الكتاب: فرائد الأصول
المؤلف: الشيخ الأنصاري
الجزء: ٣
الوفاة: ١٢٨١
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق: إعداد : لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: شعبان المعظم ١٤١٩
المطبعة: باقري - قم
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
ردمك: ٩٦٤-٥٦٦٢-٠٤-٤
ملاحظات: المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الشيخ الأنصاري

فرائد الأصول
الاستصحاب
1

فرائد الأصول
للشيخ الأعظم أستاذ الفقهاء والمجتهدين
الشيخ مرتضى الأنصاري (قدس سره)
1214 - 1281 ه‍
الجزء الثالث
إعداد
لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
3

أنصاري، مرتضى بن محمد أمين، 1214 - 1281 ق.
فرائد الأصول / لمرتضى الأنصاري، إعداد وتحقيق لجنة تحقيق تراث الشيخ
الأعظم. - قم: مجمع الفكر الإسلامي، 1419 ق = 1377.
4 ج: نمونه - (آثار شيخ الأعظم أنصاري، 24، 25، 26، 27)
10000 ريال (هر جلد)
) 0 - 02 - 5662 - ISBN 964 ج 1) 6 - 03 - 5662 - ISBN 964 - (ج 2 (
) 4 - 04 - 5662 - ISBN 964 ج 3) 2 - 05 - 5662 - ISBN 964 - (ج 4 (
فهرستنويسى بر أساس اطلاعات فيپا (فهرستنويسى پيش از انتشار).
عربي.
أين كتاب به فرائد الأصول ورسائل نيز معروف است.
أين كتاب در سالهاى مختلف توسط ناشرين متفاوت منتشر شده است.
كتابنامه.
مندرجات: ج. 1. القطع والظن - ج. 2. البراءة والاشتغال - ج. 3. الاستصحاب
- ج. 4. التعادل والتراجيح.
1. أصول فقه شيعه. الف: مجمع الفكر الاسلامي. لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم.
گردآورنده. ب عنوان. ج عنوان: رسائل.
4 ف 8 الف / BP 159 312 / 297
120471377 - 77 م
قم - ص. ب 3654 - 37185 - ت: 744810
فرائد الأصول
ج 3 (الاستصحاب)
المؤلف: الشيخ الأعظم الشيخ مرتضى الأنصاري قدس سره
تحقيق: لجنة التحقيق
الطبعة: الأولى / شعبان المعظم 1419 ه‍. ق
صف الحروف: مجمع الفكر الإسلامي
الليتوغراف: نگارش - قم
المطبعة: باقري - قم
الكمية المطبوعة: 3000 نسخة
جميع الحقوق محفوظة
للأمانة العامة للمؤتمر العالمي
بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الشيخ الأنصاري قدس سره
4

بسم الله الرحمن الرحيم
5

المقام الثاني
في الاستصحاب
7

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد
وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
8

المقام الثاني (1)
في الاستصحاب
وهو لغة: أخذ الشئ مصاحبا (2)، ومنه: استصحاب أجزاء ما
لا يؤكل لحمه في الصلاة.
وعند الأصوليين عرف بتعاريف، أسدها وأخصرها: " إبقاء ما
كان " (3)، والمراد بالإبقاء الحكم بالبقاء، ودخل الوصف في الموضوع
مشعر بعليته للحكم، فعلة الإبقاء هو أنه (4) كان، فيخرج إبقاء الحكم
لأجل وجود علته أو دليله.
وإلى ما ذكرنا يرجع تعريفه في الزبدة بأنه: " إثبات الحكم في
الزمان الثاني تعويلا على ثبوته في الزمان الأول " (5)، بل نسبه شارح

(1) من المقامين المذكورين في مبحث البراءة 2: 14.
(2) لم نعثر على هذا التعريف بلفظه في كتب اللغة، ففي القاموس: " استصحبه:
دعاه إلى الصحبة ولازمه "، وفي المصباح: " كل شئ لازم شيئا فقد استصحبه،
واستصحبت الكتاب وغيره: حملته صحبتي "، وكذا في الصحاح ومجمع البحرين،
مادة " صحب ".
(3) انظر مناهج الأحكام: 223، وكذا ضوابط الأصول: 346.
(4) في (ص): " أن ".
(5) الزبدة: 72 - 73.
9

الدروس إلى القوم، فقال: إن القوم ذكروا أن الاستصحاب إثبات حكم
في زمان لوجوده في زمان سابق عليه (1).
وأزيف التعاريف تعريفه بأنه: " كون حكم أو وصف يقيني
الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق " (2)، إذ لا يخفى
أن كون حكم أو وصف كذلك، هو محقق مورد الاستصحاب ومحله،
لا نفسه. ولذا صرح في المعالم - كما عن غاية المأمول (3) -: بأن استصحاب
الحال، محله أن يثبت حكم في وقت، ثم يجئ وقت آخر، ولا يقوم
دليل على انتفاء ذلك الحكم، فهل يحكم ببقائه على ما كان، وهو
الاستصحاب؟ (4) انتهى.
ويمكن توجيه التعريف المذكور: بأن المحدود هو الاستصحاب
المعدود من الأدلة، وليس الدليل إلا ما أفاد العلم أو الظن بالحكم،
والمفيد للظن بوجود الحكم في الآن اللاحق ليس إلا كونه يقيني
الحصول في الآن السابق، مشكوك البقاء في الآن اللاحق، فلا مناص
عن تعريف الاستصحاب المعدود من الأمارات إلا (5) بما ذكره (قدس سره).
لكن فيه: أن الاستصحاب - كما صرح به هو (قدس سره) في أول كتابه (6) -

(1) مشارق الشموس: 76، وفيه: " إثبات حكم شرعي... الخ ".
(2) هذا التعريف للمحقق القمي في القوانين 2: 53.
(3) غاية المأمول في شرح زبدة الأصول للفاضل الجواد (مخطوط): الورقة 128،
وحكاه عنه السيد المجاهد في مفاتيح الأصول: 634.
(4) المعالم: 231.
(5) لم ترد " إلا " في (ت) و (ه‍).
(6) القوانين 1: 9.
10

إن اخذ من العقل كان داخلا في دليل العقل (1)، وإن اخذ من الأخبار
فيدخل في السنة، وعلى كل تقدير، فلا يستقيم تعريفه بما ذكره،
لأن دليل العقل هو حكم عقلي يتوصل به إلى حكم شرعي، وليس هنا
إلا حكم العقل ببقاء ما كان على ما كان (2)، والمأخوذ من السنة
ليس إلا وجوب الحكم ببقاء ما كان على ما كان، فكون الشئ
معلوما سابقا مشكوكا فيه لاحقا (3) لا ينطبق على الاستصحاب بأحد
الوجهين.
نعم ذكر شارح المختصر: " أن معنى استصحاب الحال أن الحكم
الفلاني قد كان ولم يظن عدمه، وكل ما كان كذلك فهو مظنون
البقاء " (4).
فإن كان الحد هو خصوص الصغرى انطبق على التعريف المذكور،
وإن جعل خصوص الكبرى انطبق على تعاريف (5) المشهور.
وكأن صاحب الوافية استظهر منه (6) كون التعريف مجموع المقدمتين،
فوافقه في ذلك، فقال: الاستصحاب هو التمسك بثبوت ما ثبت في وقت
أو حال على بقائه فيما بعد ذلك الوقت أو في غير تلك الحال، فيقال:

(1) كذا في (ر) و (ظ)، وفي غيرهما: " الدليل العقلي ".
(2) لم ترد " على ما كان " في (ر).
(3) " لاحقا " من (ه‍).
(4) شرح مختصر الأصول 2: 453.
(5) في (ت) و (ه‍): " تعريف ".
(6) لم ترد " منه " في (ظ).
11

إن الأمر الفلاني قد كان ولم يعلم عدمه، وكل ما كان كذلك فهو
باق (1)، انتهى. ولا ثمرة مهمة في ذلك.

(1) الوافية: 200.
12

بقي الكلام في أمور:
الأول
أن عد الاستصحاب من الأحكام الظاهرية الثابتة للشئ بوصف
كونه مشكوك الحكم - نظير أصل البراءة وقاعدة الاشتغال - مبني على
استفادته من الأخبار، وأما بناء على كونه من أحكام العقل فهو دليل
ظني اجتهادي، نظير القياس والاستقراء، على القول بهما.
وحيث إن المختار عندنا هو الأول، ذكرناه في الأصول العملية
المقررة للموضوعات بوصف كونها مشكوكة الحكم، لكن ظاهر كلمات
الأكثر - كالشيخ (1) والسيدين (2) والفاضلين (3) والشهيدين (4) وصاحب المعالم (5) -

(1) العدة 2: 758.
(2) السيد المرتضى في الذريعة 2: 829 - 832، والسيد ابن زهرة في الغنية
(الجوامع الفقهية): 486.
(3) المحقق في المعارج: 206 - 208، والمعتبر 1: 32، والعلامة في مبادئ الوصول:
250 و 251، وتهذيب الوصول: 105، ونهاية الوصول (مخطوط): 407.
(4) الشهيد الأول في الذكرى 1: 53، والقواعد والفوائد 1: 132، والشهيد
الثاني في تمهيد القواعد: 271.
(5) المعالم: 233 - 234.
13

كونه حكما عقليا، ولذا لم يتمسك أحد (1) هؤلاء فيه بخبر من الأخبار.
نعم، ذكر في العدة (2) - انتصارا للقائل بحجيته - ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله)
من: " أن الشيطان ينفخ (3) بين أليتي المصلي فلا ينصرفن أحدكم إلا بعد
أن يسمع صوتا أو يجد ريحا " (4).
ومن العجب أنه انتصر بهذا الخبر الضعيف المختص بمورد خاص،
ولم يتمسك بالأخبار الصحيحة العامة المعدودة - في حديث الأربعمائة -
من أبواب العلوم (5).
وأول من تمسك بهذه الأخبار - فيما وجدته - والد الشيخ البهائي (قدس سره)،
فيما حكي عنه في العقد الطهماسبي (6)، وتبعه صاحب الذخيرة (7) وشارح
الدروس (8)، وشاع بين من تأخر عنهم (9).

(1) في (ت) و (ه‍) زيادة: " من ".
(2) العدة 2: 757 - 758.
(3) في العدة هكذا: " إن الشيطان يأتي أحدكم فينفخ بين أليتيه، فيقول: أحدثت
أحدثت، فلا ينصرفن حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا ".
(4) لم نعثر عليه بعينه في المجاميع الحديثية من الخاصة والعامة. نعم، ورد ما
يقرب منه في عوالي اللآلي 1: 380، الحديث الأول.
(5) الوسائل 1: 175، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 6، وانظر
الخصال: 609 - 637.
(6) العقد الطهماسبي (مخطوط): الورقة 28.
(7) الذخيرة: 44 و 115 - 116.
(8) مشارق الشموس: 76 و 141 - 142.
(9) كما في الحدائق 1: 142 - 143، والفصول: 370، والقوانين 2: 55.
14

نعم، ربما يظهر من الحلي في السرائر (1) الاعتماد على هذه الأخبار،
حيث عبر عن استصحاب نجاسة الماء المتغير بعد زوال تغيره من قبل
نفسه، ب‍: " عدم نقض اليقين إلا باليقين " (2). وهذه العبارة، الظاهر (3)
أنها مأخوذة من الأخبار.

(1) السرائر 1: 62.
(2) كذا في (ص) و (ه‍)، وفي غيرهما بدل " عدم نقض اليقين إلا باليقين ":
" بنقض اليقين باليقين ".
(3) في (ر): " ظاهرة في "، وفي (ص): " ظاهرة ".
15

الثاني
أن عد الاستصحاب - على تقدير اعتباره من باب إفادة الظن -
من الأدلة العقلية، كما فعله غير واحد منهم، باعتبار أنه حكم عقلي
يتوصل به إلى حكم شرعي بواسطة خطاب الشارع، فنقول: إن الحكم
الشرعي الفلاني ثبت سابقا ولم يعلم ارتفاعه، وكل ما كان كذلك فهو
باق، فالصغرى شرعية، والكبرى عقلية ظنية، فهو والقياس والاستحسان
والاستقراء (1) - نظير المفاهيم والاستلزامات - من العقليات الغير المستقلة.

(1) لم ترد " والاستقراء " في (ظ) و (ه‍)، وشطب عليها في (ت).
16

الثالث
أن مسألة الاستصحاب على القول بكونه من الأحكام العقلية
مسألة أصولية يبحث فيها عن كون الشئ دليلا على الحكم الشرعي،
نظير حجية القياس والاستقراء.
نعم، يشكل ذلك بما ذكره المحقق القمي (قدس سره) في القوانين وحاشيته:
من أن مسائل الأصول ما يبحث فيها عن حال الدليل بعد الفراغ عن
كونه دليلا، لا عن دليلية الدليل (1).
وعلى ما ذكره (قدس سره)، فيكون مسألة الاستصحاب - كمسائل حجية
الأدلة الظنية، كظاهر الكتاب وخبر الواحد ونحوهما - من المبادئ
التصديقية للمسائل الأصولية، وحيث لم تتبين في علم آخر احتيج إلى
بيانها في نفس العلم، كأكثر المبادئ التصورية.
نعم ذكر بعضهم (2): أن موضوع الأصول (3) ذوات الأدلة من حيث

(1) لم نقف عليه في القوانين، نعم ذكر ذلك في حاشيته، انظر القوانين (طبعة 1291)
1: 6، الحاشية المبدوة بقوله: " موضوع العلم هو ما يبحث فيه... الخ ".
(2) هو صاحب الفصول في الفصول: 12.
(3) في (ت) و (ه‍) زيادة: " هي ".
17

يبحث عن دليليتها أو عما يعرض لها بعد الدليلية.
ولعله موافق لتعريف الأصول بأنه: " العلم بالقواعد الممهدة
لاستنباط الأحكام الفرعية من أدلتها " (1).
و (2) أما على القول بكونه من الأصول العملية، ففي كونه من
المسائل الأصولية غموض، من حيث إن (3) الاستصحاب حينئذ قاعدة
مستفادة من السنة، وليس التكلم فيه تكلما في أحوال السنة، بل هو
نظير سائر القواعد المستفادة من الكتاب والسنة، والمسألة الأصولية هي
التي بمعونتها يستنبط هذه القاعدة من قولهم (عليهم السلام): " لا تنقض اليقين
بالشك "، وهي المسائل الباحثة عن أحوال طريق الخبر وعن أحوال
الألفاظ الواقعة فيه، فهذه القاعدة - كقاعدة " البراءة " و " الاشتغال " -
نظير قاعدة " نفي الضرر والحرج "، من القواعد الفرعية المتعلقة بعمل
المكلف. نعم، تندرج تحت هذه القاعدة مسألة أصولية يجري فيها
الاستصحاب، كما تندرج المسألة الأصولية أحيانا تحت أدلة نفي الحرج (4)،
كما ينفى وجوب الفحص عن المعارض حتى يقطع بعدمه بنفي الحرج.
نعم، يشكل كون الاستصحاب من المسائل الفرعية: بأن إجراءها
في موردها (5) - أعني: صورة الشك في بقاء الحكم الشرعي السابق،
كنجاسة الماء المتغير بعد زوال تغيره - مختص بالمجتهد وليس وظيفة

(1) كما في الفصول: 9، ومناهج الأحكام: 1.
(2) " الواو " من (ت).
(3) في (ر) و (ص) بدل " من حيث إن ": " لأن ".
(4) في (ظ): " نفي الضرر والحرج ".
(5) كذا في النسخ، والمناسب: " بأن إجراءه في مورده "، كما لا يخفى.
18

للمقلد (1)، فهي مما يحتاج إليه المجتهد فقط ولا ينفع للمقلد، وهذا من
خواص المسألة الأصولية، فإن المسائل الأصولية لما مهدت للاجتهاد
واستنباط الأحكام من الأدلة اختص التكلم فيها بالمستنبط، ولا حظ
لغيره فيها.
فإن قلت: إن اختصاص هذه المسألة بالمجتهد، لأجل أن
موضوعها - وهو الشك في الحكم الشرعي وعدم قيام الدليل الاجتهادي
عليه - لا يتشخص إلا للمجتهد، وإلا فمضمونه وهو: العمل على طبق
الحالة السابقة وترتيب آثارها، مشترك بين المجتهد والمقلد.
قلت: جميع المسائل الأصولية كذلك، لأن وجوب العمل بخبر
الواحد وترتيب آثار الصدق عليه ليس مختصا بالمجتهد. نعم، تشخيص
مجرى خبر الواحد وتعيين مدلوله وتحصيل شروط العمل به مختص
بالمجتهد، لتمكنه من ذلك وعجز المقلد عنه، فكأن المجتهد نائب عن
المقلد (2) في تحصيل مقدمات العمل بالأدلة الاجتهادية وتشخيص مجاري
الأصول العملية، وإلا فحكم الله الشرعي في الأصول والفروع مشترك
بين المجتهد والمقلد.
هذا، وقد جعل بعض السادة الفحول (3) الاستصحاب دليلا على
الحكم في مورده، وجعل قولهم (عليهم السلام): " لا تنقض اليقين بالشك " دليلا
على الدليل - نظير آية النبأ بالنسبة إلى خبر الواحد - حيث قال:

(1) في (ظ): " المقلد ".
(2) في (ت)، (ظ) و (ه‍) بدل " عن المقلد ": " عنه ".
(3) هو السيد بحر العلوم في فوائده.
19

إن استصحاب الحكم المخالف للأصل في شئ، دليل شرعي رافع
لحكم الأصل، ومخصص لعمومات الحل - إلى أن قال في آخر كلام له
سيأتي نقله (1) -: وليس عموم قولهم (عليهم السلام): " لا تنقض اليقين بالشك "
بالقياس إلى أفراد الاستصحاب وجزئياته، إلا كعموم آية النبأ بالقياس
إلى آحاد الأخبار المعتبرة (2)، انتهى.
أقول: معنى الاستصحاب الجزئي في المورد الخاص - كاستصحاب
نجاسة الماء المتغير - ليس إلا الحكم بثبوت النجاسة في ذلك الماء النجس
سابقا، وهل هذا إلا نفس الحكم الشرعي؟! وهل الدليل عليه إلا
قولهم (عليهم السلام): " لا تنقض اليقين بالشك " (3)؟! وبالجملة: فلا فرق بين
الاستصحاب وسائر القواعد المستفادة من العمومات.
هذا كله في الاستصحاب الجاري في الشبهة الحكمية المثبت للحكم
الظاهري الكلي.
وأما الجاري في الشبهة الموضوعية - كعدالة زيد ونجاسة ثوبه
وفسق عمرو وطهارة بدنه - فلا إشكال في كونه حكما فرعيا، سواء
كان التكلم فيه من باب الظن، أم كان من باب كونها قاعدة تعبدية
مستفادة من الأخبار، لأن التكلم فيه على الأول، نظير التكلم في
اعتبار سائر الأمارات، ك‍ " يد المسلمين " و " سوقهم " و " البينة "
و " الغلبة " ونحوها في الشبهات الخارجية. وعلى الثاني، من باب أصالة
الطهارة وعدم الاعتناء بالشك بعد الفراغ، ونحو ذلك.

(1) انظر الصفحة 276 و 277.
(2) فوائد السيد بحر العلوم: 116 - 117.
(3) الوسائل 1: 174، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث الأول.
20

الرابع
أن المناط في اعتبار الاستصحاب على القول بكونه من باب
التعبد الظاهري (1)، هو مجرد عدم العلم بزوال الحالة السابقة.
وأما على القول بكونه من باب الظن، فالمعهود من طريقة الفقهاء
عدم اعتبار إفادة الظن في خصوص المقام، كما يعلم ذلك من حكمهم
بمقتضيات الأصول كلية مع عدم اعتبارهم أن يكون العامل بها ظانا
ببقاء الحالة السابقة (2)، ويظهر ذلك بأدنى تتبع (3) في أحكام العبادات
والمعاملات والمرافعات والسياسات.
نعم، ذكر شيخنا البهائي (قدس سره) في الحبل المتين - في باب الشك في
الحدث بعد الطهارة - ما يظهر منه اعتبار الظن الشخصي، حيث قال:
لا يخفى أن الظن الحاصل بالاستصحاب في من تيقن الطهارة
وشك في الحدث، لا يبقى على نهج واحد، بل يضعف بطول المدة شيئا

(1) لم ترد " الظاهري " في (ظ).
(2) انظر الجواهر 2: 347.
(3) كذا في (ه‍) و (ت)، وفي غيرهما: " لأدنى متتبع ".
21

فشيئا، بل قد يزول الرجحان ويتساوى الطرفان، بل ربما يصير الراجح
مرجوحا، كما إذا توضأ عند الصبح وذهل عن التحفظ، ثم شك عند
المغرب في صدور الحدث منه، ولم يكن من عادته البقاء على الطهارة
إلى ذلك الوقت. والحاصل: أن المدار على الظن، فما دام باقيا فالعمل
عليه وإن ضعف (1). انتهى كلامه، رفع في الخلد مقامه.
ويظهر من شارح الدروس ارتضاؤه، حيث قال بعد حكاية هذا
الكلام:
ولا يخفى أن هذا إنما يصح لو بنى المسألة على أن ما تيقن
بحصوله في وقت ولم يعلم أو يظن طرو ما يزيله، يحصل الظن ببقائه،
والشك في نقيضه لا يعارضه، إذ الضعيف لا يعارض القوي.
لكن، هذا البناء ضعيف جدا، بل بناؤها على الروايات مؤيدة
بأصالة البراءة في بعض الموارد، وهي تشمل الشك والظن معا، فإخراج
الظن منها (2) مما لا وجه له أصلا (3)، انتهى كلامه.
ويمكن استظهار ذلك من الشهيد (قدس سره) في الذكرى حيث ذكر أن:
قولنا: " اليقين لا ينقضه الشك "، لا نعني به اجتماع اليقين والشك،
بل المراد أن اليقين الذي كان في الزمن الأول لا يخرج عن حكمه
بالشك في الزمان الثاني، لأصالة بقاء ما كان، فيؤول إلى اجتماع الظن

(1) الحبل المتين: 37.
(2) كذا في (ر) ونسختي بدل (ت) و (ص)، وهو الأصح، وفي (ت)، (ظ) و (ص)
والمصدر بدل " منها ": " عنه ".
(3) مشارق الشموس: 142.
22

والشك في الزمان الواحد، فيرجح الظن عليه، كما هو مطرد في
العبادات (1)، انتهى كلامه.
ومراده من الشك مجرد الاحتمال، بل ظاهر كلامه أن المناط في
اعتبار الاستصحاب من باب (2) أخبار عدم نقض اليقين بالشك، هو
الظن أيضا، فتأمل.

(1) الذكرى 1: 207، مع اختلاف في بعض الألفاظ.
(2) لم ترد " اعتبار الاستصحاب من باب " في (ظ).
23

الخامس
أن المستفاد من تعريفنا السابق (1) - الظاهر في استناد الحكم بالبقاء
إلى مجرد الوجود السابق - أن الاستصحاب يتقوم بأمرين:
أحدهما: وجود الشئ في زمان، سواء علم به في زمان وجوده
أم لا. نعم، لا بد من إحراز ذلك حين إرادة الحكم بالبقاء بالعلم أو
الظن المعتبر، وأما مجرد الاعتقاد بوجود شئ في زمان مع زوال ذلك
الاعتقاد في زمان آخر، فلا يتحقق معه الاستصحاب الاصطلاحي وإن
توهم بعضهم (2): جريان عموم (3) " لا تنقض " فيه، كما سننبه عليه (4).
والثاني: الشك في وجوده في زمان لاحق عليه، فلو شك في
زمان سابق عليه فلا استصحاب، وقد يطلق عليه الاستصحاب القهقرى
مجازا.

(1) وهو " إبقاء ما كان ".
(2) هو المحقق السبزواري في ذخيرة المعاد: 44.
(3) لم ترد " عموم " في (ظ)، وشطب عليها في (ت) و (ه‍).
(4) انظر الصفحة 303.
24

ثم المعتبر هو الشك الفعلي الموجود حال الالتفات إليه، أما لو لم
يلتفت (1) فلا استصحاب وإن فرض الشك فيه على فرض الالتفات.
فالمتيقن للحدث إذا التفت إلى حاله في اللاحق فشك، جرى
الاستصحاب في حقه، فلو غفل عن ذلك وصلى بطلت صلاته، لسبق
الأمر بالطهارة (2)، ولا يجري في حقه حكم الشك في الصحة بعد الفراغ
عن العمل، لأن مجراه الشك الحادث بعد الفراغ، لا الموجود من قبل (3).
نعم (4)، لو غفل عن حاله بعد اليقين بالحدث وصلى، ثم التفت
وشك في كونه محدثا حال الصلاة أو متطهرا، جرى في حقه قاعدة
الشك بعد الفراغ، لحدوث الشك بعد العمل وعدم وجوده قبله حتى
يوجب الأمر بالطهارة والنهي عن الدخول فيه بدونها.
نعم، هذا الشك اللاحق يوجب الإعادة بحكم استصحاب عدم
الطهارة، لولا حكومة قاعدة الشك بعد الفراغ عليه، فافهم (5).

(1) في (ظ) و (ه‍) زيادة: " إليه ".
(2) لم ترد " لسبق الأمر بالطهارة " في (ظ).
(3) لم ترد " لأن مجراه الشك الحادث بعد الفراغ لا الموجود من قبل " في (ظ).
(4) في (ت)، (ظ) و (ه‍) بدل " نعم ": " و ".
(5) في (ظ) بدل " لحدوث - إلى - فافهم " ما يلي: " ولا يجري الاستصحاب، لأن
الاستصحاب قبل دخوله في العمل لم ينعقد، لعدم الشك الفعلي وإن كان غير
عالم بالحال، وبعد الفراغ غير معتبر، لورود قاعدة الصحة عليه، فافهم ".
25

السادس
في تقسيم الاستصحاب إلى أقسام، ليعرف أن الخلاف في مسألة
الاستصحاب في كلها أو في بعضها، فنقول:
إن له تقسيما باعتبار المستصحب.
وآخر باعتبار الدليل الدال عليه.
وثالثا باعتبار الشك المأخوذ فيه.
[تقسيم الاستصحاب باعتبار المستصحب] (1)
أما بالاعتبار الأول فمن وجوه:
الوجه الأول:
من حيث إن المستصحب قد يكون أمرا وجوديا - كوجوب (2) شئ

(1) العنوان منا.
(2) في (ظ): " كوجود ".
26

أو طهارة شئ أو رطوبة ثوب (1) أو نحو ذلك - وقد يكون عدميا.
وهو على قسمين:
أحدهما: عدم اشتغال الذمة بتكليف شرعي، ويسمى عند
بعضهم (2) ب‍: " البراءة الأصلية " و " أصالة النفي ".
والثاني: غيره، كعدم نقل اللفظ عن معناه، وعدم القرينة، وعدم
موت زيد ورطوبة الثوب وحدوث موجب الوضوء أو الغسل، ونحو ذلك.
ولا خلاف في كون الوجودي محل النزاع.
وأما العدمي، فقد مال الأستاذ (3) (قدس سره) إلى عدم الخلاف فيه، تبعا
لما حكاه عن أستاذه السيد صاحب الرياض (رحمه الله): من دعوى الإجماع
على اعتباره في العدميات. واستشهد على ذلك - بعد نقل الإجماع
المذكور - باستقرار سيرة العلماء على التمسك بالأصول العدمية، مثل:
أصالة عدم القرينة والنقل والاشتراك وغير ذلك، وببنائهم هذه المسألة
على كفاية العلة المحدثة للإبقاء.

(1) في (ر) بدل " طهارة شئ أو رطوبة ثوب ": " طهارته أو رطوبته "، وفي
(ت)، (ص) و (ه‍): " طهارته أو رطوبة ثوب ".
(2) مثل المحقق في المعتبر 1: 32، والشهيد الأول في القواعد والفوائد 1: 132،
والشهيد الثاني في تمهيد القواعد: 271، والفاضل الجواد في غاية المأمول
(مخطوط): الورقة 128، والمحدث البحراني في الدرر النجفية: 34، والحدائق
1: 51.
(3) هو المحقق شريف العلماء المازندراني، انظر تقريرات درسه في ضوابط الأصول:
351.
27

أقول: ما استظهره (قدس سره) لا يخلو عن تأمل (1):
أما دعوى الإجماع، فلا مسرح لها في المقام مع ما سيمر بك من
تصريحات كثير (2) بخلافها، وإن كان يشهد لها ظاهر التفتازاني في شرح
الشرح، حيث قال:
" إن خلاف الحنفية المنكرين للاستصحاب إنما هو في الإثبات دون
النفي الأصلي " (3).
وأما سيرة العلماء، فقد استقرت في باب الألفاظ على التمسك
بالأصول الوجودية والعدمية كلتيهما.
قال الوحيد البهبهاني في رسالته الاستصحابية - بعد نقل القول
بإنكار اعتبار الاستصحاب مطلقا عن بعض، وإثباته عن بعض،
والتفصيل عن بعض آخر - ما هذا لفظه:
لكن الذي نجد من الجميع - حتى من المنكر مطلقا - أنهم
يستدلون بأصالة عدم النقل، فيقولون: الأمر حقيقة في الوجوب عرفا،
فكذا لغة، لأصالة عدم النقل، ويستدلون بأصالة بقاء المعنى اللغوي،
فينكرون الحقيقة الشرعية، إلى غير ذلك، كما لا يخفى على المتتبع (4)،
انتهى.

(1) في (ر) و (ص) بدل " تأمل ": " خفاء ".
(2) في (ر): " كثيرة ".
(3) حاشية شرح مختصر الأصول 2: 284، ونقل المصنف (قدس سره) عبارة الشرح في
حاشيته على استصحاب القوانين: 51.
(4) الرسائل الأصولية: 424 - 425.
28

وحينئذ، فلا شهادة في السيرة الجارية في باب الألفاظ على
خروج العدميات.
وأما استدلالهم على إثبات الاستصحاب باستغناء الباقي عن المؤثر
الظاهر الاختصاص بالوجودي - فمع أنه معارض باختصاص بعض
أدلتهم الآتي بالعدمي (1)، وبأنه يقتضي أن يكون النزاع مختصا بالشك
من حيث المقتضي لا من حيث الرافع - يمكن توجيهه (2): بأن الغرض
الأصلي هنا لما كان هو التكلم في الاستصحاب الذي هو من أدلة
الأحكام الشرعية، اكتفوا بذكر ما يثبت الاستصحاب الوجودي. مع أنه
يمكن أن يكون الغرض تتميم المطلب في العدمي بالإجماع المركب، بل
الأولوية، لأن الموجود إذا لم يحتج في بقائه إلى المؤثر فالمعدوم كذلك
بالطريق الأولى.
نعم، ظاهر عنوانهم للمسألة ب‍ " استصحاب الحال "، وتعريفهم له،
ظاهر (3) الاختصاص بالوجودي، إلا أن الوجه فيه: بيان الاستصحاب
الذي هو من الأدلة الشرعية للأحكام، ولذا عنونه بعضهم - بل الأكثر -
ب‍ " استصحاب حال الشرع ".
ومما ذكرنا يظهر عدم جواز الاستشهاد (4) على اختصاص محل
النزاع بظهور (5) قولهم في عنوان المسألة: " استصحاب الحال "، في

(1) انظر الصفحة الآتية.
(2) في (ر) و (ص) زيادة: " أيضا ".
(3) كذا في النسخ، ولا يخفى زيادة لفظة " ظاهر " في أحد الموضعين.
(4) الاستشهاد من ضوابط الأصول: 351.
(5) في (ر) و (ص) بدل " بظهور ": " بظاهر ".
29

الوجودي، وإلا لدل تقييد كثير منهم العنوان ب‍ " استصحاب حال
الشرع "، على اختصاص النزاع بغير الأمور الخارجية.
وممن يظهر منه دخول العدميات في محل الخلاف الوحيد البهبهاني
فيما تقدم منه (1)، بل لعله صريح في ذلك بملاحظة ما ذكره قبل ذلك في
تقسيم الاستصحاب (2).
وأصرح من ذلك في عموم محل النزاع، استدلال النافين في كتب
الخاصة (3) والعامة (4): بأنه لو كان الاستصحاب معتبرا لزم ترجيح بينة
النافي، لاعتضاده (5) بالاستصحاب، واستدلال المثبتين - كما في المنية -:
بأنه لو لم يعتبر الاستصحاب لا نسد باب استنباط الأحكام من الأدلة،
لتطرق احتمالات فيها لا تندفع إلا بالاستصحاب (6).
وممن أنكر الاستصحاب في العدميات صاحب المدارك، حيث أنكر
اعتبار استصحاب عدم التذكية الذي تمسك به الأكثر لنجاسة الجلد
المطروح (7).
وبالجملة: فالظاهر أن التتبع يشهد بأن العدميات ليست خارجة

(1) راجع الصفحة 28.
(2) انظر الرسائل الأصولية: 423.
(3) انظر ما نقله العلامة في نهاية الوصول (مخطوط): 407.
(4) انظر ما نقله العضدي في شرح مختصر الأصول 2: 454.
(5) كذا في النسخ، والمناسب: " لاعتضادها "، لرجوع الضمير إلى البينة.
(6) منية اللبيب، للعميدي (مخطوط): الورقة 181.
(7) انظر المدارك 2: 387.
30

عن محل النزاع، بل سيجئ - عند بيان أدلة الأقوال - أن القول
بالتفصيل بين العدمي والوجودي - بناء على اعتبار الاستصحاب من
باب الظن - وجوده بين العلماء لا يخلو من إشكال، فضلا عن اتفاق
النافين عليه، إذ ما من استصحاب وجودي إلا ويمكن معه فرض
استصحاب عدمي يلزم من الظن به الظن بذلك المستصحب الوجودي،
فيسقط فائدة نفي اعتبار الاستصحابات الوجودية. وانتظر لتمام الكلام (1).
ومما يشهد بعدم الاتفاق في العدميات: اختلافهم في أن النافي
يحتاج إلى دليل أم لا؟ فلاحظ ذلك العنوان (2) تجده شاهد صدق على
ما ادعيناه.
نعم، ربما يظهر من بعضهم خروج بعض الأقسام من العدميات
من محل النزاع، كاستصحاب النفي المسمى ب‍ " البراءة الأصلية "، فإن
المصرح به في كلام جماعة - كالمحقق (3) والعلامة (4) والفاضل الجواد (5) -:
الإطباق على العمل عليه. وكاستصحاب عدم النسخ، فإن المصرح به في
كلام غير واحد - كالمحدث الاسترآبادي والمحدث البحراني -: عدم
الخلاف فيه، بل مال الأول إلى كونه من ضروريات الدين (6)، وألحق

(1) انظر الصفحة 103.
(2) انظر الذريعة 2: 827، والعدة 2: 752، والمعارج: 210، ومبادئ
الوصول: 251.
(3) المعارج: 208.
(4) انظر نهاية الوصول (مخطوط): 424.
(5) غاية المأمول (مخطوط): الورقة 128.
(6) الفوائد المدنية: 143.
31

الثاني بذلك استصحاب عدم المخصص والمقيد (1).
والتحقيق: أن اعتبار الاستصحاب - بمعنى التعويل في تحقق شئ
في الزمان الثاني على تحققه في الزمان السابق عليه - مختلف فيه، من
غير فرق بين الوجودي والعدمي. نعم، قد يتحقق في بعض الموارد
قاعدة أخرى توجب الأخذ بمقتضى الحالة السابقة، ك‍ " قاعدة قبح
التكليف من غير بيان "، أو " عدم الدليل دليل العدم "، أو " ظهور
الدليل الدال على الحكم في استمراره أو عمومه أو إطلاقه "، أو غير
ذلك، وهذا لا ربط له باعتبار الاستصحاب.
ثم إنا لم نجد في أصحابنا من فرق بين الوجودي والعدمي. نعم،
حكى شارح الشرح (2) هذا التفصيل عن الحنفية.
الوجه الثاني:
أن المستصحب قد يكون حكما شرعيا، كالطهارة المستصحبة بعد
خروج المذي، والنجاسة المستصحبة بعد زوال تغير المتغير بنفسه، وقد
يكون غيره، كاستصحاب الكرية، والرطوبة، والوضع الأول عند الشك
في حدوث النقل أو في تأريخه.
والظاهر بل صريح جماعة وقوع الخلاف في كلا القسمين.
نعم، نسب إلى بعض التفصيل بينهما بإنكار الأول والاعتراف

(1) في (ظ): " عدم التخصيص والتقييد "، وانظر الحدائق 1: 52، والدرر
النجفية: 34.
(2) أي التفتازاني، وقد تقدم كلامه في الصفحة 28.
32

بالثاني، ونسب إلى آخر العكس، حكاهما الفاضل القمي في القوانين (1).
وفيه نظر، يظهر بتوضيح المراد من الحكم الشرعي وغيره،
فنقول: الحكم الشرعي يراد به تارة الحكم الكلي الذي من شأنه أن
يؤخذ من الشارع، كطهارة من خرج منه المذي أو نجاسة ما زال تغيره
بنفسه، وأخرى يراد به ما يعم الحكم الجزئي الخاص في الموضوع
الخاص، كطهارة هذا الثوب ونجاسته، فإن الحكم بهما - من جهة عدم
ملاقاته للنجس أو ملاقاته - ليس وظيفة للشارع. نعم، وظيفته إثبات
الطهارة كلية (2) لكل شئ شك في ملاقاته للنجس وعدمها.
وعلى الإطلاق الأول جرى الأخباريون، حيث أنكروا اعتبار
الاستصحاب في نفس أحكام الله تعالى، وجعله الاسترآبادي من أغلاط
من تأخر عن المفيد، مع اعترافه باعتبار الاستصحاب في مثل طهارة
الثوب ونجاسته (3) وغيرهما مما شك فيه من الأحكام الجزئية لأجل
الاشتباه في الأمور الخارجية (4).
وصرح المحدث الحر العاملي: بأن أخبار الاستصحاب لا تدل على
اعتباره في نفس الحكم الشرعي، وإنما تدل على اعتباره في موضوعاته
ومتعلقاته (5).

(1) القوانين 2: 57.
(2) في (ت) و (ر): " الكلية ".
(3) الفوائد المدنية: 143.
(4) الفوائد المدنية: 148.
(5) الفوائد الطوسية: 208، والفصول المهمة في أصول الأئمة: 250.
33

والأصل في ذلك عندهم: أن الشبهة في الحكم الكلي لا مرجع
فيها إلا الاحتياط دون البراءة أو الاستصحاب، فإنهما عندهم مختصان
بالشبهة في الموضوع.
وعلى الإطلاق الثاني جرى بعض آخر.
قال المحقق الخوانساري في مسألة الاستنجاء بالأحجار:
وينقسم الاستصحاب إلى قسمين، باعتبار [انقسام] (1) الحكم
المأخوذ فيه إلى شرعي وغيره. ومثل للأول بنجاسة الثوب أو البدن،
وللثاني برطوبته، ثم قال: ذهب بعضهم إلى حجيته بقسميه، وبعضهم
إلى حجية القسم الأول فقط (2)، انتهى.
إذا عرفت ما ذكرناه، ظهر (3) أن عد القول بالتفصيل بين الأحكام
الشرعية والأمور الخارجية قولين متعاكسين ليس على ما ينبغي، لأن
المراد بالحكم الشرعي:
إن كان هو الحكم الكلي الذي أنكره الأخباريون فليس هنا من
يقول باعتبار الاستصحاب فيه ونفيه في غيره، فإن ما حكاه المحقق
الخوانساري (4) واستظهره السبزواري (5) هو اعتباره في الحكم الشرعي
بالإطلاق الثاني الذي هو أعم من الأول.

(1) ما بين المعقوفتين من المصدر.
(2) مشارق الشموس: 76.
(3) هذا وجه ما ذكره من النظر في كلام المحقق القمي، المتقدم في الصفحة السابقة.
(4) مشارق الشموس: 76.
(5) ذخيرة المعاد: 115 و 116.
34

وإن أريد بالحكم الشرعي الإطلاق الثاني الأعم، فلم يقل أحد
باعتباره في غير الحكم الشرعي وعدمه في الحكم الشرعي، لأن
الأخباريين لا ينكرون الاستصحاب في الأحكام الجزئية.
ثم إن المحصل من القول بالتفصيل بين القسمين المذكورين في هذا
التقسيم ثلاثة:
الأول: اعتبار الاستصحاب في الحكم الشرعي مطلقا - جزئيا كان
كنجاسة الثوب، أو كليا كنجاسة الماء المتغير بعد زوال التغير - وهو
الظاهر مما حكاه المحقق الخوانساري (1).
الثاني: اعتباره في ما عدا الحكم الشرعي الكلي وإن كان حكما
جزئيا، وهو الذي حكاه في الرسالة الاستصحابية عن الأخباريين (2).
الثالث: اعتباره في الحكم الجزئي دون الكلي ودون الأمور
الخارجية، وهو الذي ربما يستظهر مما حكاه السيد شارح الوافية عن
المحقق الخوانساري في حاشية له على قول الشهيد (قدس سره) في تحريم استعمال
الماء النجس والمشتبه (3).
الوجه الثالث:
من حيث إن المستصحب قد يكون حكما تكليفيا، وقد يكون

(1) تقدم كلامه في الصفحة السابقة.
(2) الرسائل الأصولية: 425.
(3) شرح الوافية (مخطوط): 339، ولكن لم نقف على هذه الحاشية في الموضع
المذكور فيما عندنا من نسخة مشارق الشموس، انظر المشارق: 281.
35

وضعيا شرعيا (1) كالأسباب والشروط والموانع.
وقد وقع الخلاف من هذه الجهة، ففصل صاحب الوافية بين
التكليفي وغيره، بالإنكار في الأول دون الثاني (2).
وإنما لم ندرج هذا التقسيم في التقسيم الثاني مع أنه تقسيم لأحد
قسميه، لأن ظاهر كلام المفصل المذكور وإن كان هو التفصيل بين الحكم
التكليفي والوضعي، إلا أن آخر كلامه ظاهر في إجراء الاستصحاب في
نفس الأسباب والشروط والموانع، دون السببية والشرطية والمانعية،
وسيتضح ذلك عند نقل عبارته عند التعرض لأدلة الأقوال (3).

(1) لم ترد " شرعيا " في (ت).
(2) الوافية: 202.
(3) انظر الصفحة 121 - 124.
36

[تقسيم الاستصحاب باعتبار دليل المستصحب] (1)
وأما بالاعتبار الثاني، فمن وجوه أيضا:
أحدها:
من حيث إن الدليل المثبت للمستصحب إما أن يكون هو
الإجماع، وإما أن يكون غيره. وقد فصل بين هذين القسمين الغزالي،
فأنكر الاستصحاب في الأول (2). وربما يظهر من صاحب الحدائق - فيما
حكي عنه في الدرر النجفية - أن محل النزاع في الاستصحاب منحصر
في استصحاب حال الإجماع (3). وسيأتي تفصيل ذلك عند نقل أدلة
الأقوال إن شاء الله.
الثاني:
من حيث إنه قد يثبت بالدليل الشرعي، وقد يثبت بالدليل
العقلي. ولم أجد من فصل بينهما، إلا أن في تحقق الاستصحاب مع
ثبوت الحكم بالدليل العقلي - وهو الحكم العقلي المتوصل به إلى حكم
شرعي - تأملا، نظرا إلى أن الأحكام العقلية كلها مبينة مفصلة من
حيث مناط الحكم (4)، والشك في بقاء المستصحب وعدمه لا بد وأن

(1) العنوان منا.
(2) المستصفى 1: 128.
(3) الدرر النجفية: 34.
(4) في (ر) و (ص) زيادة: " الشرعي ".
37

يرجع إلى الشك في موضوع الحكم، لأن الجهات المقتضية للحكم العقلي
بالحسن والقبح كلها راجعة إلى قيود فعل المكلف، الذي هو الموضوع.
فالشك في حكم العقل حتى لأجل وجود الرافع لا يكون إلا للشك في
موضوعه، والموضوع لا بد أن يكون محرزا معلوم البقاء في الاستصحاب،
كما سيجئ (1).
ولا فرق فيما ذكرنا، بين أن يكون الشك من جهة الشك في
وجود الرافع، وبين أن يكون لأجل الشك في استعداد الحكم، لأن
ارتفاع الحكم العقلي لا يكون إلا بارتفاع موضوعه، فيرجع الأمر
بالأخرة إلى تبدل العنوان، ألا ترى أن العقل إذا حكم بقبح الصدق
الضار، فحكمه يرجع إلى أن الضار من حيث إنه ضار حرام، ومعلوم
أن هذه القضية غير قابلة للاستصحاب عند الشك في الضرر مع العلم
بتحققه سابقا، لأن قولنا: " المضر قبيح " حكم دائمي لا يحتمل ارتفاعه
أبدا، ولا ينفع في إثبات القبح عند الشك في بقاء الضرر.
ولا يجوز أن يقال: إن هذا الصدق كان قبيحا سابقا فيستصحب
قبحه، لأن الموضوع في حكم العقل بالقبح ليس هذا الصدق، بل عنوان
المضر، والحكم له مقطوع البقاء، وهذا بخلاف الأحكام الشرعية، فإنه
قد يحكم الشارع على الصدق بكونه حراما، ولا يعلم أن المناط
الحقيقي (2) فيه باق في زمان الشك أو مرتفع - إما من جهة جهل المناط
أو من جهة الجهل ببقائه مع معرفته (3) - فيستصحب الحكم الشرعي.

(1) انظر الصفحة 291.
(2) لم ترد " الحقيقي " في (ظ).
(3) لم ترد " إما من - إلى - معرفته " في (ت)، (ر) و (ه‍).
38

فإن قلت: على القول بكون الأحكام الشرعية تابعة للأحكام
العقلية، فما هو مناط الحكم وموضوعه في الحكم العقلي بقبح هذا
الصدق فهو المناط والموضوع في حكم الشرع بحرمته، إذ المفروض
بقاعدة التطابق، أن موضوع الحرمة ومناطها هو بعينه موضوع القبح
ومناطه.
قلت: هذا مسلم، لكنه مانع عن الفرق بين الحكم الشرعي
والعقلي من حيث الظن بالبقاء في الآن اللاحق، لا من حيث جريان
أخبار الاستصحاب وعدمه، فإنه تابع لتحقق موضوع المستصحب
ومعروضه بحكم العرف، فإذا حكم الشارع بحرمة شئ في زمان، وشك
في الزمان الثاني، ولم يعلم أن المناط الحقيقي واقعا - الذي هو المناط
والموضوع (1) في حكم العقل - باق هنا أم لا، فيصدق هنا أن الحكم
الشرعي الثابت لما هو الموضوع له في الأدلة الشرعية كان موجودا
سابقا وشك في بقائه، ويجري فيه أخبار الاستصحاب. نعم، لو علم
مناط هذا الحكم وموضوعه (2) المعلق عليه في حكم العقل لم يجر
الاستصحاب، لما ذكرنا من عدم إحراز الموضوع.
ومما ذكرنا يظهر: أن الاستصحاب لا يجري في الأحكام العقلية،
ولا في الأحكام الشرعية المستندة إليها، سواء كانت وجودية أم عدمية،
إذا كان العدم مستندا إلى القضية العقلية، كعدم وجوب الصلاة مع
السورة على ناسيها، فإنه لا يجوز استصحابه بعد الالتفات، كما صدر

(1) في (ه‍): " وعنوان الموضوع "، وفي (ر) و (ص): " الذي هو عنوان الموضوع ".
(2) في (ر) و (ص) بدل " موضوعه ": " عنوانه ".
39

من بعض (1) من مال إلى الحكم بالإجزاء في هذه الصورة وأمثالها من
موارد الأعذار العقلية الرافعة للتكليف مع قيام مقتضيه.
وأما إذا لم يكن العدم مستندا إلى القضية العقلية، بل كان لعدم
المقتضي وإن كان القضية العقلية موجودة أيضا، فلا بأس باستصحاب
العدم المطلق بعد ارتفاع القضية العقلية.
ومن هذا الباب استصحاب حال العقل، المراد به في اصطلاحهم
استصحاب البراءة والنفي، فالمراد استصحاب الحال التي يحكم العقل
على طبقها - وهو عدم التكليف - لا الحال المستندة إلى العقل، حتى
يقال: إن مقتضى ما تقدم هو عدم جواز استصحاب عدم التكليف
عند ارتفاع القضية العقلية، وهي قبح تكليف غير المميز أو
المعدوم.
ومما ذكرنا ظهر أنه لا وجه للاعتراض (2) على القوم - في
تخصيص استصحاب حال العقل باستصحاب النفي والبراءة - بأن الثابت
بالعقل قد يكون (3) عدميا وقد يكون وجوديا، فلا وجه للتخصيص،
وذلك لما عرفت: من أن الحال المستند إلى العقل المنوط بالقضية العقلية
لا يجري فيه (4) الاستصحاب وجوديا كان أو عدميا، وما ذكره من
الأمثلة يظهر الحال فيها مما تقدم.

(1) لم نعثر عليه، وقيل: إنه المحقق القمي، انظر أوثق الوسائل: 445.
(2) المعترض هو صاحب الفصول في الفصول: 366.
(3) في (ت) و (ه‍) زيادة: " أمرا ".
(4) في (ت)، (ر) و (ص): " فيها ".
40

الثالث:
أن دليل المستصحب: إما أن يدل على استمرار الحكم إلى
حصول رافع أو غاية، وإما أن لا يدل. وقد فصل بين هذين القسمين
المحقق في المعارج، والمحقق الخوانساري في شرح الدروس، فأنكرا
الحجية في الثاني واعترفا بها في الأول، مطلقا كما يظهر من المعارج (1)،
أو بشرط كون الشك في وجود الغاية كما يأتي من شارح
الدروس (2).
وتخيل بعضهم (3) - تبعا لصاحب المعالم (4) -: أن قول المحقق (قدس سره)
موافق للمنكرين، لأن محل النزاع ما لم يكن الدليل مقتضيا للحكم في
الآن اللاحق لولا الشك في الرافع. وهو غير بعيد بالنظر إلى كلام
السيد (5) والشيخ (6) وابن زهرة (7) وغيرهم، حيث إن المفروض في كلامهم
هو كون دليل الحكم في الزمان الأول قضية مهملة ساكتة عن حكم
الزمان الثاني ولو مع فرض عدم الرافع.

(1) المعارج: 209 - 210.
(2) انظر الصفحة 50 و 169.
(3) مثل: الفاضل الجواد في غاية المأمول (مخطوط): الورقة 130.
(4) المعالم: 235.
(5) الذريعة 2: 830.
(6) العدة 2: 756 - 758.
(7) الغنية (الجوامع الفقهية): 486.
41

إلا أن الذي يقتضيه التدبر في بعض كلماتهم - مثل: إنكار السيد (1)
لاستصحاب البلد المبني على ساحل البحر مع كون الشك فيه نظير
الشك في وجود الرافع للحكم الشرعي، وغير ذلك مما يظهر للمتأمل،
ويقتضيه الجمع بين كلماتهم وبين ما يظهر من بعض استدلال المثبتين
والنافين -: هو عموم النزاع لما ذكره المحقق، فما ذكره في المعارج (2)
أخيرا ليس رجوعا عما ذكره أولا، بل لعله بيان لمورد تلك الأدلة
التي ذكرها لاعتبار الاستصحاب، وأنها لا تقتضي اعتبارا أزيد من
مورد يكون الدليل فيه مقتضيا للحكم مطلقا ويشك في رافعه.

(1) الذريعة 2: 833.
(2) المعارج: 209 - 210.
42

[تقسيم الاستصحاب باعتبار الشك المأخوذ فيه] (1)
وأما باعتبار الشك في البقاء، فمن وجوه أيضا:
أحدها:
من جهة أن الشك قد ينشأ من اشتباه الأمر الخارجي - مثل:
الشك في حدوث البول، أو كون الحادث بولا أو وذيا - ويسمى
بالشبهة في الموضوع، سواء كان المستصحب حكما شرعيا جزئيا
كالطهارة في المثالين، أم موضوعا كالرطوبة والكرية ونقل اللفظ عن
معناه الأصلي، وشبه ذلك.
وقد ينشأ من اشتباه الحكم الشرعي الصادر من الشارع، كالشك
في بقاء نجاسة المتغير بعد زوال تغيره، وطهارة المكلف بعد حدوث
المذي منه، ونحو ذلك.
والظاهر دخول القسمين في محل النزاع، كما يظهر من كلام
المنكرين، حيث ينكرون استصحاب حياة زيد بعد غيبته عن النظر،
والبلد المبني على ساحل البحر، ومن كلام المثبتين حيث يستدلون
بتوقف نظام معاش الناس ومعادهم على الاستصحاب.
ويحكى عن الأخباريين اختصاص الخلاف بالثاني، وهو الذي
صرح به المحدث البحراني (2)، ويظهر من كلام المحدث الاسترآبادي،

(1) العنوان منا.
(2) انظر الحدائق 1: 52 و 143، والدرر النجفية: 34.
43

حيث قال في فوائده:
اعلم أن للاستصحاب صورتين معتبرتين باتفاق الأمة، بل أقول:
اعتبارهما من ضروريات الدين.
إحداهما: أن الصحابة وغيرهم كانوا يستصحبون ما جاء به نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)
إلى أن يجئ ناسخه.
الثانية: أنا نستصحب كل أمر من الأمور الشرعية - مثل: كون
الرجل مالك أرض، وكونه زوج امرأة، وكونه عبد رجل، وكونه على
وضوء، وكون الثوب طاهرا أو نجسا، وكون الليل أو النهار باقيا،
وكون ذمة الإنسان مشغولة بصلاة أو طواف - إلى أن يقطع بوجود
شئ جعله الشارع سببا لنقض تلك الأمور (1). ثم ذلك الشئ قد يكون
شهادة العدلين، وقد يكون قول الحجام المسلم أو من في حكمه، وقد
يكون قول القصار أو من في حكمه، وقد يكون بيع ما يحتاج إلى
الذبح والغسل في سوق المسلمين، وأشباه ذلك من الأمور الحسية (2)،
انتهى.
ولولا تمثيله باستصحاب الليل والنهار لاحتمل أن يكون معقد
إجماعه الشك من حيث المانع وجودا أو منعا، إلا أن الجامع بين جميع
أمثلة الصورة الثانية ليس إلا الشبهة الموضوعية، فكأنه استثنى من محل
الخلاف صورة واحدة من الشبهة الحكمية - أعني الشك في النسخ -

(1) كذا في المصدر، وفي " ص ": " سببا مزيلا لتلك الأمور "، وفي سائر النسخ:
" سببا مزيلا لنقض تلك الأمور "، ولا يخفى ما فيه.
(2) الفوائد المدنية: 143.
44

وجميع صور الشبهة الموضوعية.
وأصرح من العبارة المذكورة في اختصاص محل الخلاف بالشبهة
الحكمية، ما حكي عنه في الفوائد (1) أنه قال - في جملة كلام له -: إن
صور الاستصحاب المختلف فيه راجعة إلى أنه إذا ثبت حكم بخطاب
شرعي في موضوع في حال من حالاته نجريه في ذلك الموضوع عند
زوال الحالة القديمة وحدوث نقيضها فيه. ومن المعلوم أنه إذا تبدل قيد
موضوع المسألة بنقيض ذلك القيد اختلف موضوع المسألتين، فالذي
سموه استصحابا راجع في الحقيقة إلى إسراء حكم لموضوع إلى موضوع
آخر متحد معه بالذات مختلف بالقيد والصفات (2)، انتهى.
الثاني:
من حيث إن الشك بالمعنى الأعم الذي هو المأخوذ في تعريف
الاستصحاب:
قد يكون مع تساوي الطرفين، وقد يكون مع رجحان البقاء، أو
الارتفاع.
ولا إشكال في دخول الأولين في محل النزاع، وأما الثالث فقد
يتراءى من بعض كلماتهم عدم وقوع الخلاف فيه.
قال شارح المختصر: معنى استصحاب الحال أن الحكم الفلاني قد

(1) أي: الفوائد المكية.
(2) الفوائد المكية (مخطوط): الورقة 103، وحكاه عنه الفاضل التوني في الوافية:
212، وورد هذا المضمون في الفوائد المدنية: 143، أيضا.
45

كان ولم يظن عدمه، وكل ما كان كذلك فهو مظنون البقاء، وقد اختلف
في صحة الاستدلال به لإفادته الظن، وعدمها لعدم إفادته (1)، انتهى.
والتحقيق: أن محل الخلاف إن كان في اعتبار الاستصحاب من
باب التعبد والطريق الظاهري، عم صورة الظن الغير المعتبر بالخلاف.
وإن كان من باب إفادة الظن - كما صرح به شارح المختصر - فإن كان
من باب الظن الشخصي، كما يظهر من كلمات بعضهم - كشيخنا البهائي
في الحبل المتين (2) وبعض من تأخر عنه (3) - كان محل الخلاف في غير
صورة الظن بالخلاف، إذ مع وجوده لا يعقل ظن البقاء، وإن كان من
باب إفادة نوعه الظن لو خلي وطبعه - وإن عرض لبعض أفراده ما
يسقطه عن إفادة الظن - عم الخلاف صورة الظن بالخلاف أيضا.
ويمكن أن يحمل كلام العضدي على إرادة أن الاستصحاب من
شأنه بالنوع أن يفيد الظن عند فرض عدم الظن بالخلاف، وسيجئ
زيادة توضيح لذلك (4) إن شاء الله.
الثالث:
من حيث إن الشك في بقاء المستصحب:
قد يكون من جهة المقتضي، والمراد به: الشك من حيث استعداده

(1) شرح مختصر الأصول 2: 453.
(2) تقدم كلامه في الصفحة 21.
(3) يعني به شارح الدروس، المحقق الخوانساري، انظر الصفحة 22.
(4) انظر الصفحة 87.
46

وقابليته في ذاته للبقاء، كالشك في بقاء الليل والنهار وخيار الغبن بعد
الزمان الأول.
وقد يكون من جهة طرو الرافع مع القطع باستعداده للبقاء، وهذا
على أقسام: لأن الشك إما في وجود الرافع، كالشك في حدوث البول،
وإما أن يكون في رافعية الموجود، إما لعدم تعين المستصحب وتردده
بين ما يكون الموجود رافعا (1) وبين ما لا يكون، كفعل الظهر المشكوك
كونه رافعا لشغل الذمة بالصلاة المكلف بها قبل العصر يوم الجمعة من
جهة تردده بين الظهر والجمعة، وإما للجهل بصفة الموجود من كونه
رافعا كالمذي، أو مصداقا لرافع معلوم المفهوم كالرطوبة المرددة بين
البول والودي، أو مجهول المفهوم.
ولا إشكال في كون ما عدا الشك في وجود الرافع محلا للخلاف،
وإن كان ظاهر استدلال بعض المثبتين: بأن المقتضي للحكم الأول
موجود (2)... إلى آخره، يوهم الخلاف.
وأما هو فالظاهر أيضا وقوع الخلاف فيه، كما يظهر من إنكار
السيد (قدس سره) للاستصحاب في البلد المبني على ساحل البحر، وزيد الغائب
عن النظر (3)، وأن الاستصحاب لو كان حجة لكان بينة النافي أولى،
لاعتضادها بالاستصحاب.
وكيف كان، فقد يفصل بين كون الشك من جهة المقتضي وبين

(1) كذا في النسخ، والمناسب: " رافعا له ".
(2) كما في المعارج: 206.
(3) الذريعة 2: 832 و 833.
47

كونه من جهة الرافع، فينكر الاستصحاب في الأول.
وقد يفصل في الرافع بين الشك في وجوده والشك في رافعيته،
فينكر الثاني مطلقا، أو إذا لم يكن الشك في المصداق الخارجي.
هذه جملة ما حضرني من كلمات الأصحاب.
والمتحصل منها في بادئ النظر أحد عشر قولا:
48

[الأقوال في حجية الاستصحاب] (1)
الأول: القول بالحجية مطلقا.
الثاني: عدمها مطلقا.
الثالث: التفصيل بين العدمي والوجودي.
الرابع: التفصيل بين الأمور الخارجية وبين الحكم الشرعي مطلقا،
فلا يعتبر في الأول.
الخامس: التفصيل بين الحكم الشرعي الكلي وغيره، فلا يعتبر في
الأول إلا في عدم النسخ.
السادس: التفصيل بين الحكم الجزئي وغيره، فلا يعتبر في غير
الأول، وهذا هو الذي تقدم أنه ربما يستظهر من كلام المحقق
الخوانساري في حاشية شرح (2) الدروس (3)، على ما حكاه السيد في

(1) العنوان منا.
(2) لم ترد " شرح " في (ت).
(3) راجع الصفحة 35.
49

شرح الوافية (1).
السابع: التفصيل بين الأحكام الوضعية - يعني نفس الأسباب
والشروط والموانع - والأحكام التكليفية التابعة لها، وبين غيرها من
الأحكام الشرعية، فيجري في الأول دون الثاني (2).
الثامن: التفصيل بين ما ثبت بالإجماع وغيره، فلا يعتبر في
الأول.
التاسع: التفصيل بين كون المستصحب مما ثبت بدليله أو من
الخارج استمراره فشك في الغاية الرافعة له، وبين غيره، فيعتبر في
الأول دون الثاني، كما هو ظاهر المعارج (3).
العاشر: هذا التفصيل مع اختصاص الشك بوجود الغاية، كما هو
الظاهر من المحقق السبزواري فيما سيجئ من كلامه (4).
الحادي عشر: زيادة الشك في مصداق الغاية من جهة الاشتباه
المصداقي دون المفهومي، كما هو ظاهر ما سيجئ من المحقق الخوانساري (5).
ثم إنه لو بني على ملاحظة ظواهر كلمات من تعرض لهذه المسألة

(1) لم ترد " وهذا هو الذي - إلى - شرح الوافية " في (ه‍)، وكتب فوقها في
(ص): " زائد ". وانظر شرح الوافية (مخطوط): 339.
(2) لم ترد " التفصيل - إلى - دون الثاني " في (ظ)، وورد بدلها: " التفصيل
بين الكلي التكليفي الغير التابع للحكم الوضعي وغيره، فلا يعتبر في
الأول ".
(3) المعارج: 209 - 210.
(4) سيأتي كلامه في الصفحة 165 - 166.
(5) سيأتي كلامه في الصفحة 169 - 177.
50

في الأصول والفروع، لزادت الأقوال على العدد المذكور بكثير (1)، بل
يحصل لعالم واحد قولان أو أزيد في المسألة، إلا أن صرف الوقت
في هذا مما لا ينبغي.
[أقوى الأقوال في الاستصحاب] (2)
والأقوى: هو القول التاسع، وهو الذي اختاره المحقق، فإن المحكي
عنه في المعارج (3) أنه قال:
إذا ثبت حكم في وقت، ثم جاء وقت آخر ولم يقم دليل على
انتفاء ذلك الحكم، هل يحكم ببقائه ما لم يقم دلالة على نفيه؟ أم يفتقر
الحكم في الوقت الثاني إلى دلالة؟
حكي عن المفيد (قدس سره): أنه يحكم ببقائه (4)، وهو المختار. وقال
المرتضى (قدس سره): لا يحكم (5).

(1) للوقوف على سائر الأقوال، انظر " خزائن الأصول " للفاضل الدربندي، فن
الاستصحاب، الصفحة 16 - 18، وادعى بعضهم: أن الأقوال ترتقي إلى نيف
وخمسين، انظر وسيلة الوسائل في شرح الرسائل للسيد محمد باقر اليزدي،
الصفحة 12، من مباحث الاستصحاب.
(2) العنوان منا.
(3) حكاه عنه في المعالم: 234 و 235.
(4) حكاه عنه الشيخ الطوسي في العدة 2: 756، وانظر التذكرة بأصول الفقه
(مصنفات الشيخ المفيد) 9: 45.
(5) انظر الذريعة 2: 829.
51

ثم مثل بالمتيمم الواجد للماء في أثناء الصلاة، ثم احتج للحجية
بوجوه، منها: أن المقتضي للحكم الأول موجود، ثم ذكر أدلة المانعين
وأجاب عنها.
ثم قال: والذي نختاره: أن ننظر في دليل ذلك الحكم، فإن كان
يقتضيه مطلقا وجب الحكم باستمرار الحكم، ك‍: " عقد النكاح "، فإنه
يوجب حل الوطء مطلقا، فإذا وقع الخلاف في الألفاظ التي يقع بها
الطلاق، فالمستدل على أن الطلاق لا يقع بها لو قال: " حل الوطء
ثابت قبل النطق بهذه الألفاظ، فكذا بعده " كان صحيحا، لأن المقتضي
للتحليل - وهو العقد - اقتضاه مطلقا، ولا يعلم أن الألفاظ المذكورة
رافعة لذلك الاقتضاء، فيثبت الحكم عملا بالمقتضي.
لا يقال: إن المقتضي هو العقد، ولم يثبت أنه باق.
لأنا نقول: وقوع العقد اقتضى حل الوطء لا مقيدا بوقت، فيلزم
دوام الحل، نظرا إلى وقوع المقتضي، لا إلى دوامه، فيجب أن يثبت
الحل حتى يثبت الرافع.
ثم قال: فإن كان الخصم يعني بالاستصحاب ما أشرنا إليه فليس
هذا عملا بغير دليل، وإن كان يعني أمرا آخر وراء هذا فنحن
مضربون عنه (1)، انتهى.
ويظهر من صاحب المعالم اختياره، حيث جعل هذا القول من المحقق
نفيا لحجية الاستصحاب (2)، فيظهر أن الاستصحاب المختلف فيه غيره.

(1) المعارج: 206 - 210، مع اختلاف يسير.
(2) المعالم: 235.
52

[الاستدلال على القول المختار] (1)
لنا على ذلك وجوه:
الأول: ظهور كلمات جماعة في الاتفاق عليه.
فمنها: ما عن المبادئ، حيث قال: الاستصحاب حجة، لإجماع
الفقهاء على أنه متى حصل حكم، ثم وقع الشك في أنه طرأ ما يزيله
أم لا؟ وجب الحكم ببقائه على ما كان أولا، ولولا القول بأن
الاستصحاب حجة، لكان ترجيحا لأحد طرفي الممكن من غير مرجح (2)،
انتهى.
ومراده وإن كان الاستدلال به على حجية مطلق الاستصحاب،
بناء على ما ادعاه: من أن الوجه في الإجماع على الاستصحاب مع
الشك في طرو المزيل، هو اعتبار الحالة السابقة مطلقا، لكنه ممنوع،
لعدم الملازمة، كما سيجئ (3).
ونظير هذا ما عن النهاية: من أن الفقهاء بأسرهم - على كثرة
اختلافهم - اتفقوا على أنا متى تيقنا حصول شئ وشككنا في حدوث
المزيل له أخذنا بالمتيقن، وهو عين الاستصحاب، لأنهم رجحوا بقاء
الباقي على حدوث الحادث (4).

(1) العنوان منا.
(2) مبادئ الوصول إلى علم الأصول: 251.
(3) انظر الصفحة 54 و 82.
(4) نهاية الوصول (مخطوط): 410 و 411.
53

ومنها: تصريح صاحب المعالم (1) والفاضل الجواد (2): بأن ما ذكره
المحقق أخيرا في المعارج (3) راجع إلى قول السيد المرتضى المنكر
للاستصحاب (4)، فإن هذه شهادة منهما على خروج ما ذكره المحقق عن
مورد النزاع وكونه موضع وفاق. إلا أن في صحة هذه الشهادة نظرا،
لأن ما مثل في المعارج من الشك في الرافعية من (5) مثال النكاح (6) هو
بعينه ما أنكره الغزالي ومثل له بالخارج من غير السبيلين (7)، فإن
الطهارة كالنكاح في أن سببها مقتض لتحققه (8) دائما إلى أن يثبت الرافع.
الثاني: أنا تتبعنا موارد الشك في بقاء الحكم السابق المشكوك من
جهة الرافع، فلم نجد من أول الفقه إلى آخره موردا إلا وحكم الشارع
فيه بالبقاء، إلا مع أمارة توجب الظن بالخلاف، كالحكم بنجاسة الخارج
قبل الاستبراء، فإن الحكم بها ليس لعدم اعتبار الحالة السابقة - وإلا
لوجب الحكم بالطهارة لقاعدة الطهارة - بل لغلبة بقاء جزء من البول

(1) المعالم: 235.
(2) غاية المأمول (مخطوط): الورقة 130.
(3) المعارج: 210.
(4) الذريعة 2: 829.
(5) في (ظ) بدل " من ": " و ".
(6) المعارج: 209.
(7) المستصفى 1: 224، وليس فيه مثال " الخارج من غير السبيلين "، نعم حكى
تمثيله بذلك في نهاية الوصول، كما سيأتي في الصفحة 151.
(8) كذا في النسخ، والمناسب: " لتحققها "، لرجوع الضمير إلى الطهارة.
54

أو المني في المخرج، فرجح هذا الظاهر على الأصل، كما في غسالة
الحمام عند بعض، والبناء على الصحة المستندة إلى ظهور فعل المسلم.
والإنصاف: أن هذا الاستقراء يكاد يفيد القطع، وهو أولى من
الاستقراء الذي ذكر غير واحد - كالمحقق البهبهاني (1) وصاحب الرياض (2) -:
أنه المستند في حجية شهادة العدلين على الإطلاق.
الثالث: الأخبار المستفيضة
منها: صحيحة زرارة - ولا يضرها الإضمار - " قال: قلت له:
الرجل ينام وهو على وضوء، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟
قال: يا زرارة، قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن، فإذا نامت
العين والاذن (3) فقد وجب الوضوء.
قلت: فإن حرك إلى (4) جنبه شئ، وهو لا يعلم؟
قال: لا، حتى يستيقن أنه قد نام، حتى يجئ من ذلك أمر بين،
وإلا فإنه على يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين أبدا بالشك، ولكن
ينقضه بيقين آخر " (5).

(1) الرسائل الأصولية: 429، والفوائد الحائرية: 277.
(2) الرياض (الطبعة الحجرية) 1: 440، و 2: 441.
(3) في المصدر زيادة: " والقلب ".
(4) كذا في التهذيب، وفي الوسائل: " على جنبه ".
(5) التهذيب 1: 8، الحديث 11، والوسائل 1: 174، الباب الأول من أبواب
نواقض الوضوء، الحديث الأول.
55

وتقرير الاستدلال: أن جواب الشرط في قوله (عليه السلام): " وإلا فإنه
على يقين " محذوف، قامت العلة مقامه لدلالتها عليه، وجعلها نفس
الجزاء يحتاج إلى تكلف، وإقامة العلة مقام الجزاء لا تحصى كثرة في
القرآن وغيره، مثل قوله تعالى: * (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر
وأخفى) * (1)، و * (إن تكفروا فإن الله غني عنكم) * (2)، و * (من كفر فإن ربي
غني كريم) * (3)، و * (من كفر فإن الله غني عن العالمين) * (4)، و * (إن يكفر بها
هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) * (5)، و * (إن يسرق فقد سرق
أخ له من قبل) * (6)، و * (إن يكذبوك فقد كذبت) * (7)، إلى غير ذلك.
فمعنى الرواية: إن لم يستيقن أنه قد نام فلا يجب عليه الوضوء،
لأنه على يقين من وضوئه في السابق، وبعد إهمال تقييد اليقين بالوضوء
وجعل العلة نفس اليقين، يكون قوله (عليه السلام): " ولا ينقض اليقين " بمنزلة
كبرى كلية للصغرى المزبورة.
هذا، ولكن مبنى الاستدلال على كون اللام في " اليقين " للجنس،
إذ لو كانت للعهد لكانت الكبرى - المنضمة إلى الصغرى - " ولا ينقض

(1) طه: 7.
(2) الزمر: 7.
(3) النمل: 40.
(4) آل عمران: 97.
(5) الأنعام: 89.
(6) يوسف: 77.
(7) فاطر: 4.
56

اليقين بالوضوء بالشك "، فيفيد قاعدة كلية في باب الوضوء، وأنه
لا ينقض إلا باليقين بالحدث، و " اللام " وإن كان ظاهرا في الجنس،
إلا أن سبق يقين الوضوء ربما يوهن الظهور المذكور، بحيث لو فرض
إرادة خصوص يقين الوضوء لم يكن بعيدا عن اللفظ. مع احتمال أن
لا يكون قوله (عليه السلام): " فإنه على يقين " علة قائمة مقام الجزاء، بل يكون
الجزاء مستفادا من قوله (عليه السلام): " ولا ينقض "، وقوله (عليه السلام): " فإنه على
يقين " توطئة له، والمعنى: أنه إن لم يستيقن النوم فهو مستيقن لوضوئه
السابق، ويثبت على مقتضى يقينه ولا ينقضه، فيخرج قوله: " لا ينقض "
عن كونه بمنزلة الكبرى، فيصير عموم اليقين وإرادة الجنس منه أوهن.
لكن الإنصاف: أن الكلام مع ذلك لا يخلو عن ظهور، خصوصا
بضميمة الأخبار الاخر الآتية المتضمنة لعدم نقض اليقين بالشك.
وربما يورد على إرادة العموم من اليقين: أن النفي الوارد على
العموم لا يدل على السلب الكلي (1).
وفيه: أن العموم مستفاد من الجنس في حيز النفي، فالعموم
بملاحظة النفي كما في " لا رجل في الدار "، لا في حيزه كما في " لم آخذ
كل الدراهم "، ولو كان اللام لاستغراق الأفراد كان (2) الظاهر (3) - بقرينة

(1) هذا الإيراد محكي عن العلامة المجلسي، انظر الحاشية على استصحاب القوانين
للمصنف: 158، وفي شرح الوافية: " إن الإيراد نقله بعض الفضلاء في رسالته
المعمولة في الاستصحاب عن المجلسي " انظر شرح الوافية (مخطوط): 356.
(2) في (ظ) هكذا: " ولو كان اللام للاستغراق كان لاستغراق الأفراد وكان ".
(3) في (ه‍): " ظاهرا ".
57

المقام والتعليل وقوله: " أبدا " - هو (1) إرادة عموم النفي، لا نفي العموم.
وقد أورد على الاستدلال بالصحيحة بما لا يخفى جوابه على الفطن (2).
والمهم في هذا الاستدلال إثبات إرادة الجنس من اليقين.
ومنها: صحيحة أخرى لزرارة - مضمرة أيضا -: " قال: قلت
له (3): أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شئ من المني، فعلمت أثره
إلى أن أصيب له الماء، فأصبت، فحضرت الصلاة، ونسيت أن بثوبي
شيئا وصليت، ثم إني ذكرت بعد ذلك؟
قال (عليه السلام): تعيد الصلاة وتغسله.
قلت: فإن لم أكن رأيت موضعه، وعلمت أنه قد أصابه، فطلبته
ولم أقدر عليه، فلما صليت وجدته؟
قال (عليه السلام): تغسله وتعيد.
قلت: فإن ظننت أنه أصابه ولم أتيقن ذلك، فنظرت فلم أر شيئا
فصليت، فرأيت فيه؟
قال: تغسله ولا تعيد الصلاة.
قلت: لم ذلك؟
قال: لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت، وليس ينبغي
لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا.

(1) في (ت) و (ه‍) بدل " هو ": " في ".
(2) وقد أشار إلى جملة منها مع أجوبتها الفاضل الدربندي في خزائن الأصول،
فن الاستصحاب، الورقة 11.
(3) لم ترد " له " في التهذيب وإحدى روايات الوسائل.
58

قلت: فإني قد علمت أنه قد أصابه، ولم أدر أين هو فأغسله؟
قال: تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها، حتى
تكون على يقين من طهارتك.
قلت: فهل علي إن شككت في أنه أصابه شئ، أن أنظر فيه؟
قال: لا، ولكنك إنما تريد أن تذهب بالشك (1) الذي وقع في
نفسك.
قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟
قال: تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته،
وإن لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على
الصلاة، لأنك لا تدري، لعله شئ أوقع عليك، فليس ينبغي لك أن
تنقض اليقين بالشك... الحديث " (2).
والتقريب: كما تقدم في الصحيحة الأولى (3)، وإرادة الجنس من
اليقين لعله أظهر هنا.
وأما فقه الحديث، فبيانه: أن مورد الاستدلال يحتمل وجهين:

(1) في المصدر بدل " بالشك ": " الشك ".
(2) التهذيب 1: 421، الباب 22، الحديث 1335. وأورده في الوسائل 2:
1063، الباب 42 من أبواب النجاسات، الحديث 2، و 1061، الباب 41 من
الأبواب، الحديث الأول، و 1006، الباب 7 من الأبواب، الحديث 2، و 1053،
الباب 37 من الأبواب، الحديث الأول، و 1065، الباب 44 من الأبواب،
الحديث الأول.
(3) راجع الصفحة 56.
59

أحدهما: أن يكون مورد السؤال فيه أن رأى بعد الصلاة نجاسة
يعلم أنها هي التي خفيت عليه قبل الصلاة، وحينئذ فالمراد: اليقين
بالطهارة قبل ظن الإصابة، والشك حين إرادة الدخول في الصلاة.
لكن، عدم نقض ذلك اليقين بذلك الشك إنما يصلح علة لمشروعية
الدخول في العبادة المشروطة بالطهارة مع الشك فيها، وأن الامتناع عن
الدخول فيها نقض لآثار تلك الطهارة المتيقنة، لا لعدم وجوب الإعادة
على من تيقن أنه صلى في النجاسة - كما صرح (1) به السيد الشارح
للوافية (2) - إذ الإعادة ليست نقضا لأثر الطهارة المتيقنة بالشك، بل هو
نقض باليقين، بناء على أن من آثار حصول اليقين بنجاسة الثوب حين
الصلاة ولو بعدها وجوب إعادتها.
وربما يتخيل (3): حسن التعليل لعدم الإعادة، بملاحظة (4) اقتضاء
امتثال الأمر الظاهري للإجزاء، فيكون الصحيحة من حيث تعليلها دليلا
على تلك القاعدة وكاشفة عنها.
وفيه: أن ظاهر قوله: " فليس ينبغي "، يعني ليس ينبغي لك
الإعادة لكونه نقضا، كما أن ظاهر (5) قوله (عليه السلام) في الصحيحة الأولى (6):

(1) في (ه‍) و (ظ) بدل " صرح ": " جزم ".
(2) شرح الوافية (مخطوط): 361.
(3) هذا التخيل من شريف العلماء (أستاذ المصنف)، انظر تقريرات درسه في
ضوابط الأصول: 354.
(4) في (ظ) بدل " لعدم الإعادة بملاحظة ": " بموجب ".
(5) " ظاهر " من (ص).
(6) " الأولى " من (ت) و (ه‍).
60

" لا ينقض اليقين بالشك أبدا "، عدم إيجاب إعادة الوضوء، فافهم، فإنه
لا يخلو عن دقة.
ودعوى: أن من آثار الطهارة السابقة إجزاء الصلاة معها (1) وعدم
وجوب الإعادة لها، فوجوب الإعادة نقض لآثار الطهارة السابقة (2).
مدفوعة: بأن الصحة الواقعية وعدم الإعادة للصلاة مع الطهارة
المتحققة سابقا، من الآثار العقلية الغير المجعولة للطهارة المتحققة، لعدم
معقولية عدم الإجزاء فيها، مع أنه يوجب الفرق بين وقوع تمام الصلاة
مع النجاسة فلا يعيد وبين وقوع بعضها معها فيعيد، كما هو ظاهر
قوله (عليه السلام) بعد ذلك: " وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته ". إلا
أن يحمل هذه الفقرة - كما استظهره شارح الوافية (3) - على ما لو علم
الإصابة وشك في موضعها ولم يغسلها نسيانا، وهو مخالف لظاهر الكلام
وظاهر قوله (عليه السلام) بعد ذلك: " وإن لم تشك ثم رأيته... الخ ".
والثاني: أن يكون مورد السؤال رؤية النجاسة بعد الصلاة مع
احتمال وقوعها بعدها، فالمراد: أنه ليس ينبغي أن تنقض (4) يقين الطهارة
بمجرد احتمال وجود النجاسة حال الصلاة.
وهذا الوجه سالم عما يرد على الأول، إلا أنه خلاف ظاهر
السؤال. نعم، مورد قوله (عليه السلام) أخيرا: " فليس ينبغي لك... الخ " هو

(1) لم ترد " معها " في (ر).
(2) هذه الدعوى من شريف العلماء أيضا.
(3) شرح الوافية (مخطوط): 361.
(4) في (ر)، (ص) و (ظ): " ينقض ".
61

الشك في وقوعه أول الصلاة أو حين الرؤية، ويكون المراد من قطع
الصلاة الاشتغال عنها بغسل الثوب مع عدم تخلل المنافي، لا إبطالها ثم
البناء عليها الذي هو خلاف الإجماع، لكن تفريع عدم نقض اليقين على
احتمال تأخر الوقوع يأبى عن حمل اللام على الجنس، فافهم.
ومنها: صحيحة ثالثة لزرارة: " وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في
أربع وقد أحرز الثلاث، قام فأضاف إليها أخرى، ولا شئ عليه. ولا
ينقض اليقين بالشك، ولا يدخل الشك في اليقين، ولا يخلط أحدهما
بالآخر، ولكنه ينقض الشك باليقين، ويتم على اليقين، فيبني عليه،
ولا يعتد بالشك في حال من الحالات " (1).
وقد تمسك بها في الوافية (2)، وقرره الشارح (3)، وتبعه جماعة ممن
تأخر عنه (4).
وفيه تأمل: لأنه إن كان المراد بقوله (عليه السلام): " قام فأضاف إليها
أخرى "، القيام للركعة الرابعة من دون تسليم في الركعة المرددة بين
الثالثة والرابعة (5)، حتى يكون حاصل الجواب هو: البناء على الأقل،

(1) الوسائل 5: 321، الباب 10 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 3.
(2) الوافية: 206.
(3) شرح الوافية (مخطوط): 361.
(4) مثل المحدث البحراني في الحدائق 1: 143، والوحيد البهبهاني في الرسائل
الأصولية: 442، وصاحب الفصول في الفصول: 370، والمحقق القمي في القوانين
2: 58.
(5) لم ترد: " من دون - إلى - الرابعة " في (ظ).
62

فهو مخالف للمذهب، وموافق لقول العامة، ومخالف لظاهر الفقرة الأولى
من قوله: " يركع (1) ركعتين بفاتحة الكتاب "، فإن ظاهرها - بقرينة تعيين
الفاتحة - إرادة ركعتين منفصلتين، أعني: صلاة الاحتياط، فتعين أن
يكون المراد به القيام - بعد التسليم في الركعة المرددة - إلى ركعة
مستقلة، كما هو مذهب الإمامية.
فالمراد ب‍ " اليقين " - كما في " اليقين " الوارد في الموثقة الآتية (2)،
على ما صرح به السيد المرتضى (رحمه الله) (3)، واستفيد من قوله (عليه السلام) في
أخبار الاحتياط: إن كنت قد نقصت فكذا، وإن كنت قد أتممت
فكذا (4) -: هو اليقين بالبراءة، فيكون المراد وجوب الاحتياط وتحصيل
اليقين بالبراءة، بالبناء على الأكثر وفعل صلاة مستقلة قابلة لتدارك ما
يحتمل نقصه.
وقد أريد من " اليقين " و " الاحتياط " في غير واحد من الأخبار
هذا النحو من العمل، منها: قوله (عليه السلام) في الموثقة الآتية: " إذا شككت
فابن على اليقين " (5).
فهذه الأخبار الآمرة بالبناء على اليقين وعدم نقضه، يراد منها:
البناء على ما هو المتيقن من العدد، والتسليم عليه، مع جبره بصلاة

(1) في (ص) والتهذيب: " ركع ".
(2) هي موثقة إسحاق بن عمار الآتية في الصفحة 66.
(3) راجع الانتصار: 49.
(4) الوسائل 5: 318، الباب 8 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 3.
(5) وهي موثقة إسحاق بن عمار الآتية في الصفحة 66.
63

الاحتياط، ولهذا ذكر في غير واحد من الأخبار ما يدل على أن هذا (1)
العمل محرز للواقع، مثل قوله (عليه السلام): " ألا أعلمك شيئا إذا صنعته (2)، ثم
ذكرت أنك نقصت أو أتممت، لم يكن عليك شئ؟ " (3).
وقد تصدى جماعة (4) - تبعا للسيد المرتضى - لبيان أن هذا العمل
هو الأخذ باليقين والاحتياط، دون ما يقوله العامة: من البناء على
الأقل. ومبالغة الإمام (عليه السلام) في هذه الصحيحة بتكرار عدم الاعتناء
بالشك، وتسمية ذلك في غيرها (5) بالبناء على اليقين والاحتياط، يشعر
بكونه في مقابل العامة الزاعمين بكون مقتضى البناء على اليقين هو
البناء على الأقل وضم الركعة المشكوكة.
ثم لو سلم ظهور الصحيحة في البناء على الأقل المطابق
للاستصحاب، كان هناك صوارف عن هذا الظاهر، مثل:

(1) " هذا " من (ت)، لكن شطب عليها، والمناسب إثباتها.
(2) كذا في النسخ، ولكن في روايتي الوسائل والتهذيب بدل " صنعته ": " فعلته ".
(3) الوسائل 5: 318، الباب 8 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 3،
والتهذيب 2: 349، الحديث 1448.
(4) منهم السيد الطباطبائي في الرياض 4: 240، والمحقق النراقي في مستند الشيعة
7: 146، وصاحب الجواهر في الجواهر 12: 334، وأشار إليه المحقق في المعتبر
2: 391، والعلامة في المنتهى (الطبعة الحجرية) 1: 415 - 416، والحر
العاملي في الوسائل، ذيل موثقة إسحاق بن عمار.
(5) مثل: موثقة إسحاق بن عمار الآتية في الصفحة 66، ومثل: المروي عن
قرب الإسناد: " رجل صلى ركعتين وشك في الثالثة، قال يبني على اليقين... "،
انظر الوسائل 5: 319، الباب 9 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 2.
64

تعين حملها حينئذ على التقية، وهو مخالف للأصل.
ثم ارتكاب الحمل على التقية في مورد الرواية، وحمل القاعدة
المستشهد بها لهذا الحكم المخالف للواقع على بيان الواقع - ليكون التقية
في إجراء القاعدة في المورد لا في نفسها - مخالفة أخرى للظاهر وإن
كان ممكنا في نفسه.
مع أن هذا المعنى مخالف لظاهر صدر الرواية الآبي عن الحمل
على التقية.
مع أن العلماء لم يفهموا منها إلا البناء على الأكثر.
إلى غير ذلك مما يوهن إرادة البناء على الأقل.
وأما احتمال (1) كون المراد من عدم نقض اليقين بالشك عدم جواز
البناء على وقوع المشكوك بمجرد الشك - كما هو مقتضى الاستصحاب -
فيكون مفاده: عدم جواز الاقتصار على الركعة المرددة بين الثالثة
والرابعة، وقوله: " لا يدخل الشك في اليقين " يراد به: أن الركعة
المشكوك فيها المبني على عدم وقوعها لا يضمها إلى اليقين - أعني (2)
القدر المتيقن من الصلاة - بل يأتي بها مستقلة على ما هو مذهب
الخاصة.
ففيه: من المخالفة لظاهر (3) الفقرات الست أو السبع ما لا يخفى
على المتأمل، فإن مقتضى التدبر في الخبر أحد معنيين:

(1) هذا الاحتمال من صاحب الفصول في الفصول: 371.
(2) في (ه‍): " يعني ".
(3) في (ت)، (ص) و (ظ): " لظواهر ".
65

إما الحمل على التقية، وقد عرفت مخالفته للأصول والظواهر.
وإما حمله على وجوب تحصيل اليقين بعدد الركعات على الوجه
الأحوط، وهذا الوجه وإن كان بعيدا في نفسه، لكنه منحصر بعد عدم
إمكان الحمل على ما يطابق الاستصحاب، ولا أقل من مساواته لما
ذكره هذا القائل، فيسقط الاستدلال بالصحيحة، خصوصا على مثل هذه
القاعدة.
وأضعف من هذا دعوى (1): أن حملها على وجوب تحصيل اليقين
في الصلاة بالعمل على الأكثر، والعمل على الاحتياط بعد الصلاة - على
ما هو فتوى الخاصة وصريح أخبارهم الاخر - لا ينافي إرادة العموم من
القاعدة لهذا وللعمل على اليقين السابق في الموارد الاخر.
وسيظهر اندفاعها بما سيجئ في الأخبار الآتية (2): من عدم
إمكان الجمع بين هذين المعنيين في المراد من العمل على اليقين وعدم
نقضه.
ومما ذكرنا ظهر عدم صحة الاستدلال (3) بموثقة عمار (4) عن أبي
الحسن (عليه السلام): " قال: إذا شككت فابن على اليقين. قلت: هذا أصل؟

(1) الدعوى من صاحب الفصول أيضا في كلامه المشار إليه في الصفحة السابقة،
الهامش (1).
(2) انظر الصفحة 74.
(3) استدل بها - فيما عثرنا - الفاضل الدربندي في خزائن الأصول، فن
الاستصحاب، الورقة 13.
(4) كذا، والصحيح: " إسحاق بن عمار " كما في المصادر الحديثية.
66

قال: نعم " (1).
فإن جعل البناء على الأقل أصلا ينافي ما جعله الشارع أصلا في
غير واحد من الأخبار، مثل: قوله (عليه السلام): " أجمع لك السهو كله في
كلمتين: متى ما شككت فابن على الأكثر " (2)، وقوله (عليه السلام) فيما تقدم:
" ألا أعلمك شيئا... إلى آخر ما تقدم " (3).
فالوجه فيه: إما الحمل على التقية، وإما ما ذكره بعض (4)
الأصحاب (5) في معنى الرواية: بإرادة البناء على الأكثر، ثم الاحتياط
بفعل ما ينفع (6) لأجل الصلاة على تقدير الحاجة، ولا يضر بها على
تقدير الاستغناء.
نعم، يمكن أن يقال بعدم الدليل على اختصاص الموثقة بشكوك
الصلاة، فضلا عن الشك في ركعاتها، فهو أصل كلي خرج منه الشك في
عدد الركعات، وهو غير قادح.
لكن يرد عليه: عدم الدلالة على إرادة اليقين السابق على الشك،

(1) الوسائل 5: 318، الباب 8 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 2.
(2) الوسائل 5: 317 - 318، الباب 8 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة،
الحديث 1، وفيه بدل " فابن على الأكثر ": " فخذ بالأكثر ".
(3) راجع الصفحة 64.
(4) لم ترد " بعض " في (ظ).
(5) مثل: الحر العاملي في الوسائل ذيل الرواية، والفاضل النراقي في مستند
الشيعة 7: 145.
(6) في (ظ): " ينتفع ".
67

ولا المتيقن السابق على المشكوك اللاحق، فهي أضعف دلالة من الرواية
الآتية الصريحة في اليقين السابق، لاحتمالها لإرادة إيجاب العمل
بالاحتياط، فافهم (1).
ومنها: ما عن الخصال بسنده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد
الله (عليه السلام)، قال: " قال أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه: من كان
على يقين فشك فليمض على يقينه، فإن الشك لا ينقض اليقين " (2).
وفي رواية أخرى عنه (عليه السلام): " من كان على يقين فأصابه شك
فليمض على يقينه، فإن اليقين لا يدفع بالشك " (3). وعدها المجلسي - في
البحار - في سلك الأخبار التي يستفاد منها القواعد الكلية (4).
أقول: لا يخفى أن الشك واليقين لا يجتمعان حتى ينقض أحدهما
الآخر، بل لا بد من اختلافهما:
إما في زمان نفس الوصفين، كأن يقطع يوم الجمعة بعدالة زيد في
زمان، ثم يشك يوم السبت في عدالته في ذلك الزمان.
وإما في زمان متعلقهما وإن اتحد زمانهما، كأن يقطع يوم السبت
بعدالة زيد يوم الجمعة، ويشك - في زمان هذا القطع - بعدالته (5) في يوم

(1) لم ترد " فافهم " في (ظ).
(2) الخصال: 619، والوسائل 1: 175 - 176، الباب 4 من أبواب نواقض
الوضوء، الحديث 6.
(3) المستدرك 1: 228، الباب الأول من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 4.
(4) البحار 2: 272.
(5) المناسب: " في عدالته "، كما في (ت)، ولكن شطب عليها.
68

السبت، وهذا هو الاستصحاب، وليس منوطا بتعدد زمان الشك واليقين
- كما عرفت في المثال - فضلا عن تأخر الأول عن الثاني.
وحيث إن صريح الرواية اختلاف زمان الوصفين، وظاهرها اتحاد
زمان متعلقهما، تعين حملها على القاعدة الأولى، وحاصلها: عدم العبرة
بطرو الشك في شئ بعد اليقين بذلك الشئ.
ويؤيده: أن النقض حينئذ محمول على حقيقته، لأنه رفع اليد عن
نفس الآثار التي رتبها سابقا على المتيقن، بخلاف الاستصحاب، فإن
المراد بنقض اليقين فيه رفع اليد عن ترتيب الآثار في غير زمان اليقين،
وهذا ليس نقضا لليقين السابق، إلا إذا اخذ متعلقه مجردا عن التقييد
بالزمان الأول.
وبالجملة: فمن تأمل في الرواية، وأغمض عن ذكر بعض (1) لها في
أدلة الاستصحاب، جزم بما (2) ذكرناه في معنى الرواية.
ثم لو سلم أن هذه القاعدة بإطلاقها مخالفة للإجماع، أمكن
تقييدها بعدم نقض اليقين السابق بالنسبة إلى الأعمال التي رتبها حال
اليقين به - كالاقتداء بذلك الشخص في مثال العدالة، أو العمل بفتواه أو
شهادته - أو تقييد الحكم بصورة عدم التذكر لمستند القطع السابق،
وإخراج صورة تذكره والتفطن لفساده وعدم قابليته لإفادة القطع (3).

(1) مثل: الوحيد البهبهاني في الرسائل الأصولية: 440، والمحقق القمي في القوانين
2: 62، والفاضل النراقي في مناهج الأحكام: 227.
(2) في (ت) و (ه‍) بدل " جزم بما ": " ربما استظهر ما ".
(3) في (ر) و (ص) ذكرت عبارة " ثم لو سلم - إلى - لإفادة القطع " بعد عبارة
" اللهم إلا - إلى - فافهم ".
69

اللهم إلا أن يقال - بعد ظهور كون الزمان الماضي في الرواية
ظرفا لليقين -: إن الظاهر تجريد متعلق اليقين عن التقييد بالزمان، فإن
قول القائل: " كنت متيقنا أمس بعدالة زيد " ظاهر في إرادة أصل
العدالة، لا العدالة المقيدة (1) بالزمان الماضي، وإن كان ظرفه (2) في الواقع
ظرف اليقين، لكن لم يلاحظه على وجه التقييد، فيكون الشك فيما بعد
هذا الزمان، متعلقا بنفس ذلك المتيقن مجردا عن ذلك التقييد، ظاهرا
في تحقق أصل العدالة في زمان الشك، فينطبق على الاستصحاب،
فافهم (3).
فالإنصاف (4): أن الرواية - سيما بملاحظة (5) قوله (عليه السلام): " فإن الشك
لا ينقض اليقين " (6)، و (7) بملاحظة ما سبق في الصحاح من قوله: " لا
ينقض اليقين بالشك " حيث إن ظاهره مساوقته لها - ظاهرة في
الاستصحاب (8)، ويبعد حملها على المعنى الذي (9) ذكرنا.

(1) في غير (ص): " المتقيدة ".
(2) كذا في النسخ، والمناسب: " ظرفها "، لرجوع الضمير إلى العدالة.
(3) لم ترد " اللهم إلا - إلى - فافهم " في (ظ).
(4) في (ر)، (ص) و (ظ) بدل " فالإنصاف ": " لكن الإنصاف ".
(5) لم ترد " الرواية سيما بملاحظة " في (ص) و (ظ).
(6) في (ر) و (ظ) بدل " فإن الشك لا ينقض اليقين ": " فإن اليقين لا ينقض
بالشك ".
(7) لم ترد " و " في غير (ر).
(8) لم ترد عبارتا " حيث إن " و " ظاهرة في الاستصحاب " في (ص) و (ظ).
(9) في (ت) و (ه‍) بدل " المعنى الذي ": " بيان القاعدة التي ".
70

هذا (1)، لكن سند الرواية ضعيف ب‍ " القاسم بن يحيى "، لتضعيف
العلامة له في الخلاصة (2)، وإن ضعف ذلك بعض (3) باستناده إلى تضعيف
ابن الغضائري - المعروف عدم قدحه - فتأمل.
ومنها: مكاتبة علي بن محمد القاساني: " قال: كتبت إليه - وأنا
بالمدينة - (4) عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان، هل يصام أم لا؟
فكتب (عليه السلام): اليقين لا يدخله الشك، صم للرؤية وأفطر للرؤية " (5).
فإن تفريع تحديد كل من الصوم والإفطار - برؤية هلالي رمضان
وشوال - على قوله (عليه السلام): " اليقين لا يدخله الشك " لا يستقيم إلا
بإرادة عدم جعل اليقين السابق مدخولا بالشك، أي مزاحما به.
والإنصاف: أن هذه الرواية أظهر ما في هذا الباب من أخبار
الاستصحاب، إلا أن سندها غير سليم.
هذه جملة ما وقفت عليه من الأخبار المستدل بها للاستصحاب،
وقد عرفت عدم ظهور الصحيح منها (6)، وعدم صحة الظاهر منها (7)،
فلعل الاستدلال بالمجموع باعتبار التجابر والتعاضد.

(1) " هذا " من (ت) و (ه‍).
(2) خلاصة الأقوال في معرفة الرجال (رجال العلامة الحلي): 389.
(3) هو الوحيد البهبهاني في الحاشية على منهج المقال: 264.
(4) في (الوسائل) زيادة: " أسأله ".
(5) الوسائل 7: 184، الباب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 13.
(6) وهي الصحاح الثلاثة لزرارة وموثقة عمار.
(7) وهي روايتا الخصال ومكاتبة القاساني.
71

وربما يؤيد ذلك بالأخبار الواردة في الموارد الخاصة:
مثل: رواية عبد الله بن سنان - الواردة فيمن يعير ثوبه الذمي،
وهو يعلم أنه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير -: " قال: فهل علي أن
أغسله؟ فقال (عليه السلام): لا، لأنك أعرته إياه وهو طاهر، ولم تستيقن أنه
نجسه " (1).
وفيها دلالة واضحة على أن وجه البناء على الطهارة وعدم
وجوب غسله، هو سبق طهارته وعدم العلم بارتفاعها، ولو كان المستند
قاعدة الطهارة لم يكن معنى لتعليل الحكم بسبق الطهارة، إذ الحكم في
القاعدة مستند إلى نفس عدم العلم بالطهارة والنجاسة.
نعم، الرواية مختصة باستصحاب الطهارة دون غيرها، ولا يبعد
عدم القول بالفصل بينها وبين غيرها مما يشك في ارتفاعها بالرافع.
ومثل: قوله (عليه السلام) في موثقة عمار: " كل شئ طاهر حتى تعلم
أنه قذر " (2).
بناء على أنه مسوق لبيان استمرار طهارة كل شئ إلى أن يعلم
حدوث قذارته، لا ثبوتها له ظاهرا واستمرار هذا الثبوت إلى أن يعلم
عدمها.
فالغاية - وهي العلم بالقذارة - على الأول، غاية للطهارة رافعة
لاستمرارها، فكل شئ محكوم ظاهرا باستمرار طهارته إلى حصول

(1) الوسائل 2: 1095، الباب 74 من أبواب النجاسات، الحديث 1.
(2) الوسائل 2: 1054، الباب 37 من أبواب النجاسات، الحديث 4، وفيه:
" كل شئ نظيف... ".
72

العلم بالقذارة، فغاية الحكم غير مذكورة ولا مقصودة.
وعلى الثاني، غاية للحكم بثبوتها، والغاية - وهي العلم بعدم
الطهارة - رافعة للحكم، فكل شئ يستمر الحكم بطهارته إلى كذا، فإذا
حصلت الغاية انقطع الحكم بطهارته، لا نفسها.
والأصل في ذلك: أن القضية المغياة - سواء كانت إخبارا عن
الواقع وكانت الغاية قيدا للمحمول، كما في قولنا: الثوب طاهر إلى أن
يلاقي نجسا، أم كانت ظاهرية مغياة بالعلم بعدم المحمول، كما في ما نحن
فيه - قد يقصد المتكلم مجرد ثبوت المحمول للموضوع ظاهرا أو واقعا،
من غير ملاحظة كونه مسبوقا بثبوته له، وقد يقصد المتكلم به مجرد
الاستمرار، لا أصل الثبوت، بحيث يكون أصل الثبوت مفروغا عنه.
والأول أعم من الثاني من حيث المورد.
إذا عرفت هذا فنقول: إن معنى الرواية:
إما أن يكون خصوص المعنى الثاني، وهو القصد إلى بيان
الاستمرار بعد الفراغ عن ثبوت أصل الطهارة، فيكون دليلا على
استصحاب الطهارة. لكنه خلاف الظاهر.
وإما خصوص المعنى الأول الأعم منه، وحينئذ لم يكن فيه دلالة
على استصحاب الطهارة وإن شمل مورده، لأن (1) الحكم فيما علم طهارته
ولم يعلم طرو القذارة له ليس من حيث سبق طهارته، بل باعتبار مجرد
كونه مشكوك الطهارة، فالرواية تفيد قاعدة الطهارة حتى في مسبوق
الطهارة، لا استصحابها، بل تجري في مسبوق النجاسة على أقوى

(1) في (ه‍)، (ظ) و (ر) بدل " لأن ": " إلا أن ".
73

الوجهين الآتيين في باب معارضة الاستصحاب للقاعدة.
ثم لا فرق في مفاد الرواية، بين الموضوع الخارجي الذي يشك
في طهارته من حيث الشبهة في حكم نوعه، وبين الموضوع الخارجي
المشكوك طهارته من حيث اشتباه الموضوع الخارجي.
فعلم مما ذكرنا: أنه لا وجه لما ذكره صاحب القوانين: من
امتناع إرادة المعاني الثلاثة من الرواية (1) - أعني: قاعدة الطهارة في
الشبهة الحكمية، وفي الشبهة الموضوعية، واستصحاب الطهارة -، إذ لا
مانع عن إرادة الجامع بين الأولين، أعني: قاعدة الطهارة في الشبهة
الحكمية والموضوعية.
نعم، إرادة القاعدة والاستصحاب معا يوجب استعمال اللفظ في
معنيين، لما عرفت (2) أن المقصود في القاعدة مجرد إثبات الطهارة في
المشكوك، وفي الاستصحاب خصوص إبقائها في معلوم الطهارة سابقا،
والجامع بينهما غير موجود، فيلزم ما ذكرنا. والفرق بينهما ظاهر، نظير
الفرق بين قاعدة البراءة واستصحابها، ولا جامع بينهما (3).
وقد خفي ذلك على بعض المعاصرين (4)، فزعم جواز إرادة
القاعدة والاستصحاب معا، وأنكر ذلك على صاحب القوانين فقال:

(1) القوانين 2: 60.
(2) في الصفحة السابقة.
(3) في (ظ) بدل " فيلزم - إلى - ولا جامع بينهما ": " وقد تفطن للزوم هذا
الاستعمال صاحب القوانين ".
(4) هو صاحب الفصول.
74

إن الرواية تدل على أصلين:
أحدهما: أن الحكم الأولي للأشياء ظاهرا هي الطهارة مع عدم
العلم بالنجاسة، وهذا لا تعلق له بمسألة الاستصحاب.
الثاني: أن هذا الحكم مستمر إلى زمن العلم بالنجاسة، وهذا من
موارد الاستصحاب وجزئياته (1)، انتهى.
أقول: ليت شعري ما المشار إليه بقوله: " هذا الحكم مستمر إلى
زمن العلم بالنجاسة "؟
فإن كان هو الحكم المستفاد من الأصل الأولي، فليس استمراره
ظاهرا ولا واقعا مغيا بزمان العلم بالنجاسة، بل هو مستمر إلى زمن
نسخ هذا الحكم في الشريعة، مع أن قوله: " حتى تعلم " إذا جعل من
توابع الحكم الأول الذي هو الموضوع للحكم الثاني، فمن أين يصير
الثاني مغيا به؟! إذ لا يعقل كون شئ في استعمال واحد غاية لحكم
ولحكم آخر يكون الحكم الأول المغيا موضوعا له.
وإن كان هو الحكم الواقعي المعلوم - يعني أن الطهارة إذا ثبتت
واقعا في زمان، فهو مستمر في الظاهر إلى زمن العلم بالنجاسة - فيكون
الكلام مسوقا لبيان الاستمرار الظاهري فيما علم ثبوت الطهارة له واقعا
في زمان، فأين هذا من بيان قاعدة الطهارة من حيث هي للشئ
المشكوك من حيث هو مشكوك؟!
ومنشأ الاشتباه في هذا المقام: ملاحظة عموم القاعدة لمورد
الاستصحاب، فيتخيل أن الرواية تدل على الاستصحاب، وقد عرفت (2):

(1) الفصول: 373.
(2) راجع الصفحة 73.
75

أن دلالة الرواية على طهارة مستصحب الطهارة غير دلالتها على اعتبار
استصحاب الطهارة، وإلا فقد أشرنا (1) إلى أن القاعدة تشمل مستصحب
النجاسة أيضا، كما سيجئ.
ونظير ذلك ما صنعه صاحب الوافية، حيث ذكر روايات " أصالة
الحل " الواردة في مشتبه الحكم أو الموضوع في هذا المقام (2).
ثم على هذا، كان ينبغي ذكر أدلة أصالة البراءة، لأنها أيضا
متصادقة مع الاستصحاب من حيث المورد.
فالتحقيق: أن الاستصحاب - من حيث هو - مخالف للقواعد
الثلاث: البراءة، والحل، والطهارة، وإن تصادقت مواردها.
فثبت من جميع ما ذكرنا: أن المتعين حمل الرواية المذكورة على
أحد المعنيين، والظاهر إرادة القاعدة - نظير قوله (عليه السلام): " كل شئ لك
حلال " (3) -، لأن حمله على الاستصحاب وحمل الكلام على إرادة
خصوص الاستمرار فيما علم طهارته سابقا خلاف الظاهر، إذ ظاهر
الجملة الخبرية إثبات أصل المحمول للموضوع، لا إثبات استمراره في
مورد الفراغ عن ثبوت أصله.
نعم، قوله: " حتى تعلم " يدل على استمرار المغيا، لكن
المغيا به الحكم بالطهارة، يعني: هذا الحكم الظاهري مستمر له إلى كذا،
لا أن الطهارة الواقعية المفروغ عنها مستمرة ظاهرا إلى زمن العلم.

(1) راجع الصفحة 73.
(2) الوافية: 207.
(3) الوسائل 17: 91، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 2.
76

ومنها: قوله (عليه السلام): " الماء كله طاهر حتى تعلم أنه نجس " (1).
وهو وإن كان متحدا مع الخبر السابق (2) من حيث الحكم والغاية (3) إلا
أن الاشتباه في الماء من غير جهة عروض النجاسة للماء غير متحقق
غالبا، فالأولى حملها على إرادة الاستصحاب، والمعنى: أن الماء المعلوم
طهارته بحسب أصل الخلقة طاهر حتى تعلم...، أي: تستمر طهارته
المفروضة إلى حين العلم بعروض القذارة له، سواء كان الاشتباه وعدم
العلم من جهة الاشتباه في الحكم، كالقليل الملاقي للنجس والبئر، أم
كان من جهة الاشتباه في الأمر الخارجي، كالشك في ملاقاته للنجاسة
أو نجاسة ملاقيه.
ومنها: قوله (عليه السلام): " إذا استيقنت أنك توضأت فإياك أن تحدث
وضوءا، حتى تستيقن أنك أحدثت " (4).
ودلالته على استصحاب الطهارة ظاهرة.

(1) الوسائل 1: 100، الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحديث 5، وفيه:
" حتى يعلم ".
(2) أي موثقة عمار المتقدمة في الصفحة 72.
(3) في (ت) و (ه‍) زيادة: " فتكون ظاهرة في إرادة القاعدة كما عرفت ".
(4) التهذيب 1: 102، الحديث 268.
77

[اختصاص الأخبار بالشك في الرافع] (1)
ثم إن اختصاص ما عدا الأخبار العامة بالقول المختار واضح.
وأما الأخبار العامة، فالمعروف بين المتأخرين الاستدلال بها على
حجية الاستصحاب في جميع الموارد (2).
وفيه تأمل، قد فتح بابه المحقق الخوانساري في شرح الدروس (3).
توضيحه: أن حقيقة النقض هو رفع الهيئة الاتصالية، كما في نقض
الحبل.
والأقرب إليه - على تقدير مجازيته - هو رفع الأمر الثابت (4).
وقد يطلق على مطلق رفع اليد عن الشئ - ولو لعدم المقتضي له -
بعد أن كان آخذا به، فالمراد من " النقض " عدم الاستمرار عليه والبناء
على عدمه بعد وجوده (5).

(1) العنوان منا.
(2) انظر الرسائل الأصولية: 443، والقوانين 2: 52.
(3) مشارق الشموس: 76.
(4) في (ص) زيادة: " كما في نواقض الطهارة، والأقرب إليه رفع ما له مقتضى
الثبوت ". وفي (ظ) بدل عبارة " هو رفع الهيئة - إلى - الأمر الثابت " هكذا:
" هو رفع الأمر الثابت كما في نواقض الطهارة والأقرب إليه دفع الأمر الغير
الثابت ومنع مقتضيه وهو المسمى بالمانع ".
(5) لم ترد " والبناء على عدمه بعد وجوده " في (ظ).
78

إذا عرفت هذا، فنقول: إن الأمر يدور:
بين أن يراد ب‍ " النقض " مطلق ترك العمل وترتيب الأثر - وهو
المعنى الثالث (1) - ويبقى المنقوض عاما لكل يقين.
وبين أن يراد من النقض ظاهره - وهو المعنى الثاني (2) - فيختص
متعلقه بما من شأنه الاستمرار والاتصال (3)، المختص بالموارد التي يوجد
فيها هذا المعنى.
ولا يخفى (4) رجحان هذا على الأول، لأن الفعل الخاص يصير
مخصصا لمتعلقه العام، كما في قول القائل: لا تضرب أحدا، فإن الضرب
قرينة على اختصاص العام بالأحياء، ولا يكون عمومه للأموات (5)
قرينة على إرادة مطلق الضرب عليه كسائر الجمادات.
ثم لا يتوهم الاحتياج حينئذ إلى تصرف في اليقين بإرادة المتيقن
منه، لأن التصرف لازم على كل حال، فإن النقض الاختياري القابل
لورود النهي عليه لا يتعلق بنفس اليقين على كل تقدير، بل المراد:
نقض ما كان على يقين منه - وهو الطهارة السابقة - أو أحكام اليقين.
والمراد ب‍ " أحكام اليقين " ليس أحكام نفس وصف اليقين، إذ لو
فرضنا حكما شرعيا محمولا على نفس صفة اليقين ارتفع بالشك قطعا،

(1) في نسخة بدل (ص): " الرابع ".
(2) في (ظ): " الأول "، وفي نسخة بدل (ص): " الثالث ".
(3) " الاتصال " من (ت) و (ه‍).
(4) في (ص) بدل " لا يخفى ": " والظاهر ".
(5) لم ترد " للأموات " في (ظ).
79

كمن نذر فعلا في مدة اليقين بحياة زيد.
بل المراد: أحكام المتيقن المثبتة له من جهة اليقين، وهذه الأحكام
كنفس المتيقن أيضا لها استمرار شأني لا يرتفع إلا بالرافع، فإن جواز
الدخول في الصلاة بالطهارة أمر مستمر إلى أن يحدث ناقضها.
وكيف كان، فالمراد: إما نقض المتيقن، والمراد به رفع اليد عن
مقتضاه، وإما نقض أحكام اليقين - أي الثابتة للمتيقن من جهة اليقين
به - والمراد حينئذ رفع اليد عنها.
ويمكن أن يستفاد من بعض الأمارات إرادة المعنى الثالث (1)، مثل:
قوله (عليه السلام): " بل ينقض الشك باليقين " (2).
وقوله (عليه السلام): " ولا يعتد بالشك في حال من الحالات " (3).
وقوله (عليه السلام): " اليقين لا يدخله الشك، صم للرؤية وأفطر للرؤية " (4)،
فإن مورده استصحاب بقاء رمضان، والشك فيه ليس شكا في الرافع،
كما لا يخفى.
وقوله (عليه السلام) في رواية الأربعمائة: " من كان على يقين فشك
فليمض على يقينه، فإن اليقين لا يدفع بالشك " (5).
وقوله: " إذا شككت فابن على اليقين " (6).

(1) في نسخة بدل (ص): " الرابع ".
(2) و (3) تقدم في الصفحة 62، ضمن صحيحة زرارة الثالثة.
(4) تقدم في الصفحة 71، ضمن مكاتبة القاساني.
(5) تقدم الحديث في الصفحة 68.
(6) تقدم الحديث في الصفحة 66.
80

فإن المستفاد من هذه وأمثالها: أن المراد بعدم النقض عدم
الاعتناء بالاحتمال المخالف لليقين السابق، نظير قوله (عليه السلام): " إذا خرجت
من شئ ودخلت في غيره فشكك ليس بشئ " (1).
هذا، ولكن الإنصاف: أن شيئا من ذلك لا يصلح لصرف لفظ
" النقض " عن ظاهره.
لأن قوله: " بل ينقض الشك باليقين " معناه رفع الشك، لأن
الشك مما إذا حصل لا يرتفع إلا برافع.
وأما قوله (عليه السلام): " من كان على يقين فشك "، فقد عرفت (2) أنه
كقوله: " إذا شككت فابن على اليقين " غير ظاهر في الاستصحاب (3)،
مع إمكان أن يجعل قوله (عليه السلام): " فإن اليقين لا ينقض بالشك، أو
لا يدفع به " قرينة على اختصاص صدر الرواية بموارد النقض، مع أن
الظاهر من المضي: الجري على مقتضى الداعي السابق وعدم التوقف (4)
إلا لصارف، نظير قوله (عليه السلام): " إذا كثر عليك السهو فامض على
صلاتك " (5) ونحوه، فهو أيضا مختص بما ذكرنا.

(1) الوسائل 5: 336، الباب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 1،
وفيه بدل " فدخلت ": " ثم دخلت ".
(2) راجع الصفحة 68 - 69.
(3) كذا في (ظ)، وفي غيره بدل " أنه - إلى - الاستصحاب ": " الإشكال في
ظهوره في اعتبار الاستصحاب، كقوله: " إذا شككت فابن على اليقين ".
(4) كذا في (ظ) و (ه‍)، وفي غيرهما بدل " التوقف ": " الوقف ".
(5) الوسائل 5: 329، الباب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 1.
81

وأما قوله (عليه السلام): " اليقين لا يدخله الشك " فتفرع الإفطار للرؤية
عليه من جهة استصحاب الاشتغال بصوم رمضان إلى أن يحصل الرافع.
وبالجملة: فالمتأمل المنصف يجد أن هذه الأخبار لا تدل على
أزيد من اعتبار اليقين السابق عند الشك في الارتفاع برافع.
82

[حجة القول الأول] (1)
احتج للقول الأول بوجوه:
منها: أنه لو لم يكن الاستصحاب حجة لم يستقم استفادة
الأحكام من الأدلة اللفظية، لتوقفها على أصالة عدم القرينة والمعارض
والمخصص والمقيد والناسخ وغير ذلك.
وفيه: أن تلك الأصول قواعد لفظية مجمع عليها بين العلماء وجميع
أهل اللسان في باب الاستفادة، مع أنها أصول عدمية لا يستلزم القول
بها القول باعتبار الاستصحاب مطلقا، إما لكونها مجمعا عليها
بالخصوص، وإما لرجوعها إلى الشك في الرافع.
ومنها: ما ذكره المحقق في المعارج، وهو: أن المقتضي للحكم
الأول ثابت، والعارض لا يصلح رافعا، فيجب الحكم بثبوته في الآن
الثاني. أما أن المقتضي ثابت، فلأنا نتكلم على هذا التقدير. وأما أن
العارض لا يصلح رافعا، فلأن العارض احتمال تجدد ما يوجب زوال
الحكم، لكن احتمال ذلك معارض باحتمال عدمه، فيكون كل منهما
مدفوعا بمقابله، فيبقى الحكم الثابت سليما عن الرافع (2)، انتهى.
وفيه: أن المراد بالمقتضي، إما العلة التامة للحكم أو للعلم به

(1) العنوان منا.
(2) المعارج: 206 و 207.
83

- أعني الدليل -، أو المقتضي بالمعنى الأخص.
وعلى التقدير الأول (1)، فلا بد من أن يراد من ثبوته ثبوته في
الزمان الأول، ومن المعلوم عدم اقتضاء ذلك لثبوت المعلول أو المدلول
في الزمان الثاني أصلا.
وعلى الثاني (2)، فلا بد من أن يراد ثبوته في الزمان الثاني مقتضيا
للحكم.
وفيه - مع أنه أخص من المدعى -: أن مجرد احتمال عدم الرافع
لا يثبت العلم ولا الظن بثبوت المقتضى، بالفتح.
والمراد من معارضة احتمال الرافع باحتمال عدمه الموجبة للتساقط:
إن كان سقوط الاحتمالين فلا معنى له، وإن كان سقوط المحتملين عن
الاعتبار حتى لا يحكم بالرافع ولا بعدمه، فمعنى ذلك التوقف عن الحكم
بثبوت المقتضى - بالفتح - لا ثبوته.
وربما يحكى إبدال قوله: " فيجب الحكم بثبوته "، بقوله: " فيظن
ثبوته " (3)، ويتخيل أن هذا أبعد عن الإيراد، ومرجعه إلى دليل آخر
ذكره العضدي (4) وغيره (5)، وهو: أن ما ثبت في وقت ولم يظن عدمه

(1) في (ت) و (ه‍): " التقديرين الأولين ".
(2) في مصححة (ه‍) بدل " الثاني ": " الثالث ".
(3) انظر غاية المأمول (مخطوط): الورقة 128، وكذا القوانين 2: 52.
(4) انظر شرح مختصر الأصول 2: 454.
(5) مثل العلامة في نهاية الوصول (مخطوط): 407، والمحقق القمي في القوانين 2:
53.
84

فهو مظنون البقاء. وسيجئ ما فيه (1).
ثم إن ظاهر هذا الدليل دعوى القطع ببقاء الحالة السابقة واقعا (2)،
ولم يعرف هذه الدعوى من أحد، واعترف بعدمه في المعارج في أجوبة
النافين، وصرح بدعوى رجحان البقاء (3).
ويمكن أن يريد به: إثبات البناء (4) على الحالة السابقة ولو مع
عدم رجحانه، وهو في غاية البعد عن عمل العقلاء بالاستصحاب في
أمورهم.
والظاهر أن مرجع هذا الدليل إلى أنه إذا أحرز المقتضي وشك في
المانع - بعد تحقق المقتضي وعدم المانع في السابق - بني على عدمه
ووجود المقتضي.
ويمكن أن يستفاد من كلامه السابق (5) في قوله: " والذي نختاره "،
أن مراده بالمقتضي للحكم دليله، وأن المراد بالعارض احتمال طرو
المخصص لذلك الدليل، فمرجعه إلى أن الشك في تخصيص العام أو تقييد
المطلق لا عبرة به، كما يظهر من تمثيله بالنكاح والشك في حصول
الطلاق ببعض الألفاظ، فإنه إذا دل الدليل على أن عقد النكاح يحدث
علاقة الزوجية، وعلم من الدليل دوامها، ووجد في الشرع ما ثبت

(1) انظر الصفحة 87.
(2) لم ترد " واقعا " في (ظ).
(3) المعارج: 209.
(4) في (ر) و (ه‍): " البقاء ".
(5) السابق في الصفحة 52.
85

كونه رافعا لها، وشك في شئ آخر أنه رافع مستقل أو فرد من ذلك
الرافع أم لا، وجب العمل بدوام الزوجية، عملا بالعموم إلى أن يثبت
المخصص. وهذا حق، وعليه عمل العلماء كافة.
نعم، لو شك في صدق الرافع على موجود خارجي لشبهة
- كظلمة أو عدم الخبرة - ففي العمل بالعموم حينئذ وعدمه - كما إذا
قيل: " أكرم العلماء إلا زيدا " فشك في إنسان أنه زيد أو عمرو -
قولان في باب العام المخصص، أصحهما عدم الاعتبار بذلك العام. لكن،
كلام المحقق (قدس سره) في الشبهة الحكمية، بل مفروض كلام القوم أيضا اعتبار
الاستصحاب المعدود من أدلة الأحكام فيها، دون مطلق الشبهة الشاملة
للشبهة الخارجية.
هذا غاية ما أمكننا من توجيه الدليل المذكور.
لكن الذي يظهر بالتأمل: عدم استقامته في نفسه، وعدم انطباقه
على قوله المتقدم: " والذي نختاره " (1)، كما نبه عليه في المعالم (2) وتبعه
غيره (3)، فتأمل.
ومنها: أن الثابت في الزمان الأول ممكن الثبوت في الآن الثاني
- وإلا لم يحتمل البقاء - فيثبت بقاؤه ما لم يتجدد مؤثر العدم، لاستحالة
خروج الممكن عما عليه بلا مؤثر، فإذا كان التقدير تقدير عدم العلم
بالمؤثر فالراجح بقاؤه، فيجب العمل عليه.

(1) في (ر) زيادة: " وإخراجه للمدعى عن عنوان الاستصحاب ".
(2) المعالم: 235.
(3) مثل الفاضل الجواد في غاية المأمول (مخطوط): الورقة 130.
86

وفيه: منع استلزام عدم العلم بالمؤثر رجحان عدمه المستلزم
لرجحان البقاء، مع أن مرجع هذا الوجه إلى ما ذكره العضدي وغيره (1):
من أن ما تحقق وجوده ولم يظن عدمه أو لم يعلم عدمه، فهو مظنون
البقاء.
ومحصل الجواب - عن هذا وأمثاله من أدلتهم الراجعة إلى دعوى
حصول ظن البقاء -: منع كون مجرد وجود الشئ سابقا مقتضيا لظن
بقائه، كما يشهد له تتبع موارد الاستصحاب.
مع أنه إن أريد اعتبار الاستصحاب من باب الظن النوعي - يعني
لمجرد (2) كونه لو خلي وطبعه يفيد الظن بالبقاء وإن لم يفده فعلا لمانع -
ففيه: أنه لا دليل على اعتباره أصلا.
وإن أريد اعتباره عند حصول الظن فعلا منه، فهو وإن استقام
على ما يظهر من بعض من قارب عصرنا (3): من أصالة حجية الظن،
إلا أن القول باعتبار الاستصحاب بشرط حصول الظن الشخصي منه -
حتى أنه في المورد الواحد يختلف الحكم باختلاف الأشخاص والأزمان
وغيرها - لم يقل به أحد فيما أعلم، عدا ما يظهر من شيخنا البهائي (قدس سره)
في عبارته المتقدمة (4)، وما ذكره (قدس سره) مخالف للإجماع ظاهرا، لأن بناء

(1) راجع الصفحة 84، الهامش 4 و 5.
(2) في (ر): " بمجرد ".
(3) مثل المحقق القمي في القوانين: 493، والوحيد البهبهاني في الرسائل الأصولية:
429 - 435، والمحقق الكاظمي في الوافي (مخطوط): الورقة 29.
(4) تقدمت في الصفحة 21.
87

العلماء في العمل بالاستصحاب في الأحكام الجزئية والكلية والموضوعات
- خصوصا العدميات - على عدم مراعاة الظن الفعلي.
ثم إن ظاهر كلام العضدي (1) - حيث أخذ في إفادته الظن بالبقاء
عدم الظن بالارتفاع - أن الاستصحاب أمارة حيث لا أمارة، وليس في
الأمارات ما يكون كذلك. نعم، لا يبعد أن يكون الغلبة كذلك.
وكيف كان، فقد عرفت (2) منع إفادة مجرد اليقين بوجود الشئ
للظن ببقائه.
وقد استظهر بعض (3) تبعا لبعض - بعد الاعتراف بذلك - أن المنشأ
في حصول الظن غلبة البقاء في الأمور القارة.
قال السيد الشارح للوافية - بعد دعوى رجحان البقاء -:
إن الرجحان لا بد له من موجب، لأن وجود كل معلول يدل
على وجود علة له إجمالا، وليست هي اليقين المتقدم بنفسه، لأن ما
ثبت جاز أن يدوم وجاز أن لا يدوم، ويشبه أن يكون (4) هي كون
الأغلب في أفراد الممكن القار أن يستمر وجوده بعد التحقق، فيكون
رجحان وجود هذا الممكن الخاص للإلحاق بالأعم الأغلب. هذا إذا لم
يكن رجحان الدوام مؤيدا بعادة أو أمارة، وإلا فيقوى بهما. وقس

(1) انظر شرح مختصر الأصول 2: 454.
(2) في الصفحة السابقة.
(3) استظهره صاحب القوانين تبعا للسيد الشارح للوافية، كما سيشير إليه في
الصفحة 90.
(4) كذا في النسخ والمصدر، والمناسب: " تكون ".
88

على الوجود حال العدم إذا كان يقينيا (1). انتهى كلامه، رفع مقامه.
وفيه: أن المراد بغلبة البقاء ليس غلبة البقاء أبد الآباد، بل المراد
البقاء على مقدار خاص من الزمان، ولا ريب أن ذلك المقدار الخاص
ليس أمرا مضبوطا في الممكنات ولا في المستصحبات، والقدر المشترك
بين الكل أو الأغلب منه معلوم التحقق في موارد الاستصحاب، وإنما
الشك في الزائد.
وإن أريد بقاء الأغلب إلى زمان الشك (2):
فإن أريد أغلب الموجودات السابقة بقول مطلق، ففيه:
أولا: أنا لا نعلم بقاء الأغلب في زمان الشك.
وثانيا: لا ينفع بقاء الأغلب في إلحاق المشكوك، للعلم بعدم
الرابط بينها (3)، وعدم استناد البقاء فيها إلى جامع - كما لا يخفى - بل
البقاء في كل واحد منها مستند إلى ما هو مفقود في غيره. نعم، بعضها
مشترك (4) في مناط البقاء.
وبالجملة: فمن الواضح أن بقاء الموجودات المشاركة مع نجاسة
الماء المتغير في الوجود - من الجواهر والأعراض - في زمان الشك في
النجاسة، لذهاب التغير المشكوك مدخليته في بقاء النجاسة، لا يوجب
الظن ببقائها وعدم مدخلية التغير فيها. وهكذا الكلام في كل ما شك في

(1) شرح الوافية (مخطوط): 325.
(2) في (ت) و (ه‍) زيادة: " في بقاء المستصحب ".
(3) في (ظ) بدل " بينها ": " بينهما ".
(4) في نسخة بدل (ت): " متشارك "، وفي (ظ) و (ه‍): " يتشارك ".
89

بقائه لأجل الشك في استعداده للبقاء.
وإن أريد به (1) ما وجه به كلام السيد المتقدم (2) صاحب القوانين
- بعدما تبعه في الاعتراف بأن هذا الظن ليس منشؤه محض الحصول في
الآن السابق، لأن ما ثبت جاز أن يدوم وجاز أن لا يدوم - قال:
بل لأنا لما فتشنا الأمور الخارجية من الأعدام والموجودات
وجدناها مستمرة بوجودها الأول على حسب استعداداتها وتفاوتها في
مراتبها، فنحكم فيما لم نعلم حاله بما وجدناه في الغالب، إلحاقا له
بالأعم الأغلب.
ثم إن كل نوع من أنواع الممكنات يلاحظ زمان الحكم ببقائه
بحسب ما غلب في أفراد ذلك النوع، فالاستعداد الحاصل للجدران
القويمة يقتضي مقدارا من البقاء بحسب العادة، والاستعداد الحاصل
للإنسان يقتضي مقدارا منه، وللفرس مقدارا آخر، وللحشرات مقدارا
آخر، ولدود القز والبق والذباب مقدارا آخر، وكذلك الرطوبة في
الصيف والشتاء.
فهنا مرحلتان:
الأولى: إثبات الاستمرار في الجملة.
والثانية: إثبات مقدار الاستمرار.
ففيما جهل حاله من الممكنات القارة، يثبت ظن الاستمرار في
الجملة بملاحظة حال أغلب الممكنات مع قطع النظر عن تفاوت أنواعها،

(1) في (ر) و (ظ) بدل " وإن أريد به ": " ومن هنا يظهر ضعف ".
(2) أي: كلام السيد شارح الوافية المتقدم في الصفحة 88.
90

وظن مقدار خاص من الاستمرار بملاحظة حال النوع الذي هو من
جملتها.
فالحكم الشرعي - مثلا - نوع من الممكنات قد يلاحظ من جهة
ملاحظة مطلق الممكن، وقد يلاحظ من جهة ملاحظة مطلق الأحكام
الصادرة من الموالي إلى العبيد، وقد يلاحظ من جهة ملاحظة سائر
الأحكام الشرعية. فإذا أردنا التكلم في إثبات الحكم الشرعي فنأخذ
الظن الذي ادعيناه من ملاحظة أغلب الأحكام الشرعية، لأنه الأنسب
به والأقرب إليه، وإن أمكن ذلك بملاحظة أحكام سائر الموالي وعزائم
سائر العباد.
ثم إن الظن الحاصل من جهة الغلبة في الأحكام الشرعية،
محصله: أنا نرى أغلب الأحكام الشرعية مستمرة بسبب دليله الأول،
بمعنى أنها ليست أحكاما آنية مختصة بآن الصدور، بل يفهم من حاله
من جهة أمر خارجي عن الدليل أنه يريد استمرار ذلك الحكم الأول
من دون دلالة الحكم الأول على الاستمرار، فإذا رأينا منه في مواضع
عديدة أنه اكتفى - حين إبداء الحكم - بالأمر المطلق القابل للاستمرار
وعدمه، ثم علمنا أن مراده من الأمر الأول الاستمرار، نحكم فيما لم
يظهر مراده، بالاستمرار، إلحاقا بالأغلب، فقد حصل الظن بالدليل
- وهو قول الشارع - بالاستمرار. وكذلك الكلام في موضوعات الأحكام
من الأمور الخارجية، فإن غلبة البقاء يورث الظن القوي ببقاء ما هو
مجهول الحال (1)، انتهى.

(1) القوانين 2: 53 - 54.
91

فيظهر وجه ضعف هذا التوجيه أيضا (1) مما أشرنا إليه (2).
توضيحه: أن الشك في الحكم الشرعي، قد يكون من جهة الشك
في مقدار استعداده، وقد يكون من جهة الشك في تحقق الرافع.
أما الأول، فليس فيه نوع ولا صنف مضبوط من حيث مقدار
الاستعداد، مثلا: إذا شككنا في مدخلية التغير في النجاسة حدوثا
وارتفاعا وعدمها، فهل ينفع في حصول الظن بعدم المدخلية تتبع
الأحكام الشرعية الاخر، مثل: أحكام الطهارات والنجاسات، فضلا
عن أحكام المعاملات والسياسات، فضلا عن أحكام الموالي إلى العبيد؟
وبالجملة: فكل حكم شرعي أو غيره تابع لخصوص ما في نفس
الحاكم من الأغراض والمصالح، ومتعلق بما هو موضوع له وله دخل في
تحققه، ولا دخل لغيره من الحكم المغاير له، ولو اتفق موافقته له كان
بمجرد الاتفاق من دون ربط.
ومن هنا لو شك واحد من العبيد في مدخلية شئ في حكم
مولاه حدوثا وارتفاعا، فتتبع - لأجل الظن بعدم المدخلية وبقاء الحكم
بعد ارتفاع ذلك الشئ - أحكام سائر الموالي، بل أحكام هذا المولى
المغايرة للحكم المشكوك موضوعا ومحمولا، عد من أسفه السفهاء.
وأما الثاني - وهو الشك في الرافع - فإن كان الشك في رافعية
الشئ للحكم، فهو أيضا لا دخل له بسائر الأحكام، ألا ترى أن
الشك في رافعية المذي للطهارة لا ينفع فيه تتبع موارد الشك في

(1) لم ترد " أيضا " في (ر) و (ظ).
(2) راجع الصفحة 89.
92

الرافعية، مثل: ارتفاع النجاسة بالغسل مرة، أو نجاسة الماء بالإتمام كرا،
أو ارتفاع طهارة الثوب والبدن بعصير العنب أو الزبيب أو التمر.
وأما الشك في وجود الرافع وعدمه، فالكلام فيه هو الكلام في
الأمور الخارجية.
ومحصله: أنه إن أريد أنه يحصل الظن بالبقاء إذا فرض له صنف
أو نوع يكون الغالب في أفراده البقاء، فلا ننكره، ولذا يظن عدم
النسخ عند الشك فيه. لكنه يحتاج إلى ملاحظة الصنف أو النوع (1) حتى
لا يحصل التغاير، فإن المتطهر في الصبح إذا شك في وقت الضحى في
بقاء طهارته وأراد إثبات ذلك بالغلبة، فلا ينفعه تتبع الموجودات
الخارجية، مثل: بياض ثوبه وطهارته وحياة زيد وقعوده وعدم ولادة
الحمل الفلاني، ونحو ذلك. نعم، لو لوحظ صنف هذا المتطهر في وقت
الصبح المتحد أو المتقارب فيما له مدخل في بقاء الطهارة، ووجد الأغلب
متطهرا في هذا الزمان، حصل الظن ببقاء طهارته.
وبالجملة: فما ذكره من ملاحظة أغلب الصنف فحصول الظن به
حق، إلا أن البناء على هذا في الاستصحاب يسقطه عن الاعتبار في
أكثر موارده.
وإن بني على ملاحظة الأنواع البعيدة أو الجنس البعيد أو الأبعد
- وهو الممكن القار - كما هو ظاهر كلام السيد المتقدم، ففيه: ما تقدم
من القطع بعدم جامع بين مورد (2) الشك وموارد الاستقراء، يصلح

(1) في (ر) و (ظ) بدل " أو النوع ": " والتأمل ".
(2) في (ه‍): " موارد ".
93

لاستناد البقاء إليه، وفي مثله لا يحصل الظن بالإلحاق، لأنه لا بد في
الظن بلحوق المشكوك بالأغلب من الظن أولا بثبوت الحكم أو الوصف
للجامع (1)، ليحصل (2) الظن بثبوته في الفرد المشكوك.
ومما يشهد بعدم حصول الظن بالبقاء اعتبار الاستصحاب في
موردين يعلم بمخالفة أحدهما للواقع، فإن المتطهر بمائع شك في كونه
بولا أو ماء، يحكم باستصحاب طهارة بدنه وبقاء حدثه، مع أن الظن
بهما محال. وكذا الحوض الواحد إذا صب فيه الماء تدريجا فبلغ إلى
موضع شك في بلوغ مائه كرا، فإنه يحكم حينئذ ببقاء قلته، فإذا امتلأ
واخذ منه الماء تدريجا إلى ذلك الموضع، فيشك حينئذ في نقصه عن
الكر، فيحكم ببقاء كريته، مع أن الظن بالقلة في الأول وبالكرية في
الثاني محال.
ثم إن إثبات حجية الظن المذكور - على تقدير تسليمه - دونه
خرط القتاد، خصوصا في الشبهة الخارجية التي لا تعتبر فيها الغلبة
اتفاقا، فإن اعتبار استصحاب طهارة الماء من جهة الظن الحاصل من
الغلبة، وعدم اعتبار الظن بنجاسته من غلبة أخرى - كطين الطريق
مثلا - مما لا يجتمعان. وكذا اعتبار قول المنكر من باب الاستصحاب
مع الظن بصدق المدعي لأجل الغلبة.
ومنها: بناء العقلاء على ذلك في جميع أمورهم، كما ادعاه
العلامة (رحمه الله) في النهاية (3) وأكثر من تأخر عنه.

(1) في (ر) و (ص): " الجامع ".
(2) كذا في (ت) و (ظ)، وفي غيرهما: " فيحصل ".
(3) نهاية الوصول (مخطوط): 407.
94

وزاد بعضهم (1): أنه لولا ذلك لاختل نظام العالم وأساس عيش
بني آدم.
وزاد آخر (2): أن العمل على الحالة السابقة أمر مركوز في النفوس
حتى الحيوانات، ألا ترى أن الحيوانات تطلب عند الحاجة المواضع التي
عهدت فيها الماء والكلأ، والطيور تعود من الأماكن البعيدة إلى
أوكارها، ولولا البناء على " إبقاء ما كان على ما كان " (3) لم يكن وجه
لذلك.
والجواب: أن بناء العقلاء إنما يسلم في موضع يحصل لهم الظن
بالبقاء لأجل الغلبة، فإنهم في أمورهم عاملون بالغلبة، سواء وافقت
الحالة السابقة أو خالفتها، ألا ترى أنهم لا يكاتبون من عهدوه في
حال لا يغلب فيه السلامة، فضلا عن المهالك - إلا على سبيل الاحتياط
لاحتمال الحياة - ولا يرسلون إليه البضائع للتجارة، ولا يجعلونه وصيا
في الأموال أو قيما على الأطفال، ولا يقلدونه في هذا الحال إذا كان
من أهل الاستدلال، وتراهم لو شكوا في نسخ الحكم الشرعي يبنون
على عدمه، ولو شكوا في رافعية المذي شرعا للطهارة فلا يبنون على
عدمها.
وبالجملة: فالذي أظن أنهم غير بانين في الشك في الحكم

(1) مثل المحقق القمي في القوانين 2: 75، وشريف العلماء في تقريرات درسه في
ضوابط الأصول: 354.
(2) حكاه في الفصول: 369.
(3) لم ترد " على ما كان " في (ر)، (ص) و (ظ).
95

الشرعي من غير جهة النسخ على الاستصحاب.
نعم، الإنصاف: أنهم لو شكوا في بقاء حكم شرعي فليس
عندهم كالشك في حدوثه في البناء على العدم، ولعل هذا من جهة عدم
وجدان الدليل بعد الفحص، فإنها أمارة على العدم، لما علم من بناء
الشارع على التبليغ، فظن عدم الورود يستلزم الظن بعدم الوجود.
والكلام في اعتبار هذا الظن بمجرده - من غير ضم حكم العقل بقبح
التعبد بما لا يعلم - في باب أصل البراءة (1).
قال في العدة - بعدما اختار عدم اعتبار الاستصحاب في مثل
المتيمم الداخل في الصلاة -: والذي يمكن أن ينتصر به طريقة
استصحاب الحال ما أومأنا إليه من أن يقال: لو كانت الحالة الثانية
مغيرة للحكم الأول لكان عليه دليل، وإذا تتبعنا جميع الأدلة فلم نجد
فيها ما يدل على أن الحالة الثانية مخالفة للحالة الأولى، دل على أن
حكم الحالة الأولى باق على ما كان.
فإن قيل: هذا رجوع إلى الاستدلال بطريق آخر، وذلك خارج
عن استصحاب الحال.
قيل: إن الذي نريد باستصحاب الحال هذا الذي ذكرناه، وأما
غير ذلك فلا يكاد يحصل غرض القائل به (2)، انتهى.

(1) راجع مبحث البراءة 2: 59 - 60.
(2) العدة 2: 758.
96

[حجة القول الثاني] (1)
احتج النافون بوجوه:
منها: ما عن الذريعة وفي الغنية، من أن المتعلق بالاستصحاب
يثبت الحكم عند التحقيق من غير دليل.
توضيح ذلك: أنهم يقولون: قد ثبت بالإجماع على من شرع في
الصلاة بالتيمم وجوب المضي فيها قبل مشاهدة الماء، فيجب أن يكون
على هذا الحال بعد المشاهدة. وهذا منهم جمع بين الحالتين في حكم من
غير دليل اقتضى الجمع بينهما، لأن اختلاف الحالتين لا شبهة فيه، لأن
المصلي غير واجد للماء في إحداهما وواجد له في الأخرى، فلا يجوز
التسوية بينهما من غير دلالة، فإذا كان الدليل لا يتناول إلا الحالة
الأولى، وكانت الحالة الأخرى عارية منه، لم يجز أن يثبت فيها مثل
الحكم (2)، انتهى.
أقول: إن كان محل الكلام فيما كان الشك لتخلف وصف وجودي
أو عدمي متحقق سابقا يشك في مدخليته في أصل الحكم أو بقائه،
فالاستدلال المذكور متين جدا، لأن الفرض (3) عدم دلالة دليل الحكم
الأول، وفقد دليل عام يدل على انسحاب كل حكم ثبت في الحالة

(1) العنوان منا.
(2) الذريعة 2: 829 - 830، والغنية (الجوامع الفقهية): 486، واللفظ للثاني.
(3) في (ت) و (ص): " المفروض ".
97

الأولى في الحالة الثانية، لأن عمدة ما ذكروه من الدليل هي الأخبار
المذكورة، وقد عرفت اختصاصها بمورد يتحقق (1) معنى النقض، وهو
الشك من جهة الرافع.
نعم قد يتخيل: كون مثال التيمم من قبيل الشك من جهة الرافع،
لأن الشك في انتقاض التيمم بوجدان الماء في الصلاة كانتقاضه بوجدانه
قبلها، سواء قلنا بأن التيمم رافع للحدث، أم قلنا: إنه مبيح، لأن
الإباحة أيضا مستمرة إلى أن ينتقض بالحدث أو يوجد الماء.
ولكنه فاسد: من حيث إن وجدان الماء ليس من الروافع
والنواقض، بل الفقدان الذي هو وصف المكلف لما كان مأخوذا في
صحة التيمم حدوثا وبقاء في الجملة، كان الوجدان رافعا لوصف
الموضوع الذي هو المكلف، فهو نظير التغير الذي يشك في زوال
النجاسة بزواله، فوجدان الماء ليس كالحدث وإن قرن به في قوله (عليه السلام)
- حين سئل عن جواز الصلوات المتعددة بتيمم واحد -: " نعم، ما لم
يحدث أو يجد ماء " (2)، لأن المراد من ذلك تحديد الحكم بزوال المقتضي
أو طرو الرافع.
وكيف كان، فإن كان محل الكلام في الاستصحاب ما كان من
قبيل هذا المثال فالحق مع المنكرين، لما ذكروه.
وإن شمل ما كان من قبيل تمثيلهم الآخر - وهو الشك في ناقضية
الخارج من غير السبيلين - قلنا: إن إثبات الحكم بعد خروج الخارج

(1) في (ص) زيادة: " فيه ".
(2) المستدرك 2: 544، الحديث 2، وفيه بدل " أو يجد ماء ": " أو يجد الماء ".
98

ليس من غير دليل، بل الدليل ما ذكرنا من الوجوه الثلاثة، مضافا إلى
إمكان التمسك بما ذكرنا في توجيه كلام المحقق (رحمه الله) في المعارج، لكن
عرفت ما فيه من التأمل (1).
ثم إنه أجاب في المعارج عن الدليل المذكور: بأن قوله: " عمل
بغير دليل " غير مسلم، لأن الدليل دل على أن الثابت لا يرتفع إلا
برافع، فإذا كان التقدير تقدير عدمه كان بقاء الثابت راجحا في نظر
المجتهد، والعمل بالراجح لازم (2)، انتهى.
وكأن مراده بتقدير عدم الرافع عدم العلم به، وقد عرفت ما في
دعوى حصول الظن بالبقاء بمجرد ذلك، إلا أن يرجع إلى عدم الدليل
بعد الفحص الموجب للظن بالعدم.
ومنها: أنه لو كان الاستصحاب حجة لوجب فيمن علم زيدا في
الدار ولم يعلم بخروجه منها أن يقطع ببقائه فيها، وكذا كان يلزم إذا علم
بأنه حي ثم انقضت مدة لم يعلم فيها بموته أن يقطع ببقائه، وهو باطل.
وقال في محكي الذريعة: قد ثبت في العقول أن من شاهد زيدا
في الدار ثم غاب عنه لم يحسن اعتقاد استمرار كونه في الدار إلا بدليل
متجدد، ولا يجوز استصحاب الحال الأولى (3) وقد صار كونه في الدار
في الزمان الثاني وقد زالت الرؤية، بمنزلة كون

(1) راجع الصفحة 86.
عمرو فيها مع فقد الرؤية (4). (2) المعارج: 209.
(3) في المصدر: " الحال الأول ".
(4) الذريعة 2: 832.
99

وأجاب في المعارج عن ذلك: بأنا لا ندعي القطع، لكن ندعي
رجحان الاعتقاد ببقائه، وهذا يكفي في العمل به (1).
أقول: قد عرفت مما سبق منع حصول الظن كلية، ومنع حجيته (2).
ومنها: أنه لو كان حجة لزم التناقض، إذ كما يقال: كان للمصلي
قبل وجدان الماء المضي في صلاته فكذا بعد الوجدان، كذلك يقال: إن
وجدان الماء قبل الدخول في الصلاة كان ناقضا للتيمم فكذا بعد الدخول،
أو يقال: الاشتغال بصلاة متيقنة ثابت قبل فعل هذه الصلاة فيستصحب.
قال في المعتبر: استصحاب الحال ليس حجة، لأن شرعية الصلاة
بشرط عدم الماء لا يستلزم الشرعية معه، ثم إن مثل هذا لا يسلم عن المعارض،
لأنك تقول: الذمة مشغولة بالصلاة قبل الإتمام فكذا بعده (3)، انتهى.
وأجاب عن ذلك في المعارج: بمنع وجود المعارض في كل مقام، ووجود
المعارض في الأدلة المظنونة لا يوجب سقوطها حيث تسلم عن المعارض (4).
أقول: لو بني على معارضة الاستصحاب بمثل استصحاب الاشتغال
لم يسلم الاستصحاب في أغلب الموارد (5) عن المعارض، إذ قلما ينفك
مستصحب عن أثر حادث يراد ترتبه على بقائه، فيقال: الأصل عدم
ذلك الأثر.
والأولى في الجواب: أنا إذا قلنا باعتبار الاستصحاب لإفادته

(1) و (4) المعارج: 209.
(2) راجع الصفحة 87.
(3) المعتبر 1: 32.
(5) في (ص) و (ظ) بدل " في أغلب الموارد ": " في موضع ".
100

الظن بالبقاء، فإذا ثبت ظن البقاء في شئ لزمه عقلا ظن ارتفاع كل
أمر فرض كون بقاء المستصحب رافعا له أو جزءا أخيرا له، فلا يعقل
الظن ببقائه، فإن ظن بقاء طهارة ماء غسل به ثوب نجس أو توضأ به
محدث، مستلزم عقلا للظن بطهارة (1) ثوبه وبدنه وبراءة ذمته بالصلاة
بعد تلك الطهارة. وكذا الظن بوجوب المضي في الصلاة يستلزم الظن
بارتفاع اشتغال الذمة بمجرد إتمام تلك الصلاة.
وتوهم إمكان العكس، مدفوع بما سيجئ توضيحه من عدم
إمكانه (2).
وكذا إذا قلنا باعتباره من باب التعبد بالنسبة إلى الآثار الشرعية
المترتبة على وجود المستصحب أو عدمه، لما ستعرف: من عدم إمكان
شمول الروايات إلا للشك السببي (3)، ومنه يظهر حال معارضة
استصحاب وجوب المضي باستصحاب انتقاض التيمم بوجدان الماء.
ومنها: أنه لو كان الاستصحاب حجة لكان بينة النفي أولى
وأرجح من بينة الإثبات، لاعتضادها باستصحاب النفي.
والجواب عنه:
أولا: باشتراك هذا الإيراد، بناء على ما صرح به جماعة (4): من
كون استصحاب النفي المسمى ب‍: " البراءة الأصلية " معتبرا إجماعا.

(1) كذا في (ص)، وفي غيرها بدل " للظن بطهارة ": " لطهارة ".
(2) انظر الصفحة 396 - 397.
(3) انظر الصفحة 395 و 399.
(4) تقدم ذكرهم في الصفحة 21، فراجع.
101

اللهم إلا أن يقال: إن اعتبارها ليس (1) لأجل الظن، أو يقال: إن
الإجماع إنما هو على البراءة الأصلية في الأحكام الكلية - فلو كان أحد
الدليلين معتضدا بالاستصحاب اخذ به - لا في باب الشك في اشتغال
ذمة الناس، فإنه من محل الخلاف في باب الاستصحاب.
وثانيا: بما ذكره جماعة (2)، من أن تقديم بينة الإثبات لقوتها على
بينة النفي وإن اعتضد (3) بالاستصحاب، إذ رب دليل أقوى من دليلين.
نعم، لو تكافأ دليلان رجح موافق الأصل به، لكن بينة النفي لا تكافئ
بينة الإثبات، إلا أن يرجع أيضا إلى نوع من الإثبات، فيتكافئان.
وحينئذ فالوجه تقديم بينة النفي لو كان الترجيح في البينات - كالترجيح
في الأدلة - منوطا بقوة الظن مطلقا، أو في غير الموارد المنصوصة على
الخلاف، كتقديم بينة الخارج.
وربما تمسكوا بوجوه اخر (4)، يظهر حالها بملاحظة ما ذكرنا في ما
ذكرنا من أدلتهم.
هذا ملخص الكلام في أدلة المثبتين والنافين مطلقا.

(1) لم ترد " ليس " في (ظ).
(2) انظر نهاية الوصول (مخطوط): 407، والإحكام للآمدي 4: 141، وشرح
مختصر الأصول 2: 454.
(3) كذا في النسخ، والمناسب: " اعتضدت "، لرجوع الضمير إلى " بينة ".
(4) مثل: ما في الفوائد المدنية: 141 - 143، وما حكاه في القوانين 2: 66،
وما نقله الحاجبي والعضدي في شرح مختصر الأصول 2: 453 - 454، وما
ذكره المحدث البحراني في الدرر النجفية: 36 و 37.
102

[حجة القول الثالث] (1)
بقي الكلام في حجج المفصلين.
فنقول: أما التفصيل بين العدمي والوجودي بالاعتبار في الأول
وعدمه في الثاني، فهو الذي ربما يستظهر من كلام التفتازاني، حيث
استظهر من عبارة العضدي (2) في نقل الخلاف: أن خلاف منكري
الاستصحاب إنما هو في الإثبات دون النفي (3).
وما استظهره التفتازاني لا يخلو ظهوره عن تأمل.
مع أن هنا إشكالا آخر - قد أشرنا إليه في تقسيم الاستصحاب
في (4) تحرير محل الخلاف (5) - وهو: أن القول باعتبار الاستصحاب في
العدميات يغني عن التكلم في اعتباره في الوجوديات، إذ ما من
مستصحب وجودي إلا وفي مورده استصحاب عدمي يلزم من الظن
ببقائه الظن ببقاء المستصحب الوجودي، وأقل ما يكون عدم ضده،
فإن الطهارة لا تنفك عن عدم النجاسة، والحياة لا تنفك عن عدم
الموت، والوجوب أو غيره من الأحكام لا ينفك عن عدم ما عداه

(1) العنوان منا.
(2) في شرح مختصر الأصول 2: 453.
(3) تقدم كلام التفتازاني في الصفحة 28.
(4) في (ر) و (ه‍) بدل " في ": " و ".
(5) راجع الصفحة 31.
103

من أضداده، والظن ببقاء هذه الأعدام لا ينفك عن الظن ببقاء
تلك الوجودات، فلا بد من القول باعتباره، خصوصا بناء على ما
هو الظاهر المصرح به في كلام العضدي وغيره (1)، من: " أن إنكار
الاستصحاب لعدم إفادته الظن بالبقاء "، وإن كان ظاهر بعض النافين
- كالسيد (قدس سره) (2) وغيره (3) - استنادهم إلى عدم إفادته للعلم، بناء على أن
عدم اعتبار الظن عندهم مفروغ عنه في أخبار الآحاد، فضلا عن الظن
الاستصحابي.
وبالجملة: فإنكار الاستصحاب في الوجوديات والاعتراف به
في العدميات لا يستقيم بناء على اعتبار الاستصحاب من باب الظن.
نعم، لو قلنا باعتباره من باب التعبد - من جهة الأخبار - صح
أن يقال: إن ثبوت العدم بالاستصحاب لا يوجب ثبوت ما قارنه من
الوجودات، فاستصحاب عدم أضداد الوجوب لا يثبت الوجوب في
الزمان اللاحق، كما أن عدم ما عدا زيد من أفراد الإنسان في الدار
لا يثبت باستصحابه (4) ثبوت زيد فيها، كما سيجئ تفصيله إن شاء الله
تعالى (5).
لكن المتكلم في الاستصحاب من باب التعبد والأخبار - بين

(1) انظر شرح مختصر الأصول 2: 453، ونهاية الوصول (مخطوط): 407.
(2) الذريعة 2: 832.
(3) انظر الدرر النجفية للمحدث البحراني: 36.
(4) في (ت): " باستصحاب ".
(5) في مبحث الأصل المثبت، الصفحة 233.
104

العلماء - في غاية القلة إلى زمان متأخري المتأخرين (1)، مع أن بعض
هؤلاء (2) وجدناهم لا يفرقون في مقارنات المستصحب بين أفرادها،
ويثبتون بالاستصحاب جميع ما لا ينفك عن المستصحب، على خلاف
التحقيق الآتي في التنبيهات الآتية إن شاء الله تعالى (3).
ودعوى: أن اعتبار الاستصحابات العدمية لعله ليس لأجل الظن
حتى يسري إلى الوجوديات المقارنة معها، بل لبناء العقلاء عليها في
أمورهم بمقتضى جبلتهم.
مدفوعة: بأن عمل العقلاء في معاشهم على ما لا يفيد الظن
بمقاصدهم والمضي في أمورهم - بمحض الشك والتردد - في غاية البعد،
بل خلاف ما نجده من أنفسنا معاشر العقلاء.
وأضعف من ذلك أن يدعى: أن المعتبر عند العقلاء من الظن
الاستصحابي هو الحاصل بالشئ من تحققه السابق، لا الظن الساري
من هذا الظن إلى شئ آخر، وحينئذ فنقول: العدم المحقق سابقا يظن
بتحققه لاحقا - ما لم يعلم أو يظن تبدله بالوجود - بخلاف الوجود
المحقق سابقا فإنه لا يحصل الظن ببقائه لمجرد تحققه السابق، والظن
الحاصل ببقائه من الظن الاستصحابي المتعلق بالعدمي المقارن له غير

(1) مثل: الفاضل التوني والوحيد البهبهاني وشريف العلماء والمحقق القمي وصاحب
الفصول وغيرهم.
(2) مثل: الوحيد البهبهاني وشريف العلماء، انظر الفوائد الحائرية: 275، والرسائل
الأصولية: 423، وضوابط الأصول: 374.
(3) في مبحث الأصل المثبت، الصفحة 233.
105

معتبر، إما مطلقا، أو إذا لم يكن ذلك الوجودي من آثار العدمي
المترتبة عليه (1) من جهة الاستصحاب (2).
ولعله المراد بما حكاه التفتازاني عن الحنفية، من: " أن حياة
الغائب بالاستصحاب إنما يصلح عندهم - من جهة الاستصحاب - لعدم
انتقال إرثه إلى وارثه، لا انتقال إرث (3) مورثه إليه " (4) فإن معنى ذلك
أنهم يعتبرون ظن عدم انتقال مال الغائب إلى وارثه، لا انتقال مال
مورثه إليه وإن كان أحد الظنين لا ينفك عن الآخر (5).
ثم إن معنى عدم اعتبار الاستصحاب في الوجودي:
إما عدم الحكم ببقاء المستصحب الوجودي وإن كان لترتب أمر
عدمي عليه، كترتب عدم جواز (6) تزويج المرأة المفقود زوجها المترتب
على حياته.
وإما عدم ثبوت الأمر الوجودي لأجل الاستصحاب وإن كان
المستصحب عدميا، فلا يترتب انتقال مال قريب الغائب إليه وإن كان

(1) لم ترد " عليه " في (ر)، وكتب في (ص) تحت عبارة " إما مطلقا... عليه ":
" زيادة في بعض النسخ ".
(2) لم ترد " من جهة الاستصحاب " في (ظ)، وفي (ص) كتب عليها: " زائد ".
(3) في (ظ) بدل " إرث ": " مال ".
(4) حاشية شرح مختصر الأصول 2: 285.
(5) لم ترد " ولعله المراد - إلى - عن الآخر " في (ه‍)، وشطب عليها في (ت)،
وكتب عليها في (ص): " نسخة ".
(6) لم ترد " جواز " في (ظ)، وشطب عليها في (ص).
106

مترتبا على استصحاب عدم موته. ولعل هذا هو المراد بما حكاه
التفتازاني عن الحنفية: من أن الاستصحاب حجة في النفي دون
الإثبات (1).
وبالجملة: فلم يظهر لي ما يدفع هذا الإشكال عن القول بعدم
اعتبار الاستصحاب في الإثبات واعتباره في النفي من باب الظن.
نعم، قد أشرنا فيما مضى (2) إلى أنه (3) لو قيل باعتباره في النفي من
باب التعبد، لم يغن ذلك عن التكلم في الاستصحاب الوجودي، بناء
على ما سنحققه (4): من أنه لا يثبت بالاستصحاب إلا آثار المستصحب
المترتبة عليه شرعا.
لكن يرد (5) على هذا: أن هذا التفصيل مساو للتفصيل المختار
المتقدم (6)، ولا يفترقان فيغني أحدهما عن الآخر (7)، إذ الشك في بقاء
الأعدام السابقة من جهة الشك في تحقق الرافع لها - وهي علة الوجود -
والشك في بقاء الأمر الوجودي من جهة الشك في الرافع، لا ينفك عن

(1) تقدم كلام التفتازاني في الصفحة 28.
(2) راجع الصفحة 104.
(3) لم ترد " قد أشرنا فيما مضى إلى أنه " في (ظ).
(4) في مبحث الأصل المثبت، الصفحة 233.
(5) في (ظ) ونسخة بدل (ت) بدل " يرد ": " يبقى ".
(6) راجع الصفحة 51.
(7) في (ص) بدل " ولا يفترقان فيغني أحدهما عن الآخر ": " ولا يفترق أحدهما
عن الآخر "، وفي نسخة بدله ما أثبتناه.
107

الشك في تحقق الرافع، فيستصحب عدمه، ويترتب عليه بقاء ذلك الأمر
الوجودي.
وتخيل: أن الأمر الوجودي قد لا يكون من الآثار الشرعية لعدم
الرافع، فلا يغني العدمي عن الوجودي.
مدفوع: بأن الشك إذا فرض من جهة الرافع فيكون الأحكام
الشرعية المترتبة على ذلك الأمر الوجودي مستمرة إلى تحقق ذلك
الرافع، فإذا حكم بعدمه عند الشك، يترتب (1) عليه شرعا جميع تلك
الأحكام، فيغني ذلك عن الاستصحاب الوجودي.
وحينئذ، فيمكن أن يحتج لهذا القول:
أما على عدم الحجية في الوجوديات، فبما تقدم في أدلة النافين (2).
وأما على الحجية في العدميات، فبما تقدم في أدلة المختار (3): من
الإجماع، والاستقراء، والأخبار، بناء على أن (4) الشئ المشكوك في بقائه
من جهة الرافع إنما يحكم ببقائه لترتبه على استصحاب عدم وجود
الرافع، لا لاستصحابه في نفسه، فإن الشاك في بقاء الطهارة من جهة
الشك في وجود الرافع يحكم بعدم الرافع، فيحكم من أجله ببقاء
الطهارة.
وحينئذ، فقوله (عليه السلام): " وإلا فإنه على يقين من وضوئه ولا ينقض

(1) في (ر): " ترتب ".
(2) راجع الصفحة 97 - 102.
(3) راجع الصفحة 53 - 55.
(4) في (ر)، (ص) و (ه‍) زيادة: " بقاء "، وفي (ظ) زيادة: " إبقاء ".
108

اليقين بالشك " (1)، وقوله: " لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت
وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين " (2)، وغيرهما مما دل على أن اليقين
لا ينقض أو لا يدفع بالشك، يراد منه أن احتمال طرو الرافع لا يعتنى
به، ولا يترتب عليه أثر النقض، فيكون وجوده كالعدم، فالحكم ببقاء
الطهارة السابقة من جهة استصحاب العدم، لا من جهة استصحابها (3).
والأصل في ذلك: أن الشك في بقاء الشئ إذا كان مسببا عن
الشك في شئ آخر، فلا يجتمع معه في الدخول تحت عموم " لا تنقض "
- سواء تعارض مقتضى اليقين السابق فيهما أم تعاضدا - بل الداخل
هو الشك السببي، ومعنى عدم الاعتناء به زوال الشك المسبب به،
وسيجئ توضيح ذلك (4).
هذا، ولكن يرد عليه: أنه (5) قد يكون الأمر الوجودي أمرا
خارجيا كالرطوبة (6) يترتب عليها آثار شرعية، فإذا شك في وجود
الرافع لها لم يجز أن يثبت به الرطوبة حتى يترتب عليها أحكامها، لما
سيجئ (7): من أن المستصحب لا يترتب عليه إلا آثاره الشرعية

(1) تقدم في الصفحة 56، ضمن صحيحة زرارة الأولى.
(2) تقدم في الصفحة 58، ضمن صحيحة زرارة الثانية.
(3) في (ر) بدل " من جهة استصحابها ": " لاستصحابها ".
(4) انظر الصفحة 394 وما بعدها.
(5) لم ترد " يرد عليه أنه " في (ظ).
(6) في (ظ) زيادة: " و ".
(7) في مباحث الأصل المثبت، الصفحة 233.
109

المترتبة عليه بلا واسطة أمر عقلي أو عادي، فيتعين حينئذ استصحاب
نفس الرطوبة.
وأصالة عدم الرافع: إن أريد بها أصالة عدم ذات الرافع - كالريح
المجفف للرطوبة مثلا - لم ينفع في الأحكام المترتبة شرعا على نفس
الرطوبة، بناء على عدم اعتبار الأصل المثبت، كما سيجئ (1).
وإن أريد بها أصالة عدمه من حيث وصف الرافعية - ومرجعها
إلى أصالة عدم ارتفاع الرطوبة - فهي وإن لم يكن يترتب عليها إلا
الأحكام الشرعية للرطوبة، لكنها عبارة أخرى عن استصحاب نفس
الرطوبة.
فالإنصاف: افتراق القولين في هذا القسم (2).

(1) في مباحث الأصل المثبت، الصفحة 233.
(2) في (ت) و (ه‍) زيادة: " فافهم وانتظر لبقية الكلام ".
110

[حجة القول الرابع] (1)
حجة من أنكر الاستصحاب في الأمور الخارجية ما ذكره (2) المحقق
الخوانساري في شرح الدروس، وحكاه (3) في حاشية له عند كلام
الشهيد: " ويحرم استعمال الماء النجس والمشتبه " - على ما حكاه شارح
الوافية (4) - واستظهره المحقق القمي (قدس سره) من السبزواري، من:
أن الأخبار لا يظهر شمولها للأمور الخارجية - مثل رطوبة الثوب
ونحوها - إذ يبعد أن يكون مرادهم بيان الحكم في مثل هذه الأمور
الذي ليس حكما شرعيا وإن كان يمكن أن يصير منشأ لحكم شرعي،
وهذا ما يقال: إن الاستصحاب في الأمور الخارجية لا عبرة به (5)،
انتهى.
وفيه:
أما أولا: فبالنقض بالأحكام الجزئية، مثل طهارة الثوب من
حيث عدم ملاقاته للنجاسة، ونجاسته من حيث ملاقاته لها، فإن بيانها

(1) العنوان منا.
(2) في (ر) و (ه‍) ونسخة بدل (ص) بدل " ذكره ": " حكاه ".
(3) كذا في النسخ، والظاهر زيادة " وحكاه ".
(4) شرح الوافية (مخطوط): 339، ولكن لم نعثر على تلك الحاشية فيما بأيدينا
من شرح الدروس.
(5) القوانين 2: 63، وراجع ذخيرة المعاد: 115 - 116.
111

أيضا ليس من وظيفة الإمام (عليه السلام)، كما أنه ليس وظيفة المجتهد،
ولا يجوز التقليد فيها، وإنما وظيفته - من حيث كونه مبينا للشرع - بيان
الأحكام الكلية المشتبهة على الرعية (1).
وأما ثانيا: فبالحل، توضيحه: أن بيان الحكم الجزئي في
المشتبهات (2) الخارجية ليس وظيفة للشارع ولا لأحد من قبله. نعم،
حكم المشتبه حكمه الجزئي - كمشكوك النجاسة أو الحرمة - حكم شرعي
كلي ليس بيانه وظيفة إلا للشارع. وكذلك الموضوع الخارجي كرطوبة
الثوب، فإن بيان ثبوتها وانتفائها في الواقع ليس وظيفة للشارع. نعم،
حكم الموضوع المشتبه في الخارج - كالمائع المردد بين الخل والخمر -
حكم كلي ليس بيانه وظيفة إلا للشارع، وقد قال الصادق (عليه السلام): " كل
شئ لك حلال حتى تعلم أنه حرام، وذلك مثل الثوب يكون عليك...
إلى آخره " (3)، وقوله في خبر آخر: " سأخبرك عن الجبن وغيره " (4).
ولعل التوهم نشأ من تخيل: أن ظاهر " لا تنقض " إبقاء نفس
المتيقن السابق، وليس إبقاء الرطوبة مما يقبل حكم الشارع بوجوبه.
ويدفعه - بعد النقض بالطهارة المتيقنة سابقا، فإن إبقاءها ليس من
الأفعال الاختيارية القابلة للإيجاب -: أن المراد من الإبقاء وعدم
النقض، هو ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على المتيقن، فمعنى

(1) لم ترد " المشتبهة على الرعية " في (ظ).
(2) في (ظ): " الشبهات ".
(3) الوسائل 12: 60، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.
(4) الوسائل 17: 90، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 1.
112

استصحاب الرطوبة ترتيب آثارها الشرعية في زمان الشك، نظير
استصحاب الطهارة، فطهارة الثوب ورطوبته سيان في عدم قابلية الحكم
بإبقائهما عند الشك، وفي قابلية الحكم بترتيب آثارهما الشرعية في
زمان الشك، فالتفصيل بين كون المستصحب من قبيل رطوبة الثوب
وكونه من قبيل طهارته - لعدم شمول أدلة " لا تنقض " للأول - في غاية
الضعف.
نعم، يبقى في المقام: أن استصحاب الأمور الخارجية - إذا كان
معناه ترتيب آثارها الشرعية - لا يظهر له فائدة، لأن تلك الآثار
المترتبة عليه (1) كانت مشاركة معه في اليقين السابق، فاستصحابها يغني
عن استصحاب نفس الموضوع، فإن استصحاب حرمة مال زيد الغائب
وزوجته يغني عن استصحاب حياته إذا فرض أن معنى إبقاء الحياة
ترتيب آثارها الشرعية. نعم، قد يحتاج إجراء الاستصحاب في آثاره
إلى أدنى تدبر، كما في الآثار الغير المشاركة معه في اليقين السابق،
مثل: توريث الغائب من قريبه المتوفى في زمان الشك في حياة الغائب،
فإن التوريث غير متحقق حال اليقين بحياة الغائب، لعدم موت قريبه
بعد. لكن مقتضى التدبر إجراء الاستصحاب على وجه التعليق، بأن
يقال: لو مات قريبه قبل الشك في حياته لورث منه، وبعبارة أخرى:
موت قريبه قبل ذلك كان ملازما لإرثه منه ولم يعلم انتفاء الملازمة
فيستصحب.
وبالجملة: الآثار المترتبة على الموضوع الخارجي، منها ما يجتمع

(1) لم ترد " عليه " في (ه‍).
113

معه في زمان اليقين به، ومنها ما لا يجتمع معه في ذلك الزمان، لكن
عدم الترتب فعلا في ذلك الزمان - مع فرض كونه من آثاره شرعا -
ليس إلا لمانع في ذلك الزمان أو لعدم شرط، فيصدق في ذلك الزمان
أنه لولا ذلك المانع أو عدم الشرط لترتب الآثار، فإذا فقد المانع
الموجود أو وجد الشرط المفقود، وشك في الترتب من جهة الشك في
بقاء ذلك الأمر الخارجي، حكم باستصحاب ذلك الترتب الشأني.
وسيأتي لذلك مزيد توضيح في بعض التنبيهات الآتية (1).
هذا، ولكن التحقيق: أن في موضع (2) جريان الاستصحاب في
الأمر الخارجي لا يجري استصحاب الأثر المترتب عليه، فإذا شك في
بقاء حياة زيد فلا سبيل إلى إثبات آثار حياته إلا بحكم الشارع بعدم
جواز نقض حياته، بمعنى وجوب ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على
الشخص الحي، ولا يغني عن ذلك إجراء الاستصحاب في نفس الآثار،
بأن يقال: إن حرمة ماله وزوجته كانت متيقنة، فيحرم نقض اليقين
بالشك، لأن حرمة المال والزوجة إنما تترتبان في السابق على الشخص
الحي بوصف أنه حي، فالحياة داخل في موضوع المستصحب - ولا أقل
من الشك في ذلك (3) - فالموضوع مشكوك (4) في الزمن اللاحق، وسيجئ
اشتراط القطع ببقاء الموضوع في الاستصحاب (5). واستصحاب الحياة

(1) في مبحث الاستصحاب التعليقي، الصفحة 221.
(2) في (ر)، (ه‍) ونسخة بدل (ص) بدل " موضع ": " مورد ".
(3) لم ترد " ولا أقل... ذلك " في (ر)، وكتب عليها في (ص): " نسخة ".
(4) في (ر) ونسخة بدل (ص) بدل " فالموضوع مشكوك ": " وهي مشكوكة ".
(5) انظر الصفحة 291.
114

لإحراز الموضوع في استصحاب الآثار غلط، لأن معنى استصحاب
الموضوع ترتيب آثاره الشرعية.
فتحقق: أن استصحاب الآثار نفسها غير صحيح، لعدم إحراز
الموضوع، واستصحاب الموضوع كاف في إثبات الآثار. وقد مر في
مستند التفصيل السابق (1)، وسيجئ في اشتراط بقاء الموضوع (2)، وفي
تعارض الاستصحابين (3) (4): أن الشك المسبب عن شك آخر لا يجامع
معه في الدخول تحت عموم " لا تنقض "، بل الداخل هو الشك السببي،
ومعنى عدم الاعتناء به وعدم جعله ناقضا لليقين، زوال الشك المسبب
به، فافهم.

(1) راجع الصفحة 109.
(2) في الصفحة 289.
(3) في الصفحة 395.
(4) في (ت)، (ظ) و (ه‍) بدل " وقد مر - إلى - الاستصحابين ": " وقد أشرنا في
ما مر ونزيد توضيحه فيما سيجئ ".
115

[حجة القول الخامس] (1)
وأما القول الخامس - وهو التفصيل بين الحكم الشرعي الكلي
وبين غيره، فلا يعتبر في الأول - فهو المصرح به في كلام المحدث
الاسترآبادي، لكنه صرح باستثناء استصحاب عدم النسخ (2) مدعيا
الإجماع بل الضرورة على اعتباره. قال في محكي فوائده المكية (3) - بعد
ذكر أخبار الاستصحاب - ما لفظه:
لا يقال: هذه القاعدة تقتضي جواز العمل بالاستصحاب في
أحكام الله تعالى - كما ذهب إليه المفيد والعلامة من أصحابنا، والشافعية
قاطبة - وتقتضي بطلان قول أكثر علمائنا والحنفية بعدم جواز العمل به.
لأنا نقول: هذه شبهة عجز عن جوابها كثير من فحول
الأصوليين والفقهاء، وقد أجبنا عنها في الفوائد المدنية (4):
تارة، بما ملخصه: أن صور الاستصحاب المختلف فيها - عند النظر
الدقيق والتحقيق - راجعة إلى أنه إذا ثبت حكم بخطاب شرعي في موضوع
في حال من حالاته، نجريه في ذلك الموضوع عند زوال الحالة القديمة
وحدوث نقيضها فيه. ومن المعلوم أنه إذا تبدل قيد موضوع المسألة

(1) العنوان منا.
(2) تقدم تصريحه بذلك في الصفحة 31.
(3) حكاه الفاضل التوني في الوافية: 212.
(4) الفوائد المدنية: 143.
116

بنقيض ذلك القيد اختلف موضوع المسألتين، فالذي سموه استصحابا
راجع في الحقيقة إلى إسراء حكم موضوع إلى موضوع آخر متحد معه
في الذات مختلف معه في الصفات، ومن المعلوم عند الحكيم أن هذا
المعنى غير معتبر شرعا وأن القاعدة الشريفة المذكورة غير شاملة له.
وتارة: بأن استصحاب الحكم الشرعي، وكذا الأصل - أي الحالة
التي إذا خلي الشئ ونفسه كان عليها - إنما يعمل بهما ما لم يظهر مخرج
عنهما، وقد ظهر في محل النزاع، لتواتر الأخبار: بأن كل ما يحتاج إليه
الأمة ورد فيه خطاب وحكم حتى أرش الخدش (1)، وكثير مما ورد
مخزون عند أهل الذكر (عليهم السلام)، فعلم أنه ورد في محل النزاع أحكام
لا نعلمها بعينها، وتواتر الأخبار بحصر المسائل في ثلاث: بين رشده،
وبين غيه - أي مقطوع فيه ذلك، لا ريب فيه -، وما ليس هذا ولا ذاك،
وبوجوب التوقف في الثالث (2)، انتهى.
أقول: لا يخفى أن ما ذكره أولا قد استدل به كل من نفى
الاستصحاب من أصحابنا، وأوضحوا ذلك غاية الإيضاح، كما يظهر لمن
راجع الذريعة (3) والعدة (4) والغنية (5) وغيرها (6)، إلا أنهم منعوا من إثبات

(1) الوسائل 19: 272، الباب 48 من أبواب ديات الأعضاء، الحديث الأول،
وراجع لتفصيل الروايات، البحار 26: 18 - 66، باب جهات علومهم....
(2) الفوائد المكية (مخطوط): الورقة 103.
(3) الذريعة 2: 830.
(4) العدة 2: 757.
(5) الغنية (الجوامع الفقهية): 486.
(6) انظر المعتبر 1: 32.
117

الحكم الثابت لموضوع في زمان، له بعينه في زمان آخر، من دون تغير
واختلاف في صفة الموضوع سابقا ولاحقا - كما يشهد له تمثيلهم بعدم
الاعتماد على حياة زيد أو بقاء البلد على ساحل البحر بعد الغيبة عنهما -
وأهملوا (1) قاعدة " البناء على اليقين السابق "، لعدم دلالة العقل عليه
ولا النقل، بناء على عدم التفاتهم إلى الأخبار المذكورة، لقصور دلالتها
عندهم ببعض ما أشرنا إليه سابقا (2)، أو لغفلتهم عنها، على أبعد
الاحتمالات (3) عن ساحة من هو دونهم في الفضل.
وهذا المحدث قد سلم دلالة الأخبار على وجوب البناء على اليقين
السابق وحرمة نقضه مع اتحاد الموضوع (4)، إلا أنه ادعى تغاير موضوع
المسألة المتيقنة والمسألة المشكوكة، فالحكم فيها بالحكم السابق ليس بناء
على اليقين السابق، وعدم الحكم به ليس نقضا له.
فيرد عليه:
أولا: النقض بالموارد التي ادعى الإجماع والضرورة على اعتبار
الاستصحاب فيها - كما حكيناها عنه سابقا (5) - فإن منها: استصحاب
الليل والنهار، فإن كون الزمان المشكوك ليلا أو نهارا أشد تغايرا
واختلافا مع كون الزمان السابق كذلك، من ثبوت خيار الغبن أو

(1) في (ت) و (ه‍) بدل " أهملوا ": " منعوا ".
(2) راجع الصفحة 71.
(3) في (ص): " الاحتمالين ".
(4) كتب في (ت) فوق " مع اتحاد الموضوع ": " زائد ".
(5) راجع الصفحة 44.
118

الشفعة في الزمان المشكوك وثبوتهما في الزمان السابق.
ولو أريد من الليل والنهار طلوع الفجر وغروب الشمس لا نفس
الزمان، كان الأمر كذلك - وإن كان دون الأول في الظهور - لأن مرجع
الطلوع والغروب إلى الحركة الحادثة شيئا فشيئا.
ولو أريد استصحاب أحكامهما، مثل: جواز الأكل والشرب
وحرمتهما، ففيه: أن ثبوتهما (1) في السابق كان منوطا ومتعلقا في الأدلة
الشرعية بزماني الليل والنهار، فإجراؤهما مع الشك في تحقق الموضوع
بمنزلة ما أنكره على القائلين بالاستصحاب، من إسراء (2) الحكم من
موضوع إلى موضوع آخر.
وبما ذكرنا يظهر: ورود النقض المذكور عليه في سائر الأمثلة،
فأي فرق بين الشك في تحقق الحدث أو الخبث بعد الطهارة - الذي
جعل الاستصحاب فيه من ضروريات الدين -، وبين الشك في كون
المذي محكوما شرعا برافعية الطهارة؟! فإن الطهارة السابقة في كل منهما
كان منوطا بعدم تحقق الرافع، وهذا المناط في زمان الشك غير متحقق،
فكيف يسري حكم حالة وجود المناط إليه؟!
وثانيا: بالحل، بأن اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة - الذي يتوقف
صدق البناء على اليقين و (3) نقضه بالشك عليه - أمر راجع إلى العرف،
لأنه المحكم في باب الألفاظ، ومن المعلوم أن الخيار أو الشفعة إذا ثبت

(1) في (ظ): " ثبوتها ".
(2) كذا في نسخة بدل (ص)، وفي النسخ بدل " إسراء ": " إجراء ".
(3) في (ت) و (ه‍) زيادة: " عدم ".
119

في الزمان الأول وشك في ثبوتهما في الزمان الثاني، يصدق عرفا أن
القضية المتيقنة في الزمان الأول بعينها مشكوكة في الزمان الثاني.
نعم، قد يتحقق في بعض الموارد الشك في إحراز الموضوع للشك
في مدخلية الحالة المتبدلة فيه. فلا بد من التأمل التام، فإنه من أعظم
المزال في هذا المقام.
وأما ما ذكره ثانيا: من معارضة قاعدة اليقين والأصل بما دل
على التوقف.
ففيه - مضافا إلى ما حققناه في أصل البراءة، من ضعف دلالة
الأخبار على وجوب الاحتياط (1)، وإنما تدل على وجوب التحرز عن
موارد الهلكة الدنيوية أو الأخروية، والأخيرة مختصة بموارد حكم العقل
بوجوب الاحتياط من جهة القطع بثبوت العقاب إجمالا وتردده بين
المحتملات -: أن أخبار الاستصحاب حاكمة على أدلة الاحتياط - على
تقدير دلالة الأخبار عليه أيضا - كما سيجئ (2) في مسألة تعارض
الاستصحاب مع سائر الأصول إن شاء الله تعالى.
ثم إن ما ذكره: من أنه شبهة عجز عن جوابها الفحول، مما
لا يخفى ما فيه، إذ أي أصولي أو فقيه تعرض لهذه الأخبار وورود هذه
الشبهة فعجز عن جوابها؟! مع أنه لم يذكر في الجواب الأول عنها إلا
ما اشتهر بين النافين للاستصحاب، ولا في الجواب الثاني إلا ما اشتهر
بين الأخباريين: من وجوب التوقف والاحتياط في الشبهة الحكمية.

(1) راجع مبحث البراءة 2: 63 - 86.
(2) انظر الصفحة 391.
120

[حجة القول السادس] (1)
حجة القول السادس - على تقدير وجود القائل به، على ما سبق
التأمل (2) فيه (3) - تظهر مع جوابها مما تقدم في القولين السابقين (4).
[حجة القول السابع] (5)
حجة القول السابع - الذي نسبه الفاضل التوني (قدس سره) إلى نفسه،
وإن لم يلزم مما حققه في كلامه -: (6) ما ذكره في كلام طويل له (7)، فإنه
بعد الإشارة إلى الخلاف في المسألة، قال:
ولتحقيق المقام لا بد من إيراد كلام يتضح به حقيقة الحال،

(1) العنوان منا.
(2) في (ر) و (ص): " من التأمل ".
(3) راجع الصفحة 34 - 35.
(4) فحجة عدم حجيته في الحكم الكلي هي حجة القول الخامس المتقدمة في
الصفحة 116، وحجة عدم حجيته في الأمور الخارجية هو ما نقله في بيان
الدليل الرابع في الصفحة 111، من: أن الأخبار لا يظهر شمولها للأمور الخارجية.
(5) العنوان منا.
(6) في (ه‍) زيادة: " هو ما ذكره في الوافية ".
(7) لم ترد " ما ذكره في كلام طويل له " في (ت) و (ظ)، ولكن ورد بدلها في
(ت): " هو ما ذكره في الوافية ".
121

فنقول: الأحكام الشرعية تنقسم إلى ستة أقسام:
الأول والثاني: الأحكام الاقتضائية المطلوب فيها الفعل، وهي
الواجب والمندوب.
والثالث والرابع: الأحكام الاقتضائية المطلوب فيها الترك، وهي
الحرام والمكروه.
والخامس: الأحكام التخييرية الدالة على الإباحة.
والسادس: الأحكام الوضعية، كالحكم على الشئ بأنه سبب لأمر
أو شرط له أو مانع له. والمضايقة بمنع أن الخطاب الوضعي داخل في
الحكم الشرعي، مما لا يضر فيما نحن بصدده.
إذا عرفت هذا، فإذا ورد أمر بطلب شئ، فلا يخلو إما أن
يكون موقتا أم لا.
وعلى الأول، يكون وجوب ذلك الشئ أو ندبه في كل جزء من
أجزاء ذلك الوقت ثابتا بذلك الأمر، فالتمسك في ثبوت ذلك الحكم في
الزمان الثاني بالنص، لا بالثبوت في الزمان الأول حتى يكون
استصحابا، وهو ظاهر.
وعلى الثاني، أيضا كذلك إن قلنا بإفادة الأمر التكرار، وإلا فذمة
المكلف مشغولة حتى يأتي به في أي زمان كان. ونسبة أجزاء الزمان
إليه نسبة واحدة في كونه أداء في كل جزء منها، سواء قلنا بأن الأمر
للفور أم لا.
والتوهم: بأن الأمر إذا كان للفور يكون من قبيل الموقت
المضيق، اشتباه غير خفي على المتأمل.
فهذا أيضا ليس من الاستصحاب في شئ.
122

ولا يمكن أن يقال: إثبات الحكم في القسم الأول فيما بعد وقته
من الاستصحاب، فإن هذا لم يقل به أحد، ولا يجوز إجماعا.
وكذا الكلام في النهي، بل هو الأولى بعدم توهم الاستصحاب
فيه، لأن مطلقه يفيد التكرار.
والتخييري أيضا كذلك.
فالأحكام التكليفية الخمسة المجردة عن الأحكام الوضعية لا يتصور
فيها الاستدلال بالاستصحاب.
وأما الأحكام الوضعية، فإذا جعل الشارع شيئا سببا لحكم من
الأحكام الخمسة - كالدلوك لوجوب الظهر، والكسوف لوجوب صلاته،
والزلزلة لصلاتها، والإيجاب والقبول لإباحة التصرفات والاستمتاعات
في الملك والنكاح، وفيه لتحريم أم الزوجة، والحيض والنفاس لتحريم
الصوم والصلاة، إلى غير ذلك - فينبغي أن ينظر إلى كيفية سببية
السبب: هل هي على الإطلاق؟ كما في الإيجاب والقبول، فإن سببيته
على نحو خاص، وهو الدوام إلى أن يتحقق المزيل، وكذا الزلزلة، أو في
وقت معين؟ كالدلوك ونحوه مما لم يكن السبب وقتا، وكالكسوف
والحيض ونحوهما مما يكون السبب وقتا للحكم، فإن السببية في هذه
الأشياء على نحو آخر، فإنها أسباب للحكم في أوقات معينة.
وجميع ذلك ليس من الاستصحاب في شئ، فإن ثبوت الحكم في
شئ من أجزاء الزمان الثابت فيه الحكم، ليس تابعا للثبوت في جزء
آخر، بل نسبة السبب في اقتضاء الحكم في كل جزء نسبة واحدة. وكذا
الكلام في الشرط والمانع.
فظهر مما ذكرناه: أن الاستصحاب المختلف فيه لا يكون إلا في
123

الأحكام الوضعية - أعني، الأسباب والشرائط والموانع للأحكام الخمسة
من حيث إنها كذلك - ووقوعه في الأحكام الخمسة إنما هو بتبعيتها، كما
يقال في الماء الكر المتغير بالنجاسة إذا زال تغيره من قبل نفسه، بأنه
يجب الاجتناب عنه في الصلاة، لوجوبه قبل زوال تغيره، فإن مرجعه
إلى أن النجاسة كانت ثابتة قبل زوال تغيره، فكذلك تكون بعده.
ويقال في المتيمم إذا وجد الماء في أثناء الصلاة: إن صلاته كانت
صحيحة قبل الوجدان، فكذا بعده - أي: كان مكلفا ومأمورا بالصلاة
بتيممه قبله، فكذا بعده - فإن مرجعه إلى أنه كان متطهرا قبل وجدان
الماء، فكذا بعده. والطهارة من الشروط.
فالحق - مع قطع النظر عن الروايات -: عدم حجية الاستصحاب،
لأن العلم بوجود السبب أو الشرط أو المانع في وقت لا يقتضي العلم
بل ولا الظن بوجوده في غير ذلك الوقت، كما لا يخفى. فكيف يكون
الحكم المعلق عليه ثابتا في غير ذلك الوقت؟!
فالذي يقتضيه النظر - بدون ملاحظة الروايات -: أنه إذا علم
تحقق العلامة الوضعية تعلق الحكم بالمكلف، وإذا زال ذلك العلم بطرو
الشك - بل الظن أيضا - يتوقف عن الحكم بثبوت ذلك الحكم الثابت
أولا، إلا أن الظاهر من الأخبار أنه إذا علم وجود شئ، فإنه يحكم به
حتى يعلم زواله (1). انتهى كلامه، رفع مقامه.
وفي كلامه أنظار يتوقف بيانها على ذكر كل فقرة هي مورد
للنظر، ثم توضيح النظر فيه بما يخطر في الذهن القاصر، فنقول:

(1) الوافية: 200 - 203.
124

قوله أولا: " والمضايقة بمنع أن الخطاب الوضعي داخل في الحكم
الشرعي، لا يضر فيما نحن بصدده ".
فيه: أن المنع المذكور لا يضر فيما يلزم من تحقيقه الذي ذكره
- وهو اعتبار الاستصحاب في موضوعات الأحكام الوضعية، أعني نفس
السبب والشرط والمانع - وإنما يضر (1) في التفصيل بين الأحكام
الوضعية - أعني سببية السبب وشرطية الشرط - والأحكام التكليفية.
وكيف لا يضر في هذا التفصيل منع كون الحكم الوضعي حكما مستقلا،
وتسليم أنه أمر اعتباري منتزع من التكليف، تابع له حدوثا وبقاء؟!
وهل يعقل التفصيل مع هذا المنع؟!
[الكلام في الأحكام الوضعية] (2)
ثم إنه لا بأس بصرف الكلام إلى بيان أن الحكم الوضعي حكم
مستقل مجعول - كما اشتهر في ألسنة جماعة (3) - أو لا، وإنما مرجعه إلى
الحكم التكليفي؟ فنقول:

(1) كذا في (ص)، وفي غيرها بدل " وإنما يضر ": " لا ".
(2) العنوان منا.
(3) منهم: العلامة في النهاية (مخطوط): 9، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد:
37، والشيخ البهائي في الزبدة: 30، والفاضل التوني في الوافية: 202،
والوحيد البهبهاني في الفوائد الحائرية: 95، والسيد بحر العلوم في فوائده: 3،
وكذا يظهر من القوانين 2: 54 و 1: 100، وهداية المسترشدين: 3، وإشارات
الأصول: 6، والفصول: 2.
125

المشهور (1) - كما في شرح الزبدة (2) - بل الذي استقر عليه رأي
المحققين - كما في شرح الوافية للسيد صدر الدين (3) -: أن الخطاب
الوضعي مرجعه إلى الخطاب الشرعي، وأن كون الشئ سببا لواجب
هو الحكم بوجوب ذلك الواجب عند حصول ذلك الشئ، فمعنى قولنا:
" إتلاف الصبي سبب لضمانه "، أنه يجب عليه غرامة المثل أو القيمة إذا
اجتمع فيه شرائط التكليف من البلوغ والعقل واليسار وغيرها، فإذا
خاطب الشارع البالغ العاقل الموسر بقوله: " أغرم ما أتلفته في حال
صغرك "، انتزع من هذا الخطاب معنى يعبر عنه بسببية الإتلاف للضمان،
ويقال: إنه ضامن، بمعنى أنه يجب عليه الغرامة عند اجتماع شرائط التكليف.
ولم يدع أحد إرجاع الحكم الوضعي إلى التكليف (4) الفعلي المنجز
حال استناد الحكم الوضعي إلى الشخص، حتى يدفع ذلك بما ذكره
بعض من غفل عن مراد النافين (5): من أنه قد يتحقق الحكم الوضعي
في مورد غير قابل للحكم التكليفي، كالصبي والنائم وشبههما.

(1) من جملة المشهور: الشهيد الأول في الذكرى 1: 40، والقواعد والفوائد 1:
30، والمحقق الخوانساري في مشارق الشموس: 76 وستأتي عبارته، وشريف
العلماء في تقريرات درسه في ضوابط الأصول: 6، مضافا إلى شارحي الزبدة
والوافية كما أشير إليهما، وغيرهم.
(2) غاية المأمول في شرح زبدة الأصول، للفاضل الجواد (مخطوط): الورقة 59.
(3) شرح الوافية (مخطوط): 350.
(4) في (ت) و (ظ): " التكليفي ".
(5) هو المحقق الكلباسي في إشارات الأصول: 7.
126

وكذا الكلام في غير السبب، فإن شرطية الطهارة للصلاة ليست
مجعولة بجعل مغاير لإنشاء وجوب الصلاة الواقعة حال الطهارة، وكذا
مانعية النجاسة ليست إلا منتزعة من المنع عن الصلاة في النجس، وكذا
الجزئية منتزعة من الأمر بالمركب.
والعجب ممن ادعى (1) بداهة بطلان ما ذكرنا، مع ما عرفت من
أنه المشهور والذي استقر عليه رأي المحققين. فقال (قدس سره) في شرحه على
الوافية - تعريضا على السيد الصدر -:
وأما من زعم أن الحكم الوضعي عين الحكم التكليفي - على ما
هو ظاهر قولهم: " إن كون الشئ سببا لواجب هو الحكم بوجوب ذلك
الواجب عند حصول ذلك الشئ " - فبطلانه غني عن البيان، إذ الفرق
بين الوضع والتكليف مما لا يخفى على من له أدنى مسكة، والتكاليف
المبنية على الوضع غير الوضع، والكلام إنما هو في نفس الوضع والجعل
والتقرير.
وبالجملة: فقول الشارع: " دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة "
و " الحيض مانع منها "، خطاب وضعي وإن استتبع تكليفا وهو إيجاب
الصلاة عند الزوال وتحريمها عند الحيض، كما أن قوله تعالى: * (أقم
الصلاة لدلوك الشمس) * (2)، وقوله: " دعي الصلاة أيام أقرائك " (3)،
خطاب تكليفي وإن استتبع وضعا، وهو كون الدلوك سببا والإقراء مانعا.

(1) وهو المحقق الكاظمي المعروف بالسيد الأعرجي.
(2) الإسراء: 78.
(3) الوسائل 2: 546، الباب 7 من أبواب الحيض، الحديث 2.
127

والحاصل: أن هناك أمرين متباينين، كل منهما فرد للحكم،
فلا يغني استتباع أحدهما للآخر عن مراعاته واحتسابه في عداد
الأحكام. انتهى كلامه، رفع مقامه (1).
أقول: لو فرض نفسه حاكما بحكم تكليفي ووضعي بالنسبة إلى
عبده لوجد من نفسه صدق ما ذكرنا، فإنه إذا قال لعبده: " أكرم زيدا
إن جاءك "، فهل يجد المولى من نفسه أنه أنشأ إنشاءين وجعل أمرين:
أحدهما: وجوب إكرام زيد عند مجيئه، والآخر: كون مجيئه سببا
لوجوب إكرامه؟ أو أن الثاني مفهوم منتزع من الأول لا يحتاج إلى
جعل مغاير لجعله (2) ولا إلى بيان مخالف لبيانه، ولهذا اشتهر في ألسنة
الفقهاء " سببية الدلوك " و " مانعية الحيض "، ولم يرد من الشارع إلا
إنشاء طلب الصلاة عند الأول، وطلب تركها عند الثاني؟
فإن أراد تباينهما مفهوما فهو أظهر من أن يخفى، كيف! وهما
محمولان مختلفا الموضوع.
وإن أراد كونهما مجعولين بجعلين، فالحوالة على الوجدان
لا البرهان.
وكذا لو أراد كونهما مجعولين بجعل واحد، فإن الوجدان شاهد
على أن السببية والمانعية في المثالين اعتباران منتزعان، كالمسببية
والمشروطية والممنوعية، مع أن قول الشارع: " دلوك الشمس سبب
لوجوب الصلاة " ليس جعلا للإيجاب استتباعا - كما ذكره - بل هو

(1) الوافي في شرح الوافية (مخطوط): الورقة 243.
(2) في (ص) زيادة: " الأولي ".
128

إخبار عن تحقق الوجوب عند الدلوك.
هذا كله، مضافا إلى أنه لا معنى لكون السببية مجعولة فيما نحن
فيه حتى يتكلم أنه بجعل مستقل أو لا، فإنا لا نعقل من جعل الدلوك
سببا للوجوب - خصوصا عند من لا يرى (كالأشاعرة) الأحكام
منوطة بالمصالح والمفاسد الموجودة في الأفعال - إلا إنشاء الوجوب عند
الدلوك، وإلا فالسببية القائمة بالدلوك ليست من لوازم ذاته، بأن (1)
يكون فيه معنى يقتضي إيجاب الشارع فعلا عند حصوله، ولو كانت لم
تكن مجعولة من الشارع، ولا نعقلها أيضا صفة أوجدها الشارع فيه
باعتبار الفصول المنوعة ولا (2) الخصوصيات المصنفة والمشخصة.
هذا كله في السبب والشرط والمانع والجزء.
وأما الصحة والفساد، فهما في العبادات: موافقة الفعل المأتي به
للفعل المأمور به ومخالفته له، ومن المعلوم أن هاتين - الموافقة والمخالفة -
ليستا بجعل جاعل.
وأما في المعاملات، فهما: ترتب الأثر عليها وعدمه، فمرجع ذلك
إلى سببية هذه المعاملة لأثرها وعدم سببية تلك (3).
فإن لوحظت المعاملة سببا لحكم تكليفي - كالبيع لإباحة التصرفات،
والنكاح لإباحة الاستمتاعات - فالكلام فيها يعرف مما سبق في السببية
وأخواتها.

(1) في (ه‍) بدل " بأن ": " بل ".
(2) في (ص) شطب على " لا ".
(3) في (ت) و (ه‍) زيادة: " له ".
129

وإن لوحظت سببا لأمر آخر - كسببية البيع للملكية، والنكاح
للزوجية، والعتق للحرية، وسببية الغسل للطهارة - فهذه الأمور بنفسها
ليست أحكاما شرعية. نعم، الحكم بثبوتها شرعي. وحقائقها إما أمور
اعتبارية منتزعة من الأحكام التكليفية - كما يقال: الملكية كون الشئ
بحيث يجوز الانتفاع به وبعوضه، والطهارة كون الشئ بحيث يجوز
استعماله في الأكل والشرب والصلاة، نقيض النجاسة - وإما أمور واقعية
كشف عنها الشارع.
فأسبابها على الأول - في الحقيقة - أسباب للتكاليف، فتصير سببية
تلك الأسباب (1) كمسبباتها أمورا انتزاعية.
وعلى الثاني، يكون أسبابها كنفس المسببات أمورا واقعية مكشوفا
عنها ببيان الشارع.
وعلى التقديرين فلا جعل في سببية هذه الأسباب.
ومما ذكرنا تعرف الحال في غير المعاملات من أسباب هذه
الأمور، كسببية الغليان في العصير للنجاسة، وكالملاقاة لها، والسبي
للرقية، والتنكيل للحرية، والرضاع لانفساخ الزوجية، وغير ذلك. فافهم
وتأمل في المقام، فإنه من مزال الأقدام.
* * *
قوله (2): " وعلى الأول يكون وجوب ذلك الشئ أو ندبه في كل
جزء من أجزاء ذلك الوقت ثابتا بذلك الأمر، فالتمسك في ثبوت الحكم

(1) في (ه‍) زيادة: " في العادة ".
(2) رجوع إلى مناقشة كلام الفاضل التوني (قدس سره).
130

في الزمان الثاني بالنص، لا بثبوته في الزمان الأول حتى يكون
استصحابا ".
أقول: فيه: أن الموقت قد يتردد وقته بين زمان وما بعده
فيجري الاستصحاب.
وأورد عليه تارة: بأن الشك قد يكون في النسخ (1).
وأخرى: بأن الشك قد يحصل في التكليف كمن شك في وجوب
إتمام الصوم لحصول مرض يشك في كونه مبيحا للإفطار (2).
وثالثة: بأنه قد يكون أول الوقت وآخره معلوما ولكنه يشك في
حدوث الآخر والغاية، فيحتاج المجتهد في الحكم بالوجوب أو الندب أو
الحكم بعدمهما عند عروض ذلك الشك إلى دليل عقلي أو نقلي غير
ذلك الأمر (3).
هذا، ولكن الإنصاف: عدم ورود شئ من ذلك عليه.
أما الشك في النسخ، فهو خارج عما نحن فيه، لأن كلامه في
الموقت من حيث الشك في بعض أجزاء الوقت، كما إذا شك في جزء
مما بين الظهر والعصر في الحكم المستفاد من قوله: " اجلس في المسجد
من الظهر إلى العصر "، وهو الذي ادعى أن وجوبه في الجزء المشكوك
ثابت بنفس الدليل.
وأما الشك في ثبوت هذا الحكم الموقت لكل يوم أو نسخه في

(1) هذا الإيراد للمحقق الكاظمي في الوافي (مخطوط): الورقة 244.
(2) هذا الإيراد للمحقق القمي في القوانين 2: 53.
(3) هذا الإيراد للسيد الصدر في شرح الوافية (مخطوط): 351.
131

هذا اليوم، فهو شك لا من حيث توقيت الحكم، بل من حيث نسخ
الموقت.
فإن وقع الشك في النسخ الاصطلاحي لم يكن استصحاب عدمه
من الاستصحاب المختلف فيه، لأن إثبات الحكم في الزمان الثاني، لعموم
الأمر الأول للأزمان ولو كان فهم هذا العموم من استمرار طريقة
الشارع، بل كل شارع (1) على إرادة دوام الحكم ما دامت تلك الشريعة،
لا من (2) عموم لفظي زماني.
وكيف كان، فاستصحاب عدم النسخ لدفع احتمال حصول
التخصيص (3) في الأزمان، كاستصحاب عدم التخصيص لدفع احتمال
المخصص في الأفراد، واستصحاب عدم التقييد لدفع إرادة المقيد من
المطلق.
والظاهر: أن مثل هذا لا مجال لإنكاره، وليس إثباتا للحكم في
الزمان الثاني لوجوده في الزمان الأول، بل لعموم دليله الأول، كما
لا يخفى.
وبالجملة: فقد صرح هذا المفصل بأن الاستصحاب المختلف فيه
لا يجري في التكليفيات، ومثل هذا الاستصحاب مما انعقد على اعتباره
الإجماع بل الضرورة، كما تقدم في كلام المحدث الاسترآبادي (4).

(1) في (ظ) بدل " شارع ": " آمر ".
(2) في (ظ) زيادة: " حيث ".
(3) في (ر)، (ظ) و (ه‍) بدل " حصول التخصيص ": " خصوص المخصص ".
(4) تقدم كلامه في الصفحة 28 و 44.
132

ولو فرض الشك في النسخ في (1) حكم لم يثبت له من دليله
ولا من الخارج عموم زماني (2)، فهو خارج عن النسخ الاصطلاحي،
داخل فيما ذكره: من أن الأمر إذا لم يكن للتكرار يكفي فيه المرة،
ولا وجه للنقض به في مسألة الموقت، فتأمل (3).
وأما الشك في تحقق المانع - كالمرض المبيح للإفطار، والسفر
الموجب له وللقصر، والضرر المبيح لتناول المحرمات - فهو الذي ذكره
المفصل في آخر كلامه بجريان الاستصحاب في الحكم التكليفي تبعا
للحكم الوضعي، فإن السلامة من المرض الذي يضر به الصوم شرط في
وجوبه، وكذا الحضر، وكذا الأمن من الضرر في ترك المحرم، فإذا شك
في وجود شئ من ذلك استصحب الحالة السابقة له وجودا أو عدما،
ويتبعه بقاء الحكم التكليفي السابق، بل (4) قد عرفت فيما مر (5) عدم (6)
جريان الاستصحاب في الحكم التكليفي إلا مع قطع النظر عن
استصحاب موضوعه، وهو (7) الحكم الوضعي في المقام.

(1) في (ه‍) و (ت) بدل " النسخ في ": " ارتفاع "، وفي (ر): " في نسخ حكم ".
(2) في (ظ) زيادة: " دخل في الاستصحاب المختلف فيه ".
(3) لم ترد " فتأمل " في (ظ) وشطب عليها في (ص).
(4) في (ص) بدل " بل ": " و ".
(5) راجع الصفحة 113 - 115.
(6) في (ر) ونسخة بدل (ص) بدل " بل قد عرفت فيما مر عدم ": " بل يمكن أن
يقال بعدم ".
(7) لم ترد " موضوعه وهو " في (ر)، وفي (ص) كتب عليها: " نسخة ".
133

مثلا: إذا أوجب الشارع الصوم إلى الليل على المكلف بشرط
سلامته من المرض الذي يتضرر بالصوم، فإذا شك في بقائها وحدوث
المرض المذكور وأحرز الشرط أو عدم المانع (1) بالاستصحاب أغنى عن
استصحاب المشروط، بل لم يبق مجرى له، لأن معنى استصحاب الشرط
وعدم المانع (2) ترتيب آثار وجوده، وهو ثبوت المشروط مع فرض
وجود باقي العلل الناقصة، وحينئذ فلا يبقى الشك في بقاء المشروط (3).
وبعبارة أخرى: الشك في بقاء المشروط مسبب عن الشك في بقاء
الشرط، والاستصحاب في الشرط وجودا أو عدما مبين لبقاء المشروط
أو ارتفاعه، فلا يجري فيه الاستصحاب، لا معارضا لاستصحاب
الشرط، لأنه مزيل له، ولا معاضدا، كما فيما نحن فيه.
وسيتضح ذلك في مسألة الاستصحاب في الأمور الخارجية (4)، وفي
بيان اشتراط الاستصحاب ببقاء الموضوع إن شاء الله تعالى (5).
ومما ذكرنا يظهر الجواب عن النقض الثالث عليه - بما إذا كان
الشك في بقاء الوقت المضروب للحكم التكليفي - فإنه إن جرى معه
استصحاب الوقت أغنى عن استصحاب الحكم التكليفي - كما عرفت في
الشرط - فإن الوقت شرط أو سبب، وإلا لم يجر استصحاب الحكم

(1) لم ترد " أو عدم المانع " في (ت) و (ظ).
(2) لم ترد " وعدم المانع " في (ت) و (ظ).
(3) لم ترد " مع فرض - إلى - المشروط " في (ظ).
(4) تقدم الكلام عن الاستصحاب في الأمور الخارجية في الصفحة 111.
(5) انظر الصفحة 189.
134

التكليفي (1)، لأنه كان متحققا بقيد ذلك الوقت (2).
فالصوم (3) المقيد وجوبه (4) بكونه في النهار لا ينفع استصحاب
وجوبه في الزمان المشكوك كونه من النهار، وأصالة بقاء الحكم المقيد
بالنهار في هذا الزمان لا يثبت كون هذا الزمان نهارا، كما سيجئ
توضيحه في نفي الأصول المثبتة إن شاء الله (5).
اللهم إلا أن يقال: إنه يكفي في الاستصحاب تنجز التكليف سابقا
وإن كان لتعليقه على أمر حاصل، فيقال عرفا إذا ارتفع الاستطاعة
المعلق عليها وجوب الحج: إن الوجوب ارتفع. فإذا شك في ارتفاعها
يكون شكا في ارتفاع الحكم المتنجز وبقائه وإن كان الحكم المعلق
لا يرتفع بارتفاع المعلق عليه، لأن ارتفاع الشرط لا يوجب ارتفاع
الشرطية، إلا أن استصحاب وجود ذلك الأمر المعلق عليه كاف في عدم
جريان الاستصحاب المذكور، فإنه حاكم عليه، كما ستعرف.
نعم لو فرض في مقام (6) عدم جريان الاستصحاب في الشك في
الوقت، كما لو كان الوقت مرددا بين أمرين - كذهاب الحمرة واستتار

(1) في نسخة بدل (ص) زيادة: " أيضا ".
(2) في (ظ) زيادة: " وبقاؤه على هذا الوجه من التقييد لا يوجب تحقق القيد
وإحرازه، والشك في القيد يوجب الشك في المقيد، فلا يجري الاستصحاب فيه ".
(3) في (ظ): " والصوم ".
(4) لم ترد " وجوبه " في (ظ).
(5) في الصفحة 233.
(6) لم ترد " مقام " في (ت).
135

القرص - انحصر الأمر حينئذ في إجراء استصحاب التكليف، فتأمل.
والحاصل: أن النقض عليه بالنسبة إلى الحكم التكليفي المشكوك
بقاؤه (1) من جهة الشك في سببه أو شرطه أو مانعه غير متجه، لأن
مجرى الاستصحاب في هذه الموارد أولا وبالذات هو نفس السبب
والشرط والمانع، ويتبعه بقاء (2) الحكم التكليفي، ولا يجوز إجراء
الاستصحاب في الحكم التكليفي ابتداء، إلا إذا فرض انتفاء استصحاب
الأمر الوضعي.
قوله: " وعلى الثاني أيضا كذلك إن قلنا بإفادة الأمر التكرار... الخ ".
ربما يورد عليه: أنه (3) قد يكون التكرار مرددا بين وجهين، كما
إذا علمنا بأنه ليس للتكرار الدائمي، لكن العدد المتكرر كان مرددا بين
الزائد والناقص.
وهذا الإيراد لا يندفع بما ذكره (قدس سره): من أن الحكم في التكرار
كالأمر الموقت، كما لا يخفى.
فالصواب أن يقال: إذا ثبت وجوب التكرار، فالشك في بقاء ذلك
الحكم من هذه الجهة مرجعه إلى الشك في مقدار التكرار، لتردده بين
الزائد والناقص، ولا يجري فيه الاستصحاب، لأن كل واحد من المكرر:
إن كان تكليفا مستقلا فالشك في الزائد شك في التكليف المستقل،
وحكمه النفي بأصالة البراءة، لا الإثبات بالاستصحاب، كما لا يخفى.

(1) في (ت) و (ه‍) بدل " بقاؤه ": " في إبقائه "، وفي (ظ) و (ص): " بإبقائه ".
(2) في غير (ص): " إبقاء ".
(3) " ربما يورد عليه أنه " من (ظ).
136

وإن كان الزائد على تقدير وجوبه جزءا من المأمور به - بأن
يكون الأمر بمجموع العدد المتكرر من حيث إنه مركب واحد - فمرجعه
إلى الشك في جزئية شئ للمأمور به وعدمها، ولا يجري فيه أيضا
الاستصحاب، لأن ثبوت الوجوب لباقي الأجزاء لا يثبت وجوب هذا
الشئ المشكوك في جزئيته، بل لا بد من الرجوع إلى البراءة أو قاعدة
الاحتياط.
قوله: " وإلا فذمة المكلف مشغولة حتى يأتي به في أي زمان
كان ".
قد يورد عليه النقض بما عرفت (1) حاله في العبارة الأولى (2).
ثم إنه لو شك في كون الأمر للتكرار أو المرة كان الحكم كما
ذكرنا في تردد التكرار بين الزائد والناقص.
وكذا لو أمر المولى بفعل له استمرار في الجملة - كالجلوس في
المسجد - ولم يعلم مقدار استمراره، فإن الشك بين الزائد والناقص
يرجع - مع فرض كون الزائد المشكوك واجبا مستقلا على تقدير
وجوبه - إلى أصالة البراءة، ومع فرض كونه جزءا، يرجع إلى مسألة
الشك في الجزئية وعدمها، فإن (3) فيها البراءة أو وجوب الاحتياط (4).

(1) في (ت)، (ص) و (ه‍): " ببعض ما عرفت ".
(2) راجع الصفحة 131 - 132.
(3) في (ص) بدل " فإن ": " فالمرجع ".
(4) لم ترد " فإن فيها البراءة أو وجوب الاحتياط " في (ظ)، وكتب عليها في
(ت): " نسخة ".
137

قوله: " وتوهم: أن الأمر إذا كان للفور يكون من قبيل الموقت
المضيق، اشتباه غير خفي على المتأمل ".
الظاهر أنه دفع اعتراض على تسويته في ثبوت الوجوب في كل
جزء من الوقت بنفس الأمر بين كونه للفور وعدمه، ولا دخل له
بمطلبه وهو عدم جريان الاستصحاب في الأمر الفوري، لأن كونه من
قبيل الموقت المضيق لا يوجب جريان الاستصحاب فيه، لأن الفور
المنزل - عند المتوهم - منزلة الموقت المضيق:
إما أن يراد به المسارعة في أول أزمنة الإمكان، وإن لم يسارع
ففي ثانيها وهكذا.
وإما أن يراد به خصوص الزمان الأول فإذا فات لم يثبت بالأمر
وجوب الفعل في الآن الثاني لا فورا ولا متراخيا.
وإما أن يراد به ثبوته في الآن الثاني (1) متراخيا.
وعلى الأول، فهو في كل (2) جزء من الوقت من قبيل الموقت المضيق.
وعلى الثاني، فلا معنى للاستصحاب، بناء على ما سيذكره: من
أن الاستصحاب لم يقل به أحد فيما بعد الوقت.
وعلى الثالث، يكون في الوقت الأول كالمضيق وفيما بعده كالأمر
المطلق.
وقد ذكر بعض شراح الوافية (3): أن دفع هذا التوهم لأجل

(1) لم ترد " في الآن الثاني " في (ظ).
(2) في (ظ) بدل " فهو في كل ": " فكل ".
(3) هو المحقق الكاظمي في الوافي في شرح الوافية (مخطوط): الورقة 244.
138

استلزامه الاحتياج إلى الاستصحاب لإثبات الوجوب في ما بعد الوقت
الأول.
ولم أعرف له وجها.
قوله: " وكذا النهي ".
لا يخفى أنه (قدس سره) لم يستوف أقسام الأمر، لأن منها ما يتردد
الأمر بين الموقت بوقت فيرتفع الأمر بفواته، وبين المطلق الذي يجوز
امتثاله بعد ذلك الوقت، كما إذا شككنا في أن الأمر بالغسل في يوم
الجمعة مطلق - فيجوز الإتيان به في كل جزء من النهار - أو موقت إلى
الزوال؟ وكذا وجوب الفطرة بالنسبة إلى يوم العيد، فإن الظاهر أنه
لا مانع من استصحاب الحكم التكليفي هنا ابتداء.
قوله: " بل هو أولى لأن مطلقه... الخ ".
كأنه (قدس سره) لم يلاحظ إلا الأوامر والنواهي اللفظية البينة المدلول،
وإلا فإذا قام الإجماع أو دليل لفظي مجمل على حرمة شئ في زمان
ولم يعلم بقاؤها بعده - كحرمة الوطء للحائض المرددة بين اختصاصها
بأيام رؤية الدم فيرتفع بعد النقاء، وشمولها لزمان بقاء حدث الحيض
فلا يرتفع إلا بالاغتسال، وكحرمة العصير العنبي بعد ذهاب ثلثيه بغير
النار، وحلية عصير الزبيب والتمر بعد غليانهما، إلى غير ذلك مما
لا يحصى - فلا مانع في ذلك كله من الاستصحاب.
قوله: " فينبغي أن ينظر إلى كيفية سببية السبب هل هي على
الإطلاق... الخ ".
الظاهر أن مراده من سببية السبب تأثيره، لا كونه سببا في
الشرع وهو الحكم الوضعي، لأن هذا لا ينقسم إلى ما ذكره من
139

الأقسام، لكونه دائميا في جميع الأسباب إلى أن ينسخ.
فإن أراد من النظر في كيفية سببية السبب تحصيل مورد يشك في
كيفية السببية ليكون موردا للاستصحاب في المسبب، فهو مناف لما
ذكره: من عدم جريان الاستصحاب في التكليفيات إلا تبعا (1) للوضعيات.
وإن أراد من ذلك نفي مورد يشك في كيفية سببية السبب ليجري
الاستصحاب في المسبب (2)، فأنت خبير بأن موارد الشك كثيرة، فإن
السببية (3) قد تتردد بين الدائم والموقت - كالخيار المسبب عن الغبن
المتردد بين كونه دائما لولا المسقط وبين كونه فوريا، وكالشفعة المرددة
بين كونه مستمرا إلى الصبح لو علم به ليلا أم لا، وهكذا - والموقت قد
يتردد بين وقتين، كالكسوف الذي هو سبب لوجوب الصلاة المردد
وقتها بين الأخذ في الانجلاء وتمامه.
قوله: " وكذا الكلام في الشرط والمانع... الخ ".
لم أعرف المراد من إلحاق الشرط والمانع بالسبب، فإن شيئا من
الأقسام المذكورة للسبب لا يجري في (4) المانع وإن جرى كلها أو بعضها
في المانع إن لوحظ كونه سببا للعدم، لكن المانع بهذا الاعتبار يدخل في
السبب، وكذا عدم الشرط إذا لوحظ كونه سببا لعدم الحكم.
وكذا ما ذكره في وجه عدم جريان الاستصحاب بقوله: " فإن

(1) في (ت) و (ص) زيادة: " لجريانه ".
(2) في هامش (ص) زيادة: " كما هو الظاهر من كلامه ".
(3) في (ص) بدل " السببية ": " المسبب "، وفي (ر): " المسببية ".
(4) في (ر) و (ص) زيادة: " الشرط و ".
140

ثبوت الحكم... الخ " (1).
فإن (2) الحاصل من النظر في كيفية شرطية الشرط أنه:
قد يكون نفس الشئ شرطا لشئ على الإطلاق، كالطهارة من
الحدث الأصغر للمس، ومن الأكبر للمكث في المساجد، ومن الحيض
للوطء ووجوب العبادة.
وقد يكون شرطا في حال دون حال، كاشتراط الطهارة من
الخبث في الصلاة مع التمكن، لا مع عدمه.
وقد يكون حدوثه في زمان ما شرطا للشئ فيبقى المشروط ولو
بعد ارتفاع الشرط، كالاستطاعة للحج.
وقد يكون تأثير الشرط بالنسبة إلى فعل دون آخر، كالوضوء
العذري المؤثر فيما يؤتى به حال العذر.
فإذا شككنا في مسألة الحج في بقاء وجوبه بعد ارتفاع الاستطاعة،
فلا مانع من استصحابه.
وكذا لو شككنا في اختصاص الاشتراط بحال التمكن من الشرط
- كما إذا ارتفع التمكن من إزالة النجاسة في أثناء الوقت - فإنه لا مانع
من استصحاب الوجوب.
وكذا لو شككنا في أن الشرط في إباحة الوطء الطهارة بمعنى
النقاء من الحيض أو ارتفاع حدث الحيض.
وكذا لو شككنا في بقاء إباحة الصلاة أو المس بعد الوضوء

(1) لم ترد " فإن شيئا من الأقسام - إلى - ثبوت الحكم " في (ظ).
(2) في (ت) و (ه‍) بدل " فإن ": " نعم ".
141

العذري إذا كان الفعل المشروط به بعد زوال العذر (1).
وبالجملة: فلا أجد كيفية شرطية الشرط مانعة عن جريان
الاستصحاب في المشروط، بل قد يوجب إجراءه فيه.
قوله: " فظهر مما ذكرنا أن الاستصحاب المختلف فيه لا يجري إلا
في الأحكام الوضعية، أعني: الأسباب والشروط والموانع ".
لا يخفى ما في هذا التفريع، فإنه لم يظهر من كلامه جريان
الاستصحاب في الأحكام الوضعية بمعنى نفس الأسباب والشروط
والموانع، ولا عدمه فيها بالمعنى المعروف. نعم، علم من كلامه عدم
الجريان في المسببات أيضا، لزعمه انحصارها في المؤبد والموقت بوقت
محدود معلوم.
فبقي أمران: أحدهما: نفس الحكم الوضعي، وهو جعل الشئ سببا
لشئ أو شرطا. واللازم عدم جريان الاستصحاب فيها، لعين ما ذكره
في الأحكام التكليفية.
والثاني: نفس الأسباب والشروط.
ويرد عليه: أن نفس السبب والشرط والمانع إن كان أمرا غير
شرعي، فظاهر كلامه - حيث جعل محل الكلام في الاستصحاب المختلف
فيه هي الأمور الشرعية - خروج مثل هذا عنه، كحياة زيد ورطوبة
ثوبه. وإن كان أمرا شرعيا - كالطهارة والنجاسة - فلا يخفى أن هذه
الأمور الشرعية مسببة عن أسباب، فإن النجاسة التي مثل بها في الماء

(1) لم ترد " وكذا لو شككنا في أن - إلى - زوال العذر " في (ت) و (ه‍)، وكتب
فوقها في (ص) و (ظ): " نسخة ".
142

المتغير مسببة عن التغير، والطهارة التي مثل بها في مسألة المتيمم مسببة
عن التيمم، فالشك في بقائهما (1) لا يكون إلا للشك في كيفية سببية
السبب الموجب لإجراء الاستصحاب في المسبب - أعني النجاسة
والطهارة -، وقد سبق منه المنع عن جريان الاستصحاب في المسبب.
ودعوى: أن الممنوع في كلامه جريان الاستصحاب في الحكم
التكليفي المسبب عن الأسباب إلا تبعا لجريانه في نفس الأسباب.
مدفوعة: بأن النجاسة - كما حكاه المفصل عن الشهيد (2) - ليست
إلا عبارة عن وجوب الاجتناب، والطهر الحاصل من التيمم ليس إلا
إباحة الدخول في الصلاة المستلزمة لوجوب المضي فيها بعد الدخول،
فهما اعتباران (3) منتزعان من الحكم التكليفي.
قوله: " ووقوعه في الأحكام الخمسة إنما هو بتبعيتها... الخ ".
قد عرفت وستعرف (4) أيضا: أنه لا خفاء في أن استصحاب
النجاسة لا يعقل له معنى إلا ترتيب أثرها - أعني وجوب الاجتناب
في الصلاة والأكل والشرب -، فليس هنا استصحاب للحكم التكليفي،
لا ابتداء ولا تبعا، وهذا كاستصحاب حياة زيد، فإن حقيقة ذلك هو
الحكم بتحريم عقد زوجته والتصرف في ماله، وليس هذا استصحابا
لهذا التحريم.

(1) كذا في (ظ) و (ه‍)، وفي غيرهما: " بقائها ".
(2) حكاه في الوافية: 184 - 185، وراجع القواعد والفوائد 2: 85.
(3) في (ت): " أمران اعتباريان ".
(4) انظر الصفحة 112 و 292.
143

بل (1) التحقيق - كما سيجئ (2) -: عدم جواز إجراء الاستصحاب
في الأحكام التي تستصحب موضوعاتها، لأن استصحاب وجوب
الاجتناب - مثلا - إن كان بملاحظة استصحاب النجاسة فقد عرفت أنه
لا يبقى بهذه الملاحظة شك في وجوب الاجتناب، لما عرفت (3): من أن
حقيقة حكم الشارع باستصحاب النجاسة هو حكمه بوجوب الاجتناب
حتى يحصل اليقين بالطهارة. وإن كان مع قطع النظر عن استصحابها
فلا يجوز الاستصحاب، فإن وجوب الاجتناب سابقا عن الماء المذكور
إنما كان من حيث كونه نجسا، لأن النجس هو الموضوع لوجوب الاجتناب،
فما لم يحرز الموضوع في حال الشك لم يجر الاستصحاب، كما سيجئ (4)
في مسألة اشتراط القطع ببقاء الموضوع في الاستصحاب (5).
* * *

(1) في (ه‍) بدل " بل ": " فإن ".
(2) انظر الصفحة 293.
(3) في الصفحة السابقة.
(4) انظر الصفحة 289.
(5) لم ترد " وليس هذا استصحابا - إلى - ببقاء الموضوع في الاستصحاب " في
(ظ)، ووردت بدلها العبارة التالية: " فليس هنا استصحاب لهذا التحريم، فإن
التحقيق عدم جريان الاستصحاب في الأحكام التي تستصحب موضوعاتها، إذ
مع استصحابها - كالنجاسة - لا يبقى الشك في وجودها، فإن حقيقة حكم
الشارع باستصحاب النجاسة هو حكمه بوجوب الاجتناب، وبدونه لا وجه
لاستصحاب الأحكام، لعدم إحراز الموضوع على وجه القطع، كما ستعرف
اشتراطه ".
144

ثم اعلم: أنه بقي هنا شبهة أخرى في منع جريان الاستصحاب في
الأحكام التكليفية مطلقا، وهي: أن الموضوع للحكم التكليفي ليس إلا
فعل المكلف، ولا ريب أن الشارع - بل كل حاكم - إنما يلاحظ
الموضوع بجميع مشخصاته التي لها دخل في ذلك الحكم ثم يحكم عليه.
وحينئذ، فإذا أمر الشارع بفعل - كالجلوس في المسجد مثلا - فإن
كان الموضوع فيه هو مطلق الجلوس فيه الغير المقيد بشئ أصلا،
فلا إشكال في عدم ارتفاع وجوبه إلا بالإتيان به، إذ لو ارتفع
الوجوب بغيره كان ذلك الرافع من قيود الفعل، وكان الفعل المطلوب
مقيدا بعدم هذا القيد من أول الأمر، والمفروض خلافه.
وإن كان الموضوع فيه هو الجلوس المقيد بقيد، كان عدم ذلك
القيد موجبا لانعدام الموضوع، فعدم مطلوبيته ليس بارتفاع الطلب عنه،
بل لم يكن مطلوبا من أول الأمر.
وحينئذ فإذا شك في الزمان المتأخر في وجوب الجلوس، يرجع
الشك إلى الشك في كون الموضوع للوجوب هو الفعل المقيد، أو الفعل
المعرى عن هذا القيد.
ومن المعلوم عدم جريان الاستصحاب هنا، لأن معناه إثبات
حكم كان متيقنا لموضوع معين عند الشك في ارتفاعه عن ذلك
الموضوع، وهذا غير متحقق فيما نحن فيه.
وكذا الكلام في غير الوجوب من الأحكام الأربعة الاخر،
لاشتراك الجميع في كون الموضوع لها هو فعل المكلف الملحوظ للحاكم
بجميع مشخصاته، خصوصا إذا كان حكيما، وخصوصا عند القائل
بالتحسين والتقبيح، لمدخلية المشخصات في الحسن والقبح حتى الزمان.
145

وبه يندفع ما يقال: إنه كما يمكن أن يجعل الزمان ظرفا للفعل،
بأن يقال: إن التبريد في زمان الصيف مطلوب، فلا يجري الاستصحاب
إذا شك في مطلوبيته في زمان آخر، أمكن أن يقال: إن التبريد
مطلوب في الصيف، على أن يكون الموضوع نفس التبريد والزمان قيدا
للطلب، وحينئذ فيجوز استصحاب الطلب إذا شك في بقائه بعد الصيف،
إذ الموضوع باق على حاله (1).
توضيح الاندفاع: أن القيد في الحقيقة راجع إلى الموضوع، وتقييد
الطلب به (2) أحيانا في الكلام مسامحة في التعبير - كما لا يخفى - فافهم.
وبالجملة: فينحصر مجرى الاستصحاب في الأمور القابلة للاستمرار
في موضوع، وللارتفاع عن ذلك الموضوع بعينه، كالطهارة والحدث
والنجاسة والملكية والزوجية والرطوبة واليبوسة ونحو ذلك.
ومن ذلك يظهر عدم جريان الاستصحاب في الحكم الوضعي (3)
أيضا إذا تعلق بفعل الشخص.
هذا، والجواب عن ذلك: أن مبنى الاستصحاب - خصوصا إذا
استند فيه إلى الأخبار - على القضايا العرفية المتحققة في الزمان السابق
التي ينتزعها العرف من الأدلة الشرعية، فإنهم لا يرتابون في أنه إذا
ثبت تحريم فعل في زمان ثم شك في بقائه بعده، أن (4) الشك في هذه

(1) في (ظ) زيادة: " في الحالين "، وفي نسخة بدل (ص): " في الحالتين ".
(2) لم ترد " به " في (ظ).
(3) لم ترد " الوضعي " في (ظ).
(4) في (ه‍) و (ت) بدل " أن ": " فإن ".
146

المسألة في استمرار الحرمة لهذا الفعل وارتفاعها، وإن كان مقتضى المداقة
العقلية كون الزمان قيدا للفعل. وكذلك الإباحة والكراهة والاستحباب.
نعم قد يتحقق في بعض الواجبات مورد لا يحكم العرف بكون
الشك في الاستمرار، مثلا: إذا ثبت في يوم وجوب فعل عند الزوال،
ثم شككنا في الغد أنه واجب اليوم عند الزوال، فلا يحكمون
باستصحاب ذلك، ولا يبنون على كونه مما شك في استمراره وارتفاعه،
بل يحكمون في الغد بأصالة عدم الوجوب قبل الزوال. أما لو ثبت ذلك
مرارا، ثم شك فيه بعد أيام، فالظاهر حكمهم بأن هذا الحكم كان
مستمرا وشك في ارتفاعه، فيستصحب.
ومن هنا ترى الأصحاب يتمسكون باستصحاب وجوب التمام
عند الشك في حدوث التكليف بالقصر، وباستصحاب وجوب العبادة
عند شك المرأة في حدوث الحيض، لا من جهة أصالة عدم السفر
الموجب للقصر، وعدم الحيض المقتضي لوجوب العبادة - حتى يحكم
بوجوب التمام، لأنه من آثار عدم السفر الشرعي الموجب للقصر،
وبوجوب العبادة، لأنه من آثار عدم الحيض - بل من جهة كون
التكليف بالتمام وبالعبادة عند زوال كل يوم أمرا مستمرا عندهم وإن
كان التكليف يتجدد يوما فيوما، فهو في كل يوم مسبوق بالعدم،
فينبغي أن يرجع إلى استصحاب عدمه، لا إلى استصحاب وجوده.
والحاصل: أن المعيار حكم العرف بأن الشئ الفلاني كان مستمرا
فارتفع وانقطع، وأنه مشكوك الانقطاع. ولولا ملاحظة هذا التخيل
العرفي لم يصدق على النسخ أنه رفع للحكم الثابت أو لمثله، فإن عدم
التكليف في وقت الصلاة بالصلاة إلى القبلة المنسوخة دفع في الحقيقة
147

للتكليف، لا رفع.
ونظير ذلك - في غير الأحكام الشرعية - ما سيجئ: من إجراء
الاستصحاب في مثل الكرية وعدمها (1)، وفي الأمور التدريجية المتجددة
شيئا فشيئا (2)، وفي مثل وجوب الناقص بعد تعذر بعض الأجزاء (3) فيما
لا يكون الموضوع فيه باقيا إلا بالمسامحة العرفية، كما سيجئ إن شاء
الله تعالى.

(1) انظر الصفحة 281.
(2) انظر الصفحة 205.
(3) انظر الصفحة 280.
148

[حجة القول الثامن] (1)
حجة القول الثامن وجوابها يظهر بعد بيانه وتوضيح القول فيه.
فنقول:
قد نسب جماعة (2) إلى الغزالي القول بحجية الاستصحاب وإنكارها
في استصحاب حال الإجماع، وظاهر ذلك كونه مفصلا في المسألة.
وقد ذكر في النهاية (3) مسألة الاستصحاب، ونسب إلى جماعة منهم
الغزالي حجيته، ثم أطال الكلام في أدلة النافين والمثبتين، ثم ذكر عنوانا
آخر لاستصحاب حال الإجماع، ومثل له بالمتيمم إذا رأى الماء في
أثناء الصلاة، وبالخارج من غير السبيلين من المتطهر، ونسب إلى الأكثر
ومنهم الغزالي عدم حجيته.
إلا أن الذي يظهر بالتدبر في كلامه المحكي في النهاية: هو
إنكار الاستصحاب المتنازع فيه رأسا وإن ثبت المستصحب بغير الإجماع
من الأدلة المختصة دلالتها بالحال الأول المعلوم انتفاؤها في الحال الثاني،
فإنه قد يعبر عن جميع ذلك باستصحاب حال الإجماع، كما ستعرف

(1) العنوان منا.
(2) مثل التفتازاني في حاشية شرح مختصر الأصول: 285، والسيد الصدر في
شرح الوافية (مخطوط): 341، والمحقق القمي في القوانين 2: 51، مضافا إلى
العلامة في النهاية.
(3) نهاية الوصول (مخطوط): 407 - 412.
149

في كلام الشهيد (رحمه الله) (1)، وإنما المسلم عنده استصحاب عموم النص
أو إطلاقه الخارج عن محل النزاع، بل عن حقيقة الاستصحاب حقيقة.
فمنشأ نسبة التفصيل إطلاق الغزالي الاستصحاب على استصحاب
عموم النص أو إطلاقه، وتخصيص عنوان ما أنكره باستصحاب حال
الإجماع، وإن صرح في أثناء كلامه بإلحاق غيره - مما يشبهه في
اختصاص مدلوله بالحالة الأولى - به في منع جريان الاستصحاب
فيما ثبت به (2).
قال في الذكرى - بعد تقسيم حكم العقل الغير المتوقف على
الخطاب إلى خمسة أقسام: ما يستقل به العقل كحسن العدل، والتمسك
بأصل البراءة، وعدم الدليل دليل العدم، والأخذ بالأقل عند فقد دليل
على الأكثر -:
الخامس: أصالة بقاء ما كان، ويسمى استصحاب حال الشرع
وحال الإجماع في محل الخلاف، مثاله: المتيمم... الخ، واختلف
الأصحاب في حجيته، وهو مقرر في الأصول (3). انتهى.
ونحوه ما حكي عن الشهيد الثاني في مسألة أن الخارج من غير
السبيلين ناقض أم لا؟ وفي مسألة المتيمم... الخ (4)، وصاحب الحدائق في

(1) وذلك بعد أسطر.
(2) لم ترد " به " في (ر)، (ص) و (ه‍). وفي (ت) زيادة: " كما "، وفي (ص)
زيادة: " كما ستعرف في كلام الشهيد ".
(3) الذكرى: 5.
(4) تمهيد القواعد: 271.
150

الدرر النجفية (1)، بل استظهر هذا من كل من مثل لمحل النزاع بمسألة
المتيمم، كالمعتبر (2) والمعالم (3) وغيرهما (4).
ولا بد من نقل عبارة الغزالي - المحكية في النهاية - حتى يتضح
حقيقة الحال. قال الغزالي - على ما حكاه في النهاية (5) -:
المستصحب إن أقر بأنه لم يقم دليلا في المسألة، بل قال: أنا ناف
ولا دليل على النافي، فسيأتي بيان وجوب الدليل على النافي، وإن ظن
إقامة الدليل فقد أخطأ، فإنا نقول: إنما يستدام الحكم الذي دل الدليل
على دوامه، وهو إن كان لفظ الشارع فلا بد من بيانه، فلعله يدل على
دوامها عند عدم الخروج من غير السبيلين (6) لا عند وجوده (7). وإن دل
بعمومه على دوامها عند العدم والوجود معا كان ذلك تمسكا بالعموم،
فيجب إظهار دليل التخصيص. وإن كان بالإجماع (8) فالإجماع إنما انعقد
على دوام الصلاة عند العدم دون الوجود، ولو كان الإجماع شاملا حال
الوجود كان المخالف له خارقا للإجماع، كما أن المخالف في انقطاع الصلاة

(1) الدرر النجفية: 34.
(2) المعتبر 1: 32.
(3) المعالم: 131.
(4) مثل الغنية (الجوامع الفقهية): 486، والذريعة 2: 830.
(5) نهاية الوصول (مخطوط): 412.
(6) لم ترد " من غير السبيلين " في النهاية.
(7) في المستصفى بدل " عدم الخروج - إلى - وجوده ": " العدم لا عند الوجود ".
(8) في (ت) و (ر) بدل " بالإجماع ": " الإجماع "، وفي (ظ) ومصححة (ص):
" إجماعا "، وفي النهاية والمستصفى: " بإجماع ".
151

عند هبوب الرياح وطلوع الشمس خارق للإجماع، لأن الإجماع لم
ينعقد مشروطا بعدم الهبوب وانعقد مشروطا بعدم الخروج وعدم (1) الماء،
فإذا وجد فلا إجماع، فيجب أن يقاس حال الوجود على حال العدم
المجمع عليه لعلة جامعة، فأما أن يستصحب الإجماع عند انتفاء الإجماع
فهو محال. وهذا كما أن العقل دل على البراءة الأصلية بشرط عدم دليل
السمع، فلا يبقى له دلالة مع وجود دليل السمع، فكذا هنا انعقد
الإجماع بشرط العدم، فانتفى الإجماع عند الوجود.
وهذه دقيقة: وهو أن كل دليل يضاد (2) نفس الخلاف فلا يمكن
استصحابه مع الخلاف، والإجماع يضاده نفس الخلاف، إذ لا إجماع مع
الخلاف، بخلاف العموم والنص ودليل العقل، فإن الخلاف لا يضاده،
فإن المخالف مقر بأن العموم بصيغته شامل لمحل الخلاف، فإن قوله عليه
وآله الصلاة والسلام: " لا صيام لمن لا يبيت الصيام من الليل " (3)
شامل بصيغته صوم رمضان، مع خلاف الخصم فيه، فيقول: " أسلم
شمول الصيغة، لكني اخصصه (4) بدليل " فعليه الدليل. وهنا، المخالف
لا يسلم شمول الإجماع لمحل الخلاف، لاستحالة الإجماع مع الخلاف،
ولا يستحيل شمول الصيغة مع الدليل. فهذه دقيقة يجب التنبه لها.
ثم قال: فإن قيل: الإجماع يحرم الخلاف، فكيف يرتفع بالخلاف؟

(1) لم ترد " الخروج وعدم " في المستصفى.
(2) في النهاية: " يضاده ".
(3) المستدرك 7: 316، الباب 2 من أبواب وجوب الصوم، الحديث الأول.
(4) كذا في المستصفى، وفي النهاية والنسخ: " أخصه ".
152

وأجاب: بأن هذا الخلاف غير محرم بالإجماع، ولم يكن المخالف
خارقا للإجماع، لأن الإجماع إنما انعقد على حالة العدم، لا على حالة
الوجود، فمن ألحق الوجود بالعدم فعليه الدليل.
لا يقال: دليل صحة الشروع دال على الدوام إلى أن يقوم دليل
على الانقطاع.
لأنا نقول: ذلك الدليل ليس هو الإجماع، لأنه مشروط بالعدم،
فلا يكون دليلا عند الوجود (1)، وإن كان نصا فبينه حتى ننظر هل
يتناول حال الوجود أم لا؟
لا يقال: لم ينكروا (2) على من يقول: الأصل أن ما ثبت
دام إلى وجود قاطع، فلا يحتاج الدوام إلى دليل في نفسه، بل الثبوت
هو المحتاج، كما إذا ثبت موت زيد أو بناء دار كان دوامه بنفسه
لا بسبب.
لأنا نقول: هذا وهم باطل، لأن كل ما ثبت جاز دوامه وعدمه،
فلا بد لدوامه من سبب ودليل سوى دليل الثبوت. ولولا دليل العادة
على أن الميت لا يحيى والدار لا ينهدم إلا بهادم أو طول الزمان، لما
عرفنا دوامه بمجرد ثبوته، كما لو أخبر عن قعود الأمير وأكله ودخوله
الدار، ولم يدل العادة على دوام هذه الأحوال، فإنا لا نقضي بدوامها.
وكذا خبر الشارع عن دوام الصلاة مع عدم الماء ليس خبرا عن
دوامها مع وجوده، فيفتقر في دوامها إلى دليل آخر (3)، انتهى.

(1) كذا في المستصفى، ولكن في النسخ والنهاية: " عند العدم ".
(2) كذا في النسخ، وفي النهاية: " لم ينكرون "، وفي المستصفى: " بم تنكرون ".
(3) المستصفى 1: 224 - 229، مع تفاوت يسير عما حكاه في النهاية.
153

ولا يخفى أن كثيرا من كلماته - خصوصا قوله أخيرا: " خبر
الشارع عن دوامها " - صريح في أن هذا الحكم غير مختص بالإجماع،
بل يشمل كل دليل يدل على قضية مهملة من حيث الزمان بحيث يقطع
بانحصار مدلوله الفعلي في الزمان الأول.
والعجب من شارح المختصر، حيث إنه نسب القول بحجية
الاستصحاب إلى جماعة منهم الغزالي، ثم قال:
ولا فرق عند من يرى صحة الاستدلال به بين أن يكون الثابت
به نفيا أصليا، كما يقال فيما اختلف كونه نصابا: لم تكن الزكاة واجبة
عليه والأصل بقاؤه، أو حكما شرعيا، مثل قول الشافعية في الخارج
من غير السبيلين: إنه كان قبل خروج الخارج متطهرا، والأصل البقاء
حتى يثبت معارض، والأصل عدمه (1)، انتهى.
ولا يخفى: أن المثال الثاني، مما نسب إلى الغزالي إنكار
الاستصحاب فيه، كما عرفت (2) من النهاية ومن عبارته (3) المحكية (4) فيها.
ثم إن السيد صدر الدين جمع في شرح الوافية بين قولي الغزالي:
تارة: بأن قوله بحجية الاستصحاب ليس مبنيا على ما جعله
القوم دليلا من حصول الظن، بل هو مبني على دلالة الروايات عليها،
والروايات لا تدل على حجية استصحاب حال الإجماع.

(1) شرح مختصر الأصول: 454.
(2) راجع الصفحة 149.
(3) في (ر) و (ص) بدل " عبارته ": " عبارة الغزالي ".
(4) في (ر) و (ص) زيادة: " عنه ".
154

وأخرى: بأن غرضه من دلالة الدليل على الدوام، كونه بحيث لو
علم أو ظن وجود المدلول في الزمان الثاني أو الحالة الثانية لأجل
موجب لكان حمل الدليل على الدوام ممكنا، والإجماع ليس كذلك، لأنه
يضاد الخلاف، فكيف يدل على كون المختلف فيه مجمعا عليه؟ كما يرشد
إليه قوله: " والإجماع يضاده نفس الخلاف، إذ لا إجماع مع الخلاف،
بخلاف النص والعموم ودليل العقل، فإن الخلاف لا يضاده ". ويكون
غرضه من قوله: " فلا بد له من سبب " الرد على من ادعى أن علة
الدوام هو مجرد تحقق الشئ في الواقع، وأن الإذعان به يحصل من
مجرد العلم بالتحقق، فرد عليه: بأنه ليس الأمر كذلك، وأن الإذعان
والظن بالبقاء لا بد له من أمر أيضا، كعادة أو أمارة أو غيرهما (1)،
انتهى.
أقول: أما الوجه الأول، فهو كما ترى، فإن التمسك بالروايات
ليس له أثر في كلام الخاصة الذين هم الأصل في تدوينها في كتبهم،
فضلا عن العامة.
وأما الوجه الثاني، ففيه: أن منشأ العجب من تناقض قوليه،
حيث إن ما ذكره في استصحاب حال الإجماع - من اختصاص دليل
الحكم بالحالة الأولى - بعينه موجود في بعض صور استصحاب حال
غير الإجماع، فإنه إذا ورد النص على وجه يكون ساكتا بالنسبة إلى ما
بعد الحالة الأولى، كما إذا ورد أن الماء ينجس بالتغير، مع فرض عدم
إشعار فيه بحكم ما بعد زوال التغير، فإن وجود هذا الدليل - بوصف

(1) شرح الوافية (مخطوط): 344.
155

كونه دليلا - مقطوع العدم في الحالة الثانية، كما في الإجماع.
وأما قوله: " وغرضه من دلالة الدليل على الدوام كونه بحيث لو
علم أو ظن بوجود المدلول في الآن الثاني... إلى آخر ما ذكره ".
ففيه (1): أنه إذا علم لدليل أو ظن لأمارة، بوجود مضمون هذا
الدليل الساكت - أعني النجاسة في المثال المذكور - فإمكان حمل هذا
الدليل على الدوام:
إن أريد به إمكان كونه دليلا على الدوام، فهو ممنوع، لامتناع
دلالته على ذلك، لأن دلالة اللفظ لا بد له من سبب واقتضاء،
والمفروض عدمه.
وإن أريد إمكان كونه مرادا في الواقع من الدليل وإن لم يكن
الدليل مفيدا له، ففيه - مع اختصاصه (2) بالإجماع عند العامة، الذي هو
نفس مستند الحكم، لا كاشف عن مستنده الراجع إلى النص، وجريان
مثله في المستصحب الثابت بالفعل أو التقرير، فإنه لو ثبت دوام الحكم
لم يمكن حمل الدليل على الدوام -: أن هذا المقدار من الفرق لا يؤثر
فيما ذكره الغزالي في نفي استصحاب حال الإجماع، لأن مناط نفيه لذلك
- كما عرفت من تمثيله بموت زيد وبناء دار - احتياج الحكم في الزمان
الثاني إلى دليل أو أمارة.
هذا، وعلى كل حال، فلو فرض كون الغزالي مفصلا في المسألة
بين ثبوت المستصحب بالإجماع وثبوته بغيره، فيظهر رده مما ظهر من

(1) في (ر)، (ص) و (ظ) زيادة: " أولا ".
(2) في نسخة بدل (ه‍): " اختصاص منعه ".
156

تضاعيف ما تقدم: من أن أدلة الإثبات لا يفرق فيها بين الإجماع
وغيره، خصوصا ما كان نظير الإجماع في السكوت عن حكم الحالة
الثانية، خصوصا إذا علم عدم إرادة الدوام منه في الواقع كالفعل
والتقرير، وأدلة النفي كذلك لا يفرق فيها بينهما أيضا.
و (1) قد يفرق (2) بينهما: بأن الموضوع في النص مبين يمكن العلم
بتحققه وعدم تحققه في الآن اللاحق، كما إذا قال: " الماء إذا تغير
نجس "، فإن الماء موضوع والتغير قيد للنجاسة، فإذا زال التغير أمكن
استصحاب النجاسة للماء.
وإذا قال: " الماء المتغير نجس "، فظاهره ثبوت النجاسة للماء
المتلبس بالتغير، فإذا زال التغير لم يمكن الاستصحاب، لأن الموضوع هو
المتلبس بالتغير وهو غير موجود، كما إذا قال: " الكلب نجس "، فإنه
لا يمكن استصحاب النجاسة بعد استحالته ملحا.
فإذا فرضنا انعقاد الإجماع على نجاسة الماء المتصف بالتغير،
فالإجماع أمر لبي ليس فيه تعرض لبيان كون الماء موضوعا والتغير
قيدا للنجاسة، أو أن الموضوع هو المتلبس بوصف التغير.
وكذلك إذا انعقد الإجماع على جواز تقليد المجتهد في حال حياته
ثم مات، فإنه لا يتعين الموضوع حتى يحرز عند إرادة الاستصحاب.
لكن هذا الكلام جار في جميع الأدلة الغير اللفظية.

(1) في (ت) و (ر) بدل " و ": " نعم ".
(2) في (ص) بدل " وقد يفرق ": " وكذا لو فرق "، وفي نسخة بدله: " ويمكن
الفرق ".
157

نعم (1)، ما سيجئ (2) وتقدم (3) - من أن تعيين الموضوع في
الاستصحاب بالعرف لا بالمداقة ولا بمراجعة الأدلة الشرعية - يكفي في
دفع الفرق المذكور، فتراهم يجرون الاستصحاب فيما لا يساعد دليل
المستصحب على بقاء الموضوع فيه في الزمان اللاحق، كما سيجئ في
مسألة اشتراط بقاء الموضوع إن شاء الله (4).

(1) في (ر)، (ظ)، (ه‍) ونسخة بدل (ت) بدل " نعم ": " مع "، وفي مصححة (ص)
بدلها: " مع أن ".
(2) انظر الصفحة 295.
(3) راجع الصفحة 147.
(4) في الصفحة 289.
158

حجة القول التاسع
وهو التفصيل بين ما ثبت استمرار المستصحب واحتياجه في
الارتفاع إلى الرافع، وبين غيره: ما يظهر من آخر كلام المحقق في
المعارج - كما تقدم في نقل الأقوال (1) - حيث قال:
والذي نختاره أن ننظر في دليل ذلك الحكم، فإن كان يقتضيه
مطلقا وجب الحكم باستمرار الحكم، كعقد النكاح فإنه يوجب حل
الوطء مطلقا، فإذا وجد الخلاف في الألفاظ التي يقع بها الطلاق،
فالمستدل على أن الطلاق لا يقع بها لو قال: " حل الوطء ثابت قبل
النطق بها فكذا بعده " كان صحيحا، فإن المقتضي للتحليل - وهو العقد -
اقتضاه مطلقا، ولا يعلم أن الألفاظ المذكورة رافعة لذلك الاقتضاء،
فيثبت الحكم عملا بالمقتضي.
لا يقال: إن المقتضي هو العقد، ولم يثبت أنه باق، فلم يثبت
الحكم.
لأنا نقول: وقوع العقد اقتضى حل الوطء لا مقيدا، فيلزم دوام
الحل، نظرا إلى وقوع المقتضي، لا إلى دوامه، فيجب أن يثبت الحل
حتى يثبت الرافع. فإن كان الخصم يعني بالاستصحاب ما أشرنا إليه
فليس ذلك عملا بغير دليل، وإن كان يعني أمرا آخر وراء هذا فنحن
مضربون عنه (2)، انتهى.

(1) راجع الصفحة 51 - 52.
(2) المعارج: 209 و 210.
159

وحاصل هذا الاستدلال يرجع إلى كفاية وجود المقتضي وعدم
العلم بالرافع لوجود المقتضى (1).
وفيه: أن الحكم بوجود الشئ لا يكون إلا مع العلم بوجود
علته التامة التي من أجزائها عدم الرافع، فعدم العلم به يوجب عدم
العلم بتحقق العلة التامة، إلا أن يثبت التعبد من الشارع بالحكم بالعدم
عند عدم العلم به، وهو عين الكلام في اعتبار الاستصحاب.
والأولى: الاستدلال له بما استظهرناه (2) من الروايات السابقة - بعد
نقلها -: من أن النقض رفع الأمر المستمر في نفسه وقطع الشئ المتصل
كذلك، فلا بد أن يكون متعلقه ما يكون له استمرار واتصال، وليس
ذلك نفس اليقين، لانتقاضه بغير اختيار المكلف، فلا يقع في حيز
التحريم، ولا أحكام اليقين من حيث هو وصف من الأوصاف،
لارتفاعها بارتفاعه قطعا، بل المراد به (3) - بدلالة الاقتضاء - الأحكام
الثابتة للمتيقن بواسطة اليقين، لأن نقض اليقين بعد ارتفاعه لا يعقل له
معنى سوى هذا، فحينئذ لا بد أن يكون أحكام المتيقن كنفسه مما
يكون مستمرا لولا (4) الناقض.
هذا، ولكن لا بد من التأمل في أن هذا المعنى جار في
المستصحب العدمي أم لا؟ ولا يبعد تحققه، فتأمل.

(1) في (ت) كتب على " لوجود المقتضى ": " زائد ".
(2) راجع الصفحة 78.
(3) لم ترد " به " في (ظ).
(4) في (ت) زيادة: " المتيقن ".
160

ثم إن نسبة القول المذكور إلى المحقق (قدس سره) مبني على أن مراده (1)
من دليل الحكم في كلامه - بقرينة تمثيله بعقد النكاح في المثال المذكور -
هو المقتضي، وعلى أن يكون حكم الشك في وجود الرافع حكم الشك
في رافعية الشئ، إما لدلالة دليله المذكور على ذلك، وإما لعدم القول
بالإثبات في الشك في الرافعية والإنكار في الشك في وجود الرافع، وإن
كان العكس موجودا، كما سيجئ من المحقق السبزواري (2).
لكن في كلا الوجهين نظر:
أما الأول، فلإمكان الفرق في الدليل الذي ذكره، لأن مرجع ما
ذكره في الاستدلال إلى جعل المقتضي والرافع من قبيل العام والمخصص،
فإذا ثبت عموم المقتضي - وهو عقد النكاح - لحل الوطء في جميع
الأوقات، فلا يجوز رفع اليد عنه بالألفاظ التي وقع الشك في كونها
مزيلة لقيد (3) النكاح، إذ من المعلوم أن العموم لا يرفع اليد عنه بمجرد
الشك في التخصيص.
أما لو ثبت تخصيص العام - وهو المقتضي لحل الوطء، أعني عقد
النكاح - بمخصص، وهو اللفظ الذي اتفق على كونه مزيلا لقيد (4)
النكاح، فإذا شك في تحققه وعدمه فيمكن منع التمسك بالعموم حينئذ،
إذ الشك ليس في طرو التخصيص على العام، بل في وجود ما خصص
العام به يقينا، فيحتاج إثبات عدمه المتمم للتمسك بالعام إلى إجراء

(1) في (ظ)، (ه‍) ونسخة بدل (ت): " يراد ".
(2) انظر الصفحة 165.
(3) و (4) في نسخة بدل (ص): " لعقد ".
161

الاستصحاب، بخلاف ما لو شك في أصل التخصيص، فإن العام يكفي
لإثبات حكمه في مورد الشك (1).
وبالجملة: فالفرق بينهما، أن الشك في الرافعية - في ما نحن فيه (2) -
من قبيل الشك في تخصيص العام زائدا على ما علم تخصيصه، نظير ما
إذا ثبت تخصيص العلماء في " أكرم العلماء " بمرتكبي الكبائر، وشك في
تخصيصه بمرتكب الصغائر، فإنه يجب التمسك بالعموم.
والشك في وجود الرافع - فيما نحن فيه (3) - شك في وجود ما
خصص العام به يقينا، نظير ما إذا علم تخصيصه بمرتكبي الكبائر وشك
في تحقق الارتكاب وعدمه في عالم، فإنه لولا إحراز عدم الارتكاب
بأصالة العدم التي مرجعها إلى الاستصحاب المختلف فيه لم ينفع العام في
إيجاب إكرام ذلك المشكوك.
هذا، ولكن يمكن أن يقال: إن مبنى كلام المحقق (قدس سره) لما كان على
وجود المقتضي حال الشك وكفاية ذلك في الحكم بالمقتضى، فلا فرق في
كون الشك في وجود الرافع أو رافعية الموجود.
والفرق بين الشك في الخروج والشك في تحقق الخارج في مثال
العموم والخصوص، من جهة إحراز المقتضي للحكم بالعموم ظاهرا في
المثال الأول - من جهة أصالة الحقيقة (4) - وعدم إحرازه في المثال الثاني

(1) في (ص) و (ظ) زيادة: " وأما أصالة عدم التخصيص فهي من الأصول
اللفظية المتفق عليها كما هو ظاهر "، ولم ترد كلمة " ظاهر " في (ظ).
(2) و (3) لم ترد " في ما نحن فيه " في (ر).
(4) في (ت) و (ه‍) زيادة: " والعموم ".
162

لعدم جريان ذلك الأصل، لا لإحراز المقتضي لنفس الحكم - وهو
وجوب الإكرام - في الأول دون الثاني، فظهر الفرق بين ما نحن فيه
وبين المثالين (1).
وأما دعوى عدم الفصل بين الشكين على الوجه المذكور فهو مما
لم يثبت.
نعم، يمكن أن يقال: إن المحقق (قدس سره) لم يتعرض لحكم الشك
في وجود الرافع، لأن ما كان من الشبهة الحكمية من هذا القبيل
ليس إلا النسخ، وإجراء الاستصحاب فيه إجماعي بل ضروري، كما
تقدم (2) (3).
وأما الشبهة الموضوعية، فقد تقدم (4) خروجها في كلام القدماء
عن (5) مسألة الاستصحاب المعدود في أدلة الأحكام، فالتكلم فيها إنما
يقع تبعا للشبهة الحكمية، ومن باب تمثيل جريان الاستصحاب في
الأحكام وعدم جريانه بالاستصحاب (6) في الموضوعات الخارجية، فترى
المنكرين (7) يمثلون بما إذا غبنا عن بلد في ساحل البحر لم يجر العادة

(1) لم ترد " هذا ولكن - إلى - بين المثالين " في (ظ).
(2) راجع الصفحة 31.
(3) في (ص) زيادة: " فتأمل ".
(4) راجع الصفحة 43.
(5) في (ر) و (ص) زيادة: " معقد ".
(6) شطب على " بالاستصحاب " في (ت)، وكتب فوقها في (ص): " زائد ".
(7) انظر الذريعة 2: 833.
163

ببقائه فإنه لا يحكم ببقائه بمجرد احتماله، والمثبتين (1) بما إذا غاب زيد
عن أهله وماله فإنه يحرم التصرف فيهما بمجرد احتمال الموت.
ثم إن ظاهر عبارة المحقق وإن أوهم اختصاص مورد كلامه
بصورة دلالة المقتضي على تأبيد الحكم، فلا يشمل ما لو كان الحكم
موقتا - حتى جعل بعض (2) هذا من وجوه الفرق بين قول المحقق
والمختار، بعد ما ذكر وجوها اخر ضعيفة غير فارقة - لكن مقتضى
دليله (3) شموله لذلك إذا كان الشك في رافعية شئ للحكم قبل مجئ
الوقت.

(1) انظر المعارج: 207.
(2) هو صاحب الفصول في الفصول: 369.
(3) في (ه‍) زيادة: " بتنقيح المناط فيه ".
164

حجة القول العاشر
ما حكي عن المحقق السبزواري في الذخيرة (1)، فإنه استدل على
نجاسة الماء الكثير المطلق الذي سلب عنه الإطلاق - بممازجته مع
المضاف النجس - بالاستصحاب. ثم رده: بأن استمرار الحكم تابع
لدلالة الدليل، والإجماع إنما دل على النجاسة قبل الممازجة. ثم قال:
لا يقال: قول أبي جعفر (عليه السلام) في صحيحة زرارة: " ليس ينبغي
لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا، ولكن تنقضه بيقين آخر " يدل على
استمرار أحكام اليقين ما لم يثبت الرافع.
لأنا نقول: التحقيق أن الحكم الشرعي الذي تعلق به اليقين: إما
أن يكون مستمرا - بمعنى أن له دليلا دالا على الاستمرار بظاهره - أم
لا، وعلى الأول فالشك في رفعه يكون على أقسام.
ثم ذكر الشك في وجود الرافع، والشك في رافعية الشئ من جهة
إجمال معنى ذلك الشئ، والشك في كون الشئ مصداقا للرافع المبين
مفهوما، والشك في كون الشئ رافعا مستقلا. ثم قال:
إن الخبر المذكور إنما يدل على النهي عن نقض اليقين بالشك،
وذلك إنما يعقل في القسم الأول من تلك الأقسام الأربعة دون غيره،
لأن في غيره لو نقض الحكم بوجود الأمر الذي شك في كونه رافعا
لم يكن النقض بالشك، بل إنما يحصل النقض باليقين بوجود ما شك في

(1) حكاه عنه المحقق القمي في القوانين 2: 52.
165

كونه رافعا أو باليقين بوجود ما يشك في استمرار الحكم معه،
لا بالشك، فإن الشك في تلك الصور كان حاصلا من قبل ولم يكن
بسببه نقض، وإنما حصل (1) النقض حين اليقين بوجود ما يشك في كونه
رافعا للحكم بسببه، لأن الشئ إنما يستند إلى العلة التامة أو الجزء
الأخير منها، فلا يكون في تلك الصور نقض اليقين بالشك، وإنما يكون
ذلك في صورة خاصة دون (2) غيرها (3). انتهى كلامه، رفع مقامه.
أقول: ظاهره تسليم صدق النقض في صورة الشك في استمرار
الحكم فيما عدا القسم الأول أيضا (4)، وإنما المانع عدم صدق النقض
بالشك فيها.
ويرد عليه:
أولا: أن الشك واليقين قد يلاحظان بالنسبة إلى الطهارة مقيدة
بكونها قبل حدوث ما يشك في كونه رافعا، ومقيدة بكونها بعده،
فيتعلق اليقين بالأولى والشك بالثانية، واليقين والشك بهذه الملاحظة
يجتمعان في زمان واحد - سواء كان قبل حدوث ذلك الشئ أو بعده -
فهذا الشك كان حاصلا من قبل، كما أن اليقين باق من بعد.
وقد يلاحظان بالنسبة إلى الطهارة المطلقة، وهما بهذا الاعتبار
لا يجتمعان في زمان واحد، بل الشك متأخر عن اليقين.

(1) كذا في الذخيرة والقوانين، ولكن في النسخ بدل " حصل ": " يعقل ".
(2) لم ترد " دون " في الذخيرة والقوانين.
(3) الذخيرة: 115 - 116.
(4) لم ترد " أيضا " في (ر).
166

ولا ريب أن المراد باليقين والشك في قوله (عليه السلام) في صدر
الصحيحة المذكورة: " لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت "
وغيرها من أخبار الاستصحاب، هو اليقين والشك المتعلقان بشئ
واحد - أعني الطهارة المطلقة - وحينئذ فالنقض المنهي عنه هو نقض
اليقين بالطهارة بهذا الشك المتأخر المتعلق بنفس ما تعلق به اليقين.
وأما وجود الشئ المشكوك الرافعية، فهو بوصف الشك في كونه
رافعا الحاصل من قبل سبب لهذا الشك، فإن كل شك (1) لا بد له من
سبب متيقن الوجود حتى الشك في وجود الرافع، فوجود الشئ
المشكوك في رافعيته جزء أخير (2) للعلة التامة للشك المتأخر الناقض،
لا للنقض.
وثانيا: أن رفع اليد عن أحكام اليقين عند الشك في بقائه
وارتفاعه لا يعقل إلا أن يكون مسببا عن نفس الشك، لأن التوقف في
الزمان اللاحق عن الحكم السابق أو العمل بالأصول المخالفة له لا يكون
إلا لأجل الشك، غاية الأمر كون الشئ المشكوك كونه رافعا منشأ
للشك. والفرق بين الوجهين: أن الأول ناظر إلى عدم الوقوع، والثاني
إلى عدم الإمكان.
وثالثا: سلمنا أن النقض في هذه الصور ليس بالشك، لكنه ليس
نقضا باليقين بالخلاف، ولا يخفى أن ظاهر ما ذكره في ذيل الصحيحة:
" ولكن تنقضه بيقين آخر " حصر الناقض لليقين السابق في اليقين

(1) في (ص) بدل " شك ": " شئ ".
(2) في (ظ) بدل " أخير ": " آخر ".
167

بخلافه، وحرمة النقض بغيره - شكا كان أم يقينا بوجود ما شك في
كونه رافعا - ألا ترى أنه لو قيل في صورة الشك في وجود الرافع: أن
النقض بما هو متيقن من سبب الشك لا بنفسه، لا يسمع.
وبالجملة: فهذا القول ضعيف في الغاية، بل يمكن دعوى الإجماع
المركب بل البسيط على خلافه.
وقد يتوهم (1): أن مورد صحيحة زرارة الأولى (2) مما أنكر المحقق
المذكور الاستصحاب فيه، لأن السؤال فيها عن الخفقة والخفقتين من
نقضهما للوضوء.
وفيه: ما لا يخفى، فإن حكم الخفقة والخفقتين قد علم من
قوله (عليه السلام): " قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن "، وإنما سئل فيها
بعد ذلك عن حكم ما إذا وجدت أمارة على النوم، مثل: تحريك شئ
إلى جنبه وهو لا يعلم، فأجاب بعدم اعتبار ما عدا اليقين بقوله (عليه السلام):
" لا، حتى يستيقن أنه قد نام، حتى يجئ من ذلك أمر بين، وإلا فإنه
على يقين... الخ ".
نعم، يمكن أن يلزم المحقق المذكور - كما ذكرنا سابقا (3) - بأن الشك
في أصل النوم في مورد الرواية مسبب عن وجود ما يوجب الشك في
تحقق النوم، فالنقض به، لا بالشك (4)، فتأمل.

(1) هو شريف العلماء، انظر ضوابط الأصول: 351، وكذا صاحب الفصول في
الفصول: 372، والفاضل النراقي في مناهج الأحكام: 231.
(2) تقدمت في الصفحة 55.
(3) راجع الصفحة السابقة.
(4) في (ص) زيادة: " فيه ".
168

حجة القول الحادي عشر
ما ذكره المحقق الخوانساري (قدس سره) في شرح الدروس - عند قول
الشهيد (قدس سره): " ويجزي ذو الجهات الثلاث " - ما لفظه:
حجة القول بعدم الإجزاء: الروايات الواردة بالمسح بثلاثة أحجار
- والحجر الواحد لا يسمى بذلك -، واستصحاب حكم النجاسة حتى
يعلم لها مطهر شرعي، وبدون الثلاثة لا يعلم المطهر الشرعي.
وحسنة ابن المغيرة (1) وموثقة ابن يعقوب (2) لا يخرجان عن
الأصل، لعدم صحة سندهما، خصوصا مع معارضتهما بالروايات الواردة
بالمسح بثلاثة أحجار.
وأصل البراءة - بعد ثبوت النجاسة ووجوب إزالتها - لا يبقى بحاله.
إلى أن قال - بعد منع حجية الاستصحاب -:
اعلم أن القوم ذكروا أن الاستصحاب إثبات حكم في زمان
لوجوده في زمان سابق عليه، وهو ينقسم إلى قسمين، باعتبار انقسام
الحكم المأخوذ فيه إلى شرعي وغيره.
فالأول، مثل: ما إذا ثبت نجاسة ثوب أو بدن في زمان، فيقولون:
إن بعد ذلك الزمان (3) يجب الحكم بنجاسته إذا لم يحصل العلم برفعها.

(1) الوسائل 1: 227، الباب 13 من أبواب أحكام الخلوة، الحديث الأول.
(2) الوسائل 1: 223، الباب 9 من أبواب أحكام الخلوة، الحديث 5
(3) في المصدر زيادة: " أيضا ".
169

والثاني، مثل: ما إذا ثبت رطوبة ثوب في زمان، ففي ما بعد
ذلك الزمان يجب الحكم برطوبته ما لم يعلم الجفاف.
فذهب بعضهم إلى حجيته بقسميه، وذهب بعضهم إلى حجية
القسم الأول (1). واستدل كل من الفريقين بدلائل مذكورة في محلها، كلها
قاصرة عن إفادة المرام، كما يظهر بالتأمل فيها. ولم نتعرض لذكرها
هنا، بل نشير إلى ما هو الظاهر عندنا في هذا الباب، فنقول:
إن الاستصحاب بهذا المعنى لا حجية فيه أصلا بكلا قسميه، إذ
لا دليل عليه تاما، لا عقلا ولا نقلا. نعم، الظاهر حجية الاستصحاب
بمعنى آخر: وهو أن يكون دليل شرعي على أن الحكم الفلاني بعد
تحققه ثابت إلى زمان حدوث حال كذا أو وقت كذا - مثلا - معين في
الواقع، بلا اشتراطه بشئ أصلا، فحينئذ إذا حصل ذلك الحكم فيلزم
الحكم باستمراره إلى أن يعلم وجود ما جعل مزيلا له، ولا يحكم بنفيه
بمجرد الشك في وجوده.
والدليل على حجيته أمران:
الأول: أن هذا الحكم إما وضعي، أو اقتضائي، أو تخييري، ولما
كان الأول عند التحقيق يرجع إليهما فينحصر في الأخيرين.
وعلى التقديرين فيثبت ما رمناه (2):
أما على الأول، فلأنه إذا كان أمر أو نهي بفعل إلى غاية معينة
- مثلا - فعند الشك في حدوث تلك الغاية، لو لم يمتثل التكليف المذكور

(1) في المصدر زيادة: " فقط ".
(2) في (ر) ومصححة (ص) بدل " رمناه ": " ادعيناه "، وفي المصدر: " ذكرنا ".
170

لم يحصل الظن بالامتثال والخروج عن العهدة، وما لم يحصل الظن لم
يحصل الامتثال، فلا بد من بقاء ذلك التكليف حال الشك أيضا، وهو
المطلوب.
وأما على الثاني، فالأمر أظهر، كما لا يخفى.
والثاني: ما ورد في الروايات: من أن " اليقين لا ينقض
بالشك ".
فإن قلت: هذا كما يدل على (1) المعنى الذي ذكرته، كذلك يدل
على (2) المعنى الذي ذكره القوم، لأنه إذا حصل اليقين في زمان فلا
ينبغي أن ينقض في زمان آخر بالشك، نظرا إلى الروايات، وهو بعينه
ما ذكروه.
قلت: الظاهر أن المراد من عدم نقض اليقين بالشك أنه عند
التعارض لا ينقض به، والمراد بالتعارض أن يكون شئ يوجب
اليقين لولا الشك. وفيما ذكروه ليس كذلك، لأن اليقين بحكم في
زمان ليس مما يوجب حصوله في زمان آخر لولا عروض الشك،
وهو ظاهر.
فإن قلت: هل الشك في كون الشئ مزيلا للحكم مع العلم
بوجوده كالشك في وجود المزيل أو لا؟
قلت: فيه تفصيل، لأنه إن ثبت بالدليل أن ذلك الحكم مستمر
إلى غاية معينة في الواقع، ثم علمنا صدق تلك الغاية على شئ،
وشككنا في صدقها على شئ آخر، فحينئذ لا ينقض اليقين بالشك.

(1) و (2) في المصدر زيادة: " حجية ".
171

وأما إذا لم يثبت ذلك، بل ثبت أن ذلك الحكم مستمر في الجملة،
ومزيله الشئ الفلاني، وشككنا في أن الشئ الآخر أيضا يزيله أم لا؟
فحينئذ لا ظهور في عدم نقض الحكم وثبوت استمراره، إذ الدليل
الأول غير جار فيه، لعدم ثبوت حكم العقل في مثل هذه الصورة،
خصوصا مع ورود بعض الروايات الدالة على عدم المؤاخذة بما لا يعلم.
والدليل الثاني، الحق أنه لا يخلو من إجمال، وغاية ما يسلم منها ثبوت
الحكم في الصورتين اللتين ذكرناهما، وإن كان فيه أيضا بعض المناقشات،
لكنه لا يخلو عن تأييد للدليل الأول، فتأمل.
فإن قلت: الاستصحاب الذي يدعونه فيما نحن فيه وأنت منعته،
الظاهر أنه من قبيل ما اعترفت به، لأن حكم النجاسة ثابت ما لم
يحصل مطهر شرعي إجماعا، وهنا لم يحصل الظن المعتبر شرعا بوجود
المطهر، لأن حسنة ابن المغيرة وموثقة ابن يعقوب (1) ليستا حجة شرعية،
خصوصا مع معارضتهما بالروايات المتقدمة، فغاية الأمر حصول الشك
بوجود المطهر، وهو لا ينقض اليقين (2).
قلت: كونه من قبيل الثاني ممنوع، إذ لا دليل على أن النجاسة
باقية ما لم يحصل مطهر شرعي، وما ذكر من الإجماع غير معلوم، لأن
غاية ما أجمعوا عليه أن التغوط إذا حصل لا يصح الصلاة (3) بدون الماء
والتمسح رأسا - لا بالثلاثة ولا بشعب الحجر الواحد - فهذا الإجماع

(1) تقدم تخريجهما في الصفحة 169، الهامش 1 و 2.
(2) في المصدر زيادة: " كما ذكرت فما وجه المنع؟ ".
(3) في المصدر زيادة: " مثلا ".
172

لا يستلزم الإجماع على ثبوت حكم النجاسة حتى يحدث شئ معين في
الواقع مجهول عندنا قد اعتبره الشارع مطهرا، فلا يكون من قبيل ما
ذكرنا.
فإن قلت: هب أنه ليس داخلا تحت الاستصحاب المذكور، لكن
نقول: قد ثبت بالإجماع وجوب شئ على المتغوط في الواقع، وهو
مردد بين أن يكون المسح بثلاثة أحجار أو الأعم منه ومن المسح
بجهات حجر واحد، فما لم يأت بالأول لم يحصل اليقين بالامتثال
والخروج عن العهدة، فيكون الإتيان به واجبا.
قلت: نمنع الإجماع على وجوب شئ معين في الواقع مبهم في
نظر المكلف، بحيث لو لم يأت بذلك الشئ المعين لاستحق العقاب، بل
الإجماع على أن ترك الأمرين معا سبب لاستحقاق العقاب، فيجب أن
لا يتركهما.
والحاصل: أنه إذا ورد نص أو إجماع على وجوب شئ معين
- مثلا - معلوم عندنا، أو ثبوت حكم إلى غاية معينة عندنا، فلا بد من
الحكم بلزوم تحصيل اليقين أو الظن بوجود ذلك الشئ المعلوم، حتى
يتحقق الامتثال، ولا يكفي الشك في وجوده. وكذا يلزم الحكم ببقاء
ذلك الحكم إلى أن يحصل العلم أو الظن بوجود تلك الغاية المعلومة،
ولا يكفي الشك في وجودها في ارتفاع ذلك الحكم.
وكذا إذا ورد نص أو إجماع على وجوب شئ معين في الواقع
مردد في نظرنا بين أمور، ويعلم أن ذلك التكليف غير مشروط بشئ
من العلم بذلك الشئ مثلا، أو على ثبوت حكم إلى غاية معينة في
الواقع مرددة عندنا بين أشياء، ويعلم أيضا عدم اشتراطه بالعلم مثلا،
173

يجب الحكم بوجوب تلك الأشياء المرددة (1) في نظرنا، وبقاء ذلك الحكم
إلى حصول تلك الأشياء أيضا، ولا يكفي الإتيان بشئ واحد منها في
سقوط التكليف، وكذا حصول شئ واحد في ارتفاع الحكم. وسواء في
ذلك كون الواجب شيئا معينا في الواقع مجهولا عندنا أو أشياء كذلك،
أو غاية معينة في الواقع مجهولة عندنا أو غايات كذلك، وسواء أيضا
تحقق قدر مشترك بين تلك الأشياء والغايات أو تباينها بالكلية.
وأما إذا لم يكن الأمر كذلك، بل ورد نص - مثلا - على أن
الواجب الشئ الفلاني ونص آخر على أن ذلك الواجب شئ آخر،
أو ذهب بعض الأمة إلى وجوب شئ وبعض آخر إلى وجوب
شئ آخر، وظهر - بالنص و (2) الإجماع في الصورتين - أن ترك ذينك
الشيئين معا سبب لاستحقاق العقاب، فحينئذ لم يظهر وجوب الإتيان
بهما معا حتى يتحقق الامتثال، بل الظاهر الاكتفاء بواحد منهما، سواء
اشتركا في أمر أم تباينا كلية. وكذلك الحكم في ثبوت الحكم الكلي
إلى الغاية.
هذا مجمل القول في هذا المقام. وعليك بالتأمل في خصوصيات
الموارد، واستنباط أحكامها عن هذا الأصل، ورعاية جميع ما يجب
رعايته عند تعارض المعارضات. والله الهادي إلى سواء الطريق (3).
انتهى كلامه، رفع مقامه.

(1) في المصدر زيادة: " فيها ".
(2) في المصدر بدل " و ": " أو ".
(3) مشارق الشموس: 75 - 76.
174

وحكى السيد الصدر في شرح الوافية عنه (قدس سره) حاشية أخرى له (1)
- عند قول الشهيد (رحمه الله): " ويحرم استعمال الماء النجس والمشتبه... الخ " -
ما لفظه:
وتوضيحه: أن الاستصحاب لا دليل على حجيته عقلا، وما
تمسكوا به ضعيف. وغاية ما تمسكوا (2) فيها ما ورد في بعض الروايات
الصحيحة: " إن اليقين لا ينقض بالشك "، وعلى تقدير تسليم صحة
الاحتجاج بالخبر في مثل هذا الأصل (3) وعدم منعها - بناء على أن هذا
الحكم الظاهر أنه من الأصول، ويشكل التمسك بخبر الواحد في
الأصول، إن سلم التمسك به في الفروع - نقول:
أولا: أنه لا يظهر شموله للأمور الخارجية، مثل رطوبة الثوب
ونحوها، إذ يبعد أن يكون مرادهم بيان الحكم في مثل هذه الأمور التي
ليست أحكاما شرعية، وإن أمكن أن يصير منشأ لحكم شرعي، وهذا
ما يقال: إن الاستصحاب في الأمور الخارجية لا عبرة به.
ثم بعد تخصيصه بالأحكام الشرعية، فنقول: الأمر على
وجهين:
أحدهما: أن يثبت حكم شرعي في مورد خاص باعتبار حال
يعلم من الخارج أن زوال تلك الحال لا يستلزم زوال ذلك الحكم.
والآخر: أن يثبت باعتبار حال لا يعلم فيه ذلك.

(1) ليست هذه الحاشية في الموضع المذكور فيما عندنا من نسخة مشارق الشموس.
(2) في المصدر بدل " تمسكوا ": " يتمسك ".
(3) في المصدر بدل " الأصل ": " الحكم ".
175

مثال الأول: إذا ثبت نجاسة ثوب خاص باعتبار ملاقاته للبول،
بأن يستدل عليها: بأن هذا شئ لاقاه البول، وكل ما لاقاه البول
نجس، فهذا نجس. والحكم الشرعي النجاسة، وثبوته باعتبار حال هو
ملاقاة البول، وقد علم من خارج - ضرورة أو إجماعا أو غير ذلك -
بأنه لا يزول النجاسة بزوال الملاقاة فقط.
ومثال الثاني: ما نحن بصدده، فإنه ثبت وجوب الاجتناب عن
الإناء المخصوص باعتبار أنه شئ يعلم وقوع النجاسة فيه بعينه، وكل
شئ كذلك يجب الاجتناب عنه، ولم يعلم بدليل من الخارج أن زوال
ذلك الوصف الذي يحصل باعتبار زوال المعلومية بعينه لا دخل له في
زوال ذلك الحكم.
وعلى هذا نقول: شمول الخبر للقسم الأول ظاهر، فيمكن التمسك
بالاستصحاب فيه. وأما القسم الثاني فالتمسك فيه مشكل.
فإن قلت: بعدما علم في القسم الأول أنه لا يزول الحكم بزوال
الوصف، فأي حاجة إلى التمسك بالاستصحاب؟ وأي فائدة فيما ورد في
الأخبار، من: أن اليقين لا ينقض بالشك؟
قلت: القسم الأول على وجهين:
أحدهما: أن يثبت أن الحكم - مثل النجاسة بعد الملاقاة - حاصل
ما لم يرد عليه (1) الماء على الوجه المعتبر في الشرع، وحينئذ فائدته أن
عند حصول الشك في ورود الماء لا يحكم بزوال النجاسة.
والآخر: أن يعلم ثبوت الحكم في الجملة بعد زوال الوصف، لكن

(1) في المصدر: " عليها ".
176

لم يعلم أنه ثابت دائما، أو في بعض الأوقات إلى غاية معينة محدودة،
أم لا؟ وفائدته (1) أنه إذا ثبت الحكم في الجملة فيستصحب إلى أن يعلم
المزيل.
ثم لا يخفى: أن الفرق الذي ذكرنا - من أن إثبات مثل هذا بمجرد
الخبر مشكل، مع انضمام أن الظهور (2) في القسم الثاني لم يبلغ مبلغه في
القسم الأول، وأن اليقين لا ينقض بالشك - قد يقال: إن ظاهره أن
يكون اليقين حاصلا - لولا الشك - باعتبار دليل دال على الحكم في
غير صورة ما شك فيه، إذ لو فرض عدم دليل لكان نقض اليقين
- حقيقة - باعتبار عدم الدليل الذي هو دليل العدم، لا الشك، كأنه
يصير قريبا. ومع ذلك ينبغي رعاية الاحتياط في كل من القسمين، بل
في الأمور الخارجية أيضا (3). انتهى كلامه، رفع مقامه.
أقول: لقد أجاد فيما أفاد، وجاء بما فوق المراد، إلا أن في كلامه
مواقع للتأمل، فلنذكر مواقعه ونشير إلى وجهه، فنقول:
قوله: " وذهب بعضهم إلى حجيته في القسم الأول ".
ظاهره - كصريح ما تقدم منه في حاشيته الأخرى - وجود القائل
بحجية الاستصحاب في الأحكام الشرعية الجزئية كطهارة هذا الثوب،
والكلية كنجاسة المتغير بعد زوال التغير، وعدم الحجية في الأمور
الخارجية، كرطوبة الثوب وحياة زيد.

(1) في المصدر زيادة: " حينئذ ".
(2) في المصدر بدل " الظهور ": " اليقين ".
(3) شرح الوافية (مخطوط): 339 - 341.
177

وفيه نظر، يعرف (1) بالتتبع في كلمات القائلين بحجية الاستصحاب
وعدمها، والنظر في أدلتهم، مع أن ما ذكره في الحاشية الأخيرة - دليلا
لعدم الجريان في الموضوع - جار في الحكم الجزئي أيضا، فإن بيان
وصول النجاسة إلى هذا الثوب الخاص واقعا وعدم وصولها، وبيان
نجاسته المسببة عن هذا الوصول وعدمها لعدم الوصول، كلاهما خارج
عن شأن الشارع، كما أن بيان طهارة الثوب المذكور ظاهرا وبيان عدم
وصول النجاسة إليه ظاهرا - الراجع في الحقيقة إلى الحكم بالطهارة
ظاهرا - ليس إلا شأن الشارع، كما نبهنا عليه فيما تقدم (2) (3).
قوله: " الظاهر حجية الاستصحاب بمعنى آخر... الخ ".
وجه مغايرة ما ذكره لما ذكره المشهور، هو: أن الاعتماد في البقاء
عند المشهور على الوجود السابق - كما هو ظاهر قوله: " لوجوده في
زمان سابق عليه "، وصريح قول شيخنا البهائي: " إثبات الحكم في
الزمان الثاني تعويلا على ثبوته في الزمن الأول " (4) - وليس الأمر كذلك
على طريقة شارح الدروس.
قوله (قدس سره): " إن الحكم الفلاني بعد تحققه ثابت إلى حدوث حال

(1) تقدم وجه النظر في الصفحة 33.
(2) راجع الصفحة 112.
(3) في حاشية (ص) زيادة العبارة التالية: " ونظيره أدلة حل الأشياء الواردة في
الشبهة الموضوعية كما في رواية مسعدة بن صدقة الواردة في الثوب المشتبه
بالحرام والمملوك المشتبه بالحر والزوجة المشتبهة بالرضيعة ".
(4) الزبدة: 72 - 73.
178

كذا أو وقت كذا... الخ ".
أقول: بقاء الحكم إلى زمان كذا يتصور على وجهين:
الأول: أن يلاحظ الفعل إلى زمان كذا موضوعا واحدا تعلق به
الحكم الواحد، كأن يلاحظ الجلوس في المسجد إلى وقت الزوال فعلا
واحدا تعلق به أحد الأحكام الخمسة، ومن أمثلته: الإمساك المستمر
إلى الليل، حيث إنه ملحوظ فعلا واحدا تعلق به الوجوب أو الندب أو
غيرهما من أحكام الصوم.
الثاني: أن يلاحظ الفعل في كل جزء يسعه من الزمان المغيا (1)
موضوعا مستقلا تعلق به حكم، فيحدث في المقام أحكام متعددة
لموضوعات متعددة، ومن أمثلته: وجوب الصوم عند رؤية هلال
رمضان إلى أن يرى هلال شوال، فإن صوم كل يوم إلى انقضاء الشهر
فعل مستقل تعلق به حكم مستقل.
أما الأول، فالحكم التكليفي: إما أمر، وإما نهي، وإما تخيير:
فإن كان أمرا، كان اللازم عند الشك في وجود الغاية ما ذكره:
من وجوب الإتيان بالفعل تحصيلا لليقين بالبراءة من التكليف المعلوم،
لكن يجب تقييده بما إذا لم يعارضه تكليف آخر محدود بما بعد الغاية،
كما إذا وجب الجلوس في المسجد إلى الزوال، ووجب الخروج منه من
الزوال إلى الغروب، فإن وجوب الاحتياط للتكليف بالجلوس عند
الشك في الزوال معارض بوجوب الاحتياط للتكليف بالخروج بعد
الزوال، فلا بد من الرجوع في وجوب الجلوس عند الشك في الزوال

(1) في نسخة بدل (ص) بدل " المغيا ": " المعين ".
179

إلى أصل آخر غير الاحتياط، مثل: أصالة عدم الزوال، أو عدم
الخروج عن عهدة التكليف بالجلوس، أو عدم حدوث التكليف بالخروج،
أو غير ذلك.
وإن كان نهيا، كما إذا حرم الإمساك المحدود بالغاية المذكورة أو
الجلوس المذكور، فإن قلنا بتحريم الاشتغال - كما هو الظاهر - كان
المتيقن التحريم قبل الشك في وجود الغاية، وأما التحريم بعده فلا يثبت
بما ذكر في الأمر، بل يحتاج إلى الاستصحاب المشهور، وإلا فالأصل
الإباحة في صورة الشك. وإن قلنا: إنه لا يتحقق الحرام ولا استحقاق
العقاب إلا بعد تمام (1) الإمساك والجلوس المذكورين، فيرجع إلى مقتضى
أصالة عدم استحقاق العقاب وعدم تحقق المعصية، ولا دخل له بما ذكره
في الأمر.
وإن كان تخييرا، فالأصل فيه وإن اقتضى عدم حدوث حكم ما
بعد الغاية للفعل عند الشك فيها، إلا أنه قد يكون حكم ما بعد الغاية
تكليفا منجزا يجب فيه الاحتياط، كما إذا أباح الأكل إلى طلوع الفجر
مع تنجز وجوب الإمساك من طلوع الفجر إلى الغروب عليه، فإن
الظاهر لزوم الكف من الأكل عند الشك. هذا كله إذا لوحظ الفعل
المحكوم عليه بالحكم الاقتضائي أو التخييري أمرا واحدا مستمرا.
وأما الثاني، وهو ما لوحظ فيه الفعل أمورا متعددة كل واحد
منها متصف بذلك الحكم غير مربوط بالآخر، فإن كان أمرا أو نهيا
فأصالة الإباحة والبراءة قاضية بعدم الوجوب والحرمة في زمان الشك،

(1) في (ص) و (ظ) بدل " تمام ": " إتمام ".
180

وكذلك أصالة الإباحة في الحكم التخييري، إلا إذا كان الحكم فيما بعد
الغاية تكليفا منجزا يجب فيه الاحتياط.
فعلم مما ذكرنا: أن ما ذكره من الوجه الأول الراجع إلى
وجوب تحصيل الامتثال لا يجري إلا في قليل من الصور المتصورة في
المسألة، ومع ذلك فلا يخفى أن إثبات الحكم في زمان الشك بقاعدة
الاحتياط كما في الاقتضائي، أو قاعدة الإباحة والبراءة كما في الحكم
التخييري، ليس قولا بالاستصحاب المختلف فيه أصلا، لأن مرجعه إلى
أن إثبات الحكم في الزمان الثاني يحتاج إلى دليل يدل عليه ولو كان
أصالة الاحتياط أو البراءة، وهذا عين إنكار الاستصحاب، لأن المنكر (1)
يرجع إلى أصول اخر، فلا حاجة إلى تطويل الكلام وتغيير أسلوب
كلام المنكرين في هذا المقام.
* * *
بقي الكلام في توجيه ما ذكره: من أن الأمر في الحكم التخييري
أظهر، ولعل الوجه فيه: أن الحكم بالتخيير في زمان الشك في وجود
الغاية مطابق لأصالة الإباحة الثابتة بالعقل والنقل، كما أن الحكم بالبقاء
في الحكم الاقتضائي كان مطابقا لأصالة الاحتياط الثابتة في المقام
بالعقل والنقل.
وقد وجه المحقق القمي (قدس سره) إلحاق الحكم التخييري بالاقتضائي:
بأن مقتضى التخيير إلى غاية وجوب الاعتقاد بثبوته في كل جزء مما

(1) في مصححة (ص) زيادة: " للاستصحاب لا بد أن "، وفي (ظ) بدل " لأن
المنكر ": " فالمنكر ".
181

قبل الغاية، ولا يحصل اليقين بالبراءة من التكليف باعتقاد التخيير عند
الشك في حدوث الغاية، إلا بالحكم بالإباحة واعتقادها في هذا الزمان
أيضا (1).
وفيه: أنه إن أريد وجوب الاعتقاد بكون الحكم المذكور ثابتا
إلى الغاية المعينة، فهذا الاعتقاد موجود ولو بعد القطع بتحقق الغاية
فضلا عن صورة الشك فيه، فإن هذا اعتقاد بالحكم الشرعي الكلي،
ووجوبه غير مغيا بغاية، فإن الغاية غاية للمعتقد لا لوجوب الاعتقاد.
وإن أريد وجوب الاعتقاد بذلك الحكم التخييري في كل جزء من
الزمان الذي يكون في الواقع مما قبل الغاية وإن لم يكن معلوما عندنا،
ففيه: أن وجوب الاعتقاد في هذا الجزء المشكوك بكون الحكم فيه هو
الحكم الأولي أو غيره ممنوع جدا، بل الكلام في جوازه، لأنه معارض
بوجوب الاعتقاد بالحكم الآخر الذي ثبت فيما بعد الغاية واقعا وإن لم
يكن معلوما، بل لا يعقل وجوب الاعتقاد مع الشك في الموضوع، كما
لا يخفى.
ولعل هذا الموجه (قدس سره) قد وجد عبارة شرح الدروس في نسخته
- كما وجدته (2) في بعض نسخ شرح الوافية - هكذا (3): " وأما على الثاني
فالأمر كذلك " كما لا يخفى، لكني راجعت بعض نسخ شرح الدروس

(1) القوانين 2: 67.
(2) وهو كذلك في نسختنا من شرح الوافية أيضا، انظر شرح الوافية (مخطوط):
334.
(3) " هكذا " من نسخة بدل (ص).
182

فوجدت لفظ " أظهر " بدل " كذلك " (1)، وحينئذ فظاهره مقابلة وجه
الحكم بالبقاء في التخيير بوجه الحكم بالبقاء في الاقتضاء، فلا وجه
لإرجاع أحدهما إلى الآخر.
والعجب من بعض المعاصرين (2)، حيث أخذ التوجيه المذكور عن
القوانين، ونسبه إلى المحقق الخوانساري، فقال:
حجة المحقق الخوانساري أمران: الأخبار، وأصالة الاشتغال. ثم
أخذ في إجراء أصالة الاشتغال في الحكم التخييري بما وجهه في
القوانين، ثم أخذ في الطعن عليه.
وأنت خبير: بأن الطعن في التوجيه، لا في حجة المحقق، بل
لا طعن في التوجيه أيضا، لأن غلط النسخة ألجأه إليه.
هذا، وقد أورد عليه السيد الشارح: بجريان ما ذكره من قاعدة
وجوب تحصيل الامتثال في استصحاب القوم (3)، قال:
بيانه: أنا كما نجزم - في الصورة التي فرضها - بتحقق الحكم في
قطعة من الزمان، ونشك أيضا - حين القطع - في تحققه في زمان يكون
حدوث الغاية فيه وعدمه متساويين عندنا، فكذلك نجزم بتحقق الحكم
في زمان لا يمكن تحققه إلا فيه، ونشك - حين القطع - في تحققه في
زمان متصل بذلك الزمان، لاحتمال وجود رافع لجزء من أجزاء علة
الوجود، وكما أن في الصورة الأولى يكون الدليل محتملا لأن يراد منه

(1) وهكذا فيما بأيدينا من نسخة مشارق الشموس: 76.
(2) هو صاحب الفصول في الفصول: 375.
(3) في (ص) زيادة: " أيضا ".
183

وجود الحكم في زمان الشك وأن يراد عدم وجوده، فكذلك الدليل في
الصورة التي فرضناها، وحينئذ فنقول: لو لم يمتثل المكلف (1) لم يحصل
الظن بالامتثال... إلى آخر ما ذكره (2)، انتهى.
أقول: وهذا الإيراد ساقط عن المحقق، لعدم جريان قاعدة
الاشتغال في غير الصورة التي فرضها المحقق، مثلا: إذا ثبت وجوب
الصوم في الجملة، وشككنا في أن غايته سقوط القرص أو ميل الحمرة
المشرقية، فاللازم حينئذ - على ما صرح به المحقق المذكور في عدة
مواضع من كلماته - الرجوع في نفي الزائد، وهو وجوب الإمساك بعد
سقوط القرص، إلى أصالة البراءة، لعدم ثبوت التكليف بإمساك أزيد
من المقدار المعلوم، فيرجع إلى مسألة الشك في الجزئية، فلا يمكن أن
يقال: إنه لو لم يمتثل التكليف لم يحصل الظن بالامتثال، لأنه إن أريد
امتثال التكليف المعلوم فقد حصل قطعا، وإن أريد امتثال التكليف
المحتمل فتحصيله غير لازم.
وهذا بخلاف فرض المحقق، فإن التكليف بالإمساك - إلى السقوط
على القول به أو ميل الحمرة على القول الآخر - معلوم مبين، وإنما
الشك في الإتيان به عند الشك في حدوث الغاية. فالفرق بين مورد
استصحابه ومورد استصحاب القوم، كالفرق بين الشك في إتيان الجزء
المعلوم الجزئية والشك في جزئية شئ، وقد تقرر في محله جريان أصالة
الاحتياط في الأول دون الثاني (3).

(1) في المصدر بدل " المكلف ": " التكليف المذكور ".
(2) شرح الوافية (مخطوط): 337.
(3) راجع مبحث الاشتغال 2: 317.
184

وقس على ذلك سائر موارد استصحاب القوم، كما لو ثبت أن
للحكم غاية وشككنا في كون شئ آخر أيضا غاية له، فإن المرجع في
الشك في ثبوت الحكم بعد تحقق ما شك في كونه غاية عند المحقق
الخوانساري (قدس سره) هي أصالة البراءة دون الاحتياط.
قوله (1): " الظاهر أن المراد من عدم نقض اليقين بالشك أنه عند
التعارض لا ينقض، ومعنى التعارض أن يكون شئ يوجب اليقين لولا
الشك ".
أقول: ظاهر هذا الكلام جعل تعارض اليقين والشك باعتبار
تعارض المقتضي لليقين ونفس الشك، على أن يكون الشك مانعا عن
اليقين، فيكون من قبيل تعارض المقتضي للشئ والمانع عنه. والظاهر
أن المراد بالموجب في كلامه دليل اليقين السابق، وهو الدال على
استمرار حكم إلى غاية معينة.
وحينئذ فيرد عليه - مضافا إلى أن التعارض الذي استظهره من
لفظ " النقض " لا بد أن يلاحظ بالنسبة إلى الناقض ونفس المنقوض،
لا مقتضيه الموجب له لولا الناقض -: أن نقض اليقين بالشك - بعد صرفه
عن ظاهره، وهو نقض صفة اليقين أو أحكامها الثابتة لها من حيث
هي صفة من الصفات، لارتفاع (2) اليقين وأحكامه الثابتة له من حيث
هو حين الشك قطعا - ظاهر في نقض أحكام اليقين، يعني: الأحكام
الثابتة باعتباره للمتيقن أعني المستصحب، فيلاحظ التعارض حينئذ بين

(1) أي قول المحقق الخوانساري المتقدم في الصفحة 171.
(2) في حاشية (ص) بدل " لارتفاع ": " ضرورة ارتفاع ".
185

المنقوض والناقض، واللازم من ذلك اختصاص الأخبار بما يكون
المتيقن وأحكامه مما يقتضي بنفسه الاستمرار لولا الرافع، فلا ينقض
تلك الأحكام بمجرد الشك في الرافع، سواء كان الشك في وجود الرافع
أو في رافعية الموجود. وبين هذا وما ذكره المحقق (1) تباين جزئي.
ثم إن تعارض المقتضي لليقين ونفس الشك لم يكد يتصور فيما
نحن فيه، لأن اليقين بالمستصحب - كوجوب الإمساك في الزمان
السابق - كان حاصلا من اليقين بمقدمتين: صغرى وجدانية، وهي " أن
هذا الآن لم يدخل الليل "، وكبرى مستفادة من دليل استمرار الحكم
إلى غاية معينة، وهي " وجوب الإمساك قبل أن يدخل الليل "
و (2) المراد بالشك زوال اليقين بالصغرى، وهو ليس من قبيل المانع عن
اليقين، والكبرى من قبيل المقتضي له، حتى يكونا من قبيل المتعارضين،
بل نسبة اليقين إلى المقدمتين على نهج سواء، كل منهما من قبيل جزء
المقتضي له.
والحاصل: أن ملاحظة النقض بالنسبة إلى الشك وأحكام المتيقن
الثابتة لأجل اليقين أولى من ملاحظته بالنسبة إلى الشك ودليل
اليقين.
وأما توجيه كلام المحقق: بأن يراد من موجب اليقين دليل

(1) أي المحقق الخوانساري.
(2) ورد في (ظ) ونسخة بدل (ص) زيادة: " معلوم أن شيئا من المقدمتين لا
اقتضاء فيه لوجوب الإمساك في زمان الشك لو خلي وطبعه حتى يكون الشك
من قبيل المانع عنه، مع أن ".
186

المستصحب وهو عموم الحكم المغيا، ومن الشك احتمال الغاية (1) التي (2)
من مخصصات العام، فالمراد عدم نقض عموم دليل المستصحب بمجرد
الشك في المخصص.
فمدفوع: بأن نقض العام باحتمال التخصيص إنما يتصور في الشك
في أصل التخصيص، ومعه يتمسك بعموم الدليل لا بالاستصحاب، وأما
مع اليقين بالتخصيص والشك في تحقق المخصص المتيقن - كما في ما نحن
فيه - فلا مقتضي للحكم العام حتى يتصور نقضه، لأن العام المخصص
لا اقتضاء فيه لثبوت الحكم في مورد الشك في تحقق المخصص، خصوصا
في مثل التخصيص بالغاية.
والحاصل: أن المقتضي والمانع في باب العام والخاص هو لفظ
العام والمخصص، فإذا أحرز المقتضي وشك في وجود المخصص يحكم
بعدمه عملا بظاهر العام، وإذا علم بالتخصيص وخروج اللفظ عن
ظاهر العموم ثم شك في صدق المخصص على شئ، فنسبة دليلي العموم
والتخصيص إليه على السواء من حيث الاقتضاء.
هذا كله، مع أن ما ذكره في معنى " النقض " لا يستقيم في
قوله (عليه السلام) في ذيل الصحيحة (3): " ولكن ينقضه بيقين آخر "، وقوله (عليه السلام)
في الصحيحة المتقدمة (4) الواردة في الشك بين الثلاث والأربع: " ولكن

(1) في (ص) شطب على " الغاية "، وكتب فوقها: " غاية الشئ، وهي ".
(2) في (ت) زيادة: " هي ".
(3) أي: صحيحة زرارة الأولى المتقدمة في الصفحة 55.
(4) أي: صحيحة زرارة الثالثة المتقدمة في الصفحة 62.
187

ينقض الشك باليقين "، بل ولا في صدرها المصرح بعدم نقض اليقين
بالشك، فإن المستصحب في موردها: إما عدم فعل الزائد، وإما عدم
براءة الذمة من الصلاة - كما تقدم (1) -، ومن المعلوم أنه ليس في شئ
منهما دليل يوجب اليقين لولا الشك.
قوله (2) - في جواب السؤال -: " قلت: فيه تفصيل... إلى آخر
الجواب ".
أقول: إن النجاسة فيما ذكره من الفرض - أعني موضع الغائط -
مستمرة، وثبت أن التمسح بثلاثة أحجار مزيل لها، وشك أن التمسح
بالحجر الواحد ذي الجهات مزيل أيضا أم لا؟ فإذا ثبت وجوب إزالة
النجاسة، والمفروض الشك في تحقق الإزالة بالتمسح بالحجر الواحد ذي
الجهات، فمقتضى دليله هو وجوب تحصيل اليقين أو الظن المعتبر
بالزوال، وفي مثل هذا المقام لا يجري أصالة البراءة ولا أدلتها، لعدم
وجود القدر المتيقن في المأمور به وهي الإزالة وإن كان ما يتحقق به
مرددا بين الأقل والأكثر، لكن هذا الترديد ليس في نفس المأمور به،
كما لا يخفى. نعم، لو فرض أنه لم يثبت الأمر بنفس الإزالة، وإنما ثبت
بالتمسح بثلاثة أحجار أو بالأعم منه ومن التمسح بذي الجهات، أمكن
بل لم يبعد إجراء أصالة البراءة عما عدا الأعم.
والحاصل: أنه فرق بين الأمر بإزالة النجاسة من الثوب، المرددة
بين غسله مرة أو مرتين، وبين الأمر بنفس الغسل المردد بين المرة

(1) راجع الصفحة 62 - 63.
(2) المتقدم في الصفحة 171.
188

والمرتين. والذي يعين كون مسألة التمسح من قبيل الأول دون الثاني
هو ما استفيد من أدلة وجوب إزالة النجاسة عن الثوب والبدن (1)
للصلاة، مثل قوله تعالى: * (وثيابك فطهر) * (2)، وقوله (عليه السلام) في صحيحة
زرارة: " لا صلاة إلا بطهور " (3) بناء على شمول الطهور - ولو بقرينة
ذيله الدال على كفاية الأحجار من الاستنجاء - للطهارة الخبثية، ومثل
الإجماعات المنقولة على وجوب إزالة النجاسة عن الثوب والبدن
للصلاة.
وهذا المعنى وإن لم يدل عليه دليل صحيح السند والدلالة على
وجه يرتضيه المحقق المذكور (4)، بل ظاهر أكثر الأخبار الأمر بنفس
الغسل، إلا أن الإنصاف وجود الدليل على وجوب نفس الإزالة، وأن
الأمر بالغسل في الأخبار ليس لاعتباره بنفسه في الصلاة، وإنما هو أمر
مقدمي لإزالة النجاسة، مع أن كلام المحقق المذكور لا يختص بالمثال
الذي ذكره حتى يناقش فيه.
وبما ذكرنا يظهر ما في قوله في جواب الاعتراض الثاني (5) - بأن
مسألة الاستنجاء من قبيل ما نحن فيه - ما لفظه: " غاية ما أجمعوا

(1) لم ترد " عن الثوب والبدن " في (ظ) و (ر).
(2) المدثر: 4.
(3) الوسائل 1: 256، الباب الأول من أبواب الوضوء، الحديث الأول.
(4) في (ت) و (ظ) زيادة: " بعد رد روايتي ابن المغيرة وابن يعقوب "، لكن
شطب عليها في (ت).
(5) المتقدم في الصفحة 172.
189

عليه: أن التغوط متى حصل لا يصح الصلاة بدون الماء والتمسح رأسا
- لا بالثلاث ولا بشعب الحجر الواحد - وهذا لا يستلزم الإجماع على
ثبوت النجاسة حتى يحصل شئ معين في الواقع مجهول عندنا قد اعتبره
الشارع مطهرا... الخ " (1).
ويظهر ما في قوله جوابا عن الاعتراض الأخير (2): " إنه لم يثبت
الإجماع على وجوب شئ معين بحيث لو لم يأت بذلك الشئ لاستحق
العقاب... الخ " (3).
وما في كلامه المحكي (4) في حاشية شرحه على قول الشهيد (قدس سره):
" ويحرم استعمال الماء النجس والمشتبه... ".
وأنت إذا أحطت خبرا بما ذكرنا في أدلة الأقوال، علمت أن
الأقوى منها القول التاسع، وبعده القول المشهور، والله العالم بحقائق
الأمور.

(1) تقدم في الصفحة 172 - 173.
(2) المتقدم في الصفحة 173.
(3) تقدم في الصفحة 173.
(4) المتقدم في الصفحة 175.
190

وينبغي التنبيه على أمور:
وهي بين ما يتعلق بالمتيقن السابق، وما يتعلق بدليله الدال عليه،
وما يتعلق بالشك اللاحق في بقائه.
الأول
أن المتيقن السابق إذا كان كليا في ضمن فرد (1) وشك في بقائه:
فإما أن يكون الشك من جهة الشك في بقاء ذلك الفرد.
وإما أن يكون من جهة الشك في تعيين ذلك الفرد وتردده بين
ما هو باق جزما وبين ما هو مرتفع كذلك.
وإما أن يكون من جهة الشك في وجود فرد آخر مع الجزم
بارتفاع ذلك الفرد.
أما الأول، فلا إشكال في جواز استصحاب الكلي ونفس الفرد
وترتيب أحكام كل منهما عليه.
وأما الثاني، فالظاهر جواز الاستصحاب في الكلي مطلقا على
المشهور (2). نعم، لا يتعين بذلك أحكام الفرد الباقي (3).

(1) في (ر)، (ص) و (ظ): " فرده ".
(2) نسبته إلى المشهور باعتبار أن من جملة أفراد الإطلاق في هذا القسم هو
الشك في المقتضي، والمصنف لا يقول بحجية الاستصحاب فيه.
(3) في (ت) و (ه‍) بدل " الباقي ": " الذي يستلزم بقاء الكلي ذلك الفرد في
الواقع ".
191

سواء كان الشك من جهة الرافع، كما إذا علم بحدوث البول أو
المني ولم يعلم الحالة السابقة وجب (1) الجمع بين الطهارتين، فإذا فعل
إحداهما وشك في رفع الحدث فالأصل بقاؤه، وإن كان الأصل عدم
تحقق الجنابة، فيجوز له ما يحرم على الجنب.
أم كان الشك من جهة المقتضي، كما لو تردد من في الدار بين
كونه حيوانا لا يعيش إلا سنة وكونه حيوانا يعيش مائة سنة، فيجوز
بعد السنة الأولى استصحاب الكلي المشترك بين الحيوانين، ويترتب عليه
آثاره الشرعية الثابتة دون آثار شئ من الخصوصيتين، بل يحكم بعدم
كل منهما لو لم يكن مانع عن إجراء الأصلين، كما في الشبهة المحصورة.
وتوهم: عدم جريان الأصل في القدر المشترك، من حيث دورانه
بين ما هو مقطوع الانتفاء، وما هو مشكوك الحدوث، وهو (2) محكوم
بالانتفاء بحكم الأصل (3).
مدفوع: بأنه لا يقدح ذلك في استصحابه بعد فرض الشك في
بقائه وارتفاعه، إما لعدم استعداده وإما لوجود الرافع (4).
كاندفاع توهم (5): كون الشك في بقائه مسببا عن الشك في

(1) في (ر) بدل " وجب ": " في "، وفي حاشية التنكابني (2: 691): " وحينئذ
يجب ".
(2) شطب في (ت) و (ه‍) على " هو ".
(3) لم ترد " وهو محكوم بالانتفاء بحكم الأصل " في (ظ).
(4) لم ترد " إما لعدم استعداده وإما لوجود الرافع " في (ر).
(5) في (ه‍) و (ت) بدل " كاندفاع توهم ": " كتوهم ".
192

حدوث ذلك المشكوك الحدوث، فإذا حكم بأصالة عدم حدوثه لزمه (1)
ارتفاع القدر المشترك، لأنه من آثاره، فإن ارتفاع القدر المشترك من
لوازم كون الحادث ذلك الأمر المقطوع الارتفاع، لا من لوازم عدم
حدوث الأمر الآخر. نعم، اللازم من عدم حدوثه هو عدم وجود ما (2)
في ضمنه من القدر المشترك في الزمان الثاني، لا ارتفاع القدر المشترك
بين الأمرين، وبينهما فرق واضح، ولذا ذكرنا أنه تترتب عليه أحكام
عدم وجود الجنابة في المثال المتقدم.
ويظهر من المحقق القمي (رحمه الله) في القوانين - مع قوله بحجية
الاستصحاب على الإطلاق - عدم جواز إجراء الاستصحاب في هذا
القسم، ولم أتحقق وجهه. قال:
إن الاستصحاب يتبع الموضوع وحكمه في مقدار قابلية الامتداد
وملاحظة الغلبة فيه، فلا بد من التأمل في أنه كلي أو جزئي، فقد
يكون الموضوع الثابت حكمه أولا مفهوما كليا مرددا بين أمور، وقد
يكون جزئيا حقيقيا معينا، وبذلك يتفاوت الحال، إذ قد يختلف أفراد
الكلي في قابلية الامتداد ومقداره، فالاستصحاب حينئذ ينصرف إلى
أقلها استعدادا للامتداد.
ثم ذكر حكاية تمسك بعض أهل الكتاب لإثبات نبوة نبيه
بالاستصحاب، ورد بعض معاصريه (3) له بما لم يرتضه الكتابي، ثم رده

(1) في (ت): " لزم ".
(2) في غير (ظ) زيادة: " هو ".
(3) سيجئ الاختلاف في تحقيق هذا البعض في الصفحة 260.
193

بما ادعى ابتناءه على ما ذكره من ملاحظة مقدار القابلية.
ثم أوضح ذلك بمثال، وهو: أنا إذا علمنا أن في الدار حيوانا،
لكن لا نعلم أنه أي نوع هو، من الطيور أو البهائم أو الحشار أو
الديدان؟ ثم غبنا عن ذلك مدة، فلا يمكن لنا الحكم ببقائه في مدة
يعيش فيها أطول الحيوان عمرا، فإذا احتمل كون الحيوان الخاص في
البيت عصفورا أو فأرة أو دود قز، فكيف يحكم - بسبب العلم بالقدر
المشترك - باستصحابها (1) إلى حصول زمان ظن بقاء أطول الحيوانات
عمرا؟! قال: وبذلك بطل تمسك الكتابي (2)، انتهى.
أقول: إن ملاحظة استعداد المستصحب واعتباره في الاستصحاب
- مع أنه مستلزم لاختصاص اعتبار الاستصحاب بالشك في الرافع -
موجب لعدم انضباط الاستصحاب، لعدم استقامة إرادة استعداده من
حيث شخصه (3)، ولا أبعد الأجناس، ولا أقرب الأصناف، ولا ضابط
لتعيين المتوسط، والإحالة على الظن الشخصي قد عرفت ما فيه
سابقا (4)، مع أن اعتبار الاستصحاب عند هذا المحقق لا يختص دليله
بالظن، كما اعترف به سابقا (5)، فلا مانع من استصحاب وجود الحيوان
في الدار إذا ترتب اثر شرعي على وجود مطلق الحيوان فيها.

(1) كذا في النسخ، والمناسب: " باستصحابه " لرجوع الضمير إلى الحيوان.
(2) القوانين 2: 69 - 73.
(3) كذا في (ظ)، وفي غيره بدل " شخصه ": " تشخصه ".
(4) راجع الصفحة 87.
(5) انظر القوانين 2: 66.
194

ثم إن ما ذكره: من ابتناء جواب الكتابي على ما ذكره، سيجئ
ما فيه مفصلا (1) إن شاء الله تعالى.
وأما الثالث - وهو ما إذا كان الشك في بقاء الكلي مستندا إلى
احتمال وجود فرد آخر غير الفرد المعلوم حدوثه وارتفاعه - فهو على
قسمين، لأن الفرد الآخر:
إما أن يحتمل وجوده مع ذلك الفرد المعلوم حاله.
وإما أن (2) يحتمل حدوثه بعده، إما بتبدله إليه وإما بمجرد حدوثه
مقارنا لارتفاع ذلك الفرد.
وفي جريان استصحاب الكلي في كلا القسمين، نظرا إلى تيقنه
سابقا وعدم العلم بارتفاعه، وإن علم بارتفاع بعض وجوداته وشك في
حدوث ما عداه، لأن ذلك مانع من إجراء الاستصحاب في الأفراد
دون الكلي، كما تقدم نظيره في القسم الثاني.
أو عدم جريانه فيهما، لأن بقاء الكلي في الخارج عبارة عن
استمرار وجوده الخارجي (3) المتيقن سابقا، وهو معلوم العدم، وهذا هو
الفارق بين ما نحن فيه والقسم الثاني، حيث إن الباقي في الآن اللاحق
بالاستصحاب (4) هو عين الوجود (5) المتيقن سابقا.

(1) انظر الصفحة 263.
(2) " أن " من (ت).
(3) في (ص) زيادة: " على نحو ".
(4) كتب في (ص) على " بالاستصحاب ": " زائد ".
(5) في (ت) بدل " الوجود ": " الموجود ".
195

أو التفصيل بين القسمين، فيجري في الأول، لاحتمال كون الثابت
في الآن اللاحق هو عين الموجود سابقا، فيتردد الكلي المعلوم سابقا بين
أن يكون وجوده الخارجي على نحو لا يرتفع بارتفاع (1) الفرد المعلوم
ارتفاعه، وأن يكون على نحو يرتفع بارتفاع ذلك الفرد، فالشك حقيقة
إنما هو في مقدار استعداد ذلك الكلي، واستصحاب عدم حدوث الفرد
المشكوك لا يثبت تعيين استعداد الكلي.
وجوه، أقواها الأخير.
ويستثنى من عدم الجريان في القسم الثاني، ما يتسامح فيه (2)
العرف فيعدون الفرد اللاحق مع الفرد السابق كالمستمر الواحد، مثل:
ما لو علم السواد الشديد في محل وشك في تبدله بالبياض أو بسواد
أضعف من الأول، فإنه يستصحب السواد. وكذا لو كان الشخص في
مرتبة من كثرة الشك، ثم شك - من جهة اشتباه المفهوم أو المصداق -
في زوالها أو تبدلها إلى مرتبة دونها. أو علم إضافة المائع، ثم شك في
زوالها أو تبدلها إلى فرد آخر من المضاف.
وبالجملة: فالعبرة في جريان الاستصحاب عد الموجود السابق
مستمرا إلى اللاحق، ولو كان الأمر اللاحق على تقدير وجوده مغايرا
بحسب الدقة للفرد السابق، ولذا لا إشكال في استصحاب الأعراض،
حتى على القول فيها بتجدد الأمثال (3). وسيأتي ما يوضح عدم ابتناء

(1) في (ه‍) ونسخة بدل (ص) زيادة: " ذلك ".
(2) في (ر) و (ه‍) بدل " فيه ": " في ".
(3) هو قول الأشاعرة: بأن شيئا من الأعراض لا يبقى زمانين، انظر أنوار الملكوت
في شرح الياقوت للعلامة الحلي: 27.
196

الاستصحاب على المداقة العقلية (1).
ثم إن للفاضل التوني كلاما يناسب المقام - مؤيدا لبعض ما
ذكرناه - وإن لم يخل بعضه عن النظر بل المنع. قال في رد تمسك
المشهور في نجاسة الجلد المطروح باستصحاب عدم التذكية:
إن عدم المذبوحية لازم لأمرين: الحياة، والموت حتف الأنف.
والموجب للنجاسة ليس هذا اللازم من حيث هو، بل ملزومه الثاني،
أعني: الموت حتف الأنف، فعدم المذبوحية لازم أعم لموجب النجاسة،
فعدم المذبوحية اللازم (2) للحياة مغاير لعدم المذبوحية العارض للموت
حتف أنفه. والمعلوم ثبوته في الزمان السابق هو الأول لا الثاني،
وظاهر أنه غير باق في الزمان الثاني، ففي الحقيقة يخرج مثل
هذه الصورة من الاستصحاب، إذ شرطه بقاء الموضوع، وعدمه هنا
معلوم. قال:
وليس مثل المتمسك بهذا الاستصحاب إلا مثل من تمسك على
وجود عمرو في الدار (3) باستصحاب بقاء الضاحك المتحقق بوجود زيد
في الدار في الوقت الأول. وفساده غني عن البيان (4)، انتهى.
أقول: ولقد أجاد فيما أفاد، من عدم جواز الاستصحاب في المثال
المذكور ونظيره، إلا أن نظر المشهور - في تمسكهم على النجاسة - إلى أن

(1) انظر الصفحة 294 - 302.
(2) في المصدر بدل " اللازم ": " العارض ".
(3) في المصدر زيادة: " في الوقت الثاني ".
(4) الوافية: 210.
197

النجاسة إنما رتبت في الشرع على مجرد عدم التذكية، كما يرشد إليه قوله
تعالى: * (إلا ما ذكيتم) * (1)، الظاهر في أن المحرم إنما هو لحم الحيوان
الذي لم يقع عليه التذكية واقعا أو بطريق شرعي ولو كان أصلا، وقوله
تعالى: * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) * (2)، وقوله تعالى: * (فكلوا
مما ذكر اسم الله عليه) * (3)، وقوله (عليه السلام) في ذيل موثقة ابن بكير: " إذا
كان ذكيا ذكاه الذابح " (4)، وبعض الأخبار المعللة لحرمة الصيد الذي
ارسل إليه كلاب ولم يعلم أنه مات بأخذ المعلم (5)، بالشك في استناد
موته إلى المعلم (6)، إلى غير ذلك مما اشترط فيه العلم باستناد القتل
إلى الرمي، والنهي عن الأكل مع الشك.
ولا ينافي ذلك ما دل (7) على كون حكم النجاسة مرتبا على
موضوع " الميتة " (8) بمقتضى أدلة نجاسة الميتة (9)، لأن " الميتة " عبارة عن

(1) المائدة: 3.
(2) الأنعام: 121.
(3) الأنعام: 118.
(4) الوسائل 3: 250، الباب 2 من أبواب لباس المصلي، الحديث 1، لكن في
جميع المصادر الحديثية بدل " الذابح ": " الذبح ".
(5) في غير (ر) زيادة: " معللا ".
(6) انظر الوسائل 16: 215، الباب 5 من أبواب الصيد، الحديث 2.
(7) انظر الجواهر 5: 297 - 299.
(8) في (ظ) بدل " موضوع الميتة ": " الموت ".
(9) شطب في (ت) على " بمقتضى أدلة نجاسة الميتة "، وكتب في (ه‍) فوقها:
" زائد ".
198

كل ما لم يذك، لأن التذكية أمر شرعي توقيفي، فما عدا المذكى ميتة (1).
والحاصل: أن التذكية سبب للحل والطهارة، فكلما شك فيه أو في
مدخلية شئ فيه، فأصالة عدم تحقق السبب الشرعي حاكمة على
أصالة الحل والطهارة.
ثم إن الموضوع للحل والطهارة ومقابليهما هو اللحم أو المأكول،
فمجرد تحقق عدم التذكية في اللحم يكفي في الحرمة والنجاسة.
لكن الإنصاف: أنه لو علق حكم النجاسة على ما مات حتف
الأنف - لكون الميتة عبارة عن هذا المعنى، كما يراه بعض (2) - أشكل
إثبات (3) الموضوع بمجرد أصالة عدم التذكية الثابتة (4) حال الحياة، لأن
عدم التذكية السابق حال الحياة، المستصحب إلى (5) زمان خروج الروح
لا يثبت كون الخروج حتف الأنف، فيبقى أصالة عدم حدوث سبب
نجاسة اللحم - وهو الموت حتف الأنف - سليمة عن المعارض، وإن لم
يثبت به التذكية، كما زعمه السيد الشارح للوافية، فذكر: أن أصالة
عدم التذكية تثبت الموت حتف الأنف، وأصالة عدم الموت (6) حتف
الأنف تثبت التذكية (7).

(1) في (ت) زيادة: " ولذا حكم بنجاستها "، وكتب في (ص) فوقها: " نسخة ".
(2) انظر مفاتيح الشرائع 1: 70، المفتاح 78.
(3) في (ه‍) زيادة: " هذا ".
(4) لم ترد " الثابتة " في (ت).
(5) في نسخة بدل (ت) بدل " إلى ": " في ".
(6) " الموت " من (ظ) و (ص).
(7) شرح الوافية (مخطوط): 365.
199

فيكون وجه الحاجة إلى إحراز التذكية - مع أن الإباحة والطهارة
لا تتوقفان عليه، بل يكفي استصحابهما - أن استصحاب عدم التذكية
حاكم على استصحابهما، فلولا ثبوت التذكية بأصالة عدم الموت حتف
الأنف لم يكن مستند للإباحة والطهارة.
وكأن السيد (قدس سره) ذكر هذا، لزعمه أن مبنى تمسك المشهور على
إثبات الموت حتف الأنف بأصالة عدم التذكية، فيستقيم حينئذ معارضتهم
بما ذكره السيد (قدس سره)، فيرجع بعد التعارض إلى قاعدتي " الحل "
و " الطهارة " واستصحابهما.
لكن هذا كله مبني على ما فرضناه: من تعلق الحكم على الميتة،
والقول بأنها ما زهق روحه بحتف الأنف.
أما إذا قلنا بتعلق الحكم على لحم لم يذك حيوانه (1) أو لم يذكر
اسم الله عليه، أو تعلق الحل على ذبيحة المسلم و (2) ما ذكر اسم الله
عليه المستلزم لانتفائه بانتفاء أحد الأمرين ولو بحكم الأصل - ولا ينافي
ذلك تعلق الحكم في بعض الأدلة الاخر بالميتة، ولا ما علق فيه الحل
على ما لم يكن ميتة، كما في آية: * (قل لا أجد... الآية) * (3) -، أو قلنا:
إن الميتة هي ما زهق روحه مطلقا، خرج منه ما ذكي، فإذا شك في
عنوان المخرج فالأصل عدمه، فلا محيص عن قول المشهور.
ثم إن ما ذكره الفاضل التوني - من عدم جواز إثبات عمرو

(1) لم ترد " حيوانه " في (ظ).
(2) كذا في (ظ)، وفي غيره بدل " و ": " أو ".
(3) الأنعام: 145.
200

باستصحاب الضاحك المحقق في ضمن زيد - صحيح، وقد عرفت أن
عدم جواز استصحاب نفس الكلي - وإن لم يثبت به (1) خصوصية (2) -
لا يخلو عن وجه، وإن كان الحق فيه التفصيل، كما عرفت (3).
إلا أن كون عدم المذبوحية من قبيل الضاحك محل نظر، من
حيث إن العدم الأزلي مستمر مع حياة الحيوان وموته حتف الأنف،
فلا مانع من استصحابه وترتيب أحكامه عليه عند الشك، وإن قطع
بتبادل الوجودات المقارنة له، بل لو قلنا بعدم جريان الاستصحاب في
القسمين الأولين من الكلي كان الاستصحاب في الأمر العدمي المقارن
للوجودات خاليا عن الإشكال إذا لم يرد به إثبات الموجود المتأخر
المقارن له - نظير إثبات الموت حتف الأنف بعدم التذكية - أو ارتباط
الموجود المقارن له به، كما إذا فرض الدليل على أن كل ما تقذفه المرأة
من الدم إذا لم يكن حيضا فهو استحاضة، فإن استصحاب عدم الحيض
في زمان خروج الدم المشكوك لا يوجب انطباق هذا السلب على ذلك
الدم وصدقه عليه، حتى يصدق " ليس بحيض " على هذا الدم، فيحكم
عليه بالاستحاضة، إذ فرق بين الدم المقارن لعدم الحيض وبين الدم
المنفي عنه الحيضية.
وسيجئ (4) نظير هذا الاستصحاب الوجودي والعدمي في الفرق

(1) " به " من (ت) و (ه‍).
(2) في (ه‍): " خصوصيته ".
(3) راجع الصفحة 196.
(4) انظر الصفحة 280 - 281.
201

بين الماء المقارن لوجود الكر وبين الماء (1) المتصف بالكرية.
والمعيار: عدم الخلط بين المتصف بوصف عنواني وبين قيام ذلك
الوصف بمحل، فإن استصحاب وجود المتصف أو عدمه لا يثبت كون
المحل موردا لذلك (2) الوصف العنواني، فافهم.

(1) في نسخة بدل (ص) زيادة: " المقارن ".
(2) لم ترد " الوصف بمحل - إلى - لذلك " في (ظ).
202

الأمر الثاني
أنه قد علم من تعريف الاستصحاب وأدلته أن مورده الشك في
البقاء، وهو وجود ما كان موجودا في الزمان السابق. ويترتب عليه
عدم جريان الاستصحاب في نفس الزمان، ولا في الزماني الذي لا استقرار
لوجوده بل يتجدد شيئا فشيئا على التدريج، وكذا في المستقر الذي
يؤخذ قيدا له. إلا أنه يظهر من كلمات جماعة (1) جريان الاستصحاب
في الزمان، فيجري في القسمين الأخيرين بطريق أولى، بل تقدم من
بعض الأخباريين: أن استصحاب الليل والنهار من الضروريات (2).
والتحقيق: أن هنا أقساما ثلاثة:
أما نفس الزمان، فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه
لتشخيص كون الجزء المشكوك فيه من أجزاء الليل أو النهار، لأن نفس
الجزء لم يتحقق في السابق، فضلا عن وصف كونه نهارا أو ليلا.

(1) حيث يستدلون في كتاب الصوم باستصحاب الليل والنهار، انظر اللمعة: 56،
كفاية الأحكام: 46، مشارق الشموس: 406، والجواهر 16: 276.
(2) راجع الصفحة 44.
203

نعم لو اخذ المستصحب مجموع الليل أو النهار، ولوحظ كونه أمرا
خارجيا واحدا، وجعل بقاؤه وارتفاعه عبارة عن عدم تحقق جزئه
الأخير وتحققه (1) أو عن عدم تجدد جزء مقابله وتجدده، أمكن القول
بالاستصحاب بهذا المعنى فيه أيضا (2)، لأن بقاء كل شئ في العرف
بحسب ما يتصوره (3) العرف له (4) من الوجود، فيصدق أن الشخص كان
على يقين من وجود الليل فشك فيه، فالعبرة بالشك في وجوده والعلم
بتحققه قبل زمان الشك وإن كان تحققه بنفس تحقق زمان الشك. وإنما
وقع التعبير بالبقاء في تعريف الاستصحاب بملاحظة هذا المعنى في
الزمانيات، حيث جعلوا الكلام في استصحاب الحال، أو لتعميم (5) البقاء
لمثل هذا مسامحة.
إلا أن هذا المعنى - على تقدير صحته والإغماض عما فيه -
لا يكاد يجدي في إثبات كون الجزء المشكوك فيه متصفا بكونه من
النهار أو من الليل، حتى يصدق على الفعل الواقع فيه أنه واقع في الليل
أو النهار، إلا على القول بالأصل المثبت مطلقا أو على بعض الوجوه
الآتية (6)، ولو بنينا على ذلك أغنانا عما ذكر من التوجيه (7) استصحابات

(1) كذا في (ت)، وفي غيرها بدل " تحققه ": " تجدده ".
(2) لم ترد " أمكن - إلى - أيضا " في (ر) و (ص).
(3) كذا في (ر)، وفي غيرها بدل " يتصوره ": " يتصور فيه ".
(4) لم ترد " له " في (ت).
(5) في (ظ) بدل " لتعميم ": " بتعميم ".
(6) انظر الصفحة 244.
(7) في (ظ) ومصححة (ص) زيادة: " ثم إن هنا ".
204

اخر في (1) أمور متلازمة مع الزمان، كطلوع الفجر، وغروب الشمس،
وذهاب الحمرة، وعدم وصول القمر إلى درجة يمكن رؤيته فيها.
فالأولى: التمسك في هذا المقام باستصحاب الحكم المترتب على
الزمان (2) لو كان جاريا فيه، كعدم تحقق حكم الصوم والإفطار عند
الشك في هلال رمضان أو شوال، ولعله المراد بقوله (عليه السلام) في المكاتبة
المتقدمة (3) في أدلة الاستصحاب: " اليقين لا يدخله الشك، صم للرؤية
وأفطر للرؤية "، إلا أن جواز الإفطار (4) للرؤية لا يتفرع على الاستصحاب
الحكمي، إلا بناء على جريان استصحاب الاشتغال والتكليف بصوم
رمضان، مع أن الحق في مثله التمسك بالبراءة، لكون صوم كل يوم
واجبا مستقلا.
وأما القسم الثاني، أعني: الأمور التدريجية (5) الغير القارة - كالتكلم
والكتابة والمشي ونبع الماء من العين وسيلان دم الحيض من الرحم -
فالظاهر جواز إجراء الاستصحاب فيما يمكن أن يفرض فيها (6) أمرا
واحدا مستمرا، نظير ما ذكرناه في نفس الزمان، فيفرض التكلم - مثلا -
مجموع أجزائه أمرا واحدا، والشك في بقائه لأجل الشك في قلة أجزاء

(1) كذا في (ت)، وفي غيرها بدل " في ": " و ".
(2) في (ص) زيادة: " و ".
(3) المتقدمة في الصفحة 71.
(4) في (ص) و (ظ) زيادة: " أو وجوبه ".
(5) في (ه‍) زيادة: " الخارجية ".
(6) في (ت): " منها ".
205

ذلك الفرد الموجود منه في الخارج وكثرتها، فيستصحب القدر المشترك
المردد بين قليل الأجزاء وكثيرها.
ودعوى: أن الشك في بقاء القدر المشترك ناش عن حدوث جزء
آخر من الكلام، والأصل عدمه المستلزم لارتفاع القدر المشترك، فهو
من قبيل (1) القسم الثالث من الأقسام المذكورة في الأمر السابق.
مدفوعة: بأن الظاهر كونه من قبيل الأول من تلك الأقسام
الثلاثة، لأن المفروض في توجيه الاستصحاب جعل كل فرد من التكلم
مجموع ما يقع في الخارج من الأجزاء التي يجمعها رابطة توجب عدها
شيئا واحدا وفردا من الطبيعة، لا جعل كل قطعة من الكلام الواحد
فردا واحدا حتى يكون بقاء الطبيعة بتبادل أفراده، غاية الأمر كون
المراد بالبقاء هنا وجود المجموع في الزمان الأول بوجود جزء منه
ووجوده في الزمان الثاني بوجود جزء آخر منه. والحاصل: أن
المفروض كون كل قطعة جزء من الكل، لا جزئيا من الكلي.
هذا، مع ما عرفت - في الأمر السابق (2) - من جريان الاستصحاب
فيما كان من القسم الثالث فيما إذا لم يعد الفرد اللاحق على تقدير
وجوده موجودا آخر مغايرا للموجود الأول، كما في السواد الضعيف
الباقي بعد ارتفاع القوي. وما نحن فيه من هذا القبيل، فافهم.
ثم إن الرابطة الموجبة لعد المجموع (3) أمرا واحدا موكولة إلى

(1) في (ه‍) ومصححة (ت) زيادة: " القسم الثاني من ".
(2) راجع الصفحة 196.
(3) في (ت): " الموجود ".
206

العرف، فإن المشتغل بقراءة القرآن لداع، يعد جميع ما يحصل منه في
الخارج بذلك الداعي أمرا واحدا، فإذا شك في بقاء اشتغاله بها في
زمان لأجل الشك في حدوث الصارف أو لأجل الشك في مقدار
اقتضاء الداعي، فالأصل بقاؤه. أما لو تكلم لداع أو لدواع ثم شك في
بقائه على صفة التكلم لداع آخر، فالأصل عدم حدوث (1) الزائد على
المتيقن.
وكذا لو شك بعد انقطاع دم الحيض في عوده في زمان يحكم
عليه بالحيضية أم لا، فيمكن إجراء الاستصحاب، نظرا إلى أن الشك
في اقتضاء طبيعتها (2) لقذف الرحم (3) الدم في أي مقدار من الزمان،
فالأصل عدم انقطاعه.
وكذا لو شك في اليأس، فرأت الدم، فإنه قد يقال باستصحاب
الحيض، نظرا إلى كون الشك في انقضاء ما اقتضته الطبيعة من قذف
الحيض في كل شهر.
وحاصل وجه الاستصحاب: ملاحظة كون الشك في استمرار
الأمر الواحد الذي اقتضاه السبب الواحد، وإذا لوحظ كل واحد من
أجزاء هذا الأمر حادثا مستقلا، فالأصل عدم الزائد على المتيقن وعدم
حدوث سببه.
ومنشأ اختلاف بعض العلماء في إجراء الاستصحاب في هذه

(1) في (ه‍) بدل " حدوث ": " حصول ".
(2) في (ت) و (ه‍) بدل " طبيعتها ": " الطبيعة ".
(3) في (ص) بدل " طبيعتها لقذف الرحم ": " طبيعة الرحم لقذف ".
207

الموارد اختلاف أنظارهم في ملاحظة ذلك المستمر حادثا واحدا أو
حوادث متعددة.
والإنصاف: وضوح الوحدة في بعض الموارد، وعدمها في بعض،
والتباس الأمر في ثالث. والله الهادي إلى سواء السبيل، فتدبر.
وأما القسم الثالث - وهو ما كان مقيدا بالزمان - فينبغي القطع
بعدم جريان الاستصحاب فيه. ووجهه: أن الشئ المقيد بزمان خاص
لا يعقل فيه البقاء، لأن البقاء: وجود الموجود الأول في الآن الثاني،
وقد تقدم الاستشكال (1) في جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية،
لكون متعلقاتها هي الأفعال المتشخصة بالمشخصات التي لها دخل
وجودا وعدما في تعلق الحكم، ومن جملتها الزمان.
ومما ذكرنا يظهر فساد ما وقع لبعض المعاصرين (2): من تخيل
جريان استصحاب عدم الأمر الوجودي المتيقن سابقا، ومعارضته مع
استصحاب وجوده، بزعم أن المتيقن وجود ذلك الأمر في القطعة الأولى
من الزمان، والأصل بقاؤه - عند الشك - على العدم الأزلي الذي
لم يعلم انقلابه إلى الوجود إلا في القطعة السابقة من الزمان. قال في
تقريب ما ذكره من تعارض الاستصحابين:
إنه إذا علم أن الشارع أمر بالجلوس يوم الجمعة، وعلم أنه
واجب إلى الزوال، ولم يعلم وجوبه فيما بعده، فنقول: كان عدم
التكليف بالجلوس قبل يوم الجمعة وفيه إلى الزوال، وبعده معلوما قبل

(1) تقدم هذا الإشكال وجوابه في ذيل القول السابع في الصفحة 145 - 148.
(2) هو الفاضل النراقي في مناهج الأحكام.
208

ورود أمر الشارع، وعلم بقاء ذلك العدم قبل يوم الجمعة، وعلم
ارتفاعه والتكليف بالجلوس فيه قبل الزوال، وصار بعده موضع الشك،
فهنا شك ويقينان، وليس إبقاء حكم أحد اليقينين أولى من إبقاء حكم
الآخر.
فإن قلت: يحكم ببقاء (1) اليقين المتصل بالشك، وهو اليقين
بالجلوس.
قلنا: إن الشك في تكليف ما بعد الزوال حاصل قبل مجئ يوم
الجمعة وقت ملاحظة أمر الشارع، فشك في يوم الخميس - مثلا، حال
ورود الأمر - في أن الجلوس غدا هل هو المكلف به بعد الزوال أيضا
أم لا؟ واليقين المتصل به هو عدم التكليف، فيستصحب ويستمر ذلك
إلى وقت الزوال (2)، انتهى.
ثم أجرى ما ذكره - من تعارض استصحابي الوجود والعدم - في
مثل: وجوب الصوم إذا عرض مرض يشك في بقاء وجوب الصوم
معه، وفي الطهارة إذا حصل الشك فيها لأجل المذي، وفي طهارة الثوب
النجس إذا غسل مرة.
فحكم في الأول بتعارض استصحاب وجوب الصوم قبل عروض
الحمى واستصحاب عدمه الأصلي قبل وجوب الصوم، وفي الثاني
بتعارض استصحاب الطهارة قبل المذي واستصحاب عدم جعل الشارع
الوضوء سببا للطهارة بعد المذي، وفي الثالث بتعارض استصحاب

(1) في المصدر زيادة: " حكم ".
(2) مناهج الأحكام: 237.
209

النجاسة قبل الغسل واستصحاب عدم كون ملاقاة البول سببا للنجاسة
بعد الغسل مرة، فيتساقط الاستصحابان (1) في هذه الصور، إلا أن (2)
يرجع إلى استصحاب آخر حاكم على استصحاب العدم، وهو عدم
الرافع وعدم جعل الشارع مشكوك الرافعية رافعا.
قال: ولو لم يعلم أن الطهارة مما لا يرتفع إلا برافع، لم نقل فيه
باستصحاب الوجود.
ثم قال: هذا في الأمور الشرعية، وأما الأمور الخارجية - كاليوم
والليل والحياة والرطوبة والجفاف ونحوها مما لا دخل لجعل الشارع في
وجودها - فاستصحاب (3) الوجود فيها حجة بلا معارض، لعدم تحقق
استصحاب حال عقل معارض باستصحاب وجودها (4)، انتهى.
أقول: الظاهر التباس الأمر عليه.
أما أولا: فلأن الأمر الوجودي المجعول، إن لوحظ الزمان قيدا له
أو لمتعلقه - بأن لوحظ وجوب الجلوس المقيد بكونه إلى الزوال شيئا،
والمقيد بكونه بعد الزوال شيئا آخر متعلقا للوجوب - فلا مجال
لاستصحاب الوجوب، للقطع بارتفاع ما علم وجوده والشك في حدوث
ما عداه، ولذا لا يجوز الاستصحاب في مثل: " صم يوم الخميس " إذا
شك في وجوب صوم يوم الجمعة.

(1) في (ر): " الاستصحابات ".
(2) في (ت): " أنه ".
(3) في المصدر هكذا: " فاستصحاب حال الشرع فيها، أي استصحاب وجودها ".
(4) مناهج الأحكام: 238.
210

وإن لوحظ الزمان ظرفا لوجوب الجلوس فلا مجال لاستصحاب
العدم، لأنه إذا انقلب العدم إلى الوجود المردد بين كونه في قطعة خاصة
من الزمان وكونه أزيد، والمفروض تسليم حكم الشارع بأن المتيقن في
زمان لا بد من إبقائه، فلا وجه لاعتبار العدم السابق.
وما ذكره (قدس سره): من أن الشك في وجوب الجلوس بعد الزوال كان
ثابتا حال اليقين بالعدم يوم الخميس، مدفوع: بأن ذلك (1) أيضا - حيث
كان مفروضا بعد اليقين بوجوب الجلوس إلى الزوال - مهمل بحكم
الشارع بإبقاء كل حادث لا يعلم مدة بقائه، كما لو شك قبل حدوث
حادث في مدة بقائه.
والحاصل: أن الموجود في الزمان الأول، إن لوحظ مغايرا من
حيث القيود المأخوذة فيه للموجود الثاني، فيكون الموجود الثاني حادثا
مغايرا للحادث الأول، فلا مجال لاستصحاب الموجود (2)، إذ لا يتصور
البقاء لذلك الموجود بعد فرض كون الزمان الأول من مقوماته.
وإن لوحظ متحدا مع الثاني لا مغايرا له إلا من حيث ظرفه
الزماني، فلا معنى لاستصحاب عدم ذلك الموجود، لأنه انقلب إلى
الوجود.
وكأن المتوهم ينظر في دعوى جريان استصحاب الوجود إلى كون
الموجود أمرا واحدا قابلا للاستمرار بعد زمان الشك، وفي دعوى
جريان استصحاب العدم إلى تقطيع وجودات ذلك الموجود وجعل كل

(1) في (ت) و (ظ) و (ه‍) زيادة: " الشك ".
(2) في (ظ) و (ه‍): " الوجود ".
211

واحد منها بملاحظة تحققه في زمان مغايرا للآخر، فيؤخذ بالمتيقن منها
ويحكم على المشكوك منها (1) بالعدم.
وملخص الكلام في دفعه: أن الزمان إن اخذ ظرفا للشئ
فلا يجري إلا استصحاب وجوده، لأن العدم انتقض بالوجود المطلق،
وقد حكم عليه بالاستمرار بمقتضى أدلة الاستصحاب. وإن اخذ قيدا له
فلا يجري إلا استصحاب العدم، لأن انتقاض عدم الوجود المقيد
لا يستلزم انتقاض المطلق (2)، والأصل عدم الانتقاض، كما إذا ثبت
وجوب صوم يوم الجمعة ولم يثبت غيره.
وأما ثانيا: فلأن ما ذكره، من استصحاب عدم الجعل والسببية في
صورة الشك في الرافع، غير مستقيم، لأنا إذا علمنا أن الشارع جعل
الوضوء علة تامة لوجود الطهارة، وشككنا في أن المذي رافع لهذه
الطهارة الموجودة المستمرة بمقتضى استعدادها، فليس الشك متعلقا بمقدار
سببية السبب. وكذا الكلام في سببية ملاقاة البول للنجاسة عند الشك في
ارتفاعها بالغسل مرة.
فإن قلت: إنا نعلم أن الطهارة بعد الوضوء قبل الشرع لم تكن
مجعولة أصلا، وعلمنا بحدوث هذا الأمر الشرعي قبل المذي، وشككنا
في الحكم بوجودها بعده، والأصل عدم ثبوتها بالشرع.
قلت: لا بد من أن يلاحظ حينئذ أن منشأ الشك في ثبوت

(1) لم ترد " منها " في (ظ)، وشطب عليها في (ت).
(2) وردت العبارة في (ظ) هكذا: " لأن انتقاض العدم بالوجود المقيد لا يستلزم
انتقاضه بالمطلق ".
212

الطهارة بعد المذي، الشك في مقدار تأثير المؤثر - وهو الوضوء - وأن
المتيقن تأثيره مع عدم المذي لا مع وجوده، أو أنا نعلم قطعا تأثير
الوضوء في إحداث أمر مستمر لولا ما جعله الشارع رافعا. فعلى
الأول، لا معنى لاستصحاب عدم جعل الشئ رافعا، لأن المتيقن تأثير
السبب مع عدم ذلك الشئ، والأصل عدم التأثير مع وجوده، إلا أن
يتمسك باستصحاب وجود المسبب، فهو نظير ما لو شك في بقاء تأثير
الوضوء المبيح - كوضوء التقية بعد زوالها - لا من قبيل الشك في ناقضية
المذي. وعلى الثاني، لا معنى لاستصحاب العدم، إذ لا شك في مقدار
تأثير المؤثر حتى يؤخذ بالمتيقن.
وأما ثالثا: فلو سلم جريان استصحاب العدم حينئذ، لكن ليس
استصحاب عدم جعل الشئ رافعا حاكما على هذا الاستصحاب، لأن
الشك في أحدهما ليس مسببا عن الشك في الآخر، بل مرجع الشك
فيهما إلى شئ واحد، وهو: أن المجعول في حق المكلف في هذه الحالة
هو الحدث أو الطهارة. نعم، يستقيم ذلك فيما إذا كان الشك في الموضوع
الخارجي - أعني وجود المزيل وعدمه - لأن الشك في كون المكلف حال
الشك مجعولا في حقه الطهارة أو الحدث مسبب عن الشك في تحقق
الرافع، إلا أن الاستصحاب مع هذا العلم الإجمالي بجعل أحد الأمرين
في حق المكلف غير جار (1).

(1) في (ص) زيادة: " فتأمل ".
213

الأمر الثالث
أن المتيقن السابق إذا كان مما يستقل به العقل - كحرمة الظلم
وقبح التكليف بما لا يطاق ونحوهما من المحسنات والمقبحات العقلية -
فلا يجوز استصحابه، لأن الاستصحاب إبقاء ما كان، والحكم العقلي
موضوعه معلوم تفصيلا للعقل الحاكم به، فإن أدرك العقل بقاء الموضوع
في الآن الثاني حكم به حكما قطعيا كما حكم أولا، وإن أدرك ارتفاعه
قطع بارتفاع ذلك الحكم، ولو ثبت مثله بدليل لكان حكما جديدا
حادثا في موضوع جديد.
وأما الشك في بقاء الموضوع، فإن كان لاشتباه خارجي - كالشك
في بقاء الإضرار في السم الذي حكم العقل بقبح شربه - فذلك خارج
عما نحن فيه، وسيأتي الكلام فيه (1).
وإن كان لعدم تعيين الموضوع تفصيلا واحتمال مدخلية موجود
مرتفع أو معدوم حادث في موضوعية الموضوع، فهذا غير متصور في
المستقلات العقلية، لأن العقل لا يستقل بالحكم إلا بعد إحراز الموضوع

(1) انظر الصفحة 217.
215

ومعرفته تفصيلا، لأن القضايا العقلية إما ضرورية لا يحتاج العقل في
حكمه إلى أزيد من تصور الموضوع بجميع ما له دخل في موضوعيته
من قيوده، وإما نظرية تنتهي إلى ضرورية كذلك، فلا يعقل إجمال
الموضوع في حكم العقل، مع أنك ستعرف في مسألة اشتراط بقاء
الموضوع (1)، أن الشك في الموضوع - خصوصا لأجل مدخلية شئ -
مانع عن إجراء الاستصحاب.
فإن قلت: فكيف يستصحب الحكم الشرعي مع أنه كاشف عن
حكم عقلي مستقل؟ فإنه إذا ثبت حكم العقل برد الوديعة، وحكم
الشارع طبقه بوجوب الرد، ثم عرض ما يوجب الشك - مثل الاضطرار
والخوف - فيستصحب الحكم (2) مع أنه كان تابعا للحكم العقلي.
قلت: أما الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي، فحاله حال
الحكم العقلي في عدم جريان الاستصحاب. نعم، لو ورد في مورد حكم
العقل حكم شرعي من غير جهة العقل، وحصل التغير في حال من
أحوال موضوعه مما يحتمل مدخليته وجودا أو عدما في الحكم، جرى
الاستصحاب وحكم بأن موضوعه أعم من موضوع حكم العقل، ومن
هنا يجري استصحاب عدم التكليف في حال يستقل العقل بقبح التكليف
فيه، لكن (3) العدم الأزلي ليس مستندا إلى القبح وإن كان موردا للقبح.
هذا حال نفس الحكم العقلي.

(1) انظر الصفحة 289 - 291.
(2) في مصححة (ص) زيادة: " الشرعي ".
(3) كذا في النسخ، والمناسب بدل " لكن ": " لأن ".
216

وأما موضوعه - كالضرر المشكوك بقاؤه في المثال المتقدم - فالذي
ينبغي أن يقال فيه:
إن الاستصحاب إن اعتبر من باب الظن عمل به هنا، لأنه يظن
الضرر بالاستصحاب، فيحمل عليه الحكم العقلي إن كان موضوعه أعم
من القطع والظن، كما في مثال الضرر (1).
وإن اعتبر من باب التعبد - لأجل الأخبار - فلا يجوز العمل به،
للقطع بانتفاء حكم العقل مع الشك في الموضوع الذي كان يحكم عليه
مع القطع (2).
مثلا: إذا ثبت بقاء الضرر في السم في المثال المتقدم بالاستصحاب،
فمعنى ذلك ترتيب الآثار الشرعية المجعولة للضرر على مورد الشك، وأما
الحكم العقلي (3) بالقبح والحرمة (4) فلا يثبت إلا مع إحراز الضرر (5). نعم،
يثبت الحرمة الشرعية بمعنى نهي الشارع ظاهرا (6)، ولا منافاة بين انتفاء

(1) لم ترد " إن كان - إلى - الضرر " في (ظ)، وفي (ت) و (ص) كتب فوقها: " نسخة ".
(2) لم ترد " فلا يجوز - إلى - مع القطع " في (ظ)، وفي (ت) و (ص) كتب عليها:
" نسخة "، وورد بدلها في هذه النسخ ما يلي: " فلا يثبت إلا الآثار الشرعية
المجعولة القابلة للجعل الظاهري، وتعبد الشارع بالحكم العقلي يخرجه عن كونه
حكما عقليا "، لكن شطب عليها في (ت).
(3) في (ص): " حكم العقل ".
(4) لم ترد " الحرمة " في (ر).
(5) في (ر) ونسخة بدل (ص) بدل " مع إحراز الضرر ": " بذلك ".
(6) في (ر) و (ص) زيادة: " لثبوتها سابقا ولو بواسطة الحكم العقلي "، وفي (ص)
بدل " سابقا ": " ظاهرا "، وكتبت على هذه الزيادة فيها: " نسخة ".
217

الحكم العقلي وثبوت الحكم الشرعي، لأن عدم حكم العقل (1) مع الشك
إنما هو لاشتباه الموضوع عنده، وباشتباهه يشتبه الحكم الشرعي الواقعي
أيضا، إلا أن الشارع حكم على هذا المشتبه الحكم الواقعي بحكم
ظاهري هي الحرمة.
ومما ذكرنا - من عدم جريان الاستصحاب في الحكم العقلي -
يظهر:
ما في تمسك بعضهم (2) لإجزاء ما فعله الناسي لجزء من العبادة أو
شرطها، باستصحاب عدم التكليف الثابت حال النسيان.
وما في اعتراض بعض المعاصرين (3) على من خص - من القدماء
والمتأخرين - استصحاب حال العقل باستصحاب العدم، بأنه لا وجه
للتخصيص، فإن حكم العقل المستصحب قد يكون وجوديا تكليفيا
كاستصحاب تحريم التصرف في مال الغير ووجوب رد الأمانة إذا
عرض هناك ما يحتمل معه زوالهما - كالاضطرار والخوف - أو وضعيا
كشرطية العلم للتكليف إذا عرض ما يوجب الشك في بقائها. ويظهر
حال المثالين الأولين مما ذكرنا سابقا (4). وأما المثال الثالث، فلم يتصور
فيه الشك في بقاء شرطية العلم للتكليف في زمان. نعم، ربما يستصحب
التكليف فيما كان المكلف به معلوما بالتفصيل ثم اشتبه وصار معلوما

(1) في (ت): " الحكم العقلي ".
(2) لم نقف عليه، وقيل: إنه المحقق القمي، انظر أوثق الوسائل: 445.
(3) هو صاحب الفصول في الفصول: 366.
(4) من: عدم إمكان جريان الاستصحاب في الحكم العقلي، انظر الصفحة 215.
218

بالإجمال، لكنه خارج عما نحن فيه، مع عدم جريان الاستصحاب
فيه، كما سننبه عليه (1).
ويظهر أيضا فساد التمسك باستصحاب البراءة والاشتغال الثابتين
بقاعدتي البراءة والاشتغال (2).
مثال الأول: ما إذا قطع بالبراءة عن وجوب غسل الجمعة
والدعاء عند رؤية الهلال قبل الشرع أو العثور عليه، فإن مجرد الشك
في حصول الاشتغال كاف في حكم العقل بالبراءة، ولا حاجة إلى إبقاء
البراءة السابقة والحكم بعدم ارتفاعها ظاهرا، فلا فرق بين الحالة
السابقة واللاحقة في استقلال العقل بقبح التكليف فيهما، لكون المناط في
القبح عدم العلم. نعم، لو أريد إثبات عدم الحكم أمكن إثباته باستصحاب
عدمه، لكن المقصود من استصحابه ليس إلا ترتيب آثار عدم الحكم،
وليس إلا عدم الاشتغال الذي يحكم به العقل في زمان الشك، فهو من
آثار الشك لا المشكوك.
ومثال الثاني: ما إذا حكم العقل - عند اشتباه المكلف به -
بوجوب السورة في الصلاة، ووجوب الصلاة إلى أربع جهات، ووجوب
الاجتناب عن كلا المشتبهين في الشبهة المحصورة، ففعل ما يحتمل معه
بقاء التكليف الواقعي وسقوطه - كأن صلى بلا سورة أو إلى بعض
الجهات أو اجتنب أحدهما - فربما يتمسك حينئذ باستصحاب الاشتغال
المتيقن سابقا.

(1) سيأتي التنبيه عليه في الصفحة اللاحقة عند قوله: " لكنه لا يقضي ".
(2) تقدم هذا الاستدلال في مبحث البراءة والاشتغال 2: 59 و 325 - 326.
219

وفيه: أن الحكم السابق لم يكن إلا بحكم العقل الحاكم بوجوب
تحصيل اليقين بالبراءة عن التكليف المعلوم في زمان، وهو بعينه موجود
في هذا الزمان. نعم، الفرق بين هذا الزمان والزمان السابق: حصول
العلم بوجود التكليف فعلا بالواقع في السابق وعدم العلم به في هذا
الزمان، وهذا لا يؤثر في حكم العقل المذكور، إذ يكفي فيه العلم
بالتكليف الواقعي آنا ما. نعم، يجري استصحاب عدم فعل الواجب
الواقعي وعدم سقوطه عنه، لكنه لا يقضي بوجوب الإتيان بالصلاة مع
السورة والصلاة إلى الجهة الباقية واجتناب المشتبه الباقي، بل يقضي
بوجوب تحصيل البراءة من الواقع. لكن مجرد ذلك لا يثبت وجوب
الإتيان بما يقتضي اليقين بالبراءة، إلا على القول بالأصل المثبت، أو
بضميمة حكم العقل بوجوب تحصيل اليقين، والأول لا نقول به، والثاني
بعينه موجود في محل الشك من دون الاستصحاب.
220

الأمر الرابع
قد يطلق على بعض الاستصحابات: الاستصحاب التقديري تارة،
والتعليقي أخرى، باعتبار كون القضية المستصحبة قضية تعليقية حكم
فيها بوجود حكم على تقدير وجود آخر، فربما يتوهم (1) - لأجل ذلك -
الإشكال في اعتباره، بل منعه والرجوع فيه إلى استصحاب مخالف له.
توضيح ذلك: أن المستصحب قد يكون أمرا موجودا في السابق
بالفعل - كما إذا وجب الصلاة فعلا أو حرم العصير العنبي بالفعل في
زمان، ثم شك في بقائه وارتفاعه - وهذا لا إشكال في جريان
الاستصحاب فيه.
وقد يكون أمرا موجودا على تقدير وجود أمر، فالمستصحب هو
وجوده التعليقي، مثل: أن العنب كان حرمة مائه معلقة على غليانه،
فالحرمة ثابتة على تقدير الغليان (2)، فإذا جف وصار زبيبا فهل يبقى
بالاستصحاب حرمة مائه المعلقة على الغليان، فيحرم عند تحقق الغليان

(1) المتوهم هو صاحب المناهل تبعا لوالده، كما سيأتي.
(2) لم ترد " فالحرمة ثابتة على تقدير الغليان " في (ظ).
221

أم لا، بل يستصحب الإباحة السابقة لماء الزبيب قبل الغليان؟
ظاهر سيد مشايخنا (1) في المناهل - وفاقا لما حكاه عن والده (قدس سره) (2)
في الدرس -: عدم اعتبار الاستصحاب الأول، والرجوع إلى الاستصحاب
الثاني.
قال في المناهل - في رد تمسك السيد العلامة الطباطبائي (3) على
حرمة العصير من الزبيب إذا غلا بالاستصحاب، ودعوى تقديمه على
استصحاب الإباحة -:
إنه يشترط في حجية الاستصحاب ثبوت أمر أو (4) حكم وضعي
أو تكليفي (5) في زمان من الأزمنة قطعا، ثم يحصل الشك في ارتفاعه
بسبب من الأسباب، ولا (6) يكفي مجرد قابلية الثبوت باعتبار من
الاعتبارات، فالاستصحاب التقديري باطل، وقد صرح بذلك الوالد
العلامة (قدس سره) في أثناء الدرس، فلا وجه للتمسك باستصحاب التحريم في
المسألة (7). انتهى كلامه، رفع مقامه.
أقول: لا إشكال في أنه يعتبر في الاستصحاب تحقق المستصحب

(1) هو السيد محمد الطباطبائي، الملقب بالمجاهد.
(2) هو السيد علي الطباطبائي، صاحب الرياض.
(3) الملقب ببحر العلوم، انظر المصابيح (مخطوط): 447.
(4) في المصدر بدل " أو ": " من ".
(5) في المصدر زيادة: " أو موضوع ".
(6) في المصدر بدل " ولا ": " فلا ".
(7) المناهل: 652 (كتاب الأطعمة والأشربة).
222

سابقا، والشك في ارتفاع ذلك المحقق، ولا إشكال أيضا في عدم اعتبار
أزيد من ذلك. ومن المعلوم أن تحقق كل شئ بحسبه، فإذا قلنا: العنب
يحرم ماؤه إذا غلا أو بسبب الغليان، فهناك لازم، وملزوم، وملازمة.
أما الملازمة - وبعبارة أخرى: سببية الغليان لتحريم ماء العصير -
فهي متحققة بالفعل من دون تعليق.
وأما اللازم - وهي الحرمة - فله وجود مقيد بكونه على تقدير
الملزوم، وهذا الوجود التقديري أمر متحقق في نفسه في مقابل عدمه،
وحينئذ فإذا شككنا في أن وصف العنبية له مدخل في تأثير الغليان في
حرمة مائه، فلا أثر للغليان في التحريم بعد جفاف العنب وصيرورته
زبيبا، فأي فرق بين هذا وبين سائر الأحكام الثابتة للعنب إذا شك في
بقائها بعد صيرورته زبيبا؟
نعم ربما يناقش في الاستصحاب المذكور: تارة بانتفاء الموضوع
وهو العنب، وأخرى بمعارضته باستصحاب الإباحة قبل الغليان، بل
ترجيحه عليه بمثل الشهرة والعمومات (1).
لكن الأول لا دخل له في الفرق بين الآثار الثابتة للعنب بالفعل
والثابتة له على تقدير دون آخر، والثاني فاسد، لحكومة استصحاب
الحرمة على تقدير الغليان على استصحاب الإباحة قبل الغليان.
فالتحقيق: أنه لا يعقل فرق في جريان الاستصحاب ولا في
اعتباره - من حيث الأخبار أو من حيث العقل - بين أنحاء تحقق
المستصحب، فكل نحو من التحقق ثبت للمستصحب وشك في ارتفاعه،

(1) هاتان المناقشتان من صاحب المناهل، انظر المناهل: 652 و 653.
223

فالأصل بقاؤه، مع أنك عرفت: أن الملازمة وسببية الملزوم للازم
موجود بالفعل، وجد الملزوم أم لم يوجد، لأن صدق الشرطية لا
يتوقف على صدق الشرط، وهذا الاستصحاب غير متوقف على وجود
الملزوم. نعم، لو أريد إثبات وجود الحكم فعلا في الزمان الثاني اعتبر
إحراز الملزوم فيه، ليترتب عليه بحكم الاستصحاب لازمه، وقد يقع
الشك في وجود الملزوم في الآن اللاحق، لعدم تعينه واحتمال مدخلية
شئ في تأثير ما يتراءى أنه ملزوم.
224

الأمر الخامس
أنه لا فرق في المستصحب بين أن يكون حكما ثابتا في
هذه الشريعة أم حكما من أحكام الشريعة السابقة، إذ المقتضي
موجود - وهو جريان دليل الاستصحاب - وعدم ما يصلح مانعا، عدا
أمور:
منها: ما ذكره بعض المعاصرين (1)، من أن الحكم الثابت في حق
جماعة لا يمكن استصحابه في حق آخرين، لتغاير الموضوع، فإن ما
ثبت في حقهم مثله لا نفسه، ولذا يتمسك (2) في تسرية الأحكام الثابتة
للحاضرين أو الموجودين إلى الغائبين أو المعدومين، بالإجماع والأخبار
الدالة على الشركة، لا بالاستصحاب.
وفيه: أولا: أنا نفرض الشخص الواحد مدركا للشريعتين، فإذا
حرم في حقه شئ سابقا، وشك في بقاء الحرمة في الشريعة اللاحقة،
فلا مانع عن الاستصحاب أصلا، فإن الشريعة اللاحقة لا تحدث عند

(1) هو صاحب الفصول في الفصول: 315.
(2) في المصدر: " نتمسك ".
225

انقراض أهل الشريعة الأولى (1).
وثانيا: أن اختلاف الأشخاص لا يمنع عن الاستصحاب، وإلا
لم يجر استصحاب عدم النسخ.
وحله: أن المستصحب هو الحكم الكلي الثابت للجماعة على وجه
لا مدخل لأشخاصهم فيه (2)، إذ لو فرض وجود اللاحقين في السابق
عمهم الحكم قطعا، غاية الأمر احتمال مدخلية بعض أوصافهم المعتبرة (3)
في موضوع الحكم، ومثل هذا لو أثر في الاستصحاب لقدح في أكثر
الاستصحابات، بل في جميع موارد الشك من غير جهة الرافع.
وأما التمسك في تسرية الحكم من الحاضرين إلى الغائبين، فليس
مجرى للاستصحاب حتى يتمسك به، لأن تغاير الحاضرين المشافهين
والغائبين ليس بالزمان، ولعله سهو من قلمه (قدس سره).
وأما التسرية من الموجودين إلى المعدومين، فيمكن التمسك فيها
بالاستصحاب بالتقريب المتقدم (4)، أو بإجرائه في من بقي من الموجودين

(1) كذا في (ف) و (خ)، وفي غيرهما بدل " فإن الشريعة - إلى - الأولى ":
" وفرض انقراض جميع أهل الشريعة السابقة عند تجدد اللاحقة نادر، بل غير
واقع ".
(2) في (ر) زيادة: " فإن الشريعة اللاحقة لا تحدث عند انقراض أهل الشريعة
الأولى "، ووردت هذه الزيادة في (ه‍) بعد قوله " قطعا "، وقد كتب عليها:
" نسخة ".
(3) في نسخة بدل (ص): " المتغيرة ".
(4) المتقدم في الصفحة السابقة.
226

إلى زمان وجود المعدومين، ويتم الحكم في المعدومين بقيام الضرورة
على اشتراك أهل الزمان الواحد في الشريعة الواحدة.
ومنها: ما اشتهر من أن هذه الشريعة ناسخة لغيرها من الشرائع،
فلا يجوز الحكم بالبقاء (1).
وفيه: أنه إن أريد نسخ كل حكم إلهي من أحكام الشريعة
السابقة فهو ممنوع.
وإن أريد نسخ البعض فالمتيقن من المنسوخ ما علم بالدليل،
فيبقى غيره على ما كان عليه ولو بحكم الاستصحاب.
فإن قلت: إنا نعلم قطعا بنسخ كثير من الأحكام السابقة،
والمعلوم تفصيلا منها قليل في الغاية، فيعلم بوجود المنسوخ في
غيره.
قلت: لو سلم ذلك، لم يقدح في إجراء أصالة عدم النسخ في
المشكوكات، لأن الأحكام المعلومة في شرعنا بالأدلة واجبة العمل
- سواء كانت من موارد النسخ أم لا - فأصالة عدم النسخ فيها غير
محتاج إليها، فيبقى أصالة عدم النسخ في محل الحاجة سليمة عن
المعارض (2)، لما تقرر في الشبهة المحصورة (3): من أن الأصل في بعض

(1) هذا الإيراد من صاحب الفصول أيضا، انظر الفصول: 315، وكذا مناهج
الأحكام: 189.
(2) في نسخة بدل (ص) بدل " المعارض ": " معارضة أصالة عدم النسخ في
غيرها ".
(3) راجع مبحث الاشتغال 2: 233.
227

أطراف الشبهة إذا لم يكن جاريا أو لم يحتج إليه، فلا ضير في إجراء
الأصل في البعض الآخر، ولأجل ما ذكرنا استمر بناء المسلمين في أول
البعثة على الاستمرار على ما كانوا عليه حتى يطلعوا على الخلاف.
إلا ان يقال: إن ذلك كان قبل إكمال شريعتنا، وأما بعده فقد
جاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بجميع ما يحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة، سواء خالف
الشريعة السابقة أم وافقها، فنحن مكلفون بتحصيل ذلك الحكم موافقا
أم مخالفا، لأنه مقتضى التدين بهذا الدين.
ولكن يدفعه: أن المفروض حصول الظن المعتبر من الاستصحاب
ببقاء حكم الله السابق في هذه الشريعة، فيظن بكونه مما جاء به
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). ولو بنينا على الاستصحاب تعبدا فالأمر أوضح، لكونه
حكما كليا في شريعتنا بإبقاء ما ثبت في السابق.
ومنها: ما ذكره في القوانين، من أن جريان الاستصحاب مبني
على القول بكون حسن الأشياء ذاتيا، وهو ممنوع، بل التحقيق: أنه
بالوجوه والاعتبارات (1).
وفيه: أنه إن أريد ب‍ " الذاتي " المعنى الذي ينافيه النسخ - وهو
الذي أبطلوه بوقوع النسخ - فهذا المعنى ليس مبنى الاستصحاب، بل هو
مانع عنه، للقطع بعدم النسخ حينئذ، فلا يحتمل الارتفاع.
وإن أريد غيره فلا فرق بين القول به والقول بالوجوه والاعتبارات،
فإن القول بالوجوه لو كان مانعا عن الاستصحاب لم يجر الاستصحاب
في هذه الشريعة.

(1) القوانين 1: 495.
228

ثم إن جماعة (1) رتبوا على إبقاء الشرع السابق في مورد (2) الشك
- تبعا لتمهيد القواعد (3) - ثمرات:
منها: إثبات وجوب نية الإخلاص في العبادة بقوله تعالى
- حكاية عن تكليف أهل الكتاب -: * (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين
له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) * (4).
ويرد عليه - بعد الإغماض عن عدم دلالة الآية على وجوب
الإخلاص بمعنى القربة في كل واجب، وإنما تدل على وجوب عبادة الله
خالصة عن الشرك، وبعبارة أخرى: وجوب التوحيد، كما أوضحنا ذلك
في باب النية من الفقه (5) -: أن الآية إنما تدل على اعتبار الإخلاص في
واجباتهم، لا على وجوب (6) الإخلاص عليهم في كل واجب، وفرق بين
وجوب كل شئ عليهم لغاية الإخلاص، وبين وجوب قصد الإخلاص
عليهم في كل واجب.
وظاهر الآية هو الأول، ومقتضاه: أن تشريع الواجبات لأجل
تحقق العبادة على وجه الإخلاص، ومرجع ذلك إلى كونها لطفا. ولا ينافي

(1) كالمحقق القمي في القوانين 1: 495، وصاحب الفصول في الفصول: 315.
(2) في (ص): " موارد ".
(3) تمهيد القواعد: 239 - 241.
(4) البينة: 5.
(5) انظر كتاب الطهارة للمصنف 2: 11 - 13.
(6) لم ترد " لا على وجوب " في (ظ)، وورد بدلها: " فإن وجبت علينا وجب
فيها ".
229

ذلك كون بعضها بل كلها توصليا لا يعتبر في سقوطه قصد القربة.
ومقتضى الثاني: كون الإخلاص واجبا شرطيا في كل واجب (1)،
وهو المطلوب (2).
هذا كله، مع أنه يكفي في ثبوت الحكم في شرعنا قوله تعالى:
* (وذلك دين القيمة) *، بناء على تفسيرها بالثابتة التي لا تنسخ.
ومنها: قوله تعالى - حكاية عن مؤذن يوسف (عليه السلام) -: * (ولمن جاء
به حمل بعير وأنا به زعيم) * (3).
فدل على جواز الجهالة في مال الجعالة، وعلى جواز ضمان ما
لم يجب.
وفيه: أن حمل البعير لعله كان معلوم المقدار عندهم، مع احتمال
كونه مجرد وعد لا جعالة، مع أنه لا يثبت الشرع بمجرد فعل المؤذن،
لأنه غير حجة، ولم يثبت إذن يوسف - على نبينا وآله وعليه السلام -
في ذلك ولا تقريره.
ومنه يظهر عدم ثبوت شرعية الضمان المذكور، خصوصا مع كون
كل من الجعالة والضمان صوريا قصد بهما تلبيس الأمر على إخوة
يوسف (عليه السلام)، ولا بأس بذكر معاملة فاسدة يحصل به الغرض، مع
احتمال إرادة أن الحمل في ماله وأنه الملتزم به، فإن الزعيم هو الكفيل
والضامن، وهما لغة: مطلق الالتزام، ولم يثبت كونهما في ذلك الزمان

(1) لم ترد " شرطيا في كل واجب " في (ت).
(2) في (ت) و (ص) زيادة: " فتأمل ".
(3) يوسف: 72.
230

حقيقة في الالتزام عن الغير، فيكون الفقرة الثانية تأكيدا لظاهر الأولى،
ودفعا لتوهم كونه من الملك فيصعب تحصيله.
ومنها: قوله تعالى - حكاية عن أحوال يحيى (عليه السلام) -: * (وسيدا
وحصورا ونبيا من الصالحين) * (1).
فإن ظاهره يدل على مدح يحيى (عليه السلام) بكونه حصورا ممتنعا عن
مباشرة النسوان، فيمكن أن يرجح في شريعتنا التعفف على التزويج.
وفيه: أن الآية لا تدل إلا على حسن هذه الصفة لما فيها من
المصالح والتخلص عما يترتب عليه، ولا دليل فيها على رجحان هذه
الصفة على صفة أخرى، أعني: المباشرة لبعض المصالح الأخروية، فإن
مدح زيد بكونه صائم النهار متهجدا لا يدل على رجحان هاتين
الصفتين على الإفطار في النهار وترك التهجد في الليل للاشتغال بما هو
أهم منهما.
ومنها: قوله تعالى: * (وخذ بيدك ضغثا فاضرب به... الآية) * (2).
دل على جواز بر اليمين على ضرب المستحق مائة بالضرب بالضغث.
وفيه: ما لا يخفى.
ومنها: قوله تعالى: * (أن النفس بالنفس والعين بالعين... إلى آخر
الآية) * (3).
استدل بها في حكم من قلع عين ذي العين الواحدة (4).

(1) آل عمران: 39.
(2) ص: 44.
(3) المائدة: 45.
(4) انظر الشرائع 4: 236.
231

ومنها: قوله تعالى - حكاية عن شعيب (عليه السلام) -: * (إني أريد أن
أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن
عندك) * (1).
وفيه: أن حكم المسألة قد علم من العمومات والخصوصات (2)
الواردة فيها، فلا ثمرة في الاستصحاب. نعم في بعض تلك الأخبار
إشعار بجواز العمل بالحكم الثابت في الشرع السابق، لولا المنع عنه،
فراجع وتأمل.

(1) القصص: 27.
(2) راجع الوسائل 15: 1 و 33، الباب 1 و 22 من أبواب المهور، وغيرهما من
الأبواب.
232

الأمر السادس
قد عرفت أن معنى عدم نقض اليقين والمضي عليه، هو ترتيب
آثار اليقين السابق الثابتة بواسطته للمتيقن، ووجوب ترتيب تلك الآثار
من جانب الشارع لا يعقل إلا في الآثار الشرعية المجعولة من الشارع
لذلك الشئ، لأنها القابلة للجعل دون غيرها من الآثار العقلية
والعادية. فالمعقول من حكم الشارع بحياة زيد وإيجابه ترتيب آثار
الحياة في زمان الشك، هو حكمه بحرمة تزويج زوجته والتصرف في
ماله، لا حكمه بنموه ونبات لحيته، لأن هذه غير قابلة لجعل الشارع.
نعم، لو وقع نفس النمو ونبات اللحية موردا للاستصحاب أو غيره من
التنزيلات الشرعية أفاد ذلك جعل آثارهما الشرعية دون العقلية
والعادية، لكن المفروض ورود الحياة موردا للاستصحاب.
والحاصل: أن تنزيل الشارع المشكوك منزلة المتيقن - كسائر
التنزيلات - إنما يفيد ترتيب الأحكام والآثار الشرعية المحمولة على
المتيقن السابق، فلا دلالة فيها (1) على جعل غيرها من الآثار العقلية

(1) كذا في النسخ، والمناسب: " فيه "، لرجوع الضمير إلى تنزيل الشارع.
233

والعادية، لعدم قابليتها للجعل، ولا على جعل الآثار الشرعية المترتبة
على تلك الآثار، لأنها ليست آثارا لنفس المتيقن، ولم يقع ذوها موردا
لتنزيل الشارع حتى تترتب هي عليه.
إذا عرفت هذا فنقول: إن المستصحب إما أن يكون حكما (1) من
الأحكام الشرعية المجعولة - كالوجوب والتحريم والإباحة وغيرها - وإما
أن يكون من غير المجعولات، كالموضوعات الخارجية واللغوية.
فإن كان من الأحكام الشرعية فالمجعول في زمان الشك حكم
ظاهري مساو للمتيقن السابق في جميع ما يترتب عليه، لأنه مفاد
وجوب ترتيب آثار المتيقن السابق ووجوب المضي عليه والعمل به.
وإن كان من غيرها فالمجعول في زمان الشك هي لوازمه
الشرعية، دون العقلية والعادية، ودون ملزومه شرعيا كان أو غيره،
ودون ما هو ملازم معه لملزوم ثالث.
ولعل هذا هو المراد بما اشتهر على ألسنة أهل العصر (2): من نفي
الأصول المثبتة، فيريدون به: أن الأصل لا يثبت أمرا في الخارج حتى
يترتب عليه حكمه الشرعي، بل مؤداه أمر الشارع بالعمل على طبق
مجراه شرعا.
فإن قلت: الظاهر من الأخبار وجوب أن يعمل الشاك عمل
المتيقن، بأن يفرض نفسه متيقنا ويعمل كل عمل ينشأ من تيقنه بذلك

(1) لم ترد " حكما " في (ت) و (ه‍).
(2) انظر مناهج الأحكام: 233، وسيأتي التصريح به في كلمات صاحب الفصول
وكاشف الغطاء.
234

المشكوك، سواء كان ترتبه عليه بلا واسطة أو بواسطة أمر عادي أو
عقلي مترتب على ذلك المتيقن.
قلت: الواجب على الشاك عمل المتيقن بالمستصحب من حيث
تيقنه به، وأما ما يجب عليه من حيث تيقنه بأمر يلازم ذلك المتيقن
عقلا أو عادة، فلا يجب عليه، لأن وجوبه عليه يتوقف على وجود
واقعي لذلك الأمر العقلي أو العادي، أو وجود جعلي بأن يقع موردا
لجعل الشارع حتى يرجع جعله الغير المعقول إلى جعل أحكامه
الشرعية، وحيث فرض عدم الوجود الواقعي والجعلي لذلك الأمر، كان
الأصل عدم وجوده وعدم ترتب آثاره.
وهذه المسألة نظير (1) ما هو المشهور في باب الرضاع: من أنه إذا
ثبت بالرضاع عنوان ملازم لعنوان محرم من المحرمات لم يوجب
التحريم، لأن الحكم تابع لذلك العنوان الحاصل بالنسب أو بالرضاع،
فلا يترتب على غيره المتحد معه وجودا.
ومن هنا يعلم: أنه لا فرق في الأمر العادي بين كونه متحد
الوجود مع المستصحب بحيث لا يتغايران إلا مفهوما - كاستصحاب بقاء
الكر في الحوض عند الشك في كرية الماء الباقي فيه - وبين تغايرهما في
الوجود، كما لو علم بوجود المقتضي لحادث على وجه لولا المانع
لحدث، وشك في وجود المانع.
وكذا لا فرق بين أن يكون اللزوم بينها (2) وبين المستصحب كليا

(1) في (ص) بدل " نظير ": " تشبه في الجملة ".
(2) كذا في النسخ، والمناسب: " بينه "، لرجوع الضمير إلى الأمر العادي.
235

لعلاقة، وبين أن يكون اتفاقيا في قضية جزئية، كما إذا علم - لأجل
العلم الإجمالي الحاصل بموت زيد أو عمرو - أن بقاء حياة زيد ملازم
لموت عمرو، وكذا بقاء حياة عمرو، ففي الحقيقة عدم الانفكاك اتفاقي
من دون ملازمة.
وكذا لا فرق بين أن يثبت بالمستصحب تمام ذلك الأمر العادي
كالمثالين، أو قيد له عدمي أو وجودي، كاستصحاب الحياة للمقطوع
نصفين، فيثبت به (1) القتل الذي هو إزهاق الحياة، وكاستصحاب عدم
الاستحاضة المثبت لكون الدم الموجود حيضا - بناء على أن كل دم
ليس باستحاضة حيض شرعا - وكاستصحاب عدم الفصل الطويل المثبت
لاتصاف الأجزاء المتفاصلة - بما لا يعلم معه فوات الموالاة - بالتوالي (2).
وقد استدل بعض (3) - تبعا لكاشف الغطاء (4) - على نفي الأصل
المثبت، بتعارض الأصل في جانب الثابت والمثبت، فكما أن الأصل بقاء
الأول، كذلك الأصل عدم الثاني. قال:

(1) " به " من (ظ).
(2) في حاشية (ص) زيادة ما يلي: " بيان ذلك أن استصحاب الشئ لو اقتضى
لازمه الغير الشرعي عارضه أصالة عدم ذلك اللازم، فيتساقطان في مورد
التعارض، توضيح ذلك: أنه لو فرضنا ثبوت موت زيد باستصحاب حياة
عمرو، عارضه أصالة حياة زيد، فيتساقطان بالنسبة إلى موت زيد. نعم، يبقى
أصالة حياة عمرو بالنسبة إلى غير موت زيد سليما عن المعارض ".
(3) هو صاحب الفصول.
(4) انظر كشف الغطاء: 35.
236

وليس في أخبار الباب ما يدل على حجيته بالنسبة إلى ذلك،
لأنها مسوقة لتفريع الأحكام الشرعية، دون العادية وإن استتبعت
أحكاما شرعية (1)، انتهى.
أقول: لا ريب في أنه لو بني على أن الأصل في الملزوم قابل
لإثبات اللازم العادي لم يكن وجه لإجراء أصالة عدم اللازم، لأنه
حاكم عليها، فلا معنى للتعارض على ما هو الحق واعترف به هذا
المستدل (2) - من حكومة الأصل في الملزوم على الأصل في اللازم -
فلا تعارض أصالة الطهارة لأصالة (3) عدم التذكية، فلو (4) بني على
المعارضة لم يكن فرق بين اللوازم الشرعية والعادية، لأن الكل أحكام
للمستصحب مسبوقة بالعدم.
وأما قوله: " ليس في أخبار الباب... الخ ".
إن أراد بذلك عدم دلالة الأخبار على ترتب اللوازم الغير
الشرعية، فهو مناف لما ذكره من التعارض، إذ يبقى حينئذ أصالة عدم
اللازم الغير الشرعي سليما عن المعارض.
وإن أراد تتميم الدليل الأول، بأن يقال: إن دليل الاستصحاب
إن كان غير الأخبار فالأصل يتعارض من الجانبين، وإن كانت الأخبار

(1) الفصول: 378.
(2) اعترف به صاحب الفصول في الفصول: 377، وكذا كاشف الغطاء في كشف
الغطاء: 35.
(3) كذا في النسخ، والمناسب: " أصالة ".
(4) كذا في النسخ، والمناسب: " ولو ".
237

فلا دلالة فيها، ففيه: أن الأصل إذا كان مدركه غير الأخبار - وهو
الظن النوعي الحاصل ببقاء ما كان على ما كان - لم يكن إشكال في أن
الظن بالملزوم يوجب الظن باللازم ولو كان عاديا، ولا يمكن حصول
الظن بعدم اللازم بعد حصول الظن بوجود ملزومه، كيف! ولو حصل
الظن بعدم اللازم اقتضى الظن بعدم الملزوم، فلا يؤثر في ترتب اللوازم
الشرعية أيضا.
ومن هنا يعلم: أنه لو قلنا باعتبار الاستصحاب من باب الظن
لم يكن مناص عن الالتزام بالأصول المثبتة، لعدم انفكاك الظن بالملزوم
عن الظن باللازم، شرعيا كان أو غيره.
إلا أن يقال: إن الظن الحاصل من الحالة السابقة حجة في لوازمه
الشرعية دون غيرها.
لكنه إنما يتم إذا كان دليل اعتبار الظن مقتصرا فيه على ترتب
بعض اللوازم دون آخر - كما إذا دل الدليل على أنه يجب الصوم عند
الشك في هلال رمضان بشهادة عدل، فلا يلزم منه جواز الإفطار بعد
مضي ثلاثين من ذلك اليوم - أو كان بعض الآثار مما لا يعتبر فيه
مجرد الظن، إما مطلقا - كما إذا حصل من الخبر الوارد في المسألة
الفرعية ظن بمسألة أصولية، فإنه لا يعمل فيه بذلك الظن، بناء على
عدم العمل بالظن في الأصول -، وإما في خصوص المقام، كما إذا ظن
بالقبلة مع تعذر العلم بها، فلزم منه الظن بدخول الوقت مع عدم العذر
المسوغ للعمل بالظن في الوقت.
ولعل ما ذكرنا هو الوجه في عمل جماعة من القدماء والمتأخرين
بالأصول المثبتة في كثير من الموارد:
238

منها: ما ذكره جماعة - منهم المحقق في الشرائع (1) وجماعة ممن
تقدم عليه (2) وتأخر عنه (3) -: من أنه لو اتفق الوارثان على إسلام
أحدهما المعين في أول شعبان والآخر في غرة رمضان، واختلفا: فادعى
أحدهما موت المورث في شعبان والآخر موته في أثناء رمضان، كان
المال بينهما نصفين، لأصالة بقاء حياة المورث.
ولا يخفى: أن الإرث مترتب على موت المورث عن وارث
مسلم، وبقاء حياة المورث إلى غرة رمضان لا يستلزم بنفسه موت
المورث في حال إسلام الوارث. نعم، لما علم بإسلام الوارث في غرة
رمضان لم ينفك بقاء حياته حال الإسلام عن موته بعد الإسلام الذي
هو سبب الإرث.
إلا أن يوجه بأن المقصود في المقام إحراز إسلام الوارث في حياة
أبيه - كما يعلم من الفرع الذي ذكره قبل هذا الفرع في الشرائع (4) -
ويكفي ثبوت الإسلام حال الحياة المستصحبة، في تحقق سبب الإرث
وحدوث علاقة الوارثية بين الولد ووالده في حال الحياة.
ومنها: ما ذكره جماعة (5) - تبعا للمحقق (6) - في كر وجد فيه

(1) الشرائع 4: 120.
(2) انظر المبسوط 8: 273، والوسيلة: 225.
(3) انظر المسالك (الطبعة الحجرية) 2: 319، وكشف اللثام 2: 361.
(4) الشرائع 4: 120.
(5) انظر التحرير 1: 6، والذكرى 1: 81، وكشف اللثام 1: 276.
(6) المعتبر 1: 51 - 52.
239

نجاسة لا يعلم سبقها على الكرية وتأخرها، فإنهم حكموا بأن استصحاب
عدم الكرية قبل الملاقاة الراجع إلى استصحاب عدم المانع عن الانفعال
حين وجود المقتضي له، معارض باستصحاب عدم الملاقاة قبل الكرية.
ولا يخفى: أن الملاقاة معلومة، فإن كان اللازم في الحكم بالنجاسة
إحراز وقوعها في زمان القلة - وإلا فالأصل عدم التأثير - لم يكن وجه
لمعارضة الاستصحاب الثاني بالاستصحاب الأول، لأن أصالة عدم
الكرية قبل الملاقاة (1) لا يثبت كون الملاقاة قبل الكرية وفي زمان القلة،
حتى يثبت النجاسة، إلا من باب عدم انفكاك عدم الكرية حين الملاقاة
عن وقوع الملاقاة حين القلة، نظير عدم انفكاك عدم الموت حين
الإسلام لوقوع الموت بعد الإسلام، فافهم.
ومنها: ما في الشرائع والتحرير - تبعا للمحكي عن المبسوط -:
من أنه لو ادعى الجاني أن المجني عليه شرب سما فمات بالسم، وادعى
الولي أنه مات بالسراية، فالاحتمالان فيه سواء.
وكذا الملفوف في الكساء إذا قده بنصفين، فادعى الولي أنه كان
حيا، والجاني أنه كان ميتا، فالاحتمالان متساويان.
ثم حكي عن المبسوط التردد (2).
وفي الشرائع: رجح قول الجاني، لأن الأصل عدم الضمان، وفيه
احتمال آخر ضعيف (3).

(1) في (ت)، (ر) ونسخة بدل (ص): " حين الملاقاة ".
(2) المبسوط 7: 106 - 107.
(3) الشرائع 4: 241.
240

وفي التحرير: أن الأصل عدم الضمان من جانبه واستمرار الحياة
من جانب الملفوف، فيرجح قول الجاني. وفيه نظر (1).
والظاهر أن مراده النظر في عدم الضمان، من حيث إن بقاء الحياة
بالاستصحاب إلى زمان القد سبب في الضمان، فلا يجرى أصالة عدمه،
وهو الذي ضعفه المحقق، لكن قواه بعض محشيه (2).
والمستفاد من الكل نهوض استصحاب الحياة لإثبات القتل الذي
هو سبب الضمان، لكنه مقدم على ما عداه عند العلامة (3) وبعض من
تأخر عنه (4)، ومكافئ لأصالة عدم الضمان من غير ترجيح عند الشيخ
في المبسوط، ويرجح عليه أصالة عدم الضمان عند المحقق والشهيد في
المسالك (5) (6).
ومنها: ما في التحرير - بعد هذا الفرع -: ولو ادعى الجاني
نقصان يد المجني عليه بإصبع، احتمل تقديم قوله عملا بأصالة عدم
القصاص، وتقديم قول المجني عليه إذ الأصل السلامة، هذا إن ادعى

(1) التحرير 2: 261.
(2) لم نعثر عليه.
(3) انظر قواعد الأحكام (الطبعة الحجرية) 2: 311.
(4) كفخر المحققين في إيضاح الفوائد 4: 652، والمحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة
14: 126 - 128.
(5) المسالك (الطبعة الحجرية) 2: 385.
(6) لم ترد " لكنه - إلى - في المسالك " في (ر) و (ه‍)، وكتب فوقه في (ت):
" نسخة بدل "، وفي (ص): " نسخة ".
241

الجاني نفي السلامة أصلا. وأما لو ادعى زوالها طارئا، فالأقرب أن
القول قول المجني عليه (1)، انتهى.
ولا يخفى صراحته في العمل بأصالة عدم زوال الإصبع في إثبات
الجناية على اليد التامة.
والظاهر أن مقابل الأقرب ما يظهر من الشيخ (رحمه الله) في الخلاف (2)
في نظير المسألة، وهو ما إذا اختلف الجاني والمجني عليه في صحة العضو
المقطوع وعيبه، فإنه قوى عدم ضمان الصحيح.
ومنها: ما ذكره جماعة (3) - تبعا للمبسوط (4) والشرائع (5) - في
اختلاف الجاني والولي في موت المجني عليه بعد الاندمال أو قبله.
إلى غير ذلك مما يقف عليه المتتبع في كتب الفقه، خصوصا كتب
الشيخ والفاضلين والشهيدين.
لكن المعلوم منهم ومن غيرهم من الأصحاب عدم العمل بكل
أصل مثبت.
فإذا تسالم الخصمان في بعض الفروع المتقدمة على ضرب اللفاف (6)

(1) التحرير 2: 261.
(2) الخلاف 5: 203.
(3) انظر المسالك 2: 385، وكشف اللثام 2: 480، والجواهر 42: 416
و 417.
(4) المبسوط 7: 106.
(5) الشرائع 4: 240.
(6) المراد به اللفافة.
242

بالسيف على وجه لو كان زيد الملفوف به سابقا باقيا على اللفاف
لقتله، إلا أنهما اختلفا في بقائه ملفوفا أو خروجه عن اللف، فهل تجد
من نفسك رمي أحد من الأصحاب بالحكم بأن الأصل بقاء لفه، فيثبت
القتل إلا أن يثبت الآخر خروجه؟! أو تجد فرقا بين بقاء زيد على
اللف وبقائه على الحياة، لتوقف تحقق عنوان القتل عليهما؟!
وكذا لو وقع الثوب النجس في حوض كان فيه الماء سابقا، ثم
شك في بقائه فيه، فهل يحكم أحد بطهارة الثوب بثبوت انغساله بأصالة
بقاء الماء؟!
وكذا لو رمى صيدا أو شخصا على وجه لو لم يطرأ حائل
لأصابه، فهل يحكم بقتل الصيد أو الشخص بأصالة عدم الحائل؟!
إلى غير ذلك مما لا يحصى من الأمثلة التي نقطع بعدم جريان
الأصل لإثبات الموضوعات الخارجية التي يترتب عليها الأحكام
الشرعية.
وكيف كان، فالمتبع هو الدليل.
وقد عرفت (1) أن الاستصحاب إن قلنا به من باب الظن النوعي
- كما هو ظاهر أكثر القدماء - فهو كإحدى الأمارات الاجتهادية يثبت
به كل موضوع يكون نظير المستصحب في جواز العمل فيه بالظن
الاستصحابي.
وأما على المختار: من اعتباره من باب الأخبار، فلا يثبت به ما
عدا الآثار الشرعية المترتبة على نفس المستصحب.

(1) في الصفحة 238.
243

نعم هنا شئ:
وهو أن بعض الموضوعات الخارجية المتوسطة بين المستصحب
وبين الحكم الشرعي، من الوسائط الخفية، بحيث يعد في العرف الأحكام
الشرعية المترتبة عليها أحكاما لنفس المستصحب، وهذا المعنى يختلف
وضوحا وخفاء باختلاف مراتب خفاء الوسائط عن أنظار العرف.
منها: ما إذا استصحب رطوبة النجس من المتلاقيين مع جفاف
الآخر، فإنه لا يبعد الحكم بنجاسته، مع أن تنجسه ليس من أحكام
ملاقاته للنجس رطبا، بل من أحكام سراية رطوبة النجاسة إليه وتأثره
بها، بحيث يوجد في الثوب رطوبة متنجسة، ومن المعلوم أن استصحاب
رطوبة النجس الراجع إلى بقاء جزء مائي قابل للتأثير لا يثبت تأثر
الثوب وتنجسه بها، فهو أشبه مثال بمسألة بقاء الماء في الحوض، المثبت
لانغسال الثوب به.
وحكى في الذكرى عن المحقق (1) تعليل الحكم بطهارة الثوب الذي
طارت الذبابة عن النجاسة إليه، بعدم الجزم ببقاء رطوبة الذبابة،
وارتضاه. فيحتمل أن يكون لعدم إثبات الاستصحاب لوصول الرطوبة
إلى الثوب كما ذكرنا، ويحتمل أن يكون لمعارضته باستصحاب طهارة
الثوب إغماضا عن قاعدة حكومة بعض الاستصحابات على بعض كما
يظهر من المحقق (2)، حيث عارض استصحاب طهارة الشاك في الحدث
باستصحاب اشتغال ذمته (3).

(1) حكاه عنه في الفتاوى، انظر الذكرى 1: 83، ولم نعثر عليه في كتب المحقق (قدس سره).
(2) انظر المعتبر 1: 32.
(3) في غير (ص) زيادة: " بالعبادة ".
244

ومنها: أصالة عدم دخول هلال شوال في يوم الشك، المثبت
لكون غده يوم العيد، فيترتب عليه أحكام العيد، من الصلاة والغسل
وغيرهما. فإن مجرد عدم الهلال في يوم لا يثبت آخريته (1)، ولا أولية
غده للشهر اللاحق، لكن العرف لا يفهمون من وجوب ترتيب آثار
عدم انقضاء رمضان وعدم دخول شوال، إلا ترتيب أحكام آخرية
ذلك اليوم لشهر وأولية غده لشهر آخر، فالأول عندهم ما لم يسبق
بمثله والآخر ما اتصل بزمان حكم بكونه أول الشهر الآخر.
وكيف كان، فالمعيار خفاء توسط الأمر العادي والعقلي بحيث يعد
آثاره آثارا لنفس المستصحب.
وربما يتمسك (2) في بعض موارد الأصول المثبتة، بجريان السيرة أو
الإجماع على اعتباره هناك، مثل: إجراء أصالة عدم الحاجب عند
الشك في وجوده على محل الغسل أو المسح، لإثبات غسل البشرة
ومسحها المأمور بهما في الوضوء والغسل.
وفيه نظر.

(1) في (ظ) زيادة: " حتى يترتب عليه أحكام آخرية رمضان ".
(2) المتمسك هو صاحب الفصول، لكن ليس في كلامه ذكر الإجماع، انظر
الفصول: 378.
245

الأمر السابع
لا فرق في المستصحب بين أن يكون مشكوك الارتفاع في الزمان
اللاحق رأسا، وبين أن يكون مشكوك الارتفاع في جزء من الزمان
اللاحق مع القطع بارتفاعه بعد ذلك الجزء.
فإذا شك في بقاء حياة زيد في جزء من الزمان اللاحق،
فلا يقدح في جريان استصحاب حياته علمنا بموته بعد ذلك الجزء من
الزمان وعدمه.
وهذا هو الذي يعبر عنه بأصالة تأخر الحادث، يريدون به: أنه
إذا علم بوجود حادث في زمان وشك في وجوده قبل ذلك الزمان،
فيحكم باستصحاب عدمه قبل ذلك، ويلزمه عقلا تأخر حدوث ذلك
الحادث. فإذا شك في مبدأ موت زيد مع القطع بكونه يوم الجمعة ميتا،
فحياته قبل الجمعة الثابتة بالاستصحاب مستلزمة عقلا لكون مبدأ موته
يوم الجمعة.
وحيث تقدم في الأمر السابق (1) أنه لا يثبت بالاستصحاب - بناء

(1) راجع الصفحة 233 و 243.
247

على العمل به من باب الأخبار - لوازمه العقلية، فلو ترتب على
حدوث موت زيد في يوم الجمعة - لا على مجرد حياته قبل الجمعة -
حكم شرعي لم يترتب على ذلك.
نعم، لو قلنا باعتبار الاستصحاب من باب الظن، أو كان اللازم
العقلي من اللوازم الخفية، جرى فيه ما تقدم ذكره (1).
وتحقيق المقام وتوضيحه:
أن تأخر الحادث قد يلاحظ بالقياس إلى ما قبله من أجزاء
الزمان - كالمثال المتقدم - فيقال: الأصل عدم موت زيد قبل الجمعة،
فيترتب عليه جميع أحكام ذلك العدم، لا أحكام حدوثه يوم الجمعة، إذ
المتيقن بالوجدان تحقق الموت يوم الجمعة لا حدوثه.
إلا أن يقال: إن الحدوث هو الوجود المسبوق بالعدم، وإذا ثبت
بالأصل عدم الشئ سابقا، وعلم بوجوده بعد ذلك، فوجوده المطلق في
الزمان اللاحق إذا انضم إلى عدمه قبل ذلك الثابت بالأصل، تحقق
مفهوم الحدوث، وقد عرفت (2) حال الموضوع الخارجي الثابت أحد
جزئي مفهومه بالأصل.
ومما ذكرنا يعلم: أنه لو كان الحادث مما نعلم بارتفاعه بعد
حدوثه فلا يترتب عليه أحكام الوجود في الزمان المتأخر أيضا، لأن
وجوده مساو لحدوثه. نعم، يترتب عليه أحكام وجوده المطلق في
زمان (3) من الزمانين، كما إذا علمنا أن الماء لم يكن كرا قبل الخميس،

(1) راجع الصفحة 238 و 244.
(2) راجع الصفحة 236.
(3) في (ر) زيادة: " ما ".
248

فعلم أنه صار كرا بعده وارتفع كريته بعد ذلك، فنقول: الأصل عدم
كريته في يوم الخميس، ولا يثبت بذلك كريته يوم الجمعة، فلا يحكم
بطهارة ثوب نجس وقع فيه في أحد اليومين، لأصالة بقاء نجاسته وعدم
أصل حاكم عليه. نعم، لو وقع فيه في كل من اليومين حكم بطهارته
من باب انغسال الثوب بماءين مشتبهين.
وقد يلاحظ تأخر الحادث بالقياس إلى حادث آخر، كما إذا علم
بحدوث حادثين وشك في تقدم أحدهما على الآخر، فإما أن يجهل
تأريخهما أو يعلم تأريخ أحدهما:
فإن جهل تأريخهما فلا يحكم بتأخر أحدهما المعين عن الآخر،
لأن التأخر في نفسه ليس مجرى الاستصحاب، لعدم مسبوقيته باليقين.
وأما أصالة عدم أحدهما في زمان حدوث الآخر فهي معارضة بالمثل،
وحكمه التساقط مع ترتب الأثر على كل واحد من الأصلين، وسيجئ
تحقيقه (1) إن شاء الله تعالى. وهل يحكم بتقارنهما في مقام يتصور
التقارن، لأصالة عدم كل منهما قبل وجود الآخر؟ وجهان:
من كون التقارن أمرا وجوديا لازما لعدم (2) كل منهما قبل الآخر.
ومن كونه من اللوازم الخفية حتى كاد يتوهم أنه عبارة عن عدم
تقدم أحدهما على الآخر في الوجود.
وإن كان أحدهما معلوم التأريخ فلا يحكم على مجهول التأريخ إلا
بأصالة عدم وجوده في تأريخ ذلك، لا تأخر وجوده عنه بمعنى حدوثه
بعده. نعم، يثبت ذلك على القول بالأصل المثبت. فإذا علم تأريخ

(1) في مبحث تعارض الاستصحابين، الصفحة 407.
(2) في (ت) و (ص) زيادة: " كون ".
249

ملاقاة الثوب للحوض وجهل تأريخ صيرورته كرا، فيقال: الأصل بقاء
قلته وعدم كريته في زمان الملاقاة. وإذا علم تأريخ الكرية حكم أيضا
بأصالة عدم تقدم (1) الملاقاة في زمان الكرية، وهكذا.
وربما يتوهم (2): جريان الأصل في طرف المعلوم أيضا (3)، بأن
يقال: الأصل عدم وجوده في الزمان الواقعي للآخر.
ويندفع: بأن نفس وجوده غير مشكوك في زمان، وأما وجوده
في زمان الآخر فليس مسبوقا بالعدم.
ثم إنه يظهر من الأصحاب هنا قولان آخران:
أحدهما: جريان هذا الأصل في طرف مجهول التأريخ، وإثبات
تأخره عن معلوم التأريخ بذلك. وهو ظاهر المشهور، وقد صرح بالعمل
به الشيخ (4) وابن حمزة (5) والمحقق (6) والعلامة (7) والشهيدان (8) وغيرهم (9) في

(1) لم ترد " تقدم " في (ر).
(2) توهمه جماعة، منهم: صاحب الجواهر وشيخه كاشف الغطاء - كما سيأتي -
حيث توهموا جريان أصالة العدم في المعلوم أيضا، وجعلوا المورد من
المتعارضين، كما في مجهولي التأريخ.
(3) " أيضا " من نسخة (حاشية بارفروش 2: 124).
(4) المبسوط 8: 273.
(5) الوسيلة: 225.
(6) الشرائع 4: 120.
(7) قواعد الأحكام (الطبعة الحجرية) 2: 229، والتحرير 2: 300.
(8) الدروس 2: 108، والمسالك 2: 319.
(9) مثل الفاضل الهندي في كشف اللثام 2: 361.
250

بعض الموارد، منها: مسألة اتفاق الوارثين على إسلام أحدهما في غرة
رمضان واختلافهما في موت المورث قبل الغرة أو بعدها، فإنهم حكموا
بأن القول قول مدعي تأخر الموت.
نعم، ربما يظهر من إطلاقهم التوقف في بعض المقامات - من غير
تفصيل بين العلم بتأريخ أحد الحادثين وبين الجهل بهما - عدم العمل
بالأصل في المجهول مع علم تأريخ الآخر، كمسألة اشتباه تقدم الطهارة
أو الحدث، ومسألة اشتباه الجمعتين، واشتباه موت المتوارثين، ومسألة
اشتباه تقدم رجوع المرتهن عن الإذن في البيع على وقوع البيع أو
تأخره عنه، وغير ذلك.
لكن الإنصاف: عدم الوثوق بهذا الإطلاق، بل هو إما محمول
على صورة الجهل بتأريخهما - وأحالوا صورة العلم بتأريخ أحدهما على
ما صرحوا به في مقام آخر - أو على محامل اخر.
وكيف كان، فحكمهم في مسألة الاختلاف في تقدم الموت على
الإسلام وتأخره مع إطلاقهم في تلك الموارد، من قبيل النص والظاهر.
مع أن جماعة منهم نصوا على تقييد هذا الإطلاق في موارد، كالشهيدين
في الدروس (1) والمسالك (2) في مسألة الاختلاف في تقدم الرجوع عن
الإذن في بيع الرهن على بيعه وتأخره، والعلامة الطباطبائي (3) في مسألة

(1) الدروس 3: 409.
(2) المسالك 4: 78.
(3) حيث قال في منظومته في الفقه - الدرة النجفية: 23 -:
وإن يكن يعلم كل منهما * مشتبها عليه ما تقدما
فهو على الأظهر مثل المحدث * إلا إذا عين وقت الحدث
251

اشتباه السابق من الحدث والطهارة.
هذا، مع أنه لا يخفى - على متتبع موارد هذه المسائل وشبهها مما
يرجع في حكمها إلى الأصول - أن غفلة بعضهم بل أكثرهم عن مجاري
الأصول في بعض شقوق المسألة غير عزيزة.
الثاني: عدم العمل بالأصل وإلحاق صورة جهل تأريخ أحدهما
بصورة جهل تأريخهما. وقد صرح به بعض المعاصرين (1) - تبعا لبعض
الأساطين (2) - مستشهدا على ذلك بعدم تفصيل الجماعة في مسألة
الجمعتين والطهارة والحدث وموت المتوارثين، مستدلا على ذلك بأن
التأخر ليس أمرا مطابقا للأصل.
وظاهر استدلاله إرادة ما ذكرنا: من عدم ترتيب أحكام صفة
التأخر وكون المجهول متحققا بعد (3) المعلوم.
لكن ظاهر استشهاده بعدم تفصيل الأصحاب في المسائل المذكورة
إرادة عدم ثمرة مترتبة على العلم بتأريخ أحدهما أصلا. فإذا فرضنا
العلم بموت زيد في يوم الجمعة، وشككنا في حياة ولده في ذلك الزمان،
فالأصل بقاء حياة ولده، فيحكم له بإرث أبيه، وظاهر هذا القائل عدم
الحكم بذلك، وكون حكمه حكم الجهل بتأريخ موت زيد أيضا في عدم
التوارث بينهما.
وكيف كان، فإن أراد هذا القائل ترتيب آثار تأخر ذلك الحادث

(1) وهو صاحب الجواهر في الجواهر 25: 269، و 2: 353 و 354.
(2) وهو كاشف الغطاء في كشف الغطاء: 102.
(3) في (ص) زيادة: " تحقق ".
252

- كما هو ظاهر المشهور - فإنكاره في محله.
وإن أراد عدم جواز التمسك باستصحاب عدم ذلك الحادث
ووجود ضده وترتيب جميع آثاره الشرعية في زمان الشك، فلا وجه
لإنكاره، إذ لا يعقل (1) الفرق بين مستصحب علم بارتفاعه في زمان وما
لم يعلم.
وأما ما ذكره: من عدم تفصيل الأصحاب في مسألة الجمعتين
وأخواتها، فقد عرفت ما فيه (2).
فالحاصل: أن المعتبر في مورد الشك في تأخر حادث عن آخر
استصحاب عدم الحادث في زمان حدوث الآخر.
فإن كان زمان حدوثه معلوما فيجري أحكام بقاء المستصحب في
زمان الحادث المعلوم لا غيرها، فإذا علم بتطهره في الساعة الأولى من
النهار، وشك في تحقق الحدث قبل تلك الساعة أو بعدها، فالأصل عدم
الحدث فيما قبل الساعة (3)، لكن لا يلزم من ذلك ارتفاع الطهارة
المتحققة في الساعة الأولى، كما تخيله بعض الفحول (4).
وإن كان مجهولا كان حكمه حكم أحد الحادثين المعلوم حدوث
أحدهما إجمالا، وسيجئ توضيحه (5).

(1) في (ظ): " يعلم ".
(2) راجع الصفحة 251.
(3) في (ص) زيادة: " الأولى ".
(4) قيل: هو السيد بحر العلوم، ولكن لم نعثر عليه في المصابيح.
(5) في باب تعارض الاستصحابين، الصفحة 406.
253

واعلم: أنه قد يوجد شئ في زمان ويشك في مبدئه، ويحكم
بتقدمه، لأن تأخره لازم لحدوث حادث آخر قبله والأصل عدمه، وقد
يسمى ذلك بالاستصحاب القهقرى.
مثاله: أنه إذا ثبت أن صيغة الأمر حقيقة في الوجوب في عرفنا،
وشك في كونها كذلك قبل ذلك حتى تحمل خطابات الشارع على ذلك،
فيقال: مقتضى الأصل كون الصيغة حقيقة فيه في ذلك الزمان، بل قبله،
إذ لو كان (1) في ذلك الزمان حقيقة في غيره لزم النقل وتعدد الوضع،
والأصل عدمه.
وهذا إنما يصح بناء على الأصل المثبت، وقد استظهرنا سابقا (2)
أنه متفق عليه في الأصول اللفظية، ومورده: صورة الشك في وحدة
المعنى وتعدده. أما إذا علم التعدد وشك في مبدأ حدوث الوضع المعلوم
في زماننا، فمقتضى الأصل عدم ثبوته قبل الزمان المعلوم، ولذا اتفقوا في
مسألة الحقيقة الشرعية على أن الأصل فيها عدم الثبوت.

(1) كذا في النسخ، والمناسب: " كانت "، لرجوع الضمير إلى صيغة الأمر.
(2) راجع الصفحة 13.
254

الأمر الثامن
قد يستصحب صحة العبادة عند الشك في طرو مفسد، كفقد ما
يشك في اعتبار وجوده في العبادة، أو وجود ما يشك في اعتبار عدمه.
وقد اشتهر التمسك بها بين الأصحاب، كالشيخ (1) والحلي (2) والمحقق (3)
والعلامة (4) وغيرهم (5).
وتحقيقه وتوضيح مورد جريانه: أنه لا شك ولا ريب في أن
المراد بالصحة المستصحبة ليس صحة مجموع العمل، لأن الفرض التمسك
به عند الشك في الأثناء.
وأما صحة الأجزاء السابقة فالمراد بها: إما موافقتها للأمر المتعلق
بها، وإما ترتب الأثر عليها:

(1) انظر الخلاف 3: 150، والمبسوط 2: 147.
(2) انظر السرائر 1: 220.
(3) انظر المعتبر 1: 54.
(4) انظر نهاية الإحكام 1: 538، وتذكرة الفقهاء 1: 24.
(5) كالشهيد الثاني في تمهيد القواعد: 273.
255

أما موافقتها للأمر المتعلق بها، فالمفروض أنها متيقنة، سواء فسد
العمل أم لا، لأن فساد العمل لا يوجب خروج الأجزاء المأتي بها على
طبق الأمر المتعلق بها عن كونها كذلك، ضرورة عدم انقلاب الشئ
عما وجد عليه.
وأما ترتب الأثر، فليس الثابت منه للجزء (1) - من حيث إنه
جزء - إلا كونه بحيث لو ضم إليه الأجزاء الباقية مع الشرائط المعتبرة
لالتأم الكل، في مقابل الجزء الفاسد، وهو الذي لا يلزم من ضم باقي
الأجزاء والشرائط إليه وجود الكل.
ومن المعلوم أن هذا الأثر موجود في الجزء دائما، سواء قطع بضم
الأجزاء الباقية، أم قطع بعدمه، أم شك في ذلك. فإذا شك في حصول
الفساد من غير جهة تلك الأجزاء، فالقطع ببقاء صحة تلك الأجزاء
لا ينفع في تحقق الكل مع وصف هذا الشك، فضلا عن استصحاب
الصحة. مع ما عرفت: من أنه ليس الشك في بقاء صحة تلك الأجزاء،
بأي معنى اعتبر من معاني الصحة.
ومن هنا، رد هذا الاستصحاب جماعة من المعاصرين (2) ممن يرى
حجية الاستصحاب مطلقا.
لكن التحقيق: التفصيل بين موارد التمسك.
بيانه: أنه قد يكون الشك في الفساد من جهة احتمال فقد أمر
معتبر أو وجود أمر مانع، وهذا هو الذي لا يعتنى في نفيه باستصحاب

(1) في (ط) زيادة: " المتقدم ".
(2) كصاحب الفصول في الفصول: 50.
256

الصحة، لما عرفت (1): من أن فقد بعض ما يعتبر من الأمور اللاحقة
لا يقدح في صحة الأجزاء السابقة.
وقد يكون من جهة عروض ما ينقطع معه الهيئة الاتصالية
المعتبرة في الصلاة، فإنا استكشفنا - من تعبير الشارع عن بعض ما
يعتبر عدمه في الصلاة بالقواطع - أن للصلاة هيئة إتصالية ينافيها توسط
بعض الأشياء في خلال أجزائها، الموجب لخروج الأجزاء اللاحقة عن
قابلية الانضمام والأجزاء السابقة عن قابلية الانضمام إليها، فإذا شك في
شئ من ذلك وجودا أو صفة جرى استصحاب صحة الأجزاء - بمعنى
بقائها على القابلية المذكورة - فيتفرع على ذلك عدم وجوب استئنافها،
أو استصحاب الاتصال الملحوظ بين الأجزاء السابقة وما يلحقها من
الأجزاء الباقية، فيتفرع عليه بقاء الأمر بالإتمام.
وهذا الكلام وإن كان قابلا للنقض والإبرام، إلا أن الأظهر
بحسب المسامحة العرفية في كثير من الاستصحابات جريان الاستصحاب
في المقام.
وربما يتمسك (2) في مطلق الشك في الفساد، باستصحاب حرمة
القطع ووجوب المضي.
وفيه: أن الموضوع في هذا المستصحب هو الفعل الصحيح لا محالة،
والمفروض الشك في الصحة.
وربما يتمسك في إثبات الصحة في محل الشك، بقوله تعالى:

(1) في أول الصفحة السابقة.
(2) تقدم هذا الاستدلال في مبحث البراءة 2: 380.
257

* (ولا تبطلوا أعمالكم) * (1).
وقد بينا عدم دلالة الآية على هذا المطلب في أصالة البراءة عند
الكلام في مسألة الشك في الشرطية (2)، وكذلك التمسك بما عداها من
العمومات المقتضية للصحة.

(1) تمسك بها غير واحد تبعا للشيخ، كما تقدم في مبحث البراءة 2: 376 -
377، والآية من سورة محمد: 33.
(2) راجع مبحث البراءة 2: 377 - 380.
258

الأمر التاسع
لا فرق في المستصحب بين أن يكون من الموضوعات الخارجية
أو اللغوية أو الأحكام الشرعية العملية، أصولية كانت أو فرعية.
وأما الشرعية الاعتقادية، فلا يعتبر الاستصحاب فيها، لأنه:
إن كان من باب الأخبار فليس مؤداها إلا الحكم على ما كان (1)
معمولا به على تقدير اليقين (2)، والمفروض أن وجوب الاعتقاد بشئ
على تقدير اليقين به لا يمكن الحكم به عند الشك، لزوال الاعتقاد
فلا يعقل التكليف.
وإن كان من باب الظن فهو مبني على اعتبار الظن في أصول
الدين، بل الظن غير حاصل فيما كان المستصحب من العقائد الثابتة
بالعقل أو النقل القطعي، لأن الشك إنما ينشأ من تغير بعض ما يحتمل
مدخليته وجودا أو عدما في المستصحب. نعم، لو شك في نسخه أمكن
دعوى الظن، لو لم يكن احتمال النسخ ناشئا عن احتمال نسخ أصل

(1) في (ت) و (ص) بدل " الحكم على ما كان ": " حكما عمليا ".
(2) في (ص)، (ظ) و (ر) زيادة: " به ".
259

الشريعة، لا نسخ الحكم في تلك الشريعة.
أما الاحتمال الناشئ عن احتمال نسخ الشريعة فلا يحصل الظن
بعدمه، لأن نسخ الشرائع شائع، بخلاف نسخ الحكم في شريعة واحدة،
فإن الغالب بقاء الأحكام.
ومما ذكرنا يظهر أنه لو شك في نسخ أصل الشريعة لم يجز
التمسك بالاستصحاب لإثبات بقائها، مع أنه لو سلمنا حصول الظن فلا
دليل على حجيته حينئذ، لعدم مساعدة العقل عليه وإن انسد باب
العلم، لإمكان الاحتياط إلا فيما لا يمكن. والدليل النقلي الدال عليه لا
يجدي، لعدم ثبوت الشريعة السابقة ولا اللاحقة.
فعلم مما ذكرنا أن ما يحكى: من تمسك بعض أهل الكتاب - في
مناظرة بعض الفضلاء السادة (1) - باستصحاب شرعه، مما لا وجه له،
إلا أن يريد جعل البينة على المسلمين في دعوى الشريعة الناسخة، إما
لدفع كلفة الاستدلال عن نفسه، وإما لإبطال دعوى المدعي، بناء على
أن مدعي الدين الجديد كمدعي النبوة يحتاج إلى برهان قاطع، فعدم
الدليل القاطع للعذر على الدين الجديد - كالنبي الجديد - دليل قطعي

(1) هو السيد باقر القزويني على ما نقله الآشتياني - في بحر الفوائد 3: 150 -
عن المصنف، وقيل: إنه السيد حسين القزويني، وقيل: إنه السيد محسن الكاظمي،
وفي أوثق الوسائل (516): عن رسالة لبعض تلامذة العلامة بحر العلوم: أن
المناظرة جرت بين السيد بحر العلوم وبين عالم يهودي حين سافر إلى زيارة
أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) في بلدة ذي الكفل، وكانت محل تجمع اليهود آنذاك،
كما أنه يحتمل تعدد الواقعة.
260

على عدمه بحكم العادة، بل العقل، فغرض الكتابي إثبات حقية دينه
بأسهل الوجهين.
ثم إنه قد أجيب عن استصحاب الكتابي المذكور بأجوبة:
منها: ما حكي (1) عن بعض الفضلاء المناظرين له:
وهو أنا نؤمن ونعترف بنبوة كل موسى وعيسى أقر بنبوة نبينا (صلى الله عليه وآله)،
وكافر (2) بنبوة كل من لم يقر بذلك. وهذا مضمون ما ذكره مولانا
الرضا (عليه السلام) في جواب الجاثليق (3).
وهذا الجواب بظاهره مخدوش بما عن الكتابي: من أن موسى بن
عمران أو عيسى بن مريم شخص واحد وجزئي حقيقي اعترف
المسلمون وأهل الكتاب بنبوته، فعلى المسلمين نسخها.
وأما ما ذكره الإمام (عليه السلام) (4)، فلعله أراد به غير ظاهره، بقرينة
ظاهرة بينه وبين الجاثليق. وسيأتي ما يمكن أن يؤول به.
ومنها: ما ذكره بعض المعاصرين (5): من أن استصحاب النبوة
معارض باستصحاب عدمها الثابت قبل حدوث أصل النبوة، بناء على
أصل فاسد تقدم حكايته عنه، وهو: أن الحكم الشرعي الموجود
يقتصر فيه على القدر المتيقن، وبعده يتعارض استصحاب وجوده

(1) حكاه المحقق القمي في القوانين 2: 70.
(2) كذا في النسخ، والمناسب: " نكفر ".
(3) راجع عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 157، والاحتجاج 2: 202.
(4) في نسخة بدل (ص) زيادة: " في جواب الجاثليق ".
(5) هو الفاضل النراقي، انظر مناهج الأحكام: 237.
261

واستصحاب عدمه.
وقد أوضحنا فساده بما لا مزيد عليه (1).
ومنها: ما ذكره في القوانين - بانيا له على ما تقدم منه في الأمر
الأول: من أن الاستصحاب مشروط بمعرفة استعداد المستصحب، فلا
يجوز استصحاب حياة الحيوان المردد بين حيوانين مختلفين في الاستعداد
بعد انقضاء مدة استعداد أقلهما استعدادا - قال:
إن موضوع الاستصحاب لا بد أن يكون متعينا حتى يجري على
منواله، ولم يتعين هنا إلا النبوة في الجملة، وهي كلي من حيث إنها
قابلة للنبوة إلى آخر الأبد، بأن يقول الله جل ذكره لموسى (عليه السلام):
" أنت نبيي وصاحب ديني إلى آخر الأبد ". ولأن يكون إلى زمان
محمد (صلى الله عليه وآله)، بأن يقول له: " أنت نبيي ودينك باق إلى زمان محمد (صلى الله عليه وآله) ".
ولأن يكون غير مغيا بغاية، بأن يقول: " أنت نبيي " بدون أحد
القيدين. فعلى الخصم أن يثبت: إما التصريح بالامتداد إلى آخر الأبد،،
أو الإطلاق. ولا سبيل إلى الأول، مع أنه يخرج عن الاستصحاب.
ولا إلى الثاني، لأن الإطلاق في معنى القيد، فلا بد من إثباته. ومن
المعلوم أن مطلق النبوة غير النبوة المطلقة، والذي يمكن استصحابه هو
الثاني دون الأول، إذ الكلي لا يمكن استصحابه إلا بما يمكن من بقاء
أقل أفراده (2)، انتهى موضع الحاجة.
وفيه:

(1) راجع الصفحة 208 - 213.
(2) القوانين 2: 70.
262

أولا: ما تقدم (1)، من عدم توقف جريان الاستصحاب على إحراز
استعداد المستصحب.
وثانيا: أن ما ذكره - من أن الإطلاق غير ثابت، لأنه في معنى
القيد - غير صحيح، لأن عدم التقييد مطابق للأصل. نعم، المخالف
للأصل الإطلاق بمعنى العموم الراجع إلى الدوام.
والحاصل: أن هنا في الواقع ونفس الأمر نبوة مستدامة إلى آخر
الأبد، ونبوة مغياة إلى وقت خاص، ولا ثالث لهما في الواقع، فالنبوة
المطلقة - بمعنى غير المقيدة - ومطلق النبوة سيان في التردد بين الاستمرار
والتوقيت، فلا وجه لإجراء الاستصحاب على أحدهما دون الآخر. إلا
أن يريد - بقرينة ما ذكره بعد ذلك، من أن المراد من مطلقات كل
شريعة بحكم الاستقراء الدوام والاستمرار إلى أن يثبت الرافع - أن
المطلق في حكم الاستمرار، فالشك فيه شك في الرافع، بخلاف مطلق
النبوة، فإن استعداده غير محرز عند الشك، فهو من قبيل الحيوان المردد
بين مختلفي الاستعداد.
وثالثا: أن ما ذكره منقوض بالاستصحاب في الأحكام الشرعية،
لجريان ما ذكره في كثير منها، بل في أكثرها.
وقد تفطن لورود هذا عليه، ودفعه بما لا يندفع به، فقال:
إن التتبع والاستقراء يحكمان بأن غالب الأحكام الشرعية - في
غير ما ثبت في الشرع له حد - ليست بآنية، ولا محدودة إلى حد
معين، وأن الشارع اكتفى فيها فيما ورد عنه مطلقا في استمراره، ويظهر

(1) راجع الصفحة 194.
263

من الخارج أنه أراد منه الاستمرار، فإن من (1) تتبع أكثر الموارد
واستقرأها (2) يحصل الظن القوي بأن مراده من تلك المطلقات هو
الاستمرار إلى أن يثبت الرافع من دليل عقلي أو نقلي (3)، انتهى.
ولا يخفى ما فيه:
أما أولا: فلأن مورد النقض لا يختص بما شك في رفع الحكم
الشرعي الكلي، بل قد يكون الشك لتبدل ما يحتمل مدخليته في بقاء
الحكم، كتغير الماء للنجاسة.
وأما ثانيا: فلأن الشك في رفع الحكم الشرعي إنما هو بحسب
ظاهر دليله الظاهر في الاستمرار - بنفسه أو بمعونة القرائن، مثل
الاستقراء الذي ذكره في المطلقات - لكن الحكم الشرعي الكلي في
الحقيقة إنما يرتفع بتمام استعداده، حتى في النسخ، فضلا عن نحو
الخيار المردد بين كونه على الفور أو التراخي، والنسخ أيضا رفع
صوري، وحقيقته انتهاء استعداد الحكم، فالشك في بقاء الحكم الشرعي
لا يكون إلا من جهة الشك في مقدار استعداده، نظير الحيوان المجهول
استعداده.
وأما ثالثا: فلأن ما ذكره - من حصول الظن بإرادة الاستمرار
من الإطلاق - لو تم، يكون دليلا اجتهاديا مغنيا عن التمسك بالاستصحاب،
فإن التحقيق: أن الشك في نسخ الحكم المدلول عليه بدليل ظاهر - في

(1) لم ترد " من " في المصدر.
(2) في المصدر: " استقراءها ".
(3) القوانين 2: 73.
264

نفسه أو بمعونة دليل خارجي - في الاستمرار، ليس موردا للاستصحاب،
لوجود الدليل الاجتهادي في مورد الشك، وهو ظن الاستمرار. نعم،
هو من قبيل استصحاب حكم العام إلى أن يرد المخصص، وهو ليس
استصحابا في حكم شرعي، كما لا يخفى.
ثم إنه (قدس سره) أورد على ما ذكره - من قضاء التتبع (1) بغلبة الاستمرار
في ما ظاهره الإطلاق -: بأن النبوة أيضا من تلك الأحكام.
ثم أجاب: بأن غالب النبوات محدودة، والذي ثبت علينا
استمراره نبوة نبينا (صلى الله عليه وآله) (2).
ولا يخفى ما في هذا الجواب:
أما أولا: فلأن نسخ أكثر النبوات لا يستلزم تحديدها، فللخصم
أن يدعي ظهور أدلتها - في أنفسها أو بمعونة الاستقراء - في الاستمرار،
فانكشف نسخ ما نسخ وبقي ما لم يثبت نسخه.
وأما ثانيا: فلأن غلبة التحديد في النبوات غير مجدية، للقطع
بكون إحداها (3) مستمرة، فليس ما وقع الكلام في استمراره أمرا ثالثا
يتردد بين إلحاقه بالغالب وإلحاقه بالنادر، بل يشك في أنه الفرد النادر
أو النادر غيره، فيكون هذا ملحقا بالغالب.
والحاصل: أن هنا أفرادا غالبة وفردا نادرا، وليس هنا مشكوك
قابل اللحوق بأحدهما، بل الأمر يدور بين كون هذا الفرد هو الأخير

(1) في (ظ) ونسخة بدل (ص) بدل " قضاء التتبع ": " اكتفاء الشارع ".
(2) القوانين 2: 73.
(3) في (ظ) و (ه‍): " إحداهما ".
265

النادر، أو ما قبله الغالب، بل قد يثبت بأصالة عدم ما عداه (1) كون
هذا هو الأخير المغاير للباقي.
ثم أورد (قدس سره) على نفسه: بجواز استصحاب أحكام الشريعة السابقة
المطلقة.
وأجاب: بأن إطلاق الأحكام مع اقترانها ببشارة مجئ نبينا (صلى الله عليه وآله)
لا ينفعهم (2).
وربما يورد عليه: أن الكتابي لا يسلم البشارة المذكورة حتى
يضره في التمسك بالاستصحاب أو لا ينفعه.
ويمكن توجيه كلامه: بأن المراد أنه إذا (3) لم ينفع الإطلاق مع
اقترانها بالبشارة، فإذا فرض قضية نبوته مهملة غير دالة إلا على
مطلق النبوة، فلا ينفع الإطلاق بعد العلم بتبعية تلك الأحكام لمدة
النبوة، فإنها تصير أيضا حينئذ مهملة.
ثم إنه يمكن الجواب عن الاستصحاب المذكور بوجوه:
الأول: أن المقصود من التمسك به:
إن كان الاقتناع به في العمل عند الشك، فهو - مع مخالفته
للمحكي عنه من قوله: " فعليكم كذا وكذا "، فإنه ظاهر في أن غرضه
الإسكات والإلزام - فاسد جدا، لأن العمل به على تقدير تسليم جوازه
غير جائز إلا بعد الفحص والبحث، وحينئذ يحصل العلم بأحد الطرفين

(1) في (ظ) و (ص) بدل " ما عداه ": " ما عدا غيرهم ".
(2) القوانين 2: 74.
(3) شطب في (ت) على: " إذا ".
266

بناء على ما ثبت: من انفتاح باب العلم في مثل هذه المسألة، كما يدل
عليه النص الدال على تعذيب الكفار (1)، والإجماع المدعى (2) على عدم
معذورية الجاهل (3)، خصوصا في هذه المسألة، خصوصا من مثل هذا
الشخص الناشئ في بلاد الإسلام. وكيف كان، فلا يبقى مجال للتمسك
بالاستصحاب.
وإن أراد به الإسكات والإلزام، ففيه: أن الاستصحاب ليس دليلا
إسكاتيا، لأنه فرع الشك، وهو أمر وجداني - كالقطع - لا يلزم (4) به
أحد.
وإن أراد بيان أن مدعي ارتفاع الشريعة السابقة ونسخها محتاج
إلى الاستدلال، فهو غلط، لأن مدعي البقاء في مثل المسألة - أيضا -
يحتاج إلى الاستدلال عليه.
الثاني: أن اعتبار الاستصحاب إن كان من باب الأخبار، فلا
ينفع الكتابي التمسك به، لأن ثبوته في شرعنا مانع عن استصحاب
النبوة، وثبوته في شرعهم غير معلوم. نعم، لو ثبت ذلك من شريعتهم
أمكن التمسك به، لصيرورته حكما إلهيا (5) غير منسوخ يجب تعبد

(1) فصلت: 6.
(2) انظر شرح الألفية (رسائل المحقق الكركي) 3: 303، ومفتاح الكرامة 3:
283.
(3) تقدم الكلام عن عدم معذورية الجاهل في مبحث البراءة 2: 412.
(4) في غير (ظ) بدل " لا يلزم ": " لا يلتزم ".
(5) لم ترد " إلهيا " في (ظ).
267

الفريقين به.
وإن كان من باب الظن، فقد عرفت - في صدر المبحث - أن
حصول الظن ببقاء الحكم الشرعي الكلي ممنوع جدا، وعلى تقديره
فالعمل بهذا الظن في مسألة النبوة ممنوع. وإرجاع الظن بها إلى الظن
بالأحكام الكلية الثابتة في تلك الشريعة أيضا لا يجدي، لمنع الدليل
على العمل بالظن، عدا دليل الانسداد الغير الجاري في المقام مع التمكن
من التوقف والاحتياط في العمل. ونفي الحرج لا دليل عليه في الشريعة
السابقة، خصوصا بالنسبة إلى قليل من الناس ممن لم يحصل له العلم
بعد الفحص والبحث.
ودعوى: قيام الدليل الخاص على اعتبار هذا الظن، بالتقريب
الذي ذكره بعض المعاصرين (1): من أن شرائع الأنبياء السلف وإن كانت
لم تثبت على سبيل الاستمرار، لكنها في الظاهر لم تكن محدودة بزمن
معين، بل بمجئ النبي اللاحق، ولا ريب أنها تستصحب ما لم تثبت
نبوة اللاحق، ولولا ذلك لاختل على الأمم السابقة نظام شرائعهم، من
حيث تجويزهم في كل زمان ظهور نبي ولو في الأماكن البعيدة، فلا
يستقر لهم البناء على أحكامهم.
مدفوعة: بأن استقرار الشرائع لم يكن بالاستصحاب قطعا، وإلا
لزم كونهم شاكين في حقية شريعتهم ونبوة نبيهم (2) في أكثر الأوقات لما
تقدم (3): من أن الاستصحاب بناء على كونه من باب الظن لا يفيد

(1) هو صاحب الفصول في الفصول: 380.
(2) لم ترد " نبوة نبيهم " في (ظ)، وشطب عليها في (ت) و (ه‍).
(3) راجع الصفحة 87 - 88.
268

الظن الشخصي في كل مورد. وغاية ما يستفاد من بناء العقلاء في
الاستصحاب، هي ترتيب الأعمال المترتبة على الدين السابق دون حقية
دينهم ونبوة نبيهم التي هي من أصول الدين.
فالأظهر أن يقال: إنهم كانوا قاطعين بحقية دينهم، من جهة بعض
العلامات التي أخبرهم بها النبي السابق. نعم، بعد ظهور النبي الجديد،
الظاهر كونهم شاكين في دينهم مع بقائهم على الأعمال، وحينئذ
فللمسلمين أيضا أن يطالبوا اليهود بإثبات حقية دينهم، لعدم الدليل لهم
عليها وإن كان لهم الدليل على البقاء على الأعمال في الظاهر (1).
الثالث: أنا لم نجزم بالمستصحب - وهي نبوة موسى أو عيسى
(عليهما السلام) - إلا بإخبار نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) ونص القرآن، وحينئذ فلا معنى للاستصحاب.
ودعوى: أن النبوة موقوفة على صدق نبينا (صلى الله عليه وآله) لا على نبوته،
مدفوعة: بأنا لم نعرف صدقه إلا من حيث نبوته.
والحاصل: أن الاستصحاب موقوف على تسالم المسلمين وغيرهم
عليه، لا من جهة النص عليه في هذه الشريعة. وهو مشكل، خصوصا
بالنسبة إلى عيسى (عليه السلام)، لإمكان معارضة قول النصارى بتكذيب
اليهود (2).
الرابع: أن مرجع النبوة المستصحبة ليس إلا إلى وجوب التدين
بجميع ما جاء به ذلك النبي، وإلا فأصل صفة النبوة أمر قائم بنفس
النبي (صلى الله عليه وآله)، لا معنى لاستصحابه، لعدم قابليته للارتفاع أبدا. ولا ريب

(1) في (ص) و (ظ) زيادة: " فتأمل ".
(2) في (ت) و (ه‍) زيادة: " به ".
269

أنا قاطعون بأن من أعظم ما جاء به النبي السابق الإخبار بنبوة نبينا (صلى الله عليه وآله)،
كما يشهد به الاهتمام بشأنه في قوله تعالى - حكاية عن عيسى -: * (إني
رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من
بعدي اسمه أحمد) * (1) فكل ما جاء به من الأحكام فهو في الحقيقة مغيا
بمجئ نبينا (صلى الله عليه وآله)، فدين عيسى (عليه السلام) المختص به عبارة عن مجموع أحكام
مغياة إجمالا بمجئ نبينا (صلى الله عليه وآله)، ومن المعلوم أن الاعتراف ببقاء ذلك
الدين لا يضر المسلمين فضلا عن استصحابه.
فإن أراد الكتابي دينا غير هذه الجملة المغياة إجمالا بالبشارة
المذكورة، فنحن منكرون له، وإن أراد هذه الجملة، فهو عين مذهب
المسلمين، وفي الحقيقة بعد كون أحكامهم مغياة لا رفع حقيقة، ومعنى
النسخ انتهاء مدة الحكم المعلومة (2) إجمالا.
فإن قلت: لعل مناظرة الكتابي، في تحقق الغاية المعلومة، وأن
الشخص الجائي هو المبشر به أم لا، فيصح تمسكه بالاستصحاب.
قلت: المسلم هو الدين المغيا بمجئ هذا الشخص الخاص،
لا بمجئ موصوف كلي حتى يتكلم في انطباقه على هذا الشخص،
ويتمسك بالاستصحاب.
الخامس: أن يقال: إنا - معاشر المسلمين - لما علمنا أن النبي
السالف أخبر بمجئ نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن ذلك كان واجبا عليه، ووجوب
الإقرار به والإيمان به متوقف على تبليغ ذلك إلى رعيته، صح لنا أن

(1) الصف: 6.
(2) في (ر): " المعلوم ".
270

نقول: إن المسلم نبوة النبي السالف على تقدير تبليغ نبوة نبينا (صلى الله عليه وآله)،
والنبوة التقديرية لا يضرنا ولا ينفعهم في بقاء شريعتهم.
ولعل هذا الجواب يرجع إلى ما ذكره الإمام أبو الحسن الرضا
صلوات الله عليه في جواب الجاثليق، حيث قال له (عليه السلام):
ما تقول في نبوة عيسى وكتابه، هل تنكر منهما شيئا؟
قال (عليه السلام): أنا مقر بنبوة عيسى وكتابه وما بشر به أمته وأقرت
به الحواريون، وكافر بنبوة كل عيسى لم يقر بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله) وكتابه ولم
يبشر به أمته.
ثم قال الجاثليق: أليس تقطع الأحكام بشاهدي عدل؟
قال (عليه السلام): بلى.
قال الجاثليق: فأقم شاهدين عدلين (1) - من غير أهل ملتك - على
نبوة محمد (صلى الله عليه وآله) ممن لا تنكره النصرانية، وسلنا مثل ذلك من غير أهل
ملتنا.
قال (عليه السلام): الآن جئت بالنصفة يا نصراني.
ثم ذكر (عليه السلام) إخبار خواص عيسى (عليه السلام) بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله) (2).
ولا يخفى: أن الإقرار بنبوة عيسى (عليه السلام) وكتابه وما بشر به أمته
لا يكون حاسما لكلام الجاثليق، إلا إذا أريد المجموع من حيث المجموع،
بجعل الإقرار بعيسى (عليه السلام) مرتبطا بتقدير بشارته المذكورة.
ويشهد له قوله (عليه السلام) بعد ذلك: " كافر بنبوة كل عيسى لم يقر ولم

(1) لم ترد " عدلين " في المصدر.
(2) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 156 و 157، والاحتجاج 2: 202.
271

يبشر "، فإن هذا في قوة مفهوم التعليق المستفاد من الكلام السابق.
وأما التزامه (عليه السلام) بالبينة على دعواه، فلا يدل على تسليمه
الاستصحاب وصيرورته مثبتا بمجرد ذلك، بل لأنه (عليه السلام) من أول
المناظرة ملتزم بالإثبات، وإلا فالظاهر المؤيد بقول الجاثليق: " وسلنا
مثل ذلك " كون كل منهما مدعيا، إلا أن يريد الجاثليق ببينته نفس
الإمام وغيره من المسلمين المعترفين بنبوة عيسى (عليه السلام)، إذ لا بينة له
ممن لا ينكره المسلمون سوى ذلك، فافهم.
272

الأمر العاشر
أن الدليل الدال على الحكم في الزمان السابق:
إما أن يكون مبينا لثبوت الحكم في الزمان الثاني، كقوله: " أكرم
العلماء في كل زمان "، وكقوله: " لا تهن فقيرا "، حيث إن النهي للدوام.
وإما أن يكون مبينا لعدمه، نحو: " أكرم العلماء إلى أن يفسقوا "،
بناء على مفهوم الغاية.
وإما أن يكون غير مبين لحال الحكم في الزمان الثاني نفيا وإثباتا:
إما لإجماله، كما إذا أمر بالجلوس إلى الليل، مع تردد الليل بين
استتار القرص وذهاب الحمرة.
وإما لقصور دلالته، كما إذا قال: " إذا تغير الماء نجس "، فإنه لا
يدل على أزيد من حدوث النجاسة في الماء، ومثل الإجماع المنعقد على
حكم في زمان، فإن الإجماع لا يشمل ما (1) بعد ذلك الزمان.
ولا إشكال في جريان الاستصحاب في هذا القسم الثالث.
وأما القسم الثاني، فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه،

(1) " ما " من (ه‍) و (ت).
273

لوجود الدليل على ارتفاع الحكم في الزمان الثاني.
وكذلك القسم الأول، لأن عموم اللفظ للزمان اللاحق كاف ومغن
عن الاستصحاب، بل مانع عنه، إذ المعتبر في الاستصحاب عدم الدليل
ولو على طبق الحالة السابقة.
ثم إذا فرض خروج بعض الأفراد في بعض الأزمنة عن هذا
العموم، فشك فيما بعد ذلك الزمان المخرج، بالنسبة إلى ذلك الفرد، هل
هو ملحق به في الحكم أو ملحق بما قبله؟
الحق: هو التفصيل في المقام، بأن يقال:
إن اخذ فيه عموم الأزمان أفراديا، بأن اخذ كل زمان موضوعا
مستقلا لحكم مستقل، لينحل العموم إلى أحكام متعددة بتعدد الأزمان (1)،
كقوله: " أكرم العلماء كل يوم " فقام الإجماع على حرمة إكرام زيد العالم
يوم الجمعة. ومثله ما لو قال: " أكرم العلماء "، ثم قال: " لا تكرم زيدا
يوم الجمعة " إذا فرض (2) الاستثناء قرينة على أخذ كل زمان فردا مستقلا،
فحينئذ يعمل عند الشك بالعموم، ولا يجري الاستصحاب، بل لو لم يكن
عموم وجب الرجوع إلى سائر الأصول، لعدم قابلية المورد للاستصحاب.
وإن اخذ لبيان الاستمرار، كقوله: " أكرم العلماء دائما "، ثم خرج
فرد في زمان، وشك في حكم ذلك الفرد بعد ذلك الزمان، فالظاهر
جريان الاستصحاب، إذ لا يلزم من ثبوت ذلك الحكم للفرد بعد ذلك
الزمان تخصيص زائد على التخصيص المعلوم، لأن مورد التخصيص

(1) لم ترد " موضوعا - إلى - الأزمان " في (ظ)، وورد بدلها: " فردا ".
(2) في (ظ) بدل " إذا فرض ": " فإن ".
274

الأفراد دون الأزمنة، بخلاف القسم الأول، بل لو لم يكن هنا استصحاب
لم يرجع إلى العموم، بل إلى الأصول الاخر.
ولا فرق بين استفادة الاستمرار من اللفظ، كالمثال المتقدم، أو من
الإطلاق، كقوله: " تواضع للناس " - بناء على استفادة الاستمرار منه -
فإنه إذا خرج منه التواضع في بعض الأزمنة، على وجه لا يفهم من
التخصيص ملاحظة المتكلم كل زمان فردا مستقلا لمتعلق الحكم، استصحب
حكمه بعد الخروج، وليس هذا من باب تخصيص العام بالاستصحاب.
وقد صدر خلاف ما ذكرنا - من أن مثل هذا من مورد (1)
الاستصحاب، وأن هذا ليس من تخصيص العام به - في موضعين:
أحدهما: ما ذكره المحقق الثاني (رحمه الله) في مسألة خيار الغبن في باب
تلقي الركبان: من أنه فوري، لأن عموم الوفاء بالعقود من حيث
الأفراد، يستتبع عموم الأزمان (2).
وحاصله: منع جريان الاستصحاب، لأجل عموم وجوب الوفاء،
خرج منه أول زمان الاطلاع على الغبن وبقي الباقي.
وظاهر الشهيد الثاني في المسالك إجراء الاستصحاب في هذا
الخيار. وهو الأقوى، بناء على أنه لا يستفاد من إطلاق وجوب الوفاء
إلا كون الحكم مستمرا، لا أن الوفاء في كل زمان موضوع مستقل
محكوم بوجوب مستقل، حتى يقتصر في تخصيصه على ما ثبت من
جواز نقض العقد في جزء من الزمان وبقي الباقي.

(1) في (ص): " من موارد ".
(2) جامع المقاصد 4: 38.
275

نعم لو استظهر من وجوب الوفاء بالعقد عموم لا ينتقض بجواز نقضه
في زمان، بالإضافة إلى غيره من الأزمنة، صح ما ادعاه المحقق (قدس سره).
لكنه بعيد، ولهذا رجع إلى الاستصحاب في المسألة جماعة من
متأخري المتأخرين (1) تبعا للمسالك (2).
إلا أن بعضهم (3) قيده بكون مدرك الخيار في الزمان الأول هو
الإجماع، لا أدلة نفي الضرر، لاندفاع الضرر بثبوت الخيار في الزمن الأول.
ولا أجد وجها لهذا التفصيل، لأن نفي الضرر إنما نفى لزوم العقد،
ولم يحدد زمان الجواز، فإن كان عموم أزمنة وجوب الوفاء يقتصر في
تخصيصه على ما يندفع به الضرر، ويرجع في الزائد (4) إلى العموم،
فالإجماع أيضا كذلك، يقتصر فيه على معقده.
والثاني: ما ذكره بعض من قارب عصرنا من الفحول (5): من أن
الاستصحاب المخالف للأصل دليل شرعي مخصص للعمومات، ولا ينافيه
عموم أدلة حجيته، من أخبار الباب الدالة على عدم جواز نقض اليقين
بغير اليقين، إذ ليس العبرة في العموم والخصوص بدليل الدليل، وإلا لم

(1) كالمحدث البحراني في الحدائق 19: 43، وصاحب الجواهر في الجواهر 22:
476، و 23: 43.
(2) المسالك 3: 190.
(3) هو صاحب الرياض على ما نقله المصنف في خيارات المكاسب (طبعة
الشهيدي): 242، وانظر الرياض (الطبعة الحجرية) 1: 521 و 525.
(4) في (ص) زيادة: " عليه ".
(5) هو السيد بحر العلوم.
276

يتحقق لنا في الأدلة دليل خاص، لانتهاء (1) كل دليل إلى أدلة عامة، بل
العبرة بنفس الدليل.
ولا ريب أن الاستصحاب الجاري في كل مورد خاص به (2)،
لا يتعداه إلى غيره، فيقدم على العام، كما يقدم غيره من الأدلة عليه،
ولذا ترى الفقهاء يستدلون على الشغل والنجاسة والتحريم بالاستصحاب،
في مقابلة ما دل على البراءة الأصلية وطهارة الأشياء وحليتها. ومن
ذلك: استنادهم إلى استصحاب النجاسة والتحريم في صورة الشك في
ذهاب ثلثي العصير، وفي كون التحديد تحقيقيا أو تقريبيا، وفي (3)
صيرورته قبل ذهاب الثلثين دبسا، إلى غير ذلك (4). انتهى كلامه، على
ما لخصه بعض المعاصرين (5).
ولا يخفى ما في ظاهره، لما عرفت: من أن مورد جريان العموم
لا يجري الاستصحاب حتى لو لم يكن عموم، ومورد جريان الاستصحاب
لا يرجع إلى العموم ولو لم يكن استصحاب.
ثم ما ذكره من الأمثلة خارج عن مسألة تخصيص الاستصحاب
للعمومات، لأن الأصول المذكورة بالنسبة إلى الاستصحاب ليست من
قبيل العام بالنسبة إلى الخاص، كما سيجئ في تعارض الاستصحاب مع

(1) في المصدر زيادة: " حجية ".
(2) " به " من المصدر.
(3) في المصدر زيادة: " صورة ".
(4) انظر فوائد السيد بحر العلوم: 116 - 117.
(5) هو صاحب الفصول في الفصول: 214.
277

غيره من الأصول (1). نعم، لو فرض الاستناد في أصالة الحلية إلى عموم
" حل الطيبات " و " حل الانتفاع بما في الأرض "، كان استصحاب
حرمة العصير في (2) المثالين الأخيرين مثالا لمطلبه، دون المثال الأول،
لأنه من قبيل الشك في موضوع الحكم الشرعي، لا في نفسه. ففي
الأول يستصحب عنوان الخاص، وفي الثاني يستصحب حكمه، وهو
الذي يتوهم كونه مخصصا للعموم دون الأول.
ويمكن توجيه كلامه (قدس سره): بأن مراده من العمومات - بقرينة
تخصيصه الكلام بالاستصحاب المخالف - هي عمومات الأصول، ومراده
بالتخصيص للعمومات (3) ما يعم الحكومة - كما ذكرنا في أول أصالة
البراءة (4) - وغرضه: أن مؤدى الاستصحاب في كل مستصحب إجراء
حكم دليل المستصحب في صورة الشك، فلما كان (5) دليل المستصحب
أخص من الأصول سمي تقدمه عليها تخصيصا، فالاستصحاب في ذلك
متمم لحكم ذلك الدليل ومجريه في الزمان اللاحق. وكذلك الاستصحاب
بالنسبة إلى العمومات الاجتهادية، فإنه إذا خرج المستصحب من العموم
بدليله - والمفروض أن الاستصحاب مجر لحكم ذلك الدليل في اللاحق -
فكأنه أيضا مخصص، يعني موجب للخروج عن حكم العام، فافهم.

(1) انظر الصفحة 387.
(2) في (ت) كتب على " كان استصحاب حرمة العصير في ": " نسخة "، وفي (ه‍)
كتب عليها: " زائد "، وورد بدلها فيهما: " أمكن جعل ".
(3) لم ترد " للعمومات " في (ظ).
(4) راجع مبحث البراءة 2: 11 - 13.
(5) كذا في (ف)، وفي غيرها بدل " فلما كان ": " فكما أن ".
278

الأمر الحادي عشر
قد أجرى بعضهم (1) الاستصحاب في ما إذا تعذر بعض أجزاء
المركب، فيستصحب وجوب الباقي الممكن.
وهو بظاهره - كما صرح به بعض المحققين (2) - غير صحيح، لأن
الثابت سابقا - قبل تعذر بعض الأجزاء - وجوب هذه الأجزاء الباقية،
تبعا لوجوب الكل ومن باب المقدمة، وهو مرتفع قطعا، والذي يراد
ثبوته بعد تعذر البعض هو الوجوب النفسي الاستقلالي، وهو معلوم
الانتفاء سابقا.
ويمكن توجيهه - بناء على ما عرفت (3)، من جواز إبقاء القدر

(1) كالسيد العاملي في المدارك 1: 205، وصاحب الجواهر في الجواهر 2:
163.
(2) مثل المحدث البحراني في الحدائق 2: 245، والمحقق الخوانساري في مشارق
الشموس: 110، والفاضل النراقي في مستند الشيعة 2: 103، وشريف العلماء
في ضوابط الأصول: 374.
(3) راجع الصفحة 196.
279

المشترك في بعض الموارد ولو علم بانتفاء الفرد المشخص له سابقا -:
بأن المستصحب هو مطلق المطلوبية المتحققة سابقا لهذا الجزء ولو في
ضمن مطلوبية الكل، إلا أن العرف لا يرونها مغايرة في الخارج
لمطلوبية الجزء في نفسه (1).
ويمكن توجيهه بوجه آخر - يستصحب معه الوجوب النفسي - بأن
يقال: إن معروض الوجوب سابقا، والمشار إليه بقولنا: " هذا الفعل كان
واجبا " هو الباقي، إلا أنه يشك في مدخلية الجزء المفقود في اتصافه
بالوجوب النفسي مطلقا، أو اختصاص المدخلية بحال الاختيار، فيكون
محل الوجوب النفسي هو الباقي (2)، ووجود ذلك الجزء المفقود وعدمه
عند العرف في حكم الحالات المتبادلة لذلك الواجب المشكوك في
مدخليتها. وهذا نظير استصحاب الكرية في ماء نقص منه مقدار فشك
في بقائه على الكرية، فيقال: " هذا الماء كان كرا، والأصل بقاء كريته "
مع أن هذا الشخص الموجود الباقي لم يعلم بكريته. وكذا استصحاب
القلة في ماء زيد عليه مقدار.
وهنا توجيه ثالث، وهو: استصحاب الوجوب النفسي المردد بين
تعلقه سابقا بالمركب على أن يكون المفقود جزءا له مطلقا فيسقط
الوجوب بتعذره، وبين تعلقه بالمركب على أن يكون الجزء جزءا
اختياريا (3) يبقى التكليف بعد تعذره، والأصل بقاؤه، فيثبت به تعلقه

(1) في (ص) زيادة: " فتأمل ".
(2) في (ظ) زيادة: " ولو مسامحة ".
(3) في (ر) و (ه‍): " اختيارا ".
280

بالمركب على الوجه الثاني.
وهذا نظير إجراء استصحاب وجود الكر في هذا الإناء لإثبات
كرية (1) الباقي فيه.
ويظهر فائدة مخالفة التوجيهات:
فيما إذا لم يبق إلا قليل من أجزاء المركب، فإنه يجري التوجيه
الأول والثالث دون الثاني، لأن العرف لا يساعد على فرض الموضوع
بين هذا الموجود وبين جامع الكل ولو مسامحة، لأن هذه المسامحة
مختصة بمعظم الأجزاء الفاقد لما لا يقدح في إثبات الاسم والحكم
له.
وفيما لو كان المفقود شرطا، فإنه لا يجري الاستصحاب على الأول
ويجري على الأخيرين.
وحيث (2) إن بناء العرف على عدم إجراء الاستصحاب في فاقد
معظم الأجزاء وإجرائه في فاقد الشرط، كشف عن فساد التوجيه
الأول.
وحيث إن بناءهم على استصحاب نفس الكرية دون الذات

(1) في (ظ) زيادة: " الماء ".
(2) في نسخة بدل (ت) و (ص) بدل " وحيث - إلى - من الأخيرين " ما يلي:
" وحيث إن بناء العرف على الظاهر على عدم إجراء الاستصحاب في فاقد
معظم الأجزاء، وعلى إلحاق فاقد الشرط لفاقد الجزء في هذا الحكم، أمكن
جعله كاشفا عن عدم استقامة التوجيه الأول ".
281

المتصف بها، كشف عن صحة الأول من الأخيرين (1).
لكن الإشكال بعد في الاعتماد على هذه المسامحة العرفية المذكورة،
إلا أن الظاهر أن استصحاب الكرية من المسلمات عند القائلين
بالاستصحاب، والظاهر عدم الفرق.
ثم إنه لا فرق - بناء على جريان الاستصحاب - بين تعذر الجزء
بعد تنجز التكليف، كما إذا زالت الشمس متمكنا من جميع الأجزاء ففقد
بعضها، وبين ما إذا فقده قبل الزوال، لأن المستصحب هو الوجوب
النوعي المنجز على تقدير اجتماع شرائطه، لا الشخصي المتوقف على
تحقق الشرائط فعلا. نعم، هنا أوضح.
وكذا لا فرق - بناء على عدم الجريان - بين ثبوت جزئية المفقود
بالدليل الاجتهادي، وبين ثبوتها بقاعدة الاشتغال.
وربما يتخيل: أنه لا إشكال في الاستصحاب في القسم الثاني،
لأن وجوب الاتيان بذلك الجزء لم يكن إلا لوجوب الخروج عن عهدة
التكليف، وهذا بعينه مقتض لوجوب الاتيان بالباقي بعد تعذر الجزء.
وفيه: ما تقدم (2)، من أن وجوب الخروج عن عهدة التكليف
بالمجمل إنما هو بحكم العقل لا بالاستصحاب، والاستصحاب لا ينفع إلا

(1) في (ر) و (ص) زيادة: " وقد عرفت أنه لولا المسامحة العرفية في المستصحب
وموضوعه لم يتم شئ من الوجهين "، وفي نسخة بدل (ص) بعد " من
الوجهين " زيادة: " وأما الوجه الثالث، فهو مبني على الأصل المثبت، وستعرف
بطلانه، فتعين الوجه الثاني ".
(2) راجع الصفحة 220.
282

بناء على الأصل المثبت. ولو قلنا به لم يفرق بين ثبوت الجزء بالدليل
أو بالأصل، لما عرفت: من جريان استصحاب بقاء أصل التكليف،
وإن كان بينهما فرق، من حيث إن استصحاب التكليف في المقام من
قبيل استصحاب الكلي المتحقق سابقا في ضمن فرد معين بعد العلم
بارتفاع ذلك الفرد المعين، وفي استصحاب الاشتغال من قبيل استصحاب
الكلي المتحقق في ضمن المردد بين المرتفع والباقي، وقد عرفت (1) عدم
جريان الاستصحاب في الصورة الأولى، إلا في بعض مواردها بمساعدة
العرف.
ثم اعلم: أنه نسب إلى الفاضلين (قدس سرهما) (2) التمسك بالاستصحاب في
هذه المسألة، في (3) مسألة الأقطع.
والمذكور في المعتبر والمنتهى الاستدلال على وجوب غسل ما بقي
من اليد المقطوعة مما دون المرفق: بأن غسل الجميع بتقدير وجود ذلك
البعض واجب، فإذا زال البعض لم يسقط الآخر (4)، انتهى.
وهذا الاستدلال يحتمل أن يراد منه مفاد قاعدة " الميسور
لا يسقط بالمعسور "، ولذا أبدله في الذكرى بنفس القاعدة (5).

(1) راجع الصفحة 196.
(2) نسبه إليهما الفاضل النراقي في عوائد الأيام: 267، والسيد المجاهد في مفاتيح
الأصول: 522.
(3) في (ظ) و (ه‍): " وفي ".
(4) المعتبر 1: 144، والمنتهى 2: 37، واللفظ للأول.
(5) الذكرى 2: 133.
283

ويحتمل أن يراد منه الاستصحاب، بأن يراد منه: أن هذا
الموجود بتقدير وجود المفقود في زمان سابق واجب، فإذا زال البعض
لم يعلم سقوط الباقي، والأصل عدمه، أو لم يسقط بحكم الاستصحاب.
ويحتمل أن يراد به التمسك بعموم ما دل على وجوب كل من
الأجزاء من غير مخصص له بصورة التمكن من الجميع، لكنه ضعيف
احتمالا ومحتملا.
284

الأمر الثاني عشر
أنه لا فرق في احتمال خلاف الحالة السابقة بين أن يكون مساويا
لاحتمال بقائه، أو راجحا عليه بأمارة غير معتبرة.
ويدل عليه وجوه:
الأول: الإجماع القطعي على تقدير اعتبار الاستصحاب من باب الأخبار.
الثاني: أن المراد بالشك في الروايات معناه اللغوي، وهو خلاف
اليقين، كما في الصحاح (1). ولا خلاف فيه ظاهرا (2).
ودعوى: انصراف المطلق في الروايات إلى معناه الأخص، وهو
الاحتمال المساوي، لا شاهد لها، بل يشهد بخلافها - مضافا إلى تعارف
إطلاق الشك في الأخبار على المعنى الأعم (3) - موارد من الأخبار:
منها: مقابلة الشك باليقين في جميع الأخبار.

(1) الصحاح 4: 1594، مادة " شكك ".
(2) انظر المصباح المنير: 320، مادة " شكك ".
(3) انظر الوسائل 5: 329، الباب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة،
الحديث 2، 4، 5، والصفحة 337، الباب 23 منها، الحديث 9.
285

ومنها: قوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة الأولى (1): " فإن حرك إلى
جنبه شئ وهو لا يعلم به "، فإن ظاهره فرض السؤال فيما كان معه
أمارة النوم.
ومنها: قوله (عليه السلام): " لا، حتى يستيقن "، حيث جعل غاية وجوب
الوضوء الاستيقان بالنوم ومجئ أمر بين عنه.
ومنها: قوله (عليه السلام): " ولكن ينقضه بيقين آخر "، فإن الظاهر سوقه
في مقام بيان حصر ناقض اليقين في اليقين.
ومنها: قوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة الثانية (2): " فلعله شئ أوقع
عليك، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك "، فإن كلمة " لعل "
ظاهرة في مجرد الاحتمال، خصوصا مع وروده في مقام إبداء ذلك كما في
المقام، فيكون الحكم متفرعا عليه.
ومنها: تفريع قوله (عليه السلام): " صم للرؤية وأفطر للرؤية " على قوله (عليه السلام):
" اليقين لا يدخله الشك " (3).
الثالث: أن الظن الغير المعتبر إن علم بعدم اعتباره بالدليل، فمعناه
أن وجوده كعدمه عند الشارع، وأن كل ما يترتب شرعا على تقدير
عدمه فهو المترتب على تقدير وجوده. وإن كان مما شك في اعتباره،
فمرجع رفع اليد عن اليقين بالحكم الفعلي السابق بسببه، إلى نقض اليقين
بالشك، فتأمل جدا (4).

(1) تقدمت في الصفحة 55.
(2) تقدمت في الصفحة 58.
(3) الوسائل 7: 184، الباب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 13.
(4) في (ظ): " جيدا ".
286

هذا كله على تقدير اعتبار الاستصحاب من باب التعبد المستنبط
من الأخبار.
وأما على تقدير اعتباره من باب الظن الحاصل من تحقق
المستصحب في السابق، فظاهر كلماتهم أنه لا يقدح فيه أيضا وجود
الأمارة الغير المعتبرة، فيكون العبرة فيه عندهم بالظن النوعي وإن كان
الظن الشخصي على خلافه، ولذا تمسكوا به في مقامات غير محصورة
على الوجه الكلي، من غير التفات إلى وجود الأمارات الغير المعتبرة
في خصوصيات الموارد.
واعلم: أن الشهيد (قدس سره) في الذكرى - بعد ما ذكر مسألة الشك في
تقدم الحدث على الطهارة - قال:
تنبيه: قولنا: " اليقين لا يرفعه الشك "، لا نعني به اجتماع اليقين
والشك في زمان واحد، لامتناع ذلك، ضرورة أن الشك في أحد
النقيضين يرفع يقين الآخر، بل المعني به: أن اليقين الذي كان في الزمن
الأول لا يخرج عن حكمه بالشك في الزمان الثاني، لأصالة بقاء ما كان
على ما كان، فيؤول إلى اجتماع الظن والشك في الزمان الواحد، فيرجح
الظن عليه، كما هو مطرد في العبادات (1)، انتهى.
ومراده من الشك معناه اللغوي، وهو مجرد الاحتمال المنافي لليقين،
فلا ينافي ثبوت الظن الحاصل من أصالة بقاء ما كان، فلا يرد ما أورد
عليه (2): من أن الظن كاليقين في عدم الاجتماع مع الشك.

(1) الذكرى 2: 207.
(2) هذا الإيراد من المحقق الخوانساري في مشارق الشموس: 142.
287

نعم، يرد على ما ذكرنا من التوجيه: أن الشهيد (قدس سره) في مقام دفع
ما يتوهم من التناقض المتوهم (1) في قولهم: " اليقين لا يرفعه الشك "،
ولا ريب أن الشك الذي حكم بأنه لا يرفع اليقين، ليس المراد منه
الاحتمال الموهوم، لأنه إنما يصير موهوما بعد ملاحظة أصالة بقاء ما
كان، نظير المشكوك الذي يراد إلحاقه بالغالب، فإنه يصير مظنونا (2) بعد
ملاحظة الغلبة. وعلى تقدير إرادة الاحتمال الموهوم - كما ذكره المدقق
الخوانساري (3) - فلا يندفع به توهم اجتماع الوهم واليقين المستفاد من
عدم رفع الأول للثاني. وإرادة اليقين السابق والشك اللاحق يغني عن
إرادة خصوص الوهم من الشك.
وكيف كان، فما ذكره المورد - من اشتراك الظن واليقين في عدم
الاجتماع مع الشك مطلقا - في محله.
فالأولى أن يقال: إن قولهم: " اليقين لا يرفعه الشك " لا دلالة
فيه على اجتماعهما في زمان واحد، إلا من حيث الحكم في تلك القضية
بعدم الرفع. ولا ريب أن هذا ليس إخبارا عن الواقع، لأنه كذب،
وليس حكما شرعيا بإبقاء نفس اليقين أيضا، لأنه غير معقول، وإنما هو
حكم شرعي بعدم (4) رفع آثار اليقين السابق بالشك اللاحق، سواء كان
احتمالا مساويا أو مرجوحا.

(1) كذا في النسخ، والظاهر زيادة لفظة " المتوهم ".
(2) في (ظ) بدل " مظنونا ": " موهوما ".
(3) مشارق الشموس: 142.
(4) كذا في (ف)، (خ) و (ن)، وفي غيرها: " لعدم ".
288

خاتمة
ذكر بعضهم (1) للعمل بالاستصحاب شروطا، كبقاء الموضوع، وعدم
المعارض، ووجوب الفحص.
والتحقيق: رجوع الكل إلى شروط جريان الاستصحاب.
وتوضيح ذلك: أنك قد عرفت أن الاستصحاب عبارة عن إبقاء
ما شك في بقائه، وهذا لا يتحقق إلا مع الشك في بقاء القضية المحققة (2)
في السابق بعينها في الزمان اللاحق.
والشك على هذا الوجه لا يتحقق إلا بأمور:
الأول
بقاء الموضوع في الزمان اللاحق، والمراد به معروض المستصحب.

(1) انظر الوافية: 208 و 209، والفصول: 377 و 381، ومناهج الأحكام: 232
و 233، وضوابط الأصول: 380 و 388.
(2) في (ظ) و (ه‍): " المتحققة ".
289

فإذا أريد استصحاب قيام زيد، أو وجوده، فلا بد من تحقق زيد
في الزمان اللاحق على النحو الذي كان معروضا في السابق، سواء كان
تحققه في السابق بتقرره ذهنا أو بوجوده خارجا، فزيد معروض للقيام
في السابق بوصف وجوده الخارجي، وللوجود بوصف تقرره ذهنا،
لا وجوده الخارجي.
وبهذا اندفع ما استشكله بعض (1) في كلية اعتبار بقاء الموضوع في
الاستصحاب، بانتقاضها باستصحاب وجود الموجودات عند الشك في
بقائها، زعما منه أن المراد ببقائه وجوده الخارجي الثانوي، وغفلة عن
أن المراد وجوده الثانوي على نحو وجوده الأولي الصالح لأن يحكم
عليه بالمستصحب وبنقيضه، وإلا لم يجز أن يحمل عليه المستصحب في
الزمان السابق. فالموضوع في استصحاب حياة زيد هو زيد القابل لأن
يحكم عليه بالحياة تارة وبالموت أخرى، وهذا المعنى لا شك في تحققه
عند الشك في بقاء حياته.
ثم الدليل على اعتبار هذا الشرط في جريان الاستصحاب واضح،
لأنه لو لم يعلم تحققه لاحقا، فإذا أريد إبقاء المستصحب العارض له
المتقوم به:
فإما أن يبقى في غير محل وموضوع، وهو محال.
وإما أن يبقى في موضوع غير الموضوع السابق، ومن المعلوم أن
هذا ليس إبقاء لنفس ذلك العارض، وإنما هو حكم بحدوث عارض
مثله في موضوع جديد، فيخرج عن الاستصحاب، بل حدوثه للموضوع

(1) هو شريف العلماء (قدس سره)، انظر ضوابط الأصول: 380.
290

الجديد كان مسبوقا بالعدم، فهو المستصحب دون وجوده.
وبعبارة أخرى: بقاء المستصحب لا في موضوع محال، وكذا في
موضوع آخر، إما لاستحالة انتقال العرض، وإما لأن المتيقن سابقا
وجوده في الموضوع السابق، والحكم بعدم ثبوته لهذا الموضوع الجديد
ليس نقضا للمتيقن السابق.
ومما ذكرنا يعلم: أن المعتبر هو العلم ببقاء الموضوع، ولا يكفي
احتمال البقاء، إذ لا بد من العلم بكون الحكم بوجود المستصحب إبقاء،
والحكم بعدمه نقضا.
فإن قلت: إذا كان الموضوع محتمل البقاء فيجوز إحرازه في
الزمان اللاحق بالاستصحاب (1).
قلت: لا مضايقة من جواز استصحابه في بعض الصور، إلا أنه
لا ينفع في استصحاب الحكم المحمول عليه.
بيان ذلك: أن الشك في بقاء الحكم الذي يراد استصحابه: إما أن
يكون مسببا عن سبب غير الشك في بقاء ذلك الموضوع المشكوك البقاء
- مثل أن يشك في عدالة مجتهده مع الشك في حياته - وإما أن يكون
مسببا عنه.
فإن كان الأول، فلا إشكال في استصحاب الموضوع عند الشك،
لكن استصحاب الحكم كالعدالة - مثلا - لا يحتاج إلى إبقاء حياة زيد،
لأن موضوع العدالة: زيد على تقدير الحياة، إذ لا شك فيها إلا على
فرض الحياة، فالذي يراد استصحابه هو عدالته على تقدير الحياة.

(1) إشارة إلى ما ذكره صاحب الفصول في الفصول: 381.
291

وبالجملة: فهنا مستصحبان، لكل منهما موضوع على حدة: حياة زيد،
وعدالته على تقدير الحياة، ولا يعتبر في الثاني إثبات الحياة (1).
وعلى الثاني، فالموضوع: إما أن يكون معلوما معينا شك في
بقائه، كما إذا علم أن الموضوع لنجاسة الماء هو الماء بوصف التغير،
وللمطهرية هو الماء بوصف الكرية والإطلاق، ثم شك في بقاء تغير الماء
الأول وكرية الماء الثاني أو إطلاقه.
وإما أن يكون غير معين، بل مرددا بين أمر معلوم البقاء وآخر
معلوم الارتفاع، كما إذا لم يعلم أن الموضوع للنجاسة هو الماء الذي
حدث فيه التغير آنا ما، أو الماء المتلبس فعلا بالتغير. وكما إذا شككنا
في أن النجاسة محمولة على الكلب بوصف أنه كلب، أو المشترك بين
الكلب وبين ما يستحال إليه من الملح أو غيره.
أما الأول، فلا إشكال في استصحاب الموضوع، وقد عرفت
- في مسألة الاستصحاب في الأمور الخارجية (2) - أن استصحاب الموضوع،
حقيقته (3) ترتيب الأحكام الشرعية المحمولة على ذلك الموضوع
الموجود واقعا، فحقيقة استصحاب التغير والكرية والإطلاق في الماء،
ترتيب أحكامها المحمولة عليها، كالنجاسة في الأول، والمطهرية في
الأخيرين.
فمجرد استصحاب الموضوع يوجب إجراء الأحكام، فلا مجال

(1) لم ترد " حياة زيد - إلى - إثبات الحياة " في (ظ).
(2) راجع الصفحة 113 - 115.
(3) في (ت) و (ظ): " حقيقة ".
292

لاستصحاب الأحكام حينئذ (1)، لارتفاع الشك، بل لو أريد استصحابها
لم يجر (2)، لأن صحة استصحاب النجاسة مثلا ليس من أحكام التغير
الواقعي ليثبت باستصحابه، لأن أثر التغير الواقعي هي النجاسة الواقعية،
لا استصحابها، إذ مع فرض التغير لا شك في النجاسة.
مع أن قضية ما ذكرنا من الدليل على اشتراط بقاء الموضوع في
الاستصحاب، حكم العقل باشتراط بقائه فيه، فالمتغير (3) الواقعي إنما
يجوز استصحاب النجاسة له بحكم العقل، فهذا الحكم - أعني ترتب
الاستصحاب على بقاء الموضوع - ليس أمرا جعليا حتى يترتب على
وجوده الاستصحابي، فتأمل.
وعلى الثاني، فلا مجال لاستصحاب الموضوع ولا الحكم.
أما الأول، فلأن أصالة بقاء الموضوع لا يثبت كون هذا الأمر
الباقي متصفا بالموضوعية، إلا بناء على القول بالأصل المثبت، كما تقدم (4)
في أصالة بقاء الكر المثبتة لكرية المشكوك بقاؤه على الكرية، وعلى هذا
القول فحكم هذا القسم حكم القسم الأول. وأما أصالة بقاء الموضوع
بوصف كونه موضوعا فهو في معنى استصحاب الحكم، لأن صفة
الموضوعية للموضوع ملازم لإنشاء الحكم من الشارع باستصحابه.
وأما استصحاب الحكم، فلأنه كان ثابتا لأمر لا يعلم بقاؤه،

(1) لم ترد " حينئذ " في (ظ).
(2) في (ت): " لم يجز ".
(3) كذا في (ه‍)، وفي غيرها: " فالتغير ".
(4) راجع الصفحة 281.
293

وبقاؤه قائما بهذا الموجود الباقي (1) ليس قياما بنفس ما قام به أولا،
حتى يكون إثباته إبقاء ونفيه نقضا.
إذا عرفت ما ذكرنا، فاعلم: أنه كثيرا ما يقع الشك في الحكم
من جهة الشك في أن موضوعه ومحله هو الأمر الزائل ولو بزوال قيده
المأخوذ في موضوعيته، حتى يكون الحكم مرتفعا، أو هو الأمر الباقي،
والزائل ليس موضوعا ولا مأخوذا فيه، فلو فرض شك في الحكم كان
من جهة أخرى غير الموضوع، كما يقال: إن حكم النجاسة في الماء
المتغير، موضوعه نفس الماء، والتغير علة محدثة للحكم، فيشك في عليته
للبقاء.
فلا بد من ميزان يميز به القيود المأخوذة في الموضوع عن غيرها،
وهو أحد أمور:
الأول: العقل، فيقال: إن مقتضاه كون جميع القيود قيودا للموضوع
مأخوذة فيه، فيكون الحكم ثابتا لأمر واحد يجمعها، وذلك لأن كل
قضية وإن كثرت قيودها المأخوذة فيها راجعة في الحقيقة إلى موضوع
واحد ومحمول واحد، فإذا شك في ثبوت الحكم السابق بعد زوال بعض
تلك القيود، سواء علم كونه قيدا للموضوع أو للمحمول أو لم يعلم
أحدهما، فلا يجوز الاستصحاب، لأنه إثبات عين الحكم السابق لعين
الموضوع السابق، ولا يصدق هذا مع الشك في أحدهما. نعم، لو شك
بسبب تغير الزمان المجعول ظرفا للحكم - كالخيار - لم يقدح في جريان
الاستصحاب، لأن الاستصحاب مبني على إلغاء خصوصية الزمان الأول.

(1) لم ترد " الباقي " في (ظ).
294

فالاستصحاب في الحكم الشرعي لا يجري إلا في الشك من جهة
الرافع ذاتا أو وصفا، وفيما (1) كان من جهة مدخلية الزمان. نعم، يجري
في الموضوعات الخارجية بأسرها.
ثم لو لم يعلم مدخلية القيود في الموضوع كفى في عدم جريان
الاستصحاب الشك في بقاء الموضوع، على ما عرفت مفصلا (2).
الثاني: أن يرجع في معرفة الموضوع للأحكام إلى الأدلة، ويفرق
بين قوله: " الماء المتغير نجس "، وبين قوله: " الماء ينجس إذا تغير "،
فيجعل الموضوع في الأول الماء المتلبس بالتغير، فيزول الحكم بزواله،
وفي الثاني نفس الماء فيستصحب النجاسة لو شك في مدخلية التغير في
بقائها، وهكذا. وعلى هذا فلا يجري الاستصحاب فيما كان الشك من
غير جهة الرافع إذا كان (3) الدليل غير لفظي لا يتميز فيه الموضوع،
لاحتمال مدخلية القيد الزائل فيه.
الثالث: أن يرجع في ذلك إلى العرف، فكل مورد يصدق عرفا
أن هذا كان كذا سابقا جرى فيه الاستصحاب وإن كان المشار إليه لا
يعلم بالتدقيق أو بملاحظة الأدلة كونه موضوعا، بل علم عدمه.
مثلا: قد ثبت بالأدلة أن الإنسان طاهر والكلب نجس، فإذا ماتا
واطلع أهل العرف على حكم الشارع عليهما بعد الموت، فيحكمون (4)

(1) في (ص) زيادة: " إذا ".
(2) راجع الصفحة 293.
(3) لم ترد " الشك من غير جهة الرافع إذا كان " في (ظ).
(4) كذا في (ص)، وفي غيره بدل " واطلع - إلى - فيحكمون ": " حكم العرف ".
295

بارتفاع طهارة الأول وبقاء نجاسة الثاني، مع عدم صدق الارتفاع
والبقاء فيهما بحسب التدقيق (1)، لأن الطهارة والنجاسة كانتا محمولتين على
الحيوانين المذكورين (2)، وقد ارتفعت الحيوانية بعد صيرورته جمادا.
ونحوه حكم العرف باستصحاب بقاء الزوجية بعد موت أحد
الزوجين، وقد تقدم (3) حكم العرف ببقاء كرية ما كان كرا سابقا،
ووجوب الأجزاء الواجبة سابقا قبل تعذر بعضها، واستصحاب السواد
فيما علم زوال مرتبة معينة منه ويشك في تبدله بالبياض أو بسواد
خفيف، إلى غير ذلك.
وبهذا الوجه يصح للفاضلين (قدس سرهما) - في المعتبر والمنتهى - الاستدلال
على بقاء نجاسة الأعيان النجسة بعد الاستحالة: بأن النجاسة قائمة
بالأعيان (4) النجسة، لا بأوصاف الأجزاء، فلا تزول بتغير أوصاف
محلها، وتلك الأجزاء باقية، فتكون النجاسة باقية، لانتفاء ما يقتضي
ارتفاعها (5)، انتهى كلام المعتبر.
واحتج فخر الدين للنجاسة: بأصالة بقائها، وبأن الاسم أمارة
ومعرف، فلا يزول الحكم بزواله (6)، انتهى.

(1) لم ترد " بحسب التدقيق " في (ظ).
(2) في (ظ) ونسخة بدل (ت)، (ص) و (ه‍) زيادة: " فلا معنى لصدق ارتفاع
الأول وبقاء الثاني "، وفي (ر) وردت هذه الزيادة بعد كلمة " الحيوانية ".
(3) راجع الصفحة 196 و 280.
(4) في غير (ه‍) بدل " بالأعيان ": " بالأشياء "، وفي المعتبر: " بالأجزاء ".
(5) المعتبر 1: 451، وانظر المنتهى 3: 287.
(6) إيضاح الفوائد 1: 31.
296

وهذه الكلمات وإن كانت محل الإيراد، لعدم ثبوت قيام حكم
الشارع بالنجاسة بجسم الكلب المشترك بين الحيوان والجماد، بل ظهور
عدمه، لأن ظاهر الأدلة تبعية الأحكام للأسماء، كما اعترف به في
المنتهى في استحالة الأعيان النجسة (1)، إلا أنها شاهدة على إمكان
اعتبار (2) موضوعية الذات المشتركة بين واجد الوصف العنواني وفاقده،
كما ذكرنا في نجاسة الكلب بالموت، حيث إن أهل العرف لا يفهمون
نجاسة أخرى حاصلة بالموت، ويفهمون ارتفاع طهارة الإنسان، إلى غير
ذلك مما يفهمون الموضوع فيه مشتركا بين الواجد للوصف العنواني
والفاقد.
ثم إن بعض المتأخرين (3) فرق بين استحالة نجس العين والمتنجس،
فحكم بطهارة الأول لزوال الموضوع، دون الثاني، لأن موضوع النجاسة
فيه ليس عنوان المستحيل - أعني الخشب مثلا - وإنما هو الجسم ولم يزل
بالاستحالة.
وهو حسن في بادئ النظر، إلا أن دقيق النظر يقتضي خلافه،
إذ لم يعلم أن النجاسة في المتنجسات محمولة على الصورة الجنسية وهي
الجسم، وإن اشتهر في الفتاوى ومعاقد الإجماعات: أن كل جسم لاقى
نجسا مع رطوبة أحدهما فهو نجس، إلا أنه لا يخفى على المتأمل أن
التعبير بالجسم لبيان (4) عموم الحكم لجميع الأجسام الملاقية من حيث

(1) المنتهى 3: 288.
(2) لم ترد " اعتبار " في (ر).
(3) هو الفاضل الهندي، وتبعه جماعة، كما سيأتي في الصفحة 299.
(4) في (ر)، (ص) و (ظ) بدل " لبيان ": " لأداء ".
297

سببية الملاقاة للتنجس (1)، لا لبيان إناطة الحكم بالجسمية.
وبتقرير آخر (2): الحكم ثابت لأشخاص الجسم، فلا ينافي ثبوته
لكل واحد منها من حيث نوعه أو صنفه المتقوم به عند الملاقاة.
فقولهم: " كل جسم لاقى نجسا فهو نجس " لبيان حدوث النجاسة
في الجسم بسبب الملاقاة من غير تعرض للمحل الذي يتقوم به، كما إذا
قال القائل: " إن كل جسم له خاصية وتأثير " مع كون الخواص
والتأثيرات من عوارض الأنواع.
وإن أبيت إلا عن ظهور معقد الإجماع في تقوم النجاسة بالجسم،
فنقول: لاشك (3) في أن مستند هذا العموم هي الأدلة الخاصة الواردة في
الأشخاص الخاصة - مثل الثوب والبدن والماء وغير ذلك -، فاستنباط
القضية الكلية المذكورة منها ليس إلا من حيث عنوان حدوث النجاسة،
لا ما يتقوم به، وإلا فاللازم إناطة النجاسة في كل مورد بالعنوان
المذكور في دليله.
ودعوى: أن ثبوت الحكم لكل عنوان خاص من حيث كونه
جسما، ليست بأولى من دعوى كون التعبير بالجسم في القضية العامة
من حيث عموم ما يحدث فيه النجاسة بالملاقاة، لا من حيث تقوم
النجاسة بالجسم. نعم، الفرق بين المتنجس والنجس: أن الموضوع في
النجس معلوم الانتفاء في ظاهر الدليل، وفي المتنجس محتمل البقاء.

(1) في (ظ)، (ت) و (ه‍): " للنجس "، وفي نسخة بدل (ص): " للنجاسة ".
(2) في (ظ) بدل " وبتقرير آخر ": " وبعبارة أخرى ".
(3) في (ت)، (ه‍) و (ظ) بدل " لا شك ": " لا إشكال ".
298

لكن هذا المقدار لا يوجب الفرق بعد ما (1) تبين أن العرف هو
المحكم في موضوع الاستصحاب. أرأيت أنه لو حكم على الحنطة أو
العنب بالحلية أو الحرمة أو النجاسة أو الطهارة، هل يتأمل العرف في
إجراء تلك الأحكام على الدقيق والزبيب؟! كما لا يتأملون في عدم
جريان الاستصحاب في استحالة الخشب دخانا والماء المتنجس بولا
لمأكول اللحم، خصوصا إذا اطلعوا على زوال النجاسة بالاستحالة.
كما أن العلماء أيضا لم يفرقوا في الاستحالة بين النجس والمتنجس،
كما لا يخفى على المتتبع (2)، بل جعل بعضهم (3) الاستحالة مطهرة للمتنجس
بالأولوية الجلية (4)، حتى تمسك بها في المقام من لا يقول بحجية مطلق
الظن (5).
ومما ذكرنا يظهر وجه النظر فيما ذكره جماعة (6) - تبعا للفاضل
الهندي (قدس سره) (7) -: من أن الحكم في المتنجسات ليس دائرا مدار الاسم

(1) " ما " من (ر) و (ص).
(2) انظر الجواهر 6: 270.
(3) كما حكاه في فقه المعالم: 403، والقوانين 2: 74.
(4) في (ر) بدل " الجلية ": " القطعية ".
(5) هو صاحب المعالم في فقه المعالم: 403، في مسألة مطهرية النار لما أحالته
رمادا.
(6) مثل المحقق القمي في القوانين 2: 74، والفاضل النراقي في مناهج الأحكام:
233، ومستند الشيعة 1: 326، واستشكل في الحكم المحقق السبزواري في
الذخيرة: 172.
(7) انظر المناهج السوية (مخطوط)، الورقة 124.
299

حتى يطهر (1) بالاستحالة، بل لأنه جسم لاقى نجسا، وهذا المعنى
لم يزل (2).
فالتحقيق: أن مراتب تغير الصورة في الأجسام مختلفة، بل
الأحكام أيضا مختلفة، ففي بعض مراتب التغير يحكم العرف بجريان دليل
العنوان من غير حاجة إلى الاستصحاب، وفي بعض آخر لا يحكمون
بذلك ويثبتون الحكم بالاستصحاب، وفي ثالث لا يجرون الاستصحاب
أيضا، من غير فرق - في حكم النجاسة - بين النجس والمتنجس.
فمن الأول: ما لو حكم على الرطب أو العنب بالحلية أو الطهارة
أو النجاسة، فإن الظاهر جريان عموم أدلة هذه الأحكام للتمر والزبيب،
فكأنهم يفهمون من الرطب والعنب الأعم مما جف منهما فصار تمرا أو
زبيبا، مع أن الظاهر تغاير الاسمين، ولهذا لو حلف على ترك أحدهما
لم يحنث بأكل الآخر. والظاهر أنهم لا يحتاجون في إجراء الأحكام
المذكورة إلى الاستصحاب.
ومن الثاني: إجراء حكم بول غير المأكول إذا صار بولا لمأكول
وبالعكس، وكذا صيرورة الخمر خلا، وصيرورة الكلب أو الإنسان
جمادا بالموت، إلا أن الشارع حكم في بعض هذه الموارد بارتفاع الحكم
السابق، إما للنص، كما في الخمر المستحيل خلا (3)، وإما لعموم ما دل
على حكم المنتقل إليه، فإن الظاهر أن استفادة طهارة المستحال إليه إذا

(1) المناسب: " حتى تطهر "، لرجوع الضمير إلى " المتنجسات ".
(2) لم ترد " بل - إلى - لم يزل " في (ظ) و (ر).
(3) انظر الوسائل 2: 1098، الباب 77 من أبواب النجاسات.
300

كان بولا لمأكول (1) ليس من أصالة الطهارة بعد عدم جريان الاستصحاب،
بل هو من الدليل، نظير استفادة نجاسة بول المأكول إذا صار بولا لغير
مأكول.
ومن الثالث: استحالة العذرة (2) أو الدهن المتنجس دخانا، والمني
حيوانا. ولو نوقش في بعض الأمثلة المذكورة، فالمثال غير عزيز على
المتتبع المتأمل.
ومما ذكرنا يظهر أن معنى قولهم " الأحكام تدور مدار الأسماء "،
أنها تدور مدار أسماء موضوعاتها التي هي المعيار في وجودها وعدمها،
فإذا قال الشارع: العنب حلال، فإن ثبت كون الموضوع هو مسمى هذا
الاسم، دار الحكم مداره، فينتفي عند صيرورته زبيبا، أما إذا علم من
العرف أو غيره أن الموضوع هو الكلي الموجود في العنب المشترك بينه
وبين الزبيب، أو بينهما وبين العصير، دار الحكم مداره أيضا.
نعم، يبقى دعوى: أن ظاهر اللفظ في مثل القضية المذكورة كون
الموضوع هو العنوان، وتقوم الحكم به، المستلزم لانتفائه بانتفائه.
لكنك عرفت: أن العناوين مختلفة، والأحكام أيضا مختلفة (3)، وقد
تقدم حكاية بقاء نجاسة الخنزير المستحيل ملحا عن أكثر أهل العلم،
واختيار الفاضلين له (4).

(1) في (ظ): " بول المأكول ".
(2) في (ص) ونسخة بدل (ت) زيادة: " دودا ".
(3) راجع أول الصفحة السابقة.
(4) لم تتقدم حكاية ذلك عن أهل العلم. نعم، نسبه إلى أكثر أهل العلم في
المنتهى 3: 287.
301

ودعوى: احتياج استفادة غير ما ذكر من ظاهر اللفظ إلى
القرينة الخارجية، وإلا فظاهر اللفظ كون القضية ما دام الوصف
العنواني، لا تضرنا فيما نحن بصدده، لأن المقصود مراعاة العرف في
تشخيص الموضوع وعدم الاقتصار في ذلك على ما يقتضيه العقل على
وجه الدقة، ولا على ما يقتضيه الدليل اللفظي إذا كان العرف بالنسبة
إلى القضية الخاصة على خلافه.
وحينئذ، فيستقيم أن يراد من قولهم: " إن الأحكام تدور مدار
الأسماء " أن مقتضى ظاهر دليل الحكم تبعية ذلك الحكم لاسم الموضوع
الذي علق عليه الحكم في ظاهر الدليل، فيراد من هذه القضية تأسيس
أصل، قد يعدل عنه بقرينة فهم العرف أو غيره، فافهم.
[الأمر الثاني] (1)
الأمر الثاني مما يعتبر في تحقق الاستصحاب: أن يكون في حال
الشك متيقنا بوجود المستصحب في السابق، حتى يكون شكه في البقاء.
فلو كان الشك في تحقق نفس ما تيقنه سابقا - كأن تيقن عدالة
زيد في زمان، كيوم الجمعة مثلا، ثم شك في نفس هذا المتيقن، وهو
عدالته يوم الجمعة، بأن زال مدرك اعتقاده السابق، فشك في مطابقته
للواقع، أو كونه جهلا مركبا - لم يكن هذا من مورد الاستصحاب لغة،
ولا اصطلاحا.

(1) العنوان منا.
302

أما الأول، فلأن الاستصحاب - لغة - أخذ الشئ مصاحبا، فلا بد
من إحراز ذلك الشئ (1) حتى يأخذه مصاحبا، فإذا شك في حدوثه من
أصله فلا استصحاب.
وأما اصطلاحا، فلأنهم اتفقوا على أخذ الشك في البقاء - أو ما
يؤدي هذا المعنى - في معنى الاستصحاب.
نعم، لو ثبت أن الشك بعد اليقين بهذا المعنى ملغى في نظر
الشارع، فهي قاعدة أخرى مباينة للاستصحاب، سنتكلم فيها (2) بعد دفع
توهم من توهم أن أدلة الاستصحاب تشملها، وأن مدلولها لا يختص
بالشك في البقاء، بل الشك بعد اليقين ملغى مطلقا (3)، سواء تعلق بنفس
ما تيقنه سابقا، أم ببقائه.
وأول من صرح بذلك الفاضل السبزواري - في الذخيرة - في
مسألة من شك في بعض أفعال الوضوء، حيث قال:
والتحقيق: أنه إن فرغ من الوضوء متيقنا للإكمال، ثم عرض له
الشك، فالظاهر عدم وجوب إعادة شئ، لصحيحة زرارة: " ولا تنقض
اليقين أبدا بالشك " (4)، انتهى.
ولعله (قدس سره)، تفطن له من كلام الحلي في السرائر، حيث استدل
على المسألة المذكورة: بأنه لا يخرج عن حال الطهارة إلا على يقين من

(1) " الشئ " من (ص).
(2) انظر الصفحة 310 - 313.
(3) لم ترد " مطلقا " في (ظ).
(4) الذخيرة: 44.
303

كمالها، وليس ينقض الشك اليقين (1)، انتهى.
لكن هذا التعبير من الحلي لا يلزم أن يكون استفاده من أخبار
عدم نقض اليقين بالشك. ويقرب من هذا التعبير عبارة جماعة من
القدماء (2).
لكن التعبير لا يلزم دعوى شمول الأخبار للقاعدتين، على ما
توهمه غير واحد من المعاصرين (3)، وإن اختلفوا بين مدع لانصرافها
إلى خصوص الاستصحاب (4)، وبين منكر له عامل بعمومها (5).
وتوضيح دفعه: أن المناط في القاعدتين مختلف بحيث لا يجمعهما
مناط واحد، فإن مناط الاستصحاب هو اتحاد متعلق الشك واليقين مع
قطع النظر عن الزمان، لتعلق الشك ببقاء ما تيقن سابقا، ولازمه كون
القضية المتيقنة - أعني عدالة زيد يوم الجمعة - متيقنة حين الشك أيضا
من غير جهة الزمان. ومناط هذه القاعدة اتحاد متعلقيهما من جهة
الزمان، ومعناه كونه في الزمان اللاحق شاكا فيما تيقنه سابقا بوصف

(1) السرائر 1: 104.
(2) انظر فقه الرضا: 79، والمقنعة: 49، والنهاية: 17، والغنية: 61.
(3) مثل شريف العلماء في تقريرات درسه في ضوابط الأصول: 371، والسيد
المجاهد في مفاتيح الأصول: 657، والفاضل الدربندي في خزائن الأصول،
الورقة 85، من فن الاستصحاب.
(4) كشريف العلماء والسيد المجاهد، وفي (ظ) بدل " خصوص الاستصحاب ":
" غيره ".
(5) كالفاضل الدربندي وكذا المحقق السبزواري.
304

وجوده في السابق.
فإلغاء الشك في القاعدة الأولى عبارة عن الحكم ببقاء المتيقن
سابقا - حيث إنه متيقن - من غير تعرض لحال حدوثه، وفي القاعدة
الثانية هو الحكم بحدوث ما تيقن حدوثه من غير تعرض لحكم بقائه،
فقد يكون بقاؤه معلوما أو معلوم العدم أو مشكوكا.
واختلاف مؤدى القاعدتين (1)، وإن لم يمنع من إرادتهما من كلام
واحد - بأن يقول الشارع: إذا حصل بعد اليقين بشئ شك له تعلق
بذلك الشئ (2) فلا عبرة به، سواء تعلق ببقائه أو بحدوثه، واحكم
بالبقاء في الأول، وبالحدوث في الثاني - إلا أنه مانع عن إرادتهما (3) من
قوله (عليه السلام): " فليمض على يقينه " (4)، فإن المضي على اليقين السابق -
المفروض تحققه في القاعدتين - أعني عدالة زيد يوم الجمعة، بمعنى
الحكم بعدالته في ذلك اليوم من غير تعرض لعدالته فيما بعده - كما هو
مفاد القاعدة الثانية - يغاير المضي عليه بمعنى عدالته بعد يوم الجمعة
من غير تعرض لحال يوم الجمعة - كما هو مفاد قاعدة الاستصحاب -
فلا يصح إرادة المعنيين منه.

(1) في (ظ) بدل " القاعدتين ": " الإبقاءين ".
(2) في (ظ) بدل " بعد اليقين - إلى - الشئ ": " الشك بعد اليقين "، وفي (ص)
بدلها: " شك بعد يقين ".
(3) في (ص)، (ه‍) و (ت) زيادة: " في هذا المقام ".
(4) المستدرك 1: 228، الباب الأول من أبواب نواقض الوضوء، ضمن
الحديث 4.
305

فإن قلت: إن معنى المضي على اليقين عدم التوقف من أجل
الشك العارض وفرض الشك كعدمه، وهذا يختلف باختلاف متعلق
الشك، فالمضي مع الشك في الحدوث بمعنى الحكم بالحدوث، ومع الشك
في البقاء بمعنى الحكم به.
قلت: لا ريب في اتحاد متعلقي الشك واليقين وكون المراد المضي
على ذلك اليقين المتعلق بما تعلق به الشك، والمفروض أنه ليس في
السابق إلا يقين واحد، وهو اليقين بعدالة زيد، والشك فيها (1) ليس له (2)
هنا (3) فردان يتعلق أحدهما بالحدوث والآخر بالبقاء.
وبعبارة أخرى: عموم أفراد اليقين باعتبار الأمور الواقعية، كعدالة
زيد وفسق عمرو، لا باعتبار تعدد (4) ملاحظة اليقين بشئ (5) واحد،،
حتى ينحل اليقين بعدالة زيد إلى فردين يتعلق بكل منهما شك (6).
وحينئذ، فإن اعتبر المتكلم في كلامه الشك في هذا المتيقن من
دون تقييده بيوم الجمعة، فالمضي على هذا اليقين عبارة عن الحكم
باستمرار هذا المتيقن، وإن اعتبر الشك فيه مقيدا بذلك اليوم، فالمضي

(1) في (ه‍) و (ر) زيادة: " و ".
(2) لم ترد " له " في (ه‍).
(3) لم ترد " هنا " في (ص).
(4) " تعدد " من (ت) و (ه‍).
(5) في (ه‍): " لشئ ".
(6) لم ترد " وبعبارة أخرى - إلى - بكل منهما شك " في (ر) و (ظ)، وورد بدلها:
" بل المراد الشك في نفس ما تيقن ".
306

على ذلك المتيقن الذي تعلق به الشك عبارة عن الحكم بحدوثه من غير
تعرض للبقاء، كأنه قال: من كان على يقين من عدالة زيد يوم الجمعة
فشك فيها، فليمض على يقينه السابق (1).
وقس على هذا سائر الأخبار الدالة على عدم نقض اليقين
بالشك، فإن الظاهر اتحاد متعلق الشك واليقين، فلا بد أن يلاحظ
المتيقن والمشكوك غير مقيدين بالزمان، وإلا لم يجز (2) استصحابه، كما
تقدم في رد شبهة من قال بتعارض الوجود والعدم في شئ واحد (3).
والمفروض في القاعدة الثانية كون الشك متعلقا بالمتيقن السابق

(1) كتب في (ص) على " كأنه قال - إلى - السابق ": " نسخة "، وكتب عليها في
(ه‍): " نسخة بدل ".
- وفي (ت) ونسخة بدل (ه‍) زيادة: " يعني ترتيب آثار عدالة زيد فيه،
فالمضي على عدالة زيد وترتيب آثاره، يكون تارة بالحكم بعدالته في الزمان
اللاحق، وأخرى بالحكم بعدالته في ذلك الزمان المتيقن، وهذان لا يجتمعان في
الإرادة ".
- وفي (آ) زيادة ما يلي: " وإن أردت توضيح الحال، فافرض أنه قال: من
كان على يقين من عدالة زيد يوم الجمعة فشك فيها فليمض على يقينه السابق،
والمعنى: أن من كان على يقين من شئ وشك في ذلك الشئ فليمض على
يقينه بذلك الشئ. فإن اعتبر اليقين السابق متعلقا بعدالة زيد من دون تقييدها
بيوم الجمعة، فالشك اللاحق فيها بهذا الاعتبار شك في بقائها، وإن اعتبر متعلقا
بعدالة زيد مقيدة بيوم الجمعة، فالشك فيها بهذه الملاحظة شك في حدوثها ".
(2) في (ظ) بدل " يجز ": " يجر ".
(3) راجع الصفحة 210.
307

بوصف وجوده في الزمان السابق. ومن المعلوم عدم جواز إرادة
الاعتبارين من اليقين والشك في تلك الأخبار (1).
ودعوى: أن اليقين بكل من الاعتبارين فرد من اليقين، وكذلك
الشك المتعلق فرد من الشك، فكل فرد لا ينقض بشكه.
مدفوعة: بما تقدم (2)، من أن (3) تعدد اللحاظ والاعتبار في المتيقن
السابق، بأخذه تارة مقيدا بالزمان السابق وأخرى بأخذه مطلقا،
لا يوجب تعدد أفراد اليقين. وليس اليقين بتحقق مطلق العدالة في يوم
الجمعة واليقين بعدالته المقيدة بيوم الجمعة فردين من اليقين تحت عموم
الخبر، بل الخبر بمثابة أن يقال: من كان على يقين من عدالة زيد أو
فسقه أو غيرهما من حالاته فشك فيه، فليمض على يقينه بذلك،
فافهم (4).
ثم إذا ثبت عدم جواز إرادة المعنيين، فلا بد أن يخص (5) مدلولها
بقاعدة الاستصحاب، لورودها في موارد تلك القاعدة، كالشك في
الطهارة من الحدث والخبث، ودخول هلال شهر رمضان أو شوال.
هذا كله، لو أريد من القاعدة الثانية إثبات نفس المتيقن عند

(1) في (ص) كتب على " والمفروض - إلى - تلك الأخبار ": " زائد "، وفي (ه‍):
" نسخة بدل ".
(2) راجع الصفحة 306.
(3) في (ر) و (ظ) بدل " بما تقدم من أن ": " بأن ".
(4) في (ر) و (ص) زيادة: " فإنه لا يخلو عن دقة ".
(5) في (ر)، (ظ)، (ه‍) ونسخة بدل (ص): " يختص ".
308

الشك، وهي عدالة زيد في يوم الجمعة مثلا.
أما لو أريد منها إثبات عدالته من (1) يوم الجمعة مستمرة إلى
زمان الشك وما بعده إلى اليقين بطروء الفسق، فيلزم استعمال الكلام في
معنيين، حتى لو أريد منه القاعدة الثانية فقط، كما لا يخفى (2)، لأن الشك
في عدالة زيد يوم الجمعة غير الشك في استمرارها إلى الزمان
اللاحق (3). وقد تقدم نظير ذلك في قوله (عليه السلام): " كل شئ طاهر حتى
تعلم أنه قذر " (4).
ثم لو سلمنا دلالة الروايات على ما يشمل القاعدتين، لزم
حصول التعارض في مدلول الرواية المسقط له عن الاستدلال به على
القاعدة الثانية، لأنه إذا شك في ما تيقن سابقا، أعني عدالة زيد في
يوم الجمعة، فهذا الشك معارض لفردين من اليقين، أحدهما: اليقين
بعدالته المقيدة بيوم الجمعة، الثاني: اليقين بعدم عدالته المطلقة قبل يوم
الجمعة، فتدل بمقتضى القاعدة الثانية على عدم نقض اليقين بعدالة زيد
يوم الجمعة باحتمال انتفائها في ذلك الزمان، وبمقتضى قاعدة الاستصحاب
على عدم نقض اليقين بعدم عدالته قبل الجمعة باحتمال حدوثها في
الجمعة، فكل من طرفي الشك معارض لفرد من اليقين.
ودعوى: أن اليقين السابق على الجمعة قد انتقض باليقين في الجمعة،

(1) لم ترد " من " في (ت) و (ه‍).
(2) في (ر) بدل " حتى لو - إلى - لا يخفى ": " أيضا ".
(3) في (ظ) زيادة: " فافهم ".
(4) راجع الصفحة 73 - 74.
309

والقاعدة الثانية تثبت وجوب اعتبار هذا اليقين الناقض لليقين السابق.
مدفوعة: بأن الشك الطارئ في عدالة زيد يوم الجمعة وعدمها،
عين الشك في انتقاض ذلك اليقين السابق. واحتمال انتقاضه وعدمه
معارضان لليقين بالعدالة وعدمها، فلا يجوز لنا الحكم بالانتقاض ولا بعدمه.
ثم إن هذا من باب التنزل والمماشاة، وإلا فالتحقيق ما ذكرناه:
من منع الشمول بالتقريب المتقدم (1)، مضافا إلى ما ربما يدعى: من
ظهور الأخبار في الشك في البقاء (2).
[قاعدة اليقين] (3)
بقي الكلام في وجود مدرك للقاعدة الثانية غير عموم (4) هذه
الأخبار (5)، فنقول: إن المطلوب من تلك القاعدة:
إما أن يكون إثبات حدوث المشكوك فيه وبقائه مستمرا إلى
اليقين بارتفاعه.
وإما أن يكون مجرد حدوثه في الزمان السابق بدون إثباته بعده،

(1) راجع الصفحة 304.
(2) هذه الدعوى من شريف العلماء في تقريرات درسه في ضوابط الأصول:
371، وكذا السيد المجاهد في مفاتيح الأصول: 657.
(3) العنوان منا.
(4) لم ترد " عموم " في (ر) و (ظ).
(5) في (ت) و (ه‍) زيادة: " لها ".
310

بأن يراد إثبات عدالة زيد في يوم الجمعة فقط.
وإما أن يراد مجرد إمضاء الآثار التي ترتبت عليها (1) سابقا
وصحة الأعمال الماضية المتفرعة عليه، فإذا تيقن الطهارة سابقا وصلى
بها ثم شك في طهارته في ذلك الزمان، فصلاته ماضية.
فإن أريد الأول، فالظاهر عدم دليل يدل عليه، إذ قد عرفت (2)
أنه لو سلم اختصاص الأخبار المعتبرة لليقين السابق بهذه القاعدة،
لم يمكن أن يراد منها إثبات حدوث العدالة وبقائها، لأن لكل من
الحدوث والبقاء شكا مستقلا. نعم، لو فرض القطع ببقائها على تقدير
الحدوث، أمكن أن يقال: إنه إذا ثبت حدوث العدالة بهذه القاعدة
ثبت بقاؤها، للعلم ببقائها على تقدير الحدوث. لكنه لا يتم إلا على
الأصل المثبت، فهو تقدير على تقدير.
وربما يتوهم: الاستدلال لإثبات هذا المطلب بما دل على عدم
الاعتناء بالشك في الشئ بعد تجاوز محله.
لكنه فاسد، لأنه على تقدير الدلالة لا يدل على استمرار
المشكوك، لأن الشك في الاستمرار ليس شكا بعد تجاوز المحل.
وأضعف منه: الاستدلال له بما سيجئ (3)، من دعوى أصالة
الصحة في اعتقاد المسلم، مع أنه كالأول في عدم إثباته الاستمرار.
وكيف كان، فلا مدرك لهذه القاعدة بهذا المعنى.

(1) كذا في النسخ، والمناسب: " عليه ".
(2) راجع الصفحة 306 - 308.
(3) انظر الصفحة 383.
311

وربما فصل بعض الأساطين (1): بين ما إذا علم مدرك الاعتقاد
بعد زواله وأنه غير قابل للاستناد إليه، وبين ما إذا لم يذكره، كما إذا
علم أنه اعتقد في زمان بطهارة ثوبه أو نجاسته، ثم غاب المستند وغفل
زمانا، فشك في طهارته ونجاسته فيبني على معتقده هنا، لا في الصورة
الأولى.
وهو وإن كان أجود من الإطلاق، لكن إتمامه بالدليل مشكل.
وإن أريد بها الثاني، فلا مدرك له بعد عدم دلالة أخبار الاستصحاب،
إلا ما تقدم: من أخبار عدم الاعتناء بالشك بعد تجاوز المحل. لكنها لو
تمت فإنما تنفع في الآثار المترتبة عليه سابقا، فلا يثبت بها إلا صحة ما
ترتب عليها (2)، وأما إثبات نفس ما اعتقده سابقا، حتى يترتب عليه بعد
ذلك الآثار المترتبة على عدالة زيد يوم الجمعة وطهارة ثوبه في الوقت
السابق فلا، فضلا عن إثبات مقارناته الغير الشرعية، مثل كونها على
تقدير الحدوث باقية.
وإن أريد بها الثالث، فله وجه، بناء على تمامية قاعدة " الشك
بعد الفراغ وتجاوز المحل "، فإذا صلى بالطهارة المعتقدة، ثم شك في صحة
اعتقاده وكونه متطهرا في ذلك الزمان، بنى على صحة الصلاة، لكنه
ليس من جهة اعتبار الاعتقاد السابق، ولذا لو فرض في السابق غافلا
غير معتقد بشئ من الطهارة والحدث بنى على الصحة أيضا، من جهة
أن الشك في الصلاة بعد الفراغ منها لا اعتبار به على المشهور بين

(1) هو كاشف الغطاء في كشف الغطاء: 102.
(2) كذا في النسخ، والمناسب: " عليه "، كما لا يخفى.
312

الأصحاب، خلافا لجماعة من متأخري المتأخرين، كصاحب المدارك (1)
وكاشف اللثام (2)، حيث منعا البناء على صحة الطواف إذا شك بعد
الفراغ في كونه مع الطهارة. والظاهر - كما يظهر من الأخير - أنهم
يمنعون القاعدة المذكورة في غير أجزاء العمل.
ولعل بعض الكلام في ذلك سيجئ في مسألة أصالة الصحة في
الأفعال (3)، إن شاء الله.
وحاصل الكلام في هذا المقام، هو أنه: إذا اعتقد المكلف قصورا
أو تقصيرا بشئ في زمان - موضوعا كان أو حكما، اجتهاديا أو
تقليديا - ثم زال اعتقاده، فلا ينفع اعتقاده السابق في ترتب آثار
المعتقد، بل يرجع بعد زوال الاعتقاد إلى ما يقتضيه الأصول بالنسبة إلى
نفس المعتقد، وإلى الآثار المترتبة عليه سابقا أو لاحقا.
[الأمر] (4) الثالث
أن يكون كل من بقاء ما أحرز حدوثه سابقا وارتفاعه غير
معلوم، فلو علم أحدهما فلا استصحاب.
وهذا مع العلم بالبقاء أو الارتفاع واقعا من دليل قطعي واقعي
واضح، وإنما الكلام فيما أقامه الشارع مقام العلم بالواقع، فإن الشك

(1) انظر المدارك 8: 141.
(2) انظر كشف اللثام 5: 411.
(3) انظر الصفحة 339.
(4) الزيادة منا.
313

الواقعي في البقاء والارتفاع لا يزول معه، ولا ريب في العمل به دون
الحالة السابقة.
لكن الشأن في أن العمل به من باب تخصيص أدلة الاستصحاب،
أو من باب التخصص؟ الظاهر أنه من باب حكومة أدلة تلك الأمور
على أدلة الاستصحاب، وليس تخصيصا بمعنى رفع اليد عن عموم أدلة
الاستصحاب في بعض موارده (1)، كما ترفع اليد عنها في مسألة الشك
بين الثلاث والأربع ونحوها، بما دل على وجوب البناء على الأكثر (2)،
ولا تخصصا بمعنى خروج المورد بمجرد وجود الدليل عن مورد
الاستصحاب، لأن هذا مختص بالدليل العلمي المزيل وجوده للشك
المأخوذ في مجرى الاستصحاب.
ومعنى الحكومة - على ما سيجئ في باب التعادل والتراجيح (3) -:
أن يحكم الشارع في ضمن دليل بوجوب رفع اليد عما يقتضيه الدليل
الآخر لولا هذا الدليل الحاكم، أو بوجوب العمل في مورد بحكم لا يقتضيه
دليله لولا الدليل الحاكم (4)، وسيجئ توضيحه إن شاء الله تعالى.

(1) في (ر) و (ظ): " الموارد ".
(2) لم ترد " كما ترفع - إلى - الأكثر " في (ظ).
(3) انظر مبحث التعادل والتراجيح 4: 13.
(4) في (ظ) زيادة ما يلي: " وحاصله: تنزيل شئ خارج عن موضوع دليل
منزلة ذلك الموضوع في ترتيب أحكامه عليه، أو داخل في موضوعه منزلة
الخارج منه في عدم ترتيب أحكامه عليه "، وكتب عليها في (ص): " نسخة "،
وورد في (ظ) أيضا بعد ذلك زيادة وهي: " وقد اجتمع كلا الاعتبارين في
حكومة الأدلة الغير العملية على الاستصحاب، مثلا: إذا قال الشارع... ".
314

ففي ما نحن فيه (1)، إذا قال الشارع: " اعمل بالبينة في نجاسة
ثوبك " - والمفروض أن الشك موجود مع قيام البينة على نجاسة الثوب -
فإن الشارع حكم في دليل وجوب العمل بالبينة، برفع اليد عن آثار
الاحتمال المخالف للبينة، التي منها استصحاب الطهارة (2).
وربما يجعل العمل بالأدلة في مقابل الاستصحاب من باب
التخصص (3)، بناء على أن المراد من " الشك " عدم الدليل والطريق،
والتحير في العمل، ومع قيام الدليل الاجتهادي لا حيرة. وإن شئت
قلت (4): إن المفروض دليلا قطعي الاعتبار، فنقض الحالة السابقة به
نقض باليقين.
وفيه: أنه لا يرتفع التحير ولا يصير الدليل الاجتهادي قطعي
الاعتبار في خصوص مورد الاستصحاب إلا بعد إثبات كون مؤداه
حاكما على مؤدى الاستصحاب، وإلا أمكن أن يقال: إن مؤدى
الاستصحاب وجوب العمل على الحالة السابقة مع عدم اليقين بارتفاعها،

(1) لم ترد " وسيجئ - إلى - ما نحن فيه " في (ظ).
(2) وردت في (ظ) بدل عبارة " حكم في - إلى - الطهارة " ما يلي: " جعل
الاحتمال المطابق للبينة بمنزلة اليقين الذي ينتقض به اليقين السابق، وجعل أيضا
الاحتمال المخالف للبينة كالمعدوم، فكأنه لا شك حتى يرجع فيه إلى
الاستصحاب، فكأنه قال: لا يحكم على هذا الشك بحكمه المقرر في قاعدة
الاستصحاب، وافرضه كالعدم ".
(3) كذا في (ت) و (ه‍)، وفي غيره: " التخصيص ".
(4) في (ت) و (ه‍) زيادة: " المراد به عدم اليقين الظاهري فإن... "، لكن في (ت)
بدل " الظاهري ": " الظاهر ".
315

سواء كان هناك الأمارة الفلانية أم لا، ومؤدى دليل تلك الأمارة
وجوب العمل بمؤداه (1)، خالف الحالة السابقة أم لا.
ولا يندفع مغالطة هذا الكلام، إلا بما ذكرنا من طريق الحكومة،
كما لا يخفى.
وكيف كان، فجعل بعضهم (2) عدم الدليل الاجتهادي على خلاف
الحالة السابقة من شرائط العمل بالاستصحاب، لا يخلو عن مسامحة،
لأن مرجع ذلك بظاهره إلى عدم المعارض لعموم " لا تنقض "، كما في
مسألة البناء على الأكثر، لكنه ليس مراد هذا المشترط قطعا، بل، بل مراده
عدم الدليل على ارتفاع الحالة السابقة.
ولعل (3) ما أورده عليه المحقق القمي (قدس سره) - من أن الاستصحاب
أيضا أحد الأدلة، فقد يرجح عليه الدليل، وقد يرجح على الدليل، وقد
لا يرجح أحدهما على الآخر، قال (قدس سره): ولذا ذكر بعضهم (4) في مال
المفقود: أنه في حكم ماله حتى يحصل العلم العادي بموته، استصحابا
لحياته (5)، مع وجود الروايات المعتبرة (6) المعمول بها عند بعضهم، بل

(1) كذا في النسخ، والمناسب: " بمؤداها "، لرجوع الضمير إلى " الأمارة ".
(2) هو الفاضل التوني في الوافية: 208.
(3) لم ترد " لأن مرجع - إلى - ولعل " في (ظ)، وورد بدلها: " وإن أمكن توجيهه
بما يرجع إلى ما ذكرنا، وأما ما أورده... ".
(4) في المصدر: " جمهور المتأخرين ".
(5) انظر مفتاح الكرامة 8: 92.
(6) الوسائل 17: 583 و 585، الباب 6 من أبواب ميراث الخنثى، الحديث 5
و 9.
316

عند جمع من المحققين (1)، الدالة على وجوب الفحص أربع سنين (2) - مبني
على ظاهر كلامه: من إرادة العمل بعموم " لا تنقض ".
وأما على ما جزمنا به (3) - من أن مراده عدم ما يدل علما أو
ظنا على ارتفاع الحالة السابقة - فلا وجه لورود ذلك (4)، لأن الاستصحاب
إن اخذ من باب التعبد، فقد عرفت (5) حكومة أدلة جميع الأمارات
الاجتهادية على دليله، وإن اخذ من باب الظن، فالظاهر أنه لا تأمل
لأحد في أن المأخوذ في إفادته للظن عدم وجود أمارة في مورده على
خلافه، ولذا ذكر العضدي في دليله (6): أن ما كان سابقا ولم يظن عدمه
فهو مظنون البقاء (7).

(1) انظر مفتاح الكرامة 8: 92.
(2) القوانين 2: 75.
(3) في الصفحة السابقة.
(4) لم ترد " مبني على - إلى - لورود ذلك " في (ظ)، وورد بدلها: " فلا يعرف له
وجه ورود ولذلك ".
(5) راجع الصفحة 314.
(6) شرح مختصر الأصول 2: 453.
(7) لم ترد " ولذا ذكر - إلى - مظنون البقاء " في (ر)، وكتب عليها في (ص):
" نسخة بدل ".
وفي (ت)، (ه‍) وحاشيتي (ص) و (ظ) زيادة: " ونظيره في الأمارات الاجتهادية
(الغلبة) فإن إلحاق الشئ بالأعم الأغلب إنما يكون غالبا إذا لم تكن أمارة في
موردها على الخلاف، لكنها أيضا واردة على الاستصحاب، كما يعرف بالوجدان
عند المتتبع في الشرعيات والعرفيات ".
317

ولما ذكرنا لم نر أحدا من العلماء قدم الاستصحاب على أمارة
مخالفة له مع اعترافه بحجيتها لولا الاستصحاب، لا في الأحكام ولا في
الموضوعات.
وأما ما استشهد به (قدس سره) - من عمل بعض الأصحاب بالاستصحاب
في مال المفقود، وطرح ما دل على وجوب الفحص أربع سنين والحكم
بموته بعده - فلا دخل له بما نحن فيه، لأن تلك الأخبار ليست أدلة في
مقابل استصحاب حياة المفقود، وإنما المقابل له قيام دليل معتبر (1) على
موته، وهذه الأخبار على تقدير تماميتها مخصصة لعموم أدلة الاستصحاب،
دالة على وجوب البناء على موت المفقود (2) بعد الفحص، نظير ما دل
على وجوب البناء على الأكثر مع الشك في عدد الركعات، فمن عمل
بها خصص بها عمومات الاستصحاب، ومن طرحها - لقصور فيها - بقي
أدلة الاستصحاب عنده على عمومها.
ثم المراد بالدليل الاجتهادي: كل أمارة اعتبرها الشارع من
حيث إنها تحكي عن الواقع وتكشف عنه بالقوة، وتسمى في نفس
الأحكام " أدلة اجتهادية " وفي الموضوعات " أمارات معتبرة "، فما كان
مما نصبه الشارع غير ناظر إلى الواقع، أو كان ناظرا لكن فرض أن
الشارع اعتبره لا من هذه الحيثية، بل من حيث مجرد احتمال مطابقته
للواقع، فليس اجتهاديا، بل (3) هو من الأصول، وإن كان مقدما على

(1) في نسخة بدل (ص) زيادة: " كالبينة ".
(2) لم ترد " وإنما المقابل - إلى - موت المفقود " في (ظ).
(3) في غير (ص) بدل " بل ": " و ".
318

بعض الأصول الاخر. والظاهر أن الاستصحاب والقرعة من هذا القبيل.
ومصاديق الأدلة والأمارات في الأحكام والموضوعات واضحة
غالبا.
وقد يختفي (1)، فيتردد الشئ بين كونه دليلا وبين كونه أصلا،
لاختفاء كون اعتباره من حيث كونه ناظرا إلى الواقع، أو من حيث
هو، كما في اليد المنصوبة دليلا على الملك، وكذلك أصالة الصحة عند
الشك في عمل نفسه بعد الفراغ، وأصالة الصحة في عمل الغير.
وقد يعلم عدم كونه ناظرا إلى الواقع وكاشفا عنه وأنه من
القواعد التعبدية، لكن يختفي حكومته مع ذلك على الاستصحاب، لأنا
قد ذكرنا: أنه قد يكون الشئ الغير الكاشف منصوبا من حيث تنزيل
الشارع الاحتمال المطابق له منزلة الواقع، إلا أن الاختفاء في تقديم أحد
التنزيلين على الآخر وحكومته عليه.

(1) كذا في النسخ، والمناسب: " تختفي " لرجوع الضمير إلى مصاديق.
319

[تعارض الاستصحاب مع سائر الأمارات والأصول] (1)
ثم إنه لا ريب في تقديم الاستصحاب على الأصول الثلاثة،
أعني: البراءة، والاحتياط، والتخيير. إلا أنه قد يختفي وجهه على
المبتدي (2)، فلا بد من التكلم هنا في مقامات:
الأول: في عدم معارضة الاستصحاب لبعض الأمارات التي
يتراءى كونها من الأصول، كاليد ونحوها.
الثاني: في حكم معارضة الاستصحاب للقرعة ونحوها.
الثالث: في عدم معارضة سائر الأصول للاستصحاب.

(1) العنوان منا.
(2) في (ظ) زيادة: " فلا بد من إيضاح وجهه ".
320

أما الكلام في المقام الأول فيقع في مسائل:
الأولى
أن اليد مما لا يعارضها الاستصحاب، بل هي حاكمة عليه.
بيان ذلك: أن اليد، إن قلنا بكونها من الأمارات المنصوبة دليلا
على الملكية، من حيث كون الغالب في مواردها كون صاحب اليد مالكا
أو نائبا عنه، وأن اليد المستقلة الغير المالكية قليلة بالنسبة إليها، وأن
الشارع إنما اعتبر هذه الغلبة تسهيلا على العباد، فلا إشكال في تقديمها
على الاستصحاب على ما عرفت: من حكومة أدلة الأمارات على
أدلة (1) الاستصحاب (2).
وإن قلنا بأنها غير كاشفة بنفسها عن الملكية، أو أنها كاشفة لكن
اعتبار الشارع لها ليس من هذه الحيثية، بل جعلها في محل الشك
تعبدا، لتوقف استقامة نظام معاملات العباد على اعتبارها - نظير أصالة
الطهارة - كما يشير إليه قوله (عليه السلام) في ذيل رواية حفص بن غياث،
الدالة على الحكم بالملكية على ما في يد المسلمين: " ولولا ذلك لما قام

(1) في (ر)، (ظ) و (ه‍) بدل " أدلة ": " دليل ".
(2) راجع الصفحة 314.
321

للمسلمين سوق " (1)، فالأظهر أيضا تقديمها على الاستصحاب، إذ لولا
هذا لم يجز التمسك بها في أكثر المقامات، فيلزم المحذور المنصوص، وهو
اختلال السوق وبطلان الحقوق، إذ الغالب العلم بكون ما في اليد
مسبوقا بكونه ملكا للغير، كما لا يخفى.
وأما حكم المشهور بأنه: " لو اعترف ذو اليد بكونه سابقا ملكا
للمدعي، انتزع منه العين، إلا أن يقيم البينة على انتقالها إليه " فليس
من تقديم الاستصحاب، بل لأجل أن دعواه الملكية في الحال إذا
انضمت إلى إقراره بكونه (2) قبل ذلك للمدعي، ترجع إلى دعوى انتقالها
إليه، فينقلب مدعيا، والمدعي منكرا، ولذا لو لم يكن في مقابله مدع،
لم تقدح هذه الدعوى منه في الحكم بملكيته، أو كان في مقابله مدع
لكن أسند الملك السابق إلى غيره، كما لو قال في جواب زيد المدعي:
اشتريته من عمرو.
بل يظهر مما ورد في محاجة علي (عليه السلام) مع أبي بكر في أمر فدك
- المروية في الاحتجاج (3) - أنه لم يقدح في تشبث فاطمة (عليها السلام) باليد،
دعواها (عليها السلام) (4) تلقي الملك من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، مع أنه قد يقال: إنها
حينئذ صارت مدعية لا تنفعها اليد.

(1) الوسائل 18: 215، الباب 25 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.
(2) المناسب: " بكونها "، لرجوع الضمير إلى " العين "، كضمير " انتقالها ".
(3) الاحتجاج 1: 121، والوسائل 18: 215، الباب 25 من أبواب كيفية
الحكم، الحديث 3.
(4) لم ترد " دعواها (عليها السلام) " في (ظ).
322

وكيف كان، فاليد على تقدير كونها من الأصول التعبدية أيضا
مقدمة على الاستصحاب وإن جعلناه من الأمارات الظنية، لأن الشارع
نصبها في مورد الاستصحاب. وإن شئت قلت: إن دليلها أخص من
عمومات الاستصحاب (1).
هذا، مع أن الظاهر من الفتوى والنص الوارد في اليد - مثل
رواية حفص بن غياث (2) - أن اعتبار اليد أمر كان مبنى عمل الناس
في أمورهم وقد أمضاه الشارع، ولا يخفى أن عمل العرف عليها من
باب الأمارة، لا من باب الأصل التعبدي.
وأما تقديم البينة على اليد وعدم ملاحظة التعارض بينهما أصلا،
فلا يكشف عن كونها من الأصول، لأن اليد إنما جعلت أمارة على
الملك عند الجهل بسببها، والبينة مبينة لسببها.
والسر في ذلك: أن مستند الكشف في اليد هي الغلبة، والغلبة إنما
توجب إلحاق المشكوك بالأعم الأغلب، فإذا كان في مورد الشك أمارة
معتبرة تزيل الشك، فلا يبقى مورد للإلحاق، ولذا كانت جميع الأمارات
في أنفسها مقدمة على الغلبة. وحال اليد مع البينة (3) حال أصالة الحقيقة
في الاستعمال على مذهب السيد (4) مع أمارات المجاز، بل حال مطلق
الظاهر والنص، فافهم.

(1) لم ترد " وإن شئت - إلى - الاستصحاب " في (ظ).
(2) الوسائل 18: 215، الباب 25 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.
(3) كذا في (ت) و (ه‍)، وفي غيرهما بدل " البينة ": " الغلبة ".
(4) انظر الذريعة 1: 13.
323

المسألة الثانية
في أن أصالة الصحة في العمل بعد الفراغ عنه لا يعارض بها
الاستصحاب:
إما لكونها من الأمارات، كما يشعر به قوله (عليه السلام) - في بعض
روايات ذلك (1) الأصل -: " هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك " (2).
وإما لأنها وإن كانت من الأصول إلا أن الأمر بالأخذ بها في
مورد الاستصحاب يدل على تقديمها عليه، فهي خاصة بالنسبة إليه،
يخصص بأدلتها أدلته، ولا إشكال في شئ من ذلك.
إنما الإشكال في تعيين مورد ذلك الأصل من وجهين:
أحدهما: من جهة تعيين معنى " الفراغ " و " التجاوز " المعتبر في
الحكم بالصحة، وأنه هل يكتفى به، أو يعتبر الدخول في غيره؟ وأن
المراد بالغير ما هو؟
الثاني: من جهة أن الشك في وصف الصحة للشئ، ملحق

(1) لم ترد " ذلك " في (ه‍).
(2) الوسائل 1: 332، الباب 42 من أبواب الوضوء، الحديث 7.
325

بالشك في أصل الشئ أم لا؟
وتوضيح الإشكال من الوجهين موقوف على ذكر الأخبار الواردة
في هذه القاعدة، ليزول ببركة تلك الأخبار كل شبهة حدثت أو تحدث
في هذا المضمار، فنقول (1) مستعينا بالله:
روى زرارة - في الصحيح - عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " إذا
خرجت من شئ ودخلت في غيره فشكك ليس بشئ " (2).
وروى إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إن شك في
الركوع بعدما سجد فليمض، وإن شك في السجود بعدما قام فليمض،
كل شئ شك فيه وقد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه " (3).
وهاتان الروايتان ظاهرتان في اعتبار الدخول في غير المشكوك.
وفي الموثقة: " كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما
هو " (4).
وهذه الموثقة ظاهرة في عدم اعتبار الدخول في الغير.
وفي موثقة ابن أبي يعفور: " إذا شككت في شئ من الوضوء

(1) كذا، والمناسب: " فأقول " كما لا يخفى.
(2) الوسائل 5: 336، الباب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث
الأول.
(3) الوسائل 4: 937، الباب 13 من أبواب الركوع، الحديث 4، وفيه بدل
" وقد ": " مما قد ".
(4) أي: موثقة محمد بن مسلم، الوسائل 5: 336، الباب 23 من أبواب الخلل
الواقع في الصلاة، الحديث 3.
326

وقد دخلت في غيره فشكك ليس بشئ (1)، إنما الشك إذا كنت في شئ
لم تجزه " (2).
وظاهر صدر هذه الموثقة كالأوليين، وظاهر عجزها كالثالثة.
هذه تمام ما وصل إلينا من الأخبار العامة.
وربما يستفاد العموم من بعض ما ورد في الموارد الخاصة، مثل:
قوله (عليه السلام) في الشك في فعل الصلاة بعد خروج الوقت، من قوله (عليه السلام) (3):
" وإن كان بعد ما خرج وقتها فقد دخل حائل فلا إعادة " (4).
وقوله (عليه السلام): " كل ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكرا
فأمضه كما هو " (5).
وقوله (عليه السلام) في من شك في الوضوء بعدما فرغ: " هو حين يتوضأ
أذكر منه حين يشك " (6).
ولعل المتتبع يعثر على أزيد من ذلك (7).

(1) في الوسائل: " فليس شكك بشئ ".
(2) الوسائل 1: 331، الباب 42 من أبواب الوضوء، الحديث 2.
(3) كذا في النسخ، والظاهر زيادة: " من قوله (عليه السلام) ".
(4) الحديث منقول بالمعنى، انظر الوسائل 3: 205، الباب 60 من أبواب المواقيت،
الحديث الأول.
(5) الوسائل 1: 331، الباب 42 من أبواب الوضوء، الحديث 6، وليس فيه:
" كما هو ".
(6) تقدم الحديث في الصفحة 325.
(7) مثل: ما في صحيحتي زرارة ومحمد بن مسلم المرويتين في الوسائل 1: 330
و 331، الباب 42 من أبواب الوضوء، الحديث 1 و 5.
327

وحيث إن مضمونها لا يختص بالطهارة والصلاة، بل يجري في
غيرهما - كالحج - فالمناسب الاهتمام في تنقيح مضامينها ودفع ما يتراءى
من التعارض بينها - فنقول مستعينا بالله، فإنه ولي التوفيق.
إن الكلام يقع في مواضع -:
328

الموضع الأول
أن الشك في الشئ ظاهر - لغة وعرفا - في الشك في وجوده، إلا
أن تقييد ذلك في الروايات بالخروج عنه ومضيه والتجاوز عنه، ربما
يصير قرينة على إرادة كون وجود أصل الشئ مفروغا عنه، وكون
الشك فيه باعتبار الشك في بعض ما يعتبر فيه شرطا أو شطرا.
نعم لو أريد الخروج والتجاوز عن محله، أمكن إرادة المعنى
الظاهر من الشك في الشئ. وهذا هو المتعين، لأن إرادة الأعم من
الشك في وجود الشئ والشك الواقع في الشئ الموجود، في استعمال
واحد (1)، غير صحيح. وكذا إرادة خصوص الثاني، لأن مورد غير
واحد من تلك الأخبار هو الأول. لكن يبعد ذلك في ظاهر موثقة محمد
ابن مسلم (2)، من جهة قوله: " فأمضه كما هو "، بل لا يصح ذلك في
موثقة ابن أبي يعفور (3)، كما لا يخفى.
لكن الإنصاف: إمكان تطبيق موثقة محمد بن مسلم على ما في
الروايات، وأما هذه الموثقة فسيأتي توجيهها على وجه لا تعارض
الروايات إن شاء الله تعالى (4).

(1) لم ترد " في استعمال واحد " في (ظ) و (ت).
(2) تقدمت في الصفحة 327.
(3) تقدمت في الصفحة 326.
(4) انظر الصفحة 337.
329

الموضع الثاني
أن المراد بمحل الفعل المشكوك في وجوده هو الموضع الذي لو اتي
به فيه لم يلزم منه اختلال في الترتيب المقرر.
وبعبارة أخرى: محل الشئ هي مرتبته المقررة له بحكم العقل، أو
بوضع الشارع، أو غيره ولو كان نفس المكلف، من جهة اعتياده بإتيان
ذلك المشكوك في ذلك المحل.
فمحل تكبيرة الإحرام قبل الشروع في الاستعاذة لأجل القراءة
بحكم الشارع، ومحل كلمة " أكبر " قبل تخلل الفصل الطويل بينه وبين
لفظ الجلالة بحكم الطريقة المألوفة في نظم الكلام، ومحل الراء من
" أكبر " قبل أدنى فصل يوجب الابتداء بالساكن بحكم العقل، ومحل
غسل الجانب الأيسر أو بعضه في غسل الجنابة لمن اعتاد الموالاة فيه (1)
قبل تخلل فصل يخل بما اعتاده من الموالاة.
هذا كله مما لا إشكال فيه، إلا الأخير، فإنه ربما يتخيل (2)
انصراف إطلاق الأخبار إلى غيره.
مع أن فتح هذا الباب بالنسبة إلى العادة يوجب مخالفة إطلاقات
كثيرة. فمن اعتاد الصلاة في أول وقتها أو مع الجماعة، فشك في فعلها
بعد ذلك، فلا يجب عليه الفعل. وكذا من اعتاد فعل شئ بعد الفراغ
من الصلاة فرأى نفسه فيه وشك في فعل الصلاة. وكذا من اعتاد

(1) لم ترد " فيه " في (ر).
(2) في (ه‍) ونسخة بدل (ت) بدل " يتخيل ": " يحتمل ".
330

الوضوء بعد الحدث بلا فصل يعتد به، أو قبل دخول الوقت للتهيؤ،
فشك بعد ذلك في الوضوء. إلى غير ذلك من الفروع التي يبعد التزام
الفقيه بها.
نعم ذكر جماعة من الأصحاب مسألة معتاد الموالاة في غسل
الجنابة إذا شك في الجزء الأخير، كالعلامة (1) وولده (2) والشهيدين (3)
والمحقق الثاني (4) وغيرهم (5) قدس الله أسرارهم.
واستدل فخر الدين على مختاره في المسألة - بعد صحيحة زرارة
المتقدمة -: بأن خرق العادة على خلاف الأصل (6). ولكن لا يحضرني
كلام منهم في غير هذا المقام، فلا بد من التتبع والتأمل.
والذي يقرب في نفسي عاجلا هو الالتفات إلى الشك، وإن كان
الظاهر من قوله (عليه السلام) فيما تقدم: " هو حين يتوضأ أذكر منه حين
يشك " (7)، أن هذه القاعدة من باب تقديم الظاهر على الأصل، فهو
دائر مدار الظهور النوعي ولو كان من العادة. لكن العمل بعموم ما
يستفاد من الرواية أيضا مشكل، فتأمل. والأحوط ما ذكرنا.

(1) قواعد الأحكام 1: 206، والتذكرة 1: 212.
(2) إيضاح الفوائد 1: 42.
(3) لم نعثر عليه فيما بأيدينا من كتبهما (قدس سرهما). نعم، حكاه المحقق الثاني في جامع المقاصد
1: 238 عن بعض فوائد الشهيد الأول، ولعل المراد به حواشيه على القواعد.
(4) جامع المقاصد 1: 237.
(5) انظر كشف اللثام 1: 588، والجواهر 2: 363.
(6) إيضاح الفوائد 1: 43.
(7) تقدم الحديث في الصفحة 325.
331

الموضع الثالث
الدخول في غير المشكوك إن كان محققا للتجاوز عن المحل،
فلا إشكال في اعتباره، وإلا فظاهر الصحيحتين الأوليتين اعتباره،
وظاهر إطلاق موثقة ابن مسلم عدم اعتباره.
ويمكن حمل التقييد في الصحيحين على الغالب خصوصا في أفعال
الصلاة، فإن الخروج من أفعالها يتحقق غالبا بالدخول في الغير، وحينئذ
فيلغو القيد.
ويحتمل ورود المطلق على الغالب، فلا يحكم بالإطلاق.
ويؤيد الأول ظاهر التعليل المستفاد من قوله (عليه السلام): " هو حين
يتوضأ أذكر منه حين يشك " (1)، وقوله (عليه السلام): " إنما الشك إذا كنت في
شئ لم تجزه " (2) بناء على ما سيجئ من التقريب (3)، وقوله (عليه السلام): " كل
ما مضى من صلاتك وطهورك... الخبر " (4).
لكن الذي يبعده أن الظاهر من ال‍ " غير " في صحيحة إسماعيل
ابن جابر: " إن شك في الركوع بعدما سجد وإن شك في السجود بعدما
قام فليمض " (5) بملاحظة مقام التحديد ومقام التوطئة للقاعدة المقررة

(1) تقدم الحديث في الصفحة 325.
(2) تقدم الحديث في الصفحة 327.
(3) انظر الصفحة 337.
(4) تقدم الحديث في الصفحة 327.
(5) تقدم الحديث في الصفحة 326.
332

بقوله (عليه السلام) بعد ذلك: " كل شئ شك فيه... الخ " كون السجود والقيام
حدا للغير الذي يعتبر الدخول فيه، وأنه لا غير أقرب من الأول
بالنسبة إلى الركوع، ومن الثاني بالنسبة إلى السجود، إذ لو كان الهوي
للسجود كافيا عند الشك في الركوع، والنهوض للقيام كافيا عند الشك
في السجود، قبح في مقام التوطئة للقاعدة الآتية التحديد بالسجود
والقيام، ولم يكن وجه لجزم المشهور (1) بوجوب الالتفات إذا شك قبل
الاستواء قائما.
ومما ذكرنا يظهر: أن ما ارتكبه بعض من تأخر (2)، من التزام
عموم " الغير " وإخراج الشك في السجود قبل تمام القيام بمفهوم الرواية،
ضعيف جدا، لأن الظاهر أن القيد وارد في مقام التحديد.
والظاهر أن التحديد بذلك توطئة للقاعدة، وهي (3) بمنزلة ضابطة
كلية، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في فهم الكلام، فكيف يجعل
فردا خارجا بمفهوم القيد (4) عن عموم القاعدة؟!
فالأولى: أن يجعل هذا كاشفا عن خروج مقدمات أفعال الصلاة
عن عموم " الغير " فلا يكفي في الصلاة مجرد الدخول ولو في فعل غير

(1) انظر مفتاح الكرامة 3: 305، بل في الجواهر: " لم أعثر على مخالف في
وجوب الرجوع " انظر الجواهر 12: 320.
(2) كصاحبي الذخيرة والجواهر، انظر الذخيرة: 376، والجواهر 12: 316 -
321.
(3) في (ظ) زيادة: " له ".
(4) في (ه‍) بدل " القيد ": " الغير ".
333

أصلي، فضلا عن كفاية مجرد الفراغ.
والأقوى: اعتبار الدخول في الغير وعدم كفاية مجرد الفراغ، إلا
أنه قد يكون الفراغ عن الشئ ملازما للدخول في غيره، كما لو فرغ
عن الصلاة والوضوء، فإن حالة عدم الاشتغال بهما يعد مغايرة لحالهما
وإن لم يشتغل بفعل وجودي، فهو دخول في الغير بالنسبة إليهما.
وأما التفصيل بين الصلاة والوضوء، بالتزام كفاية مجرد الفراغ من
الوضوء ولو مع الشك في الجزء الأخير منه، فيرده اتحاد الدليل في
البابين (1)، لأن ما ورد، من قوله (عليه السلام) في من شك في الوضوء بعدما
فرغ من الوضوء: " هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك " (2) عام
بمقتضى التعليل لغير الوضوء أيضا، ولذا استفيد منه حكم الغسل
و (3) الصلاة أيضا. وكذلك موثقة ابن أبي يعفور المتقدمة (4)، صدرها دال
على اعتبار الدخول في الغير في الوضوء، وذيلها يدل على عدم العبرة
بالشك بمجرد التجاوز مطلقا من غير تقييد بالوضوء، بل ظاهرها يأبى
عن التقييد. وكذلك روايتا زرارة وأبي بصير المتقدمتان (5) آبيتان عن

(1) لم ترد " في البابين " في (ت).
(2) تقدم الحديث في الصفحة 325.
(3) في (ه‍) زيادة: " عم "، وفي (ظ) زيادة: " يعم ".
(4) في الصفحة 326.
(5) المتقدمتان في الصفحة 326، والظاهر أن المراد برواية أبي بصير هي رواية
إسماعيل بن جابر، حيث رواها في الوافي (8: 949، الحديث 7466 - 11)
عن التهذيب بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام)، ولكنها ليست
موجودة بهذا السند في التهذيب، وانظر الجواهر 12: 314.
334

التقييد.
وأصرح من جميع ذلك في الإباء عن التفصيل بين الوضوء
والصلاة قوله (عليه السلام) في الرواية المتقدمة (1): " كل ما مضى من صلاتك
وطهورك فذكرته تذكرا فأمضه ".

(1) في الصفحة 327.
335

الموضع الرابع
قد خرج من الكلية المذكورة أفعال الطهارات الثلاث، فإنهم
أجمعوا (1) على أن الشاك في فعل من أفعال الوضوء قبل إتمام الوضوء
يأتي به وإن دخل في فعل آخر، وأما الغسل والتيمم فقد صرح بذلك
فيهما بعضهم (2) على وجه يظهر منه كونه من المسلمات، وقد نص على
الحكم في الغسل جمع ممن تأخر عن المحقق، كالعلامة (3) والشهيدين (4)
والمحقق الثاني (5)، ونص غير واحد من هؤلاء (6) على كون التيمم كذلك.
وكيف كان، فمستند الخروج - قبل الإجماع - الأخبار الكثيرة
المخصصة للقاعدة المتقدمة. إلا أنه يظهر من رواية ابن أبي يعفور
المتقدمة (7) - وهي قوله (عليه السلام): " إذا شككت في شئ من الوضوء وقد
دخلت في غيره فشكك ليس بشئ، إنما الشك إذا كنت في شئ

(1) انظر الجواهر 2: 354.
(2) لعله صاحب الرياض في الرياض 1: 277، ولكنه صرح بذلك في الغسل
دون التيمم.
(3) التذكرة 1: 212، وفي غير (ر) زيادة: " وولده ".
(4) انظر تمهيد القواعد: 305، ولم نعثر على ذلك في ما بأيدينا من كتب الشهيد
الأول (قدس سره).
(5) جامع المقاصد 1: 237.
(6) انظر التذكرة 1: 212، وجامع المقاصد 1: 238.
(7) المتقدمة في الصفحة 326.
336

لم تجزه ": أن حكم الوضوء من باب القاعدة، لا خارج عنها، بناء
على عود ضمير " غيره " إلى الوضوء، لئلا يخالف الإجماع على وجوب
الالتفات إذا دخل في غير المشكوك من أفعال الوضوء، وحينئذ
فقوله (عليه السلام): " إنما الشك " مسوق لبيان قاعدة الشك المتعلق بجزء من
أجزاء العمل، وأنه إنما يعتبر إذا كان مشتغلا بذلك العمل غير متجاوز
عنه.
هذا، ولكن الاعتماد على ظاهر (1) ذيل الرواية مشكل، من جهة
أنه يقتضي بظاهر الحصر أن الشك الواقع في غسل اليد باعتبار جزء
من أجزائه لا يعتنى به إذا جاوز غسل اليد، مضافا إلى أنه معارض
للأخبار السابقة فيما إذا شك في جزء من الوضوء بعد الدخول في جزء
آخر قبل الفراغ منه، لأنه باعتبار أنه شك في وجود شئ بعد تجاوز
محله يدخل في الأخبار السابقة، ومن حيث إنه شك في أجزاء عمل
قبل الفراغ منه يدخل في هذا الخبر.
ويمكن أن يقال لدفع جميع ما في الخبر من الإشكال: إن الوضوء
بتمامه في نظر الشارع فعل واحد باعتبار وحدة مسببه - وهي الطهارة -
فلا يلاحظ كل فعل منه بحياله حتى يكون موردا لتعارض هذا الخبر
مع الأخبار السابقة، ولا يلاحظ بعض أجزائه - كغسل اليد مثلا - شيئا
مستقلا يشك في بعض أجزائه قبل تجاوزه أو بعده ليوجب ذلك
الإشكال في الحصر المستفاد من الذيل.
وبالجملة: فإذا فرض الوضوء فعلا واحدا لم يلاحظ الشارع

(1) لم ترد " ظاهر " في (ظ).
337

أجزاءه أفعالا مستقلة يجري فيها حكم الشك بعد تجاوز المحل، لم
يتوجه شئ من الإشكالين في الاعتماد على الخبر، ولم يكن حكم
الوضوء مخالفا للقاعدة، إذ الشك في أجزاء الوضوء قبل الفراغ ليس إلا
شكا واقعا في الشئ قبل التجاوز عنه. والقرينة على هذا الاعتبار جعل
القاعدة ضابطة لحكم الشك في أجزاء الوضوء قبل الفراغ عنه أو
بعده (1).
ثم إن فرض الوضوء فعلا واحدا لا يلاحظ حكم الشك بالنسبة
إلى أجزائه، ليس أمرا غريبا، فقد ارتكب المشهور مثله في الأخبار
السابقة بالنسبة إلى أفعال الصلاة، حيث لم يجروا حكم الشك بعد
التجاوز في كل جزء من أجزاء القراءة حتى الكلمات والحروف، بل
الأظهر عندهم كون الفاتحة فعلا واحدا، بل جعل بعضهم القراءة فعلا
واحدا (2)، وقد عرفت النص في الروايات على عدم اعتبار الهوي
للسجود والنهوض للقيام (3).
ومما يشهد لهذا التوجيه إلحاق المشهور الغسل والتيمم بالوضوء
في هذا الحكم (4)، إذ لا وجه له ظاهرا إلا ملاحظة كون الوضوء أمرا
واحدا يطلب منه أمر واحد غير قابل للتبعيض، أعني " الطهارة ".

(1) لم ترد " والقرينة - إلى - أو بعده " في (ظ).
(2) الجاعل هو الشهيد الثاني في روض الجنان: 350.
(3) راجع الصفحة 332 - 333.
(4) كما تقدم في الصفحة 336.
338

الموضع الخامس
ذكر بعض الأساطين (1): أن حكم الشك في الشروط بالنسبة إلى
الفراغ عن المشروط - بل الدخول فيه، بل الكون على هيئة الداخل -
حكم الأجزاء في عدم الالتفات. فلا اعتبار بالشك في الوقت والقبلة
واللباس والطهارة بأقسامها والاستقرار ونحوها، بعد الدخول في الغاية.
ولا فرق بين الوضوء وغيره، انتهى. وتبعه بعض من تأخر عنه (2).
واستقرب - في مقام آخر - إلغاء الشك في الشرط بالنسبة إلى غير
ما دخل فيه من الغايات (3).
وما أبعد ما بينه وبين ما ذكره بعض الأصحاب (4): من اعتبار
الشك في الشرط حتى بعد الفراغ عن المشروط، فأوجب إعادة
المشروط.
والأقوى: التفصيل بين الفراغ عن المشروط فيلغو الشك في
الشرط بالنسبة إليه، لعموم لغوية الشك في الشئ بعد التجاوز عنه،
وأما بالنسبة إلى مشروط آخر لم يدخل فيه فلا ينبغي الإشكال في

(1) هو كاشف الغطاء في كشف الغطاء: 278.
(2) كصاحب الجواهر في الجواهر 2: 363.
(3) كشف الغطاء: 102.
(4) في (ت)، (ص) و (ه‍) زيادة: " كصاحب المدارك وكاشف اللثام "، راجع
الصفحة 312.
339

اعتبار الشك فيه، لأن الشرط المذكور من حيث كونه شرطا لهذا
المشروط لم يتجاوز عنه، بل محله باق، فالشك في تحقق شرط هذا
المشروط شك في الشئ قبل تجاوز محله.
وربما بنى بعضهم (1) ذلك على أن معنى عدم العبرة بالشك في
الشئ بعد تجاوز المحل، هو البناء على الحصول مطلقا ولو لمشروط
آخر (2)، أو يختص بالمدخول.
أقول: لا إشكال في أن معناه البناء على حصول المشكوك فيه،
لكن بعنوانه الذي يتحقق معه تجاوز المحل، لا مطلقا. فلو شك في أثناء
العصر في فعل الظهر بنى على تحقق الظهر بعنوان أنه شرط للعصر
ولعدم وجوب العدول إليه، لا على تحققه مطلقا، حتى لا يحتاج إلى
إعادتها بعد فعل العصر. فالوضوء المشكوك فيما نحن فيه إنما فات محله
من حيث كونه شرطا للمشروط المتحقق، لا من حيث كونه شرطا
للمشروط المستقبل.
ومن هنا يظهر أن الدخول في المشروط أيضا لا يكفي في إلغاء
الشك في الشرط، بل لا بد من الفراغ عنه، لأن نسبة الشرط إلى جميع
أجزاء المشروط نسبة واحدة، وتجاوز محله باعتبار كونه شرطا للأجزاء
الماضية، فلا بد من إحرازه للأجزاء المستقبلة.
نعم، ربما يدعى في مثل الوضوء: أن محل إحرازه لجميع أجزاء
الصلاة قبل الصلاة لا عند كل جزء.

(1) هو كاشف الغطاء أيضا، انظر كشف الغطاء: 102.
(2) عبارة " مطلقا ولو لمشروط آخر " من (ه‍).
340

ومن هنا قد يفصل: بين ما كان من قبيل الوضوء مما يكون
محل إحرازه قبل الدخول في العبادة، وبين غيره مما ليس كذلك،
كالاستقبال والستر (1)، فإن إحرازهما ممكن في كل جزء، وليس المحل
الموظف لإحرازهما قبل الصلاة بالخصوص، بخلاف الوضوء. وحينئذ فلو
شك في أثناء الصلاة في الستر أو الساتر وجب عليه إحرازه في أثناء
الصلاة للأجزاء المستقبلة.
والمسألة لا تخلو عن إشكال، إلا أنه ربما يشهد لما ذكرنا - من
التفصيل بين الشك في الوضوء في أثناء الصلاة، وفيه بعده (2) - صحيحة
علي بن جعفر عن أخيه (عليهما السلام)، قال: " سألته عن الرجل يكون على
وضوء ثم يشك، على وضوء هو أم لا؟ قال: إذا ذكرها (3) وهو في
صلاته انصرف (4) وأعادها، وإن ذكر وقد فرغ من صلاته أجزأه
ذلك " (5)، بناء على أن مورد السؤال الكون على الوضوء باعتقاده ثم
شك في ذلك.

(1) في (ر)، (ظ) و (ه‍) ونسخة بدل (ص) بدل " الستر ": " النية "، وفي (ت)
شطب على كلمة " الستر ".
(2) المناسب: " بعدها "، لرجوع الضمير إلى الصلاة.
(3) في الوسائل: " ذكر ".
(4) في الوسائل زيادة: " وتوضأ ".
(5) الوسائل 1: 333، الباب 44 من أبواب الوضوء، الحديث 2.
341

الموضع السادس
أن الشك في صحة الشئ المأتي به حكمه حكم الشك في
الإتيان، بل هو هو، لأن مرجعه إلى الشك في وجود الشئ الصحيح.
ومحل الكلام: ما لا يرجع فيه الشك إلى الشك في ترك بعض ما يعتبر
في الصحة، كما لو شك في تحقق الموالاة المعتبرة في حروف الكلمة أو
كلمات الآية.
لكن الإنصاف: أن الإلحاق لا يخلو عن إشكال، لأن الظاهر من
أخبار الشك في الشئ اختصاصها بغير هذه الصورة، إلا أن يدعى
تنقيح المناط، أو يستند فيه إلى بعض ما يستفاد منه العموم، مثل
موثقة ابن أبي يعفور (1)، أو يجعل أصالة الصحة في فعل الفاعل المريد
للصحيح أصلا برأسه، ومدركه ظهور حال المسلم.
قال فخر الدين في الإيضاح في مسألة الشك في بعض أفعال
الطهارة:
إن الأصل في فعل العاقل المكلف الذي يقصد براءة ذمته بفعل
صحيح، وهو يعلم الكيفية والكمية، الصحة (2)، انتهى.
ويمكن استفادة اعتباره من عموم التعليل المتقدم في قوله:
" هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك " (3)، فإنه بمنزلة صغرى لقوله:

(1) تقدمت في الصفحة 326.
(2) إيضاح الفوائد 1: 43.
(3) تقدم الحديث في الصفحة 325.
342

" فإذا كان أذكر فلا يترك ما يعتبر في صحة عمله الذي يريد به
إبراء ذمته "، لأن الترك سهوا خلاف فرض الذكر، وعمدا خلاف إرادة
الإبراء (1).

(1) لم ترد " لأن الترك - إلى - الإبراء " في (ظ).
343

الموضع السابع
الظاهر أن المراد بالشك في موضوع (1) هذا الأصل، هو الشك
الطارئ بسبب الغفلة عن صورة العمل.
فلو علم كيفية غسل اليد، وأنه كان بارتماسها في الماء، لكن شك
في أن ما تحت خاتمه ينغسل بالارتماس أم لا، ففي الحكم بعدم
الالتفات، وجهان: من إطلاق بعض الأخبار، ومن التعليل بقوله: " هو
حين يتوضأ أذكر منه حين يشك " (2)، فإن التعليل يدل على تخصيص
الحكم بمورده مع عموم السؤال، فيدل على نفيه عن غير مورد العلة.
نعم، لا فرق بين أن يكون المحتمل ترك الجزء نسيانا، أو تركه تعمدا،
و (3) التعليل المذكور بضميمة الكبرى المتقدمة (4) يدل على نفي الاحتمالين.
ولو كان الشك من جهة احتمال وجود الحائل على البدن، ففي
شمول الأخبار له، الوجهان. نعم، قد يجري هنا أصالة عدم الحائل،
فيحكم بعدمه حتى لو لم يفرغ عن الوضوء، بل لم يشرع في غسل
موضع احتمال الحائل، لكنه من الأصول المثبتة. وقد ذكرنا بعض الكلام
في ذلك في بعض الأمور المتقدمة (5).

(1) في (ظ): " موضع ".
(2) تقدم الحديث في الصفحة 325.
(3) في (ص) بدل " و ": " إذ "، وفي (ت): " أو ".
(4) في الصفحة 342 - 343.
(5) راجع الصفحة 245.
344

المسألة الثالثة
في أصالة الصحة في فعل الغير
وهي في الجملة من الأصول المجمع عليها فتوى وعملا (1) بين
المسلمين، فلا عبرة في موردها بأصالة الفساد المتفق عليها عند الشك (2)،
إلا أن معرفة مواردها، ومقدار ما يترتب عليها من الآثار، ومعرفة
حالها عند مقابلتها لما عدا أصالة الفساد من الأصول، يتوقف على بيان
مدركها من الأدلة الأربعة.
ولا بد من تقديم ما فيه إشارة إلى هذه القاعدة في الجملة من
الكتاب والسنة.
أما الكتاب، فمنه آيات:
منها: قوله تعالى: * (قولوا للناس حسنا) * (3)، بناء على تفسيره بما
في الكافي، من قوله (عليه السلام): " لا تقولوا إلا خيرا حتى تعلموا ما هو " (4)،
ولعل مبناه على إرادة الظن والاعتقاد من القول.

(1) انظر الرياض (الطبعة الحجرية) 2: 591.
(2) لم ترد " المتفق عليها عند الشك " في (ر).
(3) البقرة: 83.
(4) الكافي 2: 164، باب الاهتمام بأمور المسلمين، الحديث 9.
345

ومنها: قوله تعالى: * (اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن
إثم) * (1)، فإن ظن السوء إثم، وإلا لم يكن شئ من الظن إثما.
ومنها: قوله تعالى: * (أوفوا بالعقود) * (2)، بناء على أن الخارج من
عمومه ليس إلا ما علم فساده، لأنه المتيقن. وكذا قوله تعالى: * (إلا
أن تكون تجارة عن تراض) * (3).
والاستدلال به يظهر من المحقق الثاني، حيث تمسك في مسألة بيع
الراهن مدعيا لسبق إذن المرتهن، وأنكر المرتهن السبق: بأن الأصل
صحة البيع ولزومه ووجوب الوفاء بالعقد (4).
لكن لا يخفى ما فيه من الضعف.
وأضعف منه: دعوى دلالة الآيتين الأوليتين.
وأما السنة:
فمنها: ما في الكافي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " ضع أمر أخيك
على أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك عنه، ولا تظنن بكلمة خرجت من
أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير سبيلا " (5).

(1) الحجرات: 12.
(2) المائدة: 1.
(3) النساء: 29.
(4) جامع المقاصد 5: 162.
(5) الوسائل 8: 614، الباب 161 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 3،
والكافي 2: 362، باب التهمة وسوء الظن، الحديث 3، وفيهما بدل " سبيلا ":
" محملا ".
346

ومنها: قول الصادق (عليه السلام) لمحمد بن الفضل: " يا محمد، كذب
سمعك وبصرك عن أخيك، فإن شهد عندك خمسون قسامة أنه قال،
وقال: لم أقل، فصدقه وكذبهم " (1).
ومنها: ما ورد مستفيضا، من أن " المؤمن لا يتهم أخاه " (2) وأنه
" إذا اتهم أخاه انماث الإيمان في قلبه، كما ينماث الملح في الماء " (3)، وأن
" من اتهم أخاه فلا حرمة بينهما " (4)، وأن " من اتهم أخاه فهو ملعون
ملعون " (5)، إلى غير ذلك من الأخبار المشتملة على هذه المضامين، أو
ما يقرب منها (6).
هذا، ولكن الإنصاف: عدم دلالة هذه الأخبار إلا على أنه لا بد
من أن يحمل ما يصدر من الفاعل على الوجه الحسن عند الفاعل، ولا
يحمل على الوجه القبيح عنده، وهذا غير ما نحن بصدده، فإنه إذا
فرض دوران العقد الصادر منه بين كونه صحيحا أو فاسدا لا على
وجه قبيح، بل فرضنا الأمرين في حقه مباحا، كبيع الراهن بعد رجوع
المرتهن عن الإذن واقعا أو قبله، فإن الحكم بأصالة عدم ترتب الأثر

(1) الوسائل 8: 609، الباب 157 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 4، وفيه
بدل " أنه قال وقال لم أقل ": " وقال لك قولا ".
(2) بحار الأنوار 10: 100، ضمن الحديث الأول، المعروف ب‍ " حديث الأربعمائة ".
(3) الوسائل 8: 613، الباب 161 من أبواب أحكام العشرة، الحديث الأول.
(4) الوسائل 8: 614، الباب 161 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 2.
(5) الوسائل 8: 563، الباب 130 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 5.
(6) انظر الوسائل 8: 544، الباب 122 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 7،
والوسائل 8: 611، الباب 159 منها، الحديث 2.
347

على البيع - مثلا - لا يوجب خروجا عن الأخبار المتقدمة الآمرة بحسن
الظن بالمؤمن في المقام، خصوصا إذا كان المشكوك فعل غير المؤمن، أو
فعل المؤمن الذي يعتقد بصحة ما هو الفاسد عند الحامل.
ثم لو فرضنا أنه يلزم من الحسن ترتيب الآثار، ومن القبيح
عدم الترتيب - كالمعاملة المرددة بين الربوية وغيرها - لم يلزم من الحمل
على الحسن بمقتضى تلك الأخبار الحكم بترتب الآثار، لأن مفادها
الحكم بصفة الحسن في فعل المؤمن، بمعنى عدم الجرح في فعله،
لا ترتيب جميع آثار ذلك الفعل الحسن، ألا ترى أنه لو دار الأمر بين
كون الكلام المسموع من مؤمن بعيد سلاما، أو تحية، أو شتما، لم يلزم
من الحمل على الحسن وجوب رد السلام.
ومما يؤيد ما ذكرنا، جمع الإمام (عليه السلام) في رواية محمد بن الفضل،
بين تكذيب خمسين قسامة - أعني البينة العادلة - وتصديق الأخ المؤمن،
فإنه مما لا يمكن إلا بحمل تصديق المؤمن على الحكم بمطابقة الواقع،
المستلزم لتكذيب القسامة - بمعنى المخالفة للواقع - مع الحكم بصدقهم في
اعتقادهم، لأنهم أولى بحسن الظن بهم من المؤمن الواحد. فالمراد من
تكذيب السمع والبصر تكذيبهما فيما يفهمان من ظواهر بعض الأفعال من
القبح، كما إذا ترى شخصا ظاهر الصحة يشرب الخمر في مجلس يظن
أنه مجلس الشرب.
وكيف كان، فعدم وفاء الأخبار بما نحن بصدده أوضح من أن
يحتاج إلى البيان، حتى المرسل الأول، بقرينة ذكر الأخ، وقوله (عليه السلام):
" ولا تظنن... الخبر ".
ومما يؤيد ما ذكرنا أيضا، ما ورد في غير واحد من الروايات:
348

من عدم جواز الوثوق بالمؤمن كل الوثوق، مثل:
رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " لا تثقن
بأخيك كل الثقة، فإن صرعة الاسترسال لا تستقال " (1).
وما في نهج البلاغة عنه (عليه السلام): " إذا استولى الصلاح على الزمان
وأهله، ثم أساء رجل الظن برجل لم يظهر (2) منه خزية (3)، فقد ظلم،
وإذا استولى الفساد على الزمان وأهله، ثم أحسن رجل الظن برجل،
فقد غرر " (4).
وفي معناه قول أبي الحسن (عليه السلام) في رواية محمد بن هارون
الجلاب: " إذا كان الجور أغلب من الحق، لا يحل لأحد أن يظن بأحد
خيرا، حتى يعرف ذلك منه " (5).
إلى غير ذلك مما يجده المتتبع (6).
فإن الجمع بينها وبين الأخبار المتقدمة يحصل بأن يراد من
الأخبار: ترك ترتيب آثار التهمة، والحمل على الوجه الحسن من حيث
مجرد الحسن، والتوقف فيه من حيث ترتيب سائر الآثار.
ويشهد له ما ورد، من: " أن المؤمن لا يخلو عن ثلاثة: الظن
والحسد والطيرة، فإذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا

(1) الوسائل 8: 501، الباب 102 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 1.
(2) في المصدر: " لم تظهر ".
(3) في المصدر بدل " خزية ": " حوبة ".
(4) نهج البلاغة: 489، الحكمة 114.
(5) الوسائل 13: 233، الباب 9 من أحكام الوديعة، الحديث 2.
(6) انظر الوسائل 11: 137، الباب 13 من أبواب جهاد النفس، الحديث الأول.
349

تطيرت فامض " (1).
الثالث: الإجماع القولي والعملي
أما القولي، فهو مستفاد من تتبع فتاوى الفقهاء في موارد
كثيرة (2)، فإنهم لا يختلفون في أن قول مدعي الصحة في الجملة مطابق
للأصل وإن اختلفوا في ترجيحه على سائر الأصول، كما ستعرف (3).
وأما العملي، فلا يخفى على أحد أن سيرة المسلمين في جميع
الأعصار، على حمل الأعمال على الصحيح، وترتيب آثار الصحة في
عباداتهم ومعاملاتهم، ولا أظن أحدا ينكر ذلك إلا مكابرة.
الرابع: العقل المستقل
الحاكم بأنه لو لم يبن على هذا الأصل لزم اختلال نظام المعاد
والمعاش، بل الاختلال الحاصل من ترك العمل بهذا الأصل أزيد من
الاختلال الحاصل من ترك العمل ب‍ " يد المسلم ".
مع أن الإمام (عليه السلام) قال لحفص بن غياث - بعد الحكم بأن اليد
دليل الملك، ويجوز الشهادة بالملك بمجرد اليد -: " إنه لولا ذلك لما قام
للمسلمين سوق " (4)، فيدل بفحواه على اعتبار أصالة الصحة في أعمال

(1) البحار 58: 320، ذيل الحديث 9، وفيه: " ثلاث لا يسلم منها أحد... الخ "،
راجع مبحث البراءة 2: 37.
(2) انظر عوائد الأيام: 221 و 222.
(3) انظر الصفحة 374.
(4) الوسائل 18: 215، الباب 25 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.
350

المسلمين، مضافا إلى دلالته بظاهر اللفظ، حيث إن الظاهر أن كل ما
لولاه لزم الاختلال فهو حق، لأن الاختلال باطل، والمستلزم للباطل
باطل، فنقيضه حق، وهو اعتبار أصالة الصحة عند الشك في صحة ما
صدر عن الغير.
ويشير إليه أيضا: ما ورد من نفي الحرج (1)، وتوسعة الدين (2)،
وذم من ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم (3) (4).

(1) المائدة: 6، والحج: 78.
(2) البقرة: 286، وانظر روايات نفي الحرج، وروايات التوسعة في عوائد الأيام:
174 - 181.
(3) الوسائل 2: 1071، الباب 50 من أبواب النجاسات، الحديث 3.
(4) في (ت) وحاشيتي (ص) و (ظ) زيادة، كتب عليها في (ت): " زائد "، وفي
(ص): " نسخة "، وفي (ظ): " صح "، وهي ما يلي: " ويمكن الاستدلال بموثقة
مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام): " كل شئ لك حلال حتى تعلم أنه
حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو
سرقة، أو مملوك عندك وهو حر قد باع نفسه، أو خدع فبيع، أو قهر فبيع، أو
امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك
غير ذلك، أو تقوم به البينة ".
فإن الحكم بالحلية عند الشك في الحرمة في هذه الأشياء لا يجمعها إلا أصالة
الحل في تصرفات الناس وعدم وجوب الاجتناب عنها إلا مع العلم أو قيام
البينة، وذلك لأن حل الثوب الذي اشتراه مع أصالة عدم تملكه له المقتضية
لحرمة التصرف فيه لا وجه له إلا أصالة الصحة في تصرف البائع المقتضية
للملك. فالحكم بالحل وعدم الحرمة ليس من جهة مجرد الشك في حل لبس
الثوب وحرمته نظير المشتبه بين الخل والخمر، وإلا لكان الأصل فيه التحريم
نظير المشتبه بين زوجته والأجنبية، بل من حيث الاشتباه والشك في معاملة
الثوب، وترددها بين الصحيحة المملكة وغيرها، فموضوع هذا الحكم الظاهري
هي المعاملة الواقعة على الثوب، وإلا فلبس الثوب حلال من حيث كونه تصرفا
في ملكه بعد الحكم الظاهري بكون المعاملة مملكة لا من حيث الشك في كونه
حلالا وحراما.
وكذا الكلام في العبد المشترى، وكذا الحكم بحل المرأة المشتبهة بالأخت
والرضيعة ليس من حيث مجرد التردد بين الحلال والحرام وإلا لكان الأصل
عدم تحقق الزوجية بينهما، بل من حيث الشك في العقد الواقع وأنه كان صحيحا
أم فاسدا.
والحاصل: أن ظاهر الرواية بقرينة الأمثلة إرادة ما يعم الحكم بالحل من
حيث التصرف الموجب لرفع الحرمة الثابتة بأصالة فساد التصرف.
فإن قلت: لعل الحكم بحل التصرف في الثوب والعبد من جهة اليد وفي
الامرأة من حيث أصالة عدم النسب والرضاع، فلا يدل على أصالة الحل في
التصرف من حيث هو.
قلت: ظاهر الرواية الحكم بثبوت الحل ظاهرا من جهة مجرد التردد بين
الجائز والممنوع، لا من حيث قيام أمارة على الملك وعدم النسب.
فإن قلت: إن الرواية كما يشمل ما إذا شك في حل اكل خبز للشك في
صحة شرائه الرافع لحرمة أكله قبل الشراء، أو شك في حل الصلاة في الثوب
المتنجس الذي غسله الغير للشك في صحة غسله، كذلك يشمل حل وطي
امرأة ترددت بين الزوجة والأجنبية وحل التصرف في أمة ترددت بين أمته
وأمة الغير. ولو بني على حكومة أصالة عدم الزوجية والملكية على
مفاد هذه الرواية في هذين المثالين فليبن على أصالة عدمهما في مورد
الرواية، فلا بد أن يكون منشأ الحكم بالحل في الرواية أمارة حاكمة على أصالة
العدم، وهي اليد في الثوب والعبد، وأصالة عدم النسب والرضاع في المرأة،
لا مجرد الشك في حل المعاملة الواقعة عليها وعدمه.
قلت: فرق واضح بين مورد الحكم بالحل في المثالين ومورده في أمثلة
الرواية وسائر التصرفات المرددة بين الجائز والمحظور، فإن الشك في المحل في
المثالين مسبوق بالحرمة المتيقنة سابقا فيستصحب، كما هو شأن تعارض أصل
الإباحة مع استصحاب الحرمة، بخلاف الشك في حل المعاملة الواقعة على الثوب
والعبد والمرأة، فإنه غير مسبوق بالحرمة، فالحكم بالرواية بجوازه ونفي الحظر
عنه يرفع حرمة التصرف فيها المتيقنة سابقا قبل المعاملة.
والحاصل: أن أصالة الحرمة في مثالي المعترض حاكم على مؤدى الرواية،
والأمر في موارد الرواية على العكس.
هذا ما يقتضيه النظر عاجلا إلى أن يقع التأمل ".
351

وينبغي التنبيه على أمور:
الأول
أن المحمول عليه فعل المسلم، هل الصحة باعتقاد الفاعل أو
الصحة الواقعية؟
353

فلو علم أن معتقد الفاعل - اعتقادا يعذر فيه - صحة البيع أو
النكاح بالفارسية (1) في العقد، فشك فيما صدر عنه، مع اعتقاد الشاك
اعتبار العربية (2)، فهل يحمل على كونه واقعا بالعربية، حتى إذا ادعي عليه
أنه أوقعه بالفارسية، وادعى هو أنه أوقعه بالعربية، فهل يحكم الحاكم
المعتقد بفساد الفارسية، بوقوعه بالعربية أم لا؟ وجهان، بل قولان:
ظاهر المشهور الحمل على الصحة الواقعية (3)، فإذا شك المأموم في
أن الإمام المعتقد بعدم وجوب السورة، قرأها أم لا؟ جاز له الائتمام
به، وإن لم يكن له ذلك إذا علم بتركها.
ويظهر من بعض المتأخرين خلافه:
قال في المدارك في شرح قول المحقق: " ولو اختلف الزوجان
فادعى أحدهما وقوع العقد في حال الإحرام وأنكر الآخر، فالقول قول
من يدعي الإحلال ترجيحا لجانب الصحة "، قال:
إن الحمل على الصحة إنما يتم إذا كان المدعي لوقوع الفعل في
حال الإحرام عالما بفساد ذلك، أما مع اعترافهما بالجهل، فلا وجه
للحمل على الصحة (4)، انتهى.
ويظهر ذلك من بعض من عاصرناه (5) - في أصوله وفروعه - حيث

(1) كذا صححناه، وفي النسخ: " بالفارسي "، وكذا فيما يلي.
(2) كذا صححناه، وفي النسخ: " بالعربي "، وكذا في بعض الموارد فيما يلي.
(3) انظر عوائد الأيام: 236.
(4) المدارك 7: 315.
(5) هو المحقق القمي (قدس سره)، انظر القوانين 1: 51، وجامع الشتات 4: 371 و 372.
354

تمسك لهذا الأصل بالغلبة.
بل ويمكن إسناد هذا القول إلى كل من استند في هذا الأصل إلى
ظاهر حال المسلم، كالعلامة (1) وجماعة ممن تأخر عنه (2)، فإنه لا يشمل
إلا (3) صورة اعتقاد الصحة، خصوصا إذا كان قد أمضاه الشارع
لاجتهاد أو تقليد أو قيام بينة أو غير ذلك.
والمسألة محل إشكال: من إطلاق الأصحاب، ومن عدم مساعدة
أدلتهم، فإن العمدة الإجماع ولزوم الاختلال، والإجماع الفتوائي مع ما
عرفت مشكل، والعملي في مورد العلم باعتقاد الفاعل للصحة أيضا
مشكل، والاختلال يندفع بالحمل على الصحة في غير المورد المذكور.
وتفصيل المسألة: أن الشاك في الفعل الصادر من غيره:
إما أن يكون عالما بعلم الفاعل بصحيح الفعل وفاسده، وإما أن
يكون عالما بجهله وعدم علمه، وإما أن يكون جاهلا بحاله.
فإن علم بعلمه بالصحيح والفاسد: فإما أن يعلم بمطابقة اعتقاده
لاعتقاد الشاك، أو يعلم مخالفته، أو يجهل الحال.
لا إشكال في الحمل في الصورة الأولى.
وأما الثانية، فإن لم يتصادق اعتقادهما بالصحة في فعل - كأن

(1) التذكرة (الطبعة الحجرية) 2: 218 و 483.
(2) كالشهيدين (قدس سرهما) في الدروس 1: 32، والقواعد والفوائد 1: 138، وتمهيد
القواعد: 312، والمسالك 1: 239 و 6: 174، والمحقق الثاني في جامع المقاصد
5: 119 و 10: 135، و 12: 463.
(3) " إلا " من (ه‍).
355

اعتقد أحدهما وجوب الجهر بالقراءة يوم الجمعة، والآخر وجوب
الإخفات - فلا إشكال في وجوب الحمل على الصحيح باعتقاد الفاعل.
وإن تصادق - كمثال العقد بالعربية والفارسية - فإن قلنا: إن العقد
بالفارسية منه سبب لترتب الآثار عليه من كل أحد حتى المعتقد
بفساده، فلا ثمرة في الحمل على معتقد الحامل أو الفاعل، وإن قلنا
بالعدم - كما هو الأقوى - ففيه الإشكال المتقدم: من تعميم الأصحاب
في فتاويهم وفي بعض معاقد إجماعاتهم على تقديم قول مدعي الصحة،
ومن اختصاص الأدلة بغير هذه الصورة.
وإن جهل الحال، فالظاهر الحمل لجريان الأدلة، بل يمكن جريان
الحمل على الصحة في اعتقاده، فيحمل على كونه مطابقا لاعتقاد الحامل،
لأنه الصحيح، وسيجئ (1) الكلام فيه (2).
وإن كان عالما بجهله بالحال وعدم علمه بالصحيح والفاسد، ففيه
أيضا الاشكال المتقدم، خصوصا إذا كان جهله مجامعا لتكليفه
بالاجتناب، كما إذا علمنا أنه أقدم على بيع أحد المشتبهين بالنجس، إلا
أنه يحتمل أن يكون قد اتفق المبيع غير نجس.
وكذا إن كان جاهلا بحاله. إلا أن الإشكال في بعض هذه الصور
أهون منه في بعض، فلا بد من التتبع والتأمل.

(1) انظر الصفحة 383.
(2) لم ترد " وسيجئ الكلام فيه " في (ر).
356

الثاني
أن الظاهر من المحقق الثاني أن أصالة الصحة إنما تجري في العقود
بعد استكمال العقد للأركان.
قال في جامع المقاصد، فيما لو اختلف الضامن والمضمون له، فقال
الضامن: ضمنت وأنا صبي - بعد ما رجح تقديم قول الضامن - ما هذا
لفظه:
فإن قلت: للمضمون له أصالة الصحة في العقود، وظاهر حال
العاقد الآخر أنه لا يتصرف باطلا.
قلنا: إن الأصل في العقود الصحة بعد استكمال أركانها ليتحقق
وجود العقد، أما قبله فلا وجود له، فلو اختلفا في كون المعقود عليه
هو الحر أو العبد، حلف منكر وقوع العقد على العبد، وكذا الظاهر إنما
يتم مع الاستكمال المذكور، لا مطلقا (1)، انتهى.
وقال في باب الإجارة، ما هذا لفظه:
لا شك في أنه إذا حصل الاتفاق على حصول جميع الأمور

(1) جامع المقاصد 5: 315.
357

المعتبرة في العقد - من حصول الإيجاب والقبول من الكاملين، وجريانهما
على العوضين المعتبرين - ووقع الاختلاف في شرط مفسد، فالقول قول
مدعي الصحة بيمينه، لأنه الموافق للأصل، لأن الأصل عدم ذلك
المفسد، والأصل في فعل المسلم الصحة.
أما إذا حصل الشك (1) في الصحة والفساد في بعض الأمور المعتبرة
وعدمه، فإن الأصل (2) لا يثمر هنا، فإن الأصل عدم السبب الناقل.
ومن ذلك ما لو ادعى أني اشتريت العبد فقال بعتك الحر (3)، انتهى.
ويظهر هذا من بعض كلمات العلامة (رحمه الله)، قال في القواعد:
لا يصح ضمان الصبي ولو أذن له الولي، فإن اختلفا قدم قول
الضامن، لأصالة براءة الذمة وعدم البلوغ، وليس لمدعي الصحة (4) أصل
يستند إليه، ولا ظاهر يرجع إليه. بخلاف ما لو ادعى شرطا فاسدا،
لأن الظاهر أنهما لا يتصرفان باطلا، وكذا البحث في من عرف له حالة
جنون (5)، انتهى.
وقال في التذكرة:
لو ادعى المضمون له: أن الضامن ضمن بعد البلوغ، وقال
الضامن: بل ضمنت لك قبله. فإن عينا له وقتا لا يحتمل بلوغه فيه

(1) في المصدر بدل " الشك ": " الاختلاف ".
(2) في المصدر بدل " الأصل ": " هذا الاستدلال ".
(3) جامع المقاصد 7: 307 و 308.
(4) في المصدر بدل " الصحة ": " الأهلية ".
(5) قواعد الأحكام 2: 156.
358

قدم قول الصبي - إلى أن قال -: وإن لم يعينا وقتا، فالقول قول
الضامن بيمينه، وبه قال الشافعي، لأصالة عدم البلوغ. وقال أحمد:
القول قول المضمون له، لأن الأصل صحة الفعل (1) وسلامته، كما لو
اختلفا في شرط مبطل. والفرق: أن المختلفين في الشرط المفسد يقدم فيه
قول مدعي الصحة، لاتفاقهما على أهلية التصرف، إذ (2) من له أهلية
التصرف لا يتصرف إلا تصرفا صحيحا، فكان القول قول مدعي
الصحة، لأنه مدع للظاهر، وهنا اختلفا في أهلية التصرف، فليس مع
من يدعي الأهلية ظاهر يستند إليه ولا أصل يرجع إليه. وكذا لو
ادعى أنه ضمن بعد البلوغ وقبل الرشد (3)، انتهى موضع الحاجة.
لكن لم يعلم الفرق بين دعوى الضامن الصغر وبين دعوى البائع
إياه، حيث صرح العلامة والمحقق الثاني بجريان أصالة الصحة، وإن
اختلفا بين من (4) عارضها بأصالة عدم البلوغ، وبين من (5) ضعف هذه
المعارضة.
وقد حكي عن قطب الدين (6): أنه اعترض على شيخه العلامة في

(1) في المصدر بدل " الفعل ": " العقد ".
(2) في المصدر بدل " إذ ": " والظاهر أن ".
(3) التذكرة (الطبعة الحجرية) 2: 87.
(4) وهو العلامة، انظر قواعد الأحكام 2: 97.
(5) وهو المحقق الثاني، انظر جامع المقاصد 4: 452.
(6) حكاه الشهيد عن القطب، كما في مفتاح الكرامة 5: 361، ولم نقف عليه في
كتب الشهيد.
359

مسألة الضمان بأصالة الصحة، فعارضها بأصالة عدم البلوغ، وبقي (1)
أصالة البراءة سليمة عن المعارض.
أقول: والأقوى بالنظر إلى الأدلة السابقة - من السيرة ولزوم
الاختلال -: هو التعميم. ولذا لو شك المكلف أن هذا الذي اشتراه هل
اشتراه في حال صغره؟ بنى على الصحة. ولو قيل: إن ذلك من حيث
الشك في تمليك البائع البالغ، وأنه كان في محله أم كان فاسدا، جرى
مثل ذلك في مسألة التداعي أيضا.
ثم (2) إن ما ذكره جامع المقاصد: من أنه لا وجود للعقد
قبل استكمال أركانه، إن أراد الوجود الشرعي فهو عين الصحة،
وإن أراد الوجود العرفي فهو متحقق مع الشك، بل مع القطع
بالعدم.
وأما ما ذكره: من الاختلاف في كون المعقود عليه هو الحر أو
العبد (3)، فهو داخل في المسألة المعنونة في كلام القدماء والمتأخرين، وهي

(1) في (ص) و (ظ): " وأبقى ".
(2) في (ص) بدل " ثم ": " مع ".
(3) في (ظ)، (ت) و (ص) زيادة ما يلي: " فإن أراد به حرا معينا كزيد وعبدا
معينا كسعيد، فإن كان الدعوى على مجرد تمليك أحدهما، بأن قال أحدهما لمولى
العبد: ملكتني عبدك، وقال المولى: ملكتك زيدا الحر، فلا إشكال في كون
القول قول منكر تمليك العبد، لأن صاحبه يدعي تمليك عبده، فيحلف على
عدمه، وأما هو فلا يدعي على صاحبه شيئا، لأن دعوى تمليك الحر لا يتضمن
مطالبة المدعي بشئ، وإن أراد به التداعي في كون أحد العوضين للآخر المملوك
حرا أو عبدا "، وكتب في (ت) و (ص) على هذه الزيادة: " زائد ".
360

ما لو قال: بعتك بعبد، فقال: بل بحر، فراجع كتب الفاضلين (1)
والشهيدين (2).
وأما ما ذكره: من أن الظاهر إنما يتم مع الاستكمال المذكور
لا مطلقا، فهو إنما يتم إذا كان الشك من جهة بلوغ الفاعل، ولم يكن
هناك طرف آخر معلوم البلوغ يستلزم صحة فعله صحة فعل هذا
الفاعل، كما لو شك في أن الإبراء أو الوصية هل صدر منه حال البلوغ
أم قبله؟ أما إذا كان الشك في ركن آخر من العقد، كأحد العوضين،
أو في أهلية أحد طرفي العقد، فيمكن أن يقال: إن الظاهر من الفاعل
في الأول، ومن الطرف الآخر في الثاني، أنه لا يتصرف فاسدا.
نعم، مسألة الضمان يمكن أن يكون من الأول، إذا فرض وقوعه
بغير إذن من المديون، ولا قبول من الغريم، فإن الضمان حينئذ فعل
واحد شك في صدوره من بالغ أو غيره، وليس له طرف آخر،
فلا ظهور في عدم كون تصرفه فاسدا.
لكن الظاهر: أن المحقق لم يرد خصوص ما كان من هذا القبيل،
بل يشمل كلامه الصورتين الأخيرتين، فراجع. نعم، يحتمل ذلك في
عبارة التذكرة.

(1) انظر شرائع الإسلام 2: 33، وقواعد الأحكام 2: 96.
(2) انظر المسالك 3: 267، ولكن لم نعثر عليه في ما بأيدينا من كتب الشهيد
الأول. نعم، حكاه صاحب الجواهر في الجواهر (23: 195) عن الحواشي
المنسوبة للشهيد على القواعد. وفي (ظ) زيادة: " وسيأتي الكلام فيه إن شاء
الله ".
361

ثم إن تقديم قول منكر الشرط المفسد ليس لتقديم قول مدعي
الصحة، بل لأن القول قول منكر الشرط، صحيحا كان أو فاسدا،
لأصالة عدم الاشتراط، ولا دخل لهذا بحديث أصالة الصحة وإن كان
مؤداه صحة العقد فيما كان الشرط المدعى مفسدا. هذا، ولا بد من
التأمل والتتبع.
362

الثالث
أن هذا الأصل إنما يثبت صحة الفعل إذا وقع الشك في بعض
الأمور المعتبرة شرعا في صحته، بمعنى ترتب الأثر المقصود منه عليه،
فصحة كل شئ بحسبه.
مثلا: صحة الإيجاب عبارة عن كونه بحيث لو تعقبه قبول صحيح
لحصل أثر العقد، في مقابل فاسده الذي لا يكون كذلك، كالإيجاب
بالفارسية بناء على القول باعتبار العربية. فلو تجرد الإيجاب عن القبول
لم يوجب ذلك فساد الإيجاب.
فإذا شك في تحقق القبول من المشتري بعد العلم بصدور الإيجاب
من البائع، فلا يقضي (1) أصالة الصحة في الإيجاب بوجود القبول، لأن
القبول معتبر في العقد لا في الإيجاب.
وكذا لو شك في تحقق القبض في الهبة أو في الصرف أو السلم
بعد العلم بتحقق الإيجاب والقبول، لم يحكم بتحققه من حيث أصالة
صحة العقد.

(1) في (ظ): " يقتضي ".
363

وكذا (1) لو شك في إجازة المالك لبيع الفضولي، لم يصح إحرازها
بأصالة الصحة.
وأولى بعدم الجريان ما لو كان العقد في نفسه لو خلي وطبعه
مبنيا على الفساد، بحيث يكون المصحح طارئا عليه، كما لو ادعى بائع
الوقف وجود المصحح له، وكذا الراهن أو المشتري من الفضولي إجازة
المرتهن والمالك.
ومما يتفرع على ذلك أيضا: أنه لو اختلف المرتهن الآذن في بيع
الرهن والراهن البائع له - بعد اتفاقهما على رجوع المرتهن عن إذنه - في
تقدم الرجوع على البيع فيفسد، أو تأخره فيصح، فلا يمكن أن يقال
- كما قيل (2) -: من أن أصالة صحة الإذن تقضي بوقوع البيع صحيحا،
ولا أن أصالة صحة الرجوع تقضي بكون البيع فاسدا، لأن الإذن
والرجوع كليهما قد فرض وقوعهما على الوجه الصحيح، وهو صدوره
عمن له أهلية ذلك والتسلط عليه. فمعنى ترتب الأثر عليهما أنه لو وقع
فعل المأذون عقيب الإذن وقبل الرجوع ترتب عليه الأثر، ولو وقع
فعله بعد الرجوع كان فاسدا، أما لو لم يقع عقيب الإذن (3) فعل، بل
وقع في زمان ارتفاعه، ففساد هذا الواقع لا يخل بصحة الإذن. وكذا لو
فرض عدم وقوع الفعل عقيب الرجوع فانعقد صحيحا، فليس هذا من
جهة فساد الرجوع، كما لا يخفى.

(1) في (ر): " ولذا ".
(2) لعله صاحب الجواهر، كما سيأتي.
(3) كذا في نسخة بدل (ت)، وفي غيرها بدل " الإذن ": " الأول ".
364

نعم، أصالة (1) بقاء الإذن إلى أن يقع البيع قد يقضي بصحته، وكذا
أصالة عدم البيع قبل الرجوع ربما يقال: إنها تقضي بفساده، لكنهما لو
تما لم يكونا من أصالة صحة الإذن - بناء على أن عدم وقوع البيع بعده
يوجب لغويته - ولا من أصالة صحة (2) الرجوع التي تمسك بها (3) بعض
المعاصرين (4).
والحق في المسألة ما هو المشهور (5): من الحكم بفساد البيع، وعدم
جريان أصالة الصحة في المقام، لا في البيع - كما استظهره الكركي (6) -
ولا في الإذن، ولا في الرجوع.
أما في البيع، فلأن الشك إنما وقع في رضا من له الحق وهو
المرتهن، وقد تقدم (7) أن صحة الإيجاب والقبول لا يقضي بتحقق الرضا
ممن يعتبر رضاه، سواء كان مالكا - كما في بيع الفضولي - أم كان له

(1) " أصالة " من (ص).
(2) في (ص) بدل " أصالة صحة ": " أصالتي صحتي الإذن ".
- وفي (ظ) بدل " لم يكونا - إلى - ولا من أصالة صحة ": " يكونان من
أصالة صحة الإذن و ".
(3) كذا في (خ)، وفي غيره: " بهما "، والصحيح ما أثبتناه، إذ لم يتمسك في
الجواهر بأصالة صحة الإذن.
(4) هو صاحب الجواهر في الجواهر 25: 267. وفي غير (ظ) زيادة: " تبعا
لبعض ".
(5) انظر مفتاح الكرامة 5: 216.
(6) كما تقدم، راجع الصفحة 346.
(7) في الصفحة 363.
365

حق في المبيع، كالمرتهن.
وأما في الإذن، فلما عرفت: من أن صحته تقضي بصحة البيع إذا
فرض وقوعه عقيبه لا بوقوعه عقيبه، كما أن صحة الرجوع تقضي
بفساد ما يفرض وقوعه بعده، لا أن البيع وقع بعده.
والمسألة بعد محتاجة إلى التأمل بعد التتبع في كلمات الأصحاب.
366

الرابع
أن مقتضى الأصل ترتيب الشاك جميع ما هو من آثار الفعل
الصحيح عنده. فلو صلى شخص على ميت سقط عنه، ولو غسل ثوبا
بعنوان التطهير حكم بطهارته وإن شك في شروط الغسل - من إطلاق
الماء، ووروده على النجاسة - لا إن علم بمجرد غسله، فإن الغسل من
حيث هو ليس فيه صحيح وفاسد، ولذا لو شوهد من يأتي بصورة
عمل من صلاة أو طهارة أو نسك حج، ولم يعلم قصده تحقق (1) هذه
العبادات، لم يحمل على ذلك. نعم، لو أخبر بأنه كان بعنوان تحققه (2)
أمكن قبول قوله، من حيث إنه مخبر عادل، أو من حيثية أخرى.
وقد يشكل الفرق بين ما ذكر من الاكتفاء بصلاة الغير على الميت
بحمله على الصحيح، وبين الصلاة عن الميت تبرعا أو بالإجارة، فإن
المشهور عدم الاكتفاء بها إلا أن يكون عادلا.
ولو فرق بينهما بأنا لا نعلم وقوع الصلاة من النائب في مقام

(1) في (ظ) بدل " تحقق ": " لحقيقة ".
(2) في (ظ) بدل " تحققه ": " الحقيقة ".
367

إبراء الذمة وإتيان الصلاة على أنها صلاة، لاحتمال تركه لها بالمرة، أو
إتيانه بمجرد الصورة لا بعنوان أنها صلاة عنه، اختص الإشكال بما إذا
علم من حاله كونه في مقام الصلاة وإبراء ذمة الميت، إلا أنه يحتمل
عدم مبالاته بما يخل بالصلاة، كما يحتمل ذلك في الصلاة على الميت، إلا
أن يلتزم بالحمل على الصحة في هذه الصورة.
و (1) قد حكم بعضهم (2) باشتراط العدالة فيمن يوضئ العاجز عن
الوضوء إذا لم يعلم العاجز بصدور الفعل عن الموضئ صحيحا، ولعله
لعدم إحراز كونه في مقام إبراء ذمة العاجز، لا لمجرد احتمال عدم
مبالاته في الأجزاء والشرائط، كما قد لا يبالي في وضوء نفسه.
ويمكن أن يقال - فيما إذا كان الفعل الصادر عن المسلم على وجه
النيابة عن الغير المكلف بالعمل أولا وبالذات، كالعاجز عن الحج -: إن
لفعل النائب عنوانين:
أحدهما: من حيث إنه فعل من أفعال النائب، ولذا يجب عليه
مراعاة الأجزاء والشروط المعتبرة في المباشر (3)، وبهذا الاعتبار يترتب
عليه جميع آثار صدور الفعل الصحيح منه، مثل: استحقاق الأجرة،
وجواز استيجاره ثانيا بناء على اشتراط فراغ ذمة الأجير في صحة
استيجاره ثانيا.

(1) في نسخة بدل (ص) زيادة: " لهذا يجب عليه مراعاة الأجزاء والشروط
المعتبرة في المباشر، ولهذا الاعتبار ".
(2) لم نقف عليه.
(3) لم ترد " المعتبرة في المباشر " في (ر)، وفي (ص) كتب عليها: " نسخة "، وفي
(ه‍) بدل " المباشر ": " المباشرة ".
368

والثاني: من حيث إنه فعل للمنوب عنه، حيث إنه بمنزلة الفاعل
بالتسبيب أو الآلة، وكان الفعل بعد قصد النيابة والبدلية قائما بالمنوب
عنه، وبهذا الاعتبار يراعى فيه القصر والإتمام في الصلاة، والتمتع
والقران في الحج، والترتيب في الفوائت.
والصحة من الحيثية الأولى لا تثبت الصحة من هذه الحيثية
الثانية، بل لا بد من إحراز صدور الفعل الصحيح عنه على وجه
التسبيب.
وبعبارة أخرى: إن كان فعل الغير يسقط التكليف عنه، من حيث
إنه فعل الغير، كفت أصالة الصحة في السقوط، كما في الصلاة على
الميت (1).
وإن كان إنما يسقط التكليف عنه من حيث اعتبار كونه فعلا له
ولو على وجه التسبيب - كما إذا كلف بتحصيل فعل بنفسه أو ببدن (2)
غيره، كما في استنابة (3) العاجز للحج (4) - لم تنفع أصالة الصحة في
سقوطه، بل يجب التفكيك بين أثري الفعل من الحيثيتين، فيحكم
باستحقاق النائب (5) الأجرة، وعدم براءة ذمة المنوب عنه من الفعل.

(1) في (ظ) زيادة: " وكما في فعل الوكيل والأجير الذي لا يعتبر فيه قصد
النيابة ".
(2) في (ه‍): " ببدل ".
(3) لم ترد " استنابة " في (ت)، وورد بدلها في (ه‍): " استيجار ".
(4) لم ترد " ولو على وجه - إلى - للحج " في (ظ).
(5) في (ر) و (ه‍) ونسختي بدل (ت) و (ص) بدل " النائب ": " الفاعل ".
369

وكما في استيجار الولي للعمل عن الميت.
لكن يبقى الإشكال في استيجار الولي للعمل عن الميت، إذ لا يعتبر
فيه قصد النيابة عن الولي. وبراءة ذمة الميت من آثار صحة فعل الغير
من حيث هو فعله، لا من حيث اعتباره فعلا للولي، فلا بد أن يكتفى
فيه بإحراز إتيان صورة الفعل بقصد إبراء ذمة الميت، ويحمل على
الصحيح من حيث الاحتمالات الاخر.
ولا بد من التأمل في هذا المقام أيضا بعد التتبع التام في كلمات
الأعلام.
370

الخامس
أن الثابت من القاعدة المذكورة الحكم بوقوع الفعل بحيث يترتب
عليه الآثار الشرعية المترتبة على العمل الصحيح، أما ما يلازم الصحة
من الأمور الخارجة عن حقيقة الصحيح فلا دليل على ترتبها عليه. فلو
شك في أن الشراء الصادر من الغير كان بما لا يملك - كالخمر والخنزير -
أو بعين من أعيان ماله، فلا يحكم بخروج تلك العين من تركته، بل
يحكم بصحة الشراء وعدم انتقال شئ من تركته إلى البائع لأصالة
عدمه.
وهذا نظير ما ذكرنا سابقا (1): من أنه لو شك في صلاة العصر
أنه صلى الظهر أم لا، يحكم بفعل الظهر من حيث كونه شرطا لصلاة
العصر، لا فعل الظهر من حيث هو حتى لا يجب إتيانه ثانيا (2).
قال العلامة في القواعد، في آخر كتاب الإجارة:

(1) راجع الصفحة 340.
(2) في (ت)، (ر) و (ص) زيادة: " إلا أن يجري قاعدة الشك في الشئ بعد
التجاوز عنه "، لكن شطب عليها في (ت).
371

لو قال: آجرتك كل شهر بدرهم من غير تعيين، فقال: بل سنة
بدينار، ففي تقديم قول المستأجر نظر، فإن قدمنا قول المالك فالأقوى
صحة العقد في الشهر الأول. وكذا الإشكال في تقديم قول المستأجر لو
ادعى اجرة مدة معلومة أو عوضا معينا، وأنكر المالك التعيين فيهما.
والأقوى التقديم فيما لم يتضمن دعوى (1)، انتهى.

(1) قواعد الأحكام 2: 310.
372

السادس
في بيان ورود هذا الأصل على الاستصحاب، فنقول:
أما تقديمه على استصحاب الفساد وما في معناه (1) فواضح، لأن
الشك في بقاء الحالة السابقة على الفعل المشكوك أو ارتفاعها، ناش عن
الشك في سببية هذا الفعل وتأثيره، فإذا حكم بتأثيره فلا حكم لذلك
الشك، خصوصا إذا جعلنا هذا الأصل من الظواهر المعتبرة، فيكون
نظير حكم الشارع بكون الخارج قبل الاستبراء بولا، الحاكم على أصالة
بقاء الطهارة (2).
وأما تقديمه على الاستصحابات الموضوعية المترتب عليها الفساد

(1) في (ت) و (ه‍) بدل " ما في معناه ": " نحوه ".
(2) لم ترد " لأن الشك - إلى - بقاء الطهارة " في (ظ)، وفي (ت) كتب عليها:
" نسخة "، وورد بدلها فيها: " لأن هذا الأصل إن كان من الظواهر المعتبرة فهو
كاليد دليل اجتهادي لا يقاومه الاستصحاب، وإن كان أصلا تعبديا فهو حاكم
على أصالة الفساد، لأن مرجعها إلى استصحاب عدم تحقق الأثر عقيب الفعل
المشكوك في تأثيره فإذا ثبت التأثير شرعا بهذا الأصل فيترك العدم السابق ".
373

- كأصالة عدم البلوغ، وعدم اختبار المبيع بالرؤية أو الكيل أو الوزن -
فقد اضطربت فيه كلمات الأصحاب، خصوصا العلامة (1) وبعض من
تأخر عنه (2).
والتحقيق: أنه إن جعلنا هذا الأصل من الظواهر - كما هو ظاهر
كلمات جماعة بل الأكثر (3) - فلا إشكال في تقديمه على تلك
الاستصحابات.
وإن جعلناه من الأصول:
فإن أريد بالصحة في قولهم: " إن الأصل الصحة " نفس ترتب
الأثر، فلا إشكال في تقديم الاستصحاب الموضوعي عليها، لأنه مزيل
بالنسبة إليها.

(1) فقد صرح في باب البيع بالرجوع إلى أصالة الصحة في مسألة الاختلاف في
البيع بالحر أو العبد، انظر قواعد الأحكام 2: 96، وبالتوقف في مسألة ما لو
ادعى الصغر أو الجنون، انظر نفس المصدر، وبتقدم أصالة عدم البلوغ على
أصالة الصحة في باب الضمان، كما تقدم في الصفحة 358 - 359، وبتعارضهما
والرجوع إلى أصالة البراءة في بعض كلماته، على ما حكى عنه القطب، كما
تقدم في الصفحة 359 - 360.
(2) مثل: المحقق الثاني، حيث حكم بأصالة الصحة في باب البيع في مسألتي
الاختلاف في البيع بالحر أو العبد، وما لو ادعى الصغر أو الجنون، كما تقدم في
الصفحة 359، وبالتفصيل بين استكمال الأركان وعدمه في بابي الضمان والإجارة،
كما تقدم في الصفحة 357 - 358، وبالتوقف في باب الإقرار في مسألة
الاختلاف في البلوغ، انظر جامع المقاصد 9: 202 و 203.
(3) كما تقدم في الصفحة 355.
374

وإن أريد بها كون الفعل بحيث (1) يترتب عليه الأثر - بأن يكون
الأصل مشخصا للموضوع من حيث ثبوت الصحة له، لا مطلقا - ففي
تقديمه على الاستصحاب الموضوعي نظر (2):
من أن أصالة عدم بلوغ البائع تثبت كون الواقع في الخارج بيعا
صادرا عن غير بالغ، فيترتب عليه الفساد، كما في نظائره من القيود
العدمية المأخوذة في الموضوعات الوجودية.
وأصالة الحمل على الصحيح تثبت كون الواقع بيعا صادرا عن
بالغ، فيترتب عليه الصحة، فتتعارضان.
لكن التحقيق: أن (3) الحمل على الصحيح يقتضي كون الواقع البيع
الصادر عن بالغ، وهو سبب شرعي في ارتفاع الحالة السابقة على العقد،
وأصالة عدم البلوغ لا توجب بقاء الحالة السابقة على العقد من حيث
إحراز البيع الصادر عن غير بالغ بحكم الاستصحاب، لأنه لا يوجب
الرجوع إلى الحالة السابقة على هذا العقد، فإنه ليس مما يترتب عليه
وإن فرضنا أنه يترتب عليه آثار اخر، لأن عدم المسبب من آثار عدم

(1) في (ص) بدل " بحيث ": " على وجه ".
(2) لم ترد " فإن أريد بالصحة - إلى - نظر " في (ر)، وفي (ت) كتب عليها:
" نسخة بدل ".
(3) في (ر)، (ص) و (ه‍) زيادة: " أصالة عدم البلوغ يوجب الفساد لا من حيث
الحكم شرعا بصدور العقد من غير بالغ، بل من حيث الحكم بعدم صدور عقد
من بالغ، فإن بقاء الآثار السابقة للعوضين مستند إلى عدم السبب الشرعي،
فالحمل... الخ "، وكتب عليها في (ه‍): " زائد ".
375

السبب لا من آثار ضده، فنقول حينئذ: الأصل عدم وجود السبب ما
لم يدل دليل شرعي على وجوده.
وبالجملة: البقاء على الحالة السابقة على هذا البيع مستند إلى عدم
السبب الشرعي، فإذا شك فيه بني على البقاء وعدم وجود المسبب، ما
لم يدل دليل على كون الموجود المردد بين السبب وغيره هو السبب،
فإذن لا منافاة بين الحكم بترتب الآثار المترتبة على البيع الصادر عن
غير بالغ، وترتب الآثار المترتبة على البيع الصادر عن بالغ، لأن الثاني
يقتضي انتقال المال عن البائع، والأول لا يقتضيه، لا أنه يقتضي
عدمه (1).

(1) لم ترد " فإن أريد بالصحة في قولهم - إلى - يقتضي عدمه " في (ظ)، وورد
بدلها ما يلي: " وإن جعلناه من الأصول التعبدية، فإن استفدنا من أدلتها إثبات
مجرد صفة الصحة للفعل المشكوك، فهي معارضة لأصالة الفساد، لأنها تحقق
عدم ترتب الأثر. لكن الشك في الفساد لما كان مسببا دائما عن الشك في
تحقق سبب الصحة، أو أمر خارجي له دخل فيها، كان أصالة عدم السبب أو
عدم ذلك الأمر حاكمة على أصالة الصحة، لأنها مزيلة للشك في مجراها.
هذا بحسب ملاحظة أصالتي الصحة والفساد، إلا أن دليل أصالة الصحة لما
كان أخص من دليل أصالة الفساد - أعني الاستصحاب - وكان اللازم من العمل
بعموم الاستصحاب مع الشك في الفساد إلغاء دليل أصالة الصحة رأسا تعين
تخصيص عموم الاستصحاب بدليل أصالة الصحة.
وإن استفدنا من أدلتها إثبات الفعل الموصوف بالصحة، بأن جعلناها من
الأصول الموضوعية ومن مشخصات الفعل المشكوك في وقوعه على وجه يحكم
عليه بالصحة، فهي بالنسبة إلى أصالة الفساد - إذا كان الشك من جهة الشك في
تحقق سبب الصحة - حاكمة مزيلة، كما إذا شككنا في كون العقد الواقع عربيا أو
فارسيا أو بصيغة الماضي أو العقد الواقع على النقدين من دون تقابض بيعا حتى
يفسد أو صلحا حتى يصح، فإن المقتضي للحكم بعدم تحقق الأثر وهو أصالة
عدم تحقق سبب الصحة وهو العقد العربي بصيغة الماضي أو الصلح، والشك في
ذلك كله مسبب عن الشك في كون السبب الواقع سببا أو لا؟، فإذا حكم
الشارع بكونه سببا فقد ارتفع الشك في تحقق الأثر وتحقق سببه، وأصالة عدم
تحقق سببه وأصالة عدم تحقق السبب لا يقتضي عدم كون هذا العقد سببا ولا
كونه واقعا على وجه الفساد.
وأما إذا كان الشك في شرط من شروط صحة العمل كبلوغ العاقد ورؤية
المبيع ونحو ذلك، فقد يتوهم: حكومة أصالة عدم الشرط على أصالة الحمل
على الصحيح، لأن الشك في كون الواقع هو الفرد الصحيح مسبب عن الشك في
تحقق الشرط، فإذا أحرز عدمه بالأصل ترتب عليه كون الفعل فاسدا.
ويندفع: بأن أصالة عدم البلوغ لا يثبت كون الواقع هو الفرد الفاسد، حتى
يتبين مجرى أصالة الصحة أعني الشك في كون الواقع هو الفرد الصحيح أو
الفاسد، وإنما يثبت كون الواقع فاسدا، وهذا ليس مجرى أصالة الصحة، وإنما هو
الأثر المترتب على حكم الشارع في مجراها، لوجوب حمل الفعل المشكوك على
فرده الصحيح، فكل منهما أصل موضوعي مجراه الموضوع الخارجي، وهو بلوغ
العاقد أو عدمه، والمترتب على الأول كون العقد فاسدا، والمترتب على الثاني
كون العقد صحيحا، فيتعارضان. والموضوع الخارجي الثاني وإن كان الشك فيه
مسببا عن الشك في الموضوع الأول، إلا أن خلافه ليس مما يترتب بنفسه على
إجراء الأصل في الأول نظير نجاسة الثوب المغسول بالماء المستصحب الطهارة
المترتب خلافها على استصحاب طهارة الماء، إلا أن إجراء الأصل في السبب
لا يبين مجرى الأصل الثاني، لأنه من الموضوعات الخارجية الغير المترتبة
بأنفسها على استصحاب أسبابها. والأصل في السبب إنما يقدم على الأصل
الخارجي في المسبب إذا كان المسبب بنفسه من مجعولات الشارع، كنجاسة الثوب
المغسول بالماء المستصحب الطهارة، فإن استعمال طهارة الماء مبين لعدم نجاسة
الثوب المستصحبة في نفسها.
نعم، لو قلنا بالأصل المثبت كانت أصالة عدم البلوغ مبينة لكون العقد هو
الفرد الفاسد.
وبالجملة: ففي المقام أصلان موضوعان رتب الشارع عليهما أثرين متنافيين
وهما كون العقد الواقع صحيحا فاسدا، وستعرف أن مقتضى القاعدة في تعارض
الأصلين التعبديين التساقط، فاللازم في المقام الرجوع إلى أصالة عدم ترتب
الأثر، فحينئذ يختص أصالة الصحة بما إذا كان الشك في تحقق أصل السبب من
جهة دوران الفعل الواقع بين السبب وغيره، كما تقدم إلا أن يثبت إجماع مركب
بين الشك في نفس السبب والشك في الشرط، أو يقال تخصيص القاعدة بما عدا
الشك في الشروط يوجب قلة فائدتها، أو يقال إن المثبت مقدم على الثاني.
وكيف كان، فدفع التنافي بين الأصلين وإثبات حكومة أحدهما على الآخر في
غاية الإشكال. والله العالم ".
- وقد وردت في (ت) زيادة كتب عليها: " خ ل زائد "، وهي ما يلي:
" لأنه إذا شك في بلوغ البائع فالشك في كون الواقع البيع الصحيح بمعنى كونه
بحيث يترتب عليه الأثر شك في كون البيع صادرا من بالغ أو غيره، هذا
مرجعه إلى الشك في بلوغ البائع. فالشك في كون البيع الصادر من شخص
صادرا من بالغ الذي هو مجرى أصالة الصحة، والشك في بلوغ الشخص الصادر
منه العقد الذي هو مجرى الاستصحاب، مرجعهما إلى أمر واحد، وليس الأول
مسببا عن الثاني، فإن الشك في المقيد باعتبار القيد شك في القيد. فمقتضى
الاستصحاب ترتب أحكام العقد الصادر من غير بالغ، ومقتضى هذا الأصل
ترتب حكم الصادر من بالغ، فكما أن الأصل معين ظاهري للموضوع وطريق
جعلي إليه، فكذلك استصحاب عدم البلوغ طريق ظاهري للموضوع، فإن
أحكام العقد الصادر من غير البالغ لا يترتب عند الشك في البلوغ إلا بواسطة
ثبوت موضوعها بحكم الاستصحاب.
نعم، لو قيل بتقديم المثبت على النافي عند تعارض الأصلين تعين ترجيح
أصالة الصحة لكنه محل تأمل.
ويمكن أن يقال هنا: إن أصالة عدم البلوغ توجب الفساد لا من حيث
الحكم شرعا بصدور العقد من غير بالغ، بل من حيث الحكم بعدم صدور عقد
من بالغ، فإن بقاء الآثار السابقة مستند إلى عدم السبب الشرعي لا إلى عدم
السببية شرعا فيما وقع.
نعم، لما كان المفروض انحصار الواقع فيما حكم شرعا بعدم سببية تحقق
البقاء، فعدم سببية هذا العقد للأثر الذي هو مقتضى الاستصحاب لا يترتب
عليه عدم الأثر، وإنما يترتب على عدم وقوع السبب المقارن لهذا العقد، فلا أثر
لأصالة عدم البلوغ المقتضية لعدم سببية العقد المذكور حتى يعارض أصالة
الصحة المقتضية لسببيته، وأصالة الصحة تثبت تحقق العقد الصادر من بالغ، ولا
معارضة في الظاهر بين عدم سببية هذا العقد الذي هو مقتضى الاستصحاب،
وبين وقوع العقد الصادر عن بالغ الذي يقتضيه أصالة الصحة، لأن وجود
السبب ظاهرا لا يعارضه عدم سببية شئ وإن امتنع اجتماعهما في الواقع من
حيث إن الصادر شئ واحد.
لكن يدفع هذا: أن مقتضى أصالة الصحة ليس وقوع فعل صحيح في
الواقع، بل يقتضي كون الواقع هو الفرد الصحيح. فإذا فرض نفي السببية عن
هذا الواقع بحكم الاستصحاب حصل التنافي.
وإن قيل: إن الاستصحاب لا يقتضي نفي السببية، لأن السببية ليست من
المجعولات بل يثبت بقاء الآثار السابقة.
قلنا: كذلك أصالة الصحة لا تثبت وقوع السبب وإنما تثبت حدوث آثار
السبب.
وكيف كان، فدفع التنافي بين الأصلين وإثبات حكومة أحدهما على الآخر في
غاية الإشكال ".
376

بقي الكلام في أصالة الصحة في الأقوال والاعتقادات
أما الأقوال، فالصحة فيها تكون من وجهين:
الأول: من حيث كونه حركة من حركات المكلف، فيكون الشك
من حيث كونه مباحا أو محرما. ولا إشكال في الحمل على الصحة من
هذه الحيثية.
الثاني: من حيث كونه كاشفا عن مقصود المتكلم.
والشك من هذه الحيثية يكون من وجوه:
أحدها: من جهة أن المتكلم بذلك القول قصد الكشف بذلك عن
معنى، أم لم يقصد، بل تكلم به من غير قصد لمعنى؟ ولا إشكال في
أصالة الصحة من هذه الحيثية بحيث لو ادعى كون التكلم لغوا أو غلطا
لم يسمع منه.
الثاني: من جهة أن المتكلم صادق في اعتقاده ومعتقد بمؤدى ما
يقوله، أم هو كاذب في هذا التكلم في اعتقاده؟ ولا إشكال في أصالة
الصحة هنا أيضا. فإذا أخبر بشئ جاز نسبة اعتقاد مضمون الخبر
إليه، ولا يسمع دعوى أنه غير معتقد لما يقوله. وكذا إذا قال: افعل
كذا، جاز أن يسند إليه أنه طالبه في الواقع، لا أنه مظهر للطلب
صورة لمصلحة كالتوطين، أو لمفسدة (1). وهذان الأصلان مما قامت
عليهما السيرة القطعية، مع إمكان إجراء ما سلف: من أدلة تنزيه فعل

(1) في (ظ) ونسخة بدل (ص) بدل " مظهر - إلى - لمفسدة ": " كاذب في إظهار
الطلب ".
381

المسلم عن القبيح في المقام. لكن المستند فيه ليس تلك الأدلة.
الثالث: من جهة كونه صادقا في الواقع أو كاذبا. وهذا معنى
حجية خبر المسلم لغيره، فمعنى حجية خبره صدقه. والظاهر عدم
الدليل على وجوب الحمل على الصحيح بهذا المعنى، والظاهر عدم
الخلاف في ذلك، إذ لم يقل أحد بحجية كل خبر صدر من مسلم،
ولا دليل يفي بعمومه عليه، حتى نرتكب دعوى خروج ما خرج
بالدليل (1).
وربما يتوهم: وجود الدليل العام، من مثل الأخبار المتقدمة (2)
الآمرة بوجوب حمل أمر المسلم على أحسنه، وما دل على وجوب
تصديق المؤمن وعدم اتهامه عموما، وخصوص قوله (عليه السلام): " إذا شهد
عندك المسلمون فصدقهم "، وغير ذلك مما ذكرنا في بحث حجية خبر
الواحد، وذكرنا عدم دلالتها (3).
مع أنه لو فرض دليل عام على حجية خبر كل مسلم، كان
الخارج منه أكثر من الداخل، لقيام الإجماع على عدم اعتباره في
الشهادات ولا في الروايات إلا مع شروط خاصة، ولا في الحدسيات
والنظريات إلا في موارد خاصة، مثل الفتوى وشبهها.
نعم يمكن أن يدعى: أن الأصل في خبر العدل الحجية، لجملة

(1) في أكثر النسخ زيادة: " من الداخل "، ولكنها لم ترد في (ن)، وشطب عليها
في (خ).
(2) المتقدمة في الصفحة 346 - 347.
(3) راجع مبحث الظن 1: 291 - 295.
382

مما (1) ذكرناه في أخبار الآحاد، وذكرنا ما يوجب تضعيف ذلك،
فراجع (2).
وأما الاعتقادات، فنقول:
إذا كان الشك في أن اعتقاده ناش عن مدرك صحيح من دون
تقصير عنه في مقدماته، أو من مدرك فاسد لتقصير منه في مقدماته،
فالظاهر وجوب الحمل على الصحيح، لظاهر بعض ما مر: من وجوب
حمل أمور المسلمين على الحسن دون القبيح.
وأما إذا شك في صحته بمعنى المطابقة للواقع، فلا دليل على
وجوب الحمل على ذلك، ولو ثبت ذلك أوجب حجية كل خبر أخبر
به المسلم، لما عرفت (3): من أن الأصل في الخبر كونه كاشفا عن اعتقاد
المخبر.
أما لو ثبت حجية خبره:
فقد يعلم أن العبرة باعتقاده بالمخبر به، كما في المفتي وغيره ممن
يعتبر نظره في المطلب، فيكون خبره كاشفا عن الحجة لا نفسها.
وقد يعلم من الدليل حجية خصوص إخباره بالواقع، حتى
لا يقبل منه قوله: اعتقد بكذا.
وقد يدل الدليل على حجية خصوص شهادته المتحققة تارة
بالإخبار عن الواقع، وأخرى بالإخبار بعلمه.

(1) في (ت) و (ه‍) بدل " مما ": " ما ".
(2) راجع مبحث الظن 1: 254 - 262.
(3) في الصفحة 381.
383

والمتبع في كل مورد ما دل عليه الدليل، وقد يشتبه مقدار دلالة
الدليل.
ويترتب على ما ذكرنا قبول تعديلات أهل الرجال المكتوبة في
كتبهم، وصحة التعويل في العدالة على اقتداء العدلين.
384

المقام الثاني
في بيان تعارض الاستصحاب مع القرعة
وتفصيل القول فيها يحتاج إلى بسط لا يسعه الوقت، ومجمل
القول فيها:
أن ظاهر أخبارها أعم من جميع أدلة الاستصحاب، فلا بد
من تخصيصها بها، فيختص القرعة بموارد لا يجري فيها
الاستصحاب (1).
نعم، القرعة واردة على أصالة التخيير، وأصالتي الإباحة والاحتياط
إذا كان مدركهما العقل، وإن كان مدركهما تعبد الشارع بهما في مواردهما
فدليل القرعة حاكم عليهما، كما لا يخفى.

(1) في حاشية (ص) زيادة، كتب في آخرها: " نسخة "، وهي ما يلي: " لا يجري
فيها الأصول الثلاثة، أعني: البراءة والاحتياط والاستصحاب، فلو دار المائع بين
الخل والخمر، لم يكن موردا للقرعة، لجريان أصالة البراءة والإباحة، وكذا
الشبهة المحصورة، لجريان دليل الاحتياط، إلا إذا تعسر الاحتياط، كما هو محمل
رواية القرعة الواردة في قطيع غنم علم بحرمة نعجة فيها، وكذا لو دار الأمر بين
الطهارة والحدث حتى مع اشتباه المتأخر ".
385

لكن ذكر في محله (1): أن أدلة القرعة لا يعمل بها بدون جبر
عمومها بعمل الأصحاب أو جماعة منهم، والله العالم.

(1) انظر الفصول: 362.
386

المقام الثالث
في تعارض الاستصحاب مع ما عداه من الأصول العملية
أعني: أصالة البراءة وأصالة الاشتغال وأصالة التخيير
[الأول: تعارض البراءة مع الاستصحاب] (1)
أما أصالة البراءة، فلا تعارض الاستصحاب ولا غيره من
الأصول والأدلة، سواء كان مدركها العقل أو النقل.
أما العقل، فواضح، لأن العقل لا يحكم بقبح العقاب إلا مع عدم
الدليل على التكليف واقعا أو ظاهرا.
وأما النقل، فما كان منه مساوقا لحكم العقل فقد اتضح أمره،
والاستصحاب وارد عليه (2).
وأما مثل قوله (عليه السلام): " كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي " (3)،

(1) العنوان منا.
(2) لم ترد " والاستصحاب وارد عليه " في (ظ)، وفي (ت) وردت في الحاشية
مكتوبا عليها: " خ ".
(3) الوسائل 4: 917، الباب 19 من أبواب القنوت، الحديث 3.
387

فقد يقال: إن مورد الاستصحاب خارج منه، لورود النهي في المستصحب
ولو بالنسبة إلى الزمان السابق.
وفيه: أن الشئ المشكوك في بقاء حرمته لم يرد نهي عن
ارتكابه في هذا الزمان، فلا بد من أن يكون مرخصا فيه. فعصير
العنب بعد ذهاب ثلثيه بالهواء لم يرد فيه نهي، وورود النهي عن شربه
قبل ذهاب الثلثين لا يوجب المنع عنه بعده، كما أن وروده في مطلق
العصير باعتبار وروده في بعض أفراده لو كفى في الدخول في ما بعد
الغاية، لدل على المنع عن كل كلي ورد المنع عن بعض أفراده.
والفرق في الأفراد بين ما كان تغايرها (1) بتبدل الأحوال والزمان
دون غيرها، شطط من الكلام. ولهذا لا إشكال في الرجوع إلى البراءة
مع عدم القول باعتبار الاستصحاب.
ويتلوه في الضعف ما يقال: من أن النهي الثابت بالاستصحاب
عن نقض اليقين، نهي وارد في رفع (2) الرخصة.
وجه الضعف: أن الظاهر من الرواية بيان الرخصة في الشئ
الذي لم يرد فيه نهي من حيث عنوانه الخاص، لا من حيث إنه
مشكوك الحكم، وإلا فيمكن العكس بأن يقال: إن النهي عن النقض في
مورد عدم ثبوت الرخصة بأصالة الإباحة، فيختص الاستصحاب بما
لا يجري فيه أصالة البراءة، فتأمل (3).

(1) كذا في (ظ) ونسخة بدل (ت)، وفي غيرهما بدل " تغايرها ": " تغيرها ".
(2) في (خ) بدل " في رفع ": " فيرفع ".
(3) لم ترد " فتأمل " في (ر).
388

فالأولى في الجواب أن يقال: إن دليل الاستصحاب بمنزلة معمم
للنهي السابق بالنسبة إلى الزمان اللاحق، فقوله: " لا تنقض اليقين
بالشك " يدل على أن النهي الوارد لا بد من إبقائه وفرض عمومه
للزمان اللاحق وفرض الشئ في الزمان اللاحق مما ورد فيه النهي
أيضا. فمجموع الرواية المذكورة ودليل الاستصحاب بمنزلة أن يقول: كل
شئ مطلق حتى يرد فيه نهي، وكل نهي ورد في شئ فلا بد من
تعميمه لجميع أزمنة احتماله، فيكون الرخصة في الشئ وإطلاقه مغيا
بورود النهي، المحكوم عليه بالدوام وعموم الأزمان، فكان مفاد
الاستصحاب نفي ما يقتضيه الأصل الآخر في مورد الشك لولا النهي،
وهذا معنى الحكومة، كما سيجئ في باب التعارض (1).
ولا فرق فيما ذكرنا بين الشبهة الحكمية والموضوعية، بل الأمر في
الشبهة الموضوعية أوضح، لأن الاستصحاب الجاري فيها جار في
الموضوع، فيدخل في الموضوع المعلوم الحرمة.
مثلا: استصحاب عدم ذهاب ثلثي العصير عند الشك في بقاء
حرمته لأجل الشك في الذهاب، يدخله في العصير قبل ذهاب ثلثيه
المعلوم حرمته بالأدلة، فيخرج عن قوله: " كل شئ حلال حتى تعلم
أنه حرام ".
نعم، هنا إشكال في بعض أخبار أصالة البراءة في الشبهة
الموضوعية، وهو قوله (عليه السلام) في الموثقة: " كل شئ لك حلال حتى تعلم
أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب عليك (2) ولعله

(1) انظر مبحث التعادل والتراجيح 4: 13.
(2) في المصدر: " يكون عليك قد اشتريته ".
389

سرقة، والمملوك عندك ولعله حر قد باع نفسه أو قهر (1) فبيع، أو امرأة
تحتك وهي أختك أو رضيعتك. والأشياء كلها على هذا حتى يستبين
لك غيره، أو تقوم به البينة " (2).
فإنه قد استدل بها جماعة، كالعلامة - في التذكرة (3) - وغيره (4) على
أصالة الإباحة، مع أن أصالة الإباحة هنا معارضة باستصحاب حرمة
التصرف في هذه الأشياء المذكورة في الرواية، كأصالة عدم التملك في
الثوب، والحرية في المملوك، وعدم تأثير العقد في الامرأة. ولو أريد من
الحلية في الرواية ما يترتب على أصالة الصحة في شراء الثوب
والمملوك، وأصالة عدم تحقق النسب (5) والرضاع في المرأة، كان خروجا
عن الإباحة الثابتة بأصالة الإباحة، كما هو ظاهر الرواية (6). وقد ذكرنا

(1) في المصدر بدل " أو قهر فبيع ": " أو خدع فبيع قهرا ".
(2) الوسائل 12: 60، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.
(3) التذكرة (الطبعة الحجرية) 1: 588.
(4) كالوحيد البهبهاني في الرسائل الأصولية: 399، والفاضل النراقي في المناهج:
211 و 216.
(5) في نسخة بدل (ص) بدل " النسب ": " الحل ".
(6) في (خ) زيادة كتب عليها: " زائد "، وشطب عليها في (ت)، وهي ما يلي:
" إلا أن يقال: إن إباحة العقد على الثوب والمملوك والمرأة المستفادة من مثل:
* (أحل الله البيع) * وقوله تعالى: * (أحل لكم ما وراء ذلكم) * مطابقة لمقتضى
الأصل، فالمراد إباحة هذه الأعيان من حيث إباحة تملكها بالعقد، ويقابله
المحرمات بهذا الاعتبار كالمحارم، وهذا الأصل حاكم على أصل له عدم تأثر
العقد، فافهم ".
390

في مسألة أصالة البراءة بعض الكلام في هذه الرواية، فراجع (1)، والله
الهادي.
هذا كله حال قاعدة البراءة.
وأما استصحابها، فهو لا يجامع استصحاب التكليف، لأن الحالة
السابقة إما وجود التكليف أو عدمه، إلا على ما عرفت سابقا (2): من
ذهاب بعض المعاصرين إلى إمكان تعارض استصحابي الوجود والعدم
في موضوع (3) واحد، وتمثيله لذلك بمثل: صم يوم الخميس.
الثاني: تعارض قاعدة الاشتغال مع الاستصحاب
ولا إشكال - بعد التأمل - في ورود الاستصحاب عليها، لأن
المأخوذ في موردها بحكم العقل الشك في براءة الذمة بدون الاحتياط،
فإذا قطع بها بحكم الاستصحاب فلا مورد للقاعدة. كما لو أجرينا
استصحاب وجوب التمام أو القصر في بعض الموارد التي يقتضي
الاحتياط الجمع فيها بين القصر والتمام، فإن استصحاب وجوب أحدهما
وعدم وجوب الآخر مبرئ قطعي لذمة المكلف عند الاقتصار على
مستصحب الوجوب.
هذا حال القاعدة، وأما استصحاب الاشتغال في مورد القاعدة

(1) راجع مبحث البراءة 2: 120.
(2) راجع الصفحة 208.
(3) في نسخة بدل (ت): " موضع ".
391

- على تقدير الإغماض عما ذكرنا سابقا (1)، من أنه غير مجد في مورد
القاعدة لإثبات ما يثبته القاعدة - فسيأتي حكمها في تعارض الاستصحابين.
وحاصله: أن الاستصحاب الوارد على قاعدة الاشتغال حاكم
على استصحابه.
الثالث: [تعارض قاعدة] (2) التخيير [مع الاستصحاب] (3)
ولا يخفى ورود الاستصحاب عليه، إذ لا يبقى معه التحير الموجب
للتخيير. فلا يحكم بالتخيير بين الصوم والإفطار في اليوم المحتمل كونه
من شوال مع استصحاب عدم الهلال، ولذا فرع الإمام (عليه السلام) قوله:
" صم للرؤية وأفطر للرؤية " على قوله: " اليقين لا يدخله الشك " (4).

(1) راجع الصفحة 219 - 220.
(2) و (3) الزيادة منا.
(4) تقدم الحديث في الصفحة 71.
392

[تعارض الاستصحابين] (1)
وأما الكلام في تعارض الاستصحابين، وهي المسألة المهمة في باب
تعارض الأصول التي اختلف فيها كلمات العلماء في الأصول والفروع (2)،
كما يظهر بالتتبع.
فاعلم: أن الاستصحابين المتعارضين ينقسمان إلى أقسام كثيرة من
حيث كونهما موضوعيين أو حكميين أو مختلفين، وجوديين أو عدميين
أو مختلفين، وكونهما في موضوع واحد أو موضوعين، وكون تعارضهما
بأنفسهما أو بواسطة أمر خارج، إلى غير ذلك.
إلا أن الظاهر أن اختلاف هذه الأقسام لا يؤثر في حكم
المتعارضين إلا من جهة واحدة، وهي: أن الشك في أحد الاستصحابين
إما أن يكون مسببا عن الشك في الآخر من غير عكس، وإما أن
يكون الشك فيهما مسببا عن ثالث. وأما كون الشك في كل منهما مسببا
عن الشك في الآخر فغير معقول.

(1) العنوان منا.
(2) لم ترد " والفروع " في (ظ).
393

وما توهم له (1): من التمثيل بالعامين من وجه، وأن الشك في
أصالة العموم في كل منهما مسبب عن الشك في أصالة العموم في الآخر.
مندفع: بأن الشك في الأصلين مسبب عن العلم الإجمالي
بتخصيص أحدهما.
وكيف كان، فالاستصحابان المتعارضان على قسمين:
القسم الأول:
ما إذا كان الشك في أحدهما مسببا عن الشك في الآخر، واللازم
تقديم الشك السببي وإجراء الاستصحاب فيه، ورفع اليد عن الحالة
السابقة للمستصحب الآخر.
مثاله: استصحاب طهارة الماء المغسول به ثوب نجس، فإن الشك
في بقاء نجاسة الثوب وارتفاعها مسبب عن الشك في بقاء طهارة الماء
وارتفاعها، فيستصحب طهارته، ويحكم بارتفاع نجاسة الثوب.
خلافا لجماعة (2)، لوجوه:
الأول: الإجماع على ذلك في موارد لا تحصى، فإنه لا يحتمل
الخلاف في تقديم الاستصحاب في الملزومات الشرعية - كالطهارة من
الحدث والخبث، وكرية الماء وإطلاقه، وحياة المفقود، وبراءة الذمة من
الحقوق المزاحمة للحج، ونحو ذلك - على استصحاب عدم لوازمها

(1) التوهم من الفاضل النراقي في مناهج الأحكام: 235، إلا أنه مثل بالعام
والخاص المطلقين.
(2) سيأتي ذكرهم في الصفحة 401.
394

الشرعية، كما لا يخفى على الفطن المتتبع.
نعم، بعض العلماء في بعض المقامات يعارض أحدهما بالآخر، كما
سيجئ (1). ويؤيده السيرة المستمرة بين الناس على ذلك بعد الاطلاع
على حجية الاستصحاب، كما هو كذلك في الاستصحابات العرفية (2).
الثاني: أن قوله (عليه السلام): " لا تنقض اليقين بالشك " باعتبار دلالته
على جريان الاستصحاب في الشك السببي، مانع (3) (4) عن قابلية شموله
لجريان الاستصحاب في الشك المسببي، يعني: أن نقض اليقين به (5)
يصير نقضا بالدليل لا (6) بالشك، فلا يشمله النهي في " لا تنقض ".
واللازم من شمول " لا تنقض " للشك المسببي نقض اليقين في مورد
الشك السببي لا لدليل شرعي يدل على ارتفاع الحالة السابقة فيه،
فيلزم من إهمال الاستصحاب في الشك السببي طرح عموم " لا تنقض "
من غير مخصص، وهو باطل. واللازم من إهماله في الشك المسببي عدم
قابلية العموم لشمول المورد، وهو غير منكر.

(1) في الصفحة 401.
(2) لم ترد " ويؤيده - إلى - العرفية " في (ظ)، وفي (ت) وردت في الحاشية
مكتوبا عليها: " خ ".
(3) في (ظ) بدل " مانع ": " مخرج ".
(4) في (ر)، (ظ) و (ت) زيادة: " للعام "، وفي (ص) كتب عليه: " خ ".
(5) كذا في (ه‍)، وفي (ص) و (ظ) بدل " به ": " له "، وفي (ت): " لا "، وفي (ر)
لم يرد شئ منها.
(6) شطب في (ت) على: " بالدليل لا ".
395

وبيان ذلك: أن مقتضى (1) عدم نقض اليقين رفع اليد عن الأمور
السابقة المضادة لآثار ذلك المتيقن. فعدم نقض طهارة الماء لا معنى له
إلا رفع اليد عن النجاسة السابقة المعلومة في الثوب، إذ الحكم بنجاسته
نقض لليقين بالطهارة المذكورة بلا حكم من الشارع بطروء النجاسة، وهو
طرح لعموم " لا تنقض " من غير مخصص، أما الحكم بزوال النجاسة
فليس نقضا لليقين بالنجاسة إلا بحكم الشارع بطروء الطهارة على الثوب.
والحاصل: أن مقتضى عموم " لا تنقض " للشك السببي نقض
الحالة السابقة لمورد الشك المسببي.
ودعوى: أن اليقين بالنجاسة أيضا من أفراد العام، فلا وجه
لطرحه وإدخال اليقين بطهارة الماء.
مدفوعة: أولا: بأن معنى عدم نقض يقين النجاسة أيضا رفع اليد
عن الأمور السابقة المضادة لآثار المستصحب، كالطهارة السابقة
الحاصلة لملاقيه وغيرها، فيعود المحذور. إلا أن نلتزم هنا أيضا ببقاء
طهارة الملاقي، وسيجئ فساده (2).
وثانيا: أن نقض يقين النجاسة بالدليل الدال على أن كل نجس
غسل بماء طاهر فقد طهر، وفائدة استصحاب الطهارة إثبات كون الماء
طاهرا به (3)، بخلاف نقض يقين الطهارة بحكم الشارع بعدم نقض يقين
النجاسة (4).

(1) في (ت)، (ر) و (ه‍) بدل " مقتضى ": " معنى ".
(2) انظر الصفحة 403.
(3) شطب على " به " في (ه‍).
(4) لم ترد " وبيان ذلك - إلى - يقين النجاسة " في (ظ).
396

بيان ذلك: أنه لو عملنا باستصحاب النجاسة كنا قد طرحنا
اليقين بطهارة الماء من غير ورود دليل شرعي على نجاسته، لأن بقاء
النجاسة في الثوب لا يوجب زوال الطهارة عن الماء، بخلاف ما لو
عملنا باستصحاب طهارة الماء، فإنه يوجب زوال نجاسة الثوب بالدليل
الشرعي، وهو ما دل على أن الثوب المغسول بالماء الطاهر يطهر،
فطرح اليقين بنجاسة الثوب (1) لقيام الدليل على طهارته.
هذا، وقد يشكل (2): بأن اليقين بطهارة الماء واليقين بنجاسة الثوب
المغسول به، كل منهما يقين سابق شك في بقائه وارتفاعه، وحكم
الشارع بعدم النقض نسبته إليهما على حد سواء، لأن نسبة حكم العام
إلى أفراده على حد سواء، فكيف يلاحظ ثبوت هذا الحكم لليقين
بالطهارة أولا حتى يجب نقض اليقين بالنجاسة، لأنه مدلوله ومقتضاه؟!
والحاصل: أن جعل شمول حكم العام لبعض الأفراد سببا لخروج
بعض الأفراد عن الحكم أو عن الموضوع - كما في ما نحن فيه - فاسد،
بعد فرض تساوي الفردين في الفردية مع قطع النظر عن ثبوت الحكم.
ويدفع: بأن فردية أحد الشيئين إذا توقف على خروج الآخر
المفروض الفردية عن العموم، وجب الحكم بعدم فرديته، ولم يجز رفع
اليد عن العموم، لأن رفع اليد حينئذ عنه يتوقف على شمول العام لذلك
الشئ المفروض توقف فرديته على رفع اليد عن العموم، وهو دور
محال.

(1) كذا في (ت) و (ه‍)، وفي غيره بدل " بنجاسة الثوب ": " بالنجاسة ".
(2) في (ظ) بدل " وقد يشكل ": " فإن قلت بأن ".
397

وإن شئت قلت: إن حكم العام من قبيل لازم الوجود للشك
السببي، كما هو شأن الحكم الشرعي وموضوعه، فلا يوجد في الخارج
إلا محكوما، والمفروض أن الشك المسببي أيضا من لوازم وجود ذلك
الشك، فيكون حكم العام وهذا الشك لازمين لملزوم ثالث في مرتبة
واحدة، فلا يجوز أن يكون أحدهما موضوعا للآخر، لتقدم الموضوع
طبعا (1).
الثالث: أنه لو لم يبن على تقديم الاستصحاب في الشك السببي
كان الاستصحاب قليل الفائدة جدا، لأن المقصود من الاستصحاب
غالبا ترتيب الآثار الثابتة للمستصحب، وتلك الآثار إن كانت موجودة
سابقا أغنى استصحابها عن استصحاب ملزومها، فتنحصر الفائدة في
الآثار التي كانت معدومة، فإذا فرض معارضة الاستصحاب في الملزوم

(1) لم ترد " ويدفع - إلى - طبعا " في (ظ)، وورد بدلها ما يلي: " قلنا: المقتضي
لشمول العام للشك السببي موجود، لوجود الموضوع - وهو كون القضية نقضا
لليقين لغير دليل - والشك المسبب لا يصلح للمنع، لأن وجود المقتضي
لدخوله - وهو كونه نقضا لليقين لغير دليل - موقوف على عدم ثبوت حكم
النقض للشك السببي، والمقتضي للأول موجود والمانع عنه موقوف على عدم
ثبوت الحكم الأول، والمفروض أنه لا مانع سوى ما ذكر، فيثبت المقتضى
- بالفتح -، ولولا حكم العقل بهذا لم يكن وجه لتقديم الدليل على الأصل،
فدفع توهم التعارض بين دليليهما. والحاصل: أن العام إذا توقف فردية شئ له
على عدم ثبوت حكمه لبعض أفراده المعلوم الفردية، لم يصلح للدخول تحت
العام، لأن الشئ إذا توقف منعه على عدم ثبوت المقتضى للمقتضي - بالكسر -
لم يصلح أن يكون مانعا عنه للزوم الدور ".
398

باستصحاب عدم تلك اللوازم والمعاملة معها على ما يأتي في الاستصحابين
المتعارضين (1)، لغى الاستصحاب في الملزوم وانحصرت الفائدة في
استصحاب الأحكام التكليفية التي يراد بالاستصحاب إبقاء أنفسها في
الزمان اللاحق.
ويرد عليه: منع عدم الحاجة إلى الاستصحاب في الآثار السابقة،
بناء على أن إجراء الاستصحاب في نفس تلك الآثار موقوف على
إحراز الموضوع لها وهو مشكوك فيه، فلا بد (2) من استصحاب
الموضوع، إما ليترتب عليه تلك الآثار، فلا يحتاج إلى استصحاب
أنفسها المتوقفة على بقاء الموضوع يقينا، كما حققنا سابقا في مسألة
اشتراط بقاء الموضوع (3)، وإما لتحصيل شرط الاستصحاب في نفس
تلك الآثار، كما توهمه بعض فيما قدمناه سابقا (4): من أن بعضهم تخيل
أن موضوع المستصحب يحرز بالاستصحاب فيستصحب.
والحاصل: أن الاستصحاب في الملزومات محتاج إليه على كل
تقدير.
الرابع: أن المستفاد من الأخبار عدم الاعتبار باليقين السابق في
مورد الشك المسبب.
بيان ذلك: أن الإمام (عليه السلام) علل وجوب البناء على الوضوء

(1) وهو التساقط، كما سيأتي في الصفحة 407.
(2) في (ص) زيادة: " فيه ".
(3) راجع الصفحة 292 - 293.
(4) هو صاحب الفصول، راجع الصفحة 291.
399

السابق في صحيحة زرارة، بمجرد كونه متيقنا سابقا غير متيقن الارتفاع
في اللاحق. وبعبارة أخرى: علل بقاء الطهارة المستلزم لجواز الدخول
في الصلاة بمجرد الاستصحاب. ومن المعلوم أن مقتضى استصحاب
الاشتغال بالصلاة عدم براءة الذمة بهذه الصلاة، حتى أن بعضهم (1) جعل
استصحاب الطهارة وهذا الاستصحاب من الاستصحابين المتعارضين،
فلولا عدم جريان هذا الاستصحاب، وانحصار الاستصحاب في المقام
باستصحاب الطهارة لم يصح تعليل المضي على الطهارة بنفس الاستصحاب،
لأن تعليل تقديم أحد الشيئين على الآخر بأمر مشترك بينهما قبيح، بل
أقبح من الترجيح بلا مرجح.
وبالجملة: فأرى المسألة غير محتاجة إلى إتعاب النظر، ولذا لا يتأمل
العامي بعد إفتائه باستصحاب الطهارة في الماء المشكوك، في رفع الحدث
والخبث به وبيعه وشرائه وترتيب الآثار المسبوقة بالعدم عليه.
هذا كله إذا عملنا بالاستصحاب (2) من باب الأخبار.
وأما لو عملنا به من باب الظن، فلا ينبغي الارتياب فيما ذكرنا،
لأن الظن بعدم اللازم مع فرض الظن بالملزوم محال عقلا. فإذا فرض
حصول الظن بطهارة الماء عند الشك، فيلزمه عقلا الظن بزوال النجاسة
عن الثوب. والشك في طهارة الماء ونجاسة الثوب وإن كانا في زمان
واحد، إلا أن الأول لما كان سببا للثاني، كان حال الذهن في الثاني
تابعا لحاله بالنسبة إلى الأول، فلا بد من حصول الظن بعدم النجاسة في

(1) هو المحقق (قدس سره)، في المعتبر 1: 32، كما سيأتي في الصفحة اللاحقة.
(2) في (ر)، (ص) و (ظ) بدل " بالاستصحاب ": " باستصحاب الطهارة ".
400

المثال، فاختص الاستصحاب المفيد للظن بما كان الشك فيه غير تابع
لشك آخر يوجب الظن، فافهم، فإنه لا يخلو عن دقة.
ويشهد لما ذكرنا: أن العقلاء البانين على الاستصحاب في أمور
معاشهم، بل معادهم لا يلتفتون في تلك المقامات إلى هذا الاستصحاب
أبدا، ولو نبههم أحد لم يعتنوا، فيعزلون حصة الغائب من الميراث،
ويصححون معاملة وكلائه، ويؤدون عنه فطرته إذا كان عيالهم، إلى
غير ذلك من موارد ترتيب الآثار الحادثة على المستصحب.
ثم إنه يظهر الخلاف في المسألة من جماعة، منهم: الشيخ، والمحقق،
والعلامة في بعض أقواله، وجماعة من متأخري المتأخرين (1).
فقد ذهب الشيخ في المبسوط إلى عدم وجوب فطرة العبد إذا لم
يعلم خبره (2).
واستحسنه المحقق في المعتبر (3)، مجيبا عن الاستدلال للوجوب
بأصالة البقاء، بأنها معارضة بأصالة عدم الوجوب، وعن تنظير وجوب
الفطرة عنه بجواز عتقه في الكفارة، بالمنع عن الأصل تارة، والفرق
بينهما أخرى.
وقد صرح في أصول المعتبر (4) بأن استصحاب الطهارة عند الشك
في الحدث معارض باستصحاب عدم براءة الذمة بالصلاة بالطهارة

(1) سيأتي ذكرهم في الصفحة 403 - 404.
(2) المبسوط 1: 239.
(3) المعتبر 2: 598.
(4) المعتبر 1: 32.
401

المستصحبة. وقد عرفت (1) أن المنصوص في صحيحة زرارة العمل
باستصحاب الطهارة على وجه يظهر منه خلوه عن المعارض، وعدم
جريان استصحاب الاشتغال.
وحكي عن العلامة - في بعض كتبه (2) - الحكم بطهارة الماء القليل
الواقع فيه صيد مرمي لم يعلم استناد موته إلى الرمي، لكنه اختار في
غير واحد من كتبه (3) الحكم بنجاسة الماء، وتبعه عليه الشهيدان (4)
وغيرهما (5). وهو المختار، بناء على ما عرفت تحقيقه (6)، وأنه إذا ثبت
بأصالة عدم التذكية موت الصيد جرى عليه جميع أحكام الميتة التي
منها انفعال الماء الملاقي له.
نعم ربما قيل (7): إن تحريم الصيد إن كان لعدم العلم بالتذكية
فلا يوجب تنجيس الملاقي، وإن كان للحكم عليه شرعا بعدمها اتجه
الحكم بالتنجيس.
ومرجع الأول إلى كون حرمة الصيد مع الشك في التذكية للتعبد،

(1) راجع الصفحة 581.
(2) انظر التحرير: 6، وحكاه عنه في مفتاح الكرامة 1: 133.
(3) انظر قواعد الأحكام 1: 190، ونهاية الإحكام 1: 256، والمنتهى 1:
173.
(4) انظر الذكرى 1: 106، والبيان: 103، وتمهيد القواعد: 289 - 290.
(5) مثل فخر الدين في الإيضاح 1: 25، والفاضل الهندي في كشف اللثام 1:
379.
(6) من تقدم الاستصحاب في الشك السببي، راجع الصفحة 394.
(7) القائل هو المحقق الثاني في جامع المقاصد 1: 156.
402

من جهة الأخبار المعللة (1) لحرمة أكل الميتة بعدم العلم بالتذكية (2). وهو
حسن لو لم يترتب عليه من أحكام الميتة إلا حرمة الأكل، ولا أظن
أحدا يلتزمه، مع أن المستفاد من حرمة الأكل كونها ميتة، لا التحريم
تعبدا، ولذا استفيد بعض ما يعتبر في التذكية من النهي عن الأكل
بدونه (3).
ثم إن بعض من يرى التعارض بين الاستصحابين في المقام (4)
صرح بالجمع بينهما، فحكم في مسألة الصيد بكونه ميتة والماء طاهرا.
ويرد عليه: أنه لا وجه (5) للجمع في مثل هذين الاستصحابين،
فإن الحكم بطهارة الماء إن كان بمعنى ترتيب آثار الطهارة من رفع
الحدث والخبث به، فلا ريب أن نسبة استصحاب بقاء الحدث والخبث
إلى استصحاب طهارة الماء، بعينها نسبة استصحاب طهارة الماء إلى
استصحاب عدم التذكية. وكذا الحكم بموت الصيد، فإنه إن كان بمعنى
انفعال الملاقي له بعد ذلك والمنع عن استصحابه في الصلاة، فلا ريب أن
استصحاب طهارة الملاقي واستصحاب جواز الصلاة معه قبل زهاق

(1) انظر الوسائل 16: 215، الباب 5 من أبواب الصيد، الحديث 2.
(2) كذا في (ت)، وفي غيره: " بتذكيته ".
(3) كالتسمية، لما ورد من النهي عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه في سورة
الأنعام: 121.
(4) كالعلامة في بعض كتبه كما تقدم، والمحقق الثاني في جامع المقاصد 1: 156،
والسيد الصدر في شرح الوافية (مخطوط): 365 - 366.
(5) في (ر)، (ظ) ونسخة بدل (ص): " لا معنى ".
403

روحه، نسبتهما إليه كنسبة استصحاب طهارة الماء إليه.
ومما ذكرنا يظهر النظر فيما ذكره في الإيضاح - تقريبا للجمع بين
الأصلين - في الصيد الواقع في الماء القليل، من أن لأصالة الطهارة
حكمين: طهارة الماء، وحل الصيد، ولأصالة الموت حكمان: لحوق
أحكام الميتة للصيد، ونجاسة الماء، فيعمل بكل من الأصلين في نفسه
لأصالته (1)، دون الآخر لفرعيته فيه (2)، انتهى.
وليت شعري! هل نجاسة الماء إلا من أحكام الميتة؟ فأين
الأصالة والفرعية؟
وتبعه في ذلك بعض من عاصرناه (3)، فحكم في الجلد المطروح
بأصالة الطهارة وحرمة الصلاة فيه. ويظهر ضعف ذلك مما تقدم (4).
وأضعف من ذلك حكمه في الثوب الرطب المستصحب النجاسة
المنشور على الأرض، بطهارة الأرض، إذ لا دليل على أن النجس
بالاستصحاب منجس (5).
وليت شعري! إذا لم يكن النجس بالاستصحاب منجسا،
ولا الطاهر به مطهرا، فكان كل ما ثبت بالاستصحاب لا دليل على
ترتيب آثار الشئ الواقعي عليه، لأن الأصل عدم تلك الآثار، فأي
فائدة في الاستصحاب؟!

(1) في المصدر زيادة: " فيه ".
(2) إيضاح الفوائد 1: 24 و 25.
(3) هو المحقق القمي في القوانين 2: 76 و 79.
(4) في الصفحة السابقة.
(5) القوانين 2: 79.
404

قال في الوافية في شرائط الاستصحاب:
الخامس: أن لا يكون هناك استصحاب آخر في أمر ملزوم لعدم
ذلك المستصحب. مثلا: إذا ثبت في الشرع أن الحكم بكون الحيوان ميتة
يستلزم الحكم بنجاسة الماء القليل الواقع ذلك الحيوان فيه، فلا يجوز
الحكم باستصحاب طهارة الماء ولا نجاسة الحيوان، في مسألة: " من
رمى صيدا فغاب، ثم وجده في ماء قليل، يمكن استناد موته إلى الرمي
وإلى الماء ". وأنكر بعض الأصحاب (1) ثبوت هذا التلازم وحكم بكلا
الأصلين: بنجاسة الصيد، وطهارة الماء (2)، انتهى.
ثم اعلم: أنه قد حكى بعض مشايخنا المعاصرين (3) عن الشيخ
علي في حاشية الروضة: دعوى الإجماع على تقديم الاستصحاب
الموضوعي على الحكمي.
ولعلها مستنبطة حدسا من بناء العلماء واستمرار السيرة على ذلك،
فلا يعارض أحد استصحاب كرية الماء باستصحاب بقاء النجاسة فيما
يغسل به، ولا استصحاب القلة باستصحاب طهارة الماء الملاقي للنجس،
ولا استصحاب حياة الموكل باستصحاب فساد تصرفات وكيله.
لكنك قد عرفت فيما تقدم (4) من الشيخ والمحقق خلاف ذلك.
هذا، مع أن الاستصحاب في الشك السببي دائما من قبيل

(1) كفخر الدين والمحقق الثاني وغيرهما، كما تقدم.
(2) الوافية: 210.
(3) هو شريف العلماء، انظر تقريرات درسه في ضوابط الأصول: 386.
(4) راجع الصفحة 401.
405

الموضوعي بالنسبة إلى الآخر، لأن زوال المستصحب (1) الآخر من
أحكام بقاء المستصحب بالاستصحاب السببي، فهو له من قبيل الموضوع
للحكم، فإن طهارة الماء من أحكام الموضوع الذي حمل عليه زوال
النجاسة عن المغسول به، وأي فرق بين استصحاب طهارة الماء
واستصحاب كريته؟
هذا كله فيما إذا كان الشك في أحدهما مسببا عن الشك في الآخر.
وأما القسم الثاني:
وهو ما إذا كان الشك في كليهما مسببا عن أمر ثالث، فمورده ما
إذا علم ارتفاع أحد الحادثين لا بعينه وشك في تعيينه:
فإما أن يكون العمل بالاستصحابين مستلزما لمخالفة قطعية عملية
لذلك العلم الإجمالي - كما لو علم إجمالا بنجاسة أحد الطاهرين - وإما
أن لا يكون.
وعلى الثاني: فإما أن يقوم دليل من الخارج (2) على عدم الجمع
- كما في الماء النجس المتمم كرا بماء طاهر، حيث قام الإجماع على
اتحاد حكم الماءين - أو لا.
وعلى الثاني: إما أن يترتب أثر شرعي على كل من المستصحبين
في الزمان اللاحق - كما في استصحاب بقاء الحدث وطهارة البدن في من

(1) في (ت)، (ص) و (ظ) زيادة: " بالاستصحاب "، وكتب فوقه في (ت):
" نسخة ".
(2) في (ظ) بدل " من الخارج ": " عقلي أو نقلي ".
406

توضأ غافلا بمائع مردد بين الماء والبول، ومثله استصحاب طهارة كل (1)
من واجدي المني في الثوب المشترك - وإما أن يترتب الأثر على
أحدهما دون الآخر، كما في دعوى الموكل التوكيل في شراء العبد
ودعوى الوكيل التوكيل في شراء الجارية.
فهناك صور أربع:
أما الأوليان، فيحكم فيهما بالتساقط، دون الترجيح والتخيير (2)،

(1) كذا في (ص)، وفي (ه‍) بدل " كل ": " المحل في كل واحد "، وفي (ر):
" المحل "، وفي (ت): " المحل في واحد ".
(2) لم ترد " كما في الماء النجس - إلى - والتخيير " في (ظ)، وكتب عليها في
(ص): " خ "، وورد بدلها في (ظ) ما يلي: " أو لا، فالأولان يحكم فيهما
بالتساقط، والثالث يحكم فيه بالجمع، كما إذا شك في تعيين السابق موتا من زيد
وعمرو الحيين، أو شك في تعيين الباقي من النجاسة والطهارة في الماء النجس
المتمم كرا بطاهر، أو شك في تعيين النجس من أحد الإنائين المعلوم طرو
النجاسة على أحدهما. والأقوى في هذا هو التساقط وفرض الأصلين كأن لم
يكونا، سواء كان مع أحدهما مرجح أم لا، فليس في تعارض الاستصحابين
الترجيح ولا التخيير بعد فقد المرجح، بل الحكم من أول الأمر طرحهما. نعم،
هذا كله إذا لم يمكن الجمع بينهما، بأن يكون الجمع مستلزما لمخالفة تكليف
معلوم، أما إذا لم يكن كذلك وجب الجمع بكليهما، إن ترتب على كل من
المستصحبين أثر شرعي، وإلا اختص العمل بما له الأثر، لأن مرجع الاستصحاب
إلى ترتيب الآثار. فهنا صور ثلاث: الأولى: ما يحكم فيه بالتساقط، وهو كل
مقام يمكن فيه الجمع للعلم بوجود تكليف ينافيه، أو قام على عدم الجمع دليل
عقلي، كما في اشتباه المتقدم والمتأخر، أو نقلي كما في الماء المتمم كرا ".
407

فهنا دعويان:
الأولى: عدم الترجيح بما يوجد مع أحدهما من المرجحات خلافا
لجماعة (1). قال في محكي تمهيد القواعد:
إذا تعارض أصلان عمل بالأرجح منهما، لاعتضاده بما يرجحه،
فإن تساويا خرج في المسألة وجهان غالبا. ثم مثل له بأمثلة، منها:
مسألة الصيد الواقع في الماء (2)... إلى آخر ما ذكره.
وصرح بذلك جماعة من متأخري المتأخرين (3).
والحق على المختار - من اعتبار الاستصحاب من باب التعبد -: هو
عدم الترجيح بالمرجحات الاجتهادية، لأن مؤدى الاستصحاب هو
الحكم الظاهري، فالمرجح الكاشف عن الحكم الواقعي لا يجدي في
تقوية الدليل الدال على الحكم الظاهري، لعدم موافقة المرجح لمدلوله
حتى يوجب اعتضاده.
وبالجملة: فالمرجحات الاجتهادية غير موافقة في المضمون
للأصول حتى تعاضدها. وكذا الحال بالنسبة إلى الأدلة الاجتهادية،
فلا يرجح بعضها على بعض لموافقة الأصول التعبدية.
نعم، لو كان اعتبار الاستصحاب من باب الظن النوعي أمكن
الترجيح بالمرجحات الاجتهادية، بناء على ما يظهر من عدم الخلاف في

(1) انظر الهامش 3.
(2) تمهيد القواعد: 288 و 289.
(3) مثل المحقق القمي في القوانين 2: 75، وشريف العلماء في تقريرات درسه في
ضوابط الأصول: 385، والفاضل التوني في الوافية: 337.
408

إعمال التراجيح بين الأدلة الاجتهادية، كما ادعاه صريحا بعضهم (1).
لكنك عرفت - فيما مضى - عدم الدليل على الاستصحاب من غير
جهة الأخبار الدالة على كونه حكما ظاهريا، فلا ينفع ولا يقدح فيه
موافقة الأمارات الواقعية ومخالفتها.
هذا كله مع الإغماض عما سيجئ (2): من عدم شمول " لا تنقض "
للمتعارضين، وفرض شمولها (3) لهما من حيث الذات، نظير شمول آية النبأ
من حيث الذات للخبرين المتعارضين وإن لم يجب العمل بهما فعلا،
لامتناع ذلك بناء على المختار في إثبات الدعوى الثانية، فلا وجه
لاعتبار المرجح أصلا، لأنه إنما يكون مع التعارض وقابلية المتعارضين
في أنفسهما للعمل.
الثانية: أنه إذا لم يكن مرجح فالحق التساقط دون التخيير،
لا لما ذكره بعض المعاصرين (4): من أن الأصل في تعارض الدليلين
التساقط، لعدم تناول دليل حجيتهما لصورة التعارض - لما تقرر في باب
التعارض (5)، من أن الأصل في المتعارضين التخيير إذا كان اعتبارهما

(1) هو العلامة في النهاية في مبحث " القول بالأشبه "، انظر نهاية الوصول
(مخطوط): 439.
(2) في الصفحة اللاحقة.
(3) في (ت): " شموله ".
(4) هو السيد المجاهد في مفاتيح الأصول: 83، وسيأتي تفصيله في مبحث التعادل
والتراجيح 4: 33.
(5) انظر مبحث التعادل والتراجيح 4: 37.
409

من باب التعبد لا من باب الطريقية (1) - بل لأن العلم الإجمالي هنا
بانتقاض أحد اليقينين (2) يوجب خروجهما عن مدلول " لا تنقض "، لأن
قوله: " لا تنقض اليقين بالشك ولكن تنقضه بيقين مثله " يدل على
حرمة النقض بالشك ووجوب النقض باليقين، فإذا فرض اليقين بارتفاع
الحالة السابقة في أحد المستصحبين، فلا يجوز إبقاء كل منهما تحت عموم
حرمة النقض بالشك، لأنه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله،
ولا إبقاء أحدهما المعين، لاشتراك الآخر معه في مناط الدخول من غير
مرجح، وأما أحدهما المخير فليس من أفراد العام، إذ ليس فردا ثالثا
غير الفردين المتشخصين في الخارج، فإذا خرجا لم يبق شئ. وقد
تقدم نظير ذلك في الشبهة المحصورة (3)، وأن قوله (عليه السلام): " كل شئ
حلال حتى تعرف أنه حرام " لا يشمل شيئا من المشتبهين.
وربما يتوهم: أن عموم دليل الاستصحاب نظير قوله: " أكرم
العلماء "، و " أنقذ كل غريق "، و " اعمل بكل خير "، في أنه إذا تعذر
العمل بالعام في فردين متنافيين لم يجز طرح كليهما، بل لا بد من العمل
بالممكن - وهو أحدهما تخييرا - وطرح الآخر، لأن هذا غاية المقدور،
ولذا ذكرنا في باب التعارض (4): أن الأصل في الدليلين المتعارضين مع
فقد الترجيح التخيير بالشرط المتقدم لا التساقط. والاستصحاب أيضا

(1) لم ترد " إذا كان اعتبارهما من باب التعبد لا من باب الطريقية " في (ظ).
(2) كذا في (ت) و (ه‍)، وفي غيرهما بدل " اليقينين ": " الضدين ".
(3) راجع مبحث الاشتغال 2: 201 و 211.
(4) انظر مباحث التعادل والتراجيح 4: 35 - 37.
410

أحد الأدلة، فالواجب العمل باليقين السابق بقدر الإمكان، فإذا تعذر
العمل باليقينين من جهة تنافيهما وجب العمل بأحدهما، ولا يجوز طرحهما.
ويندفع هذا التوهم: بأن عدم التمكن من العمل بكلا الفردين إن
كان لعدم القدرة على ذلك مع قيام المقتضي للعمل فيهما فالخارج هو
غير المقدور، وهو العمل بكل منهما مجامعا مع العمل بالآخر، وأما فعل
أحدهما المنفرد عن الآخر فهو مقدور فلا يجوز تركه. وفي ما نحن فيه
ليس كذلك، إذ بعد العلم الإجمالي لا يكون المقتضي لحرمة نقض كلا
اليقينين موجودا منع عنها (1) عدم القدرة.
نعم مثال هذا في الاستصحاب أن يكون هناك استصحابان بشكين
مستقلين امتنع شرعا أو عقلا العمل بكليهما (2) من دون علم إجمالي
بانتقاض أحد المستصحبين بيقين الارتفاع، فإنه يجب حينئذ العمل
بأحدهما المخير وطرح الآخر، فيكون الحكم الظاهري مؤدى أحدهما.
وإنما لم نذكر هذا القسم في أقسام تعارض الاستصحابين، لعدم
العثور على مصداق له، فإن الاستصحابات المتعارضة يكون التنافي بينها
من جهة اليقين بارتفاع أحد المستصحبين، وقد عرفت (3) أن عدم العمل
بكلا الاستصحابين ليس مخالفة لدليل الاستصحاب سوغها العجز، لأنه
نقض اليقين باليقين، فلم يخرج عن عموم " لا تنقض " عنوان ينطبق

(1) كذا في (ت) و (ظ)، وفي غيرهما: " عنهما ".
(2) في (ه‍) و (ص) بدل " امتنع شرعا أو عقلا العمل بكليهما ": " ورد المنع تعبدا
عن الجمع بينهما ".
(3) تقدم ذلك آنفا.
411

على الواحد التخييري.
وأيضا: فليس المقام من قبيل ما كان الخارج من العام فردا
معينا في الواقع غير معين عندنا ليكون الفرد الآخر الغير المعين باقيا
تحت العام، كما إذا قال: أكرم العلماء، وخرج فرد واحد غير معين
عندنا، فيمكن هنا أيضا الحكم بالتخيير العقلي في الأفراد، إذ لا
استصحاب في الواقع حتى يعلم بخروج فرد منه وبقاء فرد آخر، لأن
الواقع بقاء إحدى الحالتين وارتفاع الأخرى.
نعم، نظيره في الاستصحاب ما لو علمنا بوجوب العمل بأحد
الاستصحابين المذكورين ووجوب طرح الآخر، بأن حرم نقض أحد
اليقينين بالشك ووجب نقض الآخر به. ومعلوم أن ما نحن فيه ليس
كذلك، لأن المعلوم إجمالا في ما نحن فيه بقاء أحد المستصحبين - لا
بوصف زائد - وارتفاع الآخر، لا اعتبار الشارع لأحد الاستصحابين (1)
وإلغاء الآخر.
فتبين أن الخارج من عموم " لا تنقض " ليس واحدا من
المتعارضين - لا معينا ولا مخيرا - بل لما وجب نقض اليقين باليقين
وجب ترتيب آثار الارتفاع على المرتفع الواقعي، وترتيب آثار البقاء
على الباقي الواقعي، من دون ملاحظة الحالة السابقة فيهما، فيرجع إلى
قواعد اخر غير الاستصحاب، كما لو لم يكونا مسبوقين بحالة سابقة.
ولذا لا نفرق في حكم الشبهة المحصورة بين كون الحالة السابقة في
المشتبهين هي الطهارة أو النجاسة، وبين عدم حالة سابقة معلومة، فإن

(1) في (ر) و (ظ) ونسخة بدل (ص): " المستصحبين ".
412

مقتضى القاعدة الرجوع إلى الاحتياط فيهما، وفيما تقدم من مسألة الماء
النجس المتمم كرا الرجوع إلى قاعدة الطهارة، وهكذا.
ومما ذكرنا يظهر: أنه لا فرق في التساقط بين أن يكون في كل
من الطرفين أصل واحد، وبين أن يكون في أحدهما أزيد من أصل
واحد. فالترجيح بكثرة الأصول بناء على اعتبارها من باب التعبد لا
وجه له، لأن المفروض أن العلم الإجمالي يوجب خروج جميع مجاري
الأصول عن مدلول " لا تنقض " على ما عرفت (1). نعم يتجه الترجيح
بناء على اعتبار الأصول من باب الظن النوعي.
وأما الصورة الثالثة، وهي ما يعمل فيه بالاستصحابين.
فهو ما كان العلم الإجمالي بارتفاع أحد المستصحبين فيه غير
مؤثر شيئا، فمخالفته لا توجب مخالفة عملية لحكم شرعي، كما لو توضأ
اشتباها بمائع مردد بين البول والماء، فإنه يحكم ببقاء الحدث وطهارة
الأعضاء استصحابا لهما. وليس العلم الإجمالي بزوال أحدهما مانعا من
ذلك، إذ الواحد المردد بين الحدث وطهارة اليد (2) لا يترتب عليه حكم
شرعي حتى يكون ترتيبه مانعا عن العمل بالاستصحابين، ولا يلزم من
الحكم بوجوب الوضوء وعدم غسل الأعضاء مخالفة عملية لحكم شرعي
أيضا. نعم، ربما يشكل ذلك في الشبهة الحكمية. وقد ذكرنا ما عندنا في
المسألة في مقدمات حجية الظن، عند التكلم في حجية العلم (3).

(1) راجع الصفحة 411.
(2) في (ص) بدل " اليد ": " البدن ".
(3) راجع مبحث القطع 1: 84 - 87.
413

وأما الصورة الرابعة، وهي ما يعمل فيه بأحد الاستصحابين.
فهو ما كان أحد المستصحبين المعلوم ارتفاع أحدهما مما يكون
موردا لابتلاء المكلف دون الآخر، بحيث لا يتوجه على المكلف تكليف
منجز يترتب أثر شرعي عليه. وفي الحقيقة هذا خارج عن تعارض
الاستصحابين، إذ قوله: " لا تنقض اليقين " لا يشمل اليقين الذي
لا يترتب عليه في حق المكلف أثر شرعي بحيث لا تعلق له به أصلا،
كما إذا علم إجمالا بطروء الجنابة عليه أو على غيره، وقد تقدم أمثلة
ذلك (1).
ونظير هذا كثير، مثل: أنه علم إجمالا بحصول التوكيل من
الموكل، إلا أن الوكيل يدعي وكالته في شئ، والموكل ينكر توكيله في
ذلك الشئ، فإنه لا خلاف في تقديم قول الموكل، لأصالة عدم توكيله
فيما يدعيه الوكيل، ولم يعارضه أحد بأن الأصل عدم توكيله فيما يدعيه
الموكل أيضا.
وكذا لو تداعيا في كون النكاح دائما أو منقطعا، فإن الأصل عدم
النكاح الدائم من حيث إنه سبب للإرث ووجوب النفقة والقسم.
ويتضح ذلك بتتبع كثير من فروع التنازع في أبواب الفقه.
ولك أن تقول بتساقط الأصلين في هذه المقامات والرجوع إلى
الأصول الاخر الجارية في لوازم المشتبهين، إلا أن ذلك إنما يتمشى في
استصحاب الأمور الخارجية، أما مثل أصالة الطهارة في كل من واجدي
المني فإنه لا وجه للتساقط هنا.

(1) راجع مبحث الاشتغال 2: 233 - 235.
414

ثم لو فرض في هذه الأمثلة أثر لذلك الاستصحاب الآخر، دخل
في القسم الأول (1) إن كان الجمع بينه وبين الاستصحاب مستلزما لطرح
علم إجمالي معتبر في العمل، ولا عبرة بغير المعتبر، كما في الشبهة الغير
المحصورة. وفي القسم الثاني (2) إن لم يكن هناك مخالفة عملية لعلم إجمالي
معتبر.
فعليك بالتأمل في موارد اجتماع يقينين سابقين مع العلم الإجمالي
- من عقل أو شرع أو غيرهما - بارتفاع أحدهما وبقاء الآخر.
والعلماء وإن كان ظاهرهم الاتفاق على عدم وجوب الفحص في
إجراء الأصول في الشبهات الموضوعية، ولازمه جواز إجراء المقلد لها
بعد أخذ فتوى جواز الأخذ بها من المجتهد، إلا أن تشخيص سلامتها
عن الأصول الحاكمة عليها ليس وظيفة كل أحد، فلا بد إما من قدرة
المقلد على تشخيص الحاكم من الأصول على غيره منها، وإما من أخذ
خصوصيات الأصول السليمة عن الحاكم من المجتهد، وإلا فربما يلتفت
إلى الاستصحاب المحكوم من دون التفات إلى الاستصحاب الحاكم.
وهذا يرجع في الحقيقة إلى تشخيص الحكم الشرعي، نظير
تشخيص حجية أصل الاستصحاب وعدمها. عصمنا الله وإخواننا من
الزلل، في القول والعمل، بجاه محمد وآله المعصومين، صلوات الله عليهم
أجمعين.

(1) في (ص) بدل " القسم الأول ": " إحدى الصورتين الأوليين "، وفي نسخة بدلها
كما أثبتنا.
(2) في (ص): " الصورة الثالثة "، وفي نسخة بدلها كما أثبتنا.
415

تم
الجزء الثالث
ويليه
الجزء الرابع
في
التعادل والتراجيح
417