقهما:
(3) في نسخة: دخوله.
132

الاجماع، لجواز أن يكون هذا المعصوم عليه السلام وان لم يعلم مخالف وجوزنا
وجوده لم يكن ذلك اجماعا، لامكان وقوع الجائز، وكون ذلك هو الإمام عليه السلام.
المسألة الثانية: إذا اختلفت الامامية على قولين: فان كانت إحدى الطائفتين
معلومة النسب، ولم يكن الامام أحدهم، كان الحق في الطائفة الأخرى، وان
لم تكن معلومة النسب: فان كان مع إحدى الطائفتين دلالة قطعية توجب العلم
وجب العمل على قولها، لان الامام معها قطعا وان لم يكن مع إحداهما دليل
قاطع: قال الشيخ ره: تخيرنا في العمل بأيهما شئنا، وقال بعض أصحابنا:
طرحنا القولين، والتمسنا دليلا من غيرهما، وضعف الشيخ ره هذا القول بأنه
يلزم منه اطراح قول الإمام.
قلت: وبمثل هذا يبطل ما ذكره ره، لان الامامية إذا اختلفت على قولين،
فكل طائفة توجب العمل بقولها، وتمنع من العمل بالقول الاخر، فلو تخيرنا
لاستبحنا ما حظره المعصوم عليه السلام
تفريع
إذا (اختلفت) (1) الامامية على قولين، فهل يجوز اتفاقها بعد ذلك على
أحد القولين؟ قال الشيخ ره: ان قلنا بالتخيير لم يصح اتفاقهم بعد الخلاف
لان ذلك يدل على أن القول الاخر باطل، وقد قلنا أنهم مخيرون.
ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون التخيير مشروطا بعدم الاتفاق فيما
بعد؟ وعلى هذا الاحتمال، يصح الاجماع بعد الاختلاف.
المسألة الثالثة: الاجماع يقع على ضروب:

(1) في نسخة: اختلف.
133

منها: أن يجمع أهل الاجماع على المسألة بالقول الصريح.
الثاني: أن يجمعوا عليها فعلا.
الثالث: أن يقول بعض، ويقرره الباقون.
ولابد في هذه الوجوه من ارتفاع التقية.
الرابع: أن يعلم رضاهم بالمسألة.
لا يقال: كيف يعلم اتفاق الامامية كلهم على ذلك، مع كثرتهم وانتشارهم
في البلاد.
لأنا نقول: كما يعلم اتفاق المسلمين على كثير من المسائل،. كايجاب
غسلة واحدة في الوضوء، (وأنه) (1) لا قائل بوجوب الثانية والثالثة، وكما يعلم
أنه إذا اجتمع أخ وجد، فإنه لا قائل بأن الأخ يحوز المال دون الجد، وغير
ذلك من المسائل.

(1) في نسخة: وأن.
134

الباب السابع
في الاخبار
وفيه مقدمة وفصول:
135

اما المقدمة
فنقول:
الخبر: كلام يفيد بنفسه نسبة أمر إلى أمر نفيا أو اثباتا. ومن الناس من
قال: الخبر: ما يحتمل الصدق والكذب، وهو تعريف بما لا يعرف [الا] به.
والصدق: هو الاخبار عن الشئ، على ما هو به.
والكذب: هو الاخبار عن الشئ لاعلى ما هو به.
ولا يفتقر إلى كون المخبر معتقدا بكونه كذبا، واعتبره الجاحظ، و
الخلاف لفظي.
ولابد من كون المخبر مريدا حتى تكون الصيغة مستعملة في فائدتها، لان
الصيغة قد توجد غير خبر.
إذا عرفت هذا، فالخبر: اما أن يقطع بصدقه أو كذبه، أو يكون محتملا
لكل واحد من الامرين وما علم صدقه ينقسم إلى: ما علم صدقه بمجرد الاخبار
والى ما علم صدقه بأمر مضاف إلى الاخبار، كضرورة العقل أو استدلاله، و
يدخل في ذلك جميع ما عد من الأقسام الدالة على صدق الخبر، كاخبار الله
تعالى ورسوله والمعصوم عليه السلام، وما (أجمعت) (1) عليه الأمة، وما ذكر بحضرة

(1) في نسخة اجتمعت.
137

الرسول صلى الله عليه وآله بمسمع منه ولم يكن غافلا عنه فلم ينكره، لان كل ذلك علم
صحته بالدليل.
وما علم صدقه بمجرد الاخبار فهو المتواتر، وسنفرد له فصلا، إن شاء الله
تعالى.
وما علم كذبه فلا يكون الا بأمر مضاف إلى الخبر، وهو خمسة أشياء:
الأول: ما خالف ضرورة العقل.
الثاني: ما أحالته العوائد.
الثالث: ما خالف دليل العقل.
الرابع: ما خالف النص القاطع من الكتاب والسنة المتواترة.
الخامس: ما خالف الاجماع.
الفصل الأول
في المتواتر من الاخبار، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الخبر المتواتر مفيد للعلم، وانكره السمنية.
لنا: أن الواحد منا يجد نفسه جازمة بالبلدان والوقائع - وان لم
يشاهدها - عند الاخبار عنها، كجزمنا بما نشاهده، جزما خاليا عن التردد،
وما تورده السمنية من الشبهة، فهو تشكيك في الضروريات، فلا يتسحق
الجواب.
وأما كيفية حصول هذا العلم: فذهب أبو هاشم وأتباعه وجماعة من الفقهاء
إلى كونه ضروريا، وقال المفيد من أصحابنا: هو كسبي. وتوقف الشيخ ره
والمرتضى في الاخبار عن البلدان والوقائع، وقطعا على أن الاخبار الشرعية
المتضمنة معجزات الأنبياء والأئمة وغير ذلك من المذاهب المتواترة، كسبي
138

يفتقر إلى ضرب من الاستدلال.
الظاهر أنه ضروري، لأنه يجزم بهذه الأمور من لا يحسن الاستدلال [و
لا يعرفه، ولا أمنع أن يفتقر بعض الأخبار المتواترة إلى ضرب من الاستدلال]
وليس هذا موضع الكشف عن غامض هذه المسألة.
المسألة الثانية: شرائط إفادة الخبر المتواتر العلم أربعة:
الأول: أن يخبروا عما علموه)، لا ما ظنوه.
الثاني: أن يكون ذلك المعلوم محسوسا.
الثالث: أن يبلغوا حدا لا يجوز عليهم التواطؤ والمراسلة.
الرابع: أن يستوي الطرفان والوسط في هذه الشرائط، لأنا نعلم أنه متى
اختلفت هذه الشرائط أو أحدها لا يحصل العلم بمجرد الاخبار.
المسألة الثالثة: ليس للتواتر عدد محصور، وحده قوم بسبعين، وآخرون
بأربعين، وقوم بعدة أهل بدر، والكل تحكم لا معنى له.
لنا: أنا نحكم بوجود البلاد والوقائع عند الاخبار من غير تنبه للعدد،
فلو كان العدد شرطا، لتوقف العلم على حصوله، ولعل الهمه لو صرفت إلى دركه
لأمكن ذلك بعد صعوبة.
وتحقيقه: أنا إذا سمعنا بخبر عن واحد فقد أفادنا ظنا، ثم كلما تكرر
الاخبار بذلك قوي الظن، حتى يصير الاعتقاد علما، فعند ذلك أن ضبط العدد
كان ذلك هو المعتبر، لان الاخبار هو المقتضى للعلم، والسبب لا يختلف
بحسب محاله إذا كان تاما.
المسألة الرابعة: شرط قوم شروطا ليست معتبرة، وهي أربعة:
الأول: أن لا يجمعهم مذهب واحد [ولا نسب واحد].
الثاني أن يكون عددهم غير محصور.
139

الثالث: أن لا يكونوا مكرهين على الاخبار.
الرابع: العدالة.
والكل فاسد، لأنا نجد النفس جازمة (بمجرد) (1) الأخبار المتواترة من
دون هذه الأمور، فلم تكن معتبره.
المسألة الخامسة: حكى بعض الأشعرية والمعتزلة: ان الامامية تعتبر قول
المعصوم عليه السلام في التواتر، وهو فرية عليهم، أو (غلط) (2) في حقهم، وانما
يعتبرون ذلك في الاجماع.
المسألة السادسة: (التواتر) (3) بالمعنى مفيد للعلم ككرم حاتم وشجاعة
علي عليه السلام، وان كانت مفردات أخبارهما آحادا.
الفصل الثاني
فيما لا يقطع بصدقه ولا كذبه، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: حكي عن أهل الظاهر أن خبر الواحد يفيد العلم، وعن
قوم أنه يوجب العلم الظاهر، وهذا باطل ضرورة، ولأنه لو أوجبه الخبر لكونه
خبرا، لأوجبه كل خبر، ومن جملتها اخبارنا لهم أن خبر الواحد لا يوجب
العلم.
وحكي عن النظام: ان خبر الواحد إذا اقترنت به قرائن أفاد العلم، كما
إذا سمعت الواعية في دار انسان، ونشرت نساؤه شعورهن وسودت أبوابه، و
استغاث غلمانه، وأخبر بموته، فعند ذلك يحصل العلم بصدق المخبر، وهو

(1) في بعض النسخ: بمخبر.
(2) في نسخة: خلط.
(3) في نسخة: المتواتر.
140

باطل، لأنه قد ينكشف بطلان الخبر في كثير من ذلك، نعم، [قد] يفيد الظن
القوي، ولا أحيل في بعض الاخبار انضمام قرائن قوية كثيرة تبلغ إلى حد
يفيد معها العلم.
المسألة الثانية: يجوز التعبد بخبر الواحد عقلا، خلافا لابن قبه من
أصحابنا وجماعة من علماء الكلام.
لنا: أن التعبد به يجوز اشتماله على مصلحة، فيجب الحكم بجواز التعبد
به، أما الأولى: فلان المانع من اشتماله على المصلحة هو ما يذكره الخصم
ونحن نبطله، وأما انه إذا كان كذلك، وجب الحكم بجواز التعبد به، فلان
الشرائع (مقترنة) (1) بالمصالح، والحكمة الإلهية موكولة برعايتها، فيجب
في الحكمة مهافتة (3) الشارع على نصبها.
احتج الخصم بوجهين:
أحدهما: ان خبر الواحد لا يوجب العلم، فيجب أن لا يعمل به، والأولى
ظاهرة، ولأنا لا نتكلم الا فيما هذا شأنه من الاخبار، وأما الثانية فلانه عمل بما
لا يؤمن كونه مفسدة، وأيضا قوله تعالى: " وأن تقولوا على الله مالا تعلمون " (2)
الوجه الثاني: ثبت أنه لا يقبل خبر النبي الا بعد قيام المعجزة على صدقه،
ففي من عداه أولى.
وجواب الأول: ان الأمان من كونه مفسدة حاصل عند قيام الدلالة على
العمل به.
وجواب الثاني: التزام التسوية، (فلانا) (4) لا نعمل بخبره ما لم تقم الدلالة

(1) وفى نسخة: معذوقه، أي موسومه.
(2) البقرة / 169.
(3) كذا في النسخ (4) في نسخة: فانا.
141

على العمل به.
ثم الوجهان منقوضان بالعمل بشهادة الشاهدين، واستقبال القبلة عند غلبة
الظن وعدم العلم بجهتها، وغير ذلك من الظنون الواردة في الشرع.
المسألة الثالثة: إذا ثبت [جواز] التعبد بخبر الواحد، فهل هو واقع أم
لا؟ منعه المرتضى ره، وقال أكثر المعتزلة والفقهاء من العامة بوقوعه، و
اعتبر أبو علي في الخبر رواية عدلين حتى يتصل بالنبي صلى الله عليه وآله، واكتفى الباقون
برواية الواحد العدل، وعمل به الطوسي ره إذا كان الراوي من الطائفة المحقة
وكان عدلا.
احتج المرتضى ره: بأنه لو وجب العمل به لعلم اما بالعقل أو (بالنقل) (1)
والقسمان باطلان.
أما الملازمة: فلانه لو كان التكليف به واردا لكان للمكلف إليه طريق،
لان تكليف مالا طريق (إلى العلم) (2) به قبيح عقلا.
وأما انحصار الطريق في العقل والنقل فظاهر، وأما انتفاء اللازم فبما
سنبطل به معتمد المخالف، وهم طائفتان: طائفة تتمسك بالعقل كابن سريج و
أتباعه، و (أخرى) (3) بالنقل وهم الأكثر كالقاضي وأبي عبد الله ومن تبعهما،
ومنهم من يجمع في الدلالة بين العقل والنقل كالقفال وأبي الحسين.
احتج ابن سريج بأن العمل بخبر الواحد دافع للضرر، وكلما كان كذلك
كان واجبا، أما أنه دافع للضرر فلان المخبر عن الرسول إذا كان ثقة يغلب
على الظن صدق قوله، ومخالفته مظنة للضرر، وأما أن دفع الضرر واجب

(1) في نسخة: النقل.
(2) في نسخة: للعلم.
(3) في نسخة: الأخرى.
142

فضروري.
والجواب: لا نسلم أن مخالفة الخبر مظنة للضرر، وهذا لان علمنا
بوجوب نصب الدلالة من الشارع على ما يتوجه التكليف به، يؤمننا الضرر عند
ظن صدق المخبر، ثم ما ذكروه منقوض برواية الفاسق لا بل برواية الكافر،
فان الظن يحصل عند خبره، لا يقال: لولا الاجماع لقلنا به، لأنا نقول: حيث
منع الاجماع من اطراد هذه الحجة، دل على بطلانها، لان الدليل العقلي لا
يختلف بحسب مظانه.
ثم إن الحجة مقلوبة عليهم، لأنه لو وجب العمل بخبر الواحد لجواز
اشتماله على مصلحة لا يؤمن الضرر بفواتها، فليجب اطراحه لجواز اشتماله
على مفسدة لا يؤمن الضرر بفعلها، ويلزم (على ما ذكروه) (2) وجوب العمل
بقول مدعي النبوة دون المعجز بعين ما ذكروه.
واحتج المتمسكون بالنقل بوجوه:
الأول: [قوله تعالى]: " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين
ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " (1).
ووجه الدلالة: أن الله تعالى أوجب الحذر بخبر الواحد، ومتى وجب
الحذر وجب العمل [لان] عند سماع الخبر المحذر: اما أن يمتنعوا عن
استباحة ما حذر عنه، وهو عمل به، وإذا عمل به في موضع وجب في كل
موضع، إذ لا قائل بالفرق، واما أن لا يمتنعوا، وذلك يقتضي ترك الحذر الذي
دلت الآية على وجوبه.

(1) في نسخه: مما ذكروه،
(2) التوبة / 122.
143

الثاني: قوله تعالى: " ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا " (1).
ووجه الدلالة: انه أمر بالتبين عند كونه فاسقا، (فوجب) (2) أن لا يحصل
وجوب التبين عند عدمه، والا لما كان لتعليق التبين على الفسوق فائدة.
الثالث: انه عليه السلام كان يبعث رسله إلى البلدان والقبائل، وهم آحاد، و
يوجب على المرسل إليهم القبول من المرسل.
الرابع: أجمعت الصحابة على العمل بخبر الواحد، واجماع الصحابة
حجه، أما انهم أجمعوا فلأنهم رجعوا إلى أزواج النبي صلى الله عليه وآله في الغسل من
التقاء الختانين، ورجع أبو بكر في توريث الجدة إلى خبر المغيرة، ورجع
عمر إلى رواية عبد الرحمن في سيرة المجوس بقوله: " سيروا بهم سنة أهل
الكتاب "، ومنع من توريث المرأة من دية زوجها، ورجع عن ذلك بخبر
الضحاك بن قيس، وعن علي عليه السلام: " كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله
حديثا نفعني الله بما شاء أن ينفعني، فإذا حدثني به غيره استحلفته، فإذا حلف
لي صدقته "، وعمل علي عليه السلام بخبر المقداد في المذي، وهذه الأخبار وان كانت
آحادا، فان معناها متواتر، كما يعلم كرم حاتم، وشجاعة عمرو، وان كانت
مفردات أخبارهما آحادا.
لا يقال: لم لا يجوز أن تكون الصحابة عملت عند هذه الأخبار، لا بها؟
لأنا نقول: لو عملوا لا بها، لوجب نقل ذلك الموجب للعمل دينا وعادة
لان الجماعة إذا مستهم الحاجة إلى كشف ملتبس ظهر منهم الاستبشار عند
وضوحه، والتعجب من حصوله، فيظهر لا محالة، ولو صح من الواحد ستره
لما استمر (3) في الجماعة كلهم، ولكان يحدوهم الدين إلى اظهار السبب الموجب

(1) الحجرات / 6.
(2) في نسخة: فيجب.
(3) كذا في النسخ، ولعل الصواب: استتر
144

للعمل لئلا يحصل التوهم انهم عملوا للخبر، وإذا ثبت أن بعضهم عمل بما
ذكرناه ولم ينكر الباقون مع ارتفاع الموانع من الانكار، كان ذلك اجماعا.
والجواب عن الآية الأولى أن نقول: لا نسلم وجوب الحذر، فان قال:
(لعل) في حق الله للوجوب، قلنا: هي في حقه للوجوب بمعنى تحقق حصول
ما دخلت عليه، لا بمعنى استحقاق الذم بتركه
سلمنا أن الحذر واجب عنده، لكن لا نسلم أنه يلزم العمل بمضمونه، و
لم لا يكون ثمرة الحذر (البعث على) (1) استعلام الحق والفحص عنه؟! على
أن وجوب الحذر ينافي العمل بخبر الواحد إذ مع العمل به يؤمن الحذر،
فكيف يكون سببا له؟
ثم نقول: كما يحتمل ذلك نقل الخبر يحتمل نقل الفتوى، ومع قيام
الاحتمال لا يعود حجة على (موضع) (2) النزاع على أن تناوله (للفتوى) (3)
أولى، لقوله تعالى: " ولينذروا قومهم " (4) لان العمل بالخبر يختص العلماء
دون غيرهم، (فتنزيلها) (5) على الأعم أولى.
والجواب عن الآية الثانية أن نقول: الاستدلال بها مبني على القول بدليل
الخطاب، وهو باطل.
فان قال: ان تعليل التبين بكون المخبر فاسقا يقتضي عدم الحكم عند
عدمه، فلا يجب التبين عند خبر العدل.

(1) في نسخة: البحث عن.
(2) في نسخة: محل.
(3) في نسخة: الفتوى.
(4) التوبة / 122
(5) في نسخة: وتنزيلها.
145

(قلت) (1): هذا معارض بان عدم الأمان من إصابة القوم بالجهالة علة في
وجوب التبين، وهو ثابت في العدل فيجب التبين عملا بالعلة.
فان قال: لو استوى العدل والفاسق في ذلك، لم يكن لذكر الفسوق
فائدة.
قلنا: لا نسلم، وما المانع أن تكون الفائدة هي اظهار فسوق من نزلت
الآية بسببه، وهو الوليد بن عقبة، فإنه (يمكن) (2) أنه كان على ظاهر العدالة
عندهم فكشف عن فسوقه.
والجواب عن الثالث: أن نقول: لا نسلم أنه صلى الله عليه وآله كان يبعث رسله إلى
القبائل لرواية الخبر، ولم لا يجوز أن يكون بعثهم للحكم والفتوى؟! ومع
قيام هذا الاحتمال يبطل التعلق بهذا الاستدلال.
والجواب عن الرابع: لا نسلم حصول الاجماع على ذلك.
قوله: نقل بالتواتر حكم الصحابة [به].
قلنا: لا نسلم تواتر ذلك، إذ لو كان كذلك لحصل لنا العلم به كما حصل
لك، ولحصل لكثير ممن أنكر ذلك من المعتزلة وغيرهم.
قوله: عمل [به] بعض الصحابة وسكت الباقون.
قلنا: لا نسلم أن بعضا عمل. فان استدل بالاخبار المذكورة، قلنا: هي
آحاد، فيكون ذلك اثباتا للشئ بنفسه. سلمنا أن بعضهم عمل، ولكن لا نسلم
أن سكوت الباقين لا يحتمل الا الرضا، لان العامل بذلك هم أرباب الحكم
كأبي بكر وعمر وعثمان وأمثالهم، وليس كل أحد قادرا على الانكار عليهم،
وان قدر الواحد أو العشرة من الصحابة، فان وفاقهم لا يكون اجماعا، لأنا

(1) في نسخة: قلنا.
(2) في نسخة: ممكن.
146

لا نعلم ارتفاع الاحتمال في حق الباقين.
على أن هذا الاستدلال لو صح لكان معارضا بمثله، فان بعض الصحابة
رد خبر الواحد، ولم يعلم النكير من غيره، كما روي أن أبا بكر رد خبر
عثمان فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وآله من اذنه برد الحكم بن أبي العاص، وأن عمر
رد خبر فاطمة بنت قيس، وأن عليا عليه السلام رد خبر بروع بنت واشق، وأن عائشة
ردت خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه، وغير ذلك مما عددوه،
وتقريره ما تقدم.
وذهب شيخنا أبو جعفر إلى العمل بخبر العدل من رواة أصحابنا، لكن
لفظه وان كان مطلقا، فعند التحقيق تبين أنه لا يعمل بالخبر مطلقا، بل بهذه الاخبار
التي رويت عن الأئمة عليهم السلام ودونها الأصحاب، لا أن كل خبر يرويه الامامي
يجب العمل به، هذا الذي تبين لي من كلامه، ويدعي اجماع الأصحاب على
العمل بهذه الاخبار، حتى لو رواها غير الامامي وكان الخبر سليما عن المعارض
واشتهر نقله في هذه الكتب الدائرة بين الأصحاب عمل به، واحتج لذلك
بوجوه ثلاثة:
الأول: دعوى الاجماع على ذلك، فإنه ره ذكر أن قديم الأصحاب و
حديثهم إذا طولبوا بصحة ما أفتى به المفتي (منهم) (1)، عول على المنقول في
أصولهم المعتمدة وكتبهم المدونة، فيسلم له خصمه منهم الدعوى في ذلك،
وهذه سجيتهم من زمن النبي صلى الله عليه وآله إلى زمن الأئمة عليهم السلام، فلو لا أن العمل بهذه
الاخبار جائز لأنكروه وتبرأوا من العامل به.
الوجه الثاني: وجود الاختلاف من الأصحاب بحسب اختلاف الأحاديث
يدل على أن مستندهم إليها، إذ لو كان العمل بغيرها مما طريقه القطع لوجب

(1) في نسخة: بينهم
147

أن يحكم كل واحد بتضليل مخالفه وتفسيقه، فلما لم يحكموا بذلك دل على
أن مستندهم الخبر، وعلى جواز العمل به.
لا يقال: هذا دليل على أنهم غير معاقبين على العمل به، وعدم العقاب
لا يدل على كونه حقا.
لأنا نقول: الجواب عن ذلك من وجهين:
أحدهما: أن الغرض في جواز العمل بهذه الاخبار انما هو ارتفاع الفسق
وارتفاع العقاب.
[و] الثاني: أنه لو كان العمل بها خطأ، لما جاز الاعلام بالعفو عن فعله
لان ذلك يكون اغراءا بالقبيح.
الوجه الثالث: اعتناء الطائفة بالرجال، وتمييز العدل من المجروح، والثقة
من الضعيف، والفرق بين من يعتمد على حديثه ومن لا يعتمد، وكونهم إذا
اختلفوا في خبر نظروا في سنده، وذلك يدل على العمل بهذه الاخبار، لأنهم
لو لم يعملوا بها لما كان لشروعهم في ذلك فائدة.
المسألة الرابعة: قد يقترن بخبر الواحد قرائن تدل على صدق مضمونه
وان كانت غير دالة على صدق الخبر نفسه لجواز اختلافه مطابقا لتلك القرينة
والقرائن أربع: إحداها أن يكون موافقا لدلالة العقل، أو لنص الكتاب
خصوصه أو عمومه أو فحواه، أو السنة المقطوع بها، أو لما حصل الاجماع
عليه.
وإذا تجرد عن القرائن الدالة على صدقه، ولم يوجد ما يدل على خلاف
متضمنه، افتقر العمل به إلى اعتبار شروط نذكرها في الفصول المعقبة [لهذه]
148

الفصل الثالث
في مباحث متعلقة بالمخبر، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الايمان معتبر في الراوي، وأجاز الشيخ ره العمل بخبر
الفطحية، ومن ضارعهم، بشرط أن لا يكون متهما بالكذب، ومنع من رواية
الغلاة، كأبي الخطاب، وابن أبي العزاقر.
لنا: قوله تعالى: " ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا " (1).
احتج الشيخ ره بأن الطائفة عملت بخبر عبد الله بن بكير، وسماعة،
وعلي بن أبي حمزة، وعثمان بن عيسى، وبما رواه بنو فضال، والطاطريون.
والجواب: أنا لا نعلم إلى الان أن الطائفة عملت بأخبار هؤلاء.
المسألة الثانية: عدالة الراوي شرط في العمل بخبره [و] قال الشيخ ره يكفي
كونه ثقة متحرزا عن الكذب في الرواية وان كان فاسقا بجوارحه، وادعى
عمل الطائفة على أخبار جماعة هذه صفتهم.
ونحن نمنع هذه الدعوى، ونطالب بدليلها، ولو سلمنا [ها] لاقتصرنا
على المواضع التي عملت فيها بأخبار خاصة، ولم يجز التعدي في العمل
إلى غيرها.
ودعوى التحرز (عن) (2) الكذب مع ظهور (الفسق) (3) مستبعدة، إذ
الذي يظهر فسوقه لا يوثق بما يظهر من تحرجه عن الكذب.

(1) الحجرات / 6
(2) في نسخة: من
(3) في نسخة: الفسوق
149

تفريع
عدالة الراوي (تعلم) (1) باشتهارها بين أهل النقل، فمن اشتهرت عدالته
من الرواة أو جرحه عمل بالاشتهار وان خفي حاله وشهد بها محدث واحد
هل يقبل قوله بمجرده؟ الحق انه لا يقبل الا على ما يقبل عليه تزكية الشاهد
وجرحه، وهو شهادة عدلين.
وإذا جرح بعض، وعدل آخرون، قدم العمل بالجرح، لأنه شهادة
بزيادة لم يطلع عليها المعدل، ولأن العدالة قد يشهد بها على الظاهر، وليس
كذلك الجرح.
المسألة الثالثة: المجنون والصبي لا تقبل روايتهما في حال كونهما كذلك
لان الوثوق بهما لا يحصل، لعدم تحقق الضبط، سواء كان الصبي مميزا أو
غير مميز.
لا يقال: الصبي تقبل شهادته في الجراح والشجاج، فيجب قبول روايته.
لأنا نقول: لم لا يجوز أن يكون ذلك احتياطا في الدم؟ لا لصحة خبره
على أن منصب الرواية أعظم، إذ الحكم بها مستمر والثابت (عنها) (2) شرع
عام في المكلفين، وليس كذلك الشهادة، فلا يقاس أحدهما على الاخر.
أما لو تحمل الشهادة صبيا لقبلت إذا أداها بالغا.
المسألة الرابعة: المجهول النسب إذا عرف اسلامه لم يكف في قبول
روايته، فان عرفت عدالته قبلت، لأنا نتيقن ارتفاع الفسق المانع من قبول الشهادة

(1) في نسخة: تظهر.
(2) في نسخة: منها.
150

فان عارضها رواية معروف النسب والعدالة كان الترجيح لجانب المعروف.
المسألة الخامسة: إذا قال أخبرني بعض أصحابنا، وعنى الامامية، يقبل
وان لم يصفه بالعدالة - إذا لم يصفه بالفسوق - لان اخباره بمذهبه شهادة بأنه
من أهل الأمانة، ولم يعلم منه الفسوق المانع من القبول.
فان قال (عن بعض أصحابه) (1)، لم يقبل، لامكان أن يعني نسبته إلى
الرواة (أو) (2) أهل العلم، فيكون البحث فيه كالمجهول.
المسألة السادسة: إذا أرسل الراوي الرواية، قال الشيخ ره: ان كان ممن
عرف أنه لا يروي الا عن ثقة، قبلت مطلقا، وان لم يكن كذلك، قبلت بشرط
أن لا يكون لها معارض من المسانيد الصحيحة.
واحتج لذلك: بأن الطائفة عملت بالمراسيل عند سلامتها عن المعارض
كما عملت بالمسانيد، فمن أجاز أحدهما أجاز الاخر.
المسألة السابعة: رواية المرأة المعروفة بالعدالة مقبولة، للسبب المقتضي
للقبول، ويستوي في ذلك الحرة والمملوكة.
المسألة الثامنة: يعتبر في الراوي الضبط، فان عرف له السهو غالبا لم يقبل
وان عرض نادرا قبل، لان أحدا لا يكاد يسلم منه، فلو كان زواله أصلا شرطا
في القبول، لما صح العمل الا عن معصوم من السهو، وهو باطل اجماعا من
العاملين بالخبر. المسألة التاسعة: إذا قال راوي الأصل: لم أرو لك هذه الرواية قاطعا، كان
ذلك قادحا في الرواية، وان قال: لا أذكر، أو: لا أعلم، لم يكن قادحا،
لجواز السهو على الأصل، ووجود العدالة في الفرع ينفي التهمة عنه.

(1) في نسخة: بين بعض أصحابنا.
(2) في نسخة: و
151

الفصل الرابع
في مباحث متعلقة بالخبر، وفيه مسائل: المسألة الأولى: الألفاظ التي تعلم نسبة الخبر بها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله أو
أحد الأئمة عليهم السلام أربع مراتب:
الأولى: أن يقول: أسمعني رسول الله صلى الله عليه وآله أو شافهني أو حدثني.
ويلي ذلك في القوة: أن يقول: قال رسول الله، أو سمعت منه، أو حدث.
ويلي ذلك: أن يقول: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله.
ويليه: أن يقول: رويت عن رسول الله صلى الله عليه وآله.
وههنا ألفاظ أخر ليست صريحة في الرواية: منها: أن يقول: أمرنا بكذا
أو: (نهينا) (1) عن كذا، أو: أبيح لنا كذا، أو يقول: من السنة كذا، أو يقول
الصحابي: كنا نفعل كذا، فهذه الألفاظ لا يعلم من نفسها الدلالة على الرواية ما
لم ينضم إليها ما يدل على القصد بها.
أما إذا كانت الرواية عن بعض الرواة، فالصريح فيها ثلاثة ألفاظ: أخبرني
أو حدثني، أو يقال للراوي: هل حدثك أو أخبرك فلان؟ فيقول: نعم.
وههنا أمور تقوم مقام ذلك: أحدها الإشارة بالجوارح، أو بالكتابة،
أو بتسليم كتاب الرواية ويسمى مناولة، أو بالإجازة المعهودة، وهو: أن يأذن
له أن يروي عنه ما صح له من أحاديثه، اما بأن يحيله على كتاب مشهور، أو
أخبار معروفة.
المسألة الثانية: يجب عرض الخبر على الكتاب، لقوله عليه السلام: " إذا روي
لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله، فان وافق فاقبلوه، والا فردوه ".

(1) في نسخة: نهانا.
152

المسألة الثالثة: إذا روى [الراوي] خبرا يخالف مذهبه، لا يكون ذلك
طعنا في الرواية، لجواز أن يروي ذلك لما ظنه دليلا وليس كذلك.
المسألة الرابعة: يجوز رواية الخبر بالمعنى، بشرط أن لا تكون العبارة
الثانية قاصرة [عن] معنى الأصل، بل ناهضة بجميع فوائدها، لان الصحابة
كانت تروي مجالس النبي صلى الله عليه وآله بعد انقضائها وتطاول المدد، ويبعد في العادة
بقاء ألفاظه عليه السلام بعينها على الأذهان، و [لان] الله سبحانه وتعالى قص القصة
الواحدة بألفاظ مختلفة، وحكى معناها عن الأمم، ومن المعلوم أن تلك القصة
وقعت بغير اللغة العربية (1)، وان كانت باللغة العربية فان الواقع منها يكون
بعبارة واحدة، وذلك دليل على جواز نسبة المعنى إلى القائل، وان اختلفت
الألفاظ.
احتج المانع: بقوله عليه السلام: " [رحم الله] من سمع مقالتي فوعاها وأداها
كما سمعها ".
والجواب أن نقول: إذا أداها بمعانيها فقد امتثل، كما تقول: حكى فلان
رسالة فلان، إذا (أداها) (2) بالمعنى ولو خالفه (باللفظ) (3).
المسألة الخامسة: إذا روى الواحد رواية، ثم رواها ثانيا وزاد فيها زيادة
(أو) (4) اختلفت الرواة في الرواية بالزيادة والنقصان، هل يكون ذلك قادحا
في الرواية أم لا؟ نظر، فان كان الراوي واحدا ولم تكن الزيادة منافية لمعنى
الأول، لم يكن ذلك قادحا، لجواز أن يكون سمعها في مجلسين، فحكى كل

(1) في الأصل: لغة العربية.
(2) في بعض النسخ: أتى.
(3) في نسخة: في اللفظ.
(4) في نسخة: و.
153

(واحدة منهما) (1) تارة، أو في مجلس واحد واقتصر على حكاية بعضه، وان
تغاير الراوي وكان المنفرد بالزيادة واحدا، وبالنقيصة جماعة يستحيل عليهم أن
لا يسمعوا ما نقله الواحد، كانت الزيادة مردودة، وان لم يستحل ذلك - بأن
يكون سمعها في مجلسين، أو في مجلس واحد يجوز أن يغفل الآخرون - قبلت
الزيادة، فان كانت الزيادة منافية لمعنى الأول، تضادت الرواية [بها]، ووجب
التوقف عن العمل.
الفصل الخامس
في التراجيح بين الاخبار المتعارضة، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: إذا تعارض خبران وأحدهما موافق لعموم القرآن أو
السنة المتواترة أو لاجماع الطائفة، وجب العمل بالموافق، لوجهين:
أحدهما: ان كل واحد من هذه الأمور حجة في نفسه، فيكون دليلا على
صدق مضمون الخبر الموافق له.
الثاني: أن المنافي لا يعمل به لو انفرد عن المعارض، فما ظنك به معه؟!.
وكذلك إذا تعارضا وكانت رواة أحدهما عدولا، كان الترجيح لجانب
ما رواه (العدول) (2)، لان رواية من ليس بعدل، لا تقبل مع السلامة عن المعارض
فمع وجود المعارض أولى.
المسألة الثانية: رجح الشيخ ره بالضابط والأضبط، والعالم والأعلم،
محتجا بأن الطائفة قدمت ما رواه محمد بن مسلم، وبريد بن معاوية، والفضيل

(1) في نسخة: واحد، وفى أخرى: منها.
(2) في نسخة: العدل
154

ابن يسار، ونظائرهم، على من ليس له حالهم.
ويمكن أن يحتج لذلك: بأن رواية العالم والأعلم (1) أبعد من احتمال
الخطأ، وأنسب بنقل الحديث على وجهه، فكانت أولى.
المسألة الثالثة: قال الشيخ ره: إذا روى أحد الراويين اللفظ، والاخر
المعنى، وتعارضا، فان كان راوي المعنى معروفا بالضبط والمعرفة فلا ترجيح
وان لم يوثق منه بذلك، ينبغي أن يؤخذ المروي لفظا، وهذا (حق) (2) لأنه
أبعد من الزلل.
المسألة الرابعة: إذا روى الخبر سماعا، وروى المعارض إجازة، كان
الترجيح لجانب المسموع، الا أن يكون أحاله على أصل مسموع، أو مصنف
[مشهور]، فيكونان متساويين.
المسألة الخامسة: إذا كان راوي أحد الخبرين مجهولا، والاخر معروفا
أو كان أحد السندين متصلا، والاخر مرسلا، كان الترجيح للمعروف والمسند
لوجود شرائط العمل فيهما على اليقين، وعدم اليقين في الطرف الآخر.
المسألة السادسة: إذا رويت روايتان وفي إحداهما زيادة عن الأخرى
قال الشيخ ره: عمل على الرواية المتضمنة للزيادة، لأنها في حكم خبرين.
ولقائل أن يقول: أتعني بذلك أنه يعمل بالزيادة كما يعمل بالأصل؟ أم تعني
مع التعارض يكون أرجح؟ ان أردت الأول فمسلم، وان أردت الثاني فممنوع
المسألة السابعة: إذا عمل أكثر الطائفة على إحدى الروايتين كانت أولى
إذا جوزنا كون الإمام عليه السلام في جملتهم، لان الكثرة امارة الرجحان، والعمل
بالراجح واجب.

(1) كذا، ولعل الصواب سقوط: الضابط والأضبط
(2) في نسخة: أحق
155

المسألة الثامنة: إذا كان أحد الخبرين موافقا للأصل، قال قوم: يكون
أولى، لان الظاهر أنه هو المتأخر، وقال آخرون: الناقل أولى، لان له حكم
النقل، والموافق للأصل يستغنى بالأصل عنه، فيغلب على الظن أنه لا حاجة
للشارع إلى ذكره، للاستغناء بحكم الأصل.
والحق: انه اما أن يكونا عن الرسول صلى الله عليه وآله أو عن الأئمة عليهم السلام فان
كان عن النبي صلى الله عليه وآله وعلم التاريخ، كان المتأخر أولى سواءا كان مطابقا
للأصل أو لم يكن، وان جهل التاريخ، وجب التوقف، لأنه كما يحتمل أن
يكون أحدهما ناسخا يحتمل أن يكون منسوخا.
واما ان كانا عن الأئمة، وجب القول بالتخيير، سواءا علم تاريخهما أو
جهل، لان الترجيح مفقود عنهما، والنسخ لا يكون بعد النبي صلى الله عليه وآله، فوجب
القول بالتخيير.
المسألة التاسعة: قال الشيخ ره: [إذا تساوت] الروايتان في العدالة والعدد
عمل بأبعدهما من قول العامة، والظاهر [أن] احتجاجه في ذلك برواية رويت
عن الصادق عليه السلام وهو اثبات لمسألة (علمية) (1) بخبر واحد، وما يخفى عليك
ما فيه، مع أنه قد طعن فيه فضلاء من الشيعة كالمفيد، وغيره.
فان احتج: بأن الابعد لا يحتمل الا الفتوى، والموافق للعامة يحتمل التقية
فوجب الرجوع إلى مالا يحتمل.
[قلنا: لا نسلم انه لا يحتمل] الا الفتوى، لأنه كما جاز الفتوى لمصلحة
يراها الامام، كذلك تجوز الفتوى بما يحتمل التأويل، مراعاة لمصلحة يعلمها
الامام، وان كنا لا نعلمها.
فان قال: ذلك يسد باب العمل بالحديث.

(1) في نسخة: عملية
156

قلنا: انما نصير إلى ذلك على تقدير التعارض وحصول مانع يمنع من
العمل، لا مطلقا، فلم يلزم سد باب العمل.
المسألة العاشرة: إذا كان أحد الخبرين مشافهة، والاخر مكاتبة، كان الترجيح
لجانب المشافهة، لان المكاتبة تحتمل من الخلل ما لا تحتمله المشافهة.
المسألة الحادية عشرة: إذا كان أحد الخبرين حاظرا، والاخر مبيحا وكان
حكما هما مستفادين من الشرع، قال قوم، يكون الحاظر أولى، لقوله عليه السلام:
" دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " ولأنه أحوط في التحرز من الضرر.
وجواب الأول: انه خبر واحد، لا يثبت بمثله مسائل الأصول. [و] الثاني
ضعيف، لان الضرر متوجه في الاقدام على حظر ما لا يؤمن [من] كونه مباحا
كما هو محتمل في الطرف الآخر:
والأولى: التوقف.
157

الباب الثامن
في الناسخ والمنسوخ
وفيه فصول:
159

الفصل الأول
في النسخ، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: النسخ في الأصل هو الإزالة، من قولهم نسخت الشمس
الظل، والتغيير، كما يقال: نسخت الريح الأثر، وقيل: هو حقيقة في النقل،
مجاز في غيره، وقيل: [بل] هو مشترك، والبحث لفظي.
وفي الشرع: عبارة عن الاعلام بزوال مثل الحكم الثابت بالدليل الشرعي
بدليل شرعي متراخ عنه، على وجه لولاه لكان الحكم الأول ثابتا.
ومن الناس من يجعل النسخ رفعا، ومنهم من يجعله بيانا لانتهاء مدة
الحكم الأول.
والناسخ: هو الدليل الثاني، وقد يطلق الناسخ على ناصب دلالة النسخ،
وقد يتجوز به في الحكم، كما يقال: نسخ شهر رمضان صوم عاشوراء، وفي
المعتقد، كما يقال: الحنفي ينسخ القرآن بالسنة.
والمنسوخ: هو الدليل الأول، وقد يستعمل في الحكم، ولا يطلق النسخ
بالحقيقة الا حيث يكون الدليلان شرعيين، فلو كانا عقليين أو أحدهما، لم
يكن ذلك نسخا بالحقيقة، وان كان معنى النسخ موجودا فيه.
161

المسألة الثانية: النسخ في الشرائع جائز عقلا وشرعا:
أما عقلا فلوجهين:
أحدهما أن الشرائع تابعة للمصالح، وهي جائزة الاختلاف، فجاز
اختلاف ما هو تابع لها.
الثاني أن الدلائل القطعية دلت على نبوة نبينا صلى الله عليه وآله ويلزم من ذلك
نسخ شرع من قبله.
وأما شرعا فوجوه:
أحدها: [ما] نقل أن نوحا عليه السلام أحل له كل دابة، ثم حرم على لسان
موسى عليه السلام كثير من الحيوان.
الثاني: قوله تعالى: " ما ننسخ من آية أو ننسها، نأت بخير منها أو
مثلها " (1).
الثالث: وقوع النسخ في شرعنا، كنسخ التوجه إلى بيت المقدس
باستقبال الكعبة، ونسخ الاعتداد في الوفاة بالحول إلى أربعة أشهر وعشر،
ونسخ ثبات الواحد في الجهاد لعشرة إلى ثباته لاثنين.
احتج المانع بوجوه:
الأول: لو جاز النسخ، لزم منه الامر بالشئ والنهي عنه، لكن ذلك فاسد
من وجوه:
الأول: انه يلزم منه البداء.
الثاني: انه يؤدي إلى كون الشئ حسنا [و] قبيحا.
الثالث: ان يكون الامر يدل على حسن المأمور، فلو نهى عنه لانتقضت
تلك الدلالة.

(1) البقرة / 106
162

الوجه الثاني: ان اطلاق الامر يدل على استمرار الالزام بالفعل، فلو لم
يرد دوامه، لوجب بيان مدته، والا لزم الاغراء باعتقاد الجهل.
الوجه الثالث: لو جاز النسخ لزم رفع الثقة بدوام الاحكام، وتمسك
اليهود في المسألة بقول موسى عليه السلام: " تمسكوا بالسبت [أبدا " وبقوله: " تمسكوا
بالسبت] ما دامت السماوات والأرض ".
والجواب عن الأول (أن نقول: لا نسلم) (1) أنه يلزم منه الامر بالشئ و
النهي عنه، لأنا بينا أن الدليل الأول تناول غير ما تناوله الثاني وانما يلزم البداء
لو كان الامر بنفس ما نهى عنه، والوقت والمكلف واحد.
قوله: لو نهى عنه لانتقضت دلالة الحسن.
قلنا: لا نسلم أن الدليل الثاني دل على قبح ما لم يدل عليه الأول، فلم
تنتقض دلالته، وجرى ذلك مجرى ما علم زواله عقلا، فان الشرع إذا دل على
وجوب فعل، فإذا عجز عنه [المكلف] سقط بالعجز، ولا يلزم أن يكون العجز
ناقضا لدلالة الوجوب، فكذا مسألتنا.
والجواب عن الثاني: قوله لو لم يرد دوامه لبينه وإلا لزم الاغراء باعتقاد
الجهل.
قلنا: لا نسلم، لان المكلف يعلم أن تغير المصالح يوجب تغير التكاليف
وذلك يمنعه عن القطع باعتقاد الدوام.
قوله في الوجه الثالث: يلزم أن لا يحصل الوثوق بدوام شئ من الاحكام.
قلنا: نحن نعلم دوام كثير من الاحكام بالضرورة من مقاصد الشرع،
فيكون الوثوق بالدوام حيث [يكون] الامر كذلك دون غيره.
المسألة الثالثة: الزيادة على النص ان كانت رافعة لمثل الحكم الشرعي

(1) في نسخة: أنا لا نسلم.
163

المستفاد من الحكم الشرعي، كانت نسخا، وان كانت رافعة لحكم من أحكامه
المستفادة من العقل، لم يكن ذلك نسخا.
وفائدة ذلك: ما ثبت أن خبر الواحد لا ينسخ به حكم الدليل المقطوع به
فكل موضع (تعده) (1) نسخا لا يجوز استعمال خبر الواحد فيه.
وقال [السيد] المرتضى ره، وأبو جعفر ره: ان كانت [الزيادة] مغيرة
للمزيد عليه، بحيث لو فعل كما كان يفعل قبل الزيادة، لم يكن مجزيا،
ووجب استئنافه، كان ذلك نسخا، والا فلا.
لنا: ما بيناه أولا من أن شرط النسخ أن يكون رافعا لمثل الحكم الشرعي
المستفاد بالدليل الشرعي، فبتقدير أن يكون ذلك الحكم مستفادا من العقل لا
يكون الرفع [لمثله] نسخا حقيقيا، والا لكان كل خبر يرفع البراءة الأصلية
نسخا، وهو باطل.
لا يقال: لو وجبت الصلاة ركعتين، ثم زيد عليها [ركعة] أخرى لكانت
ناسخة، لان التسليم وجب تأخيره إلى ما بعد الثالثة، وقد كان يجب أن يكون
عقيب الثانية، ولأن الركعتين كانتا مجزيتين بانفرادهما (فصارتا) (2) غير
مجزيتين لو انفردتا.
لأنا نقول: لا نسلم أن ذلك نسخ لوجوب الركعتين، ولا للتشهد وان
كان التغير فيهما ثابتا، بل بتقدير أن يكون الشرع دل على (وجوب تعقيب
التشهد بالتسليم) (3) للثانية، يلزم أن يكون الامر بتأخيره نسخا لتعجيله، إذ لم

(1) في نسخة: نعده.
(2) في بعض النسخ: فعادتا.
(3) كذا الظاهر، ولكن في بعض النسخ: وجوب تعقيب التشهد، وفى أخرى:
وجوب تشهد التسليم.
164

يرفع [الدليل] الثاني شيئا غير ذلك.
واما الركعتان فان حكمهما باق من كونهما واجبتين، وغاية ما في الباب
أن وجوبهما كان منفردا، فصار منضما إلى الثالثة، والشئ لا ينسخ بانضياف
غيره إليه، كما [لا] ينسخ وجوب فريضة واحدة إذا وجب بعدها أخرى.
وأما كونهما لو انفردتا [لما] أجزأتا بعد أن كانتا مجزئتين، فان الاجزاء
يعلم لامن منطوق الدليل، بل علم بالعقل، فلم يكن نسخا، ولو علم الاجزاء
من نفس الدليل الشرعي، لكان المنسوخ اجزاؤهما منفردتين، لا وجوبهما.
المسألة الرابعة: النقيصة من العبادة لا تكون نسخا لها، سواءا كان الناقص
جزءا منها أو شرطا لها، لكن ان دل الدليل الشرعي على وجوب ذلك الجزء
أو ذلك الشرط، ثم دل الاخر على ارتفاعه، كان ذلك نسخا للجزء (والشرط) (1)
خاصة، دون نفس العبادة.
مثال ذلك: إذا أوجب صلاة ثلاثية مثلا، ثم أسقط منها ركعة، كان ذلك
نسخا لتلك الركعة حسب، ولم يكن نسخا للصلاة كلها، أو أوجب فريضة و
شرط لها شرطا ثم أسقط ذلك الشرط، كان نسخا له حسب، ولم يكن نسخا
للفريضة.
لنا: ان الدليل المقتضي لثبوت الحكم السابق ثابت، والدليل الثاني ليس
رافعا لمثل حكمه، فلا يكون نسخا.
فان قالوا: العبادة الأولى كانت غير مجزية بتقدير أن لا يفعل الشرط، وقد
صارت الان مجزية، فقد انتسخ الاجزاء.
قلنا: لا نسلم أن ذلك نسخ، لأنا قد بينا أن الاجزاء إذا لم يتضمنه الدليل
الشرعي يكون معلوما بالعقل، فلا يكون زواله نسخا، ولو سلمنا أن ذلك نسخ،

(1) في نسخة: وللشرط
165

لكان نسخا للاجزاء، لا نسخا للعبادة.
المسألة الخامسة: يعلم النسخ بأن يقال: هذا ناسخ، وذاك منسوخ، أو
يكون حكم أحد الدليلين مضادا لحكم آخر، فيكون المتأخر ناسخا، ويعلم
التاريخ بوجوه:
منها: أن يتضمن لفظ أحدهما ما يدل على التأخر أو التقدم.
ومنها: أن يضاف أحدهما إلى زمان أو مكان يعلم منه التقدم أو التأخر.
ومنها: أن يروي إحدى الروايتين عن النبي صلى الله عليه وآله من انقطعت صحبته
عند تجدد صحبة راوي الأخرى.
وهل يقبل قول الصحابي إذا قال: كذا منسوخ مطلقا، أو منسوخ بكذا؟
الأظهر: لا، إذ يجوز ان يكون قال ذلك اجتهادا، لا عن سماع، وقد يخطئ
المجتهد.
الفصل الثاني
في مباحث متعلقة بالناسخ، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: من شرط الناسخ أن يكون المراد به غير المراد بالمنسوخ
نفسه، إذ لو أريد إزالة المنسوخ نفسه لكان أمرا بنفس ما نهى عنه، ويلزم من
هذا البداء.
المسألة الثانية: من شرط الناسخ أن يكون متراخيا، لأنه لو كان متصلا
لما كان نسخا، كما في قوله تعالى: " ولا تقربوهن حتى يطهرن " (1) (وقوله) (2)

(1) البقرة / 222
(2) في نسخة: وكقوله
166

تعالى: " ثم أتموا الصيام إلى الليل " (1) بل ذلك بالتقييد والتخصيص أشبه.
المسألة الثالثة: من شرط [الناسخ] أن يكون في قوة المنسوخ، فلا ينسخ
المتواتر بالآحاد، ولا المعلوم بالمظنون كالقياس وما شاكله.
الفصل الثالث
في مباحث متعلقة بالمنسوخ، وربما وقعت مشتركة، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: إذا تضمن الدليل الأول لفظ التأبيد، هل يجوز نسخه؟.
أنكره قوم، والحق خلافه، لأنه قد يستعمل فيما لا يراد به الدوام، فإنه يقال
تعلم العلم أبدا. ولو سلمنا أنه حقيقة في الدوام، لكان ورود الناسخ يدل على
أنه لم يرد به الدوام، وكما أن العام حقيقة في الاستغراق ثم مع ورود المخصص
يعلم أنه لم يرد، فكذا هنا.
المسألة الثانية: يجوز نسخ الحكم لا إلى بدل، ومنعه قوم.
لنا: نسخ الصدقة بين يدي المناجاة لا إلى بدل، ولأن النسخ تابع للمصلحة
فإذا كان الشئ مصلحة في وقت امر به، وإذا انقلب [إلى] مفسدة نهي عنه،
(ثم لا يلزم) (2) البدل.
المسألة الثالثة: لابد أن يكون المنسوخ مطلقا غير موقت بوقت معين لأنه
لو وقت لم يكن ذلك نسخا، لان شرط تسميته أن يثبت الحكم لولا الدليل
المتراخي، وذلك غير حاصل في هذه الصورة.
المسألة الرابعة: لا يجوز نسخ الشئ قبل وقت فعله، مثل أن يأمر في

(1) البقرة / 187
(2) في نسخة: ولا يلزم
167

أول النهار بصلاة ركعتين عند الزوال، ثم ينسخهما قبل ذلك، وهو اختيار
المرتضى ره، وأبي جعفر ره. وقال المفيد ره: (يجوز) (1) ذلك، وهو اختيار
جماعة من الفقهاء والأشعرية.
لنا: لو وقع ذلك، لزم أن يأمر بنفس ما نهى عنه، لكن ذلك محال
لوجهين:
الأول: أن الامر يقتضي كونه حسنا، والنهي يقتضي كونه قبيحا، فيلزم
كونه حسنا قبيحا معا.
[و] الثاني: أن الفعل الواحد اما أن يكون حسنا، واما أن يكون قبيحا
[فبتقدير أن يكون حسنا يلزم قبح النهي عنه، وبتقدير أن يكون قبيحا] يقبح
الامر به. احتج المجيز لذلك بوجوه:
الأول: قوله تعالى: " يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب " (2).
الثاني: انه تعالى أمر إبراهيم عليه السلام بذبح إسماعيل، ثم نسخ ذلك
قبل ذبحه.
الثالث: ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله أمر ليلة المعراج بخمسين صلاة، ثم
اقتصر به على خمس.
ولأن المصلحة قد تتعلق بنفس الأمر والنهي، فجاز الاقتصار عليهما من
دون إرادة فعل [الأول وترك الثاني].
والجواب عن الأول: أن المحو والاثبات معلقان على المشيئة، فلا نسلم

(1) في بعض النسخ: بجواز
(2) الرعد / 39
168

أنه يشاء مثل هذا القدر، على أنه (يحتمل) (1) أن يكون يمحو ما يشاء مما يثبته
غيره، وكذلك يثبت ما يشاء، فمن أين أنه يمحو ما يثبته هو تعالى.
وقد قيل أن الحفظة تثبت على العبد معاصيه وطاعاته، فيمحو الله سبحانه
ما يشاء من المعاصي، وهذا وان لم يكن معلوما، فهو محتمل، وبمثله يخرج
الاحتجاج عن اليقين.
والجواب عن الثاني: لم لا يجوز أن يكون الامر كان بمقدمات الذبح؟ و
يكون الذبح - وان نطق به - غير مراد، ويدل على ذلك قوله تعالى: " قد
صدقت الرؤيا " (2).
لا يقال: لو كان [ذلك]، مرادا لما قال: " فانظر ماذا ترى " (3) ولما قال: " ان
هذا لهو البلاء المبين " (4) ولما قال: " وفديناه بذبح عظيم " (5).
لأنا نقول: غلب على ظن إبراهيم أن المراد الذبح، فلهذا قال " ماذا ترى "
وبواسطة ذلك الظن قال: " ان هذا لهو البلاء المبين ". وأما الفداء فقد يجوز
أن يسمى بذلك وان لم يجب ذبح المفدى، لمكان ظن إبراهيم أنه تعالى أراد
الذبح.
والجواب عن الثالث: أنه خبر واحد، لا يثبت بمثله مسائل الأصول، على
أن فيه طعنا على الأنبياء بالاقدام على المراجعة في الأوامر المطلقة.
والجواب عن الرابع: أن الأمر والنهي يتبعان متعلقهما، فان كان حسنا

(1) في نسخة: محتمل
(2) الصافات / 105
(3) الصافات / 102
(4) الصافات / 106
(5) الصافات / 107
169

كانا كذلك، والا قبيحا، على أنه لو كان الامر كذلك، لم يكن متعلق الامر
مرادا، فلا يكون مأمورا به فلا يكون النسخ متناولا له.
المسألة الخامسة: النسخ في القرآن جائز، ويدل على ذلك وقوعه،
كنسخ عدة الوفاة بالحول إلى أربعة أشهر وعشر، وكنسخ الصدقة أمام
المناجاة، وكنسخ الفرار من الزحف من العشرة.
احتج المانع: بقوله تعالى: " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " (1)
والجواب: لا نسلم أن النسخ باطل، ولا يلزم من كونه ابطالا، أن يكون
باطلا. سلمناه جدلا، لكن لم لا يجوز أن يكون " ما بين يديه " إشارة إلى كتب
الأنبياء المتقدمة؟ و " خلفه " إشارة إلى ما [يكون] بعد النبي صلى الله عليه وآله أو بعد
كمال نزوله، وهذا الاحتمال كاف في ابطال الاحتجاج.
المسألة السادسة: نسخ الحكم دون التلاوة جائز، وواقع، كنسخ الاعتداد
بالحول، وكنسخ الامساك في البيوت.
كذلك نسخ التلاوة مع بقاء الحكم جائز، وقيل: واقع، كما يقال انه
كان في القرآن زيادة نسخت، وهذا و (ان لم يكن) (3) معلوما، فإنه يجوز.
لا يقال: لو نسخ الحكم (لما) (3) بقى في التلاوة فائدة، فإنه من الجائز أن يشتمل
على مصلحة تقتضي ابقائها، وأما بطلان دلالتها فلا نسلم، فان الدلالة باقية على
الحكم، نعم لا يجب العمل به.
المسألة السابعة: يجوز دخول النسخ في الاخبار التي تتضمن معنى الامر
ومعنى النهى، كما يجوز في الأمر والنهي. وكذلك في الخبر المأمور به،

(1) فصلت / 42
(2) في نسخة: لو لم يكن
(3) في نسخة: ما
170

كالاخبار بالتوحيد والعدل، فيؤمر بذلك الخبر تارة، وينهى عنه أخرى بحسب
اختلاف المصلحة، وهذا لا بحث فيه.
وهل يجوز أن يخبر الله تعالى بخبر محض، ثم يخبر بخلافه؟ نظر، فان
كان ذلك المخبر مما يتغير مدلول الخبر فيه، أمكن ذلك، والا لم (يجز) (1).
المسألة الثامنة: نسخ الكتاب بالكتاب جائز، والسنة المتواترة بمثلها، و
الآحاد بالآحاد، كما قيل في ادخار لحوم الأضاحي، وزيارة القبور.
وهل يجوز نسخ السنة المتواترة بخبر الواحد؟ منعه الأكثرون، وهو الحق
وقال قوم من أهل الظاهر بجوازه.
لنا: وجوه:
أحدها: أن (خبر) (3) الواحد مظنون، والمتواتر معلوم، ولا يجوز ترك
المعلوم للمظنون.
الثاني: ان خبر الواحد مختلف في العمل [به]، وليس كذلك المتواتر،
فيكون العمل بالمتفق عليه أولى.
الثالث: لو وجب العمل بخبر الواحد لكونه منسوبا إلى صاحب الشرع،
لوجب في المتواتر، فيلزم التناقض، ولو عمل بالمتواتر لكونه متواترا، لم
يلزم العمل بالخبر الواحد، فلا يلزم التناقض.
احتج الخصم بوجهين:
أحدهما: يجوز التخصيص به، فيجوز النسخ به.
الثاني: وقع النسخ به، كما في قوله تعالى: " وأحل لكم ما وراء ذلكم " (3)

(1) يظهر من إحدى النسخ (يخبر)
(2) في نسخة: الخبر
(3) النساء / 24
171

بقوله: " لا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها ".
وقوله تعالى: " قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه " (1) بنهيه
عن كل ذي ناب من السباع.
والجواب عن الأول: أن نمنع تخصيص الكتاب بخبر الواحد. ثم لو
سلمناه لما لزم من التخصيص النسخ، لان النسخ إزالة الحكم، والتخصيص
ليس كذلك.
وعن الثاني: لا نسلم أن ذلك نسخ، بل هو تخصيص، على أنا لا نسلم أن
التخصيص واقع بمجرد الخبر، بل لكون الأمة تلقته بالقبول وذلك غير ما
نحن فيه.
المسألة التاسعة: يجوز نسخ السنة المتواترة بالقرآن، خلافا للشافعي.
لنا: وقوعه، فان استقبال بيت المقدس نسخ بقوله: " فول وجهك شطر
المسجد الحرام " (2) وتحريم المباشرة: [بالليل] نسخ: بقوله " فالآن باشروهن " (3)
احتج الشافعي: بقوله تعالى: لتبين للناس ما نزل إليهم " (4) فلو نسخ قوله
بالقرآن [حتى يتبين]، لما كان قوله بيانا.
والجواب: لا نسلم أنه يلزم من كونه مبينا ما نزل إلينا، أن لا يكون في
المنزل [بيان] لبعض أقواله.
المسألة العاشرة: نسخ الكتاب بالسنة المتواترة واقع، وحكى عن
الشافعي انكاره.

(1) الانعام / 145
(2) البقرة / 144
(3) البقرة / 187
(4) النحل / 44
172

لنا: ان السنة المتواترة يقينية، فتكون مساوية للقرآن في اليقين، فكما جاز
نسخ الكتاب بالكتاب، جاز نسخه بالسنة المساوية في العلم، ولأن الزانية كان
يجب امساكها في البيوت، ونسخ ذلك بالرجم في المحصنة.
احتج المانع: بقوله تعالى: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو
مثلها " (1) والسنة ليست مماثلة للقرآن.
وبقوله: " قل ما يكون لي أن أبد له من تلقاء نفسي ان أتبع الا ما يوحى
إلى " (2).
والجواب عن الأول: انه لا يلزم أن يكون المأتى به عوض المنسوخ
ناسخا، فلم لا يجوز أن تنسخ الآية بالسنة وهي دونها، ثم يأتي الله بآية خير
من المنسوخة ولا تتضمن حكم النسخ.
والجواب عن الثاني: أنا نسلم أنه لا يبد له الا بوحي من الله، ولا يلزم أن
يكون الناسخ قرآنا، بل يجوز أن يكون الامر بالنطق بالناسخ قرآنا، وذلك
[مما] لا ينافي ما قصدنا.
المسألة الحادية عشرة: في الاجماع، هل ينسخ وينسخ به أم لا؟ يحتاج
ذلك إلى تقديم مقدمة:
وهي ان الاجماع هل يمكن استقراره قبل انقطاع الوحي أم لا؟ أنكر ذلك
الجمهور بأجمعهم، وأجازه بعض أصحابنا.
أما الجمهور فقالوا: إذا اتفق المسلمون على شئ في زمن النبي صلى الله عليه وآله فان
كان منضما إلى قوله صلى الله عليه وآله ففيه الحجة، لا في قول غيره، فلم يكن اجماعا،
وان كان منفردا عن قوله صلى الله عليه وآله لم يعتد به.

(1) البقرة / 106
(2) يونس / 15
173

وأما المرتضى ره فإنه أجاز وقوع الاجماع في زمن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم بناءا على أن الاجماع هو اتفاق من يعلم أن المعصوم عليه السلام في
جملتهم، وبأن الأدلة التي استدلوا بها على صحة الاجماع لا تختص بما بعد
انقطاع الوحي.
وقول الجمهور: لا اعتبار بقول الجماعة، ضعيف، لأنه لولا اتفاق الجماعة
لما علم قول النبي صلى الله عليه وآله فكان اتفاقهم منضما إلى قوله من غير تعيين حجة.
إذا عرفت هذا فنقول: اختلف أصحابنا في الاجماع، هل ينسخ وينسخ
به؟ فقال المرتضى ره: يجوز ذلك عقلا، لكن الاجماع منع منه. وقال [شيخنا
أبو جعفر] الطوسي: الاجماع دليل عقلي، والنسخ لا يكون الا بدليل شرعي،
فلم يتحقق النسخ فيما يكون مستنده العقل، وقال بعض المتأخرين: الاجماع
لا يكون الا اتفاقا، ولا يكون الا عن مستند قطعي، فيكون الناسخ ذلك المستند
لا نفس الاجماع، وفى هذه الوجوه اشكال.
والذي يجئ على مذهبنا أنه يصح دخول النسخ فيه، بناءا على أن
الاجماع انضمام أقوال إلى قول لو انفرد لكانت الحجة، فيه، فجائز حصول
مثل هذا في زمن النبي صلى الله عليه وآله ثم ينسخ ذلك الحكم بدلالة شرعية متراخية، و
كذلك يجوز ارتفاع الحكم المعلوم من السنة أو القرآن بأقوال يدخل في
جملتها قول النبي صلى الله عليه وآله.
المسألة الثانية عشرة: هل يدخل النسخ فحوى الخطاب؟ الحق: نعم، لأنه
دليل شرعي، فجاز رفع الحكم الثابت به، كغيره من الأدلة، لكن يجوز رفع
المنطوق والفحوى، [ورفع الفحوى] دون المنطوق، إذا تعلقت به مصلحة
وان كان فيه بعد.
174

وهل يجوز رفع المنطوق به دون ما دلت عليه الفحوى؟ هذا جائز، و
أنكر ذلك قوم، وزعموا أن الفحوى انما علمت تبعا [للتصريح] (1) فإذا رفع
الأصل تبعه الفرع.

(1) في نسخة: للصريح
175

الباب التاسع
في الاجتهاد
وفيه فصول:
177

الفصل الأول
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في حقيقة الاجتهاد.
الاجتهاد: افتعال من الجهد، وهو في الوضع: بذل المجهود في طلب
المراد مع المشقة، لأنه يقال: " اجتهد " في حمل الثقيل، ولا يقال ذلك في حمل
الحقير.
وهو في عرف الفقهاء: بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية، و
بهذا الاعتبار يكون استخراج الاحكام من أدلة الشرع اجتهادا، لأنها (تبتنى) (1)
على اعتبارات نظرية ليست مستفادة من ظواهر النصوص في الأكثر، وسواء
كان ذلك الدليل قياسا أو غيره، فيكون القياس على هذا التقرير أحد أقسام
الاجتهاد.
فان قيل: يلزم على هذا أن يكون الامامية من أهل الاجتهاد.
قلنا: الامر كذلك، لكن فيه (ايهام) (2) من حيث أن القياس من جملة

(1) في نسخة: تبنى
(2) كذا الظاهر وفى النسخ: ابهام.
179

الاجتهاد، فإذا استثنى القياس كنا من أهل الاجتهاد في تحصيل الاحكام بالطرق
النظرية التي ليس أحدها القياس.
المسألة الثانية: لا يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله متعبدا بالقياس في الأحكام الشرعية
، لأنا نستدل [على] أن العبادة لم ترد بالعمل به.
وهل يجوز أن يكون متعبدا باستخراج الأحكام الشرعية بالطرق النظرية
الشرعية عدا القياس؟ لا نمنع من جوازه، وان كنا (لا نعلم) (1) وقوعه.
وعلى هذا التقدير، فهل يجوز أن يخطئ في اجتهاده؟ الحق أنه لا
يجوز، لوجوه:
الأول: أنه معصوم من الخطأ، عمدا ونسيانا، بما ثبت في الكلام، ومع
ذلك يستحيل عليه الغلط.
الثاني: انا مأمورون باتباعه، فلو وقع منه الخطأ في الاحكام، لزم
الامر بالعمل بالخطأ، وهو باطل.
الثالث: لو جاز ذلك لم يبق وثوق بأوامره ونواهيه، فيؤدي ذلك إلى
التنفير عن قبول قوله.
احتج المجيز لذلك بوجهين:
الأول: قوله تعالى: " قل انما أنا بشر مثلكم يوحى إلى " (2) ويلزم من
المماثلة جواز الغلط عليه.
الثاني: قوله عليه السلام: " فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فلا يأخذنه ان
ما أقطع له (3) قطعة من النار " وهذا يدل [على] أنه يجوز منه الغلط في الحكم
والجواب عن الأول: انه لا يلزم من المماثلة في البشرية المساواة في

(1) في نسخة: نعلم، وهو خطأ.
(2) الكهف / 110 (3) زاد في نسخة: به
180

الغلط، لوجود الدلالة المانعة من ذلك في حقه.
والجواب عن الثاني: ان حكمه للانسان بشئ من حق أخيه ليس بغلط،
لأنه هو الحكم المأمور به شرعا، سواء كان مطابقا للباطن أو لم يكن، و
الإصابة ليس الا [في] العمل بالأوامر الشرعية على الوجه الذي عين له
وهو موجود فيما يحكم به.
المسألة الثالثة: الاحكام اما أن تكون مستفادة من ظواهر النصوص
المعلومة على القطع، والمصيب فيها واحد، والمخطئ لا يعذر، وذلك ما
يكون المعتقد فيه لا [يتغير] بتغير المصالح.
واما أن تفتقر إلى اجتهاد ونظر، ويجوز اختلافه باختلاف المصالح،
فإنه يجب على المجتهد استفراغ الوسع فيه، فان أخطأ لم يكن مأثوما،
ويدل على وضع الاثم عنه وجوه:
أحدها: انه مع استفراغ الوسع يتحقق العذر، فلا يتحقق الاثم.
الثاني: أنا نجد الفرقة المحقة مختلفة في الأحكام الشرعية اختلافا
شديدا حتى يفتى الواحد منهم بالشئ ويرجع عنه إلى غيره، فلو لم يرتفع
الاثم لعمهم الفسق وشملهم الاثم، لان القائل منهم بالقول اما أن يكون
استفرغ وسعه [في تحصيل ذلك الحكم أو لم يكن، فان لم يكن، تحقق
الاثم، وان استفرغ وسعه] ثم لم يظفر، ولم يعذر، تحقق الاثم أيضا.
الثالث: الأحكام الشرعية تابعة للمصالح، فجاز أن تختلف بالنسبة إلى
المجتهدين، كاستقبال القبلة، فإنه يلزم كل من غلب على ظنه أن القبلة في
جهة أن يستقبل تلك الجهة - إذ لم يكن له طريق إلى العلم - ثم تكون الصلوات
مجزية لكل واحد منهم، وان اختلفت الجهات.
فان قيل: لا نسلم أن مع استفراغ الوسع يمكن الغلط في الحكم، و
181

ذلك لان الواقعة لابد فيها من حكم شرعي، ولابد من نصب دلالة على
ذلك الحكم، فلو لم يكن للمكلف طريق إلى العلم بها، (لكان) (1) نصبها
عبثا (و) (2) لما كان لذلك المخطئ طريق إلى العلم بالحكم مع تقدير استفراغ
الوسع، وذلك تكليف بما لا يطاق.
والجواب: قوله: [و] لابد من نصب دلالة. قلنا: [مسلم]، لكن
ما المانع أن يكون فرض المكلف مع الظفر بتلك الدلالة العمل بمقتضاها، و
مع عدم الظفر بها يكون الحكم في الواقعة لا ذلك الحكم، ومثاله: جهة القبلة
فان مع العلم بها يجب التوجه، ومع عدم العلم [يكون] فرضه التوجه إلى
الجهة التي يغلب على ظنه أنها جهة القبلة، وكذلك العمل بالبينة عند ظهور
العدالة و (خفاء) (3) الفسق، [ولو ظهر] فسقها لوجب اطراحها، فما المانع
أن يكون الأدلة التي وقع فيها النزاع كذلك؟ ألا ترى أن العموم يخص مع
وجود المخصص، ويعمل بعمومه مع عدم المخصص؟!
الفصل الثاني
في القياس، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: القياس في الوضع: هو المماثلة.
وفى الاصطلاح: عبارة عن الحكم على معلوم بمثل الحكم الثابت لمعلوم

(1) في نسخة: كان.
(2) في نسخة: أو.
(3) في نسخة: أخفاء.
182

آخر، لتساويهما في علة الحكم.
فموضع الحكم المتفق عليه يسمى: أصلا.
وموضع الحكم المختلف فيه يسمى: فرعا.
والعلة: هي الجامع الموجب لاثبات مثل حكم الأصل في الفرع،
فان كانت العلة معلومة، ولزوم الحكم لها معلوما من حيث هي، كانت النتيجة
علمية، ولا نزاع في كون مثل ذلك دليلا، وان كانت العلة مظنونة، أو كانت
معلومة، لكن لزوم الحكم لها (1) - خارجا عن موضع الوفاق - مظنونا، كانت
النتيجة ظنية، وهل هو دليل في الشرعيات؟ فيه خلاف.
المسألة الثانية: النص على علة الحكم وتعليقه عليها مطلقا، يوجب
ثبوت الحكم ان ثبتت العلة، كقوله: الزنا يوجب الحد، والسرقة توجب
القطع. أما إذا حكم في شئ بحكم ثم نص على علته فيه: فان نص مع ذلك
على تعديته وجب، وان لم ينص، لم يجب تعدية الحكم الا مع القول بكون
القياس حجة، مثاله: إذا قال: الخمر حرام لأنها مسكرة، فإنه يحتمل أن
يكون [التحريم] معللا [بالاسكار مطلقا، ويحتمل أن يكون معللا] باسكار
الخمر، ومع الاحتمال لا يعلم وجوب التعدية.
المسألة الثالثة: من الناس من منع من التعبد بالقياس عقلا، وأكثرهم
قالوا بجوازه.
احتج المانع بوجوه:
أحدها: ان العمل [بالقياس] اقدام على مالا يؤمن كونه مفسدة، فيكون
قبيحا، كالاقدام على ما يعلم كونه مفسدة.
الثاني: ان القياس موجب للظن مع امكان العمل بالعلم، فيكون باطلا.

(1) زاد في نسخة: كان.
183

الثالث: ان عمومات القرآن والسنة المتواترة كافلة بتحصيل الأحكام الشرعية
، والقياس: ان طابقها فلا حاجة إليه، وان نافاها لم يجز العمل به.
[و] احتج شيخنا المفيد ره لذلك [أيضا] بأنه لا سبيل إلى علة الحكم
في الأصل، فلا سبيل إلى القياس، أما الأولى: فلان العلة اما أن تعلم بطريق
علمي أو ظني، والقسمان باطلان أما العلم فظاهر، وأما الظن فلانه لاحكم
له الا عن امارة، والامارة مفقودة، ومع عدم الوقوف على علة الحكم
تستحيل تعديته.
والجواب عن الأول: ان الامن [من] المفسدة يحصل بتقدير وجود الدلالة
الشرعية، كما في غيره من الأمور المظنونة.
والجواب عن الثاني: انا لا نستعمل القياس في موضع يكون العلم بالحكم
ممكنا، بل في موضع يفقد العلم [بالحكم].
و [الجواب] عن الثالث: لا نسلم أن عمومات القرآن كافلة بالأحكام،
فان في مسائل الديات والمواريث والبيوعات وغيرها، ما يعلم خروجه عن
مدلولات العموم.
والجواب عن احتجاج المفيد أن نقول: لا نسلم أنه لا سبيل إلى تحصيل
علة الحكم.
قوله: اما أن يعلم بطريق علمي أو ظني. قلنا: لم لا يجوز أن يكون
علميا؟ كما إذا نص الشارع على العلة، سلمنا أنها لا تكون علمية، فلم لا
تكون ظنية؟!.
قوله: الظن لا حكم له الا عن امارة. قلنا: سلمنا ذلك، والامارة قد
تحصل بالطرق التي أشار إليها مثبتوا القياس، كالدوران والسبر، فإنه مهما ثبت
الحكم عند شئ، وانتفى عند انتفائه، كان ذلك امارة دالة على التعليل،
184

وكذلك إذا (عددت) (1) أوصاف محل الوفا، وأبطلت الا قسما واحدا،
غلب على الظن أنه علة الحكم، وذلك كاف في حصول الظن أن الحكم معلل
بتلك العلة.
المسألة الرابعة: الجمع بين الأصل والفرع قد يكون بعدم الفارق، و
يسمى: تنقيح المناط. فان علمت المساواة من كل وجه، جاز تعدية الحكم
إلى المساوي، وان علم الامتياز أو جوز، لو تجز التعدية الا مع النص على
ذلك، لجواز اختصاص الحكم بتلك المزية، وعدم ما يدل على التعدية.
وقد يكون الجمع بعلة موجودة في الأصل والفرع، فيغلب على الظن
ثبوت الحكم في الفرع، ولا يجوز تعدية الحكم - والحال هذه - بما (سندل) (2)
عليه.
فان نص الشارع على العلة، وكان هناك شاهد حال يدل على سقوط
اعتبار ما عدا تلك العلة في ثبوت الحكم، جاز تعدية الحكم، وكان ذلك
برهانا.
ولنفرض أمثلة توقف (منها) (3) على التحقيق:
الأول: قوله عليه السلام - وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر مثلا بمثل -:
" أينقص إذا جف؟ فقيل: نعم، (فقال) (4): لا، اذن " فقد علل التحريم بنقصانه
عند الجفاف، وشاهد الحال (يقضى) (5) أنه لا اعتبار بما عدا تلك العلة من

(1) في بعض النسخ: عدت.
(2) في نسخة: يستدل.
(3) في نسخة: بها
(4) في نسخة: قال.
(5) في نسخة: يقتضى
185

أوصاف الأصل، فكأنه نص على أن كل ما نقص بعد الجفاف من الربويات،
لا يجوز بيعه مثلا بمثل.
ويمكن التوقف هنا، فان من المحتمل أن يكون النقصان موجبا للمنع
من البيع في الرطب بالتمر خاصة، لجواز اشتماله على ما يوجب اختصاص
النهى. غاية ما في الباب أن ذلك لا يعلم، لكن عدم العلم بالشئ لا يدل على
انتفائه في نفس الامر.
الثاني: انه إذا قال: وطأت عامدا في شهر رمضان، فقال: عليك الكفارة
أو قال: ملكت عشرين دينارا وحال عليها الحول، فقال: عليك الزكاة، علم
أن الحكم متعلق بذلك، ولا اعتبار بأوصاف السائل، بل يحكم بأن كل من اتفق
له ذلك، ثبت له ذلك الحكم.
الثالث: إذا حكم في واقعة وعلم بشاهد الحال أن الحكم فيها باعتبارها
لا باعتبار محلها، عدي الحكم (لما روى) (1) أن عليا عليه السلام قضى في دابة تنازعها
اثنان، وأقاما البينة: أنها لمن شهد له بالنتاج، فلا يقصر الحكم على الدابة،
بل يعدى إلى كل ما حصل فيه هذا المعنى.
المسألة الخامسة: ذهب ذاهب إلى أن الخبرين إذا تعارضا، وكان القياس
موافقا لما تضمنه أحدهما، كان ذلك وجها يقتضى ترجيح ذلك الخبر على
معارضة.
ويمكن أن يحتج لذلك: بأن الحق في أحد الخبرين، فلا يمكن العمل
بهما ولا طرحهما، فتعين أن يعمل بأحدهما، وإذا كان التقدير تقدير التعارض،

(1) في نسخة: كما روى.
186

فلابد (في) (1) العمل بأحدهما من مرجح، (والقياس مما يصلح) (2) أن يكون
مرجحا، لحصول الظن به فتعين العمل بما طابقه.
لا يقال: أجمعنا على أن القياس مطرح في الشرع.
لأنا نقول: بمعنى أنه ليس بدليل على الحكم، لا بمعنى أنه لا يكون مرجحا
لاحد الخبرين على الاخر، وهذا لان فائدة كونه مرجحا كونه (دافعا) (3) للعمل
بالخبر المرجوح، فيعود الراجح كالخبر السليم عن المعارض، ويكون العمل
به، لا بذلك القياس، وفى ذلك نظر.
المسألة السادسة: قال شيخنا المفيد ره: " خبر الواحد القاطع للعذر هو
الذي يقترن إليه دليل يفضى بالنظر فيه (4) إلى العلم، وربما يكون ذلك اجماعا
أو شاهدا من عقل، أو حاكما من قياس ".
فان عنى بالقياس البرهان، فلا اشكال، وان عنى القياس الفقهي، فموضع
النظر، لان الخبر بتقدير أن لا يكون حجة، فمع انضياف ذلك القياس الفقهي
[ان] صار حجة: فاما لكونه خبرا، وذلك نقض لما يذهب إليه من طرح العمل
بالخبر، وان كان بالقياس، لزم منه اثبات حكم شرعي بالقياس الفقهي، وهو
باطل، إذ لافرق بين أن يثبت به الحكم أو الدلالة الدالة على الحكم.
المسألة السابعة: القائلون بجواز التعبد بالقياس عقلا، منهم من يقول:
ورد التعبد به، وهم الأكثر، وأطبق أصحابنا على المنع من ذلك الا شاذا
[منهم].

(1) في نسخة: من
(2) في نسخة: فالقياس ما يصلح
(3) في نسخة: رافعا
(4) أضاف في نسخة: دليل
187

لنا وجوه:
الأول: ان العمل بالقياس عمل بالظن، والعمل بالظن غير جائز، أما الأولى
فظاهرة. و [أما] الثانية: فبقوله تعالى: " ولا تقف ما ليس لك به علم " (1) وبقوله
" ان الظن لا يغنى من الحق شيئا " (2) وبقوله: " وأن تقولوا على الله مالا
تعلمون " (3).
لا يقال: مع وجود الدلالة عليه، لا يكون عملا بالمظنون، بل بالمقطوع
به، كالعمل بالشاهدين والحكم (بالأرش) (4) واستقبال القبلة.
لأنا نقول: وجد المنع فوجب طرده، فإذا خرج ما أشرتم إليه وجب
تناوله لما بقى، عملا بمقتضى الدليل، وسنبطل ما يزعمون أنه دليل على العمل
به، فيبقى ما ذكرناه من الدليل سليما عن المعارض.
الثاني: أجمعت الامامية على ترك العمل به، ونقل عن أهل البيت عليهم السلام
المنع منه متواترا نقلا ينقطع به العذر.
الثالث: لو تعبدنا بالعمل به لوجدت الدلالة عليه، لكن الدلالة مفقودة،
فالعمل به غير جائز.
أما الملازمة: فلان التكليف يستدعى وجود دلالة، والا لكان التكليف
به - من دون دلالة [عليه] - تكليفا بما لا سبيل إلى العلم به، وهو تكليف بالمحال.
وأما بطلان [اللازم]: فبالاستقراء.
الرابع: لو ورد التعبد به، لاشتهر ذلك بين أهل الشرع، لكن ذلك

(1) الاسراء / 36
(2) يونس / 36 (3) البقرة / 169
(4) في نسخة: بالاروش.
188

باطل.
أما الملازمة: فلان الاستدلال به مما يعم، والوقائع التي تستدرك بالقياس
كثيرة عندهم، والعادة قاضية بأن مثل ذلك مما يشتهر العلم به، فلما لم يشتهر
دل على بطلانه.
لا يقال: قد اشتهر ذلك بين الصحابة حتى أن خصومكم (تدعى) (1) الاجماع
عليه.
لأنا نقول: لو كان كذلك لما اختص الخصم بعلمه دوننا، لما ذكرناه من
عموم البلوى به، وزوال الاغراض الباعثة على اخفائه.
[و] احتج بعض أصحابنا [أيضا]: بأن القول بورود التعبد به مع بطلان
الحجج التي ذكرها الخصم مما لا يجتمعان، والثابت بطلانها، فلا يكون التعبد
به ثابتا.
بيان أنهما لا يجتمعان: أن القائل بكونه حجة يتمسك في ذلك بالوجوه
التي يذكرونها، فهو يقول: انها حق والمنكر له يبطلها ويمنع من كونه حجة
فالقول بكونه حجة مع أن تلك الحجج باطلة، قول ليس لأحد، فيكون منفيا.
لا يقال: نحن نجوز أن يكون غير ما ذكر دليلا على كون القياس حجة،
فلا يلزم من القول ببطلان هذه الحجج بطلان القياس.
لأنا نقول: مع القول بكونه حجة وتجويز وجود حجة لم يذهب ذاهب
إلى القول ببطلان هذه الحجج المذكورة.
واحتج الجمهور على وقوع التعبد به بوجوه معقولة ومنقولة.
أما المعقول: فقالوا: القياس يفيد الظن، والعمل بالظن واجب. أما
إفادة الظن فظاهرة، وأما [أن] العمل بالظن واجب، فلما ثبت من أن التحرز

(1) في نسخة: يدعون.
189

من الضرر المظنون واجب كالمعلوم.
وأما المنقول: (فوجوه) (1):
الأول: قالوا: أجمعت الصحابة على العمل بالقياس، فيكون حجة.
أما أن الصحابة عملت به، فلان بعض الصحابة عمل به، ولم يظهر من
الباقين انكار [ه]، وقد بينا أن مثل ذلك حجة، فيما سلف.
أما أن بعض الصحابة عمل به فمن وجهين:
أحدهما: أن الصحابة اختلفوا في مسائل كثيرة، وليس تمسكهم فيها
بالنص، فتعين أنهم عولوا على الاجتهاد
الثاني: انهم استدلوا في كثير من المسائل بالقياس وأشاروا إلى التشبيه
بين المسائل، كما قال ابن عباس: " ألا يتق الله زيد يجعل ابن الابن ابنا، و
لا يجعل أب الأب أبا ". وما روي من قول عمر لأبي موسى: " وقس الأمور
برأيك ". وما روى عنه أنه قضى في زوج، وأم، وإخوة لأم، وأخوة لأب و
أم أن للام: السدس، وللزوج: النصف، وللاخوة من الام: الثلث، فقال
الباقون: " هب أن أبانا كان حمارا، ألسنا من أم واحدة؟! " فشرك بينهم، وغير
ذلك من المسائل.
وأما أن الباقين لم ينكروا، فلانه لو حصل ذلك لظهر، لان القياس من
الأصول التي لو وقعت فيها المناكرة لظهرت.
وأما أن مثل ذلك اجماع، فلان سكوتهم لا يحتمل الا الرضا به، لما
عرف من تحرج الصحابة في انكار الباطل والمنع من العمل به.
الوجه الثاني: قوله عليه السلام لمعاذ وأبى موسى: " بم تقضيان؟ قالا: إذا لم

(1) في نسخة: فلوجوه.
190

نجد الحكم (في) (1) الكتاب والسنة، نقيس الامر بالامر، فما كان أقرب إلى
الحق عملنا به. فقال: أصبتما ". وقوله عليه السلام لابن مسعود: " اجتهد برأيك ".
الوجه الثالث: نبه النبي صلى الله عليه وآله على القياس، وذلك اذن في العمل به،
أما تنبيهه فبقوله لعمر - وقد سأله عن القبلة -: " لو تمضمضت بماء ثم مججته
أكنت شاربه؟! " وقوله صلى الله عليه وآله للخثعمية: " أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته
أكان يجزى؟ فقالت: نعم، فقال صلى الله عليه وآله: فدين الله أحق أن يقضى ".
الوجه الرابع: قوله تعالى: " فاعتبروا يا أولي الأبصار " (2) والاستدلال
بهذه الآية ضعيف.
والجواب عن الأول: قوله: العمل بالظن واجب. قلنا: متى؟ إذا
أمكن العلم، أو [إذا] لم يمكن، ونحن قادرون على تحصيل الاحكام من ظواهر
النصوص المعلومة، سلمنا أنه لا طريق إليها الا بالقياس، لكن لا نسلم وجوب
العمل بالظن، إذ لو وجب ذلك، لوجب العمل بقول الشاهد الواحد، لا
بل كان يجب العمل بقول المدعى بمجرده إذا غلب على ظن الحاكم صدقه،
حتى يعمل بقول مدعى النبوة من دون المعجز.
لا يقال: منعت الأدلة من العمل بما ذكرته.
لأنا نقول: لو كان الظن وجها لوجوب العمل، لاطرد ذلك، كما أن رد
الوديعة لما كان وجها موجبا لم يختلف وجوب الفعل الذي يقع عليه، [على]
أن الدلالة قد منعت من ذلك، وهو قوله تعالى: " وأن تقولوا على الله مالا
تعلمون " (3).

(1) في بعض النسخ: من.
(2) الحشر / 2.
(3) البقرة / 169.
191

وأما الجواب عن المنقول فنقول: لا نسلم أن الصحابة عملت به، قوله:
عمل بعض ولم ينكر الباقون، قلنا: لا نسلم أن بعضا عمل، قوله: اختلاف
الصحابة مع استبعاد أن يكون مستندهم [النص دليل على العمل. قلنا: لم لا
يجوز أن يكون مستندهم] النصوص؟! والاستبعاد الذي ذكر تموه لا يفيد اليقين
قوله: استدلوا على كثير من المسائل بالقياس. قلنا: هذا منقول بطريق الآحاد
فلا يثمر العلم، سلمنا [صحة] نقلها، لكن لا نسلم أنهم استندوا في ذلك إلى
القياس، وان كان معنى القياس فيه موجودا.
أما (قصة) (1) ابن عباس فإنه يحتمل أنه رأى ابن الابن يسمى ابنا، و
كذلك أب الأب يسمى أبا، (فألزمه) (2) التسوية ظنا أنه انما عمل (في) (3)
أحدهما بوقوع الاسم عليه، والاخر مثله في تناول اللفظ، وليس ذلك قياسا.
[وأما] قول عمر: " قس الأمور برأيك " فغاية ما أمره بالمقايسة، فجائز أن
يكون أراد التسوية في مدلولات الألفاظ.
وأما (الشركة) (4): فلا نسلم أن الاخوة للأب والام استدلوا بالقياس، بل
بطريق أن ولد الام يستحقون الثلث، ومن كان من ولد الأب والام فهو من
ولد الام.
قوله: لو أنكر الباقون لظهر. قلنا: أولا لا نسلم أن السكوت دليل الرضا
فإنه يحتمل وجوها كثيرة غير ذلك، وقد ذكر [نا] ذلك في باب الاجماع،
سلمنا أنه يدل على الرضا، لكن لا نسلم أنهم سكتوا، ولم لا يجوز أن يكونوا

(1) في نسخة: قضية.
(2) في نسخة: لزمه.
(3) في نسخة: من، وفى أخرى: بأحدهما.
(4) في نسخة: المشتركة.
192

أنكروا ذلك، قوله: لو كان لنقل. قلنا: لا نسلم ذلك، سلمنا [ه] لكن لا نسلم
أنه يجب استمرار النقل حتى يتصل بنا، ثم نقول: يجب أن ينقل ذلك متواترا
أو آحادا، الأول ممنوع، والثاني مسلم، وقد نقل الانكار في مواضع:
منها: ما روي عن أبي بكر أنه قال: " أي سماء تظلني؟! وأي أرض
تقلني؟! إذا قلت في كتاب الله برأيي ".
وعن عمر أنه قال: " فان جاءك ما ليس في الكتاب والسنة، فاقض بما
أجمع عليه أهل العلم، فان لم تجد فلا عليك أن لا تقضي ".
وعن ابن عباس: " تتخذ الناس رؤساء جهالا يقيسون الأمور برأيهم ".
وقال: إذا قلتم في دين الله بالقياس أحللتم كثيرا مما حرم الله، وحرمتم
كثيرا مما أحل الله ".
والجواب عن خبر أبي موسى ومعاذ أن نقول: هو خبر واحد، لا يجوز
العمل به في مسألة علمية، ثم هو مطعون فيه بوجوه: منها: أنه مرسل، ومنها:
أن بعض المحدثين روى أنه لما قال " اجتهد " قال رسول الله صلى الله عليه وآله " اكتب
[كتابا] إلى، أكتب إليك ".
ثم نقول: لا نسلم أن قوله: " [أجتهد] برأيي " (1) إشارة إلى القياس، بل
كما يحتمل ذلك، يحتمل أنه أراد الاجتهاد في العمل بدلالة الأصل، (وبدلالة) (1)
الاحتياط، وغير ذلك من وجوه الاجتهاد، ومع الاحتمال يجب التوقف.
والجواب عن تنبيه النبي صلى الله عليه وآله على القياس أن نقول: هي أخبار آحاد لا
توجب العمل في مسألة علمية، على أنا نطالب بصحتها، ولو سلمناها [لما]

(1) في نسخة: اجتهد برأيك.
(2) في بعض النسخ: ودلالة.
193

كان ذلك أمرا بالقياس، لان التشبيه لا يقتضى تعدي الحكم، كما لو قال: عبدي
(سالم) حر لأنه حبشي، لم يغلب على الظن أنه يريد عتق كل حبشي له.
وأما الآية: فبعيدة عن الدلالة على مرادهم، لان ظاهرها الامر بالاتعاظ
فأين ذلك من قياس الفرع على الأصل؟!.
194

الباب العاشر
وهي خاتمة الكتاب
في فصول مختلفة:
195

الفصل الأول
في المفتى والمستفتي، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: يجوز للعامي العمل بفتوى العالم في الأحكام الشرعية،
وقال الجبائي: يجوز ذلك في مسائل الاجتهاد، دون ما عليه دلالة (قطعية) (1)
ومنع بعض المعتزلة ذلك في الموضعين.
لنا: اتفاق علماء (الاعصار) (2) على الاذن للعوام في العمل بفتوى العلماء
من غير تناكر، وقد ثبت أن اجماع أهل كل عصر حجة.
الثاني: لو وجب على العامي النظر في أدلة الفقه، لكان ذلك اما قبل
وقوع الحادثة أو عندها، والقسمان باطلان، أما قبلها فمنفي بالاجماع، ولأنه
يؤدي إلى استيعاب وقته بالنظر في ذلك، فيؤدي إلى الضرر بأمر المعاش
المضطر إليه، وأما عند نزول الواقعة فذلك متعذر، لاستحالة اتصاف كل
عامي عند نزول الحادثة بصفة المجتهدين.
لا يقال: هذا لازم في المسائل العقلية الاعتقادية، مع أنه لا يسوغ فيها التقليد.

(1) في بعض النسخ: قاطعة.
(2) في نسخة: الأمصار.
197

لأنا نقول: تلك حصولها سهل بأوائل الأدلة، وهي عقائد مضبوطة،
وليس كذلك الفقه وحوادثه، لانتشارها، وانفراد كل مسألة منها بدليل
[على] حياله.
واحتجوا لذلك أيضا: بقوله: " فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون " (1)
ويمكن أن يقال: سلمنا وجوب السؤال، ولكن لا نسلم وجوب العمل.
واحتجوا أيضا: بقوله تعالى: " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا
في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " (2).
ولقائل أن يقول: الانذار مما يوجب الحذر لكن قد يكون باعثا على النظر
في الأدلة، فلم لا يجوز أن يكون هو المراد؟!
واحتج المانعون بوجوه:
الأول: قوله تعالى: " وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " (3)، و " لا تقف
ما ليس لك به علم " (4)، و: " ان الظن لا يغني من الحق شيئا " (5)
وثانيها: أنه عمل بما لا يؤمن كونه مفسدة، فيكون قبيحا، لان المفتي
جائز الخطأ، فكل ما يفتي به يجوز أن يكون مخطئا فيه، فيكون الاقدام على
العمل، على مالا يؤمن كونه مفسدة، وقبح ذلك ظاهر.
وثالثها: لو جاز التقليد في الشرعيات، لجاز في (العقليات) (6)، والثاني

(1) الأنبياء / 7.
(2) التوبة / 122.
(3) البقرة / 169.
(4) الاسراء / 36.
(5) يونس / 36.
(6) في نسخة: القطعيات
198

محال، (فالأول) (1) مثله.
والجواب عن الآيات أن نقول: خص منها العمل بشهادة الشاهدين، و
استقبال [جهة] القبلة مع الظن عند عدم العلم، والظن بأروش الجنايات وقيم
المتلفات، وانما خص لوجود الدلالة، كذا هنا.
وعن الثاني: أن الامن من المفسدة، بما أشرنا إليه من الدلالة الدالة على
جواز العمل بالفتوى.
وعن الثالث: بالفرق بين الامرين بتشعب مسائل الفقه وكثرة أدلتها، و
سهولة أدلة الكلام وقلتها، وبأن العقليات الغرض فيها الاعتقاد، فلا يبنى الا
على العلم، والشرعيات يجوز التعويل فيها على الظنون عند وجود الدلائل
الدالة على اشتمالها على المصلحة.
المسألة الثانية: لا يجوز تقليد العلماء في أصول العقائد، خلافا للحشوية.
ويدل على ذلك وجوه:
أحدها: قوله تعالى: " وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " (2).
الثاني: ان التقليد: قبول قول الغير من غير حجة، فيكون جزما في غير
موضعه، وهو قبيح عقلا.
الثالث: لو جاز تقليد المحق لجاز تقليد المبطل، لأنه اما أن يكون تقليد
المحق مشروطا بالعلم بكونه حقا أو لم يكن، ويلزم من الأول طلب العلم (وأن
لا) (3) يكون تقليدا "، وان جاز تقليد المحق [من] دون العلم بكونه حقا لزم

(1) في نسخة: والأول
(2) البقرة / 169
(3) في نسخة: وان، وفى أخرى: والا
199

تقليد المبطل، لاشتراكهما في سبب الاتباع، وهو مجرد التقليد، (وإذا) (1)
ثبت أنه غير جائز، فهل هذا الخطأ موضوع عنه؟ قال شيخنا أبو جعفر ره: نعم
(وخالفه) (2) الأكثرون.
احتج ره: باتفاق فقهاء (الاعصار) (3) على الحكم بشهادة (العامي) (4) مع
العلم بكونه لا يعلم تحرير العقائد بالأدلة القاطعة.
لا يقال: قبول الشهادة انما كان لأنهم يعرفون أوائل الأدلة، وهو سهل
المأخذ.
لأنا نقول: ان كان ذلك حاصلا لكل مكلف لم يبق من يوصف بالمؤاخذة
فيحصل الغرض وهو سقوط الاثم، وان لم يكن معلوما لكل مكلف لزم أن يكون
الحكم بالشهادة موقوفا على العلم بحصول تلك الأدلة (للشاهد) (5) منهم،
لكن [ذلك] محال، ولأن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يحكم باسلام الأعرابي [من] غير
أن يعرض عليه أدلة الكلام، (ولا يلزمه) (6) بها، بل يأمره بتعلم الأمور الشرعية
اللازمة كالصلاة وما أشبهها.
المسألة الثالثة: الذي [يسوغ] له الفتوى هو العدل العالم بطرق العقائد
الدينية الأصولية، وبطرق الأحكام الشرعية وكيفية استنباط الاحكام منها.
وبالجملة: يجب أن يعرف جميع ما يتوقف عليه كل واقعة يفتي فيها،

(1) في نسخة: وان
(2) في نسخة: وخالف
(3) في أكثر النسخ: الأمصار
(4) في نسخة: الراوي
(5) في نسخة: للمشاهد
(6) في نسخة: ولا يلزم
200

بحيث إذا سئل عن لمية ذلك الحكم أتى به وبجميع أصوله التي (يبتنى) (1)
عليها. وانما وجب ذلك، لان الفتوى مشروطة بالعلم بالحكم، وما لم يكن عارفا
بتلك الأمور لا يكون عالما به، لأن الشك في إحدى مقدمات الدليل (2) أو في
مقدمات مقدماته، شك في الحكم، ولا تجوز الفتوى مع الشك في الحكم.
[و] إذا تقرر هذا: فلا يجوز (للمفتي) (3) أن يتعرض للفتوى حتى يثق من
نفسه بذلك، ولا يجوز للمستفتي أن يستفتيه حتى يعلم منه ذلك من ممارسته و
ممارسة العلماء وشهادتهم له باستحقاق منصب الفتوى وبلوغه إياه، ولا يكتفي
العامي بمشاهدة المفتي متصدرا، ولا داعيا إلى نفسه، ولا مدعيا، ولا باقبال
العامة عليه، ولا اتصافه بالزهد والتورع، فإنه قد يكون غالطا في نفسه أو
مغالطا.
وإذا ثبت ذلك: فان كان في البلد واحد بهذه الصفة تعين للفتوى، وان
كان أكثر: فان تساووا في العلم والعدالة جاز استفتاء كل منهم، فان اختلفوا
في الفتوى - والحال هذه - كان المستفتي مخيرا في العمل بقول أيهم شاء
وان كان أحدهم أرجح في العلم والعدالة وجب العمل (بفتواه) (4). وان اتفق
اثنان أحدهما أعلم والاخر أكثر عدالة وورعا، قدم الأعلم، لان الفتوى تستفاد
من العلم لا من الورع، والقدر الذي عنده من الورع يحجزه عن الفتوى
بما لا يعلم، فلا اعتبار برجحان ورع الاخر.

(1) في بعض النسخ: يبنى
(2) في نسخة إضافة: أو في مقدمات الدليل
(3) في نسخة: من المفتى
(4) في نسخة: بقوله
201

تفريع
العالم إذا كان من أهل الاجتهاد وحصل له حكم الواقعة بنظر صحيح،
لم يجز له العدول إلى العمل بفتوى من هو أعلم [منه]، لأنه عدول عما يعلم
إلى ما يظن، وكذا (ان) (1) لم يجتهد، لم يجز له الرجوع إلى قول الأعلم، لان
تحصيل العلم ممكن في حقه.
أما إذا أشكل عليه طريق الواقعة جاز له الرجوع إلى الأعلم، لأنه بالنسبة
إليه في تلك الواقعة كالعامي.
المسألة الرابعة: لا يجوز للعامي أن يفتي بما ينقله عن العلماء، سواءا نقل
عن حي أو ميت، لأنه قول بما لا يعلم فكان حراما.
المسألة الخامسة: إذا أفتى المجتهد عن نظر في واقعة، ثم وقعت بعينها
في وقت آخر، [فان] كان ذاكرا لدليلها جاز له الفتوى، وان نسيه افتقر إلى
استئناف نظر، فان أدى نظره إلى الأول فلا كلام، وان خالفه وجب الفتوى
بالأخير، والأولى تعريف من استفتاه [أولا]، لأنه عامل بقوله وقد رجع عنه،
فلو استمر لبقي عاملا بالفتوى من غير دليل ولا فتوى مفت.
الفصل الثاني
في مسائل مختلفة:
المسألة الأولى: اتفق أهل العدل على قبح التصرف فيما فيه مضرة خالية
(من) (2) نفع، وكذا مالا منفعة فيه، وكذا ما علم وجه قبحه كالظلم.

(1) في نسخة: إذا
(2) في بعض النسخ: عن
202

واختلفوا فيما عدا ذلك مما ينتفع به ولا يعلم كونه واجبا ولا مندوبا، فقال
قوم: انه على الحظر، وهو مذهب طائفة منا وقال الآخرون: على الإباحة، و
هو اختيار المرتضى ره، وتوقف آخرون فيه عقلا، وأباحوا منها ما دل عليه
الشرع، وهو اختيار شيخنا المفيد ره.
احتج القائلون بالحظر بأنه تصرف في ملك الغير بغير اذنه، فيكون
قبيحا.
أجاب الآخرون بأنا لا نسلم أنه تصرف بغير اذن المالك، وهذا لان الأدلة
التي نذكرها يلزم منها الاذن، سلمنا أنه لم يأذن، لكن كما لم يأذن لم يحظر، ثم
نقول: لا نسلم أن مال الغير يحرم التصرف فيه الا مع المنع، أو مع مضرة تتوجه
على المالك، أو فوت مصلحة له، يدل على ذلك أنا نستبيح الاستناد إلى جدار
الغير من غير اذنه، وكذا نستضئ بضوء مصباحه، ولا علة لذلك الا
خلوه من غرض يقتضي المنع، والأشياء بالنسبة إلى الله سبحانه تجري هذا
المجري.
ثم ما ذكر تموه منقوض بالتنفس في الهواء فإنه يستباح عقلا من غير توقف
على اذن.
لا يقال: ذلك لمكان الضرورة، لأنا نقول: لو كان كذلك لما جاز أن نستبيح
منه الا ما يدفع الضرورة، وليس كذلك ثم نقول: لو قبح منه الاقدام لأنه تصرف
في مال الغير، لقبح الاحجام (لمثل) (1) ذلك، إذ تصرف في نفسه - اقداما (أو) (2)
احجاما - تصرف في ملك الغير، فيلزم الجمع بين النقيضين.
احتج القائلون [بالإباحة] بوجوه:

(1) في نسخة: بمثل
(2) في نسخة: و
203

الأول: ان ذلك تحصيل لمنفعة خالية عن الضرر، فتكون حسنه، أما
الأولى: فلان المالك سبحانه لا ينتفع ولا يستضر ولا ينقص ملكه شئ، وأما
المنتفع فلانا نتكلم على هذا التقدير، وأما الثانية: فيدل عليها وجهان: الأول:
أن مثل ذلك خال عن وجوه القبح، والثاني: أن الاستظلال بجدار الغير
يحسن من غير اذن مالكه، ولاوجه لحسنه الا عدم استضرار المالك وانتفاع
المستظل، وهذا الوجه حاصل فيما ذكرنا [ه] فيجب أن يحسن.
لا يقال: هذا باطل بالربا والزنا وغير ذلك من المحرمات، فان المالك لا
يستضر بفعلها، وهي نافعة للفاعل، فلو كان وجها يقتضي الحسن لما قبح
شئ منها.
لأنا نقول: ورود النهي عنها دليل على اشتمالها على مفسدة عائدة إلى
المكلف تقتضي المنع، وليس كذلك ما نحن فيه.
الوجه الثاني: لو لم تكن (المشتهيات) (1) على الإباحة لزم أن يكون تعالى
فاعلا للقبيح، لكن هذا اللازم محال، وبيانه: (انه) (2) بتقدير أن لا يكون
مخلوقه للانتفاع: اما أن يكون في خلقها غرض حكمي، واما أن لا يكون،
ويلزم من الثاني العبث، وان كان: فاما النفع عائد إليه تعالى وهو محال، واما
الضرر عائد إلى غيره، وهو قبيح، لعدم الوجوه المقتضية لحسنه، فتعين أن
تكون للانتفاع.
ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون فيه غرض غير الانتفاع؟ وهو اما
امتناع المكلف منه، لتحصيل الثواب بمنع النفس عن تناوله، أو ليستدل بها
على الصانع سبحانه، أو غير ذلك من الوجوه.

(1) في بعض النسخ: المشتبهات.
(2) في نسخة: أن.
204

فان قالوا: خلقها يحسن مع عدم التكليف.
كان لقائل أن يمنع ذلك.
وكذلك (ان قالوا): (1) يمكن الاستدلال على الصانع سبحانه من دونها
بغيرها.
قلنا: العقل لا يمنع من ترادف الأدلة ولا يقبحه.
الوجه الثالث: قالوا قد علمنا حسن التنفس في الهواء من دون اذن المالك
والاستظلال بجدار الغير والاستضاءة (2) بمصابيحه، والعلة في ذلك أنه لا
ضرر فيه على المالك ولا على غيره، إذ لا وجه يضاف إليه الجواز الا (ذاك) (3)
ولأن ذلك الحكم يدور مع هذه العلة وجودا وعدما، فيجب أن يحسن التصرف
فيما ذكرناه للاشتراك في الموجب.
الوجه الرابع: الاستدلال بالشرع على الإباحة، وهو أمران: القرآن، و
الاجماع.
أما القرآن: فقوله تعالى: " خلق لكم ما في الأرض جميعا " (4) وقوله تعالى:
" قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق " (5) وقوله:
" أحل لكم الطيبات " (6).
وأما الاجماع: فلان أهل الشرائع كافة لا يخطئون من بادر إلى تناول
شئ من المشتهيات، سواء علم الاذن فيها من الشرع أو [لم] يعلم، ولا

(1) في نسخة: أن يقول.
(2) في النسخ: الاستضواء.
(3) في بعض النسخ: ذلك.
(4) البقرة / 29
(5) الأعراف / 32
(6) المائدة / 5.
205

يوجبون عليه عند تناول شئ من المأكل أن يعلم التنصيص على (الإباحة) (1)
ويعذرونه في كثير من المحرمات إذا تناولها من غير علم، ولو كانت محظورة
لأسرعوا إلى تخطئته حتى يعلم الإذن.
المسألة الثانية: إذا ثبت حكم في وقت، ثم جاء وقت آخر ولم يقم دليل
على انتفاء ذلك الحكم، هل يحكم ببقائه على ما كان؟ أم يفتقر الحكم به في
الوقت الثاني إلى دلالة، كما يفتقر نفيه إلى الدلالة.
حكي عن المفيد ره: أنه يحكم ببقائه ما لم تقم دلالة على نفيه، وهو
المختار.
وقال المرتضى ره: لا يحكم بأحد الامرين الا لدلالة.
مثال ذلك: المتيمم إذا دخل في الصلاة، فقد أجمعوا على المضي فيها،
فإذا رأى الماء في أثناء الصلاة، هل يستمر على فعلها استصحابا للحال الأول؟
أم يستأنف الصلاة (بوضوء) (2) فمن قال بالاستصحاب قال بالأول، ومن
(اطرحه) (3) قال بالثاني.
لنا وجوه:
الأول: ان المقتضي للحكم الأول ثابت فيثبت الحكم، والعارض لا يصلح
(رافعا) (4) له، فيجب الحكم بثبوته (في) (5) الثاني.
أما أن مقتضي الحكم الأول ثابت، فلانا نتكلم على هذا التقدير.

(1) في بعض النسخ: اباحته.
(2) في بعض النسخ: لوضوء.
(3) في نسخة: طرحه.
(4) في نسخة: دافعا، و (له) محذوفة من إحدى النسخ.
(5) في نسخة: على.
206

وأما أن العارض لا يصلح رافعا، فلان العارض انما هو احتمال تجدد ما
يوجب زوال الحكم، لكن احتمال ذلك يعارضه احتمال عدمه، فيكون كل
واحد منهما مدفوعا بمقابله، فيبقى الحكم الثابت سليما عن (رافع) (1).
الوجه الثاني: الثابت أولا قابل للثبوت ثانيا - والا لانقلب من الامكان
الذاتي إلى الاستحالة - فيجب أن يكون في الزمان الثاني جائز الثبوت كما
كان أولا، فلا ينعدم الا (لمؤثر) (2)، لاستحالة خروج الممكن من أحد طرفيه
إلى الاخر (لا) (3) لمؤثر، فإذا كان التقدير تقدير عدم العلم بالمؤثر، فيكون
بقاؤه أرجح من عدمه في اعتقاد المجتهد، والعمل بالراجح واجب.
الوجه الثالث: عمل الفقهاء باستصحاب الحال في كثير من المسائل، و
الموجب للعمل هناك موجود في موضع الخلاف، (فيثبت) (4) العمل به.
أما الأولى: فكمن تيقن الطهارة وشك في الحدث، فإنه يعمل على
يقينه، وكذلك بالعكس ومن تيقن طهارة ثوبه في حال، بني على ذك حتى
يعلم (رافعها) (5) ومن (شهد) (6) بشهادة بنى على بقائها حتى يعلم رافعها، ومن
غاب غيبة منقطعة، [حكم] ببقاء أنكحته، ولم تقسم أمواله، وعزل نصيبه في
المواريث، وما (ذاك) (7) [الا] لاستصحاب حال حياته.

(1) في نسخة: دافع.
(2) في نسخة: بالمؤثر.
(3) في بعض النسخ: الا.
(4) في نسخة: فثبت.
(5) في بعض النسخ: خلافها.
(6) في نسخة: يشهد.
(7) في نسخة: ذلك.
207

وهذه العلة موجودة في مواضع الاستصحاب، [فيجب العمل به].
الوجه الرابع: أطبق العلماء على أن مع عدم الدلالة الشرعية يجب
(بقاء) (1) الحكم على ما تقتضيه البراءة الأصلية، ولا معنى للاستصحاب الا
هذا.
فان قال: ليس هذا استصحابا، بل هو ابقاء الحكم على ما كان، لا حكما
بالاستصحاب.
قلنا: [نحن] نعني بالاستصحاب هذا القدر، لا نعني به شيئا سوى ذلك.
احتج المانع:
بأن ذلك (حكم) (2) بغير دليل، فيكون باطلا.
أما انه حكم بغير دليل، فلأن ثبوت الحكم بالدليل في وقت أوفي حال
لا يتناول ما عدا تلك الحال وذلك الزمان، فلو حكم بذلك الحكم في الحال
الثاني، لكان حكما بغير دليل.
وأما أن الحكم بغير دليل باطل، فبالاتفاق.
الوجه الثاني: لو كان الاستصحاب حجة، لوجب فيمن علم زيدا في الدار
ولم يعلم خروجه أن يقطع ببقائه فيها وكذا كان يلزم إذا علم أن زيدا حي،
[ثم] انقضت مدة ولا يعلم فيها موته، أن يقطع ببقائه، وكل ذلك باطل.
الوجه الثالث: استدل بعض الجمهور بأن العمل بالاستصحاب يلزم منه
التناقض، فيكون باطلا، وذلك أن الاستدلال به كما يصح أن يكون حجة
للمستدل، يصح مثله لخصمه، فإنه إذا قال: الثابت قبل وجود الماء للمصلي
المضي في صلاته، فيثبت ذلك الحكم إذا وجد الماء، كان لخصمه أن يقول:

(1) في نسخة: ابقاء.
(2) في بعض النسخ: عمل.
208

الثابت اشتغال ذمته بصلاة متيقنة، فيجب أن يبقى الشغل، (أو) (1) يقول: قبل
الصلاة لو وجد الماء لما جاز [له] الدخول فيها بتيممه، فكذلك بعد الدخول
فيها.
والجواب عن الأول: أن نقول: قوله: ان ذلك عمل بغير حجة. (قلنا): (2)
لا نسلم، لان الدليل دل على أن الثابت لا يرتفع الا برافع، فإذا كان التقدير
تقدير عدمه، كان بقاء الثابت راجحا في اعتقاد المجتهد، والعمل بالراجح
لازم.
قوله في الوجه الثاني: لو كان الاستصحاب حجة، لوجب القطع ببقاء
ما يعلم الانسان وقوعه في الأزمان المنقضية إذا لم يعلم له رافعا. قلنا: نحن لا
ندعي القطع، ولكن ندعي رجحان الاعتقاد لبقائه، وذلك يكفي في العمل به.
قوله في الوجه الثالث: يلزم منه التناقض.
(لا نسلم) (3) " إذ ليس كل موضع يستعمل فيه الاستصحاب يفرض فيه ذلك
الفرض، ووجود التعارض في الأدلة المظنونة لا يوجب سقوطها حيث تسلم
عن المعارض، كما في أخبار الآحاد والقياس، عند من يعمل بهما.
والذي نختاره نحن: أن ننظر في الدليل المقتضي لذلك الحكم، فان كان
يقتضيه مطلقا، وجب القضاء باستمرار الحكم، كعقد النكاح مثلا، فإنه يوجب حل
الوطء مطلقا، فإذا وقع الخلاف في الألفاظ التي يقع بها الطلاق كقوله أنت
خلية، وبرية، فان المستدل على [أن] الطلاق لا يقع (بها) (4) لو قال: حل الوطء

(1) في نسخة: و.
(2) في نسخة: قلت.
(3) في نسخة: فلا نسلم.
(4) في بعض النسخ: بهما.
209

ثابت قبل النطق بهذه، فيجب أن يكون ثابتا بعدها، لكان استدلالا صحيحا، لان
المقتضي للتحليل - وهو العقد - اقتضاه مطلقا، ولا يعلم أن الألفاظ المذكورة
رافعة لذلك الاقتضاء، فيكون الحكم ثابتا، عملا بالمقتضي.
لا يقال: المقتضي هو العقد، ولم يثبت أنه باق، فلم يثبت الحكم.
لأنا نقول: وقوع العقد اقتضى حل الوطء لا مقيدا بوقت، (فلزم) (1)
دوام الحل، نظرا إلى وقوع المقتضي لا إلى دوامه، فيجب أن يثبت الحل حتى
يثبت الرافع، فان كان الخصم يعني بالاستصحاب ما أشرنا إليه، فليس ذلك
عملا بغير دليل. وان كان يعني به أمرا وراء ذلك، فنحن مضربون عنه.
المسألة الثالثة: النافي للحكم: ان قال: لا أعلم، لم يكن عليه دليل،
لان قوله لا يعد مذهبا، وان قال: أعلم انتفاء الحكم، كان عليه إقامة الدليل
كما يلزم المثبت، وسواء نفى حكما شرعيا أو عقليا، ويدل على ذلك وجهان:
الأول: ان النافي جازم بالنفي فيكون مدعيا للعلم به، فاما أن يكون
علمه اضطرارا أو استدلالا، والأول: باطل، لأنا [لا] نعلم ذلك، فتعين الثاني
ويلزم من ذلك تعويله على مستنده ان كان معتقدا، وابرازه ان كان مناظرا،
ليتحقق دعواه وليتمكن من تركيب الحجة على مناظره.
الثاني: [لو لم يلزم] النافي إقامة الدلالة، لزم من ذلك (التفصي) (2) من
الأدلة في كل دعوى، لكن ذلك باطل.
وبيان ذلك: ان المدعي لقدم العالم إذا طولب بالدلالة، عدل عن هذا
اللفظ، بأن يقول: ليس العالم بحادث، فيسقط عنه الدليل، لكن لو صح ذلك
له، لأمكن خصمه أن يقول: ليس العالم بقديم، فيسقط عنه الدليل أيضا، و

(1) في نسخة: فيلزم.
(2) في بعض النسخ: التقضى.
210

بطلان ذلك ظاهر.
احتج الخصم:
بأن (النفي) (1) عدم، والعدم لا يفتقر إلى الدلالة.
وبأن اثبات الاحكام موقوف على ثبوت الأدلة، فيكون عدمها مستندا
إلى عدم الأدلة، كما أن المعجز دلالة على النبوة، وعدمها دليل على عدم
النبوة، ويؤيد ذلك قوله - عليه السلام -: " البينة على المدعي واليمين على (من
أنكر) (2) ".
والجواب:
قوله: النفي عدم. قلنا: هذا صحيح، لكن الجزم بذلك النفي هو
المفتقر إلى الدلالة.
قوله: اثبات الاحكام يفتقر إلى الدلالة، فيكفي في نفيها عدم الدلالة.
قلنا: هذا محض الدعوى، فما الدليل عليه؟ فان من علم دليل الثبوت جزم
به، ومن عدمه فإنه يجوز ثبوت الحكم كما يجوز عدمه، إذ عدم الدليل لا
يدل على عدم المدلول كما يدعيه.
قوله: عدم المعجز دليل على عدم النبوة. قلنا: لا نسلم، فان من لا يعلم
معجز النبي، لا يجوز له الجزم بنفي (نبوته) (3)، أما إذا ادعى النبوة ولا معجز
له، فانا ننفي (نبوته) (4) لا لعدم المعجز، [بل] لعلمنا عقلا أنه لو كان نبيا لكان
له معجز، فنستدل بعدم اللازم على عدم الملزوم، وذلك من الأدلة القاطعة،
فكان مستند الحكم بانتفاء (نبوته) (5) إلى ذلك الدليل، لا إلى مجرد عدم المعجز

(1) في نسخة: المنع.
(2) في نسخة: المنكر.
(3) (4) (5) في نسخة: ثبوته.
211

وكذا إذا حكمنا بانتفاء واقعة، لو وقعت لعلمت، مثل انكار مدينة قريبة لم
يسمع ببنائها، أو وقوع حادثة في ملأ ولم تسمع منهم، فانا نحكم بانتفاء ذلك
كله، لان ذلك مما لو كان لظهر، فلما لم يظهر، دل ذلك على عدمه.
وأما قوله عليه السلام: " واليمين على من أنكر " فانا نقول: لا نسلم أن القول
قوله من غير حجة، بل الحجة معه بتقدير عدم البينة من طرف المدعي، و
ذلك أنه إذا ادعى عليه عينا فإنها تكون في يده، واليد دلالة [على] الملك،
فكان الحكم باليد لا بعدم البينة بمجرده، وان ادعى عليه دينا، فالأصل براءة
الذمم، فهو مستدل بالأصل على أن ايجاب اليمين عليه يجرى مجرى الحجة
في جنبه شرعا، وذلك مما يدل على أنه لم يثبت قوله بعدم البينة، إذ لو ثبت
ثبوتا باتا [تاما] لما كلف [اليمين].
وإذا ثبت هذا، فاعلم: أن الأصل خلو الذمة عن الشواغل الشرعية، فإذا
ادعى مدع حكما شرعيا، جاز لخصمه أن يتمسك في انتفائه بالبراءة الأصلية،
فيقول: لو كان ذلك الحكم ثابتا، [لكان] عليه دلالة شرعية، لكن ليس كذلك
فيجب نفيه، ولا يستمر (1) هذا الدليل الا ببيان مقدمتين:
إحداهما: انه لا دلالة عليه شرعا، بأن (نضبط) (2) طرق الاستدلالات
الشرعية، ونبين عدم دلالتها عليه.
والثانية: أن (نبين) (3) أنه لو كان هذا الحكم ثابتا لدلت عليه إحدى تلك
الدلائل، لأنه لو لم يكن عليه دلالة، لزم التكليف [بما لا طريق للمكلف إلى

(1) كذا في النسخ ولعل الصحيح: ولا يتم.
(2) في نسخة تضبط.
(3) في نسخة: أن يتبين.
212

العلم به، وهو تكليف] بما لا يطاق، ولو كان عليه دلالة غير تلك (الأدلة) (1)
لما كانت أدلة الشرع منحصرة [فيها]، لكن قد بينا انحصار الاحكام في تلك
الطرق.
وعند هذا يتم كون ذلك دليلا على نفي الحكم. والله أعلم.
الفصل الثالث
(فيما ألحق) (2) بأدلة الأصول وليس منها، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: إذا اختلف الناس على أقوال، وكان بعضها يدخل في
بعض - كما اختلف في حد الخمر، فقال قوم: ثمانون، وآخرون: أربعون
وفي دية اليهودي، فقيل: كدية المسلم، وقيل: ثمانون، وقيل: على النصف
وقيل: على الثلث - هل يكون الاخذ بالأقل حجة؟ حكم بذلك قوم، وأنكر [ه]
آخرون.
أما القائلون [بذلك] فقالوا: قد حصل الاجماع على وجوب الأقل، و
الاجماع حجة، واختلف في الزائد، والبراءة الأصلية نافية له، فيثبت الأقل
بالاجماع، (وينفى) (3) الزائد بالأصل، لان التقدير تقدير عدم الدلالة الشرعية
وقد بينا أن مع عدمها يكون العمل بالبراءة الأصلية [لازما].
لا يقال: الذمة مشغولة بشئ، وقد اختلف فيما تبرأ به الذمة، وفي الأقل
خلاف، وبالأكثر تبرأ الذمة يقينا، فيجب الاخذ به احتياطا لبراءة الذمة.

(1) في نسخة: الدلالة.
(2) في نسخة: فيما يتعلق
(3) في نسخة: وينتفى.
213

لأنا نقول: لا نسلم اشتغال الذمة مطلقا، لان الأصل دال على خلوها،
فلا تشتغل الا مع قيام الدليل، وقد ثبت اشتغالها بالأقل، فلا يثبت اشتغالها
بالأكثر، [والاشتغال بالأكثر] مغاير للاشتغال المجرد، ومغاير للاشتغال بالأقل
فيكون الاشتغال بالأكثر والاشتغال المطلق منفيا بالأصل.
لا يقال: فان لم يثبت دلالة على الأكثر، فإنه من الممكن أن يكون هناك
دليل، ولا يلزم من عدم الظفر به عدمه، فكان العمل بالأكثر أحوط.
لأنا نقول: ذلك الدليل المحتمل لا يعارض الأصل، لأنا قد بينا أن مع
تقدير عدم الدلالة الشرعية يجب العمل بالبراءة الأصلية، وذلك يرفع ما أوما [نا]
إليه من الاحتمال.
المسألة الثانية: إذا اختلف (الأمة) (1) على قولين، هل يجب الاخذ
بأخفهما حكما بتقدير عدم الدلالة على كل واحد منهما -؟ صار إلى ذلك قوم
وقال آخرون: بالأثقل، والكل باطل.
واحتج الأولون: بالنقل والعقل.
أما النقل: فقوله تعالى: " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " (2) و
قوله: " ما جعل عليكم في الدين من حرج " (3) وقوله - عليه السلام -: " لا ضرر في الاسلام "
وقوله: " بعثت بالحنيفية السهلة السمحة ".
[و] أما العقل: فلان احتمال الأخف مساو لاحتمال الأثقل في عدم الدلالة
والاخذ (بالأثقل) (4) احتياط لحق الله سبحانه، وهو غني لا يتضرر، وبالأقل

(1) في بعض النسخ: الامامية.
(2) البقرة / 185.
(3) الحج / 78.
(4) في نسخة: بالأكثر.
214

تخفيف عن العبد، وهو فقير يتضرر، فيكون (الترخيص) (1) في حق من لا
(يتضرر) (2) أولى.
احتج القائلون بالأثقل بوجهين:
أحدهما: أن العمل بالأثقل أحوط، فيجب الاخذ به.
الثاني: أن العمل بالأثقل أفضل، فيجب العمل به، أما أنه أفضل: فلقوله
عليه السلام: " أفضل العبادات أحمزها " وأما انه إذا كان أفضل وجب العمل به
فلان الأفضل خير، فيجب الاستباق إليه بقوله: " فاستبقوا الخيرات " (3).
والجواب:
أما الآيات، فالجواب عن الأولى: لا نسلم أن إرادة اليسر لا تتناول الأثقل
بل هو يسر [كما أن الأخف يسر]، ثم لا يلزم من إرادة اليسر اختصاصها بالأيسر.
وعن الثانية: لا نسلم أن الأثقل حرج، فان قال: الحرج هو الضيق،
وهو يتناول الأثقل، قلنا: لو تناول الأثقل لأجل ضيق المشقة، لتناول الأخف
فالأولى: صرف الضيق إلى ما يقصر عنه الطاقة، [فيكون متناولا للأثقل، لأنه
مما يدخل تحت الطاقة].
والجواب عن الخبر الأول: أن نقول: نفي الضرر يتناول الجميع، و
هو متروك الظاهر، فيحمل على ما وقع الاتفاق على تركه.
وعن الخبر الثاني: أن الخفيف والثقيل سهل سمح، إذ كل واحد منهما
دون طاقة العبد.
ثم الخبران معارضان بقوله - عليه السلام -: " الحق ثقيل مري، والباطل خفيف وبي ".

(1) في نسخة: الترجيح
(2) في نسخة: يستضر
(3) البقرة / 148.
215

والجواب عن المعقول: أن نقول: قوله: ان الله سبحانه غني لا يتضرر
فيكون الترخيص في حقوقه. قلنا: حقوق الله لا تنفك عن مصلحة عائدة إلى
العبد، فيكون الترخيص فيها ترخيصا في حق المتضرر، فعدوله حينئذ يكون
تركا (لمصلحة) (1)، وهو غير جائز.
ويمكن أن يجاب الآخرون بأن نقول: قوله: العمل بالأثقل أحوط.
قلنا: سنبين أن الاحتياط دلالة ضعيفة، بل باطلة.
قوله: العمل بالأثقل أفضل. قلنا: متى؟ إذا ثبت أنه مأمور [به]، أو إذا
لم يثبت، ونحن فلا نسلم أنه مأمور [به]، قوله عليه السلام: " أفضل العبادات أحمزها "
قلنا: لا نسلم (أنه) (2) عبادة، وانما يثبت ذلك إذا ثبت أنه مأمور به.
المسألة الثالثة: العمل بالاحتياط غير لازم. وصار آخرون: إلى وجوبه
وقال آخرون: مع اشتغال الذمة يكون العمل بالاحتياط واجبا، ومع عدمه
لا يجب.
مثال ذلك: إذا ولغ الكلب في الاناء فقد نجس، واختلفوا هل يطهر بغسلة
واحدة؟ أم لابد من سبع، وفيما عدا الولوغ، هل يطهر بغسلة؟ أو لابد من
ثلاث.
احتج القائلون بالاحتياط: بقوله عليه السلام: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "،
وبأن الثابت اشتغال الذمة يقينا، فيجب أن لا يحكم ببراءتها الا بيقين، ولا
يقين الا مع الاحتياط
والجواب عن الحديث: أن نقول: هو خبر واحد (لا نعمل) (3) بمثله في

(1) في نسخة: لمصلحته.
(2) في نسخة: أنها.
(3) في نسخة: لا يعمل.
216

مسائل الأصول، سلمنا [ه]، لكن الزام المكلف بالأثقل مظنة الريبة، لأنه
الزام مشقة لم يدل الشرع عليها، فيجب اطراحها بموجب الخبر.
والجواب عن الثاني: أن نقول: البراءة الأصلية - مع عدم الدلالة
الناقلة - حجة، وإذا كان التقدير [تقدير] عدم الدلالة الشرعية على الزيادة،
كان العمل بالأصل أولى، وحينئذ لا نسلم اشتغال الذمة مطلقا، بل لا نسلم
اشتغالها الا بما حصل الاتفاق عليه، أو اشتغالها بأحد الامرين.
ويمكن أن يقال: قد أجمعنا على الحكم بنجاسة الاناء، واختلفنا فيما به
يطهر، فيجب أن يؤخذ بما حصل الاجماع عليه في الطهارة (ليزول) (1) ما
أجمعنا عليه من النجاسة بما أجمعنا عليه من الحكم بالطهارة.
المسألة الرابعة: شريعة من قبلنا هل هي حجة في شرعنا؟ قال قوم: نعم
ما لم يثبت نسخ ذلك الحكم بعينه، وأنكر الباقون ذلك، وهو الحق.
لنا: وجوه.
الأول: قوله تعالى: " وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى " (2).
الثاني: لو كان متعبدا بشرع غيره، لكان ذلك الغير أفضل، لأنه يكون
تابعا لصاحب ذلك الشرع، لكن ذلك باطل بالاتفاق.
الثالث: لو كان متعبدا بشرع غيره، لوجب عليه البحث عن ذلك الشرع
لكن ذلك باطل، لأنه لو وجب لفعله، ولو فعله لاشتهر، ولوجب على الصحابة
والتابعين بعده والمسلمين إلى يومنا هذا متابعته عليه السلام على الخوض فيه، ونحن
نعلم من الدين خلاف ذلك.
الرابع: لو كان متعبدا بشرع من قبله، لكان طريقه إلى ذلك اما الوحي أو

(1) في نسخة: فيزول.
(2) النجم / 3.
217

النقل [و] يلزم من الأول أن يكون شرعا له لا شرعا لغيره، ومن الثاني
التعويل على نقل اليهود، وهو باطل، لأنه ليس بمتواتر، لما تطرق إليه من
القدح المانع من إفادة اليقين، ونقل الآحاد منهم لا يوجب العمل لعدم الثقة.
واحتج الآخرون:
بقوله تعالى: " فبهديهم اقتده " (1) وبقوله: " ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة
إبراهيم حنيفا " (2) وبقوله: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا " (3) وبقوله:
" انا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين " (4) وبقوله: " انا أنزلنا التوراة
فيها هدى ونور يحكم بها النبيون " (5).
وبأنه عليه السلام رجع في معرفة الرجم في الزنا إلى التوارة.
أجاب الأولون:
عن الآية الأولى: بأنها تتضمن الامر بالاقتداء بهديهم كلهم، فلا يكون ذلك
إشارة إلى شرعهم، لأنه مختلف، فيجب صرفه إلى (ما اتفقوا) (6) عليه، وهو
دلائل العقائد العقلية، دون الفروع الشرعية.
وعن الثانية: بأن ملة إبراهيم - عليه السلام - المراد بها العقليات، دون الشرعيات
يدل على ذلك قوله: " ومن يرغب عن ملة إبراهيم الا من سفه نفسه " (7) فلو

(1) الانعام / 90.
(2) النحل / 123.
(3) الشورى / 13.
(4) النساء / 163.
(5) المائدة / 44.
(6) في نسخة: ما اتفق.
(7) البقرة / 130.
218

أراد الشرعيات لما جاز نسخ شئ منها، [وقد نسخ كثير من شرعه، فتعين أن
المراد منه العقليات].
وعن الآية الثالثة: أنه لا يلزم من وصية نوح بشرعنا، أنه أمره به، بل
يحتمل أن يكون (وصاته) (1) به أمرا منه بقبوله عند (انتهاء أعقابهم) (2) إلى زمانه
عليه السلام، أو وصاه به بمعنى أطلعه عليه وأمره بحفظه.
ولو سلمنا أن المراد أنه شرع لنا ما شرع لنوح، لاحتمل أن يكون المراد
به من الاستدلال بالمعقول على العقائد الدينية، ولو لم يحتمل ذلك لم يبعد أن
يتفق الشرعان (ثم) (3) لا يكون شرعه حجة علينا من حيث ورد على نبينا صلى الله عليه وآله
بطريق الوحي، فلا تكون شريعته شريعة لنا، باعتبار ورودها عنه.
وعن الآية الرابعة: أن المساواة في الوحي لا تستلزم المساواة في الشرع.
وعن الآية الخامسة: ان ظاهرها يقتضى اشتراك الأنبياء جميعا في الحكم
بها، وذلك غير مراد، لان إبراهيم ونوحا وإدريس وآدم لم يحكموا بها،
لتقدمهم على نزولها، فيكون المراد: أن الأنبياء عليهم السلام يحكمون بصحة ورودها
عن الله، وأن فيها نورا وهدى، ولا يلزم أن يكونوا متعبدين بالعمل بها، كما
أن كثيرا من آيات القرآن منسوخة وهي عندنا نور وهدى.
وأما رجوعه عليه السلام في (تعرف) (4) حد الرجم [في التوارة]، فلا نسلم أن
مراجعته (التوراة) (5) ليعرفه، بل لم لا يجوز أن يكون ذلك لإقامة الحجة على

(1) في نسخة: وصاية.
(2) في نسخة: انتهائهم.
(3) في بعض النسخ: لم.
(4) في نسخة: تعريف.
(5) في نسخة: للتوراة.
219

من أنكر وجوده في التوراة؟!.
المسألة الخامسة: الاستقراء: هو الحكم على جملة بحكم، لوجوده فيما
اعتبر من جزئيات تلك الجملة، ومثاله: أن تستقرئ الزنج، فتجد (كل موجود
منهم) (1) أسود، فتحكم بالسواد على من لم تره كما حكمت على من رأيته.
وحاصله التسوية من غير جامع، ومثاله من الفقهيات: إذا اختلف في الوتر،
فنقول: هو مندوب، لأنه لو كان واجبا لما جاز أن يصلى على الراحلة (2)،
لكنه يصلى على الراحلة، والمقدم مستفاد من الاستقراء إذ لا شئ من الواجب
يصلى على الراحلة، والاستثناء معلوم بالاجماع.
وهل مثل ذلك حجة في الاحكام؟ الحق أنه ليس بحجة، لان موارد
الاحكام مختلفة، فلا يلزم من اختصاصها ببعض الأعيان، وجودها في الباقي، [و
لان ثبوت الحكم فيما وجد، قد يكون مع وجوده في الباقي]، وقد يكون
مع فقده، ومع الاحتمال لا يجوز الحكم بأحدهما دون الاخر [و] لان وجود
الحكم في فرد من أفراد النوع، لا يلزم منه وجوده في باقي الافراد، فكذا
وجوده فيما هو أكثر من الواحد.
فان قيل: مع كثرة الصور يغلب الظن أن الباقي مماثل لما وجد والعمل
بالظن واجب.
قلنا: لا نسلم أنه يغلب على الظن [ان الباقي مماثل لما وجد]، إذ لاتعلق
بين ما رأيت وما لم تره، ولا بين ما علمته من ذلك وما لم تعلمه، ولو سلمنا
حصول الظن، لكن الظن الحاصل من غير امارة لا عبرة به، وليس وجود
الحكم فيما رأيته من أجزاء الجملة، امارة لوجوده في الباقي، سلمناه، لكن

(1) في بعض النسخ: الموجود منهم.
(2) أضاف في نسخة: إليه.
220

الظن قد يخطئ فلا يعمل به الا مع وجود دلالة تدل عليه.
فان قيل: مع الظن يرجح في ذهن المجتهد إرادة الشارع لتعميم الحكم
فتصير المخالفة مظنة الضرر.
قلنا: غلبة الظن المذكور معارض بغلبة الظن أن شرعية الحكم تستدعي
الدلالة، ومع ارتفاع الدلالة بغلب على الظن انتفاء الحكم، فينتفى ظن الضرر
على أن مع النهى عن العمل بالظن يزول ظن الضرر، والنهى موجود بقوله:
" ولا تقف ما ليس لك به علم " (1) وقوله: " ان الظن لا يغنى من الحق شيئا " (2).
المسألة السادسة: في المصالح.
المصلحة: هي ما يوافق الانسان في مقاصده لدنياه أو لاخرته أولهما، و
حاصله: تحصيل منفعة أو دفع مضرة، ولما كانت الشرعيات مبتنيات على
المصالح، وجب النظر في رعايتها، والمصالح تنقسم ثلاثة أقسام: معتبرة
شرعا، وملغاة، ومرسلة.
فالمعتبرة: كتحريم القتل وشرع القصاص، لاستبقاء الأنفس، وفرض
الجهاد وقتل المرتد، لحفظ الدين، وتحريم الزنا وإقامة الحد، لحفظ
الأنساب، والقطع في السرقة، لحفظ الأموال.
والملغاة: كما يقال: الغنى في كفارة الوطء في نهار شهر رمضان عمدا
يصوم شهرين (تحتما) (3)، لان ذلك يكون أزجر له عن المعاودة، لكن
الشرع أسقط هذه المصلحة عن درجة الاعتبار.
والمرسلة: ما عدا القسمين، وهذه المصلحة ان كان معها مفسدة راجحة

(1) الاسراء / 36.
(2) يونس / 36.
(3) في نسخة: تحتيما.
221

أو مساوية، كانت ملغاة، وان كانت المصلحة صافية عن المفسدة، أو راجحة
حكي عن مالك، أنها حجة، حتى قال: (نضرب) (1) المتهم بالسرقة محافظة
على المال، وأنكر ذلك الأكثر، ومنهم من اعتبر في العمل بها شروطا ثلاثة
أن تكون ضرورية، وكلية، وقطعية، وأما مالا يكون كليا كالفروع (الجزئية) (2)
مثل مسائل الإجارة، وجزئيات المساقاة، ورعاية الكفاءة في النكاح، فإنه لا
يجوز التعويل على المصالح المرسلة فيها الا مع دلالة شرعية تدل على اعتبارها.
احتج الأولون: بأن الحكمة باعثة على رعاية المصلحة، فحيث (ثبت) (3)
أن في الشئ مصلحة (يعلم تعلق) (4) داعي (الحكم) (5) به تحصيلا لتلك المصلحة
[والجواب: متى تكون الحكمة باعثة على رعاية المصلحة؟] إذا تحقق
خلوها من جميع المفاسد، أم إذا لم يتحقق؟ الأول مسلم، والثاني ممنوع،
والتقدير تقدير عدم (التحقق) (6)، غاية ما في الباب أن يغلب [على] الظن،
لكن التكليف من فعل الله سبحانه، فيبنى على ما علمه، لاعلى ما ظنناه نحن.
لا يقال: المكلف يبني في كثير من الشرعيات على الظن.
لأنا نقول: حيث دل الدليل الشرعي على العمل به، لا بمجرد الظن.
ثم نقول: لو جاز العمل بالمصلحة المرسلة، لوجب حضور مجالس

(1) في نسخة: يضرب.
(2) في النسخ: الغريبة، ولكن كتب في هامش إحدى النسخ: الجزئية ظ، و
هو الصواب
(3) في بعض النسخ: يثبت.
(4) في نسخة: تعلم تعلق.
(5) في نسخة: الحكمة.
(6) في النسخ: التحقيق، والصحيح ما أثبتناه.
222

الوعظ، تحصيلا لمصلحة الانزجار، ولوجب الحد في الغصب، (تحصينا) (1)
للمال.
وما حكي عن مالك من جواز ضرب المتهم [بالسرقة، باطل، لأنه لو
جاز ذلك، لجاز ضرب المتهم] بالقتل والمتهم بالغصب، محافظة على الأنفس
والأموال، لكن ذلك باطل اجماعا.
وأما الفريق الثاني: فانا نفرض لما ذكروه مثالا، فنقول: إذا تترس أهل
الحرب بالأسارى من المسلمين، هل يجوز رميهم وان أدى ذلك إلى تلف
(الاسرى) (2)؟ قال هؤلاء: نعم، إذ علمنا أنا إذا لم نرمهم ظهروا على الاسلام
فقالوا: هذه ضرورية، لأنه [لا] يندفع استئصال المسلمين الا بالرمي، وكلية
لان الضرر عام في المسلمين كافة، وقطعية، لأنا نتيقن تسلط أهل الكفر مع
عدم الرمي، واحتجوا لوجوب [مثل] هذا القدر بأن قالوا: المحافظة على
الدماء مقصود للشارع، والرمي مفض إلى ذلك القصد، فيكون واجبا وان
أدى إلى قتل الأسير.
والجواب: ما الذي تعنى بالقصد؟ ان عنيت أن الشرع منع من القتل و
أوجب القصاص، فمسلم، وان عنيت أنه قصد حفظها بغير ذلك (مما لم
يدل) (3) عليه الشرع، فلا نسلم، أو نقول: لا نسلم أن المحافظة على الدماء
مقصودة كيف كان، بل لم لا يجوز أن تكون المحافظة مقصودة بتحريم القتل
والقصاص لاغير، ولا يلزم من تشريع هذه الزواجر شرع طريق آخر.
ثم نقول: هذه المصلحة دل الشرع على الغائها، فيجب سقوطها عن

(1) في نسخة: تحصيلا.
(2) في نسخة: الأسارى.
(3) في بعض النسخ: مما يدل.
223

الاعتبار، يدل على ذلك قوله تعالى: " ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم
خالدا فيها " (1) وقوله: " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق " (2) وقوله عليه السلام
" من سعى في دم امرء مسلم ولو بشطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوبا على جبينه
آيس من رحمة الله " وغير ذلك من الأحاديث الدالة على المنع من قتل المسلم
ومع وجود النص لا اعتبار بغيره.
فعلى هذا النهج يكون احتجاجك على ما يرد عليك من هذا الباب.
والله العاصم، [والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين]

(1) النساء / 93.
(2) الانعام / 151.
224