الكتاب: تفسير الآلوسي
المؤلف: الآلوسي
الجزء: ١٢
الوفاة: ١٢٧٠
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

* (وما من دآبة في الارض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل فى كتاب مبين) *
* (وما من دآبة في الأرض إلا على الله رزقها) * الدابة اسم لكل حيوان ذي روح ذكرا كان أو أنثى عاقلا أو غيره، مأخوذ من الدبيب وهو في الأصل المشي الخفيف ومنه قوله: زعمتني شيخا ولست بشيخ * إنما الشيخ من يدب دبيبا
واختصت في العرف بذوات القوائم الأربع وقد تخص بالفرس، والمراد بها هنا المعنى اللغوي باتفاق المفسرين أي وما من حيوان يدب على الأرض إلا على الله تعالى غذاؤه ومعاشه، والمراد أن ذلك كالواجب عليه تعالى إذ لا وجوب عليه سبحانه عند أهل الحق كما بين في الكلام، فكلمة * (على) * المستعملة للوجوب مستعارة استعارة تبعية لما يشبهه ويكون من المجاز بمرتبتين، وذكر الإمام أن الرزق واجب بحسب الوعد والفضل والإحسان على معنى أنه باق على تفضله لكن لما وعده سبحانه وهو جل شأنه لا يخل بما وعد صوره بصورة الوجوب لفائدتين: التحقيق لوصوله. وحمل العباد على التوكل فيه، ولا يمنع من التوكل مباشرة الأسباب مع العلم بأنه سبحانه المسبب لها ففي الخبر " اعقل وتوكل " وجاء " لن تموت نفس حتى تستمل رزقها وأجلها فاتقوا الله تعالى وأجملوا في الطلب " ولا ينبغي أن يعتقد أنه لا يحصل الرزق بدون مباشرة سبب فإنه سبحانه يرزق الكثير من دون مباشرة سبب أصلا، وفي بعض الآثار " إن موسى عليه السلام عند نزول الوحي تعلق قلبه بأحوال أهله فأمره الله تعالى بأن يضرب بعصاه صخرة فضرب فانشقت الصخرة وخرجت صخرة ثانية فضربها فخرجت ثالثة فضربها فانشقت عن دودة كالذرة وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها وسمعها تقول: سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني ويذكرني ولا ينساني " وما أحسن قول ابن أذينة: لقد علمت وما الإشراف من خلقي * إن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى إليه فيعييني تطلبه * ولو أقمت أتان لا يعنيني
وقد صدقه الله تعالى في ذلك يوم وفد على هشام فقرعه بقوله هذا فرجع إلى المدينة فندم هشام على ذلك وأرسل بجازئته إليه، ويقرب من قصته قصة الثقفي مع عبيد الله بن عامر خال عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وهي مشهورة حكاها ابن أبي الدنيا ونقلها غير واحد، وقد ألغي أمر الأسباب جدا من قال: مثل الرزق الذي تطلبه * مثل الظل الذي يمشي معك
أنت لا تدركه متبعا * وإذا وليت عنه تبعك
2

وبالجملة ينبغي الوثوق بالله تعالى وربط القلب به سبحانه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن * (واحتج أهل السنة) * بالآية على أن الحرام رزق وإلا فمن لم يأكل طول عمره إلا من الحرام يلزم أن لا يكون مرزوقا، وأجيب بأن هذا مجرد فرض إذ لا أقل من التغذي بلبن الأم مثلا وهو حلال على أن المراد أن كل حيوان يحتاج إلى الرزق إذا رزق فإنما رزقه من الله تعالى وهو لا ينافي أن يكون هناك من لا رزق له كالمتغذي بالحرام، وكذا من لم يرزق أصلا حتى مات جوعا، وروي هذا عن مجاهد وقد تقدم الكلام في ذلك.
* (ويعلم مستقرها) * موضع قرارها في الأصلاب * (ومستودعها) * موضعها في الأرحام وما يجري مجراها من البيض ونحوه، فالمستقر والمستودع اسما مكان، وجوز فيهما أن يكونا مصدرين وأن يكون المستودع اسم مفعول لتعدي فعله، ولا يجوز في المستقر ذلك لأن فعله لازم، والأول هو الظاهر، وإنما خص كل من الاسمين بما خص به من المحل - كما قال بعض الفضلاء - لأن النطفة مثلا بالنسبة إلى الأصلاب في حيزها الطبيعي ومنشئها الخلقي، وأما بالنسبة إلى الأرحام مثلا فهي مودعة فيها إلى وقت معين، وعن عطاء تفسير المستقر بالأرحام والمستودع بالأصلاب وكأنه أخذ تفسير الأول بذلك من قوله سبحانه: * (ونقر في الأرحام ما نشاء) *، وجوز أن يكون المراد بالمستقر مساكنها من الأرض حيث وجدت بالفعل، وبالمستودع محلها من المواد والمقار حين كانت بعد بالقوة، وهذا عام لجميع الحيوانات بخلاف الأول إذ من الحيوانات ما لم يستقر في صلب كالمتكون من عفونة الأرض مثلا، ولعل تقديم محلها باعتبار حالتها الأخيرة لرعاية المناسبة بينها وبين عنوان كونها دابة في الأرض، والمعنى على ما قيل: ما من دابة في الأرض إلا يرزقها الله تعالى حيث كانت من أماكنها يسوقه إليها ويعلم موادها المختلفة المندرجة في مراتب الاستعدادات المتفاوتة المتطورة في الأطوار المتباينة ومقارها المتنوعة يفيض عليها في كل مرتبة ما يليق بها من مبادىء وجودها وكمالاتها المتفرعة عليها، ولا يخلو عن حسن إلا أن فيه بعدا، وأخرج عبد الرزاق وجماعة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن مستقرها حيث تأوي ومستودعها حيث تموت، وتعقب بأن تفسير المستودع بذلك لا يلائم مقام التكفل بأرزاقها، وقد يقال: لعل ذلك إشارة إلى نهاية أمد ذلك التكفل، وفي خبر ابن مسعود رضي الله تعالى عنه إشارة إلى ما هو كالمبدأ له أيضا، فقد أخرج عنه ابن جرير. والحاكم وصححه أنه قال: مستقرها الأرحام، ومستودعها حيث تموت، فكأنه قيل: إنه سبحانه متكفل برزق كل دابة ويعلم مكانها أول ما تحتاج إلى الرزق ومكانها آخر ما تحتاج إليه فهو سبحانه يسوقه إليها ولا بد إلى أن ينتهي أمد احتياجها، وجوز في هذه الجملة أن تكون استئنافا بيانيا وأن تكون معطوفة على جملة * (على الله رزقها) * داخلة في حيز * (إلا) * وعليه اقتصر الأجهوري.
* (كل في كت‍ابمبين) * أي كل واحد من الدواب ورزقها ومستقرها ومستودعها، أو كل ما ذكر وغيره مثبت في اللوح المحفوظ البين لمن ينظر فيه من الملائكة عليهم السلام، أو المظهر لما أثبت فيه للناظرين، والجملة - على ما قال الطيبي - كالتتميم لمعنى وجوب تكفل الرزق كمن أقر بشيء في ذمته ثم كتب عليه صكا، وفي " الكشف " إن الأظهر أنها تحقيق للعلم وكأنه تعالى لما ذكر أنه يعلم ما يسرون وما يعلنون أردفه بما يدل على عموم علمه، ثم أتى سبحانه بما يدل على عظيم قدرته جل شأنه [بم من قوله تبارك وتعالى:
وهو الذى خلق السم‍اوات والارض فى ستة أيام وكان عرشه على المآء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن ه‍اذآ إلا
سحر مبين) *
* (وهو الذي خلق السم‍اوت والأرض في ستة أيام) * تقريرا للتوحيد لأن من شمل علمه وقدرته هو الذي
3

يكون إلها لا غيره مما لا يعلم ولا يقدر على ضر ونفع وتأكيدا لما سبق من الوعد والوعيد لأن العالم القادر يرجى ويخشى، وجوز أن تكون الآية تقريرا لقوله سبحانه: * (يعلم ما يسرون وما يعلنون) * (البقرة: 77) وما بعدها تقريرا لقوله سبحانه: * (وهو على كل شيء قدير) * (المائدة: 120) وفيه بعد، وكأن المراد بخلق السموات والأرض الخ خلقهما وما فيهما، أو تجعل السموات مجازا عن العلويات فتشملها وما فيها، وتجعل الأرض مجازا بمعنى السفليات فتشملها وما فيها من غير تقدير، واحتيج لذلك لاقتضاء المقام إياه وإلا فخلقهما في تلك المدة لا ينافي خلق غيرهما فيها، والمراد باليوم الوقت مطلقا لا المتعارف إذ لا يتصور ذلك حين لا شمس ولا أرض، وقيل: أريد به مدة زمان دور المحدد المسمى بالعرش دورة تامة، وإليه ذهب الشيخ الأكبر قدس سره، وقد علمت حاله فيما تقدم، وقيل: غير ذلك.
وفي عدم خلقهما دفعة كما علمت دليل - كما قال غير واحد - على كونه سبحانه قادرا مختارا مع ما فيه من الاعتبار للنظار والحث على التأني في الأمور، وقد تقدم ما قيل في وجه تخصيص هذا العدد دون الزائد عليه كالسبعة أو الناقص عنه كالخمسة للخلق، ولعلنا نحقق ذلك في موضع آخر، وإيثار صيغة الجمع في السموات لاختلافها بالأصل والذات دون الأرض، وإن قيل: إنها مثل السماء في كونها سبعا طباقا بين كل أرض وأرض مسافة وفيها مخلوقات، وبذلك فسر قوله سبحانه: * (ومن الأرض مثلهن) * والكثير على أن الأرض كرة واحدة منقسمة إلى سبعة أقاليم وحملوا الآية على ذلك.
* (وكان عرشه على الماء) * عطف على جملة * (خلق) * مع ضميره المستتر أو حال من الضمير بتقدير قد على ما هو المشهور في الجملة الحالية الماضوية من اشتراط قد ظاهرة أو مقدرة؛ والمضي المستفاد - من كان - بالنسبة للحكم لا للتكلم أي كان عرشه على الماء قبل خلقهما وهو الذي يقتضيه كلام مجاهد، وبه صرح القاضي البيضاوي، ثم قال: لم يكن حائل بينهما أي العرش والماء لا أنه كان موضوعا على متن الماء، واستدل به على إمكان الخلاء وأن الماء أول حادث بعد العرش من أجرام هذا العالم انتهى، وكذا صرح به العلامة أبو السعود مفتي الديار الرومية لكنه قال: ليس تحته - يعني العرش - شيء غيره أي الماء سواء كان بينهما فرجة، أو موضوعا على متنه كما ورد في الأثر فلا دلالة فيه على إمكان الخلاء كيف لا ولو دل لدل على وجوده لا على إمكانه فقط ولا على كون الماء أول ما حدث في العالم بعد العرش وإنما يدل على أن خلقهما أقدم من خلق السموات والأرض من غير تعرض للنسبة بينهما انتهى، ولا يخفى ما بين القاضي والمفتي من المخالفة، والأكثرون على أن الحق مع المفتي كما ستعلمه إن شاء الله تعالى.
وانتصر بعضهم للقاضي بأنه لو كان موضوعا على متن الماء للزم قبل خلق تمام العالم أحد الأمور الستة: إما خروج الماء عن حيزه الطبيعي. أو خروج العرش عن حيزه الطبيعي. أو تخلخل الماء. أو نموه أو تخلخل العرش. أو نموه، وحين خلق العالم أحد الأمور الخمسة: إما حركة العرش بالاستقامة إلى حيزه الطبيعي. أو تكاثف الماء. أو ذبوله. أو تكاثف العرش. أو ذبوله، وهذه الأمور باطلة كما لا يخفى على من تدرب في الحكمة، ويحمل الإمكان في كلامه على الإمكان الوقوعي، أو يراد به الإمكان الذاتي وبالخلاء الخلاء في عالمنا هذا فإنه المتنازع فيه فكأنه قيل واستدل به على أن الخلاء في عالمنا ممكن بالإمكان الذاتي وتوجيه الاستدلال به حينئذ على ذلك هو أن الخلاء قبل عالمنا هذا كان واقعا ووقوع شيء في وقت من الأوقات دليل على إمكانه الذاتي في جميع الأوقات فإن ثبوت الإمكان للممكن واجب فالممكن في وقت ممكن في وقت آخر كما حققه شارح حكمة العين، ووجه الدلالة على أن الماء أول
4

حادث بعد العرش أن كل جسم بسيط فله مكان طبيعي وأن المكان من لوازم وجود الجسم فإن الفاعل إذا أوجد الجسم أوجده لا محالة في مكان كما صرحوا به، والمكان للخفيف من الأجسام هو الفوق، وللثقيل التحت على حسب الثقل والخفة وتحددهما إنما هو بالفلك الأعظم فوجود الماء في جوف العرش يتوقف على وجود مكانه المتوقف على وجود العرش فيتأخر عنه حدوثا ولا يخفى ما في هذا الوجه من النظر، ولا أقل من أن يقال لم لا يجوز أن يخلق الله تعالى العرش والماء معا؟ على أنه قد جاء في بعض الآثار ما هو ظاهر في أن الماء كان مخلوقا قبل العرش فقد أخرج الطيالسي. وأحمد. والترمذي وحسنه. وابن ماجه. وابن جرير. وابن المنذر. والبيهقي في الأسماء والصفات وغيرهم عن أبي رزين العقيلي قال: " قلت: يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال: كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء وخلق عرشه على الماء " وقال بعض في بيان وجه ذلك: أنه لما كان معنى كون العرش على الماء أنه موضوع فوقه لا مماسه وأن خلق السموات والأرض ءنما كان بعدهما اقتضى ذلك أن العرش مخلوق قبل وأن الماء أول حادث بعده وهو من فحوى الخطاب، وقوله: لا أنه كان موضوعا الخ لأن سياقه لبيان قدرته تعالى يقتضيه وفيه ما فيه كما لا يخفى، وتعقب بعض فضلاء الروم ما ذكر أولا بأن حاصله أن الشق الثاني من الشقين المذكورين في كلام العلامة الثاني مستلزم لأحد أمور تقرر في علم الحكمة بطلانها فيتعين الأول منهما، وهو الذي ذهب إليه العلامة الأول، وهو إنما يتم أن لو كانت المقدمات المذكورة في إبطال تلك الأمور يقينية وهو ممنوع فإن أكثرها مبني على أصول الفلاسفة، وقد بين القاضي نفسه بطلان أكثرها في الطوالع وهو إنما يراعي القواعد الحكمية إذا لم تكن مخالفة للقواعد الإسلامية على أن في كلام ذلك المنتصر خللا من وجوه: الأول: أن قوله: يلزم إما خروج الماء عن حيزه الطبيعي الخ يقال في جوابه: أنه يجوز أن يخرج الماء عن حيزه الطبيعي وذلك غير محال وأن كان خروجه بنفسه بطريق السيلان عن حيزه الطبيعي محالا، ويشهد لذلك أنهم ذكروا أن الماء لثقله الإضافي يقتضي أن يكون فوق الأرض والأرض لثقلها الحقيقي تقتضي أن تكون مغمورة بأسرها فيه بحيث يمكن أن يفرض في جوفها نقطة تكون الخطوط الخارجة منها إلى سطح الماء متساوية من جميع الجهات مع أن الأمر اليوم ليس كذلك لانكشاف ربع شمالي من الأرض، وانحسار الماء عنه إما بسبب قرب الشمس في الجنوب إلى الأرض عند كونها في الحضيض بقدر ثخن المتمم المحوى كما قيل أو لأمر آخر يعلمه الله تعالى، الثاني: أن ما ذكره من استحالة تخلخل الماء ممنوع عندهم أيضا، وما يقال: إن القول بالتخلخل لا
يتصور في البسائط الحقيقية للزوم تركيب ما فيه مدفوع. فقد صرح في حكمة العين وشرحها بأن التخلخل الحقيقي - وهو أن يزداد مقدار الجسم من غير أن يزاد عليه شيء من خارج - ممكن، وحققه سيد المحققين في حواشيه بأن الجسم سواء كان مركبا من الهيولى والصورة أو لم يكن يمكن التخلخل والتكاثف فيه لأن مقدار الجسم زائد عليه والجسم من حيث هو لا مقدار له في ذاته فنسبته إلى جميع المقادير على السواء فأمكن أن يتصف بأكبر مما هو متصف به أو أصغر، وأيضا الجسم متصل واحد والمقدار زائد عليه والجسم البسيط جزؤه يساوي كله فإذا اتصف الكل بمقدار خاص فجزؤه إذا انفرد وجب أن يكون قابلا للاتصاف بذلك المقدار والكل بالعكس ضرورة تساوي المتماثلات في الأحكام، وحينئذ يتحقق إمكان ذلك، والثالث: أن التوجيه بحمل الإمكان على الإكان الذاتي الخ منظور فيه إذ لا يلزم من وقوع شيء في وقت من الأوقات إلا إمكان وجوده في ذلك الوقت وإن كان ذلك الإمكان مستمرا واجبا في جميع الأوقات، فقوله: إن ثبوت الإمكان للممكن واجب، فالممكن في وقت ممكن في كل وقت
5

إن أراد به أن إمكانه أمر ثابت له في كل وقت على أن قوله في كل وقت ظرف للإمكان فهو مسلم لكن اللازم منه أن يكون ذلك الشيء متصفا بالإمكان إمكانا مستمرا دائما غير مسبوق بعدم الاتصاف ولا سابق عليه ولا يلزم منه أن يكون وجوده في كل وقت ممكنا لجواز أن يكون وجود الشيء في الجملة ممكنا إمكانا مستمرا ولا يكون وجوده في كل وقت ممكنا بل ممتنع؛ ولا يلزم من هذا أن يكون الشيء من قبيل الممتنعات دون الممكنات فإن إمكان الشيء ليس معناه جواز اتصافه بجميع أنحاء الوجود بل معناه جواز اتصافه بوجود ما في الجملة فيكفي في إمكان الشيء جواز اتصافه بالوجود الواقع في وقت، والممتنع هو الذي لا يقبل الوجود بوجه من الوجوه، وإن أراد أنه ممكن الوجود في كل وقت على أن يكون في كل وقت ظرفا للوجود فهو ممنوع ولا يتفرع على كون ثبوت الإمكان للممكن واجبا، فإنه قد حقق المحقق الدواني في بعض تصانيفه أن إمكان الممكن وإن كان مستمرا في جميع الأزمنة لا يستلزم إمكان وجود ذلك الممكن في تلك الأزمنة، وعلى هذا اعتمد المتكلمون في الجواب عن استدلال الفلاسفة على قدم العالم بأنه ممكن الوجود في الأزل وإلا لزم الانقلاب وهو محال بالضرورة، وقدرة الباري تعالى أزلية بالاتفاق فلو كان العالم حادثا لزم ترك الجود وهو إفاضة الوجود وما يتبعه من الكمالات على الممكنات مدة غير متناهية وهو محال على الجواد الحق الكريم وحاصل الجواب: أن قولكم العالم ممكن الوجود في الأزل إن أردتم به أنه يمكن له الوجود الأزلي على أن يكون في الأزل متعلقا بالوجود فهو ممنوع لجواز أن يكون وجوده في الأزل ممتنعا، وإن أردتم به أن إمكان وجوده في الجملة مستمر في الأزل على أن يكون الظرف متعلقا بالإمكان فمسلم، ولا يلزم أن يكون وجود العالم في الأزل ممكنا لجواز أن يكون وجوده في الأزل مستحيلا مع أنه في الأزل متصف بإمكان وجوده فيما لا يزال، وهذا ما يقال إن أزلية الإمكان لا تستلزم إمكان الأزلية، وما قيل في إثبات الاستلزام إن إمكانه إذا كان مستمرا في الأزل لم يكن هو في ذاته مانعا من قبول الوجود في شيء من أجزاء الأزل فيكون عدم منعه منه أمرا مستمرا في جميع تلك الأجزاء، فإذا نظر إلى ذاته من حيث هو لم يمنع من اتصافه بالوجود في شيء منها بل جاز اتصافه به في كل منها بدلا فقط بل معا أيضا، وجواز اتصافه في كل منها هو إمكان اتصافه بالوجود المستمر في جميع أجزاء الأزل بالنظر إلى ذاته فأزلية الإمكان مستلزمة لإمكان الأزلية صحيح إلى قوله: لم يمنع من اتصافه بالوجود في شيء منها فإنه إن أراد أن ذاته لا تمنع في شيء من أجزاء الأزل من الاتصاف بالوجود في الجملة بأن يكون قوله في شيء منها متعلقا بعدم المنع فيكون معناه أنه لا يمنع في شيء من أجزاء الأزل من الوجود بعده فهو بعينه أزلية الإمكان ولا يلزم منه عدم منعه من الوجود الأزلي الذي هو إمكان الأزلية، وإن أراد به أن ذاته لا تمنع من الوجود في شيء من أجزاء الأزل بأن يكون الجار متعلقا بالوجود فهو بعينه إمكان الأزلية، والنزاع إنما وقع فيه فهو مصادرة على المطلوب، وليت شعري كيف صدر هذا الكلام من قائله مع أن من الموجودات ما هو إني الوجود كبعض الحروف ومع التصريح بأن ماهية الزمان تقتضي لذاتها عدم اجتماع أجزائها وتقدم بعضها على بعض إذ يلزم منه إمكان وجود كل من تلك الأجزاء في الأزل نظرا إلى ذاته، وتمام الكلام في ذلك يطلب من شرح المواقف وحواشيه.
وأورد على كون المراد بالخلاء الخلاء في عالمنا لأنه المتنازع فيه أنه صرح غير واحد بأن المتنازع فيه إنما هو الخلاء داخل العالم وحقيقته أن يكون الجسمان بحيث لا يتماسان وليس بينهما ما يماسهما بناءا على كونه متقدرا
6

قطعا، وأما الخلاء خارج العالم فمتفق عليه إذ لا تقدر هناك بحسب نفس الأمر، فالنزاع إنما هو في التسمية بالبعد، فالفلاسفة يقولون حقه أن لا يسمى بعدا ولا خلاءا، والمتكلمون يسمونه بعدا موهوما ولا شك أن عالم كون العرش على الماء من داخل العالم فالخلاء فيه داخل في المتنازع فيه، وقد نص عليه أيضا بعض المتأخرين.
ومن الناس من اعترض على قوله: إنه لو كان موضوعا على متن الماء للزم الخ بأن الأمور التي يلزم أحدها ذلك التقدير - وهي فاسدة - أكثر مما ذكر وسود وجه القرطاس ببيان ذلك وهو مما لا يحتاج إليه بل ولا يعول عليه، وزعم البعض أن ما راعاه القاضي في هذا الفصل ليس شيء منه مخالفا للقواعد الإسلامية، ووسوست له نفسه أن خروج الماء عن حيزه مما لا يجوز لأن الله سبحانه إن كان موجبا بالذات فلا يتصور الإخراج منه سبحانه لأن نسبته إليه على السوية بحسب الأوقات فلا يمكن كونه قاصرا في بعض دون بعض، وإن كان مختارا يقال: إن ذلك الخروج ممتنع في نفسه وهو سبحانه لا يفعل الممتنع ولا تتعلق قدرته به، وكذا يقال في التخلخل والتكاثف، ويجوز أن يكون بالطبع وإلا لكانا دائمين لأن مقتضى الذات لا يتخلف عنه، وممن ذهب إلى امتناعهما الأصفهاني في شرح حكمة المطالع ثم تكلم منتصرا لنفسه. وللقاضي. بما لا يسمن ولا يغني، وقال ابن صدر الدين بعد نقل كلام العلامتين: قد تقرر في علم الأبعاد والأجرام أن ليس لمجموع كرات العناصر بالنسبة إلى الفلك الأعظم الذي هو المراد بالعرش قدر محسوس فلا يتصور كونه موضوعا على متن كرة الماء فإن ذلك إنما يكون إذا كان عظم كرة الماء بحيث يملأ جوف العرش مماسا محد به مقعره وإلا لم يكن موضوعا على متنه الذي هو عبارة عن السطح المحدب بل إما أن لا يتماسا أصلا أو يتماسا بنقطة على ما يشهد به التخيل الصحيح، وكيف يتصور كونه مالئا له وهو الآن لم يمتلىء إلا بالسموات والأرض والكرسي والعناصر بجملتها، وليس لك أن تقول: لعل الماء في ابتداء الخلقة قد كان على هذا
المقدار الصغير الذي الآن عليه فتخلخل إلى حيث ملأ جوفه لامتناع الخلاء، فلما خلق سائر الأجرام العلوية والسفلية عاد بطبعه إلى ما تراه لأنا نقول: التخلخل عبارة عن ازدياد مقدار الجسم من غير أن ينضم إليه شيء فيستدعي حركة أينية وهي تستدعي وجود فضاء خال عن الشاغل وهو المراد بالخلاء، وكذا ليس لك أن تقول: فليكن في ابتداء الخلقة عظيم المقدار بحيث يملأ جوف العرش وتكاثف بعد خلق سائر الأجرام إلى هذا المقدار الصغير لأنا نقول أيضا: التكاثف الذي هو عبارة عن انتقاص مقدار الجسم من غير أن ينقص منه شيء سببه على ما تقرر عندهم أمران: أحدهما: التخلخل السابق العارض له بما يوجبه فإذا زال ذلك العارض عاد بطبعه إلى مقداره الأول كما في المد والجزر، وفي الصورة المذكورة لا يتصور هذا لأن المفروض أنه خلق ابتداءا عظيم المقدار بحيث يملأ جوف العرش فكيف يتصور أن يتخلخل بعارض حتى يعود عند زواله إلى مقداره الطبيعي الصغير وهو ظاهر؛ وثانيهما: الانجماد باستيلاء البرودة الشديدة، وهذا أيضا لا يتصور ههنا أما أولا فلأن الماء المنعقد جمدا وإن كان أصغر مقدارا منه غير منعقد لكنه لا إلى مرتبة لا يكون له قدر محسوس بالنسبة إلى مقداره الأول بل يقرب منه في الحس كما يشاهد في المياه المنعقدة ولا قدر لكرة الماء الموجود الآن بالنسبة إلى المالىء جوف العرش وهذا مثل أن ينعقد البحر فيصير كالعدسة ولا يلتزمه عاقل.
وأما ثانيا فلأن كرة الماء على ما يشاهد غير متجمدة بل باقية على طبعها من الذوبان، فإن قلت: بقي على تقدير كون الماء في ابتداء الخلقة عظيم المقدار مالئا لجوف العرش احتمال آخر وهو أن يفرز بعض أجزاء هذه الكرة العظيمة ويجعل مادة لسائر الأجرام السماوية والأرضية كما في سورة انقلاب بعض العناصر إلى بعض.
7

ويؤيده ما ورد في الأثر من أن العرش كان قبل خلق السموات والأرض على الماء، ثم أنه تعالى أحدث في الماء اضطرابا فأزبد فارتفع منه دخان وبقي الزبد على وجه الماء فخلق فيه اليبوسة فصار أرضا، وخلق من الدخان السموات، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه: * (ثم استوى إلى السماء وهي دخان) * (فصلت: 11) قلنا: إن هذا الاحتمال غير واقع أما على تقدير تركب الجسم من الهيولى والصورة على ما ذهب إليه المشاؤون من الفلاسفة فلأن هيولى العناصر وإن كانت واحدة بالشخص قابلة لأن يتوارد عليها صور العناصر بواسطة استعدادات متعاقبة تعرض إلا أن هيولى كل فلك مخالفة لهيولى فلك آخر لا تقبل إلا الصورة التي حصلت فيها، وأما على تقدير تركبه من الجواهر الفردة على ما هو مذهب أهل الحق فلأنها متخالفة الحقائق عند محققي المتأخرين على ما صرحوا به، فما يتركب منه الماء لا يجوز أن يتركب منه سائر الأجسام، وأما ما ورد في الأثر وأشارت إليه الآية من جعل الدخان المرتفع من الماء مادة للسموات فمصروف عن ظاهره إذ الدخان أجزاء نارية خالطتها أجزاء صغار أرضية تلطفت بالحرارة ولا تمايز بينهما في الحس لغاية الصغر، فقبل خلق السموات والأرض بما فيهما لم تكن نار وأرض، فمن أين يتولد الدخان؟ وكذا إن أريد بالدخان البخار لأنه أجزاء هوائية مازجتها أجزاء صغار مائية تلطفت بالحرارة بحيث لا تمايز بينهما في الحس أيضا فحيث لا هواء لا بخار، ولهذا قال القاضي في تفسير * (وهي دخان) *: أمر ظلماني، ولعله أراد به مادتها أو الأجزاء المتصغرة التي ركبت منها، ومن هنا ظهر أن ما في الأثر لا يؤيد كون العرش موضوعا على متن الماء ملتصقا به بل يؤيد أن لا يكون بينهما حائل إذ ارتفاع الدخان والبخار يستدعي وجود فضاء تتحرك فيه تلك الأجزاء، وفي صورة الالتصاق لا يمكن ذلك كما لا يخفى على من له تخيل سليم.
ويعلم مما ذكر أنه يجب تفسير الآية بما فسرها به القاضي ولا مجال للقول بالوضع على المتن فيتم الاستدلال، وأما قول أبي السعود: إنه لو دل الخ ففيه أن الوقوع أدل دليل على إمكان الشيء، ومثل هذا الاستدلال شائع ذائع في كلامهم، وأما أن المراد بالإمكان الإمكان الوقوعي فكلا إذ النزاع في الإمكان لا الوقوع، وما ينقل عن الأصمعي من أن هذا كقولهم السماء على الأرض مع أن أحدهما ليس ملتصقا بالآخر، وحينئذ يكون معنى قول القاضي: لم يكن حائل بينهما أنه لم يكن حائل محسوس بينهما وكان حائل غير محسوس وهو الهواء ليس بشيء ولا يصلح ما ذكر معنى لذلك إذ الفوقية كانت قبل خلق جميع أجرام هذا العالم فعلى تقدير عدم الالتصاق لا يتصور حائل أصلا، ثم بين وجه دلالة الآية على أن الماء أول حادث بعد العرش بنحو ما قدمنا ذكره انتهى المراد منه.
وأقول: إن هذا الاحتمال الذي أجاب عنه بزعمه قوي جدا، وما ذكره عن محققي المتأخرين صرح الجمهور بخلافه، وقد حقق ذلك في موضعه فلا مانع من أن يخلق الله تعالى من الماء الأجرام السماوية والأرضية بل وكل شيء، وما ذكره في حيز تعليل صرف الأثر عن ظاهره ليس بشيء أصلا إذ يجوز أن يحيل سبحانه بعض ذلك الماء المالىء أجزاء نارية وبعضه أجزاء أرضية ويجعل المجموع دخانا، وكذا يجوز أن يحيل البعض أجزاء هوائية فتمازج أجزاء صغارا مائية متلطفة بحرارة يخلقها حيث شاء فيتكون البخار، وفي الأثر عن وهب بن منبه أنه جل شأنه قبض قبضة من الماء ثم فتح القبضة فارتفع الدخان ثم قضاهن سبع سموات في يومين ويؤول حديث الارتفاع بما لا يستدعي الفضاء نحو أن يكون المعنى فوجد بعضه دخانا مرتفعا، وقد يقال: يجوز أن يكون الماء في ابتداء الخلقة مالئا للعرش ثم أنه سبحانه لما أراد أن يخلق ما يخلق أفنى منه ما أراد وخلق بلا فاصل يتحقق معه الخلاء بدله ما خلق لا من شيء، والقول باستحالة هذا الخلق مفض إلى فساد عظيم وخطب جسيم لا يكاد يستسهله أحد من المسلمين وهو ظاهر،
8

وما ذكره في دفع قول شيخ الإسلام: أنه لو دل لدل الخ غير ظاهر فيه، قيل: إذ الاعتراض بطريق أنه لو دل لدل على وجود الخلاء لا على إمكانه الصرف لأن الشيء إذا كان موجودا كان وجوده ضروريا لا ممكنا صرفا على ما بين في محله، وينادي على أن الاعتراض كذلك تقييد الإمكان في عبارته بقيد فقط مع القول بالدلالة على الوجود.
وأورد بعضهم على قوله: قد تقرر في علم الأبعاد والأجرام الخ أن ذلك مبني على ظن أن الماء في الآية هو الماء العنصري وأنه من بعض الظن إذ ذاك إنما خلق بعد خلق الأرض فكيف يتصور أن يكون العرش الذي خلق قبل السموات والأرض عليه فضلا عن أن يكون موضوعا على متنه أو غير موضوع عليه من غير حائل بينهما، وإنما هو الماء الطبيعي النوري العمائي الذي تكون العرش منه، وفيه صرف اللفظ عن ظاهره، ونظير ذلك ما قاله الكامل بن الكمال: ليس المراد من العرش تاسع
الأفلاك، ولا من الماء أحد العناصر لما شهد بذلك شهادة صحيحة لا مرد لها ما أخرجه مسلم في صحيحه من قوله صلى الله عليه وسلم: " كان الله تعالى ولم يكن معه شيء وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض " فلا وجه للاستدلال به على إمكان الخلاء، وأن الماء أول حادث بل عرشه سبحانه عبارة عن قيوميته بناءا على أنه في الأصل سرير الملك وهو مظهر سلطانه، والماء إشارة إلى صفة الحياة باعتبار أن منه كل شيء حي، فمعنى * (وكان عرشه على الماء) * وكان حيا قيوما، وفي لفظة * (على) * تنبيه على ترتب أحدهما على الآخر فتدبر انتهى.
ولعل وجه شهادة الخبر بذلك النفي تضمنه على تقدير الإثبات ما ينافي ما تضمنه النفي فيه إذ يكون حينئذ شيآن معه سبحانه فضلا عن شيء، ولا يخفى أن هذا إنما يتم لو كانت الجملة الماضوية في موضع الحال، والظاهر أنها كغيرها معطوفة على الجملة المستأنفة، وليس في الكلام ما يقتضي أن المعنى * (وكان عرشه على الماء) * مع وجوده تعالى بدون معية شيء له ليضطر إلى حمل الماء والعرش على ما علمت من صفتيه تعالى، ولا أرى في الحديث أكثر من إفادة ثبوت ما تضمنته المتعاطفات قبل حلق السموات والأرض، وأما أن كونه تعالى ولم يكن معه شيء - وكون عرشه سبحانه على الماء، وكتابته في الذكر ما كتب كلها في وقت واحد هو وقت وجوده تعالى الواقع بعده خلق السموات والأرض بمهلة وتراخ - فلا أراه، وقد جاء في بعض الروايات عطف الخلق على ما قبله بالواو كسائر المعطوفات.
أخرج أحمد. والبخاري. والترمذي. والنسائي. وغيرهم عن عمران بن حصين قال: " قال أهل اليمن: يا رسول الله أخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان؟ قال: كان الله تعالى قبل كل شيء وكان عرشه على الماء وكتب في اللوح الحفوط ذكر كل شيء وخلق السموات والأرض " الخبر، ثم إنه لا يتم أمر الشهادة بمجرد ما تقدم بل لا بد أيضا من حمل الكتابة في الذكر على التقدير، ونفى أن يكون هناك كتابة ومكتوب فيه حسبما يتبادر منهما، ويلتزم هذا في الخبر الثاني أيضا، ومع ذلك يعكر على القول بكون زمن التقدير متحدا كزمن قيوميته وحياته تبارك وتعالى مع زمن وجوده سبحانه ما أخرج مسلم. والترمذي. والبيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء " لأن أجزاء الزمان الموهوم الفاصل بين زمان وجوده تعالى ووجود صفاته وزمان وجود الخلق غير متناهية، فكيف تقدر بخمسين ألف سنة وضربها في نفسها وضرب الحاصل من ذلك بنفسه ألف ألف مرة أقل قليل بل لا شيء يذكر بالنسبة إلى غير المتناهى؛ ويعارض هذه
9

الشهادة أيضا ما تقدم في حديث أبي رزين العقيلي من قوله عليه الصلاة والسلام: " وخلق عرشه على الماء " فإنه نص في أن العرش مخلوق، ولا يجوز أن تكون القيومية مخلوقة، وكذا ما روي عن كعب من أنه سبحانه خلق ياقوتة خضراء فنظر إليها بالهيبة فصارت ماءا، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها، ثم وضع العرش على الماء، وجاء حديث كون الماء على متن الريح عن ابن عباس، وقد أخرج ذلك عنه ابن جرير. وابن المنذر. والحاكم وصححه. والبيهقي. وغيرهم، وإباء ما ذكر عن كون الماء بمعنى صفة الحياة له تعالى ظاهر، ومثله ما أخرجه ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس أنه قال: كان عرشه سبحانه على الماء فلما خلق السموات والأرض قسم ذلك الماء قسمين فجعل نصفا تحت العرش - وهو البحر المسجور - فلا تقطر منه قطرة حتى ينفخ في الصور فينزل منه مثل الطل فتنبت منه الأجسام، وجعل النصف الآخر تحت الأرض السفلى، ولعل وجه الأمر بالتدبر في كلام هذا الفاضل الإشارة إلى ما ذكرنا.
وبالجملة لا شك أن المتبادر من الماء ما هو أحد العناصر ومن العرش الجسم الذي جاء في الأخبار من وصفه ما يبهر العقول وشهادة الخبر السابق مع كونها شهادة نفي عارضتها شهادات إثبات غير نص في المطلوب كما علمت، ومن كون العرش على الماء ما يعم الشقين كونه موضوعا على متنه مما ساله وكونه فوقه من غير أن يكون بينهما ما يماسهما، وتخصيصه بالشق الثاني مما لا يتم له دليل ولا يصفو عن القال والقيل، وأن الآية لا تصلح دليلا على كون الماء أول حادث بعد العرش، ومن رجع إلى الأخبار المعول عليها رأي بعضها كخبر أبي رزين الذي حسنه الترمذي ظاهرا في أن الماء قبل العرش، وقصارى ما يقال في هذا المقام: إن الحق مع شيخ الإسلام وأن نصرة القاضي - وإن كان ناصر الدين - نصرة خارجة عن الطريق المستبين، فلا تلتفت هداك الله سبحانه إلى من أطال في ذلك بلا طائل، وأتى بكلام لا يشبه كلام عاقل، وزعم أن ذاك من الحكمة وهو عنها - علم الله بمراحل، ولولا الوقوع في العبث لنقلناه ونبهنا على ما فيه، وإن كان حال ظاهره مؤذنا بحال خافيه، نعم قد يقال: إن البيضاوي إنما ذكر أنه استدل بالآية على كذا وكذا، ولم يدع أن فيها دليلا على ذلك، فما يتوجه من الاعتراضات إنما يتوجه على المستدل دونه وكأنه من وجه إليه ذلك ادعى ارتضاءه للاستدلال بدليل ما وطأه له من المقال، وزعم الجبائي أن في الآية دلالة على أنه كان قبل خلق السموات والأرض حي مكلف لأن خلق العرش على الماء لا وجه لحسنه إلا أن يكون فيه لطف بمكلف يمكنه الاستدلال به، ورده على ابن عيسى بأنه لا يلزم ذلك ويكتفي بكون الأخبار به نافعا للمكلفين واختاره المرتضى، ومنشأ ذلك الاعتزال، والله تعالى الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب.
* (ليبلوكم) * اللام للتعليل مجازا متعلقة ب * (- خلق) * أي خلق السموات والأرض وما فيهما من المخلوقات التي من جملتها أنتم، ورتب فيهما جميع ما تحتاجون إليه من مبادي وجودكم وأسباب معاشكم وأودع في تضاعيفهما ما تستدلون به من تعاجيب الصنائع والعبر على مطالبكم الدينية ليعاملكم معاملة من يختبركم.
* (أيكم أحسن عملا) * فيجازيكم حسب أعمالكم، وقيل: متعلق بفعل مقدر أي أعلم بذلك * (ليبلوكم) * وقيل: التقدير وخلقكم * (ليبلوكم) * وقيل: في الكلام جملة محذوفة أي وكان خلقه لهما لمنافع يعود عليكم نفعها في الدنيا دون الآخرة وفعل ذلك * (ليبلوكم) * والكل كما ترى، والابتلاء في الأصل الاختبار والكلام خارج مخرج التمثيل
10

والاستعارة، ولا يصح إرادة المعنى الحقيقي لأنه إنما يكون لمن لا يعرف عواقب الأمور.
وقيل: إنه مجاز مرسل عن العلم للتلازم بين العلم والاختبار، وهو محوج إلى تكلف أن يراد ليظهر تعلق علمه الأزلي وإلا فالعلم القديم الذاتي ليس متفرعا على غيره،
وما تقدم لا تكلف فيه، وهو مع بلاغته مصادف محزه، والمراد بالعمل ما يشمل عمل القلب وعمل القالب، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن جرير. وابن أبي حاتم. والحاكم في التاريخ. وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: " تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية * (ليبلوكم) * الخ فقلت: ما معنى ذلك يا رسول الله؟ قال: ليبلوكم أيكم أحسن عقلا، ثم قال: وأحسنكم عقلا أورعكم عن محارم الله تعالى وأعملكم بطاعة الله تعالى " لكن ذكر الحافظ السيوطي أن سنده واه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان أن معنى * (أحسن عملا) * أزهد في الدنيا، وعن مقاتل أتقي لله تعالى، وعن الضحاك أكثرهم شكرا، ولعل أخذ العمل شاملا للأمرين أولى، وأفضلها ما كان عمل القلب كيف لا ومدار العبادة القالبية الواجبة على العباد معرفة الله تعالى التي تحل القلب، وقد يرفع به للعبد في يوم مثل عمل أهل الأرض.
وفي بعض الآثار " تفكر ساعة يعدل عبادة سبعين سنة " واعبتار خلق السموات في ضمن المفرع عليه لما أن في السموات مما هو من مبادي النظر وتهيئة أسباب المعاش الأرضية التي بها قوام القالب ما لا يخفى، وقريب من هذا أن ذكر السموات وخلقها لتكون أمكنة الكواكب والملائكة العاملين فيها لأجل الإنسان.
وقال بعض المحققين. إن كون خلق الأرض وما فيها للابتلاء ظاهر، وأما خلق السموات فذكر تتميما واستطرادا مع أن السموات مقر الملائكة الحفظة وقبلة الدعاء ومبهط الوحي إلى غير مما له دخل في الابتلاء في الجملة، ولعل ما أشير إليه أولا أولى، وجملة الاستفهام في موضع المفعول الثاني لفعل البلوي على المشهور، وجعل في الكشاف الفعل هنا معلقا لما فيه من معنى العلم، ومنع في سورة الملك تسمية ذلك تعلقا مدعيا أنه إنما يكون إذا وقع بعد الفعل ما يسد مسد المفعولين جميعا - كعلمت أيهما فعل كذا. وعلمت أزيد منطلق - وبين كلاميه في السورتين اضطراب بحسب الظاهر، وأجاب عنه في الكشف بما حاصله أن للتعليق معنيين: مصطلح ويعدى بعن وهو المنفى في تلك السورة. ولغوي ويعدى بالباء وعلى، وهو خاص بفعل القلب من غير تخصيص بالسبعة المتعدية إلى مفعولين ولا يكون إلا في الاستفهام خاصة دون ما فيه لام الابتداء ونحوه، ومعنى تعليق الفعل على ما فيه ذلك أن يرتبط به معنى وإعرابا سواء كان لفظا أو محلا وهو المثبت ههنا، وقال الطيبي: يمكن أن يكون ما هنا على إضمار العلم كأنه قيل: * (ليبلوكم) * فيعلم * (أيكم أحسن عملا) * والتعليق فيه ظاهر، وما هناك على تضمين الفعل معنى العلم كأنه قيل: ليعلمكم أيكم الخ فيصح النفي، ولا يخفى على من راجع كلامه أن فيه ما يأبى ذلك، وقد يقال: إن التعليق لا يختص بما كان من الأفعال بمعنى العلم كما ذهب إليه ثعلب. والمبرد. وابن كيسان، وإن وجهه أويس بما في همع الهوامع، ورجحه الشلوبين، ولا بالفعل القلبي مطلقا بل يكون فيه وفي غيره مما ألحق به لكن من الاستفهام خاصة، واقتصر بعضهم في الملحق على بصر. وتفكر. وسأل - وزاد ابن خروف نظر - ووافقه ابن عصفور. وابن مالك، وزاد الأخير نسى كما في قوله: ومن أنتم إنا نسينا من أنتم
ونازعه أبو حيان بأن - من - تحتمل الموصولية والعائد محذوف أي من هم أنتم، وكذا زاد أيضا ما قارب المذكورات من الأفعال التي لها تعلق بفعل القلب - كترى البصرية - في قوله: أما ترى أي برق هنالك، وكيستنبئون في قوله تعالى:
11

* (ويستنبئونك أحق هو) * (يونس: 53) وكنبلو فيما نحن فيه، ونازعه أبو حيان بأن ترى في الأول علمية، وأيكم في الأخير موصولة حذف صدر صلتها فبنيت وهي بدل من ضمير الخطاب بدل بعض، ونقل ذلك عنه الجلال السيوطي ولم أجده في بحره، وفي الرضى أن جميع أفعال الحواس تعلق عن العمل، وفي التسهيل ما يؤيده، وأجاز يونس تعليق كل فعل غير ما ذكر، وخرج عليه * (ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد) * (مريم: 69) والجمهور لم يوافقوه على ذلك، وقد ذكر بعض الفضلاء أن الفعل القلبي وما جرى مجراه إما متعد إلى واحد أو اثنين، فالأول يجوز تعليقه سواء تعدى بنفسه كعرف، أو بحرف كتفكر لأن معموله لا يكون إلا مفردا، وبالتعليق بطل عمله في المفرد الذي هو مقتضاه وتعلق بالجملة، ولا معنى للتعليق إلا إبطال العمل لفظا لا محلا وإن تعدى لاثنين، فإما أن يجوز وقوع الثاني جملة كما في باب علم أولا، فإن جاز علق عن المفعولين نحو علمت لزيد قائم لا عم الثاني لأنه يكون جملة بدون تعليق فلا وجه لعده منه إذ لا فرق بين أداة التعليق وعدمها فالتعليق لا يبطل عمل الفعل أصلا كما في علمت زيدا أبوه قائم، وعلمت زيدا لا أبوه قائم، فإن عمله في محل الجملة لا فرق فيه بين وجود حرف التعليق وعدمه وإن لم يجز، وورد فيه كلمة تعليق كان منه نحو * (يسئلونك ماذا ينفقون) * (البقرة: 215) فإن المسؤول عنه لا يكون إلا مفردا. والفعل فيما نحن فيه يحتمل أن يكون عاملا فيما بعده وهو المختبر به غير متضمن علما، وفعل البلوي إذا كان كذلك يتعدى بالباء إلى المختبر به ولا يكون إلا مفردا كما في قوله تعالى: * (ولنبلونكم بشيء) * (البقرة: 551) والاستفهام قد أبطل مقتضاه لفظا وهو التعليق، ويحتمل أن يكون متضمنا معنى العلم ويكون العلم عاملا فيه وهو مفعوله الثاني، وحينئذ لا تعليق، ومن هنا يظهر أن تعليق الفعل في الآية إنما هو على تقدير إعمال فعل البلوى، وعدم تعليقه على تقدير إعمال العلم فلا منافاة بين الكلامين انتهى وهو تفصيل حسن، وفي الهمع أن الجملة بعد المعلق في باب علم وأخواتها في موضع المفعولين فإن كان التعليق بعد استيفاء المفعول الأول فهي في موضع المفعول الثاني، وأما في غير هذا الباب فإن كان الفعل مام يتعدى بحرف الجر فالجملة في موضع نصب باسقاطه نحو فكرت أهذا صحيح أم لا، وجعل ابن مالك منه * (فلينظر أيها أزكى طعاما) * (الكهف: 19) وإن كان مما يتعدى لواحد فهي في موضعه نحو عرفت أيهم زيد، فإن كان مفعوله مذكورا نحو عرفت زيدا أبو من هو، فالجملة بدل منه على ما اختاره السيرافي. وابن مالك، وهو بدل كل من كل بتقدير مضاف أي قصة زيد أو أمره عند ابن عصفور، والتزم ذلك ليكون المبدل منه جملة في المعنى، وبدل اشتمال ولا حاجة إلى التقدير عند ابن الصائغ، وذهب المبرد والأعلم. وابن خروف. وغيرهم إلى أن الجملة في موضع نصب على الحال، وذهب الفارسي إلى أنها في موضع المفعول الثاني لعرفت على تضمينه معنى علمت، واختاره أبو حيان وفيه نوع مخالفة في الظاهر لما تقدم تظهر بالتأمل إلا أنه اعترض القول بأن ما بعد فعل البلوي مختبر به بأن المختبر به إنما هو خلق السموات والأرض، وأجيب بأن ذلك وإن كان في نفس الأمن مختبرا عنه والمختبر به ما ذكر إلا أنه جعل مختبرا به باعتبار ترتبه
على ذلك، ولا يحفى ما فيه، وقال بعض أرباب التحقيق في دفع المخالفة: إن الزمخشري جعل قوله سبحانه هنا: * (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) * بجملته استعارة تمثيلية فتكون مفرداته مستعملة في معناها الحقيقي معطاة ما تستحقه، وفعل البلوي يعلق عن المفعول الثاني لأنه لا يكون جملة إذ هو يتعدى له بالباء وحرف الجر لا يدخل على الجمل، وجرى التعليق فيه بناءا على أنه مناسب لفعل القلوب معنى، وقد صرح غير واحد بجريانه في ذلك وجعله ثمة مستعارا لمعنى العلم، والفعل إذ تجوز به عن معنى فعل آخر عمل عمله وجرى عليه حكمه، وعلم لا يعلق عن المفعول الثاني فكذا
12

ما هو بمعناه فيكون قد سلك في كل من الموضعين مسلكا تفننا، وكثيرا ما يفعل ذلك في كتابه، ولعله لم يعكس الأمر لأن ما فعله في كل أنسب بما قبله من خلق السموات والأرض وما فيها من النعم والمنافع وخلق الموت والحياة، ولا يخفى أن هذا قريب مما تقدم وفيه ما فيه.
والاتيان بصيغة التفضيل الدالة على الاختصاص بالمختبرين ألا حسنين أعمالا مع شمول الاختبار لفرق المكلفين وتتفاوت أعمال الكفار منهم إلى حسن شرعي وقيبح لا إلى حسن وأحسن كما في أعمال المؤمنين للتحريض على أحاسن المحاسن، والتحضيض على الترقي دائما لدلالته على أن الأصل المقصود بالاختبار ذلك الفريق ليجازيهم أكمل الجزاء فكأنه قيل: المقصود أن يظهر أفضليتكم لأفضلكم فإن ذلك مفروغ عنه لا يحيد عنه ذولب، وجوز أن يكون من باب الزيادة المطلقة وأن يكون من باب أي الفريقين خير مقاما، وأيا ما كان فالخطاب ليس خاصا بالمؤمنين لأن إظهار حال غيرهم مقصود أيضا لكنه لا بالذات على الوجه الأول.
* (ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن ه‍اذا إلا سحر مبين) *. أي مثله في الخديعة والبطلان، فالتركيب من التشبيه البليغ، والإشارة إلى القول المذكور، وجوز أن تكون للقرآن كأنه قيل: لو تلوت عليهم من القرآن ما فيه إثبات البعث لقالوا هذا المتلو يحر، والمراد إنكار البعث بطريق الكناية الايكائية لأن إنكار البعث إنكار للقرآن، وقيل: إن الاخبار عن كونهم مبعوثين وإن لم لم يجب عن كونه بطريق الوحي المتلو إلى أنهم عند سماعهم ذلك تخلصوا إلى القرآن لانبائه عنه في كل موضع وكونه علما عندهم في ذلك فعمدوا إلى تكذيبه، وتسميته سحرا تماديا منهم في العناد وتفاديا عن سنن الرشاد وهو خلاف الظاهر، وقيل: الإشارة إلى نفس البعث، وتعقب بأنه لا يلائمه التسمية بالسحر فإنه إنما يطلق على شيء موجود ظاهرا لا أصل له في الحقيقة، ونفس البعث عندهم معدوم بحت، وفيه بحث لجواز أنهم أرادوا من السحر الأمر الباطل والشيء الذي لا أصل له ولا حقيقة لشيوعه فيما بينهم بذلك حتى كأنه علم له.
وجوز أن تكون الإشارة إلى القائل، والاخبار عنه بالسحر للمبالغة، والخطاب في * (إنكم) * إن كان لجميع المكلفين فالموصول مع صلته للتخصيص أي ليقولن الكافرون منهم، وإن كان للكافرين فذكر الموصول ليتوصل به إلى ذمهم بعنوان الصلة، وتعلق الآية الكريمة بما قبلها إما من حيث أن البعث من تتمات الابتلاء المذكور فيه كأنه قيل: الأمر كما ذكر، ومع ذلك إن أخبرتهم بمقدمة فذة من مقدماته وقضية فردة من تتماته يقولون ما يقولون فضلا عن أنهم يصدقون بما وقع هذا تتمة له، وإما من حيث أن البعث خلق جديد فكأنه قيل: وهو الذي خلق جميع المخلوقات ليترتب عليها ما يترتب، ومع ذلك إن أخبرتهم بأنه سبحانه يعيدهم تارة أخرى وهو أهون عليه يعدون ذلك ما يعدون فسبحان الله عما يصفون.
وقرأ عيسى الثقفي * (ولئن قلت) * بضم التاء على أن الفعل مسند إليه تعالى أي * (ولئن قلت) * ذلك في كتابي المنزل عليك * (ليقولن الذين كفروا) * الخ، وفي البحر أن المعنى على ذلك * (ولئن قلت) * مستدلا على البعث من بعد الموت إذ في قوله تعالى: * (وهو الذي خلق) * (الحديد: 4) الخ دلالة على القذرة العظيمة، فمتى أخبر بوقوع ممكن وقع لا محالة وقد أخبر بالبعث فوجب قبوله وتيقن وقوعه انتهى وهو لدى الذوق السليم كماء البحر.
وقرأ الأعمش * (أنكم) * بفتح الهمزة على تضمين * (قلت) * معنى ذكرت * (ولئن قلت) * ذاكرا * (أنكم مبعوثون) * فإن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول للذكر، واستظهر بعضهم كون القول بمعنى الذكر مجازا، وتعقب بأن
13

الذكر والقول مترادفان فلا معنى للتجوز حينئذ، ولما كان القول باقيا في التضمين جاء الخطاب على مقتضاء.
وجوز أن تكون أن بمعنى عل، ونقل ذلك عن سيبويه، وجاء ائت السوق علك تشتري لحما وأنك تشتري لحماف، وهي لتوقع المخاطب لكن لا على سبيل الأخبار فإنهم لا يتوقعون البعث بل على سبيل الأمر كأنه قيل: توقعوا بعثكم ولا تبتوا القول بانكاره، وبذلك يندفع ما يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قاطع بالبعث فكيف يقول لعلكم مبعوثون، وأيضا القراءة المشهورة صريحة في القطع والبت، وهذه صريحة في خلافه فيتنافيان، ومنهم من قال: يجوز أن يكون هذا من الكلام المنصف والاستدراج فربما ينتبهون إذا تفكروا ويقطعون بالبعث إذا نظروا.
وقرأ حمزة. والكسائي - إلا ساحر - والإشارة إلى القائل، ولا مبالغة في الإحبار كما كانت على هذا الاحتمال في قراءة الجمهور، ويجوز أن تكون للقول أو للقرآن، وفيه من المبالغة ما في قولهم: شعر شاعر.
* (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون) *
* (ولئن أخرنا عنهم العذاب) * أي المترتب على بعثهم أو الموعود بقوله سبحانه: * (وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير) * (هود: 3) وقيل: عذاب يوم بدر، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قتل جبريل عليه السلام المستهزئين وهم خمسة نفر أهلكوا قبل بدر، والظاهر أن المراد العذاب الشامل للكفرة، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن المنذر. وابن أبي حاتم عن قتادة قال: لما نزل * (اقترب للناس حسابهم) * (الأنبياء: 1) قال ناس: إن الساعة قد اقتربت فتناهوا فتناهى القوم قليلا ثم عادوا إلى أعمالهم أعمال السوء فأنزل الله سبحانه * (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) * (النحل: 1) فقال أناس من أهل الضلالة: هذا أمر الله تعالى قد أتى فتناهى القوم ثم عادوا إلى عكرهم عكر السوء فأنزل الله تعالى هذه الآية * (إلى أمة معدودة) * أي طائفة من الأيام قليلة لأن ما يحصره العد قليل.
وقيل: المراد من الأمة الجماعة من الناس أي ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى جماعة يتعارفون ولا يكون فيهم مؤمن؛ ونقل هذا عن علي بن عيسى، وعن الجبائي أن المعنى إلى أمة بعد هؤلاء نكلفهم فيعصون فتقتضى الحكمة إهلاكهم وإقامة القيامة، وروى الإمامية - وهم بيت الكذب - عن أبي جعفر. وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالأمة المعدودة أصحاب المهدي في آخر الزمان وهم ثلثمائة وبضعة عشر رجلا كعدة أهل بدر * (ليقولن ما يحبسه) * أي أي شيء يمنعه من المجيء فكأنه يريده ويمنعه مانع، وكانوا يقولون ذلك بطريق الاستعجال وهو كناية عن الاستهزاء والتكذيب لأنهم لو صدقوا به لم يستعجلوه وليس غرضهم الاعتراف بمجيئه والاستفسار عن جابسه كما يرشد إليه ما بعد.
* (ألا يوم يأتيهم) * ذلك العذاب الأخروي أو الدنيوي * (ليس مصروفا عنهم) * أي أنه لا يرفعه رافع أبدا، أو لا يدفعه عنهم دافع بل هو واقع بهم، والظاهر أن * (يوم) * منصوب - بمصروفا - الواقع خبر ليس، واستدل بذلك جمهور البصريين على جواز تقديم خبرها عليها كما يجوز تقديمه على اسمها بلا خلاف معتد به لأن تقديم المعمول يؤذن بتقديم العامل بطريق الأولى وءلا لزم مزية الفرع على أصله، وذهب الكوفيون. والمبرد إلى عدم الجواز وادعوا أن الآية لا تصلح حجة لأن القاعدة المشار إليها غير مطردة ألا ترى قوله سبحانه: * (فأما اليتيم فلا تقهر) * (الضحى: 9) كيف تقدم معمول الفعل مع امتناع تقديمه لأن الفعل لا يلي أما، وجاء عن الحجازيين أنهم يقولون ما اليوم زيد ذاهبا مع أنه لا يجوز تقديم خبر ما اتفاقا، وأيضا المعمول فيها ظرف والأمر فيه مبني على
14

التسامح مع أنه قيل: إنه متعلق بفعل محذوف دل عليه ما بعده، والتقدير ألا يصرف عنهم العذاب أو يلازمهم يوم يأتيهم، ومنهم من جعله متعلقا - بيخافون - محذوفا أي ألا يخافون يوم الخ، وقيل: هو مبتدأ لا متعلق - بمصروفا - ولا بمحذوف، وبني على الفتح لإضافته للجملة، ونظير ذلك قوله سبحانه: * (هذا يوم ينفع الصادقين) * (المائدة: 119) على قراءة الفتح، وأنت تعلم أن في بناء الظرف المضاف لجملة صدرها مضارع معرف خلافا بين النحاة، وأن الظاهر تعلقه - بمصروفا - نعم عدم صلاحية الآية للاحتجاج مما لا ريب فيه، وفي البحر قد تتبعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقديم خبر ليس عليها ولا بتقديم معموله إلا ما دل عليه ظاهر هذه الآية الكريمة، وقول الشاعر:
فيأبى فما يزداد إلى لجاجة * وكنت أبيا في الخنى لست أقدم
* (وحاق بهم) * أي نزل وأحاط، وأصله حق فهو - كزل وزال. وذم وذام - والمراد يحيق بهم.
* (ما كانوا به يستهزءون) * إلا أنه عبر بالماضي لتحقق الوقوع، والمراد بالموصول العذاب وعبر به عنه تهويلا لمكانه، وإشعارا بعلية ما ورد في حيز الصلة من استهزائهم به لنزوله وإحاطته ووضع الاستهزاء موضع الاستعجال لأنه كان استهزاءا.
* (ولئن أذقنا الإنس‍ان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور) *
* (ولئن أذقنا الإنس‍ان منا رحمة) * أي أعطيناه نعمة من صحة. وأمن. وجدة. وغيرها وأوصلناها إليه بحيث يجد لذتها فالاذاقة مجاز عن هذا الإعطاء * (ثم نزعنها) * أي سلبنا تلك الرحمة * (منه) * صلة النزع، والتعبير به للاشعار بشدة تعلقه بها وحرصه عليه * (إنه ليؤوس) * شديد اليأس كثيره قطوع رجاءه من عود مثل تلك النعمة عاجلا أو آجلا بفضل الله تعالى لعدم صبره وتوكله عليه سبحانه وثقته به.
* (كفور) * كثير الكفران لما سلف لله تعالى عليه من النعم، وتأخير هذا الوصف عن وصف يأسهم لرعاية الفواصل على أن اليأس من باب الكفران للنعمة السالفة أيضا.
* (ولئن أذقناه نعمآء بعد ضرآء مسته ليقولن ذهب السيئات عنيإنه لفرح فخور) *
* (ولئن أذقن‍اه نعمآء) * كصحة. وأمن. وجدة * (بعد ضرآء مسته) * كسقم وخوف وعدم، وفي إسناد الإذاقة إليه تعالى دون المس إشعار بأن إذاقة النعمة مقصودة بالذات دون مس الضر بل هو مقصود بالعرض، ومن هنا قال بعضهم: إنه ينبغي أن تجعل - من - في قوله سبحانه: * (منه) * للتعليل أي نزعناها من أجل شؤمه وسوء صنيعه وقبح فعله ليكون منا، و * (منه) * مشيرا إلى هذا المعنى ومنطبقا عليه كما قال سبحانه: * (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) * (النساء: 79) ولا يخفى أن تفسير * (منه) * بذلك خلاف الظاهر المتبادر ولا ضرورة تدعو إليه، وإنما لم يؤت ببيان تحول النعمة إلى الشدة وبيان العكس على طرز واحد بل خولف التعبير فيهما حيث بدىء في الأول باعطاء النعمة وإيصال الرحمة ولم يبدأ في الثاني بإيصال الضر على نمطه تنبيها على سبق الرحمة على الغضب واعتناءا بشأنها، وفي التعبير عن ملابسة الرحمة والنعماء بالذوق المؤذن على ما قيل بلذتهما وكونهما مما يرغب فيه وعن ملابسة الضراء بالمس المشعر بكونها في أدنى ما يطلق عليه اسم اللاقاة من مراتبها من اللطف ما لا يخفى، ولعله يقوي عظم شأن الرحمة.
وذكر البعض أن في لقظ الإذاقة والمس بناءا على أن الذوق ما يختبر به الطعوم، والمس أول الوصول تنبيها على أن ما يجد الإنسان في الدنيا من المنح والمحن نموذج لما يجده في الآخرة، وأنه يقع في الكفران والبطر بأدنى شيء * (ليقولن ذهب السيئات عني) * أي المصائب التي تسوؤني ولن يعتريني بعد أمثالها * (إنه لفرح) *
15

بطر بالنعمة مغتر بها، وأصله فارح إلا أنه حول لما ترى للمبالغة، وفي البحر أن فعلا بكسر العين هو قياس اسم الفاعل من فعل اللازم، وقرىء * (فرح) * بضم الراء كما تقول: ندس. ونطس، وأكثر ما ورد الفرح في القرآن للذم فإذا قصد المدح قيد كقوله سبحانه: دفرحين بما آتاهم الله من فضله * (فخور) * متعاظم على الناس بما أوتي من النعم مشغول بذلك عن القيام بحقها، واللام في * (لئن) * في الآيات الأربع موطئة للقسم، وجوابه ساد مسد جواب الشرط كما في قوله: لئن عادلي عبد العزيز بمثلها * وأمكنني منها إذن لا أقيلها
* (إلا الذين صبروا وعملوا الص‍الحات أول‍ائك لهم مغفرة وأجر كبير) *
* (إلا الذين صبروا) * استثناء من الإنسان، وهو متصل إن كان أل فيه لاستغراق الجنس، وهو الذي نقله الطبرسي مخالفا لابن الخازن عن الفراء، ومنقطع إن كانت للعهد إشارة إلى الإنسان الكافر مطلقا، وعن ابن عباس أن المراد منه كافر معين وهو الوليد بن المغيرة، وقيل: هو عبد الله بن أمية المخزومي، وذكره الواحدي، وحديث الانقطاع على الروايتين متصل، ونسب غير مقيد بهما إلى الزجاج. والأخفش، وأيا ما كان فالمراد صبروا على ما أصابهم من الضراء سابقا أو لاحقا إيمانا بالله تعالى واستلام لقضائه تعالى:
* (وعملوا الص‍الح‍ات) * شكرا على نعمه سبحانه السابقة واللاحقة، قال المدقق في الكشف: لما تضمن اليأس عدم الصبر. والكفران عدم الشكر كان المستنثى من ذلك ضده ممت اتصف بالصبر والشكر فلما قيل: * (إلا الذين) * الخ كان بمنزلة إلا الذين صبروا وشكروا وذلك من صفات المؤمن، فكني بهما عنه فلذا فسره الزمخشري بقوله: إلا الذين آمنوا، فإن عادتهم إذا أتتهم رحمة أن بشكروا وإذا زالت عنهم نعمة أن يصبروا فلذا حسنت الكناية به عن الإيمان، ثم عرض بشيخه الطيبي بقوله: وأما دلالة * (صبروا) * على أن العمل الصالح شكر لأنه ورد في الأثر الإيمان نصفان: نصف صبر. ونصف شكر، ودلالة عملوا على أن الصبر إيمان لأنهما ضميمتان في الأكثر فغير مطابق لما نحن فيه إلا أن يراد وجه آخر كأنه قيل: إلا المؤمن الصالح الصابر الشاكر وهو وجه - لكن القول ما قالت حذام - لأن الكناية تفيد ذلك مع ما فيها من الحسن والمبالغة * (أولئك) * إشارة إلى الموصول باعتبا اتصافه بما في حيز الصلة وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة أي أولئك الموصوفون بتلك الصفات الحميدة * (لهم مغفرة) * عظيمة لذنوبهم ما كانت * (وأجر) * ثواب لأعمالهم الحسنة * (كبير) * وصف بذلك لما احتوى عليه من النعيم السرمدي ورفع التكاليف والأمن من العذاب ورضا الله سبحانه عنهم والنظر إلى وجهه الكريم في جنة عرضها السموات والأرض، ووجه تعلق الآيات الثلاث بما قبلهن على ما في البحر أنه تعالى لما ذكر أن عذاب الكفار وإن تأخر لا بد أن يحيق بهم ذكر ما يدل على كفرهم وكونهم مستحقين العذاب لما جبلوا عليه من كفر نعماء الله تعالى وما يترتب على إحسانه تعالى إليهم مما لا يليق بهم من البطر والفخر، قيل: وهو إشارة إلى أن الوجه تضمن الآيات تعليل الحيق ويبعده تعليله بما في حيز الصلة قبل، واختار بعضهم أنه الاشتراك في الذم فما تضمنه الآيات قبل بيان بعض هناتهم وما تضمنته هذه بيان بعض آخر.
وقال بعض المحققين: إن وجه التعلق من حيث أن إذاقة النعماء ومساس الضراء فصل من باب الابتلاء واقع موقع التفصيل من الإجمال في قوله سبحانه: * (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) * (هود: 7) والمعنى أن كلا من إذاقة النعماء ونزعها مع كونه ابتلاء للإنسان أيشكر أم يكفر لا يهتدي إلى سنن الصواب بل يحيد في كلتا الحالتين عنه إلى مهاوي الضلال
16

فلا يظهر منه حسن عمل إلا من الصابرين الصالحين، أو من حيث أن إنكارهم البعث واستهزاءهم بالعذاب بسبب بطرهم وفخرهم كأنه قيل: إنما فعلوا ما فعلوا لأن طبيعة الإنسان مجبولة على ذلك انتهى، ولا يخفى ما في الأول من البعد. والثاني أقرب، والله تعالى أعلم.
ومن باب الإشارة في الآيات: * (الر) * إشارة إلى ما مرت الإشارة إليه * (أحكمت آياته) * أي حقائقه وأعيانه في العالم الكلي فلا تتبدل ولا تتغير * (ثم فصلت) * في العالم الجزئي وجعلت مبنية معينة بقدر معلوم * (من لدن حكيم) * فلذا أحكمت * (خبير) * (هود: 1) فلذا فصلت، وقد يقال: الإشارة إلى آيات القرآن قد أحكمت في قلوب العارفين * (ثم فصلت) * أحكامها على أبدان العاملين، وقيل: * (أحكمت) * بالكرامات * (ثم فصلت) * بالبينات * (ألا تعبدوا إلا الله) * أي أن لا تشركوا في عبادته سبحانه وخصصوه عز وجل بالعبادة * (إني لكم منه نذير) * عقاب الشرك وتبعته * (وبشير) * (هود: 2) بثواب التوحيد وفائدته، وقيل: * (نذير) * بعظائم قهره * (وبشير) * بلطائف وصله * (وأن استغفروا ربكم) * اطلبوا منه سبحانه أن يستركم عن النظر إلى الغير حتى أفعالكم وصفاتكم * (ثم توبوا إليه) * ارجعوا بالفناء ذاتا، وقيل: * (استغفروا ربكم) * من الدعاوي * (وتوبوا إليه) * من الخطرات المذمومة * (يمتعكم متاعا حسنا) * بتوفيقكم لاتباع الشريعة حال البقاء بعد الفناء، ويقال: المتاع الحسن صفاء الأحوال. وسناء الأذكار. وحلاوة الأفكار وتجلي الحقائق. وظهور اللطائف. والفرح برضوان الله تعالى وطيب العيش بمشاهدة أنواره سبحانه، والمتاع كل المتاع مشاهدة المحب حبيبه، ولله در من قال: مناي من الدنيا لقاؤك مرة * فإن نلتها استوفيت كل منائيا
* (إلى أجل مسمى) * هو وقت وفاتكم * (ويؤت كل ذي فضل) * بالسعي والاجتهاد وبذل النفس * (فضله) * في الدرجات والقرب إليه سبحانه؛ ويقال: * (يؤت كل ذي فضل) * في الاستعداد * (فضله) * في الكمال، وسئل أبو عثمان عن معنى ذلك فقال: يحقق آمال من أحسن به ظنه * (وإن تولوا) * أي تعرضوا عن امتثال الأمر والنهي * (فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير) * (هود: 3) وهو يوم الرجوع إلى الله تعالى الذي يظهر فيه عجز ما سواه تعالى ويتبين قبح مخالفة ما أمر به وفظاعة ارتكاب ما نهى عنه * (ألا إنهم يثنون) * يعطفون صدورهم على ما فيها من الصفات المذمومة * (ليستخفوا منه) * تعالى وذلك لمزيد جهلهم بما يجوز عليه جل شأنه وما لا يجوز * (ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون) * من الأقوال والأفعالوسائر الأحوال، وقيل: * (ما يسرون) * من الخطرات * (وما يعلنون) * من النظرات، وقيل: * (ما يسرون) * بقلوبهم * (وما يعلنون) * بأفواههم، وقيل: * (ما يسرون) * بالليل * (وما يعلنون) * (هود: 5) بالنهار، والتعميم أولى * (ومن الناس من جعل) * ضمير منه للرسول صلى الله عليه وسلم. وقد علمت أنه يبعده ظهور أن ضمير * (يعلم) * له تعالى لكن ذكر في أسرار القرآن أنه تعالى كسا أنوار جلاله أفئدة الصديقين فيرون بأبصار قلوبهم ما يجري في صدور الخلائق من المضمرات والخطرات كما يرون الظواهر بالعيون الظاهرة، وقد جاء " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى " وعلى هذا فيمكن أن يكون ضمير * (يعلم) * للرسول عليه الصلاة والسلام، وأيا ما كان فالآية نازلة في غير المؤمنين حسبما يقتضيه الظاهر، وقد تقدم لك أن الأمر على ما روي عن الحبر رضي الله تعالى عنه مشكل.
وقال بعض أرباب الذوق: إن الآية عليه إشارة إلى أن أولئك الأناس لم يصلوا إلى مقام الجمع ولم يتحققوا بأعلى مراتب التوحيد وفيه خفاء أيضا فتفطن * (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) * أي ما تتغذى به
17

شبحا وروحا، ويقال: لكل رزق عليه تعالى بقدر حوصلته فرزق الظاهر للأشباح، ورزق المشاهدة للأرواح، ورزق الوصلة للأسرار؛ ورزق الرهبة للنفوس، ورزق الرغبة للعقول، ورزق القربة للقلوب، وهذا بالنظر إلى الإنسان، وأما بالنظر إلى سائر الحيوانات فلها أيضا رزق محسوس. ورزق معقول يعلمه الله تعالى: * (ويعلم مستقرها ومستودعها) * (هود: 6) فمستقر الجميع أصلاب العدم * (ومستودعها) * أرحام الحدوث * (وهو الذي خلق السموات والأرض) * وما في كل * (في ستة أيام وكان عرشه على الماء) * أي كان حيا قيوما - كما قال ابن الكمال -.
وقيل: الماء إشارة إلى المادة الهيولانية، والمعنى * (وكان عرشه) * قبل خلق السموات والأرض بالذات لا بالزمان مستعليا على المادة فوقها بالرتبة، وقيل: غير ذلك، وإن شئت التطبيق على ما في تفاصيل وجودك فالمعنى على ما قيل: خلق سموات قوى الروحانية، وأرض الجسد في الأشهر الستة التي هي أقل مدة الحمل، وكان عرشه الذي هو قلب المؤمن على ماء مادة الجسد مستوليا عليه متعلقا به تعلق التصوير والتدبير * (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) * قيل: جعل غاية الخلق ظهور الأعمال أي خلقنا ذلك لنعلم العلم التفصيلي التابع للوجود الذي يترتب عليه الجزاء * (أيكم أحسن عملا) * (هود: 7) * (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة) * (هود: 9) الخ تضمن الإشارة إلى أنه ينبغي للعبد أن يكون في السراء والضراء واثقا بربه تعالى متوكلا عليه غير محتجب عنه برؤية الأسباب لئلا يحصل له اليأس والكفران والبطر والفخر بذلك وجودا وعدما، فإن آتاه رحمة شكره أولا: برؤية ذلك منه جل شأنه بقلبه. وثانيا: باستعمال جوارحه في مراضيه وطاعاته والقيام بحقوقه تعالى فيها، وثالثا: بإطلاق لسانه بالحمد والثناء على الله تعالى وبذلك يتحقق الشكر المشار إليه بقوله تعالى: * (وقليل من عبادي الشكور) * (سبأ: 13) وإلى ذلك أشار من قال: أفادتكم النعماء مني ثلاثة * يدي ولساني والضمير المحجبا
وبالشكر تزداد النعم كما قال تعالى: * (لئن شكرتم لأزيدنكم) * (إبراهيم: 7)، وعن علي كرم الله تعالى وجهه إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر، ثم إن نزعها منه فليصبر ولايتهم الله تعالى بشيء فإنه تعالى أبر بالعبد وأرحم وأخبر بمصلحته وأعلم، ثم إذا أعادها عليه لا ينبغي أن يبطر ويغتر ويفتخر بها على الناس فإن الاغترار والافتخار بما لا يملكه من الجهل بمكان، وقد أفاد سبحانه أن من سجايا الإنسان في الشدة بعد الرحمة اليأس والكفران وبالنعماء بعد الضراء الفرح والفخر * (إلا الذين صبروا) * مع الله تعالى في حالتي النعماء والضراء والشدة والرخاء، فالفقر والغنى مثلا عندهم مطيتان لا يبالون أيهما امتطوا * (وعملوا الصالحات) * ما فيه صلاحهم في كل أحوالهم * (أولئك لهم مغفرة) * من ذنوب ظهور النفس باليأس والكفران والفرح والفخر * (وأجر كبير) * (هود: 11) من ثواب تجليات الأفعال والصفات وجنانهما، والله تعالى ولي التوفيق.
* (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضآئق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جآء معه ملك إنمآ أنت نذير والله على كل شىء وكيل) *
* (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك) * أي تترك تبليغ بعض ما يوحى إليك وهو ما يخالف رأي المشركين مخافة ردهم واستهزائهم به، فاسم الفاعل للمستقبل ولذا عمل، و - لعل - للترجي وهو يقتضي التوقع ولا يلزم من توقع الشيء وقوعه ولا ترجح وقوعه لجواز أن يوجد ما يمنع منه، فلا يشكل بأن توقع ترك التبليغ منه صلى الله عليه وسلم مما لا يليق بمقام النبوة، والمانع من ذلك فيه عليه الصلاة والسلام عصمته كسائر الرسل الكرام عليهم السلام عن كتم الوحي المأمور بتبليغه والخيانة فيه وتركه تقية، والمقصود من ذلك تحريضه صلى الله عليه وسلم وتهييج داعيته لأداء الرسالة، ويقال نحو ذلك في كل توقع نظير هذا التوقع، وقيل: إن التوقع تارة يكون للمتكلم وهو الأصل
18

لأن المعاني الإنشائية قائمة به، وتارة للمخاطب، وأخرى لغيره ممن له تعلق وملابسة به، ويحتمل أن يراد هنا هذا الأخير ويجعل التوقع للكفار، والمعنى أنك بلغ بك الجهد في تبليغهم ما أوحى إليك أنهم يتوقعون منك ترك التبليغ لبعضه، وقيل: إن - لعل - هنا ليست للترجي بل هي للتبعيد، وقد تستعمل لذلك كما تقول العرب: لعلك تفعل كذا لمن لا يقدر عليه، فالمعنى لا تترك، وقيل: إنها للاستفهام الإنكاري كما في الحديث " لعلنا أعجلناك " واختار السمين. وغيره كونها للترجي بالنسبة إلى المخاطب على ما علمت آنفا، ولا يجوز أن يكون المعنى كأني بك ستترك بعض ما أوحى إليك مما شق عليك بإذني ووحي مني، وهو أن يرخص لك فيه كأمر الواحد بمقاومة عشرة إذ أمروا بمقاومة الواحد لاثنين وغير ذلك من التخفيفات لأنه وإن زال به الإشكال إلا أن قوله تعالى بعد أن يقولوا يأباه، نعم قيل: لو أريد ترك الجدال بالقرآن إلى الجلاد. والضرب. والطعان - لأن هذه السورة مكية نازلة قبل الأمر بالقتال - صح لكن في " الكشف " بعد كلام: إعلم لو أخذت التأمل لاستبان لك أن مبنى هذا السورة الكريمة على إرشاده تعالى كبرياؤه نبيه صلى الله عليه وسلم إلى كيفية الدعوة من مفتتحها إلى مختتمها وإلى ما يعتري لمن تصدى لهذه الرتبة السنية من الشدائد واحتماله لما يترتب عليه في الدارين من العوائد لا على التسلي له عليه الصلاة والسلام فإنه لا يطابق المقام، وانظر إلى الخاتمة الجامعة أعني قوله سبحانه: * (وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه) * تقض العجب وهو يبعد هذه الإرادة إن قلنا: إن ذلك من باب التخفيف المؤذن بالتسلي فتأمله، والضمير في قوله سبحانه: * (وضائق به) * لما يوحي أن للبعض وهو الظاهر عند أبي حيان، وقيل: للتبليغ أو للتكذيب، وقيل: هو مبهم يفسره أن يقولوا، والواو للعطف * (وضائق) * قيل: عطف على * (تارك) * وقوله تعالى: * (صدرك) * فاعله، وجوز أن يكون الوصف خبرا مقدما و * (صدرك) * مبتدأ والجملة معطوفة على * (تارك) *، وقيل: يتعين أن تكون الواو للحال، والجملة بعدها حالية لأن هذا واقع لا متوقع فلا يصح العطف، ونظر فيه بأن ضيق صدره عليه الصلاة والسلام بذلك إن حمل على ظاهره ليس بواقع، وإنما يضيق صدره الشريف لما يعرض له في تبليغه من الشدائد، وعدل عن ضيق الصفة المشبهة إلى - ضائق - اسم الفاعل ليدل على أن
الضيق مما يعرض له صلى الله عليه وسلم أحيانا، وكذا كل صفة مشبهة إذا قصد بها الحدوث تحول إلى فاعل فتقول في سيد. وجواد. وسمين مثلا: سائد. وجائد. وسامن، وعلى ذلك قول بعض اللصوص يصف السجن ومن سجن فيه: بمنزلة أما اللئيم (فسامن) * بها وكرام الناس باد شحوبها
وظاهر كلام البحر أن ذلك مقيس فكل ما يبنى من الثلاثي للثبوت والاستقرار على غير وزن فاعل يرد إليه إن أريد معنى الحدوث من غير توقف على سماع، وقيل: إن العدول لمشاركة * (تارك) * وليس بذلك.
* (أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز) * أي مال كثير، وعبروا بالإنزال دون الإعطاء لأن مرادهم التعجيز بكون ذلك على خلاف العادة لأن الكنوز إنما تكون في الأرض ولا تنزل من السماء، ويحتمل أنهم أرادوا بالإنزال الإعطاء من دون سبب عادي كما يشير إليه سبب النزول أي لولا أعطى ذلك ليتحقق عندنا صدقه.
* (أو جاء معه ملك) * يصدقه لنصدقه، روي أنهم قالوا: اجعل لنا جبال مكة ذهبا أو ائتنا بملائكة يشهدون بنبوتك إن كنت رسولا فنزلت، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن كلا من القولين قالته طائفة
19

فقال عليه الصلاة والسلام: لا أقدر على ذلك فنزلت، وقيل: القائل لكل عبد الله بن أمية المخزومي، ووجه الجمع عليه يعلم مما مر غير مرة، ومحل * (أن يقولوا) * نصب. أو جر وكان الأصل كراهة. أو مخافة * (أن يقولوا) * أو لئلا. أو لأن. أو بأن يقولوا، ولوقوع القول قالوا: إن المضارع بمعنى الماضي، و * (أن) * المصدرية خارجة عن مقتضاها، ورجحوا تقدير الكراهة على المخافة لذلك، وقد يراد عند تقديرها مخافة أن يكرروا هذا القول؛ واختار بعض أن يكون المعنى على الجميع أن يقولوا مثل قولهم لولا الخ - فإن - على مقتضاها، ولا يرد شيء * (إنما أنت نذير) * أي ليس عليك إلا الإنذار بما أوحى غير مبال بما يصدر عنهم * (والله على كل شيء وكيل) * أي قائم به وحافظ له فيحفظ أحوالك وأحوالهم فتوكل عليه في جميع أمورك فإنه فاعل بهم ما يليق بحالهم، والاقتصار على النذير في أقصى غاية من إصابة المحز، والآية قيل: منسوخة، وقيل: محكمة.
* (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم ص‍ادقين) *
* (أم يقولون افترياه) * إضراب بأم المنقطعة عن ذكر ترك اعتدادهم بما يوحي وعدم اكتفائهم بما فيه من المعجزات الظاهرة الدالة على صدق الدعوى، وشروع في ذكر ارتكابهم لما هو أشد منه وأعظم، وتقدر ببل. والهمزة الإنكارية أي بل أيقولون، وذهب ابن القشيري إلى أن * (أم) * متصلة، والتقدير أيكتفون بما أوحينا إليك أم يقولون إنه ليس من عند الله، والأول أظهر، وأيا ما كان فالضمير البارز في * (افتراه) * لما يوحى * (قل) * إن كان الأمر كما تقولون * (فأتوا) * أنتم أيضا * (بعشر سور مثله) * في البلاغة وحسن النظم وهو نعت - لسور - وكان الظاهر مطابقته لها في الجمع لكنه أفرد باعتبار مماثلة كل واحدة منها إذ هو المقصود لا مماثلة المجموع، وقيل: مثل وإن كان مفردا يجوز فيه المطابقة وعدمها فيوصف به الواحد وغيره نظرا إلى أنه مصدر في الأصل كقوله تعالى: * (أنؤمن لبشرين مثلنا) * وقد يطابق كقوله سبحانه: * (ثم لا يكونوا أمثالكم) * (محمد: 38)، وقيل: إنه هنا صفة لمفرد مقدر أي قدر عشر سور مثله، وقيل: إنه وصف لمجموع العشر لأنها كلام وشيء واحد، وأيضا - عشر - ليس بصيغة جمع فيعطي حكم المفرد - كنخل منقعر - وقوله سبحانه: * (مفتري‍ات) * نعت آخر - لسور - قيل: أخر عن نعتها بالمماثلة لما يوحى لأنه النعت المقصود بالتكليف إذ به قعودهم على العجز عن المعارضة، وأما نعت الافتراء فلا يتعلق به غرض يدور عليه شيء في مقام التحدي، وإنما ذكر على نهج المساهلة وإرخاء العنان ولأنه لو عكس الترتيب لربما توهم أن المراد هو المماثلة له في الافتراء، والمعنى * (فأتوا بعشر سور) * مماثلة له في البلاغة مختلقات من عند أنفسكم إن صح أني اختلقته من عند نفسي فإنكم عرب فصحاء بلغاء ومبادىء ذلك فيكم من ممارس الخطب والأشعار ومزاولة أساليب النظم والنثر وحفظ الوقائع والأيام أتم.
والكثير على أن هذا التحدي وقع أولا فلما عجزوا تحداهم * (بسورة من مثله) * كما نطقت به سورة البقرة. ويونس، وهو وإن تأخر تلاوة متقدم نزولا وأنه لا يجوز العكس إذ لا معنى للتحدري بعشر لمن عجز عن التحدي بواحدة وأنه ليس المراد تعجيزهم عن الإتيان بعشر سور مماثلات لعشر معينة من القرآن.
وروي عن ابن عباس أن المراد ذلك، وجعل الشعر ما تقدم من السور إلى هنا، واعترضه أبو حيان بأن أكثر ما ذكر مدني. وهذه السورة حسبما علمت مكية فكيف تصح الحوالة بمكة على ما لم ينزل بعد، ثم قال: ولعل هذا لا يصح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وذهب ابن عطية إلى أن هذا التحدي إنما وقع بعد التحدي بسورة، وروي هذا عن المبرد وأنكر تقدم نزول هذه السورة على نزول تينك السورتين وقال: بل نزلت سورة يونس أولا. ثم نزلت سورة هود.
20

وقد أخرج ذلك ابن الضريس في فضائل القرآن عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. ووجه ذلك بأن ما وقع أولا هو التحدي بسورة مثله في البلاغة والاشتمال على ما اشتمل عليه من الأخبار عن المغيبات والأحكام وأخواتها، فلما عجزوا عن ذلك أمرهم بأن يأتوا بعشر سور مثله في النظم وإن لم تشتمل على ما اشتمل عليه، وضعفه في " الكشف "، وقال: إنه لا يطرد في كل سورة من سور القرآن، وهب أن السورة متقدمة النزول إلا أنها لما نزلت على التدريج جاز أن تتأخر تلك الآية عن هذه، ولا ينافي تقدم السورة على السورة انتهى.
وتعقبه الشهاب بأن قوله لا يطرد مما لا وجه له لأن مراد المبرد اشتماله على شيء من الأنواع السبعة ولا يخلو شيء من القرآن عنها، وادعاء تأخر نزول تلك الآية خلاف الظاهر، ومثله لا يقال بالرأي، وادعى أن الحق ما قاله المبرد من أنه عليه الصلاة والسلام وتحداهم أولا بسورة مثله في النظم والمعنى، ثم تنزل فتحداهم بعشر سور مثله في النظم من غير حجر في المعنى، ويشهد له توصيفها بمفتريات، وأيد بعضهم نظر المبرد بأن التكليف في آية البقرة إنما كان بسبب الريب ولا يزيل الريب إلا العلم بأنهم لا يقدرون على المماثلة التامة، وهو في هذه الآية ليس إلا بسبب قولهم: * (افتراه) * فكلفوا نحو ما قالوا، وفيه أن الأمر في سورة يونس كالأمر هنا
مسبوق بحكاية زعمهم الافتراء قاتلهم الله تعالى مع أنهم لم يكلفوا إلا بنحو ما كلفوا به في آية البقرة على أن في قوله: ولا يزيل الريب الخ منعا ظاهراف، وللعلامة الطيبي ههنا كلام - زعم أنه الذي يقتضيه المقام - وهو على قلة جدواه لا وجه لما أسسه عليه كما بين ذلك صاحب الكشف.
هذا ونقل الإمام أنه استدل بهذه الآية على أن إعجاز القرآن بفصاحته لا باشتماله على المغيبات وكثرة العلوم إذ لو كان كذلك لم يكن لقوله سبحانه: * (مفتريات) * معنى أما إذا كان وجه الإعجاز الفصاحة صح ذلك لأن فصاحة الكلام تظهر إن صدقا وإن كذبا، واعترض عليه الفاضل الجلبي بما هو مبني على الغفلة عن معنى الافتراء والاختلاق، نعم ما ذكر إنما يدل على صحة كون وجه الإعجاز ذلك ولا يمنع احتمال كونه الأسلوب الغريب وعدم اشتماله على التناقض كما قيل به.
* (وادعوا من استطعتم) * أي استعينوا بمن أمكنكم أن تستعينوا به من آلهتكم التي تزعمون أنها ممدة لكم في كل ما تأتون وما تذرون. والكهنة الذين تلجأون إلى آرائهم في الملمات ليسعدوكم في ذلك.
* (من دون الله) * متعلق - بادعوا - أي متجاوزين الله تعالى، وفيه على ما قال غير واحد إشارة إلى أنه لا يقدر على مثله إلا الله عز وجل * (إن كنتم ص‍ادقين) * في أني افتريته، فإن ذلك يستلزم الإتيان بمثله وهو أيضا يستلزم قدرتكم عليه، وجواب * (إن) * محذوف دل عليه المذكور قبل.
* (فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنمآ أنزل بعلم الله وأن لا إل‍اه إلا هو فهل أنتم مسلمون) *
* (فالم يستجيبوا لكم) * الخطاب - على ما روي عن الضحاك - للمأمورين بدعاء من استطاعوا، وضمير الجمع الغائب عائد إلى من أي فإن لم يستجب لكم من تدعونه من دون الله تعالى إلى الإسعاد والمظاهرة على المعارضة لعلمهم بالعجز عنه وأن طاقتهم أقصر من أن تبلغه * (فاعلموا أنما أنزل بعلم الله) * أي ما أنزل إلا ملتبسا بعلمه تعالى لا بعلم غيره على ما تقتضيه كلمة * (أنما) * فإنها تفيد الحصر كالمكسورة على الصحيح، قيل: وهو معنى قول من قال: أي ملتبسا بما لا يعلمه إلا الله تعالى ولا يقدر عليه سواه.
وادعى بعضهم أن الحصر إنما أفادته الإضافة كما في قوله تعالى: * (لا يظهر على غيبه أحدا) * (الجن: 26) والمراد بما
21

لا يعلمه غيره تعالى الكيفيات والمزايا التي بها الإعجاز والتحدي، وذكر عدم قدرة غيره سبحانه مما يقتضيه السياق وإلا فالمذكور في النظم الكريم العلم دون القدرة، وقيل: ذاك لأن نفي العلم بالشيء يستلزم نفي القدرة لأنه لا يقدر أحد على ما لا يعلم، والجملة الشرطية داخلة في حيز القول وإيراد كلمة الشك مع الجزم بعدم الاستجابة من جهة من يدعونه تهكم بهم وتسجيل عليهم بكمال سخافة العقل، وترتيب الأمر بالعلم على مجرد عدم الاستجابة من حيث أنه مسبوق بالدعاء المسبوق بتعجيزهم واضطرارهم فكأنه قيل: فإن لم يستجيبوا لكم عند التجائكم إليهم بعد ما اضطررتم إلى ذلك وضاعت عليكم الحيل وعيت بكم العلل * (فاعلموا) * الخ أو من حيث أن من يدعونهم إلى المعارضة أقوى منهم في اعتقادهم فإذا ظهر عجزهم بعدم استجابتهم وإن كان ذلك قبل ظهور عجز أنفسكم يكون عجزهم أظهر وأوضح.
وبمجموع ما ذكرنا يظهر أن لا إشكال في الآية، ومما يقضي منه العجب قول العز بن عبد السلام في أماليه: إن ترتيب هذا المشروط يعني العلم على ذلك الشرط يعني عدم الاستجابة مشكل، وكذا قوله سبحانه: * (أنزل بعلم الله) * مشكل أيضا إذ لا تصلح الباء للسببية إذ ليس العلم سببا في إنزاله ولا للمصاحبة إذ العلم لا يصحبه في إنزاله، وأن الجواب أنه ليس المراد بالعلم إلا علمنا نحن، وأضيف إليه عز وجل لأنه مخلوق له تعالى، ونظير ذلك ما في قوله جل وعلا: * (ولا نكتم شهادة الله) * (المائدة: 106) حيث أضيفت الشهادة إلى الله سبحانه باعتبار أنه تعالى شرعها، والقرآن قد نزل بأدلة العلم بأحكام الله تبارك اسمه، فعبر بالمدلول عن الدليل، والتقدير * (فاعلموا أنما أنزل) * مصحوبا بانتشار علم الأحكام، وهي الأدلة، ولا شك أنه يناسب إذا عجزوا عن معارضته أن يعلموا أن هذه الآيات أدلة أحكام الله تعالى انتهى، وليت شعري كيف غفل هذا العالم الماهر عن ذلك التفسير الظاهر، ولعله كما قيل: من شدة الظهور الخفاء * (وأن لا إله إلا هو) * أي واعلموا أيضا أنه تعالى المختص بالألوهية وأحكامها وأن آلهتكم بمعزل عن رتبة الشركة له تعالى في ذلك * (فهل أنتم مسلمون) * أي داخلون في الإسلام إذ لم يبق بعد شائبة شبهة في حقيته وفي بطلانه ما أنتم فيه من الشرك، فيدخل فيه الإذعان بكون القرآن من عند الله تعالى دخولا أوليا، أو منقادون للحق الذي هو كون القرآن من عند الله تعالى وتاركون ما أنتم عليه من المكابرة والعناد، وفي هذا الاستفهام إيجاب بليغ لما فيه من معنى الطلب والتنبيه على قيام الموجب وزوال المانع، ولهذا جىء بالفاء، وفي التعبير - بمسلمون - دون تسلمون تأييد لما يقتضيه ترتيب ما ذكر على ما قبل بها من وجوبه بلا مهلة، قيل: وفي ذلك أيضا إقناط لهم من أن يجيرهم آلهتهم من بأس الله تعالى شأنه وعز سلطانه، وجوز أن يكون الضمير في * (لكم) * للرسول صلى الله عليه وسلم، ويؤيده أنه جاء في آية أخرى * (فإن لم يستجيبوا لك) * (القصص: 50)، وروي ذلك عن مجاهد، وكان المناسب للأمر بقل الإفراد لكنه جمع للتعظيم، وهو لا يختص بضمير المتكلم كما قاله الرضى، ومن ذلك: وإن شئت حرمت النساء سواكم
والجملة غير داخلة في حيز القول بل هي من قبله تعالى للحكم بعجزهم كقوله سبحانه: * (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) * (البقرة: 24) وعبر بالاستجابة إيماء إلى أنه صلى الله عليه وسلم على كمال الأمن من أمره كأن أمره عليه الصلاة والسلام لهم بالإتيان بمثله دعاء لهم إلى أمر يريد وقوعه، ويجوز أن يكون الضمير له صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين لأنهم أتباع له صلى الله عليه وسلم في الأمر بالتحدي، وفيه تنبيه لطيف على أن حقهم أن لا ينفكوا عنه
22

عليه الصلاة والسلام ويناصبوا معه لمعارضة المعاندين كما كانوا يفعلونه في الجهاد؛ وإرشاد إلى أن ذلك مما يفيد الرسوخ في الإيمان، ولذلك رتب عليه ما ترتب.
والمراد بالعلم المأمور به ما هو في المرتبة العليا التي كأن ما عداها من مراتب العلم ليس بعلم لكن لا للإشعار بانحطاط تلك المراتب بل بارتفاع هذه المرتبة، ويعلم من ذلك سر إيراد كلمة الشك مع القطع بعدم الاستجابة، فإن تنزيل سائر المراتب منزلة العدم مستتبع لتنزيل الجزم بعدم الاستجابة منزلة الشك، ويجوز أن يكون المأمور به
الاستمرار على ما هم عليه من العلم ومعنى * (مسلمون) * مخلصون في الإسلام أو ثابتون عليه، والكلام من باب التثبيت والترقية إلى معارج اليقين، واختار تفسير الآية بذلك الجبائي. وغيره، وذكر شيخ الإسلام أنه أنسب بما سلف من قوله تعالى: * (وضائق به صدرك) * (هود: 12) ولما سيأتي إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه: * (فلا تك في مرية منه) * (هود: 17) وأشد بما يعقبه، وقد يؤيد أيضا بما أشرنا إليه لكن لا يخفى أن الكلام على التفسير الأول موافق لما قبله لأن ضمير الجمع في الآية المتقدمة للكفار والضمير في هذه ضمير الجمع فليكن لهم أيضا، ولأن الكفار أقرب المذكورين فرجوع الضمير إليهم أولى، ولأن في التفسير الثاني تأويلات لا يحتاج إليها في الأول.
ومن هنا استظهره أبو حيان. واستحسنه الزمخشري، ولعل مرجحاته أقوى من مرجحات الأخير عند من تأمل فلذا قدمناه، وإن قيل: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك، ويكتب - فالم - في المصحف - على ما قال الأجهوري - بغير نون، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما - نزل - بفتح النون والزاي وتشديدها، وفي " البحر " أن - ما - يحتمل أن تكون مصدرية أي أن التنزيل، وأن تكون موصولة بمعنى الذي أي أن الذي نزله، وحذف العائد المنصوب في مثل ما ذكر شائع، وفاعل - نزل - ضميره تعالى، وجوز بعضهم كون - ما - موصولة على قراءة الجمهور أيضا، ويبعد ذلك بحسب المعروف في مثله أنها موصولة فافهم.
* (من كان يريد الحيواة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون) *
* (من كان يريد) * أي بأعماله الصالحة بحسب الظاهر * (الحيواة الدنيا وزينتها) * أي ما يزينها ويحسنها من الصحة والأمن وكثرة الأموال والأولاد والرياسة وغير ذلك، وإدخال * (كان) * للدلالة على الاستمرار أي من يريد ذلك بحيث لا يكاد يريد الآخرة أصلا * (نوف إليهم أعم‍الهم فيها) * أي نوصل إليهم أجور أعمالهم في الدنيا وافية، فالكلام على حذف مضاف، وقيل: الأعمال عبارة عن الأجور مجازا، وإليه يشير كلام شيخ الإسلام والأول أولى، و * (نوف) * متضمن معنى نوصل ولذا عدي بإلى، وإلا فهو مما يتعدى بنفسه، وقيل: إنه مجاز عن ذلك، وقرأ طلحة بن ميمون - يوف - بالياء، وإسناد الفعل إلى الله تعالى، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما - يوف - بالياء مخففا مضارع أوفى، وقرىء - توف - بالتاء مبنيا للمفعول، ورفع * (أعمالهم) * والفعل في كل ذلك مجزوم على أنه جواب الشرط كما انجزم في قوله سبحانه: * (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه) * (الشورى: 20) وحكى الفراء أن * (كان) * زائدة ولذا جزم الجواب، وتعقبه أبو حيان بأنه لو كانت زائدة لكان فعل الشرط * (يريد) * وكان يكون مجزوما، وأجيب بأنه يحتمل أنه أراد بكونها زائدة أنها غير لازمة في المعنى، وقرأ الحسن - نوفي - بالتخفيف وإثبات الياء، وذلك إما على لغة من يجزم المنقوص بحذف الحركة المقدرة كما في قوله: ألم يأتيك والأنباء تنمي
أو على ما سمع في كلام العرب إذا كان الشرط ماضيا من عدم جزم الجزاء وإما لأن الأداة لما لم تعمل في الشرط القريب ضعفت عن العمل في لفظ الجزاء البعيد فعملت في محله.
23

ونقل عن عبد القاهر أنها لا تعمل فيه أصلا لضعفها، والمشهور فيه عن النحاة مذهبان: كون الجزاء في نية التقديم. وكونه على تقدير الفاء والمبتدأ، ويمكن أن يرد ذلك إلى هذا، وليس هذا مخصوصا فيما إذا كان الشرط كان على الصحيح لمجيئه في غيره كثيرا، ومنه: وإن أتاه خليل يوم مسغبة * يقول: لا غائب مالي ولا حرم
* (وهم فيها لا يبخسون) * أي لا ينقصون، والظاهر أن الضمير المجرور - للحياة الدنيا - وقيل: الأظهر أن يكون للأعمال لئلا يكون تكرارا بلا فائدة، ورد بأن فائدته إفادته من أول الأمر أن عدم البخس ليس إلا في الدنيا فلو لم يذكر توهم أنه مطلق على أنه لا يجوز أن يكون للتأكيد ولا ضرر فيه، وإنما عبر عن ذلك بالبخس الذي هو نقص الحق، ولذلك قال الراغب: هو نقص الشيء على سبيل الظلم مع أنه ليس لهم شائبة حق فيما أوتوه كما عبر عن إعطائه بالتوفية التي هي إعطاء الحقوق مع أن أعمالهم بمعزل من كونها مستوجبة لذلك - كما قال بعض المحققين - بناءا للأمر على ظاهر الحال ومحافظة على صور الأعمال ومبالغة في نفي النقص كأن ذلك نقص لحقوقهم فلا يدخل تحت الوقوع والصدور عن الكريم أصلا لكن ينبغي أن يعلم أن هذا ليس على إطلاقه بل الأمر دائر على المشيئة الجارية على قضية الحكمة كما نطق به قوله سبحانه: * (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد) * (الإسراء: 18).
وأخرج النحاس في ناسخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هذه الآية نسخت الآية التي نحن فيها، وأنت تعلم أنه لا نسخ في الأخبار، ولعل هذا إن صح محمول على المسامحة.
* (أول‍ائك الذين ليس لهم فى الاخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) *
* (أول‍ائك) * إشارة إلى المذكورين باعتبار استمرارهم على إرادة الحياة الدنيا، أو باعتبار توفيتهم أجورهم فيها من غير نجس، أو باعتبارهما معا، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في سوء الحال * (الذين ليس لهم في الأخرة إلا النار) * لأن هممهم كانت مصروفة إلى اقتناص الدنيا وأعمالهم كانت ممدودة ومقصورة على تحصيلها؛ وقد ظفروا بما يترتب على ذلك ولم يريدوا به شيئا آخر فلا جرم لم يكن لهم في الآخرة إلا النار وعذابها المخلد.
* (وحبط ما صنعوا فيها) * أي في الآخرة كما هو الظاهر، فالجار متعلق - بحبط - و * (ما) * تحتمل المصدرية والموصولية أي ظهر في الآخرة حبوط صنعهم، أو الذي صنعوه من الأعمال التي كانت تؤدي إلى الثواب الأخروي لو كانت معمولة للآخرة، ويجوز أن يعود الضمير إلى الدنيا فيكون الجار متعلقا بصنعوا - و * (ما) * على حالها، والمراد بحبوط الأعمال عدم مجازاتهم عليها لفقد الاعتداد بها لعدم الإخلاص الذي هو شرط ذلك، وقيل: لجزائهم عليها في الدنيا * (وباطل ما كانوا يعملون) * قال أبو حيان: هو تأكيد لقوله سبحانه: * (حبط) * الخ، والظاهر أنه حمل * (ما كانوا يعملون) * على معنى * (ما صنعوا) * والبطلان على عدم النفع وهو راجع إلى معنى الحبوط.
ولما رأى بعضهم أن التأسيس أولى من التأكيد أبقى ما * (يعملون) * على ذلك المعنى، وحمل بطلان ذلك على فساده في نفسه لعدم شرط الصحة، وقال: كأن كلا من الجملتين علة لما قبلها على معنى ليس لهم في الآخرة إلا النار لحبوط أعمالهم وعدم ترتب الثواب عليها لبطلانها وكونها ليست على ما ينبغي، والأولى ما صنعه المولى
24

أبو السعود عليه الرحمة حيث حمل البطلان على الفساد في نفسه، و * (ما كانوا يعملون) * على أعمالهم في أثناء تحصيل المطالب الدنيوية، ثم قال: ولأجل أن الأول من شأنه استتباع الثواب والأجر وأن عدمه لعدم مقارنته للإيمان والنية الصحيحة، وأن الثاني ليس له جهة صالحة قط علق بالأول الحبوط المؤذن بسقوط أجره بصيغة الفعل المنبىء عن الحدوث، وبالثاني البطلان المفصح عن كونه بحيث لا طائل تحته أصلا بالاسمية الدالة على كون ذلك وصفا لازما له ثابتا فيه، وفي زيادة - كان - في الثاني دون الأول إيماء إلى أن صدور أعمال البر منهم وإن كان لغرض فاسد ليس في الاستمرار والدوام كصدور الأعمال التي هي مقدمات مطالبهم الدنيئة انتهى.
ويحتمل عندي على بعد أن يراد - بما كانوا يعملون - هو ما استمروا عليه من إرادة الحياة الدنيا وهو غير ما صنعوه من الأعمال التي نسب إليها الحبوط وإطلاق مثل ذلك على الإرادة مما لا بأس به لأنها من أعمال القلب، ووجه الإتيان - بكان - فيه موافقته لما أشار هو إليه، وفي الجملة تصريح باستمرار بطلان تلك الإرادة وشرح حالها بعد شرح حال المريد وشرح أعماله أراد بها الحياة الدنيا وزينتها، وأيا ما كان فالظاهر أن * (باطل) * خبر مقدم و * (ما كانوا) * هو المبتدأ، وجوز في " البحر " كون * (باطل) * خبرا بعد خبر، و * (ما) * مرتفعة به على الفاعلية، وقرىء - وبطل - بصيغة الفعل أي ظهر بطلانه حيث علم هناك أن ذاك وما يستتبعه من الحظوظ الدنيوية مما لا طائل تحته أو انقطع أثره الدنيوي فبطل مطلقا، وقرأ أبي. وابن مسعود - وباطلا - بالنصب ونسب ذلك إلى عاصم وخرجه صاحب اللوامح على أن * (ما) * سيف خطيب - وباطل - مفعول - ليعلمون - وفيه تقديم معمول * (كان) * وفيه - كتقديم الخبر - خلاف، والأصح الجواز لظاهر قوله تعالى: * (أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون) * (سبأ: 40) ومن منع تأول، وجوز أن يكون منصوبا - بيعملون - و * (ما) * إبهامية صفة له أي باطلا أي باطل، ونظير ذلك حديث ما على قصره ولأمر ما جدع قصير أنفه، وأن يكون مصدرا بوزن فاعل، وهو منصوب بفعل مقدر، و * (ما) * اسم موصول فاعله أي بطل بطلانا الذي كانوا يعملونه، ونظيره خارجا في قول الفرزدق: ألم ترني عاهدت ربي وأنني * لبين رتاج قائما ومقام
علي حلفة لا أشتم الدهر مسلما * ولا (خارجا) من في زور كلام
فإنه أراد ولا يخرج من في زور كلام خروجا، وفي ذلك على ما في " البحر " إعمال المصدر الذي هو بدل من الفعل في غير الاستفهام والأمر هذا، والظاهر أن الآية في مطلق الكفرة الذين يعملون البر لا على الوجه الذي ينبغي، وأخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم. وغيرهما عن أنس رضي الله تعالى عنه أنها نزلت في اليهود والنصارى، ولعل المراد - كما قال ابن عطية - أنهم سبب النزول فيدخلون فيها لا أنها خاصة بهم ولا يدخل فيها غيرهم، وقال الجبائي: هي في الذين جاهدوا من المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الله تعالى حظهم من ذلك سهمهم في الغنائم، وفيه أن ذلك إنما كان بعد الهجرة والآية مكية، وقيل: في أهل الرياء يقال لقارىء القرآن منهم: أردت أن يقال: فلان قارىء، فقد قيل: اذهب فليس لك عندنا شيء، وهكذا لغيره من المتصدق. والمقتول في الجهاد. وغيرهما ممن عمل من أعمال البر لا لوجه الله تعالى، وربما يؤيد ذلك ما روي عن معاوية حين حدثه أبو هريرة بما تضمن ذلك فبكى، وقال: صدق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم * (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها) * إلى قوله سبحانه: * (وباطل ما كانوا يعملون) * (هود: 16) وعليه فلا بد من
25

تقييد قوله عز وجل: * (ليس لهم في الآخرة إلا النار) * (هود: 16) بأن ليس لهم بسبب أعمالهم الريائية إلا ذلك وهو خلاف الظاهر، والسياق يقتضي أنها في الكفرة مطلقا وبرهم كما قلنا، ومن هنا اشتهر أن الكافر يعجل له ثواب أعماله في الدنيا بتوسعة الرزق وصحة البدن وكثرة الولد ونحو ذلك وليس لهم في الآخرة من نصيب لكن ذهب جماعة إلى أنه يخفف بها عنه عذاب الآخرة، ويشهد له قصة أبي طالب، وذهب آخرون إلى أن ما يتوقف على النية من الأعمال لا ينتفع الكافر به في الآخرة أصلا لفقدان شرطه إذ لم يكن من أهل النية لكفره، وما لا ينتفع به ويخفف به عذابه، وبذلك يجمع بين الظواهر المقتضى بعضها للانتفاع في الجملة وبعضها لعدمه أصلا فتدبر.
ووجه ارتباط هذه الآية بما قبلها على ما في " مجمع البيان " أنه سبحانه لما قال: * (فهل أنتم مسلمون) *؟ فكأن قائلا قال: إن أظهرنا الإسلام لسلامة النفس والمال يكون ماذا؟ فقيل: * (من كان يريد الحياة الدنيا) * (هود: 15) الخ، أو يقال: إن فيما قبل ما يتضمن إقناط الكفرة من أن يجيرهم آلهتهم من بأس الله عز سلطانه كما تقدم، وذكره بعض المحققين فلا يبعد أن يكون سماعهم ذلك سببا لعزمهم على إظهار الإسلام، أو فعل بعض الأعمال الصالحة ظنا منهم أن ذلك مما يجيرهم وينفعهم فشرح لهم حكم مثل ذلك بقوله سبحانه: * (من كان يريد) * الخ لكن أنت تعلم أن هذا يحتاج إلى ادعاء أن ذلك العزم من باب الاحتياط، وفي " البحر " في بيان المناسبة أنه سبحانه لما ذكر شيئا من أحوال الكفار في القرآن ذكر شيئا من أحوالهم الدنيوية وما يؤولون إليه في الآخرة، وأبو السعود بين ذلك على وجه يقوي به ما ادعاه من أنسبية كون الخطاب فيما سلف له عليه الصلاة والسلام والمؤمنين، فقال: والذي يقتضيه جزالة النظم الكريم أن المراد مطلق الكفرة بحيث يندرج فيهم القادحون في القرآن العظيم اندراجا أوليا فإنه عز وجل لما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن يزدادوا علما ويقينا بأن القرآن منزل بعلم الله سبحانه وبأن لا قدرة لغيره سبحانه على شيء أصلا وهيجهم على الثبات على الإسلام والرسوخ فيه عند ظهور عجز الكفرة وما يدعون من دون الله تعالى عن المعارضة وتبين أنهم ليسوا على شيء أصلا اقتضى الحال أن يتعرض لبعض شؤونهم الموهمة لكونهم على شيء في الجملة من نيلهم الحظوظ العاجلة واستوائهم على المطالب الدنيوية، وبيان أن ذلك بمعزل
عن الدلالة عليه، ولقد بين ذلك أي بيان انتهى، ولا يخفى أنه يمكن أن يقرر هذا على وجه لا يحتاج فيه إلى توسط حديث جعل الخطاب السابق له صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فليفهم، واستدل في الأحكام بالآية على أن ما سبيله أن لا يفعل إلا على وجه القربة لا يجوز أخذ الأجرة عليه لأن الأجرة من حظوظ الدنيا فمن أخذ عليه الأجرة خرج من أن يكون قربة بمقتضى الكتاب والسنة، وادعى الكيا أنها مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات " وتدل على أن من صام في رمضان لا عن رمضان لا يقع عن رمضان، وعلى أن من توضأ للتبرد أو التنظف لا يصح وضوؤه، وفي ذلك خلاف مبسوط بما له وعليه في محله.
* (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أول‍ائك يؤمنون به ومن يكفر به من الاحزاب فالنار موعده فلا تك فى مرية منه إنه الحق من ربك ول‍اكن أكثر الناس لا يؤمنون) *
* (أفمن كان على بينة من ربه) * تدل على الحق والصواب فيما يأتيه ويذره، ويدخل في ذلك الإسلام دخولا أوليا، واقتصر عليه بعضهم بناءا على أنه المناسب لما بعد، وأصل - البينة - كما قيل: الدلالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة، وتطلق على الدليل مطلقا، وهاؤها للمبالغة، أو النقل، وهي وإن قيل: إنها من بان بمعنى تبين واتضح لكنه اعتبر فيها دلالة الغير والبيان له، وأخذها بعضهم من صيغة المبالغة، والتنوين فيها
26

هنا للتعظيم أي بينة عظيمة الشأن، والمراد بها القرآن وباعتبار ذلك أو البرهان ذكر الضمير الراجع إليها في قوله سبحانه: * (ويتلوه) * أي يتبعه * (شاهد) * عظيم يشهد بكونه من عند الله تعالى شأنه وهو - كما قال الحسين بن الفضل - الإعجاز في نظمه، ومعنى كون ذلك تابعا له أنه وصف له لا ينفك عنه حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها فلا يستطيع أحد من الخلق جيلا بعد جيل معارضته ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. وكذا الضمير في * (منه) * وهو متعلق بمحذوف وقع صفة لشاهد، ومعنى كونه منه أنه غير خارج عنه.
وجوز أن يكون هذا الضمير راجعا إلى الرب سبحانه، ومعنى كونه منه تعالى أنه وارد من جهته سبحانه للشهاد، وعلى هذا يجوز أن يراد بالشاهد المعجزات الظاهرة على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها من الشواهد التابعة للقرآن الواردة من قبله عز وجل، وأمر التبعية فيها ظاهر، والمراد بالموصول كل من اتصف بتلك الكينونة من المؤمنين.
وعن أبي العالية أنه النبي عليه الصلاة والسلام ولا يخفى أن قوله سبحانه الآتي: * (أولئك) * الخ لا يلائمه إلا أن يحمل على التعظيم، وأيضا إن السياق كما ستعلم إن شاء الله تعالى للفرق بين الفريقين المؤمنين. ومن يريد الحياة الدنيا لا بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وفسر أبو مسلم. وغيره البينة بالدليل العقلي، والشاهد بالقرآن وضمير * (منه) * لله تعالى، ومن ابتدائية، أو للقرآن فقد تقدم ذكره، ومن حينئذ إما بيانية. وإما تبعيضية بناءا على أن القرآن ليس كله شاهدا وليس من التجريد على ما توهم الطيبي، فيكون في الآية إشارة إلى الدليلين العقلي. والسمعي، ومعنى كون الثاني تابعا للأول على ما قيل: إنه موافق له لا يخالفه أصلا، ومن هنا قالوا: إن النقل الصحيح لا يخالف العقل الصريح، ولذا أولوا الدليل السمعي إذا خالف ظاهره الدليل العقلي، ولعل في التعبير عن الأول بالبينة التي جاء إطلاقها في كلام الشارع على شاهدين، وعن الثاني بالشاهد الإيماء إلى أن الدليل العقلي أقوى دلالة من الدليل السمعي لأن دلالة الأول قطعية. ودلالة الثاني ظنية غالبا للاحتمالات الشهيرة التي لا يمكن القطع معها، وقد يقال: إن التعبير عن الثاني بالشاهد لمكان التلو.
وعن ابن عباس. ومجاهد. والنخعي. والضحاك. وعكرمة. وأبي صالح. وسعيد بن جبير أن البينة القرآن، والشاهد هو جبريل عليه السلام - ويتول - من التلاوة لا التلو، وضمير * (منه) * لله تعالى، وفي رواية عن مجاهد أن الشاهد ملك يحفظ القرآن وليس المراد الحفظ المتعارف لأنه - كما قال ابن حجر - خاص بجبريل عليه السلام، وضمير * (منه) * كما في سابقه إلا أن يتلو من التلو والضمير المنصوب للبينة، وقيل: لمن كان عليها، وعن الفراء أن الشاهد هو الإنجيل، * (ويتلوه) * وضمير * (منه) * على طرز ما روي عن مجاهد سوى أن ضمير - يتلوه - للقرآن.
وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن الحنفية أن الشاهد لسانه صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر أهل اللغة ذلك؛ وكذا الملك من معانيه، و - يتلو - حينئذ من التلاوة، والإسناد مجازي ومفعوله للبينة، وضمير * (منه) * للرسول صلى الله عليه وسلم بناءا على أنه المراد بالموصول، ومن تبعيضية، وقيل: الشاهد صورته عليه الصلاة والسلام ومخايله لأن كل عاقل يراه يعلم أنه عليه الصلاة والسلام رسول الله.
وأخرج ابن أبي حاتم. وابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: " ما من رجل من قريش إلا نزل
27

فيه طائفة من القرآن، فقال له رجل: ما نزل فيك؟ قال: أما تقرأ سورة هود * (أفمن كان على بينة) * الآية من كان على بينة من ربه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شاهد منه "، وأخرج المنهال عن عبادة بن عبد الله مثله، وأخرج ابن مردويه بوجه آخر عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: * (أفمن كان على بينة من ربه) * أنا * (ويتلوه شاهد) * علي ".
وأخرج الطبرسي نحو ذلك عن بعض أهل البيت رضي الله تعالى عنهم وتعلق به بعض الشيعة في أن عليا كرم الله تعالى وجهه هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى سماه شاهدا كما سمى نبيه عليه الصلاة والسلام كذلك في قوله سبحانه: * (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا) * والمراد * (شاهدا) * على الأمة كما يشهد له عطف * (مبشرا ونذيرا) * عليه فينبغي أن يكون مقامه كرم الله تعالى وجهه بين الأمة كمقامه عليه الصلاة والسلام بينهم، وحيث أخبر سبحانه أنه يتلوه أي يعقبه ويكون بعد دل على أنه خليفته، وأنت تعلم أن الخبر مما لا يكاد يصح، وفيما سيأتي في الآية إن شاء الله تعالى إباء عنه، ويكذبه ما أخرجه ابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. وأبو الشيخ. والطبراني في الأوسط عن محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنه قال: قلت لأبي كرم الله تعالى وجهه: إن الناس يزعمون في
قول الله تعالى: * (ويتلوه شاهد منه) * أنك أنت التالي؟ قال: وددت أني هو ولكنه لسان محمد صلى الله عليه وسلم، على أن في تقرير الاستدلال ضعفا وركاكة بلغت الغاية القصوى كما لا يخفى على من له أدنى فطنة.
ونقل أبو حيان أن هذا الشاهد هو أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وفيه ما فيه، وفي عطف - يتلوه - احتمالان: الأول: أن يكون على ما وقع صفة لبينة، والثاني: أن يكون على جملة * (كان) * ومرفوعها، وقوله سبحانه: * (ومن قبله كتاب موسى) * عطف على * (شاهد) * والضمير المجرور له، وقد توسط الجار والمجرور بينهما، والظاهر أنه متعلق بمحذوف وقع حالا من الكتاب أي * (ويتلوه) * في التصديق * (كتاب موسى) * منزلا من قبله، وحاصله * (أفمن كان على بينة من ربه) * ويشهد لصدقه شاهد منه وشاهد آخر من قبله وهو كتاب موسى، قيل: وإنما قدم في الذكر المؤخر في النزول لكونه وصفا لازما له غير مفارق عنه ولعراقته في وصف التلو، وهذا على تقدير أن يكون المراد بالشاهد الإعجاز - كما اختاره بعض المحققين - وقد يقال: إن تأخير بيان شهادة هذا الشاهد عن بيان شهادة الشاهد الأول لأنها ليست في الظهور عند الأمة كشهادة الأول وهو جار على غير ذلك التقدير أيضا، وتخصيص كتاب موسى عليه السلام بالذكر بناء على عدم إرادة الإنجيل فيما تقدم لأن الملتين مجتمعتان على أنه من عند الله تعالى بخلاف الإنجيل فإن اليهود مخالفون فيه فكان الاستشهاد بما تقوم به الحجة على الفريقين أولى.
وأوجب بعضهم كون * (ومن قبله كتاب موسى) * جملة مبتدأة غير داخلة في حيز شيء مما قبلها وهو مبني على كثير من الاحتمالات السابقة في الشاهد، وقرأ محمد بن السائب الكلبي. وغيره * (كتاب) * بالنصب على أنه معطوف على مفعول - يتلوه - أو منصوب بفعل مقدر أي ويتلو كتاب موسى، والأول أولى لأن الأصل عدم التقدير، ويتلو في هذه القراءة من التلاوة، والضمير المنصوب للقرآن والمجرور لمن، و * (من) * تبعيضية لا تجريدية، والمعنى على ما يقتضيه كلام الكشاف * (أفمن كان على بينة) * على أن القرآن حق لا مفترى، والمراد به أهل الكتاب ممن كان يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق وأن كتابه هو الحق لما كانوا وجدوه في التوراة، ويقرأ القرآن شاهد من هؤلاء، ويقرأ من قبل القرآن كتاب موسى، والمراد بهذا الشاهد ما أريد به
28

في قوله سبحانه: * (وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله) * (الأحقاف: 10) وهو عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه، ففي الآية مدح أهل الكتاب وخص من بينهم تالي الكتابين وشاهدهم بالذكر دلالة على مزيد فضله وتنبيها على أنهم مشايعوه في اتباع الحق وإن لم يبلغوا رتبة الشاهد، وفي قوله تعالى: * (يتلوه) * استحضار للحال ودلالة على استمرار التلاوة، وهو كما قيل في غاية التطابق للكلام * (إماما) * أي مؤتما به في الدين ومقتدى، وفي التعرض لهذا الوصف مع بيان تلو الكتاب ما لا يخفى من تفخيم شأن المتلو والتنوين فيه للتعظيم، وكذا في قوله سبحانه: * (ورحمة) * أي نعمة عظيمة على من أنزل إليهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة باعتبار أحكامه الباقية المؤيدة بالقرآن العظيم وهما حالان من الكتاب * (أول‍ائك) * أي الموصوفون بتلك الصفة الحميدة وهي الكون على بينة * (يؤمنون به) * أي يصدقون بالقرآن حق التصديق حسبما يشهد به تلك الشواهد الحقة المعربة عن حقيته ولا يقلدون أحدا من عظماء الدين؛ فالضمير للقرآن، وقيل: إنه لكتاب موسى عليه السلام لأنه أقرب ولا يناسب ما بعد، وإن لم يك خاليا عن الفائدة، وقيل: إنه للنبي صلى الله عليه وسلم * (ومن يكفر به) * أي بالقرآن ولم يعتد بتلك الشواهد الحقة ولم يصدق بها * (من الأحزاب) * من أهل مكة ومن تحزب معهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله بعضهم، وأخرج عبد الرزاق عن قتادة أن الأحزاب الكفار مطلقا فإنهم تحزبوا على الكفر، وروي ذلك عن ابن جبير، وفي رواية أبي الشيخ عن قتادة أنهم اليهود. والنصارى، وقال السدي: هم قريش، وقال مقاتل: هم بنو أمية. وبنو المغيرة بن عبد الله المخزومي. وآل أبي طلحة بن عبيد الله * (فالنار موعده) * أي يردها لا محالة حسبما نطق به قوله سبحانه: * (ليس لهم في الآخرة إلا النار) * (هود: 16) وآيات أخر، والموعد اسم مكان الوعد كما في قول حسان: أوردتموها حياض الموت ضاحية * فالنار موعدها والموت لاقيها
وفي جعل النار موعدا إشعار بأن له فيها ما لا يوصف من أفانين العذاب * (فلا تك في مرية منه) * أي في شك من أمر القرآن وكونه من عند الله تعالى غب ما شهدت به الشواهد وظهر فضل من تمسك به، أو لا تك في شك من كون النار موعدهم، وادعى بعضهم أنه الأظهر وليس كذلك، وأيا ما كان فالخطاب إن كان عاما لمن يصلح له فالمراد التحريض على النظر الصحيح المزيل للشك، وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم فهو بيان لأنه ليس محلا للشك تعريضا بمن شك فيه ولا يلزم من نهيه عليه الصلاة والسلام عنه وقوعه ولا توقعه منه صلى الله عليه وسلم، وقرأ السمعي. وأبو رجاء. وأبو الخطاب السدوسي. والحسن * (مرية) * بضم الميم وهي لغة أسد. وتميم، والكسر لغة أهل الحجاز * (إنه الحق من ربك) * أي الذي يربيك في دينك ودنياك * (ول‍اكن أكثر الناس لا يؤمنون) * بذلك إما لقصور أنظارهم واختلال أفكارهم وإما لاستكبارهم وعنادهم و * (الناس) * على ما روى عن ابن عباس أهل مكة، قال صاحب الفينان: جميع الكفار، هذا والهمزة في * (أفمن) * قيل: للتقرير و - من - مبتدأ والخبر محذوف أي أفمن كان كذا كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها، وحذف معادل الهمزة ومثله كثير، واختار هذا أبو حيان، والذي يقتضيه كلام الزمخشري - ولعله الأولى - خلافه حيث قال: المعنى أمن كان يريد الحياة الدنيا كمن كان على بينة أي لا يعقبونهم ولا يقاربونهم في المنزلة إلى آخر ما قال، وحاصله على ما في " الكشف " أن الفاء عاطفة
29

للتعقيب مستدعية ما يعطف عليه وهو الدال عليه قوله سبحانه: * (من كان) * الآية، فالتقدير أمن كان يريد الحياة الدنيا على أنها موصولة فمن كان على بينة من ربه، والخبر محذوف لدلالة الفاء أي يعقبونهم أو يقربونهم، والاستفهام للإنكار فيفيد أن لا تقارب بين الفريقين فضلا عن التماثل فلذلك صار أبلغ من نحو قوله تعالى: * (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا) * وأما إنها عطف على قوله تعالى: * (من كان يريد الحياة الدنيا) * فلا وجه له لأنه يصير من عطف الجملة، ولا يدل على إنكار التماثل، ولا معنى لتقدير الاستفهام في الأول فإن الشرط والجزاء لا إنكار عليه انتهى، وهو جار على أحد مذهبين للنحاة في مثله، ويعلم مما تقرر أن الآية مرتبطة بقوله سبحانه: * (من كان) * الخ، ومساقها عند شيخ الإسلام للترغيب أيضا فيما ذكر من الإيمان بالقرآن. والتوحيد. والإسلام، وادعى الطبرسي أنها مرتبطة بقوله
تعالى: * (قل فأتوا بعشر سور مثله) * (هود: 13) وأن المراد أنهم إذا لم يأتوا بذلك فقل لهم: * (أفمن كان على بينة) * ولا بينة له على ذلك.
* (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أول‍ائك يعرضون على ربهم ويقول الاشهاد ه‍اؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظ‍المين) *
* (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) * بأن نسب إليه ما لا يليق به كقولهم: الملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وقولهم لآلهتهم: * (هؤلاء شفعاؤنا عند الله) * (يونس: 18) والمراد من الآية ذم أولئك الكفرة بأنهم مع كفرهم بآيات الله تعالى مفترون عليه سبحانه، ويجوز أن تكون لنوع آخر من الدلالة على أن القرآن ليس بمفترى، فإن من يعلم حال من يفتري على الله سبحانه كيف يرتكبه، وأن تكون من الكلام المنصف أي لا أحد أظلم مني أن أقول لما ليس بكلام الله تعالى إنه كلامه كما زعمتم، أو منكم إن كنتم نفيتم أن يكون كلامه سبحانه مع تحقق أنه كلامه جل وعلا، وفيه من الوعيد والتهويل ما لا يخفى، ويجوز عندي إذا كان ما قبل في مؤمني أهل الكتاب أن يكون هذا في بيان حال كفرتهم الذين أسندوا إليه سبحانه ما لم ينزله من المحرف الذي صنعوه ونفوا عنه سبحانه ما أنزله من القرآن أو من نعت النبي صلى الله عليه وسلم، وأيا ما كان فالمراد نفي أن يكون أظلم من ذلك أو مساويا في الظلم على ما تقدم * (أول‍ائك) * أي الموصوفون بالظلم البالغ وهو الافتراء * (يعرضون) * من حيث أنهم موصوفون بذلك * (على ربهم) * أي مالكهم الحق والمتصرف فيهم حسبما يريد، وفيه على ما قيل: إيماء إلى بطلان رأيهم في اتخاذهم أربابا من دونه سبحانه وتعالى، وجعل بعضهم الكلام على تقدير المضاف أي تعرض أعمالهم، أو على ارتكاب المجاز ولا يحتاج إلى ذلك على ما أشير إليه لأن عرضهم من تلك الحيثية وبذلك العنوان عرض لأعمالهم على وجه أبلغ فإن عرض العامل بعمله أفظع من عرض عمله مع غيبته، والظاهر أنه لا حذف في قوله سبحانه: * (على ربهم) * ويفوض من يقف على الله.
وقيل: هناك مضاف محذوف أي على ملائكة ربهم وأنبياء ربهم وهم المراد بالإشهاد في قوله تعالى: * (ويقول الأشه‍اد) * وتفسيرهم بالملائكة مطلقا هو المروى عن مجاهد، وعن ابن جريج تفسيرهم بالحفظة من الملائكة عليهم السلام، وقيل: المراد بهم الملائكة. والأنبياء. والمؤمنون، وقيل: جوارحهم، وعن مقاتل. وقتادة هم جميع أهل الموقف، وهو جمع شاهد بمعنى حاضر - كصاحب. وأصحاب - بناءا - على جواز جمع فاعل على أفعال، أو جمع شهيد بمعناه كشريف وأشراف أي ويقول الحاضرون عند العرض أو في موقف القيامة * (ه‍اؤلاء الذين كذبوا على ربهم) * ويحتمل أن يكون شهادة على تعيين من صدر منه الكذب كأن وقوعه
30

أمر واضح غني عن الشهادة، وإنما المحتاج إليها ذلك ولذا لم يقولوا: هؤلاء كذبوا بدون الموصول، ويحتمل أن يكون ذما لهم بتلك الفعلة الشنيعة لا شهادة عليهم كما يشعر به قوله تعالى: * (ويقول) * دون ويشهد، وتوطئة لما يعقبه من قوله تعالى: * (ألا لعنة الله على الظ‍المين) * أي بالافتراء المذكور، والظاهر أن هذا من كلام الأشهاد على الاحتمالين، ويؤيده ما أخرجه الشيخان. وخلق كثير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله تعالى يدني المؤمن حتى يضع كنفه عليه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: رب أعرف حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار. والمنافقون فيقول: الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ".
وجوز على الاحتمال الأول أن يكون من كلام الله تعالى، وحينئذ يجوز أن يراد بالظالمين ما يعم الظالمين بالافتراء. والظالمين بغير ذلك، ويدخل فيه الأولون دخولا أوليا، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران قال: إن الرجل ليصلي ويلعن نفسه في قراءته فيقول: ألا لعنة الله على الظالمين وهو ظالم.
وربما يجوز ذلك على الاحتمال الثاني أيضا، وأيا ما كان - فهؤلاء الذين - مبتدأ وخبر، واحتمال أن يكون * (هؤلاء) * مبتدأ، و * (الذين) * تابع له، وجملة * (ألا لعنة الله على الظالمين) * خبره، وقد أقيم الظاهر مقام المضمر أي عليهم لذمهم بمبدأ الاشتقاق مع الإشارة إلى علة الحكم كما ترى، وجملة - يقول الإشهاد - قيل: مستأنفة على أنها جواب سؤال مقدر كأن سائلا سأل إذ سمع أنهم يعرضون على ربهم ماذا يكون إذ ذاك؟ فأجيب بما ذكر، وقيل - وهو الظاهر - إنها معطوفة على جملة * (يعرضون) * على معنى أولئك يعرضون ويقول الأشهاد في حقهم، أو ويقول أشهادهم والحاضرون عند عرضهم * (هؤلاء) * الخ، وكأن هذا لبيان أنها مرتبطة في التقدير بالمبتدأ كارتباط الجملة المعطوفة هي عليها به، وقيل: كفى اسم الإشارة القائم مقام الضمير للتحقير رابطا فتدبر.
* (الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالاخرة هم ك‍افرون) *
* (الذين يصدون) * أي كل من يقدرون على صده أو يفعلون الصد * (عن سبيل الله) * أي دينه القويم وإطلاق ذلك عليه كالصراط المستقيم مجاز * (ويبغونها عوجا) * أي يطلبون لها انحرافا، والمراد أنهم يصفونها بذلك وهي أبعد شيء عنه، وإطلاق الطلب على الوصف مجاز من إطلاق السبب على المسبب، ويجوز أن يكون الكلام على حذف مضاف أي يبغون أهلها أن ينحرفوا عنها ويرتدوا، وقيل: المعنى يطلبونها على عوج ونصب * (عوجا) * على أنه مفعول به، وقيل: على أنه حال ويؤول بمعوجين * (وهم بالأخرة هم ك‍افرون) * أي والحال أنهم لا يؤمنون بالآخرة، وتكرير الضمير لتأكيد كفرهم واختصاصهم به لأنه بمنزلة الفصل فيفيد الاختصاص وضربا من التأكيد، والاختصاص ادعائي مبالغة في كفرهم بالآخرة كأن كفر غيرهم بها ليس بكفر في جنبه، وقيل: إن التكرير للتأكيد وتقديم * (بالآخرة) * للتخصيص، والأولى كون تقديمه لرؤوس الآي.
* (أول‍ائك لم يكونوا معجزين فى الارض وما كان لهم من دون الله من أوليآء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) *
* (أول‍ائك) * الموصوفون بما يوجب التدمير * (لم يكونوا معجزين) * لله تعالى مفلتين أنفسهم من أخذه لو أراد ذلك
31

* (في ا الأرض) * مع سعتها وإن هربوا منها كل مهرب وجعلها بعضهم كناية عن الدنيا * (وما كان لهم من دون الله من أولياء) * ينصرونهم من بأسه ولكن أخر
ذلك لحكمة تقتضيه، و * (من) * زائدة لاستغراق النفي، وجمع * (أولياء) * إما باعتبار أفراد الكفرة كأنه قيل: وما كان لأحد منهم من ولي، أو باعتبار تعدد ما كانوا يدعون من دون الله تعالى فيكون ذلك بيانا لحال آلهتهم من سقوطها عن رتبة الولاية * (يض‍اعف لهم العذاب) * جملة مستأنفة بين فيها ما يكون لهم ويحل بهم، وادعى أنها تتضمن حكمة تأخير المؤاخذة، وزعم بعضهم أنها من كلام الأشهاد، وهي دعائية ليس بشيء.
وقرأ ابن كثير. وابن عامر. ويعقوب - يضعف - بالتشديد * (ما كانوا يستطيعون السمع) * أي أنهم كانوا يستثقلون سماع الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ويستكرهونه إلى أقصى الغايات حتى كأنهم لا يستطيعونه، وهو نظير قول القائل: العاشق لا يستطيع أن يسمع كلام العاذل، ففي الكلام استعارة تصريحية تبعية، ولا مانع من اعتبار الاستعارة التمثيلية بدلها وإن قيل به، وبالجملة لا ترد الآية على المعتزلة وكذا على أهل السنة لأنهم لا ينفون الاستطاعة رأسا وإن منعوا إيجاد العبد لشيء ما، وكأنه لما كان قبح حالهم في عدم إذعانهم للقرآن الذي طريق تلقيه السمع أشد منه في عدم قبولهم سائر الآيات المنوطة بالإبصار. بالغ سبحانه في نفي الأول عنهم حسبما علمت واكتفى في الثاني بنفي الإبصار فقال عز قائلا: * (وما كانوا يبصرون) * أي أنهم كانوا يتعامون عن آيات الله تعالى المبسوطة في الأنفس والآفاق، وكأن الجملة جواب سؤال مقدر عن علة مضاعفة العذاب كأنه قيل: ما لهم استوجبوا تلك المضاعفة؟ فقيل: لأنهم كروهوا الحق أشد الكراهة واستثقلوا سماعه أعظم الاستثقال وتعاموا عن آيات الملك المتعال، ولا يشكل على هذا قوله سبحانه: * (من جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون) * (الأنعام: 160) بناءا على أن المراد بمثل السيئة ما تقتضيه من العقاب عند الله تعالى فلعل ما فعلوه من السيئات يقتضي تلك المضاعفة فتكون هي المثل كما أن مثل سيئة الكفر هو الخلود في النار، وقيل: إن المضاعفة لافترائهم وكذبهم على ربهم وصدهم عن سبيل الله تعالى وبغيهم إياها العوج وكفرهم بالآخرة - على ما يدل عليه نسبة مضاعفة العذاب إلى هؤلاء الموصوفين بتلك الصفات - وبه جمع بين ما هنا؛ وقوله سبحانه: * (من جاء بالسيئة) * الآية، ولعل التعليل بما تفيده الجملة على هذا لأنه الأصل الأصيل لسائر قبائحهم ومعاصيهم.
وزعم بعضهم أن المضاعفة لحفظ الأصل إذ لولا ذلك لارتفع ولم يبق عذابا للإلف بطول الأمد وفيه ما فيه، وقيل: إن الجملة بيان لما نفى من ولاية الآلهة فإن ما لا يسمع ولا يبصر بمعزل عن الولاية وقوله سبحانه: * (يضاعف) * الخ اعتراض وسط بينهما نعيا عليهم من أول الأمر بسوء العاقبة، وفيه أنه مخالف للسياق ومستلزم تفكيك الضمائر، وجوز أبو البقاء أن تكون * (ما) * مصدرية ظرفية أي يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع وإبصارهم، والمعنى أن العذاب وتضعيفه دائم لهم متماد، وأجاز الفراء أن تكون مصدرية وحذف حرف الجر منها كما يحذف من أن وأن، وفيه بعد لفظا ومعنى.
* (أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون) *
* (أولئك) * الموصوفون بتلك القبائح.
* (الذين خسروا أنفسهم) * باشتراء عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى شأنه، وقيل: * (خسروا) * بسبب تبديلهم الهداية بالضلالة والآخرة بالدنيا وضاع عنهم ما حصلوه بذلك التبديل من متاع الحياة الدنيا والرياسة.
وفي " البحر " أنه على حذف مضاف أي * (خسروا) * سعادة أنفسهم وراحتها فإن أنفسهم باقية معذبة.
32

وتعقب بأن إبقاءه على ظاهره أولى لأن البقاء في العذاب كلا بقاء * (وضل عنهم ما كانوا يفترون) * من الآلهة وشفاعتها
* (لا جرم أنهم فى الاخرة هم الاخسرون) *
* (لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون) * أي لا أحد أبين أو أكثر خسرانا منهم، فأفعل للزيادة إما في الكم. أو الكيف، وتعريف المسند بلام الجنس لإفادة الحصر، وإن جعل * (هم) * ضمير فصل أفاد تأكيد الاختصاص، وإن جعل مبتدأ وما بعده خبره والجملة خبر أن أفاد تأكيد الحكم، وفي * (لا جرم) * أقوال: ففي البحر عن الزجاج أن - لا - نافية ومنفيها محذوف أي لا ينفعهم فعلمهم مثلا، و - جرم - فعل ماض بمعنى كسب يقال: جرمت الذنب إذا كسبته؛ وقال الشاعر: نصبنا رأسه في جذع نخل * بما * (جرمت) * يداه وما اعتدينا
وما بعده مفعوله، وفاعله ما دل عليه الكلام أي كسب ذلك أظهرية أو أكثرية خسرانهم، وحكى هذا عن الأزهري، ونقل عن سيبويه أن - لا - نافية حسبما نقل عن الزجاج، و - جرم - فعل ماض بمعنى حق، وما بعد فاعله كأنه قيل: لا ينفعهم ذلك الفعل حق * (أنهم في الآخرة) * الخ.
وذكر أبو حيان أن مدهب سيبويه. وكذا الخليل أيضا كون مجموع * (لا جرم) * بمعنى حق وأن ما بعده رفع به على الفاعلية، وقيل: * (لا) * صلة و * (جرم) * فعل بمعنى كسب أو حق، وعن الكسائي أن * (لا) * نافية * (وجرم) * اسمها مبني معها على الفتح نحو لا رجل، والمعنى لا ضد ولا منع، والظاهر أن الخبر على هذا محذوف وحذف حرف الجر من أن ويقدر حسبما يقتضيه المعنى، وقيل: إن * (جرم) * اسم * (لا) * ومعناه القطع من جرمت الشيء أي قطعته، والمعنى لا قطع لثبوت أكثرية خسرانهم أي إن ذلك لا ينقطع في وقت فيكون خلافه.
ونقل السيرافي عن الزجاج أن * (لا جرم) * في الأصل بمعنى لا يدخلنكم في الجرم أي الإثم كإثمه أي أدخله في الاثم، ثم كثر استعماله حتى صار بمعنى لا بد، ونقل هذا المعنى عن الفراء، وفي البحر أن * (جرم) * عليه اسم * (لا) *، وقيل: إن * (جرم) * بمعنى باطل إما على أنه موضوع له، وإما أنه بمعنى كسب والباطل محتاج له، ومن هنا يفسر * (لا جرم) * بمعنى حقا لأن الحق نقيض الباطل، وصار لا باطل يمينا كلا كذب في قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أنا النبي لا كذب " وفي القاموس أنه يقال: * (لا جرم) *. ولاذا جرم، ولا أن ذا جرم. ولا عن ذا جرم. ولا جرم ككرم، و * (لا جرم) * بالضم أي لا بد. أو حقا.
أو لا محالة وهذا أصله ثم كثر حتى تحول إلى معنى القسم فلذلك يجاب عنه باللام، فيقال: * (لا جرم) * لآتينك انتهى، وفيه مخالفة لما نقله السيرافي عن الزجاج، وما ذكره من * (لا جرم) * بالضم عن أناس من العرب، ولكن قال الشهاب: إن في ثبوت هذه اللغة في فصيح كلامهم ترددا، وجرم فيها يحتمل أن يكون اسما وأن يكون فعلا مجهولا سكن للتخفيف، وحكى بعضهم لا ذو جرم. ولا عن جرم ولا جر بحذف الميم لكثرة الاستعمال كما حذفت الفاء من سوف لذلك في قولهم: سوترى.
والظاهر أن المقحمات بين * (لا) * ودجرم) * زائدة، وإليه يشير كلام بعضهم، وحكى بغير لا جرم أنك أنت فعلت ذاك، ولعل المراد أن كونك الفاعل لا يحتاج إلى أن يقال فيه لا حرم فليراجع ذاك والله تعالى يتولى هداك.
ثم إنه تعالى لما ذكر طريق الكفار وأعمالهم وبين مصيرهم وما له شرع في شرح حال أضدادهم وهم المؤمنون وبيان ما لهم من العواقب الحميدة تكملة لما سلف من محاسن المؤمنين المذكورة عند جمع في قوله سبحانه:
33

* (أفمن كان على بينة من ربه) * (هود: 17) الآية ليتبين ما بينهما من التباين البين حالا ومآلا [بم فقال عز من قائل:
* (إن الذين ءامنوا وعملوا الص‍الحات وأخبتوا إلى ربهم أول‍ائك أصح‍ابالجنة هم فيها خ‍الدون) *
* (إن الذين ءامنوا) * أي صدقوا بكل ما يجب التصديق به من القرآن وغيره ولا يكون ذلك إلا باستماع الحق ومشاهدة الآيات الآفاقية والأنفسية والتدبر فيها، أو المعنى فعلوا الإيمان واتصفوا به كما في فلان يعطى ويمنع * (وعملوا الصالحات) * أي الأعمال الصالحات ولعل المراد بها ما يشمل الترغيب في سلوك سبيل الله عز وجل ونحوه مما على ضده فريق الكفار * (وأخبتوا إلى ربهم) * أي اطمؤنوا إليه سبحانه وخشعوا له، وأصل الإخبات نزول الخبت وهو المنخفض من الأرض، ثم أطلق على اطمئنان النفس والخشوع تشبيها للمعقول بالمحسوس ثم صار حقيقة فيه، ومنه الخبيت بالتاء المثناة للدنىء، وقيل: إن التاء بدل من الثاء المثلثة * (أولئك) * المنعوتون بتلك النعوت الجلية الشأن * (أصح‍ابالجنة هم فيها خلدون) * دائمون أبدا وليس المراد حصر الخلود فيهم لأن العصاة من المؤمنين يدخلون الجنة عند أهل الحق ويخلدون فيها، ولعل من يدعى ذلك يريد بنفي الخلود عن العصاة نقصه من أوله كما قيل به فيما ستسمعه إن شاء الله تعالى:
* (مثل الفريقين ك الاعمى والاصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون) *
* (مثل الفريقين) * المذكورين من المؤمنين والكفار أي حالهما العجيب، وأصل المثل كالمثل النظير، ثم استعير لقول شبه مضربه بمورده ولا يكون إلا لما فيه غرابة وصار في ذلك حقيقة عرفية، ومن هنا يستعار للقصة والحال والصفة العجيبة.
* (ك الأعمى والأصم والبصير والسميع) * أي كحال من جمع بين العمى والصمم، ومن جمع بين البصر والسمع فهناك تشبيهان: الأول تشبيه حال الكفرة الموصوفين بالتعامي والتصام عن آيات الله تعالى بحال من خلق أعمى أصم لا تنفعه عبارة ولا إشارة، والثاني تشبيه حال الذين آمنوا وعملوا الصالحات فانتفعوا بأسماعهم وأبصارهم اهتداءا إلى الجنة وانكفاءا عما كانوا خابطين فيه من ضلال الكفر والدجنة بحال من هو بصير سميع يستضيء بالأنوار في الظلام ويستفيء بمغانم الأنذار والأبشار فوزا بالمرام، والعطف لتنزيل تغاير الصفات منزلة تغاير الذوات كما في قوله: يا لهف زيابة للحرث الص‍ * - ابح فالغانم فالآيب
ويحتمل أن يكون هناك أربع تشبيهات بأن يعتبر تشبيه حال كل من الفريقين. الفريق الكافر. والفريق المؤمن بحال اثنين أي مثل الفريق الكافر كالأعمى ومثله أيضا كالأصم، ومثل الفريق المؤمن كالبصير ومثله أيضا كالسميع، وقد يعتبر تنويع كل من الفريقين إلى نوعين فيشبه نوع من الكفاربالأعمى. ونوع منهم بالأصم ويشبه نوع من المؤمنين بالبصير. ونوع منهم بالسميع، واستبعد ذلك إذ تقسيم الكفار إلى مشبه بالأول ومشبه بالثاني وكذلك المؤمنون غير مقصود البتة بدليل نظائره في الآيات الأخر كقوله سبحانه: * (وما يستوى الأعمى والأصم) * وكقوله تعالى: * (ختم الله على قلوبهم) * في الكفار الخلص، وقوله تبارك وتعالى: * (صم بكم عمي) * في المنافقين، وللآية على احتمالاتها شبه في الجملة بقول أمرىء القيس:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا * لدى وكرها العناب والحشف البالي
فتدبره، وقد يعتبر التشبيه تمثيليا بأن ينتزع من حال الفريق الأول في تصامهم وتعاميهم المذكورين ووقوعهم بسبب ذلك في العذاب المضاعف والخسران الذي لا خسران فوقه هيئة منتزعة ممن فقد مشعري البصر. والسمع
34

فتخطب في مسلكه فوقع في مهاوي الردي ولم يجد إلى مقصده سبيلا، وينتزع من حال الفريق الثاني في استعمال مشاعرهم في آيات الله تعالى حسبما ينبغي وفوزهم بدار الخلود هيئة تشبه بهيئة منتزعة ممن له بصر وسمع يستعملهما في مهماته فيهتدي إلى سبيله وينال مرامه، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر. ولعل أظهر الاحتمالات ما أشير إليه أولا، والكلام من باب اللف والنشر، واللف إما تقديري إن اعتبر في الفريقين لأنه في قوة الكافرين والمؤمنين، أو تحقيقي إن اعتبر فيما دل عليه قوله تعالى: * (ومن أظلم ممن افترى) * (هود: 18) الخ، وقوله سبحانه: * (إن الذين آمنوا) * (هود: 23) الآية، وأمر النشر ظاهر، ولا يخفى ما فيه من الطباق بين الأعمى والبصير وبين الأصم والسميع، وقدم ما للكافرين قيل: مراعاة لما تقدم ولأن السياق لبيان حالهم، وقدم الأعمى على الأصم لكونه أظهر وأشهر في سوء الحال منه.
وفي البحر إنما لم يجيء التركيب كالأعمى والبصير. والأصم والسميع ليكون كل من المتقابلين على إثر مقابله لأنه تعالى لما ذكر انسداد العين أتبعه بانسداد السمع، ولما ذكر انفتاح البصر أتبعه بانفتاح السمع وذلك هو الأسلوب في المقابلة والأتم في الاعجاز، وسيأتي إن شاء الله تعالى نظير ذلك في قوله سبحانه: * (إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى) * ثم الظاهر مما تقدم أن الكلام على حذف مضاف وهو مجرور بالكاف، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا
عن مثل.
وجوز أن تكون الكاف نفسها خبر المبتدأ ويكون معناها معنى المثل، ولا حاجة إلى تقدير مضاف أي مثل الفريقين مثل الأعمى والأصم والبصير والسميع * (هل يستويان) * يعني الفريقين المذكورين، والاستفهام إنكاري مذكر على ما قيل: لما سبق من إنكار المماثلة في قوله سبحانه: * (أفمن كان على بينة من ربه) * الخ * (مثلا) * أي حالا وصفة ونصبه على التمييز المحول عن الفاعل، والأصل هل يستوي مثلهما.
وجوز ابن عطية أن يكون حالا، وفيه بعد * (أفلا تذكرون) * أي أتشكون في عدم الاستوار وما بينهما من التباين أو تغفلون عنه فلا تتذكرونه بالتأمل فيما ذكر لكم من المثل، فالهمزة للاستفهام الإنكاري وهو وارد على المعطوفين معا أو أتسمعون هذا فلا تتذكرون فيكون الإنكار واردا على عدم التذكر بعد تحقق ما يوجب وجوده وهو المثل المضروب أي أفلا تفعلون التذكر، أو أفلا تعقلون، ومعنى إنكار عدم التذكر استبعاده من المخاطبين وأنه مما لا يصح أن يقع، وليس من قبيل الإنكار في * (أفمن كان على بينة من ربه) * (هود: 17) و * (هل يستويان) * فإن ذلك لنفي المماثلة ونفي الاستواء، ثم إنه تعالى شرع في ذكر قصص الأنبياء الداعين إلى الله تعالى وبيان حالهم مع أممهم ليزداد صلى الله عليه وسلم تشميرا في الدعوة وتحملا لما يقاسيه من المعاندين [بم فقال عز من قائل:
* (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إنى لكم نذير مبين) *
* (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه) * الواو ابتدائية واللام واقعة في جواب قسم محذوف ويقدر حرفه ياء لا واو وإن كان هو الشائع لئلا يجتمع واوان، وبعضهم يقدرها - ولا يبالي بذلك -.
ونوح في المشهور ابن لمك بن متوشبخ بن إدريس عليه السلام وأنه أول نبي بعث بعده قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: بعث عليه السلام على رأس أربعين من عمره ولبث يدعو قومه ما قص الله تعالى ألف سنة إلا خمسين عاما؛ وعاش بعد الطوفان ستين سنة وكان عمره ألفا وخمسين سنة. وقال مقاتل: بعث وهو ابن مائة سنة، وقيل: ابن خمسين، وقيل: ابن مائتين وخمسين ومكث يدعو قومه ما قص سبحانه وعاش بعد
35

الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمره ألفا وأربعمائة وخمسين سنة * (إني لكم نذير) * بالكسر على إرادة القول أي فقال أو قائلا.
وقرأ ابن كثير. وأبو عمرو. والكسائي بالفتح على إضمار حرف الجر أي ملتبسا بذلك الكلام وهو * (إني لكم نذير) * فلما اتصل الجار فتح كما فتح في كان، والمعنى على الكسر وهو قولك: إن زيدا كالأسد بناءا على أن كان مركبة وليست حرفا برأسه، وليس في ذلك خروج من الغيبة إلى الخطاب خلافا لأبي علي، ولعل الاقتصار على ذكر كونه عليه السلام نذيرا لأنهم لم يغتنموا مغانم إبشاره عليه السلام * (مبين) * أي موضح لكم موجبات العذاب ووجه الخلاص منه.
* (أن لا تعبدوا إلا الله إنىأخاف عليكم عذاب يوم أليم) *
* (أن لا تعبدوا إلا الله) * أي بأن لا تعبدوا إلا الله على أن * (أن) * مصدرية والباء متعلقة - بأرسلنا - و * (لا) * ناهية أي أرسلناه ملتبسا بنهيهم عن الاشراك إلا أنه وسط بينهما بيان بعض أوصافه ليكون أدخل في القبول ولم يفعل ذلك في صدر السورة لئلا يكون من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه، وجوز كون * (أن) * وما بعدها في تأويل مصدر مفعولا - لمبين - أي مبينا النهي عن الاشراك، ويجوز أن تكون * (أن) * مفسرة متعلقة - بأرسلنا - أو - بنذير - أو - بمبين - أي أرسلناه بشيء. أو نذير بشيء. أو مبين شيئا هو * (أن لا تعبدوا إلا الله) * لكن قيل: الانذار في هذا غير ظاهر وهذا على قراءة الكسر فيما مر، وأما على قراءة الفتح فإن * (لا) * الخ بدل من * (إني لكم) * الخ ويقدر القول بعد * (أن) * فيكون التقدير أرسلناه بقوله: * (إني لكن نذير) *، وبقوله * (لا تعبدوا) * فهو بدل البعض أو الكل على المبالغة، وادعاء * (أن) * الإنذار كله هو، وجاز أن لا يقدر القول، فالأظهر حينئذ بدل الاشتمال، ومن زعم أنه كذلك مطلقا إذ لا علاقة بينهما بجزئية أو كلية فقد غفل عن أنه على تقدير القول يكون قوله تعالى: * (إنيأخاف عليكم عذاب يوم أليم) * المعلل به النهي من جملة المقول، وهو إنذار خاص فيكون ذلك بعضا له أو كلا على الادعاء، والظاهر أن المراد - باليوم - يوم القيامة، وجوز أن يكون يوم الطرفان ووصفه - بالأليم - أي المؤلم على الاسناد المجازي لأن المؤلم هو الله سبحانه نزل الظرف منزلة الفاعل نفسه لكثرة وقوع الفعل فيه، فجعل كأنه وقع الفعل منه، وكذا وصف العذاب بذلك في غير موضع القرآن العظيم ويمكن اعتباره هنا أيضا، وجعل الجر للجوار، ووجه التجوز حينئذ أنه جعل وصف الشيء لقوة تلبسه به كأنه عينه فأسنه إليه ما يسند إلى الفاعل، ونظير ذلك على الوجهين نهاره صائم. وجد جده، وقد يقال: إن وصف العذاب بالإيلام حقيقة عرفية ومثله يعد فاعلا في اللغة، فيقال: آلمه العذاب من غير تجوز، قيل: وهذه المقالة - وكذا ما في معناها - مما قص في غير آية لما لم تصدر عنه عليه السلام مرة واحدة بل كان يكررها في مدته المتطاولة حسبما نطق به قوله تعالى حكاية عنه: * (رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا) * (نوح: 5) الآيات عطف على فعل الإرسال المقارن لها أو القول المقدر بعده جوابهم المتعرض لأحوال المؤمنين الذين اتبعوه بعد اللتيا والتي بالفاء التعقيبية فقال سبحانه:
* (فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم ك‍اذبين) *
* (فقال الملأ الذين كفروا من قومه) * أي الإشراف منهم - وهو كما قال غير واحد - من قولهم: فلان مليء بكذا إذا كان قادرا عليه لأنهم ملئوا بكفاية الأمور وتدبيرها، أو لأنهم متمالئون أن متظاهرون متعاونون، أو لأنهم يملأون القلوب جلالا. والعيون جمالا. والأكف نوالا، أو لأنهم مملؤون بالآراء الصائبة والأحلام الراجحة على أنه من الملأ لازما، ومتعديا
36

ووصفهم بالكفر لذمهم والتسجيل عليهم بذلك من أول الأمر لا لأن بعض أشرافهم ليسوا بكفرة.
* (ما نراك إلا بشرا مثلنا) * أرادوا ما أنت إلا بشر مثلنا ليس فيك مزية تخصك من بيننا بالنبوة ولو كان ذلك لرأيناه لا أن ذلك محتمل لكن لا نراه، وكذا الحال في * (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي) * فالفعلان من رؤية العين - وبشرا. واتبعك - حالان من المفعول بتقدير قد في الثاني أو بدونه على الخلاف؛ ويجوز أن يكونا من رؤية القلب وهو الظاهر فهما حينئذ المفعول الثاني، وتعلق الرأي في الأول بالمثلية لا البشرية فقط، ويفهم من الكشاف أن في الآية وجهين: الأول أنهم أرادوا التعريض بأنهم أحق بالنبوة كأنهم قالوا: هب أنك مثلنا في الفضيلة والمزية من كثرة المال والجاه فلم اختصصت بالنبوة من دوننا، والثاني أنهم أرادوا أنه ينبغي أن يكون ملكا لا بشرا، وتعقب هذا بأن فيه اعتزالا خفيا، وقد بينه العلامة الطيبي، ونوزع في ذلك ففي الكشف أن قولهم * (مثلنا) * علية لتحقيق البشرية، وقولهم * (وما نراك اتبعك) * الخ استدلال بأنهم ضعفاء العقول لا تمييز لهم، فجوزوا أن يكون الرسول بشرا وقولهم الآتي * (وما نرى لكم علينا من فضل) * تسجيل بأن دعوى النبوة باطلة - لإدخاله عليه السلام والأراذل - في سلك على أسلوب يدل أنهم أنقص البشر فضلا عن الارتقاء، وليسس في هذا الكلام اعتزال خفي ولا المقام عنه أبى انتهى.
وفي الانتصاف يجوز أن يكونوا قد أرادوا الوجهين جميعا كأنهم قالوا: من حق الرسول أن يكون ملكا لا بشرا وأنت بشر، وإن جاز أن يكون الرسول بشرا فنحن أحق منك بالرسالة، ويشهد لإرادتهم الأول قوله في الجواب * (ولا أقول إني ملك) * (هود: 31) ويشهد لأرادتهم القانية * (وما نرى لكم) * الخ، والظاهر أن مقصودهم ليس إلا إثبات أنه عليه السلام مثلهم وليس فيه مزية يترتب عليها النبوة ووجوب الإطاعة والاتباع، ولعل قولهم * (وما نراك اتبعك) * الخ جاب عما يرد عليهم من أنه عليه السلام ليس مثلهم حيث اتبعه من وفق لاتباعه، فكأنهم قالوا: إنه لم يميزك اتباع من اتبعك فيوجب علينا اتباعك لأنه لم يتبعك * (إلا الذين هم أراذلنا) * أي أخساؤنا وأدانينا، وهو جمع أرذل والأغلب الاقيس في مثله إذا أريد جمعه أن يجمع جمع سلامة كالأخسرون جمع أخسر لكنه كسر هنا لأنه صار بالغلبة جاريا مجرى الاسم، ولذا جعل في القاموس الرذل والأرذل بمعنى وهو الخسيس الدنيء، ومعنى جريانه مجرى الاسم أنه لا يكاد يذكر الموصوف معه كالأبطح والأبرق.
وجوز أن يكون جمع أرذل جمع رذل فهو جمع الجمع ونظير ذلك أكالب. وأكلب. وكلب وكونه جمع رذل مخالف للقياس وإنما لم يقولوا: إلا أراذبنا مبالغة في استرذالهم وكأنهم إنما استرطلوهم لفقرهم لأنهم لما لم يعلموا إلا ظاهرا من الحياة الدنيا كان الأشرف عندهم الأكير منها حظا والأرذل من حرمها ولم يفقهوا أن الدنيا بحذافيرها لا تعدل عند الله تعالى جناح بعوضة وأن النعيم إنما هو نعيم الآخرة. والأشرف من فاز به والأرذل من حرمه، ومثل هؤلاء في الجهل كثير من أهل هذا الزمان عافانا الله سبحانه مما هم فيه من الخذلان والحرمان وكان القوم على ما في بعض الأخبار حاكة وأساكفة وحجامين وأرادوا بقولهم * (بادي الرأي) * ظاهره وهو ما يكون من غير تعمق، والرأي من رؤية الفكر والتأمل، وقيل: من رؤية العين وليس بذاك.
وجوز أن يكون البادي بمعنى الأول، وهو على الأول من البدو، وعلى الثاني من البدء، والياء مبدلة.
37

من الهمزة لانكسار ما قبلها وقد قرأ أبو عمرو. وعيسى الثقفي بها، وانتصابه على القراءتين على الظرفية - لاتبعك - على معنى اتبعوك في ظاهر رأيهم أو أوله. ولم يتأملوا. ولم يتثبتوا ولو فعلو ذلك لم يتبعوك وغرضهم من هذا المبالغة في عدم اعتبار ذلك الاتباع وجعل ذلك بعضهم علة الاسترذال وليس بشيء، وقيل: المعنى إنهم اتبعوك في أول رأيهم أو ظاهرة وليسوا معك في الباطن.
واستشكل هذا التعلق بأن ما قبل * (إلا) * لا يعمل فيما بعدها إلا إذا كان مستنثى منه نحو ما قام إلا زيدا القوم أو مستثنى نحو جاء القوم إلا زيدا أو تابعا للمستنثى منه نحو ما جاءني أحد إلا زيدا خير من عمرو، و * (بادي الرأي) * ليس واحدا من هذه الثلاثة في بادي الرأي؛ وأجيب بأنه يغافر ذلك في الظرف لأنه يتسع فيه ما لا يتسع في غيره، واستشكل أمر الظرفية بأن فاعلا ليس بظرف في الأصل، وقال مكي: إنما جاز في فاعل أن يكون ظرفا كما جاز في فعيل كقريب، ومليء لإضافته إلى الرأي وهو كثيرا ما يضاف إلى المصدر الذي يجوز نصبه على الظرفية نحو جهد رأييأنك منطلق.
وقال الزمخشري: - وتابعه غيره - أن الأصل وقت حدوث أول أمرهم أو وقت حدوث ظاهر رأيهم فحذف ذلك وأقيم المضاف إليه مقامه، ولعل تقدير الوقت ليكون نائبا عن الظرف فينتصب على الظرفية، واعتبار الحدوث بناءا على أن اسم الفاعل لا ينوب عن الظرف وينتصب والمصدر ينوب عنه كثيرا فأشاروا بذكره إلى أنه متضمن معنى الحدوث بمعنييه فلذا جاز فيه ذلك، وليس مرادهم أنه محذوف إذ لا داعي لذلك في المعنى على التفسيرين، وما ذكروه هنا من أن الصفات لا ينوب منها عن الظرف إلا فعيل من الفوائد الغريبة - كما قال الشهاب - لكن استدركه باملنع لأن فاعلا وقع ظرفا كثيرا كفعيل، وذلك مثل خارج الدار. وباطن الأمر. وظاهره، وغير ذلك مما هو كثير في كلامهم، وقيل: هو ظرف - لنراك - أي ما نراك في أول رأينا أو فيما يظهر منه، وقيل: لاراذلنا أي أنهم أراذل في أول النظر أو ظاهره لأن رذالتهم مكشوفة لا تحتاج إلى تأمل.
وقيل: هو نعت - لبشرا - وقيل: منصوب على أنه حال من ضمير نوح في * (اتبعك) * أي وأنت مكشوف الرأي لا حصافة فيك، وقيل: انتصب على النداء لنوح عليه السلام أي - يا بادي الرأي - أي ما في نفسك من الرأي ظاهر لكل أحد، وقيل: هو مصدر على فاعل منصوب على المفعولية المطلقة والعامل فيه ما تقدم على تقدير الظرفية.
* (وما نرى لكم) * خطاب له عليه السلام ولمتبعيه جميعا على سبيل التغليب أي وما نرى لك ولمتبعيك. * (علينا من فضل) * أي زيادة تؤهلكم لاتباعنا لكم، وعن ابن عباس تفسير ذلك بالزيادة في الخلق والخلق، وعن بعضهم تفسيره بكثرة الملك والملك، ولعل ما ذكرناه أولى، وكأن مرادهم نفي رأية * (فضل) * بعد الاتباع أي ما نرى فيك وفيهم بعد الاتباع فضيلة علينا لنتبع وإلا فهم قد نفوا أولا أفضليته عليه السلام في قولهم * (ما نراك * (الخ وصرحوا بأن متبعيه - وحاشاهم - أراذل،
وهو مستلزم لنفي رؤية * (فضل) * لهم علهم، وقيل: إن هذا تأكيد لما فهم أولا، وقيل: الخطاب لأتباعه عليه السلام فقط فيكون التفاتا أي ما نرى لكم علينا شرف في تلك التبعية لنوافقكم فيها، وحمل الفضل على التفضل والإحسان في احتمالي الخطاب على أن يكون مراد امللأ من جوابهم له عليه السلام حين دعاهم إلى ما دعاهم إليه أنا لانتبعك ولا نترك ما نحن عليه لقولك لأنك بشر مثلنا ليس فيك
38

ما يستدعي نبوتك وكونك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا بذلك وأتباعك أراذل اتبعوك من غير تأمل وتثبت فلا يدل اتباعهم على أن فيك ما يستدعي ذلك وخفي عنا، وأيضا لست ذا تفضل علينا ليكون تفضلك داعيا لنا لموافقتك كيفما كنت ولا أتباعك ذوو تفضل علينا لنوافقهم وإن كانوا أراذل مراعاة لحق التفضل، فإن الإنسان قد يوافق الرذيل لتفضله ولا يبالي بكونه رذيلا لذلك مما يدور في الخلد إلا أن في القلب منه شيئا * (بل نظنكم ك‍اذبين) * جميعا لكون كلامكم واحدا ودعوتكم واحدة أو إياك في دعوى النبوة وإياهم في تصديقك، قيل: واقتصروا على الظن احترازا منهم عن نسبتهم إلى المجازفة كما أنهم عبروا بما عبروا أولا لذلك مع التعريض من أول الأمر برأي المتبعين ومجاراة معه عليه السلام بطريق الآراء على نهج الانصاف.
* (قال ياقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربىوءاتانى رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها ك‍ارهون) *
* (قال) * استئناف بياني * (ي‍اقوم أرءيتم) * أي أخبروني، وفيه إيماء إلى ركاكة رأيهم المذكور * (إن كنت على بينة) * حجة ظاهرة * (من ربي) * وشاهد يشهد لي بصحة دعواي * (وءات‍اني رحمة من عنده) * هي النبوة على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وجوز أن تكون هي البينة نفسها جيء بها إيذانا بأنها مع كونها بينة من الله تعالى رحمة ونعمة عظيمة منه سبحانه، ووجه إفراد الضمير في قوله تعالى: * (فعميت عليكم) * أي أخفيت على هذا ظاهر، وإن أريد بها النبوة. وبالبينة البرهان الدال على صحتها فالافراد لإرادة كل واحدة منهما، أو لكون الضمير للبينة والاكتفاء بذلك لاستلزام خفاء البينة خفاء المدعى، وجملة * (وآتاني رحمة) * على هذا معترضة أو لكونه للرحمة، وفي الكلام مقدر أي أخفيت الرحمة بعد إخفاء البينة وما يدل عليها وحذف للاختصار. وقيل: إنه معتبر في المعنى دون تقدير، أو لتقدير - عميت - غير المذكر بعد لفظ البينة وحذف اختصارا، وفيه تقدير جملة قبل الدليل.
وقرأ أكثر السبعة * (فعميت) * بفتح العين وتخفيف الميم مبنيا للفاعل، وهو من العمى ضد البصر، والمراد به هنا الخفاء مجازا يقال: حجة عمياء كما يقال: مبصرة للواضحة، وفي الكلام استعارة تبعية من حيث أنه شبه خفاء الدليل بالعمى في أن كلا منهما يمنع الوصول إلى المقاصد، ثم فعل ما لا يخفى عليك، وجوز أن يكون هناك استعارة تمثيلية بأن شبه الذي لا يهتدي بالحجة لخفائها عليه بمن سلك مفازة لا يعرف طرقها واتبع دليلا أعمى فيها، وقيل: الكلام على القلب، والأصل فعميتم عنها كما تقول العرب: ادخلت القلنسوة في رأسي، ومنه قول الشاعر: ترى الثور فيها يدخل الظل رأسه
وقوله سبحانه: * (فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله) * (إبراهيم: 47) وتعقبه أبو حيان بأن القلب عند أصحابنا مطلقا لا يجوز إلا في الضرورة، وقول الشاعر ليس منه بل من باب الاتساع في الظرف، وكذا الآية ليست منه أيضا لأن أخلف يتعدى إلى مفعولين، والوصف منه كذلك ولك أن تضيفه إلى أيهما شئت على أنه لو كان ما ذكر من القلب لكان التعدي بعن دون على، ألا ترى أنك تقول: عميت عن كذا ولا تقول: عميت على كذا.
وروي الأعمش عن وثاب - وعميت - بالواو الخفيفة، وقرأ أبي. والسلمي. والحسن. وغيرهم فعماها عليكم على أن الفعل لله تعالى، وقرىء بالتصريح به وظاهر ذلك مع أهل السنة القائلين بأن الحسن والقبيح منه تعالى، ولذا أوله الزمخشري خفظا لعقيدته * (أنلزمكموها) * أي أنكرهكم على الاهتداء بها وهو جواب أرأيتم وساد مسد جواب الشرط.
39

وفي البحر أنه في موضع المفعول الثاني له ومفعوله الأول البينة مقدرا وجواب الشرط محذوف دل عليه * (أرأيتم) * أي * (إن كنت) * الخ فأخبروني وحيث احتمع ضميران منصوبان وقد قدم أعرفهما - وهو ضمير المخاطب الاعرف من ضمير الغائب - جاز في الثاني الوصل والفصل فيجوز في غير القرآن أنلزمكم إياها وهو الذي ذهب إليه ابن مالك في التسهيل ووافقه عليه بعضهم، وقال ابن أبي الربيع: يجب الوصل في مثل ذلك ويشهد له قول سيبويه في الكتاب: فإذا كان المفعولان اللذان تعدي إليهما فعل الفاعل مخاطبا وغائبا فبدأت بالمخاطب قبل الغائب فإن علامة الغائب العلامة التي لا يقع موقعها إياه وذلك نحو أعطيتكه وقد أعطاكه، قال الله تعالى: * (أنلزمكموها) * فهذا كهذا إذ بدأتبالمخاطب قبل الغائب انتهى، ولو قدم الغائب وجب الانفصال على الصحيح فيقال: أنلزمها إياكم.
وأجاز بعضهم الاتصال، واستشهد بقول عثمان رضي الله تعالى عنه: أراهمني، ولم يقل: أراهم إياي، وتمام الكلام على ذلك في محله، وجيء بالواو تتمة لميم الجمع. وحكى عن أبي عمرو إسكان الميم الأولى تخفيفا، ويجوز مثل ذلك عند الفراء، وقال الزجاج: أجمع النحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكان حركة الإعراب إلا في ضرورة الشعر كقوله: فاليوم أشرب غير مستحقب * إثما من الله ولا واغل
وقوله: وناع يخبرنا بمهلك سيد * تقطع من وجد عليه الأنامل
وأما ما روي عن أبي عمرو من الإسكان فلم يضبطه عنه الراوي، وقد روي عنه سيبويه أنه كان يخفف الحركة ويختلسها وهذا هو الحق، وذكر نحو ذلك الزمخشري، وقال: إن الإسكان الصريح لحن عند الخليل. وسيبويه. وحذاق البصريين، وفي قرأة أبي * (أنلزمكموها) * من شطر أنفسنا، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ من شطر قلوبنا أي من تلقائها وجهتها، وفي البحر أن ذلك على جهة التفسير لا على أنه قرآن لمخالفته سواد المصحف * (وأنتم لها ك‍ارهون) * أي لا تختارونها ولا تتأملون فيها، والجملة في موضع الحال قال السمين: إما من الفاعل. أو من أحد المفعولين، واختير أنها في موضع الحال من ضمير المخاطبين، وقدم الجار رعاية للفواصل، ومحصول الجواب أخبروين إن كنت على حجة ظاهرة الدلالة على صحة دعواي إلا أنها خافية عليكم غير مسلمة لديكم أيمكننا أن نكرهكم على
قبولها وأنتم معرضون عنها غير متدبرين فيها أي لا يكون ذلك - كذا قرره سيخ الإسلام - ثم قال: وظاهره مشعر بصدوره عنه عليه السلام بطريق إظهار اليأس عن إلزامهم والقعود عن محاجتهم كقوله: * (ولا ينفعكم نصحى) * (هود: 34) الخ لكنه محمول على أن مراده عليه السلام ردهم عن الاعراض عنها وحثهم على التدبر فيها بصرف الإنكار المستفاد من الهمزة إلى الإلزام حال كراهتهم لا إلى الإلزام مطلقا، وقال مولانا سعدى جلبي: إن المراد من الإلزام هنا الجبر بالقتل ونحوه لا الإيجاب لأنه واقع فليفهم.
وجوز أن يراد بالبينة دليل العقل الذي هو ملاك الفضل وبحسبه يمتاز أفراد البشر بعضها عن بعض وبه تناط الكرامة عند الله عز وجل والاجتباء للرسالة وبالكون عليها التمسك به والثبات عليه وبخفائها على الكفرة على أن يكون الضمير للبينة عدم إدراكهم لكونهم عليه السلام عليها وبالرحمة النبوة التي أنكروا اختصاصه عليه السلام بها بين ظهرانيهم ويكون المعنى إنكم زعمتم أن عهد النبوة لا يناله إلا من له فضلة على سائر الناس مستتبعة لاختصاصه به دونهم أخبروني إن امتزت عليكم بزيادة مزية وحيازة فضيلة من ربي وآتاني
40

بحسبها نبوة من عنده فخفيت عليكم تلك البنة ولم تصيبوها ولم تناولها ولم تعلموا حيازتي لها وكوني عليها إلى الآن حتى زعمتم أني مثلكم وهي متحققة في نفسها أنلزمكم قبول نبوتي التابعة لها والحال أنكم كارهون لذلك، ثم قيل: فيكون الاستفهام للحمل على الإقرار وهو الأنسب بمقام المحاجة، وحينئذ يكون كلامه عليه السلام جوابا عن شبهتهم التي أدرجوها في خلال مقالهم من كونه عليه السلام بشرا قصارى أمره أن يكون مثلهم من غير فضل له عليهم وقطعا لشأفة آرائهم الركيكة انتهى، وفيه أن كون معنى - أنلزمكموها - أنلزمكم قبول نبوتي التابعة لها غير ظاهر على أن في أمر التبعية نظرا كما لا يخفى، ولعل الإتيان بما أتى به من الشرط من باب المجاراة وإسناد الإلزام لضمير الجماعة إما للتعظيم أو لاعتبار متبعيه عليه السلام معه في ذلك.
* (وياقوم لاأسألكم عليه مالا إن أجرى إلا على الله ومآ أنا بطارد الذين ءامنوا إنهم ملاقو ربهم ول‍اكنىأراكم قوما تجهلون) *
* (وي‍اقوم) * ناداهم بذلك تلطفا بهم واستدراجا لهم * (لا أسئلكم عليه) * أي التبليغ المفهوم مما تقدم، وقيل: الضمير للإنذار، وأفرد الله سبحانه بالعبادة، وقيل: للدعاء إلى التوحيد، وقيل: غير ذلك، وكلها أقوال متقاربة أي لا أطلب منكم على ذلك * (مالا) * تؤدونه إلى بعد إيمانكم، وأجرا لي في مقابلة اهتدائكم * (إن أجري إلا على الله) * فهو سبحانه يثيبني على ذلك في الآخرة ولا بد حسب وعده الذي لا يخلف، فالمراد بالأجر الأجر على التبليغ، وجوز أن يراد الأجر على الطاعة مطلقا، ويدخل فيه ذلك دخولا أوليا، وفي التعبير بالمال أولا. وبالأجر ثانيا ما لا يخفى من مزية ما عند الله تعالى على ما عندهم * (وما أنا بطارد الذين ءامنوا) * قيل: هو جواب عما لوحوا به بقولهم: * (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا) * (هود: 27) من أنه لو اتبعه الأشراف لوافقوهم وأن اتباع الفقراء مانع لهم عن ذلك كما صرحوا به في قولهم: * (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون) * (الشعراء: 111) فكان ذلك التماسا منهم لطردهم وتعليقا لإيمانهم به عليه السلام بذلك أنفة من الانتظام معهم في سلك واحد انتهى، والمروى عن ابن جريج أنهم قالوا له يا نوح: إن أحببت أن نتبعك فاطرد هؤلاء وإلا فلن نرضى أن نكون نحن وهم في الأمر سواء، وذلك كما قال قريش للنبي صلى الله عليه وسلم في فقراء الصحابة رضي الله تعالى عنهم: اطرد هؤلاء عنك ونحن نتبعك فأنا نستحيي أن نجلس معهم في مجلسك فهو جواب عما لم يذكر في النظم الكريم لكن فيه نوع إشارة إليه، وقرىء * (بطارد) * بالتنوين قال الزمخشري: على الأصل يعني أن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال فأصله أن يعمل ولا يضاف، وهو ظاهر كلام سيبويه، واستدرك عليه أبو حيان بأنه قد يقال: إن الأصل الإضافة لأنه قد اعتوره شبهان: أحدهما شبهه بالمضارع وهو شبه بغير جنسه، والآخر شبهه بالأسماء إذا كانت فيها الإضافة، وإلحاقه بجنسه أولى من إلحاقه بغير جنسه انتهى، وربما يقال: إن أولوية إلحاقه بالأسماء إنما يتم القول بها إذا كانت الإضافة في الأسماء هي الأصل وليس فليس * (إنهم ملاقوا ربهم) * تعليل للامتناع من طردهم كأنه قيل: لا أدرهم ولا أبعدهم عن مجلسي لأنهم من أهل الزلفى المقربون الفائزون عند اللذه تعالى؛ وانفهام الفوز بمعونة المقام وإلا فملاقاة الله تعالى تكون للفائز وغيره، أو أنهم ملاقوا ربهم فيخاصمون طاردهم عنده فيعاقبه على ما فعل - وحمله على أنهم مصدقون في الدنيا بلقاء ربهم موقنون به عالمون أنهم ملاقوه لا محالة فكيف أطردهم - خلاف الظاهر على أن هذا التصديق من توابع الإيمان، وقيل: المعنى إنهم يلاقونه تعالى فيجازيهم على ما في قلوبهم من إمان صحيح ثابت كما ظهر لي أو على خلاف ذلك مما تعرفونهم به من بناء أمرهم على بادىء الرأي من غير تعمق في الفكر، وما على أن أشق عن قلوبهم وأتعرف سر ذلك منهم حتى أطردهم إن كان الأمر كما تزعمون، وفيه أنه مع كونه
41

مبنيا على أنسؤال الطرد لعدم إخلاصهم لا لاسترذالهم وحاله أظهر من أن يخفى يأباه اغلجزم بترتب غضب الله تعالى على طردهم كما سيأتي إن شاء الله تعالى * (ول‍اكني أرياكم قوما تجهلون) * أي بكل ما ينبغي أن يعلم، ويدخل فيه جهلهم بمنزلتهم عند الله تعالى وبما يترتب من المحذور على طردهم وبركاكة رأيهم في التماس ذلك، وتوقف إيمانهم عليه وغير ذلك وإيثار صيغة الفعل للدلالة على التجدد والاستمرار، وعبر بالرؤية موافقة لتعبيرهم، وجوز أن يكون الجهل بمعنى الجناية على الغير وفعل ما يشق عليه لا بمعنى عدم العلم المذموم وهو معنى شائع كما في قوله: ألا لا يجهلن أحد علينا * فنجهل فوق جهل الجاهلينا
أي ولكني أراكم قوما تتسفهون على المؤمنين بنسبتهم إلى الخساسة.
* (وياقوم من ينصرنى من الله إن طردتهم أفلا تذكرون) *
* (وي‍اقوم من ينصرني من الله) * أي من يصونني منه تعالى ويدفع عني حلول سخطه، والاستفها للإنكار أي لا ينصرني أحد من ذلك * (إن طردتهم) * وأبعدتهم عني وهم بتلك المثابة والزلفى منه تعالى، وفي الكلام ما لا يخفى من تهويل أمر طردهم * (أفلا تذكرون) * أي أتستمرون على ما أنتم عليه من الجهل فلا تتذكرون ما ذكر من حالهم حتى تعرفوا أن ما تأتونه بمعزل عن الصواب، قيل: ولكون هذه العلة مستقلة بوجه مخصوص ظاهر الدلالة على وجوب الامتناع عن الطرد أفردت عن
التعليل السابق وصدرت - بياقوم -.
* (ولا أقول لكم عندى خزآئن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إنى ملك ولا أقول للذين تزدرىأعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما فى أنفسهم إنىإذا لمن الظ‍المين) *
* (ولا أقول لكم عندي خزائن الله) * شروع - على ما قال غير واحد - في دفع الشبه التي أوردوها تفصيلا وذلك من قبيل النشر المشوش ثقة بعلم السامع وتخلل ما تخلل بين شبههم وجوابها - على ما قال العلامة الطيبي - لأنه مقدمة وتمهيد للجواب، وبينه بأن قوله: * (يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده) * (هود: 28) إثبات لنبوته يعني ما قلت لكم * (إني لكم نذير مبين أن لا تعبدوا إلا الله) * إلا عن بينة على إثبات نبوتي وصحة دعوتي لكن خفيت عليكم وعميت حتى أوردتم تلك الشبه الواهية ومع ذلك ليس نظري فيما ادعيت إلا إلى الهداية وإني لا أطمع بمال حتى ألازم الأغنياء منكم وأطرد الفقراء وأنتم تجهلون هذا المعنى حيث تقولون: اطرد الفقراء وأن الله سبحانه ما بعثني إلا للترغيب في طلب الآخرة ورفض الدنيا فمن ينصرني إن كنت أخالف ما جئت به، ثم شرع فيما شرع، وفي " الكشف " إن قوله: * (أرأيتم) * الآية جواب إجمالي عن الشبه كلها مع التعبير بأنهم لا يرجعون فما يرمون إلى أدنى تدبر وقوله: * (ويا قوم لا أسئلكم) * تتميم للتعبير وحث على ما ضمنه من التشويق إلى ما عنده، وقوله: * (ما أنا بطارد) * (هود: 29) تصريح بجواب ما ضمنوه في قولهم: * (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا) * (هود: 27) من خسة الشركاء وأنه لولا مكانهم لكان يمكن الاتباع إظهارا للتصلب فيما هو فيه وأن ما يورده ويصدره عن برهان من الله تعالى يوافيه وأنى يدع الحق الأبلج بالباطل اللجلج، ثم شرع في الجواب التفصيلي بقوله: * (ولا أقول) * الخ، وهو أحسن مما ذكره الطيبي، وجعلوا هذا ردا لقولهم: * (وما نرى لكم) * الخ كأنه يقول: عدم اتباع وتكذيبي إن كان لنفيكم عني فضل المال والجاه فأنا لم أدعه ولم أقل لكم إن خزائن رزق الله تعالى وماله عندي حتى أنكم تنازعوني في ذلك وتنكرونه وإنما كان مني دعوى الرسالة المؤيدة بالمعجزات، ولعل جوابه عليه السلام عن ذلك من حيث أنه معنى به مستتبع للجواب عنه من حيث أنه عنى به متبعوه عليه السلام أيضا، وجعله جوابا عن قولهم: * (ما نراك إلا بشرا مثلنا) * (هود: 27) كما جوزه الطبرسي ليس بشيء، وحمل الخزائن على ما أشرنا إليه هو المعول عليه.
42

وقال الجبائي. وأبو مسلم: إن المراد بها مقدورات الله تعالى أي لا أقول لكم حين أدعي النبوة عندي مقدورات الله تعالى فأفعل ما أشاء وأعطي ما أشاء وأمنع ما أشاء وليس بشيء، ومثله - بل أدهى وأمر - قول ابن الأنباري: إن المراد بها غيوب الله تعالى وما انطوى عن الخلق، وجعل ابن الخازن هذه الجملة عطفا على * (لا أسألكم) * الخ، والمعنى عنده لا أسألكم عليه ما لا ولا أقول لكم عندي خزائن الله التي لا يفنيها شيء فأدعوكم إلى اتباعي عليها لأعطيكم منها * (ولا أعلم الغيب) * عطف على * (عندي خزائن الله) * المقول للقول، وذكر معه النفي مع أن العطف على مقول القول المنفي منفي أيضا من غير أن يذكر معه أداة نفي لتأكيد النفي السابق والتذكير به ودفع احتمال أن لا يقول هذا المجموع فلا ينافي أن يقول أحدهما أي ولا أقول أنا أعلم الغيب حتى تكذبوني لاستبعاد ذلك وما ذكرت من دعوى النبوة والإنذار بالعذاب إنما هو بوحي وإعلام من الله تعالى مؤيد بالبينة والغيب ما لم يوح به ولم يقم عليه دليل، ولعله إنما لم ينف عليه السلام القول بعلم الغيب على نحو ما فعل في السابق واللاحق مبالغة في نفي هذه الصفة التي ليس لأحد سوى الله تعالى منها نصيب أصلا، ويجوز عطفه على * (أقول) * أي لا أقول لكم ذلك ولا أدعي علم الغيب في قولي إني نذير مبين إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم حتى تسارعوا إلى الإنكار والاستبعاد، وقيل: هو معطوف على هذا أو ذاك إلا أن المعنى لا أعلم الغيب حتى أعلم أن هؤلاء اتبعوني بادىء الرأي من غير بصيرة وعقد قلب ولا يخفى حاله، واعترض على الأول بأنه غير ملائم للمقام، ثم قيل: والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم حين ادعى النبوة سألوه عن المغيبات، وقالوا له: إن كنت صادقا أخبرنا عنها فقال: أنا أدعي النبوة بآية من ربي ولا أعلم الغيب إلا بإعلامه سبحانه، ولا يلزم أن يذكر ذلك في النظم الكريم كما أن سؤال طردهم كذلك انتهى، وفيه أن زعم عدم الملاءمة ليس على ما ينبغي، وأيضا لا يخفى أنه لا قرينة تدل على وقوعه جوابا لما لم يذكر، وأما سؤال طردهم فإن الاستحقار قرينة عليه في الجملة، وقد صرح بعض السلف به ومثله لا يقال من قبل الرأي * (ولا أقول إني ملك) * رد لقولهم: * (ما نراك إلا بشرا مثلنا) * (هود: 27) أي لا أقول ترويجا لما أدعيه من النبوة إني ملك حتى تقولوا لي ذلك وتكذبوني فإن البشرية ليست من موانع النبوة بل من مباديها يعني كما قيل: إنكم اتخذتم فقدان هذه الأمور الثلاثة ذريعة إلى تكذيبي، والحال أني لا أدعي شيئا من ذلك ولا الذي يتعلق بشيء منها، وإنما الذي أدعيه يتعلق بالفضائل التي تتفاوت بها مقادير البشر، وقيل: أراد بهذا لا أقول: إني روحاني غير مخلوق من ذكر وأنثى بل ءنما أنا بشر مثلكم فلا معنى لردكم على بقولكم * (ما نراك إلا بشرا مثلنا) * (هود: 27) وعلى القولين لا دليل فيه على أن الملائكة أفضل من الأنبياء عليهم السلام خلافا لمن استدل به، وجعل ذلك كلاما آخر ليس ردا لما قالوه سابقا مما لا وجه له فتدبر * (ولا أقول للذين تزدري أعينكم) * أي تستحقرهم والأصل تزتري بالتاء إلا أنها قلبت دالا لتجانس الزاي في الجهر لأنها من المهموسة، وأصل الازدراء الإعابة يقال: ازدراه إذا عابه، والتعبير بالمضارع للاستمرار، أو لحكاية الحال لأن الازدراء قد وقع، وإسناده إلى الأعين مجاز للمبالغة في رأي من حيث أنه إسناد إلى الحاسة التي لا يتصور منها تعييب أحد فكأن من لا يدرك ذلك يدركه، وللتنبيه على أنهم استحقروهم بادىء الرؤية وبما عاينوا من رثاثة حالهم وقلة منالهم دون تأمل وتدبر في معانيهم وكمالاتهم، وعائد الموصول محذوف كما أشرنا إليه، واللام للأجل لا للتبليغ وإلا لقيل فيما بعد يؤتيكم أي لا أقول مساعدة لكم ونزولا على هواكم في شأن الذين استرذلتموهم واستحقرتموهم لفقرهم من المؤمنين
43

* (لن يؤتيهم الله خيرا) * في الدنيا أو في الآخرة فعسى الله سبحانه يؤتيهم خيري الدارين.
* (الله أعلم بما في أنفسهم) * مما يستعدون به لإيتاء ذلك، وفي إرشاد العقل السليم من الإيمان، وفيه توجيه لعطف نفي هذا القول الذي ليس مما يستنكره الكفرة ولا مما يتوهمون صدوره عنه عليه السلام أصالة واستتباعا على نفي هاتيك الأقوال التي هي مما يستنكرونه ويتوهمون صدوره عنه عليه السلام إن ذلك من جهة أن كلا
النفيين رد لقياسهم الباطل الذي تمسكوا به فيما سلف فإنهم زعموا أن النبوة تستتبع الأمور المذكورة من ادعاء الملكية وعلم الغيب وحيازة الخزائن وأن العثور على مكانها واغتنام مغانمها ليس من دأب الأراذل، فأجاب عليه السلام بنفي ذلك جميعا فكأنه قال: لا أقول وجود تلك الأشياء من مواجب النبوة ولا عدم المال والجاه من موانع الخير، واقتصر عليه السلام على نفي القول المذكور مع أنه عليه السلام جازم بأن الله سبحانه سيؤتيهم خيرا عظيما في الدارين وأنهم على يقين راسخ في الإيمان جريا على سنن الإنصاف مع القوم واكتفاءا بمخالفة كلامهم وإرشادا لهم إلى مسلك الهداية بأن اللائق لكل أحد أن لا يبت القول إلا فيما يعلمه يقينا ويبني أموره على الشواهد الظاهرة ولا يجازف فيما ليس فيه على بينة انتهى، وأنت تعلم أنه عليه السلام قد بت القول بفوز هؤلاء في قوله: * (وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم) * (هود: 29) بناءا على أنهم المعنيون بالذين آمنوا، وأن المراد من كونهم ملاقوا ربهم أنهم مقربون في حضرة القدس - كما قال به غير واحد - وكذا الحكم إذا كان المعنى بالموصول من اتصف بعنوان الصلة مطلقا إذ يدخلون فيه دخولا أوليا لما أن المسؤول صريحا أو تلويحا طردهم، ولعل البت تارة وعدمه أخرى لاقتضاء المقام ذلك وأن في كون الكفرة قد زعموا أن العثور على مكان النبوة واغتنام مغانمها ليس من دأب الأراذل خفاءا مع دعوى أنهم لوحوا بقولهم: * (وما نراك اتبعك) * الخ الذي هو مظنة ذلك الزعم إلى التماس طردهم وتعليق إيمانهم به عليه السلام بذلك أنفة من الانتظام معهم في سلك واحد.
وفي " البحر " أن معنى * (ولا أقول للذين) * الخ ليس احتقاركم إياهم ينقص ثوابهم عند الله تعالى ولا يبطل أجورهم ولست أحكم عليهم بشيء من هذا، وإنما الحكم بذلك للذي يعلم ما في أنفسهم فيجازيهم عليه، وقيل: إن هذا رد لقولهم: * (وما نراك اتبعك) * الخ على معنى لست أحكم عليهم بأن لا يكون لهم خير لظنكم بهم أن بواطنهم ليست كظواهرهم الله أعلم بما في نفوسهم انتهى، ولا يخفى ما فيه.
وقد أخرج أبو الشيخ عن السدي أنه فسر الخير بالإيمان أي - لا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله إيمانا - واستشكل بأن الظاهر أن المراد بالموصول أولئك المتبعون المسترذلون وهم مؤمنون عندهم فلا معنى لنفي القول بإيتاء الله تعالى إياهم الإيمان مساعدة لهم ونزولا على هواهم.
وأجيب بأن المراد من هذا الإيمان هو المعتد به الذي لا يزول أصلا كما ينبىء عن ذلك التعبير عنه بالخير وهم إنما أثبتوا لهم الاتباع بادىء الرأي وأرادوا بذلك أنهم آمنوا إيمانا لا ثبات له، ويجعل ذلك ردا لذلك القول، ويراد من * (لن يؤتيهم) * ما آتاهم فكأنهم قالوا: إنهم اتبعوك وآمنوا بك بلا تأمل ومثل ذلك الإيمان في معرض الزوال، فهم لا يثبتون عليه ويرتدون فرد عليهم عليه السلام بأني لا أحكم على أولئك بأن الله تعالى ما آتاهم إيمانا لا يزول وأنهم سيرتدون كما زعمتم ويكون قوله عليه السلام: * (الله أعلم بما في أنفسهم) * تفويضا للحكم بذلك إليه تعالى؛ أو إشارة إلى جلالة ما آتاهم الله تعالى إياه من الإيمان كما يقال الله تعالى:
44

أعلم بما يقاسي زيد من عمرو إذا كان ما يقاسيه منه أمرا عظيما لا يستطاع شرحه، فكأنه قيل: إن إيمانهم عظيم القدر جليل الشأن فكيف أقول لن يؤتيهم الله تعالى إيمانا ثابتا، وفيه من التكلف والتعسف ما الله تعالى به أعلم، وحمل الموصول على أناس مسترذلين جدا غير أولئك ولم يؤمنوا بعد أي لا أقول للذين تزدريهم أعينكم ولم يؤمنوا بعد لن يوفقهم الله تعالى للإيمان حيث كانوا في غاية من رثاثة الحال والدناءة التي تزعمونها مانعة من الخير * (الله أعلم بما في أنفسهم) * مما يتأهلون به لإفاضة التوفيق عليهم وهو المدار لذلك لا الأحوال الظاهرة مما لا أقول به * (إني إذا) * أي إذا قلت ذلك * (لمن الظ‍المين) * لهم بحط مرتبتهم ونقص حقوقهم، أو من الظالمين لأنفسهم بذلك، وفيه تعريض بأنهم ظالمون في ازدرائهم واسترذالهم.
ويجوز أن يكون إذا قلت شيئا مما ذكر من حيازة الخزائن وادعاء علم الغيب والملكية، ونفي إيتاء الله تعالى أولئك الخير والقول لمزيد جهلهم محتاجون لأن يعلل لهم نحو الأقوال الأول بلزوم الانتظام في زمرة الظالمين.
* (قالوا يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنآ إن كنت من الص‍ادقين) *
* (قالوا يا نوح قد ج‍ادلتنا) * أي خاصمتنا ونازعتنا، وأصله من جدلت الحبل أي أحكمت فتله ومنه الجديل وجدلت البناء أحكمته، ودرع مجدولة، والأجدل الصقر المحكم البنية، والمجدل القصر المحكم البناء، وسميت المنازعة جدالا لأن المتجادلين كأنهما يفتل كل واحد منهما الآخر عن رأيه، وقيل: الأصل في الجدال الصراع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة، وهي الأرض الصلبة * (فأكثرت جدالنا) * عطف على ما قبله على معنى شرعت في جدالنا فأطلته أو أتيت بنوع من أنواع الجدال فأعقبته بأنواع أخر فالفاء على ظاهرها، ولا حاجة إلى تأويل * (جادلتنا) * بأردت جدالنا - كما قاله الجمهور - في قوله تعالى: * (إذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) * ونظير ذلك جادل فلان فأكثر، وجعل بعضهم مجموع ذلك كناية عن التمادي والاستمرار.
وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما جدلنا، وهو - كما قال ابن جني - اسم بمعنى الجدال ولما حجهم عليه السلام وأبرز لهم ما ألقمهم به الحجر ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل. وقالوا: * (فأتنا بما تعدنا) * من العذاب المعجل، وجوز أن يكون المراد به العذاب الذي أشير إليه في قوله: * (إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم) * بناءا على أن لا يكون المراد باليوم يوم القيامة، و * (ما) * موصولة والعائد محذوف أي بالذي تعدنا به، وفي " البحر " تعدناه، وجوز أن تكون مصدرية وفيه نوع تكلف * (إن كنت من الص‍ادقين) * في حكمك بلحوق العذاب إن لم نؤمن بك.
* (قال إنما يأتيكم به الله إن شآء ومآ أنتم بمعجزين) *
* (قال إنما يأتيكم به الله إن شاء) * أي إن ذلك ليس إلى ولا مما هو داخل تحت قدرتي وإنما هو لله عز وجل الذي كفرتم به وعصيتم أمره يأتيكم به عاجلا أو آجلا إن تعلقت به مشيئته التابعة للحكمة، وفيه كما قيل: ما لا يخفى من تهويل الموعود، فكأنه، قيل: الإتيان به أمر خارج عن دائرة القوى البشرية وإنما يفعله الله تعالى.
وفي الإتيان بالاسم الجليل الجامع تأكيد لذلك التهويل * (وما أنتم بمعجزين) * بمصيريه سبحانه وتعالى عاجزا بدفع العذاب أو الهرب منه، والباء زائدة للتأكيد،
والجملة الاسمية للاستمرار، والمراد استمرار النفي وتأكيده لا نفي الاستمرار والتأكيد وله نظائر.
* (ولا ينفعكم نصحىإن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون) *
* (ولا ينفعكم نصحي) * النصح تحري قول أو فعل فيه صلاح وهو كلمة جامعة، وقيل: هو إعلام مواقع الغي ليتقى. ومواضع الرشد ليقتفى، وهو من قولهم: نصحت له الود أي أخلصته،
45

وناصح العسل خالصه، أو من قولهم نصحت الجلد خطته، والناصح الخياط، والنصاح الخيط، وقرأ عيسى ابن عمر الثقفي * (نصحي) * بفتح النون وهو مصدر، وعلى قراءة الجماعة - على ما قال أبو حيان - يحتمل أن يكون مصدرا كالشكر، وأن يكون اسما * (إن أردت أن أنصح لكم) * شرط حذف جوابه لدلالة ما سبق عليه وليس جوابا له لامتناع تقدم الجواب على الشرط على الأصح الذي ذهب إليه البصريون أي إن أردتم أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي، والجملة كلها دليل جواب قوله سبحانه: * (إن كان الله يريد أن يغويكم) * والتقدير إن كان الله يريد أن يغويكم فإن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي، وجعلوا الآية من باب اعتراض الشرط على الشرط، وفي شرح التسهيل لابن عقيل أنه إذا توالى شرطان مثلا كقولك: إن جئتني إن وعدتك أحسنت إليك، فالجواب للأول، واستغنى به عن جواب الثاني، وزعم ابن مالك أن الشرط للثاني مقيد للأول بمنزلة الحال، فكأنه قيل في المثال: إني جئتني في حال وعدي لك أحسنت إليك، والصحيح في المسألة أن الجواب للأول، وجواب الثاني محذوف لدلالة الشرط الثاني وجوابه عليه، فإذا قلت: إن دخلت الدار إن كلمت زيدا إن جاء إليك فأنت حر، فأنت حر جواب إن دخلت وهو وجوابه دليل جواب إن كلمت وإن كلمت وجوابه دليل جواب إن جاء، والدليل على الجواب جواب في المعنى، والجواب متأخر، فالشرط الثالث مقدم وكذا الثاني، فكأنه قيل إن جاء فإن كلمت فإن دخلت فأنت حر فلا يعتق إلا إذا وقع هكذا مجىء. ثم كلام ثم دخول، وهو مذهب الشافعي عليه الرحمة، وذكر الجصاص أن فيها خلافا بين محمد. وأبي يوسف رحمهما الله تعالى، وليس مذهب الإمام الشافعي فقط، وقال بعض الفقهاء: إن الجواب للأخير. والشرط الأخير وجوابه جواب الثاني. والشرط الثاني وجوابه جواب الأول، وعلى هذا لا يعتق حتى يوجد هكذا دخول. ثم كلام. ثم مجىء، وقال بعضهم: إذا اجتمعت حصل العتق من غير ترتيب وهذا إذا كان التوالي بلا عاطف فإن عطف بأو فالجواب لهما وإن كان بالفاء فالجواب للثاني وهو وجوابه جواب الأول فتخرج الفاء عن العطف، وادعى ابن هشام أن في كون الآية من ذلك الباب نظرا قال: إذ لم يتوال شرطان وبعدهما جواب كما فيما سمعت من الأمثلة، وكما في قول الشاعر: إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجدوا * منا معاقل عز زانها كرم
إذ لم يذكر فيها جواب وإنما تقدم على الشرطين ما هو جواب في المعنى للأول فينبغي أن يقدر إلى جانبه ويكون الأصل إن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يغويكم، وأما أن يقدر الجواب بعدهما ثم يقدر بعد ذلك مقدما إلى جانب الشرط الأول فلا وجه له انتهى.
وقد ألف في المسألة رسالة - كما قال الجلال السيوطي - وأوردها في حاشيته على المغني حسنة، ولا يخفى عليك أن المقدر في قوة المذكور، والكثير في توالي شرطين بدون عاطف تأخره سماعا فيقدر كذلك ويجري عليه حكمه.
والكلام على ما تقدم متضمن لشرطين مختلفين: أحدهما جواب للآخر وقد جعل المتأخر في الذكر متقدما في المعنى على ما هو المعهود في المسألة، وهو عند الزمخشري على ما قيل شرطية واحدة مقيدة حيث جعل لا ينفعكم دليل الجواب لأن كان، وجعل إن أردت قيدا لذلك نظير إن أحسنت إلى أحسنت إليك إن أمكنني فتأمل، والكلام متعلق بقولهم: * (قد جادلتنا فأكثرت جدالنا) * (هود: 32) صدر عنه عليه السلام إظهارا للعجز عن ردهم
46

عما هم عليه من الضلال بالحجج والبينات لفرط تماديهم في العناد وإيذانا بأن ما سبق منه إنما كانب طريق النصيحة لهم والشفقة عليهم وأنه لم يأل جهدا في إرشادهم إلى الحق وهدايتهم إلى سبيله المستبين ولكن لا ينفعهم ذلك عند إرادته سبحانه لإغوائهم، وتقييد عدم نفع النصح بإرادته مع أنه محقق لا محالة للإيذان بأن ذلك النصح مقارن للإرادة والاهتمام به، ولتحقيق المقابلة بين ذلك. وبين ما وقع بإزائه من إرادته تعالى لإغوائهم، وإنما تقصر في ذلك على مجرد إرادة الإغواء دون نفسه حيث لم يقل إن كان الله يغويكم مبالغة في بيان غلبة جنابه جل جلاله حيث دل ذلك على أن نصحه المقارن للاهتمام به لا يجديهم نفعا عند مجرد إرادة الله تعالى إغواءهم فكيف عند تحققه وخلقه فيهم، وزيادة * (كان) * للإشعار بتقدم إرادته تعالى زمانا كتقدمه رتبة، وللدلالة على تجددها واستمرارها، وقدم على هذا الكلام ما يتعلق بقولهم: * (فأتنا بما تعدنا) * (هود: 32) من قوله: * (إنما يأتيكم به الله إن شاء) * (هود: 33) ردا عليهم من أول الأمر وتسجيلا عليهم بحلول العذاب مع ما فيه من اتصال الجواب بالسؤال - قال ذلك مولانا شيخ الإسلام - ثم إن * (إن أردت) * أن أبقى على الاستقبال لا ينافي كونه نصحهم في الزمن الماضي، وقيل: إنه مجاراة لهم لاستظهار الحجة لأنهم زعموا أن ما فعله ليس بنصح إذ لو كان نصحا قبل منه، واللام في * (لكم) * ليست للتقوية كما قد يتوهم لتعدي الفعل بنفسه كما في قوله: نصحت بني عوف فلم يتقبلوا * رسولي ولم تنجح لديهم رسائلي
لما في " الصحاح " أنه باللام أفصح، وفي الآية دليل على أن إرادة الله تعالى مما يصح تعلقها بالإغواء وأن خلاف مراده سبحانه محال، وإلا لم تصدق الشرطية الدالة على لزوم الجواب للشرط، والمعتزلة وقعوا في حيص بيص منها واختلفوا في تأويلها، فقيل: إن * (يغويكم) * بمعنى يهلككم من غوى الفصيل إذا بشم من كثرة شرب اللبن فهلك، وقد روى مجىء الغوى - بمعنى الهلاك - الفراء. وغيره، وأنكره مكي.
وقيل: إن الإغواء مجاز عن عقوبته أي إن كان الله يريد عقوبة إغوائكم الخلق وإضلالكم إياهم.
وقيل: إن قوم نوح كانوا يعتقدون أن الله تعالى أراد إغوائهم فأخرج عليه السلام ذلك مخرج التعجب والإنكار أي إن نصحي لا ينفعكم إن كان الأمر كما تزعمون، وقيل: سمي ترك إلجائهم وتخليتهم وشأنهم إغواء مجازا، وقيل: إن نافية أي ما كان الله يريد أن يغويكم، ونفى ذلك دليل على نفي الإغواء، ويكون * (لا ينفعكم نصحي) *
الخ إخبارا منه عليه السلام لهم وتعزية لنفسه عنهم لما رأى من إصرارهم وتماديهم على الكفر، ولا يخفى ما في ذلك من مخالفة الظاهر المعروف في الاستعمال وارتكاب ما لا ينبغي ارتكاب مثله في كلام الملك المتعال.
ومن الناس من اعترض الاستدلال بأن الشرطية لا تدل على وقوع الشرط ولا جوازه فلا يتم ولا يحتاج إلى التأويل ولا إلى القال والقيل، ودفع بأن المقام ينبو عنه لعدم الفائدة في مجرد فرض ذلك فإن أرادوا إرجاعه إلى قياس استثنائي فإما أن يستثني عين المقدم فهو المطلوب أو نقيض التالي فخلاف الواقع لعدم حصول النفع.
وبالجملة الآية ظاهرة جدا فيما ذهب إليه أهل السنة، والله سبحانه الموفق * (هو ربكم) * أي خالقكم ومالك أمركم * (وإليه ترجعون) * فيجازيكم على أفعالكم لا محالة.
* (أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلى إجرامى وأنا برىء مما تجرمون) *
* (أم يقولون أفترياه) * قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يعني نوحا عليه السلام أي بل أيقول قوم نوح أن نوحا افترى ما جاء به مسندا إلى الله تعالى عز وجل * (قل) * يا نوح * (إن افتريته) * بالفرض البحت.
47

* (فعلي إجرامي) * أي وباله فهو على تقدير مضاف، أو على التجوز بالسبب عن المسبب، وفسر الإجرام بكسب الذنب وهو مصدر أجرم، وجاء على قلة جرم، ومن ذلك قوله: طريد عشيرة ورهين ذنب * بما (جرمت) يدي وجنى لساني
وقرىء * (أجرامي) * بفتح الهمزة على أنه كما قال النحاس: جمع جرم، واستشكل العز بن عبد السلام الشرطية بأن الافتراء المفروض هنا ماض والشرط يخلص للاستقال بإجمال أئمة العرب، وأجاب أن المراد - كما قال ابن السراج - إن ثبت أني افتريته فعلي إجرامي على ما قيل في قوله تعالى: * (إن كنت قلته فقد علمته) * * (وأنا برىء مما تجرمون) * أي من إجرامكم في إسناد الافتراء إلي، قيل: والأصل إن افتريته فعلى عقوبة افترائي ولكنه فرض محال وأنا برىء من افترائكم أي نسبتكم إياي إلى الافتراء، وعدل عنه إدماجا لكونهم مجرمين، وأن المسألة معكوسة، وحملت * (ما) * على المصدرية لما في الموصولية من تكلف حذف العائد مع أن ذلك هو المناسب لقوله: * (إجرامي) * فيما قبل، وما يقتضيه كلام ابن عباس من أن الآية من تتمة قصة نوح عليه السلام وفي شأنه هو الظاهر، وعليه الجمهور، وعن مقاتل أنها في شأن النبي صلى الله عليه وسلم مع مشركي مكة أي بل أيقول مشركو مكة افترى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر نوح، قيل: وكأنه إنما جىء به في تضاعيف القصة عند سوق طرف منها تحقيقا لحقيقتها وتأكيدا لوقوعها وتشويقا للسامعين إلى استماعها لا سيما وقد قص منها طائفة متعلقة بما جرى بينه عليه السلام وبين قومه من المحاجة، وبقيت طائفة مستقلة متعلقة بعذابهم، ولا يخفى أن القول بذلك بعيد وإن وجه بما وجه، وقال في " الكشف ": إن كونها في شأن النبي صلى الله عليه وسلم أظهر وأنسب من كونها من تتمة قصة نوح عليه السلام لأن * (أم يقولون افتراه) * كالتكرير لقوله سبحانه: * (أم يقولون افتراه) * دلالة على كمال العناد وأن مثله بعد الإتيان بالقصة على هذا الأسلوب المعجز مما لا ينبغي أن ينسب إلى افتراء فجاء زيادة إنكار على إنكار كأنه قيل: بل أمع هذا البيان أيضا يقولون * (افتراه) * وهو نظير اعتراض قوله سبحانه في سورة العنكبوت: * (وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم) * بين قصة إبراهيم عليه السلام في أحد الوجهين انتهى، ولا أراه معولا عليه.
* (وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد ءامن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون) *
* (وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد ءامن) * إقناط له عليه السلام من إيمانهم وإعلام بأنه لم يبق فيهم من يتوقع إيمانه، أخرج إسحاق بن بشر. وابن عساكر عن ابن عباس قال: إن نوحا عليه السلام كان يضرب ثم يلف في لبد فيلقى في بيته يرون أنه قد مات ثم يخرج فيدعوهم، واتفق أن جاءه رجل ومعه ابنه وهو يتوكأ على عصا فقال: يا بني انظر هذا الشيخ لا يغرنك قال: يا أبت أمكني من العصا فأخذ العصا ثم قال: ضعني على الأرض فوضعه فمشى إليه فضربه فشجه موضحة في رأسه وسالت الدماء فقال نوح عليه السلام: رب قد ترى ما يفعل بي عبادك فإن يك لك في عبادك حاجة فاهدهم وإن يكن غير ذلك فصبرني إلى أن تحكم وأنت خير الحاكمين فأوحى الله تعالى إليه وآيسه من إيمان قومه وأخبره أنه لم يبق في أصلاب الرجال ولا في أرحام النساء مؤمن. وقال سبحانه: * (يا نوح إنه لن يؤمن) * الخ، والمراد بمن آمن قيل: من استمر على الإيمان وللدوام حكم الحدوث، ولذا لو حلف لا يلبس هذا الثوب وهو لابسه فلم ينزعه في الحال حنث، وقيل: المراد إلا من قد استعد للإيمان وتوقع منه ولا يراد ظاهره وإلا كان المعنى إلا من آمن فإنه يؤمن، وأورد عليه أنه مع بعده
48

يقتضي أن من القوم من آمن بعد ذلك، وهو ينافي تقنيطه من إيمانهم، وقد يقال: المراد ما هو الظاهر والاستثناء على حد الاستثناء في قوله تعالى: * (وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف) * (النساء: 23) على ما قاله غير واحد، فيفيد الكلام الإقناط على أتم وجه وأبلغه أي لن يحدث من قومك إيمانا ويحصله بعد إلا من قد أحدثه وحصله قبل، وذلك مما لا يمكن لما فيه من تحصيل الحاصل وإحداث المحدث، فإحداث الإيمان وتحصيل بعد مما لا يكون أصلا، وفي " الحواشي الشهابة " لو قيل: إن الاستثناء منقطع وأن المعنى لا يؤمن أحد بعد ذلك غير هؤلاء لكان معنى بليغا فتدبر، وقرأ أبو البرهسم * (وأوحى) * مبنيا للفاعل وأنه بكسر الهمزة على إضمار القول على مذهب البصريين وعلى إجراء * (أوحى) * مجرى قال على مذهب الكوفيين، واستدل بالآية من أجاز التكليف بما لا يطاق.
* (فلا تبتئس بما كانوا يفعلون) * أي لا تلتزم البؤس ولا تحزن بما كانوا يتعاطونه من التكذيب والاستهزاء والإيذاء في هذه المدة الطويلة فقد حان وقت الانتقام منهم.
* (واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخ‍اطبنى فى الذين ظلموا إنهم مغرقون) *
* (واصنع الفلك بأعيننا) * عطف على * (فلا تبتئس) * والأمر قيل: للوجوب إذ لا سبيل إلى صيانة الروح من الغرق إلا به فيجب كوجوبها، وقيل: للإباحة وليس
بشيء، وأل في * (الفلك) * إنا للجنس أو للعهد بناءا على أنه أوحى إليه عليه السلام من قبل أن الله سبحانه سيهلكهم بالغرق وينجيه ومن معه بشيء يصنعه بأمره تعالى من شأنه كيت وكيت واسمه كذا، والباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال من الفاعل، والأعين حقيقة في الجارحة وهي جارية مجرى التمثيل كأن لله سبحانه أعينا تكلؤه من تعدى الكفرة ومن الزيغ في الصنعة، والجمع للمبالغة، وقد انسلخ عنه لإضافته على ما قيل. معنى القلة وأريد به الكثرة، وحينئذ يقوي أمر المبالغة، وزعم بعضهم أن الأعين بمعنى الرقباء وأن في ذلك ما هو من أبلغ أنواع التجريد، وذلك أنهم ينتزعون من نفس الشيء آخر مثله في صفته مبالغة بكمالها كما أنشد أبو علي: أفات بنو مروان ظلما دماءنا * وفي الله إن لم يعدلوا حكم عدل
وقد جرد ههنا من ذات المهيمن جماعة الرقباء وهو سبحانه الرقيب نفسه، وقيل: إن ملابسة العين كناية عن الحفظ وملابسة الأعين لمكان الجمع كناية عن كمال الحفظ والبمالغة فيه، ونظير ذلك بسط اليد وبسط اليدين، فإن الأول كناية عن الجود والثاني عن المبالغة فيه، وجوز أن يكون المراد الحفظ الكامل على طريقة المجاز المرسل لما أن الحفظ من لوازم الجارحة، وقيل: المراد من أعيننا ملائكتنا الذين جعلناهم عيونا على مواضع حفظك ومعونتك، والجمع حينئذ على حقيقته لا للمبالغة، ويفهم من صنيع بعضهم أن هذا من المتشابه، والكلام فيه شهير، ففي الدر المنثور عند الكلام على هذه الآية. أخرج البيهقي عن سفيان بن عيينة قال: ما وصف الله تبارك وتعالى به نفسه في كتابه فقراءته تفسيره ليس لأحد أن يفسره بالعربية ولا بالفارسية، وقرأ أبو طلحة بن مصرف بأعينا بالادغام * (ووحينا) * إليك كيف تصنعها وتعليمنا، أخرج إسحق بن بشر. وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه عليه السلام لم يعلم كيف صنعة الفلك فأوحى الله تعالى إليه أن اجعل رأسها كرأس الديك. وجؤجؤها كجؤجؤ الطير. وذنبها كذنب الديك، واجعل لها أبوابا في جنبها وشدها بدسر وأمره أن يطليها بالقار ولم يكن في الأرض قار ففجر الله تعالى له عين القار حيث ينحتها يغلي غليانا حتى طلاها الخبر، وفيه أن الله تعالى بعث جبريل عليه السلام فعلمه صنعتها، وقيل: كانت الملائكة عليهم السلام تعلمه.
49

* (ولا تخاطبني في ا الذين ظلموا) * أي لا تراجعني فيهم ولا تدعني باستدفاع العذاب عنهم وفيه من المبالغة ما ليس فيما لو قيل: ولا تدعني فيهم، وحيث كان فيه ما يلوح بما يستتبعه أكد التعليل فقيل: * (إنهم مغرقون) * أي محكوم عليهم بالاغراق؛ وقد جرى به القضاء وجف القلم فلا سبيل إلى كفه، والظاهر أن المراد من الموصول من لم يؤمن من قومه مطلقا، قيل: المراد واعلة زوجته. وكنعان ابنه. وليس بشيء.
* (ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون) *
* (ويصنع الفلك) * حكاية حال ماضية لاستحضار صورتها العجيبة.
وقيل: تقديره، وأخذ أو أقبل يصنع الفلك، وكانت على ما روي عن قتادة. وعكرمة. والكلبي من خشب الساج وقد غرسه بنفسه ولم يقطعه حتى صار طوله أربعمائة ذراه والذراع إلى المنكب في أربعين سنة على ما روس عن سليمان الفراسي، وقيل: أبقاه عشرين سنة، وقيل: مكث مائة سنة يغرس ويقطع وييبس، وقال عمرو بن الحرث: لم يغرسه بل قطعه من جبل لبنان.
وعن ابن عباس أنها كانت من خشب الشمشاد وقطعه من جبل لبنان، وقيل: إنه ورد في التوراة أنها كانت من الصنوبر، وروي أنه كان سام. وحام. ويافث ينحتون معه، وفي روياية أنه عليه السلام كان معه أيضا أناس استأجرهم ينحتون، وذكر أن طولها ثلثمائة ذراع وعرضها خمسون وارتفاعها في السماء ثلاثون.
وأخرج ابن جرير. وغيره عن الحسن قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي وعرضها ستمائة ذراع وصنع لها بابا في وسطها، وأتم صنعها على ما روي عن مجاهد في ثلاث سنين.
وعن كعب الأحبار في أربعين سنة، وقيل: في ستين، وقيل: في مائة سنة، وقيل: في أربعمائة سنة، واختلف في أنه في أي موضع صنعها، فقيل: في الكوفة، وقيل: في الهند، وقيل: في أرض الجزيرة، وقيل: فى أرض الشام، وسفينة الأخبار في تحقيق الحال فيما أرى لا تصلح للركوب فيها إذ هي غير سالمة عن عيب، فالحرى بحال من لا يميل إلى الفضول أن يؤمن بأنه عليه السلام صنع الفلك حسبما قص الله تعالى في كتابه ولا يخوض في مقدار طولها وعرضها وارتفاعها ومن أي خشب صنعها وبكم مدة أتم علمها إلى غير ذلك مما لم يشرحه الكتاب ولم تبينه السنة الصحيحة، وهذا وفي التعبير - بيصنع - على ما قيل: ملاءمة للاستمرار المفهوم من الجملة الواقعة حالا من ضميره أعني قوله تعالى: * (وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه) * أي استهزأوا به لعمله السفينة إما لأنهم ما كانوا يعرفونها ولا كيفية استعمالها فتعجبوا من ذلك وسخروا منه، ويشهد لعدم معرفتهم ما روي عن ابن عباس أنه عليه السلام حين قال الله تعالى له: * (اصنع الفلك) * قال: يا رب وما الفلك؟ قال: بيت من خشب يجري على وجه الماء قال يا رب: وأين الماء؟ قال: إني على ما أشاء قدير، وإما لأنه عليه السلام كان يصنعها في برية بعيدة عن الماء وكانوا يتضاحكون، ويقولون: يا نوح صرت نجارا بعد ما كنت نبيا، وهذا مبني على أن السفينة كانت معروفة بينهم، ويشهد له ما أخرجه ابن جرير. والحاكم وصححه - وضعفه الذهبي - عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان نوح قد مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم حتى كان آخر زمانه غرس شجرة فعظمت وذهبت كل مذهب ثم قطعها ثم جعل يعملها سفينة فيرونه ويسألونه فيقول اعملها سفينة فيسخرون منه ويقولون: تعمل سفينة في البر وكيف تجري؟ فيقول: سوف تعلمون الحديث والأكثرون - كما قال ابن عطية - على أنهم لم يكونوا رأوا سفينة قط ولا كانت إذ ذاك، وقد ذكر في كتب
50

الأوليات أن نوحا عليه السلام أو من عمل السفينة، والحق أنه لا قطع بذلك، و - كل - منصوب على الظرفية و * (ما) * مصدرية وقتية أي كل وقت مرور، والعامل فيه جوابه وهو * (سخروا) * وقوله سبحانه:
* (قال إن تسخروا منا فانا نسخر منكم) * استئناف بياني كأن سائلا سأل فقال: فما صنع نوح عليه السلام عند بلوغهم منه هذا المبلغ؟ فقيل: قال: * (إن تسخروا
منا) * لهذا العمل مباشرة أسباب الخلاص من العذاب * (فانا نسخر منكم) * لما أنتم فيه من الأعراض عن استدفاعه بالإيمان والطاعة ومن الاستمرار على الكفر والمعاصي، والتعرض لأسباب حلول سخط الله تعالى التي من جملتها سخريتكم منا واستهزاؤكم بنا، وإطلاق السخرية عليهم حقيقة، وعليه عليه السلام للمشاكلة لأنها لا تليق بالأنبياء عليهم السلام، وفسرها بعضهم بالاستجهال؛ وهو مجاز لأنه سبب للسخرية، فأطلقت السخرية وأريد سببها.
وقيل: إنها منه عليه السلام لما كانت لجزائهم من جنس صنيعهم لم تقبح فلا حاجة لارتكاب خلاف الظاهر، وجمع الضمير في * (منا) * إما لأن سخريتهم منه عليه السلام سخرية من المؤمنين أيضا أو لأنهم كانوا يسخرون منهم أيضا إلا أنه اكتفى بذكر سخريتهم منه عليه السلام ولذلك تعرض الجميع للمجازاة في قوله: * (نسخر منكم) * فتكافأ الكلام من الجانبين، والتشبيه في قوله سبحانه: * (كما تسخرون) * إما في مجرد التحقق والوقوع، وإما في التجدد والتكرر حسبما صدر عن ملأ بعد ملأ، وقيل: لا مانع من أن يراد الظاهر ولا ضرر في ذلك لحديث الجزاء، ومن هنا قال بعضهم: إن في الآية دليلا على جواز مقابلة نحو الجاهل والأحمق بمثل فعله ويشهد له قوله تعالى: * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى) * (البقرة: 194) * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * (الشورى: 40) * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) * (النحل: 126) إلى غير ذلك، والظاهر أن كلا الفعلين واقع في الحال. وقال ابن جريج: المعنى * (إن تسخروا منا) * في الدنيا * (فانا نسخر منكم) * في الآخرة، وقيل: في الدنيا عند الفرق. وفي الآخرة عند الحرق، قال الطبرسي: إن المراد من نسخر منكم على هذا نجازيكم على سخريتكم أو نشمت بكم عند غرقكم وحرقكم، وفيه خفاء، هذا وجوز أن يكون عامل * (كلما) * قال، وهو الجواب، وجملة * (سخروا) * صفة لملأ أو بدل من * (مر) * بدل اشتمال ون مرورهم للسخرية فلا يضركون السخرية ليست بمعنى المرور ولا نوعا منه، وأبو حيان جعل ذلك مبعدا للبدلية وليس بذلك، ويلزم على هذا التجويز استمرار هذا القول منه عليه السلام وهو ظاهر، وعلى الاعراب قيل: لا استمرار وإنما أجابهم به في بعض المرات، ورجح بأن المقصود بيان تناهيهم في إيذائه عليه السلام وتحمله لأذيتهم لا مسارعته عليه السلام إلى الجواب * (كلما) * وقع منهم ما يؤذيه من الكلام، وقد يقال: إن في ذلك إشارة إلى أنه عليه السلام بعد أن يئس من إيمانهم لم يبال باغضابهم ولذا هددهم التهديد البليغ [بم بقوله:
* (فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم) *
* (فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه) * أي يفضحه. أو يذله أو يهلكه، وهي أقوال متقاربة، والمراد بذلك العذاب الغرق * (ويحل عليه) * حلول الدين المؤجل * (عذاب مقيم) * أي دائم وهو عذاب النار، و * (من) * عبارة عنهم، وهي موصولة في محل نصب مفعول للعلم، وهو بمعنى المعرفة فيتعدى إلى واحد.
وجوز ابن عطية أن يراد العلم المتعدي إلى مفعولين لكنه اقتصر على واحد، وتعقبه في البحر بأنه لا يجوز حذف الثاني اقتصارا لأن أصله خبر مبتدأ، ولا اختصارا هنا لأنه لا دليل على حذفه.
51

وقيل: إن * (من) * استفهامية مبتدأ، والجملة بعدها خبر، وجملة المبتدأ والخبر معلق عنها سادة مسد المفعول أو المفعولين، قيل: ولما كان مدار سخريتهم استجهالهم إياه عليه السلام في مكابدة المشاق الفادحة لدفع ما لا يكاد يدخل تحت الصحة على زعمهم من الطوفان ومقاساة الشدائد في عمل السفينة وكانوا يعدونه عذابا قيل: بعد استجهالهم * (فسوف) * الخ يعني أن ما أباشره ليس فيه عذاب لاحق بي * (فسوف تعلمون) * من يعذب، ولقد أصاب العلم بعد استجهالهم محزه انتهى، وهو ظاهر على تقدير حمل السخرية المنسوبة إليه عليه السلام على الاستجهال.
ولعله يمكن إجراؤه على تقدير حملها على ظاهرها أيضا بأدنى عناية فافهم، ووصف العذاب بالاخزاء لما في الاستهزاء والسخرية من لحوق الخزى والعار عادة والتعرض لحلول العذاب المقيم للمبالغة في التهديد، وفيه من المجاز ما لا يخفى، وتخصيصه بالمؤجل، وإيراد الأول بالاتيان غاية الجازلة، وحكى الزهراوي أنه قرىء يحل بضم الحاء.
* (حتى إذا جآء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن ءامن ومآ ءامن معه إلا قليل) *
* (حتى إذا جآء أمرنا) * غاية لقوله سبحانه: * (يصنع الفلك) * (هود: 38) و * (حتى) * إما جارة متعلقة به، و * (إذا) * لمجرد الظرفية، وإما ابتدائية داخلة على الشرط وجوابه، والجملة لا محل لها من الاعراب، وحال ما وقع في البين قد مرت الإشارة إليه، والأمر إما واحد الأوامر أي الأمر بركوب السفينة. أو بالفوران. أو للسحاب بالارسال. أو للملائكة عليهم السلام بالتصرف فيما يراد. أو نحو ذلك، وإما واحد الأمور وهو الشأن أعني نزول العذاب بهم * (وفار التنور) * أي نبع منه المار وارتفع بشدة كما تفور القدر بغليانها وفيه من الاستعارة ما لا يخفى، والمراد من التنور تنور الخبز عند الجمهور، وكان على ما روي عن الحسن. ومجاهد تنورا لحواء تخبز فيه ثم صار لنوح عليه السلام وكان من حجارة، وقيل: هو تنور في الكوفة في موضع مسجدها عن يمين الداخل مما يلي باب كندة، وجاء ذلك في رواية عن علي كرم الله تعالى وجهه، وقيل: تنور بالهند، وقيل: بعين وردة من أرض الجزيرة العمرية أو من أرض الشام، وقيل: ليس المراد به تنورا معينا بل الجنس، والمراد فار الماء من التنانير، وفي ذلك من عجيب القدرة ما لا يخفى، ولا تنافي بين هذا وقوله سبحانه: * (وفجرنا الأرض عيونا) * إذ يمكن أن يكون التفجير غير الفوران فحصل الفوران للتنور والتفجير للأرض، أو يراد بالأرض أماكن التنانير، ووزنه تفعول من النور، وأصله تنوور فقلبت الواو الأولى همزة لانضمامها، ثم حذفت تخفيفا، ثم شددت النون عوضا عما حذف، ونقل هذا عن ثعلب، وقال أبو على الفارسي: وزنه فعول، وقيل: على هذا أنه أعجمي ولا اشتقاق له، ومادته تنر، وليس في كلام العرب نون قبل راء، ونرجس معرب أيضا، والمشهور أنه مما اتفق فيه لغة العرب. والعجم كالصابون. والسمور، وعن ابن عباس
. وعكرمة. والزهري أن * (التنور) * وجه الأرض هنا، وعن قتادة أنه أشرف موضع منها أي أعلاه وأرفعه، وأخرج ابن جرير. وأبو الشيخ. وغيرهما عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه تنوير الصبح، والظاهر أنه لم يستعمل في اللغة العجمية بهذه المعاني الأخيرة، وجوز أن يكون فوران التنور مجازا عن ظهور العذاب وشدة الهول، وهذا كما جاء في الخبر حمى الوطيس مجازا عن شدة الحرب وليس بين الجملتين كثير فرق في المعنى وهو معنى حسن لكنه بعيد عما جاءت به الأخبار * (قلنا احمل فيها) * أي في الفلك، وأنث الضمير لأنه بمعنى السفينة، والجملة استئناف أو جواب إذا * (من كل) * أي من كل نوع من الحيوانات ينتفع به الذين ينجون من الغرق وذراريهم بعد، ولم تكن العادة جارية بخلقه من غير ذكر وأنثى،
52

والجار والمجرور متعلق - باحمل - أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله أعني قوله سبحانه: * (زوجين) * وهو تثنية زوج، والمراد به الواحد المزدوج بآخر من جنسه، فالذكر زوج للأنثى كما هي زوج له، وقد يطلق على مجموعهما، وليس بمراد، وإلا لزم أن يحمل من كل صنف أربعة، ولئلا يراد ذلك وصف بقوله تعالى: * (اثنين) * وحاصل المعنى احمل ذكرا وأنثى من كل نوع من الحيوانات، وقرأ الأكثرون دمن كل زوجين) * بالإضافة فاثنين على هذا مفعول - احمل - و * (من كل زوجين) * حال منه، ولو أخر لكان صفة له أي احمل اثنين من كل زوجين أي صنف ذكر وصنف أنثى، وقيل: * (من) * زائدة وما بعدها مفعول احمل، و * (اثنين) * نعت لزوجين بناءا على جواز زيادة * (من) * في الموجب ثم ما ذكرناه في تفسير العموم هو الذي مال إليه البعض وأدرج فيه أناس الهوام والطير، وذكر أنه روي أنه عليه السلام جعل للسفينة ثلاثة بطون وحمل في البطن الأسفل الوحوش. والسباع. والهوام، وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام، وركب هو ومن معه في البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد، وحمل معه جسد آدم عليه السلام وجعله معترضا بين الرجال والنساء، وكان حمله بوصية منه عليه السلام توارثها ولده حتى وصلت إلى نوح عليه السلام، ويعارض هذا التقسيم ما روي أن الطبقة السفلى للوحش. والوسطى للطعام. والعليا له عليه السلام ولمن آمن، وتوسع بعضهم في العموم فأدرج فيه ما ليس من جنس الحيوان، وأيد بما أخرجه إسحق بن بشر. وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا أن نوحا عليه السلام حمل معه في السفينة من جميع الشجر، وبما أخرجه أبو الشيخ عن جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما قال: أمر نوح عليه السلام أن يحمل معه * (من كل زوجين اثنين) * فحمل من التمر العجوة واللون.
وأخرج النسائي عن أنس بن مالك أن نوحا عليه السلام نازعه الشيطان في عود الكرم، فقال: هذا لي، وقال نوح: هو لي فاصطلحا على أن لنوح ثلثها. وللشيطان ثلثيها ولا يكاد يعول على مثل هذه الأخبار عند التنقير، ومما يحمل معها في سفينة ما أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: تأذى أهل السفينة بالفأر فعطس الأسد فخرج من منخريه سنوران ذكر وأنثى فأكلا الفأر إلا ما أراد الله تعالى أن يبقى منه، وتأذوا بأذى أهل السفينة فعطس الفيل فخرج من منخريه خنزيران ذكر وأنثى فأكلا أذى أهل السفينة، وفي رواية الحكيم الترمذي في نوادر الأصول. وابن جرير. وغيرهما عنه أن نوحا عليه السلام شكا إلى الله تعالى قرض الفأر حبال السفينة فأوحى الله إليه فمسح جبهة الأسد فخرج سنوران، وشكا عذرة في السفينة فأوحى إليه سبحانه، فمسح ذنب الفيل فخرج خنزيران فأكل العذرة.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق زيد بن أسلم عن أبيه مرفوعا أن أهل السفينة شكوا الفأرة فقالوا: الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا فأوحى الله تعالى إلى الأسد فعطس فخرجت الهرة منه فتخبأت الفأرة منها، ولم يذكر فيه بحث الخنزير، ويفهم منها على ما فيها أن الهرة لم تكن عند الحمل، ومن الأولين أنها والخنزير لم يكونا، وفي بعض الآثار ما يخالفه، فقد أخرج أحمد في الزهد. وأبو الشيخ عن وهب بن منبه قال لما أمر الله تعالى نوحا عليه السلام بالحمل قال: كيف أصنع بالاسد. والبقرة. وكيف أصنع بالعناق. والذئب، وكيف أصنع بالحمام. والهر؟ فقال الله تعالى: من ألقى بينهما العداوة؟ قال: أنت يا رب قال: فإني أؤلف بينهم حتى لا يتضارون، ولا يخفى ما بين هذا وبين التقسيم الأول أيضا، وجاء في شأن الأسد روايات مختلفة: ففي رواية أن أصحابه عليه السلام قالوا: كيف نطمئن ومعنا الأسد؟ فسلط الله تعالى عليه الحمى، وكانت أولى حمى نزلت الأرض.
53

وفي رواية أنه كان يؤذيهم في السفينة فألقيت عليه الحمى ليشتغل بنفسه، وفي أخرى أنه عليه السلام حين أمر بالحمل قال: يا رب كيف بالأسد. والفيل؟ فقال له سبحانه: سألقي عليهما الحمى وهي ثقيلة؛ وفي أخرى عن أبي عبيدة أنه عليه السلام حين أمر بالحمل لم يستطع أن يحمل الأسد حتى ألقيت عليه الحمى فحمله فأدخله، ولا يخفى أنها مع دلالة بعضها على أن إلقاء الحمى قبل الدخول، وبعضها على أنه بعده، وكان يغني عن إلقائها بعد دفعا لأذاء التأليف بينه وبين الإنسان كما ألف بين ما مر بعضه مع بعض، ولعل لدفع الأذى بالحمى دون التأليف إن صح ذلك حكمة لكنها غير ظاهرة لنا، وجاء في بعض الآثار ما يفهم منه أنه كان معه عليه السلام في السفينة من الجن ما كان، وفي بعضها أن إبليس عليه اللعنة كان أيضا.
فعن ابن عباس أنه لما أراد الله تعالى أن يدخل الحمار السفينة أخذ نوح بأذني الحمار وأخذ إبليس بذنبه فجعل نوح يجذبه وجعل إبليس يجذبه فقال نوح عليه السلام: ادخل شيطان فدخل الحمار ودخل إبليس معه فلما سارت السفينة جلس في ذنبها يتغنى فقال له نوح: ويلك من أذن لك؟ قال: أنت قال: متى؟ قال: إذ قلت للحمار ادخل شيطان فدخلت بإذن منك، وفي رواية أخرى عنه أن نوحا عليه السلام قال للحمار: ويحك ادخل وإن كان الشيطان معك كلمة جرت على لسانه فدخل ودخل معه الشيطان.
وأخرج ابن عساكر عن عطاء أن اللعين جاء ليركب السفينة فدفعه نوح عليه السلام فقال: يا نوح إني منظور ولا سبيل لك علي فعرف أنه صادق فأمره أن يجلس على خيزران السفينة، وهو بظاهره مخالف لما روي عن ابن عباس، واختلفوا في أنه كيف جمعت الحبوانات على تفرقها في أكناف الأرض، فقيل: إنها أحست بالعذاب فاجتمعت؛ وعن الزهري أن الله تعالى بعث ريحا فحمل إليه من كل زوجين اثنين من الطير والسباع والوحش والبهائم.
وعن جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى بعث جبريل عليه السلام فحشرها فجعل عليه السلام يضرب بيديه على الزوجين فتقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى فيدخلهما السفينة حتى أدخل عدة ما أمر الله تعالى به، وروي إسحق بن بشر. وغيره عن زيد بن ثابت أنه استعصت عليه عليه السلام الماعزة فدفعها في ذنبها فمن ثم انكسر وبدا حياها ومضت النعجة حتى دخلت فمسح على ذنبها فستر حياها.
وفي كتب الأخبار كثير من هذه الآثار التي يقضي منها العجب، وأنا لا أعتقد سوى أن الله عزت قدرته خلق الماعزة والنعجة من قبل على ما هما عليه اليوم وأنه سبحانه لم يخلق الهرة من الأسد وإن أشبهته صورة ولا الخنزير من الفيل وإن كان بينهما شبه ما كما شاهدناه عام مجيء الفيل إلى بغداد ولو كلف الفيل أكل العذرة لكان أحب إلى أهل السفينة من زيادة خنزير فيها وأحب من ذلك كله إليهم أن لا يكون في السفينة غيرهم أو يكون حيوان واحد يخلق لهم من عطاسه ما يريدونه من الحيوانات ويحتاجون إليه بعد.
والذي يميل القلب إليه أن الطوفان لم يكن عاما - كما قال به البعض - وأنه عليه السلام لم يؤمر بحمل ما جرت العادة بتكونه من عفونة الأرض كالفأر والحشرات بل أمر بحمل ما يحتاج إليه إذا نجا ومن معه من الغرق لئلا يغتموا لفقده ويتكلفوا مشقة جلبه من الأصقاع النائية التي لم يصلها الغرق فكأنه قيل: قلنا احمل فيها من كل ما تحتاجونه إذا نجوتم زوجين اثنين، وإن قلنا بعموم الغرق نقول أيضا: إنه عليه السلام لم يكلف بحمل شيء من المتكونات من العفونة بل كلف بالحمل مما يتناسل من الحيوانات لمصلحة بقاء النوع، وكانت السفينة بحيث
54

تسع ذلك عادة أو معجزة وقدرة الله تعالى أجل من أن تضيق عن ذلك، وإن قيل بالعموم على وجه يبقى معه بعض الجبال جاز أن يقال: إنه عليه السلام لم يحمل إلا مما لا مهرب له ويضر فقده بجماعته، ولو قيل: إن العموم على إطلاقه وأنه عليه السلام لم يحمل في السفينة إلا ما تتسع له عادة مما يحتاج إليه لئلا يضيق أصحابه ذرعا بفقده بالكلية حسبما تقتضيه الطباع البشرية وغرق ما عدا ذلك لكن الله تعالى جلت قدرته خلق نظير ما غرق بعد على الوجه الذي فعل قبل لم يكن ذلك بدعا ممن أمره بين الكاف والنون جل شأنه وعظم سلطانه.
هذا وإنما قدم ذلك على أهله وسائر المؤمنين قيل: لكونه عريقا بالحمل المأمور به لأنه يحتاج إلى مزاولة الأعمال منه عليه السلام في تمييز بعض عن بعض وتعيين الأزواج، وأما البشر فإنما يدخل الفلك باختياره فيخف فيه معنى الحمل، أو لأن ذلك إنما يحمل بمباشرة البشر وهم إنما يدخلونها بعد حملهم إياه، ويجوز أن يكون التقديم حفظا للنظم الكريم عن الانتشار، وأيا ما كان فقوله سبحانه: * (وأهلك) * عطف على * (زوجين) * أو على * (اثنين) * والمراد بأهله على ما في بعض الآثار امرأته المسلمة وبنوه منها وهم سام عليه السلام - وهو أبو العرب - وأصله على ما قال البكري: بالشين المعجمة، وحام - وهو أبو السودان - قيل: إنه أصاب زوجته في السفينة فدعا نوح عليه السلام أن تغير نطفته فغيرت، وأخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن أبي صالح، ويافث كصاحب - وهو أبو الترك ويأجوج ومأجوج - وزوجة كل منهم * (إلا من سبق عليه القول) * بأنه من المغرقين لظلمهم، وذلك في قوله سبحانه: * (ولا تخاطبني في الذين ظلموا) * (المؤمنون: 27) الآية، والمراد زوجة له أخرى تسمى واعلة بالعين المهملة، وفي رواية والقة. وابنه منها كنعان وكان اسمه فيما قيل: يام وهذا لقبه عند أهل الكتاب وكانا كافرين، وفي هذا دلالة على أن الأنبياء عليهم السلام يحل لهم نكاح الكافرة بخلاف نبينا صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: * (يا أيها النبي إنا أحللنا لك) * (الأحزاب: 50) الآية، والاستثناء جوز أن يكون متصلا إن أريد بالأهل الأهل إيمانا، وأن يكون منقطعا إن أريد به الأهل قرابة، ويكفى في صحة الاستثناء المعلومية عند المراجعة إلى أحوالهم والتفحص عن أعمالهم، وجيء بعلي لكون السابق ضارا لهم كما جيء باللام فيما هو نافع في قوله تعالى: * (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين) * (الصافات: 171) وقوله سبحانه: * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى) * (الأنبياء: 101) * (ومن ءامن) * عطف على الأهل أي والمؤمنين من غيرهم وإفراد أولئك منهم للاستثناء المذكور، وإيثار صيغة الافراد في * (آمن) * محافظة على لفظ * (من) * للإيذان بالقلة كما أفصح عن ذلك قوله تعالى: * (ومآ ءامن معه إلا قليل) * قيل: كانوا سبعة زوجته. واتاؤه الثلاثة. وكنائنه الثلاث، وروي هذا عن قتادة. والحكم بن عقبة. وابن جريج. ومحمد بن كعب، ويرده عطف * (ومن آمن) * على الأهل إلا أن يكون الأهل بمعنى الزوج فإنه قد ثبت بهذا المعنى لكن قبل: إنه خلاف الظاهر، والاستثناء عليه منقطع أيضا، وعن ابن إسحق أنهم كانوا عشرة خمسة رجال وخمس نسوة، وعنه أنهم كانوا مع نوح عليه السلام عشرين نصفهم رجال ونصفهم الآخر نساؤهم، وقيل: كانوا ثمانية وسبعين نصفهم ذكور ونصفهم أناث، وقيل: كانوا ثمانين رجلا وثمانين امرأة - وقيل: وقيل - والرواية الصحيحة أنهم كانوا تسعة وسبعين، زوجته. وبنوه الثلاثة. ونسائهم. واثنان وسبعون رجلا. وامرأة من غيرهم من بني شيث، واعتبار المعية في الإيمان للإيماء إلى المعية في مقر الإيمان والنجاة.
* (وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربى لغفور رحيم) *
* (وقال) * أي نوح عليه السلام لمن معه من المؤمنين كما ينبىء عنه قوله تعالى: * (إن ربي لغفور رحيم) * (هود: 41).
55

وقيل: الضمير لله تعالى، وفيه أنه لو كان كذلك لكان المناسب إن ربكم الخ، ولعل هذا القول بعد إدخال ما أمر بحمله في الفلك من الأزواج كأنه قيل: فحمل الأزواج حسبما أمر أو أدخلها في الفلك، وقال للمؤمنين * (اركبوا فيها) * أي صيروا فيها، وجعل ذلك ركوبا لأنها في الماء كالمركوب في الأرض ففيه استعارة تبعية من حيث تشبيه الصيرورة فيها بالركوب، وقيل: استعارة مكنية والتعدية بفي لاعتبار الصيرورة وإلا فالفعل يتعدى بنفسه، وإلى هذا ذهب القاضي البيضاوي، وقيل: التعدية بذلك لأنه ضمن معنى ادخلوا، وقيل: تقديره اركبوا الماء فيها، وقيل: في زائدة للتوكيد، وكأن الأول أولى، وقال بعض المحققين: الركوب العلو على شيء متحرك ويتعدى بنفسه واستعماله ههنا بفي ليس لأن المأمور به كونهم في جوفها لا فوقها كما ظن فإن أظهر الروايات أنه عليه السلام ركب هو ومن معه في الأعلى بل
لرعاية جانب المحلية والمكانية في الفلك.
والسر فيه أن معنى الركوب العلو على شيء له حركة إما إرادية كالحيوان أو قسرية كالسفينة والعجلة ونحوهما فإذا استعمل في الأول توفر له حظ الأصل فيقال: ركبت الفرس، وعليه قوله تعالى: * (والخيل والبغال والحمير لتركبوها) * (النحل: 8) وإن استعمل في الثاني يلوح بمحلية المفعول بكلمة في فيقال: ركبت في السفينة، وعليه الآية الكريمة، وقوله سبحانه: * (فإذا ركبوا في الفلك) * (العنكبوت: 65) و * (حتى إذا ركبا في السفينة خرقها) * (الكهف: 71) انتهى، وظاهره أن الركوب ههنا حقيقي، وصرح بعضهم أنه ليس به. وقال الراغب: الركوب في الأصل كون الإنسان على ظهر حيوان، وقد يستعمل في السفينة، وفيه تأكيد لما صرح بع البعض * (بسم الله) * حال من فاعل * (اركبوا) * والباء للملابسة ولما كانت ملابسة اسم الله عز اسمه بذكره قالوا: المعنى اركبوا مسمين الله، وجوزوا أن تكون الحال محذوفة وهذا معمول لها ساد مسدها ولذلك سموه حالا، والأصل * (اركبوا) * قائلين * (بسم الله) * * (مجراها ومرس‍اها) * نصب على الظرفية أي وقت إجرائها وإرسائها على أنهما اسما زمان أو مصدران ميميان بمعنى الإجراء والإرساء، ويقدر مضاف محذوف وهو وقت كما في قولك: أتيتك خفوق النجم فإن التقدير وقت خفوقه إلا أنه لما حذف المضاف سد المضاف إليه مسده وانتصب انتصابه وهو كثير في المصادر، ويجوز أن يكونا اسمى مكان وانتصابهما بالاستقرار الذي تعلق به الجار والمجرور أو بقائلين، ولا يجوز أن يكون - باركبوا - إذ ليس المعنى على * (اركبوا) * في وقت الإجراء والإرساء، أو في مكانهما وإنما المعنى متبركين أو قائلين فيهما، وتعقب القول بانتصهابهما مطلقا بأنهما محدودان ومحدود المكان لا بد له من في، وبعضهم يجوز النصب في مثل ذلك بما فيه من الابهاج، وجوز رفعهما فاعلين بالظرف لاعتماده على ذي الحال أو على أنهما مبتدأ ومعطوف عليه؛ و * (بسم الله) * خبرا والخبر محذوف تقديره متحققان ونحوه وهو صلة لهما، والجملة إما مقتضية منقطعة عما قبلها لاختلافهما خبرا وطلبا على أن نوحا عليه السلام أمرهم بالركوب في السفينة ثم أخبرهم بأن إجراءها وإرساءها بسم الله تعالى أو بأن إجراءها وإرساءها باسمه تعالى متحققان لا يشك فيهما، وفي ذلك حث على الركوب وإزالة لما عسى يختلج في قلوبهم من خوف الغرق ونحوه، ويروى عن ضحاك أنه عليه السلام كان إذا أراد أن يجريها، يقول * (بسم الله) * فتجري، وإذا أراد
56

أن يرسيها قال: * (بسم الله) * فترسو، وإما في موضع الحال من ضمير الفلك أي اركبوا فيها مجراة ومرساة باسم الله وهي حال مقدرة إذ لا إجراء ولا إرساء وقت الركوب كذا قيل، وتعقبه في التقريب بأن الحال إنما تكون مقدرة إذا كانت مفردة كمجراة أما إذا كانت جملة فلا لأن معنى الجملة اركبوا وإجراؤها * (بسم الله) * وهذا واقع حال الركوب انتهى، وأجاب عنه في " الكشف " بأنه لا فرق بين قوله تعالى: * (ادخلوها خالدين) * (الزمر: 73) وقول القائل: ادخلوها وأنتم مخلدون في عدم المقارنة والرجوع إلى الحال المقدرة فكذلك ما نحن فيه، واعترض على المجيب بأن مراد ذلك القائل إجراؤها مجرى المفرد على نحو كلمته فوه إلى في بأنه تكلف لا حاجة إليه، وهو غير مسلم في المستشهد به أيضا، وإنما ذلك في قول القائل كلمته فاه إلى في انتهى، وكأنه لم ينكشف له مراد صاحب التقريب فإنهم ذكروا أن الفرق بين الحال إذا كانت مفردة وإذا كانت جملة أن الثانية تقتضي التحقق في نفسها والتلبس بها، وربما أشعرت بوقوعها قبل العامل واستمرارها معه كما إذا قلت: جاءني وهو راكب فإنه يقتضي تلبسه بالركوب واستمراره عليه، وهذا ينافي كونها منتظرة ولا أقل من أن لا يحسن الحمل عليه حيث تيسر الإفراد فافهم، وجوز أن تكون حالا مقدرة أيضا من فاعل * (اركبوا) *، واعترض بأنه لا عائد على ذي الحال، وضمير * (بسم الله) * للمبتدأ وتقديره أي فاجراؤها معكم أو بكم كائن * (بسم الله) * تكلف، والقول بأن الرضى قد ذكر أن الجملة الحالية إذا كانت اسمية قد تخلو من الرابطين عند ظهور الملابسة نحو خرجت زيد على الباب ليس بشيء لضعف ما ذكر في العربية فلا ينبغي التخريج عليه نعم كون الاسمية لا بد فيها من الواو والقول بأن الحال المقدرة لا تكون جملة مطلقا كل منهما في حيز المنع كما لا يخفى. وجوز أن يكون الاسم مقحما كما في قول لبيد: فقوما وقولا بالذي قد عرفتما * ولا تخمشا وجها ولا تحلقا الشعر
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما * ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
ويراد بالله إجراؤها وإرساؤها أي بقدرته أو بأمره أو بإذنه، ويقدر ذلك أو يراد معنى، وخص بعضهم هذا الجواز بما إذا لم يقدر مسمين أو قائلين إذ لا يظهر المعنى حينئذ، ويجري على تقديري الكلام الواحد والكلامين، وكذا على تقدير الزمان والمكان في رأي، ويعتبر الإسناد مجازيا من قبيل نهاره صائم وطريق بر.
وقرأ - مجراها ومرساها - بفتح الميم مصدرين. أو زمانين. أو مكانين على أنهما من جرى ورسا الثلاثيين، وقرأ مجاهد - مجريها ومرسيها - بصيغة اسم الفاعل، وخرج ذلك أبو البقاء على أنهما صفتان للاسم الجليل، وقيل عليه: إن أضافة اسم الفاعل إذا كان بمعنى المستقبل لفظية فهو نكرة لا يصح توصيف المعرفة به فالحق البدلية، والقول بأن مراد المعرب الصفة المعنوية لا النعت النحوي فلا ينافي البدلية بعيد لكن عن الخليل إن ما كانت إضافته غير محضة قد يصح أن تجعل محضة فتعرف إلا ما كان من الصفة المشبهة فلا تتمحض إضافتها فلا تعرف، والرسو الثبوت والاستقرار، ومنه قول الشاعر: فصبرت نفسا عند ذلك حرة * (ترسو) إذا نفس الجبان تطلع
* (إن ربي لغفور رحيم) * قيل: الجملة مستأنفة لبيان الموجب أي لولا مغفرته لفرطانكم ورحمته إياكم لما أنجاكم من هذه الطامة إيمانكم، وفيه دلالة على أن نجاتهم لم تكن عن استحقاق بسبب أنهم كانوا مؤمنين بل بمحض رحمة الله تعالى وغفرانه على ما عليه أهل السنة، ومنع صلاحية كونها علة - لاركبوا - لعدم المناسبة
57

فيقدر ما يصح به الكلام بأن يقال: امتثلوا هذا الحكم لينجيكم من الهلاك بمغفرته ورحمته، أو يقال: * (اركبوا فيها) * ذاكرين الله تعالى ولا تخافوا الغرق لما عسى فرط منكم من التقصير لأن الله تعالى شأنه غفور للخطايا والذنوب رحيم بعباده، وجعلها بعضهم تعليلا بالنظر إلى ما فيها من الإشارة إلى النجارة فكأنه قيل: اركبوا لينجيكم الله سبحانه [بم وقوله سبحانه:
* (وهى تجرى بهم فى موج ك الجبال ونادى نوح ابنه وكان فى معزل يابنى اركب معنا ولا تكن مع الكافرين) *
* (وهي تجري بهم في موج ك الجبال) * جوز فيه ثلاثة أوجه: الأول: أن يكون مستأنفا، الثاني: أن يكون حالا من الضمير المستتر في * (بسم الله) * أي جريانها استقر * (بسم الله) * حال كونها جارية، الثالث: أنه حال من شيء محذوف دل عليه السياق أي فركبوا فيها جارية، والفاء المقدرة للعطف، و * (بهم) * متعلق - بتجري - أو بمحذوف أي ملتبسة والمضارع لحكاية الحال الماضية ولا معنى للحالية من الضمير المستتر في الحال الأولى كما لا يخفى، والموج ما ارتفع من الماء عند اضطرابه، واحده موجة و * (كالجبال) * في موضع الصفة لموج أي في موج مرتفع متفاوت في الارتفاع متراكم، قيل: إنها جرت بهم في موج كذلك وقد بقي منها فوق الماء ستة أذرع، واستشكل هذا الجريان مع ما روي أن الماء طبق ما بين السماء والأرض وأن السفينة كانت تجري في داخله كالسمك، وأجيب بأن الرواية مما لا صحة لها ويكاد العقل يأبى ذلك، نعم أخرج ابن أبي شيبة. وابن جرير. وابن عساكر. وعبد بن حميد من طريق مجاهد عن عبيد بن عمير قال: إن الماء علا رأس كل جبل خمسة عشر ذراعا على أنه لو سلم صحة ما ذكر فهذا الجريان كان في ابتداء الأمر قبل أن يتفاقم الخطب كما يدل عليه قوله سبحانه: * (ونادى نوح ابنه) * الخ فإن ذلك إنما يتصور قبل أن تنقطع العلاقة بين السفينة والبر إذ حينئذ يمكن جريان ما جرى بين نوح عليه السلام وبين ابنه من المفاوضة والاستدعاء إلى السفينة، والجواب بالاعتصام بالجبل.
وقال بعض المحققين: إن هذا النداء إنما كان قبل الركوب في السفينة والواو لا تدل على الترتيب، وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ ابنها على أن ضمير التأنيث لامرأته، وفي إضافته إليها إشعار بأنه ربيبه لأن الإضافة إلى الأم مع ذكر الأب خلاف الظاهر، وإن جوزوه، ووجه بأنه نسب إليها لكونه كافرا مثلها، وما يقال من أنه كان لغير رشدة لقوله سبحانه: * (فخانتاهما) * فارتكاب عظيمة لا يقادر قدرها فإن الله تعالى قد طهر الأنبياء عليهم السلام عما هو دون ذلك من النقص بمراحل فحاشاهم ثم حاشاهم أن يشار إليهم بأصبع الطعن وإنما المراد بالخيانة الخيانة في الدين، ونسبة هذا القول إلى الحسن. ومجاهد - كما زعم الطبرسي - كذب صريح، وقرأ محمد بن علي. وعروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهم * (ابنه) * بهاء مفتوحة دون ألف اكتفاءا بالألف عنها وهو لغة - كما قال ابن عطية - ومن ذلك قوله: أما تقود بها شاة فتأكلها * أو أن تبيعه في بعض الأراكيب
قيل: وهو ضعيف في العربية حتى خصه بعضهم بالضرورة والضمير للأم أيضا، وقرأ ابن عباس ابنه بسكون الهاء، وهي على ما قال ابن عطية. وأبو الفضل الرازي. لغة أزد فإنهم يسكنون هاء الكناية من المذكر، ومنه قوله: ونضواي مشتاقان له أرقان
وقيل: إنها لغة لبني كلاب. وعقيل، ومن النحويين من يخص هذا السكون بالضرورة وينشد:
58

وأشرب الماء ما بي نحوه عطش * إلا لأن عيونه سيل واديها
وقرأ السدي - ابناه - بألف وهاء سكت، وخرج ذلك على الندبة، واستشكل بأن النحاة صرحوا بأن حرف النداء لا يحذف في الندبة، وأجيب بأن هذا حكاية، والذي منعوه في الندبة نفسها لا في حكايتها، وعن ابن عطية - أبناه - بفتح همزة القطع. التي للنداء، وفيه أنه لا ينادي المندوب بالهمزة، وأن الرواية بالوصل فيها والنداء بالهمزة لم يقع في القرآن، ويبعد القول بالندبة أنها لا تلائم الاستدعاء إلى السفينة بعد كما لا يخفى ولو قيل: إن ابناه على هذه القراءة مفعول - نادى - أيضا كما في غيرها من القراءات، والألف للإشباع والهاء الساكنة هاء الضمير في بعض اللغات لم يكن هناك محذور من جهة المعنى وهو ظاهر، نعم يتوقف القول بذلك على السماع في مثله؛ ومتى ثبت تعين عندي تخريج القراءة إن صحت عليه، وقرأ الجمهور * (ابنه) * بالإضافة إلى ضمير نوح، ووصلوا بالهاء واوا وتوصل في الفصيح، وتنوين * (نوح) * مكسور عند الجمهور دفعا لالتقاء الساكنين، وقرأ وكيع بضمه اتباعا لحركة الإعراب.
وقال أبو حاتم: هي لغة سوء لا تعرف * (وكان في معزل) * أي مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وإخوته ومن آمن من قومه، والمراد بعده عنهم إما حسا أو معنى، وحاصله المخالفة لهم في الدين فمعزل بالكسر اسم مكان العزلة، وهي إما حقيقية أو مجازية، وقد يكون اسم زمان، وإذا فتح كان مصدرا، وقيل: المراد - كان في معزل - عن الكفار قد انفرد عنهم، وظن نوح عليه السلام أنه يريد مفارقتهم ولذلك دعاه إلى السفينة، وقيل: إنما ناداه لأنه كان ينافقه فظن أنه مؤمن، واختاره كثير من المحققين كالماتريدي. وغيره، وقيل: كان يعلم أنه كافر إلى ذلك الوقت لكنه عليه السلام ظن أنه عند مشاهدة تلك الأهوال وبلوغ السيل الزبي ينزجر عما كان عليه ويقبل الإيمان، وقيل: لم يجزم بدخوله في الاستثناء لما أنه كان كالمجمل فحملته شفقة الأبوة على أن ناداه * (ي‍ابني) * بفتح الياء التي هي لام الكلمة اجتزاءا بالفتحة عن الألف المبدلة من ياء الإضافة في قوله يا بنيا، وقيل: إنها سقطت لالتقائها ساكنة مع الراء الساكنة بعدها، ويؤيد الأول أنه قرىء كذلك حيث لا ساكن بعد.
ومن الناس من قال: فيه ضعف على ما حكاه يونس من ضعف يا أب ويا أم بحذف الألف والاجتزاء عنها بالفتحة.
وقرأ الجمهور بالكسر اقتصارا عليه من ياء الإضافة، وقيل: إنها حذفت لالتقاء الساكنين كما قيل ذلك في الألف، ونداؤه بالتصغير من باب التحنن والرأفة، وكثيرا ما ينادي الوالد ولده كذلك * (اركب معنا) * أي في السفينة ولتعينها وللإيذان بضيق المقام حيث حال الجريض دون القريض مع إغناء المعية عن ذكرها لم تذكر، وأطلق الركوب وتخفيف الباء وإدغامها في الميم قراءتان سبعيتان ووجه الإدغام التقارب في المخرج * (ولا تكن مع الكافرين) * تأكيد للأمر وهو نهي عن مشايعة الكفرة والدخول في غمارهم، وقطع بأن الدخول فيه يوجب الغرق على الطريق البرهاني.
* (قال سآوىإلى جبل يعصمنى من المآء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين) *
* (قال سئاوي) * أي سأنضم * (إلى جبل) * من الجبال، وقيل: عنى طور زيتا * (يعصمني) * أي يحفظني بارتفاعه * (من الماء) * فلا يصل إلي. قال ذلك
زعما منه أن ذلك كسائر المياه في أزمنة السيول المعتادة التي ربما يتقي منها بالصعود إلى مرتفع، وجهلا منه بأن ذلك إنما كان لإهلاك الكفرة فلا بد أن يدركهم ولو كانوا في قلل الجبال
59

* (قال) * مبينا له حقيقة الحال وصارفا له عن ذلك الفكر المحال * (لا عاصم اليوم من أمر الله) * نفي لجنس العاصم المنتظم لنفي جميع أفراده ذاتا وصفة للمبالغة في نفي كون الجبل عاصما، وزاد * (اليوم) * للتنبيه على أنه ليس كسائر الأيام التي تقع فيها الوقائع وتلم فيها الملمات المعتادة التي ربما يتخلص منها بالالتجاء إلى بعض الأسباب العادية، وعبر عن الماء في محل إضماره بأمر الله أي عذابه الذي أشير إليه أولا بقوله سبحانه: * (حتى إذا جاء أمرنا) * (هود: 40) تفخيما لشأنه وتهويلا لأمره وتنبيها لابنه على خطئه في تسميته ماءا وتوهمه أنه كسائر المياه التي يتخلص منها بالهرب إلى بعض المهارب المعهودة، وتعليلا للنفي المذكور فإن أمر الله سبحانه لا يغالب وعذابه لا يرد، وتمهيدا لحصر العصمة في جناب الله تعالى عز جاره بالاستثناء كأنه قيل: لا عاصم من أمر الله تعالى إلا هو تعالى، وإنما قيل: * (إلا من رحم) * تفخيما لشأنه الجليل جل شأنه وإشعارا بعلية رحمته بموجب سبقها غضبه كل ذلك لكمال عنايته عليه السلام بتحقيق ما يتوخاه من نجاة ابنه ببيان شأن الداهية وقطع أطماعه الفارغة وصرف عنانه عن التعلل بما لا يغني عنه شيئا وإرشاده إلى العياذ بالمعاذ الحق عز حماه، ولذا عدل عما يقتضيه الظاهر من الجواب بقوله: لا يعصمك الجبل منه كذا ذكره بعض المحققين وهو أحد أوجه في الآية وأقواها.
والوجه الثاني: أن عاصما صيغة نسبة، والمراد بالموصول المرحوم أي لا ذا عصمة أي معصوم إلا من رحمه الله تعالى، وأيد ذلك بأنه قرىء * (إلا من رحم) * بالبناء للمفعول، واعترضه في " الكشف " بأن فاعلا بمعنى النسبة قليل، وأجيب بأنه إن أراد قلته في نفسه فممنوع وإن بالنسبة إلى الوصف فلا يضر.
والثالث: أن - عاصما - على ظاهره، و * (من رحم) * بمعنى المرحوم والاستثناء منقطع لا متصل كما في الوجهين الأولين أي لا عاصم من أمر الله لكن من رحمه الله تعالى فهو معصوم، وأورد عليه بأن مثل هذا المنقطع قليل لأنه في الحقيقة جملة منقطعة تخالف الأولى لا في النفي والإثبات فقط بل في الاسمية والفعلية أيضا، والأكثر فيه مثل ما جاءني القوم إلا حمارا، والرابع: أن - عاصما - بمعنى معصوم كدافق بمعنى مدفوق وفاتن بمعنى مفتون في قوله: بطيء القيام رخيم الكلا * م أمسى فؤادي به (فاتنا)
* (ومن رحم) * بمعنى الراحم، والاستثناء منقطع أيضا أي لا معصوم إلا الراحم على معنى لكن الراحم يعصم من أراد، والخامس: أن الكلام على إضمار المكان والاستثناء متصل أي لا عاصم إلا مكان من رحمه الله من المؤمنين وهو السفينة، قيل: وهو وجه حسن فيه مقابلة لقوله: * (يعصمني) * وهو المرجح بعد الأول، والعاصم على هذا حقيقة لكن إسناده إلى المكان مجازي، وقيل: إنه مجاز مرسل عن مكان الاعتصام، والمعنى لا مكان اعتصام إلا مكان من رحمه الله، وادعى أنه أرجح من الكل لأنه ورد جوابا عن قوله: * (سآوي إلى جبل) * الخ وليس بمسلم، والسادس: ما أبداه صاحب الكشف من عنده وهو أن المعنى لا معصوم إلا مكان من رحمه الله تعالى، ويراد به عصمة من فيه على الكناية فإن السفينة إذا عصمت عصم من فيها، والسابع: أن الاستثناء مفرغ، والمعنى لا عاصم اليوم أحدا أو لأحد إلا من رحمه الله أو لمن رحمه الله سبحانه، وعده بعضهم أقربها، ولا أظنك تعدل بالوجه الأول وجها وهو الذي اختاره، والظاهر على ما قال أبو حيان: أن خبر لا محذوف للعلم به أي * (لا عاصم) * موجود، والأكثر الحذف في مثل ذلك عند الحجازيين، والتزم الحذف فيه بنو تميم
60

ويكون اليوم منصوبا على إضماره فعل يدل عليه * (عاصم) * أي * (لا عاصم) * يعصم اليوم؛ والجار والمجرور متعلق بذلك الفعل ومنع جواز أن يكون * (اليوم) * منصوبا باسم - لا - وأن يكون الجار متعلقا به لأنه يلزم حينئذ أن يكون معربا منونا للطول.
وجوز الحوفي أن يكون * (اليوم) * متعلقا بمحذوف وقع خبرا - للا - والجار متعلق بذلك المحذوف أيضا، وأن يكون متعلقا بمحذوف هو الخبر، و * (اليوم) * في موضع النعت لعاصم، ورد أبو البقاء خبرية اليوم بأنه ظرف زمان وهو لا يكون خبرا - للا - والجار متعلق بذلك المحذوف أيضا، وأن يكون متعلقا بمحذوف هو الخبر، و * (اليوم) * في موضع النعت لعاصم، ورد أبو البقاء خبرية اليوم بأنه ظرف زمان وهو لا يكون خبرا عن الجثة، والتزم كونه معمول من أمر الله وكون الخبر هو الجار والمجرور، ورد أبو حيان جواز النعتية بأن ظرف الزمان لا يكون نعتا للجثث كما لا يكون خبرا عنها * (وحال بينهما الموج) * أي بين نوح عليه السلام وابنه فانقطع ما بينهما من المجاوبة، قيل: كانا يتراجعان الكلام فما استتمت المراجعة حتى جاءت موجة عظيمة وكان راكبا على فرس قد بطر وأعجب بنفسه فالتقمته وفرسه، وليس في الآية هنا إلا إثبات الحياة له، وأما علمه عليه السلام بغرقه فلم يحصل إلا بعد، وقال الفراء: بينهما أي بين ابن نوح عليه السلام والجبل، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن القاسم بن أبي بزة، وتعقبه العلامة أبو السعود بأن قوله تعالى: * (فكان من المغرقين) * إنما يتفرع على حيلولة الموج بينه عليه السلام وبين ابنه لا بينه وبين الجبل لأنه بمعزل عن كونه عاصما وإن لم يحل بينه وبين الملتجأ إليه موج، وأجيب بأن التفريع لا ينافي ذلك لأن المراد فكان من غير مهلة أو هو بناء على ظنه أن الماء لا يصل إليه، وفي الآية دلالة على غرق ساء الكفرة على أبلغ وجه، فكأن ذلك أمر مقرر الوقوع غير مفتقر إلى البيان، وفي إيراد - كان - دون صار مبالغة في كونه منهم.
* (وقيل ياأرض ابلعى مآءك وياسمآء أقلعى وغيض المآء وقضى الامر واستوت على الجودى وقيل بعدا للقوم الظ‍المين) *
* (وقيل ي‍اأرض ابلعي) * أي انشفي استعير من ازدراد الحيوان ما يأكله للدلالة على أن ذلك ليس كالنشف المعتاد التدريجي، وتخصيص البلع بما يؤكل هو المشهور عن اللغويين، وقال الليث: يقال: بلع الماء إذا شربه وهو ظاهر في أنه غير خاص بالمأكول، وذكر السيد أن ذلك مجاز، وأخرج ابن المنذر. وغيره عن وهب بن منبه أن البلع بمعنى الازدراد لغة حبشية، وأخرج أبو الشيخ عن جعفر بن محمد عن أبيه أنه بمعنى الشرب لغة هندية * (مآءك) * أي ما على وجهك من ماء الطوفان
وعبر عنه بالماء بعد ما عبر عنه فيما سلف بأمر الله تعالى لأن المقام مقام النقص والتقليل لا مقام التفخيم والتهويل * (وي‍اسمآء أقلعي) * أي امسكي عن إرسال المطر يقال: أقلعت السماء إذا انقطع مطرها؛ وأقلعت الحمى إذا كفت، والظاهر أن المطر لم ينقطع حتى قيل للسماء ما قيل، وهل فوران الماء كان مستمرا حتى قيل للأرض ما قيل أم لا؟ لم أر فيه شيئا، والآية ليست نصا في أحد الأمرين * (وغيض الماء) * أي نقص يقال: غاضه إذا نقصه وجميع معانيه راجعة إليه.
وقول الجوهري: غاض الماء إذا قل ونضب، وغيض الماء فعل به ذلك لا يخالفه فإن القلة عين النقصان، وتفسير ذلك بالنقص مروى عن مجاهد * (وقضي الأمر) * أي أنجز ما وعد الله تعالى نوحا عليه السلام من إهلاك كفار قومه وإنجائه بأهله المؤمنين، وجوز أن يكون المعنى أتم الأمر * (واستوت) * استقرت يقال: استوى على السرير إذا استقر عليه * (على الجودي) * بتشديد الياء، وقرأ الأعمش. وابن أبي عبلة بتخفيفها وهما لغتان - كما قال ابن عطية - وهو جبل بالموصل. أو بالشام. أو بآمل - بالمد وضم الميم والمشهور الأول.
61

وجاء في بعض الآثار أن الجبال تشامخت إذ ذاك وتواضع هو لله تعالى شأنه فأكرمه سبحانه باستواء السفينة عليه، ومن تواضع الله سبحانه رفعه، وكان استواؤها عليه يوم عاشوراء، فقد أخرج أحمد. وغيره عن أبي هريرة قال: " مر النبي صلى الله عليه وسلم بأناس من اليهود وقد صاموا يوم عاشوراء فقال: ما هذا الصوم؟ فقيل: هذا اليوم الذي أنجى الله تعالى فيه موسى عليه السلام وبني إسرائيل من الغرق وغرق فيه فرعون، وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح وموسى عليهما السلام شكرا لله تعالى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أحق بموسى عليه السلام وأحق بصوم هذا اليوم فصامه وأمر أصحابه بالصوم " وأخرج الأصبهاني في الترغيب عنه رضي الله تعالى عنه أنه اليوم الذي ولد فيه عيسى عليه السلام أيضا وأن صيامه يعدل سنة مبرورة، وكان ركوبه عليه السلام - فيما روي عن قتادة - في عشر خلون من رجب. وأخرج ابن جرير عن عبد العزيز بن عبد الغفور عن أبيه مرفوعا أنه عليه السلام ركب في أول يوم من رجب فصام هو ومن معه وجرت بهم السفينة ستة أشهر فانتهى ذلك إلى المحرم فأرست السفينة على الجودي يوم عاشوراء فصام نوح عليه السلام وأمر جميع من معه من الوحش والدواب فصاموا شكرا لله.
وفي بعض الآثار أنها طافت بهم الأرض كلها ولم تدخل الحرم لكنها طافت به أسبوعا وأن الحجر الأسود خبىء في جبل أبي قبيس وأن البيت رفع إلى السماء، وفي رواية ابن عساكر عن مجاهد أنه لم يدخل الحرم من الماء شيء، والظاهر على هذا أنه لا خبء كما أنه لا رفع، وعندي أن رواية ثبوتهما جميعا مما لا تكاد تصح، وبفرض صحتها لا يظهر لي سر رفع البيت بلا حجر وخبء الحجر بلا بيت بل عندي في رفع البيت مطلقا تردد، وإن كنت ممن لا يتردد في أن الله تعالى على كل شيء قدير * (وقيل بعدا للقوم الظالمين) * أي هلاكا لهم، واللام صلة المصدر، وقيل: متعلق بقيل وأن المعنى قيل لأجلهم بعدا وهو خلاف الظاهر، والتعرض لوصف الظلم للإشعار بعليته للهلاك ولتذكير ما سبق في قوله سبحانه: * (ولا تخاطبني في الذين ظلموا) * ولا يخفى ما في هذه الآية أيضا من الدلالة على عموم هلاك الكفرة. ويشهد لذلك آيات أخر وأخبار كثيرة بل فيها ما هو على علاته ظاهر في عموم هلاك من على الأرض ما عدا أهل السفينة فعن عبيد بن عمير أن فيمن أصاب الغرق امرأة معها صبي لها فوضعته على صدرها فلما بلغها الماء وضعته على منكبها فلما بلغها الماء وضعته على يديها فقال الله سبحانه: لو رحمت أحدا من أهل الأرض لرحمتها ولكن حق القول مني.
وزعم بعضهم أنه لم ينج أحد من الكفار سوى عوج بن عوق وكان الماء يصل إلى حجزته، وسبب نجاته أن نوحا عليه السلام احتاج إلى خشب ساج فلم يمكنه نقله فحمله عوج من الشام إليه عليه السلام فنجاه الله تعالى من الغرق لذلك، وظاهر كلام " القاموس " يقتضي نجاته. فقد ذكر فيه عوج بن عوق - بضمهما - رجل ولد في منزل آدم عليه السلام فعاش إلى زمن موسى عليه السلام، والحق أنه لم ينج أحد من الكفار أصلا، وخبر عوج يرويه هيان ابن بيان فلا تعج إلى القول به ولا يشكل إغراق الأطفال الذين لا ذنب لهم لما أنه مجرد سبب للموت بالنسبة إليهم وأي محذور في إماتة من لا ذنب له وفي كل وقت يميت الله سبحانه من ذلك ما لا يحصى وهو جل شأنه المالك الحق والمتصرف المطلق يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا يحتاج في الجواب إلى ما أخرجه إسحاق بن بشر. وابن عساكر عن عبد الله بن زياد بن سمعان عن رجال سماهم أن الله تعالى أعقم رجالهم قبل الطوفان بأربعين عاما وأعقم نساءهم فلم يتوالدوا أربعين عاما منذ دعا نوح عليه السلام حتى أدرك الصغير فبلغ الحنث وصارت لله تعالى
62

عليهم الحجة ثم أنزل السماء عليهم بالطوفان إذ يبقى عليه مع ضعفه والتعارض بينه وبين الخبر السابق آنفا أمر إهلاك ما لم يكن في السفينة من الحيوانات وقد جاء عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أن نوحا عليه السلام لما حمل من حمل في السفينة رأت البهائم والوحش والسباع العذاب فجعلت تلحس قدمه عليه السلام وتقول: احملنا معك فيقول: إنما أمرت أن أحمل من كل زوجين اثنين ولم يحملها وكذا لا يحتاج إلى الجواب بأن الله تعالى إنما أهلك أولئك الأطفال لعلمه جل شأنه بما كانوا فاعلين وذلك كما يقال في وجه إدخال أطفال الكفار النار يوم القيامة على قول من يراه لما أن فيه ما فيه، وبالجملة إماتة الأحياء بأي سبب كان دفعة أو تدريجا مما لا محذور فيه ولا يسئل عنه.
هذا واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها واستدلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان وكانت من سمهرى البلاغة مكان السنان، يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصوف أذهانهم فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض: هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا، ويروى أيضا أن ابن المقفع - وكان كما في " القاموس " فصيحا بليغا، بل قيل: إنه أفصح أهل وقته - رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا فاجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا
ما عمل، وقال: أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر، ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا، وهي تشتمل على شيئين: الأول: الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه، والثاني: ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا؛ ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني، فلا يضر تفاوتها في البلاغة وهو الذي قاله علماء هذا الشأن، وأنشد بعض الفرس في ذلك: در بيان ودر فصاحت كي بود يكسان سخن * ورجه كوينده بودوجون حافظ وجون أصمعي
در كلام ايزد بيجون كه وحى منزلست * كي بود تيت يداجون قيل: يا أرض ابلعي
وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل وتذكير لفاضل غافل، فنقول: ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات: من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة. ومن جهة الفصاحة المعنوية. ومن جهة الفصاحة اللفظية، أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد. وأن نقطع طوفان السماء فانقطع. وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض. وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى. وأن نسوي السفينة عل الجودي فاستوت وأبقينا الظلمة غرقى، بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه لكمال هيبته من الآمر العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره سبحانه العظيم، وأن هذه الأجرام العظيمة من السموات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادا وإعداما ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا
63

كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معفرته وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره والإذعان لحكمه وتحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده وتصوروا مزيد اقتداره فعظمت مهابته في نفوسهم وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدما، وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمما لا تلقى لإشارته بغير الإمضاء والانقياد ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال، ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا: * (قيل) * على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو * (يا أرض) * * (ويا سماء) * إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له ثم قال سبحانه كما ترى: * (يا أرض) * * (ويا سماء) * مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه ودخول حرف النداء عليه - وهما من خواص المأمور المطيع - ويكون هذا تخييلا.
وقد يقال: أراد أن الاستعارة ههنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناءا على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادى المخاطب وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداءا بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه؟! على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل، ثم استعار لغور الماء في الأرض البلع الذي هو أعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي.
وفي " الكشاف " جعل البلع مستعارا لنشف الأرض الماء وهو أولى، فإن النشف دال على جذب من أجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان، ولأن النشف فعل الأرض والغور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا، ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام، وجعل قرينة الاستعارة لفظة * (ابلعي) * لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.
ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون * (ابلعي) * استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في * (ينقضون عهد الله) * وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في أنبت الربيع البقل وهو بعيد، أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في نطقت الحال، فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور، ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر ترشيحا لاستعارة النداء.
والحاصل أن في لفظ * (ابلعي) * باعتبار جوهره استعارة لغور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها، وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه، ثم قال جل وعلا: * (ماءك) * بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك، واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيخ، وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الاستعارة من حيث أن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية فما قيل: إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء، ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل ففي * (اقلعي) *
64

استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ، والخطاب فيه أيضا ترشيح لاستعارة النداء، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في * (ابلعي) * ثم قال سبحانه: * (وغيض الماء وقضى الأمر واستوت على الجودى وقيل بعدا) * فلم يصرح جل وعلا بمن غاض الماء ولا بمن قضى الأمر وسوى السفينة وقال بعدا كما لم يصرح سبحانه بقائل * (يا أرض) * * (ويا سماء) * في صدر الآية سلوكا في كل واحد من ذلك لسبيل الكناية لأن
تلك الأمور العظام لا تصدر إلا من ذي قدرة لا يكتنه قهار لا يغالب فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره جلت عظمته قائلا: * (يا أرض) * و * (يا سماء) * ولا غائض ما غاض ولا قاضي مثل ذلك الأمر الهائل، أو أن يكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره.
والحاصل أن الفعل إذا تعين لفاعلبعينه استتبع لذلك أن يترك ذكره ويبني الفعل لمفعوله، أو يذكر ما هو أثر لذلك الفعل على صيغة المبني للفاعل، ويسند إلى ذلك المفعول فيكون كناية عن تخصيص الصفة التي هي الفعل بموصوفها، وهذا أولى مما قيل في تقرير الكناية هنا: إن ترك ذكر الفاعل وبناء الفعل للمفعول من لوازم العلم بالفعل وتعينه لفاعلية ذلك الفعل فذكر اللازم وأريد الملزوم لما أن استوت غير مبني للمفعول - كقيل وغيض - ثم إنه تعالى ختم الكلام بالتعريض تنبيها لسالكي مسلك أولئك القوم في تكذيب الرسل عليهم السلام ظلما لأنفسهم لا غير ختم إظهار لمكان السخط ولجهة استحقاقهم إياه وأن قيامه الطوفان وتلك الصورة الهائلة ما كانت إلا لظلمهم كما يؤذن بذلك الدعاء بالهلاك بعد هلاكهم والوصف بالظلم مع تعليق الحكم به، وذكر بعضهم أن البعد في الأصل ضد القرب وهو باعتبار المكان ويكون في المحسوس، وقد يقال في المعقول نحو * (ضلوا ضلالا بعيدا) * واستعماله في الهلاك مجاز، قال ناصر الدين: يقال بعد بعدا بضم فسكون وبعدا بالتحريك إذا بعد بعدا بعيدا بحيث لا يرجى عوده، ثم استعير للهلاك وخص بدعاء السوء ولم يفرق في القاموس بين صيغتي الفعل في المعنيين حيث قال: البعد معروف والموت وفعلهما - ككرم. وفرح - بعدا وبعدا فافهم.
وزعم بعضهم أن الأرض والسماء أعطيتا ما يعقلان به الأمر فقيل لهما حقيققة ما قيل، وأن القائل * (بعدا) * نوح عليه السلام ومن معه من المؤمنين، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر ولا أثر فيه يعول عليه، والكلام على الأول أبلغ، وأما النظر فيها من جهة علم المعاني وهو النظر في فائدة كل كلمة فيها وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها فذلك أنه اختير * (يا) * دون سائر أخواتها لكونها أكثر في الاستعمال وأنها دالة على بعد المبادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة وإبداء شأن العزة والجبروت، وهو تبعيد المنادى المؤذن بالتهاون به ولم يقل * (يا أرض) * بالكسر لأن الإضافة إلى نفسه جل شأنه تقتضي تشريفا للأرض وتكريما لها فترك إمدادا للتهاون لم يقل يا أيتها الأرض مع كثرته في نداء أسماء الأجناس قصدا إلى الاختصار والاحتراز عن تكلف التنبيه المشعر بالغفلة التي لا تناسب ذلك المقام، واختير لفظ الأرض والسماء على سائر أسمائهما كالمقلة والغبراء وكالمظلة والخضراء لكونهما أخصر وأورد في الاستعمال وأوفى بالمطابقة، فإن تقابلهما إنما اشتهر بهذين الاسمين، واختير لفظ * (ابلعي) * على ابتعلي لكونه أخصر وأوفر تجانسا - باقلعي - لأن همزة الوصل إن اعتبرت تساويا في عدد الحروف وإلا تقاربا فيه بخلاف ابتلعي، وقيل: دماءك) * بالافراد دون الجمع لما فيه من صورة الاستكثار المتأبى عنها مقام إظهار الكبرياء وهو الوجه في إفراد الأرض والسماء وإنما لم يقل * (ابلعي) * بدون المفعول لئلا يستلزم تركه ما ليس بمراد كم تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهن نظرا إلى
65

مقام عظمة الآمر المهيب وكمال انقياد المأمور، ولما علم أن المراد بلع الماء وحده علم أن المقصود بالاقلاع إمساك المساء عن إرسال الماء فلم يذكر متعلق * (اقلعي) * اختصارا واحترازا عن الحشو المستغنى عنه وهذا هو السبب في ترك ذكر حصول المأمور به بعد الأمر فلم يقل * (قيل يا أرض ابلعي) * فبلعت * (ويا سماء اقلعي) * فقلت لأن مقام الكبرياء وكمال الانقياد يغني عن ذكره الذي ربما أوهم إمكان المخالفة، واختير غيض على غيض المشدد لكونه أخصر.
وقيل: الماء دون ماء طوفان السماء، وكذا الأمر دون أمر نوح وهو إنجاز ما وعد لقصد الاختصار، والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك لأنه إما بدل من المضاف إليه كما هو مذهب الكوفية، وإما لأنه يغني غناء الإضافة في الإشارة إلى المعهود، واختير استوت على سويت أي أقرت مع كونه أنسب بأخواته المبنية للمفعول اعتبارا لكون الفعل المقابل للاستقرار أعني الجريان منسوبا إلى السفينة على صيغة المبني للفاعل في قوله تعالى: * (وهي تجري بهم) * مع أن * (استوت) * أخصر من سويت، واختير المصدر أعني * (بعدا) * على ليبعد القوم طلبا لتأكيد معنى الفعل بالمصدر مع الاختصار في العبارة وهو نزول * (بعدا) * وحده منزلة ليبعدوا بعدا مع فائدة أخرى هي الدلالة على استحقاق الهلاك بذكر اللام، وإطلاق الظلم عن مقيداته في مقام المبالغة يفيد تناول كل نوع فيدخل فيه ظلمهم على أنفسهم لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في التكذيب من حيث أن تكذيبهم للرسل ظلم على أنفسهم لأن ضرره يعود إليهم، هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلم، وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل فذلك أنه قدم النداء على الأمر فقيل: * (يا أرض ابلعي) * * (ويا سماء اقلعي) * دون أن يقال: ابلعي يا أرض، واقلعي يا سماء جريا على مقتضى اللازم فيمن كان مأمورا حقيقة من تقديم التنبيه ليتمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادي قصدا بذلك لمعنى الترشيح للاستعارة المكنية في الأرض والسماء، ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء لكونها الأصل نظرا إلى كون ابتداء الطوفان منها حيث فار تنورها أولا، ثم جعل قوله سبحانه: * (وغيض الماء) * تابعا لأمر الأرض والسماء لاتصاله بقصة الماء وأخذه بحجزتها، ألا ترى أصل الكلام * (قيل يا أرض ابلعي ماءك) * فبلعت ماءها * (ويا سماء اقلعي) * عن إرسال الماء فأقلعت عن إرساله * (وغيض الماء) * النازل من السماء فغاض.
وقيد الماء بالنازل وإن كان في الآية مطلقا لأن ابتلاع الأرض ماءها فهم من قوله سبحانه: * (ابلعي ماءك) *.
واعترض بأن الماء المخصوص بالأرض إن أريد به ما على وجهها فهو يتناول القبيلين الأرضي والسمائي وإن أريد به ما نبع منها فاللفظ لا يدل عليه بوجهه، ولهذا حمل الزمخشري الماء على مطلقه، وأشعر كلامه بأن غيض الماء إخبار عن الحصول المأمور به من قوله سبحانه: * (يا أرض إبلعي ماءك ويا سماء اقلعي) * فالتقدير قيل لهما ذلك فامتثلا الأمر ونقص املاء.
ورجح الطيبي ما ذهب إليه الكساكي زاعما أن معنى الغيض حينئذ ما قاله الجوهري، وهو عنده مخالف للمعني الذي ذكره الزمخشري فقال: إن إضافة الماء إلى الأرض لما كانت ترشيحا للاستعارة تشبيها لاتصاله بها باتصال الملك بالمالك ولذا جيء بضمير الخطاب اقتضت إخراج سائر المياه سوى الذي بسببه صارت الأرض مهيأة
للخطاب بمنزلة المأمور المطيع وهو المعهود في قوله تعالى: * (وفار التنور) * وبهذا الاعتبار يحصل التواغل في تناسي التشبيه والترشيح، ولو أجريت الإضافة على غير هذا تكون كالتجريد وكم بينهما، هذا ولو حمل على العموم
66

لاستلزم تعميم ابتلاعه المياه بأسرها لورود الأمر من مقام العظمة كما علمت من كلام السكاكي، وليس بذاك، وتعقبه في الكشف بأنه دعوى بلا دليل ورد يمين إذ لا معهود، والظاهر ما على وجه الأرض من الماء ولا ينافي الترشيح وإضافة المالكية، ثم الظاهر من تنزيل الماء منزلة الغذاء أن تجعل الإضافة من باب إضافة الغذاء إلى المغتذي في النفع والتقوية وصيرورته جزءا منه ولا نظر فيه إلى كونه مملوكا أو غير ذلك، وأما التعميم فمطلوب وحاصل على التفسيرين لانحصار الماء في الأرض والسمائي، وقد قلتم بنضوبهما من قوله سبحانه فبلعت. وقوله تعالى: * (وغيض) * ولا شك أن ما عندنا من الماء غير ماء الطوفان، هذا والمطابق تفسير الزمخشري، ألا ترى إلى قوله جل وعلا: * (فالتقى الماء) * أي الأرضي والسمائي، وههنا تقدم الماءان في قوله سبحانه: * (ماءك ويا سماء اقلعي) * لأن تقديره عن إرسال الماء على زعمهم، فإذا قيل: وغيض المار رجع إليهما لا محالة لتقدمهما، ثم إذا جعل من توابع * (اقلعي) * خاصة لم يحسن عطفه على أصل القصة أعني * (وقيل يا أرض ابلعي) * كيف وفي إيثار هذا التفسير الإشارة إلى أنه زال كونه طوفانا لأن نقصان الماء غير الإذهاب بالكلية، وإلى أن الأجزاء الباطنة من الأرض لم تبق على ما كانت عليه من قوة الانباع ورجعت إلى الاعتدال المطلوب وليس في الاختصاص بالنضوب هذا المعنى البتة انتهى.
وزعم الطبرسي أن أئمة البيت رضي الله تعالى عنهم على أن الماء المضاف هو ما نبع وفار وأنه هو الذي ابتلع. وغاض لا غير، وأن ماء السماء صار بحارا وأنهارا.
وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن ابن عباس ما يؤيده، وهذا مخالف لما يقتضيه كلام السكاكي مخالفة ظاهرة، وفي القلب من صحته ما فيه، ثم إنه تعالى أتبع غيض الماء ما هو المقصود الأصلي من القصة، وهو قوله جلت عظمتته: * (وقضى الأمر) * ثم أتبع ذكر المقصود حديث السفينة لتأخره عنه في الوجود، ثم ختمت القصة بالتعريض الذي علمته، هذا كله نظر في الآية من جانبي البلاغة، وأما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف. وتأدية لها ملخصة مبينة لا تعقيد يعثر الكفر في طلب المراد ولا التواء يشيك الطريق إلى المرتاد بل إذا جربت نفسك عند استماعها. وجدت ألفاظها تسابق معانيها ومعانيها تسابق ألفاظها فما من لفظة فيها تسبق إلى أذنك إلا ومعناها أبق إلى قلبك، وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية فألفاظها على ما ترى عربية مستعملة جارية على قوانين اللغة سليمة عن التنافر بعيدة عن البشاعة عذبة على العذبات سلسة على الاسلات كل منها كالماء في السلالة والكعسل في الحلاوة والكنسيم في الرقة، ولله تعالى در التنزيل ماذا جمعت ياته: وعلى تفنن واصفيه بحسنه * يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف
وما ذكر في مزايا هذه الآية بالنسبة إلى ما فيها قطرة من حياض. وزهرة من رياض، وقد ذكر ابن أبي الاصبع أن فيها عشرين ضربا من البديع من أنها سبع عشرة لفظة وذلك المناسبة التامة في * (ابلعي) * و * (اقلعي) * والاستعارة فيهما والطباق بين الأرض والسماء والمجاز في * (يا سماء) * فإن الحقيقة يا مطر السماء، والإشارة في * (وغيض الماء) * فإنه عبر به عن معان كثيرة لأن الماء لا يغيض حتى يقلع مطر السماء وتبلع الأرض ما يخرج منها فينقص ما على وجه الأرض، والإرداف في * (واستوت) * والتمثيل في * (وقضى الأمر) * والتعليل فإن غيض الماء علة للاستواء وصحة التقسيم فإنه استوعب أقسام الماء حال نقصه والاحتراس في الدعاء لئلا يتوهم أن الغرق
67

لعمومه شمل من لا يستحق الهلاك فإن عدله تعالى يمنع أن يدعو على غير مستحق، وحسن النسق وائتلاف اللفظ مع المعنى والايجاز فإنه سبحانه قص القصة مستوعبة بأخصر عبارة، والتسهيم لأن أول الآية يدل على آخرها، والتهذيب لأن مفرداتها موصوفة بصفات الحسن، وحسن البيان من جهة أن السامع لا يتوقف في فهم معنى الكلام ولا يشكل عليه شيء منه، والتمكين لأن الفاصلة مستقرة من محلها مطمئنة في مكانها، والانسجام، وزاد الجلال السيوطي بعد أن نقل هذا عن ابن أبي الأصبع الاعتراض، وزاد آخرون أشياء كثيرة إلا أنها ككلام ابن أبي الأصبع قد أشير إليها بأصبع الاعتراض، وقد ألف شيخنا علاء الدين - أعلى الله تعالى درجته في أعلى عليين - رسالة في هذه الآية الكريمة جمع فيها ما ظهر له ووقف عليه من مزاياها فبلغ ذلك مائة وخمسين مزية، وقد تطلبت هذه الرسالة لأذكر شيئا من لطائفها فلم أظفر بها وكأن طوفان الحوادث أغرقها، ولعل فيما نقلناه سدادا من عوز، والله تعالى الموفق للصواب وعنده علم الكتاب.
* (ونادى نوح ربه فقال رب إن ابنى من أهلى وإن وعدك الحق وأنت أحكم الح‍اكمين) *.
* (ونادى نوح ربه) * أي أراد ذلك بدليل تفريع قوله سبحانه: * (فقال رب إن ابني من أهلي) * عليه، وقيل: النداء على حقيقته والعطف بالفاء لكون حق التفصيل يعقب الإجمال * (وإن وعدك الحق) * أي وإن وعدك ذلك أوكل وعد تعده حق لا يتطرق إليه خلف فيدخل فيه الوعد المعهود دخولا أوليا.
* (وأنت أحكم الح‍اكمين) * لأنك أعلمهم وأعدلهم، وقد ذكر أنه إذا بني أفعل من الشيء الممتنع من التفضيل والزيادة يعتبر فيما يناسب معناه معنى الممتنع، وقال العز بن عبد السلام في أماليه: إن هذا ونحوه من أرحم الراحمين وأحسن الخالقين مشكل لأن أفعل لا يضاف إلا إلى جنسه، وهنا ليس كذلك لأن الخلق من الله سبحانه بمعنى الإيجاد ومن غيره بمعنى الكسب وهما متباينان يعني على المشهور من مذهب الأشاعرة، والرحمة من الله تعالى إن حملت على الإرادة أو جعلت من مجاز التشبيه صح وإن أريد إيجاد فعل الرحمة كان مشكلا أيضا إذ لا موجد سواه سبحانه، وأجاب الآمدي بأنه بمعنى أعظم من يدعي بهذا الاسم، واستشكل بأن فيه جعل التفاضل في غير ما وضع اللفظ بإزائه وهو يناسب مذهب المعتزلة فافهم، وقيل: المعنى هنا أنك أكثر حكمة من ذوي الحكم على أن الحاكم من الحكم كالدارع من الدرع، واعترض عليه بأن الباب ليس بقياسي وأنه لم يسمع حاكم بمعنى حكيم وأنه لا يبنى منه أفعل إذا لأنه ليس جاريا على الفعل لا يقال: ألبن وأتمر من فلان إذ لا فعل بذلك المعنى، والجواب بأنه قد كثر في كلامهم فجوز على أن يكون وجها مرجوحا وبأنه من قبيل أحنك الشاتين لا يخلو عن تعسف كما في الكشف، وتعقب بأن للحكمة فعلا ثلاثيا وهو
حكم، وأفعل من الثلاثي مقيس، وأيضا سمع احتنك الجراد. وألبن. وأتمر فغايته أن يكون من غير الثلاثي ولا يخفى ما فيه، ومنهم من فسره على هذا بأعلمهم بالحكمة كقولهم؛ آبل من أبل بمعنى أعلم. وأحذف بأمر الإبل، وأيا ما كان فهذا النداء منه عليه السلام يقطر منه الاستعطاف، وجميل التوسل إلى من عهده منعا مفضلا في شأنه أولا وآخرا وهو على طريقة دعاء أيوب عليه السلام * (إذ نادى ربه أني مسنى الضر وأنت أرحم الراحيمن) * (الأنبياء: 83) فيكون ذلك قبل الغرق، والواو لا تقتضي الترتيب، وقيل: إن النداء إنما كان بعده والمقصود منه الاستفسار عن سبب عدم إنجائه مع سبق وعده تعالى بإنجاء أهله وهو منهم، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا تمام الكلام في ذلك.
* (قال يانوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألنى ما ليس لك به علم إنى أعظك أن تكون من الجاهلين) *
* (قال) * استئناف بياني كأنه قيل، ما قال له ربه سبحانه حين ناداه بذلك؟ فقيل: قال: * (يا نوح إنه ليس من أهلك) * أي ليس منهم
68

أصلا لأن مدار الأهلية هو القرابة الدينية وقد انقطعت بالكفر فلا علاقة بين مسلم وكافر ولذا لم يتوارثا، وقد ذكروا أن قرابة الدين أقرب من قرابة النسب كما أشار إلى ذلك أبو فراس بقوله: كانت مودة سلمان له نسبا * ولم يكن بين نوح وابنه رحم
أو * (ليس من أهلك) * الذين أمرتك بحملهم في الفلك لخروجه عنه بالاستثناء، وحكى هذا عن ابن جرير. وعكرمة، والأول عن ابن عباش رضي الله تعالى عنهما؛ وعلى القولين ليس هو من الذين وعد بإنجائهم، وكأنه لما كان دعاؤه عليه السلام بتذكير وعده جل ذكره مبنيا على كون كنعان من أهله نفى أولا كونه منهم، ثم علل عدم كونه منهم على طريقة الاستئناف التحقيقي بقوله سبحانه: * (إنه عمل غير ص‍الح) * وأصله إنه ذو عمل فاسد فحذف ذو للمبالغة بجعله عين عمله لمداومته عليه، ولا يقدر المضاف لأنه حينئذ تفوت المبالغة المقصودة منه، ونظير ذلك ما في قول الخنساء ترثي أخاها صخرا: ما أم سقب على بو تحن له * قد ساعدتها على التحنان آظار
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت * فإنما هي إقبال وإدبار
يوما بأوجع مني حين فارقني * صخر وللعيش إحلاء وإمرار
وأبدل فاسد بغير - صالح - إما لأن الفاسد ربما يطلق على ما فسد ومن شأنه الصلاح فلا يكون نصا فيما هو من قبيل الفاسد المحض كالمظالم، وإما للتلويح بأن نجاة من نجاة إنما هو لصلاحه.
وقرأ الكسائي. ويعقوب * (إنه عمل غير صالح) * على صيغة الفعل الماضي، ونصب * (غير) * وهي قراءة على كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس. وأنس. وعائشة، وقد روتها هي وأم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل عمل عملا غير صالح، وبه قرء أيضا كما روي عن عكرمة فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه، وذلك شائع مطرد عند انكشاف المعنى وزوال اللبس، وضعفه بعضهم هنا بأن العرب لا تكاد تقول: * (عمل غير صالح) * وإنما تقول عمل عملا غير صالح، وليس بشيء، وأيد بهذه القراءة كون ضمير إنه في القراءة الأولى لابن نوح لأنه فيها له قطعا فيضعف ما قيل: إنه في الأولى لترك الركوب معهم والتخلف عنهم أي إن ذلك الترك * (عمل غير صالح) * على أنه خلاف الظاهر في نفسه كما لا يخفى. ومثله في ذلك ما قيل: إنه لنداء نوح عليه السلام أي إن نداءك هذا * (عمل غير صالح) * وتخرج بذلك الجملة عن أن تكون تعليلا لما تقدم ويفوتما في ذاك من الفائدة ولا يكون الكلام على مساق واحد، نعم روي عن ابن عباس ما يقتضيه فقد أخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عنه أنه قال: إن نساء الأنبياء عليهم السلام لا يزنين، ومعنى الآية مسألتك إياي يا نوح * (عمل غير صالح) * لا أرضاه لك.
وفي رواية ابن جرير عنه سؤال ما ليس لك به علم عمل غير صالح، ولعل ذلك لم يثبت عن هذا الحبر لأن الظاهر من الرواية الأولى أنه إنما جعل الضمير للمسألة دون ابن نوح لما في ذلك من نسبة الزنا إلى من لا ينسب إليه وهو رضي الله تعالى عنه أجل قدرا من أن يخفى عليه أنه لا يلزم من ذلك هذا المحذور، ثم إنه لما كان دعاؤه عليه السلام مبنيا على كون كنعان من أهله وقد نفى ذلك وحقق ببيان علته فرع على ذلك النهي عن سؤال إنجائه إلا أنه جيء بالنهي على وجه عام يندرج فيها ما ذكر اندراجا أوليا فقال سبحانه: * (فلا تسئلن) *
69

أي إذا وقفت على جلية الحال فلا تطلب مني * (ما ليس لك به علم) * أي مطلبا لا تعلم يقينا أن حصوله صواب وموافق للحكمة على تقدير كون * (ما) * عبارة عن المسؤول الذي هو مفعول للسؤال أو طلبا لا تعلم أنه صواب على تقدير كونه عبارة عن المصدر الذي هو مفعول مطلق فيكون انلهي واردا بصريحه في كل من معلوم الفساد ومشتبه الحال قاله شيخ الإسلام، وجوز أن يكون ما ليس لك علم بأنه صواب أو غير صواب وهو الذي ذهب إليه القاضي فيكون النهي واردا في مشتبه الحال ويفهم منه حال معلوم الفساد بالطريق الأولى، وأيا ما كان فهو عام يندرج تحته ما نحن فيه كما ذكرنا، وسمي النداء سؤال لتضمنه إياه وإن لم يصرح به كما لا يخفى، وبه على ما نقل عن أبي علي إما متعلق بما يدل عليه العلم المذكور وإن لم يتسلط عليه كقوله: ربيته حتى إذا تمعددا * كان جزائي بالعصا أن أجلدا
وإما أن يتعلق بالمستقر في ذلك وكذا الكلام فيما سيأتي إن شاء الله تعالى، والآية ظاهرة في أن نداءه عليه السلام لم يكن استفسارا عن سبب عدم إنجائه مع تحقق سبب الإنجاء فيما عنده كما جوزه القاضي بناءا على أنه كان بعد الفرق بل هو دعاء منه عليه السلام لانجاء ابنه حين حال الموج بينهما ولم يعلم بهلاكه بعد إما بتقريبه إلى الفلك بتلاطم الأمواج مثلا أو بتقريبها إليه، وقيل: أو بإنجائه بسبب آخر ويأباه تذكير الوعد في الدعاء فإنه مخصوص بالإنجاء في الفلك، ومجرد حيلولة الموج لا يستوجب الهلاك فضلا عن العلم به لظهور إمكان عصمة لله تعالى عليه إياه برحمته، وقد وعده بإنجاء أهله ولم يعتقد أن فيه مانعا من الانتظام في سلكهم لمكان النفاق وعدم المجاهرة بالكفر لما في ذلك لفظا من الاحتياج إلى القول بالحذف والايصال، ومعنى من أن النهي عن الاستفسار عما لا يعلم غير موافق للحكمة إذ عدم العلم بالشيء داع
إلى الاستفسار عنه لا إلى تركه.
وقيل: إن السؤال عن موجب عدم النجاة مع ما فيه من الجرأة، وشبه الاعتراض فيه أنه تعين له عليه السلام أنه من المستثنين بهلاكه فهو غير سديد كيف ونداؤه ذاك مما يقطر منه الاستعطاف.
وقيل: إن النهي إنما هو عن سؤال ما لا حاجة إليه إما لأنه لا يهم أو لأنه قامت القرائن على حاله لا عن السؤال للاسترشاد فلا ضير إذن في كلام القاضي وهو كما ترى. ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر
فالحق أن ذلك مسألة الانجاء، وكان قبل تحقق الغرق عند رؤية المشارفة عليها ولم يكن عالما بكفره إذ ذاك لأنه لم يكن مجاهرا به وإلا لم يدع له بل لم يدعه أيضا * (ولا تكن مع الكافرين) * (هود: 42) لا يدل على أنه كافر عنده بل هو نهي عن الدخول في غمارهم، وقطع بأن ذلك يوجب الغرق على الطريق البرهاني كما قدمنا، وكأنه عليه السلام حمل مقاولته على غير المكابرة والتعنت لغلبة المحبة وذهوله عن إعطاء التأمل حقه فلذلك طلب ما طلب، فعوتب بأن مثله في معرض الإرشاد والقيام بأعباء الدعوة تلك المدة المتطاولة لا ينبغي أن يشتبه عليه كلام المسترشد والمعاند، ويرجع هذا إلى ترك الأولى، وهو المراد بقوله سبحانه: * (إني أعظك أن تكون من الج‍اهلين) *.
وذكر شيخ الإسلام أن اعتزاله قصده الالتجاء إلى الجبل ليس بنص في الإصرار على الكفر لظهور جواز أن يكون ذلك لجهله بانحصار النجاة في الفلك، وزعمه أن الجبل أيضا يجري مجراه أو لكراهة الاحتباس في الفلك بل قوله: * (سآوي إلى جبل يعصمني من الماء) * (هود: 43) بعد ما قال له نوح * (ولا تكن مع الكافرين) * ربما يطمعه عليه السلام في إيمانه حيث لم يقل أكون معهم أو سنأوي أو يعصمنا فإن إفراد نفسه بنسبة الفعلين المذكورين
70

ربما يشعر بانفراده من الكافرين واعتزاله عنهم وامتثاله ببعض ما أمره به نوح عليه السلام إلا أنه عليه السلام لو تأمل في شأنه حق التأمل وتفحص عن أحواله في كل ما يأتي وما يذر لما اشتبه عليه أنه ليس بمؤمن وأنه مستثنى من أهله ولذلك قيل له: * (إني) * الخ، وهو ظاهر في أن مدار العتاب الاستباه كما ذكرنا، وإليه ذهب الزمخشري قال: إن الله تعالى قدم إليه عليه السلام الوعد بانجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم فكان عليه أن يعتقد أن في الجملة من هو مستوجب للعذاب لكونه غير صالح وأن كلهم ليسوا بناجين وأن لا تخالجه شبهة حين شارف ولده الغرق في أنه من المستثنين لا من المستثني منهم فعوتب على أن اشتبه عليه ما يجب أن لا يشتبه، وكأنه أراد أن الاستثناء دل على أن المعنى المعتبر الصلاح لا القرابة فكان ينبغي أن يجعله الأصل ويتفحص في الأهل عن وجوده، وأن يجعل كلهم سواسية في استحقاق العذاب إلا من علم صلاحه وإيمانه لا أن يجعل كونه من الأهل أصلا فيسأل إنجاءه مع الشك في إيمانه فقد قصر فيما كان عليه بعض التقصير وأولى العزم مؤاخذون بالنقير والقطمير وحسنات الأبرار سيئات المقربين، وابن المنير لم يرض كون ذلك عتابا قال: وفي كلام الزمخشري ما يدل على أنه يعتقد أن نوحا عليه السلام صدر منه ما أوجب نسبة الجهل إليه ومعاتبته على ذلك وليس الأمر كما تخيله، ثم قال: ونحن نوضح أن الحق في الآية منزلا على نصها مع تبرئة نوح عليه السلام مما توهم الزمخشري نسبته إليه فنقول: لما وعد عليه السلام بتنجية أهله إلا من سبق عليه القول منهم ولم يكن كاشفا لحال ابنه ولا مطلعا على باطن أمره بل كان معتقدا بظاهر الحال أنه مؤمن بقي على التمسك بصيغة العموم للأهلية الثابتة ولم يعارضها يقين في كفر ابنه حتى يخرج من الأهل ويدخل في المستثنين فسأل الله تعالى فيه بناءا على ذلك فبين له أنه في علمه من المستثنين وأنه هو لا علم له بذلك فلذلك سأل فيه، وهذا بأن يكون إقامة عذر أولى منه من أن يكون عتبا فإن نوحا عليه السلام لا يكلفه الله تعالى علم ما استأثر به غيبا؛ وأما قوله سبحانه: * (إني أعظك) * الخ فالمراد النهي عن وقوع السؤال في المستقبل بعد أن أعلمه سبحانه باطن أمره وأنه إن وقع في المستقبل في السؤال كان من الجاهلين، والغرض من ذلك تقديم ما يبقيه عليه السلام على سمت العصمة، والموعظة لا تستدعي وقوع ذنب بل المقصد منها أن لا يقع الذنب في الاستقبال ولذلك امتثل عليه السلام ذلك واستعاذ بالله سبحانه أن يقع منه ما نهى عنه [بم كما يدل عليه قوله سبحانه:
* (قال رب إنىأعوذ بك أن أسألك ما ليس لى به علم وإلا تغفر لى وترحمنىأكن من الخ‍اسرين) *
* (قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم) * ولا يخفي سقوطه على ما علمت وهو خلاف الظاهر جدا، وقد جاء عن الفضيل بن عياض أنه قال: بلغني أن نوحا عليه السلام بكى عن قول الله تعالى له ما قال أربعين يوما، وأخرج أحمد في الزهد عن وهيب بن الورد الحضرمي قال: لما عاتب الله تعالى نوحا في ابنه وأنزل عليه * (إني أعظك) * بكى ثلثمائة عام حتى صار تحت عينيه مثل الجدول من البكاء.
وزعم الواحدي أن السؤال قبل الغرق ومع العلم بكفره، وذلك أن نوحا عليه السلام لم يعلم أن سؤاله ربه نجاة ولده محظور عليه مع إصراره على الكفر حتى أعلمه الله تعالى ذلك، واعترض بأنه إذا كان عالما بكفره مع التصريح بأن في أهله من يستحق العذاب كان طلب النجاة منكرا من المناكير فتدبر، والظاهر على ما قررنا أن قوله: * (رب) * الخ توبة مما وقع منه عليه السلام وما هنا أيضا عبارة إما عن المسؤول أو عن السؤال أي أعوذ بك أن أطلب منك من بعد مطلوبا لا أعلم أن حصوله مقتضى الحكمة أو طلبا لا أعلم أنه صواب سواء كان معلوم الفساد أو مشتبه الحال، أولا أعلم أنه صواب أو غير صواب، ولم يقل أعوذ بك منك أو من ذلك مبالغة في التوبة
71

وإظهارا للرغبة والنشاط فيها وتبركا بذكر ما لقنه الله تعالى وهو أبلغ من أن يقول: أتوب إليك أن أسألك لما فيه من الدلالة على كون ذلك أمرا هائلا محذورا لا محيص منه إلا بالعوذ بالله تعالى وأن قدرته عليه السلام قاصرة عن النجاة من المكاره إلا بذلك كما في إرشاد العقل السليم، واحتمال أن يكون فيه رد وإنكار نظير ما في (البقرة: 67) من قول موسى عليه السلام * (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) * مما لا يكاد يمر بفكر أحد من الجاهلين.
هذا وفي مصحف ابن مسعود * (إنه عمل غير صالح) * أن تسألني، ورجح به كون ضمير * (إنه) * في القراءة المتواترة للنداء المتضمن للسؤال، وقرأ ابن كثير * (فلا تسألن) * بفتح اللام وتشديد النون مفتوحة وهي قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وكذا قرأ نافع. وابن عامر غير أنهما كسرا النون على أن أصله تسألنني فحذفت نون الوقاية لاجتماع النونات وكسرت الشديدة للياء ثم حذفت الياء اكتفاءا بالكسرة، وقرأ أبو جعفر. وشيبة. وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما كذلك إلا أنهم أثبتوا الياء بعد النون وأمره ظاهر، وقرأ الحسن. وابن أبي مليكة * (تسألني) * من غير همز من سال يسال فهما يساولان، وهي لغة سائرة، وقرأ باقي السبعة بالهمز وإسكان اللام وكسر النون وتخفيفها. وأثبت الياء في الوصل ورش. وأبو عمرو، وحذفها الباقون * (وإلا تغفر لي) * ما صدر عني من السؤال المذكور * (وترحمني) * بقبول توبتي * (أكن من الخ‍اسرين) * أعمالا بسبب ذلك وتأخير ذكر هذا عن حكاية الأمر الوارد على الأرض والسماء وما يتلوه مع أن حقه أن يذكر عقيب قوله سبحانه: * (فكان من المغرقين) * حسبما وقع في الخارج على ما علمت من أن النداء كان لطلب الإنجاء قبل العلم بالهلاك قيل: ليكون على أسلوب قصة البقرة في سورتها دلالة على استقلال هذا المعنى بالغرض لما فيه من النكت من جعل قرابة الدين غامرة لقرابة النسب وأن لا يقدم في الأمور الدينية الأصولية إلا بعد اليقين، وتعقب بالفرق بين ما هنا وما هناك عند من كان ذا قلب، وما ذكر من جعل قرابة الدين غامرة لقرابة النسب الخ لا يفوت على تقديرسوق الكلام على ترتيب الوقوع أيضا.
واختار بعض المحققين أن ذلك لأن ذكر هذا النداء كما ترى مستدع لما مر من الجواب المستدعي لذكر توبته عليه السلام المؤدي إلى ذكر قبولها في ضمن الأمر بهبوطه عليه السلام من الفلك بالسلام والبركات الفائضة عليه وعلى المؤمنين حسبما يجيء إن شاء الله تعالى، ولا ريب أن هذه المعاني آخذ بعضها بحجرة بعض بحيث لا تكاد تفرق الآيات الكريمة المنطوية عليها بعضها من بعض وأن ذلك إنما يتم بتمام القصة، وذلك إنما يكون بتمام الطوفان فلا جرم اقتضى الحال ذكر تمامها قبل هذا النداء وهو إنما يكون عند ذكر كون كنعان من المغرقين، ولهذه النكتة ازداد حسن موقع الإيجاز البليغ، وفيه فائدة أخرى هي التصريح بهلاكه من أول الأمر ولو ذكر النداء بعد * (فكان من المغرقين) * لربما توهم من أول الأمر إلى أن يرد أنه ليس من أهلك الخ أنه ينجو بدعائه فنص على هلاكه، ثم ذكر القصة على وجه أفحم مصاقع البلغاء، ثم تعرض لما وقع في تضاعيف ذلك مما جرى بين نوح عليه السلام ورب العزة جلت حكمته وعلت كلمته، ثم ذكر بعد توبته عليه السلام قبولها [بم بقوله عز وجل:
* (قيل يانوح اهبط بسل‍ام منا وبرك‍ات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم) *
* (قيل يا نوح اهبط) * الخ وهو من الحسن بمكان، وبنى الفعل لما لم يسم فاعله لظهور أن القائل هو الله تعالى، وقيل: القائل الملائكة عليهم السلام والهبوط النزول قيل: أي أنزل من الفلك، وقيل: من الجبل إلى الأرض وذلك أنه روي أن السفينة استوت على الجودى في عاشر ذي الحجة فأقام بمن معه هناك
72

شهرا، ثم قليل له: اهبط فهبط بأرض الموصل وبنى قرب الجبل قرية يقال لها: قرية الثمانين عدد من في السفينة، وفي رواية عن ابن عباس أنه بنى كل منهم بيتا فسميت سوق الثمانين.
وأخرج ابن مردويه عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: لما استقرت السفينة على الجودي لبث نوح عليه السلام ما شاء الله تعالى، ثم إنه أذن له بالهبوط فهبط على الجبل فدعا الغراب فقال: ائتني بخبر الأرض، فانحدر إلى الأرض وفيها الغرقى من قوم نوح فوقع على جيفة منهم فأبطأ عليه فلعنه، ودعا الحمامة فوقفت على كفه فقال: اهبطي فأتني بخبر الأرض فانحدرت فلم تلبث قليلا حتى جاءت تنفض ريشها بمنقارها فقالت: اهبط فقد أنبتت الأرض فقال نوح: بارك الله تعالى فيك وفي بيت يأويك وحببك إلى الناس ولولا أن يغلبك الناس على نفسك لدعوت الله سبحانه أن يجعل رأسك من الذهب، والظاهر عندي أن الهبوط من الجودي الذي استقرت عليه السفينة إلى الأرض، وليس في الكلام ما يستدعي أن يكون بعد الاستقرار بلا مهلة ليقال: إن ما تحت الجبل مغمور إذ ذاك بالماء، والتعبير بالهبوط على هذا في غاية الظهور، ولعل ذلك على أن يكون المراد من السفينة لمكان الركوب، وخبر الحمامة. والغراب قد طار في الآفاق وأولع به القصاصون، والله تعالى أعلم بصحته، وغالب الظن أنه لم يصح، وكذا اشتهر خبر قرية الثمانين في أرض الموصل وأنها لما ضاقت عليهم تحولوا إلى باب فبنوها. وأخرج ابن عساكر عن كعب الأحبار أنه قال: أول حائط وضع على وجه الأرض بعد الطوفان حائط حران ودمشق ثم بابل. وقرىء * (اهبط) * بضم الباء * (بسل‍ام) * أي ملتبسا بسلامة مما تكره كائنة * (منا) * أي من جهتنا، ويجوز أن يكون السلام بمعنى التسليم والتحية أي مسلما عليك من جهتنا * (وبرك‍ات عليك) * أي خيرات نامية في نسلك وما يقوم به معاشك ومعاشهم من أنواع الأرزاق، أو مباركا عليك أي مدعوا لك بالبركة بأن يقال: بارك الله تعالى فيك وهو مناسب لكون السلام بمعنى التسليم فيكون كقوله: السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته، وأصل البرك - كما قال الراغب - صدر البعير يقال: برك البعير إذا ألقى بركه، واعتبر فيه اللزوم ولذا سمي محتبس الماء بركة، والبركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء سمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة.
ولما كان الخير الإلهي يصدر على وجه لا يحس ولا يحصى قيل لكل ما يشاهد فيه زيادة غير محسوسة: هو مبارك وفيه بركة، ولما في ذلك من الإشعار باللزوم - وكونه غير محسوس - اختص تبارك بالاستعمال في الله تبارك وتعالى كما قيل، وفي " الكشف " كل شيء ثبت وأقام فقد برك وأخذ بروك البعير منه، ثم البرك بمعنى الصدر من الثاني لأنه آلة بروكه أظهر، وحكى عبد العزيز بن يحيى عن الكسائي أنه قرأ - وبركة - بالتوحيد، وفي الآية على القراءتين صنعة الاحتباك لأنه حذف من الثاني ما ذكر في الأول، وذكر فبه ما حذف من الأول، والتقدير سلام منا عليك وبركات، أو وبركة منا عليك، وهذا منه تعالى إعلام وبشارة بقبول توبته عليه السلام وخلاصة من الخسران مع الإشارة إلى عود الأرض إلى حالها من الإنبات وغيره * (وعلى أمم) * ناشئة * (ممن معك) * متشعبة منهم - فمن - ابتدائية، والمراد الأمم المؤمنة المتناسلة ممن معه إلى يوم القيامة، والمراد - ممن معه - أولاده من إطلاق العام وإرادة الخاص بناءا على ما قيل: إنه لم يعقب غيرهم، فالناس كلهم على
هذا من نسل نوح عليه السلام؛ ومن هنا سمي عليه السلام آدم الثاني. وآدم الأصغر، واستدل لذلك بقوله تعالى: * (وجعلنا ذريته
73

هم الباقين) * وقد يقال ببقاء - من - على عمومه بناءا على ما عليه أكثر المفسرين من عدم اختصاص النسل بأولاده عليه السلام بل لمن معه نسل باق أيضا، والكلام في استدلال الأولين سيأتي إن شاء الله تعالى، وقوله سبحانه: * (وأمم) * بالرفع - وهو على ما ذهب إليه الزمخشري - مبتدأ، وجملة قوله تعالى: * (سنمتعهم) * صفته، والخبر محذوف أي ومنهم أمم، وساغ ذلك لدلالة ما سبق عليه فإن إيراد الأمم المبارك عليهم المتشعبة منهم نكرة يدل على أن بعض من يتشعب منهم ليسوا على صفتهم، والمعنى ليس جميع من يتشعب منهم مشاركا له في السلام والبركات بل منهم أمم يمتعون في الدنيا * (ثم يمسهم) * فيها أو في الآخرة أو فيهما * (منا عذاب أليم) * وجوز أبو حيان أن يكون * (أمم) * مبتدأ محذوف الصفة وهي المسوغة للابتداء بالنكرة، والتقدير وأمم منهم، وجملة * (سنمتعهم) * هو الخبر كما قالوا: السمن منوان بدرهم، وأن يكون مبتدأ ولا يقدر له صفة والخبر أيضا * (سنمتعهم) * ومسوغ الابتداء كون المكان مكان تفصيل فكان مثل قول الشاعر: إذا ما بكى من خلفها انحرفت له * بشق وشق عندنا لم يحول
وقول القرطبي: إنه ارتفع * (أمم) * على معنى ويكون أمم إن أراد به تفسير معنى فحسن وإن أراد الإعراب فليس بجيد لأن هذا ليس من مواضع إضمار يكون، وقال الأخفش: هذا كما تقول: كلمت زيدا. وعمرو جالس يحتمل أن يكون من باب العطف، ويحتمل أن يكون الواو للحال وتكون الجملة هنا حالا مقدرة لأن وقت الأمر بالهبوط لم تكن تلك الأمم موجودة.
وقال أبو البقاء: إن * (أمم) * معطوف على الضمير في * (اهبط) * والتقدير - اهبط أنت وأمم - وكان الفصل بينهما مغنيا عن التأكيد، و * (سنمتعهم) * نعت لأمم، وفيه إن الذين كانوا مع نوح عليه السلام في السفينة كلهم مؤمنون لقوله تعالى: * (ومن آمن) * ولم يكونوا قسمين كفارا ومؤمنين ليؤمر الكفار بالهبوط معه اللهم إلا أن يلتزم أن من أولئك المؤمنين من علم الله سبحانه أنه يكفر بعد الهبوط فأخبر عنهم بالحالة التي يؤولون إليها وفيه بعد.
وجوز أن تكون - من - في * (ممن معك) * بيانية أي وعلى أمم هم الذين معك، وسموا أمما لأنهم أمم متحزبة وجماعات متفرقة أو لأن جميع الأمم إنما تشعبت منهم فهم أمم مجازا فحينئذ يكون المراد بالأمم المشار إليهم في قوله سبحانه: * (وأمم سنمتعهم) * بعض الأمم المتشعبة منهم وهي الأمم الكافرة المتناسلة منهم إلى يوم القيامة.
وفي " الكشاف " إن الوجه هو الأول قيل: ليقابل قوله تعالى: * (وأمم سنمتعهم) * ولأنه أشمل ولأن - من - الابتدائية لا سيما في المنكر أكثر وللنكتة في إدخال الناشئين في المسلم عليهم، وقطع الممتعين عنهم من الدلالة على ما صرح به في قوله سبحانه: * (إنه عمل غير صالح) * (هود: 46) ولهذه النكتة حذف منهم في الثاني، واكتفى بسلام نوح عليه السلام عن سلام مؤمني قومه لأن النبي زعيم أمته وكفاهم هذا التعظيم والاتحاد معه عليه السلام، فلا يرد أن الحمل على البيانية أرجح لئلا يلزم أن لا يكون مسلما عليهم على أن لفظ الأمم في الإطلاق على من معه بأحد الاعتبارين لا فخامة فيه لأن تسمية الجماعة القليلة بالأمة لا يناسب فكيف بالأمم، ولا مبالغة في هذا المقام فيه فلا يعدل عن الحقيقة، وإن جعل من باب * (إن إبراهيم كان أمة) * (النحل: 140) لم يلائم تفخيم نوح عليه السلام، وقد ذكر أنه يبقى على البيانية أمر الأمم المؤمنة الناشئة من الذين معه عليه السلام مبهما غير متعرض له ولا مدلول عليه إلا أن يقال: حيث كان المراد بمن معك المؤمنين يعلم أن المشاركين لهم في وصف الإيمان مثلهم
74

فيما تقدم، نعم قيل: إن في دلالة المذكور على الخبر المحذوف على ذلك الوجه خفاءا لأن - من المذكورة بيانية، والمحذوفة تبعيضية. أو ابتدائية، وربما يجاب عنه أيضا بإلزام أن لا حذف أصلا كما هو أحد الأوجه التي ذكرناها آنفا فتدبر جميع ما ذكر.
والمأثور عدم تخصيص الأمم في الموضعين بمؤمنين معينين وكافرين كذلك، فقد أخرج ابن جرير. وابن المنذر. وغيرهما عن محمد القرظي قال: دخل في ذلك السلام والبركات كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة ودخل في ذلك المتاع والعذاب الأليم كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة، وأخرج أبو الشيخ عن الحسن أنه قال في الآية ما زال الله تعالى يأخذ لنا بسهمنا وحظنا ويذكرنا من حيث لا نذكر أنفسنا كلما هلكت أمة خلقنا في أصلاب من ينجو بلطفه حتى جعلنا في خير أمة أخرجت للناس، وقيل: المراد بالأمم الممتعة قوم هود. وصالح. ولوط. وشعيب عليهم السلام، وبالعذاب ما نزل بهم، وبالغ بعضهم في عموم الأمم في الأول فجعلها شاملة لسائر الحيوانات التي كانت معه عليه السلام فإن الله تعالى جعل فيها البركة - وليس بشيء - كما لا يخفى، وههنا لطيفة وهي أنه قد تكرر في هذه الآية حرف واحد مرات مع غاية الخفة ولم تتكرر الراء مثله في قوله: وقبر حرب بمكان قفر * وليس قرب قبر حرب قبر
ومع ما ترى فيه من غاية الثقل وعسر النطق، ولله تعالى شأن التنزيل ما أكثر لطائفه.
* (تلك من أنبآء الغيب نوحيهآ إليك ما كنت تعلمهآ أنت ولا قومك من قبل ه‍اذا فاصبر إن الع‍اقبة للمتقين) *
* (تلك) * إشارة إلى قصة نوح عليه السلام وهي لتقضيها في حكم البعيد، ويحتمل أنه أشير بأداة البعد إلى بعد منزلتها، وقيل: إن الإشارة إلى آيات القرآن وليس بذاك؛ وهي في محل الرفع على الابتداء، وقوله سبحانه: * (من أنباء الغيب) * أي بعض أخباره التي لها شأن وكونها بعض ذلك باعتبار أنها على التفصيل لم تبق لطول العهد معلومة لغيره تعالى حتى إن المجوس على ما قيل: ينكرونها رأسا، وقيل: إن كونها من الغيب لغير أهل الكتاب، وقد ذكر غير واحد أن الغيب قسمان: ما لا يتعلق به علم مخلوق أصلا وهو الغيب المطلق، وما لا يتعلق به علم مخلوق معين وهو الغيب المضاف بالنسبة إلى ذلك المخلوق، وهو مراد الفقهاء في تكفير الحاكم على الغيب، وقوله سبحانه: * (نوحيها) * خبر ثان - لتلك - والضمير لها أي موحاة * (إليك) * أو هو الخبر، و * (من أنباء) * متعلق به، وفائدة تقديمه نفى
أن يكون علم ذلك بكهانة أو تعلم من الغير، والتعبير بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية، أو * (من أنباء) * هو الخبر، وهذا في موضع الحال من * (أنباء) * والمقصود من ذكر كونها موحاة إلجاء قومه صلى الله عليه وسلم للتصديق بنبوته عليه الصلاة والسلام وتحذيرهم مما نزل بالمكذبين، وقوله تعالى: * (ما كنت تعلمها أنت ولا قومك) * خبر آخر أي مجهولة عندك وعند قومك * (من قبل ه‍اذا) * أي الإيحاء إليك المعلوم مما مر، وقيل: أي الوقت، وقيل: أي العلم المكتسب بالوحي.
وفي مصحف ابن مسعود - من قبل هذا القرآن - ويحتمل أن يكون حالا من الهاء في * (نوحيها) * أو الكاف من * (إليك) * أي غير عالم أنت ولا قومك بها، وذكر القوم معه صلى الله عليه وسلم من باب الترقي كما تقول: هذا الأمر لا يعلمه زيد ولا أهل بلده لأنهم مع كثرتهم إذا لم يعلموا ذلك فكيف يعلمه واحد منهم، وقد علم أنه لم يخالط غيرهم.
* (فا اصبر) * متفرع على الإيحاء أو على العلم المستفاد منه المدلول عليه بما تقدم * (من قبل هذا) * أي وإذ قد أوحيناها إليك أو علمتها بذلك فاصبر على مشاق تبليغ الرسالة وأذية قومك كما صبر نوح عليه السلام على ما سمعته من أنواع
75

البلايا في هذه المدة المتطاولة، قيل: وهذا ناظر إلى ما سبق من قوله سبحانه: * (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك) * (هود: 12) الخ * (إن العاقبة) * بالظفر في الدنيا وبالفوز بالآخرة * (للمتقين) * كما سمعت ذلك في نوح عليه السلام وقومه، قيل: وهو تعليل للأمر بالصبر وتسلية له صلى الله عليه وسلم، والمراد بالتقوى الدرجة الأولى منها، وجوز أن يراد بها الدرجة الثالثة وهي بذلك المعنى منطوية على الصبر فكأنه قيل: فاصبر فإن العاقبة للصابرين، وقيل: الآية فذلكة لما تقدم وبيان للحكمة في إيحاء ذلك من إرشاده صلى الله عليه وسلم وتهديد قومه المكذبين له والله تعالى أعلم.
ومن باب الإشارة في الآيات: * (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك) * الخ لما كان مقتضى الطباع البشرية عدم نشاط المتكلم إذا لم يجد محلا قابلا لكلامه وضيق صدره من ذلك هيج جل شأنه نشاط نبيه صلى الله عليه وسلم بما أنزل عليه من هذه الآية الكريمة، وقال سبحانه: * (إنما أنت نذير) * ولا يخلو الإنذار عن إحدى فائدتين: رفع الحجاب عمن وفق وإلزام الحجة لمن خذل * (والله على كل شيء وكيل) * (هود: 12) فكل الهداية إليه * (من كان يريد) * بعمله الذي هو بظاهره من أعمال الآخرة * (الحياة الدنيا) * كالجاه والمدح * (نوف إليهم أعمالهم) * أي جزاءها فيها إن شئنا * (وهم فيها لا يبخسون) * (هود: 15) أي لا ينقصون شيئا منها * (أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار) * لتعذب قلوبهم بالحجب الدنيوية * (وحبط ما صنعوا فيها) * (هود: 16) من أعمال البر فلم ينتفعوا بها، وجاء " إنما الأعمال بالنيات ولكل امرىء ما نوى " الحديث * (أفمن كان على بينة من ربه) * أي يقين برهاني عقلي أو وجداني كشفي * (ويتلوه شاهد منه) * وهو القرآن المصدق لذلك، ومن هنا تؤيد الأدلة العقلية بالآيات النقلية القرآنية. ويحكم بكون الكشف صحيحا إذا شهدت له ووافقته، ولذا قالوا: كل كشف خالف ما جاء عن الله تعالى ليس بمعتبر * (ومن قبله كتاب موسى) * أي يتبع البرهان من قبل هذا الكتاب كتاب موسى عليه السلام في حالة كونه * (إماما) * يؤتم به في تحقيق المطالب * (ورحمة) * (هود: 17) لمن يهتدي به، وهذا وجه في الآية ذكره بعضهم، وقد قدمنا ما فيها من الاحتمالات؛ وقد ذكروا أن المراد بيان بعدما بين مرتبتي من يريد الحياة الدنيا ومن هو على بينة من ربه.
وللصوفية قدست أسرارهم عبارات شتى في البينة فقال رويم: هي الإشراف عن القلوب والحكم على الغيوب، وقال سيد الطائفة: هي حقيقة يؤيدها ظاهر العلم، وقيل: غير ذلك، وعن أبي بكر بن طاهر أن من كان على بينة من ربه كانت جوارحه وقفا على الطاعات والموافقات ولسانه مشغولا بالذكر ونشر الآلاء والنعماء وقلبه منورا بأنوار التوفيق وضياء التحقيق وسره وروحه مشاهدين للحق في جميع الأوقات وكان عالما بما يبدو من مكنون الغيوب ورؤيته يقين لا شك فيه وحكمه على الخلق كحكم الحق لا ينطق إلا بالحق ولا يرى إلا الحق لأنه مستغرق به فأنى يرى سواه * (ومن أظلم ممن فارتى على الله كذبا) * (هود: 19) الخ جعله بعضهم إشارة إلى المثبتين لغيره سبحانه وجودا وهم أهل الكثرة والحجاب، وفسر الإشهاد بالموحدين الذين لا يشهدون في الدار غيره سبحانه ديارا.
ومن الناس من عكس الأمر وجعلها ردا على أهل الوحدة القائلين: إن كل ما شاهدته بعينك أو تصورته بفكرك فهو الله سبحانه بمعنى كفر النصارى إيمان بالنسبة إليه وحاشا أهل الله تعالى من القول به على ما يشعر به ظاهره، ومنهم من جعلها مشيرة إلى حال من يزعم أنه ولي الله ويتزيا بزي السادات ويتكلم بكلماتهم وهو في الباطن أفسق من فرد وأجهل من حمار تومه * (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع) * قيل: * (البصير) * من عاين ما يراد به وما يجري له وعليه في جميع أوقاته * (والسميع) * من يسمع ما يخاطب به من تقريع وتأديب وحث وندب لا يغفل عن الخطاب في حال من الأحوال، وقيل: * (البصير) * الناظر إلى الأشياء بعين الحق فلا ينكر شيئا ولا يتعجب
76

من شيء * (والسميع) * من يسمع من الحق فيميز الإلهام من الوسواس، وقيل: * (البصير) * هو الذي يشهد أفعاله بعلم اليقين وصفاته بعين اليقين وذاته بحق اليقين فالغائبات له حضور والمستورات له كشف * (والسميع) * من يسمع من دواعي العلم شرعا، ثم من خواطر التعريف قدرا، ثم يكاشف بخطاب من الحق سرا، وقيل: وقيل: * (السميع) * من لا يسمع إلا كلام حبيبه، و * (البصير) * من لا يشاهد إلا أنواره فهو في ضيائها ليلا ونهارا، وإلى هذا يشير قول قائلهم:
ليلي من وجهك شمس الضحى * وإنما السدفة في الجو
الناس في الظلمة من ليلهم * ونحن من وجهك في الضو
وفسر كل من - الأعمى والأصم - بضد ما فسر به * (البصير والسميع) * والمراد من قوله سبحانه: * (هل يستويان) * (هود: 24) أنهما لا يستويان لما بينهما
من التقابل والتباعد إلى حيث لا تتراءى ناراهما، ثم إنه تعالى ذكر من قصة نوح عليه السلام مع قومه ما فيه إرشاد وتهديد وعظة ما عليها مزيد * (فقال الملأ الذين كفروا من قومه) * أي الأشراف المليؤون بأمور الدنيا الذي حجبوا بما هم فيه عن الحق * (ما نراك إلا بشرا مثلنا) * لكونهم واقفين عند حد العقل المشوب بالوهم فلا يرون لأحد طورا وراء ما بلغوا إليه ولم يشعروا بمقام النبوة ومعناها * (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي) * وصفوهم بذلك لفقرهم حيث كانوا لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا ولم يعلموا أن الشرف بالكمال لا بالمال.
* (وما نرى لكم علينا من فضل) * وتقدم يؤهلكم لما تدعونه * (بل نظنكم كاذبين) * (هود: 27) فلا نبوة لك ولا علم لهم * (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي) * يجب عليكم الإذعان بها * (وآتاني رحمة) * هداية خاصة كشفية متعالية عن درجة البرهان * (من عنده) * فوق طور عقولكم من العلوم اللدنية ومقام النبوة * (فعميت عليكم) * لاحتجابكم بالظاهر عن الباطن وبالخليقة عن الحقيقة * (أنلزمكموها) * ونجبركم عليها * (وأنتم لها كارهون) * (هود: 28) لا تلتفتون إليها كأنه عليه السلام أراد أنه لا يكون إلزام ذلك مع الكراهة لكن إن شئتم تلقيه فزكوا أنفسكم واتركوا إنكاركم حتى يظهر عليكم أثر نور الإرادة فتقبلوا ذلك، وفيه إشارة إلى أن المنكر لا يمكن له الاستفاضة من أهل الله تعالى ولا يكاد ينتفع بهم ما دام منكرا ومن لم يعتقد لم ينتفع * (ويا قوم لا أسئلكم عليه مالا) * أي ليس لي مطمح في شيء من أموالكم التي ظننتم أن الشرف بها * (إن أجري إلا على الله) * فهو يثيبني بما هو خير وأبقى * (وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم) * أي إنهم أهل الزلفى عنده تعالى وهم حمائم أبراج الملكوت وبزاة معارج الجبروت * (ولكني أراكم قوما تجهلون) * (هود: 29) تسفهون عليهم وتؤذونهم * (ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم) * كما تريدون وهم بتلك المثابة * (أفلا تذكرون) * (هود: 30) لتعرفوا التماس طردهم ضلال، وفيه إشارة إلى أن الإعراض عن فقراء المؤمنين مؤد إلى سخط رب العالمين.
قال أبو عثمان: في الآية * (ما أنا) * بمعرض عمن أقبل على الله تعالى، فإن من أقبل على الله تعالى بالحقيقة أقبل الله تعالى عليه، ومن أعرض عمن أقبل الله تعالى عليه فقد أعرض عن الله سبحانه * (ولا أقول لكم عندي خزائن الله) * الخ أي أنا لا أدعي الفضل بكثرة المال ولا بالاطلاع على الغيب ولا بالملكية حتى تنكروا فضلي بفقدان ذلك وبمنافاة البشرية لما أنا عليه * (ولا أقول للذين) * تنظرون إليهم بعين الحقارة * (لن يؤتيهم الله خيرا) * كما تقولون أنتم إذ الخير عندي ما عند الله تعالى لا المال * (الله أعلم بما في أنفسهم) * من الخير مني ومنكم وهو أعلم بقدرهم
77

وخطرهم * (إني إذا) * أي إذ نفيت * (لمن الظالمين) * (هود: 31) مثلكم * (واصنع الفلك بأعيننا) * قيل: فيه إشارة إلى عين الجمع المشار إليه بخبر " لا زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل " الحديث.
وقيل: أي كن في أعين رعايتنا وحفظنا ولا تكن في رؤية عملك والاعتماد عليه، فإن من نظر إلى غيري احتجب به عني، وقال بعضهم: أي أسقط عن نفسك تدبيرك واصنع ما أنت صانع من أفعالك على مشاهدتنا دون مشاهدة نفسك أو أحد من خلقي، وقيل: أي اصنع الفلك ولا تعتمد عليه فإنك بأعيننا رعاية وكلاءة فإن اعتمدت على الفلك وكلت إليه وسقطت من أعيننا * (ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون) * (هود: 37) فيه إشارة إلى رقة قلبه عليه السلام بعد احتمال جفوتهم وأذيتهم، وهكذا شأن الصديقين، والكلام في باقي الآية ظاهر، ولا يخفى أنه يجب الإيمان بظاهرها والتصديق بوقوع الطوفان حسبما قص الله سبحانه وإنكار ذلك كفر صريح، لكن ذكر بعض السادة أنه بعد الإيمان بذلك يمكن احتمال التأويل على أنه حظ الصوفي من الآية وذلك بأن يؤول الفلك بشريعة نوح التي نجا بها هو ومن آمن معه، والطوفان باستيلاء بحر الهيولى وإهلاك من لم يتجرد عنها بمتابعة نبي وتزكية نفس كما جاء في مخاطبات إدريس عليه السلام لنفسه ما معناه إن هذه الدنيا بحر مملوء ماءا فإن اتخذت سفينة تركبها عند خراب البدن نجوت منها إلى عالمك وإلا غرقت فيها وهلكت، وعلى هذا يقال: معنى * (ويصنع الفلك) * يتخذ شريعة من ألواح الأعمال الصالحة ودسر العلوم تنتظم بها الأعمال وتحكم * (وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه) * كما هو المشاهد في أرباب الخلاعة الممطتين غارب الهوى يسخرون من المتشرعين المتقيدين بقيود الطاعة * (قال إن تسخروا منا) * بجهلكم * (فإنا نسخر منكم) * عند ظهور وخامة عاقبتكم * (كما تسخرون * فسوف تعلمون) * عند ذلك * (من يأتيه عذاب يخزيه) * في الدنيا من حلول ما لا يلائم غرضه وشهوته * (ويحل عليه عذاب مقيم) * (هود: 39) في الآخرة من استيلاء نيران الحرمان وظهور هيئات الرذائل المظلمة * (حتى إذا جاء أمرنا) * بإهلاك أمته * (وفار النور) * باستيلاء الأخلاط الفاسدة والرطوبات الفضلية على الحرارة الغريزية وقوة طبيعة ماء الهيولى على نار الروح الحيوانية، أو * (أمرنا) * بإهلاكهم المعنوي * (وفار التنور) * باستيلاء ماء هوى الطبيعة على القلب وإغراقه في بحر الهيولى الجسماني * (قلنا احمل فيها من كل زوجين) * أي من كل صنفين من نوع اثنين هما صورتاهما النوعية والصنفية الباقيتان عند فناء الأشخاص.
ومعنى حملهما فيها علمه ببقائهما مع بقاء الأرواح الإنسية فإن علمه جزء من السفينة المتركبة من العلم والعمل فمعلوميتهما محموليتهما وعالميته بهما حامليته إياهما فيها * (وأهلك) * ومن يتصل بك في سيرتك من أقاربك * (إلا من سبق عليه القول) * أي الحكم بإهلاكه في الأزل لكفره * (ومن آمن) * (هود: 40) من أمتك * (وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها) * أي بسم الله تعالى الأعظم الذي هو وجود كل عارف كامل من أفراد نوع الإنسان إجراء أحكامها وترويجها في بحر العالم الجسماني وإثباتها وأحكامها كما ترى من إجراء كل شريعة وأحكامها بوجود الكامل ممن ينسب إليها * (إن ربي لغفور) * لهيآت نفوسكم البدنية المظلمة وذنوب ملابس الطبيعة المهلكة إياكم المغرقة في بحرها وذلك بمتابعة الشريعة * (رحيم) * (هود: 41) بإفاضة المواهب العلمية والكشفية والهيآت النورانية التي ينجيكم بها * (وهي تجري بهم في موج) * من بحر الطبيعة الجسمانية * (كالجبال) * الحاجبة للنظر المانعة من السير وهم لا يبالون بذلك محفوظون من أن يصيبهم شيء من ذلك الموج، وهذا الجريان يعرض للسالك في ابتداء أمره ولولا أنه محفوظ في لزوم سفينة الشرع لهلك.
78

ولعل في الآية على هذا تغليبا * (ونادى نوح ابنه) * المحجوب بالعقل المشوب بالوهم * (وكان في معزل) * لذلك الحجاب عن الدين والشريعة * (يا بني اركب معنا) * أي ادخل في ديننا * (ولا تكن مع الكافرين) * (هود: 42) المحجوبين الهالكين بأمواج هوى النفس المغرقين في بحر الطبع * (قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء) * أي سألتجىء إلى الدماغ وأستعصم بالعقل المشرق هناك ليحفظني من استيلاء بحر الهيولى فلا أغرق فيه * (قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم) * وهو الله الذي رحم أهل التوحيد وأفاض عليهم من شآبيب لطفه ما عرفوا به دينه الحق * (وحال بينهما الموج) * أي موج هوى النفس واستيلاء ماء بحر الطبيعة وحجب عن الحق * (فكان من المغرقين) * (هود: 43) في بحر الهيولى الجسمانية، وقيل: من جهة الحق على لسان الشرع لأرض الطبيعة * (يا أرض ابلعي ماءك) * وقفي على حد الاعتدال، ولسماء العقل المحجوبة بالعادة والحس المشوبة بالوهم المغيمة بغيم الهوى * (يا سماء اقلعي) * عن إمداد الأرض * (وغيض الماء) * أي ماء قوة الطبيعة الجسمانية ومدد الرطوبة الحاجبة لنور الحق المانعة للحياة الحقيقية * (وقضى الأمر) * بإنجاء من نجا وإهلاك من هلك * (واستوت) * أي سفينة شريعته * (على الجوادي) * وهو جبل وجود نوح * (وقيل بعدا للقوم الظالمين) * (هود: 44) الذين عبدوا الهوى دون الحق ووضعوا الطبيعة مكان الشريعة * (ونادى نوح ربه) * (هود: 45) الخ الكلام على هذا الطرز فيه ظاهر * (قيل يا نوح ابهط) * من محل الجمع وذروة مقام الولاية والاستغراق في التوحيد إلى مقام التفصيل وتشريع النبوة بالرجوع إلى الخلق ومشاهدة الكثرة في عين الوحدة غير معطل للمراتب * (بسلام منا) * أي سلامة عن الاحتجاب بالكثرة * (وبركات) * من تقنين قوانين الشرع * (عليك وعلى أمم) * ناشئة * (ممن معك) * على دينك إلى آخر الزمان * (وأمم) * أي وينشأ ممن معك أمم * (سنمتعهم) * في الدنيا * (ثم يمسهم منا) * في العقبى * (عذاب أليم) * (هود: 48) بإحراقهم بنار الآثار وتعذيبهم بالهيآت المظلمة.
هذا ثم ذكر أنه إذا شئت التطبيق على ما في الأنفس أولت نوحا بروحك. والفلك بكمالك العلمي والعملي الذي به نجاتك عند طوفان بحر الهيولى. والتنور بتنور البدن. وفورانه استيلاء الرطوبة الغريبة والأخلاط الفاسدة، وما أشار إليه * (من كل زوجين اثنين) * (هود: 40) بجيوش القوى الحيوانية والطبيعية وطيور القوى الروحانية، وأولت ما جاء في القصة من البنين الثلاثة. والزوجة بحام القلب. وسام العقل النظري. ويافث العقل العملي. وزوجة النفس المطمئنة. والابن الآخر الوهم. والزوجة الأخرى الطبيعة الجسمانية التي يتولد منها الوهم. والجبل بالدماغ. واستواءها على الجودي وهبوطه بمثل نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان انتهى، ومن نظر بعين الإنصاف لم يعول إلا على ظاهر القصة وكان له به غنى عن هذا التأويل، واكتفى بما أشار إليه من أن النسب إذا لم يحط بالصلاح كان غريقا في بحر العدم. فما ينفع الأصل من هاشم * إذا كانت النفس من باهله
ومن أنه ينبغي للإنسان التحري بالدعاء وأن لا تشغله الشفقة عن ذلك إلى غير ما ذكر، والآية نص في كفر قوم نوح عليه السلام الذين أغرقهم الله تعالى، وفي نصوص الحكم للشيخ الأكبر قدس سره ما هو نص في إيمانهم ونجاتهم من العذاب يوم القيامة وذلك أمر لا نفهمه من كتاب ولا سنة * (وفوق كل ذي علم عليم) * والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
* (وإلى عاد أخ‍اهم هودا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إل‍اه غيره إن أنتم إلا مفترون) *
* (وإلى عاد) * متعلق بمحذوف معطوف على قوله سبحانه: * (أرسلنا) * في قصة نوح وهو الناصب لقوله تعالى: * (أخاهم) * أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم أي واحدا منهم في النسب كقولهم:
79

يا أخا العرب، وقدم المجرور ليعود الضمير عليه، وقيل: إن * (إلى عاد أخاهم) * عطف على قوله تعالى: * (نوحا إلى قومه) * المنصوب على المنصوب. والجار والمجرور على الجار والمجرور، وهو من العطف على معمولي عامل واحد وليس من المسألة المختلف فيها، نعم الأول أقرب - كما في " البحر " - لطول الفصل بالجمل الكثيرة بين المفردات المتعاطفة، وقوله سبحانه: * (هودا) * عطف بيان - لأخاهم - وجوز أن يكون بدلا منه وكان عليه السلام ابن عم أبي عاد وأرسل إليه من هو منهم ليكون ذلك أدعى إلى اتباعه * (قال) * استئناف بياني حيث كان إرساله عليه السلام مظنة للسؤال عما قال لهم ودعاهم كأنه قيل: فما قال لهم حين أرسل إليهم؟ فقيل: قال: * (يا قوم) * ناداهم بذلك استعطافا لهم، وقرأ ابن محيصن * (يا قوم) * بالضم وهي لغة في المنادى المضاف إلى الياء حكاها سيبويه. وغيره * (اعبدوا الله) * أي وحده وكانوا مشركين يعبدون الأصنام؛ ويدل على أن المراد ذلك قوله تعالى: * (ما لكم من إل‍اه غيره) * فإنه استئناف يجري مجرى البيان للعبادة المأمور بها، والتعليل للأمر بها كأنه قيل: أفردوه بالعبادة ولا تشركوا به شيئا إذ ليس لكم إله غيره سبحانه على أنه لا اعتداد بالعبادة مع الإشراك، فالأمر بها يستلزم الأمر بإفراده سبحانه بها و * (غيره) * بالرفع صفة - لإله - باعتبار محله لأنه فاعل للظرف لاعتماده على النفي، وقرأ الكسائي بالجر على أنه صفة له جار على لفظه * (إن أنتم) * ما أنتم بجعلكم الألوهية لغيره تعالى كما قال الحسن - أو بقولكم: إن الله تعالى أمرنا بعبادة الأصنام * (إلا مفترون) * عليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
* (ياقوم لاأسألكم عليه أجرا إن أجرى إلا على الذى فطرنىأفلا تعقلون) *
* (يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني) * خاطب به كل رسول قومه إزاحة لما عسى أن يتوهموه وتمحيضا للنصيحة فإنها ما دامت مشوبة بالمطامع بمعزل عن التأثير؛ وإيراد الموصول للتفخيم، وجعل الصلة فعل الفطر الذي هو الإيجاد والإبداع لكونه أبعد من أن يتوهم نسبته إلى شركائهم * (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله) * (لقمان: 25) مع كونه أقدم النعم الفائضة من جناب الله تعالى المستوجبة للشكر الذي لا يتأتى إلا بالجريان على موجب أمره سبحانه الغالب معرضا عن المطالب الدنيوية التي من جملتها الأجر، ولعل فيه إشارة إلى أنه عليه السلام غني عن أجرهم الذي إنما يرغب فيه للاستعانة به على تدبير
الحال وقوام العيش بالله تعالى الذي أوجده بعد أن لم يكن وتكفل له بالرزق كما تكفل لسائر من أوجده من الحيوانات * (أفلا تعقلون) * أي أتغفلون عن ذلك فلا تعقلون نصيحة من لا يطلب عليها أجرا إلا من الله تعالى ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك فتنقادون لما يدعوكم إليه؛ أو تجهلون كل شيء فلا تعقلون شيئا أصلا فإن الأمر مما لا ينبغي أن يخفى على أحد من العقلاء.
* (وياقوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السمآء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين) *
* (ويا قوم استغفروا ربكم) * من الشرك * (ثم توبوا إليه) * أي ارجعوا إليه تعالى بالطاعة أو توبوا إليه سبحانه وأخلصوا التوبة واستقيموا عليها، وقيل: الاستغفار كناية عن الإيمان لأنه من روادفه، وحيث أن الإيمان بالله سبحانه لا يستدعي الكفر بغيره لغة قيل: * (ثم توبوا) * فكأنه قيل: آمنوا به ثم توبوا إليه تعالى من عبادة غيره، وتعقب بأن قوله سبحانه: * (اعبدوا الله) * دل على اختصاصه تعالى بالعبادة فلو حمل * (استغفروا) * على ما ذكر لم يفد فائدة زائدة سوى ما علق عليه، وقد كان يمكن تعليقه بالأول، والحمل على غير الظاهر مع قلة الفائدة مما يجب الاحتراز عنه في كلام الله تعالى المعجز، وقيل: المراد بالاستغفار التوبة عن الشرك وبالتوبة التوبة عما صدر منهم
80

غير الشرك، وأورد عليه أيضا أن الإيمان يحب ما قبله، وقيل: المراد بالأول طلب المغفرة بالإيمان. وبالثاني التوسل إليه سبحانه بالتوبة عن الشرك، وأورد عليه أن التوسل المذكور لا ينفك عن طلب المغفرة بالإيمان لأنه من لوازمه فلا يكون بعده كما تؤذن به * (ثم) * - وقيل: وقيل - وقد تقدم بعض الكلام في ذلك أول السورة.
* (يرسل السماء) * أي المطر كما في قوله: إذا (نزل السماء) بأرض قوم * رعيناه وإن كانوا غضابا
* (عليكم مدرارا) * كثير الدر متتابعة من غير إضرار فمفعال للمبالغة كمعطار. ومقدام.
* (ويزدكم قوة إلى قوتكم) * أي عزا مضموما إلى عزكم أو مع عزكم ويرجع هذا إلى قوله تعالى: * (ويمددكم بأموال وبنين) * (نوح: 12) لأن العز الدنيوي بذلك، وعن الضحاك تفسير - القوة - بالخصب، وعن عكرمة تفسيرها بولد الولد، وقيل: المراد بها قوة الجسم، ورغبهم عليه السلام بكثرة المطر وزيادة القوة لأنهم كانوا أصحاب زروع وبساتين وعمارات، وقيل: حبس الله تعالى عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم ثلاث سنين فوعدهم هود عليه السلام على الاستغفار والتوبة كثرة الأمطار وتضاعف القوة بالتناسل، وقيل: القوة الأولى في الإيمان. والثانية في الأبدان أي يزدكم قوة في إيمانكم إلى قوة في أبدانكم * (ولا تتولوا) * أي لا تعرضوا عما دعوتكم إليه * (مجرمين) * مصرين على ما أنتم عليه من الإجرام، وقيل: مجرمين بالتولي وهو تكلف.
* (قالوا ياهود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركىءالهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين) *
* (قالوا يا هود ما جئتنا ببينة) * أي بحجة واضحة تدل على صحة دعواك، وإنما قالوه لفرط عنادهم أو لشدة عماهم عن الحق وعدم نظرهم في الآيات فاعتقدوا أن ما هو آية ليس بآية وإلا فهو وغيره من الأنبياء عليهم السلام جاؤوا بالبينات الظاهرة والمعجزات الباهرة وإن لم يعين لنا بعضها، ففي الخبر " ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر " * (وما نحن بتاركي ءالهتنا) * أي بتاركي عبادتها * (عن قولك) * أي بسبب قولك المجرد عن البينة - فعن - للتعليل كما قيل في قوله تعالى: * (إلا عن موعدة وعدها إياه) * وإلى هذا يشير كلام ابن عطية. وغيره، فالجار والمجرور متعلق * (بتاركي) *.
وذهب بعض المحققين إلى أنه متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المستتر فيه أي صادرين وهو من الصدر مقابل الورد بمعنى الرجوع عن الماء، وقد شاع في كلامهم استعمال الصدر والورد كناية عن العمل والتصرف، ومنه قوله: ما أمس الزمان حاجا إلى من * يتولى الإيراد والإصدارا
أي يتصرف في الأمور بصائب رأيه، وقد يكتفي بالصدر في ذلك لاستلزامه للورد فيقولون: لا يصدر إلا عن رأيه، والمعنى هنا حينئذ ما نحن * (بتاركي آلهتنا) * عاملين بقولك، والنفي فيه راجع إلى القيد والمقيد جميعا لأنهم لا يتركون آلهتهم ولا يعملون بقوله عليه السلام، وقيل: إن صادرين بمعنى معرضين وهو قيد للنفي، والمعنى انتفى تركنا عبادة آلهتنا معرضين * (عن قولك) * ويكون هذا جوابا لقوله: * (لا تتولوا) * وجعل بعضهم إرادة ذلك من باب التضمين لا من باب تقدير المتعلق بقرينة * (عن) * وجعله كناية كما علمت، وكلام الزمخشري ظاهر في هذا كما يكشف عنه كلام الكشف * (وما نحن لك بمؤمنين) * أي بمصدقين فيما جئت به أو في كل ما تأتي وتذر، ويندرج فيه ذلك، وقد بالغوا في الإباء عن الإجابة فأنكروا الدليل على نبوته عليه السلام،
81

ثم قالوا مؤكدين لذلك * (وما نحن بتاركي) * الخ، ثم كرروا ما دل عليه الكلام السابق من عدم إيمانهم بالجملة الاسمية مع زيادة الباء، وتقديم المسند إليه المفيد للتقوى دلالة على أنهم لا يرجى منهم ذلك بوجه من الوجوه، وفي ذلك من الدلالة على الإقناط ما فيه.
* (إن نقول إلا اعتراك بعض ءالهتنا بسوء قال إنىأشهد الله واشهدوا أنى برىء مما تشركون) *
* (إن نقول إلا اعترياك) * أي أصابك من عراه يعروه، وأصله من اعتراه بمعنى قصد عراه أي محله وناحيته * (بعض ءالهتنا بسوء) * أرادوا به - قاتلهم الله تعالى - الجنون، والباء للتعدية والتنكير فيه قيل: للتقليل كأنهم لم يبالغوا في العتو كما ينبىء عنه نسبة ذلك إلى بعض آلهتهم دون كلها، وقيل: للتكثير إشارة إلى أن ما قاله لا يصدر إلا عمن أصيب بكثير سوء مبالغة في خروجه عن قانون العقل، وذكر البعض تعظيما لأمر آلهتهم وأن البعض منها له من التأثير ما له، والجملة مقول القول وإلا لغو لأن الاستثناء مفرغ، وأصله أن نقول قولا إلا قولنا هذا فحذف المستثنى منه وحذف القول المستثنى وأقيم مقوله مقامه، أو * (اعتراك) * هو المستثنى لأنه أريد به لفظه فلا حاجة إلى تقدير قول بعد * (إلا) * وليس مما استثنى فيه الجملة، ومعنى هذا أنه أفسد عقلك بعض آلهتنا لسبك إياها وصدك عن عبادتها وحطك لها عن رتبة الألوهية بما مر من قولك: * (ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون) * (هود: 50) وغرضهم من هذا على ما قيل: بيان سبب ما صدر عن هود
عليه السلام بعد ما ذكروا من عدم التفاتهم لقوله عليه السلام، وقيل: هو مقرر لما مر من قولهم: * (وما نحن بتاركي) * الخ * (وما نحن لك) * الخ فإن اعتقادهم بكونه عليه السلام كما قالوا - وحاشاه عن ذلك - يوجب عدم الاعتداد بقوله، وعده من قبيل الخرافات فضلا عن التصديق والعمل بمقتضاه يعنون أنا لا نعتقد كلامك إلا ما لا يحتمل الصدق من الهذيانات الصادرة عن المجانين فكيف نؤمن به ونعمل بموجبه؟! ولقد سلكوا طريق المخالفة والعناد إلى سبيل الترقي من السيء إلى الأسوأ حيث أخبروا أولا عن عدم مجيئه بالبينة مع احتمال كون ما جاء به حجة في نفسه وإن لم تكن واضحة الدلالة على المراد. وثانيا عن ترك الامتثال لقوله عليه السلام: بقولهم: * (وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك) * مع إمكان تحقق ذلك بتصديقهم له في كلامه. ثم نفوا عنه تصديقهم له عليه السلام بقولهم: * (وما نحن لك بمؤمنين) * مع كونه كلامه عليه السلام مما يقبل التصديق، ثم نفوا عنه تلك المرتبة أيضا حيث قالوا ما قالوا قاتلهم الله أنى يؤفكون انتهى.
وللبحث فيه مجال، ولعل الإتيان بهذه الجملة غير مقترنة بالعاطف كالجملتين الأوليين يؤيد كونها ليست مسوقة للتأكيد مثلهما، نعم تضمنها لتقرير ما تقدم مما لا يكاد ينكر فتدبر.
* (قال إني أشهد الله واشهدوا أني برىء مما تشركون) *.
* (من دونه فكيدونى جميعا ثم لا تنظرون) *
* (من دونه) * أي مما أنتم تجعلونه شريكا وهو سبحانه لم يجعله شريكا ولم ينزل به سلطانا - فما موصولة، و * (من دونه) * متعلق - بتشركون - لا حال من فاعله أي تشركون مجاوزين الله تعالى في هذا الحكم إذ لا فائدة في التقييد به، وجوز أن تكون مصدرية أيضا أي من إشراككم، وقد جوز كلا الاحتمالين الزمشري فقال: أي من إشراككم آلهة من دونه أو مما تشركونه آلهة من دونه وأمر تعلق الجار فيهما واح، وتقدير آلهة لإيضاح المعنى والإشارة إلى أن المفعول مراد لسوق الكلام ولا يصلح أن يكون الظرف صفة له على الوجهين لأن بيانه حاصلهما بنحو ما ذكرناه في بيان حاصل الأول إنما يستقيم إذا تعلق بالفعل المذكور وليس المعنى على آلهة غير الله على ذلك التفسير، وللطيبي ما يخالف ذلك وليس بذاك، * (وأني برىء) * متنازع فيه للفعلين قبله وقد يتنازع المختلفان في التعدي الاسم الذي يكون صالحا لأن يعملا فيه تقول: أعطيت ووهبت لعمرو درهما كما يتنازع اللازم والمتعدي نحو قام وضربت زيدا.
82

وقد أجاب عليه السلام بهذا عن مقالتهم الشنعاء المبنية على اعتقاد كون آلهتهم تضر وتنفع، ولما كان ما وقع أولا منه عليه السلام في حقها من كونها بمعزل عن الألوهية إنما وقع إنما وقع في ضمن الأمر بعبادة الله تعالى واختصاصه بها وقد شق ذلك عليهم وعدوه مما يورث شينا حتى زعموا ما زعموا صرح عليه السلام بالحق وصدع به حيث أخبر ببراءته القديمة عنها بالجملة الاسمية المصدرة - بأن - وأكد ذلك - بأشهد الله - فإنه كالقسم في إفادة التأكيد وأمرهم بأن يسمعوا ذلك ويشهدوا به، والمقصود منه الاستهانة والاستهزاء كما يقول الرجل لخصمه إذا لم يبال به: أشهد على أني قائل لك كذا، وكأنه غاير بين الشهادتين لذلك، وعطف الإنشاء على الأخبار جائز عند بعض، ومن لم يجوزه قدر قولا أي وأقول * (اشهدوا) * ويحتمل أن يكون إشهاد الله تعالى إنشاء أيضا وإن كان في صورة الخبر، وحينئذ لا قيل ولا قال، وجوز أن يكون إشهاده عليه السلام لهم حقيقة إقامة للحجة عليهم.
وعدل عن الخبر فيه تمييزا بين الخطابين فهو خبر في المعنى كما هو المشهور في الأول لكن الأولى الحمل على المجاز، ثم أمرهم بالاجتماع والاحتشاد مع آلهتهم جميعا دون بعض منها حسبما يشعر به قولهم * (بعض آلهتنا) * والتعاون في إيصال الكيد إليه عليه السلام، ونهاهم عن الإنظار والإمهال في ذلك فقال:
* (فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون) * أي إن صح ما لو حتم به من كون آلهتكم مما يقدرون على إضرار من ينال منها ويصد عن عبادتها ولو بطريق ضمني فإني برىء منها فكونوا أنتم معها جميعا وباشروا كيدي ثم لا تمهلوني ولا تسامحوني في ذلك، فالفاء لتفريع الأمر على زعمهم من قدرة آلهتهم على ما قالوا وعلى البراءة كليهما، والخطاب للقوم وآلهتهم، ويفهم من كلام بعض أنه للقوم فقط، وفيه نفي قدرة آلهتهم على ضره بطريق برهاني فإن الأقوياء الأشداء إذا لم يقدروا مع اجتماعهم واحتشادهم على الضر كان عدم قدرة الجمادات عليه معلوما من باب أولى، وأيا ما كان فذاك من أعظم المعجزات بناءا على ما قيل: إنه كان عليه السلام مفردا بين جمع عتاة جبابرة عطاش إلى إراقة دمه يرمونه عن قوس واحدة، وقد خاطبهم بما خاطبهم وحقرهم وآلهتهم وهيجهم على ما هيجهم فلم يقدروا على مباشرة شيء مما كلفوه، وظهر عجزهم عن ذلك ظهورا بينا، وفي ذلك دلالة على مزيد ثقته بالله سبحانه وكمال عنايته به وعصمته له، وقد قرر ذلك بإظهار التوكل على من كفاه ضرهم في قوله:
* (إنى توكلت على الله ربى وربكم ما من دآبة إلا هو ءاخذ بناصيتهآ إن ربى على صراط مستقيم) *
* (إني توكلت على الله ربي وربكم) * وفيه تعليل لنفي ضرهم بطريق برهاني يعني أنكم وإن لم تبقوا في القوس منزعا وبذلتم في مضادتي مجهودكم لا تقدرون على شيء مما تريدون بي فإني متوكل على الله تعالى واثق بكلاءته وهو مالكي ومالككم لا يصدر عنكم شيء ولا يصيبني أمر إلا بإرادته، وجىء بلفظ الماضي لأنه أدل على الإنشاء المناسب للمقام، ثم إنه عليه السلام برهن على عدم قدرتهم على ضره مع توكله عليه سبحانه بقوله: * (ما من دابة إلا هو ءاخذ بناصيتها) * أي إلا هو مالك لها قادر عليها يصرفها كيف يشاء غير مستعصية عليه سبحانه، والناصية مقدم الرأس وتطلق على الشعر النابت عليها، واستعمال الأخذ بالناصية في القدرة والتسلط مجاز أو كناية، وفي " البحر " أنه صار عرفا في القدرة على الحيوان، وكانت العرب تجز الأسير الممنون عليه علامة على أنه قد قدر عليه وقبض على ناصيته، وقوله: * (إن ربي على صراط مستقيم) * مندرج في البرهان وهو تمثيل واستعارة لأنه تعالى مطلع على أمور العباد مجاز لهم بالثواب والعقاب كاف لمن اعتصم به كمن وقف على الجادة فحفظها ودفع ضرر السابلة بها، وهو كقوله سبحانه: * (إن ربك لبالمرصاد) * (الفجر: 14)، وقيل: معناه إن مصيركم
83

إليه تعالى للجزاء وفصل القضاء، ولعل الأول أولى، وفي " الكشف " إن في قوله: * (إني توكلت) * الآية من اللطائف ما يبهرك تأمله من حسن التعليل، وما يعطيه
أن من توكل عليه لم يبال بهول ما ناله ثم التدرج إلى تعكيس التخويف بقوله: * (ربي وربكم) * فكيف يصاف من لزم سدة العبودية وينجو من تولى مع ما يعطيه من وجوب التوكل عليه سبحانه إذا كان كذلك وترشيخه بقوله: * (ما من دابة) * إلى تمام التمثيل فإنه في الاقتدار على المعرض أظهر منه في الرأفة على المقبل خلاف الصفة الأولى، وما فيه من تصوير ربوبيته واقتداره تعالى وتصوير ذل المعبودين بين يدي قهره أيا ما كان، والختم بما يفيد الغرضين على القطع كفاية من إياه تولى وخزاية من أعرض عن ذكره وتولى بناءا على أن معناه أنه سبحانه على الحق والعدل لا يضيع عنده معتصم ولا يفوته ظالم، وفي قوله: * (ربي) * من غير إعادة * (وربكم) * كما في الأول نكتة سرية بعد اختصار المعنى عن الحشو فيه ما يدل على زيادة اختصاصه به وأنه رب الكل استحقاقا وربه دونهم تشريفا وإرفاقا.
* (فإن تولوا فقد أبلغتكم مآ أرسلت به إليكم ويستخلف ربى قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربى على كل شىء حفيظ) *
* (فإن تولوا) * أي تتولوا فهو مضارع حذف منه إحدى التاءين وحمل على ذلك لاقتضاء أبلغتكم له، وجوز ابن عطية كونه ماضيا، وفي الكلام التفات ولا يظهر حسنه ولذا قدر غيره ممن جعله كذلك فقل أبلغتكم لكنه لا حاجة إليه، ويؤيد ذلك قراءة الأعرج. وعيسى الثقفي * (تولوا) * بضم التاء واللام مضارع ولى، والمراد فإن تستمروا على ما كنتم عليه من التولي والإعراض لوقوع ذلك منهم فلا يصلح للشرط، وجوز أن يبقى على ظاهره بحمله على التولي الواقع بعدما حجهم، والظاهر أن الضمير لقوم هود والخطاب معهم، وهو من تمام الجمل المقولة قبل، وقال التبريزي: إن الضمير لكفار قريش وهو من تلوين الخطاب، وقد انتقل من الكلام الأول إلى الإخبار عمن بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكأنه قيل: أخبرهم عن قصة قوم هود وادعهم إلى الإيمان بالله تعالى لئلا يصيبهم كما أصاب قوم هود عليه السلام * (فإن تولوا) * فقل لهم - قد أبلغتكم - الخ وهو من البعد بمكان كما لا يخفى، وقوله سبحانه: * (فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم) * دليل جواب الشرط أي إن تتولوا لم أعاتب على تفريط في الإبلاغ فإن ما أرسلت به إليكم قد بلغكم فأبيتم إلا تكذيب الرسالة وعداوة الرسول، وقيل: التقدير إن تتولوا فما علي كبيرهم منكم فإنه قد برئت ساحتي بالتبليغ وأنتم أصحاب الذنب في الإعراض عن الإيمان، وقيل: إنه الجزاء باعتبار لازم معناه المستقبل باعتبار ظهوره أي فلا تفريط مني ولا عذر لكم، وقيل: إنه جزاء باعتبار الإخبار لأنه كما يقصد ترتب المعنى يقصد ترتب الإخبار كما في * (وما بكم من نعمة فمن الله) * (النحل: 53) على ما مر وكل ذلك لما أن الإبلاغ واقع قبل توليهم، والجزاء يكون مستقبلا بالنظر إلى زمان الشرط.
وزعم أبو حيان أن صحة وقوعه جوابا لأن في إبلاغه إليهم رسالته تضمن ما يحل بهم من العذاب المستأصل فكأنه قيل: فإن تتولوا استؤصلتم بالعذاب، ويدل على ذلك الجملة الخبرية، وهي قوله سبحانه:
* (ويستخلف ربي قوما غيركم) * وفيه منع ظاهر، وهذا كما قال غير واحد: استئناف بالوعيد لهم بأن الله تعالى يهلكهم ويستخلف قوما آخرين في ديارهم وأموالهم وهو استئناف نحوي عند بعض بناءا على جواز تصديره بالواو.
وقال الطيبي: المراد به أن الجملة ليست بداخلة في الجملة الشرطية جزاءا بل تكون جملة برأسها معطوفة على الجملة الشرطية وهو خلاف الظاهر من العبارة، وعليه تكون مرتبة على قوله سبحانه: * (إن ربي على صراط مستقيم) * والمعنى أنه على العدل ينتقم منكم ويهلككم، وقال الجلبي: لا مانع عندي من حمله على الاستئناف
84

البياني جوابا عما يترتب على التولي وهو الظاهر كأنه قيل: ما يفعل بهم إذا تولوا؟ فقيل: * (يستخلف) * الخ.
وتعقبه بعضهم بأن الاستئناف البياني لا يقترن بالواو، وجوز أن يكون عطفا على الجواب لكن على ما بعد الفاء لأنه الجواب في الحقيقة، والفاء رابطة له ودخول الفاء على المضارع هنا لأنه تابع يتسامح فيه.
وقيل: تقديره فقل: * (يستخلف) * الخ، وقرأ حفص برواية هبيرة و * (يستخلف) * بالجزم وهو عطف على موضع الجملة الجزائية مع الفاء كأنه قيل: * (فإن تولوا) * يعذرني ويهلككم * (ويستخلف) * مكانكم آخرين.
وجوز أبو البقاء كون ذلك تسكينا لتوالي الحركات، وقرأ عبد الله كذلك، ويجزم قوله سبحانه: * (ولا تضرونه شيئا) *، وقيل: إن من جزم الأول جزم هذا لعطفه عليه وهو الظاهر، والمعنى لا تضرونه بهلاككم شيئا أي لا ينتقص ملكه ولا يختل أمره، ويؤيد هذا ما روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قرأ ولا تنقصونه شيئا، ونصب * (شيئا) * على أنه مفعول مطلق لتضرون أي شيئا من الضرر لأنه لا يتعدى لاثنين، وجعله بعضهم مفعولا ثانيا مفسرا له بما يتعدى لهما لمكان الرواية، وجوز ابن عطية أن يكون المعنى إنكم لا تقدرون إذا أهلككم على إضراره بشيء ولا على الانتصار منه ولا تقابلون فعله بشيء يضره تعالى عن ذلك علوا كبيرا، والأول أظهر، وقدر بعضهم التولي بدل الإهلاك أي ولا تضرونه بتوليكم شيئا من الضرر لاستحالة ذلك عليه سبحانه: * (إن ربي على كل شيء حفيظ) * أي رقيب محيط بالأشياء علما فلا يخفى عليه أعمالكم ولا يغفل عن مؤاخذتكم. فالحفظ كناية عن المجازاة، ويجوز أن يكون الحفيظ بمعنى الحافظ بمعنى الحاكم المستولي أي أنهس بحانه حافظ مستول على كل شيء، ومن شأه ذلك كيف يضره شيء.
* (ولما جآء أمرنا نجينا هودا والذين ءامنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ) *
* (ولما جاء أمرنا) * أي نزل عذابنا على أن الأمر واحد الأمور، قيل: أو المأمور به، وفي التعبير عنه بذلك مضافا إلى ضمير جل جلاله، وعن نزوله بالمجىء ما لا يخفى من التفخيم والتهويل.
وجوز أن يكون واحد الأوامر أي وورد أمرنا بالعذاب، والكلام على الحقيقة إن أريد أمر الملائكة عليهم السلام، ويجوز أن يكون ذلك مجازا عن الوقوع على سبيل التمثيل * (نجينا هودا والذين ءامنوا معه) * قيل: كانوا أربعة آلاف، وقيل: ثلاثة آلاف، ولعل الانتصار للأنبياء عليهم السلام لم يكن مأذونا به للمؤمنين إذ ذاك فلا
ينافي ما تقدم نقله من أنه عليه السلام كان وحده، ولذا عد مواجهته للجم الغفير معجزة له صلى الله عليه وسلم لكن لا بد لهذا من دليل كدعوى انفراده عنهم حين المقاولة؛ وفي " الحواشي الشهابية " أنه لا مانع من ذلك باعتبار حالين وزمانين فتأمل، والظاهر أن ما كان من المقاولة إنما هو في ابتداء الدعوة ومجىء الأمر كان بعد بكثير وإيمان من آمن كان في البين فترتفع المنافاة * (برحمة) * عظيمة كائنة * (منا) * وهي الإيمان الذي أنعمنا به عليهم.
وروي هذا عن ابن عباس. والحسن، وذكره الزمخشري - ولشم بعضهم منه رائحة الاعتزال - لم يلتفت إليه ولا بأس بأن تحمل الرحمة عن الفضل فيفيد أن ذلك بمحض فضل الله تعالى إذ له سبحانه تعذيب المطيع كما أن له جل وعلا إثابة العاصي، والجار والمجرور الأول متعلق - بنجينا - وهو الظاهر الذي عليه كثير من المفسرين.
وجوز أبو حيان كونه متعلقا - بآمنوا - أي إن إيمانهم بالله تعالى ورسوله عليه السلام برحمة من الله تعالى إذ وفقهم إليه، ولعل ترتيب الإنجاء على النزول باعتبار ما تضمنه من تعذيب الكفار فيكون قد صرح
85

بالإنجاء اهتماما، ورتب باعتبار الآخر إشارة إلى أنه مقصود منه، ويجوز أن تكون - لما لمجرد الحين - * (ونجيناهم من عذاب غليظ) * تكرير لأجل بيان ما نجاهم عنه وهي الريح التي كانت تحمل الظعينة وتهدم المساكن وتدخل في أنوف أعداء الله تعالى وتخرج من أدبارهم فتقطعهم إربا إربا، أو المراد بهذا الإنجاء من عذاب الآخرة وبالأول الإنجاء من عذاب الدنيا، ورجح الأول بأنه أوفق لمقتضى المقام، وحاصله أن الأول إخبار بأن الإيمان الذي وفقوا له صار سبب إنجائهم. والثاني بأن ذلك الإنجاء كان من عذاب أي عذاب دلالة على كمال الامتنان وتحريضا على الإيمان وليس من أسلوب - أعجبني زيد وكرمه - في شيء كما ظنه العلامة الطيبي.
وقد أورد على الثاني إن إنجاءهم من عذاب الآخرة ليس في وقت نزول العذاب في الدنيا ولا مسببا عنه إلا أن يجاب بأنه عطف على القيد والمقيد كما قيل في قوله سبحانه: * (لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون) * قيل: ولا يخفى ما فيه من التكلف من غير داع لأن الموافق للتعبير بالماضي المفيد لتحققه حتى كأنه وقع أن يجعل باعتبار ذلك واقعا في وقت النزول تجوزا أو المعنى حكما بذلك وتبين ما يكون لهم لأن الدنيا أنموذج الآخرة وأيا ما كان فالمراد بغلظ العذاب تضاعفه، وقد يقال على الاحتمال الأول في وصف العذاب الذي كان بالريح: بالغلظ الذي هو ضد الرقة التي هي صفة الريح ما لا يخفى من اللطف، وفيه أيضا مناسبة لحالهم فإنهم كانوا غلاظا شدادا.
* (* وتلك عاد جحدوا بآي‍ات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد) *
* (وتلك عاد) * أنث اسم الإشارة باعتبار القبيلة على ما قيل، فالإشارة إلى ما في الذهن وصيغة البعيد لتحقيرهم أو لتنزيلهم منزلة البعيد لعدمهم، أو الإشارة إلى قبورهم ومصارعهم، وحينئذ الإشارة للبعيد المحسوس والإسناد مجازي أو هو من مجاز الحذف أي تلك قبور عاد، وجوز أن يكون بتقدير أصحاب تلك عاد، والجملة مبتدأ وخبر، وكان المقصود الحث على الاعتبار بهم والاتعاظ بأحوالهم، وقوله سبحانه:
* (جحدوا بآي‍ات ربهم) * الخ استئناف لحكاية بعض قبائحهم أي كفروا بآيات ربهم التي أيد بها رسوله الداعي إليه ودل بها على صدقه وأنكروها فقالوا: يا هود ما جئتنا ببينة، أو أنكروا آياته سبحانه في الآفاق والأنفس الدالة عليه تعالى حسبما قال لهم هود عليه والسلام.
وجوز أن يراد بها الآيات التي أتى بها هود. وغيره من الرسل عليهم الصلاة والسلام، ويلائمه جمع الرسل الآتي على قول، وعدي - جحد - بالباء حملا له على كفر لأنه المراد، أو بتضمينه معناه كما أن كفر يجري مجرى جحد فيعدي بنفسه نحو قوله سبحانه: * (ألا إن عادا كفروا ربهم) * (هود: 60)، وقيل: كفر كشكر يتعدى بنفسه وبالباء، وظاهر كلام " القاموس " أن جحد كذلك * (وعصوا رسله) * قيل: المراد بالرسل هود عليه السلام والرسل الذين كانوا معه من قبله وهو خلاف الظاهر، وقيل: المراد بهم هود عليه السلام وسائر الرسل من قبله تعالى للأمم من قبله ومن بعده عليه السلام بناءا على أن عصيانه عليه السلام وكذا عصيان كل رسول بمنزلة عصيان الرسل جميعهم لأن الجميع متفقون على التوحيد فعصيان واحد عصيان للجميع فيه، أو على أن القوم أمرهم كل رسول من قبل بطاعة الرسل والإيمان بهم إن أدركوهم فلم يمتثلوا ذلك الأمر * (واتبعوا أمر كل جبار) * متعال عن قبول الحق، وقال الكلبي: هو الذي يقتل على الغضب ويعاقب على المعصية.
وقال الزجاج: هو الذي يجبر الناس على ما يريد، وذكر ابن الأنباري أنه العظيم في نفسه المتكبر على العباد
86

* (عنيد) * أي طاغ من - عند - بتثليث النون - عندا - بالإسكان - وعندا - بالتحريك - وعنودا - بضم العين إذا طغا وجاوز الحد في العصيان، وفسره الراغب بالمعجب بما عنده، والجوهري بمن خالف الحق ورده وهو يعرفه، وكذا عاند، ويطلق الأخير على البعير الذي يجور عن الطريق ويعدل عن القصد، وجمعه - عند - كراكع. وركع، وجمع العنيد - عند - كرغيف. ورغف، والعنود قيل: بمعنى العنيد.
وزعم بعضهم أنه يقال: بعير عنود، ولا يقال: عنيد، ويجمع الأول على عندة. والثاني على عند، وآخر أن العنود العادل عن الطريق المحسوس. والعنيد العادل عن الطريق في الحكم؛ وكلاهما من - عند - وأصل معناه على ما قيل: اعتزل في جانب لأن - العند - بالتحريك الجانب يقال: يمشي وسطا لا عندا، ومنه - عند - الظرفية، ويقال للناحية أيضا: العند مثلثة، وهذا الحكم ليس كالحكمين السابقين من جحود الآيات وعصيان الرسل في الشمول لكل فرد فرد منهم فإن اتباع الأمر من أحكام الأسافل دون الرؤساء.
وقيل: هو مثل ذلك في الشمول، والمراد - بالأمر - الشأن - وبكل جبار عنيد - من هذه صفته من الناس لا أناس مخصوصون من عاد متصفون بذلك، والمراد باتباع الأمر ملازمته أو الرضا به على أتم وجه، ويؤول ذلك إلى الاتصاف أي إن كلا منهم اتصف بصفة كل جبار عنيد، ولا يخفى ما فيه من التكلف الظاهر، وقد يدعي
العموم من غير حاجة إلى ارتكاب مثله، والمراد على ما تقدم أنهم عصوا من دعاهم إلى سبيل الهدى وأطاعوا من حداهم إلى مهاوي الردى.
* (وأتبعوا فى ه‍اذه الدنيا لعنة ويوم القي‍امة ألاإن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود) *
* (وأتبعوا في ه‍اذه الدنيا لعنة) * أي إبعادا عن الرحمة وعن كل خير أي جعلت اللعنة لازمة لهم، وعبر عن ذلك بالتبعية للمبالغة فكأنها لا تفارقهم وإن ذهبوا كل مذهب بل تدور معهم حسبما داروا، أو لوقوعه في صحبة اتباعهم، وقيل: الكلام على التمثيل بجعل اللعنة كشخص تبع آخر ليدفعه في هوة قدامه، وضمير الجمع لعاد مطلقا كما هو الظاهر.
وجوز أن يكون للمتبعين للجبارين منهم، وما حال قوم قدامهم الجبارون أهل النار وخلفهم اللعنة والبوار، ويعلم من لعنة هؤلاء لعنة غيرهم المتبوعين على ما قيل بالطريق الأولى * (ويوم القي‍امة) * أي واتبعوا يوم القيامة أيضا لعنة وهي عذاب النار المخلد حذف ذلك لدلالة الأول عليه وللإيذان بأن كلا من اللعنين نوع برأسه لم يجتمعا في قرن واحد بأن يقال: وأتبعوا في هذه الدنيا ويوم القيامة لعنة، ونظير هذا قوله تعالى: * (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة) * (الأعراف: 156) وعبر - بيوم القيامة - بدل الآخرة هنا للتهويل الذي يقتضيه المقام.
* (إلا إن عادا كفروا ربهم) * أي بربهم. أو كفروا نعمته ولم يشكروها بالإيمان. أو جحدوه * (ألا بعدا لعاد) * دعاء عليهم بالهلاك مع أنهم هالكون أي هلاك تسجيلا عليهم باستحقاق ذلك والاستئهال له، ويقال في الدعاء بالبقاء واستحقاقه: لا يبعد فلان، وهو في كلام العرب كثير، ومنه قوله: لا يبعدن قومي الذين هم * سم العداة وآفة الجزر
وجوز أن يكون دعاء باللعن كما في " القاموس ": البعد. والبعاد اللعن، واللام للبيان كما في قولهم: سقيا لك، وقيل: للاستحقاق وليس بذاك، وتكرير حرف التنبيه وإعادة عاد للمبالغة في تفظيع حالهم والحث على الاعتبار بقصتهم، وقوله سبحانه: * (قوم هود) * عطف بيان على * (عاد) * وفائدته الإشارة إلى أن عادا كانوا فريقين: عادا الأولى. وعادا الثانية، وهي عاد إرم في قول، وذكر الزمخشري في الفجر أن عقب عاد بن عوض
87

ابن إرم بن سام بن نوح قيل لهم: عاد كما يقال لبني هاشم: هاشم، ثم قيل: للأولين منهم عاد الأولى وإرم تسمية لهم باسم جدهم، ولمن بعدهم عاد الأخيرة، وأنشد لابن الرقيات: مجدا تليدا بناه أوله * أدرك عادا وقبلها إرما
ولعله الأوفق للنقل مع الإيماء إلى أن استحقاقهم للبعد بسبب ما جرى بينهم وبين هود عليه السلام وهم قومه، وليس ذلك لدفع اللبس إذ لا لبس في أن عادا هذه ليست إلا قوم هود عليه السلام للتصريح باسمه وتكريره في القصة، وقيل: ذكر ليفيد مزيد تأكيد بالتنصيص عليهم مع ما في ذلك من تناسب فواصل الآي.
* (وإلى ثمود أخاهم ص‍الحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إل‍اه غيره هو أنشأكم من الارض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربى قريب مجيب) *
* (وإلى ثمود أخاهم ص‍الحا قال ي‍اقوم اعبدوا الله ما لكم من إل‍اه غيره) * الكلام فيه كالكلام في نظيره السابق آنفا، وجمهور القراء على منع صرف * (ثمود) * ذهابا إلى القبيلة، وقرأ ابن وثاب. والأعمش بالصرف على إرادة الحي * (هو أنشأكم من الأرض) * أي ابتدأ خلقكم منها فإنها المادة الأولى وآدم الذي هو أصل البشر خلق منها، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي أنشأ أباكم، وقيل: * (من) * بمعنى في، وليس بشيء، والمراد الحصر كما يفهمه كلام بعض الأجلة كأن القول لعدم أدائهم حقه سبحانه قد اعتقدوا أن الفاعل لذلك غيره تعالى، أو هو مع غيره فخوطبوا على وجه قصر القلب أو قصر الإفراد بذلك، واحتمال أنهم كانوا يعتقدون أحد الأمرين حقيقة لا تنزيلا يستدعي القول بأنهم كانوا طبيعية أو ثنوية وإلا فالوثنية - وإن عبدوا معه سبحانه غيره - لا يعتقدون خالقية غيره لهم بوجه من الوجوه، وأخذ الحصر على ما قيل: من تقديم الفاعل المعنوي، وقيل: إنه مستفاد من السياق لأنه لما حصر الإلهية فيه تعالى اقتضى حصر الخالقية أيضا، فبيان ما خلقوا منه بعد بيان أنه الخالق لا غيره يقتضي هذا فتدبر، والظاهر أن من يقول بالحصر هنا يقول به في قوله سبحانه: * (واستعمركم فيها) * لمكان العطف وكونه معطوفا بعد اعتبار التقديم فلا ينسحب على ما بعده مما لا فائدة في التزامه أي وهو الذي جعلكم عمارها وسكانها فالاستفعال بمعنى الإفعال يقال: أعمرته الأرض واستعمرته إذا جعلته عامرها وفوضت إليه عمارتها، وإلى هذا ذهب الراغب. وكثير من المفسرين، وقال زيد بن أسلم: المعنى أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه من بناء مساكن وحفر أنهار وغرس أشجار وغير ذلك، فالسين للطلب، وإلى هذا ذهب الكيا، واستدل بالآية على أن عمارة الأرض واجبة لها الطلب، وقسمها في " الكشاف " إلى واجب كعمارة القناطر اللازمة والمسجد الجامع. ومندوب كعمارة المساجد. ومباح كعمارة المنازل. وحرام كعمارة الحانات، وما يبنى للمباهاة أو من مال حرام كأبنية كثير من الظلمة، واعترض على الكيا بأنه لم يكن هناك طلب حقيقة ولكن نزل جعلهم محتاجين لذلك - وإقدارهم عليه وإلهامهم كيف يعمرون - منزلة الطلب، وقال الضحاك: المعنى عمركم فيها واستبقاكم وكان أحدهم يعمر طويلا حتى أن منهم من يعمر ألف سنة، والمشهور أن الفعل من العمر وهو مدة الحياة بالتشديد ومن العمارة نقيض الخراب بالتخفيف ففي أخذ ذلك من العمر تجوز.
وعن مجاهد أن استعمر من العمرى بضم فسكون مقصور، وهي - كما قال الراغب - في العطية أن تجعل له شيئا مدة عمرك أو عمره، والمعنى أعمركم فيها ورباكم أي أعطاكم ذلك ما دمتم أحياء ثم هو سبحانه وارثها منكم، أو المعنى جعلكم معمرين دياركم فيها لأن الرجل إذا ورث داره من بعده فكأنما أعمره إياها لأنه يسكنها عمره ثم يتركها لغيره * (فاستغفروه ثم توبوا إليه) * تفريع على ما تقدم فإن ما ذكر من صنوف إحسانه
88

سبحانه داع إلى الاستغفار والتوبة، وقوله: * (إن ربي قريب) * أي قريب الرحمة لقوله سبحانه: * (إن رحمة الله قريب من المحسنين) * (الأعراف: 56) والقرآن يفسر بعضه بعضا * (مجيب) * لمن دعاه وسأله زيادة في بيان ما يوجب ذلك، والأول علة باعثة، وهذا علة غائية وما ألطف التقديم والتأخير، وصرح
بعضهم أن * (قريب) * ناظر - لتوبوا - و * (مجيب) * - لاستغفروا - كأنه، قيل: ارجعوا إلى الله تعالى فإنه سبحانه * (قريب) * منكم أقرب من حبل الوريد واسألوه المغفرة فإنه جلا وعلا * (مجيب) * السائلين ولا يخلو عن حسن.
* (قالوا ياص‍الح قد كنت فينا مرجوا قبل ه‍اذا أتنهانآ أن نعبد ما يعبد ءاباؤنا وإننا لفى شك مما تدعونآ إليه مريب) *
* (قالوا يا صالح قد كنت فينا) * أي فيما بيننا * (مرجوا) * فاضلا خيرا نقدمك على جميعنا على ما روي عن ابن عباس.
وقال ابن عطية مشورا نأمل منك أن تكون سيدا سادا مسد الأكابر، وقال كعب: كانوا يرجونه للملك بعد ملكهم لأنه كان ذا حسب وثروة.
وقال مقاتل: كانوا يرجون رجوعه إلى دينهم إذ كان يبغض أصنامهم ويعدل عن دينهم * (قبل ه‍اذا) * أي الذي باشرته من الدعوة إلى التوحيد وترك عبادة الآلهة فلما سمعنا منك ما سمعناه انقطع عنك رجاؤنا، وقيل: كانوا يرجون دخوله في دينهم بعد دعواه إلى الحق ثم انقطع رجاؤهم - فقبل هذا - قبل هذا الوقت لا قبل الذي بشاره من الدعوة، وحكى النقاش عن بعضهم أن * (مرجوا) * بمعنى حقيرا وكأنه فسره أولا بمؤخرا غير معتنى به ولا مهتم بشأنه، ثم أراد منه ذلك وإلا - فمرجوا - بمعنى حقير لم يأت في كلام العرب، وجاء قولهم: * (أتنه‍انا أن نعبد ما يعبد ءاباؤنا) * على جهة التوعد والاستبشاع لتلك المقالة منه والتعبير - بيعبد - لحكاية الحال الماضية، وقرأ طلحة * (مرجؤا) * بالمد والهمز * (وإننا لفي شك مما تدعونا إليه) * من التوحيد وترك عبادة الآلهة وغير ذلك من الاستفغر والتوبة * (مريب) * اسم فاعل من أرابه المتعدي بنفسه إذا أوقعه في الريبة وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة باليقين، أو من أراب الرجل اللازم إذا كان ذا ريبة، والإسناد على الوجهين مجازي إلا أن بينهما - كما قال بعض المحققين - فرقا، وهو أن الأول منقول من الأعيان إلى المعنى. والثاني منقول من صاحب الشك إلى الشك كما تقول: شعر شاعر، فعلى الأولى هو من باب الإسناد إلى السبب لأن وجود الشك سبب لتشكيك المشكك ولولاه لما قدر على التشكيك، والتنوين في * (مريب) * وفي * (شك) * للتفخيم، * (وإننا) * بثلاث نوات، ويقال: إنا بنونين وهما لغتان لقريش.
قال الفراء: من قال: إننا أخرج الحرف على أصله لأن كناية المتكلمين - نا - فاجتمعتث لاث نونات، ومن قال: إنا استثل اجتماعها فأسقط الثالثة وأبقى الأوليين.
واختار أبو حيان أن المحذوف النون الثانية لا الثالثة لأن في حذفها إجحافا بالكلمة إذ لا يبقى منها إلا حرف واحد ساكن دون حذف الثانية لظهور بقاء حرفين بعده على أنه قد عهد حذف النون الثانية من إن مع غير ضمير المتكلمين ولم يعهد حذف نون - نا - ولا ريب في أن ارتكاب المعهود أولى من ارتكاب غير المعهود.
* (قال ياقوم أرءيتم إن كنت على بينة من ربى وءاتانى منه رحمة فمن ينصرنى من الله إن عصيته فما تزيدوننى غير تخسير) *
* (قال ياقوم أرءايتم) * أخبروني * (إن كنت على بينة) * حجة ظاهرة وبرهان وبصيرة * (من ربي) * مالكي ومتولي أموري * (وءاتاني منه) * من قبله سبحانه * (رحمة) * نبوة، وهذا من الكلام المنصف، والاستدراج
89

إذ لا يتصور منه عليه السلام شك فيما في حيز إن، وأصل وضعها أنها لشك المتكلم * (فمن ينصرني من الله) * أي فمن يمنعني من عذابه، ففي الكلام مضاف مقدر والنصرة مستعملة في لازم معناها أو أن الفعل مضمن معنى المنع، ولذا تعدى - بمن - والعدول إلى الإظهار لزيادة التهويل والفاء لترتيب إنكار النصر على ما سبق من كونه على بينة وإيتاء الرحمة على تقدير العصيان حسبما يعرب عنه قوله: * (إن عصيته) * أي في المساهلة في تبليغ الرسالة والمنع عن الشرك به تعالى والمجاراة معكم فيما تشتهون فإن العصيان ممن ذلك شأنه أبعد والمؤاخذة عليه ألزم وإنكار نصرته أدخل * (فما تزيدونني) * إذن باستتباعكم إياي أي لا تفيدونني إذ لم يكن فيه أصل الخسران حتى يزيدوه * (غير تخسير) * أي غير أن تجعلوني خاسرا بإبطال أعمالي وتعريضي لسخط الله تعالى، أو * (فما تزيدونني) * بما تقولون غير أن أنسبكم إلى الخسران، وأقول لكم: إنكم لخاسرون لا أن أتبعكم.
وروي هذا عن الحسن بن الفضل، فالفاعل على الأول هم والمفعول صالح، وعلى الثاني بالعكس والتفعيل كثيرا ما يكون للنسبة كفسقته وفجرته، والزيادة على معناها والفاء لترتيب عدم الزيادة على انتفاء الناصر المفهوم من إنكاره على تقدير العصيان مع تحقق ما ينفيه من كونه عليه السلام على بينة من ربه وإيتائه النبوة.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المعنى * (فما تزيدونني غير) * مضارة في خسرانكم، فالكلام على حذف مضاف، وعن مجاهد ما تزدادون أنتم باحتجاجكم بعبادة آبائكم إلا خسارا، وأضاف الزيادة إلى نفسه لأنهم أعطوه ذلك وكان قد سألهم الإيمان، وقال ابن عطية: المعنى فما تعطوني فيما اقتضيه منكم من الإيمان * (غير تخسير) * لأنفسكم، وأضاف الزيادة إلى نفسه من حيث أنه مقتض لأقوالهم موكل بإيمانهم كما تقول لمن توصيه: أنا أريد بك خيرا وأنت تريد بي سوءا وكان الوجه البين أن تقول: وأنت تريد شرا لكن من حيث كنت مريد خير ومقتضى ذلك حسن أن تضيف الزيادة إلى نفسك، وقيل: المعنى فما تزيدونني غير تخسيري - إياكم حيث أنكم كلما ازددتم تكذيبا إياي ازدادت خسارتكم، وهي أقوال كما ترى.
* (وياقوم ه‍اذه ناقة الله لكم ءاية فذروها تأكل فىأرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب) *
* (وي‍اقوم ه‍اذه ناقة الله) * الإضافة للتشريف والتنبيه على أنها مفارقة لسائر ما يجانسها خلقا وخلقا * (لكم ءاية) * معجزة دالة على صدقي في دعوى النبوة، وهي حال من * (ناقة الله) *، والعامل ما في اسم الإشارة من معنى الفعل.
وقيل: معنى التنبيه، والظاهر أنها حال مؤسسة، وجوز فيها أن تكون مؤكدة كهذا أبوك عطوفا لدلالة الإضافة على أنها آية، و * (لكم) * كما في " البحر ". وغيره حال منها فقدمت عليها لتنكيرها ولو تأخرت لكانت صفة لها، واعترض بأن مجىء الحال من الحال لم يقل به أحد من النحاة لأن الحال تبين هينة الفاعل أو المفعول وليست الحال شيئا منهما، وأجيب بأنها في معنى المفعول للإشارة لأنها متحدة مع المشار إليه الذي هو مفعول في المعنى ولا يخفى ما فيه من التكلف، وقيل: الأولى أن
يقال: إن هذه الحال صفة في المعنى لكن لم يعربوها صفة لأمر تواضع النحويون عليه من منع تقدم ما يسمونه تابعا على المتبوع فحديث - إن الحال تبين الهيئة - مخصوص بغير هذه الحال، واعترض بأن هذا ونحوه لا يحسم مادة الاعتراض لأن المعترض نفى قول أحد من النحاة بمجىء الحال من الحال، وبما ذكر لا يثبت القول وهو ظاهر، نعم قد يقال: إن اقتصار أبي حيان. والزمخشري
90

- وهما من تعلم في العربية - على هذا النحو من الإعراب كاف في الغرض على أتم وجه، وأراد الزمخشري بالتعلق في كلامه التعلق المعنوي لا النحوي فلا تناقض فيه على أنه بحث لا يضر.
وقيل: * (لكم) * حال من * (ناقة) * و * (آية) * حال من الضمير فيه فهي متداخلة، ومعنى كون الناقة للمخاطبين أنها نافعة لهم ومختصة بهم وهي منافعها فلا يرد أنه لا اختصاص لذات الناقة بهم، وإنما المختص كونها آية لهم، وقيل: * (لكم) * حال من الضمير في * (آية) * لأنها بمعنى المشتق، والأظهر كون * (لكم) * بيان من هي * (آية) * له، وجوز كون * (ناقة) * بدلا أو عطف بيان من اسم الإشارة، و * (لكم) * خبره، و * (آية) * حال من الضمير المستتر فيه * (فذروها) * دعوها * (تأكل في أرض الله) * فليس عليكم مؤنتها والفعل مجزوم لوقوعه في جواب الطلب، وقرىء بالرفع على الاستئناف أو على الحال - كما في " البحر " - والمتبادر من الأكل معناه الحقيقي لكن قيل: في الآية اكتفاءا أي تأكل وتشرب، وجوز أن يكون مجازا عن التغذي مطلقا والمقام قرينة لذلك.
* (ولا تمسوها بسوء) * أي بشيء منه فضلا عن العقر والقتل، والنهي هنا على حد النهي في قوله تعالى: * (ولا تقربوا مال اليتيم) * (الأنعام: 152) الخ * (فيأخذكم) * لذلك * (عذاب قريب) * عاجل لا يستأخر عن مسكم إياها بسوء إلا يسيرا وذلك ثلاثة أيام ثم يقع عليكم، وقيل: أراد من وصفه بالقرب كونه في الدنيا، وإلى الأول ذهب غير واحد من المفسرين وكان الإخبار عن وحي من الله تعالى.
* (فعقروها فقال تمتعوا فى داركم ثل‍اثة أيام ذالك وعد غير مكذوب) *
* (فعقروها) * أي فخالفوا ما أمروا به فعقروها، والعقر قيل: قطع عضو يؤثر في النفس.
وقال الراغب: يقال: عقرت البعير إذا نحرته، ويجىء بمعنى الجرح أيضا - كما في " القامومس " - وأسند العقر إليهم مع أن الفاعل واحد منهم وهو قدار - كهمام - في قول، ويقال له: أحمر ثمود، وبه يضرب المثل في الشؤم لرضاهم بفعله، وقد جاء أنهم اقتسموا لحمها جميعا * (فقال) * لهم صالح عليه السلام * (تمتعوا) * عيشوا.
* (في داركم) * أي بلدكم، وتسمى البلاد الديار لأنها يدار فيها أي يتصرف يقال: ديار بكر لبلادهم، وتقول العرب الذي حوالى مكة: نحن من عرب الدار يريدون من عرب البلد، وإلى هذا ذهب الزمخشري، وقال ابن عطية: هو جمع دارة كساحة وساح وسوح، ومنه قول أمية بن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جدعان: له داع بمكة مشمعل * وآخر فوق (دارته) ينادي
ويمكن أن يسمى جميع مسكن الحي دارا وتطلق الدار وتطلق الدار على الدنيا أيضا، وبذلك فسرها بعضهم هنا، وفسر الطبرسي التمتع بالتلذذ أي تلذذوا بما تريدون * (ثل‍اثة أيام) * ثم يأخذكم العذاب، قيل: إنهم لما عقروا الناقة صعد فصيلها الجبل ورغا ثلاث رغوات فقال صالح عليه السلام: لكل رغوة أجل يوم، وابتداء الأيام على ما في بعض الروايات الأربعاء، وروي أنه عليه السلام قال لهم: تصبح وجوهكم غدا مصفرة. وبعد غد محمرة. واليوم الثالث مسودة ثم يصبحكم العذاب فكان كما قال: * (ذلك) * إشارة إلى ما يدل عليه الأمر بالتمتع ثلاثة أيام من نزول العذاب عقيبها وما فيه من معنى البعد للتفخيم * (وعد غير مكذوب) * أي غير مكذوب فيه فحذف الجار وصار المجرور مفعولا على التوسع لأن الضمير لا يجوز نصبه على الظرفية والجار لا يعمل بعد حذفه، ويسمون هذا الحذف والإيصال، وهو كثير في كلامهم ويكون في الاسم - كمشترك - وفي الفعل كقوله:
91

ويوم شهدناه سليما وعامرا * قليل سوى طعن النهار نوافله
أو (غير مكذوب) على المجاز كأن الواعد قال له: أفي بك فإن وفى به صدقه وإلا كذبه فهناك استعارة مكنية تخييلية، وقيل: مجاز مرسل بجعل * (مكذوب) * بمعنى باطل ومتخلف، أو وعد غير كذب على أن مكذوب مصدر على وزن مفعول كمجلود ومعقول بمعنى عقل وجلد فإنه سمع منهم ذلك لكنه نادر، ولا يخفى ما في تسمية ذلك وعدا من المبالغة في التهكم.
* (فلما جآء أمرنا نجينا ص‍الحا والذين ءامنوا معه برحمة منا ومن خزى يومئذ إن ربك هو القوى العزيز) *
* (فلما جآء أمرنا) * أي عذابنا أو أمرنا بنزوله، وفيه ما لا يخفى من التهويل * (نجينا ص‍الحا والذين ءامنوا معه) * متعلق بنجينا أو بآمنوا * (برحمة منا) * أي بسببها أو ملتبسين بها، وفي التنوين والوصف نوعان من التعظيم * (ومن خزى يومئذ) * أي نجيناهم من خزي يومئذ وهو الهلاك بالصيحة وهذا كقوله تعالى: * (ونجيناهم من عذاب غليظ) * (هود: 58) على معنى إنا نجيناهم، وكانت تلك التنجية من خزي يومئذ، وجوز أن يراد ونجيناهم من ذل وفضيحة يوم القيامة أي من عذابه، فهذه الآية كآية هود سواء بسواء.
وتعقب أبو حيان هذا بأنه ليس بجيد إذ لم تتقدم جملة ذكر فيها يوم القيامة ليكون التنوين عوضا عن ذلك، والمذكور إنما هو جاء أمرنا فليقدر يوم إذ جاء أمرنا وهو جيد، والدفع بأن القرينة قد تكون غير لفظية كما هنا فيه نظر، وقيل: القرينة قوله سبحانه فيما مر: * (عذاب يوم غليظ) * وفيه ما فيه، وقيل: الواو زائدة فيتعلق * (من) * - بنجينا - المذكور، وهذا لا يجوز عند البصريين لأن الواو لا تزاد عندهم فيوجبون هنا التعلق بمحذوف وهو معطوف على ما تقدم، وقرأ طلحة. وأبان * (ومن
خزى) * بالتنوين ونصب * (يومئذ) * على الظرفية معمولا لخزى، وعن نافع. والكسائي أنهما قرآ بالإضافة وفتح - يوم - لأنه مضاف إلى إذ وهو غير متمكن، وهذا كما فتح حين في قوله النابغة: على (حين) عاتبت المشيب على الصبا * فقلت: ألما أصح والشيب وازع
* (إن ربك) * خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم * (هو القوي العزيز) * أي القادر على كل شيء والغالب عليه في كل وقت ويندرج في ذلك الإنجاء والإهلاك في ذلك اليوم.
* (وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا فى ديارهم ج‍اثمين) *
* (وأخذ الذين ظلموا) * قوم صالح، وعدل عن الضمير إلى الظاهر تسجيلا عليهم بالظلم وإشعارا بعليته لنزول العذاب بهم * (الصيحة) * أي صيحة جبريل أو صيحة من السماء فيها كل صاعقة وصوت مفزع، وهي على ما في " البحر " فعلة للمرة الواحدة من الصياح، يقال: صاح يصيح إذا صوت بقوة، وأصل ذلك - كما قال الراغب - تشقيق الصوت من قولهم: إنصاح الخشب. أو الثوب إذا انشق فسمع منه صوت، وصيح الثوب كذلك، وقد يعبر بالصيحة عن الفزع، وفي الأعراف * (فأخذتهم الرجفة) * قيل: ولعلها وقعت عقيب الصيحة المستتبعة لتموج الهواء، وقد تقدم الكلام منا في ذلك * (فأصبحوا في دي‍ارهم) * أي منازلهم ومساكنهم، وقيل: بلادهم * (جاثمين) * هامدين موتى لا يتحركون، وقد مر تمام الكلام في ذلك معنى وإعرابا.
* (كأن لم يغنوا فيهآ ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود) *
* (كأن لم يغنوا) * أي كأنهم لم يقيموا * (فيها) * أي في ديارهم، والجملة قيل: في موضع الحال أي أصبحوا * (جاثمين) * مماثلين لمن لم يوجد ولم يقم في مقام قط * (ألا إن ثمودا) * وضع موضع المضمر لزيادة البيان، ومنعه من الصرف حفص. وحمزة نظرا إلى القبيلة، وصرفه أكثر السبعة نظرا إلى الحي كما قدمنا آنفا، وقيل: نظرا إلى الأب الأكبر يعني يكون المراد به الأب الأول وهو مصروف
92

وحينئذ يقدر مضاف كنسل وأولاد ونحوه، وقيل: المراد أنه صرف نظرا لأول وضعه وإن كان المراد به هنا القبيلة * (كفروا ربهم) * صرح بكفرهم مع كونه معلوما مما سبق من أحوالهم تقبيحا لحالهم وتعليلا لاستحقاقهم الدعاء عليهم بالبعد والهلاك في قوله سبحانه: * (ألا بعدا لثمود) *، وقرأ الكسائي لا غير بالتنوين، وقد تقدم الكلام في شرح قصتهم على أتم وجه.
* (ولقد جآءت رسلنآ إبراهيم بالبشرى قالوا سل‍اما قال سل‍ام فما لبث أن جآء بعجل حنيذ) *
* (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم) * وهم الملائكة؛ روي عن ابن عباس أنهم كانوا اثني عشر ملكا.
وقال السدي: أحد عشر على صورة الغلمان في غاية الحسن والبهجة، وحكى صاحب الفينان أنهم عشرة منهم جبريل، وقال الضحاك: تسعة، وقال محمد بن كعب: ثمانية، وحكى الماوردي أنهم أربعة ولم يسمهم.
وجاء في رواية عن عثمان بن محيصن أنهم جبريل. وإسرافيل. وميكائيل. ورفائيل عليهم السلام، وفي رواية عن ابن عباس. وابن جبير أنهم ثلاثة الأولون فقط، وقال مقاتل: جبرائيل. وميكائيل. وملك الموت عليهم السلام، واختار بعضهم الاقتصار على القول بأنهم ثلاثة لأن ذلك أقل ما يدل عليه الجمع وليس هناك ما يعول عليه في الزائد وإنما أسند إليهم المجىء دون الإرسال لأنهم لم يكونوا مرسلين إليه عليه السلام بل إلى قوم لوط لقوله تعالى: * (إنا أرسلنا إلى قوم لوط) * (هود: 70) وإنما جاءوه لداعية البشرى، قيل: ولما كان المقصود في السورة الكريمة ذكر صنيع الأمم السالفة مع الرسل المرسلة إليهم ولحوق العذاب بهم ولم يكن جميع قوم إبراهيم عليه السلام من لحق بهم العذاب بل إنما لحق بقوم لوط منهم خاصة غير الأسلوب المطرد فيما سبق من قوله تعالى: * (وإلى عاد أخوهم هودا) * (الأعراف: 65) * (وإلى ثمود أخوهم صالحا) * (الأعراف: 73) ثم رجع إليه حيث قيل: * (وإلى مدين أخاهم شعيبا) * (الأعراف: 85) والباء في قوله تعالى: * (بالبشرى) * للملابسة أي ملتبسين بالبشرى، والمراد بها قيل: مطلق البشارة المنتظمة بالبشارة بالولد من سارة لقوله تعالى: * (فبشرناها بإسحاق) * (هود: 71) الآية، وقوله سبحانه: * (فبشرناه بغلام حليم) * (الصافات: 101) إلى غير ذلك، وللبشارة بعدم لحوق الضرر به لقوله تعالى: * (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى) * (هود: 74) لظهور تفرع المجادلة على مجيئها، وكانت البشارة الأولى على ما قيل: من ميكائيل. والثانية من إسرافيل عليهما السلام، وقيل: المراد بها البشارة بهلاك قوم لوط عليه السلام فإن هلاك الظلمة من أجل ما يبشر به المؤمن.
واعترض بأنه يأباه مجادلته عليه السلام في شأنهم، واستظهر الزمخشري أنها البشارة بالولد وهي المرادة بالبشرى فيما سيأتي، وسر تفرع المجادلة عليها سيذكر إن شاء الله تعالى، وعلل في " الكشف " استظهار ذلك بقوله: لأنه الأنسب بالإطلاق، ولقوله سبحانه في الذاريات: * (وبشروه بغلام عليم) * (الذاريات: 28) ثم قال بعده: * (فما خطبكم أيها المرسلون) * (الحجر: 57) ثم قال: وقوله تعالى: * (فلما ذهب عن إبراهيم) * (هود: 74) الخ، وإن كان يحتمل أن ثمة بشارتين فيحمل في كل موضع على واحدة لكنه خلاف الظاهر انتهى، ولما كان الإخبار بمجىء الرسل عليهم السلام مظنة لسؤال السامع بأنهم ما قالوا: أجيب بأنهم * (قالوا سل‍اما) * أي سلمنا أو نسلم عليك سلاما فهو منصوب بفعل محذوف، والجملة مقول القول قال ابن عطية: ويصح أن يكون مفعول * (قالوا) * على أنه حكاية لمعنى ما قالوا لا حكاية للفظهم.
وروي ذلك عن مجاهد. والسدي، ولذلك عمل فيه القول، وهذا كما تقول لرجل قال: لا إله إلا الله: قلت حقا وإخلاصا.
وقيل: إن النصب - بقالوا - لما فيه من معنى الذكر كأنه قيل: ذكروا سلاما * (قال سل‍ام) * أي عليكم سلام
93

أو سلام عليكم، والابتداء بنكرة مثله سائغ كما قرر في النحو، وقد حياهم عليه السلام بأحن من تحيتهم لأنها بجملة اسمية دالة على الدوام والثبات فهي أبلغ، وأصل معنى السلام السلامة مما يضر.
وقرأ حمزة. والكسائي سلم في الثاني بدون ألف مع كسر السين وسكون اللام وهو على ما قيل: لغة في * (سلام) * كحرم. وحرام، ومنه قوله: مررنا فقلنا: أيه (سلم) فسلمت * كما اكتل بالبرق الغمام اللوائح
وقال ابن عطية: ويحتمل أن يراد بالسلم ضد الحرب، ووجه بأنهم لما امتنعوا طعامه وخاف منهم قاله أي أنا مسالم لا محارب لأنهم كانوا لا يأكلون طعام من بينهم وبينه حرب، واعترض بأنه يدل على أن قوله هذا بعد تقديم الطعام. وقوله سبحانه: * (فما لبث) * الخ صريح في خلافه، وذكر في " الكشاف " أن حمزة. والكسائي قرءا بكسر السين وسكون اللام في الموضعين وهو مخالف للمنقول في كتب القراءات، وقرأ ابن أبي عبلة - قال سلاما - بالنصب كالأول، وعنه أنه قرأ بالرفع فيهما * (فما لبث) * أي فما أبطأ إبراهيم عليه السلام.
* (أن جاء بعجل حنيذ) * أي في مجيئه به أو عن مجيئه به * (فما) * نافية، وضمير * (لبث) * لإبراهيم، و * (أن جاء) * بتقدير حرف جر متعلق بالفعل وحذف الجار قبل أن وأن مطرد، وحكى ابن العربي أن * (أن) * بمعنى حتى، وقيل: * (أن) * وما بعدها فاعل * (لبث) * أي فما تأخر مجيئه، وروي ذلك عن الفراء، واختاره أبو حيان.
وقيل: ما مصدرية والمصدر مبتدأ أو هي اسم موصول بمعنى الذي كذلك، و * (أن جاء) * على حذف مضاف أي قدر وهو الخبر أي فلبثه أو الذي لبثه قدر مجيئه وليس بشيء، والعجل ولد البقرة، ويسمى الحسيل والخبش بلغة أهل السراة، والباء فيه للتعدية أو الملابسة، والحنيذ السمين الذي يقطر ودكه من حنذت الفرس إذا عرقته بالجلال كأنه ودكه كالجلال عليه، أو كأن ما يسيل منه عرق الدابة المجللة للعرق، واقتصر السدي على السمين في تفسيره لقوله تعالى: * (بعجل سمين) *، وقيل: هو المشوي بالرضف في أخدود، وجاء ذلك في رواية عن ابن عباس. ومجاهد. وقتادة، وفي رواية عن مجاهد تفسيره بالمطبوخ، وإنما جاء عليه السلام بالعجل لأن ماله كان البقر وهو أطيب ما فيها، وكان من دأبه عليه السلام إكرام الضيف، ولذا عجل القرى، وذلك من أدب الضيافة لما فيه من الاعتناء بشأن الضيف، وفي مجيئه بالعجل كله مع أنهم بحسب الظاهر يكفيهم بعضهم دليل على أنه من الأدب أن يحضر للضيف أكثر مما يأكل، واختلف في هذا العجل هل كان مهيئا قبل مجيئهم أو أنه هيىء بعد أن جاؤوا؟ قولان اختار أبو حيان أولهما لدلالة السرعة بالإتيان به على ذلك، ويختار الفقير ثانيهما لأنه أزيد في العناية وأبلغ في الإكرام، وليست السرعة نصا في الأول كما لا يخفى.
* (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط) *
* (فلما رءآ أيديهم لا تصل إليه) * كناية عن أنهم لا يمدون إليه أيديهم ويلزمه أنهم لا يأكلون، وقيل: * (لا) * كناية بناءا على ما روي أنهم كانوا ينكتون اللحم بقداح في أيديهم وليس بشيء، وفي القلب من صحة هذه الرواية شيء إذ هذا النكت أشبه شيء بالعبث، والملائكة عليهم السلام يجلون عن مثله؛ و * (رأى) * قيل: علمية فجملة * (لا تصل) * مفعول ثان، والظاهر أنها بصرية، والجملة في موضع الحال ففيه دليل على أن من أدب الضيافة النظر إلى الضيف هل يأكل أولا لكن ذكروا أنه ينبغي أن يكون بتلفت ومسارقة لا بتحديد النظر
94

لأن ذلك مما يجعل الضيف مقصرا في الأكل أي لما شاهد منهم ذلك * (نكرهم) * أي نفرهم * (وأوجس) * أي استشعر وأدرك، وقيل: أضمر * (منهم) * أي من جهتهم * (خيفة) * أي خوفا، وأصلها الحالة التي عليها الإنسان من الخوف، ولعل اختيارها بالذكر للمبالغة حيث تفرس لذلك مع جهالته لهم من قبل وعدم معرفته من أي الناس يكونون كما ينبىء عنه ما في الذاريات من قوله سبحانه حكاية عنه: * (قال سلام قوم منكرون) * أنهم ملائكة، وظن أنهم أرسلوا لعذاب قومه أو لأمر أنكره الله تعالى عليه * (قالوا) * حين رأوا أثر ذلك عليه عليه السلام، أو أعلمهم الله تعالى به، أو بعد أن قال لهم ما في الحجر * (إنا منكم وجلون) * فإن الظاهر منه أن هناك قولا بالفعل لا بالقوة كما هو احتمال فيه على ما ستراه إن شاء الله تعالى، وجوز أن يكون ذلك لعلمهم أن علمه عليه السلام أنهم ملائكة يوجب الخوف لأنهم لا ينزلون إلا بعذاب، وقيل: إن الله تعالى جعل للملائكة مطلقا ما لم يجعل لغيرهم من الاطلاع كما قال تعالى: * (يعلمون ما تفعلون) * وفي " الصحيح " " قالت الملائكة رب عبدك هذا يريد أن يعمل سيئة " الحديث، وهو قول بأن الملائكة يعلمون الأمور القلبية.
وفي الأخبار الصحيحة ما هو صريح بخلافه، والآية. والخبر المذكوران لا يصلحان دليلا لهذا المطلب، وإسناد القول إليهم ظاهر في أن الجميع قالوا * (لا تخف) * ويحتمل أن القائل بعضهم، وكثيرا ما يسند فعل البعض إلى الكل في أمثال ذلك، وظاهر قوله سبحانه: * (إنا أرسلنا) * أنه استئناف في معنى التعليل للنهي المذكور كما أن قوله سبحانه: * (إنا نبشرك) * (الحجر: 53) استئناف كذلك فإن إرسالهم إلى قوم آخرين يوجب أمنه من الخوف أي * (أرسلنا) * بالعذاب * (إلى قوم لوط) * خاصة، ويعلم مما ذكرنا أنه عليه السلام أحس بأنهم ملائكة، وإليه ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد يستدل له بقولهم: * (لا تخف إنا إرسلنا) * فإنه كما لا يخفى على من له أدنى ذوق إنما يقال لمن عرفهم ولم يعرف فيم أرسلوا فخاف، وأن الإنكار المدلول عليه بنكرهم غير المدلول عليه بما في الذاريات فلا إشكال في كون الإنكار هناك قبل إحضار الطعام وهنا بعده، وأصل الإنكار ضد العرفان، ونكرت وأنكرت واستنكرت بمعنى، وقيل: إن أنكر فيما لا يرى من المعاني ونكر فيما يرى بالبصر، ومن ذلك قول الشاعر: وأنكرتني وما كان الذي نكرت * من الحوادث إلا الشيب والصلعا
فإنه أراد في الأول على ما قيل: أنكرت مودتي، وقال الراغب: إن أصل ذلك أن يرد على القلب ما لا يتصوره وذلك ضرب من الجهل وبه فسر ما فيه الآية، وفرق
بعضهم بين ما هنا وبين ما وقع في الذاريات بأن الأول راجح إلى حالهم حين قدم إليهم العجل. والثاني متعلق بأنفسهم ولا تعلق له برؤية عدم أكلهم بل وقع عند رؤيته عليه السلام لهم لعدم كونهم من جنس ما يعهده من الناس، ويحتاج هذا إلى اعتبار حذف المضاف أو ملاحظة الحيثية، واعترض ما قدمناه بأن فيه ارتكاب مجاز، ولعل الأمر فيه سهل.
وذهب بعضهم إلى أنه عليه السلام لم يعرف أنهم ملائكة حتى قالوا له: * (لا تخف إنا أرسلنا) * وكأن سبب خوفه منهم أنهم لم يتخرحموا بطعامه فظن أنهم يريدون به سوءا إذ كانت العادة إذ ذاك كذلك، وكان عليه السلام نازلا في طرف من الأرض منفردا عن قومه، وهي رواية عن ابن عباس أخرجه إسحاق بن بشر.
95

وابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عنه، وقيل: كان سبب خوفه أنهم دخلوا بغير إذن وبغير وقت.
وقال العلامة الطيبي: الحق أن الخوف إنما صدر عن مجموع كونهم منكرين وكونهم ممتنعين من الطعام كما يعلم من الآيات الواردة في هذه القصة ولأنه لو عرفهم بأنهم ملائكة لم يحضر بين أيديهم الطعام ولم يحرضهم على الأول وإنما عدلوا إلى قولهم: * (إنا أرسلنا إلى قوط لوط) * ليكون جامعا للمعاني بحيث يفهم منه المقصود أيضا انتهى.
وفيه إشارة إلى الرد على الزمخشري، وقد اختلف كلامه في تعليل الخوف فعلله تارة بعرفانه أنهم ملائكة وأخرى بأنهم لم يتحرموا طعامه، ولعله أراد بذلك العرفان العرفان بعد إحضار الطعام، وما ذكره الطيبي من أنه لو عرفتهم بأنهم ملائكة لم يحضر الخ غير قادح إذ يجوز أن يخافهم بعد الإحضار أولا لعدم التحرم ثم بعد تفرس أنهم ملائكة خافهم لأنهم ملائكة أرسلوا للعذاب، والزمخشري حكى أحد الخوفين في موضع والآخر في آخر.
قال بعض المحققين والتعليل بأنهم ملائكة هو الوجه لينتظم قوله سبحانه: * (لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم) * (الحجر: 53) مع ما قبله إذ لو كان الوجل لكونهم على غير زي من عرف ونحوه لم يحسن التعليل بقوله تعالى: * (إنا نبشرك) * فإنه إنما هو تعليل للنهي عن الوجل من أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب كأنهم قالوا: * (لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم) * و * (إنا أرسلنا إلى قوم لوط) * فجاء على اختصارات القرآن بذكر أحد التعليلين في أحد الموضعين والآخر في الآخر، ولا شك أن في الحجر اختصارا لطي حديث الرواع، والتعجيل بالعجل الحنيذ وعدم تحرمهم بطعامه لما أن المقصود من سوق القصة هنالك الترغيب والترهيب للاعتبار بحال إبراهيم عليه السلام وما لقي من البشرى والكرامة، وحال قوم لوط عليه السلام وما منوا به من السوأى والملامة، ألا ترى إلى قوله سبحانه: * (نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم) * إلى قوله جل وعلا: * (عن ضيف إبراهيم) * (الحجر: 51) فاقتصر على ما يفيد ذلك الغرض، وأما في هذه السورة فجىء بها للإرشاد الذي بنى عليه السورة الكريمة مع إدماج التسلية ورد ما رموه به عليه الصلاة والسلام من الافتراء، وفي كل من أجزاء القصة ما يسد من هذه الأغراض فسرد على وجهها، وفي سورة الذاريات للأخيرين فقط فجىء بما يفيد ذلك فلا عليك إن رأيت اختصارا أن تنقل إليه من المبسوط ما يتم به الكلام بعد أن تعرف نكتة الاختصار، وهذا من خواص كتاب الله تعالى الكريم انتهى ولا يخلو عن حسن، وفيه ذهاب إلى كون جملة * (إنا أرسلنا إلى قوم لوط) * استئنافا في موضع التعليل كما هو الظاهر.
وقال شيخ الإسلام عليه الرحمة: الظاهر ما ذكر إلا أنه ليس كذلك فإن قوله تعالى: * (قال فما خطبكم أيها المرسلون * قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين) * (الحجر: 57، 58) صريح في أنهم قالوه جوابا عن سؤاله عليه السلام، وقد أوجز الكلام اكتفاءا بذلك انتهى.
وتعقب بأنه قد يقال: إن ذلك لا يقدح في الحمل على الظاهر لجواز أن يكونوا قالوا ذلك على معنى التعليل للنهي عن الخوف، ولكنه وإن أريد منه الإرسال بالعذاب لقوم لوط عليه السلام مجمل لم يؤت به على وجه يظهر منه ما نوع هذا العذاب هل هو استئصال أم لا؟ فسأل عليه السلام لتحقيق ذلك فكأنه قال: أيها المرسلون إلى قوم لوط ما هذا الأمر العظيم الذي أرسلتم به؟ فأجابوه بما يتضمن بيان ذلك مع الإشارة إلى علة نزول ذلك الأمر بهم وهو قولهم: * (إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين * إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين) * (الحجر: 58، 59) الآية فإن انفهام عذاب الاستئصال لقوم لوط عليه السلام من ذلك ظاهر، وكذا الإشارة إلى العلة.
96

والحاصل أن السؤال في تلك الآية عن الخطب وهو في الأصل الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب، ويراد من السؤال عنه تحقيق أمر لم يعلمه عليه السلام من كلامهم قبل إما لأنه لم يعلم ذلك منه. أو لأنه كان مشغولا عن كمال التوجه ليعلم عليه السلام منه ذلك، وفي خطابه عليه السلام لهم عليهم السلام بعنوان الرسالة ما يؤيد تقدم قولهم: * (إنا أرسلنا) * على هذا السؤال لكنه أسقط هناك تعويلا على ما هنا ولا بدع في الإسقاط من المتأخر تعويلا على المتقدم، وتأخر الحجر. والذاريات عن هود تلاوة مما لا كلام فيه، وتأخرهما نزولا مما رواه ابن ضريس في فضائل القرآن عن محمد بن عبد الله بن أبي جعفر الرازي عن عمر بن هارون عن عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن ابن عباس، وذكر أنها كلها نزلت بمكة وأن بين هود. والحجر سورة واحدة، وبين الحجر. والذاريات ثلاث عشرة سورة فليتأمل في هذا المقام، ويفهم من كلام بعضهم أنه عليه السلام لم يتحقق كونهم ملائكة إلا بعد أن مسح جبريل عليه السلام العجل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأنه فحينئذ عرفهم وأمن منهم، ولم يتحقق صحة الخبر عندي، والذي أميل إليه أنه عليه السلام عرفهم قبل ذلك وأن خوفه منهم لكونهم ملائكة لم يدر لأي شيء نزلوا، ويبعد عند من عرف حال إبراهيم عليه السلام القول بأنه خاف بشرا وبلغ منه الخوف حتى * (قال إنا منكم وجلون) * (الحجر: 52) لا سيما إذا قلنا: إنا من خافهم كانوا ثلاثة وأنه عليه السلام لم يكن في طرف من الأرض بل كان بين أصحابه، أو كان هناك لكن بين خدمه وغلمانه.
* (وامرأته قآئمة فضحكت فبشرن‍اها بإسح‍اق ومن ورآء إسح‍اق يعقوب) *
* (وامرأته) * سارة بنت هاران بن ناحور وهي بنت عمه * (قائمة) * في الخدمة كما أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد وكانت نساؤهم لا تحتجب لا سيما العجائز منهم، وكانت رضي الله تعالى عنها عجوزا، وقال وهب: كانت قائمة وراء الستر تسمع محاورتهم، وأخذ منه بعضهم أن تستر النساء كان لازما، والظاهر أنه لم يكن
كذلك لتأخر آية الحجاب، ويجوز أن يقال: إن القيام وراء الستر كان اتفاقيا، وعن ابن إسحق أنها كانت قائمة تصلي، وقال المبرد: كانت قائمة عن الولد وهو خلاف المشهور في الاستعمال، وأخرج ابن المنذر عن المغيرات قال في مصحف ابن مسعود: وامرأته قائمة وهو جالس، وفي الكشاف بدل وهو جالس وهو قاعد، وعن ابن عطية بدل * (وامرأته قائمة) * وهي قائمة ففيه الاضمار من غير تقدم ذكر، وكأن ذلك إن صح للتعويل على انفهام المرجع من سياق الكلام، والجملة إما في موضع الحال من ضمير * (قالوا) * وإما مستأنفة للأخبار * (فضحكت) * من الضحك المعروف والمراد به حقيقته عند الكثير، وكان ذلك عند بعضهم سرورا بزوال الخوف عن إبراهيم عليه السلام، والنساء لا يملكن أنفسهم كالرجال إذا غلب عليهن الفرح، وقيل: كان سرورا بهلاك أهل الفساد، وقيل: بمجموع الأمرين، وقال ابن الأنباري: إن ضحكها كان سرورا بصدق ظنها لأنها كانت تقول لإبراهيم: اضمم إليك لوطا فإني أرى العذاب سينزل بقومه وكان لوط ابن أخيه. وقيل: ابن خالته وقيل: كان أخا سارة وقد مر آنفا أنها بنت عم إبراهيم عليه السلام، وعن ابن عباس أنها ضحكت من شدة خوف إبراهيم وهو في أهله وغلمانه، والذين جاؤوه ثلاثة وهي تعهده يغلب الأربعين، وقيل: المائة، وقال قتادة: كان ذلك من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم، وقال السدى: ضحكت من إمساك الأضياف عن الأكل وقالت: عجبا لأضيافنا نخدمهم بأنفسنا وهم لا يأكلون طعامنا، وقال وهب بن منبه: وروي أيضا عن ابن عباس أنها ضحكت من البشارة بإسحق، وفي الكلام على ذلك تقديم وتأخير، وقيل: * (ضحكت) * من المعجز الذي تقدم نقله عن جبريل عليه السلام،
97

ولعل الأظهر ما ذكرناه أولا عن البعض، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالضحك التبسم ويستعمل في السرور المجرد نحو مسفرة ضاحكة، ومنه قولهم: روضة تضحك، وأخرج عبد بن حميد. وأبو الشيخ. وغيرهما عن ابن عباس أن * (ضحكت) * بمعنى حاضت، وروي ذلك عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما. ومجاهد. وعكرمة، وقولهم: ضحكت الأرنب بهذا المعنى أيضا، وأنكر أبو عبيدة. وأبو عبيد. والفراء مجيء ضحك بمعنى حاض، وأثبت ذلك جمهور اللغويين، وأنشدوا له قوله:
(وضحك) الأرانب فوق الصفا * كمثل دم الجوق يؤم اللقا
وقوله:
وعهدي بسلمي (ضاحكا) في لبابة * ولم يعد حقا ثديها أن تحلما
وقوله:
إني لآتي العرس عند طهورها * وأهجرها يوما إذا تك (ضاحكا)
والمثبت مقدم على النافي. ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، نعم قال ابن المنير: إنه يبعد الحمل على ذلك هنا قولها: * (أألد وأنا عجوز) * الخ فإنه لو كان الحيض قبل البشارة لما تعجبت إذ لا عجب في حمل من تحيض، والحيض في العادة معيار على إمكان الحمل، ودفع بأن الحيض في غير أوانه مؤكد للتعجب أيضا، ولأنه يجوز أن تظن أن دمها ليس بحيض بل استحاضة فلذا تعجبت، وقرأ محمد بن زياد الأعرابي من قراء مكة * (فضحكت) * بفتح الحاء، وزعم المهدوي أنه غير معروف وأن * (ضحك) * بالكسر هو المعروف، ومصدره ضحكا وضحكا بسكون الحاء وفتح الضاد وكسرها، وضحكا وضحكا بكسر الحاء مع فتح الضاد وكسرها، والظاهر أن هذه مصادر ضحك بأي معنى كان، ويفهم من مجمع البيان أن مصدر - ضحك - بمعنى حاضت إنما هو ضحكا بفتح الضاد وسكون الحاء، ولم نر هذا التخصيص في غيره، وعن بعضهم أن فتح الحاء في الماضي خصوص بضحك بمعنى حاض، وعليه فالقراءة المذكورة تؤيد تفسير ضحكت على قراءة الجمهور بحاضت.
* (فبشرناها بإسح‍اق) * قيل: أي عقبنا سرورها بسرور أتم منه على ألسنة رسلنا * (ومن وراء إسح‍اق يعقوب) * بالنصب، وهي قراءة ابن عامر. وحمزة. وحفص. وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما على أنه منصوب بتقدير فعل يفسره ما يدل عليه الكلام أي ووهبنا لها من وراء إسحق يعقوب، ورجع ذلك أبو علي، واعترضه البعض بأنه حينئذ لا يكون ما ذكر داخلا تحت البشارة، ودفع بأن ذكر هذه الهبة قبل وجود الموهوب بشارة معنى، وقيل: هو معطوف على محل * (باسحق) * لأنه في محل نصب، واعترض أنه إنما يتأتى العطف على المحل إذا جاز ظهور المحل في فصيح الكلام كقوله: ولسنا بالجبال ولا الحديدا
وبشر لا تسقط باؤه من المبشر به في الفصيح، وزعم بعضهم أن العطف على * (باسحق) * على توهم نصبه لأنه في معنى وهبنا لها إسحق فيكون كقوله: (مشائيم) ليسوا مصلحين عشيرة * ولا ناعب إلا بين غرابها
إلا أنه توهم في هذا وجود الباء في المعطوف عليه على عكس ما في الآية الكريمة، ويقال لمثل هذا: عطف التوهم، ولا يخفى ما في هذه التسيمة هنا من البشاعة على أن هذا العطف شاذ لا ينبغي التخريج عليه مع وجود غيره، وبهذا اعترض على الزمخشري من حمل كلامه حيث قال: وقرىء بالنصب كأنه قيل: وهبنا لها إسحق ومن ورلء إسحق يعقوب على طريقة قوله: مشائيم
البيت عليه لما أنه الظاهر منه، وقال في الكشف أراد أنه عطف معنوي ومثله شائع مستفيض في العطف والاضمار على شريطة التفسير وغيرهما، وإنما شبهه بقوله:
98

ولا ناعب
تنبيها على أن ذلك مع بعده لما كان واقعا فهذا أجدر، والغرض من التشبيه أن غير الموجود في اللفظ جعل بمنلته وأعمل، ولا يخفى أنه خلاف المتبادر من عبارته، وقيل: إنه معطوف على لفظ * (إسحق) * وفتحته للجر لأنه غير مصروف للعلمية والعجمة، وعلى هذا دخوله في البشارة ظاهر إلا أنه قيل عليه: إنه يلزمه الفصل
بين نائب الجار ومجروره وهو أبعد منه بين الجار ومجروره، وفي البحر أن من ذهب إلى أنه معطوف على ما ذكر فقوله ضعيف لأنه لا يجوز الفصل بالظرف أو المجرور بين حرف العطف ومعطوفه المجرور، فلا يجوز مررت بزيد اليوم وأمس عمرو فإن جاء ففي شعر، فإن كان المعطوف منصوبا أو مرفوعا ففي جواز ذلك خلاف نحو قام زيد واليوم عمرو. وضربت زيدا واليوم عمرا، وقرأ الحرميات. والنحويان. وأبو بكر و * (يعقوب) * بالرفع على الابتداء، * (ومن وراء) * الخبر كأنه قيل - ومن وراء إسحق يعقوب كائن. أو موجود. أو مولود - قال النحاس: والجملة حال داخلة في البشارة أي فبشرناها باسحق متصلا به يعقوب.
وأجزا أبو علي أن يرتفع بالجار والمجرور كما أجازه الأخفش، وقيل: إنه جائز على مذهب الجمهور أيضا لاعتماده على ذي الحال، وتعقب بأنه وهم لأنه الجار والمجرور إذا كان حالا لا يجوز اقترانه بالواو فليتدبر.
وجوز النحاس أيضا أن يكون فاعلا باضمار فعل تقديره ويحدث من وراء إسحق يعقوب.
قال ابن عطية: وعلى هذا لا يدخل في البشارة، وقد مر ما يعلم منه الجواب، ودوراء) * هنا بمعنى خلف وبذلك فسرها الراغب. وغيره هنا، وهو رواية عن ابن عباس، وفي رواية أخرى عنه تفسيرها بولد الولد وهو أحد معانيها كما في الصحاح، والقاموس، وبذلك قال الشعبي، واختاره أبو عبيدة، واستشكل بأن * (يعقوبذ وله إسحق عليه السلام لصلبه لا ولد ولده، ولدفع ذلك قال الزمخشري فيما نقل عنه: إن وجه هذا التفسير أن يراد بيعقوب أولاده كما يقال: هاشم ويراد أولاده فكأنه قيل: من ولد ولد إسحق أولاد يعقوب، ويتضمن ذلك البشارة بيعقوب من طريق الأولى، وقيل: وجه ذلك أنه سمي ولد إسحق * (وراء) * بالنسبة إليها أي وراؤها من إسحق كأنهم بشروها بأن تعيش حتى ترى ولد ولدها، أو بأن يولد لولدها ولد، قيل: وهذا أقرب، والمنقول عن الزمخشري أظهر، والمعول عليه تفسيره بمعنى خلف إذ في كلا الوجهين تكلف لا يخفى، والاسمان يحتمل وقوعهما في البشارة كما في قوله تعالى: * (نبشرك بغلام اسمه يحيى) * (مريم: 7) وهو الأظهر.
وروي عن السدى: ويحتمل أنها بشرت بولد وولد ولد من غير تسمية ثم سميا بعد الولادة، وتوجيه البشارة إليها مع أن الأصل في ذلك إبراهيم عليه السلام، وقد وجهت إليه في آيتي الحجر. والذاريات للإيذان بأن ما بشر به يكون منهما ولكونها عقيمة حريصة على الولد وكانت قد تمنته حينما ولد لهاجر إسماعيل عليه السلام.
* (قالت ياويلتا ءألد وأنا عجوز وه‍اذا بعلى شيخا إن ه‍اذا لشىء عجيب) *
* (قالت) * استئناف بياني كأن سائلا سأل ما فعلت حين بشرت؟ فقيل: قالت: * (ي‍اويلتي) * من الويل وأصله الخزي، ويستعمل في كل أمر فظيع، والمراد هنا التعجب وقد كثرت هذه الكلمة على أفواه النساء إذ طرأ عليهن ما يتعجبن منه، والظاهر أن الألف بدل من ياء المتكلم، ولذا أمالها أبو عمرو. وعاصم في رواية، وبهذا يلغز فيقال: ما ألف هي ضمير مفرد متكلم.
وقرأ الحسن * (يا ويلتي) * بالياء على الأصل، وقيل: إنها ألف الندبة ولذا يلحقونها الهاء فيقولون. يا ويلتاه * (ءألد وأنا عجوز) * ابنة تسعين سنة على ما روي عن ابن إسحق، أو تسع وتسعين على ما روي عن مجاهد.
99

* (وهذا) * الذي تشاهدونه * (بعلى) * أي زوجي، وأصل البعل القائم بالأمر فأطلق على الزوج لأنه يقوم بأمر الزوجة، وقال الراغب: هو الذكر من الزوجين وجمعه بعولة نحو فحل وفحولة، ولما تصوروا من الرجل استعلاءا على المرأة فجعل سائسها والقائم عليها؛ وسمي به شبه كل مستعل على غيره به فسمي باسمه، ومن هنا سمي العرب معبودهم الذي يتقربون به إلى الله تعالى بعلا لاعتقادهم ذلك فيه * (شيخا) * ابن مائة سنة. أو مائة وعشرين، وهو من شاخ يشيخ، وقد يقال: للأنثى شيخة كما قال: وتضحك مني (شيخة) عبشمية
ويجمع على أشياخ. وشيوخ. وشيخان ونصبه على الحال عند البصريين، والعامل فيه ما في هذا من معنى الإشارة أو التنبيه.
قال الزجاج: ومثل هذه الحال من لطيف النحو وغامضه إذ لا تجوز إلا حيث يعرف الخبر؛ ففي قولك: هذا زيد قائما لا يقال إلا لمن يعرفه فيفيده قيامه ولو لم يكن كذلك لزم أن لا يكون زيدا عند عدم القيام وليس بصحيح فهنا بعليته معروفة، والمقصود بيان شيوخته وإلا لزم أن لا يكون بعلها قبل الشيخوخة قاله الطيبي، ونظر فيه بأنه إنما يتوجه إذا لم تكن الحال لازمة غير منفكة أما في نحو هذا أبوك عطوفا فلا يلزم المحذور، والحال ههنا مبينة هيئة الفاعل أو المفعول لأن العامل فيها ما أشير إليه وبذلك التأويل يتحد عامل الحال وذيها، وذهب الكوفيون إلى أن هذا يعمل عمل كان و * (شيخا) * خبره وسموه تقريبا ".
وقرأ ابن مسعود - وهو في مصحفه - والأعمش - شيخ - بالرفع على أنه خبر محذوف أي هو شيخ، أو خبر بعد خبر، وفي البحر إن الكلام على هذا كقولهم: هذا حلو حامض، أو هو الخبر، و * (بعلي) * بدل من اسم الإشارة. أو بيان له، وجوز أن يكون * (بعلي) * الخبر، و - شيخ - تابعا له، وكلتا الجملتين وقعت حالا من الضمير في * (أألد) * لتقرير ما فيه من الاستبعاد وتعليله أي أألد وكلانا على حالة منافية لذلك، وإنما قدمت بيان حالها على بيان حاله عليه السلام لأن مباينة حالها لما ذكر من الولادة أكثر إذ ربما يولد للشيوخ من الشواب أما العجائز داؤهن عقام، ولأن البشارة متوجهة إليها صريحا ولأن العكس في البيان ربما يوهم من أول الأمر نسبة المانع عن الولادة إلى جانب إبراهيم عليه السلام وفيه ما لا يخفى من المحذور، واقتصارها في الاستبعاد على ولادتها من غير تعرض لحال النافلة لأنها المستبعدة وأما ولادة ولدها فلا يتعلق بها استبعاد قاله سيخ الإسلام * (إن ه‍اذا) * أي ما ذكر من حصول الولد من هرمين مثلنا، وقيل: هو إشارة إلى الولادة أو البشارة بها، والتذكير لأن المصدر في تأويل * (إن) * مع الفعل ولعل المآل أن هذا الفعل * (لشيء عجيب) * أي من سنة الله تعالى المسلوكة في عباده، والجملة تعليل بطريق الاستئناف التحقيقي ومقصدها كما قيل: استعظام نعمة الله تعالى عليها في ضمن الاستعجاب العادي لا استبعاد ذلك من حيث القدرة.
* (قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبرك‍اته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد) *
* (قالوا أتعجبين من أمر الله) * أي قدرته وحكمته. أو تكوينه وشأنه سبحانه أنكروا عليها تعجبها لأنها كانت ناشئة في بيت النبوة ومهبط الوحي ومحل الخوارق فكان حقها أن تتوقر ولا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء من أمثال هذه الخوارق من ألطاف الله سبحانه الخفية ولطائف صنعه الفائضة على كل أحد ممن يتعلق بإفاضته عليه مشيئته تعالى الأزلية لا سيما أهل بيت النبوة الذين هم عم وأن تسبح الله تعالى وتمجده وتحمده، وإلى ذلك أشاروا بقوله عالى: * (رحمت الله) * المستتبعة كل خير
100

ووضع المظهر موضع المضمر لزيادة تشريفها والإيماء إلى عظمتها * (وبرك‍اته) * أي خيراته التامة المتكاثرة التي من جملتها هبة الأولاد، وقيل: الرحمة النبوة. والبركات الأسباط من بني إسرائيل لأن الأنبياء عليهم السلام منهم وكلهم من ولد إبراهيم عليه السلام؛ وقيل: رحمته تحيته. وبركاته فواضل خيره بالخلة والإمامة.
* (عليكم أهل البيت) * نصب على المدح. أو الاختصاص كما ذهب إليه كثير من المعربين، قال أبو حيان: وبينهما فرق ولذلك جعلهما سيبويه في بابين وهو أن المنصوب على المدح لفظ يتضمن بوضعه المدح كما أن المنصوب على الذم يتضمن بوضعه الذم والمنصوب على الاختصاص يقصد به المدح. أو الذم لكن لفظه لا يتضمن بوضعه ذلك كقول رؤبة: بنا تميما يكشف الضباب
انتهى، وفي الهمع أن النصب في الاختصاص بفعل واجب الاضمار وقدره سيبويه - بأعنى - ويختص بأن الواقعة بعد ضمير المتكلم كأنا أفعل كذا أيها الرجل. وكاللهم اغفر لنا أيتها العصابة، وحكمها في هذا الباب - إلا عند السيرافي. والأخفش - حكمها في باب النداء ويقوم مقامها في الأكثر كما - قال سيبويه - بنو نحو قوله: نحن بني ضبة أصحاب الجمل (c)
ومنه قوله: نحن بنات طارق * نمشي على النمارق
ومعشر كقوله: لنا معشر الأنصار مجد مؤثل * بإرضائنا خير البرية أحمدا
وفي الحديث " نحن معاشر الأنبياء لا نورث " وآل. وأهل، وأبو عمرو لا ينصب غيرهما وليس بشيء، وقل كون ذلك علما كما في بيت رؤبة السابق في كلام أبي حيان، ولا يكون اسم إشارة. ولا غيره. ولا نكرة البتة. ولا يجوز تقديم اسم الاختصاص على الضمير، وقل وقوع الاختصاص بعد ضمير المخاطب كسبحانك الله العظيم، وبعد لفظ غائب في تأويل المتكلم أو المخاطب نحو على المضارب الوضيعة أيها البائع، فالمضرب لفظ غيبة لأنه ظاهر لكنه في معنى على أو عليك، ومنع ذلك الصفار البتة لأن الاختصاص شبه النداء فكما لا ينادي الغائب فكذلك لا يكون فيه الاختصاص انتهى مع أدنى زيادة وتغيير، ومنه يعلم بعض ما في كلام أبي حيان وأن حمل ما في الآية الكريمة على الاختصاص انتهى مع أدنى زيادة وتغيير، ومنه يعلم بعض ما في كلام أبي حيان وأن حمل ما في الآية الكريمة على الاختصاص من ارتكاب ما قل في كلامهم، وجوز في الكشاف نصبه على النداء، وقدمه على احتمال النصب على الاختصاص، ولعله أشار بذلك إلى ترجيحه على الاحتمال الثاني لكن ذكر بعض الأفاضل إن في ذلك فوات معنى المدح المناسب للمقام، والمراد من البيت - كما في البحر - بيت السكنى، وأصله مأوى الإنسان بالليل، ثم قد يقال من غير اعتبار الليل فيه، ويقع على المتخذ من حجر. ومن مدر. ومن صوف. ووبر، وعبر عن مكان الشيء بأنه بيته ويجمع على بيوت وأبيات، وجمع الجمع أباييت. وبيوتات. وأبياوات، ويصغر على بييت. وبييت بالكسر، ويقال: بويت كما تقوله العامة، وصرف الخطاب من صيغة الواحدة إلى الجمع ليكون جوابهم عليهم السلام لها جوابا لمن يخطر بباله مثل ما خطر ببالها من سائر أهل البيت.
والجملة كلام مستأنف علل به إنكار تعجبها فهي جملة خبرية، واختاره جمع من المحققين، وقيل: هي دعائية وليس بذاك، واستدل بالآية على دخول الزوجة في أهل البيت، وهو الذي ذهب إليه السنيون، ويؤيده ما في سورة الأحزاب، وخالف في ذلك الشيعة فقالوا: لا تدخل إلا إذا كانت قريب الزوج، ومن نسبه فإن المراد من البيت بيت النسب لا بيت الطين والخشب، ودخول سارة رضي الله تعالى عنها هنا لأنها بنت عمه، وكأنهم حملوا البيت على الشرف كما هو أحد معانيه، وبه فسر في قول العباس رضي الله تعالى عنه يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
101

حتى احتوى (بيتك) المهيمن من * خندف علياء تحتها النطف
ثم خصوا الشرف بالشرف النسبي وإلا فالبيت بمعنى النسب مما لم يشع عند اللغويين، ولعل الذي دعاهم لذلك بغضهم لعائشة رضي الله تعالى عنها فراموا إخراجها من حكم * (يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) *، وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل الكلام في هذا المقام، واستدل بالآية على كراهة الزيادة في التحية على السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وروي ذلك عن غير واحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
أخرج البيهقي في الشعب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رجلا قال له: سلام عليك ورحمة الله وبركاته ومغفرته فانتهره ابن عمر وقال: حسبك ما قال الله تعالى، وأخرج عن ابن عباس أن سائلا قام على الباب وهو عند ميمونة فقال: السلام عليكم أهل البيت ما قال الله تعالى، وأخرج عن ابن عباس أن سائلا قام على الباب وهو عند ميمونة فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته وصلواته ومغفرته، فقال: انتهوا بالتحية إلى ما قال الله سبحانه، وفي رواية عن عطاء قال: كنت جالسا عند ابن عباس فجاء سائل فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفته ورضوانه فقال: ما هذا السلام؟! وغضب حتى احمرت وجنتاه إن الله تعالى حد للسلام حدا ثم انتهى ونهى عما وراء ذلك ثم قرأ * (رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت) * * (إنه حميد) * قال أبو الهيثم: أي تحمد أفعاله، وفي الكشاف أي فاعل ما يستوجب به الحمد من عباده ففعيل بمعنى مفعول، وجوز الراغب أن يكون * (حميد) * هنا بمعنى حامد ولعل الأول أولى * (مجيد) * أي كثير الخير والإحسان، وقال ابن الأعرابي: هو الرفيع يقال: مجد كنصر وكرم مجدا ومجادة أي كرم وشرف؛ وأصله من مجدت الابل إذا وقعت في مرعى كثير واسعد، وقد أمجدها الراعي إذا أوقعها في ذلك، وقال الأصمعي: يقال: أمجدت الدابة إذا أكثرت علفها، وقال الليث: أمجد فلان عطاءه ومجده إذا كثره، ومن ذلك قول أبي حية النميري:
تزيد على صواحبها وليست * (بما جدة) الطعام ولا الشراب
أي ليست بكثيرة الطعام ولا الشراب، ومن أمثالهم في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفا رأي استكثر من ذلك، وقال الراغب: أي تحري السعة في بذل الفضل المختص به، وقال ابن عطية: مجد الشيء إذا حسنت أوصافه، والجملة على ما في الكشف تذييل حسن لبيان أن مقتضى حالها أن تحمد مستوجب الحمد المحسن إليها بما أحسن وتمجده إذ شرفها بما شرف، وقيل: هي تعليل لما سبق من قوله سبحانه: * (رحمة الله وبركاته عليكم) *.
* (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجآءته البشرى يج‍ادلنا فى قوم لوط) *
* (فلما ذهب عن إبراهيم الروع) * أي الخوف والفزع، قال الشاعر: إذا أخذتها هزة (الروع) أمسكت * بمنكب مقدام على الهول أروعا
والفعل راع، ويتعدى بنفسه كما في قوله: (ما راعني) إلا حمولة أهلها * وسط الديار تسف حب الخمخم
والروع بضم الراء النفس وهي محل الروع، والفاء لربط بعض أحوال إبراهيم عليه السلام ببعض غب انفصالها بما ليس بأجنبي من كل وجه بل له مدخل في السياق والسباق، وتأخر الفاعل عن الظرف لكونه مصب الفائدة، والمعنى لما زال عنه ما كان أوجسه منهم من الخيفة وأطمأنت نفسه بالوقوف على جلية أمرهم * (وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط) * أي يجادل رسلنا في حالهم وشأنهم، ففيه مجاز في الإسناد، وكانت مجادلته عليه السلام لهم ما قصه الله سبحانه في قوله سبحانه في سورة العنكبوت: * (ولما جاءت رسلنا إبراهيم
102

بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا) * (العنكبوت: 31، 32) فقوله عليه السلام: * (إن فيها لوطا) * مجادلة وعد ذلك مجادلة لأن مآله على ما قيل: كيف تهلك قرية فيها من هو مؤمن غير مستحق للعذاب؟ ولذا أجابوه بقولهم: * (نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته) * وهذا القدر من القول هو المتيقن.
وعن حذيفة أنهم لما قالوا لع عليه السلام ما قالوا، قال: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين أتهلكونها؟ قالوا: لا، قال: فثلاثون؟ قالوا: لا، قال: فعشرون، قالوا: لا، قال: فإن كان فيهم عشرة. أو خمسة - شك الرواي -؟ قالوا: لا، قال: أرأيتم إن كان فيها رجل واحد من المسلمين أتهلكونها؟ قالوا: لا، فعند ذلك قال: * (إن فيها لوطا) * فأجابوه بما أجابوه، وروي نحو ذلك عدة روايات الله تعالى أعلم بصحتها، وفسر بعضهم المجادلة بطلب الشفاعة، وقيل: هي سؤاله عن العذاب هل هو واقع بهم لا محالة أم على سبيل الإخافة ليرجعوا إلى الطاعة؟ وأيا ما كان - فيجادلنا - جواب - لما - وكان الظاهر جادلنا إلا أنه عبر بالمضارع لحكاية الحال الماضية واستحضار صورتها، وقيل: إن - لما - كلو تقلب المضارع ماضيا كما أن - أن - تقلب الماضي مستقبلا، وقيل: الجواب محذوف، وهذه الجملة في موضع الحال من فاعله أي أخذ أو أقبل مجادلالنا، وآثر هذا الوجه الزجاج ولكنه جعله مع حكاية الحال وجها واحدا لأنه قال: ولم يذكر في الكلام أخذ لأن الكلام إذا أريد به حكاية حال ماضية قدر فيه أخذ وأقبل لأنك إذا قلت: قام زيد دل على فعل ماض، وإذا قلت: أخذ زيد يقوم دل على حال ممتدة من أجلها ذكر أخذ وأقبل، وصنيع الزمخشري يدل على أنهما وجهان، وتحقيقه على ما في الكشف أنه إذا أريد استمرار الماضي فهو كما ذكره الزجاج، وإن أريد التصوير المجرد فلا، وقيل: الجواب محذوف.
والجملة مستأنفة استئنافا نحويا أو بيانيا وهي دليل عليه، والتقدير اجترأ على خطابنا أو فطن بمجادلتنا وقال: كيت وكيت، واختاره في الكشاف، وقيل: إن هذه الجملة - وكذا الجملة التي قبلها - في موضع الحال من * (إبراهيم) * على الترادف أو التداخل وجواب لما قلنا يقدر قبل * (يا إبراهيم أعرض عن هذا) * (هود: 76)، وأقرب الأقوال أولها، والبشرى إن فسرت بقولهم: * (لا تخف) * فسببية ذهاب الخوف ومجيء السرور للمجادلة ظاهرة، وأما إن فسرت ببشارة الولد - كما أخرجه ابن جرير. وابن المنذر. وغيرهما عن قتادة واختاره جمع أو بما يعمها - فلعل سببيتها لها من حيث أنها تفيد زيادة اطمئنان قبله عليه السلام بسلامته وسلامة أهله كافة كذا قاله مولانا شيخ الإسلام، ثم قال: إن قيل: إن المتبادر من هذا الكلام أن يكون إبراهيم عليه السلام قد علم أنهم مرسلون لإهلاك قوم لوط قبل ذهاب الروع عن نفسه ولكن لم يقدر على مجادلتهم في شأنهم لاشتغاله بشأن نفسه، فلما ذهب عنه الروع فرغ لها مع أن ذهاب الروع إنما هو قبل العلم بذلك لقوله سبحانه: * (قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط) * (هود: 70) قلنا: كان لوط عليه السلام على شريعة إبراهيم عليه السلام وقومه مكلفين بها فلما رأى من الملائكة عليهم السلام ما رأى خاف على نفسه وعلى كافة أمته التي من جملتهم قوم لوط، ولا ريب في تقدم هذا الخوف على قولهم: * (لا تخف) * وأما الذي علمه عليه السلام بعد النهي فهو اختصاص قوم لوط بالهلاك لا دخول لهم تحت العموم فتأمل انتهى.
وفيه أن كون الكل أمته في حيز المنع، وما أشار إليه من اتحاد الشريعتين إن أراد به الاتحاد في الأصول كاتحاد شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم مع شريعة إبراهيم عليه السلام فمسلم لكن لا يلزم منه ذلك، وإن أراد به الاتحاد في الأصول والفروع فغير مسلم ولو سلم ففي لزوم كون الكل أمته له تردد على أنه لو سلمنا كل ذلك
103

فلقائل أن يقول: سلمنا أنه عليه السلام لما رأى من الملائكة عليهم السلام ما رأى حصل له خوف على نفسه وعلى كافة أمته التي من جملتهم قوم لوط عليه السلام لكن لا نسلم أن هذا الخوف كان عن علم بأن أولئك الملائكة كانوا مرسلين لاهلاك الكل المندرج فيه قوم لوط بل عن تردد وتحير في أمرهم، وحينئذ لا ينحل السؤال بهذا الجواب كما لا يخفى على المتبصر، وكأنه لذلك أمر بالتأمل؛ وقد يقال: المفهوم من الكلام تحقق المجادلة بعد تحقق مجموع الأمرين ذهاب الروع ومجيء البشارة، وهو لا يستدعي إلا سبق العلم بأنهم مرسلون لإهلاك قوم لوط على تحقق المجموع، ويكفي في ذلك سبقه على تحقق البشارة، وهذا العلم مستفاد من قولهم له: * (لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط) * وكأنه عليه السلام إنما لم يجادل بعد هذا العلم، وأخر المجادلة إلى مجيء البشارة ليرى ما ينتهى إليه كلام الملائكة عليهم السلام، أو
لأنه لم يقع فاصل سكوت في البين ليجادل فيه إلا أن هذا لا يتم إلا أن يكون الإخبار بالإرسال إلى قوم لوط سابقا على البشارة بالولد، وفيه تردد.
وفي بعض الآيات ما هو ظاهر في سبق البشارة على الإخبار بذلك، نعم يمكن أن يلتزم سبق الأخبار على البشارة، ويقال: إنهم أخبروه أولا ثم بشروه ثانيا، ثم بعد أن تحقق مجموع الأمرين قال: * (فما خطبكم أيها المرسلون) * ويقال: الرماد منه السؤال عن حال العذاب هل هو واقع بهم لا محالة أم هو على سبيل الإخافة ليرجعوا إلى الإيمان؟ وتفسير المجادلة به كما مر عن بعض فتدبر ذاك والله سبحانه يتولى هداك.
* (إن إبراهيم لحليم أواه منيب) *
* (إن إبراهيم لحليم) * غير عجول على الانتقام إلى المسيء إليه * (أواه) * كثير التأوة من الذنوب والتأسف على الناس * (منيب) * راجع إلى الله تعالى، والمقصود من وصفه عليه السلام بهذه الصفات المنبئة عن الشفقة ورقة القلب بيان ما حمله على ما صدر عنه من المجادلة، وحمل الحلم على عدم العجلة والتأني في الشيء مطلقا، وجعل المقصود من الوصف بتلك الصفات بيان ما حمله على المجادلة وإيقاعها بعد أن تحقق ذهاب الروع ومجيء البشرى لا يخفي حاله.
* (يإبراهيم أعرض عن ه‍اذآ إنه قد جآء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود) *
* (يا إبراهيم) * على تقدير القول ليرتبط بما قبل أي قالت الملائكة، أو قلنا * (يا إبراهيم) *.
* (أعرض عن ه‍اذا) * الجدال * (إنه) * أي الشأن * (قد جاء أمر ربك) * أي قدره تعالى المقضى بعذابهم، وقد يفسر بالعذاب، ويراد بالمجيء المشارفة فلا يتكرر مع قوله سبحانه:
* (وإنهم ءاتيهم عذاب غير مردود) * أي لا بجدال ولا بدعاء ولا بغيرهما إذ حاصل ذلك حينئذ شارفهم ثم وقع بهم، وقيل: لا حاجة إلى اعتبار المشارفة، والتكرار مدفوع بأن ذاك توطئة لذكر كونه غير مردود.
وقرأ عمرو بن هرم - وإنهم أتاهم - بلفظ الماضي، و * (عذاب) * فاعل به، وعبر بالماضي لتحقيق الوقوع.
* (ولما جآءت رسلنا لوطا سىء بهم وضاق بهم ذرعا وقال ه‍اذا يوم عصيب) *
* (ولما جاءت رسلنا لوطا) * عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: انطلقوا من عند إبراهيم عليه السلام وبين القريتين أربعة فراسخ ودخلوا عليه في صورة غلمان مرد حسان الوجوه فلذلك * (سيء بهم) * أي أحدث له عليه السلام مجيئهم المساءة لظنه أنهم أناس فخاف أن يقصدهم قومه ويعجز عن مدافعتهم، وقيل: كان بين القريتين ثمانية أميال فأتوها عشاءا، وقيل نصف النهار ووجدوا لوطا في حرث له.
وقيل: وجدوا بنتا له تستقي ماءا من نهر سدوم وهي أكبر محل للقوم فسألوها الدلالة على من يضيفهم ورأت هيأتهم فخافت عليهم من قوم أبيها فقالت لهم: مكانكم وذهبت إلى أبيها فأخبرته فخرج إليهم فقالوا:
104

إنا نريد أن تضيفنا الليلة، فقال: أو ما سمعتم بعمل هؤلاء القوم؟ فقالوا: وما عملهم؟ فقال: أشهد بالله تعالى أنهم شر قوم في الأرض، وقد كان الله تعالى قال للملائكة لا تعذبوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فلما قال هذه قال جبريل عليه السلام: هذه واحدة وتكرر القول منهم حتى كرر لوط الشهادة فتمت الأربع ثم دخل المدينة فدخلوا معه منزله * (وضاق بهم ذرعا) * أي طاقة وجهدا، وهو في الأصل مصدر ذرع البعير بيديه يذرع في مسيره إذا سار مادا خطوه مأخوذ من الذراع وهي العضو المعروف، ثم توسع فيه فوضع موضع الطاقة والجهد، وذلك أن اليد كما تجعل مجازا عن القوة فالذراع المعروفة كذلك، وفي " الصحاح " يقال: ضقت بالأمر ذرعا إذا لم تطقه ولم تقو عليه، وأصل الذرع بسط اليد فكأنك تريد مددت يدي إليه فلم تنله، وربما قالوا: ضقت به ذراعا، قال حميد بن ثور يصف ذئبا: وإن بات وحشا ليلة لم يضق بها * (ذراعا) ولم يصبح لها وهو خاشع
وفي " الكشاف " جعلت العرب ضيق الذراع والذرع عبارة عن فقد الطاقة كما قالوا: رحب الذراع بكذا إذا كان مطيقا له، والأصل فيه أن الرجل إذا طالت ذراعه نال ما لا يناله القصير الذراع فضرب ذلك مثلا في العجز والقدرة، ونصبه على أنه تمييز محول عن الفاعل أي ضاق بأمرهم وحالهم ذرعه، وجوز أن يكون الذرع كناية عن الصدر والقلب، وضيقه كناية عن شدة الانقباض للعجز عن مدافعة المكروه والاحتيال فيه، وهو على ما قيل: كناية متفرعة على كناية أخرى مشهورة؛ وقيل: إنه مجاز لأن الحقيقة غير مرادة هنا؛ وأبعد بعضهم في تخريج هذا الكلام فخرجه على أن المراد أن بدنه ضاق قدر عن احتمال ما وقع * (وقال ه‍اذا) * اليوم * (يوم عصيب) * أي شديد، وأصله من العصب بمعنى الشد كأنه لشدة شره عصب بعضه ببعض، وقال أبو عبيدة: سمي بذلك لأنه يعصب الناس بالشر، قال الراجز: يوم عصيب يعصب الأبطالا * عصب القوى السلم الطوالا
وفي معناه العصبصب والعصوصب.
* (وجآءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال ياقوم ه‍اؤلاء بناتى هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون فى ضيفى أليس منكم رجل رشيد) *
* (وجاءه) * أي لوطا وهو في بيته مع أضيافه * (قومه يهرعون إليه) * قال أبو عبيدة: أي يستحثون إليه كأنه يحث بعضهم بعضا، أو يحثهم كبيرهم ويسوقهم، أو الطمع في الفاحشة، والعامة على قراءته مبنيا للمفعول، وقرأ جماعة * (يهرعون) * بفتح الياء مبنيا للفاعل من هرع، وأصله من الهرع وهو الدم الشديد السيلان كأن بعضه يدفع بعضا، وجاء أهرع القوم إذا أسرعوا، وفسر بعضهم الإهراع بالمشي بين الهرولة والجمز، وعن ابن عباس أنه سئل عما في الآية، فقال: المعنى يقبلون إليه بالغضب، ثم أنشد قول مهلهل:
فجاءوا يهرعون وهم أسارى * نقودهم على رغم الأنوف
وفي رواية أخرى عنه أنه فسر ذلك بيسرعون وهو بيان للمراد ويستقيم على القرائتين، وجملة * (يهرعون) * في موضع الحال من قومه أي جاؤوا مهرعين إليه، روي أنه لما جاء لوط بضيفه لم يعلم ذلك أحد إلا أهل بيته فخرجت امرأته حتى أتت مجالس قومها فقالت: إن لوطا قد أضاف الليلة فئة ما رؤي مثلهم جمالا فحينئذ جاؤوا يهرعون إليه * (ومن قبل) * أي من قبل وقت مجيئهم، وقيل: * (من قبل) * بعث لوط رسولا إليهم * (كانوا يعملون السيئات) * قيل: المراد سيئة إتيان الذكور إلا أنها جمعت باعتبار تكررها أو باعتبار فاعليها.
وقيل: المراد ما يعم ذلك، وإتيان النساء في محاشهن. والمكاء. والصفير. واللعب بالحمام. والقمار. والاستهزاء
105

بالناس. وغير ذلك، والمراد من ذكر عملهم السيئات من قبل بيان أنهم اعتادوا المنكر فلم يستحيوا فلذلك أسرعوا لطلب الفاحشة من ضيوفه مظهرين غير مكترثين، فالجملة معترضة لتأكيد ما قبلها.
وقيل: إنها بيان لوجه ضيق صدره لما عرف من عادتهم، وجعلها شيخ الإسلام في موضع الحال كالتي قبلها أي جاؤوا مسرعين، والحال أنهم كانوا منهمكين في عمل السيئات.
* (قال يا قوم ه‍اؤلاء بناتي هن أطهر لكم) * فتزوجوهن وكانوا يطلبونهن من قبل ولا يجيبهم لخبثهم وعدم كفاءتهم لا لعدم مشروعية تزويج المؤمنات من الكفار فإنه كان جائزا، وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب لأبي العاص بن الربيع. وابنته رقية لعتبة بن أبي لهب قبل الوحي - وكانا كافرين - إلا أن عتبة لم يدخل بها وفارقها بطلب أبيه حين نزلت * (تبت يدا أبي لهب) * (المسد: 1) فتزوجها عثمان رضي الله تعالى عنه، وأبا العاص كان قد دخل بها لكن لما أسر يوم بدر وفادى نفسه أخذ النبي صلى الله عليه وسلم العهد عليه أن يردها إذا عاد فأرسل عليه الصلاة والسلام زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار في طلبها فجاءا بها ثم أنه أسلم وأتى المدينة فردها عليه الصلاة والسلام إليه بنكاح جديد أو بدونه على الخلاف.
وقال الحسن بن الفضل: إنه عليه السلام عرض بناته عليهم بشرط الإسلام، وإلى ذلك ذهب الزجاج، وهو مبني على أن تزويج المسلمات من الكفار لم يكن جائزا إذ ذاك، وقيل: كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه ولم يكن له عليه السلام سواهما، واسم إحداهما - على ما في بعض الآثار - زعوراء. والأخرى زيتاء، وقيل: كان له عليه السلام ثلاث بنات، وأخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس، ويؤيده ظاهر الجمع وإن جاء إطلاقه على اثنين، وأيا ما كان فقد أراد عليه السلام بذلك وقاية ضيفه وهو غاية الكرم فلا يقال: كيف يليق به عليه السلام أن يعرض بناته على أعدائه ليزوجهن إياهم؟! نعم استشكل عرض بناته - بناءا على أنهن اثنتان كما هو المشهور، أو ثلاث كما قيل - على أولئك المهرعين ليتزوجوهن مع القول بأنهم أكثر منهن إذ لا يسوغ القول بحل تزوج الجماعة بأقل منهم في زمان واحد، ومن هنا قال بعض أجلة المفسرين: إن ذلك القول لم يكن منه عليه السلام مجريا على الحقيقة من إرادة النكاح بل كان ذلك مبالغة في التواضع لهم وإظهارا لشدة امتعاضه مما أوردوا عليه طمعا في أن يستحيوا منه ويرقوا له إذا سمعوا ذلك فيتركوا ضيوفه مع ظهور الأمر واستقرار العلم عنده وعندهم أن لا مناكحة بينه وبينهم وهو الأنسب بجوابهم الآتي، وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس. وابن أبي حاتم عن ابن جبير. ومجاهد. وابن أبي الدنيا. وابن عساكر عن السدي أن المراد ببناته عليه السلام نساء أمته، والإشارة بهؤلاء لتنزيلهن منزلة الحاضر عنده وإضافتهن إليه لأن كل نبي أب لأمته، وفي قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه - النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم.
وقرأ أبي رضي الله تعالى عنه مثل ذلك لكنه قدم * (وأزواجه أمهاتهم) * (الأحزاب: 6) علي - وهو أب لهم - وأراد عليه السلام بقوله: * (هن أطهر لكم) * أنظف فعلا، أو أقل فحشا كقولك: الميتة أطيب من المغصوب وأحل منه، ويراد من الطهارة على الأول الطهارة الحسية وهي الطهارة عما في اللواطة من الأذى والخبث، وعلى الثاني الطهارة المعنوية وهو التنزه عن الفحش والإثم، وصيغة أفعل في ذلك مجاز، والظاهر - إن هؤلاء بناتي - مبتدأ وخبر، وكذلك * (هن أطهر لكم) * وجوز أبو البقاء كون * (بناتي) * بدلا أو عطف بيان * (وهن) * ضمير فصل، و * (أطهر) * هو الخبر، وكون * (هن) * مبتدأ ثانيا، و * (أطهر) * خبره، والجملة خبر * (هؤلاء) *.
106

وقرأ الحسن وزيد بن علي. وعيسى الثقفي. وسعيد بن جبير. والسدي * (أطهر) * بالنصب، وقد خفي وجهه حتى قال عمرو بن العلاء: إن من قرأ * (أطهر) * بالنصب فقد تربع في لحنه وذلك لأن انتصابه على أن يجعل حالا عمل فيها ما في * (هؤلاء) * من الإشارة أو التنبيه أو ينصب * (هؤلاء) * بفعل مضمر كؤنه قيل: خذوا هؤلاء و * (بناتي) * بدل، ويعمل هذا المضمر في الحال و * (هن) * في الصورتين فصل وهذا لا يجوز لأن الفصل إنما يكون بين المسند والمسند إليه، ولا يكون بين الحال وذيها كذا قيل، وهذا المنع هو المروى عن سيبويه وخالف في ذلك الأخفش فأجاز توسط الفصل بين الحال وصاحبها فيقول: جاء زيد هو ضاحكا، وجعل من ذلك هذه الآية على هذه القراءة، وقيل: بوقوعه شذوذا كما في قولهم: أكثر أكلي التفاحة هي نضيجة، ومن منع ذلك خرج هذا على إضمار كان، والآية الكريمة على أن * (هن) * مبتدأ و * (لكم) * الخبر، و * (أطهر) * حال من الضمير في الخبر، واعترض بأن فيه تقديم الحال على عاملها الظرفي، والأكثرون على منعه أو على أن يكون * (هؤلاء) * مبتدأ و * (بناتي هن) * جملة في موضع خبر المبتدأ كقولك: هذا أخي هو، ويكون * (أطهر) * حالا وروي هذا عن المبرد. وابن جني، أو على أن يكون * (هؤلاء) * مبدأ و * (بناتي) * بدلا منه أو عطف بيان و * (هن) * خبر و * (أطهر) * على حاله.
وتعقب بأنه ليس فيه معنى طائل، ودفع بأن المقصود بالإفادة الحال كما في قولك: هذا أبوك عطوفا، وادعى في " الكشف " أن الأوجه أن يقدروا خذوا هؤلاء أطهر لكم
، وقوله: * (بناتي هن) * جملة معترضة تعليلا للأمر وكونهن أولى قدمت للاهتمام كأنه قيل خذوا هؤلاء العفائف أطهر لكم إن بناتي هن وأنتم تعلمون طهارتي وطهارة بناتي؛ ويجوز أن يقال * (هن) * تأكيد للمستكن في * (بناتي) * لأنه وصف مشتق لا سيما على المذهب الكوفي فافهم ولا تغفل * (فاتقوا الله) * بترك الفواحش أو بإيثارهن عليهم * (ولا تخزون في ضيفي) * أي لا تفضحوني في شأنهم فإن إخزاء ضيف الرجل إخزاء له، أو لا تخجلوني فيهم، والمصدر على الأول الخزي وعلى الثاني الخزاية، وأصل معنى خزي لحقه انكسار إما من نفسه وهو الحياء المفرط، وإما من غيره وهو الاستخفاف والتفضيح، والضيف في الأصل مصدر، ولذا إذا وصف به المثنى أو المجموع لم يطابق على المشهور، وسمع فيه ضيوف، وأضياف، وضيفان، * (ولا) * ناهية، والفعل مجزوم بحذف النون، والموجودة نون الوقاية، والياء محذوفة اكتفاءا بالكسرة، وقرىء بإثباتها على الأصل * (أليس منكم رجل رشيد) * يهتدي إلى الحق الصريح ويرعوي عن الباطل القبيح، وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أنه قال: يأمر بمعروف أو ينهي عن منكر، وهو إما بمعنى ذو رشد أو بمعنى مرشد كالحكيم بمعنى المحكم، والاستفهام للتعجب، وحمله على الحقيقة لا يناسب المقام.
* (قالوا لقد علمت ما لنا فى بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد) *
* (قالوا) * معرضين عما نصحهم به من الأمر بالتقوى والنهي عن الإخزاء عن أول كلامه * (لقد علمت ما لنا في بناتك من حق) * أي حق وهو واحد الحقوق، وعنوا به قضاء الشهوة أي ما لنا حاجة في بناتك، وقد يفسر بما يخالف الباطل أي ما لنا في بناتك نكاح حق لأنك لا ترى جواز نكاحنا للمسلمات، وما هو إلا عرض سابري كذا قيل، وهو ظاهر في أنه كان من شريعته عليه السلام عدم حل نكاح الكافر المسلمة.
وقيل: إنما نفوا أن يكون لهم حق في بناته لأنهم كانوا قد خطبوهن فردهم وكان من سنتهم أن من رد في خطبة امرأة لم تحل له أبدا، وقييل: إنهم لما اتخذوا إتيان الذكور مذهبا كان عندهم هو الحق وأن نكاح الإناث من الباطل فقالوا ما قالوا، وقيل: قالوا ذلك لأن عادتهم كانت أن لا يتزوج الرجل منهم إلا واحدة وكانوا
107

كلهم متزوجين * (وإنك لتعلم ما نريد) * أي من إتيان الذكور، والظاهر أن * (ما) * مفعول لتعلم، وهو بمعنى تعرف، وهي موصولة والعائد محذوف أي الذي نريده، وقيل: إنها مصدرية فلا حذف أي إرادتنا.
وجوز أن تكون استفهامية وقعت مفعولا - لنريد - وهي حينئذ معلقة - لتعلم - ولما يئس عليه السلام من إرعوائهم عما هم عليه من الغي.
* (قال لو أن لى بكم قوة أو آوىإلى ركن شديد) *
* (قال لو أن لي بكم قوة) * أي لو ثبت أن لي قوة ملتبسة بكم بالمقاومة على دفعكم بنفسي لفعلت - فلو - شرطية وجوابها محذوف كما حذف في قوله سبحانه: * (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال) * (الرعد: 31) وجوز أن تكون للتمني، و * (بكم) * حال من * (قوة) * كما هو المعروف في صفة النكرة إذا قدمت عليها، وضعف تعلقه بها لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه في المشهور، وقوله: * (أو ءاوى إلى ركن شديد) * عطف على ما قبله بناءا على ما علمت من معناه الذي يقتضيه مذهب المبرد، والمضارع واقع موقع الماضي، واستظهر ذلك أبو حيان، وقال الحوفي: إنه عطف على ما تقدم باعتبار أن المراد أو أنى آوى، وجوز ذلك أبو البقاء، وكذا جوز أن تكون الجملة مستأنفة، و - الركن - في الأصل الناحية من البيت أو الجبل، ويقال: ركن بضم الكاف، وقد قرىء به ويجمع على أركان، وأراد عليه السلام به القوى شبهه بركن الجبل في شدته ومنعته أي أو أنضم إلى قوى أتمنع به عنكم وأنتصر به عليكم، وقد عد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول منه عليه السلام بادرة واستغربه، فقد أخرج البخاري. ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: " رحم الله تعالى أخي لوطا كان يأوي إلى ركن شديد " يعني عليه الصلاة والسلام به الله تعالى فإنه لا ركن أشد منه عز وجل: إذا كان غير الله للمرء عدة * أتته الرزايا من وجوه الفوائد
وجاء أنه سبحانه - لهذه الكلمة - لم يبعث بعد لوط نبيا إلا في منعة من عشيرته، وفي " البحر " أنه يجوز - على رأي الكوفيين - أن تكون * (أو) * بمعنى بل ويكون عليه السلام قد أضرب عن الجملة السابقة، وقال: بل آوى في حالي معكم إلى ركن شديد وكني به عن جناب الله تعالى ولا يخفى أنه يأبى الحمل على هذه الكناية تصريح الأخبار الصحيحة بما يخالفها، وقرأ شيبة. وأبو جعفر * (آوى) * بالنصب على إضمار أن بعد * (أو) * فيقدر بالمصدر عطفا على * (قوة) * ونظير ذلك قوله: ولولا رجال من رزام أعزة * وآل سبيع أو أسوأك علقما
أي لو أن لي بكم قوة أو أويا، روي أنه عليه السلام أغلق بابه دون أضيافه وأخذ يجادل قومه عنهم من وراء الباب فتسوروا الجدار فلما رأت الملائكة عليهم السلام ما على لوط من الكرب.
* (قالوا يالوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من اليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها مآ أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب) *
* (قالوا ي‍الوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك) * بضرر ولا مكروه فافتح الباب ودعنا وإياهم، ففتح الباب فدخلوا فاستأذن جبريل عليه السلام رب العزة في عقوبتهم فأذن له فلما دنوا طمس أعينهم فانطلقوا عميا يركب بعضهم بعضا وهم يقولون: النجاء النجاء فإن في بيت لوط قوما سحرة، وفي رواية أنه عليه السلام أغلق الباب على ضيفه فجاؤوا فكسروا الباب فطمس جبريل أعينهم فقالوا: يا لوط جئتنا بسحرة وتوعدوه فأوجس في نفسه خيفة قال: يذهب هؤلاء ويذروني فعندها قال جبريل عليه السلام: * (لا تخف إنا رسل ربك) * * (فأسر بأهلك) * بالقطع من الإسراء، وقرأ ابن كثير. ونافع بالوصل حيث جاء في القرآن من السرى، وقد جاء سرى.
108

وهما بمعنى واحد عند أبي عبيدة. والأزهري، وعن الليث أسرى سار أول الليل وسرى سار آخره، ولا يقال في النهار: إلا سار وليس هو مقلوب سرى، والفاء لترتيب الأمر بالإسراء على الإخبار برسالتهم المؤذنة بورود الأمر والنهي من جنابه عز وجل إليه عليه السلام، والباء للتعدية أو للملابسة أي سر ملابسا بأهلك * (بقطع
من الليل) * قال ابن عباس: بطائفة منه، وقال قتادة: بعد مضي صدر منه، وقيل: نصفه، وفي رواية أخرى عن الحبر آخره وأنشد قول مالك بن كنانة: ونائحة تقوم بقطع ليل * على رحل أهانته شعوب
وليس من باب الاستدلال، وإلى هذا ذهب محمد بن زياد لقوله سبحانه: * (نجيناهم بسحر) * وتعقبه ابن عطية بأنه يحتمل أنه أسرى بأهله من أول الليل حتى جاوزوا البلد المقتلع، ووقعت نجاتهم بسحر، وأصل القطع القطعة من الشيء لكن قال ابن الأنباري: إن ذلك يختص بالليل فلا يقال: عندي قطع من الثوب.
وفسر بعضهم القطع من الليل بطائفة من ظلمته، وعن الحبر أيضا تفسيره بنفس السواد، ولعله من باب المساهة * (ولا يلتفت منكم أحد) * أي لا يتخلف كما روي عن ابن عباس، أو لا ينظر إلى ورائه كما روي عن قتادة، قيل: وهذا هو المعنى المشهور الحقيق للالتفات، وأما الأول فلأنه يقال: لفته عن الأمر إذا صرفته عنه فالتفت أي انصرف، والتخلف انصراف عن المسير، قال تعالى: * (أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه أباؤنا) * (يونس: 8،) أي تصرفنا كذا قال الراغب.
وفي الأساس أنه معنى مجازي، والنهي في اللفظ لأحد، وفي المعنى للوط عليه السلام على ما نقل عن المبرد، وهذا كما تقول لخادمك: لا يقم أحد في أن النهي في الظاهر لأحد، وهو في الحقيقة للخادم أن لا يدع أحدا يقوم، فالمعنى هنا فأسر بأهلك ولا تدع أحدا منهم يلتفت؛ ولا يخفى أنه على هذا تتم المناسبة بين المعطوف عليه والمعطوف لأن الأول لأمره عليه السلام. والثاني لنهيه، ويعلم من هذا أن ضمير * (منكم) * للأهل.
وقد صرح بذلك شهاب فلك الفضل الخفاجي، فقال: وههنا لطيفة وهو أن المتأخرين من أهل البديع اخترعوا نوعا من البديع سموه تسمية النوع، وهو أن يؤتى بشيء من البديع ويذكر اسمه على سبيل التورية كقوله في البديعية في الاستخدام: واستخدموا العين مني فهي جارية * وكم سمحت بها في يوم بينهم
وتبجحوا باختراعه، وأنا بمن الله تعالى أقول: إنه وقع في القرآن في هذه الآية لأن قوله سبحانه: * (فأسر بأهلك) * الخ وقع فيه ضمير * (منكم) * للأهل فقوله جل وعلا: * (لا يلتفت) * من تسمية النوع وهذا من بديع النكات انتهى، وسر النهي عن الالتفات بمعنى التخلف ظاهر، وأما سره إذا كان بمعنى النظر إلى وراء فهو أن يجدوا في السير فإن من يلتفت إلى ورائه لا يخلو عن أدنى وقفة أو أن لا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقوا لهم.
وذكر بعضهم أن النهي وكذا الضمير للوط عليه السلام ولأهله أي لا يلتفت أحد منك ومن أهلك. * (إلا امرأتك) * بالنصب وهو قراءة أكثر السبعة.
وقرأ ابن كثير. وأبو عمرو بالرفع؛ وقد كثر الكلام في ذلك فقال الزمخشري: إنه سبحانه استثناها من قوله: * (فأسر بأهلك) * ويدل عليه قراءة عبد الله - * (فأسر بأهلك) * بقطع من الليل إلا امرأتك - ويجوز أن ينتصب
109

من - لا يلتفت - على أصل الاستثناء، وإن كان الصيح هو البدل أعني قراءة من قرأ بالرفع فأبدلها من أحد، وفي إخراجها مع أهله روايتان: روي أنه أخرجها معهم وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي فلما سمعت هدة العذاب التفتت وقالت: يا قوماه فأدركها حجر فقتلها.
وروي أنه لما أمر أن يخلفها مع قومها فإن هواها إليهم فلم يسر بها، واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين انتهى، وأورد عليه ابن الحاجب ما خلاصته أنه إما أن يسري بها فالاستثناء من أحد متعين. أولا فيتعين من * (فأسر بأهلك) * والقصة واحدة فأحد التأويلين باطل قطعا، والقراءاتان الثابتتان قطعا لا يجوز حملهما على ما يوجب بطلان أحدهما، فالأولى أن يكون * (إلا امرأتك) * رفعا ونصبا مثل * (ما فعلوه إلا قليل منهم) * (النساء: 66) ولا يبعد أن يكون بعض القراء على الوجه الأقوى، وأكثرهم على ما دونه بل جوز بعضهم أن تتفق القراء على القراءة بغير الأقوى.
وأجاب عنه بعض المغاربة بما أشار إليه في " الكشف " من منع التنافي لأن الاستثناء من الأهل يقتضي أن لا يكون لوط عليه السلام مأمورا بالإسراء بها، ولا يمنع أنها سرت بنفسها، ويكفي لصحة الاستثنائين هذا المقدار كيف ولم ينه عن إخراجها ولكنه أمر بإخراج غيرها، نعم يرد على قوله: واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين أنه يلزم الشك في كلام لا ريب فيه من رب العالمين، ويجاب بأن معناه اختلاف القراءتين جالب وسبب لاختلاف الروايتين كما تقول: السلاح للغزو أي أداة وصالح مثلا له، ولم يرد أن اختلاف القراءتين لأجل اختلاف الروايتين قد حصل، ولا شك أن كل رواية تناسب قراءة وإن أمكن الجمع، وأما قوله: وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي فنقل للرواية لا تفسير للفظ القرآن، وإنما الكائن فيه استثناؤها عن الحكم الذي للاستصلاح إذ لم يعن بها، وإلى معنى ما أشار إليه صاحب الكشف في منع التنافي أشار أبو شامة فقال: وقع في تصحيح ما أعربه النحاة معنى حسن، وذلك أن يكون في الكلام اختصار نبه عليه اختلاف القراءتين فكأنه قيل: فأسر بأهلك إلا امرأتك كما قرأ به عبد الله. ورواه أبو عبيدة عن مصحفه، فهذا دليل على أن استثناءها من السري بهم، ثم كأنه قال سبحانه: فإن خرجت معكم وتبعتكم من غير أن تكون أنت سريت بها فإنه أهلك عن الالتفات غيرها فإنها ستهلك ويصيبها ما يصيب قومها، فكانت قراءة النصب دالة على المعنى المتقدم، وقراءة الرفع دالة على هذا المعنى المتأخر ومجموعهما دال على جملة المعنى المشروح، ولا يخفى ما في ذلك من التكلف كما قال ابن مالك، ولذا اختار أن الرفع على أن الاستثناء منقطع، و * (امرأتك) * مبتدأ، والجملة بعدها خبره وإلا بمعنى لكن.
وقال ابن هشام في " المغني " في الجهة الثامنة من الباب الخامس: إن ما ذكره الزمخشري وقد سبقه إليه غيره في الآية خلاف الظاهر، والذي حمل القائلين عليه أن النصب قراءة الأكثرين فإذا قدر الاستثناء من أحد كانت قراءتهم على الوجه المرجوح، وقد التزم بعضهم جواز مجىء الأمرين مستدلا بقوله تعالى: * (إنا كل شيء خلقناه بقدر) * (القمر: 49) فإن النصب في ذلك عند سيبويه على حد قولهم: زيدا ضربته، ولم ير خوف إلباس المفسر بالصفة مرجحا كما رآه بعض المتأخرين، ثم قال: والذي أجزم به أن قراءة الأكثرين لا تكون مرجحة، وأن الاستثناء على القراءتين من جملة الأمر بدليل سقوط * (ولا يلتفت) * الخ في قراءة ابن مسعود، والاستثناء منقطع بدليل سقوطه في آية الحجر، ولأن المراد بالأهل المؤمنون وإن لم يكونوا من أهل بيته لا أهل بيته وإن لم يكونوا
110

مؤمنين كما في قوله تعالى لنوح عليه السلام: * (إنه ليس من أهلك) * (هود: 46) ووجه الرفع أنه على الابتداء، وما بعده الخبر والمستثنى الجملة، ونظيره * (لست عليهم بمصيطر * إلا من تولى وكفر * فيعذبه الله) * (الغاشية: 22 - 24).
واختار أبو شامة ما اخترته من أن الاستثنا منقطع لكنه قال: وجاء النصب على اللغة الحجازية والرفع على التميمية، وهذا يدل على أنه جعل الاستثناء من جملة النهي، وما قدمته أولى لضعف اللغة التميمية، ولما قدمت من سقوط جملة النهي في قراءة عبد الله انتهى.
واستظهر ذلك الحمصي في حواشيه على التصريح واستحسنه غير واحد، وقد نقل أبو حيان القول بالانقطاع على القراءتين وتخريج النصب على اللغة الحجازية والرفع عن الأخرى، ثم قال إنه كلام لا تحقيق فيه فإنه إذا لم يقصد إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ولا من المنهيين عن الالتفات وكان المعنى لكن امرأتك يجري عليها كذا وكذا كان من الاستثناء الذي لا يتوجه إليه العامل، وهذا النوع من الاستثناء المنقطع يجب فيه النصب بإجماع العرب، وإنما الخلاف في المنقطع الذي يمكن توجه العامل إليه وفيه نظر، ففي التوضيح لابن مالك حق المستثنى بإلا من كلام تام موجب مفردا كان أو مكملا معنى بما بعده كقوله تعالى: * (إنا لمنجوهم أجمعين * إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين) * (الحجر: 59، 60) النصب، ولا يعرف أكثر المتأخرين من البصريين إلا النصب، وقد غفلوا عن وروده مرفوعا بالابتداء ثابت الخبر كقول أبي قتادة: أحرموا كلهم إلا أبو قتادة لم يحرم، ومحذوفه نحو * (لا تدر نفس بأي أرض تموت) * إلا الله، * (وإلا) * في ذلك بمعنى لكن أي لكن أبو قتادة لم يحرم ولكن الله يعلم انتهى، وما نحن فيه من قبيل هذا، وفي حاشيتي البدر الدماميني. وتقي الدين الشمني أن الرضى قد أجاب بما يقتضي أن الاستثناء متصل ولا تناقض، وذلك أنه قال: ولما تقرر أن الأتباع هو الوجه مع الشرائط المذكورة وكان أكثر القراء على النصب في * (ولا يلتفت) * الخ تكلف الزمخشري لئلا تكون قراءة الأكثر محمولة على وجه غير مختار بما تكلف، واعترضه ابن الحاجب بلزوم التناقض لأن الاستثناء من - أسر بأهلك - يقتضي كونها غير مسرى بها، ومن - لا يلتفت منكم أحد - يقتضي كونها مسري بها لأن الالتفات بالإسراء، والجواب أن الإسراء وإن كان مطلقا في الظاهر إلا أنه في المعنى مقيد بعدم الالتفات. فمآله أسر بأهلك إسراءا لا التفات فيه إلا امرأتك فإنك تسري بها إسراءا مع الالتفات فاستثن على هذا إن شئت من - أسر - أو - لا يلتفت - ولا تناقض وهذا كما تقول: امش ولا تتبختر أي امش مشيا لا تتبختر فيه فكأنه قيل: ولا يلتفت منكم أحد في الإسراء، وكذا امش ولا تتبختر في المشي فحذف الجار والمجرور للعلم به انتهى.
وأورد عليه السيد السند في حواشيه أن الاستثناء إذا رجع إلى القيد كان المعنى فأسر بجميع أهلك إسراءا لا التفات فيه إلا من امرأتك فيكون الإسراء بها داخلا في المأمور به وإذا رجع إلى المقيد لم يكن الإسراء بها داخلا في المأمور به فيكون المحذور باقيا بحاله ولا مخلص عنه إلا بأن يقال: إن تناول العام إياها ليس قطعيا لجواز أن يكون مخصوصا فلا يلزم من رجوع الاستثناء إلى قوله تعالى: * (ولا يلتفت) * كونه عليه السلام مأمورا بالإسراء بها، وحينئذ يوجه الاستثناء بما ذكر من أنها تبعتهم أو أسرى بها مع كونه غير مأمور بذلك إذ لا يلزم من عدم الأمر به النهي عنه فتأمل انتهى.
وبحث فيه الشهاب ولم يرتض احتمال التخصيص لما أنه لا دليل عليه ويفهم صنيعه ارتضاء كلام الرضى، ثم قال: ومراده بالتقييد أنه ذكر شيآن متعاطفان، فالظاهر أن المراد الجمع بينهما لا أن الجملة حالية فلا يرد
111

عليه أن الحمل على التقييد مع كون الواو للنسق ممنوع، وكذا جعلها للحال مع لا الناهية، وأيضا القراءة بإسقاطها تدل على عدم اعتبار ذلك التقييد ولا يخلو عن شيء، هذا وقد ألفت في تحقيق هذا الاستثناء عدة رسائل: منها رسالة للحمصي. وأخرى للعلامة الكافيجي ألفها لبعض سلاطين آل عثمان غمرهم الله سبحانه بصنوف الفضل والإحسان حين طلب منه لبحث وقع في مجلسه ذلك، وبالجملة القول بالانقطاع أقل تكلفا فيما يظهر، والقول بأنه حينئذ لا يبقى ارتباط لقوله سبحانه: * (إنه مصيبها مآ أصابهم) * ناشىء من عدم الالتفات فلا ينبغي أن يلتفت إليه كما لا يخفى على من أحاط خبرا بما تقدم نقله فتأمل، وضمير * (إنه) * للشأن، و * (ما أصابهم) * مبتدأ، و * (مصيبها) * خبره، والجملة خبر - إن - الذي اسمه ضمير الشأن، وفي " البحر " إن * (مصيبها) * مبتدأ، و * (ما أصابهم) * خبره، والجملة خبر إن، ويجوز على مذهب الكوفيين أن يكون * (مصيبها) * خبر - إن - و * (ما) * فاعل به لأنهم يجوزون أنه قائم أخواك، ومذهب البصريين أن ضمير الشأن لا يكون خبره إلا جملة مصرحا بجزأيها فلا يجوز هذا الإعراب عندهم، والأولى ما ذكر أولا؛ والجملة إما تعليل على طريقة الاستئناف أو خبر - لامرأتك - على قراءة الرفع، والمراد من * (ما) * العذاب، ومن * (أصابهم) * يصيبهم والتعبيرية دونه للإيذان بتحقق الوقوع، وفي الإبهام. واسمية الجملة. والتأكيد ما لا يخفى.
* (إن موعدهم الصبح) * أي موعد عذابهم وهلاكهم ذلك، وكأن هذا على ما قيل: تعليل للأمر بالإسراء والنهي عن الالتفات المشعر بالحث على الإسراع، وقوله سبحانه: * (أليس الصبح بقريب) * تأكيد للتعليل، فإن قرب الصبح داع إلى الإسراع للتباعد عن مواقع العذاب، وروي أنه عليه السلام سأل الملائكة عليهم السلام عن وقت هلاكهم فقالوا: موعدهم الصبح، فقال: أريد أسرع من ذلك، فقالوا له: * (أليس الصبح بقريب) *.
ولعله إنما جعل ميقات هلاكهم الصبح لأنه وقت الدعة والراحة فيكون حلول العذاب حينئذ أفظع ولأنه أنسب بكون ذلك عبرة للناظرين.
وقرأ عيسى بن عمر * (الصبح) * بضم الباء قيل: وهي لغة فلا يكون ذلك اتباعا.
* (فلما جآء أمرنا جعلنا ع‍اليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود) *
* (فلما جاء أمرنا) * أي عذابنا. أو الأمر به، فالأمر على الأول واحد الأمور، وعلى الثاني واحد الأوامر، قيل: ونسبة المجىء إليه بالمعنيين مجازية، والمراد لما حان وقوعه ولا حاجة إلى تقدير الوقت مع دلالة لما عليه. وقيل: إنه يقدر على الثاني أي جاء وقت أمرنا لأن الأمر نفسه ورد قبله، ونحن في غنى عن ادعاء
تكراره، ورجح تفسير الأمر بما هو واحد الأوامر - أعني ضد النهي - بأنه الأصل فيه لأنه مصدر أمره، وأما كونه بمعنى العذاب فيخرجه عن المصدرية الأصلية وعن معناه المشهور الشائع، وبجعل التعذيب مسببا عنه بقوله سبحانه: * (جعلنا عاليها سافلها) * فإنه جواب * (لما) * والتعذيب نفس إيقاع العذاب فلا يحسن جعله مسببا عن ذلك بل العكس أولى إلا أن يؤول المجىء بإرادته، وضمير * (عاليها - و - سافلها) * لمدائن قوم لوط المعلومة من السياق وهي المؤتفكات، وهي خمس مدائن: ميعة. وصعره. وعصره. ودوما. وسدوم.
وقيل: سبع أعظمها سدوم، وهي القرية التي كان فيها لوط عليه السلام، وكان فيها على ما روي عن قتادة أربعة آلاف ألف إنسان أو ما شاء الله تعالى من ذلك، وقيل: إن هذا العدد إنما كان في المدائن كلها، وقيل: إن ما كان في المدائن أكثر من ذلك بكثر، والله تعالى أعلم.
112

ونصب (عاليها - و - وسافلها) على أنهما مفعولان للجعل، والمراد قلبناها على تلك الهيئة وهو جعل العالي سافلا، وإنما قلبت كذلك ولم يعكس تهويلا للأمر وتفظيعا للخطب لأن جعل (عاليها) الذي هو مقرهم ومسكنهم (سافلها) أشق من جعل - سافلها عاليها - وإن كان مستلزما له، روي أن لوطا عليه السلام سرى بمن معه قبل الفجر وطوى الله تعالى له الأرض حتى وصل إلى إبراهيم عليه السلام، ثم إن جبريل عليه السلام اقتلع المدائن بيده، وفي رواية أدخل جناحه تحت المدائن فرفعها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونباح الكلاب ثم قلبها، وما أعظم حكمة الله تعالى في هذا القلب الذي هو أشبه شيء بما كانوا عليه من إتيان الأعجاز والاعراض عما تقتضيه الطباع السليمة؛ ولا ينبغي أن يجعل الكلام كناية عن إنزال أمر عظيم فيها كما يقول القائل: اليوم قلبت الدنيا على فلان لما فيه من العدول عن الظاهر والانحراف عما نطقت به الآثار من غير داع سوى استبعاد مثل ذلك وما ذلك ببعيد، وإسناد الجعل إلى ضميره تعالى باعتبار أنه المسبب فهو إسناد مجازي باعتبار اللغة وإن كان سبحانه هو الفاعل الحقيقي، والنكتة في ذلك تعظيم الأمر وتهويله فإن ما يتولاه العظيم من الأمور فهو عظيم، ويقوي ذلك ضمير العظمة أيضا وعلى هذا الطرز قوله سبحانه: * (وأمطرنا عليها) * أي على المدائن أو شذاذ أهلها * (حجارة من سجيل) * وكان ذلك زيادة في تفظيع حالهم أو قطعا لشأفتهم واستئصالا لهم.
روي أن رجلا منهم كان بالحرم فبقي حجر معلق بالهواء حتى خرج منه فوقع عليه وأهلكه، والسجيل الطين المتحجر لقوله تعالى في الآية الأخرى: * (حجارة من طين) * (الذاريات: 33) والقرآن يفسر بعضه بعضا، ويتعين إرجاع بعضه لبعض في قصة واحدة، وهو كما أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس. ومجاهد معرب - سنك كل -.
وقال أبو عبيدة: السجيل - كالسجين - الشديد من الحجارة، وقيل: هو من أسجله إذا أرسله أو أدر عطيته، والمعنى حجارة كائنة من مثل الشيء المرسل أو مثل العطية في الإدرار وهو على هذا خارج مخرج التهكم، وقيل: من - السجل - بتشديد اللام وهو الصك، ومعنى كونه من ذلك أنه مما كتب الله تعالى عليهم أن يعذبهم به، وقيل: أصله من سجين وهو اسم لجهنم أو لواد فيها، فأبدلت نونه لاما.
وقال أبو العالية. وابن زيد: السجيل اسم لسماء الدنيا. قال أبو حيان: وهو ضعيف لوصفه بقوله سبحانه:
* (منضود) * أي نضد وضع بعضه على بعض معدا لعذابهم، أو نضد في الإرسال يرسل بعضه إثر بعض كقطار الأمطار، ولا يخفى أن هذه المعاني كما تأبى ما قال أبو العالية. وابن زيد تأبى بحسب الظاهر ما قيل: إن المراد به جهنم، وتكلف بعضهم فقال: يمكن وصف جهنم بذلك باعتبار المعنى الأول بناءا على أنه دركات بعضها فوق بعض أو أن الأصل منضود فيه فاتسع، وقد يتكلف بنحو هذا لما قاله أبو العالية. وابن زيد، وجوز أن يكون * (منضود) * صفة حجارة على تأويل الحجر. وجره للجوار، وعليه فالأمر ظاهر إلا أنه من التكلف بمكان.
* (مسومة عند ربك وما هى من الظ‍المين ببعيد) *
* (مسومة) * أي عليها سيما يعلم بها أنها ليست من حجارة الأرض قاله ابن جريح، وقيل: معلمة ببياض وحمرة، وروي ذلك عن ابن عباس. والحسن، وجاء في رواية أخرى عن ابن عباس أنه كان بعضها أسود فيه نقطة بيضاء وبعضها أبيض فيه نقطة سوداء.
وعن الربيع أنها كانت معلمة باسم من يرمي بها، وكان بعضها كما قيل: مثل رؤوس الإبل. وبعضها مثل مباركها. وبعضها مثل قبضة الرجل * (عند ربك) * أي في خزائنه التي لا يملكها غيره سبحانه ولا يتصرف بها سواه عز وجل، والظرف قيل: منصوب - بمسومة - أو متعلق بمحذوف وقع صفة له، والمروى عن مقاتل
113

أن المعنى أنها جاءت من عن ربك، وعن أبي بكر الهذلي أنها معدة عنده سبحانه.
وقال ابن الأنباري: المراد ألزم هذا التسويم للحجارة عنده تعالى إيذانا بقدرته وشدة عذابه فليفهم.
* (وما هي) * أي الحجارة الموصوفة بما ذكر * (من الظ‍المين) * من كل ظالم * (ببعيد) * فانهم بسبب ظلمهم مستحقون لها، وفيه وعيد لأهل الظلم كافة، وروي هذا عن الربيع.
وأخرج ابن جيرير. وغيره عن قتادة أن المراد من الظالمين ظالمو هذه الأمة، وجاء في خبر ذكره الثعلبي، وقال فيه العراقي: لم أقف له على إسناد أنه صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عليه السلام عن ذلك فقال: يعني ظالمي أمتك ما من ظالم منهم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة، وقيل: المراد بالظالمين قوم لوط عليه السلام، والمعنى لم تكن الحجارة لتخطئهم.
وعن ابن عباس أن المعنى وما عقوبتهم ممن يعمل عملهم ببعيد، وظاهره أن الضمير للعقوبة المفهومة من الكلام، و * (الظالمين) * من يشبههم من الناس، ويمكن أن يقال: إن مراده بيان حاصل المعنى لا مرجع الضمير.
وذهب أبو حيان إلى أن الظاهر أن يكون ضمير * (هي) * للقرى التي جعل * (عاليها سافلها) * والمراد من * (الظالمين) * ظالمو مكة، وقد كانت قريبة إليهم يمرون عليها في أسفارهم إلى الشام، وتذكير - البعيد - يحتمل أن يكون على تأويل الحجارة بالحجر المراد به الجنس، أو إجرائه على موصوف مذكر أي بشيء بعيد، أو بمكان بعيد فإنها وإن كانت في السماء وهي في غاية البعد من الأرض ءلا أنها إذا هوت منها فهي أسرع شيء لحوقا بهم فكأنها بمكان قريب منهم، أو لأنه على زنة المصدر - كالزفير. والصهيل - والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث.
* (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إل‍اه غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إنىأراكم بخير وإنىأخاف عليكم عذاب يوم محيط) *
* (وإلى مدين) * أي أولاد مدين بن إبراهيم عليه السلام فحذف المضاف أو جعل اسما بالغلبة للقبيلة وكثيرا ما تسمى القبيلة باسم أبيهم - كمضر. وتميم - ولعل هذا أولى، وجوز أن يراد بمدين المدنية التي بناها مدين فسميت به فيقدر حينئذ مضاف أي وإلى أهل مدين * (أخاهم) * نسيبهم * (شعيبا) * قد مر ما قيل في نسبه عليه السلام، والجملة معطوفة على قوله سبحانه: * (وإلى ثمود أخاهم صالحا) * (الأعراف: 73) أي وأرسلنا إلى مدين شعيبا.
* (قلب ي‍اقوم اعبدوا الله ما لكم من إل‍اه غيره) * أمر بالتوحيد على وجه أكيد ولما كان ملاك الأمر قدمه على النهي عما اعتادوه من البخس المنافي للعدل المخل بحكمة التعاوض، وإيصال الحقوق لأصحابها بقوله: * (ولا تنقصوا المكيال والميزان) * قيل: أي لا تنقصوا الناس من المكيال والميزات يعني مما يكال ويوزن على ذكر المحل وإرادة الحال، واستظهر أن المراد لا تنقصوا حجم المكيال عن المعهود وكذا الصنجات، وقد تقدم في الاعراف * (الكيل) * بدل * (المكيال) * فتذكر وتأمل * (إني أراكم بخير) * أي ملتبسين بثروة واسعة تغنيكم عن ذلك أو بنعمة من الله تعالى حقها أن تقابل بغير ما أنتم عليه بأن تتفضلوا على الناس شكرا عليها، فإن أجل شكر النعم الإحسان والتفضل على عباد الله تعالى، أو أراكم بخير وغنى فلا تزيبلوه بما تأتونه من الشر، وعلى كل حال الجملة في موضع التعليل للنهي؛ وعقب بعلة أخرى أعني قوله تعالى:
* (وإني أخاف عليكم) * إن لم تنتهوا عن ذلك * (عذاب يوم محيط) * وجوز أن يكون تعليلا للأمر والنهي جميعا، وفسر المحيط بما لا يشذ منه أحد منهم، وفسره الزمخشري، بالمهلك أخذا من قوله تعالى:
114

* (وأحيط بثمره) * (الكهف: 42) وأصله من إحاطة العدو، وادعى أن وصف اليوم بالإحاطة أبلغ من وصف العذاب لأن اليوم زمان يشتمل على الحوادث فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه يعني أن اليوم لما كان زمانا مشتملا على الحوادث الكائنة فيه عذابا أو غيره فإذا أحاط بالمعذب ملتبسا بعذابه لأنه حادثة فقد اجتمع للمعذب الأمر الذي يشتمل عليه اليوم وهو العذاب كما إذا أحاط ملتبسا بنعيمه.
والحاصل أن إحاطة اليوم تدل على إحاطة كل ما فيه من العذاب، وأما إحاطة العذاب على قوم فقد يكون بأن يصيب كل فرد منهم فردا من أفراد العذاب، وأما فيما نحن فيه فيدل على إحاطة أنواع العذاب المشتمل عليها اليوم بكل فرد، ولا شك في أبلغية هذا - كذا في الكشف - وتمام الكلام فيه، وقال بعض المحققين في بيان الأبلغية: إن اليوم زمان لجميع الحوادث فيوم العذاب زمان جميع أنواع العذاب الواقعة فيه فإذا كان محيطا بالمعذب فقد اجتمع أنواع العذاب له، وهذا كقوله: إن المروءة والسماحة والندى * في قبة ضربت على ابن الحشرج
فإن وقوع العذاب في اليوم كوجود الأوصاف في القبة، وجعل اليوم محيطا بالمعذب كضب القبة على الممدوح فكما أن هذا كناية عن ثبوت تلك الأوصاف له كذلك ذاك كناية عن ثبوت أنواع العذاب للمعذب، وأما وصف العذاب بالإحاطة ففيه استعارة إحاطته لاشتماله على المعذب فكما أن المحيط لا يفوته شيء من أجزاء المحاط لا يفوت العذاب شيء من أجزاء المعذب، وهذه الاستعارة تفيد أن العذاب لكل المعذب؛ وتلك الكناية تفيد أن كل العذاب له، ولا يخفى ما بينهما من التفاوت في الأبلغية، وجوز أن يكون * (محيط) * نعتا - لعذاب - وجر للجوار، وقيل: هو نعت - ليوم - جار على غير من هو له، والتقدير - عذاب يوم محيط عذابه - وليس بشيء كما لا يخفى، وأيا ما كان فالمراد عذاب يوم القيامة أو عذاب الاستئصال في الدنيا، وأخرج ابن جرير. وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر الخير برخص السعر. والعذاب بغلائه.
* (وياقوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشيآءهم ولا تعثوا فى الارض مفسدين) *
* (وي‍اقوم أوفوا المكيال والميزان) * أي أتموهما، وفائدة التصريح بذلك مع أن الانتهاء المطلوب من النهي السابق لا يتحقق بدون الاتمام فيكون مطلوبا تبعا، وهذا مسلم على المذاهب جعل النهي عن الشيء عين الأمر بالضد أو مستلزما له تضمنا أو التزاما لأن الخلاف في مقتضى اللفظ لا أن التحريم أو الوجوب ينفك عن مقابلة الضد غير واحدة النعي بما كانوا عليه من القبيح وهو النقص مبالغة في الكف، ثم الأمر بالصد مبالغة في الترغيب وإشعارا بأنه مطلوب أصالة وتبعا مع الأشعار بتبعية الكف عكسا، وتقييده بقوله سبحانه: * (بالقسط) * أي بالعدل من غير زيادة ولا نقصان، ثم إدماج أن المطلوب من الاتمام العدل، ولهذا قد يكون الفضل محرما كما في الربويات، وإلى هذا يشير كلام الزمخشري، وظاهره حمل المكيال والميزان على ما يكال ويوزن، وحملهما بعضهم في الموضعين على الآلتين المعروفتين، وفسر القسط بما ذكرنا ثم قال: إن الزيادة في الكيل والوزن وإن كانت تفضلا مندوبا إليه لكنها في الآلة محظورة كالنفص. فلعل الزائد للاستعمال عن الاكتيال والناقص للاستعمال عند الكيل.
وفائدة الأمر بتسوية الآلتين وتعديلهما بعد النهي عن نقصهما المبالغة في الحمل على الإيفاء والمنع والبخس، والتنبيه على أنه لا يكفيهم مجرد الكف عن النقص والبخس بل يجب عليهم إصلاح ما أفسدوه وجعلوه معيارا
115

لظلمهم وقانونا لعدوانهم، وفيه حمل اللفظ على المتبادر منه، فإن الحمل على المعنى الآخر مجاز كما أشرنا إليه، وادعى الفاضل الجلبي أن هذا الأمر بعد النهي السابق ليس من باب التكرار في شيء، فقال: إن النهي قد كان عن نقص حجم المكيال وصنجات الميزان، والأمر بإيفاء المكيال والميزان حقهما بأن لا ينقص في الكيل والوزن، وهذا الأمر بعد مساواة المكيال والميزات للمعهود فلا تكرار كيف ولو كان تكريرا للتأكيد والمبالغة لم يكن موضع الواو لكمال الاتصال بين الجملتين انتهى.
وتعقب بأن حمل هذين اللفظين - وقد تكررا - في أحد الموضعين على أحد معنيين متغايرين خلاف الظاهر، وأن في التكرار من الفوائد ما جعله أقوى من التأسيس فلا ينبغي الهرب منه، وأما العطف فلأن اختلاف المقاصد في ذينك المتعاطفين جعلهما كالمتغايرين فحسن لذلك، وقد صرح به أهل المعاني في قوله سبحانه: * (يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم) * انتهى.
وفي ورود ما تعقب به أولا تأمل فتأمل، وقوله تعالى: * (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) * يحتمل أن يكون تعميما بعد تخصيص فإنه يشمل الجودة والرداءة وغير المكيل والموزون أيضا فهو تذييل وتتميم لما تقدم، وكذا قوله سبحانه: * (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) * فإن العثى يعم تنقيص الحقوق وغيره لأنه عبارة عن مطلق الفساد، وفعله من باب رمي. وسعي. ورضى، وجاء واويا. ويائيا، ويحتمل أن يكون نهيا عن بخس المكيل والموزون بعد النهي عن نقص المعيار والأمر بإيفائه أي لا تنقصوا الناس بسبب نقص المكيال والميزان وعدم اعتدالهما أشياءهم التي يشترونها بهما، والتصريح بهذا انلهي بعد ما علم في ضمن النهي، والأمرين السابقين للاهتمام بشأنه والترغيب في إيفاء الحقوق بعد الترهيب والزجر عن نقصها، وإلى كل من الاحتمالين ذهب بعض، وهو مبني على ما علمت من الاختلاف السابق في تفسير ما سبق، وقيل: المراد بالبخس المكس كأخذ العشور على نحو ما يفعل اليوم، و - العثى - السرقة وقطع الطريق والغارة، و * (مفسدين) * حال من ضمير * (تعثوا) *، وفائدة ذلك إخراج ما يقصد به الإصلاح كما فعل الخضر عليه السلام من قتل الغلام. وخرق السفينة فهو حال مؤسسة، وقيل: ليس الفائدة الاخراج المذكور فإن المعنى - لا تعثوا في الأرض بتنقيص الحقوق مثلا مفسدين مصالح دينكم وأمر آخرتكم - ومآل ذلك على ما قيل: إلى تعليل النهي كأنه قيل: لا تفسدوا في الأرض فإنه مفسد لدينكم وآخرتكم.
* (بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين ومآ أنا عليكم بحفيظ) *
* (بقيت الله) * قال ابن عباس: أي ما أبقاه سبحانه من الحلال بعد الإيفاء * (خير لكم) * مما تجمعون بالبخس. فإن ذلك هباء منثور بل هو شر محض وإن زعمتم أنه خير * (إن كنتم مؤمنين) * أي بشرط أن تؤمنوا إذ مع الكفر لا خير في شيء أصلا، أو إن كنتم مصدقين بي في مقالتي لكم، وفي رواية أخرى عن الحبر أنه فسر البقية بالرزق.
وقال الربيع هي وصيته تعالى، وقال مقاتل: ثوابه في الآخرة، وقال الفراء: مراقبته عز وجل، وقال قتادة: ذخيرته، وقال الحسن: فرائضه سبحانه.
وزعم ابن عطية أن كل هذا لا يعطيه لفظ الآية وإنما معناه الإبقاء وهو مأخوذ مما روي عن ابن جريج أنه قال: المعنى إبقاء الله تعالى النعيم عليكم خير لكم مما يحصل من النقص بالتطفيف، وأيا ما كان فجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله على ما ذهب إليه جمهور البصريين وهو الصحيح، وقرأ إسماعيل بن جعفر عن أهل المدينة * (بقية) *
116

بتخفيف الياء قال ابن عطية: وهي لغة، قال أبو حيان: إن حق وصف فعل اللازم أن يكون على وزن فاعل نحو شجيت المرأة فهي شجية فإذا شددت الياء كان على وزن فعيل للمبالغة، وقرأ الحسن - تقية الله - بالتاء والمراد تقواه سبحانه ومراقبته الصارفة عن المعاصي * (وما أنا عليكم بحفيظ) * أحفظكم من القبائح. أو أحفظ عليكم أعمالكم وأجازيكم بها وإنما أنا ناصح مبلغ وقد أعذرت إذ أنذرت ولم آل جهدا. وأو ما أنا بحافظ عليكم نعم الله تعالى لو لم تتركوا سوء صنيعكم.
* (قالوا ياشعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد ءاباؤنآ أو أن نفعل فىأموالنا ما نشؤا إنك لانت الحليم الرشيد) *
* (قالوا ي‍اشعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد ءاباؤنا) * من الأصنام أجابوا بذلك أمره عليه السلام إياهم بعبادة الله تعالى وحده المتضمن لنهيهم عن عبادة الأصنام وغرضهم منه إنكار الوحي الآملا لكنهم بالغوا في ذلك إلى حيث أنكروا أن يكون هناك آمر من العقل وزعموا أن ذلك من أحكام الوسوسة والجنون قاتلهم الله أني يؤفكون، وعلى هذا بنوا استفهامهم وأخرجوا كلامهم وقالوا بطريق الاستهزاء: * (أصلاتك) * التي هي من نتائج الوسوسة وأفاعيل المجانين تأمرك بأن نترك ما استمر على عبادته آباؤنا جيلا بعد جيل من الأوثان والتماثيل. وإنما جعلوه عليه السلام لم يكن يأمرهم من تلقاء نفسه بل من جهة الوحي وأنه كان يعلمهم بأنه مأمور بتبليغه إليهم، وتخصيصهم إسناد الأمر إلى الصلاة من بين سائر أحكام النبوة لأنه عليه السلام كان كثير الصلاة معروفا بذلك، بل أخرج ابن عساكر عن الأحنف أنه عليه السلام كان أكثر الأنبياء صلاة، وكانوا إذا رأوه يصلي يتغامزون ويتضاحكوم فكانت هي من بين شعائر الدين ضحكة لهم، وقيل: إن ذلك لأنه عليه السلام كان يصلي ويقول لهم: إن الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وإلى الأول ذهب غير واحد، وهذا الإسناد حقيقي لا مجازي غاية ما في الباب أنهم قصدوا الحقيقة تهكما، واختيار المضارع ليدل على العموم بحسب الزمان، وقوله سبحانه: * (أن نترك) * على تقدير - بتكليف أن نترك - فحذف المضاف وهو تكليف، فدخل الجار على * (أن) * ثم حذف وحذفه قبلها مطرد، وعرف التخاطب في مثله يقتضي ذلك، وقيل: إن الداعي إليه أن الشخص لا يكلف بفعل غيره لأنه غير مقدور له أصلا، وقيل: لا تقدير، والمعنى - أصلاتك تأمرك بما ليس في وسعك وعهدتك من أفاعيل غيرك - وغرضهم من ذلك التعريض بركاكة رأيه وحاشاه عليه السلام، والاستهزاء به من تلك الجهة، وتعقب بأنه يأباه دخول الهمزة على الصلاة دون الأمر، ويستدعي أن يصدر عنه عليه السلام في أثناء الدعوة ما يدل على ذلك أو يوهمه، وأني ذلك؟ فتأمل، وقرأ أكثر السبعة - أصلواتك - بالجمع، وأمر الجمع بين القراءتين سهل، وقوله تعالى: * (أو أن نفعل في
أموالنا ما نشؤا) * أجابوا به أمره عليه السلام بإيفاء الحقوق ونهيه عن البخس والنقص وهو عطف على * (ما) * وأو بمعنى الواو أي وأن نترك فعلنا ما نشاء في أموالنا من التطفيف وغيره، ولا يصح عطفه على * (أن نترك) * لاستحالة المعنى إذ يصير حينئذ - تأمرك بفعلنا في أموالنا ما نشاء من التطفيف وغيره - وهم منهيون عن ذلك لا مأمورون به، وحمل * (ما) * على ما أشرنا إليه هو الظاهر، وقيل: كانوا يقرضون الدراهم والدنانير ويجرونها مع الصحيحة على جهة التدليس فنهوا عن ذلك فقالوا ما قالوا، وروي هذا عن محمد بن كعب، وأدخل بعضهم ذلك الفعل في العثى في الأرض فيكون انلهي عنه نهيا عنه. ولا مانع من اندراجه في عموم * (ما) *، وقرأ الضحاك بن قيس. وابن أبي عبلة. وزيد بن علي - بالتاء - في الفعلين على الخطاب فعالعطف على مفعول
117

* (تأمرك) * أي - أصلاتك تأمرك أن تفعل في أموالنا ما تشاء أي من إيفاء المكيال والميزان - كما هو الظاهر، وقيل: من الزكاة، فقد كان عليه السلام يأمرهم بها كما روي عن سفيان الثوري، قيل: وفي الآية على هذا مع حمل الصلاة على ما يتبادر منها دليل على أنه كان في شريعته عليه السلام صلاة وزكاة، وأيد بما روي عن الحسن أنه قال: لم يبعث الله تعالى نبيا إلا فرض عليه الصلاة والزكاة، وأنت تعلم أن حمل * (ما تشاء) * على الزكاة غير متعين بل هو خلاف ظاهر السوق، وحمل الصلاة على ذلك وإن كان ظاهرا إلا أنه روى ابن المنذر. وغيره عن الأعمش تفسيرها بالقراءة، ونقل عن غيره تفسيرها بالدعاء الذي هو المعنى اللغوي لها.
وعن أبي مسلم تفسيرها بالدين لأنها من أجل أموره، وعلى تقدير أن يراد منها الصلاة بالمعنى الآخر لا تدل الآية على أكثر من أن يكون له عليه السلام صلاة، ولا تدل على أنها من الأمور المكلف بها أحد من أمته فيمكن أن يكون ذلك من خصوصياته عليه السلام، وما وري عن الحسن ليس نصا في الغرض كما لا يخفى، هذا وجوز أن يكون العطف على هذه القراءة على * (ما) * وتعقب بأنه يستدعي أن يحمل الترك على معنيين مختلفين ولا يترك على ما يتبادر منه.
وقرأ أبو عبد الرحمن. وطلحة بالنون في الأول والتاء في الثاني، والعطف على مفعول * (تأمرك) * والمعنى ظاهر مما تقدم * (إنك لأنت الحليم الرشيد) * وصفوه عليه السلام بهذين الوصفين الجليلين على طريقة الاستعارة التهكمية، فالمراد بهما ضد معناهما، وهذا هو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وإليه ذهب قتادة. والمبرد. وجوز أن يكونوا وصفوه بذلك بناءا على الزعم، والجملة تعليل لما سبق من استبعاد ما ذكروه كأنهم قالوا: كيف تكلفنا بما تكلفنا مع أنك أنت الحليم الرشيد بزعمك؛ وقيل: يجوز أن يكون تعليلا باقيا على ظاهره بناءا على أنه عليه السلام كان موصوفا عندهم بالحلم والرشد، وكان ذلك بزعمهم مانعا من صدور ما صدر منه عليه السلام، ورجح الأول بأنه الأنسب بما قبله لأنه تهكم أيضا، ورجح الأخير بأنه يكون الكلام عليه نظير ما مر في قصة صالح عليه السلام من قوله له: * (قد كانت فينا مرجوا قبل هذا) * (هود: 62) وتعقيبه بمثل ما عقب به ذلك حسبما تضمنه قوله سبحانه:
* (قال ياقوم أرءيتم إن كنت على بينة من ربى ورزقنى منه رزقا حسنا ومآ أريد أن أخالفكم إلى مآ أنه‍اكم عنه إن أريد إلا الإصل‍اح ما استطعت وما توفيقىإلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب) *
* (قال ي‍اقوم أرءيتم إن كنت على بينة) * حجة ظاهرة * (من ربي) * ومالك أموري * (ورزقني منه) * من لدنه سبحانه * (رزقا حسنا) * هو النبوة والحكمة يدل على ذلك، والجواب عليه من باب إرخاء العنان. والكلام المنصف كأنه عليه السلام قال: صدقتم فيما قلتم إني لم أزل مرشدا لكم حليما فيما بينكم لكن ما جئت به ليس غير الإرشاد والنصيحة بكم، أنظروا بعين الانصاف وأنتم ألباء إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربي وكنت نبيا على الحقيقة أيصح لي وأنا مرشدكم والناصح لكم أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن المعاصي والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك؟ ثم إنه عليه السلام أكد معنى الإرشاد، وأدرج معنى الحلم فيما سيأتي من كلامه صلى الله عليه وسلم كذا قرره العلامة الطيبي.
واختار شيخ الإسلام عدم كونه باقيا على الظاهر لما أن مقام الاستهزاء آب عنه، وذكر قدس سره أن المراد بالبينة والرزق الحسن النبوة والحكمة، وأن التعبير عنهما بذلك للتنبيه على أنهما مع كونهما بينة رزق حسن كيف لا وذلك مناط الحياة الأبدية له عليه السلام ولأمته؟ وأن هذا الكلام منه عليه السلام رد على
118

مقالتهم الشنعاء المتضمنة زعم عدم استناد أمره ونهيه إلى سند، ثم قال: وجواب الشرط محذوف يدل عليه فحوى الكلام أي أتقولون. والمعنى أنكم عددتم ما صدر عني من الأوامر والنواهي من قبيل ما لا يصح أن يتفوه به عاقبل وجعلتموه من أحكام الوسوسة والجنون واستهزأتم بي وبأفعالي وقلتم، فأخبروني إن كنت من جهة ربي ومالك أموري ثابتا على النبوة والحكمة التي ليس وراءها غاية للكمال ولا مطمح لطامح ورزقني لذلك رزقا حسنا أتقولون في شأني وشأن أفعالي ما تقولون مما لا خير فيه ولا شر وراءه؟! وادعى أن هذا هو الجواب الذي يستدعيه السياق ويساعده النظم الكريم.
وفسر القاضي - الرزق الحسن - بما آتاه الله تعالى من المال الحلال، ومعنى كون ذلك منه تعالى أنه من عنده سبحانه وباعانته بلا كد في تحصيله، وقدر جواب الشرط فهل يسع لي مع هذا الانعام الجامع للسعادة الروحانية والجسمانية أن أخون في وحيه وأخالفه في أمره ونهيه، وذكر أن هذا الكلام منه عليه السلاماعتذارا عما أنكروا عليه من تغيير المألوف والنهي عن دين الآباء، وقدر بعضهم ما قدره العلامة الطيبي.
وزعم شيخ الإسلام أن ذينك التقديرين بمعزل عما يستدعيه السياق، وأنهما إنما يناسبان إن حمل كلامهم على الحقيقة؛ وأريد بالصلاة الدين حسبما نقل عن أبي مسلم. وعطاء، ويكون المراد بالرزق الحسن على ذلك ما آتاه الله تعالى من الحلال فقط كما روي عن الضحاك. ويكون المعنى حينئذ أخبروني إن كنت نبيا من عند الله تعالى ورزقني مالا حلالا أستغني به عن العالمين أيصح أن أخالف أمره أو أوافقكم فيما تأتون وما تذرون انتهى.
وأقول: لا يخفى أن المناسب للمقام حمل الرزق الحسن على ما آتاه الله تعالى من الحلال الخالي عن التطفيف والبخس، وتقدير جواب الشرط نحو ما قدره القاضي ليس في الكلام ما يأبى عنه، ولا يتوقف على حمل الكلام على الحقيقة والصلاة على الدين بل يتأتى تقدير ذلك، ولو كان الكلام على سبيل التهكم والصلاة بالمعنى المتابدر بأن
يقال: إنهم قاتلهم الله تعالى لما قالوا في ظلال الضلال وقالوا ما قالوا في حق نبيهم وما صدر منه من الأفعال لم يكن لهم مقصود إلا ترك الدعوة وتركهم وما يفعلون، ولم يتعرض عليه السلام صريحا لرد قولهم المتضمن لرميه - وحاشاه بالوسوسة. والجنون. والسفه. والغواية - إيذانا بأن ذلك مما لا يستحق جوابا لظهور بطلانه وتعرض لجوابهم عما قصدوه بكلامهم ذلك بما يكون فيه قطع أطماعهم من أول الأمر مع الإشارة إلى رد ما تضمنته مقالتهم الشنعاء فكأنه عليه السلام قال لهم: يا قوم إنكم اجترأتم على هذه المقالة الشنيعة وضمنتموها ما هو ظاهر البطلان لقصد أن أترككم وشأنكم من عبادة الأوثان ونقص المكيال والميزان فأخبروني إن كنت نبيا من عند الله تعالى ومستتنيا بما رزقني من المال الحلال عنكم وعن غيركم أيصح أن أخالف وحيه وأوافق هواكم لا يكون ذلك من أصلا فإذن لا فائدة لكم في هذا الكلام الشنيع، وربما يقال: إن في هذا الجواب إشارة إلى وصفهم بنحو ما وصفوه به عليه السلام كأنه قال: إن طلبكم مني ترك الدعوة وموافقة الهوى مع أني مأمور بدعوتكم وغنى عنكم مما لا يصدر عن عاقل ولا يرتكبه إلا سفيه غاو، وكأن التعرض لذكر الرزق مع الكون على بينة للإشارة إلى وجود المقتضى وارتفاع ما يظن مانعا، ولا يخفى ما في إخراج الجواب على هذا الوجه من الحسن فتأمل.
بقي أن الذي ذكره النحاة على ما قال أبو حيان في مثل هذا الكلام أعني * (أرأيتم إن كنت) * الخ أن تقدر
119

الجملة الاستفهامية على أنها في موضع المفعول الثاني - لأرأيتم - المتضمنة معنى أخبروني المتعدية إلى مفعولين والغالب في الثاني أن يكون جملة استفهامية، وجواب الشرط ما يدل عليه الجملة السابقة مع متعلقها، والتقدير - إن كنت على بينة من ربي فأخبروني هل يسع لي - الخ فافهم ولا تغفل * (وما اريد) * بنهي إياكم عما أنهاكم عنه من البخس والتطفيف * (أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) * أي أقصده بعد ما وليتم عنه فأستبد به دونكم كما هو شأن بعض الناس في المنع عن بعض الأمور يقال: خالفني فلأن إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه، وخالفني عنه إذا ولى عنه وأنت قاصده.
قال في البحر: والظاهر على ما ذكروه أن * (أن أخالفكم) * في موضع المفعول به - لأريد - أي وما أريد مخلفتكم، ويكون خالف بمعنى خلف نحو جاوز وجاز، ويكون المعنى وما أريد أن أكون خلفا منكم، و * (إلى) * متعلقة بأخالف أو بمحذوف أي مائلا إلى ما أنهاكم عنه، وقيل: في الكلام فعل محذوف معطوف على المذكور أي وأميل إلى الخ، ويجوز أن يبقى أخالف على ظاهره من املخالفة، ويكون * (أن) * وما بعدها في موضع المفعول به - لأريد - ويقدر مائلا إلى كما تقدم، أو يكون * (أن) * وما بعدها في موضع المفعول له، و * (إلى ما) * متعلقا - بأريد - أي وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه، وقال الزجاج في معنى ذلك: أي ما أقد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه * (إن أريد) * أي ما أريد بما أقول لكم * (إلا الإصلاح) * أي إلا أن أصلحكم بالنصيحة والموعظة * (ما استطعت) * أي مدة استطاعتي ذلك وتمكني منه لا آلو فيه جهدا - فما - مصدرية ظرفية.
وجوز فيها أن تكون موصولة بدلا من الإصلاح أي المقدار الذي استطعته أو * (إلا الإصلاح) * إصلاح ما استطعت، وهي إما بدل بعض أو كل لأن المتبادر من الإصلاح ما يقدر عليه، وقيل: بدل اشتمال، وعليه وعلى الأول يقدر ضمير أي منه لأنه في مثل ذلك لا بد منه؛ وجوز أيضا أن تكون مفعولا به للمصدر المذكور كقوله: ضعيف النكاية أعداءه * يخال الفرار يراخي الأجل
أي ما أريد إلا أن أصلح ما استذعت إصلاحه من فاسدكم، والأبلغ الأظهر ما قدمناه لأن في احتمال البدلية إضمارا وفوات المبالغة؛ وفي الاحتمال الأخير إعمال المصدر المعروف في المفعول به، وفيه - مع أنه لا يجوز عند الكوفيين. ويقل عند البصريين - فواتها، وزيادة إضمار مفعول * (استطعت) * * (وما توفيقي) * أي ما كوني موفقا لتحقيق ما أتوخاه من إصلاحكم * (إلا بالله) * أي بتأييده سبحانه ومعونته.
واختار بعضهم أن يكون المراد - وما توفيقي لإصابة الحق والصواب في كل ما آتي وأذر إلا بهدايته تعالى ومعونته - والظاهر أن المراد وما كل فرد من أفراد توفيقي لما صرحوا به من أن المصدر المضاف من صيغ العموم، ويؤول إلى هذا ما قيل: إن المعنى ما جنس توفيقي لأن انحصار الجنس يقتضي انحصار أفراده لكن على الأول بطريق المفهوم. وعلى الثاني بطريق المنطوق، وتقدير المضاف بعد الباء مما التزمه كثير، وفيه على ما قيل: دفع الاستشكال بأن فاعل التوفيق هو الله تعالى، وأهل العربية يستقبحون نسبة الفعل إلى الفاعل بالباء لأنها تدخل على الآلة فلا يحسن ضربي بزيد، وإنما يقال: من زيد، فالاستعمال الفصيح بناءا على هذا - وما توفيقي إلا من عند الله -
120

ووجه الدفع بذلك التقدير ظاهر لأن الدخول ليس على الفاعل حينئذ.
وجوز أن يكون ذلك التقدير لما أن التوفيق وهو كون فعل العبد موافقا لما يحبه الله تعالى ويرضاه لا يكون إلا بدلالة الله تعالى عليه، ومجرد الدلالة لا يجدي بدون المعونة منه عز شأنه * (عليه توكلت) * في ذلك، أو في جميع أمور لا على غيره فإنه سبحانه القادر المتمكن من كل شيء، وغيره سبحانه عاجز في حد ذاته بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار كما أشار إليه الكتاب وعاينه أولو البصائر والألباب * (وإليه أنيب) * أي أرجع فيما أنا بصدده، أو أقبل بشراشرى في مجامع أموري لا إلى غيره، والجملة معطوفة على ما قبلها، وكأن إيثار صيغة الاستقبال فيها على الماضي الأنسب للتقرر والتحقق كما في التوكل لاستحضار الصورة والدلالة على الاستمرار، ولا يخفى ما في جوابه عليه السلام مما لا يكاد يوجد في كلام خطيب إلا أن يكون نبيا.
وفي أنوار التنزيل أن لأجوبته عليه السلام الثلاثة يعني * (يا قوم أرأيتم) * الخ * (وما أريد أن أخالفكم) * الخ و * (إن أريد) * الخ على هذا النسق شأنا، وهو التنبيه على أن العاقل يجب أن يراعى في كل ما يأته ويذره ثلاثة حقوق أهمها وأعلاها حق الله تعالى، فإن الجواب الأول: متضمن بيان حق الله تعالى من شكر نعمته والاجتهاد في خدمته. وثانيها: حق النفس، فإن الجواب الثاني متضمن بيان حق نفسه من كفها عما ينبغي أن ينتهي عنه غيره. وثالثها: حق الناس فإن الجواب الثالث
متضمن للإشارة إلى أن حق الغير عليه إصلاحه وإرشاده؛ وإنما لم يعطف قوله: * (إن أريد) * الخ على ما قبله لكونه مؤكدا ومقررا له لأنه لو أراد الاستئثار بما نهى عنه لم يكن مريدا للإصلاح، ولا ينافي هذا كونه متضمنا لجواب آخر، وكأن قوله: * (وما توفيقي) * الخ إزاحة لما عسى أن يوهمه إسناد الاستطاعة إليه بإرادته من استبداده بذلك، ونظير ذلك * (إياك نعبد وإياك نستعين) * وفيه مع ما بعده إشارة إلى محض التوحيد، وقال غير واحد: إنه قد اشتمل كلامه عليه السلام على مراعاة لطف المراجعة ورفق الاستنزال والمحافظة على حسن المجاراة والمحاورة، وتمهيد معاقد الحق بطلب التوفيق من جانبه تعالى والاستعانة به عز شأنه في أموره وحسم أطماع الكفار وإظهار الفراغ عنهم وعدم المبالاة بمعاداتهم، قيل: وفيه أيضا تهديدهم بالرجوع إلى الله تعالى للجزاء، وذلك من قوله: * (وإليه أنيب) * لأن الرجوع إليه سبحانه يكنى به عن الجزاء وهو وإن كان هنا مخصوصا به لاقتضاء المقام له لكنه لا فرق فيه بينه وبين غيره، وفيه مع خفاء وجه الإشارة أن الإنابة إنما هي الرجوع الاختياري بالفعل إليه سبحانه لا الرجوع الاضطراري للجزاء وما يعمه، وقد يقال: إن في قوله: * (عليه توكلت) * إشارة أيضا إلى تهديدهم لأنه عز وجل الكافي المعين لمن توكل عليه لكن لا يتعين أن يكون ذلك تهديدا بالجزاء يوم القيامة.
* (وياقوم لا يجرمنكم شقاقى أن يصيبكم مثل مآ أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد) *
* (وي‍اقوم لا يجرمنكم) * أي لا يكسبنكم * (شقاقي) * أي معاداتي، وأصلها أن أحد المتعادين يكون في عدوة وشق. والآخر في آخر، وروي هذا عن السدي، وعن الحسن ضراري، وعن بعض فراقي، والكل متقارب، وهو فاعل - يجرمنكم - والكاف مفعوله الأول، وقوله سبحانه: * (أن يصيبكم) * مفعوله الثاني، وقد جاء تعدى - جرم - إلى مفعولين كما جاء تعديها لواحد وهي مثل كسب في ذلك، ومن الأول قوله: ولقد طعنت أبا عيينة طعنة * (جرمت) فزارة بعدها أن يغضبوا
وإضافة - شقاق - إلى ياء المتكلم من إضافة المصدر إلى مفعوله أي لا يكسبنكم شقاقكم إياي أن يصيبكم
121

* (مثل ما أصاب قوم نوح) * من الغرق * (أو قوم هود) * من الريح * (أو قوم ص‍الح) * من الرجفة والصيحة، ونهى الشقاق مجاز أو كناية عن نهيهم وهو أبلغ من توجيه النهي إليهم لأنه إذا نهى وهو لا يعقل علم نهي المشاقين بالطريق الأولى، وقرأ ابن وثاب. والأعمش * (يجرمنكم) * بضم الياء، وحكى أيضا عن ابن كثير وهو حينئذ من أجرمته ذنبا إذا جعلته جارما له أي كاسبا، والهمزة للنقل من جرم المتعدي إلى مفعول واحد، ونظيره في النقل كذلك كسب المال فإنه قال فيه أكسبه المال والقراءتان سواء في المعنى إلا أن المشهور جارية على ما هو الأكثر استعمالا في كلام الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم، وقرأ مجاهد والجحدري. وابن أبي إسحاق * (مثل) * بالفتح، وروي ذلك عن نافع، وخرجه جمع على أن * (مثل) * فاعل أيضا إلا أنه بني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن، وقد جوز فيه. وكذا في غير مع - ما. وأن - المخففة. والمشددة ذلك كالظروف المضافة للمبنى، وعلى هذا جاء قوله: لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت * حمامة في غصون ذات أو قال
وبعض على أنه نعت لمصدر محذوف والفتحة إعراب أي إصابة مثل إصابة قوم نوح، وفاعل * (يصيبكم) * ضمير مستتر يعود على العذاب المفهوم من السياق وفيه تكلف * (وما قوم لوط منكم ببعيد) * زمانا كما روي عن قتادة. أو مكانا كما روي عن غيره ومراده عليه السلام أنكم إن لم تعتبروا بمن قبل لقدم عهد أو بعد مكان فاعتبروا بهؤلاء فإنهم بمرأى ومسمع منكم وكأنه إنما غير أسلوب التحذير بهم واكتفى بذكر قربهم إيذانا بأن ذلك مغن عن ذكر ما أصابهم لشهرة كونه منظوما في سمط ما ذكر من دواهي الأمم المرقومة، وجوز أن يراد بالبعد البعد المعنوي أي ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمساوىء، فاحذروا أن يحل بكم ما حل بهم من العذاب، وقد أخذ هذا المعنى بعض المتأخرين فقال: فإن لم تكونوا قوم لوط بعينهم * فما قوم لوط منكم ببعيد
وإفراد * (بعيد) * وتذكيره مع كون المخبر عنه وهو قوم اسم جمع، ومؤنثا لفظا على ما نص عليه الزمخشري، واستدل له بتصغيره على قويمة وذلك يقتضي أن يقال: ببعيدة موافقة للفظ وببعداء موافقة للمعنى لأن المراد، وما إهلاكهم أو وما هم بشيء بعيد، أو وما هم في زمان بعيد أو مكان بعيد، وجوز أن يكون ذلك لأنه يستوي في بعيد المذكر والمؤنث لكونه على زنة المصادر كالنهيق. والصهيل.
وفي " الكشف " عن الجوهري أن القوم يذكر ويؤنث لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت للآدميين تذكر وتؤنث مثل رهط. ونفر. وقوم وإذا صغرت لم تدخل فيه الهاء، وقلت: قويم. ورهيط ونفير، ودخل الهاء فيما يكون لغير الآدميين مثل الإبل. والغنم لأن التأنيث لازم وبينه وبين ما نقل عن الزمخشري بون بعيد، وعليه فلا حاجة إلى التأويل، هذا ثم إنه عليه السلام لما أنذرهم سوء عاقبة صنيعهم عقبة طمعا في اروعائهم عما هم فيه من الضلال بالحمل على الاستغفار والتوبة فقال:
* (واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربى رحيم ودود) *
* (واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه) * مر تفسير مثله * (إن ربي رحيم) * عظيم الرحمة فيرحم من يطلب منه المغفرة * (ودود) * أي كثير الود والمحبة فيحب من يتوب ويرجع إليه، والمشهور جعل الودود مجازا باعتبار الغاية أي مبالغ في فعل ما يفعل البليغ المودة بمن يوده من اللطف والإحسان.
122

وجوز أن يكون كناية عند من لم يشترط إمكان المعنى الأصلي، والداعي لارتكاب المجاز أو الكناية على ما قيل: إن المودة بمعنى الميل القلب‍ وهو ممالا يصح وصفه تعالى به، والسلفي يقول: المودة فينا الميل المذكور، وفيه سبحانه وراء ذلك مما يليق بجلال ذاته جل جلاله، وقيل: معنى * (ودود) * متحبب إلى عباده بالإحسان إليهم، وقل: محبوب المؤمنين، وتفسيره هنا بما تقدم أولى، والجملة في موضع التعليل للأمر السابق ولم يعتبر الأكثر ما أشرنا إليه من نحو التوزيع، فقال: عظيم الرحمة للتائبين مبالغ في اللطف والإحسان بهم، وهو مما لا بأس به.
* (قالوا ياشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمن‍اك ومآ أنت علينا بعزيز) *
* (قالوا ي‍اشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول) * أي ما نفهم ذلك كأنهم جعلوا كلامه المشتمل على فنون الحكم والمواعظ وأنواع العلوم والمعارف إذ ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل ولم يجدوا إلى محاورته عليه السلام سبيلا من قبيل التخليط والهذيان الذي لا يفهم معناه ولا يدرك فحواه، وقيل: قالوا ذلك استهانة به عليه السلام كما يقول الرجل لمن لا يعبأ به: لا أدري ما تقول، وليس فيه كثير مغايرة للأول، ويحتمل أن يكون ذلك لعدم توجههم إلى سماع كلامه عليه السلام لمزيد نفرتهم عنه أو لغباوتهم وقصور عقولهم، قيل: وقولهم * (كثيرا) * للفرار عن المكابرة ولا يصح أن راد به الكل وإن ورد في اللغة لأن مما تقول يأبى ذلك كما أن * (كثيرا) * نفسه يأبى حمل كلامهم هذا على أنه كناية عن عدم القبول، وزعم بعضهم أنهم إنما لم يفقهوا كثيرا مما يقول لأنه عليه السلام كان ألثغ، وأظن أنه لم يفصح بذلك خبر صحيح على أن ظاهر ما جاء من وصفه عليه السلام بأنه خطيب الأنبياء يأبى ذلك. ولعل صيغة المضارع للإيذان بالاستمرار * (وإنا لنرياك فينا) * أي فيما بيننا * (ضعيفا) * لا قوة لك ولا قدرة على شيء من الضر والنفع والإيقاع والدفع.
وروي عن ابن عباس. وابن جبير. وسفيان الثوري. وأبي صالح تفسير الضعيف بالأعمى وهي لغة أهل اليمن، وذلك كما يطلقون عليه ضريرا وهو من باب الكناية على ما نص عليه البعض، وإطلاق البصير عليه كما هو شائع من باب الاستعارة تمليحا، وضعف هذا التفسير بأن التقييد بقولهم: فينا بصر لغوا لأن من كان أعمى يكون أعمى فيهم وفي غيرهم وإرادة لازمة وهي الضعف بين من ينصره ويعاديه لا يخفى تكلفه، ومن هنا قال الإمام: جوز بعض أصحابنا العمى على الأنبياء عليهم السلام لكن لا يحسن الحمل عليه هنا، وأنت تعلم أن المصحح عند أهل السنة أن الأنبياء عليهم السلام ليس فيهم أعمى، وما حكاه الله تعالى عن يعقوب عليه السلام كان أمرا عارضا وذهب.
والأخبار المروية عمن ذكرنا في شعيب عليه السلام لم نقف على تصحيح لها سوى ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فإن الحاكم صحح بعض طرقه لكن تصحيح الحاكم كتضعيف ابن الجوزي غير معول عليه، وربما يقال فيه نحو ما قيل في يعقوب عليه السلام، فقد أخرج الواحدي. وابن عساكر عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بكى شعيب عليه السلام من حب الله تعالى حتى عمي فرد الله تعالى عليه بصره وأوحى إليه يا شعيب ما هذا البكاء أشوقا إلى الجنة أم خوفا من النار، فقال: لا ولكن اعتقدت حبك بقلبي فإذا نظرت إليك فلا أبالي ما الذي تصنع بي، فأوحى الله تعالى إليه يا شعيب إن يكن ذلك حقا فهنيئا لك لقائي يا شعيب لذلك أخدمتك موسى بن عمران كليمي "، وذهب بعض المعتزلة إلى أنه لا يجوز استنباء الأعمى لكونه صفة منفرة لعدم الاحتراز معه عن النجاسات ولأنه يخل بالقضاء والشهادة فإخلاله بمقام النبوة أولى،
123

وأجيب بأنا لا نسلم عدم الاحتراز معه عن النجاسات فإن كثيرا ممن نشاهده من العميان أكثر احترازا عنها من غيره، وبأن القاضي، والشاهد يحتاجان إلى التمييز بين المدعي والمدعى عليه، والنبي لا يحتاج لتمييز من يدعوه مع أنه معصوم فلا يخطىء كغيره كذا قيل، فلينظر * (ولولا رهطك) * أي جماعتك قال الراغب: هم ما دون العشرة. وقال الزمخشري: من الثلاثة إلى العشرة، وقيل: إلى السبعة، وقيل: بل يقال: إلى الأربعين، ولا يقع فيما قل - كالعصبة. والنفر - إلا على الرجال، ومثله الراهط. وجمعه أرهط. وجمع الجمع أراهط، وأصله على ما نقل عن الرماني الشد، ومنه الرهيط لشدة الأكل، والراهطاء لحجر اليربوع لأنه يتوثق به ويخبأ فيه ولده، والظاهر أن مرادهم لولا مراعاة جانب رهطك * (لرجمن‍اك) * أي لقتلناك برمي الأحجار، وهو المروى عن ابن زيد، وقيل: ذلك كناية عن نكاية القتل كأنهم قالوا: لقتلناك بأصعب وجه؛ وقال الطبري: أرادوا لسببناك كما في قوله تعالى: * (لأرجمنك واهجرني مليا) * (مريم: 46)، وقيل: لأبعدناك وأخرجناك من أرضنا، ولم يجوزوا أن يكون المراد لولا ممانعة رهطك ومدافعتهم لأن ممانعة الرهط وهم عدد نزر لألوف مؤلفة مما لا يكاد يتوهم؛ ومعنى * (وما أنت علينا بعزيز) * ما أنت بمكرم محترم حتى نمتنع من رجمك وإنما نكف عنك للمحافظة على حرمة رهطك الذين ثبتوا على ديننا ولم يختاروك علينا، والجار الأول متعلق * (بعزيز) * وجاز لكون المعمول ظرفا والباء مزيدة، ولك أن تجعله متعلقا بمحذوف يفسره الظاهر وهو خبر أنت، وقد صرح السكاكي في المفتاح أنه قصد بتقدم هذا الضمر الذي هو فاعل معنوي وإن لم يكن الخبر فعلا بل صفة مشبهة وإيلائه النفي الحصر والاختصاص أي اختصاص النفي بمعنى أن عدم العزة مقصور عليك لا يتجاوزك إلى رهطك لا بمعنى نفي الاختصاص بمعنى لست منفردا بالعزة وهو ظاهر، قاله العلامة الثاني، وقال السيد السند: إنه قصد فيه نفي العزة عن شعيب عليه السلام وإثباتها لرهطه فيكون تخصيصا للعزة بهم ويلزمه تخصيص عدمها به إلا أن المتبادر كما يشهد به الذوق السليم هو القصد إلى الأول، واستدل السكاكي على كون ذلك للاختصاص بقوله عليه السلام في جواب هذا الكلام ما حكى بقوله عز شأنه:
* (قال ياقوم أرهطىأعز عليكم من الله واتخذتموه ورآءكم ظهريا إن ربى بما تعملون محيط) *
* (قال ي‍اقوم أرهطىأعز عليكم من الله) * أي من نبي الله على ما قال عليه الرحمة، ووجه الاستدلال كما قال العلامة. وغيره: إنه لو لم يكن قصدهم اختصاصه بنفي العزة بل مجرد الإخبار بعدم عزته عليهم لم يستقم هذا الجواب ولم يكن مطابقا لمقالهم إذ لا دلالة لنفي العزة عنه على ثبوتها للغير، وإنما يدل على ذلك اختصاصه بنفي العزة.
واعترض صاحب الإيضاح بأن هذا من باب أنا عارف وهو لا يفيد الاختصاص وفاقا وإنما يفيده التقديم على الفعل مثل أنا عرفت، وكون المشتقات قريبة من الأفعال في التقوى لا يقتضي كونها كالأفعال في الاختصاص والتمسك بالجواب ضعيف لجواز أن يكون جوابا لقولهم: * (لولا رهطك لرجمناك) * فإنه يدل على أن رهطه هم الأعزة حيث كان الامتناع عن رجمه بسببهم لا بسببه ومعلوم بحسب الحال والمقام أن ذلك لعزتهم لا لخوفهم، وتعقبه السيد السند بأن صاحب الكشاف صرح بالتخصيص
في قوله تعالى: * (كلا إنها كلمة هو قائلها) * (المؤمنون: 100) فكيف يقال: باب أنا عارف لا يفيد الاختصاص اتفاقا وإن جعله جوابا لما * (أنت عليه بعزيز) * هو الظاهر بأن يجعل التنوين للتعظيم فيدل على ثبوت أصل العزة له عليه السلام ولا دلالة لقولهم: * (ولولا رهطك لرجمناك) * على اشتراك العزة فلا يلائمه أرهطى أعز عليكم، ثم قال: فإن قيل: شرط التخصيص عند السكاكي أن يكون المقدم
124

بحيث إذا أخر كان فاعلا معنويا ولا يتصور ذلك فيما نحن فيه قلنا: إن الصفة بعد النفي تستقل مع فاعلها كلاما فجاز أن يقال: ما عزيز أن على أن يكون أنت تأكيدا للمستتر ثم يقدم ويدخل الباء على * (عزيز) * بعد تقديم * (أنت) * وجعله مبتدأ. وكذلك قوله سبحانه: * (وما أنا بطارد الذين آمنوا) * (هود: 29) * (وما أنت عليهم بوكيل) * (الأنعام: 107) مما لي حرف النفي وكان الخبر صفة، وقد صرح صاحب الكشاف. وغيره بإفادة التقديم الحصر في ذلك كله، وأما صورة الإثبات نحو أنا عارف فلا يجري فيها ذلك فلا يفيد عنده تخصيصا، وإن كان مفيدا إياه عند من لا يشترط ذلك.
وأجاب صاحب الكشف عما قاله صاحب الإيضاح بعد نقل خلاصته: بأن ما فيه الخبر وصفا كما يقارب ما فيه الخبر فعلا في إفادة التقوى على ما سلمه المعترض يقاربه في إفادة الحصر لذلك الدليل بعينه، وأن قولهم: * (ولولا رهطك لرجمناك) * كفى به دليلا أن حق الكلام أن يفاد التخصيص لا أصل العز ففهمه من ذلك لا ينافي كونه جوابا لهذا الكلام بل يؤكده، وقد صرح الزمخشري بإفادة نحو هذا التركيب الاحتمالين في أنها كلمة هو قائلها، وقال العلامة الطيبي: إن قوله تعالى: * (لولا رهطك لرجمناك) * وقوله سبحانه: * (وما أنت علينا بعزيز) * من باب الطرد والعكس عنادا منهم فلا بد من دلالتي المنطوق، والمفهوم في كل من اللفظين انتهى.
ويعلم من جميع ما ذكر ضعف اعتراض صاحب الإيضاح والعجب من العلامة حيث قال: إنه اعتراض قوي؛ وأشار السكاكي بتقدير المضاف إلى دفع الإشكال بأن كلامهم إنما وقع في شعيب عليه السلام وفي رهطه وأنهم هم الأعزة دونه من غير دلالة على أنهم أعز من الله تعالى.
وأجيب أضا بأن تهاونهم بنبي الله تعالى تهاون به سبحانه فحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه أعز عليهم من الله تعالى أو بأن المعنى أرهطى أعز عليكم من الله تعالى حتى كان امتناعكم عن رجمي بسبب انتسابي إليهم وأنهم رهطى لا بسبب انتسابي إلى الله تعالى وأني رسوله. ثم ما ذكره السيد قدس سره من جعل التنوين في - عزيز - للتعظيم وحينئذ يدل الكلام على ثبوت أصل العزة له عليه السلام فيلائمه أرهطى أعز؟ الخ صحيح في نفسه إلا أن ذلك بعيد جدا من حال القوم، فإن الظاهر أنهم إنما قصدوا نفي العزة عنه عليه السلام مطلقا وإثباتها لرهطه لا نفي العزة العظيمة عنه وإثباتها لهم ليدل الكلام على اشتراكهما في أصل العزة وزيادتها فيهم، وذلك لأن العزة وإن لم تكن عظيمة تمنع من القتل بالحجارة الذي هو من أشر أنواع القتل، ولا أظن إنكار ذلك إلا مكابرة، وكأنه لهذا لم يعتبر مولانا أبو السعود عليه الرحمة جعل التنوين للتعظيم لتتأتى المشاركة فيظهر وجه إنكار الأعزية فاحتاج للكشف عن ذلك مع عدم المشاركة، فقال: وإنما أنكر عليه السلام عليهم أعزية رهطه منه تعالى مع أن ما أثبتوه إنما هو مطلق عزة رهطه لا أعزيتهم منه عز وجل مع الاشتراك في أصل العزة لتثنية التقريع وتكرير التوبيخ حيث أنكر عليهم أولا ترجيح جنبة الرهط على جنبة الله تعالى. وثانيا نفي العزة بالمرة، والمعنى أرهطي أعز عليكم من الله فإنه مما لا يكاد يصح، والحال أنكم لم تجعلوا له تعالى حظا من العزة أصلا * (واتخذتموه) * بسبب عدم اعتدادكم بمن لا يرد ولا يصدر إلا بأمره * (وراءكم ظهريا) * شيئا منبوذا وراء الظهر منسيا انتهى.
وأنا أقول: قد ذكر الرضى أن المجرور بمن التفضيلية لا يخلو من مشاركة المفضل في المعنى إما تحقيقا كما في - زيد أحسن من عمرو - أو تقديرا كقول علي كرم الله تعالى وجهه: لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي
125

من أن أفطر يوما من رمضان وذلك لأن إفطار يوم الشك الذي يمكن أن يكون من رمضان محبوب عند المخالف فقدره علي كرم الله تعالى وجهه محبوبا إلى نفسه أيضا، ثم فضل صوم شعبان عليه فكأنه قال: هب أنه محبوب عندي أيضا أليس صوم يوم من شعبان أحب منه انتهى، وما في الآية يمكن تخريجه على طرز الأخير فيكون إنكاره عليه السلام عليهم أعزية رهطه منه تعالى على تقدير أن يكون عز وجل عزيزا عندهم أيضا، ويعلم من ذلك إنكار ما هم عليه بطريق الأولى، وكأن هذا هو الداعي لاختيار هذا الأسلوب من الإنكار، ووقوعه في الجواب لا يأبى ذلك، وإن قيل بجواز خلو المجرور - بمن - من مشاركة المفضل وإرادة مجرد المبالغة من أفعل المقرون بها بناءا على مجىء ذلك بقلة - كما قال الجلال السيوطي في " همع الهوامع " - نحو العسل أحلى من الخل. والصيف أحر من الشتاء، واعتمد هنا على قرينة السباق والسياق فالأمر واضح، واستحسن كون قوله تعالى: * (واتخذتموه) * الخ اعتراضا وفائدته تأكيدتها ونهم بالله تعالى ببيان أنهم قوم عادتهم أن لا يعبأوا بالله تعالى ويجعلوه كالشيء المنبوذ، وجوز بعض كونه عطفا على ما قبله على معنى أفضلتم رهطى على الله سبحانه وتهاونتم به تعالى ونسيتموه ولم تخشوا جزاءه عز وجل، وقال غير واحد: إنه يحتمل أن يكون الغرض من قوله عليه السلام * (أرهطى) * الخ الرد والتكذيب لقومه فإنهم لما ادعوا أنهم لا يكفون عن رجمه عليه السلام لعزته بل لمراعاة جانب رهطه رد عليهم ذلك بأنكم ما قدرتم الله تعالى حق قدره ولم تراعوا جنابه القوي فكيف تراعون رهطى الأذلة، وأيا ما كان فضمير * (اتخذتموه) * عائد إلى الله تعالى وهو الذي ذهب إليه جمهور المفسرين، وروي عن ابن عباس. والحسن وغيرهما، و - الظهري - منسوب إلى الظهر، وأصله المرمي وراء الظهر، والكسر من تغييرات النسب كما قالوا في النسبة إلى أمس: أمسي بالكسر. وإلى الدهر دهري بالضم، ثم توسعوا فيه فاستعملوه للمنسي المتروك، وذكروا أنه حتمل أن يكون في الكلام استعارة تصريحة وأن يكون استعارة تمثيلية.
وزعم بعضهم أن الضمير له تعالى، و - الظهري - العون وما يتقوى به، والجملة في موضع الحال، والمعنى أفضلتم الرهط على الله تعالى ولم تراعوا حقه سبحانه. والحال أنكم تتخذونه سند ظهوركم وعماد آمالكم.
ونقل ابن عطية هذا المعنى عن جماعة، وقيل: الظهري المنسي، والضمير عائد على الشرع الذي جاء به شعيب عليه السلام وإن لم يذكر صريحا، وروي عن مجاهد
أو على أمر الله، ونقل عن الزجاج، وقيل: الظهري بمعنى المعين، والضمر لله تعالى، وفي الكلام مضاف محذوف أي عصيانه والمعنى على ما قرره أبو حيان واتخذتم عصيانه تعالى عونا وعدة لدفعي، وقيل: لا حذف والضمير للعصيان وهو الذي يقتضيه كلام المبرد، ولا يخفى ما في هذه الأقوال من الخروج عن الظاهر من غير فائدة، ومما ينظم في سلكها تفسير العزيز بالملك زعما أنهم كانوا يسمعون الملك عزيزا على أن من له أدنى ذوق لا يكاد يسلم صحة ذلك فتفطن، ونصب * (ظهريا) * على أنه مفعول ثان - لاتخذتموه - والهاء مفعوله الأول، و * (ورائكم) * ظرف له أو حال من * (ظهريا) *.
* (إن ربي بما تعملون محيط) * تهديد عظيم لأولئك الكفرة الفجرة أي أنه سبحانه قد أحاط علما بأعمالكم السيئة التي من جملتها رعايتكم جانب الرهط دون رعاية جنابه جل جلاله في فيجازيكم على ذلك [بم وكذا قوله:
* (وياقوم اعملوا على مكانتكم إنى ع‍امل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إنى معكم رقيب) *
* (وي‍اقوم اعملوا على مكانتكم) * أي غاية تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم، وهو مصدر مكن يقال: مكن مكانة إذا تمكن أبلغ تمكن، والميم على هذا أصلية، وفي " البحر " يقال: المكان والمكانة مفعل ومفعلة
126

من الكون والميم حينئذ زائدة، وفسر ابن زيد - المكانة - بالحال يقال: على مكانتك ا فلان إذا أمرته أن يثبت على حاله كأنك قلت: اثبت على حالك التي أنت عليها لا تنحرف، وهو من استعارة العين للمعنى كما نص عليه غير واحد، وحاصل المعنى ههنا اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والمشاقة لي وسائر ما لا خير فيه.
وقرأ أبو بكر - مكاناتكم - على الجمع وهو باعتبار جمع المخاطبين كما أن الأفراد باعتبار الجنس، والجار والمجرور كما قال بعضهم: يحتمل أن يكون متعلقا بما عنده على تضمين الفعل على معنى البناء ونحوه كما تقول: عمل على الجد وعلى القوة ونحوهما، وأن يكون في موضع الحال أي اعملوا قارين وثابتين على مكانتكم.
* (إني عامل) * على مكانتي حسبما يؤيدني الله تعالى ويوفقني بأنواع التأييد والتوفيق، وكأنه حذف على مكانتي للاختصار ولما فيه من زيادة الوعيد، وقوله سبحانه: * (سوف تعلمون) * استئناف وقع جواب سؤال مقدرنا شيء من تهديده عليه السلام إياهم بقوله: * (إعملوا) * الخ كأن سائلا منهم سأال فماذا يكون بعد ذلك؟ فقيل: * (سوف تعلمون) * ولذا سقطت الفاء وذكرت في آية الأنعام للتصريح بأن الوعيد ناشىء ومتفرع على إصرارهم على ما هم عليه والتمكن فيه، وما هنا أبلغ في التهويل للإشعار بأن ذلك مما يسئل عنه ويعتنى به، والسؤال المقدر يدل على ما دلت عليه الفاء مع ما في ذلك من تكثير المعنى بتقليل اللفظ، وكأن الداعي إلى الإتيان بالأبلغ هنا دون ما تقدم أن القوم قاتلهم الله تعالى بالغوا في الاستهانة به عليه السلام وبلغوا الغاية في ذلك فناسب أن يبالغ لهم في التهديد ويبلغ فيه الغاية وإن كانوا في عدم الانتفاع كالأنعام، وما فيها نحو ذلك.
وقال بعض أجلة الفضلاء: إن اختيار إحدى الطريقين ثمة والأخرى هنا وإن كان مثله لا يسئل عنه لأنه دوري لأن أول الذكرين يقتضي التصريح فيناسب في الثاني خلافه انتهى، وهو دون ما قلناه، و * (من) * في قوله سبحانه: * (من يأتيه عذاب يخزيه) * قيل: موصولة مفعول العلم وهو بمعنى العرفان، وجملة * (يأتيه عذاب) * صلة الموصول، وجملة * (يخزيه) * صفة * (عذاب) * ووصفه بالإخزاء تعريضا بما أوعدوه عليه السلام من الرجم فإنه مع كونه عذابا فيه خزي ظاهر، وقوله تعالى: * (ومن هو كاذب) * عطف على * (من يأتيه) * و * (من) * أيضا موصولة، وجوز أن تكون * (من) * في الموضعين استفهامية، والعلم على بابه وهي معلقة له عن العمل.
واستظهر أبو حيان الموصولية، وليس هذا العطف من عطف القسيم على قسيمه كما في - سيعلم الصادق. والكاذب - إذ ليس القصد إلى ذكر الفريقين، وإنما القصد إلى الرد على القوم في العزم على تعذيبه بقولهم: * (لرجمناك) * والتصميم على تكذيبه بقولهم: * (أصلاتك تأمرك) * (هود: 87) الخ فكأنه قيل: سيظهر لكم من المعذب أنتم أم نحن ومن الكاذب في دعواه أنا أم أنتم؛ وفيه إدراج حال الفريقين أيضا.
وفي الإرشاد أن فيه تعريضا بكذبهم في ادعائهم القوة والقدرة على رجمه عليه السلام، وفي نسبته إلى الضعف والهوان وفي ادعائهم الإبقاء عليه لرعاية جانب الرهط، وقال الزمخشري: إنه كان القياس، ومن هو صادر بدل هذا المعطوف لأنه قد ذكر عملهم على مكانتهم. وعمله على مكانته، ثم أتبعه ذكر عاقبة العاملين منه ومنهم فحينئذ ينصرف * (من يأتيه) * الخ إلى الجاحدين ومن هو صادق إلى النبي المبعوث ولكنهم لما كانوا يدعونه عليه السلام كاذبا قال: ومن هو كاذب بمعنى في زعمكم ودعواكم تجهيلا لهم يعني أنه عليه السلام جرى في الذكر
127

على ما اعتادوه في تسميته كاذبا تجهيلا لهم، والمعنى ستعلمون حالكم وحال الصادق الذي سميتموه كاذبا لجهلكم، وليس المراد ستعلمون أنه كاذب في زعمكم فلا يرد ما توهم من أن كذبه في زعمهم واقع معلوم لهم الآن فلا معنى لتعليق علمه على المستقبل، وقال ابن المنير: الظاهر أن الكلامين جميعا لهم - فمن يأتيه - الخ متضمن ذكر جزائهم، * (ومن هو كاذب) * متضمن ذكر جرمهم الذي يجازون به وهو الكذب، وهو من عطف الصفة على الصفة والموصوف واحد كما تقول لمن تهدده: ستعلم من يهان ومن يعاقب، وأنت تعني المخاطب في الكلامين فيكون في ذكر كذبهم تعريض لصدقه وهو أبلغ وأوقع من التصريح، ولذلك لم يذكر عاقبة شعيب عليه السلام استغناءا بذكر عاقبتهم، وقد مر مثل ذلك أول السورة في قوله سبحانه: * (فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم) * (هود: 39) حيث اكتفى بذلك عن أن يقول: ومن هو على خلاف ذلك، ونظيره * (فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار) * (الأنعام: 135) حيث ذكر فيه إحدى العاقبتين لأن المراد بهذه العاقبة عاقبة الخير لأنها متى أطلقت لا يعن إلا ذلك نحو والعاقبة للمتقين، ولأن اللام في * (له) * يدل على أنها ليست عليه، واستغنى عن ذكر مقابلها انتهى، وتعقبه الطيبي بما رده عليه الفاضل الجلبي * (وارتقبوا) * أي انتظروا ما أقول لكم من حلول ما أعدكم به وظهور صدقه * (إني معكم رقيب) * أي منتظر ذلك، وقيل:
المعنى انتظروا العذاب إني منتظر النصرة والرحمة، وروي ذلك عن ابن عباس، و * (رقيب) * إما بمعنى مرتقب كالرفيع بمعنى المرتفع. أو راقب كالصريم بمعنى الصارم. أو مراقب كعشير بمعنى معاشر، والأنسب على ما قيل بقوله: * (ارتقبوا) *: الأول وإن كان مجىء فعيل بمعنى اسم الفاعل المزيد غير كثير وفي زيادة * (معكم) * إظهار منه عليه السلام لكمال الوثوق بأمره.
* (ولما جآء أمرنا نجينا شعيبا والذين ءامنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا فى دي‍ارهم ج‍اثمين) *
* (ولما جآء أمرنا) * أي عذابنا كما ينبىء عنه قوله سبحانه: * (سوف تعلمون) * الخ أو وقته فإن الارتقاب يؤذن بذلك * (نجينا شعيبا والذين ءامنوا معه برحمة منا) * وهو الإيمان الذي وفقناهم له. أو بمرحمة كائنة منالهم وإنما جىء بالفاء في قصتي ثمود. ولوط حيث قيل: * (فلما جاء أمرنا) * وبالواو ههنا وفي قصة عاد حيث قيل: * (ولما جاء) * الخ لأنه قد سبق هناك سابقة الوعد بقوله سبحانه: * (ذلك وعد غير مكذوب) * (هود: 65) وقوله تعالى: * (إن موعدهم الصبح) * (هود: 81) وهو يجري مجرى السبب المقتضى لدخول الفاء في معلوله، وأما ههنا. وفي قصة عاد فلم يسبق مثل ذلك بل ذكر مجىء العذاب على أنه قصة بنفسه وما قبله قصة أخرى لكنهما متعلقان بقوم واحد فهما متشاركان من وجه مفترقان من آخر، وذلك مقام الواو كذا قيل.
وتعقب بأن في الكلام ههنا ذكر الوعد أيضا، وهو قوله سبحانه: * (يا قوم اعملوا على مكانتكم) * إلى قوله عز وجل: * (رقيب) * (هود: 93) غاية الأمر أنه لم يذكر بلفظ الوعد ومثله لا يكفي الفرق، وقيل: إن ذكر الفاء في الموضعين لقرب عذاب قوم صالح. ولوط للوعد المذكور فإن بين الأولين والعذاب ثلاثة أيام. وبين الآخرين وبينه ما بين قول الملائكة: * (إن موعدهم الصبح) * والصبح: وهي سويعات يسيرة. ولا كذلك عذاب قومي شعيب. وهود عليهما السلام بل في قصة قوم شعيب عليه السلام ما يشعر بعدم تضييق زمان مجىء العذاب بناءا على الشائع في استعمال * (سوف) * على أن من أنصف من نفسه لم يشك في الفرق بين الوعد في قصتي صالح. ولوط عليهما السلام. والوعد في غيرهما، فإن الإشعار بالمجىء فيهما ظاهر فحسن تفريعه بالفاء ولا كذلك في غيرهما كذا قيل، وفيه ما لا يخفى، ولعل الاقتصار على التفرقة بالقرب
128

وعدمه أقل غائلة مما قيل، وكذا مما يقال: من أن الإتيان بالفاء - لتقدم الوعد وتركها وإن كان هناك وعد للإشارة إلى سوء حال أولئك القومين ومزيد فظاعته حتى أن العذاب حل بهم لا لسبب سبق الوعد بل لمجرد ظلمهم وكأن وجه اعتبار ذلك فيهم دون قومي لوط. وصالح عليهما السلام أنهم امتازوا عنهم برمي ذينك النبيين بالجنون ومشافهتهما بما لم يشافه به كل من قومي صالح. ولوط نبيه فيما قص عنهما في هذه السورة الكريمة فإن في ذلك ما لا يكاد يخفى عليك فتدبر * (وأخذت الذين ظلموا) * عدل عن الضمير تسجيلا عليهم بالظلم وإشعارا بالعلية أي وأخذت أولئك الظالمين بسبب ظلمهم الذي فصل * (الصيحة) * قيل: صاح بهم جبريل عليه السلام فهلكوا وكانت صيحة على الحقيقة، وجوز البلخي أن يكون المراد بها نوعا من العذاب، والعرب تقول: صاح بهم الزمان إذا هلكوا، وقال امرؤ القيس: فدع عنك نهبا (صيح) في حجراته * ولكن حديث ما حديث الرواحل
والمعول عليه الأول، وقد سبق في الأعراف (الرجفة) أي الزلزلة بدلها، ولعلها كانت من مباديها فلا منافاة، وقيل: غير ذلك فتذكر * (فأصبحوا في ديارهم جاثمين) * أي ميتين من جثم الطائر إذا ألصق بطنه بالأرض، ولذا خص الجثمان بشخص الإنسان قاعدا، ثم توسعوا فاستعملوا الجثوم بمعنى الإقامة، ثم استعير من هذا الجاثم للميت لأنه لا يبرح مكانه، ولما لم يجعل متعلق العلم في قوله سبحانه: * (سوف تعلمون من يأتيه عذاب) * الخ نفس مجيء العذاب بل من يجيئه ذلك جعل مجيئه بعد أمرا مسلم الوقوع غنيا عن الاخبار به حيث جعل شرطا، وجعل تنجية شعيب عليه السلام والمؤمنين وإهلاك الكفرة الظالمين جوابا له ومقصود الإفادة، وإنما قدم التنجية اهتماما بشأنها وإيذانا بسبق الرحمة على الغضب قاله شيخ الإسلام، و - أصبح - إما ناقصة. أو تامة أي صاروا جاثمين. أو دخلوا في الصباح حال كونهم جاثمين.
* (كأن لم يغنوا فيهآ ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود) *
* (كأن لم يغنوا) * أي لم يقيموا * (فيها) * متصرفين في أطرافها متقلبين في أكنافها، والجملة إما خبر بعد خبر. أو حال بعد حال.
* (ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود) * العدول عن الإضمار إلى الإظهار للمبالغة في تفظيع حالهم وليكون أنسب بمن شبه هلاكهم بهلاكهم، وإنما شبه هلاكهم بهلاكهم لأن عذاب كل كان بالصيحة غير أنه روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن صيحة ثمود كانت من تحتهم. وصيحة مدين كانت من فوقهم.
وقرأ السلمي. وأبو حيوة (بعدت) بضم العين، والجمهور بكسرها على أنه من بعد يبعد بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع بمعنى هلك، ومنه قوله: يقولون: (لا تبعد) وهم يدفونني * وأين مكان البعد إلا مكانيا
وأما بعد يبعد بالضم فهو البعد ضد القرب قاله ابن قتيبة، قيل: أرادت العرب بهذا التغيير الفرق بين المعنيين، وقال ابن الأنباري: من العرب من يسوي بين الهلاك وبعد الذي هو ضد القرب، وفي القاموس البعد المعروف والموت، وفعلهما - ككرم. وفرح - بعدا وبعدا بفتحتين، وقال المهدوي: إن بعد بالضم يستعمل في الخير والشر. وبعد بالكسر في الشر خاصة، وكيفما كان الأمر فالمراد ببعدت على تلك القراءة أيضا هلكت غاية الأمر أنه في ذلك إماحقيقة أو مجاز، ومن هلك فقد بعد ونأى كما قال الشاعر:
من كان بينك في التراب وبينه * شهران فهو في غاية (البعد)
129

وفي الآية ما يسمى الاستطراد، قيل: ولم يرد في القرآن من هذا النوع إلا ما في هذا الموضع وقد استعملته العرب في أشعارها، ومن ذلك قول حساب رضي الله عنه تعالى عنه: إن كنت كاذبة الذي حدثتني * فنجوت منجى الحرث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم * ونجا برأس طمرة ولجام
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: قوله سبحانه في قصة هود عليه السلام: * (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم) * (هود: 56) فيه إشارة إلى أن كل ذي نفس تحت قهره سبحانه وسلطانه أسير في يد تصرفه وملكته عاجز عن الفعل إلا بإذنه وأنه عز وجل لا يسلط أحدا على أحد إلا عن استحقاق ذنب أو رفع درجة وإعلاء منزلة لأنه تبارك وتعالى على طريق العدل الذي لا إعوجاج فيه، وذكر الشيخ الأكبر قدس سره في فصوصه: إن كل ما سوى الحق فهو دابة فإنه ذو روح وما ثم من يدب بنفسه وإنما يدب بغيره بحكم التبعية للذي هو على صراط مستقيم فكل ماش فهو على الصراط المستقيم وحينئذ فلا مغضوب عليه ولا ضال من هذا الوجه، نعم إن الناس على قسمين: أهل الكشف. وأهل الحجاب، فالأولون يمشون على طريق يعرفونها ويعرفون غايتها فهي في حقهم صراط مستقيم كما أنها في نفس الأمر كذلك، والآخرون يمشرون على طريق يجهلونها ولا يعرفون غايتها وأنها تنتهي إلى الحق فهي في حقهم ليست صراطا مستقيما وإن كانت عند العارف ونفس الأمر صراطا مستقيما، واستنبط قدس سره من الآية أن مآل الخلق كلهم إلى الرحمة التي وسعت كل شيء، وهي الرحمة السابقة على الغضب، وادعى أن فيها بشارة للخلق أي بشارة.
وقال القيصري في تفسيرها: أي ما من شيء موجود إلا هو سبحانه آخذ بناصيته وإنما جعل دابة لأن الكل عند صاحب الشهود وأهل الوجود حي، فالمعنى مامن حي إلا والحق آخذ بناصيته ومتصرف فيه بحسب أسمائه يسلك به أي طريق شاء من طرقه وهو على صراط مستقيم؛ وأشار بقوله سبحانه: * (آخذ) * إلى هوية الحق الذي مع كل من الأسماء ومظاهرها، وإنما قال: * (إن ربي على صراط مستقيم) * بإضافة الرب إلى نفسه، وتنكير الصراط تنبيها على أن كل رب على صراطه المستقيم الذي عين له من الحضرة الآلهية، والصراط المستقيم الجامع للطرق هو المخصوص بالاسم الإلهي ومظهره لذلك قال في الفاتحة المختصة بنبينا صلى الله عليه وسلم: * (إهدنا الصراط المستقيم) * (الفاتحة: 6) بلام العهد. أو الماهية التي منها تتفرع جزئياتها، فلا يقال: إذا كان كل أحد على الصراط المستقيم فما فائدة الدعوة؟ لأنا نقول: الدعوة إلى الهادي من المضل. وإلى العدل من الجائر كما قال سبحانه: * (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا) * (مريم: 85) انتهى بحروفه، وأعظم من هذا إشكالا التكليف مع القول بالوحدة وكذا التنعيم والتعذيب فإن الظاهر من التقرير لكلام المحققين من الصوفية أن المكلف عبارة عن موجود هو حصة من الوجود المطلق المفاض على حقائق الممكنات المتعين بتعينات مختلفة اقتضتها الاستعدادات الذاتية للحقائق التي هي المعدومات المتميزة في نفس الأمر المستعدة باستعدادات ذاتية غير مجعولة، فالمكلف مقيد من مقيدات الوجود المطلق المفاض، والمقيد لا يوجد بدون المطلق لأنه قيومه، والمطلق من حيث الإطلاق عين الحق، ولا شك أن قاعدة التكليف تقتضي أن يكون بينهما مغايرة ومباينة حقيقية ذاتية حتى يصح التكليف وما يترتب عليه من التعذيب والتنعيم.
وأجيب بأن حقيقة الممكن أمر معدوم متميز في نفسه بتميز ذاتي غير مجعول ووجوده خاص مقيد بخصوصية ما
130

اقتضاها استعداده الذاتي لماهيته العدمية فهو مركب من الوجود والعدم وحقيقته مغايرة لوجوده تعقلا لتمايزهما ذهنا، ولا ينافي ذلك قول الأشعري: وجود كل شيء عين حقيقته لما بين في محله وحقيقة الحق تعالى لا تغاير وجوده ووجوده سبحانه هو الوجود المطلق بالإطلاق الحقيقي حسبما حققه محققو الصوفية، فالمغايرة الذاتية بين المكلف والمكلف في غاية الظهور لأن المكلف هو المعدوم اللابس لحصة من الوجود المتعين بمقتضى حقيقته، والمكلف سبحانه هو الحق عز وجل الذي هو عين الوجود المطلق الغير المقترن بماهية عدمية، وبعبارة أخرى: إن حقيقة الممكن أمر معدوم. وحقيقة الواجب سبحانه الوجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق وقد وقع في البين تجلى الهوية في العبد وذلك التجلي هو الجامع للقدرة وغيرها من الكمالات التي يتوقف عليها التلكيف بمقتضى الحكمة ومحقق للمغايرة.
وحاصل ذلك أن حقيقة المزج بين تجلي الهوية والصورة الخلقية المتعينة بمقتضى الحقيقة العدمية هي التي أحدثت ما به يصح التكليف وما يترتب عليه، وكون الحق سبحانه قيوما للوجود المقيد غير قادح في ذلك بل القيومية هي المصححة له لما تبين من النصوص أنه لا تكليف إلا بالوسع ولا وسع للممكن إلا بقيوميته تعالى بنص * (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) * (الكهف: 39) وما هو بالله فهو لله تعالى، والبحث في ذلك طويل، وبعض كلماتهم يتراءى منها عدم المغايرة بين المكلف والمكلف من ذلك ما قيل: لقد كنت دهرا قبل أن يكشف الغطا * إخالك أني ذاكر لك شاكر
فلما أضاء الليل أصبحت شاهدا * بأنك مذكور وذكر وذاكر
لكن ينبغي أن لا يبادر سمعها بالإنكار، ويرجع في المراد منها إلى العارفين بدقائق الأسرار، هذا وقد تقدم الكلام في ناقة صالح عليه السلام، وفيما قص الله تعالى ههنا عن إبراهيم عليه السلام إشارة إلى بعض آداب الفتوة، فقد قالوا: إن من آدابها إذا نزل الضيف أن يبدأ بالكرامة في الإنزال؛ ثم يثني بالكرامة بالطعام، وإنما أوجس عليه السلام في نفسه خيفة لأنه ظن الغضب، والخليل يخشى غضب خليله ومناه رضاه، ولله در من قال: لعلك غضبان ولست بعالم * سلام على الدارين إن كنت راضيا
وفي هذه القصة دليل على أنه قد ينسد باب الفراسة على الكاملين لحكم يريدها الله تعالى، ومن ذلك لم يعرف إبراهيم وكذا لوط عليهما السلام الملائكة عليهم السلام في أول الأمر، وكانت مجادلته عليه السلام من آثار مقام الإدلال على ما قيل، وقوله تعالى عن لوط عليه السلام: * (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد (هود: 80) قيل: يشير بالقوة إلى الهمة وهي عندهم القوة المؤثرة في النفوس لأن القوة منها جسمانية. ومنها روحانية وهذه المسماة بالهمة وهي أقوى تأثيرا لأنها قد تؤثر في أكثر العالم. أوكله بخلاف الجسمانية، وقصد عليه السلام بالركن الشديد القبيلة لأنه يعلم أن أفعال الله تعالى لا تظهر في الخارج إلا على أيدي المظاهر فتوجه إلى الله سبحانه وطلب منه أن يجعل له أنصارا ينصرونه على أعداء الله تعالى، وردد الأمر بين ذلك وأن يجعل له همة مؤثرة من نفسه ليقاوم بها الأعداء، وقد علمت ما روى
عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: " يرحم الله تعالى أخي لوطا " الخبرة.
وذكر الشيخ الأكبر قدس سره أنه عليه الصلاة والسلام نبه بذلك الخبر أن لوطا كان مع الله تعالى من أنه سبحانه
131

(ركن شديد) والإشارة في قصة شعيب عليه السلام إلى أنه ينبغي لمن كان في حيز أن لا يعصى الله تعالى، وللواعظ أن لا يخالف فعله قوله: لا تنه عن خلق وتأتي مثله * عار عليك إذا فعلت عظيم
وأنه لا ينبغي أن يكون شيء عند العبد أعز عليه من الله تعالى إلى غير ذلك، والله تعالى الهادي إلى سبيل الرشاد.
* (ولقد أرسلنا موسى بآي‍اتنا وسلط‍ان مبين) *
* (ولقد أرسلنا موسى بئايتنا) * وهي الآيات التسع العصا. واليد البيضاء. والطوفان. والجراد. والقول والقمل. والضفادع. والدم. والنقص من الثمرات والأنفس، والباء متعلقة بمحذوف وقع حالا من مفعول * (أرسلنا) * أو نعتا لمصدره المؤكد أي أرسلناه حال كونه ملتبسا بآياتنا. أو أرسلناه إرسالا ملتبسا بها.
* (وسلط‍ان مبين) * هو المعجزات الباهرة منها - وهو العصا - والإفراد بالذكر لإظهار شرفها لكونها أبهرها، والمراد بالآيات ما عداها، ويجوز أن يراد بهما واحد، والعطف باعتبار التغاير الوصفي أي أرسلناه بالجامع بين كونه آياتنا وكونه سلطانا له على نبوته واضحا في نفسه أو موضحا إياها من أبان لازما بمعنى تبين ومتعديا بمعنى بين، وجعل بعضهم الآيات والسلطان شيئا واحدا في نفس الأمر إلا أن في ذلك تجريدا نحو مررت بالرجل الكريم. والنسمة المباركة كأنه جرد من الآيات الحجة وجعلها غيرها وعطفت عليها لذلك، وجوز أن يكون المراد بالآيات ما سمعت وبالسلطان ما بينه عليه السلام في تضاعيف دعوته حين قال له فرعون: * (من ربكما) * (طه: 49) * (فما بال القرون الأولى) * (طه: 51) من الحقائق الرائقة. والدقائق اللائقة، أو هو الغلبة والاستيلاء كما في قوله سبحانه: * (ونجعل لكما سلطانا) * (القصص: 35) وجعله عبارة عن التوراة، أو إدراجها في جملة الآيات يرده كما قال أبو حيان قوله عز وجل:
* (إلى فرعون وملإيه فاتبعوا أمر فرعون ومآ أمر فرعون برشيد) *
* (إلى فرعون وملايه) * فإن نزولها إنما كان بعد مهلك فرعون وقومه قاطبة ليعمل بها بنو إسرائيل فيما يأتون ويذرون، وأما فرعون وقومه فإنما كانوا مأمورين بعبادة رب العالمين وترك العظيمة الشنعاء التي كان يدعيها الطاغية وتقلبها منه فئته الباغية وبإرسال بني إسرائيل من الأسر والقسر، ومن هذا يعلم ما في عند النقص من الثمرات والنقص من الأنفس آية واحدة من الآيات التسع، وعد إظلال الجبل منها لأن ذلك إنما كان لقبول التوراة حين أباه بنو إسرائيل فهو متأخر أيضا ضرورة. ومثل ذلك عد فلق البحر وإظلال الغمام بدلهما لأن هذا الإظلال أيضا متأخر عن مهلك فرعون وقومه.
وأجاب بعض الأفاضل عن الاعتراض على جعل التوراة من الآيات بأت التصحيح ممكن، أما أولا: فبما صرحوا به من جواز إرجاع الضمير وتعلق الجار ونحوه بالمطلق الذي في ضمن المقيد فقوله سبحانه: * (إلى فرعون) * يجوز أن يتعلق بالإرسال المطلق لا المقيد بكونه بالتوراة، وأما ثانيا: فبأن يقال: إن موسى عليه السلام كما أرسل إلى الفراعنة أرسل إلى بني إسرائيل أيضا فيجب أن يحمل ملأ فرعون على ما يشملهم فيجيء الكلام على التوزيع على معنى أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين وإلى وملائه بالتوراة فيكون لفا ونشرا غير مرتب، ويقال نحو هذا على تقدير عد إظلال الجبل. أو الغمام من الآيات، وفي مجموعة سرى الدين المصري أن هذا السؤال مما أورد الحافظ الطاشكندي على مخدوم الملك فأجاب بأن قوله سبحانه: * (بآياتنا) * حال مقدرة أي مقدرين تلبسه أو نصرته بالآيات والسلطان إلى فرعون وملائه فلا يقدح فيه ظهور بعضها بعد هلاك فرعون كالتوراة. وانفجار الماء. وغير ذلك، وبأنه قيل: إن إعطاء التوراة مجموعا مرتبا مكتوبا في الألواح بعد غرق فرعون،
132

وأوحى بها إلى موسى عليه السلام في حياة فرعون وكان يأمر بها قومه ويبلغها إلى فرعون وملائه، ويؤيده ما قيل: إن بعض الألواح كان منزلا قبل نزول التوراة بتمامها وكانت تلك الألواح من خشب والألواح التي كانت فيها التوراة بتمامها كانت من زمرد أو من ياقوت أحمر أو من صخرة صماء انتهى، ولا يخفى أن الذهاب إلى كون الحال مقدرة مما لا يكاد يقبله الذوق السليم، وماحكى من أن إعطاء التوراة مجموعا كان بعض والإيحاء بها كان قبل الخ مما لا مستند له من الأخبار الصحيحة، وما ذكر أولا: من حديث التعلق بالمطلق. وثانيا: من حمل * (الملأ) * على ما يشمل بني إسرائيل الخ مما ينبغي أن ينزه ساحة التنزيل عنه، وكيف يحمل - الملأ - على ما يشمل بني إسرائيل مع الإضافة إليه وجعلهم من أهل النار، ولا أظنك في مرية من القول بعدم صحة ذلك؛ وقيل: لو جعل * (إلى فرعون) * متعلقا * (بسلطان مبين) * لفظا أو معنى على تقدير وسلطان مرسل به إلى فرعون لم يبعد مع المناسبة بينه وبين السلطان، وفيه ما لا يخفى فتأمل.
وتخصيص - الملأ - بالذكر مع عموم رسالة موسى عليه السلام للقوم كافة لأصالتهم في الرأي وتدبير الأمور واتباع الغير لهم في الورود والصدور، ولم يصرح بكفر فرعون بالآيات وانهماكه فيما كان عليه من الضلال والإضلال بل اقتصر على ذكر شأنه ملائه فقيل: * (فاتبعوا أمر فرعون) * أي أمره بالكفر بما جاء به موسى عليه السلام من الحق للإيذان بوضوح حاله فكأن كفره وأمر ملائه بذلك أمر متحقق الوجود غير محتاج إلى الذكر صريحا، وإنما المحتاج إلى ذلك شأن ملائه المترددين بين هاد إلى الحق - وهو موسى عليه السلام - وداع إلى الضلال - وهو فرعون - فنعى عليهم سوء اختيارهم، وإيراد الفاء للإشعار بمفاجأتهم في الاتباع ومسارعة فرعون إلى الكفر والأمر به، فكأن ذلك لم يتراخ عن الإرسال والتبليغ.
وجوز أن يراد من الأمر الطريقة والشأن، قيل: ومعنى * (فاتبعوا) * فاستمروا على الاتباع، والفاء مثل ما في قولك: وعظته فلم يتعظ وزجرته فلم ينزجر، فإن الاتيان بالشيء بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه وإن كان استمرارا عليه لكنه بحسب العنوان فعل جديد وصنع حادث، ويجوز أن يكون المراد فاتصفوا بما اتصف به
فرعون من الكفر بما جاء به موسى عليه السلام والتكذيب له ووافقوه في ذلك، وإيراد الفاء للاشعار بمفاجأتهم في الموافقة لفرعون في الكفر ومسارعته إليه فكأنه حين حصل الإرسال والتبليغ حصل كفر فرعون بما جاء به موسى عليه السلام ووقع على أثره الموافقة منهم، ولا تتوهمن أن هذه الموافقة كانت حاصلة لهم قبل لأنها تتوقف على اتصاف فرعون بالكفر بما جاء به موسى عليه السلام، وذلك إنما تجدد له بعد الإرسال والتبليغ فلا ضرورة إلى الحمل على الاستمرار، وجعل الفاء كما في قوكل: زجرته فانزجر فتأمل.
وعدل عن أمره إلى أمر فرعون لدفع توهم رجوع الضمير إلى موسى عليه السلام من أول الأمر ولزيادة تقبيح حال المتبعين فإن فرعون علم في الفساد. والإفساد. والضلال. والإضلال، فاتباعه لفرط الجهالة وعدم الاستبصار، وكذا الحال في قوله تعالى: * (وما أمر فرعون برشيد) * أي براشد أو بذي رشد، والرشد ضد الغي وإسناده إلى الأمر مجازي وكأن في العدول عن وأمر فرعون غي وضلال إلى ما في النظم الكريم زيادة في تقبيح فعلهم وتحسيرا لهم على فوات ما فيه صلاح الدارين أعني الرشد.
ويجوز أن يجعل الرشد كناية عن المحمودية والإسناد حقيقي أي - وما أمر فرعون بصالح حميد العاقبة -
133

وقوله سبحانه:
* (يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود) *
* (يقدم قومه يوم القي‍امة فأوردهم النار) * على الأول: استئناف وقع جوابا لمن سأل عن حال المتبوع والتابع مآلا، وعلى الثاني: تفسير وإيضاح لعدم صلاح عاقبته أي كيف يرشد أمر من هذه عاقبته، وجملة * (وما أمر) * الخ جوز أن تكون حالا من فاعل - اتبعوا - وأن تكون حالا من مفعوله قيل: وهو مختار الزمخشري، والمراد بالقوم ما يشمل الملأ وغيرهم، و * (يقدم) * كينصر من قدم - كنصر - بمعنى تقدم، ومنه قادمة الرحل، وهذا كما يقال: قدمه بمعنى تقدمه، ومنه مقدمة الجيش وأقدم بمعنى تقدم، ومنه مقدم العين فإنه بالكسر لا غير كما قاله المرزوقي، ومثله مؤخر العير كما في المزهر، والمراد من أوردهم يوردهم، والتعبير به دونه للإيذان بتحقق وقوعه لا محالة، والقول: بأنه باق على حقيقته - والمراد فأوردهم في الدنيا النار أي موجبها وهو الكفر - ليس بشيء، ونصب النار على أنه مفعول اثن - لأوردهم - وهي استعارة مكنية تهكمية للضد وهو الماء، وفي قرينتها احتمالا كما شاع في * (ينقضون عهد الله) * (البقرة: 27) وعلى احتمال المجاز يكون الإيراد مستعارا استعارة تبعية لسوقهم إلى النار.
وجوز أن يقال: إنه شبه فرعون بالفارط وهو الذي يتقدم القوم للماء ففيه استعارة مكنية، وجعل اتباعه واردة وإثبات الورود لهم تخييل، وجوز أيضا جعل المجموع تمثيلا.
وجوز بعضهم كون * (يقدم) * وأورد متنازعين في النار إلا أنه أعمل الثاني وحذف مفعول الأول وليس بذلك.
* (وبئس الورد المورود) * أي بئس الورد الذي يردونه النار لأن الورد إنما يورد لتسكين العطش وتبريد الأكبار وفي النار تقطع الأكباد واشتعالها كذا قيل، فالورد على هذا بمعنى النصيب من الماء * (والمورود) * صفته، والمخصوص بالذم محذوف وهو النار، وتعقب بأنه لا بد من تصادق فاعل * (بئس) * ومخصوصها ولا تصادق على هذا، وأيضا في جواز وصف فاعل - نعم. وبئس - خلاف، وابن السراج، والفارسي على عدم الجواز.
وجوز ابن عطية كون (المورود) صفة والمخصوص الناس إلا أنه جعل الكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، فالتصادق حاصل في الحقيقة أي - بئس مكان الورود المورود النار - ومنهم من يجعل * (المورود) * هو المخصوص بالذم، والمراد به النار، ويقدر المضاف ليحصل التصادق أيضا أي - بئس مكان الورد النار - ومن يجعل الورد فاعل * (بئس) * ويفسره بالجمع الوارد. و * (المورود) * صفة لهم والمخصوص بالذم ضميرهم المحذوف أي - بئس القوم المورود بهم هم - فيكون ذما للواردين لا لموضع الورود.
* (وأتبعوا فى ه‍اذه لعنة ويوم القي‍امة بئس الرفد المرفود) *
* (وأتبعوا) * أي الملأ الذين اتبعوا أمر فرعون، وقيل: القوم مطلقا * (في ه‍اذه) * أي في الدنيا * (لعنة) * عظيمة حيث يلعنهم من بعدهم من الأمم * (ويوم القي‍امة) * أيضا حيث يلعنهم أهل الموقف قاطبة فهي تابعة لهم حيثما ساروا ودائرة أينما داروا فكما اتبعوا أمر فرعون اتبعتهم اللعنة في الدارين جزاءا وفاقا.
وقال الكلبي: اللعنة في الدنيا من المؤمنين أو بالغرق، ويوم القيامة من الملائكة أو بالنار.
* (بئس الرفد المرفود) * أي بئس العون المعان كما نقل عن أبي عبيدة، والمخصوص بالذم محذوف أي رفدهم، ويكون * (الرفد) * بمعنى العطية كما يكون بمعنى العون.
قال أبو حيان: يقال: رفد الرجل يرفده رفدا ورفدا إذا أعطاه وأعانه من رفد الحائط دعمه، وعن الأصمعي الرفد بالفتح القدح. والرفد بالكسر ما فيه من الشراب، وقال الليث: أصل الرفد العطاء والمعونة، ومنه
134

رفادة قريش وهي معاونتهم للحاج بشيء يخرجونه للفقراء، ويقال رفده رفدا ورفدا بكسر الراء وفتحها، ويقال: بالكسر الاسم. وبالفتح المصدر، وفسره هنا بالعطاء غير واحد.
وزعم أن المقام لا يلائمه ليس بشيء؛ نعم تفسيره بالعون جاء في صحيح البخاري، والمراد به على التفسرين اللعنة وتسميتها عونا على التفسير الأول من باب الاستعارة
التهكمية، وأما كونها معانا فلأنها أرفدت في الأخرة بلعنة أخرى لتكونا هاديتين إلى صراط الجحيم، وكان القياس أن يسند المرفود إليهم لأن اللعنة في الدنيا تتبعهم وكذا في الآخرة لقوله سبحانه: * (وأتبعوا) * الخ، ولكن أسند إلى الرفد الذي هو اللعنة على الإسناد المجازي نحو جد جده. وجنونك مجنون، وكذا يعتبر الاستعارة والمجاز المذكوران على التفسير الثاني كذا قيل.
وقال بعض المدققين: إن في قول الزمخشري في بيان الآية على المعنى الأول المنقول عن أبي عبيدة وذلك أن اللعنة في الدنيا رفد للعذاب ومدد له، وقد رفدت باللعنة في الآخرة ما يشعر بأنه ليس من الاستعارة التهكمية في شيء إذ لو كان رفدا للمعذبين لكان من ذلك القبيل، ثم قال: وجعله من باب جد جده أبعد وأبعد لأنه ذكر أنه رفد أعين برد أما لو فسر بالتفسير الثاني ففيه الأول لا الثاني لأنه ليس مصدرا وإنما العطاء بمعنى ما يعطى فكثيرا ما يطلق عليه انتهى وفيه نظر لا يخفى، ثم إن القول بأن هناك لعنتين رفدت إحداهما بالأخرى هو المروي عن مجاهد. وغيهر فيوم معطوف على محل في الدنيا.
وذهب قوم إلى أن التقسيم هو أن لهم في الدنيا لعنة ويوم القيامة بئس ما يرفدون به فهي لعنة واحدة أولا وقبح إرفاد آخرا انتهى، وتعقبه في " البحر " بأن هذا لا يصح لأنه يدل على أن * (يوم) * معمول * (بئس) * وهي لا تتصرف فلا يتقدم معمولها عليها، ولو كان * (يوم) * متأخرا صح ذلك كما قال الشاعر: ولنعم حشو الدرع أنت إذا * دعيت نزال ولج في الذعر
وهو كلام وجيه، والآية ظاهرة في سوء حال فرعون يوم القيامة لأنه إذا كان حال الاتباع ما قص الله سبحانه فما ظنك بحال من أغواهم وألقاهم في هذا الضلال البعيد؟ وهذا يعكر على من ذهب إلى أنه قبض طاهرا مطهرا بل قال بعضهم: إنها نص في رد ذلك لأنه تعالى سلب عنه فيها الرشاد بعد موته والمؤمن الطاهر المطهر لا يسلب عنه الرشاد بعد الموت، ولعل من ذهب إلى ذلك يقول: باب التأويل واسع. وباب الرحمة أوسع منه.
* (ذالك من أنبآء القرى نقصه عليك منها قآئم وحصيد) *
* (ذلك) * إشارة إلى ما قص من أنباء الأمم وبعده باعتبار تقضيه أو باعتبار ما قيل في غير موضع، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مبتدأ خبره * (من أنباء القرى) * المهلكة بما جنته أيدي أهلها فأل فيها للعهد السابق تقديرا بذكر أربابها * (نقصه عليك) * خبر بعد خبر أي ذلك النبأ بعض أنباء القرى مقصوص عليك؛ وجوز أن يكون من * (أنباء) * في موضع الحال وهذا هو الخبر، وجوز أيضا عكس ذلك * (منها) * أي من تلك القرى * (قائم وحصيد) * أي ومنها حصيد، فالعطف من عطف الجملة على الجملة وهو الذي يقتضيه المعنى كما لا يخفى، وقد شبه مابقي منها بالزرع القائم على ساقه. وما عفا وبطل بالحصيد، فالمعنى منها باق. ومنها عاف، وهو المروي عن قتادة، ونحوه ما روى عن الضحاك * (قائم) * لم يخسف * (وحصيد) * قد خسف، قيل: * (وحصيد) * الزرع جاء في كلامهم بمعنى الفناء كما في قوله: والناس في قسم المنية بينهم * (كالزرع منه قائم وحصيد)
135

وصيغة فعيل بمعنى مفعول أي محصول كما قال الأخفش، وجمعه حصدي، وحصاد مثل مرضي ومراض، وجملة * (منها قائم) * الخ مستأنفة استئنافا نحويا للتحريض على النظر في ذلك والاعتبار به، أو بيانيا كأنه سئل لما ذكرت ما حالها؟ فأجيب بذلك، وقال أبو البقاء: هي في موضع الحال من الهاء في نقصه، وجوز الطيبي كونها حالا من القرى، وادعى صاحب الكشف أن جعلها حالا من ضمير نقصه فاسد لفظا ومعنى، ومن القرى كذلك، وفي الحواشي الشهابية أراد بالفساد اللفظي في الأول خلو الجملة من الواو والضمير. وفي الثاني مجيء الحال من المضاف إليه في غير الصور المعهودة، وبالفساد المعنوي أنه يقتضي أنه ليس من المقصوص بل هو حال ارجة عنها وليس بمراد، ولا يسوغ جعل ما بعده ابتداء المقصوص، وفيه فساد لفظي أيضا.
وزعم بعض أنه أراد بالفساد الأول في الأول ما ذكر. وفي الثاني وقوع الجملة الاسمية حالا بالضمير وحده وبالضمير تخصيص كونها مقصوصة بتلك الحالة فإن المقصوصية ثابتة لها وللنبأ وقت قيام بعضها أيضا، وقد أصاب بعضا وأخطأ بعضا، ووجه الحلبي الخلو عن الواو والضمير بأن المقصود من الضمير الربط وهو حاصل لارتباط ذلك بمتعلق ذي الحال وهي القرى، فالمعنى نقص عليك بعض أنباء القرى وهي على هذه الحالة تشاهدون فعل الله تعالى بها، وتعقب بأن الاكتفاء في الربط بما ذكر مع خفائه مذهب تفرد به الأخفش ولم يذكره في الحال وإنما ذكره في خبر المبتدأ، وقول أبي حيان: إن الحال أبلغ في التخويف وضرب المثل للحاضرين مع ما سمعت نفعا والحق أنه لا وجه لما ذكره أبو البقاء يعول عليه إلا الذهول.
* (وما ظلمن‍اهم ول‍اكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم ءالهتهم التى يدعون من دون الله من شىء لما جآء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب) *
* (وما ظلمناهم) * قيل: الضمير للقرى مرادا بها أهلها وقد أريد منها أولا حقيقتها، ففي الكلام استخدام، وقيل: الضمير لأهل القرى لأن هناك مضافا مقدرا أي ذلك من أنباء أهل القرى؛ والضمائر منها ما يعود إلى المضاف. ومنها ما يعود إلى المضاف إليه، ومتى وضح الأمر جاز مثل ذلك.
وقيل: القرى على ظاهرها وإسناد الأنباء إليها مجاز، وضمير * (منها) * لها وضمير * (ظلمناهم) * للأهل المفهو منها، وقيل: * (القرى) * مجاز عن أهلها، والضميران راجعان إليها بذلك الاعتبار، أو يقدر المضاف. والضميران له أيضا، وعلى هذا خرج ما حكى عن بعضهم من أن معنى * (منها قائم وحصيد) * منها باق نسله. ومنها منقطع نسله، وأيا ما كان ففي الكلام إيذان بإهلاك الأهل فيكون المعنى هنا وما ظلمناهم بإهلاكنا إياهم.
* (ول‍اكن ظلموا أنفسهم) * حيث اقترفوا بسوء استعدادهم ما يترتب عليه ذلك بمقتضى الحكمة * (فما أغنت عنهم) * أي ما نفعتهم ولا دفعت بأس الله تعالى عنهم * (الهتهم التي يدعون) * أي يعبدونها * (من دون الله) * أوثر صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية أو للدلالة على استمرار عبادتهم لها * (من شيء) * أي شيئا من الإغناء أو شيئا من الأشياء - فما - نافية لا استفهامية - وإن جوزه السمين - وتعلق عن بما عنده لما فيه من معنى الدفع، و * (من) * الأخيرة صلة ومجرورها
مفعول مطلق. أو مفعول به للدفع، وقوله سبحانه: * (لما جاء أمر ربك) * أي حين مجيء عذابه منصوب - بأغنت - وهذا - على ما في البحر - بناءا على خلاف مذهب سيبويه لأن مذهبه أن * (لما) * حرف وجوب لوجوب.
وقرىء - آلهتهم اللاتي - و * (يدعون) * بالبناء للمفعول وهو وصف للآلهة كالتي في المشهورة، وفيه مطابقة
136

للموصوف ليست في * (التي) * لكن قيل - كما في " جمع الجوامع " للجلال السيوطي - إن التي في جمع غير عالم أكثر من اللاتي، نعم إن الآلهة قد عوملت في الآية معاملة العقلاء لأن عبدتها نزلوها منزلة العقلاء في اعتقادهم فيها أنها تنفع وتضر، فقيل: * (وما زادوهم غير تتبيب) * ومن هنا قيل: إن اللاتي في تلك القراءة واقع موقع الآلي أو الذين، و - التتبيب - على ما في " البحر " التخسير، يقال: تب خسر. وتببه خسره.
وذكر الجوهري أن التب الخسران والهلاك. والتتبيب الاهلاك، وفي القاموس التب. والتبب. والتباب والتتبيب النقص والخسار.
وأخرج ابن جرير. وابن المنذر عن ابن عمر. ومجاهد تفسير ذلك بالتخسير، وكذا أخرج الطستي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه عنهما إلا أنه استشهد عليه بقول بشر بن أبي خازم: هم جدعوا الأنواف فأذهبوها * وهم تركوا بني سعد (تبابا)
وحينئذ فالمعنى فما زادوهم غير تخسير أو خسارة لنفوسهم حيث استحقوا العذاب الأليم على عبادتهم لها نسأل الله تعالى العفو والعافية.
* (وكذالك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهى ظ‍المة إن أخذه أليم شديد) *
* (وكذلك) * أي مثل ذلك الأخد والإهلاك الذي مر بيانه، وهو على ما قال السمين: خبر مقدم، وقوله سبحانه: * (أخذ ربك) * مبتدأ مؤخر، وقيل: بالعكس، والكاف يحتمل أن تكون اسمية وأن تكون حرفية وقد يجعل المشار إليه الأخذ المذكور بعد كما تحقق قبل، وفي قراءة عبد الله كذلك بغير واو.
* (إذا أخذ القرى) * أي أهلها وإنما أسند إليها للإشعار بسريان أثره، وقرأ الجحدري. وأبو رجاء * (وكذلك أحذ ربك إذا أخذ) * على أن * (أخذ ربك) * فعل وفاعل، والظرف لما مضى، وهو إخبار عما جرت به عادة الله تعالى في إهلاك من تقدم من الأمم وكذلك على هذا ساد مسد المصدر النوعي ولا مانع من تقدمه على الفعل والقرى متنازع للمصدر والفعل، وقوله سبحانه: * (وهي ظ‍المة) * في موضع الحال من * (القرى) * ولذا أنث الضمير و * (ظالمة) * إلا أن وصف القرى بالظلم مجاز وهو في الحقيقة صفة أهلها وجعله حالا من المضاف المقدر أولا وتأنيثه مكتسب من المضاف إليه تكلف، وفائدة هذه الحال الأشعار بأن أخذهم بسبب ظلمهم، وفي ذلك من إنذار الظالم ما لا يخفى، والمراد بالظلم إما الكفر أو ما هو أعم، وظاهر صنيع بعضهم أخذا من إطلاقه أنه شامل لظلم المرء نفسه. وغيره * (إن أخذه أليم) * وجيع * (شديد) * لا يرجى منه الخلاص وهذا مبالغة في التهديد والتحذير، أخرج الشيخان في صحيحيهما. والترمذي. والنسائي. وابن ماجه. وآخرون عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ * (وكذلك أخذ ربك) * إلى قوله تعالى: * (إن أخذه أليم شديد) * ".
* (إن فى ذالك لآية لمن خاف عذاب الاخرة ذالك يوم مجموع له الناس وذالك يوم مشهود) *
* (إن في ذالك) * أي أخذه سبحانه للأمم المهلكة أو فيما قص من أخبارهم * (لآية) * أي لعلامة، وفسرها بعضهم بالعبرة لما أنها تلزمها وهو حسن؛ والتنوين للتعظيم أي لعبرة عظيمة * (لمن خاف عذاب الآخرة) * فإنه إذا رأى ما وقع في الدنيا بالمجرمين من العذاب الأليم اعتبر به حال العذاب الموعود فإنه عصا من عصية وقليل من كثير، وانزجر بذلك عن المعاصي التي يترتب عليها العذاب وأكب على التقوى والخشية من الله تعالى، وقد أقيم * (من خاف) * الخ مقام من صدق بذلك لما بينهما
137

من اللزوم ولأن الاعتبار إنما ينشأ من الخوف، وذكر هذا القيد لأن من أنكر الآخرة وأحال فناء هذا العالم أسند الحوادث إلى أسباب فلكية وأوضاع مخصوصة فلم يعتبر بذلك أصل ولم ينزجر عن الضلالة قطعا، وقال: إن ما وقع إنما وقع لهاتيك الأسباب والأوضاع لا للمعاصي التي اقترفتها الأمم المهلكة.
وقيل: المراد إن فيما ذكر دليلا على عذاب المجرمين في الآخرة لأنهم إذا عذبوا في الدنيا لإجرامهم - وهي دار العمل - فلأن يعذبوا في الآخرة عليه - وهي دار الجزاء - أولى، وقيل: المراد إن فيه دليلا على البعث والجزاء، وذلك أن الأنبياء عليهم السلام قد أخبروا باستئصال من كذبهم وأشرك بالله ووقع ما أخبروا به وفق إخبارهم، وذلك أحد الشواهد على صدقهم فيكونون صادقين فيما يخبرون به من البعث والجزاء فلا بد أن يقع لا محالة، والتقييد بما ذكر هنا كالتقييد في قوله سبحانه: * (هدى للمتقين) * (البقرة: 2) وهو كما ترى * (ذالك) * إشارة إلى يوم القيامة المدلول عليه بذكر الآخرة * (يوم مجموع له الناس) * أي يجمع له الناس للمحاسبة والجزاء، فالناس نائب فاعل مجموع.
وأجاز ابن عطية أن يكون مبتدأ و * (مجموع) * خبره، وفيه بعد إذ الظاهر حينئذ أن يكون مجموعا وعدل في الفعل - وكان الظاهر - ليدل الكلام على ثبوت معنى الجمع وتحقق وقوعه لا محالة وأن الناس لا ينفكون عنه فهو أبلغ من قوله تعالى: * (يوم يجمعكم ليوم الجمع) * (التغابن: 9) وإيضاحه أن في هذا دلالة على لزوم الوصف ولزوم الاسناد، وفي ذلك على حدوث تعلق الجمع بالمخاطبين واختصاصه باليوم ولهذا استدركه بقوله: الجمع فأضاف اليوم إليه ليدل على لزومه له وإنما الحادث جمع الأولين والآخرين دفعة * (وذلك) * أي يوم القيامة مع ملاحظة عنوان جمع الناس له * (يوم مشهود) * أي مشهود فيه فاتسع في الجار والمجرور ووصل الفعل إلى الضمير إجراءا له مجرى المفعول به كما في قوله: ويوما (شهدناه) سليما وعامرا * قليل سوى طعن الدراك نوافله
أي يشهد فيه الخلائق الموقف لا يغيب عنه أحد وإنما لم يجعل نفس اليوم مشهودا بل جعل مشهودا فيه ولم يذكر المشهود تهويلا وتعظيما أن يجرى على اللسان وذهابا إلى
أن لا مجال لالتفات الذهن إلى غيره، وقد يقال: المشهود هو الذي كثر شاهدوه، ومنه قولهم: لفلان مجلس مشهود. وطعام محضور، ولأم قيس الضبية: ومشهد قد كفيت الناطقين به * في محفل من نواصي الناس (مشهود)
واعتبروا كثرة شاهديه نظرا إلى أنه الذي يستحق أن يطلق اسم المشهود على الإطلاق عليه، ولو جعل اليوم نفسه مشهودا من غير هذا الاعتبار لم يحصل الغرض من تعظيم اليوم وتمييزه فإن سائر الأيام كذلك لكن جاء الامتياز من ذلك لما أضيف إليه من الكثرة المهولة المميزة، وبما ذكر يعلم سقوط ما قبل: الشهود الحضور. واجتماع الناس حضورهم فمشهود بعد مجموع مكرر.
* (وما نؤخره إلا لاجل معدود) *
* (وما نؤخره) * أي ذلك اليوم الملحوظ بعنوان الجمع والشهود، ونقل الجو في رجوع الضمير للجزاء، وقرأ الأعمش. ويعقوب - يؤخره - بالياء.
* (إلا لأجل معدود) * أي لانتهاء مدة قليلة، فالعد كناية عن القلة، وقد يجعل كناية عن التناهي، والأجل عبارة عن جميع المدة المعينة للشيء، وقد يطلق على نهايتها، ومنع إرادة ذلك هنا لأنه لا يوصف بالعد
138

في كلامهم بوجه، وجوزها بعضهم بناءا على أن الكناية لا يشترط فيها إمكان المعنى الأصلي، وتعقب بأنه عدول عن الظاهر، وتقدير المضاف أسهل منه. واللام للتوقيت، وفي المجمع أنها تدل على الغرض وأن الحكمة اقتضت التأخير ولذا عدل عن إلى * (إليها) * وفي الآية رد على الدهرية. والفلاسفة الزاعمين أنه لا انقضاء لمدة الدنيا، وهو بحث مفروغ منه.
* (يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقى وسعيد) *
* (يوم يأت) * أي ذلك اليوم المؤخر بانقضاء أجله المضروب حسبما تقتضيه الحكمة وهو المروى عن ابن جريج، وقبل: الضمير للجزاء أيضا، وقيل: لله تعالى، وفيه من تفخيم شأن اليوم ما لا يخفى، ويعضده قراءة - وما يؤخرخ - بالياء، وتسبة الإتيان. ونحوه إليه سبحانه أتت في غير ما آية، واعترض الأول بأت التقدير عليه يوم إتيان ذلك اليوم ولا يصح لأن تعرف اليوم بالاتيان يأبى تعرف الاتيان به، ولأن إتيان اليوم لا ينفك عن يوم الاتيان فيكفي الإسناد وتلغو الإضافة، ونقل العلامة الطيبي نصا على عدم جوازه كما لا تقول: جئتك يوم بشرك، وأجيب أن كل زمان له شأن يعتبر تجدده كالعيد. والنيروز. والساعة مثلا، يجري مجرى الزماني وإن كان في نفسه زمانا فباعتبار تغاير الجهتين صحت الإضافة والإسناد كما يصح أن يقال: يوم تقوم الساعة. ويوم يأتي العيد. والعيد في يوم كذا، فالأول زمان وضميره أعني فاعل الفعل زماني، وإذا حسن مثل قوله: فسقى الغضى والساكنيه وإن هم * شبوه بين جوانحي وضلوعي
فهذا أحسن، وقرأ النحويان. ونافع * (يأتي) * بإثبات الياء وصلا وحذفها وقفا، وابن كثير باثباتها وصلا ووقفا وهي ثابتة في مصحف أبي، وقرأ باقي السبعة بحذفها وصلا ووقفا، وسقطت في مصحف عثمان رضي الله تعالى عنه، وإثباتها وصلا ووقفا هو الوجه، ووجه حذفها في الوقف التشبيه بالفواصل، ووصلا ووقفا التخفيف كما قالوا: لا أدر ولا أبال، وذكر الزمخشري أن الاجتزاء بالكسرة عن الياء كثير في لغة هذيل، ومن ذلك قوله: كفاك ما تليق درهما * جودا وأخرى تعط بالسف الدما
وقرأ الأعمش - يوم يأتون - بواو الجمع، وكذا في مصحف عبد الله أي يوم يأتي الناس. وأو أهل الموقف * (لا تكلم نفس) * أي لا تتكلم بما ينفع وينجي من جواب أو شفاعة، وهذا الفعل على الأظهر هو الناصب للظرف السابق.
وجوز أن يكون منصوبا بالانتهاء المضاف إلى الأجل وأن يكون مفعولا به - لا ذكر - محذوفا، وهذه الجملة في موضع الحال من ضمير اليوم، وأجاز الحوفي. وابن عطية كونها نعتا ليوم، وتعقب بأنه يقتضي أن إضافته لا تفيده تعريفا وهو ممنوع ولعل من يدعي ذلك يقول: إن الجمل بمنزلة النكرات حتى أطلقوا عليها ذلك فالاضافة إليها كالإضافة إليها * (إلا باذنه) * أي إلا باذن الله تعالى شأنه وعز سلطانه في التكلم كقوله سبحانه: * (لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن) * (النبأ: 38) وهذا في موقف من مواقف ذلك اليوم، وقوله تبارك وتعالى: * (هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون) * (المرسلات: 35، 36) في موقف آخر من مواقفه كما أن قوله تعالى: * (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها) * (النحل: 111) في آخر منها، وروي هذا عن الحسن.
وقد ذكر غير واحد أن المأذون فيه الأجوبة الحقة والممنوع منه الأعذار الباطلة، نعم قد يؤذن فيها
139

أيضا لإظهار بطلانها كما في قول الكفرة: * (والله ربنا ما كنا مشركين) * (الأنعام: 23) ونظائره، والقول بأن هذا ليس من قبيل الأعذار وإنما هو إسناد الذنب إلى كبرائهم وأنهم أضلوهم ليس بشيء كما لا يخفى، وفي الدرر والغرر للسيد المرتضى أن بين قوله سبحانه: * (يوم يأت لا تكلم نفس إلا باذنه) * وقوله سبحانه: * (هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون) * (المرسلات: 35، 36) وكذا قوله جل وعلا: * (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) * (الصافات: 27) اختلافا بحسب الظاهر، وأجاب قوم من المفسرين عن ذلك بأن يوم القيامة يوم طويل ممتد فيجوز أن يمنعوا النطق في بعضه ويؤذن لهم في بعض آخر منه، ويضعف هذا الجواب أن الإشارة إلى يوم القيامة بطوله فكيف يجوز أن تكون الآيات فيه مختلفة، وعلى ما ذكروه يكون معنى * (هذا يوم لا ينطقون) * هذا يوم لا ينطقون في بعضه وهو خلاف الظاهر، والجواب السديد عن ذلك أن يقال: إنما أريد نفي النطق المسموع المقبول الذي ينتفعون به ويكون لهم في مثله إقامة حجة وخلاص لا نفي النطق مطلقا بحيث يعم ما ليس له هذه الحالة، ويجري هذا المجرى قولهم: خرس فلان عن حجته. وحضرنا فلانا يناظر فلانا فلم نره قال شيئا وإن كان الذي وصف بالخرس والذي نفى عنه القول قد تكلم بكلام كثير إلا أنه من حيث لم يكن فيه حجة ولم يتضمن منفعة جاز إطلاق ما حكيناه عليه، ومثله قول الشاعر: أعمى إذا ما جارتي خرجت * حتى يوارى جارتي الخدر
ويصم عما كان بينهما * سمعي وما بي غيره وقر
وعلى هذا فلا اختلاف لأن التساؤل والتلاؤم مثلا لا حجة فيه، وأما قوله سبحانه: * (ولا يؤذن لهم فيعتذرون) * فقد قيل فيه: إنهم غير مأمورين بالاعتذار فكيف يتعذرون، ويحمل الإذن على الأمر وإنما لم يؤمروا به لأن تلك الحالة لا تكليف فيها والعبادة ملجأون عند مشاهدة الأهوال إلى الاعتراف والإقرار، وأحسن من هذا أن يحمل * (يؤذن لهم) * أنه لا يسمع لهم ولا يقبل عذرهم انتهى.
وأنت تعلم أن تضعيفه لما أجاب به القوم من امتداد يوم القيامة وجواز كون المنع من النطق في بعض منه والإذن في بعض آخر ليس بمرتضى عند ذي الفكر الرضى لظهور صحة وقوع الزمان الممتد ظرفا للنقيضين فيما إذا لم يقتض كل منهما أو أحدهما جميع ذلك الزمان، وقد شاع دفع التناقض بين الكلامين بمثل ما فعلوا ومرجعه إلى القول باختلاف الزمان كما أن مرجع ما روي عن الحسن إلى القول باختلا المكان، واتحاد الزمان والمكان من شروط تناقض القضيتين وليس هذا الذي فعلوه بأبعد مما فعله المرتضى على أن في كلامه بعد ما لا يخفى.
وقال بعض الفضلاء: لا منافاة بين هذه الآية والآيات التي تدل على التكلم يوم القيامة لأن المراد من يوم يأتي حين يأتي، والقضية المشتملة على ذلك وقتية حكم فيها بسلب المحمول عن جميع أفراد الموضوع في وقت معين وهذا لا ينافي ثبوت المحمول للموضوع في غير ذلك الوقت، وقال ابن عطية: لا بد من أحد أمرين: إما أن يقال: إن ما جاء في الآيات من التلاؤم والتساؤل والتجادل ونحو ذلك مما هو صريح في التكلم كان عن إذن، وإما أن يحمل التكلم هنا على تكلم شفاعة أو إقامة حجة وكلا القولين كما ترى، والاستثناء قيل: من أعم الأسباب أي لا تكلف نفس بسبب من الأسباب إلا بسبب إذنه تعالى وه متصل، وجوز أن يكون منقطعا ويقدر ما لا يتناول المستثنى أي لا تكلم نفس باقتدار من عندها إلا باذنه تعالى، ولا يخفى أن هذا استثناء مفرغ، وقد طرق سمعك ما هو الأصح فيه، وقرىء كما في المصاحف لابن الأنبار - يوم يأتون لا تكلم دابة إلا باذنه - * (فمنهم) * أي
140

أهل الموقف المدلول عليه بقوله سبحانه: * (لا تكلم نفس) * (هود: 105) أو الجميع الذي تضمنه * (نفس) * إذ هو اسم جنس أريد به الجميع على ما نقله أبو حيان عن ابن عطية، أو الناس المذكور في قوله سبحانه: * (مجموع له الناس) * ونقل ابن الأنباري أن الضمير لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وهو من الغرابة بمكان وكأنه قصد هذا القائل بذلك تمهيدا لتوجيه الاستثناء الآتي وهو ولله الحمد غني عن ذلك، والظاهر أن * (من) * للتبعيض والجار والمجرور خبر مقدم، وقوله سبحانه: * (شقي) * مبتدأ، وقوله تعالى: * (وسعيد) * بتقدير ومنهم سعيد، وحذف منهم لدلالة الأول عليه، والسعادة على ما قال الراغب: معاونه الأمور الإلهية للإنسان على نيل الخير ويضادها الشقاوة، وفسر في البحر الشقاوة بنكد العيش وسوئه، ثم قال: والسعادة ضدها، وفي القاموس ما يقرب من ذلك، فالشقي. والسعيد هما المتصفان بما ذكر، وفسر غير واحد الأول بمن استحق النار بمقتضى الوعيد. والثاني بمن استحق الجنة بموجب الوعد، وهذا هو المتعارف بين الشرعيين، وتقديم الشقى على السعيد لأن المقام مقام الانذار والتحذير.
* (فأما الذين شقوا ففى النار لهم فيها زفير وشهيق) *
* (فأما الذين شقوا) * أي سبقت لهم الشقاوة * (ففي النار) * أي مستقرون فيها * (لهم فيها زفير وشهيق) * قال أهل اللغة من الكوفية. والبصرية: الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار والشهيق بمنزلة آخر نهيقه، قال رؤبة: حشرج في الصدر صهيلا أو شهق * حتى يقال ناهق وما نهق
وقال ابن فارس:
الزفير إخراج النفس. والشهيق رده، قال الشماخ في حمار وحش: بعيد مدى التطريب أول صوته * زفير ويتلوه شهيق محشرج
وقال الراغب: الزفير ترديد النفس حتى تنتفخ الضلوع منه من زفر فلان إذا حمل حملا بمشقة فتردد فيه نفسه، ومنه قيل: للإماء الحاملات الماء: زوافر. والشهيق طول الزفير وهو رد النفس، والزغير مده، وأصله من جبل شاهق أي متناه في الطول. وعن السائب أن الزفير للحمير. والشهيق للبغال وهو غريب، ويراد بهما الدلالة على كربهم وغمهم وتشبيه حالهم بحال من استولت على قلبه الحرارة وانحصر فيه روحه، أو تشبيه أصواتهم بأصوات الحمير ففي الكلام استعارة تمثيلية أو استعارة مصرحة، والمأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: يريد ندامة ونفسا عاليا وبكاءا لا ينقطع، وقرأ الحسن * (شقوا) * بضم الشين فاستعمل متعديا لأنه يقال شقاه الله تعالى كما يقال أشقاه، وجملة * (لهم فيها زفير) * الخ مستأنفة كأن سائلا قال: ما شأنهم فيها؟ فقيل لهم فيها كذا وكذا، وجوز أن تكون منصوبة المحل على الحالية من النار أو من الضمير في الجار والمجرور [بم كقوله عز وجل:
* (خ‍الدين فيها ما دامت السم‍اوات والارض إلا ما شآء ربك إن ربك فعال لما يريد) *
* (خ‍الدين فيها) * خلا أنه إن أريد حدوث كونهم في النار فالحال مقدرة * (ما دامت السم‍اوات والأرض) * أي مدة دوامهما، وهذا عبارة عن التأييد ونفي الانقطاع على منهاج قول العرب: لا أفعل كذا ما لاح كوكب. وما أضاء الفجر. وما اختلف الليل والنهار. وما بل بحر صوفة. وما تغنت حمامة إلى غير ذلك من كلمات التأبيد عندهم لا تعليق قرارهم فيها بدوام هذه السموات والأرض، فإن النصوص القاطعة دالة على تأبيد قرارهم فيها وانقطاع دوامهما، وروي هذا عن ابن جرير، وجوز أن يحمل ذلك على التعليق والمراد بالسموات والأرض سموات الآخرة وأرضها، وهي دائمة للأبد، قال الزمخشري: والدليل على أن لها سموات وأرضا قوله سبحانه: * (يوم تبدل الأرض غير
141

الأرض والسموات) * (إبراهيم: 48) وقوله سبحانه: * (وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء) * (الزمر: 74) ولأنه لا بد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم
إما سماء يخلقها الله تعالى أو يظلهم العرش، وكل ما أظلك فهو سماء انتهى.
قال القاضي: وفيه نظر لأنه تشبيه بما لا يعرف أكثر الخلق وجوده ودوامه ومن عرفه فإنما عرفه بما يدل على دوام الثواب والعقاب فلا يجدي له التشبيه، وأجاب عنه صاحب الكشف بأنه إذا أريد ما يظلهم وما يقلهم فهو ظاهر السقوط لأن هذا القدر معلوم الوجود لكل عاقل واما الدوام فليس مستفادا من دليل دوام الثواب والعقاب بل مما يدل على دوام الجنة والنار سواء عرف أنهما دار الثواب والعقاب وأن أهلهما السعداء والأشقياء من الناس أولا على أنه ليس من تشبيه ما يعرف بما لا يعرف بل العكس انتهى، وتعقبه الجلبي بأن قوله: لكل عاقل غير صحيح فانه لا يعترف بذلك إلا المؤمنون بالآخرة، وقوله الدوام مستفاد مما يدل على دوام الجنة والنار لا يدفع ما ذكره القاضي لأنه يريد أن المشبه به ليس أعرف من المشبه لا عند المتدين لأنه يعرف كليهما من قبل الأنبياء عليهما السلام وليس فيه ما يوجب أعرفية دوام سموات الآخرة وأرضها وليس مراده أن دوامهما مستفاد من خصوص الدليل الدال على الثواب والعقاب بعينه فإنه لا يهمه ليمنع ولا عند غير المتدين فانه لا يعترف به ولا بها ولا يعرفه، وقوله: على أنه ليس من تشبيه الخ مبني على أنه تشبيه تلك الدار بهذه الذار وليس بذلك، وإنما المراد التشبيه الضمني لدوامهم بدوامهما انتهى، وفيه بحث.
والحق أن صحة إرادة ذلك مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان، وفي الاختبار عن ابن عباس. والحسن. والسدى. وغيرهم ما يقتضيه، ومن تأمل منصفا بعد تسليم أن هناك تشبيها يظهر له أن المشبه به أعرف من المشبه وأقرب إلى الذهن، واتحاد طريق العلم بهما لا يضر في ذلك شيئا بداهة أن ثبوت الحيز أعرف وأقرب إلى الذهن من ثبوت ما تحيز فيه وإن وردا من طرق السمع كما لا يخفى على أن اشتراط كون المشبه به أعرف في كل تشبيه غير مسلم عند الناظر في المعاني، نعم المتبادر من السموات والأرض هذه الأجرام المعهودة عندنا، فالأولى أن تبقى على ظاهرها ويجعل الكلام خارجا مخرج ما اعتادته العرب في محاوراتهم عند إرادة التبعيد والتأبيد، وهو أكثر من أن يحصى، ولعل هذا أولى أيضا مما في تفسير ابن كثير من حمل السموات والأرض على الجنس الشامل لما في الدنيا والآخرة أي المظل والمقل في كل دار، وفي الدرر أنه يمكن أن يكون المراد أنهم خالدون بمقدار مدة بقاء السموات والأرض التي يعلم انقطاعها ثم يزيدهم سبحانه على ذدلك ويخلدهم ويؤبد مقامهم، ولعله أراد مدة بقائهما منذ خلقهما الله تعالى إلى أن يبدلهما لا مدة بقائهما بعد دخولهم النار يوم القيامة لأنهما يبدلان قبل دخولهم. والآية على هذا من قبيل قوله سبحانه: * (لابثين فيها أحقابا) * (النبأ: 23) * (إلا ما شاء ربك) * قيل: هو استثناء من الضمير المستكن في * (خالدين) * وتكون * (ما) * واقعة على نوع من يعقل كما في قوله سبحانه: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * (النساء: 3) أو واقعة على من يعقل على مذهب من يرى وقوعها عليه مطلقا.
والمراد بمن شاء فساق الموحدين فإنهم يخرجون منها كما نطقت به الأخبار، وذلك كاف في صحة الاستثناء لأن زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض وهم المراد بالاستثناء الثاني فانهم مفارقون عن الجنة أيام عذابهم، والتأبيد من مبدأ معين ينتقض باعتبار الابتداء كما ينتقض باعتبار الانتهاء، ألا ترى أنك إذا قلت: مكثت يوم الخميس في البستان إلا ثلاث ساعات جاز أن يكون ذلك الزمان الواقع فيه عدم المكث من أوله ومن آخره، وهؤلاء وإن شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بإيمانهم، ولا يقال: فعلى هذا لا يكون قوله سبحانه:
142

* (فمنهم شقي وسعيد) * (هود: 105) تقسيما صحيحا لأن من شرطه أن تكون صفة كل قم منفية عن قسيمه لأن ذلك الشرط حيث الانفصال حقيقي أو مانع من الجمع، وههنا المراد أن أهل الموقف لا يخرجون من القسمين وأن حالهم لا تخلو عن السعادة والشقاوة، وذلك لا يمنع اجتماع الأمرين في شخص واحد باعتبارين انتهى، وهو ما ذكره الإمام وآثره القاضي، واعترض بأنه لا دلالة في اللفظ على المبدأ المعين ولو سلم فالاستثناء يقتضي إخراجا عن حكم الخلود وهو لا محالة بعد الدخول، فكيف ينتقض بما سبق عليه؟ كيف وقد سبق قوله تعالى: * (في الجنة) *؟ ثم قيل: فإن قلت: زمان تفرقهم عن الموقف هو الابتداء وهو رخر يوم يأتي قلت: إن ادعى أن الابتداء من ابتداء ذلك الزمان جاز أن يسلم دلالة اللفظ عليه ولا ينفع لأن الكل في الدارين غير خالدين على هذا التقدير، وأما جعل ابتداء المدة من انتهائه فلا، وبأن تقابل الحكمين يدل على تقابل القسمين بمعنى منع الجمع مطلقا؛ وأجيب - بعد غمض العين عما في ذلك من الخروج عن آداب المناظرة - بأن مبدأ زمان خلود أهل الجنة من زمان دخول أهل النار في النار، ويدل على ذلك اتحاد معيار الخلودين، وهو * (ما دامت السموات والأرض) * فإنه يدل على زمان خلودهما ولا اتحاد مع الاختلاف في المبدأ، والاستثناء عن حكم الخلود من مبدأ معين يكون بالإخراج عن حكم الدخول الذي يتضمنه الخلود فيها لا محالة.
وخلاصة المعنى على هذا أن الشعداء كلهم خالدون في الجنة من زمان دخول أهل النار في النار إلا العصاة منهم الذين أراد الله سبحانه دخولهم في النار مدة معينة علمها عنده جل وعلا، وما ذكر من حديث تقابل الحكمين إن أريد تقابلهما بمعنى منع الجمع فلا تقابل فيهما بهذا المعنى لاجتماعهما في العصاة، وإن أريد مطلقا فلا دلالة على تقابل القسمين بذلك المعنى انتهى.
ولا يخفى على المنصف ما في ذلك القول من التكلف ومخالفة الظاهر والانتصار له بما ذكر لا يجديه نفعا، وقيل: هو استثناء من الضمير المتقدم إلا أن الحكم الخلود في عذاب النار، وكذا يقال فيما بعد: إن الحكم فيه الخلود في نعيم الجنة وأهل النار ينقلون منها إلى الزمهرير وغيره من العذاب أحيانا وكذلك أهل الجنة ينعمون بما هو أعلى منها كالاتصال بجناب القدس والفوز برضوان الله تعالى الذي هو أكبر وما يتفضل به عليهم سوى ثواب الجنة مما لا يعرف كنهه إلا هو سبحانه وتعالى، وإلى هذا ذهب الزمخشري سالا سيف البغي والاعتزال، وقد رده العلامة الطيبي وأطال الكلام في ذلك.
وقال " صاحب الكشف ": إن ذلك في أهل النار ظاهر لأنهم ينقلون من حر النار إلى برد الزمهرير، والرد بأن النار عبارة عن دار العقاب غير وارد لأنا لا ننكر استعمال النار فيها تغليبا أما دعوى الغلبة حتى يهجر الأصل فكلا، ألا ترى إلى قوله تعالى: * (نارا تلظى) * * (نارا وقودها الناس والحجارة) * (التحريم: 6) وكم. وكم، وأما رضوان الله تعالى عن أهل الجنة وهم فيها فيأبى الاستثناء كيف وقوله سبحانه: * (خالدين فيها) * لا يدل بظاهره على أنهم منعمون بها فضلا عن
انفرادها بتنعمهم إلا أن يخصص بجنة الثواب لا محض التفضل، وكفاه بطلانا التخيص من غير دليل، واعترض بأن لك أن تقول: هجر الأصل في الآيتين اللتين ذكرتا علم من الوصف، وفي هذه الآية ذكرها في مقابلة الجنة يعضد أن المراد بها دار العقاب مطلقا.
وقيل: إن الاستثناء مفرغ من أعم الأوقات و * (ما) * على أصلها لما لا يعقل وهو الزمان والحكم الكون في النار، والمعنى أما الذين شقوا ففي النار في كل زمان بعد إتيان ذلك اليوم إلا زمانا شاء الله تعالى فيه عدم
143

كونهم فيها وهو زمان موقف الحساب، واعترض بأن عصاة المؤمنين الداخلين النار إما سعداء فيلزم أن يخلدوا في الجنة فيما سوى الزمان المستثنى وليس كذلك. أو أشقياء فيلزم أن يخلدوا في النار وهو خلاف مذهب أهل السنة، وأيضا تأخره عن الحال - ولا مدخل لها في الاستثناء - لا يفصح، والإبهام بقوله سبحانه: * (إلا ما شاء ربك) * والتفخيم الذي يعطيه لا يبقى له رونق، وأجيب بأنه قد يقال: إن القائل بذلك يخص الأشقياء بالكفار والسعداء بالأتقياء ويكون العصاة مسكوتا عنهم هنا فلا يرد عليه شيء إن كان سنيا وإن كان معتزليا فقد وافق سنن طبعه، ويجاب عما بعد بالمنع، وقيل: أمر الاستثناء ما علمت إلا أن المستثنى مدة لبثهم في الدنيا أو البرزخ ويقطع النظر عن * (يوم يأتي) * والمعنى أنهم في النار جميع أزمان وجودهم إلا زمانا شاء الله تعالى لبثهم في الدنيا أو البرزخ، والمراد مع زمان الموقف إذ ليسوا في زمانه أيضا في النار إلا أن يراد بالنار العذاب فلا يحتاج للمعية لكن يرد أنهم معذبون في البرزخ أيضا إلا أن يقال: لا يعتد بذلك لأنه عذاب غير تام لعدم تمام حياتهم فيه، وأورد عليه ما أورد على ما قبله، وأجيب بأنه إنما يرد لو كان المستثنى في الاستثناء الثاني هو ذلك الزمان المستثنى في الاستثناء الأول وهو غير مسلم فليكن المستثنى منه زمان لبثهم في النار مع ذلك الزمان المستثنى في الآية الأولى فإن المستثنى ليس فيه ما يدل على تعيين زمان حتى لا يمكن الزيادة عليه وهو كما ترى.
وقيل: هو استثناء من قوله سبحانه: * (لهم فيها زفير وشهيق) * ورد بأن المقابل لا يجري فيه هذا ويبقى الاشكال، وأجيب بأن المراد ذكر ما تحتمله الآية والإطراد ليس بلازم، وتعقب بأنه ليس المراد إلا بيان ضعف هذا الوجه وكفى بعدم الإطراد ضعفا، وقيل: * (إلا) * بمعنى سوى كقولك: لك علي ألفان إلا الألف التي كانت يعني سواها، ونقل ذلك عن الزجاج. والفراء. والسجاوندي، والمعنى سوى ما شاء ربك من الزيادة التي لا آخر لها على مدة بقاء السموات والأرض، والاستثناء في ذلك منقطع، ويحتمل أن يريدوا أن * (إلا) * بمعنى غير صفة لما قبلها والمعنى يخلدون فيها مقدار مدة السموات والأرض سوى ما شاء الله تعالى مما لا يتناهى، وضعف هذا القيل بأنه يلزم حمل السموات والأرض على هذين الجسمين المعروفين من غير نظر إلى معنى التأييد وهو فاسد، وقيل: * (إلا) * بمعنى الواو أي وما شاء ربك زائدا على ذلك، واستشهد على مجيئها بمعنى الواو بقوله: وكل أخر مفارقه أخوه * لعمر أبيك (إلا) الفرقدان
وفيه أن هذا قول مردود عند النحاة، وقال العلامة الطيبي: الحق الذي لا محيد عنه أن يحمل * (ما) * على من لإرادة الوصفية وهي المرحومية، و * (خالدين) * حال مقدرة من ضمير الاستقرار أن في النار، والمعنى وأما الذين شقوا ففي النار مقدرين الخلود إلا المرحوم الذي شاء الله تعالى أن لا يستقر مخلدا فيفيد أن لا يستقر فيها مطلقا أو يستقر غير مخلد، وأحوال العصاة على هذا النهج كما علم من النصوص، وفي ذلك إيذان بأن إخراجهم بمحض رحمة الله تعالى فينطبق عليه قوله سبحانه: * (إن ربك فعال لما يريد) * وتعقب بأنه لا يجري في المبال إلا بتأويل الإمام وقد مر ما فيه، أو بجعله من أصل الحكم ويقتضي أن لا يدخلوا أصلا، وإذا أول بمقدرين فلو جعل استثناء من مقدرين لم يتجه، ومن قوله تعالى: * (في النار) * فلا يكون لهم دخول أصلا، ودلالة * (ما) * لإبامه إما على التفخيم أو التحقير ولا يطابق المقام، وقيل: وقيل، والأوجه أن يقال: إن الاستثناء في الموضعين مبني على الفرض والتقدير فمعنى إلا ما شاء إن شاء لو فرض أن الله تعالى شاء إخراجهم من النار أو الجنة في زمان لكان مستثنى من مدة خلودهم لكن ذلك لا يقع لدلالة القواطع على عدم وقوعه،
144

وهذا كما قال الطيبي من أسلوب * (حتى يلج الجمل في سم الخياط) * (الأعراف: 40) * (ولا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) * (الدخان: 56) وذكر أنه وقف على نص من قبل الزجاج يوافق ذلك.
وفي المعالم عن الفراء أيضا ما يوافقه حيث نقل عنه أنه قال: هذا استثناء استثناه سبحانه ولا يفعله كقولك: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك وعزيمتك أن تضربه، وحذو القذة بالقذة ما نقله قبل عن بعضهم أن المعنى لو شاء لأخرجهم لكنه لا يشاء لأنه سبحانه حكم لهم بالخلود.
وفي البحر عن ابن عطية نقلا عن بعض ما هو بمعناه أيضا حيث قال: وأما قوله تعالى: * (إلا ما شاء ربك) * فقيل فيه: إنه على طريق الاستثناء الذي ندب الشرع إلى استعماله في كل كلام فهو على نحو قوله جل وعلا: * (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) * (الفتح: 27) استثناء في واجب، وهذا الاستثناء في حكم الشرط كأنه قيل: إن شارء ربك فليس يحتاج أن يوصف بمتصل ولا منقطع، وممن ذهب إلى ذلك أيضا الفاضل ميرزاجان الشيرازي في تعليقاته على تفسير القاضي ونص على أنه من قبيل التعليق بالمحال حتى يثبت محالية المعلق ويكون كدعوى الشيء مع بينة، وهو أحد الأوجه التي ذكرها السيد المرتضى في درره، وتفسير الاستثناء الأول بالشرط أخرجه ابن مردويه عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكر ذلك الجلال السيوطي في الدر المنثور، ولعل النكتة في هذا الاستثناء على ما قيل: إرشاد العبد إلى تفويض الأمور إليه جل شأنه وإعلامهم بأنها منوطة بمشيئته جل وعلا يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لاحق لأحد عليه ولا يجب عليه شيء كما قال تبارك وتعالى: * (إن ربك فعال لما يريد) *.
وذكر بعض الأفاضل أن فائدته دفع توهم كون الخلود أمرا واجبا عليه تعالى لا يمكن له سبحانه نقضه كما ذهب إليه المعتزلة حيث أخبر به جل وعلا مؤكدا، والمراد - بالذين شقوا - على هذا الوجه الكفار فقط فانهم الأحقاء بهذا الاسم على الحقيقة - وبالذين سعدوا - المؤمنون كافة مطيعهم وعاصيهم فيكون التقسيم في قوله سبحانه: * (فمنهم شقى وسعيد) * (هود: 105) للانفصال الحقيقي ولا ينافيه قوله تعالى: * (ففي الجنة) * لأنه يصدق بالدخول في الجملة.
وفي الكشف بعد نقل أن الاستثناء من باب * (حتى يلج الجمل) * (الأعراف: 40) فإن قلت: فقد حصل مغزي الزمخشري من خلود الفساق، قلت: لا كذلك لأنهم داخلون في السعداء، والآية تقتضي خلود السعيد وذلك بعد دخوله فيها لا محالة، ولا تنفي كينونته في النار قبل دخوله في الجنة فإن اللفظ لا يقتضي أن يدخلوا - أعني السعداء - كلهم في الجنة معا كيف والقاطع يدل على دخولهم أولا فأولا عى حسب مراتبهم انتهى فتأمل، فإن الآية من المعضلات.
وإنما لم يضمر في * (إن ربك) * الخ كما هو الظاهر لتربية المهابة وزيادة التقرير، واللام في * (لما) * قيل: للتقوية أي فعال ما يريده سبحانه لا يتعاصى عليه شيء بوجه من الوجوه.
* (وأما الذين سعدوا ففى الجنة خ‍الدين فيها ما دامت السم‍اوات والارض إلا ما شآء ربك عطآء غير مجذوذ) *
* (وأما الذين سعدوا ففي الجنة خ‍الدين فيها مادامت السم‍اوات والأرض إلا ما شاء ربك) * الكلام فيه ما علمتخلا أنه لم يذكر ههنا أن لهم بهجة وسرورا كما ذكر في أهل النار * (لهم فيها زفير وشهيق) * لأن المقام مقام التحذير والإنذار، و * (سعدوا) * بالبناء للمفعول قراءة حمزة. والكسائي. وحفص، ونسبت إلى ابن مسعود. وطلحة بن مصرف. وابن وثاب. والأعمس، وقرأ جمهور السبعة * (سعدوا) * بالبناء للفاعل، واختار ذلك علي بن سليمان، وكان يقول: عجبا من الكسائي كيف قرأ * (سعدوا) * مع علمه بالعربية، وهذا عجيب منه فإنه ما قرأ
145

إلا ما صح عنده ولم يقرأ بالرأي ولم يتفرد بذلك، وروي عنه أنه احتج لذلك بقولهم: مسعود، وتعقب بأنه لا حجة فيه لاحتمال أنه كان مسعود فيه، وذكر أن الفراء حكى أن هذيلا تقول: سعده الله تعالى بمعنى أسعده، وقال الجوهري: سعد بالكسر فهو سعيد مثل قولهم: سلم فهو سليم، وسعد فهو مسعود، وقال أبو نصر عبد الرحيم القشيري: ورد سعده الله تعالى فهو مسعود،. وأسعده الله تعالى فهو مسعد، وما ألطف الإشارة في - شقوا. وسعدوا - على قراءة البناء للفاعل في الأول والبناء للمفعول في الثاني، فمن وجد ذلك فليحمد الله تعالى. ومن لم يجد فلا يلومن إلا نفسه * (عطاءا غير مجذوذ) * أي غير مقطوع عنهم ولا مخترم، ومصدره الجذ، وقد جاء جذذت. وجددت بالذال المعجمة والدال كما قال ابن قتيبة، وبالمعجمة أكثر، ونصب * (عطاءا) * على المصدرية من معنى الجملة لأن قوله سبحانه: * (ففي الجنة خالدين فيها) * يقتضي إعذاءا وإنعاما فكأنهم قيل: يعطيهم إعطاءا وهو إما اسم مصدر هو الاعطاء. أو مصدر بحذف الزوائد كقوله تعالى: * (أنبتكم من الأرض نباتا) * (نوح: 17)، وقيل: هو نصب على الحالية من المفعول المقدر للمشيئة. أو تمييز، فإن نسبة مشيئة الخروج إلى الله تعالى تحتمل أن تكون على جهة عطاء مجذوذ، وعلى جهة عطاء غير مجذوذ فهو رافع للإبهام عن النسبة، ولعل النصب على المصدرية أولى وكأنه جيء بذلك اعتناءا ومبالغة في التأبيد ودفعا لما يتوهم من ظاهر الاستثناء من الانقطاع، وقيل: إن ذلك لبيان أن ثواب أهل الجنة - وهو إما نفس الدخول. أو ما هو كاللازم البين له - لا ينقطع فيعلم منه أن الاستثناء ليس للدلالة على الانقطاع كما في العقاب بل للدلالة على ترادف نعم ورضوان من الله تعالى؛ أو لبيان النقص من جانب المبدأ ولهذا فرق في النظم بين التأبيد من حيث تمم الأول بقوله سبحانه: * (إن ربك فعال لما يريد) * (هود: 107) للدلالة على أنه ينعم بعض من يعذبه ويبقى غيره كما يشاء ويختار؛ والثاني بقوله تعالى: * (إن ربك فعال لما يريد) * (هود: 107) للدلالة على أنه ينعم بعض من يعذبه ويبقى غيره كما يشاء ويختار؛ والثاني بقوله تعالى: * (عطاءا) * الخ بينانا لأن إحسانه لا ينقطع، ومن الناس من تمسك بصدر الآية أنه لا يبقى في النار أحد ولم يقل بذلك في الجنة، وتقوى مطلبه ذاك بما أخرجه ابن المنذر عن الحسن قال: قال عمر: لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه، وبما أخرج إسحق بن راهويه عن أبي هريرة قال: سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد، وقرأ * (فأما الذين شقوا) * الآية، وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ عن إبراهيم قال: ما في القرآن آية أرجى لأهل النار من هذه الآية * (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) * (هود: 108) قال: وقال ابن مسعود: ليأتين عليها زمان تصفق فيه أبوابها، وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال: جهنم أسرع الدارين عمرانا وأسرعهما خرابا إلى غير ذلك من الآثار.
وقد نص ابن الجوزي على وضع بعضها كخبر عن عبد الله بن عمرو بن العاص بأتي على جهنم يوم ما فيها من ابن آدم أحد تصفق أبوابها كأنها أبواب الموحدين، وأول البعض بعضها؛ ومر شيى من الكلام في ذلك، وأنت تعلم أن خلود الكفار مما أجمع عليه المسلمون ولا عبرة بالمخالف، والقواطع أكثر من أتي تحصى، ولا يقاوم واحدا منها كثير من هذه الأخبار، ولا دليل في الآية على ما يقوله المخالف لما علمته من الوجوه فيها ولا حاجة إلى دعوى النسخ فيها كما روي عن السدى بل لا يكاد يصح القول بالنسخ ي مثل ذلك، هذا وقد ذكر أن في الآية صيغة الجمع مع التفريق والتقسيم أما الجمع ففي قوله تعالى: * (يوم يأت لا تكلم نفس إلا باذنه) * (هود: 105) فإن النفس كما تقرر عامة لكونها نكرة في سياق النفي، وأما التفريق ففي قوله تعالى: * (فمنهم شقي وسعيد) * (هود: 105) وأما التقسيم ففي قوله سبحانه: * (فأما الذين شقوا) * (هود: 106) الخ ونظيرها في ذلك قول الشريف القيرواني:
146

لمختلفي الحاجات جمع ببابه * فهذا له فن وهذا له فن
فللخامل العليا وللمعدم الغني * وللمذنب العتبي وللخائف الأمن
ومن هنا يعلم حال الفاءين فاء * (فمنهم) * وفاء * (فأما) * الخ، قيل: وفي العدول عن فأما الشقى ففي النار خالدا فيها الخ وأما السعيد - أو المسعود - ففي الجنة خالدا فيها الخ إلى ما في النظم الجليل إشارة إلى سبق هذه الشقاوة والسعادة وأن ذلك أمر قد فرغ منه كما يدل عليه ما أخرجه أحمد. والترمذي. والنسائي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ قلنا: لا يا رسول الله أما تخبرنا؟ فقال للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وآبائهم وقبائلهم أجلهم على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا، ثم قال للذي في شماله: هذا كتاب من
رب العالمين فيه أسماء أهل النار وآبائهم وقبائلهم ثم أجملهم على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا، فقال أصحابه: ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه؟ فقال: سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل، وأن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل، ثم قال صلى الله عليه وسلم بيده فنبذهما وقال: فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير " وجاء في حديث " الشقي من شقى في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه " وحمل ذلك بعضهم على ظهور الأمر لملك الموكل بالنطفة وإلا فالأمر قبل ذلك، وبعضهم فسر الأمر بالثبوت العلمي الذي يظهر المعلوم منه إلى هذا الوجود الخارجي وهو ضرب من التأويل كما لا يخفى، ولا يأبى هذه الإشارة عند التأمل ما أخرجه الترمذي وحسنة. وأبو يعلى. وابن مردويه. وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: " لما نزلت * (فمنهم شقي وسعيد) * قلت: يا رسول الله فعلام نعمل على شيء قد فرغ منه، أو على شيء لم يفرغ منه؟ قال: بل على شيء قد فرغ وجرت به الأقلام يا عمر ولكن كل ميسر لما خلق له "، وقيل: كان الظاهر هنا التعبير بالمضارع إلا أنه عبر بالماضي إشارة إلى تحقق الوقوع وأتى بالموصول جمعا إيذانا بأن المراد - بشقى وسعيد - فريق شقي. وفريق سعيد، ولم يقل أشقياء وسعداء لأن الإفراد أوفق بما قبل، وقيل: الإفراد أولا للاشارة إلى أن كل فريق من حيث اتصافه بالشقاوة أو السعادة كشيء واحد، وجمع ثانيا لما أن دخول كل فريق في الجنة والنار ليس جملة واحدة بل جمعا جمعا وزمرة وله شواهد من الكتاب والسنة.
* (فلا تك فى مرية مما يعبد ه‍اؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد ءاباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص) *
* (فلاتك في مرية) * أي في شك، والفاء لترتيب النهي على ما قص من القصص وبين في تضاعيفها من العواقب الدنيوية والأخروية أي فلاتك في شك بعد أن بين لك ما بين * (مما يعبد هؤلاء) * أي من عبادة هؤلاء المشركين في أنها ضلال مؤد إلى مثل ما حل بمن قبلهم ممن قصصت عليك سوء عاقبة عبادتهم - فمن - ابتدائية، وجوز أن تكون بمعنى في، و * (ما) * مصذرية، وجوز أن تكون موصولة وفي الكلام مضاف محذوف أي من حال ما يعبدونه من أنه لا يضر ولا ينفع إذ لا معنى للمرية في أنفسهم * (ما يعبدون إلا كما يعبد ءاباؤهم من قبل) * استئناف في بياني وقع تعليلا في المعنى للنهي عن المرية، والاستثناء إما من مصدر مقدر أو مفعول محدوف أي هم وآباؤهم سواء في الشرك ما يعبدون عبادة إلا كعبادة آبائهم. أو ما يعبدون شيئا إلا مثل الذي عبدون من الأوثان وقد بلغك ما لحق آباؤهم بسبب ذلك فيلحقهم مثله لأنه التماثل في الأسباب يقتضي التماثل في المسببات، ومعنى * (كما يعبد) * كما كان عبد
147

فحذف لدلالة * (قبل) * عليه، وكأن اختيار هذا للإشارة إلى أن ذلك كان عادة مستمرة لهم * (وإنا لموفوهم) * يعني هؤلاء الكفرة * (نصيبهم) * حظهم من العذاب كما وفينا آباءهم حظوظهم. أو من الرزق فيكون عذرا لتأخر العذاب عنهم مع قيام ما يوجبه، وفي هذا من الإشارة إلى مزيد فضل الله تعالى وكرمه ما لا يخفى حيث لم يقطع رزقهم مع ما هم عليه من عبادة غيره، وفي التعبير - بالنصيب - على الأول تهكم لأنه ما يطلب ويراد والعذاب بمعزل عن ذلك، وتفسيره بما ذكر مروى عن ابن زيد، و - بالرزق - عن أبي العالية، وعن ابن عباس أن المراد به ما قدر من خير أو شر، وقرأ ابن محيصن * (لموفوهم) * مخففا من أوفى * (غير منقوص) * حال مؤكدة من النصيب كقوله تعالى: * (ثم وليتم مدبرين) * وفائدته دفع توهم التجوز، وإلى هذا ذهب العلامة الطيبي، وقال: إنه الحق.
وفي الكشاف أنه جيء بهذه الحال عن النصيب الموفى لأنه يجوز أن يوفى وهو ناقص ويوفى وهو كامل ألا تراك تقول: وفيته شطر حقه. وثلث حقه. وحقه كاملا. وناقصا انتهى، وتعقبه أبو حيان بأن هذه مغلطة لأنه إذا قيل: وفيته شطر حقه فالتوفية إنما وقعت في الشطر وكذا ثلث حقه، والمعنى أعطيته الشطر أو الثلث كاملا لم أنقصهمنه شيئا، وأما قولك: وفيته حقه كاملا فالحال فيه مؤكدة لأن التوفية تقتضي الإكمال، وأما قولك: وفيته حقه ناقصا فغير صحيح للمنافاة انتهى.
وقال ابن المنير: إنه وهم لأن التوفية تقتضي عدم نقصان الموفى كاملا كان أو بعضا فقولك: وفيته نصف حقه يستلزم عدم نقصان النصف الموفى، فالسؤال عن وجه انتصاب هذه الحال قائم بعد، والأوجه أن يقال: استعملت التوفية بمعنى الإعطاء كما استعمل الووفي بمعنى الأخذ، ومن قال: أعطيت فلانا حقه كان جديرا أن يؤكده بقوله: * (غير منقوص) * انتهى، وفي الكشف أقول في تعليق التوفية بالنصف مع أن الكل حقه ما يدل على مطلوبه إذ لا فرق بين قولك: نصف حقه وحقه منصفا، فجاز وفيته نصيبه منصفا ونصيبه ناقصا، ويحسن فائدة التأكيد ويظهر أن الواهم من هو فتأمل.
* (ولقد ءاتينا موسى الكت‍ابف اختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم وإنهم لفى شك منه مريب) *
* (ولقد ءاتينا موسى الكت‍اب) * أي التوراة * (فاختلف فيه) * أي في شأن الكتاب وكونه من عند الله تعالى فآمن به قوم وكفر به آخرون فلا تبال باختلاف قومك فيما آتيناك من القرآن، وقولهم: * (لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك) * وعزم * (إنك افتريته) *.
وجوز رجوع الضمير إلى موسى وهو خلاف الظاهر، وإن كان الاختلاف فيه عليه السلام هل هو نبي أم لا؟ مستلزما للاختلاف في كتابه هل هو من الله تعالى أم لا، وقيل: إن - في - على هذا الاحتمال بمعنى على أي فاختلف قومه عليه وتعنتوا كما فعل قومك معك * (ولولا كلمة سبقت من ربك) * وهي كلمة القضاء بتأخير العذاب إلى الأجل المعلوم على حسب الحكمة الداعية إلى ذلك * (لقضي بينهم) * أي لأوقع القضاء بين المختلفين من قومك بانزال العذاب الذي يستحقه المبطلون ليتميزوا به عن المحقين، وفي البحر إن الظاهر عود الضمير على قوم موسى، قيل: وليس بذاك.
وقال ابن عطية: عوده على القومين أحسن عندي، وتعقب بأن قوله سبحانه: * (وإن كلا) * الخ ظاهر في التعميم بعد التخصيص وفيه نظر، والأولى عندي الأول * (وإنهم) * أي وإن كفار قومك أريد بالضمير بعض من رجع إليهم ضمير بينهم للأمن من الالباس * (لفي شك) * عظيم * (منه) * أي من القرآن وإن لم
148

يجر له ذكر فان ذكر إيتاء كتاب موسى ووقوع الاختلاف فيه لا سيما بصدد التسلية يناديه نداءا غير خفي.
وقيل: الضمير للوعيد المفهوم من الكلام * (مريب) * أي موقع في الريبة، وجوز أن يكون من أراب إذا صار ذا ريبة.
* (وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير) *
* (وإن كلا) * التنوين عوض عن المضاف إليه كما هو المعروف في تنوين كل عند قوم من النحاة، وقيل: إنه تنوين تمكين لكنه لا يمنع تقدير المضاف إليه أيضا أي وإن كل المختلفين المؤمنين والكافرين.
وقال مقاتل: يعني به كفار هذه الأمة * (لما ليوفينهم ربك أعم‍الهم) * أي أجزية أعمالهم، ولام * (ليوفينهم) * واقعة في جواب القسم أي والله ليوفينهم، و * (لما) * بالتشديد وهو مع تشديد أن قراءة ابن عامر. وحمزة، وحفص. وأبي جعفر. وتخريج الآية على هذه القراءة مشكل حتى قال المبرد: إنها لحن وهو من الجسارة بمكان لتواتر القراءة وليته قال كما أدري ما وجه هذه القراءة، واختلفوا في تخريجها فقال أبو عبيدة: إن أصل * (لما) * هذه لما منونا، وقد قرىء كذلك ثم بني على فعلى وهو مأخوذ من لممته إذا جمعته، ولا يقال: إنها * (لما) * المنوتة وقف عليها بالألف، وأجري الوصل مجرى الموقف لأن ذلك على ما قال أبو حيان: إنما يكون في الشعر واستبعد هذا التخريج بأنه لا يعرف بناء فعلى من لم، وبأنه يلزم لمن أمال فعلى أن يميلها ولم يملها أحد بالإجماع وبأنه كان القياس أن تكتب بالياء ولم تكتب بها، وسيعلم إعراب الآية على هذا مما سيأتي إن شاى الله تعالى.
وقيل: * (لما) * المخففة وشددت في الوقف ثم أجرى الوصل مجرى الوقف وحينئد فالاعراب م ستعرفه أيضا إن شاء الله تعالى وهو بعيد جدا، وقيل: إنها بمعنى إلا، وإلا تقع زائدة كما في قوله: حلفت يمينا غير ذي مثنوية * يمين امرىء إلا بها غير آثم
فلا يبعدأن * (لما) * التي بمعناها زائدة وهو وجه ضعيف مبني على وجه ضعيف في إلا، وعن المازني أن أن المشددة هن نافية، و * (لما) * بمعنى إلا غير زائدة وهو باطل لأنه لم يعهد تقثيل أنالنافية، ولنصب - كل - والنافية لا تنصب، وقال الحوفي: * (إن) * على ظاهرها. و * (لما) * بمعنى إلا كما في قولك: نشدتك بالله إلا فعلت، وضعفه أبو علي بأن * (لما) * هذه لا تفارق القسم قبلها وليس كما ذكر فقد تفارق؛ وإنما يضعف ذلك بل يبطله كما قال أبو حيان: إن الموضع ليس موضع دخول إلا ألا ترى أنك لو قلت: إن زيدا إلا ضربت لم يكن تركيبا عربيا؛ وقيل: إن * (لما) * هذه أصلها لمن ما فهي مركبة من اللام ومن الموصولة أو الموصوفة وما الزائدة فقلبت النون ميما للادغام فاجتمعت ثلاث ميمات فخذفت الوسطى منها ثم أدغم المثلان، وإلى هذا ذهب المهدوي، وقال الفراء. وتبعه جماعة منهم نصر الشيرازي: إن أصلها لمن ما بمن الجارة وما الموصولة أو الموصوفة وهي على الاحتمالين واقعة على من يعقل فعمل بذلك نحو ما عمل على الوجه الذي قبله، وقد جاء هذا الأصل في قوله: وأنا لمن ما تضرب الكبش ضربة * على رأسه تلقى اللسان من الفم
واللام على هذين الوجهين قيل: موطئة للقسم، ونقل عن الفارسي - وهو مخالف لما اشتهر عن النحاة - من أن الموطئة هي الداخلة على شرط مقدم على جواب قسم تقدم لفطا أو تقديرا لتؤذن بأن الجواب له نحو والله لئن أكرمتني لأكرمتك وليس ما دخلت عليه جواب القسم بل ما يأتي بعدها وكان مذهبه كمذهب الأخفش أنه لا يجب دخولها على الشرط، وإنما هي ما دلت على أن ما بعدها صالح لأن يكون جوابا للقسم مطلقا، وقيل: إنها اللام الداخلة في خبر إن، ومن موصولا أو موصوفا على الوجه الأول من الوجهين هو الخبر والقسم وجوابه صلة أو صفة، والمعنى وإن كلا للذين أو الخلق والله ليوفينهم ربك، ومن ومجرورها على الوجه الثاني
149

في موضع الخبر لأن، الجملة القسمية وجوابها صلة أو صفة أيضا لكن لما، والمعنى وإن كلا لمن الذين أو لمن خلق والله ليوفينهم ربك، قال في البحر: وهذان الوجهان ضعيفان جدا ولم يعهد حذف نون من وكذا حذف نون من الجارة إلا في الشعر إذا لقيت لام التعريف أو شبهها غر المدغمة نحو قولهم: ملمال يريدون من المال، وفي تفسير القاضي. وغيره إن الأصل لمن ما بمن الجارة قلبت النون ميما فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت أولاهن، وفيه أيضا ما فيه. ففي المعنى إن حذف هذه الميم استقالا لم يثبت انتهى، وقال الدماميني: كيف يستقيم تعليل الحدف بالاستقثال وقد اجتمعت في قوله تعالى: * (على أمم ممن معك) * (هود: 48) ثماني ميمات انتهى، وأنشد الفراء على ما ذهب إليه قول الشاعر: وإني لما أصدر الأمر وجهه * إذا هو أعيا بالسبيل مصادره
وزعم بعضهم أن لما بمعنى حين وف الكلام حدف أي لما عملوا ما عملوا أو نحو ذلك والحذف في الكلام كثير نحو قوله: إذا قلت: سيروا إن ليلى لعلها * جرى دون ليلى مائل القرن أعضب
أراد لعلها تلقاني أو تصلني أو نحو ذلك وو كما ترى، وقال أبو حيان بعد أن ذكر أن هذه التخريجات مما تنزه ساحة التنزيل عن مثلها: كنت قد ظهر لي وجه جار على قواعد العربية عار من التكلف وهو أن * (لما) * هذه هي الجازمة حذف فعلها المجزوم لدلالة المعنى عليه كما حذفوه في قولهم: قاربت المدينة ولما يريدون ولما أدخلها، والتقدير هنا وإن كلا لما ينقص من جزاء عمله ويدل عليه ليوفينهم ربك أعمالهم، وكنت أعتقد أني ما سبقت إلى ذلك حتى تحققت أن ابن الحاجب وفق لذلك فرأيت في كتاب التحرير نقلا عنه أنه قال: * (لما) * هذه هي الجازمة حدف فعلها للدلالة عليه، وقد ثبت الحذف في قولهم: خرجت ولما. وسافرت ولما ونحوه. وهو سائغ فصيح فيكون التقدير ولما يتركوا أو لما يهملوا ويدل عليه تفصيل المجموعين ونجازاتهم، ثم قال: وما أعرف وجها أشبه من هذا وإن كانت النفوس تستبعده من جهة ن مثله لم يقع في القرآن انتهى، ولا يخفى عليك أن الأولى أن يقدر لما يوفوا أعمالهم أي إلى الآن لم يوفوها وسيوفونها، وإلى ذلك ذهب ابن هشام لما يلزم على التقديرات السابقة على ما هو المشهور في معنى لما أنهم سينقصون من جزاء أعمالهم وأنهم سيتركون ويهملون، وذلك بمعنزل عن أن يراد وهو ظاهر، وهذا وجه النظر عناه ابن هشام في قوله معترضا على ابن الحاجب: وفي هذا التقدير نظر.
قال الجلبي: وجهه أن الدال على المحذوف سابق عليه بكثير من أن ذلك المحذوف ليس من لفظ هذا الذي قيل: إنه دال عليه وليس بذاك، ثم المرجح عند كثير من
المفسرين ما ذهب إليه الفراء، وقرأ نافع. وابن كثير أن. ولما بالتخفيف وخرجت هذه القراءة على أن أن عاملة وإن خففت اعتبارا للأصل في لعمل وهو شبه الفعل ولا يضر زوال الشبه اللفظي، وإلى ذلك ذهب البصريون، وذكر أبو حيان أن مذهبهم جواز أعمالها إذا خففت لكن على قلة إلا مع المضمر فلا يجوز إلا إن ورد في شعر، ونقل عن سيبويه منهم أنه قال: أخبرني الثقة أنه سمع يعض العرب يقول: إن عمرا لمنطلق.
وزعم بعض من النحويين أن المكسورة إذا خففت لا تعمل، وتأول الآية بجعل * (كلا) * منصوبا بفعل مقدر أي إن أرى كلا مثلا وليس بشيء، وجعل هذا في البحر مذهب الكوفيين، وفي الارتشاف إن الكوفيين
150

لا يجوزون تخفيف المسكورة لا مهملة ولا معملة، وذكر بعضهم مثله وأن ما يعدها البصريون مخففة يعدها الكوفيون نافية، واستثنى منهم الكسائي فإنه وافق البصريين ومذهبهم في ذلك هو الحق، و * (كلا) * اسمها واللام هي الداخلة على خبر إن وما موصولة خبر إن، والجملة القسمية وجوابها صلة، وإلى هذا ذهب الفراء، واختار الطبري في اللام مذهبه، وفي * (ما) * كونها نكرة موصوفة، والجملة صفتها أي وإن كلا لخلق أو لفريق موفى عمله، واختار أبو علي في اللام ما اختاراه؛ وجعل الجملة القسمية خبرا وما مزيدة بين اللامين وقد عهدت زيادتها في غير ما موضع، وقرأ أبوز بكر عن عاصم بتخفيف إن وتشديد لما، وقرأ الكسائي. وأبو عمرو بعكس ذلك وتخريج القراءتين لا يخفى على من أحاط خبرا بما ذكر في تخريج القراءتين قبل، وقرأ أبى. والحسن بخلاف عنه. وأبان بن تغلب، وأن بالتخفيف كل بالرفع لما بالتشديد، وخرجت على أن ان نافية وكل مبتدأ والجملة القسمية وجوابها خبره، و * (لما) * بمعنى إلا أي ما كل إلا أقسم والله ليوفينهم، وأنكر أبو عبيدة مجيء * (لما) * بمعنى إلا في كلام العرب، وقل الفراء: إن جعلها هن بمعنى الأوجه لا نعرفه، وقد قالت العرب مع اليمين بالله: لما قمت عنا وإلا قمت عنا، وأما في غير ذلك فلم نسمع مجيئها بمعنى إلا لا في نثر ولا في شعر؛ ويلزم القائل أن يجوز قام الناس لما زيدا على معنى إلا زيدا ولا التفات إلى إنكارهما، والقراءة المتواترة في * (وآن كل لما جميع لدنيا محضرون * ((يس: 32) * (وأن كل نفس لما عليها حافظ) * (الطارق: 4) تثبت ما أنكراه.
وقد نص الخليل. وسيبويه. والكسائي على مجيء ذلك، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وكون العرب خصصت مجيئها كذلك ببعض التراكيب لا يضر شيئا فكم من شيء خص بتركيب دون ما أشبه.
وقرأ الزهري. وسليمان بن أرقم * (وإن كلا لما) * بتشديد الميم والتنوين ولم يتعرضوا في النقل عنهما لتشديد أن ولا لتخفيفها، وهي في هذه القراءة مصدر من قولهم: لممت الشيء إذا جمعته كما مر ونصبها على الحالية من ضمير المفعول في * (ليوفينهم) * عند أبي البقاء وضعفه.
وقال أبو علي: إنها صفة لكل ويقدر مضافا إلى نكرة ليصح وصفه بالنكرة، وكان المصدر حينئد بمعنى اسم المفعول، وذكر الزمخشري في معنى الآية على هذه القراءة أنه وإن كلا ملمومين بمعنى مجموعين كأنه قيل: وآن كلا جميعا كقوله تعالى: * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) * (الحجر: 30) وجعل ذلك الطيبي منه ميلا إلى القول بالتأكيد.
وقال ابن جنى: إنها منصوبة - بليوفينهم - على حد قولهم: قياماف لا أقومن، والتقدير توفية جامعة لا عمالهم * (ليوفينهم وخير * (إن في ذلك) * جملة القيم وجوابه، وروي أبو حاتم أن في مصحف أبي وإن من كل إلا ليوفينهم وخرج على أن أن نافية ومن زائدة.
وقرأ الأعمس نحو ذلك إلا أنه أسقط من هو حرف ابن مسعود رضي الله تعالى عنه والوجه ظاهر، قيل: وقد تضمنت هذه الجملة عدة مؤكدات من أن واللام وما إذا كانت زائدة والقسم ونون التأكيد وذلك للمبالغة في وعد الطائعين ووعيد العاصين * (إنه بما يعملون خبير) * أي أنه سبحانه بما يعمله كل فرد من المختلفين من الخير والشر عليم على أتم وجه بحيث لا يخفى عليه شيء من جلائله ودقائقه، والجملة قيل: توكيد للوعد والوعيد فانه سبحانه لما كان عالما بجميع المعلومات كان عالما بمقادير الطاعات والمعاصي وما يقتضيه كل فرد منها من الجزاء بمقتضى الحكمة وحينئد تتأتى توفية كل ذي حق حقه إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
151

وقرأ ابن هرمز * (وتعلمون) * على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.
* (فاستقم كمآ أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير) *
* (فاستقم كما أمرت) * لما بين أمر المختلفين في التوحيد والنبوة، وأطنب سبحانه في شرح الوعد والوعيد أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستقامة مثل الاستقامة التي أمر بها وهذا يقتضي أمره صلى الله عليه وسلمبوحي أخر ولو غير متلو كما قاله غير واحد، والظاهر أن هذا أمر بالدوام على الاستقامة وهي لزوم المنهم المستقيم وهو المتوسط بين الافراط والتفريط وهي كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعلم والعمل وسائر الأخلاق فتشمل العقائد والأعمال المشتركة بينه صلى الله عليه وسلم وبين سائر المؤمنين والأمور الخاصة به عليه الصلاة والسلام من تبليغ الأحكام والقيام بوظائف النبوة وتحمل أعباء الرسالة وغير ذلك، وقد قالوا: إن التوسط بين الافراط والتفريط بحيث لا يكون ميل إلى أحد الجانبين قيد عرض شعرة مما لا يحصل إلا بالافتقار إلى الله تعالى ونفى الحول والقوة بالكلية، ومثلوا الأمر المتوسط بين ذينك الطرفين بخط يكون بين الشمس والظل لس بشمس ولا ظل بل هو أمر فاصل بينهما ولعمري إن ذلك لدقيق، ولهذا قالوا: لا يطيق الاستقامة إلا من أيد بالمشاهدات القوية والأنوار السنية ثم عصم بالتشبث بالحق * (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا (الإسراء: 74) وجعل بعض العارفين الصراط الذي هو أدق من الشعرة وأحد م السيف إشارة إلى هذا المنهج المتوسط. ومما يدل على شدة هذا الأمر ما أخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن الحسن أنه قال: لما نزلت هذه الآية صلى الله عليه وسلم: " شمروا شمروا " وما رؤى بعدها ضاحكا.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية ؤشد من هذه الآية ولا أشق، وأستدل بعض المفسرين على عسر
الاستقامة بما شاع من قوله صلى الله عليه وسلم: " شيبتني هود "، وأنت تعلم أن الأخبار متضافرة بضم سور أخرى إليها وإن اختلفت في تعيين المضموم كما مر أول السوءة، وحينئذ لا يخفى ما في الاستدلال من الخفاء، ومن هنا قال صاحب الكشف: التخصيص بهود لهذه الآية غير لائح إذ ليس في الأخوات ذكر الاستقامة.
وذكر في قوت القلوب أنه لما كان القريب الحبيب صلى الله عليه وسلم شيبه ذكر البعد وأهله ثم قال: ولعل الأظهر أنه عليه الصلاة والسلام شبيه ذكر أهوال القيامة، وكأنه - بأبي هو أمي - شاهد منه يوما يجعل الوالدان شيبا انتهى. وبعضهم استدل للتخصيص برؤيا أبي علي الشترى السابقة وفيه بعد تسليم صحة الرواية إن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت حقا حيث أن الشيظان لا يتمثل به عليه الصلاة والسلام إلا أنه من أين يجزم بضبط الرائي وتحقيقه ما رأى على أن مما يوهن أمر هذه الرؤيا ويقوي ظن عدم ثبوتها ما أخرجه ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " شيبتني هود وأخواتها وما فعل بالأمم قبلي " وذكر الشهاب ما يقوي اعتراض صاحب الكشف من أنه ليس في الطرق المروية في هذا الباب الاقتصار على هود بل ذكر معها أخواتها وليس فيها الأمر المذكور مع أنه وقع في غيرها من آل حميم، ثم ذكر أنه لاح له ما يدفع الاشكال؛ وذلك أن مبنى هذه السورة الكريمة على إشارة تعالى شأنه نبيه صلى الله عليه وسلم إلى كيفية الدعوة من مفتتحها إلى مختتمها وإلى ما يعتري من تصدي لهذه المرتبة السنية من الشدائد واحتماله لما يترتب عليه من الفوائد لا على التسلية إذ لا يطابق المقام حسبما تقدم لك عن صاحب الكشف، ولما كانت هذه السورة جامعة لارشاده من أول أمره إلى آخره وهذه الآية فذلكة لها فحينما نزلت هذه السورة هاله ما فيها من الشدائد وخاف من عدم القيام بأعبائها
152

حتى إذا لقى الله تعالى في يوم الجزاء ربما مسه نصب من السؤال عنها فذكر القيامة في تلك السور يخوفه هولها لاحتمال تفريطه فيما أرشده الله تعالى له في هذه، وهذا لا ينافي عصمته عليه الصلاة والسلام وقربه لكونه الأعلم بالله تعالى والأخوف منه، فالخوف منها يذكره بما تضمنته هذه السورة فكأنها هي المشيبة له صلى الله عليه وسلم من بينها ولذا بدأ بها في جميع الروايات، ولما كانت تلك الآية فذلكة لها كانت هي المشيبة في الحقيقة فلا منافاة بين نسبة التشييب لتلك السور ولا لهذه السورة وحدها كما فعله من فعله ولا لتلك الآية كما وقع في تلك الرؤيا انتهى، وسيأتي إن شاء الله تعالى وجه آخر لنسبة التشييب لهذه السورة فليتأمل، وذهب بعض المحققين إلى كون الكاف في * (كما) * بمعنى على كما في قولهم: كن كما أنت عليه أي على ما أنت عليه، ومن هنا قال ابن عطية. وجماعة: المعنى استقم على القرآن، وقال مقاتل: امض على التوحيد، وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: استقم على الأخبار عن الله تعالى بصحة العزم، والأظهر إبقا ما على العموم أي استقم على جميع ما أمرتبه، والكلام في حذف مثل هذا الضمير أمر ائع، وقد مر التنبيه عليه، ومال بعضهم إلى كون الكاف للتشبيه حسبما هو الظاهر منها إلا أنه قال: إنها في حكم مثل في قولهم: مثلك لا يبخل فكأنه قيل: استقم الاستقامة التي أمرت بها فرارا من تشبيه الشيء بنفسه، ولا يخفى أنه ليس بلازم، ومن الغريب ما نقل عن أبي حيان أنه قال في تذكرته: فإن قلت: كيف جاء هذا التشبيه للاستقامة بالأمر؟ قلت: هو على حذف مضاف تقديره مثل مطلوب الأمر أي مدلوله، فإن قلت: الاستقامة المأمور بها هي مطلوب الأمر فكيف يكون مثلا لها؟ قلت ملوب الأمر كلى والمأمور جزئي فحصلت المغايرة وصح التشبيه كقولك: صل ركعتين كما أمرت، وأبعد بعضهم فجعل الكاف بمعنى على واستفعل للطلب كاستغفر الله تعالى أي اطلب الغفران منه، وقال: المعنى اطلب الإقامة على الدين.
* (ومن تاب معك) * أي تاب من الشرك وآمن معك فالمعية باعتبار اللازم من غير نظر إلى ما تقدمه وغيره، وقد يقال: يكفي الاشتراك في التوبة والمعية فيها مع قطع النظر عن المثوب عنه، وقد كان صلى الله عليه وسلم يستغفر الله تعالى في اليوم أكثر من سبعين مرة، واستظهر ذلك الجلبي، و * (من) * على ما اختاره أبو حيان. وجماعة عطف على الضمير المستكن في * (واستقم) * وأغني الفصل بالجار والمجرور عن تأكيده بضمير منفصل لحصول الغرض به، وفي الكلام تغليب لحكم الخطاب على الغيبة في لفظ الأمر، واختار كثير أنه فاعل لفعل محذوف أي وليستقم من الخ لأن الأمر لا يرفع الظاهر، وحينئذ فالجملة معطوفة على الجملة الأولى، ومن ذهب إلى الأول رجحه بعدم احتياجه إلى التقدير ودفع المحذور بأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع.
وجوز أبو البقاء كونه منصوبا على أنه مفعول معه، والمعنى استقم مصاحبا لمن تاب، قيل: وهو في المعنى أتم وإن كان في اللفظ نوع نبوة عنه.
وقيل: إنه مبتدأ والخبر محذوف أي فليستقم، وجوز كون الخبر * (معك) * * (ولا تطغوا) * أي ر تنحرفوا عما حد لكم بافراط أو تفريط فإن كلا طرفي قصد الأمور ذميم، وسمي ذلك طغيانا وهو مجاوزة الحد تغليظا أو تغليبا لحال سائر المؤمنين على حاله صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عباس أن المعنى لا تطغوا في القرآن فتحلوا وتحرموا ما لم تأمروا به.
وقال ابن زيد: لا تعصوا ربكم، وقال مقاتل: لا تخلطوا التوحيد بالشرك، ولعل الأول أولى.
* (إنه بما تعملون بصير) * فيجازيكم على ذلك وهو تعليل للأمر والنهي السابقين كأنه قيل: استقيموا ولا تطغوا
153

لأن الله تعالى ناظر لأعمالكم فيجازيكم عليها، وقيل: إنه تتميم للأمر بالاستقامة، والأول أحسن وأتم فائدة، وقرأ الحسن. والأعمس - يعملون - بياء الغيبة، وروي ذلك عن عيسى الثقفي أيضا، وفي الآية - على ما قال غير واحد - دليل على وجوب اتباع المنصوص عليه من غير انحراف بمجرد التشهي وإعمال العقل الصرف فإن ذلك طغيان وضلال، وأما العمل بمقتضى الاجتهاد التابع لعلل النصوص فذلك من باب الاستقامة كما أمر على موجب النصوص الآمرة بالاجتهاد، وقل الإمام: وعند لا يجوز تخصيص النص بالقياس لأنه لما دل عموم النص على حكم وجب الحكم بمقتضاه لقوله تعالى: * (فاستقم كما أمرت) * (هود: 112) والعمل بالقياس انحراف عنه، ولذا لما ورد القرآن بالامر بالوضوء وجيء بالاعضاء مرتبة في اللفظ وجب الترتيب فيها، ولما ورد الأمر في الزكاة بأداء الإبل من الإبل. والبقر من البقر وجب اعتبارها، وكذا القول في كل ما ورد أمر الله تعالى به كل ذلك للأمر بالاستقامة كما أمر انتهى.
وأنت تعلم أن إيجاب الترتيب في الوضوء لذلك ليس بشيء ويلزمه أن يوجب الترتيب في الأوامر المتعاطفة بالواو مثل * (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) * (البقرة: 43) وكذا في نحو * (واستعينوا بالصبر والصلاة) * (البقرة: 45) بعين ما ذكر في الوضوء وهو كما ترى، وكأنه عفا الله تعالى عنه يجزم بأن الحنفية الذين لا يوجبون الترتيب في أعمال الوضوء طاغون خارجون عما حد الله تعالى احتمال للقول بأنهم مستقيمون وهو من الظلم بمكان.
* (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أوليآء ثم لا تنصرون) *
* (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) * أي لا تميلوا إليهم أدنى ميل، والمراد بهم المشركون كما روي ذلك ابن جرير. وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفسر الميل بميل القلب إليهم بالمحبة، وقد يفسر بما هو أعم من ذلك كما يفسر * (الذين ظلموا) * بمن وجد منه ما يسمى ظلما مطلقا، وقيل: ولإرادة ذلك لم يقل إلى الظالمين؛ ويشمل النهي حينئذ مداهنتهم وترك التغيير عليهم مع القدرة والتزني بزيهم وتعظيم ذكرهم ومجالستهم من غير داع شرعي وكذا القيام لهم ونحو ذلك، ومدار النهي على الظلم والجمع باعتبار جمعية المخاطبين، وقيل: إن ذلك للمبالغة في النهي من حيث أن كونهم جماعة مظنة الرخصة في مداهنتهم مثلا، وتعقب بأنه إنما يتم أن لو كان المراد النهي عن الركون إليهم من حيث أنهم جماعة وليس فليس * (فتمسكم) * أي فتصيبكم بسبب ذلك كما تؤذن به الفاء الواقعة في جواب النهي * (النار) * وهي نار جهنم، وإلى التفسير الثاني - وما أصعبه على الناس اليوم بل في غالب الأعاصير من تفسير - ذهب أكثر المفسرين، قالوا: وإذا كان حال الميل في الجملة إلى من وجد منه ظلم ما في الافضاء إلى مساس الناس النار فما ظنك بمن يميل إلى الراسخين في الظلم كل الميل، ويتهالك على ما مصاحبتهم ومنادمتهم. ويتعب قلبه وقالبه في إدخال السرور عليهم. ويستنهض الرجل والخيل في جلب المنافع إليهم. ويبتهج بالتزيي بزيهم والمشاركة لهم في غيهم. ويمد عينية إلى ما متعوا به من زهرة الدنيا الفانية. ويغبطهم بما أوتوا من القطوف الدانية غافلا عن حقيقة ذلك ذاهلا عن منتهى ما هنالك؟! وينبغي أن يعد مثل ذلك من الذين ظلموا لا من الراكنين إليهم بناءا على ما روي أن رجلا قال لسفيان: إني أخيط للظلمة فهل أعد من أعوانهم، فقال له: لا أنت منهم والذي يبيعك الإبرة من أعوانهم، وما أحسن ما كتبه بعض الناصحين للزهري حين خالط السلاطين، وهو - عافانا الله تعالى وإياك - أبا بكر من الفتن فقد أصحبت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك الله تعالى ويرحمك أصبحت شيخا كبيرا وقد أثقلتك نعم الله تعالى تعالى بما فهمك من كتابه وعلمك من سنة نبيك صلى الله عليه وسلم وليس
154

كذلك أخذ الله تعالى الميثاق على العلماء، قال سبحانه: * (لتبيننه للناس ولا تكتمونه) * (آل عمران: 187) وأخف ما احتملت إنك آنست وحشة الظالم وسهلت سبيل الغي بدنوك ممن لم يؤد حقا ولم يترك باطلا حين أدناك اتخذوك قطبا تدور عليك رحى باطلهم وجسرا يعبرون عليك إلى بلائهم وسلما يصعدون فيك إلى ضلالهم يدخلون الشك بك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهلاء فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك وما أكثر ما أخذوا منك فيما أفسدوا عليك من دينك فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم: * (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا) * (مريم: 59) فإنك تعامل من لا يجهل ويحفظ عليك من لا يغفل فداو دينك فقد دخله شقم وهيء زادك فقد حضر السفر البعيد، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء والسلام.
وعن الأوزاعي ما من شيء أبغض إلى الله تعالى من عالم يزور عاملا، وعن محمد بن سلمة: الذباب على العذرة أحسن من قارىء على باب هؤلاء، وفي الخبر من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله تعالى في أرضه، ولعمري إن الآية أبلغ شيء في التحذير عن الظلمة والظلم، ولذا قال الحسن: جمع الدين في لاءين يعني - لا تظغوا. ولا تركنوا - ويحكى أن الموقف أبا أحمد طلحة العباب صلى خلف الإمام فقرأ هذه الآية فغشى عليه فلما أفاق قيل له، فقال: هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف الالم.
هذا وخطاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بهذين النهيين بعد الأمر بالاستقامة للتثبيت عليها، وقد تجعل تأكيدا لذلك إذا كان المراد به الدوام والثبات، وعن أبي عمرو أنه قرأ * (تركنوا) * بكسر التاء على لغة تميم.
وقرأ قتادة. وطلحة. والأشهب، ورويت عن أبي عمرو * (تركنوا) * بضم الكاف مضارع ركن بفتحها وهي على ما في البحر لغة قيس. وتميم.
وقال الكسائي: إنها لغة أهل نجد وشد - تركن - بالفتح مضارع ركن كذلك، وقرأ ابن أبي عبلة * (ولا تركنوا) * مبنيا للمفعول من أركنه إذا أماله، وقراءة الجمهور * (تركنوا) * بفتح الكاف، والماضي - ركن - بكسرها وهي لغة قريش، وهي الفصحى - على ما قال الأزهري - وقرأ ابن وثاب. وعلقمة. والأعمش. وابن مصرف. وحمزة فيما يروى عنه * (فتمسكم) * بكسر التاء على لغة تميم أيضا * (وما لكم من دون الله من أولياء) * من أنصار يمنعون العذاب عنكم، والمراد نفي أن يكون لكل نصير، والمقام قرينة على ذلك، والجملة في موضع احلال من ضمير * (تمسكم) * * (ثم لا تنصرون) * من جهته تعالى إذ قد سبق في حكم تعالى أن يعذبكم بركونكم إليهم ولا يبقى عليكم، و * (ثم) * قيل: لاستبعاد نصره سبحانه إياهم وقد أوعدهم العذاب على ذلك. وأوجبه لهم، وتعقب بأن أثر الحرف إنما هو في مدخوله ومدخول * (ثم) * عدم النصرة وليس بمستبعد، وإنما المستبعد نصر الله تعالى لهم، فالظاهر أنها للتراخي في الرتبة لأن عدم نصر الله تعالى أشد وأفظع من عدم نصرة غيره، وأجيب بما لا يخلو عن تكلف، وأيا ما كان فالمقام مقام الواو إلا أنه عدل عنها لما ذكر.
وجوز القاضي أن تكون منزلة منزلة الفاء بمعنى الاستبعاد فإنه سبحانه لما بين أنه معذبهم وأن أحدا لا يقدر على نصرهم أنتج ذلك أنهم لا ينصرون أصلا، ووجه ذلك بأنه كان الظاهر أن يؤتي بالفاء التفريعية المقارنة
155

للنتائج إذا المعنى أن الله تعالى أوجب عليكم عقابه ولا مانع لكم منه فاذن أنتم لا تنصرون فعدل عنه إلى العطف - بثم - الاستبعادية إلى الوجه الذي ذكره، واستبعاد الوقوع يقتضي النفي، والعدم الحاصل الآن فهو مناسب لمعنى تسبب النفي، ودفع بذلك ما قيل عليه: إن الداخل على النتائج هي الفاء السببية لا الاستبعادية ولا يخفى
قوة الاعتراض، وفرق بين وجهي الاستبعاد السابق والتنزيل المذكور بأن المنفى على الأول نصرة الله تعالى لهم، وعلى الثاني مطلق النصرة.
* (وأقم الصلواة طرفى النهار وزلفا من اليل إن الحسن‍ات يذهبن السيئ‍ات ذالك ذكرى للذاكرين) *
* (وأقم الصلواة) * أي المكتوبة، ومعنى إقامتها أداؤها على تمامها.
وقيل: المداومة عليها، وقيل: فعلها في أول وقتها * (طرفي النهار) * أي أوله وآخره وانتصابخ على الظرفية - لأتم - ويضعف كونه ظرفا للصلاة ووجه انتصابه على ذلك إضافته إلى الظرف * (وزلفا من الليل) * أي ساعات منه قريبة من النهار فإنه من أزلفه إذا قربه.
وقال الليث: هي طائفة من أول الليل، وكذا قال ثعلب، وقال أبو عبيدة. والأخفش. وابن قتيبة: هي مطلق ساعات واناؤه وكل ساعة زلفة، وأنشدوا للعجاج: ناج طواه الاين مما وجفا * طي الليالي زلفا فزلفاسماوة الهلال حتى احقوقفا
وهو عطف على * (طرفي النهار) *، و * (من الليل) * في موضع الصفة له، والمراد بصلاة الطرفين قيل: صلاة الصبح والعصر، وروي ذلك عن الحسن. وقتادة. والضحاك، واستظهر ذلك أبو حيان بناءا على أن طرف الشيء يقتضي يكون من الشيء، والتزم أن أول النهار من الفجر، وقد يطلق طرف الشيء على الملاصق لأوله وآخره مجازا فيمكن اعتبار النهار من طلوع الشمس مع صحة ما ذكروه في صلاة الطرف الأول بجعل التثنية هنا مثلها في قولهم: القلم أحد اللسانين إلا أنه قيل بشذوذ ذلك.
وروي عن ابن عباس - واختاره الطبري - أن المراذ صلاة الصبح والمغرب فإن كان النهار من أول الفجر إلى غروب الشمس فالمغرب طرف مجازا وهو حقيقة طرف الليل، وإن كان من طلوع الشمس إلى غروبها فالصبح كالمغرب طرف مجازي، وقال مجاهد. ومحمد بن كعب القرظي: الطرف الأول الصبح. والثاني الظهر. والعصر، واختار ذلك ابن عطية، وأنت تعلم أن في جعل الظهر من الطرف الثاني خفاء وإنما الظهر نصف النهار والنصف لا يسمى طرفا إلى بمجاز بعيد، والمراد بصلاة الزلف عند الأكثر صلاة المغرب والعشاء.
وروى الحسن في ذلك خبرا مرفوعا، وعن ابن عباس أنه فسر صلاة الزلف بصلاة العتمة وهي ثلث الليل الأول بعد غيبوبة الشفق وقد تطلق على وقت صلاة العشاء الآخرة، وأغرب من قال: صلاة الطرفين صلاة الظهر والعصر، وصلاة الزلف صلاة المغرب. والعشاء. والصبح، وقيل: معنى * (زلفا) * قربا، وحقه على هذا - كما في الكشاف - أن يعطف على الصلاة أي أقم الصلاة طرفي النهار وأقم زلفا من الليل أي صلوات تتقرب بها إلى الله عز وجل انتهى، قيل: والمراد بها على هذا صلاة العشاء والتهجد وقد كان واجبا عليه عليه الصلاة والسلام، أو العشاء. والوتر على ما ذهب إليه أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، أو المجموع كما يقتضيه ظاهر الجمع، وقد تفسر بصلاة المغرب والعشاء - واختاره البعض - وقد جاء إطلاق الجمع على الاثنين فلا حاجة إلى التزام أن ذلك باعتبار أن كل ركعة قربة فتحقق قرب الثلاث فيما ذكر. وقرأ طلحة. وابن أبي اسحق. وأبو جعفر * (زلفا) * بضم اللام إما على أنه جمع زلفة أيضا ولكن ضمت
156

عينه اتباعا لفائه. أو على أنه اسم مفرد كعنق. أو جمع زليف بمعنى زلفة كرغيف ورغف، وقرأ مجاهد. وابن محيصن باسكان اللام كبسر بالضم والسكون في بسرة، وهو على هذا - على ما في البحر - اسم جنس، وفي رواية عنهما أنهما قرآ - زلفى - كحبلى وهو بمعنى زلفة فإن تاء التأنيث وألفه قد يتعاقبان نحو قربى وقربة، وجوز أن تكون هذه الألف بدلا من التنوين إجراءا للوصل مجرى الوقف * (إن الحسن‍ات يدهبن السيئات) * أي يكفرنها ويذهبن المؤاخذة عليها وإلا فنفس السيئات أعراض وجدت فانعدمت، وقيل: يمحينها من صحائف الأعمال، ويشهد له بعض الآثار، وقيل: يمنعن من اقترافها كقوله تعالى: * (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) * (العنكبوت: 45) وهو مع بعده في نفسه مخالف للمأثور عن الصحابة. والتابعين رضي الله تعالى عنهم فلا ينبغي أن يعول عليه.
والظاهر أن المراد من الحسنات ما يعم الصلوات المفروضة وغيرها من الطاعات المفروضة وغيرها، وقيل: المراد الفرائض فقط لرواية " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن " وفيه أنه قد صح من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا أمن الإمام فأمنوا فإن الملائكة تؤمن فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه " وفي رواية تفرد بها يحيى بن نصر - وهو من الثقات - بزيادة " وما تأخر " وصح أن صيام يوم عرفة تكفر السنة الماضية والمستقبلة، وأخرج أبو داود في السنن باسناد حسن عن سهل بنمعاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أكل طعاما ثم قال الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام وزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن لبس ثوبا وقال: الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر " إلى غير ذلك من الاخبار الواردة في تكفير أفعال ليست بمفروضة ذنوبا كثيرة، وقيل: المراد بها الصلوات المفروضة لما في بعض طرق خبر سبب النزول من أن أبا اليسر من الأنصار قبل امرأة ثم ندم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما فعل فقال عليه الصلاة والسلام: " أنتظر أمر ربي فلما صلى صلاة قال: صلى الله عليه وسلم نعم اذهب بها فانها كفارة لما علمت " وروي هذا القول عن ابن عباس. وابن مسعود. وابن المسيب، والظاهر أن ذلك منهم اقتصار على بعض مهم من أفراد ذلك العام، وسبب النزول لا يأبى العموم كما لا يخفى، وفي رواية عن مجاهد أنها قول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وفيه ما فيه، والمراد بالسيآت عند الأكثرين الصغائر لأن الكبائر لا يكفرها على ما قالوا: إلا التوبة، واستدلوا لذلك بما رواه مسلم من رواية العلاء " الصلوات الخمس كفارة لما بينها ما اجتنبت الكبائر " واستشكل بأن الصغائر مكفرة باجتناب الكبائر بنص * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) * (النساء: 31) فما الذي تكفوه الصلوات الخمس؟ وأجاب البلقيني بأن ذلك غير وارد لأن المراد بالآية أن تجتنبوا في جميع العمر ومعناه الموافاة على هذه الحالة من وقت الإيمان أو التكليف إلى الموت، والذي في الحديث " إن الصلوات تكفر ما بينها " أي في يومها
إذا اجتنبت الكبائر في ذلك اليوم فلا تعارض، وتعقبه السمهودي بقوله: ولك أن تقول: لا يتحقق اجتناب الكبائر في جميع العمر إلا مع الاتيان بالصلوات الخمس فيه كل يوم فالتكفير حاصل بما تضمنه الحديث فما فائدة الاجتناب المذكور في الآية ثم قال: ولك أن تجيب بأن ذلك من باب فعل شيئين كل منهما مكفر، وقد قال بعض العلماء: إنه إذا اجتمعت مكفرات فحكمها أنها إذا ترتبت فالمكفر السابق وإن وقعت معا فالمكفر واحد منها يشاؤه الله تعالى، وأما
157

البقية فثوابها باق له وذلك الثواب على كل منها يكون بحيث يعدل تكفير الصغائر لو وجدت، وكذا إذا فعل واحدا من الأمور المكفرة ولم يكن قد ارتكب ذنبا.
وفي شرح مسلم للنووي نحو ذلك غير أنه ذكر أنه لو صادف فعل المكفر كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغيرة رجونا أن يخفف من الكبائر، ويرد على قوله: إن المراد * (إن تجتنبوا) * في جميع العمر منع ظاهر، والظاهر أن المران من ذلك أن ثواب اجتناب الكبائر في كل وقت يكفر الصغائر الواقعة فيه، وفي تفسير القاضي ما يؤيده، وكذا ما ذكره الإمام حجة الإسلام في الكلام على التوبة من أن حكم الكبيرة أن الصلوات الخمس لا تكفرها وأن اجتناب الكبائر يكفر الصغائر بموجب قوله سبحانه: * (إن تجتنبوا كبائر ما) * الخ، ولكن اجتناب الكبيرة إنما يكفر الصغيرة إذا اجتنبها مع القدرة والإرادة كمن يتمكن من امرأة ومن مواقعتها فيكف نفسه عن الوقوع ويقتصر على النظر واللمس فإن مجاهدته نفسه في الكف عن الواقع أشد تأثيرا في تنوير قلبه من إقدامه على النظر في اظلامه فهذا معنى تكفيره فإن كان عنينا ولم يكن امتناعه إلا بالضرورة للعجز أو كان قادرا ولكن امتنع لخوف من آخر فهذا لا يصلح للتكفير أصلا فكل من لا يشتهي الخمر بطبعه ولو أبيح له ما شربه فاجتنابه لا يكفر عنه الصغائر التي هي من مقدماته كسماع الملاهي والأوتار وهذا ظاهر يدل عليه أن الحسنات يذهبن السيئات، ولا شك أن اجتناب الكبائر إذا قارن القصد حسنة وإنما قيدنا بذلك وإن كان الخروج عن عهدة النهي لا يتوقف عليه لأنه لا يثاب على الاجتناب بدون ذلك، فالأولى في الجواب عن الأشكال أن يقال: " ما اجتنبت الكبائر " في الخبر ليس قيدا لأصل التكفير بل لشمول التكفير سائر الذنوب التي بين الصلوات الخمس فهو بمثابة استثناء الكبائر من الذنوب، وكأنه قيل: الصلوات الخمس كفارة لجيمع الذنوب التي بينها وتكفيرها للجميع في المدة التي اجتنبت فيها الكبائر أو مقيد باجتناب الكبائر وإلا فليست الصلوات كفارة لجميع الذنوب بل للصغائر فقط، وهذا وإن كان خلاف الظاهر من عود القيد لأصل التكفير لكن قرينة الآية دعت للعدول عنه إلى ذلك جمعا بين الأدبة، ولا بد في هذا من اعتبار ما قالوا في اجتماع الأمور المكفرة الصغائر، وذكر الحافظ ابن حجر بعد نقله لكلام البلقيني ما لفظه: وعلى تقدير ورود السؤال فالتخلص عنه سهل وذلك لأنه لا يتم اجتناب الكبائر إلا بفعل الصلوات الخمس فمن لم يفعلها لم يعد مجتنبا للكبائر لأن تركها من الكبائر فيتوقف التكفير على فعلها انتهى ولا يخلو عن بحث، وممن صرح بأن ما اجتنبت الخ بمعنى الاستثناء نقلا عن بعضهم المحب الطبري، فقد قال في أحكامه: اختلف العلماء في أمر تكفير الصغائر بالعبادات هل هو مشروط باجتناب الكبائر؟ على قولين: أحدهما نعم وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: " ما اجتنبت الكبائر " فإن ظاهره الشرطية كما يقتضيه " إذا اجتنبت " الآتي في بعض الروايات، فإذا اجتنبت الكبائر كانت مكفرة لها وإلا فلا، وإليه ذهب الجمهور على ما ذكره ابن عطية، وقال بعضهم: لا يشترط، والشرط في الحديث بمعنى الاستثناء والتقدير مكفرات لما بينها إلا الكبائر وهو الأظهر.
هذا وقد ذكر الزركشي أنهم اختلفوا في أن التفكير هل يشترط فيه التوبة أم لا؟ فذهب إلى الاشتراط طائفة وإلى عدمه أخرى، وفي البحر أن الاشتراط نص حذاق الأصوليين، ولعل الخلاف مبني على الخلاف في اشتراط الاجتناب وعدمه فمن جعل اجتناب الكبائر شرطا في تكفير الصغائر لم يشترط التوبة وجعل هذه خصوصية لمجتنب الكبائر ولم يشترطه إلا من اشترطها، ويدل عليه خبر أبي اليسر فإن الروايات متضافرة
158

على أنه جاء نادما والندم توبة، وإن إخباره صلى الله عليه وسلم له بأن صلاة العصر كفرت عنه ما فعله إنما وقع بعد ندمه لكن ظاهر إطلاق الحديث يقتضي أن التكفير كان بنفس الصلاة فإن التوبة بمجردها تجب ما قبلها فلو اشترطناها مع العبادات لم تكن العبادات مكفرة، وقد ثبت أنها مكفرات فيسقط اعتبار التوبة معها انتهى ملخصا مع زيادة، ولا يخفى أن هذا يحتاج إلى التزام القول بأن ندم أبي اليسر لم يكن توبة صحيحة وإلا لكان التكفير به لأنه السابق، وبعض التزم القول بكونه توبة صحيحة إلا أنه توبة لم تقبل ولم تكفر الذنب، وأنت تعلم أن في عدم تكفير التوبة الذنب مقالا، والمنقول عن السبكي أنه قال: إن قبول التوبة عن الكفر مقطوع به تفضلا، وفي القطع بقبول توبة العاصي قولان لأهل السنة، والمختار عند إمام الحرمين أن تكفير التوبة للذنب مظنون، وادعى النووي أنه الأصح، وفي شرح البرهان: الصحيح عندنا القطع بالتكفير، وقال الحليمي: لا يجب على الله تعالى قبول التوبة لكنه لما أخبر عن نفسه أنه يقبل التبوة عن عباده ولم يجز أن يخلف وعده علمنا أنه سبحانه وتعالى لا يرد التوبة الصحيحة فضلا منه تعالى، ومثل هذا الخلاف الخلاف في التكفير باجتناب الكبائر ونحوه هل هو قطعى أو ظنى، وفي كلام العلامة نجم الدين النسفي. وصدر الشريعة. وغيرهما أن العقاب على الصغائر جائز الوقوع سواء اجتنب مركتبها الكبائر أم لا لدخولها تحت قوله تعالى: * (يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) * (المائدة: 18) ولقوله تعالى: * (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) * (الكهف: 49) والإحصاء إنما يكون للسؤال والمجازاة آلء غير ذلك من الآيات والأحاديث، وخالفت المعتزلة في ذلك فلم يجيزوا وقوع التعذيب إذا اجتنبت الكبائر واستدوا بآية * (إن تجتنبوا) * الخ، ويجاب بأن المراد بالكبائر الكفر والجمع لتعدد أنواعه أو تعدد من اتصف به، ومعنى الآية إن تجتنبوا الكفر نجعلكم صالحين لتفكير سيآتكم، ولا يخفى ما في استدلالهم من الوهن، وجوابهم عن استدلال المعتزلة لعمري أوهن منه.
وذهب صاحب الذخائر إلى أن من الحسنات ما يكفر الصغائر والكبائر إذ قد صح في عدة أخبار من فعل كذا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وفي بعضها خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ومتى حملت الحسنات في الآية على الاستغراق فالمناسب حمل السيئات عليه أيضا، والتخصص خلاف الظاهر وفضل الله تعالى واسع، وإلى هذا مال ابن املنذر، وحكام ابن عبد البر عن بعض المعاصرين له وعني به فيما قيل: أبا محمد المحدث لكن رد عليه، فقال بعضهم: يقول: إن الكبائر والصغائر
تكفرها الطهارة والصلاة لظاهر الأحاديث وهو جهل بين وموافقة للمرجئة في قولهم، ولو كان كما زعم لم يكن للأمر بالتوبة معنى، وقد أجمع المسلمون على أنها فرض، وقد صح أيضا من حديث أبي هريرة " الصلوات كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر " انتهى.
وفيه أن دعوى أن ذلك جهل لا يخلو عن الافراط إذا الفرق بين القول بعموم التكفير ومذهب المرجئة والكبائر وهي من جملة أعمال العبد فكما جاز أن يجعل الله سبحانه هذا العمل سببا لتكفير الجميع يجوز أن يجعل غيره من الأعمال كذلك، وقوله: ولو كان كما زعم الخ مردود لأنه لا يلزم من تكفير الذنوب الحاصلة عدم الأمر بالتوبة وكونها فرضا إذا تركها من الذنوب المتجددة التي لا يشملها التكفير السابق بفعل الوضوء مثلا ألا ترى أن التوبة من الصغائر واجبة على ما نقل عن الأشعري، وحكى إمام الحرمين وتلميذه الأنصاري الإجماع عليه
159

ومع ذلك فجميع الصغائر مكفرة بنص الشارع وإن لم يتب على ما سمعت من الخلاف، وتحقيق ذلك أن التوبة واجبة في نفسها على الفور ومن أخرها تكرر عصيانه بتكرر الأزمنة كما صرح به الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ولا يلزم من تكفير الله تعالى ذنوب عبده سقوط التكليف بالتوبة التي كلف بها تكليفا مستمرا، وقريب من هذا ارتفاع الاثم عن النائم إذا أخرج الصلاة عن وقتها مع الأمر بقضائها، وما روي من حديث أبي هريرة إنما ورد في أمر خاص فلا يتعداه إذ الأصل بقاء ما عداه على عمومه وهذا مما لا مجال للقياس فيه حتى يخص بالقياس على ذلك فلا يليق نسبة ذلك القائل إلى الجهل، والرجاء بالله تعالى شأنه قوي كذا قيل، وفي المقام بعد أبحاث تركنا ذكرها خوف الاملال فإن أردتها فعليك بالنظر في الكتب المفصلة في علم الحديث.
* (ذلك ذكرى للذاكرين) * أي عظمة للمتعظين، وخصهم بالذكر لأنه المنتفعون بها، والإشارة إلى ما تقدم من الوصية بالاستقامة والنهي عن الطغيان والركون إلى الذين ظلموا وإقامة الصلوات في تلك الأوقات بتأويل المذكور، وإلى هذا ذهب الزمخشري، واستظهر أبو حيان كون ذلك إشارة إلى إقامة الصلاة وأمر التذكير سهل، وقيل: هي إشارة إلى الإخبار بأن الحسنات يذهبن السيآت، وقال الطبري: إشارة إلى الأوامر والنواهي في هذه السورة، وقيل: إلى القرآن، وبعض من جعل الاشارة إلى الإقامة فسر الذكري بالتوبة.
* (واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) *
* (واصبر) * أي على مشاق امتثال ما كلفت به، في الكشاف إن هذا كرور منه تعالى إلى التذكير بالصبر بعد ما جاء بما هو خاتمة للتذكير لفضل خصوصية ومزية وتنبيه على مكان الصبر ومحله كأنه قال: وعليك بما هو أهم مما ذكرت به وأحق بالتوصية وهو الصبر على امتثال ما أمرت به والانتهاء عما نهيت عنه فلا يتم شيء منه إلا به انتهى.
ووجه كونه كريرا إلى ما ذكر بأن الأمر بالاستقامة أمر بالثبات قولا وفعلا وعقدا وهو الصبر على طاعة الله تعالى ويتضمن الصبر عن معصيته ضرورة على أن ما ذكره سبحانه كله لا يتم إلا بالصبر ففي ضمن الأمر به أمر بالصبر، واعترض اعتبار الانتهاء عما نهى عنه من متعلقات الصبر إذ لا مشقة في ذلك، واعتذر عن ذلك بأنه يمكن أن يراد بما نهى عنه من الطغيان والركون ما لا يمكن عادة خلو البشر عنه من أدنى ميل بحكم الطبيعة من الاستقامة المأمور بها ومن يسير ميل بحكم البشرية إلى من وجد منه ظلم فإن في الاحتراز عن أمثاله من المشقة ما لا يخفى، وتعقب بأن ما هو من توابع الطبيعة لا يكون من متعلقات النهي، ولهذا ذكروا أن حب المسلم لولده الكافر مثلا لا إثم فيه، فالأولى أن يقال: إن وجود المشقة في امتثال مجموع ما كلف به يكفي في الغرض، وقيل: المراد من الصبر المأمور به المداومة على الصلاة كأنه قيل: أقم الصلاة أي أدها تامة ودوام عليها نظير قوله تعالى: * (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) * (طه: 132) * (فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) * أي يوفيهم ثواب أعمالهم من غير بخس أصلا، وعبر ذلك بنفي الإضاعة بيانا لكمال نزاهته تعالى عن حرمانهم شيئا من ثوابهم، وعدل عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود مع إفادة فائدة عامة لكل من يتصف بذلك وهو تعليل للأمر بالصبر، وفيه إيماء إلى أن الصبر على ما ذكر من باب الإحسان، وعن مقاتل أنه فسر الإحسان هنا بالإخلاص.
وعن ابن عباس أنه قال: المحسنون المصلون وكأنه نظر إلى سياق الكلام، هذا ومن البلاغة القرآنية أن الأوامر بأفعال الخير أفردت للنبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت عامة في المعنى، والمناهي جمعت للأمة، وما أعظم شأن الرسول عليه الصلاة والسلام عند ربه جل وعلا.
* (فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد فى الارض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا مآ أترفوا فيه وكانوا مجرمين) *
* (فلولا كان) * تحضيض فيه معنى التفجع مجازا أي فهلا
160

كان * (من ا القرون) * أي الأقوام المقترنة في زمان واحد * (من قبلكم أولوا بقية) * أي ذوو خصلة باقية من الرأي والعقل. أو ذوو فضل على أن يكون - البقية - اسما للفضل والهاء للنقل، وأطلق عليه ذلك على سبيل الاستعارة من البقية التي يصطفيها المرء لنفسه ويدخرها مما ينفعه، ومن هنا يقال: فلان من بقية القوم أي من خيارهم، وبذلك فسر بيت الحماسة: إن تذنبوا ثم يأتيني (بقيتكم) * فما علي بذنب عندكم فوت
ومنه قولهم: في الزوايا خبايا. وفي الرجال بقايا، وجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى كالتقية بمعنى التقوى أي فهلا كان منهم ذوو إبقاء لانفسهم وصيانة لها عما يوجب سخط الله تعالى وعقابه، والظاهر أنها على هذا مصدر، وقيل: اسم مصدر، ويؤيد المصدرية أنه قرىء * (بقية) * بزنة المرة وهو مصدر بقاه يبقيه كرماه يرميه بمعنى انتظره وراقبه، وفي الحديث عن معاذ بن جبل قال: " بقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تأخر صلاة العشاء حتى ظن الظان أنه ليس بخارج " الخبر أراد معاذ انتظرناه، وأما الذي من البقاء ضد الفناء ففعله بقي يبقى كرضى يرضى، والمعنى على هذه القراءة فهلا كان منهم ذوو مراقبة لخشية الله تعالى وانتقامه، وقرىء *
(بقية) * بتخفيف الياء اسم فاعل من بقي نحو شجيت فهي شجية.
وقرأ أبو جعفر. وشيبة * (بقية) * بضم الباء وسكون القاف * (ينهون عن الفساد في الأرض) * الواقع فيما بينهم حسبما ذكر في قصصهم، وفسر الفساد في البحر بالكفر وما اقترن به من المعاصي * (إلا قليلا ممن أنجينا منهم) * استثناء منقطع أي ولكن قليلا منهم أنجيناهم لكونهم كانوا ينهون، وقيل أي: ولكن قليلا ممن أنجينا من القرون نهو نهوا عن الفساد وسائرهم تاركون للنهي، و * (من) * الأولى بيانية لا تبعيضية لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم بدليل قوله سبحانه: * (أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا) * (الأعراف: 165) وإلى ذلك ذهب الزمخشري، ومنع اتصال الاستثناء على ما عليه ظاهر الكلام لاستلزامه فساد المعنى لأنه يكون تحضيضا - لأولى البقية - على النهي عن الفساد إلا للقليل من الناجين منهم، ثم قال: وإن قلت: في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم فكأنه قيل: ما كان من القرون أولو بقية إلا قليلا كان استثناءا متصلا ومعنى صحيحا وكان انتصابه على أصل الاستثناء وإن كان الأفصح أن يرفع على البدل، والحاصل أن في الكلام اعتبارين: التحضيض. والنفي، فإن اعتبر التحضيض لا يكون الاستثناء متصلا ون المتصل يسلب ما للمستثنى منه عن المستثنى أو يثبت له ما ليس له، والتحضيض معناه لم ما نهوا، ولا يجوز أن يقال: إلا قليلا فانهم لا يقال لهم: لم ما نهوا لفساد المعنى لأن القليل ناهون وإن اعتبر النفي كان متصلا لأنه يفيد أن القليل الناجين ناهون، وأورد على ذلك القطب أن صحة السلب. أو الإثبات بحسب اللفظ لازم في الخبر وأما في الطلب فيكون بحسب المعنى فانك إذا قلت: اضرب القوم إلا زيدا فليس المعنى على أنه ليس أضرب بل على أن القوم مأمور بضربهم إلا زيدا فإنه غير مأمور به فكذا هنا يجوز أن يقال: * (أولو بقية) * محضوضون على النهي * (إلا قليلا) * فانهم ليسوا محضوضين عليه لأنهم نهوا فالاستثناء متصل قطعا كما ذهب إليه بعض السلف، وقد يدفع ما أورده بأن مقتضى الاستنثاء أنهم غير محضوضين، وذلك إما لكونهم نهوا. أو لكونهم لا يحضون عليه لعدم توقعه منهم، فإما أن يكون قد جعل احتمال الفساد إفسادا أو ادعى أنه هو المفهوم من السياق، ثم إن المدقق صاحب الكشف قال: إن ظاهر تقرير
161

كلام الزمخشري يشعر بأن * (ينهون) * خبر * (كان) * جعل * (من القرون) * خبرا آخر أو حالا قدمت لأن تحضيض - أولي البقية - على النهي على ذلك التقدير حتى لو جعل صفة، و * (من القرون) * خبرا كان المعنى تنديم أهل القرون على أن لم يكن فهم أولو بقية ناهون وإذا جعل خبرا لا يكون معنى الاستثناء ما كان من القرون أولو بقية إلا قليلا بل كان ما كان منهم أولو بقية ناهين إلا قليلا فانهم نهوا وهو فاسد، والانقطاع على ما أثره الزمخشري أيضا يفسد لما يلزم منه أن يكون أولو بقية غير ناهين لأن في التحضيض والتنديم دلالة على نفيه عنهم، فالوجه أن يوول بأن المقصد من ذكر الاسم الخبر وهو كالتمهيد له كؤنه قيل: فلولا كان من القرون من قبلكم ناهون إلا قليلا، وفي كلامه إشارة إلى أنه لا يختلف نفي الناهي، وأولو البقية، وإنما عدل إلى المنزل مبالغة لأن أصحاب فضلهم وبقاياهم إذا حضضوا على النهي وندموا على الترك فهم أولي بالتحضيض والتنديم، وفيه مع ذلك الدلالة على خلوهم عن الاسم لخلوهم عن الخبر لأن ذا البقية لا يكون إلا ناهيا فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم وهو من باب. ولا ترى الضب بها ينجحر
وقولك: ما كان شجعانهم يحمون عن الحقائق في معرض الذم تريد أن لاشجاع ولا حماية لكن بالغت في الذم حتى خيلت أنه لو كان لهم شجاع كان كالعدم فهذا هو الوجه الكريم والمطابق لبلاغة القرآن العظيم انتهى، وهو تحقيق دقيق أنيق.
وادعى بعضهم أن الظاهر أن * (كان) * تامة، و * (أولو بقية) * فاعلها، وجملة * (ينهون * (صفته، و * (من القرون) * حال متقدمة عليه، و * (من) * تبعيضية، و * (من قبلكم) * حال من * (القرون) *، ويجوز أن يكون صفة لها أي الكائنة بناءا على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته، واعترض بأنه يلزم منه كون التحضيض على وجود أولئك فيهم وكذا يلزم كون المنفي ذلك وليس بذاك بل المدار على النهي تحضيضا ونفيا، والتزام توجه الأمرين إليه لكون الصفة قيدا في الكلام؛ والاستعمال الشائع توجه نحو ما ذكر إلى القيد كما قيل زيادة نغمة في الطنبور من غير طرب، ومثله بعد من النصب * (واتبع الذين ظلموا) * وهم تاركو النهي عن الفساد.
* (ما أترفوا فيه) * ما انعموا فيه من الثروة والعيش الهنيء والشهوات الدنيوية، وأصل الترف التوسع في النعمة.
وعن الفراء معنى أترف عود الترفة وهي النعمة، وقيل: * (أترفوا) * أي طغوا من أترفته النعم إذا أطغته - ففي - إما سببية أو ظرفية مجازية، وتعقب بأن هذا المعنى خلاف المشهور وإن صح هنا؛ ومعنى اتباع ذلك الاهتمام به وترك غيره أي اهتموا بذلك * (وكانوا مجرمين) * أي مرتكبي جرائم غير ذلك، أو كافرين متصفين بما هو أعظم الاجرام، ولكل من التفسيرين ذهب بعض، وحمل بعضهم * (الذين ظلموا) * على ما يعم تركي النهي عن الفساد والمباشرين له، ثم قال: وأنت خبير بأنه يلزم من التحضيض بالأولين عدم دخول مباشري الفساد في الظلم والأجرام عبارة، ولعل الأمر في ذلك هين فلا تغفل، والجملة عند أبي حيان مستأنفة لخبار عن حال هؤلاء * (الذين ظلموا) * وبيان أنهم مع كونهم تاركي النهي عن الفساد كانوا ذوي جرائم غير ذلك.
وجوز بعض المحققين أن تكون عطفا على مقدر دل عليه الكلام أي لم ينهوا * (واتبع) * الخ.
وقيل: التقدير إلا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد * (واتبع الذين) * الخ، وأن تكون استئنافا يترتب على قوله سبحانه: * (إلا قليلا) * أي إلا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد * (واتبع الذين ظلموا) * من مباشري الفساد وتاركي النهي عنه، وجعل الاظهار على هذا مقتضى الظاهر، وعلى الأول لادراج المباشرين مع التاركين
162

في الحكم والتسجيل عليهم بالظلم وللاشعار بعلية ذلك لما حاق بهم من العذاب.
وفي الكشاف ما يقضي ظاهره بأن العطف على * (نهو) * الواقع خبر لكن فيلزم أن يكون المعطوف خبرا أيضا مع خلوه عن الرابط، وأجيب تارة بأنه في تأويل سائرهم أو مقابلوهم وأخرى بأن دنهو) * جملة مستأنفة استؤنفت بعد اعتبار الخبر فعطف عليها، وفي ذلك ما فيه، وقوله تعالى: * (وكانوا مجرمين) * عطف على * (اتبع الذين) * الخ مع المغايرة بينهما، وجوز أن يكون العطف تفسيريا على معنى * (وكانوا مجرمين) * بذلك الاتباع، وفيه بعد، وأن يكون على * (أترفوا) * على معنى اتبعوا الاتراف وكونهم مجرمين لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام، أو أريد بالإجرام إغفالهم للشكر، وتعقبه صاحب التقريب بقوله: وفيه نظر لأن ما في * (ما أترفوا) * موصولة لا مصدرية لعود الضمير من * (فيه) * إليه، فكيف يقدر * (كانوا) * مصدرا إلا أن يقال: يرجع الضمير إلى الظلم بدلالة * (ظلموا) * فتكون * (ما) * مصدرية وأن تكون الجملة اعتراضا بناءا على أنه قد يكون في آخر الكلام عند أهل المعاني.
وقرأ أبو جعفر. والعلاء بن سيابة. وأبو عمرو، وفي رواية الجعفي * (واتبع) * بضم الهمزة المقطوعة وسكون التاء وكسر الباء على البناء للمفعول من الاتباع، قيل: ولا بد حينئذ من تقدير مضاف أي اتبعوا جزاء ما أترفوا و * (ما) * إما مصدرية أو موصولة والواو للحال، وجعلها بعضهم للعطف على لم ينهوا المقدر، والمعنى على الأول * (إلا قليلا) * نجيناهم وقد هلك سائرهم، وأما قوله سبحانه: * (وكانوا مجرمين) * فقد قالوا: إنه لا يحسن جعله قيدا للانجاء إلا من حيث أنه يجري مجرى العلة لاهلاك السائر فيكون اعتراضا. أو حالا من * (الذين ظلموا) * والحال الأول من مفعول * (أنجينا) * المقدر، وجوز أن يفسر بذلك القراءة المشهورة، وتقدم الإنجاء للناهين يناسب أن يبين هلاك الذين لم ينهوا، والواو للحال أيضا في القول الشائع كأنه قيل: * (أنجينا) * القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم فهلكوا، وإذا فسرت المشهورة بذلك فقيل: فاعل - اتبع ما اترفوا - أو الكلام على القلب فتدبر.
* (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) *
* (وما كان ربك ليهلك القرى) * أي ما صح وما استقام بل استحال في الحكمة أن يهلك القرى التي أهلكها وبلغتك أنباؤها أو ما يعمها وغيرها من القرى الظالم أهلها، واللام في مثل ذلك زائدة لتأكيد النفي عند الكوفية، وعند البصرية متعلقة بمحذوف توجه إليه النفي، وقوله سبحانه: * (بظلم) * أي ملتبسا به قيل: هو حال من الفاعل أي ظالما لها والتنكير للتفخيم والإيذان بأن إهلاك المصلحين ظلم عظيم، والمراد تنزيه الله تعالى عن ذلك على أبلغ وجه وإلا فلا ظلم منه تعالى فيما يفعله بعباده كائنا ما كان لما علم من قاعدة أهل السنة، وقوله جل وعلا: * (وأهلها مصلحون) * حال من المفعول والعامل فيه عامله، ولكن لا باعتبار تقييده بالحال السابقة لدلالته على تقييد نفي الاهلاك ظلما بحال كون أهلها مصلحين، وفيه من الفساد على ما قيل ما فيه بل مطلقا عن ذلك، وهذا ما اختاره ابن عطية، ونقل الطبري أن المراد بالظلم الشرك والباء للسببية أي لا يهلك القرى بسبب إشراك أهلها وهم مصلحون في أعمالهم يتعاطون الحق فيما بينهم بل لا بد في إهلاكهم من أن يضموا إلى شركهم فسادا وتباغيا وذلك لفرط رحمته ومساحته في حقوقه سبحانه، ومن ذلك قدم الفقهاء - عند تزاحم الحقوق - حقوق العباد في الجملة ما لم يمنع منه مانع.
قال ابن عطية: وهذا ضعيف، وكأنه ذهب قائله إلى ما قيل: الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم والجور، ولعل وجه ضعفه ما ذكره بعض المحققين من أن مقام النهي عن المنكرات التي أقبحها الاشراك بالله تعالى لا يلائمه فإن الشرك داخل في الفساد في الأرض دخولا أوليا ولذلك كان ينهي كل من الرسل عليهم السلام أمته عنه
163

ثم عن سائر المعاصي، فالوجه كما قال: حمل الظلم على مطلق الفساد الشامل لسائر القبائح والآثام وحمل الإصلاح على إصلاحه والإقلاع عنه بكون البعض متصديا للنهي. والبعض الآخر متوجها إلى الاتعاظ غير مصر على ما هو عليه من الشرك وغيره من أنواع الفساد انتهى، لكن أخرج الطبراني. وابن مردويه. وأبو الشيخ والديلمي عن جرير قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسئل عن تفسير هذه الآية * (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) * فقال عليه الصلاة والسلام: وأهلها ينصف بعضهم بعضا " وأخرجه ابن أبي حاتم. والخرائطي في مساوي الأخلاق عن جرير موقوفا، وهو ظاهر في المعنى الذي نقله الطبري، ولعله لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا فالأمر مشكل، وجعل التصدي للنهي من بعض والاتعاظ من بعض آخر من إنصاف البعض كما ترى فافهم.
* (ولو شآء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين) *
ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة) * مجتمعين على الدين الحق بحيث لا يقع من أحد منهم كفر لكنه لم يشأ سبحانه ذلك فلم يكونوا مجتمعين على الدين الحق، ونظير ذلك قوله سبحانه: * (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها) * وروي هذا عن ابن عباس. وقتادة، وروي عن الضحاك أن المراد لو شاء لجمعهم على هدى أو ضلالة * (ولا يزالون مختلفين) * بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل.
أخرج ذلك ابن أبي جاتم عن ابن عباس، ولعل المراد الاختلاف في الحق والباطل من العقائد التي هي أصول الدين بقرينة المقام، وقيل: المراد ما يشمل الاختلاف في العقائد والفروع وغيرهما من أمور الدين لعدم ما يدل على الخصوص في النظم فالاستثناء [بم في قوله سبحانه:
* (إلا من رحم ربك ولذالك خلقهم وتمت كلمة ربك لاملان جهنم من الجنة والناس أجمعين) *
* (إلا من رحم ربك) * متصل على الأول وهو الذي اختاره أبو حيان. وجماعة، وعلى الثاني منقطع حيث لم يخرج من رحمه الله تعالى من المختلفين كأئمة أهل الحق فانهم أيضا مختلفون فيما سوى أصول الدين من الفروع، وإلى هذا ذهب الحوفي ومن تبعه.
* (ولذلك خلقهم) * أي الناس، والإشارة - كما روي عن الحسن. وعطاء - إلى المصدر المفهوم من * (مختلفين) * ونظيره. إذا نهى السفيه جري إليه كأنه قيل: ولاختلاف خلق الناس على معنى لثمرة الاختلاف من كون * (فريق في الجنة وفريق في السعير) * (الشورى: 7) خلقهم، واللام لام العاقبة والصيرورة لأن حكمة خلقهم ليس هذا لقوله سبحانه: * (وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56) ولأنه لو خلقهم له لم يعذبهم على ارتكاب الباطل كذا قال غير واحد،
وروي عن الإمام مالك ما يقتضيه، وعندي أنه لا ضير في الحمل على الظاهر ولا منافاة بين هذه الآية والآية التي ذكروها لما ستعلمه إن شاء الله تعالى من تفسيرها في الذاريات، وما يروى فيها من الآثار وأن الخلق من توابع الإرادة التابعة للعلم التابع للمعلوم في نفسه والتعذيب أو الإثابة ليس إلا لأمر أفيض على المعذب والمثاب بحسب الاستعداد الأصلي، وربما يرجع هذا بالآخرة إلى أن التعذيب والإثابة من توابع ذلك الاستعداد الذي عليه المعذب أو المثاب في نفسه، ومن هنا قالوا: إن المعصية والطاعة أمارتان على الشقاوة والسعادة لا مقتضيتان لهما، وبذلك يندفع قولهم: ولأنه لو خلقهم له لم يعذبهم، ولما قررناه شواهد كثيرة من الكاتب والسنة ة تخفى على المستعدين لإدراك الحقائق، وقيل: ضمير * (خلقهم) * لمن باعتبار معناه، والإشارة للرحمة المفهومة من * (رحم) *، والتذكير لتأويلها بأن والفعل أو لكونها بمعنى الخير، وروي ذلك عن مجاهد. وقتادة، وروي عن ابن عباس أن الضمير للناس والإشارة للرحمة والاختلاف أي لاختلاف الجميع ورحمة بعضهم * (خلقهم) *، وجاءت الإشارة لاثنين كما في قوله تعالى: * (عوان بين ذلك) * (البقرة: 68) واللام على هذا قيل: بمعنى
164

مجازي عام للمعنى الظاهر والصيرورة وعلى ما قبله على معناها، وأظهر الأقوال في الإشارة والضمير ما قدمناه، والقولان الآخران دونه، وأما القول بأن الاشارة لما بعد، وفي الكلام تقديم وتأخير أي - وتمت كلمة ربك لأملان جهنم الخ ولذلك أي لملء جهنم خلقهم - فبعيد جدا من تراكيب كلام العرب ومن هذا الطرز ما قيل: إن ذلك إشارة إلى شهود ذلك اليوم المشهود وكذا ما قيل: إنه إشارة إلى قوله تعالى: * (فمنهم شقي وسعيد) * (هود: 105) أو إلى الشقاوة والسعادة المفهومتين من ذلك. أو إلى أن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير. أو إلى النهي المفهوم من قوله سبحانه: * (ينهون عن الفساد في الأرض) * (هود: 116). أو إلى الجنة والنار. أو إلى العبادة إلى غير ذلك من الأقوال التي يتعجب منها.
وذهب بعض المحققين في معنى الآية إلى أن المراد من الوحدة الوحدة في الدين الحق، ومن الاختلاف الاختلاف فيه على معنى المخالفة له كما في قوله تعالى: * (وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم) * والمراد - بمن رحم - الذين هداهم الله تعالى ولم يخالفوا الحق، والاشارة للاختلاف بمعنى المخالفة، وضمير * (خلقهم) * للذين بقوا بعد الثنيا وهم المختلفون المخالفون، واللام للعاقبة كؤنه قيل: ولو شاء ربك لجعل الناس على الحق ودين الإسلام لكنه لم يشأ فلم يجعل، ولا يزالون مخالفين للحق إلا قوما هداهم سبحانه بفضله فلم يخالفوا الحق، ولما ذكر من الاختلاف خلق المختلفين املخالفين ولا يخفى ما فيه من ارتكاب خلاف الظاهر وان أخرج ابن جرير. وأبو الشيخ عن مجاهد ما يقتصي بعضه.
ومن الغريب ما روي عن الحسن أن المراد من الاختلاف الاختلاف في الأرزاق والأحوال وتسخير بعضهم بعضا، وقال ابن بحر: المراد أن بعضهم يخلف بعضا فيكون الآتي خلفا للماضي، ومنه ما اختلف الجديدان أي ما خلف أحدهما صاحبه، وإلى هذا ذهب أبو مسلم إلا أنه قال: يخلف بعضهم بعضا في الكفر تقليدا، وفي ذلك ما فيه، وأيا ما كان فالظاهر من الناس العموم وليتأمل هذه الآية مع قوله تعالى: * (وما كان الناس إلا أمة واحدة) * وليراجع تفسير ذلك.
وقال الفاضل الجلبي: ليس في هذه الآية ما يدل على عموم الناس حتى تخالف * (وما كان الناس) * الخ، وفيه نظر، والجار والمجرور أعني لذلك متعلق - بخلق - بعده، والظاهر أن الحصر المستفاد من التقديم إذا قلنا: إن التقديم له إضافي والمضاف هو إليه مختلف حسب اختلاف الأقوال في تعيين المشار إليه، وهو على الأول الاتفاق. وعلى ما عداه يظهر أيضا بأدنى التفات، هذا واستدل بالآية على أن الأمر غير الإرادة وأنه تعالى لم يرد الإيمان من كل وإن ما أراده سبحانه يجب وقوعه.
وذكر بعض العارفين أن منشأ تشييب سورة هود له صلى الله عليه وسلم اشتمالها على أمره عليه الصلاة والسلام بالاستقامة على الدعوة مع إخباره أنه سبحانه إنما خلق الناس للاختلاف وأنه لا يشاء اجتماعهم على الدين الحق وهو كما ترى * (وتمت كلمة ربك) * أي نفذ قضاؤه وحق أمره، وقد تفسر الكلمة بالوعيد مجازا وقد يراد منها الكلام الملقى على الملائكة عليهم السلام؛ والأول أولى، والجملة متضمنة معنى القسم، ولذا جيء باللام في قوله سبحانه: * (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) * والجنة والجن بمعنى واحد؛ وفي تفسير ابن عطية أن الهاء في الجنة للمبالغة وإن كان الجن يقع على الواحد، فالجنة جمعه انتهى، فيكون من الجموع التي
165

يفرق بينها بين مفردها بالهاء ككمء وكمأة على ما ذكرناه في تعليقاتنا على الألفية، وفي الآية سؤال مشهور وهو أنها تقتي بظاهرها دخول جميع الفريقين في جهنم والمعلوم من الآيات والأخبار خلافه، وأجاب عن ذلك القاضي بما حاصله أن المراد - بالجنة والناس - إما عصاتهما على أن التعريف للعهد والقرينة عقلية لما علم من الشرع أن العذاب مخصوص بهم وأن الوعيد ليس إلا لهم، وفي معنى ذلك ما قيل: المراد - بالجنة والناس - أتباع إبليس لقوله سبحانه في الأعراف. (ص: 85) * (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) * فاللازم دخول جميع تابعيه في جهنم ولا محذور فيه، والقرآن يفسر بعضه بعضا، ولا حاجة إلى تقدير عصاة مضافا إلى الفريقين كما قيل - فأجمعين - لاستغراق الأفراد المرادة حسبما علمت، وأما ما يتبادر منهما ويراد من التأكيد بيان أن ملء جهنم من الصنفين لا من أحدهما فقط وهذا لا يقتضي شمول أفراد كلا الفريقين ويكون الداخلوها منهما مسكوتا عنه موكولا إلى شيء آخر، واعترض الأخير بأنه مبني على وقوع * (أجمعين) * تأكيدا للمثنى وهو خلاف ما صرحوا به، وفيه أن ذلك إذا كان لمثنى حقيقي لا إذا كان كل فرد منه جمعا فانه حينئذ تأكيد للجمع في الحقيقة فلا ورود لما ذكر.
نعم يرد على الشق الأول أن التأكيد يقتضي دخول جميع العصاة في النار والمعلوم من النصوص خلافه اللهم إلا أن يقال: المراد العصاة الذين قدر الله تعالى أن يدخلوها، وأجاب بعضهم بأن ذلك لا يقتضي دخول الكل بل قدر ما يملأ جهنم كما إذا قيل: ملأت الكيس من الدراهم ولا يقتضي دخول جميع الدراهم في الكيس، ورده الجلال الدواني بأنه نظير أن يقال: ملأت الكيس من جميع الدراهم وهو بظاهره يقتضي دخول جميع الدراهم فيه، والسؤال عليه كما في الآية باق بحاله، ثم قال: والحق في الجواب أن يقال: المراد بلفظ * (أجمعين) * تعميم الأصناف، وذلك لا يقتضي دخول جميع الأفراد كما إذا قلت: ملأت الجراب من جميع أصناف الطعام لا يقتضي ذلك إلا أن يكون فيه شيء من كل صنف من الأصناف لا أن يكون فيه جميع أفراد الطعام، وكقولك: امتلأ المجلس من جميع أصناف الناس فإنه لا يقتضي أن يكون في
المجلس جميع أفراد الناس بل أن يكون فيه من كل صنف فرد وهو ظاهر، وعلى هذا يظهر فائدة لفظ * (أجمعين) * إذ فيه رد على اليهود. وغيرهم ممن زعم أنهم لا يدخلون النار انتهى، وتعقبه ابن الصدر بقوله: فيه بحث لأنهم صرحوا بأن فائدة التأكيد - بكل. وأجمعين - دفع توهم عدم الشمول والإحاطة بجميع الافراد، وما ذكره من المثالين فإنما نشأ شمول الأصناف فيه من إضافة لفظ الجميع إلى الأصناف كيف ولو قيل: ملأت الجراب من جميع الطعام باسقاط لفظ الأصناف كان الكلام فه كالكلام فيما نحن فيه، وأيضا ما ذكره من أن في ذلك ردا على اليهود الخ غير صحيح لأن اليهود قالوا * (لن تمسنا الناء إلا أياما معدودة) * فكيف يزعمون أنهم لا يدخلونها أصلا فتدبر ذاك والله سبحانه يتولى هداك.
وأجاب بعضهم بمنزع صوفي وهو أن المراد من * (الجنة والناس) * الذين بقوا في مرتبة الجنية والانسية حيث انغمسوا في ظلمات الطبيعة وانتكبوا في مقر الإجرام العنصرية ولم يرفعوا إلى العالم الأعلى واطمأنوا بالحياة الدنيا ورضوا بها وانسلخوا عن عالم المجردات وهم المشركون الذين قيل في حقهم: * (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام) * الخ فانهم لا يستأهلون دار الله تعالى وقربه، ثم قال: ولهذا ترى الله تعالى شأنه يذم الإنسان ويدعو عليه في غير ما موضع.
* (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجآءك فى ه‍اذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين) *
* (وكلا) * أي وكل نبأ فالتنوين للتعويض عن المضاف إليه المحذوف، ونصب - كل - على أنه مفعول به لقوله سبحانه: * (نقص عليك) * أي نخبرك به، وقوله تعالى:
166

* (من أنبآء الرسل) * صفة لذلك المحذوف لا - لكلا - لأنها لا توصف في الفصيح كما في إيضاح المفصل، و * (من) * تبعيضية، وقيل: بيانية، وقوله عز وجل: * (ما نثبت به فؤادك) * قيل: عطف بيان - لكلا - بناءا على عدم اشتراط توافق البيان والمبين تعريفا وتنكيرا، والمعنى هو ما نثبت الخ.
وجوز إن يكون بدلا منه بدل كل أو بعض، وفائدة ذلك التنبيه على أن المقصود من الاقتصاص زيادة يقينه صلى الله عليه وسلم وطمأنينة قلبه وثبات نفسه على أداء الرسالة واحتمال أذى الكفار، وجوز أيضا أن يكون مفعول * (نقص) * * (وكلا) * حينئذ منصوب إما على المصدرية أي كل نوع من أنواع الاقتصاص * (نقص) * * (عليك) * الذي دنثبت به فؤادك) * من أنباء الرسل، وإما على الحالية من * (ما) * أو من الضمير الجرور في * (به) * على مذهب من يرى جواز تقديم حال المجرور بالحرف عليه، وهو حينئذ نكرة بمعنى جميعا أي نقص عليك من أنباء الرسل الأشياء التي نثبت بها فؤادك جميعا.
واستظهر أبو حيان كون * (كلا) * مفعولا له لنقص، و * (من أنباء) * في موضع الصفة له وهو مضاف في التقدير إلى نكرة، و * (ما) * صلة كما هي في قوله تعالى: * (قليلا ما تذكرون) * ولا يخفى ما فيه.
* (وجاءك في ه‍اذه الحق) * أي الأمر الثابت المطلق للواقع، والإشارة بهذه إلى السورة كما جاء ذلك من عدة طرق عن ابن عباس. وأبي موسى الأشعري. وقتادة. وابن جبير.
وقيل: الإشارة إليها مع نظائرها وليس بذاك ككونها إشارة إلى دار الدنيا، وإن جاء في رواية عن الحسن، وقيل: إلى الأنباء المقتصة، وهو مما لا بأس به * (وموعظة وذكرى للمؤمنين) * عطف على * (الحق) * أي جاءك الجامع المتصف بكونه حقا في نفسه وكونه موعظة وذكرى للمؤمنين، ولعل تحلية الوصف الأول باللام دون الأخيرين لما قيل: من أن الأول حال للشيء في نفسه والأخيران وصفان له بالقياس إلى غيره.
وقال الشهاب: الظاهر أن يقال إنما عرف الأول لأن المراد منه ما يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم من إرشاده إلى الدعوة وتسليته بما هو معروف معهود عنده، وأما الموعظة والتذكير فأمر عام لم ينظر فيه لخصوصية، ففرق بين الوصفين للفرق بين الموصوفين، وفي التخصيص بهذه السورة ما يشهد له لأن مبناها على إرشاده صلى الله عليه وسلم على ما سمعت عن صاحب الكشف، وتقديم الظرف على الفاعل ليتمكن المؤخر عنه وروده أفضل تمكن ولأن في المؤخر نوع طول يخل تقديمه بتجاوب النظم الكريم.
* (وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون) *
* (وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم) * أي جهتكم وحالكم التي أنتم عليها * (إنا ع‍املون) * على جهتنا وحالنا التي تحت عليها.
* (وانتظروا إنا منتظرون) *
* (وانتظروا) * بنا الدوائر * (إنا منتظرون) * أي ينزل بكم نحو ما نزل بأمثالكم من الكفرة، وصيغة الأمر في الموضعين للتهديد والوعيد، والآيتان محكمتان.
وقيل: المراد الموادعة فهما منسوختان:
* (ولله غيب السم‍اوات والارض وإليه يرجع الامر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغ‍افل عما تعملون) *
* (ولله غيب السم‍اوات والأرض) * أي أنه سبحانه يعلم كل ما غاب في السموات والأرض ولا يعلم ذلك أحد سواه جل وعلا * (واليه) * لا إلى غيره عز شأنه * (يرجع الأمر) * أي الشأن * (كله) * فيرجع لا محالة أمرك وأمرهم إليه، وقرأ أكثر السبعة * (يرجع) * بالبناء للفاعل من رجع رجوعا * (فاعبده وتوكل عليه) * فانه سبحانه كافيك، والفاء لترتيب الأمر بالعبادة والتوكل على كون مرجع
167

الأمور كلها إليه، وقيل: على ذلك، وكونه تعالى عالما بكل غيب أيضا، وفي تأخير الأمر بالتوكل عن الأمر بالعبادة تنبيه على أن التوكل لا ينفع دونها وذلك لان تقدمه في الذكر يشعر بتقدمه في الرتبة أو الوقوع.
وقيل: التقديم والتأخير لأن المراد من العبادة امتثال سائر الأوامر من الإرشاد والتبليغ وغير ذلك؛ ومن التوكل التولك فيه كأنه قيل: امتثل ما أمرت به وداوم على الدعوة والتبليغ وتوكل عليه في ذلك ولا تبال بالذين لا يؤمنون ولا سضق صدرك منهم * (وما ربك بغ‍افل عما تعملون) * بتاء الخطاب على تغليب المخاطب، وبذلك قرأ نافع. وأبو عامر. وحفص. وقتادة والأعرج. وشيبة. وأبو جعفر. والجحدري أي وما ربك بغافل عما تعمل أنت وما يعملون هم فيجازي كلا منك ومنهم بموجب الاستحقاق، وقرأ الباقون من السبعة بالياء على الغيبة وذلك ظاهر، هذا وفي زوائد الزهد لعبد الله بن أحمد بن حنبل. وفضائل القرآن لابن الضريس عن كعب أن فاتحة التوراة فاتحة الأنعام وخاتمتها خاتمة هود * (ولله غيب السموات والأرض) * إلى آخر السورة، والله تعالى أعلم.
ومن باب الإشارة في الآيات: * (يوم يأت لا تكلم نفس إلا باذنه فمنهم شقى) * (هود: 105) كامل الشقاوة ومنهم سعيد كامل السعادة * (فأما الذين شقوا ففي النار) * (هود: 106) أي نار الحرمان عن المراد وآلام ما اكتسبوه من الآثام وهو عذاب النفس * (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شلء ربك) * فيخرجون من ذلك إلى ما هو أشد منه من نيران القلب وذلك بالسخط والاذلال ونيران الروح وذلك بالحجب واللعن والقهر * (إن ربك فعال لما يريد) * (هود: 107) لا حجر عليه سبحانه * (وأما الذين سعدوا ففي الجنة) * أي جنة حصول المرادات واللذات وهي جنة النفس * (خالدين فيها مادامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) * (هود: 108) فيخرجون من ذلك إلى ما هو أعلى وأعلى من جنات القلب في مقام تجليات الصفات وجنات الروح في مقام الشهود وهناك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وقد يحمل التنوين على النوعية ويؤول الاستثناء بخروج الشقي من النار بالترقي من مقامه إلى الجنة بزكاء نفسه عما حال بينه وبينها * (فاستقم كما أمرت) * أي في القيام بحقوق الحق والخلق وذلك بالمحافظة على حقوقه تعالى والتعظيم لأمره والتسديد لخلقه مع شهود الكثرة في الوحدة والوحدة في الكثرة من غير إخلال ما بشرط من شرائط التعظيم * (ومن تاب) * عن انيته وذنب وجوده دمعك) * (هود: 112) من المؤمنين الموحدين إلى مقام البقاء بعد الفناء، وقيل: إن الاستقامة المأمور بها صلى الله عليه وسلم فوق الاستقامة المأمور بها من معه عليه الصلاة والسلام والعطف لا يقتضي أكثر من المشاركة في مطلق الفعل كما يرشد إليه قوله تعالى: * (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم) * (آل عمران: 18) على قول، ومن هنا قال الجنيد قدس سره: الاستقامة مع الخوف والرجاء حال العابدين. والاستقامة مع الهيبة والرجاء حال المقربين. والاستقامة مع الغيبة عن رؤية الاستقامة حال العارفين * (ولا تطغوا) * ولا تخرجوا عما حد لكم من الشريعة فإن الخروج عنها زندقة * (ولا تركنوا) * أي لا تميلوا أدنى ميل * (إلى الذين ظلموا) * وهي النفوس المظلمة المائلة إلى الشرور في أصل الخلقة كما قيل: الظلم من شيم النفوس فان تجد * ذا عفة فلعلة لم يظلم
وروي ذلك عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر رضي الله تعالى عنهم، وقيل: المعنى لا تقتدوا بالمرائين والجاهلين وقرناء السوء، وقيل: لا تصحبوا الأشرار ولا تجالسوا أهل البدع * (وأقم الصلاة طرفي النهاء وزلفا من الليل) * أمر بإقامة الصلاة المفروضة على ما علمت، وقد ذكروا أن الصلاة معراج المؤمن، وفي الأخبار
168

ما يدل على علو شأنها والأمر غنى عن البيان * (إن الحسنات يذهبن السيئات) * قال الواسطي: أنوار الطاعات تذهب بظلم المعاصي.
وقال يحيى بن معاذ: إن الله سبحانه لم يرض للمؤمن بالذنب حتى ستر ولم يرض بالستر حتى غفر ولم يرض بالغفران حتى بدل فقال سبحانه: * (إن الحسنات يذهبن السيآت) * (هود: 114) وقال تعالى: * (فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات) * (الفرقان: 70) ذلك الذي ذكر من إقامة الصلاة في الأوقات المشار إليها وإذهاب الحسنات السيآت ذكرى للذاكرين تذكير لمن يذكر حاله عند الحضور مع الله تعالى في الصفاء والجمعية والأنس والذوق * (واصبر) * بالله سبحانه في الاستقامة ومع الله تعالى بالحضور في الصلاة وعدم الركون إلى الغير * (إن الله لا يضيع أجر المسحنين) * (هود: 115) الذين يشاهدونه في حال القيام بالحقوق * (فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض) * (هود: 116) فيه حض على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر * (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) * (هود: 117) قيل: القرى فيه إشارة إلى القلوب * (وأهلها) * إشارة إلى القوى * (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة) * متساوية في الاستعداد متفقة على دين التوحيد * (ويزالون مختلفين) * (هود: 118) في الوجهة والاستعداد * (إلا من رحم ربك) * بهدايته إلى التوحيد وتوفيقه للكمال فانهم متفقون في المذهب والمقصد متوافقون في السيرة والطريقة قبلتهم الحق ودينهم التوحيد والمحبة وإن اختلفت عباراتهم كما قيل: عباراتنا شتى وحسنك واحد * وكل إلى ذاك الجمال يشير
* (ولذلك) * الاختلاف * (خلقهم) * وذلك ليكونوا مظاهر جماله وجلاله ولطفه وقهره، وقيل: ليتم نظام العالم ويحصل قوام الحياة الدنيا * (وتمت كملة ربك أي أحكمت وأبرمت * (لأملان جهنم من الجنة والناس أجمعين) * (هود: 119) لأن جهنم رتبة من مراتب الوجود لا يجوز في الحكمة تعطيلها وإبقاؤها في كتم العدم مع إمكانها * (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك) * لما اشتملت عليه من مقاساتهم الشدائد من أممهم مع ثباتهم وصبرهم وإهلاك أعدائهم * (وجاءك في هذه) * السورة * (الحق) * الذي ينبغي المحيد عنه * (وموعظة وذكرى للمؤمنين) * (هود: 120) وتخصيص هذه السورة بالذكر لما أشرنا إليه، وقيل: للتشريف، وإلا فالقرآن كله كذلك، والكل يغرف من بحره على ما يوافق مشربه، ومن هنا قيل: العموم متعلقون بظاهره. والخصوص هائمون بباطنه. وخصوص الخصوص مستغرقون في تجلى الحق سبحانه فيه * (ولله غيب السموات) * على اختلاف معانيها * (والأرض) * كذلك * (وإليه يرجع الأمر كله) * أي كل شأن من الشؤون فإن الكل منه * (فاعبده) * اسقط عنك خظوظ نفسك وقف مع الأمر بشرط الأدب * (وتوكل عليه) * الا تعمتم بما قد كفيته واهتم بما ندبت إليه * (وما ربك بغافل عما تعملون) * (هود: 123) فيجازي كلا حسبما تقتضيه الحكمة والله تعالى ولي التوفيق وبيده أزمة التحقيق لا رب غيره ولا يرجى إلا خيره.
انتهى ما وفقنا له من تفسير هود بمن من بيده الكرم والجود، ونسأله سبحانه أن ييسر لنا إتمام ما قصدناه، ويوفقنا لفهم معاني كلامه على ما يحبه ويرضاه، والحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على من لا نبي من بعده، وعلى آله وصحبه وجنده وحزبه، ما غردت الاقلام في رياض التحرير، ووردت الأفهام من حياض التفسير.
169

سورة يوسف عليه السلام
مكية كلها على المعتمد، وروي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا: إلا ثلاث آيات من أولها، واستثنى بعضهم رابعة، وهي قوله سبحانه: * (لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين) * (يوسف: 7) وكل ذلك واه جدا لا يلتفت إليه، وما اعتمدناه كغيرنا هو الثابت عن الحبر، وقد أخرجه النحاس. وأبو الشيخ. وابن مردويه عنه، وأخرجه الأخير عن ابن الزبير وهو الذي يقتضيه ما أخرجه الحاكم وصححه عن رفاعة بن رافع من حديث طويل يحكى فيه قدوم رافع مكة وإسلامه وتعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه هذه السورة و * (اقرأ باسم ربك) * (العلق: 1) وآياتها مائة وإحدى عشرة آية بالإجماع على ما نقل عن الداني وغيره، وسبب نزولها على ما روي عن سعد بن أبي وقاص أنه أنزل القرآن على رسول الله عليه الصلاة والسلام فتلاه على أصحابه زمانا فقالوا: يا رسول الله لو قصصت علينا فنزلت، وقيل: هو تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما يفعله به قومه بما فعلت إخوة يوسف عليه السلام به، وقيل: إن اليهود سألوه صلى الله عليه وسلم أن يحدثهم بأمر يعقوب وولده وشأن يوسف وما انتهى إليه فنزلت، وقيل: إن كفار مكة أمرتهم اليهود أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السبب الذي أحل بني إسرائيل بمصر فسألوه فنزلت؛ ويبعد القولين الأخيرين فيما زعموا ما أخرجه البيهقي في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن حبرا من اليهود دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافقه وهو يقرأ سورة يوسف فقال: يا محمد من علمكها؟ قال: الله علمنيها فعجب الحبر لما سمع منه فرجع إلى اليهود فقال لهم: والله إن محمدا ليقرأ القرآن كما أنزل في التوراة فانطلق بنفر منهم حتى دخلوا عليه فعرفوه بالصفة ونظروا إلى خاتم النبوة بين كتفيه فجعلوا يستمعون إلى قراءة سورة يوسف فتعجبوا وأسلموا عند ذلك، وفي القلب من صحة الخبر ما فيه، ووجه مناسبتها للتي قبلها اشتمالها على شرح ما قاساه بعض الأنبياء عليهم السلام من الأقارب، وفي الأولى ذكر ما لقوا من الأجانب، وأيضا قد وقد فيما قبل * (فبشرناها باسحق ومن وراء إسحق يعقوب) * (هود: 71) وقوله سبحانه: * (رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت) * (هود: 73) ووقع هنا حال يعقوب مع أولاده وما صارت إليه عاقبة أمرهم مما هو أقوى شاهد على الرحمة، وقد جاء عن ابن عباس. وجابر بن زيد أن يونس نزلت. ثم هود. ثم يوسف، وعد هذا وجها آخر من وجوه المناسبة.
* (بسم الله الرحمن ا الرحيم الر) * الكلام فيه وفي نظائره شهير وقد تقدم لك منه ما فيه إقناع، والإشارة في قوله سبحانه: * (تلك ءايات االكتاب) * إليه في قول، وإلى * (آيات) * هذه السورة في آخر، وأشير إليها مع أنها لم تذكر بعد لتنزيلها لكونها مترقبة منزلة المتقدم أو لجعل حضورها في الذهن بمنزلة الوجود الخارجي والإشارة بما يشار به للبعيد. أما على الثاني فلأن ما أشير إليه لما لم يكن محسوسا نزل منزلة البعيد لبعده عن حيز الإشارة أو العظمة وبعد مرتبته وعلى غيره لذلك، أو لأنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه صار كالمتباعد.
وزعم بعضهم أن الإشارة إلى ما في اللوح وهو بعيد، وأبعد من ذلك كون الإشارة إلى التوراة والإنجيل أو الآيات التي ذكرت في سورة هود؛ والمراد بالكتاب إما هذه السورة أو القرآن، وقد تقدم لك في يونس ما يؤنسك تذكره هنا فتذكر * (المبين) * من أبان بمعنى بأن أي ظهر فهو لازم أي الظاهر أمره في كونه من
170

عند الله تعالى وفي إعجازه أو الواضح معانيه للعرب بحيث لا تشتبه عليهم حقائقه ولا تلتبس عليهم دقائقه وكأنه على المعنيين حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فارتفع واستتر ولا يعد هذا من حذف الفاعل المحظور فلا حاجة إلى القول بأن الإسناد مجازي فرارا منه. أو بمعنى بين بمعنى أظهر فهو متعد والمفعول مقدر أي المظهر ما فيه هدى ورشد. أو ما سألت عنه اليهود أو ما أمرت أن تسئل عنه من السبب الذي أحل بني إسرائيل بمصر. أو الأحكام والشرائع وخفايا الملك والملكوت وأسرار النشأتين وغير ذلك من الحكم والمعارف والقصص.
وعن ابن عباس. ومجاهد الاقتصار على الحلال والحرام وام يحتاج إليه في أمر الدنيا، وأخرج ابن جرير عن خالد بن معاذ عن معاذ رضي الله تعالى عنه أنه قال في ذلك: بين الله تعالى فيه الحروف التي سقطت عن ألسن الأعاجم، وهي ستة أحرف: الطاء. والظاء. والصاد. والضاد. والعين. والحاء المهملتان، والمذكور في - الفرهنك. وغيره - من الكتب المؤلفة في اللغة الفارسية أن الأحرف الساقطة ثمانة، ونظم ذلك بعضهم فقال: هشت حرفست أنكه أندر فارسي نايدهميتاينا موزى بناشى أندرين معنى معافبشنوا كنون تاكدام أست أن حروف ويا دكيرثا. وحا. وصاد. ضاد. وطا. وظا. وعين. وقاف
ومع هذا فالأمر مبني على الشائع الغالب وإلا فبعض هذه الأحرف موجود في بعض كلماتهم كما لا يخفى على المتتبع، ولعل الوصف على الأقوال الأول أمدح منه على القول الأخير، والظاهر أن ذلك وصف له باعتبار الشرف الذاتي [بم وقوله سبحانه:
* (إنآ أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) *
* (إنا أنزلناه قرءانا عربيا) * وصف له باعتبار الشرف الإضافي وضمير الغائب للكتاب السابق ذكره فإن كان المراد به القرآن كله كما هو الظاهر المانسب للحال فذاك وإن كان المراد به هذه السورة فتسميته قرآنا لأنه اسم جنس يقع على الكثير والقليل فكما يطلق على الكل يطلق على البعض، نعم إنه غلب على الكل عند الاطلاق معرفا لتبادره، وهل وصل بالغلبة إلى حد العلمية أولا؟ فيه خلاف، وإلى الأول ذهب البيضاوي قدس سره فتلزمه الألف واللام ومع ذلك لم يهجر المعنى الأول، ووقع في كتب الأصول أنه وضع تارة للكل خاصة. وأخرى لما يعمه، والبعض أعني الكلام المنقول في المصحف تواترا، ونظر فيه بأن الغلبة ليس لها وضع ثان وإنما هي تخصيص لبعض أفراد الموضوع له، ولذا لزمن العلم بها اللام أو الإضافة إلا أن يدعى أن فيها وضعا تقديريا كذا قيل؛ وممن صرح - بأن التعيين بالغلبة قسيم للتعيين
بالوضع - العلامة الزرقاني. وغيره لكن تعقبه الحمصي فقال: إن دلالة الاعلام بالغلبة على تعيين مسماها بالوضع وإن كان غير الوضع الأول فليتأمل.
وعن الزجاج. وابن الأنباري أن الضمير لنبأ يوسف وإن لم يذكر في النظم الكريم، وقيل: هو للإنزال المفهوم من الفعل، ونصبه على أنه مفعول مطلق، و * (قرآنا) * هو المفعول به، والقولان ضعيفان كام لا يخفى، ونصب * (قرآنا) * على أنه حال وهو بقطع النظر عما بعده وعن تأويله بالمستق حال موطئة للحال التي هي * (عربيا) * وإن أول بالمشتق أي مقروءا فحال فير موطئة؛ و * (عربيا) * إما صفته على رأي من يجوز وصف الصفة، وإما حال من الضمير المستتر فيه على رأي من يقول بتحمل المصدر الضمير إذا كان مؤولا باسم المفعول مثلا، وقيل: * (قرآنا) * بدل من الضمير، و * (عربيا) * صفته، وظاهر صنيع أبي حيان يقتضي اختياره، ومعنى كونه
171

* (عربيا) * أنه منسوب إلى العرب باعتبار أنه نزل بلغتهم وهي لغة قديمة.
أخرج ابن عساكر في التاريخ عن ابن عباس أن آدم عليه السلام كان لغته في الجنة العربية فلما أكل من الشجرة سلبها فتكلم بالسريانية فلما تاب ردها الله تعالى عليه، وقال عبد الملك بن حبيبن: كان اللسان الأول الذي هبط به آدم عليه السلام من الجنة عربيا إلى أن بعد وطال العهد حرف وصار سريانيا وهو منسوب إلى أرض سورية وهي أرض الجزيرة. وبها كان نوح عليه السلام وقومه قبل الغرق، وكان يشاكل اللسان العربي إلا أنه محرف وكان أيضا لسان جميع من في السفينة إلا رجلا واحدا يقال له: جرهم فإنه كان لسانه العربي الأول فلما خرجوا من السفينة تزوج إرم بن سام بعض بناته وصار اللسان العربي في ولده عوص أبي عاد. وعبيل. وجاثر أبي ثمود. وجديس، وسميت عاد باسم جرهم لأنه كان جدهم من الأم وبقي اللسان السرياني في ولد أرفخشد بن سام إلى أن وصل إلى قحطان من ذريته وكان باليمن فنزل هناك بنوا إسماعيل عليه السلام فتعلم منهم بنو قحطان اللسان العربي، وقال ابن دحية: العرب أقسام: الأول عاربة وعرباء - وهم الخلص - وهم تسع قبائل من ولد إرم بن سام بن نوح، وهي عاد، وثمود. وأميم. وعبيل. وطسم. وجديس. وعمليق. وجرهم. ووبار، ومنهم تعلم عليه السلام العربية، والثاني المتعربة قال في الصحاح: وهم الذين ليسوا بخلص وهم بنو قحطان، والثالث المستعربة وهم الذين ليسوا بخلص أيضا - وهم بنو إسماعيل - وهم ولد معد بن عدنان بن أدد اه‍.
وقال ابن دريد في الجمهرة العرب العاربة سبع قبائا: عاد. وثمود، وعمليق. وطسم. وجديس. وأميم. وجاسم، وقد انقرض أكثرهم إلا بقايا متفرقين في القبائل، وأول من انعدل لسانه عن السريانية إلى العربية يعرب بت قحطان وهو مراد الجوهري بقوله: إنه أول من تكلم بالعربية، واستدل بعضهم على أنه أول من تكلم بها بما أخرجه ابن عساكر في التاريخ بسند رواه عن أنس بن مالك موقوفا ولا أراه يصح ذكر فيه تبلبل الألسنة ببابل وأنه أول من تكلم بالعربية.
وأخرج الحاكم في المستدرك وصححه. والبيهقي في شعب الإيمان من طريق سفيان الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية * (إنا أنزلناه قرآنا عربيا) * الخ ثم قال: " ألهم إسمعيل عليه السلام هذا اللسان العربي إلهاما " وقال الشيرازي في كتاب الألقاب: أخبرنا أحمد بن إسماعيل المداني أخبرنا محمد بن أحمد بن إسحق الماشي حدثنا محمد بن جابر حدثنا أبو يوسف بن السكيت قال: حدثني الأثرم عن أبي عبيدة حدثنا مسمع بن عبد الملك عن محمد بن علي بن الحسين عن آبائه رضي الله تعالى عنهم أجمعين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل عليه السلام وهو ابن أربع عشرة سنة " وروي أيضا عن ابن عباس أن إسماعيل عليه السلام أول من تكلم بالعربية المحضة، وأريد بذلك - على ما قاله بعض الحفاظ - عربية قريش التي نزل بها القرآن وإلا فاللغة العربية مطلقا كانت قبل إسماعيل عليه السلام وكانت لغة حمير. وقحطان، وقال محمد بن سلام: أخبرني يونس عن أبي عمرو بن العلاء قال: العرب كلها ولد إسماعيل إلا حميرا وبقايا جرهم وقد جاورهم وأصهر إليهم، وذكر ابن كثير أن من العرب من ليس من ذريته كعاد. وثمود. وطسم. وجديس. وأميم. وجرهم. والعماليق. وأمم غيرهم لا يعلمهم
172

إلا الله سبحانه كانوا قبل الخليل عليه السلام وفي زمانه وكان عرب الحجاز من ذريته وأما عرب اليمن - وهم حمير - فالمشهور كما قال ابن ماكولا: إنهم من قحطان واسمه مهزم وهو ابن هود، وقيل: أخوه، وقيل: من ذريته، وقيل: قحطان هو هود، وحكى ابن إسحق. وغيره أنه من ذرية إسمعيل، والجمهور على أن العرب الحطانية من عرب اليمن وغيرهم ليسوا من ذريته عليه السلام وأن اللغة العربية مطلقا كانت قبله وهى إحدى اللغات التي علمها آدم عليه السلام وكان يتكلم بها وبغيرها أيضا وكثر تكلمه فيما قيل: بالسريانية، وادعى بعضهم أنها أول اللغات وأن كل لغة سواها حدثت بعدها إما توقيفا أو اسطلاحا، واستدلوا على أسبقيتها وجودا بأن القرآن كلام الله تعالى وهو عربي وفيه ما فيه، وهي أفضل اللغات حتى حكى سيخ الإسلام ابن تيمية عن الإمام أبي يوسف عليه الرحمة كراهة التكلم بفيرها لمن يحسنها من غير حاجة، وبعدها في الفضل على ما قيل: الفارسية الدرية حتى روي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه جواز قراءة القرآن بها سواء في ذلك ما كان ثناءا كالإخلاص وغيره. وسواء كانت عن عجز عن العربية أم لا، وروي عن صاحبيه جواز القراءة في الصلاة بغير العربية لمن لا يحسنها، وفي النهاية. والدارية أن أهل فارس كتبوا إلى سلمان الفارسي أن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية فكتب فكانوا يقرأون ما كتب في الصلاة حتى لانت ألسنتهم.
وقد عرض ذلك على النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينكر عليه، نعم الصحيح أن الإمام رجع عن ذلك، وفي النفحة القدسية في أحكام قراءة القرآن وكتابته بالفارسية للشر نبلالي ما ملخصه: حرمة كتابة القرآن بالفارسية إلا أن يكتبه بالعربية ويكتب تفسير كل حرف وترجمته وحرمة مسه لغير الطاهر اتفاقا كقراءته وعدم صحة الصلاة بافتتاحها بالفارسية وعدم صحتها بالقراءة بها إذا كانت ثناءا واقتصاره عليها مع القدرة على العربية وعدم الفساد بما هو ذكر وفسادها بما ليس ذكرا بمجرد قراءته ولا يخرج عن كونه أميا وهو يعلم الفارسية فقط وتصح الصلاة بدون قراءة للعجز عن العربية على الصحيح عند الإمام. وصاحبيه، وأطال الكلام في ذلك، وفي معراج الدراية من تعمد قراءة القرآن أو كتابته بالفارسية فهو مجنون أو زنديق والمجنون يداوى والزنديق يقتل، وروي ذلك عن أبي بكر محمد بن الفضل البخاري ومع هذا لا
ينكر فضل الفارسية، ففي الحديث " نسان أهل الجنة العربي. والفارسي الدري " وقد اشتهر ذلك لكن ذكر الذهبي في تاريخه عن سفيان أنه قال: بلغنا أن الناس يتكلمون يوم القيامة بالسريانية فإذا دخلوا الجنة تكلموا بالعربية.
وأخرج الطبراني. والحاكم. والبيهقي. وآخرون عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أحبوا العرب لثلاث لأني عربي والقرآن عربي وكلام أهل الجنة عربي ".
وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه عن أبي هريرة ما يعضده، ولا يخفى على الخبير بمزايا الكلام أن في الكلام العربي من لطائف المعاني ودقائق الأسرار ما لا يستقل بأدائه لسان ويليه في ذلك الكلام الفارسي فإن كان هذا مدار الفضل فلا ينبغي أن يتنازع اثنان في أفضلية العربي ثم الفارسي مما وصل إلينا من اللغات وإن كان شيئا آخر فالظاهر وجوده في العربي الذي اختار سبحانه إنزال القرآن به لا غير، وقد قسم لنبينا
173

صلى الله عليه وسلم من هذا اللسان ما لم يقسم لأحد من فصحاء العرب، فقد أخرج ابن عساكر في تاريخه عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: " يا رسول الله مالك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ قال: كانت لغة إسماعيل قد درست فجاء بها جبريل عليه السلام فحفظنيها فحفظتها ".
وأخرج البيهقي من طريق يونس عن محمد بن أبراهيم بن الحرث التيمي عن أبيه من حديث فيه طول قال رجل: يا رسول الله ما أفصحك ما رأينا الذي هو أعرب منك؟ قال: حق لي فانما أنزل القرآن علي بلسان عربي مبين "، هذا وجوز أن يكون العربي منسوبا إلى عربة وهيناحية دار إسماعيل عليه السلام قال الشاعر: (وعربة) أرض ما يحا حرامها * من الناس إلا اللوذعي الحلاحل
والمراد لغة أهل هذه الناحية، واستدل جماعة منهم الشافعي رضي الله تعالى عنه. وابن جرير. وأبو عبيدة. والقاضي أبو بكر بوصف القرآن بكونه عربيا على أنه لا معرب فيه، وشدد الشافعي النكير على من زعم وقوع ذلك فيه، وكذا أبو عبيدة فانه قال: من زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول.
ووجه ابن جرير ما ورد عن ابن عباس: وغيره في تفسير ألفاظ منه أنها بالفارسية. أو الحبشية. أو النبطية كذا بأن ذلك مما اتفق فيه توارد اللغات، وقال غيره: بل كان للعرب التي نزل القرآن بلغتهم بعض مخالطة لأهل سائر الألسنة في أسفار لهم فعلقت من لغاتهم ألفاظ غيرت بعضها بالنقص من حروفها واستعملتها في أشعارها ومحاورتها حتى جرت مجري العربي الفصيح ووقع بها البيان، وعلى هذا الحد نزل بها القرآن.
وقال آخرون: كل تلك الألفاظ عربية صرفة ولكن لغة العرب متسعة جدا ولا يبعد أن تخفى على الأكابر الأجلة، وقد خفي على ابن عباس معنى فاطر. وفاتح، ومن هنا قال الشافعي في الرسالة: لا يحيط باللغة إلا نبي.
وذهب جمع إلى وقوع غير العربي فيه، وأجابوا عن الآية بأن الكلمات اليسيرة بغير العربية لا تخرجه عن العربية، فالقصيدة الفارسية لا تخرج عن كونها فارسية بلفظة عربية.
وقال غير واحد: المراد أنه عربي الأسلوب، واستدلوا باتفاق النحاة على أن منع صرف نحو إبراهيم للعملمية والعجمة، ورد بأن الأعلام ليست محل خلاف وإنما الخلاف في غيرها، وأجيب بأنه إذا اتفق على وقوع الأعلام فلا مانع من وقوع الأجناس ونظر فيه، واختار الجلال السيوطي القول بالوقوع، واستدل عليه بما صح عن أبي ميسرة التابعي الجليل أنه قال: في القرآن من كل لسان، وروي مثله عن سعيد بن جبير. ووهب بن منبه.
وذكر أن حكمة وقوع تلك الألفاظ فيه أنه حوى علوم الأولين والآخرين ونبأ كل شيء فلا بد أن تقع فيه الإشارة إلى أنواع اللغات لتتم إحاطته بكل شيء فاختير له من كل لغة أعذبها وأخفها وأكثرها استعمالا للعرب وأيضا لما كان النبي صلى الله عليه وسلم ملاسلا إلى كل أمة ناسب أن يكون في كتابه المبعوث به من لسان كل قوم شيء، وقد أشار إلى الوجه الأول ابن النقيب.
وقال أبو عبد الله القاسم بن سلام بعد أن حكى القول بالوقوع عن الفقهاء: والمنع عن أهل العربية الصواب تصديق القولين جميعا وذلك أن هذه الأحرف أصولها عجمية كما قال الفقهاء لكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربية ثم نزل القرآن، وقد اختلطت هذه الأحرف بكلام العرب فمن قال: إنها عربية فهو صادق، ومن قال: إنها غجمية فهو صادق، ومال إلى هذا القول الجواليقي. وابن الجزري. وآخرون، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة إبراهيم عليه السلام ما يتعلق بهذا المبحث أيضا فليتفطن وليتأمل.
174

واحتج الجبائي بالآية على كون القرآن مخلوقا من أربعة أوجه: الأول وصفه بالإنزال، والقديم لا يجوز عليه ذلك، الثاني وصفه بكونه عربيا، والقديم لا يكون عربيا ولا فارسيا، الثالث أن قوله تعالى: * (إنا أنزلناه قرآنا عربيا) * يدل على أنه سبحانه قادر على أنزاله غير عربي وهو ظاهر الدلالة على حدوثه.
الرابع أن قوله عز سأنه: * (تلك آيات الكتاب) * يدل على تركبه من الآيات والكلمات وكل ما كان مركبا كان محدثا ضرورة أن الجزء الثاني غير موجود حال وجود الجزء الأول.
وأجاب الأشاعرة عن ذلك كله بأن قصارى ما يلزم منه أن المركب من الحروف والكلمات محدث وذلك مما لا نزاع لنا فيه، والذي ندعي قدمه شيء آخر نسميه الكلام النفسب وهو مما لا يتصف بالإنزال ولا بكونه عربيا ولا غيره ولا بكونه مركبا من الحروف ولا غيرها، وقد تقدم لك في المقدمات ما ينفعك هنا فلا تغفل.
* (لعلكم تعقلون) * أي لكي تفهموا معانيه وتحيطوا بما فيه من البدائع أو تستعملوا فيه عقولكم فتعلموا أنه خارج عن طوق البشر مشتمل على ما يشهد له أنه منزل من عند خلاق القوى والقدر، وهذا بيان لحكمة إنزاله بتلك الصفة، وصرح غير واحد أن - لعل مستعملة بمعنى لام التعليل على طريق الاستعارة التبعية، ومرادة من ذلك
ظاهر، وجعلها للرجاء من جانب المخاطبين وإن كان جائزا لا يناسب المقام.
وزعم الجبائي أن المعنى أنزله لتعقلوا معانيه في أمر الدين فتعرفوا الأدلة الدالة على توحيده وما كلفكم به، وفيه دليل على أنه تعالى أراد من الكل الإيمان والعمل الصالح من حصل منه ذلك ومن لم يحصل، وفيه أنه بمعزل عن الاستدلال به على ما ذكر كما لا يخفى.
* (نحن نقص عليك أحسن القصص بمآ أوحينآ إليك ه‍اذا القرءان وإن كنت من قبله لمن الغ‍افلين) *
* (نحن نقص عليك) * أي نخبرك ونحدثك من قص أثره إذا اتبعه كأن المحدث يتبع ما حدث به وذكره شيئا فشيئا ومثل ذلك تلى * (أحسن القصص) * أي أحسن الاقتصاص فنصبه على المصدرية إما لاضافته إلى المصدر. أو لكونه في الأصل صفة مصدر أي قصصا أحسن القصص، وفيه مع بيان الواقع إيهام لما في اقتصاص أهل الكتاب من القبح والخلل، والمفعول به محذوف أي مضمون هذا القرآن، والمراد به هذه السورة، وكذا في قوله عز وجل: * (بما أوحينا) * أي بسبب إيحائنا.
* (إليك ه‍اذا القرءان) * والتعرض لعنوان قرآنيتها لتحقيق أن الاقتصاص ليس بطريق الإلهام أو الوحي غير المتلو، ولعل كلمة * (هذا) * للإيماء إلى تعظيم المشار إليه.
وقيل: فيها إيماء إلى مغايرة هذا القرآن لما في قوله تعالى: * (قرآنا عربيا) * بأن يكون المراد بذلك المجموع وفيه تأمل، وأحسنيته لأنه قد قص على أبدع الطرائق الرائعة الرائقة، وأعجب الأساليب الفائقة اللائقة كما لا يكاد يخفى على من طالع القصة من كتب الأولين وإن كان لا يميز الغث من السمين ولا يفرق بين الشمال واليمين، وجوز أن يكون هذا المذكور مفعول * (نقص) *.
وصرح غير واحد أن الآية من باب تنازع الفعلين، والمذهب البصري أولى هنا أما لفظا فظاهر وأما معنى فلأن القرآن كما سمعت السورة وإيقاع الإيحاء عليها أظهر من أيقاع * (نقص) * باعتبار اشتمالها على القصة وما هو أظهر أولى بإعمال صريح الفعل فيه، وفيه من تفخيم القرآن وإحضار ما فيه من الإعجاز وحسن البيان ما ليس في إعمال * (نقصذ صريحا، وجوز تنزيل أحد الفعلين منزلة اللازم، ويجوز أن يكون دأحسنذ مفعولا به لنقص، والقصص: إما فعل بمعنى مفعول كالنبأ والخبر أو مصدر سمي به المفعول كالخلق والصيد أي نقص
175

عليك أحسن ما يقص من الأنباء وهو قصة آل يعقوب عليه السلام، ووجه أحسنيتها اشتمالها على حاسد ومحسود. ومالك ومملوك. وشاهد ومشهود، وعاشق ومعشوق. وحبس وإطلاق. وخصب وجدب. وذنب وعفو. وفراق ووصال. وسقم وصحة. وحل وارتحال. وذل وغز، وقد أفادت أنه لا دافع لقضاء الله تعالى ولا مانع من قدره وأنه سبحانه إذا قضى لإنسان بخير ومكرمة فلو أن أهل العالم اجتمعوا على دفع ذلك لم يقدروا وأن الحسد سبب الخذلان والنقصان. وأن الصبر مفتاح الفرج. وأن التدبير من العقل وبه يصلح أمر المعاض إلى غير ذلك مما يعجز عن بيانه بنان التحرير.
وقيل: إنما كانت * (أحسن) * لأن غالب من ذكر فيها كان مآله إلى السعادة، وقيل: المقصوص أخبار الإمام السالفة والقرون الماضية لا قصة آل يعقوب فقط، والمراد بهذا القرآن ما اشتمل على ذلك، و * (أحسن) * ليس أفعل تفضيل بل هو بمعنى حسن كأنه قيل: حسن القصص من باب إضافة الصفة إلى الموصوف أي القصص الحسن، والقول عليه عند الجمهور ما ذكرنا، قيل: ولكونها بتلك المثابة من الحسن تتوفر الدواعي إلى نقلها ولذا لم تتكرر كغيرها من القصص، وقيل: سبب ذلك من افتتان امرأة ونسوة بأبدع الناس جمالا، ويناسب ذلك عدم التكرار لما فيه من الأعضاء والستر، وقد صحح الحاكم في مستدركه حديث النهي عن تعليم النساء سورة يوسف، وقال الإستاذ أبو إسحق: إنما كرر الله تعالى قصص الأنبياء وساق هذه القصة مساقا واحدا إشارة إلى عجز العرب كأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: إن كان من تلقاء نفسي فافعلوا في قصة يوسف ما فعلت في سائر القصص وهو وجه حسن إلا أنه يبقى عليه أن تحصيص سورة يوسف لذلك يحتاج إلى بيان فإن سوق قصة آدم عليه السلام مثلا مساقا واحدا يتضمن الإشارة إلى ذلك أيضا بعين ما ذكر، وقال الجلال السيوطي: ظهر لي وجه في سوقها كذلك وهو أنها نزلت بسبب طلب الصحابة أن يقص عليهم فنزلت مبسوطة تامة ليحصل لهم مقصود القصص من الاستيعاب وترويح النفس بالإحاطة ولا يخفى ما فيه، وكأنه لذلك قال: وأقوى ما يجاب به أن قصص الأنبياء إنما كررت لأن المقصود بها إفادة إهلاك من كذبوا رسلهم والحاجة داعية إلى ذلك كتكرير تكذيب الكفار للرسول الله صلى الله عليه وسلم فكلما كذبوا أنزلت قصة منذرية بحلول العذاب كما حل بالمكذبين، ولهذا قال سبحانه في آيات: * (فقد مضت سنة الأولين) * (الأنفال: 38) * (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن) * (الأنعام: 6) وقصة يوسف لم يقصد منها ذلك، وبهذا أيضا يحصل الجواب عن عدم تكرير قصة أصحاب الكهف. وقصة ذي القرنين. وقصة موسى مع الخضر. وقصة الذبيح، ثم قال: فإن قلت: قد تكررت قصة ولادة يحيى وولادة عيسى عليهما السلام مرتين وليست من قبيل ما ذكرت * (قلت) * الأولى في سورة * (كهيعص) * (مريم: 1) وهي مكية أنزلت خطابا لأهل مكة، والثانية في سورة آل عمران وهي مدنية أنزلت خطابا لليهود ولنصارى نجران حين قدموا ولهذا اتصل بهذا ذكر المحاجة والمباهلة اه‍.
واعترض بأن قصة آدم عليه السلام كررت مع أنه ليس المقصود بها إفادة إهلاك من كذبوا رسلهم، وأجيب بأنها وإن لم يكن المقصود بها إفادة ما ذكر إلا أن فيها من الزجر عن المعصية ما فيها فهي أشبه قصة بتلك القصص التي كررت لذلك فافهم * (وإن كنت من قبله) * أي قبل إيحائنا إليك ذلك * (لمن الغ‍افلين) * عنه لم يخطر ببالك ولم يقرع سمعك، وهذا تعليل لكونه موحى كما ذكره بعض المحققين والأكثر في مثله ترك
176

الواو، والتعبير عن عدم العلم بالغفلة لا جلال شأن النبي صلى الله عليه وسلم وكذا العدول عن - لغافلا - إلى ما في النظم الجليل عند بعض، ويمكن أن يقال: إن الشيء إذا كان بديعا وفيه نوع غرابة إذا وقف عليه قيل للمخاطب: كنت عن هذا غافلا فيجوز أن يقصد الإشارة إلى غرابة تلك القصة فيكون كالتأكيد لما تقدم إلا أن فيه
ما لا يخفى وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن واللام فارقة، وجملة * (كنت) * الخ خبر - إن -.
* (إذ قال يوسف لابيه ياأبت إنى رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين) *
* (إذ قال يوسف) * نصب باضمار - اذكر - بناءا على تصرفها، وذكر الوقت كناية عن ذكر ما حدث فيه والكلام شروع في إنجاز ما وعد سبحانه، وحكى مكى أن العامل في * (إذ) * الغافلين.
وقال ابن عطية: يجوز أن يكون العامل فيها * (نقص) *، وروي ذلك عن الزجاج على معنى نقص عليك الحال * (إذ) * الخ. وهي للوقت المطلق المجرد عن اعتبار المضي، وفي كلا الوجهين ما فيه.
واستظهر أبو حيان بقاءها على معناها الأصلي وأن العامل فيها * (قال يا بني) * كما تقول: إذ قام زيد قام عمرو، ولا يخلو عن بعد، وجوز الزمخشري كونها بدلا من * (حسن القصص) * على تقدير جعله مفعولا به وهو بدل اشتمال، وأورد أنه إذا كان بدلا من المفعول يكون الوقت مقصوصا ولا معنى له، وأجيب بأن المراد لازمة وهو اقتصاص قول يوسف عليه السلام فإن اقتصاص وقت القول ملزوم لاقتصاص القول.
واعترض بأنه يكون بدل بعض أو كل لا اشتمال، وأجيب بأنه إنما يلزم ما ذكر لو كان الوقت بمعنى القول وهو إما عين المقصوص أو بعضه، أما لو بقي على معناه وجعل مقصوصا باعتبار ما فيه فلا يرد الاعتراض.
هذا ولم يجوزوا البدلية على تقدير نصب * (أحسن القصص) * على المصدرية، وعللك ذلك بعدم صحة المعنى حينئذ وبقيام المانع عربية، أما الأول فلأن المقصوص في ذلك الوقت لا الاقتصاص. وأما الثاني فلأن أحسن الاقتصاص مصدر فلو كان الظرف بدلا وهو المقصود بالنسبة لكان مصدرا أيضا وهو غير جائز لعدم صحة تأويله بالفعل، وأورد على هذا أن المصدر كما يكون ظرفا نحو أتيتك طلوع الشمس يكون الظرف أيضا مصدرا ومفعولا مطلقا لسده مسد المصدر كما فيقوله: لم تغتمض عيناك ليلة أرمد
فانهم صرحوا - كما في التسهيل وشروحه - أن ليلة مفعول مطلق أي اغتماض ليلة، وما ذكر من حديث التأويل بالفعل فهو من الأوهام الفارغة، نعم إذا ناب عن المصدر ففي كونه بد اشتمال شبهة وهو شيء آخر غير ما ذكر، وعلى الأول أنه وإن لم يشتمل الوقت على الاقتصاص فهو مشتمل على المقصوص فلم لم يتجز البدلية بهذه الملابسة؟ ورد بأن مثل هذه الملابسة لا تصحح البدلية، ونقل عن الرضى أن الاشتمال ليس كاشتمال الظرف على المظروف بل كونه دالا عليه إجمالا ومتقاضيا له بوجه ما بحيث تبقى النفس عند ذكر الأول متشوقة إلى الثاني منتظرة له فيجيء الثاني مبينا لما أجمل فيه فإن لم يكن كذلك يكن بدل غلط وعلى هذا يقال في عدم صحة البدلية: إن النفس إنما تتشوق لذكر وقت الشيء لا لذكر وقت لازمه ووقت القول ليس وقتا للاقتصاص، و * (يوسف) * علم أعجمي لا عربي مشتق من الأسف وسمي به لأسف أبيه عليه، أو أسفه على أبيه. أو أسف من يراه على مفارقته لمزيد حسنه كما قيل، وإلا لا نصرف لأنه ليس فيه غير العلمية ولا يتوهمن أن فيه وزن الفعل أيضا إذ ليس لنا فعل مضارع مضموم الأول. والثالث، وكذا يقال في يونس، وقرىء بفتح السين وكسرها على ما هو الشائع في الأسماء الأعجمية من التغيير لا على أنه مضارع بني للمفعول أو للفاعل من آسف لأن القراءة المشهورة شهدت بعجميته ولا يجوز أن يكون أعجميا وغير أعجمي قاله غير واحد لكن
177

في الصحاح أن يعفر ولد الأسود الشاعر إذا قلته بفتح الياء لم تصرفه لأنه مثل يقتل.
وقال يونس: سمعت رؤبة يقول: أسود بن يعفر بضم الياء وهذا ينصرف لأنه قد زال عنه شبه الفعل ا ه‍.
وصرحوا بأن هذا مذهب سيبويه، وأن الأحفش خالفه فمنه صرفه لعروض الضم للاتباع، وعلى هذا يحتمل أن يقال: إنه عربي ومنع من الصرف على قراءة الفتح والكسر للعلمية ووزن الفعل، وكذا على قراءة الضم بناءا على ما يقوله الأخفش ويلتزم كون ضم ثالثه اتباعا لضم أوله، وأجيب بأنه لو كان عربيا لوقع فيه الخلاف كما وقع في يعفر، والظاهر أن أعجميته متحققة عندهم ولذا التزموا منعه من الصرف لها وللعلمية ولا التفات لذلك الاحتمال.
وقرأ طلحة بن مصرف - يؤسف - بالهمز وفتح السين، وقد جاء فيه الضم والكسر مع الهمز أيضا فيكون فيه ست لغات * (لأبيه) * يعقوب بن إسحق بن إبراهيم، وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم ". نسب كأن عليه من شمس الضحى * تورا ومن ضوء الصباح عمودا
* (ي‍اأبت) * أصلح يا أبي فعوض عن الياء تاء التأنيث لتناسبهما في كون كل منهما من حروف الزيادة ويضم إلى الإسم في آخره ولهذا قلبها هاءا في الوقف ابن كثير. وابن عامر، وخالف الباقون فأبقوها تاءا في الوقف وكسرت لأنها عوض عن الياء التي هي أخت الكسرة فحركت بحركة تناسب أصلها لا لتدل على الياء ليكون ذلك كالجمع بين عوضين أو بين العوض والمعوض، وجعل الزمخشري هذه الكسرة كسرة الياء زحلقت إلى التاء لما فتح ما قبلها للروم فتح ما قبل تاء التأنيث، وقرأ ابن عامر. وأبو جعفر. والاعرج بفتحها لأن أصلها وهو الياء إذا حرك حرك بالفتح، وقيل: لأن أصل * (يا أبت) * يا أبتا بأن قلبت الياء ألفا ثم حذفت وأبقيت فتحتها دليلا عليها، وتعقب بأن يا أبتا ضعيف كيا أبتي حتى قيل: إنه يحتص بالضرورة كقوله: يا أبتا علك أو عساكا
وقال الفراء. وأبو عبيدة: وأبو حاتم: إن الألف المحذوفة من يا أبتا للندبة، ورد بأن الموضع ليس موض ندبة، وعن قطرب أن الأصل - يا أبة - بالتنوين فحذف والنداء باب حذف، ورد بأن التنوين لا يحذف من المنادي المنصوب نحو يا ضاربا رجلا، وقرىء بضم التاء إجراءا لها مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء من غير اعتبار التعويض، وأنت تعلم أن ضم المنادي المضاف شاذ وإنما لم تسكن مع الباء التي وقعت هي عوضا عنها تسكن لأنها حرف صحيح منزل منزلة الاسم فيجب تحريكها ككاف
الخطاب.
وزعم بعضهم أن الياء أبدلت تاءا لأنها تدل على المبالغة والتعظيم في نحو علامة. ونسابة، والأب. والأم مظنة التعظيم فعلى هذا لا حذف ولا تعويض، والتاء حينئد اسم، فقد صرحوا أن الاسم إذا كان على حرف واحد وأبدل لا يخرج عن الاسمية، وقال الكوفيون: إن التاء لمجرد التأنيث وياء الإضافة مقدرة، ويأباه عدم سماع يا بتي في السعة، وكذا سماع فتحها على ما قيل، وتعقب بأن تاء لات للتأنيث عند الجمهور وكذا تاء ربت. وثمت
178

وهي مفتوحة * (إني رأيت) * أي في المنام كما يقتضيه كلام ابن عباس. وغيره، وكذا قوله سبحانه: * (لا تقصص رؤياك) * (يوسف: 5) و * (هذا) * تأويل رؤياي، فإن مصدر رأى الحلمية الرؤيا ومصدر البصرية الرؤية في المشهور، ولذا خطىء المتنبي في قوله: ورؤياك أحلى في العيون من الغمض
وذهب السهيلي. وبعض اللغويين إلى أن الرؤيا سمعت من العرب بمعنى الرؤيا ليلا ومطلقا، واستدل بعضهم لكون رأى حلمية بأن ذلك لو وقع يقظة وهو أمر خارق للعادة لشاع وعد مجعزة ليعقوب عليه السلام أو إرهاصا ليوسف عليه السلام، وأجيب بأنه يجوز أن يكون في زمان يسير من الليل والناس غافلون، والحق أنها حلمية، ومثل هذا الاحتمال مما لا يلتفت إليه.
وقرأ أبو جعفر * (إني) * بفتح الياء * (أحد عشر كوكبا) * وهي جربان. والطارق. والذيال. وقابس. وعمودان. والفيلق. والمصبح. والفزع. ووثاب. وذو الكتفين. والضروج، فقد روي عن جابر أن سنانا اليهودي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرني يا محمد عن النجوم التي رآهن يوسف فسكت فنزل جبريل عليه السلام فأخبره بذلك فقال عليه الصلاة والسلام: هل أنت مؤمن إن أخبرتك؟ قال: نعم فعد صلى الله عليه وسلم ما ذكر فقال اليهودي: أي والله إنها لأسماؤها.
وأخرج السهيلي عن الحرث بن أبي أسامة نحو ذلك إلا أنه ذكر النطح بدل المصبح، وأخرج الخبر الأول جماعة من المفسرين. وأهل الأخبار وصححه الحاكم، وقال: إنه على شرط مسلم، وقال أبو زرعة. وابن الجوزي: إنه منكر موضوع.
وقرأ الحسن. وطلحة بن سليمان. وغيرهما * (أحد عشر) * بسكون العين لتاولي الحركات وليظهر جعل الاسمين إسما واحدا * (والشمس والقمر) * عطف على ما قبل.
وزعم بعضهم أن الواو للمعية وليس بذاك وتخصيصهما بالذكر وعدم الاندراج في عموم الكواكب لاختصاصهما بالشرف وتأخيرهما لأن سجودهما أبلغ وأعلى كعبا فهو من باب لا يعرفه فلان ولا أهل بلده، وتقديم الشمس على القمر لما جرت عليه عادة القرآن إذا جمع الشمس والقمر، وكان ذلك إما لكونها أعظم جرما وأسطع نورا وأكثر نفعا من القمر وإما لكونها أعلى مكانا منه وكون فلكها أبسط من فلكه على ما زعمه أهل الهيئة وكثير من غيرهم، وإما لأنها مفيضة النور عليه كما ادعاه غير واحد، واستأنس له بقوله سبحانه: * (هو الذي جعل الشمس ضياءا والقمر نورا) * (يونس: 5) وإنما أورد الكلام على هذا الأسلوب ولم يطو ذكر العدد لأن المقصود الأصلي أن يتطابق المنام ومن هو في شأنهم وبترك العدد يفوت ذلك * (رأيتهم لي س‍اجدين) * استظهر في البحر أن * (رأيتهم) * تأكيد لما تقدم تطرية للعهد كما في قوله تعالى: * (أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون) * (المؤمنون: 35) واختار الزمخشري التأسيس وأن الكلام جواب سؤال مقدر كأن يعقوب عليه السلام قال له عند قوله: * (رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر) * كيف رأيتها؟ سائلا عن حال رؤيتها فقال: * (رأيتهم لي ساجدين) * وكأنه لا يرى أن رأي الحلمية مما تتعدى إلى مفعولين كالعلمية ليلتزم كون المفعول الثاني للفعل الأول محذوفا، ويرى أنه تتعدى لواحد كالبصرية فلا حذف، و * (ساجدين) * حال عنده كما يشير إليه كلامه، والمشهور عند الجمهور أنه تتعدى إلى مفعولين ولا يحذف ثانيهما اقتصارا.
وجوز أن يكون مذهبه القول بالتعدي إلى ما ذكر إلا أنه يقول بجواز ما منعوه من الحذف، وأنت تعلم
179

أن استظهره في البحر سالم عن المخالفة والنظرية أمر معهود في الكتاب الجليل وإنما أجريت هذه المتعاطفات مجرى العقلاء في الضمير جمع الصفة لوصفها بصفة العقلاء أعني السجود سواء كان المراد منه التواضع أو السجود الحقيقي وءعطاء الشيء الملابس لآخر من بعض الوجوه حكما من أحكامه إظهارا لأثر الملابسة والمقاربة شائع في الكلام القديم والحديث، وفي الكلام على ما قيل: استعارة مكنية بتشبيه المذكورات بقوم عقلاء ساجدين والضمير والسجود قرينة أو أحدهما قرينة تخييلية والآخر ترشيح.
وذهب جماعة من الفرسفة إلى أن الكواكب أحياء ناطقة، واستدل لهم بهذه الآية ونظائرها وكثير من ظواهر الكتاب والسنة يشهد لهم، وليس في القول بذلك إنكار ما هو من ضروريات الدين، وتقديم الجار والمجرور لإظهار العناية والاهتمام مع ما في ضمنه على ما قيل: من رعاية الفواصل، وكانت هذه الرؤية فيما قيل: ليلة الجمعة، وأخرج أبو الشيخ عن ابن منبه أنها كانت ليلة القدر، ولعله لا منافاة لظهور إمكان كون ليلة واحدة ليلة القدر وليلة الجمعة، واستشكل كونها في ليلة القدر بأنها من خواص هذه الأمة، وأجيب بأن ما هو من الخواص تضعيف ثواب العمل فيها إلى ما قص الله سبحانه وكان عمره عليه السلام حين رأى ذلك اثنتي عشرة سنة فيما يروى عن وهب.
وقيل: سبع عشرة سنة، وكان قد رأى قبل وهو ابن سبع سنين أن إحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة وإذا عصا صغيرة تثب عليها حتى اقتلعتها وغلبتها فوصف ذلك لأبيع فقال: إياك أن تذكر هذا لاخوتك، وتعبير هذه العصى لاحدى عشرة هو بعينه تعبيرا لاحد عشر كوكبا فإن كلا منهما إشارة إ لى إخوته، وليس في الرؤيا الأولى ما يشير إليه الشمس والقمر في الرؤية الثانية، ولا ضرورة إلى التزام القول باتحاد المنامين بأن يقال: إنه عليه السلام رأى في كل أحد عشر
شيثا إلا أن ذلك في الأول عصى وفي الثاني كواكب، ويكون عطف الشمس والقمر على ما قبله من قبيل عطف ميكائيل وجبريل عليهما السلام على الملائكة كما يوهمه كلام بعضهم، وعبرت الشمس بأبيه. والقمر بأمه اعتباءا للمكان والمكانة.
وروي ذلك عن قتادة. وعن السدى أن القمر خالته لأن أمه راحيل قد ماتت، والقول: بأن الله تعالى أحياها بعد لتصديق رؤياه لا يخفى حاله، وعن ابن جريج أن الشمس أمه. والقمر أبوه وهو اعتبار للتأنيث والتذكير، وقد تعبر الشمس بالملك. وبالذهب. وبالزوجة الجميلة، والقمر بالأمير، والكواكب بالرؤساء وكذا بالعلماء أيضا.
وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أن رؤية القمر تؤول على أحد سبعة عشر وجها، ملك. أو وزير أو نديم الملك. أو رئيس. أو شريف. أو جارية. أو غلام. أو أمر باطل. أو وال. أو عالم مفسد. أو رجل معظم. أو والد. أو والدة. أو زوجة. أو بعل لها. أو ولد. أو عظمة، ولعل ذلك مبني على اختلاف الرائي وكيفية الرؤية، وزعم بعضهم أنه عليه السلام لم يكن رأى الكواكب ولا الشمس والقمر وإنما رأى إخوته وأبويه إلا أنه عبر عنهم بذلك على طريقة الاستعارة التصريحة وهو خلاف الظاهر جدا وكياد يعد من كلام النائم، ويؤيد ظاهر ما نقله كثير من المفسرين أنه عليه السلام رأى الكواكب والشمس والقمر قد نزلت فسجدت له فقص ذلك على أبيه.
* (قال يابنى لا تقصص رءياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيط‍ان للإنس‍ان عدو مبين) *
* (قال يابني) * صغره للشفقة ويسمى النحاة مثل هذا تصغير التحبيب، وما ألطف قول بعض المتأخرين:
180

قد صغر الجوهر في ثغره * لكنه تصغير تحبيب
ويحتمل أن يكون لذلك ولصغر السن، وفتح الياء قراءة حفص، وقرأ الباقون بكسرها، والجملة استئناف مبني على سؤال كأنه قيل: فماذا قال الأب بعد سماع هذه الرأية العجيبة من ابنه؟ فقيل: قال: * (يا بني) * * (لا تقصص رءياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا) * أي فيحتالوا لإهلاكك حيلة عظيمة لا تقدر على التفصي عنها أو خفية لا تتصدى لمدافعتها، وإنما قال له ذلك لما أنه عليه السلام عرف من رؤياه أن سيبلغه الله تعالى مبلغا جليلا من الحكمة ويصطفيه للنبوة وينعم عليه بشرف الدارين فخاف عليه حسد الاخوة وبغيهم فقال له ذلك صيانة لهم من الوقوع فيما لا ينبغي في حقه وله من معاناة المشاق ومقاساة الأحزان وإن كان واثقا بأنهم لا يقدرون على تحويل ما دلت عليه الرؤيا وأنه سبحانه سيحقق ذلك لا محالة وطمعا في حصوله بلا مشقة وليس ذلك من الغيبة المحظورة في شيء، والرؤيا - مصدر رأى - الحلمية الدالة على ما يقع في النوم سواء كان مرئيا أم لا على ما هو المشهور، والرؤية - مصدر رأى - البصرية الدالة على إدراك مخصوص، وفرق بين مصدر المعنيين بالتأنيثين، ونظير ذلك القربة للتقرب المعنوي بعبادة ونحوها، والقربى للتقرب النسبي وحقيقتها عند أهل السنة كما قال محيى الدين النووي نقلا عن المازني: أن الله سبحانه يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان وهو سبحانه يخلق ما يشاء لا يمنعه نوم ولا يقظة، وقد جعل سبحانه تلك الاعتقادات علما على أمور أخر يخلقها في ثاني الحال، ثم إن ما يكون علما ما يسر يخلقه بغير حضرة الشيطان. وما يكون علما على ما يضريخلقه بحضرته. ويسمى الأول رؤيا وتضاف إليه تعالى إضافة تشريف، والثاني حلما وتضاف إلى الشيطان كما هو الشائع من إضافة الشيء المكروه إليه، وإن كان الكل منه تعالى، وعلى ذلك جاء قوله صلى الله عليه وسلم: " الرؤيا من الله تعالى والحلم من الشيطان " وفي الصحيح عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها فإنها من الله تعالى فليحمد الله تعالى وليحدث بها وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم ومن شرها ولا يذكرها لأحد فانها لن تضره ".
وصح عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فيبصق عن يساره ثلاثا وليستعذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم وليتحول عن جنبه الذي كان عليه " ولا يبعد جعل الله تعالى ما ذكر سببا للسلامة عن المكروه كما جعل الله الصدقة سببا لدفع البلاء وإن لم نعرف وجه مدخلية البصق عن اليسار والتحول عن الجنب الذي كان عليه مثلا في السببية، وقيل: هي أحاديث الملك الموكل بالأرواح إن كانت صادقة. ووسوسة الشيطان والنفس إن كانت كاذبة، ونسب هذا إلى المحدثين، وقد يجمع بين القولين بأن مقصود القائل بأنها اعتقادات يخلقها الله تعالى في قلب الخ أنها اعتقادات تخلق كذلك بواسطة حديث الملك. أو بواسطة وسوسة الشيطان مثلا، والمسببات في المشهور عن الاشاعرة مخلوقة له تعالى عنه الأسباب لا بها فتدبر.
وقال غير واحد من المتفلسفة هي انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة إلى الحس المشترك، والصادقة منها إنما تكون باتصال النفس بالملكوت لما بينهما من التناسب عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ فتتصور بما فيها مما يليق بها من المعاني الحاصلة هناك، ثم إن المتخيلة تحاكيه بصورة تناسبها فترسلها إلى الحس المشترك فتصير مشاهدة، ثم إن كانت شديدة المناسبة لذلك المعنى بحيث لا يكون التفاوت إلا بالكلية والجزئية استغنت عن التعبير وإلا احتاجت إليه.
181

وذكر بعض أكابر الصوفية ما يقرب من هذا، وهو: أن الرؤيا من أحكام حضرة المثال المقيد المسمى بالخيال وهو قد يتأثر من العقول السماوية والنفوس الناطقة المدركة للمعاني الكلية والجزئية فيظهر فيه صور مناسبة لتلك المعاني وقد يتأثر من القوى الوهمية المدركة للمعاني الجزئية فقط فيظهر فيه صورة تناسبها، وهذا قد يكون بسبب سوء مزاج الدماغ وقد يكون بسبب توجه النفس بالقوة الوهمية إلى إيجاد صورة من الصور كمن يتخيل صورة محبوبة الغائب عنه تخيلا قويا فتظهر صورته في خياله فيشاهده، وهي أول مبادي الوحي الالهي في أهل العناية لأن الوحي لا يكون إلا بنزول الملك وأول نزوله في الحضرة الخيالية ثم الحسية، وقد صح عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: " أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رأيا إلا جاءت مثل فلق الصبح " والمرئي على ما قال بعضهم: سواء كان على صورته الأصلية أو لا يكون بإرادة المرئى. وقد يكون بارادة الرائي، وقد يكون باردتهما معا. وقد يكون لا بارادة من شيء منهما، فالأول
كظهور الملك على نبي من الأنبياء عليهم السلام في صورة من الصور وظهور الكمل من الأناسي على بعض الصالحين في صورة غير صورهم، والثاني كظهور روح من الأرواح الملكية أو الإنسانية باستنزال الكامل إياه إلى عالمه ليكشف معنى ما مختصا علمه به، والثالث كظهور جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم باستزاله إياه وبعص الحق سبحنه إياه إليه صلى الله عليه وسلم، والرابع كرؤية زيد مثلا صورة عمرو في النوم من غير قصد وإرادة منهما، وكانت رؤيا عليه السلام من هذا القسم لظهور أنها لو كانت بأرادة الاخوة لعلموا فلم يكن للنهي عن الاقتصاص معنى، ويشير إلى أنها لم تكن بقصده قوله بعد: * (قد جعلها ربي حقا) *.
هذا والمنقول عن المتكلمين أنها خيالات باطلة وهو من الغرابة بمكان بعد شهادة الكتاب والسنة بصحتها، ووجه ذلك بعض المحققين بأن مرادهم أن كون ما يختيله النائم إدراكا بالبصر رؤية، وكون ما يتخيله إدراكا بالسمع باطلا فلا ينافي حقيقة ذلك بمعنى كونه أمارة لبعض الأشاء كذلك الشيء نفسه أو ما يضاحيه ويحاكيه، وقد مر الكلام في ذلك فتيقظ.
والمشهور الذي تعاضدت فيه الروايات أن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، ووجه ذلك عند جمع أنه صلى الله عليه وسلم بقي حسبما أشارت عائشة رضي الله تعالى عنها ستة أشهر يرى الوحي مناما قم جاءه الملك يقظة وستة أشهر بالنسبة إلى ثلاث وعشرين سنة جزء من ست وأربعين جزءا.
وذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه عليه الصلاة والسلام على ستة وأربعين نوعا: مثل النفث في الروع. وتمثل الملك له بصورة دحية رضي الله تعالى عنه مثلا. وسماعه مثل صلصلة الجرس إلى غير ذلك، ولذا قال صلى الله عليه وسلم ما قال، وذكر الحافظ العسقلاني أن كون الرؤيا الصادقة جزء من كذا من النبوة إنما هو باعتبار صدقها لا غير وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى نبيا وليس كذلك، وقد تقدم لك أن في بعض الروايات ما فيه مخالفة لما في هذه الروايات من عدة الأجزاء، ولعل المقصود من كل ذلك على ما قيل: مدح الرؤيا الصادقة والتنويه برفعة شأنها لا خصوصية العدد ولا حقيقة الجزئية.
وقال ابن الأثير في جامع الأصول: روى قليل أنها جزء من خمسة وأربعين جزءا وله وجه مناسبة بأن عمره صلى الله عليه وسلم لم يستكمل ثلاثا وستين بأن يكون توفي عليه الصلاة والسلام بأثناء السنة الثالثة والستين
182

ورواية أنها جزء من أربعين جزءا تكون محمولة على كون عمره عليه الصلاة والسلام ستين وهو رواية لبعضهم، وروي أنها جزء من سبعين جزءا ولا أعلم لذلك وجها ا ه‍.
وأنت تعلم أن سبعين كثيرا ما يستعمل في التكثير فلعله هو الوجه، والغرض الإشارة إلى كثرة أجزاء النبوة فتدبر، والمراد - بإخوته - ههنا على ما قيل: الاخوة الذين يخشى غوائلهم ومكايدهم من بني علاته الأحد عشر، وهم يهوذا، وروبيل. وشمعون. ولاوي. وريالون. ويشجر. ودينه بنو يعقوب من ليابنت ليان بن ناهر وهي بنت خالته، ودان. ويقتالي. وجاد. وآشر بنوه عليه السلام من سريتين له زلفة. وبلهة وهم المشار إليهم بالكواكب، وأما بنيامين الذي هو شقيق يوسف عليه السلام وأمهما راحيل التي تزوجها يعقوب عليه السلام بعد وفات أختها ليا أو في حياتها إذ لم يكن جمع الأختين إذ ذاك محرما فليس بداخل تحت هذا النهي إذ لا تتوهم مضرته ولا تخضى معرته ولم يكن معهم في الرؤيا إذ لم يكن معهم في السجود.
وتعقب بأن المشهور أن بني علاته عليه السلام عشرة وليس فيهم من اسمه دينه، ومن الناس من ذكر ذلك في عداد أولاد يعقوب إلا أنه قال: هي أخت يوسف، وبناء الكلام عليه ظاهر الفساد بل لا تكاد تدخل في الاخوة إلا باعتبار التغليب لأنه جمع أخ فهو مخصوص بالذكور، فلعل المختار أن المراد من الاخوة ما يشمل الأعيان والعلات، ويعد بنيامين بدل دينه إتماما لاحد عشر عدة الكواكب المرئية، والنهي عن الاقتصاص عليه - وإن لم يكن ممن تخشى غوائله - من باب الاحتياط وسد باب الاحتمال، ومما ذاع كل سر جواز الاثنين شاع، ويلتزم القول بوقوع السجود منه كسائر أهله وإسناد الكيد إلى الأخوة باعتبار الغالب فلا إشكال كذا قيل، وهو على علاته أولى مما قيل: إن المراد بإخوته ما لا يدخل تحته بنيامين. ودينه لأنهما لا تخشى معرتهما ولا يتوهم مضرتهما فهم حينئذ تسعة وتكمل العدة بأبيه وأمه أو خالته ويكون عطف الشمس والقمر من قبيل عطف جبريل وميكائيل على الملائكة، وفيه من تعظيم أمرهما ما فيه لما أن في ذلك ما فيه، ونصب * (يكيدوا) * بأن مضمرة في جواب النهي وعدى باللام مع أنه مما يتعدى بنفسه كما في قوله تعالى: * (فكيدوني) * (هود: 55) لتضمينه ما يتعدى بها وهو الاحتيال كما أشرنا إليه، وذلك لتأكيد المعنى بافادة معنى الفعلين المتضمن والمضمن جميعا ولكون القصد إلى التأكيد والمقام مقامه أكد الفعل بالمصدر وقرر بالتعليل بعد، وجعل اللام زائدة كجعله مما يتعدى بنفسه وبالحرف خلاف الظاهر، وقيل: إن الجار والمجرور من متعلقات التأكيد على معنى فيكيدوا كيدا لك وليس بشيء؛ وجعل بعضهم اللام للتعليل على معنى فيفعلوا لأجلك وإهلاكك كيدا راسخا أو خفيا؛ وزعم أن هذا الأسلوب آكد من أن يقال: فيكيدوك كيدا إذ ليس فيه دلالة على كونه نفس الفعل مقصود الإيقاع وفيه نوع مخالفة للظاهر أيضا فافهم.
وقرأ الجمهور * (رؤياك) * بالهمز من غير إمالة، والكسائي * (رؤياك) * بالامالة وبغير همز وهي لغة أهل الحجا " * (إن الشيط‍ان للانس‍ان) * إي لهذا النوع * (عدو مبينذ طاهر العداوة فلا يألو جهذا في تسويل إخوتك وإثارة الحسد فيهم حتى يحملهم على ما لا خير فيه وإن كانوا ناشئين في بيت النبوة، والظاهر أن القوم كانوا
183

بحيث يمكن أن يكون للشيطان عليهم سبيل، ويؤيد هذا أنهم لم يكونوا أنبياء، والمسألة خلافية فالذي عليه الأكثرون سلفا وخلفا أنهم لم يكونوا أنبياء أصلا، أما السلف فلم ينقل عن الصحابة منهم أنه قال بنبوتهم ولا يحفظ عن أحد من التابعين أيضا، وأما أتباع التابعين فنقل عن ابن زيد أنه قال بنبوتهم وتابعه شرذمة قليلة، وأما الخلف فالمفسرون فرق: فمنهم من قال بقول ابن زيد كالبغوي، ومنهم من بالغ في رده كالقرطبي. وابن كثير، ومنهم من حكى القولين بلا ترجيح كابن الجوزي، ومنهم من لم يتعرض للمسألة لكن ذكر ما يشعر بعدم كونهم أنبياء كتفسيره الأسباط بمن نبىء من بني إسرائيل والمنزل إليهم بالمنزل إلى أنبيائهم كأبي الليث السمرقندي. والواحدي،
ومنهم من لم يذكر شيئا من ذلك ولكن فسر الأسباط بأولاد يعقوب فحسبه ناس قولا بنبوتهم وليس نصا فيه لاحتمال أن يريد بالأولاد ذريته لا بنيه لصلبه، وذكر الشيخ ابن تيمية في مؤلف له خاص في هذه المسألة ما ملخصه: الذي يدل عليه القرآن واللغة والاعتبار أن إخوة يوسف عليه السلام ليسوا بأنبياء وليس في القرآن ولا عن النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا عن أحد من أصحابه رضي الله تعالى عنهم خبر بأن الله تعالى نبأهم وإنما احتج من قال: بأنهم نبئوا بقوله تعالى في آيتي البقرة. والنساء: * (والاسباط) * وفسر ذلك بأولاد يعقوب والصواب أنه ليس المراد بهم أولاده لصلبه بل ذريته كما يقال لهم: بنو إسرائيل، وكما يقال لسائر الناس: بنو آدم، وقوله تعالى: * (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) * (الأعراف: 159) * (وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما) * (الأعراف: 160) صريح في أن الأسباط هم الأمم من بني إسرائيل وكل سبط أمة، وقد صرحوا بأن الأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من بني إسمعيل، وأصل السبط كما قال أبو سعيد الضرير: شجرة واحدة ملتفة كثيرة الأغصان فلا معنى لتسمية الأبناء الاثني عشر أسباطا قبل أن ينتشر عنهم الأولاد، فتخصيص الأسباط في الآية ببنيه عليه السلام لصلبه غلط لا يدل عليه اللفظ ولا المعنى ومن ادعاه فقد أخطأ خطأ بينا والصواب أيضا أنهم إنما سموا أسباطا من عهد موسى عليه السلام، ومن حينئذ كانت فيهم النبوة فانه لم يعرف فيهم نبي قبله إلا يوسف، ومما يؤيد ذلك أنه سبحانه لما ذكر الأنبياء من ذرية إبراهيم قال: * (ومن ذريته داود وسليمان) * (الأنعام: 84) الآيات فذكر يوسف ومن معه ولم يذكر الاسباط ولو كان إخوة يوسف قد نبئوا كما نبىء لذكروا كما ذكر، وأيضا إن الله تعالى ذكر للأنبياء عليهم السلام من المحامد والثناء ما يناسب النبوة وإن كان قبلها؛ وجاء في الحديث " أكرم الناس يوسف بن يعقوب بن اسحق بن إبراهيم نبي ابن نبي " فلو كانت إخوته أنبياء كانوا قد شاركوه في هذا الكرم، وهو سبحانه لما قص قصتهم وما فعلوا بأخيهم ذكر اعترافهم بالخطيئة وطلبهم الاستغفار من أبيهم ولم يذكر من فضلهم ما يناسب النبوة وإن كان قلبها، بل ولا ذكر عنهم توبة باهرة كما ذكر عمن ذنبه دون ذنبهم، ولم يذكر سبحانه عن أحد من الأنبياء قبل النبوة ولا بعدها أنه فعل مثل هذه الأمور العظيمة من عقوق الوالد. وقطيعة الرحم. وإرقاق المسلم وبيعه إلى بلاد الكفر. والكذب البين إلى غير ذلك مما حكاه عنهم، بل لو لم يكن دليل على عدم نبوتهم سوى صدور هذه العظائم منهم لكفى لأن الأنبياء معصومون عن صدور مثل ذلك قبل النبوة وبعدها عند الأكثرين، وهي أيضا أمور لا يطيقها من هو دون البلوغ فلا يصح الاعتذار بأنها صدرت منهم قلبه وهو لا يمنع الاستنباء بعد، وأيضا ذكر أهل السير أن إخوة يوسف كلهم ماتوا بمصر وهو أيضا مات بها لكن أوصى بنقله إلى الشام فنقله موسى عليه السلام ولم يذكر في القرآن أن أهل مصر قد جاءهم نبي قبل موسى غير يوسف ولو كان منهم نبي لذكر، وهذا دون ما قبله في الدلالة كما لا يخفى.
184

والحاصل أن الغلط في دعوى نبوتهم إنما جاء من ظن أنهم هم الأسباط وليس كذلك إنما الاسباط أمة عظيمة، ولو كان المراد بالأسباط أبناء يعقوب لقال سبحلنه ويعقوب وبنيه فانه أبين وأوجز لكنه عبر سبحانه بذلك إشارة إلى أن النبوة حصلت فيهم من حين تقطيعهم أسباطا من عهد موسى عليه السلام فليحفظ.
هذا ولما نبهه عليه السلام على أن لرؤياه شأنا عظيما وحذره مما حذره شرع في تعبيرها وتأويلها على وجه إجمالي فقال:
* (وكذالك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الاحاديث ويتم نعمته عليك وعلى ءال يعقوب كمآ أتمهآ على أبويك من قبل إبراهيم وإسح‍اق إن ربك عليم حكيم) *
* (وكاذلك يجتبيك ربك) * أي يصطفيك ويختارك للنبوة كما روي عن الحسن، أو للسجود لك كما روي عن مقاتل، أو لأمور عظام كما قال الزمخشري، فيشمل ما تقدم وكذا يشمل إغناء أهله ودفع القحط عنهم ببركته وغير ذلك، ولعل خير الأقوال وسطها؛ وأصل الاجتباء من جبيت الشيء إذا حصلته لنفسك وفسره بالاختيار لأنه إنما يجتبى ما يختار.
وذكر بعضهم أن اجتباء الله تعالى العبد تخصيصه أياه بفيض الهي يتحصل منه أنواع من المكرمات بلا سعي من العبد وذلك مختص بالأنبياء عليهم السلام، ومن يقاربها من الصديقين والشهداء والصالحين، والمشار إليه بذلك إما الاجتباء لمثل تلك الرأيا فالمشبه به متغايران، وإما لمصدر الفعل المذكور وهو المشبه والمشبه به، * (وكذلك) * في محل نصب صفة لمصدر مقدر وقدم تحقيق ذلك، وقيل هنا: إن الحار والمجرور خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك وليس الأمر كذلك، ولا يخفى ما في ذكر الرب مضافا إلى ضمير المخاطب من اللطف، وإنما لم يصرح عليه السلام بتفاصيل ما تدل عليه الرؤيا حذرا من إذاعته على ما قيل: * (ويعلمك) * ذهب جمع إلى أنه كلام مبتدأ غير داخل تحت التشبيه أراد به عليه السلام تأكيد مقالته وتحقيقها وتوطين نفس يوسف عليه السلام بما أخبر به على طريق التعبير والتأويل أي وهو * (يعلمك) * * (من تأويل الأحاديث) * أي ذلك الجنس من العلوم، أو طرفا صالحا منه فتطلع على حقيقة ما أقول ولا يخفى ما فيه من تأكيد ما سبق والبعث على تلقي ما سيأتي بالقبول، وعلل عدم دخوله تحت التشبيه بأن الظاهر أن يشبه الاجتباء بالاجتباء والتعليم غير الاجتباء فلا يشبه به، ونظر فيه بأن التعليم نوع من الاجتباء والنوع يشبه بالنوع، وقيل: العلة في ذلك أنه يصير المعنى ويعلمك تعليما مثل الاجتباء بمثل هذه الرؤيا ولا يخفى سماجته فان الاجتباء وجه الشبه بين المشبه والمشبه به ولم يلاحظ في التعليم ذلك.
وقال بعض المحققين: لا مانع من جعله داخلا تحت التشبيه على أن المعنى بذلك الإكرام بتلك الرؤيا أي كما أكرمك بهذه المبشرات يكرمك بالاجتباء والتعليم ولا يحتاج في ذلك إلى جعله تسبيهين وتقدير كذلك، وأنت تعلم أن المنساق إلى الفهم هو العطف ولا بأس فيما قرره هذا المحقق لتوجيهه، نعم للاستئناف وجه وجيه وإن لم يكن المنساق إلى الفهم؛ والظاهر أن المراد من تأويل الأحاديث تعبير الرأيا إذ هي إخبارات غيبة يخلق الله تعالى بواسطتها اعتقادات في قلب النائم حسبما يشاؤه ولا حجر عليه تعالى. أو أحاديث الملك إن كانت صادقة. أو النفس أو الشيطان إن لم تكن كذلك، وذكر الراغب أن التأويل من الأول وهو الرجوع، وذلك رد الشيء إلى الغاية المرادة منه علما كان أو فعلا، فالأول كقوله سبحانه: * (وما يعلم تأويله إلا الله) * (آل عمران: 7) والثاني كقوله: وللنوي قبل يوم البين تأويل
وجاء الأول بمعنى السياسة التي يراعى مآلها يقال: ألنا وايل علينا اه‍.
وشاع التأويل في إخراج الشيء عن ظاهر، و * (الأحاديث) * جمع تكسير لحديث على غير قياس كما قالوا:
185

باطل وأباطيل، وليس باسم جمع له لأن النحاة قد شرطوا في اسم الجمع أن لا يكون على وزن يختص بالجمع كمفاعيل، وممن صرح بانه جمع الزمخشري في المفصل، وهو مراده من اسم الجمع في الكشاف فانه كغيره كثيرا ما يطلق اسم الجمع على الجمع المخالف للقياس فلا مخالفة بين كلاميه، وقيل: هو جمع أحدوثة، ورد بأن الأحدوثة الحديث المضحك كالخرافة فلا يناسب هنا، ولا في أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام أن يكون جمع أحدوثة، وقال ابن هشام: الأحدوثة من الحديث ما يتحدث به ولا تسعمل إلا في الشر، ولعل الأمر ليس كما ذكروا، وقد نص المبرد على أنها ترد في الخير، وأنشد قول جميل وهو مما سار وغار: وكنت إذا ما جئت سعدى أزورها * أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
من الخفرات البيض ود جليسها * إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها
وقيل: إنهم جمعوا حديثا على أحدوثة ثم جمعوا الجمع على أحاديث كقطيع أو أقطعة وأقاطيع، وكون المراد من تأويل الأحاديث تعبير الرؤيا هو المروى عن مجاهد. والسدى، وعن الحسن أن المراد عواقب الأمور، وعن الزجاج أن المراد بيان معاني أحاديث الأنبياء والأمم السالفة والكتب المنزلة.
وقيل: المراد بالأحاديث الأمور المحدثة من الروحانيات والجسميانيات، وبتأويلها كيفية الاستدلال بها على قدرة الله تعالى وحكمته وجلالته والكل خلاف الظاهر فيما أرى * (ويتم نعمته عليك) * بأن يصل نعمة الدنيا بنعمة الآخرة، أو بأن يضم إلى النبوة المستفاد من الاجتباء الملك ويجعله تتمة لها، أو بأن يضم إلى التعليم الخلاص من المحن والشدائد وتوسيط ذكر التعليم لكونه من لوازم النبوة والاجتباء ولرعاية ترتيب الوجود الخارجي ولأن التعليم وسيلة إلى إتمام النعمة فإن تعبيره لرؤيا صاحبي السجن ورؤيا الملك صار ذريعة إلى الخلاص من السجن والاتصال بالرياسة العظمى.
وفسر بعضهم الاجتباء باعطاء الدرجات العالية كالملك والجلالة في قلوب الخلق. وإتمام النعمة بالنبوة، وأيد بأن إتمام النعمة عبارة عما تصير به النعمة تامة كاملة خالية عن جهات النقصان وما ذاك في حق البشر إلا النبوة فإن جميع مناصب الخلق ناقصة بالنسبة إليها. وجوز أن تعد نفس الرؤيا من نعم الله تعالى عليه فيكون جميع النعم الواصلة إليه بحسبها مصداقا لها تماما لتلك النعمة ولا يخلو عن بعد، وقيل: المراد من الاجتباء إفاضة ما يستعد به لكل خير ومكرمة، ومن تعليم تأويل الأحاديث تعليم تعبير الرؤيا، ومن إتمام النعمة عليه تخليصه من المحن على أتم وجه بحيث يكون مع خلاصه منها ممن يخضع له، ويكون في تعليم التأويل إشارة إلى استنبائه لأن ذلك لا يكون إلا بالوحي وفيه أن تفسير الاجتباء بما ذكر غير ظاهر، وكون التعليم فيه إشارة إلى الاستنباء في حيز المنع وما ذكر من الدليل لا يثبته، فإن الظاهر أن إخوته كانوا يعلمون التأويل وإلا لم ينهه أبوه عليه السلام عن اقتصاص رؤياه عليهم خوف الكيد، وكونهم أنبياء إذ ذاك مما لم يذهب إليه ذاهب ولا يكاد يذهب إليه أصلا، نعم ذكروا أنه لا يعرف التعبير كما ينبغي إلا من عرف المناسبات التي بين الصور ومعانيها وعرف مراتب النفوس التي تظهر في حضرة خيالاتهم بحسبها فإن أحكام الصورة الواحدة تختلف بالنسبة إلى الأشخاص المختلفة المراتب وهذا عزيز الوجود، وقد تثبت الخطأ في التعبير من علماء أكابر، فقد روي أبو هريرة أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إني رأيت ظلة ينطف منها السمن والعسل وأرى الناس يتكففون في أيديهم
186

فالمستكثر والمستقل وأرى سببا واصلا من السماء إلى الأرض فأراك يا رسول الله أخذت به فعلوت ثم أخذ به رجل آخر فعلا ثم أخذ به رجل آخر فعلا ثم أخذ به رجل آخر فانقطع به ثم وصل له فعلا فقال أبو بكر رضي الله تعالى: أي رسول الله لتدعني فلأ عبرها فقال عليه الصلاة والسلام: عبرها، فقال: أما الظلة فظلة الإسلام. وأما ما ينطف من السمن والعسل فهو القرآن لينه وحلاوته. وأما المستكثر والمستقل فالمستكثر من القرآن والمستقل منه. وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فهو الحق الذي أنت عليه تأخذ به فيعليك الله تعالى ثم يأخذ به رجل بعدك فيعلو به ثم آخر بعده فيعلو به ثم آخر بعده فيعلو به ثم آخر فينقطع به ثم يوصل له فيعلو به أي رسول الله لتحدثني أصبت أم أخطأت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أصبت بعضا وأخطأت بعضا، فقال: أقسمت بأبي أنت وأمي لتحدثني يا رسول الله ما الذي أخطأت؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لا تقسم " ا ه‍ اللهم إلا أن يدعي أن المراد التعليم على الوجه الأكمل بحيث لا يخطىء من يخطىء به، وهو يستدعي كون الرجل بحيث يعرف المانسبات ومراتب النفوس ويلتزم القول بأن ذلك لا يكون إلا نبيا، واختير أن المراد بالاجتباء الاصطفاء للنبوة. وبتعليم التأويل ما هو الظاهر. وباتمام النعمة تخليصه من المكاره، ويكون قوله عليه السلام: * (يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك) * (يوسف: 5) إجمالية منه إلى تعبير الرؤيا كما لا يخفى على من له ذوق وهو أيضا متضمن للبشارة، وهذا أرداف لها بما هو أجل في نظر يوسف عليه السلام ووجه توسيط التعليم عليه لا يخفى.
وحاصل المعنى كما أكرمك بهذه المبشرة الدالة على سجود إخوتك لك ورفعة شأنك عليهم يكرمك بالنبوة والعلم الذي تعرف به تأويل أمثال ما رأيت وإتمام نعمته عليك * (وعلى ءال يعقوب) * بالخلاص من المكاره وهي في حق يوسف عليه السلام مما لا يخفى وفي حق آل يعقوب، والمراد بهم أهله من بنيه وغيرهم وأصله أهل، وقيل: أول، وقد حققناه في غير ما كتاب؛ ولا يستعمل إلا فيمن له خطر مطلقا ولا يضاف لما لا يعقل ولو كان ذا خطر بخلاف أهل فلا يقال: آل الحجام. ولا آل الحرم، ولكن أهل الحجام. وأهل الحرم، نعم قد يضاف لما نزل منزلة العاقل كما في قول عبد المطلب. وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك. وفيه رد على أبي جعفر الزبيدي حيث زعم عدم جواز إضافته إلى الضمير لعدم سماعه مضافا إليه، ويعقوب كابنه اسم أعجمي لا اشتقاق له فما قيل: من أنه إنما سمي بذلك لأنه خرج من بطن أمه عقب أخيه العيص غير مرضى عند الجلة الفاقة والقحط وتفرق الشمل، وغير ذلك ما يعم. أو يخص، ومنهم من فسر الآل بالبتين وإتمام النعمة بالاستنباء، وجعل حاصل المعنى يمن عليك وعلى سائر أبناء يعقوب بالنبوة، واستدل بذلك على أنهم صاروا بعد أنبياء.
وفي إرشاد العقل السليم أن رؤية يوسف عليه السلام إخوته كواكب يهتدي بأنوارها من نعم الله تعالى عليهم لدلالتها على مصير أمرهم إلى النبوة فيقع كل ما يخرج من
القوة إلى الفعل من كما لا تهم بحسب ذلك تماما لتلك النعمة لا محالة، وأنت تعلم أن ما ذكر لا يصلح دليلا على أنهم صاروا أنبياء لما علمت من الاحتمالات،
187

والدليل إذا طرقه الاحتمال بطل به الاستدلال ورؤيتهم كواكب يهتدي بأنوارها بمعزل عن أن تكون دليلا على أن مصيرهم إلى النبوة، وإنما تكون دليلا على أن مصيرهم إلى كونهم هادين للناس وهو مما لا يلزمه النبوة فقد قال صلى الله عليه وسلم: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " ونحن لا ننكر أن القوم صاروا هادين بعد أن من الله تعالى عليهم بالتوبة بل هم لعمري حينئذ من أجلة أصحاب نبيهم، وقد يقال أيضا: إنه لو دل يؤيتهم كواكب على أن مصبرهم إلى النبوة لكانت رؤية أمه قمرا أدل على ذلك ولا قائل به.
وقال بعضهم: لا مانع من أن يراد - بآل يعقوب - سائر بنيه، و - باتمام النعمة - إتمامها بالنبوة لكن لا يثبت بذلك نبوتهم بعد لجواز أن يراد * (يتم نعمته عليك) * بالنبوة * (وعلى آل يعقوب) * بشيء آخر كالخلاص من المكروه مثلا، وهذا كقولك: أنعمت على زيد. وعلى عمرو وهو لا يقتضي أن يكون الانعام عليهما من نوع واحد لصدق الكلام بأن يكون قد أنعمت على زيد بمنصب. وعلى عمرو باعطائه ألف دينار، أو بتخليصه من ظالم مثلا وهو ظاهر.
ورجح بعضهم حمل الآل على ما يعم الأبناء بأنه لو كان المراد الأبناء لكان الأظهر الأخصر وعلى إخوتك بدل ما في النظم الجليل، وقيل: إنما اختار ذلك عليه لأنه يتبادر من الإخوة الإخوة الذي نهى عن الاقتصاص عليهم فلا يدخل بنيامين، والمراد إدخاله، وقيل: المراد - بآل يعقوب - أتباعه الذين على دينه.
وقيل: يعقوب خاصة على أن الآل بمعنى الشخص ولا يخفى ما في القولين من البعد، وأبعدهما الأخير ومن جعل إتمام النعمة إشارة إلى الملك جعل العطف باعتبار أنهم يغتنمون آثاره من العز والجاه والمال هذا.
* (كما أتمها على ابويك من قبل إبراهيم وإسحق) * أي إتماما كائنا كاتمام نعمته على أبويك من قبل هذا الوقت أو من قبلك، والإسمان الكريمان عطف بيان - لأبويك - والتعبير عنهما بالأب مع كونهما أبا جده وأبا أبيه للاشعار بكمال ارتباطه بالأنبياء عليهم اللام وتذكير معنى الولد سر أبيه ليطمئن قلبه بما أخبر به، وإتمام النعمة على إبراهيم إما بالنبوة. وإما باتخاذه خليلا. وإما بانجائه من نار عدوه. وإما من ذبح ولده. وإما بأكثر من واحد من هذه، وعلى إسحق إما بالنبوة. أو باخراج يعقوب من صلبه. أو بانجائه من الذبح وفدائه بذبح عظيم على رواية أنه الذبيح، وذهب إليه غير واحد، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه، وأمر التشبيه على سائر الاحتمالات سهل إذ لا يجب أن يكون من كل وجه والاقتصار في المشبه به على ذكر إتمام النعمة من غير تعرض للاجتباء من باب الاكتفاء كما قيل فإن إتمام النعمة يقتضي سابقة النعمة المستدعية للاجتباء لا محالة ومعرفته عليه السلام لما أخبر به مما لم تدل عليه الرؤيا إما بفراسة، وكثيرا ما تصدق فراسة الوالد بولده كيفما كان الوالد، فما ظنك بفراسته إذا كان نبيا. أو بوحي؟ وقد يدعى أنه استدل بالرؤيا على كل ذلك * (إن ربك عليم) * بكل شيء فيعلم من يستحق المذكورات * (حكيم) * فاعل لكل شيء حسبما تقتضيه الحكمة فيفعل ما يفعل جريا على سنن علمه وحكته، والجلمة استئناف لتحقيق الجمل المذكورة.
* (لقد كان فى يوسف وإخوته ءايات للسآئلين) *
* (لقد كان في يوسف وإخوته) * أي في قصصهم، والظاهر أن المراد بالإخوة هنا ما أريد بالإخوة فيما مر، وذهب جمع إلى أنهم هناك بنو علاته، وجوز أن يراد بهم ههنا ما يشمل من كان من الأعيان لأن لبنيامين أيضا حصة من القصة، ويبعده على ما قيل: * (قالوا) * الآتي * (ءايات) * علامات عظيمة الشأن دالة على عظيم قدرة
188

الله تعالى القاهرة وحكمته الباهرة * (لسائلين) * لكل من سأل عن قصتهم وعرفها. أو للطالبين للآيات المعتبرين بها فانهم الواقفون عليها المنتفعون بها دون من عداهم ممن اندرج تحت قوله تعالى: * (وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون) * (يوسف: 105) فالمراد بالقصة نفس المقصوص. أو على نبوته عليه الصلاة والسلام الذين سألوه عن قصتهم حسبما علمت في بيان سبب النزول فأخبرهم صلى الله عليه وسلم بذلك على ما هو عليه من غير سماع من أحد ولا قراءة كتاب، فالمراد بالقصة اقتصاصها، وجمع - الآيات - حينئذ قيل: للاشعار بأن اقتصاص كل طائفة من القصة آية بينة كافية في الدلالة على نبوته صلى الله عليه وسلم، وقيل: لتعدد جهة الاعجاز لفظا ومعنى، وزعم بعض الجلة أن الآية من باب الاكتفاء، والمراد * (آيات) * للذين يسألون والذين لا يسألون، ونظير ذلك قوله سبحانه: * (سواء للسائلين) * (فصلت: 10) وحسن ذلك لقوة دلالة الكلام على المحذوف، وقال ابن عطية: إن المراد من السائلين الناس إلا أنه عدل عنه تحضيضا على تعلم مثل هذه القصة لما فيها من مزيد العبر، وكلا القولين لا يخلو عن بعد.
وقرأ أهل مكة. وابن كثير. ومجاهد - آية - على الافراد، وفي مصحف أبي - عبرة للسائلين -.
* (إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفى ضلال مبين) *
* (إذ قالوا ليوسف وأخوه) * بنيامين وتخصيصه بالإضافة لاختصاصه بالأخوة من جانبي الأم والأب وهي أقوى من الأخوة من أحدهما، ولم يذكروه باسمه إشعارا بأن محبة يعقوب عليه السلام له لأجل شقيقه يوسف عليه السلام، ولذا لم يتعرضوه بشيء مما أوقع بيوسف عليه السلام واللام للابتداء، و - يوسف - مبتدأ * (وأخوه) * عطف عليه، وقوله سبحانه: * (أحب إلى أبينا منا) * خبر ومتعلق به وهو أفعل تفضيل من المبني للمفعول شذوذا ولذا عدى بإلى حسبما ذكروا من أن أفعل من الحب والبغض يعدى إلى الفاعل معنى بإلى وإلى المفعول باللام. وفي تقول: زيد أحب إلي من بكر إذا كنت تكثر محبته؛ ولي وفي إذا كان يحبك أكثر من غيره، ولم يثن مع أن المخبر عنه به إثنان لأن أفعل من كذا لا يفرق فيه بين الواحد وما فوقه ولا بين المذكر وما يقابله بخلاف أخويه فإن الفرق واجب في المحلى جائز في المضاف إذا أريد تفضيله على المضاف إليه وإذا أريد تفضيله مطلقا فالفرق لازم، وجيء بلام الابتداء لتحقيق مضمون الجملة وتأكيده أي كثرة حبه لهما أمر ثابت لا شبهة فيه *
(ونحن عصبة) * أي والحال أنا جماعة قادرون على خدمته والجد في منفعته دونهما، والعصبة والعصابة على ما نقل عن الفراء: العشرة فما زاد سموا بذلك لأن الأمور تعصب بهم أي تشد فتقوى.
وعن ابن عباس أن العصبة ما زاد على العشرة وفي رواية عنه أنها ما بين العشرة والأربعين، وعن مجاهد أنها من عشرة إلى خمسة عشر.
وعن مقاتل هي عشرة، وعن ابن جبير ستة. أو سبعة، وقيل: ما بين الواحد إلى العشرة، وقيل: إلى خمسة عشر، وعن ابن زيد. والزجاج. وابن قتيبة هي الجماعة مطلقا ولا واحد لها من لفظها كالنفر والرهط، وقيل: الثلاثة نفر وإذا زادوا فهم رهط إلى التسعة فإذا زادوا فهم عصبة، ولا يقال لأقل من عشرة: عصبة، وروي النزال بن سبرة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ بنصب * (عصبة) * فيكون الخبر محذوفا، وعصبة حال من الضمير فيه أي نجتمع عصبة، وقدر ذلك ليكون في الحال دلالة على الخبر المحذوف لما فيها من معنى الاجتماع.
189

وزعم ابن المنير أن الكلام على طريقة: أنا أبو النجم وشعري شعرى، والتقدير ونحن نحن عصبة، وحذف الخبر لمساواته المبتدأ وعدم زيادته عليه لفظا ففي حذفه خلاص من تكرار اللفظ بعينه مع دلالة السياق على المحذوف، ولا غرو في وقوع الحال بعد نحن لأنه بالتقدير المذكور كلام تام فيه من الفخامة ما فيه وقدر في * (هن أطهر لكم) * على قراءة النصب مثل ذلك، وفيه أن الفخامة إنما تجيء من التكرار فلا يجوز الحذف على أن الدلالة على المحذوف غير بينة.
وعن ابن الأنباري أن ذلك كما تقول العرب: إنما العامري عمته أي يتعهد ذلك، والدال على المحذوف فيه عمته فإن الفعلة للحالة التي يستمر عليها الشخص فيلزم لا محالة تعهده لها، والأولى أن يعتبر نظير قول الفرزدق: يا لهذم حكمك مسمطا
فإنه أراد كما قال المبرد: حكمك لك مسمطا
أي مثبت نافذ غير مردود، وقد شاع هذا فيما بينهم لكن ذكروا أن فيه شذوا من وجهين، والآية على قراءة الأمير كرم الله تعالى وجهه أكثر شذوذا منه كما لا يخفى على المتدرب في علم العربية * (إن أبانا) * أي في ترجيحهما علينا في المحبة مع فضلنا عليهما وكونهما بمعزل عن كفاية الأمور * (لفي ضل‍ال) * أي خطأ في الرأي وذهاب عن طريق التعديل اللائق من تنزيل كل منا منزلته * (مبين) * ظاهر الحال، وجعل الضلال ظرفا لتمكنه فيه، ووصفه بالمبين إشارة إلى أن ذلك غير مناسب له بزعمهم والتأكيد لمزيد الاعتناء، يروى أنه عليه السلام كان أحب إليه لما يرى فيه من أن المخايل وكانت إخوته يحسدونه فلما رأص الرؤيا تضاعفت له المحبة فكان لا يصبر عنه ويضمه كل ساعة إلى صدره ولعله أحس قببه بالفراق فتضاعفت لذلك حسدهم حتى حملهم على ما قص الله تعالى عنهم، وقال بعضهم: إن سبب زيادة حبه عليه السلام ليوسف وأخيه صغرهما وموت أمهما، وحب الصغير أمر مركوز في فطرة البشر فقد قيل: لابنة الحسن: أي بنيك أحب إليك؟ قالت: الصغيرحتى يكبر. والغائب حتى يقدم. والمريض حتى يشفى، وقد نظم بعض الشعراء في محبة الولد الصغير قديما وحديثا، ومن ذلك ما قاله الوزير أبو مروان عبد الملك بن إدريس الجزيري من قصيدة بعث بها إلى أولاده وهو في السجن: وصغيرهم عبد العزيز فانني * أطوى لفرقته جوى لم يصغر
ذاك المقدم في الفؤاد وإن غدا * كفأ لكم في المنتمي والعنصر
إن البنان الخمس أكفاء معا * والحلى دون جميعها للخنصر
وإذا الفتى فقد الشباب سماله * حب البنين ولا كحب الأصغر
وفيه أن منشأ زيادة الحب لو كانت ما ذكر لكان بنيامين أوفر حظا في ذلك لأنه أصغر يوسف عليه السلام كما يدل عليه قولهم: إن أمهما ماتت في نفاسه، والآية كما أشرنا إليه مسيرة إلى أن محبته لأجل شقيقه يوسف فالذي ينبغي أن يعول عليه أنه عليه السلام إنما أحبه أكثر منهم لما رأى فيه من مخايل الخير ما لم ير فيهم وزاد ذلك الحب بعد الرؤيا لتأكيدها تلك الامارات عنده ولا لوم على الوالد تفضيله بعض ولده على بعض في المحبة لمثل ذلك، وقد صرح غير واحد أن المحبة ليست مما تدخل تحت وسع البشر والمرء معذور فيما لم يدخل تحته، نعم ظن أبناؤه أن ما كان منه عليه السلام إنما كان عن اجتهاد وأنه قد أخطأ في ذلك والمجتهد يخطىء ويصيب وإن كان نبيا، وبهذا ينحل ما قيل: إنهم إن كانوا قد آمنوا بكون أبيهم رسولا حقا من عند الله تعالى فكيف اعترضوا
190

وكيف زيفوا طريقته وطعنوا فيما هو عليه، وإن كانوا مكذبين بذلك فهو يوجب كفرهم والعياذ بالله تعالى وهو مما لم يقل به أحد ووجه الانحلال ظاهر.
* (ااقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما ص‍الحين) *
* (اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا) * الظاهر أن هذا من جملة ما حكى بعد قوله سبحانه: * (إذ قالوا) * وقد قاله بعض منهم مخاطبا للباقين وكانوا راضين بذلك إلا من قال: * (لا تقتلوا) * الخ، ويحتمل أنه قاله كل منهم مخاطبا للبقية، والاستثناء هو الاستثناء، وزعم بعضهم أن القائل رجل غيرهم شاوروه في ذلك وهو خلاف الظاهر ولا ثبت له، والظاهر أن القائل خيرهم بين الأمرين القتل والطرح.
وجوز أن يكون المراد قال بعض: * (اقتلوا يوسف) * وبعض * (اطرحوه) * والطرح رمي الشيء وإلقاؤه، ويقال: طرحت الشيء أبعدته، ومنه قول عروة بن الورد: ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا * من المال يطرح نفسه كل مطرح
ونصب * (أرضا) * على إسقاط حرف الجر كما ذهب إليه الحوفي. وابن عطية أي ألقوه في أرض بعيدة عن الأرض التي هو فيها، وقيل: نصب على أنه مفعول ثان - لاطرحوه - لتضمينه معنى أنزلوه فهو كقوله تعالى: * (أنزلني منزلا مباركا) * (المؤمنون: 29)، وقيل: منصوب على الظرفية، ورده ابن عطية. وغيره بأن ما ينتصب على الظرفية المكانية لا يكون إلا مبهما وحيث كان المراد أرضا بعيدة عن أرضه لم يكن هناك إبهام، ودفع بما لا يخلو عن نظر، وحاصل المعنى اقتلوه
أو غربوه فإن التغريب كالقتل في حصول المقصود مع السلامة من إثمه، ولعمري لقد ذكروا أمرين مرين فإن الغربة كربة أية كربة؛ ولله تعالى در من قال: حسنوا القول وقالوا غربة * إنما الغربة للاحرار ذبح
* (يخل لكم وجه أبيكم) * بالجزم جواب الأمر، والوجه الجارحة المعروفة، وفي الكلام كناية تلويحية عن خلوص المحبة، ومن هنا قيل: أي يقبل عليكم إقبالة واحدة لا يلتفت عنكم إلى غيركم، والمراد سلامة محبته لهم ممن يشاركهم فيها وينازعهم إياها، وقد فسر الوجه بالذات والكناية بحالها خلا أن الانتقال إلى المقصود بمرتبتين: على الأول وبمرتبة على هذا، وقيل: الوجه بمعنى الذات، وفي الكلام كناية عن التوجه والتقيد بنظم أحوالهم وتدبير أمورهم لأن خلوه لهم يدل على فراغه عن شغل يوسف عليه السلام فيشتغل بهم وينظم أمورهم، ولعل الوجه الأوجه هو الأول * (وتكونوا) * بالجزم عطفا على جواب الأمر. وبالنصب بعد الواو باضمار أن أي يجتمع لكم خلو وجهه والكون دمن بعده) * أي بعد يوسف على معنى بعد الفراغ من أمره. أو من بعد قتله. أو طرحه، فالضمير إما ليوسف أو لأحد المصدرين المفهومين من الفعلين.
* (قوما ص‍الحين) * بالتوبة والتنصل إلى الله تعالى عما جئتم به من الذنب - كما روي عن الكلبي - وإليه ذهب الجمهور، فالمراد بالصلاح الصلاح الديني بينهم وبين الله تعالى، ويحتمل أن المراد ذلك لكن بينهم وبين أبيهم بالعذر وهو وإن كان مخالفا للدين لكونه كذبا لكنه موافق له من جهة أنهم يرجون عفو أبيهم وصفحه
191

به ليخلصوا من العقوق على ما قيل، ويحتمل أن يراد الصلاح الدنيوي أن صالحين في أمر دنياكم فإنه ينتظم لكم بعده بخلو وجه أبيكم، وإيثار الخطاب في * (لكم) * وما بعده للمبالغة في حملهم على القبول فإن اعتنارء المرء بشأن نفسه واهتمامه بتحصيل منافعه أتم وأكمل.
* (قال قآئل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه فى غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين) *
* (قال قائل منهم) * هو وكان رأيه فيه أهون شرا من رأى غيره وهو القائل: * (فلن أبرح الأرض) * (يوسف: 80) الخ القاله السدى.
وقال قتادة. وابن إسحق: هو روبيل، وعن مجاهد أنه شمعون، وقيل: دان، وقال بعضهم: إن أحد هذين هو القائل: * (اقتلوا يوسف) * الخ، وأما القائل: * (لا تقتلوا يوسف) * فغيره، ولعل الأصح أنه يهوذا.
قيل: وإنما لم يذكر أحد منهم باسمه سترا على المسيءوكل منهم لم يخل عن الإساءة وإن تفاوتت مراتبها، والقول بأنه على هذا لا ينبغي لأحد أن يعين أحدا منهم باسمه تأسيا بالكتاب ليس بشيء لأن ذلك مقام تفسير وهو فيه أمر مطلوب، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأن سائلا سأل اتفقوا على ما عرض عليهم من خصلتي الصنيع أم خالفهم في ذلك أحد؟ فقيل: قال قائل منهم: * (لا تقتلوا) * الخ، والاتيان - بيوسف - دون ضميره لاستجلاب شفقتهم عليه واستعظام قتله وهو هو مانه يروى أنه قال لهم: القتل عظيم ولم يصرح بنهيهم عن الخصلة الأخرى، وأحاله على أولوية ما عرضه عليهم بقوله: * (وألقوه في غي‍ابت الجب) * أي في قعره وغوره سمي به لغيبته عن عين الناظر، ومنه قيل للقبر: غيابة، قال المنخل السعدي: إذا أنا يوما غيبتني (غيابتي) * فسيروا بسيري في العشيرة والأهل
وقال الهروي: الغيابة في الجب شبه كهف. أو طاق في البئر فوق الماء يغيب ما فيه عن العيون، والجب الركية التي لم تطو فإذا طويت فهي بئر قال الأعمش: لئن كنت في جب ثمانين قامة
ورقيت أسباب السماء بسلم
ويجمع على جبب. وجباب. وأجباب، وسمي جبا لأنه جب من الأرض أي قطع، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى الكلام فيتأنيثه وتذكيره.
وقرى نافع في - غيابات - في الموضعين كأن لتلك الجب غيابات، ففيه إشارة إلى سعتها، أو أراد بالجب الجنس أي في بعض غيابات الجب، وقرأ ابن هرمز - غيابات - بتشديد الياء التحتية وهو صيغة مبالغة، ووزنه على ما نقل صاحب اللوامح يجوز أن يكون فعالات كحمامات، ويجوز أن يكون فيعالات كشيطانات في جمع شيطانة، وقرأ الحسن غيبة بفتحات على أنه في الأصل مصدر كالغلبة، ويحتمل أن يكون جمع غائب كصانع وصنعة، وفي حرف أبي رضي الله تعالى عنه غيبة بسكون الياء التحتية على أنه مصدر أريد به الغائب. * (يلتقطه) * أي يأخذه على وجه الصيانة عن الضياع والتلف فان الالتقاط أخذ شيء مشرف على الضياع كذا قيل، وفي مجمع البيان هو أن يجد الشيء ويأخذه من غير أن يحسبه، ومنه قوله: ومنهل وردته التقاطا
* (بعض السيارة) * أي بعض جماعة تسير في الأرض وأل في السيارة كما في الجب وما فيهما، وفي - البعض - من الابهام لتحقيق ما يتوخاه من ترويج كلامه بموافقته لغرضهم الذي هو تنائى يوسف عليه السلام عنهم بحيث لا يدري أثره ولا يروى خبره، وقرأ الحسن - تلتقطه - على التأنيث باعتبار المعنى كما في قوله: إذا بعض السنين (تعرفتنا) * كفى الأيتام فقد أبى اليتيم
192

وجاء قطعت بعض أصابعه وجعلوا هذا من باب اكتساب المضاف من المضاف إليه التأنيث كقوله: كما شرقت صدر القناة من الدم
* (إن كنتم فاعلين) * أي إن كنتم عازمين مصرين على أن تفعلوا به ما يفرق بينه وبين أبيه أو إن كنتم فاعلين بمشورتي ورأيي فألقوه الخ، ولم يبت القول لهم بل عرض عليهم ذلك تأليفا لقلوبهم وتوجيها لهم إلى رأيه وحذرا من سوء ظنهم به؛ ولما كان هذا مظنة لسؤال سائل يقول: فما فعلوا بعد ذلك هل قبلوا رأيه أم لا؟ فأجيب على سبيل الاستئناف على وجه أدرج في تضاعيفه قبولهم له بما شيجيى إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه: * (وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب
* (قالوا ي‍اأبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لن‍اصحون) *
* (قالوا ي‍اأبانا) * خاطبوه عليه السلام بذلك تحريكا لسلسلة النسب وتذكيرا لرابطة الأخوة ليتسببوا بذلك استنزاله عن رأيه في حفظه منهم لما أحس بحسدهم فكأنهم قالوا
: * (مالك) * أي أي شيء * (لاتأمنا) * لا تجعلنا أمناء * (على يوسف) * مع أنك أبونا ونحن بنوك وهو أخونا * (وإنا له لن‍اصحون) * مريدون له الخير ومشفقون عليه ليس فينا ما يخل بذلك، وجملة * (لاتأمنا) * في موضع الحال، وكذا جملة * (وإنا له لناصحون) * والاستفهام - بمالك - فيه معنى التعجب، والكلام ظاهر في أنه تقدم منهم سؤال أن يخرج عليه السلام معهم فلم يرض أبوهم بذلك.
وقرأ الجمهور * (لا تأمنا) * بالادغام والإشمام، وفسر بضم الشفتين من انفراج بينهما إشارة إلى الحركة مع الادغام الصريح كما يكون في الوقف وهو المعروف عندهم وفيه عسر هنا، ويطلق على إشراب الكسرة شيئا من الضمة كما قالوا في قيل، وعلى إشمام أحد حرفين شيئا من حرف آخر كما قالوا في الصراط، وقرأ زيد بن علي رضي الله عنهما. وأبو جعفر. والزهري. وعمرو بن عبيد بالادغام من غير إشمام، وإرادة النفي ظاهرة، وقرأ ابن هرمز بضم الميم مع الادغام، وهذه الضمة منقولة إلى الميم من النون الأولى بعد سلب حركتها.
وقرأ أبي. والحسن. وطلحة بن مصرف. والأعمش - لا تأمننا - بالاظهار وضم النون على الأصل، وهو خلاف خط المصحف لأنه بنون واحدة، وقرأ ابن وثاب. وأبو رزين - لا تيمنا - بكسر حرف المضارعة على لغة تميم؛ وسهل الهمزة بعد الكسرة ابن وثاب، ولم يسهل أبو رزين.
وأخرج ابن المنذر. وأبو الشيخ عن عاصم أنه قرأ بذلك بمحضر عبيد بن فضلة فقال له: لحنت، فقال أبو رزين: مالحن من قرأ بلغة قومه.
* (أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لح‍افظون) *
* (أرسله معنا غدا) * نصب على الظرفية الزمانية وهو يطلق على اليوم الذي يلي يومك، وعلى الزمن المستقبل مطلقا، وأصله غدو فحذفت لامه وقد جاء تاما أي ابعثه معنا غدا إلى الصحراء * (يرتع) * أي يتسع في أكب الفواكه ونحوها، وأصل معنى الرتع أن تأكل وتشرب ما تشاء في خصب وسعة، ويقال: رتع أقام في خصب وتنعم، ويسمى الخصب رتعة بسكون التاء وفتحها، وذكر الراغب أن الرتع حقيقة في أكل البهائم ويستعار للإنسان إذا أريد به الأكل الكثير، وعلى ذلك قوله:
وإذ يخلو له الحمى رتع
* (ويلعب) * بالاستباق والانتضال ونحوهما مما يتدرب به لقتال العدو، وليس المراد لعب لهو وإلا لم يقرهم عليه يعقوب عليه السلام وإنما عبروا عن ذلك به لكونه على هيئته تحقيقا لما رموه من استصحاب يوسف عليه السلام بتصويرهم له بصورة ما يلائم حاله عليه السلام من صغر السن، وقرأ الجمهور * (يرتع ويلعب) * بالياء
193

والجزم، والابنان. وأبو عمرو بالنون والجزم، وكسر العين الحرميان، واختلف عن قنبل في إثبات الياء وحذفها، ويروى عن ابن كثير - نرتع - بالنون * (ويلعب) * بالياء، وهي قراءة جعفر بن محمد، وقرأ العلاء بن سيابة * (يرتع) * بالياء وكسر العين مجزوما محذوف اللام * (ويلعب) * بالياء أيضا وضم الباء على أنه مستأنف أو خبر مبتدأ محذوف أي وهو يلعب.
وقرأ مجاهد. وقتادة. وابن محيصن - نرتع - بنون مضمونة وعين ساكنة من أرتعنا - ونلعب - بالنون أيضا، وكذلك أبو رجاء إلا أنه بالياء التحتية فيهما، والقراءتان على حذف المفعول أي نرتع المواشي أو غيرها، والفعلان في هذه القراآت كلها مبنيان للفاعل.
وقرأ زيد بن علي رضي الله عنهما * (يرتع ويلعب) * بالياء والبناء للمفعول فيهما، وخرج ذلك على أن نائب الفاعل ضمير غد، والأصل يرتع فيه ويلعب فيه، ثم حذف الجار واتسع فعدى الفعل للضمير فصار يرتعه ويلعبه، ثم بنى للمفعول فاستتر الضمير الذي كان منصوبا لكونه نائبا عن الفاعل، ومن كسر العين من الفعل الأول فهو عنده من المراعاة على ما روي عن مجاهد أي يراعى بعضنا بعضا ويحرسه.
وقال ابن زيد: من رعى الإبل أن نتدرب في الرعي وحفظ المال، أو من رعى النبات والكلأ، والمراد نرعى مواشينا إلا أنه أسند ذلك إليهم مجازا، أو تجوز عن أكلهم بالرعي، وضعف ابن عطية القراءة بإثبات الياء، وقال: إن إثباتها في مثل هذا الموضع لا يجوز إلا في الشعر كقوله: ألم يأتيك والأنباء تنمي * بما لاقت لبون بني زياد
وقيل: إن تقدير حذف الحركة في الياء ونحوها للجازم لغة وليس من الضرورة في شيء، وأخرج أبو الشيخ عن مقاتل بن حيان أنه كان يقرأ نلهو ونعلب * (وإنا له لح‍افظون) * أي من أن يناله مكروه، والجملة في موضع الحال والعامل فيها فعل الأمر أو الجواب وليس ذلك من باب الأعمال كما قال أبو حيان لان الحال لا تضمر، وذلك الباب لا بد فيه من الاضمار إذا أعمل الأول، وقد أكدوا مقالتهم بأصناف التأكيد من إيراد الجملة اسمية وتحليتها بأن واللام، وإسناد الحفظ إلى كلهم وتقديم * (له) * على الخبر احتيالا في تحصيل مقصدهم.
* (قال إنى ليحزننىأن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غ‍افلون) *
* (قال) * استئناف بياني كأن سائلا يقول: فماذا قال أبوهم لهم؟ فقيل: قال:
* (إنى ليحزنني أن تذهبوا به) * لشدة مفارقته علي وقلة صبري عنه، واللام الداخلة على خبر إن إذا كان مضارعا قيل: تقصره على الحال وهو ظاهر كلام سيبويه، وقيل: تكون له ولغيره، واستدلوا بقوله تعالى: * (إن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة) *، وقيل: إنها للحال إن خلت عن قرينة ومعها تكون لغيره، وجعلوا من ذلك ما في الآية، وبعضهم جعلها هنا للحال، واستشكل بأن الذهاب مستقبل فيلزم تقدم الفعل على فاعله وهو غير جائز لأنه أثره ولا يعقل تقدم الأثر على المؤثر.
وأجيب بأن التقدير قصد. أو توقع أن تذهبوا به، فالكلام على تقدير المضاف وهو الفاعل وليس ذاك أمرا مستقبلا بل حال، ولا يمتنع في مثل ذلك حذف الفاعل لما صرحوا به أنه إنما يمتنع إذا لم يسد مسده شيء وهنا قد سد، ولا يجب أن يكون الساد هو المضاف إليه كما ظن بل لو سد غيره كان الحذف جائزا أيضا، ومن هنا كان
تقدير قصدكم أن تذهبوا صحيحا، ويحتمل أن يكون ذلك تقدير معنى لا تقدير إعراب، وقال بعضهم:
194

إنه يمكن دفع الاشكال من غير حاجة إلى تقدير المضاف بأن يقال: إن الذهاب يحزنه باعتبار تصوره كما قيل نظيره في العلة الغائية، وقال شهاب: ذلك التحقيق أظن أن ما قالوه في توجيه الاشكال مغلطة لا أصل لها فان لزوم كون الفاعل موجودا عند وجود الفعل إنما هو في الفاعل الحقيقي لا النحوي واللغوي فإن الفعل قد يكون قبله سواء كان حالا كما فيما نحن فيه. أو ماضيا كما أنه يصح أن يكون الفاعل في مثله أمرا معدوما كما في قوله: ومن سره أن لا يرى ما يسوءه * فلا يتخذ شيئا يخاف له فقدا
ولم يقل أحد في مثله إنه مجتاج إلى التأويل فان الحزن والغم كالسرور والفرح يكون بالشيء قبل وقوعه كما صرح به ابن هلال في فروقه، ولا حاجة إلى تأويل. أو تقدير. أو تنزيل للوجود الذهني منزلة الخارجي على القول به، أو الاكتفاء به فإن مثله لا يعرفه أهل العربية. أو اللسان فإن أبيت إلا اللجاج فيه فليكم من التجوز في النسبة إلى ما يستقبل لكونه سببا للحزن الآن اه‍.
وأنت تعلم أنهم صرحوا بأن فعل الفاعل الاصطلاحي إما قائم به أو واقع منه، وقيام الشيء بما لم يوجد بعد ووقوعه منه غير معقول، وحينئذ فالتأويل بما يصح القيام أو الوقوع في فاقد ذلك بحسب الظاهر واجب كذا قيل فتدبر، وقرأ ابن هرمز. وابن محيصن - ليحزني - بالادغام، وبذلك قرأ زيد بن علي رضي الله عنهما، وقرأ أيضا تذهبوا به من أذهب رباعيا، ويخرج كما قال أبو حيان على زيادة الباء في * (به) * كما خرج بعضهم * (تنبت بالدهن) * في قراءة من ضم التاء وكسر الباء الموحدة على ذلك أي - ليحزني أن تذهبوه -.
* (وأخاف أن يأكله الذئب) * هو يحوان معروف وخصه بالذكر لأن الأرض على ما قيل: كانت مذئبة، وقيل: لأنه سبع ضعيف حقير فنبه عليه السلام بخوفه عليه السلام عليه منه على خوفه عليه مما هو أعظم منه افتراسا من باب أولى، ولحقارة الذئب خصه الربيع بن ضبع الفزاري في كونه يخشاه لما بلغ من السن ما بلغ في قوله: (والذئب) أخشاه إن مررت به * وحدي وأخشى الرياح والمطرا
وقيل: لأنه عليه السلام رأى في المنام أن ذئبا قد شد عليه فكان يحذره، ولعل هذا الحذر لأن الأنبياء عليهم السلام لمناسبتهم التامة بعالم الملكوت تكون واقعاتهم بعينها واقعة، وإلا فالذئب في النوم يؤول بالعدو.
وادعى بعضهم أنه عليه السلام ورى بالذئب عن واحد منهم فانه عليه السلام أجل قدرا من أن لا يعلم أن رأياه تلك من أي أقسام الرؤيا هي، فإن منها ما يحتاج للتعبير. ومنها ما لا يحتاج إليه، والكامل يعرف ذلك.
وتعقب بأنه يحتمل أن يكون الأمر قد خفي عليه كما قد خفي مثل ذلك على جده إبراهيم عليه السلام وهو بناء على ما ذكره شيخنا ابن العربي قدس سره من أن رؤياه عليه السلام ذبح ولده من الرؤيا المعبرة بذبح كبش لكنه خفي عليه ذلك ولا يخفى ما فيه، والمذكور في بعض الروايات أنه عليه السلام رأى في منامه كأنه على ذروة جبل وكأن يوسف في بطن الوادي فإذا عشرة من الذئاب قد احتوشته تريد أكله فدرأ عند واحد ثم انشقت الأرض فتوارى يوسف فيها ثلاثة أيام، وأنا لم أجد لرواية الرؤيا مطلقا سندا يعول عليه ولا حاجة بنا إلى اعتبارها لتكلف الكلام فيها، وبالجملة ما وقع منه عليه السلام من هذا القول كان تلقينا للجواب من غير قصد وهو على أسلوب قوله سبحانه: * (ما غرك بربك الكريم) * (الإنفطار: 6) والبلاء موكل بالمنطق.
195

وأخرج أبو الشيخ. وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تلقنوا الناس فيكذبوا فان بني يعقوب لم يعلموا أن الذئب يأكل الناس فلما لقنهم أبوهم كذبوا فقالوا: أكله الذئب " والحزن ألم القلب لفوت المحبوب. والخوف انزعاج النفس لنزول المكروه، ولذلك أسند الأول إلى الذهاب به المفوت لاستمرار مصاحبته ومواصلته ليوسع عليه السلام، والثاني إلى ما يتوقع نزوله من أكل الذئب والذئب أصله الهمزة وهي لغة الحجاز، وبها قرأ غير واحد.
وقرأ الكسائي. وخلف. وأبو جعفر. ووريش. والأعمش. وغيرهم بابدالها ياءا لسكونها وانكسار ما قبلها وهو القياس في مثل ذلك، وذكر بعضهم أنه قد همزه على الأصل ابن كثير. ونافع في رواية قالون. وأبو عمرو وقفا، وابن عامر. وحمزة درجا وأبدلا وقفا، ولعل ذلك لأن التقاء الساكنين في الوقف وإن كان جائزا إلا أنه إذا كان الأول حرف مد يكون أحسن.
وقال نصر: سمعت أبا عمر ولا يهمزه، والظاهر أنه أراد مطلقا فيكون ما تقدم رواية وهذه أخرى، ويجمع على أذؤب. وذئاب. وذؤبان، واستقاقه عند الزمخشري من تذاءبت الريح إذا هبت من كل جهة.
وقال الأصمعي: إن اشتقاق تذاءبت من الذب لأن الذئب يفعله في عدوه، قيل: وهو أنسب ولذا عد تذاءبت الريح من المجاز في الأساس لكن قيل عليه: إن أخذ الفعل من الأسماء الجامعدة - كابل - قليل مخالف للقياس * (وأنتم عنه غ‍افلون) * لاشتغالكم بالرتع واللعب. أو لقلة اهتمامكم بحفظه.
قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنآ إذا لخ‍اسرون) *
* (قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة) * أي والحال أنا جماعة جديرة بأن تعصب بنا الأمور وتكفي بآرائنا وتدبيراتنا الخطوب، واللام الداخلة على الشرط موطئة للقسم، وقوله سبحانه: * (إنا إذا لخ‍اسرون) * جواب مجزىء عن الجزاء، والخسار إما بمعنى الهلاك تجوزا عن الضعف. أو استحقاقه، أو عن استحقاق الدعاء به أي بضعفاء عاجزون. أو مستحقون للهلاك لاغناء عندنا ولا نفع في حياتنا، أو مستحقون لأن يدعى علينا بالخسار والدمار فيقال: خسرهم الله تعالى ودمرهم إذ أكل الذئب أخاهم وهم معه، وجوز أن يكون بمعناه الحقيقي أي إن لم نقدر على حفظه وهو أعز شيء عندنا فقد هلكت مواشينا وخسرناها وإنما اقتصروا على جواب خوف أبيهم
عليه السلام من أكل الذئب مع أنه ذكر في وجه عدم مفارقته أمرين: حزنه لمفارقته. وخوفه عليه من الذئب لأنه السبب القوي في المنع دون الحزن لقصر زمانه بناءا على سرعة عودهم به، أو لأن حزنه بالذهاب به إنما هو للخوف عليه، فنفي الثاني يدل على نفي الأول، أو لكراهتهم لذلك لأنه سبب حسدهم له فلذلك أعاروه أذنا صماء.
* (فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه فى غيابة الجب وأوحينآ إليه لتنبئنهم بأمرهم ه‍اذا وهم لا يشعرون) *
فلما ذهبوا به وأجمعوا) * أي عزموا عزما مصمما على * (أن يجعلوه في غي‍ابت الجب) * قيل: هو بئر على ثلاث فراسخ من مقام يعقوب عليه السلام بكنعان التي هي من نواحي الأردن، وقيل: هو بين مصر ومدين، وقيل: بنفس أرض الأردن، وزعم بعضهم أنها بئر بيت المقدس، وتعقب بأنه يرده التعليل بالتقاط بعض السيارة ومجيئهم عشاء ذلك اليوم فإن بين منزل يعقوب عليه السلام وبيت المقدس مراحل وجواب - لما - محذوف إيذانا بظهوره وإشعارا بأن تفصيله مما لا يحويه فلك العبارة ومجمله فعلوا ما فعلوا، وقدره بعضهم عظمت فتنتهم وهو أولى من تقدير وضعوه فيها، وقيل: لا حذف والجواب أوحينا، والواو زائدة وليس بشيء.
قال وهب. وغيره من أهل السير والأخبار: إن إخوة يوسف عليه السلام قالوا: أما تشتاف أن تخرج معنا
196

إلى مواشينا فنتصيد ونستبق؟ فقال عليه السلام: بلى قالوا: فسل أباك أن يرسلك معنا، فقال عليه السلام: أفعل فدخلوا بجماعتهم على يعقوب فقالوا: يا أبانا إن يوسف قد أحب أن يخرج معنا إلى مواشينا، فقال يعقوب: ما تقول يا نبي؟ قال: نعم يا أبت إني أرى من إخوتي من اللين واللطف فأحب أن تأذن لي وكان يعقوب يكره مفارقته ويحب مرضاته فأذن له وأرسله معهم فلما خرجوا به جعلوا يحملونه على رقابهم ويعقوب ينظر إليهم فلما بعدوا عنه وصاروا به إلى الصحراء ألقوه إلى الأرض وأظهروا له ما في أنفسهم من العداوة وبسطوا له القول وجعلوا يضربونه فجعل كلما جاء إلى واحد منهم واستغاث به ضربه فلما فطن لما عزموا عليه جعل ينادي يا أبتا لو رأيت يوسف وما نزل به من إخوته لا حزنك ذلك وأبكاك يا أبتاه ما أسرع ما نسوا عهدك وضيعوا وصيتك وجعل يبكي بكاءا شديدا فأخذخ روبيل فجلد به الأرض ثم جثم على صدره وأراد قتله، فقال له يوسف: مهلا يا أخي لا تقتلني، فقال له: يا ابن راحيل أنت صاحب الاحلام قل لرؤياك تخلصك من أيدينا ولوي عنقه فاستغاث بيهوذا وقال له: اتق الله تعالى في وحل بيني وبين من يريد قتلي فأدركته رحمة الأخوة ورق له فقال: يا إخواتاه ما على هذا عاهدتموني ألا أدلكم على ما هو أهون لكم وأرفق به؟ قالوا: وما هو؟ قال: تلقونه في هذا الجب فإما أن يموت أو يلتقطه بعض السيارة فانطلقوا به إلى بئر هناك واسع الاسفل ضيق الرأس فجعلوا يدلونه فيها فتعلق بشفيرها فربطوا يديه ونزعوا قميصه فقال: يا إخوتاه ردوا على قميصي لأستتر به في الجب فلم يفعلوا ثم ألقوه فيها، فقال لهم: يا إخواتاه أتدعوني وحيدا؟ قالوا: أدع الشمس والقمر والكواكب تؤنسك.
وقيل: جعلوه في دلو ثم أدلوه فلما بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم قام على صخرة فيها.
وروي أنهم لما ألقوه في الجب جعل يبكي فنادوه فظن أنها رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا رضخه بصخرة ليقتلوه فمنعهم يهوذا وكان عند يعقوب قميص إبراهيم عليه السلام الذي كساه الله تعالى إياه من الجنة حين ألقى في النار وكان قد جعله في قصبة من فضة وعلقة في عنق يوسف لما خرج مع ءخوته فلما صار في البئر أخرجه ملك وألبسه أياه فأضاء له الجب، وعن الحسن أنه لما ألقى فيها عذب ماؤها وكان يغنيه عن الطعام والشراب ونزل عليه جبريل عليه السلام يؤنسه فلما أمسى نهض ليذهب فقال له: إني أستوحش إذا ذهبت، فقال: إذا رمت شيئا فقل: يا صريخ المستصرحين. ويا غوث المستغيثين. ويا مفرج كرب المكروبين قد ترى مكاني وتعلم حالي ولا يخفى عليك شيء من أمري فلما قالها يوسف عليه السلام حفتة الملائكة عليهم السلام واستأنس بهم.
وقال محمد بن مسلم الطائفي: إنه عليه السلام لما ألقى في الجب قال: يا شاهدا غير غائب ويا قريبا غير بعيدو يا غالبا غير مغلوب اجعل لي فرجا مما أنا فيه، وقيل: كان يقول: يا إليه إبراهيم وإسحق ويعقوب ارحم ضعفي وقلة حللتي وصغر سني، وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما ألقى يوسف في الجب أتابه جبريل عليه السلام فقال: يا غلام من ألقاك في هذا الجب؟ قال: إخوتي قال: ولم؟ قال: لمودة أبي إياي حسدوني، قال: تريد الخروج من ههنا؟ قال: ذاك إلى إله يعقوب، قال: قل: اللهم إني أسألك باسمك المكنون المخزون يا بديع السموات والأرض ياذا الجلال والإكرام أن تغفر لي وترحمني وأن تجعل من أمري فرجا ومخرجا وأن ترزقني من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب فقالها فجعل الله تعالى له من أمره فرجا
197

ومخرجا ورزقه ملك مصر من حيث لا يحتسب ثم قال عليه الصلاة والسلام: ألظوا بهؤلاء الكلمات فانهن دعاء المصطفين الاخيار " وروى غير ذلك، والروايات في كيفية إلفائه. وما قال. وما قيل له كثيرة، وقد تضمنت ما يلين له الصخر لكن ليس فيها ما له سند يعول عليه، والله تعالى أعلم * (وأوحينا إليه) * الضمير ليوسف أي أعلمناه عند ذلك تبشيرا له بما يؤول إليه أمره وإزالة لوحشته وتسلية له، وكان ذلك على ما روي عن مجاهد بالالهام؛ وقيل: بالالقاء في مبشرات المنام، وقال الضحاك. وقتادة: بارسال جبريل عليه السلام إليه والموحى إليه ما تضمنه قوله سبحانه: * (لتنبئنهم بأمرهم ه‍اذا) * وهو بشارة له بالخلاص أيضا أي لتخلصن مما أنت فيه من سوء الحال وضيق المجال ولتخبرن إخوتك بما فعلوا بك * (وهم لا يشعرون) * بأنك يوسف لتباين حاليك: حالك هذا. وحالك يومئذ بعلو شأنك كوبرياء سلطانك وبعد حالك من أوهامهم، وقيل: لبعد العهد المبدل للهيآت المغير للاشكال والأول أدخل في التسلية، أخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما دخل إخوة يوسف على يوسف فعرفهم وهم له منكرون جيء بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطن، فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف يدنيه دونكم وأنكم انطلقتم به فألقيتموه في غيابة الجب فأتيتم أباكم فقلتم: إن الذئب أكله وجئتم على قميصه بدم كذب، فقال بعضهم لبعض: إن هذا الجام ليخبره بخبركم، ثم قال ابن عباس: فلا نرى هذه الآية: * (لتنبئنهم بأمرهم) * الخ نزلت إلا في ذلك، وجوز أن يتعلق * (وهم لا يشعرون) * بالايحار على معنى أنا آنسناه
بالوحي وازلنا عن قلبه الوحشة التي أورثوه إياها وهم لا يشعرون بذلك ويحسبون أنه مستوحش لا أنيس له.
وروي ذلك عن قتادة، وكان هذا الإيحاء وهو عليه السلام ابن ست عند الضحاك. واثنتي عشرة سنة أو ثماني عشرة سنة عند الحسن. وسبع عشرة سنة عند ابن السائب - وهو الذي يزعمه اليهود - وقيل غير ذلك، ومن نظر في الآيات ظهر له أن الراجح كونه عليه السلام لم يبلغ الحلم إذ ذاك، وعلى جميع الأقوال أنه عليه السلام لم يكن بالغا الأربعين عند الايحاء إليه، نعم أكثر الأنبياء عليهم السلام نبئوا في سن الأربعين وقد أوحى إلى بعضهم - كيحيى. وعيسى عليهما السلام - قبل ذلك بكثير.
وزعم بعضهم أن ضمير * (إليه) * يعود على يعقوب عليه السلام وليس بشيء كما لا يخفى، وقرأ ابن عمر رضي الله عنهما لينبئنهم بياء الغيبة وكذا في مصاحف البصرة. وقرأ سلام بالنون على أنه وعيد لهم، فقوله سبحانه: * (وهم لا يشعرون) * متعلق - بأوحينا - لا غير على ما قاله الزمخشري. ومن تبعه، ونظر فيه بأنه يجوز أن يتعلق أيضا بقوله تعالى: * (لننبئنهم) * وأن يراد بانباء الله تعالى إيصال فعلهم به عليه السلام وهم لا يشعرون بذلك، ودفع بأنه بناءا على الظاهر وأنه لا يجتمع إنباء الله تعالى مع عدم شعورهم بما أنبأهم به إلا بتأويل كتقدير لنعلمنهم بعطيم ما ارتكبوه قبل وهم لا يشعرون بما فيه.
* (وجآءوا أباهم عشآء يبكون) *
* (وجاءوا أباهم عشاء) * أي في ذلك الوقت. وهو - كماقال الراغب - من صلاة المغرب إلى العتمة والعشاآن: المغرب. والعتمة.
وعن الحسن أنه قرأ - عشيا - بضم العين وفتح الشين وتشديد الياء منونا وهو تصغير عشى وهو من
198

زوال الشمس إلى الصباح، وعنه أنه قرأ - عشى - بالضم والقصر كدجى فنصبه على الحال وهو جمع أعشى عند بعض وعاش عند آخرين، وأصله عشاة كماش ومشاة فحذفت الهاء تخفيفا، وأورد عليهما بأنه لا جواز لمثل هذا الحذف وأنه لا يجمع أفعل فعلاء على فعل بضم الفاء وفتح العين بل فعل بسكون العين، ولذا قيل: كان أصله عشوا فنقلت حركة الواو إلى ما قبلها لكونه حرفا صحيحا ساكا ثم حذفت بعد قلبها ألفا لالتقاء الساكنين وإن قدر ما بكوا به في ذلك اليوم لا يعشو منه الإنسان؛ وأجيب عن هذا بأن المقصود المبالغة في شدة البكاء والنحيب لا حقيقته أي كان يضعف بصرهم لكثرة البكاء، وقيل: هو جمع عشوة مثلث العين وهي ركوب أمر على غير بصيرة يقال: أوطأه عشوة أي أمرا ملتبسا يوقعه في حيرة وبلية فيكون تأكيدا لكذبهم وهو تمييز أو مفعول له، وجوز أن يكون جمع عشوة بالضم بمعنى شعلة النار عبارة عن سرعتهم لابتهاجهم بما فعلوا من العظيمة وافتعلوا من العضيهة، وجوز أن يكون * (عشاءا) * في قراءة الجمهور جمع عاش مثل راع ورعاء ويكون نصبه على الحال، والظاهر الأول، وإنما - جاءوا عشاء - إما لأنهم لم يصلوا من مكانهم إلا في ذلك الوقت، وإما ليكونوا أقدر على الاعتذار لمكان الظلمة التي يرتفع فيها الحياء، ولذا قيل: لا تطلب الحاجة بالليل فإن الحياء في العينين ولا تعتذر في النهار من ذنب فتلجلج في الاعتذار وهل جاءوا في عشاء اليوم الذي ذهبوا فيه أو في عشار يوم آخر؟ ظاهر كلام بعضهم الأول، وذهب بعضهم إلى الثاني بناءا على ما روي أنه عليه السلام مكث في الجب ثلاثة أيام وكان إخوته يرعون حواليه وكان يهوذا يأتيه بالطعام.
وفي الكلام - على ما في البحر - حذف والتقدير * (وجاءوا أباهم) * دون يوسف * (عشاءا) * * (يبكون) * أي متباكين أي مظهرين البكاء بتكلف لأنه لم يكن عن جزن لكنه يشبهه، وكثيرا ما يفعل بعض الكذابين كذلك، أخرج ابن المنذر عن الشعبي قال: جاءت امرأة إلى شريح تخاصم في شيء ففجعلت تبكي فقالوا: يا أيا أمية أما تراها تبكي؟! فقال: قد جاء إخوة يوسف أباهم عشاءا يبكون، وقال الأعمش: لا يصدق باك بعد إخوة يوسف، وفي بعض الآثار أن يعقوب عليه السلام لما سمع بكاءهم قال: ما بالكم أجري في الغنم شيء؟ قالوا: لا قال: فما أصابكم وأين يوسف؟.
* (قالوا ي‍اأبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند مت‍اعنا فأكله الذئب ومآ أنت بمؤمن لنا ولو كنا ص‍ادقين) *
* (قالوا ي‍اأبانا إنا ذهبنا نستبق) * أي متسابقين في العدو على الأقدام على ما روي عن السدى، أو في الرمي بالسهام كام قال الزجاج، أو في أعمال نتوزعها من شقي ورعي واحتطاب أو في الصيد وأخذه كما قيل، ورجح ما قاله الزجاج بقراءة عبد الله - إنا ذهبنا ننتضل - وأورد على الأول أنه كيف ساغ لهم الاستباق في العدو وهو من أفعال الصبيان التي لا ثمرة فيها، وأجيب باملنع وثمرته التدرب في العدو لحاربة العدو ومدافعة الذئب مثلا؛ وبالجملة * (نستبق) * بمعنى نتسابق وقد يشترك الافتعال والتفاعل فيكونان بمعنى كالانتضال والتناضل ونظائرهما * (وتركنا يوسف عند مت‍اعنا) * أي ما يتمتع به من الثياب والازواد وغيرهما * (فأكله الذئب) * عقيب ذلك من غير مضي زمان يعتاد فيه التفقد والتعهد وحيث لا يكاد يطرح المتاع عادة إلا في مقام يؤمن فيه الغوائل لم يعد تركه عليه السلام عنده ن باب الغفلة وترك الحفظ الملتزم لا سيما إذ لم يغيبوا عنه فكأنهم قالوا: إنا لم نقصر في محافظته ولم نغفل عن مراقبته بل تركناه في مأمننا ومجمعنا بمرأى منا وما فارقناه إلا ساعة يسيرة بيننا وبينه مسافة قصيرة فكان ما كان قاله شيخ الإسلام، والظاهر أنهم لم يريدوا
199

إلا أن الذئب أكل يوسف ولم يقصدوا بذلك تعريضا فما قيل: إنهم عرضوا وأرادوا أكل الذئب المتاع لا يلتفت إليه لما فيه من الخروج عن الجادة من غير موجب * (وما أنت بمؤمن لنا) * أي ما أنت مصدق لنا في هذه المقالة * (ولو كنا) * عندك وفي اعتقادك * (ص‍ادقين) * أي موصوفين بالصدق والثقة لفرط محبتك فكيف وأنت سيء الظن بنا غير واثق بقولنا، قيل: ولا بد من هذا التأويل إذ لو كان المعنى * (ولو كنا صادقين) * في نفس الأمر لكان تقديره فكيف إذا كنا كاذبين فيه فيلزم اعترافهم بكذبهم فيه، وقد تقدم أن المراد في مثل ذلك تحقيق الحكم السابق على كل حال فكأنه قيل هنا: * (وما أنت بمؤمن لنا) * في حال من الأحوال فتذكر وتأمل.
* (وجآءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) *
* (وجاءوا على قميصه بدم كذب) * أي ذي كذب أو وصف بالمصدر مبالغة كأنه نفس الكذب وعينه كما يقال للكذاب: هو الكذب بعينه والزور بذاته، ومن ذلك ما في
قوله: أفيضوا على عزابكم من بناتكم * فما في كتاب الله أن يحرم الفضل
وفيهن فضل قد عرفنا مكانه * فهن به * (جود) * وأنتم به * (بخل) *
وبعضهم يؤول كذب بمكذوب فيه فإن المصدر قد يؤول بمثل ذلك، وقرأ زيد بن على رضي الله عنهماكذبا بالنصب وخرج على أنه في موضع الحال من فاعل * (جاءوا) * بتأويل كاذبين، وقيل: من دم على تأويل مكذوبا فيه، وفيه أن الحال من النكرة على خلاف القياس، وجوز أن يكون مفعولا من أجله أي جاءوا بذلك لأجل الكذب، وقرأت عائشة رضي الله تعالى عنها والحسن - كدب - بالدال المهملة وليس من قلب الذال دالا بل هو لغة أخرى بمعنى كدر أو طرى أو يابس فهو من الاضداد، وقال صاحب اللوامح: المعنى ذي كدب أي أثر لأن الكدب بياض يخرج في أظافير الشبان ويؤثر فيها فهو كالنقش ويسمى ذلك الفوق ولم يعتبر بعض المحققين تقدير المضاف وجعل ذلك من التشبيه البليغ أو الاستعارة فإن الدم في القميص يشبه الكدب من جهة مخالفة لونه لون ما هو فيه، وقوله سبحانه: * (على قميصه) * - على ما ذهب إليه أبو البقاء - حال من دم، وفي جواز تقديم الحال على صاحبها المجرور بالحرف غير الزائد خلاف، والحق كما قال السفاقسي: الجواز لكثرة ذلك في كلامهم، وفي اللباب ولا تتقدم على صاحبها المجرور على الأصح نحو مررت جالسة بهند إلا أن يكون الحال ظرفا على أن الحق ما اختاره ابن مالك من جواز التقديم مطلقا، وقال الزمخشري. ومن تبعه: إنه في موضع النصب على الظرفية أي جاءوا فوق قميصه كما تقول: جاء على جماله بأحمال، وأراد على ما في الكشف أن * (على) * على حقيقة الاستعلاء وهو ظرف لغو، ومنع في البحر كون العامل فيه المجيء لأنه يقتضي أن الفوقية ظرف للجائين، وأجيب بأن الظرفية ليست باعتبار الفاعل بل باعتبار المفعول.
وفي بعض الحواشي أن الأولى أن يقال: جاءوا مستولين على قميصه، وقوله سبحانه: * (بدم) * حال من القميص، وجعل المعنى استولوا على القميص ملتبسا بدم جائين، وهو على ما قيل: أولى من جاءوا مستولين لما تقرر في التضمين، والأمر في ذلك سهل فإن جعل المضمن أصلا والمذكور حالا وبالعكس كل منهما جائز وإذا اقتضى المقام أحدهما رجح، واستظهر كونه ظرفا للمجيء المتعدي، والمعنى أتوا بدم كذب فوق قميصه ولا يخفي استقامته، هذا ثم إن ذلك الدم كان دم سخلة ذبحوها ولطخوا بدمها القميص - كما روي عن ابن عباس. ومجاهد -.
وأخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن قتادة أنهم أخذوا ظبيا فذبحوه فلظخوا بدمه القميص، ولما جاءوا
200

به جعل يقلبه فيقول: ما أرى به أثر ناب ولا ظفر إن هذا السبع رحيم، وفي رواية أنه أخذ القميص وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص، وقال: تالله ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا أكل ابني ولم يمرق عليه قميصه، وجاء أنه بكى وصاح وخر مغشيا عليه فأفاضوا عليه الماء فلم يتحرك ومادوه فلم يجب ووضع يهوذا يده على مخارج نفسه فلم يحس بنفس ولا تحرك له عرق، فقال: ويل لنا من ديان يوم الدين ضيعنا أخانا وقتلنا أبانا فلم يفق إلا ببرد السحر * (قال بل سولت لكم أنفسكم) * أي زينت وسهلت * (أمرا) * من الأمور منكرا لا يوصف ولا يعرف، وأصل التسويل تقدير شيء في النفس مع الطمع في إتمامه.
وقال الراغب: هو تزيين النفس لما تحرص عليه وتصوير القبيح بصورة الحسن.
وقال الأزهري: كأن التسويب تفعيل من سوال الإنسان وهو أمنيته التي يطلبها فتزين لطالبها الباطل وغيره وأصله مهموز، وقيل: من البسول بفتحتين وهو استرخاء في العصب ونحوه كأن المسول لمزيد حرصه استرخى عصبه، وفي الكلام حذف على ما في البحر أي لم يأكله الذئب * (بل سولت) * الخ، وعلمه عليه السلام بكذبهم قيل: حصل من سلامة القميص عن التمزيق وهي إحدى ثلاثة آيات في القميص: ثانيتها عود يعقوب بصيرا بالقائه على وجهه، وثالثتها قده من دبر فانه كان دليلا على براءة يوسف، وينضم إلى ذلك وقوفه بالرؤيا الدالة على بلوغه مرتبة علياء تنحط عنها الكواكب، وقيل: من تناقضهم فانه يروى أنه عليه السلام لما قال: ما تقدم عن قتادة قال بعضهم: بل قتله اللصوص فقال: كيف قتلوه وتركوا قميصه وهم إلى قميصه أحوج منهم إلى قتله؟! ولعله مع هذا العلم إنما حزن عليه السلام لما خشى عليه من المكروه والشدائد غير الموت، وقيل: إنما حزن لفراقه وفراق الأحبة مما لا يطاق، ولذلك قيل: لولا مفارقة الأحباب ما وجدت * لها المنايا إلى أرواحنا سبلا
ولا بأس بأن يبقال: إنه أحزنه فراقه وخوف أن يناله مكروه * (فصبر جميل) * أي فأمرى صبر جميل، أو فصبري صبر جميل كما قال قطرب، أو فالذي أفعله ذلك كما قال الخليل. أو فهو صبر الخ كما قال الفراء، وصبر في كل ذلك خبر مبتدأ محذوف. أو فصبر جميل أمثل وأجمل على أنه مبتدأ خبره محذوف، وهل الحذف في مثل ذلك واجب. أو جائز؟ فيه خلاف، وكذا اختلفوا فيما إذا صح في كلام واحد اعتبار حذف المبتدأ وإبقاء الخبر واعتبار العكس هل الاعتبار الأول أولى أم الثاني؟.
وقرأ أبي. والأشهب. وعيسى بن عمر - فصبرا جميلا - بنصبهما وكذا في مصحف أنس بن مالك، وروي ذلك عن الكسائي، وخرج على أن التقدير فاصبر صبرا على أن اصبر مضارع مسند لضمير المتكلم، وتعقب بأنه لا يحسن النصب في مثل ذلك إلا مع الأمر، والتزم بعضهم تقديره هنا بأن يكون عليه السلام قد رجع إلى مخاطبة نفسه فقال: صبرا جميلا على معنى فاصبري يا نفس صبرا جميلا، والصبر الجميل على ما روي الحسن عنه صلى الله عليه وسلم - ما لا شكوى فيه أي إلى الخلق وإلا فقد قال يعقوب عليه السلام: * (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) * (يوسف: 86)، وقيل: إنه عليه السلام سقط حاجباه على عينيه فكان يرفعهما بعصابة فسئل عن سبب ذلك فقال: طول الزمان وكثرة الأحزان فأوحى الله تعالى إليه أتشكو إلى غيري، فقال يا رب خطيئة فاغفرها.
وقيل: المراد من قوله: * (فصبر جميل) * أني اتجمل لكم في صبري فلا أعاشركم على كآبة الوجه وعبوس
201

الجبين بل أبقى على ما كنت عليه معكم وهو خلاف الظاهر جدا * (والله المستعان) * أي المطلوب منه العون وهو إنشاء منه عليه السلام للاستعانة المستمرة * (على ما تصفون) * متعلق بالمستعان والوصف ذكر الشيء بنعمته وهو قد يكون صدقا وقد يكون كذبا، والمراد به هنا الثاني كما في قوله سبحانه: * (سبحان ربك رب
العزة عما يصفون) * (الصافات: 180) بل قيل: إن الصيغة قد غلبت في ذلك ومعنى استعانته عليه السلام بالله تعالى على كذبهم طلبه منه سبحانه إظهار كونه كذبا بسلامة بوسف عليه السلام والاجتماع معه فيكون ذكر الاستعانة هنا نظير * (عسى الله أن يأتيني بهم جميعا) * (يوسف: 83) بعد قوله فيما بعد: * (فصبر جميل) *، وفي بعض الآثار أن عائشة رضي الله عنها قالت يوم الإفك: والله لئن حلفت لا تصدقوني ولئن اعتذرت لا تعذروني فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وولده والله المستعان على ما تصفون فأنزل الله تعالى في عذرها ما أنزل، وقيل: المراد إنه تعالء المستعان على احتمال ما تصفونه من هلاك يوسف كأنه عليه السلام بعد أن قال: صبر جميل طلب الإعانة منه تعالى على الصبر وذلك لأن الدواعي النفسانية تدعو إلى إظهار الجزع وهي قوية والدواعي الروحانية الصبر الجميل فكأنه وقعت المحاربة بين الصفتين فما لم تحصل المعونة منه جل وعلا لا تحصل الغلبة، فقوله: * (فصبر جميل) * يجرى مجرى * (إياك نعبد) * * (والله المستعان على ما تصفون يجري مجرى * (وإياك نستعين) * ولعل الأول أسلم من القال والقيل، وللإمام الرازي عليه الرحمة في هذا المقام بحث، وهو: أن الصبر على قضاء الله تعالى واجب وأما الصبر على ظلم الظالمين ومكر الماكرين فغير واجب بل الواجب إزالته لاسيما في الضرر العائد إلى الغير فكان اللائق بيعقوب عليه السلام التفتيش والسعى في تخليص يوسف عليه السلام من البلية والشدة إن كان حيا، وفي إقامة القصاص إن صح أنهم قتلوه بل قد يقال: إن الواجب المتعين عليه السعي في طلبه وتخليصه لأن الظاهر أنه كان عالما بأنه حي سليم لقوله: * (وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث) * (يوسف: 6) فإن الظاهر أنه إنما قاله عن وحي، وأيضا إنه عليه السلام كان عظيم القدر جليل الشأن معظما في النفوس مشهورا في الآفاق فلو بالغ في الطلب والتفحص لظهر ذلك واشتهر ولزال وجه التلبيس فما السبب في تركه عليه السلام الفحص مع نهاية رغبته في حضور يوسف وغاية محبته له، وهل الصبر في هذا المقام إلا مذموم عقلا وشرعا؟ ثم قال: والجواب أن نقول: لا جواب عن ذلك إلا أن يقال: إنه سبحانه وتعالى منعه عن الطلب تشديدا للمحنة وتغليظا للأمر، وأيضا لعله عرف بقرائن الأحوال أن أولاده أقوياء وأنهم لا يمكنونه من الطلب والتفحص وأنه لو بالغ في البحث ربما أقدموا على إيذائه وقتله، وأيضا لعله عليه السلام علم أن الله تعالى يصون يوسف عن البلاء والمحنة وأن أمره سيعظم بالآخرة ثم لم يرد هتك ستر أولاده وما رضي بإلقائهم في ألسنة الناس، وذلك لأن أحد الولدين إذا طلم الآخر وقع الأب في العذاب الشديد لأنه إن لم ينتقم يحترق قلبه على الولد المظلوم وإن أنتقم يحترق على الولد الذي ينتقم منه، ونظير ذلك ما أشار إليه الشاعر بقوله: قومي هم قتلوا أميم أخي * فإذا رميت يصيبني سهمي
ولئن عفوت لأعفون جللا * ولئن سطوت لموهن عظمي
فلما وقع يعقوب عليه السلام في هذه البلية رأى أن الأصوب الصبر والسكوت وتفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى لا سيما إن قلنا: إنه عليه السلام كان عالما بأن ما وقع لا يمكن تلافيه حتى يبلغ الكتاب أجله.
202

* (وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يابشرى ه‍اذا غلام وأسروه بض‍اعة والله عليم بما يعملون) *
* (وجاءت) * شروع فيما جرى على يوسف عليه السلام في الجب بعد الفراغ عن ذكر ما وقع بين إخوته وبين أبيه أي وجاءت إلى الجب * (سيارة) * رفقة تسير من جهة مدين إلى مصر وكان ذلك بعد ثلاثة أيام مضت من زمن القائه في قول، وقيل: في اليوم الثاني، والظاهر أن الجب كان في طريق سيرهم المعتاد.
وقيل: إنه كان في قفرة بعيدة من العمران فأخطأوا الطريق فأصابوه * (فأرسلوا) * إليه * (واردهم) * الذي يريد الماء ويستقي لهم وكان ذلك مالن بن ذعر الخزاعي.
وقال ابن عطية: الوارد هنا يمكن أن يقع على الواحد وعلى الجماعة اه‍ والظاهر الأول، والتأنيق في * (جاءت) * والتذكير في * (أرسلوا - و - واردهم) * باعتبار اللفظ والمعنى، وفي التعبير بالمجيء إيماء إلى كرامة يوسف عليه السلام عند ربه سبحانه، وحذف متعلقة وكذا متعلقة وكذا متعلق الإرسال لظعوره ولذا حذف المتعلق في قوله سبحانه: * (فأدلى دلوه) * أي أرسلها إلى الجب ليخرج الماء، ويقال: دلا الدلو إذا أخرجها ملأي، والدلو من المؤنثات للسماعية فتصغر على دلية وتجمع على أدل. ودلاء ودلى.
وقال ابن الشحنة: إن الدلو التي يستقي بها مؤنثة وقد تذكر، وأما الدلو مصدر دلوت وضرب من السير فمذكر ومثلها في التذكير والتأنيث الجب عند الفراء على ما نقله عنه محمد بن الجهم، وعن بعضهم أنه مذكر لا غير وأما البئر مؤنثة فقط في المشهور، ويقال في تضغيرها: بويرة؛ وفي جمعها آباء. وأبار. وأبؤر. وبثار، وفي الكلام حذف أي فأدلى دلوه فتدلى بها يوسف فخرج * (قال) * استئناف مبني على سؤال يقتضيه الحال.
* (ي‍ابشرى هذا غل‍ام) * نادى البشرى بشارة لنفسه أو لقومه ورفقته كأنه نزلها منزلة شخص فناداه فهو استعارة مكنية وتخييلية أي يا بشرى تعالى فهذا أوان حضورك، وقيل: المنادي محذوف كما في ياليت أي يا قومي انظروا واسمعوا بشراي، وقيل: إن هذه الكلمة تستعمل للتبشير من غير قصد إلى النداء.
وزعم بعضهم أن بشرى اسم صاحب له ناداه ليعينه على إخراجه، وروي هذا عن السدى - وليس بذاك - وقرأ غير الكوفيين - يا بشراي - بالإضافة، وأمال فتحة الراء حمزة. والكسائي، وقرأ وريش بين اللفظين.
وروي عن نافع أنه قرأ - يا بشراي - بسكون ياء الإضافة ويلزمه التقاء الساكنين عغلى غيره وحده، واعتذر بأنه أجري الوصل مجرى الوقف ونظائر ذلك كثيرة في القرآن وغيره، وقيل: جاز ذلك لأن الألف لمدها تقوم مقام الحركة، وقرأ أبو الطفيل. والحسن. وابن أبي إسحق. والجحدري * (يا بشرى) * بقلب الألف ياءا وإدغامها في ياء الاضافة - وهي لغة لهذيل. ولناس غيرهم - ومن ذلك قول أب؛ ي ذؤيب: سبقوا (هوى) وأعنقوا لهواهم * فتخرموا ولكل جنب مصرع
ويقولون: يا سيدي. ومولى، و - الغلام - كثيرا ما يطلق على ما بين الحولين إلى البلوغ، وقد يطلق على الرجل الكامل كما في قول ليلى الأخيلية في الحجاج بن
يوسف الثقفي. غلام إذا هز القناة سقاها
والظاهر أن التنوين فيه للتغخيم، وحق له ذلك فقد كان عليه من أحسن الغلمان، وذكر البغوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: أعطي يوسف شطر الحسن.
وقال محمد بن إسحق: ذهب يوسف وأمه بثلثي الحسن، وحكى الثعلبي عن كعب الأحبار أنه قال: كان
203

يوسف حسن الوجه جعد الشعر ضخم العينين مستوى الخلق أبيض اللون غليظ الساعدين والساقين خميص البطن صغير السرة وكان إذا تبسم رأيت النور في ضواحكه وإن تكلم رأيت شعاع النور من ثناياه ولا يستطيع أحد وصفه وكان حسنه كضوء النهار عند الليل وكان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه قبل أن يصيب الخطيئة، ويحكى أن جوانب الجب بكت عليه حين خرج منها، ولعله من باب بكت الدار لفقد فلان، والظاهر أن قول الوارد * (يا بشرى هذا غلام) * (يوسف: 19) كان عند وؤيته، وقيل: إنه حين وروده على أصحابه صاح بذاك * (وأسروه) * أي أخفاه الوارد وأصحابه عن بقية الرفقة حتى لا تراه فتطمع فيه، وقيل: أخفوا أمره وكونه وجد في البئر، وقالوا لسائر القافلة: دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر، وقيل: الضمير لإخوة يوسف، وذلك أن بعضهم رجع ليتحقق أمره فرآه عند السيارة فأخبر إخوته فجاءوا إليهم فقالوا: هذا غلام أبق لنا فاشتروه منا فاشتروه وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه، وفي رواية أنهم قالوا بالعبرانية: لا تنكر العبودية نفتلك فأقر بها واشتروه منهم، وقيل: كان يهوذا يأتيه بالطعام فأتاه يوم أخرج فلم يجده في الجب ووجده عند الرفقة فأخبر إخوته فأتوهم فقالوا ما قالوا، وروي كون الضمير للاخوة عن ابن عباس رضي الله عنهما، قيل: وهو المناسب لإفراد * (قال) * وجمع ضمير - أسروا - وللوعيد الآتي قريبا إن شاء الله تعالى، وليس فيه اختلاف في النظم، ولا يخفى أن الظاهر ما أشير إليه أولا، ونصب قوله سبحانه: * (بض‍اعة) * على الحال أي أخفوه حال كونه متاعا للتجارة، وفي الفرائد أنه ضمن أسروه معنى جلعوه أي جعلوه بضاعة مسرين إياه فهو مفعول به.
وقال ابن الحاجب: يحتمل أن يكون مفعولا له أي لأجل التجارة وليس شرطه مفقودا لاتحاد فاعله وفاعل الفعل المعلل به إذ المعنى كتموه لأجل تحصيل المال به، ولا يجوز أن يكون تمييزا وهو من - البضع - بمعنى القطع وكأن البضاعة إنما سميت بذلك لأنها تقطع من المال وتجعل للتجارة، ومن ذلك البضع بالكسر بما بين الثلاث إلى العشرة أو لما فوق الخمس ودون العشرة، والبضيعة للجزيرة المنقطعة عن البر، واعتبر الراغب في البضاعة كونها قطعة وافرة من المال تقتني للتجارة ولم يعتبر الكثير كونها وافرة * (والله عليم بما يعملون) * لم يخف عليه سبحانه اسرارهم، وصرح غير واحد أن هذا وعيد لإخوة يوسف عليه السلام على ما صنعوا بأبيهم وأخيهم وجعلهم إياه، وهو هو عرضة للابتذال بالبيع والشراء.
* (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين) *
* (وشروه) * الضمير المرفوع إما للاخوة فشرى بمعنى باع، وإما للسيارة فهو بمعنى اشترى كما في قوله: (وشريت) بردا ليتني * من بعد برد كنت هامه
وقوله: ولو أن هذا الموت يقبل فدية * (شريت) أبا زيد بما ملكت يدي
وجوز أن يكون على هذا الوجه بمعنى باع بناءا على أنهم باعوه لما التقطوه من بعضهم * (بثمن بخس) * أي نقص وهو مصدر أريد به اسم المفعول أي منقوص، وجوز الراغب أن يكون بمعنى باخس أي ناقص عن القيمة نقصانا ظاهرا، وقال مقاتل: زيف ناقص العيار، وقال قتادة: بخس ظلم لأنه ظلموه في بيعه، وقال ابن عباس. والضحاك في آخرين: البخس الحرام وكان ذلك حراما لأنه ثمن الحر وسمي الحرام بخسا لأنه مبخوس البركة أي منقوصها، وقوله سبحانه: * (دراهم) * بدل من ثمن أي لا دننانير * (معدودة) * أي قليلة وكنى بالعد عن القلة لأن الكثير يوزن عندهم وكان عدة هذه الدراهم في كثير من الروايات عشرين درهما، وفي رواية
204

عن ابن عباس اثنين وعشرين، وفي أخرى عنه عشرين وحلة ونعلين، وقيل: ثلاثين وحلة ونعلين، وقيل: ثمانية عشر اشتروا بها أخفافا ونعالا، وقيل: عشرة، وعن عكرمة أنها كانت أربعين درهما، ولا يأبى هذا ما ذكره غير واحد من أن عادتهم أنهم لا يزنون إلا ما بلغ أوقية وهي أربعون درهما إذ ليس فيه نفي أن الأربعين قد تعد * (وكانوا فيه) * أي في يوسف كما هو الظاهر * (من الزاهدين) * أي الراغبين عنه، والضمير في * (وكانوا) * إن كان للإخوة فظاهر وإن كان للرفقة وكانوا بائعين فزهدهم فيه لأنهم التقطوه والملتقط للشيء متهاون به لا يبالي بما باعه ولأنه يخاف أن يعرض له مستحق ينتزعه من يده فيبيعه من أول مساوم بأوكس الثمن وإن كان لهم وكانوا مبتاعين بأن اشتروه من بعضهم أو من الإخوة فزهدهم لأنهم اعتقدوا فيه أنه آبق فخافوا أن يخاطروا بما لهم فيه، وقيل: ضمير * (فيه) * للثمن وزهدهم فيه لرداءته أو لأن مقصودهم ليس إلا إبعاد يسوف عليه السلام وهذا ظاهر على تقدير أن يكون ضمير * (كانوا) * للإخوة، والجار - على ما نقل عن ابن مالك - متعلق بمحذوف يدل عليه - الزاهدين - أي كانوا زاهدين فيه من الزاهدين، وذلك أن اللام في الزاهدين اسم موصول ولا يتقدم ما في صلة الموصول عليه، ولأن ما بعد الجار لا يعمل فيما قبله، وهل * (من الزاهدين) * حينئذ صفة لزاهدين المحذوف مؤكدة كما تقول: عالم من العلماء. أو صفة مبينة أي زاهدين بلغ بهم الزهد إلى أن يعدوا في الزاهدين لأن الزاهد قد لا يكون عرقيا في الزاهدين حتى يعد فيهم إذا عدوا. أو يكون خبرا ثانيا؟ كل ذلك محتمل، وليس بدلا من المحذوف لوجود * (من) * معه، وقدر بعضهم المحذوف أعنى وأنا فيه من الزاهدين، وقال ابن الحاجب في أماليه: إنه متعلق بالصلة والمعنى عليه بلا شبهة وإنما فروا منه لما فهموا من أن صلة الموصول لا تعمل فيما قبل الموصول مطلقا، وبين صلة - أل - وغيرها فرق فان هذه على صورة الحرف المنزل منزلة الجزء من الكلمة فلا يمتنع تقديم معمولها عليها فلا حاجة إلى القول بأن تعلقه بالمذكور إنما هو على مذهب المازني الذي جعل - أل - في مثل ذلك حرف تعريف وكأنه لا يرى تقدم معمول المجرور ممتنعا وإلا لم يتم بما ذكره ارتفاع المحذور.
وزعم بعضهم أنه يلزم بعد عمل اسم الفاعل من غير اعتماد من الغفلة بمكان لأن محل الخلاف عمله في الفاعل والمفعول به الصريح لا في الجار والمجرور الذي يكفيه
رائحة الفعل؛ وقال بعض المتأخرين: إن الصفة هنا معتمدة على اسم كانوا وهو مبتدأ في الأصل، والاعتماد على ذلك معتبر عندهم، ففي الرضى عن، قول ابن الحاجب: والاعتماد على صاحبه ويعني بصاحبه المبتدأ إما في الحال نحو زيد ضارب أخواه. أو في الأصل نحو كان زيد ضاربا أخواه. وظننتك ضاربا أخواك وإن زيدا ضارب غلاماه، وعلى هذا لا يحتاج في الجواب إلى إخراج الجار والمجرور عن حكم الفاعل والمفعول به الصريح وإن كان له وجه وجيه خلافا لمن أنكره، ومن الناس من يتمسك بعموم يتوسع في الظرف والجار والمجرور ما لا يتوسع في غيرهما في دفع ما يورد على تعلق الجار هنا بالصفة المجرور الواقعة صلة لال كائنا ما كان فلفهم.
هذا والشائع أن الباعة إخوته. والزاهدين هم، وفي بعض الآثار أنهم حين باعوه قالوا للتأجر: إنه لص آبق فقيده ووكل به عبدا أسود فلما جاء وقت ارتحالهم بكى عليه السلام فقال له التاجر: مالك تبكى؟ فقال: أريد أن أصل إلى الذين باعوني لأودعهم وأسلم عليهم سلام من لا يرجع إليهم، فقال التاجر للعبد: خذه واذهب به إلى مواليه ليودعهم ثم ألحقه بالقافلة فما رأيت غلاما أبر من هذا بمواليه ولا قوما أجفى منهم فتقدم العبد به إلى إخوته وكان زاحد منهم مستيقظا يحرس الأغنام فلما وصل إليه يوسف وهو يعثر في قيده انكب
205

عليه وبكى، فقال له: لماذا جئت؟ فقال: جئت لأودعكم وأسلم عليكم فصاح عليهم أخوهم قوموا إلى من أتاكم يسلم عليكم سلام من لا يرجو أن يراكم أبدا فويل لكم من هذا الوداع فقاموا فجعل يوسف ينكب على كل واحد منهم ويقبله ويعانقه، ويقول: حفظكم الله تعالى وإن ضيعتموني آواكم الله تعالى وإن طرتموني رحمكم الله تعالى وإن لم ترحموني. قيل: إن الأغنام ألقت ما في بطونها من هول هذا التوديع، ثم أخذه العبد وطلب القافلة فبينما هو على الراحلة إذ مر بقبر أمه راحيل في مقابر كنعان فلما أبصر القبر لم يتمالك أن رمى بنفسه عليه فاعتنقه وجعل يبكي ويقول: يا أماه ارفعي رأسك من التراب حتى ترى ولدك مقيدا يا أماه إخوتي في الجب طرحوني ومن أبي فرقوني وبأبخس الأثمان باعوني ولم يرقوا لصغر سني ولم يرحموني فأنا أسأل الله تعالى أن يجمع بيني وبين والدي في مستقر رحمته إنه أرحم الراحمين. فالتفت العبد فلم يره فرجع رآه على القبر فقال: والله لقد صدق مواليك إنك عبد آبق ثم لطمه شديده فغشي عليه ثم أفاق فقال له: لا تؤاخذني هذا قبر أمي نزلت أسلم عليها ولا أعود بعد لما تكرهه أبدا ثم رفع عينيه إلى السماء وقد تمرغ بالتراب والدموع في وجهه فقال: اللهم إن كانت لي خطيئة أخلقت وجهي عندك فبحرمة آبائي الكرام إبراهيم وإسحق ويعقوب أن تعفو عني وترحمني يا أرحم الراحمين فضجت الملائكة إلى الله تعالى عند ذلك فقال تبارك وتعالى: يا ملائكتي هذا نبي وابن أنبيائي وقد استغاث بى وأنا مغيثه ومغيث المستغيثين يا جبريل أدركه فنزل جبريل عليه السلام فقال: يا صديق الله ربك يقرئك السلام ويقول لك: مهلا عليك فقد أبكيت ملائكة السموات السبع أتريد أن أطبق السماء على الأرض؟ فقال: لا يا جبريل ارفق بخلق ربي فإنه حليم لا يعجل فضرب الأرض بجناحه فهبت ريح حمراء وكسفت الشمس وأظلمت الغبراء فلم ير أهل القافلة بعضهم بعضا، فقال التاجر: انزلوا قبل أن تهلكوا إن لي سنين عديدة أم بهذا الطريق فما رأيت كاليوم فمن أصاب منكم ذنبا فليتب منه فما أصابنا هذا إلا بذنب اقترفناه فأخبره العبد بما فعل مع يوسف، وقال يا سيدي: إني لما ضربته رفع عينيه إلى السماء وحرك شفتيه فقال له التاجر: ويحك أهلكتنا وأهلكت نفسك فتقدم إليه التاجر وقال: يا غلام إنا ظلمناك حين ضربناك فإن شئت أن تقتص منها فها نحن بين يديك؟ فقال يوسف: ما أنا من قوم إذا ظلموا يقتصرون ولكني من أهل بيت إذا ظلموا عفوا وغفروا ولقد عفوت عنكم رجاء أن يعفوا الله تعالى عني فانجلت الظلمة وسكنت الريح وأسفرت الشمس وأضاءت مشارق الأرض ومغاربها فساروا حتى دخلوا مصر آمنين وكان هذا التاجر فيما قيل: مالك بن ذعر الذي أخرجه من الجب، وقيل: غيره.
وروي أنه حين ورد به مصر باعه بعشرين دينارا. وزوجي نعل. وثوبين أبيضين، وقيل: أدخل السوق للبيع فترافعوا في ثمنه حتى بلغ وزنه مسكا. ووزنه ورقا. ووزنه حريرا فاشتراه بذلك العزيز الذي كان على خزائن مصر عند ملكها، وقيل: كان خباز الملك وصاحب شرابه ودوا به صاحب السجن المشهور، والمعول عليه هو الأول، واسمه قطفير. أو اطفير. أو قنطورا، والأول مروى عن ابن عباس
* (وقال الذى اشتراه من مصر لامرأته أكرمى مثواه عسى أن ينفعنآ أو نتخذه ولدا وكذالك مكنا ليوسف فى الارض ولنعلمه من تأويل الاحاديث والله غالب على أمره ول‍اكن أكثر الناس لا يعلمون) *
* (وقال الذي اشتراه من مصر) * فهذا الشراء غير الشراء السابق الذي كان بثمن بخس، وزعم اتحادهما ضعيف جدا وإلا ر يبقى لقوله: * (من مصر) * كثير جدوى، وكان الملك يومئذ الريان بن الوليد العمليقي ومات في حياة
206

يوسف عليه السلام بعد أن آمن به فملك بعده قابوس بن مصعب فدعاه إلى الايمان فأبى.
وقيل: كان الملك في أيامه فرعون موسى عليه السلام عاش أربعمائة سنة بدليل قوله تعالى: * (ولقد جاءكم موسى بالبينات) * (البقرة: 92)، وقيل: فرعون موسى عليه السلام من أولاد فرعون يوسف عليه السلام، والآية من قبيل خطاب الأولاد بأحوال الآباء وهو الصحيح، وظاهر أمر العزيز أنه كان كافرا.
واستدل في البحر على ذلك بكون الصنم في بيته حسبما يذكر في بعض الروايات.
وقال مجاهد: كان مؤمنا، ولعل مراده أنه آمن بعد ذاك وإلا فكونه مؤمنا يوم الاشتراء مما لا يكاد يسلم، نعم إنه اعتنى بأمر يوسف عليه السلام ولذا قال: * (لأمرأته) * راعيل بنت رعابيل، وهو المروى عن مجاهد.
وقال السدى: زليخا بنت تمليخا، وقيل: اسمها راعيل ولقبها زليخا، وقيل: بالعكس، والجار الأول كما قال أبو البقاء: متعلق - باشتراه - كقولك. اشتريته من بغداد أي فيها أو بها، أو متعلق بمحذوف وقع حالا من الذي. أو من الضمير في - اشترى - أي كائنا من أهل مصر، والجار الثاني متعلق - بقال - كما أشرنا إليه لا -
باشتراه - ومقول القول: * (أكرمي مثواه) * أي اجعلي محل ثوائه وإقامته كريما أي حسنا مرضيا، وهذا كناية عن إكرامه عليه السلام نفسه على أبلغ وجه وأتمه لأن من أكرم المحل بتنظيفه وفرشه ونحو ذلك فقد أكرم ضيفه بسائر ما يكرم به، وقيل: المثوى مقحم يقال: الملجس العالي. والمقام السامي، والمعنى أحسنى تعهده والنظر فيما يقتضيه إكرام الضيف * (عسى أن ينفعنا) * في قضاء مصالحنا إذا تدرب في الأمور وعرف مجاريها * (أو نتخذه ولدا) * أي نتبناه ونقيمه مقام الولد، وكان فيما يروى عقيماف، ولعل الانفصال لمنع الخلو.
وزعم بعضهم أنه لمنع الجمع على معنى عسى أن نبيعه فننتفع بثمنه وليس بشيء، وكان هذا القول من العزيز لما تفرس فيه من مخايل الرشد والنجابة، ومن ذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه فيما أخرجه سعيد بن منصور. والحاكم وصححه. وجماعة: أفرس الناس ثلاثة: العزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته: * (أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا) * (يوسف: 21) الخ. والمرأة التي أتت موسى فقالت لأبيها: * (يا أبت استأجره) * (القصص: 26) وأبو بكر حين استخلف عمر * (وكذالك مكنا ليوسف في الأرض) * أي جعلنا له فيها مكانا يقال: مكنه فيه أي أثبته فيه. ومكن له فيه أي جعل له مكانا فيه، ولتقاربهما وتلازمهما يستعمل كل منهما في مقام الآخر قال سبحانه: * (وكم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم) * (الأنعام: 6) والمراد بالمكان هنا المكانة والمنزلة لا البعد المجرد أو السطح الباطن من الحاوي المماس للسطح الظاهر من المحوى أو غير ذلك مما ذهب إليه من ذهب من الفلاسفة إن حقا وإن باطلا، والإشارة إلى ما يفهم مما تقدم من الكلام وما فيه من معنى البعد لتفخيمه، والكاف نصب على المصدرية أي كما جعلنا له مثوى كريما في منزل العزيز أو مكانا عليا في قلبه حتى أمر امرأته دون سائر حواشيه بإكرام مثواه جعلنا له مكانة رفيعة في أرض مصر، وفسر الجعل المذكور بجعله وجيها فيما بين أهل مصر ومحببا في قلوبهم بناءا على أنه الذي يؤدي إلى الغاية المذكورة في قوله تعالى: * (ولنعلمنه من تأويل الأحاديث) *
207

أي بعض تعبير الرؤيا التي عمدتها رؤيا الملك. وصاحبي السجن، وروي هذا المعنى عن مجاهد، وهو الظاهر كما يرشد إليه قوله عليه السلام: * (ذلك مما علمني ربي) * سواء جعل معطوفا على غاية مقدرة ينساق إليها الكلام ويستدعيها النظام كأنه قيل: ومثل ذلك التمكين البديع مكنا ليوسف في الأرض وجعلنا قلوب أهلها كافة محال محبته ليترتب على ذلك ما يترتب مما جرى بينه وبين امرأة العزيز. ولنعلمه بعض تأويل الأحاديث فيؤدي ذلك إلى الرتبة العليا والرياسة العظمى، ولعل ترك المعطوف عليه للاشعار بعدم كونه مرادا أو جعل علة لمحذوف كأنه قيل: ولهذه الحكمة البالغة فعلنا ذلك التمكين لا لشيء غيرها مما ليس له عاقبة حميدة.
واختار بعض المحققين كون ذلك إشارة إلى مصدر الفعل المذكور بعده، والكاف مقحمة للدلالة على تأكيد فخاة شأن المشار إليه على ما ذكروا في * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) * (البقرة: 143) والمراد به التمكين في قلب العزيز أو في منزلة وكون ذلك تمكينا في الأرض بملابسة أنه عزيز فيها لما أن الذي عليه يدور تلك الأمور إنما هو التمكين في جانب العزيز، وأما التمكين في جانب الناس كافة فتأديته إليها إنما هي باعتبار اشتماله على ذلك التمكين، ولا يخفى أن حمل التمكين في الأرض على التمكين في قلب العزيز. أو في منزله خلاف الظاهر، وكذا حمله على ما تقدم، ولعل الظاهر حمله على جعله ملكا يتصرف في أرض مصر بالأمر والنهي إلا أن في جعل التعليم المذكور غاية له خفاء لأن ذلك الجعل من آثاره ونتائجه المتفرعة عليه دون العكس ولم يعهد منه عليه السلام في تضاعيف قضاياه العمل بموجب الرأيا المنبهة على الحوادث قبل وقوعها عهدا مصححا لجعله غاية لذلك وام وقع من التدارك في أمر السنين فإنما هو عمل بموجب الرؤيا السابقة المعهودة وإرادة ليظهر تعليمنا له كما ترى، وكأن من ذهب إلى ذلك - لأنه الظاهر - أراد بتعليم تأويل الأحاديث تفهيم غوامض أسرار الكتب الإلهية ودقائق سنن الأنبياء عليهم السلام فيكون المعنى حينئذ مكنا له في أرض مصر ليتصرف فيها بالعدل ولنعلمه معاني كتب الله تعالى وأحكامها ودقائق سنن الأنبياء عليهم السلام فيقضي بها بين أهلها، والتعليم الإجمالي لتلك الأحاديث وإن كان غير متأخر عن تمكينه بذلك المعنى إلا أن تعليم كل معنى شخصي يتفق في ضمن الحوادث والإرشاد إلى الحق في كل نازلة من النوازل متأخر عن ذلك صالح لأن يكون غاية له، وأدرج بعضهم الإنجاء تحت الاشارة بذلك، وفيه بحث فتدبر. * (والله غالب على أمره) * لا يمنع عما يشاء ولا ينازع فيما يريد بل إنما أمره لشيء إذا أراد أن يقول له كن فيكون، ويدخل في عموم المصدر المضاف شؤونه سبحانه المتعلقة بيوسف عليه السلام دخولا أوليا أو متول على أمر يوسف عليه السلام فيدبره ولا يكله إلى غيره، وإلى رجوع ضمير أمره إلى الله تعالى ذهب ابن جبير، وإلى رجوعه إلى يوسف عليه السلام ذهب القرطبي، وأيا ما كان فالكلام على ما في الكشف تذييل أما على الأول فلجريه مجرى قوله تعالى: * (إن الباطل كان زهوقا) * (الإسراء: 81) من سابقه لأنه لما كان غالبا على جميع أموره لا يزاحمه أحد ولا يمتنع عليه مراد كانت إرادته تمكين يوسف وكيت وكيت، والوقوع رضيعي لبان، وأما على الثاني فلأن معناه أنه الغالب على أمره يتولاه بلطيف صنعه وجزيل إحسانه وإذا جاء نهر الله تعالى بطل نهر معقل فأين يقع كيد الاخوة وغيرهم كامرؤة العزيز موقعه فهو كقوله:
وعلام أركعبه إذا لم أنزل * من سابقه أعنيفدعوا نزال فكنت أول نازل
208

والآية على الأول صريحة في مذهب أهل السنة * (ول‍اكن أكثر الناس لا يعلمون) * أن الأمر كذلك فيما يأتون ويذرون زعما منهم أن لهم من الأمر شيئا، وأنى لهم ذلك؟! وأن الأمر كله لله عز وجل، أو لا يعلمون لطائف صنعه وخفايا فضله، والمراد - بأكثر الناس - قيل: الكفار، ونقل ذلك عن ابن عطية.
وقيل: أهل مصر، وقيل: أهل مكة، وقيل: الأكثر بمعنى الجميع، والمراد أن جميع الناس لا يطلعون على غيبه تعالى، والأولى أن يبقى على ما يتبادر منه ولا يقتصر في تفسيره على ما تضمنته الأقوال قبل، بل يراد به من نفى عنه العلم بما تقدم كائنا ما كان، ولا يبعد أن يندرج في عمومه أهل الاعتزال.
* (ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذالك نجزى المحسنين) *
* (ولما بلغ أشده) * أي بلغ زمان انتهاء اشتداد جسمه وقوته وهو سن الوقوف عن النمو المعتد به أعني ما بين الثلاثين والأربعين، وسئل القاضي النحوي مهذب الدين
محمد بن علي بن علي بن أبي طالب الخيمي عنه، فقال: هو خمس وثلاثون سنة وتمامه أربعون.
وقال الزجاج: هو سبعة عشر عاما إلى نحو الأربعين، وعن مجاهد. وقتادة - ورواه ابن جبير - عن ابن عباس أنه ثلاثة وثلاثون. أو ثلاثون. أو أحد وعشرون، وقال الضحاك: عشرون، وحكى ابن قتيبة أنه ثمان وثلاثون.
وقال الحسن: أربعون، والمشهور أن الإنسان يقف جمسه عن النمو إذا بلغ ذلك، وإذا وقف الجسم وقفت القوى والشمائل والأخلاق ولذا قيل: إذا المرء وفي الأربعين ولم يكن * له دون ما يهوى حياء ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى * وإن جر أسباب الحياة له العمر
وقيل: أقصى الأشد إثنان وستون، وإلى كون الأشد منتهى الشباب والقوة قبل أن يؤخذ في النقصان ذهب أبو عبيدة. وغيره من ثقات اللغويين، واستظهره بعض المحققين، وهو عند سيبويه جمع واحده شدة - كنعمة. وأنعم - وقال الكسائي. والفراء: إنه جمع شد نحو - صك. وأصك، وفلس. وأفلس - وهذا على ما ذكر أبو حاتم يوجب أن يكون مؤنثا لأن كل جميع على أفعل مؤنث.
وزعم عن أبي عبيدة أنه لا واحد له من لفظه عند العرب، وقال الفراء: أهل البصرة يزعمون أنه اسم واحد لكنه على بناء ندر في المفردات وقلما رأينا اسما على أفعل إلا وهو جمع * (ءاتين‍اه حكما) * أي حكمة وهي في لسان العشر العلم النافع المؤيد بالعمل لأنه بدونه لا يعتد به، والعمل بخلاف العلم سفه، أو حكما بين الناس * (وعلما) * يعني علم تأويل الرؤيا، وخص بالذكر لأنه غير داخل فيما قبله، أو أفراد بالذكر لأنه مما له شأن وليوسف عن هواها وصونها عما لا ينبغي. والعلم هو العلم النظري، وقيل: أراد بالحكمة الحكم بين الناس. وبالعلم العلم بوجوه المصالح فإن الناس كانوا إذا تحاكموا إلى العزيز أمره بأن يحكم بينهم لما رأى من عقله وإصابته في الرأي.
وعن ابن عباس أن الحكم النبوة. والعلم الشريعة وتنكيرهما للتفخيم أي حكما وعلما لا يكتنه كنههما ولا يقادر قدرهما، وتعقب كون المراد بالعلم العلم بتأويل الأحاديث - بأن قوله سبحانه: * (وكذلك) * أي مثل ذلك الجزاء العجيب * (نجزي المحسنين) * أي كل من يحسن في علمه - يأباه لأن ذلك لا يصلح أن يكون جزاءا لأعماله الحسنة التي من جملتها معاناة الأحزان والشدائد إلا أن يخص بعلم تأويل رؤيا الملك فإن ذلك
209

حيث كان عند تناهي أيام البلاء صح أن يعد إيتاءه من جملة الجزاء؛ وأما رؤيا صاحبي السجن فقد لبث عليه السلام بعد تعبيرها في السجن بضع سنين، وفي تعليق الجزاء المذكور بالمحسنين إشعار بعلية الإحسان له وتنبيه على أنه تعالى إنما آتاه ما آتاه لكونه محسنا في أعماله متقنا في عنفوان أمره، ومن هنا قال الحسن: من أحسن عبادة الله سبحانه في شبيبته آتاه الله تعالى الحكمة في اكتهاله، واستشكل ما أفاده تعليق الحكم بالمشتق من العلية على تقدير أن يراد من الحكمة العلم المؤيد بالعمل مثلا بأن إحسان العمل لا يكون إلا بعد العلم به فلو كان العلم المؤيد به مثلا علة للإحسان بذلك لزم الدور.
وأجيب بأن إحسان العمل يمكن أن يكون بطريق آخر كالتقليد والتوفيق الإلهي فيكون سببا للعلم به عن دليل عقلي أو سمعي، أو المراد الأعمال الغير المتوقفة على السمع فيكون ذلك السبب للعلم بما شرع له من الأعمال، وقال بعض المحققين: الظاهر تغاير العلمين كما في الأثر " من عمل بما علم يسر الله تعالى له علم ما لم يعلم "، وعن الضحاك تفسير (المحسنين) بالصابرين على النوائب.
* (وراودته التى هو فى بيتها عن نفسه وغلقت الابواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربىأحسن مثواى إنه لا يفلح الظ‍المون) *
* (وراودته التي هو في بيتها) * رجوع إلى شرح ما جرى عليه عليه السلام في منزل العزيز بعدما أمر امرأته بإكرام مثواه، وقوله سبحانه: * (وكذلك مكنا ليوسف) * (يوسف: 21) إلى هنا اعتراض جىء به أنموذجا للقصة ليعلم السامع من أول الأمر أن ما لقيه عليه السلام من الفتن التي ستحكي بتفاصيلها له غاية جميلة وعاقبة حميدة وأنه عليه السلام محسن في أعماله لم يصدر عنه ما يخل بنزاهته، والمراودة المطالبة برفق من راد يرود إذا ذهب وجاء لطلب شيء، ومنه الرائد لطالب الكلأ والماء، وباعتبار الرفق قيل: رادت الإبل في مشتيها ترود رودانا، ومنه بنى المرود؛ ويقال: أرود يرود إذا رفق، ومنه بني رويد، والإرادة منقولة من راد يرود إذا سعى في طلب شيء وهي مفاعلة من واحد نحو مطالبة الدائن ومماطلة المديون. ومداواة الطبيب. وغير ذلك مما يكون من أحد الجانبين الفعل ومن الآخر سببه فإن هذه الأفعال وإن كانت صادرة عن أحد الجانبين لكن لما كانت أسبابها صادرة عن الجانب الآخر جعلت كأنها صادرة عنهما، قال شيخ الإسلام: وهذا باب لطيف المسلك مبني على اعتبار دقيق تحقيقه أن سبب الشيء يقوم مقامه ويطلق عليه اسمه كما في قولهم: كما تدين تدان. أي كما تجزي تجزى، فإن فعل البادىء وإن لم يكن جزاء لكنه لكونه سببا للجزاء أطلق عليه اسمه، وكذلك إرادة القيام إلى الصلاة وإرادة قراءة القرآن حيث كانتا سببا للقيام. والقراءة عبر عنهما بهما فقيل: * (إذا قمتم إلى الصلاة) * (المائدة: 6) * (فإذا قرأت القرآن) * (النحل: 98) وهذه قاعدة مطردة مستمرة، ولما كانت أسباب الأفعال المذكورة فيما نحن فيه صادرة عن الجانب المقابل لجانب فاعلها فإن مطالبة الدائن للماطلة التي هي من جانب الغريم وهي منه للمطالبة التي من جانب الدائن، وكذا مداواة الطبيب للمرض الذي هو من جانب المريض، وكذلك مرادوتها فيما نحن فيه لجمال يوسف عليه السلام نزل صدورها عن محالها بمنزلة صدور مسبباتها التي هي تلك الأفعال فبنى الصيغة على ذلك وروعي جانب الحقيقة بأن أسند الفعل إلى الفاعل وأوقع على صاحب السبب فتأمل اه‍.
وكأنه أشار بالأمر بالتأمل إلى ما فيه مما لا يخفى على ذويه، وفي " الكشف " المراودة منازعة في الرود بأن يكون له مقصد مجيئا وذهابا وللمفاعل مقصد آخر يقابله فيهما، ومعنى المفاعلة ههنا إما المبالغة في رودها أو الدلالة على اختلافهما فيه فإنها طلبت منه الفعل وهو طلب منها الترك وهذا أبلغ ولما كان منازعة جىء - بعن -
في قوله
210

تعالى: * (عن نفسه) * كما تقول: جاذبته عن كذا دلالة على الأبعاد وتحصيل الجذب البالغ، ولهذا قال في الأساس: ومن المجاز راوده عن نفسه خادعه عنها.
وقال الزمخشري هنا: أي فعلت ما يفعل المخادع بصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده، ولا شك أن هذا إنما يحصل من المنازعة في الرود، ولهذه النكتة جعل كناية عن التمحل لموافقته إياها، والعدول عن التصريح باسمها للمحافطة على الستر ما أمكن. أو للاستهجان بذكره، وإيراد الموصول دون امرأة العزيز مع أنه أخصر وأظهر لتقرير المراودة فإن كونه في بيتها مما يدعو إلى ذلك ولإظهار كمال نزاهته عليه السلام فإن عدم ميله إليها مع دوام مشاهدته لمحاسنها واستعصائه عليها مع كونه تحت يدها ينادي بكونه عليه السلام في أعلى معارج العفة، وإضافة البيت إلى ضميرها لما أن العرب تضيف البيوت إلى النساء باعتبار أنهن القائمات بمصالحة أو الملازمات له، وخرج على ذلك قوله تعالى: * (وقرن في بيوتكن) * (الأحزاب: 33) وكثر في كلامهم صاحبة البيت. وربة البيت للمرة، ومن ذلك: يا ربة البيت قومي غير صاغرة
* (وغلقت الأبواب) * أي أبواب البيت، وتشديد الفعل للتكثير في المفعول إن قلنا: إن الأبواب كانت سبعة كما قيل، فإن لم نقل به فهو لتكثير الفعل فكأنه غلق مرة بعد مرة أو بمغلاق بعد مغلاق، وجمع * (الأبواب) * حينئذ إما لجعل كل جزء منه كأنه باب أو لجعل تعدد إغلاقه بمنزلة تعدده، وزعم بعضهم أنه لم يغلق إلا بابان: باب الدار، وباب الحجرة التي هما فيها.
وادعى بعض المتأخرين أن التشديد للتعدية وأن كونه للتكثير وهم معللا ذلك بأن * (غلقت الأبواب) * غلقا لغة رديئة متروكة حسبما ذكره الجوهري، ورد بأن إفادة التعدية لا تنافي إفادة التكثير معها فإن مجرد التعدية يحصل بباب الأفعال فاختيار التفعيل عليه لأحد الأمرين، ولذا قال الجوهري أيضا: * (وغلقت الأبواب) * شدد للتكثير اه‍.
وفي " الحواشي الشهابية " أنه لم يتنبه الراد لأن ما نقله عليه لا له لأن الردىء الذي ذكره اللغويون إنما هو استعمال الثلاثي منه لا أن له ثلاثيا لازما حتى يتعين كون التفعيل للتعدية فتعديه لازم في الثلاثي وغيره سواء كان رديئا أو فصيحا فتعين أنه للتكثير، وقد قال بذلك غير واحد، فالواهم ابن أخت خالة الموهم فافهم.
* (وقالت هيت لك) * أي أسرع فهي اسم فعل أمر مبني على الفتح كأين، وفسرها الكسائي. والفراء بتعال، وزعما أنها كلمة حورانية وقعت إلى أهل الحجاز فتكلموا بها؛ وقال أبو زيد: هي عبرانية، وعن ابن عباس. والحسن هي سريانية، وقال السدي: هي قبطية.
وقال مجاهد. وغيره. هي عربية تدعوه بها إلى نفسها وهي كلمة حث وإقبال، واللام للتبيين كالتي في سقيا لك فهي متعلقة بمحذوف أي إرادتي كائنة لك. أو أقول لك، وجوز كونها اسم فعل خبري كهيهات، واللام متعلقة بها والمعنى تهيأت لك، وجعلها بعضهم على هذا للتبيين متعلقة بمحذوف أيضا لأن اسم الفعل لا يتعلق به الجار، والتاء مطلقا من بنية الكلمة، وليس تفسيرها بتهيأت لكون الدال على التكلم التاء ليرد أنها
211

إذا كانت بمعنى تهيأت لا تكون اسم فعل بل تكون فعلا مسندا إلى ضمير المتكلم بل لأنه لما بينت التهيؤ بأنه له لزم كونها هي المتهيأة كما إذا قيل لك: قربني منك فقلت: هيهات فإنه يدل على معنى بعدت بالقرينة.
وقرأ ابن كثير. وأهل مكة * (هيت) * بفتح الهاء وسكون الياء وضم التاء تشبيها له بحيث.
وقرأ أبو الأسود. وابن أبي إسحاق. وابن محيصن. وعيسى البصرة؛ وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما * (هيت) * بفتح الهاء وسكون الياء وكسر التاء تشبيها له بجير، والكلام فيها على هاتين القراءتين كالكلام فيها على القراءة السابقة.
وقرأ نافع. وابن عامر. وابن ذكوان. والأعرج. وشيبة. وأبو جعفر * (هيت) * بكسر الهاء بعدها ياء ساكنة وتاء مفتوحة، وحكى الحلواني عن هشام أنه قرأ كذلك إلا أنه همز، وتعقب ذلك الداني تبعا لأبي علي الفارسي في الحجة، وقد تبعه أيضا جماعة بأن فتح التاء فيما ذكر وهم من الراوي لأن الفعل حينئذ من التهيؤ، ويوسف عليه السلام لم يتهيأ لها بدليل * (وراودته) * الخ فلا بد من ضم التاء، ورد ذلك صاحب النشر بأن المعنى على ذلك تهيأ لي أمرك لأنها لم يتيسر لها الخلوة به قبل. أو حسنت هيئتك، و * (لك) * على المعنيين للبيان، والرواية عن هشام صحيحة جاءت من عدة طرق، وروي عنه أيضا أنه قرأ بكسر الهاء والهمزة وضم التاء، وهي رواية أيضا عن ابن عباس. وابن عامر. وأبي عمرو أيضا، وقرأ كذلك أبو رجاء. وأبو وائل. وعكرمة. ومجاهد. وقتادة. وطلحة وآخرون.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما. وابن أبي إسحاق كذلك إلا أنهما سهلا الهمزة، وذكر النحاس أنه قرىء بكسر الهاء بعدها ياء ساكنة وكسر التاء، وقرىء أيضا هيا بكسر الهاء وفتحها وتشديد الياء، وهي على ما قال ابن هشام: لغة في * (هيت) *، وقال بعضهم: إن القراءات كلها لغات وهي فيها اسم فعل بمعنى هلم، وليست التاء ضميرا؛ وقال آخر: إنها لغات والكلمة عليها اسم فعل إلا على قراءة ضم التاء مع الهمز وتركه فإن الكلمة عليها تحتمل أن تكون فعلا رافعا لضمير المتكلم من هاء الرجل يهىء كجاء يجىء إذا حسنت هيئته. أو بمعنى تهيأت، يقال: هئت وتهيأت بمعنى، وإذا كانت فعلا تعلقت اللام بها، ونقل عن ابن عباس أيضا أنه قرأ هييت مثل حببت وهي في ذلك فعل مبني للمفعول مسهل الهمزة من هيأت الشيء كأن أحدا هيأها له عليه السلام * (قال معاذ الله) * نصب على المصدر يقال: عذت عوذا. وعياذا. وعياذة. ومعاذا أي أعوذ بالله عز وجل معاذا مما تريدين مني، وهذا اجتناب منه عليه السلام على أتم الوجوه وإشارة إلى التعليل بأنه منكر هائل يجب أن يعاذ بالله جل وعلا للخلاص منه، وما ذلك إلا لأنه قد علم بما أراه الله تعالى ما هو عليه في حد ذاته من غاية القبح ونهاية السوء، وقوله تعالى: * (إنه ربي أحسن مثواى) * تعليل ببعض الأسباب الخارجية مما عسى يكون مؤثرا عندها وداعيا لها إلى اعتباره بعد التنبيه على سببه الذاتي التي لا تكاد تقبله لما سولته لها نفسها،
والضمير للشأن، وفي تصدير الجملة به من الإيذان بفخامة مضمونها ما فيه مع زيادة تقريره في الذهن أي إن الشأن الخطير هذا أي هو ربي أي سيدي العزيز أحسن تعهدي حيث أمرك بإكرامي على أكمل وجه فكيف يمكن أن أسىء إليه بالخيانة في حرمه؟! وفيه إرشاد لها إلى رعاية حق العزيز بألطف وجه، وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد. والسدي.
212

وابن أبي إسحاق، وتعقب بأن فيه إطلاق الرب على غيره تعالى فإن أريد به الرب بمعنى الخالق فهو باطل لأنه لا يمكن أن يطلق نبي كريم على مخلوق ذلك، وإذا أريد به السيد فهو عليه السلام في الحقيقة مملوك له، ومن هنا - وإن كان فيما ذكر نظر ظاهر - اختار في " البحر " أن الضمير لله تعالى، و * (ربي) * خبر إن، و * (أحسن مثواي) * خبر ثان، أو هو الخبر، والأول بدل من الضمير أي إنه تعالى خالقي أحسن مثواي بعطف قلب من أمرك بإكرامي علي فكيف أعصيه باتركاب تلك الفاحشة الكبيرة؟! وفيه تحذير لها عن عقاب الله تعالى، وجوز على تقدير أن يكون الرب بمعنى الخالق كون الضمير للشأن أيضا، وأيا ما كان ففي الاقتصار على ذكر هذه الحالة من غير تعرض لاقتضائها الامتناع عما دعته إليه إيذان بأن هذه المرتبة من البيان كافية في الدلالة على استحالته وكونه مما لا يدخل تحت الوقوع أصلا، وقوله تعالى: * (إنه لا يفلح الظ‍المون) * تعليل غب تعليل للامتناع المذكور، والفلاح الظفر وإدراك البغية، وذلك ضربان: دنيوي. وأخروي، فالأول: الظفر بالسعادات التي تطيب بها حياة الدنيا وهو البقاء. والغنى. والعز، والثاني: أربعة أشياء: بقاء بلا فناء. وغنى بلا فقر. وعز بلا ذل. وعلم بلا جهل، ولذلك قيل: لا عيش إلا عيش الآخرة، ومعنى أفلح دخل في الفلاح كأصبح وأخواته، ولعل المراد به هنا الفلاح الأخروي، وبالظالمين كل من ظلم كائنا من كان فيدخل في ذلك المجازون للإحسان بالإساءة والعصاة لأمر الله تعالى دخولا أوليا، وقيل: الزناة لأنهم ظالمون لأنفسهم، وللمزني بأهله، وقيل: الخائنون لأنهم ظالمون لأنفسهم أيضا ولمن خانوه.
* (ولقد همت به وهم بها لولاأن رأى برهان ربه كذالك لنصرف عنه السوء والفحشآء إنه من عبادنا المخلصين) *
* (ولقد همت به) * أي بمخالطته إذالهم - سواء استعمل بمعنى القصد والإرادة مطلقا أو بمعنى القصد الجازم والعقد الثابت كما هو المراد ههنا. لا يتعلق بالأعيان.
والمعنى أنها قصدت المخالطة وعزمت عليها عزما جازما لا يلويها عنه صارف بعد ما باشرت مباديها وفعلت ما فعلت مما قص الله تعالى، ولعلها تصدت هنالك لأفعال أخر من بسط يدها إليه وقصد المعانقة وغير ذلك مما اضطره عليه السلام إلى الهرب نحو الباب، والتأكيد لدفع ما عسى يتوهم من احتمال إقلاعها عما كانت عليه بما في مقالته عليه السلام من الزواجر * (وهم بها) * أي مال إلى مخالطتها بمقتضى الطبيعة البشرية كميل الصائم في اليوم الحار إلى الماء البارد، ومثل ذلك لا يكاد يدخل تحت التكليف لا أنه عليه السلام قصدها قصدا اختياريا لأن ذلك أمر مذموم تنادي الآيات على عدم اتصافه عليه السلام به، وإنما عبر عنه بالهم لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر بطريق المشاكلة لا لشبهه به كما قيل، وقد أشير إلى تغايرهما كما قال غير واحد: حيث لم يلزا في قرن واحد من التعبير بأن قيل: ولقد هما بالمخالطة أو هم كل منهما بالآخر وأكد الأول دون الثاني.
* (لولا أن رء برهان ربه) * أي حجته الباهرة الدالة على كمال قبح الزنا وسوء سبيله، والمراد برؤيته لها كمال إيقانه بها ومشاهدته لها مشاهدة واصلة إلى مرتبة عين اليقين، وقيل: المراد برؤية البرهان حصول الأخلاق وتذكر الأحوال الرادعة عن الإقدام على المنكر، وقيل: رؤية * (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا) * (الإسراء: 32) مكتوبا في السقف، وجواب * (لولا) * محذوف يدل عليه الكلام أي لولا مشاهدته البرهان لجرى على موجب ميله الجبلي لكنه حيث كان مشاهدا له استمر على ما هو عليه من قضية البرهان، هذا ما ذهب إليه بعض المحققين في معنى الآية وهو قول بإثبات هم له عليه السلام إلا أنه هم غير مذموم.
وفي " البحر " أنه لم يقع منه عليه السلام هم بها ألبتة بل هو منفي لوجود رؤية البرهان كما تقول: قارفت الذنب
213

لولا أن عصمك الله تعالى ولا نقول: إن جواب * (لولا) * متقدم عليها وإن كان لا يقوم دليل على امتناع ذلك بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها، وقد ذهب إلى الجواز الكوفيون.
ومن أعلام البصريين أبو زيد الأنصاري. وأبو العباس المبرد بل نقول: إن جواب * (لولا) * محذوف لدلالة ما قبله عليه كما يقول جمهور البصريين في قول العرب: أنت ظالم إن فعلت كذا فيقدرونه إن فعلت فأنت ظالم، ولا يدل قولهم: أنت ظالم على ثبوت الظلم بل هو مثبت على تقدير وجود الفعل، وكذلك ههنا التقدير * (لولا أن رأى برهان ربه) * لهم بها فكان يوجد الهم على تقدير انتفاء رؤية البرهان لكنه وجد رؤية البرهان فانتفى الهم، والمراد بالبرهان ما عنده عليه السلام من العلم الدال على تحريم ما همت به وأنهلا يمكن الهم فضلا عن الوقوع فيه، ولا التفات إلى قول الزجاج: ولو كان الكلام ولهم بها كان بعيدا فكيف مع سقوط اللام لأنه توهم أن قوله تعالى: * (هم بها) * هو جواب * (لولا) * ونحن لم نقل بذلك، وإنما قلنا إنه دليل الجواب على أنه على تقدير أن يكون نفس الجواب قد يقال: إن اللام ليست بلازمة بل يجوز أن يأتي جواب * (لولا) * إذا كانت بصيغة الماضي باللام وبدونها فيقال: لولا زيد لأكرمتك ولولا زيد أكرمتك، فمن ذهب إلى أن المذكور هو نفس الجواب لم يبعد، وكذا لا التفات أيضا لقول ابن عطية: إن قول من قال إن الكلام قد تم في قوله تعالى: * (ولقد همت به) * وأن جواب * (لولا) * في قوله سبحانه: * (وهم بها) * وأن المعنى * (لولا أن رأى برهان ربه) * لهم بها فلم يهم يوسف عليه السلام يرده لسان العرب، وأقوال السلف لما في قوله: يرده لسان العرب من البحث.
وقد استدل من ذهب إلى الجواز بوجوده في لسان العرب فقد قال سبحانه: * (إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها) * (القصص: 10) فقوله سبحانه: * (إن كادت) * الخ إما أن يكون هو الجواب على ما ذهب إليه ذلك القائل، وإما أن يكون دليل الجواب على ما قررناه، وأما أقوال السلف فالذي نعتقده أنه لم يصح منها
شيء عنهم لأنها أقوال متكاذبة يناقض بعضها بعضا مع كونها قادحة في بعض فساق المسلمين فضلا عن المقطوع لهم بالعصمة على أن ما روي لا يساعد عليه كلام العرب لأنه يقتضي كون الجواب محذوفا لغير دليل لأنهم لم يقدروا بناءا على ذلك لهم بها وكلام العرب لا يدل إلا على أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط لأنه الدليل عليه، هذا وممن ذهب إلى تحقق الهم القبيح منه عليه السلام الواحدي فإنه قال في كتاب " البسيط ": قال المفسرون الموثوق بعلمهم المرجوع إلى روايتهم الآخذون للتأويل عمن شاهد التنزيل: هم يوسف عليه السلام أيضا بهذه المرأة هما صحيحا وجلس منها مجلس الرجل من المرأة فلما رأى البرهان من ربه زال كل شهوة عنه.
قال أبو جعفر الباقر: رضي الله تعالى عنه بإسناده عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: " طمعت فيه وطمع فيها " وكان طمعه فيها أن هم أن يحل التكة.
وعن ابن عباس أنه حل الهميان وجلس منها مجلس الخاتن، وعنه أيضا أنها استلقت له وقعد بين رجليها ينزع ثيابه، ورووا في البرهان روايات شتى: منها ما أخرجه أبو نعيم في " الحلية " عن علي كرم الله تعالى وجهه أنها قامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في ناحية البيت فسترته بثوب أبيض بينها وبينه، فقال عليه السلام: أي شيء تصنعين؟ فقالت: أستحي من إلهي أن يراني على هذه السوأة فقال: تستحين من صنم لا يأكل ولا يشرب ولا أستحي أنا من إلهي الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت؟! ثم قال: لا تناليها مني أبدا وهو البرهان الذي رأى، ومنها ما أخرجه ابن جرير. وغيره عن ابن عباس أنه عليه السلام مثل له يعقوب عليه السلام فضرب
214

بيده على صدره، ومنها ما أخرجه عن قتادة أنه قال: ذكر لنا أنه مثل له يعقوب عاضا على إصبعيه وهو يقول: يا يوسف أتهم بعمل السفهاء وأنت مكتوب من الأنبياء، ومنها ما أخرجه عن القاسم بن أبي بزة قال: نودي يا ابن يعقوب لا تكونن كالطير له ريش فإذا زنى قعد ليس له ريش فلم يعرض للنداء وقعد فرفع رأسه فرأى وجه يعقوب عاضا على إصبعه فقام مرعوبا استحياءا من أبيه إلى غير ذلك، وتعقب الإمام الرازي ما ذكر بأن هذه المعصية التي نسبوها إلى يوسف - وحاشاه - من أقبح المعاصي وأنكرها، ومثلها لو نسب إلى أفسق خلق الله تعالى وأبعدهم عن كل خير لاستنكف منه، فكيف يجوز إسناده إلى هذا الصديق الكريم؟ وأيضا إن الله سبحانه شهد بكون ماهية السوء وماهية الفحشاء مصر وفتين عنه، ومع هذه الشهادة كيف يقبل القول بنسبة أعظم السوء والفحشاء إليه عليه السلام، وأيضا إن هذا الهم القبيح لو كان واقعا منه عليه السلام كما زعموا وكانت الآية متضمنة له لكان تعقيب ذلك بقوله تعالى: * (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء) * خارجا عن الحكمة لأنا لو سلمنا أنه لا يدل على نفي المعصية فلا أقل من أن يدل على المدح العظيم، ومن المعلوم أنه لا يليق بحكمة الله تعالى أن يحكي إقدامه على معصية عظيمة ثم إنه يمدحه ويثني عليه بأعظم المدائح واوثنية، وأيضا إن الأكابر كالأنبياء متى صدرت عنهم زلة أو هفوة استعظموا ذلك وأتبعوه بإظهار الندامة والتوبة والتخضع والتنصل فلو كان يوسف عليه السلام أقدم على هذه الفاحشة المنكرة لكان من المحال أن لا يتبعها بذلك، ولو كان قد أتبعها لحكى وحيث لم يكن علمنا أنه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب أصلا، وأيضا جميع من له تعلق بهذه الواقعة قد أفصح ببراءة يوسف عليه السلام عن المعصية كما لا يخفى على من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ومن نظر في قوله سبحانه: * (إنه من عبادنا المخلصين) * رآه أفصح شاهد على براءته عليه السلام، ومن ضم إليه قول إبليس: * (فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين) * (ص: 82، 83) وجد إبليس مقرا بأنه لم يغوه ولم يضله عن سبيل الهدى كيف وهو عليه السلام من عباد الله تعالى المخلصين بشهادة الله تعالى، وقد استثناهم من عموم * (لأغوينهم أجمعين) *.
وعند هذا يقال للجهلة الذين نسبوا إلى يوسف عليه السلام تلك الفعلة الشنيعة: إن كانوا من أتباع الله سبحانه فليقبلوا شهادة الله تعالى على طهارته عليه السلام، وإن كانوا من أتباع إبليس فليقبلوا شهادته، ولعلهم يقولون كنا في أول الأمر من تلامذته إلى أن تخرجنا فزدنا عليه في السفاهة كما قال الحريري: وكنت امرءا من جند إبليس فانتهى * بي الحال حتى صار إبليس من جندي
فلو مات قبلي كنت أحسن بعده * طرائق فسق ليس يحسنها بعدي
ومن أمعن النظر في الحجج وأنصف جزم أنه لم يبق في يد الواحدي ومن وافقه إلا مجرد التصلف وتعديد أسماء المفسرين ولم يجد معهم شبهة في دعواهم المخالفة لما شهد له الآيات البينات سوى روايات واهيات.
وقد ذكر الطيبي طيب الله تعالى ثراه بعد أن نقل ما حكاه محي السنة عن بعض أهل الحقائق من أن الهم همان: هم ثابت وهو ما كان معه عزم وعقد ورضا مثل هم امرأة العزيز. وهم عارض وهو الخطرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم مثل هم يوسف عليه السلام أن هذا التفسير هو الذي يجب أن نذهب إليه ونتخذه مذهبا، وإن نقل المفسرون ما نقلوا لأن متابعة النص القاطع وبراءة المعصوم عن تلك الرذيلة وإحالة التقصير على الرواة أولى بالمصير إليه على أن أساطين النقل المتقنين لم يرووا في ذلك شيئا مرفوعا في كتبهم، وجل تلك الروايات بل كلها مأخوذ من مسألة أهل الكتاب اه‍، نعم قد صحح الحاكم بعضا من الروايات التي استند إليها
215

من نسب تلك الشنيعة إليه عليه السلام لكن تصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الاعتبار عند ذوي الاعتبار. وفي إرشاد العقل السليم بعد نقل نبذة منها إن كل ذلك إلا خرافات وأباطيل تمجها الآذان وتردها العقول والأذهان ويل لمن لاكها ولفقها أو سمعها وصدقها، ثم إن الإمام عليه الرحمة ذكر في تفسير الآية الكريمة بعد أن منع دلالتها على الهم ما حاصله: إنا سلمنا أن الهم قد حصل إلا أنا نقول: لا بد من ءضمار فعل مخصوص يجعل متعلق الهم إذ الذوات لا تصلح له ولا يتعين ما زعموه من إيقاع الفاحشة بها بل نضمره شيئا آخر يغاير ما أضمروه، فنقول: المراد هم بدفعها عن نفسه ومنعها عن ذلك القبيح لأنه الذي يستدعيه حاله عليه السلام، وقد جاء هممت بفلان أي قصدته ودفعته ويضمر في الأول المخالطة والتمتع ونحو ذلك لأنه اللائق بحالها، فإن قالوا: لا يبقى حينئذ لقوله سبحانه: * (لولا أن رأى برهان ربه) * فائدة؟ قلنا: بل فيه أعظم الفوائد وبيانه من وجهين:
الأول: أنه تعالى أعلم يوسف أنه لو هم بدفعها لفعلت معه ما يوجب هلاكه فكان في الامتناع عن ذلك صون النفس عن الهلاك، الثاني: أنه لو اشتغل بدفعها فلربما
تعلقت به فكان يتمزق ثوبه من قدام؛ وكان في علم الله تعالى أن الشاهد يشهد بأن ثوبه لو كان متمزقا من قدام لكان هو الجاني. ولو كان متمزقا من خلف لكانت هي الجانية فأعلمه هذا المعنى فلا جرم لم يشتغل بدفعها وفرعنها حتى صارت الشهادة حجة له على براءته عن المعصية، وإلى تقدير الدفع ذهب بعض السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم ففي " الجواهر والدرر " للشعراني: سألت شيخنا عن قوله تعالى: * (ولقد همت به وهم بها) * ما هذا الهم الذي أبهم فقد تكلم الناس فيه بما لا يليق برتب الأنبياء عليهم السلام؟ فقال: لا أعلم، قلت: قد ذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن مطلق اللسان يدل على أحدية المعنى، ولكن ذلك أكثري لا كلي فالحق أنها همت به عليه السلام لتقهره على ما أرادته منه، وهم هو بها ليقهرها في الدفع عما أرادته منه فالاشتراك في طلب القهر منه ومنها والحكم مختلف، ولهذا قالت: * (أنا راودته عن نفسه) * وما جاء في السورة أصلا أنه راودها عن نفسها اه‍، وجوز الإمام أيضا تفسيرا لهم بالشهوة، وذكر أنه مستعمل في اللغة الشائعة فإنه يقول القائل فيما لا يشتهيه: لا يهمني هذا، وفيما يشتهيه: هذا أهم الأشياء إلي، وهو ما أشرنا إليه أولا إلا أنه عليه الرحمة حمل الهم في الموضعين على ذلك فقال بعد: فمعنى الآية ولقد اشتهته واشتهاها ولولا أن رأى برهان ربه لفعل وهو مما لا داعي إليه إذ لا محذور في نسبة الهم المذموم إليها، والظاهر أن الهم بهذا المعنى مجاز كما نص عليه السيد المرتضى في درره لا حقيقة كما يوهمه ظاهر كلام الإمام، وقد ذهب إلى هذا التأويل أبو علي الجبائي. وغيره، وروي ذلك عن الحسن، وبالجملة لا ينبغي التعويل على ما شاع في الأخبار والعدول عما ذهب إليه المحققون الأخيار، وإياك والهم بنسبة تلك الشنيعة إلى ذلك الجناب بعد أن كشف الله سبحانه عن بصر بصيرتك فرأيت برهان ربك بلا حجاب * (كذلك لنصرف عنه السوء) * قيل: خيانة السيد * (والفحشاء) * الزنا لأنه مفرط القبح، وقيل: * (السوء) * مقدمات الفحشاء من القبلة والنظر بشهوة. وقيل: هو الأمر السيء مطلقا فيدخل فيه الخيانة المذكورة وغيرها، والكاف على ما قيل: في محل نصب، والإشارة إلى التثبيت اللازم للإراءة المدلول عليها بقوله سبحانه: * (لولا أن رأى برهان ربه) * أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه * (لنصرف) * الخ، وقال ابن عطية: إن الكاف متعلقة بمضمر تقديره جرت أفعالنا وأقدارنا * (كذلك لنصرف) *، وقدر أبو البقاء نراعيه كذلك، والحوفي أريناه البراهين كذلك، وجوز الجميع كونه في موضع رفع فقيل: أي الأمر أو عصمته مثل ذلك
216

لكن قال الحوفي: إن النصب أجود لمطالبة حروف الجر للأفعال أو معانيها، واختار في " البحر " كون الإشارة إلى الرؤية المفهومة من رأى أو الرأي المفهوم، وقد جاء مصدر الرأي كالرؤية كما في قوله: ورأى عيني الفتى أباكا * يعطي الجزيل فعليك ذاكا
والكاف في موضع نصب بما دل عليه قوله سبحانه: * (لولا أن رأى) * الخ، وهو أيضا متعلق * (لنصرف) * أي مثل الرؤية أو الرأي يرى براهيننا (لنصرف) الخ، وقيل غير ذلك، ومما لا ينبغي أن يلتفت إليه ما قيل: إن الجار والمجرور متعلق بهم، وفي الكلام تقديم وتأخير وتقديره ولقد همت به وهم بها كذلك لولا أن رأى برهان ربه لنصرف عنه الخ، ولا يخفى ما في التعبير بما في النظم الجليل دون لنصرفه عن السوء والفحشاء من الدلالة على رد من نسب إليه ما نسب والعياذ بالله تعالى.
وقرأ الأعمش - ليصرف - بياء الغيبة وإسناد الصرف إلى ضمير الرب سبحانه * (إنه من عبادنا المخلصين) * تعليل لما سبق من مضمون الجملة بطريق التحقيق، والمخلصون هم الذين أخلصهم الله تعالى واختارهم لطاعته بأن عصمهم عما هو قادح فيها، والظاهر أن المراد الحكم عليه بأنه مختار لطاعته سبحانه، ويحتمل على ما قيل: أن يكون المراد أنه من ذرية إبراهيم عليه السلام الذين قال فيهم جل وعلا: * (إنا أخلصناهم بخالصة) * (ص: 46).
وقرأ ابن كثير. وأبو عمرو. وابن عامر المخلصين إذا كان فيه أل حيث وقع بكسر اللام وهم الذين أخلصوا دينهم لله تعالى، ولا يخفى ما في التعبير بالجملة الاسمية من الدلالة على انتظامه عليه السلام في سلك أولئك العباد الذين هم هم من أول الأمر لا أنه حدث له ذلك بعد أن لم يكن، وفي هذا عند دوي الألباب ما ينقطع معه عذر أولئك المتشبثين بأذيال هاتيك الأخبار التي ما أنزل الله تعالى بها من كتاب.
* (واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزآء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم) *
* (واستبقا الباب) * متصل بقوله سبحانه: * (ولقد همت به وهم بها) * الخ، وقوله تعالى: * (كذلك) * الخ اعتراض جيء به بين المعطوفين تقريرا لنزاهته عليه السلام، والمعنى لقد همت به وأبى هو واستبقا أي تسابقا إلى الباب على معنى قصد كل من يوسف عليه السلام وامرأة العزيز سبق الآخر إليه فهو ليخرج وهي لتمنعه من الخروج؛ وقيل: المراد من السبق في جانبها الإسراع إثره إلا أنه عبر بذلك للمبالغة، ووحد الباب هنا مع جمعه أولا لأن المراد الباب البراني الذي هو المخلص؛ واستشكل بأنه كيف يستبقان إليه ودونه أبواب جوانيه بناءا على ما ذكروا من أن الأبواب كانت سبعة.
وأجيب بأنه روى عن كعب أن أقفال هاتيك الأبواب كانت تتناثر إذا قرب إليها يوسف عليه السلام وتتفتح له؛ ويحتمل أنه لم تكن تلك الأبواب المغلقة على الترتيب بابا فبابا بل كانت في جهات مختلفة كلها منافذ للمكان الذي كانا فيه فاستبقا إلى باب يخرج منه، ونصب الباب على الاتساع لأن أصل استبق أن يتعدى بإلى لكن جاء كذلك على حد * (وإذا كالوهم) * (المطففين: 3) * (واختار موسى قومه سبعين رجلا) * (الأعراف: 551)، وقيل: إنه ضمن الاستباق معنى الابتدار فعدى تعديته * (وقدت قميصه من دبر) * يحتمل أن يكون معطوفا على * (استبقا) *، ويحتمل أن يكون في موضوع الحال كما قال أبو حيان أي وقدقدت، والقد القطع والشق وأكثر استعماله فيما كان طولا وهو
217

المراد هنا بناءا على ما قيل: إنها جذبته من وراء فانخرق القميص إلى أسفله، ويستعمل القط فيما كان عرضا، وعلى هذا جاء ما قيل في وصف علي كرم الله تعالى وجهه: إنه كان إذا اعتلى قد وإذا اعترض قط، وقيل، القد هنا مطلق الشق، ويؤيده ما نقل عن ابن عطية أنه قرأت فرقة - وقط - وقد وجد ذلك في مصحف المفضل
بن حرب.
وعن يعقوب تخصيص القد بما كان في الجلد والثوب الصحيحين، والقميص معروف، وجمعه أقمصة. وقمص. وقمصان، وإسناد القد بأي معنى كان إليها خاصة مع أن لقوة يوسف عليه السلام أيضا دخلا فيه إما لأنها الجزء الأخير للعلة التامة، وإما للائيذان بمبالغتهافي منعه عن الخروج وبذل مجهودها في ذلك لفوت المحبوب أو لخوف الافتضاح * (والفيا) * أي وجدا، وبذلك قرأ عبد الله * (سيدها) * أي زوجها وهو فيعل من ساد يسود، وشاع إطلاقه على المالك وعلى الرئيس، وكانت المرأة إذ ذاك على ما قيل: تقول لزوجها سيدي، ولذا لم يقل سيدهما، وفي البحر إنما لم يضف إليهما لأنه لم يكن مالكا ليوسف حقيقة لحريته * (لدا الباب) * أي عند الباب البراني، قيل: وجداه يريد أن يدخل مع ابن عمر لها * (قالت) * استئناف مبني على سؤال يقول؛ فماذا كان حين ألفيا السيد عند الباب؟ فقيل. قالت: * (ما جزاء من أراد بأهلك سوءا) * من الزنا ونحوه.
* (إلا أن يسجن أو عذاب أليم) * الظاهر أن * (ما) * نافية، و * (جزاء) * مبتدأ، و * (من) * موصولة أو موصوفة مضاف إليه، والمصدر المؤول خبر، و * (أو) * للتنويع خبر المبدأ وما بعد معطوف على ذلك المصدر أي ليس جزاؤه إلا السجن أو العذاب الأليم، والمراد به على ما قيل: الضرب بالسوط، وعن ابن عباس أنه القيد، وجوز أن تكون * (ما) * استفهامية - فجزاء - مبتدأ أو خبر أي أي شيء جزاؤه غير ذلك أو ذلك، ولقد أتت في تلك الحالة التي يدهش فيها الفطن اللوذعي حيث شاهدها زوجها على تلك الهيئة بحيلة جمعت فيها غرضيها وهما تبرئة ساحتها مما يلوح من ظاهر الحال. واستنزال يوسف عليه السلام عن رأيه في استعصائه عليها وعدم موتاته لها على مرادها بإلقاء الرعب في قلبه من مكرها طمعا في مواقعته لها مكرها عند يأسها عن ذلك مختارا كما قالت: * (لئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين) * (يوسف: 32) ثم إنها جعلت صدور الإرادة المذكورة عن يوسف عليه السلام أمرا محققا مفروغا عنه غنيا عن الأخبار بوقوعه وإن ما هي عليه من الأفاعيل لأجل تحقيق جزائرها، ولم تصرح بالاسم بل أتت بلفظ عام تهويلا للأمر ومبالغة في التخويف كأن ذلك قانون مطرد في حق كل أحد كائنا من كان، وذكرت نفسها بعنوان أهلية العزيز إعظاما للخطب وإغراءا له على تحقيق ما يتوخاه بحكم الغضب والحمية كذا قرره غيره واحد.
وذكر الإمام في تفسيره ما فيه نوع مخالف لذلك حيث قال: إن في الآية لطائف: أحدها: أن حبها الشديد ليوسف عليه السلام حملها على رعاية دقيقتين في هذا الموضوع وذلك لأنها بدأت بذكر السجن وأخرت ذكر العذاب لأن المحب لا يسعى في إسلام المحبوب، وأيضا إنها لم تذكر أن يوسف عليه السلام يجب أن يقابل بأحد هذين الأمرين بل ذكرت ذلك ذكرا كليا صونا للمحبوب عن الذكر بالشر والألم، وأيضا قالت: * (إلا أن يسجن) * والمراد منه أن يسجن يوما. أو أقل على سبيل التخفيف، فأما الحبس الدائم فإنه لا يعبر عنه بهذه العبارة بل يقال: يجب أن يجعل من المسجونين، ألا ترى أن فرعون كيف قال حين هدد موسى عليه السلام: * (لئن اتخذت إلها
218

غيري لأجعلنك من المسجونين) * (الشعراء: 29).
وثانيها: أنها لما شاهدت من يوسف عليه السلام أنه استعصم منها مع أنه كان في عنفوان الشباب وكمال القوة ونهاية الشهوة عظم اعتقادها في طهارته ونزاهته فاستحيت أن تقول: إن يوسف قصدني بسوء وما وجدت من نفسها أن ترميه بهذا الكذب على سبيل التصريح بل اكتفت بهذا التعريض، وليت الحشوية كانوا يكتفون بمثل ما اكتفت به، ولكنهم لم يفعلوه ووصفوه بعد قريب من أربعة آلاف سنة بما وصفوه من القبيح وحاشاه.
وثالثها: أن يوسف عليه السلام أراد أن يضربها ويدفعها عن نفسه وكان ذلك بالنسبة إليها جاريا مجرى السوء فقولها * (ما جزاء) * الخ جار مجرى التعريض فلعلها بقلبها كانت تقريد إقدامه على دفعها ومنعها، وفي ظاهر الأمر كانت توهم أنه قصدني بما لا ينبغي انتهى المراد منه، وفيه من الانظار ما فيه.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما أو عذابا أليما بالنصب على المصدرية كما قال الكسائي: أي أو يعذب عذابا أليما إلا أنه حذف ذلك لظهوره، وهذه القراءة أوفق بقوله تعالى: * (أن يسجن) * ولم يظهر لي في سر اختلاف التعبير على القراءة المشهورة ما يعول عليه، والله تعالى أعلم بأسرار كتابه فتدبر.
* (قال هى راودتنى عن نفسى وشهد شاهد من أهلهآ إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الك‍اذبين) *
* (قال) * استئناف وجواب عما يقال: فماذا قال يوسف عليه السلام حينئذ؟ فقيل: قال: * (هي راودتني عن نفسي) * أي طالبتني للمواتاة لا أني أردت بها سوءا كما زعمت وإنما قاله عليه السلام لتنزيه نفسه عن التهمة ودفع الضرر عنها لا لتفضيحها.
وفي التعبير عنها بضمير الغيبة دون الخطاب أو اسم الإشارة مراعاة لحسن الأدب مع الإيماء إلى الإعراض عنها كذا قالوا، وفي هذا الضمير ونحو كلام فقد ذكر ابن هشام في بعض حواشيه على قول ابن مالك في ألفيته: فما الذي غيبة أو حضور
الخ لينظر إلى نحو * (هي راودتني) * فإن * (هي) * ضمير باتفاق، وليس هو للغائب بل لمن بالحضرة، وكذا * (يا أبت استأجره) * (القصص: 26) وهذا في المتصل وذاك في المنفصل، وقول من يخاطب شخصا في شأن آخر حاضر معه قلت له: اتق الله تعالى وأمرته بفعل الخير، وقد يقال: إنه نزل الضمير فيهن منزلة الغائب وكذا في عكس ذلك يبلغك عن شخص غائب شيء فنقول: ويحك يا فلان أتفعل كذا؟ تنزلا له منزلة من بالحضرة، وحينذ يقال: الحد المستفاد مما ذكر إنما هو للضمير باعتبار وضعه اه‍.
وقال السراج البلقيني في رسالته المسماة نشر العبير لطي الضمير المفسر لضمير الغائب إما مصرح به أو مستغنى بحضور مدلوله حسا أو علما فالحس نحو قوله تعالى: * (هي راودتني) * و * (يا أبت استأجره) * كما ذكره ابن مالك، وتعقبه شيخنا أبوحيان بأنه ليس كما مثل به لأن هذين الضميرين عائدان على ما قبلهما فضمير *
(هي راودتني) * عائد على الأهل في قولها: * (ما جزاء من أراد بأهلك سوءا) * (يوسف: 25) ولما كنت عن نفسها بذلك ولم تقل بي بدل * (بأهلك) * كنى هو عليه السلام عنها بضمير الغيبة فقال: * (هي راودتني) * ولم يخاطبها بأنت راودتيني، ولا أشار إليها بهذه راودتني وكل هذا على سبيل الأدب في الألفاظ والاستيحاء في الخطاب الذي لا يليق بالأنبياء عليهم السلام، فأبرز الاسم في صورة ضمير الغائب تأدبا مع العزيز وحياءا منه، وضمير * (استأجره) * عائد على موسى فمفسره مصرح بلفظه، وكأن ابن مالك تخيل أن هذا موضع إشارة لكون صاحب الضمير حاضرا عند المخاطب فاعتقد أن المفسر يستغنى عنه بحضور مدلوله حسا فجرى الضمير مجرى اسم الإشارة، والتحقيق ما ذكرناه هذا كلامه.
وعندي أن الذي قاله ابن مالك أرجح مما قاله الشيخ، وذلك أن الإثنين إذا وقعت بينهما خصومة عند حاكم فيقول المدعي للحاكم: لي على هذا كذا: فيقول المدعى عليه: هو يعلم أنه لا حق له علي، فالضمير في هو إنما
219

هو لحضور مدلوله حسالا لقوله: لي كما هو المتبادر إلى الأفهام، وأيضا يرد على ما ذكره في ضمير * (استأجره) * أن موسى عليه السلام لم يسبق له ذكر عند حضوره مع بنت شعيب عليه السلام، وقد قالت: * (يا أبت استأجره) * وقصدها بالضمير الرجل الحاضر الذي بان لها من قوته وأمانته الأمر العظيم، ثم إن من خاصم زوجته فقال للحاضرين من أهلها. أو من غيرهم: هي طالق تطلق زوجته لوجود ما قرره ابن مالك، ولا يتمشى على ما قرره الشيخ كما لا يخفى، وبالجملة إن التأويل الذي ذكره في الآيتين وإن سلم فيهما لكن لا يكاد يتمشى معه في غيرهما هذا فليفهم * (وشهد شاهد من أهلها) * ذهب جمع إلى أنه كان ابن خالها، وكان طفلا في المهد أنطقه الله تعالى ببراءته عليه السلام، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم: " تكلم أربعة في المهد وهم صغار: ابن ماشطة ابنة فرعون. وشاهد يوسف عليه السلام. وصاحب جريج. وعيسى ابن مريم عليهما السلام " وتعقب ذلك الطيبي بقوله: يرده دلالة الحصر في حديث الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم. وصاحب جريج. وصبي كان يرضع من أمه فمر راكب حسن الهيئة فقالت: أمه اللهم اجعل ابني مثل هذا فترك الصبي الثدي، وقال اللهم لا تجعلني مثله ". اه‍، ورده الجلال السيوطي فقال: هذا منه على جاري عادته من عدم الإطلاع على طرق الأحاديث، والحديث المتقدم صحيح أخرجه أحمد في مسنده. وابن حبان في صحيحه. والحاكم في مستدركه وصححه من حديث ابن عباس، ورواه الحاكم أيضا منحديث أبي هريرة، وقال صحيح على شرط الشيخين، وفي حديث الصحيحين المشار إليه آنفا زيادة على الأربعة " الصبي الذي كان يرضع من أمه فمر راكب " الخ فصاروا خمسة وهم أكثر من ذلك، ففي " صحيح مسلم " تكلم الطفل في قصة أصحاب الأخدود، وقد جمعت من تكلم في المهد فبلغوا أحد عشر، ونظمتها فقلت: تكلم في المهد النبي محمد * ويحيى وعيسى والخليل ومريم
ومبرى جريج ثم شاهد يوسف * وطفل لذي الأخدود وديرويه مسلم
وطفل عليه مر بالأمة التي * يقال لها تزنى ولا تتكلم
وماشطة في عهد فرعون طفلها * وفي زمن الهادي المبارك يختم
اه‍، وفيه أنه لم يرد الطيبي الطعن على الحديث الذي ذكر كما توهم، وإنما أراد أن بين الحديث الدال على الخصر وغيره تعارضا يحتاج إلى التوفيق؛ وفي " الكشف " بعد ذكره حديث الأربعة، وما تعقب به مما تقدم عن الطيبي أنه نقل الزمخشري في سورة البروج خامسا فإن ثبتت هذه أيضا فالوجه أن يجعل في المهد قيدا وتأكيدا لكونه في مبادىء الصبا، وفي هذه الرواية يحمل على الإطلاق أي سواء كان في المبادي أو بعيدها بحيث يكون تكلمه من الخوارق، ولا يخفى أنه توفيق بعيد.
وقيل: كان ابن عمها الذي كان مع زوجها لدى الباب وكان رجلا ذا لحية ولا ينافي هذا قول قتادة: إنه كان رجلا حكيما من أهلها ذا رأي يأخذ الملك برأيه ويستشيره، وجوز أن يكون بعض أهلها وكان معهما في الدار بحيث لم يشعرا به فبصر بما جرى بينهما فأغضبه الله تعالى ليوسف فقال الحق، وعن مجاهد أن الشاهد هو القميص
220

المقدود وليس بشيء كما لا يخفى، وجعل الله تعالى الشاهد من أهلها قيل: لكون أدل على نزاهته عليه السلام وأنفى للتهمة وألزم لها، وخص هذا بماإذا لم يكن الشاهد الطفل الذي أنطقه الله تعالى الذي أنطق كل شيء، وأما إذا كان ذلك فذكر كونه من أهلها لبيان الواقع فإن شهادة الصبي حجة قاطعة ولا فرق فيها بين الأقارب وغيرهم، وتعقب بأن كون شهادة القريب مطلقا أقوى مما لا ينبغي أن يشك فيه، وسمي شاهدا لأنه أدى تأديته في أن ثبت بكلامه قول يوسف وبطل قولها، وقيل: سمي بذلك من حيث دل على الشاهد وهو تخريق القميص، وفسر مجاهد فيما أخرجه عنه ابن جرير الشهادة بالحكم أي وحكم حاكم من أهلها * (إن كان قميصه قد من قبل) * أي من قدام يوسف عليه السلام. أو من قدام القميص؛ و * (إن) * شرطية، و * (كان) * فعل الشرط وقوله سبحانه: * (فصدقت) * جواب الشرط وهو بتقدير قد، وإلا فالفاء لا تدخل في مثله، وعن ابن خروف أن مثل هذا على إضمار المبتدا، والجملة جواب الشرط لا الماضي وحده، وفي " الكشاف " إن الشرطية هنا نظير قولك: إن أحسنت إليك منقبل لمن يمتن عليك بإحسانه فإنه على معنى إن تمتن على أمتن عليك، وكذا هنا المراد أن يعلم أنه كان قميصه قد ونحوه وإلا فبين أن الذي للاستقبال و * (كان) * تناف قيل: وهو مبني على ما ذهب إليه البعض من أن * (كان) * قوية في الدلالة على الزمان فحرف الشرط لا يقلب ماضيها مستقبلا وإلا فلا ماض دخل عليه الشرط قلبه مستقبلا من غير حاجة إلى التأويل، وتعقب بأنه لا بد من التأويل ههنا وجعل حدوث العلم ونحوه جزئي الشرطية كأن يقال: إن يعلم أو يظهر كونه كذلك فقد ظهر الصدق، ويقال نظيره في الشرطية الأخرى الآتية: وإن كانت * (كان) * مما يقلب حرف الشرط ماضيها مستقبلا كسائر الأفعال الماضية لأن المعنى ليس على تعليق الصدق أو الكذب في المستقبل على كون القميص كذا أو كذا كذلك بل على تعليق ظهور أحد الأمرين الصدق والكذب على حدوث العلم بكونه كذلك وهو ظاهر، وهل هذا التأويل من باب التقدير. أو من غيره؟ فيه خلاف، والذي يشير إليه كلام بعض المدققين أنه ينزل في مثل ذلك العلم بالشيء منزلة استقباله لما بينهما
من التلازم كما قيل: أي شيء يخفى؟ فقيل: ما لا يكون فليفهم، ثم إن متعلق الصدق ما دل كلامها عليه من أن يوسف أراد بها سوءا وهو متعلق الكذب المسند إليها فيما بعد، وهما كما يتعلقن بالنسبة التي يتضمنها الكلام باعتبار منطوقه يتعلقان بالنسبة التي يتضمنها باعتبار ما يستلزمه فكأنه قيل: * (إن كان قميصه قد من قبل فصدقت) * في دعواها أن يوسف أراد بها سوءا * (وهو من الك‍اذبين) * في دعواه أنها راودته عن نفسه.
* (وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الص‍ادقين) *
* (وإن كاع قميصه قد من دبر) * أي من خلف يوسف عليه السلام أو خلف القميص * (فكذبت) * في دعواها * (وهو من الص‍ادقين) * في دعواه، والشرطيتان محكيتان: إما بقول مضمر أي شهد قائلا أو فقال * (إن كان) * الخ كما هو مذهب البصريين، وإما يشهد لأن الشهادة قول من الأقوال فجاز أن تعمل في الجمل كما هو مذهب الكوفيين، والإظهار في موضع الإضمار في الشرطية الثانية ليدل على الاستقلال مع رعاية زيادة الإيضاح، وجملتا - وهو من الكاذبين. وهو من الصادقين - مؤكدتان لأن من قوله: * (فصدقت) * يعلم كذبه، ومن قوله: * (فكذبت) * يعلم صدقه، ووجه دلالة قد القميص من دبر على كذبها أنها تبعته وجذبت ثوبه فقدته، وأما دلالة قده من قبل على صدقها فمن وجهين: أحدهما: أنه إذا كان تابعها وهي دافعته عن نفسه قدت قميصه من قدام بالدفع، وثانيهما: أن يسرع إليها ليلحقها فيتعثر في مقام قميصه فيشقه كذا في " الكشاف "،
221

وتعقب ابن المنير الوجه الأول بأن ما قرر في اتباعه لها يحتمل مثله في اتباعها له فإنها إنما تقد قميصه من قبل بتقدير أن يكون عليه السلام أخذ بها حتى صارا متقابلين فدفعته عن نفسها، وهذا بعينه يحتمل إذا كانت هي التابعة بأن تكون اجتذبته حتى صارا متقابلين ثم جذبت قميصه إليها من قبل بل هذا أظهر لأن الموجب لقد القميص غالبا الجذب لا الدفع، والوجه الثاني بأن ما ذكر بعينه محتمل لو كانت هي التابعة وهو فار منها بأن ينقد قميصه في إسراعه للفرار اه‍.
وأجيب عما ذكره أولا: بأنه غير وارد لأن تلك الحالة السريعة لا تحتمل إلا أيسر ما يمكن وأسرعه، وعلى تقدير اتباعها له تعين القد من دبر لأنه أهون الجذبين، ثم لا نفرض كر الفار ليدفعها أو كما لحقت جذبت فهذا الفرض لا وجه له هنالك فإذا ثبت دلالته فيالجملة على هذا القسم تعينت، وعما ذكره ثانيا: بأن الظاهر على تقدير أن تكون تابعة أنه إذا تعثر الفار يتعلق به التابع متشبثا وإذا كانا منفلتين بعد ذلك الاحتمال.
وذكر الفاضل المتعقب أن الحق في هذا الفصل أن يقال: إن الشاهد المذكور إن كان صبيا أنطقه الله تعالى في المهد كما ورد في بعض الأحاديث فالآية في مجرد كلامه قبل أوانه حتى لو قال صدق يوسف وكذبت لكفى برهانا على صدقه عليهالسلام كما كان مجرد إخبار عيسى عليه السلام في المهد برهانا على صدق مريم، فلا تنبغي المناسبة بين الأمارة المنصوبة وما رتب عليها لأن العمدة في الدلائل نصبها لا مناسبتها، وإن كان قريبا لها قد بصر بها من حيث لا تشعر فهذا - والله تعالى أعلم - كان من حقه أن يصرح بما رأى فيصدق يوسف عليه السلام ويكذبها ولكنه أراد أن لا يكون هو الفاضح لها، ووثق بأن قد قميصه إنما كان من دبر فنصبه أمارة لصدقه وكذبها، ثم ذكر القسم الآخر وهو قده من قبل على علم بأنه لم ينقد كذلك حتى ينفى عن نفسه التهمة في الهشادة وقصد الفضيجة وينصفهما جميعا فلذا ذكر أمارة على صدقها المعلوم نفيه كما ذكر أمارة على صدقه المعلوم وجوده، وأخرجهما مخرجا واحدا وبنى * (قد) * لما لم يسم فاعله في الموضعين سترا على من قده، وقدم أمارة صدقها في الذكر إزاحة للتهمة ووثوقا بأن الأمارة الثانية هي الواقعة فلا يضره تأخيرها.
والحاصل أن عمدة هذا الشاهد الأمارة الأخير فقط والمناسبة فيها محققه، وأما الأمارة الأولى فليست مقصودة وإنما هي كالغرض ذكرت توطئة للثانية فلم يلتمس لها مناسبة مثل تلك المناسبة، وأما إن كان الحكيم الذي كان الملك يرجع إلى رأيه فلا بد من التماس المناسبة في الطرفين لأنها عمدة الحكيم، وأقرب وجه في المناسبة أن قد القميص من دبر دليل على إدباره عنها، وقده من قبل دليل على إقباله عليها بوجهه، ولا يخفى أن مثل هذا الوجه لا يصلح أن يكون مطمح نظر الحكيم الذي لا يلتفت إلا لليقينيات، فالأولى أن يقال: يحتمل أن ذلك الحكيم كان واقفا على حقيقة الحال بطريق من الطرق الممكنة، ويسهل أمر ذلك إذا قلنا: إنه كان ابن عم لها فهو متيقن بعدم مقدم الشرطية الأولى وبوجود مقدم الشرطية الثانية، ومن ضروريات ذلك الجزم بانتفاء تالي الأولى ووقوع تالي الثانية فإذا هو إخبار بكذبها وصدقه عليه السلام لكنه ساق شهادته مساقا مأمونا من الجرح والطعن حيث صورها بصورة الشرطية المترددة ظاهرا بين نفعها ونفعه، وأما حقيقة فلا تردد فيها قطعا كما أشير إليه وإلى كون الشرطية الأولى غير مقصودة بالذات ذهب العلامة ابن الكمال معرضا بغفلة القاضي البيضاوي حيث قال: إن قوله تعالى: * (إن كان قميصه قد من قبل) * (يوسف: 26) ابخ من قبيل المسامحة في أحد شقي الكلام لتعين الآخر
222

عند القائل تنيزلا للمحتمل منزلة الظاهر لأن الشق بالجذب في هذا الشق أيضا محتمل، ومن غفل عن هذا قال: لأنه يدل على أنه قصدها فدفعت عن نفسها إلى آخر عبارة البيضاوي، وحاصل ذلك على ما قرره بعض مشايخنا عليهم الرحمن أن القائل: يعلم يقينا وقوع الشق من دبر لكنه ذكر الشق من القبل مع أنه محتمل أن يكون بجذبها إياه إلى طرفها كما أن كونه من دفعها إياه من بعض محتملاته تنزيلا لهذا المحتمل منزلة الظاهر تأكيدا ومبالغة لثبوت ما دلت عليه الشرطية الثانية من صدقه وكذبها يعني أنا نحكم بصدقها وكذبه بمجرد وقوع الشق في القبل، وإن كان محتملا لأسباب أخر غير دفعها لكنه ما وقع هذا الشق أصلا فلا صدق لها وذلك كما إذا قيل لك: بلغت إلى زيد الكلام الفلاني في هذا اليوم؟ فقلت: إن كنت تكلمت في هذا اليوم مع زيد فقولكم هذا صادق مع أن تكلمك معه في هذا اليوم مطلقا لا يدل على صدق دعواهم لاحتمال أنك تكلمت معه بكلام غير ذلك الكلام لكنك قلت ذلك تحقيقا لعدم تبليغك ذلك الكلام إليه، هذا وذكر شيخ مشايخنا العلامة صبغة الله الحيدري طيب الله تعالى ثراه: أن الظاهر أن دلالة كل من الشقين في الشقين على ما يدل عليه من حيث موافقته لما ادعاه صاحبه فإنها كانت تقول: هو طلبني مقبلا على فخلصت نفسي عنه بالدفع أو الفرار وهو كان يقول: هي الطالبة ففرت منها وتبعتني واجتذبت ثوبي فقدته فوقوع الشق في شق الدبر يدل على كونه مدبرا عنها لا مقبلا عليها وعكسه على عكسه، ثم
فرع على هذا أن ما ذكره ابن الكمال عفلة عن المخاصمة بالمقاولة وهو توجيه لطيف للآية الكريمة، بيد أن دعوى وقوع المخاصمة بالمقاولة على الطرز الذي ذكره رحمه الله تعالى مما لا شاهد لها، وعلى المدعى البيان على أنه يبعد عقلا أن تقول هو طلبني مقبلا فخلصت نفسي منه فانقد قميصه من قبل وهو الذي تقتضيه دعواه أن الظاهر أن دلالة كل من الشقين الخ لظهور أن ظهور كذبها حينئذ أسرع ما يكون، وبالجملة قيل: إن الاحتمالات المضعفة لهذه المشاهدة كثيرة: منها ما علمت. ومنها ما تعلمه بأدنى التفات، ومن هنا قالوا: إن ذلك من باب اعتبار الأمارة، ولذلك احتج بالآية كما قال ابن الفرس: من يرى الحكم من العلماء بالأمارات والعلامات فيما لا تحضره البينات كاللقطة. والسرقة. والوديعة. ومعاقد الحيطان. والسقوف وغير ذلك.
وذكر الإمام أن علامات كذب المرأة كانت كثيرة بالغة مبلغ اليقين فضموا إليها هذه العلامة الأخرى لا لأجل أن يعولوا في الحكم عليها بل لأجل أن يكون ذلك جاريا مجرى المقويات والمرجحات والله تعالى أعلم.
وقرأ الحسن. وأبو عمرو في رواية * (من قبل. ومن دبر) * بسكون الباء فيهما والتنوين وهي لغة الحجاز. وأسد، وقرأ أبو يعمر. وابن أبي إسحاق. والعطاردي. وأبو الزناد. وآخرون * (من قبل. ومن دبر) * بثلاث ضمات، وقرأ الأولان. والجارود في رواية عنهم بإسكان الباء فيهما مع بنائهما على الضم جعلوهما - كقبل. وبعد - بعد حذف المضاف إليه ونية معناه، وتعقب ذلك أو حاتم بأن هذا رديء في العربية وإنما يقع بعد البناء في الظروف، وهذان اللفظان اسمان متمكنان وليسا بظرفين، وعن ابن إسحق أنه قرأ من - قبل ومن دبر - بالفتح قيل: كأنه جعلهما علمين للجهتين فمنعهما الصرف للعلمية والتأنيث باعتبار الجهة.
* (فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم) *
* (فلما رءا) * أي السيد، وقيل: الشاهد، والفعل من الرؤية البصرية أو القبلية أي فلما علم * (قميصه قد من دبر قال إنه) *
223

أي هذا القدر والشق كما قال الضحاك * (من كيدكن) * أي ناشى من احتيالكن أيتها النساء ومكركن ومسبب عنه، وهذا تكذيب لها وتصديق له عليه السلام على ألطف وجه كأنه قيل: أنت التي راودتيه فلم يفعل وفر فاجتذبتيه فشققت قميصه فهو الصادق في إسناد المراودة إليك وأنت الكاذبة في نسبة السوء إليه، وقيل: الضمير للأمر الذي وقع فيه التشاجر وهو عبارة عن إرادة السوء التي أسندت إلى يوسف عليه السلام وتدبير عقوبته بقولها * (ما جزاء من أراد بأهلك سوءا) * (يوسف: 25) الخ أي إن ذلك من جنس مكركن واحتيالكن، وقيل: هو للسوء وهو نفسه وإن لم يكن احتيالا لكنه يلازمه، وقال الماوردي: هو لهذا الأمر وهو طمعها في يوسف عليه السلام؛ وجعله من الحيلة مجاز أيضا كما في الوجه الذي قبله، وقال الزجاج: هو لقولها: * (ما جزاء) * الخ فقط، واختار العلامة أبو السعود القيل الأول وتكلف له بما تكلف واعترض على ما بعده من الأقوال بما اعترض.
ولعل ما ذكرناه أقرب للذوق وأقل مؤنة مما تكلف له؛ وأيا ما كان فالخطاب عام للنساء مطلقا وكونه لها ولجواريها - كما قيل - ليس بذاك، وتعميم الخطاب للتنبيه على أن الكيد خلق لهن عريق: ولا تحسبا هندا لها الغدر وحدها * سجية نفس كل غانية هند
* (إن كيدكن عظيم) * فإنه ألطف وأعلق بالقلب وأشد تأثيرا في النفس ولأن ذلك قد يورث من العار ما لا يورثه كيد الرجال، ولربات القصور منهن القدح المعلى من ذلك لأنهن أكثر تفرغا من غيرهن مع كثرة اختلاف الكيادات إليهن فهن جوامع كوامل، ولعظم كيد النساء اتخذهن إبليس عليه اللعنة وسائل لإغواء من صعب عليه إغواؤه، ففي الخبر " ما أيس الشيطان من أحد إلا أتاه من جهة النساء " وحكي عن بعض العلماء أنه قال: أنا أخاف من النساء ما لا أخاف من الشيطان فإنه تعالى يقول: * (إن كيد الشيطان كان ضعيفا) * (النساء: 76) وقال للنساء: * (إن كيدكن عظيم) * (يوسف: 28) ولأن الشيطان يوسوس مسارقة وهن يواجهن به، ولا يخفى أن استدلاله بالآيتين مبني على ظاهر إطلاقهما، ومثله ما تنقبض له النفس وتنبسط يكفي فيه ذلك القدر فلا يضر كون ضعف كيد الشيطان إنما هو في مقابلة كيد الله تعالى، وعظيم كيدهن إنما هو بالنسبة إلى كيد الرجال، وما قيل: إن ما ذكر لكونه محكيا عن قطفير - لا يصلح للاستدلال به بوجه من الوجوه - ليس بشيء لأنه سبحانه قصه من غير نكير فلا جناح في الاستدلال به كما لا يخفى.
* (يوسف أعرض عن ه‍اذا واستغفرى لذنبك إنك كنت من الخ‍اطئين) *
* (يوسف) * حذف منه حرف النداء لقربه وكمال تفطنه للحديث، وفي ندائه باسمه تقريب له عليه السلام وتلطيف.
وقرأ الأعمش * (يوسف) * بالفتح، والأشبه على ما قال أبو البقاء: أن يكون أخرجه على أصل المنادي كما جاء في الشعر: يا عديا لقد وقتك الأواقي
وقيل: لم تضبط هذه القراءة عن الأعمش، وقيل: إنه أجرى الوقف مجرى الوصل ونقل إلى الفاء حركة الهمزة من قوله تعالى: * (أعرض عن ه‍اذا) * أي عن هذا الأمر واكتمه ولا تتحدث به فقد ظهر صدقك وطهارة ثوبك، وهذا كما حكى الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله بالوصل والفتح، وقرىء * (أعرض) * بصيغة الماضي فيوسف حينئذ مبتدأ والجملة بعده خبر، ولعل المراد الطلب على أتم وجه فيؤول إلى معنى * (أعرض) * * (واستغفري) * أنت أيتها المرأة، وضعف أبو البقاء هذه القراءة بأن الأشبه عليها أن
224

يقال: فاستغفري * (لذنبك) * الذي صدر عنك وثبت عليك * (إنك كنت) * بسبب ذلك * (من الخاطئين) * أي من جملة القوم المتعمدين للذنب، أو من جنسهم يقال: خطىء يخطىء خطأ وخطأ إذا أذنب متعمدا، وأخطأ إذا أذنب من غير تعمد، وذكر الراغب أن الخطأ العدول عن الجهة وهو أضرب: الأول: أن يريد غير ما تحسن إرادته فيفعله، وهذا هو الخطأ التام المأخوذ به الإنسان، والثاني أن يريد ما يحسن فعله ولكن يقع منه خلاف ما يريد وهذا قد أصاب في الإرادة وأخطأ في الفعل، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " من اجتهد فأخطأ فله أجر " الثالث: أن يريد ما لا يحسن فعله ويتفق منه خلافه فهذا مخطىء في الإرادة مصيب في الفعل، ولا يخفى
أن المعنى الذي ذكرناه راجع إلى الضرب الأول من هذه الضروب، والجملة المؤكدة في موضع التعليل لأمر والتذكير لتغليب الذكور على الإناث واحتمال أن يقال: المراد إنك من نسل الخاطئين فمنهم سرى ذلك العرق الخبيث فيك بعيد جدا، وهذا النداء قيل: من الشاهد الحكيم، وروي ذلك عن ابن عباس، وحمل الاستغفار على طلب المغفرة والصفح من الزوج، ويحتمل أن يكون المراد به طلب المغفرة من الله تعالى ويقال: إن أولئك القوم وإن كانوا يعبدون الأوثان إلا أنهم مع ذلك يثبتون الصانع ويعتقدون أن للقبائح عاقبة سوء من لديه سبحانه إذا لم يغفرها، واستدل على أنهم يثبتون الصانع أيضا بأن يوسف عليه السلام قال لهم: * (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) * (يوسف: 39)، والظاهر أن قائل ذلك هو العزيز، ولعله كما قيل: كان رجلا حليما، وروي ذلك عن الحسن، ولذا اكتفى بهذا القدر من مؤاخذتها، وروي أنه كان قليل الغيرة وهو لطف من الله تعالى بيوسف عليه السلام، وفي " البحر " أن تربة إقليم قطفير اقتضت ذلك، وأين هذا مما جرى لبعض ملوك المغرب أنه كان مع ندمائه المختصين به في مجلس أنس وجارية تغنيهم من وراء ستر فاستعاد بعض خلصائه بيتين من الجارية كانت قد غنت بهما فما لبث أن جىء برأس الجارية مقطوعا في طست، وقال له الملك: استعد البيتين من هذا الرأس فسقط في يد ذلك المستعيد ومرض مدة حياة الملك.
* (وقال نسوة فى المدينة امرأت العزيز تراود فت‍اها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها فى ضل‍ال مبين) *
* (وقال نسوة) * المشهور - وإليه ذهب أبو حيان - أنه جمع تكسير للقلة كصبية. وغلمة، وليس له واحد من لفظه بل من معناه وهو امرأة.
وزعم ابن السراج أنه اسم جمع، وعلى كل فتأنيثه غير حقيقي ولا التفات إلى كون ذلك المفرد مؤنثا حقيقا لأنه مع طرو ما عارض ذلك ليس كسائر المفردات ولذا لم يؤنث فعله، وفي نونه لغتان: الكسر وهي المشهورة والضم وبه قرأ المفضل. والأعمش. والسلمي كما قال القرطبي فلا عبرة بمن أنكر ذلك، وهو إذ ذاك اسم جمع بلا خلاف، ويكسر للكثرة على نساء. ونسوان، وكن فيما روى عن مقاتل خمسا: امرأة الخباز. وامرأة الساقي. وامرأة البواب. وامرأة السجان. وأمرأة صاحب الدواب.
وروى الكلبي أنهن كن أربعة بإسقاط امرأة البواب * (في المدينة) * أريد بها مصر، والجار والمجرور في موضع الصفة - لنسوة - على ما استظهره بعضهم، ووصفن بذلك لأن إغاظة كلامهن بهذا الاعتبار لاتصافهن بما يقوى جانب الصدق أكثر فإن كلام البدويات لبعدهن عن مظان الاجتماع والاطلاع على حقيقة أحوال الحضريات القصريات لا يلتفت إلى كلامهن فلا يغيظ تلك الإغانظة، والكثير على اختيار تعلقه - بقال - ومعنى كون قولهن في المدينة إشاعته وإفشاؤه فيها، وتعقب بأن ذلك خلاف الظاهر * (امرأت العزيز) * هو في الأصل الذي يقهر ولا يقهر كأنه مأخوذ من عز أي حصل في عزاز وهي الأرض الصلبة التي يصعب وطؤها
225

ويطلق على الملك، ولعلهم كانوا يطلقونه إذ ذاك فيما بينهم على كل من ولاه الملك على بعض مخصوص من الولايات التي لها شأن فكان من خواصه ذوي القدر الرفيع والمحل المنيع، وهو بهذا المعنى مراد هنا لأنه أريد به قطفير، وهو في المشهور كما علمت إنما كان على خزائن الملك - وكان الملك الريان بن الوليد - وقيل: المراد به الملك، وكان قطفير ملك مصر. واسكندرية، وإضافتهن لها إليه بهذا العنوان دون أن يصرحن باسمها أو اسمه ليظهر كونها من ذوات الأخطار فيكون عونا على إشاعة الخبر بحكم أن النفوس إلى سماع أخبار ذوي الأخطار أميل، وقيل - وهو الأولى - إن ذاك لقصد المبالغة في لومها بقولهن * (تراود فتايها عن نفسه) * أي تطلب مواقعته إياها وتتمحل في ذلك، وإيثارهن صيغة المضارع للدلالة على دوام المراودة كأنها صارت سجية لها، والفتى من الناس الطري من الشبان، وأصله فتى بالياء لقولهم في التثنية - وهي ترد الأشياء إلى أصولها - فتيان، فالفتوة على هذا شاذ، وجمعه فتية. وفتيان، وقيل: إنه يائي وواوي ككنوت وكنيت، وله نظائر كثيرة، ويطلق على المملوك والخادم لما أن جل الخدمة شبان.
وفي الحديث " لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي " وأطلق على يوسف عليه السلام هنا لأنه كان يخدمها، وقيل: لأن زوجها وهبه لها فهو مملوكها بزعم النسوة، وتعبيرهن عنه عليه السلام بذلك مضافا إليه لا إلى العزيز لإبانة ما بينهما من التباين البين الناشيء عن الخادمية والمخدومية أو المالكية والمملوكية؛ وكل ذلك لتربية ما مر من المبالغة في اللوم فإن من لا زوج لها من النساء أو لها زوج دنىء قد تعذر في مراودة الأخدان لا سيما إذا كان فيهم علو الجناب، وأما التي لها زوج وأي زوج فمراودتها لغيره لا سيما لمن لم يكن بينها وبينه كفاءة لها وتماديها في ذلك غاية الغي ونهاية الضلال * (قد شغفها حبا) * أي شق حبه شغاف قلبها وهو حجابه.
وقيل: هو جلدة رقيقة يقال لها: لسان القلب حتى وصل إلى فؤادها، وبهذا يحصل المبالغة في وصفها بالحب له، وقيل: الشغاف سويداء القلب، فالمبالغة حينئذ ظاهرة، وإلى هذا يرجع ما روى عن الحسن من أن الشغاف باطن القلب، وما حكى عن أبي علي من أنه وسط والفعل مفتوح الغين المعجمة عند الجمهور.
وقرأ ثابت للبناني بكسرها وهي لغة تميم، وقرأ عليه كرم الله تعالى وجهه. وعلي بن الحسين. وابنه محمد. وابنه جعفر رضي الله تعالى عنهما. والشعبي. وعوف الأعرابي - شعفها - بفتح العين المهملة، وهي رواية عن قتادة. وابن هرمز. ومجاهد. وحميد. والزهري، وروى عن ثابت البناني أنه قرأ كذلك أيضا إلا أنه كسر العين، وهو من شعف البعير إذ هنأه فأحرقه بالقطران، فالمعنى وصل حبه إلى قلبها فكاد يحترق، ومن هذا قول الأعشى: يعصى الوشاة وكان الحب آونة * مما يزين للمشعوف ما صنعا
وذكر الراغب أنه من شعفة القلب وهي رأسه عند معلق النياط، ويقال: لأعلى الجبل شعفة أيضا، وأخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن ابن عباس أن الشغف الحب القاتل. والشعف حب دون ذلك، وأخرجا عن الشعبي أن الشغف الحب، والشعف الجنون، وأخرجا أيضا عن ابن زيد أن الشغف في الحب، والشعف في البغض، وهذا المعنى ممتنع الإرادة هنا على هذه القراءة، وفي كتاب أسرار البلاغة في فصل ترتيب الحب
226

أن أول مراتب الحب الهوى. ثم العلاقة وهي الحب اللازم للقلب. ثم الكلف وهو شدة الحب. ثم العشق وهو اسم لما فضل عن المقدار المسمى بالحب. ثم الشعف بالمهملة وهو احتراق القلب مهع لذة يجدها، وكذلك اللوعة واللاعج. ثم الشغف بالمعجمة وهو أن يبلغ الحب شغاف القلب. ثم الجوى وهو الهوى الباطن. ثم التيم هو أن يستعبده الحب. ثم التبل وهو أن يسقمه الحب. ثم التدله وهو ذهاب العقل من الحب. ثم اليهوم وهو أن يذهب الرجل على وجهه لغلبة الهوى عليه اه‍.
ورتب بعضهم ذلك على طرز آخر والله تعالى أعلم، وأيا ما كان فالجملة إما خبر ثان أو حال من فاعل * (تراود) * أو من مفعوله، والمقصود منها تكرير اللوم وتأكيد العذل ببيان اختلاف أحوالها القلبية كأحوالها القالبية، وجوز أبو البقاء كونها استئنافية فهي حينئذ على ما قيل: في موضع التعليل لدوام المراودة، وليس بذاك لأنه إن اعتبر من حيث الإنية كان مصيره إلى الاستدلال بالأخفى على الأجل، وإن اعتبر من حيث اللمية كان فيه ميل إلى تمهيد العذر من قبلها وليس المقام له، وانتصاب * (حبا) * على التمييز وهو محول عن الفاعل إذ الأصل قد شغفها حبه كما أشير إليه، وأدغم النحويان. وحمزة. وهشام. وابن محصين دال * (قد) * في شين شغفها.
* (إنا لنرياها) * أي نعلمها، فالرؤية قلبية واستعمالها بمعنى العلم حقيقة كاستعمالها بمعنى الإحصاص بالبصر، وإذا أريد منها البصرية ثم تجوز بها عن العلمية كان أبلغ في إفادة كونها فيما صنعت من المراودة والمحبة المفرطة مستقرة * (في ضل‍ال) * عظيم عن طريق الرشد والصواب أو سنن العقل * (مبين) * واضح لا يخفى كونه ضلالا على أحد، أو مظهر لأمرها بين الناس، فالتنوين للتفخيم والجملة مقررة لمضمون الجملتين السابقتين المسوقتين للوم والتشنيع، وتسجيل عليها بأنها في أمرها على خطأ عظيم، وإنما لم يقلن: إنها لفي ضلال مبين إشعارا كما قيل: بأن ذلك الحكم غير صادر منهن مجازفة بل عن علم ورأى مع التلويح بأنهن متنزهات عن أمثال ما هي عليه، وصح اللوم على الشغف قيل: لأنه اختياري باعتبار مباديه كما يشير إليه قوله: مازحته فعشقته * والعشق أوله مزاح
وإلا فما ليس باختياري لا ينبغي اللوم عليه كما أشار إليه البوصيري بقوله: يا لائمي في الهوى العذري معذرة * مني إليك ولو أنصفت لم تلم
وقيل: اللوم عليه باعتبار الاسترسال معه وترك علاجه فإنهم صرحوا بأن ذلك من جملة الإدواء، وذكروا له من المعالجة ما ذكروا، ومن أحسن ما ذكر له من ذلك تذكر مساوي المحبوب والتفكر في عواقبه فقد قيل: لو فكر العاشق في منتهى * حسن الذي يسبيه لم يسبه
وتمام الكلام في هذ المقام يطلب في محله.
* (فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا وءاتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما ه‍اذا بشرا إن ه‍اذآ إلا ملك كريم) *
* (فلما سمعت بمكرهن) * أي باغتيابهن وسوء مقالتهن، وتسمية ذلك مكرا لشبهه له في الإخفاء، وقيل: كانت استكتمتهن سرها فأفشينه وأطلعن أمرها، وقيل: إنهن قصدن بتلك المقالة إغضابها حتى تعرض عليهن يوسف لتبدي عذرها فيفزن بمشاهدته، والمكر على هذين القولين حقيقة * (أرسلت إليهن) * تدعوهن، قيل: دعت أربعين امرأة منهن الخمس أو الأربع المذكورات، وروى ذلك عن وهب، والظاهر عود الضمير على تلك النسوة القائلة ما قلن عنها * (وأعتدت) * أي هيأت * (لهن متكئا) *
227

أي ما يتكئن عليه من النمارق والوسائد كما روى عن ابن عباس، وهو من الاتكاء الميل إلى أحد الشقين، وأصله موتكأ لأنه من توكأت فأبدلت الواو تاءا وأدغمت في مثلها، وروى عن الحبر أيضا أن المتكأ مجلس الطعام لأنهم كانوا يتكؤن له كعادة المترفين المكبرين، ولذلك نهى عنه، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن جابر رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يأكل الرجل بشماله وأن يأكل متكئا، وقيل: أريد به نفس الطعام قال العتبي: يقال: اتكأنا عند فلان أي أكلنا؛ ومن ذلك قول جميل:
فظللنا بنعمة واتكأنا * وشربنا الحلال من قلله
وهو على هذا اسم مفعول أي متكئا له أو مصدر أي اتكاء، وعبر بالهيئة التي يكون عليها الآكل المترف عن ذلك مجازا، وقيل: هو من باب الكناية، وعن مجاهد أنه الطعام يحز حزا بالسكين واختلفوا في تعيينه، فقيل: كان لحما وكانوا لا ينهشون اللحم وإنما يأكلونه حزا بالسكاكين، وقيل: كان أترجا. وموزا. وبطيخا، وقيل: الزماورد وهو الرقاق الملفوف باللحم وغيره أو شيء شبيه بالأترج، وكأنه إنما سمي ما يقطع بالسكين بذلك لأن عادة من يقطع شيئا أن يعتمد عليه فيكون متكأ عليه، وقرأ الزهري. وأبو جعفر. وشيبة - متكى - مشدد التاء من غير همز بوزن متقى وهو حينئذ إما أن يكون من الاتكاء وفيه تخفيف الهمزة كما قالوا في توضأت: توضيت، أو يكون مفتعلا من أوكيت السقاء إذا شددته بالوكاء، والمعنى أعتدت لهن ما يشتد عليه بالاتكاء أو بالقطع بالسكين، وقرأ الأعرج متكأ على وزن مفعلا من تكاء يتكأ إذا اتكأ، وقرأ الحسن. وابن هرمز متكأ بالمد والهمز وهو مفتعل من الاتكاء إلا أنه أشبع الفتحة فتولدت منها الألف وهو كثير في كلامهم، ومنه قوله: وأنت من الغوائل حين ترمى * وعن ذم الرجال بمنتزاح
وقوله: ينباع من ذفرى عضوب حسرة * زيافة مثل الفنيق المكرم
وقرأ ابن عباس. وابن عمر. ومجاهد. وقتادة. وآخرون متكا بضم الميم وسكون التاء وتنوين الكاف، وجاء ذلك عن ابن هرمز أيضا، وهو الأترج - عند الأصمعي. وجماعة - والواحد متكة، وأنشد: فأهدت (متكة) لبني أبيها * تخب بها العثمثمة الوقاح
وقيل: هو اسم يعم جميع ما يقطع بالسكين - كالأترج. وغيره - من الفواكه، وأنشد: نشرب الاثم بالصواع جهارا * ونرى (المتك) بيننا مستعارا
وهو من متك الشيء بمعنى بتكه أي قطعه، وعن الخليل تفسير المتك مضموم الميم بالعسل، وعن أبي عمرو تفسيره بالشراب الخالص، وحكى الكسائي تثليث ميمه، وفسره بالفالوذج، وكذا حكى التثليث المفضل لكن فسره بالزماورد، وذكر أنه بالضم المائدة أو الخمر في لغة كندة، وبالفتح قرأ عبد الله. ومعاذ رضي الله تعالى عنهما، وفي الآية على سائر القراآت حذف أي فجئن وجلسن * (وءاتت كل واحدة منهن سكينا) *.
وقال بعض المحققين: لا يبعد أن تسم هذه الواو فصيحة، وإنما أعطت كل وحدة ذلك لتستعمله في قطع ما يعهد قطعه مما قدم بين أيديهن وقرب إليهن، وغرضها من ذلك ما سيقع من تقطيع أيديهن لتبكتهن بالحجة.
وقيل: غرضها ذاك والتهويل على يوسف عليه السلام من مكرها إذا خرج على أربعين نسوة مجتمعات في
228

أيديهن الخناجر توهمه أنهن يثبت عليه فيكون خائفا من مكرها دائما فلعله يجيبها إلى مرادها، والسكين مذكر عند السجستاني قال: وسألت أبا زيد الأنصاري. والأصمعي. وغيرهم ممن أدركناه فكلهم يذكره وينكر التأنيث فيه، وعن الفراء أنه يذكر ويؤنث. وذلك حكى عن اللحياني. ويعقوب، ومنع بعضهم أن يقال: سكينة، وأنشد عن الكسائي ما يخالف ذلك وهو قوله: الذئب سكينته في شدقه * ثم قرابا نصلها في حلقه
* (وقالت) * ليوسف عليه السلام وهن مشغولات بمعالجة السكاكين وإعمالها فيما بأيدهن، والعطف بالواو ربما يشير إلى أن قوله: * (اخرج عليهن) * أي ابرز لهن لم يكن عقيب ترتيب أمورهن ليتم غرضها بهن.
والظاهر أنها لم تأمره بالخروج إلا لمجرد أن يرينه فيحصل مرامها، وقيل: أمرته بالخروج عليهن للخدمة أو للسلام، وقد أضمرت مع ذلك ما أضمرت يحكى أنها ألبسته ثيابا بيضا في ذلك اليوم لأن الجميل أحسن ما يكون في البياض * (فلما رأينه) * عطف على مقدر يستدعيه الأمر بالخروج وينسحب عليه الكلام أي فخرج عليهن فرأينه، وإنما حذف على ما قيل: تحقيقا لمفاجأة رؤيتهن كأنها تفوت عند ذكر خروجه عليهن، وفيه إيذان بسرعة امتثاله عليه السلام بأمرها فيما لا يشاهد مضرته من الأفاعيل. ونظير هذا آت كما مر آنفا * (أكبرنه) * أي أعظمنه ودهشن برؤية جماله الفائق الرائع الرائق، فإن فضل جماله على جمال كل جميل كان كفضل القمر ليلة اليدر على سائر الكواكب.
وأخرج ابن جرير. وغيره عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: رأيت يوسف ليلة المعراج كالقمر ليلة البدر، وحكى أنه عليه السلام كان إذا سار في أزقة مصر تلألأ وجهه على الجدران كما يرى نور الشمس، وجاء عن الحسن أنه أعطى ثلث الحسن، وفي رواية عن أنس مرفوعا أنه عليه السلام أعطى هو وأمه شطر الحسن وتقدم خبر أنه عليه اللاسم كان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه ربه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معنى أكبرن حضن، ومن ذلك قوله: يأتي النساء على أطهارهن ولا * يأتي النساء إذا أكبرن إكبارا
وكأنه إنما سمي الحيض إكبارا لكون البلوغ يعرف به فكأنه يدخل الصغار سن الكبر فيكون في الأصل كناية أو مجازا، والهاء على هذا إما ضمير المصدر فكأنه قيل: أكبرن إكبارا. وإما ضمير يوسف عليه السلام على أسقاط الجار أي حضن لأجله من شدة شبقهن، والمرأة كما زعم الواحدي إذا اشتد شبقها حاضت ومن هنا أخذ المتنبي قوله: خف الله واستر ذا الجمال ببرقع * إذا لحت حاضت في الخدور العواتق
وقيل: إن الهاء للسكت، ورد بأنها لا تحرك ولا تثبت في الولص، وءجراء الوصل مجرى الوقف وتحريكها تشبيها لها بالضمير كما في قوله: واحر قلباه ممن قلبه شبم * على تسليم صحته ضعيف في العربية
واعترض في " الكشف " التخريجين الأولين فقال: إن نزع الخافض ضعيف لأنه إنما يجري في الظروف
229

والصفات والصلات، وذلك لدلالة الفعل على مكان الحذف، وأما في مثل هذا فلا، والمصدر ليس من مجازه إذ ليس المقام للتأكيد، وزعم أن الوجه هو الأخير، وكل ما ذكره في حيز المنع كما لا يخفى.
وأنكر أبو عبيدة مجيء أكبرن بمعنى حضن، وقال: لا نعرف ذلك في اللغة، والبيت مصنوع مختلق لا يعرفه العلماء بالشعر، ونقل مثل ذلك عن الطبري. وابن عطية. وغير واحد من المحققين، ورواية ذلك عن ابن عباس إنما أخرجها ابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم من طريق عبد الصمد، وهو - وإن روى ذلك عن أبيه علي عن أبيه ابن عباس - لا يعول عليه فقد قالوا: إنه عليه الرحمة ليس من رواة العلم.
وعن الكميت الشاعر تفسير أكبرن بأمنين، ولعل الكلام في ذلك كالكلام فيما تقدم تخريجا وقبولا، وأنا لا أرى الكميت من خيل هذا الميدان وفرسان ذلك الشأن * (وقطعن أيديهن) * أي جرحنها بما في أيديهن من السكاكين لفرط دهشتهن وخروج حركات جوارحهن عن منهاج الاختيار حتى لم يعلمن بما عملن ولم يشعرن بما ألم ما نالهن، وهذا كما تقول: كنت أقطع اللحم فقطعت يدي، وهو معنى حقيقي للتقطيع عند بعض.
وفي " الكشف " إنه معنى مجازي على الأصح، والتضعيف للتكثير إما بالنسبة لكثرة القاطعات. وإما بالنسبة لكثرة القطع في يد كل واحدة منهن.
وأخرج ابن المنذر. وغيره عن مجاهد أنه فسر التقطيع بالإبانة، والمعنى الأول أسرع تبادرا إلى الذهن، وحمل الأيدي على الجوارح المعلومة مما لا يكاد يفهم خلافه، ومن العجيب ما روى عن عكرمة من أن المراد بها الأكمام، وأظن أن منشأ هذا محض استبعاد وقوع التقطيع على الأيدي بالمعنى المتبادر؛ ولعمري لو عرض ما قاله على أدنى الأفهام لاستبعدته * (وقلن) * تنزيها لله سبحانه عن صفات التقصير والعجز وتعجبا من قدرته جل وعلا على مثل ذلك النصع البديع * (ح‍اش لله) * أصله حاشا الله بالألف كما قرأ أبو عمرو في الدرج فحذفت ألفه الأخيرة تخفيفا، وهو على ما قيل: حرف وضع للاستثناء والتنزيه معا ثم نقل وجعل اسما بمعنى التنزيه وتجرد
عن معنى الاستثناء ولم ينون مراعاة لأصله المنقول عنه، وكثيرا ما يراعون ذلك ألا تراهم قالوا: جلست من عن يمينه؟ فجعلوا - عن - اسما ولم يعربوه، وقالوا: غدت من عليه فلم يثبتوا ألف على مع المضمر كما أثبتوا ألف فتى في فتاه كل ذلك مراعاة للأصل، واللام للبيان فهي متعلقة بمحذوف، ورد في " البحر " دعوى إفادته التنزيه في الاستثناء بأن ذلك غير معروف عند النحاة، ولا فرق بين قام القوم إلا زيدا. وحاشا زيدا، وتعقب بأن عدم ذكر النحاة ذلك لا يضر لأنه وظيفة اللغويين لا وظيفتهم، واعترض بعضهم حديث النقل بأن الحرف لا يكون اسما إلا إذا نقل وسمى به وجعل علما، وحينئذ يجوز فيه الحكاية والإعراب، ولذا جعله ابن الحاجب اسم فعل بمعنى برىء الله تعالى من السوء، ولعل دخول اللام كدخولها في * (هيهات هيهات لما توعدون) *، وكون المعنى على المصدرية لا يرد عليه لأنه قيل: إن أسماء الأفعال موضوعة لمعاني المصادر وهو المنقول عن الزجاج، نعم ذهب المبرد. وأبو علي. وابن عطية. وجماعة إلى أنه فعل ماض بمعنى جانب، وأصله من حاشية الشيء وحيه أي جانبه وناحيته، وفيه ضمير يوسف واللام للتعليل متعلقة به أي جانب يوسف ما قرف به لله تعالى أي لأجل خوفه ومراقبته، والمراد تنزيهه وبعده كأنه صار في جانب عما اتهم به لما رؤى فيه من آثار العصمة وأبهة النبوة عليه الصلاة والسلام، ولا يخفى أنه على هذا يفوت معنى التعجب، واستدل على اسميتها بقراءة أبي السمال
230

* (حاشا لله) * بالتنوين، وهو في ذلك على حد: سقيا لك، وجوز أن يكون اسم فعل والتنوين كما في صه، وكذا بقراءة أبي. وعبد الله رضي الله تعالى عنهما - حاشا الله - بالإضافة كسبحان الله، وزعم الفارسي أن * (حاشا) * في ذلك حرف جر مرادا به الاستثناء كما في قوله: (حاشا) أبي ثوبان إن أبا * ثوبان ليس ببكمة فدم
ورد بأنه لم يتقدمه هنا ما يستثنى منه، وجاء في رواية عن الحسن أنه قرأ - حاش لله - بسكون الشين وصلا ووقفا مع لام الجر في الاسم الجليل على أن الفتحة اتبعت الألف في الاسقاط لأنها كالعرض اللاحق لها، وضعفت هذه القراءة بأن فيها التقاء الساكنين على غير حده، وفي رواية أخرى عنه أنه قرأ - حاش الإله - وقرأ الأعمش - حاشا لله - بحذف الألف الأولى، هذا واستدل المبرد. وابن جني. والكوفيون على - حاش - قد تكون فعلا بالتصرف فيها بالحذف كما عملت في هذه القراآت، وبأنه قد جاء المضارع منها كما في قول النابغة:
ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه * ولا - أحاشى - من الأقوام من أحد
ومقصودهم الرد على - س - وأكثر البصرية حيث أنكروا فعليتها، وقالوا: إنها حرف دائما بمنزلة إلا لكنها تجر المستنثى، وكأنه لم يبلغهم النصب بها كما في قوله: حاشا قريشا فإن الله فضلهم
وربما يجيبون عن التصرف بالحذف بأن الحذف قد يدخل الحرف كقولهم: أما والله. وأم والله، نعم رد عليهم أيضا بأنها تقه قبل حرف الجر، ويقابل هذا القول ما ذهب إليه الفراء من أنها لا تكون حرفا أصلا بل هي فعل دائما ولا فاعل لها، والجر الوارد بعدها كما في: حاشاي إني مسلم معذور
والبيت المار آنفا بلام مقدرة، والحق أنها تكون فعلا تارة فينصب ما بعدها ولها فاعل وهو ضمير مستكن فيها وجوبا يعود إما على البعض المفهوم من الكلام. أو المصدر المفهوم من الفعل، ولذا لم يثن. ولم يجمع. ولم يؤنث، وحرفا أخرى ويجر ما بعدها، ولا تتعلق بشيء كالحروف الزائدة عند ابن هشام، أو تتعلق بما قبلها من فعل أو شبهه عند بعض، ولا تدخل عليها إلا كما إذا كانت فعلا خلافا للكسائي في زعمه جواز ذلك إذا جرت، وأنها إذا وقعت قبل لام الجر كانت اسم مصدر مرادفا للتنزيه، وتمام الكلام في محله * (ما ه‍اذا بشرا) * نفين عنه البشرية لما شاهدن من جماله الذي لم يعهد مثاله في النوع الإنساني، وقصرهن على الملكية بقولهن: * (إن ه‍اذا) * أي ما هذا * (إلا ملك كريم) * أي شري كثير المحاسن بناءا على ما ركز في الطباع من أنه لا حي أحسن من الملك كما ركز فيها أن لا أقبح من الشيطان، ولذا لا يزال يشبه بهما كل متناه في الحسن والقبح وإن لم يرهما أحد، وأنشدوا لبعض العرب: فلست لأنسي ولكن لملأك * تنزل من جو السماء يصوب
وكثر في شعر المحدثين ما هو من هذا الباب، ومنه قوله: ترك إذا قوبلوا كانوا ملائكة * حسنا وإن قوتلوا كانوا عفاريتا
وغرضهن من هذا وصفه بأنه في أقصى مراتب الحسن والكمال الملائم لطباعهن، ويعلم مما قرر أن الآية لا تقوم دليلا على أن الملك أفضل من بني آدم كما ظن أبو علي الجبائي. وأتباعه، وأيده الفخر - ولا فخر له - بما أيده، وذهب غير واحد إلى أن الغرض تنزيهه عليه السلام عما رمى به على أكم لوجه، وافتتحوا ذلك - بحاشا لله -
231

على ما هو الشائع في مثل ذلك، ففي " شرح التسهيل " الاستعمال على أنهم إذا أرادوا تبرئة أحد من سوء ابتدأوا تبرئة الله سبحانه من السوء ثم يبرئون من أرادوا تبرئته على معنى أن الله تعالى منزه عن أن لا يطهره مما يميمه فيكون آكد وأبلغ، والمنصور ما أشير إليه أولا وهو الذي يقتضيه السياق والسباق، نعم هذا الاستعمال ظاهر فيما يأتي إن شاء الله تعالى من قوله تعالى عن النسوة: * (حاش لله ما علمنا عليه من سوء) * (يوسف: 52) و * (ما) * عاملة عمل ليس وهي لغة للحجازيين لمشابهتها لها في نفي الحال على ما هو المشهور في ليس من أنها لذلك أو في مطقل النفي بناءا على ما قال الرضي من أنها ترد لنفي الماضي. والمستقبل، والغالب على لغتهم جر الخبر بالباء حتى أن النحويين لم يجدوا شاهدا على النصب في أشعارهم غير قوله: وأنا النذير بحرة مسودة * تصل الجيوش إليكم قوادها
أبناؤها متكنفون أباهم * حنقوا الصدور وما هم أولادها
والزمخشري يسمى هذه اللغة: اللغة القدمى الحجازية، ولغة بني تميم في مثل ذلك الرفع، وعلى هذا جاء قوله: ومهفهف الأعطاف قلت له انتسب * فأجاب ما قتل
المحب حرام
وبلغتهم قرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، وزعم ابن عطية أنه لم يقرأ بها أحد هنا، وقرى الحسن. وأبو الحويرث الحنفي - ما هذا بشرى - بالباء الجارة، وكسر الشين على أن شرى - كما قال صاحب اللوائح - مصدر أقيم مقام المفعول به أي ما هذا بمشرى أي ليس ممن يشتري بمعنى أنه أعز من أن يجري عليه ذلك.
وروى هذه القراءة عبد الوارث عن أبي عمرو أيضا إلا أنه روى عنه أنه مع ذلك كسرى اللام من ملك، وروى الكسرى ابن عطية عن الحسن. وأبي الحويرث أيضا، والمراد إدخاله في حيز الملوك بعد، ففي كونه مما يصلح للملوكية فبين الجملتين تناسب ظاهر، وكأن بعضهم لم ير أن من قرأ بذلك قرأ أيضا * (ملك) * بكسر اللام فقال: لتحصيل التناسب بينهما في تفسير ذلك أي ما هذا بعبد مشتري لئيم، وعلى التقديرين لا يقال: إن هذه القراءة مخالفة لمقتضى المقام، نعم إنها مخالفة لرسم المصحف لأنه لم يكتب ذلك بالياء فيه.
* (قالت فذالكن الذى لمتننى فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل مآ ءامره ليسجنن وليكونا من الص‍اغرين) *
* (قالت فذالكن) * الفاء فصيحة والخطاب للنسوة والإشارة - حسبما يقتضيه الظاهر - إلى يوسف عليه السلام بالعنوان الذي وصفته به الآن من الخروج في الحسن والكمال عن المراب البشرية، والاقتصار على الملكية، أو بعنوان ما ذكر مع الاخبار وتقطيع الأيدي بسببه أيضا، فاسم الإشارة مبتدأ والموصول خبره، والمعنى إن كان الأمر كما قلتن فذلكن الملك الكريم الخارج في الحسن عن المراتب البشرية، أو الذي قطعتن أيدين بسببه وأكبرتنه ووصفتنه بما وصفتنه هو * (الذي لمتنني فيه) * أي عيرتني في الافتنان فيه أو بالعنوان الذي وصفنه به فيما سبق بقولهن: امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني، فاسم الإشارة خبر لمبتدأ محذوف دخلت الفاء عليه بعد حذفه، والموصول صفة اسم الاشارة أي فهو ذلكن العبد الكنعاني الذي صورتن في أنفسكن وقلتن فهي وفي ما قلتن، فالآن قد علمتن من هو وما قولكن فينا، وقيل: أرادت هذا ذلك العبد الكنعاني
232

الذي صورتن في أنفسكن ثم لمتنني فيه على معنى أنكن لم تصورنه بحق صورته ولو صورتنه بما عاينتن لعذرتنني في الافتتان به، والإشارة بما يشار به إلى البعيد مع قرب المشار إليه وحضوره قيل: رفعا لمنزلته في الحسن واستبعادا لمحله فيه، وإشارة إلى أنه لغرابته بعيد أن يوجد مثله.
وقيل: إن يوسف عليه السلام كان في وقت اللوم غير حاضر وهو عند هذا الكلام كان حاضرا فإن جعلت الإشارة إليه بإعتبار الزمان الأول كانت على أصلها وإن لوحظ الثاني كان قريبا وكانت الإشارة بما ذكر لتنزيله لعلو منزلته منزلة البعيد واحتمال أنه عليه السلام أبعد عنهن وقت هذا الكلام لئلا يزددن دهشة وفتنة ولذا أشير إليه بذلك بعيد وجوز ابن عطية كون الإشارة إلى حب يوسف عليه السلام وضمير (فيه) عائد إليه وجعل الإشارة على هذا إلى غائب على بابها ويبعده على ما فيه (ولقد راودته عن نفسه (وهو إباحة منها ببقية سرها بعد أن أقامت عليهن الحجة وأوضحت لديهن عذرها وقد أصابهن من قبله ما أصابها أي والله لقد راودته حسبما قلتن وسمعتن (فاستعصم (قال ابن عطية: أي طلب العصمة وتمسك بها وعصاني وفي الكشاف أن الإستعصام بناءا مبالغة يدل على الإمتناع البليغ والتحفظ الشديد كأنه في عصمة وهو مجتهد في الإستزادة منها ونحوه إستمسك واستوسع الفتق واستجمع الرأي واستفحل الخطب أه
وفي البحر والذي ذكره الصوفيون في (استعصم) أنه موافق لإعتصم وأما إستمسك واستوسع واستجمع فاستفعل فيه أيضا موافقة لإفتعل والمعنى إمتسك واتسع واجتمع وأما إستفحل فاستفعل فيه موافقة لتفعل أي تفحل نحو إستكبر وتكبر فالمعنى فإمتنع عما أرادت منه وبالإمتناع فسرت العصمة على إرادة الطلب لأنه هو معناها لغة قيل: وعنث بذلك فراره عليه السلام منها فإنه إمتنع منها أولا بالمقال ثم لما لم يفده طلب ما يمنعه منها بالفرار وليس المراد بالعصمة ما أودعه الله تعالى في بعض أنبيائه عليهم السلام مما يمنع عن الميل للمعاصي فإنه معنى عرفي لم يكن قبل بل لو كان لم يكن مرادا كما لا يخفى وتأكيد الجملة بالقسم مع أن مضمونها من مراودتها له عن نفسه مما تحدث به النسوة لإظهار إبتهاجها بذلك
وقيل: إنه بإعتبار المعطوف وهو الإستعصام كأنها نظمته لقوة الداعي إلى خلافه من كونه عليه السلام في عنفوان الشباب ومزيد إختلاطه معها ومراودتها إياه مع إرتفاع الموانع فيما تظن في سلك ما ينكر ويكذب المخبر به فأكدته لذلك وهو كما ترى وفي الآية دليل على أنه عليه السلام لم يصدر منه ما سود به القصاص وجوه الطروس وليت السدي لو كان قد سد فاه عن قوله: (فاستعصم) بعد حل سراويله ثم إنها بعد أن إعترفت لهن بما سمعنه وتحدثهن به وأظهرت من إعراضه عنها واستعصامه ما أظهرت ذكرت أنها مستمرة على ما كانت عليه لا يلويها عنها لوم ولا إعراض فقالت: (ولئن لم يفعل ما ءامره (أي الذي أمره به فيما سيأتي كما لم يفعل فيما مضى فما موصولة والجملة بعدها صلة والعائد الهاء وقد حذف حرف الجر منه فاتصل بالفعل وهذا أمر شائع مع أمر كقوله:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
ومفعول أمر الأول إما متروك لأن مقصودها لزوم إمتثال ما أمرت به مطلقا كما قيل وإما محذوف لدلالة (يفعل) عليه وهو ضمير يعود على يوسف أي ما آمره به
233

وجوز أن يكون الضمير الموجود هو العائد على يوسف والعائد على الموصول محذوف أي به ويعتبر الحذف تدريجا لإشتراطهم في حذف العائد المجرور بالحرف كونه مجرورا بمثل ما جر به الموصول لفظا ومعنى ومتعلقا وإذا اعتبر التدريج في الحذف يكون المحذوف منصوبا وكذا يقال في أمثال ذلك
وقال ابن المنير في تفسيره: إن هذا الجار مما أنس حذفه فلا يقدر العائد إلا منصوبا مفصولا كأنه قيل: أمر يوسف إياه لتعذر إتصال ضميرين من جنس واحد ويجوز أن تكون (ما) مصدرية فالضمير المذكور ليوسف أي لئن لم يفعل أمري إياه ومعنى فعل الأمر فعل موجبه ومقتضاه فهو إما على الإسناد المجازي أو تقدير المضاف وعبرت عن مراودتها بالأمر إظهار لجريان حكومتها عليه واقتضاءا للإمتثال لأمرها (ليسجنن (بالنون الثقيلة آثرت بناء الفعل للمفعول جريا على رسم الملوك
وجوز أن يكون إيهاما لسرعة ترتب ذلك على عدم إمتثاله لأمرها كأنه لا يدخل بينهما فعل فاعل
(وليكونا (بالمخففة من الصاغرين
32
أي الأذلال المهانين وهو من صغر كفرح ومصدر صغر بفتحتين وصغرا بضم فسكون وصغار بالفتح وهذا في القدر وأما في الجثة والجرم فالفعل صغر ككرم ومصدره صغر كعنب وجعل بعضهم الصغار مصدرا لهذا أيضا وكذا الصغر بالتحريك والمشهور الأول وأكدت السجن بالنون الثقيلة قيل: لتحققه وما بعده بالنون الخفيفة لأنه غير متحقق
وقيل: لأن ذلك الكون من توابع السجن ولوازمه فاكتفت في تأكيده بالنون الخفيفة بعد أن أكدت الأول بالثقيلة وقرأت فرقة بالتثقيل فيهما وهو مخالف لرسم المصحف لأن النون سمت فيه بالألف كنسفعا على حكم الوقف وهي يوقف عليها بالألف كما في قول الأعشى ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا وذلك في الحقيقة لشبهها بالتنوين لفظا لكونها نونا ساكنة مفردة تلحق الآخر واللام الداخلة على حرف الشرط موطئة للقسم وجوابه ساد مسد الجوابين ولا يخفى شدة ما توعدت به كيف وأن للذل تأثيرا عظيما في نفوس الأحرار وقد يقدمون الموت عليه وعلى ما يجر إليه: قيل: ولم تذكر العذاب الأليم الذي ذكرته في (ما جزاء من أراد بأهلك سوءا) إلخ لأنها إذ ذاك كانت في طراوة غيظها ومتنصلة من أنها هي التي راودته فناسب هناك التغليظ بالعقوبة وأما هنا فإنها في طماعية ورجاء وإقامة عذرها عند النسوة فرقت عليه فتوعدته بالسجن وما هو من فروعه ومستتبعاته وقيل: إن قولها: (ليكونا من الصاغرين) إنما أتت به بدل قولها هناك: (عذاب أليم) ذله بالقيد أو بالقرب أو بغير ذلك لكن يحتمل أنها أرادت بالذل والعذاب الأليم ما يكون بالضرب بالسياط فقط أو ما يكون به أو بغيره أو أرادت بالذل ما يكون بالضرب وبالعذاب الأليم ما يكون به أو بغيره أو بالعكس وكيفما كان الأمر فما طلبته هنا أعظم مما لوحت بطلبه هناك لمكان الواو هنا وأو هناك ولعلها إنما بالغت في ذلك بمحضر من تلك النسوة لمزيد غيظها بظهور كذبها وصدقه وإصراره على عدم بل غليلها ولتعلم يوسف عليه السلام أنها ليست في أمرها على خيفة ولا خفية من أحد فيضيق عليه الحيل ويعي به العلل وينصحن له ويرشدنه إلى موافقتها فتدبر (قال (إستئناف بياني كأن سائلا يقول: فماذا صنع يوسف حينئذ فقيل: (قال) مناجيا لربه عز وجل (رب السجن (الذي وعدتني بالإلقاء فيه وهو إسم للمحبس وقرأ عثمان ومولاه طارق وزيد بن علي والزهري وابن أبي إسحاق وابن هرمز ويعقوب (السجن) بفتح السين على أنه مصدر
234

سجنه أي حبسه وهو في القراءتين مبتدأ خبره ما بعده وقرأ (رب) بالضم و (السجن) بكسر السين والجر على الإضافة فرب حينئذ مبتدأ والخبر هو الخبر والمعنى على ما قيل: لقاء صاحب السجن أو مقاساة أمره (أحب إلي (أي آثر عندي لأن فيه مشقة قليلة نافدة إثرها راحات كثيرة أبدية (مما يدعونني إليه (من مواتاتها التي تؤدي إلى الشقاوة والعذاب الأليم وصيغة التفضيل ليست على بابها إذ ليس له عليه السلام شائبة محبة لما يدعونه إليه وإنما هو والسجن شران أهونهما وأقربهما إلى الإيثار السجن والتعبير عن الإيثار بالمحبة لحسم مادة طمعها عن المساعدة لها على مطلوبها خوفا من الحبس والإقتصار على السجن لكون الصغار من مستتبعاته على ما قيل وقيل: إكتفى عليه السلام بذكر السجن عن ذكره لوفائه بالغرض وهو قطع طعمها عن المساعدة خوفا مما توعدته لأنها تظن أن السجن أشد عليه من الصغار بناءا على زعمها أنه فتاها حقيقة وأن الفتيان لا يشق عليهم ذلك مشقة السجن ومتى كان الأشد أحب إليه مما يدعونه إليه كان غير الأشد أحب إليه من باب أولى وفيه منع ظاهر وإسناد الدعوة إليهن لأنهن خوفنه عن مخالفتها وزين له مطاوعتها فقد روي أنهن قلن له: أطع مولاتك واقض حاجتها لتأمن من عقوبتها فإنها المظلومة وأنت الظالم وروي أن كلا منهن طلبت الخلوة لنصيحته فلما خلت به دعته إلى نفسها وعن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أن كل واحدة منهن أرسلت إليه سرا تسأله الزيارة فإسناد ذلك إليهن لأنهن أيضا دعونه إلى أنفسهن صريحا أو إشارة وفي أثر ذكره القرطبي أنه عليه السلام لما قال: (رب السجن أحب إلي) إلخ أوحى الله تعالى إليه: يا يوسف أنت جنيت على نفسك ولو قلت: العافية أحب إلي عوفيت ولذلك رد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على من كان يسأل الصبر فقد روى الترمذي عن معاذ بن جبل عنه عليه الصلاة والسلام أنه سمع رجلا وهو يقول: اللهم إني أسألك الصبر فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: سألت الله تعالى البلاء فاسأله العافية
(وإلا تصرف (أي وإن لم تدفع (عني كيدهن (في تحبيب ذلك إلي وتحسينه لدي بأن تثبتني على ما أنا عليه من العصمة والعفة (أصب إليهن (أي أمل على قضية الطبيعة وحكم القوة الشهوية إلى إجابتهن بمواتاتها أو إلى أنفسهن وهو كناية عن مواتاتهن وهذا فزع منه عليه السلام إلى ألطاف الله تعالى جريا على سنن الأنبياء عليهم السلام والصالحين في قصر نيل الخيرات والنجاة عن الشرور على جناب الله تعالى وسلب القوى والقدر عن أنفسهم ومبالغة في إستدعاء لطفه سبحانه في صرف كيدهن بإظهار أنه لا طاقة له بالمدافعة كقول المستغيث: أدركني وإلا هلكت لا أنه عليه السلام يطلب الإجبار الإلجاء إلى العصمة والعفة وفي نفسه داعية تدعوه إلى السوء كذا قرره المولى أبو السعود وهو معنى لطيف وقد أخذه من كلام الزمخشري لكن قال القطب وغيره: إنه فرار إلى الإعتزال وإشارة إلى جواب إستدلال الأشاعرة بهذه الآية على أن العبد لا ينصرف عن المعصية إلا إذا صرفه الله تعالى وقد قرر ذلك الإمام بما قرره فليراجع وليتأمل وأصل (إلا) إن لا فهي مركبة من إن الشرطية ولا النافية كما أشرنا إليه وقد أدغمت فيه النون باللام و (أصب) من صبا يصبوا وصبوة إذا مال إلى الهوى ومنه الصبا للريح المخصومة لأن النفوس تميل إليها لطيب نسيمها وروحها مضارع مجزوم على أنه جواب الشرط والجملة الشرطية عطف على قوله: (السجن أحب) وجيء بالأولى إسمية دون الثانية لأن أحبيته السجن مما يدعونه إليه كانت ثابتة مستمرة ولا كذلك الصرف المطلوب وقريء (أصب) من صبيت صبابة
235

إذا عشقت وفي البحر الصبابة إفراط الشوق كأن صاحبها ينصب فيما يهوى والفعل مضمن معنى الميل أيضا ولذا عدي بإلى أي أصب مائلا إليهن (وأكن من الجاهلين
33
أي الذين لا يعملون بما يعلمون لأن من لا جدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء أو من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه من القبائح لأن الحكيم لا يفعل القبيح فالجهل بمعنى السفاهة ضد الحكمة لا بمعنى عدم العلم ومن ذلك قوله: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا (فاستجاب له ربه (أي أجاب له على أبلغ وجه دعاءه الذي تضمنه قوله: (وإلا تصرف عني كيدهن) إلخ فإنه في قوة قوله: أصرفه عني بل أقوي منه في إستدعاء الصرف على ما علمت وفي إسناد الإستجابة إلى الرب مضافا إلى ضميره عليه السلام ما لا يخفى من إظهار اللطف وزاد حسن موقع ذلك إفتتاح كلامه عليه السلام بندائه تعالى بعنوان الربوبية (فصرف عنه كيدهن (حسب دعائه بأن ثبته على العصمة والعفة وحال بينه وبين المعصية (إنه هو السميع (لدعاء المتضرعين إليه (العليم
34
بأحوالهم وما انطوت عليه نياتهم وبما يصلحهم لا غيره سبحانه (ثم بدا لهم (أي ظهر للعزيز وأصحابه المتصدين للحل والعقد ربما إكتفوا بأمر يوسف عليه السلام بالكتمان والإعراض عن ذلك من بعد ما رأوا الآيات الصارفة لهم عن ذلك البدا وهي الشواهد الدالة على براءته عليه السلام وطهارته من قد القميص وقطع النساء أيديهن وعليهما إقتصر قتادة فيما أخرجه عنه ابن جرير وفيه إطلاق الجمع على إثنين والأمر فيه هين وعن مجاهد الإقتصار على القد فقط لأن القطع ليس من الشواهد الدالة على البراءة في شيء حينئذ للتعظيم ويحمل الجمع حينئذ على التعظيم أو أل على الجنسية وهي تبطل معنى الجمعية كذا قيل وهو كما ترى ووجه بعضهم عد القطع من الشواهد بأن حسنه عليه الصلاة والسلام الفاتن للنساء في مجلس واحد وفي أول نظرة يدل على فتنتها بالطريق الأولى وأن الطلب منها لا منه وعد بعضهم إستعصامه عليه السلام عن النسوة إذ دعونه إلى أنفسهن فإن العزيز وأصحابه قد سمعوه وتيقنوا به حتى صار كالمشاهد لهم دلالة ذلك على البراءة ظاهرة وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة قال: سألت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن الآيات فقال: ما سألني عنها أحد قبلك من الآيات: قد القميص وأثرها في جسده وأثر السكين فعد رضي الله تعالى عنه الأثر من الآيات ولم يذكر فيما سبق ومن هنا قيل: يجوز أن يكون هناك آيات غير ما ذكر ترك ذكرها كما ترك ذكر كثير من معجزات الأنبياء عليهم السلام وفاعل (بدا) ضمير يعود إما للبداء مصدر الفعل المذكور أو بمعنى الرأي كما في قوله: لعلك والموعود حق لقاؤه (بدا) لك في تلك القلوص بداء وإما للسجن بالفتح المفهوم من قوله سبحانه: (ليسجننه (وجملة القسم وجوابه إما مفعول لقول مضمر وقع حالا من ضميرهم وإلى ذلك ذهب المبرد وإما مفسرة للضمير المستتر في (بدا) فلا موضع لها
وقيل: إن جملة (ليسجننه) جواب لبدا لأنه من أفعال القلوب والعرب تجريها مجرى القسم وتتلقاها بما يتلقى به وزعم بعضهم أن مضمون الجملة هو فاعل (بدا) كما قالوا في قوله سبحانه: (أو لم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من
236

القرون) وقوله تعالى: (وتبين لكم كيف فعلنا بهم) أن الفاعل مضمون الجملة أي كثرة إهلاكنا وكيفية فعلنا وظاهر كلام ابن مالك في شرح التسهيل أن الفاعل في ذلك الجملة لتأويلها بالمفرد حيث قال: وجاز الإسناد في هذا الباب بإعتبار التأويل كما جاز في باب المبتدأ نحو (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) وجمهور النحاة لا يجوزون ذلك كما حقق في موضعه واختار المازني في الفاعل الوجه الأول قيل: وحسن بدا لهم بداء وإن لم يحسن ظهر لهم ظهور لأن البداء قد أستعمل في غير المصدرية كما علمت واختار أبو حيان الوجه الأخير وكونه ضمير السجن السابق على قراءة من فتح السين والأولى كونه ضمير السجن المفهوم من الجملة أي بدا لهم سجنه المحتوم قائلين: والله (ليسجننه) وكان ذلك البداء بإستنزال المرأة لزوجها ومطاوعته لها وحبه إياها وجعله زمام أمره بيدها وروي أنه عليه السلام لما إستعصم عنها ويئست منه قالت للعزيز: إن هذا الغلام العبراني قد فضحني في الناس يخبرهم بأني راودته عن نفسه فأبى ويصف الأمر حسبما يختار وأنا محبوسة محجوبة فأما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر إلى الناس وأكذبه وإما أن تحبسه كما أني محبوسة فحبس قال ابن عباس: إنه أمر به عليه السلام فحمل على حمار وضرب معه الطبل ونودي عليه في أسواق مصر أن يوسف العبراني راود سيدته فهذا جزاؤه وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما قال أبو صالح: كلما ذكر هذا بكى وأرادت بذلك تحقيق وعيدها لتلين به عريكته وتنقاد لها قرونته لما إنصرمت حبال رجائها عن إستتباعه بعرض الجمال بنفسها وبأعوانها
وقرأ الحسن لتسجننه على صيغة الخطاب بأن خاطب بعضهم العزيز ومن يليه أو العزيز وحده على وجه التعظيم أو خاطب به العزيز ومن عنده من أصحاب الرأي المباشرين للسجن والحبس (حتى حين
35
(قال ابن عباس: إلى انقطاع المقال وما شاع في المدينة من الفاحشة وهذا بادي الرأي عند العزيز وأما عندها فحتى يذلله السجن ويسخره لها ويحسب الناس أنه المجرم وقيل: الحين ههنا خمس سنين وقيل: بل سبع وقال مقاتل: إنه عليه السلام حبس إثنتي عشرة سنة والأولى أن لا يجزم بمقدار وإنما يجزم بالمدة الطويلة والحين عند الأكثرين وقت من الزمان غير محدود يقع على القصير منه والطويل وقد إستعمل في غير ذلك كما ذكرناه في شرح القادرية وقرأ ابن مسعود عتى بإبدال حاء (حتى) عينا وهي لغة هذيل وقد أقرأ رضي الله تعالى عنه بذلك إلى أن كتب إليه عمر رضي الله تعالى عنه أن يقريء بلغة قريش (حتى) بالحاء (ودخل معه السجن فتيان (غلامان كانا للملك الأكبر الريان بن الوليد: أحدهما خبازه وصاحب طعامه والآخر ساقيه وصاحب شرابه وكان قد غضب عليهما الملك بسبب أن جماعة من أشراف مصر أرادوا المكر بالملك واغتياله فضمنوا لهما مالا على أن يسماه في طعامه وشرابه فأجابا إلى ذلك ثم إن الساقي ندم فرجع عن ذلك وقبل الخباز الرشوة وسم الطعام فلما حضر بين يدي الملك قال الساقي: لا تأكل أيها الملك فإن الطعام مسموم وقال الخباز: لا تشرب فإن الشراب مسموم فقال للساقي: إشربه فشربه فلم يضره وقال للخباز: كل من طعامك فأبى فأطعم من ذلك لدابة فهلكت فأمر الملك بحبسهما فاتفق أن أدخلا معه السجن ولعله إنما عبربدخل الظاهر في كون الدخول
237

بالإختيار مع أنه لم يكن كذلك للإشارة على ما قيل: إلى أنهما لما رأيا يوسف هان عليهما أمر السجن لما وقع في قلوبهما من محبته وهوى كل نفس حيث حبيبها فقد أخرج غير واحد عن ابن إسحق أنهما لما رأياه قالا له: يا فتى لقد والله أحببناك حين رأيناك فقال لهما عليه السلام: أنشدكما الله تعالى أن لا تحباني فو الله ما أحبني أحد قط إلا دخل على من حبه بلاء لقد أحبتني عمتي فدخل علي من حبها بلاء ثم أحبني أبي فدخل علي من حبه بلاء ثم أحبتني زوجة صاحبي هذا فدخل علي بحبها إياي بلاء فلا تحباني بارك الله تعالى فيكما فأبيا إلا حبه والله حيث كان وقيل: عبر بذلك لما أن ذكر (معه) يفيد اتصافه عليه السلام بما ينسب إليهما والمناسب في حقه نسبة الدخول لمكان قوله عليه السلام: (رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه) لا الادخال المفيد لسلب الإختيار ولو عبر بأدخل لأفاد ذلك نسبة الإدخال إليه فلم يكن بد من التعبير بالدخول ترجيحا لجانبه عليه السلام والظاهر أن مع تدل على الصحبة والمقارنة لفاعل الفعل في ابتداء تلبسه بالفعل فتفيد أن دخولهما مصاحبين وأنهم سجنوا الثلاثة في ساعة واحدة وتعقب بأن هذا منتقض بقوله سبحانه: (وأسلمت مع سليمان) حكاية عن بلقيس إذ ليس إسلامهما مقارنا لابتداء إسلام سليمان عليه السلام وأجيب بأن الحمل على المجاز هنالك للمصارف ولا صارف فيما نحن فيه فيحمل على الحقيقة ويشهد لذلك ما ذكره الزمخشري في قوله سبحانه: (فلما بلغ معه السعي) من أنه بيان متعلق بمحذوف لتعذر التعلق ببلغ أو (السعي) معنى أو لفظا
وقال صاحب الكشف: إنه لا يتعين المحكي عنها المعية الفاعل فجاز أن يراد أسلمت لله ولرسوله مثلا وتقديم (مع) للإشعار بأنها كانت تظن أنها على دين قبل وأنها كانت مسلمة فيما كانت تعبد من الشمس فدل على أنه إسلام يتعد به من أثر متابعة نبيه لا إسلام كالأول فاسد وهذا معنى صحيح حمل الآية عليه أولى وإن حمل على معية الفاعل لم يكن بد من محذوف نحو مع بلوغ دعوته وإظهار معجزته لأن فرق ما بين المعية ومطلق الجمع معلوم بالضرورة أه
وفرق بعضهم بين الفعل الممتد كالإسلام وغيره كالدخول بأن الأول لا يقتضي مقارنتهما في ابتدائه بخلاف الثاني وهو على ما قيل: راجع إلى الجمع وليس من المعية في شيء على أنه حينئذ لا يحتاج إلى تأويل في آية (ولما بلغ معه السعي) واختير أن المقارنة هي الأصل ولا يعدل عنها ما أمكنت فتأمل وتأخير الفاعل عن المفعول لما من غير مرة من الإهتمام بالمقدم والتسويق إلى المؤخر ليتمكن عند النفس حين وروده فضل تمكن ولعل تقديم الظرف على السجن لأن الإهتمام بأمر المعية أشد من الإهتمام بأمره لما أنها المنشأ لما كان وقيل: إنما قدم لأن تأخيره يوهم أن يكون خبرا مقدما على المبتدأ وتكون الجملة حالا من فاعل دخل وتعقب بأن حاصل التركيب الأول مصاحبة الفتيين له عند دخولهما وحاصل الثاني مصاحبة الفتيين له عند دخوله ويؤول الأمران إلى دخولهما ودخوله متصاحبين فافهم والجملة على ما قيل: معطوفة على محذوف ينساق إليه الذهن كأنه قيل: فلما بدا لهم ذلك سجنوه (ودخل معه) الخ وقرأ (السجن) بفتح السين على معنى موضع السجن قال (استئناف مبني على سؤال من يقول: ما صنعا بعدما دخلا فأجيب بأنه (قال) (أحدهما (وهو الشرابي واسمه بنو (إني أراني (أي رأيتني في المنام والتعبير بالمضارع لاستحضار الصور الماضية (أعصر خمرا (أي عنبا وروي أنه قال: رأيت حبلة
238

من كرم حسنة لها ثلاثة أغصان فيها عناقيد عنب فكنت أعصرها وأسقي الملك وسماه بما يؤول إليه لأن الخمر مما لا يعصر إذ عصر الشيء إخراج ما فيه من المائع بقوة وكون العنب يؤول إلى الخمر وكون الذي يؤول إليه ماؤه لاجرمه لا يضر لأنه المقصود منه فما عداه غير منظور إليه فليس فيه تجوزان بالنظر إلى المتعارف فيه وقيل: الخمر بلغة غسان اسم للعنب وقيل: في لغة أذرعان وقرأ أبي وعبد الله أعصر عنبا قال في البحر: وينبغي أن يحمل ذلك على التفسير لمخالفته لسواد المصحف والثابت عنهما بالتواتر قراءتهما (أعصر خمرا) انتهى وقد أخرج القراءة كذلك الثاني البخاري في تاريخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردوية من طرق وذكروا أنه قال: والله لقد أخذتها من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هكذا فافهم
وقال ابن عطية: يجوز أن يكون وصف الخمر بأنها معصورة لأن العصر من أجلها فليس ذلك من مجاز الأول والمشهور أنه منه كما قال الفراء: مؤنثة وربما بما ذكرت وعن السجستاني أنه سمع التذكير ممن يوثق به من الفصحاء ورأى الحلمية جرى مجرى أفعال القلوب في جواب كون فاعلها ومفعولها ضميرين متحدي المعنى ولا يجوز ذلك في غير ما ذكر فلا يقال: اضربني ولا أكرمني وحاصله أرى نفسي أعصر خمرا (وقال الأخر (وهو الخباز واشمه مجلث (إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا (وفي مصحف ابن مسعود ثريدا
تأكل الطير منه (وهذا كما قيل أيضا: تفسير لا قراءة روي أنه قال: رأيت أني أخرج من مطبخة الملك وعلى رأسي ثلاث سلاسل فيها خبز والطير وتأكل من أعلاه والخبز معروف وجمعه أخباز وهو مفعول (أحمل) والظرف متعلق بأحمل وتأخيره عنه لما مر وقيل: متعلق بمحذوف وقع حالا منه وجملة (تأكل) الخ صفة له أو استئناف مبني على السؤال (نبئنا (أي أخبرنا بتأويله بتعبيره وما يؤول إليه أمره والضمير للرؤيتين بتأويل ما ذكر أو ما رؤي وقد أجرى الضمير مجرى ذلك بطريق الإستعارة فإن اسم الإشارة يشار به إلى متعدد كما مرت الإشارة إليه غير مرة هذا إذا قالاه معا أو قاله أحدهما من جهتها معا وأما إذا قاله كل منهما إثر ما قص ما رآه فالمرجع غير متعدد ولا يمنع من هذا الإحتمال صيغة المتكلم مع الغير لاحتمال أن تكون واقعة في الحكاية دون المحكي على طريقة قوله تعالى: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات) فإنهم لم يخاطبوا دفعة بل خوطب كل واحد في زمان بصيغة مفردة خاصة به إنا نراك (تعليل لعرض رؤياهما عليه واستفسارهما منه عليه السلام أي إنا نعتقدك (من المحسنين
36
(أي من الذين يحسنون تأويل الرؤيا لما رأياه يقص عليه بعض أهل السجن رؤياه فيؤولها تأويلا حسنا وكان عليه السلام حين دخل السجن قد قال: إني أعبر الرؤيا وأجيد
239

أو من العلماء كما في قول علي كرم الله تعالى وجهه: قيمة كل امريء ما يحسنه وذلك لما سمعاه يذكر للناس ما يدل على علمه وفضله أخرج ابن أبي حاتم وغيره عن
قتادة قال: لما انتهى يوسف إلى السجن وجد فيه قوما قد انقطع رجاؤهم واشتد بلاؤهم وطال حزنهم فجعل يقول: أبشروا واصبروا تؤجروا إن لهذا لأجرا فقالوا: يا فتى بارك الله تعالى فيك ما أحسن وجهك وأحسن خلقك وخلقك لقد بروك لنا في جوارك ما نحب أنا كنا في غير هذا منذ جئتنا لما تخبرنا من الأجر والكفارة والطهارة فمن أنت يا فتى قال: أنا يوسف بن صفي الله تعالى يعقوب بن ذبيح الله تعالى إسحاق بن خليل الله تعالى إبراهيم فقال له عامل السجن: يا فتى لو استطعت خليت سبيلك ولكن سأحسن جوارك فكن في أي بيوت السجن شئت أو (نت المحسنين) إلى أهل السجن فأحسن إلينا بكشف غمتنا إن كنت قادرا على ذلك وإلى هذا ذهب الضحاك أخرج سعيد بن منصور والبيهقي وغيرهما عنه أنه سئل ما كان إحسان يوسف فقال: كان إذا مرض إنسان في السجن قام عليه وإذا ضاق عليه مكان أوسع له وإذا احتاج جمع له (قال لايأتيكما طعام ترزقانه (في الحبس حسب عادتكما المطردة (إلا نبأتكما بتأويله (استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا يأتيكما طعام في حال من الأحوال إلا حال ما نبأتكما به بأن بينت لكما ماهيته وكيفيته وسائر أحواله (قبل أن يأتيكما (وحاصله لا يأتيكما طعام إلا أخبرتكما قبل إتيانه لإياكما بأنه يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت وإطلاق التأويل على ذلك مع أن حقيقته في المشهور تفسير الألفاظ المراد منها خلاف الظاهر ببيان المراد بطريق الإستعارة فإن ذلك يشبه تفسير المشكل أو أنه بالنسبة إلى الطعام المبهم بمنزلة التأويل بالنسبة إلى ما رؤي في المنام وشبيه له
ويحسن هذه الإستعارة ما في ذلك من المشاكلة لما وقع في عبارتهما من قولهما: (نبئنا بتأويله) وكون المراد بالتأويل الأمر الآيل المآل بناءا على أنه في الأصل جعل شيء آيلا إلى شيء آخر وكما يجوز أن يراد به الثاني يجوز أن يراد به الأول ويكون المعنى إلا نبأتكما يؤول إليه من الكلام والخبر المطابق للواقع في غاية البعد بل لا يكاد يلتفت إليه كما لا يخفى على المنصف وكأنه عليه السلام أراد أن يعرض عليهما التوحيد ويزينه لهما ويقبح لهما الشرك بالله تعالى قبل أن يجيبهما عما سألاه من تعبير رؤياهما ثم يجيبهما عن ذلك وهذه طريقة على كل ذي عقل أن يسلكها مع الجهلة والفسقة إذا استفتاه واحد منهم أن يقدم الإرشاد والنصيحة أولا ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجبه عليه مما استفتى فيه ثم يفتيه ولعل ذلك كان مفترضا عليه عليه السلام فوصف نفسه أولا بما هو فوق علم العلماء وهو الإخبار بالمغيبات وجعله تخلصا لما أراد كالتخلصات المعروفة عندهم فإن الإخبار بالغيب يناسب ما سألاه من تأويل رؤياهما وأن من كان هكذا لا محالة يكون بغيره صادقا ويقوي أمر المناسبة تخصيص الطعام بالذكر من بين سائر المغيبات كما لا يخفى ويناسب ما أراده من الدعوة إلى التوحيد لأنه ثبت صدقه ونبوته وكونه من المرتضين عند الله تعالى في أقوالهم وأفعالهم وفي حكاية الله تعالى إرشاد لمن كان له قلب وقد أدمج فيه أن وصف العالم نفسه لينتفع به لا يحرم ولا يعد ذلك من التزكية المحظورة وإلى ما ذكرنا من حمل الإتيان على الإتيان في اليقظة ذهب غير واحد من الأجلة وروي عن ابن جريج وحمله بعضهم على الإتيان مناما قال السدي وابن إسحاق: إنه عليه السلام لما علم من رؤية الخباز أنه يقتل أخذ من حديث آخر تنسية لهما أمر المنام وطماعية في إيمانهما ليأخذ المقتول
240

بحظه من الإيمان وتسلم له آخرته فقال بعظيم علمه بالتعبير: إنه لا يجيئكما طعام في نومكما تريان أنكما ترزقانه إلا أعلمتكما بما يؤول إليه أمره في اليقظة قبل أن يظهر ذلك ولا يخفى أن حديث الطماعية المذكورة مما لا بأس إلا أن حديث التنسية لا يخلو عن منع وجاء في رواية أخرى عن ابن جريج أخرجها ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عنه ما يقرب من هذا الحديث من وجه فإنه قال: إنه عليه السلام كره العبارة لهما فأجابهما بأن له علما بما يأتيهما من الطعام ولم يصرح بما تدل عليه رؤياهما شفقة على الهالك منهما وكان الملك إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاما معلوما فأرسل به فلما لم يكتفيا بذلك وطلبا منه التعبير أيضا دعاهما إلى التوحيد كراهة للعبارة أيضا فلما لم يكتفيا عبر لهما وأوضح ما تدل عليه رؤياهما وهو كما ترى وأياما كان فالضمير في تأويله يعود على الطعام وجوز على ما قصاه عليه من الرؤيتين على معنى لا يأتيكما طعام ترزقانه حسب عادتكما إلا أخبرتكما بتأويل ما قصصتما على قبل أن يأتيكما ذلك الطعام المؤقت والمراد الإخبار بالإستعجال بالتنبئة وفيه أنه خلاف الظاهر مع أن الأخبار بالإستعجال مما ليس فيه كثير مناسبة لما هو بصدده وقد يقال: يجوز عود الضمير إلى ما قصاه ويكون المراد من الطعام المرزوق ما رأياه في النوم ولا يخفى ما فيه أيضا لكن التأويل على هذين الوجهين لا يحتاج إلى التأويل بل يراد منه ما أريد من تأويله في كلاهما وكذا الضمير المستتر في (يأتيكما) يعود على الطعام وعوده على التأويل وإن كان أقرب بعيد ثم إنه عليه السلام أخبرهما بأن ذلك ليس من علوم الكهنة والمنجمين بل هو فضل إلهي يؤتيه من يشاء فقال: (ذلكما (ويروى أنهما قالا له: من أين لك ما تدعيه من العلم وأنك لست بكاهن ولا منجم وقيل: قالا إن هذا كهانة أو تنجيم فقال ذلك التأويل والكشف عن المغيبات ومعنى البعد في ذلك للإشارة إلى بعد منزلته وعلو درجته مما علمني ربي بالوحي أو بنحو ذلك مما يحصل به العلم كما يكون للأولياء أهل الكشف رضي الله تعالى عنهم واقتصر بعضهم على الأول وادعى أن الآية دليل على أنه عليه السلام كان إذ ذاك نبيا وأيا ما كان فالمراد أن ذلك بعض ما علمنيه الله تعالى أو من ذلك الجنس الذي لا يناله إلا الأصفياء ولقد دلهما بذلك على أن له علوما جمة ما سمعاه قطرة من تيارها وزهرة من أزهارها وقوله: (إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله (استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ مما تقدم وتعليلا له كأنه قيل: لما علمك ربك تلك العلوم الجليلة الشأن فقال: لأني تركت دين الكفر الذي اجتمعوا عليه من الشرك وعبادة الأوثان وقيل: تعليل للتعليم الواقع صلة وهو يؤدي إلى معنى أنه علمني ربي لهذا السبب دون غيره وليس بمراد وقيل: لمضمون الجملة الخبرية وفيه أن ما ذكر ليس بعلة لكون التأويل المذكور بعضا مما علمه ربه أو لكونه من جنسه بل لنفس التعليم والمراد بالترك الإمتناع فإنه لم يتلوث بتلك قط كما يفصح عنه ما يأتي من كلامه عليه السلام قريبا إن شاء الله تعالى لكن عبر به ذلك استجلابا لهما لأن يتركا تلك الملة التي هم عليها على أحسن وجه والتعبير عن كفرهم بالله تعالى بسلب الإيمان به سبحانه للتنصيص على أن
241

عبادتهم له تعالى مع عبادة الأوثان ليس بإيمان به تعالى كما يزعمون وأراد بأولئك القوم المتصفين بعنوان الصلة حيث كانوا وقيل: أهل مصر فإنهم كانوا عبدة إذ ذاك (وهم بالآخرة (وما فيها من الجزاء (هم كافرون
37
(أي على الخصوص دون غيرهم من الكنعانيين الذين هم على ملة إبراهيم عليه السلام على ما يفيده توسيط ضمير الفعل هنا عند البعض وذكر أن تقديم الضمير للتخصيص وتكريره للتأكيد ولعله إنما أكيد إنكارهم للمعاد لأنه كان أشد من إنكارهم للمبدأ فتأمل ((واتبعت ملة إبراهيم وإسحاق ويعقوب) داخل في حيز التعليل كأنه قال: إنما فزت بما فزت بسبب أني لم أتبع ملة قوم كفروا بالمبدأ والمعاد واتبعت ملة آبائي الكرام المؤمنين بذلك وإنما قاله عليه السلام ترغيبا لصاحبيه في الإيمان والتوحيد وتنفيرا لهما عما كانا عليه من الشرك والضلال وقد ذكر تركه لما تهم على ذكر اتباعه لملة آبائه عليهم السلام لأن التخلية مقدمة على التحلية وجوز بعضهم أن لا يكون هناك تعليل وإنما الجملة الأولى مستأنفة ذكرت تمهيدا للدعوة والثانية إظهارا لأنه من بيت النبوة لتقوى الرغبة فيه وفي كلام أبي حيان ما يقتضي أنه الظاهر وليس بذاك وقرأ الأشهب العقيلي والكوفيون (آبائي) بإسكان الياء وهي مروية عن أبي عمرو (ما كان (ما صح وما استقام فضلا عن الوقوع (لنا (معاشر الأنبياء لقوة نفوسنا وقيل: أي أهل البيت لوفور عناية الله تعالى بنا (أن نشرك بالله من شيء (أي شيئا أي شيء كان من ملك أو جني أو إنسي ضلا عن الصنم الذي لا يسمع ولا يبصر فمن زائدة في المفعول به لتأكيد العموم ويجوز أن يكون المعنى شيئا من الإشراك قليلا كان أو كثيرا فيراد من (شيء) المصدر وأمر العموم بحاله ويلزم من عموم ذلك عموم المتعلقات (ذلك (أي التوحيد المدلول عليه بنفي صحة الشرك من فضل الله علينا أي ناشيء من تأييده لنا بالنبوة والوحي بأقسامه والمراد أنه فضل علينا بالذات (وعلى الناس (بواسطتنا (ولكن أكثر الناس لا يشكرون
38
(أي لا يوحدون وحيث عبر عن ذلك بذلك العنوان عبر عن التوحيد الذي يوجبه بالشكر لأنه مع كونه من آثار ما ذكر من التأييد شكر لله عز وجل ووضع الظاهر موضع الضمير الراجع إلى الناس لزيادة التوضيح والبيان ولقطع توهم رجوعه إلى مجموع الناس وما كني عنه بنا الموهم لعدم اختصاص غير الشاكر بالناس وفيه من الفساد ما فيه وجوز أن يكون المعنى ذلك التوحيد ناشيء من فضل الله تعالى علينا حيث نصب لنا أدلة ننظر فيها ونستدل بها على الحق وقد نصب مثل تلك الأدلة لسائر الناس أيضا من غير تفاوت ولكن أكثرهم لا ينظرون ولا يستدلون بها اتباعا لأهوائهم فيبقون كافرين غير شاكرين والفضل على هذا عقلي وعلى الأول سمعي وجوز المولى أبو السعود أن يقال: المعنى ذلك التوحيد من فضل الله تعالى علينا حيث أعطانا عقولا ومشاعر نستعملها في دلائل التوحيد التي مهدها في الأنفس والآفاق وقد أعطى سائر الناس أيضا مثلها ولكن أكثرهم لا يشكرون أي لا يصرفون تلك القوى والمشاعر إلى ما خلقت هي له ولا يستعملونها فيما ذكر من أدلة التوحيد الآفاقية والأنفسية والعقلية والنقلية انتهى ولك أن تقول: يجوز أن تكون الإشارة إلى ما أشير إليه
242

بذلكما ويراد ما يفهم مما قبل من عمله بتأويل الرؤيا و (من) في قوله (من فضل الله) تبعيضية ويكون قد أخبر عنه أولا بأنه مما علمه إياه ربه وثانيا بأنه بعض فضل الله تعالى عليه وعلى آبائه بالذات وعلى الناس بواسطتهم لأنهم يعبرون لهم رؤياهم فيكشفون ما أبهم عليهم ويزلون عنهم ما أشغل أذهانهم مع ما في ذلك من النفع الذي لا ينكره إلا نائم أو متناوم ومن وقف على ما ترتب على تعبير رؤيا الملك من النفع الخاص والعام لم يشك في أن علم التعبير من فضل الله تعالى على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون فضل الله تعالى مطلقا أو فضله عليهم بوجود من يرجعون إليه في تعبير رؤياهم ويكون ذلك نظير قولك لمن سألم عن زيد: ذلك أخي ذلك حبيبي لكنه وسط ههنا ما وسط وتفنن في التعبير فأتي باسم الإشارة أولا مقرونا بخطابهما ولم يأت به ثانيا كذلك وأتي بالرب مضافا إلى ضميره أولا وبالاسم الجليل ثانيا ويجوز أن يكون المشار إليه في الموضعين الإخبار بالمغيبات مطلقا والكلام في سائر الآية عليه لا أظنه مشكلا وعلى الوجهين لا ينافي تعليل نيل الكرامة بتركه ملة الكفرة واتباعه ملة آبائه الكرام الإخبار بأن ذلك من فضل الله تعالى عليه وعلى من معه كما لا يخفى نعم إن حمل الإشارة على ما ذكر وتوجيه الآية عليه بما وجهت لا يخلو عن بعد ومن الناس من جعل الإشارة إلى النبوة وفيه ما فيه أيضا هذا وأوجب الإمام كون المراد في قوله: (لا يشكرون) لا يشكرون الله تعالى على نعمة الإيمان ثم قال: وحكى أن واحدا من أهل السنة دخل على بشر بن المعتمر فقال: هل تشكر الله تعالى على الإيمان أم لا فإن قلت: لا فقد خالفت الإجماع وإن شكرته فكيف تشكره على ما ليس فعلا له فقال بشر: إنا نشكره على أن أعطانا القدرة والعقل والآلة وأما أن نشكره على الإيمان مع أنه ليس فعلا له فذلك باطل وصعب الكلام على بشر فدخل عليهم ثمامة بن الأشرس فقال: إنا لا نشكر الله تعالى على الإيمان بل الله تعالى يشكره علينا كما قال سبحانه: (فأولئك كان سعيهم مشكورا) فقال بشر: لما صعب الكلام سهل وتعقب ذلك عليه الرحمة بأن الذي التزمه ثمامة باطل وهو على طرف الثمام بنص هذه الآية لأنه سبحانه بين فيها أن عدم الإشتراك من فضل الله تعالى ثم بين أن أكثر الناس لا يشكرون هذه النعمة وقد ذكر سبحانه ذلك على سبيل الذم فدل على أنه يجب على مؤمن أن يشكر الله تعالى على الإيمان لئلا يدخل في الذم وحينئذ تقوى الحجة وتكمل الدلالة أه ولعل الوجه في الآية ما تقدم فليفهم (يا صاحبي السجن (أي يا صاحبي فيه إلا أنه أضيف إلى الظرف توسعا كما في قولهم: يا سارق الليلة أهل الدار ولعله إنما ناداهما بعنوان الصحبة في مدار الأشجان ودار الأحزان التي تصفو فيها المودة وتتمحض النصيحة ليقبلا عليه ويقبلا مقالته ويجوز أن يراد بالصحبة السكنى كما يقال: (أصحاب النار) (وأصحاب الجنة) لملازمتهم لهما والإضافة من باب إضافة الشيء إلى شبه المفعول عند أبي حيان وإلى المفعول عند غيره ولا اتساع في ذلك وقيل: بل هناك اتساع أيضا وأنه أضافهما إلى السجن دونه لكونهما كافرين وفيه نظر ولعل في ندائهما بذلك على هذا الوجه حثا لهما على الإقرار بالحق كأنه قال لهما: يا ساكني هذا المكان الشاق والمحل الضنك إني ذاكر لكم أمرا فقولوا: الحق فيه ولا تزيغوا عن ذلك فأنتم تحت شدة ولا ينبغي لمن كان كذلك أن يزيغ عن الحق وإنما حمل الصاحب على ما سمعت لأن صاحب السجن في الإستعمال المشهور السجان أو الملك والنداء بيا بناءا على الشائع من أنها للبعيد للإشارة
243

إلى غفلتهما وهيمانهما في أودية الضلال وقد تلطف عليه السلام بهما في ردهما إلى الحق وإرشادهما إلى الهدى حيث أبرز لهما ما يدل على بطلان ما هما عليه بصورة الإستفهام حتى لا تنفر طباعهما من المفاجأة بإبطال ما ألفاه دهرا طويلا ومضت عليه أسلافهما جيلا فجيلا فقال: (أرباب متفرقون (متعددون متكثرون يستعبدكما منهم هذا
وهذا والكلام على ما صرح به أبو حيان على حذف مضاف أي أعبادة أرباب متفرقين (خير (لكما (أم الله (أي أم عبادة الله سبحانه (الواحد (المنفرد بالألوهية (القهار
39
(الغالب الذي لا يغالبه أحد جل وعلا وهو أولى مما قاله الخطابي من أنه الذي قهر الجبابرة بالعقوبة والخلق بالموت وذكر الزمخشري إن هذا ضرب لعبادة الله تعالى وحده ولعبادة الأصنام واعترضه القطب بأن ذلك إنما يصح لو نسبا تارة إلى أرباب شتى وأخرى إلى رب واحد كما في قوله تعالى: (ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء) الآية لكنهما نسبا إلى أرباب وإلى الله تعالى فكيف يكون مثلا وأجاب بأنه يفسر الله تعالى برب واحد لأنه في مقابلة أرباب وإنما عبر عن رب واحد بالله تعالى لانحصاره فيه جل جلاله وقال الطيبي أيضا: إن في ذلك إشكالا لأن الظاهر من الآية نفي استواء الأصنام وعبادتها بالله تعالى وعبادته فأين المثل ثم قال: لكن التقدير أسادات شتى تستعبد مملوكا واحدا خير من شيد واحد قهار فوضع موضع الرب والسيد الله لكونه مقابلا لقوله: (أأرباب) فيكون كقوله تعالى: (ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء) الآية وقرر في الكشف ما ادعى معه ظهور كونه مثلا طهورا لا إشكال فيه والحق أنه ظاهر في نفي الإستواء وإن جعله مثلا يحتاج إلى تأويل حسبما سمعت عن الطيبي إلا أنه لا يخلو عن لطف ولعله الأولى وإن أحوج إلى ما أحوج وحمل التفرق في العدد والتكاثر مما ذهب إليه غي واحد وحمله بعضهم على الإختلاف في الكبر والصغر والشكل ونحو ذلك مما يحصل لها بواسطة تأثير الغير فيها وجعله إشارة إلى كونها مقهورة عاجزة وأما التعدد فيشير إليه جمع أرباب باعتبار أنه جمع فيكون ذكر (الواحد) على هذا في مقابلة ما أشير إليه من التعدد (والقهار) في مقابلة ما أشير إليه من المقهورية والعجز والمعنى أمتعددون سميتموهم أربابا عجز مقهورون متأثرون من غيرهم خير (أم الله) أي صاحب هذا الأسم الجليل (الواحد) الذي يستحيل عليه التكثير بوجه من الوجوه (القهار) الذي لا موجود إلا وهو مسخر تحت قهره وقدرته عاجز في قبضته وقيل: المراد من (متفرقون) مختلفو الأجناس والطبائع كالملك والجن والجماد مثلا ويجوز أن يراد منه من لا ارتباط بينهم ولا اتفاق وكثيرا ما يكنى بذلك عن العجز واختلال الحال وقد استنبط الإمام من الآية غير ما حجة بطلان عبادة الأصنام وظاهر كلامه أنه لم يعتبرها مثلا فليتأمل ثم إنه عليه السلام زاد في الإرشاد ببيان سقوط آلهتهما عن درجة الإعتبار رأسا فضلا عن الألوهية وأخرج ذلك على أتم وجه فقال معمما للخطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر كما هو الظاهر وقيل: مطلقا وقيل: من معهما من أهل السجن: (ما تعبدون من دونه (أي من دون الله تعالى شيئا (إلا أسماء (أي ألفاظا فارغة لا مطابق لها في الخارج لأن ما ليس فيه مصداق إطلاق الإسم عليه لا وجود له أصلا فكانت عبادتهم لتلك الألفاظ فقط (سميتموها جعلوها أسماء (أنتم وآباؤكم (بمحض الجهل والضلالة (ما أنزل الله بها (أي بتلك التسمية
244

المستتبعة للعبادة (من سلطان (أي حجة تدل على صحتها وقيل: كانوا يطلقون على معبوداتهم الباطلة اسم الآلهة ويزعمون الدليل على ذلك فردوا بأنكم سميتم مالم يدل على استحقاقه هذا الاسم عقل ولا نقل ثم أخذتم تعبدون ذلك باعتبار ما تطلقونه عليه وإنما لم يذكر المسميات تربية لما يقتضيه المقام من إسقاطها عن مرتبة الوجود وإيذانا بأن تسميتهم في البطلان حيث كانت بلا مسمى كعبادتهم حيث كانت بلا معبود ويلحق بهؤلاء الذين يزعمون أنهم يعبدون الله تعالى وهم يتخيلونه سبحانه جسما عظيما جالسا فوق العرش أو نحو ذلك ينزهه العقل وانتقل عنه تعالى تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا لأن ما وضع له الاسم الجليل في نفسه الأمر ليس هو الذي تخيلوه بل هو أمر وراء ذلك وهو المستحق للعبادة وما وضعوه هم ليس بآله في نفس الأمر ولا مستحق للعبادة وهو الذي عبدوه فما عبدوا في الحقيقة إلا اسما مطابق له في الخارج لأن ما في الخارج أمر وما وضعوا الاسم له أمر آخر (إن الحكم (أي ما الحكم في شأن العبادة المتفرعة على تلك التسمية وفي صحتها إلا لله عن سلطانه لأنه المستحق لها بالذات إذ هو الواجب بالذات الموجد للكل والمالك لأمره (أمر ألا تعبدوا (أي بأن لا تعبدوا أحدا (إلا إياه (حسبما يقتضي به قضية العقل أيضا والجملة استئناف مبني على سؤال ناشيء من الجملة السابقة كأنه قيل: فماذا حكم الله في هذا الشأن فقيل: (أمر) الخ وفي موضع التعليل لمحذوف كأنه قيل: حيث لم يكن الحكم في أمر العبادة إلا له فلا تكون العبادة إلا له سبحانه أو لمن يأمر بعبادته وهو لا يأمر بذلك ولا يجعله لغيره سبحانه (أمر أن لا تعبدوا إلا إياه) وهو خلاف الظاهر
وجوز أن يكون سرد هذه الجمل على هذا الطرز لسد الطرق في توجيه صحة عبادة الأصنام عليهم أحكم سد فإنهم إن قالوا: إن الله تعالى قد أنزل حجة في ذلك ردوا بقوله: (ما أنزل الله بها من سلطان) وإن قالوا: حكم لنا بذلك كبراؤنا ردوا بقوله: (إن الحكم إلا لله) وإن قالوا: حيث لم ينزل حجة في ذلك ولم يكن حكم لغيره بقي الأمر موقوفا إذ عدم إنزال حجة تدل على الصحة لا يستلزم إنزال حجة على البطلان ردوا بقوله: (أمر أن لا تعبدوا إلا إياه) (ذلك (أي تخصيصه تعالى بالعبادة (الدين القيم (الثابت الذي دلت عليه البراهين العقلية والنقلية (ولكن أكثر الناس لا يعلمون
40
(أن ذلك هو الدين القيم لجهلهم تلك البراهين أو لا يعلمون شيئا أصلا فيعبدون أسماء سموها من عند أنفسهم معرضين عما يقتضيه العقل ويسوق إليه شائق النقل ومنشأ هذا الإعراض الوقوف عند المألوف والتقيد بالحسيات وهو مركوز في أكثر الطباع ومن ذلك جاء التشبيه والتجسيم ونسبة الحوادث الكونية إلى الشمس والقمر وسائر الكواكب ونحو ذلك ثم إنه عليه السلام بعد تحقيق الحق وبيانه لهما مقدار علمه الواسع شرع في إنبائهما عما استنبآه عنه ولكونه بحثا مغايرا لما سبق فصله عنه بتكرير الخطاب فقال: (يا صاحبي السجن أمآ أحدكما (أراد به الشرابي وإنما لم يعنيه عليه السلام ثقة بدلالة التعبير مع ما فيه من رعاية حسن الصحبة (فيسقي ربه أي سيده (خمرا (روي أنه عليه السلام قال له: ما رأيت من الكرمة وحسنها هو الملك وحسن حالك عنده وأما القضبان الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تمضي في السجن ثم تخرج وتعود إلة ما كنت عليه وقريء (فيسقى) بضم الياء والبناء للفاعل من أسقى قال صاحب اللوامح: يقال: سقي وأسقي بمعنى وقريء في السبعة (نسقيكم) و (نسقيكم) بالفتح
والضم والمعروف
245

أن سقاه ناوله ليشرب وأسقاه جعل له سقيا ونسب ضم الياء لعكرمة والجحدري وذكر بعضهم أن عكرمة (قرأ فيسقى) بالبناء للمفعول و ريه بالياء المثناة والراء المكسورة والمراد به ما يروى به وهو مفعول ثان ليسقى والمفعول الأول الضمير النائب عن الفاعل العائد على أحد ونصب (خمرا) حينئذ على التمييز (وأما الآخر (وهو الخباز فيصلب فتأكل الطير من رأسه روي أنه عليه السلام قال له: ما رأيت من السلال الثلاث ثلاثة أيام تمر ثم تخرج فتصلب (قضي (أتم وأحكم (الأمر الذي فيه تستفتيان
41
(وهو ما يؤول إليه حالكما وتدل عليه رؤياكما نجاة أحدكما وهلاك الآخر ومعنى استفتائهما فيه سؤالهما عنه أخرج جماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: ما رأى صاحبا يوسف شيئا إنما تحالما ليجربا علمه فلما أول رؤياهما قالا: إنما كنا نلعب ولم نر شيئا فقال عليه السلام: (قضي الأمر) الخ يقول: وقعت العبارة أه وقيل: المراد بالأمر ما اتهما به والكلام حينئذ على حذف مضاف أي عاقبة ذلك وذهب بعض المحققين إلى أن المراد به ما رأياه من الرؤيتين ونفى أن يكون المراد ما يؤول إليه أمرهما قال: لأن الإستفتاء إنما يكون في الحادثة لا في حكمها يقال: استفتى الفقيه في الحادثة أي طلب منه بيان حكمها ولا يقال: استفتاه في حكمها وكذا الإفتاء يقال: أفتى في الواقعة الفلانية بكذا ولا يقال: أفتى في حكمها بكذا ومما هو علم في ذلك قوله تعالى: (يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي) ومعنى استفتائها فيه طلبها لتأويله بقولهما (نبئنا بتأويله) وعبر عن ذلك بالأمر وعن طلب تأويله بالإستفتاء تهويلا لأمره وتفخيما لشأنه إذ الإستفتاء إنما يكون في النوازل المشكلة الحكم المبهمة الجواب وإيثار صيغة المضارع لما أنهما بصدد الإستفتاء إلى أن يقضي عليه السلام من الجواب وطره وإسناد القضاء إليه مع أنه من أحوال مآله لأنه في الحقيقة عين ذلك المآل وقد ظهر في عالم المثال بتلك الصورة وأما توحيده مع تعدد رؤياهما فوارد على حسب ما وحداه في قولهما: (نبئنا بتأويله) لا لأن الأمر ما اتهما به وسجنا لأجله من سم الملك فإنهما لم يستفتيانه ولا فيما هو صورته بل فيما هو صورة لمآله وعاقبته فتأمل أه وتعقب بأنه لا مانع من أن يراد بالأمر المآل كما يقتضيه ظاهر إسناد القضاء إليه وإليه ذهب الكثير وتجعل في للسببية مثلها في قوله عليه الصلاة والسلام: إن امرأة دخلت النار في هرة ويكون معنى الإستفتاء فيه الإستفتاء بسببه أي طلب بيان حكم الرؤيتين لأجله وهما إنما طلبا ذلك لتعرف حالهما ومآل أمرهما وإن أبيت ذلك فأي مانع من أن يكون الإستفتاء في الأمر مع أن الإستفتاء إنما يكون في الحادثة وهي هنا الرؤيتان لما أن بين الأمر وتلك الحادثة اتحادا كما ادعاه هو ووجه به إسناد القضاء إلى الأمر بالمعنى الذي حمله عليه مع أنه من أحوال مآله وليس له أن يقول بصحة اعتبار العينية في إسناد القضاء وعدم صحة اعتبارها في تعلق الإستفتاء إذ بعد اعتبار العينية بين شيئين يكون صحة نسبة ما هو من أحوال أحدهما إلى الآخر دون صحبة نسبة ما هو من أحوال ذلك الآخر إليه ترجيحا بلا مرجح ومنع ذلك مكابرة ويرجح ما ذهب إليه الكثير أن فيه سلامة من نزع الخف قبل الوصول إلى الماء كما لا يخفى على من تيمم كعبة الإنصاف ما ذكره في تعليل عدم صحة تفسير الأمر بما اتهما به وسجنا لأجله لا يخلو عن دغدغة على أن ذلك كان تعريضا بصاحب الكشاف
246

وهو على ما قال الطيبي: ما عنى بالأمر إلا العاقبة نعم صدر كلامه ظاهر فيما ذكر والأمر فيه سهل ولعل وجه الأمر بالتأمل في كلام هذا المحقق مجموع ما ذكرناه فتأمل ثم إن هذا الإخبار كما يحتمل أن يكون للرد عليهما حسبما ورد في الأثر يحتمل أن يكون تحقيقا لتعبيره وتأكيدا له ولا يشكل على الأول أنه لا داعي لجحود الشرابي لأنا نقول على تقدير كذبهما في ذلك: يحتمل أن يكون لمراعاة جانب صاحبه الخباز وجاء في بعض الآثار إن الذي جحد هو الخباز فحينئذ الأمر واضح واستدل بذلك على ما هو المشهور من أن الرؤيا تقع كما تعبر ولذا قيل: المنام على جناح طائر إذا قص وقع (وقال (أي يوسف عليه السلام ((للذي ظن أنه ناج (أوثر على صيغة المضارع مبالغة في الدلالة على تحقيق النجاة حسبما يفيد قوله: (قضي الأمر) الخ وهو السر في إيثار ما عليه النظم الكريم على أن يقال: للذي ظنه ناجيا (منهما (أي من صاحبيه وإنما ذكر بوصف النجاة تمهيدا لمناطق التوصية بالذكر بما يدور عليه الإمتياز بينه وبين صاحبه المذكور بوصف الهلاك والظان هو يوسف عليه السلام لأصحابه وإن ذهب إليه بعض السلف لأن التوصية لا تدور على ظن الناجي بل على ظن يوسف عليه اليلام وهو بمعنى اليقين كما في قوله تعالى: (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) ونظائره
ولعل التعبير به من باب إرخاء العنان والتأدب مع الله تعالى فالتعبير على هذا بالوحي كما ينبيء عنه قوله: (قضي الأمر) الخ وقيل: هو بمعناه والتعبير بالإجتهاد والحكم بقضاء الأمر أيضا اجتهادي واستدل به من قال: إن تعبير الرؤيا ظني لا قطعي والجار والمجرور إما في موضع الصفة لناج أو الحال من الموصول ولا يجوز أن يكون متعلقا بناج لأنه ليس المعنى عليه (اذكرني (بما أنا عليه من الحال والصفة ((عند ربك (سيدك روي أنه لما انتهى بالناجي في اليوم الثالث إلى باب السجن قال له: أوصني بحاجتك فقال عليه السلام: حاجتي أن تذكرني عند ربك وتصفني بصفتي التي شاهدتها غأنسه الشيطان (أي أنسى ذلك الناجي بوسوسته وإلقائه في قلبه أشغالا حتى يذهل عن الذكر وإلا فالإنسان حقيقة لله تعالى والفاء للسببية فإن توصيته عليه السلام المتضمنة للإستعانة بغيره سبحانه وتعالى كانت باعثة لما ذكر من إنسائه ذكر ربه (أي ذكر يوسف عليه السلام عند الملك والإضافة لأدنى ملابسة ويجوز أن تكون من إضافة المصدر إلى المفعول بتقدير مضاف أي ذكر إخبار ربه (فلبث (أي فمكث يوسف عليه السلام بسبب ذلك القول أو الإنساء في السجن بضع سنين
42
(البضع ما بين الثلاث إلى التسع كما روي عن قتادة وعن مجاهد أنه من الثلاث إلى السبع وقال أبو عبيدة: من الواحد إلى العشرة ولا يذكر على ما قال الفراء: إلا مع
العشرات دون المائة والألف وهو مأخوذ من البضع بمعنى القطع والمراد به هنا في أكثر الأقاويل سبع سنين وهي مدة لبثه كلها فيما صححه البعض وسنتان منها كانت مدة لبثه بعد ذلك القول ولا يأبى ذلك فإن السببية لأن لبث هذا المجموع مسبب عما ذكر وقيل: إن هذه السبع مدة لبثه بعد ذلك القول وقد لبث قبلها خمسا فجميع المدة اثنتا عشرة سنة ويدل عليه خبر رحم الله تعالى أخي يوسف لو لم يقل: (اذكرني عند ربك) لما لبث في السجن سبعا بعد
247

خمس وتعقب بأن الخبر لم يثبت بهذا اللفظ وإنما الثابت في عدة روايات ما لبث في السجن طول ما لبث وهو لا يدل على المدعى وروي ابن حاتم عن طاوس والضحاك تفسير البضع ههنا بأربع عشرة سنة وهو خلاف المعروف في تفسيره والأولى أن لا يجوز بمقدار معين كما قدمنا وكون هذا اللبث مسببا عن القول هو الذي تظافرت عليه الأخبار كالخبر السابق والخبر الذي روي عن أنس قال: أوحى الله تعالى إلى يوسف عليه السلام من استنقذك من القتل حين هم إخوتك أن يقتلوك قال: أنت يارب قال: فمن استنقذك من الجب إذ ألقوك فيه قال: أنت يا رب قال: فمن استنقذك من المرأة إذ همت بك ة قال: أنت يا رب قال: فما بالك نسيتني وذكرت آدميا قال: يا رب كلمة تكلم بها لساني قال: وعزتي لأدخلنك في السجن بضع سنين وغير ذلك من الأخبار ولا يشكل على هذا أن الإستعانة بالعباد في كشف الشدائد مما لا بأس به فقد قال سبحانه: (وتعاونوا على البر والتقوى) فكيف عوتب عليه السلام في ذلك لأن ذلك مما يختلف باختلاف الأشخاص واللائق بمناصب الأنبياء عليهم السلام ترك ذلك والأخذ بالعزائم واختار أبو حيان أن يوسف عليه السلام إنما قال للشرابي ما قال ليتوصل بذلك إلى هداية الملك وإيمانه بالله تعالى كما توصل إلى إيضاح الحق لصاحبيه وإن ذلك ليس من باب الإستعانة بغير الله تعالى في تفريج كربه وخلاصه من السجن ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر وموجب للطعن من غير ما خبر نعم إنه اللائق بمنصبه عليه الصلاة والسلام
وجوز بعضهم كون ضمير أنساه و (ربه) عائدين على يوسف عليه السلام وإنساء الشيطان ليس من الإغواء في شيء بل هو ترك الأولى بالنسبة لمقام الخواص الرافعين للأسباب من البين وأنت تعلم أن الأول هو المناسب لكان الفاء ولقوله تعالى الآتي: (واذكر بعد أمة) (وقال الملك (وهو الريان وكان كافرا ففي إطلاق ذلك عليه دلالة على ما قيل: على جواز تسمية الكافر ملكا ومنعه بعضهم وكذا منع أن يقال: له أمير احتجاجا بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم كتب إلى هرقا عظيم الروم ولم يكتب ملك الروم أو أميرهم لما فيه من إيهام كونه على الحق وجعل هذا حكاية اسم مضى حكمه وتصرم زقته ومثله لا يضر أي قال لمن عنده: (إني أرى (أي رأيت وإيثار صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية (سبع بقرات سمان (ممتلئات لحما وشحما من سمن كسمع سمانة بالفتح وسمنا كعنبا فهو سامن وسمين وذكر أن سمينا وسمينة تجمع على سمان فهو ككرام جمع كريم وكريمة يقال: رجال كرام ونسوة كرام (يأكلهن (أي أكلهن والعدول إلى المضارع لاستحضار الصورة تعجيبا والجملة حال من البقرات أو صفة لها (سبع عجاف (أي سبع بقرات مهزولة جدا من قولهم: نصل أعجف أي دقيق وهو جمع عجفاء على خلاف القياس والقياس عجف كحمراء وحمر فإن فعلاء وأفعل لا يجمع على فعال لكنهم بنوه على (سمان) وهم قد يبنون الشيء على ضده كقولهم: عدوة بالهاء لمكان صديقه وفعول بمعنى فاعل لا تدخله الهاء وأجرى (سمان) على المميز فجر على أنه وصف له ولم ينصب على أن يكون صفة للعدد المميز لأن وصف تمييزه وصف له معنى وقد ذكروا أنه إذا وصف التمييز كان التمييز بالنوع وإذا وصف المميز كان التمييز بالجنس ولا شك أن الأول أولى وأبلغ لاشتمال النوع على الجنس فهو أزيد في رفع الإبهام المقصود من التمييز فلهذا رجح ما في النظم الكريم على فيره ولم يقل:
248

(سبع عجاف) بالإضافة وجعله صفة للتمييز المقدر على قياس ما قبله لأن التمييز لبيان الجنس والحقيقة والوصف لا يدل عليه بل على شيء ماله حال وصفة فلذا ذكروا أن التمييز يكون باسم الجنس الجامد ولا يكون بالوصف المشتق في فصيح الكلام فتقول: عندي ثلاثون قرشيون ولا تقول قرشيين بالإضافة وأما قولك: ثلاثة فرسان وخمسة ركبان فلجريان الفارس والراكب مجرى الأسماء لاستعمالها في الأغلب من غير موصوف
واعترض صاحب الفرائد بأن الأصل في العدد التمييز بالإضافة فإذا وصف السبع بالعجاف فلا بد من تقدير المضاف إليه وكل واحد من الوصف وتقدير المضاف إليه خلاف الأصل أما إذا أضيف كانت الصفة قائمة مقام الموصوف فقولنا: (سبع عجاف) في قوة قولنا: سبع بقرات عجاف فالتمييز المطلوب بالإضافة حاصل بالإضافة إلى الصفة لقيامها مقام الموصوف فكما يجوز سبع بقرات عجاف يجوز سبع عجاف وإنما لم يضف لأنه قائم مقام البقرات وهي موصوفة بعجاف فكانت من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة وهي غير جائزة إلا بتأويل وتعقب ذلك القطب بأنه هب أن الأصل في العدد التمييز بالإضافة لكن لما سبق ذكر (سبع بقرات سمان) تبين أن السبع العجاف بقرات فهذا السبع مميز بما تقدم فقد حصل التمييز بالإضافة فلو أضيف إلى العجاف لكان العجاف قائما مقام البقرات في التمييز فيكون التمييز بالوصف وهو خلاف الأصل وأما إن السبع قائم مقام البقرات فإنما يكون إذا وصف بالعجاف أما إذا أضيف بكون العجاف قائمة مقام البقرات فلا يلزم إضافة الموصوف إلى الصفة أه وفيه تأمل
وذكر العلامة الطيبي في هذا المقام أنه يمكن أن يقال: إن المميز إذا وصف ثم رفع به الإبهام والإجمال من العدد آذن بأنهما مقصودان في الذكر بخلافه إذا ميز ثم وصف بل الوصف ادعى لأن المميز إنما استجلب للوصف ومن ثم ترك التمييز في القرائن الثلاث والمقام يقتضي ذلك لأن المقصود بيان الإبتلاء بالشدة بعد الرخاء وبيان الكمية بالعدد والكيفية بالبقرات تابع فليفهم ويعلم من ذلك وجه العدول إلى ما في النظم الكريم عن أن يقال: إني أرى سبع بقرات عجاف يأكلن سبعا سمانا الأخضر منه
وقيل: ن التعبير بذلك بأنه أول ما رأى السمان فقد روي أنه رأى سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس ثم خرج عقيبهن سبع بقرات عجاف فابتلعت السمان ولم يتبين عليها منهن شيء ((وسبع سنبلات خضر (قد انعقد حبها واخضر أي وسبعا أخر (يابسات (قد أدركت والتوت على الخضر حتى غلبتها ولم يبق من خضرتها شيء على ما روي ولعل عدم التعريض لذكر العدد للإكتفاء بما ذكر من حال البقرات ولا يجوز عطف أخر على سنبلات لأن العطف على المميز يقتضي أن يكون المعطوف
والمعطوف عليه بيانا للمعدود سواء قيل: بالإنسحاب أو بتكرير العامل لأن المعنى على القولين لا يختلف وإنما الإختلاف في التقدير اللفظي وحينئذ يلزم التدافع في الآية لأن العطف يقتضي أن تكون السنبلات خضرها ويابسها سبعا ولفظ (أخر) يقتضي أن يكون غير السبع وذلك لأن تباينها في الوصف أعني الخضرة واليبس منطوق واشتراكهما في السنبلية فيكون مقتضى لفظ (أخر) تغايرهما في العدد ولزم التدافع وعلى هذا يصح أن تقول: عندي سبعة رجال قيام وقعود بالجر لأنك ميزت سبعة رجال موصوفين بالقيام والقعود على أن بعضهم كذا وبعضهم كذا ولا يصح سبعة رجال قيام وآخرين قعود لما علمت فالآية والمثال في هذا المبحث على وزان واحد كما يقتضيه كلام الكشاف ونظر في ذلك صاحب الفرائد فقال: إن الصحيح
249

أن العطف في حكم تكرير العامل لا الإنسحاب فو عطف آخرين على رجال قيام لكان سبعة مكررة في المعطوف أي وسبعة آخرين أي رجال آخرين قعود ويفسد المعنى لأن المفروض أن الرجال سبعة وأما الآية فلو كرر فيها وقيل: وسبع أخر أي وسبع سنبلات أخر استقام لأن الخضر سبع واليابسات سبع نعم لو خرج ذلك على المرجوح وهو الإنسحاب أدى إلى أن السبع المذكورة مميزة بسنبلات خضر وسنبلات أخر يابسات وفسد إذ المراد أن كلا منهما سبعة لا أنها سبعة فالمثال والآية ليسا على وزان إذ هو على تكرير العامل يفسد وعلى الإنسحاب يصح والآية بالعكس ثم بنى على ما زعمه من أن الصحيح قول التكرير جواز العطف وادعى أن الأولى أن يكون العطف على (خضر) لا على (يابسات) ليدل على موصوف آخر وهو سنبلات ولا يقدر موصوفها بقرينة السياق ولا يخفى أن الكلام إنما هو على تقدير أن يكون مميز السبع ما علمت وعلى ذلك يلزم التدافع ولا يبنى على فرض أنهم سبعة أو أربعة عشر فيصح في الآية ولا يصح في المثال فإنه وهم ومن ذلك يظهر أنه لا مدخل للتكرير ولا الإنسحاب في هذا الفرض ثم إن المختار قول الإنسحاب على ما نص عليه الشيخ ابن الحاجب وحققه في غير موضع وأما الإستدلال بالآية على الإنسحاب لا التقدير وإلا لكان لفظ (أخر) تطويلا يصان كلام الله تعالى المعجز عنه فغير سديد على ما في الكشف لأن القائل بالتقدير يدعى الظهور في الإستقلال وكذلك القائل بالإنسحاب يدعي الظهور في المقابل على ما نص عليه أئمة العربية فلا يكون التأكيد بأخر لإرادة النصوص تطويلا بل إطنابا يكون واقعا في حاق موقعه هذا (يأيها الملأ (خطاب للأشراف ممن يظن به العلم يروى أنه جمع السحرة والكهنة والمعبرين فقال لهم: (يا أيها الملأ)
أفتوني في رياي (هذه أي عبروها وبينوا حكمها وما تؤول إليه من العاقبة وقيل: هو خطاب لجلسائه وأهل مشورته والتعبير عن التعبير بالإفتاء لتشريفهم وتفخيم أمر رؤياه (إن كنتم للرؤيا تعبرون
43
(أي تعلمون عبارة جنس الرؤيا علما مستمرا وهي الإنتقال من الصورة المشاهدة في المنام إلى ما هي صورة ومثال لها من الأمور الآفاقية والأنفسية الواقعة في الخارج من العبور وهو المجاوزة تقول: عبرت النهر إذا قطعته وجاوزته ونحوه أولتها أي ذكرت ما تؤول إليه وعبرت الرؤيا بالتخفيف عبارة أقوى وأعرف عند أهل اللغة من عبرت بالتشديد تعبيرا حتى أن بعضهم أنكر التشديد ويرد عليه ما أنشده المبرد في الكامل لبعض الأعراب وهو: رأيت رؤيا ثم عبرتها وكنت للحلام عبارا والجميع بين الماضي والمستقبل للدلالة على الإستمرار كما أشير إليه واللام قيل: متعلقة بمحذوف والمقصود بذاك البيان كأنه لما قيل: (تعبرون) قيل: لأي شيء فقيل: للرؤيا فهي للبيان كما في سقيا له إلا أن تقديم البيان على المبين لا يخلو عن شيء وقيل واختاره أبو حيان إنها لتقوية الفعل المذكور لأنه ضعف بالتأخير ويقال لها: لام التقوية وتدخل في الفصيح على المعمول إذا تقدم على عامله مطلقا وعلى معمول غير الغعل إذا تأخر كزيد ضارب لعمرو وفي كونها زائدة أولا خلاف وقيل: إنه جيء بها لتضمين الفعل المتعدي معنى فعل قاصر يتعدى باللام أي إن كنتم تنتدبون لعبارتها وجوز أن يكون (للرؤيا) خبر كان كما تقول: كان
250

فلان لهذا الأمر إذا كان مستقبلا به متمكنا منه وجملة (تعتبرون) خبر آخر أو حال ولا يخفى ما في ذلك من التكلف وكذا فيما قبله وقرأ أبو جعفر بالإدغام في الرؤيا وبابه بعد قلب الهمزة واوا ثم قلب الواو ياءا لسبقها إياها ساكنة ونصوا على شذوذ ذلك لأن الواو بدل غير لازم قالوا (استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال الملأ للملك إذ قال لهم ذلك فقيل: قالوا: هي (أضغاث أحلام أي هي (أضغاث) الخ وهي جمع ضغث وهو أقل من الحزمة وأكثر من القبضة من أخلاط النبات وقد يطلق على ما كان من جنس واحد كما في قوله: خود كأن فراشها وضعت به أضغاث ريحان غداة شمال وجعل من ذلك ما في قوله تعالى: (فخذ بيدك ضغثا فاضرب به) فقد روي أن أيوب عليه السلام أخذ عثكالا من النخل فضرب به وفي الكشاف أن (أضغاث الأحلام) تخاليطها وأباطيلها وما يكون منها من حديث نفس أو وسوسة شيطان وقد استعيرت لذلك وأصلها ما جمع من أخلاط النبات وحزمه وإضافتها على معنى من أي أضغاث من أحلام وأورد عليه أن الأضغاث إذا استعيرت للأحلام الباطلة والأحلام مذكورة ولفظ هي المقدر عبارة عن رؤيا مخصوصة فقد ذكر المستعار والمستعار له وذلك مانع من الإستعارة على الصحيحين عندهم وقد أجاب الكثير عن ذلك بما لا يخلو عن بحث وذكر بعض المحققين في تقرير ذاك وجهين
الأول أنه يريد أن حقيقة الأضغاث أخلاط النبات فشبه به التخاليط والأباطيل مطلقا سواء كانت أحلاما أم غيرها ويشهد له قول الصحاح والأساس: ضغث الحديث خلطه ثم أريد هنا بواسطة الإضافة أباطيل مخصوصة فطرفا الإستعارة أخلاط النبات والأباطيل الملفقات فالأحلام ورؤيا الملك خارجان عنهما فلا يضر ذكرهما كما إذا قلت: رأيت أسد قريش فهو قرينة أو تجريد وقوله: تخاليطها تفسير له بعد التخصيص وقوله: وقد استعيرت لذلك إشارة إلى التخاليط
الثاني أن الأضغاث استعيرت للتخاليط الواقعة في الرؤيا الواحدة فهي أجزاؤها لا عينها فالمستعار منه حزم النبات والمستعار له أجزاء الرؤيا وهذا كما إذا استعرت الورد للخد ثم قلت: شممت ورد هند مثلا فإنه لا يقال: إنه ذكر فيه الطرفان أه ولا يخفى ما فيه من التكلف وارتكاب غير الظاهر واستظهر بعضهم كون (أضغاث أحلام) من قبيل لجين الماء ولا يخفى أنه سالم عما أورد على الزمخشري إلا أن صاحب الأساس قد صرح بأن ذلك من المجاز والمتبادر منه المجاز المتعارف الذي لا يطلق على
ما ذكره ولعل الأمر في ذلك سهل والأحلام جمع حلم بضمة وبضمتين المنامات الباطلة على ما نص عليه جمع وقال بعضهم: الرؤيا والحلم عبارة عما يراه النائم مطلقا لكن غلبت الرؤيا على ما يراه من الخير والشيء الحسن وغلب الحلم على خلافه وفي الحديث الرؤيا من الله تعالى والحلم من الشيطان وقال التوربشتي: الحلم عند العرب يستعمل استعمال الرؤيا والتفريق من الإصطلاحات التي سنها الشارع صلى الله تعالى عليه وسلم للفصل بين الحق والباطل كأنه كره أن يسمي ما كان من الله تعالى وما كان من الشيطان باسم واحد فجعل الرؤيا عبارة عن القسم الصالح لما فيها من الدلالة على مشاهدة الشيء بالبصر والبصيرة وجعل الحلم عبارة عما كان من الشيطان لأن أصل
251

الكلمة لم تستعمل إلا فيما يخيل للحالم في منامه من قضاء الشهوة بما لا حقيقة له أه وهو كلام حسن ومما يشهد له في دعوى كون الحلم يستعمل عند العرب استعمال الرؤيا البيت السابق الذي أنشده المبرد كما لا يخفى وإنما قالوا (أضعاف أحلاف) بالجمع مع أن الرؤيا ما كانت إلا واحدة للمبالغة في وصف ذلك بالبطلان وهذا كما يقال: فلأن يركب الخيل ويلبس عمائم الخز لمن لا يركب إلا فرسا واحدا وماله إلا عمامة فردة
وفي الفرائد لما كانت (أضغاث أحلام) مستعارة لما ذكر وهي تخاليطها وأباطيلها وهي متحققة في رؤيا واحدة بحسب أنها متركبة من أشياء كل منها حلم فكانت أحلاما قال الشهاب: وهو واه وإن استحسنه العلامة الطيبي نعم ليس هذا من إطلاق الجمع على الواحد لوجود ذلك في هذا الجنس إذ الإضافة على معنى في ثم نقل عن الرضي أنه قال في شرح الشافية إن جمع القلة ليس بأصل في الجمع لأنه لا يذكر إلا حيث يراد بيان القلة فلا يستعمل لمجرد الجمعية والجنسية كما يستعمل له جمع الكثرة يقال: فلأن حسن الثياب في معنى حسن الثوب ولا يحسن حسن الثوب وكم عندك من الثوب أو من الثياب ولا يحسن من الأثواب أه ثم قال: وقد ذكره الشريف في شرح المفتاح وهو مخالف لما ذكروه هنا فتأمله ولعل ما ذكر بعد تسليمه إنما هو في جمع القلة الذي معه جمع كثرة كما ذكره في المثال لا في ذلك وجمع القلة الذي ليس معه جمع كثرة كما هنا فأنا لم نجد في كتب اللغة جمعا لمفرد هذا الجمع غير هذا الجمع وقد ذكر غير واحد أن جمع القلة إذا لم يوجد معه جمع كثرة يستعمل استعمال جمع الكثرة ثم لا يخفى حسن موقع الأضغاث مع السنابل فيا لله در شأن التنزيل ما أبدع رياض بلاغته ((وما نحن بتأويل الأحلام (أي المنامات الباطلة (بعالمين
44
(لأنها لا تأويل لها وإنما التأويل للمنامات الصادقة وهذا إما لشيوع الأحلام في أباطيلها وإما لكون اللام للعهد والمعهود الأضغاث منها والكلام وارد على أسلوب على لا حب لا يهتدى بمناره وهو إشارة إلى كبرى قياس ساقوه للعذر عن جهلهم كأنهم قالوا هذه رؤيا باطلة وكل وؤيا كذلك لا نعلم تأويلها أي لا تأويل لها حتى نعلمه ينتج هذه رؤيا لا تأويل لها وجوز أن يكون المراد من الأحلام الرؤى مطلقا وأل فيه للجنس والكلام اعتراف منهم بقصور علمهم وأنهم ليسوا بنحارير في تأويل الرؤي مع أن لها تأويلا واختاره ابن المنير وادعى أنه الظاهر وأن قول الملك لهم أولا (إن كنتم للرؤيا تعتبرون) دليل على أنهم لم يكونوا في علمه عالمين بها لأنه أتى بكلمة الشك فجاء اعترافهم بالقصور مطابقا لشك الملك الذي أخرجه مخرج استفهامهم عن كونهم عالمين وأن الفتى: (أنا أنبئكم بتأويله) إلى قوله: (لعلى أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون) دليل على ذلك أيضا
وذكر بعض المحققين أنه يشعر به عدو لهم عما وقع في كلام الملك من العبارة المعبرة عن مجرد الإنتقال من الدال إلى المدلول حيث لم يقولوا بتعبير الأحلام أو عبارتها إلى التأويل المنبيء عن التصرف والتكلف في ذلك لما بين الآيل والمآل من البعد واعترض بأنه على هذا يبقى قولهم: (أضعاف أحلام) ضائعا إذ لا دخل له في العذر وأجيب بأنه يمكن أن يكون المقصود منه إزالة خوف الملك من تلك الرؤيا فلا يبقى ضائعا وقال صاحب الكشف: إن وجه ذلك أن يجعل الأول جوابا مستقلا والثاني كذلك أي ههنا أمران: أحدهما من جانب الرائي والثاني من جانب المعبر ووجه تقدير الظرف على عامله إنا أصحاب الآراء والتدابير
252

وعلمنا بذلك رصين لا بتأويل الرؤى ووجهه على الأول ظاهر وادعى أن المقام يطابقه ووروده على ذلك الأسلوب مقوله لا موهن خلافا لما في الإنتصاف ويقوي عند اختيار الوجه الثاني إذا كان الخطاب لجلسائه وأهل مشورته من أهل الحل والعقد لأن الأغلب على أمثالهم الجهل بمثل هذا العلم الذي لا يعلمه إلا أفراد من الناس (وقال الذي نجا منهما (أي صاحبي يوسف عليه السلام وهو الشرابي (واكر (بالدال غير المعجمة عند الجمهور وأصله إذتكر أبدلت التاء دالا وأدغمت الدال فيها وقرأ الحسن اذكر بابدال التاء ذالا معجمة وإدغام الذال المعجمة فيها والقراءة الأولى أفصح والمعنى على كليهما تذكر ما سبق له مع يوسف عليه السلام (بعد أمة (أي طائفة من الزمان ومدة طويلة
وقرأ الأشهب العقيلي (إمة) بكسر الهمزة وتشديد الميم أي نعمة عليه بعد نعمة والمراد بذلك خلاصه من القتل والسجن وإنعام ملكه عليه وعلى هذا جاء قوله: ألا لا أرى ذا (إمة) أصبحت به فتتركه الأيام وهي كما هي وقال ابن عطية: المراد بعد نعمة أنعم الله تعالى بها على يوسف عليه السلام وهي تقريب إطلاقه ولا يخفى بعده وقرأ ابن عباس وزيد بن علي رض الله تعالى عنهم وأمة وأمه بفتح الهمزة والميم المخففة وهاء منونة من أمه يأمه أمها إذا نسي وجاء في المصدر أمه بسكون الميم أيضا فقد روي عن مجاهد وعكرمة وشبيل ابن عزرة البعي أنهم قرأوا بذلك ولا عبرة بمن أنكر والجملة اعتراض بين القول والمقول وجوز أن تكون حالا من الموصول أو من ضميره في الصلة ويحتاج ذلك إلى تقدير قد على المشهور وقيل: معطوفة على نجا وليس بشيء كما قال بعض المحققين لأن حق كل من الصلة والصفة أن تكون معلومة الإنتساب إلى الموصول والموصوف عند المخاطب كما عند المتكلم ومن هنا قيل: الأوصاف قبل العلم بها أخبار والأخبار بعد العلم بها أوصاف وأنت تعلم أن تذكره بعد أمة إنما علم بهذه الجملة فلا معنى لنظمه مع نجاته المعلومة من قبل في سلك الصلة (أنا أنبئكم بتأويله (أي أخبركم بتأويل ذلك الذي خفى أمره بالتلقي ممن عنده علمه لا من تلقاء نفسي ولذك لم يقل أفتيكم في ذلك وعقبه بقوله: (فأرسلون
45
(إلى من عنده علمه وأراد به يوسف عليه السلام وإنما لم يصرح به حرصا على أن يكون هو المرسل إليه فإنه لو ذكره فلربما أرسلوا غيره وضمير الجمع إما لأنه أراد الملك وحده لكن خاطبه بذلك على سبيل التعظيم كما هو المعروف في خطاب الملوك ويؤيده ما روي أنه لما سمع مقالة القوم جثى بين يدي الملك وقال: إن في السجن رجلا عالما يعبر الرؤيا فابعثوني إليه فبعثوه وكان السجن على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في غير مدينة الملك وقيل: كان فيها قال أبو حيان ويرسم الناس اليوم سجن يوسف عليه السلام في موضع النيل بينه وبين الفسطاط ثمانية أميال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن أنه كان يقرأ أنا آتيكم مضارع أتى من الإتيان فقيل له: إنما هو (أنا أنبئكم) فقال: أهو كان ينبئهم وأخرج ابن المنذر وغيره عن أبي أنه قرأ أيضا كذلك
253

وقال في البحر أنه كذا في الإمام أيضا (يوسف أيها الصديق (في الكلام حذف أي فأرسلوه فأتاه فقال: يا يوسف ووصفه بالمبالغة في الصدق حسبما علمه وجرب أحواله في مدة إقامته معه في السجن لكونه بصدد اغتنام آثاره واقتباس أنواره فهو من باب براعة الإستهلال وفيه إشارة إلا أنه ينبغي للمستفتي أن يعظم المفتي واستدل بذلك على أنهما لم يكذبا على يوسف في منامهما وأنهما كذبا في قولهما: كذبنا إن ثبت ((أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات (أي في رؤيا ذلك وإنما لم يصرح به لوضوح مرامه بقرينة ما سبق من معاملتهما ولدلالة مضمون الحادثة عليه حيث أن مثله لا يقع في عالم الشهادة والمعنى بين لنا مآل ذلك وحكمه وعبر عن ذلك بالإفتاء ولم يقل كما قال هو وصاحبه أولا (نبئنا بتأويله) تفخيما لشأنه عليه السلام حين عاين رتبته في الفضل ولم يقل: أفتني مع المستفتي وحده إشعارا بأن الرؤيا ليست له بل لغيره ممن له ملابسة بأمور العامة وأنه في ذلك معبر وسفير ولذا لم يغير لفظ الملك ويؤذن بهذا قوله: (لعلي أرجع إلى الناس (أي إلى الملك ومن عنده أو إلى أهل البلد فأنبئهم بما أفتيت (لعلهم يعلمون
46
(ذلك ويعلمون بمقتضاه أو يعلمون فضلك ومكانك مع ما أنت فيه من الحال فتتخلص منه والجملة عند أبي حيان على الأول كالتعليل للرجوع وعلى الثاني كالتعليل لاقتنا وإنما لم يبت القول بل قال: (لعلي) و (لعلهم) مجاراة معه عليه السلام على نهج الأدب واحترازا عن المجازفة إذ لم يكن على يقين من الرجوع: فبينما المرء في الأحياء مغتبط إذا هو الرمس تعفوه الأعاصير ولا من علمهم بذلك فربما لم يعلموه إما لعدم فهمهم أو لعدم اعتمادهم (قال مستأنف على قياس غير مرة تزرعون سبع سنين دأبا (قرأ حفص بفتح الهمزة والجمهور بإسكانها وقريء دابا بألف من غير همز على التخفيف وهو في كل ذلك مصدر لدأب وأصل معناه التعب ويكنى به عن العادة المستمرة لأنها تنشأ من مداومة العمل اللازم له التعب وانتصابه على الحال من ضمير (تزرعون) أي دائبين أو ذوي دأب وأفراد لأن المصدر الأصل فيه الإفراد أو على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف أي تدأبون دأبا والجملة حالية أيضا وعند المبرد مفعول مطلق لتزرعون وذلك عنده نظير قعد القرفصاء وليس بشيء وقد أول عليه السلام البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب والعجاف اليابسات بسنين مجدبة فأخبرهم بأنهم يواظبون على الزراعة سبع سنين ويبالغون فيها إذ بذلك يتحقق الخصب الذي هو مصداق البقرات السمان وتأولها وقيل: المراد الأمر بالزراعة كذلك فالجملة خبر لفظا أمر معني وأخرج على صورة الخبر مبالغة في إيجاب إيجاده حتى كأنه وقع وأخبر عنه وأيد بأن قوله تعالى: (فما حصدتم (أي في كل سنة ((فذروه في سنبله ولا تذروه كيلا يأكله السوس كما هو شأن غلال مصر ونواحيها إذا مضى عليها نحو عامين ولعله استدل على ذلك بالسنبلات الخضر يناسب كونه أمرا مثله قيل: لأنه لو لم يؤول ذلك بالأمر لزم عطف الإنشاء على الخبر لأن ما إما شرطية أو موصولة متضمنة لمعنى الشرط وعلى كل حال فلكون الجزاء إنشاء
254

تكون إنشائية معطوفة على خبرية
وأجيب بأنا لا نسلم أن الجملة الشرطية التي جوابها إنشائي إنشائية ولو سلم فلا نسلم العطف بل الجملة مستأنفة لنصحهم وإرشادهم إلى ما ينبغي أن يفعلوه حيث لم يكن معتادا لهم كما كان الزرع كذلك أو هي جواب شرط مقدر أي إن زرعتم (فما حصدتم) الخ وأيضا يحتمل الأمر عكس ما ذكروه بأن يكون ذروه بمعنى تذروه وأبرز في صورة الأمر لأنه بإرشاده فكأنهم أمرهم به والتحقيق ما في الكشف من أن الأظهر أن (تزرعون) على أصله لأنه تأويل المنام بدليل قوله الآتي: (ثم يأتي) وقوله: (فما حصدتم فذروه) اعتراض اهتماما منه عليه السلام بشأنهم قبل تتميم التأويل وفيه ما يؤكد أمر السابق واللاحق كأنه قد كان فهو يأمرهم بما فيه صلاحهم وهذا هو النظم المعجز انتهى وذكر بعضهم أن ما حصدتم الخ على تقدير كون (تزرعون) بمعنى ازرعوا داخل في العبارة فإن أكل السبع العجاف السبع السمان وغلبة السنبلات اليابسات الخضر دال على أنهم يأكلون في السنين المجدبة ما حصل في السنين المخصبة وطريق بقائه تعلموه من يوسف عليه السلام فبقي لهم في تلك المدة وقيل: (إن تزرعون) على هذا التقدير وكذا ما بعده خارج عن العبارة والكل كما ترى (إلا قليلا مما تأكلون
47
(أي اتركوا ذلك في السنبل إلا ما لا غنى عنه من القليل الذي تأكلونه في تلك السنين وفيه إرشاد إلى التقليل في الأكل وقرأ السلمي مما يأكلون بالياء على الغيبة أي يأكل الناس والإقتصار على استثناء المأكول دون البذر لكون ذلك معلوما من قوله عليه السلام: (تزرعون سبع سنين) ثم يأتي من بعد ذلك أي من بعد السنين السبع المذكورات وإنما لم يقل من بعدهن قصدا إلى تفخيم شأنهن (شبع شداد (أي سبع سنين صعاب على الناس وحذف التمييز لدلالة الأول عليه (يأكلن ما قدمتم لهن (أي ما ادخرتم في تلك السنين من الحبوب المتروكة في سنابلها لأجلهن وإسناد الأكل إليهن مع أنه حال الناس فيهن مجازي كما في قوله تعالى: (والنهار مبصرا) واللام في (لهن) ترشيح لذلك وكان الداعي إليه التطبيق بين المعبر والمعبر به ويجوز أن يكون التعبير بذلك للمشاكلة لما وقع في الواقعة وفسر بعضهم الأكل بالإفناء كما في قولهم:
أكل السير لحم الناقة أي أفناه وذهب به (إلا قليلا مما تحصنون
48
(أي تحرزونه وتخبئونه لبروز الزراعة مأخوذ من الحصن وهو الحرز والملجأ ثم يأتي من بعد ذلك أي السنين الموصوفة بما ذكر من الشدة وأكل المدخر من الحبوب (عام (هو كالسنة لكن كثيرا ما يستعمل فيما فيه الرخاء والخصب والسنة فيما فيه الشدة والجدب ولهذا يعبر عن الجدب بالسنة وكأنه تحاشيا عن ذلك وتنبيها من أول الأمر على اختلاف الحال بينه وبين السوابق عبر به دون السنة فيه يغاث الناس أي يصيبهم غيث أي مطر كما قال ابن عباس ومجاهد والجمهور فهو من غاث الثلاثي اليائي ومنه قول الأعرابية:
255

غثنا ماشيتنا وقول بعضهم أذى البراغيث إذا البراغيث وقيل: هو من الغوث أي الفرج يقال: أغاثنا الله تعالى إذا أمدنا برفع المكاره حين أظلتنا فهو رباعي واوي (وفيه يعصرون
49
(من العصر المعروف أي يعصرون ما من شأنه أي يعصر من العنب والقصب والزيتون والسمسم ونحوها من الفواكه لكثرتها والتعرض لذكره كما قال بعض المحققين مع جواز الإكتفاء عنه بذكر الغيث المستلزم له عادة كما اكتفى به عنه ذكر تصريفهم في الحبوب: إما لأن استلزام الغيث له ليس كاستلزامه للحبوب إذ المذكورات يتوقف صلاحها على أمور أخرى غير المطر وإما لمراعاة جانب المستفتي عنه باعتبار حالته الخاصة به بشارة له وهي التي يدور عليها حسن موقع تغليبه على الناس في قراءة حمزة والكسائي بالفوقانية
وعن ابن عباس تفسير ذلك بيحلبون وكأنه مأخوذ من العصر المعروف لأن في الحلب عصر الضرع ليخرج الدر وتكرير فيه إما كما قيل: للإشعار باختلاف ما يقع فيه زمانا وعنوانا وإما لأن المقام مقام تعداد منافع ذلك العام ولأجله قدم في الموضعين على العامل فإن المقام بيان أنه يقع في ذلك العام هذا وذاك لا بيان أنهما يقعان في ذلك العام كما يفيده التأخير وجوز أن يكون التقديم للعصر على معنى أن غيثهم في تلك السنين كالعدم بالنسبة إلى عامهم ذلك وأن يكون ذلك في الأخير لمراعاة الفواصل وفي الأول حاله
وقرأ جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما والأعرج وعيسى البصرة (يعصرون) على البناء للمفعول وعن عيسى تعصرون بالفوقانية مبنيا للمفعول أيضا من عصره الله تعالى إذا أنجاه أي ينجيهم الله سبحانه مما هم فيه من الشدة وهو مناسب لقوله: (يغاث الناس) وعن أبي عبيدة وغيره أخذ المبني للفاعل من العصر بمعنى النجاة أيضا وفي البحر تفسير العصر والعصرة بالضم بالمنجا وأنشد قول أبي زبيد في عثمان رضي الله تعالى عنه: صاديا يستغيث غير مغاث ولقد كان عصرة المنجود وقال ابن المنير: معناه عصيرون من أعصرت السحابة عليهم أي حان وقت عصر الرياح لها لتمطر فعلى صلة الفعل كما عصرت الليمون على الطعام فحذفت وأوصل الفعل بنفسه أو تضمن أعصرت معنى مطرت فتعدى تعديته وفي الصحاح عصر القوم أي أمطروا ومنه قراءة بعضهم وفيه (يعصرون) وظاهر وأن اللفظ موضوع لذلك فلا يحتاج إلى التضمين عليه وحكى النقاش أنه قريء (يعصرون) بضم الياء وكسر الصاد وتشديدها من عصر مشددا للتكثير وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما (وفيه تعصرون) بكسر التاء والعين والصاد وتشديدها وأصله يعتصرون فأدغم التاء في الصاد ونقل حركتها إلى العين وأتبع حركة التاء لحركة العين واحتمل أن يكون من اعتصر العنب ونحوه أو من اعتصر بمعنى نجا ومن ذلك قوله: لو بغير الماء حلقي شرق كنت كالغصان بالماء اعتصاري ثم إن أحكام هذا العام المبارك كما أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة علم آتاه الله تعالى علمه لم يكن فيما سئل عنه وروي مثل ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعنيا أن ذلك بالوحي وهو الظاهر ولقد أتى عليه السلام بما يدل على فضله في آخر فتواه على عكس ما فعل أولا عند الجواب عن رؤيا صاحبيه حيث أتى بذلك في أولها ووجه ذلك ظاهر وقيل: إن هذه البشارة منه عليه السلام لم تكن عن وحي بل لأن العادة جارية بأن انتهاء الجدب الخصب أو لأن السنة الآلهية على أن يوسع على عباده سبحانه بعد ما يضيق عليهم
256

وفيه أنه لو كان كذلك لأجمل في البشارة وإن حصر الجدب يقتضي تغييره بخصب ما لا على ما ذكره خصوصا على ما تقتضيه بعض القراآت من إغاثة بعضهم بعضا فإنها لا تعلم إلا بالوحي ثم إنه عليه السلام بعد أن أفتاهم وأرشدهم وبشرهم كان يتوقع وقوع ما أخبر به فقد أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أنه عليه السلام كان بعد ذلك يصنع لرجل طعام اثنين فيقربه إلى الرجل فيأكل نصفه ويدع نصفه حتى إذا كان يوم قربه له فأكله كله فقال عليه السلام: هذا أول يوم من الشداد واستدل البلخي بتأويله لذلك على بطلان قول من يقول: إن الرؤيا على ما عبرت أولا فإنهم كانوا قد قالوا: (أضغاث أحلام) فلو كان ما قالوه مؤثرا شيئا لأعرض عليه السلام عن تأويلها وفيه بحث فقد روي أبو داود وابن ماجه عن أبي رزين الرؤيا على جناح طائر مالم تعبر فإذا عبرت وقعت ولا تقصها إلا على واد وذي رأي ولعله إذا صح هذا يلتزم القول بأن الحكم على الرؤيا بأنها (أضغاث أحلام) وأنها لا ذيل لها ليس من التعبير في شيء وإلا فالجميع بين ما هنا وبين الخبر مشكل وقال ابن العربي: إنه ينبغي أن يخص ذلك بما يحتمل من الرؤيا وجوها فيعبر بأحدها فيقع عليه واستدلوا بذلك أيضا على صحة رؤيا الكافر وهو ظاهر وقد ذكروا للإستفتاء عن الرؤيا آدابا: منها أن لا يكون ذلك عند طلوع الشمس أو عند غروبها أو في الليل وقالوا: إن تعبيرها مناما هو تعبيرها في نفس الأمر فلا يحتاج إلى تعبير بعد وأكثروا القول فيما يتعلق القول بها وأكثر ما قيل مما لا يظهر لي سره ولا أدري بعض ذلك إلا كأضغاث أحلام (وقال الملك (بعد ما جاء السفير المعبر بالتعبير وسمع منه ما سمع من نقير وقمطير ((ائتوني به لما رأى من علمه وفضله وأخباره عما لا يعلمه إلا اللطيف الخبير (فلما جاءه (أي يوسف عليه السلام (الرسول (وهو صاحبه الذي استفتاه وقال له: إن الملك يريد أن تخرج إليه
(قال ارجع إلى ربك (أي سيدك وهو الملك فسئله ما بال النسوة الاتي قطعن أيديهن أي فتشه عن شأنهن وحالهن وإنما لم يقل فاسأله أن يفتش عن ذلك حثا للملك على الجد في التفتيش لتتبين براءته وتتضح نزاهته فإن السؤال عن شيء مما يهيج الإنسان ويحركه للبحث لأنه يأنف من الجهل ولو قال: سله أن يفتش لكان تهييجا له عن الفحص عن ذلك وفيه جراءة عليه فربما امتنع منه ولم يلتفت إليه وإنما لم يتعرض السلال لامرأة العزيز مع أنها الأصيل لما لا قاه تأدبا وتكرما ولذا حملها ذلك على الإعتراف بنزاهته وبراءة ساحته وقيل: احترازا عن مكرها حيث اعتقدها باقية في ظلالها القديم وأما النسوة فقد كان يطمع في صدعهن بالحق وشهادتهن بإقرارها بأنها راودته عن نفسه فاستعصم ولذلك اقتصر على وصفهن بتقطيع الأيدي ولم يصرح بمراودهن له واكتفى بالإيماء إلى ذلك بقوله: (إن ربي بكيدهن عليم
50
(مجاملة معهن واحترازا عن سوء مقالتهن وانتصابهن عند رفعهن إلى الملك للخصومة عن أنفسهن متى سمعن بنسبته لهن إلى الفساد وفي الكشاف أنه عليه السلام أراد بهذا أنه كيد عظيم لا يعلمه إلا الله تعالى أو استشهد بعلم الله تعالى على أنهن كدنه وأنه بريء مما قرف به أو أراد الوعيد لهن أي عليم بكيدهن فمجازيهن عليه انتهى
وكان الحصر على الأول من قربه من زيد يعلم وصلوحه لإفادته عنده أو من اقتضاء المقام لأنه إذا
257

حمله على السؤال ثم أضاف علمه إلى الله تعالى دل به عظمته وأن الكنه غير مأمول الوصول لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله وهذا هو الوجه وفيه زيادة تشويق وبعث إلى تعرف الأمر فالجملة عليه تتميم لقوله: (فاسأله) الخ والكيد اسم لما كدنه به وعلى الوجه الثاني تكون تذييلا كأنه قيل: احمله على التعرف يتبين له براءة ساحتي فإن الله سبحانه يعلم أن ذلك كان كيدا منهن وإذا كان كيدا يكون لا محالة بريئا والكيد هو الحدث وعلى الثالث تحتملهما والمعنى بعث الملك على الغضب له والإنتقام منهن وإلا لم يتلاءم الكلام ولا يطابق كرم يوسف عليه السلام الذي عجب منه نبينا عليه الصلاة والسلام فقد أخرج غير واحد عن ابن عباس وابن مسعود عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله تعالى يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى اشترطت أن يخرجوني ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال: (ارجع إلى ربك) ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبثت لأسرعت الإجابة وبادرتهم الباب ولما ابتغيت العذر أن كان حليما ذا أناة ودعاؤه له صلى الله تعالى عليه وسلم قيل: إشارة إلى ترك العزيمة بالرخصة وهي تقديم حق الله تعالى بتبليغ التوحيد والرسالة على براءة نفسه وجعله العلامة الطيبي من قبيل قولك لمن تعظمه: رضي الله تعالى عنك ما جوابك عن كلامي وقيل: يمكن أن يقال: إن في براءته النفس من حق الله تعالى ما فيها فإنها إذا تحققت عندهم وقع ما تلاها موقع القبول وقد ذكر أن الإجتهاد في نفي التهم واجب وجوب اتقاء الوقوف في مواقفها فقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم: من كان يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم وأخرج مسلم من رواية أنس أن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان مع إحدى نسائه فمر به رجل فدعاه وقال: هذه زوجتي فقال: يا رسول الله من كنت أظن به فلم أكن أظن بك فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وكأنه لهذا كان الزمخشري وكان ساقط الرجل قد أثبت على القضاة أن رجله لم تقطع في جناية ولا فساد بل سقطت من ثلج أصابها في بعض الأسفار وكان يظهر مكتوب القضاة في كل بلد دخله خوفا من تهمة السوء فلعله عليه السلام خشي أن يخرج ساكتا عن أمر ذنبه غير متضحة براءة ساحته عما سجن فيه وقرف به من أن يتسلق الحاسدون إلى تقبيح أمره ويجعلوه سلما إلى حط قدره ونظر الناس إليه بعين الإحتقار فلا يعلق كلامه في قلوبهم ولا يترتب على دعوته قبولهم وفي ذلك من تعري التبليغ عن الثمرة ما فيه وما ذكره صلى الله تعالى عليه وسلم ولو كنت مكانه الخ كان تواضعا منه عليه الصلاة والسلام لا أنه لو كان مكانه بادر وعجل وإلا فحمله صلى الله تعالى عليه وسلم وتحمله واهتمامه بما يترتب عليه قبول الخلق أو أوامر الحق سبحانه وتعالى أمر معلوم لدى الخواص والعموم وزعم ابن عطية أنه يحتمل أن يكون عليه السلام أراد بالرب العزيز كما في قوله: (إنه ربي أحسن مثواي) ففي ذلك استشهاد به وتقريع له وليس بشيء ومثله ما قيل: إن ضمير كيدهن ليس عائدا على النسوة المذكورات بل عائد على الجنس فافهم وقرأ أبو حيوة وأبو بكر عن عاصم في رواية (النسوة) بضم النون وقرأت فرقة اللائي بالياء وهو كاللاء
258

جمع التي (قال) استئناف مبني على السؤال كما سبق كأنه قيل: فما كان بعد ذلك فقيل: قال الملك إثر ما بلغه الرسول الخبر وأحضرهن: (ما خطبكن (أي شأنكن وأصله الأمر العظيم الذي يحق لعظمته أن يكثر فيه التخاطب ويخطب له (إذ راودتن يوسف (وخادعتنه (عن نفسه (ورغبتنه في طاعة مولاته هل وجدتن فيه ميلا إليكن قلن حاشا لله تنزيها له وتعجيبا من نزاهته عليه السلام وعفته (وما علمنا عليه من سوء (بالغن في نفي جنس السوء عنه بالتنكير وزيادة (من) وفي الكشف في توجيه كون السؤال المقدر في نظم الكلام عن وجدانهن فيه الميل وذلك لأنه سؤال عن شأنهن معه عند المراودة وأوله الميل ثم ما يترتب عله وحمله على السؤال يدعي النزاهة الكلية فيكون سؤال الملك منزلا عليه إذ لا يمكن ما بعده إلا إذا سلم الميل وجوابهن عليه ينطبق لتعجبهن عن نزاهته بسبب التعجب من قدرة الله تعالى على خلق عفيف مثله ليكون التعجب منها على سبيل الكناية فيكون أبلغ وأبلغ ثم نفيهن العلم مطلقا وطرفا أي طرف دهم من سوء أي سوء فضلا عن شهود الميل معهن أه وهو من الحسن بمكان وما ذكره ابن عطية من أن النسوة قد أجبن بجواب جيد يظهر منه براءة أنفسهن جملة وأعطين يوسف عليه السلام بعض براءة وذلك أن الملك لما قررهن أنهن راودنه قلن جوابا عن ذلك وتنزيها لأنفسهن: (حاش لله) ويحتمل أن يكون في جهته عليه السلام وقولهن: (ما علمنا) الخ ليس بإبراء تام وإنما هو شرح القصة على وجهها حتى يتقرر الخطأ في جهتهن ناشيء عن الغفلة عما قرره المولى صاحب الكشف (قالت امرأت العزيز (وكانت حاضرة المجلس قيل: أقبلت النسوة عليها يقررنها وقيل: خافت أن يشهد عليها بما قالت يوم قطعن أيديهن فأقرت قائلة: (الآن حصحص الحق (أي ظهر وتبين بعد خفاء قاله الخليل وهو مأخوذ من الحصة وهي القطعة من الجملة أي تبينت حصة الحق من حصة الباطل والمراد تميز هذا عن هذا وإلى ذلك ذهب الزجاج أيضا وقيل: هو من حص شعره إذا استأصله بحيث ظهرت بشرة رأسه وعلى ذلك قوله: قد حصت البيضة رأسي فما أطعم نوما غير تهجاع ويرجع هذا إلى الظهور أيضا وقيل: هو من حصحص البعير إذا ألقى مباركه ليناخ قال حميد بن
ثور الهلالي يصف بعيرا: فحصحص في صم الصفا ثفناته وناء بسلمى نوءة ثم صمما والمعنى الآن ثبت الحق واستقر وذكر الراغب وغيره أن حص وحصحص ككف وكفكف وكب وكبكب وقريء بالبناء للمفعول على معنى أقر الحق في مقره ووضع في موضعه و (الآن) ألألإألأة لإ اسم للوقت الحاضر جميعه كوقت فعل الإنشاء حال النطق به أو الحاضر بعضه كما في هذه الآية وقوله سبحانه: (الآن خفف الله عنكم) وقد يخرج عند ابن مالك عن الظرفية كخبر فهو يهوى في النار الآن حين انتهى إلى مقرها فإن الآن فيه في موضع رفع على الإبتداء و حين خبره وهو مبني لإضافته إلى جملة صدرها ماض وألفه منقلبة عن واو لقولهم في معناه: الأوان وقيل: عن ياء لأنه من
259

آن يئين إذا قرب وقيل: أصله أوان قلبت الواو ألفا ثم حذفت لالتقاء الساكنين ورد بأن الواو قبل الألف لا تقلب كالجواد والسواد وقيل: حذفت الألف وغيرت الواو إليها كما في راح ورواح استعملوه مرة على فعل وأخرى على فعال كزمن وزمان واختلفوا في علة بنائه فقال الزجاج: بني لتضمنه معنى الإشارة لأن معناه هذا الوقت ورد بأن المتضمن معنى الإشارة بمنزلة اسم الإشارة وهو لا تدخله أل وقال أبو علي: لتضمنه معنى لام التعريف لأنه استعمل معرفة وليس علما وأل فيه زائدة وضعف بأن تضمن اسم معنى حرف اختصارا ينافي زيادة ما لا يعتد به هذا مع كون المزيد غير المضمن معناه فكيف إذا كان إياه وقال المبرد وابن السراج: لأنه خالف نظائره إذ هو نكرة في الأصل استعمل من أول وضعه باللام وبابها أن تدخل على النكرة وإليه ذهب الزمخشري ورده ابن مالك بلزوم بناء الجماء الغفير ونحوه مما وقع في أول وضعه باللام وبأنه لو كانت مخالفة الاسم لسائر الأسماء موجبة لشبه الحرف واستحقاق البناء لوجب بناء كل اسم خالف الأسماء بوزن أو غيره وهو باطل بإجماع واختار أنه نبي لشبه الحرف في ملازمة لفظ واحد لأنه لا يثنى ولا يجمع ولا يصغر بخلاف حين ووقت وزمان ومدة ورده أبو حيان بما رد هو به على من تقدم وقال الفراء: إنما بني لأنه نقل من فعل ماض وهو آن بمعنى حان فبقي على بنائه استصحابا على حد أنهاكم عن قيل وقال ورد بأنه لو كان كذلك لم تدخل عليه أل كما لا تدخل على ما ذكر وجاز فيه الإعراب كما جاز فيه وذهب بعضهم إلى أنه معرب منصوب على الظرفية واستدل بقوله: كأنهما ملآن لم يتغيرا بكسر النون أي من الآن فحذفت النون والهمزة وجر فدل على أنه معرب وضعف باحتمال أن تكون الكسرة كسرة بناء ويكون في بناء الآن لغتان: الفتح والكسر كما في شتان إلا أن الفتح أكثر وأشهر وفي شرح الألفية لابن الصائغ أن الذي قال: إن أصله أوان يقول: بإعرابه كما أن وأنا معرب واختار الجلال السيوطي القول بإعرابه لأنه لم يثبت لبنائه علة معتبرة فهو عنده منصوب على الظرفية وإن دخلت من جر وخروجه على الظرفية غير ثابت وفي الإستدلال بالحديث السابق مقال وأياما كان فهو هنا متعلق بحصحص أي حصحص الحق في هذا الوقت (أنا راودته عن نفسه (لا أنه راودني عن نفسي وإنما قالت ذلك بعد اعترافها تأكيدا لنزاهته عليه السلام وكذا قولها: (وإنه لمن الصادقين
51
(أي في قوله حين افتريت عليه (هي راودتني عن نفسي) قيل: إن الذي دعاها لذلك كله التوخي لمقابلة الإعتراف حيث لا يجدي الإنكار بالعفو وقيل: إنها لما تناهت في حبه لم تبال بانتهاك سترها وظهور سرها وفي إرشاد العقل السليم أنها لم ترد بقولها: (الآن) الخ مجرد ظهور ما ظهر بشهادة النسوة من مطلق نزاهته عليه السلام فيما أحاط به علمهن من غير تعرض لنزاهته في سائر المواطن خصوصا فيما وقع فيه التشاجر بمحضر العزيز ولا بحث عن حال نفسها وما صنعت في ذلك بل أرادت ظهور ما هو متحقق في نفس الأمر وثبوته من نزاهته عليه السلام في محل النزاع وخيانتها ولهذا قالت: (أنا راودته) الخ وأرادت بالآن زمان تكلمها بهذا الكلام لا زمان شهادتهن أه فافهم وتأمل هل ترى فوق هذه المرتبة نزاهة حيث لم يتمالك الخصماء من الشهادة بها على أتم وجه والفضل ما شهدت به الخصماء وليت من نسب السوء وحاشاه كان عنده عشر معشار ما كان
260

عند أولئك النسوة الشاهدات من الإنصاف (ذلك ليعلم (الذي ذهب إليه غير واحد أن ذلك إشارة إلى التثبت مع ما تلاه من القصة أجمع فهو من كلام يوسف عليه السلام جعله فذلكة منه لما نهض له أولا من التشمر لطهارة ذيله وبراءة ساحته وقد حكى الله تعالى ما وقع من ذلك طبق الوجود مع رعاية ما عليه دأب القرآن من الإيجاز كحذف فرجع إلى ربه فأنهاه مقالة يوسف فأحضرهن سائلا قال: (ما خطبكن) الخ وكذلك كما قيل في (قالت امرأة العزيز) الخ وكذلك هذا أيضا لأن المعنى فرجع إليه الرسول قائلا فتش الملك عن كنه الأمر وبان له جلية الجق من عصمتك وأنك لم ترجع في ذلك المقام الدحض بمس ملام فعند ذلك قال عليه السلام: (ذلك ليعلم) العزيز (أني لم أخنه (في حرمته (بالغيب (أي بظهر الغيب وقيل: ضمير (يعلم) للملك وضمير (أخنه) للعزيز وقيل: للملك أيضا لأن خيانة وزيره خيانة له والباء إما للملابسة أو للظرفية وعلى الأول هو حال من فاعل (أخنه) أي تركت خيانته وأنا غائب عنه أو من مفعوله أي وهو غائب عني وهما متلازمان وجوز أن يكون حالا منهما وليس بشيء وعلى الثاني فهو ظرف لغو لما عنده أي (لم أخنه) بمكان الغيب وراء الأستار والأبواب المغلقة ويحتمل الحالية أيضا (وأن الله (أي وليعلم أن الله تعالى
(لا يهدي كيد الخآئنين
52
(أي لا ينفذه ولا يسدده بل يبطله ويزهقه فهداية الكيد مجاز عن تنفيذه ويجوز أن يكون المراد لا يهدي الخائنين بسبب كيدهم فأوقع الهداية المنفية على الكيد وهي واقعة عليهم تجوزا للمبالغة لأنه إذا لم يهد السبب علم منه عدم هداية مسببه بالطريق الأولى وفيه تعريض بارأة العزيز في خيانتها أمانته وبه في خيانته أمانة الله تعالى حين ساعدها على حبسه بعدما رأوا الآيات الدالة على نزاهته عليه السلام ويجوز أن يكون مع ذلك تأكيدا لأمانته عليه السلام على معنى لو كنت خائنا لما هدى الله تعالى كيدي ولا سدده وتوهم عبارة بعضهم عدم اجتماع التأكيد والتعريض والحق لا مانع من ذلك وأراد بكيده تشمره وثباته ذلك وتسميته كيدا على فرض الخيانة على بابها حقيقة كما
لا يخفى فما في الكشف من أنه سماه كيدا استعارة أو مشاكلة ليس بشيء وقيل: إن ضمير (يعلم) و (لم أخنه) لله تعالى أي ذلك ليعلم الله تعالى أني لم أعصه أي ليظهر أني غير عاص ويكرمني به ويصير سبب رفع منزلتي وليظهر أن كيد الخائن لا ينفذ وأن العاقبة للمطيع لا للعاصي فهو نظير قوله تعالى: (لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب) وله نظائر أخر في القرآن كثيرة إلا أن الله تعالى أخبر عن نفسه بذلك وأما غيره فلم يرد في الكتاب العزيز وفيه نوع إيهام التحاشي عنه أحسن على أن المقام لما تقدم ادعى ((تم الجزء الثاني عشر ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثالث عشر وأوله (وما أبريء نفسي)
261