الكتاب: أضواء البيان
المؤلف: الشنقيطي
الجزء: ١
الوفاة: ١٣٩٣
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: مكتب البحوث والدراسات.
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤١٥ - ١٩٩٥م
المطبعة: بيروت. - دار الفكر للطباعة والنشر.
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر
ردمك:
ملاحظات:

((سورة الفاتحة))
* (بسم الله الرحمان الرحيم سورة الفاتحة قوله تعالى * الحمد لله رب العالمين) * لم يذكر لحمده هنا ظرفا مكانيا ولا زمانيا. وذكر في سورة الروم أن من ظروفه المكانية: السماوات والأرض في قوله: * (وله الحمد في * السماوات والأرض) * وذكر في سورة القصص أن من ظروفه الزمانية: الدنيا والآخرة في قوله: * (وهو الله لا إلاه إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة) * وقال في أول سورة سبأ: * (وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير) * والألف واللام في * (الحمد) * لاستغراق جميع المحامد. وهو ثناء أثنى به تعالى على نفسه وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه به.
وقوله تعالى: * (رب العالمين) * لم يبين هنا ما العالمون وبين ذلك في موضع آخر بقوله: * (قال فرعون وما رب العالمين * قال رب السماوات والأرض وما بينهما) *
قال بعض العلماء: اشتقاق العالم من العلامة لأن وجود العالم علامة لا شك فيها على وجود خالقه متصفا بصفات الكمال والجلال قال تعالى: * (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لايات لأولي الألباب) * والآية في اللغة: العلامة. * (قوله تعالى الرحمن الرحيم) * هما وصفان لله تعالى واسمان من أسمائه الحسنى مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة والرحمن أشد مبالغة من الرحيم لأن الرحمان هو ذو الرحمة الشاملة لجميع الخلائق في الدنيا وللمؤمنين في الآخرة والرحيم ذو الرحمة للمؤمنين يوم القيامة. وعلى هذا أكثر العلماء. وفي كلام ابن جرير ما يفهم منه حكاية الاتفاق على هذا. وفي تفسير بعض السلف ما يدل عليه كما قاله ابن كثير ويدل له الأثر المروي عن عيسى كما ذكره ابن كثير وغيره أنه قال عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: الرحمن رحمن الدنيا الآخرة الرحيم رحيم
5

الآخرة. وقد أشار تعالى إلى هذا الذي ذكرنا حيث قال: * (ثم استوى على العرش الرحمان) * وقال: * (الرحمان على العرش استوى) * فذكر الاستواء باسمه الرحمان ليعم جميع خلقه برحمته. قاله ابن كثير. ومثله قوله تعالى: * (أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمان) *؛ أي: ومن رحمانيته: لطفه بالطير وإمساكه إياها صافات وقابضات في جو السماء. ومن أظهر الأدلة في ذلك قوله تعالى: * (الرحمان * علم القرءان) * إلى قوله: * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * وقال: * (وكان بالمؤمنين رحيما) * فخصهم باسمه الرحيم. فإن قيل: كيف يمكن الجمع بين ما قررتم وبين ما جاء في الدعاء المأثور من قوله صلى الله عليه وسلم: رحمن الدنيا والآخرة ورحميهما. فالظاهر في الجواب والله أعلم أن الرحيم خاص بالمؤمنين كما ذكرنا لكنه لا يختص بهم في الآخرة بل يشمل رحمتهم في الدنيا أيضا فيكون معنى: رحيمهما رحمته بالمؤمنين فيهما.
والدليل على أنه رحيم بالمؤمنين في الدنيا أيضا: أن ذلك هو ظاهر قوله تعالى: * (هو الذي يصلى عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما) *؛ لأن صلاته عليهم وصلاة ملائكته وإخراجه إياهم من الظلمات إلى النور رحمة بهم في الدنيا. وإن كانت سبب الرحمة في الآخرة أيضا وكذلك قوله تعالى: * (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم) * فإنه جاء فيه بالباء المتعلقة بالرحيم الجارة للضمير الواقع على النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار وتوبته عليهم رحمة في الدنيا وإن كانت سبب رحمة الآخرة أيضا. والعلم عند الله تعالى. * (وقوله ملك يوم الدين) * لم يبينه هنا وبينه في قوله: * (وما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين * يوم لا تملك نفس لنفس شيئا) *.
والمراد بالدين في الآية الجزاء. ومنه قوله تعالى: * (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق) * أي جزاء أعمالهم بالعدل.
6

* (إياك نعبد) * أشار في هذه الآية الكريمة إلى تحقيق معنى لا إلاه إلا الله؛ لأن معناها مركب من أمرين: نفي إثبات. فالنفي: خلع جميع المعبودات غير الله تعالى في جميع أنواع العبادات والإثبات: إفراد رب السماوات والأرض وحده بجميع أنواع العبادات على الوجه المشروع. وقد أشار إلى النفي من لا إلاه إلا الله بتقديم المعمول الذي هو * (إياك) * وقد تقرر في الأصول في مبحث دليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة. وفي المعاني في مبحث القصر: أن تقديم المعمول من صيغ الحصر. وأشار إلى الإثبات منها بقوله: * (نعبد) *.
وقد بين معناها المشار إليه هنا مفصلا في آيات أخر كقوله: * (يا أيها الناس اعبدوا ربكم * الذي خلقكم) * فصرح بالإثبات منها بقوله: * (اعبدوا ربكم) * وصرح بالنفي منها في آخر الآية الكريمة بقوله: * (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) * وكقوله: * (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) * فصرح بالإثبات بقوله: * (أن اعبدوا الله) * وبالنفي بقوله: * (واجتنبوا الطاغوت) * وكقوله: * (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى) * فصرح بالنفي منها بقوله: * (فمن يكفر بالطاغوت) * وبالإثبات بقوله: * (ويؤمن بالله) *؛ وكقوله: * (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني) * وكقوله: * (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إلاه إلا أنا فاعبدون) * وقوله: * (وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون) *؛ إلى غير ذلك من الآيات.
* (وإياك نستعين) * أي لا نطلب العون إلا منك وحدك؛ لأن الأمر كله بيدك وحدك لا يملك أحد منه معك مثقال ذرة. وإتنايه بقوله: * (وإياك نستعين) * بعد قوله: * (إياك نعبد) * فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتوكل إلا على من يستحق العبادة؛ لأن غيره ليس بيده الأمر. وهذا المعنى المشار إليه هنا جاء مبينا واضحا في آيات أخر كقوله: * (فاعبده وتوكل عليه) * وقوله: * (فإن تولوا فقل حسبي الله لا إلاه إلا هو عليه توكلت) * وقوله: * (رب المشرق والمغرب لا إلاه إلا هو فاتخذه وكيلا) * وقوله: * (قل هو
7

الرحمن آمنا به وعليه توكلنا) * وإلى غير ذلك من الآيات وقوله تعالى. * (صراط الذين أنعمت عليهم) * لم يبين هنا من هؤلاء الذين أنعم عليهم. وبين ذلك في موضع آخر بقوله: * (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) *.
تنبيهان
الأول: يؤخذ من هذه الآية الكريمة صحة إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ لأنه داخل فيمن أمرنا الله في السبع المثاني والقرءان العظيم أعني الفاتحة بأن نسأله أن يهدينا صراطهم فدل ذلك على أن صراطهم هو الصراط المستقيم.
وذلك في قوله: * (اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) * وقد بين الذين أنعم عليهم فعد منهم الصديقين. وقد بين صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر رضي الله عنه من الصديقين فاتضح أنه داخل في الذين أنعم الله عليهم الذين أمرنا الله أن نسأله الهداية إلى صراطهم فلم يبق لبس في أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه على الصراط المستقيم وأن إمامته حق.
الثاني: قد علمت أن الصديقين من الذين أنعم الله عليهم. وقد صرح تعالى بأن مريم ابنة عمران صديقة في قوله: * (وأمه صديقة) * وإذن فهل تدخل مريم في قوله تعالى: * (صراط الذين أنعمت عليهم) * أو لا؟
الجواب: أن دخولها فيهم يتفرع على قاعدة أصولية مختلف فيها معروفة وهي: هل ما في القرءان العظيم والسنة من الجموع الصحيحة المذكرة ونحوها مما يختص بجماعة الذكور تدخل فيه الإناث أو لا يدخلن فيه إلا بدليل منفصل؟ فذهب قوم إلى أنهن يدخلن في ذلك وعليه: فمريم داخلة في الآية واحتج أهل هذا القول بأمرين:
الأول: إجماع أهل اللسان العربي على تغليب الذكور على الإناث في الجمع.
والثاني: ورود آيات تدل على دخولهن في الجموع الصحيحة المذكرة ونحوها كقوله تعالى في مريم نفسها: * (وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين) * وقوله في امرأة العزيز: * (يوسف أعرض عن هاذا واستغفري
8

لذنبك إنك كنت من الخاطئين) * وقوله في بلقيس: * (وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين) * وقوله فيما كالجمع المذكر السالم: * (قلنا اهبطوا منها جميعا) *؛ فإنه تدخل فيه حواء إجماعا. وذهب كثير إلى أنهن لا يدخلن في ذلك إلا بدليل منفصل. واستدلوا على ذلك بآيات كقوله: * (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات) * إلى قوله: * (أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما) * وقوله تعالى: * (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم) * ثم قال: * (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن) * فعطفهن عليهم يدل على عدم دخولهن. وأجابوا عن حجة أهل القول الأول بأن تغليب الذكور على الإناث في الجمع ليس محل نزاع. وإنما النزاع في الذي يتبادر من الجمع المذكر ونحوه عند الإطلاق. وعن الآيات بأن دخول الإناث فيها. إنما علم من قرينة السياق ودلالة اللفظ ودخولهن في حالة الاقتران بما يدل على ذلك لا نزاع فيه.
وعلى هذا القول: فمريم غير داخلة في الآية وإلى هذا الخلاف أشار في مراقي السعود بقوله: (الرجز)
* وما شمول من للأنثى جنف
* وفي شبيه المسلمين اختلفوا
*
وقوله: * (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) * قال جماهير من علماء التفسير: * (المغضوب عليهم) * اليهود و الضالون النصارى. وقد جاء الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه. واليهود والنصارى وإن كانوا ضالين جميعا مغضوبا عليهم جميعا فإن الغضب إنما خص به اليهود وإن شاركهم النصارى فيه لأنهم يعرفون الحق وينكرونه ويأتون الباطل عمدا فكان الغضب أخص صفاتهم. والنصارى جهلة لا يعرفون الحق فكان الضلال أخص صفاتهم.
وعلى هذا فقد يبين أن * (المغضوب عليهم) * اليهود. قوله تعالى فيهم: * (فباءو بغضب على غضب) * وقوله فيهم أيضا: * (هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه) * وقوله: * (إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب) *؛ وقد يبين أن * (الضالين) * النصارى قوله تعالى: * (ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل بسم الله الرحمن الرحيم) *
9

.
((سورة البقرة))
* (قوله تعالى هد للمتقين *) * صرح في هذه الآية بأن هذا القرءان * (هدى للمتقين) * ويفهم من مفهوم الآية أعني مفهوم المخالفة المعروف بدليل الخطاب أن غير المتقين ليس هذا القرءان هدى لهم وصرح بهذا المفهوم في آيات أخر كقوله: * (قل هو للذين ءامنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى) * وقوله: * (وننزل من القرءان ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) * وقوله: * (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين ءامنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) * وقوله تعالى: * (وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا الآيتين) *.
ومعلوم أن المراد بالهدى في هذه الآية الهدى الخاص الذي هو التفضل بالتوفيق إلى دين الحق لا الهدى العام الذي هو إيضاح الحق.
* (ومما رزقناهم ينفقون) * عبر في هذه الآية الكريمة بمن التبعيضية الدالة على أنه ينفق لوجه الله بعض ماله لا كله. ولم يبين هنا القدر الذي ينبغي إنفاقه والذي ينبغي إمساكه. ولكنه بين في مواضع أخر أن القدر الذي ينبغي إنفاقه: هو الزائد على الحاجة وسد الخلة التي لا بد منها وذلك كقوله: * (ويسألونك ماذا ينفقون قل) * العفو المراد بالعفو: الزائد على قدر الحاجة التي لا بد منها على أصح التفسيرات وهو مذهب الجمهور.
ومنه قوله تعالى: * (حتى عفوا) * أي: كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم.
10

وقال بعض العلماء: العفو نقيض الجهد وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع. ومنه قول الشاعر: الطويل:
* خذي العفو مني تستديمي مودتي
* ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
*
وهذا القول راجح إلى ما ذكرنا وبقية الأقوال ضعيفة.
وقوله تعالى: * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) * فنهاه عن البخل بقوله: * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) *. ونهاه عن الإسراف بقوله: * (ولا تبسطها كل البسط) * فيتعين الوسط بين الأمرين. كما بينه بقوله: * (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) * فيجب على المنفق أن يفرق بين الجود والتبذير وبين البخل والاقتصاد. فالجود: غير التبذير والاقتصاد: غير البخل. فالمنع في محل الإعطاء مذموم. وقد نهى الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) * والإعطاء في محل المنع مذموم أيضا وقد نهى الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: * (ولا تبسطها كل البسط) *. وقد قال الشاعر: * (البسيط:
* لا تمدحن ابن عباد وإن هطلت
* يداه كالمزن حتى تخجل الديما
*
* فإنها فلتات من وساوسه
* يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما
*
وقد بين تعالى في مواضع أخر: أن الإنفاق المحمود لا يكون كذلك إلا إذا كان مصرفه الذي صرف فيه مما يرضي الله. كقوله تعالى: * (قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين) * وصرح بأن الإنفاق فيما لا يرضي الله حسرة على صاحبه في قوله: * (فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة) * وقد قال الشاعر: الكامل:
* إن الصنيعة لا تعد صنيعة
* حتى يصاب بها طريق المصنع
*
فإن قيل: هذا الذي قررتم يقتضي أن الإنفاق المحمود هو إنفاق ما زاد على الحاجة الضرورية مع أن الله تعالى أثنى على قوم بالإنفاق وهم في حاجة إلى ما أنفقوا وذلك في قوله: * (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) *
11

.
فالظاهر في الجواب والله تعالى أعلم هو ما ذكره بعض العلماء من أن لكل مقام مقالا ففي بعض الأحوال يكون الإيثار ممنوعا. وذلك كما إذا كانت على المنفق نفقات واجبة كنفقة الزوجات ونحوها فتبرع بالإنفاق في غير واجب وترك الفرض لقوله صلى الله عليه وسلم: وابدأ بمن تعول وكأن يكون لا صبر عنده عن سؤال الناس فينفق ماله ويرجع إلى الناس يسألهم مالهم فلا يجوز له ذلك وإلايثار فيما إذا كان لم يضيع نفقة واجبة وكان واثقا من نفسه بالصبر والتعفف وعدم السؤال.
وأما على القول بأن قوله تعالى: * (ومما رزقناهم ينفقون) * يعني به الزكاة. فالأمر واضح والعلم عند الله تعالى قوله تعالى. * (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة الآية) * لا يخفى أن الواو في قوله: * (وعلى سمعهم وعلى أبصارهم) * محتملة في الحرفين أن تكون عاطفة على ما قبلها وأن تكون استئنافية. ولم يبين ذلك هنا ولكن بين في موضع آخر أن قوله * (وعلى سمعهم) * معطوف على قوله * (على قلوبهم) * وأن قوله * (وعلى أبصارهم) * استئناف والجار والمجرور خبر المبتدأ الذي هو * (غشاوة) * وسوغ الابتداء بالنكرة فيه اعتمادها على الجار والمجرور قبلها. ولذلك يجب تقديم هذا الخبر لأنه هو الذي سوغ الابتداء بالمبتدأ كما عقده في (الخلاصة) بقوله: الرجز:
* ونحو عندي درهم ولي وطر
* ملتزم فيه تقدم الخبر
*
فتحصل أن الختم على القلوب والأسماع وأن الغشاوة على الأبصار. وذلك في قوله تعالى: * (أفرأيت من اتخذ إلهة هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة) * والختم: الاستيثاق من الشئ حتى لا يخرج منه داخل فيه ولا يدخل فيه خارج عنه والغشاوة: الغطاء على العين يمنعها من الرؤية. ومنه قول الحارث بن خالد بن العاص: الطويل:
* هويتك إذ عيني عليها غشاوة
* فلما انجلت قطعت نفسي ألومها
*
وعلى قراءة من نصب غشاوة فهي منصوبة بفعل محذوف أي * (وجعل على أبصارهم غشاوة) * كما في سورة الجاثية وهو كقوله: الرجز:
* علفتها تبنا وماءا باردا
* حتى شتت همالة عيناها
*
12

وقول الآخر: مرفل الكامل:
* ورأيت زوجك في الوغى
* متقلدا سيفا ورمحا
*
وقول الآخر: الوافر:
* إذا ما الغانيات برزن يوما
* وزججن الحواجب والعيونا
*
كما هو معروف في النحو وأجاز بعضهم كونه معطوفا على محل المجرور فإن قيل: قد يكون الطبع على الأبصار أيضا. كما في قوله تعالى في سورة النحل: * (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم الآية 108) *.
فالجواب: أن الطبع على الأبصار المذكور في آية النحل: هو الغشاوة المذكورة في سورة البقرة والجاثية والعلم عند الله تعالى قوله تعالى. * (ومن الناس من يقول ءامنا بالله وباليوم الأخر وما هم بمؤمنين لم يذكر هنا بيانا عن هؤلاء المنافقين وصرح بذكر بعضهم بقوله: * (وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق) *. * (الله يستهزئ بهم لم يبين هنا شيئا من استهزائه بهم. وذكر بعضه في سورة الحديد في قوله: * (قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا) *. * (صم بكم عمى الآية ظاهر هذه الآية أن المنافقين متصفون بالصمم والبكم والعمى. ولكنه تعالى بين في موضع آخر أن معنى صممهم وبكمهم وعماهم هو عدم انتفاعهم بأسماعهم وقلوبهم وأبصارهم وذلك في قوله جل وعلا: * (وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شئ إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا يستهزئون) *. وقوله تعالى: * (أو كصيب من السماء الآية الصيب: المطر وقد ضرب الله في هذه الآية مثلا لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم بالمطر؛ لأن بالعلم والهدى حياة الأرواح كما أن بالمطر حياة الأجسام.
وأشار إلى وجه ضرب هذا المثل بقوله جل وعلا: * (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا) *.
13

وقد أوضح صلى الله عليه وسلم هذا المثل المشار إليه في الآيتين في حديث أبي موسى المتفق عليه حيث قال صلى الله عليه وسلم: إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا. فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به.
* (فيه ظلمات) * ضرب الله تعالى في هذه الآية المثل لما يعتري الكفار والمنافقين من الشبه والشكوك في القرءان بظلمات المطر المضروب مثلا للقرءان وبين بعض المواضع التي هي كالظلمة عليهم لأنها تزيدهم عمى في آيات أخر لقوله: * (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله) *؛ لأن نسخ القبلة يظن بسببه ضعاف اليقين أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس على يقين من أمره حيث يستقبل يوما جهة ويوما آخر جهة أخرى كما قال تعالى: * (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) *.
وصرح تعالى بأن نسخ القبلة كبير على غير من هداه الله وقوى يقينه بقوله: * (وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله) * وكقوله تعالى: * (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرءان) * لأن ما رآه ليلة الإسراء والمعراج من الغرائب والعجائب كان سببا لاعتقاد الكفار أنه صلى الله عليه وسلم كاذب؛
لزعمهم أن هذا الذي أخبر به لا يمكن وقوعه. فهو سبب لزيادة الضالين ضلالا. وكذلك الشجرة الملعونة في القرءان التي هي شجرة الزقوم. فهي سبب أيضا لزيادة ضلال الضالين منهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ: * (إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم) * قالوا: ظهر كذبه؛ لأن الشجر لا ينبت في الأرض اليابسة فكيف ينبت في أصل النار؟
وكقوله تعالى: * (وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا) *؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما قرأ قوله تعالى: * (عليها تسعة عشر) *.
14

قال بعض رجال قريش: هذا عدد قليل فنحن قادرون على قتلهم واحتلال الجنة بالقوة؛ لقلة القائمين على النار التي يزعم محمد صلى الله عليه وسلم أنا سندخلها.
والله تعالى إنما يفعل ذلك اختبارا وابتلاء وله الحكمة البالغة في ذلك كله سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا. * (ورعد) * ضرب الله المثل بالرعد لما في القرءان من الزواجر التي تقرع الآذان وتزعج القلوب. وذكر بعضا منها في آيات أخر كقوله: * (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة) * وكقوله: * (من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها) * وكقوله: * (إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد) *.
وقد ثبت في صحيح البخاري في تفسير سورة الطور من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور. فلما بلغ هذه الآية * (أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون) * إلى قوله _ * (المصيطرون) * كاد قلبي أن يطير. إلى غير ذلك من قوارع القرءان وزواجره التي خوفت المنافقين حتى قال الله تعالى فيهم: * (يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو) * والآية التي نحن بصددها وإن كانت في المنافقين. فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب. * (قوله تعالى برق) * ضرب تعالى المثل بالبرق؛ لما في القرءان من نور الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة. وقد صرح بأن القرءان نور يكشف الله به ظلمات الجهل والشك والشرك. كما تكشف بالنور الحسي ظلمات الدجى كقوله: * (وأنزلنا إليكم نورا مبينا) * وقوله: * (ولاكن جعلناه نورا نهدى به من نشاء من عبادنا) * وقوله: * (واتبعوا النور الذي أنزل معه) *.
* (والله محيط بالكافرين) * قال بعض العلماء: * (محيط بالكافرين) *: أي مهلكهم ويشهد لهذا القول قوله تعالى: * (لتأتنني به إلا أن يحاط بكم) * أي تهلكوا عن آخركم. وقيل: تغلبوا. والمعنى متقارب؛ لأن الهالك لا يهلك حتى يحاط به من جميع الجوانب ولم يبق له منفذ للسلامة ينفذ
15

منه. وكذلك المغلوب ومنه قول الشاعر: الطويل:
* أحطنا بهم حتى إذا ما تيقنوا
* بما قد رأوا مالوا جميعا إلى السلم
*
ومنه أيضا: بمعنى الهلاك. قوله تعالى: * (وأحيط بثمره) *. وقوله تعالى: * (وظنوا أنهم أحيط بهم الآية قوله تعالى) *. * (يكاد البرق يخطف أبصراهم أي يكاد نور القرءان لشدة ضوئه يعمي بصائرهم كما أن البرق الخاطف الشديد النور يكاد يخطف بصر ناظره ولا سيما إذا كان البصر ضعيفا؛ لأن البصر كلما كان أضعف كان النور أشد إذهابا له. كما قال الشاعر: الكامل:
* مثل النهار يزيد أبصار الورى
* نورا ويعمي أعين الخفاش
*
وقال الآخر: الطويل:
* خفافيش أعماها النهار بضوئه
* ووافقها قطع من الليل مظلم
*
وبصائر الكفار والمنافقين في غاية الضعف. فشدة ضوء النور تزيدها عمى. وقد صرح تعالى بهذا العمى في قوله: * (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى) * وقوله: * (وما يستوى الأعمى والبصير) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقال بعض العلماء: يكاد البرق يخطف أبصارهم أي: يكاد محكم القرءان يدل على عورات المنافقين. * (كلمآ أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا) * ضرب الله في هذه الآية المثل للمنافقين بأصحاب هذا المطر إذا أضاء لهم مشوا في ضوئه وإذا أظلم وقفوا كما أن المنافقين إذا كان القرءان موافقا لهواهم ورغبتهم عملوا به كمناكحتهم للمسلمين وإرثهم لهم. والقسم لهم من غنائم المسلمين وعصمتهم به من القتل مع كفرهم في الباطن وإذا كان غير موافق لهواهم. كبذل الأنفس والأموال في الجهاد في سبيل الله المأمور به فيه وقفوا وتأخروا. وقد أشار تعالى إلى هذا بقوله: * (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون * وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين) *.
16

وقال بعض العلماء: * (كلمآ أضاء لهم مشوا فيه) * أي: إذا أنعم الله عليهم بالمال والعافية قالوا: هذا الدين حق ما أصابنا منذ تمسكنا به إلا الخير * (وإذا أظلم عليهم قاموا) * أي: وإن أصابهم فقر أو مرض أو ولدت لهم البنات دون الذكور. قالوا: ما أصابنا هذا إلا من شؤم هذا الدين وارتدوا عنه. وهذا الوجه يدل له قوله
تعالى: * (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين) *.
وقال بعض العلماء: إضاءته لهم معرفتهم بعض الحق منه وإظلامه عليهم ما يعرض لهم من الشك فيه.
* (قوله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) * أشار في هذه الآية إلى ثلاثة براهين من براهين البعث بعد الموت وبينها مفصلة في آيات أخر.
الأول: خلق الناس أولا المشار إليه بقوله * (اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لأن الإيجاد الأول أعظم برهان على الإيجاد الثاني وقد أوضح ذلك في آيات كثيرة كقوله: * (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده) * وقوله: * (كما بدأنا أول خلق نعيده) * وكقوله: * (فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة) * وقوله: * (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) * وقوله: * (أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس) * وكقوله: * (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب) * وكقوله: * (ولقد علمتم النشأة الأولى) *.
ولذا ذكر تعالى أن من أنكر البعث فقد نسي الإيجاد الأول كما في قوله: * (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه) *. وقوله: * (ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا * أولا يذكر إلإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا) * ثم رتب على ذلك نتيجة الدليل بقوله: * (فوربك لنحشرنهم) * إلى غير ذلك من الآيات.
البرهان الثاني: خلق السماوات والأرض المشار إليه بقول * (: * (الذي جعل لكم
17

) * الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء لأنهما من أعظم المخلوقات ومن قدر على خلق الأعظم فهو على غيره قادر من باب أحرى. وأوضح الله تعالى هذا البرهان في آيات كثيرة كقوله تعالى: * (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس) * وقوله: * (أوليس الذي خلق السماوات والأرض * بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم) * وقوله: * (أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعى بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى) * وقوله: * (أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم) * وقوله: * (أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها) * إلى غير ذلك من الآيات.
البرهان الثالث: إحياء الأرض بعد موتها؛ فإنه من أعظم الأدلة على البعث بعد الموت كما أشار له هنا بقوله: * (وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) * وأوضحه في آيات كثيرة كقوله: * (ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها * لمحيي الموتى إنه على كل شئ قدير) * وقوله: * (فأحيينا به * بلدة ميتا كذلك الخروج) * يعني: خروجكم من قبوركم أحياء بعد أن كنتم عظاما رميما. وقوله: * (ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون) * وقوله تعالى: * (حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى) * إلى غير ذلك من الآيات. * (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا لم يصرح هنا باسم هذا العبد الكريم صلوات الله وسلامه عليه وصرح باسمه في موضع آخر وهو قوله: * (وآمنوا بما نزل على محمد) * صلوات الله وسلامه عليه. * (قوله تعالى فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة هذه الحجارة قال كثير من العلماء: إنها حجارة من كبريت. وقال بعضهم: إنها الأصنام التي كانوا يعبدونها. وهذا القول يبينه ويشهد له قوله تعالى: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم الآية ا قوله تعالى) *. * (وبشر الذين ءامنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجرى من تحتها
18

الأنهار لم يبين هنا أنواع هذه الأنهار ولكنه بين ذلك في قوله: * (فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى قوله تعالى) *.
* (ولهم فيهآ أزواج مطهرة) * لم يبين هنا صفات تلك الأزواج ولكنه بين صفاتهن الجميلة في آيات أخر كقوله: * (وعندهم قاصرات الطرف عين) * وقوله: * (كأنهن الياقوت والمرجان) * وقوله: * (وحور عين * كأمثال اللؤلؤ المكنون) * وقوله: * (وكواعب أترابا) * إلى غير ذلك من الآيات المبينة لجميل صفاتهن والأزواج: جمع زوج بلا هاء في اللغة الفصحى والزوجة بالهاء لغة لا لحن كما زعمه البعض.
وفي حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنها زوجتي أخرجه مسلم.
ومن شواهده قول الفرز دق الطويل:
* وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي
* كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
*
وقول الآخر: الكامل:
* فبكى بناتي شجوهن وزوجتي
* والظاعنون إلي ثم تصدعوا
* * (قوله تعالى ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل لم يبين هنا هذا الذي أمر به أن يوصل وقد أشار إلى أن منه الأرحام بقوله: * (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) *.
وأشار في موضع آخر إلى أن منه الإيمان بجميع الرسل فلا يجوز قطع بعضهم عن بعض في ذلك بأن يؤمن ببعضهم دون بعضهم الآخر. وذلك في قوله: * (ويقولون
نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا) *. * (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء ظاهره: أن ما في الأرض جميعا خلق بالفعل قبل السماء ولكنه بين في موضع آخر أن المراد بخلقه قبل السماء تقديره والعرب تسمي التقدير خلقا كقول زهير: ولأنت تفرى ما خلقت
* وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
*
19

وذلك في قوله: * (وقدر فيها أقواتها) * ثم قال: * (ثم استوى إلى السماء الآية قوله تعالى) *. * (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة الآية في قوله: * (خليفة) * وجهان من التفسير للعلماء:
أحدهما: أن المراد بالخليفة أبونا آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام؛ لأنه خليفة الله في أرضه في تنفيذ أوامره. وقيل: لأنه صار خلفا من الجن الذين كانوا يسكنون الأرض قبله وعليه فالخليفة: فعيلة بمعنى فاعل. وقيل: لأنه إذا مات يخلفه من بعده وعليه فهو من فعيلة بمعنى مفعول. وكون الخليفة هو آدم هو الظاهر المتبادر من سياق الآية.
الثاني: أن قوله: * (خليفة) * مفرد أريد به الجمع أي خلائف وهو اختيار ابن كثير. والمفرد إن كان اسم جنس يكثر في كلام العرب إطلاقه مرادا به الجمع كقوله تعالى: * (إن المتقين في جنات ونهر) *؛ يعني وأنهار بدليل قوله: * (فيها أنهار من ماء غير آسن الآية) *. وقوله: * (واجعلنا للمتقين إماما) * وقوله: * (فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا) *؛ ونظيره من كلام العرب قول عقيل بن علفة المري: الوافر:
* وكان بنو فزارة شرعم
* وكنت لهم كشر بني الأخينا
*
وقول العباس بن مرداس السلمي: الوافر:
* فقلنا اسلموا إنا أخوكم
* وقد سلمت من الإحن الصدور
*
وأنشد له سيبويه قول علقمة بن عبدة التميمي: الطويل:
* بها جيف الحسرى فأما عظامها
* فبيض وأما جلدها فصليب
*
وقول الآخر: الوافر:
* كلوا في بعض بطنكم تعفوا
* فإن زمانكم زمن خميص
*
وإذا كانت هذه الآية الكريمة تحتمل الوجهين المذكورين. فاعلم أنه قد دلت آيات أخر على الوجه الثاني وهو أن المراد بالخليفة: الخلائف من آدم وبنيه لا آدم
20

نفسه وحده. كقوله تعالى: * (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) *.
ومعلوم أن آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ليس ممن يفسد فيها ولا ممن يسفك الدماء. وكقوله: * (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض) * وقوله: * (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض) * وقوله: * (ويجعلكم خلفاء الآية) *. ونحو ذلك من الآيات.
ويمكن الجواب عن هذا بأن المراد بالخليفة آدم وأن الله أعلم الملائكة أنه يكون من ذريته من يفعل ذلك الفساد وسفك الدماء. فقالوا ما قالوا وأن المراد بخلافة آدم الخلافة الشرعية وبخلافة ذريته أعم من ذلك وهو أنهم يذهب منهم قرن ويخلفه قرن آخر.
تنبيه
قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة؛ يسمع له ويطاع؛ لتجتمع به الكلمة وتنفذ به أحكام الخليفة ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة إلا ما روي عن الأصم حيث كان عن الشريعة أصم إلى أن قال: ودليلنا قول الله تعالى: * (إني جاعل في الأرض خليفة) *. وقوله تعالى: * (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض) *. وقال: * (وعد الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض) *. أي: يجعل منهم خلفاء إلى غير ذلك من الآي.
وأجمعت الصحابة على تقديم الصديق بعد اختلاف وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة في التعيين حتى قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك وقالوا لهم: إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش ورووا لهم الخبر في ذلك فرجعوا وأطاعوا لقريش. فلو كان فرض الإمامة غير واجب لا في قريش ولا في غيرهم لما ساغت هذه المناظرة والمحاورة عليها. ولقال قائل: إنها غير واجبة لا في قريش ولا في غيرهم. فما لتنازعكم وجه ولا فائدة في أمر ليس بواجب ثم إن الصديق رضي الله عنه لما حضرته الوفاة عهد إلى عمر في الإمامة ولم يقل له أحد هذا أمر غير واجب علينا ولا
21

عليك. فدل على وجوبها وأنها ركن من أركان الدين الذي به قوام المسلمين والحمد لله رب العالمين. انتهى من القرطبي. قال مقيدة عفا الله عنه: من الواضح المعلوم من ضرورة الدين أن المسلمين يجب عليهم نصب إمام تجتمع به الكلمة وتنفذ به أحكام الله في أرضه. ولم يخالف في هذا إلا من لا يعتد به كأبي بكر الأصم المعتزلي الذي تقدم في كلام القرطبي وكضرار وهشام القوطي ونحوهم.
وأكثر العلماء على أن وجوب الإمامة الكبرى بطريق الشرع كما دلت عليه الآية المتقدمة وأشباهها وإجماع الصحابة رضي الله عنهم؛ ولأن الله تعالى قد يزع بالسلطان ما لا يزعه بالقرءان. كما قال تعالى: * (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس) * لأن قوله: * (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد) * فيه إشارة إلى إعمال السيف عند الإباء بعد إقامة الحجة.
وقالت الإمامية: إن الإمامة واجبة بالعقل لا بالشرع.
وعن الحسن البصري والجاحظ والبلخي: أنها تجب بالعقل والشرع معا واعلم أن ما تتقوله الإمامية من المفتريات على أبي بكر وعمر وأمثالهم من الصحابة وما تتقوله في الاثني عشر إماما وفي الإمام المنتظر المعصوم ونحو ذلك من خرافاتهم وأكاذيبهم الباطلة كله باطل لا أصل له.
وإذا أردت الوقوف على تحقيق ذلك: فعليك بكتاب منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية للعلامة الشيخ تقي الدين أبي العباس بن تيمية فإنه جاء فيه بما لا مزيد عليه من الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة على إبطال جميع تلك الخرافات المختلقة. فإذا حققت وجوب نصب الإمام الأعظم على المسلمين.
فاعلم أن الإمامة تنعقد له بأحد أمور:
الأول: ما لو نص صلى الله عليه وسلم على أن فلانا هو الإمام. فإنها تنعقد له بذلك.
وقال بعض العلماء: إن إمامة أبي بكر رضي الله عنه من هذا القبيل؛ لأن تقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في إمامة الصلاة وهي أهم شئ فيه الإشارة إلى التقديم للإمامة الكبرى وهو ظاهر.
22

الثاني: هو اتفاق أهل الحل والعقد على بيعته.
وقال بعض العلماء: إن أمامة أبي بكر منه؛ لإجماع أهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار عليها بعد الخلاف؛ ولا عبرة بعدم رضى بعضهم كما وقع من سعد بن عبادة رضي الله عنه من عدم قبوله بيعة أبي بكر رضي الله عنه.
الثالث: أن يعهد إليه الخليفة الذي قبله كما وقع من أبي بكر لعمر رضي الله عنهما.
ومن هذا القبيل جعل عمر رضي الله عنه الخلافة شورى بين ستة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وهو عنهم راض
الرابع: أن يتغلب على الناس بسيفه وينزع الخلافة بالقوة حتى يستتب له الأمر وتدين له الناس لما في الخروج عليه حينئذ من شق عصا المسلمين وإراقة دمائهم.
قال بعض العلماء: ومن هذا القبيل قيام عبد الملك بن مروان على عبد الله بن الزبير وقتله إياه في مكة على يد الحجاج بن يوسف فاستتب الأمر له. كما قاله ابن قدامة في المغني.
ومن العلماء من يقول: تنعقد له الإمامة ببيعة واحد وجعلوا منه مبايعة عمر لأبي بكر في سقيفة بني ساعدة ومال إليه القرطبي. وحكى عليه إمام الحرمين الإجماع وقيل: ببيعة أربعة. وقيل غير ذلك.
هذا ملخص كلام العلماء فيما تنعقد به الإمامة الكبرى. ومقتضى كلام الشيخ تقي الدين أبي العباس ابن تيمية في المنهاج أنها إنما تنعقد بمبايعة من تقوى به شوكته ويقدر به على تنفيذ أحكام الإمامة؛ لأن من لا قدرة له على ذلك كآحاد الناس ليس بإمام.
واعلم أن الإمام الأعظم تشترط فيه شروط:
الأول: أن يكون قرشيا وقريش أولاد فهر بن مالك. وقيل: أولاد النضر بن كنانة. فالفهري قرشي بلا نزاع. ومن كان من أولاد مالك بن النضر أو أولاد بن النضر بن كنانة فيه خلاف. هل هو قرشي أو لا؟ وما كان من أولاد كنانة من غير النضر فليس بقرشي بلا نزاع.
23

قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة في ذكر شرائط الإمام. الأول: أن يكون من صميم قريش لقوله صلى الله عليه وسلم: الأئمة من قريش وقد اختلف في هذا.
قال مقيده عفا الله عنه: الاختلاف الذي ذكره القرطبي في اشتراط كون الإمام الأعظم قرشيا ضعيف. وقد دلت الأحاديث الصحيحة على تقديم قريش في الإمامة على غيرهم. وأطبق عليه جماهير العلماء من المسلمين.
وحكى غير واحد عليه الإجماع ودعوى الإجماع تحتاج إلى تأويل ما أخرجه الإمام أحمد عن عمر بسند رجاله ثقات أنه قال: إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حي استخلفته. فذكر الحديث وفيه: فإن أدركني أجلى وقد مات أبو عبيدة استخلفت معاذ بن جبل.
ومعلوم أن معاذا غير قرشي وتأويله بدعوى انعقاد الإجماع بعد عمر أو تغيير رأيه إلى موافقة الجمهور. فاشتراط كونه قرشيا هو الحق ولكن النصوص الشرعية دلت على أن ذلك التقديم الواجب لهم في الإمامة مشروط بإقامتهم الدين وإطاعتهم لله ورسوله فإن خالفوا أمر الله فغيرهم ممن يطيع الله تعالى وينفذ أوامره أولى منهم.
فمن الأدلة الدالة على ذلك ما رواه البخاري في (صحيحه) عن معاوية حيث قال: باب الأمراء من قريش. حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال: كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث أنه بلغ معاوية وهو عنده في وفد من قريش: أن عبد الله بن عمرو يحدث أنه سيكون ملك قحطان فغضب فقام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد: فإنه قد بلغني أن رجالا منكم يحدثون أحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولئك جهالكم فإياكم والأماني التي تضل أهلها. فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين. انتهى من صحيح البخاري بلفظه
ومحل الشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم: ما أقاموا الدين لأن لفظة ما فيه مصدرية ظرفية مقيدة لقوله: إن هذا الأمر في قريش؛ وتقرير المعنى إن هذا الأمر في قريش مدة إقامتهم الدين ومفهومه: أنهم إن لم يقيموه لم يكن فيهم. وهذا هو التحقيق الذي لا شك فيه في معنى الحديث
24

.
وقال ابن حجر في فتح الباري في الكلام على حديث معاوية هذا ما نصه: وقد ورد في حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه نظير ما وقع في حديث معاوية ذكره محمد بن إسحاق في الكتاب الكبير. فذكر قصة سقيفة بني ساعدة وبيعة أبي بكر وفيها: فقال أبو بكر: وإن هذا الأمر في قريش ما أطاعوا الله واستقاموا على أمره. وقد جاءت الأحاديث التي أشرت إليها على ثلاثة أنحاء:
الأول: وعيدهم باللعن إذا لم يحافظوا على المأمور به. كما في الأحاديث التي ذكرتها في الباب الذي قبله حيث قال: الأمراء من قريش ما فعلوا ثلاثا: ما حكموا فعدلوا الحديث وفيه: فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله.
وليس في هذا الحديث ما يقتضي خروج الأمر عنهم.
الثاني: وعيدهم بأن يسلط عليهم من يبالغ في أذيتهم. فعند أحمد وأبي يعلى من حديث ابن مسعود رفعه: إنكم أهل هذا الأمر ما لم تحدثوا فإذا غيرتم بعث الله عليكم من يلحاكم كما يلحى القضيب. ورجاله ثقات إلا أنه من رواية عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عم أبيه عبد الله بن مسعود ولم يدركه هذه رواية صالح بن كيسان عن عبيد الله وخالفه حبيب بن أبي ثابت فرواه عن القاسم بن محمد بن عبد الرحمان عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي مسعود الأنصاري ولفظه: لا يزال هذا الأمر فيكم وأنتم ولاته الحديث.
وفي سماع عبيد الله من أبي مسعود نظر مبني على الخلاف في سنة وفاته وله شاهد من مرسل عطاء بن يسار أخرجه الشافعي والبيهقي من طريقه بسند صحيح إلى عطاء ولفظه: قال لقريش: أنتم أولى بهذا الأمر ما كنتم على الحق إلا أن تعدلوا عنه فتلحون كما تلحى هذه الجريدة وليس في هذا تصريح بخروج الأمر عنهم وإن كان فيه إشعار به.
الثالث: الإذن في القيام عليهم وقتالهم والإيذان بخروج الأمر عنهم كما أخرجه الطيالسي والطبراني من حديث ثوبان رفعه: استقيموا لقريش ما استقاموا لكم فإن لم يستقيموا فضعوا سيوفكم على عواتقكم فأبيدوا خضراءهم فإن لم تفعلوا فكونوا زراعين أشقياء. ورجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعا؛ لأن رواية سالم بن أبي الجعد لم يسمع من ثوبان وله شاهد في الطبراني من حديث النعمان بن بشير بمعناه.
25

وأخرج أحمد من حديث ذي مخبر بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الموحدة بعدهما راء وهو ابن أخي النجاشي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان هذا الأمر في حمير فنزعه الله منهم وصيره في قريش وسيعود لهم وسنده جيد وهو شاهد قوي لحديث القحطاني فإن حمير يرجع نسبها إلى قحطان وبه يقوى أن مفهوم حديث معاوية: ما أقاموا الدين أنهم إذا لم يقيموا الدين خرج الأمر عنهم. انتهى.
واعلم أن قول عبد الله بن عمرو بن العاص الذي أنكره عليه معاوية في الحديث المذكور إنه سيكون ملك من قطحان إذا كان عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يعني به القحطاني الذي صحت الرواية بملكه فلا وجه لإنكاره لثبوت أمره في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه. أخرجه البخاري في كتاب الفتن في باب تغير الزمان حتى يعبدوا الأوثان وفي كتاب المناقب في باب ذكر قحطان. وأخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة في باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء وهذا القحطاني لم يعرف اسمه عند الأكثرين.
وقال بعض العلماء اسمه جهجاه. وقال بعضهم: اسمه شعيب بن صالح. وقال ابن حجر في الكلام على حديث القطحاني هذا ما نصه: وقد تقدم في الحج أن البيت يحج بعد خروج يأجوج ومأجوج: وتقدم الجمع بينه وبين حديث: لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت. وأن الكعبة يخربها ذو السويقتين من الحبشة فينتظم من ذلك أن الحبشة إذا خربت البيت خرج عليهم القحطاني فأهلكهم وأن المؤمنين قبل ذلك يحجون في زمن عيسى بعد خروج يأجوج ومأجوج وهلاكهم وأن الريح التي تقبض أرواح المؤمنين تبدأ بمن بقي بعد عيسى ويتأخر أهل اليمن بعدها.
ويمكن أن يكون هذا مما يفسر به قوله: الإيمان يمان أي: يتأخر الإيمان بها بعد فقده من جميع الأرض. وقد أخرج مسلم حديث القحطاني عقب حديث تخريب الكعبة ذو السويقتين فلعله رمز إلى هذا. انتهى منه بلفظه والله أعلم ونسبة العلم إليه أسلم.
الثاني: من شروط الإمام الأعظم: كونه ذكرا ولا خلاف في ذلك بين العلماء
26

ويدل له ما ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن فارسا ملكوا ابنة كسرى قال: لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة.
الثالث: من شروط الإمام الأعظم كونه حرا. فلا يجوز أن يكون عبدا ولا خلاف في هذا بين العلماء.
فإن قيل: ورد في الصحيح ما يدل على جواز إمامة العبد. فقد أخرج البخاري في (صحيحه) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة.
ولمسلم من حديث أم الحصين: اسمعوا وأطيعوا ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله.
ولمسلم أيضا من حيث أبي ذر رضي الله عنه أوصاني خليلي أن أطيع وأسمع وإن كان عبدا حبشيا مجدع الأطراف. فالجواب من أوجه:
الأول: أنه قد يضرب المثل بما لا يقع في الوجود؛ فإطلاق العبد الحبشي لأجل المبالغة في الأمر بالطاعة وإن كان لا يتصور شرعا أن يلي ذلك ذكر ابن حجر هذا الجواب عن الخطابي ويشبه هذا الوجه قوله تعالى: * (قل إن كان للرحمان ولد فأنا أول العابدين) * على أحد التفسيرات.
الوجه الثاني: أن المراد باستعمال العبد الحبشي أن يكون مؤمرا من جهة الإمام الأعظم على بعض البلاد وهو أظهرها فليس هو الإمام الأعظم.
الوجه الثالث: أن يكون أطلق عليه اسم العبد؛ نظرا لاتصافه بذلك سابقا مع أنه وقت التولية حر ونظيره إطلاق اليتم على البالغ باعتبار اتصافه به سابقا في قوله تعالى: * (وآتوا اليتامى أموالهم) * وهذا كله فيما يكون بطريق الاختيار. أما لو تغلب عبد حقيقة بالقوة فإن طاعته تجب؛ إخمادا للفتنة وصونا للدماء ما لم يأمر بمعصية كما تقدمت الإشارة إليه.
والمراد بالزبيبة في هذا الحديث واحدة الزبيب المأكول المعروف الكائن من العنب إذا جف والمقصود من التشبيه: التحقير وتقبيح الصورة؛ لأن السمع والطاعة إذا وجبا لمن كان كذلك دل ذلك على الوجوب على كل حال إلا في المعصية كما
27

يأتي ويشبه قوله صلى الله عليه وسلم: كأنه زبيبة. قول الشاعر يهجو شخصا أسود:: كأنه زبيبة قول الشاعر يهجو شخصا أسود:
* دنس الثياب كأن فروة رأسه
* غرست فأنبت جانباها فلفلا
*
الرابع: من شروطه أن يكون بالغا. فلا تجوز إمامة الصبي إجماعا لعدم قدرته على القيام بأعباء الخلافة.
الخامس: أن يكون عاقلا فلا تجوز إمامة المجنون ولا المعتوه وهذا لا نزاع فيه.
السادس: أن يكون عدلا فلا تجوز إمامة فاسق واستدل عليه بعض العلماء بقوله تعالى: * (قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) * ويدخل في اشتراط العدالة اشتراط الإسلام؛ لأن العدل لا يكون غير مسلم.
السابع: أن يكون ممن يصلح أن يكون قاضيا من قضاة المسلمين مجتهدا يمكنه الاستغناء عن استفتاء غيره في الحوادث.
الثامن: أن يكون سليم الأعضاء غير زمن ولا أعمى ونحو ذلك ويدل لهذين الشرطين الأخيرين أعني: العلم وسلامة الجسم قوله تعالى في طالوت: * (إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم) *.
التاسع: أن يكون ذا خبرة ورأي حصيف بأمر الحرب وتدبير الجيوش وسد الثغور وحماية بيضة المسلمين وردع الأمة والانتقام من الظالم والأخذ للمظلوم. كما قال لقيط الإيادي: البسيط:
* وقلدوا أمركم لله دركم
* رحب الذراع بأمر الحرب مطلعا
*
العاشر: أن يكون ممن لا تلحقه رقة في إقامة الحدود ولا فزع من ضرب الرقاب ولا قطع الأعضاء ويدل ذلك إجماع الصحابة رضي الله عنهم على أن الإمام لا بد أن يكون كذلك. قاله القرطبي.
مسائل:
الأولى: إذا طرأ على الإمام الأعظم فسق أو دعوة إلى بدعة. هل يكون ذلك
28

سببا لعزله والقيام عليه أو لا؟
قال بعض العلماء: إذا صار فاسقا أو داعيا إلى بدعة جاز القيام عليه لخلعه والتحقيق الذي لا شك فيه أنه لا يجوز القيام عليه لخلعه إلا إذا ارتكب كفرا بواحا عليه من الله برهان.
فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا
ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله. قال: إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان.
وفي صحيح مسلم من حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم قالوا: قلنا يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة لا ما أقاموا فيكم الصلاة إلا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة.
وفي صحيح مسلم أيضا: من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف بريء ومن أنكر سلم ولكن من رضى وتابع. قالوا: يا رسول الله أفلا نقاتلهم؟ قال: لا ما صلوا.
وأخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رأى من أميره شيئا فكرهه فليصبر؛ فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية.
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية والأحاديث في هذا كثيرة.
فهذه النصوص تدل على منع القيام عليه ولو كان مرتكبا لما لا يجوز إلا إذا ارتكب الكفر الصريح الذي قام البرهان الشرعي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أنه
29

كفر بواح أي: ظاهر باد لا لبس فيه.
وقد دعا المأمون والمعتصم والواثق إلى بدعة القول: بخلق القرءان وعاقبوا العلماء من أجلها بالقتل والضرب والحبس وأنواع الإهانة ولم يقل أحد بوجوب الخروج عليهم بسبب ذلك. ودام الأمر بضع عشرة سنة حتى ولي المتوكل الخلافة فأبطل المحنة وأمر بإظهار السنة.
واعلم أنه أجمع جميع المسلمين على أنه لا طاعة لإمام ولا غيره في معصية الله تعالى. وقد جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا لبس فيها ولا مطعن كحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة أخرجه الشيخان وأبو داود.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في السرية الذين أمرهم أميرهم أن يدخلوا في النار: لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا؛ إنما الطاعة في المعروف. وفي الكتاب العزيز: * (ولا يعصينك في معروف) *.
المسألة الثانية: هل يجوز نصب خليفتين كلاهما مستقل دون الآخر؟. في ذلك ثلاثة أقوال:
الأول: قول الكرامية بجواز ذلك مطلقا محتجين بأن عليا ومعاوية كانا إمامين واجبي الطاعة كلاهما على من معه وبأن ذلك يؤدي إلى كون كل واحد منهما أقوم بما لديه وأضبط لما يليه.
وبأنه لما جاز بعث نبيين في عصر واحد ولم يؤد ذلك إلى إبطال النبوة كانت الإمامة أولى. القول الثاني: قول جماهير العلماء من المسلمين: أنه لا يجوز تعدد الإمام الأعظم بل يجب كونه واحدا وأن لا يتولى على قطر من الأقطار إلا أمراؤه المولون من قبله محتجين بما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما.
ولمسلم أيضا: من حديث عرفجة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق
30

جماعتكم فاقتلوه.
وفي رواية: فاضربوه بالسيف كائنا من كان.
ولمسلم أيضا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر ثم قال: سمعته أذناي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعاه قلبي.
وأبطلوا احتجاج الكرامية بأن معاوية أيام نزاعه مع علي لم يدع الإمامة لنفسه وإنما ادعى ولاية الشام بتولية من قبله من الأئمة ويدل لذلك:
إجماع الأمة في عصرهما على أن الإمام أحدهما فقط لا كل منهما.
وأن الاستدلال بكون كل منهما أقوم بما لديه وأضبط لما يليه وبجواز بعث نبيين في وقت واحد يرده قوله صلى الله عليه وسلم: فاقتلوا الآخر منهما؛ ولأن نصب خليفتين يؤدي إلى الشقاق وحدوث الفتن.
القول الثالث: التفصيل فيمنع نصب إمامين في البلد الواحد والبلاد المتقاربة ويجوز في الأقطار المتنائية كالأندلس وخراسان. قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه: لكن إن تباعدت الأقطار وتباينت كالأندلس وخراسان جاز ذلك على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. انتهى منه بلفظه.
والمشار إليه في كلامه: نصب خليفتين وممن قال بجواز ذلك: الأستاذ أبو إسحاق كما نقله عنه إمام الحرمين. ونقله عنه ابن كثير والقرطبي في تفسير هذه الآية
الكريمة.
وقال ابن كثير: قلت: وهذا يشبه حال الخلفاء: بني العباس بالعراق والفاطميين بمصر والأمويين بالمغرب.
المسألة الثالثة: هل للإمام أن يعزل نفسه؟.
قال بعض العلماء: له ذلك. قال القرطبي: والدليل على أن له عزل نفسه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أقيلوني أقيلوني وقول الصحابة رضي الله عنهم: لا نقيلك ولا نستقيلك. قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فمن ذا يؤخرك؟ رضيك
31

رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاك؟.
قال: فلو لم يكن له ذلك لأنكرت الصحابة ذلك عليه. ولقالت له ليس لك أن تقول هذا
وقال بعض العلماء: ليس له عزل نفسه؛ لأنه تقلد حقوق المسلمين فليس له التخلي عنها.
قال مقيده عفا الله عنه إن كان عزله لنفسه لموجب يقتضي ذلك كإخماد فتنة كانت ستشتعل لو لم يعزل نفسه أو لعلمه من نفسه العجز عن القيام بأعباء الخلافة فلا نزاع في جواز عزل نفسه. ولذا أجمع جميع المسلمين على الثناء على سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي رضي الله عنهما بعزل نفسه وتسليمه الأمر إلى معاوية بعد أن بايعه أهل العراق؛ حقنا لدماء المسلمين وأثنى عليه بذلك قبل وقوعه جده رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين. أخرجه البخاري وغيره من حديث أبي بكر رضي الله عنه.
المسألة الرابعة: هل يجب الإشهاد على عقد الإمامة؟.
قال بعض العلماء: لا يجب؛ لأن إيجاب الإشهاد يحتاج إلى دليل من النقل. وهذا لا دليل عليه منه.
وقال بعض العلماء: يجب الإشهاد عليه؛ لئلا يدعي مدع أن الإمامة عقدت له سرا فيؤدي ذلك إلى الشقاق والفتنة.
والذين قالوا بوجوب الإشهاد على عقد الإمامة قالوا: يكفي شاهدان خلافا للجبائي في اشتراطه أربعة شهود وعاقدا ومعقودا له مستنبطا ذلك من ترك عمر الأمر شورى بين ستة فوقع الأمر على عاقد وهو عبد الرحمان بن عوف ومعقود له وهو عثمان وبقي الأربعة الآخرون شهودا ولا يخفى ضعف هذا الاستنباط كما نبه عليه القرطبي وابن كثير والعلم عند الله تعالى. * (قوله تعالى) * ثم عرضهم على الملائكة يعني مسميات الأسماء لا الأسماء كما يتوهم من ظاهر الآية.
وقد أشار إلى أنها المسميات بقوله: * (أنبئوني بأسمآء هاؤلاء) * الآية كما هو ظاهر
32

.
* (وما كنتم تكتمون) * لم يبين هنا هذا الذي كانوا يكتمون وقد قال بعض العلماء: هو ما كان يضمره إبليس من الكبر وعلى هذا القول فقد بينه قوله تعالى: * (إلا إبليس أبى واستكبر) *.
* (قوله تعالى إذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم لم يبين هنا هل قال لهم ذلك قبل خلق آدم أو بعد خلقه؟ وقد صرح في سورة الحجر و ص بأنه قال لهم ذلك قبل خلق آدم. فقال في الحجر: * (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) * وقال في سورة ص: * (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين الآية قوله تعالى) *.
* (إلا إبليس أبى واستكبر) * لم يبين هنا موجب استكباره في زعمه ولكنه بينه في مواضع أخر كقوله: * (قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) * وقوله: * (قال لم أكن لاسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون) *.
تنبيه
مثل قياس إبليس نفسه على عنصره الذي هو النار وقياسه آدم على عنصره الذي هو الطين واستنتاجه من ذلك أنه خير من آدم. ولا ينبغي أن يؤمر بالسجود لمن هو خير منه مع وجود النص الصريح الذي هو قوله تعالى: * (اسجدوا لادم) * يسمى في اصطلاح الأصوليين فاسد الاعتبار. وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود:) اسجدوا لادم) * يسمى في اصطلاح الأصوليين فاسد الاعتبار وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود:)
* والخلف للنص أو إجماع دعا
* فساد الاعتبار كل من وعى
*
فكل من رد نصوص الوحي بالأقيسة فسلفه في ذلك إبليس وقياس إبليس هذا لعنه الله باطل من ثلاثة أوجه:
الأول: أنه فاسد الاعتبار؛ لمخالفة النص الصريح كما تقدم قريبا.
الثاني: أنا لا نسلم أن النار خير من الطين بل الطين خير من النار؛ لأن طبيعتها الخفة والطيش والإفساد والتفريق وطبيعته الرزانة والإصلاح فتودعه الحبة
33

فيعطيكها سنبلة والنواة فيعطيكها نخلة.
وإذا أردت أن تعرف قدر الطين فانظر إلى الرياض الناضرة وما فيها من الثمار اللذيذة والأزهار الجميلة والروائح الطيبة. تعلم أن الطين خير من النار.
الثالث: أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن النار خير من الطين فإنه لا يلزم من ذلك أن إبليس خير من آدم؛ لأن شرف الأصل لا يقتضي شرف الفرع بل قد يكون الأصل رفيعا الفرع وضيعا كما قال الشاعر: البسيط:
* إذا افخرت بآباء لهم شرف
* قلنا صدقت ولكن بئس ما ولدوا
*
وقال الآخر: المتقارب:
* وما ينفع الأصل من هاشم
* إذا كانت النفس من باهلة
* * (فتلقىءادم من ربه كلمات لم يبين هنا ما هذه الكلمات ولكنه بينها في سورة الأعراف بقوله: * (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) *. * (الآية قوله تعالى يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم لم يبين هنا ما هذه النعمة التي أنعمها عليهم ولكنه بينها في آيات أخر كقوله: * (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى) *.
وقوله: * (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب) * الآية وقوله: * (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) * إلى غير ذلك من الآيات.
* (وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم) * لم يبين هنا ما عهده وما عهدهم ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله: * (وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار) * فعهدهم هو المذكور في قوله: * (لئن أقمتم الصلاة وأتيتم الزكاة وأمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا) * وعهده هو المذكور في قوله: * (لأكفرن عنهم سيئاتهم) *
34

.
وأشار إلى عهدهم أيضا بقوله: * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) *؛ إلى غير ذلك من الآيات. * (قوله تعالى) * ولا تلبسوا الحق بالباطل الحق الذي لبسوه بالباطل هو إيمانهم ببعض ما في التوراة. والباطل الذي لبسوا به الحق هو كفرهم ببعض ما في التوراة وجحدهم له. كصفات رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرها مما كتموه وجحدوه وهذا يبينه قوله تعالى: * (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) * والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب كما تقدم. * (واستعينوا بالصبر والصلاة الاستعانة بالصبر على أمور الدنيا والآخرة لا إشكال فيها وأما نتيجة الاستعانة بالصلاة فقد أشار لها تعالى في آيات من كتابه فذكر أن من نتائج الاستعانة بها النهي عما لا يليق وذلك في قوله: * (أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) * وأنها تجلب الرزق وذلك في قوله: * (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى) *؛ ولذا كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة.
وإيضاح ذلك: أن العبد إذا قام بين يدي ربه يناجيه ويتلو كتابه هان عليه كل ما في الدنيا رغبة فيما عند الله. ورهبة منه فيتباعد عن كل ما لا يرضي الله فيرزقه الله ويهديه. * (قوله تعالى: * (ولا يقبل منها شفاعة الآية ظاهر هذه الآية عدم قبول الشفاعة مطلقا يوم القيامة ولكنه بين في مواضع أخر أن الشفاعة المنفية هي الشفاعة للكفار والشفاعة لغيرهم بدون إذن رب السماوات والأرض.
أما الشفاعة للمؤمنين بإذنه فهي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع. فنص على عدم الشفاعة للكفار بقوله: * (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) * وقد قال: * (ولا يرضى لعباده الكفر) *. وقال تعالى عنهم مقررا له: * (فما لنا من
35

شافعين) *. وقال: * (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقال في الشفاعة بدون إذنه: * (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) *. وقال: * (وكم من ملك في * السماوات لا تغنى شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) *. وقال: * (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمان ورضى له قولا) * إلى غير ذلك من الآيات.
وادعاء شفعاء عند الله للكفار أو بغير إذنه من أنواع الكفر به جل وعلا كما صرح بذلك في قوله: * (ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في * السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون) *.
تنبيه
هذا الذي قررناه من أن الشفاعة للكفار مستحيلة شرعا مطلقا يستثنى منه شفاعته صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب في نقله من محل من النار إلى محل آخر منها كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح فهذه الصورة التي ذكرنا من تخصيص الكتاب بالسنة. * (قوله تعالى) * يسومونكم سوء العذاب بينه بقوله بعده: * (يذبحون أبنآءكم الآية قوله تعالى) *. * (وإذ فرقنا بكم البحر فأنجينكم لم يبين هنا كيفية فرق البحر بهم ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله: * (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم) * وقوله: * (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا) *.
* (الآية قوله تعالى فأتبعوا مشرقين * فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربى سيهدين * فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك
البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم * وأزلفنا ثم الآخرين * وأنجينا موسى ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا الآخرين) * وقوله: * (فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم) *.
وقوله: * (واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون) * ودقوله: * (رهوا) *
36

أي ساكنا على حالة انفلاقه حتى يدخلوا فيه إلى غير ذلك من الآيات. * (وإذ وعدنا موسى أربعين ليلة لم يبين هنا هل واعده إياها مجتمعة أو متفرقة؟ ولكنه بين في سورة الأعراف أنها متفرقة وأنه واعده أولا ثلاثين ثم أتمها بعشر وذلك الذي في قوله تعالى: * (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة) *. قوله تعالى * (: * (وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون) *
الظاهر في معناه: أن الفرقان هو الكتاب الذي أوتيه موسى وأنما عطف على نفسه؛ تنزيلا لتغاير الصفات منزلة تغاير الذوات؛ لأن ذلك الكتاب الذي هو التوراة موصوف بأمرين:
أحدهما: أنه مكتوب كتبه الله لنبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
والثاني: أنه فرقان أي فارق بين الحق والباطل فعطف الفرقان على الكتاب مع أنه هو نفسه نظرا لتغاير الصفتين كقول الشاعر: المتقارب:
* إلى الملك القرم وابن الهمام
* وليث الكتيبة في المزدحم
*
بل ربما عطفت العرب الشئ على نفسه مع اختلاف اللفظ فقط فاكتفوا بالمغايرة في اللفظ. كقول الشاعر: بل ربما عطفت العرب الشئ على نفسه مع اختلاف اللفظ فقط فاكتفوا بالمغايرة في اللفظ كقول الشاعر:
* إني لأعظم في صدر الكمي على
* ما كان في من التجدير والقصر
*
القصر: هو التجدير بعينه. وقول الآخر: الوافر:
* وقددت الأديم لراهشيه
* وألفى قولها كذبا ومينا
*
والمين: هو الكذب بعينه. وقول الآخر: الطويل:
* ألا حبذا هند وأرض بها هند
* وهند أتى من دونها النأي والبعد
*
والبعد: هو النأي بعينه وقول عنترة في معلقة الكامل:
* حييت من طلل تقادم عهده
* أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
*
والإقفار: هو الإقواء بعينه.
والدليل من القرءان على أن الفرقان هو ما أوتيه موسى.
* (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان) *.
37

* (الآية قوله تعالى إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل لم يبين هنا من أي شئ هذا العجل المعبود من دون الله؟ ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله: * (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار) * وقوله: * (ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري * فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار) * ولم يذكر المفعول الثاني للاتخاذ في جميع القرءان وتقديره: باتخاذكم العجل إلها؛ كما أشار له في سورة طه بقوله: * (وكذلك ألقى السامري فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى) * قوله تعالى: * (ورفعنا فوقكم الطور) * أوضحه بقوله: * (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة) *.
قوله تعالى: * (خذوا ما آتيناكم بقوة) * لم يبين هنا هذا الذي أتاهم ما هو ولكنه بين في موضع آخر أنه الكتاب الفارق بين الحق والباطل وذلك في قوله: * (وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون) *. * (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت) * أجمل قصتهم هنا وفصلها في سورة الأعراف في قوله: * (واسألهم عن
القرية التي كانت حاضرة البحر الآيات 163 قوله تعالى) *. * (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي لم يبين مقصودهم بقولهم: * (ما هي) * إلا أن جواب سؤالهم دل على أن مرادهم بقولهم في الموضع الأول * (ما هي) * أي: ما سنها؟ بدليل قوله: * (قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر) * الآية. وأن مرادهم بقولهم * (ما هي) * في الموضع الآخر هل هي عاملة أو لا؟ وهل فيها عيب أو لا؟ وهل فيها وشي مخالف للونها أو لا؟ بدليل قوله: * (قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقى الحرث مسلمة لا شية فيها) *. * (وإذ قتلتم نفسا فادرءتم فيها لم يصرح هل هذه النفس ذكر أو أنثى؟. وقد أشار إلى أنها ذكر بقوله: * (فقلنا اضربوه ببعضها) *. * (قوله تعالى كذلك يحى الله الموتى ويريكم اءياته الآية أشار في هذه الآية إلى أن إحياء قتيل بني إسرائيل دليل على بعث الناس بعد الموت؛ لأن من أحيا نفسا
38

واحدة بعد موتها قادر على إحياء جميع النفوس وقد صرح بهذا في قوله: * (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) *. * (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة الآية لم يبين هنا سبب قسوة قلوبهم ولكنه أشار إلى ذلك في مواضع أخر كقوله: * (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية) * وقوله: * (فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم الآية قوله تعالى) *. * (ومنهم أميون لا يعملون الكتب إلا أماني اختلف العلماء في المراد * (بالأماني) * هنا على قولين.
أحدهما: أن المراد بالأمنية القراءة أي: لا يعلمون من الكتاب إلا قراءة ألفاظ دون إدراك معانيها. وهذا القول لا يتناسب مع قوله * (ومنهم أميون) *؛ لأن الأمي لا يقرأ.
الثاني: أن الاستثناء منقطع والمعنى لا يعلمون الكتاب لكن يتمنون أماني باطلة ويدل لهذا القول: قوله تعالى: * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم) * وقوله: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) *.
قوله تعالى: * (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم الآية يعني: تقتلون إخوانكم ويبين أن ذلك هو المراد كثرة وروده كذلك في القرءان نحو قوله: * (ولا تلمزوا أنفسكم) * أي: لا يلمز أحدكم أخاه وقوله: * (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا) * أي بإخوانهم وقوله: * (فاقتلوا أنفسكم) * أي: بأن يقتل البرىء من عبادة العجل من عبده منهم إلى غير ذلك من الآيات.
ويوضح هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: إن مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كمثل الجسد الواحد إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
* (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) * يتبين مما قبله أن البعض الذي آمنوا به هو فداء الأسارى منهم والبعض الذي كفروا به هو إخراجهم من ديارهم وقتلهم ومظاهرة العدو عليهم وإن كفروا بغير هذا من الكتاب وآمنوا بغيره منه.
39

* (ا قوله تعالى وآتينا عيسى ابن مريم البينات لم يبين هنا ما هذه البينات ولكنه بينها في مواضع أخر كقوله: * (ورسولا إلى بني إسرائيل أنى قد جئتكم بآية من ربكم أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه) * إلى غير ذلك من الآيات.
* (وأيدناه بروح القدس) * هو جبريل على الأصح ويدل لذلك قوله تعالى: * (نزل به الروح الأمين) * وقوله: * (فأرسلنا إليها روحنا الآية قوله تعالى) *. * (ولقد جاءكم موسى بالينات لم يبين هنا ما هذه البينات وبينها في مواضع أخر كقوله: * (فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات) * وقوله: * (فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء) * وقوله: * (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق) *. إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (خذوا ما ءاتيناكم بقوة واسمعوا الآية قال بعض العلماء هو من السمع بمعنى الإجابة ومنه قولهم سمعا وطاعة أي: إجابة وطاعة ومنه: سمع الله لمن حمده في الصلاة. أي: أجاب دعاء من حمده ويشهد لهذا المعنى قوله: * (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا) * وهذا قول الجمهور وقيل: إن المراد بقوله * (واسمعوا) * أي: بآذانكم ولا تمتنعوا من أصل الاستماع.
ويدل لهذا الوجه: أن بعض الكفار ربما امتنع من أصل الاستماع خوف أن يسمع كلام الأنبياء كما في قوله تعالى عن نوح مع قومه: * (وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا) *.
وقوله عن قوم نبينا صلى الله عليه وسلم: * (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرءان والغوا فيه لعلكم تغلبون) * وقوله: * (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه
40

الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا) * وقوله: * (قالوا سمعنا وعصينا) *؛ لأن السمع الذي لا ينافي العصيان هو السمع بالآذان دون السمع بمعنى الإجابة. * (قوله تعالى يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر معنى الآية: أن أحد المذكورين يتمنى أن يعيش ألف سنة وطول عمره لا يزحزحه أي: لا يبعده عن العذاب فالمصدر المنسبك من أن وصلتها في قوله: * (أن يعمر) * فاعل الذي هو مزحزحه على أصح الأعاريب وفي لو من قوله: * (لو يعمر) * وجهان:
الأول: وهو قول الجمهور أنها حرف مصدري وهي وصلتها في تأويل مفعول به ليود والمعنى: * (يود أحدهم) * أي: يتمنى تعمير ألف سنة ولو: قد تكون حرفا مصدريا لقول قتيلة بنت الحارث:
* ما كان ضرك لو مننت وربما
* من الفتى وهو المغيظ المحنق
*
أي: ما كان ضرك منه.
وقال بعض العلماء: إن * (لو) * هنا هي الشرطية والجواب محذوف وتقديره: لو يعمر ألف سنة لكان ذلك أحب شئ إليه وحذف جواب * (لو) * مع دلالة المقام عليه واقع في القرءان وفي كلام العرب فمنه في القرءان. قوله تعالى: * (كلا لو تعلمون علم اليقين) * أي: لو تعلمون علم اليقين لما * (ألهاكم التكاثر) *. وقوله: * (ولو أن قرءانا سيرت به الجبال) * أي: لكان هذا القرءان أو لكفرتم بالرحمان. ومنه في كلام العرب قول الشاعر: الطويل:
* فأقسم لو شئ أتانا رسوله
* سواك ولكن لم نجد لك مدفعا
*
أي لو شئ أتانا رسوله سواك لدفعناه. إذا عرفت معنى الآية فاعلم أن الله قد أوضح هذا المعنى مبينا أن الإنسان لو متع ما متع من السنين ثم انقضى ذلك المتاع وجاءه العذاب أن ذلك المتاع الفائت لا ينفعه ولا يغني عنه شيئا بعد انقضائه وحلول العذاب محله. وذلك في قوله: * (أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون) * وهذه هي
41

أعظم آية في إزالة الداء العضال الذي هو طول الأمل. كفانا الله والمؤمنين شره. * (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين * من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين * ولقد أنزلنآ إليك آيات بينات وما يكفر بهآ إلا الفاسقون) * قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ظاهر هذه الآية أن جبريل ألقى القرءان في قلب النبي صلى الله عليه وسلم من غير سماع قراءة ونظيرها في ذلك قوله تعالى: * (نزل به الروح الأمين على قلبك) *. ولكنه بين في مواضع أخر أن معنى ذلك أن الملك يقرؤه عليه حتى يسمعه منه فتصل معانيه إلى قلبه بعد سماعه وذلك هو معنى تنزيله على قلبه. وذلك كما في قوله تعالى: * (لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرءانه * فإذا قرأناه فاتبع قرءانه * ثم إن علينا بيانه) * وقوله: * (ولا تعجل بالقرءان من قبل إن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما) *. * (قوله تعالى أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل ذكر في هذه الآية أن اليهود كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم وصرح في موضع آخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المعاهد لهم وأنهم ينقضون عهدهم في كل مرة وذلك في قوله: * (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون * الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون) * وصرح في آية أخرى بأنهم أهل خيانة إلا القليل منهم وذلك في قوله: * (ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم) *. * (ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم الآية ذكر في هذه الآية الكريمة أن كثيرا من اليهود نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ولم يؤمنوا به وبين في موضع آخر أن هؤلاء الذين لم يؤمنوا بالكتاب هم الأكثر وذلك في قوله تعالى: * (ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) *. * (أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل لم يبين هنا هذا الذي سئل موسى من قبل ما هو؟ ولكنه بينه في موضع آخر. وذلك في قوله: * (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة) *. * (قوله تعالى الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله هذه الآية في أهل الكتاب كما
42

هو واضح من السياق والأمر في قوله * (بأمره) *.
قال بعض العلماء: هو واحد الأوامر. وقال بعضهم: هو واحد الأمور فعلى القول الأول: بأنه الأمر الذي هو ضد النهي؛ فإن الأمر المذكور هو المصرح به في قوله: * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) *. وعلى القول بأنه واحد الأمور: فهو ما صرح الله به في الآيات الدالة على ما أوقع باليهود من القتل والتشريد كقوله: * (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولى الابصار ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم) *. إلى غير ذلك من الآيات والآية غير منسوخة على التحقيق. * (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابهآ الآية قال بعض العلماء: نزلت في صد المشركين النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت الحرام في عمرة الحديبية عام ست.
وعلى هذا القول: فالخراب معنوي وهو خراب المساجد بمنع العبادة فيها. وهذا القول يبينه ويشهد له قوله تعالى: * (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام) *.
وقال بعض العلماء: الخراب المذكور هو الخراب الحسي. والآية نزلت فيمن خرب بيت المقدس وهو بختنصر أو غيره وهذا القول يبينه ويشهد له قوله جل وعلا: * (فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا) *. * (قوله تعالى) * وقالوا اتخذ الله ولدا هذا الولد المزعوم على زاعمه لعائن الله قد جاء مفصلا في آيات أخر كقوله: * (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم * بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون) * وقوله: * (ويجعلون لله البنات) *. * (الآية قوله تعالى قال لا ينال عهدي الظالمين يفهم من هذه الآية أن الله علم أن من
43

ذرية إبراهيم ظالمين. وقد صرح تعالى في مواضع أخر بأن منهم ظالما وغير ظالم. كقوله: * (ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين) * وقوله: * (وجعلها كلمة باقية في عقبه الآية قوله تعالى) *. * (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ذكر في هذه الآية رفع إبراهيم وإسماعيل لقواعد البيت. وبين في سورة الحج أنه
أراه موضعه بقوله: * (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) * أي: عينا له محله وعرفناه به. قيل: دله عليه بمزنة كان ظلها قدر مساحته وقيل: دله عليه بريح تسمى الخجوج كنست عنه حتى ظهر أسمه القديم فبنى عليه إبراهيم وإسماعيل عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام. * (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنآ أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينآ إنك أنت التواب الرحيم * ربنا أبعث فيهم رسولا منهم لم يبين هنا من هذه الأمة التي أجاب الله بها دعاء نبيه إبراهيم وإسماعيل ولم يبين هنا أيضا هذا الرسول المسؤول بعثه فيهم من هو؟ ولكنه يبين في سورة الجمعة أن تلك الأمة العرب والرسول هو سيد الرسل محمد صلى الله عليه وسلم وذلك في قوله: * (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم * يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفى ضلال مبين وآخرين منهم لما يلحقوا بهم) *؛ لأن الأميين العرب بالإجماع. والرسول المذكور نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إجماعا. ولم يبعث رسول من ذرية إبراهيم وإسماعيل إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحده.
وثبت في الصحيح أنه هو الرسول الذي دعا به إبراهيم ولا ينافي ذلك عموم رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الأسود والأحمر. * (ومن يرغب عن ملة إبراهيم الآية لم يبين هنا ما ملة إبراهيم وبينها بقوله: * (قل إنني هداني ربى إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) * فصرح في هذه الآية بأنها دين الإسلام الذي بعث الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم. وكذا في قوله: * (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم) *. * (الآية ا قوله تعالى إن الله اصطفى لكم الدين أشار إلى أنه دين الإسلام هنا بقوله: * (فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) * وصرح بذلك في قوله: * (إن الدين عند الله الإسلام) *
44

وقوله: * (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) *.
* (وما أنزل إلى إبراهيم) * لم يبين هنا هذا الذي أنزل إلى إبراهيم ولكنه بين في سورة الأعلى أنه صحف وأن من جملة ما في تلك الصحف: * (بل تؤثرون الحياة الدينا * والآخرة خير وأبقى) * وذلك في قوله: * (إن هاذا لفى الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى) *. وذلك في قوله: * () * ومآ أوتى موسى وعيسى لم يبين هنا ما أوتيه موسى وعيسى ولكنه بينه في مواضع أخر. فذكر أن ما أوتيه موسى هو التوراة المعبر عنها بالصحف في قوله: * (صحف إبراهيم وموسى) * وذلك كقوله: * (ثم أتينا موسى الكتاب) * وهو التوراة بالإجماع. وذكر أن ما أوتيه عيسى هو الإنجيل كما في قوله: * (وقفينا بعيسى ابن مريم وآيتناه الإنجيل وقوله تعالى) *.
* (النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم) * أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين في هذه الآية أن يؤمنوا بما أوتيه جميع النبيين وأن لا يفرقوا بين أحد منهم حيث قال: * (قولوا ءامنا بالله ومآ أنزل إلينا) * إلى قوله: * (ومآ أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم) * ولم يذكر هنا هل فعلوا ذلك أو لا؟ ولم يذكر جزاءهم إذا فعلوه ولكنه بين كل ذلك في غير هذا الموضع. فصرح بأنهم امتثلوا الأمر بقوله آمن الرسول بما أنزل إليه: * (من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله) * وذكر جزاءهم على ذلك بقوله: * (والذين ءامنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما) *. * (قوله تعالى قل لله المشرق والمغرب يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم لم يبين هنا الصراط المستقيم. ولكنه بينه بقوله: * (اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) *. * (قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا الآية أي: خيارا عدولا. ويدل لأن الوسط الخيار العدول. قوله تعالى: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) * وذلك
45

معروف في كلام العرب ومنه قول زهير:
* هم وسط يرضى الأنام بحكمهم
* إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
*
* (ويكون الرسول عليكم شهيدا) * لم يبين هنا هل هو شهيد عليهم في الدنيا أو الآخرة؟ ولكنه بين في موضع آخر: أنه شهيد عليهم في الآخرة وذلك في قوله: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا * يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا) *.
* (وما جعلنا القبلة التي كنت عليهآ إلا لنعلم) *. ظاهر هذه الآية قد يتوهم منه الجاهل أنه تعالى يستفيد بالاختبار علما لم يكن يعلمه سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا بل هو تعالى عالم بكل ما سيكون قبل أن يكون. وقد بين أنه لا يستفيد بالاختبار علما لم يكن يعلمه بقوله جل وعلا: * (وليبتلى الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور) * فقوله: * (والله عليم بذات الصدور) * بعد قوله: * (ليبتلي) * دليل قاطع على أنه لم يستفد بالاختبار شيئا لم يكن عالما به سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا؛ لأن العليم بذات الصدور غني عن الاختبار وفي هذه الآية بيان عظيم لجميع الآيات التي يذكر الله فيها اختباره لخلقه ومعنى * (إلا لنعلم) * أي علما يترتب عليه الثواب والعقاب فلا ينافي أنه كان عالما به قبل ذلك وفائدة الاختبار ظهور الأمر للناس. أما عالم السر والنجوى فهو عالم بكل ما سيكون كما لا يخفى.
وقوله: * (من يتبع الرسول) * أشار إلى أن الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم بقوله مخاطبا له: * (وما جعلنا القبلة التي كنت عليهآ) * الآية؛ لأن هذا الخطاب له إجماعا. * (قوله تعالى وما كان الله ليضيع أي صلاتكم إلى بيت المقدس على الأصح ويستروح ذلك من قوله قبله: * (وما جعلنا القبلة التي كنت عليهآ) * الآية ولا سيما على القول باعتبار دلالة الاقتران والخلاف فيها معروف في الأصول.
* (فلنولينك قبلة ترضها) * بينه قوله بعده: * (ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام) *. * (الآية قوله تعالى أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللعنون لم يبين هنا ما
اللاعنون
46

ولكنه أشار إلى ذلك في قوله: * (أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين قوله تعالى أن في خلق السماوات والأرض الآية) * لم يبين هنا وجه كونهما آية ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله: * (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج * والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج * تبصرة وذكرى لكل عبد منيب) * وقوله: * (الذي خلق سبع * سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور * ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير * ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير) *. وقوله في الأرض: * (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور) *. * (قوله تعالى) * واختلاف الليل والنهار لم يبين هنا وجه كون اختلافهما آية ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله: * (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إلاه غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة إله غير الله يأتيكم بالليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) *. إلى غير ذلك من الآيات.
* (والسحاب المسخر بين السماء والأرض) * لم يبين هنا كيفية تسخيره ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله: * (وهو الذي يرسل الرياح * بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون) * وقوله: * (ألم تر أن الله يزجى سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله) *. * (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين ءامنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب) * ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب المراد بالذين ظلموا الكفار وقد بين ذلك بقوله في آخر الآية: * (وما هم بخارجين من النار) *) * ويدل لذلك قوله تعالى عن لقمان مقررا له: * () * ويدل لذلك قوله تعالى عن لقمان مقررا له: * (يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) *
47

وقوله جل وعلا: * (والكافرون هم الظالمون) * وقوله: * (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين) *. * (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا الآية أشار هنا إلى تخاصم أهل النار. وقد بين منه غير ما ذكر هنا في مواضع أخر كقوله: * (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا للذين أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا) * إلى غير ذلك من الآيات. * (قوله تعالى) * ولا تتبعوا خطوات الشيطان لم يذكر هنا ما يترتب على اتباع خطواته من الضرر ولكنه أشار إلى ذلك في سورة النور بقوله: * (ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر) *. * (الآية قوله تعالى وأن تقولوا على الله ما تعلمون لم يبين هنا هذا الذي بغير علم هو أن الله حرم البحائر والسوائب ونحوها وأن له أولادا وأن له شركاء سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا. فصرح بأنه لم يحرم ذلك بقوله: * (ما جعل الله من بحيرة ولا سآئبة ولا وصيلة ولا حام ولاكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب) * وقوله: * (وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله) *. وقوله: * (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا) *. وقوله: * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هاذا حلال وهذا حرام) * إلى غير ذلك من الآيات. ونزه نفسه عن الشركاء المزعومة بقوله: * (سبحانه وتعالى عما يشركون) * ونحوها من الآيات ونزه نفسه عن الأولاد المزعومة بقوله: * (قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه) *. ونحوها من الآيات فظهر من هذه الآيات تفصيل * (ما) * أجمل في اسم الموصول الذي هو * (ما) * من قوله: * (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) *
48

. * (إنما حرم عليكم الميتة والدم الآية ظاهر هذه الآية أن جميع أنواع الميتة والدم حرام ولكنه بين في موضع آخر أن ميتة البحر خارجة عن ذلك التحريم وهو قوله: * (أحل لكم صيد البحر وطعامه) *. إذ ليس للبحر طعام غير الصيد إلا ميتته. وما ذكره بعض العلماء من أن المراد بطعامه قديده المجفف بالملح مثلا وأن المراد بصيده الطري منه. فهو خلاف الظاهر؛ لأن القديد من صيده فهو صيد جعل قديدا وجمهور العلماء على أن المراد بطعامه ميتته. منهم: أبو بكر الصديق وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر وأبو أيوب الأنصاري رضي الله عنهم أجمعين وعكرمة وأبو سلمة بن عبد الرحمان وإبراهيم النخعي والحسن البصري وغيرهم. كما نقله عنهم ابن كثير. وأشار في موضع آخر إلى أن غير المسفوح من الدماء ليس بحرام وهو قوله: * (إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا) * فيفهم منه أن غير المسفوح كالحمرة التي تعلو القدر من أثر تقطيع اللحم ليس بحرام إذ لو كان كالمسفوح لما كان في التقييد بقوله: * (مسفوحا) *. فائدة
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله أحل له ولأمته ميتتين ودمين أما الميتتان: فالسمك والجراد وأما الدمان: فالكبد والطحال وسيأتي الكلام على هذا الحديث في الأنعام إن شاء الله تعالى.
وعنه صلى الله عليه وسلم في البحر هو الحل ميتته أخرجه مالك وأصحاب السنن والإمام أحمد والبيهقي والدارقطني في سننهما والحاكم في المستدرك وابن الجارود في المنتقى وابن أبي شيبة وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان والبخاري.
وظاهر عموم هذا الحديث وعموم قوله تعالى: * (وطعامه) * يدل على إباحة ميتة البحر مطلقا. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه أنه أكل من العنبر وهو حوت ألقاه البحر ميتا وقصته مشهورة.
وحاصل تحرير فقه هذه المسألة: أن ميتة البحر على قسمين: قسم لا يعيش إلا في الماء وإن أخرج منه مات كالحوت. وقسم يعيش في البر كالضفادع ونحوها.
أما الذي لا يعيش إلا في الماء كالحوت. فميتته حلال عند جميع العلماء
49

وخالف أبو حنيفة رحمه الله فيما مات منه في البحر وطفا على وجه الماء. فقال فيه: هو مكروه الأكل بخلاف ما قتله إنسان أو حسر عنه البحر فمات فإنه مباح الأكل عنده.
وأما الذي يعيش في البر من حيوان البحر: كالضفادع والسلحفاة والسرطان وترس الماء. فقد اختلف فيه العلماء. فذهب مالك بن أنس إلى أن ميتة البحر من ذلك كله مباحة الأكل وسواء مات بنفسه أو وجد طافيا أو باصطياد أو أخرج حيا أو ألقي في النار أو دس في طين.
وقال ابن نافع وابن دينار: ميتة البحر مما يعيش في البر نجسة.
ونقل ابن عرفة قولا ثالثا بالفرق بين أن يموت في الماء فيكون طاهرا أو في البر فيكون نجسا؛ وعزاه لعيسى عن ابن القاسم. والضفادع البحرية عند مالك مباحة الأكل وإن ماتت فيه.
وفي المدونة: ولا بأس بأكل الضفادع وإن ماتت؛ لأنها من صيد الماء. اه.
أما ميته الضفادع البرية فهي حرام بلا خلاف بين العلماء وأظهر الأقوال منع الضفادع مطلقا ولو ذكيت لقيام الدليل على ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
أما كلب الماء وخنزيره فالمشهور من مذهب مالك فيهما الكراهة.
قال خليل بن إسحاق المالكي في مختصره عاطفا على ما يكره وكلب ماء وخنزيره.
وقال الباجي: أما كلب البحر وخنزيره فروى ابن شعبان أنه مكروه وقاله ابن حبيب.
وقال ابن القاسم في المدونة: لم يكن مالك يجيبنا في خنزير الماء بشئ ويقول: أنتم تقولون خنزير.
وقال ابن القاسم: وأنا أتقيه ولو أكله رجل لم أره حراما هذا هو حاصل مذهب مالك في المسألة وحجته في إباحة ميتة الحيوان البحري كان يعيش في البر أو لا.
* (أحل لكم صيد البحر وطعامه) * ولا طعام له غير صيده إلا ميتته كما قاله جمهور العلماء وهو الحق ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في البحر:
50

هو الطهور ماؤه الحل ميتته وقد قدمنا ثبوت هذا الحديث وفيه التصريح من النبي صلى الله عليه وسلم بأن ميتة البحر حلال وهو فصل في محل النزاع. وقد تقرر في الأصول أن المفرد إذا أضيف إلى معرفة كان من صيغ العموم. كقوله: * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) * وقوله: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) *.
وإليه أشار في مراقي السعود بقوله عاطفا على صيغ العموم: الرجز 00000000000:
* وما معرفا بأل قد وجدا
*
* أو بإضافة إلى معرف
* إذا تحقق الخصوص قد نفى
*
وبه نعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم ميتته يعم بظاهره كل ميتة مما في البحر.
ومذهب الشافعي رحمه الله في هذه المسألة هو أن ما لا يعيش إلا في البحر فميتته حلال بلا خلاف سواء كان طافيا على الماء أم لا.
وأما الذي يعيش في البر من حيوان البحر فأصح الأقوال فيه وهو المنصوص عن الشافعي في الأم و مختصر المزني واختلاف العراقيين: أن ميتته كله حلال؛ للأدلة التي قدمنا آنفا ومقابله قولان:
أحدهما: منع ميتة البحري الذي يعيش في البر مطلقا.
الثاني: التفصيل بين ما يؤكل نظيره في البر كالبقرة والشاة فتباح ميتة البحري منه وبين ما لا يؤكل نظيره في البر كالخنزير والكلب فتحرم ميتة البحري منه ولا يخفى أن حجة الأول أظهر لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: الحل ميتته وقوله تعالى: * (وطعامه) * كما تقدم.
وأما مذهب الإمام أحمد رحمه الله فهو أن كل ما لا يعيش إلا في الماء فميتته حلال والطافي منه وغيره سواء وأما ما يعيش في البر من حيوان البحر فميتته عنده حرام فلا بد من ذكاته إلا ما لا دم فيه؛ كالسرطان فإنه يباح عنده من غير ذكاة. واحتج لعدم إباحة ميتة ما يعيش في البر؛ بأنه حيوان يعيش في البر له نفس سائلة فلم يبح بغير ذكاة كالطير.
وحمل الأدلة التي ذكرنا على خصوص ما لا يعيش إلا في البحر. اه.
وكلب الماء عنده إذا ذكي حلال ولا يخفى أن تخصيص الأدلة العامة يحتاج
51

إلى نص فمذهب مالك والشافعي أظهر دليلا والله تعالى أعلم.
ومذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله أن كل ما يعيش في البر لا يؤكل البحري منه أصلا؛ لأنه مستخبث. وأما ما لا يعيش إلا في البحر وهو الحوت بأنواعه فميتته عنده حلال إلا إذا مات حتف أنفه في البحر وطفا على وجه الماء فإنه يكره أكله عنده فما قتله إنسان أو حسر عنه البحر فمات حلال عنده بخلاف الطافي على وجه الماء.
وحجته فيما يعيش في البر منه: أنه مستخبث والله تعالى يقول: * (ويحرم عليهم الخبائث) * وحجته في كراهة السمك الطافي ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا أحمد بن عبدة حدثنا يحيى بن سليم الطائفي حدثنا إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ألقي البحر أو جزر عنه فكلوه وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه. اه.
قال أبو داود: روى هذا الحديث سفيان الثوري وأيوب وحماد عن أبي الزبير أوقفوه على جابر.
وقد أسند هذا الحديث أيضا من وجه ضعيف عن ابن أبي ذئب عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم. اه.
وأجاب الجمهور عن الاحتجاج الأول بأن ألفاظ النصوص عامة في ميتة البحر وأن تخصيص النص العام لا بد له من دليل من كتاب أو سنة يدل على التخصيص كما تقدم.
ومطلق ادعاء أنه خبيث لا يرد به عموم الأدلة الصريحة في عموم ميتة البحر وعن الاحتجاج الثاني بتضعيف حديث جابر المذكور.
قال النووي في شرح المهذب ما نصه: وأما الجواب عن حديث جابر الذي احتج به الأولون فهو أنه حديث ضعيف باتفاق الحفاظ لا يجوز الاحتجاج به لو لم يعارضه شئ فكيف وهو معارض بما ذكرناه من دلائل الكتاب والسنة وأقاويل الصحابة رضي الله عنهم المنتشرة؟.
وهذا الحديث من رواية يحيى بن سليم الطائفي عن إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير عن جابر.
قال البيهقي: يحيى بن سليم الطائفي كثير الوهم سيىء الحفظ. قال: وقد رواه
52

غيره عن إسماعيل بن أمية موقوفا على جابر. قال: وقال الترمذي: سألت البخاري عن هذا الحديث فقال: ليس هو بمحفوظ ويروى عن جابر خلافه. قال: ولا أعرف لأثر ابن أمية عن أبي الزبير شيئا.
قال البيهقي: وقد رواه أيضا يحيى بن أبي أنيسة عن أبي الزبير مرفوعا ويحيى بن أبي أنيسة متروك لا يحتج به. قال: ورواه عبد العزيز بن عبيد الله عن وهب بن كيسان عن جابر مرفوعا وعبد العزيز ضعيف لا يحتج به قال: ورواه بقية بن الوليد عن الأوزاعي عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا ولا يحتج بما ينفرد به بقية فكيف بما يخالف؟ قال: وقول الجماعة من الصحابة على خلاف قول جابر مع ما رويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في البحر: هو الطهور ماؤه الحل ميتته. اه
وقال البيهقي في السنن الكبرى في باب من كره أكل الطافي ما نصه: أخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه أنبأنا علي بن عمر الحافظ حدثنا محمد بن إبراهيم بن فيروز حدثنا محمد بن إسماعيل الحساني حدثنا ابن نمير حدثنا عبيد الله بن عمر عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه أنه كان يقول: ما ضرب به البحر أو جزر عنه أو صيد فيه فكل وما مات فيه ثم طفا فلا تأكل. وبمعناه رواه أبو أيوب السختياني وابن جريج وزهير بن معاوية وحماد بن سلمة وغيرهم عن أبي الزبير عن جابر موقوفا وعبد الرزاق وعبد الله بن الوليد العدني وأبو عاصم ومؤمل بن إسماعيل وغيرهم عن سفيان الثوري موقوفا وخالفهم أبو أحمد الزبيري فرواه عن الثوري مرفوعا وهو واهم فيه أخبرنا أبو الحسن بن عبدان أنبأ سليمان بن أحمد اللخمي حدثنا علي بن إسحاق الأصبهاني حدثنا نصر بن علي حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا سفيان عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا طفا السمك على الماء فلا تأكله وإذا جزر عنه البحر فكله وما كان على حافته فكله. قال سليمان: لم يرفع هذا الحديث عن سفيان إلا أبو أحمد ثم ذكر البيهقي بعد هذا الكلام حديث أبي داود الذي قدمنا والكلام الذي نقلناه عن النووي.
قال مقيده عفا الله عنه فتحصل: أن حديث جابر في النهي عن أكل السمك الطافي ذهب كثير من العلماء إلى تضعيفه وعدم الاحتجاج به. وحكى النووي اتفاق الحفاظ على ضعفه كما قدمنا عنه وحكموا بأن وقفه على جابر أثبت. وإذن فهو قول صحابي معارض بأقوال جماعة من الصحابة منهم: أبو بكر الصديق رضي الله عنه
53

وبالآية والحديث المتقدمين. وقد يظهر للناظر أن صناعة علم الحديث والأصول لا تقتضي الحكم برد حديث جابر المذكور؛ لأن رفعه جاء من طرق متعددة وبعضها صحيح فرواية أبي داود له مرفوعا التي قدمنا ضعفوها بأن في إسنادها يحيى بن سليم الطائفي وأنه سيىء الحفظ.
وقد رواه غيره مرفوعا مع أن يحيى بن سليم المذكور من رجال البخاري ومسلم في صحيحيهما ورواية أبي أحمد الزبيري له عن الثوري مرفوعا عند البيهقي والدارقطني ضعفوها بأنه واهم فيها. قالوا: خالفه فيها وكيع وغيره فرووه عن الثوري موقوفا.
ومعلوم أن أبا أحمد الزبيري المذكور وهو محمد بن عبد الله بن الزبير بن عمرو بن درم الأسدي ثقة ثبت. وإن قال ابن حجر في التقريب: إنه قد يخطئ في حديث الثوري فهاتان الروايتان برفعه تعضدان برواية بقية بن الوليد له مرفوعا عند البيهقي وغيره وبقية المذكور من رجال مسلم في صحيحه وإن تكلم فيه كثير من العلماء. ويعتضد ذلك أيضا برواية عبد العزيز بن عبيد الله له عن وهب بن كيسان عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا.
ورواية يحيى بن أبي أنيسة له عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا وإن كان عبد العزيز بن عبيد الله ويحيى بن أبي أنيسة المذكوران ضعيفين؛ لاعتضاد روايتهما برواية الثقة ويعتضد ذلك أيضا برواية ابن أبي ذئب له عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا عند الترمذي وغيره. فالظاهر أنه لا ينبغي أن يحكم على حديث جابر المذكور بأنه غير ثابت؛ لما رأيت من طرق الرفع التي روي بها. وبعضها صحيح كرواية أبي أحمد المذكورة والرفع زيادة وزيادة العدل مقبولة.
قال في مراقي السعود: الرجز:
* والرفع والوصل وزيد اللفظ
* مقبولة عند أمام الحفظ
*
إلخ... 000 نعم لقائل أن يقول: هو معارض بما هو أقوى منه؛ لأن عموم قوله تعالى: * (أحل لكم صيد البحر وطعامه) * وقوله صلى الله عليه وسلم في البحر: هو الطهور ماؤه الحل ميتته أقوى من حديث جابر هذا؛ ويؤيد ذلك اعتضاده بالقياس؛ لأنه لا فرق في القياس بين الطافي وغيره وقد يجاب عن هذا بأنه لا يتعارض عام وخاص
54

وحديث جابر في خصوص الطافي فهو مخصص لعموم أدلة الإباحة.
فالدليل على كراهة أكل السمك الطافي لا يخلو من بعض قوة والله تعالى أعلم. والمراد بالسمك الطافي هو الذي يموت في البحر فيطفو على وجه الماء وكل ما علا على وجه الماء ولم يرسب فيه تسميه العرب طافيا. ومن ذلك قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: الوافر:
* وأن العرش فوق الماء طاف
* وفوق العرش رب العالمين
*
ويحكى في نوادر المجانين أن مجنونا مر به جماعة من بني راسب وجماعة من بني طفاوة يختصمون في غلام فقال لهم المجنون: ألقوا الغلام في البحر فإن رسب فيه فهو من بني راسب وإن طفا على وجهه فهو من بني طفاوة.
وقال البخاري في صحيحه باب قول الله تعالى: * (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم) *. قال عمر: صيده ما اصطيد وطعامه ما رمى به.
وقال أبو بكر: الطافي حلال وقال ابن عباس طعامه ميتته إلا ما قذرت منها والجري لا تأكله اليهود ونحن نأكله.
وقال شريح صاحب النبي صلى الله عليه وسلم: كل شئ في البحر مذبوحه وقال عطاء: أما الطير فأرى أن نذبحه.
وقال ابن جريج: قلت لعطاء: صيد الأنهار وقلات السيل أصيد بحر هو؟ قال: نعم ثم تلا: * (هاذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا) *. وركب الحسن على سرج من جلود كلاب الماء. وقال الشعبي: لو أن أهلي أكلوا الضفادع لأطعمتهم. ولم ير الحسن بالسلحفاة بأسا.
وقال ابن عباس: كل من صيد البحر نصراني أو يهودي أو مجوسي. وقال أبو الدرداء في المري ذبح الخمر النينان والشمس. انتهى من البخاري بلفظه. ومعلوم أن البخاري رحمه الله لا يعلق بصيغة الجزم إلا ما كان صحيحا ثابتا عنده.
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري في الكلام على هذه المعلقات التي ذكرها البخاري ما نصه: قوله: قال عمر هو ابن الخطاب صيده ما اصطيد و طعامه ما رمى به. وصله المصنف في (التاريخ) وعبد بن حميد من طريق
55

عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال: لما قدمت البحرين سألني أهلها عما قذف البحر؟ فأمرتهم أن يأكلوه. فلما قدمت على عمر فذكر قصة. قال: فقال عمر: قال الله تعالى في كتابه: * (أحل لكم صيد البحر وطعامه) * فصيده: ما صيد وطعامه: ما قذف به. قوله: وقال أبو بكر هو الصديق الطافي حلال وصله أبو بكر بن أبي شيبة والطحاوي والدارقطني من رواية عبد الملك بن أبي بشير عن عكرمة عن ابن عباس قال: أشهد على أبي بكر أنه قال: السمكة الطافية حلال. زاد الطحاوي: لمن أراد أكله وأخرجه الدارقطني وكذا عبد بن حميد والطبري منها. وفي بعضها أشهد على أبي بكر أنه أكل السمك الطافي على الماء وللدارقطني من وجه آخر عن ابن عباس عن أبي بكر: أن الله ذبح لكم ما في البحر فكلوه كله فإنه ذكي.
قوله: وقال ابن عباس: طعامه ميتته إلا ما قذرت منها وصله الطبري من طريق أبي بكر بن حفص عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: * (أحل لكم صيد البحر وطعامه) * قال طعامه: ميتته. وأخرج عبد الرزاق من وجه آخر عن ابن عباس وذكر صيد البحر لا تأكل منه طافيا في سنده الأجلح وهو لين ويوهنه حديث ابن عباس الماضي قبله قوله: والجري لا تأكله اليهود ونحن نأكله. وصله عبد الرزاق عن الثوري عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن الجرى فقال: لا بأس به إنما هو شئ كرهته اليهود. وأخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع عن الثوري به. وقال في روايته: سألت ابن عباس عن الجري فقال: لا بأس به؛ إنما تحرمه اليهود ونحن نأكله وهذا على شرط الصحيح. وأخرج عن علي وطائفة نحوه. والجرى بفتح الجيم قال ابن التين: وفي نسخة بالكسر وهو ضبط الصحاح وكسر الراء الثقيلة قال: ويقال له أيضا: الجريت وهو ما لا قشر له.
وقال ابن حبيب من المالكية: إنما أكرهه؛ لأنه يقال: إنه من الممسوخ. وقال الأزهري: الجريت نوع من السمك يشبه الحيات. وقيل: سمك لا قشر له. ويقال له أيضا: المرماهي والسلور مثله. وقال الخطابي: هو ضرب من السمك يشبه الحيات وقال غيره: نوع عريض الوسط دقيق الطرفين. قوله: وقال شريح صاحب النبي صلى الله عليه وسلم: كل شئ في البحر مذبوح وقال عطاء: أما الطير فأرى أن تذبحه وصله المصنف في التاريخ وابن منده في
56

المعرفة من رواية ابن جريج عن عمرو بن دينار وأبي الزبير أنهما سمعا شريحا صاحب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: كل شئ في البحر مذبوح. قال: فذكرت ذلك لعطاء. فقال: أما الطير فأرى أن تذبحه وأخرجه الدارقطني وأبو نعيم في الصحابة مرفوعا من حديث شريح والموقوف أصح.
وأخرجه ابن أبي عاصم في الأطعمة من طريق عمرو بن دينار سمعت شيخا كبيرا يحلف بالله ما في البحر دابة إلا قد ذبحها الله لبني آدم وأخرج الدارقطني من حديث عبد الله بن سرجس رفعه: أن الله قد ذبح كل ما في البحر لبني آدم وفي سنده ضعف والطبراني من حديث ابن عمر رفعه نحوه وسنده ضعيف أيضا وأخرج عبد الرزاق
بسندين جيدين عن عمر ثم عن علي: الحوت ذكي كله قوله: وقال ابن جريج: قلت لعطاء: صيد الأنهار وقلات السيل أصيد بحر هو؟ قال: نعم ثم تلا: * (هاذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا) * وصله عبد الرزاق في التفسير عن ابن جريج بهذا سواء وأخرجه الفاكهي في كتاب مكة من رواية عبد المجيد بن أبي دواد عن ابن جريج أتم من هذا وفيه: وسألته عن حيتان بركة القشيري وهي بئر عظيمة في الحرم أتصاد؟ قال: نعم؛ وسألته عن ابن الماء وأشباهه أصيد بحر أم صيد بر؟ فقال: حيث يكون أكثر فهو صيد.
وقلات بكسر القاف وتخفيف اللام وآخره مثناة ووقع في رواية الأصيلي مثلثة. والصواب الأول: جمع قلت بفتح أوله مثل: بحر وبحار وهو النقرة في الصخرة يستنقع فيها الماء. قوله: وركب الحسن على سرج من جلود كلاب الماء وقال الشعبي: لو أن أهلي أكلوا الضفادع لأطعمتهم ولم ير الحسن بالسلحفاة بأسا. أما قول الحسن الأول فقيل إنه ابن علي. وقيل: البصري ويؤيد الأول أنه وقع في رواية وركب الحسن عليه السلام وقوله: على سرج من جلود أي متخذ من جلود كلاب الماء. وأما قول الشعبي: فالضفادع جمع ضفدع بكسر أوله وفتح الدال وبكسرها أيضا وحكي ضم أوله مع فتح الدال؛ والضفادي بغير عين لغة فيه قال ابن التين: لم يبين الشعبي هل تذكى أم لا؟. ومذهب مالك أنها تؤكل بغير تذكية ومنهم من فصل بين ما مأواه الماء وغيره. وعن الحنفية ورواية عن الشافعي: لا بد من التذكية.
57

قال مقيده عفا الله عنه ميتة الضفادع البرية لا ينبغي أن يختلف في نجاستها لقوله تعالى: * (حرمت عليكم الميتة) * وهي ليست من حيوان البحر؛ لأنها برية كما صرح عبد الحق بأن ميتتها نجسة في مذهب مالك. نقله عنه الحطاب والمواق وغيرهما في شرح قول خليل: والبحري ولو طالت حياته ببر وقال ابن حجر متصلا بالكلام السابق وأما قول الحسن في السلحفاة فوصله ابن أبي شيبة من طريق ابن طاوس عن أبيه أنه كان لا يرى بأكل السلحفاة بأسا ومن طريق مبارك بن فضالة عن الحسن قال: لا بأس بأكلها والسلحفاة بضم المهملة وفتح اللام وسكون المهملة بعدها فاء ثم ألف ثم هاء ويجوز بدل الهاء همزة حكاه ابن سيده وهي رواية عبدوس.
وحكي أيضا في المحكم: بسكون اللام وفتح الحاء.
وحكي أيضا: سلحفية كالأول لكن بكسر الفاء بعدها تحتانية مفتوحة.
قوله: وقال ابن عباس: كل من صيد البحر نصراني أو يهودي أو مجوسي.
قال الكرماني: كذا في النسخ القديمة وفي بعضها ما صاده قبل لفظ نصراني. قلت: وهذا التعليق وصله البيهقي من طريق سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس. قال: كل ما ألقى البحر وما صيد منه صاده يهودي أو نصراني أو مجوسي.
قال ابن التين: مفهومه أن صيد البحر لا يؤكل إن صاده غير هؤلاء وهو كذلك عند قوم.
وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عطاء وسعيد بن جبير وبسند آخر عن علي كراهية صيد المجوسي السمك. انتهى من فتح الباري بلفظه.
وقول أبي الدرداء: في المري ذبح الخمر النينان والشمس. المشهور في لفظه أن ذبح فعل ماض والخمر مفعول به والنينان فاعل ذبح والشمس بالرفع معطوفا على الفاعل الذي هو النينان وهي جمع نون وهو: الحوت والمري بضم الميم وسكون الراء بعدها تحتانية على الصحيح خلافا لصاحب الصحاح و النهاية فقد ضبطاه بضم الميم وكسر الراء المشددة نسبة إلى المر وهو الطعم المشهور والمري المذكور طعام كان يعمل بالشام يؤخذ الخمر فيجعل فيه الملح والسمك ويوضع في
58

الشمس فيتغير عن طعم الخمر ويصير خلا وتغيير الحوت والملح والشمس له عن طعم الخمر إزالة الإسكار عنه هو مراد أبي الدرداء بذبح الحيتان والشمس له فاستعار الذبح لإذهاب الشدة المطربة التي بها الإسكار وأثر أبي الدرداء هذا وصله إبراهيم الحربي في غريب الحديث له من طريق أبي الزاهرية عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء فذكره سواء.
وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يرى إباحة تخليل الخمر وكثير من العلماء يرون منع تخليلها فإن تخللت بنفسها من غير تسبب لها في ذلك فهي حلال إجماعا قال ابن حجر في الفتح: وكان أبو الدرداء وجماعة يأكلون هذا المري المعمول بالخمر وأدخله البخاري في طهارة صيد البحر يريد أن السمك طاهر حلال وأن طهارته وحله يتعدى إلى غيره كالملح. حتى يصير الحرام النجس بإضافتها إليه طاهرا حلالا وهذا رأي من يجوز تخليل الخمر وهو قول أبي الدرداء وجماعة.
قال مقيده عفا الله عنه والظاهر منع أكل الضفادع مطلقا؛ لثبوت النهي عن قتلها عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال أبو داود في سننه: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن خالد عن سعيد بن المسيب عن عبد الرحمان بن عثمان أن طبيبا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ضفدع يجعلها في دواء فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها.
وقال النسائي في سننه: أخبرنا قتيبة قال: حدثنا ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن خالد عن سعيد بن المسيب عن عبد الرحمان بن عثمان أن طبيبا ذكر ضفدعا في دواء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله.
وقال النووي في شرح المهذب: وأما حديث النهي عن قتل الضفدع فرواه أبو داود بإسناد حسن والنسائي بإسناد صحيح من رواية عبد الرحمان بن عثمان بن عبيد الله التيمي الصحابي وهو ابن أخي طلحة بن عبيد الله قال: سأل طبيب النبي صلى الله عليه وسلم عن ضفدع يجعلها في دواء فنهاه عن قتلها وسيأتي لتحريم أكل الضفدع زيادة بيان إن شاء الله في سورة الأنعام في الكلام على قوله: * (قل لا أجد في ما أوحى إلى) *.
وما ذكرنا من تحريم الضفدع مطلقا قال به الإمام أحمد وجماعة وهو الصحيح من مذهب الشافعي ونقل العبدري عن أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وابن عباس
59

رضي الله عنهم أن جميع ميتات البحر كلها حلال إلا الضفدع قاله النووي.
ونقل عن أحمد رحمه الله ما يدل على أن التمساح لا يؤكل وقال الأوزاعي لا بأس به لمن اشتهاه.
وقال ابن حامد: لا يؤكل التمساح ولا الكوسج؛ لأنهما يأكلان الناس. وقد روي عن إبراهيم النخعي وغيره: أنه قال: كانوا يكرهون سباع البحر كما يكرهون سباع البر وذلك لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع.
وقال أبو علي النجاد ما حرم نظيره في البر فهو حرام في البحر ككلب الماء وخنزيره وإنسانه وهو قول الليث إلا في الكلب فإنه يرى إباحة كلب البر والبحر قاله ابن قدامة في المغني ومنع بعض العلماء أكل السلحفاة البحرية والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
الدم أصله دمي يائي اللام وهو من الأسماء التي حذفت العرب لامها ولم تعوض عنها شيئا وأعربتها على العين ولامه ترجع عند التصغير فتقول دمي بإدغام ياء التصغير في ياء لام الكلمة وترجع أيضا في جمع التكسير فالهمزة في الدماء مبدلة من الياء التي هي لام الكلمة وربما ثبتت أيضا في التثنية ومنه قول سحيم الرياحي: الدم أصله دمي يائي اللام وهو من الأسماء التي حذفت العرب لامها ولم تعوض عنها شيئا وأعربتها على العين ولامه ترجع عند التصغير فتقول دمي بإدغام ياء التصغير في ياء لام الكلمة وترجع أيضا في جمع التكسير فالهمزة في الدماء مبدلة من الياء التي هي لام الكلمة وربما ثبتت أيضا في التثنية ومنه قول سحيم الرياحي:
* ولو أنا على حجر ذبحنا
* جرى الدميان بالخبر اليقين
*
وكذلك تثبت لامه في الماضي والمارع والوصف في حالة الاشتقاق منه فتقول: في الماضي دميت يده كرضي ومنه قوله: وكذلك تثبت لامه في الماضي والمضارع والوصف في حالة الاشتقاق منه فتقول: في الماضي دميت يده كرضي ومنه قوله:
* هل أنت إلا إصبع دميت
* وفي سبيل الله ما لقيت
*
وتقول في المضارع يدمى بإبدال الياء ألفا كما في يرضى ويسعى ويخشى ومنه قول الشاعر: وتقول في المضارع يدمى بإبدال الياء ألفا كما في يرضى ويسعى ويخشى ومنه قول الشاعر:
* ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا
* ولكن على أقدامنا تقطر الدما
*
وتقول في الوصف أصبح جرحه داميا ومنه قول الراجز: الرجز:
* نرد أولاها على أخراها
* نردها دامية كلاها
*
60

والتحقيق أن لامه أصلها ياء وقيل أصلها واو وإنما أبدلت ياء في الماضي لتطرفها بعد الكسر كما في قوي ورضي وشجي التي هي واويات اللام في الأصل؛ لأنها من الرضوان والقوة والشجو.
وقال بعضهم الأصل فيه دمي بفتح الميم وقيل: بإسكانها والله تعالى أعلم.
* (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم) * لم يبين هنا سبب اضطراره ولم يبين المراد بالباغي والعادي ولكنه أشار في موضع آخر إلى أن سبب الاضطرار المذكور المخمصة وهي الجوع وهو قوله: * (فمن اضطر في مخمصة) * وأشار إلى أن المراد بالباغي والعادي المتجانف للإثم وذلك في قوله: * (فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم) *. والمتجانف: المائل ومنه قول الأعشى: الطويل:
* تجانف عن حجر اليمامة ناقتي
* وما قصدت من أهلها لسوائكا
*
فيفهم من الآية أن الباغي والعادي كلاهما متجانف لإثم وهذا غاية ما يفهم منها.
وقال بعض العلماء: الإثم الذي تجانف إليه الباغي هو الخروج على إمام المسلمين وكثيرا ما يطلق اسم البغي على مخالفة الإمام والإثم الذي تجانف إليه العادي هو إخافة الطريق وقطعها على المسلمين ويلحق بذلك كل سفر في معصية الله. اه.
وقال بعض العلماء: إثم الباغي والعادي أكلهما المحرم مع وجود غيره وعليه فهو كالتأكيد لقوله: * (فمن اضطر) * وعلى القول الأول لا يجوز لقاطع الطريق والخارج على الإمام الأكل من الميتة وإن خافا الهلاك ما لم يتوبا وعلى الثاني يجوز لهما لقاطع الطريق والخارج على الإمام الأكل من الميتة وإن خافا الهلاك ما لم يتوبا وعلى الثاني يجوز لهما أكل الميتة إن خافا الهلاك وإن لم يتوبا.
ونقل القرطبي عن قتادة والحسن والربيع وابن زيد وعكرمة أن المعنى * (غير باغ) * أي: في أكله فوق حاجته * (ولا عاد) * بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة ويأكلها.
ونقل أيضا عن السدي أن المعنى * (غير باغ) * في أكلها شهوة وتلذذا * (ولا
61

عاد) * باستيفاء الأكل إلى حد الشبع.
وقال القرطبي أيضا وقال مجاهد وابن جبير وغيرهما: المعنى * (غير باغ) * على المسلمين * (ولا عاد) * عليهم فيدخل في الباغي والعادي قطاع الطريق والخارج على السلطان والمسافر في قطع الرحم والغارة على المسلمين وما شاكله وهذا صحيح. فإن أصل البغي في اللغة قصد الفساد يقال: بغت المرأة تبغى بغاء إذا فجرت.
قال الله تعالى: * (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء) * وربما استعمل البغي في طلب غير الفساد والعرب تقول: خرج الرجل في بغاء إبل له أي: في طلبها ومنه قول الشاعر: مرفل الكامل:
* لا يمنعنك من بغا ء الخير تعقاد الرتائم
*
* إن الأشائم كالأيا من والأيامن كالأشائم
*
وذكر القرطبي عن مجاهد: أن المراد بالاضطرار في هذه الآية: الإكراه على أكل المحرم كالرجل يأخذه العدو فيكرهونه على لحم الخنزير وغيره من معصية الله تعالى وذكر أن المراد به عند الجمهور من العلماء المخمصة التي هي الجوع كما ذكرنا.
وقد قدمنا أن آية * (فمن اضطر في مخمصة) * مبينة لذلك وحكم الإكراه على أكل ما ذكر يؤخذ من قوله تعالى: * (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) * بطريق الأولى وحديث: إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.
مسائل تتعلق بالاضطرار إلى أكل الميتة
المسألة الأولى: أجمع العلماء على أن المضطر له أن يأكل من الميتة ما يسد رمقه ويمسك حباته وأجمعوا أيضا على أنه يحرم عليه ما زاد على الشبع واختلفوا في نفس الشبع هل له أن يشبع من الميتة أوليس له مجاوزة ما يسد الرمق ويأمن معه الموت.
62

فذهب مالك رحمه الله تعالى إلى أن له أن يشبع من الميتة ويتزود منها قال في موطئه: إن أحسن ما سمع في الرجل يضطر إلى الميتة أنه يأكل منها حتى يشبع ويتزود منها فإن وجد عنها غنى طرحها.
قال ابن عبد البر: حجة مالك أن المضطر ليس ممن حرمت عليه الميتة فإذا كانت حلالا له أكل منها ما شاء حتى يجد غيرها فتحرم عليه وذهب ابن الماجشون وابن حبيب من المالكية إلى أنه ليس له أن يأكل منها إلا قدر ما يسد الرمق ويمسك الحياة وحجتهما: أن الميتة لا تباح إلا عند الضرورة وإذا حصل سد الرمق انتفت الضرورة في الزائد على ذلك.
وعلى قولهما درج خليل بن إسحاق المالكي في مختصره حيث قال: وللضرورة ما يسد غير ءادمي.
وقال ابن العربي: ومحل هذا الخلاف بين المالكية فيما إذا كانت المخمصة نادرة وأما إذا كانت دائمة فلا خلاف في جواز الشبع منها.
ومذهب الشافعي على القولين المذكورين عن المالكية وحجتهما في القولين كحجة المالكية فيهما وقد بيناها. والقولان المذكوران مشهوران عند الشافعية.
واختار المزني أنه لا يجاوز سد الرمق ورجحه القفال وكثيرون.
وقال النووي: إنه الصحيح. ورجح أبو علي الطبري في الإفصاح والروياني وغيرهما حل الشبع قاله النووي أيضا.
وفي المسألة قول ثالث للشافعية وهو: أنه إن كان بعيدا من العمران حل الشبع وإلا فلا وذكر إمام الحرمين والغزالي تفصيلا في المسألة وهو: أنه إن كان في بادية وخاف إن ترك الشبع ألا يقطعها ويهلك وجب القطع بأنه يشبع وإن كان في بلد وتوقع طعاما طاهرا قبل عود الضرورة وجب القطع بالاقتصار على سد الرمق وإن كان لا يظهر حصول طعام طاهر وأمكن الحاجة إلى العود إلى أكل الميتة مرة بعد أخرى إن لم يجد الطاهر فهذا محل الخلاف.
قال النووي: وهذا التفصيل الذي ذكره الإمام والغزالي تفصيل حسن وهو الراجح وعن الإمام أحمد رحمه الله في هذه المسألة روايتان أيضا.
63

قال ابن قدامة في المغني: وفي الشبع روايتان.
أظهرهما: لا يباح وهو قول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك وأحد القولين للشافعي.
قال الحسن: يأكل قدر ما يقيمه؛ لأن الآية دلت على تحريم الميتة واستثني ما اضطر إليه فإذا اندفعت الضرورة فلم يحل له الأكل كحالة الابتداء. ولأنه بعد سد الرمفق
غير مضطر فلم يحل له الأكل للآية. يحققه: أنه بعد سد رمقه كهو قبل أن يضطر وثم لم يبح له الأكل كذا هاهنا.
والثانية: يباح له الشبع. اختارها أبو بكر؛ لما روى جابر بن سمرة أن رجلا نزل الحرة فنفقت عنده ناقة فقالت له امرأته: أسلخها حتى نقدد شحمها ولحمها ونأكله. فقال حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: هل عندك غنى يغنيك؟ قال: لا. قال: فكلوها ولم يفرق رواه أبو داود.
ويدل له أيضا حديث الفجيع العامري عنده: أن النبي أذن له في الميتة مع أنه يغتبق ويصطبح فدل على أخذ النفس حاجتها من القوت منها؛ ولأن ما جاز سد الرمق منه جاز الشبع منه كالمباح ويحتمل أن يفرق بين ما إذا كانت الضرورة مستمرة وبين ما إذا كانت مرجوة الزوال فما كانت مستمرة كحالة الأعرابي الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جاز الشبع؛ لأنه إذا اقتصر على سد الرمق عادت الضرورة إليه عن قرب ولا يتمكن من البعد عن الميتة مخافة الضرورة المستقبلة ويفضي إلى ضعف بدنه وربما أدى ذلك إلى تلفه بخلاف التي ليست مستمرة فإنه يرجو الغنى عنها بما يحل والله أعلم. انتهى من المعنى بلفظه.
وقال إمام الحرمين: وليس معنى الشبع أن يمتلئ حتى لا يجد مساغا ولكن إذا انكسرت سورة الجوع بحيث لا ينطلق عليه اسم جائع أمسك. اه. قاله النووي.
المسألة الثانية: حد الاضطرار المبيح لأكل الميتة وهو الخوف من الهلاك علما أو ظنا.
قال الزرقاني في شرح قول مالك في الموطأ فيمن يضطر إلى أكل الميتة اه. وحد الاضطرار أن يخاف على نفسه الهلاك علما أو ظنا ولا يشترط أن يصير إلى حال يشرف معها على الموت فإن الأكل عند ذلك لا يفيد
64

.
وقال النووي في شرح المهذب: الثانية في حد الضرورة.
قال أصحابنا: لا خلاف أن الجوع القوي لا يكفي لتناول الميتة ونحوها قالوا ولا خلاف أنه لا يجب الامتناع إلى الإشراف على الهلاك؛ فإن الأكل حينئذ لا ينفع ولو انتهى إلى تلك الحال لم يحل له أكلها؛ لأنه غير مفيد واتفقوا على جواز الأكل إذا خاف على نفسه لو لم يأكل من جوع أو ضعف عن المشي أو عن الركوب وينقطع عن رفقته ويضيع ونحو ذلك.
فلو خاف حدوث مرض مخوف في جنسه فهو كخوف الموت وإن خاف طول المرض فكذلك في أصح الوجهين وقيل: إنهما قولان ولو عيل صبره وأجهده الجوع فهل يحل له الميتة ونحوها أم لا يحل حتى يصل إلى أدنى الرمق؟ فيه قولان ذكرهما البغوي وغيره أصحهما: الحل.
قال إمام الحرمين وغيره: ولا يشترط فيما يخافه تيقن وقوعه لو لم يأكل بل يكفي غلبة الظن. انتهى منه بلفظه.
وقال ابن قدامة في المغني: إذا ثبت هذا فإن الضرورة المبيحة هي التي يخاف التلف بها إن ترك الأكل قال أحمد: إذا كان يخشى على نفسه سواء كان من الجوع أو يخاف إن ترك الأكل عجز عن المشي وانقطع عن الرفقة فهلك أو يعجز عن الركوب فيهلك ولا يتقيد ذلك بزمن محصور.
وحد الاضطرار عند الحنفية هو أن يخاف الهلاك على نفسه أو على عضو من أعضائه يقينا كان أو ظنا والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: هل يجب الأكل من الميتة ونحوها إن خاف الهلاك أو يباح من غير وجوب؟ اختلف العلماء في ذلك وأظهر القولين الوجوب؛ لقوله تعالى: * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * وقوله: * (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) *.
ومن هنا قال جمع من أهل الأصول: إن الرخصة قد تكون واجبة كأكل الميتة عند خوف الهلاك لو لم يأكل منها وهو الصحيح من مذهب مالك وهو أحد الوجهين للشافعية وهو أحد الوجهين عند الحنابلة أيضا وهو اختيار ابن حامد وهذا هو مذهب أبي حنيفة رحمهم الله وقال مسروق: من اضطر إلى أكل الميتة والدم ولحم
65

الخنزير فلم يأكل حتى مات دخل النار إلا أن يعفو الله عنه.
وقال أبو الحسن الطبري المعروف بالكيا: وليس أكل الميتة عند الضرورة رخصة بل هو عزيمة واجبة ولو امتنع من أكل الميتة كان عاصيا نقله القرطبي وغيره.
وممن اختار عدم الوجوب ولو أدى عدم الأكل إلى الهلاك أبو إسحاق من الشافعية وأبو يوسف صاحب أبي حنيفة رحمهم الله وغيرهم واحتجوا بأن له غرضا صحيحا في تركه وهو اجتناب النجاسة والأخذ بالعزيمة.
وقال ابن قدامة في المغني في وجه كل واحد من القولين ما نصه: وهل يجب الأكل من الميتة على المضطر فيه وجهان:
أحدهما: يجب وهو قول مسروق وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي.
قال الأثرم: سئل أبو عبد الله عن المضطر يجد الميتة ولم يأكل فذكر قول مسروق: من اضطر فلم يأكل ولم يشرب دخل النار. وهذا اختيار ابن حامد وذلك لقول الله تعالى: * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * وترك الأكل مع إمكانه في هذا الحال إلقاء بيده إلى التهلكة وقال الله تعالى: * (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) *؛ ولأنه قادر على إحياء نفسه بما أحله الله فلزمه كما لو كان معه طعام حلال.
والثاني: لا يلزمه؛ لما روى عن عبد الله بن حذافة السهمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن طاغية الروم حبسه في بيت وجعل معه خمرا ممزوجا بماء ولحم خنزير مشوي ثلاثة أيام فلم يأكل ولم يشرب حتى مال رأسه من الجوع والعطش وخشوا موته فأخرجوه فقال: قد كان الله أحله لي؛ لأني مضطر ولكن لم أكن لأشمتك بدين الإسلام؛ ولأن إباحة الأكل رخصة فلا تجب عليه كسائر الرخص؛ ولأن له غرضا في اجتناب النجاسة والأخذ بالعزيمة وربما لم تطب نفسه بتناول الميتة وفارق الحلال في الأصل من هذه الوجوه.
وقد قدمنا أن أظهر القولين دليلا وجوب تناول ما يمسك الحياة؛ لأن الإنسان لا يجوز له إهلاك نفسه والعلم عند الله تعالى.
المسألة الرابعة: هل يقدم المضطر الميتة أو مال الغير؟
66

اختلف العلماء في ذلك: فذهب مالك إلى أنه يقدم مال الغير إن لم يخف أن يجعل سارقا ويحكم عليه بالقطع. ففي موطئه ما نصه: وسئل مالك عن الرجل يضطر إلى الميتة أيأكل منها وهو يجد ثمرا لقوم أو زرعا أو غنما بمكانه ذلك؟.
قال مالك: إن ظن أن أهل ذلك الثمر أو الزرع أو الغنم يصدقونه بضرورته حتى لا يعد سارقا فتقطع يده رأيت أن يأكل من أي ذلك وجد ما يرد جوعه ولا يحمل منه شيئا وذلك أحب إلي من أن يأكل الميتة.
وإن هو خشي ألا يصدقوه وأن يعد سارقا بما أصاب من ذلك؛ فإن أكل الميتة خير له عندي وله في أكل الميتة على هذا الوجه سعة مع أني أخاف أن يعدو عاد ممن لم يضطر إلى الميتة يريد استجازة أموال الناس وزروعهم وثمارهم بذلك بدون اضطرار.
قال مالك: وهذا أحسن ما سمعت. اه.
وقال ابن حبيب: إن حضر صاحب المال فحق عليه أن يأذن له في الأكل؛ فإن منعه فجائز للذي خاف الموت أن يقاتله حتى يصل إلى أكل ما يرد نفسه.
الباجي: يريد أنه يدعوه أولا إلى أن يبيعه بثمن في ذمته فإن أبى استطعمه فإن أبى أعلمه أنه يقاتله عليه.
وقال خليل بن إسحاق المالكي في مختصره الذي قال فيه مبينا لما به الفتوى عاطفا على ما يقدم المضطر على الميتة وطعام غير إن لم يخف القطع وقاتل عليه. هذا هو حاصل المذهب المالكي في هذه المسألة.
ومذهب الشافعي فيها: هو ما ذكره النووي في شرح المهذب بقوله: المسألة الثامنة: إذا وجد المضطر ميتة وطعام الغير وهو غائب فثلاثة أوجه. وقيل ثلاثة أقوال: أصحها يجب أكل الميتة والثاني يجب أكل الطعام والثالث يتخير بينهما.
وأشار إمام الحرمين إلى أن هذا الخلاف مأخوذ من الخلاف في اجتماع حق الله تعالى وحق الآدمي ولو كان صاحب الطعام حاضرا فإن بذله بلا عوض أو بثمن مثله أو بزيادة يتغابن الناس بمثلها ومعه ثمنه أو رضي بذمته لزمه القبول ولم يجز أكل الميتة فإن لم يبعه إلا بزيادة كثيرة فالمذهب والذي قطع به العراقيون والطبريون وغيرهم: أنه لا يلزمه شراؤه ولكن يستحب وإذا لم يلزمه الشراء فهو كما إذا لم يبذله أصلا وإذا لم
67

يبذله لم يقاتله عليه المضطر إن خاف من المقاتلة على نفسه أو خاف هلاك المالك في المقاتلة بل يعدل إلى الميتة وإن كان لا يخاف؛ لضعف المالك وسهولة دفعه فهو على الخلاف المذكور فيما إذا كان غائبا هذا كله تفريع على المذهب الصحيح.
وقال البغوي: يشتريه بالثمن الغالي ولا يأكل الميتة ثم يجئ الخلاف السابق في أنه يلزمه المسمى أو ثمن المثل قال وإذا لم يبذل أصلا وقلنا طعام الغير أولى من الميتة يجوز أن يقاتله ويأخذه قهرا والله أعلم.
حاصل مذهب الإمام أحمد في هذه المسألة أنه يقدم الميتة على طعام الغير.
قال الخرقي في مختصره: ومن اضطر فأصاب الميتة وخبزا لا يعرف مالكه أكل الميتة. اه.
وقال ابن قدامة في المغني في شرحه لهذا الكلام ما نصه: وبهذا قال سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم.
وقال مالك: إن كانوا يصدقونه أنه مضطر أكل من الزرع والثمر وشرب اللبن وإن خاف أن تقطع يده أو لا يقبل منه أكل الميتة ولأصحاب الشافعي وجهان:
أحدهما: يأكل الطعام وهو قول عبد الله بن دينار؛ لأنه قادر على الطعام الحلال فلم يجز له أكل الميتة كما لو بذله له صاحبه.
ولنا أن أكل الميتة منصوص عليه ومال الآدمي مجتهد فيه والعدول إلى المنصوص عليه أولى؛ ولأن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة والمساهلة وحقوق الآدمي مبنية على الشح والتضييق؛ ولأن حق الآدمي تلزمه غرامته وحق الله لا عوض له.
المسألة الخامسة: إذا كان المضطر إلى الميتة محرما وأمكنه الصيد فهل يقدم الميتة أو الصيد؟.
اختلف العلماء في ذلك فذهب مالك وأبو حنيفة رحمهم الله والشافعي في أصح القولين: إلى أنه يقدم الميتة.
وعن الشافعي رحمه الله تعالى قول بتقديم الصيد وهو مبني على القول: بأن المحرم إن ذكى صيدا لم يكن ميتة.
68

والصحيح أن ذكاة المحرم للصيد لغو ويكون ميتة والميتة أخف من الصيد للمحرم؛ لأنه يشاركها في اسم الميتة ويزيد بحرمة الاصطياد وحرمة القتل وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان إن شاء الله في سورة المائدة.
وممن قال بتقديم الصيد للمحرم على الميتة أبو يوسف والحسن والشعبي واحتجوا بأن الصيد يجوز للمحرم عند الضرورة ومع جوازه والقدرة عليه تنتفي الضرورة فلا تحل الميتة.
واحتج الجمهور بأن حل أكل الميتة عند الضرورة منصوص عليه وإباحة الصيد للضرورة مجتهد فيها والمنصوص عليه أولى فإن لم يجد المضطر إلا صيدا وهو محرم فله ذبحه وأكله وله الشبع منه على التحقيق لأنه بالضرورة وعدم وجود غيره صار مذكى ذكاة شرعية طاهرا حلالا فليس بميتة ولذا تجب ذكاته الشرعية ولا يجوز قتله والأكل منه بغير ذكاة.
ولو وجد المضطر ميتة ولحم خنزير أو لحم إنسان ميت فالظاهر تقديم الميتة على الخنزير ولحم الآدمي.
قال الباجي: إن وجد المضطر ميتة وخنزيرا فالأظهر عندي أن يأكل الميتة؛ لأن الخنزير ميتة ولا يباح بوجه وكذلك يقدم الصيد على الخنزير والإنسان على الظاهر ولم يجز عند المالكية أكل الإنسان للضرورة مطلقا وقتل الإنسان الحي المعصوم الدم لأكله عند الضرورة حرام إجماعا سواء كان مسلما أو ذميا. وإن وجد إنسان معصوم ميتا فهل يجوز لحمه عند الضرورة أو لا يجوز؟ منعه المالكية والحنابلة وأجازه الشافعية وبعض الحنفية.
واحتج الحنابلة لمنعه لحديث: كسر عظم الميت ككسر عظم الحي واختار أبو الخطاب منهم جواز أكله وقال لا حجة في الحديث هاهنا؛ لأن الأكل من اللحم لا من العظم والمراد بالحديث التشبيه في أصل الحرمة لا في مقدارها بدليل اختلافهما في الضمان والقصاص ووجوب صيانة الحي بما لا يجب به صيانة الميت قاله في المغني.
ولو وجد المضطر ءادميا غير معصوم كالحربي والمرتد فله قتله والأكل منه عند الشافعية وبه قال القاضي من الحنابلة واحتجوا بأنه لا حرمة له فهو بمنزلة السباع. والله
69

تعالى أعلم.
المسألة السادسة: هل يجوز للمضطر أن يدفع ضرورته بشرب الخمر؟ فيه للعلماء أربعة أقوال:
الأول: المنع مطلقا.
الثاني: الإباحة مطلقا.
الثالث: الإباحة في حالة الاضطرار إلى التداوي بها دون العطش.
الرابع: عكسه.
وأصح هذه الأقوال عند الشافعية المنع مطلقا.
قال مقيده عفا الله عنه الظاهر إن التداوي بالخمر لا يجوز؛ لما رواه مسلم في صحيحه من حديث وائل بن حجر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله طارق بن سويد الجعفي عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها فقال: إنما أصنعها للدواء فقال: إنه ليس بدواء ولكنه داء. والظاهر إباحتها؛ لإساغة غصة خيف بها الهلاك؛ وعليه جل أهل العلم والفرق بين إساغة الغصة وبين شربها للجوع أو العطش أن إزالتها للغصة معلومة وأنها لا يتيقن إزالتها للجوع أو العطش.
قال الباجي: وهل لمن يجوز له أكل الميتة أن يشرب لجوعه أو عطشه الخمر؟ قال مالك لا يشربها ولن تزيده إلا عطشا.
وقال ابن القاسم: يشرب المضطر الدم ولا يشرب الخمر ويأكل الميتة ولا يقرب ضوال الإبل وقاله ابن وهب.
وقال ابن حبيب: من غص بطعام وخاف على نفسه فإن له أن يجوزه بالخمر وقاله أبو الفرج.
أما التداوي بها فمشهور المذهب أنه لا يحل:
وإذا قلنا: إنه لا يجوز التداوي بها ويجوز استعمالها لإساغة الغصة فالفرق أن التداوي بها لا يتيقن به البرء من الجوع والعطش. اه. بنقل المواق في شرح قول خليل وخمر لغصة وما نقلنا عن مالك من أن الخمر لا تزيد إلا عطشا نقل نحوه النووي عن الشافعي قال: وقد نقل الروياني أن الشافعي رحمه الله نص على المنع من شربها
70

للعطش؛ معللا بأنها تجيع وتعطش.
وقال القاضي أبو الطيب: سألت من يعرف ذلك فقال الأمر كما قال الشافعي: إنها تروي في الحال ثم تثير عطشا عظيما.
وقال القاضي حسين في تعليقه: قالت الأطباء الخمر تزيد في العطش وأهل الشرب يحرصون على الماء البارد فجعل بما ذكرناه أنها لا تنفع في دفع العطش.
وحصل بالحديث الصحيح السابق في هذه المسألة أنها لا تنفع في الدواء فثبت تحريمها مطلقا والله تعالى أعلم. اه من شرح المهذب.
وبه تعلم أن ما اختاره الغزالي وإمام الحرمين من الشافعية والأبهري من المالكية من جوازها للعطش خلاف الصواب وما ذكره إمام الحرمين والأبهري من أنها تنفع في العطش خلاف الصواب أيضا والعلم عند الله تعالى.
ومن مر ببستان لغيره فيه ثمار وزرع أو بماشية فيها لبن فإن كان مضطرا اضطرارا يبيح الميتة فله الأكل بقدر ما يرد جوعه إجماعا ولا يجوز له حمل شئ منه وإن كان غير مضطر فقد اختلف العلماء في جواز أكله منه.
فقيل: له أن يأكل في بطنه من غير أن يحمل منه شيئا وقيل ليس له ذلك وقيل: بالفرق بين المحوط عليه فيمنع وبين غيره فيجوز وحجة من قال بالمنع مطلقا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عموم قوله: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا وعموم قوله تعالى: * (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) * ونحو ذلك من الأدلة.
وحجة من قال بالإباحة مطلقا ما أخرجه أبو داود عن الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن فليحتلب وليشرب وإن لم يكن فيها فليصوت ثلاثا فإن أجاب فليستأذنه فإن أذن له وإلا فليحتلب وليشرب ولا يحمل اه.
وما رواه الترمذي عن يحيى بن سليم عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من دخل حائطا فليأكل ولا يتخذ خبنة قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سليم. وما رواه الترمذي أيضا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق فقال: من أصاب منه من ذي
71

حاجة غير متخذ خبنة فلا شئ عليه قال: فيه حديث حسن.
وما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إذا مر أحدكم بحائط فليأكل منه ولا يتخذ ثبانا.
قال أبو عبيد: قال أبو عمرو هو يحمل الوعاء الذي يحمل فيه الشئ فإن حملته بين يديك فهو ثبان يقال قد تثبنت ثبانا فإن حملته على ظهرك فهو الحال يقال منه قد تحولت كسائي إذا جعلت فيه شيئا ثم حملته على ظهرك فإن جعلته في حضنك فهو خبنة ومنه حديث عمرو بن شعيب المرفوع: ولا يتخذ خبنة يقال فيه خبنت أخبن خبنا قاله القرطبي.
وما روي عن أبي زينب التيمي قال: سافرت مع أنس بن مالك وعبد الرحمان بن سمرة وأبي بردة فكانوا يمرون بالثمار فيأكلون بأفواههم نقله صاحب المغني) وحمل أهل القول الأول هذه الأحاديث والآثار على حال الضرورة ويؤيده ما أخرجه ابن ماجة بإسناد صحيح عن عباد بن شرحبيل اليشكري الغبري رضي الله عنه قال: أصابتنا عاما مخمصة فأتيت المدينة فأتيت حائطا من حيطانها فأخذت سنبلا ففركته وأكلته وجعلته في كسائي فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: ما أطعمته إذ كان جائعا أو ساغبا ولا علمته إذ كان جاهلا فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فرد إليه ثوبه وأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق فإن في هذا الحديث الدلالة على أن نفي القطع والأدب إنما هو من أجل المخمصة.
وقال القرطبي في تفسيره عقب نقله لما قدمنا عن عمر رضي الله عنه قال أبو عبيد: وإنما يوجه هذا الحديث أنه رخص فيه للجائع المضطر الذي لا شئ معه يشتري به ألا يحمل إلا ما كان في بطنه قدر قوته ثم قال: قلت: لأن الأصل المتفق عليه تحريم مال الغير إلا بطيب نفس منه.
فإن كانت هناك عادة بعمل ذلك كما كان في أول الإسلام أو كما هو الآن في بعض البلدان فذلك جائز. ويحمل ذلك على أوقات المجاعة والضرورة كما تقدم والله أعلم. اه منه.
وحجة من قال بالفرق بين المحوط وبين غيره أن إحرازه بالحائط دليل على شح
72

صاحبه به وعدم مسامحته فيه وقول ابن عباس إن كان عليها حائط فهو حرام فلا تأكل وإن لم يكن عليها حائط فلا بأس نقله صاحب المغني وغيره. وما ذكره بعض أهل العلم من الفرق بين مال المسلم فيجوز عند الضرورة وبين مال الكتابي (الذمي) فلا يجوز بحال غير ظاهر.
ويجب حمل حديث العرباض بن سارية عند أبي داود الوارد في المنع من دخول بيوت أهل الكتاب ومنع الأكل من ثمارهم إلا بإذن على عدم الضرورة الملجئة إلى أكل الميتة والعلم عند الله تعالى. * (قوله تعالى وءاتى المال على حبه الآية لم يبين هنا هل هذا المصدر مضاف إلى فاعله فيكون الضمير عائدا إلى * (من أتى المال) * والمفعول محذوفا أو مضاف إلى مفعوله فيكون الضمير عائدا إلى المال ولكنه ذكر في موضع آخر ما يدل على أن المصدر مضاف إلى فاعله وأن المعنى * (على حبه) * أي حب مؤتي المال لذلك المال وهو قوله تعالى: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) *. ولا يخفى أن بين القولين تلازما في المعنى.
* (وحين البأس) * لم يبين هنا ما المراد بالبأس؟.
ولكنه أشار في موضع آخر إلى أن البأس القتال وهو قوله: * (قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا) *. كما هو ظاهر من سياق الكلام. * (قوله تعالى كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون * أساما معدودات قال بعض العلماء هي ثلاثة من كل شهر وعاشوراء.
وقال بعض العلماء هي رمضان وعلى هذا القول فقد بينها تعالى بقوله: * (شهر رمضان الآية قوله تعالى) *. * (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرءان لم يبين هنا هل أنزل في الليل منه أو النهار؟ ولكنه بين في غير هذا الموضع أنه أنزل في ليلة القدر من رمضان وذلك في قوله: * (إنا أنزلناه في ليلة القدر) * وقوله: * (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) *؛
73

لأن الليلة المباركة هي ليلة القدر على التحقيق وفي معنى إنزاله وجهان:
الأول: أنه أنزل فيها جملة إلى السماء الدنيا كما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما.
والثاني: أن معنى إنزاله فيها ابتداء نزوله كما قال به بعضهم. * (قوله تعالى إذ سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ذكر في هذه الآية أنه جل وعلا قريب يجيب دعوة الداعي وبين في آية أخرى تعليق ذلك على مشيئته جل وعلا وهي قوله: * (فيكشف ما تدعون إليه إن شاء) *.
وقال بعضهم التعليق بالمشيئة في دعاء الكفار كما هو ظاهر سياق الآية والوعد المطلق في دعاء المؤمنين. وعليه فدعاؤهم لا يرد إما أن يعطوا ما سألوا أو يدخر لهم خير منه أو يدفع عنهم من السوء بقدره.
وقال بعض العلماء: المراد بالدعاء العبادة وبالإجابة الثواب وعليه فلا إشكال. * (قوله تعالى حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود بينه قوله: * (من الفجر) * والعرب تسمى ضوء الصبح خيطا وظلام الليل المختلط به خيطا ومنه قول أبي دواد الإيادي: المتقارب فما أضاءت لنا سدفة
* ولاح من الصبح خيط أنارا
*
وقول الآخر: البسيط:
* الخيط الأبيض ضوء الصبح منفلق
* والخيط الأسود جنح الليل مكتوم
* * (قوله تعالى ولكن البر من اتقى لم يصرح هنا بالمراد بمن اتقى ولكنه بينه بقوله: * (ولاكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) * والكلام في الآية على حذف مضاف أي ولكن ذا البر من اتقى وقيل ولكن البر بر من اتقى ونظير الآية في ذلك من كلام العرب قول الخنساء: السيط:
74

* لا تسأم الدهر منه كلما ذكرت
* فإنما هي إقبال وإدبار
*
أي ذات إقبال وقول الشاعر: المتقارب:
* وكيف تواصل من أصبحت
* خلالته كأبي مرحب
*
أي كخلالة أبي مرحب. وقول الآخر: الطويل:
* لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى
* ولكنما الفتيان كل فتى ندى
*
أي ليس الفتيان فتيان نبات اللحى. * (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم فيه ثلاثة أوجه للعلماء:
الأول: أن المراد بالذين يقاتلونكم من شأنهم القتال أي دون غيرهم كالنساء والصبيان والشيوخ الفانية وأصحاب الصوامع.
الثاني: أنها منسوخة بآيات السيف الدالة على قتالهم مطلقا.
الثالث: أن المراد بالآية تهييج المسلمين وتحريضهم على قتال الكفار فكأنه يقول لهم: هؤلاء الذين أمرتكم بقتالهم هم خصومكم وأعداؤكم الذين يقاتلونكم وأظهرها الأول وعلى القول الثالث فالمعنى يبينه ويشهد له قوله تعالى: * (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) *. * (اختلف العلماء في المراد بالإحصار في هذه الآية الكريمة فقال قوم: هو صد العدو المحرم ومنعه إياه من الطواف بالبيت.
وقال قوم: المراد به حبس المحرم بسبب مرض ونحوه.
وقال قوم: المراد به ما يشمل الجميع من عدو ومرض ونحو ذلك.
ولكن قوله تعالى بعد هذا: * (فإذا أمنتم) * يشير إلى أن المراد بالإحصار هنا صد العدو المحرم؛ لأن الأمن إذا أطلق في لغة العرب انصرف إلى الأمن من الخوف لا إلى الشفاء من المرض ونحو ذلك ويؤيده أنه لم يذكر الشئ الذي منه الأمن فدل على أن المراد به ما تقدم من الإحصار فثبت أنه الخوف من العدو فما أجاب به بعض العلماء من أن الأمن يطلق على الأمن من المرض كما في حديث من
75

سبق العاطس بالحمد أمن من الشوص واللوص والعلوص أخرجه ابن ماجة في سننه فهو ظاهر السقوط لأن الأمن فيه مقيد بكونه من المرض فلو أطلق لانصرف إلى الأمن من الخوف. وقد يجاب أيضا بأنه يخاف وقوع المذكور من الشوص الذي هو وجع السن واللوص الذي هو وجه الأذن والعلوص الذي هو وجع البطن؛ لأنه قبل وقوعها به يطلق عليه أنه خائف من وقوعها؛ فإذا أمن من وقوعها به فقد أمن من خوف.
أما لو كانت وقعت به بالفعل فلا يحسن أن يقال أمن منها؛ لأن الخوف في لغة العرب هو الغم من أمر مستقبل لا واقع بالفعل فدل هذا على أن زعم إمكان إطلاق الأمن على الشفاء من المرض خلاف الظاهر. وحاصل تحرير هذه المسألة في مبحثين:
الأول: في معنى الإحصار في اللغة العربية.
الثاني: في تحقيق المراد به في الآية الكريمة وأقوال العلماء وأدلتها في ذلك ونحن نبين ذلك كله إن شاء الله تعالى.
اعلم أن أكثر علماء العربية يقولون: إن الإحصار هو ما كان عن مرض أو نحوه قالوا: تقول العرب: أحصره المرض يحصره بضم الياء وكسر الصاد إحصارا وأما ما كان من العدو فهو الحصر تقول العرب حصر العدو يحصره بفتح الياء وضم الصاد حصرا بفتح فسكون ومن إطلاق الحصر في القرءان على ما كان من العدو قوله تعالى: * (وخذوهم واحصروهم) * ومن إطلاق الإحصار على غير العدو كما ذكرنا عن علماء العربية ا قوله تعالى.
* (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله) *. وقول ابن ميادة: * (الطويل:
* وما هجر ليلى أن تكون تباعدت
* عليك ولا أن أحصرتك شغول
*
وعكس بعض علماء العربية. فقال: الإحصار من العدو والحصر من المرض قاله ابن فارس في المجمل نقله عنه القرطبي. ونقل البغوي نحوه عن ثعلب.
وقال جماعة من علماء العربية: إن الإحصار يستعمل في الجميع وكذلك الحصر وممن قال باستعمال الإحصار في الجميع الفراء وممن قال: بأن الحصر
76

والإحصار يستعملان في الجميع أبو نصر القشيري.
قال مقيده عفا الله عنه لا شك في جواز إطلاق الإحصار على ما كان من العدو كما سترى تحقيقه إن شاء الله هذا حاصل كلام أهل العربية في معنى الإحصار. وأما المراد به في الآية الكريمة فقد اختلف فيه العلماء على ثلاثة أقوال:
الأول: أن المراد به حصر العدو خاصة دون المرض ونحوه وهذا قول ابن عباس وابن عمر وأنس وابن الزبير وهو قول سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير رضي الله عنهم وبه قال مروان وإسحاق وهو الرواية المشهورة الصحيحة عن أحمد بن حنبل وهو مذهب مالك والشافعي رحمهم الله.
وعلى هذا القول أن المراد بالإحصار ما كان من العدو خاصة فمن أحصر بمرض ونحوه لا يجوز له التحلل حتى يبرأ من مرضه ويطوف بالبيت ويسعى فيكون متحللا بعمرة وحجة هذا القول متركبة من أمرين:
الأول: أن الآية الكريمة التي هي قوله تعالى: * (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى) * نزلت في صد المشركين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم محرمون بعمرة عام الحديبية عام ست بإطباق العلماء.
وقد تقرر في الأصول أن صورة سبب النزول قطعية الدخول فلا يمكن إخراجها بمخصص فشمول الآية الكريمة لإحصار العدو الذي هو سبب نزولها قطعي فلا يمكن إخراجه من الآية بوجه؛ وروي عن مالك رحمه الله أن صورة سبب النزول ظنية الدخول لا قطعيته وهو خلاف قول الجمهور وإليه أشار في مراقي السعود بقوله: الرجز:
* واجزم بإدخال ذوات السبب
* وارو عن الإمام ظنا تصب
*
وبهذا تعلم أن إطلاق الإحصار بصيغة الرباعي على ما كان من عدو صحيح في اللغة العربية بلا شك كما ترى وأنه نزل به القرءان العظيم الذي هو في أعلى درجات الفصاحة والإعجاز.
الأمر الثاني: ما ورد من الآثار في أن المحصر بمرض ونحوه لا يتحلل إلا بالطواف والسعي فمن ذلك ما رواه الشافعي في مسنده والبيهقي عن ابن عباس أنه قال: لا حصر إلا حصر العدو.
77

قال النووي في شرح المهذب: إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم وصححه أيضا ابن حجر ومن ذلك ما رواه البخاري والنسائي عن ابن عمر أنه كان يقول: أليس حسبكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت وبالصفا والمروة ثم يحل من كل شئ حتى يحج عاما قابلا فيهدي أو يصوم إن لم يجد هديا ومن ذلك ما رواه مالك في الموطأ والبيهقي عن ابن عمر أنه قال: المحصر بمرض لا يحل حتى يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة فإذا اضطر إلى لبس شئ من الثياب التي لا بد له منها أو الدواء صنع ذلك وافتدى ومن ذلك ما رواه مالك في الموطأ. والبيهقي أيضا عن أيوب السختياني عن رجل من أهل البصرة كان قديما أنه قال: خرجت إلى مكة حتى إذا كنت ببعض الطريق كسرت فخذي فأرسلت إلى مكة وبها عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر والناس فلم يرخص لي أحد أن أحل فأقمت على ذلك الماء سبعة أشهر حتى أحللت بعمرة. والرجل البصري المذكور الذي أبهمه مالك. قال ابن عبد البر: هو أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي شيخ أيوب ومعلمه كما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة ورواه ابن جرير من طرق وسمى الرجل يزيد بن عبد الله بن الشخير.
ومن ذلك ما رواه مالك في الموطأ والبيهقي أيضا عن سليمان بن يسار: أن سعيد بن حزابة المخزومي صرع ببعض طريق مكة وهو محرم فسأل على الماء الذي كان عليه عن العلماء فوجد عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم فذكر لهم الذي عرض له فكلهم أمره أن يتداوى بما لا بد له منه ويفتدي فإذا صح اعتمر فحل من إحرامه ثم عليه حج قابل ويهدي ما استيسر من الهدي.
قال مالك: وعلى هذا الأمر عندنا فيمن أحصر بغير عدو وقد أمر عمر بن الخطاب أبا أيوب الأنصاري وهبار بن الأسود حين فاتهما الحج وأتيا يوم النحر أن يحلا بعمرة ثم يرجعا حلالا ثم يحجان عاما قابلا ويهديان فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.
ومن ذلك ما رواه مالك في الموطأ والبيهقي أيضا عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: المحرم لا يحله إلا البيت والظاهر أنها تعني غير المحصر بعدو كما جزم به الزرقاني في شرح الموطأ هذا هو حاصل أدلة القول بأن المراد بالإحصار في الآية هو ما كان من خصوص العدو دون ما كان من مرض ونحوه
78

.
القول الثاني: في المراد بالإحصار أنه يشمل ما كان من عدو ونحوه وما كان من مرض ونحوه من جميع العوائق المانعة من الوصول إلى الحرم. وممن قال بهذا القول
ابن مسعود ومجاهد وعطاء وقتادة وعروة بن الزبير وإبراهيم النخعي وعلقمة والثوري والحسن وأبو ثور وداود وهو مذهب أبي حنيفة. وحجة هذا القول من جهة شموله لإحصار العدو قد تقدمت في حجة الذي قبله.
وأما من جهة شموله للإحصار بمرض فهي ما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة وابن خزيمة والحاكم والبيهقي عن عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا: صدق.
وفي رواية لأبي داود وابن ماجة: من عرج أو كسر أو مرض فذكر معناه.
وفي رواية ذكرها أحمد في رواية المروزي: من حبس بكسر أو مرض هذا الحديث سكت عليه أبو داود والمنذري وحسنه الترمذي.
وقال النووي في شرح المهذب بعد أن ساق حديث عكرمة هذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي وغيرهم بأسانيد صحيحة وبهذا تعلم قوة حجة أهل هذا القول ورد المخالفون الاحتجاج بحديث عكرمة هذا من وجهين:
الأول: ما ذكره البيهقي في السنن الكبرى قال: وقد حمله بعض أهل العلم إن صح على أنه يحل بعد فواته بما يحل به من يفوته الحج بغير مرض. فقد روينا عن ابن عباس ثابتا عنه قال: لا حصر إلا حصر عدو والله أعلم. انتهى منه بلفظه.
الوجه الثاني: هو حمل حله المذكور في الحديث على ما إذا اشترط في إحرامه أنه يحل حيث حبسه الله بالعذر والتحقيق: جواز الاشتراط في الحج بأن يحرم ويشترط أن محله حيث حبسه الله ولا عبرة بقول من منع الاشتراط؛ لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فقد أخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير. فقال لها: لعلك أردت الحج؟ قالت: والله ما أجدني إلا وجعة. فقال لها: حجي واشترطي وقولي: اللهم محلي حيث حبستني. وكانت تحت المقداد بن الأسود.
79

وقد أخرج مسلم في صحيحه وأحمد وأصحاب السنن الأربعة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن ضباعة بنت الزبير قالت: يا رسول الله إني امرأة ثقيلة وإني أريد الحج فكيف تأمرني أأهل؟ قال: أهلي واشترطي أن محلي حيث حبستني قال: فأدركت.
وللنسائي في رواية: وقال: فإن لك على ربك ما استثنيت.
القول الثالث: في المراد بالإحصار أنه ما كان من المرض ونحوه خاصة دون ما كان من العدو.
وقد قدمنا أنه المنقول عن أكثر أهل اللغة وإنما جاز التحلل من إحصار العدو عند من قال بهذا القول؛ لأنه من إلغاء الفارق وأخذ حكم المسكوت عنه من المنطوق به فإحصار العدو عندهم ملحق بإحصار المرض بنفي الفارق.
ولا يخفى سقوط هذا القول لما قدمنا من أن الآية الكريمة نزلت في إحصار العدو عام الحديبية وأن صورة سبب النزول قطعية الدخول كما عليه الجمهور وهو الحق.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لنا رجحانه بالدليل من الأقوال المذكورة هو ما ذهب إليه مالك والشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه أن المراد بالإحصار في الآية إحصار العدو وأن من أصابه مرض أو نحوه لا يحل إلا بعمرة؛ لأن هذا هو الذي نزلت فيه الآية ودل عليه قوله تعالى: * (فإذا أمنتم) *.
ولا سيما على قول من قال من العلماء: إن الرخصة لا تتعدى محلها وهو قول جماعة من أهل العلم.
وأما حديث عكرمة الذي رواه عن الحجاج بن عمرو وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم فلا تنهض به حجة؛ لتعين حمله على ما إذا اشترط ذلك عند الإحرام؛ بدليل ما قدمنا من حديث عائشة عند الشيخين وحديث ابن عباس عند مسلم وأصحاب السنن وغيرهم من أنه صلى الله عليه وسلم قال لضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب: حجي واشترطي ولو كان التحلل جائزا دون شرط كما يفهم من حديث الحجاج بن عمرو لما كان للاشتراط فائدة وحديث عائشة وابن عباس بالاشتراط أصح من حديث عكرمة عن الحجاج بن عمرو والجمع بين الأدلة واجب إذا أمكن وإليه أشار في مراقي السعود
80

بقوله: الرجز:
* والجمع واجب متى ما أمكنا
* إلا فللأخير نسخ بينا
*
وهو ممكن في الحديثين بحمل حديث الحجاج بن عمرو على ما إذا اشترط ذلك في الإحرام فيتفق مع الحديثين الثابتين في الصحيح فإن قيل: يمكن الجمع بين الأحاديث بغير هذا وهو حمل أحاديث الاشتراط على أنه يحل من غير أن تلزمه حجة أخرى وحمل حديث عكرمة عن الحجاج بن عمرو وغيره على أنه يحل وعليه حجة أخرى ويدل لهذا الجمع أن أحاديث الاشتراط ليس فيها ذكر حجة أخرى.
وحديث الحجاج بن عمرو قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: فقد حل وعليه حجة أخرى.
فالجواب أن وجوب البدل بحجة أخرى أو عمرة أخرى لو كان يلزم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يقضوا عمرتهم التي صدهم عنها المشركون.
قال البخاري في صحيحه في باب من قال ليس على المحصر بدل ما نصه: وقال مالك وغيره ينحر هديه ويحلق في أي موضع كان ولا قضاء عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية نحروا وحلقوا وحلوا من كل شئ قبل الطواف وقبل أن يصل الهدي إلى البيت ثم لم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أحدا أن يقضوا
شيئا ولا يعودوا له والحديبية خارج من الحرم. انتهى منه بلفظه.
وقد قال مالك في الموطأ إنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حل هو وأصحابه بالحديبية فنحروا الهدي وحلقوا رؤوسهم وحلوا من كل شئ قبل أن يطوفوا بالبيت وقبل أن يصل إليه الهدي ثم لم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا ولا يعودوا لشئ. انتهى بلفظه من (الموطأ). ولا يعارض ما ذكرنا بما رواه الواقدي في المغازي من طريق الزهري ومن طريق أبي معشر وغيرهما قالوا: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يعتمروا فلم يتخلف منهم إلا من قتل بخيبر أو مات وخرج معه جماعة معتمرين ممن لم يشهدوا الحديبية وكانت عدتهم ألفين؛ لأن الشافعي رحمه الله قال: والذي أعقله في أخبار أهل المغازي شبيه بما ذكرت؛ لأنا علمنا من متواطىء أحاديثهم أنه كان معه عام الحديبية رجال معروفون ثم اعتمر عمرة القضية فتخلف بعضهم بالمدينة من غير ضرورة في نفس ولا مال اه
فهذا الشافعي رحمه الله جزم بأنهم تخلف منهم رجال معروفون من غير ضرورة في نفس ولا مال. وقد تقرر في الأصول أن المثبت مقدم على النافي.
81

وقال ابن حجر في الفتح: ويمكن الجمع بين هذا إن صح وبين الذي قبله بأن الأمر كان على طريق الاستحباب؛ لأن الشافعي جازم بأن جماعة تخلفوا بغير عذر.
وقال الشافعي في عمرة القضاء: إنما سميت عمرة القضاء والقضية للمقاضاة التي وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش لا على أنهم وجب عليهم قضاء تلك العمرة اه.
وروى الواقدي نحو هذا من حديث ابن عمر قاله ابن حجر.
وقال البخاري في صحيحه في الباب المذكور ما نصه: وقال روح عن شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما إنما البدل على من نقض حجه بالتلذذ فأما من حبسه عذر أو غير ذلك فإنه يحل ولا يرجع. انتهى محل الغرض منه بلفظه.
وقد ورد عن ابن عباس نحو هذا بإسناد آخر أخرجه ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عنه وفيه: فإن كانت حجة الإسلام فعليه قضاؤها وإن كانت غير الفريضة فلا قضاء عليه اه. فإذا علمت هذا وعلمت أن ابن عباس رضي الله عنهما ممن روي عنه عكرمة الحديث الذي روي عن الحجاج بن عمرو وأن راوي الحديث من أعلم الناس به ولا سيما إن كان ابن عباس الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه التأويل وهو مصرح بأن معنى قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الحجاج بن عمرو وعليه حجة أخرى محله فيما إذا كانت عليه حجة الإسلام تعلم أن الجمع الأول الذي ذكرنا هو المتعين واختاره النووي وغيره من علماء الشافعية وأن الجمع الأخير لا يصح؛ لتعين حمل الحجة المذكورة على حجة الإسلام اه.
وأما على قول من قال إنه لا إحصار إلا بالعدو خاصة وأن المحصر بمرض لا يحل حتى يبرأ ويطوف بالبيت وبالصفا والمروة ثم يحل من كل شئ حتى يحج عاما قابلا فيهدي أو يصوم إن لم يجد هديا كما ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عمر كما تقدم.
فهو من حيث أن المريض عندهم غير محصر فهو كمن أحرم وفاته وقوف عرفة يطوف ويسعى ويحج من قابل ويهدي أو يصوم إن لم يجد هديا اه.
وفي المسألة قول رابع: وهو أنه لا إحصار بعد النبي صلى الله عليه وسلم بعذر كائنا ما كان وهو ضعيف جدا ولا معول عليه عند العلماء؛ لأن حكم الإحصار منصوص عليه في
82

القرءان والسنة ولم يرد فيه نسخ فادعاء دفعه بلا دليل واضح السقوط كما ترى هذا هو خلاصة البحث في قوله تعالى: * (فإن أحصرتم) *.
وأما قوله: * (فما استيسر من الهدى) * فجمهور العلماء على أن المراد به شاة فما فوقها وهو مذهب الأئمة الأربعة وبه قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ورواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وبه قال طاوس وعطاء ومجاهد وأبو العالية ومحمد بن علي بن الحسين وعبد الرحمان بن القاسم والشعبي والنخعي والحسن وقتادة والضحاك ومقاتل بن حيان وغيرهم كما نقله عنهم ابن كثير وغيره.
وقال جماعة من أهل العلم: إن المراد بما استيسر من الهدي إنما هو الإبل والبقر دون الغنم وهذا القول مروي عن عائشة وابن عمر وسالم والقاسم وعروة بن الزبير وسعيد بن جبير وغيرهم.
قال ابن كثير: والظاهر أن مستند هؤلاء فيما ذهبوا إليه قصة الحديبية فإنه لم ينقل عن أحد منهم أنه ذبح في تحلله ذلك شاة وإنما ذبحوا الإبل والبقر.
ففي الصحيحين عن جابر قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بقرة.
قال مقيده عفا الله عنه: لا يخفى أن التحقيق في هذه المسألة: أن المراد بما استيسر من الهدي ما تيسر مما يسمى هديا وذلك شامل لجميع الأنعام: من إبل وبقر وغنم فإن تيسرت شاة أجزأت والناقة والبقرة أولى بالإجزاء.
وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: أهدى صلى الله عليه وسلم مرة غنما.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: إذا كان مع المحصر هدي لزمه نحره إجماعا وجمهور العلماء على أنه ينحره في المحل الذي حصر فيه حلا كان أو حرما وقد نحر صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه بالحديبية وجزم الشافعي وغيره بأن الموضع الذي نحروا فيه من الحديبية من الحل لا من الحرم واستدل لذلك بدليل واضح من القرءان وهو قوله تعالى: * (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدى معكوفا أن يبلغ محله) * فهو نص
83

صريح في أن ذلك الهدي لم يبلغ محله ولو كان في الحرم لكان بالغا محله وروى يعقوب بن سفيان من طريق مجمع بن يعقوب عن أبيه قال: لما حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحروا بالحديبية وبعث الله ريحا فحملت شعورهم فألقتها في الحرم وعقده أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي في غزوة الحديبية بقوله: الرجز:
* ونحروا وحلقوا وحملت
* شعورهم للبيت ريح قد غلت
*
قال ابن عبد البر في الاستذكار: فهذا يدل على أنهم نحروا في الحل وتعقبه ابن حجر في فتح الباري: بأنه يمكن أن يكونوا أرسلوا هديهم مع من ينحره في الحرم قال: وقد ورد في ذلك حديث ابن جندب ابن جندب الأسلمي قال: قلت: يا رسول الله ابعث معي الهدي حتى أنحره في الحرم. أخرجه النسائي من طريق إسرائيل عن مجزأة بن زاهر عن ناجية وأخرجه الطحاوي من وجه آخر عن إسرائيل لكن قال عن ناجية عن أبيه: لكن لا يلزم من وقوع هذا وجوبه بل ظاهر القصة أن أكثرهم نحر في مكانه وكانوا في الحل وذلك دال على الجواز والله أعلم انتهى كلام ابن حجر. وخالف في هذه المسألة أبو حنيفة رحمه الله الجمهور وقال: لا ينحر المحصر هديه إلا في الحرم فيلزمه أن يبعث به إلى الحرم فإذا بلغ الهدي محله حل وقال: إن الموضع الذي نحر فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الحديبية من طرف الحرم واستدل بقوله بعد هذه الآية: * (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله) * ورد هذا الاستدلال بما قدمنا من أنه نحر في الحل وأن القرءان دل على ذلك وأن قوله: * (ولا تحلقوا رءوسكم) * معطوف على قوله: * (وأتموا الحج والعمرة لله) * لا على قوله: * (فما استيسر من الهدى) * أو أن المراد بمحله المحل الذي يجوز نحره فيه وذلك بالنسبة إلى المحصر حيث أحصر ولو كان في الحل.
قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق في هذه المسألة هو التفصيل الذي ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهما وهو أنه إن استطاع إرسال الهدي إلى الحرم أرسله ولا يحل حتى يبلغ الهدي محله إذ لا وجه لنحر الهدي في الحل مع تيسر الحرم وإن كان لا يستطيع إرساله إلى الحرم نحره في المكان الذي أحصر فيه من الحل.
قال البخاري في (صحيحه) في باب من قال ليس على المحصر بدل ما نصه:
84

وقال روح عن شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: إنما البدل على من نقض حجه بالتلذذ فأما من حبسه عذر أو غير ذلك فإنه يحل ولا يرجع. وإن كان معه هدي وهو محصر نحره إن كان لا يستطيع أن يبعث به وإن استطاع أن يبعث به لم يحل حتى يبلغ الهدي محله اه محل الغرض منه بلفظه ولا ينبغي العدول عنه؛ لظهور وجهه كما ترى.
الفرع الثاني: إذا لم يكن مع المحصر هدي فهل عليه أن يشتري الهدي ولا يحل حتى يهدي أو له أن يحل بدون هدي؟ ذهب جمهور العلماء إلى أن الهدي واجب عليه لقوله تعالى: * (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى) * فلا يجوز له التحلل بدونه إن قدر عليه ووافق الجمهور أشهب من أصحاب مالك وخالف مالك وابن القاسم الجمهور في هذه المسألة فقالا لا هدي على المحصر إن لم يكن ساقه معه قبل الإحصار.
وحجة الجمهور واضحة وهي قوله تعالى: * (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى) * فتعليقه ما استيسر من الهدي على الإحصار تعليق الجزاء على شرطه يدل على لزوم الهدي بالإحصار لمن أراد التحلل به دلالة واضحة كما ترى فإن عجز المحصر عن الهدي فهل يلزمه بدل عنه أو لا؟.
قال بعض العلماء: لا بدل إن عجز عنه وممن قال لا بدل لهدي المحصر أبو حنيفة رحمه الله فإن المحصر عنده إذا لم يجد هديا يبقى محرما حتى يجد هديا أو يطوف بالبيت.
وقال بعض من قال بأنه لا بدل له إن لم يجد هديا حل بدونه وإن تيسر له بعد ذلك هدي أهداه.
وقال جماعة إن لم يجد الهدي فله بدل واختلف أهل هذا القول في بدل الهدي.
فقال بعضهم: هو صوم عشرة أيام قياسا على من عجز عما استيسر من الهدي في التمتع وإلى هذا ذهب الإمام أحمد وهو إحدى الروايات عن الشافعي وأصح الروايات عند الشافعية في بدل هدي المحصر أنه بالإطعام نص عليه الشافعي في كتاب الأوسط فتقوم الشاة ويتصدق بقيمتها طعاما فإن عجز صام عن كل مد يوما وقيل إطعام كإطعام فدية الأذى وهو ثلاثة آصع لستة مساكين وقيل: بدله صوم ثلاثة أيام
85

وقيل بدله صوم بالتعديل تقوم الشاة ويعرف قدر ما تساوي قيمتها من الأمداد فيصوم عن كل يوم مدا وليس على شئ من هذه الأقوال دليل واضح وأقربها قياسه على التمتع والله تعالى أعلم.
الفرع الثالث: هل يلزم المحصر إذا أراد التحلل حلق أو تقصير أو لا يلزمه شئ من ذلك؟
اختلف العلماء في هذا فذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله ومحمد إلى أنه لا حلق عليه ولا تقصير وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد وهو ظاهر كلام الخرقي واحتج أهل هذا القول بأن الله قال: * (فما استيسر من الهدى) * ولم يذكر الحلق ولو كان لازما لبينه واحتج أبو حنيفة ومحمد لعدم لزوم الحلق بأن الحلق لم يعرف كونه نسكا إلا بعد أداء الأفعال وقبله جناية فلا يؤمر به ولهذا العبد والمرأة إذا منعهما السيد والزوج لا يؤمران بالحلق إجماعا.
وعن الشافعي في حلق المحصر روايتان مبنيتان على الخلاف في الحلق هل هو نسك أو إطلاق من محظور؟ وذهب جماعة من أهل العلم منهم مالك وأصحابه: إلى أن
المحصر عليه أن يحلق.
قال مقيدة عفا الله عنه: الذي يظهر لنا رجحانه بالدليل: هو ما ذهب إليه مالك وأصحابه من لزوم الحلق لقوله تعالى * (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله) *.
ولما ثبت في الأحاديث الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم أنه حلق لما صده المشركون عام الحديبية وهو محرم وأمر أصحابه أن يحلقوا وقال: اللهم ارحم المحلقين قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: اللهم ارحم المحلقين قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: والمقصرين.
فهذه أدلة واضحة على عدم سقوط الحلق عن المحصر وقياس من قال بعدم اللزوم الحلق على غيره من أفعال النسك التي صد عنها ظاهر السقوط لأن الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة مثلا كل ذلك منع منه المحصر وصد عنه فسقط عنه؛ لأنه حيل بينه وبينه ومنع منه.
وأما الحلاق فلم يحل بينه وبينه وهو قادر على أن يفعله؛ فلا وجه لسقوطه ولا
86

شك أن الذي تدل نصوص الشرع على رجحانه أن الحلاق نسك على من أتم نسكه وعلى من فاته الحج وعلى المحصر بعدو وعلى المحصر بمرض.
وعلى القول الصحيح من أن الحلاق نسك فالمحصر يتحلل بثلاثة أشياء: وهي النية وذبح الهدي والحلاق. وعلى القول بأن الحلق ليس بنسك يتحلل بالنية والذبح.
الفرع الرابع: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نحر قبل أن يحلق في عمرة الحديبية وفي حجة الوداع ودل القرءان على أن النحر قبل الحلق في موضعين:
أحدهما: قوله تعالى: * (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله) *.
والثاني: قوله تعالى في سورة الحج: * (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) *.
فالمراد بقوله: * (ليذكروا اسم الله على ما رزقهم) * ذكر اسمه تعالى عند نحر البدن إجماعا وقد قال تعالى بعده عاطفا بثم التي هي للترتيب * (ثم ليقضوا تفثهم) *. وقضاء التفث يدخل فيه بلا نزاع إزالة الشعر بالحلق فهو نص صريح في الأمر بتقديم النحر على الحلق ومن إطلاق التفث على الشعر ونحوه قول أمية بن أبي الصلت: البسيط:
* حفوا رؤوسهم لم يحلقوا تفثا
* ولم يسلو لهم قملا وصئبانا
*
وروى بعضهم بيت أمية المذكور هكذا: وروى بعضهم بيت أمية المذكور هكذا:
* ساخين آباطهم لم يقذفوا تفثا
* وينزعوا عنهم قملا وصئبانا
*
ومنه قول الآخر: الوافر:
* قضوا تفثا ونحبا ثم ساروا
* إلى نجد وما انتظروا عليا
*
فهذه النصوص تدل دلالة لا لبس فيها على أن الحلق بعد النحر. ولكن إذا عكس الحاج أو المعتمر فحلق قبل أن ينحر فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أن ذلك لا حرج فيه والتعبير بنفي الحرج يدل بعمومه على سقوط الإثم والدم معا وقيل فيمن حلق قبل أن ينحر محصرا كان أو غيره إنه عليه دم فقد روى ابن أبي شيبة من طريق الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال عليه دم. قال إبراهيم وحدثني سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله. ذكره في المحصر.
87

قال الشوكاني في نيل الأوطار: والظاهر عدم وجوب الدم؛ لعدم الدليل.
قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر: أن الدليل عند من قال بذلك هو الأحاديث الواردة بأنه صلى الله عليه وسلم لما صده المشركون عام الحديبية نحر قبل الحلق وأمر أصحابه بذلك فمن ذلك ما رواه أحمد والبخاري وأبو داود عن المسور ومروان في حديث عمرة الحديبية والصلح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قضية الكتاب قال لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا.
وللبخاري عن المسور أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق وأمر أصحابه بذلك اه. فدل فعله وأمره على أن ذلك هو اللازم للمحصر ومن قدم الحلق على النحر فقد عكس ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ومن أخل بنسك فعليه دم.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي تدل عليه نصوص السنة الصحيحة أن النحر مقدم على الحلق ولكن من حلق قبل أن ينحر فلا حرج عليه من إثم ولا دم فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب من سأله بأنه ظن الحلق قبل النحر فنحر قبل أن يحلق بأن قال له: افعل ولا حرج.
ومن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما أيضا عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال: لا حرج.
وفي رواية للبخاري وأبي داود والنسائي وابن ماجة سأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح قال: اذبح ولا حرج وقال: رميت بعد ما أمسيت فقال: افعل ولا حرج.
وفي رواية للبخاري قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: زرت قبل أن أرمي قال: لا حرج قال: حلقت قبل أن أذبح قال: لا حرج والأحاديث بمثل هذا كثيرة. وهي تدل دلالة لا لبس فيها على أن من حلق قبل أن ينحر لا شئ عليه من إثم ولا فدية؛ لأن قوله: لا حرج نكرة في سياق النفي ركبت مع لا فبنيت على الفتح. والنكرة إذا كانت كذلك فهي نص صريح في العموم فالأحاديث إذن نص صريح في عموم النفي لجميع أنواع الحرج من إثم وفدية. والله تعالى أعلم.
ولا يتضح حمل الأحاديث المذكورة على من قدم الحلق جاهلا أو ناسيا وإن كان سياق حديث عبد الله بن عمرو المتفق عليه يدل على أن السائل جاهل؛ لأن بعض
88

تلك الأحاديث الواردة في الصحيح ليس فيها ذكر النسيان ولا الجهل فيجب استصحاب عمومها حتى يدل دليل على التخصيص بالنسيان والجهل وقد تقرر أيضا في علم الأصول أن جواب المسؤول لمن سأله لا يعتبر فيه مفهوم المخالفة؛ لأن تخصيص المنطوط بالذكر لمطابقة الجواب للسؤال فلم يتعين كونه لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق وقد أشار له في مراقي السعود في مبحث موانع اعتبار مفهوم المخالفة بقوله عاطفا على ما يمنع اعتباره: الرجز:
* أو جهل الحكم أو النطق انجلب
* للسؤل أو جرى على الذي غلب
*
كما يأتي بيانه في الكلام على قوله تعالى: * (الطلاق مرتان) *. وبه تعلم أن وصف عدم الشعور الوارد في السؤال لا مفهوم له.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار: وتعليق سؤال بعضهم بعدم الشعور لا يستلزم سؤال غيره به حتى يقال: إنه يختص الحكم بحالة عدم الشعور ولا يجوز اطراحها بإلحاق العمد بها.
ولهذا يعلم أن التعويل في التخصيص على وصف عدم الشعور المذكور في سؤال بعض السائلين غير مفيد للمطلوب انتهى محل الغرض منه بلفظه. * (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم لم يبين هنا ما هذا الفضل الذي لا جناح في ابتغائه أثناء الحج.
وأشار في آيات أخر إلى أنه ربح التجارة كقوله: * (وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله) *؛ لأن الضرب في الأرض عبارة عن السفر للتجارة فمعنى الآية يسافرون يطلبون ربح التجارة. وقوله تعالى: * (فإذا قضيت الصلواة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) * أي: بالبيع والتجارة بدليل قوله قبله: * (وذروا البيع) * أي: فإذا انقضت صلاة الجمعة فاطلبوا الربح الذي كان محرما عليكم عند النداء لها.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب أن غلبة إرادة المعنى المعين في القرءان تدل على أنه المراد؛ لأن الحمل على الغالب أولى ولا خلاف بين العلماء في أن المراد بالفضل المذكور في الآية ربح التجارة كما ذكرنا قوله تعالى * (: * (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس لم يبين هنا المكان المأمور بالإفاضة منه المعبر عنه بلفظة
89

* (حيث) * التي هي كلمة تدل على المكان كما تدل حين على الزمان.
ولكنه يبين ذلك بقوله: * (فإذا أفضتم من عرفات) *. وسبب نزولها أن قريشا كانوا يقفون يوم عرفة بالمزدلفة ويقولون: نحن قطان بيت الله ولا ينبغي لنا أن نخرج من الحرم؛ لأن عرفات خارج عن الحرم وعامة الناس يقفون بعرفات فأمر الله النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن يفيضوا من حيث أفاض الناس وهو عرفات لا من المزدلفة كفعل قريش.
وهذا هو مذهب جماهير العلماء وحكى ابن جرير عليه الإجماع وعليه فلفظة ثم للترتيب الذكري بمعنى عطف جملة على جملة وترتيبها عليها في مطلق الذكر ونظيره قوله تعالى: * (فك رقبة * أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما ذا مقربة * أو مسكينا ذا متربة * ثم كان من الذين ءامنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) *.
وقول الشاعر: الخفيف:
* إن من ساد ثم ساد أبوه
* ثم قد ساد قبل ذلك جده
*
وقال بعض العلماء المراد بقوله: * (ثم أفيضوا) * الآية أي: من مزدلفة إلى منى وعليه فالمراد بالناس إبراهيم.
قال ابن جرير في هذا القول: ولولا إجماع الحجة على خلافه لكان هو الأرجح.
* (زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين ءامنوا) * لم يبين هنا سخرية هؤلاء الكفار من هؤلاء المؤمنين ولكنه بين في موضع آخر أنها الضحك منهم والتغامز وهو قوله تعالى: * (إن الذين أجرموا كانوا من الذين ءامنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون) *. * (قوله تعالى والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة لم يبين هنا فوقية هؤلاء المؤمنين على هؤلاء الكفرة ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله: * (فاليوم الذين ءامنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون) *.
وقوله: * (أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون) *.
90

* (قوله تعالى وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم لم يصف هذا الخير هنا بالكثرة وقد وصفه بها في قوله: * (فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه
خيرا كثيرا) *.
* (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) * لم يبين هنا هل استطاعوا ذلك أو لا؟ ولكنه بين في موضع آخر أنهم لم يستطيعوا وأنهم حصل لهم اليأس من رد المؤمنين عن دينهم وهو قوله تعالى: * (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم) *. وبين في مواضع أخر أنه مظهر دين الإسلام على كل دين كقوله في براءة والصف والفتح * (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله) *. * (قوله تعالى قل فيهمآ إثم كبي لم يبين هنا ما هذا الإثم الكبير؟ ولكنه بين في آية أخرى أنه إيقاع العداوة والبغضاء بينهم والصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهي قوله: * (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلواة فهل أنتم منتهون ا قوله تعالى) *. * (ولا تنكحوا المشركات الآية ظاهر عمومه شمول الكتابيات ولكنه بين في آية أخرى أن الكتابيات لسن داخلات في هذا التحريم وهي قوله تعالى: * (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) * فإن قيل الكتابيات لا يدخلن في اسم المشركات بدليل قوله: * (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين) * وقوله: * (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين) * وقوله: * (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين) * والعطف يقتضي المغايرة فالجواب أن أهل الكتاب داخلون في اسم المشركين كما صرح به تعالى في قوله: * (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قيل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا آله إلا هو سبحانه ما يشركون قوله تعالى فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله لم يبين هنا هذا المكان
91

المأمور بالإتيان منه المعبر عنه بلفظة حيث ولكنه بين أن المراد به الإتيان في القبل في آيتين.
إحداهما: هي قوله هنا: * (فأتوا حرثكم) *؛ لأن قوله: * (فاتوا) * أمر بالإتيان بمعنى الجماع وقوله: * (حرثكم) * يبين أن الإتيان المأمور به إنما هو في محل الحرث يعني بذر الولد بالنطفة وذلك هو القبل دون الدبر كما لا يخفى؛ لأن الدبر ليس محل بذر للأولاد كما هو ضروري.
الثانية: قوله تعالى: * (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم) *؛ لأن المراد بما كتب الله لكم الولد على قول الجمهور وهو اختيار ابن جرير وقد نقله عن ابن عباس ومجاهد والحكم وعكرمة والحسن البصري والسدي والربيع والضحاك بن مزاحم ومعلوم أن ابتغاء الولد إنما هو بالجماع في القبل. فالقبل إذن هو المأمور بالمباشرة فيه بمعنى الجماع فيكون معنى الآية فالآن باشروهن ولتكن تلك المباشرة في محل ابتغاء الولد الذي هو القبل دون غيره بدليل قوله: * (وابتغوا ما كتب الله لكم) * يعني الولد.
ويتضح لك من هذا أن معنى قوله تعالى: * (أنى شئتم) * يعني أن يكون الإتيان في محل الحرث على أي حالة شاء الرجل سواء كانت المرأة مستلقية أو باركة أو على جنب أو غير ذلك ويؤيد هذا ما رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن جابر رضي الله عنه قال: كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول فنزلت * (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) *.
فظهر من هذا أن جابرا رضي الله عنه يرى أن معنى الآية فأتوهن في القبل على أية حالة شئتم ولو كان من ورائها.
والمقرر في علوم الحديث أن تفسير الصحابي الذي له تعلق بسبب النزول له حكم الرفع كما عقده صاحب طلعة الأنوار بقوله: الرجز:
* تفسير صاحب له تعلق
* بالسبب الرفع له محقق
*
وقد قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: * (فأتوا حرثكم أنى شئتم) * ما نصه: وما استدل به المخالف من أن قوله عز وجل: * (أنى شئتم) * شامل للمسالك بحكم عمومها فلا حجة فيها؛ إذ هي مخصصة بما ذكرناه وبأحاديث صحيحة حسان
92

شهيرة رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر صحابيا بمتون مختلفة كلها متواردة على تحريم إتيان النساء في الأدبار ذكرها أحمد بن حنبل في مسنده وأبو داود والنسائي والترمذي وغيرهم.
وقد جمعها أبو الفرج الجوزي بطرقها في جزء سماه تحريم المحل المكروه.
ولشيخنا أبي العباس أيضا في ذلك جزء سماه إظهار إدبار من أجاز الوطء في الأدبار قلت: وهذا هو الحق المتبع والصحيح في المسألة.
ولا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصح عنه وقد حذرنا من زلة العالم. وقد روي عن ابن عمر خلاف هذا وتكفير من فعله وهذا هو اللائق به رضي الله عنه وكذلك كذب نافع من أخبر عنه بذلك كما ذكر النسائي وقد تقدم.
وأنكر ذلك مالك واستعظمه وكذب من نسب ذلك إليه وروى الدارمي في مسنده عن سعيد بن يسار أبي الحباب. قال: قلت لابن عمر: ما تقول في الجواري حين أحمض لهن؟ قال: وما التحميض؟ فذكرت له الدبر. فقال: هل يفعل ذلك أحد من المسلمين؟ وأسند عن خزيمة بن ثابت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أيها الناس إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن ومثله عن علي بن طلق وأسند عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: من أتى امرأة في دبرها لم ينظر الله إليه يوم القيامة.
وروي أبو داود الطيالسي في مسنده عن قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تلك اللوطية الصغرى يعني إتيان
المرأة في دبرها. وروي عن طاوس أنه قال: كان بدأ عمل قوم لوط إتيان النساء في أدبارهن قال ابن المنذر وإذا ثبت الشئ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغنى به عما سواه من القرطبي بلفظه. وقال القرطبي أيضا ما نصه: وقال مالك لابن وهب وعلي بن زياد لما أخبراه أن ناسا بمصر يتحدثون عنه أنه يجيز ذلك فنفر من ذلك وبادر إلى تكذيب الناقل فقال: كذبوا علي كذبوا علي كذبوا علي. ثم قال: ألستم قوما عربا؟ ألم يقل الله تعالى: * (نساؤكم حرث لكم) * وهل يكون الحرث إلا في موضع المنبت؟ منه بلفظه أيضا
93

.
ومما يؤيد أنه لا يجوز إتيان النساء في أدبارهن أن الله تعالى حرم الفرج في الحيض لأجل القذر العارض له مبينا أن ذلك القذر هو علة المنع بقوله: * (قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض) *. فمن باب أولى تحريم الدبر للقذر والنجاسة اللازمة ولا ينتقض ذلك بجواز وطء المستحاضة؛ لأن دم الإستحاضة ليس في الاستقذار كدم الحيض ولا كنجاسة الدبر؛ لأنه دم انفجار العرق فهو كدم الجرح ومما يؤيد منع الوطء في الدبر إطباق العلماء على أن الرتقاء التي لا يوصل إلى وطئها معيبة ترد بذلك العيب.
قال ابن عبد البر: لم يختلف العلماء في ذلك إلا شيئا جاء عن عمر بن عبد العزيز من وجه ليس بالقوي أن الرتقاء لا ترد بالرتق. والفقهاء كلهم على خلاف ذلك.
قال القرطبي: وفي إجماعهم هذا دليل على أن الدبر ليس بموضع وطء ولو كان موضعا للوطء ما ردت من لا يوصل إلى وطئها في الفرج. فإن قيل: قد يكون رد الرتقاء لعلة عدم النسل فلا ينافي أنها توطأ في الدبر فالجواب أن العقم لا يرد به ولو كانت علة رد الرتقاء عدم النسل لكان العقم موجبا للرد.
وقد حكى القرطبي الإجماع على أن العقم لا يرد به في تفسير قوله تعالى: * (فأتوا حرثكم) * فإذا تحققت من هذه الأدلة أن وطء المرأة في دبرها حرام. فاعلم أن من روى عنه جواز ذلك كابن عمر وأبي سعيد وجماعات من المتقدمين والمتأخرين يجب حمله على أن مرادهم بالإتيان في الدبر إتيانها في الفرج من جهة الدبر كما يبينه حديث جابر والجمع واجب إذا أمكن. قال ابن كثير في تفسير قوله: * (فأتوا حرثكم أنى شئتم) * ما نصه: قال أبو محمد عبد الرحمان بن عبد الله الدارمي في مسنده: حدثنا عبد الله بن صالح حدثنا الليث عن الحارث بن يعقوب عن سعيد بن يسار أبي الحباب قال: قلت لابن عمر: ما تقول في الجواري أيحمض لهن؟ قال: وما التحميض؟ فذكر الدبر فقال: وهل يفعل ذلك أحد من المسلمين؟. وكذا رواه ابن وهب وقتيبة عن الليث.
وهذا إسناد صحيح ونص صريح منه بتحريم ذلك. فكل ما ورد عنه مما يحتمل ويحتمل فهو مردود إلى هذا المحكم منه بلفظه وقد علمت أن قوله: * (أنى شئتم) *
94

لا دليل فيه للوطء في الدبر؛ لأنه مرتب بالفاء التعقيبية على قوله: * (نسائكم * حرث لكم) * ومعلوم أن الدبر ليس محل حرث ولا ينتقض هذا بجواز الجماع في عكن البطن وفي الفخذين والساقين ونحو ذلك مع أن الكل ليس محل حرث؛ لأن ذلك يسمى استمناء لا جماعا. والكلام في الجماع؛ لأن المراد بالإتيان في قوله: * (فأتوا حرثكم) * الجماع والفارق موجود؛ لأن عكن البطن ونحوها لا قذر فيها والدبر فيه القذر الدائم والنجس الملازم.
وقد عرفنا من قوله: * (قل هو أذى فاعتزلوا النساء) * أن الوطء في محل الأذى لا يجوز.
وقال بعض العلماء: معنى قوله: * (من حيث أمركم الله) * أي من المكان الذي أمركم الله تعالى بتجنبه؛ لعارض الأذى وهو الفرج ولا تعدوه إلى غيره ويروى هذا القول عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع وغيرهم وعليه فقوله: * (من حيث أمركم الله) * يبينه: * (قل هو أذى فاعتزلوا النساء) * الآية؛ لأن من المعلوم أن محل الأذى الذي هو الحيض إنما هو القبل وهذا القول راجع في المعنى إلى ما ذكرنا وهذا القول مبني على أن النهي عن الشئ أمر بضده؛ لأن ما نهى الله عنه فقد أمر بضده ولذا تصح الإحالة في قوله: * (أمركم الله) * على النهي في قوله: * (ولا تقربوهن حتى يطهرن) * والخلاف في النهي عن الشئ هو أمر بضده معروف في الأصول وقد أشار له في مراقي السعود بقوله: الرجز:
* والنهي فيه غابر الخلاف
* أو أنه أمر بالائتلاف
*
* وقيل لا قطعا كما في المختصر
* وهو لدى السبكي رأي ما انتصر
*
ومراده بغابر الخلاف: هو ما ذكر قبل هذا من الخلاف في الأمر بالشئ هل هو عين النهي عن ضده أو مستلزم له أوليس عينه ولا مستلزما له؟ يعني أن ذلك الخلاف أيضا في النهي عن الشئ هل هو عين الأمر بضده؟ أو ضد من أضداده إن تعددت؟ أو مستلزم لذلك؟ أوليس عينه ولا مستلزما له؟ وزاد في النهي قولين:
أحدهما: أنه أمر بالضد اتفاقا.
والثاني: أنه ليس أمرا به قطعا وعزا الأخير لابن الحاجب في مختصره وأشار إلى أن السبكي في جمع الجوامع ذكر أنه لم ير ذلك القول لغير ابن الحاجب.
95

وقال الزجاج: معنى * (من حيث أمركم الله) * أي: من الجهات التي يحل فيها أن تقرب المرأة ولا تقربوهن من حيث لا يحل كما إذا كن صائمات أو محرمات أو معتكفات.
وقال أبو رزين وعكرمة والضحاك وغير واحد: * (من حيث أمركم الله) * يعني طاهرات غير حيض والعلم عند الله تعالى. * (قوله تعالى ولكن يؤخذاكم بما كسبت قلوبكم لم يصرح هنا بالمراد بما كسبته قلوبهم ولم يذكر هنا ما يترتب على ذلك إذا حنث ولكنه بين في سورة المائدة أن المراد بما كسبت القلوب هو عقد اليمين بالنية والقصد وبين أن اللازم في ذلك إذا حنث كفارة هي: إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة ومن عجز عن واحد من الثلاثة فصوم ثلاثة أيام وذلك في قوله: * (ولاكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم الآية قوله تعالى) *. * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ظاهر هذه الآية شمولها لجميع المطلقات ولكنه بين في آيات أخر خروج بعض المطلقات من هذا العموم كالحوامل المنصوص على أن عدتهن وضع الحمل في قوله: * (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) *. وكالمطلقات قبل الدخول المنصوص على أنهن لا عدة عليهن أصلا بقوله: * (يا أيها الذين ءامنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا) *.
أما اللواتي لا يحضن لكبر أو صغر فقد بين أن عدتهن ثلاثة أشهر في قوله: * (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن) *.
* (ثلاثة قروء) * فيه إجمال؛ لأن القرء يطلق لغة على الحيض ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: دعي الصلاة أيام أقرائك. ويطلق القرء لغة أيضا على الطهر ومنه قول الأعشى:: الطويل:
* أفي كل يوم أنت جاشم غزوة
* تشد لأقصاها عزيم عزائكا
*
96

* مورثة مالا وفي الحي رفعة
* لما ضاع فيها من قروء نسائكا
*
ومعلوم أن القرء الذي يضيع على الغازي من نسائه هو الطهر دون الحيض وقد اختلف العلماء في المراد بالقروء في هذه الآية الكريمة هل هو الأطهار أو الحيضات؟
وسبب الخلاف اشتراك القرء بين الطهر والحيض كما ذكرنا وممن ذهب إلى أن المراد بالقرء في الآية الطهر مالك والشافعي وأم المؤمنين عائشة وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر والفقهاء السبعة وأبان بن عثمان والزهري وعامة فقهاء المدينة وهو رواية عن أحمد وممن قال: بأن القروء الحيضات الخلفاء الراشدون الأربعة وابن مسعود وأبو موسى وعبادة بن الصامت وأبو الدرداء وابن عباس ومعاذ بن جبل وجماعة من التابعين وغيرهم وهو الرواية الصحيحة عن أحمد.
واحتج كل من الفريقين بكتاب وسنة وقد ذكرنا في ترجمة هذا الكتاب أننا في مثل ذلك نرجح ما يظهر لنا أن: دليله أرجح أما الذين قالوا القروء الحيضات فاحتجوا بأدلة كثيرة منها قوله تعالى: * (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن) * قالوا: فترتيب العدة بالأشهر على عدم الحيض يدل على أن أصل العدة بالحيض والأشهر بدل من الحيضات عند عدمها واستدلوا أيضا بقوله: * (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) *.
قالوا: هو الولد أو الحيض واحتجوا بحديث دعي الصلاة أيام أقرائك قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم هو مبين الوحي وقد أطلق القرء على الحيض فدل ذلك على أنه المراد في الآية واستدلوا بحديث اعتداد الأمة بحيضتين وحديث استبرائها بحيضة.
وأما الذين قالوا: القروء الأطهار فاحتجوا بقوله تعالى: * (فطلقوهن لعدتهن) * قالوا: عدتهن المأمور بطلاقهن لها الطهر لا الحيض كما هو صريح الآية ويزيده إيضاحا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر المتفق عليه: فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها فتلك العدة كما أمر الله قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم صرح في هذا الحديث المتفق عليه بأن الطهر هو العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء مبينا أن ذلك هو معنى قوله تعالى: * (فطلقوهن لعدتهن) * وهو نص من كتاب الله وسنة نبيه في محل النزاع.
قال مقيده عفا الله عنه الذي يظهر لي أن دليل هؤلاء هذا فصل في محل النزاع
97

؛ لأن مدار الخلاف هل القروء الحيضات أو الأطهار؟ وهذه الآية وهذا الحديث دلا على أنها الأطهار.
ولا يوجد قي كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم شئ يقاوم هذا الدليل لا من جهة الصحة ولا من جهة الصراحة في محل النزاع؛ لأنه حديث متفق عليه مذكور في معرض بيان معنى آية من كتاب الله تعالى.
وقد صرح فيه النبي صلى الله عليه وسلم بأن الطهر هو العدة مبينا أن ذلك هو مراد الله جل وعلا بقوله: * (فطلقوهن لعدتهن) * فالإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم: فتلك العدة راجعة إلى حال الطهر الواقع فيه الطلاق؛ لأن معنى قوله فليطلقها طاهرا أي: في حال كونها طاهرا ثم بين أن ذلك الحال الذي هو الطهر هو العدة مصرحا بأن ذلك هو مراد الله في كتابه العزيز وهذا نص صريح في أن العدة بالطهر. وأنث بالإشارة لتأنيث الخبر ولا تخلص من هذا الدليل لمن يقول هي الحيضات إلا إذا قال العدة غير القروء والنزاع في خصوص القروء كما قال بهذا بعض العلماء.
وهذا القول يرده إجماع أهل العرف الشرعي وإجماع أهل اللسان العربي على أن عدة من تعتد بالقروء هي نفس القروء لا شئ آخر زائد على ذلك. وقد قال تعالى: * (وأحصوا العدة) * وهي زمن التربص إجماعا وذلك هو المعبر عنه بثلاثة قروء التي هي معمول قوله تعالى: * (يتربصن) * في هذه الآية فلا يصح لأحد أن يقول: إن على المطلقة التي تعتد بالأقراء شيئا يسمى العدة زائدا على ثلاثة القروء المذكورة في الآية الكريمة البتة كما هو معلوم.
وفي القاموس: وعدة المرأة أيام أقرائها وأيام إحدادها على الزوج وهو تصريح منه بأن العدة هي نفس القروء لا شئ زائد عليها وفي اللسان: وعدة المرأة أيام أقرائها وعدتها أيضا أيام إحدادها على بعلها وإمساكها عن الزينة شهورا كان أو أقراء أو وضع حمل حملته من زوجها.
فهذا بيان بالغ من الصحة والوضوح والصراحة في محل النزاع ما لا حاجة معه إلى كلام آخر. وتؤيده قرينة زيادة التاء في قوله: * (ثلاثة قروء) * لدلالتها على تذكير المعدود وهو الأطهار؛ لأنها مذكرة والحيضات مؤنثة.
وجواب بعض العلماء عن هذا بأن لفظ القرء مذكر ومسماه مؤنث وهو الحيضة
98

وأن التاء إنما جئ بها مراعاة للفظ وهو مذكر لا للمعنى المؤنث.
يقال فيه: إن اللفظ إذا كان مذكرا ومعناه مؤنثا لا تلزم التاء في عدده بل تجوز فيه مراعاة المعنى فيجرد العدد من التاء كقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي: يقال فيه: إن اللفظ إذا كان مذكرا ومعناه مؤنثا لا تلزم التاء في عدده بل تجوز فيه مراعاة المعنى فيجرد العدد من التاء كقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
* وكان مجني دون من كنت أتقي
* ثلاث شخوص كاعبان ومعصر
*
فجرد لفظ الثلاث من التاء؛ نظرا إلى أن مسمى العدد نساء مع أن لفظ الشخص الذي أطلقه على الأنثى مذكر وقول الآخر: مع أن لفظ الشخص الذي أطلقه على الأنثى مذكر وقول الآخر:
* وإن كلابا هذه عشر أبطن
* وأنت بريء من قبائلها العشر
*
فمجرد العدد من التاء مع أن البطن مذكر؛ نظرا إلى معنى القبيلة وكذلك العكس كقوله: فمجرد العدد من التاء مع أن البطن مذكر؛ نظرا إلى معنى القبيلة وكذلك العكس كقوله:
* ثلاثة أنفس وثلاث ذود
* لقد عال الزمان على عيالي
*
فإنه قد ذكر لفظ الثلاثة مع أن الأنفس مؤنثة لفظا؛ نظرا إلى أن المراد بها أنفس ذكور وتجوز مراعاة اللفظ فيجرد من التاء في الأخير وتلحقه التاء في الأول ولحوقها إذن مطلق احتمال ولا يصح الحمل عليه دون قرينة تعينه بخلاف عدد المذكر لفظا ومعنى كالقرء بمعنى الطهر فلحوقها له لازم بلا شك واللازم الذي لا يجوز غيره أولى بالتقديم من المحتمل الذي يجوز أن يكون غيره بدلا عنه ولم تدل عليه قرينة كما ترى.
فإن قيل ذكر بعض العلماء: أن العبرة في تذكير واحد المعدود وتأنيثه إنما هي باللفظ ولا تجوز مراعاة المعنى إلا إذا دلت عليه قرينة أو كان قصد ذلك المعنى كثيرا والآية التي نحن بصددها ليس فيها أحد الأمرين قال الأشموني في شرح قول ابن مالك: فإن قيل ذكر بعض العلماء: أن العبرة في تذكير واحد المعدود وتأنيثه إنما هي باللفظ ولا تجوز مراعاة المعنى إلا إذا دلت عليه قرينة أو كان قصد ذلك المعنى كثيرا والآية التي نحن بصددها ليس فيها أحد الأمرين قال الأشموني في شرح قول ابن مالك:
* ثلاثة بالتاء قل للعشرة
* في عد ما آحاده مذكرة
*
في الضد جرد إلخ...
ما نصه: الثاني اعتبار التأنيث في واحد المعدود إن كان اسما فبلفظه تقول: ثلاثة أشخص قاصدا نسوة وثلاث أعين قاصدا رجال؛ لأن لفظ شخص مذكر ولفظ عين مؤنث هذا ما لم يتصل بالكلام ما يقوي المعنى؛ أو يكثر فيه قصد المعنى.
فإن اتصل به ذلك جاز مراعاة المعنى فالأول كقوله:
99

ثلاث شخوص كاعبان ومعصر.
وكقوله: وإن كلابا البيت.
والثاني كقوله: ثلاثة أنفس وثلاث ذود. اه منه.
وقال الصبان في حاشيته عليه: وبما ذكره الشارح يرد ما استدل به بعض العلماء في قوله تعالى: * (ثلاثة قروء) *. * (بأربعة شهداء) * على أن الأقراء الأطهار لا الحيض وعلى أن شهادة النساء غير مقبولة؛ لأن الحيض جمع حيضة؛ فلو أريد الحيض لقيل ثلاث ولو أريد النساء لقيل بأربع.
ووجه الرد أن المعتبر هنا اللفظ ولفظ قرء وشهيد مذكرين منه بلفظه.
فالجواب والله تعالى أعلم أن هذا خلاف التحقيق والذي يدل عليه استقراء اللغة العربية جواز مراعاة المعنى مطلقا وجزم بجواز مراعاة المعنى في لفظ العدد ابن هشام نقله عنه السيوطي بل جزم صاحب التسهيل وشارحه الدماميني: بأن مراعاة المعنى في واحد المعدود متعينة.
قال الصبان في حاشيته ما نصه: قوله فبلفظه ظاهره: أن ذلك على سبيل الوجوب ويخالفه ما نقله السيوطي عن ابن هشام وغيره من أن ما كان لفظه مذكرا ومعناه مؤنثا أو بالعكس فإنه يجوز فيه وجهان اه.
ويخالفه أيضا ما في التسهيل) وشرحه للدماميني. وعبارة التسهيل تحذف تاء الثلاثة وأخواتها إن كان واحد المعدود مؤنث المعنى حقيقة أو مجازا.
قال الدماميني: استفيد منه أن الاعتبار في الواحد بالمعنى لا باللفظ؛ فلهذا يقال ثلاثة طلحات ثم قال في التسهيل وربما أول مذكر بمؤنث ومؤنث بمذكر فجىء بالعدد على حسب التأويل ومثل الدماميني الأول بنحو ثلاث شخوص يريد نسوة وعشر وأبطن يريد قبائل.
والثاني بنحو ثلاثة أنفس أي أشخاص وتسعة وقائع أي مشاهد فتأمل. انتهى منه بلفظه. وما جزم به صاحب التسهيل وشارحه من تعين مراعاة المعنى يلزم عليه تعين كون القرء في الآية هو الطهر كما ذكرنا.
وفي حاشية الصبان أيضا ما نصه: قوله جاز مراعاة المعنى في التوضيح أن
100

ذلك ليس قياسيا وهو خلاف ما تقدم عن ابن هشام وغيره من أن ما كان لفظه مذكرا ومعناه مؤنثا أو بالعكس يجوز فيه وجهان أي: ولو لم يكن هناك مرجح للمعنى وهو خلاف ما تقدم عن (التسهيل). وشرحه أن العبرة بالمعنى فتأمل. اه منه.
وأما الاستدلال على أنها الحيضات بقوله تعالى: * (واللائي يئسن من المحيض) * فيقال فيه: إنه ليس في الآية ما يعين أن القروء الحيضات لأن الأقراء لا تقال في الأطهار إلا في الأطهار التي يتخللها حيض فإن عدم الحيض عدم معه اسم الأطهار ولا مانع إذن من ترتيب الاعتداد بالأشهر على عدم الحيض مع كون العدة بالطهر؛ لأن الطهر المراد يلزمه وجود الحيض وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم فاتفاء الحيض يلزمه انتفاء الأطهار فكأن العدة بالأشهر مرتبة أيضا على انتفاء الأطهار المدلول عله بانتفاء الحيض. وأما الاستدلال بآية: * (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) * فهو ظاهر السقوط؛ لأن كون القروء الأطهار لا يبيح المعتدة كتم الحيض؛ لأن العدة بالأطهار لا تمكن إلا بتخلل الحيض لها؛ فلو كتمت الحيض لكانت كاتمة انقضاء الطهر ولو ادعت حيضا لم يكن كانت كاتمة؛ لعدم انقضاء الطهر كما هو واضح.
وأما الاستدلال بحديث دعي الصلاة أيام أقرائك فيقال فيه: إنه لا دليل في الحديث البتة على محل النزاع؛ لأنه لا يفيد شيئا زائدا على أن القرء يطلق على الحيض وهذا مما لا نزاع فيه.
أما كونه يدل على منع إطلاق القرء في موضع آخر على الطهر فهذا باطل بلا نزاع ولا خلاف بين العلماء القائلين: بوقوع الاشتراك في: أن إطلاق المشترك على أحد معنييه في موضع لا يفهم منه منع إطلاقه على معناه الآخر في موضع آخر.
ألا ترى أن لفظ العين مشترك بين الباصرة والجارية مثلا فهل تقول إن إطلاقه تعالى لفظ العين على الباصرة في قوله: * (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين) * يمنع إطلاق العين في موضع آخر على الجارية كقوله: * (فيها عين جارية) *.
والحق الذي لا شك فيه أن المشترك يطلق على كل واحد من معنييه أو معانيه في الحال المناسبة لذلك والقرء في حديث: دعي الصلاة أيام أقرائك مناسب للحيض
101

دون الطهر؛ لأن الصلاة إنما تترك في وقت الحيض دون وقت الطهر.
ولو كان إطلاق المشترك على أحد معنييه يفيد منع إطلاقه على معناه الآخر في موضع آخر لم يكن في اللغة اشتراك أصلا؛ لأنه كل ما أطلقه على أحدهما منع إطلاقه له على الآخر فيبطل اسم الاشتراك من أصله مع أنا قدمنا تصريح النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر المتفق عليه: بأن الطهر هو العدة وكل هذا على تقدير صحة حديث دعي الصلاة أيام أقرائك؛ لأن من العلماء من ضعفه ومنهم من صححه.
والظاهر أن بعض طرقه لا يقل عن درجة القبول إلا أنه لا دليل فيه لمحل النزاع.
ولو كان فيه لكان مردودا بما هو أقوى منه وأصرح في محل النزاع وهو ما قدمنا. وكذلك اعتداد الأمة بحيضتين على تقرير ثبوته عنه صلى الله عليه وسلم لا يعارض ما قدمنا؛ لأنه أصح منه وأصرح في محل النزاع. واستبراؤها بحيضة مسألة أخرى؛ لأن الكلام في العدة لا في الاستبراء. ورد بعض العلماء الاستدلال بالآية والحديث الدالين على أنها الأطهار بأن ذلك يلزمه الاعتداد بالطهر الذي وقع فيه الطلاق كما عليه جمهور القائلين: بأن القروء الأطهار فيلزم عليه كون العدة قرءين وكسرا من الثالث وذلك خلاف ما دلت عليه الآية من أنها ثلاثة قروء كاملة مردود بأن مثل هذا لا تعارض به نصوص الوحي الصريحة وغاية ما في الباب إطلاق ثلاثة قروء
على اثنين وبعض الثالث. ونظيره قوله: * (الحج أشهر معلومات) * والمراد شهران وكسر.
وادعاء أن ذلك ممنوع في أسماء العدد يقال فيه: إن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي ذكر إن بقية الطهر الواقع فيه الطلاق عدة مبينا أن ذلك مراد الله في كتابه وما ذكره بعض أجلاء العلماء رحمهم الله من أن الآية والحديث المذكورين يدلان على أن الأقراء الحيضات بعيد جدا من ظاهر اللفظ كما ترى.
بل لفظ الآية والحديث المذكورين صريح في نقيضه هذا هو ما ظهر لنا في هذه المسألة والله تعالى أعلم ونسبة العلم إليه أسلم.
* (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا) * ظاهر هذه الآية الكريمة أن أزواج كل المطلقات أحق بردهن لا فرق في ذلك بين رجعية وغيرها.
102

ولكنه أشار في موضع آخر إلى أن البائن لا رجعة له عليها وذلك في قوله تعالى: * (يا أيها الذين ءامنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) *.
وذلك لأن الطلاق قبل الدخول بائن كما أنه أشار هنا إلى أنها إذا بانت بانقضاء العدة لا رجعة له عليها وذلك في قوله تعالى: * (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك) *؛ لأن الإشارة بقوله: * (ذلك) * راجعة إلى زمن العدة المعبر عنه في الآية ب * (ثلاثة قروء) *.
واشترط هنا في كون بعولة الرجعيات أحق بردهن إرادتهم الإصلاح بتلك الرجعة في قوله: * (إن أرادوا إصلاحا) * ولم يتعرض لمفهوم هذا الشرط هنا ولكنه صرح في مواضع أخر أن زوج الرجعية إذا ارتجعها لا بنية الإصلاح بل بقصد الإضرار بها؛ لتخالعه أو نحو ذلك أن رجعتها حرام عليه كما هو مدلول النهي في قوله تعالى: * (ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا) *.
فالرجعة بقصد الإضرار حرام إجماعا كما دل عليه مفهوم الشرط المصرح به في قوله: * (ولا تمسكوهن ضرارا) * وصحة رجعته حينئذ باعتبار ظاهر الأمر فلو صرح للحاكم بأنه ارتجعها بقصد الضرر لأبطل رجعته كما ذكرنا والعلم عند الله تعالى.
* (وللرجال عليهن درجة) * لم يبين هنا ما هذه الدرجة التي للرجال على النساء ولكنه أشار لها في موضع آخر وهو قوله تعالى: * (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) * فأشار إلى أن الرجل أفضل من المرأة؛ وذلك لأن الذكورة شرف وكمال والأنوثة نقص خلقي طبيعي والخلق كأنه مجمع على ذلك؛ لأن الأنثى يجعل لها جميع الناس أنواع الزينة والحلي وذلك إنما هو لجبر النقص الخلقي الطبيعي الذي هو الأنوثة بخلاف الذكر فجمال ذكورته يكفيه عن الحلي ونحوه.
وقد أشار تعالى إلى نقص المرأة وضعفها الخلقيين الطبيعيين بقوله: * (أو من
103

ينشؤ في الحلية وهو في الخصام غير مبين) *؛ لأن نشأتها في الحلية دليل على نقصها المراد جبره والتغطية عليه بالحلي كما قال الشاعر: الطويل:
* وما الحلي إلا زينة من نقيصة
* يتمم من حسن إذا الحسن قصرا
*
* وأما إذا كان الجمال موفرا
* كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا
*
ولأن عدم إبانتها في الخصام إذا ظلمت دليل على الضعف الخلقي كما قال الشاعر: ولأن عدم إبانتها في الخصام إذا ظلمت دليل على الضعف الخلقي كما قال الشاعر:
* بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له
* ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب
*
* فلم يعتذر عذر البرىء ولم تزل
* به سكتة حتى يقال مريب
*
ولا عبرة بنوادر النساء؛ لأن النادر لا حكم له.
وأشار بقوله: * (وبما أنفقوا من أموالهم) * إلى أن الكامل في وصفه وقوته وخلقته يناسب حاله أن يكون قائما على الضعيف الناقص خلقة.
ولهذه الحكمة المشار إليها جعل ميراثه مضاعفا على ميراثها؛ لأن من يقوم على غيره مترقب للنقص ومن يقوم عليه غيره مترقب للزيادة وإيثار مترقب النقص على مترقب الزيادة ظاهر الحكمة.
كما أنه أشار إلى حكمة كون الطلاق بيد الرجل دون إذن المرأة بقوله: * (نساؤكم حرث لكم) *؛ لأن من عرف أن حقله غير مناسب للزراعة لا ينبغي أن يرغم على الازدراع في حقل لا يناسب الزراعة. ويوضح هذا المعنى أن آلة الازدراع بيد الرجل فلو أكره على البقاء مع من لا حاجة له فيها حتى ترضى بذلك فإنها إن أرادت أن
تجامعه لا يقوم ذكره ولا ينتشر إليها فلم تقدر على تحصيل النسل منه الذي هو أعظم الغرض من النكاح بخلاف الرجل فإنه يولدها وهي كارهة كما هو ضروري. قوله تعالى: * () * الطلاق مرتان ظاهر هذه الآية الكريمة أن الطلاق كله منحصر في المرتين ولكنه تعالى بين أن المنحصر في المرتين هو الطلاق الذي تملك بعده الرجعة لا مطلقا وذلك بذكره الطلقة الثالثة التي لا تحل بعدها المراجعة إلا بعد زوج. وهي المذكورة في قوله: * (فإن طلقها فلا تحل له من بعد) * وعلى هذا القول فقوله: * (أو تسريح بإحسان) * يعني به عدم الرجعة.
104

وقال بعض العلماء الطلقة الثالثة هي المذكورة في قوله تعالى: * (أو تسريح بإحسان) * وروي هذا مرفوعا إليه صلى الله عليه وسلم.
تنبيه
ذكر بعض العلماء أن هذه الآية الكريمة التي هي قوله تعالى: * (الطلاق مرتان) * يؤخذ منها وقوع الطلاق الثلاث في لفظ واحد وأشار البخاري بقوله: باب من جوز الطلاق الثلاث؛ لقول الله تعالى * (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) *.
والظاهر أن وجه الدلالة المراد عند البخاري هو ما قاله الكرماني من أنه تعالى لما قال: * (الطلاق مرتان) * علمنا أن إحدى المرتين جمع فيها بين تطليقتين وإذا جاز جمع التطليقتين دفعة جاز جمع الثلاث ورد ابن حجر هذا بأنه قياس مع وجود الفارق وجعل الآية دليلا لنقيض ذلك.
قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر أن الاستدلال بالآية غير ناهض؛ لأنه ليس المراد حصر الطلاق كله في المرتين حتى يلزم الجمع بين اثنتين في إحدى التطليقتين كما ذكر بل المراد بالطلاق المحصور هو خصوص الطلاق الذي تملك بعده الرجعة كما ذكرنا وكما فسر به الآية جماهير علماء التفسير. وقال بعض العلماء وجه الدليل في الآية أن قوله تعالى: * (أو تسريح بإحسان) * عام يتناول إيقاع الثلاث دفعة واحدة ولا يخفى عدم ظهوره. ولكن كون الآية لا دليل فيها على وقوع الثلاث بلفظ واحد لا ينافي أن تقوم على ذلك أدلة وسنذكر أدلة ذلك وأدلة من خالف فيه والراجح عندنا في ذلك إن شاء الله تعالى مع إيضاح خلاصة البحث كله في آخر الكلام إيضاحا تاما.
فنقول وبالله نستعين: اعلم أن من أدلة القائلين بلزوم الثلاث مجتمعة حديث سهل بن سعد الساعدي الثابت في الصحيح في قصة لعان عويمر العجلاني وزوجه؛ فإن فيه: فلما فرغا قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن شهاب: فكانت سنة المتلاعنين.
أخرج البخاري هذا الحديث تحت الترجمة المتقدمة عنه ووجه الدليل منه: أنه أوقع الثلاث في كلمة واحدة ولم ينكره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورد المخالف الاستدلال بهذا الحديث؛ بأن المفارقة وقعت بنفس اللعان فلم
105

يصادف تطليقه الثلاث محلا ورد هذا الاعتراض؛ بأن الاحتجاج بالحديث من حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه إيقاع الثلاث مجموعة فلو كان ممنوعا لأنكره ولو كانت الفرقة بنفس اللعان. وبأن الفرقة لم يدل على أنها بنفس اللعان كتاب ولا سنة صريحة ولا إجماع. والعلماء مختلفون في ذلك.
فذهب مالك وأصحابه إلى أن الفرقة بنفس اللعان وإنما تتحقق بلعان الزوجين معا وهو رواية عن أحمد. وذهب الشافعي وأصحابه إلى أن الفرقة بنفس اللعان وتقع عند فراغ الزوج من أيمانه قبل لعان المرأة وهو قول سحنون من أصحاب مالك.
وذهب الثوري وأبو حنيفة وأتباعهما إلى أنها لا تقع حتى يوقعها الحاكم؛ واحتجوا بظاهر ما وقع في أحاديث اللعان فقد أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق بين رجل وامرأة قذفها وأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج أيضا في صحيحه عن ابن عمر من وجه آخر أنه قال: لاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجل وامرأة من الأنصار وفرق بينهما. ورواه باقي الجماعة عن ابن عمر وبه تعلم أن قول يحيى بن معين: إن الرواية بلفظ فرق بين المتلاعنين خطأ يعني في خصوص حديث سهل بن سعد المتقدم لا مطلقا بدليل ثبوتها في الصحيح من حديث ابن عمر كما ترى. قال ابن عبد البر: إن أراد من حديث سهل فسهل وإلا فمردود. وقال ابن حجر في فتح الباري ما نصه: ويؤخذ منه أن إطلاق يحيى بن معين وغيره تخطئة الرواية بلفظ فرق بين المتلاعنين إنما المراد به في حديث سهل بخصوصه فقد أخرجه أبو داود من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري عنه بهذا اللفظ وقال بعده لم يتابع ابن عيينة على ذلك أحد ثم أخرج من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عمر: فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أخوي بني العجلان اه محل الغرض منه بلفظ وقد قدمنا في حديث سهل: فكانت سنة المتلاعنين.
واختلف في هذا اللفظ هل هو مدرج من كلام الزهري فيكون مرسلا وبه قال جماعة من العلماء؟ أو هو من كلام سهل فهو مرفوع متصل؟ ويؤيد كونه من كلام سهل ما وقع في حديث أبي داود من طريق عياض بن عبد الله الفهري عن ابن شهاب عن سهل. قال: فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ما صنع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة.
قال سهل: حضرت هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن
106

يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا.
قال الشوكاني في نيل الأوطار: ورجاله رجال الصحيح.
قال مقيده عفا الله عنه: ومعلوم أن ما سكت عليه أبو داود فأقل درجاته عنده الحسن وهذه الرواية ظاهرة في محل النزاع وبها تعلم أن احتجاج البخاري لوقوع الثلاث دفعة بحديث سهل المذكور واقع موقعه؛ لأن المطلع على غوامض إشارات البخاري رحمه الله يفهم أن هذا اللفظ الثابت في سنن أبي داود مطابق لترجمة البخاري وأنه أشار بالترجمة إلى هذه الرواية ولم يخرجها؛ لأنها ليست على شرطه فتصريح هذا الصحابي الجليل في هذه الرواية الثابتة: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ طلاق
الثلاث دفعة يبطل بإيضاح أنه لا عبرة بسكوته صلى الله عليه وسلم وتقريره له؛ بناء على أن الفرقة بنفس اللعان كما ترى.
وذهب عثمان البتي وأبو الشعثاء جابر بن زيد البصري أحد أصحاب ابن عباس من فقهاء التابعين إلى أن الفرقة لا تقع حتى يوقعها الزوج وذهب أبو عبيد إلى أنها تقع بنفس القذف وبهذا تعلم أن كون الفرقة بنفس اللعان ليس أمرا قطعيا حتى ترد به دلالة تقرير النبي صلى الله عليه وسلم عويمر العجلاني على إيقاع الثلاث دفعة الثابت في الصحيح لا سيما وقد عرفت أن بعض الروايات فيها التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم أنفذ ذلك فإن قيل قد وقع في حديث لأبي داود عن ابن عباس وقضى أن ليس عليه قوت ولا سكنى من أجل أنهما يفترقان بغير طلاق ولا متوفى عنها.
فالجواب أن هذا التعليل لعدم إيجاب النفقة والسكنى؛ للملاعنة بعدم طلاق أو وفاة يحتمل كونه من ابن عباس وليس مرفوعا إليه صلى الله عليه وسلم.
وهذا هو الظاهر أن ابن عباس ذكر العلة لما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدم النفقة والسكنى وأراه اجتهاده أن علة ذلك عدم الطلاق والوفاة.
والظاهر أن العلة الصحيحة لعدم النفقة والسكنى هي البينونة بمعناها الذي هو أعم من وقوعها بالطلاق أو بالفسخ بدليل أن البائن بالطلاق لا تجب لها النفقة والسكنى على أصح الأقوال دليلا.
فعلم أن عدم النفقة والسكنى لا يتوقف على عدم الطلاق.
وأوضح دليل في ذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله
107

عنها: أنها طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات فلم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى أخرجه مسلم في صحيحه والإمام أحمد وأصحاب السنن وهو نص صريح صحيح في أن البائن بالطلاق لا نفقة لها ولا سكنى وهذا الحديث أصح من حديث ابن عباس المتقدم.
وصرح الأئمة بأنه لم يثبت من السنة ما يخالف حديث فاطمة هذا وما وقع في بعض الروايات عن عمر أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها: السكنى والنفقة. فقال قال الإمام أحمد: لا يصح ذلك عن عمر.
وقال الدارقطني: السنة بيد فاطمة قطعا وأيضا تلك الرواية عن عمر من طريق إبراهيم النخعي ومولده بعد موت عمر بسنتين.
قال ابن القيم: ونحن نشهد بالله شهادة نسأل عنها إذا لقيناه أنها كذب على عمر وكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حققت أن السنة معها وأنها صاحبة القصة فاعلم أنها لما سمعت قول عمر لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت قالت: بيني وبينكم كتاب الله. قال الله: * (فطلقوهن لعدتهن) * حتى قال: * (لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) *. فأي أمر يحدث بعد الثلاث رواه أبو داود والنسائي وأحمد ومسلم بمعناه. فتحصل أن السنة بيدها وكتاب الله معها.
وهذا المذهب بحسب الدليل هو أوضح المذاهب وأصوبها. وللعلماء في نفقة البائن وسكناها أقوال غير هذا. فمنهم من أوجبهما معا ومنهم من أوجب السكنى دون النفقة ومنهم من عكس.
فالحاصل أن حديث فاطمة هذا يرد تعليل ابن عباس المذكور وأنه أصح من حديثه وفيه التصريح بأن سقوط النفقة والسكنى لا يتوقف على عدم الطلاق بل يكون مع الطلاق البائن. وأيضا فالتصريح بأنه صلى الله عليه وسلم أنفذ الثلاث دفعة في الرواية المذكورة أولى بالاعتبار من كلام ابن عباس المذكور؛ لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ. وهذا الصحابي حفظ إنفا الثلاث والمثبت مقدم على النافي.
فإن قيل: إنفاذه صلى الله عليه وسلم الثلاث دفعة من الملاعن على الرواية المذكورة لا يكون حجة في غير اللعان؛ لأن اللعان تجب فيه الفرقة الأبدية. فإنفاذ الثلاث مؤكد لذلك الأمر
108

الواجب بخلاف الواقع في غير اللعان.
ويدل لهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب من إيقاع الثلاث دفعة في غير اللعان وقال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ كما أخرجه النسائي من حديث محمود بن لبيد فالجواب من أربعة أوجه:
الأول: الكلام في حديث محمود بن لبيد فإنه تكلم من جهتين:
الأولى: أنه مرسل؛ لأن محمود بن لبيد لم يثبت له سماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانت ولادته في عهده صلى الله عليه وسلم وذكره في الصحابة من أجل الرؤية وقد ترجم له أحمد في مسنده وأخرج له عدة أحاديث ليس فيها شئ صرح فيه بالسماع.
الثانية: أن النسائي قال بعد تخريجه لهذا الحديث لا أعلم أحدا رواه غير مخرمة بن بكير. يعني ابن الأشج عن أبيه ورواية مخرمة عن أبيه وجادة من كتابه قاله أحمد وابن معين وغيرهما.
وقال ابن المديني: سمع من أبيه قليلا. قال ابن حجر في التقريب: روايته عن أبيه وجادة من كتابه قال أحمد وابن معين وغيرهما وقال ابن المديني: سمع من أبيه قليلا.
قال مقيده عفا الله عنه: أما الإعلال الأول بأنه مرسل فهو مردود بأنه مرسل صحابي ومراسيل الصحابة لها حكم الوصل. ومحمود بن لبيد المذكور جل روايته عن الصحابة. كما قاله ابن حجر في التقريب وغيره.
والإعلال الثاني بأن رواية مخرمة عن أبيه وجادة من كتابه فيه أن مسلما أخرج في صحيحه عدة أحاديث من رواية مخرمة عن أبيه والمسلمون مجمعون على قبول أحاديث مسلم؛ إلا بموجب صريح يقتضي الرد فالحق أن الحديث ثابت إلا أن الاستدلال به يرده.
الوجه الثاني: وهو أن حديث محمود ليس فيه التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم أنفذ الثلاث ولا أنه لم ينفذها وحديث سهل على الرواية المذكورة فيه التصريح بأنه أنفذها والمبين مقدم على المجمل كما تقرر في الأصول بل بعض العلماء احتج لإيقاع الثلاث دفعة بحديث محمود هذا.
ووجه استدلاله به أنه طلق ثلاثا يظن لزومها فلو كانت غير لازمة لبين النبي صلى الله عليه وسلم
109

أنها غير لازمة؛ لأن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة.
الوجه الثالث: أن إمام المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله أخرج حديث سهل تحت الترجمة التي هي قوله: باب من جوز الطلاق الثلاث وهو دليل على أنه يرى عدم الفرق بين اللعان وغيره في الاحتجاج بإنفاذ الثلاث دفعة.
الوجه الرابع: هو ما سيأتي من الأحاديث الدالة على وقوع الثلاث دفعة كحديث ابن عمر وحديث الحسن بن علي وإن كان الكل لا يخلو من كلام. وممن قال بأن اللعان طلاق لا فسخ: أبو حنيفة ومحمد بن الحسن وحماد وصح عن سعيد بن المسيب كما نقله الحافظ ابن حجر في فتح الباري وعن الضحاك والشعبي: إذا أكذب نفسه ردت إليه امرأته.
وبهذا كله تعلم أن رد الاحتجاج بتقريره صلى الله عليه وسلم عويمر العجلاني على إيقاع الثلاث دفعة بأن الفرقة بنفس اللعان لا يخلو من نظر ولو سلمنا أن الفرقة بنفس اللعان فإنا لا نسلم أن سكوته صلى الله عليه وسلم لا دليل فيه بل نقول لو كانت لا تقع دفعة لبين أنها لا تقع دفعة ولو كانت الفرقة بنفس اللعان كما تقدم.
ومن أدلتهم حديث عائشة الثابت في الصحيح في قصة رفاعة القرظي وامرأته فإن فيه: فقالت: يا رسول الله! إن رفاعة طلقني فبت طلاقي الحديث. وقد أخرجه البخاري تحت الترجمة المتقدمة فإن قولها فبت طلاقي ظاهر في أنه قال لها: أنت طالق البتة.
قال مقيده عفا الله عنه: الاستدلال بهذا الحديث غير ناهض فيما يظهر؛ لأن مرادها بقولها: فبت طلاقي أي: بحصول الطلقة الثالثة.
ويبينه أن البخاري ذكر في كتاب الأدب من وجه آخر أنها قالت: طلقني آخر ثلاث تطليقات وهذه الرواية تبين المراد من قولها فبت طلاقي وأنه لم يكن دفعة واحدة ومن أدلتهم حديث عائشة الثابت في الصحيح. وقد أخرجه البخاري تحت الترجمة المذكورة أيضا: أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت فطلق فسئل النبي صلى الله عليه وسلم أتحل للأول؟ قال: لا حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول فإن قوله ثلاثا ظاهر في كونها مجموعة واعترض الاستدلال بهذا الحديث بأنه مختصر من قصة رفاعة وقد قدمنا قريبا أن بعض الروايات الصحيحة دل على أنها ثلاث مفرقة لا مجموعة ورد هذا
110

الاعتراض بأن غير رفاعة قد وقع له مع امرأته نظير ما وقع لرفاعة فلا مانع من التعدد وكون الحديث الأخير في قصة أخرى كما ذكره الحافظ ابن حجر في الكلام على قصة رفاعة فإنه قال فيها ما نصه: وهذا الحديث إن كان محفوظا فالواضح من سياقه أنها قصة أخرى. وأن كلا من رفاعة القرظي ورفاعة النضري وقع له مع زوجة له طلاق فتزوج كلا منهما عبد الرحمان بن الزبير فطلقها قبل أن يمسها فالحكم في قصتهما متحد مع تغاير الأشخاص. وبهذا يتبين خطأ من وحد بينهما ظنا منه أن رفاعة بن سموءل هو رفاعة بن وهب. ا ه محل الحاجة منه بلفظه. ومن أدلتهم ما أخرجه النسائي عن محمود بن لبيد قال: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام مغضبا فقال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ وقد قدمنا أن وجه الاستدلال منه: أن المطلق يظن الثلاث المجموعة واقعة فلو كانت لا تقع لبين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تقع؛ لأنه لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه.
وقد قال ابن كثير في حديث محمود هذا: أن إسناده جيد وقال الحافظ في بلوغ المرام: رواته موثقون وقال في الفتح: رجاله ثقات فإن قيل: غضب النبي صلى الله عليه وسلم وتصريحه بأن ذلك الجمع للطلقات لعب بكتاب الله يدل على أنها لا تقع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد وفي رواية: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد فالجواب أن كونه ممنوعا ابتداء لا ينافي وقوعه بعد الإيقاع ويدل له ما سيأتي قريبا عن ابن عمر من قوله لمن سأله: وأن كنت طلقتها ثلاثا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك وعصيت الله فيما أمرك به من طلاق امرأتك ولا سيما على قول الحاكم: إنه مرفوع وهذا ثابت عن ابن عمر في الصحيح ويؤيده ما سيأتي إن شاء الله قريبا من حديثه المرفوع عند الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: كانت تبين منك وتكون معصية ويؤيده أيضا ما سيأتي إن شاء الله عن ابن عباس بإسناد صحيح أنه قال لمن سأله عن ثلاث أوقعها دفعة: إنك لم تتق الله فيجعل لك مخرجا عصيت ربك وبانت منك امرأتك.
وبالجملة فالمناسب لمرتكب المعصية التشديد لا التخفيف بعدم الإلزام ومن أدلتهم ما أخرجه الدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: فقلت: يا رسول الله! أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكان يحل لي أن أراجعها؟ قال: لا كانت تبين
111

منك وتكون معصية وفي إسناده عطاء الخراساني وهو مختلف فيه وقد وثقه الترمذي وقال النسائي وأبو حاتم: لا بأس به وكذبه سعيد بن المسيب وضعفه غير واحد وقال البخاري: ليس فيمن روي عن مالك من يستحق الترك غيره وقال شعبة: كان نسيا وقال ابن حبان: كان من خبار عباد الله غير أنه كثير الوهم سيىء الحفظ يخطئ ولا يدري فلما كثر ذلك في روايته بطل الاحتجاج به. وأيضا الزيادة التي هي محل الحجة من الحديث أعني قوله: أرأيت لو طلقتها الخ مما تفرد به عطاء المذكور. وقد شاركه الحفاظ في أصل الحديث ولم يذكروا الزيادة المذكورة. وفي إسنادها شعيب بن زريق الشامي وهو ضعيف وأعل عبد الحق في أحكامه هذا الحديث بأن في أسناده معلى بن منصور وقال: رماه أحمد بالكذب.
قال مقيده عفا الله عنه: أما عطاء الخراساني المذكور فهو من رجال مسلم في صحيحه وأما معلى بن منصور فقد قال فيه ابن حجر في التقريب: ثقة سني فقيه طلب للقضاء فامتنع أخطأ من زعم أن أحمد رماه بالكذب أخرج له الشيخان وباقي الجماعة. وأما شعيب بن زريق أبو شيبة الشامي فقد قال فيه ابن حجر في التقريب: صدوق يخطئ ومن كان كذلك فليس مردود الحديث لا سيما وقد اعتضدت روايته بما تقدم في حديث سهل وبما رواه البيهقي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما فإنه قال في (السنن الكبرى) ما نصه: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان: أنا أحمد بن عبيد الصفار أنا إبراهيم بن محمد الواسطي أنا محمد بن حميد الرازي أنا سلمة بن الفضل عن عمرو بن أبي قيس عن إبراهيم بن عبد الأعلى عن سويد بن غفلة قال: كانت عائشة الخثعمية عند الحسن بن علي رضي الله عنهما فلما قتل علي رضي الله عنه قالت: لتهنك الخلافة قال: بقتل علي تظهرين الشماتة إذهبي فأنت طالق يعني ثلاثا قال: فتلفعت بثيابها وقعدت حتى قضت عدتها فبعث إليها ببقية بقيت لها من صداقها وعشرة آلاف صدقة فلما جاءها الرسول قالت: متاع قليل من حبيب مفارق فلما بلغه قولها بكى ثم قال: لولا أني سمعت جدي أو حدثني أبي أنه سمع جدي يقول: أيما رجل طلق امرأته ثلاثا عند الأقراء أو ثلاثا مبهمة لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره لراجعتها.
وكذلك روي عن عمرو بن شمر عن عمران بن مسلم وإبراهيم بن عبد الأعلى عن سويد بن غفلة. اه منه بلفظه. وضعف هذا الإسناد بأن فيه محمد بن
112

حميد بن حيان الرازي قال فيه ابن حجر في (التقريب): حافظ ضعيف وكان ابن معين حسن الرأي فيه أن فيه أيضا سلمة بن الفضل الأبرش مولى الأنصار قاضي الري قال فيه في (التقريب): صدوق كثير الخطأ وروي من غير هذا الوجه وروي نحوه الطبراني من حديث سويد بن غفلة وضعف الحديث إسحاق بن راهويه ويؤيد حديث ابن عمر المذكور أيضا ما ثبت في الصحيح عن ابن عمر من أنه قال: وإن كنت طلقتها ثلاثا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك وعصيت الله فيما أمرك به من طلاق امرأتك. ولا سيما على قول الحاكم: إنه مرفوع وعلى ثبوت حديث ابن عمر المذكور فهو ظاهر في محل النزاع.
فما ذكره بعض أهل العلم من أنه لو صح لم يكن فيه حجة؛ بناء على حمله على كون الثلاث مفرقة لا مجتمعة فهو بعيد. والحديث ظاهر في كونها مجتمعة؛ لأن ابن عمر لا يسأل عن الثلاث المتفرقة إذ لا يخفى عليه أنها محرمة وليس محل نزاع. ومن أدلتهم ما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن عبادة بن الصامت قال: طلق جدي امرأة له ألف تطليقة فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما اتقى الله جدلك أما ثلاث فله. وأما تسعمائة وسبع وتسعون فعدوان وظلم إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له. وفي رواية: إن أباك لم يتق الله فيجعل له مخرجا بانت منه بثلاث على غير السنة وتسعمائة وسبع وتسعون إثم في عنقه وفي إسناده يحيى بن العلاء وعبيد الله بن الوليد وإبراهيم بن عبيد الله ولا يحتج بواحد منهم.
وقد رواه بعضهم عن صدقة بن أبي عمران عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده. ومن أدلتهم ما رواه ابن ماجة عن الشعبي قال: قلت لفاطمة بنت قيس: حدثيني عن طلاقك قالت: طلقني زوجي ثلاثا وهو خارج إلى اليمن فأجاز ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية أبي أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن فاطمة بنت قيس قالت: يا رسول الله إن زوجي طلقني ثلاثا فأخاف أن يقتحم علي فأمرها فتحولت.
وفي مسلم من رواية أبي سلمة أن فاطمة بنت قيس أخبرته أن أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلقها ثلاثا ثم انطلق إلى اليمن الخ 000... وفيه عن أبي سلمة أيضا أنها قالت: فطلقني البتة.
قالوا: فهذه الروايات ظاهرة في أن الطلاق كان بالثلاث المجتمعة ولا سيما
113

حديث الشعبي؛ لقولها فيه: فأجاز ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لا يحتاج إلى الإخبار بإجازته إلا الثلاث المجتمعة ورد الاستدلال بهذا الحديث بما ثبت في بعض الروايات الصحيحة كما أخرجه مسلم من رواية أبي سلمة أيضا: أن فاطمة أخبرته أنها كانت تحت أبي عمرو بن حفص بن المغيرة فطلقها آخر ثلاث تطليقات.
فهذه الرواية تفسر الروايات المتقدمة وتظهر أن المقصود منها أن ذلك وقع مفرقا لا دفعة ورد بعضهم هذا الاعتراض بأن الروايات المذكورة تدل على عدم تفريق الصحابة والتابعين بين صيغ البينونة الثلاث يعنون لفظ البتة والثلاث المجتمعة والثلاث المتفرقة؛ لتعبيرها في بعض الروايات بلفظ طلقني ثلاثا وفي بعضها بلفظ: طلقني البتة وفي بعضها بلفظ: فطلقني آخر ثلاث تطليقات. فلم تخص لفظا منها عن لفظ؛ لعلمها بتساوي الصيغ.
ولو علمت أن بعضها لا يحرم لاحترزت منه.
قالوا: والشعبي قال لها: حدثيني عن طلاقك أي: عن كيفيته وحاله. فكيف يسأل عن الكيفية ويقبل الجواب بما فيه عنده إجمال من غير أن يستفسر عنه وأبو سلمة روى عنها الصيغ الثلاث فلو كان بينه عنده تفاوت لاعترض عليها باختلاف ألفاظها. وتثبت حتى يعلم منها بأي الصيغ وقعت بينونتها فتركه لذلك دليل على تساوي الصيغ المذكورة عنده هكذا ذكره بعض الأجلاء.
والظاهر أن هذا الحديث لا دليل فيه؛ لأن الروايات التي فيها إجمال بينتها الرواية الصحيحة الأخرى كما هو ظاهر والعلم عند الله تعالى.
ومن أدلتهم ما رواه أبو داود والدارقطني وقال: قال أبو داود: هذا حديث حسن صحيح والشافعي والترمذي وابن ماجة وصححه ابن حبان والحاكم عن ركانة بن عبد الله أنه طلق امرأته سهيمة البتة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. فقال: والله ما أردت إلا واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما أردت إلا واحدة؟ فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلقها الثانية في زمان عمر بن الخطاب والثالثة في زمن عثمان فهذا الحديث صححه أبو داود وابن حبان والحاكم.
وقال فيه ابن ماجة: سمعت أبا الحسن علي بن محمد الطنافسي يقول: ما أشرف هذا الحديث.
114

وقال الشوكاني في نيل الأوطار: قال ابن كثير: قد رواه أبو داود من وجه آخر وله طرق أخر فهو حسن إن شاء الله. وهو نص في محل النزاع؛ لأن تحليفه صلى الله عليه وسلم لركانة ما أراد بلفظ البتة إلا واحدة دليل على أنه لو أراد بها أكثر من الواحدة لوقع والثلاث أصرح في ذلك في لفظ البتة؛ لأن البتة كناية والثلاث صريح ولو كان لا يقع أكثر من واحدة لما كان لتحليفه معنى مع اعتضاد هذا الحديث بما قدمنا من الأحاديث. وبما سنذكره بعده إن شاء الله تعالى وإن كان الكل لا يخلو من كلام مع أن هذا الحديث تكلم فيه: بأن في إسناده الزبير بن سعيد بن سليمان بن سعيد بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب الهاشمي.
قال فيه ابن حجر في التقريب: لين الحديث وقد ضعفه غير واحد. وقيل: إنه متروك والحق ما قاله فيه ابن حجر من أنه لين الحديث.
وذكر الترمذي عن البخاري أنه مضطرب فيه. يقال ثلاثا وتارة قيل واحدة. وأصحها أنه طلقها البتة وأن الثلاث ذكرت فيه على المعنى.
وقال ابن عبد البر في التمهيد: تكلموا في هذا الحديث وقد قدمنا آنفا تصحيح أبي داود وابن حبان والحاكم له وأن ابن كثير قال: إنه حسن وإنه معتضد بالأحاديث المذكورة قبله كحديث ابن عمر عند الدارقطني وحديث الحسن عند البيهقي وحديث سهل بن سعد الساعدي في لعان عويمر وزوجه ولا سيما على رواية فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني الثلاث بلفظ واحد كما تقدم.
ويعتضد أيضا بما رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن حماد بن زيد قال: قلت لأيوب: هل علمت أحدا قال في أمرك بيدك أنها ثلاث غير الحسن؟ قال: لا ثم قال: اللهم غفرا إلا ما حدثني قتادة عن كثير مولى ابن سمرة عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث. فلقيت كثيرا فسألته فلم يعرفه فرجعت إلى قتادة فأخبرته فقال: نسي.
وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث سليمان بن حرب عن حماد بن زيد وتكلم في هذا الحديث من ثلاث جهات:
الأولى: أن البخاري لم يعرفه مرفوعا وقال إنه موقوف على أبي هريرة ويجاب عن هذا: بأن الرفع زيادة وزيادة العدل مقبولة وقد رواه سليمان بن حرب عن
115

حماد بن زيد مرفوعا وجلالتهما معروفة.
قال في مراقي السعود: الرجز:
* والرفع والوصل وزيد اللفظ
* مقبولة عند إمام الحفظ
*
الثانية: أن كثيرا نسيه ويجاب عن هذا بأن نسيان الشيخ لا يبطل رواية من روى عنه؛ لأنه يقل راو يحفظ طول الزمان ما يرويه وهذا قول الجمهور.
وقد روى سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين ونسيه فكان يقول: حدثني ربيعة عني ولم ينكر عليه أحد وأشار إليه العراقي في ألفيته بقوله: الرجز:
* وإن يرده بلا أذكر أو
* ما يقتضي نسيانه فقد رأوا
*
* الحكم للذاكر عند المعظم
* وحكي الإسقاط عن بعضهم
*
* كقصة الشاهد واليمين إذ
* نسيه سهيل الذي أخذ عنه
*
* فكان بعد عن ربيعه
* عن نفسه يرويه لن يضيعه
*
الثالثة: تضعيفه بكثير مولى ابن سمرة كما قال ابن حزم إنه مجهول ويجاب عنه بأن ابن حجر قال في التقريب: إنه مقبول ومن أدلتهم ما رواه الدارقطني من حديث زاذان عن علي رضي الله عنه قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا طلق البتة فغضب وقال: أتتخذون آيات الله هزوا؟ أو دين الله هزوا أو لعبا؟ من طلق البتة ألزمناه ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره وفيه إسماعيل بن أمية قال فيه الدارقطني: كوفي ضعيف.
ومن أدلتهم ما رواه الدارقطني من حديث حماد بن زيد حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت معاذ بن جبل يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا معاذ من طلق للبدعة واحدة أو اثنتين أو ثلاثا ألزمناه بدعته وفي إسناده إسماعيل بن أمية الذارع وهو ضعيف أيضا. فهذه الأحاديث
وإن كانت لا يخلو شئ منها من مقال فإن كثرتها واختلاف طرقها وتباين مخارجها يدل على أن لها أصلا والضعاف المعتبر بها إذا تباينت مخارجها شد بعضها بعضا فصلح مجموعها للاحتجاج ولا سيما أن منها ما صححه بعض العلماء كحديث طلاق ركانة البتة وحسنه ابن كثير ومنها ما هو صحيح وهو رواية إنفاذه صلى الله عليه وسلم طلاق عويمر ثلاثا
116

مجموعة عند أبي داود.
وقد علمت معارضة تضعيف حديث ابن عمر عند الدارقطني من جهة عطاء الخراساني ومعلى بن منصور وشعيب بن زريق إلى آخر ما تقدم: الخفيف:
* لا تخاصم بواحد أهل بيت
* فضعيفان يغلبان قويا
*
وقال النووي في شرح مسلم ما نصه: واحتج الجمهور بقوله تعالى: * (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا * تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) *.
قالوا: معناه أن المطلق قد يحدث له ندم فلا يمكنه تداركه؛ لوقوع البينونة فلو كانت الثلاث لا تقع لم يقع طلاقه هذا إلا رجعيا فلا يندم. اه محل الغرض منه بلفظه.
قال مقيده عفا الله عنه: ومما يؤيد هذا الاستدلال القرءاني ما أخرجه أبو داود بسند صحيح من طريق مجاهد قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال إنه طلق امرأته ثلاثا فسكت حتى ظننت أنه سيردها إليه فقال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة ثم يقول يا ابن عباس إن الله قال: * (ومن يتق الله يجعل له مخرجا) * وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجا عصيت ربك وبانت منك امرأتك. وأخرج له أبو داود متابعات عن ابن عباس بنحوه وهذا تفسير من ابن عباس للآية بأنها يدخل في معناها * (ومن يتق الله) * ولم يجمع الطلاق في لفظة واحدة يجعل له مخرجا بالرجعة؛ لوقوع البينونة بها مجتمعة هذا هو معنى كلامه الذي لا يحتمل غيره. وهو قوي جدا في محل النزاع؛ لأنه مفسر به قرءانا وهو ترجمان القرءان وقد قال صلى الله عليه وسلم: اللهم علمه التأويل. وعلى هذا القول جل الصحابة وأكثر العلماء منهم الأئمة الأربعة. وحكى غير واحد عليه الإجماع واحتج المخالفون بأربعة أحاديث الأول: حديث ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس عند أحمد وأبي يعلى وصححه بعضهم قال: طلق ركانة بن عبد يزيد امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: كيف طلقتها؟ قال: ثلاثا في مجلس واحد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما تلك واحدة فارتجعها إن شئت فارتجعها.
قال مقيده عفا الله عنه: الاستدلال بهذا الحديث مردود من ثلاثة أوجه:
117

الأول: أنه لا دليل فيه البتة على محل النزاع على فرض صحته لا بدلالة المطابقة ولا بدلالة التضمن ولا بدلالة الالتزام؛ لأن لفظ المتن أن الطلقات الثلاث واقعة في مجلس واحد ولا شك أن كونها في مجلس واحد لا يلزم منه كونها بلفظ واحد فادعاء أنها لما كانت في مجلس واحد لا بد أن تكون بلفظ واحد في غاية البطلان كما ترى؛ إذ لم يدل كونها في مجلس واحد على كونها بلفظ واحد. بنقل ولا عقل ولا لغة كما لا يخفى على أحد. بل الحديث أظهر في كونها ليست بلفظ واحد إذ لو كانت بلفظ واحد لقال بلفظ واحد وترك ذكر المجلس؛ إذ لا داعي لترك الأخص والتعبير بالأعم بلا موجب كما ترى.
وبالجملة فهذا الدليل يقدح فيه بالقادح المعروف عند أهل الأصول بالقول بالموجب فيقال: سلمنا أنها في مجلس واحد ولكن من أين لك أنها بلفظ واحد فافهم. وسترى تمام هذا المبحث إن شاء الله في الكلام على حديث طاوس عند مسلم.
الثاني: أن داود بن الحصين الذي هو راوي هذا الحديث عن عكرمة ليس بثقة في عكرمة.
قال ابن حجر في التقريب: داود بن الحصين الأموي مولاهم أبو سليمان المدني ثقة إلا في عكرمة ورمى برأي الخوارج اه. وإذا كان غير ثقة في عكرمة كان الحديث المذكور من رواية غير ثقة. مع أنه قدمنا أنه لو كان صحيحا لما كانت فيه حجة.
الثالث: ما ذكره ابن حجر في فتح الباري فإنه قال فيه ما نصه: الثالث: أن أبا داود رجح أن ركانة إنما طلق امرأته البتة كما أخرجه هو من طريق آل بيت ركانة وهو تعليل قوي؛ لجواز أن يكون بعض رواته حمل البتة على الثلاث فقال طلقها ثلاثا فبهذه النكتة يقف الاستدلال بحديث ابن عباس. اه منه بلفظه.
يعني حديث ابن إسحاق عن داود بن الحصين المذكور عن عكرمة عن ابن عباس مع أنا قدمنا أن الحديث لا دليل فيه أصلا على محل النزاع. وبما ذكرنا يظهر سقوط الاستدلال بحديث ابن إسحاق المذكور.
الحديث الثاني من الأحاديث الأربعة التي استدل بها من جعل الثلاث واحدة: هو
118

ما جاء في بعض روايات حديث ابن عمر من أنه طلق امرأته في الحيض ثلاثا فاحتسب بواحدة ولا يخفى سقوط هذا الاستدلال وأن الصحيح أنه إنما طلقها واحدة كما جاء في الروايات الصحيحة عند مسلم وغيره.
وقال النووي في شرح مسلم ما نصه: وأما حديث ابن عمر فالروايات الصحيحة التي ذكرها مسلم وغيره أنه طلقها واحدة.
وقال القرطبي في تفسيره ما نصه: والمحفوظ أن ابن عمر طلق امرأته واحدة في الحيض.
قال عبد الله: وكان تطليقه إياها في الحيض واحدة؛ غير أنه خالف السنة. وكذلك قال صالح بن كيسان وموسى بن عقبة وإسماعيل بن أمية. وليث بن سعد وابن أبي ذئب وابن جريج وجابر وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن نافع أن ابن عمر طلق تطليقة واحدة.
وكذا قال الزهري عن سالم عن أبيه ويونس بن جبير والشعبي والحسن. اه منه بلفظه. فسقوط الاستدلال بحديث ابن عمر في غاية الظهور.
الحديث الثالث من أدلتهم: هو ما رواه أبو داود في سننه حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم عن عكرمة عن ابن عباس قال: طلق عبد يزيد _ أبو ركانة وإخوته أم ركانة ونكح امرأة من مزينة فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة _ لشعرة أخذتها من رأسها ففرق بيني وبينه. فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حمية فدعا بركانة وإخوته ثم قال لجلسائه: أترون فلانا يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد؟ وفلانا يشبه منه كذا وكذا؟ قالوا: نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: طلقها ففعل فقال: راجع امرأتك أم ركانة فقال: إني طلقتها ثلاثا يا رسول الله قال: قد علمت راجعها وتلا: * (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة) *. قال مقيده عفا الله عنه: والاستدلال بهذا الحديث ظاهر السقوط؛ لأن ابن جريج قال: أخبرني بعض بني أبي رافع وهي رواية عن مجهول لا يدرى من هو؟ فسقوطها كما ترى. ولا شك أن حديث أبي داود المتقدم أولى بالقبول من هذا الذي لا خلاف في
119

ضعفه.
وقد تقدم أن ذلك فيه أنه طلقها البتة وأن النبي صلى الله عليه وسلم أحلفه ما أراد إلا واحدة وهو دليل واضح على نفوذ الطلقات المجتمعة كما تقدم.
الحديث الرابع هو ما أخرجه مسلم في صحيحه: حدثنا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع واللفظ لابن رافع.
قال إساحق: أخبرنا وقال ابن رافع: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا روح بن عبادة أخبرنا ابن جريج وحدثنا ابن رافع واللفظ له حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني ابن طاوس عن أبيه أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم إنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وثلاثا من إمارة عمر؟ فقال ابن عباس: نعم.
وحدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة؟ فقال: قد كان ذلك فلما كان في عهد عمر تتايع الناس في الطلاق فأجازه عليهم هذا لفظ مسلم في صحيحه.
وهذه الطريق الأخيرة أخرجها أبو داود ولكن لم يسم إبراهيم بن ميسرة.
وقال بدله عن غيره واحد ولفظ المتن أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر؟.
قال ابن عباس: بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر فلما رأى الناس يعني عمر قد تتايعوا فيها قال: أجيزوهن عليهم وللجمهور عن حديث ابن عباس هذا عدة أجوبة:
120

الأول: أن الثلاث المذكورة فيه التي كانت تجعل واحدة ليس في شئ من روايات الحديث التصريح بأنها واقعة بلفظ واحد ولفظ طلاق الثلاث لا يلزم منه لغة ولا عقلا ولا شرعا أن تكون بلفظ واحد فمن قال لزوجته: أنت طالق أنت طالق أنت طالق ثلاث مرات في وقت واحد فطلاقه هذا طلاق الثلاث؛ لأنه صرح بالطلاق فيه ثلاث مرات وإذا قيل لمن جزم بأن المراد في الحديث إيقاع الثلاث بكلمة واحدة من أين أخذت كونها بكلمة واحدة؟ فهل في لفظ من ألفاظ الحديث أنها بكلمة واحدة؟ وهل يمنع إطلاق الطلاق الثلاث على الطلاق بكلمات متعددة؟ فإن قال: لا يقال له طلاق الثلاث إلا إذا كان بكلمة واحدة فلا شك في أن دعواه هذه غير صحيحة وإن اعترف بالحق وقال: يجوز إطلاقه على ما أوقع بكلمة واحدة وعلى ما أوقع بكلمات متعددة وهو أشد بظاهر اللفظ قيل له: وإذن فجزمك بكونه بكلمة واحدة لا وجه له وإذا لم يتعين في الحديث كون الثلاث بلفظ واحد سقط الاستدلال به من أصله في محل النزاع. ومما يدل على أنه لا يلزم من لفظ طلاق الثلاث في هذا الحديث كونها بكلمة واحدة أن الإمام أبا عبد الرحمان النسائي مع جلالته وعلمه وشدة فهمه ما فهم من هذا الحديث إلا أن المراد بطلاق الثلاث فيه أنت طالق أنت طالق أنت طالق بتفريق الطلقات؛ لأن لفظ الثلاث أظهر في إيقاع الطلاق ثلاث مرات. ولذا ترجم في سننه لرواية أبي داود المذكورة في هذا الحديث. فقال: باب طلاق الثلاث المتفرقة قبل الدخول بالزوجة ثم قال: أخبرنا أبو داود سليمان بن سيف قال: حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه: أن أبا الصهباء جاء إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: يا ابن عباس ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر ترد إلى الواحدة؟ قال: نعم فترى هذا الإمام الجليل صرح بأن طلاق الثلاث في هذا الحديث ليس بلفظ واحد بل بإلفاظ متفرقة ويدل على صحة ما فهمه النسائي رحمه الله من الحديث ما ذكره ابن القيم في زاد المعاد في الرد على من استدل لوقوع الثلاث دفعة بحديث عائشة: أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت. الحديث. فإنه قال فيه ما نصه: ولكن أين في الحديث أنه طلق الثلاث بفم واحد؟ بل الحديث حجة لنا فإنه لا يقال فعل ذلك ثلاثا وقال ثلاثا إلا من فعل وقال مرة بعد مرة وهذا هو المعقول في لغات الأمم عربهم وعجمهم. كما يقال قذفه ثلاثا وشتمه ثلاثا وسلم عليه ثلاثا. اه منه بلفظه.
121

وهو دليل واضح لصحة ما فهمه أبو عبد الرحمان النسائي رحمه الله من الحديث؛ لأن لفظ الثلاث في جميع رواياته أظهر في أنها طلقات ثلاث واقعة مرة بعد مرة كما أوضحه ابن القيم في حديث عائشة المذكور آنفا.
وممن قال: بأن المراد بالثلاث في حديث طاوس المذكور الثلاث المفرقة بألفاظ نحو أنت طالق أنت طالق أنت طالق ابن سريج فإنه قال: يشبه أن يكون ورد في تكرير اللفظ كأن يقول أنت طالق أنت طالق أنت طالق. وكانوا أولا على سلامة صدورهم يقبل منهم أنهم أرادوا التأكيد فلما كثر الناس في زمن عمر وكثر فيهم الخداع ونحوه؛ مما يمنع قبول من ادعى التأكيد حمل عمر اللفظ على ظاهر التكرار فأمضاه عليهم. قاله ابن حجر في الفتح وقال: إن هذا الجواب ارتضاه القرطبي وقواه بقول عمر: إن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة.
وقال النووي في شرح مسلم ما نصه: وأما حديث ابن عباس فاختلف الناس في جوابه وتأويله فالأصح أن معناه أنه كان في أول الأمر إذا قال لها: أنت طالق أن طالق أنت طالق ولم ينو تأكيدا ولا استئنافا يحكم بوقوع طلقة؛ لقلة إرادتهم الاستئناف بذلك فحمل على الغالب الذي هو إرادة التأكيد. فلما كان في زمن عمر رضي الله عنه وكثر استعمال الناس لهذه الصيغة وغلب منهم إرادة الاستئناف بها حملت عند الإطلاق على الثلاث؛ عملا بالغالب السابق إلى الفهم في ذلك العصر.
قال مقيده عفا الله عنه: وهذا الوجه لا إشكال فيه؛ لجواز تغير الحال عند تغير القصد؛ لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى وظاهر اللفظ يدل لهذا كما قدمنا.
وعلى كل حال فادعاء الجزم بأن معنى حديث طاوس المذكور أن الثلاث بلفظ واحد ادعاء خال من دليل كما رأيت فليتق الله من تجرأ على عزو ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه ليس في شئ من روايات حديث طاوس كون الثلاث المذكورة بلفظ واحد ولم يتعين ذلك من اللغة ولا من الشرع ولا من العقل كما ترى.
قال مقيده عفا الله عنه: ويدل لكون الثلاث المذكورة ليست بلفظ واحد ما تقدم في حديث ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس عن أحمد وأبي يعلى من قوله: طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد وقوله صلى الله عليه وسلم: كيف طلقتها؟
122

قال: ثلاثا في مجلس واحد؛ لأن التعبير بلفظ المجلس يفهم منه أنها ليست بلفظ واحد إذ لو كان اللفظ واحدا لقال بلفظ واحد ولم يحتج إلى ذكر المجلس إذ لا داعي لذكر الوصف الأعم وترك الأخص بلا موجب كما هو ظاهر الجواب الثاني عن حديث ابن عباس هو: أن معنى الحديث أن الطلاق الواقع في زمن عمر ثلاثا كان يقع قبل ذلك واحدة؛ لأنهم كانوا لا يستعملون الثلاث أصلا أو يستعملونها نادرا. وأما في عهد عمر فكثر استعمالهم لها.
ومعنى قوله: فأمضاه عليهم على هذا القول أنه صنع فيه من الحكم بإيقاع الطلاق ما كان يصنع قبله ورجح هذا التأويل ابن العربي ونسبه إلى أبي زرعة الرازي. وكذا أورده البيهقي بإسناده الصحيح إلى أبي زرعة أنه قال: معنى هذا الحديث عندي إنما تطلقون أنتم ثلاثا كانوا يطلقون واحدة. قال النووي: وعلى هذا فيكون الخبر وقع عن اختلاف عادة الناس خاصة لا عن تغيير الحكم في المسألة الواحدة وهذا الجواب نقله القرطبي في تفسير قوله تعالى: * (الطلاق مرتان) * عن المحقق القاضي أبي الوليد الباجي والقاضي عبد الوهاب والكيا الطبري.
قال مقيده عفا الله عنه: ولا يخفى ما في هذا الجواب من التعسف وإن قال به بعض أجلاء العلماء.
الجواب الثالث: عن حديث ابن عباس رضي الله عنهما هو القول بأنه منسوخ وأن بعض الصحابة لم يطلع على النسخ إلا في عهد عمر فقد نقل البيهقي في السنن الكبرى في باب من جعل الثلاث واحدة عن الإمام الشافعي ما نصه:
قال الشافعي: فإن كان معنى قول ابن عباس أن الثلاث كانت تحسب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة يعني أنه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فالذي يشبه والله أعلم أن يكون ابن عباس علم أن كان شيئا فنسخ فإن قيل: فما دل على ما وصفت؟ قيل: لا يشبه أن يكون ابن عباس يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ثم يخالفه بشئ لم يعلمه كان من النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلاف. قال الشيخ: ورواية عكرمة عن ابن عباس قد مضت في النسخ وفيها تأكيد لصحة هذا التأويل. قال الشافعي: فإن قيل: فلعل هذا شئ روي عن عمر فقال فيه ابن عباس بقول عمر رضي الله عنه قيل: قد علمنا أن ابن عباس رضي الله عنهما يخالف عمر رضي الله عنه في نكاح المتعة وفي بيع الدينار بالدينارين وفي بيع أمهات الأولاد وغيره فكيف يوافقه في شئ يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلافه؟ اه
123

محل الحاجة من البيهقي بلفظه.
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ما نصه: الجواب الثالث دعوى النسخ فنقل البيهقي عن الشافعي أنه قال: يشبه أن يكون ابن عباس علم شيئا نسخ ذلك قال البيهقي: ويقويه ما أخرجه أبو داود من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك. والترجمة التي ذكر تحتها أبو داود الحديث المذكور هي قوله: باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث.
وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: * (الطلاق مرتان) * الآية بعد أن ساق حديث أبي داود المذكور آنفا ما نصه: ورواه النسائي عن زكريا بن يحيى عن إسحاق بن إبراهيم عن علي بن الحسين به وقال ابن أبي حاتم: حدثنا هارون بن إسحاق حدثنا عبدة يعني: ابن سليمان عن هشام بن عروة عن أبيه أن رجلا قال لامرأته لا أطلقك أبدا ولا آويك أبدا قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلق حتى إذا دنا أجلك راجعتك فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت له ذلك فأنزل الله عز وجل: * (الطلاق مرتان) * قال: فاستقبل الناس الطلاق من كان طلق ومن لم يكن طلق وقد رواه أبو بكر بن مردويه من طريق محمد بن سليمان عن يعلى بن شبيب مولى الزبير عن هشام عن أبيه عن عائشة: فذكره بنحو ما تقدم ورواه الترمذي عن قتيبة عن يعلى بن شبيب به ثم رواه عن أبي كريب عن ابن إدريس عن هشام عن أبيه مرسلا وقال: هذا أصح. ورواه الحاكم في مستدركه من طريق يعقوب بن حميد بن كليب عن يعلى بن شبيب به وقال: صحيح الإسناد.
ثم قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا إسماعيل بن عبد الله حدثنا محمد بن حميد حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: لم يكن للطلاق وقت يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها ما لم تنقض العدة وكان بين رجل من الأنصار وبين أهله بعض ما يكون بين الناس فقال: والله
لأتركنك لا أيما ولا ذات زوج فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها ففعل ذلك مرارا فأنزل الله عز وجل: * (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) * فوقت الطلاق ثلاثا لا رجعة فيه بعد الثالثة حتى تنكح زوجا غيره. وهكذا روي عن قتادة مرسلا ذكره السدي وابن زيد
124

وابن جرير كذلك. واختار أن هذا تفسير هذه الآية. ا ه من ابن كثير بلفظه.
وفي هذه الروايات دلالة واضحة لنسخ المراجعة بعد الثلاث وإنكار المازري _ رحمه الله ادعاء النسخ مردود بما رده به الحافظ ابن حجر في فتح الباري؛ فإنه لما نقل عن المازري إنكاره للنسخ من أوجه متعددة قال بعده ما نصه: قلت: نقل النووي هذا الفصل في شرح مسلم وأقره وهو متعقب في مواضع:
أحدها: أن الذي ادعى نسخ الحكم لم يقل: إن عمر هو الذي نسخ حتى يلزم منه ما ذكر وإنما قال ما تقدم: يشبه أن يكون علم شيئا من ذلك نسخ أي اطلع على ناسخ للحكم الذي رواه مرفوعا. ولذلك أفتى بخلافه وقد سلم المازري في أثناء كلامه أن إجماعهم يدل على ناسخ وهذا هو مراد من ادعى النسخ.
الثاني: إنكاره الخروج عن الظاهر عجيب؛ فإن الذي يحاول الجمع بالتأويل يرتكب خلاف الظاهر حتما.
الثالث: أن تغليطه من قال المراد ظهور النسخ عجيب أيضا؛ لأن المراد بظهوره انتشاره وكلام ابن عباس أنه كان يفعل في زمن أبي بكر محمول على أن الذي كان يفعله من لم يبلغه النسخ فلا يلزم ما ذكر من إجماعهم على الخطأ. اه محل الحاجة من فتح الباري بلفظه ولا إشكال فيه؛ لأن كثيرا من الصحابة اطلع على كثير من الأحكام لم يكن يعلمه وقد وقع ذلك في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان فأبو بكر لم يكن عالما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في ميراث الجدة حتى أخبره المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة وعمر لم يكن عنده علم بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في دية الجنين حتى أخبره المذكوران قبل ولم يكن عنده علم من أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية من مجوس هجر حتى أخبره عبد الرحمان بن عوف. ولا من الاستئذان ثلاثا حتى أخبره أبو موسى الأشعري وأبو سعيد الخدري وعثمان لم يكن عنده علم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب السكنى للمتوفى عنها زمن العدة حتى أخبرته فريعة بنت مالك.
والعباس بن عبد المطلب وفاطمة الزهراء رضي الله عنهما لم يكن عندهما علم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنا معاشر الأنبياء لا نورث الحديث حتى طلبا ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمثال هذا كثيرة جدا وأوضح دليل يزيل الإشكال عن القول بالنسخ المذكور وقوع مثله واعتراف المخالف به في نكاح المتعة فإن مسلما روى عن جابر
125

رضي الله عنه: أن متعة النساء كانت تفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر قال: ثم نهانا عمر عنها فانتهينا وهذا مثل ما وقع في طلاق الثلاث طبقا ما أشبه الليلة بالبارحة: الطويل:
* فإلا يكنها أو تكنه فإنه
* أخوها غذته أمه بلبانها
*
فمن الغريب أن يسلم منصف إمكان النسخ في إحداهما ويدعي استحالته في الأخرى مع أن كلا منهما روى مسلم فيها عن صحابي جليل: أن ذلك الأمر كان يفعل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر في مسألة تتعلق بالفروج ثم غيره عمر.
ومن أجاز نسخ نكاح المتعة وأحال نسخ جعل الثلاث واحدة يقال له: ما لبائك تجر وبائي لا تجر؟ فإن قيل: نكاح المتعة صح النص بنسخه. قلنا: قد رأيت الروايات المتقدمة بنسخ المراجعة بعد الثلاث. وممن جزم بنسخ جعل الثلاث واحدة الإمام أبو داود رحمه الله تعالى ورأى أن جعلها واحدة إنما هو في الزمن الذي كان يرتجع فيه بعد ثلاث تطليقات وأكثر قال في سننه: باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث ثم ساق بسنده حديث ابن عباس قال: * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) *. وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك وقال: * (الطلاق مرتان) * الآية. وأخرج نحوه النسائي وفي إسناده علي بن الحسين بن واقد قال فيه ابن حجر في التقريب: صدوق يهم وروى مالك في الموطأ عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك له وإن طلقها ألف مرة فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا أشرفت على انقضاء عدتها راجعها ثم قال: لا آويك ولا أطلقك فأنزل الله: * (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) * فاستقبل الناس الطلاق جديدا من يومئذ من كان طلق منهم أو لم يطلق.
ويؤيد هذا أن عمر لم ينكر عليه أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إيقاع الثلاث دفعة مع كثرتهم وعلمهم وورعهم ويؤيده: أن كثيرا جدا من الصحابة الأجلاء العلماء صح عنهم القول بذلك كابن عباس وعمر وابن عمر وخلق لا يحصى
126

. والناسخ الذي نسخ المراجعة بعد الثلاث قال بعض العلماء: إنه قوله تعالى: * (الطلاق مرتان) * كما جاء مبينا في الروايات المتقدمة ولا مانع عقلا ولا عادة من أن يجهل مثل هذا الناسخ كثير من الناس إلى خلافة عمر مع أنه صلى الله عليه وسلم صرح بنسخها وتحريمها إلى يوم القيامة في غزوة الفتح وفي حجة الوداع أيضا كما جاء في رواية عند مسلم.
ومع أن القرءان دل على تحريم غير الزوجة والسرية بقوله: * (والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) * ومعلوم أن المرأة المتمتع بها ليست بزوجة ولا سرية كما يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى: * (فما استمتعتم به منهن) *. والذين قالوا: بالنسخ قالوا: في معنى قول عمر: إن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة أن المراد بالأناة أنهم كانوا يتأنون في الطلاق فلا يوقعون الثلاث في وقت واحد. ومعنى استعجالهم
أنهم صاروا يوقعونها بلفظ واحد على القول بأن ذلك هو معنى الحديث. وقد قدمنا أنه لا يتعين كونه هو معناه وإمضاؤه له عليهم إذن هو اللازم ولا ينافيه قوله فلو أمضيناه عليهم يعني ألزمناهم بمقتضى ما قالوا ونظيره: قول جابر عند مسلم في نكاح المتعة: فنهانا عنها عمر. فظاهر كل منهما أنه اجتهاد من عمر والنسخ ثابت فيهما معا كما رأيت وليست الأناة في المنسوخ وإنما هي في عدم الاستعجال بإيقاع الثلاث دفعة. وعلى القول الأول: إن المراد بالثلاث التي كانت تجعل واحدة أنت طالق أنت طالق أنت طالق. فالظاهر في إمضائه لها عليهم أنه من حيث تغير قصدهم من التأكيد إلى التأسيس كما تقدم. ولا إشكال في ذلك.
أما كون عمر كان يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجعل الثلاث بلفظ واحد واحدة فتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلها ثلاثا ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فلا يخفى بعده والعلم عند الله تعالى.
الجواب الرابع: عن حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رواية طاوس عن ابن عباس مخالفة لما رواه عنه الحفاظ من أصحابه فقد روى عنه لزوم الثلاث دفعة سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وعكرمة وعمرو بن دينار وملك بن الحرث ومحمد بن إياس بن البكير ومعاوية بن أبي عياش الأنصاري كما نقله البيهقي في السنن الكبرى والقرطبي وغيرهما.
127

وقال البيهقي في السنن الكبرى: إن البخاري لم يخرج هذا الحديث؛ لمخالفة هؤلاء لرواية طاوس عن ابن عباس.
وقال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس: كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما طلاق الثلاث واحدة بأي شئ تدفعه؟ قال برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه وكذلك نقل عنه ابن منصور قاله ابن القيم. قال مقيده عفا الله عنه: فهذا إمام المحدثين وسيد المسلمين في عصره الذي تدارك الله به الإسلام بعد ما كاد تتزلزل قواعده وتغير عقائده أبو عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى قال للأثرم وابن منصور: إنه رفض حديث ابن عباس قصدا؛ لأنه يرى عدم الاحتجاج به في لزوم الثلاث بلفظ واحد؛ لرواية الحفاظ عن ابن عباس ما يخالف ذلك وهذا الإمام محمد بن إسماعيل البخاري وهو هو ذكر عنه الحافظ البيهقي أنه ترك هذا الحديث عمدا؛ لذلك الموجب الذي تركه من أجله الإمام أحمد. ولا شك أنهما ما تركاه إلا لموجب يقتضي ذلك فإن قيل: رواية طاوس في حكم المرفوع ورواية الجماعة المذكورين موقوفة على ابن عباس والمرفوع لا يعارض بالموقوف.
فالجواب أن الصحابي إذا خالف ما روي ففيه للعلماء قولان: وهما روايتان عن أحمد رحمه الله:
الأولى: أنه لا يحتج بالحديث؛ لأن أعلم الناس به راويه وقد ترك العمل به وهو عدل عارف وعلى هذه رواية فلا إشكال.
وعلى الرواية الأخرى التي هي المشهورة عند العلماء أن العبرة بروايته لا بقوله. فإنه لا تقدم روايته إلا إذا كانت صريحة المعنى أو ظاهرة فيه ظهورا يضعف معه احتمال مقابله أما إذا كانت محتملة لغير ذلك المعنى احتمالا قويا فإن مخالفة الراوي لما روى تدل على أن ذلك المحتمل الذي ترك ليس هو معنى ما روى وقد قدمنا أن لفظ طلاق الثلاث في حديث طاوس المذكور محتمل احتمالا قويا لأن تكون الطلقات مفرقة كما جزم به النسائي وصححه النووي والقرطبي وابن سريج فالحاصل أن ترك ابن عباس لجعل الثلاث بفم واحد واحدة يدل على أن معنى الحديث الذي روي ليس
128

كونها بلفظ واحد كما سترى بيانه في كلام القرطبي في المفهم في الجواب الذي بعد هذا.
واعلم أن ابن عباس لم يثبت عنه أنه أفتى في الثلاث بفم واحد أنها واحدة وما روى عنه أبو داود من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة أن ابن عباس قال: إذا قال أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة فهو معارض بما رواه أبو داود نفسه من طريق إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة أن ذلك من قول عكرمة لا من قول ابن عباس وترجح رواية إسماعيل بن إبراهيم على رواية حماد بموافقة الحفاظ لإسمعيل في أن ابن عباس يجعلها ثلاثا لا واحدة.
الجواب الخامس: هو ادعاء ضعفه وممن حاول تضعيفه ابن العربي المالكي وابن عبد البر والقرطبي.
قال ابن العربي المالكي: زل قوم في آخر الزمان فقالوا: إن الطلاق الثلاث في كلمة لا يلزم وجعلوه واحدة ونسبوه إلى السلف الأول فحكوه عن علي والزبير وعبد الرحمان بن عوف وابن مسعود وابن عباس وعزوه إلى الحجاج بن أرطاة الضعيف المنزلة المغمور المرتبة ورووا في ذلك حديثا ليس له أصل وغوى قوم من أهل المسائل فتتبعوا الأهواء المبتدعة فيه وقالوا: إن قوله أنت طالق ثلاثا كذب؛ لأنه لم يطلق ثلاثا كما لو قال: طلقت ثلاثا ولم يطلق إلا واحدة وكما لو قال: أحلف ثلاثا كانت يمينا واحدة.
ولقد طوفت في الآفاق ولقيت من علماء الإسلام وأرباب المذاهب كل صادق فما سمعت لهذه المسألة بخبر ولا أحسست لها بأثر إلا الشيعة الذين يرون نكاح المتعة جائزا ولا يرون الطلاق واقعا ولذلك قال فيهم ابن سكرة الهاشمي: السريع:
* يا من يرى المتعة في دينه
* حلا وإن كانت بلا مهر
*
* ولا يرى تسعين تطليقة
* تبين منه ربة الخدر
*
* من ههنا طابت مواليدكم
* فاغتنموها يا بني الفطر
*
وقد اتفق علماء الإسلام وأرباب الحل والعقد في الأحكام على أن الطلاق الثلاث في كلمة وإن كان حراما في قول بعضهم وبدعة في قول الآخرين لازم. وأين هؤلاء البؤساء من عالم الدين وعلم الإسلام محمد بن إسماعيل البخاري وقد قال في
129

صحيحه: باب جواز الطلاق الثلاث لقوله تعالى: * (الطلاق مرتان) *.
وذكر حديث اللعان: فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يغير عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولا يقر على الباطل؛ ولأنه جمع ما فسح له في تفريقه فألزمته الشريعة حكمه وما نسبوه إلى الصحابة كذب بحت لا أصل له في كتاب ولا رواية له عن أحد.
وقد أدخل ملك في موطئه عن علي أن الحرام ثلاث لازمة في كلمة فهذا في معناها فكيف إذا صرح بها. وأما حديث الحجاج بن أرطاة فغير مقبول في الملة ولا عند أحد من الأئمة. فإن قيل: ففي صحيح مسلم عن ابن عباس وذكر حديث أبي الصهباء المذكور قلنا: هذا لا متعلق فيه من خمسة أوجه:
الأول: أنه حديث مختلف في صحته فكيف يقدم على إجماع الأمة؟ ولم يعرف لها في هذه المسألة خلاف إلا عن قوم انحطوا عن رتبة التابعين. وقد سبق العصران الكريمان والاتفاق على لزوم الثلاث فإن رووا ذلك عن أحد منهم فلا تقبلوا منهم إلا ما يقبلون منكم: نقل العدل عن العدل. ولا تجد هذه المسألة منسوبة إلى أحد من السلف أبدا.
الثاني: أن هذا الحديث لم يرو إلا عن ابن عباس ولم يرو عنه إلا من طريق طاوس فكيف يقبل ما لم يروه من الصحابة إلا واحد وما لم يروه عن ذلك الصحابي إلا واحد؟ وكيف خفي على جميع الصحابة وسكتوا عنه إلا ابن عباس؟ وكيف خفي على أصحاب ابن عباس إلا طاوس؟ اه محل الغرض من كلام ابن العربي وقال ابن عبد البر: ورواية طاوس وهم وغلط لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق والمشرق والمغرب. وقد قيل: إن أبا الصهباء لا يعرف في موالي ابن عباس.
قال مقيده _ عفا الله عنه _ إن مثل هذا لا يثبت به تضعيف هذا الحديث؛ لأن الأئمة كمعمر وابن جريج وغيرهما رووه عن ابن طاوس وهو إمام عن طاوس عن ابن عباس ورواه عن طاوس أيضا إبراهيم بن ميسرة وهو ثقة حافظ. وانفراد الصحابي لا يضر ولو لم يرو عنه أصلا إلا واحد كما أشار إليه العراقي في ألفيته بقوله الرجز:
* في الصحيح أخرجا المسيبا
* وأخرج الجعفي لابن تغلبا
*
130

يعني: أن الشيخين أخرجا حديث المسيب بن حزن ولم يرو عنه أحد غير ابنه سعيد.
وأخرج البخاري حديث عمرو بن تغلب النمري ويقال العبدي ولم يرو عنه غير الحسن البصري هذا مراده. وقد ذكر ابن أبي حاتم أن عمرو بن تغلب روى عنه أيضا الحكم بن الأعرج قاله ابن حجر وابن عبد البر وغيرهما.
والحاصل أن حديث طاوس ثابت في صحيح مسلم بسند صحيح وما كان كذلك لا يمكن تضعيفه إلا بأمر واضح نعم لقائل أن يقول: إن خبر الآحاد إذا كانت الدواعي متوفرة إلى نقله ولم ينقله إلا واحد ونحوه أن ذلك يدل على عدم صحته. ووجهه أن توفر الدواعي يلزم منه أن النقل تواترا والاشتهار فإن لم يشتهر دل على أنه لم يقع؛ لأن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم وهذه قاعدة مقررة في الأصول أشار إليها في مراقي السعود بقوله عاطفا على ما يحكم فيه بعدم صحة الخبر: الرجز:
* وخبر الآحاد في السني حيث دواعي نقله تواترا
* نرى لها لو قاله تقررا
*
وجزم بها غير واحد من الأصوليين وقال صاحب جمع الجوامع عاطفا على ما يجزم فيه بعدم صحة الخبر. والمنقول آحادا فيما تتوفر الدواعي إلى نقله خلافا للرافضة. اه منه بلفظه.
ومراده أن مما يجزم بعدم صحته الخبر المنقول آحادا مع توفر الدواعي إلى نقله.
وقال ابن الحاجب في مختصره الأصولي مسألة: إذا انفرد واحد فيما يتوفر الدواعي إلى نقله وقد شاركه خلق كثير كما لو انفرد واحد بقتل خطيب على المنبر في مدينة فهو كاذب قطعا خلافا للشيعة. اه محل الغرض منه بلفظه. وفي المسألة مناقشات وأجوبة عنها معروفة في الأصول.
قال مقيده عفا الله عنه: ولا شك أنه على القول بأن معنى حديث طاوس المذكور أن الثلاث بلفظ واحد كانت تجعل واحدة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر ثم إن عمر غير ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في زمن أبي بكر وعامة الصحابة أو جلهم يعلمون ذلك. فالدواعي إلى نقل ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من بعده متوفرة توفرا لا يمكن إنكاره لأن يرد بذلك التغيير الذي أحدثه
131

عمر فسكوت جميع الصحابة عنه وكون ذلك لم ينقل منه حرف عن غير ابن عباس يدل دلالة واضحة على أحد أمرين:
أحدهما: أن حديث طاوس الذي رواه عن ابن عباس ليس معناه أنها بلفظ واحد بل بثلاثة ألفاظ في وقت واحد كما قدمنا وكما جزم به النسائي وصححه النووي والقرطبي وابن سريج. وعليه فلا إشكال لأن تغيير عمر للحكم مبني على تغيير قصدهم والنبي صلى الله عليه وسلم قال: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن قال أنت طالق أنت طالق أنت طالق. ونوى التأكيد فواحدة وأن نوى الاستئناف بكل واحدة فثلاث. واختلاف محامل اللفظ الواحد لاختلاف نيات اللافظين به لا إشكال فيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: وإنما لكل امرئ ما نوى.
والثاني: أن يكون الحديث غير محكوم بصحته لنقله آحادا مع توفر الدواعي إلى نقله والأول أولى وأخف من الثاني وقال القرطبي في المفهم في الكلام على حديث طاوس المذكور: وظاهر سياقه يقتضي عن جميعهم أن معظمهم كانوا يرون ذلك والعادة في مثل هذا أن يفشو الحكم وينتشر فكيف ينفرد به واحد عن واحد؟ قال: فهذا الوجه يقتضي التوقف عن العمل بظاهره إن لم يقتض القطع ببطلانه. اه منه بواسطة نقل ابن حجر في فتح الباري عنه وهو قوي جدا بحسب المقرر في الأصول كما ترى.
الجواب السادس: عن حديث ابن عباس رضي الله عنهما هو حمل لفظ الثلاث في الحديث على أن المراد بها البتة كما قدمنا في حديث ركانة وهو من رواية ابن عباس أيضا قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري بعد أن ذكر هذا الجواب ما نصه: وهو قوي ويؤيده إدخال البخاري في هذا الباب الآثار التي فيها البتة والأحاديث التي فيها التصريح بالثلاث كأنه يشير إلى عدم الفرق بينهما وأن البتة إذا أطلقت حمل على الثلاث إلا أن أراد المطلق واحدة فيقبل فكأن بعض رواته حمل لفظ البتة على الثلاث؛ لاشتهار التسوية بينهما فرواها بلفظ الثلاث. وإنما المراد لفظة البتة وكانوا في العصر الأول يقبلون ممن قال أردت بالبتة واحدة فلما كان عهد عمر أمضى الثلاث في ظاهر الحكم. اه من فتح الباري بلفظه وله وجه من النظر كما لا يخفى وما يذكره كل ممن قال بلزوم الثلاث دفعة ومن قال بعدم لزومها من الأمور النظرية ليصحح به كل مذهبه لم نطل به الكلام؛ لأن الظاهر سقوط ذلك كله وأن هذه المسألة إن لم يمكن
132

تحقيقها من جهة النقل فإنه لا يمكن من جهة العقل وقياس أنت طالق ثلاثا على أيمان اللعان في أنه لو حلفها بلفظ واحد لم تجز قياس مع وجود الفارق؛ لأن من اقتصر على واحدة من الشهادات الأربع المذكورة في آية اللعان أجمع العلماء على أن ذلك كما لو لم يأت بشئ منها أصلا بخلاف الطلقات الثلاث فمن اقتصر على واحدة منها اعتبرت إجماعا وحصلت بها البينونة بانقضاء العدة إجماعا.
الجواب السابع: هو ما ذكره بعضهم من أن حديث طاوس المذكور ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بذلك فأقره والدليل إنما هو فيما علم به وأقره لا فيما لم يعلم فيه.
قال مقيده عفا اللصه عنه _ ولا يخفى ضعف هذا الجواب؛ لأن جماهير المحدثين والأصوليين على أن ما أسنده الصحابي إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم له حكم المرفوع وإن لم يصرح بأنه بلغه صلى الله عليه وسلم وأقره.
الجواب الثامن: أن حديث ابن عباس المذكور في غير المدخول بها خاصة؛ لأنه إن قال لها أنت طالق بانت بمجرد اللفظ فلو قال ثلاثا لم يصادف لفظ الثلاث محلا؛ لوقوع البينونة قبلها. وحجة هذا القول أن بعض الروايات كرواية أبي داود جاء فيها التقييد بغير المدخول بها والمقرر في الأصول هو حمل المطلق على المقيد ولا سيما إذا اتحد الحكم والسبب كما هنا قال في مراقي السعود: الرجز:
* وحمل مطلق على ذاك وجب
* إن فيهما اتحد حكم والسبب
*
وما ذكره الأبي رحمه الله من أن الإطلاق والتقييد إنما هو في حديثين أما في حديث واحد من طريقين فمن زيادة العدل فمردود؛ بأنه لا دليل عليه. وأنه مخالف لظاهر كلام عامة العلماء ولا وجه للفرق بينهما. وما ذكره الشوكاني _ رحمه الله في نيل الأوطار من أن رواية أبي داود التي فيها التقييد بعدم الدخول فرد من أفراد الروايات العامة وذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه لا يظهر؛ لأن هذه المسألة من مسائل المطلق والمقيد لا من مسائل ذكر بعض أفراد العام فالروايات التي أخرجها مسلم مطلقة عن قيد عدم الدخول والرواية التي أخرجها أبو داود مقيدة بعدم الدخول كما ترى والمقرر في الأصول حمل المطلق على المقيد ولا سيما إن اتحد الحكم والسبب كما هنا. نعم لقائل أن يقول إن كلام ابن عباس في رواية أبي داود المذكور وارد على سؤال أبي الصهباء وأبو الصهباء لم يسأل إلا عن غير المدخول بها فجواب ابن عباس لا مفهوم مخالفة له؛ لأنه إنما خص غير المدخول بها لمطابقة
133

الجواب للسؤال.
وقد تقرر في الأصول أن من موانع اعتبار دليل الخطاب أعني مفهوم المخالفة كون الكلام واردا جوابا لسؤال؛ لأن تخصيص المنطوق بالذكر لمطابقة السؤال فلا يتعين كونه لإخراج حكم المفهوم عن المنطوق. وأشار إليه في مراقي السعود في ذكر موانع اعتبار مفهوم المخالفة بقوله: الرجز:
* أو جهل الحكم أو النطق انجلب
* للسؤل أو جرى على الذي غلب
*
ومحل الشاهد منه قوله: أو النطق انجلب للسؤل.
وقد قدمنا أن رواية أبي داود المذكورة عن أيوب السختياني عن غير واحد عن طاوس وهو صريح في أن من روى عنهم أيوب مجهولون ومن لم يعرف من هو لا يصح الحكم بروايته ولذا قال النووي في شرح مسلم ما نصه: وأما هذه الرواية التي لأبي داود فضعيفة رواها أيوب عن قوم مجهولين عن طاوس عن ابن عباس فلا يحتج بها والله أعلم انتهى منه بلفظه. وقال المنذري في مختصر سنن أبي داود بعد أن ساق الحديث المذكور ما نصه: الرواة عن طاوس مجاهيل انتهى منه بلفظه وضعف رواية أبي داود هذه ظاهر كما ترى للجهل بمن روى عن طاوس فيها وقال ابن القيم في زاد المعاد بعد أن ساق لفظ هذه الرواية ما نصه: وهذا لفظ الحديث وهو بأصح إسناد انتهى محل الغرض منه بلفظه فانظره مع ما تقدم. هذا ملخص كلام العلماء في هذه المسألة مع ما فيها من النصوص الشرعية.
قال مقيده عفا الله عنه الذي يظهر لنا صوابه في هذه المسألة هو ما ذهب إليه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وهو أن الحق فيها دائر بين أمرين:
أحدهما: أن يكون المراد بحديث طاوس المذكور كون الثلاث المذكورة ليست بلفظ واحد.
الثاني: أنه إن كان معناه أنها بلفظ واحد فإن ذلك منسوخ ولم يشتهر العلم بنسخه بين الصحابة إلا في زمان عمر كما وقع نظيره في نكاح المتعة.
أما الشافعي فقد نقل عنه البيهقي في السنن الكبرى ما نصه: فإن كان معنى قول ابن عباس إن الثلاث كانت تحسب على عهد النبي صلى الله عليه وسلم واحدة يعني أنه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فالذي يشبه والله أعلم أن يكون ابن عباس قد علم أن كان شئ
134

فنسخ فإن قيل: فما دل على ما وصفت؟ قيل: لا يشبه أن يكون ابن عباس يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ثم يخالفه بشئ لم يعلمه كان من النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلاف.
قال الشيخ: رواية عكرمة عن ابن عباس قد مضت في النسخ وفيه تأكيد لصحة هذا التأويل قال الشافعي: فإن قيل فلعل هذا شئ روي عن عمر فقال فيه ابن عباس بقول عمر رضي الله عنهم قيل: قد علمنا أن ابن عباس يخالف عمر رضي الله عنه في نكاح المتعة وفي بيع الدينار بالدينارين وفي بيع أمهات الأولاد وغيره فكيف يوافقه في شئ يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلاف ما قال؟ اه محل الغرض منه بلفظه.
ومعناه واضح في أن الحق دائر بين الأمرين المذكورين؛ لأن قوله فإن كان معنى قول ابن عباس... 000 الخ يدل على أن غير ذلك محتمل وعلى أن المعنى أنها ثلاث بفم واحد وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم على جعلها واحدة فالذي يشبه عنده أن يكون منسوخا ونحن نقول: إن الظاهر لنا دوران الحق بين الأمرين كما قال الشافعي رحمه الله تعالى إما أن يكون معنى حديث طاوس المذكور أن الثلاث ليست بلفظ واحد بل بألفاظ متفرقة بنسق واحد كأنت طالق أنت طالق أنت طالق. وهذه الصورة تدخل لغة في معنى طلاق الثلاث دخولا لا يمكن نفيه ولا سيما على الرواية التي أخرجها أبو داود التي جزم ابن القيم بأن إسنادها أصح أسناد فإن لفظها: أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: بلى! كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر فلما رأى الناس قد تتايعوا فيها قال: أجيزوهن عليهم فإن هذه الرواية بلفظ طلقها ثلاثا وهو أظهر في كونها متفرقة بثلاثة ألفاظ كما جزم به ابن القيم في رده الاستدلال بحديث عائشة الثابت في الصحيح. فقد قال في زاد المعاد ما نصه: وأما استدلالكم بحديث عائشة أن رجلا طلق ثلاثا فتزوجت فسئل النبي صلى الله عليه وسلم هل تحل للأول؟ قال: لا حتى تذوق العسيلة فهذا مما لا ننازعكم فيه نعم هو حجة على من اكتفى بمجرد عقد الثاني. ولكن أين في الحديث أنه طلق الثلاث بفم واحد؟ بل الحديث حجة لنا فإنه لا يقال فعل ذلك ثلاثا وقال ثلاثا إلا من فعل وقال مرة بعد مرة وهذا هو المعقول في لغات الأمم عربهم وعجمهم كما يقال قذفه ثلاثا وشتمه ثلاثا وسلم عليه ثلاثا انتهى منه بلفظه
135

.
وقد عرفت أن لفظ رواية أبي داود موافق للفظ عائشة الثابت في الصحيح الذي جزم فيه ابن القيم بأنه لا يدل على أن الثلاث بفم واحد بل دلالته على أنها بألفاظ متفرقة متعينة في جميع لغات الأمم ويؤيده أن البيهقي في السنن الكبرى قال ما نصه: وذهب أبو يحيى الساجي إلى أن معناه إذا قال للبكر: أنت طالق أنت طالق أنت طالق. كانت واحدة فغلظ عليهم عمر رضي الله عنه فجعلها ثلاثا قال الشيخ ورواية أيوب السختياني تدل على صحة هذا التأويل اه منه بلفظه.
ورواية أيوب المذكورة هي التي أخرجها أبو داود وهي المطابق لفظها حديث عائشة الذي جزم فيه ابن القيم بأنه لا يدل إلا على أن الطلقات المذكورة ليست بفم واحد بل واقعة مرة بعد مرة وهي واضحة جدا فيما ذكرنا ويؤيده أيضا أن البيهقي نقل عن ابن عباس ما يدل على أنها إن كانت بألفاظ متتابعة فهي واحدة وإن كانت بلفظ واحد فهي ثلاث وهو صريح في محل النزاع مبين أن الثلاث التي تكون واحدة هي المسرودة بألفاظ متعددة؛ لأنها تأكيد للصيغة الأولى.
ففي السنن الكبرى للبيهقي ما نصه: قال الشيخ: ويشبه أن يكون أراد إذا طلقها ثلاثا تترى روى جابر بن يزيد عن الشعبي عن ابن عباس رضي الله عنهما في رجل طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها قال عقدة كانت بيده أرسلها جميعا. وإذا كانت تترى فليس بشئ. قال سفيان الثوري تترى يعني أنت طالق أنت طالق أنت طالق. فإنها تبين بالأولى والثنتان ليستا بشئ وروي عن عكرمة عن ابن عباس ما دل على ذلك انتهى منه بلفظه. فهذه أدلة واضحة على أن الثلاث في حديث طاوس ليست بلفظ واحد بل مسرودة بألفاظ متفرقة كما جزم به الإمام النسائي رحمه الله وصححه النووي والقرطبي وابن سريج وأبو يحيى الساجي وذكره البيهقي عن الشعبي عن ابن عباس وعن
عكرمة عن ابن عباس وتؤيده رواية أيوب التي صححها ابن القيم كما ذكره البيهقي وأوضحناه آنفا مع أنه لا يوجد دليل يعين كون الثلاث المذكورة في حديث طاوس المذكور بلفظ واحد لا من وضع اللغة ولا من العرف ولا من الشرع ولا من العقل؛ لأن روايات حديث طاوس ليس في شئ منها التصريح بأن الثلاث المذكورة واقعة بلفظ واحد ومجرد لفظ الثلاث أو طلاق الثلاث أو طلاق الثلاث لا يدل على أنها بلفظ واحد لصدق كل تلك العبارات على الثلاث الواقعة بألفاظ متفرقة كما
136

رأيت ونحن لا نفرق في هذا بين البر والفاجر ولا بين زمن وزمن وإنما نفرق بين من نوى التأكيد ومن نوى التأسيس والفرق بينهما لا يمكن إنكاره ونقول الذي يظهر أن ما فعله عمر إنما هو لما علم من كثرة قصد التأسيس في زمنه بعد أن كان في الزمن الذي قبله قصد التأكيد هو الأغلب كما قدمنا وتغيير معنى اللفظ لتغير قصد اللافظين به لا إشكال فيه فقوة هذا الوجه واتجاهه وجريانه على اللغة مع عدم إشكال فيه كما ترى. وبالجملة بلفظ رواية أيوب التي أخرجها أبو داود.
وقال ابن القيم: إنها بأصح إسناد مطابق للفظ حديث عائشة الثابت في الصحيحين الذي فيه التصريح من النبي صلى الله عليه وسلم بأنها لا تحل للأول حتى يذوق عسيلتها الثاني كما ذاقها الأول. وبه تعرف أن جعل الثلاث في حديث عائشة متفرقة في أوقات متباينة وجعلها في حديث طاوس بلفظ واحد تفريق لا وجه له مع اتحاد لفظ المتن في رواية أبي داود ومع أن القائلين برد الثلاث المجتمعة إلى واحدة لا يجدون فرقا في المعنى بين رواية أيوب وغيرها من روايات حديث طاوس.
ونحن نقول للقائلين برد الثلاث إلى واحدة إما أن يكون معنى الثلاث في حديث عائشة وحديث طاوس أنها مجتمعة أو مفرقة فإن كانت مجتمعة فحديث عائشة متفق عليه فهو أولى بالتقديم وفيه التصريح بأن تلك الثلاث تحرمها ولا تحل إلا بعد زوج وإن كانت متفرقة فلا حجة لكم أصلا في حديث طاوس على محل النزاع؛ لأن النزاع في خصوص الثلاث بلفظ واحد. أما جعلكم الثلاث في حديث عائشة مفرقة وفي حديث طاوس مجتمعة فلا وجه له ولا دليل عليه ولا سيما أن بعض رواياته مطابق لفظه للفظ حديث عائشة وأنتم لا ترون فرقا بين معاني ألفاظ رواياته من جهة كون الثلاث مجتمعة لا متفرقة.
وأما على كون معنى حديث طاوس أن الثلاث التي كانت تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر هي المجموعة بلفظ واحد فإنه على هذا يتعين النسخ كما جزم به أبو داود رحمه الله وجزم به ابن حجر في فتح الباري وهو قول الشافعي كما قدمنا عنه وقال به غير واحد من العلماء.
وقد رأيت النصوص الدالة على النسخ التي تفيد أن المراد بجعل الثلاث واحدة أنه في الزمن الذي كان لا فرق فيه بين واحدة وثلاث ولو متفرقة؛ لجواز الرجعة ولو بعد مائة تطليقة متفرقة كانت أو لا. وأن المراد بمن كان يفعله في زمن أبي بكر هو من
137

لم يبلغه النسخ وفي زمن عمر اشتهر النسخ بين الجميع. وادعاء أن مثل هذا لا يصح يرده بإيضاح وقوع مثله في نكاح المتعة فإنا قد قدمنا أن مسلما روى عن جابر أنها كانت تفعل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وفي بعض من زمن عمر قال: فنهانا عنها عمر. وهذه الصورة هي التي وقعت في جعل الثلاث واحدة والنسخ ثابت في كل واحدة منهما فادعاء إمكان إحداهما واستحالة الأخرى في غاية السقوط كما ترى؛ لأن كل واحدة منهما روى فيها مسلم في صحيحه عن صحابي جليل أن مسألة تتعلق بالفروج كانت تفعل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر ثم غير حكمها عمر والنسخ ثابت في كل واحدة منهما. وأما غير هذين الأمرين فلا ينبغي أن يقال؛ لأن نسبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما وخلق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أنهم تركوا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وجاءوا بما يخالفه من تلقاء أنفسهم عمدا غير لائق ومعلوم أنه باطل بلا شك.
وقد حكى غير واحد من العلماء أن الصحابة أجمعوا في زمن عمر على نفوذ الطلاق الثلاث دفعة واحدة.
والظاهر أن مراد المدعي لهذا الإجماع هو الإجماع السكوتي مع أن بعض العلماء ذكر الخلاف في ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين. وقد قدمنا كلام أبي بكر بن العربي القائل: بأن نسبة ذلك إلى بعض الصحابة كذب بحت وأنه لم يثبت عن أحد منهم جعل الثلاث بلفظ واحد واحدة وما ذكره بعض أجلاء العلماء من أن عمر إنما أوقع عليهم الثلاث مجتمعة عقوبة لهم مع أنه يعلم أن ذلك خلاف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في زمن أبي بكر رضي الله عنه فالظاهر عدم نهوضه؛ لأن عمر لا يسوغ له أن يحرم فرجا أحله رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يصح منه أن يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيح ذلك الفرج بجواز الرجعة ويتجرأ هو على منعه بالبينونة الكبرى والله تعالى يقول: * (وما آتاكم الرسول فخذوه) * الآية (957) ويقول: * (أألله أذن لكم أم على الله تفترون) * (0195) ويقول: * (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) * (2412).
والمروي عن عمر في عقوبة من فعل ما لا يجوز من الطلاق هو التعزير الشرعي المعروف كالضرب. أما تحريم المباح من الفروج فليس من أنواع التعزيزات؛ لأنه يفضي إلى حرمته على من أحله الله له وإباحته لمن حرمه عليه؛ لأنه إن أكره على إبانتها
138

وهي غير بائن في نفس الأمر لا تحل لغيره؛ لأن زوجها لم يبنها عن طيب نفس وحكم الحاكم وفتواه لا يحل الحرام في نفس الأمر ويدل له حديث أم سلمة المتفق عليه فإن فيه: فمن قضيت له فلا يأخذ من حق أخيه شيئا فكأنما أقطع له قطعة من نار ويشير له قوله تعالى: * (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها) * (3373)؛ لأنه يفهم منه أنه لو لم يتركها اختيارا لقضائه وطره منها ما حلت لغيره.
وقد قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ما نصه: وفي الجملة فالذي وقع في هذه المسألة نظير ما وقع في مسألة المتعة سواء أعني قول جابر إنها كانت تفعل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر قال: ثم نهانا عمر عنها فانتهينا فالراجح في الموضعين تحريم المتعة وإيقاع الثلاث للإجماع الذي انعقد في عهد عمر على ذلك.
ولا يحفظ أن أحدا في عهد عمر خالفه في واحدة منهما وقد دل إجماعهم على وجود ناسخ وإن كان خفي عن بعضهم قبل ذلك حتى ظهر لجميعهم في عهد عمر فالمخالف
بعد هذا الإجماع منا بذلة والجمهور على عدم اعتبار من أحدث الاختلاف بعد الاتفاق والله أعلم. اه منه بلفظه.
وحاصل خلاصة هذه المسألة أن البحث فيها من ثلاث جهات:
الأولى: من جهة دلالة النص القولي أو الفعلي الصريح.
الثانية: من جهة صناعة علم الحديث والأصول.
الثالثة: من جهة أقوال أهل العلم فيها أما أقوال أهل العلم فيها فلا يخفى أن الأئمة الأربعة وأتباعهم وجل الصحابة وأكثر العلماء على نفوذ الثلاث دفعة بلفظ واحد وادعى غير واحد على ذلك إجماع الصحابة وغيرهم.
وأما من جهة نص صريح من قول النبي صلى الله عليه وسلم أو فعله فلم يثبت من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ولا من فعله ما يدل على جعل الثلاث واحدة وقد مر لك أن أثبت ما روي في قصة طلاق ركانة أنه بلفظ البتة وأن النبي حلفه ما أراد إلا واحدة ولو كان لا يلزم أكثر من واحدة بلفظ واحد لما كان لتحليفه معنى. وقد جاء في حديث ابن عمر عند الدارقطني أنه قال: يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكان يحل لي أن أراجعها؟ قال: لا كانت تبين منك وتكون معصية.
139

وقد قدمنا أن في إسناده عطاء الخراساني وشعيب بن زريق الشامي وقد قدمنا أن عطاء المذكور من رجال مسلم وأن شعيبا المذكور قال فيه ابن حجر في التقريب: صدوق يخطئ وأن حديث ابن عمر هذا يعتضد بما ثبت عن ابن عمر في الصحيح من أنه قال: وإن كنت طلقتها ثلاثا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك وعصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك.
ولا سيما على قول الحاكم: إنه مرفوع ويعتضد بالحديث المذكور قبله؛ لتحليفه ركانة وبحديث الحسن بن علي المتقدم عند البيهقي والطبراني وبحديث سهل بن سعد الساعدي الثابت في الصحيح في لعان عويمر وزوجه ولا سيما رواية فأنفذها رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني الثلاث المجتمعة وببقية الأحاديث المتقدمة.
وقد قدمنا أن كثرة طرقها واختلاف منازعها يدل على أن لها أصلا وأن بعضها يشد بعضا فيصلح المجموع للاحتجاج. ولا سيما أن بعضها صححه بعض العلماء وحسنه بعضهم كحديث ركانة المتقدم. وقد عرفت أن حديث داود بن الحصين لا دليل فيه على تقدير ثبوته فإذا حققت أن المروى باللفظ الصريح عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس يدل إلا على وقوع الثلاث مجتمعة فاعلم أن كتاب الله ليس فيه شئ يدل على عدم وقوع الثلاث دفعة واحدة؛ لأنه ليس فيه آية ذكر الثلاث المجتمعة وأحرى آية تصرح بعدم لزومها.
وقد قدمنا عن النووي وغيره أن العلماء استدلوا على وقوع الثلاث دفعة بقوله تعالى: * (تلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) * (561) قالوا معناه: أن المطلق قد يحدث له ندم فلا يمكنه تداركه؛ لوقوع البينونة فلو كانت الثلاث لا تقع لم يقع طلاقه إلا رجعيا فلا يندم.
وقد قدمنا ما ثبت عن ابن عباس من أنها تلزم مجتمعة وأن ذلك داخل في معنى الآية وهو واضح جدا فاتضح أنه ليس في كتاب الله ولا في صريح قول النبي صلى الله عليه وسلم أو فعله ما يدل على عدم وقوع الثلاث.
أما من جهة صناعة علم الحديث والأصول فما أخرجه مسلم من حديث ابن عباس المتقدم له حكم الرفع؛ لأن قول الصحابي كان يفعل كذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم له حكم الرفع عند جمهور المحدثين والأصوليين.
وقد علمت أوجه الجواب عنه بإيضاح. ورأيت الروايات المصرحة بنسخ المراجعة
140

بعد لثلاث وقد قدمنا أن جميع روايات حديث طاوس عن ابن عباس المذكور عند مسلم ليس في شئ منها التصريح بأن الطلقات الثلاث بلفظ واحد وقد قدمنا أيضا أن بعض رواياته موافقة للفظ حديث عائشة الثابت في الصحيح. وأنه لا وجه للفرق بينهما فإن حمل على أن الثلاث مجموعة فحديث عائشة أصح وفيه التصريح بأن تلك المطلقة لا تحل إلا بعد زوج. وإن حمل على أنها بألفاظ متفرقة فلا دليل إذن في حديث طاوس عن ابن عباس على محل النزاع فإن قيل: أنتم تارة تقولون: إن حديث ابن عباس منسوخ وتارة تقولون: ليس معناه أنها بلفظ واحد بل بألفاظ متفرقة فالجواب أن معنى كلامنا: أن الطلقات في حديث طاوس لا يتعين كونها بلفظ واحد ولو فرضنا أنها بلفظ واحد فجعلها واحدة منسوخ هذا هو ما ظهر لنا في هذه المسألة. والله تعالى أعلم ونسبة العلم إليه أسلم.
* (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) * لم يبين في هذه الآية ولا في غيرها من آيات الطلاق حكمة كون الطلاق بيد الرجل دون إذن المرأة ولكنه بين في موضع آخر أن حكمة ذلك أن المرأة حقل تزرع فيه النطفة كما يزرع البذر في الأرض ومن رأى أن حقله غير صالح للزراعة فالحكمة تقتضي أن لا يرغم على الازدراع فيه وأن يترك وشأنه؛ ليختار حقلا صالحا لزراعته وذلك في قوله تعالى: * (نساؤكم حرث لكم) * كما تقدم إيضاحه.
* (ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ ءاتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) *. صرح في هذه الآية الكريمة بأن الزوج لا يحل له الرجوع في شئ مما أعطى زوجته إلا على سبيل الخلع إذا خافا إلا يقيما حدود الله فيما بينهما فلا جناح عليهما إذن في الخلع. أي: لا جناح عليها هي في الدفع ولا عليه هو في الأخذ.
وصرح في موضع آخر بالنهي عن الرجوع في شئ مما أعطى الأزواج زوجاتهم ولو كان المعطى قنطارا وبين أن أخذه بهتان وإثم مبين وبين أن السبب المانع من أخذ شئ منه هو أنه أفضى إليها بالجماع. وذلك في قوله تعالى: * (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا * وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا) *. وبين
141

في موضع آخر أن محل النهي عن ذلك إذا لم يكن عن طيب النفس من المرأة؛ وذلك في قوله: * (فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) *. وأشار إلى ذلك بقوله: * (ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة) *.
تنبيه
أخذ ابن عباس من هذه الآية الكريمة أن الخلع فسخ ولا يعد طلاقا؛ لأن الله تعالى قال: * (الطلاق مرتان) * ثم ذكر الخلع بقوله: * (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) *؛ لم يعتبره طلاقا ثالثا ثم ذكر الطلقة الثالثة بقوله: * (فإن طلقها فلا تحل له من بعد) *.
وبهذا قال عكرمة وطاوس وهو رواية عن عثمن بن عفان وابن عمر وهو قول إسحاق بن راهويه وأبي ثور وداود بن علي الظاهري كما نقله عنهم ابن كثير وغيره وهو قول الشافعي في القديم وإحدى الروايتين عن أحمد.
قال مقيده عفا الله عنه الاستدلال بهذه الآية على أن الخلع لا يعد طلاقا ليس بظاهر عندي؛ لما تقدم مرفوعا إليه صلى الله عليه وسلم من أن الطلقة الثالثة هي المذكورة في قوله: * (أو تسريح بإحسان) * وهو مرسل حسن.
قال في فتح الباري: والأخذ بهذا الحديث أولى فإنه مرسل حسن يعتضد بما أخرجه الطبري من حديث ابن عباس بسند صحيح قال: إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين فليتق الله في الثالثة فإما أن يمسكها فيحسن صحبتها أو يسرحها فلا يظلمها من حقها شيئا.
وعليه ففراق الخلع المذكور لم يرد منه إلا بيان مشروعية الخلع عند خوفهما ألا يقيما حدود الله؛ لأنه ذكر بعد الطلقة الثالثة. وقوله: * (فإن طلقها) * إنما كرره؛ ليرتب عليه ما يلزم بعد الثالثة الذي هو قوله: * (فلا تحل له من بعد) *. ولو فرعنا على أن قوله تعالى: * (أو تسريح بإحسان) * يراد به عدم الرجعة وأن الطلقة الثالثة هي المذكورة في قوله: * (فإن طلقها فلا تحل له) * لم يلزم من ذلك أيضا عدم عد الخلع طلاقا؛ لأن الله تعالى ذكر الخلع في معرض منع الرجوع فيما يعطاه الأزواج. فاستثنى منه صورة جائزة ولا يلزم من ذلك عدم اعتبارها
142

طلاقا كما هو ظاهر من سياق الآية.
وممن قال بأن الخلع يعد طلاقا بائنا ملك وأبو حنيفة والشافعي في الجديد وقد روي نحوه عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وعطاء وشريح والشعبي وأبرهيم وجابر بن زيد والثوري والأوزاعي وأبو عثمن البتي كما نقله عنهم ابن كثير وغيره.
غير أن الحنفية عندهم أنه متى نوى المخالع بخلعه تطليقة أو اثنتين أو أطلق فهو واحدة بائنة. وإن نوى ثلاثا فثلاث وللشافعي قول آخر في الخلع وهو: أنه متى لم يكن بلفظ الطلاق وعري عن النية فليس هو بشئ بالكلية قاله ابن كثير.
ومما احتج به أهل القول بأن الخلع طلاق ما رواه ملك عن هشام بن عروة عن أبيه عن جهمان مولى الأسلميين عن أم بكر الأسلمية أنها اختلعت من زوجها عبد الله خالد بن أسيد فأتيا عثمان بن عفان في ذلك فقال تطليقة إلا أن تكون سميت شيئا فهو ما سميت.
قال الشافعي: ولا أعرف جهمان وكذا ضعف أحمد بن حنبل هذا الأثر قاله ابن كثير والعلم عند الله تعالى.
وروى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود مثله وتكلم فيه بأن في سنده ابن أبي ليلى وأنه سيىء الحفظ وروي مثله عن علي وضعفه ابن حزم والله تعالى أعلم.
فروع الأول: ظاهر هذه الآية الكريمة أن الخلع يجوز بأكثر من الصداق؛ وذلك لأنه تعالى عبر بما الموصولة في قوله: * (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) * وقد تقرر في الأصول أن الموصولات من صيغ العموم؛ لأنها تعم كل ما تشمله صلاتها كما عقده في مراقي السعود بقوله: * (الرجز:
* صيغه كل أو 2 (212) الجميع
* وقد تلا الذي التي الفروع
*
وهذا هو مذهب الجمهور قال ابن كثير في تفسير هذه الآية ما نصه: وقد اختلف العلماء رحمهم الله في أنه هل يجوز للرجل أن يفاديها بأكثر مما أعطاها.
فذهب الجمهور إلى جواز ذلك؛ لعموم قوله تعالى: * (فلا جناح عليهما فيما
143

افتدت به) *.
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إيراهيم حدثنا ابن علية أخبرنا أيوب عن كثيرمولى ابن سمرة: أن عمر أتى بامرأة ناشز فأمر بها إلى بيت كثير الزبل ثم دعاها فقال: كيف وجدت؟ فقالت: ما وجدت راحة منذ كنت عنده إلا هذه الليلة التي كنت حبستني. فقال لزوجها: اخلعها ولو من قرطها ورواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن كثير مولى ابن سمرة فذكر مثله وزاد فحبسها فيه ثلاثة أيام.
وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن حميد بن عبد الرحمان أن امرأة أتت عمر بن الخطاب فشكت زوجها فأباتها في بيت الزبل فلما أصبحت قال لها: كيف وجدت مكانك؟ قالت: ما كنت عنده ليلة أقر لعيني من هذه الليلة. فقال: خذ ولو عقاصها.
وقال البخاري: وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن عبد الله بن محمد بن عقيل: أن الربيع بنت معوذ بن عفراء حدثته قالت: كان لي زوج يقل على الخير إذا حضرني ويحرمني إذا
غاب. قالت: فكانت مني زلة يوما فقلت له: أختلع منك بكل شئ أملكه قال: نعم قالت: ففعلت قالت: فخاصم عمي معاذ بن عفراء إلى عثمن بن عفان فأجاز الخلع وأمره أن يأخذ عقاص رأسي فما دونه أو قالت ما دون عقاص الرأس.
ومعنى هذا أنه يجوز أن يأخذ منها كل ما بيدها من قليل وكثير ولا يترك لها سوى عقاص شعرها وبه يقول ابن عمر وابن عباس وعكرمة ومجاهد وإبراهيم النخعي وقبيصة بن ذؤيب والحسن بن صالح وعثمن البتي.
وهذا مذهب مالك والليث والشافعي وأبي ثور واختاره ابن جرير. وقال أصحاب أبي حنيفة إن كان الإضرار من قبلها جاز أن يأخذ منها ما أعطاها ولا يجوز الزيادة عليه. فإن ازداد جاز في القضاء وإن كان الإضرار من جهته لم يجز أن يأخذ منها شيئا فإن أخذ جاز في القضاء.
وقال الإمام أحمد وأبو عبيد وإسحاق بن راهويه: لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطاها وهذا قول سعيد بن المسيب وعطاء وعمرو بن شعيب والزهري وطاوس والحسن والشعبي وحماد بن أبي سليمان والربيع بن أنس.
144

وقال معمر والحكم: كان علي يقول: لا يأخذ من المختلعة فوق ما أعطاها. وقال الأوزاعي: القضاة لا يجيزون أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها قلت: ويستدل لهذا القول بما تقدم من رواية قتادة عن عكرمة عن ابن عباس في قصة ثابت بن قيس فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها الحديقة ولا يزداد وبما روى عبد بن حميد حيث قال: أخبرنا قبيصة عن سفيان عن ابن جريج عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها يعني: المختلعة وحملوا معنى الآية على معنى: * (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) * أي: من الذي أعطاها؛ لتقدم قوله: * (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليكم فيما افتدت به) * أي: من ذلك وهكذا كان يقرؤها الربيع بن أنس * (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) * منه رواه ابن جرير ولهذا قال بعده: * (تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) *. اه من ابن كثير بلفظه.
الفرع الثاني: اختلف العلماء في عدة المختلعة: فذهب أكثر أهل العلم إلى أنها تعتد بثلاثة قروء إن كانت ممن تحيض كعدة المطلقة منهم: ملك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه في الرواية المشهورة عنهما وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وبه يقول سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعروة وسالم وأبو سلمة وعمر بن عبد العزيز وابن شهاب والحسن والشعبي وإبراهيم النخعي وأبو عياض وخلاس بن عمرو وقتادة وسفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وأبو العبيد.
قال الترمذي: وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم ومأخذهم في هذا: أن الخلع طلاق فتعتد كسائر المطلقات قاله ابن كثير.
قال مقيده عفا الله عنه وكون الخلع طلاقا ظاهر من جهة المعنى لأن العوض المبذول للزوج من جهتها إنما بذلته في مقابلة ما يملكه الزوج وهو الطلاق؛ لأنه لا يملك لها فراقا شرعا إلا بالطلاق فالعوض في مقابلته. ويدل له ما أخرجه البخاري في قصة مخالعة ثابت بن قيس زوجه من حديث ابن عباس: أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ثابت بن قيس ما أعتب عليه من خلق ولا دين ولكني
145

أكره الكفر في الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة فإن قوله صلى الله عليه وسلم: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة فيه دليل على أن العوض مبذول في الطلاق الذي هو من حق الزوج وقول البخاري عقب سوقه للحديث المذكور.
قال أبو عبد الله: لا يتابع فيه عن ابن عباس لا يسقط الاحتجاج به؛ لأن مراده أن أزهر بن جميل لا يتابعه غيره في ذكر ابن عباس في هذا الحديث بل أرسله غيره ومراده بذلك: خصوص طريق خالد الحذاء عن عكرمة ولهذا عقبه برواية خالد وهو ابن عبد الله الطحان عن خالد وهو الحذاء عن عكرمة مرسلا ثم برواية إبراهيم بن طهمان عن خالد الحذاء مرسلا وعن أيوب موصولا. ورواية إبراهيم بن طهمان عن أيوب الموصولة وصلها الإسماعيلي قاله الحافظ في الفتح فظهر اعتضاد الطرق المرسلة بعضها ببعض وبالطرق الموصولة.
وقوله في رواية إبراهيم بن طهمان عن أيوب الموصولة وأمره ففارقها يظهر فيها أن مراده بالفراق الطلاق في مقابلة العوض؛ بدليل التصريح في الرواية الأخرى بذكر التطليقة والروايات بعضها يفسر بعضا كما هو معلوم في علوم الحديث.
وما ذكره بعض العلماء من أن المخالع إذا صرح بلفظ الطلاق لا يكون طلاقا وإنما يكون فسخا فهو بعيد ولا دليل عليه. والكتاب والسنة يدلان على أن المفارقة بلفظ الطلاق طلاق لا فسخ. والاستدلال على أنه فسخ بإيجاب حيضة واحدة في عدة المختلعة فيه أمران:
أحدهما: ما ذكرنا آنفا من أن أكثر أهل العلم على أن المختلعة تعتد عدة المطلقة ثلاثة قروء.
الثاني: أنه لا ملازمة بين الفسخ والاعتداد بحيضة ومما يوضح ذلك أن الإمام أحمد وهو رحمه الله تعالى يقول في أشهر الروايتين عنه: إن الخلع فسخ لا طلاق ويقول في أشهر الروايتين عنه أيضا: إن عدة المختلعة ثلاثة قروء كالمطلقة فظهر عدم الملازمة عنده فإن قيل هذا الذي ذكرتم يدل على أن المخالع إذا صرح بلفظ الطلاق كان طلاقا ولكن إذا لم يصرح بالطلاق في الخلع فلا يكون الخلع طلاقا فالجواب: أن مرادنا بالاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة: أن الطلاق المأمور به
146

من قبله صلى الله عليه وسلم هو عوض المال إذ لا يملك الزوج من الفراق غير الطلاق. فالعوض مدفوع له عما يملكه كما يدل له الحديث المذكور دلالة واضحة.
وقال بعض العلماء: تعتد المختلعة بحيضة ويروى هذا القول عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان وعبد الله بن عمر والربيع بنت معوذ وعمها وهو صحابي وأخرجه أصحاب السنن والطبراني مرفوعا والظاهر أن بعض أسانيده أقل درجاتها القبول وعلى تقدير صحة الحديث بذلك فلا كلام. ولو خالف أكثر أهل العلم وقد قدمنا عدم
الملازمة بين كونه فسخا وبين الاعتداد بحيضة فالاستدلال به عليه لا يخلو من نظر وما وجهه به بعض أهل العلم من أن العدة إنما جعلت ثلاث حيض ليطول زمن الرجعة ويتروى الزوج ويتمكن من الرجعة في مدة العدة فإذا لم تكن عليها رجعة فالمقصود مجرد براءة رحمها من الحمل. وذلك يكفي فيه حيضة كالاستبراء لا يخلو من نظر أيضا؛ لأن حكمة جعل العدة ثلاثة قروء ليست محصورة في تطويل زمن الرجعة بل الغرض الأعظم منها: الاحتياط لماء المطلق حتى يغلب على الظن بتكرر الحيض ثلاث مرات أن الرحم لم يشتمل على حمل منه. ودلالة ثلاث حيض على ذلك أبلغ من دلالة حيضة واحدة ويوضح ذلك أن الطلقة الثالثة لا رجعة بعدها إجماعا.
فلو كانت الحكمة ما ذكر لكانت العدة من الطلقة الثالثة حيضة واحدة وما قاله بعض العلماء من أن باب الطلاق جعل حكمه واحدا فجوابه أنه لم يجعل واحدا إلا لأن الحكمة فيه واحدة. ومما يوضح ذلك أن المطلق قبل الدخول لا عدة له على مطلقته إجماعا بنص قوله تعالى: * (يا أيها الذين ءامنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) * مع أنه قد يندم على الطلاق كما يندم المطلق بعد الدخول فلو كانت الحكمة في الاعتداد بالأقراء مجرد تمكين الزوج من الرجعة لكانت العدة في الطلاق قبل الدخول.
ولما كانت الحكمة الكبرى في الاعتداد بالأقراء هي أن يغلب على الظن براءة الرحم من ماء المطلق؛ صيانة للأنساب كان الطلاق قبل الدخول لا عدة فيه أصلا؛ لأن الرحم لم يعلق بها شئ من ماء المطلق حتى تطلب براءتها منه بالعدة كما هو واضح. فإن قيل فما وجه اعتداد المختلعة بحيضة؟ قلنا: إن كان ثابتا عن النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرجه عنه أصحاب السنن والطبراني فهو تفريق من الشارع بين الفراق المبذول فيه عوض وبين غيره في قدر العدة ولا إشكال في ذلك. كما فرق بين الموت قبل
147

الدخول فأوجب فيه عدة الوفاة. وبين الطلاق قبل الدخول فلم يوجب فيه عدة أصلا. مع أن الكل فراق قبل الدخول. والفرق بين الفراق بعوض والفراق بغير عوض ظاهر في الجملة فلا رجعة في الأول بخلاف الثاني.
الفرع الثالث: اختلف العلماء في المخالعة هل يلحقها طلاق من خالعها بعد الخلع على ثلاثة أقوال:
الأول: لا يلحقها طلاقه لأنها قد ملكت نفسها وبانت منه بمجرد الخلع وبهذا قول ابن عباس وابن الزبير وعكرمة وجابر بن زيد والحسن البصري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور كما نقله عنهم ابن كثير.
الثاني: أنه إن أتبع الخلع طلاقا من غير سكوت بينهما وقع وإن سكت بينهما لم يقع وهذا مذهب مالك.
قال ابن عبد البر: وهذا يشبه ما روي عن عثمان رضي الله عنه.
الثالث: أنه يلحقها طلاقه ما دامت في العدة مطلقا وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي وبه يقول سعيد بن المسيب وشريح وطاوس وإبراهيم والزهري والحاكم والحكم وحماد بن أبي سليمان كما نقله عنهم ابن كثير. وروي ذلك عن ابن مسعود وأبي الدرداء.
قال ابن عبد البر: وليس ذلك بثابت عنهما.
قال مقيده عفا الله عنه وهذا القول الثالث بحسب النظر أبعد الأقوال؛ لأن المخالعة بمجرد انقضاء صيغة الخلع تبين منه والبائن أجنبية لا يقع عليها طلاق؛ لأنه لا طلاق لأحد فيما لا يملكه كما هو ظاهر والعلم عند الله تعالى.
الفرع الرابع: ليس للمخالع أن يراجع المختلعة في العدة بغير رضاها عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء؛ لأنها قد ملكت نفسها بما بذلت له من العطاء وروي عن عبد الله بن أبي أوفى وماهان الحنفي وسعيد بن المسيب والزهري أنهم قالوا: إن رد إليها الذي أعطته جاز له رجعتها في العدة بغير رضاها وهو اختيار أبي ثور.
وقال سفيان الثوري: إن كان الخلع بغير لفظ الطلاق فهو فرقة ولا سبيل له عليها وإن كان سمى طلاقا فهو أملك لرجعتها ما دامت في العدة وبه يقول داود بن
148

علي الظاهري. ا ه من ابن كثير.
الفرع الخامس: أجمع العلماء على أن للمختلع أن يتزوجها برضاها في العدة وما حكاه ابن عبد البر عن جماعة من أنهم منعوا تزويجها لمن خالعها كما يمنع لغيره فهو قول باطل مردود ولا وجه له بحال. كما هو ظاهر والعلم عند الله تعالى. * (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف الآية ظاهر قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (فبلغن أجلهن) * انقضاء عدتهن بالفعل ولكنه بين في موضع آخر أنه لا رجعة إلا في زمن العدة خاصة وذلك في قوله تعالى: * (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك) *؛ لأن الإشارة في قوله: * (ذلك) * راجعة إلى زمن العدة المعبر عنه بثلاثة قروء في قوله تعالى: * (والمطلقات يتربصن) *. فاتضح من تلك الآية أن معنى * (فبلغن أجلهن) *. أي: قاربن انقضاء العدة وأشرفن على بلوغ أجلها.
* (ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا) *. صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بالنهي عن إمساك المرأة مضارة لها؛ لأجل الاعتداء عليها بأخذه ما أعطاها؛ لأنها إذا طال عليها الإضرار افتدت منه؛ ابتغاء السلامة من ضرره. وصرح في موضع آخر بأنها إذا أتت بفاحشة مبينة جاز له عضلها حتى تفتدي منه وذلك في قوله تعالى: * (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) * واختلف العلماء في المراد بالفاحشة المبينة.
فقال جماعة منهم هي: الزنا وقال قوم هي: النشوز والعصيان وبذاء اللسان. والظاهر شمول الآية للكل كما اختاره ابن جرير.
وقال ابن كثير: إنه جيد فإذا زنت أو أساءت بلسانها أو نشزت جازت مضاجرتها؛ لتفتدي منه بما أعطاها على ما ذكرنا من عموم الآية. * (قوله تعالى وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم الآية ذكر في هذه الآية الكريمة أن الرجل إذا أراد أن يطلب لولده مرضعة غير أمه لا جناح عليه في ذلك إذا سلم الأجرة المعينة في
العقد ولم يبين هنا الوجه الموجب لذلك ولكنه بينه في سورة * (الطلاق) * بقوله تعالى: * (وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى) * والمراد بتعاسرهم: امتناع الرجل من دفع ما تطلبه المرأة وامتناع المرأة من قبول الإرضاع بما
149

يبذله الرجل ويرضى به. * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير * ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولاكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم * لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين * وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير * حافظوا على الصلوات والصلواة الوسطى وقوموا لله قانتين * فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون * والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم) * والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ظاهر هذه الآية الكريمة أن كل متوفى عنها تعتد بأربعة أشهر وعشر ولكنه بين في موضع آخر أن محل ذلك ما لم تكن حاملا فإن كانت حاملا كانت عدتها وضع حملها وذلك في قوله: * (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) * ويزيده إيضاحا ما ثبت في الحديث المتفق عليه من إذن النبي صلى الله عليه وسلم لسبيعة الأسلمية في الزواج بوضع حملها بعد وفاة زوجها بأيام وكون عدة الحامل المتوفى عنها بوضع حملها هو الحق كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم خلافا لمن قال: تعتد بأقصى الأجلين. ويروى عن علي وابن عباس والعلم عند الله تعالى.
تنبيهان
الأول: هاتان الآيتان أعني قوله تعالى: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) * وقوله: * (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) * من باب تعارض الأعمين من وجه والمقرر في الأصول الترجيح بينهما والراجح منهما يخصص به عموم المرجوح كما عقده في المراقي بقوله: الأول: هاتان الآيتان أعني قوله تعالى: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) * وقوله: * (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) * من باب تعارض الأعمين من وجه والمقرر في الأصول الترجيح بينهما والراجح منهما يخصص به عموم المرجوح كما عقده في المراقي بقوله:
* وإن يك العموم من وجه ظهر
* فالحكم بالترجيح حتما معتبر
*
وقد بينت السنة الصحيحة أن عموم: * (وأولات الأحمال) * مخصص لعموم: * (والذين يتوفون منكم) * الآية. مع أن جماعة من الأصوليين ذكروا أن الجموع المنكرة لا عموم لها وعليه فلا عموم في آية البقرة؛ لأن قوله: * (ويذرون أزواجا) * جمع منكر فلا يعم بخلاف قوله: * (وأولات الأحمال) * فإنه مضاف إلى معرف بأل والمضاف إلى المعرف بها من صيغ العموم كما عقده في مراقي السعود بقوله عاطفا على صيغ العموم: * (الرجز 000000000000:
* وما معرفا بأل قد وجدا أو بإضافة إلى معرف
* إذا تحقق الخصوص قد نفى
*
الثاني: الضمير الرابط للجملة بالموصول محذوف؛ لدلالة المقام عليه أي: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بعدهم أربعة أشهر وعشرا كقول العرب:
150

السمن منوان بدرهم أي: منوان منه بدرهم. * (قوله تعالى ولمطلقات متعاع بالمعروف حقا على المتقين ظاهر هذه الآية الكريمة أن المتعة حق لكل مطلقة على مطلقها المتقي سواء أطلقت قبل الدخول أم لا؟ فرض لها صداق أم لا؟ ويدل لهذا العموم قوله تعالى: * (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحيواة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سرحا جميلا) * مع قوله: * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) * وقد تقرر في الأصول أن الخطاب الخاص به صلى الله عليه وسلم يعم حكمه جميع الأمة إلا بدليل على الخصوص كما عقده في مراقي السعود بقوله: الرجز ما به قد خوطب النبي
* تعميمه في المذهب السني
*
وهو مذهب الأئمة الثلاثة خلافا للشافعي القائل بخصوصه به صلى الله عليه وسلم إلا بدليل على العموم كما بيناه في غير هذا الموضع.
وإذا عرفت ذلك فاعلم: أن أزواج النبي مفروض لهن ومدخول بهن وقد يفهم من موضع آخر أن المتعة لخصوص المطلقة قبل الدخول وفرض الصداق معا؛ لأن المطلقة بعد الدخول تستحق الصداق والمطلقة قبل الدخول وبعد فرض الصداق تستحق نصف الصداق. والمطلقة قبلهما لا تستحق شيئا فالمتعة لها خاصة لجبر كسرها وذلك في قوله تعالى: * (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن) * ثم قال: * (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم) * فهذه الآية ظاهرة في هذا التفصيل ووجهه ظاهر معقول.
وقد ذكر تعالى في موضع آخر ما يدل على الأمر بالمتعة للمطلقة قبل الدخول وإن كان مفروضا لها وذلك في قوله تعالى: * (يا أيها الذين ءامنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا) *؛ لأن ظاهر عمومها يشمل المفروض لها الصداق وغيرها وبكل واحدة من الآيات الثلاث أخذ جماعة من العلماء والأحوط الأخذ بالعموم وقد تقرر في الأصول أن النص الدال على الأمر مقدم على الدال على الإباحة وعقده في مراقي السعود بقوله:
151

الرجز:
* وناقل ومثبت والآمر
* بعد النواهي ثم هذا الآخر
*
على إباحة الخ 00000 فقول ثم هذا الآخر على إباحة يعني: أن النص الدال على أمر مقدم على النص الدال على إباحة للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب.
والتحقيق أن قدر المتعة لا تحديد فيه شرعا لقوله تعالى: * (على الموسع قدره وعلى المقتر قدره) * فإن توافقا على قدر معين فالأمر واضح وإن اختلفا فالحاكم يجتهد في تحقيق المناط فيعين القدر على ضوء قوله تعالى: * (على الموسع قدره) * هذا هو الظاهر وظاهر قوله: * (ومتعوهن) * وقوله: * (وللمطلقات متاع) * يقتضي وجوب المتعة في الجملة خلافا لمالك ومن وافقه في عدم وجوب المتعة أصلا واستدل بعض المالكية على عدم وجوب المتعة بأن الله تعالى قال: * (حقا على المحسنين) * وقال: * (حقا على المتقين) * قالوا: فلو كانت واجبة لكانت حقا على كل أحد وبأنها لو كانت واجبة لعين فيها القدر الواجب.
قال مقيده عفا الله عنه هذا الاستدلال على عدم وجوبها لا ينهض فيما يظهر؛ لأن قوله: * (على المحسنين) * و * (على المتقين) * تأكيد للوجوب وليس لأحد أن يقول لست متقيا مثلا؛ لوجوب التقوى على جميع الناس.
قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: * (ومتعوهن) * الآية ما نصه: وقوله * (على المتفين) * تأكيد لإيجابها؛ لأن كل واحد يجب عليه أن يتقي الله في الإشراك به ومعاصيه وقد قال تعالى في القرءان: * (هدى للمتقين) * وقولهم لو كانت واجبة لعين القدر الواجب فيها ظاهر السقوط. فنفقة الأزواج والأقارب واجبة ولم يعين فيها القدر اللازم وذلك النوع من تحقيق المناط مجمع عليه في جميع الشرائع كما هو معلوم. قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم المقصود من هذه الآية الكريمة تشجيع المؤمنين على القتال بإعلامهم بأن الفرار من الموت لا ينجي فإذا علم الإنسان أن فراره من الموت أو القتل لا ينجيه هانت عليه مبارزة الأقران؛ والتقدم في الميدان. وقد أشار تعالى أن هذا هو مراده بالآية
152

حيث أتبعها بقوله: * (وقاتلوا في سبيل الله) * وصرح بما أشار إليه هنا في قوله: * (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا) * وهذه أعظم آية في التشجيع على القتال؛ لأنها تبين أن الفرار من القتل لا ينجي منه ولو فرض نجاته منه فهو ميت عن قريب كما قال قعنب ابن أم صاحب: المتقارب:
* إذا أنت لاقيت في نجدة
* فلا تتهيبك أن تقدما
*
* فإن المنية من يخشها
* فسوف تصادفه أينما
*
* وإن تتخطك أسبابها
* فإن قصاراك أن تهرما
*
وقال زهير: الطويل:
* رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
* تمته ومن تخطىء يعمر فيهرم
*
وقال أبو الطيب الخفيف:
* وإذا لم يكن من الموت بد
* فمن العجز أن تكون جبانا
*
ولقد أجاد من قال: البسيط:
* في الجبن عار وفي الإقدام مكرمة
* والمرء في الجبن لا ينجو من القدر
*
وهذا هو المراد بالآيات المذكورة ويؤخذ من هذه الآية عدم جواز الفرار من الطاعون إذا وقع بأرض وأنت فيها وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الفرار من الطاعون وعن القدوم على الأرض التي هو فيها إذا كنت خارجا عنها. تنبيه
لم تأت لفظة * (ألم تر) * ونحوها في القرءان مما تقدمه لفظ * (ألم) * معداة إلا بالحرف الذي هو * (إلى) *. وقد ظن بعض العلماء أن ذلك لازم والتحقيق عدم لزومه وجواز تعديته بنفسه دون حرف الجر كما يشهد له قول امرئ القيس: الطويل:
* ألم ترياني كلما جئت طارقا
* وجدت بها طيبا وإن لم تطيب
* * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضعفه له أضعافا كثيرة لم يبين هنا قدر هذه الأضعاف الكثيرة ولكنه بين في موضع آخر أنها تبلغ سبعمائة ضعف وتزيد
153

عن ذلك. وذلك في قوله تعالى: * (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف) *. * (لمن يشاء قوله تعالى وءاته الله الملك والحكمة لم يبين هنا شيئا مما علمه وقد بين في مواضع أخر أن مما علمه صنعة الدروع كقوله: * (وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم) * الآية قوله: * (وألنا له الحديد * أن اعمل سابغات وقدر في السرد) *. * (قوله تعالى) * وإنك لمن المرسلين يفهم من تأكيده هنا بان واللام أن الكفار ينكرون رسالته كما تقرر في فن المعاني وقد صرح بهذا المفهوم في قوله: * (ويقول الذين كفروا لست مرسلا) * * (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جآءتهم البينات ولاكن اختلفوا فمنهم من ءامن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولاكن الله يفعل ما يريد * يا أيها الذين ءامنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون * الله لا إلاه إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم * لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم * الله ولي الذين ءامنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أوليآؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون * ألم تر إلى الذي حآج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحى ويميت قال أنا أحي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدى القوم الظالمين * أو كالذي مر على قرية وهى خاوية على عروشها قال أنى يحى هاذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير * وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحى الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولاكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم أدعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم * مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم * الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون * قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعهآ أذى والله غنى حليم) * لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد لم يبين هنا هذا الذي كلمه الله منهم وقد بين أن منهم موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بقوله: * (وكلم الله موسى تكليما) * وقوله: * (إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) *.
قال ابن كثير: * (منهم من كلم الله) * يعني موسى ومحمدا صلى الله عليهما وسلم وكذلك آدم كما ورد في الحديث المروي في صحيح ابن حبان عن أبي ذر رضي الله عنه.
قال مقيده عفا الله عنه تكليم آدم الوارد في صحيح ابن حبان يبينه قوله تعالى: * (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) * وأمثالها من الآيات فإنه ظاهر في أنه بغير واسطة الملك ويظهر من هذه الآية نهي حواء عن الشجرة على لسانه فهو رسول إليها بذلك.
قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: * (منهم من كلم الله) * ما نصه: وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آدم أنبي مرسل هو؟ فقال: نعم نبي مكلم قال ابن عطية: وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة فعلى هذا تبقى خاصية موسى اه.
وقال ابن جرير في تفسير قوله تعالى: * (فإما يأتينكم منى هدى) * في سورة البقرة ما نصه: لأن آدم كان هو النبي صلى الله عليه وسلم أيام حياته بعد أن أهبط إلى
154

الأرض والرسول من الله جل ثناؤه إلى ولده فغير جائز أن يكون معنيا وهو الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: * (فإما يأتينكم منى هدى) * أي: رسل اه محل الحجة منه بلفظه
وفيه وفي كلام ابن كثير المتقدم عن صحيح ابن حبان التصريح بأن آدم رسول وهو مشكل مع ما ثبت في حديث الشفاعة المتفق عليه من أن نوحا عليه وعلى نبينا الصلاة
والسلام أول الرسل ويشهد له قوله تعالى: * (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده) * والظاهر أنه لا طريق للجمع إلا من وجهين:
الأول: أن آدم أرسل لزوجه وذريته في الجنة ونوح أول رسول أرسل في الأرض ويدل لهذا الجمع ما ثبت في الصحيحين وغيرهما ويقول: ولكن ائتوا نوحا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض الحديث. فقوله: إلى أهل الأرض لو لم يرد به الاحتراز عن رسول بعث لغير أهل الأرض لكان ذلك الكلام حشوا بل يفهم من مفهوم مخالفته ما ذكرنا. ويتأنس له بكلام ابن عطية الذي قدمنا نقل القرطبي له.
الوجه الثاني: أن آدم أرسل إلى ذريته وهم على الفطرة لم يصدر منهم كفر فأطاعوه ونوح هو أول رسول أرسل لقوم كافرين ينهاهم عن الإشراك بالله تعالى ويأمرهم بإخلاص العبادة له وحده ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: * (وما كان الناس إلا أمة واحدة) *. أي: على الدين الحنيف أي حتى كفر قوم نوح وقوله: * (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين) *. والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: * (ورفع بعضهم درجات) * أشار في مواضع أخر إلى أن منهم محمدا صلى الله عليه وسلم كقوله: * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) * أو قوله: * (وما أرسلناك إلا كافة للناس) * وقوله: * (إني رسول الله إليكم جميعا) * وقوله: * (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) * وأشار في مواضع أخر إلى أن منهم إبراهيم كقوله: * (واتخذ الله إبراهيم خليلا) * وقوله: * (إني جاعلك للناس إماما) * إلى غير ذلك من الآيات.
وأشار في موضع آخر إلى أن منهم داود وهو قوله: * (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا) * وأشار في موضع آخر إلى أن منهم إدريس
155

وهو قوله: * (ورفعناه مكانا عليا) * وأشار هنا إلى أن منهم عيسى بقوله: * (وأتينا عيسى ابن مريم البينات) *.
تنبيه
في هذه الآية الكريمة أعني قوله تعالى: * (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) * إشكال قوي معروف. ووجهه: أنه ثبت في حديث أبي هريرة المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم قال: لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله وثبت أيضا في حديث أبي سعيد المتفق عليه: لا تخيروا بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة الحديث وفي رواية: لا تفضلوا بين أنبياء الله وفي رواية: لا تخيروني من بين الأنبياء.
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية ما نصه: وهذه الآية مشكلة والأحاديث ثابتة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تخيروا بين الأنبياء ولا تفضلوا بين أنبياء الله رواها الأئمة الثقات أي: لا تقولوا فلان خير من فلان ولا فلان أفضل من فلان اه.
قال ابن كثير في الجواب عن هذا الإشكال ما نصه: والجواب من وجوه:
أحدها: أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل وفي هذا نظر.
الثاني: أن هذا قاله من باب الهضم والتواضع.
الثالث: أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذا الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاجر.
الرابع: لا تفضلوا بمجرد الآراء والعصبية.
الخامس: ليس مقام التفضيل إليكم وإنما هو إلى الله عز وجل وعليكم الانقياد والتسليم له والإيمان به اه منه بلفظه.
وذكر القرطبي في تفسيره أجوبة كثيرة عن هذا الإشكال واختار أن منع التفضيل في خصوص النبوة وجوازه في غيرها من زيادة الأحوال والخصوص والكرامات فقد قال ما نصه: قلت: وأحسن من هذا قول من قال: إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة هو التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها وإنما التفضيل
156

في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والألطاف والمعجزات المتباينات.
وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل وإنما تتفاضل بأمور أخر زائدة عليها ولذلك منهم رسل وأولو عزم ومنهم من اتخذ خليلا ومنهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات. قال الله تعالى: * (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا) * قلت: وهذا قول حسن فإنه جمع بين الآي والأحاديث من غير نسخ والقول بتفضيل بعضهم على بعض إنما هو بما منح من الفضائل وأعطى من الوسائل وقد أشار ابن عباس إلى هذا فقال: إن الله فضل محمدا صلى الله عليه وسلم على الأنبياء وعلى أهل السماء فقالوا: بم يا ابن عباس فضله على أهل السماء؟ فقال: إن الله تعالى قال: * (ومن يقل منهم إني إلاه من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزى الظالمين) * وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: * (إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) * قالوا: فما فضله على الأنبياء؟ قال: قال الله تعالى: * (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) * وقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: * (وما أرسلناك إلا كافة للناس) * فأرسله إلى الجن والإنس ذكره أبو محمد الدارمي في مسنده وقال أبو هريرة: خير بني آدم نوح وإبراهيم وموسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وهم أولو العزم من الرسل وهذا نص من ابن عباس وأبي هريرة في التعيين ومعلوم أن من أرسل أفضل ممن لم يرسل؛ فإن من أرسل فضل على غيره بالرسالة واستووا في النبوة إلى ما يلقاه الرسل من تكذيب أممهم وقتلهم إياهم وهذا مما لا خفاء به. اه محل الغرض منه بلفظه.
واختار ابن عطية كما نقله عنه القرطبي أن وجه الجمع جواز التفضيل إجمالا كقوله صلى الله عليه وسلم: أنا سيد ولد آدم ولا فخر ولم يعين ومنع التفضيل على طريق الخصوص كقوله: لا تفضلوني على موسى وقوله: لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى ونحو ذلك والعلم عند الله تعالى قوله تعالى.
الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون يفهم من هذه الآية أن من أتبع إنفاقه المن والأذى لم يحصل له هذا الثواب المذكور هنا في قوله: * (لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *. وقد صرح تعالى بهذا المفهوم في
157

قوله: * (يا أيها الذين ءامنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى الآية قوله تعالى) *.
* (الله ولي الذين ءامنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) * صرح في هذه الآية الكريمة بأن الله ولي المؤمنين وصرح في آية أخرى بأنه وليهم وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليهم وأن بعضهم أولياء بعض وذلك في قوله تعالى: * (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الآية) * وقال: * (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) * وصرح في موضع آخر بخصوص هذه الولاية للمسلمين دون الكافرين وهو قوله تعالى: * (ذلك بأن الله مولى الذين ءامنوا وأن الكافرين لا مولى لهم) * وصرح في موضع آخر بأن نبيه صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو قوله تعالى: * (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) * وبين في آية البقرة هذه ثمرة ولايته تعالى للمؤمنين وهي إخراجه لهم من الظلمات إلى النور بقوله تعالى: * (الله ولي الذين ءامنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) * وبين في موضع آخر أن من ثمرة ولايته إذهاب الخوف والحزن عن أوليائه وبين أن ولايتهم له تعالى بإيمانهن وتقواهم وذلك في قوله تعالى: * (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين ءامنوا وكانوا يتقون) * وصرح في موضع آخر أنه تعالى ولي نبيه صلى الله عليه وسلم وأنه أيضا يتولى الصالحين وهو قوله تعالى: * (إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين) *.
يخرجهم من الظلمات إلى النور المراد بالظلمات الضلالة وبالنور الهدى وهذه الآية يفهم منها أن طرق الضلال متعددة؛ لجمعه الظلمات وأن طريق الحق واحدة؛ لإفراده النور وهذا المعنى المشار إليه هنا بينه تعالى في مواضع أخر كقوله: * (وأن هاذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) *.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية ما نصه: ولهذا وحد تعالى لفظ النور وجمع الظلمات؛ لأن الحق واحد والكفر أجناس كثيرة وكلها باطلة كما قال: * (وأن هاذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) * وقال تعالى: * (وجعل الظلمات والنور) * وقال تعالى: * (عن اليمين وعن الشمال عزين) * إلى غير ذلك من الآيات التي في لفظها إشعار بتفرد
158

الحق وانتشار الباطل وتعدده وتشعبه منه بلفظه.
* (قوله تعالى والذين كفروا أوليآؤهم الطاغوت الآية) * قال بعض العلماء: * (الطاغوت) * الشيطان ويدل لهذا قوله تعالى: * (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه) * أي يخوفكم من أوليائه. وقوله تعالى: * (الذين ءامنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا) * وقوله: * (أفتتخذونه وذريته أولياء من دونى وهم لكم عدو) * وقوله: * (إنهم اتخذوا الشياطين أولياء) * والتحقيق أن كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت والحظ الأكبر من ذلك للشيطان كما قال تعالى: * (ألم أعهد إليكم يا بنىءادم أن لا تعبدوا الشيطان) * وقال: * (إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا) * وقال عن خليله إبراهيم يا أبت لا تعبد الشيطان) * وقال: * (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) *. إلى غير ذلك من الآيات. * (قوله تعالى كالذي ينفق ماله رئآء الناس بين أن المراد ب * (الذي) * الذين بقوله: * (لا يقدرون على شئ مما كسبوا) *.
* (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله) *. لم يبين هنا سبب فقرهم؛ ولكنه بين في سورة الحشر أن سبب فقرهم هو إخراج الكفار لهم من ديارهم وأموالهم بقوله: * (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم) *. * (الآية قوله تعالى فمن جآءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف الآية معنى هذه الآية الكريمة أن من جاءه موعظة من ربه يزجره بها عن أكل الربا فانتهى أي: ترك المعاملة بالربا؛ خوفا من الله تعالى وامتثالا لأمره * (فله ما سلف) * أي: ما مضى قبل نزول التحريم من أموال الربا ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن الله لا يؤاخذ الإنسان بفعل أمر إلا بعد أن يحرمه عليه وقد أوضح هذا المعنى في آيات كثيرة فقد قال في الذين كانوا يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر قبل نزول التحريم: * (ليس على الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) *.
159

وقال في الذين كانوا يتزوجون أزواج آبائهم قبل التحريم: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف) * أي: لكن ما سلف قبل التحريم فلا جناح عليكم فيه ونظيره قوله تعالى: * (وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف) *.
وقال في الصيد قبل التحريم: * (عفا الله عما سلف) *.
وقال في الصلاة إلى بيت المقدس قبل نسخ استقباله: * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) * أي: صلاتكم إلى بيت المقدس قبل النسخ.
ومن أصرح الأدلة في هذا المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين لما استغفروا لقربائهم الموتى من المشركين وأنزل الله تعالى: * (ما كان للنبي والذين ءامنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) * وندموا على استغفارهم للمشركين أنزل الله في ذلك: * (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) * فصرح بأنه لا يضلهم بفعل أمر إلا بعد بيان اتقائه. * (يمحق الله الربوا صرح في هذه الآية الكريمة بأنه يمحق الربا أي: يذهبه بالكلية من يد صاحبه أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به كما قاله ابن كثير وغيره وما ذكر هنا من محق الربا أشار إليه في مواضع أخر كقوله: * (وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله) * وقوله: * (قل لا يستوى الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث) * وقوله: * (ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم) * كما أشار إلى ذلك ابن كثير في تفسير هذه الآية.
واعلم أن الله صرح بتحريم الربا بقوله: * (وحرم الربا) * وصرح بأن المتعامل بالربا محارب الله بقوله: * (يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن
كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون) *.
وصرح بأن آكل الربا لا يقوم أي: من قبره يوم القيامة إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس بقوله: * (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه
160

الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل) * الربا والأحاديث في ذلك كثيرة جدا.
واعلم أن الربا منه ما أجمع المسلمون على منعه ولم يخالف فيه أحد وذلك كربا الجاهلية وهو أن يزيده في الأجل على أن يزيده الآخر في قدر الدين وربا النساء بين الذهب والذهب والفضة والفضة وبين الذهب والفضة وبين البر والبر وبين الشعير والشعير وبين التمر والتمر وبين الملح والملح وكذلك بين هذه الأربعة بعضها مع بعض.
وكذلك حكى غير واحد الإجماع على تحريم ربا الفضل بين كل واحد من الستة المذكورة فلا يجوز الفضل بين الذهب والذهب ولا بين الفضة والفضة ولا بين البر والبر ولا بين الشعير والشعير ولا بين التمر والتمر ولا بين الملح والملح ولو يدا بيد.
والحق الذي لا شك فيه منع ربا الفضل في النوع الواحد من الأصناف الستة المذكورة فإن قيل: ثبت في الصحيح عن ابن عباس عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا ربا إلا في النسيئة وثبت في الصحيح عن أبي المنهال أنه قال: سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن الصرف فقالا: كنا تاجرين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصرف فقال: ما كان منه يدا بيد فلا بأس وما كان منه نسيئة فلا؛ فالجواب من أوجه: الأول: أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بجواز الفضل ومنع النسيئة فيما رواه عنه أسامة والبراء وزيد إنما هو في جنسين مختلفين بدليل الروايات الصحيحة المصرحة بأن ذلك هو محل جواز التفاضل وأنه في الجنس الواحد ممنوع.
واختار هذا الوجه البيهقي في السنن الكبرى فإنه قال بعد أن ساق الحديث الذي ذكرنا آنفا عن البراء بن عازب وزيد بن أرقم ما نصه: رواه البخاري في الصحيح عن أبي عاصم دون ذكر عامر بن مصعب وأخرجه من حديث حجاج بن محمد عن ابن جريج مع ذكر عامر بن مصعب وأخرجه مسلم بن الحجاج عن محمد بن حاتم بن ميمون عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي المنهال قال: باع شريك لي ورقا بنسيئة إلى الموسم أو إلى الحج فذكره وبمعناه رواه البخاري
161

عن علي ابن المديني عن سفيان وكذلك رواه أحمد بن روح عن سفيان وروي عن الحميدي عن سفيان عن عمرو بن دينار عن أبي المنهال قال: باع شريك لي بالكوفة دراهم بدراهم بينهما فضل.
عندي أن هذا خطأ والصحيح ما رواه علي ابن المديني ومحمد بن حاتم وهو المراد بما أطلق في رواية ابن جريج فيكون الخبر واردا في بيع الجنسين أحدهما بالآخر فقال: ما كان منه يدا بيد فلا بأس وما كان منه نسيئة فلا وهو المراد بحديث أسامة والله أعلم.
والذي يدل على ذلك أيضا ما أخبرنا به أبو الحسين بن الفضل القطان ببغداد: أنا أبو سهل بن زياد القطان حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتي حدثنا أبو عمر حدثنا شعبة أخبرني حبيب هو ابن أبي ثابت قال: سمعت أبا المنهال قال: سألت البراء وزيد بن أرقم عن الصرف فكلاهما يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الورق بالذهب دينا رواه البخاري في الصحيح عن أبي عمر حفص بن عمر وأخرجه مسلم من وجه آخر عن شعبة اه من البيهقي بلفظه وهو واضح جدا فيما ذكرنا. من أن المراد بجواز الفضل المذكور كونه في جنسين لا جنس واحد.
وفي تكملة المجموع بعد أن ساق الكلام الذي ذكرنا عن البيهقي ما نصه: ولا حجة لمتعلق فيهما؛ لأنه يمكن حمل ذلك على أحد أمرين إما أن يكون المراد بيع دراهم بشئ ليس ربويا ويكون الفساد لأجل التأجيل بالموسم أو الحج فإنه غير محرر ولا سيما على ما كانت العرب تفعل.
والثاني: أن يحمل ذلك على اختلاف الجنس ويدل له رواية أخرى عن أبي المنهال قال: سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن الصرف فكلاهما يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينا رواه البخاري ومسلم وهذا لفظ البخاري ومسلم بمعناه. وفي لفظ مسلم عن بيع الورق بالذهب دينا فهو يبين أن المراد صرف الجنس بجنس آخر.
وهذه الرواية ثابتة من حديث شعبة عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي المنهال والروايات الثلاث الأول رواية الحميدي واللتان في الصحيح وكلها أسانيدها في غاية الجودة.
162

ولكن حصل الاختلاف في سفيان فخالف الحميدي على ابن المديني ومحمد بن حاتم ومحمد بن منصور وكل من الحميدي وعلي ابن المديني في غاية الثبت. ويترجح ابن المديني هنا بمتابعة محمد بن حاتم ومحمد بن منصور له وشهادة ابن جريح لروايته وشهادة رواية حبيب بن أبي ثابت لرواية شيخه ولأجل ذلك قال البيهقي رحمه الله: إن رواية من قال إنه باع دراهم بدراهم خطأ عنده. اه منه بلفظه.
وقال ابن حجر في فتح الباري ما نصه: وقال الطبري معنى حديث أسامة: لا ربا إلا في النسيئة إذا اختلفت أنواع البيع. اه محل الغرض منه بلفظه وهو موافق لما ذكر. وقال في فتح الباري أيضا ما نصه:
تنبيه
وقع في نسخة الصغاني هنا قال أبو عبد الله: يعني البخاري سمعت سليمان بن حرب يقول: لا ربا إلا في النسيئة هذا عندنا في الذهب بالورق والحنطة بالشعير متفاضلا ولا بأس به يدا بيد ولا خير فيه نسيئة. قلت: وهذا موافق ا ه منه بلفظه
وعلى هامش النسخة أن بعد قوله: وهذا موافق بياضا بالأصل وبهذا الجواب الذي ذكرنا تعلم أن حديث البراء وزيد لا يحتاج بعد هذا الجواب إلى شئ؛ لأنه قد ثبت في
الصحيح عنهما تصريحهما باختلاف الجنس فارتفع الإشكال والروايات يفسر بعضها بعضا فإن قيل: هذا لا يكفي في الحكم على الرواية الثابتة في الصحيح بجواز التفاضل بين الدراهم والدراهم أنها خطأ؛ إذ لقائل أن يقول لا منافاة بين الروايات المذكورة فإن منها ما أطلق فيه الصرف ومنها ما بين أنها دراهم بدراهم فيحمل المطلق على المقيد جمعا بين الروايتين فإن إحداهما بينت ما أبهمته الأخرى ويكون حديث حبيب بن أبي ثابت حديثا آخر واردا في الجنسين وتحريم النساء فيهما ولا تنافي في ذلك ولا تعارض.
فالجواب على تسليم هذا بأمرين:
أحدهما: أن إباحة ربا الفضل منسوخة.
والثاني: أن أحاديث تحريم ربا الفضل أرجح وأولى بالاعتبار على تقدير عدم النسخ من أحاديث إباحته
163

.
ومما يدل على النسخ ما ثبت في الصحيح عن أبي المنهال قال: باع شريك لي ورقا بنسيئة إلى الموسم أو إلى الحج فجاء إلي فأخبرني فقلت: هذا أمر لا يصح قال: قد بعته في السوق فلم ينكر ذلك على أحد فأتيت البراء بن عازب فسألته فقال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ونحن نبيع هذا البيع فقال: ما كان يدا بيد فلا بأس به وما كان نسيئة فهو ربا وأتيت زيد بن أرقم فإنه أعظم تجارة مني فأتيته فسألته فقال مثل ذلك. هذا لفظ مسلم في صحيحه. وفيه التصريح بأن إباحة ربا الفضل المذكورة في حديث البراء بن عازب وزيد بن أرقم كانت مقارنة لقدومه صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرا.
وفي بعض الروايات الصحيحة في تحريم ربا الفضل أنه صلى الله عليه وسلم صرح بتحريمه في يوم خيبر وفي بعض الروايات الصحيحة تحريم ربا الفضل بعد فتح خيبر أيضا فقد ثبت في الصحيح من حديث فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب وهي من المغانم تباع فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذهب بالذهب وزنا بوزن هذا لفظ مسلم في صحيحه وفي لفظ له في صحيحه أيضا عن فضالة بن عبيد قال: اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر دينارا فيها ذهب وخرز ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تباع حتى تفصل وفي لفظ له في صحيحه أيضا عن فضالة رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر نبايع اليهود الوقية الذهب بالدينارين والثلاثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن. وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أخا بني عدي الأنصاري فاستعمله على خيبر فقدم بتمر جنيب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا لنشتري الصاع بالصاعين من الجمع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا ولكن مثلا بمثل أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا وكذلك الميزان هذا لفظ مسلم في صحيحه وفي لفظ لهما عن أبي هريرة وأبي سعيد أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر فجاء بتمر جنيب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا والأحاديث بمثله كثيرة وهي نص صريح في
164

تصريحه صلى الله عليه وسلم بتحريم ربا الفضل بعد فتح خيبر فقد اتضح لك من هذه الروايات الثابتة في الصحيح: أن إباحة ربا الفضل كانت زمن قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرا وأن الروايات المصرحة بالمنع صرحت به في يوم خيبر وبعده فتصريح النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم ربا الفضل بعد قدومه المدينة بنحو ست سنين وأكثر منها يدل دلالة لا لبس فيها على النسخ وعلى كل حال فالعبرة بالمتأخر وقد كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث.
وأيضا فالبراء وزيد رضي الله عنهما كانا غير بالغين في وقت تحملهما الحديث المذكور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف الجماعة من الصحابة الذين رووا عنه تحريم ربا الفضل فإنهم بالغون وقت التحمل ورواية البالغ وقت التحمل أرجح من رواية من تحمل وهو صبي؛ للخلاف فيها دون رواية المتحمل بالغا وسن البراء وزيد وقت قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة نحو عشر سنين؛ لما ذكره ابن عبد البر عن منصور بن سلمة الخزاعي: أنه روى بإسناده إلى زيد بن جارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استصغره يوم أحد والبراء بن عازب وزيد بن أرقم وأبا سعيد الخدري وسعد بن حبته وعبد الله بن عمر وعن الواقدي أن أول غزوة شهداها يوم الخندق.
وممن قال: بأن حديث البراء وزيد منسوخ راويه الحميدي. وناهيك به علما واطلاعا. وقول راوي الحديث: إنه منسوخ في كونه يكفي في النسخ. خلاف معروف عند أهل الأصول وأكثر المالكية والشافعية لا يكفي عندهم. فإن قيل: ما قدمتم من كون تحريم ربا الفضل واقعا بعد إباحته يدل على النسخ في حديث البراء وزيد لعلم التاريخ فيهما وأن حديث التحريم هو المتأخر ولكن أين لكم معرفة ذلك في حديث أسامة؟ ومولد أاسامة مقارب لمولد البراء وزيد؛ لأن سن أسامة وقت وفاته صلى الله عليه وسلم عشرون سنة وقيل: ثمان عشرة وسن البراء وزيد وقت وفاته صلى الله عليه وسلم نحو العشرين كما قدمنا ما يدل عليه.
فالجواب: أنه يكفي في النسخ معرفة أن إباحة ربا الفضل وقعت قبل تحريمه والمتأخر يقضي على المتقدم.
الجواب الثاني: عن حديث أسامة أنه رواية صحابي واحد وروايات منع ربا الفضل عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رووها صريحة عنه صلى الله عليه وسلم ناطقة بمنع ربا الفضل منهم: أبو سعيد وأبو بكر وعمر وعثمان وأبو هريرة وهشام بن عامر وفضالة بن عبيد وأبو بكرة وابن عمر وأبو الدرداء وبلال وعبادة بن الصامت
165

ومعمر بن عبد الله وغيرهم وروايات جل من ذكرنا ثابتة في الصحيح كرواية: أبي هريرة وأبي سعيد وفضالة بن عبيد وعمر بن الخطاب وأبي بكرة وعبادة بن الصامت ومعمر بن عبد الله وغيرهم. وإذا عرفت ذلك فرواية الجماعة من العدول أقوى وأثبت وأبعد من الخطأ من رواية الواحد.
وقد تقرر في الأصول أن كثرة الرواة من المرجحات وكذلك كثرة الأدلة كما عقده في مراقي السعود في مبحث الترجيح باعتبار حال المروي بقوله: الرجز:
* وكثرة الدليل والرواية
* مرجح لدى ذوي الدراية
*
والقول بعدم الترجيح بالكثرة ضعيف وقد ذكر سليم الداري أن الشافعي أومأ إليه وقد ذهب إليه بعض الشافعية والحنفية.
الجواب الثالث: عن حديث أسامة أنه دل على إباحة ربا الفضل وأحاديث الجماعة المذكورة دلت على منعه في الجنس الواحد من المذكورات وقد تقرر في الأصول أن النص الدال على المنع مقدم على الدال على الإباحة؛ لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام وقد قدمناه عن صاحب المراقي وهو الحق خلافا للغزالي وعيسى بن أبان وأبي هاشم وجماعة من المتكلمين حيث قالوا: هما سواء.
الجواب الرابع: عن حديث أسامة أنه عام بظاهره في الجنس والجنسين وأحاديث الجماعة أخص منه؛ لأنها مصرحة بالمنع مع اتحاد الجنس وبالجواز مع اختلاف الجنس والأخص مقدم على الأعم؛ لأنه بيان له ولا يتعارض عام وخاص كما تقرر في الأصول. ومن مرجحات أحاديث منع ربا الفضل على حديث أسامة الحفظ؛ فإن في رواته أبا هريرة وأبا سعيد وغيرهما ممن هو مشهور بالحفظ ومنها غير ذلك.
وقال ابن حجر في فتح الباري ما نصه؛ واتفق العلماء على صحة حديث أسامة واختلفوا في الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد فقيل: منسوخ لكن النسخ لا يثبت بالاحتمال وقيل: المعنى في قوله: لا ربا الربا الأغلظ الشديد التحريم المتوعد عليه بالعقاب الشديد كما تقول العرب: لا عالم في البلد إلا زيد مع أن فيها علماء غيره وإنما القصد نفي الأكمل لا نفي الأصل وأيضا فنفي تحريم ربا الفضل من حديث أسامة إنما هو بالمفهوم. فيقدم عليه حديث أبي سعيد؛ لأن دلالته بالمنطوق
166

. ويحمل حديث أسامة على الربا الأكبر كما تقدم والله أعلم. اه منه.
وقوله: النسخ لا يثبت بالاحتمال مردود بما قدمنا من الروايات المصرحة بأن التحريم بعد الإباحة ومعرفة المتأخر كافية في الدلالة على النسخ وقد روي عن ابن عباس وابن عمر أنهما رجعا عن القول بإباحة ربا الفضل قال البيهقي في السنن الكبرى ما نصه: باب ما يستدل به على رجوع من قال من الصدر الأول لا ربا إلا في النسيئة عن قوله ونزوعه عنه أخبرنا أبو عبد الله الحافظ: أنا أبو الفضل بن إبراهيم حدثنا أحمد بن سلمة حدثنا إسحاق بن إبراهيم أنا عبد الأعلى حدثنا داود بن أبي هند عن أبي نضرة قال: سألت ابن عمر وابن عباس عن الصرف فلم يريا به بأسا وإني لقاعد عند أبي سعيد الخدري فسألته عن الصرف فقال: ما زاد فهو ربا فأنكرت ذلك لقولهما فقال: لا أحدثكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاءه صاحب نخلة: بصاع من تمر طيب وكان تمر النبي صلى الله عليه وسلم هو الدون فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنى لك هذا؟ قال: انطلقت بصاعين واشتريت به هذا الصاع؛ فإن سعر هذا بالسوق كذا وسعر هذا بالسوق كذا. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أربيت؟ إذا أردت ذلك فبع تمرك بسلعة ثم اشتر بسلعتك أي تمر شئت فقال أبو سعيد: فالتمر بالتمر أحق أن يكون ربا أم الفضة بالفضة؟ قال: فأتيت ابن عمر بعد فنهاني ولم آت ابن عباس قال: فحدثني أبو الصهباء أنه سأل ابن عباس فكرهه رواه مسلم في الصحيح عن إسحاق بن إبراهيم وقال: وكان تمر النبي صلى الله عليه وسلم هذا اللون.
أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ حدثنا الحسين بن محمد بن أحمد بن محمد بن الحسين أبو علي الماسرجسي حدثنا جدي أبو العباس أحمد بن محمد وهو ابن بنت الحسن بن عيسى حدثنا جدي الحسن بن عيسى أنا ابن المبارك أنا يعقوب بن أبي القعقاع عن معروف بن سعد أنه سمع أبا الجوزاء يقول: كنت أخدم ابن عباس تسع سنين إذ جاء رجل فسأله عن درهم بدرهمين فصاح ابن عباس وقال: إن هذا يأمرني أن أطعمه الربا فقال ناس حوله: إن كنا لنعمل هذا بفتياك فقال ابن عباس: قد كنت أفتي بذلك حتى حدثني أبو سعيد وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه فأنا أنهاكم عنه وفي نسختنا من سنن البيهقي في هذا الإسناد ابن المبارك والظاهر: أن الأصل أبو المبارك كما يأتي.
أخبرنا أبو الحسين ابن الفضل القطان ببغداد أنا عبد الله بن جعفر بن درستويه
167

حدثنا يعقوب بن سفيان حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحق عن سعد بن إياس عن عبد الله بن مسعود أن رجلا من بني شمخ بن فزارة سأله عن رجل تزوج امرأة فرأى أمها فأعجبته فطلق امرأته؛ ليتزوج أمها قال: لا بأس فتزوجها الرجل وكان عبد الله على بيت المال وكان يبيع نفاية بيت المال يعطي الكثير ويأخذ القليل حتى قدم المدينة فسأل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا: لا يحل لهذا الرجل هذه المرأة ولا تصح الفضة إلا وزنا بوزن؛ فلما قدم عبد الله انطلق إلى الرجل فلم يجده ووجد قومه فقال: إن الذي أفتيت به صاحبكم لا يحل فقالوا: إنها قد نثرت له بطنها قال وإن كان. وأتى الصيارفة فقال: يا معشر الصيارفة إن الذي كنت أبايعكم لا يحل لا تحل الفضة بالفضة إلا وزنا بوزن. اه من البيهقي بلفظه وفيه التصريح برجوع ابن عمر وابن عباس وابن مسعود عن القول بإباحة ربا الفضل.
وقال ابن حجر في الكلام على حديث أسامة المذكور ما نصه: وخالف فيه؛ يعني: منع ربا الفضل ابن عمر ثم رجع وابن عباس واختلف في رجوعه وقد روى الحاكم من طريق حيان العدوي وهو بالمهملة والتحتانية سألت أبا مجلز عن الصرف فقال: كان ابن عباس لا يرى به بأسا زمانا من عمره ما كان منه عينا بعين يدا بيد وكان يقول
: إنما الربا في النسيئة فلقيه أبو سعيد فذكر القصة والحديث وفيه التمر بالتمر والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والذهب بالذهب والفضة بالفضة يدا بيد مثلا بمثل فما زاد فهو ربا فقال ابن عباس: أستغفر الله وأتوب إليه فكان ينهى عنه أشد النهي. ا ه من فتح الباري بلفظه. وفي تكملة المجموع لتقي الدين السبكي بعد أن ساق حديث حيان هذا ما نصه: رواه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة وفي حكمه عليه بالصحة نظر؛ فإن حيان بن عبيد الله المذكور قال ابن عدي: عامة ما يرويه إفرادات يتفرد بها وذكر ابن عدي في ترجمته حديثه في الصرف هذا بسياقه ثم قال: وهذا الحديث من حديث أبي مجلز عن ابن عباس تفرد به حيان قال البيهقي: وحيان تكلموا فيه واعلم أن هذا الحديث ينبغي الاعتناء بأمره وتبيين صحته من سقمه؛ لأمر غير ما نحن فيه وهو قوله: وكذلك ما يكال ويوزن وقد تكلم فيه بنوعين من الكلام أحدهما تضعيف الحديث جملة وإليه أشار البيهقي
168

وممن ذهب إلى ذلك ابن حزم أعله بشئ أنبه عليه لئلا يغتر به: وهو أنه أعله بثلاثة أشياء.
أحدها: أنه منقطع؛ لأن أبا مجلز لم يسمع من أبي سعيد ولا من ابن عباس.
والثاني: لذكره أن ابن عباس رجع واعتقاد ابن حزم: أن ذلك باطل؛ لمخالفة سعيد بن جبير.
والثالث: أن حيان بن عبيد الله مجهول.
فأما قوله: إنه منقطع فغير مقبول؛ لأن أبا مجلز أدرك ابن عباس وسمع منه وأدرك أبا سعيد. ومتى ثبت ذلك لا تسمع دعوى عدم السماع إلا بثبت وأما مخالفة سعيد بن جبير فسنتكلم عليها في هذا الفصل إن شاء الله تعالى وأما قوله إن حيان بن عبيد الله مجهول فإن أراد مجهول العين فليس بصحيح بل هو رجل مشهور روى عنه حديث الصرف هذا محمد بن عبادة ومن جهته أخرجه الحاكم وذكره ابن حزم وإبراهيم بن الحجاج الشامي ومن جهته رواه ابن عدي ويونس بن محمد ومن جهته رواه البيهقي وهو حيان بن عبيد الله بن حيان بن بشر بن عدي بصري سمع أبا مجلز لاحق بن حميد والضحاك وعن أبيه وروى عن عطاء وابن بريدة روى عنه موسى بن إسماعيل ومسلم بن إبراهيم وأبو داود وعبيد الله بن موسى عقد له البخاري وابن أبي حاتم ترجمة فذكر كل منهما بعض ما ذكرته وله ترجمة في كتاب ابن عدي أيضا كما أشرت إليه فزال عنه جهالة العين وإن أراد جهالة الحال فهو قد رواه من طريق إسحق بن راهويه.
فقال في إسناده: أخبرنا روح قال حدثنا حيان بن عبيد الله وكان رجل صدق فإن كانت هذه الشهادة له بالصدق من روح بن عبادة فروح محدث نشأ في الحديث عارف به مصنف متفق على الاحتجاج به بصري بلدي المشهود له فتقبل شهادته له وإن كان هذا القول من إسحاق بن راهويه فناهيك به ومن يثني عليه إسحاق. وقد ذكر ابن أبي حاتم حيان بن عبيد الله هذا.
وذكر جماعة من المشاهير ممن رووا عنه وممن روى عنهم وقال: إنه سأل أباه عنه فقال: صدوق ثم قال: وعن سليمان بن علي الربعي عن أبي الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي قال سمعته يأمر بالصرف يعني ابن عباس وتحدث ذلك عنه ثم
169

بلغني أنه رجع عن ذلك فلقيته بمكة فقلت إنه بلغني أنك رجعت قال: نعم إنما كان ذلك رأيا مني وهذا أبو سعيد حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الصرف رويناه في سنن ابن ماجة ومسند الإمام أحمد بإسناد رجاله على شرط الصحيحين إلى سليمان بن علي وسليمان بن علي روى له مسلم. وقال ابن حزم: إنه مجهول لا يدري من هو؟ وهو غير مقبول منه؛ لما تبين. ثم قال: وعن أبي الجوزاء قال: كنت أخدم ابن عباس رضي الله عنهما تسع سنين ثم ساق حديث أبي الجوزاء عن ابن عباس الذي قدمنا عن البيهقي ثم قال: رواه البيهقي في السنن الكبرى بإسناد فيه أبو المبارك وهو مجهول.
ثم قال: وروينا عن عبد الرحمان بن أبي نعم بضم النون وإسكان العين _ أن أبا سعيد الخدري لقي ابن عباس فشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: الذهب بالذهب والفضة بالفضة مثلا بمثل فمن زاد فقد: أربى فقال ابن عباس: أتوب إلى الله مما كنت أفتي به ثم رجع. رواه الطبراني بإسناد صحيح وعبد الرحمان بن أبي نعم تابعي ثقة متفق عليه معروف بالرواية عن أبي سعيد وابن عمر وغيرهما من الصحابة وعن أبي الجوزاء قال: سألت ابن عباس عن الصرف عن الدرهم بالدرهمين يدا بيد فقال: لا أرى فيما كان يدا بيد بأسا ثم قدمت مكة من العام المقبل وقد نهى عنه رواه الطبراني بإسناد حسن. وعن أبي الشعثاء قال: سمعت ابن عباس يقول: اللهم إني أتوب إليك من الصرف؛ إنما هذا من رأيي وهذا أبو سعيد الخدري يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه الطبراني ورجاله ثقات مشهورون مصرحون بالتحديث فيه من أولهم إلى آخرهم.
عن عطية العوفي بإسكان الواو وبالفاء قال: قال أبو سعيد لابن عباس: تب إلى الله تعالى فقال: أستغفر الله وأتوب إليه قال: ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الذهب بالذهب والفضة بالفضة وقال: إني أخاف عليكم الربا قال فضيل بن مرزوق: قلت لعطية: ما الربا؟ قال: الزيادة والفضل بينهما رواه الطبراني بسند صحيح إلى عطية. وعطية من رجال السنن. قال يحيى بن معين: صالح وضعفه غيره فالإسناد بسببه ليس بالقوي.
وعن بكر بن عبد الله المزني أن ابن عباس جاء من المدينة إلى مكة وجئت معه فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنه لا بأس بالصرف ما كان منه يدا
170

بيد إنما الربا في النسيئة فطارت كلمته في أهل المشرق والمغرب حتى إذا انقضى الموسم دخل عليه أبو سعيد الخدري وقال له: با ابن عباس أكلت الربا وأطعمته؟ قال: أو فعلت؟ قال: نعم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل: تبره وعينه. فمن زاد أو استزاد فقد أربى والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل فمن زاد أو استزاد فقد أربى حتى إذا كان العام المقبل جاء ابن عباس وجئت معه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إني تكلمت عام أول بكلمة من رأيي وإني أستغفر الله تعالى منه وأتوب إليه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل تبره وعينه فمن زاد واستزاد فقد
أربى وأعاد عليهم هذه الأنواع الستة؛ رواه الطبراني بسند فيه مجهول وإنما ذكرناه متابعة لما تقدم. وهكذا وقع في روايتنا: فمن زاد واستزاد بالواو لا بأو والله أعلم.
وروى أبو جابر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي في كتاب المعاني والآثار بإسناد حسن إلى أبي سعيد قال: قلت لابن عباس: أرأيت الذي يقول الدينار بالدينار؟ وذكر الحديث ثم قال: قال أبو سعيد ونزع عنها ابن عباس وروى الطحاوي أيضا عن نصر بن مرزوق بإسناد لا بأس به عن أبي الصهباء أن ابن عباس نزل عن الصرف وهذا أصرح من رواية مسلم وروى الطحاوي عن أبي أمية بإسناد حسن إلى عبد الله بن حسين أن رجلا من أهل العراق قال لعبد الله بن عمر: إن ابن عباس قال وهو علينا أمير: من أعطى بالدرهم مائة درهم فليأخذها وذكر حديثا إلى أن قال: فقيل لابن عباس: ما قال ابن عمر؟ قال: فاستغفر ربه وقال: إنما هو رأي مني.
وعن أبي هاشم الواسطي واسمه يحيى بن دينار عن زياد قال: كنت مع ابن عباس بالطائف فرجع عن الصرف قبل أن يموت بسبعين يوما ذكره ابن عبد البر في الاستذكار وذكر أيضا عن أبي حرة قال: سأل رجل ابن سيرين عن شئ فقال: لا علم لي به. فقال الرجل: أن يكون فيه برأيك. فقال: إني أكره أن أقول فيه برأيي ثم يبدو لي غيره فأطلبك فلا أجدك إن ابن عباس قد رأى في الصرف رأيا ثم رجع وذكر أيضا عن ابن سيرين عن الهذيل بالذال المعجمة ابن أخت محمد بن سيرين قال: سألت ابن عباس عن الصرف فرجع عنه فقلت: إن الناس يقولون فقال: الناس يقولون ما شاءوا. اه من تكملة المجموع ثم قال بعد هذا: فهذه عدة روايات صحيحة وحسنة من جهة خلق من أصحاب ابن عباس تدل على رجوعه وقد روي في
171

رجوعه أيضا غير ذلك وفيما ذكرته غنية إن شاء الله تعالى.
وفي تكملة المجموع أيضا قبل هذا ما نصه: وروى عن أبي الزبير المكي واسمه محمد بن تدرس بفتح التاء ودال ساكنة وراء مضمومة وسين مهملة قال: سمعت أبا أسيد الساعدي وابن عباس يفتي الدينار بالدينارين فقال له أبو أسيد الساعدي وأغلظ له قال: فقال ابن عباس: ما كنت أظن أن أحدا يعرف قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مثل هذا يا أبا أسيد؟ فقال أبو أسيد: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الدينار بالدينار وصاع حنطة بصاع حنطة وصاع شعير بصاع شعير وصاع ملح بصاع ملح لا فضل بينهما في شئ من ذلك.
فقال ابن عباس: إنما هذا شئ كنت أقوله برأيي ولم أسمع فيه بشئ رواه الحاكم في المستدرك وقال: إنه صحيح على شرط مسلم رحمه الله وفي سنده عتيق بن يعقوب الزبيري قال الحاكم: إنه شيخ قرشي من أهل المدينة وأبو أسيد بضم الهمزة.
وروينا في معجم الطبراني من حديث أبي صالح ذكوان أنه سأل ابن عباس عن بيع الذهب والفضة فقال: هو حلال بزيادة أو نقصان إذا كان يدا بيد قال أبو صالح: فسألت أبا سعيد بما قال ابن عباس وأخبرت ابن عباس بما قال أبو سعيد والتقيا وأنا معهما فابتدأه أبو سعيد الخدري فقال: يا ابن عباس ما هذه الفتيا التي تفتي بها الناس في بيع الذهب والفضة تأمرهم أن يشتروه بنقصان أو بزيادة يدا بيد؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما أنا بأقدمكم صحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا زيد بن أرقم والبراء بن عازب يقولان: سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم رواه الطبراني بإسناد حسن وقد قدمنا رجوع ابن عمر وابن مسعود عن ذلك وقد قدمنا الجواب عما روي عن البراء بن عازب وزيد بن أرقم وأسامة بن زيد رضي الله عنهم وثبت عن سعيد بن جبير أن ابن عباس لم يرجع وهي شهادة على نفي مطلق والمثبت مقدم على النافي؛ لأنه اطلع على ما لم يطلع عليه النافي وقال ابن عبد البر: رجع ابن عباس أو لم يرجع في السنة كفاية عن قول كل واحد ومن خالفها رد إليها قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ردوا الجهالات إلى السنة. اه
وقال: العلامة الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار ما نصه: وأما ما أخرجه مسلم عن ابن عباس أنه لا ربا فيما كان يدا بيد كما تقدم فليس ذلك مرويا عن
172

رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تكون دلالته على نفي ربا الفضل منطوقة ولو كان مرفوعا لما رجع ابن عباس واستغفر لما حدثه أبو سعيد بذلك كما تقدم وقد روى الحازمي رجوع ابن عباس واستغفاره عند أن سمع عمر بن الخطاب وابنه عبد الله يحدثان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يدل على تحريم ربا الفضل وقال: حفظتما من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم أحفظ وروى عنه الحازمي أيضا أنه قال: كان ذلك برأيي.
وهذا أبو سعيد الخدري يحدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتركت رأيي إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى تسليم أن ذلك الذي قاله ابن عباس مرفوع فهو عام مخصص بأحاديث الباب؛ لأنها أخص منه مطلقا. اه منه بلفظه وقد ذكر غير واحد أن الإجماع انعقد بعد هذا الخلاف على منع ربا الفضل.
قال: في تكملة المجموع ما نصه: الفصل الثالث في بيان انقراض الخلاف في ذلك ودعوى الإجماع فيه قال ابن المنذر: أجمع علماء الأمصار مالك بن أنس ومن تبعه من أهل المدينة وسفيان الثوري ومن وافقه من أهل العراق والأوزاعي ومن قال بقوله من أهل الشام والليث بن سعد ومن وافقه من أهل مصر والشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق وأبو ثور والنعمان ويعقوب ومحمد بن علي أنه لا يجوز بيع ذهب بذهب ولا فضة بفضة ولا بر ببر ولا شعير بشعير ولا تمر بتمر ولا ملح بملح متفاضلا يدا بيد ولا نسيئة وأن من فعل ذلك فقد أربى والبيع مفسوخ. اه محل الغرض منه بلفظه.
ونقل النووي في شرح مسلم إجماع المسلمين على ترك العمل بظاهر حديث أسامة قال: وهذا يدل على نسخه وقد استدل ابن عبد البر على صحة تأويله لحديث أسامة بإجماع الناس ما عدا ابن عباس عليه. اه وعلى فرض أن ابن عباس لم يرجع عن ذلك فهل ينعقد الإجماع مع مخالفته؟ فيه خلاف معروف في الأصول هل يلغي الواحد والاثنان أو لا بد من اتفاق كل وهو المشهور وهل إذا مات وهو مخالف ثم انعقد الإجماع بعده يكون إجماعا؟ وهو الظاهر أو لا يكون إجماعا؛ لأن المخالف الميت لا يسقط قوله بموته خلاف معروف في الأصول أيضا.
وإذا عرفت أن من قال بإباحة ربا الفضل رجع عنها وعلمت أن الأحاديث الصحيحة المتفق عليها مصرحة بكثرة بمنعه علمت أن الحق الذي لا شك فيه تحريم ربا الفضل
بين كل جنس واحد من الستة مع نفسه وجواز الفضل بين الجنسين المختلفين
173

يدا بيد ومنع النساء بين الذهب والفضة مطلقا وبين التمر والبر والشعير والملح مطلقا ولا يمنع طعام بنقد نسيئة كالعكس وحكى بعض العلماء على ذلك الإجماع ويبقى غير هذه الأصناف الستة المنصوص عليها في الحديث فجماهير العلماء على أن الربا لا يختص بالستة المذكورة.
والتحقيق أن علة الربا في النقدين كونهما جوهرين نفيسين. هما ثمن الأشياء غالبا في جميع أقطار الدنيا وهو قول مالك والشافعي والعلة فيهما قاصرة عليهما عندهما وأشهر الروايات عن أحمد أن العلة فيهما كون كل منهما موزون جنس وهو مذهب أبي حنيفة. وأما البر والشعير والتمر والملح فعلة الربا فيها عند مالك الاقتيات والادخار وقيل وغلبة العيش فلا يمنع ربا الفضل عند مالك وعامة أصحابه إلا في الذهب بالذهب والفضة بالفضة والطعام المقتات المدخر بالطعام المقتات المدخر وقيل يشترط مع الاقتيات والادخار غلبة العيش وإنما جعل مالك العلة ما ذكر؛ لأنه أخص أوصاف الأربعة المذكورة ونظم بعض المالكية ما فيه ربا النساء وربا الفضل عند مالك في بيتين وهما: الطويل:
* رباء نسا في النقد حرم ومثله
* طعام وإن جنساهما قد تعددا
*
* وخص ربا فضل بنقد ومثله
* طعام الربا إن جنس كل توحدا
*
وقد كنت حررت مذهب مالك في ذلك في الكلام على الربا في الأطعمة في نظم لي طويل في فروع مالك بقولي الرجز:
* وكل ما يذاق من طعام
* ربا النسا فيه من الحرام
*
* مقتاتا أو مدخرا أو لا اختلف
* ذاك الطعام جنسه أو ائتلف
*
* وإن يكن يطعم للدواء
* مجردا فالمنع ذو انتفاء
*
* ولربا الفضل شروط يحرم
* بها وبانعدامها ينعدم
*
* هي اتحاد الجنس فيما ذكرا
* مع اقتياته وأن يدخرا
*
* وما لحد الادخار مدة
* والتادلي بستة قد حده
*
* والخلف في اشتراط كونه اتخذ
* للعيش عرفا وبالاسقاط أخذ
*
* تظهر فائدته في أربع
* غلبة العيش بها لم تقع
*
* والأربع التي حوى ذا البيت
* بيض وتين وجراد زيت
*
* في البيض والزيت الربا قد انحظر
* رعيا لكون شرطها لم يعتبر
*
174

* وقد رعي اشتراطها في المختصر
* في التين وحده ففيه ما حظر
*
* ورعي خلف في الجراد باد
* لذكره الخلاف في الجراد
*
* وحبة بحبتين تحرم
* إذ الربا قليله محرم
*
ثم ذكرت بعد ذلك الخلاف في ربوية البيض الرجز:
* وقول إن البيض ما فيه الربا
* إلى ابن شعبان الإمام نسبا
*
وأصح الروايات عن الشافعي أن علة الربا في الأربعة الطعم فكل مطعوم يحرم فيه عنده الربا كالأقوات والإدام والحلاوات والفواكه والأدوية. واستدل على أن العلة الطعم بما رواه مسلم من حديث معمر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الطعام بالطعام مثلا بمثل الحديث. والطعام اسم لكل ما يؤكل قال تعالى: * (كل الطعام كان حلا لبنى إسرائيل الآية) * وقال تعالى: * (فلينظر الإنسان إلى طعامه * أنا صببنا الماء صبا * ثم شققنا الأرض شقا * فأنبتنا فيها حبا * وعنبا) * وقال تعالى: * (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) * والمراد: ذبائحهم.
وقالت عائشة رضي الله عنها: مكثنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ما لنا طعام إلا الأسودان التمر والماء وعن أبي ذر رضي الله عنه في حديثه الطويل في قصه إسلامه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن كان يطعمك؟ قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني قال: إنها مباركة إنها طعام طعم رواه مسلم.
وقال لبيد: الكامل:
* لمعفر قهد تنازع شلوه
* غبس كواسب ما يمن طعامها
*
يعني بطعامها الفريسة قالوا: والنبي صلى الله عليه وسلم علق في هذا الحديث الربا على اسم الطعام والحكم إذا علق على اسم مشتق دل على أنه علته كالقطع في السرقة في قوله: * (والسارق والسارقة) * قالوا: ولأن الحب ما دام مطعوما يحرم فيه الربا؛ فإذا زرع وخرج عن أن يكون مطعوما لم يحرم فيه الربا فإذا انعقد الحب وصار مطعوما حرم فيه الربا فدل على أن العلة فيه كونه مطعوما ولذا كان الماء يحرم فيه الربا على أحد الوجهين عند الشافعية؛ لأن الله تعالى قال: * (إن الله مبتليكم بنهر
175

فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه منى) * ولقول عائشة المتقدم: ما لنا طعام إلا الأسودان الماء والتمر ولقول الشاعر: الطويل:
* فإن شئت حرمت النساء سواكم
* وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
*
والنقاخ الماء البارد هذا هو حجة الشافعية في أن علة الربا في الأربعة الطعم فألحقوا بها كل مطعوم؛ للعلة الجامعة بينهما.
قال مقيده عفا الله عنه: الاستدلال بحديث معمر المذكور على أن علة الربا الطعم لا يخلو عندي من نظر والله تعالى أعلم؛ لأن معمرا المذكور لما قال: قد كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: الطعام بالطعام مثلا بمثل. قال عقبة: وكان طعامنا يومئذ الشعير كما رواه عنه أحمد ومسلم وهذا صريح في أن الطعام في عرفهم يومئذ الشعير وقد تقرر في الأصول أن العرف المقارن للخطاب من مخصصات النص العام وعقده في مراقي السعود بقوله في مبحث المخصص المنفصل عاطفا على ما يخصص العموم: الرجز:
* والعرف حيث قارن الخطابا
* ودع ضمير البعض والأسبابا
*
وأشهر الروايات عن أحمد أن علة الربا في الأربعة كونها مكيلة جنس وهو مذهب أبي حنيفة وعليه يحرم الربا في كل مكيل ولو غير طعام كالجص والنورة والأشنان. واستدلوا بما رواه الدارقطني عن عبادة وأنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما وزن مثل بمثل إذا كان نوعا واحدا وما كيل فمثل ذلك فإذا اختلف النوعان فلا بأس به
قال العلامة الشوكاني في نيل الأوطار: حديث أنس وعبادة أشار إليه في التلخيص ولم يتكلم عليه وفي إسناده الربيع بن صبيح وثقه أبو زرعة وغيره وضعفه جماعة وقد أخرج هذا الحديث البزار أيضا ويشهد لصحته حديث عبادة المذكور أولا وغيره من الأحاديث. اه منه بلفظه.
واستدلوا أيضا بما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر فجاءهم بتمر جنيب فقال: أكل تمر خيبر هكذا قال: إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة فقال: لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا وقال: في الميزان مثل ذلك ووجه
176

الدلالة منه أن قوله في الميزان يعني في الموزون؛ لأن نفس الميزان ليست من أموال الربا واستدلوا أيضا بحديث أبي سعيد المتقدم الذي أخرجه الحاكم من طريق حيان بن عبيد الله فإن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: التمر بالتمر والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والذهب بالذهب والفضة بالفضة يدا بيد عينا بعين مثلا بمثل فمن زاد فهو ربا ثم قال: وكذلك ما يكال أو يوزن أيضا وأجيب من جهة المانعين بأن حديث الدارقطني لم يثبت وكذلك حديث الحاكم وقد بينا سابقا ما يدل على ثبوت حديث حيان المذكور وقد ذكرنا آنفا كلام الشوكاني في أن حديث الدارقطني أخرجه البزار أيضا وأنه يشهد لصحته حديث عبادة بن الصامت وغيره من الأحاديث وأن الربيع بن صبيح وثقه أبو زرعة وغيره وضعفه جماعة وقال فيه ابن حجر في التقريب: صدوق سيىء الحفظ وكان عابدا مجاهدا ومراد الشوكاني بحديث عبادة المذكور هو ما أخرجه عنه مسلم والإمام أحمد والنسائي وابن ماجة وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم اه. فإن قوله صلى الله عليه وسلم: سواء بسواء مثلا بمثل يدل على الضبط بالكيل والوزن وهذا القول أظهرها دليلا.
وأجابوا عن حديث أبي سعيد المتفق عليه بثلاثة أجوبة.
الأول: جواب البيهقي قال: وقد قيل: إن قوله وكذلك الميزان من كلام أبي سعيد الخدري موقوف عليه.
الثاني: جواب القاضي أبي الطيب وآخرين أن ظاهر الحديث غير مراد؛ لأن الميزان نفسه لا ربا فيه وأضمرتم فيه الموزون ودعوى العموم في المضمرات لا تصح.
الثالث: حمل الموزون على الذهب والفضة جمعا بين الأدلة والظاهر أن هذه الإجابات لا تنهض؛ لأن وقفه على أبي سعيد خلاف الظاهر وقصد ما يوزن بقوله: وكذلك الميزان لا لبس فيه وحمل الموزون على الذهب والفضة فقط خلاف الظاهر والله تعالى أعلم.
وفي علة الربا في الأربعة مذاهب أخر غير ما ذكرنا عن الأئمة الأربعة ومن
177

وافقهم:
الأول: مذهب أهل الظاهر ومن وافقهم أنه لا ربا أصلا في غير الستة ويروى هذا القول عن طاوس ومسروق والشعبي وقتادة وعثمان البتي.
الثاني: مذهب أبي بكر عبد الرحمان بن كيسان الأصم أن العلة فيها كونها منتفعا بها حكاه عنه القاضي حسين.
الثالث: مذهب ابن سيرين وأبي بكر الأودني من الشافعية أن العلة الجنسية؛ فيحرم الربا في كل شئ بيع بجنسه كالتراب بالتراب متفاضلا والثوب بالثوبين والشاة بالشاتين.
الرابع: مذهب الحسن البصري أن العلة المنفعة في الجنس فيجوز عنده بيع ثوب قيمته دينار بثوبين قيمتهما دينار ويحرم بيع ثوب قيمته دينار بثوب قيمته دينارين.
الخامس: مذهب سعيد بن جبير أن العلة تقارب المنفعة في الجنس فحرم التفاضل في الحنطة بالشعير والباقلي بالحمص والدخن بالذرة مثلا.
السادس: مذهب ربيعة بن أبي عبد الرحمان أن العلة كونه جنسا تجب فيه الزكاة؛ فحرم الربا في كل جنس تجب فيه الزكاة كالمواشي والزرع وغيرها.
السابع: مذهب سعيد بن المسيب وقول الشافعي في القديم: إن العلة كونه مطعوما يكال أو يوزن ونفاه عما سواه وهو كل ما لا يؤكل ولا يشرب أو يؤكل ولا يكال ولا يوزن. كالسفرجل والبطيخ وقد تركنا الاستدلال لهذه المذاهب والمناقشة فيها خوف الإطالة المملة.
فروع
الفرع الأول: الشك في المماثلة كتحقق المفاضلة فهو حرام في كل ما يحرم فيه ربا الفضل ودليل ذلك ما أخرجه مسلم والنسائي عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم كيلها بالكيل المسمى من التمر. الفرع الثاني: لا يجوز التراخي في قبض ما يحرم فيه ربا النساء ودليل ذلك: ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث مالك بن أوس رضي الله عنه قال: أقبلت؟ أقول: من يصطرف الدراهم فقال طلحة: أرنا الذهب حتى يأتي الخازن ثم تعال فخذ
178

ورقك فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كلا والذي نفسي بيده لتردن إليه ذهبه أو لتنقدنه ورقه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الذهب بالورق ربا إلا ها وها وزالبر بالبر ربا إلا ها وها والشعير بالشعير ربا إلا ها وها والتمر بالتمر ربا إلا ها وها.
الفرع الثالث: لا يجوز أن يباع ربوي بربوي كذهب بذهب ومع أحدهما شئ آخر ودليل ذلك: ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي الطاهر عن ابن وهب من حديث فضالة بن عبيد الأنصاري قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب وهي من المغانم تباع فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة فنزع ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذهب بالذهب وزنا بوزن.
وروى مسلم نحوه أيضا عن أبي بكر بن شيبة وقتيبة بن سعيد من حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه ونحوه. أخرجه النسائي وأبو داود والترمذي وصححه.
وقال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى في نيل الأوطار عند ذكر صاحب المنتقى: لحديث فضالة بن عبيد المذكور ما نصه الحديث.
قال في التلخيص: له عند الطبراني في الكبير طرق كثيرة جدا في بعضها قلادة فيها خرز وذهب وفي بعضها ذهب وجوهر وفي بعضها خرز معلقة بذهب وفي بعضها باثني عشر دينارا وفي بعضها بتسعة دنانير وفي أخرى بسبعة دنانير. وأجاب البيهقي عن هذا الاختلاف بأنها كانت بيوعا شهدها فضالة.
قال الحافظ: والجواب المسدد عندي أن هذا الاختلاف لا يوجب ضعفا بل المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه وهو النهي عن بيع ما لم يفصل وأما جنسها وقدر ثمنها فلا يتعلق به في هذه الحال ما يوجب الحكم بالاضطراب.
وحينئذ ينبغي الترجيح بين رواتها وإن كان الجميع ثقات فيحكم بصحة رواية أحفظهم وأضبطهم فتكون رواية الباقين بالنسبة إليه شاذة وبعض هذه الروايات التي ذكرها الطبراني في صحيح مسلم و سنن أبي داود اه منه بلفظه. وقد قدمنا بعض روايات مسلم.
الفرع الرابع: لا يجوز بيع المصوغ من الذهب أو الفضة بجنسه بأكثر من وزنه ودليل ذلك: ما صح عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم صرح بتحريم بيع
179

الفضة بالفضة والذهب بالذهب إلا مثلا بمثل وأن من زاد أو استزاد فقد أربى.
وقد أخرج البيهقي في السنن الكبرى عن مجاهد أنه قال: كنت أطوف مع عبد الله بن عمر فجاءه صائغ فقال: يا أبا عبد الرحمان إني أصوغ الذهب ثم أبيه الشئ من ذلك بأكثر من وزنه فأستفضل في ذلك قدر عمل يدي فيه فنهاه عبد الله بن عمر عن ذلك فجعل الصائغ يردد عليه المسألة وعبد الله بن عمر ينهاه حتى انتهى إلى باب المسجد أو إلى دابته يريد أن يركبها.
ثم قال عبد الله بن عمر: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما هذا عهد نبينا صلى الله عليه وسلم إلينا وعهدنا إليكم.
ثم قال البيهقي: وقد مضى حديث معاوية حيث باع سقاية ذهب أو ورق بأكثر من وزنها فنهاه أبو الدرداء وما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في النهي عن ذلك.
وروى البيهقي أيضا عن أبي رافع أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب أني أصوغ الذهب فأبيعه بوزنه وآخذ لعمالة يدي أجرا قال: لا تبع الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن ولا الفضة بالفضة إلا وزنا بوزن ولا تأخذ فضلا ا ه منه.
وما ذكره البيهقي رحمه الله أنه ما قدمه من نهي أبي الدرداء وعمر لمعاوية هو قوله: أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق وأبو بكر بن الحسن وغيرهما قالوا: حدثنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنبأنا الشافعي أنا مالك وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان أنا أحمد بن عبيد الصفار حدثنا إسماعيل بن إسحاق حدثنا عبد الله يعني القعنبي عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها فقال له أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل. فقال معاوية: ما أرى بهذا بأسا. فقال له أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه لا أساكنك بأرض أنت بها ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر له ذلك. فكتب عمر إلى معاوية أن لا يبيع ذلك إلا مثلا بمثل ووزنا بوزن ولم يذكر الربيع عن الشافعي في هذا قدوم أبي الدرداء على عمر وقد ذكره الشافعي في رواية المزني. اه منه بلفظه.
ونحو هذا أخرجه مسلم في الصحيح من حديث عبادة بن الصامت رضي الله
180

عنه من رواية أبي الأشعث قال: غزونا غزاة وعلى الناس معاوية فغنمنا غنائم كثيرة فكان فيما غنمنا آنية من فضة فأمر معاوية رجلا أن يبيعها في أعطيات الناس فتسارع الناس في ذلك فبلغ عبادة بن الصامت فقام فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين فمن زاد أو استزاد فقد أربى. فرد الناس ما أخذوا فبلغ ذلك معاوية فقام خطيبا فقال: ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة ثم قال: لنحدثن بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاوية أو قال: وإن رغم ما أبالي ألا أصحبه في جنده ليلة سوداء. قال حماد هذا أو نحوه. اه.
هذا لفظ مسلم في صحيحه وهذه النصوص الصحيحة تدل على أن الصناعة الواقعة في الذهب أو الفضة لا أثر لها ولا تبيح المفاضلة بقدر قيمة الصناعة كما ذكرنا. وهذا هو مذهب الحق الذي لا شك فيه. وأجاز مالك بن أنس رحمه الله تعالى للمسافر أن يعطي دار الضرب نقدا وأجرة صياغته ويأخذ عنهما حليا قدر وزن النقد بدون الأجرة؛ لضرورة السفر كما أشار إليه خليل بن إسحاق في مختصره بقوله: بخلاف تبر يعطيه المسافر وأجرته دار الضرب ليأخذ زنته.
قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر من نصوص السنة الصحيحة أن هذا لا يجوز؛ لضرورة السفر كما استظهر عدم جوازه ابن رشد وإليه الإشارة بقول صاحب المختصر: والأظهر خلافه يعني: ولو اشتدت الحاجة إليه إلا لضرر يبيح الميتة كما قرره شراح المختصر.
الفرع الخامس: اختلف الناس في الأوراق المتعامل بها هل يمنع الربا بينها وبين النقدين نظرا إلى أنها سند وأن المبيع الفضة التي هي سند بها فيمنع بيعها ولو يدا بيد مثلا بمثل ويمنع بيعها بالذهب أيضا ولو يدا بيد؛ لأنه صرف ذهب موجود أو فضة موجودة بالفضة غائبة وإنما الموجود سند بها فقط فيمنع فيها لعدم المناجزة؛ بسبب عدم حضور أحد النقدين أو لا يمنع فيها شئ من ذلك؛ نظرا إلى أنها بمثابة عروض التجارة فذهب كثير من المتأخرين إلى أنها كعروض التجارة فيجوز الفضل والنساء بينها وبين الفضة والذهب وممن أفتى بأنها كعروض التجارة العالم المشهور عليش المصري صاحب النوازل و شرح مختصر خليل وتبعه في فتواه بذلك كثير من متأخري
181

علماء المالكية.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي والله تعالى أعلم أنها ليست كعروض التجارة وأنها سند بفضة وأن المبيع الفضة التي هي سند بها. ومن قرأ المكتوب عليها فهم صحة ذلك وعليه فلا يجوز بيعها بذهب ولا فضة ولو يدا بيد؛ لعدم المناجزة بسبب غيبة الفضة المدفوع سندها؛ لأنها ليست متمولة ولا منفعة في ذاتها أصلا. فإن قيل لا فرق بين الأوراق وبين فلوس الحديد؛ لأن كلا منهما ليس متمولا في ذاته مع أنه رائج بحسب ما جعله له السلطان من المعاملة فالجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أنا إذا حققنا أن الفلوس الحديدية الحالية لا منفعة فيها أصلا وأن حقيقتها سند بفضة فما المانع من أن نمنع فيها الربا مع النقد والنصوص صريحة في منعه بين النقدين وليس هناك إجماع يمنع إجراء النصوص على ظواهرها بل مذهب مالك أن فلوس الحديد لا تجوز بأحد النقدين نسيئة فسلم الدراهم في الفلوس كالعكس ممنوع عندهم.
وما ورد عن بعض العلماء مما يدل على أنه لا ربا بين النقدين وبين فلوس الحديد فإنه محمول على أن ذلك الحديد الذي منه تلك الفلوس فيه منافع الحديد المعروفة المشار إليها بقوله تعالى: * (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس) * فلو جمعت تلك الفلوس وجعلت في النار لعمل منها ما يعمل من الحديد من الأشياء المنتفع بها ولو كانت كفلوسنا الحالية على تسليم أنها لا منفعة فيها أصلا لما قالوا بالجواز؛ لأن ما هو سند لا شك أن المبيع فيه ما هو سند به لا نفس السند. ولذا لم يختلف الصدر الأول في أن المبيع في بيع الصكاك الذي ذكره مسلم في الصحيح وغيره أنه الرزق المكتوب فيها لا نفس الصكاك التي هي الأوراق التي هي سند بالأرزاق.
الثاني: أن هناك فرقا بينهما في الجملة وهو أن الفلوس الحديدية لا يتعامل بها بالعرف الجاري قديما وحديثا إلا في المحقرات فلا يشترى بها شئ له بال بخلاف الأوراق فدل على أنها أقرب للفضة من الفلوس.
الثالث: أنا لو فرضنا أن كلا من الأمرين محتمل فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ويقول: فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ويقول
182

: والإثم ما حاك في النفس الحديث. وقال الناظم
* وذو احتياط في أمور الدين
* من فر من شك إلى يقين
*
وقد قدمنا مرارا أن ما دل على التحريم مقدم على ما دل على الإباحة؛ لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام ولا سيما تحريم الربا الذي صرح الله تعالى بأن مرتكبه محارب الله. وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعنه. ومن أنواع الربا ما اختلف العلماء في منعه كما إذا كان البيع ظاهره الحلية ولكنه يمكن أن يكون مقصودا به التوصل إلى الربا الحرام عن طريق الصورة المباحة في الظاهر كما لو باع سلعة بثمن إلى أجل ثم اشترى تلك السلعة بعينها بثمن أقل من الأول نقدا أو لأقرب من الأجل الأول أو بأكثر لأبعد فظاهر العقدين الإباحة؛ لأنه بيع سلعة بدراهم إلى أجل في كل منهما وهذا لا مانع منه ولكنه يجوز أن يكون مقصود المتعاقدين دفع دراهم وأخذ دراهم أكثر منها لأجل أن السلعة الخارجة من اليد العائدة إليها ملغاة فيؤول الأمر إلى أنه دفع دراهم وأخذ أكثر منها لأجل وهو عين الربا الحرام ومثل هذا ممنوع عند مالك وأحمد والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة والحسن بن صالح وروي عن الشعبي والحكم وحماد كما في الاستذكار وأجازه الشافعي.
واستدل المانعون بما رواه البيهقي والدارقطني عن عائشة أنها أنكرت ذلك على زيد بن أرقم وقالت: أبلغي زيدا أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب.
وقال الشافعي: إن زيد بن أرقم مخالف لعائشة وإذا اختلف صحابيان في شئ رجحنا منهما من يوافقه القياس والقياس هنا موافق لزيد؛ لأنهما عقدان كل منهما صحيح في نفسه.
وقال الشافعي أيضا: لو كان هذا ثابتا عن عائشة فإنها إنما عابت التأجيل بالعطاء؛ لأنه أجل غير معلوم والبيع إليه لا يجوز. واعترضه بعض العلماء بأن الحديث ثابت
عن عائشة وبأن ابن أبي شيبة ذكر في مصنفه أن أمهات المؤمنين كن يشترين إلى العطاء والله تعالى أعلم. وبأن عائشة لا تدعي بطلان الجهاد بمخالفة رأيها وإنما تدعيه بأمر علمته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا البيع الذي ذكرنا تحريمه هو المراد عند العلماء ببيع العينة ويسميه المالكية بيوع الآجال وقد نظمت ضابطه في نظمي الطويل في فروع مالك بقولي
183

: ملك الرجز:
* بيوع الآجال إذا كان الأجل
* أو ثمن كأخويهما تحل
*
* وإن يك الثمن غير الأول
* وخالف الأجل وقت الأجل
*
* فانظر إلى السابق بالإعطاء هل
* عاد له أكثر أو عاد أقل
*
* فإن يكن أكثر مما دفعه
* فإن ذاك سلف بمنفعة
*
* وإن يكن كشيئه أو قلا
* عن شيئه المدفوع قبل حلا
*
* (ويربى الصدقات) *. ذكر في هذه الآية الكريمة أنه تعالى يربي الصدقات وبين في موضع آخر أن هذا الإرباء مضاعفة الأجر وأنه يشترط في ذلك إخلاص النية لوجه الله تعالى وهو قوله تعالى: * (وما آتيتم من الزكاة تريدون جه الله فأولئك هم المضعفون قوله تعالى يا أيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ظاهر هذه الآية الكريمة أن كتابة الدين واجبة؛ لأن الأمر من الله يدل على الوجوب. ولكنه أشار إلى أنه أمر إرشاد لا إيجاب بقوله: * (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة) *؛ لأن الرهن لا يجب إجماعا وهو بدل الكتابة عند تعذرها في الآية فلو كانت الكتابة واجبة لكان بدلها واجبا. وصرح بعدم الوجوب بقوله: * (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته) * فالتحقيق أن الأمر في قوله: * (يا أيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) * للندب والإرشاد؛ لأن لرب الدين أن يهبه ويتركه إجماعا فالندب إلى الكتابة فيه إنما هو على جهة الحيطة للناس قاله القرطبي.
وقال بعضهم: إن أشهدت فحزم وإن ائتمنت ففي حل وسعة ابن عطية وهذا القول هو الصحيح قاله القرطبي أيضا.
وقال الشعبي: كانوا يرون أن قوله: * (فإن أمن) * ناسخ لأمره بالكتب وحكى نحوه ابن جريج وقاله ابن زيد وروي عن أبي سعيد الخدري وذهب الربيع إلى أن ذلك واجب بهذه الألفاظ ثم خففه الله تعالى بقوله: * (فإن أمن بعضكم بعضا) * وتمسك جماعة بظاهر الأمر في قوله: * (فاكتبوه) * فقالوا: إن كتب الدين واجب فرض بهذه الآية بيعا كان أو قرضا؛ لئلا يقع فيه نسيان أو جحود وهو اختيار ابن جرير الطبري في تفسيره.
184

وقال ابن جريج: من أدان فليكتب ومن باع فليشهد. اه من القرطبي وسيأتي له زيادة بيان إن شاء الله قريبا.
تنبيه
: أخذ بعض العلماء من قوله تعالى: * (وإن كنتم على سفر) * الآية. أن الرهن لا يكون مشروعا إلا في السفر كما قاله مجاهد والضحاك وداود والتحقيق جوازه في الحضر.
وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير. وفي الصحيحين أنها درع من حديد.
وروى البخاري وأحمد والنسائي وابن ماجة عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم رهن درعا عند يهودي بالمدينة وأخذ منه شعيرا لأهله. ولأحمد والنسائي وابن ماجة عن ابن عباس مثل حديث عائشة فدل الحديث الصحيح على أن قوله: * (وإن كنتم على سفر) * لا مفهوم مخالفة له؛ لأنه جرى على الأمر الغالب إذ الغالب أن الكاتب لا يتعذر في الحضر وإنما يتعذر غالبا في السفر والجري على الغالب من موانع اعتبار مفهوم المخالفة كما ذكرناه في هذا الكتاب مرارا والعلم عند الله تعالى.
* (قوله تعالى وأشهدوا إذا تبايعتم) * ظاهر هذا الأمر الوجوب أيضا فيجب على من باع أن يشهد وبهذا قال أبو موسى الأشعري وابن عمر والضحاك وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد ومجاهد وداود بن علي وابنه أبو بكر وعطاء وإبراهيم قاله القرطبي وانتصر له ابن جرير الطبري غاية الانتصار وصرح بأن من لم يشهد مخالف
لكتاب الله وجمهور العلماء على أن الإشهاد على المبايعة وكتاب الدين أمر مندوب إليه لا واجب ويدل لذلك قوله تعالى: * (فإن أمن بعضكم بعضا) *.
وقال ابن العربي المالكي: إن هذا قول الكافة قال: وهو الصحيح ولم يحك عن أحد ممن قال بالوجوب إلا الضحاك قال: وقد باع النبي صلى الله عليه وسلم وكتب قال: ونسخة كتابه: بسم الله الرحمان الرحيم هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى منه عبدا أو أمة لا داء ولا غائلة ولا خبثة بيع المسلم للمسلم. وقد باع ولم يشهد واشترى ورهن درعه عند يهودي ولم يشهد ولو كان الإشهاد أمرا واجبا لوجب مع الرهن لخوف المنازعة اه.
185

قال القرطبي بعد أن ساق كلام ابن العربي هذا ما نصه: قلت: قد ذكرنا الوجوب عن غير الضحاك وحديث العداء هذا أخرجه الدارقطني وأبو داود وكان إسلامه بعد الفتح وحنين وهو القائل: قاتلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلم يظهرنا الله ولم ينصرنا. ثم أسلم فحسن إسلامه. ذكره أبو عمر وذكر حديثه هذا.
وقال في آخره: قال الأصمعي: سألت سعيد بن أبي عروبة عن الغائلة فقال: الإباق والسرقة والزنا وسألته عن الخبثة فقال: بيع أهل عهد المسلمين.
وقال الإمام أبو محمد بن عطية: والوجوب في ذلك قلق أما في الوثائق فصعب شاق وأما ما كثر فربما يقصد التاجر الإستئلاف بترك الإشهاد. وقد يكون عادة في بعض البلاد وقد يستحي من العالم والرجل الكبير الموقر فلا يشهد عليه فيدخل ذلك كله في الائتمان ويبقى الأمر بالإشهاد ندبا لما فيه من المصلحة في الأغلب ما لم يقع عذر يمنع منه كما ذكرنا وحكى المهدوي والنحاس ومكي عن قوم أنهم قالوا: * (وأشهدوا إذا تبايعتم) * منسوخ بقوله: * (فإن أمن بعضكم بعضا) * وأسنده النحاس عن أبي سعيد الخدري وأنه تلا: * (يا أيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) * إلى قوله: * (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته) * قال: نسخت هذه الآية ما قبلها.
قال النحاس: وهذا قول الحسن والحكم عبد الرحمن بن زيد.
قال الطبري: وهذا لا معنى له؛ لأن هذا حكم غير الأول وإنما هذا حكم من لم يجد كاتبا.
قال الله عز وجل: * (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا) * أي فلم يطالبه برهن * (فليؤد الذي اؤتمن أمانته) * قال: ولو جاز أن يكون هذا ناسخا للأول لجاز أن يكون قوله عز وجل: * (وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط) * ناسخا لقوله عز وجل: * (يا أيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلاة الآية) * ولجاز أن يكون قوله عز وجل: * (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) * ناسخا لقوله عز وجل: * (فتحرير رقبة) *. وقال بعض العلماء إن قوله تعالى: * (فإن أمن بعضكم بعضا) * لم يتبين بآخر
186

نزوله عن صدر الآية المشتملة على الأمر بالإشهاد بل وردا معا ولا يجوز أن يرد الناسخ والمنسوخ معا جميعا في حالة واحدة قال: وقد روي عن ابن عباس أنه لما قيل له إن آية الدين منسوخة قال: لا والله إن آية الدين محكمة ليس فيها نسخ قال: والإشهاد إنما جعل للطمأنينة وذلك أن الله تعالى جعل لتوثيق الدين طرقا منها الكتاب ومنها الرهن ومنها الإشهاد ولا خلاف بين علماء الأمصار أن الرهن مشروع بطريق الندب لا بطريق الوجوب فيعلم من ذلك مثله في الإشهاد وما زال الناس يتبايعون حضرا وسفرا وبرا وبحرا وسهلا وجبلا من غير إشهاد مع علم الناس بذلك من غير نكير. ولو وجب الإشهاد ما تركوا النكير على تاركه قلت هذا كله استدلال حسن وأحسن منه ما جاء في صريح السنة في ترك الإشهاد وهو ما أخرجه الدارقطني عن طارق بن عبد الله المحاربي رضي الله عنه قال: أقبلنا في ركب من الربذة وجنوب الربذة حتى نزلنا قريبا من المدينة ومعنا ظعينة لنا فبينما نحن قعود إذ أتانا رجل عليه ثوبان أبيضان فسلم فرددنا عليه فقال: من أين القوم؟ فقلنا: من الربذة وجنوب الربذة قال: ومعنا جمل أحمر فقال: تبيعوني جملكم هذا؟ فقلنا: نعم قال: بكم؟ قلنا: بكذا وكذا صاعا من تمر قال: فما استوضعنا شيئا وقال: قد أخذته ثم أخذ برأس الجمل حتى دخل المدينة فتوارى عنا فتلاومنا بيننا وقلنا: أعطيتم جملكم من لا تعرفونه فقالت الظعينة: لا تلاوموا فقد رأيت وجه رجل ما كان ليخفركم. ما رأيت وجه رجل أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه فلما كان العشاء أتانا رجل فقال: السلام عليكم أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم وإنه أمركم أن تأكلوا من هذا حتى تشبعوا وتكتالوا حتى تستوفوا قال: فأكلنا حتى شبعنا واكتلنا حتى استوفينا. وذكر الحديث الزهري عن عمارة بن خزيمة أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسا من أعرابي الحديث. وفيه: فطفق الأعرابي يقول: هلم شاهدا يشهد أني بعتك قال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنك بعته فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: بم تشهد؟ قال: بتصديقك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين. أخرجه النسائي وغيره. اه من القرطبي بلفظه.
قال مقيده عفا الله عنه: وفيما نقلنا الدلالة الواضحة على أن الإشهاد والكتابة مندوب إليهما لا فرضان واجبان كما قاله ابن جرير وغيره ولم يبين الله تعالى في هذه الآية أعني: قوله جل وعلا: * (وأشهدوا إذا تبايعتم) * اشتراط العدالة في الشهود
187

ولكنه بينه في مواضع أخر كقوله: * (ممن ترضون من الشهداء) * وقوله: * (وأشهدوا ذوى عدل منكم) *. وقد تقرر في الأصول أن المطلق يحمل على المقيد كما بيناه في غير هذا الموضع.
* (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) * لم يبين هنا هل أجاب دعاءهم هذا أو لا؟ وأشار إلى أنه أجابه بقوله في الخطأ: * (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به) * وأشار إلى أنه أجابه في النسيان بقوله: * (وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) * فإنه ظاهر في أنه قبل الذكرى لا إثم عليه في ذلك ولا يقدح في هذا أن آية: * (وإما ينسينك الشيطان) * مكية؛ وآية: * (لا تؤاخذنا إن نسينا) * مدنية إذ لا مانع من بيان المدني بالمكي كعكسه.
وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ: * (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) * قال الله تعالى: نعم. * (قوله تعالى ربنا ولا تحمل علينآ
إصرا كما حملته على الذين لم يبين هنا هل أجاب دعاءهم هذا أو لا؟ ولم يبين الإصر الذي كان محمولا على من قبلنا وبين أنه أجاب دعاءهم هذا في مواضع أخر كقوله: * (ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم) * وقوله: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * وقوله: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) * وقوله: * (يريد الله بكم اليسر) * إلى غير ذلك من الآيات.
وأشار إلى بعض الإصر الذي حمل على من قبلنا بقوله: * (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم) *؛ لأن اشتراط قتل النفس في قبول التوبة من أعظم الإصر والإصر الثقل في التكليف ومنه قول النابغة: وأشار إلى بعض الإصر الذي حمل على من قبلنا بقوله: * (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم) *؛ لأن اشتراط قتل النفس في قبول التوبة من أعظم الإصر والإصر الثقل في التكليف ومنه قول النابغة:
* يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم
* والحامل الإصر عنهم بعدما عرفوا بسم الله الرحمن الرحيم
*
188

((سورة آل عمران))
* (قوله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله يحتمل أن المراد بالتأويل في هذه الآية الكريمة التفسير وإدراك المعنى ويحتمل أن المراد به حقيقة أمره التي يؤول إليها وقد قدمنا في مقدمة هذا الكتاب أن من أنواع البيان التي ذكرنا أن كون أحد الاحتمالين هو الغالب في القرءان. يبين أن ذلك الاحتمال الغالب هو المراد؛ لأن الحمل على الأغلب أولى من الحمل على غيره. وإذا عرفت ذلك فاعلم أن الغالب في القرءان إطلاق التأويل على حقيقة الأمر التي يؤول إليها كقوله: * (هذا التأويل رؤياي من قبل) * وقوله: * (هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله) * وقوله: * (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله) * وقوله: * (ذلك خير وأحسن تأويلا) * إلى غير ذلك من الآيات. قال ابن جرير الطبري: وأصل التأويل من آل الشئ إلى كذا إذا صار إليه ورجع يؤول أو لا وأولته أنا صيرته إليه وقال: وقد أنشد بعض الرواة بيت الأعشى: الطويل:
* على أنها كانت تأول حبها
* تأول ربعي السقاب فأصحبا
*
قال: ويعني بقوله: تأول حبها مصير حبها ومرجعه وإنما يريد بذلك أن حبها كان صغيرا في قلبه فآل من الصغر إلى العظم فلم يزل ينبت حتى أصحب فصار قديما كالسقب الصغير الذي لم يزل يشب حتى أصحب فصار كبيرا مثل أمه. قال وقد ينشد هذا البيت: الطويل:
* على أنها كانت توابع حبها
* توالي ربعي السقاب فأصحبا
*
اه. وعليه فلا شاهد فيه والربعي السقب الذي ولد في أول النتاج ومعنى أصحب انقاد لكل من يقوده ومنه قول امرئ القيس: المتقارب:
* ولست بذي رثية إمر
* إذا قيد مستكرها أصحبا
*
189

والرثية: وجع المفاصل والإمر: بكسر الهمزة وتشديد الميم مفتوحة بعدها راء هو الذي يأتمر لكل أحد؛ لضعفه. وأنشد بيت الأعشى المذكور الأزهري و صاحب اللسان: الطويل:
* ولكنها كانت نوى أجنبيه
* توالي ربعي السقاب فأصحبا
*
وأطالا في شرحه وعليه فلا شاهد فيه أيضا.
تنبيه
: اعلم أن التأويل يطلق ثلاثة إطلاقات:
الأول: هو ما ذكرنا من أنه الحقيقة التي يؤول إليها الأمر وهذا هو معناه في القرءان.
الثاني: يراد به التفسير والبيان ومنه بهذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم في ابن عباس: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل. وقول ابن جرير وغيره من العلماء القول في تأويل قوله تعالى: كذا وكذا أي: تفسيره وبيانه. وقول عائشة الثابت في الصحيح: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك
اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن تعني يمتثله ويعمل به والله تعالى أعلم.
الثالث: هو معناه المتعارف في اصطلاح الأصوليين وهو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى محتمل مرجوح بدليل يدل على ذلك وحاصل تحرير مسألة التأويل عند أهل الأصول أنه لا يخلو من واحدة من ثلاث حالات بالتقسيم الصحيح:
الأولى: أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره بدليل صحيح في نفس الأمر يدل على ذلك وهذا هو التأويل المسمى عندهم بالتأويل الصحيح والتأويل القريب كقوله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح: الجار أحق بصقبه فإن ظاهره المتبادر منه ثبوت الشفعة للجار وحمل الجار في هذا الحديث على خصوص الشريك المقاسم حمل له على محتمل مرجوح إلا أنه دل عليه الحديث الصحيح المصرح بأنه إذا صرفت الطرق وضربت الحدود فلا شفعة.
الحالة الثانية: أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره لأمر يظنه الصارف دليلا وليس بدليل في نفس الأمر وهذا هو المسمى عندهم بالتأويل الفاسد والتأويل البعيد ومثل
190

له الشافعية والمالكية والحنابلة بحمل الإمام أبي حنيفة رحمه الله المرأة في قوله صلى الله عليه وسلم: أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل على المكاتبة والصغيرة وحمله أيضا رحمه الله لمسكين في قوله: ستين مسكنا على المد فأجاز إعطاء ستين مدا لمسكين واحد.
الحالة الثالثة: أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره لا لدليل أصلا وهذا يسمى في اصطلاح الأصوليين لعبا كقول بعض الشيعة: * (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) * يعني عائشة رضي الله عنها وأشار في مراقي السعود إلى حد التأويل وبيان الأقسام الثلاثة بقوله معرفا للتأويل: الحالة الثالثة: أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره لا لدليل أصلا وهذا يسمى في اصطلاح الأصوليين لعبا كقول بعض الشيعة: * (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) * يعني عائشة رضي الله عنها وأشار في مراقي السعود إلى حد التأويل وبيان الأقسام الثلاثة بقوله معرفا للتأويل:
* حمل لظاهر على المرجوح
* واقسمه للفاسد والصحيح
*
* صحيحه وهو القريب ما حمل
* مع قوة الدليل عند المستدل
*
* وغيره الفاسد والبعيد
* وما خلا فلعبا يفيد
*
إلى أن قال: الرجز:
* فجعل مسكين بمعنى المد
* عليه لائح سمات البعد
*
* كحمل مرأة على الصغيرة
* وما ينافي الحرة الكبيرة
*
* وحمل ما ورد في الصيام
* على القضاء مع الالتزام
*
أما التأويل في اصطلاح خليل بن إسحاق المالكي الخاص به في مختصره فهو عبارة عن اختلاف شروح المدونة في المراد عند مالك رحمه الله وأشار له في (المراقي) بقوله: الرجز:
* والخلف في فهم الكتاب صير
* إياه تأويلا لدى المختصر
*
والكتاب في اصطلاح فقهاء المالكية المدونة.
* (قوله تعالى والراسخون في العلم يقولون ءامنا به) * لا يخفى أن هذه الواو محتملة للاستئناف فيكون قوله: * (والراسخون في العلم) * مبتدأ وخبره * (يقولون
) * وعليه فالمتشابه لا يعلم تأويله إلا الله وحده والوقف على هذا تام على لفظة الجلالة ومحتملة لأن تكون عاطفة فيكون قوله: * (والراسخون) * معطوفا على لفظ الجلالة وعليه فالمتشابه يعلم تأويله: * (الراسخون في العلم) * أيضا وفي الآية إشارات تدل على أن الواو استئنافية لا عاطفة.
191

قال ابن قدامة في روضة الناظر ما نصه: ولأن في الآية قرائن تدل على أن الله سبحانه متفرد بعلم المتشابه وأن الوقف الصحيح عند قوله تعالى: * (وما يعلم تأويله إلا الله) * لفظا ومعنى أما اللفظ فلأنه لو أراد عطف الراسخين لقال: ويقولون آمنا به بالواو أما المعنى فلأنه ذم مبتغى التأويل ولو كان ذلك للراسخين معلوما لكان مبتغيه ممدوحا لا مذموما؛ ولأن قولهم * (آمنا) * يدل على نوع تفويض وتسليم لشئ لم يقفوا على معناه سيما إذا تبعوه بقولهم: * (كل من عند ربنا) * فذكرهم ربهم ها هنا يعطي الثقة به والتسليم لأمره وأنه صدر من عنده كما جاء من عنده المحكم؛ ولأن لفظة أما لتفصيل الجمل فذكره لها في * (الذين في قلوبهم زيغ) * مع وصفة إياهم باتباع المتشابه * (وابتغاء تأويله) * يدل على قسم آخر يخالفهم في هذه الصفة وهم الراسخون. ولو كانوا يعلمون تأويله لم يخالفوا القسم الأول في ابتغاء التأويل وإذ قد ثبت أنه غير معلوم التأويل لأحد فلا يجوز حمله على غير ما ذكرنا. اه من الروضة بلفظه.
ومما يؤيد أن الواو استئنافية لا عاطفة دلالة الاستقراء في القرءان أنه تعالى إذا نفى عن الخلق شيئا وأثبته لنفسه أنه لا يكون له في ذلك الإثبات شريك كقوله: * (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) * وقوله: * (لا يجليها لوقتها إلا هو) * وقوله: * (كل شئ هالك إلا وجهه) * فالمطابق لذلك أن يكون قوله: * (وما يعلم تأويله إلا الله) * معناه: أنه لا يعلمه إلا هو وحده كما قاله الخطابي وقال: لو كانت الواو في قوله: * (والراسخون في العلم) * للنسق لم يكن لقوله: * (كل من عند ربنا) * فائدة والقول بأن الوقف تام على قوله: * (إلا الله) * وأن قوله: * (والراسخون) * ابتداء كلام هو قول جمهور العلماء للأدلة القرآنية التي ذكرنا.
وممن قال بذلك: عمر وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز وابن مسعود وأبي بن كعب نقله عنهم القرطبي غيره ونقله ابن جرير عن يونس عن أشهب عن مالك بن أنس وهو مذهب الكسائي والأخفش والفراء وأبي عبيد.
وقال أبو نهيك الأسدي: إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم آمنا: * (به كل من عند ربنا) * والقول بأن الواو عاطفة مروي
192

أيضا عن ابن عباس وبه قال مجاهد والربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير والقاسم بن محمد وغيرهم. وممن انتصر لهذا القول وأطال فيه ابن فورك ونظير الآية في احتمال الاستئناف والعطف قول الشاعر مرفل الكامل:
* الريح تبكي شجوها
* والبرق يلمع في الغمامة
*
فيحتمل أن يكون والبرق مبتدأ والخبر يلمع كالتأويل الأول فيكون مقطوعا مما قبله ويحتمل أن يكون معطوفا على الريح ويلمع في موضع الحال على التأويل الثاني أي: لامعا.
واحتج القائلون بأن الواو عاطفة بأن الله سبحانه وتعالى مدحهم بالرسوخ في العلم فكيف يمدحهم بذلك وهم جهال.
قال القرطبي: قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمرو: هذا القول هو الصحيح فإن تسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب وفي أي شئ هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع. انتهى منه بلفظه.
قال مقيده عفا الله عنه يجاب عن كلام شيخ القرطبي المذكور بأن رسوخهم في العلم هو السبب الذي جعلهم ينتهون حيث انتهى علمهم ويقولون فيما لم يقفوا على علم حقيقته من كلام الله جل وعلا آمنا: * (به كل من عند ربنا) * بخلاف غير الراسخين فإنهم يتبعون * (ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) * وهذا ظاهر.
وممن قال بأن الواو عاطفة الزمخشري في تفسيره الكشاف. والله تعالى أعلم ونسبة العلم إليه أسلم.
وقال بعض العلماء: والتحقيق في هذا المقام أن الذين قالوا هي عاطفة جعلوا معنى التأويل التفسير وفهم المعنى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم علمه التأويل أي: التفسير وفهم معاني القرءان والراسخون يفهمون ما خوطبوا به وإن لم يحيطوا علما بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه. والذين قالوا هي استئنافية جعلوا معنى التأويل حقيقة ما يؤول إليه الأمر وذلك لا يعلمه إلا الله وهو تفصيل جيد ولكنه يشكل عليه أمران:
الأول قول ابن عباس رضي الله عنهما: التفسير على أربعة أنحاء: تفسير: لا
193

يعذر أحد في فهمه وتفسير تعرفه العرب من لغاتها وتفسير يعلمه العلماء وتفسير لا يعلمه إلا الله. فهذا تصريح من ابن عباس أن هذا الذي لا يعلمه إلا الله بمعنى التفسير لا ما تؤول إليه حقيقة الأمر.
وقوله هذا ينافي التفصيل المذكور.
الثاني: أن الحروف المقطعة في أوائل السور لا يعلم المراد بها إلا الله إذ لم يقم دليل على شئ معين أنه هو المراد بها من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا من لغة العرب. فالجزم بأن معناها كذا على التعيين تحكم بلا دليل.
تنبيهان
الأول: اعلم أنه على القول بأن الواو عاطفة فإن إعراب جملة يقولون مستشكل من ثلاث جهات:
الأولى أنها حال من المعطوف وهو الراسخون دون المعطوف عليه وهو لفظ الجلالة. والمعروف إتيان الحال من المعطوف والمعطوف عليه معا كقولك: جاء زيد وعمرو راكبين.
وقوله تعالى: * (وسخر لكم الشمس والقمر دائبين) *.
وهذا الإشكال ساقط؛ لجواز إتيان الحال من المعطوف فقط دون المعطوف عليه ومن أمثلته في القرءان قوله تعالى: * (وجاء ربك والملك صفا صفا) * فقوله * (صفا) * حال من المعطوف وهو * (الملك) * دون المعطوف عليه وهو لفظة: * (ربك) *. وقوله تعالى: * (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا) * فجملة * (يقولون) * حال من واو الفاعل في قوله: * (الذين جاءوا) * وهو معطوف على قوله: * (للفقراء المهاجرين) * وقوله: * (والذين تبوءا الدار والإيمان) * فهو حال من المعطوف دون المعطوف عليه كما بينه ابن كثير وغيره.
الجهة الثانية: من جهات الإشكال المذكورة هي ما ذكره القرطبي عن الخطابي قال عنه: واحتج له بعض أهل اللغة فقال معناه والراسخون في العلم يعلمونه قائلين:
194

آمنا وزعم أن موضع يقولون نصب على الحال وعامة أهل اللغة ينكرونه ويستبعدونه؛ لأن العرب لا تضمر الفعل والمفعول معا ولا تذكر حالا إلا مع ظهور الفعل فإذا لم يظهر فعل فلا يكون حال ولو جاز ذلك لجاز أن يقال عبد الله راكبا يعني: أقبل عبد الله راكبا وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقوله عبد الله يتكلم يصلح بين الناس فكان يصلح حالا له كقول الشاعر أنشدنيه أبو عمر قال: أنشدنا أبو العباس ثعلب: الرجز أي يقصر فيها قطما لكالكا
* يقصر يمشي ويطول باركا
*
أي يقصر ماشيا وهذا الإشكال أيضا ساقط؛ لأن الفعل العامل في الحال المذكورة غير مضمر؛ لأنه مذكور في قوله يعلم ولكن الحال من المعطوف دون المعطوف عليه كما بينه العلامة الشوكاني في تفسيره وهو واضح.
الجهة الثالثة من جهات الإشكال المذكورة هي: أن المعروف في اللغة العربية أن الحال قيد لعاملها ووصف لصاحبها فيشكل تقييد هذا العامل الذي هو يعلم بهذه الحال التي هي * (يقولون آمنا) *؛ إذ لا وجه لتقييد علم الراسخين بتأويله بقولهم آمنا * (به) *؛ لأن مفهومه أنهم في حال عدم قولهم آمنا * (به) * لا يعلمون تأويله وهو الباطل وهذا الإشكال قوي وفيه الدلالة على منع الحالية في جملة يقولون على القول بالعطف. التنبيه الثاني: إذا كانت جملة يقولون: لا يصح أن تكون حالا لما ذكرنا فما وجه إعرابها على القول بأن الواو عاطفة. الجواب: والله تعالى أعلم أنها معطوفة بحرف محذوف والعطف بالحرف المحذوف أجازه ابن مالك وجماعة من علماء العربية. والتحقيق جوازه وأنه ليس مختصا بضرورة الشعر كما زعمه بعض علماء العربية والدليل على جوازه وقوعه في القرءان وفي كلام العرب. فمن أمثلته في القرءان قوله تعالى: * (وجوه يومئذ ناعمة) * فإنه معطوف بلا شك على قوله تعالى: * (وجوه يومئذ خاشعة) * بالحرف المحذوف الذي هو الواو ويدل له إثبات الواو في نظيره في قوله تعالى في سورة القيامة: * (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة * ووجوه يومئذ باسرة) * الآية قوله تعالى في عبس: * (وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غبرة) *.
وجعل بعض العلماء منه قوله تعالى: * (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت) *
195

قال: يعني وقلت: بالعطف بواو محذوفة وهو أحد احتمالات ذكرها ابن هشام في (المغني) وجعل بعضهم منه: * (إن الدين عند الله الإسلام) * على قراءة فتح همزة إن قال: هو معطوف بحرف محذوف على قوله: * (شهد الله أنه لا إلاه إلا هو) * أي: وشهد أن الدين عند الله الإسلام وهو أحد احتمالات ذكرها صاحب المغني أيضا ومنه حديث: تصدق رجل من ديناره من درهمه من صاع بره من صاع تمره يعني ومن درهمه ومن صاع إلخ.
حكاه الأشموني وغيره والحديث المذكور أخرجه مسلم والإمام أحمد وأصحاب السنن ومن شواهد حذف حرف العطف قول الشاعر: الخفيف:
* كيف أصبحت كيف أمسيت مما
* يغرس الود في فؤاد الكريم
*
يعني: وكيف أمسيت وقول الحطيئة: البسيط:
* إن امرأ رهطه بالشام منزله
* برمل يبرين جار شد ما اغتربا
*
أي: ومنزله برمل يبرين.
وقيل: الجملة الثانية صفة ثانية لا معطوفة وعليه فلا شاهد في البيت وممن أجاز العطف بالحرف المحذوف الفارسي وابن عصفور خلافا لابن جني والسهيلي.
ولا شك أن في القرءان أشياء لا يعلمها إلا الله كحقيقة الروح؛ لأن الله تعالى يقول: * (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى) * الآية وكمفاتيح الغيب التي
نص على أنها لا يعلمها إلا هو بقوله: * (وعنده مفاتح الغيب) *.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها الخمس المذكورة في قوله تعالى: * (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث) *. وكالحروف المقطعة في أوائل السور وكنعيم الجنة لقوله تعالى: * (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين) * وفيه أشياء يعلمها الراسخون في العلم دون غيرهم كقوله تعالى: * (فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون) * وقوله: * (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين) * مع قوله: * (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) * وقوله: * (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) * وكقوله: * (وروح منه) * والرسوخ والثبوت. ومنه قول الشاعر:
196

الطويل:
* لقد رسخت في القلب مني مودة
* لليلى أبت آياتها أن تغيرا
* * (إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وألئك هم وقود النار ذكر في هذه الآية الكريمة أن الكفار يوم القيامة لا تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم شيئا وذكر أنهم وقود النار أي: حطبها الذي تتقد فيه ولم يبين هنا هل نفيه لذلك تكذيب لدعواهم أن أموالهم وأولادهم تنفعهم وبين في مواضع أخر أنهم ادعوا ذلك ظنا منهم أنه ما أعطاهم الأموال والأولاد في الدنيا إلا لكرامتهم عليه واستحقاقهم لذلك وأن الآخرة كالدنيا يستحقون فيها ذلك أيضا فكذبهم في آيات كثيرة فمن الآيات الدالة على أنهم ادعوا ذلك قوله تعالى: * (وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين) * وقوله تعالى: * (أفرأيت الذي كفر بآياتنا) * وقال: * (لأوتين مالا وولدا) * يعني في الآخرة كما أوتيته في الدنيا. وقوله: * (ولئن رجعت إلى ربى إن لي عنده للحسنى) * أي: بدليل ما أعطاني في الدنيا وقوله: * (ولئن رددت إلى ربى لأجدن خيرا منها منقلبا) * قياسا منه للآخرة على الدنيا ورد الله عليهم هذه الدعوى في آيات كثيرة كقوله هنا: * (إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم) * وقوله: * (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون) * وقوله: * (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى) * وقوله: * (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملى لهم خير لأنفسهم إنما نملى لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين) * وقوله: * (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملى لهم إن كيدي متين) *. إلى غير ذلك من الآيات.
وصرح في موضع آخر أن كونهم وقود النار المذكور هنا على سبيل الخلود وهو قوله: * (إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) *. * (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بأياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب * قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد) * كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بأياتنا فأخذهم الله بذنوبهم لم يبين هنا من هؤلاء الذين من قبلهم وما ذنوبهم التي أخذهم الله بها.
وبين في مواضع أخر أن منهم قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط
197

وقوم شعيب؛ وأن ذنوبهم التي أخذهم بها هي الكفر بالله وتكذيب الرسل وغير ذلك من المعاصي كعقر ثمود للناقة وكلواط قوم لوط وكتطفيف قوم شعيب للمكيال والميزان وغير ذلك كما جاء مفصلا في آيات كثيرة كقوله في نوح وقومه: * (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون) * ونحوها من الآيات وكقوله في قوم هود: * (إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم) * ونحوها من الآيات. وكقوله في قوم صالح: * (وأخذ الذين ظلموا الصيحة الآية) * ونحوها من الآيات. وكقوله في قوم لوط: * (فجعلنا عاليها سافلها) * ونحوها من الآيات. كقوله في قوم شعيب: * (فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم) * ونحوها من الآيات. * (قد كان لكم آية في فئتين التقتا الآية ذكر في هذه الآية الكريمة أن وقعة بدر آية أي: علامة على صحة دين الإسلام إذ لو كان غير حق لما غلبت الفئة القليلة الضعيفة المتمسكة به الفئة الكثيرة القوية التي لم تتمسك به.
وصرح في موضع آخر أن وقعة بدر بينة أي: لا لبس في الحق معها وذلك في قوله: * (ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة) *.
وقوله تعالى والخيل المسومة والأنعام لم يبين هنا كم يدخل تحت لفظ الأنعام من الأصناف.
ولكنه قد بين في مواضع أخر أنها ثمانية أصناف هي الجمل والناقة والثور والبقرة والكبش والنعجة والتيس والعنز كقوله تعالى: * (ومن الانعام حمولة وفرشا) * ثم بين الأنعام بقوله: * (ثمانية أزواج من الضأن اثنين) * يعني الكبش والنعجة: * (ومن المعز اثنين) * يعني: التيس والعنز إلى قوله: * (ومن الإبل اثنين) * يعني: الجمل والناقة * (ومن البقر اثنين) * يعني: الثور والبقرة وهذه الثمانية هي المرادة بقوله: * (وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج) * وهي المشار إليها بقوله: * (فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الانعام
198

أزواجا) *.
تنبيه
: ربما أطلقت العرب لفظ النعم على خصوص الإبل ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: من حمر النعم يعني: الإبل. وقول حسان رضي الله عنه:: الوافر:
* وكانت لا يزال بها أنيس
* خلال مروجها نعم وشاء
*
أي: إبل وشاء. * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله الآية صرح تعالى في هذه الآية الكريمة: أن اتباع نبيه موجب لمحبته جل وعلا ذلك المتبع وذلك يدل على أن طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم هي عين طاعته تعالى وصرح بهذا المدلول في قوله تعالى: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * وقال تعالى: * (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) *.
تنبيه
: يؤخذ من هذه الآية الكريمة أن علامة المحبة الصادقة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم هي اتباعه صلى الله عليه وسلم فالذي يخالفه ويدعي أنه يحبه فهو كاذب مفتر؛ إذ لو كان محبا له لأطاعه ومن المعلوم عند العامة أن المحبة تستجلب الطاعة ومنه قول الشاعر: الكامل لو كان محبا له لأطاعه ومن المعلوم عند العامة أن المحبة تستجلب الطاعة ومنه قول الشاعر:
* لو كان حبك صادقا لأطعته
* إن المحب لمن يحب مطيع
*
وقول ابن أبي ربيعة المخزومي: المتقارب:
* ومن لو نهاني من حبه
* عن الماء عطشان لم أشرب
*
وقد أجاد من قال: البسيط: قالت:
* وقد سألت عن حال عاشقها
* بالله صفه ولا تنقص ولا تزد
* فقلت:
* لو كان رهن الموت من ظمأ
* وقلت: قف عن ورود الماء لم يرد
* (قال رب أنى يكون لي غلام وبلغني الكبر لم يبين هنا القدر الذي بلغ من الكبر ولكنه بين في سورة مريم أنه بلغ من الكبر عتيا. وذلك في قوله تعالى عنه: * (وقد بلغت من الكبر عتيا) * والعتي: اليبس والقحول في المفاصل
199

والعظام من شدة الكبر.
وقال ابن جرير في تفسيره: وكل متناه إلى غايته في كبر أو فساد أو كفر فهو عات وعاس قوله تعالى عن زكريا: * (امرأتي عاقرا) * لم يبين هنا هل كانت كذلك أيام شبابها ولكنه بين في سورة مريم أنها كانت كذلك قبل كبرها بقوله عنه: * (وكانت امرأتي عاقر الآية قوله تعالى قال ءايتك ألا تكلم الناس ثلاثة لم يبين هل المانع له من كلام الناس بكم طرأ له أو آفة تمنعه من ذلك. أو لا مانع له إلا الله وهو صحيح لا علة له.
ولكنه بين في سورة مريم أنه لا بأس عليه. وأن انتفاء التكلم عنه لا لبكم ولا مرض وذلك في قوله تعالى: * (قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا) *؛ لأن قوله * (سويا) * حال من فاعل تكلم مفيد لكون انتفاء التكلم بطريق الإعجاز وخرق العادة لا لاعتقال اللسان بمرض أي: يتعذر عليك تكليمهم ولا تطيقه في حال كونك سوي الخلق سليم الجوارح ما بك شائبة بكم ولا خرس وهذا ما عليه الجمهور ويشهد له قوله تعالى: * (واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشى والإبكار) *.
وعن ابن عباس: أن سويا عائد إلى الليالي. أي: كاملات مستويات فيكون صفة الثلاث وعليه فلا بيان بهذه الآية لآية آل عمران. * (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه الآية لم يبين هنا هذه الكلمة التي أطلقت على عيسى؛ لأنها هي السبب في وجوده من إطلاق السبب وإرادة مسببه ولكنه بين في موضع آخر أما أنها لفظة كن وذلك في قوله: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن) * وقيل: الكلمة بشارة الملائكة لها بأنها ستلده واختاره ابن جرير والأول قول الجمهور. * (ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين) * ويكلم الناس في المهد لم يبين هنا ما كلمهم به في المهد. ولكنه بينه في سورة مريم بقوله: * (فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا * قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا * أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا * وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا * والسلام على يوم
200

ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) *. * (قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر أشار في هذه الآية إلى قصة حملها بعيسى وبسطها مبينة في سورة مريم بقوله: * (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا * فاتخذت من دونهم حجابا) *. إلى آخر القصة وبين النفخ فيها في سورة التحريم و الأنبياء معبرا في التحريم بالنفخ في فرجها وفي الأنبياء بالنفخ فيها. * (فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله الآية لم يبين هنا الحكمة في ذكر قصة الحواريين مع عيسى ولكنه بين في سورة الصف أن حكمة ذكر قصتهم هي أن تتأسى بهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم في نصرة الله ودينه وذلك في قوله
تعالى: * (يا أيها الذين ءامنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصارى إلى الله) *. * (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) * ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين لم يبين هنا مكر اليهود بعيسى ولا مكر الله باليهود ولكنه بين في موضع آخر أن مكرهم به محاولتهم قتله وذلك في قوله: * (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله) * وبين أن مكره بهم إلقاؤه الشبه على غير عيسى وإنجاؤه عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وذلك في قوله: * (وما قتلوه وما صلبوه ولاكن شبه لهم) * وقوله: * (وما قتلوه يقينا * بل رفعه الله إليه) * الآية. * (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك الآية قال بعض العلماء: أي منجك ورافعك إلي في تلك النومة ويستأنس لهذا التفسير بالآيات التي جاء فيها إطلاق الوفاة على النوم كقوله: * (وهو الذي يتوفاكم بالليل الآية قوله: * (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها) *. * (قوله تعالى يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم لم يبين هنا ما وجه محاجتهم في إبراهيم. ولكنه بين في موضع آخر أن محاجتهم في إبراهيم هي قول اليهود: إنه يهودي والنصارى: إنه نصراني وذلك في قوله: * (أم تقولون إن إبراهيم
201

وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله) * وأشار إلى ذلك هنا بقوله: * (والله يعلم وأنتم لا تعلمون ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا) *. * (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازداودا كفرا لن تقبل توبتهم قال بعض العلماء: يعني إذا أخروا التوبة إلى حضور الموت فتابوا حينئذ وهذا التفسير يشهد له قوله تعالى: * (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الان ولا الذين يموتون وهم كفار) *. وقد تقرر في الأصول حمل المطلق على المقيد ولا سيما إذا اتحد الحكم والسبب كما هنا.
وقال بعض العلماء: معنى لن تقبل توبتهم لن يوفقوا للتوبة حتى تقبل منهم ويشهد له قوله تعالى: * (إن الذين ءامنوا ثم كفروا ثم ءامنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا) * فعدم غفرانه لهم لعدم هدايتهم السبيل الذي يغفر لصاحبه ونظيرها قوله تعالى: * (لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا * إلا طريق جهنم) *. * (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا الآية صرح في هذه الآية الكريمة أن الكفار يوم القيامة لا يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به.
وصرح في مواضع أخر أنه لو زيد بمثله لا يقبل منه أيضا كقوله: * (إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما) * وبين في مواضع أخر أنه لا يقبل فداء في ذلك اليوم منهم بتاتا كقوله: * (فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا) * وقوله: * (وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها) * وقوله: * (ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة) * والعدل: الفداء. * (فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان ءامنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين * وصرح في هذه الآية أنه غني عن خلقه وأن كفر من كفر منهم لا يضره شيئا وبين هذا المعنى في مواضع متعددة كقوله عن نبيه موسى: * (وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله
202

لغنى حميد) * وقوله: * (إن تكفروا فإن الله غنى عنكم ولا يرضى لعباده الكفر) * وقوله: * (فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غنى حميد) * وقوله: * (قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني) * إلى غير ذلك من الآيات.
فالله تبارك وتعالى يأمر الخلق وينهاهم؛ لا لأنه تضره معصيتهم ولا تنفعه طاعتهم بل نفع طاعتهم لهم وضرر معصيتهم عليهم كما قال تعالى: * (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) * وقال: * (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها) * قال يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنى الحميد) *.
وثبت في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال: يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا الحديث.
تنبيه
: قوله تعالى: * (ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين) * بعد قوله: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * يدل على أن من لم يحج كافر والله غني عنه. وفي المراد بقوله: * (ومن كفر) * أوجه للعلماء. الأول: أن المراد بقوله: * (ومن كفر) * أي: ومن جحد فريضة الحج فقد كفر والله غني عنه وبه قال: ابن عباس ومجاهد وغير واحد قاله ابن كثير. ويدل لهذا الوجه ما روي عن عكرمة ومجاهد من أنهما قالا لما نزلت: * (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) * قالت اليهود: فنحن مسلمون.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله فرض على المسلمين حج البيت من استطاع إليه سبيلا فقالوا: لم يكتب علينا وأبوا أن يحجوا. قال الله تعالى: * (ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين) *.
203

الوجه الثاني: أن المراد بقوله: * (ومن كفر) * أي: ومن لم يحج على سبيل التغليظ البالغ في الزجر عن ترك الحج مع الاستطاعة كقوله المقداد الثابت في الصحيحين حين سأله عن قتل من أسلم من الكفار بعد أن قطع يده في الحرب: لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول الكلمة التي قال.
الوجه الثالث: حمل الآية على ظاهرها وأن من لم يحج مع الاستطاعة فقد كفر.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من ملك زادا وراحلة ولم يحج بيت الله فلا يضره مات يهوديا أو نصرانيا؛ وذلك بأن الله قال: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين) *.
روى هذا الحديث الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه كما نقله عنهم ابن كثير وهو حديث ضعيف ضعفه غير واحد بأن في إسناده هلال بن عبد الله مولى
ربيعة بن عمرو بن مسلم الباهلي وهلال هذا. قال الترمذي: مجهول وقال البخاري: منكر الحديث وفي إسناده أيضا الحارث الذي رواه عن علي رضي الله عنه. قال الترمذي: إنه يضعف في الحديث. وقال ابن عدي: هذا الحديث ليس بمحفوظ. انتهى بالمعنى من ابن كثير.
وقال ابن حجر: في الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف: في هذا الحديث أخرجه الترمذي من رواية هلال بن عبد الله الباهلي حدثنا أبو إسحاق عن الحارث عن علي رفعه: من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا.
وقال: غريب وفي إسناده مقال وهلال بن عبد الله مجهول والحارث يضعف وأخرجه البزار من هذا الوجه وقال: لا نعلمه عن علي إلا من هذا الوجه وأخرجه ابن عدي والعقيلي في ترجمة هلال ونقلا عن البخاري أنه منكر الحديث.
وقال البيهقي في الشعب: تفرد به هلال وله شاهد من حديث أبي أمامة أخرجه الدارمي بلفظ: من لم يمنعه عن الحج حاجة ظاهرة أو سلطان جائر أو مرض حابس فمات فليمت إن شاء يهوديا أو إن شاء نصرانيا أخرجه من رواية شريك عن ليث بن أبي سليم عن عبد الرحمان بن سابط عنه ومن هذا الوجه أخرجه
204

البيهقي في الشعب وأخرجه ابن أبي شيبة عن أبي الأحوص عن ليث عن عبد الرحمان مرسلا لم يذكر أبا أمامة وأورده ابن الجوزي في الموضوعات من طريق ابن عدي وابن عدي وأورده في الكامل في ترجمة أبي المهزوم يزيد بن سفيان عن أبي هريرة مرفوعا نحوه ونقل عن القلاس أنه كذب أبا المهزوم وهذا من غلط ابن الجوزي في تصرفه؛ لأن الطريق إلى أبي أمامة ليس فيها من اتهم بالكذب.
وقد صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: من أطاق الحج فلم يحج فسواء مات يهوديا أو نصرانيا والعلم عند الله تعالى. * (قوله تعالى يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته الآية) * أكثر العلماء على أنها منسوخة بقوله: * (فاتقوا الله ما استطعتم) *.
وقال بعضهم: هي مبينة للمراد منها فقوله: * (حق تقاته) * أي: بقدر الطاقة والله تعالى أعلم. * (قوله تعالى واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعدآء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا لم يبين هنا ما بلغته معاداتهم من الشدة ولكنه بين في موضع آخر أن معاداتهم بلغت من الشدة أمرا عظيما حتى لو أنفق ما في الأرض كله؛ لإزالتها وللتأليف بين قلوبهم لم يفد ذلك شيئا وذلك في قوله: * (وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين * وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولاكن الله ألف بينهم إنه عزيز) *. * (حكيم قوله تعالى) * وتسود وجوه بين في هذه الآية الكريمة أن من أسباب اسوداد الوجوه يوم القيامة الكفر بعد الإيمان وذلك في قوله: * (فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم) *.
وبين في موضع آخر أن من أسباب ذلك الكذب على الله تعالى وهو قوله تعالى: * (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة) *. وبين في موضع آخر أن من أسباب ذلك اكتساب السيئات وهو قوله: * (والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما) * وبين في موضع آخر أن من أسباب ذلك الكفر والفجور وهو
205

قوله تعالى: * (ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة * أولئك هم الكفرة الفجرة) *.
وهذه الأسباب في الحقيقة شئ واحد عبر عنه بعبارات مختلفة وهو الكفر بالله تعالى وبين في موضع آخر شدة تشويه وجوههم بزرقة العيون وهو قوله: * (ونحشر المجرمين يومئذ زرقا) * وأقبح صورة أن تكون الوجوه سودا والعيون زرقا إلا ترى الشاعر لما أراد أن يصور علل البخيل في أقبح صورة وأشوهها اقترح لها زرقة العيون واسوداد الوجه في قوله:
* وللبخيل على أمواله علل
* زرق العيون عليها أوجه سود
* * (قوله تعالى من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله ءانآء الليل وهو يسجدون ذكر هنا من صفات هذه الطائفة المؤمنة من أهل الكتاب أنها قائمة أي: مستقيمة على الحق وأنها تتلو آيات الله آناء الليل وتصلي وتؤمن بالله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
وذكر في موضع آخر أنها تتلو الكتاب حق تلاوته وتؤمن بالله وهو قوله: * (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به) *.
وذكر في موضع آخر أنهم يؤمنون بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليهم وأنهم خاشعون لله لا يشترون بآياته ثمنا قليلا وهو قوله: * (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا) *. وذكر في موضع آخر أنهم يفرحون بإنزال القرءان وهو قوله تعالى: * (الذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك) *. وذكر في موضع آخر أنهم يعلمون أن إنزال القرءان من الله حق وهو قوله: * (الذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق) * وذكر في موضع آخر أنهم إذا تلي عليهم القرءان خروا لأذقانهم سجدا وسبحوا ربهم وبكوا وهو قوله: * (إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا * ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا * ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا) *.
وقال في بكائهم عند سماعه أيضا: * (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم
206

تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق) * وذكر في موضع آخر أن هذه الطائفة من أهل الكتاب تؤتى أجرها مرتين وهو قوله: * (ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون * الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين * أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا) *.
* (قوله تعالى وتؤمنون بالكتاب كله الآية يعني: وتؤمنون بالكتب كلها كما يدل له قوله تعالى: * (وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب) * وقوله: * (كل آمن بالله
وملائكته وكتبه) *.
* (قوله تعالى وجنة عرضها السماوات والأرض يعني: عرضها كعرض السماوات والأرض كما بينه قوله تعالى في سورة * (الحديد) *: * (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض) * وآية آل عمران هذه تبين أن المراد بالسماء في آية الحديد جنسها الصادق بجميع السماوات كما هو ظاهر والعلم عند الله تعالى قوله تعالى.
* (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) * المراد بالقرح الذي مس المسلمين هو ما أصابهم يوم أحد من القتل والجرح كما أشار له تعالى في هذه السورة الكريمة في مواضع متعددة كقوله: * (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون) * وقوله: * (ويتخذ منكم شهداء) * وقوله: * (حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الامر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم) * وقوله: * (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم) * ونحو ذلك من الآيات.
وأما المراد بالقرح الذي مس القوم المشركين فيحتمل أنه هو ما أصابهم يوم بدر من القتل والأسر وعليه فإليه الإشارة بقوله: * (إذ يوحى ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين ءامنوا سألقى في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان * ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب) *
207

.
ويحتمل أيضا أنه هزيمة المشركين أولا يوم أحد كما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى وقد أشار إلى القرحين معا بقوله: * (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها) * فالمراد بمصيبة المسلمين القرح الذي مسهم يوم أحد والمراد بمصيبة الكفار بمثليها قبل القرح الذي مسهم يوم بدر؛ لأن المسلمين يوم أحد قتل منهم سبعون والكفار يوم بدر قتل منهم سبعون وأسر سبعون.
وهذا قول الجمهور وذكر بعض العلماء أن المصيبة التي أصابت المشركين هي ما أصابهم يوم أحد من قتل وهزيمة حيث قتل حملة اللواء من بني عبد الدار وانهزم المشركون في أول الأمر هزيمة منكرة وبقي لواؤهم ساقطا حتى رفعته عمرة بنت علقمة الحارثية وفي ذلك يقول حسان: الطويل فولا لواء الحارثية أصبحوا
* يباعون في الأسواق بيع الجلائب
*
وعلى هذا الوجه: فالقرح الذي أصاب القوم المشركين يشير إليه قوله تعالى: * (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه) *. ومعنى تحسونهم: تقتلونهم وتستأصلونهم وأصله من الحس الذي هو الإدراك بالحاسة فمعنى حسه أذهب حسه بالقتل ومنه قول جرير: الوافر:
* تحسهم السيوف كما تسامى
* حريق النار في أجم الحصيد
*
وقول الآخر: الطويل:
* حسسناهم بالسيف حسا فأصبحت
* بقيتهم قد شردوا وتبددوا
*
وقول رؤبة: الرجز:
* إذا شكونا سنة حسوسا
* تأكل بعد الأخضر اليبيسا
*
يعني بالسنة الحسوس: السنة المجدبة التي تأكل كل شئ وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب أن الآية قد يكون فيها احتمالان وكل منهما يشهد له قرءان وكلاهما حق فنذكرهما معا وما يشهد لكل واحد منهما.
قال بعض العلماء: وقرينة السياق تدل على أن القرح الذي أصاب المشركين ما وقع بهم يوم أحد؛ لأن الكلام في وقعة أحد ولكن التثنية في قوله: * (مثليها) * تدل على أن القرح الذي أصاب المشركين ما وقع بهم يوم بدر؛ لأنه لم ينقل أحد أن الكفار يوم
208

أحد أصيبوا بمثلي ما أصيب به المسلمون ولا حجة في قوله: * (تحسونهم) *؛ لأن ذلك الحس والاستئصال في خصوص الذي قتلوا من المشركين وهم أقل ممن قتل من المسلمين يوم أحد كما هو معلوم.
فإن قيل: ما وجه الجمع بين الإفراد في قوله: * (قرح مثله) * وبين التثنية في قوله: * (قد أصبتم مثليها) * فالجواب والله تعالى أعلم أن المراد بالتثنية قتل سبعين
وأسر سبعين يوم بدر؛ في مقابلة سبعين يوم أحد كما عليه جمهور العلماء.
والمراد بإفراد المثل: تشبيه القرح بالقرح في مطلق النكاية والألم والقراءتان السبعيتان في قوله: * (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح) * بفتح القاف وضمها في الحرفين معناهما واحد فهما لغتان كالضعف والضعف.
وقال الفراء: القرح بالفتح الجرح وبالضم ألمه اه. ومن إطلاق العرب القرح على الجرح قول متمم بن نويرة التميمي: الطويل:
* قعيدك ألا تسمعيني ملامة
* ولا تنكئي قرح الفؤاد فييجعا
* * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين أنكر الله في هذه الآية على من ظن أنه يدخل الجنة دون أن يبتلى بشدائد التكاليف التي يحصل بها الفرق بين الصابر المخلص في دينه وبين غيره وأوضح هذا المعنى في آيات متعددة كقوله: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول) * وقوله: * (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون) * وقوله: * (ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) *.
وفي هذه الآيات سر لطيف وعبرة وحكمة وذلك أن أبانا آدم كان في الجنة يأكل منها رغدا حيث شاء في أتم نعمة وأكمل سرور وأرغد عيش. كما قال له ربه: * (إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى) * ولو
209

تناسلنا فيها لكنا في أرغد عيش وأتم نعمة ولكن إبليس عليه لعائن الله احتال بمكره وخداعه على أبوينا حتى أخرجهما من الجنة إلى دار الشقاء والتعب.
وحينئذ حكم الله تعالى أن جنته لا يدخلها أحد إلا بعد الابتلاء بالشدائد وصعوبة التكاليف. فعلى العاقل منا معاشر بني آدم أن يتصور الواقع ويعلم أننا في الحقيقة سبي سباه إبليس بمكره وخداعه من وطنه الكريم إلى دار الشقاء والبلاء فيجاهد عدوه إبليس ونفسه الأمارة بالسوء حتى يرجع إلى الوطن الأول الكريم كما قال ابن القيم: الطويل:
* ولكننا سبي العدو فهل ترى
* نرد إلى أوطاننا ونسلم
*
ولهذه الحكمة أكثر الله تعالى في كتابه من ذكر قصة إبليس مع آدم لتكون نصب أعيننا دائما.
* (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير) * هذه الآية الكريمة على قراءة من قرأ قتل بالبناء للمفعول يحتمل نائب الفاعل فيها أن يكون لفظة ربيون وعليه فليس في قتل ضمير أصلا ويحتمل أن يكون نائب الفاعل ضميرا عائدا إلى النبي وعليه فمعه خبر مقدم وربيون مبتدأ مؤخر سوغ الابتداء به اعتماده على الظرف قبله ووصفه بما بعده والجملة حالية والرابط الضمير وسوغ إتيان الحال من النكرة التي هي نبي وصفه بالقتل ظلما وهذا هو أجود الأعاريب المذكورة في الآية على هذا القول وبهذين الاحتمالين في نائب الفاعل المذكور يظهر أن في الآية إجمالا. والآيات القرآنية مبينة أن النبي المقاتل غير مغلوب بل هو غالب كما صرح تعالى بذلك في قوله: * (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) * وقال قبل هذا: * (أولئك في الأذلين) * وقال بعده: * (إن الله قوى عزيز) *.
وأغلب معاني الغلبة في القرءان الغلبة بالسيف والسنان كقوله: * (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا) * وقوله: * (إن يكن منكم * مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين) * وقوله: * (ألم * غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين) * وقوله: * (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة) * وقوله: * (قل للذين كفروا ستغلبون) * إلى غير ذلك من الآيات.
210

وبين تعالى أن المقتول ليس بغالب بل هو قسم مقابل للغالب بقوله: * (ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب) * فاتضح من هذه الآيات أن القتل ليس واقعا على النبي المقاتل؛ لأن الله كتب وقضى له في أزله أنه غالب وصرح بأن المقتول غير غالب.
وقد حقق العلماء أن غلبة الأنبياء على قسمين غلبة بالحجة والبيان وهي ثابتة لجميعهم وغلبة بالسيف والسنان وهي ثابتة لخصوص الذين أمروا منهم بالقتال في سبيل الله؛ لأن من لم يؤمر بالقتال ليس بغالب ولا مغلوب؛ لأنه لم يغالب في شئ وتصريحه تعالى بأنه كتب إن رسله غالبون شامل لغلبتهم من غالبهم بالسيف كما بينا أن ذلك هو معنى الغلبة في القرءان وشامل أيضا لغلبتهم بالحجة والبيان فهو مبين أن نصر الرسل المذكور في قوله: * (إنا لننصر رسلنا) * وفي قوله: * (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون) * أنه نصر غلبة بالسيف والسنان للذين أمروا منهم بالجهاد؛ لأن الغلبة التي بين أنها كتبها لهم أخص من مطلق النصر؛ لأنها نصر خاص والغلبة لغة القهر والنصر لغة إعانة المظلوم فيجب بيان هذا الأعم بذلك الأخص.
وبهذا تعلم أن ما قاله الإمام الكبير ابن جرير رحمه الله ومن تبعه في تفسير قوله: * (إنا لننصر) * من أنه لا مانع من قتل الرسول المأمور بالجهاد وأن نصره المنصوص في الآية حينئذ يحمل على أحد أمرين:
أحدهما: أن الله ينصره بعد الموت بأن يسلط على من قتله من ينتقم منه كما فعل بالذين قتلوا يحيى وزكرياء وشعيا من تسليط بختنصر عليهم ونحو ذلك. الثاني: حمل الرسل في قوله: * (إنا لننصر رسلنا) * على خصوص نبينا صلى الله عليه وسلم وحده أنه لا يجوز حمل القرءان عليه لأمرين:
أحدهما: أنه خروج بكتاب الله عن ظاهره المبتادر منه بغير دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع والحكم بأن المقتول من المتقاتلين هو المنصور بعيد جدا غير معروف في لسان العرب فحمل القرءان عليه بلا دليل غلط ظاهر وكذلك حمل الرسل على نبينا وحده صلى الله عليه وسلم فهو بعيد جدا أيضا والآيات الدالة على عموم الوعد بالنصر لجميع الرسل كثيرة لا نزاع فيها.
211

الثاني: أن الله لم يقتصر في كتابه على مطلق النصر الذي هو في اللغة إعانة المظلوم بل صرح بأن ذلك النصر المذكور للرسل نصر غلبة بقوله: * (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) * وقد رأيت معنى الغلبة في القرءان ومر عليك أن الله جعل المقتول قسما مقابلا للغالب في قوله: * (ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب) * وصرح تعالى بأن ما وعد به رسله لا يمكن تبديله بقوله جل وعلا: * (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى * اتيهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين) * ولا شك أن قوله تعالى: * (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) * من كلماته التي صرح بأنها لا مبدل لها وقد نفى جل وعلا عن المنصور أن يكون مغلوبا نفيا باتا بقوله: * (إن ينصركم الله فلا غالب لكم) * وذكر مقاتل أن سبب نزول قوله تعالى: * (كتب الله لأغلبن الآية) * أن بعض الناس قال: أيظن محمد وأصحابه أن يغلبوا الروم وفارس كما غلبوا العرب زاعما أن الروم وفارس لا يغلبهم النبي صلى الله عليه وسلم لكثرتهم وقوتهم فأنزل الله الآية وهو يدل على أن الغلبة المذكورة فيها غلبة بالسيف والسنان؛ لأن صورة السبب لا يمكن إخراجها ويدل له قوله قبله: * (أولئك في الأذلين) * وقوله بعده: * (إن الله قوى عزيز) *.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب أننا نستشهد للبيان بالقراءة السبعية بقراءة شاذة فيشهد للبيان الذي بينا به أن نائب الفاعل ربيون وأن بعض القراء غير السبعة قرأ قتل معه ربيون بالتشديد؛ لأن التكثير المدلول عليه بالتشديد يقتضي أن القتل واقع على الربيين.
ولهذه القراءة رجح الزمخشري والبيضاوي وابن جني؛ أن نائب الفاعل ربيون ومال إلى ذلك الألوسي في تفسيره مبينا أن دعوى كون التشديد لا ينافي وقوع القتل على النبي؛ لأن: * (كأين) * إخبار بعدد كثير أي: كثير من أفراد النبي قتل خلاف الظاهر وهو كما قال فإن قيل: قد عرفنا أن نائب الفاعل المذكور محتمل لأمرين وقد ادعيتم أن القرءان دل على أنه ربيون لا ضمير النبي لتصريحه بأن الرسل غالبون والمقتول غير غالب ونحن نقول دل القرءان في آيات أخر على أن نائب الفاعل ضمير النبي لتصريحه في آيات كثيرة بقتل بعض الرسل كقوله: * (فريقا * كذبتم وفريقا تقتلون) * وقوله: * (قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم
212

فلم قتلتموهم) * فما وجه ترجيح ما استدللتم به على أن النائب ربيون على ما استدللنا به على أن النائب ضمير النبي فالجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أن ما استدللنا به أخص مما استدللتم به والأخص مقدم على الأعم ولا يتعارض عام وخاص كما تقرر في الأصول وإيضاحه أن دليلنا في خصوص نبي أمر بالمغالبة في شئ فنحن نجزم بأنه غالب فيه تصديقا لربنا في قوله: * (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) * سواء أكانت تلك المغالبة في الحجة والبيان أم بالسيف والسنان ودليلكم فيما هو أعم من هذا؛ لأن الآيات التي دلت على قتل بعض الرسل لم تدل على أنه في خصوص جهاد بل ظاهرها أنه في غير جهاد كما يوضحه.
الوجه الثاني: وهو أن جميع الآيات الدالة على أن بعض الرسل قتلهم أعداء الله كلها في قتل بني إسرائيل أنبياءهم في غير جهاد ومقاتله إلا موضع النزاع وحده.
الوجه الثالث: أن ما رجحناه من أن نائب الفاعل ربيون تتفق عليه آيات القرءان اتفاقا واضحا لا لبس فيه على مقتضى اللسان العربي في أفصح لغاته ولم تتصادم منه آيتان حيث حملنا الرسول المقتول على الذي لم يؤمر بالجهاد فقتله إذن لا إشكال فيه ولا يؤدي إلى معارضة آية واحدة من كتاب الله؛ لأن الله حكم للرسل بالغلبة والغلبة لا تكون إلا مع مغالبة وهذا لم يؤمر بالمغالبة في شئ ولو أمر بها في شئ لغلب فيه ولو قلنا بأن نائب الفاعل ضمير النبي لصار المعنى أن كثيرا من الأنبياء المقاتلين قتلوا في ميدان الحرب كما تدل عليه صيغة * (وكأين) * المميزة بقوله: * (من نبي) * وقتل الأعداء هذا العدد الكثير من الأنبياء المقاتلين في ميدان الحرب مناقض مناقضة صريحة لقوله: * (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) * وقد عرفت معنى الغلبة في القرءان وعرفت أنه تعالى بين أن المقتول غير الغالب كما تقدم وهذا الكتاب العزيز ما أنزل ليضرب بعضه بعضا ولكن أنزل ليصدق بعضه بعضا فاتضح أن القرءان دل دلالة واضحة على أن نائب الفاعل ربيون وأنه لم يقتل رسول في جهاد كما جزم به الحسن البصري وسعيد بن جبير والزجاج والفراء وغير واحد وقصدنا في هذا الكتاب البيان بالقرءان لا بأقوال العلماء ولذا لم ننقل أقوال من رجح ما ذكرنا.
وما رجح به بعض العلماء كون نائب الفاعل ضمير النبي من أن سبب النزول يدل على ذلك؛ لأن سبب نزولها أن الصائح صاح قتل محمد صلى الله عليه وسلم وأن قوله: * (أفإن مات أو قتل) *
213

يدل على ذلك وأن قوله: * (فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله) * يدل على أن الربيين لم يقتلوا؛ لأنهم لو قتلوا لما قال عنهم: * (فما وهنوا لما أصابهم) * فهو كلام كله ساقط وترجيحات لا معول عليها فالترجيح بسبب النزول فيه أن سبب النزول لو كان يقتضي تعيين ذكر قتل النبي لكانت قراءة الجمهور قاتل بصيغة الماضي من المفاعلة جارية على خلاف المتعين وهو ظاهر السقوط كما ترى والترجيح بقوله: * (أفإن مات أو قتل) * ظاهر السقوط؛ لأنهما معلقان بأداة الشرط والمعلق بها لا بدل على وقوع نسبة أصلا لا إيجابا لا سلبا حتى يرجح بها غيرها.
وإذا نظرنا إلى الواقع في نفس الأمر وجدنا نبيهم صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت لم يقتل ولم يمت والترجيح بقوله: * (فما وهنوا) * سقوطه كالشمس في رابعة النهار وأعظم دليل قطعي على سقوطه قراءة حمزة والكسائي: * (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم) * كل الأفعال من القتل لا من القتال وهذه القراءة السبعية المتواترة فيها. فإن قتلوكم بلا ألف بعد القاف فعل ماض من القتل فاقتلوهم أفتقولون هذا لا يصح؛ لأن المقتول لا يمكن أن يؤمر بقتل قاتله. بل المعنى قتلوا بعضكم وهو معنى مشهور في اللغة العربية يقولون: قتلونا وقتلناهم يعنون وقوع القتل على البعض كما لا يخفى. وقد أشرنا إلى هذا البيان في كتابنا دفع
إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب والعلم عند الله تعالى. * (قوله تعالى يا أيها الذين ءامنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ذكر في هذه الآية الكريمة أن المنافقين إذا مات بعض إخوانهم يقولون لو أطاعونا فلم يخرجوا إلى الغزو ما قتلوا ولم يبين هنا هل يقولون لهم ذلك قبل السفر إلى الغزو ليثبطوهم أو لا؟ ونظير هذه الآية: قوله تعالى: * (الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا) * ولكنه بين في آيات أخر أنهم يقولون لهم ذلك قبل الغزو ليثبطوهم كقوله: * (وقالوا لا تنفروا في الحر) * وقوله: * (قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا) * وقوله: * (وإن منكم لمن ليبطئن) * إلى غير ذلك من الآيات. * (ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ذكر في هذه الآية الكريمة أن المقتول في الجهاد والميت كلاهما ينال
214

مغفرة من الله ورحمة خيرا له مما يجمعه من حطام الدنيا وأوضح وجه ذلك في آية أخرى بين فيها أن الله اشترى منه حياة قصيرة فانية منغصة بالمصائب والآلام بحياة أبدية لذيذة لا تنقطع ولا يتأذى صاحبها بشئ واشترى منه مالا قليلا فانيا بملك لا ينفذ ولا ينقضي أبدا وهي قوله: * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرءان ومن أوفى بعهده من الله فاستشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) * وقال تعالى: * (وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا) * وبين في آية أخرى أن فضل الله ورحمته خير مما يجمعه أهل الدنيا من حطامها وزاد فيها الأمر بالفرح بفضل الله ورحمته دون حطام الدنيا وهي قوله تعالى: * (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) * وتقديم المعمول يؤذن بالحصر أعني قوله: * (فبذلك فليفرحوا) * أي: دون غيره فلا يفرحوا بحطام الدنيا الذي يجمعونه.
وقال تعالى: * (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير) *. * (مما يجمعون قوله تعالى فاعف عنهم واستغفر الآية قد قدمنا في سورة الفاتحة في الكلام على قوله تعالى: * (صراط الذين أنعمت عليهم) * أن الجموع المذكرة ونحوها مما يختص بجماعة العقلاء من الذكور إذا وردت في كتاب الله تعالى أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم اختلف العلماء فيها هل يدخل النساء أو لا يدخلن؟ إلا بدليل على دخولهن وبذلك تعلم أن قوله تعالى: * (واستغفر لهم) * يحتمل دخول النساء فيه وعدم دخولهن بناء على الاختلاف المذكور ولكنه تعالى بين في موضع آخر أنهن داخلات في جملة من أمر صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لهم وهو قوله تعالى: * (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) *. * (أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله الآية ذكر في هذه الآية أن من اتبع رضوان الله ليس كمن باء بسخط منه؛ لأن همزة الإنكار بمعنى النفي ولم يذكر هنا صفة من اتبع رضوان الله ولكن أشار إلى بعضها في موضع آخر وهو قوله: * (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله
215

ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم) *.
وأشار إلى بعض صفات من باء بسخط من الله بقوله: * (ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفى العذاب هم خالدون) * وبقوله هنا: * (ومن يغلل يأت بما غل الآية قوله تعالى) *. * (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هاذا قل هو من عند أنفسكم ذكر في هذه الآية الكريمة أن ما أصاب المسلمين يوم أحد إنما جاءهم من قبل أنفسهم ولم يبين تفصيل ذلك هنا ولكنه فصله في موضع آخر وهو قوله: * (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الامر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم لبيتيكم) * وهذا هو الظاهر في معنى الآية؛ لأن خير ما يبين به القرءان القرءان.
وأما على القول الآخر فلا بيان بالآية وهو أن معنى: * (قل هو من عند أنفسكم) * أنهم خيروا يوم بدر بين قتل أسارى بدر وبين أسرهم وأخذ الفداء على أن يستشهدوا منهم في العم القابل قدر الأسارى فاختاره الفداء على أن يستشهد منهم في العام القابل قدر الأسارى فاختاروا الفداء على أن يستشهد منهم في العام القابل سبعون قدر أسارى بدر كما رواه الإمام أحمد وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب وعقده أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي بقوله: الرجز:
* والمسلمون خيروا بين الفدا
* وقدرهم في قابل يستشهدا
*
* وبين قتلهم فمالوا للفدا
* لأنه على القتال عضدا
*
* وأنه أدى إلى الشهادة
* وهي قصارى الفوز والسعادة
*
ونظمه هذا للمغازي جل اعتماده فيه على عيون الأثر لابن سيد الناس اليعمري قال في مقدمته: الرجز:
* أرجوزة على عيون الأثر
* جل اعتماد نظمها في السير
*
وذكر شارحة أن الألف في قوله يستشهدا مبدلة من نون التوكيد الخفيفة وأنها في البيت كقوله: المديد:
* ربما أوفيت في علم
* ترفعن ثوبي شمالات
*
216

وعلى هذا القول: فالمعنى قل هو من عند أنفسكم حيث اخترتم الفداء واستشهاد قدر الأسارى منكم. * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا الآية نهى الله تبارك وتعالى في هذه الآية عن ظن الموت بالشهداء وصرح بأنهم * (أحياء عند ربهم يرزقون) * وأنهم فرحون * (بما آتاهم الله من فضله) * * (يستبشرون * بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *. ولم يبين هنا هل حياتهم هذه في البرزخ يدرك أهل الدنيا حقيقتها أو لا؟ ولكنه بين في سورة البقرة أنهم لا يدركونها بقوله: * (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون) *؛ لأن نفي الشعور يدل على نفي الإدراك من باب أولى كما هو ظاهر. * (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم الآية قال جماعة من العلماء: المراد بالناس القائلين: * (إن الناس قد جمعوا لكم) * نعيم بن مسعود الأشجعي أو أعرابي من خزاعة. كما أخرجه ابن مردويه من حديث أبي رافع ويدل لهذا توحيد المشار إليه في قوله تعالى: * (إنما ذلكم الشيطان) *.
قال صاحب الإتقان) قال الفارسي: ومما يقوي أن المراد به واحد قوله: * (إنما ذلكم الشيطان) * فوقعت الإشارة بقوله: ذلكم إلى واحد بعينه ولو كان المعنى جمعا لقال: إنما أولئكم الشيطان. فهذه دلالة ظاهرة في اللفظ. اه منه بلفظه. * (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملى لهم خير لأنفسهم إنما نملى لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ذكر في هذه الآية الكريمة أنه يملي للكافرين ويمهلهم لزيادة الإثم عليهم وشدة العذاب. وبين في موضع آخر أنه لا يمهلهم متنعمين هذا الإمهال إلا بعد أن يبتليهم بالبأساء والضراء فإذا لم يتضرعوا أفاض عليهم النعم وأمهلهم حتى يأخذهم بغتة كقوله: * (وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون * ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون) * وقوله: * (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون * فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا) * إلى قوله * (أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) *.
217

وبين في موضع آخر: أن ذلك الاستدراج من كيده المتين وهو قوله: * (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملى لهم إن كيدي متين) *.
وبين في موضع آخر: أن الكفار يغترون بذلك الاستدراج فيظنون أنه من المسارعة لهم في الخيرات وأنهم يوم القيامة يؤتون خيرا من ذلك الذي أوتوه في الدنيا كقوله تعالى: * (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون) * وقوله: * (أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا) * وقوله: * (ولئن رددت إلى ربى لأجدن خيرا منها منقلبا) * وقوله: * (ولئن رجعت إلى ربى إن لي عنده للحسنى) * وقوله: * (وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا) *. كما تقدم والبأساء: الفقر والفاقة والضراء: المرض على قول الجمهور وهما مصدران مؤنثان لفظا بألف التأنيث الممدودة. * (لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ذكر في هذه الآية الكريمة أن المؤمنين سيبتلون في أموالهم وأنفسهم وسيسمعون الأذى الكثير من أهل الكتاب والمشركين وأنهم إن صبروا على ذلك البلاء والأذى واتقوا الله فإن صبرهم وتقاهم * (من عزم الأمور) * أي: من الأمور التي ينبغي العزم والتصميم عليها لوجوبها.
وقد بين في موضع آخر أن من جملة هذا البلاء: الخوف والجوع وأن البلاء في الأنفس والأموال هو النقص فيها وأوضح فيه نتيجة الصبر المشار إليها هنا بقوله: * (فإن ذلك من عزم الأمور) * وذلك الموضع هو قوله تعالى: * (ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) * وبقوله: * (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه) * ويدخل في قوله: * (ومن يؤمن بالله) * الصبر عند الصدمة الأولى بل فسره بخصوص ذلك بعض العلماء ويدل على دخوله فيه قوله قبله: * (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله) *.
218

وبين في موضع آخر أن خصلة الصبر لا يعطاها إلا صاحب حظ عظيم وبخت كبير وهو قوله: * (وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) * وبين في موضع آخر أن جزاء الصبر لا حساب له وهو قوله: * (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) *. * (قوله تعالى ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنآ ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ذكر في هذه الآية أن من جملة ما يقوله أولوا الألباب تنزيه ربهم عن كونه خلق السماوات والأرض باطلا لا لحكمة سبحانه تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
وصرح في موضع آخر بأن الذين يظنون ذلك هم الكفار وهددهم على ذلك الظن السئ بالويل من النار وهو قوله: * (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) *. * (قوله تعالى وما عند الله خير للأبرار لم يبين هنا ما عنده للأبرار ولكنه بين في موضع آخر أنه النعيم وهو قوله: * (إن الأبرار لفى نعيم) * وبين في موضع آخر أن من جملة ذلك النعيم الشرب من كأس ممزوجة بالكافور وهو قوله: * (إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا) *.
219

((سورة النساء))
* (قوله تعالى * وآتوا اليتامى أموالهم الآية أمر الله تعالى في هذه الآية الكريمة بإيتاء اليتامى أموالهم ولم يشترط هنا في ذلك شرطا ولكنه بين هذا أن هذا الإيتاء المأمور به مشروط بشرطين:
الأول: بلوغ اليتامى.
والثاني: إيناس الرشد منهم وذلك في قوله تعالى: * (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) *.
وتسميتهم يتامى في الموضعين إنما هي باعتبار يتمهم الذي كانوا متصفين به قبل البلوغ إذ لا يتم بعد البلوغ إجماعا ونظيره قوله تعالى: * (وألقى السحرة ساجدين) * يعني الذين كانوا سحرة إذ لا سحر مع السجود لله.
وقال بعض العلماء: معنى إيتائهم أموالهم إجراء النفقة والكسوة زمن الولاية عليهم.
وقال أبو حنيفة: إذا بلغ خمسا وعشرين سنة أعطي ماله على كل حال؛ لأنه يصير جدا ولا يخفى عدم اتجاهه والله تعالى أعلم.
* (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا) * ذكر في هذه الآية الكريمة أن أكل أموال اليتامى حوب كبير أي: إثم عظيم ولم يبين مبلغ هذا الحوب من العظم ولكنه بينه في موضع آخر وهو قوله: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) *. * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء الآية لا يخفى ما يسبق إلى الذهن في هذه الآية الكريمة من عدم ظهور وجه الربط بين هذا الشرط وهذا الجزاء وعليه ففي الآية نوع إجمال والمعنى كما قالت أم المؤمنين
220

عائشة رضي الله عنها: أنه كان الرجل تكون عنده اليتيمة في حجره فإن كانت جميلة تزوجها من غير أن يقسط في صداقها وإن كانت دميمة رغب عن نكاحها وعضلها أن تنكح غيره؛ لئلا يشاركه في مالها فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا إليهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن أي: كما أنه يرغب عن نكاحها إن كانت قليلة المال والجمال فلا يحل له أن يتزوجها إن كانت ذات مال وجمال إلا بالإقساط إليها والقيام بحقوقها كاملة غير منقوصة وهذا المعنى الذي ذهبت إليه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها يبينه ويشهد له قوله تعالى: * (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن) * وقالت رضي الله عنها: إن المراد بما يتلى عليكم في الكتاب هو قوله تعالى: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) * فتبين أنها يتامى النساء بدليل تصريحه بذلك في قوله: * (في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن) * فظهر من هذا أن المعنى وإن خفتم ألا تقسطوا في زواج اليتيمات فدعوهن وانكحوا ما طاب لكم من النساء سواهن وجواب الشرط دليل واضح على ذلك؛ لأن الربط بين الشرط والجزاء يقتضيه وهذا هو أظهر الأقوال؛ لدلالة القرءان عليه وعليه فاليتامى جمع يتيمة على القلب كما قيل أيامى والأصل أيائم ويتائم لما عرف أن جمع الفعلية فعائل وهذا القلب يطرد في معتل اللام كقضية ومطية ونحو ذلك ويقصر على السماع فيما سوى ذلك.
قال ابن خويز منداد: يؤخذ من هذه الآية جواز اشتراء الوصي وبيعه من مال اليتيم لنفسه بغير محاباة وللسلطان النظر فيما وقع من ذلك وأخذ بعض العلماء من هذه الآية أن الولي إذا أراد نكاح من هو وليها جاز أن يكون هو الناكح والمنكح وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة والأوزاعي والثوري وأبو ثور وقاله من التابعين: الحسن وربيعة وهو قول الليث.
وقال زفر والشافعي: لا يجوز له أن يتزوجها إلا بإذن السلطان أو يزوجها ولي آخر أقرب منه أو مساو له.
وقال أحمد في إحدى الروايتين: يوكل رجلا غيره فيزوجها منه وروي هذا عن المغيرة بن شعبة كما نقله القرطبي وغيره.
وأخذ مالك بن أنس من تفسير عائشة لهذه الآية كما ذكرنا الرد إلى صداق المثل
221

فيما فسد من الصداق أو وقع الغبن في مقداره؛ لأن عائشة رضي الله عنها قالت: ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق فدل على أن للصداق سنة معروفة لكل صنف من الناس على قدر أحوالهم وقد قال مالك: للناس مناكح عرفت لهم وعرفوا لها يعني مهورا وأكفاء.
ويؤخذ أيضا من هذه الآية جواز تزويج اليتيمة إذا أعطيت حقوقها وافية وما قاله كثير من العلماء من أن اليتيمة لا تزوج حتى تبلغ محتجين بأن قوله تعالى: * (ويستفتونك في النساء) * اسم ينطلق على الكبار دون الصغار فهو ظاهر السقوط؛ لأن الله صرح بأنهن يتامى بقوله: * (في يتامى النساء) * وهذا الاسم أيضا قد يطلق على الصغار كما في قوله تعالى: * (يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم) * وهن إذ ذاك رضيعات فالظاهر المتبادر من الآية جواز نكاح اليتيمة مع الإقساط في الصداق وغيره من الحقوق.
ودلت السنة على أنها لا تجبر فلا تزوج إلا برضاها وإن خالف في تزويجها خلق كثير من العلماء.
تنبيه
: قال القرطبي في تفسير هذه الآية ما نصه: واتفق كل من يعاني العلوم على أن قوله تعالى: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) * ليس له مفهوم إذ قد أجمع المسلمون على أن من لم يخف القسط في اليتامى له أن ينكح أكثر من واحدة اثنتين أو ثلاثا أو أربعا كمن خاف فدل على أن الآية نزلت جوابا لمن خاف ذلك وأن حكمها أعم من ذلك. ا ه منه بلفظه.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر في الآية على ما فسرتها به عائشة وارتضاه القرطبي وغير واحد من المحققين ودل عليه القرءان: أن لها مفهوما معتبر؛ لأن معناها: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتيمات فانكحوا ما طاب لكم من سواهن ومفهومه أنهم إن لم يخافوا عدم القسط لم يؤمروا بمجاوزتهن إلى غيرهن بل يجوز لهم حينئذ الاقتصار عليهن وهو واضح كما ترى إلا أنه تعالى لما أمر بمجاوزتهن إلى غيرهن عند خوفهم أن لا يقسطوا فيهن أشار إلى القدر الجائز من تعدد الزوجات ولا إشكال في
222

ذلك والله أعلم.
وقال بعض العلماء: معنى الآية * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) * أي: إن خشيتم ذلك فتحرجتم من ظلم اليتامى فاخشوا أيضا وتحرجوا من ظلم النساء بعدم العدل بينهن وعدم القيام بحقوقهن فقللوا عدد المنكوحات ولا تزيدوا على أربع وإن خفتم عدم إمكان ذلك مع التعدد فاقتصروا على الواحدة؛ لأن المرأة شبيهة باليتيم لضعف كل واحد منهما وعدم قدرته على المدافعة عن حقه فكما خشيتم من ظلمه فاخشوا من ظلمها.
وقال بعض العلماء: كانوا يتحرجون من ولاية اليتيم ولا يتحرجون من الزنى فقيل لهم في الآية: إن خفتم الذنب في مال اليتيم فخافوا ذنب الزنى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ولا تقربوا الزنا. وهذا أبعد الأقوال فيما يظهر والله تعالى أعلم.
ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أيضا: أن من كان في حجره يتيمة لا يجوز له نكاحها إلا بتوفيته حقوقها كاملة وأنه يجوز نكاح أربع ويحرم الزيادة عليها كما دل على ذلك أيضا إجماع المسلمين قبل ظهور المخالف الضال وقوله صلى الله عليه وسلم لغيلان بن سلمة: اختر منهن أربعا وفارق سائرهن. وكذا قال للحارث بن قيس الأسدي وأنه مع خشية عدم العدل لا يجوز نكاح غير واحدة والخوف في الآية قال بعض العلماء: معناه الخشية وقال بعض العلماء: معناه العلم أي: * (وأن) * علمتم * (ألا تقسطوا) * ومن إطلاق الخوف بمعنى العلم. قول أبي محجن الثقفي: الطويل:
* إذا مت فادفني إلى جنب كرمة
* تروي عظامي في الممات عروقها
*
* ولا تدفنني بالفلاة فإنني
* أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
*
فقوله أخاف: يعني أعلم.
تنبيه
عبر تعالى عن النساء في هذه الآية بما التي هي لغير العاقل في قوله: * (فانكحوا ما طاب لكم) * ولم يقل من طاب؛ لأنها هنا أريد بها الصفات لا الذوات. أي: ما طاب لكم من بكر أو ثيب أو ما طاب لكم لكونه حلالا وإذا كان المراد الوصف عبر عن العاقل بما كقولك ما زيد في الاستفهام تعنى أفاضل؟
223

.
وقال بعض العلماء: عبر عنهن ب * (ما) * إشارة إلى نقصانهن وشبههن بما لا يعقل حيث يؤخذ بالعوض والله تعالى أعلم. * (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنسآء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا لم يبين هنا قدر هذا النصيب الذي هو للرجال والنساء مما ترك الوالدان والأقربون ولكنه بينه في آيات المواريث كقوله: * (يوصيكم الله في أولادكم) * الآيتين قوله في خاتمة هذه السورة الكريمة: * (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة الآية قوله تعالى) *. * (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين لم يبين هنا حكمة تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث مع أنهما سواء في القرابة. ولكنه أشار إلى ذلك في موضع آخر وهو قوله تعالى: * (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) *؛ لأن القائم على غيره المنفق ماله عليه مترقب للنقص دائما والمقوم عليه المنفق عليه المال مترقب للزيادة دائما والحكمة في إيثار مترقب النقص على مترقب الزيادة جبرا لنقصة المترقبة ظاهرة جدا وقوله تعالى.
* (فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف) * صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بأن البنات إن كن ثلاثا فصاعدا فلهن الثلثان وقوله: * (فوق اثنتين) * يوهم أن الاثنتين ليستا كذلك وصرح بأن الواحدة لها النصف ويفهم منه أن الاثنتين ليستا كذلك أيضا وعليه ففي دلالة الآية على قدر ميراث البنتين إجمال.
وقد أشار تعالى في موضعين إلى أن هذا الظرف لا مفهوم مخالفة له وأن للبنتين الثلثين أيضا.
الأول قوله تعالى: * (للذكر مثل حظ الأنثيين) * إذ الذكر يرث مع الواحدة الثلثين بلا نزاع فلا بد أن يكون للبنتين الثلثان في صورة وإلا لم يكن للذكر مثل حظ الأنثيين؛ لأن الثلثين ليسا بحظ لهما أصلا لكن تلك الصورة ليست صورة الاجتماع إذ ما من صورة يجتمع فيها الابنتان مع الذكر ويكون لهما الثلثان فتعين أن تكون صورة انفرادهما عن الذكر. واعتراض بعضهم هذا الاستدلال بلزوم الدور قائلا: إن معرفة أن للذكر الثلثين في الصورة المذكورة تتوقف على معرفة حظ الأنثيين؛ لأنه ما علم
من
224

الآية إلا أن للذكر مثل حظ الأنثيين فلو كانت معرفة حظ الأنثيين مستخرجة من حظ الذكر لزم الدور ساقط؛ لأن المستخرج هو الحظ المعين للأنثيين وهو الثلثان والذي يتوقف عليه معرفة حظ الذكر هو معرفة حظ الأنثيين مطلقا فلا دور لانفكاك الجهة واعترضه بعضهم أيضا بأن للابن مع البنتين النصف فيدل على أن فرضهما النصف ويؤيد الأول أن البنتين لما استحقتا مع الذكر النصف علم أنهما إن انفردتا عنه استحقتا أكثر من ذلك؛ لأن الواحدة إذا انفردت أخذت النصف بعدما كانت معه تأخذ الثلث ويزيده إيضاحا أن البنت تأخذ مع الابن الذكر الثلث بلا نزاع فلأن تأخذه مع الابنة الأنثى أولى.
فبهذا يظهر أنه جل وعلا أشار إلى ميراث البنتين بقوله: * (للذكر مثل حظ الأنثيين) * كما بينا ثم ذكر حكم الجماعة من البنات وحكم الواحدة منهن بقوله: * (فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف) * ومما يزيده إيضاحا أنه تعالى فرعه عليه بالفاء في قوله: * (فإن كن) * إذ لو لم يكن فيما قبله ما يدل على سهم الإناث لم تقع الفاء موقعها كما هو ظاهر.
الموضع الثاني: هو قوله تعالى في الأختين: * (فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك) *؛ لأن البنت أمس رحما وأقوى سببا في الميراث من الأخت بلا نزاع.
فإذا صرح تعالى: بأن للأختين الثلثين علم أن البنتين كذلك من باب أولى وأكثر العلماء على أن فحوى الخطاب أعني: مفهوم الموافقة الذي المسكوت فيه أولى بالحكم من المنطوق من قبيل دلالة اللفظ لا من قبيل القياس خلافا للشافعي وقوم كما علم في الأصول فالله تبارك وتعالى لما بين أن للأختين الثلثين أفهم بذلك أن البنتين كذلك من باب أولى.
وكذلك لما صرح أن لما زاد على الاثنتين من البنات الثلثين فقط ولم يذكر حكم ما زاد على الاثنتين من الأخوات أفهم أيضا من باب أولى أنه ليس لما زاد من الأخوات غير الثلثين؛ لأنه لما لم يعط للبنات علم أنه لا تستحقه الأخوات فالمسكوت عنه في الأمرين أولى بالحكم من المنطوق به وهو دليل على أنه قصد أخذه منه ويزيد ما ذكرنا إيضاحا ما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة عن جابر رضي الله
225

عنه قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد قتل أبوهما يوم أحد وإن عمهما أخذ مالهما ولم يدع لهما مالا ولا ينكحان إلا ولهما مال فقال صلى الله عليه وسلم: يقضي الله تعالى في ذلك فنزلت آية الميراث فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال: اعط ابنتي سعد الثلثين واعط أمهما الثمن وما بقي فهو لك.
وما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما من أنه قال: للبنتين النصف؛ لأن الله تعالى قال: * (فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك) * فصرح بأن الثلثين إنما هما لما فوق الاثنتين فيه أمور.
الأول: أنه مردود بمثله؛ لأن الله قال أيضا: * (وإن كانت واحدة فلها النصف) * فصرح بأن النصف للواحدة جاعلا كونها واحدة شرطا معلقا عليه فرض النصف.
وقد تقرر في الأصول أن المفاهيم إذا تعارضت قدم الأقوى منها ومعلوم أن مفهوم الشرط أقوى من مفهوم الظرف؛ لأن مفهوم الشرط لم يقدم عليه من المفاهيم إلا ما قال فيه بعض العلماء: إنه منطوق لا مفهوم وهو النفي والإثبات وإنما من صيغ الحصر والغاية وغير هذا يقدم عليه مفهوم الشرط قال في مراقي السعود مبينا مراتب مفهوم المخالفة: الرجز:
* أعلاه لا يرشد إلا العلما
* فما لمنطوق بضعف انتمى
*
* فالشرط فالوصف الذي يناسب
* فمطلق الوصف الذي يقارب
*
* فعدد ثمت تقديم يلي
* وهو حجة على النهج الجلي
*
وقال صاحب جمع الجوامع ما نصه: مسألة الغاية قيل: منطوق والحق مفهوم يتلوه الشرط فالصفة المناسبة فمطلق الصفة غير العدد فالعدد فتقديم المعمول إلخ.
وبهذا تعلم أن مفهوم الشرط في قوله: * (وإن كانت واحدة فلها النصف) * أقوى من مفهوم الظرف في قوله: * (فإن كن نساء فوق اثنتين) *.
الثاني: دلالة الآيات المتقدمة على أن للبنتين الثلثين.
الثالث: تصريح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في حديث جابر المذكور آنفا.
226

الرابع: أنه روي عن ابن عباس الرجوع عن ذلك.
قال الألوسي في تفسيره ما نصه: وفي شرح الينبوع نقلا عن الشريف شمس الدين الأرموني أنه قال في شرح فرائض الوسيط: صح رجوع ابن عباس رضي الله عنهما
عن ذلك فصار إجماعا. ا ه منه بلفظه. تنبيهان
الأول: ما ذكره بعض العلماء وجزم به الألوسي في تفسيره من أن المفهوم في قوله: * (وإن كانت واحدة فلها النصف) * مفهوم عدد غلط. والتحقيق هو ما ذكرنا من أنه مفهوم شرط وهو أقوى من مفهوم العدد بدرجات كما رأيت فيما تقدم.
قال في نشر البنود على مراقي السعود في شرح قوله:
* وهو ظرف علة وعدد
* ومنه شرط غاية تعتمد
*
ما نصه: والمراد بمفهوم الشرط ما فهم من تعليق حكم على شئ بأداة شرط كإن وإذا وقال في شرح هذا البيت أيضا قبل هذا ما نصه: ومنها الشرط نحو: * (وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن) * مفهوم انتفاء المشروط عند انتفاء الشرط أي: فغير أولات حمل لا يجب الإنفاق عليهن ونحو من تطهر صحت صلاته. اه منه بلفظه.
فكذلك قوله: * (وإن كانت واحدة فلها النصف) * علق فيه فرض النصف على شرط هو كون البنت واحدة ومفهومه أنه إن انتفى الشرط الذي هو كونها واحدة انتفى المشروط الذي هو فرض النصف كما هو ظاهر فإن قيل: كذلك المفهوم في قوله: * (فإن كن نساء فوق اثنتين) *؛ لتعليقه بالشرط فالجواب من وجهين:
الأول: أن حقيقة الشرط كونهن نساء. وقوله فوق اثنتين وصف زائد وكونها واحدة هو نفس الشرط لا وصف زائد وقد عرفت تقديم مفهوم الشرط على مفهوم الصفة ظرفا كانت أو غيره.
الثاني: أنا لو سلمنا جدليا أنه مفهوم شرط لتساقط المفهومان لاستوائهما ويطلب الدليل من خارج وقد ذكرنا الأدلة على كون البنتين ترثان الثلثين كما تقدم.
الثاني: إن قيل: فما الفائدة في لفظة * (فوق اثنتين) * إذا كانت الاثنتان كذلك؟
227

فالجواب من وجهين:
الأول: هو ما ذكرنا من أن حكم الاثنتين أخذ من قوله قبله: * (للذكر مثل حظ الأنثيين) * كما تقدم وإذن قوله: * (فوق اثنتين) * تنصيص على حكم الثلاث فصاعدا كما تقدم.
الثاني: أن لفظة فوق ذكرت لإفادة أن البنات لا يزدن على الثلثين ولو بلغ عددهن ما بلغ.
وأما ادعاء أن لفظة فوق زائدة وادعاء أن فوق اثنتين معناه اثنتان فما فوقهما فكله ظاهر السقوط كما ترى والقرءان ينزه عن مثله وإن قال به جماعة من أهل العلم. * (قوله تعالى وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركآء في الثلث المراد في هذه الآية بالإخوة الذين يأخذ المنفرد منهم السدس وعند التعدد يشتركون في الثلث ذكرهم وأنثاهم سواء أخوة الأم بدليل بيانه تعالى أن الإخوة من الأب أشقاء أو لا يرث الواحد منهم كل المال وعند اجتماعهم يرثون المال كله للذكر مثل حظ الأنثيين.
وقال في المنفرد منهم وهو يرثها إن لم يكن لها ولد وقال في جماعتهم: وإن كانوا إخوة رجالا ونساء * (فللذكر مثل حظ الأنثيين) *. وقد أجمع العلماء على أن هؤلاء الإخوة من الأب كانوا أشقاء أو الأب. كما أجمعوا أن قوله: * (وإن كان رجل يورث كلالة) * أنها في إخوة الأم وقرأ سعد بن أبي وقاص وله أخ أو أخت من أم. والتحقيق أن المراد بالكلالة عدم الأصول والفروع كما قال الناظم: الرجز:
* ويسألونك عن الكلالة
* هي انقطاع النسل لا محالة
*
* لا والد يبقى ولا مولود
* فانقطع الأبناء والجدود
*
وهذا قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأكثر الصحابة وهو الحق إن شاء الله تعالى. واعلم أن الكلالة تطلق على القرابة من غير جهة الولد والوالد وعلى الميت الذي لم يخلف والدا ولا ولدا وعلى الوارث الذي ليس بوالد ولا ولد وعلى المال الموروث عمن ليس بوالد ولا ولد؛ إلا أنه استعمال غير شائع واختلف في اشتقاق الكلالة.
واختار كثير من العلماء أن أصلها من تكلله إذا أحاط به ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس والكل لإحاطته
228

بالعدد؛ لأن الورثة فيها محيطة بالميت من جوانبه لا من أصله ولا فرعه. وقال بعض العلماء: أصلها من الكلال بمعنى الإعياء؛ لأن الكلالة أضعف من قرابة الآباء والأبناء.
وقال بعض العلماء: أصلها من الكل بمعنى الظهر وعليه فهي ما تركه الميت وراء ظهره واختلف في إعراب قوله كلالة. فقال بعض العلماء: هي حال من نائب فاعل يورث على حذف مضاف أي: يورث في حال كونه ذا كلالة أي قرابة غير الآباء والأبناء واختاره الزجاج وهو الأظهر وقيل: هي مفعول له أي: يورث لأجل الكلالة
أي القرابة وقيل: هي خبر كان ويورث صفة لرجل أي: كان رجل موروث ذا كلالة ليس بوالد ولا ولد وقيل غير ذلك والله تعالى أعلم. * (قوله تعالى فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا لم يبين هنا هل جعل لهن سبيلا أو لا؟ ولكنه بين في مواضع أخر أنه جعل لهن السبيل بالحد كقوله في البكر: * (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما) * وقوله في الثيب: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم)؛ لأن هذه الآية باقية الحكم كما صح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه وإن كانت منسوخة التلاوة.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن حكم الرجم مأخوذ أيضا من آية أخرى محكمة غير منسوخة التلاوة وهي قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون) * فإنها نزلت في اليهودي واليهودية اللذين زنيا وهما محصنان ورجمهما النبي صلى الله عليه وسلم فذمه تعالى في هذا الكتاب للمعرض عما في التوراة من رجم الزاني المحصن دليل قرءاني واضح على بقاء حكم الرجم ويوضح ما ذكرنا من أنه تعالى جعل لهن السبيل بالحد قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الحديث. * (ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم من النساء الآية نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة عن نكاح المرأة التي نكحها الأب ولم يبين ما المراد بنكاح الأب
229

هل هو العقد أو الوطء ولكنه بين في موضع آخر أن اسم النكاح يطلق على العقد وحده وإن لم يحصل مسيس وذلك في قوله تعالى: * (يا أيها الذين ءامنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) * فصرح بأنه نكاح وأنه لا مسيس فيه.
وقد أجمع العلماء على أن من عقد عليها الأب حرمت على ابنه وإن لم يمسها الأب وكذلك عقد الابن محرم على الأب إجماعا وإن لم يمسها وقد أطلق تعالى النكاح في آية أخرى مريدا به الجماع بعد العقد وذلك في قوله: * (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) *؛ لأن المراد بالنكاح هنا ليس مجرد العقد بل لا بد معه من الوطء كما قال صلى الله عليه وسلم لامرأة رفاعة القرظي: لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك يعني الجماع ولا عبرة بما يروى من المخالفة عن سعيد بن المسيب؛ لوضوح النص الصريح الصحيح في عين المسألة.
ومن هنا قال بعض العلماء لفظ النكاح مشترك بين العقد والجماع وقال بعضهم هو حقيقة في الجماع مجاز في العقد؛ لأنه سببه وقال بعضهم بالعكس.
تنبيه
قال بعض العلماء: إن لفظة * (ما) * من قوله: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم) * مصدرية وعليه فقوله من النساء متعلق بقوله: * (تنكحوا) * لا بقوله نكح وتقرير المعنى على هذا القول ولا تنكحوا من النساء نكاح آبائكم أي: لا تفعلوا ما كان يفعله آباؤكم من النكاح الفاسد وهذا القول هو اختيار ابن جرير والذي يظهر وجزم به غير واحد من المحققين أن * (ما) * موصولة واقعة على النساء التي نكحها الآباء كقوله تعالى: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * وقد قدمنا وجه ذلك؛ لأنهم كانوا ينكحون نساء آبائهم كما يدل له سبب النزول فقد نقل ابن كثير عن أبي حاتم أن سبب نزولها أنه لما توفي أبو قيس بن الأسلت خطب ابنه امرأته فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال: ارجعي إلى بيتك فنزلت: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم الآية) *.
قال مقيده عفا الله عنه: نكاح زوجات الآباء كان معروفا عند العرب وممن فعل ذلك أبو قيس بن الأسلت المذكور فقد تزوج أم عبيد الله وكانت تحت الأسلت إبيه
230

وتزوج الأسود بن خلف ابنة أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار وكانت تحت أبيه خلف وتزوج صفوان بن أمية فاختة ابنة الأسود بن المطلب بن أسد وكانت تحت أبيه أمية كما نقله ابن جرير عن عكرمة قائلا إنه سبب نزول الآية وتزوج عمرو بن أمية زوجة أبيه بعده فولدت له مسافرا وأبا معيط وكان لها من أمية أبو العيص وغيره فكانوا إخوة مسافر وأبي معيط وأعمامهما وتزوج منظور بن زبان بن سيار الفزاري زوجة أبيه مليكة بنت خارجة كما نقله القرطبي وغيره ومليكة هذه هي التي قال فيها منظور المذكور بعد أن فسخ نكاحها منه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الطويل:
* ألا لا أبالي اليوم ما فعل الدهر
* إذا منعت مني مليكة والخمر
*
* فإن تك قد أمست بعيدا مزارها
* فحي ابنة المري ما طلع الفجر
*
وأشار إلى تزويج منظور هذا زوجة أبيه ناظم عمود النسب بقوله في ذكر مشاهير فزارة: الرجز:
* منظور الناكح مقتا وحلف
* خمسين ما له على منع وقف
*
وقوله: وحلف إلخ.
قال شارحه: إن معناه أن عمر بن الخطاب حلفه خمسين يمينا بعد العصر في المسجد أنه لم يبلغه نسخ ما كان عليه أهل الجاهلية من نكاح أزواج الآباء وذكر السهيلي
وغيره أن كنانة بن خزيمة تزوج زوجة أبيه خزيمة فولدت له النضر بن كنانة قال: وقد قال صلى الله عليه وسلم: ولدت من نكاح لا من سفاح فدل على أن ذلك كان سائغا لهم.
قال ابن كثير وفيما نقله السهيلي من قصة كنانة نظر وأشار إلى تضعيف ما ذكره السهيلي ناظم عمود النسب بقوله: الرجز:
* وهند بنت مر أم حارثة
* شخيصة وأم عنز ثالثة
*
* برة أختها عليها خلفا
* كنانة خزيمة وضعفا
*
* أختهما عاتكة ونسلها
* عذرة التي الهوى يقتلها
*
وذكر شارحه أن الذي ضعف ذلك هو السهيلي نفسه خلافا لظاهر كلام ابن كثير ومعنى الأبيات أن هند بنت مر أخت تميم بن مر بن أدبن طابخة بن إلياس هي أم ثلاثة
231

من أولاد وائل بن قاسط وهم الحارث وشخيص وعنز وأن أختها برة بنت مر كانت زوجة خزيمة بن مدركة فتزوجها بعد ابنه كنانة وأن ذلك مضعف وأن أختهما عاتكة بنت مر هي أم عذرة أبي القبيلة المشهورة بأن الهوى يقتلها وقد كان من مختلقات العرب في الجاهلية إرث الأقارب أزواج أقاربهم كان الرجل منهم إذا مات وألقى ابنه أو أخوه مثلا ثوبا على زوجته ورثها وصار أحق بها من نفسها إن شاء نكحها بلا مهر وإن شاء أنكحها غيره وأخذ مهرها وإن شاء عضلها حتى تفتدي منه إلى أن نهاهم الله عن ذلك بقوله: * (يا أيها الذين ءامنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) * وأشار إلى هذا ناظم عمود النسب بقوله: الرجز:
* القول فيما اختلفوا واخترقوا
* ولم يقد إليه إلا النزق
*
ثم شرع يعدد مختلقاتهم إلى أن قال: الرجز:
* وأن من ألقى على زوج أبيه
* ونحوه بعد التوى ثوبا يريه
*
* أولى بها من نفسها إن شاء
* نكح أو أنكح أو أساء
*
* بالعضل كي يرثها أو تفتدى
* ومهرها في النكحتين للردى
*
وأظهر الأقوال في قوله تعالى: * (إلا ما قد سلف) * أن الاستثناء منقطع أي لكن ما مضى من ارتكاب هذا الفعل قبل التحريم فهو معفو عنه كما تقدم والعلم عند الله تعالى. * (قوله تعالى وحلائل أبنآئكم الذين من أصلابكم الآية ويفهم منه أن حليلة دعيه الذي تبناه لا تحرم عليه وهذا المفهوم صرح به تعالى في قوله: * (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا) * وقوله: * (وما جعل أدعيائكم أبنائكم ذلكم قولكم بأفواهكم) * وقوله: * (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) *.
أما تحريم منكوحة الابن من الرضاع فهو مأخوذ من دليل خارج وهو تصريحه صلى الله عليه وسلم بأنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب والعلم عند الله تعالى قوله تعالى. * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم اعلم أولا أن لفظ المحصنات أطلق في القرءان ثلاثة إطلاقات:
232

الأول: المحصنات العفائف ومنه قوله تعالى: * (محصنات غير مسافحات) * أي عفائف غير زانيات.
الثاني: المحصنات الحراير ومنه قوله تعالى: * (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) * أي على الإماء نصف ما على الحرائر من الجلد.
الثالث: أن يراد بالإحصان التزوج ومنه على التحقيق قوله تعالى: * (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة) * الآية أي: فإذا تزوجن. وقول من قال من العلماء: إن المراد
بالإحصان في قوله: * (فإذا أحصن) * الإسلام خلاف الظاهر من سياق الآية؛ لأن سياق الآية في الفتيات المؤمنات حيث قال: * (ومن لم يستطع منكم طولا) *.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية ما نصه: والأظهر والله أعلم أن المراد بالإحصان ها هنا التزويج؛ لأن سياق الآية يدل عليه حيث يقول سبحانه وتعالى: * (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) * والله أعلم. والآية الكريمة سياقها في الفتيات المؤمنات فتعين أن المراد بقوله: * (فإذا أحصن) * أي تزوجن كما فسره ابن عباس وغيره. اه محل الغرض منه بلفظه.
فإذا علمت ذلك فاعلم أن في قوله تعالى: * (والمحصنات من النساء) * أوجه من التفسير هي أقوال للعلماء والقرءان يفهم منه ترجيح واحد معين منها.
قال بعض العلماء: المراد بالمحصنات هنا أعم من العفائف والحرائر والمتزوجات أي حرمت عليكم جميع النساء إلا ما ملكت أيمانكم بعقد صحيح أو ملك شرعي بالرق فمعنى الآية على هذا القول تحريم النساء كلهن إلا بنكاح صحيح أو تسر شرعي وإلى هذا القول ذهب سعيد بن جبير وعطاء والسدي وحكي عن بعض الصحابة واختاره مالك في الموطأ.
وقال بعض العلماء: المراد بالمحصنات في الآية الحرائر وعليه فالمعنى وحرمت عليكم الحرائر غير الأربع وأحل لكم ما ملكت أيمانكم من الإماء وعليه فالاستثناء منقطع.
وقال بعض العلماء: المراد بالمحصنات: المتزوجات وعليه فمعنى الآية
233

وحرمت عليكم المتزوجات؛ لأن ذات الزوج لا تحل لغيره إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي من الكفار فإن السبي يرفع حكم الزوجية الأولى في الكفر وهذا القول هو الصحيح وهو الذي يدل على القرءان لصحته؛ لأن القول الأول فيه حمل ملك اليمين على ما يشمل ملك النكاح وملك اليمين لم يرد في القرءان إلا بمعنى الملك بالرق كقوله: * (فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) * وقوله: * (وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك) * وقوله: * (والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم) * وقوله: * (والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) * في الموضعين فجعل ملك اليمين قسما آخر غير الزوجية. وقوله: * (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم) * فهذه الآيات تدل على أن المراد بما ملكت أيمانكم الإماء دون المنكوحات كما هو ظاهر وكذلك الوجه الثاني غير ظاهر؛ لأن المعنى عليه: وحرمت عليكم الحرائر إلا ما ملكت أيمانكم وهذا خلاف الظاهر من معنى لفظ الآية كما ترى.
وصرح ابن القيم بأن هذا القول مردود لفظا ومعنى فظهر أن سياق الآية يدل على المعنى الذي اخترنا كما دلت عليه الآيات الأخر التي ذكرنا ويؤيده سبب النزول؛ لأن سبب نزولها كما أخرجه مسلم في صحيحه والإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وعبد الرزاق عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أصبنا سبيا من سبي أوطاس ولهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) * فاستحللنا فروجهن.
وروى الطبراني عن ابن عباس أنها نزلت في سبايا خيبر ونظير هذا التفسير الصحيح قول الفرزدق: وروى الطبراني عن ابن عباس أنها نزلت في سبايا خيبر ونظير هذا التفسير الصحيح قول الفرزدق:
* وذات حليل أنكحتها رماحنا
* حلال لمن يبني بها لم تطلق
*
تنبيه
فإن قيل: عموم قوله تعالى: * (إلا ما ملكت أيمانكم) * لا يختص بالمسبيات بل ظاهر هذا العموم أن كل أمة متزوجة إذا ملكها رجل آخر فهي تحل له بملك اليمين ويرتفع حكم الزوجية بذلك الملك والآية وإن نزلت في خصوص المسبيات كما ذكرنا
234

فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب فالجواب: أن جماعة من السلف قالوا بظاهر هذا العموم فحكموا بأن بيع الأمة مثلا يكون طلاقا لها من زوجها أخذا بعموم هذه الآية ويروى هذا القول عن ابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وجابر بن عبد الله وسعيد بن المسيب والحسن ومعمر كما نقله عنهم ابن كثير وغيره ولكن التحقيق في هذه المسألة هو ما ذكرنا من اختصاص هذا الحكم بالمسبيات دون غيرها من المملوكات بسبب آخر غير السبي كالبيع مثلا وليس من تخصيص العام بصورة سببه. وأوضح دليل في ذلك قصة بريرة المشهورة مع زوجها مغيث.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية بعد ذكره أقوال الجماعة التي ذكرنا في أن البيع طلاق ما نصه: وقد خالفهم الجمهور قديما وحديثا فرأوا أن بيع الأمة ليس طلاقا لها؛ لأن المشتري نائب عن البائع والبائع كان قد أخرج عن ملكه هذه المنفعة وباعها مسلوبة عنه واعتمدوا في ذلك على حديث بريرة المخرج في الصحيحين وغيرهما فإن عائشة أم المؤمنين اشترتها وأعتقتها ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث بل خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الفسخ والبقاء فاختارت الفسخ وقصتها مشهورة فلو كان بيع الأمة طلاقها كما قال هؤلاء ما خيرها النبي صلى الله عليه وسلم فلما خيرها دل على بقاء النكاح وأن المراد من الآية المسبيات فقط والله أعلم. اه منه لفظه.
فإن قيل: إن كان المشتري امرأة لم ينفسخ النكاح؛ لأنها لا تملك الاستمتاع ببضع الأمة بخلاف الرجل وملك اليمين أقوى من ملك النكاح كما قال بهذا جماعة ولا يرد على هذا القول حديث بريرة فالجواب هو ما حرره ابن القيم وهو أنها إن لم تملك الاستمتاع ببضع أمتها فهي تملك المعاوضة عليه وتزويجها وأخذ مهرها وذلك كملك
الرجل وإن لم تستمتع بالبضع فإذا حققت ذلك علمت أن التحقيق في معنى الآية وحرمت عليكم * (المحصنات) * أي المتزوجات * (إلا ما ملكت أيمانكم) * بالسبي من الكفار فلا منع في وطئهن بملك اليمين بعد الاستبراء لانهدام الزوجية الأولى بالسبي كما قررنا وكانت أم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها متزوجة برجل اسمه مسافع فسبيت في غزوة بني المصطلق وقصتها معروفة. قال ناظم قرة الأبصار في جويرية رضي الله عنها الرجز:
* وقد سباها في غزاة المصطلق
* من بعلها مسافع بالمنزلق
*
ومراده بالمنزلق السيف ثم إن العلماء اختلفوا في السبي هل يبطل حكم الزوجية
235

الأولى مطلقا ولو سبي الزوج معها وهو ظاهر الآية أو لا يبطله إلا إذا سبيت وحدها دونه؟ فإن سبي معها فحكم الزوجية باق وهو قول أبي حنيفة وبعض أصحاب أحمد والعلم عند الله تعالى قوله تعالى.
* (فما استمتعتم به منهن فأاتوهن أجورهن) * يعني: كما أنكم تستمتعون بالمنكوحات فاعطوهن مهورهن في مقابلة ذلك وهذا المعنى تدل له آيات من كتاب الله كقوله تعالى: * (وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض) * فإفضاء بعضهم إلى بعض المصرح بأنه سبب لاستحقاق الصداق كاملا هو بعينه الاستمتاع المذكور هنا في قوله: * (فما استمتعتم به منهن) * وقوله: * (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) * وقوله: * (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا) *. فالآية في عقد النكاح لا في نكاح المتعة كما قال به من لا يعلم معناها فإن قيل التعبير بلفظ الأجور يدل على أن المقصود الأجرة في نكاح المتعة؛ لأن الصداق لا يسمى أجرا فالجواب أن القرءان جاء في تسمية الصداق أجرا في موضع لا نزاع فيه؛ لأن الصداق لما كان في مقابلة الاستمتاع بالزوجة كما صرح به تعالى في قوله: * (وكيف تأخذونه) * صار له شبه قوي بأثمان المنافع فسمي أجرا وذلك الموضع هو قوله تعالى: * (فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن) * أي: مهورهن بلا نزاع ومثله قوله تعالى: * (والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن) *. أي: مهورهن فاتضح أن الآية في النكاح لا في نكاح المتعة فإن قيل: كان ابن عباس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والسدي يقرأون: * (فما استمتعتم به منهن) * إلى أجل مسمى وهذا يدل على أن الآية في نكاح المتعة فالجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أن قولهم إلى أجل مسمى لم يثبت قرءانا؛ لإجماع الصحابة على عدم كتبه في المصاحف العثمانية وأكثر الأصوليين على أن ما قرأه الصحابي على أنه قرءان ولم يثبت كونه قرءانا لا يستدل به على شئ؛ لأنه باطل من أصله؛ لأنه لما لم ينقله إلا على أنه قرءان فبطل كونه قرءانا ظهر بطلانه من أصله.
الثاني: أنا لو مشينا على أنه يحتج به كالاحتجاج بخبر الآحاد كما قال به قوم أو على أنه تفسير منهم للآية بذلك فهو معارض بأقوى منه؛ لأن جمهور العلماء على
236

خلافه؛ ولأن الأحاديث الصحيحة الصريحة قاطعة بكثرة بتحريم نكاح المتعة وصرح صلى الله عليه وسلم بأن ذلك التحريم دائم إلى يوم القيامة كما ثبت في صحيح مسلم من حديث سبرة بن معبد الجهني رضي الله عنه أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة. فقال: يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع في النساء وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شئ فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا.
وفي رواية لمسلم في حجة الوداع: ولا تعارض في ذلك؛ لإمكان أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك يوم فتح مكة وفي حجة الوداع أيضا والجمع واجب إذا أمكن كما تقرر في علم الأصول وعلوم الحديث.
الثالث: أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن الآية تدل على إباحة نكاح المتعة فإن إباحتها منسوخة كما صح نسخ ذلك في الأحاديث المتفق عليها عنه صلى الله عليه وسلم وقد نسخ ذلك مرتين الأولى يوم خيبر كما ثبت في الصحيح والآخرة يوم فتح مكة كما ثبت في الصحيح أيضا.
وقال بعض العلماء: نسخت مرة واحدة يوم الفتح والذي وقع في خيبر تحريم لحوم الحمر الأهلية فقط فظن بعض الرواة أن يوم خيبر ظرف أيضا لتحريم المتعة.
واختار هذا القول ابن القيم ولكن بعض الروايات الصحيحة صريحة في تحريم المتعة يوم خيبر أيضا فالظاهر أنها حرمت مرتين كما جزم به غير واحد وصحت الرواية به. والله تعالى أعلم. الرابع: أنه تعالى صرح بأنه يجب حفظ الفرج عن غير الزوجة والسرية في قوله تعالى: * (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) * في الموضعين ثم صرح بأن المبتغى وراء ذلك من العادين بقوله: * (فمن ابتغى وراء ذلك الآية) *.
ومعلوم أن المستمتع بها ليست مملوكة ولا زوجة فمبتغيها إذن من العادين بنص القرءان أما كونها غير مملوكة فواضح وأما كونها غير زوجة فلانتفاء لوازم الزوجية عنها كالميراث والعدة والطلاق والنفقة ولو كانت زوجة لورثت واعتدت ووقع عليها الطلاق ووجبت لها النفقة كما هو ظاهر فهذه الآية التي هي: * (والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى
237

وراء ذلك فأولئك هم العادون) * صريحة في منع الاستمتاع بالنساء الذي نسخ. وسياق الآية التي نحن بصددها يدل دلالة واضحة على أن الآية في عقد النكاح كما بينا لا في نكاح المتعة لأنه تعالى ذكر المحرمات التي لا يجوز نكاحها بقوله تعالى: * (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم) * الخ 000...
ثم بين أن غير تلك المحرمات حلال بالنكاح بقوله: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين) * ثم بين أن من نكحتم منهن واستمتعتم بها يلزمكم أن تعطوها مهرها مرتبا لذلك بالفاء على النكاح بقوله: * (فما استمتعتم به منهن) * كما بيناه واضحا والعلم عند الله تعالى قوله تعالى. * (ومن لم يستطع منكم
طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ظاهر هذه الآية الكريمة أن الأمة لا يجوز نكاحها ولو عند الضرورة إلا إذا كانت مؤمنة بدليل قوله: * (من فتياتكم المؤمنات) * فمفهوم مخالفته أن غير المؤمنات من الإماء لا يجوز نكاحهن على كل حال وهذا المفهوم يفهم من مفهوم آية أخرى وهي قوله تعالى: * (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) * فإن المراد بالمحصنات فيها الحرائر على أحد الأقوال ويفهم منه أن الإماء الكوافر لا يحل نكاحهن ولو كن كتابيات وخالف الإمام أبو حنيفة رحمه الله فأجاز نكاح الأمة الكافرة وأجاز نكاح الإماء لمن عنده طول ينكح به الحرائر؛ لأنه لا يعتبر مفهوم المخالفة كما عرف في أصوله رحمه الله.
أما وطء الأمة الكافرة بملك اليمين فإنها إن كانت كتابية فجمهور العلماء على إباحة وطئها بالملك لعموم قوله تعالى: * (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) * ولجواز نكاح حرائرهم فيحل التسري بالإماء منهم. وأما إن كانت الأمة المملوكة له مجوسية أو عابدة وثن ممن لا يحل نكاح حرائرهم؛ فجمهور العلماء على منع وطئها بملك اليمين.
قال ابن عبد البر: وعليه جماعة فقهاء الأمصار وجمهور العلماء وما خالفه فهو شذوذ لا يعد خلافا ولم يبلغنا إباحة ذلك إلا عن طاوس.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر من جهة الدليل والله تعالى أعلم جواز وطء الأمة بملك اليمين وإن كانت عابدة وثن أو مجوسية؛ لأن أكثر السبايا في عصره صلى الله عليه وسلم من
238

كفار العرب وهم عبدة أوثان ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرم وطأهن بالملك لكفرهن ولو كان حراما لبينه بل قال صلى الله عليه وسلم: لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة ولم يقل حتى يسلمن ولو كان ذلك شرطا لقاله وقد أخذ الصحابة سبايا فارس وهن مجوس ولم ينقل أنهم اجتنبوهن حتى أسلمن.
قال ابن القيم في زاد المعاد ما نصه: ودل هذا القضاء النبوي على جواز وطء الإماء الوثنيات بملك اليمين فإن سبايا أوطاس لم يكن كتابيات ولم يشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم في وطئهن إسلامهن ولم يجعل المانع منه إلا الاستبراء فقط وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع مع أنهم حديثو عهد بالإسلام ويخفى عليهم حكم هذه المسألة وحصول الإسلام من جميع السبايا وكن عدة آلاف بحيث لم يتخلف منهن عن الإسلام جارية واحدة مما يعلم أنه في غاية البعد فإنهن لم يكرهن على الإسلام ولم يكن لهن من البصيرة والرغبة والمحبة في الإسلام ما يقتضي مبادرتهن إليه جميعا فمقتضى السنة وعمل الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده جواز وطء المملوكات على أي دين كن وهذا مذهب طاوس وغيره وقواه صاحب المغني فيه ورجح أدلته وبالله التوفيق. اه كلام ابن القيم بلفظه وهو واضح جدا.
* (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) * لم يبين هنا هذا العذاب الذي على المحصنات وهن الحرائر الذي نصفه على الإماء ولكنه بين في موضع آخر أنه جلد مائة بقوله: * (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) * فيعلم منه أن على الأمة الزانية خمسين جلدة ويلحق بها العبد الزاني فيجلد خمسين فعموم الزانية مخصوص بنص قوله تعالى: * (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) * وعموم الزاني مخصوص بالقياس على المنصوص؛ لأنه لا فارق البتة بين الحرة والأمة إلا الرق فعلم أنه سبب تشطير الجلد فأجرى في العبد لاتصافه بالرق الذي هو مناط تشطير الجلد وهذه الآية عند الأصوليين من أمثلة تخصيص عموم النص بالقياس بناء على أن نوع تنقيح المناط المعروف بإلغاء الفارق يسمى قياسا والخلاف في كونه قياسا معروف في الأصول. أما الرجم فمعلوم أنه لا يتشطر فلم يدخل في المراد بالآية.
تنبيه
قد علمت مما تقدم أن التحقيق في معنى أحصن أن المراد به تزوجن وذلك هو
239

معناه على كلتا القراءتين قراءته بالبناة للفاعل والمفعول خلافا لما اختاره ابن جرير من أن معنى قراءة أحصن بفتح الهمزة والصاد مبنيا للفاعل أسلمن وأن معنى أحصن بضم الهمزة وكسر الصاد مبنيا للمفعول زوجن وعليه فيفهم من مفهوم الشرط في قوله: * (فإذا أحصن) *. أن الأمة التي لم تتزوج لا حد عليها إذا زنت؛ لأنه تعالى علق حدها في الآية بالإحصان وتمسك بمفهوم هذه الآية ابن عباس وطاوس وعطاء وابن جريج وسعيد بن جبير وأبو عبيد القاسم بن سلام وداود بن علي في رواية فقالوا: لا حد على مملوكة حتى تتزوج والجواب عن هذا والله أعلم أن مفهوم هذه الآية فيه إجمال وقد بينته السنة الصحيحة وإيضاحه أن تعليق جلد الخمسين المذكور في الآية على إحصان الأمة يفهم منه أن الأمة التي لم تحصن ليست كذلك فقط فيحتمل أنها لا تجلد ويحتمل أنها تجلد أكثر من ذلك أو أقل أو ترجم إلى غير ذلك من المحتملات ولكن السنة الصحيحة دلت على أن غير المحصنة من الإماء كذلك لا فرق بينها وبين المحصنة والحكمة في التعبير بخصوص المحصنة دفع توهم أنها ترجم كالحرة فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما قالا: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال: إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير.
قال ابن شهاب: لا أدري أبعد الثالثة أو الرابعة وحمل الجلد في الحديث على التأديب غير ظاهر لا سيما وفي بعض الروايات التصريح بالحد فمفهوم هذه الآية هو بعينه الذي سئل عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأجاب فيه بالأمر بالجلد في هذا الحديث المتفق عليه والظاهر أن السائل ما سأله إلا لأنه أشكل عليه مفهوم هذه الآية فالحديث نص في محل النزاع ولو كان جلد غير المحصنة أكثر أو أقل من جلد المحصنة لبينه صلى الله عليه وسلم.
وبهذا تعلم أن الأقوال المخالفة لهذا لا يعول عليها كقول ابن عباس ومن وافقه المتقدم آنفا وكالقول بأن غير المحصنة تجلد مائة وهو المشهور عن داود بن علي الظاهري
ولا يخفى بعده وكالقول بأن الأمة المحصنة ترجم وغير المحصنة تجلد خمسين وهو قول أبي ثور ولا يخفى شدة بعده والعلم عند الله تعالى.
* (قوله تعالى واللاتي تخافون نشوزهن الآية) * ذكر في هذه الآية الكريمة أن النشوز قد يحصل من النساء ولم يبين هل يحصل من الرجال نشوز أو لا؟ ولكنه بين في موضع آخر
240

أن النشوز أيضا قد يحصل من الرجال وهو قوله تعالى: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا) * وأصل النشوز في اللغة الارتفاع فالمرأة الناشز كأنها ترتفع عن المكان الذي يضاجعها فيه زوجها وهو في اصطلاح الفقهاء الخروج عن طاعة الزوج وكأن نشوز الرجل ارتفاعه أيضا عن المحل الذي فيه الزوجة وتركه مضاجعتها والعلم عند الله تعالى. * (قوله تعالى وإن تك حسنة يضاعفها الآية لم يبين في هذه الآية الكريمة أقل ما تضاعف به الحسنة ولا أكثره ولكنه بين في موضع آخر أن أقل ما تضاعف به عشر أمثالها وهو قوله: * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) *.
وبين في موضع آخر أن المضاعفة ربما بلغت سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله وهو قوله: * (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل) * كما تقدم. * (يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض الآية على القراءات الثلاث معناه أنهم يتمنون أن يستووا بالأرض فيكونوا ترابا مثلها على أظهر الأقوال ويوضح هذا المعنى قوله تعالى: * (يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا) *.
* (ولا يكتمون الله حديثا) * بين في موضع آخر أن عدم الكتم المذكور هنا إنما هو باعتبار إخبار أيديهم وأرجلهم بكل ما عملوا عند الختم على أفواههم إذا أنكروا شركهم ومعاصيهم وهو قوله تعالى: * (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون) * فلا يتنافى قوله: * (ولا يكتمون الله حديثا) * مع قوله عنهم: * (والله ربنا ما كنا مشركين) * وقوله عنهم أيضا: * (ما كنا نعمل من سوء) * وقوله عنهم: * (بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا) * للبيان الذي ذكرنا والعلم عند الله تعالى. * (قوله تعالى يا أيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلواة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقلون بين تعالى في هذه الآية زوال السكر بأنه هو أن يثوب للسكران عقله حتى يعلم معنى الكلام الذي يصدر منه بقوله: * (حتى تعلموا ما تقولون) *.
241

* (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل * الآية ذكر في هذه الآية الكريمة أن الذين أوتوا نصيبا من الكتاب مع اشترائهم الضلالة يريدون إضلال المسلمين أيضا.
وذكر في موضع آخر أنهم كثير وأنهم يتمنون ردة المسلمين وأن السبب الحامل لهم على ذلك إنما هو الحسد وأنهم ما صدر منهم ذلك إلا بعد معرفتهم الحق وهو قوله تعالى: * (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق) *.
وذكر في موضع آخر أن هذا الإضلال الذي يتمنونه للمسلمين لا يقع من المسلمين وإنما يقع منهم أعني المتمنين الضلال للمسلمين وهو قوله: * (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون) *. * (قوله تعالى أو نلعنهم كما لعنآ أصحاب السبت لم يبين هنا كيفية لعنه لأصحاب السبت ولكنه بين في غير هذا الموضع أن لعنه لهم هو مسخهم قردة ومن مسخه الله قردا غضبا عليه ملعون بلا شك وذلك قوله تعالى: * (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) * وقوله: * (فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) * والاستدلال على مغايرة اللعن للمسخ بعطفه عليه في قوله: * (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير) * لا يفيد أكثر من مغايرته للمسخ في تلك الآية كما قاله الألوسي في تفسيره وهو ظاهر واللعنة في اللغة: الطرد والإبعاد والرجل الذي طرده قومه وأبعدوه لجناياته تقول له العرب رجل لعين ومنه قول الشاعر الوافر:
* ذعرت به القطا ونفيت عنه
* مقام الذئب كالرجل اللعين
*
وفي اصطلاح الشرع: اللعنة: الطرد والإبعاد عن رحمة الله ومعلوم أن المسخ من أكبر أنواع الطرد والإبعاد. * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد
242

افترى إثما عظيما) * ذكر في هذه الآية الكريمة أنه تعالى لا يغفر الإشراك به وأنه يغفر غير ذلك لمن يشاء وأن من أشرك به فقد افترى إثما عظيما وذكر في مواضع أخر أن محل كونه لا يغفر الإشراك به إذا لم يتب المشرك من ذلك فإن تاب غفر له كقوله إلا من تاب وآمن وعمل صالحا الآية فإن الاستثناء راجع لقوله والذين لا يدعون مع الله إلها آخر وما عطف عليه لأن معنى الكل جمع في قوله ومن يفعل ذلك يلق أثاما الآية وقوله قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وذكر في موضع آخر أن من أشرك بالله قد ضل ضلالا بعيدا عن الحق وهو قوله في هذه السورة الكريمة أيضا إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ذكر في هذه الآية الكريمة أنه تعالى لا يغفر الإشراك به وأنه يغفر غير ذلك لمن يشاء وأن من أشرك به فقد افترى إثما عظيما
وذكر في مواضع أخر: أن محل كونه لا يغفر الإشراك به إذا لم يتب المشرك من ذلك فإن تاب غفر له كقوله: * (إلا من تاب وءامن وعمل عملا صالحا) * فإن الاستثناء راجع لقوله: * (والذين لا يدعون مع الله إلاها ءاخر) * وما عطف عليه؛ لأن معنى الكل جمع في قوله: * (ومن يفعل ذلك يلق أثاما) * وقوله: * (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) * وذكر في موضع آخر: أن من أشرك بالله قد ضل ضلالا بعيدا عن الحق وهو قوله في هذه السورة الكريمة أيضا: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا) * وصرح بأن من أشرك بالله فالجنة عليه حرام ومأواه النار بقوله: * (
إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار) * وقوله: * (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على) *.
وذكر في موضع آخر أن المشرك لا يرجى له خلاص وهو قوله: * (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق) * وصرح في موضع آخر: بأن الإشراك ظلم عظيم بقوله عن لقمان مقررا له: * (إن الشرك لظلم عظيم) *.
وذكر في موضع آخر أن الأمن التام والاهتداء إنما هما لمن لم يلبس إيمانه بشرك وهو قوله: * (الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون) * وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن معنى * (بظلم) * بشرك. * (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكى من يشاء الآية أنكر تعالى عليهم في هذه الآية تزكيتهم أنفسهم بقوله: * (ألم تر إلى) * الذين ويقوله انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا) * وصرح بالنهي العام عن تزكية النفس وأحرى نفس الكافر التي هي أخس شئ وأنجسه بقوله: * (هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) *
243

ولم يبين هنا كيفية تزكيتهم أنفسهم.
ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله عنهم: * (نحن أبناء الله وأحباؤه) * وقوله: * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) * إلى غير ذلك من الآيات. * (قوله تعالى) * وندخلهم ظلا ظليلا وصف في هذه الآية الكريمة ظل الجنة بأنه ظليل ووصفه في آية أخرى بأنه دائم وهي قوله: * (أكلها دائم وظلها) * ووصفه في آية أخرى بأنه ممدود وهي قوله: * (وظل ممدود) * وبين في موضع آخر أنها ظلال متعددة وهو قوله: * (إن المتقين في ظلال وعيون) *.
وذكر في موضع آخر أنهم في تلك الظلال متكئون مع أزواجهم على الأرائك وهو قوله: * (هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون) * والأرائك: جمع أريكة وهي السرير في الحجلة والحجلة بيت يزين للعروس بجميع أنواع الزينة وبين أن ظل أهل النار ليس كذلك بقوله: * (انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون * انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب * لا ظليل ولا يغنى من اللهب) * وقوله: * (وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال * في سموم وحميم * وظل من يحموم * لا بارد ولا كريم) *. * (قوله تعالى فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله الآية أمر الله في هذه الآية الكريمة بأن كل شئ تنازع فيه الناس من أصل الدين وفروعه إن يرد التنازع في ذلك إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لأنه تعالى قال من يطع الرسول فقد أطاع الله وأوضح هذا المأمور به هنا بقوله وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله ويفهم من هذه الآية الكريمة أنه لا يجوز التحاكم إلى غير كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وقد أوضح تعالى هذا المفهوم موبخا للمتحاكمين إلى غير كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مبينا أن الشيطان أضلهم ضلالا بعيدا عن الحق بقوله * ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بما أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا) *) * وأشار إلى أنه لا يؤمن أحد حتى يكفر بالطاغوت بقوله: * (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد
244

استمسك بالعروة الوثقى) *.
ومفهوم الشرط أن من لم يكفر بالطاغوت لم يستمسك بالعروة الوثقى وهو كذلك ومن لم يستمسك بالعروة الوثقى فهو بمعزل عن الإيمان؛ لأن الإيمان بالله هو العروة الوثقى والإيمان بالطاغوت يستحيل اجتماعه مع الإيمان بالله؛ لأن الكفر بالطاغوت شرط في الإيمان بالله أو ركن منه كما هو صريح قوله: * (فمن يكفر بالطاغوت) *.
تنبيه
استدل منكروا القياس بهذه الآية الكريمة أعني قوله تعالى: * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله) * الآية على بطلان القياس قالوا: لأنه تعالى أوجب الرد إلى خصوص الكتاب والسنة دون القياس وأجاب الجمهور بأنه لا دليل لهم في الآية؛ لأن إلحاق غير المنصوص بالمنصوص لوجود معنى النص فيه لا يخرج عن الرد إلى الكتاب والسنة بل قال بعضهم الآية متضمنة لجميع الأدلة الشرعية فالمراد بإطاعة الله العمل بالكتاب وبإطاعة الرسول العمل بالسنة وبالرد إليهما القياس؛ لأن رد المختلف فيه غير المعلوم من النص إلى المنصوص عليه إنما يكون بالتمثيل والبناء عليه وليس القياس شيئا وراء ذلك.
وقد علم من قوله تعالى: * (فإن تنازعتم) * أنه عند عدم النزاع يعمل بالمتفق عليه وهو الإجماع قاله الألوسي في تفسيره. * (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا * فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنآ إلا إحسانا وتوفيقا * أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا * ومآ أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ذكر في هذه الآية الكريمة أن المنافقين إذا دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم يصدون عن ذلك صدودا أي: يعرضون إعراضا.
وذكر في موضع آخر أنهم إذا دعوا إليه صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم لووا رؤوسهم وصدوا واستكبروا وهو قوله: * (وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون) *. * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما أقسم تعالى في هذه الآية الكريمة بنفسه
245

الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور ثم ينقاد لما حكم به ظاهرا وباطنا ويسلمه تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة
ولا منازعة وبين في آية أخرى أن قول المؤمنين محصور في هذا التسليم الكلي والانقياد التام ظاهرا وباطنا لما حكم به صلى الله عليه وسلم وهي قوله تعالى: * (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا) *. * (الآية قوله تعالى فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله على إذ لم أكن معهم شهيدا) * وذكر في هذه الآية الكريمة أن المنافقين إذا سمعوا بأن المسلمين أصابتهم مصيبة أي: من قتل الأعداء لهم أو جراح أصابتهم أو نحو ذلك يقولون إن عدم حضورهم معهم من نعم الله عليهم.
وذكر في مواضع أخر أنهم يفرحون بالسوء الذي أصاب المسلمين كقوله تعالى: * (وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها) * وقوله: * (وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون) *. * (ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما ذكر في هذه الآية الكريمة أن المنافقين إذا سمعوا أن المسلمين أصابهم فضل من الله أي: نصر وظفر وغنيمة تمنوا أن يكونوا معهم ليفوزوا بسهامهم من الغنيمة.
وذكر في مواضع أخر أن ذلك الفضل الذي يصيب المؤمنين يسوءهم لشدة عداوتهم الباطنة لهم كقوله تعالى: * (إن تمسسكم حسنة تسؤهم) * وقوله: * (إن تصبك حسنة تؤهم قوله تعالى ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب الآية ذكر في هذه الآية الكريمة أنه سوف يؤتي المجاهد في سبيله أجرا عظيما سواء أقتل في سبيل الله أم غلب عدوه وظفر به.
وبين في موضع آخر أن كلتا الحالتين حسنى وهو قوله: * (قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين) * والحسنى صيغة تفضيل؛ لأنها تأنيث الأحسن.
* (حرض المؤمنين) * لم يصرح هنا بالذي يحرض عليه
246

المؤمنين ما هو وصرح في موضع آخر بأنه القتال وهو قوله: * (حرض المؤمنين على القتال) * وأشار إلى ذلك هنا بقوله في أول الآية: * (فقاتل في سبيل الله) * وقوله في آخرها: * (عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا) *. * (الآية قوله تعالى أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا أنكر تعالى في هذه الآية الكريمة على من أراد أن يهدي من أضله الله وصرح فيها بأن من أضله الله لا يوجد سبيل إلى هداه وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله: * (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) * وقوله: * (من يضلل الله فلا هادي له) * ويؤخذ من هذه الآيات أن العبد ينبغي له كثرة التضرع والابتهال إلى الله تعالى أن يهديه ولا يضله فإن من هداه الله لا يضل ومن أضله لا هادي له ولذا ذكر عن الراسخين في العلم أنهم يقولون: * (ربنا لا تزغ قلوبنا الآية قوله تعالى) *. * (لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما * كر في هذه الآية الكريمة أنه فضل المجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وأجرا عظيما ولم يتعرض لتفضيل بعض المجاهدين على بعض ولكنه بين ذلك في موضع آخر وهو قوله: * (لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى) * وقوله في هذه الآية الكريمة * (غير أولى الضرر) * يفهم من مفهوم مخالفته أن من خلفه العذر إذا كانت نيته صالحة يحصل ثواب المجاهد.
وهذا المفهوم صرح به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أنس الثابت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن بالمدينة أقواما ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه قالوا وهم بالمدينة يا رسول الله؟ قال: نعم حبسهم العذر وفي هذا المعنى قال الشاعر: البسيط:
* يا ظاعنين إلى البيت العتيق لقد
* سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا
*
* إنا أقمنا على عذر وعن قدر
* ومن أقام على عذر فقد راحا
*
247

تنبيه
يؤخذ من قوله في هذه الآية الكريمة: * (وكلا وعد الله الحسنى) * أن الجهاد فرض كفاية لا فرض عين؛ لأن القاعدين لو كانوا تاركين فرضا لما ناسب ذلك وعده لهم الصادق بالحسنى؛ وهي الجنة والثواب الجزيل. * (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلواة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا الآية قال بعض العلماء المراد بالقصر في قوله تعالى إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا * وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلواة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورآئكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا) *. وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلواة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا قال بعض العلماء: المراد بالقصر في قوله: * (أن تقصروا) * في هذه الآية قصر كيفيتها لا كميتها ومعنى قصر كيفيتها أن يجوز فيها من الأمور ما لا يجوز في صلاة الأمن كأن يصلي بعضهم مع الإمام ركعة واحدة ويقف الإمام حتى يأتي البعض الآخر فيصلي معهم الركعة الأخرى وكصلاتهم إيماء رجالا وركبانا وغير متوجهين إلى القبلة فكل هذا من قصر كيفيتها ويدل على أن المراد هو هذا القصر من كيفيتها
قوله تعالى بعده يليه مبينا له: * (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلواة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة) * وقوله تعالى: * (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) * ويزيده إيضاحا أنه قال هنا: * (فإذا قضيتم الصلواة فاذكروا) * وقال في آية البقرة: * (فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون) *؛ لأن معناه فإذا أمنتم فأتموا كيفيتها بركوعها وسجودها وجميع ما يلزم فيها مما يتعذر وقت الخوف
وعلى هذا التفسير الذي دل له القرءان فشرط الخوف في قوله: * (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) * معتبر أي: وإن لم تخافوا منهم أن يفتنوكم فلا تقصروا من كيفيتها بل صلوها على أكمل الهيئات كما صرح به في قوله: * (فإذا قضيتم الصلواة فاذكروا) * وصرح باشتراط الخوف أيضا لقصر كيفيتها بأن يصليها الماشي والراكب بقوله: * (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) * ثم قال: * (فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم) * يعني: فإنه أمنتم فأقيموا صلاتكم كما أمرتكم بركوعها وسجودها وقيامها وقعودها على أكمل هيئة وأتمها وخير ما يبين القرءان القرءان
248

ويدل على أن المراد بالقصر في هذه الآية القصر من كيفيتها كما ذكرنا أن البخاري صدر باب صلاة الخوف بقوله: باب صلاة الخوف وقوله الله تعالى: * (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلواة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين) * وما ذكره ابن حجر وغيره من أن البخاري ساق الآيتين في الترجمة ليشير إلى خروج صلاة الخوف عن هيئة بقية الصلوات بالكتاب قولا وبالسنة فعلا لا ينافي ما أشرنا إليه من أنه ساق الآيتين في الترجمة لينبه على أن قصر الكيفية الوارد في أحاديث الباب هو المراد بقصر الصلاة في قوله: * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلواة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) * ويؤيده أيضا أن قصر عددها لا يشترط فيه الخوف وقد كان صلى الله عليه وسلم يقصر هو وأصحابه في السفر وهم في غاية الأمن كما وقع في حجة الوداع وغيرها وكما قال صلى الله عليه وسلم لأهل مكة: أتموا فإنا قوم سفر
وممن قال بأن المراد بالقصر في هذه الآية قصر الكيفية لا الكمية: مجاهد والضحاك والسدي نقله عنهم ابن كثير وهو قول أبي بكر الرازي الحنفي ونقل ابن جرير نحوه عن ابن عمر ولما نقل ابن كثير هذا القول عمن ذكرنا قال: واعتضدوا بما رواه الإمام مالك عن صالح بن كيسان عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر
وقد روى هذا الحديث البخاري عن عبد الله بن يوسف التنيسي ومسلم عن يحيى بن يحيى وأبو داود عن القعنبي والنسائي عن قتيبة أربعتهم عن مالك به قالوا: فإذا كان أصل الصلاة في السفر اثنتين فكيف يكون المراد بالقصر هنا قصر الكمية؟ لأن ما هو الأصل لا يقال فيه: * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلواة) *
وأصرح من ذلك دلالة على هذا ما رواه الإمام أحمد حدثنا وكيع وسفيان
249

وعبد الرحمان عن زبيد اليامي عن عبد الرحمان بن أبي ليلى عن عمر رضي الله عنه قال: صلاة السفر ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم
وهكذا رواه النسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه من طرق عن زبيد اليامي به وهذا إسناد على شرط مسلم وقد حكم مسلم في مقدمة كتابه بسماع ابن أبي ليلى عن عمر وقد جاء مصرحا به في هذا الحديث وغيره وهو الصواب أن شاء الله تعالى وإن كان يحيى بن معين وأبو حاتم والنسائي قد قالوا إنه لم يسمع منه
وعلى هذا أيضا فقال: فقد وقع في بعض طرق أبي يعلى الموصلي من طريق الثوري عن زبيد عن عبد الرحمان بن أبي ليلى عن الثقة عن عمر فذكره وعند ابن ماجة من طريق يزيد بن زياد بن أبي الجعد عن زبيدعن عبد الرحمان عن كعب بن عجرة عن عمر فالله أعلم
وقد روى مسلم في صحيحه وأبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري زاد مسلم والنسائي وأيوب بن عائذ كلاهما عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن عبد الله بن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة فكما يصلى في الحضر قبلها وبعدها فكذلك يصلى في السفر
ورواه ابن ماجة من حديث أسامة بن زيد عن طاوس نفسه فهذا ثابت عن ابن عباس رضي الله عنهما ولا ينافي ما تقدم عن عائشة رضي الله عنها؛ لأنها أخبرت أن أصل الصلاة ركعتان ولكن زيد في صلاة الحضر فلما استقر ذلك صح أن يقال: إن فرض صلاة الحضر أربع كما قاله ابن عباس والله أعلم
ولكن اتفق حديث ابن عباس وعائشة على أن صلاة السفر ركعتان وأنها تامة غير مقصورة كما هو مصرح به في حديث عمر رضي الله عنه واعلم أن حديث عائشة المذكور تكلم فيه من ثمان جهات:
الأولى: أنه معارض بالإجماع قال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في كتابه المسمى بالقبس قال علماؤنا هذا الحديث مردود بالإجماع
الثانية: أنها هي خالفته والراوي من أعلم الناس بما روى فهي رضي الله عنها
250

كانت تتم في السفر قالوا: ومخالفتها لروايتها توهن الحديث
الثالثة: إجماع فقهاء الأمصار على أنه ليس بأصل يعتبر في صلاة المسافر خلف المقيم
الرابعة: أن غيرها من الصحابة خالفها كعمر وابن عباس وجبير بن مطعم فقالوا: إن الصلاة فرضت في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة وقد قدمنا رواية مسلم وغيره له عن ابن عباس
الخامسة: دعوى أنه مضطرب؛ لأنه رواه ابن عجلان عن صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة قالت: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة ركعتين وقال فيه
الأوزاعي عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت: فرض الله الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ركعتين الحديث قالوا: فهذا اضطراب
السادسة: أنه ليس على ظاهره؛ لأن المغرب والصبح لم يزد فيهما ولم ينقص
السابعة: أنه من قول عائشة لا مرفوع
الثامنة: قول إمام الحرمين: لو صح لنقل متواترا
قال مقيده عفا الله عنه: وهذه الاعتراضات الموردة على حديث عائشة المذكور كلها ساقطة أما معارضته بالإجماع فلا يخفى سقوطها؛ لأنه لا يصح فيه إجماع وذكر ابن العربي نفسه الخلاف فيه
وقال القرطبي بعد ذكر دعوى ابن العربي الإجماع المذكور قلت: وهذا لا يصح وقد ذكر هو وغيره الخلاف والنزاع فلم يصح ما ادعوه من الإجماع
وأما معارضته بمخالفة عائشة له فهي أيضا ظاهرة السقوط؛ لأن العبرة بروايتها لا برأيها كما هو التحقيق عند الجمهور وقد بيناه في سورة البقرة في الكلام على حديث طاوس المتقدم في الطلاق
وأما معارضته بإجماع فقهاء الأمصار على أنه ليس بأصل يعتبر في صلاة المسافر خلف المقيم فجوابه أن فقهاء الأمصار لم يجمعوا على ذلك فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن المسافر لا يصح اقتداؤه بالمقيم لمخالفتهما في العدد والنية واحتجوا
251

بحديث: لا تختلفوا على إمامكم وممن ذهب إلى ذلك الشعبي وطاوس وداود الظاهري وغيرهم
وأما معارضته بمخالفة بعض الصحابة لها كابن عباس فجوابه ما قدمناه آنفا عن ابن كثير من أن صلاة الحضر لما زيد فيها واستقر ذلك صح أن يقال: إن فرض صلاة الحضر أربع كما قال ابن عباس
وأما تضعيفه بالاضطراب فهو ظاهر السقوط؛ لأنه ليس فيه اضطراب أصلا ومعنى فرض الله وفرض رسول الله واحد؛ لأن الله هو الشارع والرسول هو المبين فإذا قيل فرض رسول الله كذا فالمراد أنه مبلغ ذلك عن الله فلا ينافي أن الله هو الذي فرض ذلك كما قال تعالى: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * ونظيره حديث: إن إبراهيم حرم مكة مع حديث: إن مكة حرمها الله الحديث
وأما رده بأن المغرب والصبح لم يزد فيهما فهو ظاهر السقوط أيضا؛ لأن المراد بالحديث الصلوات التي تقصر خاصة كما هو ظاهر مع أن بعض الروايات عن عائشة عند ابن خزيمة وابن حبان والبيهقي قالت: فرضت صلاة السفر والحضر ركعتين ركعتين فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واطمأن زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان وتركت صلاة الفجر لطول القراءة وصلاة المغرب؛ لأنها وتر النهار وعند أحمد من طريق ابن كيسان في حديث عائشة المذكور إلا المغرب فإنها كانت ثلاثا
وهذه الروايات تبين أن المراد خصوص الصلوات التي تقصر وأما رده بأنه غير مرفوع فهو ظاهر السقوط؛ لأنه مما لا مجال فيه للرأي فله حكم المرفوع ولو سلمنا أن عائشة لم تحضر فرض الصلاة فإنها يمكن أن تكون سمعت ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم في زمنها معه ولو فرضنا أنها لم تسمعه منه فهو مرسل صحابي ومراسيل الصحابة لها حكم الوصل
وأما قول إمام الحرمين إنه لو ثبت لنقل متواترا فهو ظاهر السقوط؛ لأن مثل هذا لا يرد بعدم التواتر فإذا عرفت مما تقدم أن صلاة السفر فرضت ركعتين كما صح به الحديث عن عائشة وابن عباس وعمر رضي الله عنهم فاعلم أن ابن كثير بعد أن ساق الحديث عن عمر وابن عباس وعائشة قال ما نصه:
وإذا كان كذلك فيكون المراد بقوله: * (فليس عليكم جناح) * أن
252

تقصروا من الصلاة قصر الكيفية كما في صلاة الخوف؛ ولهذا قال: * (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) * الآية ولهذا قال بعدها: * (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلواة) * فبين المقصود من القصر ها هنا وذكر صفته وكيفيته اه محل الغرض منه بلفظه وهو واضح جدا فيما ذكرنا وهو اختيار ابن جرير
وعلى هذا القول فالآية في صلاة الخوف وقصر الصلاة في السفر عليه مأخوذ من السنة لا من القرءان وفي معنى الآية الكريمة أقوال أخر:
أحدها: أن معنى * (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من) * الاقتصار على ركعة واحدة في صلاة الخوف كما قدمنا آنفا من حديث ابن عباس عند مسلم والنسائي وأبي داود وابن ماجة وقدمنا أنه رواه ابن ماجة عن طاوس
وقد روى نحوه أبو داود والنسائي من حديث حذيفة قال: فصلى بهؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة ولم يقضوا ورواه النسائي أيضا من حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم
وممن قال بالاقتصار في الخوف على ركعة واحدة الثوري وإسحاق ومن تبعهما وروي عن أحمد بن حنبل وعطاء وجابر والحسن ومجاهد والحكم وقتادة وحماد والضحاك
وقال بعضهم: يصلى الصبح في الخوف ركعة وإليه ذهب ابن حزم ويحكى عن محمد بن نصر المروزي وبالاقتصار على ركعة واحدة في الخوف
قال أبو هريرة: وأبو موسى الأشعري وغير واحد من التابعين ومنهم من قيده بشدة الخوف
وعلى هذا القول فالقصر في قوله تعالى: * (وإذا ضربتم في الأرض) * قصر كمية
وقال جماعة: إن المراد بالقصر في قوله: * (وإذا ضربتم في الأرض) * هو قصر الصلاة في السفر. قالوا: ولا مفهوم مخالفة للشرط الذي هو قوله: * (إن
خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) *؛ لأنه خرج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية فإن في مبدأ
253

الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة.
وقد تقرر في الأصول أن من الموانع لاعتبار مفهوم المخالفة خروج المنطوق مخرج الغالب ولذا لم يعتبر الجمهور مفهوم المخالفة في قوله: * (اللاتي في حجوركم) *؛ لجريانه على الغالب.
قال في مراقي السعود: في ذكر موانع اعتبار مفهوم المخالفة: الرجز:
* أو جهل الحكم أو النطق انجلب
* للسؤل أو جرى على الذي غلب
*
واستدل من قال: إن المراد بالآية قصر الرباعية في السفر بما أخرجه مسلم في صحيحه والإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلواة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) * فقد أمن الناس قال: عجبت ما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته. فهذا الحديث الثابت في صحيح مسلم وغيره يدل على أن يعلى بن أمية وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما كانا يعتقدان أن معنى الآية قصر الرباعية في السفر وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عمر على فهمه لذلك وهو دليل قوي ولكنه معارض بما تقدم عن عمر من أنه قال: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ويؤيده حديث عائشة وحديث ابن عباس المتقدمان.
وظاهر الآيات المتقدمة الدالة على أن المراد بقوله أن تقصروا من الصلاة قصر الكيفية في صلاة الخوف كما قدمنا والله تعالى أعلم وهيئات صلاة الخوف كثيرة فإن العدو تارة يكون إلى جهة القبلة وتارة إلى غيرها والصلاة قد تكون رباعية وقد تكون ثلاثية وقد تكون ثنائية ثم تارة يصلون جماعة وتارة يلتحم القتال فلا يقدرون على الجماعة بل يصلون فرادى رجالا وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها وكل هيئات صلاة الخوف الواردة في الصحيح جائزة وهيئاتها وكيفياتها مفصلة في كتب الحديث والفروع وسنذكر ما ذهب إليه الأئمة الأربعة منها إن شاء الله.
أما مالك بن أنس فالصورة التي أخذ بها منها هي أن الطائفة الأولى تصلي مع الإمام ركعة في الثنائية وركعتين في الرباعية والثلاثية ثم تتم باقي الصلاة وهو اثنتان في الرباعية وواحدة في الثنائية والثلاثية ثم يسلمون ويقفون وجاه العدو وتأتي
254

الطائفة الأخرى فيجدون الإمام قائما ينتظرهم وهو مخير في قيامه بين القراءة والدعاء والسكوت إن كانت ثنائية وبين الدعاء والسكوت إن كانت رباعية أو ثلاثية وقيل: ينتظرهم في الرباعية والثلاثية جالسا فيصلي بهم باقي الصلاة وهو ركعة في الثنائية والثلاثية وركعتان في الرباعية ثم يسلم ويقضون ما فاتهم بعد سلامه وهو ركعة في الثنائية وركعتان في الرباعية والثلاثية. فتحصل أن هذه الصورة أنه يصلي بالطائفة الأولى ركعة أو اثنتين ثم يتمون لأنفسهم ويسلمون ويقفون في وجه العدو ثم تأتي الأخرى فيصلي بهم الباقي ويسلم ويتمون لأنفسهم.
قال ابن يونس في هذه الصورة التي ذكرنا: وحديث القاسم أشبه بالقرءان وإلى الأخذ به رجع مالك. اه.
قال مقيده عفا الله عنه مراد ابن يونس أن الحديث الذي رواه مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة بالكيفية التي ذكرنا هو الذي رجح إليه مالك ورجحه أخيرا على ما رواه أعني مالكا عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوات عمن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف. الحديث والفرق بين رواية القاسم بن محمد وبين رواية يزيد بن رومان أن رواية يزيد بن رومان فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالطائفة الأخرى الركعة التي بقيت من صلاته ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم وقد عرفت أن رواية القاسم عند مالك في الموطأ أنه يصلي بالطائفة الأخرى الركعة الباقية ثم يسلم فيتمون بعد سلامه لأنفسهم.
قال ابن عبد البر مشيرا إلى الكيفية التي ذكرنا وهي رواية القاسم بن محمد عند مالك وهذا الذي رجع إليه مالك بعد أن قال بحديث يزيد بن رومان وإنما اختاره ورجع إليه للقياس على سائر الصلوات: إن الإمام لا ينتظر المأموم وإن المأموم إنما يقضي بعد سلام الإمام وحديث القاسم هذا الذي أخرجه مالك في (الموطأ) موقوف على سهل إلا أن له حكم الرفع؛ لأنه لا مجال للرأي فيه والتحقيق أنه مرسل صحابي؛ لأن سهلا كان صغيرا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وجزم الطبري وابن حبان وابن السكن وغيرهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وسهل المذكور ابن ثمان سنين وزعم ابن حزم أنه لم يرد عن أحد من السلف القول بالكيفية التي ذكرنا أنها رجع إليها مالك ورواها في موطئه عن القاسم بن محمد هذا هو حاصل مذهب مالك في كيفية صلاة الخوف.
255

قال أولا: بأن الإمام يصلي بالطائفة الأولى ثم تتم لأنفسها ثم تسلم ثم يصلي بقية الصلاة بالطائفة الأخرى وينتظرها حتى تتم ثم يسلم بها ورجع إلى أن الإمام يسلم إذا صلى بقية صلاته مع الطائفة الأخرى ولا ينتظرهم حتى يسلم بهم بل يتمون لأنفسهم بعد سلامه كما بينا.
والظاهر أن المبهم في رواية يزيد بن رومان في قول صالح بن خوات عمن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث أنه أبوه خوات بن جبير الصحابي رضي الله عنه لا سهل بن أبي حثمة كما قاله بعضهم.
قال الحافظ في الفتح: ولكن الراجح أنه أبوه خوات بن جبير؛ لأن أبا أويس روى هذا الحديث عن يزيد بن رومان شيخ مالك فيه فقال: عن صالح بن خوات عن أبيه
أخرجه ابن منده في معرفة الصحابة من طريقه وكذلك أخرجه البيهقي من طريق عبيد الله بن عمر عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات عن أبيه وجزم النووي في تهذيبه بأنه أبوه خوات وقال: إنه محقق من رواية مسلم وغيره قلت: وسبقه إلى ذلك الغزالي فقال إن صلاة ذات الرقاع في رواية خوات بن جبير. اه محل الغرض منه بلفظه.
ولم يفرق المالكية بين كون العدو إلى جهة القبلة وبين كونه إلى غيرها وأما إذا اشتد الخوف والتحم القتال ولم يمكن لأحد منهم ترك القتال فإنهم يصلونها رجالا وركبانا إبماء مستقبلي القبلة وغير مستقبليها كما نص عليه تعالى بقوله: * (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) *.
وأما الشافعي رحمه الله فإنه اختار من هيئات صلاة الخوف أربعا:
إحداها: هي التي ذكرنا آنفا عند اشتداد الخوف والتحام القتال حتى لا يمكن لأحد منهم ترك القتال فإنهم يصلون كما ذكرنا رجالا وركبانا إلخ الهيئة.
الثانية: هي التي صلاها صلى الله عليه وسلم ببطن نخل وهي أن يصلي بالطائفة الأولى صلاتهم كاملة ثم يسلمون جميعهم: الإمام والمأمومون ثم تأتي الطائفة الأخرى التي كانت في وجه العدو فيصلي بهم مرة أخرى هي لهم فريضة وله نافلة وصلاة بطن نخله هذه رواها جابر وأبو بكرة فأما حديث جابر فرواه مسلم أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحدى الطائفتين ركعتين ثم صلى بالطائفة الأخرى ركعتين فصلى
256

رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وصلى بكل طائفة ركعتين.
وذكره البخاري مختصرا ورواه الشافعي والنسائي وابن خزيمة من طريق الحسن عن جابر وفيه أنه سلم من الركعتين أولا ثم صلى ركعتين بالطائفة الأخرى.
وأما حديث أبي بكرة فرواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم والدارقطني وفي رواية بعضهم أنها الظهر وفي رواية بعضهم أنها المغرب وإعلال ابن القطان لحديث أبي بكرة هذا بأنه أسلم بعد وقوع صلاة الخوف بمدة مردود بأنا لو سلمنا أنه لم يحضر صلاة الخوف فحديثه مرسل صحابي ومراسيل الصحابة لهم حكم الوصل كما هو معلوم واعلم أن حديث أبي بكرة ليس فيه أن ذلك كان ببطن نخل.
وقد استدل الشافعية بصلاة بطن نخل هذه على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل.
واعلم أن هذه الكيفية التي ذكرنا أنها هي كيفية صلاة بطن نخل كما ذكره النووي وابن حجر وغيرهما قد دل بعض الروايات عند مسلم والبخاري وغيرهما على أنهاهي صلاة ذات الرقاع وجزم ابن حجر بأنهما صلاتان والله تعالى أعلم.
وقد دل بعض الروايات على أن صلاة نخل هي صلاة عسفان والله تعالى أعلم.
الهيئة الثالثة: من الهيئات التي اختارها الشافعي: صلاة عسفان وكيفيتها كما قال جابر رضي الله عنه قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فصفنا صفين صف خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم والعدو بيننا وبين القبلة فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وكبرنا جميعا ثم ركع وركعنا جميعا ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ثم انحذر بالسجود والصف الذي يليه وقام الصف المؤخر في نحر العدو فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المتقدم ثم ركع النبي صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعا ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرا في الركعة الأولى وقام الصف المؤخر في نحور العدو فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعا هذا لفظ مسلم في صحيحه وأخرج النسائي والبيهقي من رواية ابن عباس ورواه أبو داود النسائي وابن حبان والحاكم من رواية أبي عياش الزرقي واسمه زيد بن الصامت وهو صحابي
257

.
وقول ابن حجر في التقريب في الكنى: إنه تابعي الظاهر أنه سهو منه رحمه الله وإنما قلنا: إن هذه الكيفية من الكيفيات التي اختارها الشافعي مع أنها مخالفة للصورة التي صحت عنه في صلاة عسفان؛ لأنه أوصى على العمل بالحديث إذا صح وأنه مذهبه والصورة التي صحت عن الشافعي رحمه الله في مختصر المزني والأم أنه قال: صلى بهم الإمام وركع وسجد بهم جميعا إلا صفا يليه أو بعض صف ينتظرون العدو فإذا قاموا بعد السجدتين سجد الصف الذي حرسهم فإذا ركع ركع بهم جميعا وإذا سجد سجد معه الذين حرسوا أولا إلا صفا أو بعض صف يحرسه منهم فإذا سجدوا سجدتين وجلسوا سجد الذين حرسوا ثم يتشهدون ثم سلم بهم جميعا معا وهذا نحو صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان قال: ولو تأخر الصف الذي حرس إلى الصف الثاني وتقدم الثاني فحرس فلا بأس. انتهى بواسطة نقل النووي.
والظاهر أن الشافعي رحمه الله يرى أن الصورتين أعني: التي ذكرنا في حديث جابر وابن عباس وأبي عياش الزرقي والتي نقلناها عن الشافعي كلتاهما جائزة واتباع ما ثبت في الصحيح أحق من غيره وصلاة عسفان المذكورة صلاة العصر.
وقد جاء في بعض الروايات عند أبي داود وغيره أن مثل صلاة عسفان التي ذكرنا صلاها أيضا صلى الله عليه وسلم يوم بني سليم.
الرابعة: من الهيئات التي اختارها الشافعي رحمه الله هي: صلاة ذات الرقاع والكيفية التي اختارها الشافعي منها هي التي قدمنا رواية مالك لها عن يزيد بن رومان وهي أن يصلي بالطائفة الأولى ركعة ثم يفارقونه ويتمون لأنفسهم ويسلمون ويذهبون إلى وجوه العدو وهو قائم في الثانية يطيل القراءة حتى يأتي الآخرون فيصلي بهم الركعة الباقية ويجلس ينتظرهم حتى يصلوا ركعتهم الباقية ثم يسلم بهم وهذه الكيفية قد قدمنا أن مالكا رواها عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوات بن جبير عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف يوم ذات الرقاع وأخرجها الشيخان من طريقه فقد رواه البخاري عن قتيبة عن مالك ومسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك نحو
ما ذكرنا وقد قدمنا أن مالكا قال بهذه الكيفية أولا ثم رجع عنها إلى أن الإمام يسلم ولا ينتظر إتمام الطائفة الثانية صلاتهم حتى يسلم بهم. وصلاة ذات الرقاع لها كيفية أخرى غير هذه التي اختيار الشافعي وهي ثابتة في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو
258

ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو وجاء أولئك ثم صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة.
وهذا لفظ مسلم ولفظ البخاري بمعناه ولم تختلف الطرق عن ابن عمر في هذا وظاهره أنهم أتموا لأنفسهم في حالة واحدة ويحتمل أنهم أتموا على التعاقب وهو الراجح من حيث المعنى؛ لأن إتمامهم في حالة واحدة يستلزم تضييع الحراسة المطلوبة وإفراد الإمام وحده ويرجحه ما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود ولفظه: ثم سلم فقام هؤلاء أي: الطائفة الثانية فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا ثم ذهبوا ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا. وظاهره أن الطائفة الثانية والت بين ركعتيها ثم أتمت الطائفة الأولى بعدها واعلم أن ما ذكره الرافعي وغيره من كتب الفقه من أن في حديث ابن عمر هذا أن الطائفة الثانية تأخرت وجاءت الطائفة الأولى فأتموا ركعة ثم تأخروا وعادت الطائفة الثانية فأتموا مخالف للروايات الثابتة في الصحيحين وغيرهما.
وقال ابن حجر في (الفتح): إنه لم يقف عليه في شئ من الطرق وأما الإمام أحمد رحمه الله فإن جميع أنواع صلاة الخوف الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم جائزة عنده والمختار منها عنده صلاة ذات الرقاع التي قدمنا اختيار الشافعي لها أيضا وهي أن يصلي الإمام بالطائفة الأولى ركعة ثم يتمون لأنفسهم ويسلمون ويذهبون إلى وجوه العدو؛ ثم تأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم الركعة الأخرى ثم يصلون ركعة فإذا أتموها وتشهدوا سلم بهم.
وأما الإمام أبو حنيفة رحمه الله فالمختار منها عنده أن الإمام يصلي بالطائفة الأولى ركعة إن كان مسافرا أو كانت صبحا مثلا واثنتين إن كان مقيما ثم تذهب هذه الطائفة الأولى إلى وجوه العدو ثم تجىء الطائفة الأخرى ويصلي بهم ما بقي من الصلاة ويسلم وتذهب هذه الطائفة الأخيرة إلى وجوه العدو وتجىء الطائفة الأولى وتتم بقية صلاتها بلا قراءة؛ لأنهم لاحقون ثم يذهبون إلى وجوه العدو وتجىء الطائفة الأخرى فيتمون بقية صلاتهم بقراءة؛ لأنهم مسبوقون واحتجوا لهذه الكيفية بحديث ابن عمر المتقدم وقد قدمنا أن هذه الكيفية ليست في رواية الصحيحين وغيرهما لحديث ابن عمر.
وقد قدمنا أيضا من حديث ابن مسعود عند أبي داود أن الطائفة الأخرى لما صلوا
259

مع النبي صلى الله عليه وسلم الركعة الأخرى أتموا لأنفسهم فوالوا بين الركعتين ثم ذهبوا إلى وجوه العدو فجاءت الطائفة الأولى فصلوا ركعتهم الباقية هذا هو حاصل المذاهب الأربعة في صلاة الخوف.
وقال النووي في شرح المهذب صلاة ذات الرقاع أفضل من صلاة بطن نخل على أصح الوجهين؛ لأنها أعدل بين الطائفتين؛ ولأنها صحيحة بالإجماع وتلك صلاة مفترض خلف متنفل وفيها خلاف للعلماء. والثاني وهو قول أبي إسحاق صلاة بطن نخل أفضل لتحصل كل طائفة فضيلة جماعة تامة. واعلم أن الإمام في الحضرية يصلي بكل واحدة من الطائفتين ركعتين وفي السفرية ركعة ركعة ويصلى في المغرب بالأولى ركعتين عند الأكثر.
وقال بعضهم: يصلي بالأولى في المغرب ركعة واعلم أن التحقيق أن غزوة ذات الرقاع بعد خيبر وإن جزم جماعة كثيرة من المؤرخين بأن غزوة ذات الرقاع قبل خيبر والدليل على ذلك الحديث الصحيح أن قدوم أبي موسى الأشعري على النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر مع الحديث الصحيح أن أبا موسى شهد غزوة ذات الرقاع.
قال البخاري في صحيحه: حدثني محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة حدثنا بريد بن عبد الله عن أبي بردة؛ عن أبي موسى رضي الله عنه قال: بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهم أحدهما أبو بردة والآخر أبو رهم إما قال بضع وإما قال في ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلا من قومي فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبي طالب فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر الحديث... وفيه التصريح بأن قدوم أبي موسى حين افتتاح خيبر.
وقد قال البخاري أيضا: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة عن بريد بن أبي بردة عن أبي بريدة عن أبي موسى رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة ونحن في ستة نفر بيننا بعير نعتقبه فنقبت أقدامنا ونقبت قدماي وسقطت أظفاري وكنا نلف على أرجلنا الخرق فسميت غزوة ذات الرقاع الحديث. فهذان الحديثان الصحيحان فيهما الدلالة الواضحة على تأخر ذات الرقاع عن خيبر وقد قال البخاري رحمه الله: باب غزوة ذات الرقاع وهي غزوة محارب خصفة من بني ثعلبة من غطفان فنزل نخلا وهي بعد خيبر؛ لأن أبا موسى جاء بعد خيبر الخ. وإنما بينا هذا ليعلم به أنه
260

لا حجة في عدم صلاة الخوف في غزوة الخندق على أنها مشروعة في الحضر بدعوى أن ذات الرقاع قبل الخندق وأن صلاة الخوف كانت مشروعة قبل غزوة الأحزاب التي هي غزوة الخندق وأنه صلى الله عليه وسلم ما تركها مع أنهم شغلوه وأصحابه عن صلاة الظهر والعصر إلى الليل إلا لأنها لم تشرع في الحضر بل التحقيق أن صلاة الخوف ما شرعت إلا بعد الخندق وأشار أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي إلى غزوة ذات الرقاع بقوله: الرجز:
* ثم إلى محارب وثعلبة
* ذات الرقاع ناهزوا المضاربة
*
* ولم يكن حرب وغورث جرى
* بها له الذي لدعثور جرى
*
* مع النبي وعلى المعتمد
* جرت لواحد بلا تعدد
*
والناظم هذا يرى أنها قبل خيبر تبعا لابن سيد الناس ومن وافقه ومما اختلف فيه العلماء من كيفيات صلاة الخوف صلاة ذي قرد وهي أن تصلى كل واحدة مع الإمام ركعة واحدة وتقتصر عليها وقد قدمنا ذلك من حديث ابن عباس عند مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجة. ومن حديث حذيفة عند أبي داود والنسائي وهذه الكيفية هي التي صلاها حذيفة بن اليمان لما قال سعيد بن العاص بطبرستان: أيكم صلى صلاة الخوف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال حذيفة: أنا وصلى بهم مثل ما ذكرنا كما أخرجه النسائي عنه وعن زيد بن ثابت ورواه أبو داود عن ثعلبة بن زهدم وهو الذي رواه من طريقه النسائي ولفظ أبي داود عن ثعلبة بن زهدم قال: كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقام فقال: أيكم صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا. فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا.
قال أبو داود: وكذا رواه عبيد الله بن عبد الله ومجاهد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن شقيق عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ويزيد الفقير وأبو موسى.
قال أبو داود: رجل من التابعين ليس بالأشعري جميعا عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال بعضهم عن شعبة في حديث يزيد الفقير إنهم قضوا ركعة أخرى وكذلك رواه سماك الحنفي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك رواه زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فكانت للقوم ركعة ركعة وللنبي صلى الله عليه وسلم ركعتين. اه منه بلفظه.
وقال القرطبي في تفسيره ما نصه: قال السدي إذا صليت في السفر ركعتين
261

فهو تمام والقصر لا يحل إلا أن تخاف فهذه الآية مبيحة أن تصلي كل طائفة ركعة لا تزيد عليها شيئا؛ ويكون للإمام ركعتان وروي نحوه عن ابن عمر وجابر بن عبد الله وكعب وفعله حذيفة بطبرستان وقد سأله الأمير سعيد بن العاص عن ذلك وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك في غزوة ذي قرد ركعة لكل طائفة ولم يقضوا وروي عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه كذلك يوم غزوة محارب خصفة وبني ثعلبة وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك بين ضجنان وعسفان وبكون كل من الطائفتين تقتصر على ركعة واحدة.
قال أيضا إسحاق: وروي عن الإمام أحمد وجمهور العلماء على أن الاقتصار على ركعة واحدة في الخوف لا يجوز وأجابوا عن الأحاديث الواردة بذلك من وجهين:
الأول: أن المراد بقول الصحابة الذين رووا ذلك ولم يقضوا أنهم بعدما أمنوا وزال الخوف لم يقضوا تلك الصلاة التي صلوها في حالة الخوف وتكون فيه فائدة أن الخائف إذا أمن لا يقضى ما صلى على تلك الهيئة المخالفة لهيئة صلاة الأمن ولهذا القول له وجه من النظر.
الوجه الثاني: أن قولهم في الحديث ولم يقضوا أي في علم من روى ذلك؛ لأنه قد روى أنهم قضوا ركعة في تلك الصلاة بعينها ورواية من زاد أولى قاله القرطبي وابن عبد البر ويدل له ما تقدم من رواية يزيد الفقير عن جابر من طريق شعبة عند أبي داود أنهم قضوا ركعة أخرى والمثبت مقدم على النافي ويؤيد هذه الرواية كثرة الروايات الصحيحة بعدم الاقتصار على واحدة في كيفيات صلاة الخوف والله تعالى أعلم.
وحاصل ما تقدم بيانه من كيفيات صلاة الخوف خمس وهي صلاة المسايفة الثابتة في صريح القرءان وصلاة بطن نخل وصلاة عسفان وصلاة ذات الرقاع وصلاة ذي قرد. وقد أشار الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي إلى غزوة ذات قرد بقوله: الرجز:
* فغزوة الغابة وهي ذو قرد
* خرج في إثر لقاحه وجد
*
* وناشها سلمة بن الأكوع
* وهو يقول اليوم يوم الرضع
*
* وفرض الهادي له سهمين
* لسبقه الخيل على الرجلين
*
* واستنقذوا من ابن حصن عشرا
* وقسم النبي فيهم جزرا
*
262

وقد جزم البخاري في صحيحه بأن غزوة ذات قرد قبل خيبر بثلاثة ليال وأخرج نحو ذلك مسلم في صحيحه عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: فرجعنا من الغزوة إلى المدينة فوالله ما لبثنا بالمدينة إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر فما في الصحيح أثبت مما يذكره أهل السير مما يخالف ذلك كقول ابن سعد: إنها كانت في ربيع الأول سنة ست قبل الحديبية وكقول ابن إسحاق: إنها كانت في شعبان من سنة ست بعد غزوة لحيان بأيام.
ومال ابن حجر في (فتح الباري) إلى الجمع بين ما في الحديث الصحيح وبين ما ذكره أهل السير بتكرر الخروج إلى ذي قرد وقرد بفتحتين في رواية الحديث وأهل اللغة يذكرون أنه بضم ففتح أو بضمتين وقد وردت صلاة الخوف على كيفيات أخر غير ما ذكرنا.
قال ابن القصار المالكي: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها في عشرة مواضع.
وقال ابن العربي المالكي: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الخوف أربعا وعشرين مرة.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر والله تعالى أعلم أن أفضل الكيفيات الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف ما كان أبلغ في الاحتياط للصلاة والتحفظ من العدو.
تنبيهان
الأول: آية صلاة الخوف هذه من أوضح الأدلة على وجوب الجماعة؛ لأن الأمر بها في هذا الوقت الحرج دليل واضح على أنها أمر لازم؛ إذ لو كانت غير لازمة لما أمر بها في وقت الخوف؛ لأنه عذر ظاهر.
الثاني: لا تختص صلاة الخوف بالنبي صلى الله عليه وسلم بل مشروعيتها باقية إلى يوم القيامة والاستدلال على خصوصها به صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: * (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة الآية) * استدلال ساقط وقد أجمع الصحابة وجميع المسلمين على رد مثله في قوله: * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم) * واشتراط كونه صلى الله عليه وسلم فيهم إنما ورد لبيان الحكم لا لوجوده والتقدير بين لهم بفعلك لكونه أوضح من القول كما قاله ابن العربي وغيره وشذ عن الجمهور أبو يوسف والمزني وقال بقولهما الحسن بن زياد
263

واللؤلؤي وإبراهيم بن علية فقالوا: أن صلاة الخوف لم تشرع بعده صلى الله عليه وسلم واحتجوا بمفهوم الشرط في قوله: * (وإذا كنت فيهم) * ورد عليهم بإجماع الصحابة عليها بعده صلى الله عليه وسلم وبقوله صلى الله عليه وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي وعموم منطوق هذا الحديث مقدم على ذلك المفهوم.
تنبيه
قد قررتم ترجيح أن آية: * (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلواة) * في صلاة الخوف لا صلاة السفر وإذن فمفهوم الشرط في قوله: * (وإذا ضربتم في الأرض) * يفهم منه أن صلاة الخوف لا تشرع في الحضر.
فالجواب: أن هذا المفهوم قال به ابن الماجشون فمنع صلاة الخوف في الحضر واستدل بعضهم أيضا لمنعها فيه بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها يوم الخندق وفات عليه العصران وقضاهما بعد المغرب وبأنه صلى الله عليه وسلم لم يصلها إلا في سفر وجمهور العلماء على أنها تصلى في الحضر أيضا وأجابوا بأن الشرط لا مفهوم مخالفة له أيضا لجريه على الغالب كما تقدم أو لأنه نزل في حادثة واقعة مبينا حكمها.
كما روي عن مجاهد قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعسفان والمشركون بضجنان فتوافقوا فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة تامة بركوعها وسجودها فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم فنزلت وهذه الحادثة وقعت وهم مسافرون ضاربون في الأرض وقد تقرر في الأصول أن من موانع اعتبار مفهوم المخالفة كون المنطوق نازلا على حادثة واقعة ولذا لم يعتبر مفهوم المخالفة في قوله: * (إن أردن تحصنا) * ولا في قوله: * (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) *؛ لأن كلا منهما نزل على حادثة واقعة:
فالأول: نزل في إكراه ابن أبي جواريه على الزنا وهن يردن التحصن من ذلك.
والثاني: نزل في قوم من الأنصار والوا اليهود من دون المؤمنين فنزل القرءان في كل منهما ناهيا عن الصورة الواقعة من غير إرادة التخصيص بها وأشار إليه في المراقي بقوله في تعداد موانع اعتبار مفهوم المخالفة: الرجز:
* أو امتنان أو وفاق الواقع
* والجهل والتأكيد عند السامع
*
264

وأجابوا عن كونه صلى الله عليه وسلم لم يصلها يوم الخندق بأن ذلك كان قبل نزول صلاة الخوف كما رواه النسائي وابن حبان والشافعي وبه تعلم عدم صحة قول من قال: إن غزوة ذات الرقاع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف كانت قبل الخندق وأجابوا عن كونه لم يصلها إلا في السفر بأن السفر بالنسبة إلى صلاة
الخوف وصف طردي وعلتها هي الخوف لا السفر فمتى وجد الخوف وجد حكمها كما هو ظاهر.
نكتة
فإن قيل: لم لا تكون كل هيئة من هيئات صلاة الخوف ناسخة للتي قبلها؛ لأنهم كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث فالجواب من وجهين:
الأول: هو ما تقدم من أن العدو تارة يكونون إلى جهة القبلة وتارة إلى غير جهتها إلى آخر ما تقدم وكل حالة تفعل فيها الهيئة المناسبة لها كما هو ظاهر.
الثاني: هو ما حققه بعض الأصوليين كابن الحاجب والرهوني وغيرهما من أن الأفعال لا تعارض بينها أصلا إذ الفعل لا يقع في الخارج إلا شخصيا لا كليا حتى ينافي فعلا آخر فليس للفعل الواقع قدر مشترك بينه وبين غيره فيجوز أن يقع الفعل واجبا في وقت وفي وقت آخر بخلافه وإذن فلا مانع من جواز الفعلين المختلفين في الهيئة لعبادة واحدة وعقده في مراقي السعود بقوله: الرجز:
* ولم يكن تعارض الأفعال
* في كل حالة من الأحوال
*
وما ذكره المحلي من دلالة الفعل على الجواز المستمر دون القول بحث فيه صاحب (نشر البنود) في شرح البيت المتقدم آنفا والعلم عند الله تعالى
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (أن يفتنكم الذين كفروا) * معناه: ينالونكم بسوء فروع تتعلق بهذه الآية الكريمة على القول بأنها في قصر الرباعية كما يفهم من حديث يعلى بن أمية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم وأحمد وأصحاب السنن كما تقدم.
الفرع الأول: أجمع العلماء على مشروعية قصر الرباعية في السفر خلافا لمن شذ وقال: لا قصر إلا في حج أو عمرة ومن قال: لا قصر إلا في خوف ومن قال: لا قصر إلا في سفر طاعة خاصة فإنها أقوال لا معول عليها عند أهل العلم واختلف
265

العلماء في الإتمام في السفر هل يجوز أو لا؟ فذهب بعض العلماء إلى أن القصر في السفر واجب.
وممن قال بهذا القول: أبو حنيفة رحمه الله وهو قول علي وعمر وابن عمر ويروى عن ابن عباس وجابر وبه قال الثوري وعزاه الخطابي في المعالم لأكثر علماء السلف وفقهاء الأمصار ونسبه إلى علي وعمر وابن عمر وابن عباس وعمر بن عبد العزيز وقتادة والحسن قال: وقال حماد بن أبي سليمان: يعيد من صلى في السفر أربعا. اه. منه بواسطة نقل الشوكاني رحمه الله وحجة هذا القول الذي هو وجوب القصر ما قدمنا من الأحاديث عن عائشة وابن عباس وعمر رضي الله عنهم بأن الصلاة فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر ودليل هؤلاء واضح وذهب جماعة من أهل العلم إلى جواز الإتمام والقصر كما يجوز الصوم والإفطار إلا أنهم اختلفوا هل القصر أو الإتمام أفضل؟ وبهذا قال عثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص وعائشة رضي الله عنهم.
قال النووي في شرح المهذب وحكاه العبدري عن هؤلاء يعني من ذكرنا وعن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس والحسن البصري ومالك وأحمد وأبي ثور وداود وهو مذهب أكثر العلماء ورواه البيهقي عن سلمان الفارسي في اثني عشر من الصحابة. وعن أنس والمسور بن مخرمة وعبد الرحمان بن الأسود وابن المسيب وأبي قلابة واحتج أهل هذا القول بأمور:
الأول: قوله تعالى: * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة الآية) *؛ لأن التعبير برفع الجناح دليل لعدم اللزوم.
الأمر الثاني: هو ما قدمنا في حديث يعلى بن أمية عن عمر بن الخطاب من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في القصر في السفر: صدقة تصدق الله بها عليكم الحديث فكونه صدقة وتخفيفا يدل على عدم اللزوم.
الأمر الثالث: هو ما رواه النسائي والبيهقي والدارقطني عن عائشة رضي الله عنها أنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفطر هو صلى الله عليه وسلم وقصر الصلاة وصامت هي وأتمت الصلاة فأخبرته بذلك فقال لها: أحسنت.
قال النووي في شرح المهذب: هذا الحديث رواه النسائي والدارقطني والبيهقي
266

بإسناد حسن أو صحيح قال: وقال البيهقي في السنن الكبرى.
قال الدارقطني: إسناده حسن وقال في معرفة السنن والآثار: هو إسناد صحيح.
قال مقيده _ عفا الله عنه _: الظاهر أن ما جاء في هذا الحديث من أن عمرة عائشة المذكورة في رمضان لا يصح؛ لأن المحفوظ الثابت بالروايات الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رمضان قط؛ لأنه لم يعتمر إلا أربع عمر:
الأولى: عمرة الحديبية التي صده فيها المشركون عن البيت الحرام عام ست.
الثانية: عمرة القضاء التي وقع عليها عقد الصلح في الحديبية وهي عام سبع.
الثالثة: عمرة الجعرانة بعد فتح مكة عام ثمان وكل هذه العمر الثلاث في شهر ذي القعدة بالإجماع وبالروايات الصحيحة.
الرابعة: عمرته مع حجة في حجة الوداع ورواية النسائي ليس فيها أن العمرة المذكورة في رمضان ولفظه: أخبرني أحمد بن يحيى الصوفي قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا العلاء بن زهير الأزدي قال: حدثنا عبد الرحمان بن الأسود عن عائشة: أنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة
قالت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وأفطرت وصمت. قال: أحسنت يا عائشة وما عاب علي. اه.
الأمر الرابع: ما روي عن عائشة _ رضي الله عنها _ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم.
قال النووي في شرح المهذب: رواه الدارقطني والبيهقي وغيرهما.
قال البيهقي: قال الدارقطني إسناده صحيح وضبطه ابن حجر في التلخيص بلفظ يقصر بالياء وفاعله ضمير النبي صلى الله عليه وسلم وتتم بتائين وفاعله ضمير يعود إلى عائشة فيكون بمعنى الحديث الأول ولكن جاء في بعض روايات الحديث التصريح بإسناد الإتمام المذكور للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال البيهقي: أخبرنا أبو بكر بن الحارث (الفقيه أنبأنا علي بن عمر الحافظ حدثنا المحاملي حدثنا سعيد بن محمد بن ثواب حدثنا أبو عاصم حدثنا عمر بن سعيد عن
267

عطاء بن أبي رباح عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في الصلاة ويتم ويفطر ويصوم. قال علي: هذا إسناد صحيح. اه.
قال البيهقي: وله شاهد من حديث دلهم بن صالح والمغيرة بن زياد وطلحة بن عمرو وكلهم ضعيف.
الخامس: إجماع العلماء على أن المسافر إذا اقتدى بمقيم لزمه الإتمام ولو كان القصر واجبا حتما لما جاز صلاة أربع خلف الإمام.
وأجاب أهل هذا القول عن حديث عمر وعائشة وابن عباس بأن المراد بكون صلاة السفر ركعتين أي: لمن أراد ذلك وعن قول عمر في الحديث: تمام غير قصر بأن معناه أنها تامة في الأجر قاله النووي ولا يخلو من تعسف وأجاب أهل القول الأول عن حجج هؤلاء قالوا: إن قوله تعالى: * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلواة) * في صلاة الخوف كما قدمنا فلا دليل فيه لقصر الرباعية قالوا: ولو سلمنا أنه في قصر الرباعية فالتعبير بلفظ * (ولا جناح عليكم) * لا ينافي الوجوب كما اعترفتم بنظيره في قوله تعالى: * (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) * لأن السعي فرض عند الجمهور. وعن قوله في الحديث: صدقة تصدق الله بها عليكم بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقبولها في قوله: فاقبوا صدقته والأمر يقتضي الوجوب فليس لنا عدم قبولها مع قوله صلى الله عليه وسلم: فاقبلوها وأجابوا عن الثالث والرابع بأن حديثي عائشة المذكورين لا يصح واحد منها واستدلوا على عدم صحة ذلك بما ثبت في الصحيح عن عروة أنها تأولت في إتمامها ما تأول عثمان فلو كان عندها في ذلك رواية من النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل عنها عروة أنها تأولت.
وقال ابن القيم في زاد المعاد ما نصه: وسمعت ابن تيمية يقول: هذا الحديث كذب على عائشة ولم تكن عائشة لتصلي بخلاف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الصحابة وهي تشاهدهم يقصرون ثم تتم هي وحدها بلا موجب كيف وهي القائلة: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر فكيف يظن أنها تزيد على ما فرض الله وتخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وقال الزهري لهشام بن عروة لما حدثه عن أبيه عنها بذلك فما شأنها كانت تتم
268

الصلاة فقال: تأولت كما تأول عثمان فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حسن فعلها وأقرها عليه فما للتأويل حينئذ وجه ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل على هذا التقدير وقد أخبر ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يزيد في السفر على ركعتين ولا أبو بكر ولا عمر أفيظن بعائشة أم المؤمنين مخالفتهم وهي تراهم يقصرون. وأما بعد موته صلى الله عليه وسلم فإنها أتمت كما أتم عثمان وكلاهما تأول تأويلا. والحجة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم مع مخالفة غيره له والله أعلم. اه. محل الغرض منه بلفظه.
قال مقيده عفا الله عنه: إما استبعاد مخالفة عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته مع الاعتراف بمخالفتها له صلى الله عليه وسلم بعد وفاته فإنه يوهم أن مخالفته بعد وفاته سائغة ولا شك أن المنع من مخالفته في حياته باق بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فلا يحل لأحد البتة مخالفة ما جاء به من الهدى إلى يوم القيامة: فعلا كان أو قولا أو تقريرا ولا يظهر كل الظهور أن عائشة تخالف هدي الرسول صلى الله عليه وسلم باجتهاد ورواية من روى أنها تأولت تقتضي نفي روايتها عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا في ذلك والحديث المذكور فيه إثبات أنها روت عنه ذلك والمثبت مقدم على النافي فبهذا يعتضد الحديث الذي صححه بعضهم وحسنه بعضهم كما تقدم.
والتحقيق أن سند النسائي المتقدم الذي روى به هذا الحديث صحيح وإعلال ابن حبان له بأن فيه العلاء بن زهير الأزدي وقال فيه: إنه يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الإثبات فبطل الاحتجاج به مردود بأن العلاء المذكور ثقة كما قاله ابن حجر في التقريب وغيره وإعلال بعضهم له بأن عبد الرحمان بن الأسود لم يدرك عائشة مردود بأنه أدركها.
قال الدارقطني وعبد الرحمان أدرك عائشة فدخل عليها وهو مراهق وذكر الطحاوي عن عبد الرحمان أنه دخل على عائشة بالاستئذان بعد احتلامه وذكر صاحب الكمال أنه سمع منها وذكر البخاري في تاريخه وابن أبي شيبة ما يشهد لذلك قاله ابن حجر وإعلال الحديث المذكور بأنه مضطرب؛ لأن بعض الرواة يقول عن عبد الرحمان بن الأسود عن أبيه عن عائشة وبعضهم يقول عن عبد الرحمان عن عائشة مردود أيضا بأن رواية من قال عن أبيه خطأ والصواب عن عبد الرحمان بن الأسود عن عائشة.
قال البيهقي بعد أن ساق أسانيد الروايتين: قال أبو بكر النيسابوري: هكذا قال
269

أبو نعيم عن عبد الرحمان عن عائشة ومن قال عن أبيه في هذا الحديث فقط أخطأ. اه.
فالظاهر ثبوت هذا الحديث وهو يقوي حجة من لم يمنع إتمام الرباعية في السفر وهم أكثر العلماء وذهب الإمام مالك بن أنس إلى أن قصر الرباعية في السفر سنة وأن من أتم أعاد في الوقت؛ لأن الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواظب على القصر في أسفاره وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان في غير أيام منى ولم يمنع مالك الإتمام
؛ للأدلة التي ذكرنا والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثاني: اختلف العلماء في تحديد المسافة التي تقصر فيها الصلاة. فقال مالك والشافعي وأحمد: هي أربعة برد والبريد أربعة فراسخ والفرسخ ثلاثة أميال وتقريبه بالزمان مسيرة يومين سيرا معتدلا وعندهم اختلاف في قدر الميل معروف واستدل من قال بهذا القول بما رواه مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه أنه ركب إلى ريم فقصر الصلاة في مسيره ذلك.
قال مالك: وذلك نحو من أربعة برد وريم موضع. قال بعض شعراء المدينة: الوافر:
* فكم من حرة بين المنقى
* إلى أحد إلى جنبات ريم
*
وبما رواه مالك عن نافع عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر ركب إلى ذات النصب فقصر الصلاة في مسيره ذلك.
قال مالك: وبين ذات النصب والمدينة أربعة برد وبما قال مالك: إنه بلغه أن عبد الله بن عباس كان يقصر الصلاة في مثل ما بين مكة والطائف وفي مثل ما بين مكة وعسفان وفي مثل ما بين مكة وجدة.
قال مالك: وذلك أربعة برد وذلك أحب ما تقصر فيه الصلاة إلي وبما رواه مالك عن نافع أنه كان يسافر مع ابن عمر البريد فلا يقصر الصلاة. كل هذه الآثار المذكورة في الموطأ وممن قال بهذا ابن عمر وابن عباس كما ذكرناه عنهما.
وقال البخاري رحمه الله في صحيحه: وكان ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم يقصران ويفطران في أربعة برد وهي ستة عشر فرسخا. اه. وبه قال الحسن البصري والزهري والليث بن سعد وإسحاق وأبو ثور نقله عنهم النووي وذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا يجوز القصر في أقل من مسافة ثلاثة أيام وممن قال به أبو
270

حنيفة وهو قول عبد الله بن مسعود وسويد بن غفلة والشعبي والنخعي والحسن بن صالح والثوري وعن أبي حنيفة أيضا يومان وأكثر الثالث واحتج أهل هذا القول بحديث ابن عمر وحديث أبي سعيد الثابتين في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم وبحديث: مسح المسافر على الخف ثلاثة أيام ولياليهن ووجه الاحتجاج بهذا الحديث الأخير أنه يقتضي أن كل مسافر يشرع له مسح ثلاثة أيام ولا يصح العموم في ذلك إلا إذا قدر أقل مدة السفر بثلاثة أيام؛ لأنها لو قدرت بأقل من ذلك لا يمكنه استيفاء مدته؛ لانتهاء سفره فاقتضى ذلك تقديره بالثلاثة وإلا لخرج بعض المسافرين عنه. اه.
والاستدلال بالحديثين غير ظاهر فيما يظهر لي؛ لأن المراد بالحديث الأول: أن المرأة لا يحل لها سفر مسافة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم وهذا لا يدل على تحديد أقل ما يسمى سفرا ويدل له أنه ورد في بعض الروايات الصحيحة لا تسافر المرأة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم.
وفي بعض الروايات الصحيحة: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة وفي رواية لمسلم مسيرة يوم وفي رواية له ليلة وفي رواية أبي داود لا تسافر بريدا ورواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.
وقال البيهقي في السنن الكبرى: وهذه الرواية في الثلاثة واليومين واليوم صحيحة وكأن النبي صلى الله عليه وسلم: سئل عن المرأة تسافر ثلاثا من غير محرم فقال: لا وسئل عنها تسافر يومين من غير محرم فقال: لا ويوما فقال: لا فأدى كل واحد منهم ما حفظ ولا يكون عدد من هذه الأعداد حدا للسفر. اه منه بلفظه.
فظهر من هذا أن الاستدلال على أقل السفر بالحديث غير متجه كما ترى لا سيما أن ابن عمر راويه قد خالفه كما تقدم والقاعدة عند الحنفية أن العبرة بما رأى الصحابي لا بما روى. وأما الاستدلال بحديث توقيت مسح المسافر بثلاثة أيام بلياليهن فهو أيضا غير متجه لأنه إذا انتهى سفره قبلها صار مقيما وزال عنه اسم السفر وليس في الحديث أنه لا بد من أن يسافر ثلاثة بل غاية ما يفيده الحديث أن المسافر له في المسح على الخف
271

مدة ثلاثة أيام فإن مكثها مسافرا فذلك وإن أتم سفره قبلها صار غير مسافر ولا إشكال في ذلك وذهب جماعة من أهل العلم: إلى أن القصر يجوز في مسيرة يوم تام وممن قال به الأوزاعي وابن المنذر واحتجوا بما تقدم في بعض الروايات الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق اسم السفر على مسافة يوم والسفر هو مناط القصر وبما رواه مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر كان يقصر الصلاة في مسيرة اليوم التام وظاهر صنيع البخاري أنه يختار أنها يوم وليلة؛ لأنه قال: باب في كم يقصر الصلاة وسمى النبي صلى الله عليه وسلم يوما وليلة سفرا؛ لأن قوله: وسمى النبي الخ... بعد قوله: في كم يقصر الصلاة يدل على أن ذلك هو مناط القصر عنده كما هو ظاهر.
وذهب بعض العلماء إلى جواز القصر في قصير السفر وطويله وممن قال بهذا داود الظاهري قال عنه بعض أهل العلم: حتى إنه لو خرج إلى بستان خارج البلد قصر واحتج أهل هذا القول بإطلاق الكتاب والسنة جواز القصر بلا تقييد للمسافة وبما رواه مسلم في صحيحه عن يحيى بن يزيد الهنائي قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ _ شعبة الشاك _ صلى ركعتين هذا لفظ مسلم وبما رواه مسلم أيضا في الصحيح عن جبير بن نفير قال: خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلا فصلى ركعتين فقلت له. فقال: رأيت عمر صلى بذي الحليفة ركعتين فقلت له فقال: إنما أفعل كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل وأجيب من جهة الجمهور بأنه لا دليل في حديثي مسلم المذكورين؛ لأنه ليس المراد بهما أن تلك المسافة المذكورة فيهما هي غاية السفر بل معناه أنه كان إذا سافر سفرا طويلا فتباعد ثلاثة أميال قصر؛ لأن الظاهر أنه صلى الله عليه وسلم كان لا
يسافر عند دخول وقت الصلاة إلا بعد أن يصليها فلا تدركه الصلاة الأخرى إلا وقد تباعد من المدينة وكذلك حديث شرحبيل المذكور. فقوله إن عمر رضي الله عنه صلى بذي الحليفة ركعتين محمول على ما ذكرناه في حديث أنس وهو أنه كان مسافرا إلى مكة أو غيرها فمر بذي الحليفة وأدركته الصلاة فصلى ركعتين لا أن ذا الحليفة غاية سفره قاله النووي وغيره وله وجه من النظر ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم القصر صريحا فيما دون مرحلتين كما جزم به النووي.
قال مقيده عفا الله عنه قال ابن حجر في تلخيص الحبير: وروى سعيد بن
272

منصور عن أبي سعيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فرسخا يقصر الصلاة وسكت عليه فإن كان صحيحا فهو ظاهر في قصر الصلاة في المسافة القصيرة ظهورا أقوى من دلالة حديثي مسلم المتقدمين.
قال مقيده عفا الله عنه: هذا الذي ذكرنا هو حاصل كلام العلماء في تحديد مسافة القصر والظاهر أنه ليس في تحديدها نص صريح وقد اختلف فيها على نحو من عشرين قولا وما رواه البيهقي والدارقطني والطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد ضعيف؛ لأن في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد وهو متروك وكذبه الثوري.
وقال الأزدي: لا تحل الرواية عنه وراويه عنه إسماعيل بن عياش وروايته عن غير الشاميين ضعيفة وعبد الوهاب المذكور حجازي لا شامي والصحيح في هذا الحديث أنه موقوف على ابن عباس رواه عنه الشافعي بإسناد صحيح ورواه عنه مالك في الموطأ بلاغا وقد قدمناه.
والظاهر أن الاختلاف في تحديد المسافة من نوع الاختلاف في تحقيق المناط فكل ما كان يطلق عليه اسم السفر في لغة العرب يجوز القصر فيه؛ لأنه ظاهر النصوص ولم يصرف عنه صارف من نقل صحيح ومطلق الخروج من البلد لا يسمى سفرا وقد كان صلى الله عليه وسلم يذهب إلى قباء وإلى أحد ولم يقصر الصلاة والحديثان اللذان قدمنا عن مسلم محتملان وحديث سعيد بن منصور المتقدم لا نعلم أصحيح هو أم لا؟ فإن كان صحيحا كان نصا قويا في قصر الصلاة في المسافة القصيرة والطويلة وقصر أهل مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع دليل عند بعض العلماء على القصر في المسافة غير الطويلة وبعضهم يقول: القصر في مزدلفة ومنى وعرفات من مناسك الحج والله تعالى أعلم.
قال مقيده عفا الله عنه: أقوى الأقوال فيما يظهر لي حجة هو قول من قال: إن كل ما يسمى سفرا ولو قصيرا تقصر فيه الصلاة؛ لإطلاق السفر في النصوص ولحديثي مسلم المتقدمين وحديث سعيد بن منصور وروى ابن أبي شيبة عن وكيع عن مسعر عن محارب سمعت ابن عمر يقول: إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر.
وقال الثوري: سمعت جبلة بن سحيم سمعت ابن عمر يقول: لو خرجت
273

ميلا قصرت الصلاة.
قال ابن حجر في الفتح: إسناد كل منهما صحيح. اه والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثالث: يبتدئ المسافر القصر إذا جاوز بيوت بلده بأن خرج من البلد كله ولا يقصر في بيته إذا نوى السفر ولا في وسط البلد وهذا قول جمهور العلماء منهم الأئمة الأربعة وأكثر فقهاء الأمصار وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قصر بذي الحليفة وعن مالك أنه إذا كان في البلد بساتين مسكونة أن حكمها حكم البلد فلا يقصر حتى يجاوزها واستدل الجمهور؛ على أنه لا يقصر إلا إذا خرج من البلد بأن القصر مشروط بالضرب في الأرض ومن لم يخرج من البلد لم يضرب في الأرض وذهب بعض أهل العلم إلى أنه إن أراد السفر قصر وهو في منزله وذكر ابن المنذر عن الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفرا فصلى بهم ركعتين في منزله وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب ابن مسعود قال: وروينا معناه عن عطاء وسليمان بن موسى قال: وقال مجاهد: لا يقصر المسافر نهارا حتى يدخل الليل وإن خرج بالليل لم يقصر حتى يدخل النهار وعن عطاء أنه قال: إذا جاوز حيطان داره فله القصر.
قال النووي: فهذان المذهبان فاسدان فمذهب مجاهد منابذ للأحاديث الصحيحة في قصر النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة حين خرج من المدينة ومذهب عطاء وموافقيه منابذ للسفر. اه. منه وهو ظاهر كما ترى.
الفرع الرابع: اختلف العلماء في قدر المدة التي إذا نوى المسافر إقامتها لزمه الإتمام فذهب مالك والشافعي وأبو ثور وأحمد في إحدى الروايتين إلى أنها أربعة أيام والشافعية يقولون: لا يحسب فيها يوم الدخول ولا يوم الخروج ومالك يقول: إذا نوى إقامة أربعة أيام صحاح أتم.
وقال ابن القاسم: في العتيبة يلغى يوم دخوله ولا يحسبه والرواية المشهورة عن أحمد أنها ما زاد على إحدى وعشرين صلاة.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: هي نصف شهر واحتج من قال بأنها أربعة أيام بما ثبت في الصحيح من حديث العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ثلاث ليال يمكثهن المهاجر بمكة بعد الصدر هذا لفظ مسلم وفي رواية له عنه: للمهاجر إقامة ثلاث ليال بعد الصدر بمكة وفي رواية له عنه: يقيم
274

المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا وأخرجه البخاري في المناقب عن العلاء بن الحضرمي أيضا بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث للمهاجر بعد الصدر اه. قالوا فإذن النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجرين في ثلاثة أيام يدل على أن من أقامها في حكم المسافر وأن ما زاد عليها يكون إقامة والمقيم عليه الإتمام وبما أخرجه مالك في الموطأ بسند صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أجلى اليهود من الحجاز ثم أذن لمن قدم منهم تاجرا أن يقيم ثلاثا وأجيب عن هذا الدليل من جهة المخالف بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رخص لهم في الثلاث؛ لأنها مظنة قضاء حوائجهم وتهيئة أحوالهم للسفر وكذلك ترخيص عمر لليهود في إقامة ثلاثة أيام والاستدلال المذكور له وجه من النظر؛ لأنه يعتضد بالقياس؛ لأن القصر شرع لأجل تخفيف مشقة السفر ومن أقام أربعة أيام فإنها مظنة لإذهاب مشقة السفر عنه واحتج
الإمام أحمد على أنها ما زاد على إحدى وعشرين صلاة بما ثبت في الصحيح من حديث جابر وابن عباس رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة في حجة الوداع صبح رابعة فأقام النبي صلى الله عليه وسلم اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن فكان يقصر الصلاة في هذه الأيام وقد أجمع على إقامتها وهي إحدى وعشرون صلاة؛ لأنها أربعة أيام كاملة وصلاة الصبح من الثامن قال: فإذا أجمع أن يقيم كما أقام النبي صلى الله عليه وسلم قصر وإذا أجمع على أكثر من ذلك أتم.
وروى الأثرم عن أحمد رحمه الله أن هذا الاحتجاج كلام ليس يفقهه كل الناس وحمل الإمام أحمد حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة في حجة الوداع عشرا يقصر الصلاة على هذا المعنى الذي ذكرنا عنه وأن أنسا أراد مدة إقامته بمكة ومنى ومزدلفة.
قال مقيده عفا الله عنه: وهذا لا ينبغي العدول عنه لظهور وجهه ووضوح أنه الحق.
تنبيه
حديث أنس هذا الثابت في الصحيح لا يعارضه ما ثبت في الصحيح أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يقصر فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا وإن زدنا أتممنا؛ لأن حديث ابن عباس رضي الله عنهما في غزوة الفتح وحديث أنس في حجة الوداع وحديث ابن عباس محمول على
275

أنه صلى الله عليه وسلم ما كان ناويا الإقامة؛ والإقامة المجردة عن نية لا تقطع حكم السفر عند الجمهور والله تعالى أعلم.
واحتج أبو حنيفة رحمه الله لأنها نصف شهر بما روى أبو داود من طريق ابن إسحاق عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمسة عشر يقصر الصلاة وضعف النووي في الخلاصة رواية خمسة عشر.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وليس بجيد؛ لأن رواتها ثقات ولم ينفرد ابن إسحاق فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك عن عبيد الله عن ابن عباس كذلك واختار أبو حنيفة رواية خمسة عشر عن رواية سبعة عشر ورواية ثمانية عشر ورواية تسعة عشر؛ لأنها أقل ما ورد فيحمل غيرها على أنه وقع اتفاقا وأرجح الروايات وأكثرها ورودا في الروايات الصحيحة رواية تسعة عشر وبها أخذ إسحاق بن راهويه وجمع البيهقي بين الروايات بأن من قال: تسعة عشر عد يوم الدخول ويوم الخروج ومن قال: سبع عشرة حذفهما ومن قال: ثماني عشرة حذف أحدهما.
أما رواية خمسة عشر فالظاهر فيها أن الراوي ظن أن الأصل رواية سبعة عشر فحذف منها يوم الدخول ويوم الخروج فصار الباقي خمسة عشر واعلم أن الإقامة المجردة عن النية فيها أقوال للعلماء:
أحدها: أنه يتم بعد أربعة أيام.
والثاني: بعد سبعة عشر يوما.
والثالث: ثمانية عشر.
والرابع: تسعة عشر.
والخامس: عشرين يوما.
والسادس: يقصر أبدا حتى يجمع على الإقامة.
والسابع: للمحارب أن يقصر وليس لغيره القصر بعد إقامة أربعة أيام.
وأظهر هذه الأقوال أنه لا يقصر حتى ينوي الإقامة ولو طال مقامه من غير نية الإقامة ويدل له قصر النبي صلى الله عليه وسلم مدة إقامته في مكة عام الفتح كما ثبت في الصحيح وما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان والبيهقي عن جابر قال: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة. وقد صحح هذا الحديث النووي وابن حزم وأعله
276

الدارقطني في العلل بالإرسال والانقطاع وأن علي بن المبارك وغيره من الحفاظ رووه عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمان بن ثوبان مرسلا وأن الأوزاعي رواه عن يحيى عن أنس فقال: بضع عشرة وبهذا اللفظ أخرجه البيهقي وهو ضعيف.
قال البيهقي بعد إخراجه له: ولا أراه محفوظا وقد روي من وجه آخر عن جابر: بضع عشرة. اه. وقد اختلف فيه على الأوزاعي ذكره الدارقطني في العلل وقال: الصحيح عن الأوزاعي عن يحيى أن أنسا كان يفعله. قال ابن حجر: ويحيى لم يسمع من أنس.
وقال النووي في شرح المهذب: قلت ورواية المسند تفرد بها معمر بن راشد وهو إمام مجمع على جلالته وباقي الإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم فالحديث صحيح؛ لأن الصحيح أنه إذا تعارض في الحديث إرسال وإسناد حكم بالمسند. اه. منه وعقده صاحب المراقي بقوله: الرجز:
* والرفع والوصول وزيد اللفظ
* مقبولة عند إمام الحفظ
*
الخ...
واستدل أيضا من قال بأن الإقامة المجردة عن النية لا تقطع حكم السفر بما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين يقول: (يا أهل البلدة صلوا أربعا فإنا سفر فقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث فإنا سفر مع إقامته ثماني عشرة يدل دلالة واضحة على أن المقيم من غير نية الإقامة يصدق عليه اسم المسافر ويؤيده حديث: إنما الأعمال بالنيات وهذا الحديث حسنه الترمذي وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف.
قال ابن حجر: وإنما حسن الترمذي حديثه لشواهده ولم يعتبر الاختلاف في المدة كما علم من عادة المحدثين من اعتبارهم الاتفاق على الأسانيد دون السياق. اه. وعلي بن زيد المذكور أخرج له مسلم مقرونا بغيره.
وقال الترمذي في حديثه في السفر: حسن صحيح وقال: صدوق ربما رفع الموقوف ووثقه يعقوب بن شيبة.
وقال بعض أهل العلم: اختلط في كبره وقد روى عنه شعبة والثوري
277

وعبد الوارث وخلق.
وقال الدارقطني: إنما فيه لين والظاهر أن قول الدارقطني هذا أقرب للصواب فيه لكن يتقى منه ما كان بعد الاختلاط. اه. إلى غير ذلك من الأدلة على أن الإقامة دون نيتها لا تقطع حكم السفر وقد أقام الصحابة برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة. رواه البيهقي بإسناد صحيح وتضعيفه بعكرمة بن عمار مردود بأن عكرمة المذكور من رجال مسلم في صحيحه.
وقد روى أحمد في مسنده عن ثمامة بن شراحيل عن ابن عمر أنه قال: كنت بأذربيجان لا أدري قال: أربعة أشهر أو شهرين فرأيتهم يصلون ركعتين ركعتين وأخرجه البيهقي.
وقال ابن حجر في التلخيص: إن إسناده صحيح. اه.
ومذهب مالك الفرق بين العسكر بدار الحرب فلا يقصر وبين غيره فيقصر بنية إقامة أربعة أيام صحاح.
الفرع الخامس: إذا تزوج المسافر ببلد أو مر على بلد فيه زوجته أتم الصلاة؛ لأن الزوجة في حكم الوطن وهذا هو مذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابهما وأحمد وبه قال ابن عباس: وروي عن عثمان بن عفان واحتج من قال بهذا القول بما رواه الإمام أحمد وعبد الله بن الزبير الحميدي في مسنديهما عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه صلى بأهل منى أربعا وقال: يا أيها الناس لما قدمت تأهلت بها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا تأهل الرجل ببلده فإنه يصلي بها صلاة المقيم.
قال ابن القيم في زاد المعاد بعد أن ساق هذا الحديث: وهذا أحسن ما اعتذر به عن عثمان يعني: فدي مخالفته النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر في قصر الصلاة في منى وأعل البيهقي حديث عثمان هذا بانقطاعه وأن في إسناده عكرمة بن إبراهيم وهو ضعيف.
قال ابن القيم: قال أبو البركات بن تيمية: ويمكن المطالبة بسبب الضعف فإن البخاري ذكره في تاريخه ولم يطعن فيه وعادته ذكر الجرح والمجروحين وقد نص أحمد وابن عباس قبله أن المسافر إذا تزوج لزمه الإتمام وهذا قول أبي حنيفة ومالك وأصحابهما. اه. منه بلفظه.
278

قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي والله تعالى أعلم أن أحسن ما يعتذر به عن عثمان وعائشة في الإتمام في السفر أنهما فهما من بعض النصوص أن القصر في السفر رخصة كما ثبت في صحيح مسلم أنه صدقة تصدق الله بها. اه. وأنه لا بأس بالإتمام لمن لا يشق عليه ذلك كالصوم في السفر ويدل لذلك ما رواه هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أنها كانت تصلي أربعا قال: فقلت لها: لو صليت ركعتين فقالت: يا ابن أختي إنه لا يشق علي وهذا أصرح شئ عنها في تعيين ما تأولت به والله أعلم.
الفرع السادس: لا يجوز للمسافر في معصية القصر؛ لأن الترخيص له والتخفيف عليه إعانة له على معصيته ويستدل لهذا بقوله تعالى: * (فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم) * فشرط في الترخيص بالاضطرار إلى أكل الميتة كونه غير متجانف لإثم ويفهم من مفهوم مخالفته أن المتجانف لإثم لا رخصة له والعاصي بسفره متجانف لإثم والضرورة أشد في اضطرار المخمصة منها في التخفيف بقصر الصلاة ومنع ما كانت الضرورة إليه ألجأ بالتجانيف للإثم يدل على منعه به فيما دونه من باب أولى وهذا النوع من مفهوم المخالفة من دلالة اللفظ عند الجمهور لا من القياس خلافا للشافعي وقوم كما بيناه مرارا في هذا الكتاب وهو المعروف بإلغاء الفارق وتنقيح المناط ويسميه الشافعي القياس في معنى الأصل وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد وخالف في هذه المسألة أبو حنيفة رحمه الله فقال: يقصر العاصي بسفره كغيره لإطلاق النصوص؛ ولأن السفر الذي هو مناط القصر ليس معصية بعينه وبه قال الثوري والأوزاعي والقول الأول أظهر عندي والله تعالى أعلم. * (قوله تعالى إن الصلواة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ذكر في هذه الآية الكريمة أن الصلاة كانت ولم تزل على المؤمنين كتابا أي: شيئا مكتوبا عليهم واجبا حتما موقوتا أي: له أوقات يجب بدخولها ولم يشر هنا إلى تلك الأوقات ولكنه أشار لها في مواضع أخر كقوله: * (أقم الصلواة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرءان الفجر إن قرءان الفجر كان مشهودا) * فأشار بقوله: * (لدلوك الشمس) * وهو زوالها عن كبد السماء على التحقيق إلى صلاة الظهر والعصر؛ وأشار بقوله: * (إلى غسق الليل) * وهو ظلامه إلى صلاة المغرب والعشاء؛ وأشار بقوله
279

: * (وقرءان الفجر) * إلى صلاة الصبح وعبر عنها بالقرءان بمعنى القراءة؛ لأنها ركن فيها من التعبير عن الشئ باسم بعضه.
وهذا البيان أوضحته السنة إيضاحا كليا ومن الآيات التي أشير فيها إلى أوقات الصلاة كما قاله جماعة من العلماء قوله تعالى: * (فسبحان الله حين تمسون وحين
تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون) * قالوا: المراد بالتسبيح في هذه الآية الصلاة وأشار بقوله: * (حين تمسون) * إلى صلاة المغرب والعشاء وبقوله: * (وحين تصبحون) * إلى صلاة الصبح وبقوله: * (وعشيا) * إلى صلاة العصر وبقوله: * (وحين تظهرون) * إلى صلاة الظهر. وقوله تعالى: * (وأقم الصلواة طرفي النهار وزلفا من الليل) * وأقرب الأقوال في الآية أنه أشار بطرفي النهار إلى صلاة الصبح أوله وصلاة الظهر والعصر آخره أي: في النصف الأخير منه وأشار بزلف من الليل إلى صلاة المغرب والعشاء.
وقال ابن كثير: يحتمل أن الآية نزلت قبل فرض الصلوات الخمس وكان الواجب قبلها صلاتان: صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها وقيام الليل ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس وعلى هذا فالمراد بطرفي النهار بالصلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها والمراد بزلف من الليل قيام الليل. قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر أن هذا الاحتمال الذي ذكره الحافظ ابن كثير _ رحمه الله بعيد؛ لأن الآية نزلت في أبي اليسر في المدينة بعد فرض الصلوات بزمن فهي على التحقيق مشيرة لأوقات الصلاة وهي آية مدنية في سورة مكية وهذه تفاصيل أوقات الصلاة بأدلتها المبينة لها من السنة ولا يخفى أن لكل وقت منها أولا وآخرا أما أول وقت الظهر فهو زوال الشمس عن كبد السماء بالكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله تعالى: * (أقم الصلواة لدلوك الشمس) * فاللام للتوقيت ودلوك الشمس زوالها عن كبد السماء على التحقيق.
وأما السنة فمنها حديث أبي برزة الأسلمي عند الشيخين كان: النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس... الحديث ومعنى تدحض: تزول عن كبد السماء.
وفي رواية لمسلم: حين تزول وفي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه: كان
280

النبي صلى الله عليه وسلم يصلى الظهر بالهاجرة وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أنه خرج حين زاغت الشمس فصلى الظهر وفي حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أمني جبريل عند باب البيت مرتين فصلى بي الظهر حين زالت الشمس الحديث أخرجه الإمامان الشافعي وأحمد وأبو داود وابن خزيمة والدارقطني والحاكم في المستدرك وقال: حديث صحيح.
وقال الترمذي: حديث حسن فإن قيل في إسناده عبد الرحمان بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة وعبد الرحمان بن أبي الزناد وحكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف وكلهم مختلف فيهم فالجواب: أنهم توبعوا فيه فقد أخرجه عبد الرزاق عن العمري عن عمر بن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه عن ابن عباس نحوه.
قال ابن دقيق العيد: هي متابعة حسنة وصححه ابن العربي وابن عبد البر مع أن بعض رواياته ليس في إسنادها عبد الرحمان بن أبي الزناد بل سفيان عن عبد الرحمان بن الحارث المذكور عن حكيم بن حكيم المذكور فتسلم هذه الرواية من التضعيف بعبد الرحمان بن أبي الزناد ومن هذه الطريق أخرجه ابن عبد البر وقال: إن الكلام في إسناده لا وجه له وكذلك أخرجه من هذا الوجه أبو داود وابن خزيمة والبيهقي وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جبريل عليه السلام فقال له: قم فصله فصلى الظهر حين زالت الشمس الحديث أخرجه الإمام أحمد والنسائي والترمذي وابن حبان والحاكم.
وقال الترمذي: قال محمد: يعني البخاري حديث جابر أصح شئ في المواقيت.
قال عبد الحق: يعني في إمامة جبريل وهو ظاهر وعن بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل عن وقت الصلاة فقال: صل معنا هذين اليومين فلما زالت الشمس أمر بلالا رضي الله عنه فأذن ثم أمره فأقام الظهر. الحديث أخرجه مسلم في صحيحه وعن أبي موسى الأشعري _ رضي الله عنه _ أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة إلى أن قال: ثم أمره فأقام بالظهر حين زالت الشمس والقائل يقول: قد انتصف النهار وهو كان أعلم منهم الحديث رواه مسلم أيضا والأحاديث في الباب كثيرة جدا.
وأما الإجماع فقد أجمع جميع المسلمين على أن أول وقت صلاة الظهر هو زوال الشمس
281

عن كبد السماء كما هو ضروري من دين الإسلام.
وأما آخر وقت صلاة الظهر فالظاهر من أدلة السنة فية أنه عندما يصير ظل كل شئ مثله من غير اعتبار ظل الزوال فإن في الأحاديث المشار إليها آنفا أنه في اليوم الأول صلى العصر عندما صار ظل كل شئ مثله في إمامة جبريل وذلك عند انتهاء وقت الظهر وأصرح شئ في ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقت صلاة الظهر ما لم يحضر العصر وهذا الحديث الصحيح يدل على أنه إذا جاء وقت العصر فقد ذهب وقت الظهر والرواية المشهور عن مالك رحمه الله تعالى أن هذا الذي ذكرنا تحديده بالأدلة هو وقت الظهر الاختياري وأن وقتها الضروري يمتد بالاشتراك مع العصر إلى غروب الشمس.
وروي نحوه عن عطاء وطاوس والظاهر أن حجة أهل هذا القول الأدلة الدالة على اشتراك الظهر والعصر في الوقت فمن حديث ابن عباس المشار إليه سابقا فصلى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر في الأول وعن ابن عباس أيضا قال: جمع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة من غير خوف ولا سفر متفق عليه وفي رواية لمسلم: من غير خوف ولا مطر فاستدلوا بهذا على الاشتراك وقالوا أيضا: الصلوات زيد فيها على بيان جبريل في اليوم الثاني فينبغي أن يزاد في وقت الظهر.
قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر سقوط هذا الاستدلال أما الاستدلال على الاشتراك بحديث ابن عباس فصلى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر في اليوم الأول فيجاب عنه بما أجاب به الشافعي رحمه الله وهو أن معنى صلاته للظهر في اليوم الثاني فراغه منها كما هو ظاهر اللفظ ومعنى صلاته للعصر في ذلك الوقت
في اليوم الأول ابتداء الصلاة فيكون قد فرغ من صلاة الظهر في اليوم الثاني عند كون ظل الشخص مثله وابتدأ صلاة العصر في اليوم الأول عند كون ظل الشخص مثله أيضا فلا يلزم الاشتراك ولا إشكال في ذلك؛ لأن آخر وقت الظهر هو أول وقت العصر ويدل لصحة هذا الذي قاله الشافعي ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى رضي الله عنه وصلى الظهر قريبا من وقت العصر بالأمس فهو دليل صحيح واضح في أنه ابتدأ صلاة الظهر في اليوم الثاني قريبا من وقت كون ظل الشخص مثله وأتمها عند كون ظله مثله كما هو ظاهر ونظير هذا التأويل الذي ذهب إليه الشافعي قوله تعالى: * (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن) * (562) وقوله تعالى
282

: * (فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن) * (2232) فالمراد بالبلوغ الأول مقاربته وبالثاني حقيقة انقضاء الأجل.
وأما الاستدلال على الاشتراك بحديث ابن عباس المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم جمع بالمدينة من غير خوف ولا سفر فيجاب عنه بأنه يتعين حمله على الجمع الصوري جمعا بين الأدلة وهو أنه صلى الظهر في آخر وقتها حين لم يبق من وقتها إلا قدر ما تصلى فيه وعند الفراغ منها دخل وقت العصر فصلاها في أوله ومن صلى الظهر في آخر وقتها والعصر في أول وقتها كانت صورة صلاته صورة الجمع وليس ثم جمع في الحقيقة؛ لأنه أدى كلا من الصلاتين في وقتها المعين لها كما هو ظاهر وستأتي له زيادة إيضاح إن شاء الله.
وأما الاستدلال بأن الصلوات زيد فيها على بيان جبريل فهو ظاهر السقوط؛ لأن توقيت العبادات توقيفي بلا نزاع والزيادة في الأوقات المذكورة ثبتت بالنصوص الشرعية.
وأما صلاة العصر فقد دلت نصوص السنة على أن لها وقتا اختياريا ووقتا ضروريا أما وقتها الاختياري فأوله عندما يكون ظل كل شئ مثله من غير اعتبار ظل الزوال ويدخل وقتها بانتهاء وقت الظهر المتقدم بيانه ففي حديث ابن عباس المتقدم: فصلى العصر حين صار ظل كل شئ مثله.
وفي حديث جابر المتقدم أيضا: فصلى العصر حين صار ظل كل شئ مثله وهذا هو التحقيق في أول وقت العصر كما صرحت به الأحاديث المذكورة وغيرها.
وقال الشافعي: أول وقت العصر إذا صار ظل كل شئ مثله وزاد أدنى زيادة.
قال مقيده عفا الله عنه: إن كان مراد الشافعي أن الزيادة لتحقيق بيان انتهاء الظل إلى المثل إذ لا يتيقن ذلك إلا بزيادة ما كما قال به بعض الشافعية فهو موافق لما عليه الجمهور لا مخالف له وإن كان مراده غير ذلك فهو مردود بالنصوص المصرحة بأن أول وقت العصر عندما يكون ظل الشئ مثله من غير حاجة إلى زيادة مع أن الظاهر إمكان تحقيق كون ظل الشئ مثله من غير احتياج إلى زيادة ما. وشذ أبو حنيفة رحمه الله من بين عامة العلماء فقال: يبقى وقت الظهر حتى يصير الظل مثلين فإذا زاد على ذلك يسيرا كان أول وقت العصر.
283

ونقل النووي في شرح المهذب عن القاضي أبي الطيب أن ابن المنذر قال: لم يقل هذا أحد غير أبي حنيفة رحمه الله وحجته حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا حتى إذا انتصف النهار عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا إلى صلاة العصر فعجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ثم أوتينا القرءان فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين. فقال أهل الكتاب: أي ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطيتنا قيراطا قيراطا ونحن أكثر عملا؟ قال الله تعالى: (هل ظلمتكم من أجركم من شيء قالوا لا قال فهو فضلي أوتيه من أشاء) متفق عليه. قال: فهذا دليل على أن وقت العصر أقصر من وقت الظهر ومن حين يصير ظل الشئ مثله إلى غروب الشمس هو ربع النهار وليس بأقل من وقت الظهر بل هو مثله.
وأجيب عن هذا الاستدلال بأن المقصود من هذا الحديث ضرب المثل لا بيان تحديد أوقات الصلاة والمقصود من الأحاديث الدالة على انتهاء وقت الظهر عندما يصير ظل الشئ مثله هو تحديد أوقات الصلاة وقد تقرر في الأصول أن أخذ الأحكام من مظانها أولى من أخذها لا من مظانها مع أن الحديث ليس فيه تصريح بأن أحد الزمنين أكثر من الآخر وإنما فيه أن عملهم أكثر وكثرة العمل لا تستلزم كثرة الزمن لجواز أن يعمل بعض الناس عملا كثيرا في زمن قليل ويدل لهذا أن هذه الأمة وضعت عنها الآصار والأغلال التي كانت عليهم.
قال ابن عبد البر: خالف أبو حنيفة في قوله هذا الآثار والناس وخالفه أصحابه فإذا تحققت أن الحق كون أول وقت العصر عندما يكون ظل كل شئ مثله من غير اعتبار ظل الزوال.
فاعلم أن آخر وقت العصر جاء في بعض الأحاديث تحديده بأن يصير ظل كل شئ مثليه وجاء في بعضها تحديده بما قبل اصفرار الشمس وجاء في بعضها امتداده إلى غروب الشمس ففي حديث جابر وابن عباس المتقدمين في إمامة جبريل في بيانه لآخر وقت العصر في اليوم الثاني ثم صلى العصر حين كان ظل كل شئ مثليه وفي حديث عبد الله بن عمر وعند مسلم وأحمد ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس وفي حديث أبي موسى عند أحمد ومسلم وأبي داود والنسائي ثم أخر العصر فانصرف
284

منها والقائل يقول: احمرت الشمس وروى الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربع نحوه من حديث بريدة الأسلمي وفي حديث عبد الله بن عمر وعند مسلم ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس ويسقط قرنها الأول.
وفي حديث أبي هريرة المتفق عليه: ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر.
والظاهر في وجه الجمع بين هذه الروايات في تحديد آخر وقت العصر أن مصير ظل الشئ مثليه هو وقت تغيير الشمس من البياض والنقاء إلى الصفرة فيؤول معنى الروايتين إلى شئ واحد كما قاله بعض المالكية.
وقال ابن قدامة في المغني: أجمع العلماء على أن من صلى العصر والشمس بيضاء نقية فقد صلاها في وقتها وفي هذا دليل على أن مراعاة المثلين عندهم استحباب ولعلهما متقاربان يوجد أحدهما قريبا من الآخر. اه. منه بلفظه. وهذا هو انتهاء وقتها الاختياري.
وأما الروايات الدالة على امتداد وقتها إلى الغروب فهي في حق أهل الأعذاء كحائض تطهر وكافر يسلم وصبي يبلغ ومجنون يفيق ونائم يستيقظ ومريض يبرأ ويدل لهذا الجمع ما رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر الله إلا قليلا. ففي الحديث دليل على عدم جواز تأخير صلاة العصر إلى الاصفرار فما بعده بلا عذر وأول وقت صلاة المغرب غروب الشمس أي: غيبوبة قرصها بإجماع المسلمين وفي حديث جابر وابن عباس في إمامة جبريل: فصلى المغرب حين وجبت الشمس وفي حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب. أخرجه الشيخان والإمام أحمد وأصحاب السنن الأربع إلا النسائي والأحاديث بذلك كثيرة واختلف في آخر وقتها أعني المغرب فقال بعض العلماء: ليس لها إلا وقت واحد وهو قدر ما تصلى فيه أول وقتها مع مراعاة الإتيان بشروطها وبه قال الشافعي: وهو مشهور مذهب مالك وحجة أهل هذا القول أن جبريل صلاها بالنبي صلى الله عليه وسلم في الليلة الثانية في وقت صلاته لها في الأولى قالوا: فلو كان لها وقت آخر لأخرها في الثانية إليه كما فعل في جميع الصلوات غيرها.
285

والتحقيق أن وقت المغرب يمتد ما لم يغب الشفق. فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو المتقدم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ووقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق الحديث والمراد بثور الشفق: ثورانه وانتشاره ومعظمه وفي القاموس أنه حمرة الشفق الثائرة فيه وفي حديث أبي موسى المتقدم عند أحمد ومسلم وحديث بريدة المتقدم عند أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربع ثم أخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق وفي لفظ: فصلى المغرب قبل سقوط الشفق والجواب عن أحاديث إمامة جبريل حيث صلى المغرب في اليومين في وقت واحد من ثلاثة أوجه:
الأول: أنه اقتصر على بيان وقت الاختيار ولم يستوعب وقت الجواز وهذا جار في كل الصلوات ما سوى الظهر.
والثاني: أنه متقدم في أول الأمر بمكة وهذه الأحاديث بامتداد وقت المغرب إلى غروب الشفق متأخرة في آخر الأمر بالمدينة فوجب اعتمادها.
والثالث: أن هذه الأحاديث أصح إسنادا من حديث بيان جبريل فوجب تقديمها قاله الشوكاني رحمه الله ولا خلاف بين العلماء في أفضلية تقديم صلاة المغرب عند أول وقتها ومذهب الإمام مالك رحمه الله امتداد الوقت الضروري للمغرب بالاشتراك مع العشاء إلى الفجر.
وقال البيهقي في السنن الكبرى: روينا عن ابن عباس وعبد الرحمان بن عوف في المرأة تطهر قبل طلوع الفجر صلت المغرب والعشاء والظاهر أن حجة هذا القول بامتداد وقت الضرورة للمغرب إلى طلوع الفجر كما هو مذهب مالك ما ثبت في الصحيح أيضا من أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا سفر فقد روى الشيخان في صحيحيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالمدينة سبعا وثمانيا الظهر والعصر والمغرب والعشاء ومعناه: أنه يصلي السبع جميعا في وقت واحد والثمان كذلك كما بينته رواية البخاري في باب وقت المغرب عن ابن عباس قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم سبعا جميعا وثمانيا جميعا.
وفي لفظ لمسلم وأحمد وأصحاب السنن إلا ابن ماجة: جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر قيل لابن عباس: ما
286

أراد بذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أمته وبه تعلم أن قول مالك في (الموطأ) لعل ذلك لعلة المطر غير صحيح.
وفي لفظ أكثر الروايات من غير خوف ولا سفر. وقد قدمنا أن هذا الجمع يجب حمله على الجمع الصوري لما تقرر في الأصول من أن الجمع واجب إذا أمكن وبهذا الحمل تنتظم الأحاديث ولا يكون بينها خلاف ومما يدل على أن الحمل المذكور متعين ما أخرجه النسائي عن ابن عباس بلفظ: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء فهذا ابن عباس راوي حديث الجمع قد صرح بأن ما رواه من الجمع المذكور هو الجمع الصوري فرواية النسائي هذه صريحة في محل النزاع مبينة للإجمال الواقع في الجمع المذكور.
وقد تقرر في الأصول أن البيان بما سنده دون سند المبين جائز عند جماهير الأصوليين وكذلك المحدثون وأشار إليه في مراقي السعود بقوله في مبحث البيان: الرجز:
* وبين القاصر من حيث السند
* أو الدلالة على ما يعتمد
*
ويؤيده ما رواه الشيخان عن عمر وابن دينار أنه قال: يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء. قال: وأنا أظنه وأبو الشعثاء هو راوي الحديث عن ابن عباس والراوي أدرى بما روى من غيره؛ لأنه قد يعلم من سياق الكلام قرائن لا يعلمها الغائب فإن قيل ثبت في صحيح البخاري وغيره أن أيوب السختياني قال لأبي الشعثاء: لعل لك الجمع في ليلة مطيرة فقال أبو الشعثاء: عسى.
فالظاهر في الجواب والله تعالى أعلم أنا لم ندع جزم أبي الشعثاء بذلك ورواية الشيخين عنه بالظن والظن لا ينافي احتمال النقيض وذلك النقيض المحتمل هو مراده بعسى والله تعالى أعلم.
ومما يؤيده الجمع المذكور على الجمع الصوري أن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم كلاهما ممن روى عنه الجمع المذكور بالمدينة مع أن كلا منهما روى عنه ما
يدل على أن المراد بالجمع المذكور الجمع الصوري.
أما ابن مسعود فقد رواه عنه الطبراني كما ذكره ابن حجر في فتح الباري.
287

وقال الشوكاني في نيل الأوطار: رواه الطبراني عن ابن مسعود في الكبير والأوسط كما ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد بلفظ: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء فقيل له في ذلك فقال: صنعت ذلك لئلا تحرج أمتي مع أن ابن مسعود روى عنه مالك في الموطأ والبخاري وأبو داود والنسائي أنه قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين جمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها فنفي ابن مسعود للجمع المذكور يدل على أن الجمع المروي عنه الجمع الصوري؛ لأن كلا من الصلاتين في وقتها وإلا لكان قوله متناقضا والجمع واجب متى ما أمكن.
وأما ابن عمر فقد روى عنه الجمع المذكور بالمدينة عبد الرزاق كما قاله الشوكاني أيضا مع أنه روى عنه ابن جرير أنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يؤخر الظهر ويعجل العصر فيجمع بينهما ويؤخر المغرب ويعجل العشاء فيجمع بينهما قاله الشوكاني أيضا وهذا هو الجمع الصوري فهذه الروايات معينة للمراد بلفظ جمع.
واعلم أن لفظة جمع فعل في سياق الإثبات وقد قرر أئمة الأصول أن الفعل المثبت لا يكون عاما في أقسامه.
قال ابن الحاجب في مختصره الأصولي في مبحث العام ما نصه: الفعل المثبت لا يكون عاما في أقسامه مثل صلى داخل الكعبة فلا يعم الفرض والنفل إلى أن قال: وكان يجمع بين الصلاتين لا يعم وقتيهما وأما تكرر الفعل فمستفاد من قول الراوي: كان يجمع كقولهم كان حاتم يكرم الضيف... الخ.
قال شارحه العضد ما نصه: وإذا قال كان يجمع بين الصلاتين الظهر والعصر والمغرب والعشاء فلا يعم جمعهما بالتقديم في وقت الأولى والتأخير في وقت الثانية وعمومه في الزمان لا يدل عليه أيضا وربما توهم ذلك من قوله كان يفعل فإنه يفهم منه التكرار كما إذا قيل: كان حاتم يكرم الضيف وهو ليس مما ذكرناه في شئ؛ لأنه لا يفهم من الفعل وهو يجمع. بل من قول الراوي وهو كان حتى لو قال: جمع لزال التوهم انتهى محل الغرض منه بلفظه بحذف يسير لما لا حاجة إليه في المراد عندنا فقوله: حتى لو قال: جمع زال التوهم يدل على أن قول ابن عباس في الحديث المذكور جمع لا يتوهم فيه العموم وإذن فلا تتعين صورة من صور الجمع إلا بدليل
288

منفصل.
وقد قدمنا الدليل على أن المراد الجمع الصوري.
وقال صاحب جمع الجوامع عاطفا على ما لا يفيد العموم ما نصه: والفعل المثبت ونحو كان يجمع في السفر. قال شارحه صاحب الضياء اللامع ما نصه: ونحو كان يجمع في السفر أي: بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء لا عموم له أيضا؛ لأنه فعل في سياق الثبوت فلا يعم جمعهما بالتقديم في وقت الأولى والتأخير إلى وقت الثانية بهذا فسر الرهوني كلام ابن الحاجب إلى أن قال: وإنما خص المصنف هذا الفعل الأخير بالذكر مع كونه فعلا في سياق الثبوت؛ لأن في كان معنى زائد وهو اقتضاؤها مع المضارع التكرار عرفا فيتوهم منها العموم نحو كان حاتم يكرم الضيفان.
وبهذا صرح الفهري والرهوني وذكر ولي الدين عن الإمام في المحصول أنها لا تقتضي التكرار عرفا ولا لغة.
قال ولي الدين والفعل في سياق الثبوت لا يعم كالنكرة المثبتة إلا أن تكون في معرض الامتنان كقوله تعالى: * (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) *. اه. من الضياء اللامع لابن حلولو.
قال مقيده عفا الله عنه وجه كون الفعل في سياق الثبوت لا يعم هو أن الفعل ينحل عند النحويين وبعض البلاغيين عن مصدر وزمن وينحل عند جماعة من البلاغيين عن مصدر وزمن ونسبة فالمصدر كامن في معناه إجماعا والمصدر الكامن فيه لم يتعرف بمعرف فهو نكرة في المعنى ومعلوم أن النكرة لا تعم في الإثبات وعلى هذا جماهير العلماء وما زعمه بعضهم من أن الجمع الصوري لم يرد في لسان الشارع ولا أهل عصره فهو مردود بما قدمنا عن ابن عباس عند النسائي وابن عمر عند عبد الرزاق وبما رواه أبو داود وأحمد والترمذي وصححاه والشافعي وابن ماجة والدارقطني والحاكم من حديث حمنة بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها وهي مستحاضة فإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر ثم تغتسلي حتى تطهري وتصلين الظهر والعصر جمعا ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي وتغتسلين مع الصبح.
289

قال: وهذا أعجب الأمرين إلي ومما يدل على أن الجمع المذكور في حديث ابن عباس جمع صوري ما رواه النسائي من طريق عمرو بن هرم عن أبي الشعثاء أن ابن عباس صلى بالبصرة الأولى والعصر ليس بينهما شئ والمغرب والعشاء ليس بينهما شئ فعل ذلك من شغل وفيه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية لمسلم من طريق عبد الله بن شقيق أن شغل ابن عباس المذكور كان بالخطبة وأنه خطب بعد صلاة العصر إلى أن بدت النجوم ثم جمع بين المغرب والعشاء وفيه تصديق أبي هريرة لابن عباس في رفعه. انتهى من فتح الباري.
وما ذكره الخطابي وابن حجر في الفتح من أن قوله صلى الله عليه وسلم: صنعت ذلك لئلا تحرج أمتي في حديث ابن عباس وابن مسعود المتقدمين يقدح في حمله على الجمع الصوري؛ لأن القصد إليه لا يخلو من حرج وأنه أضيق من الإتيان بكل صلاة في وقتها؛ لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما يصعب إدراكه على الخاصة فضلا عن العامة يجب عنه بما أجاب به العلامة الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار وهو أن الشارع صلى الله عليه وسلم قد عرف أمته أوائل الأوقات وأواخرها وبالغ في التعريف والبيان حتى إنه عينها بعلامات حسية لا تكاد تلتبس على العامة فضلا عن الخاصة والتخفيف في تأخير إحدى الصلاتين إلى آخر وقتها وفعل الأخرى في أول
وقتها متحقق بالنسبة إلى فعل كل واحدة منهما في أول وقتها كما كان ديدنه صلى الله عليه وسلم حتى قالت عائشة رضي الله عنها: ما صلى صلاة لآخر وقتها مرتين حتى قبضه الله ولا يشك منصف أن فعل الصلاتين دفعة والخروج إليهما مرة أخف من صلاة كل منهما في أول وقتها.
وممن ذهب إلى أن المراد بالجمع المذكور الجمع الصوري ابن الماجشون والطحاوي وإمام الحرمين والقرطبي وقواه ابن سيد الناس. بما قدمنا عن أبي الشعثاء ومال إليه بعض الميل النووي في شرح المهذب في باب المواقيت من كتاب الصلاة فإن قيل: الجمع الصوري الذي حملتم عليه حديث ابن عباس هو فعل كل واحدة من الصلاتين المجموعتين في وقتها وهذا ليس برخصة بل هو عزيمة فأي فائدة إذن في قوله صلى الله عليه وسلم: لئلا تحرج أمتي مع كون الأحاديث المعينة للأوقات تشمل الجمع الصوري وهل حمل الجمع على ما شملته أحاديث التوقيت إلا من باب الاطراح لفائدته وإلغاء مضمونه فالجواب هو ما أجاب به العلامة الشوكاني رحمه الله أيضا وهو أنه لا شك أن الأقوال الصادرة منه صلى الله عليه وسلم في أحاديث توقيت الصلوات شاملة للجمع
290

الصوري كما ذكره المعترض فلا يضح أن يكون رفع الحرج منسوبا إليها بل هو منسوب إلى الأفعال ليس إلا لما عرفناك من أنه صلى الله عليه وسلم ما صلى صلاة لآخر وقتها مرتين فربما ظن ظان أن فعل الصلاة في أول وقتها متحتم لملازمته صلى الله عليه وسلم لذلك طول عمره فكان في جمعه جمعا صوريا تخفيف وتسهيل على من اقتدى بمجرد الفعل.
وقد كان اقتداء الصحابة بالأفعال أكثر منه بالأقوال ولهذا امتنع الصحابة رضي الله عنهم من نحر بدنهم يوم الحديبية بعد أن أمرهم صلى الله عليه وسلم بالنحر حتى دخل صلى الله عليه وسلم على أم سلمة مغموما فأشارت عليه بأن ينحر ويدعو الحلاق يحلق له ففعل فنحروا جميعا وكادوا يهلكون غما من شدة تراكم بعضهم على بعض حال الحلق ومما يؤيد أن الجمع المتنازع فيه لا يجوز لغير عذر ما أخرجه الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر وفي إسناده حنس بن قيس وهو ضعيف.
ومما يدل على ذلك أيضا ما قاله الترمذي في آخر سننه في كتاب العلل منه ولفظه جميع ما في كتابي هذا من الحديث معمول به وبه أخذ بعض أهل العلم ما خلا حديثين: حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر بالمدينة والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر الخ. وبه تعلم أن الترمذي يقول: إنه لم يذهب أحد من أهل العلم إلى العمل بهذا الحديث في جمع التقديم أو التأخير فلم يبق إلا الجمع الصوري فيتعين.
قال مقيده عفا الله عنه روي عن جماعة من أهل العلم أنهم أجازوا الجمع في الحضر للحاجة مطلقا لكن بشرط ألا يتخذ ذلك عادة منهم: ابن سيرين وربيعة وأشهب وابن المنذر والقفال الكبير.
وحكاه الخطابي عن جماعة من أصحاب الحديث قال ابن حجر وغيره وحجتهم ما تقدم في الحديث من قوله: لئلا تحرج أمتي وقد عرفت مما سبق أن الأدلة تعين حمل ذلك على الجمع الصوري كما ذكر والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
قد اتضح من هذه الأدلة التي سقناها أن الظهر لا يمتد لها وقت إلى الغروب وأن المغرب لا يمتد لها وقت إلى الفجر ولكن يتعين حمل هذا الوقت المنفي بالأدلة
291

على الوقت الاختياري فلا ينافي امتداد وقت الظهر الضروري إلى الغروب ووقت المغرب الضروري إلى الفجر كما قاله مالك رحمه الله لقيام الأدلة على اشتراك الظهر والعصر في الوقت عند الضرورة وكذلك المغرب والعشاء وأوضح دليل على ذلك جواز كل من جمع التقديم وجمع التأخير في السفر فصلاة العصر مع الظهر عند زوال الشمس دليل على اشتراكها مع الظهر في وقتها عند الضرورة وصلاة الظهر بعد خروج وقتها في وقت العصر في جمع التأخير دليل على اشتراكها مع الظهر في وقتها عند الضرورة أيضا وكذلك المغرب والعشاء أما جمع التأخير بحيث يصلي الظهر في وقت العصر والمغرب في وقت العشاء فهو ثابت في الروايات المتفق عليها. فقد أخرج البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم يجمع بينهما.
قال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث قوله: ثم يجمع بينهما أي: في وقت العصر وفي رواية قتيبة عن المفضل في الباب الذي بعده ثم نزل فجمع بينهما ولمسلم من رواية جابر بن إسماعيل عن عقيل: يؤخر الظهر إلى وقت العصر فيجمع بينهما ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق وله من رواية شبابة عن عقيل: حتى يدخل أول وقت العصر ثم يجمع بينهما. اه. منه بلفظه.
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء ولا يمكن حمل هذا الجمع على الجمع الصوري؛ لأن الروايات الصحيحة التي ذكرنا آنفا فيها التصريح بأنه صلى الظهر في وقت العصر والمغرب بعد غيبوبة الشفق.
وقال البيهقي في السنن الكبرى: اتفقت رواية يحيى بن سعيد الأنصاري وموسى بن عقبة وعبيد الله بن عمر وأيوب السختياني وعمر بن محمد بن زيد عن نافع على أن جمع ابن عمر بين الصلاتين كان بعد غيبوبة الشفق وخالفهم من لا يدانيهم في حفظ أحاديث نافع ثم قال بعد هذا بقليل ورواية الحفاظ من أصحاب نافع أولى بالصواب فقد رواه سالم بن عبد الله وأسلم مولى عمر وعبد الله بن دينار وإسماعيل بن عبد الرحمان بن أبي ذؤيب وقيل ابن ذؤيب عن ابن عمر نحو روايتهم ثم ساق البيهقي أسانيد رواياتهم وأما جمع التقديم بحيث يصلي العصر عند زوال الشمس مع الظهر في أول وقتها والعشاء مع المغرب عند غروب الشمس في أول وقتها فهو
292

ثابت أيضا عنه صلى الله عليه وسلم وإن أنكره من أنكره من العلماء وحاول تضعيف أحاديثه فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أحاديث منها ما هو صحيح ومنها
ما هو حسن.
فمن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه من حدبيث جابر الطويل في الحج ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا وكان ذلك بعد الزوال فهذا حديث صحيح فيه التصريح بأنه صلى العصر مقدمة مع الظهر بعد الزوال.
وقد روى أبو داود وأحمد والترمذي وقال: حسن غريب وابن حبان والدارقطني والبيهقي والحاكم عن معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر يصليهما جميعا وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم سار وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب وإبطال جمع التقديم بتضعيف هذا الحديث كما حاوله الحاكم وابن حزم لا عبرة به لما رأيت آنفا من أن جمع التقديم أخرجه مسلم في صحيحه من حديث جابر الطويل وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في السفر إذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب فإذا لم تزغ له في منزله سار حتى إذا حانت العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر وإذا حانت المغرب في منزله جمع بينها وبين العشاء وإذا لم تحن في منزله ركب حتى إذا كانت العشاء نزل فجمع بينهما رواه أحمد ورواه الشافعي في مسنده بنحوه وقال فيه: إذا سار قبل أن تزول الشمس أخر الظهر حتى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر ورواه البيهقي والدارقطني وروي عن الترمذي أنه حسنه.
فإن قيل: حديث معاذ معلول بتفرد قتيبة فيه عن الحفاظ وبأنه معنعن بيزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل ولا يعرف له منه سماع كما قاله ابن حزم وبأن في إسناده أبا الطفيل وهو مقدوح فيه بأنه كان حامل راية المختار بن أبي عبيد وهو يؤمن بالرجعة وبأن الحاكم قال: هو موضوع وبأن أبا داود قال: ليس في جمع التقديم حديث قائم وحديث ابن عباس في إسناده حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب وهو ضعيف فالجواب أن إعلاله بتفرد قتيبة به مردود من وجهين:
الأول: أن قتيبة بن سعيد رحمه الله تعالى بالمكانة المعروفة له من العدالة
293

والضبط والإتقان وهذا الذي رواه لم يخالف فيه غيره بل زاد ما لم يذكره غيره ومن حفظ حجة على من لم يحفظ وقد تقرر في علم الحديث أن زيادات العدول مقبولة لا سيما وهذه الزيادة التي هي جمع التقديم تقدم ثبوتها في صحيح مسلم من حديث جابر وسيأتي إن شاء الله أيضا أنها صحت من حديث أنس.
الوجه الثاني: أن قتيبة لم يتفرد به بل تابعه فيه المفضل بن فضالة قال ابن القيم في زاد المعاد ما نصه: فإن أبا داود رواه عن يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الرملي حدثنا المفضل بن فضالة عن الليث بن سعد عن هشام بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ فذكره فهذا المفضل قد تابع قتيبة وإن كان قتيبة أجل من المفضل وأحفظ لكن زال تفرد قتيبة به. اه. منه بلفظه.
ورواه البيهقي في السنن الكبرى قال: أخبرنا أبو علي الروذباري أنبأنا أبو بكر بن داسه حدثنا أبو داوود ثم ساق السند المتقدم آنفا أعني سند أبي داود الذي ساقه ابن القيم والمتن فيه التصريح بجمع التقديم وكذلك رواه النسائي والدارقطني كما قاله ابن حجر في التلخيص فاتضح أن قتيبة لم يتفرد بهذا الحديث؛ لأن أبا داود والنسائي والدارقطني والبيهقي أخرجوه من طريق أخرى متابعة لرواية قتيبة.
وقال ابن حجر في التلخيص: إن في سند هذه الطريق هشام بن سعد وهو لين الحديث.
قال مقيده عفا الله عنه: هشام بن سعد المذكور من رجال مسلم وأخرج له البخاري تعليقا وبه تعلم صحة طريق المفضل المتابعة لطريق قتيبة ولذا قال البيهقي في السنن الكبرى قال الشيخ وإنما أنكروا من هذا رواية يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل فأما رواية أبي الزبير عن أبي الطفيل فهي محفوظة صحيحة واعلم أنه لا يخفى أن ما يروى عن البخاري رحمه الله من أنه سأل قتيبة عمن كتب معه هذا الحديث عن الليث بن سعد فقال: كتبه معي خالد المدائني فقال البخاري: كان خالد المدائني يدخل على الشيوخ يعني يدخل في روايتهم ما ليس منها أنه لا يظهر كونه قادحا في رواية قتيبة؛ لأن العدل الضابط لا يضره أخذ آلاف الكذابين معه؛ لأنه إنما يحدث بما علمه ولا يضره كذب غيره كما هو ظاهر.
والجواب عما قاله ابن حزم من أنه معنعن بيزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل ولا
294

يعرف له منه سماع من وجهين:
الأول: أن العنعنة ونحوها لها حكم التصريح بالتحديث عند المحدثين إلا إذا كان المعنعن مدلسا ويزيد بن أبي حبيب: قال فيه الذهبي في تذكرة الحفاظ كان حجة حافظا للحديث وذكر من جملة من روى عنهم أبا الطفيل المذكور وقال فيه ابن حجر في التقريب: ثقة فقيه وكان يرسل ومعلوم أن الإرسال غير التدليس؛ لأن الإرسال في اصطلاح المحدثين هو رفع التابعي مطلقا أو الكبير خاصة الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقيل إسقاط راو مطلقا وهو قول الأصوليين فالإرسال مقطوع فيه بحذف الواسطة بخلاف التدليس فإن تدليس الإسناد يحذف فيه الراوي شيخه المباشر له ويسند إلى شيخ شيخه المعاصر بلفظ محتمل للسماع مباشرة وبواسطة نحو عن فلان وقال فلان فلا يقطع فيه بنفي الواسطة بل هو يوهم الاتصال؛ لأنه لا بد فيه من معاصرة من أسند إليه أعني: شيخ شيخه وإلا كان منقطعا كما هو معروف في علوم الحديث وقول ابن حزم لم يعرف له منه سماع ليس بقادح؛ لأن المعاصرة تكفي ولا يشترط ثبوت اللقى وأحرى ثبوت السماع فمسلم بن الحجاج لا يشترط في صحيحه إلا المعاصرة فلا يشترط اللقى وأحرى السماع وإنما اشترط اللقى البخاري قال العراقي في ألفيته: الرجز:
* وصححوا وصل معنعن سلم
* من دلسة راويه واللقا علم
*
* وبعضهم حكى بذا إجماعا
* ومسلم لم يشرط اجتماعا
*
لكن تعاصروا... إلخ
وبالجملة فلا يخفى إجماع المسلمين على صحة أحاديث مسلم مع أنه لا يشترط إلا المعاصرة وبه تعلم أن قول ابن حزم ومن وافقه إنه لا تعرف رواية يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل لا تقدح في حديثه لما علمت من أن العنعنة من غير المدلس لها حكم التحديث ويزيد بن أبي حبيب مات سنة ثمان وعشرين بعد المائة وقد قارب الثمانين.
وأبو الطفيل ولد عام أحد ومات سنة عشر ومائة على الصحيح وبه تعلم أنه لا شك في معاصرتهما واجتماعهما في قيد الحياة زمنا طويلا ولا غرو في حكم ابن حزم على رواية يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل بأنها باطلة فإنه قد ارتكب أشد من ذلك في حكمه على الحديث الثابت في صحيح البخاري: ليكونن في أمتي أقوام
295

يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف بأنه غير متصل ولا يحتج به بسبب أن البخاري قال في أول الإسناد قال: هشام بن عمار ومعلوم أن هشام بن عمار من شيوخ البخاري وأن البخاري بعيد جدا من التدليس وإلى رد هذا على ابن حزم أشار العراقي في ألفيته بقوله: الرجز:
* وإن يكن أول الاسناد حذف
* مع صيغة الجزم فتعليقا عرف
*
* ولو إلى آخره أما الذي
* لشيخه عزا بقال فكذي
*
* عنعنة كخبر المعازف
* لا تصغ لابن حزم المخالف
*
مع أن المشهور عن مالك وأحمد وأبي حنيفة رحمهم الله الاحتجاج بالمرسل والمرسل في اصطلاح أهل الأصول ما سقط منه راو مطلقا فهو بالاصطلاح الأصولي يشمل المنقطع والمعضل ومعلوم أن من يحتج بالمرسل يحتج بعنعنة المدلس من باب أولي كما صرح به غير واحد وهو واضح والجواب عن القدح في أبي الطفيل بأنه كان حامل راية المختار مردود من وجهين.
الأول: أن أبا الطفيل صحابي وهو آخر من مات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قاله مسلم وعقده ناظم عمود النسب بقوله: الرجز:
* آخر من مات من الأصحاب له
* أبو الطفيل عامر بن واثلة
*
وأبو الطفيل هذا هو عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو بن جحش الليثي نسبة إلى ليث بن بكر بن كنانة والصحابة كلهم رضي الله عنهم عدول وقد جاءت تزكيتهم في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم كما هو معلوم في محله والحكم لجميع الصحابة بالعدالة هو مذهب الجمهور وهو الحق وقال في مراقي السعود: الرجز:
* وغيره رواية والصحب
* تعديلهم كل إليه يصبو
*
* واختار في الملازمين دون من
* رآه مرة إمام مؤتمن
*
الوجه الثاني: هو ما ذكره الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار وهو أن أبا الطفيل إنما خرج مع المختار على قاتلي الحسين رضي الله عنه وأنه لم يعلم من المختار إيمانه بالرجعة والجواب عن قول الحاكم إنه موضوع بأنه غير صحيح بل هو ثابت وليس بموضوع.
قال ابن القيم: وحكمه بالوضع على هذا الحديث غير مسلم يعني: الحاكم
296

وقال ابن القيم أيضا في زاد المعاد: قال الحاكم هذا الحديث موضوع وإسناده على شرط الصحيح لكن رمى بعلة عجيبة قال الحاكم: حدثنا أبو بكر بن محمد بن أحمد بن
بالويه حدثنا موسى بن هارون حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إلى أن قال: وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم سار الحديث.
قال الحاكم: هذا الحديث رواته أئمة ثقات وهو شاذ الإسناد والمتن ثم لا نعرف له علة نعله بها فلو كان الحديث عن الليث عن أبي الزبير عن أبي الطفيل لعللنا به الحديث ولو كان عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل لعللنا به فلما لم نجد له العلتين خرج عن أن يكون معلولا ثم نظرنا فلم نجد ليزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل رواية ولا وجدنا هذا المتن بهذه السياقة عن أحد من أصحاب أبي الطفيل ولا عن أحد ممن روى عن معاذ بن جبل غير أبي الطفيل فقلنا: الحديث شاذ وقد حدثوا عن أبي العباس الثقفي قال: كان قتيبة بن سعيد يقول: لنا على هذا الحديث علامة أحمد بن حنبل وعلى ابن المديني ويحيى بن معين وأبي بكر بن أبي شيبة وأبي خيثمة حتى عد قتيبة سبعة من أئمة الحديث كتبوا عنه هذا الحديث وأئمة الحديث إنما سمعوه من قتيبة تعجبا من إسناده ومتنه ثم لم يبلغنا عن أحد منهم أنه ذكر للحديث علة ثم قال: فنظرنا فإذا بالحديث موضوع وقتيبة ثقة مأمون. اه. محل الغرض منه بتصرف يسير لا يخل بشئ من المعنى. وانظره فإن قوله ولو كان عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل لعللنا به فيه أن سنده الذي ساق فيه عن يزيد عن أبي الطفيل. وبهذا تعلم أن حكم الحاكم على هذا الحديث بأنه موضوع لا وجه له أما رجال إسناده فهم ثقات باعترافه هو وقد قدمنا لك أن قتيبة تابعه فيه المفضل بن فضالة عند أبي داود والنسائي والبيهقي والدارقطني وانفراد الثقة الضابط بما لم يروه غيره لا يعد شذوذا وكم من حديث صحيح في الصحيحين وغيرهما انفرد به عدل ضابط عن غيره وقد عرفت أن قتيبة لم يتفرد به وأما متنه فهو بعيد من الشذوذ أيضا.
وقد قدمنا أن مثله رواه مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه وصح أيضا مثله من حديث أنس.
قال ابن القيم: وقد روى إسحاق بن راهويه حدثنا شبابة حدثنا الليث عن عقيل
297

عن ابن شهاب عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر ثم ارتحل وهذا إسناد كما ترى. وشبابة هو شبابة بن سوار الثقة المتفق على الاحتجاج بحديثه وقد روى له مسلم في صحيحه فهذا الإسناد على شرط الشيخين. اه. محل الغرض منه بلفظه.
وقال ابن حجر في فتح الباري بعد أن ساق حديث إسحاق هذا ما نصه: وأعل بتفرد إسحاق به عن شبابة ثم تفرد جعفر الفريابي به عن إسحاق وليس ذلك بقادح فإنهما إمامان حافظان. اه. منه بلفظه.
وروى الحاكم في الأربعين بسند صحيح عن أنس نحو حديث إسحاق المذكور ونحوه لأبي نعيم في مستخرج مسلم قال الحافظ في بلوغ المرام بعد أن ساق حديث أنس المتفق عليه ما نصه: وفي رواية للحاكم في الأربعين بإسناد صحيح صلى الظهر والعصر ثم ركب ولأبي نعيم في مستخرج مسلم: كان إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم ارتحل.
وقال ابن حجر في تلخيص الحبير بعد أن ساق حديث الحاكم المذكور بسنده ومتنه ما نصه: وهي زيادة غريبة صحيحة الإسناد وقد صححه المنذري من هذا الوجه والعلائي وتعجب من كون الحاكم لم يورده في المستدرك قال: وله طريق أخرى رواها الطبراني في الأوسط ثم ساق الحديث بها وقال: تفرد به يعقوب بن محمد ولا يقدح في رواية الحاكم هذه ما ذكره ابن حجر في الفتح من أن البيهقي ساق سند الحاكم المذكور ثم ذكر المتن ولم يذكر فيه زيادة جمع التقديم لما قدمنا من أن من حفظ حجة على من لم يحفظ وزيادة العدول مقبولة كما تقدم.
وقال النووي في شرح المهذب بعد أن ساق حديث معاذ الذي نحن بصدده ما نصه: رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن.
وقال البيهقي: هو محفوظ صحيح وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم ارتحل رواه الإسماعيلي والبيهقي بإسناد صحيح.
قال إمام الحرمين في الأساليب: في ثبوت الجمع أخبار صحيحة هي نصوص لا يتطرق إليها تأويل ودليله في المعنى الاستنباط من صورة الإجماع وهي الجمع بعرفات ومزدلفة إذ لا يخفى أن سببه احتياج الحجاج إليه لاشتغالهم
298

بمناسكهم وهذا المعنى موجود في كل الأسفار. انتهى محل الغرض منه بلفظه.
والجواب عن قول أبي داود ليس في جمع التقديم حديث قائم هو ما رأيت من أنه ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر وصح من حديث أنس من طريق إسحاق بن راهويه وأخرجه الحاكم بسند صحيح في الأربعين وأخرجه أبو نعيم في مستخرج مسلم والإسماعيلي والبيهقي وقال: إسناده صحيح بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر وزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعا إلى آخر ما تقدم.
قال الشوكاني في نيل الأوطار: قد عرفت أن أحاديث جمع التقديم بعضها صحيح وبعضها حسن وذلك يرد قول أبي داود ليس في جمع التقديم حديث قائم والجواب عن تضعيف حديث ابن عباس المتقدم في جمع التقديم بأن في إسناده حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب هو ضعيف هو أنه روي من طريقين أخريين بهما يعتضد الحديث حتى يصير أقل درجاته الحسن.
الأولى: أخرجها يحيى بن عبد الحميد الحماني عن أبي خالد الأحمر عن الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس.
والثانية: منهما رواها إسماعيل القاضي في الأحكام عن إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه عن سليمان بن بلال عن هشام بن عروة عن كريب عن ابن عباس بنحوه قاله ابن حجر في التلخيص والشوكاني في نيل الأوطار.
وقال ابن حجر في التلخيص أيضا: يقال إن الترمذي حسنه وكأنه باعتبار المتابعة وغفل ابن العربي فصحح إسناده.
وبهذا كله تعلم أن كلا من جمع التقديم وجمع التأخير في السفر ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه صورة مجمع عليها وهي التي رواها مسلم عن جابر في حديثه الطويل في الحج كما قدمنا وهي جمع التقديم ظهر عرفات وجمع التأخير عشاء المزدلفة.
قال البيهقي في السنن الكبرى: والجمع بين الصلاتين بعذر السفر من الأمور المشهورة المستعملة فيما بين الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين مع الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم عن أصحابه ثم ما أجمع عليه المسلمون من جمع الناس بعرفات ثم بالمزدلفة. اه. منه بلفظه.
299

وروى البيهقي في السنن الكبرى أيضا عن الزهري أنه سأل سالم بن عبد الله: هل يجمع بين الظهر والعصر في السفر؟ فقال: نعم لا بأس بذلك ألم تر إلى صلاة الناس بعرفة. اه. منه بلفظه.
وقال ابن القيم في زاد المعاد: قال ابن تيمية ويدل على جمع التقديم جمعه بعرفة بين الظهر والعصر لمصلحة الوقوف ليتصل وقت لدعاء ولا يقطعه بالنزول لصلاة العصر مع إمكان ذلك بلا مشقة فالجمع كذلك لأجل المشقة والحاجة أولى.
قال الشافعي: وكان أرفق به يوم عرفة تقديم العصر؛ لأن يتصل له الدعاء فلا يقطعه بصلاة العصر والتأخير أرفق بالمزدلفة؛ لأن يتصل له المسير ولا يقطعه للنزول للمغرب لما في ذلك من التضييق على الناس. اه. من زاد المعاد.
فبهذه الأدلة التي سقناها في هذا المبحث تعلم أن العصر مشتركة مع الظهر في وقتها عند الضرورة وأن العشاء مشتركة مع المغرب في وقتها عند الضرورة أيضا وأن الظهر مشتركة مع العصر في وقتها عند الضرورة وأن المغرب مشتركة مع العشاء في وقتها عند الضرورة أيضا ولا يخفى أن الأئمة الذين خالفوا مالكا رحمه الله تعالى في امتداد وقت الضرورة للظهر إلى الغروب وامتداد وقت الضرورة للمغرب إلى الفجر كالشافعي وأحمد رحمهما الله ومن وافقهما أنهم في الحقيقة موافقون له لاعترافهم بأن الحائض إذا طهرت قبل الغروب بركعة صلت الظهر والعصر معا وكذلك إذا طهرت قبل طلوع الفجر بركعة صلت المغرب والعشاء كما قدمنا عن ابن عباس وعبد الرحمان بن عوف فلو كان الوقت خرج بالكلية لم يلزمها أن تصلي الظهر ولا المغرب للإجماع على أن الحائض لا تقضي ما فات وقته من الصلوات وهي حائض.
وقال النووي في شرح المهذب: قد ذكرنا أن الصحيح عندنا أنه يجب على المعذور الظهر بما تجب به العصر وبه قال عبد الرحمان بن عوف وابن عباس وفقهاء المدينة السبعة وأحمد وغيرهم.
وقال الحسن وحماد وقتادة والثوري وأبو حنيفة ومالك وداود: لا تجب عليه. اه. منه بلفظه ومالك يوجبها بقدر ما تصلى فيه الأولى من مشتركتي الوقت مع بقاء ركعة فهو أربع في المغرب والعشاء وخمس في الظهر والعصر للحاضر وثلاث للمسافر.
وقال ابن قدامة في المغني: وروي هذا القول يعني إدراك الظهر مثلا بما
300

تدرك به العصر في الحائض تطهر عن عبد الرحمان بن عوف وابن عباس وطاوس ومجاهد والنخعي والزهري وربيعة ومالك والليث والشافعي وإسحاق وأبي ثور.
قال الإمام أحمد: عامة التابعين يقولون بهذا القول إلا الحسن وحده قال: لا تجب إلا الصلاة التي طهرت في وقتها وحدها إلى أن قال: ولنا ما روى الأثرم وابن المنذر وغيرهما بإسنادهم عن عبد الرحمان بن عوف وعبد الله بن عباس أنهما قالا في الحائض: تطهر قبل طلوع الفجر بركعة تصلي المغرب والعشاء فإذا طهرت قبل أن تغرب الشمس صلت الظهر والعصر جميعا؛ ولأن وقت الثانية وقت الأولى حال العذر فإذا أدركه المعذور لزمه فرضها كما يلزمه فرض الثانية. اه. منه بلفظه مع حذف يسير وهو تصريح من هذا العالم الجليل الحنبلي بامتداد وقت الضرورة للمغرب إلى الفجر وللظهر إلى الغروب كقول مالك رحمه الله تعالى وأما أول وقت العشاء فقد أجمع المسلمون على أنه يدخل حين يغيب الشفق.
وفي حديث جابر وابن عباس المتقدمين في إمامة جبريل في بيان أول وقت العشاء ثم صلى العشاء حين غاب الشفق.
وفي حديث بريدة المتقدم عند مسلم وغيره ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق.
وفي حديث أبي موسى عند مسلم وغيره: ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق والأحاديث بمثل ذلك كثيرة جدا وهو أمر لا نزاع فيه.
فإذا علمت إجماع العلماء على أن أول وقت العشاء هو مغيب الشفق فاعلم أن العلماء اختلفوا في الشفق فقال بعض العلماء: هو الحمرة وهو الحق.
وقال بعضهم: هو البياض الذي بعد الحمرة ومما يدل على أن الشفق هو الحمرة ما رواه الدارقطني عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الشفق الحمرة فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة.
قال الدارقطني في الغرائب: هو غريب وكل رواته ثقات وقد أخرج ابن خزيمة في صحيحه عن عبد الله بن عمر مرفوعا ووقت صلاة المغرب إلى أن تذهب حمرة الشفق الحديث.
قال ابن خزيمة: إن صحت هذه اللفظة أغنت عن غيرها من الروايات لكن تفرد بها محمد بن يزيد
301

.
قال ابن حجر في التلخيص: محمد بن يزيد هو الواسطي وهو صدوق وروى هذا الحديث ابن عساكر وصحح البيهقي وقفه على ابن عمر.
وقال الحاكم أيضا: إن رفعه غلط بل قال البيهقي: روي هذا الحديث عن عمر وعلي وابن عباس وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس ولا يصح فيه شئ ولكن قد علمت أن
الإسناد الذي رواه ابن خزيمة به في صحيحه ليس فيه مما يوجب تضعيفه إلا محمد بن يزيد وقد علمت أنه صدوق ومما يدل على أن الحمرة الشفق ما رواه البيهقي في سننه عن النعمان بن بشير. قال: أنا أعلم الناس بوقت صلاة العشاء كان صلى الله عليه وسلم يصليها لسقوط القمر لثالثة لما حققه غير واحد من أن البياض لا يغيب إلا بعد ثلث الليل وسقوط القمر لثالثة الشهر قبل ذلك كما هو معلوم.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار: ومن حجج القائلين بأن الشفق الحمرة ما روي عنه صلى الله عليه وسلم: أنه صلى العشاء لسقوط القمر لثالثة الشهر أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي.
قال ابن العربي: وهو صحيح وصلى قبل غيبوبة الشفق.
قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي: وقد علم كل من له علم بالمطالع والمغارب أن البياض لا يغيب إلا عند ثلث الليل الأول وهو الذي حد صلى الله عليه وسلم خروج أكثر الوقت به فصح يقينا أن وقتها داخل قبل ثلث الليل الأول بيقين فقد ثبت بالنص أنه داخل قبل مغيب الشفق الذي هو البياض فتبين بذك يقينا أن الوقت دخل يقينا بالشفق الذي هو الحمرة. اه.
وابتداء وقت العشاء مغيب الشفق إجماعا لما تقدم في حديث جبريل وحديث التعليم وهذا الحديث وغير ذلك انتهى منه بلفظه وهو دليل واضح على أن الشفق الحمرة لا البياض وفي القاموس الشفق الحمرة ولم يذكر البياض.
وقال الخليل والفراء وغيرهما من أئمة اللغة: الشفق الحمرة وما روي عن الإمام أحمد رحمه الله من أن الشفق في السفر هو الحمرة وفي الحضر هو البياض الذي بعد الحمرة لا يخالف ما ذكرنا؛ لأنه من تحقيق المناط لغيبوبة الحمرة التي هي الشفق عند أحمد وإيضاحه أن الإمام أحمد رحمه الله يقول: الشفق هو الحمرة والمسافر؛ لأنه في الفلاة والمكان المتسع يعلم سقوط الحمرة أما الذي في الحضر فالأفق يستتر عنه بالجدران فيستظهر حتى يغيب البياض ليستدل بغيبوبته على مغيب
302

الحمرة فاعتباره لغيبة البياض لدلالته على مغيب الحمرة لا لنفسه. اه. من المغني لابن قدامة.
وقال أبو حنيفة رحمه الله ومن وافقه: الشفق البياض الذي بعد الحمرة وقد علمت أن التحقيق أنه الحمرة وأما آخر وقت العشاء فقد جاء في بعض الروايات الصحيحة انتهاؤه عند ثلث الليل الأول وفي بعض الروايات الصحيحة نصف الليل وفي بعض الروايات الصحيحة ما يدل على امتداده إلى طلوع الفجر.
فمن الروايات بانتهائه إلى ثلث الليل ما أخرجه البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها: كانوا يصلون العشاء فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول.
وفي حديث أبي موسى وبريدة المتقدمين في تعليم من سأل عن مواقيت الصلاة عند مسلم وغيره: أنه صلى الله عليه وسلم في الليلة الأولى أقام العشاء حين غاب الشفق وفي الليلة الثانية أخره حتى كان ثلث الليل الأول ثم قال: الوقت فيما بين هذين.
وفي حديث جابر وابن عباس المتقدمين في إمامة جبريل: أنه في الليلة الأولى صلى العشاء حين مغيب الشفق وفي الليلة الثانية صلاها حين ذهب ثلث الليل الأول وقال: الوقت فيما بين هذين الوقتين إلى غير ذلك من الروايات الدالة على انتهاء وقت العشاء عند ذهاب ثلث الليل الأول.
ومن الروايات الدالة على امتداده إلى نصف الليل ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أنس رضي الله عنه قال: أخر النبي صلى الله عليه وسلم العشاء إلى نصف الليل ثم صلى ثم قال: قد صلى الناس وناموا أما إنكم في صلاة ما انتظرتموها. قال أنس: كأني أنظر إلى وبيض خاتمه ليلتئذ.
وفي حديث عبد الله بن عمر والمتقدم عند أحمد ومسلم والنسائي وأبي داود: ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل وفي بعض رواياته: فإذا صليتم العشاء فإنه وقت إلى نصف الليل.
ومن الروايات الدالة على امتداده إلى طلوع الفجر ما رواه أبو قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجئ وقت الأخرى رواه مسلم في صحيحه.
واعلم أن عموم هذا الحديث مخصوص بإجماع المسلمين على أن وقت الصبح
303

لا يمتد بعد طلوع الشمس إلى صلاة الظهر فلا وقت للصبح بعد طلوع الشمس إجماعا فإن قيل يمكن تخصيص حديث أبي قتادة هذا بالأحاديث الدالة على انتهاء وقت العشاء إلى نصف الليل.
فالجواب: أن الجمع ممكن وهو واجب إذا أمكن وإعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما ووجه الجمع أن التحديد بنصف الليل للوقت الاختياري والامتداد إلى الفجر للوقت الضروري.
ويدل لهذا: إطباق من ذكرنا سابقا من العلماء على أن الحائض إذا طهرت قبل الصبح بركعة صلت المغرب والعشاء ومن خالف من العلماء فيما ذكرنا سابقا إنما خالف في المغرب لا في العشاء مع أن الأثر الذي قدمنا في ذلك عن عبد الرحمان بن عوف وابن عباس لا يبعد أن يكون في حكم المرفوع؛ لأن الموقوف الذي لا مجال للرأي فيه له حكم الرفع كما تقرر في علوم الحديث ومعلوم أن انتهاء أوقات العبادات كابتدائها لا مجال للرأي فيه؛ لأنه تعبدي محض.
وبهذا تعرف وجه الجمع بين ما دل على انتهائه بنصف الليل وما دل على امتداده إلى الفجر ولكن يبقى الإشكال بين روايات الثلث وروايات النصف والظاهر في الجمع والله تعالى أعلم أنه جعل كل ما بين الثلث والنصف وهو السدس ظرفا لآخر وقت العشاء الاختياري.
وإذن فلآخره أول وآخر وإليه ذهب ابن سريج من الشافعية وعلى أن الجمع بهذا الوجه ليس بمقنع فليس هناك طريق إلا الترجيح بين الروايات. فبعض العلماء رجح
روايات الثلث بأنها أحوط في المحافظة على الوقت المختار وبأنها محل وفاق لاتفاق الروايات على أن من صلى العشاء قبل الثلث فهو مؤد صلاته في وقتها الاختياري وبعضهم رجح روايات النصف بأنها زيادة صحيحة وزيادة العدل مقبولة.
وأما أول وقت صلاة الصبح فهو عند طلوع الفجر الصادق بإجماع المسلمين وهو الفجر الذي يحرم الطعام والشراب على الصائم.
وفي حديث أبي موسى وبريدة المتقدمين عند مسلم وغيره: وأمر بلالا فأقام الفجر حين انشق الفجر والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضا الحديث.
وفي حديث جابر المتقدم في إمامة جبريل أيضا: ثم صلى الفجر حين برق
304

الفجر وحرم الطعام على الصائم ومعلوم أن الفجر فجران كاذب وصادق فالكاذب لا يحرم الطعام على الصائم ولا تجوز به صلاة الصبح والصادق بخلاف ذلك فيهما وأما آخر وقت صلاة الصبح فقد جاء في بعض الروايات تحديده بالإسفار وجاء في بعضها امتداده إلى طلوع الشمس فمن الروايات الدالة على انتهائه بالإسفار ما في حديث جابر المذكور آنفا: ثم جاءه حين أسفر جدا فقال: قم فصله فصلى الفجر.
وفي حديث ابن عباس المتقدم آنفا: ثم صلى الصبح حين أسفرت الأرض الحديث. وهذا في بيانه لآخر وقت الصبح المختار في اليوم الثاني.
وفي حديث أبي موسى وبريدة المتقدمين عند مسلم وغيره: ثم أخر الفجر من الغد حتى انصرف منها والقائل يقول: طلعت الشمس أو كادت.
ومن الروايات الدالة على امتداده إلى طلوع الشمس ما أخرجه مسلم في صحيحه وغيره من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس.
وفي رواية لمسلم: ووقت الفجر ما لم يطلع قرن الشمس الأول والظاهر في وجه الجمع بين هذه الروايات أن الوقت المنتهي إلى الإسفار هو وقت الصبح الاختياري والممتد إلى طلوع الشمس وقتها الضروري وهذا هو مشهور مذهب مالك.
وقال بعض المالكية: لا ضروري للصبح فوقتها كله إلى طلوع الشمس وقت اختيار وعليه فوجه الجمع هو ما قدمنا عن ابن سريج في الكلام على آخر وقت العشاء والعلم عند الله تعالى.
فهذا الذي ذكرنا هو تفصيل الأوقات الذي أجمل في وقوله تعلاى إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا بين بعض البيان في قوله تعالى: * (أقم الصلواة لدلوك الشمس الآية) * وقوله: * (وأقم الصلواة طرفي النهار) * وقوله: * (فسبحان الله حين تمسون) * والعلم عند الله تعالى قوله تعالى. * (ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون
305

وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما) * نهى الله تعالى المسلمين في هذه الآية الكريمة عن الوهن وهو الضعف في طلب أعدائهم الكافرين وأخبرهم بأنهم إن كانوا يجدون الألم من التقل والجراح فالكفار كذلك والمسلم يرجو من الله من الثواب والرحمة ما لا يرجوه الكافر فهو أحق بالصبر على الآلام منه وأوضح هذا المعنى في آيات متعددة كقوله: * (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) * وكقوله: * (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم) * إلى غير ذلك من الآيات. * (ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه ذكر في هذه الآية أن من فعل ذنبا فإنه إنما يضر به خصوص نفسه لا غيرها وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله: * (ولا تكسب كل نفس إلا ألا تزر وازرة وزر أخرى) * وقوله: * (ومن أساء فعليها) * إلى غير ذلك من الآيات. * (قوله تعالى وعلمك ما لم تكن تعلم الآية ذكر في هذه الآية الكريمة أنه علم نبيه صلى الله عليه وسلم ما لم يكن يعلمه وبين في مواضع أخر أنه علمه ذلك عن طريق هذا القرءان العظيم الذي أنزله عليه كقوله: * (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولاكن جعلناه نورا نهدى به من نساء من عبادنا الآية) * وقوله: * (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هاذا القرءان وإن كنت من قبله لمن * الغافلين) * إلى غير ذلك من الآيات. * (لا خير في كثير من نجواهم الآية ذكر في هذه الآية الكريمة أن كثيرا من مناجاة الناس فيما بينهم لا خير فيه.
ونهى في موضع آخر عن التناجي بما لا خير فيه وبين أنه من الشيطان ليحزن به المؤمنين وهو قوله تعالى: * (يا أيها الذين ءامنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون إنما) *.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (أو إصلاح بين الناس) * لم يبين هنا هل المراد بالناس المسلمون دون الكفار أو لا.
306

ولكنه أشار في مواضع أخر أن المراد بالناس المرغب في الإصلاح بينهم هنا المسلمون خاصة كقوله تعالى: * (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم) * وقوله: * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) * فتخصيصه المؤمنين بالذكر يدل على أن غيرهم ليس كذلك كما هو ظاهر وكقوله تعالى: * (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) *.
وقال بعض العلماء: إن الأمر بالمعروف المذكور في هذه الآية في قوله: * (إلا من أمر بصدقة أو معروف) * يبينه قوله تعالى: * (والعصر * إن الإنسان لفى خسر * إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) * وقوله: * (إلا من أذن له الرحمان وقال صوابا) * والآية الأخيرة فيها أنها في الآخرة والأمر بالمعروف المذكور إنما هو في الدنيا والعلم عند الله تعالى. * (قوله تعالى وإن يدعون إلا شيطان مريدا المراد في هذه الآية بدعائهم الشيطان المريد عبادتهم له ونظيره قوله تعالى: * (ألم أعهد إليكم يبنى بنىءادم أن لا تعبدوا الشيطان) * وقوله عن خليله إبراهيم مقررا له: * (يا أبت لا تعبد الشيطان) * وقوله عن الملائكة: * (بل كانوا يعبدون الجن) * وقوله: * (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم) * ولم يبين في هذه الآيات ما وجه عبادتهم للشيطان
ولكنه بين في آيات أخر أن معنى عبادتهم للشيطان إطاعتهم له واتباعهم لتشريعه وإيثاره على ما جاءت به الرسل من عند الله تعالى كقوله: * (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) * وقوله: * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) * فإن عدي بن حاتم رضي الله عنه لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف اتخذوهم أربابا؟ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنهم أحلوا لهم ما حرم الله وحرموا عليهم ما أحل الله فاتبعوهم وذلك هو معنى اتخاذهم إياهم أربابا. ويفهم من هذه الآيات بوضوح لا لبس فيه أن من اتبع تشريع الشيطان مؤثرا له على ما جاءت به الرسل فهو كافر بالله عابد للشيطان متخذ الشيطان ربا وإن سمى أتباعه للشيطان بما شاء من الأسماء؛ لأن الحقائق لا تتغير بإطلاق الألفاظ عليها كما هو معلوم.
307

* (قوله تعالى وقال لاتخذن من عبادك نصيبا مفروضا بين هنا فيما ذكر عن الشيطان كيفية اتخاذه لهذا النصيب المفروض بقوله: * (ولأضلنهم ولأمنينهم ولامرنهم فليبتكن آذان الانعام ولامرنهم فليغيرن خلق الله) * والمراد بتبتيك آذان الأنعام شق أذن البحيرة مثلا وقطعها ليكون ذلك سمة وعلامة لكونها بحيرة أو سائبة كما قاله قتادة والسدي وغيرهما وقد أبطله تعالى بقوله: * (ما جعل الله من بحيرة) * والمراد ببحرها شق أذنها كما ذكرنا والتبتيك في اللغة: التقطيع ومنه قول زهير: البسيط:
* حتى إذا ما هوت كف الوليد لها
* طارت وفي كفه من ريشها بتك
*
أي: قطع كما بين كيفية اتخاذه لهذا النصيب المفروض في آيات أخر كقوله: * (لاقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) * وقوله: * (أرأيتك هذا الذي كرمت على لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته الآية) * ولم يبين هنا هل هذا الظن الذي ظنه إبليس ببني آدم أنه يتخذ منهم نصيبا مفروضا وأنه يضلهم تحقق لإبليس أو لا ولكنه بين في آية أخرى أن ظنه هذا تحقق له وهي قوله: * (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه الأية) * ولم يبين هنا الفريق السالم من كونه من نصيب إبليس ولكنه بينه في مواضع أخر كقوله: * (لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) * وقوله: * (إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) * إلى غير ذلك من الآيات ولم يبين هنا هل نصيب إبليس هذا هو الأكثر أو لا ولكنه بين في مواضع أخر أنه هو الأكثر كقوله: * (ولاكن أكثر الناس لا يؤمنون) * وقوله: * (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) * وقوله: * (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك) * وقوله: * (ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين) *. وقد ثبت في الصحيح أن نصيب الجنة واحد من الألف والباقي في النار. * (قوله تعالى ولامرنهم فلغيرن خلق الله قال بعض العلماء: معنى هذه الآية أن الشيطان يأمرهم بالكفر وتغيير فطرة
308

الإسلام التي خلقهم الله عليها وهذا القول يبينه ويشهد له قوله تعالى: * (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله) * إذ المعنى على التحقيق لا تبدلوا فطرة الله التي خلقكم عليها بالكفر. فقوله: * (لا تبديل لخلق الله) * خبر أريد به الإنشاء إيذانا بأنه لا ينبغي ألا أن يمتثل حتى كأنه خبر واقع بالفعل لا محالة ونظيره قوله تعالى: * (فلا رفث ولا فسوق) * أي: لا ترفثوا ولا تفسقوا ويشهدا لهذا ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تجدون فيها من جدعاء وما رواه مسلم في صحيحه عن عياض بن حمار بن أبي حمار التميمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم.
وأما على القول بأن المراد في الآية بتغيير خلق الله خصاء الدواب والقول بأن المراد به الوشم فلا بيان في الآية المذكورة وبكل من الأقوال المذكورة. قال جماعة من العلماء: وتفسير بعض العلماء لهذه الآية بأن المراد بها خصاء الدواب يدل على عدم جوازه؛ لأنه مسوق في معرض الذم واتباع تشريع الشيطان أما خصاء بني آدم فهو حرام إجماعا؛ لأنه مثلة وتعذيب وقطع عضو وقطع نسل من غير موجب شرعي ولا يخفى أن ذلك حرام.
وأما خصاء البهائم فرخص فيه جماعة من أهل العلم إذا قصدت به المنفعة إما لسمن أو غيره وجمهور العلماء على أنه لا بأس أن يضحى بالخصي واستحسنه بعضهم إذا كان أسمن من غيره ورخص في خصاء الخيل عمر بن عبد العزيز وخصى عروة بن الزبير بغلا له ورخص مالك في خصاء ذكور الغنم وإنما جاز ذلك؛ لأنه لا يقصد به التقرب إلى غير الله وإنما يقصد به تطييب لحم ما يؤكل وتقوية الذكر إذا انقطع أمله عن الأنثى ومنهم من كره ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون. قاله القرطبي واختاره ابن المنذر قال: لأن ذلك ثابت عن ابن عمر وكان يقول هو: نماء خلق الله وكره ذلك عبد الملك بن مروان.
وقال الأوزاعي: كانوا يكرهون خصاء كل شئ له نسل.
309

وقال ابن المنذر: وفيه حديثان:
أحدهما: عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن خصاء الغنم والبقر والإبل والخيل.
والآخر: حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صبر الروح وخصاء البهائم والذي في الموطأ من هذا الباب ما ذكره عن نافع عن ابن عمر أنه كان يكره الإخصاء ويقول: فيه تمام الخلق.
قال أبو عمر يعني في ترك الإخصاء: تمام الخلق وروي نماء الخلق.
قال القرطبي: بعد أن ساق هذا الكلام الذي ذكرنا قلت: أسند أبو محمد عبد الغني من حديث عمر بن إسماعيل عن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: لا تخصوا ما ينمي خلق الله رواه عن الدارقطني شيخه قال: حدثنا عباس بن محمد حدثنا قراد حدثنا أبو مالك النخعي عن عمر بن إسماعيل فذكره.
قال الدارقطني: ورواه عبد الصمد بن النعمان عن أبي مالك. اه. من القرطبي بلفظه وكذلك على القول بأن المراد بتغيير خلق الله الوشم فهو يدل أيضا على أن الوشم حرام.
وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله عز وجل ثم قال: ألا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله عز وجل يعني قوله تعالى: * (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) *.
وقالت طائفة من العلماء: المراد بتغيير خلق الله في هذه الآية هو أن الله تعالى خلق الشمس والقمر والأحجار والنار وغيرها من المخلوقات للاعتبار وللانتفاع بها فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة.
وقال الزجاج: إن الله تعالى خلق الأنعام لتركب وتؤكل فحرموها على أنفسهم وجعل الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس فجعلوها آلهة يعبدونها فقد غيروا ما خلق الله.
310

وما روى عن طاوس رحمه الله من أنه كان لا يحضر نكاح سوداء بأبيض ولا بيضاء بأسود ويقول: هذا من قول الله تعالى: * (فليغيرن خلق الله) * فهو مردود بأن اللفظ وإن كان يحتمله فقد دلت السنة على أنه غير مراد بالآية فمن ذلك إنفاذه صلى الله عليه وسلم نكاح مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه وكان أبيض بظئره بركة أم أسامة وكانت حبشيية سواء ومن ذلك إنكاحه صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد فاطمة بنت قيس وكانت بيضاء قرشية وأسامة أسود وكانت تحت بلال أخت عبد الرحمان بن عوف من بني زهرة بن كلاب وقد سها طاوس رحمه الله مع علمه وجلالته عن هذا.
قال مقيده عفا الله عنه: ويشبه قول طاوس هذا في هذه الآية ما قال بعض علماء المالكية من أن السوداء تزوج بولاية المسلمين العامة بناء على أن مالكا يجيز تزويج الدنية بولاية عامة مسلم إن لم يكن لها ولي خاص مجبر. قالوا: والسوداء دنية مطلقا؛ لأن السواد شوه في الخلقة وهذا القول مردود عند المحققين من العلماء والحق أن السوداء قد تكون شريفة وقد تكون جميلة وقد قال بعض الأدباء: الوافر:
* وسوداء الأديم تريك وجها
* ترى ماء النعيم جرى عليه
*
* رآها ناظري فرنا إليها
* وشكل الشئ منجذب إليه
*
وقال آخر: الوافر:
* ولي حبشية سلبت فؤادي
* ونفسي لا تتوق إلى سواها
*
* كأن شروطها طرق ثلاث
* تسير بها النفوس إلى هواها
*
وقال آخر في السوداء السريع:
* أشبهك المسك وأشبهته
* قائمة في لونه قاعدة
*
* لا شك إذ لونكما واحد
* أنكما من طينة واحدة
*
وأمثاله في كلام الأدباء كثيرة.
وقوله: * (ولامرنهم فليبتكن ءاذان الانعام) * يدل على أن تقطيع آذان الأنعام لا يجوز وهو كذلك. أما قطع أذن البحيرة والسائبة تقربا بذلك للأصنام فهو كفر بالله إجماعا وأما تقطيع آذان البهائم لغير ذلك فالظاهر أيضا أنه لا يجوز ولذا أمرنا صلى الله عليه وسلم: أن نستشرف العين والأذن ولا نضحى بعوراء ولا مقابلة ولا مدابرة
311

ولا خرقاء ولا شرقاء. أخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربع والبزار وابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث علي رضي الله عنه وصححه الترمذي وأعله الدارقطني والمقابلة المقطوعة طرف الأذن والمدابرة المقطوعة مؤخر الأذن والشرقاء مشقوقة الأذن طولا والخرقاء التي خرقت أذنها خرقا مستديرا فالعيب في الأذن مراعى عند جماعة العلماء.
قال مالك: والليث المقطوعة الأذن لا تجزئ أو جل الأذن قاله القرطبي والمعروف من مشهور مذهب مالك أن الذي يمنع الإجزاء قطع ثلث الأذن فما فوقه لا ما دونه فلا يضر وإن كانت سكاء وهي التي خلقت بلا أذن. فقال مالك والشافعي: لا تجزئ وإن كانت صغيرة الأذن أجزأت وروي عن أبي حنيفة مثل ذلك وإن كانت مشقوقة الأذن للميسم أجزأت عند الشافعي وجماعة الفقهاء قاله القرطبي في تفسير هذه الآية والعلم عند الله تعالى. * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب الآية لم يبين هنا شيئا من أمانيهم ولا من أماني أهل الكتاب ولكنه أشار إلى بعض ذلك في مواضع أخر كقوله في أماني العرب الكاذبة: * (وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين) * وقوله عنهم: * (إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين) * ونحو ذلك من الآيات. وقوله في أماني أهل الكتاب: * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم) * وقوله: * (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه) * ونحو ذلك من الآيات.
وما ذكره بعض العلماء من أن سبب نزول الآية أن المسلمين وأهل الكتاب تفاخروا فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى بالله منكم وقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم ونبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله فأنزل الله: * (ليس بأمانيكم) * لا ينافي ما ذكرنا؛ لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب. * (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن الآية ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لا أحد أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله في حال كونه محسنا؛ لأن استفهام الإنكار مضمن معنى النفي وصرح في موضع آخر أن من كان كذلك فقد
312

استمسك بالعروة الوثقى وهو قوله تعالى: * (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى) * ومعنى إسلام وجهه لله إطاعته وإذعانه وانقياده لله تعالى بامتثال أمره واجتناب نهيه في حال كونه محسنا أي: مخلصا عمله لله لا يشرك فيه به شيئا مراقبا فيه لله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فالله تعالى يراه والعرب تطلق إسلام الوجه وتريد به الإذعان والانقياد التام ومنه قول زيد بن نفيل العدوي: المتقارب:
* وأسلمت وجهي لمن أسلمت
* له المزن تحمل عذبا زلالا
*
* وأسلمت وجهي لمن أسلمت
* له الأرض تحمل صخرا ثقالا
* * (قوله تعالى وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء الآية لم يبين هنا هذا الذي يتلى عليهم في الكتاب ما هو ولكنه بينه في أول السورة وهو قوله تعالى: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * كما قدمناه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقوله هنا: * (وما يتلى) * في محل رفع معطوفا على الفاعل الذي هو لفظه الجلالة وتقرير المعنى: * (قل الله يفتيكم فيهن) * أيضا: * (ما يتلى عليكم * في الكتاب في يتامى النساء) * وذلك قوله تعالى: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) * الآية مضون ما أفتى به هذا الذي يتلى علينا في الكتاب هو تحريم هضم حقوق اليتيمات فمن خاف أن لا يقسط في اليتيمة التي في حجره فيتركها ولينكح ما طاب له سواها وهذا هو التحقيق في معنى الآية كما قدمنا وعليه فحرف الجر المحذوف في قوله: * (وترغبون أن تنكحوهن) * هو عن أي: ترغبون عن نكاحهن لقلة مالهن وجمالهن أي: كما أنكم ترغبون عن نكاحهن إن كن قليلات مال وجمال فلا يحل لكم نكاحهن إن كن ذوات مال وجمال إلا بالإقساط إليهن في حقوقهن كما تقدم عن عائشة رضي الله عنها.
وقال بعض العلماء: الحرف المحذوف هو في أي: ترغبون في نكاحهن إن كن متصفات بالجمال وكثرة المال مع أنكم لا تقسطون فيهن والذين قالوا بالمجاز واختلفوا في جواز محل اللفظ على حقيقته ومجازه معا أجازوا ذلك في المجاز العقلي كقولك: أغناني زيد وعطاؤه فإسناد الإغناء إلى زيد حقيقة عقلية وإسناده إلى العطاء مجاز عقلي فجاز جمعها وكذلك إسناد الإفتاء إلى الله حقيقي وإسناده إلى ما يتلى
313

مجاز عقلي عندهم لأنه سببه فيجوز جمعهما.
وقال بعض العلماء: إن قوله: * (وما يتلى عليكم) * في محل جر معطوفا على الضمير وعليه فتقرير المعنى: * (قل الله يفتيكم فيهن) * ويفتيكم فيما يتلى عليكم وهذا الوجه يضعفه أمران:
الأول: أن الغالب أن الله يفتي بما يتلى في هذا الكتاب ولا يفتي فيه لظهور أمره.
الثاني: أن العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض ضعفه غير واحد من علماء العربية وأجازه ابن مالك مستدلا بقراءة حمزة * (والأرحام) * بالخفض عطفا على الضمير من قوله: * (تساءلون به) * وبوروده في الشعر كقوله: الثاني: أن العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض ضعفه غير واحد من علماء العربية وأجازه ابن مالك مستدلا بقراءة حمزة * (والأرحام) * بالخفض عطفا على الضمير من قوله: * (تساءلون به) * وبوروده في الشعر كقوله:
* فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا
* فاذهب فما بك والأيام من عجب
*
بجر الأيام عطفا على الكاف ونظيره قول الآخر: الطويل:
* نعلق في مثل السواري سيوفنا
* وما بينها والكعب مهوى نفانف
*
بجر الكعب معطوفا على الضمير قبله وقول الآخر: الطويل:
* وقد رام آفاق السماء فلم يجد
* له مصعدا فيها ولا الأرض مقعدا
*
فقوله: ولا الأرض بالجر معطوفا على الضمير وقول الآخر: الوافر:
* أمر على الكتيبة لست أدري
* أحتفي كان فيها أم سواها
*
فسواها في محل جر بالعطف على الضمير. وأجيب عن الآية بجواز كونها قسما والله تعالى له أن يقسم بما شاء من خلقه كما أقسم بمخلوقاته كلها في قوله تعالى: * (فلا أقسم بما تبصرون * وما لا تبصرون) * وعن الأبيات بأنها شذوذ يحفظ ولا يقاس عليه وصحح ابن القيم جواز العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض وجعل منه قوله تعالى: * (حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) * فقال إن قوله: * (ومن) * في محل جر عطفا على الضمير المجرور في قوله: * (حسبك) * وتقرير المعنى عليه: * (حسبك
314

الله) * أي: كافيك وكافي من اتبعك من المؤمنين وأجاز ابن القيم والقرطبي في قوله: * (ومن اتبعك) * أن يكون منصوبا معطوفا على المحل؛ لأن الكاف مخفوض في محل نصب ونظيره قول الشاعر: الطويل:
* إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا
* فحسبك والضحاك سيف مهند
*
بنصب الضحاك كما ذكرنا وجعل بعض العلماء منه قوله تعالى: * (وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين) * فقال: * (ومن) * عطف على ضمير الخطاب في قوله * (لكم) * وتقرير المعنى عليه وجعلنا لكم ولمن لستم له برازقين فيها معايش وكذلك إعراب * (وما يتلى) * بأنه مبتدأ خبره محذوف أو خبره في الكتاب وإعرابه منصوبا على أنه مفعول لفعل محذوف تقديره ويبين لكم ما يتلى وإعرابه مجرورا على أنه قسم كل ذلك غير ظاهر.
وقال بعض العلماء: إن المراد بقوله: * (وما يتلى عليكم في الكتاب) * آيات المواريث؛ لأنهم كانوا لا يورثون النساء فاستفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فأنزل الله آيات المواريث.
وعلى هذا القول فالمبين لقوله: * (وما يتلى عليكم في الكتاب) * هو قوله: * (يوصيكم الله في أولادكم الآيتين) *. وقوله في آخر السورة: * (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) * والظاهر أن قول أم المؤمنين أصح وأظهر.
تنبيه
المصدر المنسبك من أن وصلتها في قوله: * (وترغبون أن تنكحوهن) * أصله مجرور بحرف محذوف وقد قدمنا الخلاف هل هو عن وهو الأظهر أو هو في وبعد حذف حرف الجر المذكور فالمصدر في محل نصب على التحقيق وبه قال الكسائي والخليل: وهو الأقيس لضعف الجار عن العمل محذوفا.
وقال الأخفش: هو في محل جر بالحرف المحذوف بدليل قول الشاعر: الطويل:
* وما زرت ليلى أن تكون حبيبة
* إلي ولا دين بها أنا طالبه
*
بجر دين عطفا على محل أن تكون أي: لكونها حبيبة ولا لدين ورد أهل القول الأول الاحتجاج بالبيت بأنه من عطف التوهم كقول زهير: الطويل:
*
315

(بدا لي أني لست مدرك ما مضى
* ولا سابق شيئا إذا كان جائيا
*
بجر سابق لتوهم دخول الباء على المعطوف عليه الذي هو خبر ليس وقول الآخر:
* مشائم ليسوا مصلحين عشيرة
* ولا ناعب إلا ببين غرابها
*
واعلم أن حرف الجر لا يطرد حذفه إلا في المصدر المنسبك من أن بجر ناعب لتوهم الباء وأجاز سيبويه الوجهين. وصلتهما عند الجمهور خلافا لعلي بن سليمان الأخفش القائل بأنه مطرد في كل شئ عند أمن اللبس وعقده ابن مالك في الكافية بقوله: الرجز:
* وابن سليمان اطراده رأى
* إن لم يخف لبس كمن زيد نأى
*
وإذا حذف حرف الجر مع غير أن وأن نقلا على مذهب الجمهور وقياسا عند أمن اللبس في قول الأخفش فالنصب متعين والناصب عند البصريين الفعل وعند الكوفيين نزع الخافض مقولة الوافر:
* تمرون الديار ولن تعوجوا
* كلامكم علي إذن حرام
*
وبقاؤه مجرورا مع حذف الحرف شاذ كقول الفرزدق: الطويل:
* إذا قيل أي الناس شر قبيلة
* أشارت كليب بالأكف الأصابع
*
أي: أشارت الأصابع بالأكف أي: مع الأكف إلى كليب.
وقوله تعالى: * (وأن تقوموا لليتامى بالقسط الآية) * القسط: العدل ولم يبين هنا هذا القسط الذي أمر به لليتامى ولكنه أشار له في مواضع أخر كقوله: * (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) * وقوله: * (قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح) * وقوله: * (فأما اليتيم فلا تقهر) * وقوله: * (وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى الآية) * ونحو ذلك من الآيات فكل ذلك فيه القيام بالقسط لليتامى. * (قوله تعالى وأحضرت الأنفس الشح الآية ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الأنفس أحضرت الشح أي: جعل شيئا حاضرا لها كأنه ملازم لها لا يفارقها؛ لأنها جبلت عليه.
316

وأشار في موضع آخر أنه لا يفلح أحدا إلا إذا وقاه الله شح نفسه وهو قوله تعالى: * (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) * ومفهوم الشرط أن من لم يوق شح نفسه لم يفلح وهو كذلك وقيده بعض العلماء بالشح المؤدي إلى منع الحقوق التي يلزمها الشرع أو تقتضيها المروءة وإذا بلغ الشح إلى ذلك فهو بخل وهو رذيلة والعلم عند الله تعالى وقوله تعالى. * (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم هذا العدل الذي ذكر تعالى هنا أنه لا يستطاع هو العدل في المحبة والميل الطبيعي؛ لأنه ليس تحت قدرة البشر بخلاف العدل في الحقوق الشرعية فإنه مستطاع وقد أشار تعالى إلى هذا بقوله: * (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا) * أي: تجوروا في الحقوق الشرعية والعرب تقول: عال يعول إذا جار ومال وهو عائل ومنه قول أبي طالب: الطويل:
* بميزان قسط لا يخيس شعيرة
* له شاهد من نفسه غير عائل
*
أي: غير مائل ولا جائر ومنه قول الآخر: البسيط:
* قالوا تبعنا رسول الله واطرحوا
* قول الرسول وعالوا في الموازين
*
أي: جاروا وقول الآخر: الوافر:
* ثلاثة أنفس وثلاث ذود
* لقد عال الزمان على عيالي
*
أي: جار ومال أما قول أحيحة بن الجلاح الأنصاري: الوافر:
* وما يدري الفقير متى غناه
* وما يدري الغني متى يعيل
*
وقول جرير: الكامل:
* الله نزل في الكتاب فريضة
* لابن السبيل وللفقير العائل
*
وقوله تعالى: * (ووجدك عائلا فأغنى) * فكل ذلك من العيلة وهي الفقر ومنه قوله تعالى: * (وإن خفتم عيلة) * فعال التي بمعنى جار واوية العين والتي بمعنى افتقر يائية العين.
وقال الشافعي رحمه الله: معنى قوله: * (ألا تعولوا) * أي: يكثر عيالكم
317

من عال الرجل يعول إذا كثر عياله وقول بعضهم: إن هذا لا يصح وإن المسموع أعال الرجل بصيغة الرباعي على وزن أفعل فهو معيل إذا كثر عياله فلا وجه له؛ لأن الشافعي من أدرى الناس باللغة العربية ولأن عال بمعنى كثر عياله لغة حمير ومنه قول الشاعر: الوافر:
* وأن الموت يأخذ كل حي
* بلا شك وإن أمشى وعالا
*
يعني: وإن كثرت ماشيته وعياله وقرأ الآية طلحة بن مصرف * (إلا تعيلوا) * وا بضم التاء من أعال إذا كثر عياله على اللغة المشهورة. * (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وذكر في هذه الآية الكريمة أن الزوجين إن افترقا أغنى الله كل واحد منهما من سعته وفضله الواسع وربط بين الأمرين بأن جعل أحدهما شرطا والآخر جزاء.
وقد ذكر أيضا أن النكاح سبب للغنى بقوله: * (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء * يغنيهم الله من فضله) *. * (إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بئاخرين الآية ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه إن شاء أذهب الناس الموجودين وقت نزولها وأتي بغيرهم بدلا منهم وأقام الدليل على ذلك في موضع آخر وذلك الدليل هو أنه أذهب من كان قبلهم وجاء بهم بدلا منهم وهو قوله تعالى: * (إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين) *.
وذكر في موضع آخر أنهم إن تولوا أبدل غيرهم وأن أولئك المبدلين لا يكونون مثل المبدل منهم بل يكونون خيرا منهم وهو قوله تعالى: * (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) *.
وذكر في موضع آخر أن ذلك هين عليه غير صعب وهو قوله تعالى: * (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز) * أي: ليس بممتنع ولا صعب. * (قوله تعالى أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا ذكر في هذه الآية الكريمة أن جميع العزة له جل وعلا.
318

وبين في موضع آخر أن العزة التي هي له وحده أعز بها رسوله والمؤمنين وهو قوله تعالى: * (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) * أي: وذلك بإعزاز الله لهم والعزة الغلبة ومنه قوله تعالى: * (وعزنى في الخطاب) * أي: غلبني في الخصام ومن كلام العرب من عز بر يعنون من غلب استلب ومنه قول الخنساء: المتقارب:
* كأن لم يكونوا حمى يختشى
* إذ الناس إذ ذاك من عز بزا قوله تعالى
*
* (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم) * هذا المنزل الذي أحال عليه هنا هو المذكور في سورة الأنعام في قوله تعالى: * (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره) * وقوله هنا: * (فلا تقعدوا معهم) * لم يبين فيه حكم ما إذا نسوا النهي حتى قعدوا معهم ولكنه بينه في الأنعام بقوله: * (وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) *. * (قوله تعالى ولن يجعل الله للكفرين على المؤمنين سبيلا في معنى هذه الآية أوجه للعلماء:
منها: أن المعنى ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين يوم القيامة سبيلا وهذا مروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم ويشهد له قوله في أول الآية: * (فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين) * وهو ظاهر. قال ابن عطية: وبه قال جميع أهل التأويل كما نقله عنه القرطبي وضعفه ابن العربي زاعما أن
آخر الآية غير مردود إلى أولها.
ومنها: أن المراد بأنه لا يجعل لهم على المؤمنين سبيلا يمحوا به دولة المسلمين ويستأصلهم ويستبيح بيضتهم كما ثبت في صحيح مسلم وغيره عنه صلى الله عليه وسلم من حديث ثوبان أنه قال: وإني سألت ربي ألا يهلك أمتي بسنة بعامة وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن الله قد أعطاني لأمتي ذلك حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا ويدل لهذا الوجه آيات كثيرة كقوله: * (إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا في الحياة الدنيا) * وقوله: * (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) * وقوله: * (وعد الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات
319

ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا) * إلى غير ذلك من الآيات.
ومنها: أن المعنى أنه لا يجعل لهم عليهم سبيلا إلا أن يتواصوا بالباطل ولا يتناهوا عن المنكر ويتقاعدوا عن التوبة فيكون تسليط العدو عليهم من قبلهم كما قال تعالى: * (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) *.
قال ابن العربي: وهذا نفيس جدا وهو راجع في المعنى إلى الأول؛ لأنهم منصورون لو أطاعوا والبلية جاءتهم من قبل أنفسهم في الأمرين.
ومنها: أنه لا يجعل لهم عليهم سبيلا شرعا فإن وجد فهو بخلاف الشرع. ومنها: أن المراد بالسبيل الحجة أي: ولن يجعل لهم عليهم حجة ويبينه قوله تعالى: * (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا) * وأخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة منع دوام ملك الكافر للعبد المسلم والعلم عند الله تعالى. * (قوله تعالى وإذا قاموا إلى الصلواة قاموا كسالى يرآءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا * بينفي هذه الآية الكريمة صفة صلاة المنافقين بأنهم يقومون إليها في كسل ورياء ولا يذكرون الله فيها إلا قليلا ونظيرها في ذمهم على التهاون بالصلاة قوله تعالى: * (ولا يأتون الصلواة إلا وهم كسالى) * وقوله: * (فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون) * ويفهم من مفهوم مخالفة هذه الآيات أن صلاة المؤمنين المخلصين ليست كذلك وهذا المفهوم صرح به تعالى في آيات كثيرة بقوله: * (قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون) * وقوله: * (والذين هم على صلواتهم يحافظون) * وقوله: * (يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة الآية) * إلى غير ذلك من الآيان قوله تعالى. * (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار الآية ذكر في هذه الآية الكريمة أن المنافقين في أسفل طبقات النار عياذا بالله تعالى.
320

وذكر في موضع آخر أن آل فرعون يوم القيامة يؤمر بإدخالهم أشد العذاب وهو قوله: * (ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) *.
وذكر في موضع آخر أنه يعذب من كفر من أصحاب المائدة عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين وهو قوله تعالى: * (قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين) * فهذه الآيات تبين أن أشد أهل النار عذابا المنافقون وآل فرعون ومن كفر من أصحاب المائدة كما قاله ابن عمر رضي الله عنهما والدرك بفتح الراء وإسكانها لغتان معروفتان وقراءتان سبعيتان. * (قوله تعالى ثم اتخذوا العجل من بعد ما جآءتهم البينات فعفونا عن ذلك الآية لم يبين هنا سبب عفوه عنهم ذنب اتخاذ العجل إلها ولكنه بينه في سورة البقرة بقوله: * (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذالكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم) *. * (قوله تعالى وقلنا لهم لا تعدوا في السبت الآية لم يبين هنا هل امتثلوا هذا الأمر فتركوا العدوان في السبت أو لا ولكنه بين في مواضع أخر أنهم لم يمتثلوا وأنهم اعتدوا في السبت كقوله تعالى: * (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت) * وقوله: * (وسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت الآية قوله تعالى) *. * (وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما لم يبين هنا هذا البهتان العظيم الذي قالوه على الصديقة مريم العذراء ولكنه أشار في موضع آخر إلى أنه رميهم لها بالفاحشة وأنها جاءت بولد لغير رشده في زعمهم الباطل لعنهم الله وذلك في قوله: * (فأتت به قومها تحمله قالوا يا * مريم لقد جئت شيئا فريا) * يعنون ارتكاب الفاحشة * (يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا) * أي: زانية فكيف تفجرين ووالداك ليسا كذلك وفي القصة أنهم رموها بيوسف النجار وكان من الصالحين والبهتان أشد الكذب الذي يتعجب منه. قوله تعالى: * (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم الآية لم يبين هنا ما هذه الطيبات التي حرمها عليهم بسبب ظلمهم ولكنه بينها في سورة الأنعام
321

بقوله: * (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون قوله تعالى) *. * (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل الآية لم يبين هنا ما هذه الحجة التي كانت تكون للناس عليه لو عذبهم دون إنذارهم على ألسنة الرسل ولكنه بينها في سورة طاه بقوله: * (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى) * وأشار لها في سورة القصص بقوله: * (ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين) *. * (قوله تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق هذا الغلو الذي نهوا عنه هو وقول غير الحق هو قول بعضهم: إن عيسى ابن الله وقول بعضهم: هو الله وقول بعضهم: هو إلاه مع الله سبحانه وتعالى عن ذلك كله علوا كبيرا كما بينه قوله تعالى: * (وقالت النصارى المسيح ابن الله) * وقوله: * (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) * وقوله: * (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) * وأشار هنا إلى إبطال هذه المفتريات بقوله: * (إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم) * وقوله: * (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله) * وقوله: * (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام) * وقوله: * (قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا) *.
وقال بعض العلماء: يدخل في الغلو وغير الحق المنهي عنه في هذه الآية ما قالوا من البهتان على مريم أيضا واعتمده القرطبي وعليه فيكون الغلو المنهي عنه شاملا للتفريط والإفراط.
وقد قرر العلماء أن الحق واسطة بين التفريط والإفراط وهو معنى قول مطرف بن عبد الله: الحسنة بين سيئتين وبه تعلم أن من جانب التفريط والإفراط فقد اهتدى
322

ولقد أجاد من قال: الطويل:
* ولا تغل في شئ من الأمر واقتصد
* كلا طرفي قصد الأمور ذميم
*
وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى وقولوا عبد الله ورسوله وقوله تعالى وكلمته ألقها.
* (إلى مريم وروح منه) * ليست لفظة من في هذه الآية للتبعيض كما يزعمه النصارى افتراء على الله ولكن من هنا لابتداء الغاية يعني: أن مبدأ ذلك الروح الذي ولد به عيسى حيا من الله تعالى؛ لأنه هو الذي أحياه به ويدل على أن من هنا لابتداء الغاية. * (وسخر لكم ما في * السماوات وما في الأرض جميعا منه) * أي: كائنا مبدأ ذلك كله منه جل وعلا ويدل لما ذكرنا ما روي عن أبي بن كعب أنه قال: خلق الله أرواح بني آدم لما أخذ عليهم الميثاق ثم ردها إلى صلب آدم وأمسك عنده روح عيسى عليه الصلاة والسلام؛ فلما أراد خلقه أرسل ذلك الروح إلى مريم فكان منه عيسى عليه السلام وهذه الإضافة للتفضيل؛ لأن جميع الأرواح من خلقه جل وعلا كقوله: * (وطهر بيتي للطائفين) * وقوله: * (ناقة الله) *. وقيل: قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة روحا ويضاف إلى الله فيقال: هذا روح من الله أي: من خلقه وكان عيسى يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله فاستحق هذا الاسم وقيل: سمي روحا بسبب نفخة جبريل عليه السلام المذكورة في سورة الأنبياء والتحريم والعرب تسمي النفخ روحا؛ لأنه ريح تخرج من الروح ومنه قول ذي الرمة: الطويل:
* فقلت له: ارفعها إليك وأحيها
* بروحك واقتته لها قيتة قدرا
*
وعلى هذا القول فقوله: * (وروح) * معطوف على الضمير العائد إلى الله الذي هو فاعل ألقاها قاله القرطبي والله تعالى أعلم.
وقال بعض العلماء: * (وروح منه) * أي: رحمة منه وكان عيسى رحمة من الله لمن اتبعه قيل ومنه: * (وأيدهم بروح منه) * أي: برحمة منه حكاه القرطبي أيضا وقيل * (روح منه) * أي: برهان منه وكان عيسى برهانا وحجة على
323

قومه والعلم عند الله تعالى. * (قوله تعالى) * وأنزلنا إليكم نورا مبينا المراد بهذا النور المبين القرءان العظيم؛ لأنه يزيل ظلمات الجهل والشك كما يزيل النور الحسي ظلمة الليل وقد أوضح تعالى ذلك بقوله: * (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولاكن جعلناه نورا) * وقوله: * (واتبعوا النور الذي أنزل معه) * ونحو ذلك من الآيات. * (قوله تعالى فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك الآية صرح في هذه الآية الكريمة بأن الأختين يرثان الثلثين والمراد بهما الأختان لغير أم بأن تكونا شقيقتين أو لأب بإجماع العلماء ولم يبين هنا ميراث الثلاث من الأخوات فصاعدا ولكنه أشار في موضع آخر إلى أن الأخوات لا يزدن على الثلثين ولو بلغ عددهن ما بلغ وهو قوله تعالى في البنات: * (فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك) * ومعلوم أن البنات أمس رحما وأقوى سببا في الميراث من الأخوات فإذا كن لا يزدن على الثلثين ولو كثرن فكذلك الأخوات من باب أولى وأكثر علماء الأصول على أن فحوى الخطاب أعني: مفهوم الموافقة الذي المسكوت فيه أولى بالحكم من المنطوق من قبيل دلالة اللفظ لا من قبيل القياس خلافا للشافعي وقوم وكذلك المساوىء على التحقيق فقوله تعالى: * (فلا تقل لهما أف) * يفهم منه من باب أولى حرمة ضربهما وقوله: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرايره الآية) * يفهم منه من باب أولى أن من عمل مثقال جبل يراه من خير وشر وقوله: * (وأشهدواذوي عدل منكم) * يفهم منه من باب أولى قبول شهادة الثلاثة والأربعة مثلا من العدول ونهيه صلى الله عليه وسلم عن التضحية بالعوراء يفهم منه من باب أولى النهي عن التضحية بالعمياء وكذلك في المساوىء فتحريم أكل مال اليتيم يفهم منه بالمساواة منع إحراقه وإغراقه ونهيه صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الراكد يفهم منه كذلك أيضا النهي عن البول في إناء وصبه فيه وقوله صلى الله عليه وسلم: من أعتق شركا له في عبد الحديث. يفهم منه كذلك أن الأمة كذلك ولا نزاع في هذا عند جماهير العلماء وإنما خالف فيه بعض الظاهرية.
ومعلوم أن خلافهم في مثل هذا لا أثر له وبذلك تعلم أنه تعالى لما صرح بأن
324

البنات وإن كثرن ليس لهن غير الثلثين علم أن الأخوات كذلك من باب أولى والعلم عند الله تعالى.
325

((بسم الله الرحمن الرحيم المائدة))
قوله تعالى: * (أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم) * لم يبين هنا ما هذا الذي يتلى عليهم المستثنى من حلية بهيمة الأنعام. ولكنه بينه بقوله: * (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) * إلى قوله: * (وما ذبح على النصب) * فالمذكورات في هذه الآية الكريمة كالموقوذة والمتردية وإن كانت من الأنعام. فإنها تحرم بهذه العوارض.
والتحقيق أن الأنعام هي الأزواج الثمانية كما قدمنا في سورة آل عمران وقد استدل ابن عمر وابن عباس وغير واحد من العلماء بهذه الآية على إباحة أكل الجنين إذا ذكيت أمه ووجد في بطنها ميتا.
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ذكاة أمه ذكاة له كما أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث أبي سعيد.
وقال الترمذي: إنه حسن ورواه أبو داود عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: * () *. وإذا حللتم فاصطادوا يعني إن شئتم فلا يدل هذا الأمر على إيجاب الاصطياد عند الإحلال ويدل له الاستقراء في القرآن فإن كل شيء كان جائزا ثم حرم لموجب ثم أمر به بعد زوال ذلك الموجب فإن ذلك الأمر كله في القرآن للجواز نحو قوله هنا: * (وإذا حللتم فاصطادوا) * وقوله: * (فإذا قضيت الصلواة فانتشروا في الأرض) * وقوله: * (فالآن باشروهن) * وقوله: * (فإذا تطهرن فأتوهن) *.
ولا ينقض هذا بقوله تعالى: * (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين الآية لأن قتلهم كان واجبا قبل تحريمه العارض بسبب الأشهر الأربعة سواء قلنا: إنها أشهر الإمهال المذكورة في قوله: * (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) * أو
326

قلنا: إنها الأشهر الحرم المذكورة في قوله تعالى: * (منها أربعة حرم) *.
وبهذا تعلم أن التحقيق الذي دل عليه الاستقراء التام في القرآن أن الأمر بالشيء بعد تحريمه يدل على رجوعه إلى ما كان عليه قبل التحريم من إباحة أو وجوب فالصيد قبل الإحرام كان جائزا فمنع للإحرام ثم أمر به بعد الإحلال بقوله: * (وإذا حللتم فاصطادوا) * فيرجع لما كان عليه قبل التحريم وهو الجواز وقتل المشركين كان واجبا قبل دخول الأشهر الحرم فمنع من أجلها ثم أمر به بعد انسلاخها في قوله: * (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) * فيرجع لما كان عليه قبل التحريم وهو الوجوب.
وهذا هو الحق في هذه المسألة الأصولية.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: وهذا أمر بعد الحظر والصحيح الذي يثبت على السبر أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي فإن كان واجبا رده فواجب وإن كان مستحبا فمستحب أو مباحا فمباح.
ومن قال: إنه للوجوب ينتقض عليه بآيات كثيرة. ومن قال: إنه للإباحة يرد عليه بآيات أخرى والذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه كما اختاره بعض علماء الأصول والله أعلم انتهى منه بلفظه.
وفي هذه المسألة أقوال أخر عقدها في (مراقي السعود) بقوله: الرجز:
* والأمر للوجوب بعد الحظل
* وبعد سؤل قد أتى للأصل
*
* أو يقتضي إباحة للأغلب
* إذا تعلق بمثل السبب
*
* إلا فذا المذهب والكثير
* له إلى إيجابه مصير
*
وقد تقرر في الأصول أن الاستقراء التام حجة بلا خلاف وغير التام المعروف. ب إلحاق الفرد بالأغلب حجة ظنية كما عقده في مراقي السعود في كتاب (الاستدلال) بقوله: الرجز:
* ومنه الاستقراء بالجزئي
* على ثبوت الحكم للكلى
*
* فإن يعم غير ذي الشقاق
* فهو حجة بالاتفاق
*
* وهو في البعض إلى الظن انتسب
* يسمى لحوق الفرد بالذي غلب
*
فإذا عرفت ذلك وعرفت أن الاستقراء التام في القرآن دل على ما اخترنا
327

واختاره ابن كثير وهو قول الزركشي من أن الأمر بعد الحظر يدل على رجوع الحكم إلى ما كان عليه قبل التحريم عرفت أن ذلك هو الحق والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ولا يجرمنكم شنئان قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا الآية) *.
نهى الله المسلمين في هذه الآية الكريمة أن يحملهم بغض الكفار لأجل أن صدوهم عن المسجد الحرام في عمرة الحديبية أن يعتدوا على المشركين بما لا يحل لهم شرعا.
كما روى ابن أبي حاتم في سبب نزول هذه الآية عن زيد بن أسلم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية حين صدهم المشركون عن البيت وقد اشتد ذلك عليهم فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم فأنزل الله هذه الآية اه بلفظه من ابن كثير.
ويدل لهذا قوله قبل هذا: * (ولا ءامين البيت الحرام) * وصرح بمثل هذه الآية في قوله: * (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا) * وقد ذكر تعالى في هذه الآية أنهم صدوهم عن المسجد الحرام بالفعل على قراءة الجمهور * (أن صدوكم) * بفتح الهمزة لأن معناها: لأجل أن صدوكم ولم يبين هنا حكمة هذا الصد ولم يذكر أنهم صدوا معهم الهدي معكوفا أن يبلغ محله وذكر في سورة الفتح أنهم صدوا معهم الهدى وأن الحكمة في ذلك المحافظة على المؤمنين والمؤمنات الذين لم يتميزوا عن الكفار في ذلك الوقت بقوله: * (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدى معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما) *. وفي هذه الآية دليل صريح على أن الإنسان عليه أن يعامل من عصى الله فيه بأن يطيع الله فيه.
وفي الحديث: أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك.
وهذا دليل واضح على كمال دين الإسلام وحسن ما يدعو إليه من مكارم الأخلاق مبين أنه دين سماوي لا شك فيه.
328

وقوله في هذه الآية الكريمة * (ولا يجرمنكم) * معناه: لا يحملنكم شنآن قوم على أن تعتدوا ونظيره من كلام العرب قول الشاعر:
* ولقد طعنت أبا عيينة طعنة
* جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
*
أي حملتهم على أن يغضبوا.
وقال بعض العلماء: * (ولا يجرمنكم) * أي لا يكسبنكم وعليه فلا تقدير لحرف الجر في قوله: * (أن تعتدوا) * أي لا يكسبنكم بغضهم الاعتداء عليهم.
وقرأ بعض السبعة * (شنان) * بسكون النون ومعنى الشنآن على القراءتين أي بفتح النون وبسكونها: البغض. مصدر شنأه إذا أبغضه.
وقيل على قراءة سكون النون يكون وصفا كالغضبان وعلى قراءة * (أن صدوكم) * بكسر الهمزة. فالمعنى إن وقع منهم صدهم لكم عن المسجد الحرام فلا يحملنكم ذلك على أن تعتدوا عليهم بما لا يحل لكم.
وإبطال هذه القراءة بأن الآية نزلت بعد صد المشركين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية وأنه لا وجه لاشتراط الصد بعد وقوعه _ مردود من وجهين:
الأول منهما: أن قراءة * (أن صدوكم) * بصيغة الشرط قراءة سبعية متواترة لا يمكن ردها وبها قرأ ابن كثير وأبو عمرو من السبعة.
الثاني: أنه لا مانع من أن يكون معنى هذه القراءة: إن صدوكم مرة أخرى على سبيل الفرض والتقدير كما تدل عليه صيغة * (أن) * لأنها تدل على الشك في حصول الشرط فلا يحملنكم تكرر الفعل السئ على الاعتداء عليهم بما لا يحل لكم والعلم عند الله تعالى.
* () * قوله تعالى: * (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين) *.
ظاهر هذه الآية الكريمة أن المرتد يحبط جميع عمله بردته من غير شرط زائد ولكنه أشار في موضع آخر إلى أن ذلك فيما إذا مات على الكفر وهو قوله: * (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر) *.
ومقتضى الأصول حمل هذا المطلق على هذا المقيد فيقيد إحباط العمل بالموت على الكفر وهو قول الشافعي ومن وافقه خلافا لمالك القائل بإحباط الردة العمل
329

مطلقا والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: * (وأرجلكم إلى الكعبين) *.
في قوله * (وأرجلكم) * ثلاث قراءات: واحدة شاذة واثنتان متواترتان.
أما الشاذة: فقراءة الرفع وهي قراءة الحسن. وأما المتواترتان: فقراءة النصب وقراءة الخفض.
أما النصب: فهو قراءة نافع. وابن عامر والكسائي وعاصم في رواية حفص من السبعة ويعقوب من الثلاثة.
وأما الجر: فهو قراءة ابن كثير وحمزة وأبي عمرو وعاصم في رواية أبي بكر.
أما قراءة النصب: فلا إشكال فيها لأن الأرجل فيها معطوفة على الوجوه وتقرير المعنى عليها: * (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين
وامسحوا برءوسكم) *.
وإنما أدخل مسح الرأس بين المغسولات محافظة على الترتيب لأن الرأس يمسح بين المغسولات ومن هنا أخذ جماعة من العلماء وجوب الترتيب في أعضاء الوضوء حسبما في الآية الكريمة.
وأما على قراءة الجر: ففي الآية الكريمة إجمال وهو أنها يفهم منها الاكتفاء بمسح الرجلين في الوضوء عن الغسل كالرأس وهو خلاف الواقع للأحاديث الصحيحة الصريحة في وجوب غسل الرجلين في الوضوء والتوعد بالنار لمن ترك ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم: ويل للأعقاب من النار.
اعلم أولا أن القراءتين إذا ظهر تعارضهما في آية واحدة لهما حكم الآيتين كما هو معروف عند العلماء وإذا علمت ذلك فاعلم أن قراءة * (وأرجلكم) * بالنصب صريح في وجوب غسل الرجلين في الوضوء فهي تفهم أن قراءة الخفض إنما هي لمجاورة المخفوض مع أنها في الأصل منصوبة بدليل قراءة النصب والعرب تخفض الكلمة لمجاورتها للمخفوض مع أن إعرابها النصب أو الرفع.
وما ذكره بعضهم من أن الخفض بالمجاورة معدود من اللحن الذي يتحمل
330

لضرورة الشعر خاصة وأنه غير مسموع في العطف وأنه لم يجز إلا عند أمن اللبس فهو مردود بأن أئمة اللغة العربية صرحوا بجوازه.
وممن صرح به الأخفش وأبو البقاء وغير واحد.
ولم ينكره إلا الزجاج وإنكاره له مع ثبوته في كلام العرب وفي القرآن العظيم يدل على أنه لم يتتبع المسألة تتبعا كافيا.
والتحقيق: أن الخفض بالمجاورة أسلوب من أساليب اللغة العربية وأنه جاء في القرآن لأنه بلسان عربي مبين.
فمنه في النعت قول امرئ القيس: الطويل:
* كأن ثبيرا في عرانين ودقه
* كبير أناس في بجاد مزمل
*
بخفض مزمل بالمجاورة مع أنه نعت كبير المرفوع بأنه خبر كأن وقول ذي الرمة: البسيط:
* تريك سنة وجه غير مقرفة
* ملساء ليس بها خال ولا ندب
*
إذ الرواية بخفض غير كما قاله غير واحد للمجاورة مع أنه نعت سنة المنصوب بالمفعولية.
ومنه في العطف قول النابغة: البسيط:
* لم يبق إلا أسير غير منفلت
* وموثق في حبال القد مجنوب
*
بخفض موثق لمجاورته المخفوض مع أنه معطوف على أسير المرفوع بالفاعلية.
وقول امرئ القيس: الطويل:
* وظل طهاة اللحم ما بين منضج
* صفيف شواء أو قدير معجل
*
بجر قدير لمجاورته للمخفوض مع أنه عطف على صفيف المنصوب بأنه مفعول اسم الفاعل الذي هو منضج والصفيف: فعيل بمعنى مفعول وهو المصفوف من اللحم على الجمر لينشوي والقدير: كذلك فعيل بمعنى مفعول وهو المجعول في القدر من اللحم لينضج بالطبخ.
331

وهذا الإعراب الذي ذكرناه هو الحق لأن الإنضاج واقع على كل من الصفيف والقدير فما زعمه الصبان في حاشيته على الأشموني من أن قوله أو قدير معطوف على منضج بتقدير المضاف أي وطابخ قدير الخ ظاهر السقوط لأن المنضج شامل لشاوي الصفيف وطابخ القدير.
فلا حاجة إلى عطف الطابخ على المنضج لشموله له ولا داعي لتقدير طابخ محذوف.
وما ذكره العيني من أنه معطوف على شواء فهو ظاهر السقوط أيضا. وقد رده عليه الصبان لأن المعنى يصير بذلك: وصفيف قدير والقدير لا يكون صفيفا.
والتحقيق: هو ما ذكرنا من الخفض بالمجاورة وبه جزم ابن قدامة في المغني.
ومن الخفض بالمجاورة في العطف قول زهير: الكامل:
* لعب الزمان بها وغيرها
* بعدي سوافي المور والقطر
*
بجر القطر لمجاورته للمخفوض مع أنه معطوف على سوافي المرفوع بأنه فاعل غير.
ومنه في التوكيد قول الشاعر: البيسط:
* يا صاح بلغ ذوي الزوجات كلهم
* أن ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب
*
بجر كلهم على ما حكاه الفراء لمجاورة المخفوض مع أنه توكيد ذوي المنصوب بالمفعولية.
ومن أمثلته في القرآن العظيم في العطف _ كالآية التي نحن بصددها _ قوله تعالى: * (وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون) * على قراءة حمزة والكسائي.
ورواية المفضل عن عاصم بالجر لمجاورته لأكواب وأباريق إلى قوله: * (ولحم طير مما يشتهون) * مع أن قوله: * (وحور عين) * حكمه الرفع: فقيل إنه معطوف على فاعل يطوف الذي هو * (ولدان مخلدون) *.
وقيل: هو مرفوع على أنه مبتدأ خبره محذوف دل المقام عليه.
أي: وفيها حور عين أو لهم حور عين.
332

وإذن فهو من العطف بحسب المعنى.
وقد أنشد سيبويه للعطف على المعنى قول الشماخ أو ذي الرمة: الكامل:
* بادت وغير آيهن مع البلا
* إلا رواكد جمرهن هباء
*
* ومشجج أما سواء قذاله
* فبدا وغيب ساره المعزاء
*
لأن الرواية بنصب رواكد على الاستثناء ورفع مشجج عطفا عليه لأن المعنى لم يبق منها إلا رواكد ومشجج ومراده بالرواكد أثافي القدر وبالمشجج وتد الخباء وبه تعلم أن وجه الخفض في قراءة حمزة والكسائي هو المجاورة للمخفوض كما ذكرنا خلافا لمن قال في قراءة الجر: إن العطف على أكواب أي يطاف عليهم بأكواب وبحور عين ولمن قال: إنه معطوف على جنات النعيم أي هم في جنات النعيم وفي حور على تقدير حذف مضاف أي في معاشرة حور.
ولا يخفى ما في هذين الوجهين لأن الأول يرد بأن الحور العين لا يطاف بهن مع الشراب لقوله تعالى: * (حور مقصورات في الخيام) *.
والثاني فيه أن كونهم في جنات النعيم وفي حور ظاهر السقوط كما ترى وتقدير ما لا دليل عليه لا وجه له.
وأجيب عن الأول بجوابين الأول: أن العطف فيه بحسب المعنى لأن المعنى: يتنعمون بأكواب وفاكهة ولحم وحور. قاله الزجاج وغيره.
الجواب الثاني: أن الحور قسمان: 1: حور مقصورات في الخيام: وحور يطاف بهن عليهم قاله الفخر الرازي وغيره وهو تقسيم لا دليل عليه ولا يعرف من صفات الحور العين كونهن يطاف بهن كالشراب فأظهرها الخفض بالمجاورة كما ذكرنا.
وكلام الفراء وقطرب يدل عليه وما رد به القول بالعطف على أكواب من كون الحور لا يطاف بهن يرد به القول بالعطف على * (ولدان مخلدون) * في قراءة الرفع لأنه يقتضي أن الحور يطفن عليهم كالولدان والقصر في الخيام ينافي ذلك.
وممن جزم بأن خفض * (وأرجلكم) * لمجاورة المخفوض البيهقي في (السنن
333

الكبرى) فإنه قال ما نصه: باب قراءة من قرأ * (وأرجلكم) * نصبا وأن الأمر رجع إلى الغسل وأن من قرأها خفضا فإنما هو للمجاورة ثم ساق أسانيده إلى ابن عباس وعلي وعبد الله بن مسعود وعروة بن الزبير ومجاهد وعطاء والأعرج وعبد الله بن عمرو بن غيلان ونافع بن عبد الرحمان بن أبي نعيم القارئ وأبي محمد يعقوب بن إسحاق بن يزيد الحضرمي أنهم قرءوها كلهم: * (وأرجلكم) * بالنصب.
قال: وبلغني عن إبراهيم بن يزيد التيمي أنه كان يقرؤها نصبا وعن عبد الله بن عامر اليحصبي وعن عاصم برواية حفص وعن أبي بكر بن عياش من رواية الأعشى وعن الكسائي كل هؤلاء نصبوها.
ومن خفضها فإنما هو للمجاورة قال الأعمش: كانوا يقرأونها بالخفض وكانوا يغسلون اه كلام البيهقي.
ومن أمثلة الخفض بالمجاورة في القرآن في النعت قوله تعالى * (عذاب يوم محيط) * بخفض * (محيط) * مع أنه نعت للعذاب. وقوله تعالى: * (عذاب يوم أليم) * ومما يدل أن النعت للعذاب وقد خفض للمجاورة كثرة ورود الألم في القرآن نعتا للعذاب. وقوله تعالى: * (بل هو قرءان مجيد في لوح محفوظ) * على قراءة من قرأ بخفض * (محفوظ) * كما قاله القرطبي ومن كلام العرب هذا جحر ضب خرب بخفض خرب لمجاورة المخفوض مع أنه نعت خبر المبتدأ. وبهذا تعلم أن دعوى كون الخفض بالمجاورة لحنا لا يتحمل إلا لضرورة الشعر باطلة والجواب عما ذكروه من أنه لا يجوز إلا عند أمن اللبس هو أن اللبس هنا يزيله التحديد بالكعبين إذ لم يرد تحديد الممسوح وتزيله قراءة النصب كما ذكرنا: فإن قيل قراءة الجر الدالة على مسح الرجلين في الوضوء هي المبينة لقراءة النصب بأن تجعل قراءة النصب عطفا على المحل. لأن الرؤوس مجرورة بالباء في محل نصب على حد قول ابن مالك في الخلاصة: الرجز:
* وجر ما يتبع ما جر ومن
* راعى في الاتباع المحل فحسن
*
وابن مالك وإن كان أورد هذا في إعمال المصدر فحكمه عام أي وكذلك الفعل والوصف كما أشار له في الوصف بقوله: الرجز:
* واجرر أو انصب تابع الذي انخفض
* كمبتغي جاه ومالامن نهض
*
334

فالجواب أن بيان قراءة النصب بقراءة الجر كما ذكر تأباه السنة الصريحة الصحيحة الناطقة بخلافه وبتوعد مرتكبه بالويل من النار بخلاف بيان قراءة الخفض بقراءة النصب فهو موافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه قولا وفعلا.
فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
قال: تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة صلاة العصر ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته: أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار وكذلك هو في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار وروى البيهقي والحاكم بإسناد صحيح عن عبد الله بن حارث بن جزء أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار: وروى الإمام أحمد وابن ماجة وابن جرير عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ويل للأعقاب من النار.
وروى الإمام أحمد عن معيقيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ويل للأعقاب من النار وروى ابن جرير عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويل للأعقاب من النار قال: فما بقي في المسجد شريف ولا وضيع إلا نظرت إليه يقلب عرقوبيه ينظر إليهما.
وثبت في أحاديث الوضوء عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان وعلي وابن عباس ومعاوية وعبد الله بن زيد بن عاصم والمقداد بن معد يكرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل الرجلين في وضوئه إما مرة أو مرتين أو ثلاثا على اختلاف رواياتهم.
وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل قدميه. ثم قال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به.
والأحاديث في الباب كثيرة جدا وهي صحيحة صريحة في وجوب غسل الرجلين في الوضوء وعدم الاجتزاء بمسحهما. وقال بعض العلماء: المراد بمسح الرجلين غسلهما. والعرب تطلق المسح على الغسل أيضا وتقول تمسحت بمعنى توضأت ومسح المطر الأرض أي غسلها
335

ومسح الله ما بك أي غسل عنك الذنوب والأذى. ولا مانع من كون المراد بالمسح في الأرجل هو الغسل والمراد به في الرأس المسح الذي ليس بغسل وليس من حمل المشترك على معنييه ولا عن حمل اللفظ على حقيقته ومجازه لأنهما مسألتان كل منهما منفردة عن الأخرى مع أن التحقيق جواز حمل المشترك على معنييه كما حققه الشيخ تقي الدين أبو العباس بن تيمية في رسالته في علوم القرآن وحرر أنه هو الصحيح في مذاهب الأئمة الأربعة رحمهم الله وجمع بن جرير الطبري في تفسيره بين قراءة النصب والجر بأن قراءة النصب يراد بها غسل الرجلين لأن العطف فيها على الوجوه والأيدي إلى المرافق وهما من المغسولات بلا نزاع وأن قراءة الخفض يراد بها المسح مع الغسل يعني الدلك باليد أو غيرها.
والظاهر أن حكمة هذا في الرجلين دون غيرهما. أن الرجلين هما أقرب أعضاء الإنسان إلى ملابسة الأقذار لمباشرتهما الأرض فناسب ذلك أن يجمع لهما بين الغسل بالماء والمسح أي الدلك باليد ليكون ذلك أبلغ في التنظيف.
وقال بعض العلماء: المراد بقراءة الجر: المسح ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن ذلك المسح لا يكون إلا على الخف.
وعليه فالآية تشير إلى المسح على الخف في قراءة الخفض والمسح على الخفين إذا لبسهما طاهرا متواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخالف فيه إلا من لا عبرة به والقول بنسخه بآية المائدة يبطل بحديث جرير أنه بال ثم توضأ ومسح على خفيه فقيل له: تفعل هكذا؟ قال: نعم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه قال إبراهيم: فكان يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة متفق عليه.
ويوضح عدم النسخ أن آية المائدة نزلت في غزوة المريسيع.
ولا شك أن إسلام جرير بعد ذلك مع أن المغيرة بن شعبة روى المسح على الخفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم.
وممن صرح بنزول آية المائدة في غزوة المريسيع ابن حجر في (فتح الباري) وأشار له البدوي الشنقيطي في (نظم المغازي) بقوله في غزوة المريسيع: الرجز:
* والإفك في قفولهم ونقلا
* أن التيمم بها قد أنزلا
*
336

والتيمم في آية المائدة وأجمع العلماء على جواز المسح على الخف الذي هو من الجلود واختلفوا فيما كان من غير الجلد إذا كان صفيقا ساترا لمحل الفرض فقال مالك وأصحابه: لا يمسح على شيء غير الجلد. فاشترطوا في المسح أن يكون الممسوح خفا من جلود أو جوربا مجلدا ظاهره وباطنه يعنون ما فوق القدم وما تحتها لا باطنه الذي يلي القدم.
واحتجوا بأن المسح على الخف رخصة وأن الرخص لا تتعدى محلها وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمسح على غير الجلد. فلا يجوز تعديه إلى غيره وهذا مبني على شطر قاعدة أصولية مختلف فيها وهي: هل يلحق بالرخص ما في معناها أو يقتصر عليها ولا تعدي محلها؟
ومن فروعها اختلافهم في بيع العرايا من العنب بالزبيب اليابس هل يجوز إلحاقا بالرطب بالتمر أو لا؟.
وجمهور العلماء منهم الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وأصحابهم على عدم اشتراط الجلد لأن سبب الترخيص الحاجة إلى ذلك وهي موجودة في المسح على غير الجلد ولما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه مسح على الجوربين والموقين.
قالوا. والجورب: لفافة الرجل وهي غير جلد.
وفي القاموس: الجورب لفافة الرجل وفي اللسان: الجورب لفافة الرجل معرب وهو بالفارسية كورب.
وأجاب من اشترط الجلد بأن الجورب هو الخف الكبير كما قاله بعض أهل العلم أما الجرموق والموق فالظاهر أنهما من الخفاف.
وقيل: إنهما شيء واحد وهو الظاهر من كلام أهل اللغة. وقيل: إنهما متغايران وفي القاموس: الجرموق: كعصفور الذي يلبس فوق الخف وفي القاموس أيضا: الموق خف غليظ يلبس فوق الخف وفي اللسان: الجرموق خف صغير وقيل: خف صغير يلبس فوق الخف في اللسان أيضا: الموق الذي يلبس فوق الخف فارسي معرب. والموق: الخف اه.
قالوا: والتساخين: الخفاف فليس في الأحاديث ما يعين أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على
337

غير الجلد والجمهور قالوا: نفس الجلد لا أثر له بل كل خف صفيق ساتر لمحل الفرض يمكن فيه تتابع المشي يجوز المسح عليه جلدا كان أو غيره.
مسائل تتعلق بالمسح على الخفين
الأولى: أجمع العلماء على جواز المسح على الخفين في السفر والحضر. وقال الشيعة والخوارج: لا يجوز وحكي نحوه القاضي أبو الطيب عن أبي بكر بن داود والتحقيق عن مالك وجل أصحابه القول بجواز المسح على الخف في الحضر والسفر.
وقد روي عنه المنع مطلقا وروي عنه جوازه في السفر دون الحضر.
قال ابن عبد البر: لا أعلم أحدا أنكره إلا مالكا في رواية أنكرها أكثر أصحابه والروايات الصحيحة عنه مصرحة بإثباته وموطأه يشهد للمسح في الحضر والسفر وعليه جميع أصحابه وجميع أهل السنة.
وقال الباجي: رواية الإنكار في العتبية وظاهرها المنع وإنما معناها أن الغسل أفضل من المسح قال ابن وهب: آخر ما فارقت مالكا على المسح في الحضر والسفر. وهذا هو الحق الذي لا شك فيه فما قاله ابن الحاجب عن مالك من جوازه في السفر دون الحضر غير صحيح لأن المسح على الخف متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الزرقاني في شرح الموطأ: وجمع بعضهم رواته فجاوزوا الثمانين منهم العشرة وروى ابن أبي شيبة وغيره عن الحسن البصري حدثني سبعون من الصحابة بالمسح على الخفين اه.
وقال النووي في شرح المهذب: وقد نقل ابن المنذر في كتاب (الإجماع) إجماع العلماء على جواز المسح على الخف ويدل عليه الأحاديث الصحيحة المستفيضة في مسح النبي صلى الله عليه وسلم في الحضر والسفر وأمره بذلك وترخيصه فيه واتفاق الصحابة فمن بعدهم عليه. قال الحافظ أبو بكر البيهقي: روينا جواز المسح على الخفين عن عمر وعلي وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وحذيفة بن اليمان وأبي أيوب الأنصاري وأبي موسى الأشعري وعمار بن ياسر وجابر بن عبد الله وعمرو بن العاص وأنس بن مالك وسهل بن سعد وأبي مسعود الأنصاري والمغيرة بن شعبة والبراء بن عازب وأبي سعيد الخدري
338

وجابر بن سمرة وأبي أمامة الباهلي وعبد الله بن الحارث بن جزء وأبي زيد الأنصاري رضي الله عنهم.
قلت: ورواه خلائق من الصحابة غير هؤلاء الذين ذكرهم البيهقي وأحاديثهم معروفة في كتب السنن وغيرها.
قال الترمذي: وفي الباب عن عمر وسلمان وبريدة وعمرو بن أمية ويعلى بن مرة وعبادة بن الصامت وأسامة بن شريك وأسامة بن زيد وصفوان بن عسال وأبي هريرة وعوف بن مالك وابن عمر وأبي بكرة وبلال وخزيمة بن ثابت.
قال ابن المنذر: وروينا عن الحسن البصري قال: حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمسح على الخفين.
قال: وروينا عن ابن المبارك قال: ليس في المسح على الخفين اختلاف اه.
وقد ثبت في الصحيح من حديث المغيرة بن شعبة أنه صلى الله عليه وسلم مسح على الخف في غزوة تبوك وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم وثبت في الصحيح من حديث جرير بن عبد الله البجلي أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخف ولا شك أن ذلك بعد نزول آية المائدة كما تقدم وفي سنن أبي داود أنهم لما قالوا لجرير: إنما كان ذلك قبل نزول المائدة قال: ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة.
وهذه النصوص الصحيحة التي ذكرنا تدل على عدم نسخ المسح على الخفين وأنه لا شك في مشروعيته فالخلاف فيه لا وجه له البتة. * *
المسألة الثانية: اختلف العلماء في غسل الرجل والمسح على الخف أيهما أفضل؟ فقالت جماعة من أهل العلم: غسل الرجل أفضل من المسح على الخف بشرط أن لا يترك المسح رغبة عن الرخصة في المسح وهو قول الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأصحابهم ونقله ابن المنذر عن عمر بن الخطاب وابنه رضي الله عنهما ورواه البيهقي عن أبي أيوب الأنصاري.
وحجة هذا القول أن غسل الرجل هو الذي واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم في معظم
339

الأوقات ولأنه هو الأصل ولأنه أكثر مشقة.
وذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن المسح أفضل وهو أصح الروايات عن الإمام أحمد وبه قال الشعبي والحكم وحماد.
واستدل أهل هذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات حديث المغيرة بن شعبة: بهذا أمرني ربي.
ولفظه في سنن أبي داود عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين فقلت: يا رسول الله أنسيت؟ قال: بل أنت نسيت. بهذا أمرني ربي عز وجل.
واستدلوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث صفوان بن عسال الآتي إن شاء الله تعالى أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نمسح على الخفين الحديث.
قالوا: والأمر إذا لم يكن للوجوب فلا أقل من أن يكون للندب قال مقيده عفا الله عنه: وأظهر ما قيل في هذه المسألة عندي هو ما ذكره ابن القيم وعزاه لشيخه تقي الدين وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتكلف ضد حاله التي كان عليها قدماه بل إن كانتا في الخف مسح عليهما ولم ينزعهما وإن كانتا مكشوفتين غسل القدمين ولم يلبس الخف ليمسح عليه. وهذا أعدل الأقوال في هذه المسألة اه.
ويشترط في الخف: أن يكون قويا يمكن تتابع المشي فيه في مواضع النزول وعند الحط والترحال وفي الحوائج التي يتردد فيها في المنزل وفي المقيم نحو ذلك كما جرت عادة لابسي الخفاف. * *
المسألة الثالثة: إذا كان الخف مخرقا ففي جواز المسح عليه خلاف بين العلماء فذهب مالك وأصحابه إلى أنه إن ظهر من تخريقه قدر ثلث القدم لم يجز المسح عليه وإن كان أقل من ذلك جاز المسح عليه واحتجوا بأن الشرع دل على أن الثلث آخر حد اليسير وأول حد الكثير.
وقال بعض أهل العلم: لا يجوز المسح على خف فيه خرق يبدو منه شيء من القدم وبه قال أحمد بن حنبل والشافعي في الجديد ومعمر بن راشد.
340

واحتج أهل هذا القول بأن المنكشف من الرجل حكمه الغسل والمستور حكمه المسح والجمع بين المسح والغسل لا يجوز فكما أنه لا يجوز له أن يغسل إحدى رجليه ويمسح على الخف في الأخرى لا يجوز له غسل بعض القدم مع مسح الخف في الباقي منها.
وذهب الإمام أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الخرق الكبير يمنع المسح على الخف دون الصغير. وحددوا الخرق الكبير بمقدار ثلاثة أصابع.
قيل: من أصابع الرجل الأصاغر وقيل: من أصابع اليد.
وقال بعض أهل العلم: يجوز المسح على جميع الخفاف وإن تخرقت تخريقا كثيرا ما دامت يمكن تتابع المشي فيها. ونقله ابن المنذر عن سفيان الثوري وإسحاق ويزيد بن هارون وأبي ثور.
وروى البيهقي في السنن الكبرى عن سفيان الثوري أنه قال: امسح عليهما ما تعلقا بالقدم وإن تخرقا قال: وكانت كذلك خفاف المهاجرين والأنصار مخرقة مشققة اه.
وقال البيهقي: قول معمر بن راشد في ذلك أحب إلينا وهذا القول الذي ذكرنا عن الثوري ومن وافقه هو اختيار الشيخ تقي الدين بن تيمية.
وقال ابن المنذر: وبقول الثوري أقول لظاهر إباحة رسول الله صلى الله عليه وسلم المسح على الخفين قولا عاما يدخل فيه جميع الخفاف. اه نقله عنه النووي وغيره وهو قوي.
وعن الأوزاعي إن ظهرت طائفة من رجله مسح على خفيه وعلى ما ظهر من رجله. هذا حاصل كلام العلماء في هذه المسألة.
وأقرب الأقوال عندي المسح على الخف المخرق ما لم يتفاحش خرقه حتى يمنع تتابع المشي فيه لإطلاق النصوص مع أن الغالب على خفاف المسافرين والغزاة عدم السلامة من التخريق والله تعالى أعلم. * *
المسألة الرابعة: اختلف العلماء في جواز المسح على النعلين فقال قوم: يجوز المسح على النعلين. وخالف في ذلك جمهور العلماء واستدل القائلون بالمسح على
341

النعلين بأحاديث منها ما رواه أبو داود في سننه حدثنا عثمان بن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان الثوري عن أبي قيس الأودي هو عبد الرحمان بن ثروان عن هزيل بن شرحبيل عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح الجوربين والنعلين قال أبو داود وكان عبد الرحمان بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث لأن المعروف عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين وروى هذا الحديث البيهقي. ثم قال: قال أبو محمد: رأيت مسلم بن الحجاج ضعف هذا الخبر وقال أبو قيس الأودي وهزيل بن شرحبيل: لا يحتملان مع مخالفتهما الأجلة الذين رووا هذا الخبر عن المغيرة فقالوا: مسح على الخفين وقال: لا نترك ظاهر القرآن بمثل أبي قيس وهزيل فذكرت هذه الحكاية عن مسلم لأبي العباس محمد بن عبد الرحمان الدغولي فسمعته يقول: علي بن شيبان يقول: سمعت أبا قدامة السرخسي يقول: قال عبد الرحمان بن مهدي: قلت لسفيان الثوري: لو حدثتني بحديث أبي قيس عن هزيل ما قبلته منك فقال سفيان: الحديث ضعيف أو واه أو كلمة نحوها اه.
وروى البيهقي أيضا عن عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال حدثت أبي بهذا الحديث فقال أبي: ليس يروى هذا إلا من حديث أبي قيس قال أبي: إن عبد الرحمان بن مهدي يقول: هو منكر وروى البيهقي أيضا عن علي بن المديني أنه قال: حديث المغيرة بن شعبة في المسح رواه عن المغيرة أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة ورواه هزيل بن شرحبيل عن المغيرة إلا أنه قال: ومسح على الجوربين وخالف الناس.
وروي أيضا عن يحيى بن معين أنه قال في هذا الحديث: الناس كلهم يروونه على الخفين غير أبي قيس ثم ذكر أيضا ما قدمنا عن أبي داود من أن عبد الرحمان بن مهدي كان لا يحدث بهذا الحديث لأن المعروف عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين وقال أبو داود: وروي هذا الحديث أيضا عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس بالقوي ولا بالمتصل وبين البيهقي مراد أبي داود بكونه غير متصل وغير قوي فعدم اتصاله إنما هو لأن راويه عن أبي موسى الأشعري هو الضحاك بن عبد الرحمان قال البيهقي: والضحاك بن عبد الرحمان: لم يثبت سماعه من أبي موسى وعدم قوته لأن في إسناده عيسى بن سنان قال البيهقي: وعيسى بن سنان ضعيف اه.
342

وقال فيه ابن حجر في (التقريب): لين الحديث واعترض المخالفون تضعيف الحديث المذكور في المسح على الجوربين والنعلين قالوا: أخرجه أبو داود وسكت عنه وما سكت عنه فأقل درجاته عنده الحسن قالوا: وصححه ابن حبان وقال الترمذي: حسن صحيح قالوا: وأبو قيس وثقه ابن معين وقال العجلي: ثقة ثبت وهزيل وثقه العجلي وأخرج لهما معا البخاري في صحيحه ثم إنهما لم يخالفا الناس مخالفة معارضة بل رويا أمرا زائدا على ما رووه بطريق مستقل غير معارض فيحمل على أنهما حديثان قالوا: ولا نسلم عدم سماع الضحاك بن عبد الرحمان من أبي موسى لأن المعاصرة كافية في ذلك كما حققه مسلم بن الحجاج في مقدمة صحيحه. ولأن عبد الغني قال في (الكمال): سمع الضحاك من أبي موسى قالوا: وعيسى بن سنان وثقه ابن معين وضعفه غيره وقد أخرج الترمذي في الجنائز حديثا في سنده عيسى بن سنان هذا وحسنه.
ويعتضد الحديث المذكور أيضا بما جاء في بعض روايات حديث ابن عمر الثابت في الصحيح أن عبيد بن جريج. قال له: يا أبا عبد الرحمان رأيتك تصنع أربعا لم أر أحدا من أصحابك يصنعها قال: ما هن؟ فذكرهن وقال فيهن: رأيتك تلبس النعال السبتية قال: أما النعال السبتية فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها فأنا أحب أن ألبسها.
قال البيهقي بعد أن ساق هذا الحديث بسنده: ورواه البخاري في الصحيح عن عبد الله بن يوسف عن مالك ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى ورواه جماعة عن سعيد المقبري ورواه ابن عيينة عن ابن عجلان عن المقبري فزاد فيه: ويمسح عليها. وهو محل الشاهد قال البيهقي. وهذه الزيادة وإن كانت محفوظة فلا ينافي غسلهما فقد يغسلهما في النعل ويمسح عليهما.
ويعتضد الاستدلال المذكور أيضا في المسح على النعلين بما رواه البيهقي بإسناده عن زيد بن وهب قال: بال علي وهو قائم ثم توضأ ومسح على النعلين ثم قال: وبإسناده قال: حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن أبي ظبيان قال: بال علي وهو قائم ثم توضأ ومسح على النعلين ثم خرج فصلى الظهر.
وأخرج البيهقي أيضا نحوه عن أبي ظبيان بسند آخر ويعتضد الاستدلال المذكور
343

بما رواه البيهقي أيضا من طريق رواد بن الجراح عن سفيان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة ومسح على نعليه ثم قال: هكذا رواه رواد بن الجراح وهو ينفرد عن الثوري بمناكير هذا أحدها والثقات رووه عن الثوري دون هذه اللفظة. وروي عن زيد بن الحباب عن الثوري هكذا وليس بمحفوظ. ثم قال: أخبرنا أبو الحسن بن عبدان أنبأ سليمان بن أحمد الطبراني ثنا إبراهيم بن أحمد بن عمر الوكيعي حدثني أبي ثنا زيد بن الحباب ثنا سفيان فذكره بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على النعلين اه.
قال البيهقي بعد أن ساقه: والصحيح رواية الجماعة ورواه عبد العزيز الدراوردي وهشام بن سعد عن زيد بن أسلم فحكيا في الحديث رشا على الرجل وفيها النعل وذلك يحتمل أن يكون غسلهما في النعل فقد رواه سليمان بن بلال ومحمد بن عجلان وورقاء بن عمر ومحمد بن جعفر بن أبي كثير عن زيد بن أسلم فحكوا في الحديث غسله رجليه والحديث حديث واحد والعدد الكثير أولى بالحفظ من العدد اليسير مع فضل حفظ من حفظ فيه الغسل بعد الرش على من لم يحفظه ويعتضد الاستدلال المذكور أيضا بما رواه البيهقي أيضا أخبرنا أبو علي الروذباري أنا أبو بكر بن داسة ثنا أبو داود ثنا مسدد وعباد بن موسى قالا: ثنا هشيم عن يعلى بن عطاء عن أبيه قال عباد: قال: أخبرني أوس بن أبي أوس الثقفي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه وقدميه.
وقال مسدد: إنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء عن أوس الثقفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه وهو منقطع أخبرناه أبو بكر بن فورك أنا عبد الله بن جعفر ثنا يونس بن حبيب ثنا أبو داود الطيالسي ثنا حماد بن سلمة فذكره.
وهذا الإسناد غير قوي وهو يحتمل ما احتمل الحديث الأول اه كلام البيهقي.
ولا يخفى أن حاصله أن أحاديث المسح على النعلين منها ما هو ضعيف لا يحتج
344

به ومنها ما معناه عنده إنه صلى الله عليه وسلم غسل رجليه في النعلين.
ثم استدل البيهقي على أن المراد بالوضوء في النعلين غسل الرجلين فيهما بحديث ابن عمر الثابت في الصحيحين أنه قال: أما النعال السبتية فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها فأنا أحب أن ألبسها اه.
ومراد البيهقي أن معنى قول ابن عمر ويتوضأ فيها أنه يغسل رجليه فيها وقد علمت أنا قدمنا رواية ابن عيينة التي ذكرها البيهقي عن ابن عجلان عن المقبري وفيها زيادة ويمسح عليها.
وقال البيهقي رحمه الله في منع المسح على النعلين والجوربين: والأصل وجوب غسل الرجلين إلا ما خصته سنة ثابتة أو إجماع لا يختلف فيه وليس على المسح على النعلين ولا على الجوربين واحد منهما اه.
وأجيب من جهة المخالفين بثبوت المسح على الجوربين والنعلين عن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إن الترمذي صحح المسح على الجوربين والنعلين وحسنه من حديث هزيل عن المغيرة وحسنه أيضا من حديث الضحاك عن أبي موسى وصحح ابن حبان المسح على النعلين من حديث أوس وصحح ابن خزيمة حديث ابن عمر في المسح على النعال السبتية.
قالوا: وما ذكره البيهقي من حديث زيد بن الحباب عن الثوري في المسح على النعلين حديث جيد قالوا: وروى البزار عن ابن عمر أنه كان يتوضأ ونعلاه في رجليه ويمسح عليهما.
ويقول كذلك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل وصححه ابن القطان. وقال ابن حزم: المنع من المسح على الجوربين خطأ لأنه خلاف السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلاف الآثار. هذا حاصل ما جاء في المسح على النعلين والجوربين.
قال مقيده عفا الله عنه: إن كان المراد بالمسح على النعلين والجوربين أن
345

الجوربين ملصقان بالنعلين بحيث يكون المجموع ساترا لمحل الفرض مع إمكان تتابع المشي فيه والجوربان صفيقان فلا إشكال.
وإن كان المراد المسح على النعلين بانفرادهما ففي النفس منه شيء لأنه حينئذ لم يغسل رجله ولم يمسح على ساتر لها فلم يأت بالأصل ولا بالبدل.
والمسح على نفس الرجل ترده الأحاديث الصحيحة المصرحة بمنع ذلك بكثرة كقوله صلى الله عليه وسلم: ويل للأعقاب من النار والله تعالى أعلم. * *
المسألة الخامسة: اختلف العلماء في توقيت المسح على الخفين.
فذهب جمهور العلماء إلى توقيت المسح بيوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر.
وإليه ذهب الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة والشافعي وأحمد وأصحابهم وهو مذهب الثوري والأوزاعي وأبي ثور وإسحاق بن راهويه وداود الظاهري ومحمد بن جرير الطبري والحسن بن صالح بن حسين.
وممن قال به من الصحابة: علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس وحذيفة والمغيرة وأبو زيد الأنصاري.
وروي أيضا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن جميعهم.
وممن قال به من التابعين شريح القاضي وعطاء بن أبي رباح والشعبي وعمر بن عبد العزيز.
وقال أبو عمر بن عبد البر: أكثر التابعين والفقهاء على ذلك.
وقال أبو عيسى الترمذي: التوقيت ثلاثا للمسافر ويوما وليلة للمقيم هو قول عامة العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
وقال الخطابي: التوقيت قول عامة الفقهاء قاله النووي.
وحجة أهل هذا القول بتوقيت المسح الأحاديث الواردة بذلك فمن ذلك حديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوم وليلة أخرجه مسلم والإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن
346

حبان.
ومن ذلك أيضا حديث أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوما وليلة إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما أخرجه ابن خزيمة والدارقطني وابن أبي شيبة وابن حبان والبيهقي والترمذي في العلل والشافعي وابن الجارود والأثرم في سننه وصححه الخطابي وابن خزيمة وغيرهما.
ومن ذلك أيضا حديث صفوان بن عسال المرادي قال: أمرنا يعني النبي صلى الله عليه وسلم أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناها على طهر ثلاثا إذا سافرنا ويوما وليلة إذا أقمنا ولا نخلعهما من غائط ولا بول ولا نوم ولا نخلعهما إلا من جنابة أخرجه الإمام أحمد وابن خزيمة والترمذي وصححاه والنسائي وابن ماجة والشافعي وابن حبان
والدارقطني والبيهقي.
قال الشوكاني في (نيل الأوطار): وحكى الترمذي عن البخاري أنه حديث حسن ومداره على عاصم بن أبي النجود وهو صدوق سيئ الحفظ.
وقد تابعه جماعة ورواه عنه أكثر من أربعين نفسا قاله ابن منده اه.
وذهبت جماعة من أهل العلم إلى عدم توقيت المسح وقالوا: إن من لبس خفيه وهو طاهر مسح عليهما ما بدا له ولا يلزمه خلعهما إلا من جنابة.
وممن قال بهذا القول مالك وأصحابه والليث بن سعد والحسن البصري.
ويروى عن أبي سلمة بن عبد الرحمان والشعبي وربيعة وهو قول الشافعي في القديم وهو مروي عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وعقبة بن عامر رضي الله عنهم.
وحجة أهل هذا القول ما رواه الحاكم بإسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: إذا توضأ أحدكم فلبس خفيه فليمسح عليهما وليصل فيهما ولا يخلعهما إن شاء إلا من جنابة ونحوه.
وأخرجه الدارقطني:
وهذا الحديث الصحيح الذي أخرجه الحاكم وغيره يعتضد بما رواه الدارقطني عن ميمونة بنت الحارث الهلالية زوج النبي صلى الله عليه وسلم من عدم التوقيت.
347

ويؤيده أيضا ما رواه أبو داود وابن ماجة وابن حبان عن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه أنه زاد في حديث التوقيت ما لفظه: ولو استزدناه لزادنا وفي لفظ لو مضى السائل على مسألته لجعلها خمسا يعني ليالي التوقيت للمسح.
وحديث خزيمة هذا الذي فيه الزيادة المذكورة صححه ابن معين وابن حبان وغيرهما وبه تعلم أن ادعاء النووي في شرح المهذب الاتفاق على ضعفه غير صحيح.
وقول البخاري رحمه الله: إنه لا يصح عنده لأنه لا يعرف للجدلي سماع من خزيمة مبني على شرطه وهو ثبوت اللقى.
وقد أوضح مسلم بن الحجاج رحمه الله في مقدمة صحيحه أن الحق هو الاكتفاء بإمكان اللقى بثبوت المعاصرة وهو مذهب جمهور العلماء.
فإن قيل: حديث خزيمة الذي فيه الزيادة ظن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لو استزيد لزاد وقد رواه غيره ولم يظن هذا الظن ولا حجة في ظن صحابي خالفه غيره فيه.
فالجواب: أن خزيمة هو ذو الشهادتين الذي جعله صلى الله عليه وسلم بمثابة شاهدين وعدالته وصدقه يمنعانه من أن يجزم بأنه لو استزيد لزاد إلا وهو عارف أن الأمر كذلك بأمور أخر اطلع هو عليها ولم يطلع عليها غيره.
ومما يؤيد عدم التوقيت ما رواه أبو داود وقال: ليس بالقوي عن أبي بن عمارة رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله أمسح على الخفين؟ قال: نعم قال: يوما: قال نعم قال: ويومين قال: نعم قال: وثلاثة أيام قال: نعم وما شئت.
وهذا الحديث وإن كان لا يصلح دليلا مستقلا فإنه يصلح لتقوية غيره من الأحاديث التي ذكرنا.
فحديث أنس في عدم التوقيت صحيح. ويعتضد بحديث خزيمة الذي فيه الزيادة وحديث ميمونة وحديث أبي بن عمارة وبالآثار الموقوفة على عمر وابنه وعقبة بن عامر رضي الله عنهم.
تنبيه
الذي يظهر لي والله تعالى أعلم أنه لا يمكن الجمع في هذه الأحاديث بحمل
348

المطلق على المقيد لأن المطلق هنا فيه التصريح بجواز المسح أكثر من ثلاث للمسافر والمقيم والمقيد فيه التصريح بمنع الزائد على الثلاث للمسافر واليوم والليلة للمقيم. فهما متعارضان في ذلك الزائد فالمطلق يصرح بجوازه والمقيد يصرح بمنعه فيجب الترجيح بين الأدلة فترجح أدلة التوقيت بأنها أحوط كما رجحها بذلك ابن عبد البر وبأن رواتها من الصحابة أكثر وبأن منها ما هو ثابت في صحيح مسلم وهو حديث علي رضي الله عنه المتقدم.
وقد ترجح أدلة عدم التوقيت بأنها تضمنت زيادة وزيادة العدل مقبولة وبأن القائل بها مثبت أمرا والمانع منها ناف له والمثبت أولى من النافي.
قال مقيده عفا الله عنه: والنفس إلى ترجيح التوقيت أميل لأن الخروج من الخلاف أحوط كما قال بعض العلماء: الرجز وإن الأورع الذي يخرج من خلافهم ولو ضعيفا فاستبن وقال الآخر الرجز وذو احتياط فيأمور الدين من فر من شك إلى يقين مصدق ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم دع ما يربيك إلى ما لا يريبك فالعامل بأدلة التوقيت طهارته صحيحة باتفاق الطائفتين بخلاف غيره فإحدى الطائفتين تقول ببطلانها بعد الوقت المحدد والله تعالى أعلم واعلم أن القائلين بالتوقيت اختلفوا في ابتداء مدة المسح فذهب الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما وأحمد في أصح الروايتين عنه وسيفان الثوري وداود في أصح الرواتيتن وغيرهم إلى أن ابتداء مدة التوقيت من أول حدث يقع بعد لبس الخف وهذا قول جمهور إلى الحدث قال النووي في شرح المهذب وهي زيادة غربية ليست ثابتة واحتجوا أيضا بالقياس وهو أن المسح عبادة مؤقتة فيكون ابتداء وقتها من حين جواز فعلها قياسا على الصلاة وذهب جماعة من أهل العلم: إلى أن ابتداء المدة: من حين يمسح بعد الحدث وممن قال بهذا الأوزاعي وأبو ثور وهو إحدى الروايتين عن أحمد دواد ورجح هذا القول النووي واختاره ابن المنذر وحكى نحوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه واحتج أهل القول بأحاديث التوقيت في المسح وهي أحاديث صحاح ووجه احتجاجهم بها أن قوله صلى الله عليه وسلم يمسح المسافر ثلاثة أيام صريح في أن الثلاثة كلها ظرف للمسح ولا يتحقق ذلك إلا إذا كان ابتداء المدة من المسح وهذا هو أظهر الأقوال دليلا فيما يظهر لي والله تعالى أعلم وفي المسألة قول ثالث وهو أن ابتداء المدة من حين لبس الخف وحكاه الماوردي والشاشي عن
الحسن البصري قاله النووي والله تعالى أعلم المسألة السادسة اختلف العلماء هل يكفي مسح ظاهر الخف أو لا بد من مسح ظاهره وباطنه فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه يكفي مسح ظاهره وممن قال به أبو حنيفة وأحمد والثوري والأوزاعي وحكاه ابن المنذر عن الحسن وعروة بن الزبير وعطاء والشعبي والنخعي وغيرهم وأصح الروايات عن أحمد أن الواجب مسح أكثر أعلى الخف وأبو حنيفة يكفي عنده مسح قدر ثلاثة أصابع من أعلى الخف وحجة من اقتصر على مسح ظاهر الخف دون أسفله حديث علي رضي الله عنه لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه أخرجه أبو داود والدارقطني قال ابن حجر في بلوغ المرام إسناده حسن وقال في التلخيص إسناده صحيح واعلم أن هذا الحديث لا يقدح فيه بأن في إسناده عبد خير بن يزيد الهمداني وأن البيهقي قال لم يحتج بعبد خير المذكور صاحبا الصحيح اه لأن عبد خير المذكور ثقة مخضرم مشهور قيل إنه صحابي والصحيح أنه مخضرم وثقة يحيى بن معين والعجلي وقال فيه ابن حجر في التقريب مخضرم ثقة من الثانية لم يصح له صحبة وأما كون الشيخين لم يخرجا له فهذا ليس بقادح فيه باتفاق أهل العلم وكم من ثقة عدل لم يخرج له الشيخان وذهب الإمام الشافعي رحمه الله إلى أن الواجب مسح أقل جزء من أعلاه وأن مسح أسفله مستحب وذهب الإمام مالك رحمه الله إلى أنه يلزم مسح أعلاه وأسفله معا فإن اقتصر على أعلاه أعاد في الوقت ولم يعد أبدا وإن اقتصر على أسفلع أعاد أبدا وعن مالك أيضا أن مسح أعلاه واجب ومسح أسفله مندوب واحتج من قال بمسح لك ظاهر الخف وأسفله بما رواه ثور بن يزيد عن رجاء بن حيوة عن رواد كاتب المغيرة بن شعبة عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح أعلى الخف وأسفله وأخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والدارقطني والبيهقي وابن الجارود وقال الترمذي هذاحديث معلول لم يسنده عن ثور غير الوليد بن مسلم وسألت أبا زرعة ومحمدا عن هذا الحديث فقالا ليس بصحيح ولا شك أن هذا الحديث ضعيف وقد احتج مالك لمسح أسفل الخف بفعل عروة بن الزبير رضي الله عنهما المسألة السابعة أجمه العلماء على اشتراط الطهارة المائية للمسح على الخف قبل أن يغسل رجلهاليسرى ثم قال رجله اليسرى فأدخله أيضا في الخف هل يجوز له المسح على الخفين إذا أحدث بعد ذلك ذهب جماعة من أهل العلم إلى اشتراط كمال الطهارة فقالوا في الصورة المذكورة لا يجوز له المسح لأنه لبس أحد الخفين قبل الكمال الطهارة وممن قال بهذا القول الشافعي وأصحابه ومالك وأصحابه وإسحاق وهو أصح الروايتين عند أحمد واحتج أهل هذا القول بالأحاديث الواردة باشتراط الطهارة للمسح على الخفين كحديث المغيرة بن شعبة عنب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما متفق عليه ولأبي داود عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم دع الخفين فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان فمسح عليما وعن أبي هريرة عند أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال لما نبهه على أنه لم يغسل رجليه إني أدخلتهما وهما طاهرتان وفيحديث صفوان بن عسال المتقدم أمرنا أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر الحديث إلى غير ذلك من الأحاديث وقالوا والطهارة الناقصة كلا طهارة وذهب جماعة من أهل العلم إلى عدم اشتراط كمال الطهارة وقت لبس الخف فأجازوا لبس خف اليمنى قبل اليسرى والمسح عليه إذا أحدث بعد ذلك لأن الطهارة كملت بعد لبس الخف قالوا والدوام كالابتداء وممن قال بهذا القول الإمام أبو حنيفة وسفيان الثوري ويحيى بن آدم والمزني دواد واختار هذا القول ابن المنذر قاله النووي قال مقيده عفا الله عنه منشأ الخلاف في هذه المسألة هو قاعدة مختلف فيها وهي هل يرتفع الحدث عن كل عضو من أعضاء الوضوء بمجرد غسله أو لا يرتفع الحدث عن شئ منها إلا بتمام الوضوء وأظهرهما عندي أن الحدث معنى من المعاني لا ينقسم ولا يتجزأ فلا يرتفع منه جزء وأنه قبل تمام الوضوء محدث والخف يشترط في المسح عليه أن يكون وقت لبسه غير محدث والله تعالى أعلم اه تنبيه جمهور العلماء على اشتراط النية في الوضوء والغسل لأنهما قربة والنبي صلى الله عليه وسلم يقول إنما الأعمال بالنيات وخالف أبو حنيفة قائلا إن طهارة الحدث لا تشترط فيها النية كطهارة الخبث واختلف العلماء أيضا في الغاية في قوله إلى المرافق هل هي داخلة فيجب غسل المرافق في الوضوء وهو مذهب الجهمور أو خارجة فلا يجب غسل المرافق فيه والحق اشتراط النية ووجوب غسل المرافق والعلم عند الله تعالى واختلف العلماء في مسح الرأس في الوضوء هل يجب تعميمه فقال مالك وأحمد وجماعة يجب تعميمه وشك أنه الأحوط في الخروج من عهدة التكليف بالمسح وقال الشافعي وأبو حنيفة لا يجب التعميم واختلفوا في القدر المجزئ فعن الشافعي أقل ما يطلق عليه اسم المسح كاف وعن أبي حنيفة الربع وعن بعضهم الثلث وعن بعضهم الثلثان وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح.
349

.
350

على العمامة وحمله المالكية على ما إذا خيف بنزعها ضرر وظاهر الدليل الإطلاق.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم المسح على الناصية والعمامة ولا وجه للاستدلال به على الاكتفاء بالناصية لأنه لم يرد أنه صلى الله عليه وسلم اكتفى بها بل مسح معها على العمامة فقد ثبت في مسح الرأس ثلاث حالات: المسح على الرأس والمسح على العمامة والجمع بينهما بالمسح على الناصية والعمامة.
والظاهر من الدليل جواز الحالات الثلاث المذكورة والعلم عند الله تعالى. وما قدمنا من حكاية الإجماع على عدم الاكتفاء في المسح على الخف بالتيمم مع أن فيه بعض خلاف كما يأتي لأنه لضعفه عندنا كالعدم ولنكتف بما ذكرنا من أحكام هذه الآية الكريمة خوف الإطالة.
* () * قوله تعالى: * (فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) *.
اعلم أن لفظة * (من) * في هذه الآية الكريمة محتملة لأن تكون للتبعيض فيتعين في التيمم التراب الذي له غبار يعلق باليد. ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية أي مبدأ ذلك المسح كائن من الصعيد الطيب فلا يتعين ما له غبار وبالأول قال الشافعي
353

وأحمد وبالثاني قال مالك وأبو حنيفة رحمهم الله تعالى جميعا.
فإذا علمت ذلك فاعلم أن في هذه الآية الكريمة إشارة إلى هذا القول الأخير وذلك في قوله تعالى: * (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) * فقوله: * (من حرج) *
نكرة في سياق النفي زيدت قبلها * (من) * والنكرة إذا كانت كذلك فهي نص في العموم كما تقرر في الأصول قال في (مراقي السعود) عاطفا على صيغ العموم: الرجز:
* وفي سياق النفي منها يذكر
* إذا بنى أو زيد من منكر
*
فالآية تدل على عموم النفي في كل أنواع الحرج والمناسب لذلك كون * (من) * لابتداء الغاية لأن كثيرا من البلاد ليس فيه إلا الرمال أو الجبال فالتكليف بخصوص ما فيه غبار يعلق باليد لا يخلو من حرج في الجملة.
ويؤيد هذا ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وفي لفظ: فعنده مسجده وطهوره الحديث.
فهذا نص صحيح صريح في أن من أدركته الصلاة في محل ليس فيه إلا الجبال أو الرمال أن ذلك الصعيد الطيب الذي هو الحجارة أو الرمل طهور له ومسجد. وبه تعلم أن ما ذكره الزمخشري من تعين كون * (من) * للتبعيض غير صحيح. فإن قيل: ورد في الصحيح ما يدل على تعين التراب الذي له غبار يعلق باليد دون غيره من أنواع الصعيد فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء الحديث فتخصيص التراب بالطهورية في مقام الامتنان يفهم منه أن غيره من الصعيد ليس كذلك فالجواب من ثلاثة أوجه: الأول: أن كون الأمر مذكورا في معرض الامتنان مما يمنع فيه اعتبار مفهوم المخالفة كما تقرر في الأصول قال في (مراقي السعود) في موانع اعتبار مفهوم المخالفة
354

: الرجز:
* أو امتنان أو وفاق الواقع
* والجهل والتأكيد عند السامع
*
ولذا أجمع العلماء على جواز أكل القديد من الحوت مع أن الله خص اللحم الطري منه في قوله: * (وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا) * لأنه ذكر اللحم الطري في معرض الامتنان فلا مفهوم مخالفة له فيجوز أكل القديد مما في البحر. الثاني: أن مفهوم التربة مفهوم لقب وهو لا يعتبر عند جماهير العلماء وهو الحق كما هو معلوم في الأصول. الثالث: أن التربة فرد من أفراد الصعيد. وذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يكون مخصصا له عند الجمهور سواء ذكرا في نص واحد كقوله تعالى: * (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) * أو ذكرا في نصين كحديث أيما إهاب دبغ فقد طهر عند أحمد ومسلم وابن ماجة والترمذي وغيرهم مع حديث هلا انتفعتم بجلدها يعني شاة ميتة عند الشيخين كلاهما من حديث ابن عباس فذكر الصلاة الوسطى في الأول وجلدة الشاة في الأخير لا يقتضي أن غيرهما من الصلوات في الأول ومن الجلود في الثاني ليس كذلك قال في (مراقي السعود) عاطفا على ما لا يخصص به العموم: الرجز:
* وذكر ما وافقه من مفرد
* ومذهب الراوي على المعتمد
*
ولم يخالف في عدم التخصيص بذكر بعض أفراد العام بحكم العام إلا أبو ثور محتجا بأنه لا فائدة لذكره إلا التخصيص.
وأجيب من قبل الجمهور بأن مفهوم اللقب ليس بحجة وفائدة ذكر البعض نفي احتمال إخراجه من العام والصعيد في اللغة: وجه الأرض كان عليه تراب أو لم يكن قاله الخليل وابن الأعرابي والزجاج.
قال الزجاج: لا أعلم فيه خلافا بين أهل اللغة قال الله تعالى: * (وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا) * أي أرضا غليظة لا تنبت شيئا وقال تعالى: * (فتصبح صعيدا زلقا) * ومنه قول ذي الرمة: البسيط:
* كأنه بالضحى ترمى الصعيد به
* دبابة في عظام الرأس خرطوم
*
355

وإنما سمي صعيدا لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض وجمع الصعيد صعدات على غير قياس ومنه حديث إياكم والجلوس في الصعدات قاله القرطبي وغيره عنه. واختلف العلماء فيه من أجل تقييده بالطيب فقالت طائفة: الطيب هو الطاهر فيجوز التيمم بوجه الأرض كله ترابا كان أو رملا أو حجارة أو معدنا أو سبخة إذا كان ذلك طاهرا. وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة والثوري وغيرهم.
وقالت طائفة: الطيب: الحلال فلا يجوز التيمم بتراب مغصوب. وقال الشافعي وأبو يوسف: الصعيد الطيب التراب المنبت بدليل قوله تعالى: * (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه) * (الأعراف: 85) الآية.
فإذا علمت هذا فاعلم أن المسألة لها واسطة وطرفان: طرف أجمع جميع المسلمين على جواز التيمم به وهو التراب المنبت الطاهر الذي هو غير منقول ولا مغصوب. وطرف أجمع جميع المسلمين على منع التيمم به وهو الذهب والفضة الخالصان والياقوت والزمرد والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما والنجاسات وغير هذا هو الواسطة التي اختلف فيها العلماء فمن ذلك المعادن.
فبعضهم يجيز التيمم عليها كمالك وبعضهم يمنعه كالشافعي ومن ذلك الحشيش فقد روى ابن خويز منداد عن مالك أنه يجيز التيمم على الحشيش إذا كان دون الأرض ومشهور مذهب مالك المنع ومن ذلك التيمم على الثلج فروي عن مالك في (المدونة) والمبسوط جوازه: قيل: مطلقا. وقيل: عند عدم الصعيد وفي غيرهما منعه.
واختلف عنه في التيمم على العود فالجمهور على المنع وفي (مختصر الوقار) أنه جائز وقيل: يجوز في العود المتصل بالأرض دون المنفصل عنها وذكر الثعلبي أن مالكا قال: لو ضرب بيده على شجرة ثم مسح بها أجزأه قال: وقال الأوزاعي والثوري: يجوز بالأرض وكل ما عليها من الشجر والحجر والمدر وغيرها حتى قالا: لو ضرب بيده على الجمد والثلج أجزأه.
وذكر الثعلبي عن أبي حنيفة أنه يجيزه بالكحل والزرنيخ والنورة والجص والجوهر المسحوق ويمنعه بسحالة الذهب والفضة والنحاس والرصاص لأن
356

ذلك ليس من جنس الأرض.
وذكر النقاش عن ابن علية وابن كيسان أنهما أجازاه بالمسك والزعفران وأبطل ابن عطية هذا القول ومنعه إسحاق بن راهويه بالسباخ وعن ابن عباس نحوه وعنه فيمن أدركه التيمم وهو في طين أنه يطلي به بعض جسده فإذا جف تيمم به قاله القرطبي.
وأما التراب المنقول في طبق أو غيره فالتيمم به جائز في مشهور مذهب مالك وهو قول جمهور المالكية ومذهب الشافعي وأصحابه. وعن بعض المالكية وجماعة من العلماء منعه.
وما طبخ كالجص والآجر ففيه أيضا خلاف عن المالكية والمنع أشهر.
واختلفوا أيضا في التيمم على الجدار فقيل: جائز مطلقا وقيل: ممنوع مطلقا وقيل بجوازه للمريض دون غيره وحديث أبي جهيم الآتي يدل على الجواز مطلقا.
والظاهر أن محله فيما إذا كان ظاهر الجدار من أنواع الصعيد ومشهور مذهب مالك جواز التيمم على المعادن غير الذهب والفضة ما لم تنقل وجوازه على الملح غير المصنوع ومنعه بالأشجار والعيدان ونحو ذلك وأجازه أحمد والشافعي والثوري على اللبد والوسائد. ونحو ذلك إذا كان عليه غبار.
والتيمم في اللغة: القصد تيممت الشيء قصدته وتيممت الصعيد تعمدته وأنشد الخليل قول عامر بن مالك ملاعب الألسنة: البسيط يتممته الرمح شزرا ثم قلت له
* هذي البسالة لا لعب الزحاليق
*
ومنه قول امرئ القيس: الطويل:
* تيممت العين التي عند ضارج
* يفئ عليها الظل عرمضها طامى
*
وقول أعشى باهلة: المتقارب:
* تيممت قيسا وكم دونه
* من الأرض من مهمة ذي شزن
*
وقول حميد بن ثور: الطويل:
* سل الربع أني يممت أم طارق
* وهل عادة للربع أن يتكلما
*
357

والتيمم في الشرع: القصد إلى الصعيد الطيب لمسح الوجه واليدين منه بنية استباحة الصلاة عند عدم الماء أو العجز عن استعماله وكون التيمم بمعنى القصد يدل على اشتراط النية في التيمم وهو الحق.
مسائل في أحكام التيمم
المسألة الأولى: لم يخالف أحد من جميع المسلمين في التيمم عن الحدث الأصغر وكذلك عن الحدث الأكبر إلا ما روي عن عمر وابن مسعود وإبراهيم النخعي من التابعين
أنهم منعوه عن الحدث الأكبر.
ونقل النووي في (شرح المهذب) عن ابن الصباغ وغيره القول برجوع عمر وعبد الله بن مسعود عن ذلك واحتج لمن منع التيمم عن الحدث الأكبر بأن آية النساء ليس فيها إباحته إلا لصاحب الحدث الأصغر. حيث قال: * (أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا) * ورد هذا الاستدلال من ثلاثة أوجه: الأول: أنا لا نسلم عدم ذكر الجنابة في آية النساء لأن قوله تعالى: * (أو لامستم النساء) * فسره ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما بأن المراد به الجماع وإذا فذكر التيمم بعد الجماع المعبر عنه باللمس أو الملامسة بحسب القراءتين والمجيء من الغائط دليل على شمول التيمم لحالتي الحدث الأكبر والأصغر. الثاني: أنه تعالى في سورة المائدة صرح بالجنابة غير معبر عنها بالملامسة ثم ذكر بعدها التيمم فدل على أنه يكون عنها أيضا حيث قال: * (إذا قمتم إلى الصلواة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا) * ثم قال: * (فلم تجدوا ماء فتيمموا) *.
فهو عائد إلى المحدث والجنب جميعا كما هو ظاهر. الثالث: تصريحه صلى الله عليه وسلم بذلك الثابت عنه في الصحيح: فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما أنه قال: أجنبت فلم أصب الماء فتمعكت في الصعيد وصليت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنما كان يكفيك هكذا
358

وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه.
وأخرجا في صحيحيهما أيضا من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فصلى بالناس. فإذا هو برجل معتزل فقال: ما منعك أن تصلي؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك.
والأحاديث في الباب كثيرة.
* *
المسألة الثانية: اختلف العلماء هل تكفي للتيمم ضربة واحدة أو لا؟ فقال جماعة: تكفي ضربة واحدة للكفين والوجه وممن ذهب إلى ذلك الإمام أحمد وعطاء ومكحول والأوزاعي وإسحاق ونقله ابن المنذر عن جمهور العلماء واختاره وهو قول عامة أهل الحديث ودليله حديث عمار المتفق عليه المتقدم آنفا.
وذهب أكثر الفقهاء إلى أنه لا بد من ضربتين: إحداهما للوجه والأخرى للكفين ومنهم من قال بوجوب الثانية ومنهم من قال بسنيتها كمالك وذهب ابن المسيب وابن شهاب وابن سيرين إلى أن الواجب ثلاث ضربات: ضربة للوجه وضربة لليدين وضربة للذراعين.
قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر من جهة الدليل الاكتفاء بضربة واحدة. لأنه لم يصح من أحاديث الباب شيء مرفوعا إلا حديث عمار المتقدم وحديث أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم رد عليه السلام أخرجه البخاري موصولا ومسلم تعليقا وليس في واحد منهما ما يدل على أنهما ضربتان كما رأيت وقد دل حديث عمار أنها واحدة.
* *
المسألة الثالثة: هل يلزم في التيمم مسح غير الكفين؟ اختلف العلماء في ذلك فأوجب بعضهم المسح في التيمم إلى المرفقين وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري وابن أبي سلمة والليث كلهم يرون بلوغ التيمم بالمرفقين فرضا واجبا وبه قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم وابن نافع وإليه ذهب إسماعيل القاضي.
359

قال ابن نافع: من تيمم إلى الكوعين أعاد الصلاة أبدا وقال مالك: في المدونة يعيد في الوقت وروي التيمم إلى المرفقين مرفوعا عن جابر بن عبد الله وابن عمر وأبي أمامة وعائشة وعمار والأسلع وسيأتي ما في أسانيد رواياتهم من المقال إن شاء الله تعالى وبه كان يقول ابن عمر وقال ابن شهاب: يمسح في التيمم إلى الآباط.
واحتج من قال بالتيمم إلى المرفقين بما روي عمن ذكرنا من ذكر المرفقين وبأن ابن عمر كان يفعله وبالقياس على الوضوء وقد قال تعالى فيه: * (وأيديكم إلى المرافق) *.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر من الأدلة والله تعالى أعلم أن الواجب في التيمم هو مسح الكفين فقط لما قدمنا من أن الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها شيء ثابت الرفع إلا حديث عمار: وحديث أبي جهيم المتقدمين.
أما حديث أبي جهيم فقد ورد بذكر اليدين مجملا كما رأيت وأما حديث عمار فقد ورد بذكر الكفين في الصحيحين كما قدمنا آنفا. وورد في غيرهما بذكر المرفقين وفي رواية إلى نصف الذراع وفي رواية إلى الآباط فأما رواية المرفقين ونصف الذراع ففيهما مقال سيأتي وأما رواية الآباط فقال الشافعي وغيره: إن كان ذاك وقع بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فكل تيمم للنبي صلى الله عليه وسلم بعده فهو ناسخ له. وإن كان وقع بغير أمره فالحجة فيما أمر به ومما يقوي رواية الصحيحين في الاقتصار على الوجه والكفين كون عمار كان يفتي بعد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. وراوي الحديث أعرف بالمراد به من غيره. ولا سيما الصحابي المجتهد قاله ابن حجر في (الفتح).
وأما فعل ابن عمر فلم يثبت رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم والموقوف على ابن عمر لا يعارض به مرفوع متفق عليه وهو حديث عمار.
وقد روى أبو داود عن ابن عمر بسند ضعيف أنه قال: مر رجل على النبي صلى الله عليه وسلم في سكة من السكك وقد خرج من غائط أو بول فسلم عليه فلم يرد عليه حتى كاد الرجل يتوارى في السكك فضرب بيده على حائط ومسح بها وجهه ثم ضرب ضربة أخرى فمسح بها ذراعيه ومدار الحديث على محمد بن ثابت وقد ضعفه ابن
معين وأحمد والبخاري وأبو حاتم. وقال أحمد والبخاري: ينكر عليه حديث التيمم. أي
360

هذا زاد البخاري: خالفه أيوب وعبيد الله والناس فقالوا عن نافع عن ابن عمر فعله. وقال أبو داود: لم يتابع أحد محمد بن ثابت في هذه القصة على ضربتين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورووه من فعل ابن عمر وقال الخطابي: لا يصح. لأن محمد بن ثابت ضعيف جدا ومحمد بن ثابت هذا هو العبدي أبو عبد الله البصري قال فيه في التقريب: صدوق لين الحديث.
واعلم أن رواية الضحاك بن عثمان وابن الهاد لهذا الحديث عن نافع عن ابن عمر ليس في واحدة منهما متابعة محمد بن ثابت على الضربتين ولا على الذراعين. لأن الضحاك لم يذكر التيمم في روايته وابن الهاد قال في روايته مسح وجهه ويديه. قاله ابن حجر والبيهقي وروى الدارقطني والحاكم والبيهقي من طريق علي بن ظبيان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين.
قال الدارقطني: وقفه يحيى القطان وهشيم وغيرهما وهو الصواب ثم رواه من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر موقوفا قاله ابن حجر مع أن علي بن ظبيان ضعفه القطان وابن معين وغير واحد.
وهو ابن ظبيان بن هلال العبسي الكوفي قاضي بغداد قال فيه في (التقريب): ضعيف.
ورواه الدارقطني من طريق سالم عن ابن عمر مرفوعا بلفظ تيممنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ضربنا بأيدينا على الصعيد الطيب ثم نفضنا أيدينا فمسحنا به وجوهنا ثم ضربنا ضربة أخرى فمسحنا من المرافق إلى الأكف الحديث لكن في إسناده سليمان بن أرقم وهو متروك.
قال البيهقي: رواه معمر وغيره عن الزهري موقوفا وهو الصحيح ورواه الدارقطني أيضا من طريق سليمان بن أبي داود الحراني وهو متروك أيضا عن سالم ونافع جميعا عن ابن عمر مرفوعا بلفظ: في التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين قال أبو زرعة: حديث باطل ورواه الدارقطني والحاكم من طريق عثمان بن
361

محمد الأنماطي عن عزرة بن ثابت عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: التيمم ضربة للوجه وضربة للذراعين إلى المرفقين ومن طريق أبي نعيم عن عزرة بسنده المذكور قال: جاء رجل فقال: أصابتني جنابة وإني تمعكت في التراب فقال: اضرب فضرب بيده الأرض فمسح وجهه ثم ضرب يديه فمسح بهما إلى المرفقين.
ضعف ابن الجوزي هذا الحديث بأن فيه عثمان بن محمد ورد على ابن الجوزي بأن عثمان بن محمد لم يتكلم فيه أحد كما قاله ابن دقيق العيد لكن روايته المذكورة شاذة لأن أبا نعيم رواه عن عزرة موقوفا أخرجه الدارقطني والحاكم أيضا.
وقال الدارقطني في حاشية السنن عقب حديث عثمان بن محمد: كلهم ثقات والصواب موقوف قال ذلك كله ابن حجر في التلخيص وقال في (التقريب) في عثمان بن محمد المذكور مقبول وقال في (التلخيص) أيضا: وفي الباب عن الأسلع قال: كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه جبريل بآية الصعيد فأراني التيمم فضربت بيدي الأرض واحدة فمسحت بها وجهي ثم ضربت بها الأرض فمسحت بها يدي إلى المرفقين رواه الدارقطني والطبراني وفيه الربيع بن بدر وهو ضعيف وعن أبي أمامة رواه الطبراني وإسناده ضعيف جدا.
ورواه البزار وابن عدي من حديث عائشة مرفوعا: التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين. تفرد به الحريش بن الخريت عن ابن أبي مليكة عنها قال أبو حاتم: حديث منكر والحريش شيخ لا يحتج به.
وحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمار بن ياسر: تكفيك ضربة للوجه وضربة للكفين رواه الطبراني في الأوسط والكبير وفيه إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى وهو ضعيف ولكنه حجة عند الشافعي.
وحديث عمار كنت في القوم حين نزلت الرخصة فأمرنا فضربنا واحدة للوجه ثم ضربة أخرى لليدين إلى المرفقين. رواه البزار ولا شك أن الرواية المتفق عليها عن عمار أولى منه.
وقال ابن عبد البر: أكثر الآثار المرفوعة عن عمار ضربة واحدة وما روي عنه من ضربتين فكلها مضطربة اه منه. فبهذا كله تعلم أنه لم يصح في الباب إلا حديث عمار
362

وأبي جهيم المتقدمين كما ذكرنا.
فإذا عرفت نصوص السنة في المسألة فاعلم أن الواجب في المسح الكفان فقط ولا يبعد ما قاله مالك رحمه الله من وجوب الكفين وسنية الذراعين إلى المرفقين لأن الوجوب دل عليه الحديث المتفق عليه في الكفين.
وهذه الروايات الواردة بذكر اليدين إلى المرفقين تدل على السنية وإن كانت لا يخلو شيء منها من مقال فإن بعضها يشد بعضا لما تقرر في علوم الحديث من أن الطرق الضعيفة المعتبر بها يقوي بعضها بعضا حتى يصلح مجموعها للاحتجاج: لا تخاصم بواحد أهل بيت فضعيفان يغلبان قويا وتعتضد أيضا بالموقوفات المذكورة.
والأصل إعمال الدليلين كما تقرر في الأصول.
* *
المسألة الرابعة: هل يجب الترتيب في التيمم أو لا؟ ذهب جماعة من العلماء منهم الشافعي وأصحابه إلى أن تقديم الوجه على اليدين ركن من أركان التيمم وحكى النووي
عليه اتفاق الشافعية وذهبت جماعة منهم مالك وجل أصحابه إلى أن تقديم الوجه على اليدين سنة.
ودليل تقديم الوجه على اليدين أنه تعالى قدمه في آية النساء وآية المائدة حيث قال فيهما: * (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) *.
وقد قال صلى الله عليه وسلم أبدأ بما بدأ الله به يعني قوله: * (إن الصفا والمروة) * وفي بعض رواياته ابدءوا بصيغة الأمر. وذهب الإمام أحمد ومن وافقه إلى تقديم اليدين مستدلا بما ورد في صحيح البخاري في باب التيمم ضربة من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا فضرب بكفيه ضربة على الأرض ثم نفضها ثم مسح بها ظهر كفه بشماله أو ظهر شماله بكفه ثم مسح بها وجهه الحديث.
ومعلوم أن ثم تقتضي الترتيب وأن الواو لا تقتضيه عند الجمهور وإنما تقتضي مطلق التشريك ولا ينافي ذلك أن يقوم دليل منفصل على أن المعطوف بالواو مؤخر عما قبله كما دل عليه الحديث المتقدم في قوله: * (إن الصفا والمروة) * الآية وكما في قول حسان الوافر:
363

* هجوت محمدا وأجبت عنه
وعلى رواية الواو فحديث البخاري هذا نص في تقديم اليدين على الوجه وللاسماعيلي من طريق هارون الحمال عن أبي معاوية ما لفظه: إنما يكفيك أن تضرب بيديك على الأرض ثم تنفضهما ثم تمسح بيمينك على شمالك وشمالك على يمينك ثم تمسح على وجهك قاله ابن حجر في الفتح وأكثر العلماء على تقديم الوجه مع الاختلاف في وجوب ذلك وسنيته.
* *
المسألة الخامسة: هل يرفع التيمم الحدث أو لا؟ وهذه المسألة من صعاب المسائل لإجماع المسلمين على صحة الصلاة بالتيمم عند فقد الماء أو العجز عن استعماله وإجماعهم على أن الحدث مبطل للصلاة فإن قلنا: لم يرتفع حدثه فكيف صحت صلاته وهو محدث؟ وإن قلنا: صحت صلاته فكيف نقول: لم يرتفع حدثه؟
اعلم أولا أن العلماء اختلفوا في هذه المسألة إلى ثلاثة مذاهب:
الأول: أن التيمم لا يرفع الحدث.
الثاني: أنه يرفعه رفعا كليا.
الثالث: أنه يرفعه رفعا مؤقتا.
حجة القول الأول أن التيمم لا يرفع الحدث ما ثبت في صحيح البخاري من حديث عمران المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس فرأى رجلا معتزلا لم يصل مع القوم فقال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء. قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك. إلى أن قال: وكان آخر ذلك أن أعطي الذي أصابته الجنابة إناء من ماء. قال: اذهب فأفرغه عليك الحديث. ولمسلم في هذا الحديث وغسلنا صاحبنا يعني الجنب المذكور. وهذا نص صحيح في أن تيممه الأول لم يرفع جنابته.
ومن الأدلة على أنه لا يرفع الحدث ما رواه أبو داود وأحمد والدارقطني وابن حبان والحاكم موصولا ورواه البخاري تعليقا عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه تيمم عن الجنابة من شدة البرد. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: صليت بأصحابك
364

وأنت جنب فقال عمرو: إني سمعت الله يقول: * (ولا تقتلوا أنفسكم) *. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه قال ابن حجر في (التلخيص) في الكلام على حديث عمرو هذا: واختلف فيه على عبد الرحمن بن جبير. فقيل عنه عن أبي قيس عن عمرو وقيل عن عن عمرو بلا واسطة. لكن الرواية التي فيها أبو قيس ليس فيها ذكر التيمم بل فيها أنه غسل معابنة فقط.
وقال أبو داود: روى هذه القصة الأوزاعي عن حسان بن عطية وفيه: فتيمم. ورجح الحاكم إحدى الروايتين على الأخرى.
وقال البيهقي: يحتمل أن يكون فعل ما في الروايتين جميعا فيكون قد غسل ما أمكن وتيمم عن الباقي. وله شاهد من حديث ابن عباس وحديث أبي أمامة عند الطبراني انتهى من التلخيص لابن حجر.
قال مقيده عفا الله عنه: ما أشار إليه البيهقي من الجمع بين الروايتين متعين لأن الجمع واجب إذا أمكن كما تقرر في الأصول وعلوم الحديث.
ومحل الشاهد من هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: صليت بأصحابك وأنت جنب فإنه أثبت بقاء جنابته مع التيمم.
ومن الأدلة على أن التيمم لا يرفع الحدث حديث أبي ذر عند أحمد وأصحاب السنن الأربع وصححه الترمذي وأبو حاتم من حديث أبي ذر وابن القطان من حديث أبي هريرة عند البزار والطبراني قاله ابن حجر في التلخيص.
وذكر في (الفتح) أنه صححه ابن حبان والدارقطني من حديث أبي ذر أنه صلى الله عليه وسلم قال: أن الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليمسه بشرته الحديث. قال ابن حجر في التلخيص بعد أن ذكر هذا الحديث عن أصحاب السنن من رواية خالد الحذاء عن أبي قلابة عن عمرو بن بجدان عن أبي ذر: واختلف فيه على أبي قلابة فقيل هكذا. وقيل عنه عن رجل من بني عامر وهذه رواية أيوب عنه وليس فيها مخالفة لرواية خالد وقيل عن أيوب عنه عن أبي المهلب عن أبي ذر وقيل عنه بإسقاط
365

الواسطة وقيل في الواسطة محجن أو ابن محجن أو رجاء بن عامر أو رجل من بني عامر وكلها عند الدارقطني والاختلاف فيه كله على أيوب ورواه ابن حبان والحاكم
من طريق خالد الحذاء كرواية أبي داود وصححه أيضا أبو حاتم ومدار طريق خالد على عمرو بن بجدان وقد وثقه العجلي وغفل ابن القطان فقال: إنه مجهول. هكذا قاله ابن حجر في التلخيص.
وقال في (التقريب) في ابن بجدان المذكور: لا يعرف حاله تفرد عنه أبو قلابة وفي الباب عن أبي هريرة رواه البزار قال: حدثنا مقدم بن محمد ثنا عمي القاسم بن يحيى ثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رفعه الصعيد وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته فإن ذلك خير.
وقال: لا نعلمه عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه ورواه الطبراني في الأوسط من هذا الوجه مطولا أخرجه في ترجمة أحمد بن محمد بن صدقة وساق فيه قصة أبي ذر وقال: لم يروه إلا هشام عن ابن سيرين ولا عن هشام إلا القاسم تفرد به مقدم وصححه ابن القطان لكن قال الدارقطني في العلل: إن إرساله أصح انتهى من التلخيص بلفظه وقد رأيت تصحيح هذا الحديث للترمذي وأبي حاتم وابن القطان وابن حبان.
ومحل الشاهد منه قوله: فإن وجد الماء فليمسه بشرته لأن الجنابة لو كان التيمم رفعها لما احتيج إلى إمساس الماء البشرة.
واحتج القائلون بأن التيمم يرفع الحدث: بأن النبي صلى الله عليه وسلم صرح بأنه طهور في قوله في الحديث المتفق عليه وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وبأن في الحديث المار آنفا التيمم وضوء المسلم وأن الله تعالى قال: * (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولاكن يريد ليطهركم) * وبالإجماع على أن الصلاة تصح به كما تصح بالماء به ولا يخفى ما بين القولين المتقدمين من التناقض قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر من الأدلة تعين القول الثالث لأن الأدلة تنتظم ولا يكون بينهما تناقض والجمع واجب متى أمكن. قال في (مراقي السعود): فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولاكن يريد ليطهركم) * وبالإجماع على أن الصلاة تصح به كما تصح بالماء ولا يخفى ما بين القولين المتقدمين من التناقض قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر من الأدلة تعين القول الثالث لأن الأدلة تنتظم به ولا يكون بينهما تناقض والجمع واجب متى أمكن قال في (مراقي السعود):
*
366

(والجمع واجب متى ما أمكنا
* إلا فللأخير نسخ بينا
*
والقول الثالث المذكور هو: أن التيمم يرفع الحدث رفعا مؤقتا لا كليا وهذا لا مانع منه عقلا ولا شرعا وقد دلت عليه الأدلة لأن صحة الصلاة به المجمع عليها يلزمها أن المصلي غير محدث ولا جنب لزوما شرعيا لا شك فيه.
ووجوب الاغتسال أو الوضوء بعد ذلك عند إمكانه المجمع عليه أيضا يلزمه لزوما شرعيا لا شك فيه وأن الحدث مطلقا لم يرتفع بالكلية فيتعين الارتفاع المؤقت. هذا هو الظاهر ولكنه يشكل عليه ما تقدم في حديث عمرو بن العاص أنه صلى الله عليه وسلم قال له: صليت بأصحابك وأنت جنب وقد تقرر عند علماء العربية أن وقت عامل الحال هو بعينه وقت الحال فالحال وعاملها إذا مقترنان في الزمان فقولك: جاء زيد ضاحكا مثلا لا شك في أن وقت المجيء فيه هو بعينه وقت الضحك وعليه فوقت صلاته هو بعينه وقت كونه جنبا لأن الحال هي كونه جنبا وعاملها قوله صليت فيلزم أن وقت الصلاة والجنابة متحد ولا يقدح فيما ذكرنا أن الحال المقدرة لا تقارن عاملها في الزمان كقوله تعالى: * (سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) * لأن الخلود متأخر عن زمن الدخول أي مقدرين الخلود فيها لأن الحال في الحديث المذكور ليست من هذا النوع.
فالمقارنة بينها وبين عاملها في الزمن لا شك فيها وإذا كانت الجنابة حاصلة له في نفس وقت الصلاة كما هو مقتضى هذا الحديث فالرفع المؤقت المذكور لا يستقيم ويمكن الجواب عن هذا من وجهين: الأول: أنه صلى الله عليه وسلم قال له: وأنت جنب قبل أن يعلم عذره بخوفه الموت إن اغتسل.
والمتيمم من غير عذر مبيح جنب قطعا وبعد أن علم عذره المبيح للتيمم الذي هو خوف الموت أقره وضحك ولم يأمره بالإعادة فدل على أنه صلى بأصحابه وهو غير جنب وهذا ظاهر الوجه. الثاني: أنه أطلق عليه اسم الجنابة نظرا إلى أنها لم ترتفع بالكلية ولو كان في وقت صلاته غير جنب. كإطلاق اسم الخمر على العصير في وقت هو فيه ليس بخمر في
367

قوله: * (إني أراني أعصر خمرا) * نظرا إلى مآله في ثاني حال والعلم عند الله تعالى.
ومن المسائل التي تبنى على الاختلاف في التيمم هل يرفع الحدث أو لا؟ جواز وطء الحائض إذا طهرت وصلت بالتيمم للعذر الذي يبيحه فعلى أنه يرفع الحدث يجوز وطؤها قبل الاغتسال والعكس بالعكس.
وكذلك إذا تيمم ولبس الخفين. فعلى أن التيمم يرفع الحدث يجوز المسح عليهما في الوضوء بعد ذلك والعكس بالعكس.
وكذلك ما ذهب إليه أبو سلمة بن عبد الرحمن من أن الجنب إذا تيمم ثم وجد الماء لا يلزمه الغسل فالظاهر أنه بناه على رفع الحدث بالتيمم لكن هذا القول ترده الأحاديث المتقدمة وإجماع المسلمين قبله وبعده على خلافه. * *
المسألة السادسة: هل يجوز أن يصلي بالتيمم الواحد فريضتان أو لا؟
ذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز به فريضتان أو فرائض ما لم يحدث وعليه كثير من العلماء منهم الإمام أحمد في أشهر الروايتين والحسن البصري وأبو حنيفة وابن المسيب والزهري.
وذهب مالك والشافعي وأصحابهما إلى أنه لا تصلى به إلا فريضة واحدة. وعزاه النووي في شرح المهذب لأكثر العلماء وذكر أن ابن المنذر حكاه عن علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر والشافعي والنخعي وقتادة وربيعة ويحيى الأنصاري والليث وإسحاق وغيرهم.
واحتج أهل القول الأول بأن النصوص الواردة في التيمم ليس فيها التقييد بفرض واحد وظاهرها الإطلاق وبحديث الصعيد الطيب وضوء المسلم الحديث وبقوله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح: وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وقوله تعالى: * (ولاكن يريد ليطهركم) *.
واحتج أهل القول الثاني بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: من السنة ألا يصلي بالتيمم إلا مكتوبة واحدة ثم يتيمم للأخرى وقول الصحابي من السنة
368

له حكم الرفع على الصحيح عند المحدثين والأصوليين أخرج هذا الحديث الدارقطني والبيهقي من طريق الحسن بن عمارة عن الحكم عن مجاهد عنه والحسن ضعيف جدا قال فيه ابن حجر في (التقريب) متروك وقال فيه مسلم في مقدمة صحيحه: حدثنا محمود بن غيلان حدثنا أبو داود قال: قال لي شعبة: ائت جرير بن حازم فقل له: لا يحل لك أن تروي عن الحسن بن عمارة فإنه يكذب.
وقال البيهقي لما ساق هذا الحديث في سننه: الحسن بن عمارة لا يحتج به اه وهو أبو محمد البجلي مولاهم الكوفي قاضي بغداد واحتجوا أيضا بما روي عن ابن عمر وعلي وعمرو بن العاص موقوفا عليهم أما ابن عمر فرواه عنه البيهقي والحاكم من طريق عامر الأحول عن نافع عن ابن عمر قال: يتيمم لكل صلاة وإن لم يحدث قال البيهقي: وهو أصح ما في الباب قال: ولا نعلم له مخالفا من الصحابة.
قال مقيده عفا الله عنه: ومثل هذا يسمى إجماعا سكوتيا وهو حجة عند أكثر العلماء ولكن أثر ابن عمر هذا الذي صححه البيهقي وسكت ابن حجر على تصحيحه له في التلخيص والفتح تكلم فيه بعض أهل العلم بأن عامرا الأحول ضعفه سفيان بن عيينة وأحمد بن حنبل وقيل لم يسمع من نافع وضعف هذا الأثر ابن حزم ونقل خلافه عن ابن عباس وقال ابن حجر في الفتح: بعد أن ذكر أن البيهقي قال: لا نعلم له مخالفا. وتعقب بما رواه ابن المنذر عن ابن عباس أنه لا يجب.
وأما عمرو بن العاص فرواه عنه الدارقطني والبيهقي من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة. أن عمرو بن العاص كان يتيمم لكل صلاة وبه كان يفتي قتادة وهذا فيه إرسال شديد بين قتادة وعمرو قاله ابن حجر في التلخيص والبيهقي في (السنن الكبرى) وهو ظاهر وأما علي فرواه عنه الدارقطني أيضا بإسناد فيه حجاج بن أرطاة والحارث الأعور قاله ابن حجر أيضا ورواه البيهقي في السنن الكبرى بالإسناد الذي فيه المذكوران.
أما حجاج بن أرطاة فقد قال فيه ابن حجر في (التقريب): صدوق كثير الخطأ والتدليس وأما الحارث الأعور فقال فيه ابن حجر في التقريب: كذبه الشعبي في رأيه ورمي بالرفض وفي حديثه ضعف وقال فيه مسلم في مقدمة صحيحه: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جابر عن مغيرة عن الشعبي قال: حدثني الحارث الأعور
369

الهمداني وكان كذابا. حدثنا أبو عامر عبد الله بن براد الأشعري حدثنا أبو أسامة عن مفضل عن مغيرة قال: سمعت الشعبي يقول: حدثني الحارث الأعور وهو يشهد أنه أحد الكذابين وقد ذكر البيهقي هذا الأثر عن علي في التيمم في باب (التيمم لكل فريضة) وسكت عن الكلام في المذكورين أعني حجاج بن أرطاة والحارث الأعور لكنه قال في حجاج في باب (المنع من التطهير بالنبيذ)) لا يحتج به. وضعفه في باب (الوضوء من لحوم الإبل) وقال في باب (الدية أرباع) مشهور بالتدليس وأنه يحدث عمن لم يلقه ولم يسمع منه قاله الدارقطني وضعف الحارث الأعور في باب (منع التطهير بالنبيذ أيضا).
وقال في باب (أصل القسامة): قال الشعبي: كان كذابا. * *
المسألة السابعة: إذا كان في بدنه نجاسة ولم يجد الماء هل يتيمم لطهارة تلك النجاسة الكائنة في بدنه فيكون التيمم بدلا عن طهارة الخبث عند فقد الماء. كطهارة الحدث أو لا يتيمم لها؟
ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يتيمم عن الخبث وإنما يتيمم عن الحدث فقط. واستدلوا بأن الكتاب والسنة إنما دلا على ذلك كقوله: * (أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) *.
وتقدم في حديث عمران بن حصين وحديث عمار بن ياسر المتفق عليهما: التيمم عند الجنابة وأما عن النجاسة فلا وذهب الإمام أحمد إلى أنه يجوز عن النجاسة إلحاقا لها بالحدث واختلف أصحابه في وجوب إعادة تلك الصلاة.
وذهب الثوري والأوزاعي وأبو ثور إلى أنه يمسح موضع النجاسة بتراب ويصلي نقله النووي عن ابن المنذر.
قوله تعالى: * (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب) *.
لم يبين هنا شيئا من ذلك الكثير الذي يبينه لهم الرسول الله صلى الله عليه وسلم مما كانوا يخفون من الكتاب يعني التوراة والإنجيل وبين كثيرا منه في مواضع أخر.
فمما كانوا يخفون من أحكام التوراة رجم الزاني المحصن وبينه القرآن في قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم
370

يتولى فريق منهم وهم معرضون) *.
يعني يدعون إلى التوراة ليحكم بينهم في حد الزاني المحصن بالرجم وهم معرضون عن ذلك منكرون له ومن ذلك ما أخفوه من صفات الرسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابهم وإنكارهم أنهم يعرفون أنه هو الرسول كما بينه تعالى بقوله: * (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على
الكافرين) *.
ومن ذلك إنكارهم أن الله حرم عليهم بعض الطيبات بسبب ظلمهم ومعاصيهم كما قال تعالى: * (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) * وقوله: * (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهمآ إلا ما حملت ظهورهمآ أو الحوايآ أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون) *.
فإنهم أنكروا هذا وقالوا لم يحرم علينا إلا ما كان محرما على إسرائيل فكذبهم القرآن في ذلك في قوله تعالى: * (كل الطعام كان حلا لبنى إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) *.
ومن ذلك كتم النصارى بشارة عيسى ابن مريم لهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وقد بينها تعالى بقوله: * (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدى اسمه أحمد) * إلى غير ذلك من الآيات المبينة لما أخفوه من كتبهم. * () * قوله تعالى: * (واتل عليهم نبأ ابنىءادم بالحق) *.
قال جمهور العلماء: إنهما ابنا آدم لصلبه وهما هابيل وقابيل.
وقال الحسن البصري رحمه الله: هما رجلان من بني إسرائيل ولكن القرآن يشهد لقول الجماعة ويدل على عدم صحة قول الحسن وذلك في قوله تعالى: * (فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يوارى سوأة أخيه) * ولا يخفى على أحد أنه ليس في بني إسرائيل رجل يجعل الدفن حتى يدله عليه الغراب فقصة الاقتداء بالغراب في الدفن ومعرفته منه تدل على أن الواقعة وقعت في أول الأمر قبل أن
371

يتمرن الناس على دفن الموتى كما هو واضح ونبه عليه غير واحد من العلماء والله تعالى أعلم. * (من أجل ذلك كتبنا على بنى إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض الآية) *.
صرح في هذه الآية الكريمة أنه كتب على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ولم يتعرض هنا لحكم من قتل نفسا بنفس أو بفساد في الأرض ولكنه بين ذلك في مواضع أخر فبين أن قتل النفس بالنفس جائز في قوله: * (وكتبنا عليهم فيهآ أن النفس الآية) * وفي قوله: * (كتب عليكم القصاص في القتلى) * وقوله: * (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) *.
واعلم أن آيات القصاص في النفس فيها إجمال بينته السنة وحاصل تحرير المقام فيها أن الذكر الحر المسلم يقتل بالذكر الحر المسلم إجماعا وأن المرأة كذلك تقتل بالمرأة كذلك إجماعا وأن العبد يقتل كذلك بالعبد إجماعا وإنما لم نعتبر قول عطاء باشتراط تساوي قيمة العبدين وهو رواية عن أحمد ولا قول ابن عباس: ليس بين العبيد قصاص لأنهم أموال.
لأن ذلك كله يرده صريح قوله تعالى: * (كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد) * وأن المرأة تقتل بالرجل لأنها إذا قتلت بالمرأة فقتلها بالرجل أولى وأن الرجل يقتل بالمرأة عند جمهور العلماء فيهما.
وروي عن جماعة منهم علي والحسن وعثمان البتي وأحمد في رواية عنه أنه لا يقتل بها حتى يلتزم أولياؤها قدر ما تزيد به ديته على ديتها. فإن لم يلتزموه أخذوا ديتها.
وروي عن علي والحسن أنها إن قتلت رجلا قتلت به وأخذ أولياؤه أيضا زيادة ديته على ديتها أو أخذوا دية المقتول واستحيوها.
قال القرطبي بعد أن ذكر هذا الكلام عن علي رضي الله عنه والحسن البصري وقد أنكر ذلك عنهم أيضا: روى هذا الشعبي عن علي ولا يصح لأن الشعبي لم يلق عليا. وقد روى الحكم عن علي وعبد الله أنهما قالا: إذا قتل الرجل المرأة متعمدا
372

فهو بها قود وهذا يعارض رواية الشعبي عن علي. وقال ابن حجر في (فتح الباري) في باب سؤال القاتل حتى يقر والإقرار في الحدود بعد أن ذكر القول المذكور عن علي والحسن: ولا يثبت عن علي ولكن هو قول عثمان البتي أحد فقهاء البصرة ويدل على بطلان هذا القول أنه ذكر فيه أن أولياء الرجل إذا قتلته امرأة يجمع لهم بين القصاص ونصف الدية فقط لأنه تعالى قال: * (كتب عليكم القصاص في القتلى) * ثم قال: * (فمن عفى له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف) * فرتب الاتباع بالدية على العفو دون القصاص.
وقال صلى الله عليه وسلم: من قتل له قتيل فهو بخير النظريين الحديث وهو صريح في عدم الجمع بينهما كما هو واضح عند عامة العلماء. وحكي عن أحمد في رواية عنه وعثمان البتي وعطاء أن الرجل لا يقتل بالمرأة بل تجب الدية قاله ابن كثير وروي عن الليث والزهري أنها إن كانت زوجته لم يقتل بها وإن كانت غير زوجته قتل بها.
والتحقيق قتله بها مطلقا. كما سترى أدلته فمن الأدلة على قتل الرجل بالمرأة إجماع العلماء على أن الصحيح السليم الأعضاء إذا قتل أعور أو أشل أو نحو ذلك عمدا وجب عليه القصاص ولا يجب لأوليائه شيء في مقابلة ما زاد به من الأعضاء السليمة على المقتول.
ومن الأدلة على قتل الرجل بالمرأة ما ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم رض رأس يهودي بالحجارة قصاصا بجارية فعل بها كذلك وهذا الحديث استدل به العلماء على قتل الذكر بالأنثى وعلى وجوب القصاص في القتل بغير المحدد والسلاح.
وقال البيهقي في (السنن الكبرى) في باب (قتل الرجل بالمرأة): أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري ثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم
العبدي ثنا الحكم بن موسى القنطري ثنا يحيى بن حمزة عن سليمان بن داود عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات وبعث به مع عمرو بن حزم وكان فيه وإن الرجل يقتل بالمرأة.
373

وروي هذا الحديث موصولا أيضا النسائي وابن حبان والحاكم وفي تفسير ابن كثير ما نصه: وفي الحديث الذي رواه النسائي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم أن الرجل يقتل بالمرأة وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا لعمرو بن حزم الذي فيه أن الرجل يقتل بالمرأة رواه مالك والشافعي ورواه أيضا الدارقطني وأبو داود وابن حبان والحاكم والدارمي وكلام علماء الحديث في كتاب عمرو بن حزم هذا مشهور بين مصحح له ومضعف وممن صححه ابن حبان والحاكم والبيهقي وعن أحمد أنه قال: أرجو أن يكون صحيحا. وصححه أيضا من حيث الشهرة لا من حيث الإسناد جماعة منهم الشافعي فإنه قال: لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عبد البر: هو كتاب مشهور عند أهل السير معروف ما فيه عند أهل العلم يستغني بشهرته عن الإسناد. لأنه أشبه المتواتر لتلقي الناس له بالقبول قال: ويدل على شهرته ما روى ابن وهب عن مالك عن الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: وجد كتاب عند آل حزم يذكرون أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال العقيلي: هذا حديث ثابت محفوظ وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم في جميع الكتب المنقولة كتابا أصح من كتاب عمرو بن حزم هذا فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم.
وقال الحاكم: قد شهد عمر بن عبد العزيز وإمام عصره الزهري بالصحة لهذا الكتاب ثم ساق ذلك بسنده إليهما وضعف كتاب ابن حزم هذا جماعة وانتصر لتضعيفه أبو محمد بن حزم في محلاه.
والتحقيق صحة الاحتجاج به لأنه ثبت أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبه ليبين به أحكام الديات والزكوات وغيرها ونسخته معروفة في كتب الفقه. والحديث: ولا سيما عند من يحتج بالمرسل كمالك وأبي حنيفة وأحمد في أشهر الروايات.
ومن أدلة قتله بها عموم حديث المسلمون تتكافؤ دماؤهم الحديث وسيأتي البحث فيه إن شاء الله ومن أوضح الأدلة في قتل الرجل بالمرأة قوله تعالى: * (وكتبنا عليهم فيهآ أن النفس بالنفس) * وقوله صلى الله عليه وسلم: لا يحل دم امرئ مسلم
374

يشهد أن لا إلاه إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس الحديث أخرجه الشيخان وباقي الجماعة من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
فعموم هذه الآية الكريمة وهذا الحديث الصحيح يقتضي قتل الرجل بالمرأة لأنه نفس بنفس ولا يخرج عن هذا العموم إلا ما أخرجه دليل صالح لتخصيص النص به. نعم يتوجه على هذا الاستدلال سؤالان:
الأول: ما وجه الاستدلال بقوله تعالى: * (وكتبنا عليهم فيهآ أن النفس بالنفس) * الآية مع أنه حكاية عن قوم موسى والله تعالى يقول: * (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) *.
السؤال الثاني: لم لا يخصص عموم قتل النفس بالنفس في الآية والحديث المذكورين بقوله تعالى: * (الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى) * لأن هذه الآية أخص من تلك لأنها فصلت ما أجمل في الأولى ولأن هذه الأمة مخاطبة بها صريحا في قوله تعالى: * (يا أيها الذين ءامنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر) *. الجواب عن السؤال الأول: أن التحقيق الذي عليه الجمهور ودلت عليه نصوص الشرع أن كل ما ذكر لنا في كتابنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم مما كان شرعا لمن قبلنا أنه يكون شرعا لنا من حيث إنه وارد في كتابنا أو سنة نبينا صلى الله عليه وسلم لا من حيث إنه كان شرعا لمن قبلنا لأنه ما قص علينا في شرعنا إلا لنعتبر به ونعمل بما تضمن.
والنصوص الدالة على هذا كثيرة جدا ولأجل هذا أمر الله في القرآن العظيم في غير ما آية بالاعتبار بأحوالهم ووبخ من لم يعقل ذلك كما في قوله تعالى في قوم لوط: * (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون) *.
ففي قوله: * (أفلا تعقلون) * توبيخ لمن مر بديارهم ولم يعتبر بما وقع لهم ويعقل ذلك ليجتنب الوقوع في مثله وكقوله تعالى: * (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم) * ثم هدد الكفار بمثل ذلك فقال: * (وللكافرين أمثالها) *.
375

وقال في حجارة قوم لوط التي أهلكوا بها أو ديارهم التي أهلكوا فيها: * (وما هي من الظالمين ببعيد) * وهو تهديد عظيم منه تعالى لمن لم يعتبر بحالهم فيجتنب ارتكاب ما هلكوا بسببه وأمثال ذلك كثير في القرآن.
وقال تعالى: * (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) * فصرح بأنه يقص قصصهم في القرآن للعبرة وهو دليل واضح لما ذكرنا ولما ذكر الله تعالى من ذكر من الأنبياء في سورة الأنعام قال لنبينا صلى الله عليه وسلم: * (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) * وأمره صلى الله عليه وسلم أمر لنا لأنه قدوتنا ولأن الله تعالى يقول: * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) * ويقول: * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني) * ويقول: * (ومآ آتاكم الرسول فخذوه) *.
ويقول: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * ومن طاعته اتباعه فيما أمر به كله إلا ما قام فيه دليل على الخصوص به صلى الله عليه وسلم وكون شرع من قبلنا الثابت بشرعنا شرعا لنا إلا بدليل على النسخ هو مذهب الجمهور منهم مالك وأبو حنيفة وأحمد في أشهر الروايتين وخالف الإمام الشافعي رحمه الله في أصح الروايات عنه فقال
: إن شرع من قبلنا الثابت بشرعنا ليس شرعا لنا إلا بنص من شرعنا على أنه مشروع لنا وخالف أيضا في الصحيح عنه في أن الخطاب الخاص بالرسول صلى الله عليه وسلم يشمل حكمه الأمة. واستدل للأول بقوله تعالى: * (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) * وللثاني: بأن الصيغة الخاصة بالرسول لا تشمل الأمة وضعا فإدخالها فيها صرف للفظ عن ظاهره فيحتاج إلى دليل منفصل وحمل الهدى في قوله: * (فبهداهم اقتده) * والدين في قوله: * (شرع لكم من الدين) * على خصوص الأصول التي هي التوحيد دون الفروع العملية لأنه تعالى قال في العقائد: * (ومآ أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إلاه إلا أنا فاعبدون) * وقال: * (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) * وقال: * (واسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنآ أجعلنا من دون الرحمان ءالهة يعبدون) *.
وقال في الفروع العملية: * (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) * فدل ذلك على اتفاقهم في الأصول واختلافهم في الفروع كما قال صلى الله عليه وسلم: إنا معشر الأنبياء إخوة لعلات ديننا واحد أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله
376

عنه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أما حمل الهدى في آية * (فبهداهم اقتده) * والدين في آية * (شرع لكم من الدين) * على سبيل التوحيد دون الفروع العملية فهو غير مسلم أما الأول فلما أخرجه البخاري في صحيحه في تفسير سورة ص عن مجاهد أنه سأل ابن عباس: من أين أخذت السجدة في ص فقال: أو ما تقرأ: * (ومن ذريته داود إلى قوله تعالى أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) * فسجدها داود فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا نص صحيح صريح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أدخل سجود التلاوة في الهدى في قوله: * (فبهداهم اقتده) * ومعلوم أن سجود التلاوة فرع من الفروع لا أصل من الأصول.
وأما الثاني: فلأن النبي صلى الله عليه وسلم صرح في حديث جبريل الصحيح المشهور أن اسم الدين يتناول الإسلام والإيمان والإحسان حيث قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم وقال تعالى: * (إن الدين عند الله الإسلام) * وقال: * (ومن يبتغ غير الإسلام دينا) *.
وصرح صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور بأن الإسلام يشمل الأمور العملية كالصلاة والزكاة والصوم والحج وفي حديث ابن عمر المتفق عليه بني الإسلام على خمس الحديث ولم يقل أحد إن الإسلام هو خصوص العقائد دون الأمور العملية فدل على أن الدين لا يختص بذلك في قوله: * (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا) * وهو ظاهر جدا لأن خير ما يفسر به القرآن هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأما الخطاب الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم في نحو قوله: * (فبهداهم اقتده) * فقد دلت النصوص على شمول حكمه للأمة كما في قوله تعالى: * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) * إلى غيرها مما تقدم من الآيات وقد علمنا ذلك من استقراء القرآن العظيم حيث يعبر فيه دائما بالصيغة الخاصة به صلى الله عليه وسلم ثم يشير إلى أن المراد عموم حكم الخطاب للأمة كقوله في أول سورة الطلاق: * (يا أيها النبي) * ثم قال: * (إذا طلقتم النساء) * فدل على دخول الكل حكما تحت قوله: * (يا أيها النبي) * وقال في سورة التحريم: * (يا أيها النبي لم تحرم) * ثم قال: * (قد فرض الله لكم
377

تحلة أيمانكم) * فدل على عموم حكم الخطاب بقوله: * (يا أيها النبي) * ونظير ذلك أيضا في سورة الأحزاب في قوله تعالى: * (يا أيها النبي اتق الله) * ثم قال: * (إن الله كان بما تعملون خبير) * فقوله * (بما تعملون) * يدل على عموم الخطاب بقوله: * (يا أيها النبي) * وكقوله * (وما تكون في شأن) * ثم قال: * (ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا) *.
ومن أصرح الأدلة في ذلك آية الروم وآية الأحزاب أما آية الروم فقوله تعالى: * (فأقم وجهك للدين حنيفا) * ثم قال: * (منيبين إليه) * وهو حال من ضمير الفاعل المستتر المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: * (فأقم وجهك) * الآية.
وتقرير المعنى: فأقم وجهك يا نبي الله في حال كونكم منيبين فلو لم تدخل الأمة حكما في الخطاب الخاص به صلى الله عليه وسلم لقال: منيبا إليه بالإفراد لإجماع أهل اللسان العربي على أن الحال الحقيقية أعني التي لم تكن سببية تلزم مطابقتها لصاحبها إفرادا وجمعا وثنية وتأنيثا وتذكيرا فلا يجوز أن تقول: جاء زيد ضاحكين ولا جاءت هند ضاحكات وأما آية الأحزاب فقوله تعالى في قصة زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها: * (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها) * فإن هذا الخطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقد صرح تعالى بشمول حكمه لجميع المؤمنين في قوله: * (لكي لا يكون على المؤمنين حرج) * وأشار إلى هذا أيضا في الأحزاب بقوله: * (خالصة لك من دون المؤمنين) * لأن الخطاب الخاص به صلى الله عليه وسلم في قوله: * (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي) * لو كان حكمه خاصا به صلى الله عليه وسلم لأغنى ذلك عن قوله خالصة: * (لك من دون المؤمنين) * كما هو ظاهر.
وقد ردت عائشة رضي الله عنها على من زعم أن تخيير الزوجة طلاق بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير نساءه فاخترنه فلم يعده طلاقا مع أن الخطاب في ذلك خاص به صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: * (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الآييتن) *.
وأخذ مالك رحمه الله بينونة الزوجة بالردة من قوله: * (لئن أشركت ليحبطن عملك) * وهو خطاب خاص به صلى الله عليه وسلم.
378

وحاصل تحريم المقام في مسألة شرع من قبلنا أن لها واسطة وطرفين طرف يكون فيه شرعا لنا إجماعا وهو ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعا لمن قبلنا ثم بين لنا في شرعنا أنه شرع لنا كالقصاص فإنه ثبت بشرعنا أنه كان شرعا لمن قبلنا في قوله تعالى: * (وكتبنا عليهم فيهآ أن النفس بالنفس) * وبين لنا في شرعنا أنه مشروع لنا
379

في قوله: * (كتب عليكم القصاص في القتلى) * وطرف يكون فيه غير شرع لنا إجماعا وهو أمران:
أحدهما: ما لم يثبت بشرعنا أصلا أنه كان شرعا لمن قبلنا كالمتلقي من الإسرائيليات لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن تصديقهم وتكذيبهم فيها وما نهانا صلى الله عليه وسلم عن تصديقه لا يكون مشروعا لنا إجماعا.
والثاني: ما ثبت في شرعنا أنه كان شرعا لمن قبلنا وبين لنا في شرعنا أنه غير مشروع لنا كالآصار والأغلال التي كانت على من قبلنا لأن الله وضعها عنا كما قال تعالى: * (ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم) * وقد ثبت في صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ * (ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على الذين من قبلنا) * أن الله قال: نعم قد فعلت.
ومن تلك الآصار التي وضعها الله عنا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم ما وقع لعبدة العجل حيث لم تقبل توبتهم إلا بتقديم أنفسهم للقتل كما قال تعالى: * (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم) *.
والواسطة هي محل الخلاف بين العلماء وهي ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعا لمن قبلنا ولم يبين لنا في شرعنا أنه مشروع لنا ولا غير مشروع لنا وهو الذي قدمنا أن التحقيق كونه شرعا لنا وهو مذهب الجمهور وقد رأيت أدلتهم عليه وبه تعلم أن آية: * (وكتبنا عليهم فيهآ أن النفس بالنفس) * يلزمنا الأخذ بما تضمنته من الأحكام.
مع أن القرآن صرح بذلك في الجملة في قوله: * (كتب عليكم القصاص في القتلى) * وقوله: * (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) * وفي حديث ابن مسعود المتفق عليه المتقدم التصريح بأن ما فيها من قتل النفس بالنفس مشروع لنا حيث قال صلى الله عليه وسلم: لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إلاه إلا الله وأني رسول اله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس الحديث.
وإلى هذا أشار البخاري في صحيحه حيث قال: باب قول الله تعالى: * (أن النفس بالنفس) * إلى قوله: * (فأولائك هم الظالمون) * ثم ذكر حديث ابن مسعود المتقدم وقال ابن حجر: والغرض من ذكر هذه الآية مطابقتها للفظ الحديث ولعله أراد أن يبين أنها وإن وردت في أهل الكتاب فالحكم الذي دلت عليه مستمر في شريعة الإسلام فهو أصل في القصاص في قتل العمد ويدل لهذا قوله صلى الله عليه وسلم: كتاب الله القصاص أخرجه الشيخان من حديث أنس بناء على أن المراد بكتاب الله قوله تعالى * (والسن بالسن) * في هذه الآية التي نحن بصددها وعلى بقية الأقوال فلا دليل في الحديث ولم يزل العلماء يأخذون الأحكام من قصص الأمم الماضية كما أوضحنا دليله.
فمن ذلك قول المالكية وغيرهم: إن القرينة الجازمة ربما قامت مقام البينة مستدلين على ذلك بجعل شاهد يوسف شق قميصه من دبر قرينة على صدقه وكذب المرأة في قوله تعالى: * (وشهد شاهد من أهلهآ إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين * وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين * فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم) * فذكره تعالى لهذا مقررا له يدل على جواز العمل به ومن هنا أوجب مالك حد الخمر على من أستنكه فشم في فيه ريح الخمر لأن ريحها في فيه قرينة على شربه إياها.
وأجاز العلماء للرجل يتزوج المرأة من غير أن يراها فتزفها إليه ولائد لا يثبت بقولهن أمر أن يجامعها من غير بينة على عينها أنها فلانة بنت فلان التي وقع عليها العقد اعتمادا على القرينة وتنزيلا لها منزلة البينة.
وكذلك الضيف ينزل بساحة قوم فيأتيه الصبي أو الوليدة بطعام فيباح له أكله من غير بينة تشهد على إذن أهل الطعام له في الأكل اعتمادا على القرينة.
وأخذ المالكية وغيرهم إبطال القرينة بقرينة أقوى منها من أن أولاد يعقوب لما جعلوا يوسف في غيابة الجب جعلوا على قميصه دم سخلة ليكون الدم على قميصه قرينة على صدقهم في أنه أكله الذئب فأبطلها يعقوب بقرينة أقوى منها وهي عدم شق
380

القميص فقال: سبحان الله متى كان الذئب حليما كيسا يقتل يوسف ولا يشق قميصه؟ كما بينه تعالى بقوله: * (وجآءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) * وأخذ المالكية ضمان الغرم من قوله تعالى في قصة يوسف وإخوته: * (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) * وأخذ بعض الشافعية ضمان لوجه المعروف بالكفالة من قوله تعالى في قصة يعقوب وبنيه * (لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم) *.
وأخذ المالكية تلوم القاضي للخصوم ثلاثة أيام بعد انقضاء الآجال من قوله تعالى في قصة صالح: * (فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام) *
وأخذوا وجوب الإعذار إلى الخصم الذي توجه إليه الحكم ب أبقيت لك حجة؟ ونحو ذلك من قوله تعالى في قصة سليمان مع الهدهد: * (لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين) * وأخذ الحنابلة جواز طول مدة الإجارة من قوله تعالى في قصة موسى وصهره شعيب أو غيره: * (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك ومآ أريد أن أشق عليك) * وأمثال هذا كثيرة جدا وقوله تعالى: * (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) * لا يخالف ما ذكرنا لأن المراد به أن بعض الشرائع تنسخ فيها أحكام كانت مشروعة قبل ذلك ويجدد فيها تشريع أحكام لم تكن مشروعة قبل ذلك.
وبهذا الاعتبار يكون لكل شرعة منهاج من غير مخالفة لما ذكرنا وهذا ظاهر فبهذا يتضح لك الجواب عن السؤال الأول وتعلم أن ما تضمنته آية * (وكتبنا عليكم فيهآ أن النفس بالنفس) * مشروع لهذه الأمة وأن الرجل يقتل بالمرأة كالعكس على التحقيق الذي لا شك فيه وكأن القائل بعدم القصاص بينهما يتشبث بمفهوم قوله: * (والأنثى بالأنثى) * وسترى تحقيق المقام فيه إن شاء الله قريبا.
والجواب عن السؤال الثاني _ الذي هو لم لا يخصص عموم النفس بالنفس بالتفصيل المذكور في قوله تعالى: * (الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى) *؟ هو
381

ما تقرر في الأصول من أن مفهوم المخالفة إذا كان محتملا لمعنى آخر غير مخالفته لحكم المنطوق يمنعه ذلك من الاعتبار.
قال صاحب (جمع الجوامع) في الكلام على مفهوم المخالفة: وشرطه ألا يكون المسكوت ترك لخوف ونحوه إلى أن قال: أو غيره مما يقتضي التخصيص بالذكر فإذا علمت ذلك فاعلم أن قوله تعالى الحر: * (بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى) * يدل على قتل الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ولم يتعرض لقتل الأنثى بالذكر أو العبد بالحر ولا لعكسه بالمنطوق.
ومفهوم مخالفته هنا غير معتبر. لأن سبب نزول الآية أن قبيلتين من العرب اقتتلتا فقالت إحداهما: نقتل بعبدنا فلان بن فلان وبأمتنا فلانة بنت فلان تطاولا منهم عليهم وزعما أن العبد منهم بمنزلة الحر من أولئك وأن أنثاهم أيضا بمنزلة الرجل من الآخرين تطاولا عليهم وإظهارا لشرفهم عليهم ذكر معنى هذا القرطبي عن الشعبي وقتادة.
وروى ابن أبي حاتم نحوه عن سعيد بن جبير نقله عنه ابن كثير في تفسيره والسيوطي في أسباب النزول وذكر ابن كثير أنها نزلت في قريظة والنضير لأنهم كان بينهم قتال وبنو النضير يتطاولون على بني قريظة.
فالجميع متفق على أن سبب نزولها أن قوما يتطاولون على قوم ويقولون: إن العبد منا لا يساويه العبد منكم وإنما يساويه الحر منكم والمرأة منا لا تساويها المرأة منكم وإنما يساويها الرجل منكم فنزل القرآن مبينا أنهم سواء وليس المتطاول منهم على صاحبه بأشرف منه ولهذا لم يعتبر مفهوم المخالفة هنا.
وأما قتل الحر بالعبد فقد اختلف فيه وجمهور العلماء على أنه لا يقتل حر بعبد منهم مالك وإسحاق وأبو ثور والشافعي وأحمد.
وممن قال بهذا أبو بكر وعمر وعلي وزيد وابن الزبير رضي الله عنهم وعمر بن عبد العزيز وعطاء والحسن وعكرمة وعمرو بن دينار كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني وغيره.
وقال أبو حنيفة: يقتل الحر بالعبد: وهو مروي عن سعيد بن المسيب والنخعي وقتادة والثوري واحتج هؤلاء على قتل الحر بالعبد بقوله صلى الله عليه وسلم: المؤمنون تتكافؤ
382

دماؤهم وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم الحديث. أخرجه أحمد والنسائي وأبو داود والحاكم وصححه.
فعموم المؤمنين يدخل فيه العبيد وكذلك عموم النفس في قوله تعالى: * (أن النفس بالنفس) * وقوله صلى الله عليه وسلم: والنفس بالنفس في الحديث المتقدم واستدلوا أيضا بما رواه قتادة عن الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة وقال الترمذي: حسن غريب وفي رواية لأبي داود والنسائي: ومن خصي عبده خصيناه هذه هي أدلة من قال بقتل الحر بالعبد.
وأجيب عنها من جهة الجمهور بما ستراه الآن إن شاء الله تعالى أما دخول قتل الحر بالعبد في عموم المؤمنين في حديث المؤمنون تتكافؤ دماؤهم:
وعموم النفس بالنفس في الآية. والحديث المذكورين فاعلم أولا أن دخول العبيد في عمومات نصوص الكتاب والسنة اختلف فيه علماء الأصول على ثلاثة أقوال:
الأول: وعليه أكثر العلماء: أن العبيد داخلون في عمومات النصوص لأنهم من جملة المخاطبين بها.
الثاني: وذهب إليه بعض العلماء من المالكية والشافعية وغيرهم أنهم لا يدخلون فيها إلا بدليل منفصل واستدل لهذا القول بكثرة عدم دخولهم كعدم دخولهم في خطاب الجهاد والحج وكقوله تعالى: * (والمطلقات يتربصن) * فالإماء لا يدخلن فيه.
الثالث: وذهب إليه الرازي من الحنفية أن النص العام إن كان من العبادات فهم داخلون فيه وإن كان من المعاملات لم يدخلوا فيه وأشار في (مراقي السعود) إلى أن دخولهم في الخطاب العام هو الصحيح الذي يقتضيه الدليل بقوله: الرجز:
* والعبد والموجود والذي كفر
* مشمولة له لدى ذوي النظر
*
وينبني على الخلاف في دخولهم في عمومات النصوص وجوب صلاة الجمعة على المملوكين فعلى أنهم داخلون في العموم فهي واجبة عليهم وعلى أنهم لا يدخلون فيه إلا بدليل منفصل فهي غير واجبة عليهم وكذلك إقرار العبد بالعقوبة ببدنه ينبني أيضا على الخلاف المذكور قاله صاحب (نشر البنود شرح مراقي السعود) في
383

شرح البيت المذكور آنفا فإذا علمت هذا فاعلم أنه على القول بعدم دخول العبيد في عموم نصوص الكتاب والسنة فلا إشكال.
وعلى القول بدخولهم فيه فالجواب عن عدم إدخالهم في عموم النصوص التي ذكرناها يعلم من أدلة الجمهور الآتية إن شاء الله على عدم قتل الحر بالعبد وأما حديث سمرة فيجاب عنه من أوجه:
الأول: أن أكثر العلماء بالحديث تركوا رواية الحسن عن سمرة لأنه لم يسمع منه وقال قوم: لم يسمع منه إلا حديث العقيقة وأثبت علي بن المديني والبخاري سماعه منه.
قال البيهقي في (السنن الكبرى) في كتاب الجنايات ما نصه: وأكثر أهل العلم بالحديث رغبوا عن رواية الحسن عن سمرة وذهب بعضهم إلى أنه لم يسمع منه غير حديث العقيقة. وقال أيضا في باب النهي عن بيع الحيوان بالحيوان: إن أكثر الحفاظ لا يثبتون سماع الحسن من سمرة في غير حديث العقيقة.
الثاني: أن الحسن كان يفتي بأن الحر لا يقتل بالعبد ومخالفته لما روى تدل على ضعفه عنده قال البيهقي أيضا ما نصه: قال قتادة: ثم إن الحسن نسي هذا الحديث قال:
لا يقتل حر بعبد قال الشيخ: يشبه أن يكون الحسن لم ينس الحديث لكن رغب عنه لضعفه. الثالث: ما ذكره صاحب (منتقى الأخبار) من أن أكثر العلماء قال بعدم قتل الحر بالعبد وتأولوا الخبر على أنه أراد من كان عبده لئلا يتوهم تقدم الملك مانعا من القصاص.
الرابع: أنه معارض بالأدلة التي تمسك بها الجمهور في عدم قتل الحر بالعبد وستأتي إن شاء الله تعالى مفصلة وهي تدل على النهي عن قتل الحر بالعبد والنهي مقدم على الأمر كما تقرر في الأصول.
الخامس: ما ادعى ابن العربي دلالته على بطلان هذا القول من قوله تعالى: * (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) * وولي العبد سيده قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: * (الحر بالحر والعبد بالعبد) * ما نصه. قال ابن العربي:
384

ولقد بلغت الجهالة بأقوام إلى أن قالوا: يقتل الحر بعبد نفسه. ورووا في ذلك حديثا عن الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قتل عبده قتلناه وهو حديث ضعيف.
ودليلنا قوله تعالى: * (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل) * والولي ها هنا: السيد فكيف يجعل له سلطان على نفسه وقد اتفق الجميع على أن السيد إذا قتل عبده خطأ أنه لا تؤخذ منه قيمته لبيت المال اه.
وتعقب القرطبي تضعيف ابن العربي لحديث الحسن هذا عن سمرة بأن البخاري وابن المديني صححا سماعه منه وقد علمت تضعيف الأكثر لرواية الحسن عن سمرة فيما تقدم. ويدل على ضعفه مخالفة الحسن نفسه له.
السادس: أن الحديث خارج مخرج التحذير والمبالغة في الزجر.
السابع: ما قيل من أنه منسوخ.
قال الشوكاني: ويؤيد النسخ فتوى الحسن بخلافه.
الثامن: مفهوم قوله تعالى: * (والعبد بالعبد) * ولكنا قد قدمنا عدم اعتبار هذا المفهوم كما يدل عليه سبب النزول.
واحتج القائلون بأن الحر لا يقتل بالعبد وهم الجمهور بأدلة منها ما رواه الدارقطني بإسناده عن إسماعيل بن عياش عن الأوزاعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا قتل عبده متعمدا فجلده النبي صلى الله عليه وسلم ونفاه سنة ومحا اسمه من المسلمين ولم يقده به وأمره أن يعتق رقبة ورواية إسماعيل بن عياش عن الشاميين: قوية صحيحة.
ومعلوم أن الأوزاعي شامي دمشقي قال في (نيل الأوطار): ولكن دونه في إسناد هذا الحديث محمد بن عبد العزيز الشامي قال فيه ابن أبي حاتم: لم يكن عندهم بالمحمود وعنده غرائب.
وأسند البيهقي هذا الحديث فقال: أخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه أنبأ علي بن عمر الحافظ ثنا الحسين بن الحسين الصابوني الأنطاكي قاضي الثغور ثنا محمد بن الحكم الرملي ثنا محمد بن عبد العزيز الرملي ثنا إسماعيل بن عياش عن
385

الأوزاعي إلى آخر السند المتقدم بلفظ المتن ومحمد بن عبد العزيز الرملي من رجال البخاري وقال فيه ابن حجر في (التقريب): صدوق يهم فتضعيف هذا الحديث به لا يخلو من نظر.
والظاهر أن تضعيف البيهقي له من جهة إسماعيل بن عياش وقد عرفت أن الحق كونه قويا في الشاميين دون الحجازيين كما صرح به أئمة الحديث كالإمام أحمد والبخاري ولحديث عمرو بن شعيب هذا شاهد من حديث علي عند البيهقي وغيره من طريق إسماعيل بن عياش عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قتل عبد متعمدا فجلده رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة ونفاه سنة ومحا اسمه من المسلمين ولم يقده به. ولكن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة متروك.
ومن أدلتهم على أن الحر لا يقتل بعبد ما رواه البيهقي وغيره عن عمر بن الخطاب أنه جاءته جارية اتهمها سيدها فأقعدها في النار فاحترق فرجها فقال رضي الله عنه: والذي نفسي بيده لو لم أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يقاد مملوك من مالكه ولا ولد من والده لأقدناها منك فبرزه وضربه مائة سوط وقال للجارية: اذهبي فأنت حرة لوجه الله وأنت مولاة الله ورسوله. قال أبو صالح وقال الليث: وهذا القول معمول به. وفي إسناد هذا الحديث عمر بن عيسى القرشي الأسدي. ذكر البيهقي عن أبي أحمد أنه سمع ابن حماد يذكر عن البخاري أنه منكر الحديث.
وقال فيه الشوكاني: هو منكر الحديث كما قال البخاري: ومن أدلتهم على أن الحر لا يقتل بعبد ما رواه الدارقطني والبيهقي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يقتل حر بعبد قال البيهقي بعد أن ساق هذا الحديث: وفي هذا الإسناد ضعف وإسناده المذكور فيه جويبر وهو ضعيف جدا.
وقال الشوكاني في إسناد هذا الحديث: فيه جويبر وغيره من المتروكين ومن أدلتهم على أن الحر لا يقتل بعبد ما رواه البيهقي وغيره من طريق جابر بن زيد الجعفي عن علي رضي الله عنه أنه قال: من السنة ألا يقتل حر بعبد تفرد بهذا الحديث جابر المذكور وقد ضعفه الأكثر وقال فيه ابن حجر في التقريب: ضعيف
386

رافضي.
وقال فيه النسائي: متروك ووثقه قوم منهم الثوري وذكر البيهقي في السنن الكبرى في باب النهي عن الإمامة جالسا عن الدارقطني: أنه متروك.
ومن أدلتهم أيضا ما رواه البيهقي في السنن الكبرى من طريق المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: كان لزنباع عبد يسمى سندرا أو ابن سندر فوجده يقبل جارية له فأخذه فجبه وجدع أذنيه وأنفه فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال من مثل بعبده أو حرقه بالنار فهو حر وهو مولى الله ورسوله فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقده منه فقال: يا رسول الله أوصي بي فقال: أوصي بك كل مسلم.
قال البيهقي بعد أن ساق هذا الحديث: المثنى بن الصباح ضعيف لا يحتج به وقد روي عن الحجاج بن أرطاة عن عمرو مختصرا ولا يحتج به وقد قدمنا في آية التيمم تضعيف حجاج بن أرطاة.
وروي عن سوار بن أبي حمزة وليس بالقوي والله أعلم هكذا قال البيهقي.
قال مقيده عفا الله عنه: سوار بن أبي حمزة من رجال مسلم وقال فيه ابن حجر في (التقريب): صدوق له أوهام ومن أدلتهم أيضا ما أخرجه أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء رجل مستصرخ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: حادثة له يا رسول الله فقال: ويحك مالك؟ فقال: شر أبصر لسيده جارية فغار فجب مذاكيره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: علي بالرجل فطلب فلم يقدر عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب فأنت حر فقال: يا رسول الله على من نصرتي؟ قال: على كل مؤمن أو قال: على كل مسلم ومن أدلتهم ما أخرجه البيهقي في السنن الكبرى عن أبي جعفر عن بكير أنه قال: مضت السنة بألا يقتل الحر المسلم بالعبد وإن قتله عمدا وعليه العقل.
ومن أدلتهم أيضا ما أخرجه البيهقي أيضا عن الحسن وعطاء والزهري وغيرهم من قولهم: إنه لا يقتل حر بعبد وأخرج أحمد وابن أبي شيبة والبيهقي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أبا بكر وعمر كانا لا يقتلان الحر بالعبد وهذه الروايات الكثيرة وإن كانت لا يخلو شيء منها من مقال فإن بعضها يشد بعضا
387

ويقويه حتى يصلح المجموع للاحتجاج.
قال الشوكاني في (نيل الأوطار) ما نصه: وثانيا بالأحاديث القاضية بأنه لا يقتل حر بعبد فإنها قد رويت من طرق متعددة يقوي بعضها بعضا فتصلح للاحتجاج.
قال مقيده عفا الله عنه: وتعتضد هذه الأدلة على ألا يقتل حر بعبد بإطباقهم على عدم القصاص للعبد من الحر فيما دون النفس فإذا لم يقتص له منه في الأطراف فعدم القصاص في النفس من باب أولى ولم يخالف في أنه لا قصاص للعبد من الحر فيما دون النفس إلا داود وابن أبي ليلى وتعتضد أيضا بإطباق الحجة من العلماء على أنه إن قتل خطأ ففيه القيمة لا الدية.
وقيده جماعة بما إذا لم تزد قيمته عن دية الحر وتعتضد أيضا بأن شبه العبد بالمال أقوى من شبهه بالحر من حيث إنه يجري فيه ما يجري في المال من بيع وشراء وإرث وهدية وصدقه إلى غير ذلك من أنواع التصرف وبأنه لو قذفه حر ما وجب عليه الحد عند عامة العلماء إلا ما روي عن ابن عمر والحسن وأهل الظاهر من وجوبه في قذف أم الولد خاصة.
ويدل على عدم حد الحر بقذفه العبد ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: من قذف مملوكه وهو بريء مما يقول جلد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال وهو يدل على عدم جلده في الدنيا كما هو ظاهر.
هذا ملخص كلام العلماء في حكم قتل الحر بالعبد.
وأما قتل المسلم بالكافر فجمهور العلماء على منعه منهم مالك والشافعي وأحمد وروي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت ومعاوية رضي الله عنهم وبه قال عمر بن عبد العزيز وعطاء وعكرمة والحسن والزهري وابن شبرمة والثوري والأوزاعي وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني وغيره ورواه البيهقي عن عمر وعلي وعثمان وغيرهم.
وذهب أبو حنيفة والنخعي والشعبي إلى أن المسلم يقتل بالذمي واستدلوا بعموم النفس بالنفس في الآية والحديث المتقدمين وبالحديث الذي رواه ربيعة بن أبي عبد الرحمان عن ابن البيلماني عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بمعاهد
388

وهو مرسل من الصحابة ضعيف فابن البيلماني لا يحتج له لو وصل فكيف وقد أرسل وترجم البيهقي في (السنن الكبرى) لهذا الحديث بقوله باب بيان ضعف الخبر الذي روي في قتل المؤمن بالكافر وما جاء عن الصحابة في ذلك وذكر طرقه وبين ضعفها كلها.
ومن جملة ما قال: أخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه قال: قال أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني الحافظ ابن البيلماني: ضعيف لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث فكيف بما يرسله والله أعلم.
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: * (الحر بالحر والعبد بالعبد) * ما نصه ولا يصح لهم ما رووه من حديث ربيعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يوم خيبر مسلما بكافر لأنه منقطع ومن حديث ابن البيلماني وهو ضعيف عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا قال الدارقطني: لم يسنده غير إبراهيم بن أبي يحيى وهو متروك الحديث. والصواب عن ربيعة عن ابن البيلماني مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم وابن البيلماني ضعيف الحديث لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث فكيف بما يرسله فإذا عرفت ضعف الاستدلال على قتل المسلم بالكافر فاعلم أن كونه لا يقتل به ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبوتا لا مطعن فيه مبينا بطلان تلك الأدلة التي لا يعول عليها.
فقد أخرج البخاري في صحيحه في باب كتابة العلم وفي باب لا يقتل المسلم بالكافر أن أبا جحيفة سأل عليا رضي الله عنه: هل عندكم شيء مما ليس في القرآن؟ فقال:
لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يعطيه الله رجلا في كتابه وما في هذه الصحيفة قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير وألا يقتل مسلم بكافر.
فهذا نص صحيح قاطع للنزاع مخصص لعموم النفس بالنفس مبين عدم صحة الأخبار المروية بخلافه ولم يصح في الباب شيء يخالفه قال ابن كثير في تفسيره بعد أن ساق حديث علي هذا: ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا وقال القرطبي في تفسيره: قلت: فلا يصح في الباب إلا حديث البخاري وهو يخصص عموم قوله تعالى: * (كتب عليكم القصاص في القتلى) *. وعموم قوله تعالى: * (أن النفس بالنفس) * فهذا الذي ذكرنا في هذا المبحث هو تحقيق المقام في حكم
389

القصاص في الأنفس بين الذكور والإناث والأحرار والعبيد والمسلمين والكفار.
وأما حكم القصاص بينهم في الأطراف فجمهور العلماء على أنه تابع للقصاص في الأنفس فكل شخصين يجري بينهما القصاص في النفس فإنه يجري بينهما في الأطراف فيقطع الحر المسلم بالحر المسلم والعبد بالعبد والذمي بالذمي والذكر بالأنثى والأنثى بالذكر ويقطع الناقص بالكامل كالعبد بالحر والكافر بالمسلم.
ومشهور مذهب مالك أن الناقص لا يقتص منه للكامل في الجراح فلا يقتص من عبد جرح حرا ولا من كافر جرح مسلما وهو مراد خليل بن إسحاق المالكي بقوله في مختصره: والجرح كالنفس في الفعل والفاعل والمفعول إلا ناقصا جرح كاملا يعني فلا يقتص منه له ورواية ابن القصار عن مالك وجوب القصاص وفاقا للأكثر ومن لا يقتل بقتله لا يقطع طرفه بطرفه فلا يقطع مسلم بكافر ولا حر بعبد وممن قال بهذا مالك والشافعي وأحمد والثوري وأبو ثور وإسحاق وابن المنذر كما نقله عنهم صاحب المغني وغيره.
وقال أبو حنيفة: لا قصاص في الأطراف بين مختلفي البدل فلا يقطع الكامل بالناقص ولا الناقص بالكامل ولا الرجل بالمرأة ولا المرأة بالرجل ولا الحر بالعبد ولا العبد بالحر.
ويقطع المسلم بالكافر والكافر بالمسلم. لأن التكافؤ معتبر في الأطراف بدليل أن الصحيحة لا تؤخذ بالشلاء ولا الكاملة بالناقصة فكذلك لا يؤخذ طرف الرجل بطرف المرأة ولا يؤخذ طرفها بطرفه كما لا تؤخذ اليسرى باليمنى.
وأجيب من قبل الجمهور بأن من يجري بينهما القصاص في النفس يجرى في الطرف بينهما كالحرين وما ذكره المخالف يبطل بالقصاص في النفس فإن التكافؤ فيه معتبر بدليل أن المسلم لا يقتل بمستأمن ثم يلزمه أن يأخذ الناقصة بالكاملة لأن المماثلة قد وجدت ومعها زيادة فوجب أخذها بها إذا رضي المستحق كما تؤخذ ناقصة الأصابع بكاملة الأصابع.
وأما اليسار واليمين فيجريان مجرى النفس لاختلاف محليهما ولهذا استوى بدلهما فعلم أنها ليست ناقصة عنها شرعا وأن العلة فيهما ليست كما ذكر المخالف قاله ابن قدامة في المغني.
390

ومن الدليل على جريان القصاص في الأطراف بين من جرى بينهم في الأنفس قوله تعالى: * (وكتبنا عليهم فيهآ أن النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالأنف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص) *.
وما روي عن الإمام أحمد من أنه لا قصاص بين العبيد فيما دون النفس وهو قول الشعبي والثوري والنخعي وفاقا لأبي حنيفة معللين بأن أطراف العبيد مال كالبهائم ثم يرد عليه بدليل الجمهور الذي ذكرنا آنفا وبأن أنفس العبيد مال أيضا كالبهائم مع تصريح الله تعالى بالقصاص فيها في قوله تعالى: * (والعبد بالعبد) *.
واعلم أنه يشترط للقصاص فيما دون النفس ثلاثة شروط:
الأول: كونه عمدا وهذا يشترط في قتل النفس بالنفس أيضا.
الثاني: كونهما يجري بينهما القصاص في النفس.
الثالث: إمكان الاستيفاء من غير حيف ولا زيادة لأن الله تعالى يقول: * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) * ويقول: * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) * فإن لم يمكن استيفاؤه من غير زيادة سقط القصاص ووجبت الدية ولأجل هذا أجمع العلماء على أن ما يمكن استيفاؤه من غير حيف ولا زيادة فيه القصاص المذكور في الآية في قوله تعالى: * (والعين بالعين والانف بالأنف والاذن بالاذن والسن بالسن) * وكالجراح التي تكون في مفصل كقطع اليد والرجل من مفصليهما.
واختلفوا في قطع العضو من غير مفصل بل من نفس العظم فمنهم من أوجب فيه القصاص نظرا إلى أنه يمكن من غير زيادة وممن قال بهذا مالك فأوجب القصاص في قطع العظم من غير المفصل إلا فيما يخشى منه الموت كقطع الفخذ ونحوها
وقال الشافعي: لا يجب القصاص في شيء من العظام مطلقا وهو مروي عن عمر بن الخطاب وابن عباس وبه قول عطاء والشعبي والحسن البصري والزهري وإبراهيم النخعي وعمر بن عبد العزيز وإليه ذهب سفيان الثوري والليث بن سعد وهو مشهور مذهب الإمام أحمد كما نقله عنهم ابن كثير وغيره.
وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يجب القصاص في شيء من العظام إلا في السن.
391

واستدل من قال بأنه لا قصاص في قطع العظم من غير المفصل بما رواه ابن ماجة من طريق أبي بكر بن عياش عن دهثم بن قران عن نمران بن جارية عن أبيه جارية بن ظفر الحنفي أن رجلا ضرب رجلا على ساعده بالسيف من غير المفصل فقطعها فاستعدى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر له بالدية. فقال: يا رسول الله أريد القصاص فقال: خذ الدية بارك الله لك فيها ولم يقض له بالقصاص.
قال ابن عبد البر: ليس لهذا الحديث غير هذا الإسناد ودهثم بن قران العكلي ضعيف أعرابي ليس حديثه مما يحتج به ونمران بن جارية ضعيف أعرابي أيضا وأبوه جارية بن ظفر مذكور في الصحابة اه. من ابن كثير.
وقال ابن حجر في (التقريب) في دهثم المذكور: متروك وفي نمران المذكور: مجهول واختلاف العلماء في ذلك إنما هو من اختلافهم في تحقيق مناط المسألة فالذين يقولون بالقصاص: يقولون: إنه يمكن من غير حيف والذين يقولون: بعدمه يقولون: لا يمكن إلا بزيادة أو نقص وهم الأكثر.
ومن هنا منع العلماء القصاص فيما يظن به الموت كما بعد الموضحة من منقلة أطارت بعض عظام الرأس أو مأمومة وصلت إلى أم الدماغ أو دامغة خرقت خريطته كالجائفة وهي التي نفذت إلى الجوف ونحو ذلك للخوف من الهلاك.
وأنكر الناس على ابن الزبير القصاص في المأمومة. وقالوا: ما سمعنا بأحد قاله قبله واعلم أن العين الصحيحة لا تؤخذ بالعوراء واليد الصحيحة لا تؤخذ بالشلاء ونحو ذلك كما هو ظاهر.
تنبيه
إذا اقتص المجني عليه من الجاني فيما دون النفس فمات من القصاص فلا شيء على الذي اقتص منه عند مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين وغيرهم.
وقال أبو حنيفة: تجب الدية في مال المقتص وقال الشعبي وعطاء وطاوس وعمرو بن دينار والحرث العكلي وابن أبي ليلى وحماد بن أبي سليمان والزهري والثوري تجب الدية على عاقلة المقتص له.
392

وقال ابن مسعود وإبراهيم النخعي والحكم بن عتيبة وعثمان البتي يسقط عن المقتص له قدر تلك الجراحة ويجب الباقي في ماله قاله ابن كثير.
والحق أن سراية القود غير مضمونة لأن من قتله القود قتله الحق كما روي عن أبي بكر وعمر وغيرهما بخلاف سراية الجناية فهي مضمونة والفرق بينهما ظاهر جدا.
واعلم أنه لا تؤخذ عين ولا أذن ولا يد يسرى بيمنى ولا عكس ذلك لوجوب اتحاد المحل في القصاص وحكي عن ابن سيرين وشريك أنهما قالا بأن إحداهما تؤخذ بالأخرى والأول قول أكثر أهل العلم.
واعلم أنه يجب تأخير القصاص في الجراح حتى تندمل جراحة المجني عليه فإن اقتص منه قبل الاندمال ثم زاد جرحه فلا شيء له.
والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقدني فقال: حتى تبرأ ثم جاء إليه فقال: أقدني فأقاده فقال: يا رسول الله عرجت فقال: قد نهيتك فعصيتني فأبعدك الله وبطل عرجك ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص منه جرح قبل أن يبرأ صاحبه تفرد به أحمد قاله ابن كثير.
وقال بعض العلماء بجواز تعجيل القصاص قبل البرء وقد عرفت من حديث عمرو بن شعيب المذكور آنفا أن سراية الجناية بعد القصاص هدر وقال أبو حنيفة والشافعي: ليست هدرا بل هي مضمونة والحديث حجة عليهما رحمهما الله تعالى ووجهه ظاهر لأنه استعجل ما لم يكن له استعجاله فأبطل الشارع حقه.
وإذا عرفت مما ذكرنا تفصيل مفهوم.
قوله تعالى: * (أنه من قتل نفسا بغير نفس) *.
فاعلم أن مفهوم قوله: * (أو فساد في الأرض) * هو المذكور في قوله تعالى: * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض) *.
قال ابن كثير في تفسيره: المحاربة هي المخالفة والمضادة وهي صادقة على الكفر وعلى قطع الطريق وإخافة السبيل وكذا الإفساد في الأرض يطلق على أنواع
393

من الشر وقد قال الله تعالى: * (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد) *. فإذا علمت ذلك فاعلم أن المحارب الذي يقطع الطريق ويخيف السبيل ذكر الله أن جزاءه واحدة من أربع خلال هي: أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض وظاهر هذه الآية الكريمة: أن الإمام مخير فيها يفعل ما شاء منها بالمحارب كما هو مدلول أو لأنها تدل على التخيير.
ونظيره في القرآن قوله تعالى: * (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) * وقوله تعالى: * (فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة) * وقوله تعالى: * (فجزآء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما) *.
وكون الإمام مخيرا بينهما مطلقا من غير تفصيل هو مذهب مالك وبه قال سعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء والحسن البصري وإبراهيم النخعي والضحاك كما نقله عنهم ابن جرير وغيره وهو رواية ابن أبي طلحة عن ابن عباس ونقله القرطبي عن أبي ثور وسعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز ومجاهد والضحاك والنخعي ومالك وقال: وهو مروي عن ابن عباس.
ورجح المالكية هذا القول بأن اللفظ فيه مستقل غير محتاج إلى تقدير محذوف لأن اللفظ إذا دار بين الاستقلال والافتقار إلى تقدير محذوف فالاستقلال مقدم لأنه هو الأصل إلا بدليل منفصل على لزوم تقدير المحذوف وإلى هذا أشار في (مراقي السعود) بقوله: الرجز:
* كذاك ما قابل ذا اعتلال
* من التأصل والاستقلال
*
إلى قوله: الرجز:
* كذاك ترتيب لإيجاب العمل
* بما له الرجحان مما يحتمل
*
والرواية المشهورة عن ابن عباس أن هذه الآية منزلة على أحوال وفيها قيود مقدرة وإيضاحه: أن المعنى أن يقتلوا إذا قتلوا ولم يأخذوا المال أو يصلبوا إذا قتلوا وأخذوا المال أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إذا أخذوا ولم يقتلوا أحدا
394

أو ينفوا من الأرض إذا أخافوا السبيل ولم يقتلوا أحدا ولم يأخذوا مالا وبهذا قال الشافعي وأحمد وأبو مجلز وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والسدي وعطاء الخرساني وغير واحد من السلف والأئمة.
قاله ابن كثير ونقله القرطبي وابن جرير عن ابن عباس وأبي مجلز وعطاء الخراساني وغيرهم.
ونقل القرطبي عن أبي حنيفة إذا قتل قتل وإذا أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف وإذا أخذ المال وقتل فالسلطان مخير فيه إن شاء قطع يده ورجله وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه ولا يخفى أن الظاهر المتبادر من الآية هو القول الأول. لأن الزيادة على ظاهر القرآن بقيود تحتاج إلى نص من كتاب أو سنة وتفسير الصحابي لهذا بذلك ليس له حكم الرفع لإمكان أن يكون عن اجتهاد منه ولا نعلم أحدا روى في تفسير هذه الآية بالقيود المذكورة خبرا مرفوعا إلا ما رواه ابن جرير في تفسيره عن أنس حدثنا علي بن سهل قال: حدثنا الوليد بن مسلم عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب: أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين إلى أن قال. قال أنس: فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عن القضاء فيمن حارب فقال: من سرق وأخاف السبيل فاقطع يده بسرقته ورجله بإخافته ومن قتل فاقتله ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فاصلبه وهذا الحديث لو كان ثابتا لكان قاطعا للنزاع ولكن فيه ابن لهيعة ومعلوم أنه خلط بعد احتراق كتبه ولا يحتج به وهذا الحديث ليس راويه عنه ابن المبارك ولا ابن وهب. لأن روايتهما عنه أعدل من رواية غيرهما وابن جرير نفسه يرى عدم صحة هذا الحديث الذي ساقه لأنه قال في سوقه للحديث المذكور: وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصحيح ما قلنا في ذلك بما في إسناده نظر وذلك ما حدثنا به علي بن سهل حدثنا الوليد بن مسلم إلى آخر الإسناد الذي قدمنا آنفا وذكرنا معه محل الغرض من المتن ولكن هذا الحديث وإن كان ضعيفا فإنه يقوي هذا القول الذي عليه أكثر أهل العلم ونسبه ابن كثير للجمهور.
واعلم أن الصلب المذكور في قوله * (أو يصلبوا) * اختلف فيه العلماء. فقيل: يصلب حيا ويمنع من الشراب والطعام حتى يموت وقيل: يصلب حيا ثم يقتل برمح
395

ونحوه مصلوبا وقيل: يقتل أولا ثم يصلب بعد القتل وقيل: ينزل بعد ثلاثة أيام وقيل: يترك حتى يسيل صديده والظاهر أنه يصلب بعد القتل زمنا يحصل فيه اشتهار ذلك. لأن صلبه ردع لغيره.
وكذلك قوله: * (أو ينفوا من الأرض) * اختلف العلماء في المراد بالنفي فيه أيضا فقال بعضهم: معناه أن يطلبوا حتى يقدر عليهم فيقام عليهم الحد أو يهربوا من دار الإسلام وهذا القول رواه ابن جرير عن ابن عباس وأنس بن مالك وسعيد بن جبير والضحاك والربيع بن أنس والزهري والليث بن سعد ومالك بن أنس.
وقال آخرون: هو أن ينفوا من بلدهم إلى بلد آخر أو يخرجهم السلطان أو نائبه من عمالته بالكلية وقال عطاء الخراساني وسعيد بن جبير وأبو الشعثاء والحسن والزهري والضحاك ومقاتل بن حيان إنهم ينفون ولا يخرجون من أرض الإسلام.
وذهب جماعة إلى أن المراد بالنفي في الآية السجن لأنه نفي من سعة الدنيا إلى ضيق السجن فصار المسجون كأنه منفي من الأرض إلا من موضع استقراره واحتجوا بقول بعض المسجونين في ذلك: الطويل:
* خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها
* فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا
*
* إذا جاءنا السجان يوما لحاجة
* عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
*
وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه ولا يخفى عدم ظهوره.
واختار ابن جرير أن المراد بالنفي في هذه الآية أن يخرج من بلده إلى بلد آخر فيسجن فيه وروي نحوه عن مالك أيضا وله اتجاه. لأن التغريب عن الأوطان نوع من العقوبة كما يفعل بالزاني البكر وهذا أقرب الأقوال لظاهر الآية. لأنه من المعلوم إنه لا يراد نفيهم من جميع الأرض إلى السماء فعلم أن المراد بالأرض أوطانهم التي
تشق عليهم مفارقتها والله تعالى أعلم.
مسائل من أحكام المحاربين
المسألة الأولى: اعلم أن جمهور العلماء يثبتون حكم المحاربة في الأمصار
396

والطرق على السواء لعموم قوله تعالى: * (ويسعون في الأرض فسادا) * وممن قال بهذا الأوزاعي والليث بن سعد وهو مذهب الشافعي ومالك حتى قال مالك في الذي يغتال الرجل فيخدعه حتى يدخله بيتا فيقتله ويأخذ ما معه إن هذه محاربة ودمه إلى السلطان لا إلى ولي المقتول فلا اعتبار بعفوه عنه في إسقاط القتل.
وقال القاضي ابن العربي المالكي: كنت أيام حكمي بين الناس إذا جاءني أحد بسارق وقد دخل الدار بسكين يحبسه على قلب صاحب الدار وهو نائم وأصحابه يأخذون مال الرجل حكمت فيهم بحكم المحاربين وتوقف الإمام أحمد في ذلك وظاهر كلام الخرقي أنه لا محاربة إلا في الطرق فلا يكون محاربا في المصر. لأنه يلحقه الغوث.
وذهب كثير من الحنابلة إلى أنه يكون محاربا في المصر أيضا لعموم الدليل.
وقال أبو حنيفة: وأصحابه: لا تكون المحاربة إلا في الطرق وأما في الأمصار فلا لأنه يلحقه الغوث إذا استغاث بخلاف الطريق لبعده ممن يغيثه ويعينه قاله ابن كثير ولا يثبت لهم حكم المحاربة إلا إذا كان عندهم سلاح. ومن جملة السلاح: العصي والحجارة عند الأكثر. لأنها تتلف بها الأنفس والأطراف كالسلاح خلافا لأبي حنيفة. * *
المسألة الثانية: إذا كان المال الذي أتلفه المحارب أقل من نصاب السرقة الذي يجب فيه القطع أو كانت النفس التي قتلها غير مكافئة له كأن يقتل عبدا أو كافرا وهو حر مسلم فهل يقطع في أقل من النصاب؟ ويقتل بغير الكفؤ أو لا؟
اختلف العلماء في ذلك فقال بعضهم: لا يقطع إلا إذا أخذ ربع دينار وبهذا قال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وقال مالك: يقطع ولو لم يأخذ نصابا: لأنه يحكم عليه بحكم المحارب.
قال ابن العربي: وهو الصحيح. لأن الله تعالى حدد على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ربع دينار (لوجوب القطع في السرقة ولم يحدد في قطع الحرابة شيئا ذكر جزاء المحارب فاقتضى ذلك توفية جزائهم على المحاربة عن حبة ثم إن هذا قياس أصل على أصل
397

وهو مختلف فيه وقياس الأعلى بالأدنى وذلك عكس القياس وكيف يصح أن يقاس المحارب على السارق وهو يطلب خطف المال؟ فإن شعر به فر حتى إن السارق إذا دخل بالسلاح يطلب المال فإن منع منه أو صيح عليه حارب عليه فهو محارب يحكم عليه بحكم المحاربين اه كلام ابن العربي.
ويشهد لهذا القول عدم اشتراط الإخراج من حرز فيما يأخذه المحارب في قطعه وأما قتل المحارب بغير الكفؤ فهو قول أكثر العلماء وعن الشافعي وأحمد فيه روايتان والتحقيق عدم اشتراط المكافأة في قتل الحرابة. لأن القتل فيها ليس على مجرد القتل وإنما هو على الفساد العام من إخافة السبيل وسلب المال.
قال الله تعالى: * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا) *.
فأمر بإقامة الحدود على المحارب إذا جمع بين شيئين وهما المحاربة والسعي في الأرض بالفساد ولم يخص شريفا من وضيع ولا رفيعا من دنئ اه من القرطبي.
قال مقيده عفا الله عنه: ومما يدل على عدم اعتبار المكافأة في قتل الحرابة إجماع العلماء على أن عفو ولي المقتول في الحرابة لغو لا أثر له وعلى الحاكم قتل المحارب القاتل فهو دليل على أنها ليست مسألة قصاص خالص بل هناك تغليظ زائد من جهة المحاربة. * *
المسألة الثالثة: إذا حمل المحاربون على قافلة مثلا فقتل بعضهم بعض القافلة وبعض المحاربين لم يباشر قتل أحد فهل يقتل الجميع أو لا يقتل إلا من باشر القتل فيه خلاف والتحقيق قتل الجميع لأن المحاربة مبنية على حصول المنعة والمعاضدة والمناصرة فلا يتمكن المباشر من فعله إلا بقوة الآخر الذي هو ردء له ومعين على حرابته ولو قتل بعضهم وأخذ بعضهم المال جاز قتلهم كلهم وصلبهم كلهم. لأنهم شركاء في كل ذلك وخالف في هذا الشافعي رحمه الله قال: لا يجب الحد إلا على من ارتكب المعصية ولا يتعلق بمن أعانه عليها كسائر الحدود وإنما عليه التعزير. * *
المسألة الرابعة: إذا كان في المحاربين صبي أو مجنون أو أب المقطوع عليه
398

فهل يسقط الحد عن كلهم؟ ويصير القتل للأولياء إن شاءوا قتلوا وإن شاءواعفوا نظرا إلى أن حكم الجميع واحد فالشبهة في فعل واحد شبهة في الجميع وهو قول أبي حنيفة أو لا يسقط الحد عن غير المذكور من صبي أو مجنون أو أب وهو قول أكثر العلماء وهو الظاهر. * *
المسألة الخامسة: إذا تاب المحاربون بعد القدرة عليهم فتوبتهم حينئذ لا تغير شيئا من إقامة الحدود المذكورة عليهم وأما إن جاءوا تائبين قبل القدرة عليهم فليس للإمام عليهم حينئذ سبيل. لأنهم تسقط عنهم حدود الله وتبقى عليهم حقوق الآدميين فيقتص منهم في الأنفس والجراح ويلزمهم غرم ما أتلفوه من الأموال ولولي الدم حينئذ العفو إن شاء ولصاحب المال إسقاطه عنهم.
وهذا قول أكثر العلماء مع الإجماع على سقوط حدود الله عنهم بتوبتهم قبل القدرة عليهم كما هو صريح قوله تعالى: * (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) * وإنما لزم أخذ ما بأيديهم من الأموال وتضمينهم ما استهلكوا. لأن ذلك غصب فلا يجوز لهم تملكه وقال قوم من الصحابة والتابعين: لا يطلب المحارب الذي جاء تائبا قبل القدرة عليه إلا بما وجد معه من المال وأما ما استهلكه فلا يطلب به وذكر الطبري هذا عن مالك من رواية الوليد بن مسلم عنه.
قال القرطبي: وهو الظاهر من فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بحارثة بن بدر الغداني فإنه كان محاربا ثم تاب قبل القدرة عليه فكتب له سقوط الأموال والدم عنه
كتابا منشورا ونحوه ذكره ابن جرير.
قال ابن خويز منداد: واختلفت الرواية عن مالك في المحارب إذا أقيم عليه الحد ولم يوجد له مال هل يتبع دينا بما أخذ أو يسقط عنه كما يسقط عن السارق؟ يعني عند مالك والمسلم والذمي في ذلك سواء ومعنى قوله: * (فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) * اختلف فيه العلماء فروي عن ابن عباس أنه قال: معناها أن من قتل نبيا أو إمام عدل فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياه بأن شد عضده ونصره فكأنما أحيا الناس جميعا نقله القرطبي وابن جرير وغيرهما ولا يخفى بعده عن ظاهر القرآن.
399

وعن ابن عباس أيضا أنه قال: المعنى أن من انتهك حرمة نفس واحدة بقتلها فهو كمن قتل الناس جميعا. لأن انتهاك حرمة الأنفس سواء في الحرمة والإثم ومن ترك قتل نفس واحدة واستحياها خوفا من الله فهو كمن أحيا الناس جميعا لاستواء الأنفس في ذلك.
وعن ابن عباس: * (فكأنما قتل الناس جميعا) * أي عند المقتول إذ لا غرض له في حياة أحد بعد موته هو ومن أحياها واستنقذها من هلكه فكأنما أحيا الناس جميعا عند المستنقذ وقال مجاهد: المعنى أن الذي يقتل النفس المؤمنة متعمدا جعل الله: جزاءه جهنم وغضب عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ولو قتل الناس جميعا لم يزد على ذلك ومن لم يقتل فقد حيي الناس منه.
واختار هذا القول ابن جرير وقال ابن زيد: المعنى أن من قتل نفسا يلزمه من القصاص ما يلزم من قتل الناس جميعا قال: ومن أحياها أي عفا عمن وجب له قتله وقال الحسن أيضا: هو العفو بعد المقدرة وقيل: المعنى أن من قتل نفسا فالمؤمنون كلهم خصماؤه لأنه قد وتر الجميع ومن أحياها وجب على الكل شكره وقيل: كان هذا مختصا ببني إسرائيل وقيل: المعنى أن من استحل قتل واحد فقد استحل الجميع لأنه أنكر الشرع ومن حرم دم مسلم فكأنما حرم دماء الناس جميعا ذكر هذه الأقوال القرطبي وابن كثير وابن جرير وغيرهم واستظهر ابن كثير هذا القول الأخير وعزاه لسعيد بن جبير.
وقال البخاري في (صحيحه) باب قول الله تعالى: * (ومن أحياها) *. قال ابن عباس: من حرم قتلها إلا بحق حيي الناس منه جميعا.
وقال القرطبي: إحياؤه عبارة عن الترك والإنقاذ من هلكة وإلا فالإحياء حقيقة الذي هو الاختراع إنما هو لله تعالى وهذا الإحياء كقول نمروذ لعنه الله: * (أنا أحيي وأميت) * فسمى الترك إحياء.
وكذلك قال ابن جرير قوله تعالى: * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا) * اعلم أن هذه الآية اختلف في سبب نزولها فقيل: نزلت في قوم من المشركين وقيل: نزلت في قوم من أهل الكتاب وقيل: نزلت في الحرورية.
400

وأشهر الأقوال هو ما تضافرت به الروايات في الصحاح وغيرها أنها نزلت في قوم عرينة و عكل الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة فأمر لهم صلى الله عليه وسلم بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا فلما صحوا وسمنوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا اللقاح فبلغه صلى الله عليه وسلم خبرهم فأرسل في أثرهم سرية فجاءوا بهم فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسملت أعينهم وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا.
وعلى هذا القول فهي نازلة في قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم هذه هي أقوال العلماء في سبب نزولها والذي يدل عليه ظاهر القرآن أنها في قطاع الطريق من المسلمين كما قاله جماعة من الفقهاء بدليل قوله تعالى: * (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) * فإنها ليست في الكافرين قطعا. لأن الكافر تقبل توبته بعد القدرة عليه كما تقبل قبلها إجماعا لقوله تعالى: * (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) * وليست في المرتدين لأن المرتد يقتل بردته وكفره ولا يقطع لقوله صلى الله عليه وسلم عاطفا على ما يوجب القتل: والتارك لدينه المفارق للجماعة وقوله: ومن بدل دينه فاقتلوه فيتعين أنها في المحاربين من المسلمين فإن قيل: وهل يصح أن يطلق على المسلم أنه محارب لله ورسوله؟ فالجواب: نعم.
والدليل قوله تعالى: * (يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله) *.
تنبيه
استشكل بعض العلماء تمثيله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين لأنه سمل أعينهم مع قطع الأيدي والأرجل مع أن المرتد يقتل ولا يمثل به.
واختلف في الجواب فقيل فيه ما حكاه الطبري عن بعض أهل العلم أن هذه الآية نسخت فعل النبي صلى الله عليه وسلم بهم وقال محمد بن سيرين: كان ذلك قبل نزول الحدود وقال أبو الزناد: إن هذه الآية معاتبة له صلى الله عليه وسلم على ما فعل بهم وبعد العتاب على ذلك لم يعد قاله أبو داود.
والتحقيق في الجواب هو أنه صلى الله عليه وسلم فعل بهم ذلك قصاصا وقد ثبت في صحيح
401

مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم إنما سمل أعينهم قصاصا لأنهم سملوا أعين رعاة اللقاح وعقده البدوي الشنقيطي في مغازيه بقوله: الرجز:
* وبعدها أنتهبها الألى انتهوا
* لغاية الجهد وطيبة اجتووا
*
* فخرجوا فشربوا ألبانها
* ونبذوا إذ سمنوا أمانها
*
* فاقتص منهم النبي أن مثلوا
* بعبده ومقلتيه سملوا
*
واعترض على الناظم شارح النظم حماد لفظة: بعبده لأن الثابت أنهم مثلوا بالرعاء والعلم عند الله تعالى.
* (قوله تعالى يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة الآية) *.
اعلم أن جمهور العلماء على أن المراد بالوسيلة هنا هو القربة إلى الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه على وفق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بإخلاص في ذلك لله تعالى لأن هذا وحده هو الطريق الموصلة إلى رضى الله تعالى ونيل ما عنده من خير الدنيا والآخرة.
وأصل الوسيلة: الطريق التي تقرب إلى الشيء وتوصل إليه وهي العمل الصالح بإجماع العلماء لأنه لا وسيلة إلى الله تعالى إلا باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى هذا فالآيات المبينة للمراد من الوسيلة كثيرة جدا كقوله تعالى: * (ومآ آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) * وكقوله: * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني) * وقوله: * (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) * إلى غير ذلك من الآيات.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بالوسيلة الحاجة ولما سأله نافع الأزرق هل تعرف العرب ذلك؟ أنشد له بيت عنترة: الكامل:
* إن الرجال لهم إليك وسيلة
* إن يأخذوك تكحلي وتخضبي
*
قال: يعني لهم إليك حاجة وعلى هذا القول الذي روي عن ابن عباس فالمعنى: * (وابتغوا إليه الوسيلة) * واطلبوا حاجتكم من الله لأنه وحده هو الذي يقدر على إعطائها ومما يبين معنى هذا الوجه قوله تعالى: * (إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه) * وقوله: * (واسألوا الله من فضله) * وفي الحديث إذا سألت فاسأل الله.
402

قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق في معنى الوسيلة هو ما ذهب إليه عامة العلماء من أنها التقرب إلى الله تعالى بالإخلاص له في العبادة على وفق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وتفسير ابن عباس داخل في هذا لأن دعاء الله والابتهال إليه في طلب الحوائج من أعظم أنواع عبادته التي هي الوسيلة إلى نيل رضاه ورحمته.
وبهذا التحقيق تعلم أن ما يزعمه كثير من ملاحدة أتباع الجهال المدعين للتصوف من أن المراد بالوسيلة في الآية الشيخ الذي يكون له واسطة بينه وبين ربه أنه تخبط في الجهل والعمى وضلال مبين وتلاعب بكتاب الله تعالى واتخاذ الوسائط من دون الله من أصول كفر الكفار كما صرح به تعالى في قوله عنهم: * (ما نعبدهم إلا ليقربونآ إلى الله زلفى) * وقوله: * (ويقولون هاؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون) * فيجب على كل مكلف أن يعلم أن الطريق الموصلة إلى رضى الله وجنته ورحمته هي اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم ومن حاد عن ذلك فقد ضل سواء السبيل * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به) *.
والظاهر أن الوسيلة في بيت عنترة معناها التقرب أيضا إلى المحبوب لأنه وسيلة لنيل المقصود منه ولذا أنشد بيت عنترة المذكور ابن جرير والقرطبي وغيرهما لهذا المعنى الذي ذكرنا وجمع الوسيلة: الوسائل ومنه قول الشاعر: الطويل:
* إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا
* وعاد التصافي بيننا والوسائل
*
وهذا الذي فسرنا به الوسيلة هنا هو معناها أيضا في قوله تعالى: * (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب) * وليس المراد بالوسيلة أيضا المنزلة التي في الجنة التي أمرنا صلى الله عليه وسلم أن نسأل له الله أن يعطيه إياها نرجو الله أن يعطيه إياها لأنها لا تنبغي إلا لعبد وهو يرجو أن يكون هو.
قوله تعالى: * (يقولون إن أوتيتم هاذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا) *.
في هذه الآية الكريمة إجمال لأن المشار إليه بقوله * (هاذا) * ومفسر الضمير في قوله: * (فخذوه) * وقوله: * (لم تؤتوه) * لم يصرح به في الآية ولكن الله أشار له هنا وذكره في موضع آخر.
403

اعلم أولا أن هذه الآية نزلت في اليهودي واليهودية الذين زنيا بعد الإحصان وكان اليهود قد بدلوا حكم الرجم في التوراة فتعمدوا تحريف كتاب الله واصطلحوا فيما بينهم على أن الزاني المحصن الذي يعلمون أن حده في كتاب الله التوراة الرجم أنهم يجلدونه ويفضحونه بتسويد الوجه والإركاب على حمار فلما زنى المذكوران قالوا فيما بينهم تعالوا نتحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم في شأن حدهما فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه ذلك واجعلوه حجة بينكم وبين الله تعالى ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم فيهما بذلك وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه فإذا عرفت ذلك فاعلم أن المراد بقوله * (هاذا) * وقوله: * (فخذوه) * وقوله: * (وإن لم تؤتوه) * هو الحكم المحرف
الذي هو الجلد والتحميم كما بينا وأشار إلى ذلك هنا بقوله: * (يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا) * يعني المحرف والمبدل الذي هو الجلد والتحميم * (فخذوه وإن لم تؤتوه) * بأن حكم بالحق الذي هو الرجم * (فاحذروا) * أن تقبلوه.
وذكر تعالى هذا أيضا في قوله: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله) * يعني التوراة ليحكم بينهم يعني في شأن الزانيين المذكورين * (ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون) * آية عما في التوراة من حكم رجم الزاني المحصن وقوله هنا: * (ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون) * هو معنى قوله عنهم: * (وإن لم تؤتوه فاحذروا) * والعلم عند الله تعالى. * () * قوله تعالى: * (بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء) *.
أخبر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الأحبار والرهبان استحفظوا كتاب الله يعني استودعوه وطلب منهم حفظه ولم يبين هنا هل امتثلوا الأمر في ذلك وحفظوه أو لم يمتثلوا الأمر في ذلك وضيعوه؟ ولكنه بين في مواضع أخر أنهم لم يمتثلوا الأمر ولم يحفظوا ما استحفظوه بل حرفوه وبدلوه عمدا كقوله: * (يحرفون الكلم عن مواضعه) * وقوله: * (تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا) * وقوله: * (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هاذا من عند الله) * وقوله جل وعلا: * (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم
404

بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب) * إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه
إن قيل ما الفرق بين التوراة والقرءان فإن كلا منهما كلام الله أنزله على رسول من رسله صلوات الله وسلامه عليهم والتوراة حرفت وبدلت كما بيناه آنفا والقرءان محفوظ من التحريف والتبديل لو حرف منه أحد حرفا واحدا فأبدله بغيره أو زاد فيه حرفا أو نقص فيه آخر لرد عليه آلاف الأطفال من صغار المسلمين فضلا عن كبارهم.
فالجواب أن الله استحفظهم التوراة واستودعهم إياها فخانوا الأمانة ولم يحفظوها بل ضيعوها عمدا والقرءان العظيم لم يكل الله حفظه إلى أحد حتى يمكنه تضييعه بل تولى حفظه جل وعلا بنفسه الكريمة المقدسة كما أوضحه بقوله: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * وقوله: * (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) * إلى غير ذلك من الآيات والباء في قوله: * (بما استحفظوا) * متعلقة بالرهبان والأحبار لأنهم إنما صاروا في تلك المرتبة بسبب ما استحفظوا من كتاب الله.
وقيل: متعلقة بيحكم) * والمعنى متقارب.
قوله تعالى: * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) *.
اختلف العلماء في هذه الآية الكريمة: هل هي في المسلمين أو في الكفار فروي عن الشعبي أنها في المسلمين وروي عنه أنها في اليهود وروي عن طاوس أيضا أنها في المسلمين وأن المراد بالكفر فيها كفر دون كفر وأنه ليس الكفر المخرج من الملة وروي عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال: ليس الكفر الذي تذهبون إليه رواه عنه ابن أبي حاتم والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه قاله ابن كثير.
قال بعض العلماء: القرءان العظيم يدل على أنها في اليهود لأنه تعالى ذكر فيما قبلها أنهم * (يحرفون الكلم من بعد مواضعه) * وأنهم يقولون * (إن أوتيتم هاذا) * يعني الحكم المحرف الذي هو غير حكم الله * (فخذوه وإن لم تؤتوه) * أي المحرف بل أوتيتم حكم الله الحق * (فاحذروا) * فهم يأمرون بالحذر من حكم الله الذي يعلمون أنه حق.
405

وقد قال تعالى بعدها * (وكتبنا عليهم فيهآ أن النفس بالنفس) * فدل على أن الكلام فيهم وممن قال بأن الآية في أهل الكتاب كما دل عليه ما ذكر البراء بن عازب وحذيفة بن اليمان وابن عباس وأبو مجلز وأبو رجاء العطاردي وعكرمة وعبيد الله بن عبد الله والحسن البصري وغيرهم وزاد الحسن وهي علينا واجبة نقله عنهم ابن كثير ونقل نحو قول الحسن عن إبراهيم النخعي.
وقال القرطبي في تفسيره: * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) * و * (الظالمون) * و * (الفاسقون) * نزلت كلها في الكفار ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء وقد تقدم وعلى هذا المعظم فأما المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة وقيل فيه إضمار أي * (ومن لم يحكم * بما أنزل الله) * ردا للقرءان وجحدا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر قاله ابن عباس ومجاهد.
فالآية عامة على هذا قال ابن مسعود والحسن: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار أي معتقدا ذلك ومستحلا له
فأما من فعل ذلك وهو معتقد أنه مرتكب محرم فهو من فساق المسلمين وأمره إلى الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
وقال ابن عباس في رواية: * (ومن لم يحكم بما أنزل الله) * فقد فعل فعلا يضاهي أفعال الكفار وقيل: أي ومن لم يحكم بجميع ما أنزل فهو كافر فأما من حكم بالتوحيد ولم يحكم ببعض الشرائع فلا يدخل في هذه الآية والصحيح الأول إلا أن الشعبي قال: هي في اليهود خاصة واختاره النحاس قال: ويدل على ذلك ثلاثة أشياء. منهما أن اليهود ذكروا قبل هذا في قوله تعالى * (للذين هادوا) * فعاد الضمير عليهم.
ومنها أن سياق الكلام يدل على ذلك. ألا ترى أن بعده * (وكتبنا عليهم) * فهذا الضمير لليهود بإجماع. وأيضا فإن اليهود هم الذين أنكروا الرجم والقصاص فإن قال قائل من إذا كانت للمجازاة فهي عامة إلا أن يقع دليل على تخصيصها قيل له: من هنا بمعنى الذي مع ما ذكرناه من الأدلة والتقرير: واليهود الذين لم يحكموا بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون فهذا من أحسن ما قيل في هذا.
406

ويروى أن حذيفة سئل عن هذه الآيات أهي في بني إسرائيل فقال: نعم هي فيهم ولتسلكن سبيلهم حذو النعل بالنعل وقيل: * (الكافرون) * للمسلمين والظالمون) *
لليهود والفاسقون) * للنصارى وهذا اختيار أبي بكر بن العربي قاله: لأنه ظاهر الآيات وهو اختيار ابن عباس وجابر بن زيد وابن أبي زائدة وابن شبرمة والشعبي أيضا. قال طاوس وغيره: ليس بكفر ينقل عن الملة ولكنه كفر دون كفر.
وهذا يختلف إن حكم بما عنده على أنه من عند الله فهو تبديل له يوجب الكفر. وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين. قال القشيري: ومذهب الخوارج أن من ارتشى وحكم بحكم غير الله فهو كافر وعزا هذا إلى الحسن والسدي وقال الحسن أيضا: أخذ الله على الحكام ثلاثة أشياء: ألا يتبعوا الهوى وألا يخشوا الناس ويخشوه وألا يشتروا بآياته ثمنا قليلا انتهى كلام القرطبي.
قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر المتبادر من سياق الآيات أن آية فأولئك * (هم الكافرون) * نازلة في المسلمين لأنه تعالى قال قبلها مخاطبا لمسلمي. هذه الأمة * (فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) * ثم قال: * (ومن لم يحكم بما أنزل اله فأولئك هم الكافرون) * فالخطاب للمسلمين كما هو ظاهر متبادر من سياق الآية وعليه فالكفر إما كفر دون كفر وإما أن يكون فعل ذلك مستحلا له أو قاصدا به جحد أحكام الله وردها مع العلم بها.
أما من حكم بغير حكم الله وهو عالم أنه مرتكب ذنبا فاعل قبيحا وإنما حمله على ذلك الهوى فهو من سائر عصاة المسلمين وسياق القرآن ظاهر أيضا في أن آية * (فأولئك هم الظالمون) * في اليهود لأنه قال قبلها: * (وكتبنا عليهم فيهآ أن النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالأنف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) *.
فالخطاب لهم لوضوح دلالة السياق عليه كما أنه ظاهر أيضا في أن آية * (فأولائك هم الفاسقون) * في النصارى لأنه قال قبلها: * (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولائك هم الفاسقون) *.
واعلم أن تحرير المقام في هذا البحث أن الكفر والظلم والفسق كل واحد منها
407

ربما أطلق في الشرع مرادا به المعصية تارة والكفر المخرج من الملة أخرى * (ومن لم يحكم بما أنزل الله) * معارضة للرسل وإبطالا لأحكام الله فظلمه وفسقه وكفره كلها كفر مخرج عن الملة * (ومن لم يحكم بما أنزل الله) * معتقدا أنه مرتكب حراما فاعل قبيحا فكفره وظلمه وفسقه غير مخرج عن الملة وقد عرفت أن ظاهر القرآن يدل على أن الأولى في المسلمين والثانية في اليهود والثالثة في النصارى والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب وتحقيق أحكام الكل هو ما رأيت والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: * (وكتبنا عليهم فيهآ أن النفس بالنفس الآية) *.
قد قدمنا احتجاج أبي حنيفة رحمه الله تعالى بعموم هذه الآية كما ذهب إليه جمهور العلماء وذلك في قوله تعالى: * (فمن تصدق به فهو كفارة له) *.
ومن المعلوم أن الكافر ليس من المتصدقين الذين تكون صدقتهم كفارة لهم لأن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة نبه على هذا إسماعيل القاضي في (أحكام القرآن) كما نقله ابن حجر في (فتح الباري) وما ذكره إسماعيل القاضي من أن الآية تدل أيضا على عدم دخول العبد بناء على أنه لا يصح له التصدق بجرحه لأن الحق لسيده غير مسلم لأن من العلماء من يقول: إن الأمور المتعلقة ببدن العبد كالقصاص له العفو فيها دون سيده وعليه فلا مانع من تصدقه بجرحه وعلى قول من قال: إن معنى * (فهو كفارة له) * أن التصدق بالجناية كفارة للجاني لا للمجني عليه فلا مانع أيضا من الاستدلال المذكور بالآية لأن الله لا يذكر عن الكافر أنه متصدق لأن الكافر لا صدقة له لكفره وما هو باطل لا فائدة فيه لا يذكره الله تعالى في معرض التقرير والإثبات مع أن هذا القول ضعيف في معنى الآية.
وجمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم على أن معناها فهو كفارة للمتصدق وهو أظهر. لأن الضمير فيه عائد إلى مذكور وذلك في المؤمن قطعا دون الكافر فالاستدلال بالآية ظاهر جدا.
تنبيه
احتج بعض العلماء بهذه الآية الكريمة على أنه لا يقتل اثنان بواحد لأنهما لو قتلا به لخرج عن قوله: * (أن النفس بالنفس) * لكونهما نفسين بنفس واحدة.
408

وممن قال بهذا متمسكا بهذا الدليل ابن الزبير والزهري وابن سيرين وحبيب بن أبي ثابت وعبد الملك وربيعة وداود وابن المنذر وحكاه ابن أبي موسى عن ابن عباس وروي عن معاذ بن جبل وابن الزبير وابن سيرين والزهري أنه يقتل منهم واحد ويؤخذ من الباقين حصصهم من الدية. لأن كل واحد منهم مكافىء له فلا تستوفى أبدال بمبدل واحد كما لا تجب ديات لمقتول واحد كما نقله عمن ذكرنا ابن قدامة في (المغني).
وقالوا مقتضى قوله تعالى: * (الحر بالحر) * وقوله: * (وكتبنا عليهم فيهآ أن النفس بالنفس) * أنه لا يؤخذ بالنفس أكثر من نفس واحدة قالوا: ولأن التفاوت في الأوصاف يمنع القصاص بدليل عدم قتل الحر بالعبد والتفاوت في العدد أولى.
وقال ابن المنذر: لا حجة مع من أوجب قتل جماعة بواحد وعدم قتل الجماعة بالواحد رواية عن الإمام أحمد.
والرواية المشهورة عن الإمام أحمد. ومذهب الأئمة الثلاثة أنه يقتل الجماعة بالواحد وقد ثبت عن عمر بن الخطاب أنه قتل سبعة بواحد وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا وروي نحو ذلك عن علي رضي الله عنه فإنه توقف عن قتال الحرورية حتى يحدثوا فلما ذبحوا عبد الله بن خباب كما تذبح الشاة وأخبر علي بذلك قال: الله أكبر نادوهم أن أخرجوا إلينا قاتل عبد الله بن خباب. فقالوا: كلنا قتله ثلاث مرات فقال علي لأصحابه: دونكم القوم فما لبث أن قتلهم علي وأصحابه نقله القرطبي عن الدارقطني في (سننه).
ويؤيد قتل الجماعة بالواحد ما رواه الترمذي عن أبي سعيد وأبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار. قال فيه الترمذي: حديث غريب نقله عنه القرطبي.
وروى البيهقي في (السنن الكبرى) نحوه عن ابن عباس مرفوعا وزاد إلا أن يشاء وروى البيهقي أيضا عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة لقي الله عز وجل يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله.
وروي عن المغيرة بن شعبة وابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب والحسن
409

وأبو سلمة وعطاء وقتادة والثوري والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور كما نقله عنهم ابن قدامة في (المغني) أن الجماعة تقتل بالواحد ورواه البيهقي عن عمر وعلي رضي الله عنهما أيضا ولم يعلم لهما مخالف في الصحابة فصار إجماعا سكوتيا واعترضه بعضهم بأن ابن الزبير ثبت عنه عدم قتل الجماعة بالواحدة كما قاله ابن المنذر.
وإذن فالخلاف واقع بين الصحابة والمقرر في الأصول أن الصحابة إذا اختلفوا لم يجز العمل بأحذ القولين إلا بترجيح.
قال مقيده عفا الله عنه: ويترجح مذهب الجمهور الذي هو قتل الجماعة بالواحد بأن الله تعالى قال: * (ولكم في القصاص حياة) * يعني أن من علم أنه يقتل إذا قتل يكون ذلك رادعا له وزاجرا عن القتل ولو كان الاثنان لا يقتص منهما للواحد لكان كل من أحب أن يقتل مسلما أخذ واحدا من أعوانه فقتله معه فلم يكن هناك رادع عن القتل وبذلك تضيع حكمة القصاص من أصلها مع أن المتمالئين على القتل يصدق على كل واحد منهم أنه قاتل فيقتل ويدل له أن الجماعة لو قذفوا واحدا لوجب حد القذف على جميعهم والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: * (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه) *.
لم يبين هنا شيئا مما أنزل في الإنجيل الذي أمر أهل الإنجيل بالحكم به وبين في مواضع أخر أن من ذلك البشارة بمبعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ووجوب اتباعه. والإيمان به كقوله: * (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدى اسمه أحمد) * وقوله تعالى: * (الذين يتبعون الرسول النبي الأمى الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل) * إلى غير ذلك من الآيات.
لطيفة: لها مناسبة بهذه الآية الكريمة: ذكر بعض العلماء أن نصرانيا قال لعالم من علماء المسلمين: ناظرني في الإسلام والمسيحية أيهما أفضل؟ فقال العالم للنصراني: هلم إلى المناظرة في ذلك فقال النصراني: المتفق عليه أحق بالاتباع أم المختلف فيه؟ فقال العالم: المتفق عليه أحق بالاتباع من المختلف فيه. فقال النصراني: إذن يلزمكم اتباع عيسى معنا وترك اتباع محمد صلى الله عليه وسلم لأننا نحن وأنتم نتفق على نبوة عيسى ونخالفكم في نبوة محمد عليهما الصلاة والسلام فقال المسلم: أنتم الذين تمتنعون من
410

اتباع المتفق عليه لأن المتفق الذي هو عيسى قال لكم: * (ومبشرا برسول يأتي من بعدى اسمه أحمد) * فلو كنتم متبعين عيسى حقا لاتبعتم محمدا صلى الله عليه وسلم فظهر أنكم أنتم الذين لم تتبعوا المتفق عليه ولا غيره فانقطع النصراني.
ولا شك أن النصارى لو كانوا متبعين عيسى لاتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولائك هم الفاسقون *) *.
قد قدمنا أن هذه الآية في النصارى والتي قبلها في اليهود والتي قبل تلك في المسلمين كما يقتضيه ظاهر القرآن.
وقد قدمنا أن الكفر والظلم والفسق كلها يطلق على المعصية بما دون الكفر وعلى الكفر المخرج من الملة نفسه. فمن الكفر بمعنى المعصية. قوله صلى الله عليه وسلم لما سألته المرأة عن سبب كون النساء أكثر أهل النار إن ذلك واقع بسبب كفرهن ثم فسره بأنهن يكفرن العشير ومن الكفر بمعنى المخرج عن الملة قوله تعالى: * (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) *. ومن الظلم بمعنى الكفر قوله تعالى: * (والكافرون هم الظالمون) * وقوله: * (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين) * وقوله: * (إن الشرك لظلم عظيم) * ومنه بمعنى المعصية قوله تعالى: * (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد) * ومن الفسق بمعنى الكفر قوله: * (وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلمآ أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها) * ومنه بمعنى المعصية قوله في الذين قذفوا عائشة رضي الله عنها: * (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون) *.
ومعلوم أن القذف ليس بمخرج عن الملة ويدل له قوله تعالى: * (إن الذين جآءوا بالإفك عصبة منكم) * ومن الفسق بمعنى المعصية أيضا قوله في الوليد بن عقبة: * (يا أيها الذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) *.
وقد قدمنا أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب فمن كان امتناعه من الحكم بما أنزل الله لقصد معارضته ورده والامتناع من التزامه فهو كافر ظالم فاسق كلها بمعناها المخرج من الملة ومن كان امتناعه من الحكم لهوى وهو يعتقد قبح فعله فكفره وظلمه وفسقه غير المخرج من الملة إلا إذا كان ما امتنع من الحكم به
411

شرطا في صحة إيمانه كالامتناع من اعتقاد ما لا بد من اعتقاده هذا هو الظاهر في الآيات المذكورة كما قدمنا والعلم عند الله تعالى.
* (يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض) *.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض ولكنه بين في مواضع أخر أن ولاية بعضهم لبعض زائفة ليست خالصة لأنها لا تستند على أساس صحيح هو دين الإسلام فبين أن العداوة والبغضاء بين النصارى دائمة إلى يوم القيامة بقوله: * (ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا
به فأغرينا بينهم العداوة والبغضآء إلى يوم القيامة) * وبين مثل ذلك في اليهود أيضا حيث قال فيهم: * (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضآء إلى يوم القيامة) * والظاهر أنها في اليهود فيما بينهم كما هو صريح السياق خلافا لمن قال: إنها بين اليهود والنصارى.
وصرح تعالى بعدم اتفاق اليهود معللا له بعدم عقولهم في قوله: * (تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) *.
تنبيه
أخذ بعض العلماء من قوله تعالى: * (بعضهم أولياء بعض) * أن اليهودي والنصراني يتوارثان ورده بعض العلماء بأن المراد بالآية ولاية اليهود لخصوص اليهود والنصارى لخصوص النصارى وعلى هذا المعنى فلا دليل في الآية لتوارث اليهود والنصارى.
قوله تعالى: * (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) *.
ذكر في هذه الآية الكريمة أن من تولى اليهود والنصارى من المسلمين فإنه يكون منهم بتوليه إياهم. وبين في موضع آخر أن توليهم موجب لسخط الله والخلود في عذابه وأن متوليهم لو كان مؤمنا ما تولاهم وهو قوله تعالى: * (ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفى العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولاكن كثيرا منهم فاسقون) *
412

. ونهى في موضع آخر عن توليهم مبينا سبب التنفير منه. وهو قوله: * (يا أيها الذين ءامنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور) *.
وبين في موضع آخر: أن محل ذلك فيما إذا لم تكن الموالاة بسبب خوف وتقية وإن كانت بسبب ذلك فصاحبها معذور وهو قوله تعالى: * (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة) * فهذه الآية الكريمة فيها بيان لكل الآيات القاضية بمنع موالاة الكفار مطلقا وإيضاح لأن محل ذلك في حالة الاختيار وأما عند الخوف والتقية فيرخص في موالاتهم بقدر المداراة التي يكتفي بها شرهم ويشترط في ذلك سلامة الباطن من تلك الموالاة. الوافر.
* ومن يأتي الأمور على اضطرار
* فليس كمثل آتيها اختيار
*
ويفهم من ظواهر هذه الآيات أن من تولى الكفار عمدا اختيارا رغبة فيهم أنه كافر مثلهم.
قوله تعالى: * (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ويقول الذين ءامنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين) *.
ذكر في هذه الآية الكريمة أن الذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون يعتذرون عن موالاة الكفار من اليهود بأنهم يخشون أن تدور عليهم الدوائر أي دول الدهر الدائرة من قوم إلى قوم كما قال الشاعر: الوافر:
* إذا ما الدهر جر على أناس
* كلا كله أناخ بآخرينا
*
يعنون إما بقحط فلا يميروننا ولا يتفضلوا علينا وإما بظفر الكفار بالمسلمين فلا يدوم الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه زعما منهم أنهم عند تقلب الدهر بنحو ما ذكر. يكون لهم أصدقاء كانوا محافظين على صداقتهم فينالون منهم ما يؤمل الصديق من صديقه وأن المسلمين يتعجبون من كذبهم في إقسامهم بالله جهد أيمانهم إنهم لمع المسلمين: وبين في هذه الآية: أن تلك الدوائر التي حافظوا من أجلها على صداقة
413

اليهود أنها لا تدور إلا على اليهود والكفار ولا تدور على المسلمين بقوله: * (فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده) * وعسى من الله نافذة لأنه الكريم العظيم الذي لا يطمع إلا فيما يعطي.
والفتح المذكور قيل: هو فتح المسلمين لبلاد المشركين وقيل: الفتح الحكم كقوله * (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) * وعليه فهو حكم الله بقتل مقاتلة بني قريظة وسبي ذراريهم وإجلاء بني النضير وقيل: هو فتح مكة وهو راجع إلى الأول.
وبين تعالى في موضع آخر أن سبب حلفهم بالكذب للمسلمين أنهم منهم إنما هو الفرق أي الخوف وأنهم لو وجدوا محلا يستترون فيه عن المسلمين لسارعوا إليه لشدة بغضهم للمسلمين وهو قوله: * (ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجئا أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون) * ففي هذه الآية بيان سبب أيمان المنافقين ونظيرها قوله: * (اتخذوا أيمانهم جنة) *.
وبين تعالى في موضع آخر أنهم يحلفون تلك الأيمان ليرضى عنهم المؤمنون وأنهم إن رضوا عنهم فإن الله لا يرضى عنهم وهو قوله: * (يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن
ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) *.
وبين في موضع آخر: أنهم يريدون بأيمانهم إرضاء المؤمنين وإن الله ورسوله أحق بالإرضاء وهو قوله: * (يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين) *.
وبين في موضع آخر أنهم يحلفون لهم ليرضوا عنهم بسبب أن لهم عذرا صحيحا وأن الله أمرهم بالإعراض عنهم لا لأن لهم عذرا صحيحا بل مع الإعلام بأنهم رجس ومأواهم النار بسبب ما كسبوا من النفاق وهو قوله: * (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون) *.
وبين في موضع آخر. أن أيمانهم الكاذبة سبب لإهلاكهم أنفسهم وهو قوله:
414

* (وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم الآية) *.
وهذه الأسياب لحلف المنافقين التي ذكرت في هذه الآيات راجعة جميعا إلى السبب الأول الذي هو الخوف. لأن خوفهم من المؤمنين هو سبب رغبتهم في إرضائهم وإعراضهم عنهم بأن لا يؤذوهم ولذا حلفوا لهم ليرضوهم وليعرضوا عنهم خوفا من أذاهم كما هو ظاهر.
تنبيه
قوله في هذه الآية الكريمة: * (ويقول الذين ءامنوا أهؤلاء الذين أقسموا) * فيه ثلاث قراءات سبعيات.
الأولى: * (يقول) *: بلا واو مع الرفع وبها قرأ نافع وابن كثير وابن عامر.
الثانية: * (ويقول) * بإثبات الواو مع رفع الفعل أيضا وبها قرأ عاصم وحمزة والكسائي.
الثالثة: بإثبات الواو ونصب * (يقول) * عطفا على * (أن يأتي بالفتح) * وبها قرأ أبو عمرو.
* (يا أيها الذين ءامنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين الآية) *. أخبر تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة أنهم إن ارتد بعضهم فإن الله يأتي عوضا عن ذلك المرتد بقوم من صفاتهم الذل للمؤمنين والتواضع لهم ولين الجانب والقسوة والشدة على الكافرين وهذا من كمال صفات المؤمنين وبهذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فأمره بلين الجانب للمؤمنين بقوله: * (واخفض جناحك للمؤمنين) * وقوله: * (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) * وأمره بالقسوة على غيرهم بقوله: * (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير) * وأثنى تعالى على نبيه باللين للمؤمنين في قوله: * (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) * وصرح بأن ذلك المذكور من اللين للمؤمنين والشدة على الكافرين من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم بقوله: * (محمد رسول الله والذين
415

معه أشدآء على الكفار رحماء بينهم) *.
وقد قال الشاعر في رسول الله صلى الله عليه وسلم الطويل::
* وما حملت من ناقة فوق رحلها
* أبر وأوفى ذمة من محمد
*
* وأعطى إذا ما طالب العرف جاءه
* وأمضى بحد المشرفي المهند
*
وقال الآخر فيه: الطويل:
* وما حملت من ناقة فوق رحلها
* أشد على أعدائه من محمد
*
ويفهم من هذه الآيات أن المؤمن يجب عليه أن لا يلين إلا في الوقت المناسب للين وألا يشتد إلا في الوقت المناسب للشدة لأن اللين في محل الشدة ضعف وخور والشدة في محل اللين حمق وخرق وقد قال أبو الطيب المتنبي: الطويل:
* إذا قيل حلم قل فللحلم موضع
* وحلم الفتى في غير موضعه جهل
*
* *
قوله تعالى: * (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ومآ أنزل إليهم من ربهم لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) *.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن أهل الكتاب لو أطاعوا الله وأقاموا كتابهم باتباعه والعمل بما فيه ليسر الله لهم الأرزاق وأرسل عليهم المطر وأخرج لهم ثمرات الأرض.
وبين في مواضع أخر أن ذلك ليس خاصا بهم كقوله عن نوح وقومه * (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا) * وقوله عن هود وقومه: * (ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم) * وقوله عن نبينا عليه الصلاة والسلام وقومه * (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى) * وقوله تعالى * (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحييه حياة طيبة) *. على أحد الأقوال وقوله: * (ولو أن أهل القرىءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) *. وقوله: * (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) * وقوله: * (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى) * ومفهوم الآية أن معصية الله تعالى سبب لنقيض ما
416

يستجلب بطاعته وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله: * (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس) * ونحوها من الآيات.
قوله تعالى: * (منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون) *.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن أهل الكتاب قسمان:
طائفة منهم مقتصدة في عملها وكثير منهم سيىء العمل وقسم هذه الأمة إلى ثلاثة أقسام في قوله: * (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير) * ووعد الجميع بالجنة بقوله: * (جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير) *.
وذكر القسم الرابع: وهو الكفار منها بقوله * (والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا) *.
وأظهر الأقوال في المقتصد والسابق والظالم أن المقتصد هو من امتثل الأمر واجتنب النهي ولم يزد على ذلك وأن السابق بالخيرات هو من فعل ذلك وزاد بالتقرب إلى الله بالنوافل والتورع عن بعض الجائزات خوفا من أن يكون سببا لغيره وأن الظالم هو المذكور في قوله: * (خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم) * والعلم عند الله تعالى.
* (قوله تعالى يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك الآية) *.
أمر تعالى في هذه الآية نبيه صلى الله عليه وسلم بتبليغ ما أنزل إليه وشهد له بالامتثال في آيات متعددة كقوله: * (اليوم أكملت لكم دينكم) * وقوله: * (وما على الرسول إلا البلاغ) * وقوله: * (فتول عنهم فمآ أنت بملوم) * ولو كان يمكن أن يكتم شيئا لكتم قوله تعالى: * (وتخفى في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) * فمن زعم أنه صلى الله عليه وسلم كتم حرفا مما أنزل عليه فقد أعظم الافتراء على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم. * () *
قوله تعالى: * (وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون) *.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن بني إسرائيل عموا وصموا مرتين تتخللهما
417

توبة من الله عليهم وبين تفصيل ذلك في قوله: * (وقضينآ إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين) * فبين جزاء عماهم وصممهم في المرة الأولى بقوله: * (فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد) * وبين جزاء عماهم وصممهم في المرة الآخرة بقوله * (فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا) * وبين التوبة التي بينهما بقوله: * (ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا) *. ثم بين أنهم إن عادوا إلى الإفساد عاد إلى الانتقام منهم بقوله: * (وإن عدتم عدنا) * فعادوا إلى الإفساد بتكذبيه صلى الله عليه وسلم وكتم صفاته التي في التوراة فعاد الله إلى الانتقام منهم فسلط عليهم نبيه صلى الله عليه وسلم فذبح مقاتلة بني قريظة وسبى نساءهم وذراريهم وأجلى بني قينقاع وبني النضير. كما ذكر تعالى طرفا من ذلك في سورة الحشر وهذا البيان الذي ذكرنا في هذه الآية ذكره بعض المفسرين وكثير منهم لم يذكره ولكن ظاهر القرآن يقتضيه لأن السياق في ذكر أفعالهم القبيحة الماضية من قتل الرسل وتكذيبهم إذ قبل الآية المذكورة * (كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون) *.
ومعنى * (وحسبوا ألا تكون فتنة) * ظنوا ألا يصيبهم بلاء وعذاب من الله بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء لزعمهم الباطل أنهم أبناء الله وأحباؤه وقوله: * (كثير منهم) * أحسن أوجه الإعراب فيه. أنه بدل من واو الفاعل في قوله: * (عموا وصموا) * كقولك: جاء القوم أكثرهم وقوله: * (ألا تكون فتنة) * قرأه حمزة والكسائي وأبو عمرو بالرفع والباقون بالنصب فوجه قراءة النصب ظاهر لأن الحسبان بمعنى الظن ووجه قراءة الرفع تنزيل اعتقادهم لذلك ولو كان باطلا منزلة العلم. فتكون أن مخففة من الثقيلة والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: * (أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه ة الله غفور رحيم) *.
أشار في هذه الآية إلى أن الذين قالوا: * (إن الله ثالث ثلاثة) * لو تابوا إليه من ذلك لتاب عليهم وغفر لهم لأنه استعطفهم إلى ذلك أحسن استعطاف وألطفه بقوله: * (أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه) * ثم أشار إلى أنهم إن فعلوا ذلك غفر لهم بقوله: * (والله غفور رحيم) * وصرح بهذا المعنى عاما لجميع الكفار بقوله:
418

* (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) *.
قوله تعالى وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام: * () *.
ذكر في هذه الآية الكريمة أن عيسى وأمه كانا يأكلان الطعام وذكر في مواضع أخر أن جميع الرسل كانوا كذلك. كقوله: * (ومآ أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام) * وقوله: * (وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام) * وقوله: * (وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام) * وقوله تعالى: * (يؤفكون) * معنى قوله: * (انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون معنى قوله ذ 75 يؤفكون) * يصرفون عن الحق والمراد بصرفهم عنه قول بعضهم: إن الله هو المسيح بن مريم وقول بعضهم: إن الله ثالث ثلاثة وقول بعضهم: عزيز ابن الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا وعلى من يقول ذلك لعائن الله إلى يوم القيامة فإنهم يقولون هذا الأمر الذي لم يقل أحد أشنع منه ولا أعظم مع ظهور أدلة التوحيد المبينة له ولذا قال تعالى: * (انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون) * على سبيل التعجيب من أمرهم كيف يؤفكون إلى هذا الكفر مع وضوح أدلة التوحيد؟) *
قوله تعالى: * (لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم) *.
قال بعض العلماء: الذين لعنوا على لسان داود الذين اعتدوا في السبت والذين لعنوا على لسان عيسى ابن مريم هم الذين كفروا من أهل المائدة وعليه فلعن الأولين مسخهم قردة كما بينه تعالى بقوله: * (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) * وقوله: * (فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) * ولعن الآخرين هو المذكور في قوله: * (فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين) * وذكر غير واحد أنه مسخهم خنازير وهذا القول مروي عن الحسن وقتادة ومجاهد والباقر نقله الألوسي في تفسيره وقال: واختاره غير واحد ونقله القرطبي عن ابن عباس وقتادة ومجاهد وأبي مالك وذكر أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال بعض من قال بهذا القول: إن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت قال داود عليه الصلاة والسلام: اللهم ألبسهم اللعن مثل الرداء ومثل المنطقة على الحقوين فمسخهم الله قردة وأصحاب المائدة لما كفروا قال عيسى عليه الصلاة والسلام:
419

اللهم عذب من كفر بعدما أكل من المائدة عذابا لم تعذبه أحدا من العالمين والعنهم كما لعنت أصحاب السبت فأصبحوا خنازير.
وأن هذا معنى لعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم وفي الآية أقوال غير هذا تركنا التعرض لها لأنها ليست مما نحن بصدده.
قوله تعالى: * (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولاكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان) *.
قد قدمنا في سورة البقرة أن المراد بما عقدتم الأيمان هو ما قصدتم عقد اليمين فيه لا ما جرى على ألسنتكم من غير قصد نحو لا والله و بلى والله ومنه قول الفرزدق الطويل:
* ولست بمأخوذ بلغو تقوله
* إذا لم تعمد عاقدات العزائم
*
وهذا العقد معنوي ومنه قول الخطيئة: وهذا العقد معنوي ومنه قول الخطيئة:
* قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم
* شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
*
وقرأه حمزة والكسائي وشعبة عن عاصم * (عقدتم) * بالتخفيف بلا ألف. وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر * (عاقدتم) * بألف بوزن فاعل وقرأه الباقون بالتشديد من غير ألف والتضعيف والمفاعلة: معناهما مجرد الفعل بدليل قراءة * (بما عقدتم) * بلا ألف ولا تضعيف والقراءات يبين بعضها بعضا وما في قوله * (بما عقدتم) * مصدرية على التحقيق لا موصولة كما قاله بعضهم زاعما أن ضمير الربط محذوف.
وفي المراد باللغو في الآية أقوال أشهرها عند العلماء اثنان:
الأول: أن اللغو ما يجري على لسان الإنسان من غير قصد كقوله لا والله وبلى والله.
وذهب إلى هذا القول الشافعي وعائشة في إحدى الروايتين عنها وروي عن ابن عمر وابن عباس في أحد قوليه والشعبي وعكرمة في أحد قوليه وعروة بن الزبير وأبي صالح والضحاك في أحد قوليه أبي قلابة والزهري كما نقله عنهم ابن كثير وغيره.
القول الثاني: أن اللغو هو أن يحلف على ما يعتقده فيظهر نفيه: وهذا هو
420

مذهب مالك بن أنس وقال: إنه أحسن ما سمع في معنى اللغو وهو مروي أيضا عن عائشة وأبي هريرة وابن عباس في أحد قوليه وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير ومجاهد في أحد قوليه وإبراهيم النخعي في أحد قوليه والحسن وزرارة بن أوفى وأبي مالك وعطاء الخراساني وبكر بن عبد الله وأحد قولي عكرمة وحبيب بن أبي ثابت والسدي ومكحول ومقاتل وطاوس وقتادة والربيع بن أنس ويحيى بن سعيد وربيعة كما نقله عنهم ابن كثير.
والقولان متقاربان واللغو يشملهما. لأنه في الأول لم يقصد عقد اليمين أصلا وفي الثاني لم يقصد إلا الحق والصواب وغير هذين القولين من الأقوال تركته لضعفه في
نظري واللغو في اللغة: هو الكلام بما لا خير فيه ولا حاجة إليه ومنه حديث: إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة انصت فقد لغوت أو لغيت.
وقول العجاج: الرجز:
* ورب أسراب حجيح كظم
* عن اللغا ورفث التكلم
*
مسائل من أحكام الأيمان
: اعلم أن الأيمان أربعة أقسام: اثنان فيهما الكفارة بلا خلاف واثنان مختلف فيهما.
قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه: الأيمان في الشريعة على أربعة أقسام: قسمان فيهما الكفارة وقسمان لا كفارة فيهما. خرج الدارقطني في سننه حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز حدثنا خلف بن هشام حدثنا عبثر عن ليث عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: الأيمان أربعة يمينان يكفران ويمينان لا يكفران فاليمينان اللذان يكفران فالرجل الذي يحلف: والله لا أفعل كذا وكذا فيفعل والرجل يقول: والله لأفعلن كذا وكذا فلا يفعل واليمينان اللذان لا يكفران فالرجل يحلف: والله ما فعلت كذا وكذا وقد فعل والرجل يحلف: لقد فعلت كذا وكذا ولم يفعله. قال ابن عبد البر: وذكر سفيان الثوري في (جامعه) وذكره المروزي عنه أيضا قال سفيان: الأيمان أربعة يمينان يكفران وهو أن يقول الرجل: والله لا
421

أفعل ثم يفعل أو يقول: والله لأفعلن ثم لا يفعل. ويمينان لا يكفران وهو أن يقول الرجل والله ما فعلت وقد فعل أو يقول والله لقد فعلت وما فعل. قال المروزي: أما اليمينان الأوليان فلا اختلاف فيهما بين العلماء على ما قال سفيان. وأما اليمينان الأخريان فقد اختلف أهل العلم فيهما فإن كان الحالف حلف على أنه لم يفعل كذا وكذا أو أنه فعل كذا وكذا عند نفسه صادقا يرى أنه على ما حلف عليه فلا إثم عليه ولا كفارة عليه في قول مالك وسفيان الثوري وأصحاب الرأي وكذلك قال أحمد وأبو عبيد. وقال الشافعي: لا إثم عليه وعليه الكفارة. قال المروزي: وليس قول الشافعي في هذا بالقوي قال: وإن كان الحالف على أنه لم يفعل كذا وكذا وقد فعل متعمدا للكذب فهو آثم ولا كفارة عليه في قول عامة العلماء. مالك وسفيان الثوري وأصحاب الرأي وأحمد بن حنبل وأبي ثور وأبي عبيد. وكان الشافعي يقول: يكفر. قال: وقد روي عن بعض التابعين مثل قول الشافعي قال المروزي: أميل إلى قول مالك وأحمد اه محل الغرض من القرطبي بلفظه وهو حاصل تحرير المقام في حلف الإنسان لأفعلن أو لا أفعل.
وأما حلفه على وقوع أمر غير فعله أو عدم وقوعه كأن يقول: والله لقد وقع في الوجود كذا أو لم يقع في الوجود كذا فإن حلف على ماض أنه واقع وهو يعلم عدم وقوعه متعمدا الكذب فهي يمين غموس وإن كان يعتقد وقوعه فظهر نفيه فهي من يمين اللغو كما قدمنا وإن كان شاكا فهو كالغموس وجعله بعضهم من الغموس.
وإن حلف على مستقبل لا يدري أيقع أم لا؟ فهو كذلك أيضا يدخل في يمين الغموس وأكثر العلماء على أن يمين الغموس لا تكفر لأنها أعظم إثما من أن تكفرها كفارة اليمين.
وقد قدمنا قول الشافعي بالكفارة فيها وفيها عند المالكية تفصيل وهو وجوب الكفارة في غير المتعلقة بالزمن الماضي واعلم أن اليمين منقسمة أيضا إلى يمين منعقدة على بر ويمين منعقدة على حنث فالمنعقدة على بر هي التي لا يلزم حالفها تحليل اليمين كقوله والله لا أفعل كذا والمنعقدة على حنث هي التي يلزم صاحبها حل اليمين بفعل ما حلف عليه أو بالكفارة كقوله والله لأفعلن كذا ولا يحكم بحنثه
422

في المنعقدة على حنث حتى يفوت إمكان فعل ما حلف عليه إلا إذا كانت موقتة بوقت فيحنث بفواته ولكن إن كانت بطلاق كقوله على طلاقها لأفعلن كذا فإنه يمنع من وطئها حتى يفعل ما حلف عليه لأنه لا يدري أيبر في يمينه أم يحنث؟ ولا يجوز الإقدام على فرج مشكوك فيه عند جماعة من العلماء منهم مالك وأصحابه.
وقال بعض العلماء: لا يمنع من الوطء لأنها زوجته والطلاق لم يقع بالفعل وممن قال به أحمد. المسألة الثانية: اعلم أن اليمين لا تنعقد إلا بأسماء الله وصفاته فلا يجوز القسم بمخلوق لقوله صلى الله عليه وسلم: من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ولا تنعقد يمين بمخلوق كائنا من كان كما أنها لا تجوز بإجماع من يعتد به من أهل العلم وبالنص الصحيح الصريح في منع الحلف بغير الله فقول بعض أهل العلم بانعقاد اليمين به صلى الله عليه وسلم لتوقف إسلام المرء على الإيمان به ظاهر البطلان والله تعالى أعلم. * *
المسألة الثالثة: يخرج من عهدة اليمين بواحد من ثلاثة أشياء:
الأول: إبرارها بفعل ما حلف عليه.
الثاني: الكفارة وهي جائزة قبل الحنث وبعده على التحقيق.
الثالث: الاستثناء بنحو إن شاء الله والتحقيق أنه حل لليمين لا بدل من الكفارة كما زعمه ابن الماجشون ويشترط فيه قصد التلفظ به والاتصال باليمين فلا يقبل الفصل بغير ضروري كالسعال والعطاس وما ذهب إليه ابن عباس وغيره من جواز تراخي الاستثناء.
فالتحقيق فيه أن المراد به أن العبد يلزمه إذا قال لأفعلن كذا أن يقول: إن شاء الله كما صرح به تعالى في قوله: * (ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله) * فإن نسي الاستثناء بأن شاء وتذكره ولو بعد فصل فإنه يقول: إن شاء الله. ليخرج بذلك من عهدة عدم تفويض الأمور إلى الله وتعليقها بمشيئته لا من حيث إنه يحل
اليمين التي مضت وانعقدت.
423

ويدل لهذا أنه تعالى قال لأيوب: * (وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث) * ولو كان تدارك الاستثناء ممكنا لقال له قل: إن شاء الله ويدل له أيضا أنه ولو كان كذلك لما علم انعقاد يمين لإمكان أن يلحقها الاستثناء المتأخر واعلم أن الاستثناء بأن شاء الله يفيد في الحلف بالله إجماعا.
واختلف العلماء في غيره كالحلف بالطلاق والظهار والعتق كأن يقول: إن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله أو أنت علي كظهر أمي إن شاء الله أو أنت حرة إن شاء الله فذهب بعض العلماء إلى أنه لا يفيد في شيء من ذلك لأن هذه ليست أيمانا وإنما هي تعليقات للعتق والظهار والطلاق. والاستثناء بالمشيئة إنما ورد به الشرع في اليمين دون التعليق وهذا مذهب مالك وأصحابه وبه قال الحسن والأوزاعي وقتادة ورجحه ابن العربي وغيره.
وذهب جماعة من العلماء إلى أنه يفيد في ذلك كله وبه قال الشافعي. وأبو حنيفة وطاوس وحماد وأبو ثور كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني وفرق قوم بين الظهار وبين العتق والطلاق لأن الظهار فيه كفارة فهو يمين تنحل بالاستثناء كاليمين بالله والنذر ونقله ابن قدامة في المغني عن أبي موسى وجزم هو به. * *
المسألة الرابعة: لو فعل المحلوف عن فعله ناسيا ففيه للعلماء ثلاثة مذاهب:
الأول: لا حنث عليه مطلقا لأنه معذور بالنسيان والله تعالى يقول: * (وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به) * وقال صلى الله عليه وسلم: * (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) * وهذا الحديث وإن أعله الإمام أحمد وابن أبي حاتم فإن العلماء تلقوه بالقبول قديما وحديثا ويشهد له ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ * (ربنا لا تؤاخذنآ إن نسينآ أو أخطأنا) * قال الله نعم ومن حديث ابن عباس: قال الله قد فعلت وكون من فعل ناسيا لا يحنث هو قول عطاء وعمرو بن دينار وابن أبي نجيح وإسحاق ورواية عن أحمد كما قاله صاحب المغني ووجه هذا القول ظاهر للأدلة التي ذكرنا.
: وذهب قوم إلى أنه يحنث مطلقا وهو مشهور مذهب مالك وبه قال سعيد بن جبير ومجاهد والزهري وقتادة وربيعة وأبو حنيفة وهو أحد قولي الشافعي كما نقله عنهم صاحب
424

المغني ووجه هذا القول عند القائل به أنه فعل ما حلف لا يفعل عمدا فلما كان عامدا للفعل الذي هو سبب الحنث لم يعذر بنسيانه اليمين ولا يخفى عدم ظهوره
الثالث: وذهب قوم إلى الفرق بين الطلاق والعتق وبين غيرهما فلا يعذر بالنسيان في الطلاق والعتق ويعذر به في غيرهما وهذا هو ظاهر مذهب الإمام أحمد كما قاله صاحب المغني قال: واختاره الخلال وصاحبه وهو قول أبي عبيد.
قال مقيده عفا الله عنه: وهذا القول الأخير له وجه من النظر لأن في الطلاق والعتق حقا لله وحقا للآدمي والحالف يمكن أن يكون متعمدا في نفس الأمر ويدعي النسيان لأن العمد من القصود الكامنة التي لا تظهر حقيقتها للناس فلو عذر بادعاء النسيان لأمكن تأدية ذلك إلى ضياع حقوق الآدميين والعلم عند الله تعالى. * *
المسألة الخامسة: إذا حلف لا يفعل أمرا من المعروف كالإصلاح بين الناس ونحوه فليس له الامتناع من ذلك والتعلل باليمين بل عليه أن يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير لقوله تعالى: * (ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس) * أي لا تجعلوا أيمانكم بالله تعالى مانعة لكم من البر وصلة الرحم إذا حلفتم على تركها ونظير الآية قوله تعالى في حلف أبي بكر رضي الله عنه ألا ينفق على مسطح لما قال في عائشة رضي الله عنها ما قال: * (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم) *.
وقوله صلى الله عليه وسلم: والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه متفق عليه من حديث أبي هريرة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها متفق عليه أيضا من حديث أبي موسى.
وقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمان بن سمرة: يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك متفق عليه أيضا والأحاديث في الباب كثيرة. وهذا هو الحق في المسألة خلافا لمن قال
425

: كفارتها تركها متمسكا بأحاديث وردت في ذلك قال أبو داود: والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها: فليكفر عن يمينه وهي الصحاح والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: * (تحرير رقبة) *.
لم يقيد هنا * (رقبة) * كفارة اليمين بالإيمان وقيد به كفارة القتل خطأ.
وهذه من مسائل المطلق والمقيد في حالة اتفاق الحكم مع اختلاف السبب وكثير من العلماء يقولون فيه بحمل المطلق على المقيد فتقيد رقبة اليمين والظهار بالقيد الذي في رقبة القتل خطأ حملا للمطلق على المقيد وخالف في ذلك أبو حنيفة ومن وافقه.
وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب) في سورة النساء عند قوله تعالى: * (فتحرير رقبة مؤمنة) * ولذلك لم نطل الكلام بها هنا والمراد بالتحرير الإخراج من الرق وربما استعملته العرب في الإخراج من الأسر والمشقات وتعب الدنيا ونحو ذلك ومنه قول والدة مريم * (إني نذرت لك ما في بطني محررا) * أي من تعب أعمال الدنيا ومنه قول الفرزدق همام بن غالب التميمي: الكامل:
* أبني غدانة إنني حررتكم
* فوهبتكم لعطية بن جعال
*
يعني حررتكم من الهجاء فلا أهجزكم) *
قوله تعالى: * (يا أيها الذين ءامنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس) *.
يفهم من هذه الآية الكريمة أن الخمر نجسة العين لأن الله تعالى قال: إنها رجس والرجس في كلام العرب كل مستقذر تعافه النفس.
وقيل: إن أصله من الركس وهو العذرة والنتن. قال بعض العلماء: ويدل لهذا مفهوم المخالفة في قوله تعالى في شراب أهل الجنة * (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) * لأن وصفه لشراب أهل الجنة بأنه طهور يفهم منه أن خمر الدنيا ليست كذلك ومما يؤيد هذا أن كل الأوصاف التي مدح بها تعالى خمر الآخرة منفية عن خمر الدنيا كقوله: * (لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون) * وكقوله: * (لا يصدعون عنها ولا ينزفون) * بخلاف خمر الدنيا ففيها غول يغتال العقول
426

وأهلها يصدعون. أي يصيبهم الصداع الذي هو وجع الرأس بسببها وقوله * (لا ينزفون) * على قراءة فتح الزاي مبنيا للمفعول فمعناه: أنهم لا يسكرون والنزيف السكران ومنه قول حميد بن ثور الطويل:
* نزيف ترى ردع العبير يجيبها
* كما ضرج الضاري النزيف المكلما
*
يعني أنها في ثقل حركتها كالسكران وأن حمرة العبير الذي هو الطيب في جيبها كحمرة الدم على الطريد الذي ضرجه الجوارح بدمه: فأصابه نزيف الدم من جرح الجوارح له ومنه أيضا قول امرئ القيس النتقارب:
* وإذ هي تمشي كمشي النزيف
* يصرعه بالكثيب البهر
*
وقوله أيضا: الطويل:
* نزيف إذا قامت لوجه تمايلت
* تراشى الفؤاد الرخص ألا تخترا
*
وقول ابن أبي ربيعة أو جميل: الكامل:
* فلثمت فاها آخذا بقرونها
* شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
*
وعلى قراءة * (ينزفون) * بكسر الزاي مبنيا للفاعل ففيه وجهان من التفسير للعلماء:
أحدهما: أنه من أنزف القوم إذا حان منهم النزف وهو السكر. ونظيره قولهم: أحصد الزرع إذا حان حصاده وأقطف العنب إذا حان قطافه وهذا القول معناه راجع إلى الأول.
والثاني: أنه من أنزف القوم إذا فنيت خمورهم ومنه قول الحطيئة الطويل:
* لعمري لئن أنزفتموا أو صحوتموا
* لبئس الندامى أنتم آل أبحرا
*
وجماهير العلماء على أن الخمر نجسة العين لما ذكرنا وخالف في ذلك ربيعة والليث والمزني صاحب الشافعي وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين كما نقله عنهم القرطبي في تفسيره.
واستدلوا لطهارة عينها بأن المذكورات معها في الآية من مال ميسر ومال قمار وأنصاب وأزلام ليست نجسة العين وإن كانت محرمة الاستعمال.
427

وأجيب من جهة الجمهور بأن قوله * (رجس) * يقتضي نجاسة العين في الكل فما أخرجه إجماع أو نص خرج بذلك وما لم يخرجه نص ولا إجماع لزم الحكم بنجاسته لأن خروج بعض ما تناوله العام بمخصص من المخصصات لا يسقط الاحتجاج به في الباقي كما هو مقرر في الأصول وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود: الرجز:
* وهو حجة لدى الأكثر إن
* مخصص له معينا يبن
*
وعلى هذا فالمسكر الذي عمت البلوي اليوم بالتطيب به المعروف في اللسان الدارجي بالكولانيا نجس لا تجوز الصلاة به ويؤيده أن قوله تعالى في المسكر * (فاجتنبوه) * يقتضي الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء من المسكر وما معه في الآية بوجه من الوجوه كما قاله القرطبي وغيره.
قال مقيده عفا الله عنه: لا يخفى على مصنف أن التضمخ بالطيب المذكور والتلذذ بريحه واستطابته. واستحسانه مع أنه مسكر والله يصرح في كتابة بأن الخمر رجس فيه ما فيه فليس للمسلم أن يتطيب بما يسمع ربه يقول فيه: * (أنه * رجس) * كما هو واضح ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم أمر بإراقة الخمر فلو كانت فيها منفعة أخرى لبينها كما بين جواز الانتفاع بجلود الميتة ولما أراقها.
واعلم أن ما استدل به سعيد بن الحداد القروي على طهارة عين الخمر بأن الصحابة أراقوها في طرق المدينة ولو كانت نجسة لما فعلوا ذلك ولنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما نهاهم عن التخلي في الطرق لا دليل له فيه فإنها لا تعم الطرق بل يمكن التحرز منها لأن المدينة كانت واسعة ولم تكن الخمر كثيرة جدا بحيث تكون نهرا أو سيلا في الطرق يعمها كلها وإنما أريقت في مواضع يسيرة يمكن التحرز منها قاله القرطبي وهو ظاهر.
* (قوله تعالى يا أيها الذين ءامنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) *. هذه الآية الكريمة يفهم من دليل خطابها أي مفهوم مخالفتها أنهم إن حلوا من إحرامهم جاز لهم قتل الصيد وهذا المفهوم مصرح به في قوله تعالى: * (وإذا حللتم فاصطادوا) * يعني إن شئتم كما تقدم إيضاحه في أول هذه السورة الكريمة. * () *.
428

ذهب جمهور العلماء إلى أن معنى هذه الآية الكريمة: * (ومن قتله منكم متعمدا) * لقتله ذاكرا لاحرامه وخالف مجاهد رحمه الله الجمهور قائلا: إن معنى الآية: * (ومن قتله منكم متعمدا) * لقتله في حال كونه ناسيا لإحرامه واستدل لذلك بقوله تعالى: * (ومن عاد فينتقم الله منه) * كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ويكون فيها قرينة دالة على عدم صحة ذلك القول. وإذا عرفت ذلك فاعلم أن في الآية قرينة واضحة دالة على عدم صحة قول مجاهد رحمه الله وهي قوله تعالى: * (ليذوق وبال أمره) * فإنه يدل على أنه متعمد أمرا لا يجوز أما الناسي فهو غير آثم إجماعا فلا يناسب أن يقال فيه: * (ليذوق وبال أمره) * كما ترى والعلم عند الله تعالى. * () * قوله تعالى: * (أحل لكم صيد البحر) *.
ظاهر عموم هذه الآية الكريمة يشمل إباحة صيد البحر للمحرم بحج أو عمرة وهو كذلك كما بينه تخصيصه تعالى تحريم الصيد على المحرم بصيد البر في قوله: * (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) * فإنه يفهم منه أن صيد البحر لا يحرم على المحرم كما هو ظاهر. * *
مسائل تتعلق بالاصطياد في الإحرام أو في الحرم
المسألة الأولى: اجمع العلماء على منع صيد البر للمحرم بحج أو عمرة.
وهذا الإجماع في مأكول اللحم الوحشي كالظبي والغزال ونحو ذلك وتحرم عليه الإشارة إلى الصيد والدلالة عليه لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي قتادة رضي الله عنه أنه كان مع قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حلال وهم محرمون ورسول الله صلى الله عليه وسلم محرم أمامهم فأبصروا حمارا وحشيا وأبو قتادة مشغول يخصف نعله فلم يؤذنوه وأحبوا لو أنه أبصره فأبصره فأسرج فرسه. ثم ركب ونسي سوطه ورمحه فقال لهم: ناولوني السوط والرمح فقالوا: والله لا نعينك عليه فغضب فنزل
429

فأخذهما فركب فشد على الحمار فعقره ثم جاء به وقد مات فوقعوا فيه يأكلونه ثم إنهم شكوا في أكلهم إياه وهم حرم فأدركوا النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه فقررهم على أكله وناوله أبو قتادة عضد الحمار الوحشي فأكل منها صلى الله عليه وسلم ولمسلم هل أشار إليه إنسان أو أمره بشيء قالوا: لا قال: فكلوه.
وللبخاري هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها قالوا: لا قال: فكلوا ما بقي من لحمها وقد أجمع جميع العلماء على أن ما صاده محرم لا يجوز أكله للمحرم الذي صاده ولا لمحرم غيره ولا لحلال غير محرم لأنه ميتة.
واختلف العلماء في أكل المحرم مما صاده حلال على ثلاثة أقوال قيل: لا يجوز له الأكل مطلقا وقيل: يجوز مطلقا وقيل: بالتفصيل بين ما صاده لأجله وما صاده لا لأجله فيمنع الأول دون الثاني.
واحتج أهل القول الأول بحديث الصعب بن جثامة رضي الله عنه أنه أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء أبو بودان فرده عليه فلما رأى ما في وجهه قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم متفق عليه ولأحمد ومسلم لحم حمار وحشي.
واحتجوا أيضا بحديث زيد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدي له عضو من لحم صيد فرده وقال: إنا لا نأكله إنا حرم أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي.
واحتجوا أيضا بعموم قوله تعالى: * (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) * ويروى هذا القول عن علي وابن عباس وابن عمر والليث والثوري وإسحاق وعائشة وغيرهم.
واحتج من قال: بجواز أكل المحرم ما صاده الحلال مطلقا بعموم الأحاديث الواردة بجواز أكل المحرم من صيد الحلال كحديث طلحة بن عبيد الله عند مسلم والإمام أحمد أنه كان في قوم محرمين فأهدي لهم طير وطلحة راقد فمنهم من أكل ومنهم من تورع فلم يأكل فلما استيقظ طلحة رضي الله عنه وافق من أكله وقال: أكلناه مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
وكحديث البهزي واسمه زيد بن كعب أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم في حمار وحشي عقير
430

في بعض وادي الروحاء وهو صاحبه شأنكم بهذا الحمار فأمر صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقسمه في الرفاق وهم محرمون أخرجه الإمامان مالك في موطئه وأحمد في مسنده والنسائي وصححه ابن خزيمة وغيره كما قاله ابن حجر وممن قال بإباحته مطلقا أبو حنيفة وأصحابه.
قال مقيده عفا الله عنه: أظهر الأقوال وأقواها دليلا هو القول المفصل بين ما صيد لأجل المحرم فلا يحل له وبين ما صاده الحلال لا لأجل المحرم فإنه يحل له.
والدليل على هذا أمران:
الأول: أن الجمع بين الأدلة واجب متى ما أمكن لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما ولا طريق للجمع إلا هذه الطريق.
ومن عدل عنها لا بد أن يلغي نصوصا صحيحة.
الثاني: أن جابرا رضي الله عنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي والدارقطني.
وقال الشافعي: هذا أحسن حديث روي في هذا الباب وأقيس فإن قيل في إسناد هذا الحديث عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب عن مولاه المطلب عن جابر وعمرو مختلف فيه قال فيه النسائي: ليس بالقوي في الحديث وإن كان قد روى عنه مالك.
وقال الترمذي في مولاه المطلب أيضا: لا يعرف له سماع من جابر وقال فيه الترمذي أيضا في موضع آخر قال محمد: لا أعرف له سماعا من أحد من الصحابة إلا قوله حدثني من شهد خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالجواب أن هذا كله ليس فيه ما يقتضي رد هذا الحديث لأن عمرا المذكور ثقة وهو من رجال البخاري ومسلم وممن روى عنه مالك بن أنس وكل ذلك يدل على أنه ثقة وقال فيه ابن حجر في (التقريب): ثقة ربما وهم وقال فيه النووي في (شرح المهذب): أما تضعيف عمرو بن أبي عمرو فغير ثابت لأن البخاري ومسلما رويا له في صحيحهما واحتجا به وهما القدوة في هذا الباب
431

.
وقد احتج به مالك وروى عنه وهو القدوة وقد عرف من عادته أنه لا يروي في كتابه إلا عن ثقة وقال أحمد بن حنبل فيه: ليس به بأس وقال أبو زرعة: هو ثقة وقال أبو حاتم: لا بأس به.
وقال ابن عدي: لا بأس به لأن مالكا روى عنه ولا يروي مالك إلا عن صدوق ثقة قلت: وقد عرف أن الجرح لا يثبت إلا مفسرا ولم يفسره ابن معين والنسائي بما يثبت تضعيف عمرو المذكور وقول الترمذي: إن مولاه المطلب بن عبد الله بن حنطب لا يعرف له سماع من جابر وقول البخاري للترمذي: لا أعرف له سماعا من أحد من الصحابة إلا قوله: حدثني من شهد خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في شيء من ذلك ما يقتضي رد روايته لما قدمنا في سورة النساء من أن التحقيق هو الاكتفاء بالمعاصرة.
ولا يلزم ثبوت اللقي وأحرى ثبوت السماع كما أوضحه الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى في مقدمة صحيحه بما لا مزيد عليه مع أن البخاري ذكر في كلامه هذا الذي نقله عنه الترمذي أن المطلب مولى عمرو بن أبي عمرو المذكور صرح بالتحديث ممن سمع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو تصريح بالسماع من بعض الصحابة بلا شك. وقال النووي في (شرح المهذب): وأما إدراك المطلب لجابر. فقال ابن أبي حاتم وروى عن جابر قال: ويشبه أن يكون أدركه هذا هو كلام ابن أبي حاتم فحصل شك في إدراكه ومذهب مسلم بن الحجاج الذي ادعى في مقدمة صحيحه الإجماع فيه أنه لا يشترط في اتصال الحديث اللقاء بل يكتفي بإمكانه والإمكان حاصل قطعا ومذهب علي بن المديني والبخاري والأكثرين اشتراط ثبوت اللقاء فعلى مذهب مسلم الحديث متصل وعلى مذهب الأكثرين يكون مرسلا لبعض كبار التابعين وقد سبق أن مرسل التابعي الكبير يحتج به عندنا إذا اعتضد بقول الصحابة. أو قول أكثر العلماء أو غير ذلك مما سبق.
وقد اعتضد هذا الحديث فقال به من الصحابة رضي الله عنهم من سنذكره في فرع مذاهب العلماء اه كلام النووي فظهرت صحة الاحتجاج بالحديث المذكور على كل التقديرات على مذاهب الأئمة الأربعة. لأن الشافعي منهم هو الذي لا يحتج
432

بالمرسل وقد عرفت احتجاجه بهذا الحديث على تقدير إرساله.
قال مقيده عفا الله عنه: نعم يشترط في قبول رواية (المدلس) التصريح بالسماع والمطلب المذكور مدلس لكن مشهور مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد رحمهم الله تعالى صحة الاحتجاج بالمرسل ولا سيما إذا اعتضد بغيره كما هنا وقد علمت من كلام النووي موافقة الشافعية.
واحتج من قال بأن المرسل حجة بأن العدل لا يحذف الواسطة مع الجزم بنسبة الحديث لمن فوقها إلا وهو جازم بالعدالة والثقة فيمن حذفه حتى قال بعض المالكية: إن المرسل مقدم على المسند. لأنه ما حذف الواسطة في المرسل إلا وهو متكفل بالعدالة والثقة فيما حذف بخلاف المسند فإنه يحيل الناظر عليه ولا يتكفل له بالعدالة والثقة وإلى هذا أشار في (مراقي السعود) بقوله في مبحث المرسل: الرجز:
* وهو حجة ولكن رجحا
* عليه مسند وعكس صححا
*
ومن المعلوم أن من يحتج بالمرسل يحتج بعنعنة المدلس من باب أولى فظهرت صحة الاحتجاج بالحديث المذكور عند مالك وأبي حنيفة وأحمد مع أن هذا الحديث له شاهد عند الخطيب وابن عدي من رواية عثمان بن خالد المخزومي عن مالك بن عمر كما نقله ابن حجر في التلخيص وغيره وهو يقويه.
وإن كان عثمان المذكور ضعيفا لأن الضعيف يقوي المرسل كما عرف في علوم الحديث فالظاهر أن حديث جابر هذا صالح وأنه نص في محل النزاع وهو جمع بين هذه الأدلة بعين الجمع الذي ذكرنا أولا فاتضح بهذا أن الأحاديث الدالة على منع أكل المحرم مما صاده الحلال كلها محمولة على أنه صاده من أجله وأن الأحاديث الدالة على إباحة الأكل منه محمولة على أنه لم يصده من أجله ولو صاده لأجل محرم معين حرم على جميع المحرمين خلافا لمن قال: لا يحرم إلا على ذلك المحرم المعين الذي صيد من أجله.
ويروى هذا عن عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم أو يصد لكم ويدل للأول ظاهر قوله في حديث أبي قتادة هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار لها؟ قالوا: لا قال: فكلوه فمهومه أن إشارة واحد منهم تحرمه عليهم كلهم ويدل له أيضا ما رواه أبو داود عن علي أنه دعي وهو محرم إلى
433

طعام عليه صيد فقال أطعموه حلالا فإنا حرم وهذا مشهور مذهب مالك عند أصحابه مع اختلاف قوله في ذلك. * *
المسألة الثانية: لا تجوز زكاة المحرم للصيد بأن يذبحه مثلا فإن ذبحه فهو ميتة لا يحل أكله لأحد كائنا من كان إذ لا فرق بين قتله بالعقر وقتله بالذبح لعموم قوله تعالى: * (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) * وبهذا قال مالك وأصحابه كما نقله عنهم القرطبي وغيره وبه قال الحسن والقاسم وسالم والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرأي والشافعي في أحد قوليه وقال الحكم والثوري وأبو ثور: لا بأس بأكله قال ابن المنذر: هو بمنزلة ذبيحة السارق.
وقال عمرو بن دينار وأيوب السختياني يأكله الحلال وهو أحد قولي الشافعي كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني وغيره.
واحتج أهل هذا القول بأن من أباحت ذكاته غير الصيد أباحت الصيد كالحلال والظاهر هو ما تقدم من أن ذبح المحرم لا يحل الصيد ولا يعتبر ذكاة له لأن قتل الصيد حرام عليه ولأن ذكاته لا تحل له هو أكله إجماعا وإذا كان الذبح لا يفيد الحل للذابح فأولى وأحرى ألا يفيد لغيره لأن الفرع تبع للأصل في أحكامه فلا يصح أن يثبت له ما لا يثبت لأصله قاله القرطبي وهو ظاهر. * *
المسألة الثالثة: الحيوان البري ثلاثة أقسام: قسم هو صيد إجماعا وهو ما كالغزال من كل وحشي حلال الأكل فيمنع قتله للمحرم وإن قتله فعليه الجزاء. وقسم ليس بصيد إجماعا ولا بأس بقتله وقسم اختلف فيه.
أما القسم الذي لا بأس بقتله وليس بصيد إجماعا فهو الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور.
434

وأما القسم المختلف فيه: فكالأسد والنمر والفهد والذئب وقد روى الشيخان في صحيحهما عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق في الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور.
وفي الصحيحين أيضا عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح ثم عد الخمس المذكورة آنفا ولا شك أن الحية أولى بالقتل من العقرب.
وقد أخرج مسلم عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر محرما بقتل حية بمنى وعن ابن عمر سئل: ما يقتل الرجل من الدواب وهو محرم؟ فقال: حدثتني إحدى نسوة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بقتل الكلب العقور والفأرة والعقرب والحدأة والغراب والحية رواه مسلم أيضا.
والأحاديث في الباب كثيرة والجاري على الأصول تقييد الغراب بالأبقع وهو الذي فيه بياض لما روى مسلم من حديث عائشة في عد الفواسق الخمس المذكورة والغراب الأبقع. والمقرر في الأصول حمل المطلق على المقيد وما أجاب به بعض العلماء من أن روايات الغراب بالإطلاق متفق عليها فهي أصح من رواية القيد بالأبقع لا ينهض إذ لا تعارض بين مقيد ومطلق لأن القيد بيان للمراد من المطلق.
ولا عبرة بقول عطاء ومجاهد بمنع قتل الغراب للمحرم لأنه خلاف النص الصريح الصحيح وقول عامة أهل العلم ولا عبرة أيضا بقول إبراهيم النخعي: إن في قتل الفأرة جزاء لمخالفته أيضا للنص وقول عامة العلماء كما لا عبرة أيضا بقول الحكم وحماد لا يقتل المحرم العقرب ولا الحية ولا شك أن السباع العادية كالأسد والنمر والفهد أولى بالقتل من الكلب لأنها أقوى منه عقرا وأشد منه فتكا.
واعلم أن العلماء اختلفوا في المراد بالكلب العقور فروى سعيد بن منصور عن أبي هريرة بإسناد حسن أنه الأسد قاله ابن حجر وعن زيد بن أسلم أنه قال: وأي كلب أعقر من الحية.
وقال زفر: المراد به هنا الذئب خاصة وقال مالك في الموطأ: كل ما عقر الناس وعدا عليهم وأخافهم مثل الأسد والنمر والفهد والذئب فهو عقور وكذا نقل أبو عبيد عن سفيان وهو قول الجمهور.
وقال أبو حنيفة: المراد بالكلب هنا هو الكلب المتعارف خاصة. ولا يحلق به في هذا الحكم سوى الذئب واحتج الجمهور بقوله تعالى: * (وما علمتم من الجوارح
435

مكلبين) * فاشتقها من اسم الكلب وبقوله صلى الله عليه وسلم في ولد أبي لهب اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فقتله الأسد رواه الحاكم وغيره بإسناد حسن.
قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق أن السباع العادية ليست من الصيد فيجوز قتلها للمحرم وغيره في الحرم وغيره. لما تقرر في الأصول من أن العلة تعمم معلولها لأن قوله العقور علة لقتل الكلب فيعلم منه أن كل حيوان طبعه العقر كذلك.
ولذا لم يختلف العلماء في أن قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بكرة المتفق عليه لا يقضي حكم بين اثنين وهو غضبان أن هذه العلة التي هي في ظاهر الحديث الغضب تعمم معلولها فيمتنع الحكم للقاضي بكل مشوش للفكر مانع من استيفاء النظر في المسائل كائنا ما كان غضبا أو غيره كجوع وعطش مفرطين وحزن وسرور مفرطين وحقن وحقب مفرطين ونحو ذلك وإلى هذا أشار في (مراقي السعود) قوله في مبحث العلة: الرجز وقدتخصص وقد تعمم
* لأصلها لكنها لا تخرم
*
ويدل لهذا ما أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة والإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عما يقتل المحرم فقال: الحية والعقرب والفويسقة ويرمي الغراب ولا يقتله والكلب العقور والحدأة والسبع العادي وهذا الحديث حسنه الترمذي.
وضعف ابن كثير رواية يزيد بن أبي زياد وقال فيه ابن حجر في التلخيص فيه يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف. وفيه لفظة منكرة وهي قوله: ويرمي الغراب ولا يقتله وقال النووي في شرح المهذب: إن صح هذا الخبر حمل قوله هذا على أنه لا يتأكد ندب قتل الغراب كتأكيد قتل الحية وغيرها.
قال مقيده: عفا الله عنه: تضعيف هذا الحديث ومنع الاحتجاج به متعقب من وجهين:
الأول: أنه على شرط مسلم لأن يزيد بن أبي زياد من رجال صحيحه وأخرج له البخاري تعليقا ومنع الاحتجاج بحديث على شرط مسلم لا يخلو من نظر وقد ذكر مسلم في مقدمة صحيحه. أن من أخرج حديثهم في غير الشواهد والمتابعات أقل أحوالهم قبول الرواية فيزيد بن أبي زياد عند مسلم مقبول الرواية وإليه الإشارة بقول
436

العراقي في ألفيته: الرجز:
* فاحتاج أن ينزل في الإسناد
* إلى يزيد بن أبي زياد
*
الوجه الثاني: أنا لو فرضنا ضعف هذا الحديث فإنه يقويه ما ثبت من الأحاديث المتفق عليها من جواز قتل الكلب العقور في الإحرام وفي الحرم والسبع العادي إما أن يدخل في المراد به أو يلحق به إلحاقا صحيحا لأمراء فيه وما ذكره الإمام أبو حنيفة رحمه الله من أن الكلب العقور يلحق به الذئب فقط لأنه أشبه به من غيره لا يظهر لأنه لا شك في أن فتك الأسد والنمر مثلا أشد من عقر الكلب والذئب وليس من الواضح أن يباح قتل ضعيف الضرر ويمنع قتل قويه لأن فيه علة الحكم وزيادة وهذا النوع من الإلحاق من دلالة اللفظ عند أكثر أهل الأصول لا من القياس خلافا للشافعي وقوم كما قدمنا في سورة النساء.
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية ما نصه: قلت: العجب من أبي حنيفة رحمه الله يحمل التراب على البر بعلة الكيل ولا يحمل السباع العادية على الكلب بعلة الفسق والعقر كما فعل مالك والشافعي رحمهما الله.
واعلم أن الصيد عند الشافعي هو مأكول اللحم فقط. فلا شيء عنده في قتل ما لم يؤكل لحمه والصغار منه والكبار عنده سواء إلا المتولد من بين مأكول اللحم وغير مأكوله فلا يجوز اصطياده عنده وإن كان يحرم أكله كالسمع وهو المتولد من بين الذئب والضبع وقال: ليس في الرخمة والخنافس والقردان والحلم وما لا يؤكل لحمه شيء. لأن هذا ليس من الصيد لقوله تعالى: * (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) * فدل أن الصيد الذي حرم عليهم هو ما كان حلالا لهم قبل الإحرام وهذا هو مذهب الإمام أحمد.
أما مالك رحمه الله فذهب إلى أن كل ما لا يعدو من السباع كالهر والثعلب والضبع وما أشبهها لا يجوز قتله. فإن قتله فداه قال: وصغار الذئاب لا أرى أن يقتلها المحرم فإن قتلها فداها وهي مثل فراخ الغربان.
قال مقيده عفا الله عنه: أما الضبع فليست مثل ما ذكر معها لورود النص فيها دون غيرها. بأنها صيد يلزم فيه الجزاء كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ولم يجز مالك للمحرم قتل الزنبور وكذلك النمل والذباب والبراغيث وقال:
437

إن قتلها محرم يطعم شيئا وثبت عن عمر رضي الله عنه إباحة قتل الزنبور وبعض العلماء شبههه بالعقرب وبعضهم يقول: إذا ابتدأ بالأذى جاز قتله وإلا فلا وأقيسها ما ثبت عن عمر بن الخطاب. لأنه مما طبيعته أن يؤذي.
وقد قدمنا عن الشافعي وأحمد وغيرهم أنه لا شيء في غير الصيد المأكول وهو ظاهر القرآن العظيم. * *
المسألة الرابعة: أجمع العلماء على أن المحرم إذا صاد الصيد المحرم عليه فعليه جزاؤه كما هو صريح قوله تعالى: * (فجزآء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره) *.
اعلم أولا أن المراد بقوله * (ومن قتله منكم متعمدا) * أنه متعمد قتله ذاكر إحرامه كما هو صريح الآية. وقول عامة العلماء.
وما فسره به مجاهد من أن المراد أنه متعمد لقتله ناس لإحرامه مستدلا بقوله تعالى بعده: * (ومن عاد فينتقم الله منه) * قال: لو كان ذاكرا لإحرامه لوجبت عليه
العقوبة لأول مرة وقال: إن كان ذاكرا لإحرامه فقد بطل حجه لارتكابه محظور الإحرام غير صحيح ولا ظاهر لمخالفته ظاهر القرآن بلا دليل. ولأن قوله تعالى: * (ليذوق وبال أمره) * يدل على أنه متعمد ارتكاب المحظور والناسي للإحرام غير متعمد محظورا.
إذا علمت ذلك فاعلم أن قاتل الصيد متعمدا عالما بإحرامه عليه الجزاء المذكور في الآية بنص القرآن العظيم وهو قول عامة العلماء خلافا لمجاهد ولم يذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة حكم الناسي والمخطئ.
والفرق بينهما: أن الناسي هو من يقصد قتل الصيد ناسيا إحرامه والمخطئ هو من يرمي غير الصيد كما لو رمى غرضا فيقتل الصيد من غير قصد لقتله.
ولا خلاف بين العلماء أنهما لا أثم عليهما لقوله تعالى: * (وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به) *. ولما قدمنا في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما
438

قرأ * (ربنا لا تؤاخذنآ إن نسينآ أو أخطأنا) * أن الله قال: قد فعلت.
أما وجوب الجزاء عليهما فاختلف فيه العلماء.
فذهب جماعة من العلماء: منهم المالكية والحنفية والشافعية إلى وجوب الجزاء في الخطأ والنسيان لدلالة الأدلة. على أن غرم المتلفات لا فرق فيه بين العامد وبين غيره وقالوا: لا مفهوم مخالفة لقوله متعمدا لأنه جري على الغالب إذ الغالب ألا يقتل المحرم الصيد إلا عامدا وجرى النص على الغالب من موانع اعتبار دليل خطابه أعني مفهوم مخالفته وإليه الإشارة بقول صاحب (مراقي السعود) في موانع اعتبار مفهوم المخالفة: الرجز:
* أو جهل الحكم أو النطق انجلب
* للسؤل أو جرى على الذي غلب
*
ولذا لم يعتبر جمهور العلماء مفهوم المخالفة في قوله تعالى: * (اللاتي في حجوركم) * لجريه على الغالب وقال بعض من قال بهذا القول كالزهري: وجب الجزاء في العمد بالقرآن العظيم وفي الخطأ والنسيان بالسنة قال ابن العربي: إن كان يريد بالسنة الآثار التي وردت عن ابن عباس وعمر فنعما هي وما أحسنها إسوة.
واحتج أهل هذا القول. بأنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الضبع فقال: هي صيد وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشا ولم يقل عمدا ولا خطأ فدل على العموم وقال ابن بكير من علماء المالكية: قوله سبحانه * (متعمدا) * لم يرد به التجاوز عن الخطأ وذكر التعمد لبيان أن الصيد ليس كابن آدم الذي ليس في قتله عمدا كفارة.
وقال القرطبي في تفسيره: إن هذا القول بوجوب الجزاء على المخطئ والناسي والعامد قاله ابن عباس وروي عن عمر وطاوس والحسن وإبراهيم والزهري وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم.
وذهب بعض العلماء إلى أن الناسي والمخطئ لا جزاء عليهما وبه قال الطبري وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين وسعيد بن جبير وأبو ثور وهو مذهب داود وروي أيضا عن ابن عباس وطاوس كما نقله عنهم القرطبي.
واحتج أهل هذا القول بأمرين:
439

الأول: مفهوم قوله تعالى: * (ومن قتله منكم متعمدا) * فإنه يدل على أن غير المتعمد ليس كذلك.
الثاني: أن الأصل براءة الذمة فمن ادعى شغلها فعليه الدليل.
قال مقيده: عفا الله عنه: هذا القول قوي جدا من جهة النظر والدليل. * *
المسألة الخامسة: إذا صاد المحرم الصيد فأكل منه فعليه جزاء واحد لقتله وليس في أكله إلا التوبة والاستغفار وهذا قول جمهور العلماء وهو ظاهر الآية خلافا لأبي حنيفة القائل بأن عليه أيضا جزاء ما أكل يعني قيمته قال القرطبي: وخالفه صاحباه في ذلك ويروى مثل قول أبي حنيفة عن عطاء. * *
المسألة السادسة: إذا قتل المحرم الصيد مرة بعد مرة حكم عليه بالجزاء في كل مرة في قول جمهور العلماء منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم وهو ظاهر قوله تعالى: * (ومن قتله منكم متعمدا) * لأن تكرار القتل يقتضي تكرار الجزاء وقال بعض العلماء: لا يحكم عليه بالجزاء إلا مرة واحدة: فإن عاد لقتله مرة ثانية لم يحكم عليه وقيل له: ينتقم الله منك لقوله تعالى: * (عاد فينتقم الله منه الآية) *.
ويروى هذا القول عن ابن عباس وبه قال الحسن وإبراهيم ومجاهد وشريح كما نقله عنهم القرطبي وروي عن ابن عباس أيضا أنه يضرب حتى يموت. * *
المسألة السابعة: إذا دل المحرم حلالا على صيد فقتله فهل يجب على المحرم جزاء لتسببه في قتل الحلال للصيد بدلالته له عليه أو لا؟ اختلف العلماء في ذلك فذهب الإمام أحمد وأبو حنيفة إلى أن المحرم الدال يلزمه جزاؤه كاملا ويروى نحو ذلك عن علي وابن عباس وعطاء ومجاهد وبكر المزني وإسحاق ويدل لهذا القول سؤال النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه هل أشار أحد منهم إلى أبي قتادة على الحمار الوحشي؟
فإن ظاهره أنهم لو دلوه عليه كان بمثابة ما لو صادوه في تحريم الأكل. ويفهم من
440

ذلك لزوم الجزاء والقاعدة لزوم الضمان للمتسبب إن لم يمكن تضمين المباشر والمباشر هنا لا يمكن تضمينه الصيد. لأنه حلال والدال متسبب وهذا القول هو الأظهر والذين قالوا به منهم من أطلق الدلالة ومنهم من اشترط خفاء الصيد بحيث لا يراه دون الدلالة كأبي حنيفة وقال الإمام الشافعي وأصحابه لا شيء على الدال.
وروي عن مالك نحوه قالوا: لأن الصيد يضمن بقتله وهو لم يقتله وإذا علم المحرم أن الحلال صاده من أجله فأكل منه فعليه الجزاء كاملا عند مالك كما صرح بذلك في
موطئه وأما إذا دل المحرم محرما آخر على الصيد فقتله فقال بعض العلماء: عليهما جزاء واحد بينهما وهو مذهب الإمام أحمد وبه قال عطاء وحماد بن أبي سليمان كما نقله عنهم ابن قدامة في (المغني) وقال بعض العلماء: على كل واحد منهما جزاء كامل وبه قال الشعبي وسعيد بن جبير والحارث العكلي وأصحاب الرأي كما نقله عنهم أيضا صاحب (المغني).
وقال بعض العلماء: الجزاء كله على المحرم المباشر وليس على المحرم الدال شيء وهذا قول الشافعي ومالك وهو الجاري على قاعدة تقديم المباشر على المتسبب في الضمان والمباشر هنا يمكن تضمينه لأنه محرم وهذا هو الأظهر وعليه: فعلى الدال الاستغفار والتوبة وبهذا تعرف حكم ما لو دل محرم محرما ثم دل هذا الثاني محرما ثالثا وهكذا فقتله الأخير إذ لا يخفى من الكلام المتقدم أنهم على القول الأول شركاء في جزاء واحد.
وعلى الثاني على كل واحد منهم جزاء وعلى الثالث لا شيء إلا على من باشر القتل. * *
المسألة الثامنة: إذا اشترك محرمون في قتل صيد بأن باشروا قتله كلهم كما إذا حذفوه بالحجارة العصي حتى مات فقال مالك وأبو حنيفة: على كل واحد منهم جزاء كامل كما لو قتلت جماعة واحدا فإنهم يقتلون به جميعا لأن كل واحد قاتل. وكذلك هنا كل واحد قاتل صيدا فعليه جزاء. وقال الشافعي ومن وافقه: عليهم كلهم جزاء واحد لقضاء عمر وعبد الرحمان قاله القرطبي ثم قال أيضا: وروى الدارقطني أن موالي لابن الزبير أحرموا فمرت بهم ضبع فحذفوها بعصيهم فأصابوها
441

فوقع في أنفسهم فأتوا ابن عمر فذكروا له ذلك فقال: عليكم كلكم كبش قالوا: أو على كل واحد منا كبش قال: إنكم لمعزز بكم عليكم كلكم كبش. قال اللغويون: لمعزز بكم أي لمشدد عليكم.
وروي عن ابن عباس في قوم أصابوا ضبعا فقال: عليهم كبش يتخارجونه بينهم ودليلنا قول الله سبحانه: * (ومن قتله منكم متعمدا فجزآء مثل ما قتل من النعم) *. وهذا خطاب لكل قاتل وكل واحد من القاتلين الصيد قاتل نفسا على التمام والكمال بدليل قتل الجماعة بالواحد ولولا ذلك ما وجب عليهم القصاص. وقد قلنا بوجوبه إجماعا منا ومنهم فثبت ما قلناه.
وقال أبو حنيفة: إذا قتل جماعة صيدا في الحرم وهم محلون فعليهم جزاء واحد بخلاف ما لو قتله المحرمون في الحل أو الحرم فإن ذلك لا يختلف.
وقال مالك: على كل واحد منهم جزاء كامل. بناء على أن الرجل يكون محرما بدخوله الحرم كما يكون محرما بتلبيته بالإحرام وكل واحد من الفعلين قد أكسبه صفة تعلق بها نهي فهو هاتك لها في الحالتين.
وحجة أبي حنيفة ما ذكره القاضي أبو زيد الدبوسي قال: السر فيه أن الجناية في الإحرام على العبادة. وقد ارتكب كل واحد منهم محظور إحرامه.
وإذا قتل المحلون صيدا في الحرم فإنما أتلفوا دابة محترمة بمنزلة ما لو أتلف جماعة دابة فإن كل واحد منهم قاتل دابة. ويشتركون في القيمة قال ابن العربي: وأبو حنيفة أقوى منا وهذا الدليل يستهين به علماؤنا وهو عسير الانفصال علينا اه من القرطبي. * *
المسألة التاسعة: اعلم أن الصيد ينقسم إلى قسمين: قسم له مثل من النعم كبقرة الوحش وقسم لا مثل له من النعم كالعصافير.
وجمهور العلماء يعتبرون المثلية بالمماثلة في الصورة والخلقة وخالف الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى الجمهور فقال: إن المماثلة معنوية وهي القيمة أي قيمة الصيد في المكان الذي قتله فيه أو أقرب موضع إليه إن كان لا يباع الصيد في موضع قتله فيشتري بتلك القيمة هديا إن شاء أو يشتري بها طعاما ويطعم المساكين كل
442

مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر.
واحتج أبو حنيفة رحمه الله بأنه لو كان الشبه من طريق الخلقة والصورة معتبرا في النعامة بدنة وفي الحمار بقرة وفي الظبي شاة لما أوقفه على عدلين يحكمان به لأن ذلك قد علم فلا يحتاج إلى الارتياء والنظر وإنما يفتقر إلى العدلين والنظر ما تشكل الحال فيه ويختلف فيه وجه النظر.
ودليل الجمهور على أن المراد بالمثل من النعم المشابهة للصيد في الخلقة والصورة منها قوله تعالى: * (فجزآء مثل ما قتل من النعم) * فالمثل يقتضي بظاهره المثل الخلقي الصوري دون المعنوي ثم قال: * (من النعم) * فصرح ببيان جنس المثل ثم قال: * (يحكم به ذوا عدل منكم) * وضمير * (به) * راجع إلى المثل من النعم لأنه لم يتقدم ذكر لسواه حتى يرجع إليه الضمير.
ثم قال * (هديا بالغ الكعبة) * والذي يتصور أن يكون هديا مثل المقتول من النعم فأما القيمة فلا يتصور أن تكون هديا ولا جرى لها ذكر في نفس الآية وادعاء أن المراد شراء الهدي بها بعيد من ظاهر الآية فاتضح أن المراد مثل من النعم وقوله لو كان الشبه الخلقي معتبرا لما أوقفه على عدلين؟ أجيب عنه بأن اعتبار العدلين إنما وجب للنظر في حال الصيد من كبر وصغر وما لا جنس له مما له جنس وإلحاق ما لم يقع عليه نص بما وقع عليه النص قاله القرطبي.
قال مقيده عفا الله عنه: المراد بالمثلية في الآية التقريب وإذا فنوع المماثلة قد يكون خفيا لا يطلع عليه إلا أهل المعرفة والفطنة التامة ككون الشاة مثلا للحمامة لمشابهتها لها في عب الماء والهدير.
وإذا عرفت التحقيق في الجزاء بالمثل من النعم فاعلم أن قاتل الصيد مخير بينه وبين الإطعام والصيام كما هو صريح الآية الكريمة لأن أو حرف تخيير وقد قال تعالى: * (أو كفارة طعام مساكين أوعدل ذلك صياما) * وعليه جمهور العلماء.
فإن اختار جزاء بالمثل من النعم وجب ذبحه في الحرم خاصة لأنه حق لمساكين الحرم ولا يجزئ في غيره كما نص عليه تعالى بقوله: * (هديا بالغ الكعبة) * والمراد الحرم كله كقوله: * (ثم محلهآ إلى البيت العتيق) * مع أن المنحر الأكبر مني وإن اختار الطعام فقال مالك: أحسن ما سمعت فيه أنه يقوم الصيد
443

بالطعام فيطعم كل مسكين مدا أو يصوم مكان كل مد يوما.
وقال ابن القاسم عنه: إن قوم الصيد بالدراهم ثم قوم الدراهم بالطعام أجزأه. والصواب الأول. فإن بقي أقل من مد تصدق به عند بعض العلماء وتممه مدا كاملا عند بعض آخر أما إذا صام فإنه يكمل اليوم المنكسر بلا خلاف.
وقال الشافعي: إذا اختار الإطعام أو الصيام فلا يقوم الصيد الذي له مثل وإنما يقوم مثله من النعم بالدراهم ثم تقوم الدراهم بالطعام فيطعم كل مسكين مدا أو يصوم عن كل مد يوما ويتمم المنكسر.
والتحقيق أن الخيار لقاتل الصيد الذي هو دافع الجزاء.
وقال بعض العلماء: الخيار للعدلين الحكمين وقال بعضهم: ينبغي للمحكمين إذا حكما بالمثل أن يخيرا قاتل الصيد بين الثلاثة المذكورة.
وقال بعض العلماء: إذا حكما بالمثل لزمه والقرآن صريح في أنه لا يلزمه المثل من النعم إلا إذا اختاره على الإطعام والصوم للتخيير المنصوص عليه بحرف التخيير في الآية.
وقال بعض العلماء: هي على الترتيب فالواجب الهدي فإن لم يجد فالإطعام فإن لم يجد فالصوم ويروى هذا عن ابن عباس والنخعي وغيرهما ولا يخفى أن في هذا مخالفة لظاهر القرآن بلا دليل.
وقال أبو حنيفة: يصوم عن كل مدين يوما واحدا اعتبارا بفدية الأذى قاله القرطبي. واعلم أن ظاهر هذه الآية الكريمة أنه يصوم عدل الطعام المذكور ولو زاد الصيام عن شهرين أو ثلاثة.
وقال بعض العلماء: لا يتجاوز صيام الجزاء شهرين. لأنهما أعلى الكفارات واختاره ابن العربي وله وجه من النظر ولكن ظاهر الآية يخالفه.
وقال يحيى بن عمر من المالكية: إنما يقال: كم رجلا يشبع من هذا الصيد فيعرف العدد ثم يقال: كم من الطعام يشبه هذا العدد؟ فإن شاء أخرج ذلك الطعام وإن شاء صام عدد أمداده قال القرطبي: وهذا قول حسن احتاط فيه. لأنه قد تكون قيمة الصيد من الطعام قليلة فبهذا النظر يكثر الإطعام.
444

واعلم أن الأنواع الثلاثة واحد منها يشترط له الحرم إجماعا وهو الهدي كما تقدم وواحد لا يشترط له الحرم إجماعا وهو الصوم وواحد اختلف فيه وهو الإطعام. فذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يطعم إلا في الحرم وذهب بعضهم إلى أنه يطعم في موضع إصابة الصيد وذهب بعضهم إلى أنه يطعم حيث شاء. وأظهرها أنه حق لمساكين الحرم. لأنه بدل عن الهدي أو نظير له وهو حق لهم إجماعا كما صرح به تعالى بقوله: * (هديا بالغ الكعبة) * وأما الصوم فهو عبادة تختص بالصائم لا حق فيها لمخلوق فله فعلها في أي موضع شاء.
وأما إن كان الصيد لا مثل له من النعم كالعصافير. فإنه يقوم ثم يعرف قدر قيمته من الطعام فيخرجه لكل مسكين مد أو يصوم عن كل مد يوما.
فتحصل أن ماله مثل من النعم يخير فيه بين ثلاثة أشياء: هي الهدي بمثله والإطعام والصيام. وأن ما لا مثل له يخير فيه بين شيئين فقط: وهما الإطعام والصيام على ما ذكرنا.
واعلم أن المثل من النعم له ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون تقدم فيه حكم من النبي صلى الله عليه وسلم.
الثانية: أن يكون تقدم فيه حكم من عدلين من الصحابة أو التابعين مثلا.
الثالثة: ألا يكون تقدم فيه حكم منه صلى الله عليه وسلم ولا منهم رضي الله عنهم. فالذي حكم صلى الله عليه وسلم فيه لا يجوز لأحد الحكم فيه بغير ذلك وذلك كالضبع فإنه صلى الله عليه وسلم قضى فيها بكبش قال ابن حجر في التلخيص ما نصه: حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الضبع بكبش أخرجه أصحاب السنن وابن حبان وأحمد والحاكم في (المستدرك) من طريق عبد الرحمن بن أبي عمار عن جابر بلفظ سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الضبع فقال: هو صيد ويجعل فيه كبش إذا أصابه المحرم ولفظ الحاكم جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضبع يصيبه المحرم كبشا وجعله من الصيد وهو عند ابن ماجة إلا أنه لم يقل نجديا قال الترمذي: سألت عنه البخاري فصححه وكذا صححه عبد الحق وقد أعل بالوقف. وقال البيهقي: هو حديث جيد تقوم به الحجة ورواه البيهقي من طريق الأجلح عن أبي الزبير عن جابر عن عمر قال: لا أراه إلا قد رفعه أنه حكم في الضبع بكبش. الحديث ورواه الشافعي عن مالك عن أبي الزبير به موقوفا وصحح وقفه من
445

هذا الباب الدارقطني ورواه الدارقطني والحاكم من طريق إبراهيم الصائغ عن عطاء عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الضبع صيد فإذا أصابه المحرم ففيه كبش مسن ويؤكل وفي الباب عن ابن عباس رواه الدارقطني والبيهقي من طريق عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عنه وقد أعل بالإرسال.
ورواه الشافعي من طريق ابن جريج عن عكرمة مرسلا وقال: لا يثبت مثله لو انفرد ثم أكده بحديث ابن أبي عمار المتقدم وقال البيهقي: وروي عن ابن عباس موقوفا أيضا.
قال مقيده عفا الله عنه: قضاؤه صلى الله عليه وسلم بكبش ثابت كما رأيت تصحيح البخاري وعبد الحق له وكذلك البيهقي والشافعي وغيرهم والحديث إذا ثبت صحيحا من وجه لا يقدح فيه الإرسال ولا الوقف من طريق أخرى. كما هو الصحيح عند المحدثين: لأن الوصل والرفع من الزيادات وزيادة العدل مقبولة كما هو معروف وإليه الإشارة بقول صاحب (مراقي السعود): الرجز):
* والرفع والوصل وزيد اللفظ
* مقبولة عند إمام الحفظ.. 00 إلخ 00
*
وأما إن تقدم فيه حكم من عدلين من الصحابة أو ممن بعدهم. فقال بعض العلماء: يتبع حكمهم ولا حاجة إلى نظر عدلين وحكمهما من جديد لأن الله قال: * (يحكم به ذوا عدل منكم) * وقد حكما بأن هذا مثل لهذا.
وقال بعض العلماء: لا بد من حكم عدلين من جديد وممن قال به مالك قال القرطبي: ولو اجتزأ بحكم الصحابة رضي الله عنهم لكان حسنا.
وروي عن مالك أيضا أنه يستأنف الحكم في كل صيد ما عدا حمام مكة وحمار الوحش والظبي والنعامة فيكتفي فيها بحكم من مضى من السلف وقد روي عن عمر أنه حكم هو وعبد الرحمان بن عوف في ظبي بعنز أخرجه مالك والبيهقي وغيرهما. وروي عن عبد الرحمان بن عوف وسعد رضي الله عنهما أنهما حكما في الظبي بتيس أعفر وعن ابن عباس وعمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت ومعاوية وابن مسعود وغيرهم أنهم قالوا: في النعامة بدنة أخرجه البيهقي وغيره. وعن ابن عباس وغيره أن في حمار الوحش والبقرة بقرة وأن في الأيل بقرة.
446

وعن جابر أن عمر قضى في الضبع بكبش وفي الغزال بعنز وفي الأرنب بعناق وفي اليربوع بجفرة أخرجه مالك والبيهقي وروى الأجلح بن عبد الله هذا الأثر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحيح موقوف على عمر كما ذكره البيهقي وغيره وقال البيهقي: وكذلك رواه عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر عن عمر من قوله وعن ابن عباس أنه قضى في الأرنب بعناق وقال هي تمشي على أربع والعناق كذلك وهي تأكل الشجر والعناق كذلك وهي تجتر والعناق كذلك رواه البيهقي.
وعن ابن مسعود أنه قضى في اليربوع بجفر أو جفرة رواه البيهقي أيضا وقال البيهقي: قال أبو عبيد: قال أبو زيد: الجفر من أولاد المعز ما بلغ أربعة أشهر وفصل عن أمه وعن شريح أنه قال: لو كان معي حكم حكمت في الثعلب بجدي وروي عن عطاء أنه قال في الثعلب شاة وروي عن عمر وأربد رضي الله عنهما أنهما حكما في ضب قتله أربد المذكور بجدي قد جمع الماء والشجر رواه البيهقي وغيره.
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه حكم في أم حبين بجلان من الغنم والجلان الجدي رواه البيهقي وغيره.
تنبيه
أقل ما يكون جزاء من النعم عند مالك شاة تجزئ ضحية فلا جزاء عنده بجفرة ولا عناق مستدلا بأن جزاء الصيد كالدية لا فرق فيها بين الصغير والكبير وبأن الله قال: * (هديا بالغ الكعبة) * فلا بد أن يكون الجزاء يصح هديا ففي الضب واليربوع عنده قيمتها طعاما. قال مقيده عفا الله عنه: قول الجمهور في جزاء الصغير بالصغير والكبير بالكبير هو الظاهر وهو ظاهر قوله تعالى * (فجزآء مثل ما قتل من النعم) * قال ابن العربي: وهذا صحيح وهو اختيار علمائنا يعني مذهب الجمهور الذي هو اعتبار الصغر والكبر والمرض ونحو ذلك كسائر المتلفات. * *
المسألة العاشرة: إذا كان ما أتلفه المحرم بيضا فقال مالك: في بيض النعامة
447

عشر ثمن البدنة وفي بيض الحمامة المكية عشر ثمن شاة قال ابن القاسم: وسواء كان فيها فرخ أو لم يكن ما لم يستهل الفرخ بعد الكسر فإن استهل فعليه الجزاء كاملا كجزاء الكبير من ذلك الطير قال ابن الموار بحكومة عدلين وأكثر العلماء يرون في بيض كل طائر قيمته.
قال مقيده عفا الله عنه: وهو الأظهر قال القرطبي: روى عكرمة عن ابن عباس عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بيض نعام أصابه محرم بقدر ثمنه أخرجه الدارقطني وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيضة نعام صيام يوم أو إطعام مسكين قاله القرطبي وإن قتل المحرم فيلا فقيل: فيه بدنة من الهجان العظام التي لها سنامان وإذا لم يوجد شيء من هذه الإبل فينظر إلى قيمته طعاما فيكون عليه ذلك.
قال القرطبي: والعمل فيه أن يجعل الفيل في مركب وينظر إلى منتهى ما ينزل المركب في الماء ثم يخرج الفيل ويجعل في المركب طعام إلى الحد الذي نزل فيه والفيل فيه وهذا عدله من الطعام وأما إن نظر إلى قيمته فهو يكون له ثمن عظيم لأجل عظامه وأنيابه فيكثر الطعام وذلك ضرر اه.
قال مقيده عفا الله عنه: هذا الذي ذكره القرطبي في اعتبار مثل الفيل طعاما فيه أمران:
الأول: أنه لا يقدر عليه غالبا لأن نقل الفيل إلى الماء وتحصيل المركب ورفع الفيل فيه ونزعه منه لا يقدر عليه آحاد الناس غالبا ولا ينبغي التكليف العام إلا بما هو مقدور غالبا لكل أحد.
والثاني: أن كثرة القيمة لا تعد ضررا لأنه لم يجعل عليه إلا قيمة ما أتلف في الإحرام ومن أتلف في الإحرام حيوانا عظيما لزمه جزاء عظيم ولا ضرر عليه لأن عظم الجزاء تابع لعظم الجناية كما هو ظاهر. * *
المسألة الحادية عشرة: أجمع العلماء على أن صيد الحرم المكي ممنوع وأن قطع شجره ونباته حرام إلا الإذخر لقوله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: إن هذا البلد حرام لا يعضد شوكة ولا يختلى خلاه ولا ينفر صيده ولا تلتقط لقطته إلا لمعرف. فقال
448

العباس إلا الإذخر فإنه لا بد لهم منه فإنه للقيون والبيوت فقال: إلا الإذخر متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة قال: لا ينفر صيدها ولا يختلى شوكها ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد فقال العباس: إلا الإذخر فإنا نجعله لقبورنا وبيوتنا فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: إلا الإذخر متفق عليه أيضا. وفي لفظ لا يعضد شجرها بدل قوله لا يختلى شوكها والأحاديث في الباب كثيرة.
واعلم أن شجر الحرم ونباته طرفان وواسطة طرف لا يجوز قطعه إجماعا وهو ما أنبته الله في الحرم من غير تسبب الآدميين وطرف يجوز قطعه إجماعا وهو ما زرعه الآدميون من الزروع والبقول والرياحين ونحوها وطرف اختلف فيه وهو ما غرسه الآدميون من غير المأكول والمشموم كالأثل والعوسج فأكثر العلماء على جواز قطعه.
وقال قوم منهم الشافعي بالمنع وهو أحوط في الخروج من العهدة وقال بعض العلماء: إن نبت أولا في الحل ثم نزع فغرس في الحرم جاز قطعه وإن نبت أولا في الحرم فلا يجوز قطعه ويحرم قطع الشوك والعوسج قال ابن قدامة في (المغني) وقال القاضي وأبو الخطاب: لا يحرم وروي ذلك عن عطاء ومجاهد وعمرو بن دينار والشافعي لأنه يؤذي بطبعه فأشبه السباع من الحيوان.
قال مقيده عفا الله عنه: قياس شوك الحرم على سباع الحيوان مردود من وجهين:
الأول: أن السباع تتعرض لأذى الناس وتقصده بخلاف الشوك.
الثاني: أنه مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: لا يعضد شوكه والقياس المخالف للنص فاسد الاعتبار. قال في (مراقي السعود):: الرجز):
* والخلف للنص أو إجماع دعا
* فساد الاعتبار كل من وعى
*
وفساد الاعتبار قادح مبطل للدليل كما تقرر في الأصول واختلف في قطع اليابس من الشجر والحشيش فأجازه بعض العلماء وهو مذهب الشافعي وأحمد. لأنه كالصيد الميت لا شيء على من قده نصفين وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: ولا يختلى خلاه. لأن الخلا هو الرطب من النبات فيفهم منه أنه لا بأس بقطع اليابس.
449

وقال بعض العلماء: لا يجوز قطع اليابس منه واستدلوا له بأن استثناء الإذخر إشارة إلى تحريم اليابس وبأن في بعض طرق حديث أبي هريرة: ولا يحتش حشيشها والحشيش في اللغة: اليابس من العشب ولا شك أن تركه أحوط.
واختلف أيضا في جواز ترك البهائم ترعى فيه فمنعه أبو حنيفة وروي نحوه عن مالك وفيه عن أحمد روايتان ومذهب الشافعي جوازه واحتج من منعه بأن ما حرم اتلافه لم يجز أن يرسل عليه ما يتلفه كالصيد واحتج من أجازه بأمرين:
الأول: حديث ابن عباس قال: أقبلت راكبا على أتان فوجدت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار فدخلت في الصف وأرسلت الأتان ترتع متفق عليه ومنى من الحرم.
الثاني: أن الهدي كان يدخل الحرم بكثرة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن أصحابه ولم ينقل عن أحد الأمر بسد أفواه الهدي عن الأكل من نبات الحرم. وهذا القول أظهر والله تعالى أعلم.
وممن قال به عطاء واختلف في أخذ الورق والمساويك من شجر الحرم إذا كان أخذ الورق بغير ضرب يضر بالشجرة فمنعه بعض العلماء لعموم الأدلة وأجازه الشافعي لأنه لا ضرر فيه على الشجرة وروي عن عطاء وعمرو بن دينار أنهما رخصا في ورق السنا للاستمشاء بدون نزع أصله والأحوط ترك ذلك كله والظاهر أن من أجازه استدل لذلك بقياسه على الإذخر بجامع الحاجة.
وقال ابن قدامة في (المغني): ولا بأس بالانتفاع بما انكسر من الأغصان وانقلع من الشجر بغير فعل ءادمي ولا ما سقط من الورق نص عليه أحمد ولا نعلم فيه خلافا لأن الخبر إنما ورد في القطع وهذا لم يقطع فأما إن قطعه ءادمي قفال أحمد: لم أسمع إذا قطع أنه ينتفع به وقال في الدوحة تقطع من شبهه بالصيد لم ينتفع بحطبها وذلك لأنه ممنوع من اتلافه لحرمة الحرم فإذا قطعه من يحرم عليه قطعه لم ينتفع به كالصيد يذبحه المحرم.
ويحتمل أن يباح لغير القاطع الانتفاع به لأنه انقطع بغير فعله فأبيح له الانتفاع به كما لو قطعه حيوان بهيمي ويفارق الصيد الذي ذبحه لأن الذكاة تعتبر لها الأهلية ولهذا لا تحصل بفعل بهيمة بخلاف هذا اه.
450

وقال في المغني أيضا: ويباح أخذ الكمأة من الحرم وكذلك الفقع لأنه لا أصل له فأشبه الثمرة وروى حنبل قال: يؤكل من شجر الحرم الضغابيس والعشرق وما سقط من الشجر وما أنبت الناس.
واختلف في عشب الحرم المكي هل يجوز أخذه لعلف البهائم؟ والأصح المنع لعموم الأدلة. فإذا عرفت هذا فاعلم أن الحلال إذا قتل صيدا في الحرم المكي. فجمهور العلماء منهم الأئمة الأربعة وعامة فقهاء الأمصار على أن عليه الجزاء وهو كجزاء المحرم المتقدم إلا أن أبا حنيفة قال: ليس فيه الصوم لأنه إتلاف محض من غير محرم
وخالف في ذلك داود بن علي الظاهري محتجا بأن الأصل براءة الذمة ولم يرد في جزاء صيد الحرم نص فيبقى على الأصل الذي هو براءة الذمة وقوله هذا قوي جدا.
واحتج الجمهور بأن الصحابة رضي الله عنهم قضوا في حمام الحرم المكي بشاة شاة روي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن عمر وابن عباس ولم ينقل عن غيرهم خلافهم فيكون إجماعا سكوتيا واستدلوا أيضا بقياسه على صيد المحرم بجامع أن الكل صيد ممنوع لحق الله تعالى وهذا الذي ذكرنا عن جمهور العلماء من أن كل ما يضمنه المحرم يضمنه من في الحرم يستثنى منه شيئان:
الأول: منهما القمل فإنه مختلف في قتله في الإحرام وهو مباح في الحرم بلا خلاف.
والثاني: الصيد المائي مباح في الإحرام بلا خلاف واختلف في اصطياده من آبار الحرم وعيونه وكرهه جابر بن عبد الله لعموم قوله عليه الصلاة والسلام لا ينفر صيدها فيثبت حرمة الصيد لحرمة المكان وظاهر النص شمول كل صيد ولأنه صيد غير مؤذ فأشبه الظباء وأجازه بعض العلماء محتجا بأن الإحرام لم يحرمه فكذلك الحرم وعن الإمام أحمد روايتان في ذلك بالمنع والجواز.
وكذلك اختلف العلماء أيضا في شجر الحرم المكي وخلاه هل يجب على من قطعهما ضمان؟
451

فقالت جماعة من أهل العلم منهم مالك وأبو ثور وداود: لا ضمان في شجره ونباته وقال ابن المنذر: لا أجد دليلا أوجب به في شجر الحرم فرضا من كتاب ولا سنة ولا إجماع وأقول كما قال مالك: نستغفر الله تعالى.
والذين قالوا بضمانه منهم الشافعي وأحمد وأبو حنيفة إلا أن أبا حنيفة قال: يضمن كله بالقيمة وقال الشافعي وأحمد: يضمن الشجرة الكبيرة ببقرة والصغيرة بشاة والخلا بقيمته والغصن بما نقص فإن نبت ما قطع منه فقال بعضهم: يسقط الضمان وقال بعضهم بعدم سقوطه.
واستدل من قال في الدوحة بقرة وفي الشجرة الجزلة شاة بآثار رويت في ذلك عن بعض الصحابة كعمر وابن عباس والدوحة: هي الشجرة الكبيرة والجزلة: الصغيرة.
المسألة الثانية عشرة: حرم المدينة اعلم أن جماهير العلماء على أن المدينة حرم أيضا لا ينفر صيدها ولا يختلى خلاها وخالف أبو حنيفة الجمهور فقال: إن حرم المدينة ليس بحرم على الحقيقة ولا تثبت له أحكام الحرم من تحريم قتل الصيد وقطع الشجر والأحاديث الصحيحة الصريحة ترد هذا القول وتقضي بأن ما بين لابتي المدينة حرم ولا ينفر صيده ولا يختلي خلاه إلا لعلف فمن ذلك حديث عبد الله بن زيد بن عاصم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة الحديث متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى متفق عليه أيضا وكان أبو هريرة يقول: لو رأيت الظباء ترتع في المدينة ما ذعرتها: وعن أبي هريرة أيضا في المدينة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرم شجرها أن يخبط أو يعضد رواه الإمام أحمد وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف على المدينة فقال: اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم إبراهيم مكة اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم متفق عليه.
وللبخاري عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المدينة حرام من كذا إلى كذا لا يقطع شجرها ولا يحدث فيها حدث من أحدث فيها فعليه لعنة الله والملائكة والناس
452

أجمعين ولمسلم عن عاصم الأحول قال: سألت أنسا أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؟ فقال: نعم هي حرام لا يختلى خلاها الحديث.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني حرمت المدينة حرام ما بين مأزميها ألا يهراق فيها دم ولا يحمل فيها سلاح ولا يخبط فيها شجر إلا لعلف رواه مسلم.
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها لا يقطع عضاهها ولا يصاد صيدها رواه مسلم أيضا.
وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة حرام ما بين عير إلى ثور الحديث متفق عليه.
وعن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة لا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشاد بها ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال ولا يصح أن تقطع فيها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره رواه أبو داود بإسناد صحيح ورواه الإمام أحمد وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها أو يقتل صيدها.
وقال: المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون لا يخرج عنها أحد رغبة إلا أبدل الله فيها من هو خير منه ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة رواه مسلم.
وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها رواه مسلم أيضا.
وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: أهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى المدينة فقال: إنها حرم آمن رواه مسلم في صحيحه أيضا.
وعن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه أبي سعيد رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إني حرمت ما بين لابتي المدينة كما حرم إبراهيم مكة.
قال: وكان أبو سعيد الخدري يجد في يد أحدنا الطير فيأخذه فيفكه من يده ثم
453

يرسله رواه مسلم في صحيحه أيضا وعن عبد الله بن عبادة الزرقي أنه كان يصيد العصافير في بئر إهاب وكانت لهم قال: فرآني عبادة وقد أخذت عصفورا فانتزعه مني فأرسله وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرم ما بين لابتيها كما حرم إبراهيم عليه السلام مكة وكان عبادة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه البيهقي.
وعن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: اصطدت طيرا بالقنبلة فخرجت به في يدي فلقيني أبي عبد الرحمان بن عوف فقال: ما هذا في يدك؟ فقلت:
طير اصطدته بالقنبلة فعرك أذني عركا شديدا وانتزعه من يدي فأرسله فقال: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم صيد ما بين لابتيها رواه البيهقي أيضا والقنبلة: آلة يصاد بها النهس وهو طائر.
وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه وجد غلمانا قد ألجؤوا ثعلبا إلى زاوية فطردهم عنه قال مالك: ولا أعلم إلا أنه قال: أفي حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع هذا رواه البيهقي أيضا.
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه وجد رجلا بالأسواف وهو موضع بالمدينة وقد اصطاد نهسا فأخذه زيد من يده فأرسله ثم قال: أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم صيد ما بين لابتيها رواه البيهقي والرجل الذي اصطاد النهس هو شرحبيل بن سعد والنهس بضم النون وفتح الهاء بعدهما سين مهملة طير صغير فوق العصفور شبيه بالقنبرة.
والأحاديث في الباب كثيرة جدا ولا شك في أن النصوص الصحيحة الصريحة التي أوردنا في حرم المدينة لا شك معها ولا لبس في أنها حرام لا ينفر صيدها ولا يقطع شجرها ولا يختلي خلاها إلا لعلف وما احتج به بعض أهل العلم على أنها غير حرام من قوله صلى الله عليه وسلم ما فعل النعير يا أبا عمير لا دليل فيه لأنه محتمل لأن يكون ذلك قبل تحريم المدينة ومحتمل المدينة ومتحمل لأن يكون صيد في الحل ثم أدخل المدينة.
وقد استدل به بعض العلماء على جواز إمساك الصيد الذي صيد في الحل وإدخاله المدينة وما كان محتملا لهذه الاحتمالات لا تعارض به النصوص الصريحة الصحيحة الكثيرة التي لا لبس فيها ولا احتمال فإذا علمت ذلك فاعلم أن العلماء القائلين بحرمة المدينة وهم جمهور علماء الأمة اختلفوا في صيد حرم المدينة هل يضمنه قاتله أو لا؟
454

وكذلك شجرها فذهب كثير من العلماء منهم مالك والشافعي في الجديد وأصحابهما وهو إحدى الروايتين عن أحمد وعليه أكثر أهل العلم إلى أنه موضع يجوز دخوله بغير إحرام فلم يجب فيه جزاء كصيد وج.
واستدلوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم المدينة حرم ما بين عير وثور فمن أحدث فيها حدثا أو آوى فيها محدثا فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا فذكره صلى الله عليه وسلم لهذا الوعيد الشديد في الآخرة ولم يذكر كفارة في الدنيا دليل على أنه لا كفارة تجب فيه في الدنيا وهو ظاهر.
وقال ابن أبي ذئب وابن المنذر: يجب في صيد الحرم المدني الجزاء الواجب في صيد الحرم المكي وهو قول الشافعي في القديم. واستدل أهل هذا القول بأنه صلى الله عليه وسلم صرح في الأحاديث الصحيحة المتقدمة بأنه حرم المدينة مثل تحريم إبراهيم لمكة ومماثلة لتحريمها تقتضي استواءهما في جزاء من انتهك الحرمة فيهما.
قال القرطبي قال القاضي عبد الوهاب: وهذا القول أقيس عندي على أصولنا لا سيما أن المدينة عند أصحابنا أفضل من مكة وأن الصلاة فيها أفضل من الصلاة في المسجد الحرام اه.
قال مقيده عفا الله عنه: ومذهب الجمهور في تفضيل مكة وكثرة مضاعفة الصلاة فيها زيادة على المدينة بمائة ضعف أظهر لقيام الدليل عليه والله تعالى أعلم.
وذهب بعض من قال بوجوب الجزاء في الحرم المدني إلى أن الجزاء فيه هو أخذ سلب قاتل الصيد أو قاطع الشجر فيه.
قال مقيده عفا الله عنه: وهذا القول هو أقوى الأقوال دليلا. لما رواه مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه ركب إلى قصره بالعقيق فوجد عبدا يقطع شجرا أو يخبطه فسلبه فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم فقال: معاذ الله أن أرد شيئا نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى أن يرده عليهم رواه مسلم في صحيحه وأحمد وما ذكره القرطبي في تفسيره رحمه الله من أن هذا الحكم خاص بسعد رضي الله عنه مستدلا بأن قوله نفلنيه أي أعطانيه ظاهر في الخصوص به دون غيره فيه عندي أمران:
455

الأول: أن هذا لا يكفي في الدلالة على الخصوص لأن الأصل استواء الناس في الأحكام الشرعية إلا بدليل وقوله نفلنيه ليس بدليل لاحتمال أنه نفل كل من وجد قاطع شجر أو قاتل صيد بالمدينة ثيابه كما نفل سعدا وهذا هو الظاهر.
الثاني: أن سعدا نفسه روي عنه تعميم الحكم وشموله لغيره فقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن سليمان بن أبي عبد الله قال: رأيت سعد بن أبي وقاص أخذ رجلا يصيد في حرم المدينة الذي حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلبه ثيابه فجاء مواليه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم هذا الحرم وقال: من رأيتموه يصيد فيه شيئا فلكم سلبه. فلا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن إن شئتم أن أعطيكم ثمنه أعطيتكم وفي لفظ من أخذ أحدا يصيد فيه فليسلبه ثيابه وروى هذا الحديث أيضا الحاكم وصححه وهو صريح في العموم وعدم الخصوص بسعد كما ترى وفيه تفسير المراد بقوله نفلنيه وأنه عام لكل من وجد أحدا يفعل فيها ذلك.
وتضعيف بعضهم لهذا الحديث بأن في إسناده سليمان بن أبي عبد الله غير مقبول لأن سليمان بن أبي عبد الله مقبول قال فيه الذهبي: تابعي موثق قال فيه ابن حجر في (التقريب): مقبول.
والمقبول عنده كما بينه في مقدمة تقريبه: هو من ليس له من الحديث إلا القليل ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله فهو مقبول حيث يتابع وإلا فلين الحديث وقال فيه ابن أبي حاتم: ليس بمشهور ولكن يعتبر بحديثه اه.
وقد تابع سليمان بن أبي عبد الله في هذا الحديث عامر بن سعد عند مسلم وأحمد ومولى لسعد عند أبي داود وكلهم عن سعد رضي الله عنه فاتضح رد تضعيفه مع ما قدمنا من أن الحاكم صححه وأن الذهبي قال فيه: تابعي موثق.
والمراد بسلب قاطع الشجر أو قاتل الصيد في المدينة أخذ ثيابه. قال بعض العلماء: حتى سراويله.
والظاهر ما ذكره بعض أهل العلم من وجوب ترك ما يستر العورة المغلظة والله تعالى أعلم.
وقال بعض العلماء: السلب هنا سلب القاتل وفي مصرف هذا السلب ثلاثة أقوال:
456

أصحها: أنه للسالب كالقتيل ودليله حديث سعد المذكور.
والثاني: أنه لفقراء المدينة.
والثالث: أنه لبيت المال والحق الأول.
وجمهور العلماء على أن حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تقدم في حديث أبي هريرة المتفق عليه أن قدره اثنا عشر ميلا من جهات المدينة لا يجوز قطع شجره ولا خلاه كما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يخبط ولا يعضد حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن يهش هشا رفيقا أخرجه أبو داود والبيهقي ولم يضعفه أبو داود والمعروف عن أبي داود رحمه الله إنه إن سكت عن الكلام في حديث فأقل درجاته عنده الحسن.
وقال النووي في شرح المهذب بعد أن ساق حديث جابر المذكور: رواه أبو داود بإسناد غير قوي لكنه لم يضعفه اه ويعتضد هذا الحديث بما رواه البيهقي بإسناده عن محمد بن زياد قال: كان جدى مولي لعثمان بن مظعون وكان يلي أرضا لعثمان فيها بقل وقثاء. قال: فربما أتاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه نصف النهار واضعا ثوبه على رأسه يتعاهد الحمى ألا يعضد شجره ولا يخبط. قال: فيجلس إلي فيحدثني وأطعمه من القثاء والبقل فقال له يوما: أراك لا تخرج من ها هنا. قال: قلت: أجل. قال: إني أستعملك على ما ها هنا فمن رأيت يعضد شجرا أو يخبط فخذ فأسه وحبله قال: قلت آخذ رداءه قال: لا وعامة العلماء على أن صيد الحمى المذكور غير حرام لأنه ليس بحرم وإنما هو حمى حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم للخيل وإبل الصدقة والجزية ونحو ذلك.
واختلف فيه شجر الحمى هل يضمنه قاطعه؟ والأكثرون على أنه لا ضمان فيه وأصح القولين عند الشافعية وجوب الضمان فيه بالقيمة ولا يسلب قاطعه وتصرف القيمة في مصرف نعم الزكاة والجزية. * *
المسألة الثالثة عشرة: اعلم أن جماهير العلماء على إباحة صيد وج وقطع شجره. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: أكره صيد وج وحمله المحققون من أصحابه على كراهة التحريم.
457

واختلفوا فيه على القول بحرمته هل فيه جزاء كحرم المدينة أو لا شيء فيه؟ ولكن يؤدب قاتله وعليه أكثر الشافعية.
وحجة من قال بحرمة صيدوج ما رواه أبو داود وأحمد والبخاري في تاريخه عن الزبير بن العوام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صيد وج محرم الحديث.
قال ابن حجر في (التلخيص): سكت عليه أبو داود وحسنه المنذري وسكت عليه عبد الحق فتعقبه ابن القطان بما نقل عن البخاري أنه لم يصح وكذا قال الأزدي.
وذكر الذهبي أن الشافعي صححه وذكر الخلال أن أحمد ضعفه وقال ابن حبان في رواية المنفرد به وهو محمد بن عبد الله بن إنسان الطائفي كان يخطئ ومقتضاه تضعيف الحديث فإنه ليس له غيره فإن كان أخطأ فيه فهو ضعيف وقال العقيلي: لا يتابع إلا من جهة تقاربه في الضعف وقال النووي في شرح المهذب: إسناده ضعيف.
وذكر البخاري في تاريخه في ترجمة عبد الله بن إنسان أنه لا يصح.
وقال ابن حجر في (التقريب) في محمد بن عبد الله بن إنسان الثقفي الطائفي المذكور: لين الحديث وكذلك أبوه عبد الله الذي هو شيخه في هذا الحديث: قال فيه أيضا: لين الحديث وقال ابن قدامة في المغني في هذا الحديث في صيد وج: ضعفه أحمد ذكره الخلال في كتاب (العلل) فإذا عرفت هذا ظهر لك أن حجة الجمهور في إباحة صيد وج وشجرة كون الحديث لم يثبت والأصل براءة الذمة ووج بفتح الواو وتشديد الجيم أرض بلدة بالطائف. وقال بعض العلماء: هو واد بصحراء الطائف وليس المراد به نفس بلدة الطائف. وقيل: هو كل أرض الطائف وقيل هو اسم لحصون الطائف وقيل لواحد منها وربما التبس وج المذكور بوح بالحاء المهملة وهي ناحية نعمان: فإذا عرفت حكم صيد المحرم وحكم صيد مكة والمدينة ووج مما ذكرنا فاعلم أن الصيد المحرم إذا كان بعض قوائمه في الحل وبعضها في الحرم أو كان على غصن ممتد في الحل وأصل شجرته في الحرم فاصطياده حرام على التحقيق تغليبا
458

لجانب حرمة الحرم فيهما.
أما إذا كان أصل الشجرة في الحل وأغصانها ممتدة في الحرم فاصطاد طيرا واقعا على الأغصان الممتدة في الحرم فلا إشكال في أنه مصطاد في الحرم لكون الطير في هواء الحرم.
واعلم أن ما ادعاه بعض الحنفية من أن أحاديث تحديد حرم المدينة مضطربة لأنه وقع في بعض الروايات باللابتين وفي بعضها بالحرتين وفي بعضها بالجبلين وفي بعضها بالمأزمين وفي بعضها بعير وثور غير صحيح لظهور الجمع بكل وضوح. لأن اللابتين هما الحرتان المعروفتان وهما حجارة سود على جوانب المدينة والجبلان هما المأزمان وهما عير وثور والمدينة بين الحرتين كما أنها أيضا بين ثور وعير كما يشاهده من نظرها. وثور جبيل صغير يميل إلى الحمرة بتدوير خلف أحد من جهة الشمال.
فمن ادعى من العلماء أنه ليس في المدينة جبل يسمى ثورا فغلط منه. لأنه معروف عند الناس إلى اليوم مع أنه ثبت في الحديث الصحيح.
واعلم أنه على قراءة الكوفيين * (فجزآء مثل) *. بتنوين جزاء ورفع مثل فالأمر واضح وعلى قراءة الجمهور * (فجزآء مثل) * بالإضافة فأظهر الأقوال أن الإضافة بيانية أي جزاء هو مثل ما قتل من النعم فيرجع معناه إلى الأول والعلم عند الله تعالى قوله تعالى. * (يا أيها الذين ءامنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) *. قد يتوهم الجاهل من ظاهر هذه الآية الكريمة عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولكن نفس الآية فيها الإشارة إلى أن ذلك فيما إذا بلغ جهده فلم يقبل منه المأمور وذلك في قوله * (إذا اهتديتم) * لأن من ترك الأمر بالمعروف لم يهتد وممن قال بهذا حذيفة وسعيد بن المسيب كما نقله عنهما الألوسي في تفسيره وابن جرير ونقله القرطبي عن سعيد بن المسيب وأبي عبيد القاسم بن سلام ونقل نحوه ابن جرير عن جماعة من الصحابة منهم ابن عمر وابن مسعود.
فمن العلماء من قال: * (إذا هتديتم) * أي أمرتم فلم يسمع منكم ومنهم من قال: يدخل الأمر بالمعروف في المراد بالاهتداء في الآية وهو ظاهر جدا ولا ينبغي
459

العدول عنه لمنصف.
ومما يدل على أن تارك الأمر بالمعروف غير مهتد أن الله تعالى أقسم أنه في خسر في قوله تعالى: * (والعصر إن الإنسان لفى خسر إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) * فالحق وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبعد أداء الواجب لا يضر الآمر ضلال من ضل. وقد دلت الآيات كقوله تعالى: * (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خآصة) * والأحاديث على أن الناس إن لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر عمهم الله بعذاب من عنده.
فمن ذلك ما خرجه الشيخان في صحيحهما عن أم المؤمنين أم الحكم زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا مرعوبا يقول: لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث.
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا أخرجه البخاري والترمذي. وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية * (يا أيها الذين ءامنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) * وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن رأى الناس الظالم فلم يأخذوا على يده أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه رواه أبو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشربيه وقعيده فلما فعلوا
460

ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال: * (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفى العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولاكن كثيرا منهم فاسقون) * ثم قال: كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم ليلعننكم كما لعنهم.
رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن وهذا لفظ أبي داود ولفظ الترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكئا فقال: لا والذي نفسي بيده حتى يأطروهم على الحق أطرا.
ومعنى تأطروهم أي تعطفوهم ومعنى تقصرونه: تحبسونه والأحاديث في الباب كثيرة جدا وفيها الدلالة الواضحة على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل في قوله * (إذا اهتديتم) * ويؤيده كثرة الآيات الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كقوله تعالى: * (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) * وقوله * (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) *. وقوله: * (لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) * وقوله: * (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) * وقوله: * (فاصدع بما تؤمر) * وقوله: * (أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون) * وقوله: * (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خآصة) *.
والتحقيق في معناها أن المراد بتلك الفتنة التي تعم الظالم وغيره هي أن الناس
461

إذا رأوا المنكر فلم يغيروه عمهم الله بالعذاب صالحهم وطالحهم وبه فسرها جماعة من أهل العلم والأحاديث الصحيحة شاهدة لذلك كما قدمنا طرفا منها.
مسائل تتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
المسألة الأولى: اعلم أن كلا من الآمر والمأمور يجب عليه اتباع الحق المأمور به وقد دلت السنة الصحيحة على أن من يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهي عن المنكر ويفعله أنه حمار من حمر جهنم يجر أمعاءه فيها.
وقد دل القرآن العظيم على أن المأمور المعرض عن التذكرة حمار أيضا أما السنة المذكورة فقوله صلى الله عليه وسلم يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق
أقتابه فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه فيطيف به أهل النار فيقولون: أي فلان ما أصابك ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
ومعنى تندلق أقتابه: تتدلى أمعاؤه أعاذنا الله والمسلمين من كل سوء وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ليلة أسرى بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت رجعت فقلت لجبريل: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء من أمتك كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون أخرجه الإمام أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية وابن حيان وابن مردويه والبيهقي كما نقله عنهم الشوكاني وغيره. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه جاءه رجل فقال له: يا ابن عباس إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر فقال ابن عباس: أو بلغت ذلك؟ فقال أرجو قال: فإن لم تخش أن تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله فافعل قال: وما هي؟ قال قوله تعالى: * (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) * وقوله تعالى: * (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) * وقوله تعالى عن العبد الصالح شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام * (ومآ أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) *
462

أخرجه البيهقي في شعب الإيمان وابن مردويه وابن عساكر كما نقله عنهم أيضا الشوكاني وغيره.
واعلم أن التحقيق أن هذا الوعيد الشديد الذي ذكرنا من اندلاق الأمعاء في النار وقرض الشفاه بمقاريض النار ليس على الأمر بالمعروف. وإنما هو على ارتكابه المنكر عالما بذلك ينصح الناس عنه فالحق أن الأمر بالمعروف غير ساقط عن صالح ولا طالح والوعيد على المعصية لا على الأمر بالمعروف لأنه في حد ذاته ليس فيه إلا الخير ولقد أجاد من قال: الكامل:
* لا تنه عن خلق وتأتي مثله
* عار عليك إذا فعلت عظيم
*
وقال الآخر: الطويل:
* وغير تقي يأمر الناس بالتقى
* طبيب يداوي الناس وهو مريضا
*
وقال الآخر: وقال الآخر:
* فإنك إذ ما تأت ما أنت آمر
* به تلف من إياه تأمر آتيا
*
وأما الآية الدالة على أن المعرض عن التذكير كالحمار أيضا فهي قوله تعالى * (فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة) * والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب فيجب على المذكر بالكسر والمذكر بالفتح أن يعملا بمقتضى التذكرة وأن يتحفظا عن عدم المبالاة بها لئلا يكونا حمارين من حمر جهنم. * *
المسألة الثانية: يشترط في الآمر بالمعروف أن يكون له علم يعلم به أن ما يأمر به معروف وأن ما ينهى عنه منكر لأنه إن كان جاهلا بذلك فقد يأمر بما ليس بمعروف وينهي عما ليس بمنكر ولا سيما في هذا الزمن الذي عم فيه الجهل وصار فيه الحق منكرا والمنكر معروفا والله تعالى يقول * (قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) * فدل على أن الداعي إلى الله لا بد أن يكون على بصيرة وهي الدليل الواضح الذي لا لبس في الحق معه وينبغي أن تكون دعوته إلى الله بالحكمة وحسن الأسلوب واللطافة مع إيضاح الحق. لقوله تعالى * (ادع
463

إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) * فإن كانت دعوته إلى الله بقسوة وعنف وخرق فإنها تضر أكثر مما تنفع فلا ينبغي أن يسند الأمر بالمعروف إسنادا مطلقا إلا لمن جمع بين العلم والحكمة والصبر على أذى الناس لأن الأمر بالمعروف وظيفة الرسل وأتباعهم وهو مستلزم للأذى من الناس لأنهم مجبولون بالطبع على معاداة من يتعرض لهم في أهوائهم الفاسدة وأغراضهم الباطلة ولذا قال العبد الصالح لقمان الحكيم لولده فيما قص الله عنه: * (وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك الآية) * ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لورقة بن نوفل أو مخرجي هم؟ يعني قريشا أخبره ورقة أن هذا الدين الذي جاء به لم يأت به أحد إلا عودي وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ما ترك الحق لعمر صديقا واعلم أنه لا يحكم على الأمر بأنه منكر إلا إذا قام على ذلك دليل من كتاب الله تعالى أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم أو إجماع المسلمين.
وأما إن كان من مسائل الاجتهاد فيما لا نص فلا يحكم على أحد المجتهدين المختلفين بأنه مرتكب منكرا فالمصيب منهم مأجور بإصابته والمخطىء منهم معذور كما هو معروف في محله.
واعلم أن الدعوة إلى الله بطريقين: طريق لين وطريق قسوة. أما طريق اللين فهي الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وإيضاح الأدلة في أحسن أسلوب وألطفه. فإن نجحت هذه الطريق فبها ونعمت وهو المطلوب وإن لم تنجح تعينت طريق القسوة بالسيف حتى يعبد الله وحده وتقام حدوده وتمتثل أوامره وتجتنب نواهيه وإلى هذه
الإشارة بقوله تعالى: * (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد) *.
ففيه الإشارة إلى أعمال السيف بعد إقامة الحجة فإن لم تنفع الكتب تعينت الكتائب والله تعالى قد يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرءان. * *
المسألة الثالثة: يشترط في جواز الأمر بالمعروف ألا يؤدي إلى مفسدة أعظم من ذلك المنكر لإجماع المسلمين على ارتكاب أخف الضررين. قال في مراقي السعود:
464

الرجز:
* وارتكب الأخف من ضرين
* وخيرن لدى استوا هذين
*
ويشترط في وجوبه مظنة النفع به فإن جزم بعدم الفائدة فيه لم يجب عليه كما يدل له ظاهر قوله تعالى: * (فذكر إن نفعت الذكرى) * وقوله صلى الله عليه وسلم بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العوام فإن من ورائكم أياما الصابر فيهن كالقابض على الجمر للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم وفي لفظ قيل: يا رسول الله أجر خمسين رجلا منا أو منهم قال: بل أجر خمسين منكم أخرجه الترمذي والحاكم وصححاه وأبو داود وابن ماجة وابن جرير والبغوي في معجمه وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبهقي في الشعب من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه وقال الراوي هذا الحديث عنه أبو أمية الشعباني وقد سأله عن قوله تعالى: * (عليكم أنفسكم) * والله لقد سألت عنها خبيرا سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل ائتمر إلى آخر الحديث.
وهذه الصفات المذكورة في الحديث من الشح المطاع والهوى المتبع 00 الخ مظنة لعدم نفع الأمر بالمعروف. فدل الحديث على أنه إن عدمت فائدته سقط وجوبه. * *
تنبيه
الأمر بالمعروف له ثلاث حكم:
الأولى: إقامة حجة الله على خلقه كما قال تعالى: * (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) *.
الثانية: خروج الآمر من عهدة التكليف بالأمر بالمعروف كما قال تعالى في صالحي القوم الذين اعتدى بعضهم في السبت * (قالوا معذرة إلى ربكم) * وقال تعالى: * (فتول عنهم فمآ أنت بملوم) * فدل على أنه لو لم يخرج من العهدة لكان ملوما.
الثالثة: رجاء النفع للمأمور كما قال تعالى: * (معذرة إلى ربكم ولعلهم
465

يتقون) * وقال تعالى: * (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) * وقد أوضحنا هذا البحث في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في سورة الأعلى في الكلام على قوله تعالى: * (فذكر إن نفعت الذكرى) * ويجب على الإنسان أن يأمر أهله بالمعروف كزوجته وأولاده ونحوهم وينهاهم عن المنكر. لقوله تعالى: * (يا أيها الذين ءامنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا) * وقوله صلى الله عليه وسلم: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته الحديث. * *
المسألة الرابعة: اعلم أن من أعظم أنواع الأمر بالمعروف كلمة حق عند سلطان جائر وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن.
وعن طارق بن شهاب رضي الله عنه: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقد وضع رجله في الغرز: أي الجهاد أفضل؟ قال: كلمة حق عند سلطان جائر رواه النسائي بإسناد صحيح.
كما قاله النووي رحمه الله واعلم أن الحديث الصحيح قد بين أن أحوال الرعية مع ارتكاب السلطان ما لا ينبغي ثلاث:
الأولى: أن يقدر على نصحه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر من غير أن يحصل منه ضرر أكبر من الأول فآمره في هذه الحالة مجاهد سالم من الإثم ولو لم ينفع نصحه ويجب أن يكون نصحه له بالموعظة الحسنة مع اللطف. لأن ذلك هو مظنة الفائدة.
الثانية: ألا يقدر على نصحه لبطشه بمن يأمره وتأدية نصحه لمنكر أعظم وفي هذه الحالة يكون الإنكار عليه بالقلوب وكراهة منكره والسخط عليه وهذه الحالة هي أضعف الإيمان.
الثالثة: أن يكون راضيا بالمنكر الذي يعمله السلطان متابعا له عليه فهذا شريكه في الإثم والحديث المذكور هو ما قدمنا في سورة البقرة عن أم المؤمنين أم سلمة هند بنت أبي أمية رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع قالوا:
466

يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة أخرجه مسلم في صحيحه.
فقوله صلى الله عليه وسلم فمن كره يعني بقلبه ولم يستطع إنكارا بيد ولا لسان فقد برئ من الإثم وأدى وظيفته. ومن أنكر بحسب طاقته فقد سلم من هذه المعصية ومن رضي بها وتابع عليها فهو عاص كفاعلها.
ونظيره حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عند مسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن
لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان وقوله في هذه الآية الكريمة * (عليكم أنفسكم) * صيغة إغراء يعني: الزموا حفظها كما أشار له في (الخلاصة) بقوله: الرجز:
* والفعل من أسمائه عليكا
* وهكذا دونك مع إليكا) * قوله تعالى: * (ولا نكتم شهادة الله إنآ إذا لمن الاثمين) *.
ذكر في هذه الآية الكريمة أن كاتم الشهادة آثم وبين في موضع آخر أن هذا الإثم من الآثام القلبية وهو قوله: * (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) * ومعلوم أن منشأ الآثام والطاعات جميعا من القلب لأنه إذا صلح صلح الجسد كله وإذا فسد فسد الجسد كله.
قوله تعالى: * (وإذ تخرج الموتى بإذني) *. معناه إخراجهم من قبورهم أحياء بمشيئة الله وقدرته كما أوضحه بقوله: * (وأبرىء الأكمه والأبرص وأحى الموتى بإذن الله) * * () *
قوله تعالى: * (وإذ كففت بنى إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات) *.
لم يذكر هنا كيفية كفه إياهم عنه ولكنه بينه في مواضع أخر كقوله * (وما قتلوه وما صلبوه ولاكن شبه لهم) * وقوله: * (وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه) * وقوله: * (ومطهرك من الذين كفروا) * إلى غير ذلك من الآيات. * () * قوله تعالى: * (وإذ أوحيت إلى الحوارين الآية) *.
قال بعض أهل العلم: المراد بالإيحاء إلى الحواريين الإلهام ويدل له ورود الإيحاء في القرآن بمعنى الإلهام كقوله: * (وأوحى ربك إلى النحل) * يعني ألهمها قال بعض العلماء:
467

ومنه * (وأوحينآ إلى أم موسى أن أرضعيه) * وقال بعض العلماء معناه: أوحيت إلى الحواريين إيحاء حقيقيا بواسطة عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
468

((سورة الأنعام))
* (ق وله تعالى: * (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) *.
في قوله تعالى * (يعدلون) * وجهان للعلماء:
أحدهما: أنه من العدول عن الشئ بمعنى الانحراف والميل عنه وعلى هذا فقوله * (بربهم) * متعلق بقوله * (كفروا) * وعليه فالمعنى: إن الذين كفروا بربهم يميلون وينحرفون عن طريق الحق إلى الكفر والضلال وقيل على هذا الوجه: إن الباء بمعنى عن أي يعدلون عن ربهم فلا يتوجهون إليه بطاعة ولا إيمان.
والثاني: أن الباء متعلقة بيعدلون ومعنى يعدلون يجعلون له نظيرا في العبادة من قول العرب: عدلت فلانا بفلان إذا جعلت له نظيرا وعديلا. ومنه قول جرير: الوافر:
* أثعلبة الفوارس أم رياحا
* عدلت بهم طهية والخشابا
*
يعني أجعلت طهية والخشاب نظراء وأمثالا لبني ثعلبة وبني رياح وهذا الوجه الأخير يدل له القرآن كقوله تعالى عن الكفار الذين عدلوا به غيره: * (تالله إن كنا لفى ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين) * وقوله تعالى: * (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله) * وأشار تعالى في آيات كثيرة إلى أن الكفار ساووا بين المخلوق والخالق قبحهم الله تعالى كقوله: * (أم جعلوا لله شركآء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شئ وهو الواحد القهار) * وقوله: * (أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون) * وقوله: * (ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركآء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء) * إلى غير ذلك من الآيات وعدل الشئ في اللغة مثله ونظيره قال بعض علماء العربية: إذا كان من جنسه فهو عدل بكسر العين وإذا كان من غير جنسه فهو عدل بفتح العين ومن الأول قول مهلهل: الوافر:
*
469

(على أن ليس عدلا من كليب
* إذا برزت مخبأة الخدور
*
* على أن ليس عدلا من كليب
* إذا اضطرب العضاه من الدبور
*
* على أن ليس عدلا من كليب
* غداة بلابل الأمر الكبير
*
يعني أن القتلى الذين قتلهم من بكر بن وائل بأخيه كليب الذي قتله جساس بن مرة البكري لا يكافئونه ولا يعادلونه في الشرف.
ومن الثاني قوله تعالى: * (أو عدل ذلك صياما) *.
لأن المراد نظير الإطعام من الصيام وليس من جنسه وقوله: * (وإن تعدل كل عدل) * وقوله: * (ولا يقبل منها عدل) * والعدل: الفداء لأنه كأنه قيمة معادلة للفدى تؤخذ بدله قوله تعالى: * (وهو الله في السماوات وفى الأرض يعلم سركم وجهركم الآية ن) * في هذه الآية الكريمة ثلاثة أوجه للعلماء من التفسير وكل واحد منها له مصداق في كتاب الله تعالى:
الأول: أن المعنى وهو الله في السماوات وفي الأرض أي وهو الإله المعبود في السماوات والأرض لأنه جل وعلا هو المعبود وحده بحق في الأرض والسماء وعلى هذا فجملة يعلم حال أو خبر وهذا المعنى يبينه ويشهد له قوله تعالى: * (وهو الذي في السماء إلاه وفى الأرض إلاه) * أي وهو المعبود في السماء والأرض بحق ولا عبرة بعبادة الكافرين غيره لأنها وبال عليهم يخلدون بها في النار الخلود الأبدي ومعبوداتهم ليست شركاء لله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا * (إن هي إلا أسماء سميتموهآ أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان) * * (وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركآء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون) *.
وهذا القول في الآية أظهر الأقوال واختاره القرطبي.
الوجه الثاني: أن قوله * (في السماوات وفى الأرض) * يتعلق بقوله * (يعلم سركم) * أي وهو الله يعلم سركم في السماوات وفي الأرض ويبين هذا القول ويشهد له قوله تعالى: * (قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض) *.
قال النحاس: وهذا القول من أحسن ما قيل في الآية نقله عنه القرطبي.
470

الوجه الثالث: وهو اختيار ابن جرير أن الوقف تام على قوله في * (السماوات) * وقوله * (وفى الأرض) * يتعلق بما بعده أي يعلم سركم وجهركم في الأرض ومعنى هذا القول: إنه جل وعلا مستو على عرشه فوق جميع خلقه مع أنه يعلم سر أهل الأرض وجهرهم لا يخفى عليه شيء من ذلك. ويبين هذا القول ويشهد له قوله تعالى: * (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا) *؟ الآية وقوله: * (الرحمان على العرش استوى) * مع قوله: * (وهو معكم أين ما كنتم) * وقوله: * (فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غآئبين) * وسيأتي إن شاء الله تحقيق هذا المقام بإيضاح في سورة الأعراف. واعلم أن ما يزعمه الجهمية من أن الله تعالى في كل مكان مستدلين بهذه الآية على أنه في الأرض ضلال مبين وجهل بالله تعالى لأن جميع الأمكنة الموجودة أحقر وأصغر من أن يحل في شيء منها رب السماوات والأرض الذي هو أعظم من كل شيء وأعلى من كل شيء محيط بكل شيء ولا يحيط به شئ فالسماوات والأرض في يده جل وعلا أصغر من حبة خردل في يد أحدنا وله المثل الأعلى فلو كانت حبة خردل في يد رجل فهل يمكن أن يقال: إنه حال فيها أو في كل جزء من أجزائها. لا وكلا هي أصغر وأحقر من ذلك فإذا علمت ذلك فاعلم أن رب السماوات والأرض أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء محيط بكل شيء ولا يحيط به شيء ولا يكون فوقه شيء * (لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) * سبحانه وتعالى علوا كبيرا لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه * (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما) *. * () * قوله تعالى: * (ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين) *.
ذكر في هذه الآية الكريمة أن الكفار لو نزل الله عليهم كتابا مكتوبا في قرطاس أي صحيفة إجابة لما اقترحوه كما قال تعالى عنهم: * (ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه الآية) * فعاينوا ذلك الكتاب المنزل ولمسته أيديهم لعاندوا وادعوا أن ذلك من أجل أنه سحرهم وهذا العناد واللجاج العظيم والمكابرة الذي هو شأن الكفار بينه تعالى في آيات كثيرة كقوله: * (ولو فتحنا عليهم بابا من السماء
471

فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون) *.
وقوله: * (وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم) * وقوله: * (ولو أننا نزلنآ إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله) * وقوله * (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جآءتهم كل آية) * وقوله * (وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) * وقوله * (وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها) * إلى غير ذلك من الآيات وذكر تعالى نحو هذا العناد واللجاج عن فرعون وقومه في قوله: * (وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين) *.
قوله تعالى: * (وقالوا لولا أنزل عليه ملك) *.
لم يبين هنا ماذا يريدون بإنزال الملك المقترح ولكنه بين في موضع آخر أنهم يريدون بإنزال الملك أن يكون نذيرا آخر مع النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في قوله: * (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا) *.
قوله تعالى: * (ولو أنزلنا ملكا لقضى الامر ثم لا ينظرون) *.
يعني أنه لو نزل عليهم الملائكة وهم على ما هم عليه من الكفر والمعاصي لجاءهم من الله العذاب من غير إمهال ولا إنظار لأنه حكم بأن الملائكة لا تنزل عليهم إلا بذلك كما بينه تعالى بقوله: * (ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين) *. وقوله * (يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين) *.
قوله تعالى: * (ولو جعلنه ملكا لجعلنه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون) *.
أي لو بعثنا إلى البشر رسولا ملكيا لكان على هيئة الرجل لتمكنهم مخاطبته والانتفاع بالأخذ عنه لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة من شدة النور ولو كان كذلك لالتبس عليهم الأمر كما هم يلبسون على أنفسهم في قبول رسالة الرسول البشري.
وهذه الآية الكريمة تدل على أن الرسول ينبغي أن يكون من نوع المرسل إليهم كما أشار تعالى إلى ذلك أيضا بقوله: * (قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا) *. * (ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به
472

كانوا به يستهزءون) *.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار استهزءوا برسل قبل نبينا صلى الله عليه وسلم وأنهم حاق بهم العذاب بسبب ذلك ولم يفصل هنا كيفية استهزائهم ولا كيفية العذاب الذي أهلكوا به ولكنه فصل كثيرا من ذلك في مواضع متعددة في ذكر نوح وقومه وهود وقومه وصالح وقومه ولوط وقومه وشعيب وقومه إلى غير ذلك.
فمن استهزائهم بنوح قولهم له بعد أن كنت نبيا صرت نجارا وقد قال الله تعالى عن نوح: * (إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون) * وذكر ما حاق بهم بقوله: * (فأخذهم الطوفان وهم ظالمون) * وأمثالها من الآيات.
ومن استهزائهم بهود ما ذكره الله عنهم من قولهم: * (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) * وقوله عنهم أيضا: * (قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركى آلهتنا عن قولك) *. وذكر ما حاق بهم من العذاب في قوله. * (أرسلنا عليهم الريح العقيم) * وأمثالها من الآيات.
ومن استهزائهم بصالح قولهم فيما ذكر الله عنهم * (وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنآ إن كنت من المرسلين) * وقولهم * (يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا الآية) * وذكر ما حاق بهم بقوله * (وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين) * ونحوها من الآيات.
ومن استهزائهم بلوط قولهم فيما حكى الله عنهم: * (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم) *. وقولهم له أيضا: * (لئن لم تنته يا لوط لتكنونن من المخرجين) * وذكر ما حاق بهم بقوله * (فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل) * ونحوها من الآيات.
ومن استهزائهم بشعيب قولهم فيما حكى الله عنهم: * (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك ومآ أنت علينا بعزيز) * وذكر ما حاق بهم بقوله * (فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم) * ونحوها من الآيات.
قوله تعالى: * (وهو يطعم ولا يطعم) *.
يعني أنه تعالى هو الذي يرزق الخلائق وهو الغني المطلق فليس بمحتاج إلى رزق. وقد بين تعالى هذا بقوله: * (وما خلقت الجن
473

والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق ومآ أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) * وقراءة الجمهور على أن الفعلين من الإطعام والأول مبني للفاعل والثاني مبني للمفعول كما بيناه وأوضحته الآية الأخرى. وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد والأعمش. الفعل الأول كقراءة الجمهور والثاني بفتح الياء والعين مضارع طعم الثلاثي بكسر العين في الماضي أي أنه يرزق عباده ويطعمهم وهو جل وعلا لا يأكل لأنه لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه المخلوق من الغذاء لأنه جل وعلا الغني لذاته الغني المطلق سبحانه وتعالى علوا كبيرا * (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنى الحميد) *.
والقراءة التي ذكرنا عن سعيد ومجاهد والأعمش موافقة لأحد الأقوال في تفسير قوله تعالى * (الله الصمد) * قال بعض العلماء * (الصمد) * السيد الذي يلجأ إليه عند الشدائد والحوائج. وقال بعضهم: هو السيد الذي تكامل سؤدده وشرفه وعظمته وعلمه وحكمته وقال بعضهم * (الصمد) * هو الذي * (لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد) * وعليه فما بعده تفسير له. وقال بعضهم: هو الباقي بعد فناء خلقه. وقال بعضهم * (الصمد) * هو الذي لا جوف له ولا يأكل الطعام وهو محل الشاهد وممن قال بهذا القول ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب ومجاهد وعبد الله بن بريدة وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وعطية العوفي والضحاك والسدي. كما نقله عنهم ابن كثير وابن جرير وغيرهما.
قال مقيده عفا الله عنه: من المعروف في كلام العرب إطلاق الصمد على السيد العظيم وعلى الشئ المصمت الذي لا جوف له فمن الأول قول الزبرقان: البسيط سروا جميعا بنصف الليل واعتمدوا
* ولا رهينة إلا سيد صمد
*
وقول الآخر: البسيط:
* علوته بحسام ثم قلت له
* خذها حذيف فأنت السيد الصمد
*
وقول الآخر: الطويل:
* ألا بكر الناعي بخير بني أسد
* بعمرو بن مسعود بالسيد الصمد
*
ومن الثاني قول الشاعر: الطويل:
*
474

(شهاب حروب لا تزال جياده
* عوابس يعلكن الشكيم المصمدا
*
) *
قوله تعالى: * (قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم) *.
يعني أول من أسلم من هذه الأمة التي أرسلت إليها وليس المراد أول من أسلم من جميع الناس كما بينه تعالى بآيات كثيرة تدل على وجود المسلمين. قبل وجوده صلى الله عليه وسلم ووجود أمته كقوله عن إبراهيم: * (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العاليمن وقوله عن يوسف: * (توفني مسلما وألحقني بالصالحين) * وقوله * (يحكم بها النبيون الذين أسلموا) * وقوله عن لوط وأهله * (فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) * إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: * (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شئ قدير) *.
بعد قوله * (وإن يمسسك بخير) * إلى أن فضله وعطاءه الجزيل لا يقدر أحد على رده عمن أراده له تعالى. كما صرح بذلك في قوله: * (وإن يردك بخير فلا رآد لفضله يصيب به من يشاء) *. قوله تعالى: * (وأوحى إلى هاذا القرءان لأنذركم به ومن بلغ وصرح في هذه الآية الكريمة بأنه صلى الله عليه وسلم منذر لكل من بلغه هذا القرآن العظيم كائنا من كان ويفهم من الآية أن الإنذار به عام لكل من بلغه وأن كل من بلغه ولم يؤمن به فهو في النار وهو كذلك.
أما عموم إنذاره لكل من بلغه فقد دلت عليه آيات أخر أيضا كقوله * (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) * وقوله * (ومآ أرسلناك إلا كآفة للناس) * وقوله * (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) *.
وأما دخول من لم يؤمن به النار فقد صرح به تعالى في قوله * (ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده) *
475

.
وأما من لم تبلغه دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فله حكم أهل الفترة الذين لم يأتهم رسول والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: * (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون *) *.
هذه الآية الكريمة تدل على أن الله جل وعلا الذي أحاط علمه بكل موجود ومعدوم يعلم المعدوم الذي سبق في الأزل أنه لا يكون لو وجد كيف يكون. لأنه يعلم أن رد الكفار يوم القيامة إلى الدنيا مرة أخرى لا يكون ويعلم هذا الرد الذي لا يكون لو وقع كيف يكون كما صرح به بقوله * (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) * وهذا المعنى جاء مصرحا به في آيات أخر.
فمن ذلك أنه تعالى سبق في علمه أن المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك لا يخرجون إليها معه صلى الله عليه وسلم والله ثبطهم عنها لحكمة. كما صرح به في قوله * (ولاكن كره الله انبعاثهم فثبطهم الآية) *. وهو يعلم هذا الخروج الذي لا يكون لو وقع كيف يكون. كما صرح به تعالى في قوله * (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) *. ومن الآيات الدالة على المعنى المذكور قوله تعالى * (ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون) * إلى غير ذلك من الآيات. * (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولاكن الظالمين بأايات الله يجحدون * ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين * وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغى نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بأاية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين * إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون * وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولاكن أكثرهم لا يعلمون * وما من دآبة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شئ ثم إلى ربهم يحشرون * والذين كذبوا بأاياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم) * قوله تعالى: * (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون) *.
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بأنه يعلم أن رسوله صلى الله عليه وسلم يحزنه ما يقوله الكفار من تكذيبه صلى الله عليه وسلم وقد نهاه تعالى عن هذا الحزن المفرط في مواضع أخر كقوله: * (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) * وقوله: * (فلا تأس على القوم الكافرين) * قوله: * (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا) * وقوله: * (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) *: الباخع هو المهلك نفسه ومنه قول غيلان بن عقبة. الطويل.
* ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه
* لشئ نحته عن يديه المقادر
*
وقوله * (لعلك باخع) * في الآيتين يراد به النهي عن ذلك ونظيره * (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك) * أي لا تهلك نفسك حزنا عليهم في الأول ولا تترك بعض
ما يوحى إليك في الثاني.
476

قوله تعالى: * (والموتى يبعثهم الله) *.
قال جمهور علماء التفسير: المراد بالموتى في هذه الآية: الكفار وتدل لذلك آيات من كتاب الله كقوله تعالى * (أو من كان ميتا فأحييناه الآية) * وقوله * (وما يستوى الاحيآء ولا الأموات) * وقوله: * (ومآ أنت بمسمع من في القبور) * إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: * (قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولاكن أكثرهم لا يعلمون) *.
ذكر في هذه الآية الكريمة: أنه قادر على تنزيل الآية التي اقترحها الكفار على رسوله وأشار لحكمة عدم إنزالها بقوله: * (ولاكن أكثرهم لا يعلمون) * وبين في موضع آخر أن حكمة عدم إنزالها أنها لو أنزلت ولم يؤمنوا بها لنزل بهم العذاب العاجل كما وقع بقوم صالح لما اقترحوا عليه إخراج ناقة عشراء وبراء جوفاء من صخرة صماء فأخرجها الله لهم منها بقدرته ومشيئته فعقروها * (وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنآ) * فأهلكهم الله دفعة واحدة بعذاب استئصال وذلك في قوله * (وما منعنآ أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) * وبين في مواضع أخر أنه لا داعي إلى ما اقترحوا من الآيات لأنه أنزل عليهم آية أعظم من جميع الآيات التي اقترحوها وغيرها وتلك الآية هي هذا القرآن العظيم. وذلك في قوله * (أولم يكفهم أنآ أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) * فإنكاره جل وعلا عليهم عدم الاكتفاء بهذا الكتاب عن الآيات المقترحة يدل على أنه أعظم وأفخم من كل آية وهو كذلك ألا ترى أنه آية واضحة ومعجزة باهرة أعجزت جميع أهل الأرض وهي باقية تتردد في آذان الخلق غضة طرية حتى يأتي أمر الله. بخلاف غيره من معجزات الرسل صلوات الله عليهم وسلامه فإنها كلها مضت وانقضت. * (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين * بل إياه تدعون الآية) *.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن المشركين إذ أتاهم عذاب من الله أو أتتهم الساعة أخلصوا الدعاء الذي هو مخ العبادة لله وحده ونسوا ما كانوا يشركون به. لعلمهم أنه لا يكشف الكروب إلا الله وحده جل وعلا.
ولم يبين هنا نوع العذاب الدنيوي الذي يحملهم على الإخلاص لله ولم يبين هنا أيضا إذا كشف عنهم العذاب هل يستمرون على إخلاصهم أو يرجعون إلى كفرهم
477

وشركهم ولكنه بين كل ذلك في مواضع أخر.
فبين أن العذاب الدنيوي الذي يحملهم على الإخلاص وهو نزول الكروب التي يخاف من نزلت به الهلاك كأنه يهيج البحر عليهم وتلتطم أمواجه ويغلب على ظنهم أنهم سيغرقون فيه إن لم يخلصوا الدعاء لله وحده كقوله تعالى * (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجآءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق) * وقوله * (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه) * وقوله * (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين) * وقوله * (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين) * إلى غير ذلك من الآيات.
وبين أنهم إذا كشف الله عنهم ذلك الكرب رجعوا إلى ما كانوا عليه من الشرك في مواضع كثيرة كقوله * (فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا) * وقوله * (فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) * وقوله * (قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون) * وقوله * (فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق) * إلى غير ذلك من الآيات.
وبين تعالى أن رجوعهم للشرك بعد أن نجاهم الله من الغرق من شدة جهلهم وعماهم: لأنه قادر على أن يهلكهم في البر كقدرته على إهلاكهم في البحر وقادر على أن يعيدهم في البحر مرة أخرى ويهلكهم فيه بالغرق فجرأتهم عليه إذا وصلوا البر لا وجه لها. لأنها من جهلهم وضلالهم وذلك في قوله * (أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا) *. قوله تعالى: * (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغدواة والعشى يريدون وجهه) *.
نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة نبيه صلى الله عليه وسلم عن طرد ضعفاء المسلمين وفقرائهم الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه وأمره في آية أخرى أن يصبر نفسه معهم وأن لا تعدو عيناه عنهم إلى أهل الجاه والمنزلة في الدنيا ونهاه عن إطاعة الكفرة في ذلك وهي قوله:
478

* (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحيواة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا) * كما أمره هنا بالسلام عليهم وبشارتهم برحمة ربهم جل وعلا في قوله:
* (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة) * وبين في آيات أخر أن طرد ضعفاء المسلمين الذي طلبه كفار العرب من نبينا صلى الله عليه وسلم فنهاه الله عنه طلبه أيضا قوم نوح من نوح فأبى كقوله تعالى عنه: * (ومآ أنا بطارد الذين ءامنوا) * وقوله: * (ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم) * وقوله: * (ومآ أنا بطارد المؤمنين) * وهذا من تشابه قلوب الكفار المذكور في قوله تعالى: * (تشابهت قلوبهم) *. قوله تعالى: * (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننآ أليس الله بأعلم بالشاكرين) *.
أجرى الله تعالى الحكمة بأن أكثر أتباع الرسل ضعفاء الناس ولذلك لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن نبينا صلى الله عليه وسلم: أأشرف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم قال: هم أتباع الرسل
فإذا عرفت ذلك فاعلم أنه تعالى أشار إلى أن من حكمة ذلك فتنة بعض الناس ببعض فإن أهل المكانة والشرف والجاه يقولون: لو كان في هذا الدين خير لما سبقنا إليه هؤلاء لأنا أحق منهم بكل خير كما قال هنا: * (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننآ) * الآية إنكار منهم أن يمن الله على هؤلاء الضعفاء دونهم زعما منهم أنهم أحق بالخير منهم وقد رد الله قولهم هنا بقوله: * (أليس الله بأعلم بالشاكرين) *.
وقد أوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله تعالى: * (وقال الذين كفروا للذين ءامنوا لو كان خيرا ما سبقونآ إليه الآية) * وقوله: * (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين ءامنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا) *.
والمعنى: أنهم لما رأوا أنفسهم أحسن منازل ومتاعا من ضعفاء المسلمين اعتقدوا أنهم أولى منهم بكل خير وأن أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان خيرا ما سبقوهم إليه ورد الله افتراءهم هذا بقوله: * (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا) *
479

وقوله: * (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون) * إلى غير ذلك من الآيات. * () * قوله تعالى: * (ما عندي ما تستعجلون الآية) *.
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يخبر الكفار أن تعجيل العذاب عليهم الذي يطلبونه منه صلى الله عليه وسلم ليس عنده. وإنما هو عند الله إن شاء عجله وإن شاء أخره عنهم ثم أمره أن يخبرهم بأنه لو كان عنده لعجله عليهم بقوله: * (قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضى الامر بيني وبينكم) *.
وبين في مواضع أخر أنهم ما حملهم على استعجال العذاب إلا الكفر والتكذيب وأنهم إن عاينوا ذلك العذاب علموا أنه عظيم هائل لا يستعجل به إلا جاهل مثلهم كقوله: * (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون) * وقوله: * (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين ءامنوا مشفقون منها) * الآية قوله: * (يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) * وقوله: * (قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون) *.
وبين في موضع آخر أنه لولا أن الله حدد لهم أجلا لا يأتيهم العذاب قبله لعجله عليهم وهو قوله: * (ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجآءهم العذاب الآية) *.
تنبيه
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضى الامر) * صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لو كان بيده تعجيل العذاب عليهم لعجله عليهم مع أنه ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل الله إليه ملك الجبال وقال له: إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين وهما جبلا مكة اللذان يكتنفانها فقال صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا.
والظاهر في الجواب: هو ما أجاب به ابن كثير رحمه الله في تفسيره هذه الآية
480

وهو أن هذه الآية دلت على أنه لو كان إليه وقوع العذاب الذي يطلبون تعجيله في وقت طلبهم تعجليه عليهم وأما الحديث فليس فيه أنهم طلبوا تعجيل العذاب في ذلك الوقت بل عرض عليه الملك إهلاكهم فاختار عدم إهلاكهم ولا يخفى الفرق بين المتعنت الطالب تعجيل العذاب وبين غيره. * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمهآ إلا هو الآية) *.
بين تعالى المراد بمفاتح الغيب بقوله: * (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الارحام وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) * فقد أخرج البخاري وأحمد وغيرهما عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد بمفاتح الغيب الخمس المذكورة في الآية المذكورة. والمفاتح الخزائن جمع مفتح بفتح الميم بمعنى المخزن وقيل: هي المفاتيح جمع مفتح بكسر الميم وهو المفتاح وتدل له قراءة ابن السميقع. مفاتيح بياء بعد التاء جمع مفتاح وهذه الآية الكريمة تدل على أن الغيب لا يعلمه إلا الله وهو كذلك لأن الخلق لا يعلمون إلا ما علمهم خالقهم جل وعلا.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية والله يقول: * (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) * أخرجه مسلم والله تعالى في هذه السورة الكريمة أمره صلى الله عليه وسلم أن يعلن للناس أنه لا يعلم الغيب وذلك في قوله تعالى: * (قل لا أقول لكم عندي خزآئن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلى) *.
ولذا لما رميت عائشة رضي الله عنها بالإفك لم يعلم أهي بريئة أم لا حتى أخبره الله تعالى بقوله: * (أولئك مبرءون مما يقولون) *.
وقد ذبح إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام عجله للملائكة ولا علم له بأنهم ملائكة حتى أخبروه وقالوا له: * (إنا أرسلنا إلى قوم لوط) * ولما جاءوا لوطا لم يعلم أيضا أنهم ملائكة ولذا * (سىء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هاذا يوم عصيب) * يخاف عليهم من أن يفعل بهم قومه فاحشتهم المعروفة حتى قال: * (لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) * ولم يعلم خبرهم حتى قالوا له: * (إنا رسل ربك لن يصلوا إليك) *.
481

ويعقوب عليه السلام ابيضت عيناه من الحزن على يوسف وهو في مصر لا يدري خبره حتى أظهر الله خبر يوسف.
وسليمان عليه السلام مع أن الله سخر له الشياطين والريح ما كان يدري عن أهل مأرب قوم بلقيس حتى جاءه الهدهد وقال له: * (أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبأ يقين الآيات) *.
ونوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ما كان يدري أن ابنه الذي غرق ليس من أهله الموعود بنجاتهم حتى قال: * (رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق) * ولم
يعلم حقيقة الأمر حتى أخبره الله بقوله: * (يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين) *.
وقد قال تعالى عن نوح في سورة هود: * (قل لا أقول لكم عندي خزآئن الله ولا أعلم الغيب) * والملائكة عليهم الصلاة والسلام لما قال لهم: * (أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنآ) *.
فقد ظهر أن أعلم المخلوقات وهم الرسل والملائكة لا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله تعالى وهو تعالى يعلم رسله من غيبه ما شاء كما أشار له بقوله: * (وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبى من رسله من يشاء) * وقوله: * (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول) *.
تنبيه
لما جاء القرآن العظيم بأن الغيب لا يعلمه إلا الله كان جميع الطرق التي يراد بها التوصل إلى شيء من علم الغيب غير الوحي من الضلال المبين وبعض منها يكون كفرا.
ولذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما ولا خلاف بين العلماء في منع العيافة والكهانة والعرافة والطرق والزجر والنجوم وكل ذلك يدخل في الكهانة لأنها تشمل جميع أنواع ادعاء الاطلاع على علم الغيب.
وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال: ليسوا بشئ.
482

وقال القرطبي في تفسير هذه الآية ما نصه: فمن قال إنه قال إنه ينزل الغيث غدا. وجزم به فهو كافر أخبر عنه بأمارة ادعاها أم لا وكذلك من قال إنه يعلم ما في الرحم فإنه كافر فإن لم يجزم وقال: إن النوء ينزل به الماء عادة إنه سبب الماء عادة وإنه سبب الماء على ما قدره وسبق في علمه لم يكفر إلا أنه يستحب له ألا يتكلم به فإن فيه تشبيها بكلمة أهل الكفر وجهلا بلطيف حكمته لأنه ينزل متى شاء مرة بنوء كذا ومرة دون النوء.
قال الله تعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكواكب على ما يأتي بيانه في الواقعة إن شاء الله تعالى.
قال ابن العربي: وكذلك قول الطبيب إذا كان الثدي الأيمن مسود الحلمة فهو ذكر وإن كان في الثدي الأيسر فهو أنثى وإن كانت المرأة تجد الجنب الأيمن أثقل فالولد أنثى وادعى ذلك عادة لا واجبا في الخلقة لم يكفر ولم يفسق.
وأما من ادعى الكسب في مستقبل العمر فهو كافر أو أخبر عن الكوائن المجملة أو المفصلة في أن تكون قبل أن تكون فلا ريبة في كفره أيضا. فأما من أخبر عن كسوف الشمس والقمر فقد قال علماؤنا: يؤدب ولا يسجن أما عدم كفره فلأن جماعة قالوا: إنه أمر يدرك بالحساب وتقدير المنازل حسبما أخبر الله عنه من قوله: * (والقمر قدرناه منازل) *.
وأما أدبهم فلأنهم يدخلون الشك على العامة إذ لا يدرون الفرق بين هذا وغيره فيشوشون عقائدهم ويتركون قواعدهم في اليقين فأدبوا حتى يستروا ذلك إذا عرفوه ولا يعلنوا به.
قلت: ومن هذا الباب ما جاء في صحيح مسلم عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة والعراف: هو الحازي والمنجم الذي يدعي علم الغيب وهي العرافة وصاحبها عراف وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها. وقد يعتضد بعض أهل هذا الفن في ذلك بالزجر والطرق والنجوم وأسباب معتادة في ذلك وهذا الفن هو العيافة بالياء وكلها ينطلق عليها اسم الكهانة قاله القاضي عياض.
والكهانة: ادعاء علم الغيب.
قال أبو عمر بن عبد البر في (الكافي): من المكاسب المجتمع على تحريمها
483

الربا ومهور البغايا والسحت والرشا وأخذ الأجرة على النياحة والغناء وعلى الكهانة وادعاء الغيب وأخبار السماء وعلى الزمر واللعب والباطل كله. اه من القرطبي بلفظه وقد رأيت تعريفه للعراف والكاهن.
وقال البغوي: العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك وقال أبو العباس بن تيمية: العراف: اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق.
والمراد بالطرق: قيل الخط الذي يدعي به الاطلاع على الغيب وقيل إنه الضرب بالحصى الذي يفعله النساء والزجر هو العيافة وهي التشاؤم والتيامن بالطير وادعاء معرفة الأمور من كيفية طيرانها ومواقعها وأسمائها وألوانها وجهاتها التي تطير إليها.
ومنه قول علقمة بن عبدة التميمي: البسيط:
* ومن تعرض للغربان يزجرها
* على سلامته لا بد مشئوم
*
وكان أشد العرب عيافة بنو لهب حتى قال فيهم الشاعر: الطويل:
* خبير بنو لهب فلا تك ملغيا
* مقالة لهبي إذا الطير مرت
*
وإليه الإشارة بقول ناظم عمود النسب: الرجز:
* في مدلج بن بكر القيافة
* كما للهب كانت العيافة
*
ولقد صدق من قال: الطويل:
* لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى
* ولا زاجرات الطير ما الله صانع
*
ووجه تكفير بعض أهل العلم لمن يدعي الاطلاع على الغيب أنه ادعى لنفسه ما استأثر الله تعالى به دون خلقه وكذب القرآن الوارد بذلك كقوله * (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) * وقوله هنا * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمهآ إلا هو) * ونحو ذلك.
وعن الشيخ أبي عمران من علماء المالكية أن حلوان الكاهن لا يحل له ولا يرد لمن أعطاه له بل يكون للمسلمين في نظائر نظمها. بعض علماء المالكية بقوله: الرجز:
* وأي مال حرموا أن ينتفع
* موهوبه به ورده منع
*
484

* حلوان كاهن وأجرة الغنا
* ونائح ورشوة مهر الزنا
*
هكذا قيل. والله تعالى أعلم. * () * قوله تعالى: * (وهو الذي يتوفاكم باليل ويعلم ما جرحتم بالنهار) *.
ذكر في هذه الآية الكريمة أن النوم وفاة وأشار في موضع آخر إلى أنه وفاة صغرى وأن صاحبها لم يمت حقيقة وأنه تعالى يرسل روحه إلى بدنه حتى ينقضي أجله وأن وفاة الموت التي هي الكبرى قد مات صاحبها ولذا يمسك روحه عنده وذلك في قوله تعالى: * (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لايات لقوم يتفكرون) *. * () * قوله تعالى: * (ويرسل عليكم حفظة) *.
لم يبين هنا ماذا يحفظون وبينه في مواضع أخر فذكر أن مما يحفظونه بدن الإنسان بقوله: * (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) * وذكر أن مما يحفظونه جميع أعماله من خير وشر بقوله: * (وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون) * وقوله: * (إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) * وقوله: * (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون) *. * () * قوله تعالى: * (وإذا رأيت الذين يخوضون فىءاياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره) *.
نهى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة عن مجالسة الخائضين في آياته ولم يبين كيفية خوضهم فيها التي هي سبب منع مجالستهم ولم يذكر حكم مجالستهم هنا وبين ذلك كله في موضع آخر فبين أن خوضهم فيها بالكفر والاستهزاء بقوله: * (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم) *.
وبين أن من جالسهم في وقت خوضهم فيها مثلهم في الإثم بقوله: * (إنكم إذا مثلهم) * وبين حكم من جالسهم ناسيا ثم تذكر بقوله هنا: * (وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) * كما تقدم في سورة النساء. * () * قوله تعالى: * (فلما جن عليه الليل رءا كوكبا قال هاذا ربى) *.
الآيات قوله: * (هاذا ربى) * في المواضع الثلاثة محتمل لأنه كان يظن ذلك كما روي عن ابن عباس وغيره
485

ومحتمل لأنه جازم بعدم ربوبية غير الله. ومراده هذا ربي في زعمكم الباطل أو أنه حذف أداة استفهام الإنكار والقرءان يبين بطلان الأول وصحة الثاني: أما بطلان الأول فالله تعالى نفي كون الشرك الماضي عن إبراهيم في قوله: * (وما كان من المشركين) * في عدة آيات ونفي الكون الماضي يستغرق جميع الزمن الماضي فثبت أنه لم يتقدم عليه شرك يوما ما.
وأما كونه جازما موقنا بعدم ربوبية غير الله فقد دل عليه ترتيب قوله تعالى: * (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هاذا ربى) * إلى آخره بالفاء على قوله تعالى: * (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين) * فدل على أنه قال ذلك موقنا مناظرا ومحاجا لهم كما دل عليه قوله تعالى: * (وحآجه قومه) * وقوله: * (وتلك حجتنآ آتيناها إبراهيم على قومه) * والعلم عند الله تعالى. * () * قوله تعالى: * (الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) *.
المراد بالظلم هنا الشرك كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقد بينه قوله تعالى: * (إن الشرك
لظلم عظيم) * وقوله: * (والكافرون هم الظالمون) * قوله: * (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين) *. * () * قوله تعالى: * (وتلك حجتنآ ءاتينها إبراهيم الآية) *.
قال مجاهد وغيره هي قوله تعالى: * (وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن) * وقد صدقه الله وحكم له بالأمن والهداية فقال: * (الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون) *.
والظاهر شمولها لجميع احتجاجاته عليهم كما في قوله: * (لا أحب الآفلين) * (الأنعام: 67) لأن الأفول الواقع في الكوكب والشمس والقمر أكبر دليل وأوضح حجة على انتفاء الربوبية عنها وقد استدل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بالأفول على انتفاء الربوبية في قوله: * (لا أحب الآفلين) * فعدم إدخال هذه الحجة في قوله: * (وتلك حجتنآ) * غير ظاهر وبما ذكرنا من شمول الحجة لجميع احتجاجاته المذكورة صدر
486

القرطبي والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: * (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) *.
ذكر تعالى أن هؤلاء الأنبياء المذكورين في هذه السورة الكريمة لو أشركوا بالله لحبط جميع أعمالهم.
وصرح في موضع آخر بأنه أوحي هذا إلى نبينا والأنبياء قبله عليهم كلهم صلوات الله وسلامه وهو قوله: * (ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك) * وهذا شرط والشرط لا يقتضي جواز الوقوع كقوله: * (قل إن كان للرحمن ولد) * على القول بأن إن شرطية وقوله: * (لو أردنآ أن نتخذ لهوا) * وقوله * (لو أراد الله أن يتخذ والدا الآية) *.
قوله تعالى: * (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) *.
أي لا أحد أظلم ممن قال * (سأنزل مثل ما أنزل الله) * ونظيرها قوله تعالى: * (وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشآء لقلنا مثل هذا) * وقد بين الله تعالى كذبهم في افترائهم هذا حيث تحدى جميع العرب بسورة واحدة منه كما ذكره تعالى في البقرة بقوله: * (فأتوا بسورة من مثله) * وفي يونس بقوله: * (قل فأتوا بسورة مثله) * وتحداهم في هود بعشر سورة مثله في قوله: * (قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) * وتحداهم به كله في الطور بقوله: * (فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين) *.
ثم صرح في سورة بني إسرائيل بعجز جميع الخلائق عن الإتيان بمثله في قوله: * (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هاذا القرءان لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) * فاتضح بطلان دعواهم الكاذبة. * (
487

) * قوله تعالى: * (والملائكة باسطوا أيديهم) *.
لم يصرح هنا بالشئ الذي بسطوا إليه الأيدي ولكنه أشار إلى أنه التعذيب بقوله: * (أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون) * وصرح بذلك في قوله: * (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم) * وبين في مواضع أخر أنه يراد ببسط اليد التناول بالسوء كقوله: * (ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء) * وقوله: * (لئن بسطت إلى يدك لتقتلني) *.
قوله تعالى: * (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولنكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعآءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركوا) *.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار يأتون يوم القيامة كل واحد منهم بمفرده ليس معهم شركاؤهم وصرح تعالى بأن كل واحد يأتي فردا في قوله: * (وكلهم آتية يوم القيامة فردا) * وقوله في هذه الآية * (كما خلقناكم أول مرة) * أي منفردين لا مال ولا أثاث ولا رقيق ولا خول عندكم حفاة عراة غرلا أي غير مختونين * (كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينآ إنا كنا فاعلين) * وقد عرفت من الآية أن واحد الفرادى فرد ويقال فيه أيضا: فرد بالتحريك ومنه قول نابغة ذبيان: البسيط:
* من وحش وجرة موشي أكارعه
* طاوي المصير كسيف الصقيل الفرد
*
قوله تعالى: * (لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون) *.
ذكر في هذه الآية الكريمة: أن الأنداد التي كانوا يعبدونها في الدنيا تضل عنهم يوم القيامة وينقطع ما كان بينهم وبينها من الصلات في الدنيا وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة جدا كقوله * (وإذا حشر الناس كانوا لهم أعدآء وكانوا بعبادتهم كافرين) * وقوله * (كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا) * وقوله * (إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين) * وقوله * (أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون) * وقوله هنا * (وما نرى معكم شفعآءكم الذين زعمتم) *.
قوله تعالى: * (وجعل اليل سكنا) *.
أي مظلما ساجيا ليسكن فيه الخلق فيستريحوا من تعب الكد بالنهار كما بينه قوله تعالى: * (هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا) * وقوله * (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم اليل سرمدا إلى يوم القيامة من إلاه غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرءيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إلاه غير الله
يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله) * وقوله * (لتسكنوا فيه) * يعني الليل * (ولتبتغوا من فضله) * يعني بالنهار * (ومن آياته اليل والنهار) *. * (الآية) * قوله تعالى: * (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر) *.
ظاهر هذه
488

الآية الكريمة أن حكمة خلق النجوم هي الاهتداء بها فقط كقوله * (وبالنجم هم يهتدون) * ولكنه تعالى بين في غير هذا الموضع أن لها حكمتين أخريين غير الاهتداء بها وهما تزيين السماء الدنيا ورجم الشياطين بها كقوله * (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين) *. وقوله * (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد لا يسمعون إلى الملإ الاعلى ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب) * وقوله * (وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم) *. * () * قوله تعالى: * (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر) *.
الآية لم يبين هنا كيفية إنشائهم من نفس واحدة ولكنه بين في مواضع أخر أن كيفيتة أنه خلق من تلك الواحدة التي هي آدم زوجها حواء وبث منهما رجالا كثيرا ونساء كقوله * (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) * وقوله: * (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها) *. * (الآية) * قوله تعالى: * (لا تدركه الابصار) *.
أشار في مواضع أخر: إلى أن نفي الإدراك المذكور هنا لا يقتضي نفي مطلق الرؤية كقوله * (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) * وقوله * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) * والحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم وقوله * (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) * يفهم منه أن المؤمنين ليسوا محجوبين عنه وهو كذلك. * () * قوله تعالى: * (وليقولوا درست) *.
يعني ليزعموا إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما تعلم هذا القرآن بالدرس والتعليم من غيره من أهل الكتاب كما زعم كفار مكة أنه صلى الله عليه وسلم تعلم هذا القرآن من جبر ويسار وكانا غلامين نصرانيين بمكة وقد أوضح الله تعالى بطلان افترائهم هذا في آيات كثيرة كقوله * (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربى مبين) * وقوله * (فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هاذآ إلا قول البشر سأصليه سقر) * ومعنى يؤثر: يرويه محمد صلى الله عليه وسلم عن غيره في زعمهم الباطل وقوله: * (وقال الذين كفروا إن
489

هاذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جآءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض) *. إلى غير ذلك من الآيات. وفي قوله * (درست) * ثلاث قراءات سبعيات.
قرأه ابن كثير وأبو عمر دارست بألف بعد الدال مع إسكان السين وفتح التاء من المفاعلة بمعنى: دارست أهل الكتاب ودارسوك حتى حصلت على هذا العلم.
وقرأه بقية السبعة غير ابن عامر درست بإسقاط الألف مع إسكان السين وفتح التاء أيضا بمعنى درست هذا على أهل الكتاب حتى تعلمته منهم.
وقرأه ابن عامر درست بفتح الدال والراء والسين وإسكان التاء على أنها تاء التأنيث والفاعل ضمير عائد إلى الآيات المذكورة في قوله * (وكذلك نصرف الآيات) *.
قال القرطبي: وأحسن ما قيل في قراءة ابن عامر أن المعنى: ولئلا يقولوا انقطعت وانمحت وليس يأتي محمد صلى الله عليه وسلم بغيرها اه
وقال القرطبي: * (وليقولوا درست) * الواو للعطف على مضمر أي نصرف الآيات لتقوم الحجة وليقولوا درست وقيل: * (وليقولوا درست) * صرفناها.
قال مقيده: عفا الله عنه ومعناهما آيل إلى شيء واحد ويشهد له القرآن في آيات كثيرة دالة على أنه يبين الحق واضحا في هذا الكتاب ليهدي به قوما ويجعله حجة على آخرين كقوله * (لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا) * وقوله * (قل هو للذين ءامنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى) * وقوله: * (ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين ءامنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدى من يشاء) * كما قال هنا * (وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون) * فالأشقياء يقولون: تعلمته من البشر بالدراسة وأهل العلم والسعادة يعلمون أنه الحق الذي لا شك فيه. * () * قوله تعالى * (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن الآية) *.
ذكر تعالى في
490

هذه الآية الكريمة أنه جعل لكل نبي عدوا وبين هنا أن أعداء الأنبياء هم شياطين الإنس والجن وصرح في موضع آخر أن أعداء الأنبياء من المجرمين وهو قوله * (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين) * فدل ذلك على أن المراد بالمجرمين شياطين الإنس والجن وذكر في هذه الآية أن من الإنس شياطين وصرح بذلك في قوله * (وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم) *. وقد جاء الخبر بذلك مرفوعا من حديث أبي ذر عند الإمام أحمد وغيره والعرب تسمي كل متمرد شيطانا سواء كان من الجن أو من الإنس كما ذكرنا أو من غيرهما وفي الحديث الكلب الأسود شيطان: وقوله شياطين بدل من قوله: * (عدوا) * أو مفعول أول ل * (جعلنا) * والثاني * (عدوا) * أي جعلنا شياطين الإنس والجن عدوا.
قوله تعالى: * (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) *. ذكر في هذه الآية الكريمة أن إطاعة أكثر أهل الأرض ضلال وبين في مواضع أخر أن أكثر أهل الأرض غير مؤمنين وأن ذلك واقع في الأمم الماضية كقوله * (ولاكن أكثر الناس لا يؤمنون) * وقوله * (ومآ أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) * وقوله * (ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين) * وقوله * (إن في ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين) * إلى غير ذلك من الآيات. * () * قوله تعالى: * (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) *.
التحقيق أنه فصله لهم بقوله: * (قل لا أجد في ما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة) * ومعنى الآية: أي شيء يمنعكم أن تأكلوا ما ذكيتم وذكرتم عليه اسم الله والحال أن الله فصل لكم المحرم أكله عليكم في قوله: * (قل لا أجد في ما أوحى إلى) * الآية وليس هذا منه.
وما يزعمه كثير من المفسرين من أنه فصله لهم بقوله: * (حرمت عليكم الميتة) *. فهو غلط. لأن قوله تعالى: * (حرمت عليكم الميتة) * من سورة المائدة وهي من آخر ما نزل من القرآن بالمدينة وقوله: * (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) * من سورة الأنعام وهي مكية. فالحق هو ما ذكرنا والعلم عند الله تعالى. * (قوله تعالى وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها الآية) *.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه جعل في كل قرية أكابر المجرمين منها ليمكروا فيها
491

ولم يبين المراد بالأكابر هنا ولا كيفية مكرهم وبين جميع ذلك في مواضع أخر: فبين أن مجرميها الأكابر هم أهل الترف والنعمة في الدنيا بقوله: * (ومآ أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوهآ إنا بما أرسلتم به كافرون) * وقوله: * (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوهآ إنا وجدنآ آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) *. ونحو ذلك من الآيات.
وبين أن مكر الأكابر المذكور: هو أمرهم بالكفر بالله تعالى وجعل الأنداد له بقوله: * (وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننآ أن نكفر بالله ونجعل له أندادا) * وقوله: * (ومكروا مكرا كبارا وقالوا لا تذرن ءالهتكم) *.
وأظهر أوجه الإعراب المذكورة في الآية عندي اثنان:
أحدهما: أن أكابر مضاف إلى مجرميها وهو المفعول الأول لجعل التي بمعنى صير والمفعول الثاني هو الجار والمجرور أعني في كل قرية.
والثاني: أن مجرميها مفعول أول. وأكابر مفعول ثان أي جعلنا مجرميها أكابرها والأكابر جمع الأكبر. قوله تعالى: * (وإذا جآءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله) *.
يعنون أنهم لن يؤمنوا حتى تأتيهم الملائكة بالرسالة كما أتت الرسل كما بينه تعالى في آيات أخر كقوله: * (وقال الذين لا يرجون لقآءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا الآية) *. وقوله: * (أو تأتى بالله والملائكة قبيلا) * إلى غير ذلك من الآيات. * () *
قوله تعالى: * (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) *.
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن هذه الآية الكريمة فقيل: كيف يشرح صدره يا رسول الله؟ صلى الله عليه وسلم قال: نور يقذف فيه فينشرح له وينفسح. قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل لقاء الموت ويدل لهذا قوله تعالى: * (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه) *
492

. * (قوله تعالى يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم الآية) *.
قال بعض العلماء: المراد بالرسل من الجن نذرهم الذين يسمعون كلام الرسل فيبلغونه إلى قومهم ويشهد لهذا أن الله ذكر أنهم منذرون لقومهم في قوله: * (وإذ صرفنآ إليك نفرا من الجن يستمعون القرءان فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين) *.
وقال بعض العلماء: * (رسل منكم) * أي من مجموعكم الصادق بخصوص الإنس: لأنه لا رسل من الجن ويستأنس لهذا القول بأن القرآن ربما أطلق فيه المجموع مرادا بعضه كقوله: * (وجعل القمر فيهن نورا) * وقوله: * (فكذبوه فعقروها) * مع أن العاقر واحد منهم كما بينه بقوله: * (فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر) *. واعلم أن ما ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله وغيره من أجلاء العلماء في تفسير هذه الآية: من أن قوله: * (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) * يراد به البحر الملح خاصة دون العذب غلط كبير لا يجوز القول به. لأنه مخالف مخالفة صريحة لكلام الله تعالى لأن الله ذكر البحرين الملح والعذب بقوله: * (وما يستوى البحران هاذا عذب فرات سآئغ شرابه وهذا ملح أجاج) * ثم صرح باستخراج اللؤلؤ والمرجان منهما جميعا بقوله: * (ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها) * والحلية المذكورة هي اللؤلؤ والمرجان فقصره على الملح مناقض للآية صريحا كما ترى. قوله تعالى: * (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون) *.
النفي في هذه الآية الكريمة منصب على الجملة الحالية والمعنى أنه لا يهلك قوما في حال غفلتهم أي عدم إنذارهم بل لا يهلك أحدا إلا بعد الإعذار والإنذار على ألسنة الرسل عليهم صلوات الله وسلامه كما بين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * وقوله * (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) * وقوله * (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) * وقوله * (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) * إلى غير ذلك من الآيات.
493

قوله تعالى: * (ولكل درجات مما عملوا) *.
بين في موضع آخر: أن تفاضل درجات العاملين في الآخرة أكبر وأن تفضيلها أعظم من درجات أهل الدنيا وهو قوله: * (انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا) *. * (قوله وآتوا حقه يوم حصاده الآية) *.
اختلف العلماء في المراد بهذا الحق المذكور هنا وهل هو منسوخ أو لا؟ فقال جماعة من العلماء: هذا الحق هو الزكاة المفروضة وممن قال بهذا أنس بن مالك وابن عباس وطاوس والحسن وابن زيد وابن الحنفية والضحاك وسعيد بن المسيب ومالك نقله عنهم القرطبي ونقله ابن كثير عن أنس وسعيد وغيرهما ونقله ابن جرير عن ابن
عباس وأنس والحسن وجابر بن زيد وسعيد بن المسيب وقتادة وطاوس ومحمد بن الحنفية والضحاك وابن زيد.
وقال قوم: ليس المراد به الزكاة وإنما المراد به أنه يعطي من حضر من المساكين يوم الحصاد القبضة والضغث ونحو ذلك وحمله بعضهم على الوجوب وحمله بعضهم على الندب قال القرطبي: وقال علي بن الحسين وعطاء والحكم وحماد وسعيد بن جبير ومجاهد: هو حق في المال سوى الزكاة أمر الله به ندبا وروي عن ابن عمر ومحمد بن الحنفية أيضا ورواه أبو سعيد الخدري عنه صلى الله عليه وسلم قال مجاهد: إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل وإذا جذذت فألق لهم في الشماريخ وإذا درسته وذريته فاطرح لهم منه وإذا عرفت كيله فأخرج منه زكاته.
وقال قوم: هو حق واجب غير الزكاة وهو غير محدد بقدر معين وممن قال به عطاء كما نقله عنه ابن جرير.
وقال قوم: هي منسوخة بالزكاة واختاره ابن جرير وعزاه الشوكاني في تفسيره لجمهور العلماء وأيده بأن هذه السورة مكية وآية الزكاة نزلت بالمدينة في السنة الثانية بعد الهجرة.
وقال ابن كثير في القول بالنسخ نظر لأنه قد كان شيئا واجبا في الأصل ثم إنه فصل بيانه وبين مقدار المخرج وكميته قالوا: وكان هذا في السنة الثانية من الهجرة. والله أعلم. انتهى من ابن كثير.
ومراده أن شرع الزكاة بيان لهذا الحق لا نسخ له وممن روى عنه القول بالنسخ ابن
494

عباس ومحمد ابن الحنفية والحسن والنخعي وطاوس وأبو الشعثاء وقتادة والضحاك وابن جريج نقله عنهم الشوكاني والقرطبي أيضا ونقله عن السدي وعطية ونقله ابن جرير أيضا عن ابن عباس وابن الحنفية وسعيد بن جبير وإبراهيم والحسن والسدي وعطية واستدل ابن جرير للنسخ بالإجماع على أن زكاة الحرث لا تؤخذ إلا بعد التذرية والتنقية وزكاة التمر لا تؤخذ إلا بعد الجذاذ فدل على عدم الأخذ يوم الحصاد فعلم أن الآية منسوخة أو أنها على سبيل الندب فالأمر واضح.
وعلى أن المراد بها الزكاة فقد أشير إلى أن هذا الحق المذكور هو جزء المال الواجب في النصاب في آيات الزكاة وهو المذكور في قوله: * (يا أيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم وممآ أخرجنا لكم من الأرض) * وبينته السنة فإذا علمت ذلك فاعلم أنه يحتاج هنا إلى بيان ثلاثة أشياء:
الأول: تعيين ما تجب فيه الزكاة مما تنبته الأرض.
الثاني: تعيين القدر الذي تجب فيه الزكاة منه.
الثالث: تعيين القدر الواجب فيه وسنبينها إن شاء الله مفصلة.
اعلم أولا أنه لا خلاف بين العلماء في وجوب الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب.
واختلف فيما سواها مما تنبته الأرض فقال قوم: لا زكاة في غيرها من جميع ما تنبته الأرض وروي ذلك عن الحسن وابن سيرين والشعبي.
وقال به من الكوفيين ابن أبي ليلى والثوري والحسن بن صالح وابن المبارك ويحيى بن آدم وإليه ذهب أبو عبيد.
وروي ذلك عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو مذهب أبي موسى فإنه كان لا يأخذ الزكاة إلا من الحنطة والشعير والتمر والزبيب. ذكره وكيع عن طلحة بن يحيى عن أبي بردة عن أبيه كما نقله عنهم القرطبي.
واستدل أهل هذا القول بما رواه الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو أنه قال: إنما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب وفي رواية عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: والعشر في التمر
495

والزبيب والحنطة والشعير وعن موسى بن طلحة عن عمر أنه قال: إنما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في هذه الأربعة: الحنطة والشعير والتمر والزبيب. وعن أبي بردة عن أبي موسى ومعاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثهما إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم فأمرهم ألا يأخذوا الصدقة إلا من هذه الأربعة الحنطة والشعير والتمر والزبيب رواها كلها الدارقطني قاله ابن قدامة في المغني.
قال مقيده عفا الله عنه: أما ما رواه الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده من أنه صلى الله عليه وسلم إنما سن الزكاة في الأربعة المذكورة فإسناده واه لأنه من رواية محمد بن عبيد الله العزرمي وهو متروك قاله ابن حجر في (التلخيص) وما رواه الدارقطني من حديث موسى بن طلحة عن عمر أنه صلى الله عليه وسلم إنما سن الزكاة في الأربعة المذكورة قال فيه أبو زرعة: موسى عن عمر: مرسل قاله ابن حجر أيضا وما عزاه الدارقطني عن أبي بردة عن أبي موسى ومعاذ رواه الحاكم والبيهقي عن أبي بردة عنهما.
وقال البيهقي: رواته ثقات وهو متصل قاله ابن حجر أيضا وقال مالك وأصحابه: تجب الزكاة في كل مقتات مدخر وذلك عنده في ثمار الأشجار إنما هو التمر والزبيب فقط ومشهور مذهبه وجوب الزكاة في الزيتون إذا بلغ حبه خمسة أوسق. ولكنها تخرج من زيته بعد العصر فيخرج عشره أو نصف عشره على ما سيأتي فإن لم يبلغ حبه خمسة أوسق فلا زكاة عنده في زيته: وحكم السمسم وبزر الفجل الأحمر والقرطم حكم الزيتون في مشهور مذهبه يخرج من زيتها إن بلغ حبها النصاب.
وقال اللخمي: لا يضم زيت بعضها إلى بعض لاختلاف أجناسها ومشهور مذهبه عدم وجوبها في التين وأوجبها فيه جماعة من أصحابه بمقتضى أصوله وقال ابن عبد البر: أظن مالكا ما كان يعلم أن التين ييبس ويقتات ويدخر. ولو كان يعلم ذلك لجعله كالزبيب ولما عده مع الفواكه التي لا تيبس ولا تدخر كالرمان والفرسك والذي تجب فيه من الحبوب عنده هو ما يقتات ويدخر وذلك الحنطة والشعير والسلت والعلس والدخن والذرة والأرز والعدس والجلبان واللوبيا والجلجلان والترمس والفول والحمص
والبسيلة.
ومشهور مذهبه أن الكرسنة لا زكاة فيها لأنها علف وعن أشهب وجوب الزكاة فيها وهي من القطاني على مشهور مذهبه في باب الربا دون باب الزكاة.
496

وقيل هي البسيلة وجميع أنواع القطاني عند مالك جنس واحد في الزكاة فلو حصد وسقا من فول ووسقا من حمص وآخر من عدس وآخر من جلبان وآخر من لوبيا وجب عليه أن يضم بعضها إلى بعض ويخرج الزكاة منها كل واحد بحسبه وكذلك يضم عنده القمح والشعير والسلت بعضها إلى بعض كالصنف الواحد وتخرج الزكاة منها كل بحسبه ولا يضم عنده تمر إلى زبيب ولا حنطة إلى قطنية ولا تمر إلى حنطة ولا أي جنس إلى جنس آخر غير ما ذكرنا عنه ضمه لتقارب المنفعة فيه عنده والنوع الواحد كالتمر والزبيب والحنطة يضم بعض أنواعه إلى بعض كصيحاني وبرني وسمراء ومحمولة وزبيب أسود وزبيب أحمر ونحو ذلك.
ولا زكاة عند مالك رحمه الله في شيء من الفواكه غير ما ذكرنا كالرمان والتفاح والخوخ والإجاص والكمثري واللوز والجوز والجلوز ونحو ذلك كما لا زكاة عنده في شيء من الخضراوات. قال في الموطأ: السنة التي لا اختلاف فيها عندنا والذي سمعت من أهل العلم أنه ليس في شيء من الفواكه كلها صدقة الرمان والفرسك والتين وما أشبه ذلك وما لم يشبهه إذا كان من الفواكه.
قال: ولا في القضب ولا في البقول كلها صدقة ولا في أثمانها إذا بيعت صدقة حتى يحول على أثمانها الحول من يوم بيعها ويقبض صاحبها ثمنها وهو نصاب اه.
والفرسك بكسر الفاء والسين بينها راء ساكنة آخره كاف الخوخ وهي لغة يمانية وقيل: نوع مثله في القدر وهو أجرد أملس أحمر وأصفر جيد وقيل: ما ليس ينفلق عن نواة من الخوخ وإذا كان الزرع أو الثمر مشتركا بين اثنين فأكثر فقد قال فيه مالك في الموطأ: في النخيل يكون بين الرجلين فيجذان منه ثمانية أوسق من التمر أنه لا صدقة عليهما فيها وأنه إن كان لأحدهما منها ما يجذ منه خمسة أوسق وللآخر ما يجذ أربعة أوسق أو أقل من ذلك في أرض واحدة كانت الصدقة على صاحب الخمسة الأوسق وليس على الذي جذ أربعة أوسق أو أقل منها صدقة وكذلك العمل في الشركاء كلهم في كل زرع من الحبوب كلها يحصد أو النخل يجذ أو الكرم يقطف فإنه إذا كان كل رجل منهم يجذ من التمر أو يقطف من الزبيب خمسة أوسق أو يحصد من الحنطة خمسة أوسق فعليه الزكاة ومن كان حقه أقل من خمسة أوسق فلا صدقة عليه.
وإنما تجب الصدقة على من بلغ جذاذه أو قطافه أو حصاده خمسة أوسق انتهى من
497

موطأ مالك رحمه الله.
وإذا أمسك ذلك الحب أو التمر الذي أخرج زكاته سنين ثم باعه فحكمه عند مالك ما ذكره في موطئه حيث قال: السنة عندنا أن كل ما أخرجت زكاته من هذه الأصناف كلها الحنطة والتمر والزبيب والحبوب كلها ثم أمسكه صاحبه بعد أن أدى صدقته سنين ثم باعه أنه ليس عليه في ثمنه زكاة حتى يحول على ثمنه الحول من يوم باعه إذا كان أصل تلك الأصناف من فائدة أو غيرها وأنه لم يكن للتجارة.
وإنما ذلك بمنزلة الطعام والحبوب والعروض يفيدها الرجل ثم يمسكها سنين ثم يبيعها بذهب أو ورق فلا يكون عليه في ثمنها زكاة حتى يحول عليها الحول من يوم باعها فإن كان أصل تلك العروض للتجارة فعلى صاحبها فيها الزكاة حين يبيعها إذا كان حبسها سنة من يوم زكى المال الذي ابتاعها به انتهى من الموطأ وهذا في المحتكر أما المدير فإنه يقومها بعد حول من زكاته كما في المدونة عن ابن القاسم.
هذا هو حاصل مذهب مالك رحمه الله فيما تجب فيه الزكاة من الثمار والحبوب ومذهب الشافعي رحمه الله أنه لا تجب الزكاة في شيء من ثمار الأشجار أيضا إلا فيما كان قوتا يدخر وذلك عنده التمر والزبيب فقط كما تقدم عن مالك ولا تجب عنده في سواهما من الثمار كالتين والتفاح والسفرجل والرمان ونحو ذلك لأنه ليس من الأقوات ولا من الأموال المدخرة ولا تجب عنده في طلع الفحال لأنه لا يجيء منه الثمار.
واختلف قوله في الزيتون فقال في القديم تجب فيه الزكاة لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه جعل في الزيت العشر وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: في الزيتون الزكاة وقال في الجديد: لا زكاة في الزيتون. لأنه ليس بقوت فهو كالخضراوات.
واختلف قول الشافعي رحمه الله أيضا في الورس فقال في القديم: تجب فيه الزكاة لما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كتب إلى بني خفاش أن أدوا زكاة الذرة والورس وقال في الجديد: لا زكاة فيه لأنه نبت لا يقتات فأشبه الخضراوات وقال الشافعي رحمه الله من قال: لا عشر في الورس لم يوجب في الزعفران ومن قال: يجب في الورس فيحتمل أن يوجب في الزعفران لأنهما
498

طيبان ويحتمل ألا يوجب في الزعفران ويفرق بينهما بأن الورس شجر له ساق والزعفران نبات واختلف قوله أيضا في العسل فقال في القديم: يحتمل أن تجب فيه ووجهه ما روي أن بني شبابة بطن من فهم كانوا يؤدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحل كان عندهم العشر من عشر قرب قربة وقال في الجديد: لا تجب لأنه ليس بقوت فلا يجب فيه العشر كالبيض.
واختلف قوله أيضا في القرطم وهو حب العصفر فقال في القديم: تجب إن صح فيه حديث أبي بكر رضي الله عنه وقال في الجديد: لا تجب لأنه ليس بقوت فأشبه الخضراوات قاله كله صاحب (المهذب) وقال النووي في شرح المهذب: الأثر المروي عن عمر أنه جعل في الزيت العشر ضعيف رواه البيهقي وقال: إسناده منقطع وراويه ليس بقوي قال: وأصح ما روي في الزيتون قول الزهري مضت السنة في زكاة الزيتون أن يؤخذ ممن عصر زيتونه حين يعصره فيما سقت السماء أو كان بعلا العشر وفيما سقي برش الناضح نصف العشر وهذا موقوف لا يعلم اشتهاره ولا يحتج به على الصحيح.
وقال البيهقي: وحديث معاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما أعلى وأولى أن يؤخذ به يعني روايتهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهما لما بعثهما إلى
اليمن: لا تأخذا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة: الشعير والحنطة والتمر والزبيب.
وأما الأثر المذكور عن ابن عباس فضعيف أيضا والأثر المذكور عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ضعيف أيضا ذكره الشافعي وضعفه هو وغيره واتفق الحفاظ على ضعفه واتفق أصحابنا في كتب المذهب على ضعفه قال البيهقي: ولم يثبت في هذا إسناد تقوم به حجة قال: والأصل عدم الوجوب فلا زكاة فيما لم يرد فيه حديث صحيح أو كان في معنى ما ورد به حديث صحيح وأما حديث بني شبابة في العسل فرواه أبو داود والبيهقي وغيرهما من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بإسناد ضعيف قال الترمذي في جامعه: لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا كبير شيء قال البيهقي: قال الترمذي في كتاب العلل: قال البخاري: ليس في زكاة العسل شيء يصح.
فالحاصل أن جميع الآثار والأحاديث التي في هذا الفصل ضعيفة انتهى كلام
499

النووي.
وقال ابن حجر في (التلخيص) في أثر عمر المذكور في الزيتون: رواه البيهقي بإسناد منقطع والراوي له عثمان بن عطاء ضعيف. قال: وأصح ما في الباب قول ابن شهاب: مضت السنة في زكاة الزيتون الخ.
وقال في (التلخيص) أيضا في أثر ابن عباس المذكور في الزيتون: ذكره صاحب (المهذب) عن ابن عباس وضعفه النووي وقد أخرجه ابن أبي شيبة وفي إسناده ليث بن أبي سليم.
وقال ابن حجر أيضا: روى الحاكم في تاريخ نيسابور من طريق عروة عن عائشة مرفوعا الزكاة في خمس: في البر والشعير. والأعناب والنخيل والزيتون وفي إسناده عثمان بن عبد الرحمن وهو الوقاصي: متروك الحديث.
وقال ابن حجر في الأثر المذكور عن أبي بكر: أنه كان يأخذ الزكاة من حب العصفر وهو القرطم لم أجد له أصلا وقال في (التلخيص) أيضا في خبر أخذه صلى الله عليه وسلم زكاة العسل أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: في العسل في كل عشرة أزقاق زق وقال في إسناده مقال ولا يصح وفي إسناده صدقة السمين وهو ضعيف الحفظ.
وقد خولف وقال النسائي: هذا حديث منكر ورواه البيهقي وقال: تفرد به صدقة وهو ضعيف وقد تابعه طلحة بن زيد عن موسى بن يسار ذكره المروزي ونقل عن أحمد تضعيفه وذكر الترمذي أنه سأل البخاري عنه فقال: هو عن نافع عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل ونقل الحاكم في تاريخ نيسابور عن أبي حاتم عن أبيه قال: حدث محمد بن يحيى الذهلي بحديث كاد أن يهلك حدث عن عارم عن ابن المبارك عن أسامة بن زيد عن أبيه عن ابن عمر مرفوعا أخذ من العسل العشر. قال أبو حاتم: وإنما هو عن أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده كذلك: حدثناه عارم وغيره قال: ولعله سقط من كتابه عمرو بن شعيب فدخله هذا الوهم.
قال الترمذي: وفي الباب عن عبد الله بن عمرو قلت: رواه أبو داود والنسائي من
500

رواية عمرو بن الحارث المصري عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء هلال أحد بني متعان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشور نحل له وسأله أن يحمي واديا له يقال له سلبة فحماه له فلما ولى عمر كتب إلى سفيان بن وهب إن أدى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عشور نحله فاحم له سلبة وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من يشاء.
قال الدارقطني: يروى عن عبد الرحمن بن الحارث وابن لهيعة عن عمرو بن شعيب مسندا ورواه يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرو بن شعيب مرسلا عن عمر مرسلا قلت: فهذه علته وعبد الرحمن وابن لهيعة ليسا من أهل الاتقان ولكن تابعهما عمرو بن الحارث أحد الثقات وتابعهما أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عند ابن ماجة وغيره كما مضى.
قال الترمذي: وفيه عن أبي سيارة قلت: هو المتعي قال: قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لي نحلا قال: أد العشور قال: قلت يا رسول الله أحم لي جبلها رواه أبو داود وابن ماجة والبيهقي من رواية سليمان بن موسى عن أبي سيارة وهو منقطع.
قال البخاري: لم يدرك سلمان أحدا من الصحابة وليس في زكاة العسل شيء يصح وقال أبو عمر: لا تقوم بهذا حجة. قال وعن أبي هريرة قلت: رواه البيهقي وفي إسناده عبد الله بن محرر وهو متروك ورواه أيضا من حديث سعد بن أبي ذباب: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمله على قومه وأنه قال لهم: أدوا العشر في العسل وأتى به عمر فقبضه فباعه ثم جعله في صدقات المسلمين وفي إسناده منير بن عبد الله ضعفه البخاري والأزدي وغيرهما.
قال الشافعي: وسعد بن أبي ذباب يحكي ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر فيه بشيء. وأنه شيء رآه هو فتطوع له به قومه وقال الزعفراني عن الشافعي: الحديث في أن في العسل العشر ضعيف واختياري أنه لا يؤخذ منه وقال البخاري: لا يصح فيه شيء.
وقال ابن المنذر: ليس فيه شيء ثابت وفي (الموطأ) عن عبد الله بن أبي بكر قال: جاء كتاب عمر بن عبد العزيز إلى أبي وهو بمنى ألا تأخذ من الخيل ولا من العسل صدقة انتهى كلام ابن حجر بلفظه.
501

وقال في (التلخيص) أيضا: إن حديث معاذ أنه لم يأخذ زكاة العسل وأنه قال: لم يأمرني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بشئ أخرجه أبو داود في (المراسيل) والحميدي في (مسنده) وابن أبي شيبة والبيهقي من طريق طاوس عنه وفيه انقطاع بين طاوس ومعاذ لكن قال البيهقي: هو قوي. لأن طاوسا كان عارفا بقضايا معاذ.
قال مقيده عفا الله عنه: ولا شك أن إخراج زكاته أحوط وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله ونقله صاحب (المغني) عن مكحول والزهري وسليمان بن موسى والأوزاعي وإسحاق.
وحجتهم الأحاديث التي رأيت ولا شيء فيه عند مالك والشافعي في (الجديد) وابن أبي ليلى والحسن بن صالح وابن المنذر وغيرهم.
وحجتهم عدم صحة ما ورد فيه وأن الأصل براءة الذمة وأنه مائع خارج من حيوان فأشبه اللبن.
وقال أبو حنيفة: إن كان في أرض للعشر ففيه الزكاة وإلا فلا زكاة فيه ونصاب العسل قيل: خمسة أفراق وهو قول الزهري وقيل: خمسة أوسق وبه قال أبو يوسف ومحمد.
وقال أبو حنيفة: تجب في قليله وكثيره. والفرق ستة عشر رطلا بالعراقي وقيل: ستون رطلا وقيل: مائة وعشرون رطلا وقيل: ثلاثة آصع وقيل: غير ذلك. قاله في (المغني).
وأما الحبوب: فلا تجب الزكاة عند الشافعي إلا فيما يقتات ويدخر منها ولا زكاة عنده في شيء من الفواكه التي لا تقتات ولا تدخر ولا في شيء من الخضراوات فمذهبه يوافق مذهب مالك كما قدمنا إلا أن الشافعي لا يضم بعض الأنواع إلى بعض ومالك يضم القطاني بعضها إلى بعض في الزكاة وكذلك القمح والشعير والسلت كما تقدم.
وأما مذهب الإمام أحمد رحمه الله فهو وجوب الزكاة فيما تنبته الأرض مما ييبس ويبقى. مما يكال. فأوصاف المزكي عنده مما تنبته الأرض ثلاثة: وهي الكيل والبقاء واليبس. فما كان كذلك من الحبوب والثمار وجبت فيه عنده سواء كان قوتا أم لا وما لم يكن كذلك لم تجب فيه. فتجب عنده في الحنطة والشعير والسلت
502

والأرز والذرة والدخن والقطاني كالباقلا والعدس والحمص والأبازير. كالكمون والكراويا والبزر كبزر الكتان والقثاء والخيار. وحب البقول كالرشاد وحب الفجل والقرطم والسمسم ونحو ذلك من سائر الحبوب. كما تجب عنده أيضا فيما جمع الأوصاف المذكورة من الثمار كالتمر والزبيب واللوز والفستق والبندق. ولا زكاة عنده في شيء من الفواكه: كالخوخ والإجاص والكمثري والتفاح والتين والجوز ولا في شيء من الخضر: كالقثاء والخيار والباذنجان واللفت والجزر ونحو ذلك.
ويروى نحو ما ذكرنا عن أحمد في الحبوب عن عطاء وأبي يوسف ومحمد وقال أبو عبد الله بن حامد: لا شيء في الأبازير ولا البزر. ولا حب البقول.
قال صاحب (المغني): ولعله لا يوجب الزكاة إلا فيما كان قوتا أو أدما. لأن ما عداه لا نص فيه ولا هو في معنى المنصوص فيبقى على النفي الأصلي ولا زكاة في مشهور مذهب أحمد رحمه الله فيما ينبت من المباح الذي لا يملك إلا بأخذه: كالبطم وشعير الجبل وبزر قطونا وبزر البقلة وحب النمام وبزر الأشنان ونحو ذلك وعن القاضي أنه تجب فيه الزكاة إذا نبت بأرضه.
والصحيح الأول: فإن تساقط في أرضه حب كحنطة مثلا فنبت ففيه الزكاة. لأنه يملكه ولا تجب الزكاة فيما ليس بحب ولا ثمر سواء وجد فيه الكيل والإدخار أو لم يوجدا فلا تجب في ورق مثل ورق السدر والخطمي والأشنان والصعتر والآس ونحوه. لأنه ليس بمنصوص عليه ولا في معنى المنصوص ولا زكاة عنده في الأزهار: كالزعفران والعصفر والقطن. لأنها ليس بحب ولا ثمر ولا هي بمكيل فلم تجب فيها زكاة. كالخضراوات.
قال الإمام أحمد: رحمه الله ليس في القطن شيء وقال: ليس في الزعفران زكاة وهو ظاهر كلام الخرقي واختيار أبي بكر. قاله ابن قدامة في (المغني).
واختلف عن أحمد رحمه الله الرواية في الزيتون: فروى عنه ابنه صالح أن فيه الزكاة وروي عنه أنه لا زكاة فيه وهو اختيار أبي بكر وظاهر كلام الخرقي يقتضيه. قاله أيضا صاحب المغني وأما أبو حنيفة رحمه الله فإنه قائل بوجوب الزكاة في كل ما تنبته الأرض طعاما كان أو غيره وقال أبو يوسف عنه إلا الحطب والحشيش والقصب والتبن والسعف وقصب الذريرة وقصب السكر اه. والذريرة: قصب
503

يجاء به من الهند كقصب النشاب أحمر يتداوى به وممن قال مثل قول أبي حنيفة النخعي وروي نحوه عن عمر بن عبد العزيز وهو قول حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة ونصره ابن العربي المالكي في أحكامه. قال: وأما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق. هذا هو حاصل مذاهب الأئمة الأربعة رضي الله عنهم. في تعيين ما تجب فيه الزكاة مما تنبته الأرض وسنشير إن شاء الله إلى دليل كل واحد منهم فيما ذهب إليه.
أما أبو حنيفة: فقد احتج على وجوب الزكاة في كل ما تنبته الأرض من قليل وكثير بعموم هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها. لأن الله قال فيها * (وآتوا حقه يوم حصاده) * بعموم قوله تعالى * (يا أيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم وممآ أخرجنا لكم من الأرض) *. وبعموم قوله صلى الله عليه وسلم فيما سقت السماء العشر الحديث ولم يقبل تخصيصه بحديث ليس فيما دون خمسة أوسق السماء العشر الحديث ولم يقبل تخصيصه بحديث ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة لأن القاعدة المقررة في أصوله رحمه الله أن العام قطعي الشمول والتناول لجميع أفراده كما أشار له في مراقي السعود بقوله: الرجز:
* وهو على فرد يدل حتما
* وفهم الاستغراق ليس جزما
*
* بل هو عند الجل بالرجحان
* والقطع فيه مذهب النعمان
*
فما كان أقل من خمسة أوسق يدخل عنده دخولا مجزوما به في عموم الآيات المذكورة والحديث. فلا يلزم عنده تخصيص العام بالخاص بل يتعارضان. وتقديم ما دل على الوجوب أولى من تقديم ما دل على غيره للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب.
وأما مالك والشافعي رحمهما الله تعالى فحجتهما في قولهما: إنه لا زكاة في غير النخل والعنب من الأشجار ولا في شيء من الحبوب إلا فيما يقتات ويدخر. ولا زكاة في الفواكه ولا الخضراوات لأن النص والإجماع دلا على وجوب الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب وكل واحد منها مقتات مدخر فألحقوا بها كل ما كان في معناها لكونه مقتاتا ومدخرا. ولم يريا أن في الأشجار مقتاتا ولا مدخرا غير التمر والزبيب فلم يشاركهما في العلة غيرهما من الثمار ولذا قال جماعة من أصحاب مالك بوجوبها في التين
504

على أصول مذهب مالك لأنه كالزبيب في الاقتيات والإدخار.
وقال ابن عبد البر: الظاهر أن مالكا ما كان يعلم أن التين كذلك وأما الحبوب فيوجد فيها الاقتيات والإدخار فألحقا بالحنطة والشعير كل ما كان مقتاتا ومدخرا كالأرز والذرة والدخن والقطاني ونحو ذلك. فهو إلحاق منهما رحمهما الله للمسكوت بالمنطوق بجامع العلة التي هي عندهما الاقتيات والإدخار. لأن كونه مقتاتا مدخرا مناسب لوجوب الصدقة فيه. لاحتياج المساكين إلى قوت يأكلون منه ويدخرون.
وأما أحمد رحمه الله فحجته في قوله إن الزكاة تجب فيما يبقى وييبس ويكال: أن ما لا ييبس ولا يبقى كالفواكه والخضراوات لم تكن تؤخذ منه الزكاة في زمنه صلى الله عليه وسلم ولا زمن الخلفاء الراشدين.
ودليله في اشتراطه الكيل قوله صلى الله عليه وسلم ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة قال: فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن محل الواجب في الوسق وهو خاص بالمكيل كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
أما دليل الجمهور منهم مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله على أن الفواكة والخضراوات. لا زكاة فيها فظاهر. لأن الخضراوات كانت كثيرة بالمدينة جدا والفواكه كانت كثيرة بالطائف ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أنه أخذ الزكاة من شيء من ذلك.
قال القرطبي: في تفسير هذه الآية. وقد كان بالطائف الرمان والفرسك والأترج فما اعترضه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ذكره لا أحد من خلفائه قلت: وهذا وإن لم يذكره في الأحكام هو الصحيح في المسألة وأن الخضراوات ليس فيها شيء وأما الآية فقد اختلف فيها: هل هي محكمة أو منسوخة أو محمولة على الندب؟ ولا قاطع يبين أحد محاملها بل القاطع المعلوم ما ذكره ابن بكير في أحكامه أن الكوفة افتتحت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وبعد استقرار الأحكام بالمدينة. أفيجوز أن يتوهم متوهم أو من له أدنى بصيرة أن تكون شريعة مثل هذه عطلت فلم يعمل بها في دار الهجرة ومستقر الوحي ولا خلافة أبي بكر حتى عمل بذلك الكوفيون؟ إن هذه لمصيبة فيمن ظن هذا أو قال به. قلت: ومما يدل على هذا من معنى التنزيل قوله تعالى: * (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) * أتراه يكتم شيئا أمر بتبليغه
505

أو بيانه حاشاه من ذلك وقال تعالى: * (اليوم أكملت لكم دينكم) * ومن كمال الدين كونه لم يأخذ من الخضراوات شيئا. وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فيما رواه الدارقطني: إن المقاثىء كانت تكون عندنا تخرج عشرة آلاف فلا يكون فيها شيء. وقال الزهري والحسن: تزكى أثمان الخضر إذا أينعت وبلغ الثمن مائتي درهم وقاله الأوزاعي في ثمن الفواكه ولا حجة في قولهما لما ذكرنا.
وقد روى الترمذي عن معاذ: أنه كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الخضراوات وهي البقول فقال: ليس فيها شيء وقد روي هذا المعنى عن جابر وأنس وعلي ومحمد بن عبد الله بن جحش وأبي موسى وعائشة: ذكر أحاديثهم الدارقطني رحمه الله وقال الترمذي ليس يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء واحتج بعض أصحاب أبي حنيفة رحمه الله بحديث صالح بن موسى عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيما أنبتت الأرض من الخضر زكاة قال أبو عمر: وهذا حديث لم يروه من ثقات أصحاب منصور أحد هكذا وإنما هو من قول إبراهيم قلت وإذا سقط الإستدلال من جهة السنة لضعف أسانيدها لم يبق إلا ما ذكرناه من تخصيص عموم الآية وعموم قوله صلى الله عليه وسلم فيما سقت السماء العشر بما ذكرنا اه. كلام القرطبي.
وحجة من قال: بأنه لا زكاة في غير الأربعة المجمع عليها التي هي الحنطة والشعير والتمر والزبيب هي الأحاديث التي قدمنا في أول هذا المبحث وفيها حديث معاذ وأبي موسى الذي تقدم عن البيهقي أنه قوي متصل. وقال أبو يوسف ومحمد: ليس في شيء من الخضر زكاة إلا ما كانت له ثمرة باقية سوى الزعفران ونحوه مما يوزن ففيه الزكاة وكان محمد يعتبر في العصفر والكتان والبزر. فإذا بلغ بزرهما من القرطم والكتان خمسة أوسق. كان العصفر والكتان تبعا للبزر وأخذ منه العشر أو نصف العشر وأما القطن فليس عنده فيما دون خمسة أحمال شيء والحمل ثلاثمائة من بالعراقي والورس والزعفران ليس فيما دون خمسة أمنان منهما شيء. فإذا بلغ أحدهما خمسة أمنان كانت فيه الصدقة وقال أبو يوسف وكذلك قصب السكر الذي يكون منه السكر ويكون في أرض العشر دون أرض الخراج فيه ما في الزعفران وأوجب عبد الملك بن الماجشون الزكاة في أصول الثمار دون البقول وهو مخالف لما عليه أهل مذهبه مالك وأصحابه. قاله القرطبي.
506

تنبيه
من قال لا زكاة في الرمان وهم جمهور العلماء ومن قال لا زكاة في الزيتون يلزم على قول كل منهم أن تكون الآية التي نحن بصددها التي هي قوله تعالى: * (وآتوا حقه يوم حصاده) * منسوخة أو مرادا بها غير الزكاة لأنها على تقدير أنها محكمة وأنها في الزكاة المفروضة لا يمكن معها القول بعدم زكاة الزيتون والرمان لأنها على
ذلك صريحة فيها. لأن المذكورات في قوله تعالى: * (والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه) * يرجع إلى كلها الضمير في قوله: * (كلوا من ثمره) * وقوله: * (وآتوا حقه يوم حصاده) * كما هو واضح لا لبس فيه. فيدخل فيه الزيتون والرمان دخولا أوليا لا شك فيه فقول أكثر أهل العلم بعدم الزكاة في الرمان يقوي القول بنسخ الآية أو أنها في غير الزكاة المفروضة والله تعالى أعلم وعن أبي يوسف أنه أوجب الزكاة في الحناء واعلم أن مذهب داود بن علي الظاهري في هذه المسألة قوي جدا من جهة النظر. لأنه قال ما أنبتته الأرض ضربان موسق وغير موسق فما كان موسقا وجبت الزكاة فيما بلغ منه خمسة أوسق لقوله صلى الله عليه وسلم: ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ولا زكاة فيما دونها منه وما كان غير موسق ففي قليله وكثيره الزكاة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: فيما سقت السماء العشر ولا يخصص بحديث ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة لأنه غير موسق أصلا. قال مقيده: عفا الله عنه وهذا القول هو أسعد الأقوال بظاهر النصوص وفيه نوع من الجمع بينها إلا أنه يرد عليه ما قدمنا من أنه صلى الله عليه وسلم لم يتعرض للخضراوات مع كثرتها في المدينة ولا الفواكه مع كثرتها بالطائف ولو كان العموم شاملا لذلك لبينه صلى الله عليه وسلم وإذا عرفت كلام العلماء في تعيين ما تجب فيه الزكاة وأدلة أقوالهم مما ذكرنا.
فاعلم أن جمهور العلماء قالوا لا تجب الزكاة إلا في خمسة أوسق فصاعدا لقوله صلى الله عليه وسلم: ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة الحديث. أخرجه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ومسلم من حديث جابر رضي الله عنه.
وممن قال بهذا الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله وأصحابهم وهو قول ابن عمر وجابر وأبي أمامة بن سهل وعمر بن عبد العزيز وجابر بن زيد والحسن وعطاء ومكحول والحكم والنخعي وأهل المدينة والثوري والأوزاعي وابن أبي
507

ليلى وأبي يوسف ومحمد وسائر أهل العلم كما نقله عنهم ابن قدامة وغيره.
وقال ابن قدامة في المغني: لا نعلم أحدا خالف فيه إلا أبا حنيفة ومن تابعه ومجاهدا وقد أجمع جميع العلماء على أن الوسق ستون صاعا. وهو بفتح الواو وكسرها والفتح أشهر وأفصح. وقيل: هو بالكسر اسم وبالفتح مصدر ويجمع على أوسق في القلة وأوساق وعلى وسوق في الكثرة. واعلم أن الصاع أربعة أمداد بمده صلى الله عليه وسلم. والمد بالتقريب: ملء اليدين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين وتحديده بالضبط وزن رطل وثلث بالبغدادي فمبلغ الخمسة الأوسق من الأمداد ألف مد ومائتا مد ومن الصيعان ثلاثمائة وهي بالوزن ألف رطل وستمائة رطل. والرطل: وزن مائة وثمانية وعشرين درهما مكيا. وزاد بعض أهل العلم: أربعة أسباع درهم كل درهم وزن خمسين وخمسي حبة من مطلق الشعير كما حرره علماء المالكية ومالك رحمه الله من أدرى الناس بحقيقة المد والصاع كما هو معلوم وقيل فيه: غير ما ذكرنا.
وأما الحكم الثالث من أحكام هذه المسألة الثلاثة المذكورة في أول هذا المبحث وهو تعيين القدر الواجب إخراجه. فلا خلاف فيه بين العلماء وهو العشر فيما ليس في سقيه مشقة. كالذي يسقيه المطر أو النهر أو عروقه في الأرض وأما ما يسقى بالآلة كالذي يسقى بالنواضح ففيه نصف العشر وهذا ثابت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث جابر وابن عمر فإن سقى تارة بمطر السماء مثلا وتارة بالسانية فإن استويا فثلاثة أرباع العشر بلا خلاف بين العلماء وإن كان أحد الأمرين أغلب. فقيل: يغلب الأكثر ويكون الأقل تبعا له وبه قال أحمد وأبو حنيفة والثوري وعطاء وهو أحد قولي الشافعي وقيل: يؤخذ بالتقسيط وهذان القولان كل منهما شهره بعض المالكية وحكى بعضهم رواية عن مالك: أن المعتبر ما حيى به الزرع وتم وممن قال بالتقسيط من الحنابلة: ابن حامد فإن جهل المقدار وجب العشر احتياطا كما نص عليه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في رواية عبد الله. قاله في المغني. وعلله بأن الأصل وجوب العشر وإنما يسقط نصفه يتحقق الكلفة. وإذا لم يتحقق المسقط وجب البقاء على الأصل وهو ظاهر جدا. وإن اختلف الساعي ورب المال في أيهما سقى به أكثر؟ فالقول: قول رب المال بغير يمين لأن الناس لا يستحلفون على صدقاتهم ولا وقص في الحبوب والثمار بل كل ما زاد على النصاب أخرج منه بحسبه
508

. * *
مسائل تتعلق بهذا المبحث
المسألة الأولى: قد قدمنا إجماع العلماء على وجوب الزكاة في التمر والزبيب. وجمهورهم على أنهما يخرصان إذا بدا صلاحهما لأن المالكين يحتاجون إلى أكل الرطب والعنب. فبسبب ذلك شرع خرص التمر والعنب ويخرص كل واحد منهما شجرة شجرة حتى يعلم قدر ما في الجميع الآن من الأوساق ثم يسقط منه قدر ما ينقصه الجفاف. فلو كان فيه خمسة أوسق من العنب أو الرطب وإذا جف كانت أربعة أوسق مثلا. فلا زكاة فيه لأن النصاب معتبر من التمر والزبيب اليابسين لا من الرطب والعنب وإذا خرص على الوجه الذي ذكرنا خلى بين مالكيه وبينه وبعد الجذاذ يأتون بقدر الزكاة على الخرص المذكور تمرا أو زبيبا وبذلك يحصل الجمع بين الاحتياط للفقراء والرفق بأرباب الثمار فإن أصابته بعد الخرص جائحة اعتبرت وسقطت زكاة ما اجتاحته الجائحة فإن بقي بعدها خمسة أوسق فصاعدا أخرج الزكاة وإلا فلا ولا خلاف في اعتبار الجائحة بعد الخرص بين العلماء.
وممن قال بخرص النخيل والأعناب: الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى وعمر بن الخطاب وسهل بن أبي حثمة ومروان والقاسم بن محمد والحسن وعطاء والزهري وعمرو بن دينار وعبد الكريم بن أبي المخارق وأبو عبيد وأبو ثور: وأكثر أهل العلم كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني وحكي عن الشعبي أن الخرص بدعة ومنعه الثوري وقال أبو حنيفة وأصحابه: الخرص ظن وتخمين لا يلزم به حكم وإنما كان الخرص تخويفا للقائمين على الثمار لئلا يخونوا فأما أن يلزم به حكم فلا. قال مقيده عفا الله عنه: لا يخفى أن هذا القول تبطله نصوص السنة الصحيحة الصريحة فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي حميد الساعدي
رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فأتينا وادي القرى على حديقة لامرأة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخرصوها فخرصناها وخرصها رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أوسق وقال: أحصيها حتى نرجع إليك إن شاء الله وانطلقنا حتى قدمنا تبوك فذكر الحديث.
قال: ثم أقبلنا حتى قدمنا وادي القرى فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة عن حديقتها
509

كم بلغ ثمرها؟ قالت: بلغ عشرة أوسق فهذا الحديث المتفق عليه دليل واضح على مشروعية الخرص كما ترى.
وعن عتاب بن أسيد رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث على الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان.
وعن عتاب رضي الله عنه أيضا قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النخل فتؤخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ صدقة النخل تمرا أخرجه أيضا أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والدارقطني.
والتحقيق في حديث عتاب هذا أنه من مراسيل سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى لأنه لم يدرك عتابا لأن مولد سعيد في خلافة عمر وعتاب مات يوم مات أبو بكر رضي الله عنهما وقد أثبت الحجة بمراسيل سعيد كثير ممن يقولون بعدم الاحتجاج بالمرسل وقال النووي في شرح المهذب: إن من أصحابنا: من قال يحتج بمراسيل ابن المسيب مطلقا والأصح أنه إنما يحتج بمراسيله إذا اعتضدت بأحد أربعة أمور: أن يسند أو يرسل من جهة أخرى أو يقول به بعض الصحابة أو أكثر العلماء وقد وجد ذلك هنا. فقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على وجوب الزكاة في التمر والزبيب.
قال مقيده عفا الله عنه: وبما ذكره النووي تعلم اتفاق الشافعية على الاحتجاج بهذا المرسل والأئمة الثلاثة يحتجون بالمرسل مطلقا فظهر إجماع المذاهب الأربعة على الاحتجاج بمثل هذا المرسل وروى هذا الحديث الدارقطني بسند فيه الواقدي متصلا فقال عن سعيد بن المسيب عن المسور بن مخرمة عن عتاب بن أسيد.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص النخل حين يطيب قبل أن يوكل منه ثم يخير يهود يأخذونه بذلك الخرص أو يدفعونه إليهم بذلك الخرص لكي يحصي الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق أخرجه أحمد وأبو داود وقد أعل بأن فيه واسطة بين ابن جريج والزهري ولم يعرف وقد رواه عبد الرزاق والدارقطني بدون الواسطة المذكورة وابن جريج مدلس فلعله تركها تدليسا قاله ابن حجر وقال ذكر الدارقطني الاختلاف فيه قال: فرواه صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة وأرسله معمر ومالك وعقيل: فلم يذكروا أبا
510

هريرة وأخرج أبو داود من طريق ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول خرصها ابن رواحة أربعين ألف وسق.
وقال ابن حجر في التلخيص: أيضا روى أحمد من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر يخرص عليهم الحديث:
وروى أبو داود والدارقطني من حديث جابر لما فتح الله على رسوله خيبر أقرهم وجعلها بينه وبينهم فبعث عبد الله بن رواحة فخرصها عليهم الحديث ورواه ابن ماجة من حديث ابن عباس.
وروى الدارقطني عن سهل بن أبي حثمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أباه خارصا فجاء رجل فقال: يا رسول الله إن أبا حثمة قد زاد علي الحديث ثم ذكر ابن حجر حديث عتاب وحديث عائشة اللذين قدمناهما ثم قال وفي الصحابة لأبي نعيم من طريق الصلت بن زبيد بن الصلت عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمله على الخرص فقال: أثبت لنا النصف وأبق لهم النصف فإنهم يسرقون ولا نصل إليهم.
فبهذا الذي ذكرنا كله تعلم أن الخرص حكم ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ظن وتخمين باطل بل هو اجتهاد ورد به الشرع في معرفة قدر الثمر وإدراكه بالخرص الذي هو نوع من المقادير والمعايير فهو كتقويم المتلفات ووقت الخرص حين يبدو صلاح الثمر كما قدمنا لما قدمنا من الرواية بأنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث الخارص فيخرص عليهم النخل حين يطيب قبل أن يؤكل ولا خلاف في ذلك بين العلماء.
والجمهور القائلون بالخرص اختلفوا في حكمه فقيل: هو سنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر به وقيل: واجب لما تقدم في حديث عتاب من قوله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه أن يخرص العنب الحديث المتقدم قالوا: الأمر للوجوب ولأنه إن ترك الخرص قد يضيع شيء من حق الفقراء والأظهر عدم الوجوب لأن الحكم بأن هذا الأمر واجب يستوجب تركه العقاب يحتاج إلى دليل ظاهر قوي والله تعالى أعلم.
واختلف العلماء القائلون بالخرص هل على الخارص أن يترك شيئا قال بعض العلماء: عليه أن يترك الثلث أو الربع لما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن إلا ابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححاه عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه قال: قال
511

رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع فإن قيل في إسناده عبد الرحمن بن مسعود بن نيار الراري عن سهل بن أبي حثمة.
وقد قال البزار: إنه انفرد به وقال ابن القطان لا يعرف حاله فالجواب أن له شاهدا بإسناد متفق على صحته أن عمر بن الخطاب أمر به قاله الحاكم ومن شواهده ما رواه ابن عبد البر عن جابر مرفوعا خففوا في الخرص الحديث وفي إسناده ابن لهيعة.
وممن قال بهذا القول الإمام أحمد وإسحاق والليث وأبو عبيد وغيرهم ومشهور مذهب مالك. والصحيح في مذهب الشافعي أن الخارص لا يترك شيئا.
قال مقيده عفا الله عنه: والقول بأنه يترك الثلث أو الربع هو الصواب لثبوت الحديث الذي صححه ابن حبان والحاكم بذلك ولم يثبت ما يعارضه ولأن الناس يحتاجون إلى
أن يأكلوا ويطعموا جيرانهم وضيوفهم وأصدقاءهم وسؤالهم ولأن بعض الثمر يتساقط وتنتابه الطير وتأكل منه المارة فإن لم يترك لهم الخارص شيئا. فالظاهر أن لهم الأكل بقدر ما كان يلزم إسقاطه ولا يحسب عليهم.
وهذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله وهو مقتضى ما دل عليه الحديث المذكور فإن زاد الثمر أو نقص عما خرصه به الخارص فقال بعض العلماء: لا زكاة عليه فيما زاد وتلزمه فيما نقص لأنه حكم مضى.
وقال بعضهم: يندب الإخراج في الزائد ولا تسقط عنه زكاة ما نقص.
قال مقيده عفا الله عنه أما فيما بينه وبين الله فلا شك أنه لا تجب عليه زكاة شيء لم يوجد وأما فيما بينه وبين الناس فإنها قد تجب عليه قال خليل بن إسحاق المالكي في مختصره وإن زادت على تخريص عارف فالأحب الإخراج وهل على ظاهره أو الوجوب تأويلان.
قال شارحه المواق من المدونة: قال مالك: من خرص عليه أربعة أوسق فرفع خمسة أوسق أحببت له أن يزكي ابن يونس قال بعض شيوخنا: لفظة أحببت ها هنا على الإيجاب وهو صواب كالحاكم يحكم بحكم ثم يظهر أنه خطأ صراح ابن عرفة على هذا حملها الأكثر وحملها ابن رشيد وعياض على الاستحباب.
قال مقيده عفا الله عنه: ووجوب الزكاة في الزائد هو الأظهر وعليه أكثر المالكية وهو الصحيح عند الشافعية وأما النقص فإذا ثبت ببينة أنها نقصت عما خرصت به
512

فالظاهر أنه تسقط عنه زكاة ما نقصت به وإن ادعى غلط الخارص.
فقد قال بعض أهل العلم: لم تقبل دعواه لأن الخارص أمين وقال بعض العلماء: تقبل دعواه غلط الخارص إذا كانت مشبهة أما إذا كانت بعيدة كدعواه زيادة النصف أو الثلثين فلا يقبل قوله في الجميع وهذا التفصيل هو مذهب الشافعي وأحمد إلا أن بعض الشافعية قال يسقط عنه من الكثير الذي ادعى قدر النقص الذي تقبل دعواه فيه وأما إن ادعى أن الخارص جار عليه عمدا فلا تقبل دعواه عليه بلا خلاف كما لو ادعى جور الحاكم أو كذب الشاهد وكذا إذا ادعى أنه غلط في الخرص ولم يبين قدر ما زاد لم يقبل منه نص عليه علماء الشافعية وإن ادعى رب الثمر أنه أصابته جائحة أذهبت بعضه فالظاهر تصديقه فيما يشبه قوله كما لو ادعى أن بعضه سرق بالليل مثلا قيل بيمين.
وقيل: لا وإن أضاف هلاك الثمرة إلى سبب يكذبه الحس كأنه يقول هلكت بحريق وقع في الجرين في وقت كذا وعلمنا أنه لم يحترق في ذلك الوقت لم يلتفت إلى كلامه فإن علم وقوع السبب الذي ذكر وعموم أثره صدق بلا يمين وإن اتهم حلف قيل: وجوبا وقيل: استحبابا وإن لم يعرف عدم السبب المذكور ولا وجوده فالصحيح أنه يكلف بالبينة على وجود أصل السبب ثم القول قوله في الهلاك به وهذا التفصيل الأخير للشافعية ذكره النووي في شرح المهذب ووجهه ظاهر والله تعالى أعلم.
وجمهور العلماء على أنه لا يخرص غير التمر والزبيب فلا يخرص الزيتون والزرع ولا غيرهما وأجازه بعض العلماء في الزيتون وأجازه بعضهم في سائر الحبوب. والصحيح أنه لا يجوز إلا في التمر والعنب لثلاثة أمور:
الأول: أن النص الدال على الخرص لم يرد إلا فيهما كما تقدم في حديث عتاب بن أسيد وغيره من الأحاديث.
الثاني: أن غيرهما ليس في معناهما لأن الحاجة تدعوا غالبا إلى أكل الرطب قبل أن يكون تمرا والعنب قبل أن يكون زبيبا وليس غيرهما كذلك الثالث: أن ثمرة النخل ظاهرة مجتمعة في عذوقها والعنب ظاهر أيضا مجتمع في عناقيده فحزرهما ممكن بخلاف غيرهما من الحبوب فإنه متفرق في شجره والزرع مستتر في سنبله.
513

والظاهر أن ما جرت العادة بالحاجة إلى أكله لا يحسب لما قدمنا وقال المالكية يحسب عليهم كلما أكلوه من الحب ولا يحسب ما تأكله الدواب في درسها. * *
المسألة الثانية: لا يجوز إخراج زكاة الثمار إلا من التمر اليابس والزبيب اليابس وكذلك زكاة الحبوب لا يجوز إخراجها إلا من الحب اليابس بعد التصفية وهذا لا خلاف فيه بين العلماء وأجرة القيام على الثمار والحبوب حتى تيبس وتصفى من خالص مال رب الثمرة والزرع فإن دفع زكاة التمر بسرا أو رطبا أو دفع زكاة الزبيب عنبا لم يجزه ذلك لأنه دفع غير الواجب لأن الواجب تمر وزبيب يابسان إجماعا.
وقد قال ابن قدامة في المغني: فإن كان المخرج للرطب رب المال لم يجزه ولزمه إخراج الفضل بعد التجفيف لأنه أخرج غير الفرض فلم يجزه كما لو أخرج الصغير عن الماشية الكبار وهو نص صريح منه في أن الرطب غير الواجب وأن منزلته من التمر الذي هو الواجب كمنزلة صغار الماشية من الكبار التي هي الواجبة في زكاة الماشية.
وقال النووي في شرح المهذب ما نصه فلو أخرج الرطب والعنب في الحال لم يجزئه بلا خلاف ولو أخذه الساعي غرمه بلا خلاف لأنه قبضه بغير حق وكيف يغرمه فيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف في آخر الباب: الصحيح: الذي قطع به الجمهور ونص عليه الشافعي رضي الله عنه أنه يلزمه قيمته.
والثاني: يلزمه مثله وهما مبنيان على أن الرطب والعنب مثليان أم لا والصحيح المشهور أنهما ليسا مثليين ولو جف عند الساعي فإن كان قدر الزكاة أجزأ وإلا رد التفاوت أو أخذه كذا قاله العراقيون وغيرهم وحكى ابن كج وجها أنه لا يجزئ بحال لفساد القبض قال الرافعي: وهذا الوجه أولى والمختار ما سبق انتهى كلام النووي بلفظه وهو صريح في عدم إجزاء
514

الرطب والعنب بلا خلاف عند الشافعية.
وقال صاحب المهذب ما نصه: فإن أخذ الرطب وجب رده وإن فات وجب رد قيمته ومن أصحابنا من قال: يجب رد مثله والمذهب الأول لأنه لا مثل له لأنه يتفاوت ولهذا لا يجوز بيع بعضه ببعض اه. منه بلفظه وهو صريح في عدم إجزاء الرطب في زكاة التمر وهذا الذي ذكرنا عن عامة العلماء من أن الزكاة لا تؤخذ إلا من التمر
والزبيب اليابسين هو مذهب مالك وعامة أصحابه وفي الموطأ ما نصه.
قال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا أن النخل تخرص على أهلها وثمرها في رءوسها إذا طاب وحل بيعه ويؤخذ منه صدقته تمرا عند الجذاذ إلى أن قال: وكذلك العمل في الكرم انتهى محل الفرض منه بلفظه وفيه تصريح مالك رحمه الله بأن الأمر المجتمع عليه من علماء زمنه أن الزكاة تخرج تمرا وهو يدل دلالة واضحة على أن من ادعى جواز إخراجها من الرطب أو البسر فدعواه مخالفة للأمر المجتمع عليه عند مالك وعلماء زمنه.
ومن أوضح الأدلة على ذلك أن البلح الذي لا يتتمر والعنب الذي لا يتزبب كبلح مصر وعنبها لا يجوز الإخراج منه مع تعذر الواجب الذي هو التمر والزبيب اليابسان بل تدفع الزكاة من ثمنه أو قيمته عند مالك وأصحابه فلم يجعلوا العنب والرطب أصلا ولم يقبلوهما بدلا عن الأصل وقالوا: بوجوب الثمن إن بيع والقيمة إن أكل.
قال خليل في مختصره: وثمن غير ذي الزيت وما لا يجف ومراده بقوله: وما لا يجف أن الرطب والعنب اللذين لا ييبسان يجب الإخراج من ثمنهما لا من نفس الرطب والعنب وفي المواق في شرح قول خليل وإن لم يجف ما نصه.
قال مالك: إن كان رطب هذا النخل لا يكون تمرا ولا هذا العنب زبيبا فليخرص أن لو كان ذلك فيه ممكنا فإن صح في التقدير خمسة أوسق أخذ من ثمنه انتهى محل الفرض منه بلفظه وهو نص صريح عن مالك أنه لا يرى إخراج الرطب والعنب في الزكاة لعدوله عنهما إلى الثمن في حال تعذر التمر والزبيب اليايبسين فكيف بالحالة التي لم يتعذرا فيها.
والحاصل أن إخراج الرطب والعنب عما ييبس من رطب وعنب لم يقل به أحد من العلماء ولا دل عليه دليل من كتاب ولا سنة ولا قياس وأما الذي لا ييبس كبلح مصر وعنبها ففيه قول مرجوح عند المالكية بإجزاء الرطب والعنب ونقل هذا القول عن ابن رشد وسترى إن شاء الله في آخر هذا المبحث كلام الشافعية والحنابلة فيه فإن قيل: فما الدليل على أنه لا يجزئ إلا التمر والزبيب واليابسان دون الرطب والعنب؟
فالجواب: أن ذلك دلت عليه عدة أدلة
515

الأول: هو ما قدمنا من حديث عتاب بن أسيد رضي الله عنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النخل فتؤخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ صدقة النخل تمرا وقد قدمنا أن هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والدارقطني وقد قدمنا أنه من مراسيل سعيد بن المسيب وقدمنا أيضا أن الاحتجاج بمثل هذا المرسل من مراسيل سعيد صحيح عند الأئمة الأربعة فإذا علمت صحة الاحتجاج بحديث سعيد بن المسيب هذا. فاعلم أنه نص صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بخرص العنب والنخل وأن تؤخذ زكاة العنب زبيبا وصدقة النخل تمرا فمن ادعى جواز أخذ زكاة النخل رطبا أو بسرا فدعواه مخالفة لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه أمر بأخذها في حال كونها تمرا في النخل وزبيبا في العنب ومعلوم أن الحال وصف لصاحبها قيد لعاملها. فكون زكاة النخل تمرا وصف لها أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراجها في حال كونها متصفة به. وكذلك كونها تمرا قيد لأخذها فهو تقييد من النبي صلى الله عليه وسلم لأخذها بأن يكون في حال كونها تمرا فيفهم منه أنها لا تؤخذ على غير تلك الحال ككونها رطبا مثلا وإذا اتضح لك أن أخذها رطبا _ مثلا مخالف لما أمر به صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه قال في الحديث المتفق عليه من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد وفي رواية في الصحيح من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد وفي الكتاب العزيز * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) *.
ومما يوضح لك أن إخراج الرطب مثلا في الزكاة مخالف لما سنه وشرعه صلى الله عليه وسلم من أخذها تمرا وزبيبا يابسين ما ذكره البيهقي في السنن الكبرى في باب كيف تؤخذ زكاة النخل والعنب فإنه قال فيه وأخبرنا أبو الحسن بن أبي المعروف الفقيه المهرجاني. أنبأ بشر بن أحمد. أنبأ أحمد بن الحسين بن نصر الحذاء. ثنا علي بن عبد الله ثنا يزيد بن زريع ثنا عبد الرحمن بن إسحاق أخبرني الزهري عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عتاب بن أسيد أن يخرص العنب كما يخرص النخل ثم تؤدى زكاته زبيبا كما تؤدى زكاة النخل تمرا قال: فتلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في النخل والعنب اه. منه بلفظه وفيه التصريح بأن إخراج التمر والزبيب: هو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمخرج الرطب والعنب مخالف لسنته صلى الله عليه وسلم كما ترى.
الدليل الثاني: إجماع المسلمين على أن زكاة الثمار والحبوب من نوع ما تجب الزكاة في عينه والعين الواجبة فيها الزكاة هي: التمر والزبيب اليابسان. لا الرطب
516

والعنب بدليل إجماع القائلين بالنصاب في الثمار. على أن خمسة الأوسق التي هي النصاب لا تعتبر من الرطب ولا من العنب فمن كان عنده خمسة أوسق من الرطب أو العنب ولكنها إذا جفت نقصت عن خمسة أوسق فلا زكاة عليه. لأن النصاب معتبر من التمر والزبيب اليابسين فلو أخرج الزكاة من الرطب أو العنب لكان مخرجا من غير ما تجب في عينه الزكاة كما ترى ويدل له ما ذكره الزرقاني في شرح الموطأ فإنه قال فيه في شرح قول مالك. ثم يؤدون الزكاة على ما خرص عليهم ما نصه ومبنى التخريص أن يحزر ما في النخل أو العنب من التمر اليابس إذ جذ على حسب جنسه وما علم من حاله أنه يصير إليه عند الإتمار. لأن الزكاة إنما تؤخذ منه تمرا. انتهى محل الفرض منه بلفظه.
وقد تقرر عند جماهير العلماء أن لفظة إنما للحصر وهو الحق. فقول الزرقاني لأن الزكاة إنما تؤخذ منه تمرا معناه حصر أخذ زكاة النخل في خصوص التمر دون غيره من رطب ونحوه معللا بذلك اعتبار النصاب من التمر اليابس. لأن الإخراج مما تجب في عينه الزكاة من الثمار والحبوب وهو واضح ولا يرد على ما ذكرناه أن وقت وجوب الزكاة: هو وقت طيب الثمر قبل أن يكون يابسا لإجماع العلماء على أنه لا يجب إخراجها بالفعل إلا بعد أن يصير تمرا يابسا ولإجماعهم أيضا على أنه إن أصابته جائحة اعتبرت فتسقط زكاة ما أجيح كما تسقط زكاة الكل إن لم يبق منه نصاب. وسيأتي له زيادة إيضاح.
الدليل الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذها تمرا بعد الجذاذ لا بلحا ولا رطبا والله جل وعلا يقول: * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) * ويقول: * (ومآ آتاكم الرسول فخذوه) * ويقول: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * ويقول: * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني) * إلى غير ذلك من الآيات.
قال البخاري في صحيحه: باب أخذ صدقة التمر عند صرام النخل وهل يترك الصبي فيمس الصدقة حدثنا عمر بن محمد بن الحسن الأسدي. حدثنا أبي حدثنا إبراهيم بن طهمان عن محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالتمر عند صرام النخل فيجئ هذا بتمره وهذا من تمره حتى يصير عنده كوما من تمر فجعل الحسن والحسين رضي الله عنهما يلعبان بذلك التمر فأخذ أحدهما تمرة فجعلها في فيه فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجها من فيه. فقال: أما
517

علمت أن آل محمد صلى الله عليه وسلم لا يأكلون الصدقة اه.
فهذا الحديث الصحيح نص صريح في أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ صدقة النخل تمرا بعد الجذاذ وقد تقرر في الأصول أن صيغة المضارع بعد لفظة كان في نحو كان يفعل كذا: تدل على كثرة التكرار والمداومة على ذلك الفعل فقول أبي هريرة في هذا الحديث المرفوع الصحيح: كان صلى الله عليه وسلم: يؤتى بالتمر عند صرام النخل.
الحديث يدل دلالة واضحة على أن إخراج التمر عند الجذاذ هو الذي كان يفعل دائما في زمنه صلى الله عليه وسلم وهو الذي يأخذ في الزكاة ذلك التمر اليابس فمن ادعى جواز إخراج زكاة النخل رطبا أو بلحا فهو مخالف لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن حجر في فتح الباري في شرح هذا الحديث المذكور آنفا ما نصه قال الإسماعيلي: قوله عند صرام النخل. أي بعد أن يصير تمرا لأن النخل قد يصرم وهو رطب فيتمر في المربد ولكن ذلك لا يتطاول فحسن أن ينسب إلى الصرام كما في قوله تعالى: * (وآتوا حقه يوم حصاده) * فإن المراد بعد أن يداس وينقى والله تعالى أعلم اه. منه بلفظه وهو واضح فيما ذكرنا. وبما ذكرنا تعلم أن ما يدعيه بعض أهل العلم من المتأخرين من جواز إخراج زكاة النخل رطبا وبسرا غير صحيح ولا وجه له ولا دليل عليه وأما إن كان التمر لا ييبس كبلح مصر وعنبها فقد قدمنا عن مالك وأصحابه أن الزكاة تخرج من ثمنه إن بيع أو قيمته إن أكل لا من نفس الرطب أو العنب.
وقد قدمنا عن ابن رشد قولا مرجوحا بإجزاء الرطب والعنب في خصوص ما لا ييبس. ومذهب الشافعي رحمه الله في زكاة ما لا ييبس: أنه على القول بأن القسمة تمييز حق لا بيع فيجوز القسم ويجعل العشر أو نصفه متميزا في نخلات ثم ينظر المصدق: فإن رأى أن يفرق عليهم فعل وإن رأى البيع وقسمة الثمن فعل وأما على القول بأن القسمة بيع فلا تجوز في الرطب والعنب ويقبض المصدق عشرها مشاعا بالتخلية بينه وبينها ويستقر عليه ملك المساكين ثم يبيعه ويأخذ ثمنه ويفرقه عليهم وهكذا الحكم عنده فيما إذا احتيج إلى قطع الثمرة رطبا خوفا عليها من العطش ونحوه.
وحكم هذه المسألة في المذهب الحنبلي فيه قولان.
أحدهما: أنه يخير الساعي بين أن يقاسم رب المال الثمرة قبل الجذاذ بالخرص
518

ويأخذ نصيبهم نخلة مفردة ويأخذ ثمرتها. وبين أن يجذها ويقاسمه إياها بالكيل ويقسم الثمرة في الفقراء وبين أن بيعها من رب المال أو غيره قبل الجذاذ أو بعده ويقسم ثمنها في الفقراء.
القول الثاني: أن عليه الزكاة من تمر وزبيب يابسين قاله أبو بكر. وذكر أن أحمد رحمه الله نص عليه. قاله صاحب المغني وهذا الذي ذكرنا هو حاصل مذهب أحمد رحمه الله في المسألتين. أعني الثمر الذي لا ييبس والذي احتيج لقطعه قبل اليبس. * *
المسألة الثالثة: اختلف في وقت وجوب الزكاة فيما تنبته الأرض من ثمر وحب. فقال جمهور العلماء: تجب في الحب إذا اشتد وفي الثمر إذا بدا صلاحه فتعلق الوجوب عند طيب التمر. ووجوب الإخراج بعد الجذاذ.
وفائدة الخلاف أنه لو تصرف في الثمر والحب قبل الوجوب لم يكن عليه شيء وإن تصرف في ذلك بعد وجوب الزكاة لم تسقط الزكاة عنه.
ومن فوائده أيضا: أنه إذا مات بعد وقت الوجوب زكيت على ملكه وإن مات قبل الوجوب زكيت على ملك الورثة وقال القرطبي في تفسير هذه الآية: واختلف العلماء في وقت الوجوب على ثلاثة أقوال.
الأول: أنه وقت الجذاذ. قاله محمد بن مسلمة: لقوله تعالى: * (يوم حصاده) *.
الثاني: يوم الطيب. لأن ما قبل الطيب يكون علفا لا قوتا ولا طعاما فإذا طاب وحان الأكل الذي أنعم الله به وجب الحق الذي أمر الله به إذ بتمام النعمة يجب شكر النعمة ويكون الإيتاء وقت الحصاد لما قد وجب يوم الطيب.
الثالث: أنه يكون بعد تمام الخرص. لأنه حينئذ يتحقق الواجب فيه من الزكاة فيكون شرطا لوجوبها كمجئ الساعي في الغنم وبه قال المغيرة والصحيح الأول لنص التنزيل والمشهور في المذهب الثاني وبه قال الشافعي. اه منه.
وقد قدمنا أن مالكا رحمه الله يقول: بأن كل ما أكله المالك أو تصدق به يحسب عليه وجمهور العلماء يخالفونه رحمه الله في ذلك. واحتجوا لأن ما يأكله لا يحسب عليه بقوله تعالى * (كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده) *. وبالحديث المتقدم. أن على الخارص أن يدع الثلث أو الربع. وقوله تعالى * (يوم حصاده) *
قرأه ابن عامر وأبو عمرو وعاصم بفتح الحاء والباقون بكسرها وهما لغتان مشهورتان
519

كالصرام والصرام والجذاذ والجذاذ والقطاف والقطاف.
فائدة: ينبغي لصاحب الحائط إذا أراد الجذاذ ألا يمنع المساكين من الدخول وأن يتصدق عليهم لقوله تعالى في ذم أصحاب أهل الجنة المذكورة في سورة القلم * (إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين الآيات) * والعلم عند الله تعالى قوله تعالى: * (قل لا أجد في ما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا) *. هذه الآية الكريمة صريحة في أنه لم يحرم من المطعومات إلا هذه الأربعة المذكورة فيها التي هي: الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ولكنه تعالى بين في بعض المواضع تحريم غير المذكورات كتصريحه بتحريم الخمر في سورة المائدة بقوله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) *.
وقال بعض العلماء لا يحرم مطعوم إلا هذه الأربعة المذكورة وهو قول يروى عن ابن عمر وابن عباس وعائشة قال القرطبي: ويروى عنهم أيضا خلافه وقال البخاري في صحيحه: حدثنا علي بن عبد الله. حدثنا سفيان. قال عمرو: قلت لجابر بن زيد: يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية فقال: قد كان يقول ذلك الحكم ابن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة ولكن أبى ذلك البحر ابن عباس وقرأ * (قل لا أجد في ما أوحى إلى محرما) * اه. وقال ابن خويز منداد من المالكية: تضمنت هذه الآية تحليل كل شيء من الحيوان وغيره إلا ما استثنى في الآية من الميتة والدم ولحم الخنزير.
ولهذا قلنا: إن لحوم السباع وسائر الحيوان ما سوى الإنسان والخنزير مباحة.
وقال القرطبي: روي عن عائشة وابن عباس وابن عمر إباحة أكل لحوم السباع والحمر والبغال وذكر حديث البخاري الذي قدمنا آنفا.
ثم قال: وروي عن ابن عمر أنه سئل عن لحوم السباع فقال: لا بأس بها. فقيل له حديث أبي ثعلبة الخشني. فقال: لا ندع كتاب ربنا لحديث أعرابي يبول على ساقيه.
وسئل الشعبي عن لحم الفيل والأسد. فتلا هذه الآية.
وقال القاسم: كانت عائشة تقول: لما سمعت الناس يقولون حرم كل ذي ناب من السباع. ذلك حلال. وتتلو هذه الآية:
* (قل لا أجد في ما أوحى إلى) *
520

.
قال مقيده: عفا الله عنه اعلم أنا نريد في هذا المبحث أن نبين حجة من قال بعدم تحريم لحوم السباع والحمير ونحوها وحجة من قال بمنعها ثم نذكر الراجح بدليله.
واعلم أولا: أن دعوى أنه لا يحرم مطعوم غير الأربعة المذكورة في هذه الآية باطلة. بإجماع المسلمين لإجماع جميع المسلمين ودلالة الكتاب والسنة على تحريم الخمر فهو دليل قاطع على تحريم غير الأربعة.
ومن زعم أن الخمر حلال لهذه الآية. فهو كافر بلا نزاع بين العلماء وإذا عرفت ذلك فاعلم أن الذين استدلوا بهذه الآية على عدم تحريم ما ذكر قالوا: إن الله حصر المحرمات فيها في الأربعة المذكورة وحصرها أيضا في النحل فيها في قوله: * (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل لغير الله) * لأن إنما أداة حصر عند الجمهور والنحل بعد الأنعام بدليل قوله في النحل * (وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل) *. والمقصوص المحال عليه هو المذكور في الأنعام في قوله * (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) * ولأنه تعالى قال في الأنعام: * (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا) *. ثم صرح في النحل بأنهم قالوا ذلك بالفعل في قوله: * (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ الآية) *. فدل ذلك على أن النحل بعد الأنعام وحصر التحريم أيضا في الأربعة المذكورة في سورة البقرة في قوله: * (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل به لغير الله) * فقالوا: هذا الحصر السماوي الذي ينزل به الملك مرة بعد مرة في مكة في الأنعام والنحل وفي المدينة عند تشريع الأحكام في البقرة لا يمكننا معارضته ولا إخراج شيء منه إلا بدليل قطعي المتن. متواتر كتواتر القرآن العظيم.
فالخمر مثلا دل القرآن على أنها محرمة فحرمناها لأن دليلها قطعي. أما غيرها كالسباع والحمر والبغال: فأدلة تحريمها أخبار آحاد يقدم عليها القاطع وهو الآيات المذكورة آنفا.
تنبيه
اعلم أن ما ذكره القرطبي وغيره من أن زيادة تحريم السباع والحمر مثلا بالسنة على
521

الأربعة المذكورة في الآيات كزيادة التغريب بالسنة على جلد الزاني مائة الثابت بالقرءان أو زيادة الحكم بالشاهد واليمين في الأموال الثابت بالسنة على الشاهدين أو الشاهد والمرأتين المذكور في قوله تعالى: * (لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان الآية) *. غير ظاهر عندي. لوضوح الفرق بين الأمرين لأن زيادة التغريب والحكم بالشاهد واليمين على آية: * (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما) *. في الأول وآية فإن: * (لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان الآية) *. في الثاني زيادة شيء لم يتعرض له القرآن بنفي ولا إثبات ومثل هذه الزيادة لا مانع منه عند جمهور العلماء لأن الزيادة على النص ليس نسخا له عند الجمهور خلافا لأبي حنيفة رحمه الله.
وبناء على ذلك منع التغريب والحكم بالشاهد واليمين لأن الزيادة عنده نسخ والقرءان لا ينسخ بأخبار الآحاد لأنه قطعي المتن وليست كذلك أما زيادة محرم آخر على قوله: * (قل لا أجد في ما أحي إلي الآية فلست زيادة شيء سكت عنه القرآن كالأول وإنما هي زيادة شيء نفاه القرآن لدلالة الحصر القرءاني على نفي التحريم عن غير الأربعة المذكورة وبين الأمرين فرق واضح وبه تعلم أن مالكا رحمه الله ليس ممن يقول: بأن الزيادة على النص نسخ اللهم إلا إذا كانت الزيادة أثبتت ما كان منفيا بالنص
قبلها فكونها إذن ناسخة واضح وهناك نظر آخر قال به بعض العلماء: وهو أن إباحة غير الأربعة المذكورة من الإباحة العقلية المعروفة عند أهل الأصول بالبراءة الأصلية وهي استصحاب العدم الأصلي لأن الأصل عدم تحريم شيء إلا بدليل كما قاله جمع من أهل الأصول.
وإذا كانت إباحته عقلية: فرفعها ليس بنسخ حتى يشترط في ناسخها التواتر وعن ابن كثير في تفسيره هذا القول بعدم النسخ للأكثرين من المتأخرين.
قال مقيده عفا الله عنه وكونه نسخا أظهر عندي لأن الحصر في الآية يفهم منه إباحة ما سوى الأربعة شرعا فتكون إباحة شرعية لدلالة القرآن عليها ورفع الإباحة الشرعية نسخ بلا خلاف وأشار في (مراقي السعود) إلى أن الزيادة التي لا تناقض الحكم الأول ليست نسخا بقوله: الرجز زليس نسخا كل ما أفادا
* فيما رسا بالنص الازديادا
*
وهذا قول جمهور العلماء ووجهوه بعدم منافاة الزيادة للمزيد وما لا ينافي لا يكون
522

ناسخا وهو ظاهر.
واعلم أن مالك بن أنس رحمه الله اختلفت عنه الرواية في لحوم السباع فروي عنه أنها حرام وهذا القول هو الذي اقتصر عليه في الموطأ: لأنه ترجم فيه بتحريم أكل كل ذي ناب من السباع ثم ساق حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع ثم ساق بإسناده حديث أبي هريرة مرفوعا: أكل كل ذي ناب من السباع حرام ثم قال: وهو الأمر عندنا وهذا صريح في أن الصحيح عنده تحريمها وجزم القرطبي بأن هذا هو الصحيح من مذهبه وروي عنه أيضا أنها مكروهة وهو ظاهر المدونة وهو المشهور عند أهل مذهبه ودليل هذا القول هو الآيات التي ذكرنا ومن جملتها الآية التي نحن بصددها.
وما روى عن ابن عباس وابن عمر وعائشة من إباحتها وهو قول الأوزاعي. قال مقيده عفا الله عنه الذي يظهر رجحانه بالدليل هو ما ذهب إليه الجمهور من أن كل ما ثبت تحريمه بطريق صحيحة من كتاب أو سنة فهو حرام ويزاد على الأربعة المذكورة في الآيات ولا يكون في ذلك أي مناقضة للقرآن لأن المحرمات المزيدة عليها حرمت بعدها.
وقد قرر العلماء أنه لا تناقض يثبت بين القضيتين إذا اختلف زمنهما لاحتمال صدق كل منهما في وقتها وقد اشترط عامة النظار في التناقض: اتحاد الزمان لأنه إن اختلف جاز صدق كل منهما في وقتها كما لو قلت: لم يستقبل بيت المقدس قد استقبل بيت المقدس وعنيت بالأولى ما بعد النسخ وبالثانية ما قبله فكلتاهما تكون صادقة وقد أشرت في أرجوزتي في فن المنطق إلى أنه يشترط في تناقض القضيتين اتحادهما فيما سوى الكيف. أعني الإيجاب والسلب من زمان ومكان وشرط وإضافة وقوة وفعل وتحصيل وعدول وموضوع ومحمول وجزء وكل بقولي: الرجز:
* والاتحاد لازم بينهما
* فيما سوى الكيف كشرط علما
*
* والجزء والكل مع المكان
* والفعل والقوة والزمان
*
* إضافة تحصيل أو عدول
* ووحدة الموضوع والمحمول
*
فوقت نزول الآيات المذكورة لم يكن حراما غير الأربعة المذكورة فحصرها صادق قبل تحريم غيرها بلا شك فإذا طرأ تحريم شيء آخر بأمر جديد. فذلك لا ينافي الحصر
523

الأول لتجدده بعده وهذا هو التحقيق إن شاء الله تعالى وبه يتضح أن الحق جواز نسخ المتواتر بالسنة الصحيحة الثابت تأخرها عنه وإن منعه أكثر أهل الأصول.
وإذا عرفت ذلك: فسنفصل لك إن شاء الله تعالى المحرمات التي حرمت بعد هذا وأقوال العلماء فيها.
فمن ذلك كل ذي ناب من السباع فالتحقيق تحريمه لما قدمنا من حديث أبي هريرة وأبي ثعلبة الخشني من النهي عنها وتحريمها أما حديث أبي ثعلبة فمتفق عليه وأما حديث أبي هريرة فقد أخرجه مسلم في صحيحه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: بلفظ كل ذي ناب من السباع فأكله حرام.
والأحاديث في الباب كثيرة وبه تعلم أن التحقيق هو تحريم أكل كل ذي ناب من السباع.
والتحقيق أن أكل كل ذي مخلب من الطير منهي عنه ولا عبرة بقول من قال من المالكية وغيرهم: أنه لم يثبت النهي عنه عنه صلى الله عليه وسلم لما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم: نهى عن كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير اه.
فقرن في الصحيح بما صرح بأنه حرام مع أن كلا منهما ذو عداء وافتراس فدل كل ذلك على أنه منهي عنه
والأصل في النهي التحريم وبتحريم ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير. قال جمهور العلماء منهم الأئمة الثلاثة وداود.
وقد قدمنا أنه الصحيح عن مالك في السباع وأن مشهور مذهبه الكراهة وعنه قول بالجواز وهو أضعفها والحق التحريم لما ذكرنا.
ومن ذلك الحمر الأهلية فالتحقيق أيضا أنها حرام وتحريمها لا ينبغي أن يشك فيه منصف: لكثرة الأحاديث الصحيحة الواردة بتحريمها وقد روى البخاري ومسلم تحريمها من حديث علي بن أبي طالب وجابر بن عبد الله وسلمة بن الأكوع وعبد الله بن عمر والبراء بن عازب وعبد الله بن أبي أوفى وأنس وأبي ثعلبة الخشني رضي الله عنهم وأحاديثهم دالة دلالة صريحة على التحريم فلفظ حديث أبي ثعلبة عند البخاري ومسلم: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية وهذا صريح صراحة
524

تامة في التحريم ولفظ حديث أنس عندهما أيضا إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس وفي رواية لمسلم فإنها رجس من عمل الشيطان وفي رواية له أيضا فإنها رجس أو نجس.
قال مقيده عفا الله عنه حديث أنس هذا المتفق عليه الذي صرح فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن لحوم الحمر الأهلية رجس صريح في تحريم أكلها ونجاسة لحمها وأن علة تحريمها ليست لأنها لم يخرج خمسها ولا أنها حمولة كما زعمه بعض أهل العلم. والله تعالى أعلم.
ولا تعارض هذه الأحاديث الصحيحة المتفق عليها بما رواه أبو داود من حديث غالب بن أبجر المزني رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله: أصابتنا السنة ولم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر وإنك حرمت الحمر الأهلية فقال: أطعم أهلك من سمين حمرك فإنما حرمتها من أجل جوال القرية اه.
والجوال: جمع جالة وهي التي تأكل الجلة وهي في الأصل البعر والمراد به هنا أكل النجاسات كالعذرة.
قال النووي في شرح المهذب: اتفق الحفاظ على تضعيف هذا الحديث.
قال الخطابي: والبيهقي: هو حديث يختلف في إسناده. يعنون مضطربا وما كان كذلك لا تعارض به الأحاديث المتفق عليها.
وأما البغال فلا يجوز أكلها أيضا. لما رواه أحمد والترمذي من حديث جابر قال: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني يوم خيبر لحوم الحمر الإنسية ولحوم البغال وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير أصل حديث جابر هذا في الصحيحين كما تقدم. وهو بهذا اللفظ: بسند لا بأس به. قاله ابن حجر والشوكاني.
وقال ابن كثير في تفسيره: وروى الإمام أحمد وأبو داود بإسنادين كل منهما على شرط مسلم عن جابر قال: ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمر ولم ينهنا عن الخيل وهو دليل واضح على تحريم البغال ويؤيده أنها متولدة عن الحمير وهي حرام قطعا. لصحة النصوص بتحريمها.
وأما الخيل فقد اختلف في جواز أكلها العلماء.
525

فمنعها مالك رحمه الله في أحد القولين وعنه أنها مكروهة وكل من القولين صححه بعض المالكية والتحريم أشهر عندهم.
وقال أبو حنيفة رحمه الله أكره لحم الخيل وحمله أبو بكر الرازي على التنزيه. وقال: م يطلق أبو حنيفة فيها التحريم وليست عنده كالحمار الأهلي.
وصحح عنه صاحب المحيط وصاحب الهداية وصاحب الذخيرة: التحريم وهو قول أكثر الحنفية.
وممن رويت عنه كراهة لحوم الخيل الأوزاعي وأبو عبيد وخالد بن الوليد رضي الله عنه وابن عباس والحكم.
ومذهب الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى جواز أكل الخيل وبه قال أكثر أهل العلم.
وممن قال به عبد الله بن الزبير وفضالة بن عبيد وأنس بن مالك وأسماء بنت أبي بكر وسويد بن غفلة وعلقمة والأسود وعطاء وشريح وسعيد بن جبير والحسن البصري وإبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان وإسحاق وأبو يوسف ومحمد وداود وغيرهم.
كما نقله عنهم النووي في شرح المهذب وسنبين إن شاء الله حجج الجميع وما يقتضي الدليل رجحانه.
اعلم أن من أكل لحم الخيل احتج بآية وحديث:
أما الآية فقوله تعالى: * (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة) *. فقال: قد قال تعالى * (والانعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون) * فهذه للأكل. وقال: * (والخيل والبغال والحمير لتركبوها) * فهذه للركوب لا للأكل وهذا تفصيل من خلقها وامتن بها وأكد ذلك بأمور:
أحدها: أن اللام للتعليل أي خلقها لكم لعلة الركوب والزينة لأن العلة المنصوصة تفيد الحصر فإباحة أكلها تقتضي خلاف ظاهر الآية.
ثانيها: عطف البغال والحمير عليها فدل على اشتراكها معهما في حكم التحريم.
ثالثها: أن الآية الكريمة سيقت للامتنان وسورة النحل تسمى سورة الامتنان.
526

والحكيم لا يمتن بأدنى النعم ويترك أعلاها لا سيما وقد وقع الامتنان بالأكل في المذكورات قبلها.
رابعها: لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها فيما وقع به الامتنان من الركوب والزينة.
وأما الحديث: فهو ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير.
ورد الجمهور الاستدلال بالآية الكريمة. بأن آية النحل نزلت في مكة اتفاقا والإذن في أكل الخيل يوم خيبر كان بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنين فلو فهم النبي صلى الله عليه وسلم المنع من الآية لما أذن في الأكل وأيضا آية النحل ليست صريحة في منع أكل الخيل بل فهم من التعليل وحديث جابر وحديث أسماء بنت أبي بكر المتفق عليهما. كلاهما صريح في جواز أكل الخيل. والمنطوق مقدم على المفهوم كما تقرر في الأصول.
وأيضا فالآية على تسليم صحة دلالتها المذكورة فهي إنما تدل على ترك الأكل والترك أعم من أن يكون للتحريم أو للتنزيه أو خلاف الأولى وإذا لم يتعين واحد منها بقي التمسك بالأدلة المصرحة بالجواز.
وأيضا فلو سلمنا أن اللام للتعليل لم نسلم إفادة الحصر في الركوب والزينة. فإنه ينتفع بالخيل في غيرهما وفي غير الأكل اتفاقا وإنما ذكر الركوب والزينة لكونهما أغلب ما تطلب له الخيل.
ونظيره حديث البقرة المذكور في الصحيحين حين خاطبت راكبها فقالت: إنا لم نخلق لهذا. إنا خلقنا للحرث فإنه مع كونه أصرح في الحصر لم يقصد به إلا الأغلب وإلا فهي تؤكل وينتفع بها في أشياء غير الحرث اتفاقا. وأيضا فلو سلم الاستدلال المذكور للزم منع حمل الأثقال على الخيل والبغال والحمير للحصر المزعوم في الركوب والزينة. ولا قائل بذلك.
وأما الاستدلال بعطف الحمير والبغال عليها. فهو استدلال بدلالة الاقتران وقد ضعفها أكثر العلماء من أهل الأصول. كما أشار له في (مراقي السعود) بقوله: الرجز:
* أما قران اللفظ في المشهور
* فلا يساوي في سوي المذكور
*
527

وأما الاستدلال بأن الآية الكريمة سيقت للامتنان: فيجاب عنه بأنه قصد به ما كان الانتفاع به أغلب عند العرب. فخوطبوا بما عرفوا وألفوا ولم يكونوا يألفون أكل الخيل لعزتها في بلادهم وشدة الحاجة إليها في القتال بخلاف الأنعام: فأكثر انتفاعهم بها كان لحمل الأثقال وللأكل. فاقتصر في كل من الصنفين على الامتنان بأغلب ما ينتفع به فيه.
فلو لزم من ذلك الحصر في هذا الشق للزم مثله في الشق الآخر كما قدمنا.
وأما الاستدلال بأن الإذن في أكلها. سبب لفنائها وانقراضها:
فيجاب عنه: بأنه أذن في أكل الأنعام ولم تنقرض ولو كان الخوف من ذلك علة لمنع في الأنعام لئلا تنقرض فيتعطل الانتفاع بها في غير الأكل.
قاله ابن حجر وأما الاستدلال بحديث خالد بن الوليد رضي الله عنه: فهو مردود من وجهين:
الأول: أنه ضعفه علماء الحديث. فقد قال ابن حجر في (فتح الباري) في باب لحوم الخيل ما نصه: وقد ضعف حديث خالد أحمد والبخاري وموسى بن هارون والدارقطني والخطابي وابن عبد البر وعبد الحق وآخرون.
وقال النووي: في شرح المهذب واتفق العلماء من أئمة الحديث وغيرهم. على أن حديث خالد المذكور حديث ضعيف وذكر أسانيد بعضهم بذلك. وحديث خالد المذكور مع أنه مضطرب. في إسناده صالح بن يحيى بن المقدام بن معديكرب. ضعفه غير واحد وقال فيه ابن حجر في التقريب: لين. وفيه أيضا: والده يحيى المذكور الذي هو شيخه في هذا الحديث. قال فيه في التقريب: مستور.
الوجه الثاني: أنا لو سلمنا عدم ضعف حديث خالد. فإنه معارض بما هو أقوى منه كحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر ورخص في لحوم الخيل وفي لفظ في الصحيح وأذن في لحوم الخيل وكحديث أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها قالت: نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه متفق عليهما.
ولا شك في أنهما أقوى من حديث خالد وبهذا كله تعلم أن الذي يقتضي الدليل الصريح رجحانه إباحة أكل لحم الخيل والعلم عند الله تعالى ولا يخفى أن الخروج من الخلاف أحوط كما قال بعض أهل العلم.
528

الرجز.
* وإن الأورع الذي يخرج من
* خلافهم ولو ضعيفا فاستبن
*
ومن ذلك الكلب: فإن أكله حرام عند عامة العلماء وعن مالك قول ضعيف جدا بالكراهة.
ولتحريمه أدلة كثيرة. منها: ما تقدم في ذي الناب من السباع. لأن الكلب سبع ذو ناب ومنها أنه لو جاز أكله لجاز بيعه وقد ثبت النهي عن ثمنه في الصحيحين من حديث أبي مسعود الأنصاري مقرونا بحلوان الكاهن ومهر البغي وأخرجه البخاري من حديث أبي جحيفة وأخرجه مسلم من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه بلفظ ثمن الكلب خبيث الحديث. وذلك نص في التحريم لقوله تعالى: * (ويحرم عليهم الخبائث) *.
فإن قيل: ما كل خبيث يحرم لما ورد في الثوم أنه خبيث وفي كسب الحجام أنه خبيث. مع أنه لم يحرم واحد منهما.
فالجواب: أن ما ثبت بنص أنه خبيث كان ذلك دليلا على تحريمه وما أخرجه دليل يخرج ويبقى النص حجة فيما لم يقم دليل على إخراجه كما هو الحكم في جل عمومات الكتاب والسنة يخرج منها بعض الأفراد بمخصص وتبقى حجة في الباقي. وهذا مذهب الجمهور وإليه أشار في (مراقي السعود) بقوله: الرجز:
* وهو حجة لدى الأكثر إن
* مخصص له معينا يبن
*
فإن قيل: تحريم الخبائث لعلة الخبث وإذا وجد خبيث غير محرم كان ذلك نقضا في العلة لا تخصيصا لها.
فالجواب: أن أكثر العلماء على أن النقض تخصيص للعلة لا إبطال لها. قال في (مراقي السعود): الرجز):
* منها وجود الوصف دون الحكم
* سماه بالنقض وعاة العلم
*
* والأكثرون عندهم لا يقدح
* بل هو تخصيص وذا مصحح
*
إلخ كما حررناه في غير هذا الموضع.
ومن الأدلة على تحريم الكلب: ما ثبت في الصحيحين من الأحاديث الصريحة في تحريم اقتنائه وأن اقتناءه ينقص أجر مقتنيه كل يوم فلو كان أكله مباحا لكان اقتناؤه
529

مباحا.
وإنما رخص صلى الله عليه وسلم في كلب الصيد والزرع والماشية للضرورة. فمن ذلك ما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتخذ كلبا إلا كلب صيد أو زرع أو ماشية انتقص من أجره كل يوم قيراط ومنه أيضا ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث سفيان بن أبي زهير الشنائي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من اقتنى كلبا لا يغنى عنه زرعا ولا ضرعا نقص من عمله كل يوم قيراط ورواه البخاري عن ابن عمر بثلاث طرق بلفظ نقص كل يوم من عمله قيراطان وأخرجه مسلم أيضا عن ابن عمر من طرق: في بعضها قيراط وفي بعضها قيراطان.
والأحاديث في الباب كثيرة وهذا أوضح دليل على أن الكلب لا يجوز أكله إذ لو جاز أكله لجاز اقتناؤه للأكل وهو ظاهر ومن ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر وعبد الله بن عمر وعبد الله بن المغفل رضي الله عنهم. من أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب ولو كانت مباحة الأكل لما أمر بقتلها ولم يرخص صلى الله عليه وسلم فيها إلا لضرورة الصيد أو الزرع أو الماشية.
وإذا عرفت أن في كلب الصيد وما ذكر معه بعض المنافع المباحة كالانتفاع بصيده أو حراسته الماشية أو الزرع فاعلم أن العلماء اختلفوا في بيعه.
فمنهم من قال: بيعه تابع للحمه ولحمه حرام فبيعه حرام وهذا هو أظهر الأقوال دليلا لما قدمنا من أن ثمن الكلب خبيث وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه مقرونا بحلوان الكاهن ومهر البغي وهو نص صحيح صريح في منع بيعه.
ويؤيده ما رواه أبو داود بإسناد صحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب وقال: إن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه ترابا.
قال النووي في (شرح المهذب): وابن حجر في (الفتح): إسناده صحيح وروى أبو داود أيضا من حديث أبي هريرة مرفوعا: لا يحل ثمن الكلب ولا حلوان الكاهن ولا مهر البغي. قال ابن حجر في (الفتح): إسناده حسن وقال النووي في (شرح المهذب): إسناده حسن صحيح.
530

وإذا حققت ذلك فاعلم أن القول بمنع بيع الكلب الذي ذكرنا أنه هو الحق. عام في المأذون في اتخاذه وغيره لعموم الأدلة وممن قال بذلك: أبو هريرة والحسن البصري والأوزاعي وربيعة والحكم وحماد والشافعي وأحمد وداود وابن المنذر وغيرهم وهو المشهور الصحيح من مذهب مالك. خلافا لما ذكره القرطبي في (المفهم) من أن مشهور مذهبه الكراهة وروي عن مالك أيضا جواز بيع كلب الصيد. ونحوه دون الذي لم يؤذن في اتخاذه وهو قول سحنون. لأنه قال: أبيع كلب الصيد وأحج بثمنه.
وأجاز بيعه أبو حنيفة مطلقا إن كانت فيه منفعة من صيد أو حراسة لماشية مثلا وحكي نحوه ابن المنذر عن جابر وعطاء والنخعي قاله النووي.
وإن قتل الكلب المأذون فيه ككلب الصيد ففيه القيمة عند مالك ولا شيء فيه عند أحمد والشافعي وأوجبها فيه أبو حنيفة مطلقا إن كانت فيه منفعة.
وحجة من قال لا قيمة فيه: أن القيمة ثمن والنص الصحيح نهى عن ثمن الكلب وجاء فيه التصريح بأن طالبه تملأ كفه ترابا وذلك أبلغ عبارة في المنع منه.
واحتج من أوجبها بأنه فوت منفعة جائزة فعليه غرمها.
واحتج من أجاز بيع الكلب وألزم قيمته إن قتل بما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب إلا كلب صيد وعن عمر رضي
الله عنه أنه غرم رجلا عن كلب قتله عشرين بعيرا وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قضى في كلب صيد قتله رجل بأربعين درهما وقضى في كلب ماشية بكبش.
واحتجوا أيضا بأن الكلب المأذون فيه تجوز الوصية به والانتفاع به فأشبه الحمار.
وأجاب الجمهور بأن الأحاديث والآثار المروية في جواز بيع كلب الصيد ولزوم قيمته كلها ضعيفة:
قال النووي في شرح المهذب ما نصه وأما الجواب عما احتجوا به من الأحاديث والآثار فكلها ضعيفة باتفاق المحدثين وهكذا أوضح الترمذي والدارقطني والبيهقي ضعفها والاحتجاج بجواز الوصية به وشبهه بالحمار مردود بالنصوص الصحيحة المصرحة بعدم حلية ثمنه وما ذكره ابن عاصم المالكي في تحفته من قوله: الرجز:
* واتفقوا أن كلاب البادية
* يجوز بيعها ككلب الماشية
*
531

فقد رده عليه رحمه الله علماء المالكية وقد قدمنا أنه قول سحنون.
واعلم أن ما روي عن جابر وابن عمر مرفوعا مما يدل على جواز بيع كلب الصيد كله ضعيف كما بين تضعيفه ابن حجر في (فتح الباري) في باب ثمن الكلب.
قال القرطبي: وقد زعم ناس أنه لم يكن في العرب من يأكل لحم الكلب إلا قوم من فقعس.
ومن ذلك القرد: فإنه لا يجوز أكله قال القرطبي في تفسيره: قال أبو عمر يعني ابن عبد البر: أجمع المسلمون على أنه لا يجوز أكل القرد لنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكله ولا يجوز بيعه لأنه لا منفعة فيه.
قال: وما علمت أحدا رخص في أكله إلا ما ذكره عبد الرزاق عن معمر عن أيوب سئل مجاهد عن أكل القرد فقال: ليس من بهيمة الأنعام. قلت: ذكر ابن المنذر أنه قال: روينا عن عطاء أنه سئل عن القرد يقتل في الحرم. قال: يحكم به ذوا عدل. قال: فعلى مذهب عطاء يجوز أكل لحمه لأن الجزاء لا يجب على من قتل غير الصيد وفي بحر المذهب للروياني على مذهب الشافعي.
وقال الشافعي: يجوز بيع القرد لأنه يعلم وينتفع به لحفظ المتاع اه.
وقال النووي في شرح المهذب: القرد حرام عندنا وبه قال عطاء وعكرمة ومجاهد ومكحول والحسن وابن حبيب المالكي.
وقال ابن قدامة في (المغني): وقال ابن عبد البر: لا أعلم بين علماء المسلمين خلافا أن القرد لا يؤكل ولا يجوز بيعه وروي عن الشعبي: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لحم القرد ولأنه سبع فيدخل في عموم الخبر ولأنه مسخ أيضا فيكون من الخبائث المحرمة.
وقد قدمنا جزم ابن حبيب وابن عبد البر من المالكية: بأنه حرام وقال الباجي: الأظهر عندي من مذهب مالك وأصحابه. أنه ليس بحرام.
ومن ذلك الفيل: فالظاهر فيه أنه من ذوات الناب من السباع وقد قدمنا أن التحقيق فيها التحريم لثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مذهب الجمهور.
وممن صححه من المالكية: ابن عبد البر والقرطبي.
532

وقال بعض المالكية كراهته أخف من كراهة السبع وأباحه أشهب وعن مالك في المدونة كراهة الانتفاع بالعاج: وهو سن الفيل.
وقال ابن قدامة في (المغني): والفيل محرم. قال أحمد: ليس هو من أطعمة المسلمين وقال الحسن: هو مسخ وكرهه أبو حنيفة والشافعي ورخص في أكله الشعبي ولنا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وهو من أعظمها نابا ولأنه مستخبث فيدخل في عموم الآية المحرمة للخبائث اه.
وقال النووي في شرح المهذب: الفيل حرام عندنا وعند أبي حنيفة والكوفيين والحسن. وأباحه الشعبي وابن شهاب ومالك في رواية.
وحجة الأولين أنه ذو ناب اه.
ومن ذلك الهر والثعلب والدب: فهي عند مالك من ذوات الناب من السباع. وعنه رواية أخرى أنها مكروهة كراهة تنزيه ولا تحريم فيها قولا واحدا. والهر الأهلي والوحشي عنده سواء.
وفرق بينهما غيره من الأئمة كالشافعي وأحمد وأبي حنيفة: فمنعوا الأهلي:
قال ابن قدامة في (المغني): فأما الأهلي فمحرم في قول إمامنا ومالك وأبي حنيفة والشافعي:
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن أكل الهر وقال ابن قدامة في (المغني) أيضا:
اختلفت الرواية في الثعلب: فأكثر الروايات عن أحمد تحريمه. وهذا قول أبي هريرة ومالك وأبي حنيفة لأنه سبع فيدخل في عموم النهي ونقل عن أحمد إباحته واختاره الشريف أبو جعفر ورخص فيه عطاء وطاوس وقتادة والليث وسفيان بن عيينة والشافعي لأنه يفدى في الإحرام والحرم إلى أن قال: واختلفت الرواية عن أحمد في سنور البر والقول فيه كالقول في الثعلب.
وحكى النووي: اتفاق الشافعية على إباحة الثعلب. وقال صاحب (المهذب): وفي سنور الوحش وجهان:
أحدهما: لا يحل. لأنه يصطاد بنابه فلم يحل كالأسد والفهد.
والثاني: يحل. لأنه حيوان يتنوع إلى حيوان وحشي وأهلي فيحرم الأهلي منه
533

ويحل الوحشي كالحمار.
وأما الدب: فهو سبع ذو ناب عند مالك والشافعي وأصحاب أبي حنيفة. وقال أحمد: إن كان الدب ذا ناب منع أكله وإن لم يكن ذا ناب لا بأس بأكله.
واختلف العلماء في جواز أكل الضبع: وهو عند مالك كالثعلب. وقد قدمنا عنه أنه سبع في رواية وفي أخرى أنه مكروه ولا قول فيه بالتحريم والأحاديث التي قدمناها في سورة المائدة بأن الضبع صيد تدل على إباحة أكلها وروي عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يأكل الضباع. قاله القرطبي ورخص في أكلها الشافعي وغيره وقال البيهقي في السنن الكبرى: قال الشافعي: وما يباع لحم الضباع بمكة إلا بين الصفا والمروة.
وحجة مالك في مشهور مذهبه: أن الضبع من جملة السباع فيدخل في عموم النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع ولم يخص سبعا منها عن سبع قال القرطبي: وليس حديث الضبع الذي خرجه النسائي في إباحة أكلها مما يعارض به حديث النهي: لأنه حديث انفرد به عبد الرحمن بن أبي عمار وليس مشهورا بنقل العلم ولا ممن يحتج به إذا خالفه من هو أثبت منه. قال أبو عمر: وقد روي النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع من طرق متواترة روى ذلك جماعة من الأئمة الثقات الأثبات ومحال أن يعارضوا بمثل حديث ابن أبي عمار اه.
قال مقيده عفا الله عنه للمخالف أن يقول أحاديث النهي عامة في كل ذي ناب من السباع ودليل إباحة الضبع خاص ولا يتعارض عام وخاص: لأن الخاص يقضي على العام فيخصص عمومه به كما هو مقرر في الأصول.
ومن ذلك القنفذ: فقد قال بعض العلماء بتحريمه وهو مذهب الإمام أحمد وأبي هريرة وأجاز أكله الجمهور. منهم مالك والشافعي والليث وأبو ثور وغيرهم.
احتج من منعه بما رواه أبو داود والبيهقي عن أبي هريرة أنه قال: ذكر القنفذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: هو خبيث من الخبائث.
واحتج من أباحه وهم الجمهور بأن الحديث لم يثبت ولا تحريم إلا بدليل. قال البيهقي في السنن الكبرى: بعد أن ساق حديث أبي هريرة المذكور في القنفذ هذا حديث لم يرو إلا بهذا الإسناد وهو إسناد فيه ضعف.
وممن كره أكل القنفذ أبو حنيفة وأصحابه قاله القرطبي وغيره.
534

ومن ذلك حشرات الأرض كالفأرة والحيات والأفاعي والعقارب والخنفساء: والعظاية والضفادع والجرذان والوزغ والصراصير والعناكب وسام أبرص والجعلان وبنات وردان والديدان وحمار قبان ونحو ذلك.
فجمهور العلماء على تحريم أكل هذه الأشياء لأنها مستخبثة طبعا والله تعالى يقول: * (ويحرم عليهم الخبائث) *.
وممن قال بذلك الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وابن شهاب وعروة وغيرهم رحمهم الله تعالى.
ورخص في أكل ذلك: مالك واشترط في جواز أكل الحيات أن يؤمن سمها.
وممن روي عنه الترخيص في أكل الحشرات الأوزاعي وابن أبي ليلى واحتجوا بما رواه أبو داود والبيهقي من حديث ملقام بن تلب عن أبيه تلب بن ثعلبة بن ربيعة التميمي العنبري رضي الله عنه قال: صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أسمع لحشرة الأرض تحريما.
واحتجوا أيضا بأن الله حرم أشياء وأباح أشياء فما حرم فهو حرام وما أباح فهو مباح وما سكت عنه فهو عفو.
وقالت عائشة رضي الله عنها في الفأرة: ما هي بحرام وقرأت قوله تعالى: * (قل لا أجد في ما أوحى إلى محرما) *.
ويجاب عن هذا بأن ملقام بن تلب مستور لا يعرف حاله وبأن قول أبيه تلب بن ثعلبة رضي الله عنه لم أسمع لحشرة الأرض تحريما لا يدل على عدم تحريمها كما قاله الخطابي والبيهقي. لأن عدم سماع صحابي لشئ لا يقتضي انتفاءه كما هو معلوم وبأنه تعالى لم يسكت عن هذا. لأنه حرم الخبائث وهذه خبائث لا يكاد طبع سليم يستسيغها فضلا عن أن يستطيبها والذين يأكلون مثل هذه الحشرات من العرب إنما يدعوهم لذلك شدة الجوع كما قال أحد شعرائهم: الطويل:
* أكلنا الربى يا أم عمرو ومن يكن
* غريبا لديكم يأكل الحشرات
*
والربى جمع ربية وهي الفأرة. قاله القرطبي وفي اللسان أنها دويبة بين الفأرة وأم حبين ولتلك الحاجة الشديدة لما سئل بعض العرب عما يأكلون. قال: كل ما دب
535

ودرج إلا أم حبين فقال: لتهن أم حبين العافية.
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح قتل الفأرة وما ذكر معها من الفواسق فدل ذلك على عدم إباحتها.
واعلم أن ما ذكره بعض أهل العلم كالشافعي. من أن كل ما يستخبثه الطبع السليم من العرب الذين نزل القرآن عليهم في غير حال ضرورة الجوع حرام. لقوله تعالى: * (ويحرم عليهم الخبائث) *. استدلال ظاهر لا وجه لما رده به أهل الظاهر من أن ذلك أمر لا يمكن أن يناط به حكم. لأنه لا ينضبط. لأن معنى الخبث معروف عندهم فما اتصف به فهو حرام للآية.
ولا يقدح في ذلك النص على إباحة بعض المستخبثات كالثوم. لأن ما أخرجه الدليل يخصص به عموم النص ويبقى حجة فيما لم يخرجه دليل كما قدمنا.
ويدخل فيه أيضا كل ما نص الشرع على أنه خبيث إلا لدليل يدل على إباحته مع إطلاق اسم الخبث عليه.
واستثنى بعض أهل العلم من حشرات الأرض الوزغ فقد ادعى بعضهم الإجماع على تحريمه كما ذكره ابن قدامة في (المغني) عن ابن عبد البر.
قال مقيده عفا الله عنه: يدل حديث أم شريك المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الأوزاغ وكذلك روى الشيخان أيضا عن حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه موصولا عند مسلم ومحتملا للإرسال عند البخاري فإن قوله: وزعم سعد بن أبي وقاص أنه أمر بقتله محتمل لأن يكون من قول عائشة ومحتمل لأن يكون من قول عروة وعليهما فالحديث متصل ويحتمل أن يكون من قول الزهري فيكون منقطعا واختاره ابن حجر في (الفتح) وقال: كأن الزهري وصله لمعمر وأرسله ليونس. اه ومن طريق يونس رواه البخاري ومن طريق معمر رواه مسلم وروى مسلم في (صحيحه) من حديث أبي هريرة مرفوعا الترغيب في قتل الوزغ وكل ذلك يدل على تحريمه.
واختلف العلماء أيضا في ابن آوى: وابن عرس: فقال بعض العلماء: بتحريم أكلهما وهو مذهب الإمام أحمد وأبي حنيفة رحمهما الله تعالى قال في (المغني): سئل أحمد عن ابن آوى وابن عرس. فقال: كل شيء ينهش بأنيابه من السباع وبهذا قال
536

أبو حنيفة وأصحابه اه.
ومذهب الشافعي رحمه الله الفرق بينهما فابن عرس حلال عند الشافعية بلا خلاف لأنه ليس له ناب قوي فهو كالضب واختلف الشافعية في ابن آوى.
فقال بعضهم: يحل أكله لأنه لا يتقوى بنابه فهو كالأرنب.
والثاني: لا يحل. لأنه مستخبث كريه الرائحة ولأنه من جنس الكلاب قاله النووي والظاهر من مذهب مالك كراهتهما.
وأما الوبر واليربوع فأكلهما جائز عند مالك وأصحابه. وهو مذهب الشافعي وعليه عامة أصحابه إلا أن في الوبر وجها عندهم بالتحريم.
وقد قدمنا أن عمر أوجب في اليربوع جفرة فدل ذلك على أنه صيد ومشهور مذهب الإمام أحمد أيضا جواز أكل اليربوع والوبر.
وممن قال بإباحة الوبر عطاء: وطاوس ومجاهد وعمرو بن دينار وابن المنذر وأبو يوسف.
وممن قال بإباحة اليربوع أيضا: عروة وعطاء الخراساني وأبو ثور وابن المنذر كما نقله عنهم صاحب (المغني). وقال القاضي من الحنابلة بتحريم الوبر قال: في (المغني) وهو قول أبي حنيفة وأصحابه إلا أبا يوسف وقال أيضا: إن أبا حنيفة. قال: في اليربوع أيضا هو حرام وروي ذلك عن أحمد أيضا وعن ابن سيرين والحكم وحماده. لأنه يشبه الفأر ونقل النووي في (شرح المهذب) عن صاحب البيان عن أبي حنيفة تحريم الوبر واليربوع والضب والقنفذ وابن عرس.
وممن قال بإباحة الخلد والضربوب مالك وأصحابه.
وأما الأرنب: فالتحقيق أن أكلها مباح لما ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم أهدي له عضو من أرنب فقبله وفي بعض الروايات فأكل منه وقال ابن قدامة: في (المغني) أكل الأرنب سعد بن أبي وقاص ورخص فيها أبو سعيد وعطاء وابن المسيب والليث ومالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر. ولا نعلم أحدا قائلا بتحريمها إلا شيئا روي عن عمرو بن العاص. اه.
537

وأما الضب: فالتحقيق أيضا جواز أكله لما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: كلوا أو أطعموا فإنه حلال. وقال: لا بأس به ولكنه ليس من طعامي يعني الضب ولما ثبت أيضا في الصحيحين من حديث خالد رضي الله عنه: أنه أكل ضبا في بيت ميمونة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه وقد قدمنا قول صاحب البيان عن أبي حنيفة بتحريم الضب.
ونقل في (المغني) عن أبي حنيفة أيضا والثوري تحريم الضب ونقل عن علي النهي عنه ولم نعلم لتحريمه مستندا إلا ما رواه مسلم في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بضب فأبى أن يأكله قال: إني لا أدري لعله من القرون الأولى التي مسخت وأخرج مسلم نحوه أيضا من حديث أبي سعيد مرفوعا فكأنه في هذا الحديث علل الامتناع منه باحتمال المسخ أو لأنه ينهش فأشبه ابن عرس ولكن هذا لا يعارض الأدلة الصحيحة الصريحة التي قدمناها بإباحة أكله وكان بعض العرب يزعمون أن الضب من الأمم التي مسخت كما يدل له قول الراجز الرجز:
* قالت وكنت رجلا فطينا
* هذا لعمر الله إسرائينا
*
فإن هذه المرأة العربية أقسمت على أن الضب إسرائيلي مسخ.
وأما الجراد: فلا خلاف بين العلماء في جواز أكله وقد ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن أبي أوفى أنه قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد اه.
وميتة الجراد من غير ذكاة حلال عند جماهير العلماء لحديث أحلت لنا ميتتان ودمان الحديث.
وخالف مالك الجمهور فاشترط في جواز أكله ذكاته وذكاته عنده ما يموت به بقصد الذكاة وهو معنى قول خليل بن إسحاق المالكي في مختصره وافتقر نحو الجراد لها بما يموت به ولو لم يعجل كقطع جناح.
واحتج له المالكية بعدم ثبوت حديث ابن عمر المذكور أحلت لنا ميتتان الحديث. لأن طرقه لا تخلو من ضعف في الإسناد أو وقف والأصل الاحتياج إلى الذكاة لعموم * (
حرمت عليكم الميتة) * وقال ابن كثير في تفسير سورة المائدة. ما نصه وقد قال أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن
538

أسلم عن أبيه عن ابن عمر مرفوعا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحل لنا ميتتان ودمان. فأما الميتتان فالسمك والجراد وأما الدمان: فالكبد والطحال: وكذا رواه أحمد بن حنبل وابن ماجة والدارقطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف.
قال الحافظ البيهقي: ورواه إسماعيل بن أبي إدريس عن أسامة وعبد الله وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن ابن عمر مرفوعا. قلت: وثلاثتهم كلهم ضعفاء ولكن بعضهم أصلح من بعض وقد رواه سليمان بن بلال أحد الأثبات عن زيد بن أسلم عن ابن عمر فوقفه بعضهم عليه. قال الحافظ أبو زرعة الرازي: وهو أصح. اه من ابن كثير وهو دليل لما قاله المالكية والله تعالى أعلم.
قال مقيده عفا الله عنه: لكن للمخالف أن يقول: إن الرواية الموقوفة على ابن عمر من طريق سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم عنه صحيحة ولها حكم الرفع. لأن قول الصحابي: أحل لنا أو حرم علينا له حكم الرفع. لأنه من المعلوم أنهم لا يحل لهم ولا يحرم عليهم إلا النبي صلى الله عليه وسلم. كما تقرر في علوم الحديث وأشار النووي في (شرح المهذب) إلى أن الرواية الصحيحة الموقوفة على ابن عمر لها حكم الرفع كما ذكرنا وهو واضح وهو دليل لا لبس فيه على إباحة ميتة الجراد من غير ذكاة.
والمالكية قالوا: لم يصح الحديث مرفوعا وميتة الجراد داخلة في عموم قوله * (حرمت عليكم الميتة الآية) * وافتقار الجراد إلى الذكاة بما يموت به كقطع رأسه بنبة الذكاة أو صلقه أو قليه.
كذلك رواية أيضا عن الإمام أحمد نقلها عنه النووي في (شرح مسلم) (وشرح المهذب) والله تعالى أعلم.
وأما الطير: فجميع أنواعه مباحة الأكل إلا أشياء منها اختلف فيها العلماء.
فمن ذلك كل ذي مخلب من الطير يتقوى به ويصطاد: كالصقر والشاهين والبازي والعقاب والباشق ونحو ذلك.
وجمهور العلماء على تحريم كل ذي مخلب من الطير كما قدمنا ودليلهم ثبوت النهي عنه في صحيح مسلم وغيره وهو مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة. ومذهب مالك رحمه الله إباحة أكل ذي المخلب من الطير لعموم قوله تعالى: * (قل
539

لا أجد) * ولأنه لم يثبت عنده نص صريح في التحريم.
وممن قال كقول مالك: الليث والأوزاعي ويحيى بن سعيد وقال مالك: لم أر أحدا من أهل العلم يكره سباع الطير وقال ابن القاسم: لم يكره مالك أكل شيء من الطير كله الرخم والعقبان والنسور والحدأة والغربان وجميع سباع الطير وغير سباعها ما أكل الجيف منها وما لم يأكلها.
ولا بأس بأكل الهدهد والخطاف وروي على كراهة أكل الخطاف ابن رشد لقلة لحمها مع تحرمها بمن عششت عنده انتهى من المواق في شرحه لقول خليل في مختصره وطير ولو جلالة.
ومن ذلك الحدأة والغراب الأبقع: لما تقدم من أنهما من الفواسق التي يحل قتلها في الحل والحرم وإباحة قتلها دليل على منع أكلها وهو مذهب الجمهور خلافا لمالك ومن وافقه كما ذكرنا آنفا.
وقالت عائشة رضي الله عنها: إني لأعجب ممن يأكل الغراب وقد أذن صلى الله عليه وسلم في قتله وقال صاحب المهذب بعد أن ذكر تحريم أكل الغراب الأبقع ويحرم الغراب الأسود الكبير لأنه مستخبث يأكل الجيف فهو كالأبقع.
وفي الغداف وغراب الزرع وجهان:
أحدهما: لا يحل: للخبر.
والثاني: يحل: لأنه مستطاب يلقط الحب فهو كالحمام والدجاج وقال ابن قدامة في المغني ويحرم منها ما يأكل الجيف كالنسور والرخم وغراب البين وهو أكبر الغربان والأبقع. قال عروة: ومن يأكل الغراب وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم فاسقا؟ والله ما هو من الطيبات اه.
قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر المتبادر أن كل شيء أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله بغير الذكاة الشرعية أنه محرم الأكل إذ لو كان الانتفاع بأكله جائزا لما أذن صلى الله عليه وسلم في إتلافه كما هو واضح.
وقال النووي: الغراب الأبقع حرام بلا خلاف للأحاديث الصحيحة والأسود الكبير فيه طريقان:
540

إحداهما: أنه حرام.
والأخرى: أن فيه وجهين: أصحهما التحريم.
وغراب الزرع فيه وجهان مشهوران: أصحهما أنه حلال وهو الزاغ وهو أسود صغير وقد يكون محمر المنقار والرجلين اه منه بالمعنى في (شرح المهذب).
ومن ذلك الصرد. والهدهد والخطاف. والخفاش: وهو الوطواط.
ومذهب الشافعي: تحريم أكل الهدهد والخطاف.
قال صاحب المهذب: ويحرم أكل الهدهد والخطاف. لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتلهما وقال النووي في شرح المهذب أما حديث النهي عن قتل الهدهد فرواه
عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل أربع من الدواب: النملة والنحلة والهدهد والصرد رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ذكره في آخر كتابه ورواه ابن ماجة في كتاب الصيد بإسناد على شرط البخاري وأما النهي عن قتل الخطاف هو ضعيف ومرسل رواه البيهقي بإسناد عن أبي الحويرث عبد الرحمن بن معاوية وهو من تابعي التابعين أو من التابعين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قتل الخطاطيف ثم قال: قال البيهقي: هذا منقطع. قال: وروى حمزة النصيبي فيه حديثا مسندا إلا أنه كان يرمى بالوضع اه. ومما ذكره النووي تعلم أن الصرد والهدهد لا يجوز أكلهما في مذهب الشافعي لثبوت النهي عن قتلهما وقال النووي أيضا: وصح عن عبد الله بن عمرو بن العاص موقوفا عليه أنه قال: لا تقتلوا الضفادع فإن نقيقها تسبيح ولا تقتلوا الخفاش فإنه لما خرب بيت المقدس قال: يا رب سلطني على البحر حتى أغرقهم قال البيهقي إسناده صحيح.
قال مقيده عفا الله عنه: والظاهر في مثل هذا الذي صح عن عبد الله بن عمرو من النهي عن قتل الخفاش والضفدع أنه في حكم المرفوع لأنه لا مجال للرأي فيه. لأن علم تسبيح الضفدع وما قاله الخفاش لا يكون بالرأي وعليه فهو يدل على منع أكل الخفاش والضفدع.
وقال ابن قدامة في المغني: ويحرم الخطاف والخشاف أو الخفاش وهو الوطواط وقال الشاعر
541

: الكامل:
* مثل النهار يزيد أبصار الوري
* نورا ويعمي أعين الخفاش
*
قال أحمد: ومن يأكل الخشاف؟ وسئل عن الخطاف فقال: لا أدري وقال النخعي: أكل الطير حلال إلا الخفاش وإنما حرمت هذه لأنها مستخبثة لا تأكلها العرب اه من المغني والخشاف هو الخفاش وقد قدمنا عن مالك وأصحابه جواز أكل جميع أنواع الطير: واستثنى بعضهم من ذلك الوطواط.
وفي الببغا والطاوس وجهان للشافعية: قال البغوي وغيره وأصحهما التحريم.
وفي العندليب والحمرة لهم أيضا وجهان: والصحيح إباحتهما وقال أبو عاصم العبادي: يحرم ملاعب ظله وهو طائر يسبح في الجو مرارا كأنه ينصب على طائر وقال أبو عاصم أيضا: والبوم حرام كالرخم قال: والضوع بضم الضاد المعجمة وفتح الواو وبالعين المهملة حرام على أصح القولين قال الرافعي: هذا يقتضي أن الضوع غير البوم قال: لكن في صحاح الجوهري أن الضوع طائر من طير الليل من جنس الهام وقال المفضل: هو ذكر البوم قال الرافعي: فعلى هذا إن كان في الضوع قول لزم إجراؤه في البوم لأن الذكر والأنثى من الجنس الواحد لا يفترقان قاله النووي: ثم قال: قلت: الأشهر أن الضوع من جنس الهام فلا يلزم اشتراكهما في الحكم.
وأما حشرات الطير كالنحل والزنابير والذباب والبعوض ونحو ذلك: فأكلها حرام عند الشافعي وأحمد وأكثر العلماء لأنها مستخبثة طبعا والله تعالى يقول: * (ويحرم عليهم الخبائث) *.
ومن ذلك الجلالة: وهي التي تأكل النجس وأصلها التي تلتقط الجلة بتثليث الجيم: وهي البعر والمراد بها عند العلماء: التي تأكل النجاسات من الطير والدواب.
ومشهور مذهب الإمام مالك جواز أكل لحم الجلالة مطلقا أما لبنها وبولها فنجسان في مشهور مذهبه ما دام النجس باقيا في جوفها ويطهر لبنها وبولها عنده إن أمسكت عن أكل النجس وعلفت علفا طاهرا مدة يغلب على الظن فيها عدم بقاء شيء في جوفها من الفضلات النجسة وكره كثير من العلماء لحم الجلالة ولبنها وحجتهم حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ألبان الجلالة: قال النووي في شرح المهذب: حديث ابن عباس صحيح رواه أبو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة قال الترمذي: هو حديث حسن صحيح اه.
542

وقال النووي في حد الجلالة: والصحيح الذي عليه الجمهور أنه لا اعتبار بالكثرة وإنما الاعتبار بالرائحة والنتن فإن وجد في عرقها وغيره ريح النجاسة فجلالة وإلا فلا وأكل لحم الجلالة وشرب لبنها مكروه عند الشافعية والصحيح عندهم أنها كراهة تنزيه وقيل: كراهة تحريم.
وقال ابن قدامة في المغني: قال أحمد: أكره لحوم الجلالة وألبانها. قال القاضي في المجرد: هي التي تأكل القذر فإذا كان أكثر علفها النجاسة حرم لحمها ولبنها.
وفي بيضها روايتان: وإن كان أكثر علفها الطاهر لم يحرم أكلها ولا لبنها وتحديد الجلالة يكون أكثر علفها النجاسة لم نسمعه عن أحمد ولا هو ظاهر كلامه لكن يمكن تحديده بما يكون كثيرا في مأكولها ويعفى عن اليسير وقال الليث إنما كانوا يكرهون الجلالة التي لا طعام لها إلا الرجيع وما أشبهه وقال ابن أبي موسى في الجلالة روايتان:
إحداهما: أنها محرمة.
والثانية: أنها مكروهة غير محرمة وهذا قول الشافعي وكره أبو حنيفة لحومها والعمل عليها حتى تحبس ورخص الحسن في لحومها وألبانها. لأن الحيوانات لا تتنجس بأكل النجاسات. بدليل أن شارب الخمر لا يحكم بتنجيس أعضائه والكافر الذي يأكل الخنزير والمحرمات لا يكون ظاهره نجسا ولو نجس لما طهر بالإسلام ولا الاغتسال ولو نجست الجلالة لما طهرت بالحبس اه.
والظاهر كراهة ركوب الجلالة وهو مكروه عند الشافعي وأحمد وعمر وابنه عبد الله وروي عن ابن عمر مرفوعا كراهة ركوب الجلالة أخرجه البيهقي وغيره.
والسخلة المرباة بلبن الكلبة حكمها حكم الجلالة فيما يظهر فيجري فيها ما جرى فيها والله تعالى أعلم.
ومن ذلك الزروع والثمار التي سقيت بالنجاسات أو سمدت بها فأكثر العلماء على أنها طاهرة وأن ذلك لا ينجسها وممن قال بذلك مالك والشافعي وأصحابهما خلافا للإمام أحمد وقال ابن قدامة في المغني وتحرم الزروع والثمار التي سقيت بالنجاسات أو سمدت بها وقال ابن عقيل يحتمل أن يكره ذلك ولا يحرم. ولا يحكم بتنجيسها لأن النجاسة تستحيل في باطنها فتطهر بالاستحالة. كالدم يستحيل في أعضاء
543

الحيوان لحما ويصير لبنا. وهذا قول أكثر الفقهاء. منهم أبو حنيفة والشافعي وكان سعد بن أبي وقاص يدمل أرضه بالعرة ويقول: مكتل عرة مكتل بر والعرة: عذرة الناس ولنا ما روي عن ابن عباس: كنا نكري أراضي رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشترط عليهم ألا يدملوها بعذرة الناس ولأنها تتغذى بالنجاسات وتترقى فيها أجزاؤها والاستحالة لا تطهر فعلى هذا تطهر إذا سقيت الطاهرات. كالجلالة إذا حبست وأطعمت الطاهرات. اه من المغني بلفظه. * () * قوله تعالى: * (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا) *.
ذكر في هذه الآية الكريمة أنهم سيقولون: لو شاء الله ما أشركنا وذكر في غير هذا الموضع أنهم قالوا ذلك بالفعل كقوله في النحل: * (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه الآية وقوله في الزخرف) * * (وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم) *.
ومرادهم أن الله لما كان قادرا على منعهم من الإشراك ولم يمنعهم منه أن ذلك دليل على رضاه بشركهم ولذلك كذبهم هنا بقوله: * (قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن) * وكذبهم في الزخرف بقوله: * (ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون) * وقال في الزمر * (ولا يرضى لعباده الكفر) *. * (الآية) * قوله تعالى: * (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا) *
الظاهر في قوله: ما حرم ربكم عليه أنه مضمن معنى ما وصاكم به فعلا أو تركا. لأن كلا من ترك الواجب وفعل الحرام حرام فالمعنى وصاكم ألا تشركوا وأن تحسنوا بالوالدين إحسانا.
وقد بين تعالى أن هذا هو المراد بقوله: * (ذلكم وصاكم به) *.
قوله تعالى: * (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) *.
نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة عن قتل الأولاد من أجل الفقر الواقع بالفعل. ونهى في سورة الإسراء عن قتلهم خشية الفقر المترقب المخوف منه مع أنه غير واقع في الحال بقوله: * (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) * وقد أوضح صلى الله عليه وسلم معناه حين سأله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أي الذنب أعظم؟ فقال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: * (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس
544

التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون) *.
وأخذ بعض أهل العلم من هذه الآية منع العزل. لأنه وأد خفي وحديث جابر: كنا نعزل والوحي ينزل يدل على جوازه لكن قال جماعة من أهل العلم: إنه لا يجوز عن الحرة إلا بإذنها ويجوز عن الأمة بغير إذنها والإملاق: الفقر وقال بعض أهل بعض العلم: الإملاق الجوع.
وحكاه النقاش عن مؤرج وقيل: الإملاق الإنفاق يقال: أملق ماله بمعنى أنفقه وذكر أن عليا قال لامرأته: أملقي ما شئت من مالك.
وحكي هذا القول عن منذر بن سعيد ذكره القرطبي وغيره والصحيح الأول. * () * قوله تعالى: * (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده) *.
قد يتوهم غير العارف من مفهوم مخالفة هذه الآية الكريمة أعني مفهوم الغاية في قوله: * (حتى يبلغ أشده) * إنه إذا بلغ أشده فلا مانع من قربان ماله بغير التي هي أحسن وليس ذلك مرادا بالآية بل الغاية ببلوغ الأشد يراد بها أنه إن بلغ أشده يدفع إليه ماله إن أونس منه الرشد كما بينه تعالى بقوله: * (فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) *.
والتحقيق أن المراد بالأشد في هذه الآية البلوغ بدليل قوله تعالى حتى: * (إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) *.
والبلوغ يكون بعلامات كثيرة كالإنبات واحتلام الغلام وحيض الجارية وحملها وأكثر أهل العلم على أن سن البلوغ خمس عشرة سنة. ومن العلماء من قال: إذا بلغت قامته خمسة أشبار فقد بلغ ويروى هذا القول عن علي وبه أخذ الفرزدق في قوله يرثي يزيد بن المهلب: الكامل:
* ما زال مذ عقدت يداه إزاره
* فسما فأدرك خمسة الأشبار
*
* يدني خوافق من خوافق تلتقي
* في ظل معتبط الغبار مثار
*
والأشد قال بعض العلماء: هو واحد لا جمع له كالآنك وهو الرصاص وقيل: واحده شد كفلس وأفلس قاله القرطبي وغيره وعن سيبويه أنه جمع شدة ومعناه حسن لأن العرب تقول: بلغ الغلام شدته إلا إن جمع الفعلة فيه على أفعل غير معهود كما قاله الجوهري وأما أنعم فليس جمع نعمة وإنما هو جمع نعم من قولهم بؤس ونعم قاله
القرطبي وقال أيضا: وأصل الأشد من شد النهار إذا ارتفع يقال. أتيته شد النهار وكان محمد بن محمد الضبي ينشد بيت عنترة:
545

الكامل:
* عهدي به شد النهار كأنما
* خضب اللبان ورأسه بالعظلم
*
وقال الآخر: الطويل:
* تطيف به شد النهار ظعينة
* طويلة أنقاء اليدين سحوق
*
قال مقيده عفا الله عنه: ومنه قول كعب بن زهير: البسيط:
* شد النهار ذراعا عطيل نصف
* قامت فجاوبها نكد مثاكيل
*
فقوله: شد النهار يعني وقت ارتفاعه وهو بدل من اليوم في قوله قبله:
* يوما يظل به الحرباء مصطخدا
* كأن ضاحيه بالشمس محلول
*
فشد النهار بدل من قوله يوما بدل بعض من كل كما أن قوله: يوما بدل من إذا في قوله قبل ذلك: البسيط:
* كأن أوب ذراعيها إذا عرقت
* وقد تلفع بالقور العساقيل
*
لأن الزمن المعبر عنه بإذا هو بعينه اليوم المذكور في قوله يوما يظل البيت ونظيره في القرآن قوله تعالى: * (فإذا جاءت الطآمة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى) * وقوله: * (فإذا جاءت الصآخة يوم يفر المرء) * وإعراب أبيات كعب هذه يدل على جواز تداخل البدل وقوله: ذراعا عطيل خبر كأن في قوله: كأن أوب ذراعيها البيت.
وقال السدي: الأشد ثلاثون سنة وقيل: أربعون سنة وقيل: ستون سنة ولا يخفى أن هذه الأقوال بعيدة عن المراد بالآية كما بينا وإن جازت لغة كما قال سحيم بن وثيل: الوافر:
* أخو خمسين مجتمع أشدى
* ونجذني مداورة الشؤون
*
546

* *
تنبيه
قال مالك وأصحابه: إن الرشد الذي يدفع به المال إلى من بلغ النكاح هو حفظ المال وحسن النظر في التصرف فيه وإن كان فاسقا شريبا كما أن الصالح التقي إذا كان لا يحسن النظر في المال لا يدفع إليه ماله قال ابن عاصم المالكي في تحفته: الرجز:
* وشارب الخمر إذا ما ثمرا
* لما يلي من ماله لن يحجرا
*
* وصالح ليس يجيد النظرا
* في المال إن خيف الضياع حجرا
*
وقال الشافعي ومن وافقه: لا يكون الفاسق العاصي رسيدا لأنه لا سفه أعظم من تعريضه نفسه لسخط الله وعذابه بارتكاب المعاصي والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: * (وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها) *.
أمر تعالى في هذه الآية الكريمة بإيفاء الكيل والميزان بالعدل وذكر أن من أخل بإيفائه من غير قصد منه لذلك لا حرج عليه لعدم قصده ولم يذكر هنا عقابا لمن تعمد ذلك ولكنه توعده بالويل في موضع آخر ووبخه بأنه لا يظن البعث ليوم القيامة وذلك في قوله: * (ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين) *.
وذكر في موضع آخر أن إيفاء الكيل والميزان خير لفاعله وأحسن عاقبة وهو قوله تعالى: * (وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا) *.
قوله تعالى: * (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى) *.
أمر تعالى في هذه الآية الكريمة بالعدل في القول ولو كان على ذي قرابة وصرح في موضع آخر بالأمر بذلك ولو كان على نفسه أو والديه وهو قوله تعالى: * (يا أيها الذين ءامنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين) *. * (الآية) *
قوله تعالى: * (وبعهد الله أوفوا) *.
أمر تعالى في هذه الآية الكريمة بالإيفاء بعهد الله وصرح في موضع آخر أن عهد الله سيسأل عنه يوم القيامة بقوله: * (وأوفوا
547

بالعهد إن العهد كان مسؤولا) * أي عنه. * () * قوله تعالى: * (أو تقولوا لو أنآ أنزل علينا الكتاب لكنآ أهدى منهم) *.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن من حكم إنزال القرآن العظيم قطع عذر كفار مكة. لئلا يقولوا: لو أنزل علينا كتاب لعملنا به ولكنا أهدى من اليهود والنصارى الذين لم يعملوا بكتبهم وصرح في موضع آخر أنهم أقسموا على ذلك وأنه لما أنزل عليهم ما زادهم نزوله إلا نفورا وبعدا عن الحق لاستكبارهم ومكرهم السئ وهو قوله تعالى: * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا استكبارا في الأرض ومكر السئ ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله) *.
قوله تعالى: * (فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها) *.
قال بعض العلماء: إن هذا الفعل أعني صدف في هذه الآية لازم ومعناه أعرض عنها وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة.
وقال السدي: صدف في هذه الآية متعدية للمفعول والمفعول محذوف والمعنى أنه صد غيره عن اتباع آيات الله والقرءان يدل لقول السدي لأن إعراض هذا الذي لا أحد أظلم منه عن آيات الله صرح به في قوله: * (فمن أظلم ممن كذب بآيات الله) * إذا لا إعراض أعظم من التكذيب فدل ذلك على أن المراد بقوله: * (وصدف عنها) * أنه صد غيره عنها فصار جامعا بين الضلال والإضلال.
وعلى القول الأول فمعنى صدف مستغنى عنه بقوله كذب ونظير الآية على القول الذي يشهد له القرآن وهو قول السدي.
قوله تعالى: * (وهم ينهون عنه وينئون عنه اه قوله: * (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب) *.
وقد يوجه قول ابن عباس وقتادة ومجاهد بأن المراد بتكذيبه وإعراضه أنه لم يؤمن بها قلبه ولم تعمل بها جوارحه ونظيره قوله تعالى: * (فلا صدق ولا صلى ولاكن كذب وتولى) * ونحوها من الآيات الدالة على اشتمال الكافر على التكذيب بقلبه وترك العمل بجوارحه قال ابن كثير في تفسيره بعد أن أشار إلى هذا:
548

ولكن كلام السدي أقوى وأظهر والله أعلم اه.
وإطلاق صدف بمعنى أعرض كثير في كلام العرب ومنه قول أبي سفيان بن الحارث: البسيط:
* عجبت لحكم الله فينا وقد بدا
* له صدفنا عن كل حق منزل
*
وروي أن ابن عباس أنشد بيت أبي سفيان هذا لهذا المعنى ومنه أيضا قول ابن الرقاع: البسيط:
* إذا ذكرن حديثا قلن أحسنه
* وهن عن كل سوء يتقي صدف
*
أي معرضات. * () * قوله تعالى: * (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك) *.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة إتيان الله جل وعلا وملائكته يوم القيامة وذكر ذلك في موضع آخر وزاد فيه أن الملائكة يجيئون صفوفا وهو قوله تعالى: * (وجآء ربك والملك صفا صفا) * وذكره في موضع آخر وزاد فيه أنه جل وعلا يأتي في ظلل من الغمام وهو قوله تعالى: * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة) * ومثل هذا من صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه يمر كما جاء ويؤمن بها ويعتقد أنه حق وأنه لا يشبه شيئا من صفات المخلوقين. فسبحان من أحاط
بكل شيء علما * (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما) *. * () * قوله تعالى: * (قل إن صلاتي ونسكي) *.
قال بعض العلماء: المراد بالنسك هنا النحر لأن الكفار كانوا يتقربون لأصنامهم بعبادة من أعظم العبادات: هي النحر. فأمر الله تعالى نبيه أن يقول إن صلاته ونحره كلاهما خالص لله تعالى ويدل لهذا قوله تعالى: * (فصل لربك وانحر) * وقال بعض العلماء: النسك جميع العبادات ويدخل فيه النحر وقال بعضهم: المراد بقوله: * (وانحر) * وضع اليد اليمنى على اليسرى تحت النحر في الصلاة والله تعالى أعلم
549