الكتاب: نهاية الأصول
المؤلف: تقرير بحث البروجردي ، للشيخ المنتظري
الجزء:
الوفاة: ١٣٨٣
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٣٧٥
المطبعة: مطبعة الحكمة - قم
الناشر:
ردمك:
ملاحظات: تقرير أبحاث آية الله العظمى حسين البروجردي الطباطبائي

المجلد الأول
من
كتاب نهاية الأصول
تقريرا لما استفدته من بحث حضرة الاستاد الأكبر جامع المعقول والمنقول وحاوي
الفروع والأصول سيد الفقهاء و المجتهدين وآية اه‍ العظمى في الأرضين المنتهى إليه
رياسة الإمامية في القرن الحاضر مولانا الأعظم وسيدنا الأفخم
الحاج آقا حسين البروجردي الطباطبائي
مد ظله العالي على رؤس المسلمين
في المسائل الأصولية
بقلم
العبد الراجي حسين على المنتظري النجف آبادي
1375 قمري
1

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق الانسان علمه البيان، ثم هداه بالفطرة التي فطره عليها إلى أصول
الدين ومسالك الايمان، وأوضح له بالسفراء المقربين معالم الايقان وسبل الرضوان.
والصلاة والسلام على نبيه المبعوث لتمهيد قواعد الاسلام وتبيين ضوابط الاحكام محمد صلى الله عليه وآله
وعلى آله الهداة المهديين، وأوصيائه الكرام الطيبين، ما دامت كلماتهم المكنونة لتوضيح
قوانين الدين معدة، وفرائد آثارهم الباقية لتشريح حقايق الاسلام ذخيرة وعدة.
(وبعد) فيقول العبد المفتقر إلى رحمة ربه الغنى، حسين على النجف آبادي الأصفهاني:
لا يخفى أن علم أصول الفقه علم شريف، يحتاج إليه كل من تصدى لاستنباط الأحكام الشرعية
من مداركها، وأطلق عنان فكره في طرق الجهاد والاجتهاد لتنقيح المسائل الفقهية و
تقييد شواردها، فإنه الموضوع لبيان ما هو الحجة في أثبات الاحكام، وبه يعرف حال
الاخبار المروية عن سيد الأنام وأوصيائه الكرام، وحال سائر الأدلة الشرعية والأصول
العملية التي عليها بنى أساس الفقه وعلى قطبها يدور رحاه.
وكم قد صنف فيه الأعاظم والاجلاء من علمائنا الامامية، فرتبوا فصوله، ونقحوا مسائله،
وشيدوا أركانه ودعائمه. ولكنه بمرور الزمان، قد استغذى بعروقه المتشعبة من سائر
2

العلوم المتشتتة، بحيث قد أفرط فيه الباحثون وكبر حجم الكتب المؤلفة فيه.
وصار أمهات المسائل المبتلى بها كالضالة في أثناء سائر المسائل، بنحو يعسر افتقادها
والاطلاع عليها، وكم سلكوا في توضيح مسائله سبلا شتى، كلها بعيدة عن أصل
المقصود بمراحل، وبقي أصول المسائل غير منقحة كما كانت في الأوائل.
إلى أن انتهت رياسة الشيعة الإمامية، وزعامة حوزاتهم العلمية، إلى قطب فلك
الفقاهة والاجتهاد، ومركز دائرة البحث والانتقاد، جامع المعقول والمنقول، وحاوي
الفروع والأصول، زبدة الفقهاء والمجتهدين، وآية الله العظمى في الأرضين، محيى مدارس
الشرع الباقي، ومرجع كل قريب ونائي (الحاج آقا حسين البروجردي
الطباطبائي) لا زال اطناب ظلاله على رؤس الأنام باقية، وله في ظل لواء
بقية الله (عجل الله تعالى فرجه) صحة وعافية. فهو (مد ظله) كان يحذف في أثناء
تدريسه الزوايد والحواشي، ويهم بالمسائل المهمة التي كثر الابتلاء بها، وكان
يسلك في تنقيحها والوصول إلى الحق فيها، الصراط الأقوم، والمنهج الأتم،
لا شرقية ولا غربية. وكنت أنا أيضا ممن يستضيئ بنور علمه، ويستفيد من بياناته
الشافية، وتحقيقاته الكافية، وكنت أضبط بقدر فهمي ومبلغ استعدادي ما استفيد من بياناته
(مد ظله). فهذا الذي تراه هو ما استفدته من دروسه العالية، في المسائل الأصولية، جمعته
ونظمته في سلك التحرير، وجعلته بصورة التقرير، وسميته (نهاية الأصول)
أو بداية الوصول إلى الحق المأمول، ومن الله (تعالى) اسئل التوفيق، فإنه خير مسئول.
وأقول مخاطبا لمن راجع كتابي هذا: انه ربما كان لا يساعدني التوفيق لضبط
بعض المطالب في بعض المباحث، وكان هذا هو السبب في تأخير نظم هذه الوجيزة ونشرها،
ولكن قد التمس منى بعض من لا أحب مخالفته من الأصدقاء والاخوان بذل الجهد في
نشر ما ضبط منها فسنح لي وقتئذ ان الميسور يجب أن لا يترك بالمعسور، وما لا يدرك كله
لا يترك كله، فبادرت إلى ترتيب ما ضبط، فتصورت بصورة تراها.
وأقول أيضا معتذرا: انه لم يكن من عادتي ضبط كل درس بعد استفادته، بل كنت
اصبر لضبط كل مبحث إلى اوان فراغه.
3

فلو خطر ببال بعض القراء والباحثين ان في بيان بعض المطالب وتوضيحه نحو قصور
واضطراب، فاستناده إلى أقرب من أن يسند إلى الاستاد (مد ظله العالي).
نعم مباني الاستاد كلما كانت عالية، وبراهينه على اثبات مقاصده قوية، ولكنها في
مقام التقرير تتنزل وتتقدر بقدر استفادة المقرر واستعداده، هذا. ولكني مع ذلك
كله لم آل جهدا في تقرير مبانيه (مد ظله) وتبيينها، ليكون لي تذكرة ولغيري تبصرة
وحيث كان هو (مد ظله) يراعى غالبا ترتيب الكفاية، فأنا أيضا اذكر عناوين المباحث
على وفق ما فيها، ليتيسر للطالب ارتياد المسائل من مواردها، وعلي هذا فيكون كتابي
هذا مشتملا على مقدمة ومقاصد. اما المقدمة ففي بيان أمور
الامر الأول
في أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات، وانه ما هو موضوع العلم، وأي شئ هو
الموضوع في علم الأصول؟
اعلم أن القدماء قد تسالموا على امرين (الأول) ان تمايز العلوم بتمايز الموضوعات.
(الثاني) ان موضوع كل علم ما يبحث في هذا العلم عن عوارضه الذاتية، ولما كان
علم الأصول أيضا علما برأسه تصدى القوم لبيان موضوعه، فقال بعضهم: أن موضوعه الأدلة
الأربعة واستشكل عليه بعض المحققين بان مقتضى ذلك كون حجية الأدلة الأربعة
ووصف دليليتها من مقومات الموضوع لا من عوارضه. ولازم ذلك أن تصير أمهات
المسائل (أعني ما يبحث فيها عن حجية الأدلة) خارجة من علم الأصول، وتدخل في
سلك المبادئ.
واختار هذا المستشكل كون الأدلة الأربعة بذواتها، لا بما انها متصفة بوصف
الدليلية موضوعا لعلم الأصول، حتى يكون البحث عن حجيتها ودليليتها أيضا بحثا
عن عوارضها الذاتية.
ويرد عليه (مضافا إلى ما في الكفاية) ان موضوعية أمور متشتتة لعلم واحد، انما
هي باعتبار وجود جامع بينها يكون هو الموضوع حقيقة، ولا جامع بين ذوات الأدلة
4

الأربعة (1) الا وصف الدليلية، والمفروض جعلها من العوارض الذاتية للموضوع. و
على هذا فلا يبقى بينها جامع وحداني يكون هو الموضوع حقيقة وبه يتحقق وحدة العلم
إذ الملاك في عد المسائل المتشتتة علما واحدا هو وحدة الموضوع كما سيأتي (هذا).
واما شيخنا الاستاد صاحب الكفاية (قدس سره) فقد خالف القدماء وقال
ما حاصله: ان تمايز العلوم بتمايز الأغراض الباعثة على جمع المتشتتات وتسميتها علما
واحدا لا الموضوعات وإلا لكان كل باب بل كل مسألة علما برأسه. وبالجملة
فالحيثية المشتركة بين المسائل المتشتتة التي بلحاظها سميت علما واحدا، وبسببها
يمتاز هذا العلم من غيره من العلوم، هو الغرض الداعي إلى التدوين، لا الموضوع.
نعم جميع المحمولات المختلفة في مسائل العلم، من عوارض موضوع وحداني وهو
عبارة عن حيثية جامعة لموضوعات المسائل، متحدة معها خارجا، وان كان يغايرها مفهوما،
تغاير الكلى ومصاديقه والطبيعي وافراده، وربما لا يكون له عنوان خاص واسم مخصوص،
ولا يلزم لنا تشخيصه. (انتهى) هذه خلاصة ما ذكروه في هذا المقام. والحق الحقيق بالتصديق
هو ما اختاره القدماء: من أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ويتضح ذلك بتمهيد مقدمات.
(المقدمة الأولى) لا يخفى انا إذا راجعنا كل واحد من العلوم المدونة،
وقصرنا النظر على نفس مسائله، من غير التفات إلى ما يكون خارجا من ذات
المسائل من المدون والأغراض ونحوهما، علمنا علما وجدانيا باشتراك جميع
تلك المسائل المتشتتة في جهة وحيثية لا توجد هذه الجهة في مسائل سائر العلوم، و
تكون هذه الجهة جامعة بين تلك المسائل، وبسببها يحصل الميز بين مسائل هذا العلم
وبين مسائل سائر العلوم. وكذلك وجدنا في كل مسألة من مسائل هذا العلم جهة و
خصوصية، تميز هذه المسألة من غيرها من مسائل هذا العلم. مثلا إذا راجعنا مسائل
علم النحو وقطعنا النظر عن مدونه والأغراض الباعثة على تدوينه، رأينا ان جهة البحث
في جميعها كيفية آخر الكلمة من المرفوعية والمنصوبية والمجرورية، فهي خصوصية
ذاتية ثابتة في جميع مسائله، مع قطع النظر عن المدون والأغراض ونحوهما، وهي

(1) أقول: يمكن ان يقال: ان الجامع بينها صلاحيتها للدليلية، فيكون الموضوع
عبارة عما يصلح للدليلية، ويكون فعليتها من العوارض ح ع.
5

الجهة الجامعة بين هذه المسائل المتشتتة، وبسببها تمتاز هذه المسائل من مسائل سائر
العلوم. ومع ذلك رأينا ان في نفس كل مسألة منها خصوصية ذاتية بها تمتاز من غيرها
من مسائله. وحيث لم تكن هاتان الجهتان خارجتين من ذوات المسائل بحكم الوجدان
فلا محالة ليستا خارجتين من الموضوع والمحمول، إذ النسبة معنى آلى توجد في جميع
القضايا بنحو واحد، ولا تختلف باختلاف المسائل.
(المقدمة الثانية) انك إذا تتبعت العلوم المدونة، ودققت النظر في مسائل كل
واحد منها، رأيت أن بعض العلوم الموجودة يكون ما هو المحمول في جميع مسائله
امرا واحدا كعلم الإلهي بالمعنى الأعم، فان المحمول في جميع مسائله مفهوم واحد
وهو قولنا: (موجود) فيقال: الله موجود، العقل موجود، الجسم موجود، الجوهر
موجود، الكم موجود، وهكذا، وان بعضها مما يختلف المحمول في مسائله
ولكنه يوجد بين محمولاته المختلفة جهة جامعة، بل ربما يكون المحمول في مسائل
فصل منه امرا وحدانيا كعلم النحو، فان المرفوعية (مثلا) تارة تحمل على الفاعل، و
أخرى على المبتدأ، ويتحصل بذلك مسئلتان، ومع ذلك فالمرفوعية وان كانت تغاير
المنصوبية، ولكن بينهما جهة جامعة ذاتية، حيث إن كلا منهما من تعينات الاعراب
الحاصل لاخر الكلمة.
وبالجملة فليس المحمول يختلف دائما في جميع مسائل العلم. واما موضوعات
المسائل فهي مما تختلف دائما في جميع المسائل من أي علم كانت.
وحيث عرفت في المقدمة الأولى ان في كل مسألة من مسائل العلم يوجد جهتان: جهة ذاتية جامعة بين جميع مسائل هذا العلم، وبها تمتاز من مسائل سائر العلوم، وجهة
ذاتية بها يمتاز هذه المسألة من غيرها من مسائل هذا العلم، وعرفت (أيضا) ان الجهتين
ليستا خارجتين من الموضوع والمحمول فلا محالة تنحصر الجهة الأولى في المحمول،
والجهة الثانية في موضوع المسائل لأنه الذي يختلف في جميع المسائل بخلاف المحمول.
وبعبارة أخرى تمايز مسائل العلم بتمايز موضوعاتها، وتمايز العلوم بتمايز
ما هو الجامع لمحمولات مسائلها.
6

(المقدمة الثالثة) ان المراد بالعرض في قولهم (موضوع كل علم ما يبحث فيه
عن عوارضه الذاتية) هو العرض باصطلاح المنطقي لا الفلسفي، فان العرض الفلسفي عبارة عن ماهية شأن وجودها في الخارج أن يكون في الموضوع، ويقابله الجوهر. والعرض
المنطقي عبارة عما يكون خارجا من ذات الشئ متحدا معه في الخارج، ويقابله الذاتي.
وبين الاصطلاحين بون بعيد فان العرض المنطقي قد يكون جوهرا من الجواهر (كالناطق)
بالنسبة إلى (الحيوان) وبالعكس، حيث إن كلا منهما خارج من ذات الاخر ومحمول
عليه فيصدق عليه تعريف العرض المنطقي، وان كان كل منهما ذاتيا بالنسبة إلى الانسان،
فالعرض باصطلاح الفلسفي مطلق، وباصطلاح المنطقي امر نسبي، فان (الفصل)
مثلا بالنسبة إلى (الجنس) عرض خاص، وبالنسبة إلى (النوع) المؤلف منه ذاتي له.
واما المقولات التسع العرضية باصطلاح الفلسفي فلا تتغير عن وصف العرضية باختلاف
الاعتبارات والنسب.
المقدمة الرابعة لا يخفى ان كل واحد من الموضوع والمحمول في مسائل العلم عرض
بالنسبة إلى الاخر، ولا يقصر وصف العروض على المحمول، إذ المراد بالعرض هنا (كما عرفت)
هو العرض باصطلاح المنطقي، وهو عبارة عما يكون خارجا من ذات الشئ ومتحدا
معه في الخارج، ففي قولنا في علم الإلهي: (الجسم موجود) كل واحد من وصفى الجسمية
والوجود خارج من ذات الاخر مفهوما، ومتحد معه خارجا، فكل واحد منهما عرض ذاتي
بالنسبة إلى الاخر، بمعنى انه لا يكون عينا بالنسبة إلى الاخر، ولا جزءا له. وكذلك
كل واحد من وصفى الفاعلية والمرفوعية في قولنا: (الفاعل مرفوع) يكون عرضا
منطقيا بالنسبة إلى الاخر، وهكذا في جميع مسائل العلوم، فالموضوعات في مسائل
كل علم اعراض ذاتية لما هو الجامع بين محمولات مسائله، وليست الموضوعات
ذاتية له، إذ الذاتي منحصر في النوع والجنس والفصل بالنسبة إلى النوع المؤلف منهما،
ولا تجد مسألة من مسائل العلوم يكون الموضوع فيها نوعا أو جنسا أو فصلا لجامع
محمولات مسائل العلم، إذ كل واحد من نوع الشئ وجنسه وفصله البعيد أعم منه،
والفصل القريب مساو لما هو فصل له، مع انك ترى ان موضوع كل مسألة أخص
7

من جامع محمولات المسائل
والحاصل ان الموضوع في كل مسألة عرض بالنسبة إلى جامع محمولات المسائل
وبالعكس غاية الامر ان المتداول في عقد القضية جعل الأخص موضوعا والأعم محمولا.
(المقدمة الخامسة) ان المتداول وان كان جعل الأخص موضوعا والأعم محمولا
ولكن النظم الطبيعي يقتضى جعل المعلوم من الامرين موضوعا، والمجهول منهما
محمولا، فالموضوع بحسب الحقيقة هو المعلوم من الامرين، والمحمول هو تعينه المجهول
الذي أريد في القضية اثباته، سواء كان الامر المجهول أعم بالنسبة إلى الموضوع أو مساويا له.
(إذا عرفت هذه المقدمات) تبين لك ان الحق مع القدماء، حيث قالوا: ان
تمايز العلوم بتمايز الموضوعات، إذ المراد بموضوع العلم هو ما يبحث فيه عن
عوارضه الذاتية وليس هو الا عبارة عن جامع محمولات المسائل الذي عرفت في
المقدمة الثانية ان تمايز العلوم بتمايزه. ووجه كونه موضوعا ان جامع محمولات
المسائل في كل علم هو الذي ينسبق أولا إلى الذهن، ويكون معلوما عنده، فيوضع
في وعاء الذهن ويطلب في العلم تعيناته وتشخصاته التي تعرض له. مثلا في علم الإلهي
بالمعنى الأعم يكون نفس الوجود معلوما لنا وحاضرا في ذهننا، فنطلب في العلم تعيناته
وانقساماته اللاحقة له: من الوجوب والامكان والجوهرية والعرضية والجسمية ونحوها،
فصورة القضية وان كان هو قولنا: (الجسم موجود) مثلا، ولكن الموضوع حقيقة هو عنوان
الموجودية، فمحصل مسائله هو ان الوجود المعلوم لك، من خصوصياته وتعيناته وصف
الجوهرية، ومن تعيناته وصف الجسمية وهكذا، ولذلك تريهم يقولون: ان موضوع
الإلهي بالمعنى الأعم هو الوجود، مع أن الوجود يصير محمولا في القضايا المعقودة.
وكذلك في علم النحو، فان أول ما ينسبق إلى ذهن المتتبع لاستعمالات العرب،
انما هو اعراب آخر الكلمة والاختلافات الواقعة فيه: من المرفوعية والمنصوبية و
المجرورية، فيطلب في علم النحو الخصوصيات التي بسببها يتحقق الاعراب واختلافاته
من الفاعلية والمفعولية ونحوهما، فالمسألة المعقودة وان كانت بصورة قولنا: الفاعل
مرفوع، ولكن الموضوع حقيقة هو وصف المرفوعية، فمحصل مسائل علم النحو هو ان
8

ما يختلف آخره بالمرفوعية والمنصوبية والمجرورية انما يتعين بتعينات مختلفة: من الفاعلية
والمفعولية ونحوهما، وان المعرب بالاعراب الرفعي فاعل، والمعرب بالاعراب
النصبي مفعول وهكذا.
(والحاصل) ان جامع المحمولات أعني الحيثية المشتركة بين مسائل العلم
هو الذي ينسبق إلى الذهن أولا، ويطلب في العلم جهاته وتعيناته، فهو الموضوع للعلم،
والتعينات المختلفة التي يجعل كل واحد منها موضوعا لمسألة، عوارض ذاتية لموضوع
العلم، لما عرفت في المقدمة الرابعة ان كل واحد من الموضوع والمحمول في المسألة عرض
بالنسبة إلى الاخر، وفي المقدمة الخامسة ان ما هو الموضوع حقيقة هو المعلوم من الامرين
فتلخص مما ذكرنا أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات أعني بها جامع محمولات
المسائل، وتمايز المسائل بتمايز الموضوعات فيها.
وقد تبين لك بما ذكرناه فساد ما ربما يتوهم في المقام من انه لم لا يجوز أن يكون
الجهة المشتركة بين مسائل العلم المايزة إياها من سائر العلوم، عبارة عن الكلى الجامع
لموضوعات المسائل، والجهة التي بها يمتاز كل مسألة من غيرها، عبارة عن خصوصيات
موضوعات المسائل وعلي هذا فتوجد كلتا الجهتين في عقد الوضع، ويكون موضوع
العلم عبارة عن الكلى الجامع لموضوعات المسائل.
توضيح الفساد انك قد عرفت أن موضوع العلم هو الحيثية المعلومة التي يطلب
في العلم تعيناته، ويبحث فيه عن عوارضه التي تحمل عليه، وليس هذا الا ما هو الجامع
للمحمولات، فإنه الحيثية المنسبقة إلى الذهن التي يبحث في العلم عن عوارضها.
والظاهر أن ما ذكرناه هو مراد القوم أيضا، حيث أضافوا قيد الحيثية في بيان
موضوع العلوم الأدبية، فقولهم: ان موضوع علم النحو هو الكلمة من حيث الاعراب والبناء،
و موضوع علم الصرف هو الكلمة من حيث الصحة والاعتلال، وهكذا، انما يريدون
بذلك كون حيثية الاعراب والبناء موضوعا لعلم النحو، وحيثية الصحة والاعتلال موضوعا
لعلم الصرف. وعلي هذا فيكون تمايز جميع العلوم بتمايز الموضوعات.
فما في الفصول: من أن تمايز العلوم قد يكون بتمايز الموضوعات وقد يكون بتمايز
9

الحيثيات، قد نشأ من الغفلة والذهول عما هو لب مراد القوم حيث أضافوا قيد الحيثية.
وقد اتضح بما ذكرنا أيضا فساد ما ذكره شيخنا الاستاد (قدس سره) في الكفاية
حيث قال: إن موضوع العلم هو نفس موضوعات مسائله عينا وما يتحد معها خارجا، وان
كان يغايرها مفهوما تغاير الكلى ومصاديقه والطبيعي وافراده. (انتهى) ووجه الفساد
ما عرفت من أن موضوع العلم هو محمولات المسائل والجامع بينها، وهو وان كان متحدا مع
موضوعات المسائل خارجا، الا انه ليس التغاير بينه وبين موضوعات المسائل من
سنخ تغاير الطبيعي وافراده، بل من سنخ تغاير العرض المنطقي ومعروضه، فان الطبيعي
ذاتي لافراده، وهذا بخلاف جامع المحمولات بالنسبة إلى خصوصيات الموضوعات،
حيث إن كلا منهما خارج من ذات الاخر، كما عرفت توضيحه.
واتضح أيضا فساد ما قال (قدس سره): من أن تمايز العلوم بتمايز الأغراض، حيث
عرفت أن الجهة التي بها يمتاز مسائل كل علم من مسائل سائر العلوم، هي جهة ذاتية
موجودة في نفس المسائل، وما لم يتمايز العلوم بذواتها لم يتمايز الأغراض المطلوبة
منها، فإنها أمور متفرعة عليها، والاختلاف فيها يكشف عن نوع اختلاف في نفس الذوات،
فالغرض من علم النحو مثلا هو العلم والإحاطة بالاختلافات الواقعة في أواخر الكلمات
وجهة الاختلاف فيها، والغرض من علم الصرف هو العلم بالاختلافات الواقعة في نفس
الأبنية، فلا محالة تكون مسائل علم النحو بذواتها مربوطة بالاختلافات الواقعة في آخر
الكلمة، وتكون هي الجهة المبحوث عنها فيه، ومسائل الصرف بذواتها مربوطة بالاختلافات
الواقعة في نفس الأبنية، وباعتبار هذا الميز الذاتي بينهما يختلف الغرض منهما.
(فان قلت) كما يمكن ان يتصور بين محمولات مسائل النحو جامع يساويها
يمكن أيضا ان يتصور جامع أعم بحيث يعم مسائل النحو والصرف مثلا، أو جامع
أخص بحيث يعم بعض مسائل النحو كمباحث المعربات مثلا في قبال المبنيات، و على هذا
لا يصح جعل جامع المحمولات ميزانا لتمايز العلوم، بعد ما لم يكن لاعتبار الجامع
ميزان ثابت لا يتغير. فان جعلت الملاك في اعتبار الجامع ان يعتبر بين المسائل الدخيلة
في غرض واحد رجع الكلام إلى جعل الميزان في تمايز العلوم تمايز الأغراض.
10

قلت (1) فرق بين ما هو الملاك في تمايز العلوم، وبين ما هو الملاك لتكثيرها فنحن
أيضا لا نابي كون العلوم في الوحدة والكثرة تابعة للجهات الخارجية، مثل انه كان
علم النحو والصرف معا يعدان علما واحدا، فلما تكثرت مسائله وتشعبت فروعه انحل
إلى علمين. وكذلك ترى العصريين يقسمون علم الطب مثلا إلى شعب مختلفة، ويسمون
كل قسمة منها بعلم خاص، له موضوع خاص، وطلاب مخصوصون، فالعلوم في الوحدة
والكثرة تابعة للجهات الخارجية، ولكنه بعد ما لاحظت علمين من العلوم المدونة، و
وازنت أحدهما مع الآخر، تريهما بحسب الذات متمايزين، من جهة ان حيثية البحث في
أحدهما تغاير حيثية البحث في الاخر، وهذا التغاير والاختلاف يرجع إلى جامع المحمولات
فتدبر. (هذا كله) خلاصة ما يقتضيه التحقيق في بيان ماهية الموضوع للعلوم بنحو العموم
(ومما ذكرنا يظهر لك) ما هو الموضوع في علم الأصول، فإنه على التحقيق عبارة عن
عنوان (الحجة في الفقه) إذ بعدما علمنا بأن لنا أحكاما شرعية، يحصل لنا العلم أجمالا بوجود
حجج في البين بها يحتج المولى علينا، ونحتج عليه، في أثبات الأحكام الشرعية وامتثالها،
فوجود أصل الحجة والدليل معلوم لنا، والمطلوب في علم الأصول تعينات الحجة و
تشخصاتها، كخبر الواحد والشهرة والظواهر ونحوها، ففي قولنا (خبر الواحد حجة)
وان جعل وصف الحجية محمولا، ولكنه بحسب الحقيقة هو الموضوع، فإنه الامر المعلوم،
والمجهول تعيناته وأفراده، فمحصل مسائل الأصول هو أن الحجة التي نعلم بوجودها أجمالا،
لها تعينات وأفراد، منها خبر الواحد ومنها الشهرة وهكذا، فكل مسألة يرجع البحث فيها
إلى تعيين مصداق للحجة مسألة أصولية، كمسألة حجية الخبر والشهرة والاجماع وحجية
أحد الخبرين في باب التعارض، ومسألة حجية القطع بقسميه من التفصيلي والاجمالي،
فان حجية القطع التفصيلي وان كانت امرا واضحا، ولذا لم يتعرض لها القدماء، إلا أن توهم
عدم الحجية في بعض أقسامه أوجب البحث عنها، فهي أيضا من مسائل علم الأصول ولا ربط لها
بالمسائل الكلامية كما في الكفاية، وليس الحجة في اصطلاح الأصولي عبارة عن حد الوسط

(1) ويمكن أيضا ان يقال: ان الجامع المعتبر بين مسائل النحو والصرف جامع جنسي،
وبين بعض مسائل النحو جامع صنفي، ومرادنا بجامع المحمولات هنا هو الجامع النوعي، فيندفع الاشكال فتأمل ح - ع
11

بل هي بمعناها اللغوي، أعني ما يحتج به المولى على العبد وبالعكس في مقام الامتثال،
فيكون القطع بقسميه أيضا من مصاديقها حقيقة. وعلي هذا فمبحث الاشتغال من مباحث الأصول
حيث يرجع البحث فيه إلى البحث عن حجية العلم الاجمالي، وكذلك مبحث حجية
الاستصحاب، بل ومبحث البراءة أيضا، إذ محصل البحث فيه هو أن صرف احتمال التكليف
يكفى لتنجيز الواقع ويصح احتجاج المولى ومؤاخذته أم لا. وكذلك مسألة التخيير.
حيث إن المبحوث عنه فيها انه في مقام دوران الامر بين المحذورين هل يكون الاخذ بأحد
الطرفين كافيا في احتجاج العبد على المولى؟ وهكذا البحث عن حجية المفاهيم، فان البحث
فيها ليس في أصل ثبوت المفهوم، بل في حجيتها، حيث إن لذكر القيد الزايد مثل الشرط و
الوصف وأمثالهما ظهورا ما في الدخالة بلا اشكال، وانما يقع البحث عن حجيتها، وسيأتي
تحقيقه في محله (وبالجملة) فكل مسألة يكون حيثية البحث فيها حجية امر من الأمور التي
تصلح للحجية أو يتوهم حجيتها فهي مسألة أصولية.
نعم لما كان حجية بعض الحجج امرا واضحا لم يتصدى القدماء للبحث عنها كمسألة
حجية القطع مثلا، وكحجية الظواهر، حيث إن أصل حجية الظواهر كانت أمرا مفروغا
عنها، وانما كان يقع الاشكال في بعض الموارد التي حصل فيها للكلام نحو اضطراب واختلال
كالعام المخصص أو اللفظ المستعمل كثيرا في المعنى المجازى ونحو ذلك.
(وكيف كان) فهذه المسائل كلها مسائل أصولية. نعم بعض المباحث التي لم يكن
المبحوث عنه فيها حيثية الحجية تكون خارجة من الأصول، وتدخل في سلك المبادئ
كمسألة مقدمة الواجب ومبحث الضد وأمثالهما، فتدبر. (وقد تلخص) من جميع ما ذكرنا أن
موضوع علم الأصول هو عنوان (الحجة في الفقه)، ومحصل مسائله تشخيص مصاديق
الحجة وتعيناته.
ولذلك ترى الشافعي يبحث في رسالته التي ألفها في هذا الفن عن حجية الحجج الشرعية
من الكتاب والسنة وأمثالهما، فتأمل في المقام، فإنه بالتأمل حقيق.
* * *
12

الامر الثاني في الوضع
قال شيخنا الاستاد (قدس سره) في الكفاية: الوضع نحو اختصاص للفظ بالمعنى وارتباط
خاص بينهما ناش من تخصيصه به تارة ومن كثرة استعماله فيه أخرى، وبهذا المعنى صح
تقسيمه إلى التعييني والتعيني (انتهى)
(أقول): لا يتبين بهذا التعريف ماهية الوضع وحقيقته بل هو نحو فرار من تعريفه، كيف!
والا فمن الممكن أيضا ان يقال في تحديد الانسان مثلا: انه نحو موجود في الخارج،
وهكذا بالنسبة إلى كل امر مجهول. والتعريف الحقيقي للوضع عبارة عما يعرف به
حقيقة العلقة الحاصلة بين الألفاظ ومعانيها، هذا مضافا إلى أنه يرد عليه
(أولا) أن الاختصاص والارتباط المذكور من قبيل معاني أسماء المصادر، فيعتبر
امرا باقيا بين اللفظ والمعنى، ولا محالة يكون لتحقق هذا الارتباط منشأ هو الوضع حقيقة
فليس الارتباط عين الوضع، بل هو امر مترتب على الوضع ومتحصل بسببه، ويعبر عن هذا
الارتباط بالدلالة الشأنية المعرفة بكون اللفظ بحيث إذا سمع أو تخيل فهم منه المعنى
(وثانيا) ان الارتباط المذكور لا يحصل بصرف تعيين الواضع، بل يحصل اما بكثرة
الاستعمال، واما بتعيين الواضع، أو استعماله بداعي الوضع بشرط الاتباع.
والحاصل ان الارتباط الذي هو عين الدلالة الشأنية لا يكفى في تحققه صرف تعيين
الواضع ما لم يتبع، فان صرف التعيين لا يوجب انس اللفظ بالمعنى بحيث إذا سمع فهم منه
المعنى. (ثم إنه) لا بد في تحقق الوضع من أن يلحظ لفظ ومعنى فالمعنى الملحوظ
حين الوضع اما عام أو خاص، (وعلى الأول) اما ان يوضع اللفظ بإزاء نفسه، أو يوضع بإزاء
مصاديقه (واما على الثاني) فلا محالة يكون الموضوع له نفس المعنى الملحوظ فالأقسام
بحسب مقام الثبوت ثلثة.
(وربما يتوهم) امكان قسم رابع وهو أن يكون المعنى الملحوظ خاصا والموضوع
له عاما. وهو كما ترى فان الخاص بما هو خاص وجزئي لا يصير وجها ومرآتا للعام دون
العكس، فان العام وإن لم يعقل حكايته للافراد بخصوصياتها المفردة والمشخصة ولكنه
13

يحكيها بما انها وجودات له
(فان قلت) العام والخاص بحسب المفهوم متغايران ولكنهما يتحدان بحسب الوجود
والتحقق، بل مفهوم العام جزء من مفهوم الخاص أيضا بحيث لوا لقى منه الخصوصيات
المفردة لم يبق الا حيثية العام، وحينئذ فان أريد بحكاية الخاص إياه حكاية الخاص
بما هو خاص ومشوب بالخصوصيات سلمنا امتناعه ولكن الامتناع بهذا اللحاظ يجرى في
العكس أيضا، وان أريد بها حكاية الخاص بحيثيته الذاتية مع قطع النظر عن الخصوصيات
الزايدة لم نسلم امتناعه كما هو المفروض في العكس أيضا حيث إن المحكى هو الافراد
لا بخصوصياتها.
(قلت) فرق بين أن يكون لحاظ شئ لحاظا لشئ آخر بوجه، وبين أن يكون لحاظه
سببا للحاظ شئ آخر مستقلا بحيث يكون هناك لحاظان تولد أحدهما من الاخر. ففي ما
نحن فيه يكون لحاظ العام بنفسه لحاظا لمصاديقه بوجه، حيث إنه يلحظ العام بما أنه
مرآة لها، واما الخاص فليس لحاظه لحاظا للعام لعدم كونه مرآتا له.
(نعم) يمكن ان ينتقل الذهن من لحاظه إلى العام فيلحظه مستقلا فيصير الملحوظ
حين الوضع كالموضوع له عاما فتأمل. والحاصل ان الأقسام بحسب التصور أربعة، ولكن
الممكن منها في مقام الثبوت ثلثة.
(واما في مقام الاثبات) فمثال القسم الأول الاعلام الشخصية، ومثال القسم الثاني
أسماء الأجناس، واما القسم الثالث فربما يمثل له بالحروف فيكون الوضع فيها عاما و
الموضوع له خاصا، وربما يقال فيها أيضا: يكون الموضوع له كالوضع عاما، ولا بد في
تعيين ما هو الحق في المسألة من بيان حقيقة المعنى الحرفي في قبال المعاني الاسمية.
(فنقول) قد ذكر في الفرق بين معاني الحروف ومعاني الأسماء المرادفة لها بحسب
الظاهر (كلفظة من والابتداء مثلا) أقوال يمكن ارجاعها إلى معنى واحد. قال ابن
الحاجب في الكافية في حد الاسم: انه ما دل على معنى في نفسه، وفى تعريف الحرف: انه
ما دل على معنى في غيره. (وقال الشارح الرضى) في ذيل التعريف الأول ما حاصله:
ان الضمير البارز في (نفسه وغيره) لكلمة (ما) المراد بها الكلمة، ثم نقل قول المصنف
14

برجوعهما إلى المعنى ثم قال: ومعنى الكلام على ما اخترناه الاسم كلمة دلت على معنى ثابت
في نفس تلك الكلمة، والحرف كلمة دلت على معنى ثابت في لفظ غيرها (إلى أن قال): معنى
من ولفظ الابتداء سواء الا ان الفرق بينهما ان لفظ الابتداء ليس مدلوله مضمون لفظ آخر
بل مدلوله معناه الذي في نفسه مطابقة، ومعنى من مضمون لفظ آخر ينضاف ذلك المضمون
إلى معنى ذلك اللفظ الأصلي. (انتهى) ومحصل ما ذكره (قدس سره) في تحقيق المعنى
الحرفي ان الحرف وحده لا معنى له أصلا، بل هو كالعلم المنصوب بجنب شئ ليدل على أن
في ذلك الشئ فائدة ما، فيكون الحرف دالا على خصوصية معنى هو مضمون لفظ أو
ألفاظ اخر، والمعنى الحرفي بمنزلة الكيفية المشخصة لمعنى ذلك اللفظ أو الألفاظ
مثلا معنى كلمة سرت في قولنا: سرت من البصرة هو صدور السير من الفاعل، ولكن
الامتداد السيري محدود لا محالة، ومتخصص بانقطاعه أولا وآخرا، فمضمون كلمة
(سرت) عبارة عن هذا السير المحدود المتخصص، وجيئ بكلمة (من) للدلالة على الانقطاع الابتدائي الذي هو من خصوصيات هذا المضمون ومن كيفياته.
(وقال صاحب الجامي) نقلا عن المصنف في الايضاح: ان الضمير يرجع إلى المعنى أي
ما دل على معنى باعتباره في نفسه وبالنظر إليه في نفسه. ثم ذكر لبيان ذلك حاصلا ومحصولا
لا يهمنا ذكرهما، ومحصل ذلك أن المعنى الاسمي مفهوم متحصل بنفسه لا يحتاج في تحصله
ذهنا إلى معنى اخر، بخلاف المعنى الحرفي فإنه متحصل في الذهن ومتحقق فيه بتبع غيره
من المعاني
(وقال المحقق الشريف) في حاشيته على المطلول: ان معاني الأسماء معان استقلالية
ملحوظة بذواتها، ومعاني الحروف معان آلية حيث إنها تلحظ بنحو الالية والمرآتية
لملاحظة غيرها. (وقال المحقق) صاحب الحاشية على المعالم: ان معاني الأسماء معان
متحصلة في نفس الامر، ومعاني الحروف معان انشائية ايقاعية توجد بانشاء المتكلم.
(وقال) بعض محشي القوانين ان المعنى الحرفي عبارة عن حقايق الارتباطات الواقعة
بين المفاهيم المستقلة بحسب اللحاظ، والمعنى الاسمي عبارة عن نفس تلك المفاهيم
المستقلة المتشتتة التي لا ارتباط بينها في حد ذاتها مع قطع النظر عن المعاني الحرفية.
15

هذا ملخص ما ذكروه في المقام، ولا يخلو بعض تعبيراتهم من الخلل، وان أمكن
ارجاع جميعها ولو بالتأويلات البعيدة إلى ما سنحققه، فالواجب هو تحقيق المسألة بنحو
ينحل به اجمال هذه الكلمات أيضا.
(فنقول) (بعد جعل مدار الكلام حول المثال المعروف أعني قولهم سرت من البصرة
إلى الكوفة): انا إذا خرقنا حجب الألفاظ، وتوجهنا إلى الخارج بعدما صدر فيه سير
عن فاعل خاص، مبتدئا فيه من البصرة، ومنتهيا إلى الكوفة، لا نرى فيه في هذه الواقعة
الا أربعة أشياء موجودة متأصلة ذات الفاعل، والسير الذي هو من عوارضه وأفعاله و
بلدتي البصرة والكوفة، ولا نرى فيه وراء هذه الأربعة شيئا يسمى بالصدور عن الفاعل
أو الابتدائية أو الانتهائية. نعم ما نراه في الخارج في هذه الواقعة ليس هو السير
المطلق، بل هو سير وامتداد خاص يرتبط بالفاعل بصدوره عنه، وبالبصرة والكوفة
بانقطاعه عندهما أولا واخرا، ولكنه ليست هذه الخصوصيات الثلاثة موجودة في الخارج
بحيالها في قبال تلك الوجودات الأربعة، بل تكون مندكة فيها وموجودة بتبعها، هذا
حال الخارج.
(واما الذهن) فلاتساعه بحيث ربما يوجد فيه مستقلا مالا وجود له في الخارج يكون
ادراكه لهذه الواقعة على نحوين (الأول) ان يوجد وينتقش فيه عين ما في الخارج ونقشه
أعني السير المتخصص بالخصوصيات الثلاثة، بحيث تكون المعاني الأربعة (أعني ذات
الفاعل، والسير الذي هو امتداد خاص، وبلدتي البصرة والكوفة) في هذا اللحاظ ملحوظة
بحيالها واستقلالها، والخصوصيات الثلاثة (أعني ارتباط السير بالفاعل بصدوره عنه،
وبالبصرة بانقطاعه عندها أولا، وبالكوفة بانقطاعه عندها اخرا) مندكة فيها.
وبالجملة تكون هذه الخصوصيات الثلاثة في الوجود الذهني أيضا مندكة وفانية
في تلك المعاني الأربعة على حسب ما في الخارج. (الثاني) ان يلاحظ الخصوصيات
الثلاثة أيضا بحيالها في قبال تلك المعاني الأربعة من غير أن يلحظ بعضها من خصوصيات
غيره ومندكا فيه، فيتصور في هذا النحو من اللحاظ مفهوم الصدور والابتدائية
والانتهائية كما يتصور ماهية السير وذات الفاعل والبلدتان ويقال في مقام حكايتها:
16

السير - الصدور - انا - الابتداء - البصرة - الانتهاء - الكوفة. فيكون الموجود في
الذهن في هذا اللحاظ سبعة معان مستقلة متفرقة لا ربط بينها أصلا يعبر عنها بسبعة ألفاظ
غير مرتبطة، فما كان بحسب اللحاظ الأول رابطة بالحمل الشايع يصير بحسب اللحاظ
الثاني مفهوما مستقلا يحتاج في ارتباطه بالغير إلى رابط فيقال مثلا: ابتدأت من البصرة
أو يقال: ابتداء السير البصرة، فيرتبط مفهوم الابتدائية بغيره بوسيلة كلمة (من) أو بهيئة
الإضافة. (والحاصل) ان عالم الذهن والتصور لما كان أوسع من عالم الخارج والتحقق
فيمكن ان يوجد فيه نقش الخارج من دون تفاوت، فيكون المعاني مرتبطة فيه بحقيقة
الارتباط على وزان ما في الخارج، ويمكن أيضا ان يوجد فيه ما كان بحسب اللحاظ الأول
حقيقة ربطية مندكة، بنحو الاستقلال في قبال سائر المعاني المستقلة.
(إذا عرفت هذا فنقول) المعنى الحرفي عبارة عن المفهوم الاندكاكي الذي
به يحصل الربطين بين المفاهيم المستقلة، ويكون بحسب اللحاظ من خصوصيات المفاهيم
المستقلة، والمعنى الاسمي عبارة عن المفاهيم المستقلة المتفرقة في حد ذاتها.
(وبعبارة أخرى) حقيقة الارتباط والتخصص المتحقق في الخارج بنحو الفناء
والاندكاك في الطرفين ان وجدت في الذهن على وزان وجودها الخارجي يكون معنى أدويا
وان انتزع عنها مفهوم مستقل ملحوظ بحياله في قبال مفهومي الطرفين يصيرا مفهوما اسميا.
فلفظ الابتداء مثلا موضوع لمفهوم الابتدائية المنتزعة عن الطرفين والملحوظة بحيالها في
قبال الطرفين، بحيث صارت بنفسه طرفا يحتاج إلى الربط، ولفظة من موضوعة لحقيقة
الارتباط الابتدائي التي توجد في الذهن بنحو الاندكاك في الطرفين كما في الخارج، وبها
يحصل الربط بينهما (وبهذا البيان ظهر) ان الفرق بين المعنى الحرفي والمفهوم الاسمي
فرق جوهري ذاتي وانهما سنخان من المعنى، وضع لأحدهما الاسم، وللاخر الحرف.
(وظهر أيضا) ان الموضوع له في الحروف لا يعقل أن يكون عاما، لما عرفت من أن
الموضوع له لكلمة من مثلا، ليس هو مفهوم الابتدائية الذي هو معنى كلى، بل هو حقيقة
الارتباط الابتدائي الخاص المندك في الطرفين (وبعبارة أخرى) المعنى الحرفي عبارة عن
حقيقة الربط ومصداقه الخاص المتحقق بتبع الطرفين، وهي الموضوع له لكلمة من مثلا،
17

فيكون الموضوع له للحروف خاصا لا محالة.
(وقال شيخنا الاستاد) صاحب الكفاية (قدس سره) في المقام ما حاصله: ان حال
الموضوع له والمستعمل فيه في الحروف حالهما في الأسماء، إذ الخصوصية المتوهمة ان كانت
هي الموجبة لكون المعنى جزئيا خارجيا فمن الواضح ان كثيرا ما لا يكون المستعمل
فيه فيها كذلك، بل كليا، ولذا التجأ بعض الفحول إلى جعله جزئيا إضافيا، وهو كما
ترى، وان كانت هي الموجبة لكونه جزئيا ذهنيا، حيث إنه لا يكون المعنى حرفيا الا إذا لوحظ
حالة لمعنى آخر ومن خصوصياته، فالمعنى وان صار بهذا اللحاظ جزئيا، الا ان هذا اللحاظ
لا يكون مأخوذا في المستعمل فيه (اما أولا) فلانه يلزم وجود لحاظ اخر متعلق به حين
الاستعمال، بداهة ان تصور المستعمل فيه مما لا بد منه في الاستعمال، وهو كما ترى
(واما ثانيا) فلانه يلزم أن لا يصدق على الخارجيات، فامتنع امتثال مثل سر من البصرة الا
بالتجريد (واما ثالثا) فلانه ليس لحاظ الالية في الحروف الا كلحاظ الاستقلال في الأسماء
وكما لا يكون هذا اللحاظ معتبرا في المستعمل فيه فيها، فكذلك ذاك اللحاظ في الحروف.
(ان قلت) على هذا لم يبق فرق بين الاسم والحرف في المعنى، ولزم كون مثل كلمة من
ولفظ الابتداء مترادفين صح استعمال كل منهما في موضع الاخر.
(قلت): الفرق بينهما انما هو في اختصاص كل منهما بوضع حيث إنه وضع الاسم ليراد منه
معناه بما هو هو وفي نفسه، والحرف ليراد منه معناه لا كذلك، فاختلافهما في الوضع يكون
موجبا لعدم جواز استعمال أحدهما في موضع الاخر وان اتفقا فيما له الوضع، وقد عرفت أن
نحو إرادة المعنى لا يكاد يمكن أن يكون من خصوصياته ومقوماته. (انتهى)
(أقول): قد عرفت مما ذكرنا أن الفرق بين المعنى الاسمي والحرفي فرق جوهري
ذاتي، وان المفهوم الاسمي مفهوم مستقل كلى، والمعنى الأدوي حقيقة ربطية مندكة في
الطرفين، وأين أحدهما من الاخر: وليس الفرق بينهما بصرف اشتراط الواضع، وبذلك
يعلم أيضا ان الخصوصية في المقام ليست هي الموجبة لكونه جزئيا ذهنيا حتى يرد عليه الاشكالات
الثلاثة، بل المعنى الحرفي جزئي حقيقي حيث إن المراد به حقيقة الربط ومصداقه المتحقق
18

بتبع الطرفين، ولا محالة يكون جزئيا حقيقيا، ولا ينافي ذلك كلية الطرفين والمرتبطين،
فالنسبة الخبرية الموجودة في قولنا: الانسان كاتب مثلا نسبة جزئية خاصة بها تحقق الربط
بين الموضوع والمحمول، مثل النسبة المتحققة في قولنا (زيد قائم) وذلك لان النسبة المتحققة
في القضية الملفوظة والمعقولة ليست الا عبارة عن ثبوت المحمول للموضوع، وقولنا:
(الانسان كاتب) قضية واحدة فلها موضوع واحد ومحمول واحد ونسبة واحدة، وكذلك
الربط الابتدائي المتحقق في قولنا: سر من البصرة، ربط جزئي بها تحقق الارتباط بين
مفهوم السير والبصرة، مثل الربط المتحقق في قولنا: سرت من البصرة بلا تفاوت أصلا.
(وبالجملة) فحقيقة الربط ليست الا اتصال الطرفين والمرتبطين، لا مفهوم الاتصال بل
ما يكون بالحمل الشايع اتصالا، وهو معنى شخصي متقوم بالطرفين وان كان الطرفان كليين
(واما ما التجأ إليه) بعض الفحول من جعله جزئيا إضافيا فواضح الفساد، كما
أشار إليه في الكفاية بقوله (كما ترى) إذ الجزئي الإضافي ليس امرا متحققا في الخارج،
بل هو مفهوم كلى، غاية الامر كونه تحت مفهوم آخر، ولا يعقل في مقام الوضع ان يتصور
مفهوم ويجعل مرآتا لمفهوم آخر وان كان أخص منه، إذ المفاهيم بأسرها متباينة وليس
حكاية الكلى للافراد أيضا باعتبار خصوصياتها المفردة أو المشخصة، بل بما انها وجودات له.
(وبالجملة) فالكلي لا يحكى الا وجوداته بما هي وجوداته، ولا يعقل ان يحكى خصوصيات
الافراد ولا مفهوما آخر.
(وقد تلخص لك) مما ذكرنا امتياز الموضوع له في الحروف مما هو الموضوع له في
الأسماء ذاتا، وانهما سنخان من المفاهيم.
(واما المحقق الخراساني) (قدس سره) فظاهر كلامه كون الآلية والاستقلالية من
انحاء الاستعمال مع وحدة الموضوع له ذاتا نظير حيثية الانشائية والاخبارية، ولكن نحن
نسلم رجوع بعض الحيثيات كحيثية الانشائية والاخبارية والتصورية والتصديقية إلى
نحو الاستعمال، لكن الآلية والاستقلالية كما عرفت ترجعان إلى الفرق الذاتي بين المعنى الاسمي والمفهوم الأدوي.
(وحيث انجر الكلام إلى هنا) فاللازم بيان انحاء الاستعمال بنحو الاجمال، فنقول:
19

ان الانسان لما كان محتاجا في إدامة حياته وامرار معاشه إلى تفهيم مقاصده والقائها إلى أبناء
نوعه ليتعاونوا ويتوازروا، وكانت الألفاظ أقرب الوسائل إلى ذلك وأعمها نفعا من جهة ان
التنفس كان امرا ضروريا قهريا لجميع البشر، وكان الهواء عند خروجه من الرية واصابته
المقاطع، مما يمكن ان يوجد بوسيلته أصوات موزونة يخالف بعضها بعضا، بحيث يتولد
منه الحروف أولا، ويتولد منها الكلمات بسبب التركيب ثانيا، فلأجل ذلك اختار البشر
هذا الامر الطبيعي وجعله وسيلة لافهام مقاصده بالوضع والمواضعة، وحيث إن الوضع كان
لرفع الاحتياجات، وكانت الحوائج مختلفة والمقاصد متفاوتة، فلا محالة لاحظ الواضع حين
وضعه أنواعه المقاصد وأصناف المفاهيم والانحاء المتصورة لالقائها وافهامها، ثم وضع
الألفاظ بمقدار ينسد به جميع طرق الحاجة.
(وبالجملة) فالواضع حين الوضع لاحظ أنواع احتياجات المتكلمين، فرأى انهم ربما
يحتاجون إلى القاء المفاهيم المستقلة المتشتتة في حد ذاتها، وربما يحتاجون إلى القاء المعاني
الربطية الاندكاكية، وانهم قد يقصدون اعلام المعنى وافهامه بوسيلة اللفظ، وقد يقصدون
ايجاده بوسيلته، وفي اعلام المعاني الربطية ربما يكون داعيهم إلى اعلامها تصور المخاطب
إياها، وقد يكون داعيهم تصديقه بوقوعها، فوسع دائرة وضعه بمقدار يفي بتلك الحوائج.
(وزبدة أقسام اللفظ) بحسب أنواع المعاني وانحاء الاستعمالات المتصورة خمسة أقسام
(بيان ذلك) ان استعمال المتكلم للفظ وطلبه عمل اللفظ في المعنى، (تارة) يكون
بنحو الاعلام والافهام وهذا انما يكون فيما إذا فرض للمعنى مع قطع النظر عن هذا الاستعمال
الخاص نفس آمرية ما فأريد باستعمال اللفظ فيه افهام المخاطب إياه حتى يتصوره أو يصدق بوقوعه
(وتارة) يكون بنحو الايجاد بحيث يكون صدور اللفظ عن اللافظ آلة لايجاده و
هذا انما يتصور فيما إذا كان المعنى من الأمور الاعتبارية التي امر ايجادها بيد المتكلم.
(اما القسم الأول) أعني المعنى الذي كان عمل اللفظ فيه عملا افهاميا فهو على نوعين
إذ المعنى الافهامي اما أن يكون من المفاهيم المستقلة، واما أن يكون من المفاهيم الربطية
الاندكاكية.
(أما النوع الأول) فكمفهوم الرجل والضرب ونحوهما من المفاهيم المستقلة الغير
20

المرتبطة، وتسمى هذه المفاهيم بالمعاني الاسمية، ويكون الأسماء موضوعة بإزائها
ولا محالة يكون عمل اللفظ فيها عملا افهاميا تصوريا، حيث إن مقصود المتكلم من ذكر
اللفظ فيها، هو ان يفهم المخاطب معناه ويتصوره بنحو الاستقلال.
(واما النوع الثاني) فكالمعاني الحرفية والنسب الإضافية والايقاعية، وقد وضع
بإزاء هذا النوع من المعاني ألفاظ الحروف والهيئات، وهذا النوع من المعاني أيضا ينقسم
إلى صنفين، فان عمل اللفظ في المفهوم الاندكاكي اما أن يكون بنحو الافهام والاعلام التصوري
بان يريد المتكلم باستعماله القاء المعنى الاندكاكي إلى المخاطب ليتصوره بنحو الاندكاك في
الطرفين واما أن يكون بنحو الاعلام التصديقي بان يريد باستعماله القائه إليه ليصدق بوقوعه.
(فالصنف الأول) كالمعاني الحرفية التي يتحقق بسببها الارتباط بين المعاني
الاسمية من دون ان تكون متعلقة للتصديق كالربط الابتدائي الرابط بين السير والبصرة، و
الربط الانتهائي الرابط بين السير والكوفة، وكالنسبة الإضافية الغير التامة المتحققة بين
المضاف والمضاف إليه في نحو سيرى وسير زيد مثلا.
(والصنف الثاني) كالنسبة التامة المتحققة بين الفعل وفاعله وبين المبتدأ والخبر
فإنها معنى اندكاكي وضع بإزائه هيئة الجملة، ويكون المقصود من القائه إلى المخاطب
ان يصدق بوقوعه.
(واما القسم الثاني) أعني المعنى الذي كان عمل اللفظ فيه عملا ايجاديا بحيث
جعل آلة لايجاده فهو أيضا على نوعين: (الأول) ما لا يكون معنى فانيا مندكا في غيره، وهذا
مثل الطلب الموجد بمثل اضرب مثلا، أو اطلب منك الضرب أو تضرب إذا استعملا بقصد الانشاء
ومثل جميع مضامين العقود والايقاعات الموجدة بسبب صيغها في عالم الاعتبار (الثاني)
ما يكون فانيا في غيره فيكون الموجد بسب اللفظ معنى اندكاكيا، وهذا مثل حقيقة الإشارة
التي توجد بأسماء الإشارة والضمائر والموصولات، فان التحقيق كون جميع المبهمات من
واد واحد، وقد وضعت لان يوجد بها الإشارة فيكون الموضوع له فيها نفس حيثية الإشارة التي
هي معنى اندكاكي وامتداد موهوم متوسط بين المشير والمشار إليه، ويكون عمل اللفظ فيها
عملا انشائيا فقولك (هذا) بمنزلة توجيه الإصبع الذي يوجد به الإشارة ويكون آلة لايجادها.
21

(وما قيل): من كون كلمة (هذا) موضوعة للمفرد المذكر المشار إليه فاسد جدا
بداهة عدم وضعها لمفهوم المشار إليه، ولم يوضع لذات المشار إليه الخارجي الواقع في
طرف الامتداد الموهوم أيضا، إذ ليس لنا مع قطع النظر عن كلمة (هذا) إشارة في البين حتى
يصير المفرد المذكر مشارا إليه ويستعمل فيه كلمة هذا.
(وبالجملة) لفظة هذا مثلا وضعت لنفس الإشارة، ويكون عمل اللفظ فيها عملا ايجاديا
ولم توضع للمشار إليه كما قيل. وقد أشار إلى ما ذكرنا في الألفية حيث قال: بذالمفرد
مذكر أشر، (إلى آخر ما قال).
(نعم) لما كان حقيقة الإشارة امرا اندكاكيا فانيا في المشار إليه، فلا محالة ينتقل
الذهن من كلمة هذا إلى المشار إليه، ويترتب على هذا اللفظ احكام اللفظ الموضوع للمشار
إليه، فيجعل مبتدءا مثلا ويحمل عليه احكام المشار إليه، فيقال: (هذا قائم) كما يقال:
(زيد قائم). (ونظير ذلك) الضمائر والموصولات، فيشار بضمير المتكلم إلى نفس المتكلم
وبضمير المخاطب إلى المخاطب، وبضمير الغائب إلى المرجع المتقدم ذكره حقيقة أو
حكما، فيوجد بسببها في وعاء الاعتبار امتداد موهوم بين المتكلم وبين نفسه أو المخاطب
أو ما تقدم ذكره، ويشار بالموصول أيضا إلى ما هو معروض الصلة.
(والحاصل) ان جميع المبهمات قد وضعت بإزاء الإشارة، ليوجد بسببها
الإشارة إلى أمور متعينة في حد ذاتها اما تعينا خارجيا كما في الأغلب أو ذكريا
كما في ضمير الغائب، أو وصفيا كما في الموصولات حيث إنه يشار بها إلى ما يصدق
عليه مضمون الصلة، ولأجل ذلك يستفاد من الموصولات العموم بتبع عموم الصلة، فهذه هي
أنواع الألفاظ المستعملة في المعاني. (وقد عرفت) ان بعض الحيثيات يرجع إلى الاختلاف
الذاتي بين المفاهيم: كحيثية الالية والاستقلالية حيث إن المعاني كانت على سنخين، و
الواضع كما لاحظ المفاهيم المستقلة ووضع بإزائها نبذا من الألفاظ، كذلك لاحظ المعاني
الربطية ووضع لها قسمة من الألفاظ والهيئات، وبعض الحيثيات يرجع إلى نحو الاستعمال
كهيئة الافهامية والانشائية والتصورية والتصديقية، فان هذه الحيثيات ليست مأخوذة
في الموضوع له، وانما هي انحاء عمل اللفظ في المعنى وقد لاحظها الواضع حين وضعه
22

من جهة ان وضعه كان لرفع الحوائج وكان يلاحظ حين الوضع ان الناس ربما يحتاجون إلى افهام
المعنى، وربما يحتاجون إلى ايجاده، والافهام ربما يكون بداعي التصور وربما يكون بداعي
التصديق، فلا محالة كان عليه ان يوسع دائرة الوضع ويضع بعض الألفاظ لبعض المعاني حتى
يستعمل فيها بنحو الايجاد، وبعضها لمعان اخر حتى يستعمل فيها بنحو الافهام: افهاما تصوريا
أو تصديقيا كما مر تفصيله، فلفظة (هذا) مثلا لم يوضع بإزاء ايجاد الإشارة، بل الموضوع
له نفس حيثية الإشارة، وحيثية الايجاد انما جاءت من قبل الاستعمال ولكنها ملحوظة حين
الوضع. وكذلك هيئة الفعل أو الجملة مثلا لم توضع بإزاء التصديق بوقوع النسبة بل وضعت
بإزاء نفس النسبة، غاية الامر انها وضعت لها ليستعمل فيها استعمالا افهاميا تصديقيا، كما أن هيئة
الإضافة وضعت لها ليستعمل فيها استعمالا افهاميا تصوريا (وبذلك يعلم) الفرق بين قولنا: صدر
الضرب من زيد، وقولنا: صدور الضرب من زيد مثلا فافهم.
(وقد تبين لك) من جميع ما ذكرنا ما به يفترق الانشاء عن الاخبار، وانه يرجع إلى
الاختلاف في نحو عمل اللفظ من دون أن يكون حيثية الانشائية أو الاخبارية مأخوذة في
الموضوع له، ولأجل ذلك ترى كثيرا اشتراك لفظهما فيستعمل لفظ واحد تارة في الاخبار
وأخرى في الانشاء كلفظ (بعت) وأمثاله، وكالجمل الاسمية أو الفعلية المستعملة لايجاد
الطلب، فالموضوع له في لفظة بعت مثلا ليس إلا نسبة المادة إلى الفاعل ويكون هذا المعنى
متحققا في الصورتين، وانما الاخبارية والانشائية من دواعي الاستعمال وأنحائه.
(وهيهنا اشكال) في خصوص العقود يجب ان ينبه عليه،
(وتقريره) ان المنشأ في باب العقود لا يتحقق في وعاء الاعتبار الا بعد القبول، ولا
يعتبر أحد من العقلاء حتى الموجب تحققه قبله، والسر في ذلك أن تحقق المنشأ في باب
العقود يستلزم نحو تصرف في حدود سلطنة الطرفين، وليس لاحد اعمال السلطنة الا فيما
هو سلطان عليه فما لم ينضم إظهار سلطنة القابل (في ما هو مسلط عليه) إلى إظهار سلطنة الموجب
لا يتحقق المنشأ، وقد عرفت أن اللفظ في باب العقود آلة لايجاد المضمون ويكون عمله فيه
ايجاديا، وعلي هذا فيكون الموجب قاصدا بلفظه انشاء المضمون وايجاده، والمفروض
انه لا يتحقق الا بعد القبول، فيلزم من ذلك تفكيك المنشأ من الانشاء والوجود من الايجاد.
23

(ويمكن ان يجاب) عن ذلك بان تفكيك الوجود من الايجاد انما لا يعقل في الايجاد
الحقيقي، واما الأمور الاعتبارية فتكون في التحقق والوجود تابعة لاعتبار المعتبر، فإذا
اعتبر الموجب بايجابه وجود الانتقال والملكية مثلا بعد انضمام القبول من جهة العلم
بعدم امكان تحققهما قبله وان ايجابه جزء للسبب، فلا محالة يكون انضمام القبول شرطا
لتحققهما فتدبر.
الامر الثالث في الحقيقة والمجاز
قال شيخنا الاستاد العلامة (قدس سره) في الكفاية: صحة استعمال اللفظ فيما يناسب
ما وضع له هل هي بالوضع أو بالطبع؟ وجهان بل قولان، أظهرهما انها بالطبع، بشهادة
الوجدان بحسن الاستعمال فيه ولو مع منع الواضع عنه، وباستهجان الاستعمال فيما لا يناسبه
ولو مع ترخيصه، ولا معنى لصحته الا حسنه. (انتهى)
(ونقول) توضيحا لكلامه: انه ان سمى رجل ولده زيدا مثلا، واتفق شجاعة هذا
الولد بحيث صار معروفا بها وصارت من أظهر خواصه، نرى بالوجدان صحة استعمال لفظ
زيد واستعارته لمن أريد اثبات شجاعته، وإن لم يطلع على ذلك أب الولد (الذي هو الواضع)
بل لو اطلع وصرح بالمنع عنه، كيف! ولو احتاج إلى إجازة الواضع ووضعه شخصا
أو نوعا، لم يكن ذلك استعمالا مجازيا، بل يكون على نحو الحقيقة بسبب وضع
على حدة (هذا).
(ولكن يرد في المقام) ان المصرح به في كلامه (قدس سره) كون صحة الاستعمال
في الاستعمالات المجازية عين حسنه وانهما يستندان إلى الطبع (وهو عندنا محل نظر)
إذ الظاهر كون صحته غير حسنه، وان المستند إلى الطبع هو الحسن دون الصحة فإنها
تستند إلى الوضع دائما ولو في الاستعمالات المجازية
(ومنشأ الخلط في المقام) ما قرع سمعهم من كون الاستعمال المجازى استعمالا
للفظ في غير ما وضع له، وهو فاسد جدا، إذ اللفظ لا يستعمل الا فيما وضع له من جهة ان
الدلالة اللفظية الوضعية بنحو المطابقة لا يعقل بدون الوضع وهو المصحح للاستعمال
24

(غاية الامر) انه قد يكون مراد المتكلم من استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له ايجاد
المعنى في ذهن المخاطب ليتقرر بنفسه في ذهنه، ويحكم عليه أو به فيكون نفس المعنى
الموضوع له مرادا جديا كما هو المراد في مقام الاستعمال. (وقد يكون) مراده منه ايجاد
المعنى الموضوع له في ذهن المخاطب، ليصير هذا المعنى معبرا ومنشئا لانتقال ذهنه إلى
معنى آخر، من جهة كون المعنى الثاني عين الموضوع له أو من افراده ادعاء أو تنزيلا،
فيكون المراد جدا غير ما هو المستعمل فيه حقيقة وان كان عينه ادعاءا (فأسد) مثلا في قولك
(رأيت أسدا يرمى) لم يستعمل في الرجل الشجاع، بل استعمل في نفس ما وضع له أعني
الحيوان المفترس، غاية الامر انه أريد في هذا الاستعمال انتقال ذهن المخاطب من
اللفظ إلى ما وضع له، ثم انتقاله مما وضع له إلى معنى آخر أعني الرجل الشجاع، فكأن
اللفظ استعمل في المعنى الموضوع له، واستعمل المعنى الموضوع له في معنى آخر
ادعى كونه عين الموضوع له أو من افراده.
(ويسمى القسم الأول) من استعمال اللفظ فيما وضع له حقيقة، والقسم الثاني مجازا،
ووجه التسمية على ما ذكرنا واضح، فان الحقيقة مأخوذة من حق بمعنى ثبت، والمجاز
اسم مكان بمعنى المعبر، والمقصود من استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له في القسم
الأول هو ثبوت نفس المعنى في ذهن المخاطب، وفي القسم الثاني صيرورة المعنى الموضوع
له معبرا يعبر به الذهن إلى المعنى الثاني.
(وبالجملة) فنحن ندعى في جميع المجازات ما ادعاه السكاكي في خصوص الاستعارة،
ولطافة الاستعمالات المجازية مستندة إلى ما ذكرناه من ادعاء كون المعنى المقصود عين
ما وضع له اللفظ أو من افراده، ويختلف درجات لطافة الكلام وملاحته باختلاف مراتب
الادعاء المذكور بحسب الدقة والحسن، وربما يبلغ في ذلك حد الاعجاب والاعجاز،
كيف! وصرف استعمال اللفظ في غير ما وضع له من دون توسيط الادعاء المذكور لا يوجب
لطافة وحسنا، فالأسد في قولنا: (رأيت أسدا يرمى) لو استعمل في زيد الشجاع لا يوجب
مزية وحسنا زايدا على قولنا: (رأيت زيدا يرمى) ما لم يتوسط في البين ادعاء كونه بالغا في
الشجاعة حدا صار من افراد الأسد، واستحق ان يستعمل فيه لفظ الأسد. وكذلك اطلاق
25

لفظ يوسف مثلا بعلاقة التضاد على من قبح منظره لا يوجب ملاحة وحسنا في الكلام ما لم يتوسط
في البين ادعاء كونه عين الموضوع له لهذا اللفظ، كيف! ولو كان اطلاق لفظ يوسف على
زيد الذي قبح منظره أو اطلاق لفظ أسد عليه لغاية جبنه استعمالا للفظ في غير ما وضع له من
دون ان يتوسط الادعاء المشار إليه، لكان احضاره وايجاده في ذهن المخاطب بسبب هذا
اللفظ مثل احضاره في ذهنه بلفظ زيد من دون أن يكون هناك ملاحة ولطافة زائدة.
(والحاصل) ان اللفظ يستعمل دائما في نفس ما وضع له، غاية الامر ان المراد الجدي
اما أن يكون نفس الموضوع له حقيقة، واما أن يكون عينه أو من افراده ادعاءا وتنزيلا،
ففي الحقيقة تنحل القضية المشتملة على استعمال مجازى إلى قضيتين: قضية منطوقة حكم
فيها بثبوت المحمول للموضوع، وقضية ضمنية حكم فيها بكون المراد الجدي عين
الموضوع له أو من افراده ادعاءا
ومراتب اللطافة والمزية الموجودة في انحاء الاستعمالات المجازية انما هي بحسب
درجات الحسن في مفاد القضية الثانية، فربما يكون الادعاء المذكور مما لا يقبله ذائقة
الطبع، وربما يقبله ويستحسنه، وربما يصل ألى حد الاعجاز والخروج من طاقة البشر.
(وكيف كان) ففي جميع الموارد التي يدعى كونها من قبيل استعمال اللفظ في غير ما
وضع له يكون اللفظ عندنا مستعملا في نفس ما وضع له، اما بلا توسيط ادعاء في
البين كما في قولنا (ضربت زيدا) فان الضرب وان وقع على وجهه مثلا، ولكنه لم يستعمل
لفظ زيد في الوجه ولم يتوسط في البين أيضا ادعاء كون وجه زيد نفسه، بداهة ان الضرب
الواقع على وجه زيد واقع على زيد حقيقة بعد لحاظه موجودا وحدانيا من الرأس إلى القدم
واما مع توسيط ادعاء كون المراد الجدي عين الموضوع له أو من افراده.
(ومما ذكرنا ظهر لك) ان المصحح لاستعمال اللفظ دائما هو الوضع ليس إلا، فإنه
يستعمل دائما في نفس الموضوع له (نعم) حسن الكلام ولطافته في المجازات مستند إلى حسن
الادعاء المذكور، وهو مقول بالتشكيك وربما يصل إلى حد الاعجاز، فصحة الاستعمال
غير حسنه، والأولى مستندة إلى الوضع دائما ولا يوجد لها مراتب، بل يدور امرها بين
الوجود والعدم، فإن كان وضع في البين صح الاستعمال وإلا فلا، (والثاني) يستند إلى الطبع
26

ويختلف مراتبه باختلاف مراتب قبول الطبع واستحسانه.
(وقد تلخص) مما ذكرناه ان ما ذكره (قدس سره) في الكفاية من كون الاستعمالات
المجازية مستندة إلى الطبع امر صحيح، ولكن يرد عليه أن المستند إلى الطبع هو حسنها
وأما صحتها فمستندة إلى الوضع، وليس صحة الاستعمال عين حسنه كما أوضحناه فتأمل جيدا.
الامر الرابع في ذكر اللفظ وإرادة نوعه أو مثله أو شخصه
قال شيخنا الاستاد (قدس سره) في الكفاية ما حاصله: انه لا شبهة في صحة اطلاق اللفظ
وإرادة نوعه به أو صنفه أو مثله، واما اطلاقه وإرادة شخصه ففي صحته بدون تأويل نظر،
لاستلزامه اتحاد الدال والمدلول (إلى اخر ما قال قدس سره).
(أقول) الظاهر عدم كون المقام من قبيل استعمال اللفظ في المعنى كما ذكر
(قدس سره) أيضا في آخر كلامه، وتحقيق ذلك يتوقف على ذكر مقدمة وهي انك قد
عرفت سابقا ان الانسان لما كان محتاجا في إدامة الحياة إلى إظهار ما في ضميره والقائه إلى
أبناء نوعه ليتعاونوا ويتوازروا، وكان القاء المعنى إلى الغير بدون الوسيلة امرا غير معقول،
فلا محالة اختاروا لذلك أسهل الوسائل وأعمها نفعا وهي التلفظ، من جهة ان التنفس كان
امرا ضروريا قهريا لجميع أبناء النوع، وكان يحصل من الهواء الخارج من الرية بسبب
اصابته المقاطع أصوات موزونة يخالف بعضها بعضا، بحيث يتولد منها الحروف
المختلفة ويتولد من الحروف بسبب التركيب الكلمات والجمل، فوضع كل منها
بإزاء معنى خاص ويكون طريق الإفادة فيها ان الألفاظ الموضوعة كلها من تعينات
الصوت الذي هو من مقولة الكيف المسموع، فلا محالة يتأثر منها العصب السمعي
وبسببه ينتقل صورة اللفظ إلى الحس المشترك، فيدركه المخاطب أولا ثم ينتقل منه ذهنه إلى
المعنى المراد من جهة العلقة الحاصلة بين اللفظ والمعنى بوسيلة الوضع، فما يوجد في
ذهن المخاطب أولا هو اللفظ، ومنه ينتقل إلى المعنى، ولكن انس الذهن الحاصل بسبب
الوضع وكثرة استعماله في المعنى يوجبان فنائه فيه، بحيث يغفل عنه ذهن المخاطب
ويصير تمام توجهه إلى المعنى.
27

(ثم إن) الموضوع بإزاء المعنى وان كان طبيعة اللفظ بما هي هي، ولكن ما يصدر عن
المتكلم ويلقى إلى المخاطب شخص خاص من هذه الطبيعة، من جهة ان الوجود مساوق
للتشخص فلا محالة يكون اللفظ الملقى إلى المخاطب وجودا شخصيا متخصصا بصدوره عن هذا
اللافظ بالكيفية الخاصة في زمان خاص ومكان مخصوص، بحيث ان تكرر هذا اللفظ
من هذا اللافظ أو لافظ آخر تحقق هنا وجودان متمايزان من هذه الطبيعة (وبالجملة) ما
يلقى إلى المخاطب ويوجد في ذهنه شخص خاص من طبيعة اللفظ الموضوع، ولكن المخاطب
لو خلى وطبعه يغفل عن هذه الخصوصيات والعوارض المشخصة، ويتوجه ذهنه إلى طبيعة
اللفظ ومنه إلى المعنى.
(إذا عرفت هذه المقدمة) فنقول: ان في موارد استعمال اللفظ في المعنى كما
عرفت انما يوجد المتكلم اللفظ لينتقل بوسيلة العصب السمعي إلى ذهن المخاطب أولا، ثم
يعبر به ذهنه إلى المعنى، ففي هذه الموارد يصح اطلاق لفظ الاستعمال من جهة كونه عبارة
عن طلب عمل اللفظ في المعنى وكونه معبرا لذهن المخاطب إليه، واما في موارد إرادة
النوع أو الصنف أو المثل أو الشخص فلا يراد من ايجاد اللفظ في ذهن المخاطب ان ينتقل
منه ذهنه إلى شئ آخر، بل يراد ثبوت نفس اللفظ وتقرره في ذهنه حتى يحكم عليه أو به،
فلا يصح اطلاق لفظ الاستعمال في هذه الموارد.
(بيان ذلك) انك قد عرفت أن في موارد الاستعمال يكون المتحقق في ذهن المخاطب
بسبب السماع شخص خاص من اللفظ، ولكنه لو خلى وطبعه يغفل عن هذه الخصوصيات
المشخصة، بل عن أصل اللفظ، ويتوجه إلى المعنى من جهة انس الذهن بالعلقة الوضعية
التي هي امر عرضي. (وعلي هذا) فإذا كان منظور المتكلم أيضا ذلك يخلى المخاطب وطبعه،
واما إذا كان مراده هو الحكم على نفس طبيعة اللفظ من دون نظر إلى المعنى، فحينئذ
يذكر اللفظ بقصد ان يوجد بنفسه في ذهن المخاطب. ويصير الحكم المذكور في القضية
قرينة صارفة لذهن المخاطب عن المعنى، فيتقرر نفس اللفظ في ذهنه والموجود في ذهنه وان كان
شخصا خاصا من اللفظ، ولكنك عرفت أن ذهنه غافل عن العوارض المشخصة فيرى طبيعة اللفظ.
(وإذا كان مراد) المتكلم هو الحكم على شخص اللفظ فلا محالة يذكر
28

اللفظ بقصد ان يوجد بشخصه في ذهنه، ويصير الحكم المذكور في القضية قرينة صارفة
عن المعنى ومعينة لإرادة هذا اللفظ الصادر بشخصه.
(وإذا كان مراد المتكلم) هو الحكم على مثل هذا الشخص الصادر فهو يذكر اللفظ
لينتقل بطبيعته إلى ذهن المخاطب، فيتوجه ذهنه إلى صرف الطبيعة غافلا عن خصوصياتها
وينتقل بقرينة الحكم إلى الحصة المتحققة منها في ضمن الشخص المراد، فالانتقال إلى
المثل بسبب القرينة نظير تعدد الدال والمدلول، لا باستعمال هذا اللفظ الخاص في مثله
وبالجملة في هذه الموارد لا يراد من القاء اللفظ إلى المخاطب وايجاده في ذهنه ان ينتقل
منه إلى شئ آخر.
(بل يراد في الأول) ان يوجد اللفظ (بما أنه طبيعة اللفظ وملقاة عنه خصوصية صدوره عن
هذا المتكلم في هذا الزمان) في ذهن المخاطب، ويقف عليه ذهنه فيحكم عليه أو به،
(وفي الثاني) ان يوجد بخصوصية صدوره عن هذا المتكلم في هذا الزمان في ذهنه ويقف عليه
(وفي الثالث) ان يوجد بطبيعته في ذهنه، ويقف ذهنه بسبب القرينة على حصة خاصة منها
متحققة في ضمن شخص آخر مماثل. والحكم المذكور في القضية في الموارد الثلاثة قرينة على
المراد، وموجب لعدم عبور ذهن المخاطب من اللفظ إلى شئ آخر، فلا يكون في هذه
الموارد استعمال وافناء للفظ في شئ آخر، فلا يصح اطلاق لفظ الاستعمال.
(فان قلت) إذا قال قائل (زيد لفظ مثلا) فقلت أنت حاكيا عنه (زيد المذكور في قول
هذا القائل اسم) يكون قولك (زيد) مرآتا للفظ الواقع في كلامه، وسببا للانتقال
إليه فيصير من قبيل الاستعمال.
(قلت) لا يكون المراد من ذكر لفظ (زيد) افنائه في اللفظ الواقع في كلام القائل
افناء اللفظ في المعنى، بل يكون المراد كما عرفت وجوده بطبيعته في ذهن المخاطب.
واما انتقال ذهنه إلى الشخص منه (الواقع في كلام القائل) فبالقرينة المذكورة في الكلام
فليس في هذا القسم أيضا استعمال.
(فان قلت) إذا قيل (ضرب فعل ماض) مثلا أو قيل (لو حرف شرط) فلا يصح ان يراد نفس
هذا اللفظ بل يكون مرآتا للاشخاص الاخر، فيصير من قبيل الاستعمال، بداهة ان
29

كلمة ضرب (في هذا الكلام) ليست فعلا، وكلمة لو ليست حرف شرط بل هما اسمان حكم عليهما.
(قلت) قد عرفت أن المقصود في أمثال ذلك هو ايجاد صرف طبيعة اللفظ في ذهن
المخاطب ملقاتا عنها العوارض المشخصة، والطبيعة فيها ملحوظة بنحو المرآتية لافرادها
فلذا يحكم عليها بالحكم الثابت للافراد، وليس لحاظ الطبيعة بنحو المرآتية استعمالا
لها في افرادها.
(وبالجملة) فليس اللفظ في المثالين مستعملا في الاشخاص الاخر بل المقصود من ذكر
اللفظ هو تحقق نفس طبيعة اللفظ في ذهن المخاطب لا بما هي هي بل بما انها مرآة لافرادها.
وحيث إن المراد في أمثال ذلك نفس اللفظ صح جعله محكوما عليه، إذ ما يمتنع ان يصير
محكوما عليه هو الفعل والحرف بما لهما من المعنى.
الامر الخامس
قال شيخنا الأستاذ في الكفاية (ما حاصله): انه لا ريب في كون الألفاظ موضوعة بإزاء
معانيها من حيث هي، لا من حيث هي مرادة للافظها، لما عرفت من أن قصد المعنى من مقومات
الاستعمال، فلا يكون من قيود المستعمل فيه (إلى أن قال) واما ما حكى عن العلمين (الشيخ
الرئيس والمحقق الطوسي) من مصيرهما إلى أن الدلالة تتبع الإرادة، فليس ناظرا إلى
كون الألفاظ موضوعة للمعاني بما هي مرادة، بل ناظر إلى أن دلالة الألفاظ على معانيها
بالدلالة التصديقية (أي دلالتها على كونها مرادة للافظها) تتبع ارادتها منها، ويتفرع عليها
تبعية مقام الاثبات للثبوت.
(ان قلت) على هذا يلزم أن لا يكون هناك دلالة عند الخطاء والقطع بما ليس بمراد،
أو الاعتقاد بإرادة شئ ولم يكن له من اللفظ مراد.
(قلت) نعم لا يكون حينئذ دلالة، بل يكون جهالة وضلالة يحسبها الجاهل دلالة،
ولعمري ما بينه العلمان (من التبعية) على ما بيناه واضح، (انتهى كلامه طاب ثراه)
(أقول): قد عرفت منا سابقا في انحاء الاستعمال ان عمل اللفظ في المعنى اما أن يكون
ايجاديا واما أن يكون افهاميا اعلاميا، والعمل الافهامي أيضا على نوعين: افهام تصوري،
30

وافهام تصديقي، فالافهام التصوري كدلالة الأسماء على معانيها الاستقلالية، وكدلالة
الحروف على معانيها الربطية. وكدلالة هيئة الإضافة على النسبة الإضافية فالمقصود من
الاستعمال في هذا النوع القاء المعنى الاسمي أو الحرفي إلى المخاطب، وافهامه إياه ليتصوره
من دون ان يراد تصديقه بالوقوع، والدلالة في هذا النوع دلالة تصورية. واما الافهام
التصديقي فكدلالة هيئة الجملة الفعلية أو الاسمية على النسبة التامة الخبرية، حيث إن
المقصود في هذا النوع القاء المعنى أي النسبة إلى المخاطب ليصدق بوقوعها، فالدلالة
حينئذ دلالة تصديقية.
(إذا عرفت ذلك) فنقول: اماما وضع من الألفاظ والهيئات بداعي الافهام التصوري فلا
يكون دلالتها على معانيها متوقفة على شئ، بل يكون نفس سماعها مع العلم بالوضع موجبا
لتصور معانيها الاستقلالية أو الربطية من دون توقف على إرادة المتكلم. واما ما وضع بداعي
الافهام التصديقي بان كان المراد من استعمالها في معناها تصديق المخاطب بوقوعها، فترتب
ذلك عليه يتوقف على أن يحرز المخاطب أمورا أربعة في ناحية المتكلم، (الأول) أن يكون
المتكلم عالما بالوضع، (الثاني) أن يكون مريدا لتصديق المخاطب بان يكون القائه
للمعنى بداعي التصديق لابداع آخر (الثالث) أن يكون عالما جازما بالنسبة لا شاكا فيها
(الرابع) أن يكون علمه مطابقا للواقع كما في الأنبياء والمرسلين. فإذا أحرز المخاطب
تحقق هذه الأمور في ناحية المتكلم يحصل له التصديق قهرا بمفاد النسبة التي ألقاها المتكلم
وإلا فلا. (وبالجملة) فالدلالة التصديقية بالمعنى الذي ذكرناه تتوقف مضافا إلى علم المخاطب
بالوضع على احراز هذه الأمور الأربعة في ناحية المتكلم، ومنها إرادة المتكلم لتصديقه
من دون أن يكون لتلك المقدمات الأربعة دخل في الموضوع له، بل هي مما يتوقف عليها
تحقق التصديق خارجا. واما الدلالة التصورية فلا تتوقف على شئ سوى علم المخاطب بالوضع
فالمراد بالدلالة التصديقية التي تتبع الإرادة هو ما ذكرناه، لا ما ذكره في الكفاية (هذا) مضافا
إلى أنه (يرد عليه أولا) ان الظاهر عدم انطباق ما نسب إلى العلمين على ما ذكره (قده) كما
لا يخفى على من راجع كلامهما في مبحث المفرد والمركب من منطق الإشارات. (وثانيا)
31

انا لا نسلم توقف الاذعان والاعتقاد بثبوت شئ على ثبوت هذا الشئ في الواقع، إذ الاذعان
بالشئ ليس إلا عبارة عن القطع به، فهو ينحل إلى القطع وإلى شئ تعلق القطع به، اما القطع
فهو حالة نفسانية لا يتوقف حصولها على ثبوت شئ خارجا،
واما الشئ فهو هو، ولا معنى لتوقفه على نفسه. ثم لا يخفى ان الدلالة التصديقية
بالمعنى الذي ذكرناه أخص مما ذكره (قدس سره) فان ما ذكرناه لا يجرى الا فيما وضع
بداعي العمل التصديقي كهيئة الجمل، واما ما ذكره (قده) فيجرى في التصورات أيضا
كما لا يخفى.
الامر السادس
اعلم أنهم قسموا اللفظ إلى المفرد والمركب، فالمركب ما أريد بجزء منه الدلالة وعلى
جزء من المعنى، والمفرد بخلافه
(أقول) لا يخفى عدم صحة هذا التقسيم، إذ الوحدة معتبرة في الأقسام، وليس المركب
من لفظين مثلا لفظا واحدا بل كل واحد منهما لفظ مستقل له معنى فمثل (عبد الله) بالمعنى
الإضافي ليس مصداقا واحدا للفظ، بل يكون هنا لفظان كل منهما يدل على معنى مستقل
وهيئة لها أيضا وضع نوعي.
(نعم) هو بالمعنى العلمي اعتبر لفظا واحدا، ولذا يكون له معنى واحد. وبما ذكرنا
يظهر انه ليس للمركب بما هو مركب وضع على حدة وراء وضع المواد والهيئة، إذ ليس
هو شيئا بحياله ولفظا خاصا ورائها حتى يثبت له وضع على حدة.
الامر السابع في علائم الحقيقة والمجاز
لا يخفى انه بناء على ما ذكرناه سابقا لا يكون الاستعمال المجازى استعمال للفظ في غير ما
وضع له، بل يكون مستعملا في نفس ما وضع له، ولكنه توسط في البين ادعاء كون المراد
الجدي عين ما وضع له أو من افراده، فيكون الذهن منتقلا من الموضوع له إلى شئ آخر
32

وحينئذ فإذا ذكر اللفظ ينبغي تدقيق النظر في أن الذهن هل يتجاوز عما انتقل إليه أولا إلى
شئ آخر أولا؟ فان ثبت على نفس ما انتقل إليه أولا يعلم انه معنى حقيقي، وان عبر به إلى
معنى آخر كان الاستعمال استعمالا مجازيا.
واما العلائم التي ذكرها القوم (فأوليها) التبادر فهو علامة للحقيقة، كما أن عدم التبادر أو تبادر الغير علامة المجاز.
واستشكل على هذه العلامة بلزوم الدور، فان التبادر يتوقف على العلم بالوضع، إذ لا
يتبادر عند الجاهل به شئ، فلو كان العلم بالوضع أيضا متوقفا على التبادر لزم الدور. و
تقرير بطلان الدور بوجوه (منها) انه يلزم أن يكون الوضع مثلا (كما فيما نحن فيه) موجودا
قبل التبادر وفي رتبته من حيث كونه علة له. وغير موجود في رتبته من حيث كونه معلولا له، فيلزم
وجوده في رتبة التبادر وعدمه كذلك، فيؤول الامر إلى اجتماع النقيضين وهو محال بالذات، هذا
(وأجيب) عن الدور في المقام بوجهين (الأول) بنحو الاجمال والتفصيل، (بيانه) ان
العلم التفصيلي بالوضع يتوقف على التبادر واما التبادر فهو يتوقف على العلم الاجمالي الارتكازي،
وهذا الجواب مبنى على كون المراد بالتبادر، التبادر عند المستعلم (الثاني) ان حصول العلم
للجاهل بالوضع والمستعلم له يتوقف على التبادر، ويراد به التبادر عند العالمين بالوضع،
لا لدى هذا الشخص المستعلم، (هذا) ويمكن ان يستشكل على جعل التبادر علامة للوضع هنا
بان المراد بالوضع هنا خصوص التعييني منها أو الأعم منه والتعيني؟ فان أريد خصوص التعييني
لم يكن التبادر علامة له، إذ لا يحرز به خصوصه. وان أريد الأعم قلنا: انه عين التبادر إذ لا معنى
للوضع الجامع لقسميه الا كون اللفظ بحيث إذا سمع فهم منه المعنى. وهو بعينه التبادر
والدلالة الشأنية، كما عرفت في مبحث الوضع (1)

(1) أقول: يمكن ان يقال ان التبادر عبارة عن انسباق المعنى من اللفظ، ولا يمكن هذا
الانسباق الا لسبق خصوصية بين اللفظ والمعنى، تكون بمنزلة العلة للانسباق الفعلي و
هي انس اللفظ بالمعنى والعلقة الحاصلة بينهما المعبر عنها بالدلالة الشأنية. وان أبيت
وجود الخصوصية بين اللفظ والمعنى اعتبارا، وتحاشيت عنه، فلا أقل من وجود انس وحالة في
ذهن المخاطب سابقا على سماع هذا الاستعمال وبسببه يتحقق الانسباق الفعلي، فالتبادر عبارة
عن الانسباق الفعلي، والوضع امر سابق عليه يكون بمنزلة العلة لهذا الانسباق فافهم - ح - ع
33

(وبالجملة) فيتحد الوضع والدلالة والتبادر، وليس الوضع بمعناه الجامع امرا وراء
التبادر حتى يصير علامة له فافهم.
(الثانية) من علائم الحقيقة عدم صحة السلب، وبعبارة أخرى صحة الحمل، كما أن
صحة السلب علامة المجازية، وحيث إن كلا من الحمل والسلب يتوقف على موضوع
ومحمول تصدى المحقق القمي (قدس سره) لبيانهما (بما حاصله): ان المحمول المسلوب
في علامة المجاز جميع المعاني الحقيقية بمعنى ان صحة سلب جميع المعاني الحقيقية عن
المستعمل فيه فعلا علامة المجازية، والمحمول المثبت الموضوع في علامة الحقيقة واحد
من المعاني الحقيقية لا جميعها. (انتهى) وكان الداعي إلى هذا التفكيك هو عدم ورود النقض
في اللفظ المشترك. ولا يخفى ان تقرير العلامتين بهذا النحو لا يخلو من الفساد إذ بعد احراز
جميع المعاني الحقيقية لا يبقى شك حتى يجعل لنا علامة. ولأجل الفرار من هذا الاشكال
ذكر شيخنا الأستاذ (طاب ثراه) في الكفاية تقريبا آخر وحاصله (بتوضيح منا) ان الموضوع
في القضية هو المعنى الذي أريد بيان حاله، والمحمول عبارة عن نفس اللفظ لا بما أنه صوت
من الأصوات، بل بما أنه مندك فيما وضع له وفان فيه ومرآة له وبعبارة أخرى بما أنه يعد
من مراتب وجود المعنى، ولأجل ذلك يعبر عنه بالوجود اللفظي، وصحة حمل اللفظ بهذا
اللحاظ على المعنى الذي أريد بيان حاله بالحمل الأولى علامة كونه عين الموضوع له،
وبالحمل الشايع علامة كونه من افراده. وكذلك في طرف السلب فصحة سلب اللفظ عنه
بالسلب الأولى علامة لعدم كونه عين الموضوع له وان بقي احتمال كونه من افراده، و
بالسلب الشايع علامة لعدم كونه من افراد الموضوع له وان بقي احتمال كونه عينه (انتهى).
(أقول): تقسيم الحمل إلى القسمين صحيح، ولكن السلب ليس على قسمين فان الملاك
لصحة الحمل هو الاتحاد. فإن كان الاتحاد بحسب المفهوم كان الحمل أوليا ذاتيا وان كان
بحسب الوجود الخارجي كان شايعا صناعيا، واما السلب فملاكه عدم الاتحاد، وعدم الطبيعة
بعدم جميع افرادها. فما دام يوجد نحو من الاتحاد بين الموضوع والمحمول لا يصح
سلبه عنه، (وبالجملة) فملاك السلب عدم الاتحاد ولا يتحقق ذلك الا بعد عدمه
مفهوما ووجودا، فللحمل قسمان، وللسلب قسم واحد.
34

(وبهذا البيان) أيضا نجيب عن الاشكال الوارد في باب التناقض، حيث حصروا
الوحدات المعتبرة فيه في ثمانية (وحاصل الاشكال) ان الوحدات الثمانية لا تكفى لحصول
التناقض ما لم يضف إليها وحدة الحمل، فإنه يصدق زيد كاتب بالحمل الشايع وليس بكاتب
بالسلب الأولى، وكذلك الجزئي جزئي بالحمل الأولى وليس بجزئي بالسلب الشايع،
فيشترط في تحقق التناقض وراء الوحدات الثمانية وحدة الحمل والسلب بمعنى كونهما
معا أوليين أو صناعيين. (وحاصل الجواب) منع صدق السلب في المثالين بعد تحقق نحو اتحاد
بين الموضوع والمحمول كما هو المفروض.
(وكيف كان) ففي تقرير صاحب الكفاية نحو اختلال (فالأولى ان يقال): انه ان صح
سلب اللفظ بما هو مندك وفان فيما وضع له عن المعنى الذي أريد بيان حاله علم من
ذلك أنه لا ربط بينهما أصلا، فليس المستعمل فيه عين اللفظ بماله من المعنى ولا من افراده
وإن لم يصح السلب وتنافر منه الطبع يكشف ذلك عن نحو اتحاد بينهما، اما لكون المستعمل
فيه عينه بماله من المعنى أو لكونه من افراده. ثم إن اشكال الدور الوارد في التبادر آت
هنا أيضا والجواب الجواب كما لا يخفى.
(الثالثة من علائم الحقيقة) الاطراد، كما أن عدم الاطراد من علائم المجاز.
(قال المحقق القمي) (قدس سره) في هذا المبحث (ما حاصله): ان المراد بعدم الاطراد
في المجاز ان كان عدم اطراد الاستعمال بالنسبة إلى أنواع العلائق فعدم الاطراد صحيح،
لكن لا من جهة وجود المانع من الاستعمال في بعض الموارد، بل من جهة عدم المقتضى له
فان المرخص فيه في باب المجازات ليس هو الاستعمال باعتبار أنواع العلايق المعهودة،
بل المرخص فيه هو الاستعمال باعتبار بعض الأصناف منها، فليس كلما وجد السببية والمسببية
مثلا يجوز استعمال لفظ السبب في المسبب أو بالعكس، فان لفظ (الأب) مثلا لا يطلق على
الابن ولا لفظ الابن على الأب مع وجود نوع السببية فيهما.
وان كان المراد عدم اطراد الاستعمال بالنسبة إلى الصنف المرخص فيه (أعني الموارد التي
كانت العلاقة فيها من أظهر خواص المعنى الحقيقي كالشجاعة مثلا للأسد) فالمجاز أيضا
مطرد مثل الحقيقة لصحة الاستعمال في كل مورد وجد فيه هذا الصنف من العلاقة (انتهى).
35

وقال شيخنا الاستاد في الكفاية (ما حاصله): ان جعله علامة للمجاز لعله بملاحظة
نوع العلايق، والا فبملاحظة خصوص ما يصح معه الاستعمال فالمجاز أيضا مطرد كالحقيقة
(انتهى). (أقول): الظاهر صحة جعل الاطراد وعدمه علامتين بتقريب لا يرد عليه ما
ذكره المحقق القمي وصاحب الكفاية (بيان ذلك) انك قد عرفت (في الامر الثالث) ان
اللفظ في الاستعمالات المجازية أيضا لا يستعمل الا فيما وضع له، غاية الامر انه في الاستعمالات
الحقيقية يكون المراد الجدي عين الموضوع له حقيقة، وفي الاستعمالات المجازية يكون
عينه أو من افراده ادعاء وتنزيلا، وملاحة جميع المجازات ولطافتها مستندة إلى هذا
الادعاء (فأسد) في قولك (رأيت أسدا يرمى) لم يستعمل الا في الحيوان المفترس، غاية الامر
انه توسط في البين ادعاء كون زيد الشجاع من افراده، فهذه القضية تنحل إلى قضيتين
يحتاج الاخبار في كل منهما إلى جهة محسنة، مفاد احدى القضيتين تعلق الرؤية برجل
يرمى، ومفاد الأخرى كون هذا الرجل بالغا في الشجاعة حدا يصح جعله من افراد
الأسد واستعمال لفظ الأسد فيه، وملاك الحسن في الاخبار الأول ما هو الملاك في قولك
(رأيت رجلا يرمى) وهو كون المقام مقام هذا الاخبار بان يفيد فائدة الخبر أو لازمها.
وملاك الحسن في الاخبار الثاني امران.
(الأول) حسن هذا الادعاء ذاتا بان يكون بين الموضوع له والمراد الجدي كمال
المناسبة بحيث يحسن ادعاء كون المراد الجدي عين الموضوع له أو من افراده، وإن شئت
فسم ذلك بمصحح الادعاء.
(الثاني) كون المقام مقام هذا الادعاء، فإنه ربما يوجد كمال المناسبة والعلاقة
بينهما بحيث تصحح الادعاء ذاتا ولكن المقام غير مناسب لاظهار هذا الادعاء، (مثلا) ان كان
جليسك رجلا شجاعا بالغا فيها حدا يصحح ادعاء كونه من افراد الأسد، حسن هذا الادعاء
واستعمال لفظ الأسد فيه إذا كان المقام مقام إظهار شجاعته كأن يكون المقصود مثلا
تحريكه إلى الجهاد فيقال له: (يا أسد الهيجاء فرق الأعداء) ولا يحسن هذا الادعاء والاستعمال
في مقام دعوته إلى الأكل مثلا بان يقال له: (يا أسد تفضل بأكل الطعام). وبالجملة فإذا
لم يكن المقام مقام إظهار شجاعته كان ادعاء كونه أسدا واطلاق الأسد عليه قبيحا بنظر العقلاء
36

(والحاصل) ان الاخبار في قولنا: (رأيت رجلا يرمى) يحتاج إلى محسن واحد، وهو
كون المقام مقام الاخبار بوقوع الرؤية على الرجل. واما الاخبار في قولنا (رأيت
أسدا يرمى) فيحتاج إلى احراز أمور ثلث (الأول) كون المقام مقام الاخبار بتعلق الرؤية
به. (الثاني) حسن ادعاء كونه أسدا بان يكون بالغا أعلى درجات الشجاعة أو الجبن.
(الثالث) كون المقام مقام إظهار شجاعته أو جبنه.
(إذا عرفت ما ذكرناه فنقول): ان جعل عدم الاطراد علامة للمجاز ليس بلحاظ
نوع العلاقة بل بلحاظ الصنف منها أعني الموارد التي يوجد فيها بين الموضوع له والمراد
الجدي كمال المناسبة بحيث تكون العلاقة من أظهر خواص الموضوع له. وقولكم:
(فالمجاز أيضا على هذا مطرد) واضح الفساد بعد ما ذكرناه من أن صرف تحقق صنف العلاقة
ومصحح الادعاء لا يكفى في الاستعمال ما لم يكن المقام مقام إظهار هذا الادعاء.
والحاصل انه بعد ما كان المقام مقام الاخبار بوقوع الرؤية على الرجل في المثال
المذكور يكون اطلاق الرجل عليه حسنا بنحو الاطلاق، واما استعمال الأسد فيه
فيتوقف (مضافا إلى تحقق صنف العلاقة ومصحح الادعاء) على كون المقام مقام إظهار شجاعته،
وذلك يختلف بحسب الموارد، فجعل عدم اطراد الاستعمال من علائم المجاز صحيح بلا اشكال.
الامر الثامن في الحقيقة الشرعية
لا يخفى ان ثبوت الحقيقة الشرعية في ألفاظ العبادات (كالصلاة والصوم والحج و
ونحوها) يتوقف على كون ماهياتها أمورا مخترعة لشارع الاسلام، والظاهر فساد ذلك
فان سنخ هذه العبادات كان معمولا متداولا بين جميع افراد البشر وأرباب الملل حتى مثل
عبدة الأوثان، فان افراد البشر كانت في طول التاريخ تعتقد بشريعة ودين صحيح أو فاسد
وكان كل واحد من الأديان الصحيحة والباطلة يوجد فيه عمل مخصوص وضع مثلا لان
يتوجه به العبد إلى مولاه ويتخضع لديه بنحو يليق بساحة من يعتقده مولى له، ولا محالة
كان لهذا السنخ من العمل في كل لغة لفظ يخصه، وكان في لغة العرب وعرفهم يسمى بالصلاة
فاستعمال هذا اللفظ في تلك العبادة الخاصة ليس بوضع شارع الاسلام، بل كان مستعملا
37

فيها في اعصار الجاهلية أيضا. غاية الامر ان ما هو مصداق لهذه الطبيعة بنظر شارع الاسلام
مغاير لما في سائر الأديان، فانظر إلى قوله (تعالى) (وما كان صلاتهم عند البيت الا مكاء
وتصدية) حيث سمى ما كان يصدر عنهم بقصد التوجه المخصوص التي المولى صلاة،
غاية الامر انه (تعالى) خطأهم في اتيان ما يشبه اللهو بعنوان الصلاة،
(وقال) (تعالى) أيضا حكاية عن عيسى (ع) (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا).
(وكذلك) لفظ الصوم والحج ونحوهما كما يظهر ذلك بمراجعة الآيات والاخبار
(وبالجملة) كان سنخ هذه العبادات متداولا في اعصار الجاهلية أيضا، وكان يستعمل
فيها هذه الألفاظ المخصوصة، وعلى طبقها أيضا جرى استعمال الشارع، غاية الامر انه تصرف
في كيفيتها واجزائها وشرائطها كما ثبت ذلك بالدلائل الخاصة، هذا بالنسبة إلى نفس
هذه العبادات، واما الألفاظ المستعملة في اجزائها (كلفظ الركوع والسجود والقيام ونحوها)
فلا اشكال في كون الاستعمال فيها بلحاظ معانيها اللغوية الأصلية بلا تصرف أصلا كما لا يخفى.
الامر التاسع في الصحيح والأعم
لا يخفى ان الصحة (لغة) بمعنى التمامية، ويقابلها الفساد نحو تقابل العدم والملكة
ويعبر عنهما بالفارسية (درست ونادرست)، ولا يوصف بهما العناوين والمفاهيم بما
هي هي) إذ لا معنى لفساد المفهوم في عالم المفهومية فان كل مفهوم وعنوان هو هو ويحمل
على نفسه بالحمل الأولى. واتصافه بالفساد وعدم التمامية انما هو بان لا يكون هذا العنوان
هذا العنوان، وهو يساوق سلب الشئ عن نفسه
ولا يوصف بهما الوجودات الخارجية أيضا بلحاظ ذواتها التي هي من سنخ الوجود،
(وانما) يتصف بهما الموجودات بالقياس إلى العناوين الخاصة المترقب انطباقها عليها،
فالموجود الخارجي من افراد الدواء أو الثمرة مثلا ربما يتصف بالصحة، وربما يتصف بالفساد
ولكنه لا بلحاظ هذا الوجود بما أنه وجود خارجي بل بالقياس إلى العنوان الذي يترقب
انطباقه عليه، ليترتب عليه آثار هذا العنوان، (فان وجد) بنحو ينطبق عليه هذا العنوان
ويترتب عليه اثره اتصف هذا الموجود بالصحة،
38

(وان وجد) بنحو لا ينطبق عليه اتصف بالفساد، وكذلك العمل الخارجي الصادر
عن المكلف بترقب كونه مصداقا للصلاة أو الحج أو نحوهما قد يتصف بالصحة وقد يتصف
بالفساد، لكن لا بما أنه وجود خاص ولا بلحاظ عنوان الحركة مثلا، فإنه بلحاظ هذا
العنوان تام حيث ينطبق عليه عنوان الحركة ويترتب عليه اثرها، بل بلحاظ عنوان الصلاة
المترقب انطباقها عليه، فإن كان بنحو ينطبق عليه العنوان المترقب اتصف هذا الوجود
بالصحة، والا اتصف بالفساد.
فالصحة عبارة عن كون الموجود (الذي وجد بداعي انطباق عنوان خاص عليه) بحيث
ينطبق عليه هذا العنوان المترقب ويترتب عليه اثره، والفساد عبارة عن كونه بحيث
لا ينطبق عليه ذلك، فهما وصفان للموجودات لا للعناوين والمفاهيم، ولكن اتصاف
الموجودات بهما انما هو بالقياس إلى العناوين المترقبة، وربما يكون موجود خاص
بالقياس إلى عنوان تاما، وبالقياس إلى عنوان آخر غير تام، فيتصف بالصحة بالنسبة إلى
الأول وبالفساد بالنسبة إلى الثاني
وقد اتضح بما ذكرناه ان اتصاف الموجودات بالصحة والفساد ليس بلحاظ الآثار
من دون توسيط العناوين، فان الآثار آثار لا محالة لعناوين خاصة، فالاتصاف بالوصفين
انما يكون بالقياس إلى العناوين المترقبة، ولا محالة يترتب الأثر بعد تحقق العنوان الذي
هو موضوع له.
ثم إن المهم في مسألة الصحيح والأعم انما هو تصوير الجامع بين الافراد والمراتب
ولا سيما على القول بالأعم، (قال شيخنا الاستاد) في الكفاية (ما حاصله): انه لا اشكال في وجود
الجامع بين الافراد الصحيحة وامكان الإشارة إليه بخواصه وآثاره، فان الاشتراك في
الأثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد، فيصح تصوير المسمى بلفظ الصلاة مثلا بالناهية
عن الفحشاء، وما هو معراج المؤمن ونحوهما (انتهى).
(أقول): اما تصوير الجامع الذاتي بين افراد الصلاة مثلا فغير معقول، فان الصلاة ليست
من الحقايق الخارجية، بل هي عنوان اعتباري ينتزع عن أمور متباينة كل واحد منها من
نوع خاص وداخل تحت مقولة خاصة، وليس صدق عنوان الصلاة على هذه الأمور المتباينة
39

صدقا ذاتيا بحيث يكون ماهية هذه المتكثرات عبارة عن الحيثية الصلاتية، ثم إنه يختلف
اجزائها وشرائطها باختلاف حالات المكلفين، من الحضر والسفر، و الصحة والسقم والاختيار
والاضطرار، ونحو ذلك: وعلي هذا فلا يعقل تصوير جامع ذاتي بين اجزائها في مرتبة
واحدة فكيف بين مراتبها المتفاوتة! (واما الجامع العرضي) فتصويره معقول حيث إن جميع مراتب الصلاة مثلا بمالها
من الاختلاف في الأجزاء والشرائط تشترك في كونها نحو توجه خاص وتخشع مخصوص
من العبد لساحة مولاه، يوجد هذا التوجه الخاص بايجاد أول جزء منها ويبقى إلى أن تتم،
فيكون هذا التوجه بمنزلة الصورة لتلك الاجزاء المتباينة بحسب الذات، وتختلف كمالا
ونقصا باختلاف المراتب.
(والحاصل) ان الصلاة ليست عبارة عن نفس الأقوال والأفعال المتباينة المتدرجة
بحسب الوجود حتى لا يكون لها حقيقة باقية إلى آخر الصلاة محفوظة في جميع
المراتب ويترتب على ذلك عدم كون المصلى في حال السكونات والسكوتات
المتخللة مشتغلا بالصلاة، بل هي عبارة عن حالة توجه خاص يحصل للعبد ويوجد
بالشروع فيها، ويبقى ببقاء الا جزأ والشرائط ويكون هذا المعنى المخصوص
كالطبيعة المشككة، لها مراتب متفاوتة تنتزع في كل مرتبة عما اعتبر جزء لها لا أقول
ان هذا الامر الباقي يوجد بوجود على حدة وراء وجودات الاجزاء حتى يكون الاجزاء
محصلات له، بل هو بمنزلة الصورة لهذه الاجزاء فهو موجود بعين وجودات الاجزاء، فيكون
الموضوع له للفظ الصلاة هذه العبادة الخاصة والمعنى المخصوص، ويكون هذا المعنى
محفوظا في جميع المراتب، فيكون وزان هذا الامر الاعتباري وزان الموجودات الخارجية
كالانسان ونحوه، فكما أن طبيعة الانسان محفوظة في جميع افراده المتفاوتة بالكمال و
النقص والصغر والكبر، ونقص بعض الاجزاء وزيادته، ما دام الصورة الانسانية محفوظة
في جميع ذلك، فكذلك طبيعة الصلاة. ولعل ما ذكرناه هو المراد من الوجه الثالث
المذكور في الكفاية في تصوير الجامع على القول بالأعم، الا ان التمثيل لذلك بالاعلام
الشخصية مما يبعد ذلك فتدبر. (ومثل) هذا المعنى يمكن ان يفرض في سائر العبادات
40

أيضا من الصوم والحج ونحوهما
واما ما في الكفاية: من تصوير المسمى بلفظ الصلاة مثلا بالناهية عن الفحشاء و
ما هو معراج المؤمن ونحوهما فيرد عليه ان المتبادر من لفظ الصلاة ليس هذا السنخ من
المعاني والآثار، كيف! ولو كان لفظ الصلاة موضوعا لعنوان الناهي عن الفحشاء مثلا
لصار قوله تعالى (ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) بمنزلة أن يقول: الذي ينهى عن
الفحشاء والمنكر ينهى عن الفحشاء والمنكر، وهذا واضح الفساد.
ثم إنه أشار هنا في الكفاية إلى مسألة البراءة والاشتغال في الأقل والأكثر الارتباطيين
فالأولى ان نتعرض لها بمقدار يناسب المقام: (فنقول). ان المولى وان كان يلاحظ حين
الامر بالمركب مجموع الاجزاء بالاسر شيئا واحدا، ويعتبرها حقيقة فاردة ويجعلها
متعلقة لامر واحد، ولكن وحدة المتعلق بحسب اللحاظ والاعتبار فقط، فهو بحسب
الواقع أمور متكثرة لكل منها وجود على حدة، وعلي هذا فالامر المتعلق بها وان كان واحدا، و
لكنه يتبعض ويتكثر اعتبارا بتبعض المتعلق وتكثره، فيمكن ان يصير معلوما ومنجزا ببعضه،
ومجهولا غير منجز ببعضه الاخر، فكما أن المتصل الواحد كماء الحوض مثلا مع كونه
واحدا حقيقيا (من جهة ان الاتصال مساوق للوحدة الشخصية) يتجزى ويتبعض، وبتبعضه
يتبعض ما يعرضه من اللون، وربما يخالف لون بعض الاجزاء لون غيره ومع ذلك لا ينثلم
به وحدة الماء، فكذلك الواحد الاعتباري المتكثر حقيقة كالصلاة مثلا، فحيث انها متكثرة
حقيقة يتبعض الامر الوحداني المتعلق بها، ويمكن ان يعرض لبعضه لون العلم ويبقى
بعضه مجهولا. فإذا علم المكلف بتعلق الامر ببعض الاجزاء وشك في تعلقه بشئ آخر،
وبالغ في الفحص اللازم عليه ولم يعثر على ما يدل على جزئيته يكون العقاب المستند إلى
ترك هذا الجزء المشكوك عقابا بلا بيان (لا أقول) ان الامر يتبعض ويتكثر حقيقة بل نقول إنه
مع وحدته وبساطته لما تعلق بما هو متكثر حقيقة بتحقق فيه نحو تكثر اعتباري
بحيث يمكن ان يتعلق العلم ببعضه ويبقى البعض مجهولا، فما تعلق به العلم تنجز لا محالة
وليس العقاب من قبله عقابا بلا بيان، وما بقي مجهولا يكون العقاب المستند إليه عقابا
بلا بيان، فيكون الامر بعكس متعلقه، فالمتعلق كثير حقيقة وواحد بحسب
41

اللحاظ والاعتبار، والامر واحد حقيقي ومتكثر اعتبارا بتبع متعلقه.
والحاصل ان تبعض الامر الواحد بحسب العلم والجهل والتنجز وعدمه لا محذور فيه
بعد تكثر المتعلق حقيقة، فترك الاجزاء المعلومة يوجب العقاب سواء كان الواجب في
متن الواقع هو الأقل أو الأكثر، وترك الجزء المشكوك فيه لا يوجبه.
(وإن شئت قلت) ان الأقل منجز مطلقا بمعنى ان تركه يستلزم استحقاق العقاب اما
على نفسه أو على ترك الأكثر المستند إليه، وما لا يوجب العقوبة هو ترك الأكثر المستند
إلى ترك الجزء المشكوك فيه فقط. (وبعبارة أوضح) محل البحث ليس صورة كون
التكليف انشائيا فقط بحيث لم يصدر بداعي البعث والتحريك، فان العلم بهذا التكليف
لا يوجب استحقاق العقوبة على تركه، بل النزاع انما هو في التكليف الفعلي الصادر بداعي
البعث والتحريك، ولكن صرف فعلية التكليف وتماميته من قبل المولى لا يكفى في استحقاق
العبد للعقوبة ما لم يحصل له علم، لا لقصور في ناحية التكليف فإنه مطلق بالنسبة إلى العلم
والجهل، بل لقصور في ناحية العبد، فالتكليف قبل تعلق العلم به فعلى ليس لتنجزه حالة
منتظرة سوى علم العبد، ونعبر عنه بالفعلي قبل التنجز فإذا علم به العبد صار فعليا منجزا
واستحق بتركه العقوبة، فيكون العقاب على التكليف بعد فعليته وتماميته من ناحية المولى
دائرا مدار علم العبد، فيستحق العقوبة على مخالفة التكليف بمقدار حصل له العلم
(وقد عرفت) ان الامر مع وحدته يتبعض بتبعض متعلقه، فإذا علم العبد بالأقل وشك في
الزائد كان ترك الواجب المستند إلى ترك الأقل موجبا للعقوبة، وتركه المستند إلى ترك الجزء
المشكوك فيه غير موجب له، فيكون التكليف بعد فرض فعليته منجزا بنحو الاطلاق ان كان
بحسب متن الواقع متعلقا بالأقل، ومتوسطا في التنجز ان كان متعلقا بالأكثر فترك الأكثر
المستند إلى ترك جميع الاجزاء يوجب العقاب، وتركه المستند إلى ترك الجزء المشكوك فيه لا
يوجبه. (وبالجملة) فترك الأقل يوجب استحقاق العقوبة مطلقا، وانما الذي لا يوجبه هو
ترك الأكثر المستند إلى غير الأقل، والتكليف على أي حال فعلى، غاية الامر ان تركه
المستند إلى ترك الجزء المشكوك فيه لا يوجب العقوبة من جهة القصور في ناحية العبد.
(فان قلت) سلمنا ان العلم الاجمالي بالوجوب المردد بين الأقل والأكثر ينحل إلى
42

العلم التفصيلي بوجود الأقل والشك البدوي بالنسبة إلى الجزء المشكوك فيه، لكنا
نقول: ان الاشتغال اليقيني بالأقل يقتضى البراءة اليقينية منه، والمفروض ان الأقل يتردد
امره بين كونه تمام المطلوب وبين كونه واجبا في ضمن الأكثر، وعلى الثاني فيتوقف
صحته على اتيان الأكثر، فان المفروض كون الأقل والأكثر ارتباطيين، فالاتيان بالجزء
المشكوك فيه دخيل في صحة الأقل على فرض كون الواجب بحسب متن الواقع هو الأكثر
والحاصل انا نسلم انحلال العلم الاجمالي في مقام اثبات التكليف وارتفاع العقاب
من ناحية الجزء الزايد، ولكن نقول: ان الاشتغال اليقيني بالأقل يقتضى قهرا الاتيان
بالجزء المشكوك فيه حتى يحصل الفراغ اليقيني من ناحية الأقل.
(قلت) هذه هي عمدة ما استدل به القائل بالاشتغال، (ويرد عليه) انه
(ان كان المراد) ان العلم بترتب الغرض على الأقل يتوقف على الاتيان بالأكثر،
ففيه ان تحصيل الغرض الذي لم يقم عليه حجة شرعية غير لازم، والمفروض عدم قيام الحجة
على وجوب الأكثر.
(وان كان المراد) ان اتيان الأقل وامتثال امره مشروط باتيان الأكثر،
(ففيه) ان معنى الارتباط ليس اشتراط كل واحد من الاجزاء بالاجزاء الاخر واخذها
قيدا له، بل معناه (كما عرفت) وقوع الاجزاء المتباينة المتكثرة بحسب الذات تحت امر
واحد، فالاجزاء بالاسر تعلق بها امر واحد، ولا محالة يتكثر الامر ويتبعض بتكثر
المتعلق تكثرا اعتباريا نحو تكثر العرض وتبعضه بتبع المعروض، فكل واحد من الاجزاء
مأمور به بالأمر الانبساطي، والعلم به يوجب تتنجزه ولزوم الفراغ من قبله وذلك يحصل
باتيانه قهرا.
(وبالجملة) فكما يتبعض الامر في مقام التعلق يتبعض في مقام التنجز والامتثال أيضا،
فإذا أتى المكلف بما تنجز عليه حصل له الامن من العقاب.
(ومما ذكرنا ظهر) ان الامر المتعلق بالاجزاء ليس امرا غيريا، بل هو عين الامر النفسي
الوحداني المتعلق بالمركب سواء كان متعلقا بحسب متن الواقع بالأقل أو الأكثر.
ويظهر من الشيخ (قدس سره) تردد الامر بالأقل بين كونه نفسيا أو غيريا، ومع ذلك
43

التزم بالبراءة، من جهة انحلال العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقل والشك
في وجوب الزائد،
ويرد عليه (مضافا إلى ما أشرنا إليه ونحققه في مبحث مقدمة الواجب من عدم
كون الامر بالاجزاء غيريا) ان الامر النفسي بالأكثر على تقريره (قدس سره) غير منجز
فلا يمكن أن يكون الامر المترشح منه على الأقل أيضا، منجزا بداهة ان الامر الغيرى
المقدمي تابع محض لما ترشح منه، وعلي هذا فيلزم عدم كون الأقل منجزا بنحو الاطلاق، ولازم
ذلك عدم الانحلال. واما على ما ذكرنا فالامر بالأقل امر نفسي مطلقا والعلم به يوجب
تنجزه كذلك فيترتب على تركه العقاب ولو كان الواجب هو الأكثر كما مر بيانه
(هذا كله) بناء على تعلق الامر بنفس المركب، واما بناء على تعلقه بعنوان بسيط
ففيه تفصيل، إذ هذا الامر البسيط (تارة) يكون شيئا متحصلا ومسببا من هذا المركب
من الاجزاء بحيث يكون وجوده غير وجود الاجزاء خارجا، فيحنئذ يتعين القول بالاحتياط
إذ المأمور به عنوان مبين علم الاشتغال به، ولازم ذلك وجوب تحصيل الفراغ اليقيني.
(وأخرى) يكون هذا الامر للبسيط عنوانا منتزعا عن نفس هذه الاجزاء ومنطبقا عليها
فيكون وجوده عين وجودها لا مسببا منها، فيمكن ان يقال (حينئذ) بالبراءة أيضا، فان
المطلوب حقيقة انما هو وجود هذا الامر البسيط الانتزاعي، والمفروض ان وجوده عين
وجود الاجزاء فيتبعض الامر اعتبارا بتبعض المركب الذي هو عين المأمور به خارجا ولأجل
ذلك قال في الكفاية في هذا المقام (ما حاصله) ان تصوير الجامع البسيط بين الافراد الصحيحة
لا ينافي جريان البراءة مع الشك في الاجزاء (انتهى).
وكيف كان فلنرجع إلى أصل المقصود، فنقول: تصوير الجامع بين الافراد الصحيحة
على ما بيناه بلا اشكال، وانما المشكل تصويره بين الصحيح والفاسد، وقد ذكر في الكفاية
وجوها خمسة لتصويره مع الجواب عنها، ولا يهمنا ذكرها فلنذكر أدلة الطرفين
في أصل المسألة.
(فنقول) قد استدل للصحيحي بوجوه، (منها) التبادر، (ويرد عليه) ان ادعائه
انما يصح بعد تصوير مفهوم مبين يكون هو الجامع بين الافراد الصحيحة والمتبادر من
44

اللفظ عرفا، والمفروض انه مما أشكل لدى القوم.
(واما ما ذكره) في الكفاية: من تصوير المسمى بلفظ الصلاة مثلا بالناهية عن الفحشاء
وما هو معراج المؤمن ونحوهما، فقد عرفت ما فيه وان المتبادر من لفظ الصلاة ليس أمثال
هذه المفاهيم والآثار، بل قلما يلتفت إليها ذهن المخاطب عند سماع لفظ الصلاة.
(ومنها) الاخبار الظاهرة في اثبات بعض الخواص والآثار للمسميات، كقوله عليه السلام
(الصلاة عمود الدين، أو معراج المؤمن، أو انها تنهى عن الفحشاء والمنكر ونحو ذلك)،
وتقريب الاستدلال بها بوجهين.
(الأول) انه لا شك في أن هذه الآثار آثار لخصوص الافراد الصحيحة لا الأعم، وحينئذ
فإن كان الموضوع له للفظ الصلاة مثلا هو الأعم كان الموضوع في القضية ملحوظا بنحو
الاهمال، وان كان الموضوع له خصوص الصحيح كان الموضوع ملحوظا بنحو العموم والسعة
وحيث إن ظاهر تعليق الحكم على الطبيعة المحلاة باللام هو كون الطبيعة بوجودها السعي
موضوعا للحكم، فاللازم منه كون الموضوع له للالفاظ خصوص الصحيح.
(الثاني) انه بعد ما نعلم ان المراد من الموضوع في هذه القضايا بلحاظ الآثار
الثابتة له هو خصوص الصحيح، يتردد الامر بين أن يكون الموضوع له خصوص الصحيح
فيكون الاستعمال في هذه القضايا بنحو الحقيقة وبين أن يكون هو الأعم فيكون بنحو المجازية، فبأصالة الحقيقة يثبت ان الموضوع له خصوص الصحيح، هذا.
(ويرد) على الاستدلال بهذه الاخبار ان التمسك بأصالة العموم وأصالة الحقيقة انما
يصح فيما إذا كان المراد الجدي مشكوكا فيه فأريد تشخيصه لا فيما إذا علم المراد وشك في
كيفية الاستعمال. (توضيح ذلك) انه ربما يشك في أن المراد الجدي للمولى وما هو
الموضوع لحكمه هو جميع الافراد أو بعضها فبناء العقلاء (حينئذ) على التمسك بأصالة
العموم لتشخيص ما هو المراد، وربما يكون مراد المولى معلوما، غاية الامر وقوع
الشك في كيفية استعماله وإرادته كما في دوران الامر بين التخصيص والتخصص، ففي
هذه الموارد ليس بناء العقلاء على التمسك بأصالة العموم، فإذا قال المولى (أكرم العلماء)
مثلا وعلم أن زيدا عالم وشككنا في أنه مراد أيضا كان بناء العقلاء حينئذ على التمسك
45

بأصالة العموم لاحراز وجوب اكرامه، واما إذا علم عدم وجوب اكرام زيد وشك في أنه
من افراد العلماء حتى يكون خروجه من باب التخصيص، أو انه ليس من أفرادهم حتى
يكون خروجه من باب التخصص، فليس بناء العقلاء في أمثال المقام على التمسك بأصالة
العموم لاحراز خروج زيد تخصصا بحيث يثبت له آثار غير العالم.
(إذا عرفت هذا فنقول): ان المفروض في الاخبار المذكورة هو العلم بالمراد وانه
خصوص الصحيح، وانما الشك في كيفية الاستعمال، فالتمسك بأصالة العموم أو أصالة
الحقيقة لاحراز كون الصحيح هو الموضوع له خروج مما استقر عليه بناء العقلاء.
(ومما استدل به) للصحيحي أيضا الاخبار الظاهرة في نفى الماهية والطبيعة بمجرد
فقد بعض الاجزاء أو الشرائط مثل قوله (لا صلاة الا بطهور، أو بفاتحة الكتاب. (ويرد عليه)
ان الأعمى أيضا يلتزم بان بعض الأجزاء والشرائط دخيل في صدق الحقيقة وان فقد انه يوجب
انتقائها حقيقة، نعم لو ثبت صحة نفى الحقيقة بانتفاء أي جزء أو شرط ولو كان من الاجزاء
أو الشرائط الغير الدخيلة عرفا في صدق المسمى، صح الاستدلال بذلك على كون الموضوع
له خصوص الصحيح، ولكن انى لكم باثباته.
(واستدل للأعمى) أيضا بوجوه (منها) التبادر (ويرد عليه) أيضا انه فرع تصوير
الجامع حتى يكون هو المتبادر، وقد عرفت الاشكال فيه. (ومنها) استعمال لفظ الصلاة
وغيرها في بعض الاخبار في الفاسدة كقوله عليه السلام (بنى الاسلام على خمس: الصلاة والزكاة
والحج والصوم والولاية، ولم يناد أحد بشئ كما نودي بالولاية، فاخذ الناس بالأربع
وتركوا هذه، فلو أن أحدا صام نهاره وقام ليله ومات بغير ولاية لم يقبل له صوم ولا صلاة).
فإنه بناء على بطلان عبادة تاركي الولاية لم يمكن اخذهم بالأربع الا إذا كانت أسامي للأعم
(ويرد عليه) ان المراد بها في الحديث بقرينة جعلها مما بنى عليها الاسلام، هو خصوص
الصحيح، والمراد بأخذ الناس بها هو اخذهم بها بحسب اعتقادهم.
(ومنها) انه لا شبهة في صحة تعلق النذر وشبهه بترك الصلاة في مكان تكره فيه وحصول
الحنث بفعلها، ولو كانت الصلاة المنذور تركها خصوص الصحيحة لا يكاد يحصل الحنث
به أصلا لفساد الصلاة المأتي بها لحرمتها، بل يلزم المحال فان النذر حسب الفرض قد
46

تعلق بالصلاة الصحيحة ومع النذر لا تقع صحيحة، فيلزم من فرض صحة الصلاة عدم صحتها
ومن فرض تحقق الحنث عدم تحققه، وما يلزم من فرض وجوده عدمه محال
(قال في الكفاية) في مقام الجواب عن هذا الاستدلال: بأنه لو صح ذلك لا يقتضى
الا عدم صحة تعلق النذر بالصحيح، لا عدم وضع للفظ له شرعا، مع أن الفساد من قبل
النذر لا ينافي صحة متعلقة، فلا يلزم من فرض وجودها عدمها، ومن هنا انقدح ان حصول
الحنث انما يكون لاجل الصحة لولا تعلقه (انتهى).
(أقول): لا يخفى ان المراد بالصلاة المنذور تركها في المثال عبارة عن طبيعة الصلاة
الراتبة التي لها وقت موسع ويفرض لها افراد طولية بحسب امتداد الوقت وسعته، وقد
تعلق النذر بترك اتيانها في الحمام (مثلا) لا من جهة مرجوحية ذاتية فيها بل من جهة كونها
مرجوحة بالإضافة إلى سائر الافراد، وان تركها فيه يلازم الاتيان بها في ضمن افراد اخر
خالية عن المنقصة والحزازة، فمرجع هذا النذر إلى نذر الاتيان بهذه الطبيعة المأمور بها في
ضمن افرادها الراجحة الخالية عن الحزازة، وليس المراد بها مطلق الصلاة وان كانت من النوافل
المبتدئة، إذ ليس للنافلة المبتدئة وقت وسيع حتى يترجح تركها في بعض اجزائه باعتبار
اختيار البدل، فان كل وقت يسع مقدار ركعتين من الصلاة يستحب اتيانها فيه من دون أن يكون
له بديل، ففي المكان المكروه كالحمام أيضا يستحب الاتيان بها، ولا يصح تعلق
النذر بتركها لعدم كونها مرجوحة.
والحاصل ان المراد بالصلاة المنذور تركها في المكان المكروه هي طبيعة الصلاة
الراتبة التي يفرض لها افراد طولية بحسب سعة الوقت ويكون تعلق النذر بتركها في هذا
المكان باعتبار مرجوحيتها بالإضافة إلى سائر الافراد.
وعلي هذا فيكون اشكال تعلق النذر مشترك الورود على كل من القول بالصحيح و
القول بالأعم، ويصير محصل الاشكال انه كيف يتعلق النذر بترك الصلاة المكتوبة التي
تكون صحيحة ومرجوحة بالإضافة إلى سائر الافراد مع أنه يلزم من فرض صحتها وتعلق
النذر بتركها عدم صحتها وعدم القدرة على الحنث، وهذا من غير فرق بين أن يكون اللفظ
موضوعا بإزاء الصحيح أو الأعم.
47

(وبالجملة) فمثال النذر لا يرتبط بما هو محل النزاع بين الصحيحي والأعمي، بل
هو اشكال يرد على كلا القولين فلا بد ان يتصدى للجواب عنه. وما ذكر في الكفاية (من أن
الفساد من قبل النذر لا ينافي صحة متعلقه) لا يفي بدفع الاشكال إذ الفرض تعلق النذر بترك
ما هو من افراد المكتوبة ويكون صحيحة مرجوحة، والحنث لا يتحقق الا باتيان نفس ما
تعلق النذر بتركه فلا يقع ما هو فاسد بالحمل الشايع مصداقا للحنث والحاصل أن النذر
لم يتعلق بترك مفهوم الصحيح بل تعلق بترك ما هو مكتوب وصحيح بالحمل الشايع بمعنى
كونه بوجوده مصداقا للصحيح وعلي هذا فلا يقع الفاسد مصداقا له.
(ويمكن ان يقال) ببطلان النذر في المثال من جهة ان صرف تفاوت افراد الطبيعة
الراجحة في مرتبة الرجحان وكون بعضها مرجوحا بالقياس إلى غيره لا يكفى في صحة
النذر، كيف! والا لزم صحة تعلق النذر بترك الصلاة في البيت مثلا من جهة ملازمته
للاتيان بها في المسجد، وصحة تعلق النذر بتركها في مسجد السوق مثلا باعتبار ملازمته
للاتيان بها في مسجد أفضل منه وهكذا، والالتزام بذلك مشكل. ولعل منشأ الاشتباه
في المقام اطلاقهم لفظ الكراهة على الصلاة في الحمام مثلا فتوهم منه كون المراد بها
المرجوحية الذاتية كما في سائر موارد الكراهة فتدبر.
(تتمه) ربما يذكر للنزاع في المسألة ثمرتان (الأولى) جريان البراءة فيما إذا
شك في جزئية شئ للمأمور به أو شرطيته على الأعم، وعدم جريانها على الصحيح
إذ لم يكن الجزء أو الشرط المشكوك فيه دخيلا في المسمى عرفا، وهذا بناء على
التفصيل في جريان البراءة في المسألة، والقول بجريانها فيما إذا كان منشأ الشك عدم
النص دون اجماله، فإنه على القول بالأعم لا يكون في الخطاب اجمال، وانما الشك في
اعتبار قيد زائد، والمفروض عدم الدليل عليه، واما على القول بالصحيح فيكون نفس
الخطاب مجملا.
(الثانية) انه على القول بالأعم يصح التمسك بالاطلاقات لنفى اعتبار ما زاد على المسمى
دون القول بالصحيح إذ عليه يرجع الشك إلى أصل الصدق وهذا بعد تحقق شرائط التمسك
بالاطلاق: من كون المتكلم في مقام البيان، وعدم العلم الاجمالي بورود التقييد أو انحلاله
48

باحراز تقييدات كثيرة بعدد المعلوم بالاجمال، هذا.
(والتحقيق في المسألة) ان يقال: ان وضع ألفاظ العبادات (كالصلاة والصوم ونحوهما
لماهياتها) ليس بتعيين الشارع، فان سنخ هذه العبادات كان معمولا متداولا بين جميع
افراد البشر وأرباب الملل حتى في اعصار الجاهلية أيضا، وكان هذه الألفاظ المخصوصة
موضوعة بإزائها ومستعملة فيها كما عرفت تفصيل ذلك في مبحث الحقيقة الشرعية وعلى
طبق استعمالهم جرى استعمال الشارع أيضا غاية الامر انه تصرف في كيفيتها وما يكون
معتبرا فيها من الأجزاء والشرائط وبين ذلك بالعمل أو بتصريحات اخر، فهذه الألفاظ لم
تستعمل في لسان الشارع الا في نفس هذه المهيات وهذا السنخ من العبادات المتداولة
في جميع الاعصار بين جميع أرباب الملل، واعتبار القيود والخصوصيات الفردية المعتبرة
في شرع الاسلام انما ثبت بالأدلة الاخر، وليس وضعها بتعيين الشارع حتى يتوهم كون
الموضوع له خصوص ما صح عنده وكان واجد الجميع ما اعتبر فيه من الأجزاء والشرائط
فتدبر جيدا.
(تبصرة) قال في الكفاية (ما حاصله) " ان دخل شئ وجودي أو عدمي في المأمور به
تارة بنحو الجزئية، وأخرى بنحو الشرطية، وثالثة بان يكون مما يتشخص به المأمور به
فيكون جزء أو شرطا للفرد لا للماهية. "
(أقول:) تفصيل المقام هو ان الشئ الدخيل في المأمور به قد يكون جزء له، و
ذلك بان يكون المتعلق للامر شيئا مؤلفا منه ومن عدة اجزاء اخر وقد اعتبرها الشارع
حقيقة واحدة، وتعلق بها امر واحد من جهة تأثيرها في غرض وحداني، وقد يكون شرطا
له وذلك على وجهين.
(الأول) أن يكون شرطا شرعيا وذلك انما يتصور فيما إذا لم يكن هذا الشئ داخلا
في قوام الماهية، ولكن كان ترتب الغرض عليها متوقفا على تحققه، (فحينئذ) يتعلق الامر
بالمهية مقيدة بهذا الشئ بنحو يكون التقيد داخلا والقيد خارجا فيكون المأمور به
هو الطبيعة المقيدة.
(الثاني) أن يكون من الشرائط العقلية والمقدمات الوجودية للمأمور به، وذلك
49

بان يكون المأمور به عنوانا بسيطا لا يتقيد بهذا الشئ في مقام الامر، ولكن هذا العنوان
البسيط انما ينتزع عن الاجزاء بالاسر حال كونها مسبوقة أو مقارنة أو ملحوقة بهذا
الشئ، فمنطبق هذا العنوان الانتزاعي نفس الاجزاء بالاسر، ولكن انطباقه عليها
يتوقف في متن الواقع على وجود هذا الشئ، فيكون هذا الشئ شرطا عقليا لتحقق
المأمور به خارجا، غاية الامر انه كشف عنه الشارع. فعنوان الصلاة مثلا انما ينتزع عن
الأمور المتكثرة التي أولها التكبير وآخرها التسليم، ولكن انتزاعه عن تلك الأمور
والاجزاء وانطباق عنوانها عليها يتوقف على الاتيان بها حال الطهارة مثلا، هذا.
(واما ما ذكره) شيخنا الاستاد قدس سره في الكفاية (من اخذ العدم شطرا أو شرطا)
فالظاهر فساده، إذ العدم بما هو عدم لا يؤثر في المصلحة حتى يعتبر في المأمور به
نحو اعتبار الأجزاء والشرائط.
(نعم) ربما يكون الشئ بوجوده مانعا ومخلا بتحقق المأمور به وانطباق عنوانه
على منطبقه فيعتبر عدمه من هذه الجهة، لا بان يكون في عداد الاجزاء، فالتأثير حينئذ
ليس لعدم هذا الشئ بما هو عدم بل لوجوده، واثره الاخلال، وعد عدم المانع
من اجزاء العلة التامة أيضا ليس إلا بلحاظ كون الوجود مخلا، والا فالعدم بنفسه
لا يؤثر ولا يتأثر.
واما ما جعله في الكفاية جزء أو شرطا للتشخص والفرد فالظاهر رجوعه إلى نفس
الطبيعة أيضا ولكن بحسب بعض مراتبها، وبهذا التقريب يتصور الجزء الندبي للمأمور به أيضا.
(بيان ذلك) انه يمكن ان يفرض المأمور به كالصلاة مثلا عنوانا بسيطا ذات مراتب
طولية، ينتزع بعض مراتبها عن فاقد هذا الجزء وبعضها عن واجده، ويصدق هذا العنوان
البسيط بمرتبته الناقصة على الأقل، وبمرتبته الكاملة على الأكثر، فإن كان الشئ دخيلا
في جميع المراتب سمى جزء وجوبيا وان كان دخيلا في المرتبة الكاملة فقط سمى جزء
ندبيا، وما تعلق به الامر هو صرف الطبيعة البسيطة المشككة، فالصلاة مثلا عنوان بسيط
له مراتب متفاوتة بحسب الكمال والنقص، فينتزع مرتبتها الكاملة عن جميع الاجزاء
الواجبة والمستحبة كالقنوت ونحوه بحيث يكون المنطبق للعنوان في هذه المرتبة جميع
50

هذه الاجزاء، ومرتبة منها تنتزع عن الاجزاء الواجبة بضميمة بعض خاص من الاجزاء
المندوبة، ومرتبة منها تنتزع عن الواجبات بضميمة بعض آخر منها، وهكذا تتدرج من
الكمال إلى النقص إلى أن تصل إلى مرتبة هي أخس المراتب وهي التي يقتصر فيها على
الواجبات فقط. وعلي هذا فالقنوت أيضا له دخالة في تحقق طبيعة الصلاة وانتزاع عنوانها
ولكن بمرتبتها الكاملة فالمنتزع عنه لهذه المرتبة من الطبيعة هو جميع الاجزاء الواجبة
والمستحبة، ونفس الامر بالطبيعة يدعو إلى الاتيان بالقنوت أيضا من جهة كونه جزء لما
ينطبق عليه عنوان المأمور به ببعض مراتبه، والمكلف مخير عقلا في اتيان أي مرتبة منها
أراد هذا حال الجزء.
ومنه يعرف حال الشرط أيضا مثل اتيان الصلاة في المسجد مثلا وبالجملة فما عده في
الكفاية جزء أو شرطا للفرد يرجع إلى الجزئية أو الشرطية لمرتبة خاصة من الطبيعة
المشككة فتدبر.
الامر العاشر
اختلف الأصوليون في جواز استعمال اللفظ المشترك في الأكثر من معنى واحد وعدمه،
وقبل الخوض في المطلوب ينبغي ذكر مقدمتين
(الأولى) ان استعمال اللفظ في الأكثر من معنى واحد يتصور على وجوه
(الأول) ان يستعمل اللفظ في مجموع المعنيين بحيث يكون المراد من اللفظ هو
المركب منهما ويكون كل واحد منهما جزء من المستعمل فيه، نظير العام المجموعي
المصطلح عند القوم.
(الثاني) ان يستعمل في مفهوم مطلق يصدق على كل واحد من المعنيين
(الثالث) ان يستعمل في معنى عام بنحو العموم الأصولي ويكون كل واحد من المعنيين فردا له
(الرابع) ان يستعمل في كل واحد من المعنيين بحياله واستقلاله بان يكون كل
منهما بشخصه مرادا بحسب الاستعمال مثل ما إذا لم يستعمل اللفظ الا في واحد منهما.
(ولا يخفى) ان محل النزاع في المسألة هو هذا القسم دون الثلثة الأول.
51

(المقدمة الثانية) ان المراد بالجواز في عنوان المسألة يتصور على وجهين
(الأول) ان يراد به الامكان العقلي في مقابل الاستحالة العقلية.
(الثاني) ان يراد به الجواز اللغوي بمعنى عدم كون الاستعمال في الأكثر غلطا بحسب
الوضع اللغوي وقواعد المحاورة في مقابل الاستعمال الغلط.
(يظهر) من بعض أدلة المنع المعنى الأول، ومن بعضها مثل ما في القوانين المعنى الثاني
(إذا عرفت هذا فنقول): ربما يستدل لعدم الجواز عقلا بان الاستعمال في المعنيين
موجب للتناقض، لان المعنى الموضوع له مقيد بالوحدة، فمرجع الاستعمال في المعنيين
استعماله في هذا وحده وذاك وحده وهما معا، أما الأول فواضح، وأما الثاني فلان
المفروض استعماله في الأكثر من معنى واحد.
(أقول) هل المراد بالوحدة هي الوحدة بحسب الماهية أو بحسب الوجود أو بحسب
مقام الاستعمال؟ فان أريد الأول بمعنى كون المعنى الموضوع له ماهية واحدة لا ماهيتين
(ففيه) ان ذلك امر صحيح ولا يلزم منه تناقض كما لا يخفى. (وان أريد الثاني فيرد عليه)
ان الوجود ليس مأخوذا في المعنى الموضوع له، إذ اللفظ يوضع بإزاء نفس المفهوم فلا
يلحظ الوجود فضلا عن وحدته وتعدده.
وان أريد الثالث فيرد عليه) ان نحو الاستعمال غير مأخوذ في الموضوع له، فإنه
امر مترتب على الوضع ومتأخر عنه رتبة إذ هو عبارة عن افناء اللفظ في معناه، وقبل
الوضع لا معنى له.
واستدل في الكفاية على الامتناع العقلي (بما حاصله بتوضيح منا): ان
حقيقة الاستعمال ليس مجرد جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى، بل هو عبارة عن
جعل اللفظ وجها وعنوانا للمعنى، بل بوجه نفسه بحيث كأنه هو الملقى فيكون
اللفظ مرآتا للمعنى وفانيا فيه، فيكون النظر إلى نفس المعنى واللفظ يكون مغفولا
عنه، نظير التوجه إلى المرآة، فان المرآة ربما ينظر إليها بالنظر الاستقلالي،
فترى شيئا بحيالها فتكون مما ينظر فيها لتشخيص جنسها وتميز عيوبها لتشترى مثلا، و
ربما ينظر إليها بالنظر المرآتي فتكون في هذا اللحاظ مما ينظر بها إلى الصورة وتكون
52

نفسها مغفولا عنها في هذا اللحاظ، وعلي هذا فلا يعقل استعمال للفظ الا في معنى واحد،
ضرورة ان لحاظه فانيا في معنى بحيث يكون التوجه إلى نفس المعنى ينافي لحاظه
كذلك بالنسبة إلى معنى اخر مع وحدة اللفظ والاستعمال. (وبالجملة) فالاستعمال عبارة
عن طلب عمل اللفظ في المعنى. وكيف يمكن أن يكون اللفظ حال كونه عاملا في هذا
المعنى وفانيا فيه، عاملا في معنى اخر! (انتهى).
(أقول): قد عرفت سابقا ان عمل اللفظ في المعنى قد يكون افهاميا، وقد يكون
ايجاديا والأول على ثلثة أقسام والثاني على قسمين، فالمجموع خمسة ولا يخفى ان ما ذكره
(قدس سره) يجرى في بعض الأقسام، ولكن جريانه في جميع الأقسام ولا سيما الايجادي
منها مشكل فتدبر.
(ثم إن المهم) في المسألة هو اثبات الجواز عقلا في قبال من ادعى الامتناع العقلي،
فلو ثبت الجواز عقلا فلا وجه للمنع عنه بحسب الوضع وان اصر عليه المحقق القمي
(قال (قده) في القوانين) (ما حاصله): ان اللفظ المفرد إذا وضع لمعنى فمقتضى
الحكمة في الوضع أن يكون المعنى مرادا في حال الانفراد،
(لا أقول) ان الواضع يصرح بأنى أضع اللفظ لهذا المعنى بشرط الوحدة ولا يجب ان
ينوى ذلك حين الوضع أيضا، (بل أقول) انما صدر الوضع عنه مع الانفراد وفي حال الانفراد
لا بشرط الانفراد حتى يكون الوحدة جزء للموضوع له، فالمعنى الحقيقي للمفرد هو
المعنى في حال الوحدة لا المعنى والوحدة، وعلي هذا فلا يجوز استعمال المفرد في غير
حال الانفراد لا حقيقة ولا مجازا (أما الأول) فواضح (واما الثاني) فلان المجاز أيضا
مثل الحقيقة في أنه لا يجوز التعدي عما حصل الرخصة فيه من العرب بحسب نوعه. ولم يثبت
الرخصة منهم في هذا النوع من الاستعمال (انتهى).
(أقول): ما هو شأن الواضع انما هو تعيين الموضوع له وبيان كيفية الاستعمال: من
كونه ايجاديا أو افهاميا، تصوريا أو تصديقيا. وبمثل ذلك يفرق بين اضرب، وطلب الضرب
وطلبت منك الضرب مثلا، حيث إن المقصود من وضع اللفظ في الأول أن يعمل
في المعنى بنحو الايجاد، وفي الثاني أن يعمل فيه بنحو الافهام التصوري، وفي الثالث
53

أن يعمل فيه بنحو الافهام التصديقي كما عرفت تفصيل ذلك في أنحاء الاستعمال،
فالواجب متابعة الواضع في تعيين الموضوع له وفي نحو الاستعمال وكيفيته: من كونه
ايجاديا أو افهاميا بقسميه، وأما إذا فرض ان الواضع وضع اللفظ لهذا المعنى ثم وضعه بوضع
آخر لمعنى آخر ولم يلاحظ في الموضوع له قيد الوحدة ولم يكن مانع عقلي أيضا من استعماله
في المعنيين، فأي مانع من استعماله فيهما مع كون المستعمل فيه نفس ما وضع له؟ إذ المفروض
انه لم يستعمل في المجموع بما هو مجموع بل في هذا المعنى مستقلا، وذلك المعنى مستقلا،
ولا نحتاج في هذا الاستعمال إلى ترخيص الواضع بعد كون الموضوع له طبيعة المعنى
لا بشرط الوحدة وكون المستعمل فيه أيضا ذلك
(ثم إنه) على فرض عدم المانع من استعمال اللفظ في المعنيين لا عقلا ولا
وضعا، فهل يكون استعماله فيهما بطريق الحقيقة أو المجاز أو يفصل بين المفرد وغيره؟
الظاهر أنه بنحو الحقيقة مطلقا، إذ المفروض عدم المانع من الاستعمال لا عقلا ولا
بحسب الوضع، والموضوع له في كل من الوضعين كما عرفت ليس إلا نفس المعنى، لا المعنى بقيد الوحدة، والفرض ان المستعمل فيه ليس مجموع المعنيين بما هو مجموع
بل نفس هذا المعنى باستقلاله وذلك المعنى كذلك، فيكون اللفظ مستعملا في نفس ما
وضع له فيكون حقيقة.
(وربما يتوهم) كونه مجازا من باب استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل.
(ويرد عليه) ان محل الكلام كما عرفت ليس صورة استعمال اللفظ في مجموع
المعنيين بنحو العام المجموعي، وانما النزاع فيما إذا كان اللفظ مستعملا في كل
واحد من المعنيين بحياله واستقلاله، بان يكون كل منهما بشخصه مرادا بحسب الاستعمال
وموردا للاثبات والنفي.
(وبالجملة): ليس البحث في صورة فرض المعنيين معنى واحدا مركبا، بل البحث
في صوره لحاظ كل من المعنيين مستقلا في مقام الاستعمال، ففي الحقيقة ينحل الاستعمال
إلى استعمالين. (وربما يتوهم) كونه مجازا من باب استعمال لفظ الكل في الجزء بتقريب ان الوحدة
54

مأخوذة في الموضوع له فالاستعمال في المعنيين يوجب إلغاء قيد الوحدة من المعنى،
فيصير اللفظ مستعملا في جزء المعنى.
(ويرد عليه) ان الموضوع له كما عرفت هو طبيعة المعنى اللا بشرط من دون ان يؤخذ
فيه قيد الوحدة. (هذا كله) بناء على مذاق القوم واما على ما بيناه في باب المجاز (من عدم
كون الاستعمال المجازى استعمالا للفظ في غير ما وضع له بل في نفس ما وضع له بعد
ادعاء كون المراد الجدي من افراد الموضوع له) فعدم المجازية هنا أوضح من أن يخفى،
إذ المفروض استعمال اللفظ في كل من المعنيين من دون ان يتوسط ادعاء في البين.
(واختار صاحب المعالم) (قدس سره) كونه مجازا في المفرد وحقيقة في التثنية
والجمع، اما المجازية في المفرد فلما توهمه من اخذ قيد الوحدة في الموضوع له، وقد عرفت
ما فيه، واما كونه حقيقة في التثنية والجمع فلأنهما في قوة تكرير المفرد بالعطف ولا يعتبر
فيهما أزيد من الاتفاق في اللفظ.
(ويرد عليه) انه فرق بينهما وبين تكرير اللفظ، فإنه يوجد عند التكرير لفظان
مستقلان فيمكن ان يراد بكل منهما معنى يخصه، وهذا بخلاف التثنية والجمع، فان علامة
التثنية والجمع وضعت للدلالة على تعدد ما أريد من المفرد تعددا بحسب الوجود،
فهما تابعان للمفرد فإن كان المستعمل فيه للمفرد معنى واحدا دلت العلامة على الفردين أو الافراد
من هذا المعنى، وان كان المستعمل فيه أكثر من معنى دلت العلامة على الفردين أو الافراد من
كل من المعاني. (والحاصل) ان التثنية مثلا تنحل إلى المفرد وعلامة التثنية، فالمفرد
يدل على نفس المعنى والعلامة تدل على تعدد ما أريد من المفرد تعددا بحسب الوجود
لا تعددا بحسب الاستعمال. وبهذا البيان يظهر انه لو فرض اخذ قيد الوحدة في الموضوع له
له لكانت باقية في التثنية والجمع أيضا، إذ المراد بالوحدة المأخوذة في الموضوع له
على فرض القول به هي الوحدة بحسب الاستعمال، ولا ينافيها التعدد بحسب الوجود
الذي هو مفاد التثنية والجمع فتدبر.
(ثم اعلم) انه على فرض القول بجواز استعمال اللفظ في الأكثر من معنى واحد عقلا
ووضعا، وجب حمل المشترك عند الاطلاق على جميع معانيه إذا لم يكن في البين ما
55

يعين بعضها وذلك لما عرفت من كون هذا النحو من الاستعمال على فرض جوازه بنحو
الحقيقة، والمفروض عدم وجود قرينة معينة، فلا محالة يكون المراد هو الجميع نظير
العمومات المحمولة على جميع الافراد عند عدم القرينة على الخصوص.
(تنبيه) قال في الكفاية (ما حاصله) (لعلك تتوهم ان الاخبار الدالة على أن للقرآن
بطونا سبعة أو سبعين تدل على وقوع استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد فضلا عن جوازه،
ولكنك غفلت عن انه لا دلالة لها أصلا على أن ارادتها كانت من باب إرادة المعنى من اللفظ،
فلعلها كانت بإرادتها في أنفسها حال استعمال اللفظ في معناه، أو كان المراد من البطون
لوازم المعنى المستعمل فيه).
(أقول): يرد على ما ذكره انه لا وجه لعد الصور الادراكية المتحققة في ذهن المخاطب
حين استعمال اللفظ في معناه بطونا لهذا المعنى مع عدم الارتباط بينها وبين هذا المعنى،
وكذا عد لوازم المعنى بطوناله أيضا بلا وجه.
(ويمكن أن يقال): ان المراد بها عبارة عن المعاني المختلفة والمراتب المتفاوتة
التي يستفاد من الآيات بحسب اختلاف مراتب الناس ودرجاتهم، فان أرباب النفوس الكاملة
يستفيدون من الآيات الشريفة ما لا يخطر ببال المتوسطين فضلا عن العوام وأرباب النفوس
الناقصة. فالبطون السبعة أو السبعون إشارة إلى أصول المراتب الكمالية لنفوس البشر التي
باختلافها يختلف مراتب الاستفادة من الآيات القرآنية فافهم.
الامر الحاد يعشر في المشتق
اتفقوا على أن تطبيق المشتق واجرائه على الموضوع يكون حقيقة فيما إذا كان بلحاظ
حال التلبس بالمبدأ، ومجازا فيما إذا كان بلحاظ انه يتلبس به بعد زمان التطبيق. (وانما)
وقع الاختلاف فيما إذا كان بلحاظ كونه متلبسا به قبل زمان الجرى والتطبيق.
فقيل انه حقيقة، وقيل بكونه مجازا، واما زمان التكلم فلا دخل له في ذلك أصلا
كما لا يخفى.
56

(وقد مهد) شيخنا الاستاد صاحب الكفاية (في المقام) مقدمات لا دخالة لواحدة منها
في تحقيق أصل المسألة فالأولى ان نذكر قبل الشروع في المقصد مقدمات يتوقف عليها
تميز الحق في المسألة.
(المقدمة الأولى) العناوين المنتزعة عن الموجودات الخارجية، اما ان تنتزع عنها
باعتبار ذواتها وفي رتبتها، واما ان تنتزع عنها باعتبار عوارضها وفي الرتبة المتأخرة
عن حاق الذات،
(فالقسم الأول) عبارة عن الكليات الذاتية أعني النوع والجنس والفصل،
(والقسم الثاني) أيضا على قسمين، فان العناوين العارضة اما ان تكون ملازمة
لمعنوناتها غير مفارقة عنها، واما ان تكون مفارقة بان تكون موجودة في بعض أزمنة
وجود المعنونات، والنزاع في مسألة المشتق انما يكون في القسم الثاني من القسمين
الأخيرين كما لا يخفى وجهه.
(المقدمة الثانية) اجراء مفهوم على مصداق وتطبيقه عليه لا بد من أن يكون باعتبار
وجود حيثية وجهة صدق في هذا الموجود تكون مفقودة في غيره بحيث لو جردت هذه الحيثية
من كل ما اتحد معها وجودا من الحيثيات الذاتية والعرضية ووجدت مجردة من جميعها
كانت فردا لهذا العنوان وانطبق هذا العنوان عليها (1) والا للزم ان يصدق كل عنوان على
كل شئ أو يصدق على بعض دون بعض من غير جهة فارقة فيكون ترجحا بلا مرجح وكلاهما
باطلان بالضرورة. وكما لا تنتزع المفاهيم عن المصاديق الفاقدة للحيثية وجهة الصدق
في جميع الأزمنة لا تنتزع أيضا عما كان فاقدا لها في بعض الأزمنة الا إذا انتزعت عنه باعتبار
زمان وجود الحيثية، ففي زمن مفقوديتها لا تنتزع عنه ولا تصدق عليه لكونه في هذا الحال
مساويا لما فقد الحيثية في جميع الأزمنة.
(فان قلت): هذا أول الكلام إذ الأعمى في هذه المسألة قائل: بان صرف وجود

(1) وقد حقق في محله ان الحمل في قولنا (كل جسم ابيض) حمل شائع مجازى، والحمل
الشايع الحقيقي انما هو في مثل قولنا (البياض ابيض) أعني فيما إذا كان المحمول ذاتيا للموضوع
وكان الآثار المترقبة من المحمول مترتبة على الموضوع. ح ع
57

الحيثية آنا ما كاف في صدق المفهوم على المصداق من زمن وجود الحيثية إلى الأبد وان زال
تلبسه ولم يتلبس في زمن الصدق.
قلت: كلام الأعمى يحتمل امرين (الأول) أن يكون مراده من ذلك ما هو ظاهر
كلامه أعني كفاية وجود الحيثية آنا ما في صدق المفهوم على المصداق دائما. (الثاني)
أن يكون مراده ان مبدأ المشتق إذا وجد في موضوع يصير سببا لتحقق حيثية انتزاعية و
واعتبارية في هذا الموضوع باقية في جميع الأزمنة وان زال نفس المبدء، وباعتبار هذه الحيثية
الانتزاعية يصدق المفهوم على المصداق لا باعتبار وجود نفس المبدء، فليس (القائم) في
(زيد قائم) مثلا حاكيا لثبوت القيام لزيد، بل لوجود حيثية اعتبارية له ثابتة له من زمن
تلبسه بالقيام إلى الأبد، وتلبسه بالقيام علة لحدوث تلك الحيثية الاعتبارية من دون ان
تكون في بقائها محتاجة إليه، مثلا كلمة (قائم) في هذا المثال ليس معناه ثبوت القيام لزيد،
بل كون زيد متصفا بأنه ثبت له القيام في زمان، وهذا المعنى الانتزاعي لا ينفك من زيد ابدا
وان انفك منه القيام. وعلى هذا فالبحث لغوي راجع إلى بيان معنى المشتق بحسب اللغة،
والنزاع على الاحتمال الأول كبروي، إذ الأخصي يوجب وجود ملاك الصدق و
حيثيته في زمان الانطباق، والأعمى قائل: بكفاية وجوده آنا ما في الانطباق دائما.
واما على الاحتمال الثاني فصغروي، إذ كلاهما قائلان على هذا بلزوم وجود حيثية
الصدق وملاكه في زمن الانطباق الا ان الحيثية على قول الأخصي مبدأ المشتق، وعلى قول
الأعمى حيثية اعتبارية تعتبر في الموضوع في جميع الأزمنة بعد تلبسه بالمبدأ آنا ما، و
الظاهر أن مراد الأعمى هو الثاني ولا يظن به كون مراده ما ذكرناه من الاحتمال الأول لما
ذكرناه آنفا: من أن صدق المفهوم على موجود يتوقف على وجود حيثية في هذا الموجود
بها يصدق عليه والا لزم صدق كل عنوان على كل شئ أو الترجح من غير مرجح.
(المقدمة الثانية) المبدء الذي يكون وجوده مدارا لانطباق المفهوم على المصداق
اما حدوثا فقط واما حدوثا وبقاء، أعم من أن يكون امرا حقيقيا متأصلا (كالبياض) مثلا
أو انتزاعيا أو اعتباريا موجودا بوجود منشأ انتزاعه أو اعتباره، (كالأبوة والبنوة والفوقية
والتحتية وكالملكية والزوجية).
58

ثم إن بعض الأمور الانتزاعية مما ينتزع قبل وجود منشأ انتزاعه كالاستقبال مثلا، فإنه
ينتزع قبل وجود منشأ انتزاعه وهو مجئ المسافر، وبعضها مما لا ينتزع الا بعد وجود منشئه
ثم منه ما يفنى بفنائه فلا ينتزع بعده كالفوقية، فإنها تلازم ذات الفوق حدوثا وبقاء،
ومنه ما يبقى وينتزع بعد فناء المنشأ أيضا (كالأبوة) فإنها تنتزع بعد فوت الابن أيضا.
(المقدمة الرابعة) هي ما ذكرناه في المقدمة الثانية جوابا عن الاشكال، (ومحصله)
انه يحتمل أن يكون مراد الأعمى ان وجود المبدء وحيثية الصدق في زمان كاف في انطباق
عنوان المشتق على الموجود الخارجي في هذا الزمان وبعده إلى الأبد من دون اعتبار حيثية
اعتبارية باقية بعد زوال التلبس بالمبدء، ويحتمل أن يكون مراده ان المبدء بعد تحققه آنا ما
يصير منشئا لانتزاع حيثية انتزاعية اعتبارية باقية إلى الأبد، وباعتبارها يصدق
العنوان على المصداق لا باعتبار نفس المبدء، فإن كان مراده الأول كان البحث عقليا
غير راجع إلى اللغة وعالم الألفاظ، وقد عرفت أن المظنون عدم كون هذا مرادا له، إذ
لازمه صدق المفهوم على المصداق من دون وجود حيثية الصدق أعني المصداق بالذات وهو
باطل بالضرورة. على أنه لا يجوز له على هذا الاحتمال، الاستدلال على مختاره
بالتبادر وعدم صحة السلب ونحوهما مما يرجع إليه في تعيين حقايق الألفاظ ومجازاتها، لما
عرفت من كون البحث على هذا عقليا.
(وان كان مراده الثاني) فالبحث لغوي راجع إلى البحث في أن ألفاظ المشتقات
هل تكون موضوعة لان تستعمل في المتلبس بمبدئها باعتبار نفس المبدء حتى لا تستعمل فيه
بعد انقضائه، أو باعتبار حيثية اعتبارية باقية بعد انقضاء المبدء أيضا، فيجوز تطبيقها عليه بعده
أيضا؟ وعلى هذا يجوز للأعمى ان يستدل لاثبات مطلوبه بعلائم الحقيقة والمجاز.
(والحاصل) ان نزاع الأخصي والأعمى على هذا يرجع إلى هذا البحث اللغوي فهذه
أربع مقدمات يتوقف عليها بحث المشتق فتدبرها وانتظر ترتب النتيجة وقبل الورود في تحقيقها
* (ينبغي التنبيه على أمور) *
(الأول) ان ما ذكرناه في تصوير مراد الأعمى أحسن مما ذكره بعض أعاظم العصر
وحاصل ما ذكرناه ان الأعمى انما ينصرف في المشتق المحمول على الذوات بان حمله
59

عليها ليس باعتبار وجود نفس المبدأ، بل هو باعتبار وجود حيثية اعتبارية فيها بعد تلبسها
بالمبدأ آنا ما وتلك الحيثية باقية ما دام الذات باقية. (ومحصل) ما ذكره هذا البعض:
ان الذوات المحمولة عليها المشتقات يعتبر لها ثلثة أزمنة: زمن وجودها قبل التلبس بالمبدأ
وزمن تلبسها به، وزمن وجودها بعد انقضاء المبدأ عنها. (والنزاع) الواقع بين الأعمى
والأخصي انما هو في أن ما وضع له ألفاظ المشتقات هي الحصة من الذوات الموجودة حين
تلبسها بالمبدأ، أم هي مع الحصة الموجودة بعد انقضاء المبدأ عنها بعد اتفاقهما على عدم
وضعها للحصة الموجودة قبل التلبس به؟. (ووجه) أولوية ما ذكرناه انه يلزم على زعم هذا
المعاصر كون الموضوع له في المشتقات هو الذوات وهو كما ترى، وسنذكر انشاء الله ان
الذوات ليست مأخوذة في المشتقات.
(الامر الثاني) ان النزاع في المسألة لا يتوقف على كون الزمان مأخوذا في معاني
المشتقات بحسب الوضع، لأنها وإن لم تكن زمانيات وضعا لكنها من الزمانيات طبعا
حيث إن معانيها مما توجد في وعاء الزمان فيقع النزاع في أنه هل يشترط فيها أن يكون زمان
انطباقها على المصاديق مساويا لزمان التلبس، أو لا يشترط بل يكون أشمل منه؟.
(الامر الثالث) ان المراد بلفظ الأعم في عنوان المسألة ليس الأعم المنطقي (أي الأشمل
بحسب الافراد) فان اجراء المشتق على الموجودات التي لم تتلبس بمبدئه في زمن من الازمان:
من المضي والحال والاستقبال لا يصح الا مجازا على كلا القولين، واجرائه على ما تلبس
به آنا ما بنحو الحقيقة على كليهما أيضا، الا ان زمان فردية كل فرد مساو لزمان التلبس
والاتصاف على الأخصي، وأوسع منه ومما بعده على الأعمى، فالمراد بالأعمية أوسعية زمان
الفردية من زمن الاتصاف.
(الامر الرابع) قال في الكفاية (في المقدمة الأولى من المقدمات التي مهدها) ما
حاصله: ان النزاع لا يختص ببعض المشتقات، غاية الامر اختلاف انحاء التلبسات حسب
تفاوت مبادئ المشتقات بحسب الفعلية والشأنية والصناعة والملكة، وذلك لا يوجب
تفاوتا في المهم من محل النزاع (انتهى):
(أقول): يمكن ان يقال: ان اختلاف انحاء التلبسات امر، واختلاف المبادئ امر آخر
60

وليس الأول ناشئا من الثاني كما هو ظاهر كلامه. (اما المبادئ) فعلى أقسام، كما أشار
إليها، ففي بعضها اخذ الفعلية كغالب أسماء الفاعلين والمفعولين مثل ضارب وقائم ومضروب
وأمثالها، وفي بعضها اخذ الشأنية كما تقول شجرة مثمرة ودواء مسهل، وفي بعضها اخذ
الملكة كالشاعر والمجتهد. وفي بعضها اخذ جهة الحرفة والصناعة كالبقال والتاجر، وفي
بعضها اخذ الكثرة (1)
واما انحاء التلبسات فهي أيضا مختلفة، فان الضرب مثلا يتلبس بالفاعل من حيث صدوره
عنه، وبالمفعول من حيث وقوعه عليه. وبالزمان والمكان من حيث وقوعه فيهما، وباسم
الآلة من حيث كونها واسطة للصدور (2) (وبالجملة) اختلاف المبادئ امر، واختلاف انحاء
التلبسات امر آخر، وليس أحدهما مربوطا بالاخر،
(الامر الخامس) قال في الكفاية (في المقدمة الأولى أيضا) ما حاصله: ان المراد
بلفظ المشتق في عنوان المسألة ليس ما ذكره النحويون أعني اللفظ المأخوذ من لفظ آخر
بحيث يتوافقان في الحروف الأصلية والترتيب، بل المراد منه كل لفظ كان مفهومه جاريا
على الذوات ومنتزعا عنها بملاحظة اتصافها بما خرج من حقيقتها ولو كان جامدا كالزوج
والزوجة والحر والرق وأمثالها.
ثم لو سلمنا كون المراد بلفظ المشتق في المقام ما ذكره النحويون، فالبحث يجرى
في تلك الجوامد أيضا ويشهد بذلك ما عن الايضاح (في مسألة من كانت زوجتان كبيرتان

(1) أقول لم يمثل لها سيدنا الاستاد العلامة (مد ظله العالي) ويمكن ان يمثل لها بصيغ
المبالغة فان مباديها لو كانت مبادئ أسماء الفاعلين من غير دخالة للكثرة فيها لزم صدق ضراب
(على كلا القولين) على من انقضى عنه كثرة الضرب ولكن يضرب قليلا، إذ المبدء بعد باق، مع أن
الأخصي لا يلتزم بذلك اللهم الا ان يقال: ان الكثرة مفاد الهيئة كما لا يخفى. ح ع
(2) في جعل مبدأ اسم الفاعل ومبدء اسم الآلة امرا واحدا (كالضرب) مثلا لعله مسامحة
إذ لو كان مبدئه مبدأ اسم الفاعل لزم أن لا يصدق اسم الآلة على ما أعد لايجاد المبدء قبل ايجاده
بها، أو بعد انقضائه، فلا يقال (مسواك) مثلا لما أعد للاستياك الا زمن الاستياك به وهو بعيد
جدا نعم يمكن ان يقال - ان مبدئه عين مبدأ اسم الفاعل ولكن بتقريب آخر بان يقال - ان تلبس
المبدء باسم الآلة من حيث شأنيته لوقوع المبدأ بسببه والشأنية وصف فعلى لها. ح ع
61

أرضعتا زوجته الصغيرة) حيث قال: تحرم المرضعة الأولى والصغيرة مع الدخول
بالكبيرتين (1) واما المرضعة الأخرى ففي تحريمها خلاف، فاختار والدي المصنف وابن
إدريس تحريمها، لان هذه يصدق عليها أم زوجته لأنه لا يشترط في المشتق بقاء المشتق منه
(انتهى كلام صاحب الكفاية وما حكاه عن الايضاح).
(قلت): قد ذكرنا سابقا (في المقدمة الرابعة) ان مقصود الأعمى دائر بين امرين يكون
البحث على الأول منهما عقليا، وعلى الثاني لغويا، فإن كان مقصوده الأول فظاهر ان
ملاك البحث جار في تلك الجوامد أيضا، إذ العقل لو حكم بكفاية التلبس آنا ما في
انطباق المفهوم على المصداق حينه وبعده فلا يفرق بين كون المفهوم مفهوما من لفظ
مشتق أو من غيره.
وان كان مقصوده الثاني، وصار البحث لغويا، فلا يجرى في تلك الجوامد (2)
إذ المبدء للصفات الجامدة مبدأ جعلي مأخوذ من لفظ الصفة بتغيير ما (كالزوجية) مثلا
فإنها عبارة عن كلمة الزوج مع زيادة الياء المصدرية والتاء الناقلة، فلا يصح ان يطلق الصفة
على شئ مع انقضاء المبدأ عنه، فان المبدأ (ح) هو نفس الصفة بأي معنى استعملت، فلا يصح
أن يكون اقصر عمرا منها، بل يحب ان يكونا متساويين فافهم.
(فان قلت) لم حكمت بابتناء حرمة الكبيرة الثانية فقط على مسألة المشتق، مع أن
حرمة الكبيرة الأولى والصغيرة أيضا مبتنية عليها، إذ حرمة الكبيرة الأولى من جهة
كونها أم الزوجة، وحرمة الصغيرة من جهة كونها بنت الزوجة، ولما كان آن تحقق

(1) الدخول بالكبيرة الثانية لا دخالة له في حرمة الكبيرة الأولى والصغيرة، ولا في
جريان النزاع في الكبيرة الثانية، اما الأول فواضح، واما الثاني فلانها إذا أرضعتها تصير
اما لها، ولا يشترط في حرمتها الدخول، وانما يشترط الدخول بالأم في حرمة البنت والمفروض
تحقق البنتية قبل ذلك بارضاع الكبيرة الأولى. ح ع
(2) أقول ان كان مراده الامر الثاني أيضا، أمكن جريان النزاع في تلك الجوامد، لان
الظاهر أن المراد بالمبدأ ليس كلمة الزوجية مثلا حتى يقال: إنها كلمة مأخوذة من الزوج
فتكون تابعة له في الصدق ويكونان متساويين، بل المراد بالمبدأ (الذي يصير التلبس به انا ما منشئا
لاعتبار الامر الاعتباري الباقي بعد فناء المبدأ أيضا) هو نفس العلاقة الواقعية الواقعة بين
الزوجين، أعني حقيقة الزواج. وبعبارة أخرى المبدأ من مقولة المعنى لا من مقولة اللفظ. ح ع
62

الرضاع بشرائطه المعتبرة آن تحقق الأمية والبنتية وانقطاع الزوجية كان حرمة الكبيرة
من جهة صيرورتها أم من كانت زوجة في الآن السابق على آن الحرمة وكذلك حرمة الصغيرة
من جهة صيرورتها بنت من كانت زوجة في الآن السابق.
قلت: انقطاع الزوجية مما يحتاج في تحققه إلى العلة بالضرورة، إذ الزوجية الموجودة
لا ترتفع من غير سبب وبلا جهة، ورتبة العلة مقدمة على رتبة المعلول بالبداهة، وعلة
انقطاعها فيما نحن فيه ليس إلا الأمية والبنتية، ولما كانت الأمومة والبنتية متضائفتين (و
من لوازم المتضائفين وجودهما في رتبة واحدة) كان رتبتهما مقدمة على رتبة انقطاع
الزوجية، وهما في رتبة واحدة، فالزوجية في رتبتهما باقية لكل من الأم والبنت، ولا ضير فيه
إذ الدليل الدال على حرمة جمعهما في الزوجية انما يدل على حرمة الجمع في آن واحد، لا في
رتبة واحدة.
(فان قلت): ما وجه التمثيل للمسألة بمثل هذه المسألة، مع امكان التمثيل بما لو
لو كانت له زوجة صغيرة فطلقها، وبعد الطلاق أرضعتها زوجته الكبيرة، أو كانت له زوجة
كبيرة فطلقها، وبعد الطلاق أرضعت زوجته الصغيرة.
(قلت): التمثيل بخصوص تلك المسألة من جهة كونها معركة للآراء باعتبار
ما صدر فيها عن ابن شبرمة من الفتوى فراجع.
(الامر السادس) قال في الكفاية في المقدمة الثانية (ما حاصله): انه لا وجه لتخصيص
النزاع ببعض المشتقات، الا انه ربما يستشكل بعدم امكان جريانه في اسم الزمان، لان
الذات فيه (وهي الزمان) بنفسه ينقضى ويتصرم. ويمكن حله بان انحصار مفهوم عام بفرد
كما في المقام، لا يوجب أن يكون وضع اللفظ بإزاء الفرد دون العام (انتهى).
(أقول أولا) يمكن ان يقال: ان الألفاظ الدالة على زمن صدور الفعل (كالمقتل
والمضرب ونحوهما) لم توضع لخصوص ظرف الزمان مستقلا، حتى تكون مشتركا لفظيا
بين الزمان والمكان، بل وضعت هذه الألفاظ للدلالة على ظرف صدور الفعل زمانا كان أو
مكانا، فتكون مشتركا معنويا بينهما، فيمكن النزاع فيها باعتبار كون بعض الافراد من
معانيها (وهو المكان) قارا بالذات، وبالجملة فليس الموضوع له في هذه الألفاظ امرا سيالا
63

بل الموضوع له فيها طبيعة لها افراد بعضها سيال وبعضها غير سيال فافهم.
(وثانيا) ان الزمان وان كان من الأمور الغير القارة، ولكنه امر متصل، والا لزم تتالي
الآنات، وقد ثبت في محله بطلانه، والاتصال يساوق الوحدة والتشخص، فهو مع امتداده
وتدرجه موجود وحداني يمكن ان يتلبس بالمبدأ ثم يزول عنه فيصير من مصاديق المسألة.
إذا عرفت هذه الأمور وتلك المقدمات، فنقول: ان الأقوال في المسألة كثيرة
فقال بعضهم: ان المشتق حقيقة في خصوص المتلبس مطلقا. واختار آخرون كونه حقيقة
في الأعم منه وممن انقضى عنه المبدأ مطلقا. وفصل بعضهم بين ما كان مأخوذا من المبادئ
المتعدية إلى الغير وما لم يكن كذلك، فالمتعدى حقيقة في الأعم، واللازم حقيقة في
خصوص المتلبس، وقال بعضهم: ان محل النزاع ما إذا كان المشتق محكوما به، ونقل
الاتفاق على كونه حقيقة في الأعم ان كان محكوما عليه. وقال بعضهم: انه حقيقة في الأعم
ان كان مبدئه مما ينصرم، وفي الأخص ان كان مما يمكن بقائه وثباته، وقد كان هذا
القول وجيها عندنا في السابق، ولكن الظاهر بطلانه أيضا والحق هو القول الأول، وعمدة
الدليل عليه هو التبادر.
تقريبه: انك قد عرفت في المقدمة الثانية والرابعة ان الأعمى اما أن يقول: ان
وجود المبدأ آنا ما يكفى في صدق المفهوم على الذات ولو بعد انقضاء المبدأ، من دون أن يكون
صدقه بلحاظ حيثية اعتبارية باقية.
(واما أن يقول) ان وجوده آنا ما يوجب تحقق حيثية اعتبارية باقية إلى الأبد، تكون
هي الملاك للصدق والمحكية بلفظ المشتق دون نفس المبدأ، (اما الأول) فباطل بالضرورة
وقد عرفت بيانه وانه لا يظن بالأعمي أيضا ارادته، فتعين أن يكون مراده الثاني، وحينئذ
فنقول: ان مقتضى قول الأعمى أن لا يكون مثل (قائم) حاكيا لتحقق حيثية القيام، بل لحيثية
منتزعة عن الذات بعد تلبسها بالقيام آنا ما، مع وضوح ان المتبادر منه ليس إلا من ثبت له
القيام وقام به نفس المبدأ لا من ثبت له امر اعتباري غير منفك من الذات ما دامت باقية، وهكذا
حال جميع المشتقات وهذا التبادر يثبت قول الأخصي وينفى سائر الأقوال فتدبر.
(ثم إن) استعمال المشتق على ثلثة أوجه (الأول) ان يستعمل محمولا على الذات
64

للدلالة على اتحاد مبدئه مع الذات بحسب الوجود الخارجي (كزيد ضارب).
(الثاني) ان يستعمل لحكاية ذات تكون موضوعا لحكم من الاحكام والإشارة به إليها
لعدم كونها معروفة عند المخاطب الا بهذا العنوان، من دون أن يكون له دخل في ثبوت
الحكم، كما تقول: الواقف بباب الدار أكرمني.
(الثالث) ان يستعمل موضوعا لحكم من الاحكام بحيث يكون الحكم لنفس حيثية
المشتق، ويكون عنوانه دخيلا فيه كقوله تعالى: (السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)
وكقوله: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة) وكقوله: (فاقتلوا المشركين)
وهذا أيضا على قسمين، لان هذه الحيثية اما ان تكون من الحيثيات التي لها بقاء وثبات
كالشرك مثلا واما أن لا يكون لها بقاء، بل تحدث وتنصرم من فور، فإن كان لها بقاء وثبات كان
ظاهر الدليل دوران الحكم مدارها حدوثا وبقاء كوجوب القتل المتعلق بالمشركين حيث إن
الظاهر من الدليل دوران وجوب القتل مدار الشرك حدوثا وبقاء، وان كانت مما
تحدث وتنصرم فالحكم المتعلق بها اما أن يكون بحيث يمكن له بحسب طبعه أن يكون دائرا
مدارها في الحدوث والبقاء، واما أن لا يمكن له ذلك بحسب طبعه فعلى الأول يكون حكمها
حكم الحيثيات الغير المتصرمة، واما على الثاني فلا بد من أن يكون الحكم دائرا مدارها
في الحدوث فقط بمعنى كونها علة لثبوت الحكم لا لبقائه، وذلك كوجوب الجلد في الزاني
والقطع في السارق، فان الزنا والسرقة امران يوجدان وينصرمان فورا، ولا يمكن أن يكون
الجلد والقطع بشرائطهما الشرعية دائرين مدارهما في البقاء، فان كلا منهما يتوقف
على مقدمات كثيرة التي منها ثبوت السرقة والزنا عند الحاكم بالبينة الشرعية مثلا،
لا أقول: ان المشتق يحمل حقيقة بلحاظ زمن الانقضاء أيضا، بل أقول: ان حمله بلحاظ حال
التلبس فقط ولكن الحكم ليس دائرا مداره حدوثا وبقاء، بل هو دخيل في الحدوث فقط.
ومن هذا القبيل أيضا المحرومية من الإمامة في قوله تعالى: (لا ينال عهدي الظالمين) فان
أكثر افراد الظلم كفعل أكثر المحرمات مما يحدث وينصرم فلا معنى لدوران المحرومية
من الإمامة مداره حدوثا وبقاء، وبعض افراده وان كان مما لا يتصرم كالشرك مثلا، ولكن
كلمة الظالمين جمع محلى باللام، فيدل الآية الشريفة على محرومية كل من صدق عليه
65

هذا العنوان بأي جهة كان، فيشمل كل من ارتكب مظلمة من المظالم الثابتة أو المتصرمة
وحيث إن المتصرمة منها علة لحدوث المحرومية من دون ان تكون في بقائها دائرة مدارها
كما عرفت وجهه، فالثابتة منها أيضا كذلك بطريق أولى، ومما يدل على كون اللام في المقام
للاستغراق لا للعهد ان العهد انما يتمشى احتماله فيما إذا كان الاخبار بما وقع في الحال أو المضي،
وفيما نحن فيه ليس كذلك، فان المخاطب بهذا الكلام هو إبراهيم الخليل (ع) وقد خوطب
به قبل أن يوجد الظالمون من ذريته ويرتكبوا المظالم، فيكون ظاهر الآية محرومية كل
من يوجد ويصدق عليه هذا العنوان، ويؤيد ذلك عظم قدر الإمامة وجلالته، بحيث لا يناسب
ان تبذل لمن صدر عنه الظلم ولو قبل تقمصه بها.
(تبصرة) مما يدل عليه الآية الشريفة هو ان الإمامة من المناصب المفاضة من قبل الله
تعالى وان تعيين الامام بيده. والدال على هذا المعنى موارد من الآية الشريفة، (من ذلك)
قوله في صدرها (انى جاعلك للناس اماما) حيث دل على أن الجاعل والمعين لمستحقها
هو الله (الله اعلم حيث يجعل رسالته). (ومن ذلك أيضا) كلمة عهدي الدالة على أن الإمامة عهد
وميثاق بين الله وبين أحد من خلقه وليس مجعولة بصرف اجتماع أراذل الناس وأهل
الهوى. (ومن ذلك) قوله: (ومن ذريتي) حيث استدعى إبراهيم من الله تعالى جعل الإمامة
في ذريته فتبصر.
(تذكرة) اعلم أن في جميع تلك الوجوه التي مرت لاستعمال المشتق، ان كان
اجرائه على الذات وتطبيقه عليها باعتبار زمن تلبسها بمبدئه كان حقيقة وان كان هذا الزمان
مقدما على زمان النطق أو مؤخرا عنه، وان كان الاجراء والتطبيق باعتبار الزمن الواقع بعد
التلبس أو قبله كان مجازا وان كان هذا الزمان عبارة عن زمان النطق، فالمراد بالحال
في عنوان المسألة حال الجرى والتطبيق لا حال النطق، وعلي هذا فان حملنا المشتق على الذات
بعد انقضاء المبدء عنها وأثبتنا الحكم المعلق عليه لهذه الذات بعد الانقضاء لا يكون هذا الاثبات
وذاك الحمل دليلين لقول الأعمى، لاحتمال أن يكون الحمل بلحاظ حال التلبس واثبات
الحكم بعد انقضاء المبدء من جهة كون الحكم دائرا مدار صدق المشتق حدوثا لابقاء كما في
آيتي حد الزنا والسرقة كما تقدم فتذكر.
66

بقي في المقام أمور اخر يجب ان ينبه عليها
(الأول) مفهوم المشتق على ما حققه الشريف امر بسيط منتزع عن الذات باعتبار
تلبسها بالمبدأ ولا يكون مركبا، فمعنى ضاحك ليس شئ ثبت له الضحك بل هو لا يحكى
الا نفس حيثية الضحك. وقد أفاد في وجه ذلك ما حاصله: ان مفهوم الشئ لا يعتبر في مفهوم
الناطق مثلا وإلا لكان العرض العام مأخوذا في مفهوم الفصل فان الشيئية من العوارض
العامة، ولو كان المأخوذ في مفاهيم المشتقات مصاديق الشئ ومعنونات هذا العنوان لزم
انقلاب القضايا الممكنة إلى الضرورية، فان في قولنا (الانسان ضاحك) مصداق الشئ
الذي ثبت له الضحك هو الانسان فترجع القضية إلى قولنا (الانسان انسان له الضحك)،
وثبوت الشئ لنفسه ضروري (انتهى).
وقد أورد عليه في الفصول ما حاصله انه من الممكن ان نقول إن المأخوذ فيها
مفهوم الشئ وان كون الناطق فصلا مبنى على تجريده من مفهوم الشيئية في عرف المنطقيين
وذلك لا يوجب كونه مجردا منه لغة. ويمكن أيضا ان نقول إن المأخوذ فيها مصاديق
الشئ ولا يلزم منه الانقلاب، إذ المقصود في قولنا (الانسان انسان له الضحك) ليس اثبات
الانسانية المطلقة للانسان حتى تكون ضرورية بل اثبات الانسانية المقيدة بالضحك وهي
ممكنة خاصة (انتهى).
وقال شيخنا الاستاد (قده) في الكفاية في رد ما ذكره صاحب الفصول أولا (ما حاصله):
انه من المقطوع به ان مثل الناطق قد اعتبر فصلا بلا تصرف في معناه، والتحقيق ان مثل
الناطق ليس بفصل حقيقي، بل هو لما كان من أظهر خواص الفصل الحقيقي سماه المنطقيون
فصلا، وعليه فلا بأس بأخذ مفهوم الشئ في مثل الناطق إذ اللازم منه اخذ عرض عام في
عرض خاص ولا بأس به.
(وقال قده في رد ما ذكره في الفصول ثانيا ما حاصله): ان المحمول ان كان ذات المقيد
بحيث كان التقيد داخلا والقيد خارجا فدعوى لزوم الانقلاب بحاله، واما إذا كان المقيد بما
هو مقيد محمولا بنحو يكون القيد أيضا داخلا فقضية الانسان ناطق تنحل إلى قضيتين:
67

(إحديهما) قضية (الانسان انسان) وهي ضرورية، (والثانية) قضية (الانسان له النطق) وهي
ممكنة (انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه).
(ونحن نقول): ما ذكره الشريف (من بساطة مفهوم المشتق) حق لا مرية فيه (دليلنا)
التبادر، إذ المتبادر من لفظ الكاتب في (زيد كاتب) ليس إلا حيثية الكتابة من دون ان يتصور
مفهوم الشيئية أو ذات الموضوع ثانيا. وليس قولنا (زيد كاتب) بمثابة قولنا (زيد زيد الذي
له الكتابة) أو (زيد شئ له الكتابة) لان الموضوع مكرر فيهما دون (زيد كاتب) بضرورة
عند العرف.
(واما ما افاده الشريف) في وجه ذلك فلا دلالة له على المقصود، إذ غاية ما يلزم من اخذ
الشئ مفهوما أو مصداقا في المشتق، كون المنطقيين خاطئين في عد الناطق فصلا، وقضية
(زيد قائم) مثلا ممكنة خاصة، ولا يلزم من اخذه فيه محال عقلي، وخطأ المنطقيين ليس
امرا محالا وما ضمنا ان كان ما قاله المنطقيون يكون وحيا منزلا.
(واما ما افاده صاحب الكفاية في تحقيقه): من أن الناطق ليس فصلا حقيقيا بل فصل
مشهوري باعتبار كونه من أظهر خواص الفصل الحقيقي، (ففيه) انه يلزم على هذا أيضا
تجريده من الشيئية، فان ما هو من أظهر خواص الفصل الحقيقي للانسان ليس هو الشيئية
المقيدة بالنطق، بل نفس حيثية النطق، وضم الشيئية إليه نظير ضم الحجر إلى جنب الانسان.
واما ما ذكره ثانيا: من أن المحمول لو كان ذات المقيد مع التقيد وكان القيد خارجا
فدعوى الانقلاب بحالها، (ففيه) ان ثبوت الذات المقيدة بقيد امكاني ليس ضروريا لنفسها،
نعم ان كان مراده ان القيد لا دخالة له في الحكم أصلا بل جئ به لمحض الإشارة إلى
المحكوم به كان دعوى الانقلاب بحالها الا ان التقيد على هذا مثل نفس القيد في خروجه من
المحكوم به، هذا، مضافا إلى أنه خلاف موارد استعمال المشتقات، إذ المراد من (زيد قائم)
ليس اثبات أن زيدا زيد ويكون عنوان القيام للإشارة إلى زيد، بل المراد اثبات القيام له.
واما ما ذكره ثالثا: من كون قضية (الانسان ناطق) منحلة إلى قضيتين، فمردود أيضا
إذ المقصود ليس إلا اثبات امر واحد لموضوع فاردا عنى اثبات النطق للانسان أو اثبات
الشيئية أو الانسانية المقيدة بالنطق له بناء على اخذ الذات في المشتق، وليس المقصود
68

اثبات الانسانية للانسان واثبات النطق له ثانيا.
(ثم إنه) يلزم على القول بأخذ مصاديق الشئ في المشتقات كون الوضع فيها عاما
والموضوع له خاصا، فان مصاديق الشئ أمور غير متناهية لا يمكن لحاظها حين الوضع
الا بعنوان جامع، والفرض ان ألفاظ المشتقات موضوعة لذوات المصاديق فيلزم ما ذكر.
(واعلم) ان صاحب الكفاية (قده) بعد تصديقه بساطة مفهوم المشتق قد هدم أساسها
عند قوله (ارشاد) حيث قال فيه ما حاصله: ان بساطة مفهوم المشتق لا تنافى كونه مركبا
بالتحليل العقلي، فان المعنى الواحد البسيط قد يحلله العقل إلى اجزاء فإنه فاتق كل
جمع ورتق (انتهى).
(أقول): ان النزاع بين المحقق الشريف وبين خصمه ليس في بساطة مفهوم المشتق و
تركبه عند النظر إليه اجمالا، بل في بساطته وتركبه عند التحليل العقلي والنظر الدقيق
الفلسفي كيف! ولا ينسب إلى البلهاء أيضا النزاع في أن مفهوم المشتق هل هو بسيط أو مركب
عند النظر الاجمالي والمسامحي، فكيف ينسب إلى المحققين والمدققين.
الامر الثاني
بعد ما ذكر من عدم اخذ الذات ولا النسبة في مفاهيم المشتقات وكونها دالة على نفس
حيثية المبدأ بقي وجه الفرق بينها وبين المبادئ، ووجه صحة حملها على الذوات وعدم
صحة حمل المبادئ عليها مع كونهما بمعنى واحد. وقد ذكروا في بيان الفرق بينهما ان
مفهوم المشتق وان كان متحدا مع مفهوم المبدء بحسب الحقيقة ولكن يفترقان بحسب
الاعتبار، فمفهوم المشتق قد اخذ لا بشرط ومفهوم المبدأ مأخوذ بشرط لا، وصرحوا بان
المراد من اللا بشرطية والبشرط لائية هنا انما يكون بحسب الحمل.
أقول: ليس المراد منهما هاهنا ما ذكروه في باب اعتبارات الماهية: من أنها قد تؤخذ
بشرط لا وقد تؤخذ بشرط شئ وقد تؤخذ لا بشرط، بل المقصود هنا ما ذكروه في بيان الفرق بين
الجنس والفصل وبين المادة والصورة، من اخذ الأولين لا بشرط والأخيرتين بشرط لا. فالأولى
عطف عنان الكلام إلى بيان ما ذكروه في ذلك المقام حتى يتضح به ما نحن فيه، فنقول
69

(وبه نستعين) ان المركبات على قسمين.
(القسم الأول) ما يكون تركيبه انضماميا ومعنى التركيب الانضمامي أن يكون كل جزء
من اجزاء المركب موجودا مستقلا مغايرا للجزء الاخر في مقام الوجود والتحصل، ولكن اعتبر
اتحادهما فتكون وحدة المركب وحدة اعتبارية مثل الدار والمدرسة مثلا، فان كل واحد
من اجزائهما مغاير لسائر الاجزاء حقيقة، ولكن عين الاعتبار تنظر إلى جميع الاجزاء بنظر
الوحدة، ففي هذا القسم من التركيب لا يصح حمل بعض الاجزاء على غيره ولا حملها على
الكل ولا حمل الكل عليها، لان مناط الحمل هي الهوهوية والاتحاد بحسب الوجود والمفروض
عدمها في المقام. (القسم الثاني) ما يكون تركيبه اتحاديا، ومعنى ذلك أن يكون
وجود بعض الاجزاء في الخارج عين وجود غيره من الاجزاء الاخر وتحصله بعين تحصلها
فيكون وحدة الاجزاء وحدة حقيقية وتغايرها بحسب الاعتبار كالانسان مثلا، فإنه مركب
من الحيوانية والناطقية ولكنهما موجودتان بوجود واحد.
(ثم إن) كل واحد من الاجزاء في هذا القسم (أعني التركيب الاتحادي) يمكن ان
يلحظ على نحوين (الأول) ان يلحظ بنحو الابهام في التحصل، بحيث يحتمل اللاحظ
ويجوز في لحاظه هذا أن يكون تمام تحصل هذا الجزء ما هو الملحوظ فعلا، وأن يكون
ناقصا في تحصله ومتحدا مع غيره فيه بحيث يكون تحصله بعين تحصل ذلك الغير.
(الثاني) ان يلحظ تام التحصل بنحو يرى اللاحظ في لحاظه هذا ان تمام هذا الجزء
ما هو الملحوظ فعلا فيكون ملحوظا بحد جزئيته بحيث انه ان لحقه غيره كان يراه من
منضماته وملحقاته لا من متممات تحصله فان لحظ بالنحو الأول صح حمل كل جزء على
سائر الاجزاء وحملها على الكل وحمل الكل عليها بخلاف ما إذا الحظ بالنحو الثاني
(ولنذكر لوضوح المطلب مثالا) وهو انك إذا كنت في بيروت واقفا على ساحل
البحر الأبيض وناظرا إلى الماء الذي يكون منه بمد نظرك، فقد تكون ناظرا إلى الماء
(الذي بمد نظرك) محدودا بالحدود المعينة المرئية من الطول والعرض بحيث لو سافرت
من بيروت إلى جبل الطارق مثلا ورأيت اتصال مائه بما رأيته أولا في بيروت، حكمت
بان ما رايته ثانيا مغاير لما رأيته أولا ولكنه منضم إليه ومتصل به، ولا تحكم بأنه عينه.
70

(وقد تكون) ناظرا إليه من حيث هو ماء من غير لحاظ كونه محدودا بالحدود المعينة
بحيث تحتمل أن يكون تمام تحصله ما هو بمد نظرك وأن يكون متحدا مع غيره في التحصل
وفى هذا الاعتبار تحكم على الماء المرئي في جبل الطارق بأنه عين ما رأيته في بيروت، إذ
لم تره في الرؤية الأولى محدودا بالحدود المعينة المشخصة من الطول والعرض بل رأيته
بنحو الابهام في التحصل.
فكما أن ماء البحر مع كونه موجودا واحدا ممتدا، يكون رؤية بعض اجزائه على
نحوين ويصح الحمل باعتبار أحدهما دون الاخر، فكذلك الموجود الواحد المركب
بالتركيب الاتحادي مثل الانسان يكون لحاظ اجزائه على نحوين، فان الحيوانية وكذا
الناطقية (تارة) تلحظان بنحو الابهام من جهة التحصل بحيث لا يرى اللاحظ (في لحاظه كل
واحد منهما) مانعا من أن يكون تحصله بعين تحصل الجزء الاخر، وإذا رأى كونه متحصلا
بعين تحصل الاخر حكم بأنه هو لا انه غيره وانضم إليه، وفي هذا الاعتبار يسميان بالجنس والفصل
ويجوز حمل كل واحد منهما على الاخر وحمله على الانسان وحمل الانسان على كل واحد منهما.
(وأخرى) يلحظ كل واحد منهما على نحو يكون تام التحصل بحيث يكون تمام تحصله
ما هو الملحوظ فعلا بحدوده وأطرافه حتى أنه إذا لحظ معه الجزء الاخر كان (بهذا النظر)
تحصله مغايرا لتحصله وكان من ضمائمه ومقترناته وبهذا الاعتبار يسميان بالهيولى
والصورة، ولا يجوز في هذا اللحاظ حمل أحدهما على الاخر ولا حمله على النوع ولا حمل
النوع عليه، لان المناط في الحمل هو الهوهوية والاتحاد ولم يحصلا في هذا اللحاظ.
وبالجملة فالجزء قد يلحظ بحد جزئيته وبما أنه شئ بحياله وانه بانضمام شئ آخر
إليه يحصل الكل، وقد يلحظ لا بحد الجزئية بل بنحو الابهام في التحصل وبما أنه متحصل
بعين تحصل الكل، هذا هو مراد القوم مما ذكروه في بيان الفرق بين الهيولى والصورة وبين
الجنس والفصل: من اخذ المفهوم في الأوليين بشرط لا، وفي الأخيرين لا بشرط.
ومما ذكرنا ظهر لك المقصود مما ذكره بعض اهل المعقول: من أن الجنس والفصل
ليسا من اجزاء المحدود بل من اجزاء الحد، والوجه في ذلك أن كلا منهما في النوع
المحدود عين الاخر وغير باق بحد الجزئية إذ قد لحظ كل منهما بحيث يكون تحصله
71

بعين تحصل الكل ومتحدا معه، واما في مقام التحديد فيكون الملحوظ امرين وكل منهما
جزء من الحد.
(ثم لا يخفى) ان المراد من اللا بشرطية والبشرط لائية هنا ليس ما ذكروه في باب
اعتبارات الماهية (من اللا بشرطية والبشرط لائية والبشرط شيئية) إذ المراد من البشرط لا
مثلا في باب اعتبارات الماهية هو ان يتصور الماهية بالقياس إلى عوارضها الطارية عليها و
تلحظ مجردة منها بحيث لا تتحد معها ولا تنضم إليها، والمراد من البشرط لا في المقام هو ان
يلحظ الجزء بحد الجزئية وتام التحصل بحيث ان قارنه شئ كان من منضماته وملحقاته
لا من متممات تحصله، فالبشرط لا في المقام لا يأبى انضمام امر آخر إليه وانما يأبى كونه
داخلا في الملحوظ ومتمما له في مقام التحصل وبهذا البيان يظهر الفرق بين اللا بشرطين في
المقامين أيضا فتدبر.
(ثم اعلم) ان قياس الفرق بين المشتق ومبدئه على الفرق بين الجنس والفصل وبين
الهيولى والصورة يبتنى على تسليم أمور ثلت، (الأول) ان مفهوم المشتق عين مفهوم المبدء
ذاتا من دون أن يكون النسبة والذات مأخوذتين في المشتق.
(الثاني) ما ذكره المتأخرون من اهل المعقول: من أن وجود العرض بعين وجود معروضه
وانه من شؤونه ومراتبه، لا ان له وجودا اخر ينضم إليه ويكون حالا فيه.
(الثالث) ان الملاك في صحة الحمل ليس مجرد الاتحاد في الخارج، بل اللازم في
مقام الحمل لحاظ العرض المحمول بنحو الابهام في التحصل لئلا يأبى الحكم باتحاده مع
الموضوع، لا بنحو التمامية في التحصل إذ يصير (في هذا اللحاظ) من منضماته المغايرة له
ويأبى الحكم باتحاده معه، وبهذا البيان ظهر الفرق بين المشتق ومبدئه، فان المشتق انما
يلحظ بنحو الابهام، بخلاف المبدأ فإنه ملحوظ بما أنه متحصل بنفسه وبحياله غاية الامر كونه
من منضمات الموضوع ونواعته، ولأجل ذلك يصح الحمل في المشتق دون المبدأ
(الامر الثالث) قال في الكفاية: (ان ملاك الحمل هو الهوهوية من وجه والمغايرة من
وجه آخر.)
(أقول): ملاك الحمل هو العينية والاتحاد بحسب اللحاظ، وقد عرفت انهما
72

لا يتحققان الا إذا لحظ المحمول بنحو الابهام حتى لا يأبى أن يكون تحصله بعين تحصل
الموضوع، ولا يلزم في صحة الحمل تغاير الموضوع والمحمول، بل التغاير انما يعتبر
لإفادة الحمل، فحمل الشئ على نفسه صحيح ولو لم يعتبر المغايرة بوجه، ولكنه غير مفيد إن لم
يكن في البين مغايرة، وبعبارة أخرى ليست المغايرة من شرايط صحة الحمل بل من
شرايط افادته.
(الامر الرابع) قد مر سابقا ان حمل عناوين المشتقات على المصاديق واجرائها عليها
لا بد من أن كون باعتبار وجود حيثية وجهة صدق في هذه المصاديق تكون مفقودة في
غيرها مما لا تحمل عليها: فحمل (العالم) على زيد مثلا متوقف على وجود حيثية العلم فيه
ولا يشترط زائدا على ذلك كون تلك الحيثية من عوارض الموضوع وزائدة على ذاته.
(فعلى هذا) ان كانت هذه الحيثية عين ذات الموضوع كان صدق المشتق عليه بنحو
الحقيقة أيضا، فصدق العالم والقادر وسائر الصفات الثبوتية على الله (تعالى) بنحو الحقيقة
وان كان مباديها عين ذاته كما هو مختار اهل الحق خلافا للأشاعرة حيث توهموا ان الصفة
يشترط فيها ان تكون من عوارض الموصوف، فحكموا بكون صفاته (تعالى) زائدة
على ذاته وبكونها قديمة كذاته (تعالى) حتى لا يلزم خلوه عنها في زمان، وعلى
قولهم تكون القدماء ثمانية، الذات وسبع من الصفات، وقد قال الإمام الرازي: ان علمائنا
حكموا بكفر المسيحية لما اعتقدوه من الأقانيم الثلث وهم قد اختاروا كون القدماء
ثمانية ومع ذلك يعدون أنفسهم موحدين. ولما رأى المعتزلة بطلان القول بتعدد القدماء
كما هو مختار الأشاعرة، ولم يجوزوا القول أيضا بكونه تعالى في وقت من الأوقات
جاهلا أو عاجزا مثلا، ولم يتصوروا أيضا ما هو الحق المحقق من كون صفاته عين ذاته،
احتاجوا إلى القول بالنيابة فقالوا: ان صفاته حادثة وانه تعالى قبل حدوث هذه
الصفات له وإن لم يكن موصوفا بهذه الصفات، ولكن ذاته كانت نائبة عن هذه الصفات
فكانت الأشياء منكشفة له مثلا من دون ان يثبت له وصف العلم، قال في المنظومة:
والأشعري بازدياد قائلة وقال بالنيابة المعتزلة
(والحق عندنا كما مر) ان صفاته عين ذاته وان صدق المشتقات عليه تعالى بنحو الحقيقة
73

إذ المناط في صدق المشتق ليس إلا تحقق حيثية المبدأ، ولا يشترط زائدا على ذلك كونه
زائدا على الذات، فليس معنى عالميته مثلا الا وجود ما هو حقيقة العلم له وهي انكشاف
الأشياء له وحضورها لديه، وليس العلم سوى الانكشاف التام، وكذلك لا معنى لقدرته
الا كونه بذاته بحيث يصدق عليه انه ان شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، وليس شرطا في صدق
القادر كون القدرة موجودة بحيالها في قبال وجود الذات، وكذلك معنى القديم ليس إلا أن
الذات لا مبدأ لوجودها، وليس شرطا في صدقه كون القدم شيئا موجودا بحياله، وكذلك
الحياة فان معناها كون الذات بحيث يترتب عليها آثارها المطلوبة منها من العلم والقدرة
وسائر الصفات والأفعال وقس عليها سائر الصفات، مثلا ان قلت (زيد شجاع) فليس معناه
ان زيدا شئ وان الشجاعة شئ اخر موجود بحياله، بل معناه ان ذات زيد تكون بحيث يصدر
عنها اثار القوة، وليس قوتها موجودة بوجود زائد على وجودها فتدبر.
المقصد الأول في الأوامر
قد يقال: إنها جمع آمرة صفة لموصوف محذوف، أي صيغة آمرة أو كلمة آمرة،
(وفيه نظر) لعدم مساعدة العرف على ذلك، فان المتبادر من قوله (وخالفت بعض
أوامرك مثلا) ليس انى خالفت بعض صيغ امرك، بل المتبادر منه انى خالفت بعض مطلوباتك
فالحق انها جمع امر على خلاف القياس، كما أن (أمور) جمعه بمعناه الجمودي ولكن
على وفق القياس. ثم إن في هذا المقصد فصولا
الفصل الأول
فيما يرجع إلى مفاد مادة الامر وصيغته، وفيه مباحث (المبحث الأول) في مادة الامر
وقد ذكروا لها معاني عديدة: (فمنها) الطلب كقولهم: آمرك بكذا (ومنها) الشأن كما
يقال: شغله امر كذا (ومنها) الفعل كما في قوله (تعالى): وما امر فرعون برشيد. (ومنها)
الفعل العجيب كما في قوله تعالى: فلما جاء امرنا (ومنها) الشئ كما تقول: رأيت اليوم امرا عجيبا
(ومنها) الحادثة، (ومنها) الغرض كما تقول جاء زيد لامر كذا.
74

قال في الكفاية: (ان عد بعضها من معانيه من باب اشتباه المصداق بالمفهوم) ثم اختار
كونه مشتركا لفظيا بين اطلب وبين الشئ (1)
(أقول): الظاهر فساد القول بكونه بمعناه الجمودي مرادفا للشئ، إذ الشيئية من
الأمور العامة المطلقة على الجواهر والاعراض بأسرها، واطلاق الامر على الجواهر بل على
بعض الاعراض فاسد جدا، فلا يقال مثلا (زيد امر من الأمور) ولعل معناه الجمودي عبارة
عن الفعل.
(ثم لا يخفى) ان عدا لفعل العجيب من معانيه لعله من جهة الاشتباه بالأمر (بكسر
الهمزة) فإنه بمعنى العجيب كقوله تعالى (لقد جئت شيئا امرا. (وليعلم) أيضا ان الامر في
قوله تعالى (وما امر فرعون برشيد) وفي قوله (فلما جاء امرنا) ما استعمل الا في معنى الطلب
كما لا يخفى.
المبحث الثاني
هل يعتبر فيه باعتبار معناه الاشتقاقي أعني الطلب علو الآمر أو استعلائه أو هما معا
أو أحدهما على سبيل منع الخلو أو لا يشترط شئ منهما؟ لكل وجه، (والتحقيق ان يقال): ان
حقيقة الامر بنفسه تغاير حقيقة الالتماس والدعاء لا ان المغايرة بينهما باعتبار كون الطالب
عاليا أو مستعليا أو غيرهما. بيان ذلك أن الطلب بنفسه ينقسم إلى قسمين (القسم الأول)
الطلب الذي قصد فيه الطالب انبعاث المطلوب منه من نفس هذا الطلب بحيث يكون داعيه
ومحركه إلى الامتثال صرف هذا الطلب، وهذا القسم من الطلب يسمى امرا (القسم الثاني)
هو الطلب الذي لم يقصد الطالب فيه انبعاث المطلوب منه من نفس طلبه، بل كان قصده
انبعاث المطلوب منه من هذا الطلب منضما إلى بعض المقارنات التي توجب وجود الداعي في
نفسه كطلب المسكين من الغنى، فان المسكين لا يقصد انبعاث الغنى من نفس طلبه وتحريكه
لعلمه بعدم كفاية بعثه في تحرك الغنى، ولذا يقارنه ببعض ماله دخل في انبعاث الغنى

(1) أقول ربما يقال بتصوير الجامع بين المعنى الجمودي والمعنى الاشتقاقي، ويحكم
بكون الاشتراك في المقام معنويا فيقال ان كلمة الامر موضوعة لما يظهر الإرادة ويبرزها
تكوينية كانت أو تشريعية فهو بمعناه الجمودي مظهر للإرادة التكوينية وبمعناه الاشتقاقي
مظهر للإرادة التشريعية فتأمل ح ع.
75

كالتضرع والدعاء لنفس الغنى ووالديه مثلا، وهذا القسم من الطلب يسمى التماسا أو دعاء.
فعلى هذا حقيقة الطلب على قسمين، غاية الامر ان القسم الأول منه (أي الذي يسمى بالأمر)
حق من كان عاليا ومع ذلك لو صدر عن السافل بالنسبة إلى العالي كان امرا أيضا ولكن
يذمه العقلاء على طلبه بالطلب الذي ليس شأنا له فيقولون: أتأمره، كما أن القسم الثاني يناسب
شأن السافل، ولو صدر عن العالي أيضا لم يكن أمرا فيقولون لم يأمره بل التمس منه ويرون هذا
تواضعا منه. (وبالجملة) حقيقة الطلب منقسمة إلى قسمين: طلب يسمى امرا وطلب
يسمى التماسا أو دعاء (1) والقسم الأول منه يناسب العالي لا ان كون الطالب عاليا مأخوذ
في مفهوم الامر حتى يكون معنى آمرك بكذا، اطلب منك وانا عال.
المبحث الثالث
في حقيقة الطلب وانه هل يكون متحدا مع الإرادة أو مغايرا لها، وقد ذكر في الكفاية
في هذا لا مقام مسألة كون المادة موضوعة للوجوب أو الندب، ولكنا نؤخرها إلى المبحث
الرابع لتوقفها على فهم حقيقة الطلب. ولا بد لنا قبل الخوض في المقصود من بيان ما هو
مطرح انظار الأشاعرة والمعتزلة في النزاع في هذه المسألة، والإشارة الاجمالية إلى
مبدأ وجود مذهبي الاعتزال والأشعرية، (فنقول) قد كان البحث عن ذات الباري تعالى
وحقائق صفاته دائرا بين حكماء العجم والروم بل سائر الناس قل ظهور الاسلام، ولكن
طلوع نير الاسلام قد جب هذه المباحث فكان الصحابة رضوان الله عليهم يتلقون معتقداتهم
في تلك المسائل بنحو الاندماج من النبي صلى الله عليه وآله والقرآن إلى زمان التابعين، وفي زمنهم
قد كثر القتال بين المسلمين وبين الكفار واختلط المسلمون بالاسراء من الكفار، فألقى
تلك الاسراء ما كانوا يعلمونه من قبل، (2) في مجالس المسلمين ومحافلهم، وتلقاه المسلمون

(1) وبعبارة أخرى حقيقة الامر عبارة عن قسم خاص من الطلب يعبر عنه بالفارسية (فرمان)
وحقيقة الالتماس عبارة عن قسم آخر منه يعبر عنه (خواهش) ح ع
(2) أقول بل لعل المتتبع في كتب التاريخ يطمئن بان أكثر الفتن والمذاهب المختلفة
في الديانة الاسلامية انما نشأت من جهة القاء اسراء الكفارة من العجم وغيرهم جميع ما كانوا
يعتقدون من الأصول والفروع، بين المسلمين والمؤمنين بالقرآن. ح ع
76

وباحثوا فيما تلقوه منهم في حلقاتهم التي كانوا يؤسسونها للمناظرات الدينية، فممن أسس
حلقة بين المسلمين الحسن البصري (أسير عين التمر) وكان هو رئيسا في الحلقة، وكان
يذاكر تلامذته في المسائل الكلامية، وقد وقع يوما من الأيام بينه وبين واصل بن عطا
(أحد من تلامذته) مشاجرة في مسألة، فاعتزل ابن عطا عن حلقته وأسس لنفسه حلقة و
خالف في أكثر المسائل أستاذه، ومن هنا وجد مذهب الاعتزال، وكان ممن وافق الحسن
البصري في معتقداته أبو الحسن الأشعري (من أحفاد أبى موسى الأشعري وتلميذ أبى
على الجبائي)، وكان أبو الحسن معاصرا للكليني (ره)، وكان في الأصل معتزليا ثم اختار
مذهب الحسن البصري وتاب عن الاعتزال، لما رأى من اضمحلال المعتزلة، وبه نسبت
الطائفة الأشعرية تابعوا الحسن البصري.
(ثم اعلم) ان أول مسألة اختلف فيها بين الأشاعرة والمعتزلة مسألة تكلم الباري تعالى
وكان غرضهم من هذا النزاع اثبات ان القرآن حادث أو قديم، وقد سفكت الدماء
الكثيرة على هذه المسألة، وكان بعض الخلفاء العباسية كالمأمون مثلا مائلا إلى
مذهب الاعتزال فكانوا يحبسون من يعتقد قدم القران من الأشاعرة ويؤذونهم على
ذلك. ولما كان مسألة تكلم الباري أول مسألة وقع فيها البحث من المسائل الكلامية
سمى العلم الباحث في الأصول الدينية بعلم الكلام، وبالجملة أول مسألة اختلف فيها بينهما
مسألة تكلم الباري فقالت المعتزلة وتبعها الامامية: انه من صفات الفعل، إذ هو عبارة
عن ايجاده تعالى أصواتا في أحد من الموجودات كالشجرة مثلا فيكون حادثا، وقالت
الأشاعرة: انه من صفات الذات فيكون قديما من القدماء الثمانية. (واستشكل عليهم
المعتزلة) بان المراد من التكلم ليس إلا ايجاد الأصوات والحروف فلا يتصور كونه من
صفات الذات.
(وأجاب الأشاعرة) بان المراد من الكلام لس هو الكلام اللفظي بل الكلام النفسي
الذي هو صفة نفسانية للمتكلم، ويكون هو المنشأ للكلام اللفظي، ويكون الكلام
اللفظي حاكيا له ودالا عليه دلالة المعلول على علته والمسبب على سببه، ولا يختص ذلك
بالباري تعالى بل لنا أيضا كلام لفظي يكون من صفات الفعل وهو الملتئم من الأصوات
77

والحروف، وكلام نفسي قائم بأنفسنا نظير سائر الصفات النفسانية، ويسمى هذا
الكلام النفسي طلبا حقيقيا ان كان الطلب اللفظي امرا، وزجرا حقيقيا ان كان
اللفظي نهيا.
واستشكل عليهم المعتزلة ثانيا بانا لا نجد بعد مراجعة الوجدان غير صفة العلم
والإرادة والكراهة شيئا قائما بأنفسنا يكون منشئا للكلام اللفظي حتى نسميه بالكلام
النفسي أو الطلب الحقيقي أو الزجر الحقيقي، فان الكلام اما أن يكون اخبارا واما أن يكون
انشاء، وما يكون موجودا في نفس المتكلم حين الاخبار هو العلم بالنسبة، وما يكون موجودا
في نفسه حين الانشاء هو الإرادة ان كان الانشاء امرا، والكراهة ان كان نهيا، ولا يمكن
أن يكون المراد من التكلم (الذي هو من صفات الله تعالى) العلم أو الإرادة أو الكراهة،
إذ المقصود اثبات التكلم له في قبال اثبات العلم والإرادة والكراهة له تعالى، فما هو مدار
كلام الأشاعرة ومختارهم هو ان للمتكلم بالكلام اللفظي صفة قائمة بنفسه سوى العلم والإرادة
والكراهة نسميها بالكلام النفسي، ويسمى طلبا حقيقيا في خصوص الأوامر وزجرا
حقيقيا في خصوص النواهي، ويكون هذا الزجر الحقيقي منشئا للزجر الانشائي وذاك الطلب
الحقيقي منشئا للطلب الانشائي وذلك الكلام النفسي منشئا للكلام اللفظي، وقد قالوا:
ان الكلام لفي الفؤاد وانما جعل اللسان على الفؤاد دليلا، وما هو محط نظر المعتزلة
نفى تلك الصفة النفسانية المغايرة للعلم والإرادة والكراهة بدعوى أن الموجود في أذهاننا عند
الاخبار هو صفة العلم فقط. وعند الامر أو النهى هي الإرادة أو الكراهة فقط وليس في أذهاننا في
قبال العلم والإرادة والكراهة شئ يسمى بالكلام النفسي أو الطلب الحقيقي أو الزجر الحقيقي،
وبالجملة نزاع الفريقين انما هو في ثبوت صفة نفسانية في قبال العلم والإرادة و
الكراهة، فالمعتزلة تنفيها وتقول: ان المنشأ للكلام اللفظي ليس سوى العلم أو الإرادة أو
الكراهة، والأشاعرة تثبتها وتقول: انها المنشأ للكلام اللفظي والامر والنهى،
فاتضح بذلك ان النزاع بينهما لا يكون لغويا: بان ينازعوا في أن لفظي الطلب
والإرادة هل يكونان مترادفين أو يكون لكل منهما معنى مغاير لمعنى الاخر ولا يكون
أيضا مقصود هما من النزاع هو التفحص والدقة في أن المفهوم الذي تصورناه اجمالا
78

وعلمنا بالاجمال انه الموضوع له للفظ الإرادة هل هو عين ما تصورناه اجمالا وعلمنا انه
الموضوع له للفظ الطلب أو مغاير له، بل النزاع بينهما في ثبوت صفة نفسانية فالأشاعرة
يثبتون صفة نفسانية في قبال العلم والإرادة والكراهة تسمى هذه الصفة في باب الأوامر
طلبا فيكون حقيقة الطلب (الذي هو صفة نفسانية) عندهم مغايرة لحقيقة الإرادة التي هي
أيضا صفة نفسانية، واما العدلية والمعتزلة فينكرون ثبوت تلك الصفة النفسانية فيكون
الطلب عندهم متحدا مع الإرادة، لا بمعنى ان لنا طلبا وإرادة يكونان من صفات النفس
وقد اتحدا، بل بمعنى انه لا طلب لنا يكون من صفات النفس في قبال الإرادة هذا،
ثم إن العالم المحقق الشيخ محمد تقي الأصفهاني صاحب الحاشية لما صادف عنوان
اتحاد الطلب والإرادة ولم يتتبع حتى يظهر له ما هو مطرح النزاع بن الفريقين، وكان
المتبادر إلى ذهنه من لفظ للطلب الطلب الانشائي ومن لفظ الإرادة الصفة النفسانية الخاصة،
حكم بتغاير الطلب والإرادة وتخيل انه وافق في هذه المسألة الأشاعرة وخالف المعتزلة
والامامية (1) مع وضوح انهم لم ينازعوا في أن الطلب الانشائي هل هو مغاير للإرادة
النفسانية أو متحد معها فيختار الأشعري التغاير والمعتزلي الاتحاد، إذ التغاير بينهما أظهر
من الشمس وأبين من الأمس. بل نازعوا (كما عرفت) في ثبوت صفة نفسانية في قبال
العلم والإرادة والكراهة، وكان نزاعهم نزاعا مذهبيا إذ كان مقصودهم اثبات ان القرآن
الذي هو كلام الله حادث أو قديم، فما فهمه هذا المحقق من عنوان اتحاد الطلب والإرادة و
تخيل انه مطرح انظار الأشاعرة والعدلية بعيد عن الصواب ويكون ناشئا من عدم تتبع
تاريخ المسألة وما هو محط نظر المتنازعين فيها (ثم إن) لشيخنا الاستاد المحقق الخراساني

(1) أقول قال حفيده المرحوم الشيخ محمد رضا الأصفهاني في الوقاية ما هذا لفظه. والعلامة
الجد لم يخالف العدلية في ذلك ولم يجنح إلى قول الأشاعرة قط بل هو من ألد أعداء هذه
المقالة وأشد من خاصمهم وقد قال في بحث مقدمة الواجب (بعد ما بين مذهب العدلية من أن
حقيقة الطلب عندهم هي الإرادة المتعلقة بفعل الشئ أو تركه) ما نصه: وقد خالف في ذلك
ذلك الأشاعرة فزعموا ان الطلب امر آخر وراء الإرادة وجعلوه من أقسام الكلام النفسي المغاير
عندهم للإرادة والكراهة وقد عرفت أن ما ذكروه امر فاسد غير معقول مبنى على فاسد اخر
أعني الكلام النفسي (انتهى) فلينظر المنصف (إلى اخر ما في الوقاية فراجع). ح ع
79

هاهنا بيانا طويلا في الكفاية زعمه اصلاحا بين الأشاعرة والعدلية مع فساد ما ذكره أولا،
وعدم ارتباطه بما هو محط نظر المتنازعين ثانيا وهو (ره) وان كان قد يقرب في ضمن
بيانه إلى ما هو محط نظر المتنازعين خصوصا عند قوله (فان الانسان لا يجد غير الإرادة القائمة
بالنفس صفة أخرى قائمة بها يكون هو الطلب غيرها) الا ان ملاحظة مجموع كلامه من
الصدر إلى الذيل توجب الاطمينان بعدم كون مطرح النزاع معلوما له خصوصا بعد ارادته
الاصلاح بين الطرفين بما ذكره تحقيقا للمطلب. و حاصل ما ذكره ان لفظي الطلب
والإرادة موضوعان بإزاء مفهوم واحد ولهذا المفهوم الواحد نحو ان من الوجود: الوجود الحقيقي
وهو وجوده في النفس، والوجود الانشائي وهو المنشأ بالصيغة، فالطلب والإرادة متحدان
في المفهوم والوجود الحقيقي والوجود الانشائي. غاية الامر ان لفظ الطلب ينصرف عند
اطلاقه إلى وجوده الانشائي، ولفظ الإرادة ينصرف إلى وجودها الحقيقي، وهذا لا يوجب
المغايرة بين اللفظين في المفهوم نعم وجود هذا المفهوم الواحد بالوجود الانشائي (الذي
ينصرف إليه لفظ الطلب) مغاير لوجوده الحقيقي (الذي ينصرف إليه اطلاق لفظ الإرادة)،
وعلى هذا يمكن ان يصلح بين الطرفين بان يقال: ان مراد العدلية من الاتحاد ما ذكرناه
من اتحادهما في المفهوم وفي كلا الوجودين، ومراد الأشاعرة من التغاير ما ذكرناه من أن
ما ينصرف إليه اطلاق لفظ الطلب (أعني الوجود الانشائي لهذا المفهوم) مغاير لما ينصرف
إليه اطلاق لفظ الإرادة (أعني الوجود الحقيقي لهذا المفهوم) (انتهى).
(أقول) قد عرفت أن نزاع الأشاعرة والعدلية ليس في أن لفظي الطلب والإرادة هل
وضعا بإزاء مفهوم واحد أو يكون لكل منهما معنى غير ما للاخر، إذ البحث على هذا لغوي
مربوط بعلم اللغة، بل النزاع بينهما في أنه هل يكون عند التكلم بالكلام اللفظي صفة قائمة
بنفس المتكلم تكون منشئا للكلام اللفظي سوى العلم والإرادة والكراهة أو لا تكون في
نفسه صفة وراء هذه الثلثة؟ وعلي هذا يكون البحث كلاميا، ولا يقبل هذا النزاع اصلاحا
ولعله أشار إلى هذا بقوله (في اخر كلامه) فافهم.
(ثم اعلم) ان ما ذكره (من اتحاد الطلب والإرادة مفهوما وخارجا وانشاء) فاسد من
اصله فان لفظ الإرادة موضوع لصفة خاصة من صفات النفس، والصفات النفسانية من الأمور
80

الحقيقية التي يكون بحذائها شئ في الخارج فلا تقبل الوجود الانشائي لإباء الأمور الحقيقية
هذا النحو من الوجود بخلاف الطلب فان له معنى قابلا لان يوجد بالانشاء وهو البعث و
التحريك، (وبعبارة أخرى) الموجودات على قسمين (الأول) ما يكون له وجود حقيقي
في الخارج بحيث يكون بإزائه شئ فيه كالانسان والحيوان والبياض ونحوها (الثاني) ما
لا يكون كذلك بل يكون وجوده بوجود منشأ انتزاعه، وهذا القسم يسمى بالأمور
الانتزاعية، وهي أيضا على قسمين (الأول) ما ينتزع عن الأمور الحقيقية بحيث لا يحتاج
في انتزاعه إلى فرض الفارضين واعتبار المعتبرين كالفوقية والتحتية والأبوة والبنوة ونحوها
(الثاني) ما ينتزع عن الاعتبارات والانشاءات كالملكية والزوجية والسلطنة والحكومة
ونحوها، فهذه أقسام ثلثة، والقسم الأول والثاني لا يقبلان الانشاء، وما يقبله هو
القسم الثالث، ومفهوم الإرادة (التي هي صفة من صفات النفس) من القسم الأول فلا تقبل
الانشاء بخلاف الطلب فان له معنى قابلا لان ينشأ، إذ ليس معناه سوى البعث و التحريك
نحو العمل، وكما انهما يحصلان بالتحريك الفعلي بان يأخذ الطالب بيد المطلوب منه
ويجره نحو العمل المقصود فكذلك يحصلان بالتحريك القولي بان يقول الطالب: اضرب
أو اطلب منك الضرب أو آمرك بكذا مثلا، فقول الطالب: (افعل كذا)، بمنزلة أخذه بيد
المطلوب منه وجره نحو العمل المقصود، (والحاصل) ان حقيقة الطلب مغايرة لحقيقة
الإرادة، فان الإرادة من الصفات النفسانية بخلاف الطلب، فإنه عبارة عن تحريك المطلوب
منه نحو العمل المقصود: اما تحريكا عمليا مثل ان يأخذ الطالب بيده ويجره نحو المقصود
أو تحريكا انشائيا مثل افعل كذا، ولا ارتباط لهذا المعنى (بكلا قسميه) بالإرادة التي هي
من صفات النفس (نعم) الطلب (بكلا معنييه) مظهر للإرادة ومبرز لها، فمن أراد من عبده
تحقق فعل خاص أو وجود مقدماته بقصد التوصل بها إلى الفعل، قد يحركه نحو الفعل
تحريكا عمليا، وقد يقول له (افعل كذا) مريدا بهذا القول تحقق ذاك التحريك، فمفاد افعل
تحريك تنزيلي يعبر عنه بالطلب الانشائي. (ولا يتوهم) مما ذكرنا (من اختلاف الطلب
والإرادة مفهوما) موافقتنا الأشاعرة، إذ نزاع الأشاعرة مع العدلية (كما بيناه) ليس في
اختلاف الإرادة والطلب مفهوما أو اتحادهما كذلك بل في وجود صفة نفسانية أخرى في
81

قبال الإرادة وعدم وجودها فافهم.
(ثم إنه استدل الأشاعرة) على ما ادعوه (من وجود صفة نفسانية في قبال العلم وأختيه)
بوجهين (الأول) ان الأوامر الامتحانية والاعتذارية مثل الأوامر الجدية في احتياجها إلى
وجو منشأ في نفس المتكلم، وحيث لا إرادة في نفس المتكلم (في تلك الأوامر) فلا بد من
وجود صفة أخرى في نفسه لتكون هي المنشأ لامره، وتسمى هذه الصفة بالطلب النفسي،
وإذا ثبت ان المنشأ للأوامر الامتحانية صفة أخرى في نفس المتكلم سوى الإرادة، ثبت ان
المنشأ لجميع الأوامر هذه الصفة، لعدم القول بالفصل بين الأوامر الامتحانية وغيرها.
(ونجيب عن هذا الاستدلال) بان المنشأ للأوامر مطلقا هو الإرادة، غاية الامر ان المنشأ
للأوامر الجدية إرادة نفس المأمور به، والمنشأ للأوامر الامتحانية إرادة اتيان مقدماته
بقصد التوصل بها إلى المأمور به:
(تفصيل ذلك) ان المقاصد التي تدعو المولى إلى الامر مختلفة: (فبعضها) مما
يحصل بايجاد العبد نفس المأمور به، مثاله جميع المقاصد والغايات المنظورة من الأوامر
الجدية، (وبعضها) مما يحصل بايجاد المكلف مقدمات المأمور به، بقصد التوصل
بها إلى المأمور به بحيث لا دخالة لنفس المأمور به في ترتب الغاية المطلوبة أصلا، بل كل ما
يحصل بفعل المأمور به مع مقدماته بقصد التوصل، يحصل بصرف فعل المقدمات بقصد التوصل
أيضا، مثال ذلك امره (تعالى) إبراهيم بذبح ولده، فان المقصود من هذا الامر لم يكن
الا وصول إبراهيم (ع) إلى الكمالات النفسانية ومرتبة كمال التسليم والانقياد لرب الأرباب
بايثاره رضاية ربه على محبة الولد، وهذه الكمالات النفسانية كانت تحصل له بصرف
اتيانه مقدمات الذبح بقصد التوصل بها إلى نفس الذبح بحيث كان وقوع نفس الذبح خارجا
وعدم وقوعه متساويين في ذلك.
(ففي القسم الأول) يكون منشأ الامر إرادة نفس الفعل، (وفي القسم الثاني) منشأه
إرادة اتيان المقدمات بقصد التوصل، والامر بالفعل انما هو بداعي حصول هذا القصد في
نفس العبد، والا فالفعل لا دخالة له في حصول الغاية أصلا، فالذي أراد الله تعالى
من إبراهيم (ع) هو نفس اتيان مقدمات الذبح بقصد التوصل بها إليه فلما أوجدها نزل في حقه
82

(قد صدقت الرؤيا) فتأمل.
(الثاني) مما استدل به الأشاعرة هو ان الكفار وأهل العصيان كلهم مكلفون بما
كلف به اهل الإطاعة والايمان بضرورة من الأديان، وحينئذ إن لم يكن في نفس المتكلم صفة
وراء الإرادة حتى تكون تلك الصفة منشئا للامر وعلة له وكان منشأه الإرادة، لزم في تكليف
الله تعالى الكفار وأهل العصيان تخلف ارادته عن مراده، وهو باطل بالضرورة، فيكشف
ذلك عن وجود صفة أخرى له تعالى سوى الإرادة حتى تكون تلك الصفة منشئا لأوامره
اللفظية وتسمى بالطلب الحقيقي.
(وأجاب المتكلمون عن هذا الاستدلال) بان منشأ الامر اللفظي ليس سوى
الإرادة، وان إرادة الله التي لا تتخلف عن المراد هي ارادته وجود فعل من نفسه لا ارادته
صدور فعل عن غيره فإنها قد تتخلف. (وقال المحقق الخراساني) في الكفاية (في مقام
الجواب عن هذا الاستدلال): (ان لله تعالى إرادتين: إرادة تكوينية، و إرادة تشريعية،
وما لا تتخلف هي التكوينية دون التشريعية.) والظاهر أن مراده هو ما قاله المتكلمون،
غاية الامر انه عبر بعبارة أخرى، فمراده من الإرادة التكوينية ارادته تعالى صدور الفعل
عن نفسه، ومن الإرادة التشريعية ارادته صدور الفعل عن المكلف.
* * * * *
هاهنا قد تم مبحث الطلب والإرادة ولا ارتباط لهذا المبحث ابدا بمسألة الجبر
والتفويض، فما تراه في كلام بعض من ابتنائه عليها في غير محله، غاية الامر ان المحقق
الخراساني لما قسم الإرادة إلى قسمين كما مر آنفا، فسر الإرادة التكوينية له تعالى
بعلمه بالنظام على النحو الكامل التام (أعني ما تراه وتشاهده في صفحات عالم الوجود من
الايمان والكفر والنزاع والجدال وغير ذلك، وبعبارة أخرى كل ما وجد ويوجد إلى يوم
القيمة) وفسر الإرادة التشريعية له تعالى بعلمه بالمصالح الكامنة في أفعال المكلفين
الموجبة لامره تعالى إياهم بفعلها، (ثم قال بعد تفسيرهما): فإذا توافقتا (أي كان صدور
فعل من الأفعال عن مكلف خاص ذا مصلحة وكان أيضا دخيلا في النظام الأكمل فكان موردا
للإرادتين) فلا بد (ح) من الإطاعة والايمان، وإذا تخالفتا (أي كان صدور الفعل عن المكلف
83

ذا مصلحة له ولكن كان مخلا بالنظام الأكمل فكان موردا للإرادة التشريعية دون التكوينية)
فلا محيص (ح) عن أن يختار الكفر والعصيان.
(ثم استشكل) بأنه إذا كان الكفر والعصيان والإطاعة والايمان بسبب ارادته
التكوينية التي لا تتخلف، فكيف يصح التكليف المشروط بالاختيار؟ لخروجها (على هذا)
من الاختيار. (وأجاب عنه) بأنه لم يتعلق ارادته (تعالى) التكوينية بصرف صدور الأفعال
عن المكلفين بل تعلقت بصدورها عنهم مسبوقة بإرادتهم، فما أراد منهم بالإرادة التكوينية
هو ان يريدوا ويفعلوا.
(ثم استشكل ثانيا) بأنه وان كان صدور الأفعال عنهم مسبوقا بإرادتهم واختيارهم الا
انها منتهية بالآخرة إلى ارادته تعالى والا لتسلسل، فخرجت من كونها اختيارية، و (ح)
فكيف المؤاخذة.
(وأجاب عنه) بان المؤاخذة من تبعات الكفر والعصيان المسبوقين بالاختيار الناشئ
من مقدماته الناشئة من الشقاوة الذاتية، (إلى آخر ما كتبه حتى انكسر قلمه).
(أقول): الورود في هذا الميدان والاشتغال بمصارعة الفرسان خطير، ورب ذهن صاف
لا نرضى ان نورده في هذا البحر العميق الذي لا ينجو منه الا الأوحدي من الناس، فلنشر
إشارة اجمالية إلى ما قيل في جواب ما ذكر من الاشكال، ثم نخرج من هذا المبحث،
(فنقول) قال الحكيم القدوسي المحقق الطوسي (قده) في مقام الجواب عن هذا الاشكال
(أي إذا كان الكفر والعصيان والإطاعة والايمان مسبوقة بإرادته تعالى أو علمه بالنظام الأتم
الأكمل فكيف التكليف المشروط بالاختيار): بان العلم تابع للمعلوم لان المعلوم تابع للعلم.
(وأوردوا) عليه ايرادا واضح الورود فقالوا: ان العلم الذي هو تابع للمعلوم عبارة
عن العلم الانفعالي لا العلم الفعلي الذي هو علة لوجود المعلوم في الخارج، وكلامنا في المقام
في علمه (تعالى) الذي هو عين ارادته الأزلية التي بها وجد كل شئ ويوجد من البدو إلى الختم.
(والظاهر) ان هذا المعنى بلغ من الظهور والوضوح درجة لا يمكن ان يقال إنه خفى
على مثل ذلك المحقق، فالأولى ان نوجه كلامه بحيث لا يرد عليه هذا الايراد.
(فنقول): لا يخفى ان المراد من النظام الأتم الأكمل الذي يكون متعلقا لإرادته تعالى
84

هو سلسلة العلل والمعلولات من بدوها إلى ختمها، فان دار الوجود دار العلل والأسباب
ولكل من الموجودات الإمكانية تأثيرات مخصوصة بنفسه لا توجد في غيره، وعلية الأشياء
لمعلولاتها ليست مجعولة وانما هي من جهة خصوصيات في ذواتها، والذاتيات لا تعلل
والمجعول انما هو ذوات العلل والأسباب بالجعل البسيط، فكل موجود وان سبقته الإرادة
الأزلية وكان وجوده مفاضا من قبل المبدأ الفياض الا ان له خواص وآثارا ذاتية غير قابلة
للجعل، وبها يصير علة لغيره ومؤثرا فيه، وعلي هذا فما تعلق به العلم الفعلي أعني ارادته
التكوينية انما هو وجود الأشياء وتحققها بذواتها، واما عليتها ومعلوليتها فمتعلقتان لما
يشبه العلم الانفعالي لعدم كونهما مجعولتين حتى يسبقهما العلم القضائي الفعلي.
(إذا عرفت هذا فاعلم) ان الانسان كما يكون بدنه مركبا من طبائع مختلفة متباينة
في الآثار والخواص والمقتضيات، فكذلك جوهره الحقيقي وروحه الذي به صار انسانا،
مركب من رقائق مختلفة ولطائف متباينة الآثار والخواص بحيث يكون مجموعة من
استعدادات متفاوتة وأميال مختلفة يقتضى كل واحد منها شيئا غير ما يقتضيه الاخر، فله ميل
إلى العوالم العالية الملكوتية، وميل إلى العوالم السافلة الحيوانية، وقد جعل الله تعالى
(مع ذلك) لهذا الوجود الشريف قوة قاضية مميزة يميز بها الخبيث والطيب وطريقي السعادة
والشقاوة وهي القوة العاقلة، وأيدها بالكتب السماوية والأنبياء والمرسلين، وجعله بحيث
لا يقدم على عمل الا بعد ادراكه طرفي الفعل والترك وما يترتب عليهما، وقدرته على كليهما،
واختياره بنفسه أحدهما على الاخر، (فتارة) يختار ما هو مقتضى اللطيفة الملكوتية والطينة
العليينية، (وأخرى) ما هو مقتضى الجبلة الشيطانية والطينة السجينية، ففي كليهما يكون
صدور الفعل عنه من جهة ما في ذاته من الاستعداد المقتضى لهذا الفعل، لما عرفت من أن
روحه مخمرة من الاستعدادات المختلفة المقتضية لأفعال متفاوتة. والمجعول له تعالى نفس
تلك الرقايق لا عليتها، ولكن الانسان مع ذلك ليس مسلوب الاختيار بل كل فعل يصدر عنه
فإنما يصدر عنه بعد التفاته واختياره بنفسه أحد الطرفين على الاخر، وهذا الاختيار هو مناط
الثواب والعقاب لا الإرادة كما زعمه صاحب الكفاية وكان يكررها في درسه، إذ هي
85

موجودة في سائر الحيوانات غير الانسان أيضا. (1) والفعل الاختياري هو ما كان مسبوقا
بشعور طرفي الفعل والترك، والقدرة على كليهما، واختيار أحدهما على الاخر، لا ما كان
مسبوقا بالإرادة مطلقا، نعم اختيار أحد الطرفين مستتبع لإرادته، ولكن المناط في
الثواب والعقاب هو الاختيار لا الإرادة، فبطل ما في الكفاية من اصله وأساسه.
(ثم إن ما ذكرناه) من تركب روح الانسان من الرقايق المختلفة، لعله المشار إليه
بقوله تعالى في سورة الدهر: انا خلقنا الانسان من نطفة امشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا
انا هديناه السبيل اما شاكرا واما كفورا، بناء على كون المراد من النطفة الامشاج
(أي المختلطات)، هي اللطائف والرقائق التي خمرت منها روح الانسان وحقيقته التي فيها
انطوى العالم الأكبر، لا النطفة الجسمانية التي تكون مبدأ لوجود بدنه، والشاهد على
ذلك ترتيب الابتلاء عليه بقوله بعد ذلك (نبتليه) إذ ما هو دخيل في ابتلاء الانسان وامتحانه،
هو تركيب روحه من الرقائق المختلفة في الاقتضاء، ثم الانعام عليه بالعقل المميز بين الخير
والشر، ثم تأييده بالكتب السماوية والأنبياء والمرسلين، ثم اعطائه زمام اختياره بيده
حتى يفعل ما يشاء، فقوله (من نطفة امشاج) إشارة إلى تركيب روحه من الرقائق، وقوله
(فجعلناه سميعا بصيرا) إيماء إلى القوة العاقلة، وفي قوله (انا هديناه السبيل) دلالة على
إرسال الرسل وانزال الكتب.
(وبالجملة) ما ذكرناه يستفاد من خلال الآيات والاخبار، فمن الآيات هذه الآية،
(ومنها أيضا) قوله تعالى: ان الخاسرين الذين خسروا أنفسهم، حيث إن الانسان مع التيام
روحه من اللطائف المختلفة إذا غلب فيه جانب بعضها كالشهوة أو الغضب مثلا، ربما
أدى ذلك إلى الخسران الذاتي وزوال الملكات الحسنة (التي بها انسانية الانسان) بالكلية
ولا يتعقل لخسران النفس معنى الا هذا. واما الاخبار الدالة على هذا المعنى فكثيرة (مثل ما ورد)
من أن في قلب الانسان نكتتين: نكتة بيضاء، ونكتة سوداء، فإذا صدر عنه المعصية زاد السواد
بحيث ربما يؤدى إلى اضمحلال النكتة البيضاء بالكلية، (ومثل ما ورد) من أن لقلب الانسان
أذنين ينفخ في إحديهما الملك وفي الأخرى الشيطان، (ومثل ما ورد) من أن الله تعالى بعد

(1) ولأجل ذلك عدوا المتحرك بالإرادة فصلا لمطلق الحيوان. ح ع
86

ما أراد خلق آدم امر جبرئيل بان يقبض قبضات من السماوات السبع وقبضات من الأرضين
السبع ليخمر طينة آدم منها، إلى غير ذلك من الاخبار الدالة على التيام الروح الانساني من
العوالم المختلفة فراجعها وتدبر.
* (المبحث الرابع) *
قد عرفت أن حقيقة الطلب مغايرة لحقيقة الإرادة، فان الإرادة صفة من صفات النفس في
قبال العلم مثلا، وليست قابلة للانشاء بخلاف الطلب فإنه عبارة عن تحريك الطالب
المطلوب منه نحو العمل المقصود اما عملا واما انشاء، (وبعبارة أخرى) حقيقة الطلب
عبارة عما يحصل (تارة) بأخذ الطالب بيد المطلوب منه وجره نحو العمل المقصود (وأخرى)
بقوله للمطلوب منه: افعل كذا، ولا ارتباط لهذا المعنى بالصفات النفسانية، نعم يكون
هذا المعنى بكلا قسميه من مظاهر الإرادة ومما ينكشف منه وجودها في النفس انكشاف
العلة من معلوله. وبهذا البيان يظهر لك ان مدلول الانشاءات ليس هو الإرادة بل امر مظهر
لها وهو الطلب.
إذا عرفت هذا فاعلم - انهم اختلفوا في أن المتبادر من لفظ الامر ومن الصيغ الانشائية
والجمل الخبرية الواردة في مقام الطلب عند تجردها من القرائن، هو الطلب الوجوبي
أو الندبي أو مطلق الطلب؟ واللازم أولا ان نبين ما به يمتاز الوجوب من الاستحباب
في مقام الثبوت، ثم نذكر ما هو المتبادر من لفظ الامر والصيغ في مقام الاثبات (فنقول):
امتياز الشيئين اما بتمام الذات، أو بجزء منها، أو بامر خارج منها (اما الأول) فهو فيما إذا
لم يشتركا أصلا أو اشتركا في امر خارج من ذاتيهما كامتياز كل من الأجناس العالية وأنواعها
من الأجناس الاخر وأنواعها، فالجوهر وأنواعه مثلا ممتازة بتمام ذواتها من الكم وأنواعه
(واما الثاني) فهو فيما إذا اشتركا في بعض الاجزاء وامتاز ببعضها، كامتياز الانسان من
الفرس، فإنهما مشتركان في الحيوانية وممتازان بالناطقية والصاهلية.
(واما الثالث) فهو فيما إذا اشتركا في تمام الذات كامتياز زيد من عمر، فإنهما
مشتركان في الانسانية وهي تمام ذاتيهما وممتازان بالعوارض المشخصة وهيهنا قسم رابع
87

قد اختلف في وجوده اهل المعقول، وهو ان يشتركا في تمام الذات ويمتاز أيضا بتمام
الذات، فيكون ما به الاشتراك عين ما به الامتياز (1) وبعبارة أخرى يكون الامتياز بين
الحقيقتين المشتركتين في تمام الذات، بكون الحقيقة كاملة وشديدة في إحديهما، و
ناقصة وضعيفة في الأخرى مثل الخط القصير والطويل، فإنهما مشتركان في الخطية وممتازان
أيضا بالخطية، وكالبياض الشديد والضعيف (إذا عرفت هذا فنقول: قد يتوهم)
ان الامتياز بين الوجوب والندب (الذين هما قسمان من الطلب الانشائي) بجزء ذاتيهما بان
يكونا مشتركين في الجنس وهو الطلب، ويتفصل كل منهما بفصل مختص به، وما يمكن
ان يعد لهما فصلا أمور (الأول) أن يكون الفصل للوجوب المنع من الترك، وللاستحباب
الاذن في الترك. (وفيه) ان معنى كلمة المنع ليس إلا التحريك نحو الترك أعني طلب الترك
فإذا أضيف هذا إلى لفظ الترك صار حاصل معناه طلب ترك الترك وهو عبارة أخرى عن طلب
الفعل المعد جنسا. (الثاني) ان يقال ان الوجوب هو الطلب الموجب لاستحقاق العقوبة
عند مخالفته، والاستحباب هو الطلب الغير الموجب له. (وفيه) ان الوجوب بعد تحصله
وصيرورته وجوبا يصير موجبا لاستحقاق العقوبة، فايجاب الاستحقاق من لوازمه وآثاره
لامن مقوماته. (الثالث) ان يقال ان الوجوب هو الطلب المسبوق بالإرادة الشديدة،
والاستحباب هو الطلب المسبوق بالإرادة الضعيفة. (وفيه) ان الإرادة من العلل الباعثة
على الطلب، والمعلول بتمام ذاته متأخر عن العلة، ولا يمكن أن يكون صدور المعلول عن
علته من مقوماته واجزائه. (واضعف من هذا) ان يقال: ان الوجوب هو الطلب المسبوق
بالمصلحة الحتمية، والاستحباب هو الطلب المسبوق بالمصلحة الغير الملزمة.
ووجه الضعف ان المصالح والمفاسد متقدمة رتبة على الإرادة لكونها من عللها فيكون
الطلب متأخرا عن المصالح والمفاسد بمرتبتين فلا يصح عدها من مقومات الوجوب
والاستحباب الذين هما قسمان من الطلب.
(وقد يتوهم) كون امتياز الوجوب والندب بالشدة والضعف كالخط الطويل
والقصير مثلا. (وفيه) ان الامر الانشائي ليس قابلا للشدة والضعف بنفسه لأنه امر

(1) قال في المنظومة الميز اما بتمام الذات أو بعضها أو جاء بمنضمات بالنقص والكمال
في الماهية أيضا يجوز عند الاشراقية
88

اعتباري صرف وليست الأمور الاعتبارية قابلة للتشكيك بذواتها (1) هذا ما قيل في
مقام الفرق بين الوجوب والندب، وقد عرفت فساد الجميع.
(وتلخيص المقام) هو ان الوجوب والندب قسمان من الطلب الانشائي الذي هو
اعتبار من اعتبارات العقلاء، وينتزع عن مثل افعل ونحوه، ولهذا الامر الاعتباري مباد
سابقة عليه وآثار لاحقة له عند العقلاء، واللازم في مقام تشخيص ما به يمتاز الوجوب من
الندب هو قطع النظر عن مبادئ الطلب وعلله وعن آثاره ولوازمه، والدقة في أن نفس هذا
الامر الاعتباري في أي وقت ينتزع عنه الوجوب ويترتب عليه حكم العقلاء باستحقاق العقوبة
وفي أي وقت ينتزع عنه الندب ويترتب عليه حكم العقلاء بعدم الاستحقاق.
(والتحقيق) ان الفرق بين قسميه بالشدة والضعف، ولكن لا بالشدة والضعف
في ذات الطبيعة لما عرفت من أن الامر الاعتباري لا يقبل التشكيك الذاتي، بل بالشدة
والضعف المنتزعين بحسب المقارنات، فكما أن الاختلاف بين البياض الشديد والضعيف
ليس إلا بكون البياض في الثاني مخلوطا بغيره من الألوان الاخر كالكدورة مثلا بخلافه
في الأول، وبعبارة أخرى يكون الامتياز بينهما باعتبار وجود المقارنات وعدمها، فكذلك
الاختلاف بين الوجوب والندب ليس إلا باعتبار المقارنات، فالطلب المنشأ بالصيغة امر
واحد وليس له نوعان متمايزان بالفصل أو بالتشكيك في ذاتيهما، بل يختلف افراده
باعتبار ما يقترن به، فقد يقترن هذا الامر الانشائي بالمقارنات الشديدة فينتزع عن الطلب
المقترن بها وصف الشدة، وقد يقترن بالمقارنات الضعيفة فينتزع عن الطلب المقترن بها
عنوان الضعف، وقد لا يقترن بشئ أصلا، مثلا من يقول لعبده (اضرب) قد يقوله ضاربا
برجليه الأرض ومحركا رأسه ويديه، وقد يقوله معقبا إياه بقوله وإن لم تفعل فلا جناح

(1) أقول: يمكن ان يقال كيف لا يقع التشكيك الذاتي في الأمور الاعتبارية إذا كان
شدتها وضعفها أيضا بالاعتبار، إذ من الواضح امكان ان يعتبر العقلاء تارة وجود طلب شديد وأخرى
وجود طلب ضعيف. كما أن الطلب الحقيقي أعني البعث والتحريك العملي الحاصلين بأخذ يد
المطلوب منه وجره نحو العمل قد يكون بنحو الشدة والعنف وقد يكون بنحو الضعف و (ح) فيمكن
ان يقال ان المقارن الشديد قرينة على أن المنشأ بالصيغة طلب شديد، والمقارن الضعيف قرينة
على أن المنشأ بها طلب ضعيف، والمجردة عن المقارن خالية عن القرينة. ح - ع
89

عليك، وقد يقوله بدون هذه المقارنات، فينتزع عن الأول الوجوب، وعن الثاني الندب، و
اختلف في الثالث، ويستكشف من الأول شدة إرادة المولى، و من الثاني ضعفها، ومن
الثالث مرتبة متوسطة منها، ولكن لا دخالة لذلك في نفس حقيقة الوجوب والندب
الذين هما قسمان من الطلب الانشائي، بل الذي ينتزع عنه حيثية الوجوب
أو الندب هو نفس الامر الانشائي بلحاظ مقارناته كما عرفت. والموضوع لحكم العقلاء
باستحقاق العقوبة وعدمه أيضا نفس ذاك الامر الانشائي باعتبار مقارناته، فالطلب المقترن
بالمقارنات الشديدة موضوع لحكمهم باستحقاق العقوبة، والمقترن بالمقارنات
الضعيفة موضوع لحكمهم بعدم الاستحقاق، والطلب المجرد مختلف فيه. (وقد ظهر)
مما ذكرنا أنه ليس للطلب بنفسه وبحسب الواقع مع قطع النظر عن المقارنات قسمان
حتى يكون المقارنات الشديدة أو الضعيفة قرينتين عليهما ويكون القسم الثالث خاليا من
القرينة، إذ القرينة انما هي فيما إذا كان للفظ معنيان بحسب مقام الثبوت فأقيمت القرينة
للدلالة على أحدهما في مقام الاثبات كما في الألفاظ المشتركة والحقائق والمجازات، وما
نحن فيه ليس كذلك إذ ما ينتزع عنه حيثية الوجوب هو نفس الطلب الانشائي المقترن
بالمقارنات الشديدة فقط أو الأعم منه ومن المجرد، لا ان الوجوب شئ واقعي يستعمل فيه
الطلب الانشائي ويكون المقارن قرينة عليه، وكذلك ما ينتزع عنه الاستحباب هو نفس
الطلب الانشائي المقترن بالمقارنات الضعيفة أو الأعم منه ومن المجرد، لا ان الاستحباب
امر واقعي يكون الطلب الانشائي مستعملا فيه والمقارن الضعيف قرينة عليه.
والحاصل ان الوجوب أو الندب انما ينتزع عن الطلب الانشائي بما هو فعل خاص
صادر عن المولى، لا بما أنه لفظ استعمل في معناه، وبعبارة أخرى الصيغة انما
تستعمل في الطلب استعمالا انشائيا فبها يوجد الطلب في عالم الاعتبار، والطلب والبعث
سواء كان حقيقيا متحققا بأخذ يد المطلوب منه وجره نحو العمل المقصود، أو انشائيا
متحققا بمثل صيغة افعل ونحوها ربما ينتزع عنه الوجوب ويكون موضوعا لحكم
العقلاء باستحقاق العقوبة بمخالفته، وربما ينتزع عنه الندب كساير العناوين المنتزعة عن
الأفعال الاختيارية، والتفاوت في الانتزاع انما هو باعتبار اختلاف المنتزع عنه من حيث
90

الاقتران بالمقارنات وعدمه.
(فان قلت): الظاهر أن الطلب الايجابي والندبي لا فارق بينهما بالنظر إلى ذاتيهما
بل الفرق بينهما بجهة علتهما أعني الإرادة، فالطلب الانشائي المسبب من الإرادة الشديدة
ينتزع عنه الوجوب، والطلب الانشائي المسبب من الإرادة الضعيفة ينتزع عنه الندب.
(قلت): العلتان المختلفتان لا يعقل أن يكون ما صدر عنهما متماثلين من جميع
الجهات ويكون المايز بين المعلولين منحصرا في كون أحدهما منتسبا إلى العلة الكذائية
والاخر منتسبا إلى العلة الكذائية الأخرى، ففيما نحن فيه ليس لاحد أن يقول إن الطلب
الوجوبي والندبي متماثلان من جميع الجهات وانما يتصف الطلب الوجوبي بهذه الصفة
أعني صفة الوجوب بصرف انتسابه إلى الإرادة الشديدة، والطلب الندبي يتصف بهذه الصفة
بصرف انتسابه إلى الإرادة الضعيفة من دون أن يكون بينهما اختلاف من غير جهة الانتساب،
وذلك لما عرفت من أن مرتبة المعلول بتمام ذاته تخالف مرتبة العلة. ولا يمكن أن يكون
صدور المعلول عن علته من مقوماته وفصوله فتدبر.
(فتلخص مما ذكرنا) ان الاختلاف بين الوجوب والندب بحسب مقام الثبوت بالتشكيك
ولكن لا بالتشكيك الذاتي بل بالتشكيك العرضي أعني بحسب المقارنات.
(وإذا اتضح ذلك) فيقع النزاع في أن الطلب المجرد من المقارنات هل ينتزع عنه
الوجوب أو الندب؟ بعد الاتفاق على انتزاع الوجوب عن المقترن بالمقارنات الشديدة
والاستحباب عن المقترن بالمقارنات الضعيفة. (والأظهر) عندنا ان ما ينتزع عنه الوجوب
ويكون تمام الموضوع لحكم العقلاء باستحقاق العقوبة على مخالفته، هو نفس الطلب
الانشائي الصادر عن المولى بداعي البعث (في قبال الطلب الاستهزائي ونحوه) فيما إذا لم
يقترن بالمقارنات المضعفة له من الاذن في الترك ونحوه، من غير فرق بين ان يقترن
بالمقارنات الشديدة أو لم يقترن بشئ أصلا، فالطلب المجرد أيضا ينتزع عنه الوجوب و
يكون موضوعا لحكم العقلاء باستحقاق العقوبة بمخالفته، وذلك لوضوح ان عتاب المولى
وعقابه للعبد عند تركه الامتثال للطلب البعثي الغير المقترن بالاذن في الترك، لا يقعان
عند العقلاء موقع التقبيح، بل يرون العبد مستحقا للعتاب والعقاب، وعلي هذا فلا نحتاج
91

في مقام كشف الوجوب إلى استظهار شئ زائد على حقيقة الطلب، بل نفس الطلب
مساوق للوجوب ويكون تمام الموضوع لحكم العقلاء باستحقاق العقوبة بمخالفته ما لم
ينضم إليه الاذن في الترك، واما الندب فنحتاج في كشفه إلى استظهار امر زائد على حقيقة
الطلب مثل الاذن في الترك ونحوه، وبالجملة ما يحتاج إلى المؤنة الزائدة هو الندب لا
الوجوب. (بل يمكن ان يقال) ان الطلب البعثي مطلقا منشأ لانتزاع الوجوب ويكون
تمام الموضوع لحكم العقلاء باستحقاق العقوبة، وانه معنى لا يلائمه الاذن في الترك بل
ينافيه، لوضوح عدم امكان اجتماع البعث والتحريك نحو العمل مع الاذن في الترك المساوق
لعدم البعث. وعلي هذا فيجب ان يقال ان الصيغ المستعملة في الاستحباب لا تكون مستعملة
في الطلب البعثي ولا تتضمن البعث والتحريك، وانما تستعمل بداعي الارشاد إلى وجود
المصلحة الراجحة في الفعل، وببالي ان صاحب القوانين أيضا اختار هذا المعنى فقال (ان
الأوامر الندبية كلها للارشاد وهو كلام جيد. (هذا كله) بناء على كون الملاك والموضوع
لاستحقاق العقوبة هو مخالفة نفس الطلب بما هو طلب وبعث من قبل المولى كما قويناه
واما بناء على كونه ملاكا للاستحقاق من جهة كونه كاشفا عن الإرادة الشديدة فيدور
الاستحقاق وعدمه مدار كشفه عنها وعدم كشفه.
(واعلم) ان كشف الصيغ التي ينشأ بها الطلب عن وجود الإرادة، ودلالتها عليها
ليسا من قبيل دلالة الألفاظ على معانيها بالوضع لا انشاء ولا من باب الحكاية.
(اما الأول) فلما عرفت في مبحث الطلب والإرادة: من أن الإرادة من الصفات
النفسانية، والصفات النفسانية غير قابلة للانشاء، وليس لنا وراء الإرادة النفسانية ما يسمى
بالإرادة الانشائية. (واما الثاني) فلان الإرادة علة للانشاء، ومن الواضح ان دلالة
المعلول على علته دلالة عقلية لا وضعية. وبذلك يظهر لك الاشكال فيما ذكره شيخنا
الاستاد المحقق الخراساني (قدس سره) في مبحث الطلب والإرادة: (من عدم المضايقة
عن دلالة الصيغ الانشائية الموضوعة لان يوجد بها معانيها في عالم الاعتبار، على ثبوت
الصفات النفسانية كالإرادة والترجي والتمني الحقيقيين ونحوهما من جهة وضعها لإيقاعها
فيما إذا كان الداعي إليه ثبوت هذه الصفات) ووجه الاشكال فيه أن الإرادة وغيرها من الصفات
92

النفسانية في مرتبة العلة للطلب وغيره من الأمور الانشائية، وقد عرفت أن دلالة المعلول
على ثبوت علته دلالة عقلية غير مربوطة بالوضع، وجعل العلة من قيود المعلول ووضع اللفظ
للمعلول المقيد بها يستلزم تجافى العلة عن مرتبتها، بداهة ان القيد يجب أن يكون في
مرتبة المقيد، ورتبة العلة بتمام ذاتها قبل رتبة المعلول بتمام ذاته، فتقييده بها يستلزم التجافي
(تبصرة) قال في المعالم: (فائدة يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المروية عن
الأئمة (عليهم السلام) ان استعمال صيغة الامر في الندب كان شائعا في عرفهم بحيث صار من
المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجح الخارجي
فيشكل التعلق في اثبات وجوب امر بمجرد ورود الامر به منهم عليهم السلام) ومحصل
كلامه (قده) ان كون الصيغة موضوعة للوجوب وان كان مرجحا لحملها عليه عند انتفاء
القرينة، ولكن يعارض ذلك ويكافئه كون استعمالها في الندب أكثر وقال في الكفاية
في مقام رده (ما حاصله): ان كثرة استعمالها في الكتاب والسنة في الاستحباب لا توجب
حملها عليه (اما أولا) فلكثرة استعمالها في الوجوب أيضا فتعادلا من هذه الجهة، ويقدم
الوجوب من جهة كونها موضوعة له. (واما ثانيا) فلان استعماله في الندب وان كان كثيرا
ولكنه كان مع القرينة المصحوبة، وهذا لا يوجب انس اللفظ بالاستحباب بحيث يعادل
الوجوب في الاحتمال، كيف! وقد كثر استعمال العام في الخاص حتى قيل ما من عام الا
وقد خص ولم ينثلم به ظهوره في العموم، بل يحمل عليه ما لم تقم قرينة على الخصوص
(انتهى كلامه).
(ونحن نقول اما أولا) فما ادعاه في المعالم مغاير لما في الكفاية، فان صاحب
المعالم انما ادعى كثرة استعمال الصيغة في الندب في اخبار الأئمة عليهم السلام، لا في
الكتاب والسنة كما في الكفاية، واخبار الأئمة ليست من السنة، لاطلاقها (بحسب
الاصطلاح) على الاخبار النبوية فقط. (واما ثانيا) فما ذكره من أن كثرة الاستعمال
مع القرينة المصحوبة لا توجب انس اللفظ بالمعنى المجازى، في غير محله، إذ اللفظ
والقرينة لو استعملا معا في المعنى المجازى فما ذكره صحيح، واما إذا استعمل نفس اللفظ
في المعنى المجازى كثيرا غاية الامر انه قد صاحبه القرينة حين الاستعمال، فلا نسلم (ح)
93

عدم انس اللفظ بالمعنى المجازى.
(واما ثالثا) ففي ما ذكره من تنظير ما نحن فيه بمسألة العموم والخصوص نظر
من وجهين (الأول) ان هذا مخالف لما سيذكره في العموم والخصوص: من أن لفظ العام
عند إرادة الخاص لا يستعمل في الخاص، بل يستعمل في نفس ما وضع له، غاية الامر ان
قرينة الخصوص تدل على كون الإرادة الجدية مخالفة للإرادة الاستعمالية، وهذا بخلاف
ما نحن فيه فان صيغة الامر بنفسها تستعمل في الندب. (الثاني) انه فرق بين ما نحن فيه و
بين مسألة العموم والخصوص من جهة أخرى أيضا، وهي ان المعنى المجازى فيما نحن
فيه امر واحد شخصي وهو الندب وقد كثر استعمال الصيغة فيه فيوجب انس اللفظ به، و
هذا بخلاف مسألة العموم والخصوص، فان كل لفظ من ألفاظ العموم له معنى حقيقي وهو
جميع الافراد، ومعان كثيرة مجازية بعدد ما يتصور له من المعاني الخاصة، فقولك (أكرم)
العلماء) مريدا به جميع العلماء غير زيد استعمال في معنى مجازى، وإذا أردت به جميعهم
غير بكر فقد استعملته في معنى مجازى آخر، وهكذا إذا أردت به جميعهم غير خالد، و
كذا إذا أردت به جميعهم غير اثنين أو ثلث،
فان المقصود من قولهم: ان العام مجاز فيما بقي، ليس مفهوم ما بقي، لعدم استعماله فيه،
بل مصاديق ما بقي، وهي في غاية الكثرة، ولا يقاس مجموع المجازات بالنسبة إلى المعنى
الحقيقي لان المعنى المجازى انما يعادل المعنى الحقيقي ويكافئه من جهة انس اللفظ به،
واللفظ لا يستعمل في عنوان مجموع المجازات، بل يستعمل في كل واحد من المجازات
بخصوصه، وإذا وازنا كل واحد من المعاني المجازية بالنسبة إلى المعنى الحقيقي وجدنا
استعماله في المعنى الحقيقي أكثر من استعماله في كل واحد من المعاني المجازية بمراتب
فأنس اللفظ بالمعنى الحقيقي أيضا أكثر من أنسه بكل منها بدرجات. (هذا كله) بناء على
ما اختاره صاحب المعالم من كون صيغة الامر موضوعة للطلب الوجوبي، واما بناء على ما
حققناه فلا يرد اشكال صاحب المعالم، فان الصيغة على ما قلناه قد وضعت لانشاء نفس الطلب
المطلق من غير تقيد بالوجوب أو الاستحباب، غاية الامر ان الطلب إن لم يقارنه شئ أو قارنه
المقارنات الشديدة كان منشئا لانتزاع الوجوب، وان قارنه الاذن في الترك كان منشئا لانتزاع
94

الندب، وكيف كان فالطلب في الوجوب والاستحباب شئ واحد وحقيقة فاردة، واللفظ كلما
استعمل فقد استعمل في نفس معناه الحقيقي أعني نفس الطلب الانشائي لا في الطلب بقيد
كونه وجوبا أو ندبا، وعلي هذا فقول صاحب المعالم: انه شاع استعمال الامر في الندب
غير تام، فان اللفظ في الأوامر الندبية أيضا يستعمل في نفس الطلب، والحكم بالاستحباب
وعدم استحقاق العقاب على مخالفته انما هو من جهة اقتران الطلب بالاذن في الترك لا من
جهة كونه مفادا لصيغة الامر، و (ح) ففي أي مورد أحرزنا الاذن في الترك حكمنا
بالاستحباب شاع أو ندر، واما إذا لم نحرز ذلك وأحرزنا وجود صرف الطلب فالعقل يحكم
بان من خالفه يستحقق العقاب، وليس معنى هذا الحكم الا حكمه بوجوب الفعل، وقد
ذكرنا أن الملاك في تحصل الطلب ايجابا ليس إلا عدم اقترانه بالاذن في الترك. ثم هذا كله
بناء على كون الطلب بما هو طلب وبعث من قبل المولى موضوعا لحكم العقل باستحقاق
العقاب كما قويناه، واما بناء على كونه موضوعا له بما أنه كاشف عن الإرادة الأكيدة
فالامر أيضا كذلك، إذ اللفظ على هذا أيضا لا يستعمل الا في نفس الطلب و (ح) فكثرة
حمله على الاستحباب من جهة كونه في أكثر الموارد مقرونا بالاذن في الترك الكاشف عن
ضعف الإرادة، لا تضر بحمله على الوجوب فيما لم يقترن بشئ فتأمل.
* (ايقاظ) *
قد نرى بالوجدان ثبوت الفرق بين قول الطالب اضرب أو أكرم (مثلا) وبين قوله اطلب منك
الضرب أو آمرك بالضرب مع كون الجميع مشتركة في انشاء الطلب بها، والذي يؤدى
إليه النظر في الفرق بينهما ان مفهومي الطلب والامر متصوران في الثاني بالاستقلال بحيث
وقع عليهما لحاظ استقلالي وإن لم يكن نفس وجودهما مطلوبا نفسيا بل كان الفرض
منهما وجود المطلوب من المطلوب منه، وهذا بخلاف الصيغ الانشائية مثل اضرب فان
الملحوظ فيها على نحو الاستقلال ليس إلا خصوص المطلوب النفسي أعني صدور المطلوب
عن المطلوب منه، واما الطلب والانبعاث فلم يلحظا الا بنحو الغيرية والاندكاك من دون ان
يتصورا بمفهوميهما، كساير المعاني الحرفية التي لا يتعلق بها لحاظ استقلالي.
95

(ولنذكر لذلك مثلا) وهو انك إذا كنت قادما من دارك إلى المسجد قاصدا إياه
فكلما تضعه من الاقدام مطلوب غيرى للوصول إلى المسجد، ولكنك قد تكون ملتفتا
في حال مشيك إلى كل قدم قدم كما تكون ملتفتا إلى المسجد الذي هو المطلوب النفسي، وقد
لا تكون كذلك بل الذي يكون بمد نظرك هو الكون في المسجد فقط، ولم يتعلق بالاقدام
لحاظ استقلالي بل كانت ملحوظة بنحو المعنى الحرفي، ففيما نحن فيه أيضا المطلوب
النفسي هو صدور الضرب (مثلا) عن المطلوب منه، والبعث مطلوب غيرى يتوصل به إلى
المطلوب النفسي، ولكن في مقام اللحاظ قد يلحظ البعث أيضا بنحو الاستقلال كما يلحظ
المطلوب النفسي، وقد لا يلحظ الا بنحو الاندكاك، فعلى الأول يكون انشائه بمثل آمرك
أو أطلب منك، وعلى الثاني يكون انشائه بمثل اضرب ونحوه، هذه خلاصة الفرق بين
الامر بصيغته والامر بمادته، (وكان بعض مشايخنا) (قدس سره) يقول في الفرق بينهما:
ان صيغة افعل قد وضعت للدلالة على النسبة الموجودة بين الحدث وفاعله نظير النسب
الموجودة في سائر الأفعال، والطلب يستفاد من الخارج، وهذا بخلاف مثل آمر وأطلب
فإنهما موضوعان للطلب.
(وفيه) ان النسبة اما تصورية قصد بالقائها إلى المخاطب تصوره لها، واما تصديقية
قصد بالقائها إليه تصديقه لها، والموجودة في قولنا (اضرب) ليست من إحديهما لوضوح
انه ليس المقصود من قولك (اضرب) تصور المخاطب صدور الضرب عن نفسه ولا التصديق
بوقوعه منه، (اللهم الا ان يقال): ان مراده (قده) كون حيثية الطلب أيضا من انحاء
الاستعمال في قبال التصورية والتصديقية بان يقال: إنه كما قد يوضع اللفظ للدلالة على نسبة
خاصة بدلالة تصورية كقولنا (ثبوت القيام لزيد)، وقد يوضع للدلالة عليها بدلالة تصديقية
كقولنا (قام زيد) فكذلك قد يوضع للدلالة على نسبة خاصة بنحو يطلب تحققها من قبل
المسند إليه فيكون استعمال اللفظ الدال على هذه النسبة استعمال من يطلب تحققها من
قبل المسند إليه في قبال الاستعمال الذي يكون بداعي التصور أو التصديق، وعلي هذا يكون
الموضوع له في الصيغ الانشائية الطلبية هو نفس انتساب المبدأ إلى المخاطب، ويكون
حيثية الطلبية من انحاء الاستعمال في قبال حيثية التصورية أو التصديقية، وإن شئت تفصيل
96

انحاء الاستعمال فراجع ما ذكرناه في ذيل المعاني الحرفية. (تنبيه) هل الجمل الخبرية
الواردة في مقام الطلب ظاهرة في الوجوب أولا؟ الظاهر كونها ظاهرة فيه بعد كونها دالة
على الطلب على حذو ما ذكرناه في الصيغ الانشائية، فالضابط ان كل ما دل على انشاء الطلب
والبعث يجب ان يحمل على الوجوب ما لم تقم هناك قرينة على الاستحباب (وهيهنا نكتة
لطيفة) يعجبنا ذكرها وهي ان الأوامر والنواهي الصادرة عن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة
عليهم السلام على قسمين (القسم الأول) الأوامر والنواهي الصادرة عنهم في مقام إظهار
السلطنة واعمال المولوية نظير الأوامر الصادرة عن الموالى العرفية بالنسبة إلى عبيدهم،
(مثال هذا) جميع ما صدر عنهم عليهم السلام في الجهاد و ميادين القتال بل كل ما امروا به
عبيدهم وأصحابهم في الأمور الدنيوية ونحوها كبيع شئ لهم وعمارة بناء ومبارزة زيد مثلا
(القسم الثاني) الأوامر والنواهي الصادرة عنهم عليهم السلام في مقام التبليغ والارشاد إلى
احكام الله (تعالى) كقولهم: صل أو اغتسل للجمعة والجنابة أو نحوهما مما لم يكن المقصود
منها اعمال المولوية بل كان الغرض منها بيان ما حكم الله به، نظير أوامر الفقيه في الأحكام الشرعية
بالنسبة إلى مقلديه. (اما القسم الأول) فهو وان كان ظاهرا في الوجوب
كما فصلناه ولكنه نادر جدا بالنسبة إلى القسم الثاني الذي هو العمدة في أوامرهم ونواهيهم
وهو محل الابتلاء أيضا (واما القسم الثاني) فلما لم يكن صدورها عنهم لاعمال المولوية
بل كان لغرض الارشاد إلى ما حكم الله به على عباده كانت في الوجوب والندب تابعة للمرشد
إليه أعني ما حكم الله بها، وليس لاستظهار الوجوب أو الندب من هذا السنخ من الأوامر
وجه لعدم كون الطلب فيها مولويا فتأمل جيدا.
المبحث الخامس في التعبدي والتوصلي
ولما كان هذا المبحث من المباحث المهمة كان اللازم ان يعقد له مبحث مستقل ثم يذكر
مسألة الشك في التعبدية والتوصلية بنحو التفريع، ولكن المحقق الخراساني جعل
البحث عن صوره الشك مبحثا مستقلا، وعد البحث عن بيان ماهيتهما وأحوالهما من
مقدماته، وكيف كان فنحن نشرع في بيان ماهيتهما وأحوالهما، (فنقول) الواجب
97

والندب التعبديان عبارتان عما لا يحصل الغرض منهما الا باتيانهما بداع الهى وبنحو يرتبطان
إلى الله (تعالى) متقربا بهما إليه ولا يشترط في عبادية العبادة تعلق الامر بها من قبل المولى،
فتعظيم المولى ومدحه وثنائه إذا أتى بها بقصد التقرب إليه من العبادات وإن لم يتعلق بها امر، لكن
لا بد من أن يكون التعظيم أو المدح أو الثناء بنحو يليق بجنابه (تعالى)، والكاشف عما يليق به
تعالى هو الامر الصادر من قبله، ولكن بعد تعلق الامر واحراز لياقته بجنابه (تعالى) لا يشترط
في عبادية العمل اتيانه بداعي الامر بل يكفى في تحققه عبادة اتيانه بداعي التعظيم ونحوه،
(واما التوصلي) فهو عبارة عمالا يحتاج في حصول الغرض منه إلى قصد الامر أو القربة
أو نحوهما من الدواعي الإلهية، بل يكفى في حصوله صرف الاتيان بالفعل بأي داع كان، بل
لا يحتاج في حصوله إلى القصد والالتفات أيضا، فنفس تحققه ولو في حال النوم أو الغفلة مسقط
للامر به لحصول الغرض منه.
(فان قلت) كيف يكون تحقق الفعل في حال النوم أو الغفلة امتثالا للامر التوصلي و
موجبا لسقوطه، مع أن الامتثال لا يتحقق الا باتيان ما تعلق به الامر، وما تعلق به الامر لا بد من
أن يكون امرا اختياريا موجدا بالإرادة لعدم جواز تعلق الامر بامر غير إرادي؟! (قلت) الامر مطلقا وان كان لايجاد الداعي إلى ايجاد متعلقه، ولا محالة يختص
داعويته قهرا بصورة الالتفات والإرادة، ولكن متعلقه مطلقا عبارة عن نفس ذات الفعل
سواء في ذلك التعبديات والتوصليات، ولا يتعلق في شئ من الواجبات بالفعل بما أنه مراد
بحيث يكون معنى (صل) مثلا أرد وأوجد الصلاة غاية الامر انه قد يكون لتسبيب الداعي
الإلهي والانبعاث من قبله دخل في حصول الغرض كما في التعبديات، وقد لا يكون له
دخالة أصلا بل الغرض يحصل بنفس تحقق الفعل بأي نحو اتفق، وكيف كان فمتعلق
الامر هو نفس طبيعة الفعل لا الفعل المقيد بصدوره عن الإرادة فإذا أتى به في حال الغفلة أيضا كان
كان مصداقا للمأمور به وترتب عليه سقوط الامر قهرا.

(1) أقول: وببيان أوضح صدق عنوان الامتثال يتوقف على كون الامر داعيا ومحركا
كما لا يخفى، ولكن متعلق الامر ليس مقيدا بالإرادة ونحوها فتحققه بأي نحو كان موجب
لسقوطه قهرا، إذ متعلقة عبارة عن نفس الطبيعة المهملة الجامعة بين المرادة وغيرها من غير أن
يلحظ الآمر سريانها إلى القسمين حتى يقال ان الامر بالنسبة إلى ما لا يوجد بالإرادة تعلق
بامر غير اختياري، ومقدورية الطبيعة بما هي هي تتوقف على امكان ايجادها بالإرادة لا على
تعلق الإرادة بها فعلا. ح ع
98

(ثم اعلم) ان القدماء من علمائنا إلى زمن الشيخ الأنصاري (قده) كانوا يعدون قصد
القربة في العبادات في عداد سائر شرائط المأمور واجزائه من غير تعرض لورود اشكال
في المقام، ولكن الشيخ (قده) استشكل في امكان ان يؤخذ قصد القربة ببعض معانيه في المأمور به
(وحاصل ما ذكره): ان القيود والحالات الطارية على المأمور به على نحوين،
(فبعضها) مما يمكن ان يتصف به المأمور به مع قطع النظر عن وقوعه تحت الامر ككونه
صادرا عن سبب خاص أو في زمان خاص أو في مكان خاص ونحو ذلك، فهذه القيود مما
يمكن ان يتعلق بها الامر، (وبعضها) مما لا يتصف به المأمور به الا بعد وقوعه تحت الامر و
صيرورته مأمورا به ككونه واجبا ومستحبا أو صادرا بقصد امره ونحو ذلك. وهذه القيود مما
لا يمكن اخذها في المأمور به لتأخرها عن الامر به فكيف تصير تحت امر (انتهى) (وقد أرسل)
تلامذة الشيخ ومن بعدهم عدم جواز اخذ القربة (بمعنى الامتثال وقصد الامر) في المأمور به
إرسال المسلمات وتصدى كل واحد منهم للاستدلال على هذا الامر المسلم عندهم. (والوجوه)
التي ذكروها يرجع مفاد بعضها إلى الامتناع في مقام الامر والتكليف، ومفاد بعضها إلى
الامتناع في مقام الامتثال (اما القسم الأول فمنها) ان الامر يتوقف على تحقق موضوعه
بتمام اجزائه توقف العرض على معروضه، فلو كان قصد الامر مأخوذا في الموضوع لزم الدور
لعدم تحقق الموضوع بتمام اجزائه (التي منها قصد الامر) الا بعد ثبوت الامر، فالامر يتوقف
على الموضوع، والموضوع على الامر.
(ومنها) ان الامر يتوقف على كون متعلقه مقدورا للمكلف، والقدرة على العمل
المقيد بقصد الامر تتوقف على ثبوت الامر، فالامر يتوقف على القدرة، والقدرة على
الامر، وهذا دور واضح.
(ومنها) ان الآمر حين امره يتصور المأمور به استقلالا والامر المتعلق به آلة كما مر
في الايقاظ السابق فلو كان قصد الامر مأخوذا في المأمور به لزم بالنسبة إلى هذا الجزء
اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي.
99

(والجواب اما عن الأول) فبان الموضوع أعني المتعلق بوجوده الذهني متقدم
على الامر، ولا ينافي ذلك كونه بوجوده الخارجي متأخرا عن الامر ومتوقفا عليه، ولا يعقل
أن يكون المتعلق بوجوده الخارجي متقدما عليه وإلا لكان الامر به طلبا للحاصل، وبالجملة
المتوقف على الامر غير ما يتوقف الامر عليه. (واما عن الثاني) فبان القدرة التي هي من
الشرائط العقلية لا يجب ان تكون سابقة على الامر حتى يدور،
بل الذي يحكم العقل بلزومه انما هي القدرة على الفعل حين الامتثال وان كان حصولها
بنفس الامر كما فيما نحن فيه إذ يمكن ان يأمر المولى ليقدر العبد على المتعلق فيوجده.
(واما عن الثالث) فبان اللحاظ الواحد لا يعقل أن يكون آليا واستقلاليا، واما
لحاظ الشئ مرة آليا وأخرى استقلاليا فلا مانع منه، ففيما نحن فيه يمكن ان يلحظ الامر
بما هو دخيل في المأمور به استقلالا ثم يلحظ بلحاظ آخر آلة.
(واما القسم الثاني) أعني الاشكال في مقام الامتثال فيمكن ان يقرب أيضا بوجوه
(الأول) لزوم الدور في هذا المقام (وتقريره) ان داعوية الامر (في مقام الامتثال) نحو
العمل متوقفه على كون المدعو إليه منطبقا للعنوان الواقع تحت الامر ومن مصاديقه، و
كونه منطبقا لهذا العنوان متوقف على داعوية الامر إليه، إذ المفروض ان المأمور به هو
العمل الواقع بداعي الامر لا مطلق العمل (لثاني) ما ذكره في الكفاية وحاصله عدم
القدرة على المأمور به في مقام الامتثال، وتقريبه ان اتيان ذات الصلاة بداعي امرها
يتوقف على كون الذات مأمورا بها حتى يتمكن المكلف من اتيانها بداعي امرها، و
المفروض ان الامر لم يتعلق بالذات بل بالصلاة المقيدة بداعي الامر فلا يتمكن المكلف من
الامتثال في ظرفه. وبالجملة اتيان العمل بداعي امره مع عدم كون ذات العمل مأمورا
بها غير مقدور للمكلف. (الثالث) لزوم التسلسل في مقام الامتثال، وتقريبه: ان الامر
لا يدعو الا إلى متعلقه والمفروض ان متعلقه فيما نحن فيه ليس ذات الصلاة بل الصلاة
بداعي الامر فلا محالة يكون هي المدعو إليها، فيقال حينئذ (بطريق الاستفهام): ان
المدعو إليه للامر هو الصلاة بداعي الامر المتعلق بأي شئ؟، فان قلت إنه الصلاة بداعي الامر
المتعلق بذات الصلاة فهو خلاف الفرض، وان قلت إنه الصلاة بداعي الامر المتعلق بالصلاة
100

بداعي الامر، فهذا الامر الثاني أيضا يحتاج إلى متعلق يكون مدعوا إليه، فإن كان متعلقه
عبارة عن ذات الصلاة فهذا أيضا خلاف الفرض، وان كان عبارة عن الصلاة بداعي الامر
فهذا الامر الثالث أيضا يحتاج في مقام الامتثال إلى متعلق يكون مدعوا إليه، والفرض انه
ليس عبارة عن ذات الصلاة فلا محالة من أن يكون هو الصلاة بداعي الامر فننقل الكلام
إلى الامر الرابع فيتسلسل، هذا. (1) (ويمكن ان يقال): ان اللازم في مقام الامتثال
ليس هو الدور بل ملاكه وهو تقدم الشئ على نفسه من غير وساطة شئ حتى يكون
دورا بحسب الاصطلاح، وتقريبه انه على فرض تعلق الامر بالفعل المقيد بداعوية الامر
إليه لا يكون ذا الفعل مدعوا إليها بل المدعو إليه هو الفعل المقيد بداعوية الامر إليه
والمدعو إليه بقيده متقدم رتبة على الداعي فيلزم تقدم داعوية الامر على نفسها ولا شك
في بطلان تقدم الشئ على نفسه وإن لم يكن دورا بحسب الاصطلاح فتدبر.
(واعلم) انهم خصصوا اشكال الباب بصورة اخذ داعى الامر في المأمور به، ولكن الظاهر أن
الاشكالات الواردة في مقام الامتثال لا تختص به بل تجرى في اخذ سائر الدواعي أيضا
فكما يرد الاشكالات فيما إذا تعلق الامر بالصلاة بداعي الامر ترد أيضا فيما إذا تعلق بالصلاة
بداعي حسنها أو محبوبيتها أو كونها ذات مصلحة، إذ الامر بعد تعلقه بالفعل المقيد باتيانه
بداعي الحسن أو المحبوبية أو كونه ذا مصلحة، يستكشف منه ان الحسن والمحبوبية
والمصلحة انما هي للفعل المقيد لا لذات الفعل لعدم جواز تعلق الامر الا بما يشتمل على
المصلحة ويكون حسنا ومحبوبا، ولا يجوز تعلقه بأعم من ذلك و (ح) فيرد الاشكالات
بعينها، (اما الدور) فلان داعوية حسن الفعل مثلا تتوقف على كونه حسنا، وكونه حسنا
يتوقف على داعوية الحسن فيدور، (واما عدم القدرة في مقام الامتثال) فلان اتيان الصلاة
مثلا بداعي حسنها يتوقف على كون الذات حسنة والمفروض ان الحسن انما هو للفعل المقيد

(1) أقول: الأولى تقرير التسلسل في طرف الداعي لا المدعو إليه فيقال ان الصلاة بداعي الامر
(التي هي الواجبة حسب الفرض) يؤتى بها بداعي أي امر؟ فان قيل بداعي الامر بذات الصلاة
فهو خلاف الفرض، وان قيل بداعي الامر بالصلاة بداعي الامر فيقال بداعي الامر بالصلاة
بداعي الامر بأي شئ، فان قيل بداعي الامر بالذات لزم الخروج من الفرض وان قيل بداعي الامر
بالمقيد لزم التسلسل. ح ع
101

وبذلك يظهر تقرير التسلسل أيضا:
(بل يمكن ان يقال): ان المحذور في مثل داعى الحسن ونظائره أشد من المحذور
في داعى الامر، فان الاشكال في باب داعى الامر كان ممكن الدفع عندهم بالالتزام بوجود
امرين، تعلق أحدهما بذات الفعل والاخر باتيان الفعل بداعي الامر الأول كما سيأتي
بيانه، واما اشكال داعى الحسن وأمثاله فلا يدفع بذلك، وذلك لان الامر لما كان من
الأفعال الاختيارية للآمر كان لاحد أن يقول بصدور امرين عنه، تعلق أحدهما بأعم
مما يحصل الغرض أعني ذات الفعل، والاخر بما يساويه أعني المقيد بداعي الامر، ولكن
الحسن والمحبوبية انما يتحققان فيما يحصل الغرض ولا يعقل تحققهما في أعم منه.
(وقد تلخص مما ذكرنا) ان الوجوه التي ذكروها لامتناع اخذ قصد الامر في
المأمور به يرجع بعضها إلى الامتناع في مقام الامر وبعضها إلى الامتناع في مقام الامتثال،
وقد ظهر الجواب عن القسم الأول فعمدة الاشكال في الباب هي الاشكال في مرحلة الامتثال
وهو الحقيق بان يتصدى للجواب عنه.
(وقد تفصى) بعضهم عن الاشكال بالالتزام بوجود أمرين تعلق أحدهما بذات
الفعل، والآخر باتيانه بداعي الامر الأول. (وفيه) ان المفروض ان ذات الفعل لا تشتمل على
المصلحة والغرض، فالامر المتعلق بها امر صوري لا جدي و (ح) فكيف يتقرب بامتثاله
مع العلم بعدم كون متعلقه محبوبا للمولى.
(وقد تصدى في الدرر) لدفع الاشكال بوجهين آخرين (الأول) (ما حاصله) ان
المعتبر في العبادات ليس قصد إطاعة الامر، وانما المعتبر فهيا وقوع الفعل بنحو يصير مقربا
وهذا لا يتوقف على الامر، (بيان ذلك) ان الأفعال على قسمين (أحدهما) ما ليس للقصد دخل
في تحققه وصدقه عنوانه عليه بل لو صدر عن الغافل أيضا لصدق عليه عنوانه (وثانيهما) ما
يكون قوامه بالقصد كالتعظيم والإهانة وأمثالهما. ثم إنه لا اشكال في أن تعظيم المولى بما هو
اهل له وكذلك مدحه بما يليق به حسنان عقلا ومقربان إليه بالذات من غير احتياج في
مقربيتهما إلى الامر بهما، ولا اشكال أيضا في أن اختلاف خصوصيات المعظم والمعظم والمادح
والممدوح موجب لاختلافهما، فقد يكون تعظيم شخص بالسلام عليه، وقد يكون بتقبيل
102

يده، وقد يكون بغير ذلك، وقد يشك بالنسبة إلى بعض الموالى في أن التعظيم اللائق
بجنابه والمدح المناسب لشانه ماذا، و (ح) فنقول ان علم العبد بان التعظيم والمدح
اللائقين بجناب مولاه ماذا، فلا محالة يأتيهما ويصيران مقربين له من غير احتياج إلى الامر
بهما، واما إذا شك في أن أي فرد من افراد التعظيم يناسب مقامه فلا بد (ح) من الاعلام من
قبل المولى والامر بما يحصل به التعظيم والمدح، ولكن الامر انما هو لتشخيص ما
يحصل به التعظيم فقط لا لكون قصده دخيلا في حصول القرب بل القرب يحصل بصرف ايجاد الفعل
مع قصد عنوانه، فالصلاة مثلا وإن لم تكن ذوات أفعالها وأقوالها من دون إضافة قصد إليها
بمحبوبة ولا مجزية، ولكن من الممكن كون صدور هذه الهيئة المركبة من الحمد
والثناء والتهليل والتسبيح والخضوع والخشوع مقرونة بقصد نفس هذه العناوين محبوبا
للآمر ومناسبا لمقامه، غاية الامر قصور فهم الانسان عن ادراك ذلك أحوجه إلى امر المولى
بها بحيث لو كان عقله كاملا لم يحتج إلى الامر ابدا، وعلى هذا ففي عباديتها ومقربيتها لا
نحتاج إلى قصد الامر حتى يلزم المحذور.
(الوجه الثاني) (ما حاصله) ان ذوات الأفعال مقيدة بعدم صدورها عن الدواعي
النفسانية محبوبة عند المولى، وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمات: (الأولى) انه يمكن أن يكون
المعتبر في العبادة اتيان الفعل خاليا عن سائر الدواعي ومستندا إلى داعى الامر
بحيث يكون المطلوب هو المركب منهما. (الثانية) ان الامر الملحوظ فيه حال الغير
تارة يكون للغير وأخرى يكون غيريا، فالأول كالامر بالغسل قبل الفجر بلحاظ الصوم،
والثاني كالأوامر الغيرية المترشحة من الأوامر النفسية. (الثالثة) انه لا اشكال في أن القدرة شرط
في التكليف ولكنه يكفى حصولها بنفس الامر ولا يشترط ثبوتها سابقة عليه. (إذا عرفت
هذا فنقول): الفعل المقيد بعدم الدواعي النفسانية وثبوت الداعي الإلهي (الذي يكون موردا
للمصلحة الواقعية) وإن لم يكن قابلا لتعلق الامر به بملاحظة جزئه الأخير لكن من دون
ضم القيد الأخير فلا مانع منه. (ولا يرد) ان الفعل بدون ملاحظة تمام قيوده لا يتصف بالمطلوبية
(لأنا نقول) عرفت أنه قد يتعلق الطلب بما لا يكون مطلوبا في حد ذاته بل يكون تعلق
الطلب به لاجل ملاحظة الغير، والفعل المقيد بعدم الدواعي النفسانية وإن لم يكن تمام
103

المطلوب لكن لما لم يوجد في الخارج الا بداعي الامر، لعدم امكان خلو الفاعل المختار عن
كل داع، يصح تعلق الطلب به لاتحاده خارجا مع المطلوب الحقيقي، وليس هذا الامر
صوريا بل هو امر حقيقي، لما عرفت من اتحاد متعلقه في الخارج مع المطلوب الأصلي، نعم
يبقى اشكال عدم القدرة وقد عرفت أنه يكفى حصول القدرة بنفس الامر. (انتهى الوجهان
المذكوران في الدرر).
(وفي كليهما نظر اما الأول) فلان قصد عنوان الفعل ان كان كافيا بلا احتياج إلى
قصد حصول القربة كان حاصل ذلك عدم اشتراط قصد القربة في حصول العبادة وهذا
مخالف لضرورة الدين واجماع المسلمين، وإن لم يكن كافيا عاد محذور الدور.
(واما الثاني) فلان ما ذكر صرف تصوير في مقام الثبوت، ضرورة انه ليس لنا في واحد
من العبادات ما يستفاد منه اعتبار قيدين بحسب الواقع بنحو التركيب وتعلق الطلب
ظاهرا بالمقيد بعدم الدواعي النفسانية، بل الذي دل عليه الأدلة الشرعية هو لزوم
صدور الفعل عن داع الهى. (وبالجملة) ما ذكروه في مقام الجواب لا يغنى عن جوع
فالأولى ان نتعرض لما هو الحق في الجواب ويتوقف بيانه على ذكر مقدمات
(المقدمة الأولى) ما هو الداعي حقيقة إلى طاعة المولى واتيان ما امر به، امر قلبي
راسخ في نفس العبد يختلف بحسب تفاوت درجات العبيد واختلاف حالاتهم وملكاتهم،
فمنهم من رسخ في قلبه محبة المولى والعشق إليه وباعتبار ذلك يصدر عنه وعن جوارحه جميع
ما أحبه المولى وجميع ما أمر به. وبعضهم ممن وجد في قلبه ملكة الشكر وصار بحسب ذاته عبدا
شكورا وباعتبار هذه الملكة يصدر عنه إطاعة أوامر المولى لاجل كونها من مصاديق الشكر،
ومنهم من وجد في قلبه ملكة الخوف من عقاب المولى، أو ملكة الشوق إلى ثوابه ورضوانه،
أو رسخ في نفسه عظمة المولى وجلاله وكبريائه فصار مقهورا في جنب عظمته وباعتبار
هذه الملكة القلبية صار مطيعا لأوامر مولاه.
(وبالجملة) ما يصير داعيا للعبد ومحركا إياه نحو إطاعة المولى هو احدى هذه الملكات
الخمسة النفسانية وغيرها من الملكات الراسخة، وعلى هذا فما اشتهر من تسمية الامر
الصادر عن المولى داعيا فاسد جدا، ضرورة ان صرف الامر لا يصير داعيا ومحركا للعبد
104

ما لم يوجد في نفسه احدى الدواعي الخمسة المذكورة أو غيرها من الدواعي القلبية
المقتضية للإطاعة كما يشاهد ذلك في الكفار والعصاة. (نعم) هنا شئ آخر وهو انه
بعد أن ثبت للعبد احدى الملكات القلبية المقتضية لإطاعة المولى وصار نفسه باعتبار ذلك
منتظرا لصدور الامر عن المولى حتى يوافقه ويمتثله، يكون لصدور الامر عن المولى أيضا
دخالة في تحقق الإطاعة والموافقة، فإنه المحقق لموضوع الطاعة ويصير بمنزلة الصغرى
لتلك الكبريات فالداعي حالة بسيطة موجودة في النفس مقتضية للإطاعة بنحو الاجمال والامر
محقق لموضوعها وموجب لتحريك الداعي القلبي وتأثيره في تحقق متعلقه، وما هو الملاك في
عبادية العمل ومقربيته إلى ساحة المولى هو صدوره عن احدى هذه الدواعي والملكات
الحسنة، وليس للامر بما هو امر تأثير في مقربية العمل أصلا فان المحقق لعبادية العمل
هو صدوره عن داع الهى قد عرفت أن ما هو الداعي حقيقة عبارة عن الملكة القلبية، نعم يمكن
بنحو المسامحة تسمية الامر أيضا داعيا من جهة دخالته في تحقق الطاعة عمن وجد في
نفسه احدى الملكات القلبية وما ذكرنا واضح لمن له أدنى تأمل. (1)
(المقدمة الثانية) لا اشكال في أن الامر المتعلق بشئ كما يكون داعيا إلى ايجاد
نفس ذلك الشئ كذلك يكون داعيا إلى ايجاد اجزائه الخارجية والعقلية ومقدماته الخارجية
فان العبد الذي وجد في نفسه احدى الدواعي القلبية التي أشرنا إليها وصار باعتبار ذلك

(1) أقول الظاهر أن داعى الفعل عبارة عن علته الغائية سواء كانت غاية نهائية محبوبة
بالذات أو كانت غاية متوسطة واقعة في سلسلة العلل لما هو محبوب بالذات، وبعبارة
أخرى الداعي عبارة عما يتأخر عن الفعل بحسب الوجود ويتقدم عليه بحسب التصور بحيث
يتولد من ارادته إرادة الفعل ولا فرق في ذلك بين أن يكون الغاية موجودة بوجود مستقل ممتاز من
ذي الغاية أو تكون امرا انتزاعيا موجودا بنفس وجوده، وعلى الأول فلا فرق أيضا بين ان
تكون من المسببات التوليدية التي لا تتوسط الإرادة بينها وبين أسبابها وبين أن لا تكون
كذلك (ومما ذكرنا يظهر) ان في عد الملكات النفسانية دواعي للأفعال نحو مسامحة
فان حب المولى أو الشوق إلى ثوابه أو الخوف من عقابه مثلا ليس علة غائية بل الذي يترتب
على العمل هو حصول محبوب المولى أو حصول ثوابه أو التخلص من عقابه ونحو ذلك، غاية
الأمران الأول امر ينتزع عن نفس العمل وقد عرفت أنه لا فرق في الداعي بين كونه موجودا
بوجود مستقل وبين غيره وما اشتهر بينهم من عد الامر داعيا فلعل مرادهم من ذلك جعل
عنوان موافقة الامر داعيا وهي عنوان ينتزع عن الفعل الخارجي ويصح عدها غاية له. ح ع.
105

بصدد إطاعة أوامر المولى، كما يوجد متعلق الامر بداعي الامر المتعلق به بالمعنى الذي
يتصور لداعوية الامر، كذلك يوجد مقدماته بنفس هذا الداعي من دون ان ينتظر في ذلك
تعلق امر بها على حدة، ويكفى في عباديتها ومقربيتها أيضا قصد إطاعة الامر المتعلق بذيها
لكونها في طريق إطاعة الامر المتعلق به، ولا نحتاج في عبادية الاجزاء والمقدمات إلى
تعلق امر نفسي أو غيرى بها، فان لم نقل بوجوب المقدمة تبعا لذيها ولم يتعلق بها امر نفسي
أيضا، لكفى في عباديتها قصد الامر المتعلق بذيها، بل لو قلنا بوجوب المقدمة وتعلق
امر غيرى بها أمكن ان يقال أيضا بعدم كفاية قصده في عبادية متعلقه لعدم كونه امرا
حقيقيا بل هو نحو من الامر يساوق وجوده العدم.
(والحاصل) ان ما اشتهر من أن الامر لا يدعو الا إلى متعلقه فاسد فان الامر كما
يدعو إلى متعلقه يدعو إلى جميع ما يتوقف عليه المتعلق أيضا، والمحقق لعباديتها و
مقربيتها أيضا نفس الامر المتعلق بذيها، والسر في ذلك أن الداعي الحقيقي على ما
عرفت ليس عبارة عن الامر، بل هو عبارة عن الملكة الراسخة النفسانية الداعية إلى الطاعة
بنحو الاجمال، والامر محقق لموضوعها من جهة انها تتوقف على وجود الامر خارجا،
(و ح) فإذا صدر الامر عن المولى متعلقا بشئ له مقدمات فذلك الداعي القلبي بوحدته
وبساطته يوجب تحرك عضلات العبد نحو ايجاد متعلق الامر بجميع ما يتوقف عليه، و
كل ما صدر عن احدى هذه الملكات الحسنة فهو مما يقرب العبد إلى ساحة المولى من
غير فرق في ذلك بين نفس متعلق الامر وبين اجزائه ومقدماته الوجودية والعلمية،
(المقدمة الثالثة) ان دخالة شئ في المأمور به على انحاء، (فتارة) من جهة انه اخذ
فيه بنحو الجزئية، (وأخرى) من جهة اخذه بنحو القيدية بحيث يكون التقيد داخلا والقيد
خارجا، (وثالثة) من جهة دخالته في انطباق عنوان المأمور به على معنونه بان يكون
المأمور به عنوانا بسيطا ينطبق على مجموع أمور متشتتة، ويكون هذا الشئ دخيلا
في انطباق هذا العنوان البسيط على هذه الأمور بحيث لولاه لم ينطبق عليها، وبعبارة أخرى
يكون هذا الشئ من مقدماته الوجودية، (إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم) انا نذكر في المقام
جملة من كلام شيخنا الاستاد صاحب الكفاية (طاب ثراه) ثم نذيله بما هو الحق المحق
106

في المسألة (قال " قده ") في المقام ما هذا لفظه، وتوهم امكان تعلق الامر بفعل الصلاة
بداعي الامر، وامكان الاتيان بها بهذا الداعي ضرورة امكان تصور الامر بها مقيدة والتمكن
من اتيانها كذلك بعد تعلق الامر بها، والمعتبر من القدرة المعتبرة عقلا في صحة الامر انما
هو في حال الامتثال لا حال الامر، واضح الفساد ضرورة انه وان كان تصورها كذلك بمكان
من الامكان الا انه لا يكاد يمكن الاتيان بها بداعي امرها العدم الامر بها فان الامر حسب الفرض
تعلق بها مقيدة بداعي الامر ولا يكاد يدعو الامر الا إلى ما تعلق به لا إلى غيره.
(ان قلت) نعم ولكن نفس الصلاة أيضا صارت مأمورا بها بالأمر بها مقيدة. (قلت)
كلا لان ذات المقيد لا يكون مأمورا بها فان الجزء التحليلي العقلي لا يتصف بالوجوب
أصلا فإنه ليس إلا وجود واحد واجب بالوجوب النفسي كما ربما يأتي في باب المقدمة.
(ان قلت) نعم لكنه إذا اخذ قصد الامتثال شرطا، واما إذا اخذ شطرا فلا محالة نفس
الفعل الذي تعلق الوجوب به مع هذا القصد يكون متعلقا للوجوب إذ المركب ليس إلا نفس
الاجزاء بالاسر ويكون تعلقه بكل، بعين تعلقه بالكل ويصح ان يؤتى به بداعي ذلك
الوجوب ضرورة صحة الاتيان باجزاء الواجب بداعي وجوبه (قلت) مع امتناع اعتباره
كذلك فإنه يوجب تعلق الوجوب بامر غير اختياري فان الفعل وان كان بالإرادة اختياريا
الا ان ارادته حيث لا تكون بإرادة أخرى والا لتسلسلت ليست باختيارية كما لا يخفى،
انما يصح الاتيان بجزء الواجب بداعي وجوبه في ضمن اتيانه بهذا الداعي، ولا يكاد يمكن
الاتيان بالمركب عن قصد الامتثال بداعي امتثال امره، (انتهى ما أردنا نقله من كلامه قده).
(أقول): نحن لا نحتاج في ايجاد الصلاة بداعي الامر إلى تعلق امر بذات الصلاة كما هو
محط نظره (قده) بل نفس الامر بالمقيد يدعوا إليها أيضا، ويكفى أيضا في مقربيتها وعباديتها
اتيانها بداعي هذا الامر، وذلك لما عرفت في المقدمة الثانية من انه يكفى في عبادية الاجزاء
التحليلية والخارجية والمقدمات الوجودية والعلمية، اتيانها بداعي الامر المتعلق بالكل
وبذي المقدمة وقوله لا يكاد يدعو الامر الا إلى ما تعلق به لا إلى غيره واضح الفساد، فان الامر
كما يكون داعيا إلى نفس متعلقه كذلك يكون داعيا إلى كل ماله دخل في تحققه من غير احتياج
في مدعويتها للامر إلى تعلق امر بها على حدة، ففيما نحن فيه بعد ما وجد في نفس المكلف احدى
107

الدواعي القلبية التي أشرنا إليها وصار باعتبار ذلك بصدد موافقة أوامر المولى وإطاعتها بأي
نحو كان إذا حصل له العلم بان مطلوب المولى وما امر به عبارة عن طبيعة الصلاة المقيدة بداعي
الامر مثلا فلا محالة يصير بصدد تحصيلها في الخارج بأي نحو اتفق، وحينئذ فإذا لاحظ ان اتيان
ذات الصلاة بداعي الامر (المتعلق بها مقيدة بداعي الامر)، يلازم في الخارج حصول هذا
القيد الذي لا يعقل داعوية الامر إليه أيضا، فلا محالة ينقدح في نفسه إرادة اتيان ذات
الصلاة ويتحقق بذلك المأمور به بجميع اجزائه وشرائطه إذ الفرض تحقق الصلاة
بداعوية الامر وتحقق قيدها أعني الداعوية قهرا (فان قلت) اتيان الاجزاء بداعي الامر
المتعلق بالكل انما يتمشى فيما إذا كان المكلف بصدد اتيان الكل وكان دعوة الامر إليها في
ضمن دعوته إليه، وفيما نحن فيه ليس كذلك فان داعوية الامر أيضا أحد من الاجزاء
ولا يعقل كون الامر داعيا إلى داعوية نفسه (قلت) هذا إذا لم يكن بعض الاجزاء حاصلا
بنفسه وكان حصول كل منها متوقفا على دعوة الامر إليه، واما إذا كان بعضها حاصلا بنفسه
ولم نحتج في حصوله إلى دعوة الامر بل كان دعوته إليه من قبيل الدعوة إلى تحصيل الحاصل
فلا محالة يختص داعوية الامر بساير الاجزاء ويتحقق الواجب بجميع ما يعتبر فيه، مثلا
ان تعلق الامر بالصلاة المقيدة، بكون المصلى مستترا ومتطهرا ومتوجها إلى القبلة فدعوته
إلى ايجاد هذه القيود تتوقف على عدم حصولها للمكلف بأنفسها، واما إذا كانت حاصلة له
من غير جهة الامر فلا يبقى مورد لدعوة الامر بالنسبة إليها، ولا محالة ينحصر دعوته
فيما لم يحصل بعد من الأجزاء والشرائط، ففيما نحن فيه أيضا قيد التقرب وداعوية الامر
يحصل بنفس اتيان الذات بداعي الامر فلا نحتاج في تحققه إلى دعوة الامر إليه حتى يلزم الاشكال
(والحاصل) ان كل ما كان من الأجزاء والشرائط حاصلا قبل داعوية الامر إليه أو
يحصل بنفس داعويته إلى سائر الاجزاء فهو مما لا يحتاج في حصوله إلى دعوة الامر إليه ولا
محالة ينحصر دعوته في غيره. (ان قلت) بعد اللتيا واللتي فاشكال الدور الوارد في مقام الامتثال
بحاله، فان داعوية الامر تتوقف على كون المدعو إليه منطبقا لعنوان المأمور به ومصداقا
له، والمفروض فيما نحن فيه أن مصداقيته للمأمور به أيضا تتوقف على داعوية الامر إليه
(قلت اما أولا) فلا يعتبر في داعوية الامر كون المدعو إليه قبل الداعوية منطبقا لعنوان
108

المأمور به، وانما المعتبر فيها هو كونه منطبقا له ولو بعد داعوية الامر، وهيهنا كذلك
اما بناء على قيدية داعوية الامر فواضح، فان وجود المقيد بعين وجود المطلق الذي في ضمنه،
وعلى هذا فنفس المدعو إليه يصير منطبقا لعنوان المأمور به، واما بناء على جزئيتها فلا اشكال
أيضا فان المدعو إليه (ح) وإن لم يكن عين المأمور به وجودا، ولكنه يلازمه في الوجود كما
عرفت (واما ثانيا) فانا لا نسلم كون داعوية الامر متوقفة على كون المدعو إليه منطبقا لعنوان
المأمور به ولو بعد الداعوية أيضا لما عرفت من أن الامر كما يدعو إلى المتعلق يدعو أيضا إلى كل
ما له دخل في وجوده وتحققه، وإذا كان المأمور به شيئا لا يمكن دعوة الامر إليه بجميع اجزائه
وقيوده كما فيما نحن فيه ولكن كان دعوة الامر إلى بعض اجزائه واتيانه بهذا الداعي ملازما
لتحصل المأمور به بجميع ما يعتبر فيه، فلا محالة يصير الامر المتعلق بالكل داعيا إلى
ما يمكن دعوته إليه من الاجزاء.
(والحاصل) ان كل واحد من المكلفين بعد ما وجد ى نفسه احدى الدواعي و
الملكات القلبية المقتضية لا طاعة المولى وموافقته وصار باعتبار ذلك متهيئا منتظر الصدور
امر من قبل مولاه حتى يمتثله، إذا عثر على أمر المولى بالصلاة بداعي الامر مثلا فلا محالة
يصير بصدد ايجاد متعلقة في الخارج بأي نحو كان، و (ح) فإذا رأى أن ايجاد الاجزاء التي
يمكن دعوة الامر إليها في الخارج بداعوية الامر المتعلق بالكل يلازم وجود المأمور
به بجميع اجزائه وشرائطه قهرا، فلا محالة ينقدح في نفسه إرادة اتيان هذه الاجزاء ويصير
الامر بالكل داعيا إليها، وباتيانها يتحقق الامتثال والقرب إلى المولى أيضا فان الملاك
في المقربية على ما عرفت هو استناد الفعل إلى الملكات والدواعي القلبية التي أشرنا إليها
في المقدمة الأولى، والمفروض فيما نحن فيه اتيان الاجزاء بإرادة متولدة من إرادة موافقة
المولى المتولدة من احدى الدواعي القلبية التي أشرنا إليها فتدبر.
(وقد ظهر لك مما ذكرنا) ما هو الحق في الجواب عن اشكال الباب بناء على كون
قصد الامر جزء للمأمور به أو قيدا له، وتبين لك أيضا فساد كلام المحقق الخراساني. (ثم إن)
فيما ذكره أخيرا من عدم اختيارية الإرادة لايجابها التسلسل، أيضا ما لا يخفى، فان اختيارية
109

كل فعل بالإرادة واختيارية الإرادة بنفسها، (1)
(مضافا) إلى أن الإرادة لو كانت غير اختيارية وكان هذا مانعا من جعلها جزء وشطرا
كان مانعا من شرطيتها أيضا فلم خص الاشكال بصورة جزئيتها، بل يرد عليه ان الاشكال بعينه وارد
أيضا بناء على تعلق الامر بنفس الصلاة وعدم سقوط الغرض الا باتيانها بقصد الامتثال كما
هو مبناه (قده) فان قصد الامتثال إذا كان غير اختياري، لا يمكن أن يكون تحصيل الغرض
المتوقف عليه واجبا للزوم إناطة الامتثال بامر غير اختياري. (ثم إن) الجواب المذكور
كما عرفت انما هو بناء على جزئية قصد الامر أو قيديته.
(ويمكن ان يجاب عن الاشكال أيضا) ببيان آخر وعليه لا يكون قصد الامتثال جزء
ولا قيدا، وذلك بناء على عدم كون مثل الصلاة ونحوها أمورا مركبة
(توضيح ذلك أنه يمكن ان يقال) ان الصلاة مثلا اسم لمجموع الاجزاء المتشتتة
الملحوظة بلحاظ واحد، وقد امر بها الشارع متقيدة بقيود معينة مثل الطهارة
ونحوها، وعليه فيكون الجواب عن الاشكال بتقريب مر بيانه (ويمكن ان يقال)
أيضا كما هو الأظهر: ان الصلاة مثلا عنوان انتزاعي بسيط ينتزع عن الأمور المتشتتة
التي أولها الكبير وآخرها التسليم ويكون انطباق هذا العنوان البسيط على معنونه (أعني
هذه المتشتتات) متوقفا بحسب الواقع على وجود أمور نسميها بالشرائط وفقد أمور نسميها
بالموانع، غاية الامر ان الشارع قد كشف عن هذا المعنى وأمر بايجاد هذا الامر البسيط وعلي هذا
فليس مثل التكبير مثلا جزء لنفس الصلاة إذا المفروض بساطتها فهو جزء للمعنون لا للعنوان الذي
امر به الشارع، وليس أيضا مثل الطهارة قيدا شرعيا بان يكون المأمور به عبارة عن الصلاة
المقيدة بها إذا المفروض كونها دخيلة في انطباق عنوان الصلاة على معنونها فهي من مقدماتها
الوجودية الواقعية التي كشف عنها الشارع لا من القيود المأخوذة في الواجب، وعلى هذا
الفرض فمن جمله شروط الصلاة أيضا قصد القربة فهو ليس جزء للواجب إذا الفروض
بساطته ولا شرطا شرعيا بمعنى كونه قيدا للواجب، بل هو شرط لانطباق العنوان المأمور به

(1) أقول لا معنى لاختيارية الإرادة وكون إراديتها بنفسها، فان معنى اختيارية الفعل كون
اختيار الفاعل وإرادته علة لحصوله ولا يعقل كون الإرادة علة لنفسها (نعم) هي إرادة بالحمل
الأول ولكن لا يكفى ذاتها في تحققها والا لكانت واجبة الوجود. ح - ع
110

على معنونه، وبعبارة أخرى من المقدمات العقلية الواقعية لوجود المأمور به غاية الامر
انه كشف عنها الشارع بحيث لو كان العقل محيطا بالواقعيات لم يكن احتياج إلى بيان
الشارع، بل كان العقل يرى بنفسه توقف المأمور به في تحققه على هذا الشرط العقلي، وعلى
هذا فعنوان الصلاة ينطبق على ذوات الاجزاء التي أولها التكبير وآخرها التسليم وليس
قصد القربة جزء من المعنون أصلا، والامر انما يدعو إلى ايجاد هذا الامر البسيط الانتزاعي
الذي يكون متعلقا له غاية الامر ان دعوته إلى ايجاد هذا الامر البسيط بعينها دعوة إلى
ايجاد معنونه ومصداقه، فينقدح في نفس الفاعل إرادة ايجاد المعنون بداعي حصول المأمور
به وبهذه الدعوة يتحقق شرط الانطباق أيضا فتدبر. (وقد تلخص مما ذكرناه) امكان
اخذ قصد القربة في المأمور به، (ح) فإذا شك في التعبدية والتوصلية فمقتضى الاطلاق هو
التوصلية وحكمه في الأصل العملي أيضا حكم سائر موارد الأقل والأكثر والحق جريان
البراءة فيها كما يأتي في محله.
* (المبحث السادس في المرة والتكرار) *
الحق ان صيغة الامر لا تدل على المرة ولا التكرار سواء فسرا بالفرد والافراد أو بالدفعة
والدفعات وقد ذكر صاحب الفصول احتمالات في تفسيرهما لا مجال لذكرها فراجع،
ووجه عدم الدلالة على واحد منهما ظاهر فان الطلب الذي هو مدلول الامر يتعلق بنفس
الطبيعة اللا بشرط بالنسبة إلى جميع القيود وهي تجتمع مع الف شرط، نعم الافراد الطولية
لا تقع بأجمعها مصاديق للامتثال لحصول الطبيعة بالأول منها فيسقط الامر قهرا،
واما الافراد العرضية فهل تصير بمجموعها امتثالا واحدا، أو يكون كل منها فراد مستقلا
للامتثال أو هو تابع لقصد الممتثل؟ فيه أقوال ثلثة.
وما يمكن ان يوجه به القول الأول هو ان الامر يتعلق بنفس الطبيعة، والخصوصيات
الفردية وجهات الامتياز الموجودة في الافراد كلها خارجة من متعلق التكليف، فما هو
المصداق للامتثال فيما نحن فيه هو الطبيعة الجامعة للأفراد المعراة عن جميع الخصوصيات
الفردية وهي امر واحد، وفيه أن الطبيعة الموجودة في الخارج تتكثر بتكثر افرادها
111

لكونها امرا لا يأبى الوحدة ولا الكثرة، والقول بكون الطبيعة الموجودة في الخارج
موجودة بوجود وحداني وان تكثرت افرادها ضعيف في الغاية (واما القول الثالث)
فقد اختاره شيخنا الاستاد المحقق الخراساني ولكنه بحسب الظاهر لا وجه له فأظهر
الأقوال هو القول الثاني. (ثم إن) الفور والتراخي أيضا مثل المرة والتكرار في عدم
دلالة الامر على واحد منهما فافهم.
((الفصل الثاني في الاجزاء)
وقد عنونوا المسألة بوجوه ثلث (الأول) ما في كلام بعضهم وهو ان لامر يقتضى
الاجزاء أم لا؟ (الثاني) ما ذكره بعض آخر وهو ان الاتيان بالمأمور به يقتضى الاجزاء أم لا؟
(الثالث) ما في الكفاية وهو ان الاتيان بالمأمور به على وجهه يقتضى الاجزاء.
(والمراد) بلفظ الاجزاء معناه اللغوي أعني الكفاية كما في الكفاية، ولازمها اسقاط
التعبد والقضاء. (والمقصود) من الاقتضاء في العنوان الأول هو الدلالة والكشف لا العلية
لعدم كون الامر بنفسه علة للاجزاء كما هو واضح. والمقصود منه في العنوانين الأخيرين
هو العلية، إذ الاتيان علة السقوط الامر بل نفسه. واما قيد (على وجهه) فقد ذكر في الكفاية
ان ذكره انما يكون لشموله الكيفيات المعتبرة في المأمور به شرعا أو عقلا مثل قصد القربة
على ما اختاره من عدم امكان اخذه في المأمور به، لا خصوص الكيفيات المعتبرة
شرعا فقط وإلا لكان القيد توضيحا.
(وفيه) ان ما ذكرت من عدم امكان اخذ قصد القربة في المأمور به كلام حدث من
زمن الشيخ الأنصاري (قدس سره)، وزيادة قيد على وجهه في العنوان سابقة على زمنه،
فليس ازدياده في العنوان لشمول مثل القربة ونحوها. ولعل ازدياده فيه انما هو لرد عبد
الجبار (قاضي القضاة في الري من قبل الديالمة)، حيث استشكل على الاجزاء بما إذا
صلى مع الطهارة المستصحبة ثم انكشف كونه محدثا فان صلاته باطلة غير مجزية مع
امتثاله الامر استصحابي. (ووجه رده بذلك) ان المأمور به في هذا المثال لم يؤت به على

(1) لعله (قده) اختار هذا القول في أثناء درسه والا فلم نجده في الكفاية ح - ع
112

وجهه، من جهة ان الطهارة الحدثية بوجودها الواقعي شرط.
(ثم إنه) ذكر في الكفاية (ما حاصله) ان الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار
هو ان البحث في هذه المسألة في أن اتيان المأمور به بعد ثبوت كونه مأمورا به يجزى
عقلا أم لا؟ وفي تلك المسألة في تعيين ما هو المأمور به شرعا حتى يترتب عليه الاجزاء عقلا
(وان الفرق) بينها وبين مسألة تبعية القضاء للأداء هو ان البحث في مسألة التبعية في
دلالة الصيغة على التبعية وعدمها وفيما نحن فيه في كون اتيان المأمور به مجزيا عقلا أم لا (انتهى).
(أقول): لا ينقضى تعجبي من مقايسة مسألة التبعية مع ما نحن فيه، إذ بينهما بون
بعيد (1) حيث إن النزاع في مسألة التبعية انما هو فيما إذا لم يأت المكلف ما هو مأمور به،
وفيما نحن فيه فيما إذا اتاه فينازع في اسقاطه التعبد به ثانيا في الوقت أو في خارجه.
(ثم إنه) (قدس سره) ذكر (ما حاصله بتوضيح منا): ان البحث في المسألة في موضعين
(الموضع الأول) ان امتثال كل امر يجزى عن التعبد بهذا الامر ثانيا، فامتثال الامر
الواقعي يجزى عن نفسه، وكذلك امتثال الامر الاضطراري يجزى عن نفسه، وكذا
الظاهري أيضا، لاستقلال العقل بأنه لا يبقى مجال لموافقة الامر واتيان المأمور به
بعد موافقته واتيانه.
(نعم) لا يبعد ان يقال ان للعبد تبديل الامتثال (2) فيما لم يكن امتثاله علة تامة

(1) يمكن ان يقال، ان عمدة النظر في بحث الاجزاء، هو اثبات اجزاء امتثال الامر
الاضطراري أو الظاهري عن الامر الواقعي فينازع في سقوط الامر الواقعي وعدم سقوطه.
مع أن المكلف لم يأت ما هو المأمور به بهذا الامر فليس بين المسألتين بون بعيد ح - ع
(2) أقول: تبديل الامتثال بعد حصوله امر غير معقول، إذ الاتيان بفرد
الطبيعة المأمور بها موجب لسقوطه قهرا، وفيما ذكره من المثال لم يحصل الامتثال حتى
يبدله على فرض، ولم يمكن تبديله على فرض آخر، فان امر المولى عبده باتيان الماء
اما أن يكون الغرض منه هو التمكن من الشرب فقد حصل بنفس الاتيان فلا يعقل
تبديل الامتثال، نعم إراقة الماء موجبة لتفويت الغرض الذي قد حصل بالامتثال الأول و
مولدة لامر اخر.
واما أن يكون الغرض منه رفع عطش المولى فالامتثال لم يحصل بصرف اتيان الماء حتى
يبدله، إذ المأمور به حينئذ ليس نفس الاتيان بالماء بل ايجاد كل ما هو في اختيار العبد
من مقدمات رفع عطش المولى أعني اتيان الماء، وابقائه إلى زمن شرب المولى إياه
فما لم يشربه المولى لم يحصل الامتثال وكان للعبد إراقة الماء وتبديله، ولكن ليس
هذا تبديلا للامتثال. ح - ع
113

لحصول الغرض، كما لو أتى بماء امر به مولاه ليشربه فلم يشربه بعد.
(الموضع الثاني) في اجزاء امتثال امر عن امر آخر، وفيه مقامان.
(المقام الأول) في أن اتيان المأمور به بالأمر الاضطراري يجزى عن اتيان المأمور
به بالأمر الواقعي الأولى بعد رفع الاضطرار في الوقت أو في خارجه أو لا يجزى؟
(المقام الثاني) في أن اتيان المأمور به بالأمر الظاهري يجزى عن اتيان المأمور به
بالأمر الواقعي بعد كشف الخلاف أو لا يجزى؟
(اما المقام الأول) فالبحث فيه تارة في مقام الثبوت وأخرى في مقام الاثبات، اما في
مقام الثبوت فالفروض المتصورة أربعة، إذ التكليف الاضطراري اما أن يكون وافيا بتمام
المصلحة والغرض من الامر الأولى أو لا يكون وافيا بها بل يبقى منها شئ أمكن استيفائه أو
لم يمكن وما أمكن كان بمقدار يجب استيفائه أو بمقدار يستحب.
ولازم الجميع هو الاجزاء الا في الصورة الثالثة، ومقتضى الصورة الثانية عدم
جواز تسويغ البدار لما فيه من نقض الغرض وتفويت مقدار من المصلحة، كما أنه
لا مانع من تسويغه في الصورتين الأخيرتين. واما الصورة الأولى فتسويغ البدار فيها
يدور مدار كون العمل الاضطراري بمجرد طرو الاضطرار وافيا بغرض الامر الأولى أو بشرط
الانتظار أو مع اليأس من طرو الاختيار. (واما في مقام الاثبات) فإن كان لدليل الامر
الاضطراري اطلاق يدل على أن مطلق الاضطرار ولو في بعض الوقت يكفى لتعلق
التكليف الاضطراري مثل قوله تعالى (فان لم تجدوا ماء الآية) فالظاهر هو الاجزاء وإن لم
يكن هنا اطلاق فالأصل يقتضى البراءة من ايجاب الإعادة لكونه شكا في أصل التكليف (انتهى).
(أقول): مراجعة التكاليف الاضطرارية الثابتة في شريعتنا ترشدك إلى أن
ما ذكره (طاب ثراه) لا يرتبط أصلا بما هو الثابت من التكاليف الاضطرارية، لكون ما
ذكره مبتنيا على أن يكون لنا امران مستقلان: أحدهما واقعي أولى والاخر اضطراري
114

ثانوي، فينازع حينئذ في كفاية امتثال أحدهما عن امتثال الاخر، مع أن الامر في التكاليف
الاضطرارية ليس كذلك، على أنه لو كان الامر كذلك لم يكن معنى لكفاية امتثال امر
عن امر آخر، إذ كل امر وتكليف يقتضى امتثالا على حدة، وانما المتحقق في التكاليف
الاضطرارية الثابتة في شرعنا ان يتوجه امر واحد من الشارع متعلقا بطبيعة واحدة مثل
الصلاة متوجها إلى جميع المكلفين غاية الامر ان الأدلة الشرعية دلت على اختلاف افراد
هذه الطبيعة باختلاف الحالات الطارية على المكلفين، وان كل واحد منهم قد وجب عليه
ايجاد هذه الطبيعة في ضمن ما هو فرد لها بحسب حاله، مثلا الأدلة الشرعية دلت على أن
الناس كلهم من القادر والعاجز والصحيح والسقيم وواجد الماء وفاقده مكلفون باتيان
الصلوات الخمس في أوقاتها ومندرجون تحت قوله تعالى (أقيموا الصلاة)، وما وجب على
كل واحد منهم في هذا المقام هو ايجاد طبيعة الصلاة لا غير.
غاية الامر دلالة الأدلة الاخر على أن الصلاة في حق واجد الماء مثلا عبارة عن الأفعال
المخصوصة مقرونة بالطهارة المائية، وان الصلاة في حق فاقده عبارة عن هذه الأفعال
مقرونة بالطهارة الترابية، وكذلك الصلاة في حق القادر على القيام مشروطة بالقيام وفي
حق العاجز عنه مشروطة بالعقود مثلا.
وبالجملة المستفاد من الأدلة ان فاقد الماء أيضا مثل واجده في أن المتوجه إليه امر
واحد، وهو قوله (أقيموا الصلاة) ولم يتوجه إليه امران (واقعي أولى وواقعي ثانوي) حتى
ينازع في كفاية امتثال أحدهما عن الاخر، ولم يكلف أيضا بايجاد فردين من طبيعة
واحدة حتى نبحث في كفاية الفرد الاضطراري عن الفرد الاختياري، بل الذي وجب
عليه هو ايجاد طبيعة الصلاة المأمور بها بايجاد فرد منها.
غاية ما في الباب ان فرد الصلاة بالنسبة إلى الفاقد هو الصلاة مع التيمم كما أن الصلاة
في حال العقود أو الاضطجاع أو المشي أو الركوب أيضا فرد للطبيعة المأمور بها بقوله:
(أقيموا الصلاة) ولكن بالنسبة إلى العاجز عن القيام أو عنه وعن القعود أو عن الاستقرار.
وعلي هذا فإذا أتى كل واحد من المكلفين ما هو مقتضى وظيفته فقد أوجد الطبيعة
المأمور بها وامتثل قوله (تعالى) (أقيموا الصلاة) ولازم ذلك هو الاجزاء وسقوط الامر قهرا
115

إذ لا يعقل بقاء الامر بعد اتيان متعلقه.
وما توهم من كون لفظ الصلاة مثلا موضوعا في الشرع لصلاة الكامل المختار، و
كون صلوات المضطرين ابدالا لها جعلها الله ابدا لا ما دام الاضطرار، ولازم ذلك وجوب
قضاء ما فات بعد زوال الاضطرار، واضح البطلان لمن راجع الاخبار والقرآن، لظهورها
بل صراحتها في أن ما كلف به المضطر أيضا فرد من الصلاة المأمور بها بقوله (أقيموا الصلاة)
لا انه ليس فردا منها وجعل بدلا منها، فانظر إلى قوله (تعالى) في سورة المائدة (آية 8 و 9)
حتى يظهر لك صحة ما قلناه قال (تبارك اسمه) يا ايها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا
وجوهكم وأيديكم إلى المرافق (إلى أن قال) فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا (الآية).
فالآية سبقت لبيان ما به يحصل الطهارة التي هي من شرائط طبيعة الصلاة التي امر بها
كل واحد من افراد الناس، وقد بين فيها اختلاف ما هو المحصل لها باختلاف حالات المكلفين.
فصلوة واجد الماء وفاقده كلتاهما من افراد طبيعة الصلاة الا انها بالنسبة إلى الأول مشروطة
بالطهارة المائية، وبالنسبة إلى الثاني مشروطة بالطهارة الترابية (واللام) في قوله
(إذا قمتم إلى الصلاة) قد أشير بها إلى تلك الطبيعة المعدة من ضروريات الدين المكلف بها كل
واحد من افراد الناس.
(ونظير) هذه الآية (آية 239 و 240 من سورة البقرة) قال عز من قائل: حافظوا
على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين فان خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم
فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون.
(والحاصل) ان كل واحد من المكلفين من المختار والمضطر بأقسامه لم يكلف الا
بايجاد طبيعة الصلاة وإذا أوجدها سقط الامر المتعلق بها قهرا، الا ان الطبيعة المأمور
بها طبيعة مجهولة لا تتعين الا بتعيين شارعها، وقد قامت الأدلة الشرعية على أن صلاة
المختار هكذا وصلاة المضطر هكذا، وما وجب على كل مكلف انما هو اتيان ما هو
فرد للصلاة بحسب حاله وباتيانه يسقط الامر بالصلاة قهرا ولم يتوجه إلى المضطر امران
حتى يقع البحث في كفاية امتثال أحدهما عن الاخر (1) ولو فرض ان المتوجه إليه امران

(1) ربما يقال: ان الأدلة الدالة على التكاليف الاضطرارية لا تقيد الأدلة الدالة على التكاليف الأولية بان تخصها بصورة الاختيار لعدم المنافات بينهما لامكان أن يكون المضطر
مكلفا بتكليفين وان كانا متعلقين بفردين من طبيعة واحدة.
غاية الامر انه لما كانت القدرة من الشرائط العقلية لفعلية التكاليف، كان التكليف الأولى
بالنسبة إلى المضطر في زمن اضطراره غير فعلى، فإذا ارتفع الاضطرار ارتفع مانع الفعلية
فأثر التكليف الأولى اثره. ح - ع
116

فالاجزاء غير متصور لاقتضاء كل امر امتثالا على حدة.
(نعم) يمكن أن يكون الموضوع لفردية الصلاة الاضطرارية هو الاضطرار في جميع
الوقت، فلا يجزى حينئذ الصلاة المأتي بها مع التيمم مثلا في أول الوقت ان زال الاضطرار
في آخره، ولكن لا من جهة عدم اجزاء امتثال الامر الاضطراري بل من جهة عدم اتيان
المأمور به، إذ الفرض توقف فردية الصلاة مع التيمم لطبيعة الصلاة المأمور بها على
الاضطرار في جميع الوقت لا مطلق الاضطرار.
(وبالجملة) ما هو الموضوع لوجوب الصلاة مع التيمم مثلا اما أن يكون مطلق
الاضطرار، واما أن يكون الاضطرار في جميع الوقت، فإن كان مطلق الاضطرار فالمأتي
به في أول الوقت أيضا فرد للطبيعة وقد أتى به فسقط امرها ولا معنى لامتثاله ثانيا، وان كان
الاضطرار في جميع الوقت فالمأتي به في اوله ليس فردا للصلاة لعدم تحقق موضوعه، لا انه
فرد من افرادها ومع ذلك لا يجزى، وعدم جواز البدار في هذه الصورة مع احتمال بقاء
الاضطرار إلى اخر الوقت انما هو من جهة عدم العلم بتحقق الموضوع.
(فاللازم) على الفقيه تتبع أدلة الاحكام الاضطرارية حتى يعلم انه في أي مورد يكون
الموضوع هو مطلق الاضطرار، وفي أي مورد يكون الموضوع هو الاضطرار في جميع الوقت
أو مع اليأس من طرو الاختيار.
فتحصل مما ذكرنا أن التكليف الاضطراري ان أتى بمتعلقه يجزى عن الامر بالطبيعة
الشاملة له وللفرد الاختياري، لكونه فردا لها مثل الفرد الاختياري فلا إعادة ولا قضاء،
(اما الأول) فواضح إذ الإعادة بالأمر الأول وقد سقط باتيان متعلقة.
(واما الثاني) فواضح أيضا ان قلنا بكون القضاء بالأمر الأول، وكذلك ان قلنا إنه
بامر جديد إذ هو فيما لو فات العمل في وقته، وفيما نحن فيه لم يفت لاتيانه على حسب
117

ما هو وظيفة المكلف بحسب حاله.
(فان قلت) يمكن أن يكون الفرد الاختياري من الصلاة أتم مصلحة من الفرد
الاضطراري فباعتبار المقدار الباقي من المصلحة يجب الإعادة أو القضاء.
(قلت) ما يجب على المكلف انما هو امتثال أوامر الشرع لا تحصيل المصالح، إذ لا إحاطة
لعقولنا بالمصالح النفس الآمرية حتى يجب علينا تحصيلها.
نعم لو كان الفرد الاضطراري انقص مصلحة من الفرد الاختياري بمقدار لازم الاستيفاء
لم يكن للشارع حينئذ (بمقتضى قواعد العدلية) تشريع الفرد الاضطراري وجعله في عرض
الفرد الاختياري، حتى يكون مقتضاه تخير المكلف عقلا بين هذا الفرد الاضطراري وبين
الفرد الاختياري الذي يتمكن منه في آخر الوقت في الواجب الموسع، ولكن لا ربط لذلك
بوظيفة الفقيه فان الفقيه لا يبحث الا فيما هو مقتضى الأدلة الشرعية، فإذا اقتضى الدليل فردية
الصلاة مع التيمم مثلا لطبيعة الصلاة في حال الاضطرار اخذ الفقيه بمقتضاه، وجعله دليلا
على كونها في عرض سائر الافراد من كل جهة، حتى أن للمكلف ان يجعل نفسه
موضوعا لهذا الفرد الاضطراري، بان يوجد الاضطرار لنفسه اختيارا نظير الحاضر الذي
يسافر في حال الاختيار.
(فان قلت): إذا كان الفرد الاضطراري في عرض الفرد الاختياري، فلم لا يجوز في باب
الصلاة اقتداء الكامل بالمضطر؟
(قلت) ليس هذا من جهة كون الفرد الاضطراري انقص مصلحة، بل من جهة كون
الكمال شرطا في الإمامة للكاملين، حيث إن الأنسب كون الامام أكمل من المأموم.
(فان قلت) إذا كان الصلاة مع التيمم في عرض الصلاة مع الطهارة المائية، فلم وجب
على فاقد الماء ان يطلبه في الجوانب الأربعة؟
(قلت) فردية الصلاة مع التيمم للطبيعة المأمور بها موقوفة على فاقدية الماء. والطلب
انما هو لاحراز هذا الموضوع أعني الفاقدية.
(واعلم) انه قد أشار إلى ما ذكرناه (في التكاليف الاضطرارية) المحقق في المعتبر في
مسألة جواز إراقة الماء في أول الوقت وقد نقل عنه ذلك بنحو التلخيص المحقق الهمداني (قده)
118

في طهارته في مسألة وجوب طلب الماء على من كان فاقدا له قال (قده): (انه مخاطب
في تمام الوقت بصلاة واحدة مخيرا في أي جزء منه بلا ترتيب ففي أي جزء يلاحظ حالته
ويعمل بموجب حالته من كونه مسافرا مثلا فيقصر أو حاضرا فيتم، ومن الحالات إذا كان
واجدا للماء فبالطهارة المائية أو غير واجد له فبالترابية، ولا يجب في جزء من الزمان
المتقدم حفظ حالته للزمان المتأخر)
(واعلم) أيضا ان ما ذكره صاحب الكفاية في مقام الاثبات أيضا لا يخلو عن شئ
بيان ذلك أنه قد ظهر لك انه ليس لنا في باب التكاليف امران: اختياري واضطراري
حتى نبحث في اجزاء أحدهما عن الاخر، وانه لو سلم وجود امرين فلا معنى لاجزاء أحدهما
عن الاخر، وحينئذ فلو تنزلنا وسلمنا ما ذكره من أن لنا امرين وان امتثال الثاني يجزى
عن الأول، فما ذكره أخيرا (من انه إذا لم يكن هناك اطلاق يدل على أن الموضوع للامر
الاضطراري هو مطلق الاضطرار ولو في بعض الوقت فالمرجع هو البراءة) فاسد جدا،
إذ المكلف قد علم باشتغال ذمته بالأمر الواقعي، ولكنه لا يعلم انه هل صار موضوعا للامر
الاضطراري حتى يكون امتثاله مسقطا للامر الواقعي أيضا، أو لم يصر موضوعا له لاحتمال
أن يكون الموضوع للامر الاضطراري هو الاضطرار في جميع الوقت؟ وحينئذ فاشتغال
ذمته بالأمر الواقعي يقتضى تحصيل البراءة اليقينية فكيف حكم (قده) بأصالة البراءة. (1)

(1) أقول يمكن ان يقال، ان مراده " قده " من الاطلاق ليس هو اطلاق الاضطرار كما في
كلام سيدنا الاستاد العلامة " مد ظله العالي " بل المراد اطلاق البدلية فيكون حاصل مراده ان
المكلف لما لم يقدر على امتثال التكاليف الأولية جعل الشارع التكاليف الاضطرارية ابدالا لها،
فحين الاضطرار لا تكون التكاليف الأولية فعلية بل الفعلية لا بد لها. وحينئذ فلو كان لنا اطلاق
يدل على أن ما جعله الشارع بدلا بدل إلى الأبد اخذنا بالاطلاق وحكمنا بالاجزاء عن التكليف
الأولى لكفاية البدل عن المبدل منه، ولو لم يكن هناك اطلاق، فشككنا في أن بدلية الفرد
الاضطراري عن الأولى هل هي إلى الأبد حتى مع ارتفاع الاضطرار، أو كانت بدليته منه في
زمن الاضطرار فقط بان يكون وافيا بما يفوت من مصلحة الفرد الأولى في زمن الاضطرار من
دون أن يكون وافيا بما يمكن تحصيله بعد ارتفاع الاضطرار بالإعادة أو القضاء؟ فحينئذ
تحكم بالبراءة، إذ التكليف الأولى لم يكن في زمن الاضطرار فعليا وبعد ارتفاعه يشك في
صيرورته فعليا لاحتمال أن يكون بدلية الفرد الاضطراري منه إلى الأبد، وهذا واضح لا سيما
إذا كان طرو الاضطرار من أول الوقت ح - ع
119

(المقام الثاني)
في اجزاء امتثال الامر الظاهري عن الامر الواقعي، (وحيث) ينجر الكلام في آخر
المسألة إلى كيفية الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري، فالأولى قبل الورود في تحقيقها
ان نشير إشارة اجمالية إلى بعض وجوه الجمع بين الحكمين مما يناسب المقام.
فنقول: من الوجوه المذكورة في مقام الجمع بينهما ما ذكره شيخنا الأستاذ المحقق
الخراساني في حاشيته على الرسائل، ومحصله ان للحكم مراتب أربعة، الاقتضاء،
والانشاء، والفعلية، والتنجز، ولا يخفى ان التضاد بين الاحكام انما يكون بعد فعليتها و
وصولها إلى المرتبة الثالثة أعني مرتبة البعث والزجر.
(إذا عرفت هذا فنقول): ان المحاذير المتوهمة في الباب انما تلزم لو قلنا بفعلية
الحكمين معا، واما إذا قلنا ببقاء الحكم الواقعي بالنسبة إلى الجاهلين في مرتبة الانشاء، و
كون البعث أو الزجر الفعلي على طبق ما أدت إليه الامارة أعني الحكم الظاهري فيرتفع
المنافات بالكلية. (ثم شرع) (قده) في سد ثغور هذا الجواب بما لا حاجة لنا إلى بيانه فراجع
(ومن الوجوه) المذكورة في مقام الجمع بينهما أيضا ما ذكره المحقق المذكور
في الحاشية بنحو الاجمال والإشارة، وفي الكفاية بنحو التفصيل.
(وحاصله) ان معنى التعبد بخبر الواحد مثلا ليس انشاء احكام تكليفية على وفق
المؤديات بان ينحل (صدق العادل) مثلا بعدد ما يؤدى إليها الامارة من الاحكام، فيكون
النتيجة ثبوت الوجوب ظاهرا فيما إذا أدت إلى وجوب شئ، وثبوت الحرمة ظاهرا فيما
إذا أدت إلى حرمة شئ، وهكذا، بل التعبد به انما يكون بجعل الحجية له، والحجية
بنفسها حكم وضعي تنالها يد الجعل من دون أن يكون جعلها مستتبعا لانشاء احكام تكليفية
بحسب ما أدى إليه الامارة، واثر الحجية المجعولة (كالحجية المنجعلة في القطع) هو تنجيز
الواقع على فرض الإصابة وصحة الاعتذار على فرض الخطاء، وعلي هذا فليس هنا حكم
تكليفي وراء الواقعيات فلا يلزم المحاذير (نعم) لو قيل باستتباع جعل الحجية لاحكام
120

تكليفية أو قيل بأنه لا معنى لجعلها الا جعل احكام تكليفية طريقية مماثلة للمؤديات من
جهة انها من الوضعيات المنتزعة عن التكليفيات ولا تنالها يد الجعل مستقلا، فاجتماع
حكمين تكليفيين وان كان يلزم حينئذ ولكنهما ليس بمثلين أو ضدين فان الحكم
الظاهري حكم طريقي عن مصلحة في نفسه بلا إرادة متعلقة بمتعلقه ولا مصلحة في
متعلقه وراء مصلحة الواقع، والحكم الواقعي حكم نفسي عن مصلحة في متعلقه ويكون
على طبقه الإرادة. (هذه خلاصة ما ذكره في الكفاية) وكان يبنى عليه أخيرا.
ولا يخفى عليك ان ما ذكره المحقق المذكور في حاشيته يناقض ظاهرا ما ذكره
في الكفاية أخيرا حيث صرح في الحاشية بان الحكم الواقعي انشائي محض، والحكم
الظاهري فعلى، وصرح في الكفاية بان الحكم الواقعي هو الفعلي الذي يكون على طبقه
إرادة البعث والزجر، والحكم الظاهري حكم طريقي ليس على وفقه الإرادة والكراهة
أصلا. ومعنى كونه طريقيا انه ليس حكما حقيقيا في قبال الحكم الواقعي بل إن طابق
الواقع فهو عينه، وان خالفه كان حكما صوريا ليس على طبقه إرادة.
(ويمكن الجمع) بين كلاميه بنحو يرتفع التهافت من البين بتقريب ان يقال: ان ما
هو حقيقة الحكم وروحه عبارة عن إرادة المولى صدور الفعل عن العبد، فإنه الذي يتعلق
به شوق المولى أولا، غاية الامر انه لما كان الفعل من الأفعال الإرادية للعبد وكان تحققه
منوطا بتحرك عضلاته نحوه، تولد في نفس المولى من إرادة الفعل إرادة تحرك عضلات
العبد، وحيث إن تحرك عضلاته متوقف على وجود الداعي في نفسه حتى ينبعث منه (لو كان
بحسب ملكاته ممن ينبعث من الدواعي الإلهية) فلا محالة يتولد في نفس المولى إرادة
بعثه وانشاء الحكم بالنسبة إليه حتى يعلم به فينبعث منه نحو المقصود، فما هو المراد أولا
وبالذات ويكون متعلقا للشوق هو نفس صدور الفعل عن العبد، واما البعث وانبعاثه منه
فمرادان بالتبع من جهة انه يتسبب بهما إلى ما هو المقصود بالذات.
ولا يخفى ان إرادة الفعل وان كانت مطلقة ولكن إرادة انبعاث العبد من الخطاب
والبعث مقصورة على صورة علم العبد بالخطاب من جهة انه لا يعقل داعوية البعث ما لم يتعلق
به العلم، حيث إنه بوجوده العلمي يصير داعيا ومحركا، وعلي هذا تصير إرادة الفعل الثابتة بنحو
121

الاطلاق داعية للمولى إلى ايجاد خطاب آخر في طول الخطاب الواقعي حتى يصير
هو الداعي للعبد نحو الفعل المقصود بعد إن لم يطلع على الخطاب الواقعي ولم
يمكنه الانبعاث منه (وبالجملة) بعد جهل العبد بالخطاب الواقعي وعدم امكان تأثيره
في نفسه لو كان روح الحكم وحقيقته أعني إرادة الفعل باقية، لتولدت منها إرادة خطاب
آخر لا لمصلحة في نفس متعلقه بل لعين ما وجد بلحاظه الخطاب الواقعي، وحينئذ فإن كان
الواقع بمثابة لا يرضى المولى بتركه ابدا كان الحكم المجعول ظاهرا عبارة عن
وجوب الاحتياط، وإن لم يكن كذلك أو كان في ايجاب الاحتياط مشقة ومفسدة، كان
الحكم الظاهري عبارة عن جعل الطرق والامارات فكل من الخطاب الواقعي والظاهري مجعول
بلحاظ ما تعلق به الشوق أولا وإرادة هذا صارت منشئا لتولد إرادة أخرى متعلقة بالخطاب
الواقعي وإرادة ثالثة متعلقة بالخطاب الظاهري.
غاية الامر ان موارد إصابة الامارة لما لم تكن متميزة من موارد خطأها صار المجعول
فيها حكما كليا يعم موارد الإصابة والخطأ، ولكن ما هو المقصود من جعلها هو صور
الإصابة فقط. وصور الخطأ صارت مجعولة بالعرض نظير القصود الضرورية المتحققة
بتبع المقصود الأصلي، فان طابق الحكم الظاهري للواقع كان عين الواقع حيث إن المقصود
من كليهما وما هو روحهما امر واحد، لما عرفت من أن نفس إرادة الفعل والشوق إليه
صارت داعية للبعث الواقعي أولا والبعث الظاهري ثانيا حتى يتسبب بهما إليه. وان خالف
الحكم الظاهري للواقع كان صورة حكم لا حقيقة لها، من جهة عدم وجود الإرادة على
طبقه وعدم كون متعلقه محبوبا للمولى ومتعلقا لشوقه وانما تعلق به القصد قهرا من جهة
عدم تميز صورة المخالفة من صورة الإصابة.
(والحاصل) ان ما هو المشتاق إليه أولا للمولى وما هو العلة الغائية للبعث هو نفس
الفعل المشتمل على المصلحة، وإرادته روح الحكم وحقيقته، غاية الامر انه تتولد من
هذه الإرادة إرادة متعلقة بسببه أعني البعث والخطاب، فان له نحو سببية في النفوس التي
لها ملكة الانبعاث من أوامر المولى، وإرادة لفعل ثابتة بنحو الاطلاق ولذلك اثرت في
ايجاد خطاب مطلق غير مرهون بالعلم والجهل، ولكن لما كان ايجاده لغرض الانبعاث
122

وكان الانبعاث منه متوقفا على العلم به، فلا محالة تصير إرادة الانبعاث منه مقصورة
على صورة العلم به بمعنى ان المولى بعد علمه بعدم قابلية الخطاب للتأثير في نفس العبد من
جهة جهله به لا يعقل ان ينقدح في نفسه إرادة انبعاثه من هذا الخطاب الخاص، ولكن لا يضر ذلك
باطلاق إرادة الفعل والشوق إليه بما هو هو لا بما أنه متسبب إليه بهذا الخطاب، وحينئذ
فإن كان جعل خطاب آخر طريقي مستلزما للمشقة الشديدة مثلا، لزمه رفع اليد عن
واقعه، وإن لم يكن كذلك أو كان الواقع بمثابة من الأهمية بحيث لا يمكنه رفع اليد عنه
لزمه جعل حكم ظاهري طريقي ليصير هو الباعث للعبد بعد خيبة الخطاب الأول
فالعلة الغائية لكلا الحكمين وما هو روحهما امر واحد، وهو نفس إرادة الفعل وهي
ثابتة في حال الجهل بالخطاب الواقعي أيضا، ولذا أثرت في ايجاد الخطاب الظاهري
(نعم) إرادة الانبعاث من الخطاب الواقعي نحو الفعل غير ثابتة في حال الجهل، و
انما الثابت حينئذ إرادة الانبعاث من الخطاب الظاهري نحوه، وعلي هذا فان أريد بالحكم
الواقعي نفس إرادة الفعل قلنا إنه فعلى في حال الجهل أيضا، والخطاب الظاهري أيضا
عينه ان طابقه وصوري ان خالفه، وان أريد به إرادة الفعل ولكن لا مطلقا بل الفعل الذي
يحصل خارجا بسبب داعوية الخطاب الواقعي، وبعبارة أخرى إرادة الانبعاث من الخطاب
الواقعي نحوه، قلنا إنه شأني في حال الجهل لما عرفت من أن إرادة الانبعاث قاصرة عن شمول
مورد الجهل، والفعلي حينئذ عبارة عن الخطاب الظاهري، فإنه الذي أريد الانبعاث
منه فعلا نحو الفعل.
(إذا عرفت هذا فنقول):
لعل كلام الحاشية مبنى على المشي الثاني في تفسير الحكم
الواقعي، وكلام الكفاية مبنى على المشي الأول فارتفع التهافت من البين.
(ولا يخفى) ان المشي الأول امتن، فان تفسير الحكم الواقعي بإرادة الفعل بشرط حصوله
بسبب داعوية خصوص الخطاب الواقعي، انما هو من قصور النظر والا فالنظر الدقيق يقتضى
خلاف ذلك، فان ما ثبت أولا هو نفس إرادة الفعل والشوق إليه بنحو الاطلاق، والانبعاث
نحوه من خصوص خطاب خاص لا خصوصية له في مطلوبية الفعل وانما صار مطلوبا و
مرادا بتبع إرادة نفس الفعل ومطلوبيته من جهة كون إرادة المسبب إرادة لأسبابه بالتبع
123

فنفس الفعل مطلوب مطلقا ولو في حال الجهل، ولذا اثرت هذه المطلوبية في ايجاد
خطاب آخر ليتسبب به إلى المقصود بعد عدم وفاء السبب الأول (أعني الخطاب الواقعي) بهذا
المقصد، وقد عرفت أن هذه المطلوبية هو روح الحكم وحقيقته، (فتلخص مما ذكرنا)
ان ما هو روح الحكم فعلى مطلقا فافهم.
(نعم) ان خالف الحكم الظاهري للواقع، أو جهل العبد بكلا الخطابين فلا محالة
يجب على المولى رفع اليد عن مراده بمعنى انه لا يمكن ان يريد انبعاث العبد نحو العمل
مع كونه بهذا الوضع الفعلي من عدم الاطلاع على مراد المولى لا بسبب الخطاب الواقعي
ولا بسبب البعث الطريقي فتصير الإرادة شأنية حينئذ، فما ذكرناه من فعلية الحكم الواقعي
بروحه في حال الجهل انما هو فيما إذا جهل العبد بالبعث الواقعي ولكن وصل إليه الواقع
بوسيلة الخطاب الظاهري فتدبر.
(إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم) ان ما بيناه (من فعلية الحكم الواقعي، وكون الحكم
الظاهري عينا له في صورة الموافقة، وصورة حكم لا حقيقة لها في صورة المخالفة) انما
يصح فيما إذا كان المجعول الظاهري حكما مستقلا غير ناظر إلى توسعة الواقع، كما إذا
قامت الامارة على حرمة شئ أو عدم وجوبه وكان بحسب الواقع واجبا، أو قامت على
وجوبه وكان بحسب الواقع حراما أو غير واجب، ونحو ذلك من الأمثلة، واما إذا كان
المجعول الظاهري ناظرا إلى الواقع من دون أن يكون مفاده ثبوت حكم مستقل في عرضه
بل كان بلسان تبيين ما هو وظيفة الشاك في اجزاء الواجب الواقعي المعلوم وشرائطه
وموانعه، فلا مجال حينئذ لفعلية الواقع بل الحكم الظاهري يكون فعليا في ظرف الشك
ويكون العمل على طبقه مجزيا.
(ولنذكر) في المقام جملة من كلام شيخنا الأستاذ في الكفاية، ثم نذيله بما يقتضيه التحقيق
(قال) (قده) ما هذا لفظه: المقام الثاني في اجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر
الظاهري وعدمه، والتحقيق ان ما كان منه يجرى في تنقيح ما هو موضوع التكليف وتحقيق
متعلقه وكان بلسان تحقق ما هو شرطه أو شطره كقاعدة الطهارة أو الحلية بل واستصحابهما
في وجه قوى ونحوها بالنسبة إلى كلما اشترط بالطهارة أو الحلية يجزى، فان دليله
124

يكون حاكما على دليل الاشتراط ومبينا لدائرة الشرط وانه أعم من الطهارة الواقعية
والظاهرية، فانكشاف الخلاف فيه لا يكون موجبا لانكشاف فقدان العمل لشرطه،
بل بالنسبة إليه يكون من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل، وهذا بخلاف ما كان
منها بلسان انه ما هو الشرط واقعا كما هو لسان الامارات فلا يجزى (انتهى).
(أقول): تحقيق المقام (على نحو يظهر منه مراد صاحب الكفاية أيضا مع ما فيه) هو ان
التكاليف الظاهرية على قسمين:
(القسم الأول منها) ما ليست بنفسها تكاليف مستقلة، بل كان لها النظر إلى التكاليف
الواقعية ولها اصطكاك معها بان كانت بلسان تبيين ما هو وظيفة الشاك في اجزاء الواجب
الواقعي المعلوم وشرائطه وموانعه، وهذا انما يتصور فيما إذا صدر عن الشارع امر واحد
متعلق بطبيعة مثل الصلاة وكان لهذه الطبيعة اجزاء وشرائط وموانع معينة بينها الشارع
ثم صدر عنه تكاليف اخر ناظرة إلى بيان الوظيفة لمن شك في اجزاء هذه الطبيعة وشرائطها
وموانعها، فهذه التكاليف ليست تكاليف مستقلة في قبال الواجبات الواقعية المستقلة بل لها
اصطكاك معها ونظر إليها، سواء كانت في الشبهات الموضوعية، كقاعدة الفراغ مثلا بالنسبة
إلى من شك في اتيان جزء أو شرط أو مانع، وكاستصحاب العدم لمن شك في اتيان جزء في
محله، وكالبينة القائمة على اتيان جزء أو عدم اتيانه مثلا.
(أو كانت) في الشبهات الحكمية كحديث الرفع الدال على رفع جزئية السورة
أو الاستعاذة، وكقاعدة الطهارة الدالة على طهارة الحيوان المتولد من طاهر ونجس
مثلا المقتضية لجواز الصلاة مع ملاقاة البدن له، وكالخبر الموثق الدال على جزئية
السورة أو عدم جزئيتها.
(وبالجملة) القسم الأول من التكاليف الظاهرية ما كان بلسان تعيين الوظيفة بالنسبة
إلى من شك في خصوصيات التكليف الواقعي المعلوم من الشرائط والأجزاء والموانع،
سواء كان هذا التكليف الظاهري مفاد أصل أو امارة، وسواء كان عدميا أو وجوديا، وسواء
كانت الشبهة موضوعية أو حكمية.
(القسم الثاني) من التكاليف الظاهرية ما لا يكون لها اصطكاك مع التكاليف الواقعية،
125

بل كانت هي بنفسها تكاليف مستقلة كما إذا كان مفاد الامارة أو الأصل وجوب صلاة الجمعة
أو عدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو حرمة شئ أو عدم حرمته.
(إذا ظهر لك القسمان فاعلم) ان القوم حين ما أراد واطرح النزاع في مبحث الاجزاء
قالوا ان امتثال كل امر يكون مجزيا بالنسبة إلى نفسه، واما اجزاء امتثال الامر الاضطراري أو
الظاهري عن الامر الواقعي الأولى ففيه بحث. وعنوان المسألة بهذا الوجه غير صحيح وهو الذي
أوجب استبعاد الاجزاء، إذ لو فرض لنا امران مستقلان فلا وجه لاجزاء امتثال أحدهما عن
الاخر إذ سقوط كل امر متوقف على تحقق متعلق نفسه. وما كان عند الأصحاب أيضا في مسألة
الاجزاء مطرحا للبحث وموردا للنفي والاثبات، ليس هو صورة فرض امرين لا يرتبط
أحدهما بالاخر، وانما كان بحثهم ونزاعهم فيما إذا كان لنا امر واقعي معلوم متعلق بطبيعة
ذات اجزاء وشرائط وموانع ثم شككنا في وجود جزء منها أو شرط أو مانع فقام الأصل
أو الامارة على تحقق الأولين أو عدم الثالث، أو شككنا في جزئية شئ أو شرطيته أو مانعيته
لها فقام الأصل أو الامارة على عدم الجزئية أو الشرطية أو المانعية مثلا، وفي جميع هذه
الصور ليس لنا الا امر واحد واقعي معلوم، ومفاد الأصل أو الامارة توسعة دائرة ما هو
المأمور به بهذا الامر.
(فتلخص لك مما ذكرنا) ان مورد البحث (في مسألة الاجزاء) في التكاليف الظاهرية
هو القسم الأول منها.
(إذا عرفت هذا فنقول) ان الحق في هذا القسم بجميع شقوقه هو الاجزاء، واللازم
علينا أولا هو الرجوع إلى مقام الاثبات والأدلة المتكفلة لبيان الأحكام الظاهرية فننظر في أنها
تكون ظاهرة في الاجزاء أم لا؟
فان كانت ظاهرة فيه نبحث ثانيا في أنه هل يلزم محذور عقلي من الاخذ بهذا الظهور
أو لا يلزم؟ فان لزم منه ذلك تركناه، والا عملنا على طبق ما يقتضيه ظواهر الأدلة.
(وعلي هذا فنقول): ان الشارع الذي أوجب على المكلفين اتيان الصلاة مثلا وجعلها
عمودا للدين وبين اجزائها وشرائطها وموانعها، إذا حكم لمن شك في اتيان بعض الاجزاء
بوجوب المضي وعدم الاعتناء، أو حكم لمن شك في طهارة بدنه أو لباسه الذي يصلى فيه
126

بأنه نظيف حتى يعلم انه قذر، أو حكم برفع جزئية السورة مثلا عمن نسيها أو شك في
جزئيتها، أو حكم بوجوب العمل بخبر الثقة مثلا فأخبر بطهارة شئ أو عدم جزئية شئ
للصلاة أو غيرها من الواجبات المركبة، فهل يكون مفاد هذه الأحكام الظاهرية وجوب العمل على وفق هذه الأمور من دون تصرف في الواقع المأمور به أو يكون المستفاد من
ظواهر هذه الأدلة كون الصلاة أو الحج أو نحوهما بالنسبة إلى هذا المكلف عبارة عن نفس
ما يقتضيه وظيفته الظاهرية؟
لا ريب في أن المستفاد منها هو الثاني، فقوله مثلا: (كل شئ نظيف حتى تعلم انه قذر)
ظاهر في أنه يجوز للمكلف ترتيب جميع آثار الطهارة على الشئ المشكوك فيه، ومن
جملتها شرطيتها للصلاة، فيكون مفاده جواز اتيان الصلاة في الثوب المشكوك في طهارته.
(وبعبارة أخرى) ليس هذا الكلام اخبارا بالواقع المشكوك فيه، والا لزم الكذب
في بعض مصاديقه، فيكون المراد منه وجوب ترتيب آثار الطاهر الواقعي على الشئ المشكوك
فيه، ولأجل ذلك ترى أنه يتوقف صحة هذا الكلام على كون الطهارة ذات آثار بحسب
الواقع، ومن جملة آثارها توقف الصلاة عليها، وحينئذ فهل يكون المتبادر من هذا
الكلام ان المكلف بعد اتيانه الصلاة في الثوب المشكوك فيه قد أدى وظيفته الصلاتية و
امتثل قوله تعالى (أقيموا الصلاة)، أو انه عمل عملا يمكن أن يكون صلاة وأن يكون
لغوا ويكون الصلاة باقية في ذمته؟ لا اشكال في أن المتبادر هو ان الصلاة في حق هذا الشخص
عبارة عما أتى به وانه قد عمل وظيفته الصلاتية وأوجد الفرد المأمور به، فقوله عليه السلام (لا أبالي
أبول أصابني أم ماء) لا يتبادر منه انى لا أبالي وقع الصلاة منى أم لا، بل المتبادر منه كون
المشكوك فيه طاهرا بالنسبة إلى الشاك، وان العمل المشروط بالطهارة إذا فعله مع هذه
الطهارة الظاهرية يكون منطبقا للعنوان المأمور به، وان المصلى فيه يكون من المصلين
لا انه يمكن أن لا يكون مصليا غاية الامر كونه معذورا في المخالفة.
(ومن الأحكام الظاهرية) أيضا مفاد قاعدة التجاوز والفراغ، فحكم الشارع
لمن شك في اتيان جزء من الصلاة بوجوب المضي وعدم الاعتناء، ظاهر في أن المكلف
الذي كان يصدد امتثال امره (تعالى) بالصلاة التي امر بها جميع المسلمين وشك في
127

أثناء عمله أو بعده في اتيان جزء منها، صلاته عبارة عن الاجزاء التي أتى بها وان كانت فاقدة
للجزء المشكوك في اتيانه، فهذا العمل الفاقد لجزء من الاجزاء صلاة في حق هذا
المكلف، لا انه عمل لغو وهذا المكلف تارك للصلاة بحيث ان استمر شكه إلى حين وفاته
كان تاركا لهذه الصلاة الخاصة أداء وقضاء، فكما يستبعد جدا الحكم بكونه تاركا
لهذه الصلاة الخاصة ان استمر شكه إلى الأبد، فكذلك يستبعد الحكم بعدم كون هذا العمل
صلاة ان زال شكه ولو في الوقت.
(وتوهم) ان الموضوع لصحة العمل الفاقد للجزء المشكوك فيه يمكن أن يكون عبارة
عن الشك المستمر، وعلى هذا فزوال الشك يكون كاشفا عن عدم وجود الموضوع للتكليف
الظاهري (فاسد جدا)، فان قاعدة التجاوز مثلا انما هي بصدد بيان الوظيفة لمن شك
في أثناء الصلاة في اتيان جزء من اجزائها، فلا يمكن أن يكون الموضوع لهذا التكليف هو
الشك المستمر فان المكلف لا يعلم في أثناء صلاته استمرار شكه إلى آخر الوقت
أو إلى الأبد.
(وبالجملة) ما هو المتبادر من حكم الشارع في قاعدة التجاوز ونظائرها كقاعدة
الفراغ وسائر احكام الشكوك، هو ان المكلف الذي اشتغل بما هو المأمور به وكان
بصدد امتثال امر الشارع بالصلاة مثلا ثم شك في شئ من خصوصياتها من الركعات
والأفعال والاجزاء والشرائط، ان عمل هذا المكلف ما هو مقتضى تكليفه الظاهري
من البناء على الأقل أو الأكثر أو الاتيان أو عدم الاتيان، كان ممتثلا لما هو بصدد امتثاله
وكان عمله منطبقا لعنوان المأمور به، لا أنه عمل لغوا ان خالف الواقع بحيث ان استمر
شكه كان تاركا لهذا العمل الخاص.
(ومن الأحكام الظاهرية أيضا) مفاد حديث الرفع الدال على رفع كل ما لا يعلم حتى
الأحكام الوضعية من الجزئية والشرطية والمانعية، فمن شك في جزئية السورة مثلا كان
مقتضى حديث الرفع عدم جزئيتها، وحينئذ فان شك أحد في جزئيتها وتركها بمقتضى
الحديث وصلى مدة عمره من غير سورة وكانت بحسب الواقع جزء فهل يلتزم أحد
بكونه تاركا للصلاة مدة عمره، أو يقال: ان ظاهر حكم الشارع هو ان الصلاة في حق
128

هذا الشاك عبارة عن سائر الاجزاء غير السورة؟
وان كان هذا الشاك مجتهدا وقلده كافة المسلمين فهل لاحد ان يلتزم بكونهم بأجمعهم
تاركين مدة عمرهم للصلاة التي هي عمود الدين؟!
(ومن الأحكام الظاهرية أيضا) حكم الشارع بوجوب البناء على خبر الثقة وترتيب
الآثار عليه، فمن صلى أو توضأ أو صام أو اغتسل أو حج بكيفية دل عليها خبر الثقة، اعتمادا
على ما ورد من الشرع من وجوب ترتيب الآثار على ما أخبر به، فهل يكون ممتثلا لما امر
به الشارع من الصلاة ونظائرها، أو يكون ممتثلا على فرض المطابقة ولاغيا تاركا لأوامر
المولى على فرض المخالفة؟
(وبالجملة) الرجوع إلى أدلة الأصول والامارات المتعرضة لاجزاء المأمور به و
شرائطه، يوجب العلم بظهورها في توسعة المأمور به بالنسبة إلى الشاك، والحكم بحكومتها
على الأدلة الواقعية المحددة للاجزاء والشرائط. ولازم ذلك سقوط الجزء أو الشرط
الواقعي عن جزئيته أو شرطيته بالنسبة إلى هذا الشاك وان كان لولاها لوجب الحكم بانحفاظ
الواقع على ما هو عليه، ولزم احراز الأجزاء والشرائط الواقعية بعد تنجز التكليف الصلاتي مثلا.
(وحيث ظهر لك) ان المتبادر من أدلة حجية الامارات والأصول الحاكمة بوجوب
ترتيب آثار الواقع على المشكوك فيه، هو اجزاء ما يؤتى به على طبق الوظيفة الظاهرية
وكون الجزء أو الشرط أعم من الواقع والظاهر، فيجب الدقة في أن الاخذ بظواهر هذه
الأدلة هل يلزم منه محذور عقلي أولا؟ والظاهر تسالم الفقهاء إلى زمن الشيخ (قدس سره)
على ثبوت الاجزاء، وانما وقع الخلاف فيه من زمنه حتى أن بعضهم قد أفرط فادعى استحالته
والظاهر عدم لزوم محذور عقلي ولا شرعي من القول به فيجب الاخذ بما يقتضيه ظواهر الأدلة
(وقد استشكل) بعض أعاظم العصر على ما اختاره المحقق الخراساني من الاجزاء في
الأصول دون الامارات (بوجوه) لا بأس بذكر حاصلها والإشارة إلى ما فيها:
(الأول) أن الحكومة (عند هذا القائل) لا بد من أن تكون بمثل كلمة أعني وأشباهها،
ولذا أنكر حكومة مثل أدلة الضرر على الاحكام الأولية، وبعبارة أخرى يعتبر في الحكومة
(عند هذا القائل) كون الدليل الحاكم بلسانه ناظرا إلى الدليل المحكوم ومفسرا له
129

ولا يكفى فيها نظر مدلول الحاكم إلى مدلول المحكوم.
(وفيه) ان هذه مناقشة لفظية، فان مثل قوله: (كل شئ نظيف) ناظر إلى الأحكام الواقعية
ويكون موسعا لدائرة متعلقاتها سواء أطلق على هذا المعنى لفظ الحكومة أم لا.
(الثاني) ان مثل قوله (كل شئ نظيف) متكفل لاثبات النظافة الظاهرية، واما كون
الشرط للصلاة مثلا هو الأعم من النظافة الواقعية والظاهرية حتى يكون اتيانها مع النظافة
الظاهرية أيضا موجبا للاجزاء فلا دليل عليه.
(وفيه) ما عرفت: من أن نفس دليل الحكم الظاهري الذي يجوز للمكلف اتيان الصلاة
مثلا مع الطهارة الظاهرية، ظاهر أيضا في أن عمله بعد تحققه يصير منطبقا لعنوان المأمور به
أعني الصلاة، وانه قد أدى وظيفته الصلاتية بعد اتيانها فيما حكم الشارع بطهارته، ولازم
ذلك كون الشرط أعم من الواقع والظاهر.
(الثالث) ان الحكومة في المقام ان كانت واقعية لزم ترتيب جميع آثار الواقع على
الطهارة الظاهرية، فلا بد أن لا يحكم بنجاسة الملاقي أيضا ولو انكشف الخلاف بعد ذلك (1)

(1) أقول: لا يخفى ان المهم في اثبات الاجزاء في الأحكام الظاهرية هو الجواب عن
النقوض الواردة عليه، (فمنها) هذا المثال، (ومنها) ان مقتضى ذلك حصول الطهارة
الثوب النجس إذا غسل بالماء المشكوك الطهارة،
(ومنها) انتقال الثمن حقيقة إلى البايع إذا اخذه في مقابل المشكوك فيه الذي حكم
بطهارته ظاهرا وكان مما يفسد بيعه نجسا إلى غير ذلك من النقوض، والظاهر أن جواب سيدنا
الأستاذ العلامة (مد ظله العالي) لا يكفى لرفع الاشكالات، فان الملاقاة في المثال الأول مثلا
قد وقعت في حال كون الملاقي (بالفتح) محكوما بالطهارة، وبعد انكشاف الخلاف، وان
تبدل الموضوع، ولكن المفروض عدم حدوث ملاقاة أخرى بعد تبدله، فالحكم بنجاسة الملاقي
لا يصح الا بناء على كون الحكومة ظاهرية.
(نعم) يمكن ان يجاب عن النقض الأول بوجه آخر وهو ان يقال: ان الأثر الشرعي عبارة
عما يثبت للشئ بجعل الشارع، وفي باب الملاقاة ليس لنا مجعولان شرعيان: أحدهما
كون ملاقي النجس نجسا، وثانيهما كون ملاقي الطاهر طاهرا، بل المجعول، الشرعي هو
الأول فقط، بداهة ان طهارة الملاقي (بالكسر) ليست حاصلة بسبب طهارة الملاقي (بالفتح)
بل كانت حاصلة قبل الملاقاة أيضا.
(وبالجملة) ليس طهارة الملاقي (بالكسر) من الآثار الشرعية لطهارة الملاقي حتى
يقال: ان مقتضى كون الحكومة واقعية هو بقاء هذا الأثر بعد انكشاف الخلاف أيضا.
(اللهم الا ان يقال) ان الطهارة ليست الا عبارة عن عدم النجاسة والقذارة كما يساعد عليه
العرف أيضا، وحينئذ فيكون المراد من كون طهارة الملاقي (بالكسر) بسبب طهارة
الملاقي كون عدم نجاسته مستندا إلى عدم نجاسته استناد عدم المعلول إلى عدم علته، فتأمل
فان ذلك أيضا لا يفيد ثبوت المجعولين.
(ثم إنه يمكن ان يجاب) بما ذكر عن الاشكال الذي أورده بعض الأعاظم في مسألة ملاقي
أحد طرفي العلم الاجمالي فان المعروف عندهم كون الملاقي طاهرا وحلالا لتعارض الأصلين
في الطرفين فيبقى الأصل في الملاقي سالما عن المعارض.
(واستشكل هذا البعض على ذلك) بان استصحابي الطهارة في الطرفين يتعارضان
ويتساقطان، فتصل النوبة في الرتبة اللاحقة إلى قاعدة الطهارة في الطرفين واستصحابها
في الملاقي، ثم تتعارض الأصول الثلثة وتتساقط، وتصل النوبة بعدها إلى استصحاب الحلية في
الطرفين وقاعدة الطهارة في الملاقي في عرض واحد، فتتعارض أيضا وتصل النوبة إلى قاعدة
الحلية في الطرفين واستصحابها في الملاقي فتتساقط أيضا، فيبقى الطرفان بلا أصل ويبقى
قاعدة الحلية في الملاقي بلا معارض، ومقتضى ذلك حلية الملاقي دون طهارته.
(والجواب) عن هذا الاشكال يظهر مما ذكرنا، فانا لا نسلم كون طهارة الملاقي أو حليته
متأخرة بحسب الرتبة عن طهارة الملاقي (بالفتح) أو حليته حتى يكون جريان استصحاب
الطهارة أو الحلية أو قاعدتهما في الملاقي متأخرا عن جريانها في الملاقي (بالفتح)، وذلك
لبداهة ان حلية الملاقي (بالكسر) أو طهارته ليست اثرا شرعيا لحلية الملاقي (بالفتح) أو
طهارته، وفي الأصل السببي والمسببي يعتبر ترتب الأثرين لا الشكين فقط، فان تقدم الأصل
السببي على المسببي انما يكون من جهة ان جريانه في السبب يوجب تحقق ما هو الموضوع للأثر
في طرف المسبب. فيعتبر في ذلك كون المستصحب مثلا في طرف المسبب من الأحكام الشرعية
للمستصحب في طرف السبب كما إذا غسل يده النجس بالماء المستصحب الطهارة، فان هذا
الاستصحاب يرفع الشك عن ناحية السبب قهرا. ح ع
130

(وفيه) ان الحكم الظاهري انما يثبت مع انحفاظ الشك واما بعد زواله فينقلب
الموضوع، فالملاقي أيضا يحكم بطهارته ما دام الشك واما بعد زواله فيحكم بنجاسة كل
من الملاقي والملاقى.
(الرابع) انه لا وجه لتخصيص الاجزاء بالأصول، بل يجرى على فرض تسليمه
في الامارات الواردة في باب الأجزاء والشرائط والموانع أيضا بل الامارة أولى بذلك من
الأصل، فان المجعول في الامارات انما هو نفس صفة الاحراز وكون الامارة علما تعبديا،
واما الأصول فالمجعول فيها هو الجرى العملي وترتيب آثار احراز الواقع في ظرف الشك.
131

(أقول): مراد المحقق الخراساني هو ان مثل قوله: (كل شئ نظيف) جعل
للطهارة، وبمقتضاه يوسع دائرة الاشتراط، فالعمل (وان انكشف الخلاف) قد وجد واجدا
لشرائطه فيجزى. واما الامارة فلا تحكى الا الواقع من دون أن يكون في البين جعل
لمؤديها، فإذا حكت الطهارة ثم انكشف الخلاف ينكشف عدم الطهارة واقعا، والمفروض
عدم جعلها ظاهرا أيضا فلا مجال للاجزاء. وعلي هذا فكلام بعض الأعاظم لا يغنى عن جوع،
ولا يثبت به كون الامارة كالأصل فضلا عن الأولوية.
(نعم) أصل الاشكال وارد على المحقق الخراساني ولذا عممنا البحث، فان الدليل
الحاكم بوجوب الاخذ بخبر الثقة الذي قام على عدم جزئية شئ أو شرطيته للصلاة، أو قام
على تحقق الجزء أو الشرط، يتبادر من هذا الدليل ان المكلف إذا اقتصر في امتثال الامر
الصلاتي على ما اقتضاه ودل عليه خبر الثقة فقد عمل وظيفته وصار عمله منطبقا لعنوان
المأمور به وخرج بذلك من كونه تاركا للصلاة، ولازم ذلك هو الاجزاء.
(واما ما ذكره شيخنا الاستاد) المحقق الخراساني، من الفرق بين مفاد الأصل و
الامارة (ففيه) ان الامارات كخبر الواحد والبينة وأمثالهما وان كانت بلسان حكاية
الواقع، ولكنها بأنفسها ليست احكاما ظاهرية بل الحكم الظاهري عبارة عن مفاد دليل
حجية الامارة الحاكمة بوجوب البناء عليها، ولسان أدلتها هي بعينها لسان أدلة الأصول
(وبعبارة أخرى) فرق بين نفس ما تؤدى عنه الامارة وتحكيه وبين ما هو المستفاد من
دليل حجيتها فان البينة مثلا إذا قامت على طهارة شئ كانت هذه البينة بنفسها حاكية
للواقع، جعلها الشارع حجة أم لا، ولكن الحكم الظاهري في المقام ليس هو ما يحكيه
البينة (من الطهارة) بل الحكم الظاهري عبارة عن حكم الشارع بوجوب العمل على
طبقها وترتيب اثار الوقع على مؤديها، وظاهر ما دل على هذا الحكم هو قناعة الشارع في
امتثال امره الصلاتي مثلا باتيانها فيما قامت البينة على طهارته، ولازم ذلك سقوط الطهارة
الواقعية من الشرطية في هذه الصورة. وكذلك إذا دل خبر زرارة مثلا على عدم وجوب
السورة كان قول زرارة حاكيا للواقع جعله الشارع حجة أم لا، ولكن الحكم الظاهري
ليس عبارة عن مقول زرارة بل هو عبارة عن مفاد أدلة حجية الخبر أعني حكم الشارع
132

(ولو امضاء) بوجوب ترتيب الآثار على ما أخبر به الثقة، فلو انحل قوله: (صدق العادل)
مثلا بعدد الموضوعات كان معناه فيما قام خبر على عدم وجوب السورة (يا ايها المكلف
الذي صرت بصدد امتثال الامر الصلاتي، ابن علي عدم وجوب السورة) وظاهر هذا هو انك
إذا صليت بغير سورة فقد امتثلت الامر بالصلاة وكان عملك مصداقا للمأمور به.
(وبالجملة) الفرق بين الامارة والأصل بكون الأولى بلسان الحكاية دون الثاني،
انما يصح إذ كان النظر إلى نفس مؤدى الامارة التي هي امر تكويني، واما إذا كان النظر إلى
دليل حجيتها فلا فرق بينهما، لظهور دليل كل منهما في الاجزاء ورفع اليد عن الواقع. (1)
(فان قلت): على هذا لا يبقى فرق بين الامارة والأصل، إذ مقتضى ما ذكرت هو ان
المجعول شرعا في كليهما عبارة عن وجوب البناء عملا ولزم ترتيب الآثار، وحينئذ فلا
يبقى وجه لحكومة الامارات على الأصول.

(1) أقول: لا يخفى ان ما ذكره سيدنا الاستاد العلامة (مد ظله العالي): من ثبوت الاجزاء
في الامارات يتوقف على ثبوت جعل في الامارات حتى يقال بكون أدلة حجيتها ناظرة إلى الأدلة
الواقعية الواردة في تحديد الأجزاء والشرائط والموانع وموجبة لتوسعة المأمور به، مع أنه
(مد ظله) أيضا ينكر ثبوت الجعل في الامارات الا بنحو الامضاء، وليس معنى الامضاء أن يقول
الشارع (أمضيت) مثلا، فان هذا مقطوع العدم، بل معناه عمل العقلاء بها واعتمادهم عليها
في مقام اثبات الواقعيات، أو مقام الاحتجاج واللجاج بمرأى الشارع ومسمعه من دون ان يردع
عنها، بل هو أيضا كأحدهم في ذلك وكذا في غيرها من العاديات ما لم يترتب عليها مفسدة،
ولا ريب ان العقلاء لا يرون العمل بالكاشف أو الحجة مجزيا عن الواقع، ولو في صورة
انكشاف الخلاف، بل يرون أنفسهم موظفين بتأدية الواقع، فاثبات الاجزاء في باب الامارات
مشكل، والسر في ذلك عدم كون دليل حجيتها ذا لسان. (نعم) ربما يقرب الحكومة في
المقام وفي باب حكومة أدلة الامارات على الأصول بان دليل حجيتها (من السيرة وبناء
العقلاء) وإن لم يكن ذا لسان ولكنه يكون بحيث لو صيغ في قالب اللفظ كان لفظه شارحا
ومفسرا، ويكفى مثل ذلك في الحكومة، ففي باب حجية الخبر وان كان عمدة دليلها السيرة
الممضاة بعدم الردع ولكن لو جعل ذلك في قالب اللفظ كان لفظه عبارة عن مثل (الق احتمال
الخلاف) فان نظر العقلاء بها في الاعتماد عليها بحيث يلقون بقيامها احتمال الخلاف ويرون
الواقع منكشفا بها، ولأجل هذا تقدم على الأصول ويقال: انه من باب الحكومة، وهذا اللسان
أيضا حاكم على أدلة الأجزاء والشرائط والموانع فيترتب عليه الاجزاء. ح - ع
133

(قلت): مع أن الحكم الظاهري والمجعول الشرعي في كليهما عبارة عما هو
مفاد أدلة حجيتهما (من وجوب البناء والجري العملي) يكون لسان دليل حجية الامارة شارحا
ومفسرا لما هو موضوع جريان الأصل، فان المستفاد من قوله: (كل شئ نظيف) ليس إلا أن
الشاك في الطهارة والنجاسة يجب عليه في مقام العمل ان يبنى على أحد طرفي الشك
(أعني الطهارة) من دون نظر إلى احراز الواقع، وهذا بخلاف (مثل صدق العادل)، فان مفاده
وجوب البناء على أن ما يحكيه هو الواقع، ووجوب ان يفرض الشخص نفسه رائيا للواقع
وهذا اللسان رافع حكما لما هو موضوع الأصول (أعني الشك) فان رائى الواقع لا يبقى له شك.
(الخامس) ان حكومة الأحكام الظاهرية على الأحكام الواقعية حكومة ظاهرية
يترتب عليها جواز ترتيب آثار الواقع في زمن الشك ما لم ينكشف الخلاف، من دون ان تمس
كرامة الواقعيات، ولا يعقل كونها حكومة واقعية موجبة لتعميم الواقع أو تضييقه حقيقة،
(بيان ذلك) ان الحكومة وان كانت بلسان نفى الموضوع أو اثباته ولكنها في
الحقيقة تصرف في نفس الحكم بتعميمه لبعض الموارد التي لم يشملها الدليل المحكوم أو
بتخصيص الدليل المحكوم أو تقييده، والتعميم والتخصيص والتقييد لا تتصور الا فيما
إذا كان الحاكم في مرتبة المحكوم حتى يمكن تصرفه فيه، واما إذا كانا في رتبتين فلا
يعقل تصرف أحدهما في الاخر الا بتجافي أحدهما عن مرتبته وهو امر غير معقول. ولا يخفى
ان الحكم الظاهري متأخر عن الحكم الواقعي بمرتبتين لتأخره عن موضوعه (أعني
الشك) والشك متأخر عن متعلقه (أعني الحكم الواقعي)، ولازم ذلك انحفاظ الواقع
في جميع المراتب باطلاقه الذاتي، وليس للحكم الظاهري ان يتصرف في اطلاقه أو عمومه،
وإذا لم يمكن تصرفه في الواقع حتى يكون حكومته حكومة واقعية، فلا محالة يكون
الحكومة بلحاظ الظاهر وبحسب مقام الاثبات، ولازم ذلك جواز ترتيب آثار الواقع على
المؤدى ما لم ينكشف الخلاف وإذا انكشف الواقع ينكشف عدم واجدية العمل لما شرط
فيه واعتبر، إذ الفرض بقاء الواقع بحسب مقام الثبوت على ما هو عليه (انتهى).
(أقول): عمدة الاشكال في باب الاجزاء عبارة عن هذا الاشكال، ولكن الظاهر
عدم وروده أيضا، فان الخطاب الواقعي (أعني ما دل على شرطية الطهارة مثلا للصلاة) وان
134

كان مطلقا غير مقيد بالعلم والجهل ومقتضاه بطلان الصلاة المأتي بها في النجاسة الواقعية،
ولكن بعد ورود قوله: (كل شئ نظيف) الناظر إلى وجوب ترتيب آثار الطهارة (التي
من جملتها جواز الصلاة) على المشكوك فيه وظهوره في أن العمل الذي يؤتى به في
المشكوك فيه يصير منطبقا للعنوان المأمور به، يجب رفع اليد عن اطلاق الحكم الواقعي
وحمله على الانشائية المحضة والحكم بسقوط الطهارة من الشرطية في صورة الجهل و
الشك وان كان فيها اقتضاء الشرطية.
(والوجه) في ذلك (مضافا إلى أن ظهور مثل قوله (كل شئ نظيف) فيما ذكرنا أقوى
من ظهور ما دل على الشرطية المطلقة للطهارة الواقعية، ولازم ذلك تحكيمه عليه وحمله
على الانشائية المحضة)، ان القول بكون الحكومة في المقام حكومة واقعية مما لا بد منه
والا لزم رفع اليد عن الحكم الظاهري رأسا، فان المفروض (فيما نحن فيه) علم المكلف
بوجوب الصلاة عليه مشروطة بالطهارة، ولولا جعل الشارع للطهارة الظاهرية كان
ملزما باتيان الصلاة بشرطها و (ح) فاما ان يقال: بعدم جعل الشارع للطهارة الظاهرية
بالنسبة إلى هذا الشخص العالم بوجوب الصلاة عليه، واما ان يقال: بجعله لها بالنسبة إلى
هذا الشخص أيضا، لا مجال للاحتمال الأول للزوم الخروج من الفرض، وعلى الثاني
يجب القول بالاجزاء وقناعة الشارع (في امتثال امره المعلوم) باتيان متعلقه في المشكوك
فيه أيضا، فان لا معنى لجعل الطهارة الظاهرية لهذا الشخص الا جواز اتيانه ما امر به
مع هذه الطهارة وصيرورة عمله منطبقا للعنوان المأمور به. ولا يمكن أن يكون جعل
الحكم الظاهري بالنسبة إلى هذا الشخص لغرض المنجزية أو المعذرية كما في سائر
المقامات، بداهة ان التنجيز انما يعقل فيما إذا لم يكن الواقع منجزا لولا هذا الجعل
والمفروض (فيما نحن فيه) تنجز الواقع مع قطع النظر عن الحكم الظاهري لعلم المكلف
بوجوب الصلاة المشروطة بالطهارة عليه. واما المعذرية فهي أيضا لا مجال لها في المقام،
إذ المكلف الآتي بصلاته في الثوب الذي شك في طهارته ان انكشف له النجاسة في الوقت
فلا معنى لجعل المعذر بالنسبة إليه، إذ لم يصدر عنه بعدما هو خلاف الواقع من جهة بقاء
وقت الواجب وتمكنه من اتيانه ولم يتعين عليه اتيانه في أول الوقت حتى يحتاج إلى
135

معذر في تركه. وان فرض عدم انكشاف النجاسة إلى أن خرج الوقت فتفويت الواقع
جاء من قبل ترخيص الشارع والا كان المكلف يأتي به لعلمه به وتنجزه عليه.
(وبعبارة أخرى) اذنه في اتيان الصلاة في المشكوك فيه أوجب تفويت الواقع فلا
مجال للقول: بكون الغرض من هذا الاذن هو المعذرية بعد ما كان المكلف يأتي الواقع
على ما هو عليه لولا ترخيص الشارع. (1)
(وبالجملة) اثر الحكم الظاهري وان كان في سائر المقامات عبارة عن تنجيز الواقع
في صورة الموافقة، وكونه معذرا (بالنسبة إليه) في صورة المخالفة، ولكن هذا فيما
إذا لم يكن الواقع منجزا لولا الجعل الظاهري، واما في هذه الصورة فأثر الجعل الظاهري
توسعة المأمور به و اسقاط الشرطية الواقعية وجعل فرد طولى لما هو المأمور به، ولازم
ذلك حمل الواقع على الانشائية المحضة. (وبهذا البيان يظهر) ان كيفية الجمع
بين الحكمين في المقام تخالف كيفيته في سائر المقامات.
(توضيح ذلك) انك قد عرفت (في صدر المبحث) ان المحقق الخراساني (قدس سره)
جمع بين الحكم الواقعي والظاهري (في الحاشية) بحمل الواقعي على الانشائية، والظاهري
على الفعلية، وفى الكفاية بحمل الواقعي على الفعلية، وحمل الظاهري على كونه عينا له

(1) أقول: لا يخفى ان المعذرية ليست اثرا للحكم الظاهري بنحو يكون جعله بلحاظها
إذ في موارد الجهل بالواقع وعدم تمامية الحجة عليه يكون المعذورية مستندة إلى عدم انكشاف
الواقع وعدم تمامية الحجة بالنسبة إليه لا إلى انكشاف الخلاف وقيام الحجة على خلاف الواقع،
فلو فرض عدم قيام الحجة على الخلاف أيضا كان المكلف معذورا لاجل الجهل بالواقع، وفي
موارد انكشاف الواقع وتمامية الحجة بالنسبة إليه كما في ما نحن فيه وان كان جعل الحكم
الظاهري المؤدى إلى خلاف ما قام عليه الحجة معذرا للعبد، ولكن لا مجال لجعله بلحاظ هذا
الأثر، لاستلزام ذلك تفويت الغرض والواقع بلا جهة ملزمة، هذا.
ولكن جعل الحكم الظاهري في القسم الثاني بعد تحقق المصحح لجعله (من التسهيل ونحوه)
يترتب عليه المعذرية أيضا، وهذا بخلاف جعله في القسم الأول أعني صورة عدم تمامية الحجة
بالنسبة إلى الواقع. فما ذكره سيدنا الأستاذ الأكبر " مد ظله العالي " من عدم كون المعذرية
اثرا للحكم الظاهري " في هذا القسم " لعله أراد بذلك عدم كونها اثرا مصححا لجعله وهو
كذلك، الا انه يمكن ان يورد عليه ان المعذرية ليست اثرا مصححا في سائر الموارد أيضا،
بل ليست اثرا للحكم الظاهري أصلا كما عرفت. ح - ع
136

في صورة الموافقة وصورة حكم لا حقيقة لها في صورة المخالفة، وعرفت أيضا أنه يمكن
الجمع بين المشيين (وان كان ثانيهما أمتن) بتقريب ان المراد بالحكم الواقعي ان كان
ما هو روحه وحقيقته (أعني إرادة صدور الفعل عن العبد) فهو فعلى، وبلحاظه أيضا قد
جعل البعث الظاهري، وان كان المراد منه هو البعث الواقعي والخطاب الأولى فهو شأني،
بداهة ان البعث انما يكون لغرض الانبعاث، وحيث إن الانبعاث من الخطاب المجهول
غير معقول فلا محالة يصير منعزلا عن التأثير وساقطا من الفعلية بمعنى عدم إرادة الانبعاث
منه في هذه الصورة من جهة تعذر ترتب هذا الأثر عليه.
(إذا عرفت هذا فنقول): ان الجمع بين الحكمين فيما نحن فيه (أي في الأحكام الظاهرية
الواردة في باب أجزاء المأمور به وشرائطه وموانعه) لا يمكن أن يكون بالطريق
الذي سلكه في الكفاية، لما عرفت من أن أثر جعل الطهارة الظاهرية في باب الصلاة مثلا
ليس إلا كفايتها في صيرورة العمل المأتي به معها منطبقا لعنوان المأمور به من دون ان يترتب
عليه المنجزية أو المعذرية، ولازم ذلك عدم فعلية ما دل على اشتراط الصلاة بالطهارة
الواقعية وكونه انشائيا صرفا.
(ولا يخفى) ان الانشائية في المقام أيضا تخالف الانشائية في المقامات الاخر، فان
المراد بالانشائي في سائر المقامات هو الانشائي الذي ليس لفعليته حالة منتظرة سوى
علم المكلف، لما عرفت من أن المانع عن فعلية الخطاب الواقعي هو جهل المكلف به وعدم
امكان انبعاثه من قبله، لا لقصور في الخطاب بل لقصور في المكلف من جهة كونه جاهلا
ولازم ذلك أنه إذا زال هذا المانع صار فعليا منجزا.
(واما في المقام) فليس المراد بالانشائي فيه هذا المعنى، إذ المفروض (فيما نحن فيه)
علم المكلف بوظيفته من الصلاة المشروطة بالطهارة الواقعية بحيث لولا قوله
(كل شئ نظيف) كان ينبعث من الخطاب الواقعي ويأتي ما هو المكلف به بجميع
حدوده واجزائه وشرائطه التي منها الطهارة الواقعية، فحمل ما دل على اشتراط الطهارة بوجودها
الواقعي على الانشائية ليس من جهة جهل المكلف به وعدم امكان تأثيره في نفسه وانبعاثه
من قبله، فلا بد من أن يكون لجهة أخرى غير تعذر الانبعاث، ولعل هذه الجهة (فيما نحن فيه)
137

عبارة عن تعسر الانبعاث " بتقريب ان يقال " ان الصلاة مع الطهارة الواقعية
وان كانت واجدة للملاك وصار هذا سببا لتعلق الامر به مطلقا، ولكن لما كان تحصيل
هذا الشرط مطلقا وفي جميع الموارد موجبا للعسر على المكلفين زائدا على ما يقتضيه
طباع العمل صار هذا سببا لجعل الطهارة الظاهرية ورفع اليد عن ملاك الواقع
لوقوع المزاحمة بينه وبين مفسدة العسر، وبعد جعلها (الظاهر في قناعة الشارع بها)
يخرج الواقع من الفعلية، فما هو الموجب لحمل الواقع على الانشائية في سائر المقامات
هو تعذر انبعاث المكلف من قبله، وما هو الموجب لحمله عليها في المقام هو تعسر
انبعاثه من قبله فتدبر.
(فان قلت): إذا كان اتيان الصلاة في المشكوك فيه أيضا موجبا لانطباق عنوان
الواجب عليها ومقتضيا للاجزاء، فما الموجب لجعل حكمين طوليين بان يجعل الطهارة
شرطا مطلقا، ثم تنعزل عن الشرطية في حال الشك؟
(وبعبارة أخرى) لم يلتزم بحكمين طوليين: (واقعي وظاهري)؟ بل الواجب على
المولى حينئذ جعل حكم واحد بان يجعل العلم بالنجاسة مانعا حتى يصح الصلاة المأتي
بها فيما طهر واقعا وفي المشكوك فيه.
(قلت): قد عرفت آنفا انه يمكن في مقام الثبوت كون الصلاة المأتي بها مع الطهارة
الواقعية واجدة للملاك، بحيث يكون للطهارة أيضا دخل فيه، فلا بد من أن ينشأ الحكم أولا
وبالذات على العمل المقيد بالطهارة، غاية الامر انه لما كان هذا الملاك مزاحما بمفسدة
العسر (في بعض الأحوال) فلا محالة أوجب هذا سقوطها من الشرطية في تلك الحال والقناعة
بملاك أصل الواجب.
(فان قلت) بعد اللتيا واللتي فلا يرتفع الاشكال، فإنه لو سلم كون الطهارة شرطا
للصلاة كما هو المفروض، فبعد انكشاف الخلاف ينكشف عدم واجدية الصلاة لشرطها،
والمشروط عدم بعدم شرطه.
(قلت) قد عرفت أن مقتضى تحكيم مثل قوله (كل شئ نظيف) على الدليل الدال
على شرطية الطهارة هو سقوطها من الشرطية ورفع اليد عنها في حال الشك، فبانكشاف
138

نجاسة المشكوك فيه ينكشف عدم طهارته لا عدم واجدية العمل لاجزائه وشرائطه، إذ
مقتضى ما ذكرناه (في تقريب الاجزاء) صيرورة العمل في هذا الحال منطبقا لعنوان المأمور به
وإن لم يكن الطهارة موجودة بحسب الواقع، فللصلاة مثلا فردان طوليان يكون
كل منهما مصداقا لها، وانطباقها على أحدهما مشروط بالطهارة دون الاخر، فإذا أتى
الشاك في الطهارة ما هو وظيفته في هذا الحال وصار عمله مصداقا للمأمور به فلا مجال لبقاء
الامر حتى يحتاج إلى إعادة المأمور به.
(فان قلت): الطهارة الواقعية اما ان تكون دخيلة في انطباق عنوان الصلاة على
الأفعال المخصوصة وفي حصول الملاك المترقب من الصلاة، واما أن لا تكون دخيلة فيه
فان لم تكن دخيلة كان اشتراطها جزافا وان كانت دخيلة فبانكشاف خلاف ينكشف
فوت الملاك الملزم، ولازم ذلك وجوب الإعادة أو القضاء.
(قلت): يحتمل (بحسب مقام الثبوت) أن يكون المقصود الأصلي من الامر بالصلاة
مثلا حصول الإطاعة والانقياد من العبد في مقابل المولى، غاية الامر ان تحقق الإطاعة لما كان
متوقفا على توجه الامر (من قبل المولى) إلى العبد متعلقا بعمل خاص حتى يصير
الامر داعيا للعبد نحو العمل ويصير عمله منطبقا لعنوان الإطاعة، فلا محالة وجب على
المولى ايجاد الامر متعلقا بعمل خاص حتى يتحقق بذلك موضوع الإطاعة المطلوبة بالذات،
وجميع الاعمال في الوفاء بهذا المقصود على نحو واحد سواء كان العمل بنفسه وبحسب
ذاته مشتملا على الملاك أم لا، ففي مقام ايجاد الموضوع (للإطاعة) يكفى ايجاد الامر
متعلقا بعمل خاص أي عمل كان، غاية الامر انه إذا فرض كون بعض الاعمال بحسب ذاته
أيضا مشتملا على ملاك ملزم أو غير ملزم، فاختيار هذا العمل من بين الاعمال والامر به
دون غيره يكون أولى بل يكون متعينا، لقبح ترجيح المرجوح، ولكنه في الوفاء بالغرض
الأصلي من الامر (من تحقيق موضوع الإطاعة) يكون كغيره من الاعمال، إذ لا يعتبر
في ذلك الا تعلق الامر بعمل خاص أي عمل كان ولا يعتبر في ذلك اشتمال المتعلق على الملاك فضلا
عن الملاك الملزم وعلي هذا فيحتمل (بحسب مقام الثبوت) أن يكون الصلاة مع الطهارة مثلا
مشتملة على ملاك غير ملزم ويكون المقصود من الامر بها حصول عنوان الإطاعة لا حصول ملاكها
139

وإلا لكان الامر المتعلق بها ندبيا، ثم لما رأى المولى ان تحصيل الطهارة في بعض الأوقات
موجب للعسر، وان مقصوده الأصلي (أعني انطباق عنوان الإطاعة) يترتب على اتيان
الصلاة الفاقدة للطهارة أيضا إذا أتى بها بداعي الامر، صار هذا سببا لرفع اليد عن الطهارة
لحصول لغرض الملزم بدونها، والفرض ان ذات العمل أيضا لا تشتمل على ملاك ملزم، و
هذا المعنى وان كان صرف احتمال في مقام الثبوت ولكنه يكفى في رفع احتمال استحالة
الاجزاء، وإذا أمكن في مقام الثبوت، والمفروض دلالة أدلة الأحكام الظاهرية عليه في
مقام الاثبات أيضا فلا مناص عن القول به فتدبر جيدا.
* (تذنيبان) *
(الأول) لا يتوهم في المقام ثبوت الفرق بين صورة كشف الخلاف وعدمه، إذ لو فرض
وجود مانع عقلي عن القول بالاجزاء في التكاليف الظاهرية وألجأنا هذا إلى رفع اليد عما هو
ظاهر أدلتها (من الاجزاء) فلا يبقى فرق بين المقامين. فلو فرض ان المصلى اعتمد مدة عمره
(في اتيان أجزاء صلاته وشرائطها) على ما اقتضاه وظيفته الظاهرية ولم ينكشف له الخلاف
ابدا وكان صلواته بحسب الواقع فاقدة لبعض الأجزاء والشرائط الواقعية، كان مقتضى
القول بعدم الاجزاء بطلان صلواته بأجمعها، والالتزام بهذا المعنى مشكل جدا، فالقول
بالاجزاء في هذه الصورة متعين، ومقتضى القول به سقوط الأجزاء والشرائط من الدخالة في
المأمور به (بالنسبة إلى هذا الشخص) وحينئذ فيقال انه إذا أمكن ذلك في مقام الثبوت فما الوجه
في تخصيصه بصورة عدم انكشاف الخلاف مع ظهور أدلة الأحكام الظاهرية في الاجزاء مطلقا.
(الثاني) ربما يتوهم ان القول بالاجزاء مستلزم للتصويب المجمع على بطلانه.
(أقول): قد اشتهر بين الفقهاء والأصوليين ان بطلان التصويب اجماعي، ولكن
لا يغرنك هذه الشهرة بل عليك بمراجعة تاريخ مسألة التخطئة والتصويب حتى يتبين لك
انها مسألة عقلية لا شرعية تعبدية يستند فيها إلى الاجماع، وان الاجماع المدعى فيها هو
اجماع المتكلمين من الامامية بما هم متكلمون، لا اجماع الفقهاء والمحدثين، الذي هو
140

حجة من الحجج الفقهية، ومنشأ النزاع في هذه المسألة هو النزاع في أحوال صحابة النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وانهم هل يكونون بأجمعهم مبرئين من الخطأ والفسق أو لا؟
(فذهب بعض المتكلمين) (من اهل السنة) إلى أن من يطلق عليه اسم الصحابي كائنا
من كان لا يكاد يخطئ فضلا عن أن يصدر عنه الفسق، ولو كانت الصحابة في آرائهم و
عقائدهم متناقضين فلا يكشف ذلك عن خطأ بعضهم حتى أن معاوية مثلا كان مصيبا في
مبارزته لعلي عليه السلام وكذلك علي عليه السلام في مبارزته لمعاوية.
(وقال بعضهم): ان المصيب من الصحابة من كان رأيه مطابقا للواقع، والباقون
مخطئون ولكنهم معذورون، لكونهم عاملين على وفق ما يقتضيه اجتهادهم.
(وقال بعضهم): ان الصحابي يمكن ان يصدر عنه الفسق أيضا فضلا عن الخطأ،
والقائل بهذا القول فيهم قليل حتى أنه يقال لهذا المذهب (في عرفهم): مذهب أصحاب البدع،
هذه أقول العامة.
(وقال شيخنا)
أبو جعفر الطوسي في كتاب العدة ما حاصله: " ان المتكلمين
من الفرقة الحقة من المتقدمين والمتأخرين كلهم اجمعوا على أن أصحاب الصواب فرقة
واحدة والباقون مخطئون " وهذا الكلام منه (قده) شاهد على ما قلناه من أن الاجماع على
بطلان التصويب ليس هو اجماع الفقهاء والمحدثين، بل اجماع المتكلمين بما هم متكلمون
لكون المسألة من المسائل العقلية التي يبحث فيها المتكلم بما هو متكلم وليست من المسائل
الشرعية المتلقاة من المعصومين (عليهم السلام) يدا بيد حتى يكون الاجماع فيها اجماع
اهل الحديث فيكون حجة. والحمد لله رب العالمين.
* (الفصل الثالث في مقدمة الواجب) *
اختلفوا في وجود الملازمة بين وجوب الشئ ووجوب مقدماته على أقوال، ولا يخفى
ان المراد بالمقدمة هنا ليس مطلق ما لا بد منه في وجود الشئ، حتى تشمل عدم الأضداد
المقارن لوجود الشئ المطلوب، بل المراد منها ما وقع في طريق وجود الشئ وما كان
متقدما عليه، سواء كان علة تامة أو ناقصة بتمام أقسامها من الشرط، وعدم المانع، وغيرهما
141

وقبل الخوض في المقصود نذكر أمورا مهمة،
(الامر الأول) قد ذكر في الكفاية ما حاصله: (ان المسألة أصولية، لكون البحث
فيها عن الملازمة لا عن وجود اللازم أعني وجوب المقدمة حتى تكون المسألة فرعية.)
(أقول): قد اتضح لك مما ذكرناه (في موضوع علم الأصول) عدم كون المسألة أصولية
وانما هي من المبادئ الأحكامية للفقه، حيث إنه كان للقدماء مباحث يبحث فيها عن
معاندات الاحكام وملازماتها يسمونها بالمبادئ الأحكامية، ومنها هذه المسألة
(فان قلت): إذا كان موضوع علم الأصول عبارة عن عنوان (الحجة في الفقه) وكان
البحث في العلم عن تعيناتها وتشخصاتها (كما مر شرح ذلك في مبحث الموضوع) فلم لا
يكون المسألة أصولية، مع أن البحث فيها عن تعين من تعيناتها إذ يبحث فيها عن أن وجوب
الشئ حجة على وجوب مقدماته أم لا؟
(قلت): ليس البحث في المسألة عن الحجية، بل عن الملازمة بين الوجوبين إذ مع
عدم الملازمة لا معنى لحجية وجوب شئ على وجوب شئ آخر، وبعد ثبوت الملازمة لا مورد
للبحث عن الحجية فان وجود أحد المتلازمين حجة على الاخر بالضرورة، ولا مجال للبحث
عنها، وبالجملة محط النظر في المسألة هو اثبات الملازمة لا الحجية.
الامر الثاني في تقسيمات المقدمة
(فمنها) ان المقدمة قد تكون داخلية، وقد تكون خارجية، والمراد بالخارجية
ما كانت مغايرة لذيها ماهية ووجودا، ولكن كانت في طريق وجوده كالوضوء بالنسبة
إلى الصلاة، وبالداخلية ما كانت من اجزائه ومقوماته. (ثم إنه) قد وقع البحث في
المقدمة الداخلية من جهتين.
(الجهة الأولى) في تصوير مقدمية الاجزاء فقد يستشكل فيها بتقريب ان المقدمية
عبارة عن كون أحدا لشيئين محتاجا إليه في وجود الاخر والاحتياج إضافة بين
شيئين ولا يمكن ان يعتبر بين الشئ ونفسه، واجزاء الشئ ليست الا نفسه
(وبتقريب آخر) مقدمة الشئ عبارة عما يقع في طريق وجوده، والشيئ لا يقع
142

في طريق وجود نفسه. ونظير هذا الاشكال الاشكال الوارد على عد المادة والصورة من
اجزاء العلة التامة، مع كون المعلول أيضا عبارة عن مجموع المادة والصورة.
وأجاب عن الاشكال (في الكفاية) بان المقدمة هي نفس الاجزاء بالاسر، وذو المقدمة
هو الاجزاء بشرط الاجتماع، (ثم قال): وبذلك ظهر انه لا بد في اعتبار الجزئية من اخذ
الشئ بلا شرط، كما لا بد في اعتبار الكلية من اعتبار اشتراط الاجتماع.
(أقول): لا يخفى عليك ان المقدمة الداخلية ليست عبارة عن الاجزاء بالاسر، بل
هي عبارة عن كل واحد من الاجزاء بحياله واستقلاله. فالركوع مثلا مقدمة للصلاة،
والسجود مقدمة أخرى لها، وهكذا، والاجزاء مقدمات للكل لا مقدمة له، إذ المقدمة
كما قلنا عبارة عن موجود يحتاج إليه شئ آخر في وجوده، والاجزاء بما هي اجزاء
ليست بموقوف عليها، وانما الموقوف عليه هو كل واحد منها، فكما أن طبيعة الانسان
تصدق على زيد مستقلا وعلى عمرو مستقلا وعلى بكر كذلك ولا يمكن ان يقال (ان زيدا
وعمروا وبكرا مصداق للانسان) بل كل واحد منهم مصداق بشخصه لما تقرر في
محله من أن الطبيعي يتكثر بتكثر افراده، فكذلك عنوان المقدمة تصدق على كل واحد
من الركوع والسجود والقراءة وهكذا، لا على الركوع والسجود والقراءة، فإنها
مقدمات لا مقدمة ولا دليل على اعتبار التغاير بين مجموع المقدمات وذي المقدمة،
وانما يعتبر التغاير بين كل مقدمة وذيها، فالركوع مقدمة للصلاة ومغاير لها، والسجود
أيضا مقدمة ومغاير لها وهكذا، ولكن مجموع الركوع والسجود والقراءة وسائر
الاجزاء مقدمات وهي عين الصلاة.
وبتقرير آخر الجزء فيما هو كثير حقيقة وواحد بالاعتبار كالصلاة مثلا، نظير البعض
فيما هو واحد حقيقة وكثير بالاعتبار فالماء الموجود في الحوض مثلا موجود واحد
ممتد حقيقة ولكن يمكن ان يعتبر له أبعاض يختلف كل منها مع الكل ومع سائر
الأبعاض، فالبعض الموجود منه في جانب المشرق إذا لوحظ بحياله وبحدوده مغاير
للكل وللبعض الموجود منه في جانب المغرب مثلا، وكذلك البعض الموجود منه في
طرف الجنوب إذا لو حظ بحياله مغاير للكل وللأبعاض الاخر.
143

وقد عرفت في مبحث المشتق ان كلما يتصور له أجزاء أو أبعاض فكل جزء أو بعض
منه يمكن ان يلحظ بنحو الابهام في التحصل فلا يكون في هذا اللحاظ مغايرا للكل
ولسائر الاجزاء أو الأبعاض، ويمكن ان يلحظ تام التحصل فيختلف في هذا اللحاظ مع
الكل ومع سائر الاجزاء والأبعاض.
(وبالجملة) ماء الحوض (مع وحدته وبساطته) يمكن ان يعتبر له أبعاض يغاير كل
منها مع الكل ومع سائر الأبعاض وان كان المجموع عين الكل، فإذا عرفت حال الواحد
الحقيقي فقس عليه الواحد الاعتباري كالصلاة مثلا، فإنها وان كانت عبارة عن متكثرات
في الوجود بحيث يمتاز كمل منها من غيره ولكنه قد لوحظت هذه المتكثرات بنظر الوحدة و
اعتبرها الآمر موجودا واحدا من جهة اشتمالها على غرض واحد، وكل واحد من هذه المتكثرات
جزء وبعض له، ويخالف وجود الكل إذا لوحظ هذا الجزء موجودا بحياله، ويكون
وجود هذا الواحد الاعتباري محتاجا إلى وجود هذا الجزء، فيكون الجزء مقدمة
من مقدماته.
(والحاصل) ان الجزء الذي يطلق عليه المقدمة هو الذي تألف منه ومن غيره الكل
فالكل محتاج والجزء محتاج إليه فتميز المحتاج من المحتاج إليه. (1)
(الجهة الثانية) هل المقدمة الداخلية واجبة بالوجوب النفسي الضمني الانبساطي،
أو بالوجوب الغيرى، أو بهما معا؟ في المسألة أقوال، أجودها الأول لما مر (في مبحث
الصحيح والأعم) من أن الوجوب وان كان واحدا حقيقة، ولكنه يتبعض بتبعض متعلقه،
وينبسط على اجزائه: ومرتبة الوجوب النفسي متقدمة على الوجوب الغيرى، لكونه من
ترشحاته، وعلى هذا فلا يبقى موضوع للوجوب الغيرى.
(وأردأ الأقوال ثانيها)، إذ الكل ليس الأنفس الاجزاء، فلو فرض كون كل واحد
من الاجزاء واجبا بالوجوب الغيرى فقط لم يبق موضوع للوجوب النفسي حتى يترشح

(1) أقول: يمكن ان يقال: ان الغائلة بعد باقية، فان التكبير مثلا (على هذا) مقدمة و
محتاج إليه، وكذا القراءة والركوع وسائر الاجزاء إلى التسليم وحينئذ فأين المحتاج؟
وبعبارة أخرى المصلى من أول صلاته إلى آخرها مشغول بايجاد المقدمات، فمتى اشتغل
بايجاد ذيها؟ ح - ع
144

منه الواجبات الغيرية.
(ومن التقسيمات) (التي ذكروها أيضا للمقدمة) انها اما عقلية ان امتنع وجود ذي المقدمة
بدونها عقلا كالعلة بالنسبة إلى المعلول، واما شرعية ان امتنع وجوده بدونها شرعا
كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة، واما عادية ان امتنع وجوده بدونها عادة كنصب السلم
بالنسبة إلى الصعود.
(أقول): الظاهر رجوع الأخيرين أيضا إلى الأول، (اما الشرعية) فلان امتناع وجود
شئ بدون شئ آخر (الذي هو ملاك المقدمية) ليس امرا قابلا للجعل، بان يكون الصلاة
مثلا بما لها من الآثار والغايات في نفس الامر امرا يتحقق بحسب الواقع بدون الطهارة أيضا
ومع ذلك يحكم الشارع تعبدا بامتناع وجودها بدونها، وعلى هذا فحكم الشارع بامتناع
الصلاة بدون الطهارة مثلا اما من جهة انه اخذها قيدا للصلاة حين الامر بها، لدخالة لها
في المصلحة المترقبة منها، واما من جهة ان عنوان الصلاة كانت بحسب الواقع عنوانا بسيطا
تنتزع عن الأفعال المخصوصة، وكان انطباقها عليها في نفس الامر متوقفا على الطهارة
فكشف الشارع عن ذلك، وعلى كلا الوجهين تكون دخالة الطهارة عقلية، اما على الثاني
فواضح، واما على الأول فلان استحالة وجود المقيد بدون قيده تكون عقلية.
(واما) رجوع المقدمة العادية إلى المقدمات العقلية فلان نصب السلم مثلا من
المقدمات العقلية للصعود بالنسبة إلى من لا يقدر على الطيران وأمثاله، لامتناع وجوده
بدونه بالنسبة إلى هذا الشخص، ولا مقدمية له أصلا بالنسبة إلى من يقدر على الطيران أو غيره
(ومن التقسيمات أيضا) تقسيمها إلى مقدمة الوجود، ومقدمة الصحة، ومقدمة
الوجوب، ومقدمة العلم. (ولا يخفى) رجوع مقدمة الصحة إلى مقدمة الوجود، اما
على الصحيحي فواضح، واما على القول بكون الأسامي موضوعة للأعم فلان الكلام في
مقدمات ما هو الواجب والمأمور به وهو أخص من الموضوع له. (ولا اشكال) أيضا في خروج
مقدمة الوجوب من محل النزاع، إذ المقدمة التي يتوقف عليها الوجوب، قبل وجودها لا
وجوب لذيها حتى يترشح منه إليها، وبعد وجودها لا معنى لوجوبها.
(واما مقدمة العلم) فهي أيضا خارجة من محل النزاع، لعدم كونها ذيها (أعني العلم)
145

واجبا شرعيا حتى يترشح الوجوب منه إليها، فالوجوب فيها وجوب عقلي من باب حكمه
بوجوب الإطاعة.
(ومن التقسيمات أيضا) تقسيمها إلى ما تكون متقدمة بحسب الزمان على ذيها،
وما تكون متأخرة عنه، وما تكون مقارنة له. فمن أمثلة المتقدمة العقد في الوصية والصرف
والسلم، بل غالب الاجزاء من كل عقد. ومن أمثلة المتأخرة أغسال الليلة اللاحقة
المعتبرة (عند بعض) في صحة صوم المستحاضة في اليوم السابق، ومثلها الإجازة المتأخرة
في عقد الفضولي (بناء على الكشف)، وهكذا قدرة المكلفين التي هي من الشرائط العامة
لصحة التكليف، فان ما يكون شرطا للتكليف انما هي القدرة حين العمل وهي متأخرة عن
التكليف، لا القدرة حين التكليف، ضرورة عدم جواز تكليف من يقدر حين التكليف
ويعجز وقت العمل وجواز العكس.
(ثم إنه) ربما يستشكل في المقدمة المتأخرة بتقريب ان المقدمة من اجزاء العلة، ولا بد من
تقدمها بجميع اجزائها على المعلول، وعلى هذا فكيف يتصور مقدمية الامر المتأخر؟
بل قال (في الكفاية): بورود الاشكال في الشرط والمقتضى المتقدمين زمانا المتصرمين
حين الأثر أيضا، كالعقد في الوصية وأمثالها بل غالب الاجزاء في كل عقد.
(ثم قال " ره ") في مقام الجواب عن الاشكال (ما حاصله): ان الموارد التي توهم فيها
انخرام القاعدة العقلية لا تخلو من أقسام ثلث فان المتقدم أو المتأخر اما أن يكون شرطا
للتكليف كالقدرة مثلا، أو لامر وضعي كالإجازة في الفضولي، أو للمأمور به كالأغسال
الليلية في صوم المستحاضة.
(اما في شرائط التكليف) فالمتقدم أو المتأخر ليس بوجوده الخارجي شرطا لصحة
التكليف، وانما الشرط (في صحته) لحاظ، كالشرط المقارن بعينه.
(وبالجملة) معنى شرطية شئ للتكليف مقارنا كان أو غير مقارن ليس إلا أن للحاظه و
وجوده الذهني دخلا في حصول الداعي إلى الامر أو النهى، واللحاظ مقارن للتكليف وان
كان الملحوظ غير مقارن.
(وكذا الحال) في شرايط الوضع، فان الأمور الوضعية كالملكية مثلا لما كانت أمورا
146

اعتبارية وانتزاعية فلا محالة يمكن دخالة أمور متأخرة في اعتبارها وانتزاعها، وليس
معنى ذلك الا ان للحاظ هذه الأمور دخلا في اعتبارها، فالملكية مثلا انما يعتبرها
الشارع والعقلاء بعد لحاظهم تحقق الإجازة ولو في زمان متأخر.
(واما شرائط المأمور به) فمعنى كون شئ شرطا له ليس إلا كونه دخيلا في صيرورة
المأمور به معنونا بعنوان، به يكون حسنا ومتعلقا للإرادة، وكما يمكن ان يصير الشئ
بسبب اضافته إلى امر مقارن معنونا بعنوان حسن، فكذلك يمكن ان يصير بسبب اضافته
إلى امر متقدم أو متأخر معنونا فعلا بعنوان حسن موجب لإرادته والامر به، فمن يمشي بقصد
استقبال زيد مثلا انما ينطبق على مشيه عنوان الاستقبال فعلا إذا كان بحسب الواقع يتحقق
مجئ زيد في الغد. واختلاف العناوين باختلاف الإضافات كاختلاف الحسن والقبح
باختلاف العناوين مما لا شك فيه ولا شبهة تعتريه. (انتهى)
(أقول): الأولى ان نذكر لتنقيح المقام مقدمة لا تخلو بنفسها من الفائدة، وهي
ان الأصوليين قسموا المقدمة بتقسيم آخر إلى السبب والشرط والمعد وعدم المانع، و
قالوا في تعاريفها: ان السبب ما يلزم عن عدمه العدم ومن وجوده الوجود، والشرط ما
يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود، والمعد ما يلزم من عدمه ووجوده الوجود،
والمانع ما يلزم من وجوده العدم.
(وبعبارة أخرى) ما توقف عليه الشئ اما أن يكون مؤثرا في وجود المتوقف و
يكون منه وجوده، واما أن يكون مؤثرا في قابلية المتوقف للوجود لا في أصل وجوده
فالأول هو السبب، والثاني اما أن يكون امرا وجوديا فهو الشرط، أو عدميا فعدم المانع،
أو مركبا منهما فهو المعد، هذا ما قالوه.
(والظاهر) وجود التنافي بين تعريفي السبب، فان ما منه الوجود (كما في التعريف الثاني)
هو المقتضى، وهو لا يلزم من وجوده الوجود وان كان يلزم من عدمه العدم، وما يلزم من وجوده
الوجود ومن عدمه العدم (كما في التعريف الأول) هو العلة التامة، وهي ليست بجميع اجزائها
مؤثرة في الوجود وفاعلة له وانما المؤثر هو المقتضى فقط. اللهم الا ان يراد من السبب
المقتضى فقط ولكن لا مطلقا، بل في ظرف وجود الشرط وعدم المانع فينطبق عليه التعريفان
147

وهيهنا أمور يجب ان ينبه عليها
(الأول) ان في عد عدم المانع من المقدمات نحو مسامحة، ومثله العدم الذي
هو جزء من المعد، فان العدم بما هو عدم لا يؤثر ولا يتأثر، ولكنهم لما رأوا ان وجود
بعض الأشياء يدفع تأثير المقتضى سامحوا فعدوا عدمه من المقدمات، وكذلك العدم في
المعد فإنهم حيث رأوا ان الجزء الأول من الحركة ما لم ينعدم لم يوجد الجزء الاخر الموصل
إلى المقصود، فلا محالة ألجأهم ذلك إلى عد عدمه من المقدمات.
(الثاني) لا يبعد ان يقال بكون المعد من أقسام الشرط، فان الشئ الوجودي
المؤثر في قابلية شئ آخر للوجود اما أن يكون من الأمور المتصرمة واما أن لا يكون كذلك،
فاصطلحوا على تسمية القسم الأول معدا وذلك كالحركة (أي نحو منها كانت)، فان حركة
الثمرات مثلا من أول كونها في الاكمام إلى زمن ايناعها بالحركة الكمية أو الكيفية أو
نحوهما أيضا من المعدات للمرتبة الأخيرة.
(الثالث) ان تقسيمهم للمقدمة لما كان في مبحث اثبات الوجوب لها، فمن أجل
ذلك مثلوا للمقدمة السببية بالفعل الاختياري الذي يتولد منه قهرا فعل آخر مثل حركة
اليد المولدة لحركة المفتاح، فان الفعل الغير الاختياري لا معنى للبحث عن وجوبه.
(الرابع) ان الصادر عن الفاعل في الأفعال التوليدية هل هو فعل واحدا وفعلان؟
(يمكن ان يقال): انه فعل واحد لصدور السبب والمسبب عن إرادة واحدة
سواء تعلقت بالسبب كما إذا أراد تحريك يده من غير التفات إلى كون المفتاح في يده فتحرك
بتبعها، أو تعلقت بالمسبب كما إذا أراد تحريك المفتاح من غير التفات تفصيلي إلى حركة
اليد، وعلى هذا فلا مجال للبحث عن الوجوب المقدمي في الأفعال التوليدية، لتوقفه على
كون المقدمة وذيها فعلين حتى يترشح الوجوب من الثاني إلى الأول.
(ويمكن ان يقال أيضا): ان الصادر عنه فعلان، فان الحركة القائمة باليد امر موجود
مغاير للحركة القائمة بالمفتاح، وتعدد الوجود مساوق لتعدد الايجاد والاصدار، لكون
الايجاد عين الوجود، وتغايرهما بالاعتبار، فان الوجود الواحد إذا نسب إلى القابل سمى
وجودا، وإذا نسب إلى الفاعل سمى ايجادا، وذلك لوضوح انه ليس سوى وجود العلة
148

ووجود المعلول وجود ثالث بينهما يسمى بالايجاد، هذا. (والاحتمال الثاني) أقوى من
الأول كما لا يخفى.
(الخامس) انه وقع بين الأصوليين نزاع في أنه هل يجوز ان يؤمر المكلف بالمسببات
أو لا يجوز بل الواجب تعلق الامر بأسبابها حتى أنه إذا فرض تعلقه بحسب الظاهر بالمسبب
فهو بحسب الحقيقة متعلق بالسبب؟
(ولا يخفى) ان النزاع في ترشح الوجوب من ذي المقدمة إلى المقدمة (في المقدمات
السببية) انما هو على الأول دون الثاني. (واستدل) لعدم الجواز بوجهين:
(الأول) ان المسبب غير مقدور للمكلف، ولا يجوز التكليف بغير المقدور.
(الثاني) ان المكلف به يجب أن يكون فعلا من أفعال المكلف، وحركة المفتاح
مثلا ليست من أفعاله، وما هو فعل له عبارة عن السبب (أعني حركة اليد).
(والجواب) اما عن الأول فبان المقدور بالواسطة أيضا مقدور، إذ كل واحد من
وجوده وعدمه باختيار المكلف (واما عن الثاني) فبانا لا نعنى بالفعل الا ما يكون صادرا عن
المكلف بحيث لولا اصداره له لما وجد، فلو لم يحرك المكلف يده مثلا لما تحرك المفتاح ولا انفتح
الباب، فحركة المفتاح وانفتاح الباب كلاهما فعلان اختياريان للمكلف، غاية الامر كونهما
مع الواسطة، هذا، (مضافا) إلى أنه لم يرد آية ولا رواية على أن المأمور به يجب ان ينطبق
عليه عنوان الفعل، وانما الذي يجب (بحكم العقل) هو أن يكون وجود المأمور به مستندا
إلى إرادة المكلف واختياره بحيث ان أراد ايجاده وجد وان أراد تركه لم يوجد، وهيهنا كذلك
(وربما يفصل) في المسألة بين ما إذا توسط إرادة من الغير بين وجود السبب ووجود المسبب
وبين ما لم تتوسط، ففي الأول ان ورد أمر بالمسبب فهو أمر بالسبب حقيقة بخلاف الثاني، مثال
الأول ما إذا كلف زيد من طرف مولاه بالقاء عمرو في المسبعة أو بتسليمه إلى ظالم ليقتله، فان
إرادة السبع أو الظالم تتوسط في هلاك عمرو فان تعلق الامر ظاهرا بهلاك عمرو بهذه الكيفية
فهو متعلق بالسبب حقيقة، وهو الالقاء أو التسليم، ومثال الثاني حركة اليد وحركة المفتاح.
(وهذا التفصيل) أيضا خلاف التحقيق، فالأقوى ان المسببات يجوز ان تكون
مأمورا بها مطلقا.
149

(فتخلص مما ذكرنا) ان المسبب في الأفعال التوليدية فعل للمكلف، وانه يمكن تعلق
الوجوب به، وانه يترشح الوجوب منه إلى السبب ان قلنا بوجوب مقدمة الواجب.
(ولا فرق) في ذلك بين أن يكون المسبب صادرا عن المكلف بواسطة واحدة أو
يكون صادرا عنه بوسائط، بل وان صار المكلف حين وصول اثره إلى الهدف ميتا، كما
إذا رمى زيد سهما من القوس بقصد قتل عمرو ثم مات زيد قبل وصول سهمه إلى الهدف،
فحركة اليد فعل لزيد بلا واسطة، وخروج السهم من القوس، وحركته في الجو، ووصوله
إلى عمرو، وزهاق روح عمرو، كلها أفعال اختيارية له مع الواسطة، فإن كان ازهاق روح
عمرو واجبا عليه كان تحريك اليد وسائر الوسائط مقدمات سببية لذلك الواجب، وترشح
الوجوب عليها ان قلنا بوجوب المقدمة (وقد ظهر) لك أيضا ان مراد الأصوليين من
المقدمات السببية هذا القسم من الأسباب (أعني الأسباب للأفعال التوليدية).
(السادس) ان من احكام العلة التامة واجزائها تقدمها على المعلول رتبة، وملاك
التقدم (في العلة التامة) هو وجوب الوجود بمعنى ان العقل لا يحكم بضرورة وجود
المعلول الا وهو يحكم في هذه الرتبة بضرورة وجود العلة أيضا فيقال وجبت العلة
فوجب المعلول ولكنه يحكم بضرورة وجود العلة في رتبة من دون ان يحكم (في هذه الرتبة)
بضرورة وجود المعلول، وملاك التقدم (في اجزاء العلة) هو نفس الوجود بمعنى انه لا يحكم
بوجود المعلول الا انه يحكم (في هذه الرتبة) بوجود المقتضى أو الشرط مثلا
(وبالجملة) ما هو مقتضى العلية هو تقدم العلة التامة واجزائها على المعلول تقدما طبعيا و
رتبيا، وهذا من غير فرق بين الموجودات الزمانية والموجودات الخارجة من وعاء الزمان واما
اقتضاء العلية لكون العلة واجزائها متقدمة بالزمان على المعلول فغير معلوم، نعم لما كانت العلة
التامة ما عنه يفيض المعلول وهو فيض لها كان انفكاكه منها غير جايز فهي مقارنة لمعلولها زمانا
(واما الشرط) مثلا فأي دليل على عدم جواز تقدمه أو تأخره زمانا.
(1)

(1) لقائل أن يقول: ان الشرط لما كان مؤثرا في القابلية كان هو بالنسبة إلى
وجود القابلية كالعلة التامة، فيجب تقارنهما زمانا، وعلي هذا فلا يمكن كون الشرط الذي هو
جزء من اجزاء العلة التامة متأخرا في الوجود عن معلولها، إذ القابلية ما لم تتحق لم يؤثر
العلة في وجود المعلول، بداهة تقدم القابلية على الفعلية. ح - ع
150

(وقد تبين لك) آنفا ان الأسباب في الأفعال التوليدية يجوز تقدمها على المسببات،
كما في مثال رمى السهم الواصل إلى الهدف (الذي أريد قتله به) بعد مدة من الزمان.
(والحاصل) ان اقتضاء العلية لكون جزء العلة مقارنا للمعلول بحسب الزمان غير
معلوم، ومن أين ثبت عدم جواز تقدمه أو تأخره؟ الا ترى (في العلة الغائية) انها متأخرة
عن معلولها، ومع ذلك لم تخرج من كونها علة.
(فان قلت) ليست العلة الغائية بوجودها الخارجي علة، بل بوجودها العلمي، ولذا لو
تخيل أحد ترتب غاية على فعله لاثر هذا الخيال في صدور الفعل عنه، وان انكشف بعد حصوله
ان الغاية المتخيلة لا تترتب عليه.
(قلت): ليس العلم بالغاية بما هو علم بها مؤثرا في وجود الفعل، بل بما هو طريق
إليها ومرآة لها (1) والشاهد على ذلك أن المؤثر في فعل الحكيم العالم بالعواقب الذي
لا يتصور في علمه مخالفة الواقع هو نفس الغاية لا علمه بها بما هو علم وصفة كمال لذاته.
(والحاصل) انه قد ظهر لك مما ذكرناه عدم ورود اشكال في الشرط المتقدم أو المتأخر
بحسب الزمان، فان الذي يعتبر فيه هو التقدم الرتبي لا غير.
(نعم) يعتبر في العلة التامة فقط تقارنها مع المعلول زمانا كما عرفت.
(ولو سلم) لزوم التقارن في الشروط أيضا فنحن أيضا في مخلص من اشكال الشرط
المتقدم أو المتأخر، (وتفصيل ذلك) هو ان يقال:
" اما في شرائط التكليف " فالحق في كل ما توهم شرطيتها له انها ليست بشرائط
وجوده بان يكون التكليف معلولا وهذه من اجزاء العلة لوجوده، بل الحق فيها انها

(1) يمكن ان يقال: ان العلم قد يكون تمام الموضوع لشئ أو لحكم، ولكن
لا بما أنه صفة لذات العالم في قبال سائر الصفات النفسانية، بل بما أنه طريق إلى الواقع.
مثال ذلك أن العلم بوجود السبع تمام الموضوع للخوف والوحشة، فإنه يؤثر في الخوف
وان كان الواقع عدم وجود السبع، ولكن تأثير هذا العلم في نفس الخائف ليس بما أنه علم
وصفة كمال من صفات النفس، بل بما أنه مرآة للواقع وهو وجود السبع. وعلي هذا فيمكن
القول بان العلم في العلة الغائية أيضا من هذا القبيل، لكفايته في وجود المعلول وان ظهر بعد
ذلك عدم ترتبها على الفعل. ح - ع
151

من قيود الموضوع في قضية من احكام العقل، يكون موضوعها التكليف، ومحمولها الامكان
بمعنى ان العقل يحكم بان التكليف الصادر عن المولى متعلقا بالمكلف المميز القادر
ممكن، وغير هذا القسم من التلكيف غير ممكن، فالقدرة والتميز ليسا من شرائط وجود
التكليف، بل هما قيدان له بما أنه يكون موضوعا لحكم العقل عليه بالامكان،
وكما يجوز أن يكون قيد الموضوع في قضية مقارنا له بحسب الوجود يجوز أيضا أن يكون
متأخرا عنه أو متقدما عليه، إذ الفرض انه ليس من اجزاء العلة لوجود الموضوع
حتى يجب تقارنه له، بل من قيوده بما هو موضوع لما حكم عليه في القضية.
(والحاصل) ان هذه الشروط ليست بشرائط لوجود التكليف، بل لامكانه الذي
هو من الاعتبارات العقلية، (1) وحينئذ فأين انخرام القاعدة العقلية مع أن موردها على فرض
تسلمها اجزاء علة الوجود؟ هذا في شرائط التكليف.
(واما شرائط المكلف به) فهي على قسمين (الأول) ما يكون قيدا للمأمور به بما هو مأمور
به بنحو يكون التقيد داخلا والقيد خارجا، وهذا انما يتصور فيما إذا كان ذات المأمور به
شيئا يحصل ويتحقق بدون هذا القيد أيضا، ولكن لم يكن باطلاقه مأمورا به بل امر به
مقيدا بهذا القيد، سواء كان مقارنا له أو متقدما عليه أو متأخرا عنه وذلك كالصلاة مثلا

(1) لقائل أن يقول: انا لا نتعقل دخالة مثل القدرة وأمثالها في امكان التكليف
فان التكليف بذاته موضوع لحكم العقل عليه بالامكان الذاتي، لا أنه يكون ممتنعا ذاتا الا
في حال تحقق الشرايط المذكورة.
" نعم " يمكن ان يقال: بعدم تمشى إرادة البعث من الآمر العاقل فيما إذا لم يوجد شرايط
التكليف، ولكن أين هذا من الامتناع الذاتي، فان المجنون مثلا يمكن ان يأمر جدا مع
عدم قدرة المكلف.
اللهم الا ان يقال: ان المجنون أيضا يتخيل قدرة المكلف ويأمره، لا انه يلتفت إلى عدم
القدرة ومع ذلك يأمر. والأولى ان يبدل كلمة الامكان بالحسن، بان يقال: ان العقل
لا يحكم بحسن التكليف الا إذا كان المكلف قادرا مثلا، فمثل القدرة قيد للموضوع في قضية
من محكومات العقل، يكون موضوعها التكليف ومحمولها الحسن.
" ثم اعلم " ان ما ذكره سيدنا الاستاد الأكبر " مد ظله " انما هو في الشرائط العقلية
للتكليف، لعدم جريانه في الشرائط الشرعية الثابتة له، كالاستطاعة في الحج مثلا، فإنها
ليست دخيلة في امكان التكليف بالحج. ح - ع
152

ان قلنا بأنها شئ يتحقق ويوجد بنفس اجزائها، ولو كانت فاقدة لشرائطها: من الوضوء
والغسل ونحوهما، ولكن الشارع لم يأمر بها باطلاقها بل حال كونها مقيدة بأشياء: من
الوضوء والغسل وأمثالهما
(فالمراد بالشرط) حينئذ ليس هو الشرط الذي يكون من اجزاء علة الوجود إذ
المفروض تحقق ذات الصلاة مثلا بدون الشرط أيضا، بل المراد بالشرط هنا ما اخذ قيدا
للمأمور به، فذات المأمور به توجد بدون القيد أيضا، ولكنه لا يتحقق بما أنه مأمور به
الا باتيان قيده، إذ المفروض ان التقيد به داخل في المأمور به وان كان نفس القيد خارجا
(ثم اعلم) ان وجود التقيد الذي هو جزء تحليلي للمأمور به لما كان بعين وجود
القيد، من جهة انه ليس شيئا مستقلا في قبال القيد، بل هو امر ينتزع عنه، ومن البديهي
ان وجود الامر الانتزاعي بوجود منشأ انتزاعه، (أمكن ان يقال): بكون القيود مأمورا بها
بنفس الامر المتعلق بالمأمور به، لا بامر غيرى ترشحي كما في سائر اجزاء المأمور به، حيث
ذكرنا سابقا انها تكون مأمورا بها بالأمر الضمني الانبساطي لا الغيرى الترشحي
(وبالجملة) وجود القيد بعينه وجود للتقيد الذي هو جزء تحليلي للمأمور به، فلا
محالة يصير القيد بما أنه وجود للتقيد واجبا بالوجوب النفسي الضمني.
(القسم الثاني) ما يكون دخيلا في انطباق عنوان المأمور به على معنونه، و
ذلك انما يتصور فيما إذا كان المأمور به من العناوين الانتزاعية التي يكون وجودها بوجود
منشأ انتزاعها، فإنه يمكن حينئذ (بحسب مقام الثبوت) أن يكون لوجود بعض الأشياء في
ظرف وجوده دخالة في انتزاع هذا العنوان المأمور به عن منشأه وانطباقه عليه، وذلك
كالصلاة أيضا، فإنه من الجايز أن يكون الصلاة المأمور بها امرا بسيطا ينتزع عن الأفعال
والأقوال المخصوصة من التكبير إلى التسليم، ولكن يكون للوضوء المتقدم مثلا أيضا
دخل في انتزاع هذا العنوان البسيط عن هذه الأفعال والأقوال. وحينئذ كما يمكن أن يكون
لبعض الأمور المقارنة دخل في انتزاع العنوان عن معنونه، كذلك يمكن دخالة بعض
الأمور المتقدمة أو المتأخرة كالاستقبال مثلا، فان قدوم المسافر المستقبل دخيل في انطباق
عنوان الاستقبال على مشي من اراده، مع كون هذا القدوم متأخرا عن هذا المشي.
153

(والسر في ذلك) ان الوجود المتأخر مثلا ليس من اجزاء علة الوجود المتقدم حتى
لا يجوز تأخره عنه، بل غاية ما يكون ان له نحو دخالة في انطباق عنوان خاص على ذلك
الوجود المتقدم
(وكيف كان) ففي كلا القسمين (الذين ذكرنا لشرائط المأمور به) لا يلزم انخرام القاعدة
العقلية، لعدم كون الشرائط شرائط لوجوده.
(وبعبارة أخرى) ليس المراد بالشرط في المقام الشرط الذي هو أحد من اجزاء علة
الوجود، بل المراد به قيد المأمور به أو ما يكون دخيلا في انتزاع عنوانه عن معنونه.
(نعم) لا ينكر انه يمكن أن يكون بعض الأمور المسماة بالشروط من اجزاء علة الوجود
للمأمور به، ولكن ليس لنا في هذا القسم من الشروط شرط يكون متأخرا في الوجود، هذا.
(مضافا) إلى ما ذكرناه من أن حكم العقل بلزوم التقارن منحصر في العلة التامة، و
في غيرها لا دليل عليه فتدبر.
(الامر الثالث في تقسيمات الواجب)
(فمنها) ان الواجب اما مطلق أو مشروط وقد عرفا بتعاريف لا يهمنا ذكرها والنقض
والابرام فيها، (والأحسن) ما ذكره شيخنا الاستاد في الكفاية (وتوضيحه) ان وصفى
الاطلاق والاشتراط وصفان إضافيان فلا يتواردان على موضوع واحد من جهة واحدة
فإنه مقتضى تقابل المتضائفين ولكن يجوز صدقهما معا على موضوع واحد بجهتين.
وعلى هذا فكل واجب إذا لوحظ بالإضافة إلى شئ آخر فاما أن يكون وجوبه مشروطا
بوجود ذلك الشئ بحيث يتوقف وجوبه على وجوده، واما أن لا يكون كذلك بان لا يكون
لوجود ذلك الشئ دخل في وجوبه وان كان دخيلا في وجوده (فعلى الأول) يكون الواجب
بالإضافة إلى هذا الشئ مشروطا وان كان بالإضافة إلى شئ آخر مطلقا،
(وعلى الثاني) يكون الواجب بالإضافة إلى هذا الشئ مطلقا وان كان بالإضافة إلى
شئ آخر مشروطا، فكل واجب مشروط بالنسبة إلى بعض الأشياء ولا أقل من الشرائط العامة،
ومطلق بالنسبة إلى أشياء اخر، فالاطلاق والاشتراط نظير الأبوة والبنوة لا يجتمعان في شئ
154

واحد من جهة واحدة ولكن يجتمعان من جهتين.
(واعلم) ان الشرط في الواجب المشروط يمكن أن يكون من المقدمات الوجودية
للواجب أيضا كالقدرة، ويمكن أن لا يكون منها كالاستطاعة الشرعية في الحج.
(واما ما تراه) في كلام بعضهم من تعريف الواجب المشروط بما يتوقف وجوبه على
ما يتوقف عليه وجوده فليس مرادهم من ذلك حصر مقدمة الوجوب في المقدمات الوجودية
بل لما كان محط كلامهم مسألة وجوب المقدمة (ولا محالة يكون هذا البحث في المقدمات
الوجودية للواجب) أرادوا ان ينبهوا على أن النزاع في وجوب المقدمات الوجودية انما
هو في غير ما يكون منها مقدمة للوجوب أيضا، فان ما كان منها كذلك لا يمكن ترشح الوجوب
من ذي المقدمة إليها، إذ قبل وجودها لا وجوب لذيها، وبعده لا معنى لترشح الوجوب
إليها لاستلزامه تحصيل الحاصل، وبالجملة تعريفهم هنا للواجب المشروط ليس لغرض
التعريف حتى يجب كونه جامعا ومانعا، بل كان غرضهم استثناء بعض المقدمات الوجودية
من محل النزاع في مسألة وجوب المقدمة.
(إذا عرفت ما ذكرنا فنقول) إذا ورد جملة شرطية وكان جزائها امرا أو نهيا أو
نحوهما مما يدل على طلب وجود الفعل أو تركه مثل أن يقول المولى: (ان جاءك زيد فأكرمه)
ففيها بالنظر البدوي احتمالان (الأول) أن يكون الشرط قيدا لمفاد هيئة الامر أو النهى
وهو الطلب أو الزجر الحتمي بان يكون الطلب والوجوب مثلا مقيدا، والمتعلق أعني الاكرام
مطلقا، فيكون حاصل معنى الكلام انه يجب عليك عند مجيئ زيد الاكرام، ولازم ذلك أن
الشرط ان كان لا يتحقق ابدا فلا وجوب أصلا، وعلى فرض تحققه في زمان فلا وجوب
قبل تحققه بل الوجوب يتحقق بعد تحققه الا إذا اعتبر على نحو الشرط المتأخر.
(الثاني) أن يكون قيدا لمفاد مادة الامر أو النهى أعني الاكرام مثلا ويكون مفاد
الهيئة مطلقا، فيكون مفاد الكلام المذكور انه يجب عليك الاكرام المقيد بكونه
عند مجيئ زيد، فالوجوب مطلق غير مقيد بمجيئ زيد ولكنه تعلق بالإكرام المقيد،
فالوجوب يتحقق بنفس الانشاء جاء زيد أو لم يجئ هذا بحسب مقام الثبوت.
(واما في مقام الاثبات) فاختار المشهور رجوع القيد إلى الهيئة وصيرورة الوجوب
155

في أمثال ذلك مشروطا بحصول الشرط، (وقال شيخنا الأنصاري قده) على ما في
تقريرات بعض الأعاظم المقرر لبحثه: ان مقتضى القواعد العربية وان كان رجوع القيد إلى
الهيئة كما اختاره المشهور ولكن مقتضى الدقة والتحقيق ارجاعه إلى المادة (وحاصل)
ما يوجد في كلامه من الاستدلال عليه وما يمكن ان يستدل، لمرامه أمور (الأول) الدليل
اللبي وقد استدل به هو (قده) (وحاصله) ان كل من توجه إلى فعل من الأفعال ولحظه بحدوده
وأطرافه فاما ان يتعلق غرضه به مطلقا بأي وجه حصل وفى أي زمان وجد واما أن لا يتعلق غرضه
به على اطلاقه بل يتعلق به مقيدا بكونه في زمان خاص أو مكان خاص، أو بكون حصوله على
وجه خاص، فالاطلاق والتقييد انما يقعان (بحسب مقام الثبوت) فيما يتوجه إليه النفس ويتعلق
به الغرض وهو نفس الفعل المأمور به (الثاني) ان الانشاء عبارة عن الايجاد ولا يعقل وقوع
التعليق في الايجاد. (الثالث) ان هيئة الامر والنهى موضوعان (بالوضع العام والموضوع له
الخاص) لخصوصيات الطلب وجزئياته لا لمفهوم الطلب، وإذا كان الموضوع له للهيئة
معنى جزئيا فكيف يتصور تقييدها إذ الاطلاق والتقييد انما يجريان في المفاهيم الكلية.
(الرابع) ان مفاد الهيئة (وهو الطلب) معنى حرفي غير ملحوظ استقلالا كما عرفت ذلك سابقا
وانما يتعلق به اللحاظ الاندكاكي في ضمن لحاظ متعلقه كسائر المعاني الحرفية، والشيئ
ما لم يتوجه إليه النفس ولم يلحظه مستقلا لم يعقل تقييده، إذ التقييد متوقف على لحاظ
المطلق أولا، هذا. (ثم إنه " قده ") توجه إلى اشكال في المقام وهو ان الطلب المطلق
إذا تعلق بفعل مقيد بقيد اختياري كان مقتضى اطلاق الطلب ايجاد المقيد ولو بايجاد قيده،
وعلي هذا فيلزم على ما ذكره " قده " (من ارجاع القيد مطلقا إلى المادة وابقاء الطلب
باطلاقه) وجوب تحصيل الاستطاعة في باب الحج مثلا مع كونه مخالفا لضرورة الدين.
وحيث توجه إلى ورود هذا الاشكال تصدى لدفعه (وحاصل ما ذكره في دفعه) ان الأحكام الشرعية
لما كانت على مذاق العدلية تابعة للمصالح والمفاسد الكامنة في المتعلقات وكانت
المصالح والمفاسد مما تختلف بالوجوه والاعتبارات
(فتارة) يكون الفعل المقيد بقيد خاص ذا مصلحة سواء كان قيده متعلقا للتكليف و
أتى على وجه الامتثال أو لم يكن متعلقا له ولم يؤت كذلك (وأخرى) يكون الفعل
156

المقيد بقيد خاص ذا مصلحة بشرط أن يكون قيده مكلفا به ومأتيا على وجه الامتثال بحيث
يكون وقوع القيد تحت الامر واتيانه على وجه الامتثال أيضا دخيلا في حسن الفعل المقيد
وصيرورته ذا مصلحة نظير الصلاة المقيدة بالطهارات الثلث العبادية.
(وثالثة) يكون الفعل المقيد بقيد خاص ذا مصلحة بشرط أن لا يكون قيده واقعا
تحت الامر بحيث يكون لكون القيد غير مكلف به دخل في كون المقيد حسنا وذا مصلحة،
فلا محالة يجب على المولى في الصورة الثالثة الامر بالمقيد بنحو لا يسرى إلى قيده ولا يصير
تحصيله واجبا، وعلى هذا فيمكن أن يكون مثال الحج ونظائره من هذا القبيل فالقيد
فيها على طريق المعاكسة مع الواجبات التعبدية وقيودها التعبدية، فكما أن للامر والتكليف
دخلا في صيرورتها ذات حسن ومصلحة فكذلك يكون لعدم تعلق التكليف بالقيد دخل
(فيما نحن فيه) في صيرورة المقيد بهذا القيد ذا مصلحة (و ح) فيجب على المولى الامر
بالمقيد المشتمل على المصلحة ولكن بنحو لا يسرى امره إلى القيد (انتهى).
(أقول): وفي بيانه (قده) نظر إذ كون شئ مأمورا به يمكن أن يكون دخيلا في
حسنه وصيرورته ذا مصلحة لجواز أن يكون تعلق الامر به موجبا لطرو عنوان، به يصير
حسنا وذا مصلحة كعنوان الامتثال مثلا حيث إنه لا ينطبق على فعل الا بعد كونه مأمورا
به واتيانه بداعي هذا الامر، وهذا بخلاف ما نحن فيه فان عدم تعلق الامر لا يعقل أن يكون
دخيلا في اشتمال الفعل على المصلحة وهل يقبل وجدانك أن يكون فعل من
الأفعال ذا مصلحة ويكون تعلق الامر به موجبا لخروجه من كونه كذلك؟
" وبالجملة " فنحن لا نتعقل أن يكون لعدم التكليف بشئ دخل في كونه ذا مصلحة،
هذا. وقد حررنا فيما علقناه سابقا على كفاية شيخنا الاستاد العلامة (قده) بعض ما يناسب
المقام فالأنسب نقله بألفاظه قوله (دام علوه) فإنه جعل الشئ واجبا على تقدير حصول ذاك
الشرط (الخ) (أقول): لا يخفى ان هذا التعليل لا يلائم القول باطلاق الهيئة ورجوع القيد إلى
المادة فان معناه عدم الوجوب على تقدير عدم حصول الشرط، ومقتضى عدم تقييد الهيئة
هو ثبوت الوجوب وجد هذا القيد أم لم يوجد.
(وبعبارة أخرى) مقتضى التعليل عدم استحقاق العقوبة على تقدير عدم الواجب بترك القيد
157

المذكور إذا كان اختياريا، ومقتضى اطلاق الوجوب وتقييد الواجب انه واجب سواء وجد
أم لم يوجد (نعم) إذا كان غير اختياري لا يستحق عقوبة على تقدير عدمه، (هذا) مضافا إلى أن
تقييد الواجب بأمر اختياري مع اطلاق الوجوب يستلزم سراية الوجوب إليه على القول
بالملازمة بل وعلى القول بعدمها بناء على ما تقدم من كون القيد كالجزء في كونه
واجبا بنفس وجوب المقيد فكيف يمكن عدم وجوب القيد مع وجوب المقيد وهذا واضح
(نعم) يستفاد من تقريرات بعض أفاضل تلامذة الشيخ (ره) وجه آخر لعدم سراية الوجوب
إليه وهو انه كما يمكن أن يكون فعل ذا مصلحة مطلقا، ويمكن أن يكون ذا مصلحة إذا
وجد متعلقا للتكليف كالعبادات، كذا يمكن أن يكون ذا مصلحة إذا وجد غير متعلق
للتكليف اما بتمامه أو ببعض قيوده ومقدماته (و ح) لا بد من عدم الامر به مطلقا ان كان عدم
التكليف به بقول مطلق دخيلا في ترتب المصلحة عليه، أو الامر به مع عدم اسراء الايجاب
إلى القيد ان كان عدم التكليف بالقيد معتبرا في ترتبها، و (ح) لا بد من عدم سراية الوجوب
إلى القيد لكونه نقضا لغرضه، (وهو) أيضا لا يخلو عن الاشكال لأنه ان فرض كون الغرض
والمصلحة مترتبا على الفعل المقيد بالقيد الذي يوجد قيده غير متعلق للتكليف، لزم عدم
الامر بالمقيد إذ تعلقه به مستلزم لكون القيد متعلقا له بناء على كونه كالجزء (نعم)
بناء على كونه كالمقدمات العقلية الخارجية وارجاع المقيد إلى عنوان بسيط
موقوف على وجود القيد توقف المعلول على علته، أمكن دعوى عدم السراية
بدعوى أن الملازمة انما تكون بين وجوب الشئ ووجوب مقدماته إذا كانت
قابلة له، وفيما نحن فيه ليست المقدمة قابلة له لكونها مقيدة بعدم الامر فيلزم من وجوبها
اجتماع النقيضين، لكن لا يخفى ان الامر بالمقيد وإن لم يسر إلى القيد بأحد الوجهين
لكن العقل يحكم بلزوم اتيانه لا طاعة ايجاب ذي المقدمة والتخلص من تبعة مخالفته (1)

(1) والحاصل انه بعد ما فرض كون الفعل المقيد بالقيد الذي لم يتعلق به التلكيف مشتملا
على مصلحة، وقد فرض أيضا عدم سراية الوجوب إلى القيد كان شرط القيد وهو عدم تعلق التكليف
به حاصلا قهرا فالعبد يتمكن فعلا من اتيان الفعل الواجد للمصلحة الذي امر به المولى، ولا
يلزم أن يكون مقدمته واجبة بالوجوب الشرعي بل اللابدية العقلية كافية في كون المكلف ملزما
باتيانها ليتمكن بها من ذيها الواجب على نحو الاطلاق. ح - ع
158

لان الفرض انه مطلق فيحكم ارشادا بلزوم تحصيله لتنجز الامر المطلق بما يتوقف عليه
واستلزام تركه لامتناع الواجب المطلق المتوقف عليه وهذا لا يرتفع الا بدعوى تقييد
الوجوب بوجود هذا القيد ولو بنحو الشرط المتأخر (انتهى ما أردنا نقله عن التعليقة).
هذه خلاصة ما قيل في المقام وإن شئت تحقيق المسألة (فاعلم) ان اللازم أولا هو الرجوع
إلى مقام الثبوت وبيان ما هو الملاك في تقييد المادة وما هو الملاك في تقييد الهيئة، والتأمل
في أنه هل يتصور (بحسب مقام الثبوت) كون مفاد الهيئة مقيدا أو لا يتصور؟
(فنقول وعليه التكلان): ان الأوامر الشرعية المتعلقة بأفعال المكلفين ليست
جزافية بضرورة من مذهب العدلية، بل كل واحد من الأوامر الشرعية قد صدر عن الشارع
اما من جهة كون متعلقه مشتملا على مصلحة ملزمة أريد ايصالها إلى العبد، أو من جهة
كون المتعلق رافعا للمفسدة الحاصلة للعبد أو دافعا للمفسدة المتوجهة إليه و (ح)
(فقد يرى المولى) ان الفعل الكذائي على اطلاقه وبأي وجه حصل مشتمل على
المصلحة أو رافع لمفسدة موجودة أو دافع لمفسدة متوجهة فحينئذ يأمر به مطلقا غير مقيد
بشئ من القيود (وقد يرى) ان الفعل الكذائي حال كونه مقيدا بقيد خاص مشتمل على
المصلحة أو رافع أو دافع للمفسدة فلا محالة يأمر به (ح) مقيدا بالقيد الذي يكون دخيلا في
اشتماله على المصلحة أو رفعه أو دفعه للمفسدة، فملاك تقييد المادة في مقام الثبوت هوان
يكون المشتمل على المصلحة أو الرافع أو الدافع للمفسدة عبارة عن الفعل المقيد بقيد
خاص لا نفس الفعل على اطلاقه.
(واما تقييد الهيئة) فإنما يتصور بملاكه في موضعين (الأول) أن يكون الغرض من
الامر دفع المفسدة المتوجهة أو رفع المفسدة الموجودة ولكن كانت المفسدة أمر يوجد
على تقدير خاص، اما لان هذا التقدير الخاص بنفسه جالب للمفسدة، واما لكونه ملازما
لما يوجب المفسدة فحينئذ يجب أن يكون طلب المولى وبعثه نحو العمل (الذي أريد به دفع
المفسدة) مقيدا بتحقق هذا التقدير إذ في غير هذا التقدير لا ملاك لبعثه، ومثال ذلك في
الأوامر الشرعية في غاية الكثرة كقوله: ان ظاهرت فأعتق رقبة أو ان أصبت الصيد في الحرم
فعليك كذا مثلا، فان الشارع لما رأى أن الظهار مثلا امر جالب للمفسدة أو ملازم لما
159

يجلبها، وكان غرضه انجاء العبد من المفسدة المتوجهة إليه اما بتمام مراتبها أو ببعضها
فلا محالة تعلق طلبه بما هو دخيل في انجاء العبد وتخليصه من المفسدة كالعتق مثلا، ولكن
لما كان توجه المفسدة على تقدير الظهار دون غيره كان عليه تقييد طلبه المتعلق بالعتق بصورة
وجود الظهار إذ في غيرها لا مفسدة حتى يريد دفعها أو رفعها، ولا مورد في هذا المقام لارجاع القيد
إلى المادة أعني العتق لما ذكرناه من أن تقييد المطلوب انما يصح فيما إذا كان القيد دخيلا
في كون المطلوب ذا مصلحة أو رافعا أو دافعا للمفسدة، وفيما نحن فيه ليس كذلك فان
الرافع للمفسدة التي تتوجه على تقدير الظهار انما هو نفس العتق لا العتق المقيد بالظهار
لان الظهار كان جالبا للمفسدة فلا يعقل دخالته في رفع اثر نفسه.
(وإن شئت) وضوح ذلك فانظر إلى المثال المعروف في هذا المقام، فإذا قال الطبيب إذا زاد
الصفراء فعليك بالسقمونيا مثلا فهل يكون الرافع لمرض المريض المبتلى بكثرة الصفراء هو
السقمونيا المقيد بازدياد الصفراء بحيث يكون جالب المفسدة أيضا دخيلا في رفعه، أو يكون
الرافع له هو نفس السقمونيا على اطلاقه غاية الامر ان امر المريض باستعماله لما كان لغرض انجائه
من المرض المتوجه إليه كان اللازم على الطبيب أمر المريض باستعماله على تقدير ازدياد الصفراء
بحيث يكون البعث في هذا التقدير فقط، لعدم وجود الملاك (أعني توجه المفسدة) في غير
هذا التقدير حتى يبعث المريض إلى ما يدفعها؟
(وبالجملة) القيد في تلك المقامات لا بد من أن يرجع إلى الهيئة.
(الموضع الثاني) أن يكون الغرض من الامر ايصال العبد إلى مصلحة اشتمل عليها الفعل
باطلاقه ولكن كان هناك مانع عن البعث نحو ذلك الفعل الا على تقدير خاص، ففي هذا المقام أيضا
يجب في مقام الثبوت تقييد الهيئة لا المادة، إذ المفروض ان مفاد المادة أعني المطلوب باطلاقه
مشتمل على المصلحة الموجبة للامر، (غاية الامر) ان البعث إليه لما كان مبتلى بالمانع على
بعض التقادير فلا محالة وجب على المولى تقييد مفاد الهيئة أعني البعث والطلب وتخصيصه بصورة
عدم وجود المانع المخصوص، ومثال هذا القسم جميع التكاليف الشرعية بالنسبة إلى
الشرائط العامة أعني البلوغ والعقل والقدرة، فما اشتمل على المصلحة انما هو نفس الصلاة
مثلا لا الصلاة المقيدة ببلوغ المكلف أو قدرته فلا مجال لتقييد المادة (ح) بل الواجب
160

على المولى حينئذ تقييد مفاد الهيئة أعني البعث لوجود المانع عن اطلاقه وهو قصور
المكلف عن الانبعاث.
(ومن أمثلة هذا القسم أيضا) الحج المشروط بالاستطاعة فان المشتمل على المصلحة انما
هو نفس الحج عن أي شخص صدر ولو من المنسكع، لا الحج المشروط بالاستطاعة
ولكنه لما كان البعث إليه مطلقا موجبا للعسر الشديد بل كان موجبا لخروج أكثر المكلفين
من ربقة الإطاعة فلا جرم كان على المولى من باب اللطف تخصيص بعثه بمن لا يعسر عليه.
(ومثل ذلك أيضا) الزكاة المشروطة بالنصاب مثلا إذ المشتمل على المصلحة أيضا
هو نفس الزكاة لا الزكاة المقيدة بالنصاب، ولكن لما كان البعث إليها مطلقا موجبا
للعسر كان على المولى تخصيصه بصورة مالكية النصاب، وهكذا. (وبالجملة) في
هذين الموضعين لا مجال لتقييد مفاد المادة إذ الفرض انه باطلاقه مشتمل على المصلحة
أو دافع أو رافع للمفسدة.
(إذا عرفت) ما ذكرناه في مقام الثبوت (من صور تقييد الهيئة) فنحن في مقام الاثبات
في غنى وكفاية عن الاستدلال، لظهور الجمل الشرطية في تقييد الهيئة كما لا يخفى على
من له دراية بالقواعد العربية والاستظهارات العرفية، بل قد عرفت اعتراف الشيخ (ره)
أيضا بان مقتضى القواعد العربية ارجاع القيد إلى الهيئة، ووجهه ظاهر، فان الظاهر من
قوله: (ان جاءك زيد فأكرمه) تعليق مفاد جملة الجزاء (أعني وجوب اكرام زيد) على
مجيئه، وهذا المعنى مما يفهمه أهل العرف من الجمل الشرطية وعليه مدار مخاطباتهم فإنهم
كما يحتاجون في مكالماتهم في بعض الأوقات إلى تقييد المادة فقد يحتاجون أيضا إلى تقييد
الهيئة لعدم تمكنهم من البعث الفعلي في بعض المقامات. وما ذكر من الاستدلال على عدم
جواز تقييد الهيئة شبهات في قبال البداهة، فان المرجع في تشخيص المرادات من الألفاظ
المستعملة هو فهم أهل العرف المستعملين لها وهم يفهمون من الجمل الشرطية بالبداهة
رجوع القيد فيها إلى الهيئة، (هذا) مضافا إلى أن ما ذكر (من أن الهيئة لا تقبل التقييد من
جهة انها وضعت للانشاء وهو امر لا يقبل التقييد) يمكن ان يذب عنه بان الانشاء وان كان
لا يقبل ذلك الا ان المراد من ارجاع القيد إلى الهيئة ليس تقييد الانشاء بل تقييد المنشأ
161

فالمنشأ هو الطلب على تقدير، واما الانشاء فلا تقييد فيه أصلا. كما يمكن ان يذب عن
القول باستحالة تقييد مفاد الهيئة (من جهة كونه جزئيا) بان ما ذكرت مسلم ان أريد ايجاده
أولا غير مقيد ثم تقييده بعد الايجاد، واما إذا أنشأ من أول الامر مقيدا فلا اشكال فيه لعدم
منافات ذلك لجزئيته وخصوصيته.
(نعم يمكن ان يقال): ان نظر الشيخ (قده) في القول بكون القيود بأجمعها راجعة إلى
المادة كان إلى ما ذكرناه سابقا من الفرق بين انشاء الطلب بمثل اضرب وبين انشائه بمثل
أطلب وآمر ونحوهما حيث إن مفهوم الطلب ملحوظ في الثاني استقلالا لأنه الموضوع له
للفظ بخلاف الأول فإنه لم يوضع لمفهوم الطلب، بل وضع لنسبة الفعل إلى فاعله، والطلب
فيه من انحاء الاستعمال وقد تعلق به اللحاظ آليا، (وبعبارة أخرى) قد وضعت
الصيغة لنسبة صدور الفعل إلى لفاعل، ولكن المستعمل يلحظ هذا المعنى ويتوجه
إليه توجه من يريد شيئا ويطلبه، فالطلب مغفول عنه والملتفت إليه عبارة عما هو الموضوع
له، والصيغة لم تستعمل لانشاء الطلب بل هي مستعملة في النسبة الخاصة ويصير طلبا بالحمل
الشائع من دون أن يكون الطلب بمفهومه ملحوظا حين الاستعمال (و ح) فلا يعقل
تقييده لتوقفه على لحاظ كل من القيد والمقيد فتدبر.
(تكميل اعلم) ان الواجب المشروط على قسمين: (الأول) أن يكون شرط الوجوب
متقدما بالنسبة إلى مشروطه أعني الوجوب بمعنى عدم ثبوت الوجوب قبل وجود شرطه مثل
وجوب الحج المتأخر ثبوتا عن الاستطاعة.
(الثاني) أن يكون شرط الوجوب امرا متأخرا بالنسبة إلى مشروطه وذلك بان يكون
الوجوب متوقفا على امر استقبالي متأخر، مثال ذلك قدرة المكلف التي هي من الشرائط
العامة لجميع التكاليف فان القدرة المعتبرة في التكليف ليست هي القدرة حين التكليف
لجواز تعلق التكليف بالعاجز حين التكليف القادر حين العمل، بل المراد بالقدرة التي
هي من الشرائط العامة هي القدرة حين العمل، ولازم ذلك كون التكليف مشروطا بأمر
متأخر بمعنى ان المكلف ان كان يقدر في متن الواقع على العمل في ظرفه فالتكليف ثابت
له من أول الامر وان كان لا يقدر حين العمل فليس بثابت له من أول الامر فافهم هذا
162

وكن منه على ذكر حتى يتبين لك عدم الاحتياج إلى تصوير الواجب المعلق بمعنى ذكره
صاحب الفصول (قال ره) بعد ما قسم الواجب إلى المطلق والمشروط (ما حاصله بتوضيح منا):
انه ينقسم الواجب باعتبار آخر إلى ما يتعلق وجوبه بالمكلف ولا يتوقف حصوله على
أمر غير مقدور له كالمعرفة وليسم منجزا، وإلى ما يتعلق وجوبه به ويتوقف حصوله على امر غير
مقدور له وليسم معلقا كالحج، فان وجوبه يتعلق بالمكلف من أول زمن الاستطاعة أو
خروج الرفقة ولكن يتوقف فعله على مجئ وقته وهو امر غير مقدور للمكلف (والحاصل)
ان الواجب المعلق ما كان حصوله متوقفا على أمر غير مقدور للمكلف كالوقت من غير
أن يكون الوجوب مشروطا به، فالوجوب بالنسبة إلى هذا الامر مطلق والواجب مقيد.
(فان قلت): الفعل المقيد بوقت استقبالي كيف يكون واجبا مطلقا قبل حصول وقته
مع كونه تكليفا بما لا يطاق فان الفعل المقيد بوقت استقبالي لا يمكن تحصيله قبل ذلك
الوقت فكيف يتعلق الوجوب به قبله (قلت): ليس مرادنا من ثبوت الوجوب قبل الوقت كون
الزمان القبل ظرفا للوجوب والفعل كليهما، بل المراد كونه ظرفا للوجوب فقط
فالوجوب حالي والواجب استقبالي. (فان قلت): إذا كان الوجوب متعلقا بأمر مقيد
بوقت استقبالي فإن كان الوجوب مشروطا بحصول الوقت وادراك المكلف إياه جامعا
لشرائط التكليف فهذا معنى كون الوجوب مشروطا بالوقت بحيث لا يكون وجوب قبله
وهذا خلاف ما فرضتموه من كون الوجوب حاصلا قبل الوقت، وان كان الوجوب مطلقا ثابتا
على أي حال من دون أن يكون مشروطا بالوقت غاية الامر كون متعلقه امرا استقباليا
كان لازم ذلك ثبوت الوجوب حتى بالنسبة إلى من لا يدرك الوقت أو يدركه غير قادر
على الفعل.
(قلت): الوجوب بالنسبة إلى نفس الوقت مطلق غير مشروط به فهو حاصل قبله، ولكنه
مشروط بأمر انتزاعي ينتزع عن ادراك المكلف الوقت واجدا لشرائط التكليف، وهذا
الامر الانتزاعي مقارن للوجوب وان كان المنتزع عنه متأخرا عنه (وبعبارة أخرى) ما هو
شرط للوجوب ليس هو الوقت بل هو عبارة عن كون المكلف بحيث يدرك الوقت قادرا
على العمل فمن لا يدرك الوقت أو يدركه عاجزا عن العمل لم يتوجه إليه الوجوب
163

من أول الامر، ومن يدركه قادرا على العمل كان الوجوب ثابتا له من أول الامر قبل حصول
الوقت لحصول شرطه (أعني الامر الانتزاعي المشار إليه).
(وبالجملة) الوجوب في الواجب المعلق مطلق بالنسبة إلى نفس الوقت ومشروط
بالنسبة إلى الامر الانتزاعي، (ثم قال " قده ") ما حاصله: انه من هذا القبيل كل واجب
مطلق توقف تحصيله على اتيان مقدمات يحتاج تحصيلها إلى مرور زمان كالصلاة المشروطة
بالطهارة، فمن أدرك الوقت غير متطهر ثبت عليه وجوب الصلاة من أول الوقت ان كان
بحيث يثبت له القدرة في زمان يمكن فيه تحصيل الطهارة والصلاة بشرائطها، وإن لم يكن
كذلك في متن الواقع فليس الوجوب ثابتا له من أول الامر. (ومن هذا القبيل أيضا) الواجب
الذي توقف حصوله على أمر مقدور للمكلف ولكن لم يمكن تعلق التكليف بهذا الامر المقدور
من جهة كونه محرما شرعيا (1)
(وبعبارة أخرى) الواجب الذي توقف حصوله على امر غير مقدور شرعا وان كان
مقدورا عقلا كالوضوء من الماء المباح الكائن في الانية المغصوبة مع الانحصار فإنه واجب على
المكلف من أول الامر ان كان المكلف (في متن الواقع) ممن يقدم على المعصية والاغتراف من
الآنية المغصوبة (انتهى كلامه " قده " في الواجب المعلق ملخصا) (أقول) والقسم الأخير
الذي ذكره " قده " عبارة عن مسألة الترتب المعروفة، وقد اتضح لك من كلامه ان الوجوب في
الواجب المعلق ليس مطلقا (بنحو الاطلاق) بل هو مطلق بالنسبة إلى الامر الاستقبالي ومشروط
بالنسبة إلى الامر الانتزاعي المنتزع عن ادراك المكلف هذا الامر الاستقبالي واجدا لشرائط
التكليف وعلي هذا فعد الواجب المعلق (على نحو الاطلاق) من أقسام الواجب المطلق امر
واضح الفساد، وليس في كلامه (قده) أيضا ما يدل على أنه عده من أقسامه، فالتقسيم إلى
المنجز والمعلق في عرض التقسيم إلى المطلق والمشروط، وكأن بعض أفاضل العصر لم يلحظ

(1) أقول: تخصيص هذا القسم بالمقدمات المحرمة بلا وجه لامكان أن يكون الوجوب
الحالي متعلقا بأمر توقف حصوله عن امر مقدور للمكلف ولكن اخذ على نحو لا يتعلق التكليف
بهذه المقدمة فالوجوب في هذه القسم أيضا مشروط بامر انتزاعي حالي وهو كون المكلف
بحيث يتحقق له هذه المقدمة حال كونه واجدا لشرائط التكليف حين تحققها له، وهذا مثل
أن يقول المولى للعبد ان كنت ممن يحصل له الاستطاعة في المستقبل فالآن يجب عليك الحج
(و ح) يجب تحصيل المقدمات الوجودية غير المعلق عليه ان كان يعلم بحصوله في ظرفه. ح ع
164

كلام صاحب الفصول من الصدر إلى الذيل (فتخيل بعضهم) ان صاحب الفصول قسم الواجب
إلى المطلق والمشروط ثم قسم المطلق إلى المنجز والمعلق. (وتوهم آخر) ان صاحب
الفصول قسم الواجب (ثلاثيا) إلى المطلق والمشروط والمعلق، وقد تبين لك انه ليس هنا
تقسيم واحد بل تقسيمان في عرض واحد لا يرتبط أحدهما بالاخر (نعم) الواجب المعلق
على تفسيره (قده) مشروط دائما لاشتراطه بالأمر الانتزاعي المنتزع عن ادراك المكلف
الوقت جامعا لشرائط التكليف، ولكن هذا غير تثليث الأقسام أو كون أحد التقسيمين
في طول الاخر، (وبالجملة) المعلق عنده مشروط من جهة ومطلق من جهة أخرى فلا يمكن
عده (بالضرس القاطع) من أحدهما فقط.
والداعي له على تصوير الواجب المعلق (بنحو ذكره) هو ما رآه من كون الوجوب (في
هذه الأمثلة التي ذكرها ونظائرها) مرتبطا بالأمر الاستقبالي مع كونه ثابتا قبله، وعدم
تصويره للشرط المتأخر أيضا، والدليل على ثبوت الوجوب قبلا وجوب تحصيل المقدمات
الوجودية للواجب ان كان المكلف يعلم بكونه واجدا لشرائط التكليف حين حصول المعلق عليه.
(واما نحن) ففي غنى عن تصوير الواجب المعلق بعد تصوير الشرط المتأخر فكل
ما هو واجب معلق بنظر صاحب الفصول (ره) فهو عندنا واجب مشروط بشرط متأخر، بحيث
يكون الوجوب ثابتا قبل الشرط ان كان الشرط (في متن الواقع) يتحقق في ظرفه.
(وان أبى " قده ") جواز كون الشرط متأخرا عن المشروط، فما ذكره أيضا (من اشتراط
الوجوب في الواجب المعلق بأمر انتزاعي منتزع عن ادراك المكلف الوقت واجدا لشرائط
التكليف) امر لا يغنى عن جوع فان الشرط بوجوده يؤثر في المشروط، ووجود الامر الانتزاعي
بوجود منشأ انتزاعه، والمفروض انه أمر متأخر وهو ادراك المكلف الوقت واجدا لشرائط
التكليف فلزم تأثير المتأخر في المتقدم فهو (ره) قدر كر على ما فر منه.
(ثم إنه) يمكن ان يستشكل على صاحب الفصول بان وجوب تحصيل المقدمات في الواجب
المعلق قبل حصول المعلق عليه مع علم المكلف بكونه واجدا لشرائط التكليف حين حصوله، امر
مسلم ولكنه لا اثر لذلك في الأغلب فان الأغلب عدم علم المكلفين بكونهم واجدين للشرائط عند
حصوله (ويمكن ان يذب عنه) بأنه مع الشك أيضا يجب تحصيل المقدمات ان كان المكلف
165

حين شكه واجدا للشرائط لاستصحاب الحالة الموجودة إلى زمن حصول المعلق عليه،
وتأخر زمان المشكوك فيه عن زمن اجراء الاستصحاب لا يضر بعد كون الشك حاليا
(تذنيب) اعلم أن المقصود من تصوير الواجب المعلق تصحيح وجوب مقدمات ثبت
وجوبها مع عدم وصول زمان الاتيان بذيها كالحكم بوجوب الغسل في ليالي شهر رمضان
قبل طلوع الفجر مع كون زمان الصوم من الفجر إلى الليل، وكوجوب طي المسافة للحج
قبل وصول ذي الحجة، وكوجوب شراء الزاد والراحلة قبله، وقد صارت هذه الموارد
ونظائرها موجبة للتحير والاشكال (بتقريب) انه كيف يجب المقدمة مع عدم وجوب
ذيها من جهة عدم وصول وقته، فتفصى صاحب الفصول عن هذا الاشكال بتصوير الواجب
المعلق، فالوجوب عنده في هذه الموارد حالي والواجب استقبالي، وقد عرفت منا عدم
الاحتياج إلى تصوير الواجب المعلق بل يمكن ان يقال ان الوجوب مشروط بنفس الامر
الاستقبالي ولكن بنحو الشرط المتأخر، والشرط المتأخر متصور لما عرفت من عدم
الدليل على اعتبار المقارنة في غير العلة التامة، وقد عرفت أيضا ان من أمثلة الشرط المتأخر
قدرة المكلف على الفعل فإنه شرط متأخر للتكليف حيث إن المراد منها هي القدرة حين
العمل لا حين الامر. (ويمكن) ان يجاب عن الاشكال أيضا بالالتزام بكون المقدمة
في هذه الموارد واجبة بالوجوب النفسي التهيئي وقد أمر بها الشارع لئلا يفوت الواجب حين
وصول وقته، ويسمى هذا الوجوب بالوجوب المغير ويفترق عن الوجوب الغيرى كما لا يخفى.
(ومن التقسيمات التي ذكروها أيضا للواجب) انه اما نفسي أو غيرى، وقد عرفوهما
بما حاصله ان الواجب النفسي ما تعلق به الوجوب والبعث لذاته ولما هو هو، والواجب
الغيرى ما تعلق به البعث لا لذاته بل للتوصل به إلى واجب آخر كالواجبات المقدمية.
(واستشكل على التعريفين بما ملخصه) ان الواجبات النفسية على قسمين: (قسم منها)
ما هو المحبوب ذاتا وصار حبه الذاتي داعيا إلى البعث نحوه كوجوب المعرفة مثلا،
وقسم منها ما ليس محبوبا بذاته بل من جهة ترتب فوائد عليها بها صارت واجبة مثل
الصلاة والصوم بل وغالب الواجبات الشرعية المبعوثة إليها لما فيها من الخواص والآثار،
(اما القسم الأول) فهو مما ينطبق عليه تعريف النفسي بلا اشكال،
166

(واما القسم الثاني) فالتعريف لا ينطبق عليه بل ينطبق عليه تعريف الغيرى، فإنه
إن لم تكن غاياتها لازمة الحصول لم تجب، إذ ما هو المحبوب والمقصود ذاتا من البعث
نحو المحصلات وان كان يتأخر في الوجود عن جميعها، ولكنه لا بد من أن يتقدم في
سلسلة الإرادة على جميع الإرادات المتعلقة بمحصلاته، فالحب والإرادة يتعلقان أولا
بمحبوب ذاتي فيتولد منهما إرادة البعث نحوه، ثم يتولد من الإرادة المتعلقة بهذا المحبوب
الذاتي إرادة متعلقة بمحصله فيتولد منها إرادة البعث نحوه، وهكذا إلى آخر سلسلة
المحصلات، فايجابها والبعث نحوها انما يكون للتوصل بها إلى فوائدها اللازمة فانطبق
عليها تعريف الغيرى.
(وقال شيخنا الاستاد) (قدس سره) في الكفاية بعد الإشارة إلى هذا الاشكال ما
حاصله: (فان قلت): محبوبية هذه الفوائد لزوما مما لا ريب فيها ولكنها لما كانت من الخواص
المترتبة على الأفعال قهرا، لم يمكن تعلق الوجوب بها لكونها غير مقدورة للمكلفين
(قلت): المقدور بالواسطة مقدور أيضا، وهذه الخواص وإن لم تكن بنفسها مقدورة ولكنها
مقدورة من جهة ان أسبابها أعني الأفعال الموصلة إليها داخلة تحت القدرة، الا ترى أنه
يصح التكليف بالتطهير والتزويج والتمليك ونحوها من المسببات التي لا يقدر عليها أحد
الا بايجاد أسبابها: من الغسل والعقد ونحوهما (انتهى).
(وأجاب في الكفاية) عن أصل الاشكال بما حاصله: ان هذا القسم من الواجبات
وان كان يترتب عليه آثار لازمة، ولكن وجوبه و البعث نحوه ليس باعتبار ترتب هذه الآثار
عليه بل باعتبار ان كل واحد منها بنفسه معنون بعنوان حسن يستقل العقل بمدح فاعله و
ذم تاركه ففي كل واحد من هذه الواجبات اجتمع ملاك النفسية والغيرية، ولكن البعث
نحوه انما يكون بملاكه النفسي أعني كونه معنونا بعنوان حسن فلذا سمى واجبا نفسيا،
كما أن الواجب الغيرى هو ما كان الداعي إلى البعث نحوه ملاك المقدمية، وهذا لا ينافي وجود
الملاك النفسي فيه أيضا إذا لم يكن له دخل في وجوبه (هذه خلاصة ما ذكره في الكفاية).
(وفيه اما أولا) فلان ما ذكره في جواب ان قلت (من أن الفوائد والخواص وإن لم تكن
بأنفسها مقدورة ولكنها مقدورة من جهة القدرة على أسبابها) لا يفي بالجواب فيما نحن فيه،
167

فان المراد بالفوائد المترتبة على الواجبات (اما أن يكون) عبارة عن أمور لا تنفك من
الواجبات بان تكون من المسببات التوليدية نظير حركة المفتاح التي لا تنفك من
حركة اليد، فالقدرة على الأسباب فيها وان كانت قدرة على المسببات، ولكن ذلك
لا يناسب ما نحن فيه، فان ما نحن فيه عبارة عما إذا تحقق فعلان اختياريان توقف أحدهما
على الاخر وقد تعلق بأحدهما وجوب نفسي وبالاخر وجوب غيرى، والمسببات في الأفعال
التوليدية وان كان وجوداتها مغايرة لوجودات الأسباب، ولكن لما كان صدورها عن
المكلف بعين إرادة الأسباب واصدارها، فلا محالة لا يتصور فيها وجوبان، مثلا حركة
المفتاح وان كانت مغايرة لحركة اليد في الوجود ولكن لما كان صدورهما عن الفاعل
بايجاد واحد لم يكن مورد لتعلق امرين حتى يكون أحدهما نفسيا والاخر ترشحيا (1)
(واما أن يكون المراد بالفوائد المترتبة على الواجبات) الغايات التي تترتب عليها ولكن
لا مطلقا بل مع وجود مقتضيات اخر خارجة من قدرة المكلف وفقد الموانع الواقعية بحيث
يكون فعل الواجب أحد الأمور الدخيلة في ترتب الفائدة المترقبة، (وبعبارة أخرى) كان
الغرض من ايجاب الواجب ايجاد الموقعية لترتب الفائدة. (فيرد عليه) حينئذ ان القدرة
على الواجب في هذا الفرض ليست قدرة على فائدته لعدم كونها بتمام علتها تحت قدرته واختياره
(واما ثانيا) فلان ما ذكره (قده) في مقام الجواب عن أصل الاشكال: من أن الواجب في
هذا القسم من الواجبات لتعنونه بعنوان حسن صار واجبا نفسيا.
(يرد عليه) ان تعنونه بعنوان حسن يستقل العقل بمدح فاعله، هل يكون من جهة
ان الفائدة تترتب عليه بحيث صار ترتب الفائدة علة لتعنونه بالعنوان الحسن، أو لا يكون من
هذه الجهة بل الواجب في هذا القسم من الواجبات (الذي هو أكثرها أو جميعها الا ما ندر)

(1) أقول: هذا مخالف لما ذكره سيدنا الاستاد العلامة " مد ظله " سابقا من أن تعدد وجود
حركة اليد والمفتاح يستلزم تعدد الايجاد أيضا، إذ الوجود عين الايجاد غاية الامر انه ان
نسب إلى الفاعل سمى ايجادا وان نسب إلى القابل سمى وجودا. ثم إنه لو سلم امكان وجود
فعلين باصدار واحد فيمكن ان يقال: إنه لا بأس بان يكون كل من السبب والمسبب متعلقا
لوجوب يخصه غاية الامر ان المكلف لا يقدر على تفكيكهما بل اما ان يختار امتثالهما أو
يختار مخالفتهما، ولا يشترط في اختيارية العمل ان يتعلق به إرادة مستقلة بل الملاك في
اختياريته أن يكون المكلف قادرا على كل من الفعل والترك وهيهنا كذلك فتأمل ح - ع
168

بنفسه معنون بعنوان حسن من دون أن يكون لترتب الفائدة دخل في حسنه؟ فإن كان
المراد هو الأول نعترض عليه بان هذا الامر يجرى في جميع الواجبات الغيرية أيضا، فان كل
واحد منها أيضا يتعنون بالعنوان الحسن من جهة اشتماله على المصلحة المترتبة عليه، و
ان كان المراد الثاني نعترض عليه بان هذا يوجب خلاف الفرض فان الفرض انما يكون في
الواجبات النفسية التي وجبت لا لذاتها بل من جهة ترتب الفوائد عليها (هذا) مضافا
إلى أن هذا خلاف البداهة للزوم أن يكون جميع الواجبات النفسية من المحسنات
الذاتية، وهذا واضح الفساد.
(إذا عرفت ما في الكفاية مع ما فيه فنقول): مقتضى التحقيق في الفرق بين الواجب
النفسي والغيري هو ان يقال: ان المولى قد يلاحظ الفعل بحدوده وأطرافه فيرى انه محبوب
له اما لذاته أو من جهة الفوائد التي تترتب عليه ثم يشتاق لاجل ذلك إلى صدوره عن العبد فيتوجه
نظره إلى بعث العبد نحوه ويلاحظ ان البعث نحوه مفيد والمانع عنه مفقود فيحصل له من
جميع ذلك شوق مؤكد إلى بعث العبد وتحريكه نحو الفعل فيأمره به حقيقة، فهذا
الواجب يسمى بالواجب النفسي، فالواجب النفسي عبارة عما توجه إليه نظر المولى ولاحظه
بحدوده وأطرافه ثم بعث العبد نحوه ببعث مستقل.
(واما الواجب الغيرى) (بناء على ثبوته) فهو عبارة عما لم يتوجه إليه بما هو هو بعث
مستقل بل المولى لما توجه نظره البعثي إلى ذي المقدمة ورأى أن صدوره عن العبد يتوقف على
شئ، صار هذا سببا لتعلق بعث اندكاكي بهذا الشئ بما هو طريق إلى ذي المقدمة و
موجب للتمكن من امتثاله، فالبعث نحو المقدمة بعث ظلي يكون بنظر كلا بعث، وبنظر
آخر تأكيدا للبعث المتوجه إلى ذيها. (وبعبارة أخرى) التحريك نحو الشئ (بما هو
طريق) تحريك نحو ذي الطريق حقيقة بحيث لا يكون نفس الطريق مبعوثا إليه بنظر العقلاء
بل المحرك إليه والمبعوث نحوه امر واحد وهو عبارة عن ذي الطريق الواجب بالوجوب
النفسي، وهذا من غير فرق بين ان يؤدي بخطاب مستقل أو لا فقول المولى لعبده مثلا
ادخل السوق واشتر اللحم لا يرى عند العقلاء الا بعثا واحدا نحو امر واحد وهو اشتراء اللحم،
ولنذكر لذلك مثالا وهو انك إذا أردت من عبدك الكون في مكان مخصوص ولو لغرض من
169

الأغراض، فما هو محط نظرك وإرادتك من العبد انما هو نفس كونه في المكان المخصوص
ولكنك لما رأيته متوقفا على حركته إلى هذا المكان صار كل واحد من الاقدام الموضوعة
والمرفوعة مرادا لك بإرادة تبعية يراها النظر العميق متعلقة بنفس الكون في المكان المخصوص
مثل ما إذا كنت مريدا لكونك بنفسك في هذا المكان فان الاقدام ليست مرادة لك
بإرادة مستقلة لعدم كونها محطا لنظرك، فإذا عرفت حال الإرادة فقس عليها البعث و
التحريك (الذين هما من مظاهرها) فتأمل.
(ثم إنه) إذا شك في واجب انه نفسي أو غيرى فالظاهر حمله على النفسية، فان الصيغ
الانشائية وما هو بمفادها قد وضعت للبعث والتحريك نحو متعلقاتها، والبعث الغيرى
المتعلق بالمقدمات ليس في الحقيقة بعثا نحو المتعلق كما عرفت وانما هو تأكيد للبعث
المتعلق بذيها، فالكلام يحمل على ظاهره وهو البعث الحقيقي نحو ما تعلق به (هذا).
وشيخنا الاستاد المحقق الخراساني (قدس سره) كان يلتزم بظهورها في الوجوب النفسي
وحملها عليه بوجهين: (أحدهما) الانصراف بمعنى ان البعث ينصرف إلى النفسية ما لم
يثبت غيريته. (وفيه) ان مراده من الانصراف ان كان ما ذكرناه (من أن مفاد الصيغ
هو البعث والتحريك نحو المتعلق حقيقة والبعث الغيرى كلا بعث بحسب الحقيقة
فلذلك تنصرف إلى النفسية) فقد سلمنا الانصراف، وان كان مراده ان البعث الغيرى
أيضا بعث حقيقة مثل النفسي بعينه ولكن الصيغ مع ذلك تنصرف إلى البعث النفسي فنحن
نمنع هذا الانصراف.
(الوجه الثاني) الاطلاق بتقريب ان ثبوت الوجوب في الواجب الغيرى متوقف على
وجوب غيره فهو مقيد ومشروط بوجوب الغير بخلاف النفسي فإنه واجب مطلقا، وحينئذ
فإذا ثبت أصل الوجوب وشك في اشتراطه بكون الغير واجبا كان مقتضى الاطلاق نفى
الاشتراط. (وفيه) انا وان سلمنا ان البعث في الواجب الغيرى أيضا بعث حقيقة كما هو مفاد
كلامه (قدس سره) ولكنه من الواضح انه بعث مطلق لا بعث مقيد بكون غيره واجبا وكونه
مترشحا من قبل هذا الغير، فان وجوب الغير علة لوجوب المقدمة ولا يعقل كونه العلة التي هي
في الرتبة السابقة على معلولها من قيود المعلول وموجبا لتضييق دائرته
170

(ولنا ان نقول): ان الواجب الذي شك في أنه نفسي أو غيرى على قسمين: (الأول) أن يكون
هنا واجب نفسي مقيدا بزمان خاص، أو مكان خاص، أو حالة مخصوصة، ويكون
واجب آخر شك في أنه نفسي ثابت بنحو الاطلاق أو غيرى ثابت في ظرف ثبوت الواجب
الأول، فمرجع الشك في نفسيته وغيريته إلى الشك في أنه يكون ثابتا في جميع الحالات
والأزمنة أو يكون ثابتا في بعض الحالات (أعني حين ما ثبت الوجوب للواجب الأول كما
هو مقتضى ارتباطه به وترشحه منه) ففي هذه الصورة يمكن القول: بان اطلاق الوجوب
وعدم تقيده بزمان خاص، أو مكان خاص يقتضى كونه ثابتا في جميع الأزمنة والحالات،
ولازم ذلك كونه نفسيا إذ لو كان غيريا لكان مشروطا بكل ما اشترط به الواجب الأول.
(الثاني) أن يكون هنا واجب نفسي غير مشروط بحالة مخصوصة بل كان ثابتا في
جميع الحالات والأزمنة، ويكون واجب آخر شك في أنه نفسي أو غيرى مرتبط بالأول،
وفي هذه الصورة لا مجرى للاطلاق حتى يقال باقتضائه النفسية، والمحقق الخراساني
كان يقول بجريان الاطلاق في هذه الصورة أيضا بتقريب ذكرناه وحاصله: ان
اشتراط وجوب هذا الشئ بكون غيره واجبا (الذي هو ملاك غيرية الوجوب) قيد
زائد منفى بأصالة الاطلاق. (وفيه) ما مر من أن الوجوب النفسي الثابت لذي المقدمة علة
للوجوب الغيرى المترشح إلى المقدمة فلا يعقل أن يكون من قيوده لكون العلة في المرتبة
المتقدمة على المعلول، فما يترشح من وجوب ذي المقدمة عبارة عن ذات الوجوب الثابت
للمقدمة لا الوجوب المقيد بكونه مترشحا من وجوب ذي المقدمة (1).
(تذنيب) لا ريب في أن العقل يستقل باستحقاق العبد للعقاب عند مخالفته للأوامر
النفسية الصادرة عن المولى بمعنى انه لا يرى عقاب المولى إياه ظلما.
(واما حكمه) باستحقاق العبد للثواب والأجر عند موافقته لها بحيث يعد عدم اعطائه الاجر
ظلما في حق العبد (ففيه تأمل واشكال)، بل العقل السليم يشهد بعدمه، وذلك لحكم

(1) وقد حقق في محله ان المعلول بالنسبة إلى علته لا مطلق ولا مقيد ولكنه لا ينطبق
الا على المقيد، فان اثر النار مثلا انما هي الحرارة الخاصة أعني الحرارة الحاصلة بها لا الحرارة
المطلقة. وبعبارة أخرى ليس في المعلول اطلاق ولا تقييد لحاظي بالنسبة إلى علته ولكنه
بحسب الذات مقيد ح - ع
171

العقل والعقلاء بان المولى بمولويته مالك للعبد بجميع شؤونه وأفعاله فله امر العبد بفعل
من غير أن يعطيه اجرا، وهذا من لوازم المولوية والعبودية الملازمتين للمالكية والمملوكية
بجميع الشئون، وكلما كانت العبودية أشد كان عدم الاستحقاق أظهر، ففي الموالى و
والعبيد العرفية التي لا ملاك فيها للمولوية الا اعتبار العقلاء لا نحكم بثبوت استحقاق الاجر
فكيف نحكم بثبوته للعبد من مولى الموالى الذي هو معط لوجوده وحياته وقدرته و
مالك له بالملكية الحقة الحقيقية لا الاعتبارية العرفية (هذا)، مضافا إلى أنه كلما امر به
وبعث نحوه فهو مما لا يعود نفعه إليه بل لوحظ فيه مصلحة العبد وانجائه من المهالك الروحية
وسوقه إلى المراتب الكمالية، فمثله كمثل طبيب أمر المريض بشرب دواء ينفعه فهل
للمريض بعد امتثاله أوامر الطبيب ونجاته من المرض ان يطلب من الطبيب المشفق اجر
الامتثال؟ لا والله بل لو طالبه ذلك لعده العقلاء من السفهاء: (وبالجملة) العقل السليم
لا يحكم باستحقاق العبد للمثوبة حتى في الأوامر النفسية (نعم) يحكم بلياقته واستعداده
للتفضل، وهذا غير الاستحقاق.
(ومما ذكرنا ظهر لك) ضعف ما ذكره المتكلمون: من كون ثواب الله لعبيده
بالاستحقاق مستدلين على ذلك بان تحميل الغير المشقة بلا اجر قبيح، ضرورة ان تحميل
الموالى بالنسبة إلى عبيدهم لا يستلزم اجرا بالوجدان (فان قلت): إذا لم يكن ثواب الله
(تعالى) لعبيده بالاستحقاق فلم عبر عنه في الآيات والروايات بالأجر؟
(قلت): هذا التعبير أيضا من كمال تفضل الله على عبيده حيث سمى الثواب التفضلي
اجرا، اعلاء لدرجة الممتثل، الا ترى أنه تعالى استقرض من عبيده مع أن له ملك السماوات
والأرض وما بينهما، تفضلا عليهم واشعارا بأنه يعاملهم معاملة مالك مع مثله. ثم لو فرضنا
حكم العقل بان تحميل الغير المشقة ولو كان عبدا يوجب استحقاق الاجر، فلا فرق بين
الواجب النفسي والغيري المأتي بداعي الامتثال لاشتراكهما في كون كل منهما مشقة تحملها
العبد لتحصيل رضاية المولى، وهل يرى العقلاء في أصل تحمل المشقة فرقا بين من توضأ وصلى
لامتثال امر المولى، وبين من توضأ بقصد التوصل به إلى ما وجب من قبل المولى ثم مات
قبل اتيان الصلاة؟ وكيف يحكم العقل باستحقاق الأول للثواب وعدم استحقاق الثاني
172

شيئا! مع أنه أيضا بالنسبة إلى وضوئه قد تحمل المشقة التي حملها المولى.
(ثم اعلم) ان المقدمات لا تحتاج في عباديتها ومقربيتها إلى تعلق امر غيرى بها حتى
يكون هو الداعي نحوها بل يكفى في مقربيتها قصد الامر النفسي المتعلق بذيها، وذلك
لبداهة ان من توجه إلى أن مولاه امره بفعل لا يرضى بتركه ورأى أن هذا الفعل لا يمكن
اتيانه الا باتيان مقدمات يتوقف عليها وكان هذا العبد بصدد امتثال أوامر مولاه، فلا محالة
ينقدح في نفسه إرادة اتيان المقدمات من دون ان ينتظر في اتيانها تعلق امر بها على حدة، وما
دعاه إلى اتيان المقدمات الا الامر المتعلق بذيها، وعد هذا الشخص عند اشتغاله بالمقدمات
بنظر العقلاء شارعا في امتثال امر مولاه.
(وبالجملة) في عبادية المقدمات لا نحتاج إلى تعلق امر غيرى بها، فان قلنا في باب
المقدمات بعدم ترشح الأوامر الغيرية إليها، ولم تكن أيضا بأنفسها متعلقات لأوامر
نفسية، كان لنا تصحيح عباديتها بان تؤتى بداعي وقوعها في طريق ذيها الذي تعلق
به امر نفسي.
(بل يمكن ان يقال): ان الامر الغيرى الترشحي وان قلنا بثبوته للمقدمة بناء على القول
بالملازمة ولكنه لا يكفى في عبادية متعلقه إذ لا إطاعة له بما هو هو ولا قرب.
(والسر في ذلك) ما قدمناه لك مفصلا من أن الوجوب الغيرى وجوب ظلي واندكاكي
لا يراه النظر العميق وجوبا حتى أنه لو دل عليه الامر بسبب خطاب مستقل أيضا كان هذا
الخطاب بنظر العقلاء بعثا وتحريكا نحو ذي المقدمة وان كان بحسب الظاهر متعلقا
بالمقدمة هذا.
(ومما ذكرنا لك إلى هنا) تبين الجواب عن الاشكالين اللذين أورد هما المحقق
الخراساني في باب الطهارات الثلث (بعد ما عد من البديهيات ان موافقة الامر الغيرى بما هو
هو لا توجب قربا ولا مثوبة كما أن مخالفته بما هو هو لا توجب بعدا ولا عقوبة) ونحن نذكر
الاشكالين مشيرا إلى جوابهما من غير أن نتعرض لما ذكروه من الجواب.
(الاشكال الأول) انه إذا كان موافقة الامر الغيرى لا توجب قربا ولا مثوبة فكيف حال
بعض المقدمات اللتي لا شبهة في مقربيتها وترتب المثوبة عليها بل عدم صحتها لو لم تؤت بقصد
173

الامر كالطهارات الثلث فإنه لا خلاف بين علماء الاسلام غير أبي حنيفة في اشتراطها بقصد الامر.
(الاشكال الثاني) هو الاشكال الوارد في جميع التعبديات (ومحصله) عدم امكان
اخذ قصد الامر في المأمور به، وقد قرر الاشكال بوجوه ذكرناها في مبحث التعبدي والتوصلي
وكان أهمها الدور الوارد في مقام الامتثال (وحاصله) ان المأمور به لو كان عبارة عن الطهارة
مثلا مقيدة بداعوية امرها إليها لم يمكن امتثال هذا الامر، فان داعوية الامر في مقام
الامتثال متوقفة على كون المدعو إليه فردا من افراد المأمور به ومنطبقا للعنوان الواقع
تحت الامر، وكونه كذلك موقوف على داعوية الامر إذ الفرض ان المأمور به هو العمل الواقع
بداعي الامر لا مطلق العمل. ولو قررنا من الاشكال في الواجبات النفسية (بما محصله)
ان قصد الامر لم يؤخذ في المأمور به بل العقل يحكم بوجوبه من باب تحصيل الغرض
فالامر يتعلق بالأعم مما يحصل الغرض أعني ذات العمل، والعقل يحكم بوجوب اتيانه بداعي
الامر حتى يصير محصلا لغرض المولى، ففيما نحن فيه أعني الواجبات الغيرية التعبدية لا
مفر منه بهذا الوجه، فان الوجوب الغيرى لا يعقل تعلقه الا بما فيه ملاك المقدمية وما هو بالحمل
الشايع مقدمة، ولا يمكن تعلقه بالأعم من ذلك، والمفروض ان المقدمة في باب الطهارات الثلث
هو العمل مقيدا بقصد الامر لا ذات العمل، فيجب تعلق الامر بالمقيد الذي فيه ملاك المقدمية
لا بالمطلق الذي هو أعم من ذلك. هذا ما ذكر في المقام من الاشكال، وقد أشار في الكفاية
إلى الاشكال الثاني بقوله: " هذا مضافا إلى أن الامر الغيرى لا شبهة في كونه توصليا ".
(ونحن نقول): مجمل القول في الطهارات الثلث هو ان التيمم لم يتعلق به امر نفسي،
ولكن الطهارة المائية من الوضوء أو الغسل فمع كونها مقدمة لبعض الغايات قد جعلت
بنفسها أيضا من المستحبات الشرعية التي تعلق بها امر نفسي عبادي، وحينئذ فاتيان
المكلف إياها انما هو بأحد نحوين (الأول) ان يأتي بها بقصد امرها النفسي الاستحبابي كما
إذا لم يكن المكلف مريدا للأمور المشروطة بها وكلنه كان قاصدا للتطهر فيدعوه إلى
ايجاده الامر النفسي المتعلق به.
(الثاني) ان يأتي بها بقصد التوصل بها إلى احدى غاياتها، وحينئذ يكون داعيه إلى
ايجادها الامر النفسي المتعلق بالغاية المطلوبة من الصلاة والقراءة ونحوهما؟
174

إذ قد عرفت أن المحقق لعبادية المقدمات هو قصد الامر المتعلق بذيها من غير احتياج
إلى قصد الامر النفسي أو الغيرى المتعلق بأنفسها، بل الامر الغيرى على فرض ثبوته كلا امر
فلا يكفى بنفسه في عبادية متعلقه ما لم يقصد باتيان المتعلق التوصل به إلى ما جعل مقدمة
له، وعلي هذا فإذا دل الدليل الشرعي على أن ما هي المقدمة للصلاة هي الطهارة بقصد الامر
مثلا فللمكلف اتيانها بقصد الامر الصلاتي من غير توجه إلى أمرها النفسي كما أنه إن لم يكن
قاصدا للصلاة كان له اتيانها بقصد الامر النفسي المتعلق بنفسها، ويجوز له بعد تحققها ان
يأتي الصلاة معها ويثاب عليها في الصورتين من غير محذور. ولا نقول إن المحقق لعباديتها
إذا لم يؤت بها بقصد امرها النفسي هو اتيانها بقصد امرها الغيرى حتى يرد علينا الاعتراض
(أولا) بان الامر الغيرى لا قرب في موافقته بما هو امر غيرى.
(وثانيا) بان الامر الغيرى لما كان بملاك المقدمية فلا محالة وجب تعلقه بما هي
مقدمة بالحمل الشايع ولا يجوز تعلقه بأوسع من الغرض، وحينئذ فكيف يتعلق بذات
الوضوء أو الغسل أو التيمم مع أن المقدمة حسب الفرض هي الوضوء أو الغسل أو التيمم مقيدا
باتيانه بداعي الامر حتى يصير عبادة، والعجب من شيخنا الاستاد المحقق الخراساني حيث
أورد الاعتراض الثاني مع أن جوابه من أوضح الواضحات، فإنه من الواضحات ان القائل
بوجوب المقدمة وترشح الامر الغيرى إليها انما يقول بوجوب كل ما يتوقف عليه الواجب
من المقدمات واجزائها واجزاء اجزائها، إذ كل جزء من اجزاء ما هو مقدمة لشئ
يصدق عليه انه من مقدمات هذا الشئ ولا محالة يترشح إليه الوجوب الغيرى، فالصلاة مثلا
إذا توقفت على الوضوء بداعي الامر فلا محالة تتوقف على ذات الوضوء أيضا لكونها جزء
تحليليا للوضوء المقيد بداعوية الامر فتكون ذات الوضوء أيضا واجبة بالوجوب
الغيرى فالامر في باب الطهارات أسهل من التعبديات الاخر لا أشكل على ما زعمه
(قدس سره) فافهم.
(ثم إن هاهنا نكتة فقهية) يجب ان ينبه عليها وهي انا ان قلنا بان الطهارات إذا لم يؤت بها
بقصد امرها النفسي كان المعتبر في عباديتها اتيانها بقصد الامر الغيرى المتعلق
بها، فلا محالة كان اللازم ان يؤتى بها بعد دخول أوقات الغايات، إذ قبله لا وجوب
175

للغايات حتى يترشح من قبل وجوبها وجوب غيرى، واما إذا قلنا بعدم الاحتياج
إلى الامر الغيرى وانه يكفى في عباديتها اتيانها بقصد التوصل بها إلى غاياتها و
بداعي الامر النفسي المتعلق بذيها فهل يجوز اتيانها بهذا الداعي قبل دخول أوقات الغايات
أو لا يجوز؟ (فيه وجهان) لا يبعد الجواز والصحة، لان المكلف إذا علم أن بعد الوقت يتوجه
إليه التكليف بالصلاة مثلا ورأى أنها متوقفه على الطهارة وكان قاصدا لامتثال هذا التكليف
في وقته، فلا محالة يتولد من إرادة اتيان الصلاة في وقتها إرادة تحصيل الطهارة ليكون
متمكنا من الصلاة مع الطهارة بمجرد دخول الوقت، وليس ايجاده لهذه الطهارة بداع نفساني
بل الداعي له إلى ايجادها وقوعها في طريق امتثال الامر الذي يعلم بتحققه بعد دخول الوقت،
وقد تبين لك انه يكفى في عبادية المقدمات اتيانها بداعي التوصل بها إلى ذيها وكونها في
طريقه، ولعل هذا هو المبنى للقول بصحة الوضوء التهيئي. (واما وجه البطلان) فهو
ان يقال: سلمنا انه يكفى في عبادية المقدمات اتيانها بداعي الامر المتعلق بذيها (من جهة
انه كما يدعو إلى اتيان نفس المتعلق فكذلك يدعو إلى اتيان مقدماته) ولكن المفروض
فيما نحن فيه عدم تحقق الامر النفسي بعد، فكيف يصير الامر المعدوم داعيا، وليس للامر
المعدوم امتثال حتى يقال: ان المقدمة واقعة في طريقه فتدبر!.
* (الامر الرابع) *
مما استدل به على كون الامر بالشئ مقتضيا للنهى عن ضده الخاص هو ان ترك الضد
مما يتوقف عليه فعل الواجب توقف الشئ على عدم مانعه فيجب بالوجوب المقدمي فيكون
نفس الضد حراما. " قال صاحب المعالم " في مقام الجواب عن هذا الاستدلال: " وأيضا
فحجة القول بوجوب المقدمة على تقدير تسليمها انما تنهض دليلا على الوجوب في حال
كون المكلف مريدا للفعل المتوقف عليها كما لا يخفى على من أعطاها حق النظر ". فظاهر
كلامه (قدس سره) ان وجوب المقدمة مشروط بإرادة ذيها بحيث لا وجوب لها عند عدم ارادته.
(وفساد هذا الكلام من أوضح الواضحات) فإنه إن كان مراده ان وجوب ذي المقدمة
أيضا مشروط بإرادته، (ورد عليه) بان الغرض من الامر انما هو ايجاد الداعي والإرادة
176

في نفس المكلف فلا يعقل أن يكون مشروطا بهما، (وان كان مراده) ان وجوب ذي المقدمة
مطلق غير مشروط بإرادته ولكن وجوب المقدمة مشروط، (استشكل عليه) بان
وجوب المقدمة (بناء على الملازمة) وجوب ظلي ترشحي لا ينفك من وجوب ذيها بل يكون
ثابتا أينما ثبت فهو في الاطلاق والاشتراط تابع لوجوب ذيها. وهذا في البداهة بحيث
لا يحتاج إلى البيان.
(ثم إنه) بعد ما ثبت ان وجوب المقدمة غير مشروط بإرادة ذيها بل هو في الاطلاق
والاشتراط تابع لوجوبه، فهل الواجب مطلق المقدمة، أو خصوص ما قصد به التوصل
إلى ذي المقدمة بحيث يكون هو الداعي إلى اتيانها سواء أوصلت إليه أم لا، أو خصوص ما
أوصلت إليه سواء أتى بها بهذا الداعي أم لا، أو خصوص ما قصد بها التوصل وأوصلت؟ في
المسألة وجوه، وقد نسب الثاني إلى الشيخ (قدس سره) واختار الثالث صاحب الفصول (ره).
وليس مرادهما ان قصد التوصل أو نفس الايصال شرط للوجوب كما كان صاحب المعالم
يقول باشتراط الوجوب بإرادة ذي المقدمة، بل مرادهما ان الوجوب مطلق ولكن الواجب
مقيد، فالواجب على قول الشيخ هو المقدمة التي أتى بها بداعي التوصل بها إلى ذيها، وعلى قول
صاحب الفصول هو المقدمة التي أوصلت إلى ذيها، وعلى قول المشهور لا يكون الوجوب
ولا الواجب مشروطا بشئ.
(وليعلم) ان مقصود الشيخ وصاحبي المعالم والفصول من هذه التفاصيل التي أحدثوها
في هذا المقام انما هو تصحيح العبادة التي تكون ضدا لواجب أهم كالصلاة التي تكون ضدا
للإزالة، فإنه قد أشكل عليهم الامر في ذلك من جهة توهم ان ترك الضد العبادي مقدمة
للواجب الأهم فيكون واجبا ولازم هذا كون فعله حراما وحينئذ فكيف يقع عبادة،
فصاحب المعالم حيث اختار اشتراط وجوب المقدمة بإرادة ذيها يقول بصحة الصلاة لوجود
الصارف عن الإزالة وعدم ارادتها فلا يكون ترك الصلاة واجبا حتى يحرم فعله وينهى
عنه، (هذا) وسيتضح لك في مبحث الضد كلام الشيخ وصاحب الفصول أيضا في
تصحيحها فانتظر.
" ولنرجع إلى أصل المطلب فنقول ": القول بكون الواجب عبارة عن المقدمة
177

المأتي بها بقصد التوصل فقط وان نسب إلى الشيخ ويوهمه كلام مقرر بحثه في بادئ النظر
الا ان الدقة في مجموع كلام المقرر من الصدر إلى الذيل لعلها ترشد إلى أن مقصوده ليس
تخصيص الوجوب بالمقدمة المأتي بها بقصد التوصل، بل مقصوده تنقيح ما ذكرناه سابقا في مسألة
الطهارات الثلث من أن عبادية المقدمات ووقوعها امتثالا انما تتحق باتيانها بداعي الامر
النفسي المتعلق بذيها وبقصد التوصل بها إليه لا بقصد امرها الغيرى الترشحي (وبالجملة)
ليس مقصوده دخالة قصد التوصل في وقوع المقدمة على صفة الوجوب، وانما المقصود دخالة
ذلك في وقوعها امتثالا للامر ومقربا إلى ساحة المولى كما في الطهارات الثلث فراجع
كلامه حتى تطلع على مرامه (نعم) ان كان مراده تخصيص الوجوب بما أتى بها بقصد التوصل
فقط يرد عليه ما أورده المحقق الخراساني: من أن الملاك لوجوب المقدمة هو المقدمية
وكونها في طريق ذي المقدمة لا غير، وعدم دخل قصد التوصل فيه واضح والا لما صح
الاكتفاء بما لم يقصد به التوصل مع أنه (قدس سره) اعترف بالاجتزاء به فيما لم تكن المقدمة
عبادية (انتهى) هذا ما أردنا ذكره في باب قصد التوصل. (1)

(1) أقول: ولبعض أعاظم المحققين في هذا المقام بيان في اثبات اعتبار قصد التوصل
في وقوع المقدمة على صفة الوجوب ولا بأس بالإشارة إليه مع ما فيه فنقول: قد أسس المحقق
المزبور بنيان كلامه على مقدمتين: (الأولى) ان الجهات التعليلية في الاحكام العقلية كلها
راجعة إلى الحيثيات التقييدية، فالواجب في باب المقدمات بحسب الحقيقة هو التوصل إلى ذي
المقدمة لأنه الملاك لوجوب المقدمة وقد قلنا: إن الوجوب في الوجوبات العقلية للجهات بحسب
الحقيقة. (الثانية) ان كل حكم من الاحكام انما يتعلق في الحقيقة بما يقع من الطبيعة معلولا
للإرادة لا بمطلق الطبيعة إذ هو جامع لما يقع منها بالإرادة ولما ليس كذلك، والتكليف
بالنسبة إلى ما لا يقع منها بالإرادة تكليف بامر غير اختياري. ففيما نحن فيه بعد ما ثبت في
المقدمة الأولى ان الوجوب بحسب الحقيقة يتعلق بالتوصل، نضيف إليه هنا انه يتعلق بالتوصل
المعلول للإرادة والقصد فثبت المطلوب. هذا ملخص كلامه.
(أقول): وفي المقدمة الثانية نظر، إذ الميزان في اختيارية الفعل ومقدوريته كون الفاعل
بحيث ان إرادة فعله وإن لم يرده لم يفعله، وصدق الشرطية لا يستلزم صدق الطرفين والا لما
كان عدم الممكنات مقدورا للحق تعالى، هذا مضافا إلى أن التكليف انما يتعلق بالطبيعة المهملة
لجامعة لما يوجد منها بالإرادة ولما ليس كذلك، والجامع بين الاختياري وغير الاختياري اختياري
بالضرورة كما هو واضح. ثم إن ما ذكره (من أن الملاك لوجوب المقدمة هو التوصل بها
إلى ذي المقدمة " امر قد اختاره في قبال المحقق الخراساني فإنه قال في كفايته: ان الملاك
لوجوب كل مقدمة والغرض منه هو التمكن من ذي المقدمة بالنسبة إلى هذه المقدمة، وقد رد
عليه هذا المحقق بان التمكن من ذي المقدمة ليس معلولا لوجود المقدمة بل معلول للتمكن منها
ولنا في هذا الامر أيضا اشكال لا مجال لذكره فتدبر. ح - ع
178

(واما القدمة الموصلة) التي صارت معركة للآراء فقد عرفت أن القول بوجوبها
مما اختاره صاحب الفصول (ره) ولنذكر بعض كلامه في الفصول، (قال) في هذا الباب ما
ما حاصله: انه هل يعتبر في وقوع المقدمة على صفة الوجوب ان يترتب عليها فعل الغير
وإن لم يقصد بها ذلك، أو يعتبر قصد التوصل بها إلى الغير وإن لم يترتب، أو يعتبر الأمران
كلاهما، أو لا يعتبر شئ منهما؟ وجوه، والتحقيق هو الوجه الأول لان مطلوبية المقدمة
انما تكون للغير، وكون مطلوبية الشئ للغير يقتضى مطلوبية ما يترتب ذلك الغير عليه دون غيره
(إلى أن قال) ما حاصله: انه يظهر الثمرة فيما لو وجب عليه الدخول في ملك الغير بغير اذنه
لانقاذ غريق يتوقف عليه، فبناء على ما قلناه من اعتبار الترتب لو دخله وأنقذ الغريق وقع
المقدمة على صفة الوجوب سواء كان حين الدخول قاصدا للانقاذ أم لا، غاية الامر أنه يكون
في الفرض الثاني متجريا، ولو دخله ولم ينقذ الغريق لم تقع المقدمة على صفة الوجوب بل
وقعت حراما سواء كان حين الدخول قاصدا للانقاذ أو لم يكن قاصدا له غاية الامر أنه يكون
على فرض القصد معذورا في فعل الحرام بخلاف الثاني. واما بناء على كون الواجب
مطلق المقدمة فلازمه كون الدخول مطلقا واقعا على صفة الوجوب وهو امر لا يمكن
تصديقه. (انتهى ما أردنا نقله من كلامه) (أقول): القول بوجوب المقدمة الموصلة يتصور
على وجهين: (الأول) أن يكون المتعلق للوجوب ذات ما يوجد من المقدمات في الخارج
مصداقا للموصل لا بوصف الموصلية بمعنى ان الشارع مثلا رأى أن المقدمات التي تحصل
في الخارج على قسمين: بعض منها مما توصل إلى ذيها ويترتب هو عليها واقعا، وبعض منها
مما لا توصل فخص الوجوب بالقسم الأول أعني ما يكون بالحمل الشايع مصداقا للموصل،
فعلى هذا لا يكون عنوان الموصلية قيدا مأخوذا في الواجب بنحو يجب تحصيله بل تكون
عنوانا مشيرا إلى ما هو واجب في الواقع. (الثاني) أن يكون المتعلق للوجوب عبارة عن
المقدمة الموصلة مع وصف الايصال بحيث يكون قيد ايصال أيضا مأخوذا في الواجب بنحو
179

يجب تحصيله، فإن كان مراد القائلين بوجوب المقدمة الموصلة فقط المعنى الأول، فيرد
عليه ان هذا ليس تفصيلا جديدا في مسألة وجوب المقدمة بل هو نفس التفصيل الذي ذكره
بعضهم أعني اختصاص الوجوب بالمقدمة السببية، فان المقدمة التي تكون موصلة في متن
الواقع ويترتب عليها ذو المقدمة لا تنطبق الا على المقدمة السببية. (1) وان كان مرادهم
المعنى الثاني بان يكون الواجب عبارة عن المقدمة المقيدة بوصف الايصال، ففيه انه يلزم
على هذا ان يترشح من هذا الوجوب المقدمي وجوب مقدمي متعلق بذي المقدمة (2) فان
تحصيل قيد الايصال لا يمكن الا باتيان ذي المقدمة، والالتزام بهذا المعنى مشكل جدا فتدبر.
الامر الخامس في تأسيس الأصل في المسألة
(اعلم) ان نفس الملازمة بين وجوب الشئ ووجوب مقدماته مما لا تجرى فيها
الأصول لعدم كونها حكما شرعيا حتى تجرى فيها البراءة، وعدم وجود حالة سابقة معلومة
لوجودها أو عدمها حتى يجرى فيها الاستصحاب.
(واما نفس وجوب المقدمة) فقد يتوهم جريان الاستصحاب فيه من جهة ان المقدمة
قبل وجوب ذيها لم تكن واجبة وبعده يشك في وجوبها فينفي باستصحاب العدم.
(وفيه اما أولا) فلان جريان الأصول العملية (التي منها الاستصحاب) يتوقف على
ترتب اثر عملي عليها فإنها أصول وضعت لتعيين وظيفة من شك فيما يتعلق بعمله، ومفاد
أدلتها هو وجوب البناء عملا على وفقها كما ربما يأتي في محله، ووجوب المقدمة أولا وجوبها
لا يترتب عليه اثر عملي إذ العقل يحكم جزما بوجوب اتيان المقدمة وان ثبت عدم وجوبها

(1) يمكن ان يقال ان المقدمة التي يترتب عليها ذو المقدمة لا تنحصر في
السبب إذ الترتب لا يستلزم أن يكون المترتب عليه علة تامة للمترتب، بل الترتب عبارة عن
وقوع شئ عقيب شئ آخر، فالمقدمة التي يترتب عليها ذو المقدمة كما يمكن ان تكون سببا يمكن
أيضا ان تكون شرطا أو معدا وجد بعده ذو المقدمة ولو بمعونة سائر المقدمات، فان الشروط
مثلا بحسب الواقع على قسمين: بعضها مما يوجد بعده المشروط، وبعضها مالا يوجد المشروط
بعده، ومن عبر بالمقدمة الموصلة فقد أراد مطلق الترتب لا خصوص العلة التامة. ح. ع
(2) " أقول ": بل يلزم ترشح وجوبين غيريين تعلق أحدهما بذي المقدمة والاخر بذات
المقدمة، فان المطلق أعني الذات جزء للواجب الذي هو الذات المقيدة بالايصال حسب الفرض. ح - ع
180

شرعا فبوجوبها لا يتحقق تكليف زائد حتى ينفى بالأصل. " فان قلت ": الملاك في جريان
الاستصحاب هو كون المستصحب بنفسه اثرا شرعيا أو كونه ذا اثر شرعي، وما نحن فيه
من قبيل الأول، فان وجوب المقدمة بنفسه اثر شرعي لكونه حكما من الأحكام الشرعية
فيجرى فيه الاستصحاب وإن لم يترتب على هذا الأثر الشرعي اثر آخر.
(قلت): هذا ممنوع لما عرفت من أن المجعول في باب الأصول هو وجوب العمل على طبق
مؤدياتها والجري على وفقها، وتعيين الوظيفة فيما لا يرتبط بالعمل امر لغو لا يصدر عن
الشارع، فصرف كون المستصحب حكما من الأحكام الشرعية لا يكفى في جريان الاستصحاب
ما لم يترتب على جريانه اثر عملي.
" واما ثانيا " فلان وجوب المقدمة بناء على الملازمة امر لا يعقل انفكاكه من
وجوب ذيها، فان القائل بالملازمة يدعى ان المولى إذا بعث بعثا مولويا نحو شئ فلا
محالة يترشح منه وجوبات تبعية ظلية بعدد المقدمات بحيث يستحيل صدور البعث عنه
من دون ترشح هذه الوجوبات والتحريكات التبعية فالامر المتعلق بذي المقدمة مستتبع
لهذه الأوامر الغيرية من دون أن يكون لإرادة المولى دخل في ذلك، وهذا من غير
تفاوت في مراتب الحكم من الانشائية و الفعلية والتنجز فان هذا القائل يدعى ان وجوب
المقدمة كالفئ لوجوب ذيها، والفئ من لوازم الشئ لا ينفك منه ابدا.
(وبعبارة أخرى) وجوب المقدمة على فرض ثبوته ليس وجوبا مستقلا بملاك مستقل
حتى يكون تابعا لملاك نفسه، بل هو من اللوازم الغير المنفكة لوجوب ذيها، وعلي هذا
فتفكيكهما غير ممكن لا في الفعلية ولا في غيرها من المراتب فإذا كان وجوب ذي المقدمة
فعليا منجزا فلا محالة كان وجوبها أيضا فعليا منجزا بناء على الملازمة، غاية الامر ان
الشاك في أصل الملازمة شاك في فعلية وجوبها من جهة الشك في أصل الملازمة ولكن
هذا الشك لا يضر بفعليته على فرض ثبوت الملازمة واقعا، فالشاك في الملازمة أيضا عالم
بكون المقدمة واجبا فعليا على فرض، وغير واجب على فرض آخر، وعلي هذا فلا مجال
لجريان استصحاب العدم في وجوب المقدمة التي علم بوجوب ذيها، فان الاستصحاب بعد
جريانه يوجب القطع بفعلية مؤداه وعدم فعلية الحكم الواقعي المشكوك فيه على فرض
181

ثبوته فلا يجرى في الموارد التي لا ينفك الحكم الواقعي على فرض ثبوته من الفعلية بل
اللازم على الشارع حينئذ ايجاب الاحتياط كما في باب الأموال والاعراض والنفوس،
فانا نعلم ان الحكم الواقعي في هذه الموارد (على فرض ثبوته) فعلى لا يأبى فعليته شئ لأهمية
ملاكه فنستكشف ايجاب الاحتياط من قبل الشارع في تلك الموارد ففيما نحن فيه بعد
العلم بوجوب ذي المقدمة نعلم بفعلية وجوب مقدمته على فرض ثبوت الملازمة واقعا فكيف
يحكم بجريان استصحاب العدم بالنسبة إليه! مع استلزام جريانه للقطع بعدم فعلية وجوبها
على فرض ثبوت الملازمة أيضا.
(وبالجملة) المرفوع بالاستصحاب اما نفس الحكم الواقعي أو فعليته، والأول غير ممكن
والثاني غير جائز فيما نحن فيه من جهة كونه فعليا على فرض ثبوته واقعا وليس رفع فعليته
باختيار المولى فتأمل.
" إذا عرفت المقدمات " فلنشرع في تحقيق أصل المسألة، وقبل الشروع في ذكر
الأدلة ينبغي ان ينبه على أمور (الأول) قد ذكروا لوجوب المقدمة ثمرات فقهية ولكنها
لا تخلو عن مناقشة، ومن الثمرات أيضا ما ذكروه في مبحث الضد وسيأتي تحقيقه.
(الثاني) ليس النزاع في المسألة في وجوب المقدمة عقلا بمعنى اللابدية العقلية، و
ذلك لبداهة ان العقل يحكم بلزوم الاتيان بالمقدمة للتمكن بها من ذيها، وليس هذا المعنى
امرا قابلا للنزاع، بل المتنازع فيه في المسألة هو الوجوب الشرعي بمعنى ان المولى إذا
امر بشئ له مقدمات وجودية فهل يترشح من هذا البعث النفسي أوامر عديدة متعلقة بكل
واحدة من مقدماته بحيث يكون كل منها مطلوبة وواجبة شرعا بتبع وجوب ذي المقدمة
أو لا تترشح؟ (الثالث) المراد بالوجوب التبعي هاهنا ليس ما ذكره المحقق القمي (قدس
سره)، إذ مراده بالتبعية هو التبعية في مقام الاثبات والدلالة حيث قال ما حاصله: " ان
الوجوب التبعي هو الذي يستفاد من خطاب المولى الذي سيق لاجل إفادة شئ آخر، من
دون أن يكون إفادة هذا الوجوب أيضا مرادة من هذا الخطاب، بل يكون من قبيل لوازم
الخطاب كاستفادة أقل الحمل من الآيتين الواردتين في تعيين مدة الارضاع ومدة مجموع
الحمل والفصال. " بل المراد من التبعية هنا هو التبعية في مقام الإرادة بمعنى ان الآمر
182

لا يلزم أن يكون ملتفتا إلى مقدمات المأمور به ولكنها بحيث لو التفت إليها الآمر ورأى
انها مما يتوقف عليها الواجب لأرادها ووجد في نفسه حالة بعثية بالنسبة إليها.
(الرابع) المشهور بين المتأخرين وان كان وجوب المقدمة ولكن المسألة ليست من
المسائل المتلقاة من المعصومين (عليهم السلام) يدا بيد حتى تكون الشهرة حجة فيها بل
هي مسألة استنباطية فلا يكون الاجماع أيضا حجة فيها فضلا عن الشهرة.
(الخامس) الأقوال في المسألة كثيرة فالمشهور كثيرة فالمشهور بين المتأخرين هو الوجوب مطلقا
وقال بعضهم بعدم الوجوب مطلقا وهو نادر، وفصل بعضهم بين السبب وغيره فاختار الوجوب في
السبب فقط، وآخر بين الشرط الشرعي وغيره فاختار الوجوب في الأول. (واعلم) ان كلا من
التفصيلين لعله نشأ من شبهة سنحت للقائل به، (اما القائل بالتفصيل الأول) فلعل نظره فيه
إلى أن الأفعال التوليدية كحركة المفتاح المتولدة من حركة اليد (مثلا) لما لم يكن ايجادها
بإرادة مستقلة متعلقة بأنفسها بل كانت توجد بنفس الإرادة المتعلقة بأسبابها، فلا محالة
يجب كون الأسباب مأمورا بها لأنها الصادرة عن المكلف بتوسيط الإرادة دون المسببات،
(وبعبارة أخرى) وجود المسبب في الأفعال التوليدية وان كان مغايرا لوجود السبب
بل الايجاد فيها أيضا متعدد بعدد الوجودات لما مر من أن الوجود عين الايجاد حقيقة، ولكن
لما كان صدور جميع هذه الوجودات عن المكلف بإرادة واحدة متعلقة بالسبب فلا محاله
يجب تعلق الامر بالسبب لأنه المقدور للمكلف والصادر عنه بتوسيط الإرادة، حتى أنه لو
كان بحسب ظاهر الدليل متعلقا بالمسبب فهو بحسب الحقيقة امر بالسبب.
(أقول): وفي هذا البيان نظر (اما أولا) فلكونه خارجا من محل النزاع، فان المتنازع
فيه هو ان تعلق الامر بشئ هل يوجب ترشح امر ظلي منه متعلقا بمقدمته أو لا؟ وهذا
القائل انما يدعى تعلق الامر النفسي بالسبب حقيقة (واما ثانيا) فلما عرفت من أن
المسبب أيضا مقدور بواسطة القدرة على سببه، إذ المقدور بالواسطة مقدور أيضا، فالامر
المتعلق بالمسبب متعلق بنفسه حقيقة غاية الامر انه يترشح منه امر غيرى أيضا متعلقا
بالسبب بناء على الملازمة.
(واما التفصيل) بين الشروط الشرعية وغيرها فغاية ما يمكن ان يقال في توجيهه:
183

ان الشرط الشرعي لما لم تكن مقدميته معلومة الا ببيان الشارع فلا محالة يجب عليه بيان
ذلك بان يجعله قيدا للمأمور به عند تعلق الامر به بنحو يكون التقيد داخلا والقيد خارجا،
ولازم ذلك كون التقيد جزء للمأمور به وواجبا بالوجوب النفسي الضمني، ومن الواضحات
ان الامر لا يتعلق بمفهوم التقيد بل المطلوب انما هو وجوده، وليس التقيد موجودا مستقلا
بحياله في قبال وجود القيد بل يكون موجودا بعين وجود القيد، وعلي هذا فاللازم كون
نفس القيد واجبا بالوجوب الضمني الانبساطي، والا يلزم تعلق الوجوب بالمطلق
دون قيده.
(أقول: وفيه اما أولا) فلان هذا أيضا يوجب الخروج من محل النزاع، إذ الكلام انما
هو في وجوب المقدمة بالوجوب التبعي الغيرى، وهذا التقريب يقتضى كون الشرط
الشرعي واجبا بالوجوب النفسي الضمني. (واما ثانيا) فلامكان ارجاع الشروط الشرعية
أيضا إلى الشروط العقلية بان يقال: ان المأمور به كالصلاة مثلا عنوان بسيط ينطبق على
مجموع الأفعال الخارجية من التكبير إلى التسليم، ولكن يكون انطباق هذا العنوان على
هذه الأفعال والأقوال (بحسب الواقع) مشروطا بالطهارة ونحوها فهي شروط واقعية
المأمور به، غاية الامر ان الشارع قد كشف عنها من دون احتياج إلى تعلق الامر بها فتدبر.
(إذا عرفت هذه الأمور فنقول): قد صار وجوب المقدمة من المسلمات بين المتأخرين
واستدلوا عليه بوجوه كثيرة (الأول) ما اشتهر نقله عن أبي الحسين البصري وهو كالأصل
لا كثر الأدلة (وحاصله) انه لو لم يجب المقدمة لجاز تركها، (و ح) فان بقي الواجب
على وجوبه لزم التكليف بما لا يطاق، والا خرج الواجب المطلق من كونه واجبا مطلقا.
(أقول): هذا الدليل يتألف من قياسين: أحدهما اقتراني شرطي، والاخر استثنائي
(اما الأول) فصورته هكذا لو لم تجب المقدمة لجاز تركها وحين جاز تركها لزم أحد
المحذورين: اما التكليف بما لا يطاق أو خروج الواجب المطلق من كونه كذلك، ينتج
لو لم تجب المقدمة لزم أحد المحذورين من التكليف بما لا يطاق وخروج الواجب المطلق
من كونه كذلك، فقوله (ح) بمنزلة تكرار الأوسط أعني ما هو الجزاء للشرطية الأولى
(واما الثاني) أعني القياس الاستثنائي فبان يجعل النتيجة جزء أولا ويجعل جزئه الثاني
184

قضية حملية مشتملة على رفع التالي لينتج رفع المقدم، وصورته ان يقال: لو لم تجب المقدمة
لزم أحد المحذورين من التكليف بما لا يطاق وخروج الواجب المطلق من اطلاقه المساوق
لاجتماع النقيضين لكن التكليف بما لا يطاق وخروج الواجب المطلق من اطلاقه باطلان،
ينتج ان عدم وجوب المقدمة باطل، فيثبت وجوبه، هذا تقريب الاستدلال. (وفيه) ان
المراد من قوله (ح) ان كان حين إذ جاز تركها، فالأوسط وان تكرر لكن الملازمة في الشرطية
الثانية (التي هي كبرى القياس) ممنوعة، إذ جواز ترك المقدمة شرعا لا يستلزم تركها حتى
يلزم أحد المحذورين بل هي باقية على وجوبها العقلي بمعنى اللابدية التي يحكم بها العقل، وان
كان المراد من قوله (ح) حين إذ تركت فالشرطية الثانية وان صحت ولكن الأوسط لم يتكرر.
(الثاني) مما استدل به لوجوب المقدمة انه يشاهد في بعض الموارد ان بعض الموالى
يأمر بالمقدمة كقول المولى لعبده مثلا: ادخل السوق واشتر اللحم، فيستفاد من ذلك أن
جميع المقدمات في جميع الواجبات مأمور بها ولو تبعا، (بيان ذلك) ان الامر المتعلق
بالمقدمة في هذا المثال امر وتحريك حقيقة مثل الامر المتعلق بذيها من غير فرق بينهما
من جهة البعث والتحريك، ولا ملاك لهذا الامر المتعلق بالمقدمة الا مقدميتها لذيها الواجب
ووقوعها في طريقه من دون أن يكون له ملاك آخر، فيستفاد من ذلك أن المقدمية للواجب
أيضا من الملاكات المقتضية للامر والايجاب ومن العلل الموجبة لهما، ونتيجة ذلك وجوب
كل ما وجد فيه هذا الملاك ولو بالوجوب التبعي بمعنى ان المولى لو التفت إليه لأراده ولانقدح
في نفسه إرادة البعث نحوه (انتهى). (وفيه) ان الامر المتعلق بدخول السوق في هذا المثال
ليس بحسب الحقيقة متعلقا بدخول السوق بان يكون هو المبعوث إليه في قبال اشتراء
اللحم، بل هو أيضا في الحقيقة امر باشتراء اللحم (توضيح ذلك) ان دخول السوق (بما هو طريق
إلى اشتراء اللحم) مأمور به ومبعوث إليه لا بما هو هو، فهذا البعث بالنظر الدقيق تأكيد للبعث
المتعلق باشتراء اللحم وليس بعثا مستقلا في قباله، بداهة أن المبعوث إليه في قول المولى:
(ادخل السوق واشتر اللحم) عند العقلاء امر واحد وهو اشتراء اللحم لا امران.
(الثالث) من الأدلة ما ذكره بعض أعاظم العصر (وحاصله) ان الإرادة التشريعية وزانها
وزان الإرادة التكوينية، فكما أن الإرادة التكوينية إذا تعلقت بفعل تتولد منها إرادات
185

اخر متعلقة بمقدماته كما إذا أراد الانسان الكون في مكان مخصوص فإنه يتولد من هذه
الإرادة إرادات متعددة متعلقة بمقدماته: من وضع الاقدام ورفعها ونحو ذلك مما له دخل في
وصوله إلى المقصد، فكذلك الإرادة التشريعية المتعلقة بصدور الفعل عن الغير يتولد منها
إرادات اخر تشريعية متعلقة بمقدماته ومباديه (انتهى).
(وفيه) ان الإرادة التشريعية ليست عبارة عن إرادة صدور الفعل عن الغير بلا توسط
إرادة منه، فان هذا عين الإرادة التكوينية، بل هي عبارة عن إرادة بعث المكلف نحو
الفعل المطلوب حتى يحدث في نفسه الداعي فيوجده بإرادته، ولما كان نفس البعث
نحو ذي المقدمة كافيا في حصول الداعي بالنسبة إلى ايجاد المقدمات فلا يبقى احتياج
إلى إرادة البعث نحو المقدمات.
(توضيح ذلك) ان المولى إذا أراد صدور فعل عن عبده فاما ان يريد صدوره عنه بلا توسط
إرادة من العبد متعلقة بالفعل، واما ان يريد صدوره عنه بإرادته واختياره،
(اما الأول) فمرجعها الإرادة التكوينية، (واما الثاني) فلا بد فيه من أن يتولد من إرادة المولى
صدور الفعل عن عبده على النحو المزبور إرادة أخرى منه متعلقة ببعث المكلف وتحريكه
حتى يحدث له الداعي نحو الفعل بعد العلم به ويوجد في نفسه مبادئ الاختيار فيوجده امتثالا
أو طلبا لجنانه أو فرارا من عقابه أو لنحو ذلك من الدواعي الإلهية، فإرادة صدور الفعل
عن العبد بتوسط ارادته علة لان يصير المولى في مقام احداث الداعي في نفس المكلف وان
يريد بعثه وتحريكه نحو العمل ليمتثله المكلف بعد العلم به، ولا يكفى نفس إرادة الفعل
منه على النحو المزبور (1) في صدوره عن العبد بإرادته، ما لم يتولد منها الإرادة الثانية

(1) أقول: لا يخفى ان تسمية اشتياق المولى صدور الفعل عن عبده بتوسيط ارادته بالإرادة
لا تخلو عن مسامحة، لما هو المحقق في محله من الفرق البين بين الشوق " وان كان مؤكدا "
وبين الإرادة، فان الإرادة حالة اجماعية للنفس لا تنفك من الفعل ابدا، بخلاف الشوق المؤكد
فإنه مع كمال تأكده قد ينفك منه الفعل لوجود بعض الموانع. وما ينقدح في نفس المولى بالنسبة
إلى فعل العبد هو الشوق المؤكد ثم إرادة البعث دون إرادة الفعل، وانما تنقدح إرادة الفعل في
نفس الفاعل وهي العلة لصدور الفعل عنه دون الشوق المؤكد المنقدح في نفسه أو نفس المولى
فإنه قد ينفك منه الفعل، وانفكاك المعلول من العلة محال. وما قد يتعلق بامر استقبالي فيظن
كونه إرادة فإنما هو مصداق للشوق المؤكد والمحبة، لا الإرادة، إذ الإرادة انما هي الحالة
المستعقبة للفعل بلا فصل بينهما، وعليك بالتأمل التام حتى لا يختلط عليك الامر وتميز بين
المحبة والشوق وبين الإرادة. وليعلم أيضا انه من الاشتباهات الجارية على الألسنة جعل
الكراهة في قبال الإرادة مع أنها في قبال الشوق والمحبة. ح - ع
186

متعلقة بانشاء البعث والتحريك، فاللازم على المولى بعد إرادة الفعل إرادة البعث ثم انشائه
حتى يصير داعيا للمكلف، والإرادة التشريعية ليست عبارة عن إرادة صدور الفعل عن المكلف بل
هي عبارة عن الإرادة الثانية المتولدة منها أعني إرادة البعث والتحريك لايجاد الداعي في
نفس المكلف، وما يكون وزانها وزان الإرادة التكوينية انما هي الإرادة الأولى (أعني
إرادة الفعل) لا الإرادة الثانية (أعني إرادة البعث)، فان البعث ليس إلا لايجاد الداعي في
نفس المكلف وهذا الغرض يحصل بانشاء بعث واحد متعلق بالفعل المطلوب من دون احتياج
إلى تحريكات متعددة بعدد المقدمات لما عرفت سابقا من أن نفس الامر المتعلق بذي
المقدمة كاف في ايجاد الداعي بالنسبة إلى المقدمات أيضا فتأمل.
(الرابع) من الأدلة الوجدان، وتقريبه انا إذا راجعنا وجداننا نرى ان المولى إذا
أمر بشئ له مقدمات، تكون هذه المقدمات أيضا مطلوبة له بمعنى ان له حالة بعثية
بالنسبة إليها بحيث لو التفت إليها لأرادها وأمر بها فهي واجبة ومرادة بوجوب تبعي وإرادة
تبعية وإن لم تكن ملتفتا إليها فعلا، ولذلك قد تراه يجعلها في قالب الطلب مستقلا فيقول
مثلا: ادخل السوق واشتر اللحم،
(وفيه) انا لا نسلم شهادة الوجدان على وجوب المقدمة بل هو من أقوى الشواهد على
عدمه، بداهة أنه بعد مراجعة الوجدان لا نرى فيما ذكرت من المثال الا بعثا واحدا، ولو
سئل المولى (بعد ما امر بشئ له مقدمات) هل لك في هذا الموضوع امر واحد أو أوامر
متعددة؟ فهل تراه يقول إن لي أوامر متعددة؟! لا بل يجيب بأن لي بعثا واحدا وطلبا فاردا
متعلقا بالفعل المطلوب. (نعم) لا ننكر ان العقل يحكم بوجوب اتيان المقدمات حفظا
لغرض المولى وتمكنا من اتيانه، ولكن أين هذا من الوجوب الشرعي والطلب المولوي.
(وبالجملة) الوجدان من أقوى الشواهد على عدم تعدد البعث من قبل المولى بتعدد
المقدمات، ولذا لو التزم المولى بان يعطى بإزاء كل امر امتثله العبد دينارا فامتثل العبد
امرا صادرا عنه متعلقا بفعل له الف مقدمة مثلا، فهل ترى للعبد ان يطالب المولى بأكثر
187

من دينار واحد؟ ولو طالبه فهل يجب على المولى اعطائه؟ لا، ولا يرى العبد نفسه مستحقا
الا لدينار واحد، وليس ذلك الا لعدم وجود البعث بالنسبة إلى المقدمات، بل الموجود بعث
واحد متعلق بالفعل المطلوب حتى في صورة جعل المقدمة في قالب الطلب أيضا، لما عرفت من أن
البعث نحو المقدمة بما هي مقدمة عين البعث نحو ذيها بالنظر الدقيق (هذا)، مضافا إلى أن
الوجوب الذي لا امتثال له ولا عقاب على مخالفته ولا يحصل بموافقته ومخالفته قرب ولا
بعد يكون كالعدم ولا يستحق لان يطلق عليه اسم الامر والبعث ونحوهما. (فتحصل مما
ذكرنا) ان الصادر عن المولى بعث واحد وطلب فارد متعلق بالمطلوب بالأصالة وبمقدماته
بالعرض. ونظير البعث الانشائي البعث العملي، فان المولى إذا أخذ بيد العبد وجره نحو
المطلوب فلا يعد هذا البعث الا بعثا واحدا متعلقا بالمطلوب النفسي ولا يكون هذا البعث
متعددا عند العقلاء بعدد المقدمات بحيث يرى كل واحدة منها مبعوثا إليها بالاستقلال،
هذا كله فيما يتعلق بمقدمة الواجب.
(واما مقدمة المستحب) فيعرف الكلام فيه مما سبق في مقدمة الواجب وقد عرفت أن
مقدمة الواجب ليست مبعوثا إليها بنحو يستحق ان يطلق عليه اسم البعث والامر، فقس عليها
مقدمة المستحب فلا تستحق ان يقال: إنها من المستحبات الشرعية في قبال سائر المستحبات.
(واما مقدمة الحرام) فالتحقيق فيها ان يقال: إنه قد اختلف في معنى النهى (فقد يقال)
انه عبارة عن طلب الترك بمعنى انه يشترك مع الامر في كون كليهما من مقولة الطلب والبعث،
غاية الامر ان المتعلق في النهى هو الترك، وفي الامر هو الفعل. (وقد يقال): ان النهى ليس
من مقولة الطلب والبعث بل هو عبارة عن الزجر عن الفعل، فالمتعلق في كل من الامر و
النهى واحد وهو الفعل، والفرق بينهما انما هو في أصل الحقيقة، فالامر عبارة عن البعث، و
النهى عبارة عن الزجر، فان قلنا: إن النهى عبارة عن طلب الترك فالترك فيه مبعوث إليه فيصير
واجبا من الواجبات الشرعية ويكون مقدماته (أعني التروك المتوقف عليها هذا الترك) أيضا
واجبة بناء على الملازمة، وبعبارة أخرى يصير الكلام فيه عين الكلام في مقدمة الواجب، و
اما إذا قلنا بكونه عبارة عن الزجر عن الفعل فلو كان وجود هذا الفعل في الخارج متوقفا على
وجودات اخر فلا يستلزم الزجر عنه الزجر عن هذه الوجودات
188

نعم ان كانت المقدمة مقدمة سببية للحرام بان كان وجودها علة تامة لوجوده، كانت
محرمة أيضا، اما على القول بان المسببات في الأفعال التوليدية غير مقدورة فظاهر
إذ النهى يتعلق حقيقة بالسبب وان تعلق بحسب الظاهر بالمسبب، واما على القول المرضى
من أن النهى يمكن تعلقه بالمسبب لكونه مقدورا بالواسطة، فالنهى يتعلق بالسبب أيضا
ولكن بالعرض والمجاز بحيث يكون الزجر عن المسبب عين الزجر عن السبب أيضا كما
عرفت بيان ذلك في البعث والطلب.
* (الفصل الرابع) *
اختلفوا في أن الامر بالشئ يقتضى النهى عن ضده بحيث يصير حراما شرعيا أو لا؟ وقد
قسموا الضد إلى العام والخاص، ومرادهم بالضد الخاص أحد الأضداد الوجودية على
نحو التعيين كالصلاة بالنسبة إلى الإزالة، وذكروا للضد العام معنيين: أحدهما (وهو
المشهور) الترك، وثانيهما أحد الأضداد الوجودية لا بعينه. (والأقوال) في المسألة
كثيرة (فقال بعضهم): ان الامر بالشئ عين النهى عن ضده، (وآخرون) ان دلالته عليه
بالتضمن، (ومنهم من قال): ان دلالته عليه بالالتزام، ثم اختلفوا في أن اللازم هنا بين أو
غير بين بالمعنى الأخص أو الأعم.
(ثم إن بعضا منهم) قد أطلق في مقام طرح النزاع، (وبعضهم قال): ان النزاع في الضد
العام واما الخاص فلا نزاع في عدم اقتضاء الامر للنهى عنه، (وقال آخرون): ان النزاع في
الخاص واما العام بمعنى الترك فلا نزاع في دلالة الامر على النهى عنه.
(ثم إن الظاهر) كون المسألة من المبادئ الاحكامية، وقد كانت القدماء من
الأصوليين يذكرون في كتبهم الأصولية نبذا من المبادئ اللغوية، ونبذا من المبادئ العقلية
كالبحث عن الحسن والقبح، ونبذا من المبادئ الاحكامية. والمراد بالمبادئ الاحكامية
لوازم الاحكام وملزوماتها وملازماتها، وحيث إن الموضوع في علم الأصول عبارة عما هو الحجة
على الأحكام الشرعية احتاج الأصولي من جهة زيادة البصيرة إلى البحث عن أقسام الأحكام الشرعية
والبحث عن لوازمها وملازماتها وملزوماتها.
189

(واعلم) ان أرباب المعقول قسموا المتغايرين إلى المثلين والخلافين والمتقابلين، ثم
قسموا المتقابلين إلى النقيضين والضدين والمتضائفين والعدم والملكة، إذ التقابل اما أن يكون
بين وجوديين أو بين وجودي وعدمي، اما الثاني فهو على قسمين: ايجاب وسلب ان كان
العدم عدما مطلقا، وعدم وملكة ان كان العدم عدم ما من شأنه الوجود، واما الأول فإن كان
كل من الوجوديين في مقام التعقل محتاجا إلى الاخر فهما متضائفان والا فمتضادان،
وقد عرفوا الضدين بأنهما امران وجوديان يتعاقبان على موضوع واحد وبينهما
غاية الخلاف ويشتركان في جنس قريب. والضد عند الأصوليين أعم مما ذكره اهل المعقول
لما عرفت من أنهم يطلقون الضد على الترك أيضا. (1)
(إذا اتضح لك هذه الأمور) فلنشرع في البحث عن أصل المسألة (فنقول): الظاهر أن
القائلين بكون الامر بالشئ عين النهى عن ضده أو كون النهى عن الضد جزء له أرادوا
بالضد الضد العام والا فادعاء العينية أو الجزئية في الضد الخاص في غاية البعد (اما القائلون
بالجزئية) في الضد العام فقد دعاهم إلى هذا القول توهم ان الوجوب (الذي هو مدلول الامر)
عبارة عن طلب الشئ مع المنع من الترك بحيث يكون الطلب جنسا والمنع من الترك
فصلا له. (وهذا توهم فاسد) لما عرفت سابقا من أن الوجوب عبارة عن مرتبة أكيدة من
الطلب الانشائي وهو امر بسيط، غاية الامر ان القدماء كانوا يعبرون عنه في مقام التعليم
والتفهيم بذلك المركب، فليس هو امرا مركبا من الجنس والفصل.
(واما القائلون بالعينية) في الضد العام فعمدة نظرهم إلى ما زعموه (من كون حقيقة
النهى عبارة عن طلب ترك متعلقه) فإذا كان المتعلق له تركا صار معناه طلب ترك الترك
وهو عين طلب الفعل، فان عدم العدم وان كان يغاير الوجود مفهوما ولكنهما متحدان في
نفس الامر فكل ما هو مصداق للوجود فهو بعينه مصداق لعدم العدم، (لا نقول) انه مصداق
له حقيقة فان الامر الوجودي بما هو كذلك يستحيل أن يكون مصداقا حقيقيا للعدم (بل نقول)
انه ان قطعنا النظر عن مفهومي الوجود وعدم العدم وحاولنا لحاظ ما هو الوجود في نفس

(1) بل الصلاة والازالة أيضا مع كونهما وجوديتين ليستا بضدين عند أرباب المعقول
كما يظهر وجهه بمراجعة تعريف الضدين. ح - ع
190

الامر وما هو عدم العدم في نفس الامر وجدنا نفس أمريتهما واحدة.
(وبالجملة) الامر بالفعل عبارة عن طلب الفعل الذي هو عين طلب ترك ترك الفعل
في نفس الامر وهو بعينه مفاد النهى عن الترك، فان النهى على زعم هذا القائل بمعنى
طلب الترك فإذا تعلق بالترك صار معناه طلب ترك الترك، فالامر بالشئ على هذا عين النهى
عن الترك بحسب نفس الامر وان تغايرا مفهوما، هذا ما ذكروه في المقام.
(أقول): قد عرفت ابتناء ذلك على كون مفاد النهى عبارة عن طلب الترك
وسيتحقق لك في محله فساد هذا المبنى وان النهى ليس من سنخ الطلب الذي هو البعث
نحو الشئ بل هو من سنخ الزجر الذي هو عبارة عن منع الشئ، فليس اختلاف
الامر والنهى في المتعلق فقط بان يتوافقا في كونهما بمعنى الطلب ويختلفا في متعلق
الطلب، بل المتعلق في كليهما امر واحد وهو الفعل، غاية الامر ان الامر لطلب الفعل
والنهى للزجر عنه.
(ولقائل أن يقول): ان الامر بالشئ ملازم للنهى عن ضده العام وان قلنا بكون النهى
من مقولة الزجر لا الطلب، لا بمعنى أن يكون في كل واقعة تكليفان: وجوب تعلق بالفعل
وحرمة شرعية تعلقت بالترك، بل بمعنى ان البعث نحو الفعل هو بعينه عبارة عن الزجر
عن تركه بحسب نفس الامر وان اختلفا مفهوما، فان الآمر بالفعل يصح ان يقال في حقه:
انه غير راض بالترك وانه زاجر عنه بنحو من المسامحة، كما أن الامر في النهى بعكس
ذلك، فإنه كما عرفت حقيقة في الزجر عن متعلقه، ولكنه يمكن ان يقال بملازمته في
نفس الامر لطلب ترك متعلقه لا بمعنى أن يكون هنا وجوب شرعي تعلق بالترك في قبال
الزجر المتعلق بالفعل، بل بمعنى ان الزجر عن الفعل هو بعينه عبارة عن البعث نحو الترك
في نفس الامر لا مفهوما، فمن قال (لا تزن) مثلا وان كان الصادر عنه حقيقة هو الزجر عن الزنا
ولكن يمكن ان ينسب إليه انه طالب لترك الزنا وباعث عبده نحوه، وعلي هذا فيمكن
ان يقال: ان من فسر النهى بطلب ترك المتعلق كان ناظرا إلى هذا المعنى لا انه أراد كون
النهى من سنخ الطلب حقيقة فإنه واضح البطلان كما عرفت. هذا بعض الكلام في الضد
العام أعني النقيض باصطلاح اهل المعقول.
191

(واما الضد الخاص) بمعنى أحد الأضداد الوجودية بعينه (الذي هو ضد باصطلاح
الفلسفي أيضا) فهو العمدة في هذه المسألة وقد اشتهر النزاع فيه بين الأصوليين
(ويظهر عندهم ثمرة المسألة) فيما إذا كان الضد الخاص للواجب عبادة، فان الامر
بالواجب لو اقتضى النهى عنها كان اللازم بطلانها إذا أتى بها العبد تاركا للواجب، مثال ذلك
أداء الدين الواجب من فور وإزالة النجاسة عن المسجد فان فعل الصلاة ضد لهما بمعنى انه
لا يمكن اجتماعها معهما في الوجود في آن واحد فلو كان الامر بأداء الدين أو إزالة النجاسة
عن المسجد مقتضيا للنهى عن ضده كان اللازم بطلان صلاة المكلف ان أتى بها حين الامر بهما.
(ثم إن) القائلين بحرمة الضد الخاص كانوا في الاعصار المتقدمة يستدلون على الحرمة
بوجهين:
(الأول) ان اتيان الضد كالصلاة مثلا مستلزم للمحرم، ومستلزم المحرم محرم، (اما الصغرى) فلان اتيان الضد كالصلاة مستلزم لترك الواجب أعني الإزالة مثلا، وترك
الواجب محرم لكونه ضدا عاما للواجب، والامر بالشئ يدل على حرمة ضده العام
قطعا فاتيان الضد مستلزم للمحرم. (واما الكبرى) فلان المراد بالاستلزام فهيا هو المقدمية
للحرام بنحو لا ينفك وجود الحرام من المقدمة، وحرمة المقدمة السببية للحرام
مما لا ريب فيها.
(الثاني) ان اتيان الواجب أعني الإزالة مثلا متوقف على ترك ضده أعني الصلاة
فيجب ترك الصلاة من باب المقدمية للواجب، ولازم ذلك حرمة الصلاة من جهة كونها
ضدا عاما لترك الصلاة، إذ الضد العام للترك هو الفعل كما أن الضد العام للفعل هو الترك
(وإن شئت قلت): ان الضد العام للترك ترك الترك وهو يتحد مع الفعل في نفس الامر وان
اختلفا مفهوما. هذا ما ذكروه من الوجهين، وأنت ترى توقف الأول منهما على كون
الامر بالشئ مقتضيا للنهى عن ضده العام، وكون مقدمة الحرام حراما، كما أن الثاني منهما
يتوقف على حرمة الضد العام أيضا، وكون مقدمة الواجب واجبة، وكون ترك أحد الضدين
مقدمة لوجود الضد الاخر، والفرق بين الوجهين واضح، فان الأول منهما يبتنى على كون
فعل الضد مقدمة لترك الواجب المحرم فيكون حراما، والثاني منهما يبتنى على كون
192

ترك الضد مقدمة لفعل الواجب فيكون واجبا من جهة المقدمية للواجب
(واعلم) ان التضاد من النسب المتشابهة الأطراف كالاخوة مثلا فأي حكم ثبت لاحد
الطرفين من جهة التضاد فلا محالة يثبت للطرف الاخر أيضا، فلو كان فعل أحد الضدين
مقدمة لترك الاخر كان فعل الاخر أيضا مقدمة لترك هذا، كما أن ترك أحدهما لو كان
مقدمة لفعل الاخر كان ترك الاخر أيضا مقدمة لفعله. (على هذا) فمقتضى الجمع بين الدليلين
الالتزام بدور واضح، إذ المصرح به في الدليل الأول هو ان فعل الصلاة مثلا مقدمة لترك
الإزالة، ولازمه (على ما ذكرنا) هو كون فعل الإزالة أيضا مقدمة لترك الصلاة، والمصرح به
في الدليل الثاني هو كون ترك الصلاة مقدمة لفعل الإزالة (التي هي الواجب) ولازمه أيضا
كون ترك الإزالة مقدمة لفعل الصلاة، و (الحاصل) ان لازم الدليل الأول هو كون فعل
الإزالة مقدمة لترك الصلاة، والمصرح به في الدليل الثاني هو كون ترك الصلاة مقدمة لفعل
الإزالة هذا دور واضح.
" وحيث انجر الكلام " إلى البحث عن وجود المقدمية بين وجود أحد الضدين وعدم
الاخر، فالأولى ان نشرع في تحقيق المسألة بنحو التفصيل (فنقول): اختلفوا في المسألة
على أقوال (الأول) عدم المقدمية من الطرفين فلا وجود أحد الضدين مقدمة لعدم الاخر
ولا عدم أحدهما مقدمة لوجود الاخر، وهذا القول هو الموافق للتحقيق. (الثاني) المقدمية
من طرف العدم دون الوجود، فعدم كل منهما مقدمة لوجود الاخر من دون عكس، (وبعبارة
أخرى) وجود كل منهما يتوقف على عدم الاخر لعدم امكان اجتماع الضدين، واما عدم كل
منهما فلا يتوقف على وجود الاخر لجواز ارتفاع الضدين.
" الثالث " تسليم المقدمية من الطرفين فيكون وجود كل منهما مقدمة لعدم الاخر وعدم
كل منهما أيضا مقدمة لوجود الاخر، ويستفاد الالتزام بهذا القول من كلام الحاجبي
والعضدي حيث أجابا (عن استدلال القائلين بحرمة الضد من جهة توهم مقدمية عدمه
للواجب، وعن استدلال الكعبي على انتفاء المباح من جهة توهم توقف ترك المحرمات على
اشتغال الانسان بفعل من الأفعال فيكون واجبا من باب المقدمية) بما حاصله انكار
وجوب المقدمة، فيستفاد من هذا الجواب تسليمهما لأصل المقدمية في كلا الطرفين.
193

(الرابع) التفصيل المستفاد من المحقق الخونساري في كون عدم أحدهما مقدمة لوجود
الاخر فقال ما حاصله: ان أحد الضدين ان كان موجودا فرفعه مقدمة لوجود الاخر بخلاف ما إذا
لم يكن واحد منهما موجودا فإنه لا مقدمية حينئذ في البين. (والأقوى) في المسألة كما
عرفت هو القول الأول. (وليعلم أولا) ان النزاع انما هو في أن نفس التضاد بين الشيئين
يوجب مقدمية وجود أحدهما لعدم الاخر أو مقدمية عدم أحدهما لوجود الاخر
أو لا يوجب فلا ينافي منع المقدمية من جهة التضاد وجود ملاكها اتفاقا من جهة أخرى في بعض
الموارد، فاللازم علينا فيما نحن فيه هو اثبات ان نفس التضاد بما هو تضاد لا يوجب المقدمية
لا من طرف الوجود ولا من طرف العدم. وحيث تصورت محل البحث تيسر لك التصديق
بما اخترناه وكنت على بينة من ربك على أن التضاد لا يستلزم المقدمية (بيان ذلك) ان مقتضى
التضاد بين شيئين هو استحالة اجتماعهما في الوجود وعدم امكان وجود أحدهما في ظرف
وجود الاخر في موضوع واحد، فهذا الاجتماع من المحالات، وارتفاع هذا المحال انما هو
بارتفاع موضوعه أعني الاجتماع، وارتفاعه انما هو بارتفاع كلا الوجودين أو بارتفاع
أحدهما وانقلاب وجوده إلى العدم، فما هو مقتضى التضاد بين الوجودين انما هو عدم
اجتماعهما في الوجود لا تقدم عدم أحدهما على وجود الاخر أو تقدم وجود أحدهما على عدم
الاخر ولو طبعا، فان التقدم يحتاج إلى ملاك آخر غير نفس التضاد.
(وبالجملة) انقلاب موضوع الاستحالة أعني الاجتماع إلى موضوع الامكان انما هو
بارتفاع الضدين أو باجتماع وجود أحدهما مع عدم الاخر، لا بوجود الترتب بين وجود
أحدهما وعدم الاخر، فان هذا خارج مما يقتضيه نفس التضاديين الوجودين، فانقدح
بذلك عدم التمانع بين الضدين من جهة الضدية (نعم) يمكن أن يكون وجود العلة
التامة لاحد الضدين مانعا عن وجود الاخر كما إذا كان هنا شئ واحدا فأراد رجل سكونه
والاخر تحريكه فتأمل.

(1) ولا يتوهم ان عدم أحدهما عند وجود العلة التامة للاخر يكون مستندا إلى وجود الاخر
لا إلى وجود علته، ضرورة بطلان ذلك من جهة انه يكفى في هذا العدم وجود العلة للضد الاخر
سواء وجد نفس الضد أم لم يوجد بان صارت علته مزاحمة بعلة الاخر وكانتا متكافئتين. ح - ع
194

(ثم إن ما ذكرناه) في وجه عدم التمانع بين الضدين أولى مما ذكره بعض
الأعاظم، وحاصل ما ذكره انه يتحقق الترتب بين اجزاء العلة في استناد المعلول إليها وجودا
وعدما، فكما أن في طرف الوجود رتبة المقتضى قبل الشرط ورتبة الشرط قبل عدم
المانع، فكذلك في طرف العدم فعدم المعلول عند عدم المقتضى لا يستند الا إليه، واستناده
إلى عدم الشرط انما هو بعد وجود المقتضى كما أن استناده إلى وجود المانع انما هو بعد وجود
المقتضى والشرط كليهما، فمانعية الشئ متوقفة على وجود المقتضى والشرط للمعلول،
وعلى هذا فلا تمانع بين الضدين إذ لا يمكن وجود المقتضى لكليهما فان وجد أحدهما يكون
الاخر معدوما، ولكن لا لوجود المانع بل لعدم المقتضى. (وبالجملة) لا يكون وجود أحد
الضدين مقدمة لعدم الاخر ولا عدم أحدهما مقدمة لوجود الاخر لابتناء كليهما على مانعية
أحد الضدين للاخر وقد عرفت عدم المانعية (انتهى).
" وفي هذا البيان نظر " لان الترتب الثابت بين اجزاء العلة انما هو بالنسبة إلى حال
التأثير واما بالنسبة إلى توقف المعلول عليها فهي بأسرها في عرض واحد، فإذا قيل لك: ان وجود
الشئ المعهود على أي شئ يبتنى؟ قلت: انه يبتنى ويتوقف على ثلثة أشياء: المقتضى، و
الشرط، وعدم المانع، من دون أن يكون من الترتب اسم في البين وهذا واضح. (1)
(ثم انك قد عرفت) ان ثمرة المسألة (أعني حرمة الضد الخاص) هي بطلانه إذا كان امرا
عباديا كالصلاة التي هي ضد للإزالة المأمور بها، وقد نقل عن الشيخ البهائي (قده) انكار هذه
الثمرة، (بتقريب) ان الامر بالإزالة التي هي أهم من الصلاة وإن لم يكن مقتضيا للنهى عن
الصلاة ولكنه يقتضى عدم الامر بها، ويشترط في صحة العبادة كونها مأمورا بها،
(والوجه في ذلك) ان الامر انما يصدر عن المولى بداعي البعث والتحريك ولا يوجد
في نفسه هذا الداعي الا إذ رأى العبد متمكنا من الانبعاث عن امره، ولما كان انبعاثه نحو
الضدين في زمان واحد من المحالات فلا محالة يكون بعث المولى الملتفت نحوهما
أيضا من المحالات لعدم انقداح الداعي لهذا البعث في نفسه (وبالجملة) الامر بالضدين

(1) وإن شئت قلت: إن الترتب انما هو في طرف الوجود، واما في طرف العدم فلا تأثير
ولا تأثر حتى يتحقق الترتب في الاستناد. ح - ع
195

في زمان واحد بداعي البعث بنفسه محال لا انه تكليف بالمحال، وحينئذ فلو كانت الإزالة
مأمورا بها في زمان، لم يمكن كون الصلاة مأمورا بها أيضا، وإذا لم تكن مأمورا بها وقعت
غير صحيحة سواء كان الامر بالإزالة مقتضيا للنهى عنها أم لا - هذا.
(وقد أجابوا) عن هذا الاشكال بوجوه ثلثة: (الأول) ان صحة العبادة لا تتوقف على
كونها مأمورا بها، بل يكفى فيها وجود الملاك لها وعدم النهى عنها، والصلاة المزاحمة
بالإزالة وإن لم تكن مأمورا بها من جهة الاستحالة كما ذكر، ولكن نقطع بعدم تفاوتها
مع الافراد الغير المزاحمة في الملاك والمصلحة الموجبة لايجابها والامر بها.
(الثاني) ان يقال ان الصلاة أيضا مأمور بها بنحو الترتب كما سيجئ تحقيقه.
(الثالث) ان يقال بصحة الامر بأحد الضدين على نحو التضيق، وبالاخر بنحو التوسعة
بحيث يكون زمان الأول أيضا جزء من زمان الثاني، وهذا الجواب لا يجرى فيما إذا كان
الضدان مضيقين بخلاف الأولين.
(إذا عرفت الأجوبة الثلثة) بنحو الاجمال فلنشرع في تفصيلها، (فنقول): اما الوجه
الثالث فقد اختلف في صحته وسقمه، (واستدل القائلون بعدم الصحة) بأنه لا معنى لا يجاب
الفعل في زمان أوسع مما يحتاج إليه عقلا الا كون المكلف مخيرا في ايجاده في أي جزء
منه أراد، فمعنى قوله: (صل من الظهر إلى الغروب) مثلا انك مخير في ايجاد الصلاة في أي جزء
من هذا الزمان، فهو مساوق لقوله: صل في الآن الأول، أو الثاني، أو الثالث، وهكذا، وعلي هذا فلو أمر
بالإزالة في أول وقت الظهر مثلا تعيينا وبالصلاة من اوله إلى الغروب تخييرا لزم بالنسبة إلى الآن
الأول اجتماع بعثين نحو ضدين وان كان أحدهما تخييريا وهذا محال لاستلزامه تخيير المكلف بين
امر محال وأمر ممكن، والامر بالمحال تخييرا كالامر به تعيينا امر بالمحال بل هو بنفسه محال كما
مر بيانه. (لا يقال): ان التخيير هنا ليس بشرعي بل عقلي، فان الشارع بنفسه لم يخير بين
اجزاء الزمان، بل أمر بايجاد الفعل في ساعة كلية موجودة بين الحدين منطبقة على كل
واحدة من الساعات الموجودة بينهما انطباق الكلى على افراده نظير الكلى في المعين.
(فإنه يقال): ان أردت بالساعة التي جعلتها ظرفا للفعل مفهوم الساعة، (ففيه) انها
وان كانت كلية ولكنه من الواضحات عدم كونها ظرفا للفعل بداهة عدم ايجاب ايجاد
196

الفعل في مفهوم الزمان. (وإن أردت بها) الساعة الخارجية التي تكون جزء من مجموع
الزمان المجعول ظرفا، (ففيه) ان نسبة الساعة إلى مجموع الزمان المحدود بالحدين
نسبة الجزء إلى الكل، لا الكلى إلى افراده، وعلي هذا فيرجع جعله ظرفا للفعل (مع كونه)
أوسع مما يحتاج إليه) إلى التخيير الشرعي بين اجزائه: أعني الساعات المتحققة بين الحدين،
هذه غاية ما يمكن ان يقال في تقريب المنع.
(وتحقيق الجواب) عن ذلك هو ان يقال: ان الزمان المجعول ظرفا للواجب الموسع
وإن لم يكن كليا بل هو كل ذو اجزاء، ولكن المتعلق للتكليف في الواجبات الموسعة كلى
ذو افراد، ولازم ذلك عدم سراية الحكم إلى الخصوصيات الفردية.
(بيان ذلك) ان الشارع إذا قال مثلا: (صل من الظهر إلى الغروب) بنحو التوسعة في
الوقت، فما هو المتعلق للوجوب عبارة عن طبيعة الصلاة الكلية المقيدة بوقوعها في هذا
الزمان الوسيع المحدود بالحدين، فالزمان وإن لم يكن كليا بل هو كل ذو اجزاء، ولكن
المتعلق للوجوب هو طبيعة الصلاة المقيدة بوقوعها بين الحدين، وهذه الطبيعة المقيدة امر
كلى قابل للانطباق على كثيرين، فمن افرادها الصلاة التي تقع في الآن الأول من الزمان
الوسيع، ومن افرادها الصلاة الواقعة في الآن الثاني منه، وهكذا إلى آخره.
" وبعبارة أخرى " الزمان المجعول ظرفا وإن لم يكن كليا، ولكن المظروف الذي
هو المتعلق للامر كلى قابل للانطباق على كل فرد من الصلوات التي توجد بين الحدين،
(ونظير ذلك) المكان الوسيع إذا جعل ظرفا للفعل الواجب، فإذا قال المولى: يجب
عليك الوقوف بعرفات، فنفس عرفات ليست كلية وانما هي ارض ذات اجزاء خارجية، ولكن
الواجب على المكلف عبارة عن طبيعة الوقوف المقيد بعدم خروجه من حدود عرفات، فإذا
وقف المكلف في أي جزء من عرفات صدق عليه انه وقوف بعرفات صدق الكلى على افراده،
وان كان نسبة نفس عرفات إلى هذا الجزء نسبة الكلى إلى اجزائه، (وحيث) تبين لك حال
ظرف المكان فقس عليه ظرف الزمان، فالواجب من الظهر إلى الغروب هو طبيعة الصلاة
المقيدة بعدم خروجها من بين الحدين وتصدق هي على كل فرد من الصلوات الواقعة بين
الحدين صدق الكلى على افراده وان كان نفس الزمان كلا بالنسبة إلى كل واحد من اجزائه.
197

" إذا عرفت هذا فنقول ": ان الحكم إذا تعلق بطبيعة مهملة قابلة للانطباق على
كثيرين فما هو المتعلق للحكم عبارة عن نفس حيثية الطبيعة ولا يسرى إلى واحدة
من الخصوصيات الفردية، بداهة عدم دخالتها في الغرض الباعث على الحكم،
" وبالجملة " متعلق الحكم امر وحداني لا تكثر له في ذاته بوجه من الوجوه، غاية الامر
ان امتثال المكلف لهذا الحكم انما هو باتيان فرد من هذه الطبيعة المأمور بها، والفرد
عبارة عن الطبيعة المتخصصة بالخصوصيات، ولكن الاتيان به محقق للامتثال لا بما أنه اتيان
بالفرد المتخصص، بل بما أنه اتيان بأصل الطبيعة المأمور بها بحيث لو أمكنه (على فرض
المحال) اتيانها مجردة من جميع الخصوصيات الفردية لوقعت مصداقا للامتثال.
" وبعبارة أخرى " متعلق الامر نفس حيثية الطبيعة الكلية، ويستحيل سرايته إلى
ما لا دخل له في الغرض من الخصوصيات الفردية، وامتثال هذا الامر انما هو باتيان نفس
الطبيعة، غاية الامر ان اتيانها باتيان واحد من الافراد ولكن الفرد المأتي به لا يقع مصداقا
للامتثال بجميع خصوصياته بل بجهة أصل حيثية الطبيعة المتحققة به.
" ففيما نحن فيه " قد تعلق الامر الموسع أعني الامر الصلاتي مثلا بنفس طبيعة الصلاة
المقيدة بوجودها بين الحدين من دون ان يلاحظ المولى واحدة من الخصوصيات المفردة
(من الوقوع في الآن الأول أو الآن الثاني مثلا) أو يلاحظ اطلاقها بالنسبة إلى جميع
الافراد المتصورة لها من جهة سعة وقتها، وان أتى بها العبد في الآن الأول مثلا فقد امتثل أمر
المولى ويكون اتيانها اتيانا بالطبيعة المأمور بها، لا بما أنه اتيان بالصلاة في هذا الآن، بل
بما أنه اتيان بما هو المأمور به أعني الصلاة الواقعة بين الحدين، وكذلك ان أتى بها في
الآن الثاني أو الثالث إلى آخر الوقت، وليس الامر متعلقا بالصلاة الواقعة في الآن الأول
مثلا حتى يقال بمزاحمته للامر المتعلق في هذا الزمان بالإزالة، بل الامر قد تعلق بنفس
الطبيعة الكلية المقيدة بوقوعها بين الحدين أعني من الظهر إلى الغروب، وهذا الامر لا يطارد
الامر المتعلق بالإزالة بوجه من الوجوه لقدرة المكلف على امتثال كليهما، ولا يشترط
القدرة على اتيان الفرد الأول لأنه ليس مأمورا به وانما يشترط القدرة على ما هو المأمور به
أعني الطبيعة المقيدة بوقوعها بين الحدين وهي مقدورة بالقدرة على بعض مصاديقها
198

(وبتقرير آخر) الأوامر الشرعية ليست جزا فيه حتى تتعلق بأي شئ، وانما تتعلق
هي بما يكون مشتملا على المصالح المنظورة والأغراض الملحوظة، ولا تتعلق ابدا بما
لا دخالة له في الغرض الباعث على الامر، و (ح) فقد يكون المشتمل على المصلحة عبارة عن
نفس حيثية الطبيعة فيجب لا محالة ان يتعلق الامر بنفس الطبيعة المطلقة، لا بقيد اطلاقها
بحيث يكون الاطلاق أيضا ملحوظا بل بنفس حيثية الطبيعة التي لها اطلاق وسريان ذاتي،
وقد يكون المشتمل على المصلحة عبارة عن الطبيعة المقيدة بقيد واحد أو أكثر فحينئذ
لا بد من أن يتعلق الامر بهذه الطبيعة المشتملة على المصلحة (أعني المقيدة بالقيد الواحد
أو الأكثر)، ولا يجوز في صورة عدم دخالة خصوصية من الخصوصيات في اشتمال الطبيعة
على المصلحة ان تعتبر هذه الخصوصية في متعلق الامر للزوم الجزاف. (وعلى هذا) ففي
ما نحن فيه ما هو المشتمل على الملاك والمصلحة عبارة عن طبيعة الصلاة المقيدة بوقوعها
بين الحدين، فتقييدها عند الامر بها بالوقوع في غير الآن الأول مثلا تقييد لها بما لا دخالة
له في اشتمالها على المصلحة فلا يجوز للمولى هذا التقييد بل يجب عليه أن لا يلاحظ الا ما له
دخل في المصلحة الباعثة على الامر، فالمتعلق للامر الصلاتي ليس إلا طبيعة الصلاة المقيدة
بوقوعها بين الحدين، وهذه الطبيعة مقدورة بواسطة القدرة على فرد منها، وإذا أتى المكلف
واحدة من افرادها فقد تحقق منه الامتثال سواء كان هو الفرد الأول أو الثاني أو غيرهما،
فان ترك المكلف اتيانها في ضمن الفرد الأول صار الفرد الأول غير مقدور من جهة مضى
وقته ولكن الطبيعة المأمور بها باقية على مقدوريتها، وكذا ان ترك اتيانها في ضمن
الفرد الثاني، وكذلك الفرد الثالث، وهكذا، بل لو ترك اتيانها في ضمن جميع الافراد
الطولية المتصورة لها سوى الفرد الأخير فالافراد كلها سوى الفرد الأخير صارت غير مقدورة،
ولكن الطبيعة المأمور بها باقية على المقدورية من جهة القدرة على اتيانها في ضمن الفرد
الأخير، وان أتى المكلف بهذا الفرد صار فعله مصداقا للامتثال لا بما أنه اتيان بالطبيعة
في هذا الزمان القصير، بل بما أنه ايجاد لما هو المشتمل على المصلحة أعني الطبيعة
الواقعة بين الحدين.
(نعم) بعد تضيق وقتها وانحصارها في فرد واحد ليس للمولى الامر المطلق بشئ
199

آخر مضاد له، ولكن لا من جهة ان هذا الفرد يصير غير مقدور على فرض اتيان ضده بل
من جهة ان نفس الطبيعة تصير غير مقدورة، ولا يقاس على ذلك ما إذا امر المولى بالضد
الاخر في أول الوقت فإنه انما يزاحم الفرد الأول لا نفس الطبيعة، والقدرة على نفس الطبيعة
موجودة فيصح الامر الفعلي بها، وان أتى بها المكلف في ضمن الفرد الأول أيضا كان
ممتثلا من جهة انه أتى بنفس ما هو المأمور به أعني الطبيعة.
" ومن هنا يظهر لك " ما هو الحق في مسألة الاجتماع أعني جوازه عند تعدد العنوان والجهة.
(فان قلت) فرق بين ما نحن فيه وبين مسألة الاجتماع، إذ الافراد في مسألة الاجتماع عرضية
فالقدرة على بعضها تكفى في القدرة على أصل الطبيعة، وهذا بخلاف ما نحن فيه، فان الافراد فيه
طولية ومن الواضح ان القدرة على بعضها لا تستلزم القدرة على أصل الطبيعة في الزمان الممتد
المعين لها، إذ من اجزائه الزمان الأول، ونفس الطبيعة غير مقدورة في الزمان الأول، من جهة كونه
ظرفا للضد الاخر المأمور به، (وبالجملة) نحن لا نقول: ان الخصوصية الفردية متعلقة للامر،
بل نسلم ان تعلق الامر هو نفس طبيعة الصلاة المقيدة بوقوعها بين الحدين، ولكن نقول: ان
هذه الطبيعة المأمور بها غير مقدورة في الآن الأول من جهة كونه ظرفا للضد المضيق.
(قلت) المأمور به عبارة عن الصلاة بين الحدين (أعني الطبيعة الكلية) وهي مقدورة
بالقدرة على واحدة من افرادها (1) وليس المأمور به هي الطبيعة المقيدة بالآن الأول حتى
يقال: إنها غير مقدورة من جهة مزاحمتها بالأمر المتعلق بالأهم.
" وبعبارة أخرى " في الآن الأول أيضا انما يأمر المولى بايجاد الطبيعة المقيدة
بوقوعها بين الحدين لا بالطبيعة في هذا الآن، والطبيعة المقيدة بالوقوع بين الحدين مقدورة
وان انحصر مصداقها في الواحد، من جهة كون غيره غير مقدور. (وبما ذكرنا) انقدح
فساد ما في تقريرات بعض أعاظم العصر، حيث قال: إن الآن الأول ظرف للأهم فيجب اشغاله
به (و ح) يصير ايجاد المهم فيه غير مقدور من جهة ان الممنوع شرعا كالممتنع عقلا.
(وجه الفساد) ان المولى لم يأمر بايجاد المهم في الظرف الأول، بل امر بايجاده بين

(1) وببيان أخصر الامر قد تعلق بنفس الطبيعة الجامعة، والجامع بين المقدور وغير المقدور
مقدور لامكان ايجاده في الفرد المقدور. ح - ع
200

الحدين فلا مزاحمة في البين، (هذا كله) فيما يرجع إلى الوجه الثالث.
" واما الوجه الثاني " أعني تصحيح الامر بالمهم بنحو الترتب على عصيان الأهم
فقد صار معركة لآراء المتأخرين، وأول من نسب إليه تصحيحه المحقق الثاني، وشيد
بنيانه السيد السند الميرزا الشيرازي، وبالغ في تشييده وتوضيحه تلامذته وتلامذة تلامذته
سوى المحقق الخراساني فإنه يظهر منه انه كان مخالفا لذلك من أول الامر.
(والحق) هو الصحة، ولنذكر لبيان ذلك مقدمة لها كمال المقدمية للمطلب
وان غفل عنها سائر من قال بالصحة (فنقول): لا اشكال في عدم جواز ان يصدر من قبل المولى
طلب واحد بداعي البعث متعلقا بالضدين، فان الجمع بين الضدين محال والتكليف
بالمحال بنفسه محال، لما مر من أن المولى الملتفت بعد كونه بصدد البعث
والتحريك لا تنقدح في نفسه إرادة المحال، فكما أن الإرادة التكوينية لا تنقدح
في النفس بالنسبة إلى امر محال فكذلك الإرادة التشريعية.
" وبالجملة " إذا رأى المولى ان العبد لا يتمكن من الانبعاث فكيف تنقدح في
نفسه إرادة بعثه حقيقة، هذا في التكليف الواحد المتعلق بامر محال كجمع الضدين مثلا،
" واما إذا فرض هنا " تكليفان تعلق أحدهما بأحد الضدين والاخر بالضد
الاخر فاما ان يكونا في عرض واحد بان يكونا مجتمعين ويكون لهما المعية في رتبة
واحدة أولا، اما الأول فلا اشكال أيضا في استحاله سواء كان التكليفان مطلقين، أو مشروطين
بشرط واحد، أو كان كل منهما مشروطا بشرط خاص ولكن كان الآمر عالما بوجود
الشرطين في عرض واحد، لو كان أحدهما مطلقا والاخر مشروطا بشرط يتحقق في عرض
التلكيف الاخر، وسواء كان الشرط امرا اختياريا للمكلف أم لا، " والحاصل " ان وجود
البعثين المتعلقين بالضدين مع كونهما في عرض واحد أيضا محال بجميع أنحائه ولكن
الاستحالة هنا ليست من جهة تعلق الطلب بالمحال حتى يقال ان طلب المحال محال، إذ
ليس هنا طلب واحد متعلق بأمر محال، بل طلبان تعلق كل منهما بأمر ممكن مقدور،
فان هذا الضد بنفسه ممكن وذاك أيضا ممكن، والمحال انما هو اجتماعهما وليس هو
متعلقا للطلب، ولا يمكن ان يطلق على الطلبين اللذين تعلق كل منهما بأمر ممكن
201

طلب المحال، بداهة ان الطلبين بما هما طلبان ليسا مصداقا واحدا للطلب، وانما المصداق
له هو هذا الطلب بحياله وذاك الطلب أيضا باستقلاله، كما أنه يصدق على زيد انه انسان
وعلى عمرو أيضا كذلك، ولا يصدق عليهما معا انهما انسان بل انسانان.
(وبالجملة) استحالة البعثين اللذين تعلق كل منهما بأحد الضدين ليست من جهة
كونهما طلبا للمحال وتكليفا بما لا يطاق كما قد يترائى من بعض عبائر المنكرين للترتب،
بل الوجه في استحالتهما ان طلب المولى لما كان بداعي انبعاث المكلف نحو المكلف به
وكان انبعاثه نحو هذا الضد مستقلا وذاك الضد أيضا مستقلا في رتبة واحدة وعرض واحد
من المحالات، فلا محالة كان تحقق هذا النحو من الطلبين مستحيلا، وذلك لبداهة
امتناع ان ينقدح في نفس الطالب الملتفت (في عرض واحد) إرادتان تشريعيتان تعلق كل
واحد منهما بأحد الضدين، كما يمتنع ان ينقدح في نفسه إرادتان تكوينيتان كذلك
(والحاصل) ان طلب المحال كجمع الضدين مثلا محال ولكن ما نحن فيه ليس
من باب طلب المحال فان البعثين تعلق كل منهما بأمر ممكن، وليس لنا بعث متعلق بجمع
الضدين، (غاية الامر) ان العقل بالتعمل والتدقيق يحكم بامتناع هذا النحو من البعثين
والطلبين أيضا، (هذا كله) فيما إذا كان البعثان في عرض واحد بحيث كان كل منهما
باعثا ومحركا في رتبة تحريك الاخر ولو في بعض الأحوال، واما إذا لم يكن الإرادتان
والطلبان في عرض واحد بل كان أحدهما موجودا في رتبة عدم تأثير الاخر وعدم تحريكه
نحو ما تعلق به كان وجود الاخر في هذه الرتبة والظرف بلا مزاحم إذ الفرض ان هذه الرتبة
رتبة عدم تأثير الأول ورتبة خيبته عما قصد منه أعني داعويته للمكلف وانبعاثه بذلك نحو
العمل، وفي هذه الرتبة يكون المكلف فارغا قادرا على ايجاد متعلق الامر الثاني كما
يقدر على غيره من الأفعال فلا محالة ينقدح في نفس المولى في هذه الرتبة إرادة البعث بالنسبة
إلى متعلق الامر الثاني إذا كان امرا ذا مصلحة ليشتغل العبد به دون غيره من الأفعال الغير المفيدة
(والحاصل) ان استحالة تحقق الطلبين في عرض واحد مع ثبوت القدرة على متعلق
كل منهما قد نشأت من جهة عدم امكان تأثيرهما في عرض واحد في نفس العبد و (ح)
فلو فرض اشتراط أحدهما بصورة عدم تأثير الاخر في نفس العبد وصورة خيبته وعدم
202

وصوله إلى هدفه كصورة العصيان مثلا ارتفع وجه الاستحالة وخرجا من كونهما في عرض واحد
(إذا عرفت هذه المقدمة فنقول): صحة الترتب المصطلح (على هذا البيان) من
أو ضح الواضحات، فان الامر بالأهم وان كان مطلقا غير مشروط بشئ ولكن الامر ليس
علة تامة لوجود متعلقه، وانما هو لايجاد الداعي في نفس المكلف وتحريكه نحو المأمور به
حتى يوجده باختياره، و (ح) فإذا توجه الآمر (بعد أن صدر عنه الامر بالأهم) إلى أن المكلف
يمكن ان يمتثله ويمكن ان يعصيه، وان ظرف الفعل في رتبة عصيانه للأهم يكون فارغا
خاليا عن الفعل، بحيث لو لم يشغله المهم لكان خاليا من الأهم والمهم كليهما، فلا محالة
ينقدح في نفسه إرادة البعث نحو المهم في هذه الرتبة حتى لا يكون الظرف خاليا عن الواجب
المشتمل على المصلحة، ولا مانع من انقداح هذه الإرادة (في هذه الرتبة) في نفسه، لان
هذه الرتبة رتبة خيبة الامر بالأهم ورتبة عدم وصوله إلى هدفه، وفي هذه الرتبة لا مانع
من تأثير الامر بالمهم بأن يوجد الداعي في نفس المكان نحو ما تعلق به، وقد عرفت أن
استحالة البعث ليست الا من جهة استحالة الانبعاث، فإذا فرض امكان الانبعاث انقدح في
نفس المولى إرادة البعث قهرا، (مثلا) لو القى ابن المولى واخوه في البحر ولم يكن العبد قادرا
على انقاذ كليهما، فحينئذ يستحيل ان يصدر عن المولى طلبان بداعي البعث (في عرض واحد)
يتعلق أحدهما بانقاذ الابن، والاخر بانقاذ الأخ، بل الذي يصدر عنه أو لا انما هو الامر
بانقاذ الابن مطلقا غير مشروط بشئ بحيث لا يزاحمه (في رتبته) شئ، ثم إن المولى بعد أن
صدر عنه هذا الامر ربما يتوجه إلى أن أمره ليس علة تامة لانبعاث المكلف بل المكلف يمكن
ان ينبعث من قبل هذا الامر، ويمكن أن لا ينبعث، وينظر إلى أن ظرف الأهم (أعني انقاذ
الابن) عند عدم تأثير أمره وعدم انبعاث المكلف من قبله خال من الفعل، بحيث لو لم يشغله
المهم (أعني انقاذ الأخ) لكان خاليا من الأهم والمهم كليهما، فحينئذ ينقدح في نفسه إرادة
الامر بانقاذ الأخ في هذه الرتبة التي هي رتبة عدم تأثير الامر بانقاذ الابن وعدم وصوله
إلى هدفه. (والحاصل) ان كلا من الأهم والمهم فعل مقدور للمكلف فيمكن ان ينقدح
في نفس المولى إرادة اتيانه، وانقداح كلتا الإرادتين في نفسه ليس انقداحا لإرادة واحدة
متعلقة بالجمع بينهما، فكان اللازم (بالنظر البدوي) جواز انقداحهما في نفسه، ولكن
203

العقل بالتحليل والتعمل يحكم باستحالة انقداحهما في عرض واحد، من جهة انه يرى
ان العبد لا يقدر على الانبعاث نحو الفعلين في عرض واحد، فاستحالتهما انما نشأت من
استحالة انبعاث العبد منهما معا واستحالة تأثير هما في عرض واحد في نفسه، فإذا علق أحدهما
بصورة عدم تأثير الاخر وصورة عصيان العبد له كان وجودهما بهذا الترتيب ممكنا، إذ الزمان في
هذا الفرض فارغ من الفعل فيمكن للعبد اشغاله بالفعل الاخر الذي هو ضد له. (وبالجملة) وجود
البعثين المتعلق كل واحد منهما بواحد من الضدين في عرض واحد من المحالات، واما وجودهما
لا في عرض واحد فلا استحالة فيه، لعدم المزاحمة في مقام التأثير، وهذا مثل الامر بالأهم
مطلقا والامر بالمهم في رتبة عصيان الأهم وعدم تأثيره في نفس المكلف، إذ الامر بالأهم
لا اطلاق له بالنسبة إلى حال عصيانه لتأخر رتبة العصيان عن رتبة الامر، فالامر بالأهم رتبته
قبل العصيان، والامر بالمهم رتبته متأخرة عنه لكونه موضوعا له، ورتبة الحكم متأخرة
عن رتبة الموضوع بالضرورة، و (ح) فلا يوجد بينهما مزاحمة أصلا كما هو واضح لا سترة عليه (1)

(1) أقول: ليس المصحح للامر بالمهم في ظرف عصيان الأهم ما ذكروه من اختلاف
لرتبة، فان الامر بالأهم وإن لم يكن له اطلاق لحاظي بالنسبة إلى حال عصيانه (كما لا اطلاق له بالنسبة
إلى حال اطاعته)، ولكن الاطلاق الذاتي موجود بمعنى ان الامر بالأهم موجود للمكلف سواء كان
مطيعا أو عاصيا في متن الواقع، بداهة عدم تعقل الاهمال الثبوتي، كيف! ولو كان ما ذكروه من اختلاف
الرتبة كافيا في تصحيح الامر بالمهم (مشروطا بعصيان الأهم) لكان اللازم جواز الامر بالمهم
مشروطا بإطاعة الأهم أيضا، ضرورة اشتراك العصيان والإطاعة في أن الامر ليس له اطلاق
لحاظي بالنسبة إليهما، وله اطلاق ذاتي بالنسبة إلى كليهما. (فان قلت): الامر ثابت للمكلف بما هو
انسان اجتمع فيه شرائط التكليف لا بما هو مطيع أو عاص أو بما هو مطيع وعاص، (وبعبارة أخرى)
الامر وان كان ثابتا للمكلف سواء كان مطيعا أو عاصيا ولكنه ليس بما هو مطيع أو عاص و (ح) فليس
للامر بالنسبة إلى عنواني الإطاعة والعصيان اطلاق ولا تقييد. (قلت): ليس معنى اطلاق الحكم
بالنسبة إلى عنوان، سراية الحكم إلى هذا العنوان بحيث يصير هذا العنوان جزء لموضوع الحكم
وإلا فلا نجد نحن مثالا للمطلق ضرورة ان قوله (أعتق رقبة) مثلا من أمثلة المطلقات
من جهة اطلاق الرقبة بالنسبة إلى المؤمنة والكافرة مع أنه ليس معنى الاطلاق فيها ان عنوان الكفر
أو الايمان له دخالة في الحكم بحيث يصير المؤمنة بما هي مؤمنة، أو الكافرة بما هي كافرة موضوعا
للحكم، بل معنى الاطلاق فيها هو ان الرقبة بما هي رقبة تمام الموضوع، ولازم ذلك سريان
الحكم بسريانها الذاتي، وسيأتي تفصيل ذلك في مبحث المطلق والمقيد (وبالجملة) ليس
الملاك في تصحيح الامر بالمهم ما ذكروه من اختلاف الرتبة، بل الملاك فيه هو وجود الامرين
بنحو لا يتزاحمان في مقام التأثير، وبيان ذلك هو ما ذكره سيدنا العلامة الاستاد الأكبر
" مد ظله العالي " وقد صرح بما ذكرنا هو (مد ظله) في مبحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري
(ثم إن) الأنسب ان نعيد ما ذكره " مد ظله " في تصحيح الترتب ببيان آخر لعلك تطلع على
ما هو الحق (فنقول): لا اشكال في أن التكليف بالمحال بنفسه محال، فان التكليف الحقيقي
انما يصدر عن المولى بداعي انبعاث المكلف وتحركه نحو متعلقه، فإذا كان المتعلق امرا محالا
لا يتمكن المكلف من ايجاده فكيف ينقدح في نفس المولى الملتفت إرادة البعث والتحريك
نحوه، والمراد من التكليف بالمحال هو أن يكون المتعلق للتكليف امرا يستحيل صدوره
عن المكلف، وذلك مثل ان يأمر المولى عبده بالطيران إلى السماء بلا وسيلة أو بالجمع بين
الضدين مثلا، (هذا إذا كان) نفس ما تعلق به التكليف من المحالات.
(واما) إذا كان لنا امران مستقلان تعلق أحدهما بأحد الضدين والاخر بالضد الاخر مع
عدم سعة الزمان المقدر لهما الا لأحدهما فصدور هذين التكلفين عن المولى أيضا من المحالات
ولكن لا من جهة لزوم التكليف بالمحال إذ المتعلق لكل واحد من التكليفين امر ممكن،
والجمع بين المتعلقين وان كان محالا ولكن التكليف لم يتعلق به، ومجموع التكليفين ليس
مصداقا للتكليف حتى يقال بتعلقه بالجمع بين الضدين إذ كل فرد مصداق للطبيعة مستقلا وليس
الفردان بما هما فردان مصداقا واحدا (وبالجملة) استحالة هذين التكليفين ليست من هذه
الجهة، بل من جهة تزاحمهما في مقام التأثير ومقام ايجاد الداعي في نفس المكلف، فان كل
واحد من الضدين وان كان بحياله امرا ممكنا يمكن ان ينبعث المكلف نحوه ولكن انبعاثه نحو
هذا الضد مستقلا ونحو ذلك الضد أيضا مستقلا في زمان لا يسع الا واحدا منهما لما كان من
المحالات، كان صدور الطلب من قبل المولى متعلقا بهذا الضد بداعي الانبعاث ومتعلقا بذاك
الضد أيضا بداعي الانبعاث من المحالات، وذلك من جهة امتناع ان ينقدح في نفسه الإرادة
بالنسبة إلى كلا البعثين مع التفاته إلى أن العبد لا يتمكن الا من الانبعاث من واحد منهما
(والحاصل) أن استحالة صدور هذين البعثين، انما هي من جهة انهما يصدران بداعي
الانبعاث، ولما كان الانبعاث من كليهما محالا كان وجودهما أيضا من قبل المولى محالا،
(هذا) إذا فرض البعثان متزاحمين في مقام التأثير والداعوية، وأما إذا لم يكونا متزاحمين
في مقام التأثير بان لم يكونا في عرض واحد بل كان أحدهما ثابتا في رتبة عدم تأثير الاخر و
رتبة خلو الظرف عن المزاحم، فلا وجه (ح) لاستحالتهما، فان المكلف في رتبة عصيانه
للامر المتعلق بالأهم ورتبة عدم تأثيره في نفسه يكون متمكنا من ايجاد المهم فلا محالة
ينقدح في نفس المولى في هذه الرتبة إرادة البعث نحوه، إذ الفعل مقدور للمكلف، والزمان
أيضا في هذه الرتبة خال من الفعل، بحيث لو لم يشغله المهم لكان خاليا من الأهم والمهم
كليهما، و (ح) فأي مانع من انقداح الإرادة في نفس المولى في هذه الرتبة؟ لا والله لا مانع
في البين، والمقتضى أيضا موجود من جهة تمامية الملاك في المهم فتدبر. ولعمري صحة
الترتب (بالبيان الذي ذكره سيدنا الاستاد " مد ظله العالي " وقررناه ثانيا بهذا البيان) في
غاية الوضوح والبداهة فاغتنم ولا تكن من الجاهلين.
(هذا كله) بناء على كون القدرة شرطا للفعلية واما بناء على كونها
شرطا للتنجز فقط فكلا التكليفين فعليان في عرض واحد بلا ترتب في البين
غاية الامر ان تنجز المهم عقلا مترتب على عصيان الأهم، وهذا هو الأقوى،
وعليه فيكون الترتب بين التكليفين في مرحلة التنجز، وبيانه يحتاج إلى تفصيل
لا يسعه المقام. ح ع
204

(فان قلت): كما أن رتبة العصيان متأخرة عن رتبة الامر فكذلك رتبة الإطاعة و (ح)
فلو كان اختلاف الرتبة كافيا في رفع المزاحمة لكان اللازم جواز الامر بالأهم بنحو الاطلاق
والامر بالمهم مشروطا بإطاعة الأهم أيضا بحيث يكون المهم مبعوثا إليه في رتبة إطاعة الأهم
مع كون زمان الفعلين واحدا كما هو المفروض في الترتب. (قلت): رتبة العصيان رتبة
عدم تأثير الامر بالأهم ورتبة خيبته وعدم وصوله إلى هدفه، وفى هذه الرتبة يكون ظرف الفعل
خاليا بحيث يمكن اشغاله بالمهم بلا مزاحم فلا محالة ينقدح في نفس المولى إرادة البعث
نحوه في هذه الرتبة، وهذا بخلاف رتبة الإطاعة فإنها رتبة تأثير الامر بالأهم ورتبة
اشغال الأهم للزمان فلا يقدر المكلف في هذه الرتبة على اتيان المهم فكيف يمكن ان ينقدح
في نفس المولى إرادة البعث والتحريك نحو المهم في هذه الرتبة فتدبر جيدا.
205

(ثم إن) المناسب في المقام ان نذكر ما قاله شيخنا الاستاد المحقق الخراساني في وجه
الامتناع مع الإشارة إلى جوابه (قال قده) ما حاصله: ان ما هو ملاك استحالة طلب الضدين
في عرض واحد آت في طلبهما بنحو الترتب أيضا، فإنه وإن لم يكن في مرتبة طلب الأهم
اجتماع الطلبين الا انه في مرتبة طلب المهم يثبت طلب الأهم أيضا فيجتمعان (لا يقال:)
(نعم) ولكنه بسوء اختيار المكلف فلو لا سوء اختياره لما كان متوجها إليه الا طلب الأهم.
(فإنه يقال) استحالة طلب الضدين انما هي من جهة استحالة طلب المحال وهي لا تختص
بحال دون حال، فان الحكيم الملتفت إلى محاليته لا ينقدح في نفسه ارادته بلا اشكال والا
لصح فيما علق على امر اختياري في عرض واحد بلا احتياج في تصحيحه إلى الترتب مع أنه محال.
(ان قلت): فرق بين الاجتماع في عرض واحد والاجتماع بنحو الترتب فان كلا من
الطلبين في الأول يطارد الاخر، بخلاف الثاني فان المطاردة فيه انما هي من جانب الأهم فقط.
(قلت: اما أولا) فان المطاردة في الثاني أيضا من الطرفين، فان المهم بعد وجود شرطه
يصير فعليا، والمفروض فعلية الأهم أيضا في هذه الرتبة، فيطاردان، (واما ثانيا) فلانا وان
سلمنا عدم طرد المهم للأهم ولكن الأهم يطارد المهم لوجوده في رتبته (فان قلت): فما الحيلة
فيما وقع في العرفيات من طلب الضدين على نحو الترتب. (قلت): لا يخلو اما أن يكون الامر
بالمهم بعد التجاوز عن الأهم حقيقة واما أن يكون الامر به للارشاد إلى بقائه على ما هو عليه
(من المصلحة والمحبوبية لولا المزاحمة) (ثم إنه) يستشكل على القائلين بالترتب بلزوم
استحقاق المكلف لعقابين على فرض مخالفة الامرين، مع بداهة بطلانه ضرورة قبح العقاب
على ما لا يقدر عليه المكلف (انتهى).
(أقول) اما ما يظهر من كلامه (قده) من كون مسألة الترتب من باب طلب الضدين
فقد عرفت فساده، فان الطلبين (الذين تعلق كل منهما بواحد من الضدين) لا يصدق عليهما
طلب الضدين كما عرفت تفصيله، (واما ما ذكره) من أن ما وقع في العرفيات من طلب المهم
بشرط عصيان الأهم انما يكون بعد التجاوز عن الأهم (ففيه) انه ان كان المراد بالتجاوز
عن الأهم اعراضه عنه بالكلية بحيث لا يكون له بعث إليه حقيقة ويكون وجوبه منسوخا
فهو بديهي البطلان فإنه لا معنى للاعراض عما هو تام المصلحة مع كونه أهم مما زاحمه
207

وان كان المراد بالتجاوز عن الأهم تجاوزه عنه من جهة أنه يرى الامر به خائبا غير مؤثر، لا بمعنى
نسخه للوجوب بل بمعنى قطع الرجاء عنه من جهة عدم وصوله إلى هدفه فهذا ما ذكرناه من أن رتبة
العصيان رتبة عدم تأثير الامر، ولا مانع في هذه الرتبة من وجود الامر بالمهم فإنه يمكن ان ينقدح
في نفس الآمر إرادة البعث نحوه في هذه الرتبة التي لا تأثير فيها للامر بالأهم. (واما ما ذكره
أخيرا) من لزوم تعدد العقاب، فنحن نلتزم به من جهة ان المفروض فيما نحن فيه (كما عرفت)
وجود أمرين مستقلين تعلق كل واحد منهما بأمر ممكن مقدور للمكلف، ومخالفة كل
منهما توجب العقاب بلا شك وارتياب، اما مقدورية الأهم فواضحة، واما مقدورية المهم
فمن جهة فرضه في رتبة عدم اشغال الأهم للظرف وكون الزمان خاليا منه، وفي هذه الرتبة
يكون المهم مقدورا بالوجدان.
(تذنيب) قال الشيخ (قده) ما حاصله: انه لو قيل بالسببية في باب حجية الخبر لكان
الخبران المتعارضان من قبيل المتزاحمين، ولازم ذلك عدم سقوطهما رأس، بل يتقيد اطلاق
كل منهما بعدم الاخر. (وأورد عليه) بعض أعاظم العصر (على ما في تقريرات بحثه) بان هذا
التزام بترتبين مع أن الشيخ ممن ينكر الترتب.
(أقول): ليس مراد الشيخ تقييد كل من الخطابين بعصيان الاخر بما هو عصيان حتى
يلزم الترتب، (1) بل مراده ان التعارض في المقام يرجع إلى التزاحم، ولازمه ثبوت كل
منهما على فرض عدم اتيان الاخر، وهو عبارة أخرى عن التخيير العقلي، فمحصل كلامه
(قده) ان الحكم في المتزاحمين هو التخيير لا التساقط. (وبالجملة) مراده تعين كل منهما
في ظرف عدم الاخر بما أنه عدم، لا في ظرف عصيان الاخر بما أنه عصيان فلا ربط لكلامه (قده)
بباب الترتب أصلا فتدبر.

(1) أقول: ولا يخفى ان ترتب كل منهما على عصيان الاخر بما هو عصيان مستلزم للدور المضمر من
الطرفين، فان عنوان العصيان يتوقف على ثبوت الامر فثبوت الامر ب‍ " ا " مثلا يتوقف (على هذا
الفرض) على عصيان " ب " المتوقف على الامر به المتوقف على عصيان الامر ب‍ " ا " المتوقف على
ثبوته، وكذا العكس، وهذا بخلاف العدم بما أنه عدم لعدم توقفه على الامر حتى يدور فافهم ح ع
208

* (الفصل الخامس) *
هل يجوز أن يأمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه أولا؟، قد صارت هذه المسألة معركة
لآراء المتأخرين، وهذا العنوان بظاهره غير قابل للنزاع، إذ المراد بالشرط كما صرحوا به
شرط الامر والوجوب فيصير محصل النزاع (على هذا) أنه هل يجوز وجود المشروط بدون
وجود شرطه، وهذا امر لا يبحث فيه عاقل. (والظاهر) أن المسألة انحرفت من اصلها، وقد
كان النزاع (في الأصل) في أن الشئ المستقبل إذا كان في ظرف وجوده فاقدا لشرط
الوجوب فهل يمكن ان يؤمر به قبل وقته مع العلم بكونه في ظرف وجوده فاقدا لشرط
الوجوب أولا؟ " وبعبارة أخرى " هل يجوز أن يأمر المولى بالشئ المستقبل الذي
يصير في ظرف وجوده فاقدا لشرط الوجوب مع علمه بذلك؟ وذلك بان يأمر به قبل حضور
وقت العمل ثم ينسخه عند حضور وقته من جهة كون شرط الوجوب مفقودا عنده.
(ويدلك على ما ذكرناه) ان القائلين بالجواز استدلوا بامر الله (تعالى) إبراهيم عليه السلام
بذبح ولده مع نسخه قبل العمل.
(والقائلون بالجواز) هم الأشاعرة، وبالامتناع المعتزلة، والمسألة مبتنية على
اثبات الكلام النفسي أو ابطاله، (فالأشاعرة) لما اثبتوا صفة نفسانية في قبال العلم و
الإرادة والكراهة، مسماة بالكلام النفسي في الاخبارات، وبالطلب الحقيقي أو الزجر
الحقيقي في الأوامر والنواهي، التزموا فيما نحن فيه بالجواز، بتوهم ان الفعل الذي انتفى
شرط وجوبه وإن لم يعقل تعلق الإرادة به مع العلم بذلك، ولكنه لا مانع من أن يتعلق به
الطلب النفسي قبل حضور وقته. (واما المعتزلة) فلما لم يفرضوا في النفس صفة أخرى وراء
العلم والإرادة والكراهة، فلذلك التزموا (فيما نحن فيه) بالامتناع بداهة أن الإرادة لا يمكن ان
تتعلق بما يعلم بانتفاء شرط وجوبه في ظرف وجوده.
الفصل السادس في الواجب الكفائي
(اعلم) ان من أقسام الواجب ما يسمى (في اصطلاحهم) بالواجب الكفائي، وله احكام
209

متفق عليها بين القوم: (منها) انه لو تركه الجميع لكانوا معاقبين بأجمعهم، (ومنها) انه
يمتثل بفعل واحد منهم. (والحاصل) ان الواجب الكفائي عبارة عما وجب على جماعة
بحيث ان أتى به واحد منهم سقط من غيره، وان تركه الجميع عوقبوا بأجمعهم، وقد صار
تصويره من المشكلات عندهم حيث أرادوا تصويره بنحو ينطبق عليه التعريف الذي ذكروه
لمطلق الواجب أعني ما يكون في فعله الثواب وفي تركه العقاب، (فقال بعضهم): ان المكلف
في الواجب الكفائي عبارة عن المجموع من حيث المجموع لا كل واحد مستقلا، وعلي هذا
فيتحقق فعل المجموع بفعل واحد منهم وتركه بترك الجميع، (وقال بعضهم): ان المكلف عبارة
عن أحد المكلفين لا على التعيين، (وقال آخرون): ان المكلف عبارة عن كل واحد واحد
مستقلا ولكن اتيان البعض يوجب سقوطه من الجميع، هذا ما ذكروه في تصوير الواجب
الكفائي (ويرد على الأول) ان المجموع من حيث المجموع أمر اعتباري لا حقيقة له وراء الآحاد
فلا يمكن ان يتوجه إليه الطلب، إذ الطلب انما يتوجه إلى الانسان العاقل القادر المختار، ولا
يصدق على المجموع من حيث المجموع هذه العناوين.
(ويرد على الثاني) ان المراد من الأحد ان كان مفهوم الأحد، (ففيه) ان المفهوم غير قابل لان
يتوجه إليه التكليف، وان كان المراد به الفرد المردد بحيث يكون توجه التكليف إلى
المكلفين توجها ترديديا بالتردد الواقعي نظير ما ذكر في الواجب التخييري: من أن
البعث يتعلق بكلا الامرين على نحو التردد الواقعي (ففيه) ان البعث لا يعقل ان يتوجه إلى الفرد
المردد، إذ الغرض من البعث هو الانبعاث ولا بد في تحققه من تعين المبعوث.
(ويرد على الثالث) ان الغرض من الواجب ان كان يحصل بفعل الواحد فلا وجه لتوجه
التكليف إلى الجميع، وان كان لا يحصل الا بفعل الجميع فكيف يسقط بفعل الواحد.
" والتحقيق ان يقال في تصويره ":
ان الوجوب (مطلقا) له إضافة إلى من يصدر
عنه (أعني الطالب)، وإضافة أخرى إلى من يتوجه إليه (أعني المطلوب منه)، وإضافة ثالثة
إلى ما يتعلق به (أعني المطلوب)، والفرق بين العيني والكفائي ليس في المطلوب منه
كما هو مقتضى التصويرات الثلثة بل الفرق بينهما في المطلوب، فالمطلوب في الوجوب
الكفائي هو نفس الطبيعة المطلقة الغير المقيدة بصدورها عن هذا الشخص،
210

بخلافه في الوجوب العيني فإنه عبارة عن الفعل المقيد بصدوره عن هذا الفاعل الخاص
(وتفصيل ذلك) هو انه قد تكون المصلحة في صدور الفعل عن كل واحد من المكلفين فحينئذ
يؤمر كل واحد منهم بايجاد الطبيعة المقيدة بصدورها عن نفسه، ففي قوله: (أقيموا الصلاة)
مثلا يكون كل واحد من المكلفين مأمورا بايجاد طبيعة الصلاة المقيدة بصدورها عن نفسه،
وقد تكون المصلحة في صدور طبيعة الفعل وتحققه في الخارج من غير تقيد بصدوره عن
شخص خاص، فحينئذ يؤمر كل واحد من المكلفين بايجاد هذه الطبيعة المطلقة حتى عن
قيد صدورها عن نفسه، (والحاصل) ان مطلوب المولى في الوجوب الكفائي هو وجود الطبيعة
المطلقة الغير المقيدة بصدورها عمن كلف بها، (غاية الامر) انه لما كان مطلوب المولى
تحقق أصل الطبيعة من غير أن يكون لصدورها عن هذا الفاعل أو عن ذلك دخالة في الغرض
وكان كل واحد من المكلفين قادرا على ايجاد هذه الطبيعة، فلا محالة يتوجه طلبه إلى
كان واحد واحد منهم لعدم خصوصية موجبة للتخصيص بواحد منهم، ومعه يكون التخصيص
ترجيحا بلا مرجح (وبالجملة) التكليف يتوجه إلى كل واحد منهم مستقلا، ولكن ما كلف
به كل واحد منهم عبارة عن أصل الطبيعة الغير المقيدة بصدورها عن نفسه، فالمكلفون
متعددون وكل واحد منهم توجه إليه التكليف مستقلا ولكن المطلوب والمكلف به في
جميع هذه التكاليف امر واحد أعني به الطبيعة المطلقة، ففي مسألة تجهيز الميت مثلا كان
واحد من الناس مكلف مستقلا ولكن المكلف به في الجميع امر وحداني، فزيد مكلف
بايجاد طبيعة الدفن مثلا من غير أن تكون هذه الطبيعة مقيدة بصدورها عن نفسه، وكذلك
عمرو وبكر وغيرهما، ولازم هذا النوع من الوجوب هو سقوط جميع التكاليف بامتثال
الواحد من جهة حصول ما هو تمام المطلوب في جميع هذه التكاليف، وهذا بخلاف الوجوب
العيني فان كل واحد من المكلفين مكلف في هذا النوع من الوجوب بايجاد الطبيعة
المقيدة بصدورها عن نفسه فتدبر.
" وينبغي التنبيه على امرين ": (الأول) قال في الكفاية في المباحث المتعلقة بالأمر
(ما حاصله): انه لو شك في واجب انه عيني أو كفائي فمقتضى الاطلاق حمله على العينية
(بتقريب) ان كل واحد من المكلفين مكلف (في الواجب العيني) بايجاد الطبيعة مطلقا
211

سواء أوجدها غيره أم لا، بخلاف الواجب الكفائي فان كل واحد منهم مكلف فيه بايجاد
الطبيعة إذا لم يوجدها غيره (انتهى).
(أقول): وقد ظهر بما حققناه في الواجب الكفائي ان الامر بالعكس بمعنى ان مقتضى
الاطلاق هو الحمل على الكفائية، وذلك لما عرفت من أن الفرق بين العيني والكفائي هو
ان المطلوب والمتعلق للتكليف في الواجب الكفائي هو نفس الطبيعة المطلقة الغير المقيدة
بصدورها عمن كلف بها، بخلاف الواجب العيني فان المكلف به فيه عبارة عن الطبيعة
المقيدة بصدورها عن خصوص من كلف بها، و (ح) فمقتضى اطلاق المتعلق حمل الوجوب
على الكفائية لاحتياج العينية إلى اعتبار قيد زائد (نعم) لا ننكر ان ظهور الامر المتوجه
إلى المكلف يقتضى مطلوبية صدور الفعل على نفسه (وبعبارة أخرى) نحن نسلم ظهور الامر
في العينية ولكن لا من جهة الاطلاق فان مقتضى اطلاق الحمل على الكفائية، بل من جهة
ان المتبادر من الامر المتوجه إلى المكلف ان المطلوب هو صدور الفعل عن نفسه.
(التنبيه الثاني) إذا أتى بالطبيعة (المأمور بها كفاية) أكثر من واحد في عرض واحد فهل
يكون فعل كل واحد منهم امتثالا مستقلا أو يكون المجموع امتثالا واحدا؟ (الأقوى) هو الأول،
وذلك لما عرفت من أن كل واحد من المكلفين مأمور مستقلا بايجاد الطبيعة المطلقة، والمفروض
فيما نحن فيه أن كل واحد منهم أتى بهذه الطبيعة المأمور بها، فلا محالة يكون ممتثلا
من جهة اتيانه بما امر به، وقد مر في مسألة المرة والتكرار أيضا انه ان أتى المكلف في عرض
واحد بأكثر من فرد واحد من الطبيعة المأمور بها يكون كل واحد من الافراد امتثالا على حدة
لان كل واحد منها يكون وجودا مستقلا للطبيعة المأمور بها فلا وجه لعد الجميع امتثالا
واحدا، بل الامر في هذه المسألة أوضح من مسألة المرة والتكرار، فإنه لاحد أن يقول في
تلك المسألة بان الصادر عن المولى ليس إلا امر واحد فكيف يتعقل له امتثالات متعددة، و
اما فيما نحن فيه فالصادر عنه أوامر متعددة بعدد المكلفين، والمفروض ان كل واحد منهم
أتى بما كلف به أعني الطبيعة المطلقة التي تعلق بها الامر المتوجه إليه، و (ح) فلا وجه لان يعد
جميع الأفعال الصادرة عنهم امتثالا واحد فتدبر.
212

* (الفصل السابع) *
قد قسموا الواجب أيضا إلى المطلق والموقت، (فالمطلق) عبارة عن الواجب الذي لم
يؤخذ فيه الزمان قيدا، وهذا كقول المولى لعبده: (اعط درهما) فان الامر قد تعلق بنفس
الاعطاء من غير أن يقيد بصدوره في زمان خاص من جهة عدم دخالته في الغرض الباعث
على الامر، وهذا لا ينافي احتياج الفعل إلى الزمان، لوضوح الفرق بين ملازمة الفعل
للزمان وجودا وبين اخذه فيه قيدا من جهة دخالته في الغرض الموجب للامر به، فظرف
الزمان في الواجب المطلق كسائر الخصوصيات الفردية الملازمة للطبيعة المأمور بها وجودا
من غير أن يكون لها دخل فيه. (واما الموقت) فهو عبارة عن الواجب الذي اخذ فيه الزمان
قيدا من جهة دخالته في الغرض.
" ثم إن الموقت أيضا " على قسمين فان الزمان المأخوذ قيدا اما أن يكون بقدر
ما يحتاج إليه الفعل عقلا من غير زيادة ونقصان بحيث يكون الزمان كاللباس المخيط على قدر
قامة الفعل، واما أن يكون أوسع مما يحتاج إليه عقلا، (فالأول) يسمى بالمضيق كقوله:
(صم من الفجر إلى المغرب)، (والثاني) يسمى بالموسع كقوله: أقم الصلاة لدلوك الشمس
إلى غسق الليل. (ثم انك) قد عرفت (في مبحث الضد) ان التخيير بين الافراد التدريجية في
الواجب الموسع ليس تخييرا شرعيا بل هو تخيير عقلي، فقوله مثلا: أقم الصلاة لدلوك الشمس
إلى غسق الليل ليس مساوقا لان يقول: صل في الآن الأول أو في الآن الثاني أو في الآن الثالث
إلى آخر آنات الزمان حتى يكون ذكر الزمان الوسيع بمنزلة التخيير الشرعي بين
الافراد التدريجية التي يمكن وقوعها فيه وان كان قد يتوهم ذلك، بل معنى قوله: أقم الصلاة
(الآية) انه يجب عليك ايجاد طبيعة الصلاة المقيدة بوقوعها بين الحدين (أعني من الظهر
إلى الغروب) وهذه الطبيعة المقيدة كما أن لها افرادا دفعية، كذلك لها افراد تدريجية
ولكن المولى لم يلاحظ هذه الافراد بل لاحظ امرا وحدانيا يكون تمام المحصل لغرضه
وجعل هذا الامر الوحداني متعلقا لطلبه، وهذا الامر عبارة عن طبيعة الصلاة المقيدة
213

بوقوعها بين الحدين، وما يوجده المكلف في الآن الأول مثلا يكون فردا لهذه الطبيعة
المقيدة ويكون محققا للامتثال لا بما هي طبيعة موجودة في هذا الآن بل بما هي طبيعة موجودة
بين الحدين، وهكذا حال ما يوجده في الآن الثاني أو الثالث، (وبالجملة) المأمور به
في الواجبات الموسعة هو الطبيعة الكلية المقيدة بوقوعها بين الحدين.
(وبهذا البيان يظهر لك) ان مضى بعض الوقت في الموسع لا يوجب تضيقه شرعا وان كان
قد يتوهم في بادئ النظر ان الموسع كلما مضى بعض من وقته صار وقته أضيق شرعا إلى أن يبقى
من الوقت بمقدار اتيان الواجب فيصير (ح) مضيقا شرعيا، (والسر في ذلك) هو ما ذكرناه
من أن التخيير بين اجزاء الوقت ليس تخييرا شرعيا بل هو تخيير عقلي، وما تعلق به الامر
عبارة عن الطبيعة المقيدة بوقوعها بين الحدين، وعلى المكلف ايجاد هذه الطبيعة المأمور
بها، فالفرد الذي يوجده المكلف في آخر الوقت أيضا امتثال لهذا الامر، ولكن لا بما
هو موجود في هذا الزمان المضيق، بل بما هو موجود بين الحدين (أعني من
الظهر إلى الغروب مثلا الذي جعل ظرفا للواجب في لسان الدليل)
(وبعبارة أخرى) الواجب على المكلف في آخر الوقت ليس هو ايجاد الصلاة في
هذا الوقت المضيق بل الواجب عليه (ح) أيضا ايجاد طبيعة الصلاة الكلية المقيدة بوقوعها
بين الحدين، وما يوجده المكلف في آخر الوقت انما يقع امتثالا من جهة كونه فردا لهذه
الطبيعة، كما أن ما يوجده في أول الوقت أو وسطه أيضا كذلك، وعدم جواز تأخيره
من آخر الوقت ليس من جهة كونه واجبا مضيقا بل من جهة ان التأخير منه يوجب فوات
الطبيعة الكلية المأمور بها.
" ثم إن الامر " في الموقتات هل يقتضى بنفسه اتيان المأمور به في خارج الوقت
إذا عصى في وقته أو لا يقتضى ذلك؟ (فيه وجهان) وهذا هو النزاع المشهور بينهم الذي
عبروا عنه تارة بان القضاء بالأمر الأول أو بأمر جديد، وأخرى بان الموقت هل يفوت بفوات
وقته أولا. (والظاهر) انه لا وجه (يعتنى به) للقول بالاقتضاء إذ الامر لا يقتضى الا اتيان متعلقه، و
المفروض ان متعلقه عبارة عن الطبيعة المقيدة بالوقت، و (ح) فلا معنى لاقتضائه اتيان الفعل
بعد مضى وقته (وبعبارة أخرى) الامر لا يدعو الا إلى متعلقه سواء كان طبيعة مطلقة أو مقيدة
214

بقيد خاص، ومن القيود أيضا قيد الوقت فكما انه إذا امر المولى عبده باتيان طبيعة مقيدة
بغير الوقت من القيود فعصاه العبد لا يمكن ان يقال باقتضاء هذا الامر لاتيان الطبيعة المطلقة
بدون القيد، فكذلك الامر في الموقتات لما عرفت من عدم الفرق بين قيد الوقت وبين سائر القيود
التي تؤخذ في متعلق الامر من جهة دخالتها في غرض المولى.
" وبعبارة ثالثة " تشخص الامر وتحصله انما يكون بتحصل متعلقه، وامتياز الأوامر
ليس إلا بامتياز متعلقاتها، وما هو المتعلق في الموقتات عبارة عن الطبيعة المقيدة بصدورها
في الوقت المعين، فبعد انقضاء الوقت لا يعقل ثبوت الطلب الأول، إذ ما ادعى بقائه بعد
الوقت ان كان عبارة عن الطلب المتعلق بالطبيعة المطلقة.
(ففيه) ان الطلب لم يكن متعلقا بأصل الطبيعة حتى يبقى بعد الوقت، وان كان عبارة
عن الطلب المتعلق بالطبيعة المقيدة بالوقت (ففيه) ان بقائه مستلزم للتكليف بما لا يطاق
إذ الطبيعة بقيد كونها في الوقت المعين لا يمكن ايجادها في غير هذا الوقت. (فان قلت):
هذا إذا كان التقييد بالوقت بدليل متصل، واما إذا كان بدليل منفصل بان كان هنا امران تعلق
أحدهما بأصل الطبيعة والاخر بايجادها في الوقت المعين بنحو تعدد المطلوب فحينئذ يقتضى
الامر الأول اتيان الطبيعة بعد الوقت أيضا (قلت): ان كان المدعى (ح) بقاء الامر الأول
كما ذكرت (ففيه) انه خارج من محل النزاع إذ النزاع فيما نحن فيه انما هو في ما لو عصى
الواجب الموقت في وقته، والامر الأول بناء على تعدد المطلوب وكونه امرا مستقلا في
قبال الامر الثاني لا وقت له حتى يعصى بانقضاء وقته، وان كان المدعى بقاء الامر الثاني.
(ففيه) ما عرفت آنفا من كونه مستلزما للتكليف بما لا يطاق، إذ الزمان الماضي
يستحيل اعادته (هذا) وشيخنا الاستاد صاحب الكفاية بعد تسليمه ما ذكرناه من عدم
الاقتضاء استثنى في آخر كلامه قسما من الموقتات فاختار الاقتضاء في هذا القسم وهو
عبارة عما إذا كان التوقيت بدليل منفصل ولم يكن له اطلاق في التقييد بالوقت وكان لدليل
الواجب اطلاق (قال " قده ") ما حاصله: انه يؤخذ (ح) باطلاق دليل الواجب ويحمل
دليل التوقيت على كونه بنحو تعدد المطلوب (انتهى). وفيما ذكره نظر، فإنه (قده) قد
جعل هذا القسم أيضا من الموقتات، والتوقيت عبارة عن تقييد الطبيعة المطلوبة بقيد الوقت
215

وهذا المعنى لا يلائم تعدد المطلوب، فان التقييد عبارة أخرى عن حمل، المطلق على المقيد،
وذلك انما يتصور فيما إذا أحرز وحدة الطلب والحكم فلا يعقل ان يجتمع مع تعدد المطلوب
(توضيح ذلك) انه إذا كان لنا دليلان: أحدهما مطلق والاخر مقيد فهو على نحوين
(الأول) ان يحرز كونهما بصدد بيان حكم واحد، غاية الامر تعارضهما من جهة
المتعلق كما إذا قال المولى: ان ظاهرت فأعتق رقبة، وقال أيضا ان ظاهرت فأعتق رقبة
مؤمنة فإنه من الواضحات ان الثابت على تقدير الظهار حكم واحد غاية الامر ان مقتضى ظاهر
الدليل الأول هو كون عتق الرقبة باطلاقه متعلقا للوجوب، ومقتضى الدليل الثاني هو كون
المتعلق وما هو تمام المطلوب عبارة عن عتق الرقبة المقيدة بالايمان فحينئذ يحمل المطلق على
المقيد من جهة ان ظهور المقيد في دخالة القيد أقوى من ظهور المطلق فيرفع اليد عن ظاهره.
(الثاني) أن لا يحرز وحدة الحكم بل يعلم أو يحتمل تعدده و (ح) لا مجال
لحمل المطلق على المقيد إذ لا تعارض بينهما حتى يحمل أحدهما على الاخر، فيؤخذ
بظهور كل واحد منهما فيثبت حكمان تعلق أحدهما بالطبيعة المطلقة والاخر بالمقيدة،
ومن هذا الباب ما ورد في المستحبات من المطلقات والمقيدات إذ لا سبيل إلى احراز وحدة
الحكم في الاحكام الندبية فلا يحمل المطلق فيها على المقيد بل يحمل الأول على مرتبة
ضعيفة من الندب والثاني على مرتبة قوية منه، ولأجل ذلك اشتهر بينهم ان حمل المطلق
على المقيد لا يتمشى في أدلة السنن، (وبالجملة) حمل المطلق على المقيد اما يتمشى فيما
إذا أحرز وحدة الطلب والمطلوب، ففرض تعدد المطلوب يوجب الخروج مما نحن فيه،
إذ الكلام انما هو في الموقت الذي هو قسم من المقيدات. (فان قلت): يمكن أن يكون
دليل المطلق ناظرا إلى بيان مطلوبية أصل الطبيعة، ودليل المقيد ناظرا إلى تقييد المرتبة
القوية، ومقتضى ذلك هو كون أصل الطبيعة مطلوبة مطلقا سواء أتى بها في الوقت أو في
خارجه، غاية الامر ان ايجادها في الوقت يوجب شدة المطلوبية (قلت): نعم ولكنه أيضا
خارج مما نحن فيه فان الدليلين على هذا لا تعارض بينهما ولا يحمل المطلق منهما على المقيد
(والحاصل) ان محل النزاع فيما نحن فيه هو الموقت الذي هو قسم من المقيدات
فما ذكرت من بقاء المطلق على اطلاقه خارج مما نحن فيه فافهم وتأمل جيدا.
216

* (الفصل الثامن) *
اختلفوا في أن الأوامر تتعلق بالطبائع أو بالافراد، " ولا يخفى " ان النزاع ليس لفظيا
لغويا، بل النزاع انما هو في أن متعلق الحكم هو الطبيعة أو الافراد. (والظاهر) ان مراد
القائلين بتعلقها بالافراد ان الطبيعة التي توجد في الخارج مع جميع مشخصاتها تكون
مطلوبة للمولى بحيث تكون الخصوصيات المفردة أيضا دخيلة في متعلق الطلب، ومراد
القائلين بتعلقها بالطبائع ان ما هو تمام المتعلق لإرادة المولى وطلبه عبارة عن الحيثية التي
هي ملاك صدق الطبيعة بحيث لو وضعنا الفرد الذي يوجده المكلف تحت الميكرسكب
العقلي وجزيناه وفككنا الحيثية التي هي ملاك صدق الطبيعة الواقعة تحت الامر من سائر
الحيثيات المجتمعة معها وجودا كان المصداق للامتثال هو تلك الحيثية دون سائر الحيثيات
بل كانت هي كالحجر الموضوع بجنب الانسان بحيث لو قدر المكلف على ايجاد هذه الحيثية
منفكة من كافة الحيثيات المشخصة والخصوصيات المفردة كان ممتثلا وآتيا بما هو
متعلق لطلب المولى.
(إذا عرفت هذا فنقول): ان كان مراد المتخاصمين ما ذكرنا فالحق مع الطائفة
الثانية القائلين بتعلقها بالطبائع " بيان ذلك " ان للطلب الصادر عن المولى ثلاث إضافات:
إضافة إلى من يصدر عنه (أعني الطالب) من جهة صدوره عنه وكونه فعلا من أفعاله، وإضافة إلى
من يتوجه إليه (أعني المطلوب منه)، وإضافة ثالثة إلى ما يتعلق به (أعني المطلوب الذي هو
عبارة عن فعل المكلف)، واحتياج الطلب في تحققه إلى تلك الإضافات الثلثة مما لا شك
فيه. " ثم إن " المتعلق للطلب لا بد من أن يكون امرا موجودا ولكن لا بالوجود الخارجي
والا لزم طلب الحاصل بل بالوجود الذهني.
(وبعبارة أخرى) متعلق الطلب يشتمل على واجدية وفاقدية: واجدية للتحصل الذهني
وفاقدية للتحصل الخارجي، فطلب المولى يتعلق بامر موجود في الذهن ولكن لا بقيد
وجوده فيه، إذ الطلب انما يكون بداعي ايجاده في الخارج، والمقيد بالوجود الذهني
217

يستحيل أن يوجد في الخارج، بل المتعلق للطلب نفس الحقيقة الموجودة في الذهن، بحيث
يكون وجودها فيه مغفولا عنه (ثم إن) النظر إلى هذه الطبيعة ليس بلحاظها من حيث هي هي،
بل من حيث كونها مرآتا للحاظ وجوداتها الخارجية، ولكن بما هي وجودات لها لا بما هي
مشخصات بالعوارض المشخصة والحيثيات المفردة، بداهة تباين تلك الحيثيات لحيثية أصل
الطبيعة الملحوظة في الذهن، والشيئ لا يحكى ما يباينه بالضرورة.
" فتلخص مما ذكرنا " ان متعلق الطلب هي الطبيعة التي توجد في الذهن
بما هي حاكية ومرآة للحيثية الخارجية التي هي ملاك صدق الطبيعة، بل هي
عين تلك الحيثية الخارجية، إذ الفرض أن وجودها الذهني مغفول عنه وليست هي بما انها
موجودة في الذهن متعلقة للطلب وإذا كان المتعلق للطلب عبارة عن نفس حيثية الطبيعة
فلا مجال للقول بكون الحيثيات المفردة أيضا دخيلة في المطلوب، وعلى هذا فما يوجده
المكلف انما يقع مصداقا للامتثال لا بجميع خصوصياته وتشخصاته بل بحيثيته التي هي ملاك
كونه منطبقا لعنوان الطبيعة الواقعة تحت الامر، وسائر الحيثيات من قبيل الحجر
الموضوع بجنب الانسان فتدبر.
" ثم إن المحقق الخراساني " قال في الكفاية (ما حاصله بتقريب منا): ان الامر عبارة
عن طلب الوجود، وهذا الوجود مضاف إلى نفس الطبيعة فالامر يتعلق بنفس الطبيعة ومفاده طلب
وجودها، فما هو المتعلق للطلب ليس عبارة عن نفس الطبيعة بل هو عبارة عن وجودها، وذلك
لما تقرر في محله من أن الطبيعة من حيث هي ليست الا هي، ولا تستحق لان يحمل عليها شئ
الا ذاتها وذاتياتها، فهي في رتبة الذات وبالنظر إلى ذاتها لا موجودة ولا معدومة، لا مطلوبة ولا غير
مطلوبة، حتى قالوا بجواز ارتفاع النقيضين في رتبة الذات " وبالجملة " هي في مرتبة ذاتها
لا يتعلق بها الطلب إذ لا تستحق في هذه المرتبة لان يحمل عليها المطلوبية، كما لا تستحق لان
يحمل عليها نقيضها، فلا بد في تعلق الطلب بها من اشراب معنى الوجود الذي هو الموجب لتحققها
بحيث لولاه لما كان لها اثر وخبر، ومن هنا نقول بأصالة الوجود لما نرى من أن ضمه إلى
الماهية هو الذي يوجب تحققها، وقبله كانت هباء منثورا. ثم إنه ليس مرادنا من تعلق الطلب
بالوجود تعلقه بالوجود الخارجي الحاصل، للزوم تحصيل الحاصل وهو باطل، ولا تعلقه
218

بالطبيعة لتوجد بان يجعل الوجود غاية له، بل المراد انه يتعلق بنفس ايجاد الطبيعة، و
المطلوب هو جعل وجودها بنحو الهلية البسيطة، هذا بناء على أصالة الوجود، واما بناء على
أصالة الماهية فالمطلوب أيضا جعلها من الخارجيات لا هي من حيث هي لما ذكرنا من أنها في
مرتبة ذاتها لا تستحق لان يحمل عليها الا ذاتها وذاتياتها فلا يجوز ان يحمل عليها المطلوبية
(انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه).
(أقول) يمكن: ان يقال ان متعلق الطلب عبارة عن نفس حيثية الطبيعة من غير احتياج
إلى اشراب معنى الوجود فيها، إذ مقتضى المداقة العقلية والتحقيق الفلسفي وان كان تركب
الممكن من حيثيتين: إحديهما ما نفس حقيقته التحقق (وهو الوجود،) وثانيتهما امر اعتباري
لا بشرط بالنسبة إلى التحقق وعدمه بحيث يحتاج في تحققه إلى حيثية تقييدية (وهو الماهية)،
ولكن الذي يلاحظ الطالب حين طلبه هو نفس الطبيعة من جهة حكايتها لما يوجد في الخارج
من دون ان يلاحظ ماهية ووجودا ثم يضيف الوجود إليها، وذلك من جهة انه لا يرى الطبيعة
حاكية الا للوجودات فإنها المصاديق لها دون المعدومات، إذ لا يعقل ان يتصف المعدوم
بكونه مصداقا للطبيعة، وهذا لا ينافي كون الطبيعة بحسب الدقة الفلسفية لا بشرط
بالنسبة إلى الوجود والعدم.
(ثم إن ما ذكره " قده ") من أن الطبيعة من حيث هي ليست الا هي امر متين ولكنه
انما يصح إذا كان النظر مقصورا على مرتبة ذاتها (1) واما إذا لوحظت باعتبار إضافة شئ
إليها فلا مانع من أن يحمل عليها سوى الذات والذاتيات، ففيما نحن فيه بعد ملاحظة كون
الطبيعة مضافا إليها للطلب لا مانع من أن يحمل عليها المطلوبية (ولا يتوهم) عدم صحة
كون الذات مضافا إليها قياسا على عدم صحة كونها محمولا عليها لغير الذات والذاتيات،
وذلك لبداهة ان قياس الإضافة بالحمل قياس مع الفارق فلا مانع من إضافة شئ إلى نفس
حيثية الطبيعة كالطلب فيما نحن فيه، وبعد اضافته إليها يحمل عليها المطلوبية.

(1) (وبعبارة أخرى) قولهم: الطبيعة من حيث " الخ " ناظر إلى الحمل الأولى الذاتي
لا الشائع الصناعي فهي بالحمل الأولى ليست الا هي ولا يحمل عليها بهذا الحمل سوى الذات
والذاتيات واما بالحمل الشايع فيحمل عليها جميع العناوين المنتزعة عنها باعتبار
إضافة شئ إليها. ح - ع
219

المقصد الثاني في النواهي
وفيه فصول (الفصل الأول) في بيان مفاد النهى، قال في الكفاية ما حاصله: ان الامر
والنهى يشتركان في كونهما للطلب غاية الامر ان المتعلق للطلب في الأوامر هو وجود
الطبيعة وفي النواهي عدمها، فاختلافهما انما يكون بحسب المتعلق لا بحسب الحقيقة
لكون كليهما بحسب الحقيقة من مقولة الطلب (ثم قال): ان متعلق الوجود في الأوامر و
متعلق العدم في النواهي أيضا امر واحد وهو الطبيعة الواقعة بعدهما، غاية ما في الباب انه
انه لما كان وجود الطبيعة بوجود فرد ما وانعدامها بانعدام جميع الافراد، فلا محالة كان
تحقق الامتثال في الأوامر باتيان فرد ما وفي النواهي بترك جميع الافراد (انتهى).
(أقول) يترتب على كلامه " قده " لوازم فاسدة لا يلتزم بها أحد: (منها) ان مقتضى ما ذكره
أن يكون للنهى المتعلق بالطبيعة عصيان واحد وهو الاتيان بأول فرد من افرادها من دون
أن يكون الفرد الثاني أو الثالث وهكذا محققا لعصيان آخر، والالتزام بذلك مما يعد عند
العقلاء مستنكرا (بيان ذلك) ان النهى ان كان عبارة عن طلب ترك الطبيعة كان المتعلق
للطلب أعني ترك الطبيعة امرا وحدانيا إذ العدم غير قابل للكثرة فإنه عبارة عن نفس
اللا شيئية التي هي خيال محض، وما هو المتكثر انما هو وجود الطبيعة فإنها موجودة في
الخارج بنعت الكثرة.
(وبالجملة) ترك الطبيعة امر واحد ويكون نفس أمريته بانعدام جميع الافراد و
مخالفته بايجاد فرد ما، فلو كان النهى عبارة عن طلب ترك الطبيعة لزم أن يكون له مخالفة
واحدة وعصيان واحد وهو الاتيان بأول فرد من افراد الطبيعة من دون ان يقع الاتيان بالفرد
الثاني أو الثالث عصيانا له، وهذا امر مخالف لما يحكم به العقلاء في باب النواهي فإنهم
يرون الاتيان بكل فرد من افراد الطبيعة المنهى عنها عصيانا على حدة.
(ومنها) ان مقتضى ما ذكره أن يكون للنهى المتعلق بالطبيعة امتثال واحد وهو
ترك جميع الافراد، وهذا أيضا مخالف لحكم العقلاء فان المكلف ان اقتضى شهوته
220

في الآن الأول ان يأتي بالطبيعة المنهى عنها ولكنه تركها لاجل نهى المولى عد ممتثلا وان أتى بها
في الآن الثاني أو الثالث، ولم لم يأت بها في الآن الثاني أيضا لمكان نهى المولى لعد هذا
امتثالا آخر في قبال الامتثال الأول (والحاصل) ان القول بكون النهى عبارة عن طلب ترك
الطبيعة مستلزم لان لا يتصور له أزيد من عصيان واحد وإطاعة واحدة، إذ ترك الطبيعة
امر وحداني غير قابل للتكثر ويكون خارجيته ونفس أمريته بانعدام جميع الافراد و
مخالفته بوجود فرد ما. (فان قلت): كما أن للطبيعة وجودات متعددة بعدد وجودات
افرادها (لما حقق في محله من أن الطبيعي يوجد في الخارج بنعت الكثرة) فليكن لها اعدام
أيضا إذ لكل وجود عدم بديل، فعدم كل واحد من الافراد عدم للطبيعي الموجود فيه أيضا،
و (ح) فيصير الطلب المتعلق بعدم الطبيعة الذي هو مفاد النهى منحلا إلى افراد عديدة من الطلب
تعلق كل واحد منها بفرد من الاعدام ويكون لكل منها امتثال على حدة وعصيان مستقل (1).
(قلت): فرق بين الوجود والعدم من هذه الجهة فان الوجود حقيقته التحصل وهو
عين التشخص والتميز، وهذا بخلاف العدم الذي لا يتصور فيه ميز من حيث العدم، والعدم
المضاف إلى هذا الفرد من الطبيعة وان كان ممتازا من العدم المضاف إلى ذاك الفرد ولكنه
خارج مما نحن فيه، فان المتعلق للطلب على مذاقه (قده) ليس عبارة عن العدم المضاف إلى كل فرد
فرد حتى يتكثر بتكثر المضاف إليه، بل هو عبارة عن العدم المضاف إلى أصل الطبيعة وهو
امر واحد فافهم. (وبالجملة) القول بكون النهى من مقولة الطلب مستلزم لتوال فاسدة
عند جميع العقلاء.

(1) أقول: ربما يقرر الاشكال بان الطبيعة ان اخذت مبهمة فكما أن وجودها بوجود فرد ما
فعدمها أيضا بعدم فرد ما، وان اخذت مرسلة فوجودها بوجود الجميع وانتفائها أيضا
بانتفاء الجميع. " ولأحد ان يجيب عن ذلك " بان الطبيعي حيث إنه لا بشرط من الوحدة والكثرة
فلذا يوجد في الخارج بنعت الكثرة ونسبته إلى الافراد نسبة الاباء إلى الأولاد كما بين في
محله، وهو بعينه يوجد في الذهن بنعت الوحدة فهو في حد ذاته لا واحد ولا كثير وانما يكون
تعدده وكثرته بخارجيته أي بتبع الوجود الخارجي، والعدم لا خارجية له حتى يتكثر ويتكثر
بتبعه الطبيعة (نعم) قد يتكثر العدم ذهنا بتكثر المضاف إليه وتعدده ولكن المضاف إليه فيما
نحن فيه واحد وهو نفس الطبيعة إذ الكلام في عدم نفس الطبيعة لا الافراد فلا مكثر للطبيعة
لا خارجا ولا ذهنا. ح - ع
221

(فالتحقيق ان يقال) ان النهى بحقيقته ومباديه وآثاره يختلف مع الامر، وما زعمه المحقق
الخراساني تبعا للمشهور: من اشتراكهما في كونهما للطلب فاسد جدا (بيان ذلك) ان
مفاد الامر كما مر سابقا عبارة عن البعث الانشائي والتحريك القولي نحو العمل المطلوب
بإزاء البعث الخارجي والتحريك العملي نحوه، فكما أن الطالب للشئ ء قد يأخذ بيد المطلوب منه
ويجره نحو المقصود أو يحركه ويبعثه بوسيلة الجارحة نحوه فكذلك قد يقول له بدلا من ذلك:
(افعل كذا) فمفاده عبارة عن البعث والتحريك ويكون اعتباره اعتبار التحريك العملي.
(ومبادي البعث) عبارة عن تصور المبعوث إليه والتصديق بمصالحه وفوائده ثم اشتياق النفس إليه
فإذا تحقق الشوق في نفس المولى وتأكد، بعث العبد نحوه ليوجده. (ومتعلق الامر) عبارة عن
ايجاد الطبيعة أو نفسها على التقريب الذي تقدم في المسألة السابقة، فان أتى العبد بها كان
ممتثلا وان تركها كان عاصيا، فالامر يتعلق بما يكون تحققه ونفس أمريته محققا لامتثاله
وهو وجود الطبيعة، وحيث إن متعلقه نفس وجود الطبيعة فبوجودها يسقط الامر من جهة
حصول الغرض فلا يقع الفرد الثاني والثالث وغيرهما مصاديق للامتثال (نعم) ان أوجد المكلف
في عرض واحدا زيد من فرد واحد وقع كل منها امتثالا برأسه إذ يصدق على كل واحد منها انه وجود
للطبيعة المأمور بها، وقد مر بيان ذلك في مسألة المرة والتكرار، هذا كله مما يتعلق بالأمر.
(واما النهى) فحقيقته عبارة عن الزجر الانشائي عن الوجود بإزاء الزجر الخارجي،
فكما أن المبغض. للشيئ قد يأخذ بيد العبد وينحيه ويزجره عن الفعل المبغوض
عملا، فكذلك قد يزجره انشاء بصيغة النهى، فوزان صيغة النهى وزان الزجر العملي،
(ومبادي الزجر) عبارة عن تصور الشئ والتصديق بمفاسده ثم الكراهية والمبغوضية،
(ومتعلقه) مثل متعلق الامر أعني وجود الطبيعة المبغوضة
(والحاصل) ان الامر والنهى يشتركان بحسب المتعلق بمعنى ان المتعلق في كليهما
عبارة عن وجود الطبيعة ولكنهما مختلفان بحسب الحقيقة والمبادئ والآثار فحقيقة الامر
هو البعث والتحريك نحو المتعلق ويعبر عنه بالفارسية (واداشتن)،
وحقيقة النهى عبارة عن الزجر والمنع عن المتعلق، ويعبر عنه بالفارسية (بازداشتن)،
وما هو المتعلق للامر أعني وجود الطبيعة نفس أمريته امتثال له، وما هو المتعلق للنهى
222

نفس أمريته عصيان له، ومقتضى البعث نحو وجود الطبيعة تحقق الامتثال بايجاد فرد ما فيسقط
الامر بذلك كما مر، ومقتضى الزجر عن وجودها كون الاتيان بكل فرد عصيانا على حدة، إذ كل فرد
من الافراد وجود للطبيعة وقد زجر عنه المولى من جهة كون الوجود مشتملا على مفسدة
نشأ من قبلها المبغوضية، فالمتعلق بوجود الطبيعة وان كان نهيا واحدا ولكنه ينحل إلى
نواه متعددة بعدد ما يتصور للطبيعة من الافراد، وبعددها يتصور له الامتثال والعصيان فكل
فرد أوجده العبد صار عصيانا برأسه، وكل فرد انزجر عنه وتركه بداعي نهى المولى تحقق
بالانزجار عنه امتثال لنهيه. (فان قلت): إذا أتى العبد بفرد من الطبيعة المنهى عنها وبسببه تحقق
العصيان فكيف يتصور له عصيان آخر مع أن العصيان مثل الامتثال موجب للسقوط؟
(قلت): لا نسلم كون العصيان من المسقطات للتكاليف وان اشتهر ذلك بينهم. (وما تراه)
من سقوط الموقتات بمضي أوقاتها إذا تركها العبيد في أوقاتها فإنما هو من جهة ان العبد
لا يقدر على اتيانها بعد مضى الوقت فيسقط التكليف بخروج متعلقه من تحت القدرة إذ الصلاة
المقيدة بالوقت الكذائي مثلا لا يمكن ايجادها بعد مضى هذا الوقت.
(وبالجملة) سقوط الوجوب (في الواجب الموقت) بمضي وقته انما هو من جهة خروجه من
تحت القدرة، لا من جهة عصيانه، إذ العصيان بما هو عصيان ليس فيه ملاك الاسقاط، ففيما نحن
فيه لا مانع من تحقق العصيان للنهى بايجاد فرد من الطبيعة المنهى عنها، ومع ذلك يقع الفرد الثاني
والثالث وغيرهما أيضا مصاديق للعصيان لو أتى بها، ويقع ترك كل واحد منها امتثالا على حدة
لو تركت بداعي نهى المولى فتدبر. " وقد تلخص من جميع ما ذكرنا " ان القول
بكون النهى من مقولة الطلب وكونه مشتركا مع الامر في المفاد ومختلفا معه بحسب المتعلق
فاسد جدا، بل الامر بالعكس، (نعم) لا ننكر ان العقل ينتزع عن الزجر المتعلق بالوجود بعثا
متعلقا بالعدم، كما أنه ينتزع عن البعث المتعلق بالوجود في باب الأوامر زجرا متعلقا
بعدمه، ولكن لا بنحو يرى الصادر عن المولى شيئين بل الصادر عنه في كل تكليف شئ واحد و
هو البعث في الأوامر والزجر في النواهي، غاية الامر انه يعتبر نفس الزجر عن الوجود بنظر آخر
بعثا نحو عدمه من جهة ان الوجود والعدم متناقضان، والتحريك نحو أحد النقيضين
عين الزجر عن الاخر بنظر العقل، كما أن الزجر عن أحدهما بعث نحو الاخر.
223

* (تذنيبات) *
(الأول) قد عرفت أن حقيقة الامر هو البعث نحو متعلقه باعتبار اشتماله على المصلحة،
وحقيقة النهى الزجر عن المتعلق باعتبار اشتماله على المفسدة، (فحينئذ نقول): انه من
الممكن ان يصير عدم خاص باعتبار مقارناته معنونا بعنوان حسن ذي مصلحة، فيكون
المقام مقام الامر بهذا العدم والبعث نحوه، وذلك كالصوم الذي حقيقته الامساك وهو امر
عدمي، فتدبر حتى لا يختلط عليك الامر وتميز هذا السنخ من الواجبات من المنهيات.
(الثاني) قد ظهر لك مما ذكرنا سقوط النزاع في كون النهى متعلقا بالترك أو الكف
من اصله وأساسه، إذ النهى (كما حققنا) عبارة عن الزجر، ومتعلقه نفس الوجود، والعقل
وان كان ينتزع عن هذا الزجر عن الوجود بعثا متعلقا بنقيضه، ولكن النقيض للوجود
هو العدم المطلق لا العدم المقيد بكونه ملازما للميل إلى الوجود كما هو مفاد الكف.
(الثالث) قد يتوهم ان النهى مثل الامر ينقسم إلى تعبدي وتوصلي وهو توهم فاسد،
إذ النهى انما يتعلق بوجود الطبيعة، وقد عرفت أن نفس أمريته عصيان له، ولا يعقل ان
يقع متعلقه مصداقا لامتثاله، وحقيقة التعبدية هي كون المتعلق للتكليف مقيدا بصدوره
بداعي هذا التلكيف المتعلق به، فيشترط في تحققها كون المتعلق بتحققه مصداقا للامتثال
كما في الأوامر لا للعصيان كما في النواهي.
فصل في اجتماع الامر والنهى
قد عرفت أن مفاد الامر هو البعث نحو وجود الطبيعة المحبوبة، ومفاد النهى هو الزجر
عن وجود الطبيعة المبغوضة، والامر يحتاج في تحققه إلى ثلثة أشياء: الطالب، والمطلوب،
والمطلوب منه، كما أن النهى أيضا يتقوم بثلث إضافات: إضافة إلى الزاجر، وإضافة إلى
إلى الطبيعة المزجور عنها، وإضافة ثالثة إلى المكلف المزجور.
(إذا عرفت هذا فنقول): من الواضحات عند العقل والعقلاء انه يمتنع ان يصدر
224

عن المولى الواحد بالنسبة إلى المكلف الواحد بعث وزجر حال كونهما متعلقين بطبيعة
واحدة في زمان واحد، فهذا حكم يصدقه العقل بعدم تصور أطرافه ولكن لا من جهة
كونه تكليفا بالمحال الذي يجوزه الأشعري، بداهة انهما تكليفان لا تكليف واحد
متعلق بأمر محال، بل الوجه في ذلك أنه يمتنع ان ينقدح في نفس المولى الإرادة و
الكراهة معا متعلقتين بطبيعة واحدة بالنسبة إلى شخص واحد في زمان واحد.
" وبالجملة " من المحالات تحقق البعث والزجر معا بعد كون كل واحد من المكلف
والمكلف والمكلف به وزمان الامتثال واحدا، (نعم) ان تعدد واحدة من هذه الجهات
الأربع ارتفع الاستحالة، وما ذكرناه من الكبريات المتسالم عليها بين جميع العقلاء.
(إذا تبين ذلك فنقول): ان النزاع في مسألة الاجتماع يرجع إلى أن المتنازع فيه من
صغريات هذه الكبرى أم لا. (بيان ذلك) ان الأصوليين اختلفوا في أنه إذا كان هناك حيثيتان
مختلفتان اشتركتا في بعض المصاديق مثلا (كما هو المتيقن من محل النزاع) فهل يجوزان
يزجر المولى عن واحدة منهما باطلاقها ويبعث نحو الأخرى كذلك أو لا يجوز بل يشترط
في تحقق البعث والزجر كون المتعلقين متباينين؟ (فالاجتماعي) يمنع كون هذا الفرض
من صغريات الكبرى السابقة من جهة كون البعث متعلقا بحيثية سوى الحيثية التي تعلق
بها الزجر، (والامتناعي) قائل بكونه من صغرياتها من جهة ان العبد وان كان يقدر على
التفريق بين الحيثيتين ولكن مقتضى اطلاقهما جواز جمعهما في فرد واحد أيضا و (ح) فيلزم
من تعلق البعث باحديهما والزجر بالأخرى اجتماع البعث والزجر في شئ واحد بالنسبة
إلى هذا الفرد اي المجمع، والمفروض ان كلا من المكلف والمكلف والزمان أيضا واحد
فيصير المقام من صغريات الكبرى المتقدمة، وعلي هذا فيجب على المولى في مقام البعث والزجر
لحاظ الحيثيتين المتصادقتين بنحو لا تتصادقان ولو في فرد ما.
(والحاصل) ان النزاع بين الفريقين يرجع إلى أن هذا الفرض من صغريات تلك الكبرى
أم لا، فالاجتماعي ينكر كونه منها من جهة اختلاف الحيثيتين، والامتناعي قائل بكونه
منها من جهة اشتراك الحيثيتين في المصداق، هذا. وكان القدماء يسمون الاجتماع
في صورة توجه الامر والنهى إلى مكلف واحد حال كونهما صادرين عن مولى واحد ومتعلقين
225

بحيثية واحدة) بالاجتماع الآمري، والاجتماع في صورة تعلقهما بحيثيتين متصادقتين
بالاجتماع المأموري، والوجه في التسميتين واضح.
(ثم اعلم) ان الأصوليين قد أطنبوا الكلام في هذه المسألة وذكروا لها مقدمات
عديدة، وكانوا يشرحون بنحو التفصيل كل واحد من الألفاظ المذكورة في عنوان المسألة
فكانوا يذكرون معنى الجواز والاجتماع والعنوان والواحد وأقسام الوحدة ونحو ذلك.
(وشيخنا الاستاد المحقق الخراساني " قده ") أيضا ذكر في المقام مقدمات
فلنشر إلى بعضها (قال " قده ") في المقدمة الأولى (ما حاصله): ان المراد بالواحد في عنوان
المسألة ليس هو الواحد الشخصي فقط، بل أعم منه ومن الواحد النوعي والجنسي، فان
الصلاة في الدار المغصوبة عنوان كلى ينطبق عليه عنوانان تعلق بأحدهما الامر وبالاخر
النهى فيجرى فيها النزاع أيضا (انتهى).
(وفيما ذكره نظر) فان ضم عنوان كلى إلى عنوان آخر لا يوجب الوحدة، إذ المهيات
والعناوين بأسرها متباينة بالعزلة، فمفهوم الصلاة يباين مفهوم الغصب وان ضممنا أحدهما
إلى الاخر، وما هو الجامع للشتات عبارة عن حقيقة الوجود التي هي عين التشخص والوحدة
(وقال " قده ") في المقدمة السابعة ما حاصله: انه قد يتوهم ان النزاع في المسألة
يبتنى على القول بتعلق الاحكام بالطبايع واما على القول بتعلقها بالافراد فلا يتمشى
النزاع بل لا بد عليه من اختيار الامتناع ضرورة استلزام القول بالاجتماع
تعلق الحكمين بواحد شخصي، (وقد يتوهم أيضا) ان القول بالجواز يبتنى على
القول بتعلق الاحكام بالطبايع، والقول بالامتناع يبتنى على القول بتعلقها بالافراد
فالقولان في هذه المسألة يبتنيان على القولين في تلك المسألة. (وأنت خبير) بفساد
كلا التوهمين فان تعدد الوجه ان كان مجديا في رفع الغائلة فيجدي ولو على القول
بتعلق الاحكام بالافراد، وإن لم يكن مجديا فلا يجدي ولو قيل بتعلقها بالطبايع، والوجه
في ذلك أنه وان قلنا بتعلقها بالافراد ولكن الفرد الموجود في الخارج الموجه بالوجهين
يكون مجمعا للفردين فيمكن كونه مأمورا به بما هو فرد للصلاة مثلا ومنهيا عنه بما هو
226

فرد للغصب (انتهى). (1) (أقول): وفيه أيضا نظر، إذ المراد بتعلق الحكم بالفرد صيرورة
كل واحد من وجودات الطبيعة بخصوصياته المفردة وعوارضه المشخصة متعلقا للحكم، والفرد
بهذا المعنى (الذي ذكرناه تبعا له) امر وحداني فلا يعقل تعلق الامر والنهى به معا لكونه
من مصاديق ما بينا في صدر المبحث استحالته، فالنزاع في المسألة انما هو على القول بتعلق
الاحكام بالطبايع. (وقال قده) في المقدمة الثامنة ما حاصله: " ان المعتبر في المسألة
كون كل من متعلقي الايجاب والتحريم واجدا للملاك حتى في مورد التصادق ليصير المسألة
من أقسام التزاحم. "
(أقول): وفيه أيضا نظر، إذ البحث في المسألة انما هو في أنه هل يمكن عقلا تعلق
البعث والزجر بحيثيتين متصادقتين أو لا يمكن بل يجب لحاظهما بنحو لا يبقى لاحديهما
اصطكاك مع الأخرى، فمورد البحث هو الامكان لا الوقوع، ولا يعتبر الملاك في الامكان
بل يعتبر في الوقوع من الحكيم وفي ثمرة المسألة، بمعنى ان المولى الحكيم لا يصدر عنه و
لا يقع منه البعث والزجر المتعلقان بالحيثيتين المتصادقتين الا إذا كانتا واجدتين للملاك
حتى في مورد التصادق، وحصول الثمرة بين القول بالجواز والقول بالامتناع أيضا انما هو
فيما إذا كان مورد التصادق واجدا للملاكين فتدبر، هذا وكان الأنسب جعل المقدمة
الثامنة والتاسعة والعاشرة من تنبيهات المسألة لارتباطها بثمرة المسألة وسنشير إليها
في آخر المبحث.
" ثم إنه " لما استدل القائلون بالامتناع بان تعلق الامر والنهى بما يكون مصداقا للحيثيتين
يوجب اجتماع الضدين، وأجاب عنه المجوزون (تارة) بأن المجمع له حيثيتان تعلق باحديهما
الامر وبالأخرى النهى فلم يجتمع الضدان، (وأخرى) بان هذا الاستدلال يتم بناء على أصالة الوجود،
واما بناء على أصالة الماهية فلا يتم، إذ الوجود في المجمع وان كان واحدا ولكن المتعلق للامر
والنهى (أعني الماهيتين) مختلفان، (صار المحقق الخراساني) بصدد تشييد أركان الامتناع

(1) لا يخفى ان القائل بتعلق الحكم بالفرد لا يريد تعلقه بعنوان الفردية وبمفهومها،
بل بما هو فرد بالحمل الشائع الصناعي، وعلي هذا فكونه فردا لهذا وفردا لذاك لا يوجب تعنونه
بعنوانين تعلق بأحدهما الامر وبالاخر النهى. ح - ع
227

بنحو لا يرد عليه اشكال، ومهد لبيان مرامه أربع مقدمات، ذكر في الأولى مسألة تضاد
الاحكام بعد وصولها إلى مرتبة الفعلية، وجعله من الواضحات، (وفي الثانية) ان متعلق الحكم
عبارة عن فعل المكلف وما يصدر عنه في الخارج أعني المعنونات لا العناوين والأسماء،
(وفي الثالثة) ان تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون كما أن مفاهيم الصفات الجلالية
والجمالية تصدق على ذات الباري (تعالى) مع انحفاظ وحدته وبساطته، وكأن ما ذكره
في هذه المقدمة انما هو لدفع ما يمكن ان يقال: ان المجمع باعتبار كونه ذا عنوانين يكون
متحيثا بحيثيتين انضماميتين تقييديتين إحديهما متعلق للامر والأخرى للنهى فلا يلزم
اجتماع الضدين، فدفعه هو (قده) بان تعدد العنوان لا يوجب كون المعنون متحيثا بحيثيتين
انضماميتين،
(وذكر في المقدمة الرابعة) ان الوجود الواحد لا يتصور له ماهتيان مستقلتان، بل الواحد
وجودا واحد ماهية وان كانت العناوين الصادقة عليه لا تعد ولا تحصى كثرة، (ثم استنتج) من هذه
المقدمات امتناع الاجتماع، بدعوى أن المجمع حيث كان واحدا بحسب الماهية والوجود كان
تعلق الامر والنهى به معا محالا للزوم اجتماع الضدين في موضوع واحد ولو كان تعلقهما به
بعنوانين لما عرفت من أن فعل المكلف بحقيقته متعلق للحكم لا بعنوانه واسمه (انتهى كلامه).
(أقول): تضاد الاحكام من الأمور المشهورة بينهم، وملاحظة كلماتهم تشهد بكونه
من المسلمات عندهم، ولذلك ترى المجوزين يحومون حول تكثير متعلق الامر والنهى
حتى يرتفع به غائلة التضاد، والمانعون قد جعلوا تمام همهم مصروفا في اثبات توحيد المتعلق
بالنسبة إلى المجمع حتى يلزم فيه اجتماع الضدين (وبالجملة) تضاد الأحكام الخمسة
من المسلمات عندهم.
" ولكن التحقيق خلافه " فان الوجوب والحرمة وغيرهما من الاحكام ليست من
العوارض العارضة لفعل المكلف (بالفتح) بل هي بحسب الحقيقة من عواض المكلف (بالكسر)
لقيامها به قياما صدوريا، غاية الامر ان لها نحو إضافة أيضا إلى المتعلق ولكن ليس كل
إضافة مساوقا للعروض.
(توضيح ذلك) انك قد عرفت سابقا ان كلا من البعث والزجر يتقوم بثلث إضافات ولا يعقل
228

تحققهما بدونها: إضافة إلى المكلف (بالكسر)، وإضافة إلى المكلف (بالفتح)، وإضافة ثالثة إلى
المكلف به (أعني الفعل)، فباعتبار اضافتهما إلى المكلف (بالكسر) يحمل عليه الآمر والناهي
والباعث والزاجر وأمثال هذه العناوين المنتزعة عنه باعتبار صدور البعث أو الزجر عنه،
وباعتبار اضافتهما إلى المكلف (بالفتح) يحمل عليه المأمور والمبعوث أو المنهى والمزجور،
وباعتبار اضافتهما إلى المكلف به يحمل عليه الواجب والمأمور به أو الحرام والمنهى عنه
ونحو ذلك، وانحاء هذه الإضافات مختلفة، فان اضافتهما إلى المكلف (بالكسر) انما هي
بصدورهما عنه وقيامهما به قيام العرض بمعروضه كسائر الأفعال القائمة بفواعلها، واما اضافتهما
إلى المكلف (بالفتح) وإلى المكلف به فليست من هذا القبيل لعدم كونهما مما يعرض عليهما
خارجا وعدم كونهما موضوعين لهما، بداهة ان العرض الواحد ليس له الا موضوع واحد،
فإضافة البعث أو الزجر إلى المكلف به مثلا وان كانت مصححة لانتزاع مفهوم الواجب
أو الحرام عنه، ولكنه ليس من جهة كون الوجوب أو الحرمة عرضا للمكلف به، إذ ليس
المصحح لانتزاع العناوين منحصرا في العروض، الا ترى ان العلم الذي هو من الصفات
النفسانية، له نحو إضافة إلى المعلوم بالعرض الذي هو امر خارجي مع أنه ليس من عوارضه
بالبداهة، إذ المعلوم، بالعرض قد يكون امرا مستقبلا معدوما حين العلم، ولا يصح قيام
الموجود بالمعدوم، فالبعث والزجر أيضا مثل العلم في أن لهما أيضا نحو إضافة إلى فعل
المكلف وباعتبارها ينتزع عنه العناوين ولكنهما ليسا من عوارضه، كيف! ولو كانا من
عوارضه لم يعقل تحقق العصيان ابدا، فإنه متوقف على ثبوت البعث والزجر، ولو
كان البعث والزجر من عوارض الفعل الخارجي توقف تحققهما على ثبوت الفعل في الخارج
ولو في ظرفه (لو سلم كفاية ذلك في تحقق العروض) و (ح) فكيف يعقل العصيان إذ وجود
المأمور به امتثال للامر لا عصيان، فمن هنا يعلم انهما ليسا من عوارض الفعل بل من عوارض
المكلف (بالكسر) وقد صدرا عنه متوجهين إلى الجميع حتى العصاة، غاية الأمران لهما نحو
إضافة إلى الفعل الخارجي أيضا، إضافة العلم إلى المعلوم بالعرض (1).

(1) يمكن ان يقال: ان الحكم وان كان لا بد في تحققه من إضافة ما إلى المكلف به، ولكن
المراد بذلك هو المكلف به بوجوده الذهني لا الخارجي فان خارجيته موجبة لسقوط الحكم
كما سيصرح به، فبيان نحو تعلقه بالموجود الخارجي أجنبي عما نحن فيه من بيان مقومات الحكم. ح - ع
229

(فتخلص مما ذكرنا) انه لا يكون الوجوب ولا الحرمة عرضا للمتعلق حتى يلزم
بالنسبة إلى المجمع اجتماع الضدين، إذ التضاد انما يكون بين الأمور الحقيقية،
وما يكون في ناحية المتعلق هو صرف الإضافة دون العروض، والعروض
انما يكون في ناحية المكلف (بالكسر) فيجب صرف النظر عن ناحية المتعلق
و الرجوع إلى ناحية المكلف (بالكسر) التي هي ناحية وجود البعث والزجر وناحية
تحققهما وعروضهما، وبعد الرجوع إلى هذه الناحية نرى بالوجدان ان أصل البعث
و الزجر ليسا بضدين بل قد يكونان متلازمين كما في الامر بالشئ مع النهى عن ضده، فلا
محالة يكون التضاد (على فرض تحققه) بين نوع خاص من البعث ونوع خاص من الزجر، والقدر
المسلم منه هو صورة كون كل من المكلف والمكلف والحيثية المكلف بها وزمان الامتثال
واحدا لما عرفت من بداهة استحالة ذلك، واما في غير هذه الصورة كما إذا كان هنا حيثيتان
متصادقتان في بعض الافراد تعلق باحديهما البعث وبالأخرى الزجر فلا نسلم امتناع صدورهما
عن المكلف وقيامهما به، وعلى القائل بالامتناع ان يثبت امتناع ان ينقدح في نفس المولى
إرادة البعث بالنسبة إلى حيثية، وإرادة الزجر بالنسبة إلى حيثية أخرى متصادقة مع
الأولى في بعض الافراد، وانى له باثبات ذلك
(والحاصل) ان مفروض الكلام في مبحث الاجتماع هو ما إذا كان هنا حيثيتان
متصادقتان يمكن في مقام الايجاد تفكيكهما أيضا، (فالاجتماعي) يقول: انه يمكن ان
يصدر عن المولى بعث متعلق باحديهما وزجر متعلق بالأخرى، إذ لا يلزم منه محذور
في جانب المولى، والعبد أيضا قادر على امتثالهما. (والامتناعي) يدعى امتناع ذلك فعليه
ان يثبت وجه الامتناع في ناحية المولى كما في صورة وحدة الحيثية حيث أثبتنا فيها امتناع
ان ينقدح في نفسه إرادة البعث والزجر معا بالنسبة إليها، واما ناحية المتعلق فلا يلزم فيها
محذور أصلا، إذ المحذور المتوهم فيها هو التضاد، وقد عرفت أن الاحكام ليست من
عوارض متعلقاتها حتى يلزم في ناحيتها التضاد، بل هي من عوارض المكلف بالكسر
لقيامها به قياما صدوريا، وبعد قطع النظر عن ناحية المتعلق والرجوع إلى ناحية المولى وجهة
انتسابها إليه يظهر لنا الفرق الواضح بين صدور البعث والزجر عنه معا متعلقين بحيثية واحدة وبين
230

صدورهما عنه متعلقين بحيثيتين يمكن تفكيكهما خارجا وان أمكن تصادقهما أيضا، والعقل
يحكم باستحالة الأول بالبداهة ولا يرى وجها لامتناع الثاني. (فان قلت): المجمع من حيث
كونه مصداقا للحيثية المأمور بها متعلق للامر، ومن حيث كونه مصداقا للحيثية المنهى عنها
متعلق للنهى فيلزم على القول بالجواز كونه بوحدته متعلقا للامر والنهى معا وهذا عين ما سلمت
استحالته (أعني توجه البعث والزجر معا مع وحدة المكلف والمكلف والمكلف به وزمان الامتثال.)
(قلت): الامر انما يكون لتحريك الداعي نحو ايجاد متعلقه والنهى لتحريك الداعي
نحو تركه والانزجار عنه فلا يعقل تعلقهما بالوجود الخارجي بل الخارجية موجبة
لسقوطهما من جهة حصول الامتثال أو العصيان، (ولو سلم) فلا نسلم كون الوجود الخارجي
بشرا شره مبعوثا إليه ومزجورا عنه، بل المبعوث إليه نفس الحيثية الصلاتية مثلا،
والمزجور عنه نفس الحيثية الغصبية من دون أن يكون للبعث سراية إلى متعلق الزجر
أو بالعكس. والسر في ذلك أن الامر والنهى تابعان للإرادة والكراهة التابعتين للحب
والبغض التابعين لادراك المصلحة والمفسدة، فمتعلق الحب مثلا نفس الحيثية التي أدرك
العقل مصلحتها، ومتعلق الإرادة وكذا البعث نفس الحيثية المحبوبة، ولا سراية
لهما إلى
الحيثية المبغوضة ولا إلى سائر الحيثيات المتحدة مع ما تعلق به الحب واشتمل على المصلحة،
كيف! والحيثيات المتحدة معها لا دخالة لها في الغرض الداعي إلى الامر فيلزم من اسراء
البعث والوجوب إليها الجزاف الذي لا يرتكبه الموالى المجازية فضلا عن مولى الموالى
جل جلاله، هذا حال الامر، وكذلك الكلام في طرف النهى فان المتعلق للزجر والكراهة
والبغض نفس الحيثية التي أدرك مفسدتها.
(وبعبارة أخرى) الامر انما يكون للتسبب به إلى ايجاد ذي المصلحة، والنهى انما
يكون للتسبب به إلى ترك ذي المفسدة فلا يعقل تعلقهما بغير ما اشتمل على المصلحة
أو المفسدة من الحيثيات المتحدة معه.
(فان قلت): كيف لا يسرى البعث مثلا إلى الحيثيات المفردة مع أن مقتضى اطلاق
المتعلق سرايته إليها، إذ ليس معنى اطلاقه الا كون جميع افراده موردا للحكم، والفرد
ليس إلا عبارة عن مجموع الحيثيات المتحدة في الوجود.
231

(قلت): لا نسلم ان معنى الاطلاق ما ذكرت بل معنى اطلاق المتعلق هو كون نفس
حيثية الطبيعة تمام المتعلق من دون أن يكون لتقيدها بشئ من القيود دخالة في
المطلوبية، وليس معناه دخالة العناوين المتحدة مع الحيثية المأمور بها في المطلوبية بحيث
تصير هي أيضا متعلقة للحكم، وسيأتي تفصيل ذلك في مبحث المطلق والمقيد.
(وقد تحصل) من جميع ما ذكرنا أنه يمكن ان يصدر عن المولى الواحد بالنسبة
إلى عبد واحد بعث وزجر متعلقين بحيثيتين متصادقتين يمكن تفكيكهما في مقام الامتثال،
من دون ان يتوقف ذلك على لحاظهما بنحو تصيران متباينتين، ولا يلزم من ذلك اجتماع
الضدين بالنسبة إلى المجمع لما عرفت من أن البعث والزجر ليسا من عوارض المكلف به
بل المكلف بالكسر.
(ونظير هذا المعنى) تعلق العلم والجهل معا بالحيثيتين المتصادقتين فإنه أيضا ممكن
ولا يلزم منه محذور اجتماع الضدين، مثال ذلك ما إذا تعلق العلم بمجئ عالم غدا والجهل
بمجئ عادل فاتفق مجيئ عالم عادل، فوجود هذا المجئ من حيث إنه مجئ العالم معلوم
ومن حيث إنه مجئ العادل مجهول، ومن المعلوم ان المعلومية والمجهولية ليستا الا
كالمحبوبية والمبغوضية والوجوب والحرمة، فلو كان اجتماع عنواني الواجب والحرام
في مجمع الحيثيتين موجبا لاجتماع الضدين كان اجتماع عنواني المعلومية والمجهولية
في مجئ العالم العادل أيضا كذلك فتدبر (1)

(1) " والحاصل " ان وزان ما هو المتعلق بحسب الحقيقة للإرادة والبعث أو الكراهة
والزجر وزان المعلوم بالذات، ووزان مصداق المتعلق ووجوده الخارجي وزان المعلوم
بالعرض، وفي الأول لا يتوجه اشكال أصلا إذ المتعلق بالذات هو نفس الحيثية الملحوظة
والفرض ان الحيثية المتعلقة للبعث غير الحيثية المتعلقة للزجر، وفي الثاني أيضا لا اشكال
فان إضافة البعث والزجر أو العلم والجهل إلى الخارج ليست بنحو العروض بل هي نحو إضافة
تعتبر بتبع تعلق هذه الأمور بالمتعلق بالذات (فان قلت): فرق بين باب العلم والجهل وبين
ما نحن فيه، فان البعث والزجر انما يصدران عن المولى بداعي انبعاث العبد وانزجاره، فإذا
اطلع المولى على كون الحيثيتين متصادقتين فكيف يعقل ان ينقدح في نفسه الإرادة والكراهة
بالنسبة إليهما باطلاقهما، فعلى هذا يجب عليه تقييد متعلق الامر ليجمع بين الغرضين
(قلت): بعد كون المشتمل على المصلحة عبارة عن نفس الحيثية الصلاتية مثلا يصير
تقييدها جزافا إذ الفرض عدم دخالة القيد في المصلحة.
(وبالجملة) ليس للبعث أو الزجر التخطي عن دائرة ما اشتمل على المصلحة أو المفسدة
" نعم " إن لم يكن ايجاد المحبوب مقدورا للعبد لم يكن للمولى الامر به ولكن الفرض
كونه مقدورا لوجود المندوحة. ح - ع
232

(ثم انك) إذا راجعت الوجدان رأيت جواز الاجتماع من أبده البديهيات، فإذا أمرت
عبدك بخياطة ثوبك ونهيته عن التصرف في فضاء دار الغير فخاط العبد ثوبك في فضاء الغير
فهل يكون لك ان تقول له: أنت لا تستحق الأجرة لعدم اتيانك بما امرتك؟ ولو قلت هذا
فهل لا تكون مذموما عند العقلاء؟ لا والله بل تراه ممتثلا من جهة الخياطة وعاصيا من جهة
التصرف في فضاء الغير ويكون هذا العبد عند العقلاء مستحقا لاجر العبودية والإطاعة و
عقاب التمرد والعصيان.
* (وينبغي التنبيه على أمور) *
(الأول) لو فرضنا حصول الشك في المسألة فلا وجه لترتيب آثار الامتناع وتقييد
اطلاقات متعلقات الأوامر أو النواهي الواردة في الشريعة بنحو يصير الحيثيتان متباينتين،
فان التقييد خلاف الأصل فلا يصار إليه الا بدليل ملزم.
(الثاني) لا فرق في جواز الاجتماع بين التعبديات والتوصليات بمعنى انه لا يجب
على المولى في مقام البعث والزجر لحاظ الحيثيتين بنحو تصيران متباينتين. (نعم) في
التعبديات كلام آخر وهو ان قصد القربة لما كان معتبرا فيها، اما من جهة دخالته في انطباق
العنوان المأمور به على الاجزاء المأتي بها، أو من جهة دخالته في حصول الغرض الباعث
على الامر، أمكن ان يقال ببطلان المجمع إذا كان عبادة وان قلنا بالجواز، من جهة انه
وجود واحد أتى به العبد مبغوضا ومتمردا به وخارجا باتيانه من رسوم العبودية، فلا يصلح
لان يتقرب به إلى ساحة المولى إذ المبعد لا يكون مقربا.
(فان قلت) فكيف تعلق الامر به مع كونه مبغوضا.
(قلت) قد عرفت سابقا ان متعلق الامر ليس هو الوجود الخارجي. (وتفصيل ذلك)
233

ان مقام تعلق الامر غير مقام الامتثال، فان المولى حين إرادة البعث أو الزجر لا ينظر
إلى الوجود الخاص بل يتوجه إلى نفس الحيثية الواجدة للمصلحة فيبعث نحوها.
ويتوجه إلى نفس الحيثية الواجدة للمفسدة فيزجر عنها من دون ان يسرى البعث أو الزجر
إلى الخصوصيات المفردة وسائر الحيثيات المتحدة مع المتعلق، ففي مقام تعلق الامر
والنهى لا اصطكاك لواحد منهما مع الاخر وان كانت الحيثيتان متصادقتين، إذ الخصوصيات
الفردية ليست ملحوظة حين الامر والنهى لعدم دخالتها في الغرض الباعث إليهما، و
معه يكون لحاظها جزافا كما مر، وهذا بخلاف مقام الامتثال الذي هو مقام اسقاط
الامر والنهى، فان ما يريده العبد ويتوجه إليه حين الامتثال هو الوجود الخاص الذي
هو امر وحداني فإن كان هذا الوجود مبغوضا للمولى ومتمردا به لما أمكن قصد التقرب
به إلى ساحة المولى.
(وبعبارة أخرى) مقام الإرادة التشريعية غير مقام الإرادة التكوينية الحاصلة للعبد
إذ المتعلق لها في الأولى عبارة عن نفس الحيثية الواجدة للمصلحة، بخلاف الثانية فان
المتعلق لها ليس إلا الوجود الخاص الذي هو امر وحداني جزئي، وبعد وقوعه مبغوضا
من جهة كونه مصداقا للحيثية المنهى عنها لا يصلح لان يتقرب به، ويشترط في العبادة
مضافا إلى قصد القربة أن يكون المأتي به صالحا لان يتقرب به، وكونه مبعدا يرفع
هذه الصلاحية.
(ولأجل ذلك) حكم الأصحاب ببطلان الصلاة في الدار المغصوبة، ولا يكشف
حكمهم بالبطلان عن كونهم قائلين بالامتناع. لما عرفت من أن القول بالجواز في مقام
توجيه الامر والنهى (كما هو الحق) لا يستلزم القول بالصحة في مقام الامتثال إذا كان المأمور
به امرا عباديا بل المختار هنا البطلان وان كان المختار في المسألة الأصولية هو الجواز.
وليس في كلمات القدماء من أصحابنا اختيار الامتناع في المسألة الأصولية، بل الموجود
في كتبهم ليس إلا الفتوى ببطلان الصلاة في الدار المغصوبة من جهة وقوعها مبغوضة
فراجع كلام الشيخ في العدة وكذا السيد وأمثالهما.
(ومما ذكرنا ظهر) ان نسبة الامتناع إلى المشهور من جهة افتائهم ببطلان الصلاة
234

في المسألة الفقهية في غير محلها.
* (التنبيه الثالث) *
قد اتضح بما ذكر فساد ما ذكره شيخنا الاستاد المحقق الخراساني (طاب ثراه) في
المقدمة العاشرة: من صحة الصلاة في الدار المغصوبة على القول بالجواز.
(قال " قده " ما حاصله): انه لا ريب في حصول الامتثال باتيان المجمع بداعي الامر
على القول بالجواز ولو في العبادات، وكذلك على القول بالامتناع وتقديم جانب الامر
واما عليه وتقديم جانب النهى ففي التوصليات يسقط الامر من جهة حصول الغرض باتيان
المجمع أيضا، واما في التعبديات فلا يسقط الامر باتيانه مع الالتفات إلى الحرمة أو الجهل
بها عن تقصير، واما مع الجهل بها قصورا فيسقط أيضا باتيانه إذا أتى به على وجه القربة من
جهة اشتماله على المصلحة (انتهى).
(أقول): اما ما ذكره من صحة المجمع ولو كان عبادة على القول بالجواز فقد عرفت
فساده، (ونزيدك هنا) ان دخالة قصد القربة في حصول الغرض بحسب مقام
الثبوت على نحوين: (الأول) أن يكون المأمور به والمحصل للغرض في باب الصلاة
مثلا عنوانا بسيطا منطبقا على الاجزاء ويكون لفظ الصلاة اسما لهذا الامر البسيط الانتزاعي،
غاية الامر انه يشترط في انطباق هذا العنوان البسيط على هذه الأمور (التي أولها التكبير وآخرها
التسليم) ان يؤتى بها بداع قربى، فعلى هذا لا يكون نفس هذه الأمور ولا قصد القربة بمأمور
بها بل الامر تعلق بنفس العنوان البسيط، ومجموع هذه الأمور منطبق له ومنشأ لانتزاعه،
وقصد القربة مقدمة وجودية لتحققه من جهة دخالته في انطباق هذا العنوان على هذه الأمور.
(الثاني) أن يكون المأمور به عبارة عن نفس الأمور المتكثرة (التي أولها التكبير
وآخرها التسليم) ويكون قصد القربة أيضا مأخوذا في المأمور به جزء أو قيدا.
(إذا عرفت هذا فنقول): ان كان دخالة قصد القربة في المأمور به على النحو الأول
فلا يتصور (ولو على القول بالجواز) مجمع للعنوانين، إذ الفرد الذي هو مصداق للغصب مثلا
بعد كونه مبعدا عن ساحة المولى لا يمكن ان يتقرب به إليه فلا ينطبق عليه عنوان المأمور به
235

ولا يصير من مصاديقه، إذ الفرض دخالة قصد القربة وصلاحيته للتقرب به في صيرورته
من مصاديقه وانطباق عنوانه عليه. (واما إذا كان) دخالته على النحو الثاني:
بان كان المأمور به عبارة عن نفس الحركات والأقوال، وكان قصد القربة أيضا جزءا أو شرطا
شرعيا فتصوير المجمع للعنوانين وان كان بمكان من الامكان الا ان صحته ووقوعه عبادة
مشكل ولو على القول بالجواز، لما عرفت من عدم صلاحية المبعد لان يتقرب به فافهم.
(واما ما ذكره) من حصول الامتثال باتيان المجمع بناء على القول بالامتناع وتقديم
جانب الامر، (ففيه) ان تقديم جانب الامر غير جائز وان كانت المصلحة الباعثة على الامر
أقوى من المفسدة الباعثة على النهى، بل الواجب على القول بالامتناع تقديم جانب النهى
مطلقا بالنسبة إلى المجمع.
(والسر) في ذلك أن مقتضى الامر بطبيعة حصول الامتثال باتيان فرد منها أي فرد كان
وهذا بخلاف النهى، فان امتثاله انما هو بترك جميع افراد الطبيعة لما مر من انحلاله إلى نواه
متعددة بعدد ما يتصور لمتعلقه من الافراد، وذلك من جهة ان الامر انما هو لتحصيل المصلحة
الموجودة في متعلقه فبأصل حصول المتعلق ولو في ضمن فرد ما يحصل الغرض، والنهى
انما يكون للزجر عن متعلقه من جهة اشتماله على المفسدة، والانزجار عن الطبيعة المشتملة على
المفسدة لا يتحقق الا بالانزجار عن جميع افرادها، وعلى هذا فإذا تعلق الامر بحيثية مشتملة على
المصلحة وتعلق النهى بحيثية مشتملة على المفسدة، وكانت الحيثيتان متصادقتين في بعض
الافراد فعلى القول بالجواز لا تقيد في واحدة من الحيثيتين، بل هما باقيتان على اطلاقهما بلا
محذور في البين. غاية الامر انه يجب على العبد في مقام الامتثال تفكيك الحيثيتين، وانه ان أتى
بالمجمع مع كونه عباديا يقع باطلا كما عرفت، وعلى القول بالامتناع لا بد من تقييد احدى
الحيثيتين في مقام الجعل بنحو تصيران متباينتين، ولكن التقييد يجب أن يكون في جانب
الامر مطلقا، إذ المصلحة الباعثة على الامر وان كانت أقوى من المفسدة الباعثة
على النهى ولكنها تحصل باتيان فرد ما، بخلاف المفسدة فان التحرز منها انما
يتحقق بالتحرز من جميع الافراد المشتملة عليها، فيمكن الجمع بين الغرضين،
بالنهي عن جميع الافراد المشتملة على المفسدة، والامر بالطبيعة المشتملة على
236

المصلحة مقيدة بعدم اجتماعها مع الطبيعة المنهى عنها.
(وبالجملة) بعد امكان الجمع بين احراز المصلحة القوية والفرار من المفسدة الملزمة
(وان كانت أضعف منها) يجب ذلك بتخصيص الامر بالافراد التي لا تزاحم فيها، فلا وجه
أصلا لترجيح جانب الامر في مجمع العنوانين، بل يتعين دائما ترجيح جانب النهى وان
كانت المفسدة الموجودة فيه أضعف بالنسبة إلى مصلحته.
* (التنبيه الرابع) *
قد تبين لك من جميع ما ذكرناه أنه لا تزاحم بين الامر والنهى (المتعلقين بحيثيتين
بينهما عموم من وجه) في ناحية المولى أعني ناحية تصور الحيثيتين، ففي هذه الناحية
يتصور المولى إحديهما فيرى اشتمالها على المصلحة وقدرة العبد على ايجادها فيأمر بها،
ويتصور الأخرى فيرى اشتمالها على المفسدة فيزجر عنها من دون ان يلاحظ سائر الحيثيات
المتحدة مع المتعلق لعدم دخالتها في الغرض الباعث على الامر أو النهى، فالتزاحم ليس
في ناحية المولى وفي مقام الجعل وانما التزاحم في مقام الامتثال ومقام انشعاب كل من
الحيثيتين بالشعب المختلفة. (هذا كله) إذا كان بين الحيثيتين عموم من وجه، وكذلك الحال
إذا كان بينهما عموم مطلق وكان النهى متعلقا بالأخص، والكلام فيه عين الكلام في سابقه.
(بل قد تبين) مما ذكرنا في التنبيه الثالث رجوع الأول إلى الثاني أيضا، إذ الصلاة
والغصب مثلا وان كان بينهما عموم من وجه وقد تعلق بأحدهما الامر وبالاخر النهى،
ولكن الامر لا ينحل إلى أوامر متعددة إذ المطلوب في جانبه نفس وجود الطبيعة وهو يتحقق
بايجاد فرد ما، واما النهى فينحل إلى نواه متعددة بعدد ما يفرض للطبيعة من الوجودات
لما عرفت وجهه، فمجمع عنواني الصلاة والغصب كأنه تفرد بنهي مستقل ولكنه لم يتفرد
بأمر مستقل بل الامر تعلق بأصل الحيثية الصلاتية الجامعة بينه وبين غيره، وعلي هذا فيجب
ان يلاحظ النسبة بين هذا الفرد بخصوصه وبين طبيعة الصلاة، ومعلوم ان النسبة بينهما
عموم مطلق، فالنسبة بين متعلق الامر ومتعلق النهى دائما عموم مطلق ويكون الأعم موردا
للامر والأخص موردا للنهى فتدبر.
237

* (التنبيه الخامس) *
جميع ما ذكرنا كان في صوره اختلاف الحيثيتين بحسب المفهوم سواء كان بينهما عموم
مطلق أو من وجه.
(واما إذا كان) هنا حيثية واحدة وكانت هذه الحيثية بنفسها مشتملة على المصلحة و
باعتبار اجتماعها مع حيثية أخرى مشتملة على المفسدة، لا بنحو يكون المفسدة للحيثية
المنضمة فقط، بل بان يكون المفسدة لمجموع الحيثيتين بحيث يكون كل منهما جزء من
الموضوع، فهل يمكن ان يأمر المولى بالحيثية الأولى بلا تقييد وينهى عن هذه الحيثية
مقيدة بالحيثية الأخرى أو لا يمكن؟ (فيه وجهان)
(مثال ذلك) ما إذا فرض كون الخياطة بنفسها ذات مصلحة، والخياطة بقيد وقوعها
في دار زيد ذات مفسدة، لا بأن يكون المفسدة للكون في دار زيد، بل بأن يكون
المفسدة في اجتماعهما بحيث لا يكون نفس الكون في دار زيد بوحدتها ولا نفس الخياطة
بانفرادها مشتملة على المفسدة، فبين الحيثية الواجدة للمصلحة وما يشتمل على
المفسدة لا محالة عموم مطلق،
(فيقع الكلام) في أنه هل يمكن للمولى في هذا المثال ان يأمر بالخياطة بنحو الاطلاق
وينهى عن الخياطة المقيدة أو يجب عليه في مقام التشريع تقييد متعلق الامر بعدم كونه في
دار زيد؟ (وبعبارة أخرى) نزاع الاجتماع والامتناع هل يجرى في هذا الموارد أيضا
أو يختص بما إذا كانت هنا حيثيتان متغايرتان بحسب المفهوم كالصلاة والغصب؟
(الظاهر) جريان النزاع في هذه الصورة أيضا، والحق فيه أيضا الجواز. إذ المفروض ان
المشتمل على المصلحة في المثال هو نفس الخياطة لا الخياطة المقيدة بعدم كونها في دار
زيد، فتقييدها في مقام الامر بها بهذا القيد العدمي جزاف فان الحكيم لا يأمر الا بنفس
الحيثية المشتملة على المصلحة.
(لا يقال): ان العنوان الواحد إذا كان مشتملا على المصلحة من جهة، وعلى المفسدة
من جهة أخرى كان اللازم متابعة الحكم لأقواهما، والمفروض (فيما نحن فيه) ان الخياطة حين
238

اجتماعها مع عنوان الكون في دار زيد تصير مشتملة على المفسدة، وقد فرض اشتمالها
على المصلحة أيضا، فيجب ملاحظة الأقوى أو مراعاة جانب المفسدة (ح) وتخصيص
الوجوب بصورة اشتمالها على المصلحة فقط.
(فإنه يقال): نفس حيثية الخياطة دائما موضوعة للمصلحة، وما هو الموضوع للمفسدة
ليس نفس حيثيتها بل بانضمام الحيثية الأخرى فافهم.
(فذلكة) قد ظهر لك من مطاوي ما ذكرناه ان صدور الامر والنهى معا عن مولى
واحد متوجهين إلى عبد واحد متعلقين بحيثية واحدة مع وحدة زمان الامتثال محال،
ولكن لا من جهة كون ذلك تكليفا بالمحال، إذ مجموع الامر والنهى ليس بتكليف واحد
حتى يصدق عليه التكليف بالمحال، بل من جهة ان صدورهما عن المولى يوجب اجتماع
الضدين (أعني البعث والزجر والإرادة والكراهة) في موضوع واحد (أعني به شخص
المولى)، فإنه الموضوع الذي يتقوم به التكليف ويقوم به قياما صدوريا، وقد مر ان مطلق
الإرادة ومطلق الكراهة لا تضاد بينهما، وانما يكونان ضدين مع فرض وحدة المكلف
والمكلف والمكلف به وزمان الامتثال.
(ومثل هذه الصورة) في الاستحالة صدور الامر والنهى معا عن المولى الواحد
بالنسبة إلى عبد واحد حال كونهما متعلقين بحيثيتين متساويتين بحسب الصدق، أو بحسب
الوجود: بان لم تصدقا على وجود واحد ولكن تلازمتا في مقام التحقق.
(وكذلك) يستحيل صدورهما عنه مع تعلق الامر بالأخص المطلق والنهى بالأعم بحسب
الصدق، أو بحسب الوجود، ففي هذه الصور الخمس يستحيل صدور الامر والنهى معا عن
المولى لاستحالة انقداح الإرادة والكراهة معا في نفسه.
(واما) تعلق الامر والنهى بالحيثيتين اللتين بينهما عموم من وجه، أو عموم مطلق بحسب
الصدق، أو بحسب الوجود بشرط تعلق الامر بالأعم، وكذلك تعلق الامر بحيثية بنحو
الاطلاق والنهى بهذه الحيثية مقيدة بحيثية أخرى فلا مانع عنه، ولا يستحيل صدور هذا
النحو من البعث والزجر عن المولى، فمجموع الصور عشرة، خمسة منها مستحيلة، وخمسة
منها ممكنة.
239

(هذا كله) فيما إذا كان الامر والنهى الزاميين. (ومثله) في صور الاستحالة
وصور الامكان صورة كون الامر ندبيا والنهى تحريميا، وكذلك صورة كون الامر وجوبيا أو
ندبيا مع كون النهى تنزيهيا موجبا لكراهة متعلقه، (نعم) بين كون النهى تحريميا وبين كونه
تنزيهيا فرق من جهة أخرى وهو صحة المجمع في التنزيهي إذا كان الامر عباديا على القول بالجواز
(بيان ذلك) انك قد عرفت في النواهي التحريمية ان الظاهر بطلان المجمع
للعنوانين إذا كان متعلق الامر عباديا مأخوذا فيه قصد القربة ولو قلنا بالجواز، من جهة
ان الوجود الواحد بعد كونه مبعدا عن ساحة المولى لا يصلح لان يتقرب به، فحينئذ نقول إن
ما ذكر كان في النواهي التحريمية.
" واما التنزيهية " فهي وان أوجبت حزازة في متعلقاتها ولكن المأتي به لا يصير
مصداقا للتمرد والعصيان فبعد كونه واجدا للمصلحة وكونه مصداقا للمأمور به على
القول بالجواز لا مانع من وقوعه عبادة للمولى ومقربا إلى ساحته.
(بقي في المسألة أمران آخران يجب أن ينبه عليهما)
" الامر الأول " القائلون بالجواز ربما استدلوا له بالعبادات المكروهة التي اجتمع
فيها الوجوب أو الندب مع الكراهة كصوم يوم العاشوراء أو النوافل المبتدئة في الأوقات
المخصوصة والصلاة في الحمام وفي مواضع التهمة، وكدا بالواجبات التي اجتمع فيها
الوجوب مع الندب أو الإباحة كالصلاة في المسجد أو الدار
(تقريب الاستدلال) ان التضاد ليس بين الوجوب والحرمة فقط بل الأحكام الخمسة
بأسرها متضادة، فإن كان التضاد مانعا من الاجتماع ولم يكن تعدد الجهة مجديا في رفع
الغائلة لما وقع الاجتماع في غير الوجوب والحرمة من سائر الاحكام أيضا، وقد وقع
ذلك كما في العبادات المكروهة ونحوها (هذا).
(وقد أجاب) عن ذلك في الكفاية تارة بنحو الاجمال وأخرى بنحو التفصيل.
(اما الجواب الاجمالي) فهو ان النقض لا يصادم البرهان العقلي خصوصا مع كون
بعض الموارد المذكورة مما تعلق فيه الامر والنهى بحيثية واحدة، وهذا مما يحتاج
240

إلى تأويله القائل بالامتناع أيضا، هذا حاصل كلامه (طاب ثراه).
(أقول): ولنا أيضا ان نجيب عن الاستدلال (اجمالا) بان المحقق انما هو صحة العبادات
المكروهة، واما كونها متعلقة للامر والنهى معا فغير مصرح به في كلام الأصحاب،
فلعل صحتها من جهة واجديتها للملاك وعدم مانعية النهى التنزيهي عن مقربيتها، من دون
ان تكون (بالفعل) مأمورا بها.
(وبالجملة) يمكن ان تكون متعلقة للنهى فقط ويكون صحتها من جهة الملاك
لا الامر، والنهى التنزيهي غير مانع عن صحتها لعدم كونه موجبا للبعد عن ساحة المولى.
(واما الجواب التفصيلي) الذي ذكره (قده) فسيظهر قسمة منه في مطاوي كلماتنا
(ونحن نقول): ان العبادات المكروهة على ثلثة: أقسام:
(القسم الأول) ما تعلق الامر فيه بحيثية، والنهى بحيثية أخرى سواء كان بينهما عموم
مطلق أو من وجه كالامر بالصلاة والنهى عن الكون في مواضع التهمة.
(القسم الثاني) ما تعلق الامر فيه بحيثية بنحو الاطلاق، والنهى بهذه الحيثية مقيدة
بحيثية أخرى كالامر بالصلاة والنهى عنها مقيدة بكونها في الحمام.
(القسم الثالث) ما تعلق الامر فيه (على فرض تعلقه) بعين الحيثية التي تعلق بها النهى
بحيث لا مندوحة في البين كما في صوم عاشوراء والنوافل المبتدئة في الأوقات المخصوصة.
" اما القسم الأول والثاني " فنحن في فسحة عن الاشكال فيهما حيث قلنا بجواز
الاجتماع في مقام الجعل والتشريع، وعدم مانعية النهى التنزيهي عن المقربية في مقام
الامتثال، وقد عرفت سابقا ان نزاع مسألة الاجتماع لا ينحصر فيما إذا كان المتعلق للحكمين
حيثيتين بل يجزى أيضا فيما إذا تعلق الامر بحيثية مطلقة والنهى بهذه الحيثية مقيدة
بحيثية أخرى.
(واما القسم الثالث) فهو مما يجب على كل من الاجتماعي والامتناعي تأويله بنحو يرتفع به
غائلة تعلق الحكمين بحيثية واحدة.
(قال شيخنا الاستاد المحقق الخراساني) في مقام الجواب عنه (ما حاصله): ان النهى
فيه ليس من جهة وجود حزازة ومفسدة في الفعل بل من جهة كون الترك منطبقا لعنوان
241

ذي مصلحة أو ملازما لعنوان كذلك مثل الفعل، غاية الامر كون مصلحة هذا العنوان
المنطبق على الترك أو الملازم له أهم من مصلحة الفعل، ولأجل ذلك كان الأئمة عليهم السلام
في مقام العمل يختارون الترك، فالمقام من قبيل المستحبين المتزاحمين الذين ثبت أهمية
الملاك في أحدهما، فان الحكم الفعلي وان كان تابعا للأهم ولكن الاخر أيضا يقع صحيحا
لوجود الملاك والمحبوبية فيه من دون أن يكون فيه حزازة، وهذا بخلاف ما إذا كان النهى
عن الفعل عن جهة وجود الحزازة والمفسدة فيه فإنه يوجب بطلانه وعدم صحته عبادة (انتهى).
(أقول: ويرد عليه أولا) ان ما ذكره (قده) مبنى على كون مفاد النهى أيضا مثل
الامر في كونه من مقولة الطلب، غاية الأمران المتعلق للطلب في أحدهما الفعل وفي الاخر
الترك، وقد عرفت سابقا فساد هذا المبنى، فان مفاد النهى ليس عبارة عن طلب الترك
بل هو عبارة عن الزجر عن الفعل، وعلي هذا فيجب أن يكون في متعلقه أعني الفعل حزازة و
مفسدة ملزمة أو غير ملزمة.
(وثانيا) سلمنا كون مفاد النهى عبارة عن طلب الترك، ولكن المتعلق للطلب
(على هذا) نفس الترك، ولا وجه لفرض عنوان منطبق عليه أو ملازم له حتى يكون هو
المتعلق للطلب. (فان قلت): وجه فرضه ان الترك بنفسه امر عدمي فلا يتصور كونه
مؤثرا في المصلحة.
(قلت): العنوان المنطبق على الترك أيضا امر عدمي، إذ لا يعقل انطباق عنوان
وجودي على امر عدمي.
(وثالثا) ان الترك وكذا العنوان المنطبق عليه عدمي، والعدم لا يعقل ان يؤثر في المصلحة.
" ورابعا " ان ما فرضه مخالف لمفاد الاخبار، فان المستفاد منها كون صوم العاشوراء
أو النوافل المبتدئة في الأوقات المخصوصة ونحوها ذات حزازة ومفسدة، لا كونها
مستحبة ومحبوبة وكون ترك كل منها أيضا من المستحبات التي يثاب عليها بحيث يقال
لكل من فاعل الصوم وتاركه في يوم العاشوراء: انه فعل مستحبا شرعيا، وهل لفقيه ان
يلتزم بان تارك صوم العاشوراء صدر عنه مستحب شرعي، لا بل الذي يحكم به الفقهاء هو ان
الصائم في يوم العاشوراء صدر عنه ما لا يناسب فعله.
242

(وبالجملة) الظاهر عدم اقناع ما ذكره (قده) في مقام الجواب.
فالأولى ان يقال): ان النهى التنزيهي عن هذا القسم من العبادات انما هو من جهة
انه ينطبق على فعلها عنوان ذو حزازة، كما ينطبق على صوم العاشوراء عنوان الموافقة لبنى
أمية، وعلى النوافل المبتدئة المأتية حين طلوع الشمس وغروبها عنوان الموافقة لعابدي
الشمس مثلا، وهكذا، فالفعل لكونه منطبقا لعنوان ذي حزازة (أقوى من المصلحة الكائنة فيه)
صار متعلقا للزجر التنزيهي، ولم يتعلق به امر فعلى ولكنه مع ذلك يقع صحيحا ان اتاه
بقصد القربة من جهة كونه واجدا للملاك والمصلحة التي كانت تؤثر في الامر الفعلي
لولا عروض هذا العنوان، وتعلق النهى التنزيهي به لا يمنع عن قصد التقرب به وعن صلاحيته
لان يتقرب به لعدم كون مخالفته تمردا على المولى بخلاف النهى التحريمي فتدبر جيدا.
* (الامر الثاني) *
(اعلم) ان الغرض في هذا المقام بيان حكم المحرم الذي انحصر فيه طريق التخلص من
حرام أشد كالخروج من الدار المغصوبة بعد توسطها على وجه محرم، وكشرب الخمر
الذي انحصر فيه طريق التخلص من الهلكة بعدما ارتكب بسوء الاختيار ما يؤدي إليها
ونحو ذلك.
(ولكن المحقق) صاحب الكفاية لما ذكر في صدر المبحث مطالب من باب المقدمة
ناسب ان نذكرها على وجه الاختصار (قال " قده " ما حاصله): ان الاضطرار إلى الحرام و
ان كان موجبا لرفع حرمته وعقوبته وبقاء ملاك وجوبه مؤثرا له (لو كان فيه ملاك الوجوب)
ولكنه إذا كان الاضطرار لا بسوء الاختيار، واما إذا كان بسوء الاختيار فالحرمة الفعلية و
ان كانت مرفوعة أيضا، ولكنه حيث يصدر عن المكلف مبغوضا وعصيانا للنهى السابق الساقط
لا يصلح لان يتعلق به الايجاب وان كان فيه ملاكه (انتهى).
(أقول): اما ما ذكره من أن الاضطرار إلى الحرام يوجب ارتفاع حرمته فمسلم،
غاية الامر ان الحاكم بارتفاعها في الاضطرار العقلي هو العقل، وفي الاضطرار العرفي مثل
حديث الرفع ونحوه.
243

(واما ما ذكره) من تأثير ملاك الوجوب بعد ارتفاع الحرمة الفعلية بالاضطرار فغير
مسلم، إذ المانع عن تحقق الوجوب ليس هو الحرمة الفعلية حتى يصير ارتفاعها سببا
لتحققه، بل المانع عن تحققه وتأثير ملاكه فيه هو أقوائية ملاك الحرمة (أعني المفسدة
الداعية إلى جعلها) من ملاك الوجوب (أعني المصلحة الباعثة نحو الايجاب)، فما دامت
المفسدة باقية على قوتها لا مجال لتأثير ملاك الوجوب وان كان هنا مانع عن فعلية الحرمة
أيضا، فان البعث نحو ما يشتمل على مفسدة (تكون أقوى من مصلحته) قبيح بلا ريب
واشكال.
(نعم) يمكن ان يوجد في الفعل المحرم (بعد الاضطرار إليه) مصلحة أقوى من مفسدته
فلا مانع (ح) من تعلق الوجوب به لكنها غير المصلحة الأولية المغلوبة بالنسبة إلى
المفسدة فإنها لا يمكن ان تؤثر في الايجاب وإن لم يؤثر المفسدة أيضا من جهة المانع
كالاضطرار ونحوه، (الا ترى) ان شرب الخمر المحرم من جهة أقوائية ملاك الحرمة
فيه لا يصير واجبا أو مستحبا بمجرد رفع حرمته الفعلية لمانع، مع أنه يشتمل على المصلحة
أيضا كما يدل عليه قوله (تعالى): قل فيهما اثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر
من نفعهما.
(نعم) ان توقف عليه حفظ النفس المحترمة صار واجبا من جهة أقوائية ملاك حفظ النفس
من المفسدة الكامنة فيه فتأمل.
(ثم اعلم) ان الاضطرار ان كان إلى المعين فلا اشكال في ارتفاع حرمته به، وان كان
إلى غير المعين كأحد الامرين مثلا، فإن كان أحدهما أهم وجب رفع الاضطرار بالاخر،
فان رفعه بالأهم عصى واستحق عليه العقاب اما على تمامه أو على المقدار الذي صار سببا
لأهميته، وإن لم يكن أحدهما أهم تخير في رفع اضطراره، هذا إذا لم يكن الاضطرار
بسبب اختياره امرا اختياريا يؤدي إلى الاضطرار إلى الحرام، واما إذا كان اضطراره إليه
بسبب اختيار امر يؤدي إليه لا محالة فاما أن يكون الفعل الذي يختاره مباحا ذاتا، واما
أن يكون محرما من غير سنخ الحرام المضطر إليه، واما أن يكون محرما من سنخه،
244

وعلى الثالث فاما أن يكون المضطر إليه من تتمة ما يختاره، واما أن يكون فردا آخر في
قباله، فالصور أربعة،
(فالأولى) كأكل الطعام المباح الذي يؤدي إلى المرض والاضطرار إلى شرب الخمر
لدفعه. (والثانية) كقتل النفس المحترمة المؤدى إلى اخذه وحبسه في المحبس الغصبي
(والثالثة) كالدخول في الدار المغصوبة بالاختيار المؤدى إلى الاضطرار إلى
التصرف الخروجي.
(والرابعة) كالتصرف في مال الغير المؤدى إلى اخذه وحبسه في المحبس الغصبي.
(وفي جميع هذه الصور) اما أن يكون حين ارتكابه للفعل الاختياري ملتفتا
إلى أدائه إلى الاضطرار إلى الحرام، واما أن يكون مترددا فيه، واما أن يكون غافلا عنه،
فإن كان غافلا عن أدائه إليه فلا اشكال في عدم وقوع المضطر إليه محرما فعليا وكون
الاضطرار رافعا لحرمته سواء كان الفعل الاختياري المؤدى إليه محرما أو مباحا، إذ في
صورة الحرمة أيضا لم يقدم المكلف الأعلى ارتكاب هذا الحرام دون ما يتعقبه.
وان كان ملتفتا إلى أدائه إليه (1) فالاضطرار وان كان رافعا للزجر الفعلي بالنسبة إلى
المضطر إليه الا انه لما كان بسوء الاختيار كان العصيان والمبغوضية باقيين بلا ريب، فان
العقل الحاكم بقبح تكليف المضطر وعقابه لا يحكم به في هذا المقام، وحديث الرفع أيضا
منصرف عن هذا المقام الذي اقدم العبد باختياره على ما يتعقبه العصيان.
(ولا فرق) في هذه الصورة أيضا بين كون الفعل الاختياري مباحا أو حراما
(هذا كله) مما لا اشكال فيه.
(انما الاشكال) فيما إذا كان المحرم المضطر إليه بسوء الاختيار، مما انحصر فيه التخلص من
الحرام كالخروج من الدار المغصوبة، فهل يصير (ح) مأمورا به فقط كما اختاره الشيخ، أو
مع جريان حكم المعصية عليه، أو منهيا عنه فقط، أو مأمورا به ومنهيا عنه، أو لا يكون
مأمورا به ولا منهيا عنه ولكنه يجرى عليه حكم المعصية كما اختاره في الكفاية،

(1) أقول: لا بد من أن يكون مراده (مد ظله العالي) من الالتفات خصوص صورة العلم
بالأداء وعلي هذا فلم يعلم من كلامه حكم صورة التردد. ح - ع
245

(فيه وجوه بل أقوال) واختيار أحدها في غاية الاشكال، فان القول بكون مثل الخروج منهيا عنه
لا يخلو عن محذور، إذ العبد ان أراد امتثال هذا النهى وترك الخروج لوقع في المحذور
الأشد وهو البقاء في دار الغير. (والقول) بكونه مأمورا به أيضا في غاية الاشكال، إذ الخروج
مصداق للتصرف في ملك الغير، وهل يمكن الالتزام بكون الداخل في ملك الغير للتفريح
مثلا والخارج منه بعد قضاء الحاجة من دون ندامة على فعله ممتثلا لامر المولى مطيعا له
حين الخروج بحيث تكون حركاته الخروجية الواقعة عن تفريح أيضا محبوبة للمولى و
امتثالا لامره مع كونها تصرفا في ملك الغير بغير اذنه، (وأشكل منهما) هو الالتزام بكونه
مأمورا به ومنهيا عنه معا حتى يصير من مصاديق مبحث الاجتماع كما اختاره أبو هاشم
وتبعه المحقق القمي، فان الاجتماع انما يجوز فيما إذا كان هنا عنوانان وكان في البين مندوحة،
وما نحن فيه ليس كذلك، فهو أسوء حالا من باب الاجتماع، وحكمه أشكل من حكمه.
" وهنا احتمال سادس " وهو الالتزام بالترتب (بتقريب) ان الغصب بجميع أنحائه
من الدخول والبقاء والخروج محرم، لا بهذه العناوين بل بما هو غصب وتصرف في مال الغير،
ولكن التصرف الخروجي لما صار في رتبة عصيان النهى ذا مصلحة ومعنونا بعنوان حسن
صار مأمورا به في هذه الرتبة فهو منهى عنه بنحو الاطلاق، ومأمور به في رتبة عصيان النهى
وعدم تأثيره في نفس المكلف (هذا). " ولكن يرد على ذلك " ان الالتزام بالترتب
انما هو فيما إذا كان هنا حكمان متزاحمان وكان أحدهما (من حيث الملاك) أهم فيصير الأهم
(من جهة أهمية ملاكه) فعليا بنحو الاطلاق، والمهم فعليا في ظرف عصيان الأهم
كما في الصلاة والازالة فان لكل منهما ملاكا موجبا لحكم على حدة، غاية الأمران أهمية
ملاك الإزالة أوجبت أهمية حكمها فصار فعلية حكم الصلاة مشروطة بعصيان حكم الإزالة.
" وفيما نحن فيه " ليس كذلك، إذ الموجود في باب الغصب والتصرف في مال الغير
حكم واحد بملاك واحد وهو الحرمة، واما وجوب الخروج والتخلص من الغصب فليس
حكما آخر في قبال حرمة الغصب، بل هو عبارة أخرى عنها، إذ التخلص ليس إلا عبارة عن
ترك الغصب الذي هو ضد عام للغصب، وقد عرفت (في مبحث الضد) ان في الضد العام لا يكون
كل من الضدين متصفا بحكم مستقل في قبال حكم الاخر، بل الامر بأحدهما عبارة أخرى
246

عن النهى عن الاخر، كما أن النهى عن أحدهما عبارة أخرى عن الامر بالاخر بحيث يكون
المتحقق بحسب الواقع حكما واحدا ناشئا من ملاك واحد، وعلي هذا ففي باب الغصب
أيضا لم يصدر عن الشارع الا حكم واحد وهو الحرمة، وليس وجوب التخلص منه حكما
مستقلا في قبالها حتى يصير فعليا في رتبة عصيان الحرمة بل هو عبارة أخرى عنها
ودائر مدارها.
(ومما يشهد لذلك) ان المكلف ان عصى ولم يخرج من الدار المغصوبة لا يقال: إنه صدر
عنه عصيانان أحدهما ارتكاب مقدار التصرف الخروجي والاخر ترك التخلص، بل الصادر
عنه انما هو ارتكاب الحرام فقط.
(وهذا) بخلاف مسألة الصلاة والازالة فان التارك لهما (على القول بالترتب) قد صدر
عنه عصيانان لتفويته ملاكين مستقلين كان كل منهما منشئا لحكم مستقل،
(وبالجملة) الموجود في مثل الصلاة والازالة حكمان شرعيان مستقلان، وهذا بخلاف
باب الغصب فان الموجود فيه حكم واحد وهو الحرمة، واما وجوب التخلص منه فليس حكما
آخر في قباله
(نعم) يحكم العقل بلزوم اختيار التصرف الخروجي لكونه بالنسبة إلى التصرف البقائي
أقل محذورا.
" ومما ذكرنا يعرف أيضا " بطلان ما ذكره بعض الفقهاء في باب الغصب من أن الموجود
فيه حكمان: أحدهما حرمته والاخر وجوب الرد، فان وجوب الرد ليس حكما مستقلا
ذا ملاك مستقل في قبال حرمة الغصب، (نعم) كما يحرم الغصب حدوثا يحرم بقاء،
ووجوب الرد عبارة أخرى عن الحرمة البقائية
وإن شئت قلت هو حكم عقلي حكم به العقل للتخلص من الحرمة البقائية
(ثم اعلم) ان الشيخ (قده) قال في تقريب ما اختاره من كون الخروج مأمورا به
ليس إلا (ما حاصله): ان التصرف في ارض الغير بالدخول والبقاء حرام بلا اشكال، واما
التصرف الخروجي فليس بحرام لا قبل الدخول ولا بعده، اما قبله فلعدم التمكن منه بل هو
منتف بانتفاء الموضوع، واما بعده فلكونه مصداقا للتخلص أو سببا له فيكون مأمورا به،
247

ولا حرمة في البين لكونه مضطرا إليه، فحال الخروج فيما نحن فيه حال شرب الخمر
المتوقف عليه النجاة من الهلكة (انتهى).
(وأجاب) عنه شيخنا الاستاد العلامة المحقق الخراساني (أولا) بالنقض بالبقاء فإنه
أيضا مثل الخروج في عدم التمكن منه قبل الدخول مع كونه حراما بلا اشكال.
(وثانيا) بالحل بان المقدور بالواسطة مقدور، فترك البقاء والخروج كلاهما مقدوران
من جهة القدرة على ترك الدخول، وهذان العنوانان وان كانا قبل الدخول منتفيين بانتفاء
ما هو كالموضوع لهما، ولكن لا يضر هذا بصحة التكليف المشروط عقلا بالتسلط على
المأمور به والمنهى عنه فعلا وتركا وان كان بالواسطة (انتهى).
(والتحقيق ان يقال): ان عناوين الدخول والبقاء والخروج لا عين لها ولا اثر في الأدلة
الشرعية كي يبحث في أنها مقدورة أو غير مقدورة، بل الوارد في الأدلة الشرعية هو عنوان
التصرف في ارض الغير، فالداخل في ارض الغير ما دام فيها ولم يخرج منها (بوضع قدمه في
خارجها) يكون متصرفا فيها ويكون جميع حركاته من الدخول والبقاء والخروج تصرفا
واحدا ممتدا في هذه الأرض ناشئا من اختياره، وليس الوارد في الأدلة عناوين الدخول
والبقاء والخروج حتى يقال إنه يصدق على ترك الدخول ترك الخروج أو لا يصدق الا بنحو
السالبة بانتفاء الموضوع، وعلي هذا فمجموع الدخول والبقاء والخروج تصرف واحد و
يقع من المكلف على الوجه المنهى عنه بسوء اختياره.
(ثم إن) تنظير الخروج بمثل شرب الخمر أيضا في غير محله، فان شرب الخمر بعد أن
توقف عليه حفظ النفس صار ذا مصلحة أقوى من المفسدة الكامنة فيه الموجبة لتحريمه،
وهذا بخلاف الخروج فإنه امر ذو مفسدة من جهة كونه تصرفا في ملك الغير من دون أن يكون
واجدا لمصلحة مستعقبة للوجوب الشرعي لما عرفت من أن الموجود في باب الغصب و
التصرف في مال الغير حكم واحد وهو الحرمة ليس إلا.
" فتلخص مما ذكرنا " ان الالتزام بكون الخروج مأمورا به في غاية الاشكال،
كالالتزام بعدم كونه منهيا عنه وعدم صدوره مبغوضا للمولى
(نعم) يمكن ان يقال: بعدم وجود الزجر فعلا من جهة اضطرار المكلف إلى قدر خاص
248

من التصرف اما بالبقاء أو الخروج، ولكن لا ينافي هذا ثبوت العصيان والعقاب من جهة
صدوره من أول الامر باختياره.
(فالظاهر) في مسألة الخروج ما اختاره المحقق الخراساني من عدم كونه مأمورا به
ولا منهيا عنه بالنهي الفعلي: مع ثبوت العقاب بملاحظة النهى السابق الساقط ولزوم
اختياره عقلا من جهة كونه أقل المحذورين.
(نعم) لاحد أن يقول: ان الداخل في ارض الغير المتوسط فيها بسوء اختياره ان ندم على عمله
وتاب واستغفر ربه التواب خرج خروجه منها من كونه مبغوضا ومعاقبا عليه، فان التائب
من الذنب كمن لا ذنب له كما هو مقتضى اطلاقات أدلة التوبة فلا يقع الخروج منه تمردا
وعصيانا لمولاه (توضيح ذلك) ان المكلف بعد أن دخل في ملك الغير صار مضطرا إلى
مقدار الخروج من اقصر الطرق في اقصر الساعات، فهذا المقدار من التصرف مضطر إليه
سواء صرفه في البقاء أو الخروج، غاية الامر ان الاضطرار إليه لما كان بسوء اختياره
لم يترتب عليه ارتفاع المبغوضية فصار هو من تبعات الدخول المحرم وكان حكمه حكمه
في المبغوضية، فإذا تاب العبد بعد توسطه في الأرض واضطراره إلى الحركات الخروجية
صارت توبته رافعة للعصيان الصادر عنه أعني الدخول وتوابعه، فان التوبة توجب محو
السيئة السابقة، فبعد التوبة يصير كمن لم يدخل في ارض الغير على الوجه المحرم ويصير
الدخول الصادر عنه (عصيانا) المؤدى إلى التوابع المحرمة بمنزلة ما لو لم يصدر عنه عصيانا
وتمردا بل صدر عنه على الوجه الشرعي فيصير الخروج أيضا غير مبغوض، إذ الفرض انه في
حال ارتكابه مضطر إليه وانما كان تحققه عصيانا بنفس تحقق الدخول كذلك، فيكون رفعه
بالتوبة رفعا للعصيان الخروجي أيضا، ويترتب على ذلك أنه ان اتحدت حركاته الخروجية
الواقعة بعد التوبة مع أفعال الصلاة وقعت الصلاة صحيحة لعدم كونها (ح) مبعدة عن ساحة
المولى حتى يقال ان المبعد لا يكون مقربا، وقد أشار إلى هذا المعنى صاحب الجواهر
(قده) فراجع.
* (تذنيب) *
قد أورد بعض الأعاظم على ما افاده الشيخ (قده) من وجوب الخروج لكونه مقدمة
249

للتخلص (بما حاصله): ان ذلك ينافي ما حقق في محله (ويسلمه الشيخ أيضا) من انه لا يتوقف
عدم أحد الضدين على وجود الاخر ولا وجود أحدهما على عدم الاخر بل يكونان متلازمين.
(وجه التنافي) ان البقاء والخروج ضدان فلو كان ترك البقاء موقوفا على الخروج لزم من
ذلك توقف عدم أحد الضدين على وجود الاخر (انتهى). وأنت خبير بان قياس ما نحن فيه
بمسألة الضدين قياس مع الفارق، فان الضدين لما كانا في مرتبة واحدة وكان لوجود
أحدهما مع عدم الاخر معية في التحقق كان لازم ذلك انكار المقدمية من الطرفين،
(واما فيما نحن فيه) فلو وازنا الخروج مع البقاء البديل له كان الكلام فيهما هو الكلام في
الضدين، ولكنه لا يقاس معه بل يقاس مع الغصب الزائد الذي يتحقق على فرض البقاء و
يكون الخروج موجبا للتخلص منه.
" بيان ذلك " انه بعد أن توسط الانسان دار غيره مثلا يضطر إلى مقدار خاص من
التصرف فيها، فهذا المقدار مما لا مفر منه سواء صرف في البقاء أو الخروج، ولكنه ان
اختار البقاء اضطر إلى تصرف زائد على هذا المقدار وان اختار الخروج تخلص من هذا
المقدار الزائد المتأخر عنه زمانا، فالمتوسط فيها بعد اختياره للخروج يكون وضع قدمه الأول
مقدمة لكونه في مكان أقرب إلى باب الدار ووضع قدمه الثاني مقدمة للكون في مكان أقرب
منه إليه وهكذا حتى ينتهى إلى وضع القدم الأخير فإنه مقدمة لكونه في خارج الدار، فتلك
الاقدام مقدمات للكون في خارج الدار والتخلص من التصرف الزائد المتأخرين عن
تلك الاقدام زمانا، فلا ربط لذلك بمسألة الضدين الملازم وجود أحدهما لعدم
الاخر رتبة وزمانا.
(نعم) يرد على ما ذكره الشيخ (أولا) ما ذكره المحقق الخراساني من أن الخروج ليس
مقدمة للتخلص الذي هو امر عدمي بل هو مقدمة للكون في خارج الدار وهو امر وجودي
ليس فيه ملاك الوجوب حتى يجب مقدمته.
(وثانيا) ما ذكرناه آنفا من أن التخلص عبارة عن ترك التصرف، وليس فيه ملاك الوجوب
إذ الموجود في باب الغصب والتصرف في مال الغير حكم واحد وهو الحرمة لا غير فراجع،
(وربما يقال): ان وجوب الخروج ليس من جهة المقدمية، بل هو من باب
250

وجوب رد مال الغير إليه، وهو وجوب نفسي.
(وفيه أولا) ما ذكرناه سابقا: من أن وجوب الرد أيضا ليس حكما شرعيا مستقلا في
قبال حرمة التصرف، بل هو حكم عقلي يحكم به العقل للتخلص من التصرف البقائي، فان
التصرف في مال الغير كما يحرم حدوثا يحرم بقاء.
(وثانيا) ان وجوب الرد على فرض ثبوته شرعا انما يثبت في باب الغصب (أعني به
الاستيلاء على مال الغير عدوانا)، وما نحن فيه لا يرتبط بباب الغصب، إذ التوسط في ارض
الغير ليس دائما ملازما للغصب، بل هو من افراد التصرف في مال الغير، وبين الغصب
والتصرف في مال الغير عموم من وجه، إذ قد يكون صاحب المال مقتدرا بحيث لا يمكن
الاستيلاء على ماله واخذ زمام ماله فلا يتحقق الغصب، ولكن يمكن مع ذلك التصرف في
ماله خفاء أو التصرف فيه من الخارج بالقاء الأحجار فيه مثلا، وقد يتحقق الغصب بدون
التصرف كما إذا استولى الانسان على مال غيره بحيث صار زمام اختاره بيده ومع ذلك
لم يتصرف فيه بالدخول ونحوه.
(وقد يجتمعان) كما إذا استولى على مال غيره ودخل فيه أيضا فتدبر (1)

(1) أقول: يظهر من مجموع كلام سيدنا الاستاد " مد ظله العالي " انه في أصل الكبرى
موافق للشيخ (قده)، ومخالفته معه في الصغرى فقط (بيان ذلك) ان المسألة المبحوث عنها
هو حكم المحرم المضطر إليه بسوء الاختيار إذا كان مقدمة لواجب أهم، فاختار الشيخ كونه
مأمورا به فقط، واختار المحقق الخراساني عدم كونه مأمورا به ولا منهيا عنه مع جريان
حكم المعصية عليه، ويظهر من كلام سيدنا الاستاد " مد ظله " انه يوافق الشيخ في ذلك وانما
يخالفه في مثال الخروج من جهة عدم كونه من صغريات المسألة كما يظهر ذلك من قوله
" مد ظله " في جواب كلام الشيخ: " ان قياس الخروج على شرب الخمر قياس مع الفارق، فان
شرب الخمر مقدمة لواجب أهم (أعني حفظ النفس)، والخروج ليس مقدمة لواجب من جهة
ان الموجود في باب التصرف في ملك الغير حكم واحد وهو الحرمة. "
(ثم اعلم) انه على فرض مقدمية الخروج للواجب ربما يقرب إلى الذهن قول صاحب الفصول،
فان المكلف قبل دخوله في ارض الغير كان متمكنا من ترك التصرف بأنحائه كما كان متمكنا
في أول الامر من فعله كذلك بأن يدخل فيها فإنه بدخوله فيها يتحقق منه جميع أنحائه، غاية
الامر كونه بالنسبة إلى نفس الدخول بلا واسطة وبالنسبة إلى ما يستتبعه من مقدار الخروج
أو البقاء توليديا مختارا بنفس اختيار سببه، فلما كان قبل الدخول، متمكنا من انحاء التصرف
فعلا وتركا توجه إليه النهى عن الجميع، ولكن لا بعنوان الدخول أو البقاء أو الخروج بل
بعنوان التصرف في مال الغير، وقد وقع العصيان بالنسبة إلى الجميع بصرف الدخول، واما
بعده فلما كان يمكنه البقاء كما يمكنه الخروج صار الخروج بعنوانه في مقابل عنوان البقاء
ذا مصلحة فيأمر المولى بصرف المقدار المضطر إليه في الخروج لا في البقاء ويخرج النهى
(ح) من الفعلية من جهة الاضطرار فتدبر. ح - ح
251

* (فصل) *
اختلفوا في أن النهى المتعلق بالعبادات أو المعاملات يدل على فسادها (كما عبر به
بعض)، أو يقتضى فسادها (كما عبر به بعض آخر) أولا؟
" وقد أطنب المتأخرون " في المسألة بتكثير مقدماتها من دون ان ينقحوا محط
النظر فيها ونحن نكتفي بذكر مقدمة واحدة ثم نشرع في تحقيق أصل المقصود.
(اما المقدمة) ففي بيان معنى الصحة والفساد، (فنقول): الصحة (كما عرفت في
مبحث الصحيح والأعم) عبارة عن كون الموجود بحيث ينطبق عليه العنوان المترقب منه،
والفساد عبارة عن كونه بحيث لا ينطبق عليه ذلك، فهما وصفان للموجودات لا للعناوين،
ولكن اتصاف الموجودات بهما انما هو بإضافتها إلى العناوين التي أوجدت هذه الموجودات
بترقب انطباقها عليها.
" بيان ذلك " انه يظهر باستقراء موارد اطلاق هذين اللفظين ان بعض الموجودات
يتصف عرفا بالصحة، وبعضها يتصف بالفساد، كما أن بعضها لا يتصف بشئ منهما، سواء
في ذلك الموجودات الخارجية الحقيقية والموجودات المتحققة في وعاء الاعتبار،
فالأدوية المستعملة لعلاج الأمراض مثلا، وكذا العقود المسببية الموجدة في عالم الاعتبار
قد تتصف عرفا بالصحة وقد تتصف بالفساد، وكذلك العمل الخارجي الصادر عن المكلف
بترقب كونه مصداقا للصلاة أو الحج أو نحوهما، قد يتصف بهذا وقد يتصف بذاك، فإذا
تأملنا في احراز ما هو الموصوف بهما وجدنا ان الموصوف بهما نفس الموجود والمصداق،
لا للعنوان المنطبق عليه، فنفس العمل الخارجي الصادر عن المكلف بترقب كونه منطبقا
لعنوان الصلاة المأمور بها قد يتصف بالصحة وقد يتصف بمقابلها، وكذلك نفس ما يوجده
الانسان في عالم الاعتبار بترقب كونه بيعا ذا اثر، وذات الفرد الخارجي من الفاكهة أو
252

الدواء تتصف بهما، غاية الأمران اتصاف الموجود والفرد بهذين الوصفين ليس بلحاظه في نفسه،
بل بإضافته إلى العنوان الذي يترقب انطباقه عليه ليترتب عليه آثار هذا العنوان، فان وجد بنحو
ينطبق عليه اتصف بالصحة، وان وجد بنحو لا ينطبق عليه اتصف بالفساد بعد اشتراكهما في كون
الايجاد بترقب هذا الانطباق. (وقد اتضح) بما ذكرناه في معناهما وما يتصف بهما أمور نشير إليها:
(الأول) ان توصيف العناوين بهما فاسد، فإنها لا تتصف (بما هي عناوين) بالفساد إذ كل
عنوان هو هو، ويحمل على نفسه (بالحمل الأولى)، واتصافه في عالم المفهومية بالفساد و
عدم التمامية انما هو بان لا يكون هذا العنوان هذا العنوان، وهو مساوق لسلب الشئ عن
نفسه، فالموصوف بهما انما هو نفس الذوات والوجودات، ولكن بإضافتها إلى العناوين.
(الثاني) ان الصحة والفساد وصفان إضافيان، فرب موجود يتصف بالصحة بالإضافة
إلى عنوان ويتصف بالفساد بالإضافة إلى عنوان آخر، فالأقوال والحركات والسكنات
الخارجية التي يوجدها المكلف بترقب كونها منطبقة لعنوان الصلاة حتى يترتب عليها
آثارها: من المقربية واسقاط الامر والإعادة والقضاء ونحو ذلك، ان وجدت بحيث ينطبق
عليها هذا العنوان اتصفت بالصحة بالإضافة إلى هذا العنوان، وان وجدت بحيث لا ينطبق
عليها اتصفت بالفساد كذلك، وان كانت حالها بالإضافة إلى العناوين الاخر بالعكس
فالحركة الخارجية مثلا (بما هي حركة أو موجود) امر تام ينطبق عليها عنوان الحركة
والوجود ويترتب عليها آثارهما، ولكنها بما هي ركوع أو صلاة يمكن ان تكون تامة
صحيحة بنحو ينطبق عليها عنوان الركوع أو الصلاة، ويمكن ان تكون غير تامة فلا ينطبق
عليها عنوانهما ولا يترتب عليها آثارهما، فالموصوف بالفساد نفس الحركة الخارجية، ولكن
اتصافها به ليس باعتبار عنوان الحركة، ولا باعتبار ذاتها الخارجية التي هي من سنخ الوجود،
بل هو باعتبار اضافتها إلى العنوان الذي يترقب انطباقه عليها كعنوان الركوع مثلا.
" الثالث " ان تقسيم عنوان الصلاة وغيرها من عناوين العبادات والمعاملات بالصحيح
والفاسد فاسد، فان نفس العنوان لا يتصف بهما، وانما الموصوف بهما هو نفس العمل
الخارجي الذي يوجده العبد بترقب انطباق عنوان الصلاة عليه، فان وجد بنحو انطبقت
عليه وصار من مصاديقها اتصفت بالصحة، وان وجد بنحو لا تنطبق عليه ولم يصر من مصاديقها
253

وافرادها اتصف بالفساد ويكون اطلاق الصلاة عليه من باب المسامحة، من جهة ان ايجاده
كان بترقب صيرورته فردا لها.
(الرابع) ان توصيف الشئ بالصحة والتمامية انما هو بإضافته إلى العناوين المترقبة
(التي يترتب عليها آثارها قهرا بعد تحققها)، لا بإضافته (أولا) إلى نفس هذه الآثار، إذ
الأثر اثر للعنوان وهو موضوع له فهو يتوسط بحسب القصد بين الفعل الخارجي وبين الأثر،
فالحركات والسكنات الخارجية تتصف بالصحة باعتبار انطباق عنوان الصلاة عليها وكونها
مصداقا لها فإذا انطبقت عليها ترتب عليها آثارها (من موافقة الامر واسقاط الإعادة و
القضاء) قهرا، فما في الكفاية من إضافة الشئ في اتصافه بالصحة إلى نفس الآثار لا يخلو
عن مسامحة،
(الخامس) قد ظهر بما ذكرنا في تعريفهما ان بعض الأشياء لا يتصف بالصحة ولا
بالفساد، فان اتصاف الشئ بهما انما هو بإضافته إلى العناوين المترقبة التي يمكن ان
تنطبق عليه ويمكن أن لا تنطبق وتكون موضوعات لاثار مخصوصة، فلو فرض انه لم يكن
لشئ اثر أصلا أو كان له آثار ربما تترتب عليه وربما لا تترتب ولكن لم يكن ايجاده
بترقب ترتبها عليه لم يتصف بالصحة ولا بالفساد، فمثل الاتلاف والجناية وملاقاة النجاسة
ونحوها لا تتصف بهما مع أن لها آثارا شرعية: (من الضمان وجواز القصاص ونجاسة الملاقي)
ربما تترتب عليها وربما تتخلف، فلو تحقق الاتلاف بنحو لم يترتب عليه الضمان،
أو الجناية بنحو لم توجب القصاص كما إذا أتلف أو جنى بحق، أو وجد الملاقاة بنحو لم يترتب
عليها نجاسة الملاقي لم يتصف الاتلاف والجناية والملاقاة (ح) بالفساد، والسر في ذلك
عدم كون ايجادها بترقب ترتب هذه الآثار عليها، فالموصوف بالصحة و الفساد عبارة عن الأشياء
التي توجد بترقب ان ينطبق عليها عناوين ذوات آثار شرعية أو عقلائية أو خارجية، بحيث
يكون ايجادها غالبا بترقب ترتب هذه الآثار عليها ولو بتوسيط العناوين في القصد، سواء
كان النظر إلى العنوان المتوسط نظرا آليا دائما كما في عناوين العقود المسببية التي لا
تعتبر الا لترتب الآثار عليها، أو كان له بنفسه نحو استقلال ولكن يوجد غالبا بترقب الآثار
المترتبة عليه، وذلك كالصلاة مثلا فإنها وان كانت بنظر الأوحدي معراجا للمؤمن ومحبوبة
254

بذاتها، ولكن أكثر الناس لا يعقلون فيأتون بها لاسقاط الإعادة والقضاء أو الفرار من النار
والدخول في الجنة أو نحو ذلك، (وقد ظهر بما ذكرنا) ان الاتلاف والجنايات ونحوها لا تتصف
بالصحة ولا بالفساد، (نعم) يتصف بهما العبادات بالمعنى الأخص وبالمعنى الأعم والمعاملات.
(السادس) ان التقابل بينهما يشبه تقابل العدم والملكة، فان الصحة كما عرفت عبارة
عن كون الموجود الخارجي بحيث ينطبق عليه العنوان المترقب، والفساد عبارة
عن كونه بحيث لا ينطبق عليه ذلك، وانطباق العنوان المترقب وإن لم يكن من الشئون
الواقعية للموجود الخارجي ولكن لما كان وجوده بترقب هذا الانطباق صار هذا الترقب منه
بمنزلة كونه من شؤونه، فالفساد عبارة عن عدم الانطباق فيما يكون من شأنه الانطباق.
(إذا عرفت هذه المقدمة فنقول): قد ذكروا لدلالة النهى على الفساد وجهين:
" الأول " ان النهى يقتضى الحرمة والمبغوضية، وهما تنافيان الصحة.
" الثاني " ان علماء الأمصار في جميع الاعصار كانوا يستدلون بالنهي الوارد في العبادات
والمعاملات على الفساد. (والظاهر) تباين هذين المسلكين وعدم الجامع بين مقتضى
الدليلين، (وتوضيح ذلك) يتوقف على بيان نكتة، وهي ان صحة الشئ (كما عرفت) عبارة
عن كونه بحيث ينطبق عليه العنوان المترقب منه، وفساده عبارة عن كونه بحيث لا ينطبق
عليه ذلك.
(ثم إن) العناوين مختلفة، فبعضها بحيث يكون انطباقها وعدم انطباقها واضحا عند
الجميع ولا يختص علمه ببعض دون بعض، ولكن كثيرا منها مما يجهلها الأكثر ويختص
العلم بانطباقها ومنطبقاتها وما يشترط في انطباقها عليها ببعض الناس (وذلك) كالمعاجين
التي يختص العلم باجزائها وشرائطها وموانعها بالأطباء فقد يكون معجون خاص مركبا
من أمور ويكون لشروط وجودية وعدمية دخل في انطباق عنوانه على هذه الأمور ولكن العلم
بذلك يختص بطائفة خاصة، (ومن هذا القبيل) أكثر العبادات والمعاملات الواردة في الشريعة
فانا أمور مركبة من اجزاء خاصة، ويكون لشروط وجودية وعدمية دخل في انطباق
عناوينها على هذه الاجزاء، ولكن العلم بذلك يختص بمخترعها وهو الشارع، وبناء العرف
والعقلاء في هذا السنخ من الأمور على الرجوع إلى اهل فنها فإذا رجعوا إليهم وورد منهم
255

في ذلك امرا ونهى يكون هذا الامر أو النهى عندهم ظاهرا في الارشاد إلى الجزئية أو الشرطية
أو المانعية، فإذا قال الطبيب مثلا للمريض اجعل السقمونيا بمقدار خاص في المعجون الذي
عالجتك به لا يكون هذا الامر ظاهرا في الوجوب المولوي، بل يكون ظاهرا في الارشاد إلى
الجزئية، وكذا لو قال: (لا تجعل فيه السقمونيا) لا يتبادر من هذا النهى التحريم المولوي
بل يكون ظاهرا في الارشاد إلى مانعية السقمونيا عن تحققه بنحو ينطبق عليه العنوان
المترقب، وان قال الإمام عليه السلام أو النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو نائبهما: لا تصل في جلد ما لا يؤكل لحمه
مثلا كان نهيه هذا ظاهرا في الارشاد إلى مانعية جلد ما لا يؤكل لحمه ودخالة عدمه في انطباق
عنوان الصلاة على الاجزاء التي يؤتى بها بترقب انطباقه عليها، وإذا قال: صل مع الطهارة
كان امره هذا ظاهرا في الارشاد إلى الشرطية، (والسر في ذلك) ان عنوان الصلاة مثلا
من العناوين التي لا يعلم اجزائها وشرائطها وموانعها الا من قبل الشارع نظير المعجون الذي
يختص العلم بخصوصياته بالطبيب، والأوامر والنواهي الواردة في خصوصيات هذا السنخ
من العناوين من قبل اهل فنها ظاهرة في الارشاد إلى الجزئية أو الشرطية أو المانعية،
وهذا ظهور عرفي عقلائي يشهد به كل من راجع سيرة العقلاء، واحتمال المولوية في هذه
الموارد احتمال مرجوح لا يقبله الأذهان السليمة.
(إذا عرفت ما ذكرنا فنقول): قد ظهر بذلك سر استدلال علماء الأمصار في جميع
الاعصار بالنواهي (الواردة في أبواب العبادات والمعاملات بأنواعها من البيوع والأنكحة
وغيرها) على الفساد، فان استدلالهم بها لم يكن بتوسيط الحرمة المولوية بان يستفيدوا
منها الحرمة المولوية ويستدلون بالحرمة على الفساد، بل كان ذلك من جهة ظهور النواهي
الواردة في هذه الأبواب في الارشاد إلى المانعية المستلزمة للفساد قهرا، (نعم) لو فرض
ظهور النهى في التحريم المولوي أو أحرز الحرمة والمبغوضية بطريق آخر يجرى نزاع
آخر في أن الحرمة تقتضي الفساد أو لا؟ ولكن هذا غير النزاع الأول، فان النزاع على
الأول في الدلالة والبحث لفظي، وعلى الثاني في الاقتضاء والملازمة، والبحث عقلي.
(وبما ذكرنا ظهر) اختلاف أساس الاستدلالين، فان بناء الاستدلال الأول على ادعاء
الملازمة بين الحرمة المولوية والفساد من دون نظر إلى ظهور النهى حتى لو فرض
256

استفادة الحرمة والمبغوضية من غير اللفظ أيضا جرى النزاع، وبناء الاستدلال الثاني على ادعاء
ظهور قسم خاص من النواهي (وهي الواردة في باب المركبات المخترعات) في الارشاد إلى
المانعية المقتضية للفساد قهرا، كظهور الأوامر الواردة فيها في الارشاد إلى الجزئية أو الشرطية.
(وبالجملة) هنا مسلكان مختلفان لا جامع بينهما، والبحث على الأول بحث عقلي
وعلى الثاني بحث لفظي، فلأحد أن يلتزم بالفساد على الثاني دون الأول، واللازم (على
المسلك الأول) ان يعبر في عنوان المسألة بالاقتضاء، (وعلى المسلك الثاني) بالدلالة.
(وإذا ظهر لك ما ذكرنا فنقول): بناء على ظهور هذا السنخ من النواهي في الارشاد
(كما هو الظاهر) فدلالتها على الفساد واضحة سواء في ذلك العبادات والمعاملات، واما
بناء على انكار ذلك وادعاء ظهورها في الحرمة المولوية فهل تلازم الحرمة للفساد أو لا تلازم
أو يفصل بين العبادات والمعاملات؟ الظاهر هو التفصيل ففي العبادات تلازم الحرمة للفساد
لاحتياجها إلى قصد القربة، والحرمة تلازم المبغوضية فيكون اتيان المحرم مصداقا
للتمرد والعصيان ومبعدا عن ساحة المولى، والمبعد لا يكون مقربا وقد فصلنا
ذلك في مبحث الاجتماع.
(واما في المعاملات) فلا تلازم الحرمة الفساد لعدم اشتراطها بالقربة وعدم التنافي
بين المبغوضية وبين ان يتحقق مضامينها، والفرض عدم كون النهى أيضا ظاهرا في الارشاد
إلى مانعية شئ لتحققها، فلا وجه لفسادها من غير فرق بين المعاملات بالمعنى الأخص وبين
غيرها كالغسل والتطهير ونحو ذلك من الموضوعات الشرعية التي يترتب عليها آثارها قهرا
وان صدرت مبغوضة.
* (تذنيبان) *
(الأول) قد قسم الشيخ " قده " (على ما في تقريرات بحثه) النهى المتعلق بالعبادة إلى
قسمين: الارشادي، والتحريمي المولوي، فقال بدلالة الأول على الفساد قطعا، ودلالة
الثاني أيضا في الجملة. وقسم النهى المتعلق بالمعاملة إلى أربعة أقسام:
(أحدها) الارشادي، والثلاثة الاخر مولوية تحريمية، (فأولها) ان يتعلق النهى بالمعاملة
257

بما هي فعل مباشري (وبعبارة أخرى) بالسبب أعني نفس الايجاب والقبول كالنهي المتعلق
بالبيع وقت النداء.
(الثاني) ان يتعلق بها بما هي فعل تسبيبي (وبعبارة أخرى) بنفس المسبب، وذلك
كالنهي عن بيع المصحف أو العبد المسلم للكافر، فان المبغوض انما هو مالكية الكافر لهما
التي هي نوع من السلطنة والسبيل.
(الثالث) ان يتعلق بالأثر الذي لا ينفك من المعاملة بحيث لو لم تكن المعاملة
فاسدة لم يمكن تحريم هذا الأثر، من جهة انه لا معنى لصحتها عرفا وشرعا الا ترتب هذا
السنخ من الأثر كالنهي عن أكل ثمن الكلب أو العذرة، فان صحة المعاملة وحصول الملكية
يستلزمان حلية الثمن للبايع (انتهى).
(وزاد في الكفاية قسما آخر) وهو أن يكون المتعلق للنهى التسبب بهذا السبب إلى
هذا المسبب من دون ان يتعلق النهى بنفس السبب أو المسبب (1)
(ثم قال): ان النهى عنها بما هو فعل مباشري أو تسبيبي لا يقتضى الفساد، ومثله ما إذا
وقع النهى عن التسبب، واما النهى عن الأثر الغير المنفك فيقتضى الفساد (انتهى).
(أقول): قد مثلوا لصورة تعلق النهى بنفس السبب بالنهي عن البيع وقت النداء،
والظاهر فساد ذلك، فان معنى حرمة السبب كون نفس الايجاب والقبول بما هما لفظان
محرمين، وليس في المثال نفس التلفظ بالايجاب والقبول محرما لعدم اشتماله على المفسدة،
وانما المحرم في وقت النداء هو الاشتغال بالاشتغال الدنيوية المانعة عن الصلاة، ومنها الاشتغال
بالتجارات التي أهمها البيع، ولا خصوصية لنفس البيع، وانما ذكر من باب المثال أو الكناية،
فالمنهى عنه هو الاعمال المزاحمة للصلاة، والبيع أيضا محرم بهذا العنوان لا بما هو لفظ خاص،
ثم إن هذا النهى ليس نهيا نفسيا ناشئا من مفسدة في متعلقه، بل هو من باب تعلق النهى
بضد المأمور به الذي لا ملاك له سوى نفس مصلحة المأمور به، وقد عرفت في مبحث الضد
ان الامر بالشئ والنهى عن ضده ليسا بتكليفين مستقلين واجدين لملاكين، بل الامر

(1) يمكن ان يمثل له بالنهي عن تملك الزيادة بالبيع الربوي فان نفس الانشاء وكذا
تملك الزيادة بمثل الهبة ونحوها لا محذور فيه، وانما المحرم هو التسبب بالبيع لتملك
الزيادة. ح - ع
258

والنهى متحدان بحسب الحقيقة، ففيما نحن فيه النهى عن البيع وقت النداء تأكيد للامر
بصلاة الجمعة، فان النهى عنه انما هو من جهة كونه ضدا لها فلا نهى حقيقي في البين فتدبر.
* (التذنيب الثاني) *
قد عرفت أن للقوم في المسألة مسلكين: (الأول) ان الحرمة تلازم الفساد أم لا، وعلي هذا
فالمسألة عقلية. (الثاني) ان علماء الأمصار في جميع الاعصار كانوا يستدلون بالنواهي
الواردة في خصوصيات العبادات والمعاملات على الفساد، وقد عرفت أيضا ان استدلالهم
لم يكن بتوسيط الحرمة من جهة ظهور النهى عندهم في الارشاد.
(ونزيدك هنا ايضاحا فنقول): ان استدلالهم بهذا السنخ من النواهي على الفساد و
ارسالهم ذلك إرسال المسلمات ليس من جهة كون النهى موضوعا للفساد شرعا بعد عدم كونه
كذلك لغة، للقطع بعدم وضع من الشارع في هذا المقام وانه ليس وظيفته الا بيان الاحكام بلسان
قومه، بل ما يحتمل أن يكون وجها لذلك أمور: (الأول) ما سبق منا من انه إذا امر من له
مزيد اختصاص في العلم بشئ بهذا الشئ ثم أمر ببعض الخصوصيات المتعلقة به أو نهى عنه
يتبادر من هذا السنخ من الأوامر والنواهي الارشاد إلى الجزئية أو الشرطية أو المانعية،
وليس للنهى (ح) ظهور في المولوية حتى نحتاج في اثبات الفساد إلى توسيط الحرمة وادعاء
الملازمة بينها وبين الفساد وقد فصلنا ذلك فراجع. (الثاني) ما ذكره الشيخ " قده " وحاصله ان
الظاهر من النهى المتعلق بعبادة خاصة أو معاملة خاصة كونه ناظرا إلى العمومات المشرعة
لها تأسيسا أو امضاء، فيكون بمنزلة المقيد أو المخصص لها فإذا قال الله (تعالى): ولا تنكحوا ما
نكح آباؤكم أو ورد في الخبر النهى عن بيع الغرر أو نحو ذلك علم منه إرادة التخصيص للعمومات
الدالة على صحة النكاح والبيع ونحوهما من المعاملات، وهكذا الامر في العبادات، (هذا)
ولكن يجب ان يعلم ان ما ذكره " قده " ليس وجها في قبال سائر الوجوه، فان النهى
ان كان تحريميا مولويا فلا وجه لاستفادة الفساد منه في المعاملات كما عرفت،
وان كان ارشاديا رجع إلى ما ذكرناه في الوجه الأول.
(الثالث) ان يقال في خصوص المعاملات: ان حصول المسببات عقيب الأسباب انما هو
بجعل الشارع إياها عقيبها واعتباره لها، أو بجعل السببية للأسباب بداهة ان السببية
259

فيها ليست تكوينية فهي قابلة للجعل التشريعي، و (ح) فمن المستبعد اعتبار الشارع و
امضائه لما هو مبغوض له، فبالنهى الدال على الحرمة والمبغوضية يستكشف عدم اعتبار
الشارع للمسبب الذي يكون تحققه بيده.
(الرابع) ما ذكره بعض المعاصرين من أن النهى يدل على المحجورية الشرعية، و
من شرائط الصحة في المعاملات عدم الحجر.
(والخامس) ان يقال: ان الظاهر من النواهي المتعلقة بالمعاملات هو المنع عن
ترتيب آثارها عليها، فيرجع جميع النواهي المتعلقة بالمعاملات إلى القسم الثالث الذي
نقلناه عن الشيخ وهو صورة تعلق النهى بالآثار التي لا تنفك من المعاملة بحيث لو صحت
المعاملة لم يعقل حرمة هذه الآثار، وقد توافق الشيخ وشيخنا الاستاد المحقق الخراساني
على كون النهى في هذه الصورة دالا على الفساد، ووجهه واضح، ووجه ارجاع جميع
النواهي الواردة في المعاملات إلى هذه الصورة هو ان يقال: ان للمعاملات ثلاث مراتب:
(الأولى) مرتبة الأسباب أعني نفس الايجاب والقبول (الثانية) مرتبة المسببات
التي توجد بها في عالم الاعتبار من الملكية والزوجية ونحوهما (الثالثة) مرتبة الآثار الشرعية
والعقلائية المترتبة على المسببات من جواز التصرف في الثمن مثلا للبايع وفي المثمن
للمشترى، وجواز الوطئ ونحوه في النكاح، ونحو ذلك، ولا يخفى ان نفس الأسباب
لا نفسية لها عند العرف والعقلاء وليست مقصودة بالذات بل هي آلات لايجاد مسبباتها
ومندكات فيها بنظرهم، وكذلك المسببات بأنفسها أمور اعتبارية محضة وليست مقصودة
بالأصالة، فان نفس الملكية مجردة من جميع آثارها لا تغنى عن جوع أحد فهي أيضا فانية
في الآثار، فالمطلوب بالذات وما هو المقصود عند العقلاء في المعاملات انما هو ترتيب الآثار
من التصرف في الثمن والمثمن وقضاء الحوائج بهما ونحو ذلك. فإذا كان نظر العرف والعقلاء
إلى الأسباب والمسببات نظرا آليا وكانتا عندهم في الحسن والقبح تابعيتين للآثار المطلوبة
فلا محالة لا يتبادر إلى أذهانهم من النواهي المتعلقة بهما الا النهى عن ترتيب الآثار، إذ لا نفسية
لهما عندهم ولا يتصفان في أنفسهما بحسن ولا قبح، ونظير ذلك ما ذكرناه في مبحث
المقدمة من أن الامر بالمقدمة عين الامر بذيها.
260

(وبالجملة) الامر والنهى في الأمور الالية يتعلقان حقيقة بما هي فانية فيه فلا يتبادر إلى
الأذهان من النهى عن نكاح الأم مثلا الا حرمة ترتيب آثار الزوجية فإنها المقصودة بالذات
من النكاح لا نفس الايجاب والقبول ولا الزوجية المجردة منها، وعلي هذا فيدل النهى
على الفساد فتدبر.
المقصد الثالث في المنطوق والمفهوم
(اعلم) ان الظاهر من كلمات القوم كونهما وصفين للمدلول بما هو مدلول لا للدلالة و
ان كانت كيفية الدلالة منشئا لاتصافه بهما (وبعبارة أخرى) ينقسم المدلول من اللفظ إلى منطوق
ومفهوم باعتبار انقسام الدلالة إلى نحوين، فنحو خاص منها يسمى مدلوله بالمنطوق، و
نحو آخر منها يسمى مدلوله بالمفهوم.
(والقول) بكونهما وصفين لنفس الدلالة في غاية السخافة، ولا نظن تفوه أحد من
القدماء بذلك، ولعل نظر من جعلهما وصفا لها إلى ما ذكرناه من أن كونهما وصفين للمدلول
ليس بلحاظه بذاته بل باعتبار كونه مدلولا لنحوين من الدلالة.
(انما الاشكال في المقام) في تشخيص نحوي الدلالة (المنقسم باعتبارهما المدلول
إلى المنطوق والمفهوم)
(قال الشيخ) على ما في تقريرات بحثه ما حاصله: ان دلالة المفردات على معانيها
(بأقسامها من المطابقة والتضمن والالتزام) خارجة من المقسم فلا يتصف مداليلها بالمنطوق
ولا بالمفهوم.
(واما دلالة المركبات) على معانيها التركيبية فان كانت بالمطابقة فهي داخلة في
المنطوقية بلا اشكال، وان كانت بالتضمن فالظاهر منهم وان كان دخولها في المنطوقية
أيضا ولكن يمكن الاستشكال فيه (بناء على تفسير المفهوم بما يفهم من اللفظ تبعا) فان
المعنى التضمني وان كانت بالذات مقدما على المطابقي ولكنه متأخر عنه في الاستفادة من
اللفظ، بل قد يتصور الكل اجمالا من دون ان يتصور الجزء، مثال ذلك ما لو أثبت القيام
261

(الذي هو وضع خاص) لزيد فإنه يفهم منه ضمنا ثبوت بعض هذا الوضع لرأسه مثلا ولكن
الذهن ربما يغفل عنه.
(هذا كله) في دلالة المركبات على معانيها المطابقية والتضمنية.
(واما دلالتها) على معانيها الالتزامية فهي أيضا على قسمين، إذ المدلول الالتزامي اما
أن يكون بحيث يقصد المتكلم دلالة اللفظ عليه، واما أن يكون مما يستفاد منه تبعا بلا
قصد لافهامه، والقسم الثاني خارج من المنطوقية والمفهومية معا، واما القسم الأول فإن كان مفاده
مفاد (لا غير) كما في جميع مفاهيم المخالفة، أو كان الحكم فيه ثابتا للغير على وجه الترقي
كما في مفهوم الموافقة فهو المفهوم بقسميه، والا فهو أيضا من المنطوق، فاستقر اصطلاحهم
على تسمية هذين النوعين من المداليل الالتزامية المركبة بالمفهوم
(وقد فصل " قده ") الكلام في هذا المقام ونقل في ضمن كلامه تعريف الحاجبي
للمنطوق بأنه ما دل عليه اللفظ في محل النطق، وللمفهوم بأنه ما دل عليه اللفظ لا في محل
النطق، وتفسير العضدي لتعريف المنطوق بقوله: (أي يكون حكما لمذكور وحالا
من أحواله سواء ذكر الحكم ونطق به أم لا، ولتعريف المفهوم بقوله: (أي يكون حكما
لغير المذكور (انتهى).
(أقول): لم يأت هو " قده " مع تفصيله بما يكون معتمدا عليه في امتياز المنطوق
من المفهوم، فان الظاهر من القدماء كون المداليل في حد ذاتها على قسمين، وليس تقسيم
المدلول إليهما بحسب جعل الاصطلاح فقط بان يصطلحوا بلا جهة على تسمية بعض المداليل
الالتزامية بالمفهوم وادخال غيره في المنطوق، ولذلك تريهم يختلفون في أن دلالة
الغاية أو الاستثناء على الانتفاء عند الانتفاء مفهومية أو منطوقية، فيعلم من ذلك كونهما
ممتازين بحسب الواقع.
والمتأخرون عن الشيخ أيضا لم يذكروا في الباب ميزانا صحيحا يعتمد عليه، فالواجب
علينا تفصيل الكلام بنحو يتضح الامتياز بين نحوي الدلالة (المنقسم باعتبارهما المدلول
إلى المنطوق والمفهوم)
(فنقول): ما يفهم من كلام المتكلم قد يكون بحيث يمكن ان يقال: (انه تنطق به)
262

بنحو لو قيل للمتكلم: (أنت قلت هذا) لم يكن له انكاره، وقد يكون بحيث لا يمكن ذلك
بل يكون للمتكلم مفر منه، وان أنكر قوله إياه لم يمكن إلزامه، مثلا إذا قال المتكلم:
(ان جاءك زيد فأكرمه) فمداليله المطابقية والتضمنية والالتزامية كلها مما لا يمكن للمتكلم
ان ينكر تنطقه بها، واما عدم ثبوت الوجوب عند عدم المجئ فيفهم من اللفظ، ولكن لو
قيل للمتكلم: (أنت قلت هذا) مكنه انكار ذلك بان يقول: ما قلت ذلك وانما الذي قلته و
وتنطقت به هو وجوب الاكرام عند المجئ، وليس الانتفاء عند الانتفاء من لوازم الثبوت عند
الثبوت حتى يقال: ان دلالة اللفظ عليه بالالتزام، لوضوح ان وجوب الاكرام عند المجيئ
لا يستلزم بحسب الواقع عدم وجوبه عند عدمه، ومع ذلك نرى بالوجدان انه يفهم من
الكلام، ولكنه ليس بحيث يمكن ان ينسب إلى المتكلم انه تنطق به، واما الثبوت عند
الثبوت وجميع لوازمه العقلية والعرفية فمما يمكن ان تنسب إلى المتكلم ويقال انه تنطق
بها وليس له انكاره، وكذا الكلام في مفهوم الموافقة فان النهى عن آلاف يفهم منه النهى عن
مثل الضرب ولكنه لا تلازم بين المعنيين والمدلولين بحسب متن الواقع لعدم الارتباط و
العلاقة بين الحرمة المتعلقة بالأف وبين الحرمة المتعلقة بالضرب حتى يقال باستلزام
الأول للثاني.
" وبالجملة " المداليل المطابقية والتضمنية والالتزامية جميعها مما لا يمكن
للمتكلم ان ينكر القول بها بعد اقراره بتنطقه بالكلام، ولكن هاهنا مداليل اخر تفهم
من الكلام من جهة اعمال خصوصية فيه، ومع ذلك يكون للمتكلم (مع اقراره بالتنطق
بالكلام) أن يقول: ما قلت ذلك، لعدم كونها من مداليلها المطابقية والتضمنية والالتزامية.
(والمراد) بالمدلول الالتزامي ما فهم من اللفظ من جهة كونه لازما ذهنيا لما وضع
له اللفظ سواء كان بحسب الخارج أيضا من لوازمه كالجود للحاتم أو من معانداته كالبصر
للعمى، فما قد يتوهم في بيان الضابط لدلالة الالتزام (من أنها عبارة عن الدلالة الثابتة
بالنسبة إلى اللوازم البينة بالمعنى الأخص) في غير محله، فان دلالة الالتزام تتوقف على اللزوم
الذهني لا الخارجي، والمقسم للبين وغيره بقسميه هو اللازم الخارجي. (1)

(1) أقول: ينافي ذلك تمثيلهم للبين بالمعنى الأخص بمثل العمى والبصر
263

(وكيف كان) فهنا مداليل اخر للكلام سوى المداليل المطابقية والتضمنية والالتزامية
يكون دلالة اللفظ عليها دلالة مفهومية، كما يكون دلالته على المعنى المطابقي والتضمني
والالتزامي دلالة منطوقية، فالدلالة المفهومية خارجة من الأقسام الثلثة، فإنها بأجمعها
مما يمكن ان يقال: ان المتكلم تنطق بها، غاية الامر ان تنطقه بالنسبة إلى المدلول التضمني
والالتزامي بالواسطة، والمفهوم عبارة عما لم يتنطق به المتكلم ولو بالواسطة.
وبيان حقيقة الدلالة المفهومية يتوقف على ذكر مقدمة " فنقول ": لا ريب في أن استفادة
المعنى من اللفظ بحيث يمكن الاحتجاج على المتكلم بإرادته له تتوقف على أربعة أمور
مترتبة حسب ما نذكرها.
" الأول " عدم كون المتكلم لاغيا في كلامه وكونه مريدا للإفادة.
" الثاني " كونه مريدا لإفادة ما هو ظاهر اللفظ بحيث يكون ظاهر اللفظ مرادا له،
إذ من الممكن (بحسب مقام الثبوت) عدم كونه لاغيا في كلامه ولكن لا يكون مع ذلك مريدا
لظاهر اللفظ بان ألقاه تقية أو لجهات اخر.
" الثالث " عدم اجمال اللفظ وكونه ظاهرا في المعنى. " الرابع " حجية الظهور،
والمتكفل لاثبات الامر الأول والثاني ليس هو اللفظ بل بناء العقلاء إذ قد استقر بنائهم على
حمل فعل الغير على كونه صادرا عنه لغايته الطبيعية التي تقصد منه عادة ولا يعتنون باحتمال
صدوره لغوا وجزافا ولا باحتمال صدوره لغير ما هو غاية له نوعا، واللفظ الصادر عن المتكلم
أيضا من جمله أفعاله، فيحمل بحسب بناء العقلاء على كونه صادرا عنه لغاية، وكون
المقصود منه غايته الطبيعية العادية، وحيث إن الغاية العادية للتلفظ إفادة المعنى فلا محالة
يحكم المستمع للفظ (قبل اطلاعه على المعنى المقصود منه) بكون التكلم به لغاية وفائدة
وكون الغاية المنظورة منها إفادة معناه (أي شئ كان)، وليس هذا مربوطا بباب دلالة
الألفاظ على معانيها، بل هو من باب بناء العقلاء على حمل فعل الغير على كونه صادرا عنه لغايته
الطبيعية، وهذا مقدم بحسب الرتبة على الدلالة الثابتة للفظ (بما هو لفظ موضوع) على
معناه المطابقي أو التضمني أو الالتزامي لأنه من باب دلالة الفعل لا اللفظ بما هو لفظ موضوع
ويحكم به العقلاء قبل الاطلاع على المعنى الموضوع له.
264

(ثم إن) هذا البناء من العقلاء كما يكون ثابتا في مجموع الكلام كذلك يكون ثابتا
في أبعاضه وخصوصياته، فكما أن نفس تكلمه (بما أنه فعل من الأفعال الاختيارية) يحمل
على كونه لغايته الطبيعية العادية، فكذلك الخصوصيات المذكورة في الجملة من الشرط
أو الوصف أو غيرهما تحمل (بما هي من الأفعال الصادرة عنه) على كونها لغرض الإفادة
والدخالة في المطلوب، فإنها غايتها العادية، وكما لم يكن دلالة نفس الجملة على كونها
لغرض إفادة المعنى دلالة لفظية وضعية بل كانت من جهة بناء العقلاء (المتقدم بحسب الرتبة
على الدلالة اللفظية المنطوقية)، فكذلك دلالة الخصوصية المذكورة في الكلام على
كونها للدخالة في المطلوب ليست من باب دلالة اللفظ بما هو لفظ موضوع بل هي من باب
بناء العقلاء ومن باب دلالة الفعل بما هو فعل سواء كان من مقولة اللفظ أو من غيره.
(إذا عرفت هذه المقدمة) ظهر لك سرما قلناه من أن الدلالة المفهومية خارجة من
الانحاء الثلثة أعني المطابقة والتضمن والالتزام، فان مقسمها دلالة اللفظ (بما هو لفظ
موضوع)، فان دل على تمام ما وضع له سميت الدلالة بالمطابقة وان دل على جزء منه سميت
بالتضمن وان دل على لازمه سميت بالالتزام، واما دلالة اللفظ على المفهوم فليست ثابتة له
بما هو لفظ موضوع بل هو من باب دلالة الفعل بحسب بناء العقلاء.
(والحاصل) ان دلالة الخصوصية المذكورة في الكلام من الشرط أو الوصف أو
الغاية أو اللقب أو نحوهما على الانتفاء عند الانتفاء ليست دلالة لفظية بل هي من باب بناء
العقلاء على حمل الفعل الصادر عن الغير على كونه صادرا عنه لغاية وكون الغاية المنظورة
منه غايته النوعية العادية، والغاية المنظورة (عند العقلاء) من نفس الكلام حكايته لمعناه،
والغاية المنظورة من خصوصياته دخالتها في المطلوب، ومن هنا يثبت المفهوم، فإذا
قال المولى: (ان جاءك زيد فأكرمه) مثلا حكم العقلاء بدخالة مجئ زيد في وجوب
اكرامه، (بتقريب) انه لو لم يكن دخيلا فيه لما ذكره المولى، وكذلك ان ذكر وصف
في كلامه يحكمون بدخالته في الحكم بهذا التقريب، وهكذا سائر الخصوصيات
التي تذكر في الكلام.
(وبالجملة) فائدة ذكر القيد (أي قيد كان) بحسب طبعه عبارة عن دخالته في الحكم
265

فيحكم العقلاء بان تعليق الحكم عليه ليس إلا لدخالته والا كان ذكره لغوا، ولا ربط لهذا
الحكم العقلائي بباب الدلالات اللفظية، بل هو من جهة بنائهم على عدم حمل فعل الغير على
اللغوية، بل على فائدته المتعارفة المنظورة منه نوعا، فباب المفاهيم بأقسامها غير مربوط
بباب الدلالات اللفظية بأقسامها.
(وقد ظهر بما ذكرنا) ان استفادة المفهوم في جميع القيود: من الشرط والوصف
وغيرهما بملاك واحد، وهو ظهور الفعل الصادر عن الغير في كونه صادرا عنه لغايته الطبيعية
العادية فلا يجب البحث عن كل واحد من القيود في فصل مستقل.
* (وينبغي التنبيه على أمور) *
(الأول) قد ظهر لك أن استفاده المفهوم من باب بناء العقلاء، ولا ريب انه قد استقر
بنائهم على حمل كلام المتكلم وحمل خصوصياته على كونها صادرة عنه بداعي غايتها
النوعية، وان الغاية النوعية للقيود هي دخالتها في المطلوب والمقصود الذي سيق لاجله
الكلام، وهذا البناء من العقلاء موجود قطعا، وانما الاشكال في حجيته، فما تراه في
كلام المتأخرين (من أن النزاع في حجية المفاهيم نزاع صغروي، إذ النزاع في أصل
ثبوته لا في حجيته) فاسد على ما ذكرناه من المبنى، ولذلك ترى القدماء كانوا ينازعون في
حجية المفاهيم لا في أصل ثبوتها (نعم) بناء على ما أسسه المتأخرون في باب المفاهيم من ارجاعها
إلى الدلالات اللفظية الالتزامية كما قالوا في مفهوم الشرط مثلا: انه ثابت بناء على استفادة
العلية المنحصرة من الشرط، يكون النزاع صغرويا كما أفادوه ولكن هذا الأساس ينهدم
بما ذكرنا.
(الامر الثاني) مفهوم الموافقة بعكس مفهوم المخالفة، فكما أن العقلاء يحكمون
في بعض الموارد بدخالة الخصوصية المذكورة في الكلام حذرا من حمل كلام الغير
على اللغوية، فكذلك يحكمون في بعض الموارد بعدم دخالة الخصوصية وشمول الحكم
للأعم من واجدها، وليس مفهوم الموافقة الا عبارة عن القاء الخصوصية والحكم بعدم
دخالتها، سواء وجد في البين أولوية كما في النهى عن آلاف الذي يفهم منه حرمة الضرب
266

مثلا أم لم توجد كما إذا سئل الإمام عليه السلام عن حكم الرجل الشاك مثلا فأجاب، فان العرف
يلقى خصوصية الرجولية ويحكم بعدم دخالتها في الحكم، وليس مفهوم الموافقة منحصرا
في ما إذا كان الفرع أولى من الأصل وان كان يوهمه بعض الكلمات، ولذلك ترى في
كلام بعض القدماء الأقوال في حجيته ثلثة، ثالثها التفصيل بين صورة الأولوية وبين غيرها.
(الامر الثالث) مفهوم المخالفة عند المتأخرين ينتج انتفاء الحكم عند انتفاء القيد،
واما على ما أسسناه فلا يفيد ذلك، إذ قد عرفت أن ثبوته عندنا من باب بناء العقلاء، وغاية ما
يحكم به العقلاء في مثل قوله: (الماء إذا بلغ قدر كر لم ينجسه شئ) انما هو دخالة
الكرية في الحكم بعدم التنجس وعدم كون ذات الماء تمام الموضوع له (بتقريب) انه لو
كان ثابتا لذاته مع قطع النظر عن تخصصه بخصوصية الكرية لكان ذكرها لغوا، واما كون
هذه الخصوصية دخيلة ليس إلا بمعنى عدم جواز ان يخلفها خصوصية أخرى مثل الجريان
والمطرية ونحوهما فلا يحكم به العقلاء فان مبنى حكمهم هو الفرار من محذور اللغوية،
ولا يخفى ان كون قيد الكرية ذا فائدة وعدم كونه لغوا يتوقف على عدم كون ذات الماء
بما هي هي تمام الموضوع، لا على كون الكرية علة تامة منحصرة لعدم التنجس بحيث لا
يخلفها مثل الجريان والمطرية، فهذه الرواية كافية في رد مثل ابن أبي عقيل القائل بعدم
انفعال الماء مطلقا، ولا تدل على عدم جواز ان يخلف قيد الكرية قيد آخر، فإنه من الممكن
أن لا يكون الحكم ثابتا لذات الموضوع بما هي هي بل يكون لخصوصية أخرى دخالة
في الحكم، ولكن هذه الخصوصية قد تكون منحصرة وقد تكون متعددة يكفى انضمام كل منها
إلى ذات الموضوع في ثبوت الحكم كما في ما نحن فيه، فان انضمام كل واحدة من الكرية
والمطرية والجريان مثلا إلى حيثية المائية يكفى في الحكم بعدم التنجس.
(وبما ذكرنا) ينهدم أساس المفهوم بمعنى الانتفاء عند الانتفاء سواء كان القيد المذكور
في الكلام شرطا أو وصفا أو غيرهما.
وهذا الذي ذكرناه هو مراد السيد " قده " حيث قال ما حاصله: ان قوله (تعالى)
فاستشهدوا شهيدين من رجالكم يدل على توقف قبول شهادة الرجل على انضمام شاهد
آخر، ثم دل دليل آخر على أن الامرأتين أيضا قد تقومان مقام الرجل وهكذا، إلى
267

آخر ما ذكره " قده " في بيان عدم حجية المفهوم، فإنه (قده) يسلم دخالة الشرط المذكور
في الحكم، وانما ينكر دلالته على الانتفاء عند الانتفاء، فكلامه " قده " جيد على ما ذكرناه
وإن لم يعتن به المتأخرون وجعلوه واضح الفساد.
(نعم) يمكن ان يستفاد الانتفاء عند الانتفاء في بعض الموارد كما إذا كان المولى في مقام
بيان جميع ما يمكن أن يكون دخيلا في الحكم، و (ح) فمثل مفهوم اللقب أيضا حجة فضلا
عن الشرط ونحوه
(وقد تلخص مما ذكرنا) ان ذكر القيد الزائد (أي قيد كان) يكفى في نفى كون الحيثية
المقيدة به تمام الموضوع ولا يكفى بنفسه للدلالة على الانتفاء عند الانتفاء.
(الرابع) القضية الشرطية على قسمين: (الأول) ما كان مقدمها بمنزلة الموضوع و
تاليها بمنزلة المحمول فكأنها قضية حملية ذكرت بصورة الشرطية،
وذلك كقول الطبيب مثلا للمريض: ان شربت الدواء الفلاني انقطع مرضك، فإنه بمنزلة
أن يقول شرب الدواء الفلاني قاطع لمرضك، وكقول المنجم: ان كان زحل في الدرجة الكذائية
رخصت الأسعار مثلا ونحو ذلك، وهذا القسم من الشرطيات التي مفادها مفاد الحمليات لا مفهوم
لها، إذ الشرط بمنزلة الموضوع والجزاء بمنزلة المحمول فلا قيد زائد حتى يستفاد منه المفهوم.
(القسم الثاني) من الشرطيات المستعملة ما كان المقصود فيها اثبات محمول
التالي لموضوعه ويكون المقدم بمنزلة القيد الزائد الخارج من الثابت والمثبت له كقوله:
الماء إذا بلغ قدر كر لم ينجسه شئ، فان محط النظر في هذه القضية بيان حكم
الماء من النجاسة أو الطهارة، فقوله: إذا بلغ قدر كر بمنزلة القيد الزائد، وهذا القسم من
الشرطيات يستفاد منها المفهوم، إذ يجب ان يفرض للقيد الزائد فائدة، والفائدة النوعية
للقيد كما عرفت انما هو الدخالة في موضوع الحكم فتدبر. هذا ما عندنا في بيان ما هو
الملاك في المفاهيم.
(واما المتأخرون) فذهب كل منهم في بيانها مذهبا ولم يستوفوا حقها.
(قال بعض أعاظم العصر ما حاصله): " ان المدلول الالتزامي للكلام ان كان من اللوازم
البينة بالمعنى الأخص سميناه بالمفهوم، وان كان من اللوازم البينة بالمعنى الأعم سميناه
268

بالمدلول السياقي، وان كان من اللوازم الغير البينة كان مدلولا التزاميا فقط، ولا يسمى
باسم آخر. " ولازم كلامه (قده) ثبوت الواسطة بين المنطوق والمفهوم، فان المدلول
السياقي واللوازم الغير البينة خارجتان (بنظره) منهما، واما بناء على ما ذكرناه فلا يثبت
الواسطة، فان المداليل الالتزامية بينة كانت أو غير بينة داخلة عندنا في المنطوق كما عرفت.
ولعل ما ذكره في الكفاية في باب المفاهيم امتن ما ذكره المتأخرون فلنشر إليه،
قال " قده " في تعريف المفهوم: " انه عبارة عن حكم انشائي أو اخباري تستتبعه خصوصية
المعنى الذي أريد من اللفظ بتلك الخصوصية. "
(أقول): وفيه نظر إذ الخصوصية ان كانت مما دل عليه اللفظ كانت داخلة في المعنى
فاستتباع الخصوصية للمفهوم عبارة أخرى عن استتباع نفس المعنى له، وهو عبارة أخرى
عن الدلالة الالتزامية، فيبقى السؤال عن وجه تعبيره " قده " عن الدلالة الالتزامية بهذا
التعبير، وإن لم تكن الخصوصية مما دل عليه اللفظ ولم تكن داخلة في المعنى فيبقى
السؤال عن وجه تخصص المعنى بها مع عدم دلالة اللفظ عليها، (مثلا) في قوله: (ان جاءك
زيد فأكرمه) لفظة ان تدل على العلية، ثم إن خصوصية الانحصار ان كانت من لوازم هذا
المعنى فالدلالة على المفهوم أعني الانتفاء عند الانتفاء دلالة التزامية منطوقية، وإن لم تكن
من لوازمه فأي جهة لتخصصه بها.
(ثم شرع قده) في بيان مفهوم الشرط فقال إن ثبوته يتوقف على دلالة الجملة الشرطية
على اللزوم وترتب الجزاء على الشرط بنحو العلية المنحصرة.
(ثم قال): ان دلالتها على أصل اللزوم مسلمة، واما الدلالة على الترتب فضلا عن
العلية والانحصار فللمنع عنه مجال، (ثم ذكر) للدلالة على العلية المنحصرة خمسة
تقاريب ورد جميعها فاختار عدم ثبوت المفهوم في الجمل الشرطية.
والتقاريب الخمسة عبارة عن دعوى التبادر، ودعوى الانصراف، ودعوى جريان
مقدمات الحكمة بثلثة انحاء، وقد ذكرنا حين ما نحضر درسه " قده " تقريبا سادسا،
(وحاصله) ان قوله: (ان جاءك زيد فأكرمه) ظاهر في كون خصوصية المجئ دخيلة في ثبوت
الجزاء فيكون لازم ذلك كون المجئ علة منحصرة، إذ لو كان هنا علة أخرى كان العلة هو الجامع
269

بينهما لا خصوص كل منهما لعدم امكان صدور الواحد (بما هو واحد) عن الاثنين (بما هما اثنان)
(وبعبارة أخرى) التعليق على المجئ ظاهر في كون المجئ بما هو مجئ بخصوصه
علة لا بما أنه مصداق للجامع بينه وبين امر آخر، ولازم ذلك هو الانحصار
(وقد أجاب " قده " عن ذلك) بان عدم صدور الواحد عن الاثنين وكون العلة
بحسب الحقيقة عبارة عن الجامع امر يقتضيه الدقة العقلية والعرف غافل عنه، والمرجع
لفهم المعاني هو العرف (1)
(أقول): يمكن ان يقرب ما ذكرناه هنا بالتقريب الذي ذكرناه في أصل المفهوم
(بان يقال): ان بناء العرف والعقلاء على حمل كلام الغير وجميع خصوصياته على
كونها صادرة للفائدة حذرا من اللغوية، فإذا علق الحكم على المجئ فكما يفهم العرف
من أصل تعليق الحكم على القيد كون القيد دخيلا (بتقريب) انه لو لم يكن دخيلا لما ذكره
المولى، فكذلك يفهم من خصوصية القيد أيضا كون الخصوصية أيضا دخيلة والا لما صح
ذكره بخصوصه بل وجب ذكر الجامع بين الواجد لها والواجد لغيرها من الخصوصيات،
وبهذا البيان يستحكم أساس المفهوم بمعنى الانتفاء عند الانتفاء وان استشكلنا فيه أولا فتدبر.
(وقد تلخص مما ذكرناه في باب المفاهيم) ان مسلك القدماء فيها يخالف مسلك
المتأخرين، فالمتأخرون قد أسسوا بناء مفهوم الشرط مثلا على استفادة العلية المنحصرة،
واما القدماء فقد أسسوا بناء جميع المفاهيم على امر عقلائي وهو ظهور الفعل الصادر عن الغير (و
منه التكلم بالخصوصيات) في كونه صادرا عنه لغايته النوعية، والغاية النوعية للقيد هي الدخالة.
* (تذنيب) *
إذا قال: وقفت مالي على أولادي الفقراء أو ان كانوا فقرأ، فلا شبهة في عدم ثبوت الوقف

(1) لا يخفى ان دليل امتناع صدور الواحد عن الكثير لو جرى في هذه المقامات فلا يمكن
الجواب عنه بعدم فهم العرف، لعدم امكان الالتزام بالمحذور العقلي تمسكا بعدم فهم العرف،
اللهم الا ان ينكر ظهور هذا النحو من الخصوصية (التي لا يحتاج في بيانها إلى مؤنة زائدة) في
كونها دخيلة لعدم جريان دليل اللغوية بعد ما لم يكن بيان ذي الخصوصية أكثر مؤنة من
بيان الجامع. ح - ع
270

لغير الفقراء، ولكن ليس ذلك من جهة حجية المفهوم، بل من جهة أن الوقف قد أنشأ
بهذا اللفظ، وصار موجودا بنفس هذا الانشاء، والمفروض ان المنشأ به هو الوقف على
الفقراء خاصة فلا مجال لثبوته لغيرهم.
(توضيح ذلك) ان مفاد القضية الشرطية مثلا هو ثبوت محمول التالي لموضوعه
على تقدير ثبوت المقدم، (وبعبارة أخرى) ثبوت الحكم في التالي معلق على ثبوت المقدم،
ومقتضى دلالتها على المفهوم (على مذاق القوم) هو انتفاء ما هو المعلق عند انتفاء المعلق عليه،
فان ما يقتضيه التعليق هو انتفاء نفس ما علق على المقدم عند انتفاء المقدم لا انتفاء امر آخر
(ثم إن المعلق) ان كان مما يمكن تحققه عند انتفاء المعلق عليه أيضا جرى فيه النزاع
في حجية المفهوم وعدمها، واما إذا كان امرا لا يعقل تحققه عند انتفائه فلا مجال فيه للبحث
عن المفهوم، فان انتفائه (ح) عند انتفاء المعلق عليه عقلي لا يستند إلى ظهور الشرط في العلية
المنحصرة (كما هو مسلك المتأخرين في باب المفاهيم) أو إلى ظهور القيد في الدخالة
(كما نسبناه إلى قدماء أصحابنا) وان ناقشنا فيه أولا وفاقا للسيد بان الدخالة لا تستلزم
الانتفاء عند الانتفاء
(إذا عرفت هذا فنقول): ان المعلق ان كان له نحو تحقق وخارجية مع قطع النظر عن
هذا الكلام المشتمل على التعليق كان من القسم الأول فيجرى فيه النزاع، مثال ذلك
ما إذا كان الجزاء جملة خبرية حاكية لتحقق مضمونها في الخارج كما إذا قال المولى: ان
جاءك زيد يجب اكرامه، إذا لم يكن غرضه من هذا الكلام انشاء الوجوب فعلا بل كان
غرضه حكاية الوجوب الثابت في ظرفه بانشائه قبلا أو بعدا، فان المعلق على الشرط (ح) (أعني به
المحكى بالجملة الجزائية وهو الوجوب الثابت في ظرفه) يمكن أن يكون في متن الواقع
ثابتا لزيد الجائي فقط، ويمكن أن يكون ثابتا له ولغير الجائي بان يكون قد أنشأ لكليهما
فحينئذ يقع النزاع في أن التعليق على الشرط يدل على الانتفاء عند انتفائه أم لا.
(ومن هذا القبيل) الأوامر والنواهي الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام في
مقام بيان احكام الله (تعالى) فإنها كما حققناه في مبحث الأوامر ليست مولوية صادرة عنهم بقصد
انشاء الحكم، بداهة انهم لم يقصدوا بها اعمال المولوية بل صدرت عنهم للارشاد إلى
271

احكام الله الواقعية، نظير أوامر الفقيه عند الافتاء فهي حاكيات لاحكام الله الثابتة المنشئة
في متن الواقع، فوزانها وزان الجمل الخبرية.
(هذا كله) فيما إذا كان المعلق على الشرط موجودا متحققا في ظرفه مع قطع النظر عن
هذا الكلام.
واما إذا كان تحققه وخارجيته بنفس هذا الكلام المشتمل على التعليق بحيث لم يكن
له خارجية قبله ولا بعده بل كان هو آلة لايجاده وخارجيته كان من القسم الثاني، ولا
مجال فيه للبحث عن المفهوم بل ينتفى المعلق بانتفاء المعلق عليه عقلا، إذ المفروض ان
خارجيته بنفس هذا الكلام، والمفروض انه علق في هذا الكلام على الشرط فيكون المنشأ
شخص ما علق فينتفى بانتفائه عقلا، مثال ذلك جميع الانشاءات كقوله: وقفت على
أولادي ان كانوا فقراء، وقوله: ان جاءك زيد فأكرمه إذا كان الغرض انشاء الوقف أو الوجوب
بنفس هذا الكلام.
(وقد اتضح بما ذكرنا) ان ثبوت المفهوم في الجمل الانشائية المولوية محل اشكال، ولا
يختص الاشكال بباب الأوقاف والوصايا ونحوهما.
(نعم) قد عرفت أن الأوامر والنواهي الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة (ع) وزانها وزان
الجمل الخبرية فيثبت فيها المفهوم، هذا.
(واما المحقق الخراساني) فقال إن الأوامر والنواهي المولوية أيضا مشتملة على
المفهوم، وقال في بيان ذلك: " ان المفهوم هو انتفاء سنخ الحكم المعلق على الشرط عند
انتفائه لا انتفاء شخصه ضرورة انتفائه عقلا بانتفاء موضوعه ولو ببعض قيوده. "
والقول بكون النزاع في السنخ يستفاد من تقريرات بحث الشيخ (قده) أيضا، واستدل
على ذلك بأن انتفاء الشخص قطعي لا يقبل الانكار بعد ارتفاع الكلام الدال على الانشاء،
ومن لوازم تشخصه عدم سراية ذلك الحكم الثابت به إلى غيره.
(أقول): القول بكون المراد في باب المفاهيم انتفاء السنخ وان اشتهر بين المتأخرين
وأرسلوه إرسال المسلمات، ولكن لا نجد له معنى محصلا، لوضوح ان المتعلق في قولنا:
(ان جاءك زيد فأكرمه) مثلا هو الوجوب المحمول على اكرام زيد، والتعليق انما يدل
272

على انتفاء نفس المعلق عند انتفاء المعلق عليه كما عرفت، وما تفرضه سنخا ان كان متحدا
مع هذا المعلق موضوعا ومحمولا فهو شخصه لا سنخه، إذ لا تكرر في وجوب اكرام زيد
بما هو هو (1) وان كان مختلفا معه موضوعا أو محمولا كوجوب اكرام عمرو مثلا أو استحباب
اكرام زيد فلا معنى للنزاع في أن قوله: ان جاءك زيد يدل على انتفائه أو لا يدل فافهم.
(واما ما ذكره في التقريرات) من انتفاء الشخص بانتفاء العبارة (ففيه) ان المعلق على
الشرط ان كان جملة خبرية فالمعلق ثبوت النسبة في الخارج أعني المحكى، لا الحكاية،
والمحكى ثابت في ظرفه وان انتفى الحكاية بانتفاء اللفظ والعبارة، وان كان حكما
انشائيا يوجد بنفس هذا الكلام فهو وإن لم يكن من الحقائق المتأصلة الخارجية ولكنه
يبقى بعد فناء اللفظ أيضا في وعاء الاعتبار فيرى المكلف شخص الوجوب المنشأ
امرا باقيا يحركه نحو العمل ولا يفنى بفناء الانشاء والعبارة.

(1) (أقول): وجوب اكرام زيد على تقدير مجيئه يغاير وجوب اكرامه على تقدير عدم
المجئ بحسب التشخص مع اتحادهما موضوعا ومحمولا، ولا نعنى بالسنخ الا ذلك، والمعلق
على الشرط ليس هو الانشاء ولا المنشأ بقيد تعليقه على الشرط حتى يقال بانتفائه بانتفاء الشرط
عقلا ولا يكون معه مجال للبحث عن المفهوم، بل المعلق على الشرط هو ذات المنشأ وهو
وجوب اكرام زيد، وهذا المعنى كما يمكن ان يتحقق على تقدير تحقق الشرط يمكن ان
يتحقق على تقدير عدمه بأن يوجد بانشاء آخر، ففائدة المفهوم نفى تحققه (على تقدير عدم
الشرط) بانشاء آخر " وبعبارة أخرى " خارجية وجوب اكرام زيد وان كان بالانشاء ولكنه
يمكن ان يوجد له فردان بانشائين يكون المنشأ في أحدهما وجوب الاكرام على تقدير المجئ
وفي الاخر وجوب الاكرام على تقدير عدم المجئ، والتعليق وان كان يفيد انتفاء نفس المعلق
(بانتفاء المعلق عليه) لا انتفاء شئ آخر، ولكن المعلق ليس هذا الانشاء ولا المنشأ
بقيد التعليق بل ذات المنشأ وهو وجوب الاكرام الذي يمكن ان يتحقق عند انتفاء
الشرط أيضا بانشاء آخر.
(فالظاهر) ان المفهوم " على القول به " يثبت في الانشائيات المولوية أيضا
(نعم) في مثل الأوقاف والوصايا لا يجرى المفهوم لعدم قابلية مال واحد
الا لوقف واحد. ح - ع
273

* (فصل) *
إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء كما إذا قال: إذا خفى الأذان فقصر، وقال أيضا: إذا
خفى الجدران فقصر فبناء على القول بالمفهوم يكون في المسألة أربعة وجوه.
(الأول) انتفاء المفهوم (ح)، فيكون كل من الشرطين سببا مستقلا للجزاء ولا ينفيان الثالث.
" الثاني " ثبوت المفهوم في كليهما وتقييد مفهوم كل منهما بمنطوق الاخر، فكل
منهما سبب مستقل أيضا ولكن يترتب عليهما نفى الثالث.
(الثالث) تقييد كل من المنطوقين بمنطوق الاخر فيكون السبب مجموعهما ولا يكفى
أحدهما في حصول المسبب فإذا انتفى المجموع من حيث المجموع لم يتحقق الجزاء.
(الرابع) كون السبب هو الجامع بينهما بمعنى عدم دخالة الخصوصية في واحد منهما
بل يكون سببية كل منهما من جهة كونه مصداقا لهذا الجامع.
(ثم إنه) ليس لاحد ان يلتزم في المثال المذكور بالوجه الأول إذ قوله: إذ اخفى الأذان فقصر و
قوله: إذا خفى الجدران فقصر قد وردا في مقام تحديد ما يتحقق به القصر، وظهور الشرط
الواقع في مقام التحديد في المفهوم مما لا يكاد ينكر فتدبر (1).
" واما الوجه الثاني " ففيه ان المفهوم (بناء على ثبوته) امر تبعي يستفاد من فحوى
الكلام، وليس له ظهور اطلاقي نظير ظهورات الألفاظ حتى يخصص أو يقيد.
(فيبقى الوجهان الأخيران) والأقرب أخيرهما في المثال، إذ الظاهران المعتبر في
تحقق القصر هو البعد عن البلد عرفا بحيث يخفى عليه آثاره ويتحقق هذا بطريقين:
(أحدهما) طريق يدرك بالبصر، والاخر طريق يدرك بالسمع، فهما أمارتان لامر
يكون هو المعيار في ثبوت القصر وهو تحقق البعد المخصوص عن البلد.

(1) بناء على عدم موضوعية لخفاء الأذان ولا لخفاء الجدران وكونهما امارتين لحد
واقعي يجب عنده القصر لا يرد هذا الاشكال، إذ من الممكن أن يكون لشئ واحد عشر امارات
مثلا فيقتصر في مقام الذكر على أحدها أو الاثنين منها ولا مفهوم في البين. ح - ع
274

* (فصل) *
إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء كقوله: إذ بلت فتوضأ وقوله أيضا: إذا نمت فتوضأ (1)
فهل يتداخل السببان: بمعنى انهما عند اجتماعهما يستعقبان وجوبا واحدا متعلقا بطبيعة
الوضوء، أو لا يتداخلان بل يستعقب كل منهما وجوبا مستقلا، وعلى الثاني فهل يتداخل
المسببان أعني الوجوبين في مقام الامتثال بمعنى كفاية الاتيان بالطبيعة مرة واحدة لامتثالهما
أولا يتداخلان؟ وهذا ما اشتهر بينهم من أن الأصل تداخل الأسباب أو المسببات أو عدم
التداخل، ومرادهم بالأصل ما يقتضيه القاعدة لولا ظهور الخلاف، فاختار جماعة منهم
المحقق الخونساري التداخل، واختار المشهور عدمه، وفصل الحلي بين اتحاد جنس
الشرط وتعدده.
(وليعلم) ان المسألة غير مبتنية على دلالة القضية على المفهوم وعدمها، فان النزاع
هما انما هو في تداخل المنطوقين، وهذا بخلاف المسألة السابقة فإنها كانت مبتنية على
ثبوت المفهوم، ولا ربط لاحدى المسألتين بالأخرى، فتفريع شيخنا الاستاد صاحب
الكفاية النزاع في هذه المسألة على عدم اختيار الوجه الثالث في المسألة السابقة في
غير محله (2).
(وكيف كان فنقول): استدل العلامة في المختلف على عدم التداخل بأنه ان توارد السببان
أو تعاقبا فاما ان يؤثرا في مسببين، أو في مسبب واحد، أو لا يؤثران أصلا، أو يؤثر أحدهما دون الاخر،

(1) يمكن المناقشة في المثال بان وجوب الوضوء وجوب مقدمي للصلاة وغيرها من الغايات
فلا يجب الا وضوء واحد قطعا وليس واجبا نفسيا عند حصول سببه. ح - ع
(2) لا يخفى صحة ما ذكره المحقق الخراساني من عدم المورد لهذا النزاع بعد اختيار
الوجه الثالث في المسألة السابقة إذ بعد تقييد المنطوقين وارجاع الشرطين إلى شرط واحد
مركب لا يبقى مورد للبحث عن التداخل " ثم إنه يمكن ان يقال " في الفرق بين المسألتين ان
الأولى لفظية ينازع فيها في ثبوت المفهوم وعدمه للقضية الشرطية، والثاني عقلية حيث يبحث
فيها عن حكم توارد السببين وان ثبت سببيتهما بغير اللفظ أيضا فتدبر. ح - ع
275

والثلاثة الأخيرة كلها باطلة فتعين الأول، وجه بطلانها ان الأول منها ينافي تمامية كل من
السببين، والثاني ينافي أصل السببية، والثالث ترجيح بلا مرجح (انتهى).
" ويمكن ان يناقش فيه " بان لنا ان نختار الوجه الثاني ونقول باشتراكهما في التأثير
نظير توارد العلل التامة العقلية، أو نختار الوجه الرابع ونقول في صورة التعاقب باستناد
الأثر إلى أولهما حيث إنه إذا أثر لم يبق محل لتأثير الثاني.
(وبالجملة) هذا الاستدلال لا يغنى عن جوع. (واستدل) الشيخ الأنصاري " قده " على
عدم التداخل بما ملخصه بتوضيح منا ان الظاهر من الجملة الشرطية كون شرطها علة تامة
فعلية لجزائها مطلقا سواء وجد حينه أو بعده امر آخر أم لا، ومقتضى ذلك تعدد المسبب
(فان قلت): متعلق الوجوبين في الجزائين طبيعة واحدة وهي التوضأ مثلا، والظاهر
كونها باطلاقها متعلقة للامر، والطبيعة الواحدة التي لم يلحظ فيها جهة الكثرة يستحيل ان
يتعلق بها وجوبان مستقلان إذ كثرة التكليف اما بكثرة المكلف أو المكلف أو المكلف به، فان
صرف الشئ لا يتثنى ولا يتكرر، وانما يتكرر بسبب ماله إضافة إليه، والتكليف ثلث
إضافات، (كما عرفت في محله) والمفروض فيما نحن فيه وحدة المكلف والمكلف و
المكلف به فيستحيل كثرة التكليف مع وحدتها، (وبالجملة) مقتضى اطلاق
المتعلق تداخل الأسباب ووحدة التكليف.
(قلت): اطلاق المتعلق انما هو بمقدمات الحكمة، ومنها عدم البيان، وظهور الشرط
في السببية التامة يكفى بيانا لرفع اليد عن اطلاق المتعلق (وبعبارة أخرى) ظهور كل
من الشرطين في كونه سببا مستقلا فعليا يكون واردا على اطلاق المتعلق، ويصير دليلا
على عدم تعلق الوجوب بنفس الطبيعة، بل يكون متعلقا في احدى القضيتين بفرد منها،
وفي الأخرى بفرد آخر، فظهور الشرط دليل على تقييد المتعلق (1) (انتهى).

(1) (فان قلت): ظهور كل من الشرطين في السببية التامة الفعلية أيضا بالاطلاق، فان
مقتضى الاطلاق سببيته بهذا النحو، سواء وجد معه أو بعده شرط آخر أم لا، فلم يحكم اطلاق
الشرط على اطلاق المتعلق ولا يعكس؟ (قلت): إذا قال الشارع إذا بلت فتوضأ مثلا فللجملة
الشرطية المذكورة ظهوران: (أحدهما) ظهور اطلاقي وهو ظهورها في سببية البول
للوجوب بالسببية التامة الفعلية سواء وجد معه النوم مثلا أم لا.
(وثانيهما) ظهور عرفي غير مستند إلى الاطلاق وهو ظهور قوله: " إذا بلت " في كون كل
فرد من البول سببا مستقلا لوجوب الوضوء في قبال الأبوال الاخر، وهذا ظهور عرفي يفهمه
العقلاء عند ملاحظتهم الأسباب العقلية والعادية الخارجية، حيث يكون كل فرد منها سببا لوجود فرد
من المسبب غير ما وجد بسبب الفرد الاخر، وليس هذا الظهور مستندا إلى الاطلاق حتى
يعارض باطلاق المتعلق، فهو القرينة على تقييد المتعلق، وبذلك يفرق بين الأوامر المعلقة
على الأسباب وبين الأوامر الابتدائية المتكررة، حيث لا يوجد فيها قرينة لتقييد المتعلق، و
بذلك يستشكل على تقديم التأسيس فيها على التأكيد. وجه الاشكال ان التأسيس: يستلزم تقييد
المتعلق والأصل عدمه. هذا ما يستفاد من كلام الشيخ " قده " عند جوابه عما منع به الفاضل
النراقي للمقدمة الثانية من المقدمات الثلث التي بنى عليها أساس استدلال العلامة، ولكن
يظهر منه عند عنوانه لمسألة التداخل في مبحث اجتماع الامر والنهى ان ظهور قوله إذا بلت
في كون كل فرد من افراد البول سببا مستقلا أيضا ظهور اطلاقي فراجع التقريرات
ثم إن ما ذكر من الظهور العرفي لا يوجد فيما إذا تعدد الشرط واختلفا في
الجنس كالبول والنوم مثلا بل الثابت " ح " هو الظهور الاطلاقي كما صرح به، فيعارض " ح "
ظهور الشرط لظهور المتعلق، ولا مرجح لأحدهما، اللهم الا ان ينكر كون ظهور الشرط
في السببية التامة الفعلية ظهورا اطلاقيا وهو كما ترى. كما أن اشكال سيدنا الاستاد " مد ظله "
بعدم ناظرية أحد الشرطين إلى الاخر أيضا يجرى في مختلفي الجنس دون متحده لتسليمه امكان
الامر بفردين من طبيعة واحد بخطاب واحد ثبوتا وان كان وجوب كل منهما استقلاليا فإذا
أمكن ذلك ثبوتا حكمنا بتحققه لاستدعاء كل سبب مستقل مسببا مستقلا، وعلي هذا فمقتضى
كلام الشيخ " قده " وكلام السيد الاستاد " مد ظله العالي " عدم التداخل في متحدي الجنس
دون غيره عكس تفصيل الحلي " قده ". ح - ع
276

(ويقرب من ذلك) ما ذكره في الكفاية، إلا أنه قال (ما حاصله): ان ظاهر الجملة
الشرطية هو الحدوث عند الحدوث، ومقتضى ذلك عدم التداخل، إذ على التداخل يلزم
(على فرض تعاقب الشروط) رفع اليد عن ظهور ما سوى الشرط الأول والقول بدلالتها على
مطلق الثبوت عند الثبوت. (ثم تعرض هو " قده ") لما تعرض له الشيخ: من كون ظهور الشرط
بيانا لرفع اليد عن اطلاق المتعلق.
(أقول): تقريب الشيخ " ره " أبعد عن الاشكال من تقريبه " قده " فان تقريبه يجرى
في الشروط المتواردة والمتعاقبة معا، بخلاف تقريب صاحب الكفاية فإنه لا يجرى في الشروط
المتواردة في زمان واحد، فان ظهور الشرطين في الحدوث عند الحدوث (ح) محفوظ وان
قلنا بالتداخل.
277

" ثم اعلم " ان كلمات الشيخ (على ما في تقريرات بحثه) مضطربة، فمن بعضها يستفاد
انه جعل المسبب في المثال المذكور عبارة عن الوجوب، ومن بعضها يستفاد انه جعله
عبارة عن متعلقه أعني التوضأ، ولا يخفى بطلان الثاني. (1)
ومن ذلك يظهر أيضا بطلان ما عن بعض أعاظم العصر: من أن كلا من السببين يقتضى
وضوء فيتعدد، (وجه البطلان) ان السبب يقتضى وجوب الوضوء لا نفسه فتأمل. هذه
كلماتهم في المقام.
(ونحن نقول): ان ما ذكره الشيخ وصاحب الكفاية: من جعل ظهور الشرطين دليلا
على تقييد المتعلق مما لا ينحل به اشكال المسألة فان عمدة الاشكال انما هي في كيفية
تقييد المتعلق وما يقيد به.
(توضيح ذلك) انه لا اشكال في امكان ان يتعلق بفردين من طبيعة واحدة وجوب
واحد بنحو الارتباط: وكذا لا اشكال في امكان ان يتعلق بهما وجوبان مستقلان في عرض
واحد بخطاب واحد: بان يقول مثلا: (توضأ وضوئين) ويصرح باستقلال كل من الوجوبين
بحيث يكون لكل منهما على حياله إطاعة وعصيان، ولا يخفى ان متعلق الوجوبين (ح)
لا يتمايزان، فلا تمايز في مقام الامتثال أيضا: بمعنى ان العبدان أتى بوضوء واحد فقد امتثل
واحدا من الامرين من دون ان يتميز الامر الممتثل من غيره واقعا، ولا خصوصية لأحدهما
حتى يقصد حين الامتثال امتثال الوجوب المتخصص بالخصوصية الكذائية.
(وكيف كان) فالامر بفردين أو افراد من طبيعة واحدة على نحو يستقل كل منهما
بوجوب على حدة أيضا مما لا اشكال في صحته إذا كان الامر بالفردين أو الافراد بخطاب واحد.
" واما إذا كان هنا " خطابان أو أكثر كما إذا ورد في خطاب (إذا بلت فتوضأ)، وفى
خطاب آخر (إذا نمت فتوضأ)، فاما ان يقال: ان متعلق الوجوب في كليهما نفس الحيثية المطلقة
أعني طبيعة الوضوء واما ان يقال: إنه في كليهما مقيد، واما ان يقال: إنه مطلق في أحدهما
ومقيد في الاخر، اما الأول فقد عرفت استحالته على فرض تعدد الوجوب إذ الفرض

(1) يستفاد من كلامه " قده " لجعل المسبب نفس الوضوء توجيه متين وقد ذكر في الدرر
أيضا فراجع. ح - ع
278

وحدة المكلف والمكلف والمكلف بها، فلا يبقى ملاك لتعدد الوجوب وتكثره، وصرف
الشئ لا يتكرر، فلا بد للقائل بعدم التداخل من الالتزام بأحد الأخيرين، و (ح) فيسئل
عما يقيد به الطبيعة في أحدهما أو كليهما، وليس لك ان تقول: ان متعلق الوجوب في
أحدهما فرد من الوضوء وفي الاخر فرد آخر منه، فان ذلك انما يصح إذا كان كل من الخطابين
ناظرا إلى الاخر بان يقول المولى مثلا: إذا بلت فتوضأ وضوء غير ما يجب عليك بسبب
النوم، ثم يقول: إذا نمت فتوضأ وضوء غير ما وجب عليك بسبب البول، بحيث يكون
الغيرية مأخوذة في متعلق أحدهما أو كليهما، والالتزام بذلك مشكل، بداهة عدم كون واحد
من الخطابين في الأسباب المتعددة ناظرا إلى الاخر.
(والحاصل) ان نظر القوم إلى بيان ما يكون قرينة على تقييد المتعلق، مع أن عمدة
الاشكال انما هو في قابلية المتعلق للتقييد إذ لا مقيد في البين بالبداهة الا ما يتوهم من قيد
الغيرية، بان يكون المتعلق للوجوب في كل من الخطابين عبارة عن طبيعة الوضوء المقيدة
بكونها غير ما هو المتعلق في الخطاب الاخر، وذلك يستلزم نظر كل منهما إلى الاخر، ولا
يمكن الالتزام به.
" وبالجملة " العمدة تصوير المقيد لاحد من المتعلقين أو لكليهما حتى يتعدد بذلك
المتعلق ويمكن القول بعدم التداخل، فان أمكن تصويره بدون أن يكون أحدهما ناظرا
إلى الاخر وصلت النوبة إلى مقام الاستظهار وبيان ان ظهور الشرط اقدم أو ظهور المتعلق
واطلاقه فتدبر.
" فصل "
لا اشكال في أن المفهوم (بناء على ثبوته) عبارة عن انتفاء عين الحكم الذي ثبت لموضوع
خاص عند انتفاء المعلق عليه.
" وبعبارة أوضح " لا بد فيه من أن يطابق المنطوق في جميع القيود والخصوصيات
المأخوذة في الموضوع والمحمول والمعلق عليه، فمفهوم (ان جاءك زيد يوم الجمعة
279

فأكرمه)، قولنا: إن لم يجئك زيد يوم الجمعة فلا يجب اكرامه، ومفهوم (ان جاءك زيد
فأكرمه يوم الجمعة) قولنا إن لم يجئك فلا يجب اكرامه يوم الجمعة، وهكذا، وهذا
مما لا اشكال فيه، انما الاشكال فيما إذا كان الموضوع في الجزاء عاما استغراقيا سواء كان
الحكم فيه ثبوتيا: بان كانت القضية موجبة كلية، أو سلبيا: بان كانت سالبة كلية، فوقع
النزاع فيه بين صاحب الحاشية (على المعالم) الشيخ محمد تقي الأصفهاني وبين شيخنا المرتضى
(قدس سرهما) فقال صاحب الحاشية: ان المفهوم فيه على طبق النقيض المنطقي، فمفهوم
الايجاب الكلى السلب الجزئي وسلب العموم، ومفهوم السلب الكلى الايجاب الجزئي.
(وقال الشيخ): ان مفهوم الايجاب الكلى السلب الكلى وبالعكس، وقد جرى النزاع
بينهما في مفهوم قوله عليه السلام: الماء إذا بلغ قدر كر لم ينجسه شئ، فقال صاحب الحاشية:
ان مفهومه ان الماء إذا لم يكن بقدر الكر ليس بان لا ينجسه شئ من النجاسات بل ينجسه
شئ منها، وهذا لا ينافي عدم تنجسه بملاقاة بعض الأشياء.
(ومقتضى كلام الشيخ) تنجسه بملاقاة أي شئ لاقاه. (ولا يخفى) ان نزاعهما انما
هو في كلمة الشئ الواقعة بعد النفي المفيد للعموم، واما كلمة الماء فلا نزاع فيها فان عمومها
محفوظة في المفهوم أيضا بلا ريب، هذا. (والظاهر) ان الحق في المسألة مع صاحب
الحاشية، فإنه المتبادر من موارد استعمال هذه الجمل فلا يستفاد من قوله: الماء إذا بلغ
(الخ) الا ان الكرية تكون بحيث توجد في الماء قوة لا يقاومها ولا يؤثر مع تحققها شئ
من النجاسات، فمفهومه انه إذا لم يكن بقدر الكر ليس بهذه المثابة من القوة الدافعة
لجميع النجاسات، فلا ينافي ذلك عدم تنجسه (ح) أيضا بملاقاة بعض النجاسات.
(فان قلت): لو كان استفادة المفهوم مبتنية على استفادة العلية المنحصرة من الشرط
(كما هو مسلك المتأخرين) لزم تطابق المفهوم والمنطوق في الشمول أيضا، فان الحكم
في الجزاء ينحل إلى احكام عديدة كما هو مقتضى العموم الاستغراقي، والمفروض انحصار
علة الجميع في الشرط فبانتفائه ينتفى علة جميع هذه الأحكام فتنقلب بأجمعها من الايجاب
إلى السلب أو بالعكس.
(قلت) علية الشرط بنحو الانحصار انما هي بالنسبة إلى حكم الجميع لا كل فرد فرد
280

بالاستقلال، فعلة الموجبة الكلية مثلا تنحصر في الشرط، وهذا لا ينافي امكان استناد الحكم
في بعض الافراد إلى علة أخرى عند عدم ثبوت الحكم للجميع.
" فان قلت ": الحكم في العام الاستغراقي ليس ثابتا للمجموع بل لكل فرد فرد،
فان العام يلحظ فيه مرآتا للحاظ الافراد التي هي الموضوعات حقيقة، ولا دخالة لوصف
العموم والاجتماع.
(قلت): لا نسلم عدم لحاظ وصف العموم في مقام الحكم بل الحكم حكم واحد، و
موضوعه امر وحداني وهو العام، وليس هنا موضات متعددة واحكام متكثرة
مستقلة، (1) ولذا قالوا ان نقيض السلب الكلى الايجاب الجزئي ونقيض الايجاب الكلى
السلب الجزئي فافهم.

(1) أقول: ربما يقال في جواب الاشكال: ان العام وان لوحظ مرآتا للحاظ الافراد،
ولكنه لا منافاة بين لحاظه كذلك في مقام الحكم وبين لحاظه امرا وحدانيا في مقام التعليق،
فالحكم ثابت للافراد، والتعليق انما هو بلحاظ المجموع (وبالجملة) التفكيك بين مقام
الموضوعية للحكم وبين مقام التعليق ممكن ثبوتا فيكون التبادر دليلا عليه في مقام
الاثبات كما يظهر ذلك بالتأمل في مفهوم قولهم: لو كان معك الأمير فلا تخف أحدا ونحو
ذلك من الأمثلة " انتهى ".
(ويرد عليه) ان المعلق ليس هو الموضوع حتى يقال بلحاظه في مقام التعليق امرا واحديا
بل المعلق في جميع التعليقات هو الحكم الثابت للموضوع، والفرض انه يسلم انحلال الحكم
وكثرته، ولم يصدر عن المولى حكمان أحدهما على الافراد والثاني على العام بما هو عام
حتى يقال بكون التعليق بلحاظ الثاني فافهم.
(فالحق) في الجواب ما ذكره سيدنا الاستاد العلامة " مد ظله العالي " إذ ما اشتهر بينهم من أن
العام في العمومات الاستغراقية ليس موضوعا حقيقة بل يكون مرآتا للحاظ الافراد (التي
هي الموضوعات حقيقة) كلام خال عن التحصيل، لاستلزامه صدور احكام غير متناهية وتحقق
إرادات غير متناهية أو غير محصورة فيما إذا حكم المولى بنحو القضية المحصورة، أو صدور
اخبارات غير محصورة فيما إذا أخبر كذلك، ويلزم عليه أيضا عدم كون الموجبة الجزئية
نقضيا للسالبة الكلية وبالعكس وهو كما ترى، وقد حقق في محله ان القضية المحصورة
برزخ بين الطبيعية وبين القضايا الشخصية، وان الحكم فيها يصدر بنحو الوحدة على موضوع
وحداني من غير فرق بين الحكم الانشائي والأخباري والتكثر يحصل بتحليل العقل.
281

* (فصل) *
لا يخفى ان القيود في الدلالة على الدخالة في الحكم وثبوت المفهوم مختلفة حتى
كاد دلالة بعضها (من شدة الظهور) تدخل في الدلالة المنطوقية، ولذا اختلفوا في دلالة
الغاية والاستثناء (خصوصا في الكلام المنفى) في أنها منطوقية أو مفهومية، فمن قال إنها
منطوقية استدل عليه بان أداة الغاية وضعت لتعيين انتهاء الحكم وبيان عدم محكومية ما بعدها
بما حكم على ما قبلها، وان أداة الاستثناء وضعت لبيان مخالفة ما بعدها لما قبلها في الحكم،
ومن أنكر كونها منطوقية بل أنكر دلالتهما رأسا قال: انهما لا تدلان الأعلى ان المولى
يكون فعلا بصدد بيان الحكم وجعله لما قبلهما فقط، كما أن التقييد بهما في الاخبارات
أيضا لا يدل على حكم المخبر بمخالفة ما بعدهما لما قبلهما، بل يدل على أن المحكى فعلا
هو حكم ما قبلهما، وهذا يجامع كون ما بعدهما أيضا محكوما بهذا الحكم، غاية الامر
ان المخبر شاك في حكم ذلك أو لا يرى صلاحا في إظهاره، ونحو ذلك من الاحتمالات.
" وبعبارة أخرى " يمكن أن يكون التقييد بهما من جهة إرادة تحديد الموضوع
الذي أريد فعلا الاخبار بحكمه أو انشاء الحكم له.
* (تنبيه) *
قال في الكفاية ما حاصله انه ربما يستشكل في دلالة كلمة الاخلاص على التوحيد (بتقريب)
ان خبر " لا " محذوف وهو اما (موجود) أو (ممكن)، وأيا ما كان فلا دلالة لها على المقصود
أعني نفى الامكان عن الشريك واثبات الوجود له (تعالى) (اما على الأول) فلانها وان دلت على
اثبات الوجود له تعالى ولكنها لا تنفى امكان الشريك بل تنفى وجوده فقط (واما على الثاني)
فلانها تدل على نفى امكان الشريك واثبات الامكان له (تعالى) وهو أعم من الوجود.
(ثم أجاب عنه) بما حاصله ان لفظة اله بمعنى واجب الوجود و (ح) فنفى الوجود من
جميع افراده الا الله يدل على نفى الامكان عن غيره أيضا، إذ لو أمكن وجودها لوجدت
إذ المفروض كونها من افراد الواجب.
282

(ويرد عليه) أن تفسير كلمة (اله) بمفهوم واجب الوجود مما ينافي المتفاهم العرفي، فان
مفهوم الواجب من المفاهيم المصطلحة في العلوم العقلية وليس مما ينساق إلى أذهان الاعراب
الجهال الذين امروا بذكر كلمة الاخلاص في صدر الاسلام.
" فالتحقيق أن يقال ": ان العرب في صدر الاسلام لم يكونوا مشركين في أصل
واجب الوجود بحيث يعتقدون وجود آلهة متعددة في عرض واحد، بل كانت صفات
الألوهية ثابتة عندهم لذات واحدة، وانما كانوا مشركين في العبادة حيث كانوا يعبدون
بعض التماثيل التي ظنوا انها وسائط بينهم وبين الله، وكانوا يعتقدون استحقاقها للعبودية أيضا
كما يشهد بذلك قوله تعالى (حكاية عنهم): ما نعبدهم الا ليقربونا إلى الله، فكلمة الاخلاص
وردت لردعهم عن ذلك، فمعناها نفى استحقاق العبودية عما سواه كما يشهد بذلك معنى
كلمة اله فإنها بمعنى المعبود.
" وبالجملة " كلمة الاخلاص لاثبات التوحيد في العبادة لا في الألوهية، إذ التوحيد
في أصل الألوهية كان ثابتا عندهم قبل الاسلام أيضا فافهم.
المقصد الرابع في العموم والخصوص
(قال في الكفاية ما حاصله): ان العام قد عرف بتعاريف، وقد وقع فيها النقض تارة بعدم
الاطراد وأخرى بعدم الانعكاس ولكنه غير وارد، فإنها تعاريف لفظية لشرح الاسم لا لشرح
الحقيقة، كيف! والمعنى المركوز منه في الأذهان أوضح مما عرفوه به مفهوما و
مصداقا ولذا يجعل صدق ذاك المعنى على فرد وعدم صدقه على فرد آخر مقياسا في
الاشكال على التعاريف.
(ثم عرف " قده ") في ضمن كلامه العموم بأنه شمول المفهوم لجميع ما يصلح ان ينطبق
عليه (انتهى).
(أقول): قد ذكر في محله ان كل ما صدق عليه المعرف (بالكسر) يجب ان يصدق عليه
المعرف (بالفتح) وبالعكس.
283

فهنا قضيتان موجبتان كليتان، وحيث إن ما اعتبروه أو لا هو القضية الأولى وكان مفادها
منع الأغيار سموا مفادها بالاطراد من الطرد بمعنى المنع، ثم سموا مفاد عكسها (أعني القضية
الثانية) بالانعكاس ولكنهما معتبران في التعاريف الحقيقية كما لا يخفى.
" ثم إنه " يرد على ما ذكره تعريفا للعموم (أولا) ان العموم وكذا الخصوص ليسا من
صفات المفهوم والمعنى، بل هما من صفات اللفظ ولكن باعتبار المعنى ولحاظه.
(وثانيا) ان هذا التعريف لا يشمل العمومات التي هي بصيغ الجمع أو ما في معناه،
فان لفظ العلماء مثلا يشمل زيدا وعمرا وبكرا إلى آخر الافراد، ولكنه لا يصلح لان ينطبق
على كل واحد منها كما لا يخفى، (فالأجود ان يقال): انه عبارة عن كون اللفظ بحيث يشمل
مفهومه لجميع ما يصلح ان ينطبق عليه مفهوم الواحد، فلفظة العلماء تتصف بالعموم من جهة
كونها بحيث يشمل مفهومها لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه مفهوم واحدها أعني العالم فتدبر،
(وقال في الكفاية أيضا ما حاصله): ان العموم بمعنى الشمول ليس في نفسه منقسما
إلى الافرادي والمجموعي والبدلي، وانما ينقسم إلى هذه الأقسام باعتبار تعلق الحكم
بالعام واختلاف كيفية تعلقه به، (فتارة) يتعلق به الحكم بنحو يكون كل فرد موضوعا
على حدة، (وأخرى) بنحو يكون المجموع موضوعا واحدا، (وثالثة) بنحو يكون كل واحد
موضوعا ولكن على البدل (انتهى).
(أقول): ما ذكره (قده) في غاية الفساد، فان الموضوع أعني العام قبل أن يلحقه
الحكم بل وقبل ان يتصور الحكم ينقسم إلى الأقسام الثلثة بذاته. (1)
(توضيح ذلك) ان المفهوم المتصور في الذهن اما جزئي واما كلى، ثم الكلى اما أن لا يجعل
مرآتا لافراده بل ينظر في نفسه فهو العام المنطقي، واما ان يجعل مرآتا لها ووسيلة للحاظها
وهو على ثلثة أقسام، فان الوجودات الملحوظة (بوسيلة هذه المرآة) متكثرة بذواتها

(1) (وإن شئت قلت): ان رتبة الموضوع متقدمة على رتبة الحكم فيجب أن يكون في
الرتبة السابقة ملحوظا بخصوصياته الدخيلة في موضوعيته التي منها كونه بنحو الوحدة
أو الكثرة ونحوهما، (نعم) يمكن ان يوجه كلام صاحب الكفاية (قده) بان أحدا من العقلاء
لا يتصور العام ولا يجعله مرآتا للافراد بأحد الانحاء الا إذا أراد اثبات حكم له، والا كان
تصوره لغوا. ح - ع
284

يستقل كل واحد منها في متن الواقع و (ح) فقد يكون النظر إليها (بوسيلة هذه المرآة)
بما هي متكثرات ومستقلات كما هي كذلك بذواتها قبل النظر إليها، فالعام أصولي
استغراقي وقد يكون النظر إلى هذه المتكثرات مع اعتبار وحدة لها فالعام مجموعي، وقد
يكون النظر إليها لا بنحو يقع في عرض واحد بل بنحو يلحظ كل فرد منها ولا يقف اللحاظ
والنظر عنده بل ينتقل منه إلى فرد آخر وهكذا، فيكون المنظور إليه بهذه المرآة
هذا أو ذاك أو ذلك إلى اخر الافراد فيسمى العام بدليا.
" وبالجملة " جعل المفهوم مرآتا للحاظ افراده بنحو من هذه الانحاء الثلثة لا يتوقف على لحاظ
كونه موضوعا لحكم بل بعد لحاظه بنحو منها قد يجعل موضوعا لحكم وقد لا يجعل فافهم.
* (تذنيبات) *
(الأول) الأصل في العموم كونه بنحو الاستغراق فإنه لا يحتاج إلى تصور امر
زائد ومؤنة زائدة وراء جعل المفهوم مرآتا للحاظ الافراد فإنها بالذات متكثرات و
مستقلات ومقتضى ذلك هو الاستيعاب، وهذا بخلاف المجموعي فإنه يحتاج مع ذلك
إلى اعتبار قيد الوحدة في المتكثرات بالذات، وبخلاف البدلي فإنه يحتاج إلى
اعتبار التردد بينها.
" الثاني " ان القدماء من الأصوليين كانوا يقصدون بالعام المجموعي كل مركب
ذي اجزاء ولذا كانوا يمثلون له بمثل الدار ونحوها فتنبه.
" الثالث " الخاص عند القوم لم يكن امرا مقابلا للعام حتى يكون بينهما تقابل
ويكون له لفظ يخصه كالعام بحيث ينقسم الألفاظ إلى قسمين ممتازين: قسم منها
يسمى بالعام وقسم آخر يسمى بالخاص، بل كانوا يريدون بالعام العام الغير المخصص،
وبالخاص العام المخصص بوصف أو استثناء أو نحوهما فراجع كلماتهم.
* " (فصل) " *
مما يدل عقلا على العموم النكرة الواقعة في سياق النفي أو النهى فان ثبوت الطبيعة
بثبوت فرد ما وانتفائها بانتفاء جميع الافراد وهذا واضح. والطبيعة الواقعة في سياقهما مرسلة
285

لا مبهمة فلا نحتاج إلى اجراء مقدمات الحكمة فيها، وسيأتي تحقيقه في مبحث المطلق والمقيد.
(ثم إن الأظهر) في " لا " التي لنفى الجنس عدم الاحتياج إلى الخبر كما افاده سيبويه،
فان المتبادر من نحو (لا رجل) انما هو نفى طبيعة الرجل لا نفى الوجود عنها، ويعلم ذلك
بملاحظة مراد فها في الفارسية حيث يعبرون عنها بقولهم (نيست مرد) ولا يقولون (نيست مرد موجود).
(فان قلت): الطبيعة من حيث هي ليست الا هي، لا موجودة ولا معدومة.
(قلت): مرادهم بهذا الكلام ان الوجود والعدم ليسا في مرتبة ذات الطبيعة بحيث
يحملان عليها بالحمل الأولى، والا فهي بالحمل الشائع اما موجودة أو معدومة.
(فان قلت): كلمة لا من الحروف، والحروف وضعت للارتباطات، والربط لا يتحقق
الا بين شيئين، فنحتاج في نحو لا رجل إلى تقدير خبر.
(قلت) يمكن ان يقال: ان مفاد لا في هذه المقامات هو النفي بالمعنى الاسمي فإنه المتبادر منها.
* (فصل) *
هل العام المخصص حجة فيما بقي أولا؟ (فيه أقوال)، (منها) الحجية مطلقا، (ومنها) التفصيل
بين التخصيص بالمتصل والتخصيص بالمنفصل فيقال: بالحجية في الأول دون الثاني، إلى غير ذلك
من الأقوال. (واحتج من نفى الحجية) بان اللفظ إذا كان له مجازات متعددة وأقيمت قرينة
تصرف عن المعنى الحقيقي احتجنا في حمله على إحديها إلى قرينة معينة، ولو لاها صار اللفظ
مجملا إذ حمله على إحديها (من دون قرينة تعينها) ترجيح بلا مرجح، فالعام المخصص إذا لم
يقم قرينة على المراد منه كان حمله على تمام الباقي بلا معين فإنه أحد المجازات لتعددها
حسب مراتب التخصيص (انتهى).
(وأجيب عنه بوجوه: الأول) ان تمام الباقي أقرب المجازات فيقدم على غيره.
(وأورد عليه في الكفاية) بأنه لا اعتبار بالأقربية بحسب المقدار، وانما المدار في
باب المجازات على الأقربية بحسب زيادة الانس الناشئة من كثرة الاستعمال.
286

(الثاني) ما في التقريرات (وحاصله) ان ما ذكرت انما يصح إذا كان التفاوت بين المعنى
الحقيقي والمعاني المجازية بالتباين، واما إذا كان بنحو الأقل والأكثر كما في العام والخاص
فلا مورد لما ذكرت، فان دلالة العام (ح) على كل فرد من افراده غير منوطة بدلالته على سائر
الافراد، والمجازية على فرض تسليمها انما هي بواسطة عدم شموله للافراد المخصوصة
لا بواسطة دخول غيرها في مدلوله.
(وبالجملة) القرينة انما هي لاخراج بعض الافراد، واما غير هذا البعض فهو باق كما
كان، إذ الفرض انه كان قبل التخصيص داخلا، ولم يوجد بالنسبة إليه قرينة صارفة،
فالمقتضى للحمل على الباقي موجود والمانع مفقود (انتهى).
(وأورد عليه) في الكفاية (بما حاصله) ان دلالة العام على كل فرد انما كانت بتبع دلالته
على العموم والشمول، فإذا لم يستعمل في العموم واستعمل في الخصوص مجازا كما هو
المفروض، والمفروض أيضا ان كل واحد من مراتب الخصوصيات مما جاز استعمال
اللفظ فيه مجازا كان تعيين بعضها بلا معين ترجيحا بلا مرجح، ولا مقتضى لظهوره في
خصوص تمام الباقي. إذ الظهور اما بالوضع أو بالقرينة والفرض انتفاء كليهما بالنسبة إليه:
(الثالث) ما اختاره في الكفاية (وحاصله) ان العام لا يصير بالتخصيص مجازا (اما في
المتصل) فلانه لا تخصيص فيه أصلا، فان أدوات العموم تستعمل في العموم دائما، غاية الأمران
دائرة العموم تختلف سعة وضيقا باختلاف المدخول، فلفظة كل (في كل رجل عالم) قد استعملت
في العموم كما في قولنا: كل رجل بلا تفاوت بينهما، (واما في المنفصل) فلان إرادة الخصوص
واقعا لا تستلزم استعمال اللفظ فيه، إذ من الممكن استعماله في العموم قاعدة حتى يتمسك
به عند الشك، ويكون الخاص مانعا عن حجية ظهوره لكونه نصا أو أظهر لا مصادما
لأصل ظهوره.
(والحاصل) انه بعدما استقر ظهوره في العموم لا يرفع اليد عن اصله بسبب الخاص.
فان الثابت من مزاحمته له انما هو بحسب الحجية لا بحسب أصل الظهور، فالعموم مراد
من اللفظ بالإرادة الاستعمالية وان كان المراد الجدي هو الخصوص (انتهى).
(أقول): ويمكن ان يورد عليه أيضا بان الإرادة الاستعمالية على ما ذكرت إرادة
287

تصورية أعني بها إرادة افناء اللفظ في المعنى المخصوص وجعله قالبا له موجبا لتصوره
عند تصوره، وتمسك العقلاء بالعام عند الشك ليس اثرا لصرف هذه الإرادة وان انكشف
عدم مطابقتها للإرادة الجدية، بل يكون اثرا لها بما هي كاشفة عن الإرادة الجدية التصديقية
(وبالجملة) التمسك بالعام عند الشك انما هو من جهة استقرار بناء العقلاء على حمل
كلام الغير (بما هو فعل اختياري صدر عنه) على كونه صادرا عنه لغايته الطبيعية العادية كما
مر تفصيله في مبحث المفاهيم، وحيث إن الغاية الطبيعية للتلفظ بالكلام إرادة افهام ما هو
ظاهر فيه فلأجل ذلك يحكمون في العام مثلا بان المراد الجدي فيه هو العموم.
(وعلي هذا) فبورود التخصيص على العام يستكشف عدم كون ظاهر اللفظ مرادا جديا
وينهدم أساس أصالة التطابق بين الإرادتين، فلا مجال (ح) لان يتمسك بالعام بالنسبة إلى
الافراد المشكوك فيها وان ثبت كون العموم مرادا بحسب الاستعمال، (هذا). مضافا إلى أن
ما ذكره في المتصل لا يجرى في الاستثناء فهو بحكم المنفصل كما لا يخفى، وحيث
لم يكن فيما ذكروه غنى وجب علينا صرف عنان الكلام إلى بيان ما هو الحق المسألة مع
الإشارة إلى امكان ان يرجع كلام الشيخ وصاحب الكفاية أيضا إلى ما نحققه.
وتوضيح المطلب يتوقف على بيان كيفية استعمال الألفاظ في المعاني الحقيقية والمجازية
بنحو الاختصار حيث إن لتفصيله محلا آخر.
" فنقول ": لا يخفى ان المصحح لاستعمال اللفظ في المعنى هو الوضع لا غير، فاللفظ
لا يستعمل دائما الا فيما وضع له، غاية الامر انه (تارة) يستعمل في معناه ويكون مراد
المتكلم منه ايجاد المعنى الموضوع له في ذهن المخاطب ليثبت في ذهنه ويحكم عليه أو به
من دون ان يريد صيرورة هذا المعنى معبرا إلى غيره، (وأخرى) يستعمل فيما وضع له ويكون
المراد من استعماله فيه انتقال ذهن السامع من اللفظ إلى معناه الموضوع له ثم منه إلى معنى
آخر يكون هو المقصود الأصلي، ففي الحقيقة يستعمل اللفظ في معناه ثم يستمل معناه في
معنى آخر من جهة ادعاء المتكلم نحو اتحاد بينهما ففي هذه الصورة أيضا لم يستعمل اللفظ
الا فيما وضع له ولكنه جعل هذا المعنى مجازا ومعبرا يعبره ذهن السامع إلى المعنى الثاني
الذي هو المقصود الأصلي من اللفظ، ويسمى اللفظ في الصورة الأولى حقيقة وفي الثانية
288

مجازا ووجه التسمية ظاهر فان الحقيقة من حق بمعنى ثبت والمجاز بمعنى المعبر.
(وعلى ما ذكرنا) يبتنى أساس جميع المجازات فليس لنا فيها مورد يستعمل اللفظ في غير
ما وضع له بل هو يستعمل دائما في نفس ما وضع له ولكنه يراد في الاستعمالات الحقيقية
تقرر الموضوع له وثباته في ذهن السامع حتى يحكم عليه أو به، وفي الاستعمالات
المجازية صيرورته معبرا يعبره الذهن إلى ما ادعى اتحاده مع الموضوع له ويكون
هو المقصود الأصلي بالحكم عليه أو به أو نحوهما
فالفرق بين الحقيقة والمجاز بعد اشتراكهما في كون اللفظ مستعملا في نفس ما وضع
له ان الموضوع له في الأول مراد استعمالا وجدا، وفي الثاني أريد بحسب الاستعمال فقط
ثم جعل معبرا للذهن إلى المعنى الثاني الذي هو المراد جدا بسبب ادعاء الاتحاد بينهما،
فالجملة المشتملة على استعمال مجازى تنحل إلى قضيتين يستفاد من إحديهما ادعاء اتحاد
المعنى الثاني مع الموضوع له، ومن الأخرى ثبوت المحكوم به للمعنى الثاني، ومن هنا
تحق اللطافة في المجاز زائدة على الحقيقة بحيث قد يبلغ في اللطافة حد الاعجاز فقولنا:
(جاء زيد) يشتمل على حكم واحد بخلاف قولنا: (جاء أسد) مع القرينة، فإنه يشتمل
أولا على الحكم بكون زيد بالغا في الشجاعة حدا يصحح جعله من افراد الأسد واطلاق
لفظ الأسد عليه، وثانيا بأنه ثبت له المجئ (وبالجملة) نحن ندعى في جميع المجازات ما
ادعاه السكاكي في خصوص الاستعارة، ولطافة الاستعمال المجازى من هذه الجهة، والا
فصرف ايجاد المعنى المقصود في ذهن السامع بلفظ آخر غير ما وضع له لا يوجب اللطافة
ما لم يتوسط في البين ادعاء اتحاد المعنيين، فقوله (تعالى) في مقام بيان تحير بنى إسرائيل: ولما
سقط في أيديهم قد أوجب مزية ولطافة حيث استعمل هذه الجملة فيما وضع له بعد ادعاء
اتحاد هذا المعنى مع ما كانوا عليه من حالة التحير من جهة ان سقوط شئ في اليد دفعة
من دون التفات، من أشد ما يوجب التحير فادعى اتحادهما، وقد مر تفصيل ذلك في محله
(ثم لا يخفى ان ما ذكرناه) سار في جميع أقسام المجاز الا في استعمال العام وإرادة
الخاص، واما هو فعلى نحوين: (الأول) ان يستعمل العام ويراد به جدا بعض افراده من
جهة ادعاء كون هذا البعض هو الجميع نظير ان يقال: جاءني جميع العلماء ويراد به فرد
289

كامل منهم، فهذا النحو (من استعمال العام وإرادة الخاص) داخل في عداد سائر المجازات،
والكلام فيه هو الكلام فيها.
(الثاني) ان يستعمل ويراد به جدا بعض افراده ولكن لا بحيث يدعى كون هذا البعض
هو الجميع، وهذا كما في جميع العمومات المخصصة.
(والتحقيق فيها) كونها قسما متوسطا بين الحقيقة والمجاز، فان المقصود من
الاستعمال في الحقايق كما عرفت ايجاد المعنى الموضوع له في ذهن السامع ليتقرر فيه
ويثبت، والمقصود منه في المجازات ايجاده في ذهنه ليعبره إلى معنى آخر.
(واما في العام) فحيث كان لمعناه الموضوع له وحدة جمعية وكثرة لوحظت بنظر الوحدة
كان المقصود من استعمال العام (الذي أريد تخصيصه) ايجاد هذا المعنى الوحداني المتكثر
في ذهن السامع ليتقرر بعضه في ذهنه فيحكم عليه ويخرج بعضه الاخر بواسطة المخصص،
فمن قال أكرم العلماء ثم قال الا زيدا كان مقصوده ايجاد جميع العماء غير زيد في ذهن
المخاطب حتى يحكم عليهم بوجوب الاكرام وحيث لم يكن لهذا المعنى لفظ موضوع
مستقلا استعمل لفظة العلماء حتى ينتقل ذهن السامع إلى جميع العلماء الذي هو الموضوع
له ثم أتى بالمخصص حتى يبقى في ذهنه ما هو المراد جدا ويخرج منه بسببه بعضه الاخر.
" فتلخص مما ذكرنا " انه في الاستعمالات الحقيقية يراد بقاء المعنى وثباته في ذهن
السامع بتمامه، وفي الاستعمالات المجازية يراد انتقال ذهنه من تمامه إلى معنى آخر،
وفي العمومات المخصصة يراد بقاء بعضه في ذهنه ليحكم عليه وخروج بعضه منه، فهي امر
متوسط بين الحقيقة والمجاز إذ لم يرد فيها ثبوت المعنى بتمامه ولا جعله معبرا ينتقل منه،
ويشترك الأقسام الثلثة في أن اللفظ لا يستعمل فيها الا فيما وضع له.
" ثم إنه " يمكن ان يقال: بثبوت ما ذكرناه في العمومات المخصصة، في جميع
المعاني التي لها جهة وحدة وجهة كثرة إذا أريد جدا بعض المعنى كما في الكل والجزء
فإذا استعمل اللفظ الموضوع للكل وأريد به جدا جزء منه بدلالة القرينة يمكن ان يقال:
ان اللفظ قد استعمل في معناه حتى ينسبق إلى ذهن السامع نفس المعنى بجميع اجزائه ثم
يؤتى بالقرينة حتى يخرج بعض الاجزاء من ذهنه ويبقى المراد جدا، مثال ذلك ما إذا
290

قال مثلا بعتك الدار الا هذا البيت أو الا العشر منها فهذا النحو من الاستعمالات متوسطة بين
الحقيقة والمجاز بالمعنى الذي ذكرنا لهما.
" وهذا الذي ذكرناه " في العمومات المخصصة يمكن أن يكون مرادا للشيخ " قده "
حيث قال إن القرينة لاخراج غير المراد لا للدلالة على المراد فإنها باقية كما كانت، و
تعبيره (قده) بالمجازية من جهة ان هذا الامر المتوسط يمكن ان يعبر عنه بالمجاز حيث
لم يرد فيه ثبوت المعنى وتقرره بتمامه في ذهن المخاطب، كما يمكن ان يعبر عنه بالحقيقة
لعدم كون المعنى فيه معبرا لغيره، وان كان الحق كما ذكرنا عدم كونه حقيقة ولا
مجازا (وبما ذكرنا) يتضح فساد ما ذكره شيخنا الاستاد المحقق الخراساني في مقام
الجواب عن الشيخ حيث قال في الكفاية ما حاصله: ان الظهور اما بالوضع أو بالقرينة
وكلاهما منتفيان في العام المخصص بالنسبة إلى تمام الباقي،
(توضيح الفساد) ان ما ذكره من كون الظهور اما بالوضع أو بالقرينة ان كان على
سبيل منع الجمع فممنوع لما عرفت من أن اللفظ في الاستعمالات المجازية يكون مستعملا
في نفس ما وضع له ولكن بمعونة القرينة، وان كان على سبيل منع الخلو فمسلم ولكن
نمنع انتفائهما في العام المخصص بل نحتاج فيه إلى كليهما فان دلالته على البعض المقصود
بسبب وضعه لما هو في ضمنه واستعماله في الموضوع له، واما عدم إرادة غيره فيستفاد بالقرينة
(هذا كله) انما هو في بيان المسألة بالتقريب العلمي والا فلو رجعت إلى العرف والعقلاء
رأيتهم لا يشكون في حجية العام المخصص بالنسبة إلى الباقي، ولا يعذرون العبد لو ترك
الباقي معتذرا بعدم كون القرينة الصارفة معينة وكون المجازات متعددة بحسب تعدد
مراتب التخصيص، إلى غير ذلك من المفاهيم المسرودة في حجرات المدارس.
(فان قلت) على ما ذكرت في بيان المجازات (من كونها مستعملة في نفس الموضوع له)
ما هو المسند إليه في مثل جاء أسد إذا أريد به الرجل الشجاع؟ فان اسناد المجئ إلى
المعنى الحقيقي كذب، وإلى المجازى وإن لم يكن كذبا ولكنه غير مذكور في اللفظ على
ما ذكرت. (قلت): ان المسند إليه هو المراد الجدي أعني المشبه في المثال، والدال عليه
هو القرينة ولا يلزم ذكره في اللفظ بلا واسطة فافهم،
291

* (فصل) *
تخصيص العام بمخصص متصل مشتبه يخرجه من الحجية بالنسبة إلى الافراد المشتبهة
سواء كانت الشبهة مفهومية: بان اشتبه مفهوم المخصص، أو مصداقية: بان اشتبه شموله
لفرد بعد العلم بشمول العام له، وسواء كان التردد بين المتباينين أو بين الأقل والأكثر
(ووجه ذلك) ان الظهور لا ينعقد للعام الا بعد تمامية الكلام فلا مجال للتمسك به (ح).
(وكذا لا اشكال) في عدم جواز التمسك بالعام فيما إذا خصص بمخصص منفصل وتردد
امره بين المتباينين فلا يجوز التمسك به في واحد منهما بخصوصه.
(نعم) يجوز ان يتمسك به لنفى الثالث إذ عدم حجيته في هذا بخصوصه وفي ذاك بخصوصه
لا ينافي حجيته في أحدهما المردد، ويترتب على ذلك عدم جواز اجراء الأصل المخالف
في كليهما (ولا فرق) فيما ذكرنا بين أن يكون المفهومان المتباينان متساويين بحسب
المصداق وبين أن يكون أحدهما أكثر مصداقا من الاخر إذا لم يتداخلا بحسب المصداق
كما إذا تردد المخصص بين مفهوم له عشرة افراد وبين مفهوم له عشرون فردا مغائرة
بتمامها لهذه العشرة (وبالجملة) التردد بين المتباينين بقسميه يوجب الاجمال في العام
حكما كما لا يخفى.
" وان تردد المخصص المنفصل " بين الأقل والأكثر بحيث كان الأول داخلا
في ضمن الثاني فاما أن يكون الشبهة مفهومية واما ان تكون مصداقية (اما في الأولى) فيجوز
التمسك بالعام في غير ما يكون الخاص حجة فيه فعلا (أعني الأقل)، فإنه من باب مزاحمة
الحجة باللا حجة، مثال ذلك ما إذا قال أكرم العلماء، ثم قال لا تكرم الفساق منهم وتردد
الفساق مفهوما بين مرتكبي الكبيرة فقط وبين مرتكبي الصغيرة والكبيرة
" واما في الثانية " فهل يجوز التمسك بالعام في الافراد المشكوك فيها أولا؟ فيه
خلاف بين الاعلام، مثالها ما إذا قال أكرم العلماء ثم قال لا تكرم الفساق منهم وكان زيد عالما
مشكوك الفسق. (واستدل) القائل بالجواز (بما حاصله) ان الحجة من قبل المولى لا تتم
الا بعد ثبوت الكبرى والصغرى معا، والموجود فيما نحن فيه كبريان معلومتان:
292

إحديهما قوله أكرم كل عالم، والثانية قوله لا تكرم الفساق من العلماء، والظهور وان
انعقد لكل من العمومين ولكن فردية زيد مثلا للأول معلومة وللثاني مشكوك فيها فينضم
هذه الصغرى المعلومة إلى الكبرى الأولى فينتج وجوب اكرام زيد، ولى في البين حجة
تزاحمها، إذ الفرض ان فردية زيد لموضوع الكبرى الثانية مشكوك فيها، وصرف
الكبرى لا تكون حجة ما لم ينضم إليها صغرى معلومة، ففي ناحية العام قد علم الكبرى و
الصغرى معا، وفي جانب المخصص قد علم الكبرى فقط، فالعام حجة في الفرد المشكوك فيه
ولا يزاحمه حجة. (ونظير ذلك) ما ذكره الشيخ (قده) في اجراء أصل البراءة في الشبهات الموضوعية
حيث قال: إن قوله لا تشرب الخمر لا يكون حجة الا على من ثبت عنده الكبرى والصغرى
معا حتى ينضم إحديهما إلى الأخرى، فان صرف الصغرى أو الكبرى ممالا يمكن الاحتجاج
بها ما لم تنضم إلى الأخرى. هذه غاية ما يمكن ان يستدل به للجواز.
(وفيه) ان حكم المخصص لا يختص بافراده المعلومة بل هو حكم صدر عن المولى
ويكون دالا على أن كل ما هو فرد للفاسق واقعا فهو مما لم يتعلق الإرادة الجدية بوجوب
اكرامه وان كان مرادا بحسب الاستعمال، فيصير حجية العام مقصورة على غير من هو من
افراد المخصص واقعا.
(لا نقول) ان التخصيص يوجب تعنون العام بحيث يصير الموضوع لوجوب الاكرام
عبارة عن العالم الغير الفاسق بما هو كذلك.
" بل نقول " ان من وجب اكرامه فإنما يثبت له الوجوب بما هو عالم، ولكن العلماء
الفساق قد خرجوا بحسب نفس الامر بحيث لم يبق بالنسبة إليهم إرادة جدية بوجوب
الاكرام وخالف فيها الجد للاستعمال، فمصداقية كل واحد منهم للعام بما هو عام وان كانت
معلومة ولكن مصداقيته له بما هو حجة غير معلومة لكون حجيته مقصورة على غير من هو
فاسق في متن الواقع " وإن شئت " توضيح المطلب فنقول: ان ما ذكره المستدل من عدم
حجية الكبرى بنفسها ممنوع باطلاقه، فان الكبرى حجة بنفسها في مقام تشخيص الحكم
الشرعي الكلى ولا نحتاج في ذلك إلى وجود الموضوع خارجا.
293

(نعم) حجيتها بالنسبة إلى الخارجيات لا تتصور الا بعد تشخيص الصغرى، فهاهنا مقامان:
مقام حجية العام بنفسه، ومقام حجيته بالنسبة إلى الخارجيات، والمحتاج إلى الصغرى
هو الثاني دون الأول، فقول المولى: أكرم العلماء مثلا حجة على العبد ويجب عليه ان
يتصدى لامتثاله وإن لم يعلم وجود عالم في الخارج فيجب عليه ان يتفحص عن وجودهم و
عن حال من شك في كونه منهم.
(ومما يدل على ذلك) تمسكهم في عدم وجود نفس الكبرى بالاستصحاب ونحوه، فيعلم
من ذلك كونها ذوات آثار فيستصحب عدمها لنفيها، ولو كانت الحجية مقصورة على
صورة ثبوت الصغرى كان صرف الشك فيها كافيا ولم نحتج إلى اثبات عدمها بالاستصحاب.
كيف! وهل يعذر العبد إذا سمع من المولى أكرم العلماء وشك في عالمية زيد أو في أصل
وجود العالم فترك الاكرام من غير فحص عن حال زيد أو عن وجود الموضوع معتذرا بعدم
ثبوت الصغرى عنده، لا والله
(والسر في ذلك) ان وظيفة المولى انما هي بيان الأحكام الكلية لا تعريف الصغريات
وتشخيصها، فبعد وصول الكبرى إليه قد حصل كل ما هو من قبل المولى.
(ولذلك) بعينه نستشكل على ما ذكره الشيخ (قده) لاجراء البراءة العقلية في الشبهات
الموضوعية، فان الظاهر عدم جريانها فيها، نعم يجرى فيها البراءة الشرعية.
(والحاصل) ان الكبرى الواصلة من قبل المولى حجة على العبد ويجب عليه التصدي
لامتثالها والفحص عن وجود موضوعها من دون ان يحتاج في حجيتها إلى العلم بوجود
الصغرى (نعم) في تشخيص حكم الموجود الخارجي نحتاج إلى العلم بمصداقيته لما هو
عنوان الموضوع.
(إذا عرفت ما ذكرنا فنقول): ان قوله لا تكرم الفساق من العلماء وان كان كليا ولم
يثبت فردية مشكوك الحكم لموضوعه، ولكنه حجة صدرت عن المولى ويكون مفاده
عدم وجوب الاكرام في جميع الافراد الواقعية للفاسق فيضيق بهذه الحجة الأقوى دائرة
الموضوع الجدي في حكم العام وينحصر في غير من صدق عليه عنوان المخصص واقعا فكما
يكون فردية مشكوك الحكم للمخصص مشكوكا فيها يكون فرديته لما هو المراد جدا
294

من العام أيضا مشكوكا فيها، فلا يتمسك بواحد منهما لاثبات حكمه وان كان كل منهما
في اثبات الحكم الكلى حجة.
(فان قلت): بعد ما كان الفرد المشكوك فيه مرادا في ضمن العام بالإرادة الاستعمالية
نتمسك بالقاعدة العقلائية لاثبات حكمه فإنهم يحكمون بتطابق الإرادة الجدية للاستعمالية
ما لم يظهر الخلاف.
(قلت): ان أردت بما ذكرت اثبات الحكم للفرد المشكوك فيه بما هو مشكوك
الحكم حتى يصير حكما ظاهريا (ففيه) ان الحكم الظاهري متأخر عن الحكم الواقعي
بمرتبتين فلا يمكن ان يتكفل قوله أكرم العلماء بوحدته لحكمين طوليين.
" وإن أردت بما ذكرت " اثبات الحكم للفرد المشكوك فيه لا بما هو مشكوك فيه بل بما أنه
فرد من افراد العام حتى يكون حكما واقعيا (ففيه) ان المفروض خروج افراد المخصص
رأسا من حكم العام لكونه حجة أقوى بالنسبة إلى كل ما هو فرد واقعي للفاسق مثلا، وبعدما
حصل العلم بمخالفة الإرادة الجدية للاستعمالية في كل ما هو فرد واقعي للمخصص
كيف يمكن التمسك بأصالة التطابق في الفرد المشكوك فيه لاثبات حكمه الواقعي فتدبر.
" ثم إنه ربما يستدل " لجواز التمسك بالعمومات في الشبهات المصداقية بوجه
آخر، (وحاصله) ان لقوله أكرم العلماء مثلا عموما افراديا يشمل به كل فرد من افراد
العالم، واطلاقا أحواليا بالنسبة إلى جميع الحالات الطارية للموضوع، فيشمل بسببه
معلوم العدالة ومعلوم الفسق ومشكوكهما ويكون حجة في جميعها لولا المخصص،
واما المخصص فهو حجة أقوى على خلاف العام في خصوص معلوم الفسق فيبقى معلوم
العدالة ومشكوكهما باقيين تحته لعدم حجية الخاص بالنسبة إليهما (انتهى).
(أقول): قد وقع الخلط من هذا المستدل من جهة عدم احاطته بمعنى الاطلاق، و
سيأتي تفصيله في مبحث المطلق والمقيد.
(واجماله) ان الاطلاق عبارة عن كون حيثية الطبيعة تمام الموضوع للحكم
وعدم دخالة حيثية أخرى فيه (وبعبارة أخرى) الاطلاق عبارة عن لحاظ حيثية
الطبيعة بوحدتها موضوعة للحكم بحيث يكون النظر مقصورا على ذاتها وتكون مرسلة
295

بالحمل الشائع عن جميع القيود كما يدل على ذلك معناه اللغوي.
(وبعبارة ثالثة) الاطلاق عبارة عن لحاظ الطبيعة بذاتها ورفض القيود والغائها
بأجمعها، وليس معناه اعتبار القيود والحيثيات المتحدة ودخالتها في الموضوع حتى يصير
الطبيعة في كل مورد بضميمة القيود المنضمة إليها موضوعا للحكم فيكون الموضوع
مركبا من حيثيات متعددة بعدد العناوين الطارية.
(إذا عرفت هذا فنقول): معنى الاطلاق في قوله: أكرم العلماء كون حيثية العالم
تمام الموضوع للحكم بحيث لا يكون لحيثية العدالة أو الفسق أو غيرهما من الحيثيات
المتحدة معه دخالة في الحكم أصلا، وليس معناه وجود موضوعات متعددة كما يظهر من
كلام المستدل. (وقد تلخص مما ذكرنا) عدم جواز التمسك بالعام في الشبهات
المصداقية للمخصص، وان ما يتوهم من اثبات الحكم للمشكوك فيه بأصالة التطابق
بين الإرادتين أو بالاطلاق الأحوالي فاسد جدا، إذ مقتضى الأول تكفل العموم بوحدته
لبيان حكمين طوليين: واقعي وظاهري، ومقتضى الثاني كون معنى الاطلاق لحاظ القيود
واعتبارها في الموضوع، وفسادهما أظهر من الشمس وأبين من الأمس (1) هذا.

(1) لقائل أن يقول إن أصالة الجد والتطابق بين الإرادة الاستعمالية والجدية ليست
من الأصول العملية حتى يكون الحكم المستفاد بسببها حكما ظاهريا محمولا على الشك، بل
هي من الامارات، فان أصالة الجد في العمومات عبارة أخرى عن أصالة العموم كما لا يخفى،
وهي من الامارات قطعا " نعم " بعد تحكيم الخاص على العام ورفع اليد عنه بسببه من جهة
أظهريته لا يبقى مجال للتمسك بالعام فيما احتمل خروجه منه، فان المفروض تحكيم الخاص عليه،
وليس معنى التحكيم الا تقديمه في الحجية في كل ما هو فرد له فيصير النتيجة قصر حجية العام على ما
بقي، وليس مفاد أصالة التطابق الا حجية العام كما عرفت، فقصر حجية العام على ما بقي مساوق لقصر
أصالة التطابق عليه فيكون الفرد المشتبه شبهة مصداقية لمجرى أصالة التطابق فلا يجوز التمسك بها
" وبعبارة أخرى " أصالة التطابق من الأحكام العقلائية، فحجيتها تدور مدار اعتبارهم، و
الفرض انهم يحكمون الخاص في مقام الحجية على العام فيصير النتيجة تضييق مجرى أصالة
التطابق في طرف العام، فالشبهة المصداقية للمخصص شبهة مصداقية لمجراها أيضا فافهم.
" فاتضح بذلك " عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
ويمكن ان يقرر الدليل عليه بوجه اخر وهو ان أصالة التطابق أصل عقلائي وليس حجيتها
الا من جهة السيرة فحيث اعتبروها عملنا بها وحيث ردوها أو شككنا في اعتبارهم لها رددناها،
وبذلك يظهر الفرق بين المخصص اللفظي واللبي ما ذكر في الكفاية، فالأقوى هو الفرق
بينهما كيف، ولو لم يجز التمسك بها حتى في اللبيات لم يبق لنا عام جائز العمل، فان كل عام
مخصوص عقلا بما إذا لم يزاحم ملاك حكمه بملاك أقوى واقعا، ولا حكم من الأحكام الشرعية
الا ويحتمل فيه عروض ملاك أقوى يرفع به الحكم التابع للملاك الأول فافهم. ح - ع
296

وكان بعض مشايخنا (طاب ثراه) يستدل لعدم جواز التمسك بان التمسك بأصالة العموم
وعدم التخصيص انما يصح فيما إذا شك في تخصيص العام أو علم بتخصيصه وشك في تخصيص
زائد، وما نحن فيه ليس كذلك، إذ على فرض عدم التمسك بالعام في الفرد المشكوك فيه
لا يلزم تخصيص زائد، فان اخراج جميع افراد الفاسق في المثال السابق بتخصيص واحد
لوقوعه بكلمة واحدة وليس اخراج كل منها بتخصيص مستقل.
(وذكر الشيخ " قده ") (على ما في تقريرات بحثه) لعدم جواز التمسك وجها آخر
(وحاصله) ان التمسك بالعموم انما يصح في الشكوك التي يكون المرجع لرفعها
هو الشارع كما إذا شك في تخصيص زائدا وفى أصل التخصيص، (واما) الشبهة المصداقية
فليس رفعها من وظائف الشارع، إذ ما هو على الشارع انما هو بيان كلى المخصص، والمفروض
انه بينه، واما ان زيدا مثلا داخل في عنوان المخصص أولا فلا يرتبط بالشارع فلا يجوز فيه
التمسك بعموم كلامه.
* (وينبغي التنبيه على أمور) *
(الأول) قال الشيخ (على ما في تقريرات بحثه) ما حاصله: ان المخصص اما أن يكون له
عنوان واما أن لا يكون له عنوان: بان ثبت خروج بعض الافراد من تحت العام بلا توسط
عنوان جامع بينها يكون هو الخارج حقيقة، وما لا يجوز فيه التمسك بالعام في الشبهات
المصداقية هو القسم الأول دون الثاني، " ثم قال ": والأكثر تحقق القسم الأول في
المخصصات اللفظية والقسم الثاني في المخصصات اللبية (انتهى).
297

(وفي الكفاية) لم يجعل الميزان ما له عنوان وما ليس له عنوان، بل قال ما حاصله: ان
ما ذكرناه من عدم جواز التمسك بالعام انما هو في المخصصات اللفظية، واما اللبية فإن كان
المخصص من الاحكام البديهية للعقل بحيث يكون كالمتصل بالعام كان حكمه حكم
المخصصات المتصلة في عدم جواز التمسك، وإن لم يكن كذلك فالحق فيه جواز التمسك
(والوجه في ذلك) ان في اللفظيات قد القى المولى بنفسه حجتين، وبعد تحكيم الخاص وتقديمه
في الحجية بالنسبة إلى ما يشمله واقعا يصير العام كأنه كان مقصور الحجية من أول الامر و
كأنه لم يكن بعام، وهذا بخلاف المخصصات اللبية فان الملقى فيها من قبل المولى حجة
واحدة وهي العام فيجب العمل به ما لم يقم حجة أقوى، الا ترى أنه إذا قال المولى أكرم
جيراني وترك المكلف اكرام واحد منهم باحتمال عداوته للمولى صح للمولى مؤاخذته
وعقوبته كما لا يخفى على من راجع السيرة والطريقة المألوفة بين العقلاء التي هي ملاك
حجية أصالة الظهور (انتهى).
فقد ظهر لك ان الشيخ (قده) لم يفرق بين اللفظي واللبي بما هما كذلك، بل فرق بين
ما إذا كان للمخصص عنوان وبين غيره، واما في الكفاية فجعل ملاك الفرق كون المخصص
لفظيا أو لبيا، وغاية ما تمسك به للفرق بالآخرة هي السيرة.
(أقول): وفي كلامهما نظر (اما كلام الشيخ) فلان المخصص إذا لم يكن له عنوان
فكيف يتصور له شبهة مصداقية، بل الامر يدور (ح) بين قلة التخصيص وكثرته فيخرج من
محل الكلام (واما كلام صاحب الكفاية) فلانا لا نتصور الفرق بين كون المخصص لفظيا
وبين كونه لبيا بعد كون اللبي أيضا حجة، لان رفع اليد عن العام بسبب المخصص اللبي
ليس إلا لكونه حجة أقوى من العام، و (ح) فيصير العام بسببه مقصور الحجية على ما بقي مثل
ما ذكر في المخصص اللفظي طابق النعل بالنعل (وبالجملة) أي فرق بين ان يصدر نحو لا تكرم
أعداء المولى عن نفس المولى وبين ان يحكم به العقل، بعد فرض حجيته على التقديرين،
وأقوائيته من العام، وكون المراد من المخصص (كيف ما كان) افراده الواقعية لا العلمية
فقط - هذا.
" ولقائل أن يقول ": ان للحجية (كما ذكرنا سابقا) مرتبتين: (الأولى) حجية نفس
298

الكبريات والعمومات، وفي هذا المقام لا نحتاج إلى احراز الصغريات. (الثانية) حجيتها
بالنسبة إلى المصاديق، وفي هذا المقام نحتاج إلى احراز المصاديق والصغريات فلا يكون
قوله: (لا تشرب الخمر) مثلا حجة بالنسبة إلى هذا الفرد الخارجي الا بعد احراز خمريته
وان كان نفس الكبرى في حجيتها لا تحتاج إلى احرازها، وعلي هذا فالحكم العقلي أيضا
على قسمين: (الأول) حكم كلى لا يحتاج العقل في حكمه به إلى احراز الصغرى كحكمه
بحرمة اكرام أعداء المولى (الثاني) حكم جزئي يحتاج في حكمه به إلى العلم بالصغرى
والكبرى معا كحكمه بحرمة اكرام زيد مثلا فإنه يحتاج في حكمه به إلى احراز عداوة زيد
حتى تجعل هذه صغرى لحكمه الأول فينتج حرمة اكرامه. (إذا عرفت هذا فنقول):
بعد أن صدر عن المولى قوله (أكرم جيراني) يحتمل أن يكون قد اعتمد في تخصيص
حكمه هذا على الحكم الثاني للعقل دون الأول، ونتيجة ذلك حجية كلامه في غير ما أخرجه
العقل بحكمه الثاني المتوقف على احراز الصغرى فتصير المصاديق المشتبهة محكومة بحكم
العام قهرا (وبعبارة أخرى) يمكن أن يكون اكرام الجيران في نظر المولى بمثابة من الأهمية
بحيث تقتضي اكرام الافراد التي يحتمل عداوتهم له أيضا احتياطا لتحصيل الواقع، وانما
الذي لا يجب هو اكرام خصوص من ثبت عداوته، فاعتمد في اخراجهم على الحكم الثاني
للعقل، ولا دليل على اعتماده على الحكم الأول له حتى يصير موجبا لاجمال العام.
ولا يخفى عدم جريان هذا البيان في المخصصات اللفظية، إذ الفرض ان المولى بنفسه قد
القى المخصص فلا يمكن عدم اعتماده عليه بل يصير حجة أقوى في قبال العام موجبا لقصر
حجيته على ما بقي تحته واقعا
(الامر الثاني) إذا قال أكرم العلماء ثم قال لا تكرم زيدا فإنه عدو لي، واستفدنا من
التعليل العموم فهل هو كالمخصص اللفظي أو يكون وزانه وزان المخصص اللبي؟ فيه وجهان،
ولعل السيرة هنا على جواز التمسك كالعقلي.
(الامر الثالث) كل ما ذكرنا إلى هنا انما هو فيما إذا لم يكن كل واحد من الدليلين
تام الاقتضاء متكفلا لاثبات حكم فعلى على العنوان المذكور فيه بحيث يكون هذا العنوان
تمام الموضوع له، إذ في هذه الصورة يصير الحكمان متزاحمين فيجب الاخذ بكل منهما
299

ما لم يثبت له مزاحم أقوى، ولا يجوز رفع اليد عن الحكم الفعلي باحتمال المزاحم، فإذا
قال أكرم العلماء ثم قال لا تكرم الفساق واحرز كون كل من الموضوعين تمام الموضوع
لحكمه لزم في الفرد المشتبه الاخذ بحكم العام فافهم وتدبر جيدا (1).
(الامر الرابع) كل ما ذكرناه انما هو فيما إذا لم يحرز عنوان المخصص اثباتا أو نفيا
بأصل موضوعي، والا كان المصداق المشتبه محكوما بحكم المخصص على الأول وبحكم
العام على الثاني، ففي المثال السابق ان كان لفسق زيد أو عدم فسقه حالة سابقة صح استصحابه
وحكم على زيد بحكم المخصص أو العام (هذا) إذا كان المتيقن في السابق اتصاف زيد في
حال وجوده بصفة الفسق أو عدمه، واما إذا لم يكن كذلك فهل يجرى استصحاب العدم
الثابت قبل وجود زيد؟ فيه كلام بين الاعلام ويعبرون عن ذلك باستصحاب العدم الأزلي
(وتقريره) بوجهين: (الأول) أن يكون المستصحب هو العدم المحمولي أعني به
مفاد ليس التامة (الثاني) أن يكون عبارة عن العدم الربطي أعني به مفاد ليس الناقصة،
ومرادنا بالعدم الربطي ما هو الرابط في القضايا السالبة، فان التحقيق عندنا ان الرابط
فيها هو نفس العدم فكما يعتبر في الموجبات وجود رابط يعبر عنه بكون الشئ شيئا
فكذلك يعتبر في السوالب عدم رابط أي عدم الشئ شيئا (2)

(1) ربما يقال بعدم صحة فرض التزاحم في أمثال المقام مما كان العموم فيه استغراقيا لعدم
وجود المندوحة في مورد الاجتماع من أول الامر فيكون التنافي في مقام الجعل ولا بدفيه من
الكسر والانكسار في مقام الجعل وانشاء حكم واحد لما هو الأقوى منهما ملاكا (نعم) إذا كان
العموم في أحدهما بدليا كان من باب التزاحم لكون التصادم في مقام الامتثال، ولتحقيق المطلب
محل آخر فتدبر. ح - ع
(2) أقول: هذا ما اختاره بعض المتأخرين، وذهب القدماء من القوم إلى أن القضية
السالبة لا تشتمل على النسبة بل يكون مفادها سلب النسبة وقطعها لا بان تعتبر أولا بين الطرفين
نسبة ثبوتية ثم ترفع وتسلب، بل السلب عندهم يتوجه أولا إلى نفس المحمول، ولكن سلب
المحمول عن الموضوع عبارة أخرى عن سلب الانتساب بينهما كما أن الموجبة لا يعتبر فيها
أو لا نسبة ثبوتية ثم تثبت للموضوع بل يثبت فيها أولا نفس المحمول للموضوع، ومع ذلك
يقال ان فيها ايجاب النسبة وايجادها (والسر في ذلك) ان النسبة معنى حرفي آلى فلا يتعلق
بها لحاظ استقلالي الا بنظر ثانوي مساوق لخروجها من كونها نسبة بالحمل الشائع، فالذي
يتوجه إليه الذهن أولا ويراه مفادا للقضية انما هو اثبات شئ لشئ أو سلبه عنه، ثم بالنظر
الثانوي يرى ان الموجبة تشتمل على نسبة وارتباط بين الموضوع والمحمول والسالبة لا تشتمل الا
على سلب النسبة والارتباط، لا على ارتباط يكون بنفسه امرا عدميا. هذا بعض ما قيل في المقام
وتحقيق المطلب خارج من عهدة فن الأصول. وربما يستشكل على مبنى سيدنا الاستاد (مد ظله
العالي) بان المراد بالعدم الرابط ان كان صورته الذهنية المتحققة في القضية الذهنية، ففيه
انها ليست عدما بالحمل الشائع بل هو امر موجود في الذهن، وان كان المراد به ما به يرتبط
الموضوع والمحمول في الخارج نظير الكون الرابط في الموجبات المركبة (ففيه) ان مقتضى
ذلك هو ان يتحقق في الخارج امر يكون حقيقة ذاته العدم والبطلان ويكون مع ذلك رابطا بين
الموضوع والمحمول، وهذا واضح الفساد، مع أنه من الممكن أن لا يكون شئ من الطرفين
موجودا في الخارج كما في السالبة بانتفاء الموضوع، فيلزم على هذا ان يتحقق في الخارج
عدم رابط بين عدمين، وفساد هذا أوضح من السابق.
(لا يقال): مقتضى ما ذكرت أن لا تكون السالبة مشتملة على النسبة مع أن تقوم القضية بالنسبة
(فانا نقول) لا نسلم توقفها مطلقا على النسبة بل هي امر يتقوم ويتحقق اما بالنسبة أو بسلبها
فمفاد الموجبة تحقق الارتباط بين الطرفين، ومفاد السالبة عدم تحققه بينهما. ح ع
300

(وما قد يتوهم) من كون مدخول السلب في السوالب عبارة عن الوجود الرابط
فاسد جدا، فان المدخول له هو نفس المحمول، والعدم هو الرابط، بداهة انه لا يعتبر
في القضية السالبة أزيد من تصور الموضوع والمحمول والنسبة السلبية أعني بها سلب
المحمول عن الموضوع، ولا يجب ان يتصور وجود المحمول للموضوع أولا ثم يجعل
مدخولا للسلب حتى يصير اجزائها أربعة: الموضوع، والمحمول، والوجود الرابط،
والسلب، ويعلم ذلك بملاحظة مراد فها في الفارسية فيقال: (زيد نيست قائم) ولا يقال:
(زيد نيست هست قائم).
(والحاصل) ان وزان العدم وزان الوجود، فكما أن الوجود قد يكون محموليا كما في
الهليات البسيطة، وقد يكون ربطيا كما في الهليات المركبة، فكذلك العدم قد يكون
محموليا وقد يكون ربطيا، والأول في السالبة البسيطة، والثاني في السالبة المركبة
(إذا عرفت هذا فنقول): استصحاب العدم الأزلي (بناء على صحته) انما يجرى في كلا
قسمي العدم، مثال ذلك أن الشارع حكم بان المرأة تحيض إلى خمسين ثم استثنى من
ذلك القرشية فحكم بتحيضها إلى ستين، فالعام هو عنوان المرأة والمخصص هو عنوان
301

القرشية، و (ح) فقد يجعل المستصحب عبارة عن مفاد الهلية البسيطة أعني به العدم
المحمولي فيقال: انتساب هذه المرأة إلى قريش لم يكن فيستصحب، فالمستصحب (ح) هو عدم
الانتساب المتحقق قبل وجود المرأة، وقد يجعل المستصحب عبارة عن مفاد الهلية المركبة أعني
به العدم الربطي والنعتي، فيقال: هذه المرأة لم تكن منتسبة إلى قريش فيستصحب، والمستصحب
(ح) أيضا هو العدم الثابت قبل وجود المرأة، فالقضية المتيقنة هي السالبة بانتفاء الموضوع.
والمشكوكة هي السالبة بانتفاء المحمول، ولا يضر ذلك بالاستصحاب بعد اتحاد مفادهما عرفا
(لا يقال): موضوع الحكم الشرعي هو السالبة بانتفاء المحمول فاثباتها باستصحاب أصل السلب
الجامع اعتماد على الأصل المثبت (فانا نقول): لا نسلم ذلك إذ ما ذكرت موقوف على لحاظ
الوجود في موضوع القضية الشرعية، ولا دليل على ذلك، بل الموضوع فيها ظاهرا هو نفس الماهية.
(نعم) هنا شئ آخر وهو ان اثبات السلب الناقص باستصحاب السلب التام يوجب العمل
بالأصل المثبت، فلا بد فيما إذا كان الأثر مترتبا على السلب الناقص من أن يستصحب نفسه،
هذا ما ذكروه في المقام.
(والظاهر) عدم صحة استصحاب العدم الأزلي بكلا قسميه وانصراف لا تنقض عن مثل هذا
الاستصحاب (1) فان الذي يراد استصحابه في المقام ليس نفس عدم الانتساب بل عدم انتساب
هذه المرأة، والهذية انما تعتبر عند وجود المشار إليه، ولا هذية للمرأة المعدومة فلا عرفية
لهذا الاستصحاب ويكون الأدلة منصرفة عنه. وإن شئت قلت: إن عدم المحمول في حال وجود
الموضوع يعتبر بنظر العرف مغايرا للعدم الذي يفرض في حال عدم الموضوع، فان الموضوع
للأول امر يمكن ان يشار إليه بهذا، دون الثاني، ففي الحقيقة ليس لنا متيقن مشكوك البقاء
حتى يستصحب (فتبين مما ذكرنا) ان استصحاب العدم الأزلي من الأمور المخترعة في
المدرسة، ولا أساس له عند العرف والعقلاء فافهم.
(ثم اعلم) أنه قال شيخنا الاستاد (طاب ثراه) في هذا المبحث من الكفاية ما هذا لفظه:

(1) لا يخفى ان سيدنا الاستاد " مد ظله العالي " لا يريد انكار الاستصحاب العدمي مطلقا
كما قد يتوهم من منعه استصحاب العدم المحمولي أيضا في المقام، بل مراده انكاره فيما إذا
كان العدم مضافا إلى مفهوم لا يعتبر الا عند الوجود كمفهوم الهذية فلا عرفية للاستصحاب
" ح " سواء في ذلك العدم الربطي والمحمولي. ح ع
302

(ايقاظ) لا يخفى ان الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل أو كالاستثناء من المتصل
لما كان غير معنون بعنوان خاص، بل بكل عنوان لم يكن ذاك بعنوان الخاص كان احراز المشتبه
منه بالأصل الموضوعي في غالب الموارد الا ما شذ ممكنا فبذلك يحكم عليه بحكم العام
(انتهى). ثم ذكر مسألة تحيض المرأة إلى خمسين واستثناء القرشية منها.
(وذكر بعض أعاظم العصر) في بيان عدم تعنون العام ان المخصص انما يكون لاخراج
الافراد الغير المرادة، واما الافراد الباقية تحت العام فهي محكومة بالحكم بما انها من
افراد العام، فيكون عنوان العام بالنسبة إلى حكم الباقي تمام الموضوع من غير دخل للمخصص
وجودا أو عدما في ثبوت الحكم له، فالتخصيص بمنزلة موت بعض الافراد فكما أن الموت
لا يوجب تعنون الموضوع، وانما يوجب التقليل في افراده فكذلك التخصيص،
(أقول): عبارة المحقق الخراساني قد توهم ما يبعد جدا ارادته من مثله، فان الظاهر
منها في بادئ النظر ان العام إذا اتحد مع كل عنوان سوى عنوان الخاص صار (مقيدا بهذا العنوان)
موضوعا للحكم الثابت للباقي فيصير كل عنوان طار دخيلا في الموضوع فيلزم وجود
موضوعات غير متناهية واحكام متعددة بعددها، وهذا واضح الفساد لا يصدر القول به عن
مثله، فيجب حمل كلامه على ما حكيناه عن بعض المعاصرين، فيكون مراده ان الموضوع
للحكم هو حيثية المرأة فقط في المثال، والخارج منها هو القرشية، وبعد نفى عنوانها
باستصحاب العدم الأزلي يكون حكم العام متبعا، ومراده " قده " باستصحاب العدم هنا
استصحاب العدم المحمولي. (ثم إنه) يرد على القول بعدم التعنون وكون عنوان العام تمام
الموضوع ان معنى تمامية العنوان في الموضوعية دوران الحكم مداره وجودا وعدما،
والمفروض فيما نحن فيه خلاف ذلك، فان عنوان العام متحقق في ضمن افراد المخصص
أيضا وليست مع ذلك محكومة بحكمه (وبعبارة أوضح) ففي مقام الثبوت والإرادة الجدية
اما أن يكون تمام الملاك في وجوب الاكرام مثلا هو حيثية العالمية فقط، واما أن لا يكون كذلك
بل يشترط في ثبوت الحكم للعالم عدم كونه فاسقا، فعلى الأول لا معنى للتخصيص، وعلى
الثاني لا يكون عنوان العام بنفسه تمام الموضوع بل يشترط في ثبوت الحكم له عدم عنوان
المخصص بالعدم النعتي أو المحمولي، فعدم المخصص (اجمالا) بأحد النحوين دخيل ثبوتا،
303

وهذا معنى التعنون وعدم كونه تمام الموضوع
(ثم إن الظاهر) دخالة العدم بنحو النعتية والربطية، فان حكم المخصص ثابت
لوجوده الربطي، وانتفاء الوجود الربطي بالعدم الربطي، فالتحيض إلى ستين مثلا ثابت
للمرأة الموصوفة بالقرشية، وبإزاء هذا الوجود الربطي العدم الربطي، فبضم المخصص
إلى العام يستظهر ان التحيض إلى خمسين انما يكون للمرأة الموصوفة بعدم الانتساب
إلى قريش فيتعنون الموضوع بالعدم الربطي والنعتي، وقد عرفت أنه لا مجال للاستصحاب
في ذلك الا إذا كان بنحو الربطية متيقنا في السابق مع وجود الموضوع.
(واما تنظير بعض الأعاظم) التخصيص بموت بعض الافراد فعجيب، فان انعدام بعض
الافراد لا يوجب تقيدا في موضوع الحكم ولا يخرجه من كونه تمام الموضوع، وهذا بخلاف
التخصيص فإنه يخرجه من التمامية كما عرفت، وكيف كان فلا يعقل كون عنوان العام
تمام الموضوع ثبوتا بعد ورود التخصيص عليه (نعم) لا يوجب التخصيص تقيده في مقام الاثبات،
وهذا بخلاف المطلق والمقيد فان ورود المقيد يوجب تقيد المطلق في مقام الاثبات أيضا.
(الامر الخامس) قال في الكفاية (ما هذا لفظه): ربما يظهر عن بعضهم التمسك بالعمومات
فيما إذا شك في فرد لا من جهة احتمال التخصيص بل من جهة أخرى كما إذا شك في صحة
الوضوء أو الغسل بمايع مضاف فيكشف صحته بعموم مثل أوفوا بالنذور فيما إذا وقع
متعلقا للنذر بان يقال: وجب الاتيان بهذا الوضوء وفاء للنذر للعموم وكلما يجب الوفاء به
لا محالة يكون صحيحا للقطع بأنه لولا صحته لما وجب الوفاء به، وربما يؤيد ذلك بما ورد
من صحة الاحرام والصيام قبل الميقات وفي السفر إذا تعلق بهما النذر كذلك، (والتحقيق
ان يقال): انه لا مجال لتوهم الاستدلال بالعمومات المتكفلة لاحكام العناوين الثانوية
فيما شك من غير جهة تخصيصها إذا اخذ في موضوعاتها أحد الاحكام المتعلقة بالأفعال
بعناوينها الأولية كما هو الحال في وجوب إطاعة الوالد والوفاء بالنذر وشبهه في الأمور
المباحة أو الراجحة، ضرورة انه معه لا يكاد يتوهم عاقل انه إذا شك في رجحان شئ أو حليته
جاز التمسك بعموم دليل وجوب الإطاعة أو الوفاء في رجحانه أو حليته.
(نعم) لا بأس بالتمسك به في جوازه بعد احراز التمكن منه والقدرة عليه فيما لم يؤخذ
304

في موضوعاتها حكم أصلا (انتهى). (1)
(أقول): ليت شعري على أي شئ حمل المحقق الخراساني كلام هذا البعض حيث
استوحش منه وقال إنه لا يكاد يتوهم عاقل ذلك، مع أن ما ذكره هذا البعض ليس إلا تمسكا
بالعام في الشبهات المصداقية للمخصص المنفصل وقد التزم جم غفير بجوازه، فليس الالتزام
به موجبا للوحشة، ولذلك اهتم المتأخرون حتى نفسه " قده " بالمسألة كما مر.
(ووجه) كون ما نحن فيه من جزئيات تلك المسألة ظاهر، فان قوله أوفوا بالنذور
عام، وقد خص (بسبب قوله لا نذر الا في طاعة الله) بما إذا كان متعلقه راجحا فيكون
التمسك بالعام والحكم بوجوب الوفاء فيما شك في رجحانه تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية
للمخصص (نعم) كأن غرض هذا البعض مضافا إلى الحكم بوجوب الوفاء اثبات رجحان

(1) ربما يقرر مقصود صاحب الكفاية (قده) بان المنذور في المثال ليس هو صرف
الغسلات بل ما يكون وضوء شرعيا، والقدرة عليه انما هو بعد تشريع الشارع إياه، والمفروض
انه مشكوك فيه، فالشك انما يكون في القدرة وهي مما لا يمكن اثباتها بالعموم وان قلنا
بجواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص (انتهى): (أقول): هذا صحيح لو لم
يكن جعل القدرة بيد الشارع، واما إذا كان بيده كما فيما نحن فيه أمكن التمسك بعموم أوفوا
بالنذور واستكشاف تشريعه له بدلالة الاقتضاء (نعم) لا يجوز التمسك نظرا إلى ورود
المخصص فليس الاشكال في المسألة زائدا على اشكال التمسك بالعام في الشبهة المصداقية،
هذا. " والظاهر أن " نظر صاحب الكفاية " قده " في المقام إلى امر آخر وهو ان جواز
التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية " بناء على القول به " انما هو فيما إذا ثبت الحكم
لنفس عنوان العام ثم طرء عليه تخصيص فحينئذ يمكن ان يقال بجواز التمسك به في الافراد
المشكوك فيها نظرا إلى أن شمول عنوان العام لها قطعي وشمول عنوان المخصص مشكوك
فيه فرفع إليه عنه بسببه من قبيل رفع اليد عن الحجة باللا حجة،
واما إذا لم يكن الحكم من أول الامر ثابتا لنفس عنوان العام بل اخذ " ولو بدليل منفصل "
مع بعض الخصوصيات و معنونا بعنوان خاص ثبوتي موضوعا للحكم وكان تحقق هذا العنوان
الخاص مشكوكا فيه فاثباته بعموم الحكم غير معقول، إذ الفرض ثبوت الحكم لعنوان خاص،
وهو في العموم والخصوص تابع لموضوعه، ومثال النذر من هذا القبيل، فان قوله أوفوا
بالنذور وان كان بحسب الصورة عاما ولكنه اخذ في موضوعه بدليل منفصل خصوصية رجحان
المتعلق فوجوب الوفاء ثابت لخصوص ما كان راجحا، فاثبات الرجحان بعموم الوفاء من قبيل
اثبات الموضوع بحكم نفسه وهو محال كما لا يخفى. ح - ع
305

العمل وصحته في غير مورد النذر أيضا ولكن هذا امر آخر يمكن ان يلتزم به من يعمل بلوازم
العموم ومثبتاته، وكيف كان فالمسألة من جزئيات المسألة السابقة وليس الاشكال فيها
من جهة كون عنوان أوليا أو ثانويا أو غير ذلك.
اللهم الا ان يقال: ان وجوب الوفاء بالنذر عبارة عن وجوب الاتيان بالمنذور، و
المنذور فيما نحن فيه ليس هو اتيان صورة العمل فقط، بل الوضوء الشرعي بالماء المضاف،
والمفروض ان مشروعية الوضوء به وكونه وضوء شرعيا مشكوك فيه، فاثباته بعموم وجوب
الوفاء بالنذور تمسك بالعام فيما شك في كونه من افراده وهو مما يجب ان يستوحش منه.
(ثم قال في الكفاية ما حاصله): ان صحة الصوم في السفر بنذره فيه وكذا الاحرام قبل
الميقات فإنما هي من جهة الدليل الدال على صحتهما، هذا في مقام الاثبات، واما في مقام الثبوت
فيمكن أن يكون صحتهما من جهة رجحانهما ذاتا في السفر وقبل الميقات، غاية الامر انه
كان للامر بهما ندبا أو وجوبا مانع يرتفع بالنذر، كما يمكن أن يكون صحتهما من جهة
صيرورتهما راجحين بسبب تعلق النذر بهما بعد ما لم يكونا كذلك. ويدل على قوة
الثاني ما ورد من أن الاحرام قبل الميقات كالصلاة قبل الوقت. (1)
" لا يقال ": لا يجدي صيرورتهما راجحين بذلك في عباديتهما فان وجوب الوفاء
بالنذر توصلي ولا شك ان الصوم والاحرام تعبديان (فإنه يقال): عباديتهما ليست بالأمر
النذري بل من جهة كشف دليل صحتهما عن عروض عنوان راجح عليهما ملازما لتعلق
النذر بهما، هذا بناء على اعتبار الرجحان في متعلق النذر مع قطع النظر عن نفس
الرجحان النذري، ولكنه يمكن ان يقال بكفاية الرجحان الطارئ عليهما من قبل
النذر في عباديتهما بعد تعلق النذر باتيانهما عباديا، وعدم تمكن المكلف من اتيانهما
كذلك قبل النذر لا يضر بعد تمكنه منه بعده فإنه لا يعتبر في صحة النذر الا التمكن
من الوفاء ولو بسببه (انتهى).
(أقول): لا يخفى ان الاحرام قبل الميقات صحيح عند العامة بل يجعلونه أفضل من

(1) ويضعف الأول أيضا بأنه يلزم عليه كونهما مشروعين قبل تعلق النذر بهما أيضا لوجود
الملاك. ح - ع
306

الميقات ولكنه فاسد عندنا بالاخبار الواردة فيه، واما إذا تعلق به النذر فقد دلت الاخبار على صحته.
(ثم إن) في جعل مسألتي الاحرام قبل الميقات والصوم في السفر مؤيدين لما نحن فيه
نظر، فان الصوم في السفر والاحرام قبل الميقات فاسدان قطعا، وانما يصحان في حال النذر
فقط فكيف يصير صحتهما في هذه الحالة مؤيدة لصحة الوضوء، بالماء المضاف مثلا عند عدم
تعلق النذر به، (نعم) يمكن ان يؤيد بها صحته في حال النذر فقط.
(وليعلم أيضا) ان ما التزمه في الكفاية أخيرا من تعلق النذر باتيان الصوم والاحرام عباديا
وكفاية نفس الامر النذري في اتيانهما كذلك يجرى فيه اشكالات باب التعبدي والتوصلي
وهو " قده " مع ايراده الاشكالات في ذلك الباب (من الدور وغيره) التزم هنا بما تجرى فيه
الاشكالات بعينها فتدبر.
" الامر السادس " ما ذكرناه سابقا من جواز التمسك بالعام أو عدم جوازه انما كان
فيما إذا أحرز فردية زيد مثلا للعام وشك في حكمه من جهة احتمال كونه من
افراد المخصص.
واما إذا كان هنا عام ذو حكم وعلمنا بعدم كون زيد محكوما بحكمه، ولكن شك
في كونه من افراده حتى يكون خروجه بالتخصيص، أو عدم كونه كذلك حتى يكون خروجه
بالتخصص، فهل يثبت بأصالة العموم عدم كونه من افراده ويترتب عليه آثار ذلك أولا؟
فيه كلام، (قال في الكفاية) ما حاصله بتوضيح منا: ان مثبتات الأصول اللفظية وان كانت
حجة ولكن حجية أصالة العموم انما هي من باب بناء العقلاء، والمتيقن من بنائهم على العمل
بها انما هو فيما إذا شك في المراد من جهة الشك في إرادة العموم، لا فيما إذا علم بالمراد وشك
في كيفيتها وانها بنحو التخصيص أو التخصص (انتهى).
(أقول): قد عرفت سابقا ان استعمال اللفظ على ثلثة انحاء: (الأول) ان يستعمل في
معناه الموضوع له ليتقرر بنفسه في ذهن السامع من جهة كونه مرادا جديا، (الثاني)
ان يستعمل فيه ليجعل معبرا يعبره ذهن السامع إلى معنى آخر يكون هو المراد جدا
(الثالث) ان يستعمل في معناه ويكون المقصود تقرر بعض المعنى في ذهن السامع ليحكم
عليه وخروج بعضه الاخر من جهة عدم ارادته جدا، وهذا القسم انما يتصور فيما إذا كان
307

للمعنى وحدة جمعية وكانت متكثرة في عين الوحدة كالعام الافرادي أو المجموعي، والاستعمال
على النحو الأول حقيقي، وعلى الثاني مجازى، وعلى الثالث لا هذا ولا ذاك وقد عرفت تفصيل
الانحاء الثلثة سابقا فراجع. (وكيف كان) فالعام المخصص من القسم الثالث فهو أيضا يستعمل
في نفس معناه الموضوع له أعني به جميع الافراد، غاية الامر انه لما كان المقصود بالحكم عليه
بعض افراده أتى بالمخصص حتى يخرج بسببه الافراد الغير المرادة ويبقى الباقي فالتخصيص
ليس عبارة عن تضييق المستعمل فيه، بل هو عبارة عن تضييق المراد الجدي، والمستعمل
فيه ليس إلا جميع الافراد، وهو وان كان معنى وحدانيا ولكنه لما كان عين الكثير خارجا كان
المستعمل فيه بحسب الحقيقة هو المتكثرات، وعلي هذا فان علمنا بكون الجميع مرادا
جديا أيضا فهو، والا جرى بالنسبة إلى كل فرد شك في حكمه أصالة تطابق الإرادة الجدية
مع الاستعمالية حتى أنه لو علم بخروج بعض الافراد وشك في بعضها الاخر جرى بالنسبة إلى
هذا المشكوك فيه ذلك الأصل العقلائي، فليس في العام أصل عقلائي وحداني، بل يجرى
فيه أصول عقلائية متعددة بعدد افراده (وبالجملة) حجية العام تتقوم بأمرين: (أحدهما)
وضعه للعموم وكونه مستعملا في العموم دائما، (والثاني) جريان الأصل العقلائي المذكور
في كل فرد فرد منه بمعنى ان كل فرد علم ارادته جدا فهو، وكل ما علم عدم ارادته فلا اشكال
فيه أيضا، واما كل فرد شك في حكمه فيجرى فيه أصالة التطابق، فيكون محكوما بحكم
العام، فأصالة العموم أصل عقلائي مرجعه إلى استقرار سيرة العقلاء على الحكم بتطابق
الإرادتين وكون ما هو المراد بحسب الاستعمال مرادا جديا.
(إذا عرفت هذا) تبين لك عدم جواز التمسك بأصالة العموم لنفى فردية شئ للعام
إذ لم يرد في آية أو رواية لفظ أصالة العموم حتى ينازع في أنها تشمل لما نحن فيه أو تختص
بصورة الشك في المراد، بل الثابت ليس الأبناء العقلاء على اجراء أصالة التطابق بين
الإرادتين في كل فرد، ولا محالة يختص ذلك بما إذا أحرز فردية شئ للمستعمل فيه وشك في
كونه مرادا بحسب الجد.
واما إذا شك في فردية شئ للعام مع العلم بعدم كونه محكوما بحكمه فلا مجال
للتمسك بلفظ العام ولا بالأصل العقلائي لاثبات فرديته أو نفيها، فان لفظ العلماء مثلا
308

قد استعمل في جميع افراد العالم، واما ان زيدا من جعلة افراده أو لا فمما لا يتكفل له لفظ
العلماء، واما الأصل العقلائي فإنما يجرى بعد احراز كونه من افراد المستعمل فيه،
والمفروض كون ذلك مشكوكا فيه، مضافا إلى أن مفاد الأصل العقلائي كما عرفت تطابق
الإرادة الجدية للاستعمالية وكون الفرد محكوما بحكم العام، فلا مجال لان يتمسك به
لنفى فرديته له، (فتلخص مما ذكرنا) ان المتحقق في العمومات امران: (أحدهما) صيغة
العموم المستعمل في العموم دائما، (والثاني) الأصل العقلائي الحاكم بتطابق الإرادتين وهو
معنى أصالة العموم، ولا يتكفل واحد من الامرين لنفى فردية شئ أو اثباتها فافهم وتأمل جيدا.
(الامر السابع) إذا قال: (أكرم العلماء) ثم قال: (لا يجب اكرام زيد) فتردد ذلك بين
شخصين مسميين بزيد: أحدهما عالم، والاخر جاهل، فالظاهر أنه يجب العمل بعموم العام
واكرام زيد العالم، إذ العام حجة ما لم ينهض في قباله حجة أقوى، والمفروض ان الفرد المرخص
فيه مجمل مردد بين زيد العالم وغيره فلا حجة في البين في قبال العام.
(هذا) إذا كان الحكم الثاني ترخيصيا، واما إذا كان إلزاميا كما إذا قال: لا تكرم زيدا
فيقع فيه الاشكال من جهتين: " الأولى " انه هل يجب اجراء حكم العام على زيد العالم
أو يكون العلم الاجمالي بحرمة اكرام أحد الشخصين موجبا لاجمال العام أيضا؟
" الثانية " انه بناء على العمل بالعموم بالنسبة إلى زيد العالم هل ينحل العلم الاجمالي
بسبب عموم العام ويحكم بكون المراد من زيد الذي حرم اكرامه هو الفرد الجاهل حتى
يترتب عليه آثار العلم بحرمة الاكرام تفصيلا أو لا ينحل؟
" يمكن ان يقال ": بحجية العام في الفرد العالم لعدم وجود حجة أقوى على خلافه،
ولا عذر للعبد في رفع اليد عن عموم العام، هذا بالنسبة إلى الجهة الأولى، واما بحسب
الجهة الثانية ففي جواز الحكم بانحلال العلم الاجمالي نظر، لما عرفت من أن الثابت من
بناء العقلاء انما هو الحكم بتطابق الإرادتين فيما ثبت فيه الإرادة الاستعمالية، واما تكفله
لنفى فردية شئ أو اثبات حكم آخر فليس ثابتا عند العقلاء، وكون الأصول اللفظية
من الامارات لا يقتضى ترتيب جميع لوازمها العقلية بعد عدم بناء العقلاء على ترتيبها، هذا.
309

(وقال بعض أعاظم العصر ما حاصله): انه ربما يقال: ان العلم الاجمالي بحرمة اكرام
زيد العالم أو الجاهل موجب لترك اكرامهما معا، ولا يكون عموم العام موجبا لانحلاله، فان
دليل العموم بمنزلة الكبرى الكلية فلا يتكفل لحال الفرد، وليس حاله حال البينة القائمة على
وجوب اكرام زيد العالم الموجبة لانحلال العلم، فالعلم الاجمالي موجب لسقوط العام من
الحجية بالنسبة إلى زيد العالم. (وفيه) ان العام وإن لم يتكفل لحكم الفرد ابتداء ولكنه يثبت
حكمه بعد انضمام الصغرى المعلومة إلى الكبرى المستفادة من دليل العام، وإذا ثبت له الحكم
الوجوبي بالعموم ارتفع عنه الحكم التحريمي بالملازمة فتتعين الحرمة في الطرف الاخر لكون
المثبتات من الأصول اللفظية حجة، فينحل العلم أيضا ببركة العام إذ الانحلال يتحقق
اما باثبات الحكم المعلوم بالاجمال في طرف أو بنفيه عنه انتهى.
(أقول) هذا المعاصر لم يعنون الامر السابق فكأنه كان مبناه فيه أيضا جواز التمسك بالعام لنفى
فردية ما شك في فرديته له لما ذكره من حجية مثبتات الأصول اللفظية، وقد عرفت الجواب
عن ذلك وان حجيتها من باب بناء العقلاء، ولم يستقر بنائهم على العمل بأصالة العموم الا فيما
إذا شك في تطابق الإرادتين فتدبر.
(الامر الثامن) إذا وقع الاختلاف في كون يد أمينة أو عادية فالمشهور على أن القول
قول مدعى الضمان وان البينة على مدعى الأمانة، وحيث إن ذلك بحسب الظاهر على
خلاف القواعد، إذ القاعدة تقتضي تقديم قول مدعى الأمانة من جهة ان الأصل عدم الضمان،
تصدى بعضهم لتصحيح فتوى المشهور، فاستدل لذلك بعموم على اليد، ونحن أيضا تمسكنا
به في حواشينا على العروة، ولكنه لا يخفى فساده، فان عمومه مخصص باليد الأمينة، فالتمسك
به في اليد المشكوك فيها تمسك بالعام في الشبهات المصداقية، وليس فتوى المشهور في هذه
المسألة دليلا على اجازتهم لهذا النحو من التمسك لعدم استنادهم في هذه الفتوى إلى ذلك،
(والظاهر) ان مستندهم في هذه الفتوى الروايات الواردة في المسألة وحيث لم يظفر
عليها بعض المتأخرين ذكر وجوها غير مغنية، ومن الروايات رواية ابن أبي نصر عن إسحاق
بن عمار عن أبي الحسن الأول عليه السلام فراجع.
310

* (فصل) *
هل يجوز التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصص أو لا؟ فيه خلاف، وأول من
عنون المسألة أبو العباس بن سريج (المتوفى في أوائل المئة الرابعة من الهجرة) وكان هو يقول
بعدم الجواز، واستشكل عليه تلميذه أبو بكر الصيرفي بأنه لو لم يجز ذلك لما جاز التمسك
بأصالة الحقيقة أيضا قبل الفحص عن قرينة المجاز (انتهى).
ولا بد قبل الشروع في تحقيق المسألة من ذكر أمور: (الأول) ان القدماء من الأصوليين
كانوا يعنونون في كتبهم مسألة أخرى بهذا العنوان: هل يجوز اسماع العام المخصص بدون
ذكر مخصصاته أو لا؟ (والظاهر) ان النزاع في المسألة الأولى كان مرتبطا بالنزاع في المسألة
الثانية، فمن كان يقول في المسألة الثانية بجواز اسماع العام بدون اسماع مخصصه كان يقول
في المسألة الأولى بوجوب الفحص، ومن كان يقول في المسألة الأولى بعدم وجوب الفحص
كان يقول في المسألة الثانية بعدم جواز اسماعه بدون اسماع المخصص، (ولعل) نظر من ادعى
الاجماع على وجوب الفحص إلى أن وجوبه على فرض جواز اسماع العام بدون اسماع المخصص
مجمع عليه (الثاني) ان النزاع في المسألة كما في الكفاية انما هو بعد الفراغ من كون أصالة
العموم حجة من باب الظن النوعي لا الشخصي، وكونها معتبرة من باب الظن الخاص لا من باب
الظن المطلق، وبعد عدم وجود علم تفصيلي أو اجمالي بالتخصيص، ووجه اعتبار القيود الثلثة واضح.
(الثالث) ان النزاع لا ينحصر في العمل بالعام قبل الفحص، بل يجرى في العمل بكل
دليل لفظي قبل الفحص عما يعارضه ويزاحم ظهوره، بل يمكن ان يقال بجريانه في كل
أصل لفظي أو عملي فلا يجوز العمل به قبل الفحص عن مزاحماته، ولا خصوصية لباب العمومات،
وما نذكره دليلا لوجوب الفحص يجرى في جميع الأصول اللفظية والعملية، فملاك
الفحص ومقدار وجوبه في جميع ذلك واحد فتدبر.
(إذا عرفت هذا فنقول): قال شيخنا الاستاد " قده " في الكفاية ما حاصله: ان التحقيق
عدم جواز التمسك بالعام قبل الفحص إذا كان في معرض التخصيص كما هو الحال في عمومات
311

الكتاب والسنة، وذلك من جهة القطع باستقرار سيرة العقلاء على عدم العمل قبله، ولولا
القطع فلا أقل من الشك، واما إذا لم يكن في معرضه كما هو الحال في العمومات الواقعة
في ألسنة اهل المحاورات فلا شبهة في أن السيرة قد استقرت على العمل به بلا فحص عن
المخصص (انتهى).
(أقول): ما ذكره من كون العام في معرض التخصيص كلام مجمل، (فإن كان المراد
بالمعرضية) وجود العلم الاجمالي بورود التخصيص على بعض العمومات (ففيه) مضافا
إلى أنه خارج من مورد النزاع كما مر آنفا، انه لو كان المانع عن العمل بالعموم وجود
العلم الاجمالي كان مقتضاه جواز العمل بلا فحص بعد انحلال العلم بالظفر بمقدار المعلوم
بالاجمال، وهو كما ترى وان التزام به بعضهم. (وان كان المراد بالمعرضية) كون المولى
ممن جرت عادته على ذكر المخصصات منفصلة ولو غالبا (ففيه) ان المولى الكذائي إذا
امر عبده الخاص بامر متعلق بالعام فهل للعبد ترك العمل به معتذرا باحتمال طرو التخصيص؟
لا والله ولا يعده العقلاء معذورا.
" فالتحقيق ان يقال " (ولعله مراد صاحب الكفاية أيضا): ان التكاليف الصادرة
عن الموالى متوجهة إلى عبيدهم على قسمين: (القسم الأول) ما كان صادرا في موارد
خاصة مثل ما إذا امر المولى عبده في مقام خاص بعمل مخصوص، ففي هذا القسم يجب على العبد
القيام بما يقتضيه ظاهر الخطاب، والدليل على ذلك عدم قبول العقلاء اعتذار العبد الكذائي
إذا اعتذر لترك العمل بالعموم بكونه بصدد الفحص عن المخصص أو سائر القرائن.
(القسم الثاني) ما كان صادرا على نحو ما يجعل القوانين الكلية لجميع الناس أو لجميع
من في سلطنة المولى وهو أيضا على قسمين: (القسم الأول) ما كان الغرض من جعله العمل
به على فرض حصول العلم به والاطلاع عليه، ففي هذا القسم أيضا لا يجب الفحص (القسم الثاني)
ما كان الغرض من جعله تفحص العبيد وبحثهم عنه ثم اجرائه والعمل به بعد ذلك بحيث لم يكن
مقصورا على من يحصل له العلم به اتفاقا، بل كان مطلوبا من كل واحد من الناس مطلقا ولأجل
ذلك حث المولى (بعد جعله وتقنينه) على التفقه فيه والنفر لتحصيل العلم به وأعلن بكرات
عديدة عدم معذورية الجاهل به والتارك له عن جهل، فمثل هذه القوانين يحكم العقل
312

بوجوب تعلمها والبحث عن حدودها وتقييداتها وتخصيصاتها إذ قد تم ما كان من قبل
المولى: من بيان الاحكام وبيان حدودها والاعلام بكونها ثابتة لكل من الحاضر والغائب و
الموجود والمعدوم إلى يوم القيامة وعدم معذورية أحد من المكلفين في تركها، وجميع
القوانين الدائرة في العالم من هذا القبيل حيث يقنن من قبل الهيئة المقننة أو لا الضوابط و
والقوانين الكلية ثم يذكر تقييداتها وتخصيصاتها ثم يعلن بوجوب الفحص عنها ثم اجرائها،
ومن هذا القبيل أيضا القوانين الشرعية الاسلامية، فان الله تبارك وتعالى أرسل رسوله
ليبين الأحكام الكلية لجميع البشر، وانزل إليه الكتاب الجامع وأمر رسوله بنصب الخلفاء
والأئمة عليهم السلام لتتميم قواعد الدين وتشييد مبانيها، ثم أوجب على جميع الناس تعلم
الاحكام والنفر لتحصيلها فقال (وقوله الحق): فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين
ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون، وقد ورد في الحديث انه يؤتى بالعبد يوم
القيمة فيقال له هلا عملت فان قال لم اعلم يقال له هلا تعلمت، وعليك بمراجعة الآيات
والاخبار حتى يظهر لك انه كيف وقع فيها الحث على التفقه في الدين وتعلم احكامها، فعلى
هذا يجب! على العبيد الفحص عن جميع الاحكام بخصوصياتها وحدودها ولا عذر لهم في ترك
العمل بها عن جهل فتتبع.
(تبصرة) لا فرق بين الفحص فيما نحن فيه والفحص في الأصول العملية فإنهما من واد
واحد كما عرفت، والواجب في الجميع هو الفحص بمقدار اليأس والاطمينان بأنه لو كان
مزاحم لظفر به، فما في الكفاية من الفرق بين المقامين فيه ما لا يخفى فتدبر.
* (فصل) *
هل الخطابات الشفاهية تشمل الغائبين والمعدومين في حال الخطاب أو لا؟ فيه كلام بين الاعلام
(قال في الكفاية) ما حاصله بتوضيح منا: ان محل النزاع يمكن أن يكون أحد
الأمور الثلثة:
(الأول) ان التكليف الذي يتضمنه الخطاب يصح تعلقه بالمعدومين أم لا؟ فالنزاع
313

حقيقة في صحة تكليف المعدوم (الثاني) ان الخطاب بما هو خطاب أعني به توجيه الكلام
نحو الغير سواء كان بأدواته أم لا هل يصح ان يتوجه إلى المعدومين أو لا؟
(الثالث) ان الألفاظ الواقعة عقيب أدوات الخطاب تشمل بعمومها للمعدومين أو
تصير الأدوات قرينة على اختصاصها بالحاضرين في مجلس التخاطب؟ والنزاع على الأولين
عقلي وعلى الثالث لغوي.
(إذا عرفت هذا فنقول) اما المسألة الأولى فتتصور على وجوه ثلثة: (الأول) تكليف
المعدوم بمعنى بعثه وزجره فعلا حين كونه معدوما، وهذا محال بلا اشكال (الثاني)
انشاء الطلب منه بلا بعث وزجر فعلا، وهذا القسم لا استحالة فيه أصلا، فان الانشاء خفيف
المؤنة، فالحكيم ينشئ على وفق المصلحة طلب شئ قانونا من الموجود والمعدوم حين
الخطاب ليصير فعليا بعد ما وجد الشرائط وفقد الموانع (الثالث) انشاء الطلب مقيدا
بوجود المكلف ووجد انه للشرائط، وامكان هذا القسم أيضا بمكان من الامكان (انتهى
ما أردنا نقله من كلامه).
(أقول): الظاهر أن نظر الباحثين في المسألة والمتنازعين فيها لم يمكن إلى الامر الأول
فان عموم التكاليف الشرعية وشمولها اجمالا للمعدومين كان مفروغا عنه بين الفريقين،
غاية الامر ان القائل بعدم شمول الخطاب لهم كان يثبت لهم التكليف في ظرف وجودهم
بأدلة الاشتراك من الاجماع ونحوه، ولا إلى الامر الثالث لعدم كونه معنونا في كلماتهم،
فما هو محط نظر الأصحاب هو الامر الثاني من الأمور الثلثة أعني عموم الخطاب وتوجيه الكلام
لمن لم يكن في مجلس التخاطب سواء كان حال التخاطب من الموجودين أو كان
معدوما بالكلية وكيف كان فنحن نبحث في مقامين
" المقام الأول " مسألة تكليف المعدوم، وملخص الكلام فيها ان التكليف الحقيقي
بمعنى البعث والزجر الفعلي بالنسبة إلى المعدوم امر غير معقول، بداهة عدم امكان انبعاثه و
انزجاره في حال عدمه، ولم يقل أحد أيضا بجواز تكليفه كذلك، واما انشاء التكليف
بالنسبة إليه فان أريد به انشاء الطلب منه في ظرف عدمه بأن يكون في حال العدم موضوعا
التكليف الانشائي فهو أيضا غير صحيح، إذ لا يترتب عليه الانبعاث ولا غيره من دواعي الانشاء
314

حال كونه معدوما، وانبعاثه في ظرف وجوده وتحقق شرائط التكليف فيه ليس من فوائد
انشاء الطلب منه في ظرف العدم، بل هو من الآثار المترتبة على انشاء الطلب من
المكلف على فرض وجوده، فالذي يصح في المقام ويعقل تحققه من المولى الحكيم هو
انشاء التكليف بالنسبة إلى المكلف بنحو القضية الحقيقية بحيث يشمل الموجود و
المعدوم، ولكن لا بلحاظ ظرف عدمه بل في ظرف وجوده وفرض تحققه، ففي قوله
تعالى: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا، ليس وجوب الحج مقصورا
على من وجد واستطاع حال نزول الآية، بل الحكم فيها يعم الموجود والمعدوم حاله، ولكن
المعدوم في ظرف عدمه لا يكون مشمولا للحكم الفعلي ولا الانشائي، وانما يصير مشمولا
له على فرض تحققه ووجوده، بداهة ان الموضوع للحكم الانشائي والفعلي في الآية هو
من كان من الناس وصدق عليه عنوان المستطيع، والمعدوم في رتبة عدمه ليس من افراد
الناس ولا يصدق عليه انه مستطيع، فلا يعقل سراية الانشاء إليه فان الحكم المنشأ لا يسرى
من موضوعه إلى شئ آخر (نعم) انما يصير المعدوم (حال الخطاب) في ظرف وجوده و
تحقق الاستطاعة له مصداقا لما هو الموضوع في الآية فيتحقق (ح) بالنسبة إليه التكليف
الانشائي، وبتحقق سائر الشرايط العامة يصير فعليا.
(والحاصل) ان المعدوم في ظرف عدمه ليس موردا للتكليف بكلا قسميه، وبعد
وجوده وصيرورته مصداقا لما هو الموضوع يصير موردا له، والظاهر أن ما ذكرناه امر
لا ينكره أحد من الباحثين في مسألة الخطابات الشفاهية سواء قيل بعمومها للمعدومين أم لا
(نعم) على الأول يكون ثبوت التكليف لهم في ظرف الوجود من جهة شمول الخطاب لهم
(وعلى الثاني) من جهة الاجماع وغيره من أدلة الاشتراك بعد اتفاق الفريقين
في عدم ثبوته لهم في ظرف العدم.
(وقد ظهر لك مما ذكرنا) كيفية جعل الأحكام الشرعية وانها من قبيل القضايا
الحقيقية بمعنى ان الحكم الشرعي جعل كاللازم للطبيعة المأخوذة موضوعة، لا بما هي
هي بل بما انها مرآة وحاك لوجوداتها الخارجية فيسرى الحكم بسريانها ذاتا، فما لم
يصر شئ مصداقا لعنوان الموضوع لم يكن موردا للحكم، وبعد صيرورته من مصاديقه
315

يسرى الحكم إليه، فالمعدوم في ظرف عدمه ليس موردا للحكم أصلا.
(وانقدح بما ذكرنا أيضا) فساد ما في الكفاية حيث قال: " ان الانشاء خفيف المؤنة
فالحكيم ينشئ على وفق الحكمة والمصلحة طلب شئ قانونا من الموجود والمعدوم
حين الخطاب ليصير فعليا بعدما وجد الشرائط. "
فان ظاهر كلامه " قده " كون التكليف بالنسبة إلى المعدوم حال عدمه ثابتا، وبوجوده
يصير فعليا، وقد عرفت أن الشئ ما لم يوجد لا يصير مصداقا لما هو الموضوع، والحكم
لم ينشئ الا لموضوعه فكيف يسرى إلى غير الموضوع.
" وبالجملة " توجه التكليف الفعلي الحقيقي إلى المعدوم مستحيل ولم يقل أحد
بامكانه، وتعلق التكليف بالعنوان الكلى الشامل للموجود وللمعدوم (ولكن بلحاظ
وجوده بحيث يصير في ظرف الوجود موردا للتكليف) جائز ولم يقل أحد بامتناعه سواء
كان ثبوته للمعدوم بنفس الخطاب أو بأدلة الاشتراك، واما تعلقه بالمعدوم في حال عدمه
ليصير فعليا بعدما يوجد فهو الذي يظهر من الكفاية صحته، وقد عرفت بما لا مزيد عليه
فساد ذلك أيضا، وكون الصيغة موضوعة للطلب الانشائي والانشاء خفيف المؤنة لا يثبت
صحة انشاء الطلب ووقوعه من الحكيم بالنسبة إلى المعدوم في ظرف عدمه، لما عرفت
من أن انبعاث المعدوم بعد وجوده ناش من البعث المتوجه إليه بلحاظ ظرف الوجود، فانشاء
الطلب منه في ظرف العدم لغو لا يصدر عن الحكيم
(فالصحيح) من الأقسام الثلثة التي ذكرها في الكفاية هو القسم الثالث ولكن لا بمعنى
توجيه التكليف إلى المعدوم مشروطا بوجوده، بل بمعنى تعلق التكليف بنفس العنوان
الكلى بنحو القضية الحقيقية بحيث كلما وجد فرد من الموضوع يصير موردا للحكم فتدبر.
" فان قلت ": الطلب من المعاني الإضافية المتقومة بالطالب والمطلوب منه،
فبالنسبة إلى الافراد التي لم توجد بعد لا يمكن ان يصدر الطلب من قبل المولى فان الامر
الإضافي لا يتحقق الا بتحقق أطرافه.
(قلت): ليس الطلب من مقولة الإضافة التي هي أحد من الاعراض التسعة، بل هو
امر اعتباري يوجد بانشائه، ووزانه وزان الأمور الحقيقية ذات الإضافة كالعلم والقدرة
316

والإرادة، فالعلم مثلا ليس من مقولة الإضافة بل يكون عرضا وكيفا نفسانيا ثابتا لذات
العالم (نعم) له نحو إضافة إلى المعلوم الخارجي وان كان معدوما حال العلم، فكذلك
الطلب أيضا امر اعتباري يتحقق بانشاء المنشئ واعتباره، غاية الأمران له نحو إضافة
إلى المطلوب، ونحو إضافة إلى المطلوب منه، ولكن يكون تقومه بالطالب حيث إنه
فعل من أفعاله ويقوم به قياما صدوريا، وما هو المتعلق له أولا وبالذات أيضا هو عنوان الموضوع
لا الافراد، الا انه لما لوحظ مرآتا لمصاديقه يصير كل فرد منه بعد وجوده وصيرورته مصداقا
له موردا للطلب قهرا، ويكون نحو تعلق الطلب به نحو تعلق العلم بالمعلوم بالعرض
كما لا يخفى.
(المقام الثاني) مسألة مخاطبة المعدوم وتوجيه الكلام نحوه (قال في الكفاية
ما حاصله): انه لا ريب في عدم امكان خطاب المعدوم بل الغائب حقيقة، ضرورة عدم
تحقق توجيه الكلام نحو الغير حقيقة الا إذا كان موجودا وكان بحيث يتوجه إلى الكلام
ويلتفت إليه، لكن الظاهر أن ما وضع للخطاب مثل أدوات النداء لم يكن موضوعا للخطاب
الحقيقي بل للخطاب الايقاعي الانشائي، فالمتكلم ربما يوقعه تحسرا وتأسفا وحزنا مثل
أيا كوكبا ما كان اقصر عمره، أو شوقا أو نحو ذلك، (نعم) لا يبعد دعوى الظهور انصرافا
في الخطاب الحقيقي كما هو الحال في حروف الاستفهام والترجي والتمني وغيرها على ما
حققناه من كونها موضوعة للايقاعي منها بدواعي مختلفة مع ظهورها في الواقعي منها
انصرافا إذا لم يكن هناك ما يمنع عنه، كما يمكن دعوى وجوده غالبا في كلام الشارع
ضرورة عدم اختصاص الحكم في مثل يا ايها الناس بمن حضر مجلس الخطاب (انتهى).
(أقول): الخطاب كما يستفاد من تتبع موارد استعمالاته العرفية عبارة عن توجيه
الكلام نحو الغير بقصد افهام معناه، فمفهوم المخاطبة ينتزع عن كل كلام القى إلى الغير
بهذا القصد سواء كان في البين أدوات الخطاب أم لا (نعم) مع استعمال الأدوات كحرف النداء
أو كاف الخطاب أو نحوهما يكون الخطاب أوضح وصدق عنوان المخاطبة آكد.
" وبالجملة " ليس مفهوم المخاطبة من المفاهيم الاعتبارية التي يستعمل فيها الألفاظ
استعمالا انشائيا، فان الكلام الصادر عن المتكلم مشتمل على ألفاظ مفردة وضع كل منها
317

بإزاء معنى خاص، وله هيئة خاصة موضوعة بإزاء النسبة، ولم يوضع المفردات ولا الهيئة
بإزاء مفهوم المخاطبة، (غاية الامر) انه لما كان الكلام من الأفعال الاختيارية للمتكلم
فلا محالة يكون له (بما أنه فعل من أفعاله) غاية عقلائية، والغاية الطبيعية العقلائية للتكلم
هو افهام الغير واعلامه بما في الضمير، فإذا صدر الكلام بهذا الداعي ينتزع عنه (بما أنه
فعل صدر بهذا الداعي) عنوان المخاطبة وإن لم يكن صدوره عنه بهذا الداعي لم يصدق
مفهوم المخاطبة (نعم) إذا لم يكن هناك مخاطب حقيقي يفهم الكلام ولكن المتكلم نزل
شيئا مما لا يمكن خطابه منزلة من حضر وأريد افهامه فألقى إليه الكلام (نحو ما يلقى إلى من
أريد افهامه) لاظهار التحسر أو الشوق أو نحو هما فيصدق حينئذ مفهوم الخطاب ويكون
خطابا ادعائيا، فمفهوم الخطاب نظير مفهوم التكلم والاخبار ونحوهما مفهوم انتزاعي ينتزع
عن الكلام (بما أنه فعل صدر بداعي الافهام) وليس مما يستعمل فيه اللفظ استعمالا انشائيا
حتى يدل عليه اللفظ دلالة لفظية وضعية، وهذا من غير فرق بين قسميه من الحقيقي والادعائي
(غاية الامر) ان الغاية الطبيعية للتكلم لما كان هو الافهام يحمل الخطاب على الحقيقي منه
ما لم يثبت كونه ادعائيا نظير سائر الأفعال الصادرة عن العقلاء حيث تحمل على
كونها صادرة لاجل غاياتها الطبيعية ما لم يثبت خلافه (ومما ذكرنا ظهر) فساد ما في
الكفاية من كون الخطاب من الأمور الايقاعية التي يستعمل فيها الألفاظ بداعي الانشاء.
(إذا عرفت ما ذكرنا فنقول): لا ريب ان الخطابات القرآنية ليست من قبيل الخطابات
الادعائية الصادرة بداعي إظهار التحسر ونحوه مثل قوله: أيا كوكبا ما كان اقصر عمره،
بل هي خطابات حقيقية صدرت عن الله تعالى بداعي الافهام والاعلام، وحينئذ فيقع الكلام
في أنها تشمل المعدومين حال الخطاب أم لا، وملخص الكلام في المقام انه ان أريد
بشمولها للمعدوم شمولها له حال كونه معدوما فهذا أمر مستحيل، لما عرفت من كونها
صادرة بقصد الافهام، ولا يعقل افهام المعدوم في ظرف عدمه، وان أريد بشمولها له شموله لكل من
صدق عليه عنوان الموضوع بعد ما وجد وصار من مصاديقه وإن لم يكن موجودا حال التكلم و
المخاطبة فنقول: ان كان وسيلة الخطاب امرا غير قار لا يبقى إلى زمان وجود المخاطب
كما إذا خوطب بوسيلة الألفاظ ولم يكن في البين وسائل لحفظها وحكايتها فهذا أيضا
318

غير معقول إذ المخاطب في ظرف عدمه لا يقبل الخطاب، وفي ظرف وجوده يكون الخطاب
معدوما، وان كان آلة الخطاب ووسيلته من الأمور القارة كالكتابة ونحوها، أو كانت
بحسب الذات من الأمور الغير القارة كالألفاظ ولكن كان في البين وسائل لحفظها
وحكايتها، فحكاها السامعون لمن بعدهم وهكذا حفظها ووعاها كل واحدة من الطبقات
وأداها إلى من بعدها، فمثل هذا الخطاب لا مانع من شموله للمعدومين حال الخطاب
بنحو يصير كل فرد منهم بعد ما وجد وصار من مصاديق الموضوع مشمولا للخطاب.
" والخطابات القرآنية " من هذا القبيل فإنها صدرت عن الله تعالى بداعي الافهام و
الاعلام ونزلت على قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوسيلة جبرائيل وألقاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس
بما انها كلمات الله تعالى، ثم انها بقيت بوسيلة النقل والكتابة معا حتى وصلت إلى جميع
الناس طبقة بعد طبقة فيكون الجميع مخاطبين بها، كل في زمان وجوده، فقوله (تعالى)
مثلا: يا ايها الذين آمنوا كلام القى من الله تعالى إلى الذين آمنوا بداعي افهام ما تضمنه من
الحكم الشرعي، والمعدوم حال عدمه ليس مصداقا للمؤمن فلا يشمله الخطاب ولكنه
بعد ما وجد وصار مؤمنا يصير من مصاديق ما جعل موضوعا، فيصير ممن أريد افهامه و
اعلامه بنفس هذا الخطاب الواصل إليه بسبب النقل والوجود الكتبي، فجميع المؤمنين
مخاطبون بنفس هذا الخطاب من قبل الله تعالى، لا من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه أيضا من
الوسائط ونسبته تعالى إلى جميع الموجودات في جميع الاعصار على السواء، فكل منهم في
ظرف وجوده حاضر لديه وهو (تعالى) محيط بالجميع إحاطة قيومية وعلمية لا يعزب عن علمه
مثقال ذرة، وقد أراد بكلامه خطاب الجميع بحيث يتلقى كل منهم في ظرف وجوده كلامه
(تعالى) ويفهم مراده ويعمل بمضمونه، كيف! والا يلزم أن لا يكون الحاضرون أيضا
مخاطبين بكلام الله تعالى لعدم حضورهم في مرتبة ذاته المقدسة وعدم تلقيهم كلامه
تعالى بالوحي، فنسبة الموجودين حال الخطاب إليه تعالى كنسبة الموجودين في الاعصار
المتأخرة، وكل منهم قد تلقى خطاباته تعالى في ظرف وجوده بالواسطة، فالجميع مخاطبون
بها في ظرف وجودهم ويكون الخطاب بالنسبة إليهم خطابا حقيقيا.
" ومن هذا القبيل أيضا " الخطابات الصادرة عن المصنفين في مؤلفاتهم مثل قولهم:
319

اعلم أو تدبر أو نحوهما فإنها لما كانت تبقى ببقاء الكتابة كانت خطابات حقيقية أريد بها
افهام كل من راجع الكتاب فافهم وتدبر.
" وقد ظهر بما ذكرنا " فساد ما في الكفاية حيث يظهر منه شمول الخطابات الشرعية
للمعدومين باعتبار وضوح عموم الحكم لهم، وجعل ذلك قرينة على عدم كون تلك
الخطابات حقيقية. (وجه الفساد) هو ما عرفت من أن شمول الخطابات للمعدومين
ليس باعتبار حال العدم، بل باعتبار ظرف الوجود، كيف! ولا يكون المعدوم
في ظرف العدم مصداقا لقوله تعالى: يا ايها الناس مثلا، وفي ظرف وجوده يكون الخطاب
بالنسبة إليه حقيقيا لا ادعائيا، حيث إن الكلام القى إليه بداعي الافهام لا بداعي التحسر و
أمثاله فكيف جعل " قدس سره " الخطابات القرآنية خطابات ايقاعية غير حقيقية.
(تتمة) ذكر للنزاع في الخطابات الشفاهية ثمرتان: (الأولى) حجية ظواهر خطابات
الكتاب للمعدومين على فرض عمومها لهم، ولا يخفى ان ترتب هذه الثمرة مبنى على ما
ذهب إليه المحقق القمي من عدم حجية الظواهر الا بالنسبة إلى من قصد افهامه، وسنحقق
في محله ان ظاهر اللفظ حجة بالنسبة إلى كل من سمعه سواء قصد افهامه أم لم يقصد، و
يدل على ذلك سيرة العقلاء فلو امر المولى واحدا من عبيده بشئ وأمره بتبليغ هذا
الحكم إلى سائر العبيد أيضا، وكان سائر العبيد يستمعون ذلك الخطاب من المولى
ولكن لم يصل إليهم بوسيلة العبد فتركوا ما امر به المولى وعلم بسماعهم لخطابه، كان للمولى
عتابهم وعقابهم، وليس هذا العتاب والعقاب قبيحا بنظر العقلاء، وليس للعبيد ان يعتذروا
بعدم كونهم مقصودين بالافهام، هذه حال الثمرة الأولى، ولا يهمنا التعرض لثانيتهما فراجع
* (فصل) *
إذا كان في الكلام عام موضوعا لحكم وتعقبه ضمير يرجع إليه محكوما بحكم آخر
وعلم من الخارج اختصاص الحكم الثاني ببعض افراد العام، فهل يخصص العام بذلك أو لا؟
فيه كلام بين الاعلام، وقد مثلوا له بقوله تعالى: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلثة قروء
320

إلى قوله تعالى: وبعولتهن أحق بردهن في ذلك (البقرة آية 228).
(قال في الكفاية ما حاصله): ان الامر يدور بين احتمالات ثلثة: (الأول) ان يتصرف
في العام بان يراد منه خصوص ما أريد من الضمير، وعليه فلا يلزم تصرف في ناحية الضمير.
(الثاني) ان يتصرف في ناحية الضمير بارجاعه إلى بعض ما هو المراد من مرجعه، فيكون
من باب المجاز في الكلمة. (الثالث) ان يتصرف فيه بارجاعه إلى تمام ما أريد من المرجع
مع التوسع في الاسناد باسناد الحكم (المسند إلى البعض حقيقة) إلى الكل توسعا وتجوزا،
فيكون من باب المجاز في الاسناد، وحيث إن المراد في ناحية الضمير معلوم، وانما الشك
في كيفية الاستعمال والإرادة وانه على نحو الحقيقة أو المجاز في الكلمة أو في الاسناد،
وفي ناحية العام يكون الشك في أصل المراد كانت أصالة الظهور في ناحية العام بلا مزاحم،
لان المتيقن من بناء العقلاء هو اتباع الظهور في تعيين المراد لا في تعيين كيفية
الاستعمال (انتهى).
" أقول: ويرد عليه أولا " ان احتمال عود الضمير إلى بعض ما أريد من المرجع
بحيث يلزم منه المجازية في ناحية الضمير لا يتمشى بعد الإحاطة على معاني الضمائر
(بيان ذلك) انك قد عرفت في محله ان الضمائر وأسماء الإشارة والموصولات كلها من واد
واحد، وقد وضعت لان يوجد بها الإشارة، فيكون الموضوع له فيها نفس حيثية الإشارة
التي هي معنى اندكاكي متوسط بين المشير والمشار إليه ويكون استعمالها في هذا
المعنى استعمالا انشائيا، فكما أن الانسان قد يوجد الإشارة بتوجيه إصبعه نحو المشار إليه
ويتوهم بذلك بينهما امتداد موهوم، فكذلك ربما يوجدها باستعمال كلمة هذا ونحوها،
فكلمة هذا مثلا قد وضعت لان يشار بها إلى المفرد المذكر، وما ذكره بعض الأدباء
من كونها موضوعة للمفرد المذكر المشار إليه فاسد جدا، سواء أراد بذلك مفهوم المشار
إليه أو حقيقة المشار إليه الخارجي الواقع في طرف الامتداد الموهوم، إذ ليس لنا مع قطع
النظر عن لفظة هذا إشارة في البين حتى يتصف المفرد المذكر بكونه مشارا إليه ويستعمل
فيه لفظة هذا، فالإشارة توجد بنفس هذا اللفظ، وقد أشار بما ذكرنا محمد بن مالك في
ألفيته حيث قال: بذالمفرد مذكر أشر (إلى آخر ما قال).
321

(نعم) لما كان الإشارة معنى اندكاكيا فانيا في المشار إليه فلا محالة ينتقل الذهن من
لفظة هذا مثلا إلى المشار إليه ويعامل معها معاملة اللفظ الموضوع للمشار إليه فتجعل مبتدء مثلا
ويحكم عليها باحكام المشار إليه فيقال مثلا: (هذا قائم) كما يقال زيد قائم (وبالجملة) المبهمات
بأجمعها موضوعة للإشارة ومنها الضمائر، فيشار بكاف الخطاب مثلا إلى المخاطب الحاضر،
وبضمير الغائب إلى المرجع المتقدم ذكره، وبضمير المتكلم إلى نفس المتكلم، ولا بد
في جميع الإشارات من أن يكون للمشار إليه نحو تعين حتى يمكن الإشارة إليه فتعينه في
مثل هذا وأمثاله بحضوره، وفي ضمير المتكلم بكونه حاضرا للمخاطب وموردا لتوجهه،
وفي ضمير المخاطب بكونه موجها إليه الكلام، وفي ضمير الغائب بسبق ذكره، وفي
الموصولات بكون الموصول معروضا لمفاد الصلة وموصوفا به، والداعي إلى وضع المبهمات هو
الاختصار أو الفرار من التكرار، حيث إنه لولا الضمير مثلا لاحتاج المتكلم إلى تكرار
علم الشخص مرارا، وكيف كان فتعين المشار إليه والمرجع في ضمير الغائب بسبق ذكره،
وعلي هذا فلا محيص عن ارجاعه إلى نفس ما تقدم ذكره بماله من المعنى، ولا يصح ارجاعه
إلى بعض ما أريد من العام مثلا، إذ لا تعين للبعض (وبالجملة) ارجاع الضمير إلى غير ما أريد
من المرجع لا يتمشى احتماله بعد الإحاطة على ما حققناه في بيان معنى الضمائر
(وثانيا) انه لا مجال هنا لتوهم المجاز في الاسناد أيضا فان اسناد حكم البعض إلى
الكل انما يصح فيما إذا كان العام مجموعيا ولوحظ بين الافراد المتكثرة جهة وحدة
اعتبارية كما في قولهم: بنو تميم قتلوا فلانا، فان انتسابهم إلى أب واحد يوجب لحاظهم
بنحو الوحدة ويصحح اسناد القتل الصادر عن بعضهم إلى الجميع، واما إذا كان
العام افراديا ولوحظ كل فرد منه موضوعا مستقلا فلا مجال لان يسند ما صدر عن بعضهم
إلى الجميع، إذ لا مصحح لهذا الاسناد، ففي مثل قوله تعالى: (المطلقات يتربصن
بأنفسهن ثلثة قروء) قد لو حظ كل واحدة من المطلقات موضوعا مستقلا لوجوب
التربص ولم يلحظ مجموع المطلقات موضوعا وحدانيا، فلا مجال لان يسند الحكم في
قوله: (وبعولتهن أحق بردهن) إلى الجميع بلحاظ ثبوته لبعضهن.
(وثالثا) انه لا مجال في المقام لتوهم المعارضة بين أصالة الظهور في ناحية العام
322

و أصالة الظهور في ناحية الضمير، فان الشك في ناحية الضمير مسبب عن الشك فيما أريد من العام،
إذ لو أريد منه العموم تعين التصرف في ناحية الضمير، وان أريد منه الخصوص لم يقع تصرف
في ناحيته (وبالجملة) المراد في ناحية الضمير معلوم، والشك انما هو في كيفية استعماله وانه
بنحو الحقيقة أو المجاز، وهذا الشك مسبب عن الشك فيما أريد من العام، وقد حقق في محله
ان الأصل يجرى في السبب، ولا يعارضه الأصل المسببي، وانما يرتفع الشك في ناحيته
قهرا باجراء الأصل السببي، هذا خلاصة ما يمكن ان يورد على ما ذكره في الكفاية
(والذي يقتضيه التحقيق) في المسألة هو ان يقال: ان هنا احتمالا آخر غير ما ذكره
في الكفاية من الوجوه الثلثة، وهو انك قد عرفت أن العام يستعمل دائما في العموم،
غاية الامر ان الإرادة الجدية قد تطابق الإرادة الاستعمالية فيكون المراد الجدي أيضا هو
العموم، وقد تخالفها فيكون الخصوص مرادا جديا، وبناء العقلاء على الحكم بتطابق
الإرادتين دائما ما لم يثبت إرادة الخصوص، (ففيما نحن فيه) يكون كل واحد من العام
والضمير الراجع إليه مستعملا في العموم ويكون الاستعمال في كليهما بنحو الحقيقة
(غاية الامر) انه قد ثبت بالدليل الخارجي ان المراد الجدي في ناحية الضمير هو الخصوص
فيحمل عليه، ولا دليل على تخالف الإرادتين في ناحية العام، فالأصل العقلائي الحاكم
بتطابق الإرادتين هو المحكم في ناحيته، ورفع اليد عن أصالة التطابق في ناحية الضمير
لا يوجب رفع اليد عنها في ناحيته فتأمل جيدا
* (فصل) *
قال في الكفاية ما حاصله: انهم اختلفوا في جواز التخصيص بالمفهوم المخالف مع
الاتفاق على الجواز بالمفهوم الموافق (وتحقيق المقام) انه إذ أورد العام وماله المفهوم
في كلام أو كلامين ولكن على نحو يصلح أن يكون كل منهما قرينة للتصرف في الاخر
ودار الامر بين تخصيص العموم أو إلغاء المفهوم، فلا يكون هناك عموم ولا مفهوم فلا بد من
العمل بالأصول العملية إذا لم يكن أحدهما أظهر، ومنه قد انقدح الحال فيما إذا لم يكن
323

بينهما ذاك الاتصال وانه يعامل معهما معاملة المجمل لو لم يكن في البين أظهر والا فهو
المعول (انتهى).
(أقول): دعوى الاتفاق في مفهوم الموافقة بلا وجه، فان تلك المسألة أيضا خلافية
كما هو المستفاد من عبارة العضدي، ثم إن الاتفاق في أمثال هذه المسائل لا يستكشف
منه قول المعصوم عليه السلام فلا حجية فيه (ثم إنه قده ") كما ترى فصل بين كون ماله
المفهوم متصلا بالكلام أو كالمتصل وبين غيره ولكنه جعل حكم الشقين واحدا، وعلي هذا
فيكون تفصيله وتشقيقه لغوا إذ التشقيق انما يحسن فيما إذا اختلف الشقان بحسب الحكم،
(والتحقيق ان يقال): ان المسألة من باب تعارض المطلق والمقيد وحكمه حمل المطلق على
المقيد بعد احراز وحدة الحكم كما سيأتي في محله
" بيان ذلك " انه إذا أورد مثلا ان الله تعالى خلق الماء طهورا لا ينجسه شئ الا ما غير
لونه أو طعمه أو رائحته استفدنا منه ان حيثية المائية تمام الموضوع لعدم التنجس من غير
فرق بين ان يجعل الألف واللام في كلمة الماء للجنس أو للاستغراق، فمفاد هذا الدليل
انه لا دخالة لقيد آخر في هذا الحكم، ثم إذا ورد قوله: الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجسه
شئ استفدنا منه كون الماء بقيد الكرية موضوعا لعدم التنجس، ولأجل ذلك يستفاد
منه المفهوم فيكون مفاده كون حيثية المائية جزء من الموضوع فيكون التعارض بين
الدليلين من باب تعارض المطلق والمقيد، وحيث إن ظهور القيد في كونه دخيلا أقوى
من ظهور المطلق في كونه تمام الموضوع فلا محالة يحمل المطلق على المقيد.
" وبالجملة " يقدم ماله المفهوم على العموم. (وقد عرفت منا في باب المفاهيم) ان المفهوم
انما يستفاد من ظهور القيد الزائد (بما أنه فعل اختياري) في كونه دخيلا في الموضوع،
وهذا هو مسلك القدماء أيضا في باب المفاهيم حيث كانوا يستدلون على ثبوت المفهوم
بأنه لولاه لكان ذكر القيد لغوا.
(وملخص ما ذكرناه هناك) ان دلالة القيد الزائد كالشرط والوصف وأمثالهما على
المفهوم ليست من قبيل دلالة اللفظ الموضوع على معناه الموضوع له، بل من قبيل دلالة الأفعال
الاختيارية (بما انها كذلك) على أمور، فان الفعل الاختياري الصادر عن الغير يحمل
324

عند العقلاء على كون صدوره عنه لاجل غايته الطبيعية، ومن الأفعال الاختيارية هو التكلم
فيحمل (بما أنه فعل اختياري) على كونه صادرا عن المتكلم لاجل الفائدة، وفوائد التكلم وان
كانت كثيرة ولكن الغاية الطبيعية للتكلم بالكلام الموضوع عبارة عن إفادة معناه و
افهامه، وهذا من غير فرق بين تمام الكلام وبين اجزائه وقيوده، فان الغاية الطبيعية للقيد
أيضا عبارة عن افهام معناه، فيستفاد من ذكره (بما أنه فعل اختياري) كون معناه دخيلا في
موضوع الحكم بحيث لا يكون حيثية المطلق تمام الموضوع وان جاز ان يخلفه قيد آخر
كما أشار إليه السيد المرتضى " قد " حيث قال ما حاصله: ان المستفاد من قوله " تعالى ":
(فاستشهدوا شهيدين من رجالكم) قبول شهادة الرجل مقيدا بانضمامه إلى شاهد آخر ومع
ذلك يثبت قبولها عند انضمام اليمين أيضا (والحاصل) ان ثبوت المفهوم عندنا من
جهة دلالة ذكر القيد (بما هو فعل اختياري) على كونه دخيلا في الموضوع بمعنى عدم كون
حيثية المطلق تمام الموضوع، ولا ينافي ذلك أن يخلفه قيد آخر، واما على مذاق المتأخرين
فثبوته من جهة ما ادعوه من دلالة القيد على كونه علة تامة لثبوت الحكم وقد مر تفصيل
ذلك في باب المفاهيم فراجع.
ومن هذا القبيل أيضا حمل اللفظ الصادر عن المتكلم على معناه الحقيقي، فان الفعل
الاختياري كما عرفت يحمل عند العقلاء على كونه صادرا بداعي غايته الطبيعية، والغاية
الطبيعية لايجاد اللفظ هي افهام معناه الحقيقي، فأصالة الحقيقة وأصالة العموم أيضا من شعب
هذا الأصل العقلائي، ومن هذا القبيل أيضا حمل الطلب الانشائي على كونه صادرا بداعي
البعث والتحريك لا لاجل الدواعي الاخر فان البعث هو الغاية الطبيعية والعقلائية
لايجاد الطلب وانشائه
" فصل "
إذا تعقب الاستثناء جملا متعددة فهل الظاهر رجوعه إلى الجميع، أو خصوص الأخيرة،
أو لا ظهور له في واحد منهما؟ وجوه.
325

(قال في الكفاية ما حاصله): انه لا اشكال في رجوعه إلى الأخيرة على أي حال،
وكذا في صحة رجوعه إلى الكل ضرورة ان تعدد المستثنى منه كتعدد المستثنى
لا يوجب تفاوتا في ناحية الأداة بحسب المعنى كان الموضوع له في الحروف عاما أو خاصا،
وتعدد المخرج أو المخرج منه خارجا لا يوجب تعدد ما استعمل فيه أداة الاخراج مفهوما (انتهى)،
(أقول): قد عرفت (في مبحث المعاني الحرفية) ان الحروف وضعت لحقائق الارتباط
المندكة في الأطراف، ففي قولنا: الماء في الكوز مثلا ما هو المتحقق في الخارج عبارة
عن شخص الماء وشخص الكوز، وليس ورائهما شئ على حياله بعنوان الظرفية (نعم)
لا يكون الموجود في الخارج هو الماء والكوز بنحو الاطلاق بل يكون الماء متخصصا
بكونه مظروفا للكوز، والكوز أيضا متخصصا بكونه ظرفا للماء، فيكون الماء و
الكوز مرتبطين في الخارج بحقيقة الارتباط الظرفي، ولكن الارتباط ليس امرا على
حياله في قبال الكوز والماء بل هو مندك فيهما، هذا حال الخارج، واما الذهن فلسعة
عالمه يمكن ان يوجد فيه نقش الخارج من دون تفاوت فيوجد فيه صورة الماء والكوز
مرتبطين بحقيقة الارتباط الظرفي على وزان ما في الخارج، ويمكن ان يوجد فيه مفهوم
الظرفية مستقلا في قبال صورتي الماء والكوز، فعلى الأول يكون الظرفية مندكة في
الطرفين بحسب اللحاظ ويكون تحققها بتحققهما، وعلى الثاني يكون الموجود في الذهن
ثلثة مفاهيم مستقلة غير مرتبطة يعبر عنها بالماء والظرفية والكوز، فلفظة في وضعت لان
تدل على حقيقة الارتباط الظرفي المندك في الطرفين، وهذا بخلاف كلمة الظرفية فإنها
وضعت لان تدل على المفهوم الاستقلالي الملحوظ في قبال الطرفين.
(إذا عرفت ما ذكرنا فنقول): ان العمومات الواقعة في الجمل المتعددة ان لوحظ بينها
جهة وحدة بحيث يرى كأنها عام واحد فلا اشكال حينئذ في امكان رجوع الاستثناء إلى
الجميع ويكون الاخراج بهذا اللحاظ اخراجا واحدا، واما إذا لوحظ كل واحد من
العمومات امرا مستقلا في قبال غيره فلا محالة يكون معنى ارجاع الاستثناء إلى جميعها هو
تعدد الاستثناء والاخراج بعدد العمومات، وعلى هذا فيكون استعمال كلمة الا مثلا في
الاخراج من الجميع من قبيل استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، واستعمال اللفظ
326

كذلك وان جاز عند من يرى الاستعمال من باب جعل اللفظ علامة للمعنى لا من باب افناء
اللفظ فيه، ولكن لا يجرى هذا الكلام في الحروف، لما عرفت من عدم كون معانيها ملحوظة
بنحو الاستقلال، بل هي معان ربطية مندكة في الطرفين بحسب اللحاظ، بمعنى أن لحاظ
المعنى الحرفي بلحاظ طرفيه، وحيث إنه تعدد الأطراف هنا بتعدد المستثنى منه صار مرجع
استعمال أداة واحدة في الاخراج من جميعها إلى لحاظ حقيقة واحدة ربطية بنحو
الاندكاك والفناء في هذا الطرف تارة وفي ذاك الطرف أخرى، ومقتضى ذلك كون حقيقة
واحدة ربطية في عين وحدتها حقائق ربطية متكثرة، وهذا امر مستحيل (1).
* (فصل) *
اختلفوا في جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد، فذهب المحققون إلى جوازه،
واستدلوا عليه باستقرار سيرة الأصحاب من زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى زماننا هذا على العمل
بالخبر الواحد، مع أنك لا تجد خبرا الا ويوجد على خلافه عام كتابي، ولم يرد عن
صاحب الشرع ولا عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ردع عن هذه السيرة.
" وذهب " جماعة إلى المنع واستدلوا عليه بوجوه أربعة: (الأول) ان الكتاب
مقطوع به صدورا والخبر مظنون سندا فلا يرفع به اليد عن المقطوع به.
(الثاني) انه لو جاز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد لجاز نسخه به أيضا، والتالي
باطل بالاجماع فالمقدم مثله. (الثالث) ان حجية الخبر ثابتة بالاجماع، ولا اجماع
على العمل به في عرض الكتاب. (الرابع) الاخبار الكثيرة الدالة على أن ما خالف القرآن
يجب طرحه، أو انه زخرف، أو نحو ذلك هذا.

(1) أقول: بناء على كون الاستعمال من باب جعل العلامة كما هو المفروض لم لا يمكن
ان يلحظ في المقام حقايق ربطية متعددة بعدد المستثنى منه ويجعل كلمة واحدة علامة لتلك
الملحوظات المتعددة؟ (وبالجملة) لا يرى فرق بين الأسماء والحروف بناء على هذا الفرض
فافهم. ح - ع
327

(ويرد على الوجه الأول) ان الكتاب وان كان قطعيا بحسب الصدور ولكنه ظني
الدلالة، فان الحكم بالعموم انما هو من جهة أصالة التطابق بين الإرادتين كما مر في
محله، وليست هي بقطعية، وعلي هذا فرفع اليد عنه بالخبر من قبيل رفع اليد عن المظنون
بمثله، بل بالمقطوع به فان الخبر وان كان ظنيا ولكنه ثبت حجيته بالأدلة القطعية،
فكما انه إذا قطع بصدور الخبر وجب رفع اليد بسببه عن عموم الكتاب، فكذلك إذا دل
الدليل القطعي على وجوب ترتيب آثار الواقع على مفاد الخبر والمعاملة معه معاملة
المقطوع به.
(ويرد على الوجه الثاني أولا) انه لم يرد دليل قطعي على عدم جواز نسخ
الكتاب به، (وثانيا) انه لو فرض قيام دليل قطعي على عدم جواز نسخه به لم يثبت بذلك
عدم جواز التخصيص بسببه.
(وعلى الوجه الثالث) انا لا نسلم ثبوت حجية الخبر بالاجماع بما أنه اجماع، بل عمدة
ما دل عليها هو بناء العقلاء وسيرتهم المستمرة على الاحتجاج بالخبر في مقام الاحتجاج واللجاج
كما بين الموالى والعبيد، وليس للشارع فيه تأسيس، بل كلما ورد عنه في هذا الباب
فليس الا امضاء لطريقة العقلاء. وأول من ادعى الاجماع في المسألة هو الشيخ " قده " في
العدة حيث ادعى فيها اجماع الصحابة من زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على العمل بالاخبار الآحاد،
(والظاهر) ان مراده بالاجماع ليس إلا استقرار سيرة المسلمين من الصدر الأول عليه
ولكن لا بما هم مسلمون ومتدينون بدين الاسلام حتى يستكشف بذلك ورود نص فيه عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويكون العمل بالاخبار حكما من احكام الاسلام، بل بما هم عقلاء فيرجع
الاجماع المدعى في المسألة إلى سيرة العقلاء طرا على الاحتجاج بها ولم يرد من قبل الشارع
ردع عنها إذ لو ورد لنقل لتوفر الدواعي على نقله في مثل المقام (وبالجملة) الدليل على
حجية الاخبار سيرة العقلاء، والدليل على حجية العمومات أيضا ليس إلا الأصل العقلائي
الحاكم بتطابق الإرادة الجدية للاستعمالية، وبناء العقلاء في الاحتجاجات الثابتة بين
الموالى والعبيد قد استقر على تخصيص العام بالدليل الخاص ولو كان من قبيل الاخبار الآحاد.
(ويرد على الوجه الرابع) ان الاخبار المشار إليها تنقسم بحسب المضمون إلى طوائف
328

أربع: (الأولى) ما دل على أن العمل بالخبر مطلقا انما يجوز فيما إذا كان عليه شاهد
أو شاهدان من كتاب الله (الثانية) ما دل على هذا المضمون في خصوص الاخبار المتعارضة
(الثالثة) ما دل على أن ما خالف الكتاب أو لم يوافقه زخرف أو مما لم نقله أو نحو ذلك
(الرابعة) ما دل على وجوب عرضها على الكتاب فما وافقه وجب اخذه وما خالفه أو
لم يوافقه لزم طرحه.
(اما الطائفة الأولى) فمفادها عدم حجية الخبر رأسا إذ لو فرض وجود شاهد أو شاهدين
من كتاب الله على وفق الخبر فالمحكم هو الكتاب لا الخبر، ومقتضى ذلك سقوط هذه
الطائفة أيضا من الحجية فإنها أيضا اخبار آحاد فيلزم من حجيتها عدم حجيتها هذا مضافا
إلى أنها لا تقاوم السيرة القطعية على العمل بالخبر في عصر النبي صلى الله عليه وآله سلم والأئمة عليهم السلام
حتى بعد صدور هذه الأخبار عنهم عليهم السلام، فالظاهر أن هذه الطائفة من الاخبار وردت في
مقام تحديد العمل بالخبر والردع عن العمل بالاخبار التي كانوا يدسونها وينسبونها إلى
الأئمة عليهم السلام في المسائل الاعتقادية ترويجا لعقائدهم الباطلة.
(واما الطائفة الثانية) فلا دخل لها بما نحن فيه كما لا يخفى وجهه.
(واما الطائفة الثالثة) فالظاهر أن المراد منها أيضا هو الردع عما خالف الكتاب
بنحو التباين المتحقق غالبا في المسائل الاعتقادية، حيث إن مخالفة الخاص للعام لا يعد
مخالفة بنظر العقلاء، كيف! وقد كثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن الأئمة عليهم السلام صدور
الاخبار المخصصة للكتاب، واستمر سيرة الأصحاب أيضا على العمل بها في جميع الاعصار
" وبالجملة " محط النظر في هذه الطائفة أيضا هو الردع عن العمل بالاخبار المكذوبة
المجعولة في المسائل الاعتقادية كالقول بجسميته تعالى وكالجبر والتفويض والقضاء و
القدر وأمثال ذلك.
" وبهذا البيان " ظهر المراد من الطائفة الرابعة أيضا.
(وملخص الكلام في المقام) ان استقرار سيرة الأصحاب على العمل بالاخبار
المروية عنهم عليهم السلام والاعتماد عليها في تخصيص الكتاب وتقييده بلغ حدا
لا يمكن معه رفع اليد عنها بمثل هذه الأخبار، وقد ورد عنهم عليهم السلام أيضا
329

اخبار كثيرة فوق حد التواتر يستفاد منها اجمالا امضاء هذه السيرة، فلا تقاومها الاخبار
المشار إليها فتدبر.
المقصد الخامس في المطلق والمقيد
(اعلم) انهم قسموا اللفظ إلى المطلق والمقيد، وعرفوا المطلق بأنه ما دل على شايع
في جنسه والمقيد بخلافه. (والظاهر من التعريفين) ان الاطلاق والتقييد عندهم
وصفان لنفس اللفظ ولكن بلحاظ المدلول، فإن كان مدلول اللفظ شايعا سمى اللفظ مطلقا
وإن لم يكن كذلك سمى اللفظ مقيدا.
(ثم لا يخفى) ان ظاهر كلامهم أيضا كون التقسيم للفظ في حد ذاته مع قطع النظر
عن تعلق حكم به، فيوجد القسمان في الألفاظ وتتصف بالوصفين سواء كان في البين
حكم أم لا، فيتحقق في الألفاظ نوعان متمايزان: نوع مطلق، ونوع مقيد، نظير انقسام
الكلمة إلى الاسم والفعل والحرف. (وهذا فاسد جدا) فان اللفظ في حد ذاته لا يتصف بالاطلاق والتقييد بل التقسيم إليهما
والاتصاف بهما بلحاظ الحكم، فاللفظ الذي يكون لمدلوله شياع وانتشار ذاتا إذا صار موضوعا
لحكم من الاحكام (سواء كان حكما وضيعا أم تكليفيا) فإن كان تمام الموضوع لهذا الحكم
سمى مطلقا، وإن لم يكن تمام الموضوع لهذا الحكم بل كان في مقام الموضوعية مقيدا بقيود
سمى مقيدا، فالرقبة مع كونها لفظا واحدا ان جعلت تمام الموضوع للحكم اتصفت بالاطلاق،
وان جعلت مقيدة بقيد موضوعا له اتصفت بالتقييد، فالرقبة في قولنا: أعتق رقبة مطلقة، و
في قولنا: أعتق رقبة مؤمنة مقيدة، فاللفظ الواحد يمكن ان يتصف بالاطلاق بلحاظ
حكم، وبالتقييد بالنسبة إلى حكم آخر، وحيث إن الموضوع للحكم حقيقة هو
نفس المدلول، واللفظ يكون موضوعا في القضية الملفوظة فلا محالة يكون الاطلاق و
التقييد أولا وبالذات وصفين لنفس المعنى الذي له شيوع افرادي أو أحوالي، وبتبع
المعنى يتصف اللفظ بهما (وكيف كان) فالاتصاف بهما انما يكون بلحاظ الموضوعية للحكم
330

فان لوحظ تمام الموضوع له من دون أن يؤخذ معه حيثية أخرى اتصف بالاطلاق والا
فبالتقييد، وكلاهما وصفان لمعنى واحد كالرقبة مثلا، ففي قول الشارع أعتق رقبة مؤمنة
ما يتصف بالتقييد هو نفس الرقبة من جهة صيرورة حيثية الايمان قيدا له في مقام الموضوعية
للحكم، لا الرقبة المؤمنة، بل الرقبة المؤمنة تتصف بالاطلاق بالنسبة إلى قيود اخر يمكن
ان تؤخذ في الموضوع.
" وقد انقدح بذلك أن المعنى إذا لم يكن له شيوع افرادي ولا انتشار أحوالي
فلا يتصف بالوصفين أصلا، وان كان له شيوع افرادي أو أحوالي وصار موضوعا لحكم فان
لوحظ في مرتبة جعله موضوعا كونه تمام الموضوع له سمى مطلقا والا فمقيدا، (وعلي هذا)
فمثل الاعلام الشخصية أيضا باعتبار حالاتها المختلفة يمكن ان تتصف بالاطلاق والتقييد
ولكن بلحاظ موضوعيتها للحكم، فزيد في قول المولى: (أكرم زيدا) مطلق، وفي قوله:
(أكرم زيد الجائي) مقيد.
" وقد ظهر بما ذكرنا " ان التقابل بين الاطلاق والتقييد من قبيل تقابل الاعدام و
الملكات، إذ كلاهما وصفان لماله شأنية التقييد، لكن التقييد عبارة عن ضم حيثية
أخرى إليه في مقام الموضوعية للحكم، والاطلاق عبارة عن عدم تقييد ماله شأنية
التقييد وقابليته.
" ثم انهم " مثلوا للمطلق بأمثلة وذكروا منها أسماء الأجناس كانسان ورجل و
فرس وأمثال ذلك. (وقال في الكفاية ما حاصله): ان الموضوع له لاسم الجنس هو نفس
الماهية المبهمة المهملة وصرف المفهوم الغير الملحوظ معه شئ أصلا ولو كان ذلك
الشئ هو الارسال، ولا الملحوظ معه عدم لحاظ شئ معه الذي هو الماهية اللا بشرط
القسمي (انتهى).
(أقول): اعلم أنهم قسموا الماهية إلى ثلثة أقسام: اللا بشرط، والبشرط شئ
والبشرط لا، وقالوا في بيان ذلك: انه ان لوحظ نفس الماهية من دون ان يلحظ معها
شئ آخر من القيود الوجودية والعدمية سميت باللا بشرط، وان لوحظت مقيدة بوجود
شئ معها سميت بالبشرط شئ، وان لوحظت مقيدة بعدم كون شئ معها سميت بالبشرط لا
331

(ثم قالوا) ان البشرط لا ليست موجودة في الخارج لكونها معراة من جميع ما يكون
وراء ذاتها حتى الوجود الخارجي والذهني، ونفس لحاظها وان كان وجودا ذهنيا لها،
ولكن هذا الوجود مغفول عنه، وما هو متعلق اللحاظ هو نفس الماهية المعراة، نظير شبهة
المعدوم المطلق حيث أجابوا عنها بكونها معدوما بالحمل الأولى الذاتي وموجودا في
الذهن بالحمل الشايع ولكن وجوده في اللحاظ الأول مغفول عنه.
(وكيف كان) فالماهية التي تكون بشرط لا ليست موجودة، والبشرط شئ موجودة،
وكذلك اللا بشرط بمعنى نفس الماهية لتحققها في ضمن البشرط شئ وحملها عليها.
(ثم انهم) توجهوا إلى أنه لا بد في التقسيم من مقسم يوجد في جميع الأقسام ويغاير كل
واحد منها، وفيما نحن فيه يكون المقسم هو نفس الماهية وهي بعينها جعلت قسما أو لا فاتحد
القسم والمقسم، فتصدى بعضهم للجواب عن ذلك فقال: ان المقسم نفس الماهية،
والقسم الأول هو الماهية المقيدة بكونها لا بشرط، ويسمى الأول باللا بشرط المقسمي
والثاني باللا بشرط القسمي.
(ثم اختلفوا) في أن الكلى الطبيعي (أعني ما هو معروض وصف الكلية) هو اللا بشرط
المقسمي أو القسمي، بعد الاتفاق على عدم كونه عبارة عن القسمين الأخيرين، فممن
قال بكونه عبارة عن اللا بشرط المقسمي صاحب المنظومة " قده "، وممن قال بكونه
عبارة عن القسمي المحقق الطوسي " قده " في التجريد. ثم سرى هذا البحث تدريجا
إلى الأصول فوقع البحث في أن اسم الجنس الذي يعد من مصاديق المطلق وضع لنفس الماهية
من حيث هي أعني اللا بشرط المقسمي أم للطبيعة الملحوظ معها عدم لحاظ شئ معها
أعني اللا بشرط القسمي، هذا ما ذكروه في المقام.
(ونحن نقول): ما دعى القوم إلى تقسيم الماهية انما هو تعيين ما يعرضه وصف الكلية
أعني الكلى الطبيعي وبيان انه موجود في الخارج أم لا، فإنهم لما رأوا ان الماهية يمكن ان
توجد في الذهن وحدها، ويمكن ان توجد فيه مقيدة بوجود شئ معها، ويمكن ان توجد
فيه مقيدة بان لا يكون معها شئ، فلا محالة احتاجوا إلى تحقيق الأقسام الثلثة الموجودة
في الذهن حتى يتبين ان ما هو معروض وصف الكلية في الذهن وما وقع النزاع في وجوده في
332

الخارج أي قسم من الأقسام الثلثة، وعلي هذا فليس التقسيم (حقيقة) لنفس الماهية ولو في
ظرف الخارج، بل التقسيم انما يكون للماهية في ظرف لحاظها فإنه ظرف عروض وصف
الكلية، فالتقسيم أولا وبالذات لنفس اللحاظ والاعتبار أعني الوجود الذهني، وينسب
إلى الماهية الموجودة بهذا اللحاظ ثانيا وبالعرض، فالمقسم ليس نفس الماهية من حيث
هي هي، بل المقسم هو لحاظ الماهية واعتبارها وينقسم هذا المقسم إلى أقسام ثلثة: (الأول)
ان يتعلق اللحاظ بالماهية فقط بحيث لا يتعدى اللحاظ من نفس الماهية إلى شئ آخر
من القيود الوجودية والعدمية (الثاني) ان يتعلق بالماهية المقيدة بشئ وراء ذاتها،
فقد تعدى اللحاظ في هذا القسم من نفس الماهية إلى أحد من قيودها فصار ملحوظا معها.
(الثالث) ان يتعلق بالماهية المقيدة بعدم كون شئ (مما هو وراء ذاتها) معها، ففد تعدى
اللحاظ في هذا القسم أيضا من نفس الماهية إلى امر آخر وراء ذاتها وهو عدم كون شئ
معها، فالملحوظ في القسم الأول هو نفس الماهية، وفي القسم الثاني والثالث هو الماهية
مع شئ آخر وجودي أو عدمي.
(وبهذا البيان) يختلف المقسم والاقسام، فان المقسم هو اعتبار الماهية ولحاظها،
والقسم الأول هو لحاظ الماهية حال كون اللحاظ مقيدا بعدم تعديه من نفس الماهية إلى
امر آخر، والقسم الثاني هو لحاظها حال كون اللحاظ مقيدا بتعديه من الماهية إلى أحد من
قيودها وحالاتها، والقسم الثالث هو لحاظها حال كون اللحاظ مقيدا بتعديه من الماهية
إلى عدم كون شئ معها، فنفس اللحاظ هو المقسم، وفي كل واحد من الأقسام الثلثة قد انضم
إليه قيد به امتاز القسم من المقسم، واما الملحوظ ففي القسم الأول هو نفس الماهية، وفي
القسم الثاني هو الماهية مع أحد من قيودها الوجودية، وفي القسم الثالث هو الماهية مع عدم
كون شئ معها، ففي كلا القسمين الأخيرين يتعدى اللحاظ من الماهية إلى شئ آخر.
(وبالجملة) ليس التقسيم لنفس الماهية إذ هي ليست الا قسما واحدا وهو الماهية البشرط
شئ فإنها التي تتحقق في الخارج، بل التقسيم لاعتبار الماهية ولحاظها، ولأجل ذلك اشتهر
بينهم ان اعتبارات الماهية ثلثة، وعلي هذا فليس هنا لا بشرطان: قسمي ومقسمي كما توهموه
(وحيث عرفت) ان تقسيم لحاظ الماهية انما هو لبيان ان معروض وصف الكلية في
333

الذهن هو الملحوظ بأي قسم من اللحاظات الثلثة، وعرفت أيضا ان الملحوظ في القسم الأول هو
نفس الماهية بخلاف القسمين الآخرين، فلا محالة يجب الاذعان بان الكلى الطبيعي (أعني
ما يعرضه وصف الكلية في الذهن) هو الملحوظ في القسم الأول أعني نفس الماهية، وإن شئت
قلت: إن الكلى الطبيعي هو القسم الأول ولكن مع حذف اللحاظ واعتبار الملحوظ فقط. واما على
مذاق من جعل التقسيم لنفس الماهية وجعل المقسم نفسها والقسم الأول عبارة عن الماهية
المقيدة بكونها لا بشرط فلا محالة يتعين الكلى الطبيعي في المقسم كما هو واضح فتدبر (1)
(هذا كله) فيما يرجع إلى اعتبارات الماهية، وإذا عرفت ذلك فلنرجع إلى ما كنا فيه

(1) أقول: لا يخفى ان التقسيم عبارة عن ضم قيود إلى المقسم الواحد حتى يحصل بضم
كل قيد إليه قسم في قبال الأقسام الاخر التي يتحقق كل منها بضم قيد آخر، ولا بد من أن تكون
القيود متقابلة كما هو واضح، وعلي هذا فليس تقسيم القوم تقسيما صحيحا حيث جعلوا القيد
في القسم الأول عبارة عن نفس مفهوم اللا بشرطية التي هي امر ذهني فيجب بمقتضى المقابلة
ان يجعل القيد في القسمين الأخيرين أيضا عبارة عن نفس مفهوم البشرط شيئية والبشرط لائية
حتى يصير القيود الثلثة كلها ذهنية متقابلة، وهم قد جعلوا التقييد باللا بشرطية في القسم الأول
في قبال التقييد ببعض القيود الخارجية أو التقييد بعدمها فلا يحصل التقابل بين القيود حينئذ،
ولو جعلوا القيد في البشرط شئ أعم من القيود الخارجية والذهنية لم يكن اللا بشرط القسمي
قسما على حدة بل كان داخلا في البشرط شئ (والحاصل) ان التقسيم يجب أن يكون اما بلحاظ
القيود الذهنية فقط أو الخارجية فقط أو بلحاظ الأعم منهما، (فعلى الأول) تكون القيود
عبارة عن مفهوم اللا بشرطية والبشرط شيئية والبشرط لائية وتشترك الأقسام الثلثة في عدم
الوجود خارجا (وعلى الثاني) لا يصح اعتبار اللا بشرطية قيدا حتى يحصل قسما في قبال القسمين
الآخرين (وعلى الثالث) يدخل اعتبار اللا بشرطية في البشرط شئ فليس قسما على حدة أيضا فتدبر.
(وبما ذكرنا) من لزوم تقابل القيود في التقسيمات ظهر فساد ما ربما يتوهم في المقام من
تربيع الأقسام بناء على جعل المقسم عبارة عن اللحاظ كما هو مبنى السيد لأستاذ (مد ظله العالي)
بل على كلا المبنيين: " بتقريب " ان اللحاظ قد يتعلق بالماهية فقط بحيث لا يتعدى منها، وقد
يتعلق بها ويتعدى منها إلى امر آخر، من قيودها الخارجية، وقد يتعلق بها ويتعدى منها
إلى عدم كون قيودها معها، وقد يتعلق بها ويتعدى منها إلى كونها لا بشرط بالنسبة إلى
قيودها فهذا هو اللا بشرط القسمي.
(وجه الفساد) ان عد القسم الأخير في قبال سائر الأقسام بلا وجه، فان القيد فيه ذهني،
والتقسيم كان بلحاظ القيود الخارجية فقط وقد عرفت بيانه. ح - ع
334

(فنقول): ان الطبيعة الواقعة موضوعة للحكم قد يكون جميع افرادها متساوية
النسبة بلحاظ هذا الحكم فيكون ثابتا لجميع الافراد وساريا بسريان الطبيعة، وقد
لا يكون كذلك بل يكون الحكم ثابتا لبعض الافراد، فعلى الأول تتصف الطبيعة بالاطلاق
وعلى الثاني بالتقييد، فهذا في الجملة مما لا اشكال فيه.
انما الاشكال في ملاك الاطلاق والتساوي المذكور بحسب مقام الثبوت والجعل،
فالمستفاد من كلام الشيخ " قده " وجملة ممن تبعه ان ملاك الاطلاق والتساوي انما هو
لحاظ السريان، وملاك التقييد لحاظ الطبيعة مع قيد ينضم إليها، وبالجملة يتوقف كل
منهما على اللحاظ، (قال الشيخ) " قده " (على ما في تقريرات بحثه) في مقام بيان الماهية
الملحوظة بشرط شئ ما حاصله: انه قد تلاحظ الماهية مع قيد آخر ينضم إليها وان
كان ذلك القيد هو السريان الذي بلحاظه يشمل الحكم جميع الافراد وتسمى الماهية
حينئذ بالبشرط شئ (انتهى).
فمحصل كلام هؤلاء ان اسم الجنس مثلا موضوع للماهية من حيث هي هي، وهي
بذاتها مهملة فلا بد في كونها مطلقة بحيث يسرى الحكم بسرايتها، من لحاظ الشيوع و
السريان في مقام جعلها موضوعة للحكم، فالشياع والسريان كالعرض المفارق للماهية
يتوقف ثبوته لها على اللحاظ فيكون كل واحد من الاطلاق والتقييد امرا وجوديا يتصف
به اللفظ، فاللفظ إذا واقع موضوعا للحكم فان لوحظ سريان مدلوله ووضع الحكم على
الطبيعة السارية سمى مطلقا، وان انضم إليه قيد آخر وراء السريان بحيث يمنعه عن السريان
سمى مقيدا هذا بحسب مقام الثبوت. واما في مقام الاثبات فيتوقف احراز الاطلاق على
وجود دليل يحرز بسببه لحاظ السريان كمقدمات الحكمة مثلا.
(فحاصل كلام القوم) يرجع إلى دعاوى أربع: (الأولى) ان اسم الجنس مثلا موضوع
للماهية المهملة (الثانية) ان السريان خارج من ذاتها ويكون بالنسبة إليها كالعرض
المفارق (الثالثة) ان ثبوت السريان لها بحسب مقام الثبوت وجعل الحكم يتوقف على لحاظه
(الرابعة) ان احراز الاطلاق في مقام الاثبات يتوقف على احراز هذا اللحاظ.
هذه خلاصة مغزاهم في باب الاطلاق (وفيه نظر) بداهة ان السريان امر ذاتي للطبيعة
335

لا يحتاج إلى لحاظ وراء لحاظ نفس الطبيعة، إذ ليس المراد بالشياع والسريان الا حكاية الطبيعة
لمصاديقها واتحادها معها خارجا، والطبيعة بذاتها تحكى مصاديقها بما هي وجودات
لها، ولا يعقل انفكاك هذه الخاصية من الطبيعة، لا أقول: ان مفهوم السريان مأخوذ في الطبيعة،
بل أقول انه من قبيل الخارج المحمول المنتزع عن نفس الطبيعة بلا احتياج إلى لحاظ امر
وراء لحاظ نفس الطبيعة، فالسريان ذاتي للطبيعة بهذا المعنى، بل لحاظ مفهوم السريان
وضمه إلى الطبيعة مما يخرجها من السريان لكونه قيدا ذهنيا كما لا يخفى.
(وبالجملة) ليس ملاك الاطلاق ثبوتا لحاظ سريان الماهية قيدا لها، ولا لحاظها في حال
السريان، بل الملاك في الاطلاق والتقييد هو ما أشرنا إليه في صدر المبحث: من أن الطبيعة الواقعة
موضوعة للحكم ان كانت تمام الموضوع لهذا الحكم بحيث كان الملحوظ في مقام الموضوعية
هو نفس حيثية الطبيعة من دون ان يؤخذ معها حيثية أخرى سميت مطلقة، وإن لم تكن كذلك
بل انضم إليها امر آخر وكان كل منهما دخيلا في الموضوعية سميت مقيدة، فملاك الاطلاق و
تساوى نسبة الافراد في الحكم عبارة عن كون نفس حيثية الطبيعة تمام الموضوع بحيث لم
يلحظ امر وراء ذاتها وان كان هذا الامر هو السريان، فإذا جعل نفس حيثية الطبيعة تمام
الموضوع فبسريانها الذاتي إلى جميع وجوداتها يسرى الحكم أيضا إليها، وملاك التقييد
عبارة عن عدم كون نفس الحيثية تمام الموضوع بل هي مع قيد آخر يمنع عن سراية الحكم
بسراية الطبيعة، فالمولى قد يرى ان تمام غرضه يحصل بعتق الرقبة مثلا من دون أن يكون
لحيثية أخرى دخل في متعلق غرضه فيجعل نفس طبيعة الرقبة موضوعة لحكمه وتسمى
الرقبة حينئذ مطلقة، وقد يرى ان تمام غرضه انما يحصل بعتق الرقبة المؤمنة فيكون
لحيثية الايمان أيضا دخالة فيه فيجعل الموضوع عبارة عن الرقبة المؤمنة فيصير الرقبة جزء
للموضوع وتسمى الرقبة حينئذ مقيدة، (نعم) مجموع الرقبة المؤمنة أيضا مطلقة بالنسبة
إلى القيود التي يمكن ان تنضم إليها،
وعلى ما ذكرنا فلا يكون ملاك الاطلاق امرا وجوديا بل يكون امرا عدميا أعني به عدم لحاظ
حيثية أخرى وراء حيثية الطبيعة، واطلاق لفظي الاطلاق والتقييد في المقام ليس من باب اصطلاح
خاص بل هو باعتبار معناهما اللغوي، فان الاطلاق بحسب اللغة هو الارسال ويعبر عنه
336

بالفارسية (رها كردن)، وفى مقابله التقييد ومعناه جعل الشئ في قيد ويعبر عنه بالفارسية
(زنجير كردن)، والرقبة في أعتق رقبة تكون مرسلة أي غير مقيدة، وفي أعتق رقبة
مؤمنة تكون في قيد.
(فان قلت): ان جعل الحكم على نفس الطبيعة أعم من كونها تمام الموضوع إذ لعلها
مهملة فلا بد في الاطلاق من لحاظ السريان (قلت): الاهمال انما يتصور في مقام الاثبات
ولسنا فعلا بصدد بيان ما هو ملاك الاخذ بالاطلاق في مقام الاثبات، إذ الكلام يأتي فيه عن
قريب، بل الكلام فعلا انما هو في مقام الثبوت وجعل الحكم، ومعلوم ان جاعل الحكم
للرقبة مثلا قد يجعله لها بحيث لا يلاحظ حين الجعل امرا وراء هذه الحيثية، وقد يجعله
للرقبة مع قيد آخر، ولا يعقل الاهمال في مقام الثبوت فتأمل. (1)
" فذلكة " قد اتضح لك من جميع ما ذكرناه أمور: (الأول) ان الاطلاق والتقييد وصفان
للمدلول فإنه الموضوع للحكم حقيقة، وانما يتصف بهما اللفظ بالعرض والمجاز.
(الثاني) ان الاتصاف بهما انما يكون بلحاظ الموضوعية للحكم، والا فنفس المفهوم

(1) أقول: قال في نهاية الدراية في مبحث اعتبارات الماهية ما حاصله: ان
الماهية إذا لوحظت وكان النظر مقصورا على ذاتها من دون نظر إلى الخارج من ذاتها فهي
الماهية المهملة التي ليست من حيث هي الا هي، وإذا نظر إلى الخارج من ذاتها فاما ان تلاحظ
بالإضافة إلى هذا الخارج مقترنة به بنحو من الانحاء فهي البشرط شئ. واما ان تلاحظ
بالإضافة إليه مقترنة بعدمه فهي البشرط لا، واما ان تلاحظ بالإضافة إليه لا مقترنة
به ولا مقترنة بعدمه فهي اللا بشرط، وحيث إن الماهية يمكن اعتبار أحد هذه الاعتبارات
معها بلا تعين لأحدها فهي أيضا لا بشرط من حيث قيد البشرط شئ وقيد البشرط لا وقيد اللا بشرط،
فاللا بشرط حتى عن قيد اللا بشرطية هو اللا بشرط المقسمي، واللا بشرط بالنسبة إلى
القيود التي يمكن اعتبار اقترانها وعدم اقترانها هو اللا بشرط القسمي.
" وقال أيضا ": ان نفس الماهية من حيث هي غير واجدة الا لذاتها وذاتياتها، واما إذا
حكم عليها بامر خارج من ذاتها فلا محالة تخرج من حد الماهية من حيث هي فيكون المحكوم
عليه هو الماهية بأحد الاعتبارات الثلثة. " وقال أيضا ". كما أن المتقيد به الماهية في البشرط شئ والبشرط لا نفس المعنى
المعتبر لا بما هو معتبر ولا اعتباره، كذلك اللا بشرط القسمي، فان قيد الماهية هو عدم لحاظ
الكتابة وعدمها لا لحاظ عدم اللحاظ، فهذه الاعتبارات مصححة لموضوعية الموضوع على
الوجه المطلوب لا انها مأخوذة فيه.
" وقال " في أوائل العام والخاص ما لفظه: ان العام ليس حكمه حكما جهتيا من حيث عنوان
العالم مثلا فقط، بل حكم فعلى تام الحكمية بمعنى ان العالم (وان كان معنونا بأي عنوان)
محكوم بوجوب الاكرام فيكشف عن عدم المنافاة لصفة من صفاته وعنوان من عناوينه
لحكمه " انتهى ".
" أقول ": لا يخفى ان الحاكم بعد تصوره للعنوان الواجد للمصلحة كعتق الرقبة مثلا
لا بد من أن يلاحظ انه واجد للمصلحة مطلقا معنونا بأي عنوان كان أو ان الواجد لها هو عتق
الرقبة المقترنة بالايمان مثلا، فنفس تعلق اللحاظ بالماهية اجمالا لا يكفى في جعلها موضوعة
أو متعلقة للحكم ما لم يلحظ انها تامة المصلحة أو انها جزء المحصل لها، ولكنه بعد ما رأى أن
عتق الرقبة تمام الموضوع في تحصيل المصلحة يجعل نفس هذه الحيثية موضوعة للحكم من غير
احتياج إلى لحاظ السريان، فتمام الموضوع للحكم هو نفس حيثية الماهية لا الماهية المقيدة
بكونها تمام الموضوع أو بالسريان، ولكن تماميته ملحوظة باللحاظ السابق على جعلها
موضوعة للحكم، إذ يجب على الحاكم ان يلحظ ان تمام المحصل للغرض هو نفس هذه الحيثية
أو هي بضميمة حيثية أخرى " والظاهر " ان مراد هذا المحقق من لزوم اعتبار الماهية في مقام
الموضوعية بنحو اللا بشرط القسمي هو ما ذكرناه من لزوم اعتبار التمامية في مرحلة تصور
الموضوع وملاحظة جهاته لا في مرحلة جعل الحكم عليه، كما أن الظاهر أن مراد الاستاد
(مد ظله العالي) من عدم تعدى اللحاظ " في المطلقات " عن نفس الماهية هو عدم التعدي في
مرتبة الموضوعية وجعل الحكم عليه لا في المرحلة السابقة عليها " وبالجملة " المطلق
عبارة عما يكون في مقام جعل الحكم تمام الموضوع بحيث كان النظر في هذا المقام مقصورا
على ذاته، وهذا لا ينافي لحاظ تماميته في المصلحة الموجبة لتماميته في الموضوعية قبل مرتبة
الجعل، وعلى هذا فلا تنافى بين الكلامين " نعم " الظاهر كون مشى الاستاد " مد ظله العالي "
في باب اعتبارات الماهية امتن من مشى هذا المحقق، ولا سيما انه يرد على ما سماه باللا بشرط
القسمي انا وان سلمنا ان الحاكم قبل جعل الحكم في المطلقات يلاحظ ان الماهية بنفسها تامة
في المصلحة والموضوعية وليست مقترنة بوجود القيد ولا بعدمه، ولكن لا يصير عدم الاقتران
بوجود القيد ولا بعدمه من قيود الماهية، بل الملحوظ حينئذ نفس الماهية " غاية الامر " انه تعلق
لحاظ مستقل آخر بأن هذه الماهية غير مقترنة لا بوجود شئ ولا بعدمه من دون ان يصير
الملحوظ بهذا اللحاظ قيدا للملحوظ بذاك اللحاظ المتعلق بالماهية، إذ ليس كل مجتمعين في
اللحاظ يجب أن يكون أحدهما قيدا للاخر، وهذا بخلاف القسمين الآخرين، ففي البشرط شئ
مثلا يصير الايمان الملحوظ باللحاظ الثاني قيدا للرقبة الملحوظة أولا لكونه من حالاتها، فبطل
ما سماه باللا بشرط القسمي وعده أحدا من اعتبارات الماهية من اصله وأساسه، فتدبر فان المسألة
دقيقة جدا ولأجل ذلك خرجنا من طور الاختصار. ح - ع
337

مع صرف النظر عن كونه موضوعا لحكم من الاحكام لا يتصف بالاطلاق ولا بالتقييد.
(الثالث) ان المهم في مبحث المطلق والمقيد ليس بيان مفهوم المطلق والمقيد بل
بيان ما يتصف بهما من المفاهيم " وبعبارة أخرى " المقصود بيان ما هو المطلق
أو المقيد بالحمل الشايع، لا بيان المطلق أو المقيد بالحمل الأولى الذاتي.
(الرابع) ان الطبيعة الواقعة موضوعة للحكم انما تتصف بالاطلاق إذا كانت جميع
افرادها متساوية النسبة بحسب هذا الحكم بحيث يسرى الحكم إلى جميع الافراد، وتتصف
بالتقييد إذا لم تكن كذلك.
(الخامس) ان تمام الملاك في حصول هذا التساوي وعدمه عبارة عن كون نفس هذه
الحيثية تمام الموضوع للحكم أو كونها مع قيد آخر تمامه، هذا كله بحسب مقام الثبوت
" واما في مرحلة الاثبات " فإن كان الحكم في لسان الدليل مجعولا على الطبيعة مع
قيد آخر وجب الحكم بتقيدها الا ان يثبت من الخارج عدم دخالة القيد، وان كان مجعولا
على نفس الطبيعة وعلمنا بكونها تمام الموضوع وجب الحكم باطلاقها، وان شككنا في
ذلك: بان احتملنا دخالة قيد زائد في الموضوعية وان ترك المولى لذكره كان من جهة
338

عدم كونه في مقام بيان تمام الموضوع لحكمه، فحينئذ يقع البحث في أنه هل يكون لنا طريق
لاحراز الاطلاق أو لا؟
(وقبل الورود) في هذا المبحث يجب أن نشير إلى أن التقييد هل يوجب المجازية كما
نسب إلى المشهور أو لا؟ (فنقول): ان توهم المجازية اما بتخيل كون السريان مأخوذا في
الموضوع له والتقييد يوجب إلغائه فيصير اللفظ الموضوع للكل مستعملا في الجزء، واما
بتخيل كون المطلق بعد التقييد مستعملا في بعض افراده كما هو الظاهر من أكثر
القائلين بالمجازية. وقد خالف المشهور في القول بالمجازية سلطان العلماء فقال " قده "
(على ما في تقريرات بحث الشيخ " قده "): انه يمكن العمل بالمطلق والمقيد من دون اخراج
من حقيقته بان يعمل بالمقيد ويبقى المطلق على اطلاقه، فلا يجب ارتكاب مجاز حتى يجعل
ذلك وظيفة المطلق، فان مدلول المطلق ليس صحة العمل بأي فرد كان حتى ينافي مدلول
المقيد بل هو أعم منه ومما يصلح للتقييد بل المقيد في الواقع، الا ترى أنه معروض للقيد
339

كقولنا: أعتق رقبة مؤمنة والا لزم حصول المقيد بدون المطلق مع أنه لا يصلح لاي رقبة كانت،
فظهر ان مقتضى المطلق ليس ذلك والا لم يتخلف عنه (انتهى).
(أقول): مراده " قده " بالمطلق اللفظ الموضوع لنفس الطبيعة، وغرضه بيان عدم كون
التقييد مجازا من جهة كون نفس الطبيعة محفوظة حال التقييد أيضا، والدلالة
على البعض من باب تعدد الدال والمدلول لا من باب استعمال المطلق في بعض الافراد،
وهذا هو الحق عندنا أيضا حيث عرفت أن الاطلاق ليس بلحاظ السريان وكونه مأخوذا
في الموضوع له حتى يكون التقييد موجبا لالغائه فيصير مجازا.
(نعم) نفس حيثية الطبيعة بذاتها سارية إلى افرادها، وحينئذ فان جعلت تمام الموضوع
للحكم سميت مطلقة ويسرى الحكم بسريانها الذاتي، وإن لم تكن تمام الموضوع بل
انضم إليها حيثية أخرى سميت مقيدة، ولا يوجب ذلك المجازية، إذ اللفظ الدال على
حيثية الطبيعة لا يستعمل في البعض بل يراد منه نفس معناه، والتقيد يستفاد من القيد
المنضم إليه المانع عن سريان الحكم بسريان الطبيعة.
" وبالجملة " نحن أيضا نوافق السلطان في عدم كون التقييد موجبا للمجازية، ولكنه
مع ذلك بين كلامه " قده " وبين ما ذكرناه فرق بين، إذ المطلق عنده عبارة عن اللفظ
الموضوع لنفس الطبيعة المهملة المحفوظة حال التقييد أيضا، فالمطلق على مذهبه باق
حال التقييد أيضا على وصف الاطلاق، واما على ما ذكرناه فالطبيعة انما تتصف بوصف
الاطلاق حال كونها تمام الموضوع للحكم وعدم اخذ حيثية أخرى معها، واما بعد التقييد
فلا تتصف بوصف الاطلاق. (هذا كله) بناء على عدم اخذ السريان في الموضوع له.
واما بناء على اخذه فيه فالتقييد يوجب المجازية حيث إنه يستلزم إلغاء قيد السريان كما لا يخفى.
(إذا عرفت ما ذكرناه فاعلم) انه إذا شك في الاطلاق فعلى القول بكون التقييد مجازا
كما نسب إلى المشهور يحرز الاطلاق بأصالة الحقيقة. واما على القول بعدم المجازية كما
هو الحق فلا بد لاحرازه من دليل آخر، وقد ذكروا لاثباته دليلا سموه بقاعدة الحكمة
وهي على ما في الكفاية تتألف من ثلث مقدمات: (الأولى) كون المتكلم في مقام بيان ما هو
تمام الموضوع لحكمه لا في مقام الاهمال أو الاجمال (الثانية) انتفاء قرينة توجب تعيين المراد
340

(الثالثة) انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب، والمراد من القدر المتيقن في مقام التخاطب
أن يكون بعض افراد الطبيعة بحيث يتيقن المخاطب ويعلم تفصيلا بكونه مرادا اما بخصوصه
واما في ضمن الجميع مع كون تيقنه لذلك بنفس القاء الخطاب لا بعد التأمل والتدبر، فحاصل
المقدمة الثالثة عبارة عن عدم كون المتكلم عالما بان ذهن المخاطب مسبوق ببعض
الخصوصيات وانه يحصل له بصرف القاء الخطاب إليه العلم بان البعض المعين مراد قطعا و
موضوع للحكم جزما غاية الامر وقوع الشك بالنسبة إلى بقية الافراد، فإذا تحققت
المقدمات الثلث علم منها ان ما ذكره المولى من الطبيعة المطلقة هي تمام الموضوع لحكمه
والا لأخل بغرضه، والاخلال بالغرض ينافي الحكمة، وان انتفت واحدة منها بان لم يكن
المولى بصدد بيان ما هو تمام الموضوع لحكمه، أو ذكر قرينة على التعيين، أو كان في
البين قدر متيقن كذلك لما كان عدم إرادة الاطلاق ملازما للاخلال بالغرض، اما في
الأوليين فواضح، واما في الثالثة فلان غرضه ان كان هو البعض المتيقن لما كان الاطلاق
مخلا بهذا الغرض، إذ الفرض تيقن المخاطب بان هذا البعض المعين متيقن الإرادة فهو يعلم
بما هو بالحمل الشايع تمام غرض المولى، والمولى أيضا أحرز ذلك من ناحية المخاطب،
فليس الاطلاق منه اخلالا بالغرض لأنه بصدد بيان ما هو تمام الغرض بالحمل الشايع
وقد بينه، لا بصدد بيان انه تمام كي يقال إنه أخل ببيانه، هذه خلاصة ما ذكر في تقريب
مقدمات الحكمة.
(أقول): لا يخفى انه بناء على ما ذكره القوم من احتياج الاطلاق في مقام الثبوت إلى
لحاظ السريان يصير المطلق عاما ويكون موضوع الحكم بحسب الحقيقة افراد الطبيعة،
فان تمت المقدمات الثلاث يحرز بسببها للمخاطب ما هو تمام غرض المولى أعني الاطلاق
و العموم، وان تم الأوليان وانتفى الثالثة بان كان في البين قدر متيقن ففي بادئ النظر
يكون موضوعية الافراد المتيقنة معلومة وبقية الافراد مشكوكا فيها، ولكن هذا الشك
بدوي ينقلب قهرا إلى العلم بكون البعض المتيقن تمام الغرض فيحرز التمام بما أنه تمام
أيضا، ووجه ذلك أن المفروض بحسب المقدمة الأولى كون المولى بصدد بيان ما هو
تمام الموضوع لحكمه من الجميع أو البعض، والمفروض بحسب المقدمة الثانية عدم
341

قرينة معينة في البين، وحينئذ فإذا فرض كون البعض المعين متيقن الإرادة فلا محالة
يحصل للمخاطب (بضم القدمة الأولى إلى هذا المتيقن) الجزم بان هذا البعض المعين تمام
الموضوع للحكم وان ما عداه من الافراد ليس موضوعا له، إذ الواصل إليه هو موضوعية هذا
البعض المعين، والباقي مشكوك فيه ولم يصل بالنسبة إليه بيان، والمفروض بحسب
المقدمة الأولى كون المولى بصدد بيان ما هو تمام الموضوع، فيظهر من ذلك عدم موضوعية
الافراد المشكوك فيها.
(والحاصل) انه بعد ما فرض تحقق المقدمتين الأوليين ووجود القدر المتيقن في البين
يتحقق شكل ثان ينتج كون القدر المتيقن تمام غرض المولى، وصورة الشكل هكذا:
لا شئ من غير القدر المتيقن بمعلوم، وكل ما هو مراد المولى معلوم، ينتج لا شئ من غير
القدر المتيقن بمراد، اما الصغرى فواضحة، واما الكبرى فبمقتضى المقدمة الأولى،
" وبالجملة " يحرز بذلك غرض المولى وهو البعض ويعلم أيضا انه تمامه.
" فما في الكفاية " من انه بعد احراز المقدمتين الأوليين ووجود القدر المتيقن في
البين يعلم تمام غرض المولى وإن لم يعلم انه تمامه، فاسد كما لا يخفى، (هذا كله) بناء
على مذاق القوم في باب الاطلاق.
(واما على ما بيناه) من أن الملاك فيه كون حيثية الطبيعة تمام الموضوع كما أن
ملاك التقييد دخالة حيثية أخرى في الموضوعية من دون ان يلحظ السريان وعدمه، فيرد
الاشكال على المقدمة الثالثة إذ المفروض بحسب المقدمة الأولى كون المولى بصدد بيان
ما هو تمام المراد من اللفظ بحسب الاستعمال، وليس المراد بذلك ما أريد من اللفظ بحسب
الاستعمال فقط، إذ لا ينحصر ذلك بلفظ دون لفظ بل يجرى في جميع الألفاظ، بل المقصود
بذلك كونه بصدد بيان ما هو المراد بحسب الواقع والجد، وحينئذ فان لم يكن تمام
الموضوع بحسب الواقع نفس حيثية الطبيعة بل كان لحيثية أخرى دخالة فيه صار عدم
ذكرها اخلالا منه بالغرض، إذ المفروض ان المذكور ليس إلا حيثية الطبيعة، والمستفاد منه
هو الاطلاق وكونها تمام الموضوع للحكم، وكون بعض الافراد متيقن الإرادة لا يضر
342

بالاطلاق بعد كون الملاك في الاطلاق والتقييد عندنا وحدة الحيثية وتعددها من دون
نظر إلى الافراد
(والحاصل) ان التيقن بالنسبة إلى بعض الافراد يوجب العلم بكفايته في مقام الامتثال،
ولا يوجب ذلك تقييدا في موضوع الحكم بحيث يصير الموضوع للحكم الطبيعة المقيدة،
إذ بيان حدود الموضوع من وظائف المتكلم، والمفروض انه لم يذكر الا نفس حيثية
الطبيعة، ومقتضى ذلك كون نفس الحيثية تمام الموضوع لحكمه وسريان الحكم
بسريانها قهرا.
" والسر في ذلك " ان نظر المتكلم بحسب ما حققناه في معنى الاطلاق والتقييد ليس إلى
الافراد بل إلى نفس الحيثية، فالملاك كل الملاك فيهما هو وحدة الحيثية وتعددها (وبالجملة)
المقدمة الثالثة غير محتاج إليها، بل هي مخلة بعد ما حققناه من أن الملاك في الاطلاق
والتقييد ليس لحاظ السريان وعدمه، وليس الافراد ملحوظة بل النظر مقصور على نفس
حيثية الطبيعة، فان جعلت تمام الموضوع سميت مطلقة وان انضم إليها حيثية أخرى سميت مقيدة،
فيكفى في الاطلاق لحاظ الطبيعة وعدم لحاظ حيثية أخرى معها، وعلي هذا فالامر في التيقن
والشك بعكس ما ذكروه، إذ كون نفس حيثية الطبيعة دخيلة في الموضوع متيقن ودخالة
حيثية أخرى مشكوك فيها، وحيث إن المولى لم يبين دخالتها مع كونه في مقام البيان
فلا محالة يحرز بذلك إرادة الاطلاق، (هذا كله) بالنسبة إلى المقدمة الثالثة.
(واما المقدمة الثانية) فهي أيضا زائدة إذ البحث انما هو في صورة الشك، ومع وجود
القرينة لا يكون شك في البين، فيبقى من المقدمات الثلث المقدمة الأولى وهي بنفسها
تكفى لاثبات الاطلاق، ولكن على مذاقنا دون مذاق القوم.
" بيان ذلك " انه بناء على ما ذكرناه في معنى الاطلاق والتقييد لا يحتاج الاطلاق في مقام
البيان الا إلى بيان نفس حيثية الطبيعة، واما التقييد فيحتاج إلى مؤنة زائدة إذ يجب فيه
مضافا إلى ذكر ما يدل على حيثية الطبيعة ان يذكر ما يدل على الحيثية المنضمة
(والحاصل) انهما يشتركان في الاحتياج إلى بيان الطبيعة، ويمتاز التقييد باحتياجه
343

إلى بيان الحيثية المنضمة، وعلي هذا فإذا فرض كون المولى بصدد بيان ما هو تمام الموضوع
لحكمه بمقتضى المقدمة الأولى، وفرض أيضا عدم ذكره الا لما يدل على نفس حيثية الطبيعة
فلا محالة يثبت الاطلاق أي كون هذه الحيثية تمام الموضوع لحكمه ويسرى الحكم إلى
جميع الافراد بسريانها الذاتي من دون احتياج إلى اللحاظ، هذا بناء على مذاقنا، واما بناء على
مشى القوم في الاطلاق فكل من الاطلاق والتقييد يحتاج إلى مؤنة زائدة بعد اشتراكهما
في لحاظ أصل الطبيعة، إذ المفروض احتياج الاطلاق أيضا إلى لحاظ السريان والشمول، و
اللفظ الدال على نفس حيثية الطبيعة لا يدل على السريان الملحوظ فلا بد في بيانه من لفظ
آخر يدل عليه، وعلي هذا فصرف كون المولى بصدد بيان تمام الموضوع لحكمه لا يثبت
الاطلاق على مذاقهم، إذ المفروض انه في مقام الاثبات لم يذكر الا اللفظ الدال على نفس
حيثية الطبيعة، وعلى مذاقهم لا يكفي صرف لحاظ الطبيعة في تحقق الشمول والسريان،
فتلخص مما ذكرناه ان المقدمات لا تنتج الاطلاق على مذاق القوم، واما بناء على ما اخترناه
(من عدم احتياج الاطلاق الا إلى لحاظ نفس حيثية الطبيعة) فدليل الحكمة ينتج الاطلاق
الا ان المادة العاملة فيه هي المقدمة الأولى فقط فتدبر.
* (وينبغي التنبيه على أمور) *
(الأول) قد عرفت أن ملاك الاطلاق عندنا بحسب مقام الثبوت هو جعل حيثية الطبيعة
تمام الموضوع للحكم من دون احتياج إلى لحاظ السريان والشياع، وملاك التقييد انضمام
حيثية أخرى إليها في مقام الموضوعية، هذا بحسب مقام الثبوت، واما في مقام الاثبات
فيتوقف الحكم بالاطلاق على احراز كون المولى في مقام بيان ما هو تمام الموضوع لحكمه،
فهو الأساس لاحراز الاطلاق ولا نحتاج إلى مقدمة أخرى، وحينئذ فيقع الكلام في أن احراز
كون المولى بصدد البيان هل يتوقف على العلم به أو انه يوجد هناك امارة عقلائية يحرز
بها ذلك (الظاهر) هو الثاني، فان الظاهر من كلام المتكلم العاقل (بما أنه تكلم وفعل
اختياري له) هو انه صدر عنه ذلك بداعي الافهام والبيان لا الاهمال والاجمال إذ الظاهر
من الفعل الصادر عن العاقل (بما أنه فعل اختياري له) أن يكون صدوره عنه بداعي غايته
344

الطبيعية أعني ما يعد غاية وفائدة له عند العقلاء بحيث يكون صدور هذا النوع من الفعل
عنهم بهذا الداعي، والغاية الطبيعية العادية للتكلم بكلام انما هو القاء مضمونه بداعي
بيان المقصود، (ونظير ذلك) حمل الألفاظ على معانيها الحقيقية عند عدم القرينة، إذ الفائدة
الطبيعية المتعارفة لاستعمال اللفظ الموضوع عبارة عن افهام معناه الذي وضع هو بإزائه من
دون ان يجعل هذا المعنى معبرا لمعنى آخر كما هو الملاك في الاستعمالات المجازية
(والحاصل) ان الكلام الصادر عن العاقل يحمل عند العقلاء على كونه صادرا عنه لغرض
إفادة ما هو قالب له، ولا يحمل على الاهمال الا إذا كان هناك قرينة عليه، ولذلك ترى
العقلاء يعتمدون على المطلقات الصادرة عن الموالى وغيرهم، وعلى ذلك استقر بنائهم
في محاوراتهم، وان سمع أحدهم مطلقا وبنى عليه وعمل باطلاقه بعد الفحص عن المقيد
لم يكن للمولى الاحتجاج عليه بأنه لم يكن في مقام البيان، ولعل نظر المشهور القائلين
بوجوب الحمل على الاطلاق ما لم يثبت قرينة على التقييد أيضا إلى ما ذكرناه، لا إلى كون
التقييد مخالفا للأصل من جهة المجازية، إذ القول بالمجازية ينشأ اما من توهم كون
اللفظ موضوعا للطبيعة بقيد السريان وكون التقييد موجبا لالغاء هذا القيد واستعمال
اللفظ الموضوع للكل في الجزء، أو توهم كونه موضوعا لأصل الطبيعة وكونه عند
التقييد مستعملا في الطبيعة المقيدة مع قيدها فيكون من قبيل استعمال لفظ الجزء في
الكل، ومن البعيد ذهاب المشهور إلى كون اللفظ موضوعا للطبيعة بقيد
السريان أو كونه عند التقييد مستعملا في الطبيعة مع القيد، وكيف كان فاللفظ
الدال على الطبيعة إذا ذكر في كلام ولم يذكر معه قيد يحمل (عند العقلاء) على أن نفس
حيثية الطبيعة تمام الموضوع للحكم وان المولى بصدد البيان لا الاهمال أو الاجمال، إذ
الظاهر من كلامه (بما أنه فعل اختياري له) كونه صادرا لبيان الحكم بموضوعه، فيستفاد
من ذكر الطبيعة وعدم ذكر القيد كون نفس الطبيعة تمام الموضوع للحكم، ولذا لو
صدر عنه بعد ذلك كلام آخر وجعل فيه نفس هذه الطبيعة مقيدة بقيد موضوعة للحكم
المذكور بحيث أحرز وحدة الحكم لصار الكلامان بنظر العقلاء متعارضين وان كانا
مثبتين، فإذا قال المولى ان ظاهرت فأعتق رقبة، ثم قال إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة واحرز
345

بوحدة السبب مثلا وحدة الحكم حصل التعارض بين الكلامين لظهور الأول في كون نفس
حيثية الطبيعة تمام الموضوع وظهور الثاني في خلافه، غاية الامر انه يجمع بينهما بحمل
المطلق على المقيد أو حمل المقيد على أفضل الافراد، والأول أقوى كما يساعد عليه العرف
فتخصيص بعضهم حمل المطلق على المقيد بصورة كونهما مختلفين في النفي والاثبات
في غير محله (نعم) مورد التعارض والحمل كما أشرنا إليه ما إذا أحرز صدور الكلامين لبيان
حكم واحد، والا فيعمل بظاهر كل منهما و يحملان على كونهما حكمين مستقلين
لموضوعين مختلفين.
* (التنبيه الثاني) *
قد عرفت أن معنى الاطلاق كون حيثية الطبيعة تمام الموضوع للحكم، وحينئذ فنقول:
ان نتيجة كونها تمام الموضوع تختلف باختلاف الاحكام المتعلقة بها، فان تعلق بها طلب
الايجاد الذي هو مفاد الامر كانت النتيجة هي السريان والعموم البدلي، وان تعلق بها النهى
كانت النتيجة السريان والعموم الاستغراقي، إذ الطلب إذا تعلق بنفس حيثية الطبيعة من
دون ان يلحظ الوحدة أو السريان (كما هو مقتضى الاطلاق) كان مقتضاه وجوب ايجادها
على المكلف من دون نظر إلى خصوصيات المصاديق، والطبيعة توجد بوجود فرد ما، فإذا
وجدت الطبيعة بايجاد فرد أو فردين منها في عرض واحد سقط الامر بها قهرا لحصول الامتثال
فلا تقع الافراد المتعقبة مصاديق للامتثال
" وبالجملة " تعلق الامر بنفس حيثية الطبيعة يقتضى العموم البدلي، وهذا بخلاف
ما إذا تعلق بها النهى فان مفاد النهى كما عرفت في محله ليس عبارة عن طلب الترك، بل
المستفاد منه هو الزجر عن متعلقه، فالمتعلق لكل من امر والنهى ليس إلا نفس حيثية
الطبيعة، والفرق بينهما ان الامر من مقولة الطلب والبعث، والنهى من مقولة الزجر،
فمتعلق الامر على فرض وجوده يقع امتثالا له، ومتعلق النهى على فرض وجوده يقع
عصيانا له، فإذا تعلق الزجر بنفس حيثية الطبيعة كان الغرض منه انزجار العبد من نفس
حيثية الطبيعة وعدم تحققها منه في الخارج، فكل ما هو وجود للطبيعة يكون مزجورا عنه
346

بما أنه وجود لها، ولو عصى المكلف وأوجد فردا منها يكون سائر الافراد أيضا
مزجورا عنها لأنها أيضا وجودات لهذه الطبيعة، والمفروض تعلق الزجر بنفس حيثية
الطبيعة، ومقتضاه تنفر المولى من وجود الطبيعة بما هو وجود لها فيسرى الحكم أينما سرت
(فان قلت): كما أن امتثال التكليف يوجب سقوطه فكذلك عصيانه فكيف
يبقى الزجر عنها مع تحقق العصيان! (قلت) هذا الكلام من الأغلاط المشهورة، إذ لا
نسلم ان العصيان من المسقطات، وما تراه من سقوط الواجب الموقت بعصيانه في وقته فليس
ذلك من جهة مسقطية العصيان بل من جهة عدم القدرة عليه بانقضاء وقته (والحاصل) ان تعلق
الزجر بأصل الطبيعة بحيث تكون نفس حيثيتها تمام الموضوع للزجر يقتضى سريان
الزجر إلى جميع افرادها ويكون كل فرد منها بما هو وجود لها مزجورا عنه، وإذا تحقق
العصيان في بعضها يبقى الزجر بالنسبة إلى البقية، وليس ذلك بسبب لحاظ السريان
استيعابا، بل هو مقتضى كون نفس حيثية الطبيعة تمام الموضوع للزجر، ومثل ذلك
الأحكام الوضعية إذا تعلقت بالطبيعة كقوله (تعالى): أحل الله البيع مثلا، فان كون نفس
حيثية الطبيعة تمام الموضوع للصحة مثلا يقتضى سريانها أينما سرت، ونتيجته العموم
الاستغراقي (وبالجملة) اختلاف نتيجة الاطلاق بالبدلية والاستغراق انما هو من مقتضيات
الاحكام المتعلقة بها، والا فمعنى الاطلاق في جميعها ليس إلا جعل حيثية الطبيعة تمام الموضوع
للحكم من دون ان يلحظ السريان فضلا عن البدلية أو الاستيعاب، وعلي هذا فلا يرد ما
أورده بعض أعاظم العصر من أن مقدمات الحكمة اما ان تنتج السريان البدلي أو السريان
الاستيعابي فلم يحكم في بعض الموارد بهذا وفي بعض الموارد بذاك؟ ولا يصح الجواب
عن ذلك بان نتيجة المقدمات هو أصل السريان، والخصوصيات تستفاد من قرائن المقام، بل
الحق في الجواب ان نتيجة المقدمات هو الارسال لا السريان، ومعنى الارسال هو عدم
تقييد الطبيعة في مقام الموضوعية للحكم، وجعلها تمام الموضوع له، لا لحاظ الشياع
والسريان، غاية الامر ان نتيجة كونها تمام الموضوع تختلف باختلاف الاحكام المتعلقة
بها، ففي الأوامر تكون النتيجة هي العموم البدلي وفي النواهي والاحكام الوضعية العموم
الاستغراقي، ولذا يطلق على البيع في قوله (تعالى): أحل الله البيع العام كما يطلق عليه
347

المطلق فالثاني باعتبار كون حيثيته تمام الموضوع للصحة بحيث لم ينضم إليه حيثية
أخرى في مقام الموضوعية، والأول باعتبار ان نتيجة الاطلاق في المقام شمول الحكم
المتعلق بالبيع لجميع افراده (1)
* (التنبيه الثالث) *
لا يخفى ثبوت الفرق بين الطبيعة الواقعة في حيز الامر أو النهى وبين الطبيعة الواقعة في
حيز الأحكام الوضعية، فان الامر لطلب اصدار الطبيعة وايجادها والنهى للزجر عن اصدارها،
فالطبيعة الواقعة في حيزهما غير مفروضة الوجود وانما أريد بالأمر ايجادها وبالنهى ابقاءها
على حالة العدم، واما الأحكام الوضعية فمتعلقها هو الطبيعة المفروضة الوجود فيكون الحكم
ثابتا (بنحو القضية الحقيقية) لوجوداتها المفروضة بما هي وجودات له، فعتق الرقبة في نحو
أعتق رقبة أولا تعتق رقبة لم يفرض وجوده حتى يكون الحكم لوجوداته المفروضة، وهذا
بخلاف البيع في نحو أحل الله البيع، فان الصحة والمضي انما شرعت للبيع المفروض
وجوده في الخارج.
* (التنبيه الرابع) *
لا يخفى ان الاحكام المتعلقة بالطبايع على نحوين: بعضها مما يمكن ان يتعلق بأصل
الطبيعة مع فرض كون الموضوع لها بحسب الواقع والجد الطبيعة المقيدة، وبعضها
مما لا يمكن تعلقها بأصل الطبيعة الا إذا كان الموضوع واقعا هو نفس حيثيتها، فمثال

(1) أقول: قد اشتهر بينهم ان كل عام مطلق وكل مطلق عام، والفرق بين العام والمطلق ان
اطلاق المطلق على حيثية انما هو باعتبار كونها تمام الموضوع وانه لم ينضم إليها حيثية أخرى
في الموضوعية، وفي مقابله التقييد، واطلاق العام عليها باعتبار شمول الحكم المتعلق بها
لجميع افرادها، وفى مقابله التخصيص، وقد يفرق بينهما بان العام ما لوحظ فيه الكثرة و
جعل الطبيعة فيه ما به ينظر، بخلاف المطلق فإنه لم يلحظ فيه الكثرة فضلا عن جعل الطبيعة
مرآتا لها. وقد يفرق أيضا بان العام لا يطلق الا على ما يكون شموله بالوضع سواء كان
استيعابيا أم مجموعيا أم بدليا، والمطلق يطلق على ما كان الشمول فيه بقرينة الحكمة. ح - ع
348

القسم الأول الاحكام الايجابية كالأوامر مثلا، فإذا كان مراد المولى بحسب الواقع عتق
الرقبة المؤمنة صح له أن يقول في مقام الانشاء أعتق رقبة ويكون غرضه ذكر القيد بعد
ذلك، ومثال القسم الثاني الاحكام السلبية كالنفي والنهى فلا يصح ان يقال لا رجل أو لا تعتق
رجلا الا إذا كان المراد بحسب الواقع نفى حيثية الطبيعة المطلقة أو الزجر عنها، وان كان
مراده نفى المقيد لم يصح ادخال حرف النفي على نفس الطبيعة بلا ذكر القيد، لان حرف
النفي موضوع لنفى مدخوله، وانتفاء الطبيعة بانتفاء جميع افرادها، وهذا بخلاف الامر
فإنه لطلب ايجاد المتعلق، فإن كان المطلوب بحسب الواقع ايجاد المقيد أيضا صح في مقام
الانشاء تعلق الامر بأصل الطبيعة، إذ وجودها بوجود فرد ما فإرادة ايجاد المقيد إرادة
لايجادها أيضا فيصح ان يتعلق الطلب بها ويذكر القيد بعده.
(إذا عرفت ما ذكرنا فنقول): ان الاحتياج إلى مقدمات الحكمة انما هو في القسم
الأول أعني الاحكام الايجابية، لما عرفت من صحة تعلق الحكم فيها بأصل الطبيعة مع كون
المراد لبا هو المقيد، فنحتاج في اثبات الاطلاق إلى احراز كون المولى في مقام بيان
تمام الموضوع لحكمه وعدم كونه بصدد الاهمال.
واما القسم الثاني أعني الاحكام السلبية فيمكن ان يقال فيها بعدم الاحتياج إلى مقدمات
الحكمة لما عرفت من أن كلمة " لا " مثلا موضوعة لنفى مدخولها أي شئ كان، فإن كان المدخول
عبارة عن اللفظ الدال على نفس حيثية الطبيعة كان النفي متوجها إليها، وانتفائها كما
عرفت انما يكون بانتفاء جميع وجوداتها، فلا يحتمل الاهمال حتى ينتفى باحراز كونه
في مقام البيان (وبالجملة) استفادة الاطلاق هنا انما تكون بالاستعانة من وضع " لا "

(1) أقول: وهذا البيان يجرى في لفظة كل ونحوه أيضا مما وضع للشمول فإنها وضعت
لشمول المدخول لا لشمول ما أريد منه لبا (فان قلت): على هذا يلزم أن يكون التقييد بدليل
منفصل موجبا للمجازية بالنسبة إلى لفظ لا أو الكل أو نحوهما وإن لم يلزم المجازية بالنسبة
إلى المدخول (قلت): لفظة كل مثلا انما وضعت لشمول ما أريد من المدخول استعمالا لا بحسب
الجد، واحراز الجد انما يكون بأصالة التطابق بين الإرادتين والتقييد تصرف في الجد
لا في الاستعمال فافهم. ح - ع
349

لأنها لنفى المدخول أي شئ كان من المطلق أو المقيد.
هذا آخر ما أورده السيد الاستاد (مد ظله العالي على رؤس المسلمين) في مباحث الألفاظ
ويتلوه انشاء الله المباحث العقلية.
وقد وقع الفراغ من تسويد هذه الصحائف في شهر محرم الحرام سنة 1368
بيد العبد المفتقر إلى رحمة ربه الغنى حسين على المنتظري ابن علي
النجف آبادي الأصفهاني عاملهما الله بلطفه وفضله
بحق محمد وآله الطاهرين
والحمد لله رب العالمين
رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم انك أنت الأعز الأكرم
350