الكتاب: فرائد الأصول
المؤلف: الشيخ الأنصاري
الجزء: ١
الوفاة: ١٢٨١
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق: إعداد : لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: شعبان المعظم ١٤١٩
المطبعة: باقري - قم
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
ردمك: ٩٦٤-٥٦٦٢-٠٢-٠
ملاحظات: المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الشيخ الأنصاري

فرائد الأصول
1

فرائد الأصول
للشيخ الأعظم أستاذ الفقهاء والمجتهدين
الشيخ مرتضى الأنصاري (قدس سره)
1214 - 1281 ه‍
الجزء الأول
إعداد
لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
3

أنصاري، مرتضى بن محمد أمين، 1214 - 1281 ق.
فرائد الأصول / لمرتضى الأنصاري، إعداد وتحقيق لجنة تحقيق تراث الشيخ
الأعظم. - قم: مجمع الفكر الإسلامي، 1419 ق = 1377.
4 ج: نمونه - (آثار شيخ الأعظم أنصاري، 24، 25، 26، 27)
10000 ريال (هر جلد)
) 0 - 02 - 5662 - ISBN 964 ج 1) 6 - 03 - 5662 - ISBN 964 - (ج 2 (
) 4 - 04 - 5662 - ISBN 964 ج 3) 2 - 05 - 5662 - ISBN 964 - (ج 4 (
فهرستنويسى بر أساس اطلاعات فيپا (فهرستنويسى پيش از انتشار).
عربي.
أين كتاب به فرائد الأصول ورسائل نيز معروف است.
أين كتاب در سالهاى مختلف توسط ناشرين متفاوت منتشر شده است.
كتابنامه.
مندرجات: ج. 1. القطع والظن - ج. 2. البراءة والاشتغال - ج. 3. الاستصحاب
- ج. 4. التعادل والتراجيح.
1. أصول فقه شيعه. الف: مجمع الفكر الاسلامي. لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم.
گرد آورنده. ب عنوان. ج عنوان: رسائل.
4 ف 8 الف / BP 159 312 / 297
120471377 - 77 م
قم - ص. ب 3654 - 37185 - ت: 744810
فرائد الأصول
ج 2 (البراءة والاشتغال)
المؤلف: الشيخ الأعظم الشيخ مرتضى الأنصاري قدس سره
تحقيق: لجنة التحقيق
الطبعة: الأولى / شعبان المعظم 1419 ه‍. ق
صف الحروف: مجمع الفكر الإسلامي
الليتوغراف: نگارش - قم
المطبعة: باقري - قم
الكمية المطبوعة: 3000 نسخة
جميع الحقوق محفوظة
للأمانة العامة للمؤتمر العالمي
بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الشيخ الأنصاري قدس سره
4

بسم الله الرحمن الرحيم
5

برعاية
قائد الثورة الإسلامية ولي أمر المسلمين
سماحة آية الله السيد الخامنئي دام ظله الوارف
تم طبع هذا الكتاب
6

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله
الطيبين الطاهرين.
لم تكن الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني رضوان الله عليه حدثا
سياسيا تتحدد آثاره التغييرية بحدود الأوضاع السياسية إقليمية أو
عالمية، بل كانت وبفعل التغييرات الجذرية التي أعقبتها في القيم والبنى
الحضارية التي شيد عليها صرح الحياة الإنسانية في عصرها الجديد
حدثا حضاريا إنسانيا شاملا حمل إلى الإنسان المعاصر رسالة الحياة
الحرة الكريمة التي بشر بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على مدى التأريخ وفتح
أمام تطلعات الإنسان الحاضر أفقا باسما بالنور والحياة، والخير والعطاء.
وكان من أولى نتائج هذا التحول الحضاري الثورة الثقافية
الشاملة التي شهدها مهد الثورة الإسلامية إيران والتي دفعت بالمسلم
الإيراني إلى اقتحام ميادين الثقافة والعلوم بشتى فروعها، وجعلت من
إيران، ومن قم المقدسة بوجه خاص عاصمة للفكر الإسلامي وقلبا
نابضا بثقافة القرآن وعلوم الإسلام.
ولقد كانت تعاليم الإمام الراحل رضوان الله تعالى عليه ووصاياه وكذا
7

توجيهات قائد الثورة الإسلامية وولي أمر المسلمين آية الله الخامنئي
المصدر الأول الذي تستلهم الثورة الثقافية منه دستورها ومنهجها، ولقد
كانت الثقافة الإسلامية بالذات على رأس اهتمامات الإمام الراحل رضوان الله عليه
وقد أولاها سماحة آية الله الخامنئي حفظه الله تعالى رعايته الخاصة، فكان من
نتائج ذاك التوجيه وهذه الرعاية ظهور آفاق جديدة من التطور في
مناهج الدراسات الإسلامية بل ومضامينها، وانبثاق مشاريع وطروح
تغييرية تتجه إلى تنمية وتطوير العلوم الإسلامية ومناهجها بما يناسب
مرحلة الثورة الإسلامية وحاجات الإنسان الحاضر وتطلعاته.
وبما أن العلوم الإسلامية حصيلة الجهود التي بذلها عباقرة الفكر
الإسلامي في مجال فهم القرآن الكريم والسنة الشريفة فقد كان من أهم
ما تتطلبه عملية التطوير العلمي في الدراسات الإسلامية تسليط الأضواء
على حصائل آراء العباقرة والنوابغ الأولين الذين تصدروا حركة البناء
العلمي لصرح الثقافة الإسلامية، والقيام بمحاولة جادة وجديدة لعرض
آرائهم وأفكارهم على طاولة البحث العلمي والنقد الموضوعي، ودعوة
أصحاب الرأي والفكر المعاصرين إلى دراسة جديدة وشاملة لتراث
السلف الصالح من بناة الصرح الشامخ للعلوم والدراسات الإسلامية
ورواد الفكر الإسلامي وعباقرته.
وبما أن الإمام المجدد الشيخ الأعظم الأنصاري قدس الله نفسه يعتبر
الرائد الأول للتجديد العلمي في العصر الأخير في مجالي الفقه والأصول
- وهما من أهم فروع الدراسات الإسلامية - فقد اضطلعت الأمانة العامة
لمؤتمر الشيخ الأعظم الأنصاري - بتوجيه من سماحة قائد الثورة
الإسلامية آية الله الخامنئي ورعايته - بمشروع إحياء الذكرى المئوية
8

الثانية لميلاد الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره وليتم من خلال هذا
المشروع عرض مدرسة الشيخ الأنصاري الفكرية في شتى أبعادها وعلى
الخصوص إبداعات هذه المدرسة وإنتاجاتها المتميزة التي جعلت منها
المدرسة الام لما تلتها من مدارس فكرية كمدرسة الميرزا الشيرازي
والآخوند الخراساني والمحقق النائيني والمحقق العراقي والمحقق الإصفهاني
وغيرهم من زعماء المدارس الفكرية الحديثة على صعيد الفقه الإسلامي
وأصوله.
وتمهيدا لهذا المشروع فقد ارتأت الأمانة العامة أن تقوم لجنة
مختصة من فضلاء الحوزة العلمية بقم المقدسة بمهمة إحياء تراث الشيخ
الأنصاري وتحقيق تركته العلمية وإخراجها بالأسلوب العلمي اللائق
وعرضها لرواد الفكر الإسلامي والمكتبة الإسلامية بالطريقة التي تسهل
للباحثين الاطلاع على فكر الشيخ الأنصاري ونتاجه العلمي العظيم.
والأمانة العامة لمؤتمر الشيخ الأنصاري إذ تشكر الله سبحانه
وتعالى على هذا التوفيق تبتهل إليه في أن يديم ظل قائد الثورة
الإسلامية ويحفظه للإسلام ناصرا وللمسلمين رائدا وقائدا وأن يتقبل
من العاملين في لجنة التحقيق جهدهم العظيم في سبيل إحياء تراث
الشيخ الأعظم الأنصاري وأن يمن عليهم بأضعاف من الأجر والثواب.
أمين عام مؤتمر الشيخ الأعظم الأنصاري
الشيخ محسن العراقي
9

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وأهل بيته
الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين.
من الواضح لدى من له أدنى إلمام بعلم الأصول وبالكتب
الأصولية المؤلفة على يد المحققين من علماء الأصول من الإمامية في
القرنين الأخيرين، أن للشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره دورا تأسيسيا في
بعض أبحاث علم الأصول، وتطويريا في أغلبها، وبخاصة في بحوث
القطع، والظن، والأصول الجارية في مرحلة الشك، كالبراءة والاشتغال
والتخيير والاستصحاب، ومباحث تعارض الأدلة وعلاجه.
وكان بودنا أن نقوم بدراسة موضوعية، تقارن أصول الشيخ
الأعظم قدس سره بأبحاث من تقدم عليه أو عاصره ومقدار تأثره بهم،
وتحقيق ميادين ريادته، سواء في نفس الموضوعات الأصولية أو في
أسلوب طرحها ومنهجية البحث عنها، ولكن لم نوفق لذلك فاكتفينا في
هذه المقدمة ببيان كيفية تحقيق الكتاب، تاركين تلك الدراسة إلى فرصة
أخرى، إن شاء الله تعالى.
11

مراحل تحقيق الكتاب:
تم تحقيق الكتاب - كسائر الكتب الأخرى - ضمن مراحل، وقبل
بيانها نشير إلى النسخ التي اعتمدنا عليها في تحقيق الكتاب.
النسخ المعتمدة في التحقيق:
طبع كتاب " فرائد الأصول " في حياة المؤلف قدس سره - لذلك لم
نبحث كثيرا عن مخطوطاته وإن استفدنا من بعضها - وتعددت طبعاته
حتى بلغت أكثر من عشرين طبعة، قام بدراستها سماحة حجة الإسلام
والمسلمين الشيخ غلام رضا فياضي، فانتخبنا من تلك النسخ المطبوعة
عشر نسخ أولا، ثم استغنينا عن خمس منها إلا في بعض الموارد.
وفيما يلي تعريف بالنسخ الرئيسية - المخطوطة والمطبوعة - التي
استندنا إليها:
1 - صورة فوتوغرافية عن مخطوطة مكتبة مجلس الشورى الإسلامي
برقم 63300 / 162:
وتتكون من 154 ورقة، كتبت في حياة المؤلف، وهي واضحة،
مصححة، خالية من بعض إضافات النسخ الأخرى، ابتدأت من أول
مبحث القطع إلى آخر الظن، ورد في بدايتها: " بسم الله الرحمن الرحيم،
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين،
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين. فاعلم أن المكلف إذا
التفت إلى حكم... " وفي نهايتها: "... والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله
على محمد وآله باطنا وظاهرا. تمت في ثامن والعشرين من شهر شعبان
12

المعظم سنة 1263 ".
ورمزنا لها ب‍ " م ".
2 - صورة فوتوغرافية عن مخطوطة مكتبة المسجد الأعظم في قم
برقم 3230:
ضمت الكتاب كله من أول القطع إلى آخر التراجيح في 526
صفحة، وهي ناقصة الأول بمقدار نصف صفحة، جيدة الخط، قد تفردت
بقسم من العبارات، واحتوت على بعض الأخطاء الواضحة، تأريخ
تدوين موضوع الظن فيها سنة 1266 ه‍ ق، ابتدأت بقوله: "... كان
كذلك فهو حرام، هذا بخلاف القطع... ".
ورمزنا لها ب‍ " ظ ".
3 - صورة فوتوغرافية عن نسخة مطبوعة في حياة المؤلف قدس سره
عثرنا عليها في بعض مكتبات دزفول الخاصة:
وهي أول نسخة مطبوعة، اشتملت على 320 صفحة بالقطع الوزيري،
احتوت على القطع والظن فقط، مع مقدمة للتعريف بالكتاب والمؤلف
بقلم عبد الحسين التستري، ورد في آخرها: " قد اتفق الفراغ من تسويد
هذه النسخة الموسومة بحجية المظنة من تصنيفات العالم الفاضل العارف
الكامل الشيخ مرتضى من الله على المسلمين بطول بقائه، ونور ساحة
الإسلام بشعشعة شمس جماله في ثالث عشر شهر ربيع الثاني من شهور
سنة ثمان وستين ومائتين من بعد ألف من الهجرة... قوبلت النسخة مع
ما صححه المصنف بنظره الشريف من أولها إلى آخرها، ولا نسخة أصح
منها بظاهرها، ولله الحمد على كل حال، فإنه العلي المتعال ".
ورمزنا لها ب‍ " ل ".
13

4 - نسخة مطبوعة في تبريز سنة 1302 ه‍ ق:
من أصح النسخ - مع النسخة التالية على ما يقال - حصلنا عليها
من بعض الأفاضل، طبعت بالقطع الوزيري، جاء في نهايتها: "... قوبل
مع النسختين الصحيحتين قبالا كاملا إلا [ما] زاغ البصر [عنه]، وأنا
العبد هاشم بن الحسين في سنة 1302 ".
ورمزنا لها ب‍ " ه‍ ".
5 - نسخة مطبوعة في تبريز سنة 1314 ه‍ ق:
طبعت بالقطع الرحلي، ورد في آخرها: " قد تمت النسخة الشريفة
التي لم يطبع إلى الآن مثلها في المطبعة المخصوصة... وأنا العبد محمد علي
التبريزي، في شهر ربيع الأول من شهور 1314 ". وقدم لنا هذه
النسخة بعض الأفاضل أيضا.
ورمزنا لها ب‍ " ت ".
6 - نسخة رحمة الله:
معروفة متداولة بين الأساتذة والطلاب منذ سنين، طبعت سنة
1326 ه‍ ق بالقطع الرحلي.
ورمزنا لها ب‍ " ر ".
7 - نسخة مطبوعة في طهران بالقطع الرحلي، وعليها تصحيحات
بعض العلماء الأجلاء في إصفهان. حصلنا هذه النسخة من مكتبة بعض
السادة الأجلاء.
ورمزنا لها ب‍ " ص ".
أما النسخ الثانوية التي استفدنا منها، فقد أشرنا إليها في الكتاب
بعنوان " بعض النسخ " أو بذكر رموزها الخاصة، وهي كما يأتي:
14

1 - صورة فوتوغرافية عن نسخة مطبوعة تحمل الرقم 2059 /
8 / 8 / 15 في مكتبة السيد المرعشي.
كاملة، لم يذكر اسم مستنسخها ولا تأريخ التدوين والطبع.
ورمزنا لها ب‍ " آ ".
2 - صورة فوتوغرافية عن نسخة مطبوعة تحمل الرقم 3542 /
94 / 8 / 22 في مكتبة السيد المرعشي:
لم يذكر اسم مستنسخها ولا تاريخ التدوين والطبع، ويبدو أنها
طبعت أيام ناصر الدين شاه القاجاري.
ورمزنا لها ب‍ " ع ".
3 - صورة فوتوغرافية عن نسخة مطبوعة تحمل الرقم 36804
/ 128 / 7 / 8 في مكتبة السيد المرعشي:
طبعت في طهران بالقطع الوزيري، تأريخ تدوينها سنة 1315 ه‍ ق،
يبدو من بعض حواشيها أن النسخة المصححة بيد المؤلف كانت عند
مصححي هذه النسخة.
ورمزنا لها ب‍ " خ ".
4 - صورة فوتوغرافية عن نسخة مطبوعة تحمل الرقم 66688 /
214 / 3 / 6 في مكتبة السيد المرعشي:
طبعت في طهران بالقطع الوزيري، دونت سنة 1315 ه‍ ق، يبدو
من مقدمة المصححين أنها قوبلت بعدة نسخ مصححة.
ورمزنا لها ب‍ " ن ".
5 - صورة فوتوغرافية عن نسخة مطبوعة تحمل الرقم 56528 /
185 / 7 / 33 في مكتبة السيد المرعشي:
15

طبعت في طهران بالقطع الوزيري، تأريخ تدوينها سنة 1323 ه‍ ق،
قوبلت ببعض النسخ المصححة كما جاء في مقدمتها.
ورمزنا لها ب‍ " ف ".
6 - نسخة مطبوعة في قم بالقطع الوزيري سنة 1376 ه‍ ق، وفي
مقدمتها ترجمة لحياة الشيخ الأنصاري قدس سره.
ورمزنا لها ب‍ " د ".
مراحل التحقيق:
شكلت عدة لجان ذات كفاءة عالية لإنجاز مراحل تحقيق الكتاب
وفقا للبيان الآتي:
أ - مقابلة النسخ:
سجلت اللجنة المختصة بذلك موارد الاختلاف بدقة فائقة، وتكونت
من:
- حجة الإسلام والمسلمين السيد يحيى الحسيني.
- حجة الإسلام والمسلمين السيد جواد شفيعي.
- حجة الإسلام الشيخ محمد تقي راشدي.
- حجة الإسلام السيد هادي عظيمي.
- الشيخ صادق الحسون (تبريزيان).
ب - استخراج مصادر النصوص:
أسند هذا الأمر إلى:
- حجة الإسلام والمسلمين السيد يحيى الحسيني.
- حجة الإسلام والمسلمين السيد جواد شفيعي.
16

- حجة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد حسين أحمدي الشاهرودي.
استخرج الأولان مصادر القطع والظن والبراءة والاشتغال، ودققها
الأخير الذي تولى استخراج مصادر الاستصحاب والتعادل والتراجيح
ودققها حجة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد باقر حسن پور.
ج - تقويم النص:
عملية التقويم من أهم مراحل تحقيق الكتاب، لأنها تتصدى لانتقاء
النص الصحيح من بين نسخ عديدة اشتملت على اختلافات تغير المعنى
أحيانا، وخاصة بالنسبة إلى كتاب مثل " فرائد الأصول " الذي أجرى
عليه المؤلف نفسه وآخرون عدة تصحيحات اختلط بعضها ببعض وبتعليقات
توضيحية أحيانا، فتعقد الأمر وصارت مهمة هذه اللجنة صعبة جدا.
وقد قيض لها الله تعالى شخصين فاضلين يطمأن إليهما، مارسا
تدريس هذا الكتاب قبل القيام بتحقيقه، وهما:
- حجة الإسلام والمسلمين الشيخ علي رضا إسلاميان الذي
تصدى لتقويم نصوص القطع والظن والبراءة والاشتغال.
- حجة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد حسين أحمدي الشاهرودي
الذي تصدى لتقويم نصوص الاستصحاب والتعادل والتراجيح، إضافة
إلى قيامه بكتابة العناوين الجانبية.
د - المراجعة العامة للكتاب:
انبرى لذلك حجة الإسلام والمسلمين السيد محمد جواد الحسيني
الجلالي، وحجة الإسلام والمسلمين الشيخ صادق الكاشاني.
ه‍ - تنظيم الفهارس:
قام بهذا الأمر حجة الإسلام السيد هادي عظيمي.
17

و - نضد الحروف:
تم ذلك على يد الأخ محمد خازن بنحو دقيق، روعيت فيه
الجوانب الفنية والجمالية.
وكنت إلى جانب كل هؤلاء الإخوة الأفاضل أقدم ما تيسر لي
من خدمات متواضعة في سبيل تحقيق هذا التراث الثمين، إضافة إلى
مراجعتي للكتاب عدة مرات وفي عدة مراحل.
وهكذا تظافرت جهود هذه المجموعة من الفضلاء وذوي الخبرة
لإخراج الكتاب بنحو علمي دقيق، وبصياغة حديثة أنيقة لتوفير فرص
قيمة للاستفادة منه، راجين من العلماء والفضلاء وبخاصة الذين مارسوا
تدريسه أن يتحفونا بآرائهم وإرشاداتهم رفدا للمسيرة العلمية المزهرة
ووفاء للعلماء المتقدمين علينا.
ختاما نرجو الله العلي القدير أن يوفق كل من شاركنا في تحقيق
هذا الكتاب الجليل لمزيد من الخدمات لمذهب أهل البيت عليهم السلام، إنه
قريب مجيب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
مسؤول لجنة التحقيق
محمد علي الأنصاري
18

نماذج مصورة من بعض النسخ المعتمد عليها في تحقيق الكتاب
صورة الصفحة الأولى من نسخة " م "
19

صورة الصفحة الأخيرة من نسخة " ل "
20

صورة الصفحة الأولى من نسخة " ه‍ "
21

صورة الصفحة الأولى من نسخة " ت "
22

فرائد الأصول
للشيخ الأعظم أستاذ الفقهاء والمجتهدين
الشيخ مرتضى الأنصاري (قدس سره)
1214 - 1281 ه‍
الجزء الأول
إعداد
لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
23

بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم (1): أن المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي، فإما أن يحصل
له (2) الشك فيه، أو القطع، أو الظن.
فإن حصل له (3) الشك، فالمرجع فيه هي القواعد الشرعية الثابتة
للشاك في مقام العمل، وتسمى ب‍ " الأصول العملية "، وهي منحصرة في
أربعة، لأن الشك:
إما أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أم لا.
وعلى الثاني: فإما أن يمكن الاحتياط أم لا.
وعلى الأول: فإما أن يكون الشك في التكليف أو في المكلف به.
فالأول مجرى الاستصحاب، والثاني (4) مجرى التخيير، والثالث

(1) كذا في (ت)، (ص) و (ل)، وفي غيرها: " فاعلم ".
(2) العبارة في (ه‍) هكذا: " فيحصل له إما الشك... ".
(3) لم ترد " له " في (ل) و (م).
(4) في نسخة بدل (ص): " والثاني مجرى أصالة البراءة، والثالث مجرى قاعدة
الاحتياط، والرابع مجرى قاعدة التخيير ".
25

مجرى أصالة البراءة، والرابع مجرى قاعدة الاحتياط.
وبعبارة أخرى: الشك إما أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أو لا (1)،
فالأول مجرى الاستصحاب، والثاني: إما أن يكون الشك فيه في التكليف
أو لا، فالأول مجرى أصالة البراءة، والثاني: إما أن يمكن الاحتياط فيه
أو لا، فالأول مجرى قاعدة الاحتياط، والثاني مجرى قاعدة التخيير (2).
وما ذكرنا هو المختار في مجاري الأصول الأربعة، وقد وقع
الخلاف فيها، وتمام الكلام في كل واحد موكول إلى محله.
فالكلام يقع في مقاصد ثلاثة:
الأول: في القطع.
والثاني: في الظن.
والثالث: في الشك (3).

(1) لم ترد عبارة " وعلى الثاني - إلى - السابقة أو لا " في (ه‍).
(2) عبارة " وبعبارة أخرى - إلى - قاعدة التخيير " من (ر) ونسخة بدل (ص).
ووردت في (ه‍) أيضا مع اختلاف يسير، ولم ترد فيها: " وبعبارة أخرى ".
(3) كذا في (ل) و (م)، وفي (ت)، (ر)، (ص)، و (ه‍): " والثالث في الأصول
العملية المذكورة التي هي المرجع عند الشك ".
26

المقصد الأول
في القطع
27

المقصد الأول
في القطع (1)
فنقول: لا إشكال في وجوب متابعة القطع والعمل عليه ما دام
موجودا، لأنه بنفسه طريق إلى الواقع، وليس طريقيته قابلة لجعل
الشارع إثباتا أو نفيا (2).
ومن هنا يعلم: أن إطلاق " الحجة " عليه ليس كإطلاق " الحجة "
على الأمارات المعتبرة شرعا، لأن الحجة عبارة عن: الوسط الذي به
يحتج على ثبوت الأكبر للأصغر، ويصير واسطة للقطع بثبوته له، كالتغير
لإثبات حدوث العالم، فقولنا: الظن حجة، أو البينة حجة، أو فتوى
المفتي حجة، يراد به كون هذه الأمور أوساطا لإثبات أحكام متعلقاتها،
فيقال: هذا مظنون الخمرية، وكل مظنون الخمرية يجب الاجتناب عنه.
وكذلك قولنا: هذا الفعل مما أفتى المفتي بتحريمه، أو قامت البينة على
كونه محرما، وكل ما كان كذلك فهو حرام.
وهذا بخلاف القطع، لأنه إذا قطع بوجوب شئ، فيقال: هذا

(1) كذا في (ل) و (م)، وفي غيرهما: " أما الكلام في المقصد الأول ".
(2) في (ص): " ونفيا ".
29

واجب، وكل واجب يحرم ضده أو يجب مقدمته.
وكذلك العلم بالموضوعات، فإذا قطع بخمرية شئ، فيقال: هذا
خمر، وكل خمر يجب الاجتناب عنه، ولا يقال: إن هذا معلوم الخمرية،
وكل معلوم الخمرية حكمه كذا، لأن أحكام الخمر إنما تثبت للخمر،
لا لما علم أنه خمر.
والحاصل: أن كون القطع حجة غير معقول، لأن الحجة ما يوجب
القطع بالمطلوب، فلا يطلق على نفس القطع.
هذا كله بالنسبة إلى حكم متعلق القطع وهو الأمر المقطوع به،
وأما بالنسبة إلى حكم آخر، فيجوز أن يكون القطع مأخوذا في
موضوعه، فيقال: إن الشئ المعلوم بوصف كونه معلوما حكمه كذا،
وحينئذ فالعلم يكون وسطا لثبوت ذلك الحكم (1) وإن لم يطلق عليه
الحجة، إذ المراد ب‍ " الحجة " في باب الأدلة: ما كان وسطا لثبوت
أحكام (2) متعلقه شرعا، لا لحكم آخر (3)، كما إذا رتب الشارع الحرمة
على الخمر المعلوم كونها خمرا، لا على نفس الخمر، وكترتب وجوب
الإطاعة عقلا (4) على معلوم الوجوب، لا الواجب الواقعي (5).
وبالجملة: فالقطع قد يكون طريقا للحكم، وقد يكون مأخوذا في

(1) في (ظ)، (ل) و (م) زيادة: " لمتعلقه ".
(2) في نسخة بدل (ص): " حكم ".
(3) لم ترد عبارة " وإن لم يطلق - إلى - لا لحكم آخر " في (ظ)، (ل) و (م).
(4) لم ترد " عقلا " في (ر) و (ص).
(5) لم ترد عبارة " وكترتب - إلى - الواقعي " في (ظ)، (ل) و (م).
30

موضوع الحكم.
ثم ما كان منه طريقا لا يفرق فيه بين خصوصياته، من حيث
القاطع والمقطوع به وأسباب القطع وأزمانه، إذ المفروض كونه طريقا إلى
متعلقه، فيترتب عليه أحكام متعلقه، ولا يجوز للشارع أن ينهى عن
العمل به، لأنه مستلزم للتناقض.
فإذا قطع بكون (1) مائع بولا - من أي سبب كان - فلا يجوز
للشارع أن يحكم بعدم نجاسته أو عدم وجوب الاجتناب عنه، لأن
المفروض أنه بمجرد القطع يحصل له صغرى وكبرى، أعني قوله: " هذا
بول، وكل بول يجب الاجتناب عنه، فهذا يجب الاجتناب عنه " فحكم
الشارع بأنه لا يجب الاجتناب عنه مناقض له، إلا إذا فرض عدم كون
النجاسة ووجوب الاجتناب من أحكام نفس البول، بل من أحكام ما
علم بوليته على وجه خاص من حيث السبب أو الشخص أو غيرهما،
فيخرج العلم عن (2) كونه طريقا (3)، ويكون مأخوذا (4) في الموضوع،
وحكمه أنه يتبع في اعتباره - مطلقا أو على وجه خاص - دليل ذلك
الحكم الثابت الذي اخذ العلم في موضوعه.
فقد يدل على ثبوت الحكم لشئ بشرط العلم به، بمعنى انكشافه
للمكلف من غير خصوصية للانكشاف، كما في حكم العقل بحسن إتيان

(1) كذا في (ص)، وفي غيرها: " كون ".
(2) كذا في (ت)، وفي (ل) و (م): " فخرج عن ".
(3) لم ترد عبارة " فيخرج العلم عن كونه طريقا " في (ر)، (ص) و (ه‍).
(4) في (ص) و (ه‍): " فيكون العلم مأخوذا "، وفي (ر): " فيكون مأخوذا ".
31

ما قطع العبد بكونه مطلوبا لمولاه، وقبح ما يقطع بكونه مبغوضا، فإن
مدخلية القطع بالمطلوبية أو المبغوضية في صيرورة الفعل حسنا أو قبيحا
عند العقل لا يختص ببعض أفراده. وكما في حكم الشارع (1) بحرمة ما
علم أنه خمر أو نجاسته بقول مطلق (2)، بناء على أن الحرمة والنجاسة
الواقعيتين إنما تعرضان مواردهما بشرط العلم - لا في نفس الأمر - كما
هو قول بعض (3).
وقد يدل دليل ذلك الحكم على ثبوته لشئ بشرط حصول
القطع به من سبب خاص أو شخص خاص، مثل ما ذهب إليه بعض
الأخباريين (4): من عدم جواز العمل في الشرعيات بالعلم الغير (5) الحاصل
من الكتاب والسنة - كما سيجئ -، وما ذهب إليه بعض: من منع عمل
القاضي بعلمه في حقوق الله تعالى (6).

(1) كذا في (ت) و (ه‍)، وفي غيرهما: " الشرع ".
(2) لم ترد " بقول مطلق " في (ظ)، (ل)، (م) و (ه‍).
(3) كالمحدث البحراني في الحدائق 5: 249.
(4) كالأمين الاسترآبادي والسيد المحدث الجزائري وغيرهما، وسيجئ كلامهم في
الصفحة: 52 - 55.
(5) في (ر): " غير ".
(6) ذهب إليه ابن حمزة في الوسيلة: 218، ونسبه في المسالك والرياض إلى
الحلي أيضا، ولكن لم نعثر عليه في السرائر، بل ذهب فيه إلى الجواز في جميع
الأشياء، انظر المسالك (الطبعة الحجرية) 2: 289، والرياض (الطبعة الحجرية)
2: 390، والسرائر 2: 179.
32

وأمثلة ذلك بالنسبة إلى حكم (1) غير القاطع كثيرة (2)، كحكم
الشارع على المقلد بوجوب الرجوع إلى الغير في الحكم الشرعي إذا
علم به من الطرق الاجتهادية المعهودة، لا من مثل الرمل والجفر، فإن
القطع الحاصل من هذه وإن وجب على القاطع الأخذ به في عمل نفسه،
إلا أنه لا يجوز للغير تقليده في ذلك، وكذلك العلم الحاصل للمجتهد
الفاسق أو غير الإمامي من الطرق الاجتهادية المتعارفة، فإنه لا يجوز
للغير العمل بها (3)، وكحكم الشارع على الحاكم بوجوب قبول خبر
العدل المعلوم له من الحس لا من الحدس، إلى غير ذلك.
ثم من خواص القطع الذي هو طريق إلى الواقع: قيام الأمارات
الشرعية وبعض (4) الأصول العملية مقامه في العمل، بخلاف المأخوذ في
الحكم على وجه الموضوعية، فإنه تابع لدليل الحكم (5).
فإن ظهر منه أو من دليل خارج (6) اعتباره على وجه الطريقية
للموضوع - كالأمثلة المتقدمة (7) - قامت الأمارات وبعض (8) الأصول
مقامه.

(1) لم ترد " حكم " في (ت).
(2) لم ترد عبارة " مثل ما ذهب - إلى - كثيرة " في (ظ) و (م).
(3) كذا في النسخ، والأنسب: " به "، لرجوع الضمير إلى " العلم " لا " الطرق ".
(4) لم ترد " بعض " في (ر)، (ل) و (م).
(5) في " ص ": " ذلك الحكم ".
(6) لم ترد " أو من دليل خارج " في (ظ)، (ل) و (م).
(7) لم ترد " كالأمثلة المتقدمة " في (ت)، (ر) و (ه‍).
(8) لم ترد " بعض " في (ر)، (ص)، (ظ)، (ل) و (م).
33

وإن ظهر من دليل الحكم (1) اعتبار القطع (2) في الموضوع من حيث
كونها صفة خاصة قائمة بالشخص لم يقم مقامه غيره، كما إذا فرضنا أن
الشارع اعتبر صفة القطع على هذا الوجه في حفظ عدد الركعات
الثنائية والثلاثية والأوليين من الرباعية (3)، فإن غيره - كالظن بأحد
الطرفين أو أصالة عدم الزائد - لا يقوم مقامه إلا بدليل خاص خارجي
غير أدلة حجية مطلق الظن في الصلاة وأصالة عدم الأكثر.
ومن هذا الباب: عدم جواز أداء الشهادة استنادا إلى البينة أو
اليد - على قول - وإن جاز تعويل الشاهد في عمل نفسه بهما إجماعا،
لأن العلم بالمشهود به مأخوذ (4) في مقام العمل على وجه الطريقية،
بخلاف مقام أداء الشهادة، إلا أن يثبت من الخارج: أن كل ما يجوز
العمل به من الطرق الشرعية يجوز الاستناد إليه في الشهادة، كما يظهر
من رواية حفص الواردة في جواز الاستناد إلى اليد (5).
ومما ذكرنا يظهر: أنه لو نذر أحد أن يتصدق كل يوم بدرهم
ما دام متيقنا بحياة ولده، فإنه لا يجب التصدق عند الشك في الحياة
لأجل استصحاب الحياة، بخلاف ما لو علق النذر بنفس الحياة، فإنه
يكفي في الوجوب الاستصحاب.

(1) في (ر): " وإن ظهر منه ".
(2) في (ر) و (ص): " صفة القطع ".
(3) لم ترد " من الرباعية " في (ر)، (ظ)، (ل) و (م).
(4) لم ترد " مأخوذ " في (ر) و (ه‍).
(5) الوسائل 18: 215، الباب 25 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.
34

ثم إن هذا الذي ذكرنا - من (1) كون القطع مأخوذا تارة على وجه
الطريقية وأخرى على وجه الموضوعية - جار في الظن أيضا، فإنه (2) وإن
فارق العلم في كيفية الطريقية - حيث إن العلم طريق بنفسه، والظن
المعتبر طريق بجعل الشارع، بمعنى كونه وسطا في ترتب أحكام متعلقه،
كما أشرنا إليه سابقا - إلا أنه (3) أيضا: قد يؤخذ طريقا مجعولا إلى
متعلقه يقوم مقامه سائر الطرق الشرعية، وقد يؤخذ موضوعا لحكم (4).
فلا بد من ملاحظة دليل ذلك، ثم الحكم بقيام غيره من الطرق
المعتبرة مقامه، لكن الغالب فيه الأول.

(1) كذا في (ر) و (ص)، وفي غيرهما: " في ".
(2) لم ترد " فإنه " في (ت)، (ر)، (ظ)، (ل) و (م).
(3) في (ص)، (ظ)، و (ه‍) بدل " إلا أنه ": " لكن الظن ".
(4) وردت عبارة: " قد يؤخذ طريقا مجعولا - إلى - موضوعا لحكم " في (ت)،
(ر)، (ه‍) ومصححة (ص) هكذا:
" قد يؤخذ طريقا مجعولا إلى متعلقه *، سواء كان موضوعا على وجه
الطريقية لحكم متعلقه أو لحكم آخر يقوم مقامه سائر الطرق الشرعية، فيقال:
إنه حجة.
وقد يؤخذ موضوعا لا على وجه الطريقية لحكم متعلقه أو لحكم آخر، ولا
يطلق عليه الحجة "، وفي بعضها زيادة يسيرة.
* في طبعة جماعة المدرسين - هنا - زيادة: " وقد يؤخذ موضوعا للحكم "، لكنها لم ترد في
ما بأيدينا من النسخ.
35

وينبغي التنبيه على أمور:
الأول
أنه قد عرفت (1): أن القاطع لا يحتاج في العمل بقطعه إلى أزيد
من الأدلة المثبتة لأحكام مقطوعه، فيجعل ذلك كبرى لصغرى قطع بها،
فيقطع بالنتيجة، فإذا قطع بكون شئ خمرا، وقام الدليل على كون
حكم الخمر في نفسها هي الحرمة، فيقطع بحرمة ذلك الشئ.
لكن الكلام في أن قطعه هذا هل هو حجة عليه من الشارع وإن
كان مخالفا للواقع في علم الله، فيعاقب على مخالفته، أو أنه حجة عليه
إذا صادف الواقع؟ بمعنى أنه لو شرب الخمر الواقعي عالما عوقب عليه
في مقابل من شربها جاهلا، لا أنه يعاقب على شرب ما قطع بكونه
خمرا وإن لم يكن خمرا في الواقع.
ظاهر كلماتهم في بعض المقامات: الاتفاق على الأول، كما يظهر
من دعوى جماعة (2) الإجماع على أن ظان ضيق الوقت إذا أخر الصلاة
عصى وإن انكشف بقاء الوقت، فإن تعبيرهم بظن الضيق لبيان أدنى

(1) في الصفحة 29 - 30.
(2) منهم: العلامة في المنتهى 4: 107، والفاضل الهندي في كشف اللثام 3:
109، والسيد العاملي في مفتاح الكرامة 2: 61.
37

فردي الرجحان، فيشمل القطع بالضيق.
نعم، حكي عن النهاية (1) وشيخنا البهائي (2) التوقف في العصيان،
بل في التذكرة: لو ظن ضيق الوقت عصى لو أخر إن استمر الظن،
وإن انكشف خلافه (3) فالوجه عدم العصيان (4)، انتهى (5). واستقرب العدم
سيد مشايخنا في المفاتيح (6).
وكذا لا خلاف بينهم - ظاهرا - في أن سلوك الطريق المظنون
الخطر أو مقطوعه معصية يجب إتمام الصلاة فيه ولو بعد انكشاف عدم
الضرر فيه (7).
ويؤيده: بناء العقلاء على الاستحقاق، وحكم العقل بقبح التجري.
وقد يقرر دلالة العقل على ذلك (8): بأنا إذا فرضنا شخصين
قاطعين، بأن قطع أحدهما بكون مائع معين خمرا، وقطع الآخر بكون

(1) و (2) حكى السيد المجاهد في مفاتيح الأصول عن الزبدة: التوقف، وعن
النهاية قولين في موضعين، انظر مفاتيح الأصول: 308، والزبدة: 41، ونهاية
الوصول (مخطوط): 11 و 94.
(3) في (ظ)، (ل) والمصدر: بطلانه.
(4) التذكرة 2: 391.
(5) لم ترد عبارة " بل في التذكرة - إلى: - انتهى " في (م)، وكتب عليها في (ص):
أنها زائدة، إلا أنه أضيف فيهما تصحيحا بعد قوله: " في المفاتيح " ما يلي:
" تبعا للعلامة في التذكرة ".
(6) مفاتيح الأصول: 308.
(7) في (ر) زيادة: " فتأمل ".
(8) المقرر هو المحقق السبزواري في الذخيرة.
38

مائع (1) آخر خمرا، فشرباهما، فاتفق مصادفة أحدهما للواقع ومخالفة
الآخر: فإما أن يستحقا العقاب، أو لا يستحقه أحدهما، أو يستحقه
من صادف قطعه الواقع دون الآخر، أو العكس.
لا سبيل إلى الثاني والرابع، والثالث مستلزم لإناطة استحقاق العقاب
بما هو خارج عن الاختيار، وهو مناف لما يقتضيه العدل، فتعين الأول (2).
ويمكن الخدشة في الكل:
أما الإجماع، فالمحصل منه غير حاصل، والمسألة عقلية، خصوصا
مع مخالفة غير واحد، كما عرفت من النهاية (3) وستعرف من قواعد
الشهيد (قدس سره) (4)، والمنقول منه ليس حجة في المقام.
وأما بناء العقلاء، فلو سلم فإنما هو على مذمة الشخص من
حيث إن هذا الفعل يكشف عن وجود صفة الشقاوة فيه، لا على نفس
فعله، كمن انكشف لهم من حاله أنه بحيث لو قدر على قتل سيده لقتله،
فإن المذمة على المنكشف، لا الكاشف.
ومن هنا يظهر الجواب عن قبح التجري، فإنه لكشف ما تجرى به
عن خبث الفاعل (5)، لا عن كون الفعل مبغوضا للمولى.
والحاصل: أن الكلام في كون هذا الفعل - الغير المنهي عنه واقعا -
مبغوضا للمولى من حيث تعلق اعتقاد المكلف بكونه مبغوضا، لا في أن

(1) في (ت) ونسخة بدل (ه‍) زيادة: " معين ".
(2) انظر ذخيرة المعاد: 209 و 210.
(3) راجع الصفحة السابقة.
(4) انظر الصفحة 49 - 50.
(5) في (ر) و (ص) زيادة: " لكونه جريئا عازما على العصيان والتمرد ".
39

هذا الفعل - المنهي عنه باعتقاده ظاهرا (1) - ينبئ عن سوء سريرة العبد
مع سيده وكونه في مقام الطغيان والمعصية (2)، فإن هذا غير منكر في
المقام (3)، لكن لا يجدي في كون الفعل محرما شرعيا، لأن استحقاق
المذمة على ما كشف عنه الفعل لا يوجب استحقاقه على نفس الفعل،
ومن المعلوم أن الحكم العقلي باستحقاق الذم إنما يلازم استحقاق العقاب
شرعا إذا تعلق بالفعل، لا بالفاعل.
وأما ما ذكر من الدليل العقلي، فنلتزم باستحقاق من صادف
قطعه الواقع، لأنه عصى اختيارا، دون من لم يصادف.
و (4) قولك: إن التفاوت بالاستحقاق والعدم لا يحسن أن يناط بما
هو خارج عن الاختيار، ممنوع، فإن العقاب بما لا يرجع بالأخرة إلى
الاختيار قبيح، إلا أن عدم العقاب لأمر لا يرجع إلى الاختيار قبحه
غير معلوم، كما يشهد به الأخبار الواردة في أن: من سن سنة حسنة
كان له مثل أجر من عمل بها، ومن سن سنة سيئة كان له مثل وزر
من عمل بها (5).
فإذا فرضنا أن شخصين سنا سنة حسنة أو سيئة، واتفق كثرة

(1) لم ترد عبارة: " المنهي عنه باعتقاده ظاهرا " في (ظ)، (ل) و (م)، ولم ترد
كلمة " ظاهرا " في (ر) و (ص).
(2) في (ر) و (ص) زيادة: " وعازما عليه ".
(3) في (ر)، (ص) و (ه‍) زيادة: " كما سيجئ ".
(4) " الواو " من (ه‍) و (ت).
(5) انظر الوسائل 11: 16، الباب 5 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1،
والبحار 100: 7، ضمن الحديث 1، وكنز العمال 15: 780، الحديث 43078.
40

العامل بإحداهما وقلة العامل بما سنه الآخر، فإن مقتضى الروايات كون
ثواب الأول أو عقابه أعظم، وقد اشتهر: " أن للمصيب أجرين
وللمخطئ أجرا واحدا " (1). والأخبار في أمثال ذلك في طرف (2) الثواب
والعقاب بحد التواتر.
فالظاهر: أن العقل إنما يحكم بتساويهما في استحقاق المذمة من
حيث شقاوة الفاعل وخبث سريرته مع المولى، لا في استحقاق المذمة
على الفعل المقطوع بكونه معصية.
وربما يؤيد ذلك: أنا نجد من أنفسنا الفرق في مرتبة الذم (3) بين
من صادف قطعه (4) الواقع وبين من لم يصادف.
إلا أن يقال: إن ذلك إنما هو في المبغوضات العقلائية، من حيث
إن زيادة العقاب (5) من المولى وتأكد الذم (6) من العقلاء بالنسبة إلى من
صادف اعتقاده الواقع لأجل التشفي، المستحيل في حق الحكيم تعالى، فتأمل.
هذا، وقد يظهر من بعض المعاصرين (7): التفصيل في صورة القطع

(1) لم نجده بعينه، ويدل عليه ما في كنز العمال 6: 7، الحديث 14597.
(2) في (ص): " طرفي ".
(3) كذا في (ت)، (ر)، (ه‍) ونسخة بدل (ص)، وفي غيرها: " العقاب " بدل
" الذم ".
(4) كذا في (ت)، (ه‍) ونسخة بدل (ص)، وفي غيرها: " فعله " بدل " قطعه ".
(5) كذا في (ل)، (م) ونسخة بدل (ص)، وفي غيرها: " الذم " بدل " العقاب ".
(6) كذا في (ر)، (ل) و (م)، وفي غيرها: " تأكده ".
(7) هو صاحب الفصول، كما سيأتي.
41

بتحريم شئ غير محرم واقعا، فرجح استحقاق العقاب بفعله، إلا أن
يعتقد تحريم واجب غير مشروط بقصد القربة، فإنه لا يبعد عدم
استحقاق العقاب عليه مطلقا أو في بعض الموارد، نظرا إلى معارضة
الجهة الواقعية للجهة الظاهرية، فإن قبح التجري عندنا ليس ذاتيا، بل
يختلف بالوجوه والاعتبار.
فمن اشتبه عليه مؤمن ورع عالم بكافر واجب القتل، فحسب أنه
ذلك الكافر وتجرى فلم يقتله، فإنه لا يستحق الذم على هذا الفعل عقلا
عند من انكشف له الواقع، وإن كان معذورا لو فعل.
وأظهر من ذلك: ما لو جزم بوجوب قتل نبي أو وصي، فتجرى
ولم يقتله.
ألا ترى: أن المولى الحكيم إذا أمر عبده بقتل عدو له، فصادف
العبد ابنه وزعمه ذلك العدو فتجرى ولم يقتله، أن المولى إذا اطلع على
حاله لا يذمه على هذا التجري، بل يرضى به وإن كان معذورا لو فعل.
وكذا لو نصب له طريقا غير القطع إلى معرفة عدوه، فأدى الطريق إلى
تعيين ابنه فتجرى ولم يفعل.
وهذا الاحتمال حيث يتحقق عند المتجري لا يجديه إن لم يصادف
الواقع، ولذا يلزمه العقل بالعمل بالطريق المنصوب، لما فيه من القطع
بالسلامة من العقاب، بخلاف ما لو ترك العمل به، فإن المظنون فيه
عدمها.
ومن هنا يظهر: أن التجري على الحرام في المكروهات الواقعية
أشد منه في مباحاتها، وهو فيها أشد منه في مندوباتها، ويختلف باختلافها
ضعفا وشدة كالمكروهات، ويمكن أن يراعى في الواجبات الواقعية
42

ما هو الأقوى من جهاته وجهات التجري (1). انتهى كلامه، رفع مقامه.
أقول: يرد عليه:
أولا: منع ما ذكره من عدم كون قبح التجري ذاتيا، لأن التجري
على المولى قبيح ذاتا - سواء كان لنفس الفعل أو لكشفه عن كونه
جريئا (2) - كالظلم، بل هو قسم من الظلم، فيمتنع عروض الصفة المحسنة
له، وفي مقابله الانقياد لله سبحانه وتعالى، فإنه يمتنع أن يعرض له جهة
مقبحة.
وثانيا (3): لو سلم أنه لا امتناع في أن يعرض له جهة محسنة،
لكنه باق على قبحه ما لم يعرض له تلك الجهة، وليس مما لا يعرض
له في نفسه حسن ولا قبح إلا بعد ملاحظة (4) ما يتحقق في ضمنه.
وبعبارة أخرى: لو سلمنا عدم كونه علة تامة للقبح كالظلم،
فلا شك في كونه مقتضيا له كالكذب، وليس من قبيل الأفعال التي
لا يدرك العقل بملاحظتها في أنفسها حسنها ولا قبحها، وحينئذ فيتوقف
ارتفاع قبحه على انضمام جهة يتدارك بها قبحه، كالكذب المتضمن
لإنجاء نبي.
ومن المعلوم أن ترك قتل المؤمن بوصف أنه مؤمن في المثال
الذي ذكره - كفعله - ليس من الأمور التي تتصف بحسن أو قبح، للجهل

(1) الفصول: 431 - 432.
(2) لم ترد عبارة " سواء - إلى - جريئا " في (ظ)، (ل) و (م).
(3) في (ر) و (ص) زيادة: " أنه ".
(4) كذا في (ت)، (م) و (ه‍)، وفي غيرها: " بملاحظة ".
43

بكونه قتل مؤمن، ولذا اعترف في كلامه بأنه لو قتله كان معذورا، فإذا
لم يكن هذا الفعل الذي تحقق التجري في ضمنه مما يتصف بحسن أو
قبح، لم يؤثر في اقتضاء ما يقتضي القبح، كما لا يؤثر في اقتضاء ما
يقتضي الحسن لو فرض أمره بقتل كافر فقتل مؤمنا معتقدا كفره، فإنه
لا إشكال في مدحه من حيث الانقياد وعدم مزاحمة حسنه بكونه في
الواقع قتل مؤمن.
ودعوى: أن الفعل الذي يتحقق به التجري وإن لم يتصف في
نفسه بحسن ولا قبح - لكونه مجهول العنوان - لكنه لا يمتنع أن يؤثر في
قبح ما يقتضي القبح بأن يرفعه، إلا أن نقول بعدم مدخلية الأمور
الخارجة عن القدرة في استحقاق المدح والذم، وهو محل نظر، بل منع.
وعليه يمكن ابتناء منع الدليل العقلي السابق (1) في قبح التجري.
مدفوعة - مضافا إلى الفرق بين ما نحن فيه وبين ما تقدم من
الدليل العقلي، كما لا يخفى على المتأمل -: بأن العقل مستقل بقبح
التجري في المثال المذكور، ومجرد تحقق ترك قتل المؤمن في ضمنه - مع
الاعتراف بأن ترك القتل لا يتصف بحسن ولا قبح - لا يرفع قبحه،
ولذا يحكم العقل بقبح الكذب وضرب اليتيم إذا انضم إليهما ما يصرفهما
إلى المصلحة إذا جهل الفاعل بذلك.
ثم إنه ذكر هذا القائل في بعض كلماته: أن التجري إذا صادف
المعصية الواقعية تداخل عقابهما (2).

(1) راجع الصفحة 38 - 39.
(2) الفصول: 87.
44

ولم يعلم معنى محصل لهذا الكلام، إذ مع كون التجري عنوانا
مستقلا في استحقاق العقاب لا وجه للتداخل إن أريد به وحدة العقاب،
فإنه ترجيح بلا مرجح (1)، وإن أريد به عقاب زائد على عقاب محض
التجري، فهذا ليس تداخلا، لأن كل فعل اجتمع فيه عنوانان من القبح
يزيد عقابه على ما كان فيه أحدهما.
والتحقيق: أنه لا فرق في قبح التجري بين موارده، وأن المتجري
لا إشكال في استحقاقه الذم من جهة انكشاف خبث باطنه وسوء
سريرته بذلك (2). وأما استحقاقه للذم من حيث الفعل المتجرى في ضمنه،
ففيه إشكال، كما اعترف به الشهيد (قدس سره) فيما يأتي (3) من كلامه (4).

(1) في (ر) و (ص) زيادة العبارة التالية: " وسيجئ في الرواية أن على الراضي
إثما، وعلى الداخل إثمين "، انظر الصفحة 47.
(2) لم ترد " بذلك " في (ت)، (ر) و (ص)، وفي (ر) و (ص) زيادة: " وجرأته ".
(3) في الصفحة 49 - 50.
(4) وردت - هنا - زيادة في (ت)، (ه‍) وهامش (ص) - مع اختلاف يسير -،
وكتب بعدها في (ص): " منه قدس سره "، والزيادة هكذا: " بل يظهر منه
قدس سره: أن الكلام في تأثير نية المعصية إذا تلبس بما يراه معصية، لا في
تأثير الفعل المتلبس به إذا صدر عن قصد المعصية، فتأمل. نعم، يظهر من
بعض الروايات حرمة الفعل المتجرى به، لمجرد الاعتقاد، مثل موثقة سماعة: " في
رجلين قاما إلى الفجر، فقال أحدهما: هو ذا، وقال الآخر: ما أرى شيئا، قال
عليه السلام: فليأكل الذي لم يبن له، وحرم على الذي زعم أنه طلع الفجر، إن
الله تعالى قال: * (كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط
الأسود) *.
45

نعم، لو كان (1) التجري على المعصية بالقصد (2) إلى المعصية،
فالمصرح به في الأخبار الكثيرة العفو عنه (3)، وإن كان يظهر من أخبار أخر
العقاب على القصد أيضا (4)، مثل:
قوله صلوات الله عليه: " نية الكافر شر من عمله " (5).
وقوله: " إنما يحشر الناس على نياتهم " (6).
وما ورد من تعليل خلود أهل النار في النار، وخلود أهل الجنة
في الجنة، بعزم كل من الطائفتين على الثبات على ما كان عليه من
المعصية والطاعة لو خلدوا في الدنيا (7).
وما ورد من أنه: " إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في
النار، قيل: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟! قال: لأنه
أراد قتل صاحبه " (8).

(1) في (ت)، (ص) و (ه‍) بدل " نعم لو كان ": " وأما ".
(2) في (ص) و (ه‍) بدل " بالقصد ": " بسبب القصد ".
(3) انظر الوسائل 1: 36 - 40، الباب 6 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث
6، 7، 8، 10، 20 و 21.
(4) لم ترد " أيضا " في (ظ) و (م).
(5) الوسائل 1: 35، الباب 6 من أبواب مقدمات العبادات، الحديث 3.
(6) الوسائل 1: 34، الباب 5 من أبواب مقدمات العبادات، الحديث 5، إلا أن
فيه: " إن الله يحشر... ".
(7) الوسائل 1: 36، الباب 6 من أبواب مقدمات العبادات، الحديث 4.
(8) الوسائل 11: 113، الباب 67 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1، إلا أن
فيه بعد قوله " بسيفهما ": " على غير سنة ".
46

وما ورد في العقاب على فعل بعض المقدمات بقصد ترتب الحرام،
كغارس الخمر (1) والماشي لسعاية مؤمن (2).
وفحوى ما دل على أن الرضا بفعل كفعله (3)، مثل ما عن أمير
المؤمنين (عليه السلام): أن (4) " الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم، وعلى
الداخل إثمان: إثم الرضا، وإثم الدخول (5) " (6).
وما ورد في تفسير قوله تعالى: * (فلم قتلتموهم إن كنتم
صادقين) * (7): من أن نسبة القتل إلى المخاطبين مع تأخرهم عن القاتلين
بكثير، لرضاهم (8) بفعلهم (9).
ويؤيده: قوله تعالى: * (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين
آمنوا لهم عذاب أليم) * (10)، وقوله تعالى: * (إن تبدوا ما في أنفسكم أو

(1) الوسائل 12: 165، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4 و 5.
(2) انظر الوسائل 19: 9، الباب 2 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 3 و 5.
(3) في (ظ)، (ل)، (م) ونسخة بدل (ه‍): " كالفعل ".
(4) في (ل) و (م): " مثل قوله (عليه السلام): الراضي... ".
(5) لم ترد عبارة " وعلى الداخل - إلى - الدخول " في (م).
(6) نهج البلاغة: الحكمة 154، مع اختلاف، والوسائل 11: 411، الباب 5 من
أبواب الأمر والنهي، الحديث 12.
(7) آل عمران: 183.
(8) في (ت)، (ر) و (ظ): " رضاهم "، وفي (ه‍): " برضاهم ".
(9) الكافي 2: 409، الحديث 1، والوسائل 11: 509، الباب 39 من أبواب
الأمر والنهي، الحديث 6.
(10) النور: 19.
47

تخفوه يحاسبكم به الله) * (1)، وما ورد من أن: " من رضي بفعل فقد لزمه
وإن لم يفعل " (2)، وقوله تعالى: * (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين
لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا) * (3).
ويمكن حمل الأخبار الأول على من ارتدع عن قصده بنفسه، وحمل
الأخبار الأخيرة على من بقي على قصده حتى عجز عن الفعل لا باختياره.
أو يحمل الأول على من اكتفى بمجرد القصد، والثانية على من
اشتغل بعد القصد ببعض المقدمات، كما يشهد له حرمة الإعانة على
المحرم، حيث عممه بعض الأساطين (4) لإعانة نفسه على الحرام، ولعله
لتنقيح المناط، لا بالدلالة اللفظية.
ثم اعلم: أن (5) التجري على أقسام، يجمعها عدم المبالاة بالمعصية
أو قلتها (6).
أحدها: مجرد القصد إلى المعصية.
ثانيها: القصد مع الاشتغال بمقدماته.
وثالثها: القصد مع التلبس بما يعتقد كونه معصية.

(1) البقرة: 284.
(2) لم نعثر عليه بلفظه، ويدل عليه ما تقدم آنفا، وما في الوسائل 11: 410،
الباب 5 من أبواب الأمر والنهي، الحديثان 4 و 5.
(3) القصص: 83.
(4) هو كاشف الغطاء في شرحه على القواعد (مخطوط): الورقة 16.
(5) كذا في (ت) و (ه‍)، وفي (ظ)، (ل)، (م) ونسخة بدل (ص): " وقد علم مما
ذكرنا أن "، وفي (ص) و (ر): " ثم إن ".
(6) لم ترد عبارة " يجمعها عدم المبالاة بالمعصية أو قلتها " في (ظ) و (م).
48

ورابعها: التلبس بما يحتمل كونه معصية رجاء لتحقق المعصية به.
وخامسها: التلبس به لعدم المبالاة بمصادفة الحرام.
وسادسها (1): التلبس برجاء (2) أن لا يكون معصية، وخوف أن
يكون معصية.
ويشترط في صدق التجري في الثلاثة الأخيرة: عدم كون الجهل
عذرا عقليا أو شرعيا - كما في الشبهة المحصورة الوجوبية أو التحريمية -،
وإلا لم يتحقق احتمال المعصية وإن تحقق احتمال المخالفة للحكم الواقعي،
كما في موارد أصالة البراءة واستصحابها.
ثم إن الأقسام الستة كلها مشتركة في استحقاق الفاعل للمذمة من
حيث خبث ذاته وجرأته (3) وسوء سريرته، وإنما الكلام في تحقق العصيان
بالفعل المتحقق في ضمنه التجري. وعليك بالتأمل في كل من الأقسام.
قال الشهيد (قدس سره) في القواعد:
لا يؤثر نية المعصية عقابا ولا ذما ما لم يتلبس بها، وهو (4) ما (5)
ثبت في الأخبار العفو عنه (6).
ولو نوى المعصية وتلبس بما يراه معصية، فظهر خلافها، ففي

(1) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " والثاني، والثالث، والرابع، والخامس، والسادس ".
(2) في (ه‍) ومصححة (ت) بدل " التلبس برجاء ": " التلبس به رجاء ".
(3) لم ترد " وجرأته " في (ظ)، (ل) و (م).
(4) كذا في (ر)، (ص)، (ظ)، (ل)، (م) والمصدر، وفي (ت) و (ه‍): " وهي ".
(5) كذا في (ظ) والمصدر، وفي غيرهما: " مما ".
(6) الوسائل 1: 35، الباب 6 من أبواب مقدمة العبادات، الأحاديث 6، 8،
10، 20 و 21.
49

تأثير هذه النية نظر:
من أنها لما لم تصادف المعصية صارت كنية مجردة، وهو (1) غير
مؤاخذ بها.
ومن دلالتها على انتهاك الحرمة وجرأته على المعاصي. وقد ذكر
بعض الأصحاب (2): أنه لو شرب المباح تشبها بشرب المسكر فعل حراما،
ولعله ليس لمجرد النية، بل بانضمام فعل الجوارح.
ويتصور محل النظر في صور:
منها: ما لو وجد امرأة في منزل غيره، فظنها أجنبية فأصابها،
فبان أنها زوجته أو أمته.
ومنها: ما لو وطئ زوجته بظن أنها حائض، فبانت طاهرة.
ومنها: ما (3) لو هجم على طعام بيد غيره فأكله، فتبين أنه ملكه.
ومنها: ما (4) لو ذبح شاة بظنها للغير بقصد العدوان، فظهرت ملكه.
ومنها: ما إذا قتل نفسا بظن أنها معصومة، فبانت مهدورة.
وقد قال بعض العامة: نحكم بفسق المتعاطي ذلك، لدلالته على
عدم المبالاة بالمعاصي، ويعاقب في الآخرة - ما لم يتب - عقابا متوسطا
بين الصغيرة والكبيرة. وكلاهما تحكم وتخرص على الغيب (5)، انتهى.

(1) كذا في (ر)، (ص)، (ظ)، (ل)، (م) والمصدر، وفي (ت) و (ه‍): " وهي ".
(2) هو أبو الصلاح الحلبي في كتابه (الكافي في الفقه): 279.
(3) لم ترد " ما " في (ر)، (ظ)، (ل)، (م) والمصدر.
(4) لم ترد " ما " في (ر)، (ظ)، (م) والمصدر.
(5) القواعد والفوائد 1: 107 - 108.
50

الثاني
أنك قد عرفت (1): أنه لا فرق فيما يكون العلم فيه كاشفا محضا
بين أسباب العلم، وينسب إلى غير واحد من أصحابنا الأخباريين (2)
عدم الاعتماد على القطع الحاصل من المقدمات العقلية القطعية (3) الغير
الضرورية، لكثرة وقوع الاشتباه والغلط فيها، فلا يمكن الركون إلى
شئ منها.
فإن أرادوا عدم جواز الركون بعد حصول القطع، فلا يعقل ذلك
في مقام اعتبار العلم من حيث الكشف، ولو أمكن الحكم بعدم اعتباره
لجرى مثله في القطع الحاصل من المقدمات الشرعية طابق النعل بالنعل.
وإن أرادوا عدم جواز الخوض في المطالب العقلية لتحصيل
المطالب الشرعية، لكثرة وقوع الغلط والاشتباه فيها، فلو سلم ذلك
وأغمض عن المعارضة بكثرة ما يحصل من الخطأ في فهم المطالب من
الأدلة الشرعية، فله وجه، وحينئذ: فلو خاض فيها وحصل القطع بما

(1) راجع الصفحة 31.
(2) كالأمين الاسترآبادي، والمحدث الجزائري، والمحدث البحراني، كما سيأتي.
(3) لم ترد " القطعية " في (ظ)، (ل) و (م).
51

لا يوافق الحكم الواقعي لم يعذر في ذلك، لتقصيره في مقدمات التحصيل.
إلا أن الشأن في ثبوت كثرة الخطأ أزيد مما يقع في فهم المطالب من
الأدلة الشرعية.
وقد عثرت - بعد ما ذكرت هذا - على كلام يحكى عن المحدث
الاسترآبادي في فوائده المدنية، قال - في عداد ما استدل به على انحصار
الدليل في غير الضروريات الدينية في السماع عن الصادقين (عليهم السلام) - (1):
الدليل التاسع مبني على مقدمة دقيقة شريفة تفطنت لها بتوفيق الله
تعالى، وهي:
أن العلوم النظرية قسمان:
قسم ينتهي إلى مادة هي قريبة من الإحساس، ومن هذا القسم
علم الهندسة والحساب وأكثر أبواب المنطق، وهذا القسم لا يقع فيه
الخلاف بين العلماء والخطأ في نتائج الأفكار، والسبب في ذلك أن الخطأ
في الفكر إما من جهة الصورة أو من جهة المادة، والخطأ من جهة
الصورة لا يقع من العلماء، لأن معرفة الصورة من الأمور الواضحة عند
الأذهان المستقيمة، والخطأ من جهة المادة لا يتصور في هذه العلوم،
لقرب المواد فيها إلى الإحساس.
وقسم ينتهي إلى مادة هي بعيدة عن الإحساس، ومن هذا القسم
الحكمة الإلهية والطبيعية وعلم الكلام وعلم أصول الفقه والمسائل النظرية
الفقهية وبعض القواعد المذكورة في كتب المنطق، ومن ثم وقع
الاختلافات والمشاجرات بين الفلاسفة في الحكمة الإلهية والطبيعية، وبين

(1) في (ر)، (ص)، (ل) و (م) زيادة: " قال ".
52

علماء الإسلام في أصول الفقه والمسائل الفقهية وعلم الكلام، وغير ذلك.
والسبب في ذلك: أن القواعد المنطقية إنما هي عاصمة من الخطأ
من جهة الصورة، لا من جهة المادة (1)، وليست في المنطق قاعدة بها
يعلم أن كل مادة مخصوصة داخلة في أي قسم من الأقسام، ومن
المعلوم امتناع وضع قاعدة تكفل بذلك.
ثم استظهر ببعض الوجوه تأييدا لما ذكره، وقال بعد ذلك:
فإن قلت: لا فرق في ذلك بين العقليات والشرعيات، والشاهد
على ذلك ما نشاهد من كثرة الاختلافات الواقعة بين أهل الشرع في
أصول الدين وفي الفروع الفقهية.
قلت: إنما نشأ ذلك من ضم مقدمة عقلية باطلة بالمقدمة النقلية
الظنية أو القطعية.
ومن الموضحات لما ذكرناه - من أنه ليس في المنطق قانون يعصم
عن الخطأ في مادة الفكر -: أن المشائيين ادعوا البداهة في أن تفريق
ماء كوز إلى كوزين إعدام لشخصه وإحداث لشخصين آخرين، وعلى
هذه المقدمة بنوا إثبات الهيولي، والإشراقيين ادعوا البداهة في أنه ليس
إعداما للشخص الأول (2) وإنما انعدمت صفة من صفاته، وهو الاتصال.
ثم قال:
إذا عرفت ما مهدناه من (3) الدقيقة الشريفة، فنقول:

(1) في (ر) والمصدر ونسخة بدل (ص) زيادة ما يلي: " إذ أقصى ما يستفاد من
المنطق في باب مواد الأقيسة تقسيم المواد على وجه كلي إلى أقسام ".
(2) في (ص) والمصدر زيادة: " وفي أن الشخص الأول باق ".
(3) في (ن)، (ر)، (ص) و (ه‍) زيادة: " المقدمة ".
53

إن تمسكنا بكلامهم (عليهم السلام) فقد عصمنا من الخطأ، وإن تمسكنا
بغيرهم لم نعصم عنه (1)، انتهى كلامه.
والمستفاد من كلامه: عدم حجية إدراكات العقل في غير
المحسوسات وما تكون مبادئه قريبة من الإحساس.
وقد استحسن ما ذكره - إذا لم يتوافق عليه العقول (2) - غير واحد
ممن تأخر عنه، منهم السيد المحدث الجزائري (قدس سره) في أوائل شرح
التهذيب على ما حكي عنه. قال بعد ذكر كلام المحدث المتقدم بطوله:
وتحقيق المقام يقتضي ما ذهب إليه. فإن قلت: قد عزلت العقل
عن الحكم في الأصول والفروع، فهل يبقى له حكم في مسألة من
المسائل؟
قلت: أما البديهيات فهي له وحده، وهو الحاكم فيها. وأما
النظريات: فإن وافقه النقل وحكم بحكمه قدم حكمه على النقل وحده،
وأما لو تعارض هو والنقلي (3) فلا شك عندنا في ترجيح النقل وعدم
الالتفات إلى ما حكم به العقل.
قال:
وهذا أصل يبتنى عليه مسائل كثيرة، ثم ذكر جملة من المسائل

(1) الفوائد المدنية: 129 - 131.
(2) كذا في (ص)، (ل) و (م)، ولم ترد عبارة " إذا لم يتوافق عليه العقول " في
(ه‍)، وشطب عليها في (ت)، ووردت في (ر) قبل قوله: " وقد استحسن "، وفي
نسخة بدل (ص) بدل " العقول ": " النقل ".
(3) كذا في (ت)، (ر)، (ظ) ونسخة بدل (ص)، وفي (ص)، (ه‍) و (م): " تعارضا ".
54

المتفرعة (1).
أقول: لا يحضرني شرح التهذيب حتى الاحظ ما فرع على ذلك،
فليت شعري! إذا فرض حكم العقل على وجه القطع بشئ، كيف يجوز
حصول القطع أو الظن من الدليل النقلي عل خلافه؟ وكذا لو فرض
حصول القطع من الدليل النقلي، كيف يجوز حكم العقل بخلافه على وجه
القطع؟
وممن وافقهما على ذلك في الجملة: المحدث البحراني في مقدمات
الحدائق، حيث نقل كلاما للسيد المتقدم في هذا المقام واستحسنه، إلا
أنه صرح بحجية العقل الفطري الصحيح، وحكم بمطابقته للشرع ومطابقة
الشرع له. ثم قال:
لا مدخل للعقل في شئ من الأحكام الفقهية من عبادات
وغيرها، ولا سبيل إليها إلا السماع عن المعصوم (عليه السلام)، لقصور العقل
المذكور عن الاطلاع عليها. ثم قال:
نعم، يبقى الكلام بالنسبة إلى ما لا يتوقف (2) على التوقيف، فنقول:
إن كان الدليل العقلي المتعلق بذلك بديهيا ظاهر البداهة - مثل:
الواحد نصف الاثنين - فلا ريب في صحة العمل به، وإلا:
فإن لم يعارضه دليل عقلي ولا نقلي فكذلك.
وإن عارضه دليل عقلي آخر: فإن تأيد أحدهما بنقلي كان

(1) شرح التهذيب (مخطوط): 47.
(2) في (ص) والمصدر: " يتوقف "، وما أثبتناه مطابق لسائر النسخ والدرر النجفية
لصاحب الحدائق، انظر الدرر النجفية: 147 - 148.
55

الترجيح له (1)، وإلا فإشكال.
وإن عارضه دليل نقلي: فإن تأيد ذلك العقلي بدليل نقلي كان
الترجيح للعقلي - إلا أن هذا في الحقيقة تعارض في النقليات -
وإلا فالترجيح للنقلي، وفاقا للسيد المحدث المتقدم ذكره، وخلافا
للأكثر.
هذا بالنسبة إلى العقلي بقول مطلق، أما لو أريد به المعنى الأخص،
وهو الفطري الخالي عن شوائب الأوهام الذي هو حجة من حجج
الملك العلام - وإن شذ وجوده في الأنام - ففي ترجيح النقلي عليه
إشكال (2)، انتهى.
ولا أدري كيف جعل الدليل النقلي في الأحكام النظرية مقدما
على ما هو في البداهة من قبيل " الواحد نصف الاثنين "، مع أن
ضروريات الدين والمذهب لم يزد في البداهة على ذلك؟! (3)
والعجب مما ذكره في الترجيح عند تعارض العقل والنقل، كيف
يتصور الترجيح في القطعيين، وأي دليل على الترجيح المذكور؟!
وأعجب من ذلك: الاستشكال في تعارض العقليين من دون

(1) كذا في (ل)، (م) و (ه‍)، وفي (ر) و (ص) بدل " له ": " للمتأيد بالدليل
النقلي "، وفي (ت) هكذا: " له، للتأييد النقلي "، وفي نسخة بدل (ه‍) زيادة:
" للتأيد بالدليل النقلي ".
(2) الحدائق 1: 126 - 133.
(3) لم ترد عبارة " ولا أدري - إلى - على ذلك " في (ه‍) و (ت)، وكتب عليها في
(ص): " زائد ".
56

ترجيح، مع أنه لا إشكال في تساقطهما (1)، و (2) في تقديم العقلي الفطري
الخالي عن شوائب الأوهام على الدليل النقلي (3)، مع أن العلم بوجود (4)
الصانع جل ذكره إما أن يحصل من هذا العقل الفطري، أو مما دونه
من العقليات البديهية، بل النظريات المنتهية إلى البداهة.
والذي يقتضيه النظر - وفاقا لأكثر أهل النظر - أنه:
كلما حصل القطع من دليل عقلي فلا يجوز أن يعارضه دليل
نقلي، وإن وجد ما ظاهره المعارضة فلا بد من تأويله إن لم يمكن
طرحه.
وكلما حصل القطع من دليل نقلي - مثل القطع الحاصل من إجماع
جميع الشرائع على حدوث العالم زمانا - فلا يجوز أن يحصل القطع على
خلافه من دليل عقلي، مثل استحالة تخلف الأثر عن المؤثر، ولو حصل
منه صورة برهان كانت شبهة في مقابلة البديهة، لكن هذا لا يتأتى في
العقل (5) البديهي من قبيل: " الواحد نصف الاثنين "، ولا في (6) الفطري (7)

(1) لم ترد عبارة " في تعارض - إلى - تساقطهما و " في (ظ) و (م).
(2) في (ت) و (ه‍) زيادة: " كذا الاستشكال ".
(3) وردت في (ت)، (ر) و (ه‍) بدل عبارة " في تقديم العقلي - إلى - النقلي "
عبارة: " في تقديم النقلي على العقلي الفطري الخالي عن شوائب الأوهام ".
(4) في (ل) بدل " بوجود ": " بصفات ".
(5) في (ت) و (ص): " العقلي ".
(6) لم ترد عبارة " البديهي - إلى - ولا في " في (ه‍).
(7) ورد في (ت) بدل عبارة " العقل البديهي - إلى - الفطري " عبارة: " العقلي
البديهي أو العقل الفطري ".
57

الخالي عن شوائب الأوهام، فلا بد في مواردهما (1) من التزام عدم حصول
القطع من النقل على خلافه، لأن الأدلة القطعية النظرية في النقليات
مضبوطة محصورة ليس فيها شئ يصادم العقل (2) البديهي أو الفطري.
فإن قلت: لعل نظر هؤلاء في ذلك (3) إلى ما يستفاد من الأخبار
- مثل قولهم (عليهم السلام): " حرام عليكم أن تقولوا بشئ ما لم تسمعوه
منا " (4)، وقولهم (عليهم السلام): " لو أن رجلا قام ليله، وصام نهاره، وحج
دهره، وتصدق بجميع ماله، ولم يعرف ولاية ولي الله، فيكون أعماله
بدلالته فيواليه، ما كان له على الله ثواب " (5)، وقولهم (عليهم السلام): " من دان
الله بغير سماع من صادق فهو كذا وكذا... " (6)، إلى غير ذلك -: من أن
الواجب علينا هو امتثال أحكام الله تعالى التي بلغها حججه (عليهم السلام)،
فكل حكم لم يكن الحجة واسطة في تبليغه لم يجب امتثاله، بل يكون
من قبيل: " اسكتوا عما سكت الله عنه (7) " (8)، فإن معنى سكوته عنه

(1) في (ظ)، (ل) و (م): " مواردها " وفي (ه‍): " موارده ".
(2) في (ص): " العقلي ".
(3) لم ترد " في ذلك " في (ظ)، (ل) و (م).
(4) الوسائل 18: 47، الباب 7 من أبواب صفات القاضي، الحديث 25، وفيه:
" شر " بدل " حرام ".
(5) الوسائل 1: 91، الباب 29 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 2.
(6) الوسائل 18: 51، الباب 7 من أبواب صفات القاضي، الحديث 37.
(7) لم ترد " عنه " في (ت)، (ل) و (ه‍).
(8) لم نعثر عليه بعينه، نعم جاء في نهج البلاغة هكذا: " وسكت عن أشياء ولم
يدعها نسيانا فلا تتكلفوها "، نهج البلاغة، الحكمة: 105.
58

عدم أمر أوليائه بتبليغه، وحينئذ فالحكم المستكشف (1) بغير واسطة
الحجة ملغى (2) في نظر الشارع وإن كان مطابقا للواقع، كما يشهد به
تصريح الإمام (عليه السلام) بنفي الثواب على التصدق بجميع المال، مع القطع
بكونه محبوبا ومرضيا عند الله.
ووجه الاستشكال في تقديم النقلي على العقلي (3) الفطري السليم (4):
ما ورد من النقل المتواتر على حجية العقل، وأنه حجة باطنة (5)، وأنه
مما (6) يعبد به الرحمن ويكتسب به الجنان (7)، ونحوها مما يستفاد منه
كون العقل السليم أيضا حجة من الحجج، فالحكم المستكشف به حكم
بلغه الرسول الباطني، الذي هو شرع من داخل، كما أن الشرع عقل
من خارج (8).
ومما يشير إلى ما ذكرنا من قبل هؤلاء: ما ذكره السيد
الصدر (رحمه الله) في شرح الوافية - في جملة كلام له في حكم ما يستقل به
العقل - ما لفظه:

(1) كذا في (م)، وفي غيرها: " المنكشف ".
(2) في (ت)، (ظ) و (م): " يلغى ".
(3) في (ر) و (ه‍): " العقل ".
(4) ورد في (ظ)، (ل) و (م) بدل عبارة " النقلي على العقلي الفطري السليم "
عبارة: " العقل الفطري السليم على الدليل النقلي ".
(5) كذا في (ر) ومصححة (م)، وفي غيرهما: " باطنية ".
(6) في (ل): " ما ".
(7) انظر الكافي 1: 16 و 11، الحديث 12 و 3 من كتاب العقل والجهل.
(8) الكافي 1: 16، الحديث 12، والبحار 1: 137، الحديث 4.
59

إن المعلوم هو أنه يجب فعل شئ أو تركه (1) أو لا يجب إذا
حصل الظن أو القطع بوجوبه أو حرمته أو غيرهما من جهة نقل قول
المعصوم (عليه السلام) أو فعله أو تقريره، لا أنه يجب فعله أو تركه أو لا يجب
مع حصولهما من أي طريق كان (2)، انتهى موضع الحاجة.
قلت:
أولا: نمنع مدخلية توسط تبليغ الحجة في وجوب إطاعة حكم
الله سبحانه، كيف! والعقل بعد ما عرف أن الله تعالى لا يرضى بترك
الشئ الفلاني، وعلم بوجوب إطاعة الله، لم يحتج ذلك إلى توسط
مبلغ.
ودعوى: استفادة ذلك من الأخبار، ممنوعة، فإن المقصود من
أمثال الخبر المذكور عدم جواز الاستبداد في الأحكام (3) الشرعية بالعقول
الناقصة الظنية - على ما كان متعارفا في ذلك الزمان من العمل بالأقيسة
والاستحسانات - من غير مراجعة حجج الله، بل في مقابلهم (عليهم السلام) (4)،
وإلا فإدراك العقل القطعي للحكم المخالف للدليل النقلي على وجه
لا يمكن الجمع بينهما (5) في غاية الندرة، بل لا نعرف وجوده، فلا ينبغي

(1) لم ترد " أو تركه " في (ل)، (م) والمصدر.
(2) شرح الوافية (مخطوط): 215.
(3) كذا في (ت)، (م) و (ه‍)، وفي غيرها: " بالأحكام ".
(4) لم ترد عبارة " من غير مراجعة حجج الله، بل في مقابلهم (عليهم السلام) " في (ظ)،
(ل) و (م).
(5) ورد في (ظ)، (ل) و (م) بدل عبارة " القطعي - إلى - بينهما " العبارة التالية:
" البديهي لحكم شرعي نظري ".
60

الاهتمام به في هذه الأخبار الكثيرة، مع أن ظاهرها ينفي حكومة العقل
ولو مع عدم المعارض (1). وعلى ما ذكرنا يحمل ما ورد من: " أن دين
الله لا يصاب بالعقول " (2).
وأما نفي الثواب على التصدق مع عدم كون العمل (3) بدلالة ولي الله،
فلو أبقي على ظاهره دل على عدم الاعتبار بالعقل الفطري الخالي عن
شوائب الأوهام، مع اعترافه بأنه حجة من حجج الملك العلام، فلا بد
من حمله على التصدقات الغير المقبولة، مثل التصدق على المخالفين لأجل
تدينهم بذلك الدين الفاسد - كما هو الغالب في تصدق المخالف على المخالف،
كما في تصدقنا على فقراء الشيعة، لأجل محبتهم لأمير المؤمنين (عليه السلام)
وبغضهم لأعدائه -، أو على أن المراد حبط ثواب التصدق، من أجل
عدم المعرفة لولي الله، أو على غير ذلك.
وثانيا: سلمنا مدخلية تبليغ الحجة في وجوب الإطاعة، لكنا إذا
علمنا إجمالا بأن حكم الواقعة الفلانية لعموم الابتلاء بها قد صدر يقينا
من الحجة - مضافا إلى ما ورد من قوله (صلى الله عليه وآله) في خطبة حجة الوداع (4):
" معاشر الناس ما من شئ يقربكم إلى الجنة ويباعدكم عن النار إلا
أمرتكم به، وما من شئ يقربكم إلى النار ويباعدكم عن الجنة إلا وقد

(1) لم ترد عبارة " مع أن ظاهرها - إلى - المعارض " في (ظ)، (ل) و (م).
(2) كمال الدين: 324، الحديث 9، وعنه في البحار 2: 303، الحديث 41،
وفيه: " بالعقول الناقصة ".
(3) في غير (م): " العمل به ".
(4) لم ترد عبارة " في خطبة حجة الوداع " في (ظ) و (م).
61

نهيتكم عنه " (1) - ثم أدركنا ذلك الحكم إما بالعقل المستقل وإما بواسطة
مقدمة عقلية، نجزم من ذلك بأن ما استكشفناه بعقولنا صادر عن الحجة
صلوات الله عليه، فيكون الإطاعة بواسطة الحجة.
إلا أن يدعى: أن الأخبار المتقدمة وأدلة وجوب الرجوع إلى
الأئمة صلوات الله عليهم أجمعين تدل على مدخلية تبليغ الحجة وبيانه
في طريق الحكم، وأن كل حكم لم يعلم من طريق السماع عنهم (عليهم السلام)
ولو بالواسطة فهو غير واجب الإطاعة، وحينئذ فلا يجدي مطابقة الحكم
المدرك لما صدر عن الحجة (عليه السلام).
لكن قد عرفت عدم دلالة الأخبار (2)، ومع تسليم ظهورها فهو
أيضا من باب تعارض النقل الظني مع العقل القطعي، ولذلك لا فائدة
مهمة في هذه المسألة، إذ بعد ما قطع العقل بحكم وقطع بعدم رضا الله
جل ذكره بمخالفته، فلا يعقل ترك العمل بذلك ما دام هذا القطع باقيا،
فكل ما دل على خلاف ذلك فمؤول أو مطروح.
نعم، الإنصاف أن الركون إلى العقل فيما يتعلق بإدراك مناطات
الأحكام لينتقل منها إلى إدراك نفس الأحكام، موجب للوقوع في
الخطأ كثيرا في نفس الأمر، وإن لم يحتمل ذلك عند المدرك،
كما يدل عليه الأخبار الكثيرة الواردة بمضمون: " أن دين الله لا
يصاب بالعقول " (3)، و " أنه لا شئ أبعد عن دين الله من عقول

(1) الوسائل 12: 27، الباب 12 من أبواب مقدمات التجارة، الحديث 2.
(2) راجع الصفحة 60.
(3) تقدم الحديث في الصفحة السابقة.
62

الناس " (1).
وأوضح من ذلك كله: رواية أبان بن تغلب عن الصادق (عليه السلام):
" قال: قلت: رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة، كم فيها من الدية؟
قال: عشر من الإبل. قال: قلت: قطع إصبعين؟ قال: عشرون. قلت:
قطع ثلاثا؟ قال: ثلاثون. قلت: قطع أربعا؟ قال: عشرون. قلت:
سبحان الله! يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون، ويقطع أربعا فيكون عليه
عشرون؟! كان يبلغنا هذا ونحن بالعراق، فقلنا: إن الذي جاء به
شيطان! قال (عليه السلام): مهلا يا أبان، هذا حكم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إن المرأة
تعاقل الرجل إلى ثلث الدية، فإذا بلغت الثلث رجعت (2) إلى النصف،
يا أبان، إنك أخذتني بالقياس، والسنة إذا قيست محق الدين " (3).
وهي وإن كانت ظاهرة في توبيخ أبان على رد الرواية الظنية
- التي سمعها في العراق - بمجرد استقلال عقله بخلافه، أو على تعجبه مما
حكم به الإمام (عليه السلام)، من جهة مخالفته لمقتضى القياس (4)، إلا أن مرجع
الكل إلى التوبيخ على مراجعة العقل في استنباط الأحكام، فهو توبيخ
على المقدمات المفضية إلى مخالفة الواقع.

(1) لم نعثر على هذا المضمون في المجاميع الحديثية، نعم ورد في الوسائل ما يقرب
منه، انظر الوسائل 18: 149، الباب 13 من أبواب صفات القاضي، الحديث
69 و 73.
(2) كذا في المصادر الحديثية، وفي النسخ: " بلغ الثلث رجع ".
(3) الوسائل 19: 268، الباب 44 من أبواب ديات الأعضاء، الحديث الأول.
(4) في (ظ) و (م) بدل " لمقتضى القياس ": " للقياس ".
63

وقد أشرنا هنا وفي أول المسألة (1) إلى: عدم جواز الخوض
لاستكشاف الأحكام الدينية، في المطالب العقلية، والاستعانة بها في
تحصيل مناط الحكم والانتقال منه إليه على طريق اللم، لأن انس
الذهن بها يوجب عدم حصول الوثوق بما يصل إليه من الأحكام
التوقيفية، فقد يصير منشأ لطرح الأمارات النقلية الظنية، لعدم حصول
الظن له منها بالحكم.
وأوجب من ذلك: ترك الخوض في المطالب العقلية النظرية
لإدراك ما يتعلق بأصول الدين، فإنه تعريض للهلاك الدائم والعذاب
الخالد، وقد أشير إلى ذلك عند النهي عن الخوض في مسألة القضاء
والقدر، وعند نهي بعض أصحابهم صلوات الله عليهم عن المجادلة في
المسائل الكلامية (2).
لكن (3) الظاهر من بعض تلك الأخبار: أن الوجه في النهي عن
الأخير عدم الاطمئنان بمهارة الشخص المنهي في المجادلة، فيصير مفحما
عند المخالفين، ويوجب ذلك وهن المطالب الحقة في نظر أهل الخلاف (4).

(1) انظر الصفحة 51.
(2) انظر التوحيد، للشيخ الصدوق: 365، الباب 60 (باب القضاء والقدر والفتنة)،
الحديث 3، والصفحة: 454، الباب 67 (باب النهي عن الكلام والجدال والمراء
في الله عز وجل)، وانظر البحار 5: 110، الحديث 35، و 3: 257، باب
النهي عن التفكر في ذات الله والخوض في مسائل التوحيد.
(3) في (ت) و (ه‍): " ولكن ".
(4) انظر البحار 2: 125، الحديث 2.
64

الثالث
قد اشتهر في ألسنة المعاصرين: أن قطع القطاع لا اعتبار به.
ولعل الأصل في ذلك ما صرح به كاشف الغطاء (قدس سره) - بعد الحكم
بأن كثير الشك لا اعتبار بشكه - قال:
وكذا من خرج عن العادة في قطعه أو (1) في ظنه، فيلغو اعتبارهما
في حقه (2)، انتهى.
أقول: أما عدم اعتبار ظن من خرج عن العادة في ظنه،
فلأن أدلة اعتبار الظن - في مقام يعتبر فيه - مختصة بالظن الحاصل
من الأسباب التي يتعارف حصول الظن منها لمتعارف الناس لو وجدت
تلك الأسباب عندهم على النحو الذي وجد عند هذا الشخص، فالحاصل
من غيرها يساوي الشك في الحكم.
وأما قطع من خرج قطعه عن العادة: فإن أريد بعدم اعتباره
عدم اعتباره في الأحكام التي يكون القطع موضوعا لها - كقبول شهادته

(1) في (ت) والمصدر: " وفي ".
(2) كشف الغطاء: 64.
65

وفتواه ونحو ذلك - فهو حق، لأن أدلة اعتبار العلم في هذه المقامات
لا تشمل هذا قطعا، لكن ظاهر كلام من ذكره في سياق كثير الشك
إرادة غير هذا القسم.
وإن أريد (1) عدم اعتباره في مقامات يعتبر القطع فيها من حيث
الكاشفية والطريقية إلى الواقع:
فإن أريد بذلك أنه حين قطعه كالشاك، فلا شك في أن أحكام
الشاك وغير العالم لا تجري في حقه، وكيف يحكم على القاطع بالتكليف
بالرجوع إلى ما دل على عدم الوجوب عند عدم العلم، والقاطع بأنه
صلى ثلاثا بالبناء على أنه صلى أربعا، ونحو ذلك.
وإن أريد بذلك وجوب ردعه عن قطعه وتنزيله (2) إلى الشك، أو
تنبيهه على مرضه ليرتدع بنفسه، ولو بأن يقال له: إن الله سبحانه لا
يريد منك الواقع - لو فرض عدم تفطنه لقطعه بأن الله يريد الواقع منه
ومن كل أحد - فهو حق، لكنه يدخل في باب الإرشاد، ولا يختص
بالقطاع، بل بكل من قطع بما يقطع بخطأه فيه من الأحكام الشرعية
والموضوعات الخارجية المتعلقة بحفظ النفوس والأعراض، بل الأموال في
الجملة، وأما في ما عدا ذلك مما يتعلق بحقوق الله سبحانه، فلا دليل
على وجوب الردع في القطاع، كما لا دليل عليه في غيره.
ولو بني على وجوب ذلك في حقوق الله سبحانه من باب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر - كما هو ظاهر بعض النصوص والفتاوى -

(1) في (ر) زيادة: " به ".
(2) في (ت) و (ه‍): " بتنزيله "، وفي (ل): " وتنزله ".
66

لم يفرق أيضا بين القطاع وغيره.
وإن أريد بذلك أنه بعد انكشاف الواقع لا يجزي ما أتى به على
طبق قطعه، فهو أيضا حق في الجملة، لأن المكلف إن كان تكليفه حين
العمل مجرد الواقع من دون مدخلية للاعتقاد، فالمأتي به المخالف للواقع
لا يجزي عن الواقع، سواء القطاع وغيره. وإن كان للاعتقاد مدخل فيه
- كما في أمر الشارع بالصلاة إلى ما يعتقد كونها قبلة - فإن قضية هذا
كفاية القطع المتعارف، لا قطع القطاع، فيجب عليه الإعادة وإن لم تجب
على غيره.
ثم إن بعض المعاصرين (1) وجه الحكم بعدم اعتبار قطع القطاع
- بعد تقييده بما إذا علم القطاع أو احتمل أن يكون حجية قطعه
مشروطة بعدم كونه قطاعا -: بأنه يشترط في حجية القطع عدم منع
الشارع عنه وإن كان العقل أيضا قد يقطع بعدم المنع، إلا أنه إذا
احتمل المنع يحكم بحجية القطع ظاهرا ما لم يثبت المنع.
وأنت خبير بأنه يكفي في فساد ذلك عدم تصور القطع بشئ
وعدم ترتيب آثار ذلك الشئ عليه مع فرض كون الآثار آثارا له.
والعجب أن المعاصر مثل لذلك بما إذا قال المولى لعبده: لا تعتمد
في معرفة أوامري على ما تقطع به من قبل عقلك، أو يؤدي إليه
حدسك، بل اقتصر على ما يصل إليك مني بطريق المشافهة أو
المراسلة (2). وفساده يظهر مما سبق من أول المسألة إلى هنا.

(1) هو صاحب الفصول في الفصول: 343.
(2) كذا في (م)، وفي غيرها: " والمراسلة ".
67

الرابع
أن المعلوم إجمالا هل هو كالمعلوم بالتفصيل في الاعتبار، أم لا؟
والكلام فيه يقع:
تارة في اعتباره من حيث إثبات التكليف به، وأن الحكم المعلوم
بالإجمال هل هو كالمعلوم بالتفصيل في التنجز على المكلف، أم هو
كالمجهول رأسا؟
وأخرى في أنه بعدما ثبت التكليف بالعلم التفصيلي أو الإجمالي
المعتبر، فهل يكتفى في امتثاله بالموافقة الإجمالية ولو مع تيسر العلم
التفصيلي، أم لا يكتفى به إلا مع تعذر العلم التفصيلي، فلا يجوز إكرام
شخصين أحدهما زيد مع التمكن من معرفة زيد بالتفصيل، ولا فعل
الصلاتين في ثوبين مشتبهين مع إمكان الصلاة في ثوب طاهر؟
والكلام (1) من الجهة الأولى يقع من جهتين، لأن اعتبار العلم
الإجمالي له مرتبتان:
الأولى: حرمة المخالفة القطعية.

(1) في (ص) و (ه‍) زيادة: " فيه ".
69

والثانية: وجوب الموافقة القطعية.
والمتكفل للتكلم في المرتبة الثانية هي مسألة البراءة والاشتغال
عند الشك في المكلف به، فالمقصود في المقام الأول التكلم في المرتبة
الأولى.
70

[المقام الثاني] (1)
ولنقدم الكلام في المقام الثاني (2)، وهو كفاية العلم الإجمالي في
الامتثال، فنقول:
مقتضى القاعدة: جواز الاقتصار في الامتثال بالعلم (3) الإجمالي
بإتيان المكلف به، أما فيما لا يحتاج سقوط التكليف فيه إلى قصد
الإطاعة ففي غاية الوضوح، وأما فيما يحتاج إلى قصد الإطاعة، فالظاهر
أيضا تحقق الإطاعة إذا قصد الإتيان بشيئين يقطع بكون أحدهما المأمور
به.
ودعوى: أن العلم بكون المأتي به مقربا معتبر حين الإتيان به
ولا يكفي العلم بعده بإتيانه، ممنوعة، إذ لا شاهد لها بعد تحقق الإطاعة
بغير ذلك أيضا.
فيجوز لمن تمكن من تحصيل العلم التفصيلي بأداء العبادات العمل
بالاحتياط وترك تحصيل العلم التفصيلي.
لكن الظاهر - كما هو المحكي عن بعض (4) -: ثبوت الاتفاق على

(1) العنوان منا.
(2) وسيأتي البحث في المقام الأول في الصفحة 77.
(3) في (ه‍): " على العلم ".
(4) هو صاحب الحدائق، كما سيشير إليه المصنف (قدس سره) في مبحث الاشتغال 2:
409 - 410، انظر الحدائق 5: 401.
71

عدم جواز الاكتفاء بالاحتياط إذا توقف على تكرار العبادة، بل ظاهر
المحكي عن الحلي (1) - في مسألة الصلاة في الثوبين -: عدم جواز التكرار
للاحتياط حتى مع عدم التمكن من العلم التفصيلي، وإن كان ما ذكره
من التعميم (2) ممنوعا، وحينئذ (3) فلا يجوز لمن تمكن من تحصيل العلم
بالماء المطلق، أو بجهة القبلة، أو في ثوب طاهر، أن يتوضأ وضوءين
يقطع بوقوع أحدهما بالماء المطلق، أو يصلي إلى جهتين يقطع بكون
أحدهما القبلة، أو في ثوبين يقطع بطهارة أحدهما.
لكن الظاهر من صاحب المدارك (قدس سره): التأمل - بل ترجيح الجواز -
في المسألة الأخيرة (4)، ولعله متأمل في الكل، إذ لا خصوصية للمسألة
الأخيرة.
وأما إذا لم يتوقف الاحتياط على التكرار - كما إذا أتى بالصلاة
مع جميع ما يحتمل أن يكون جزءا - فالظاهر عدم ثبوت اتفاق على
المنع ووجوب تحصيل اليقين التفصيلي، لكن لا يبعد ذهاب المشهور إلى
ذلك، بل ظاهر كلام السيد الرضي (رحمه الله) - في مسألة الجاهل بوجوب
القصر - وظاهر تقرير أخيه السيد المرتضى (5) (رحمه الله) له: ثبوت الإجماع

(1) انظر السرائر 1: 185.
(2) " من التعميم " من (ر) و (ص).
(3) لم ترد عبارة " وإن كان - إلى - حينئذ " في (ظ)، (ل) و (م).
(4) المدارك 2: 356.
(5) لم نقف عليه، وحكاه الشهيدان في الذكرى (الطبعة الحجرية): 209، وروض
الجنان: 398 عن السيد المرتضى، نعم يوجد نظير هذا في أجوبة المسائل الرسية
الثانية للسيد المرتضى، انظر رسائل الشريف المرتضى 2: 383 - 384.
72

على بطلان صلاة من لا يعلم أحكامها.
هذا كله في تقديم العلم التفصيلي على الإجمالي.
وهل يلحق بالعلم التفصيلي الظن التفصيلي المعتبر، فيقدم على
العلم الإجمالي، أم لا؟
التحقيق أن يقال: إن الظن المذكور إن كان مما لم يثبت اعتباره
إلا من جهة دليل الانسداد - المعروف بين المتأخرين لإثبات حجية
الظن المطلق - فلا إشكال في جواز ترك تحصيله والأخذ بالاحتياط إذا
لم يتوقف على التكرار.
والعجب ممن (1) يعمل بالأمارات من باب الظن المطلق، ثم يذهب
إلى عدم صحة عبادة تارك طريق الاجتهاد والتقليد والأخذ بالاحتياط،
ولعل الشبهة من جهة اعتبار قصد الوجه.
ولإبطال هذه الشبهة، وإثبات صحة عبادة المحتاط محل آخر (2).
وأما لو توقف الاحتياط على التكرار، ففي جواز الأخذ به وترك
تحصيل الظن بتعيين المكلف به أو عدم الجواز، وجهان:
من أن العمل بالظن المطلق لم يثبت إلا جوازه وعدم وجوب
تقديم الاحتياط عليه، أما تقديمه على الاحتياط فلم يدل عليه دليل.
ومن أن الظاهر أن تكرار العبادة احتياطا في الشبهة الحكمية مع
ثبوت الطريق إلى الحكم الشرعي - ولو كان هو الظن المطلق - خلاف
السيرة المستمرة بين العلماء، مع أن جواز العمل بالظن إجماعي، فيكفي

(1) هو المحقق القمي، انظر القوانين 1: 440، و 2: 144.
(2) الكلام في ذلك موكول إلى الفقه، انظر كتاب الطهارة للمؤلف 2: 35.
73

في عدم جواز الاحتياط بالتكرار احتمال عدم جوازه واعتبار الاعتقاد
التفصيلي في الامتثال.
والحاصل: أن الأمر دائر بين تحصيل الاعتقاد التفصيلي ولو كان
ظنا، وبين تحصيل العلم بتحقق الإطاعة ولو إجمالا، فمع قطع النظر عن
الدليل الخارجي يكون الثاني مقدما على الأول في مقام الإطاعة، بحكم
العقل والعقلاء، لكن بعد العلم بجواز الأول والشك في جواز الثاني في
الشرعيات - من جهة منع جماعة من الأصحاب عن ذلك وإطلاقهم
اعتبار نية الوجه (1) - فالأحوط ترك ذلك وإن لم يكن واجبا، لأن نية
الوجه لو قلنا باعتباره (2) فلا نسلمه إلا مع العلم بالوجه أو الظن
الخاص، لا الظن المطلق الذي لم يثبت القائل به جوازه إلا بعدم
وجوب الاحتياط، لا بعدم جوازه، فكيف يعقل تقديمه على الاحتياط؟
وأما لو كان الظن مما ثبت اعتباره بالخصوص، فالظاهر أن
تقديمه على الاحتياط إذا لم يتوقف على التكرار مبني على اعتبار قصد
الوجه، وحيث قد رجحنا في مقامه (3) عدم اعتبار نية الوجه، فالأقوى
جواز ترك تحصيل الظن والأخذ بالاحتياط. ومن هنا يترجح القول
بصحة عبادة المقلد إذا أخذ بالاحتياط وترك التقليد، إلا أنه خلاف

(1) كالسيد ابن زهرة في الغنية: 53، والحلي في السرائر 1: 98، والمحقق في
الشرائع 1: 20 و 78، والعلامة في نهاية الإحكام 1: 29 و 447، والتذكرة
1: 140، والمحقق الثاني في جامع المقاصد 1: 201 وغيرهم.
(2) كذا في النسخ.
(3) راجع كتاب الصلاة 1: 268 - 270، وكتاب الطهارة 2: 39 - 45.
74

الاحتياط، من جهة وجود القول بالمنع من جماعة (1).
وإن توقف الاحتياط على التكرار فالظاهر - أيضا - جواز التكرار،
بل أولويته على الأخذ بالظن الخاص، لما تقدم (2): من أن تحصيل الواقع
بطريق العلم ولو إجمالا أولى من تحصيل الاعتقاد الظني به ولو كان
تفصيلا. وأدلة الظنون الخاصة إنما دلت على كفايتها عن الواقع، لا تعين (3)
العمل بها في مقام الامتثال.
إلا أن شبهة اعتبار نية الوجه - كما هو قول جماعة، بل المشهور
بين المتأخرين (4) - جعل (5) الاحتياط في خلاف ذلك، مضافا إلى ما
عرفت من مخالفة التكرار للسيرة المستمرة.
مع إمكان أن يقال: إنه إذا شك - بعد القطع بكون داعي الأمر
هو التعبد بالمأمور به، لا حصوله بأي وجه اتفق - في أن الداعي هو
التعبد بإيجاده ولو في ضمن أمرين أو أزيد، أو التعبد بخصوصه متميزا
عن غيره، فالأصل عدم سقوط الغرض الداعي إلا بالثاني، وهذا ليس
تقييدا في دليل تلك العبادة حتى يدفع بإطلاقه، كما لا يخفى.
وحينئذ: فلا ينبغي، بل لا يجوز ترك الاحتياط - في جميع موارد

(1) منهم: الشهيد الأول في الألفية والنفلية: 39، والشهيد الثاني في المقاصد
العلية: 32، وروض الجنان: 248.
(2) في الصفحة السابقة.
(3) كذا في (ر) و (م)، وفي غيرهما: " تعيين ".
(4) تقدمت الإشارة إليهم في الصفحة السابقة، الهامش (1).
(5) الأنسب: " جعلت "، لأن الضمير يعود إلى " شبهة ".
75

إرادة التكرار - بتحصيل الواقع أولا بظنه المعتبر، من التقليد أو الاجتهاد
بإعمال الظنون الخاصة أو المطلقة، وإتيان الواجب مع نية الوجه، ثم
الإتيان بالمحتمل الآخر بقصد القربة من جهة الاحتياط.
وتوهم: أن هذا قد يخالف الاحتياط، من جهة احتمال كون
الواجب ما أتى به بقصد القربة، فيكون قد أخل فيه بنية الوجوب.
مدفوع: بأن هذا المقدار من المخالفة للاحتياط مما لا بد منه، إذ
لو أتى به بنية الوجوب كان فاسدا قطعا، لعدم وجوبه ظاهرا على
المكلف بعد فرض الإتيان بما وجب عليه في ظنه المعتبر.
وإن شئت قلت: إن نية الوجه ساقطة فيما يؤتى به من باب
الاحتياط إجماعا حتى من القائلين باعتبار نية الوجه، لأن لازم قولهم
باعتبار نية الوجه في مقام الاحتياط عدم مشروعية الاحتياط وكونه
لغوا، ولا أظن أحدا يلتزم بذلك عدا السيد أبي المكارم في ظاهر
كلامه في الغنية في رد الاستدلال على كون الأمر للوجوب: ب‍: أنه
أحوط (1)، وسيأتي ذكره (2) عند الكلام على الاحتياط في طي مقدمات
دليل الانسداد (3).

(1) الغنية (الجوامع الفقهية): 463.
(2) انظر الصفحة 416 - 418.
(3) لم ترد عبارة " عدا السيد - إلى - الانسداد " في (ل)، ولم نعثر على كلام
للسيد في الموضع الذي أشار إليه المصنف، ويؤيده ما قاله في أوثق الوسائل:
" لا يذهب عليك: أنه لم يتعرض المصنف (رحمه الله) عند الكلام على الاحتياط في
مقدمات دليل الانسداد، للكلام على عدم مشروعية الاحتياط ولا لكلام السيد،
مع إطنابه الكلام ثمة في وجوب الاحتياط ومنعه " أوثق الوسائل: 44.
76

[المقام الأول] (1)
أما (2) المقام الأول وهو كفاية العلم الإجمالي في تنجز التكليف،
واعتباره كالتفصيلي، فقد عرفت (3): أن الكلام في اعتباره بمعنى وجوب
الموافقة القطعية وعدم كفاية الموافقة الاحتمالية راجع إلى مسألة البراءة
والاحتياط، والمقصود هنا بيان اعتباره في الجملة الذي أقل مرتبته (4)
حرمة المخالفة (5) القطعية، فنقول:
إن للعلم الإجمالي صورا كثيرة، لأن الإجمال الطارئ:
إما من جهة متعلق الحكم مع تبين نفس الحكم تفصيلا، كما لو
شككنا أن حكم الوجوب في يوم الجمعة يتعلق (6) بالظهر أو الجمعة،
وحكم الحرمة يتعلق بهذا الموضوع الخارجي من المشتبهين أو بذاك.
وإما من جهة نفس الحكم مع تبين موضوعه، كما لو شك في أن
هذا الموضوع المعلوم الكلي أو الجزئي يتعلق به الوجوب أو الحرمة.
وإما من جهة الحكم والمتعلق جميعا، مثل أن نعلم أن حكما من

(1) العنوان منا.
(2) في (ظ) و (م): " وأما ".
(3) راجع الصفحة 70.
(4) كذا في (م) ونسخة بدل (ص)، وفي غيرهما: " مراتبه ".
(5) في (ظ) و (م): " مخالفته ".
(6) في (ت)، (ل) و (ه‍): " متعلق ".
77

الوجوب والتحريم تعلق بأحد هذين الموضوعين.
ثم (1) الاشتباه في كل من الثلاثة:
إما من جهة الاشتباه في الخطاب الصادر عن الشارع، كما في
مثال الظهر والجمعة.
وإما من جهة اشتباه مصاديق متعلق ذلك الخطاب، كما في المثال
الثاني.
والاشتباه في هذا القسم: إما في المكلف به كما في الشبهة
المحصورة، وإما في المكلف.
وطرفا الشبهة في المكلف: إما أن يكونا احتمالين في مخاطب واحد
كما في الخنثى، وإما أن يكونا احتمالين في مخاطبين، كما في واجدي المني
في الثوب المشترك.
ولا بد قبل التعرض لبيان حكم الأقسام من التعرض لأمرين:
الأول (2): أنك قد عرفت في أول مسألة اعتبار العلم (3): أن
اعتباره قد يكون من باب محض الكشف والطريقية، وقد يكون من
باب الموضوعية بجعل الشارع.
والكلام هنا في الأول، إذ اعتبار العلم الإجمالي وعدمه في الثاني
تابع لدلالة ما دل على جعله موضوعا، فإن دل على كون العلم
التفصيلي داخلا في الموضوع - كما لو فرضنا أن الشارع لم يحكم بوجوب

(1) في (ص): " ثم إن ".
(2) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " أحدهما ".
(3) راجع الصفحة 30.
78

الاجتناب إلا عما علم تفصيلا نجاسته - فلا إشكال في عدم اعتبار
العلم الإجمالي بالنجاسة.
الثاني: أنه إذا تولد من العلم الإجمالي العلم التفصيلي بالحكم
الشرعي في مورد، وجب اتباعه وحرمت مخالفته، لما تقدم: من اعتبار
العلم التفصيلي من غير تقييد بحصوله من منشأ خاص، فلا فرق بين
من علم تفصيلا ببطلان صلاته بالحدث، أو بواحد مردد بين الحدث
والاستدبار، أو بين ترك ركن وفعل مبطل، أو بين فقد شرط من
شرائط صلاة نفسه وفقد شرط من شرائط صلاة إمامه - بناء على اعتبار
وجود شرائط الإمام في علم المأموم -، إلى غير ذلك.
وبالجملة: فلا فرق بين هذا العلم التفصيلي وبين غيره من العلوم
التفصيلية.
إلا أنه قد وقع (1) في الشرع موارد توهم خلاف ذلك:
منها: ما حكم به بعض (2) فيما إذا اختلفت الأمة على قولين ولم
يكن مع أحدهما دليل: من أنه يطرح القولان ويرجع إلى مقتضى
الأصل، فإن إطلاقه يشمل ما لو علمنا بمخالفة مقتضى الأصل للحكم
الواقعي المعلوم وجوده بين القولين، بل ظاهر كلام الشيخ (رحمه الله) القائل

(1) في (ت) ومصححة (ه‍): " ورد ".
(2) لم نقف على من حكم بذلك، نعم حكاه الشيخ في العدة 2: 636، والمحقق
في المعارج: 133، وتبعهما صاحبا المعالم والقوانين في المعالم: 179، والقوانين
1: 383، وقال المحقق النراقي: إنه الظاهر في بادئ النظر، انظر مناهج
الأحكام: 204.
79

بالتخيير (1): هو التخيير الواقعي المعلوم تفصيلا مخالفته لحكم الله الواقعي
في الواقعة.
ومنها: حكم بعض (2) بجواز ارتكاب كلا المشتبهين في الشبهة
المحصورة دفعة أو تدريجا، فإنه قد يؤدي إلى العلم التفصيلي بالحرمة
أو النجاسة، كما لو اشترى بالمشتبهين بالميتة جارية، فإنا نعلم تفصيلا
بطلان البيع في تمام الجارية، لكون بعض ثمنها ميتة، فنعلم تفصيلا بحرمة
وطئها، مع أن القائل بجواز الارتكاب لم يظهر من كلامه إخراج هذه
الصورة.
ومنها: حكم بعض (3) بصحة ائتمام أحد واجدي المني في الثوب
المشترك بينهما بالآخر، مع أن المأموم يعلم تفصيلا ببطلان صلاته من
جهة حدثه أو حدث إمامه.
ومنها: حكم الحاكم بتنصيف العين التي تداعاها رجلان، بحيث
يعلم صدق أحدهما وكذب الآخر، فإن لازم ذلك جواز شراء ثالث
للنصفين من كل منهما، مع أنه يعلم تفصيلا عدم انتقال تمام المال إليه
من مالكه الواقعي.

(1) العدة 2: 637.
(2) هو العلامة المجلسي في أربعينه (الصفحة 582)، على ما في القوانين 2: 27،
وسيجئ في مبحث الاشتغال (2: 225) نسبة ذلك إلى صاحب المدارك، انظر
المدارك 1: 108.
(3) وهو العلامة في التذكرة 1: 224، ونهاية الإحكام 1: 101، والتحرير 1:
12، والسيد العاملي في المدارك 1: 270.
80

ومنها: حكمهم فيما (1) لو كان لأحد درهم ولآخر (2) درهمان، فتلف
أحد الدراهم من عند الودعي: أن (3) لصاحب الاثنين واحدا ونصفا
وللآخر نصفا (4)، فإنه قد يتفق إفضاء ذلك إلى مخالفة تفصيلية، كما لو
أخذ الدرهم المشترك بينهما ثالث، فإنه يعلم تفصيلا بعدم انتقاله من
مالكه الواقعي إليه.
ومنها: ما لو أقر بعين لشخص ثم أقر بها لآخر (5)، فإنه يغرم
للثاني قيمة العين بعد دفعها إلى الأول، فإنه قد يؤدي ذلك إلى اجتماع
العين والقيمة عند واحد ويبيعهما (6) بثمن واحد، فيعلم عدم انتقال تمام
الثمن إليه، لكون بعض مثمنه مال المقر في الواقع.
ومنها: الحكم بانفساخ العقد المتنازع في تعيين ثمنه أو مثمنه على
وجه يقضى فيه بالتحالف، كما لو اختلفا في كون المبيع بالثمن المعين
عبدا أو جارية، فإن رد الثمن إلى المشتري بعد التحالف مخالف للعلم
التفصيلي بصيرورته ملك البايع ثمنا للعبد أو الجارية. وكذا لو اختلفا في
كون ثمن الجارية المعينة عشرة دنانير أو مائة درهم، فإن الحكم برد

(1) في (ظ)، (ل) و (م) بدل " فيما ": " بأنه ".
(2) في (ظ) و (م): " للآخر ".
(3) في (ت) و (ر): بأن.
(4) كما في الشرائع 2: 121، ونهاية الإحكام: 314، وقواعد الأحكام 1: 186،
والدروس 3: 333.
(5) كذا في (م)، وفي غيرها: " للآخر ".
(6) في (ظ) و (م): " بيعهما ".
81

الجارية مخالف للعلم التفصيلي بدخولها في ملك المشتري.
ومنها: حكم بعضهم (1) بأنه (2) لو قال أحدهما: بعتك الجارية بمائة،
وقال الآخر: وهبتني إياها: أنهما (3) يتحالفان وترد الجارية إلى صاحبها،
مع أنا نعلم تفصيلا بانتقالها عن ملك صاحبها إلى الآخر.
إلى غير ذلك من الموارد التي يقف عليها المتتبع.
فلا بد في هذه الموارد من التزام أحد أمور على سبيل منع الخلو:
الأول (4): كون العلم التفصيلي في كل من أطراف الشبهة موضوعا
للحكم، بأن يقال: إن الواجب الاجتناب عما علم كونه بالخصوص
بولا، فالمشتبهان طاهران في الواقع. وكذا المانع للصلاة الحدث
المعلوم صدوره تفصيلا من مكلف خاص، فالمأموم والإمام متطهران في
الواقع.
الثاني: أن الحكم الظاهري في حق كل أحد نافذ واقعا في حق
الآخر، بأن يقال: إن من كانت صلاته بحسب الظاهر صحيحة عند
نفسه، فللآخر أن يرتب عليها آثار الصحة الواقعية، فيجوز له الائتمام
به (5). وكذا من حل له أخذ الدار ممن وصل إليه نصفه، إذا لم يعلم

(1) في (ر)، (ص) و (ل) بدل " حكم بعضهم ": " الحكم ". انظر التذكرة 1:
576، وجامع المقاصد 4: 453، ومفتاح الكرامة 4: 766.
(2) في (ت) و (ه‍) بدل " بأنه ": " فيما ".
(3) في (ت) ومصححة (ه‍): " بأنهما ".
(4) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " أحدها ".
(5) لم ترد " به " في غير (ت)، (ر) و (ه‍).
82

كذبه في الدعوى - بأن استند إلى بينة، أو إقرار، أو اعتقاد من القرائن -
فإنه يملك هذا النصف في الواقع، وكذلك إذا اشترى النصف الآخر،
فيثبت ملكه للنصفين في الواقع. وكذا الأخذ ممن وصل إليه نصف الدرهم
في مسألة الصلح، و (1) مسألتي التحالف.
الثالث: أن يلتزم:
بتقييد الأحكام المذكورة بما إذا لم يفض إلى العلم التفصيلي
بالمخالفة، والمنع مما يستلزم المخالفة المعلومة تفصيلا، كمسألة اختلاف
الأمة على قولين.
وحمل أخذ المبيع في مسألتي التحالف على كونه تقاصا شرعيا
قهريا عما يدعيه من الثمن، أو انفساخ البيع بالتحالف من أصله، أو
من حينه.
وكون أخذ نصف الدرهم مصالحة قهرية.
وعليك بالتأمل في دفع الإشكال عن كل مورد بأحد الأمور
المذكورة، فإن اعتبار العلم التفصيلي بالحكم الواقعي وحرمة مخالفته مما
لا يقبل التخصيص بإجماع أو نحوه.
إذا عرفت هذا، فلنعد إلى حكم مخالفة العلم الإجمالي، فنقول:
مخالفة الحكم المعلوم بالإجمال يتصور على وجهين:
الأول (2): مخالفته من حيث الالتزام، كالالتزام بإباحة وطء المرأة
المرددة بين من حرم وطؤها بالحلف ومن وجب وطؤها به مع اتحاد

(1) في (ت) و (ه‍) زيادة: " كذا في ".
(2) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " أحدهما ".
83

زماني الوجوب والحرمة، وكالالتزام بإباحة موضوع كلي مردد أمره بين
الوجوب والتحريم مع عدم كون أحدهما المعين تعبديا يعتبر فيه قصد
الامتثال، فإن المخالفة في المثالين ليست (1) من حيث العمل، لأنه لا يخلو
من الفعل الموافق للوجوب والترك الموافق للحرمة، فلا قطع بالمخالفة إلا
من حيث الالتزام بإباحة الفعل.
الثاني: مخالفته من حيث العمل، كترك الأمرين اللذين يعلم
بوجوب أحدهما، وارتكاب فعلين يعلم بحرمة أحدهما، فإن المخالفة هنا
من حيث العمل.
وبعد ذلك، نقول (2):
أما المخالفة الغير العملية، فالظاهر جوازها في الشبهة الموضوعية
والحكمية معا، سواء كان الاشتباه والترديد بين حكمين لموضوع واحد
كالمثالين المتقدمين، أو بين حكمين لموضوعين، كطهارة البدن وبقاء
الحدث لمن توضأ غفلة بمائع مردد بين الماء والبول.
أما في الشبهة الموضوعية، فلأن الأصل في الشبهة الموضوعية إنما
يخرج مجراه عن موضوع التكليفين، فيقال: الأصل عدم تعلق الحلف
بوطء هذه وعدم تعلق الحلف بترك وطئها، فتخرج المرأة بذلك عن
موضوع حكمي التحريم والوجوب، فيحكم (3) بالإباحة، لأجل الخروج
عن موضوع الوجوب والحرمة، لا لأجل طرحهما. وكذا الكلام في

(1) كذا في (ت)، وفي غيرها: " ليس ".
(2) في غير (ت) و (ه‍): " فنقول ".
(3) في (ت)، (ص)، (ل) و (ه‍): " فنحكم ".
84

الحكم بطهارة البدن وبقاء الحدث في الوضوء بالمائع المردد.
وأما الشبهة الحكمية، فلأن الأصول الجارية فيها وإن لم تخرج
مجراها عن موضوع الحكم الواقعي، بل كانت منافية لنفس الحكم (1)
- كأصالة الإباحة مع العلم بالوجوب أو الحرمة، فإن الأصول في هذه
منافية لنفس الحكم الواقعي المعلوم إجمالا، لا مخرجة عن موضوعه - إلا
أن الحكم الواقعي المعلوم إجمالا لا يترتب عليه أثر إلا وجوب
الإطاعة وحرمة المعصية (2)، والمفروض أنه لا يلزم من إعمال الأصول
مخالفة عملية له ليتحقق المعصية.
ووجوب الالتزام بالحكم الواقعي مع قطع النظر عن العمل
غير ثابت، لأن الالتزام بالأحكام الفرعية إنما يجب مقدمة للعمل،
وليست كالأصول الاعتقادية يطلب فيها الالتزام والاعتقاد من حيث
الذات.
ولو فرض ثبوت الدليل - عقلا أو نقلا - على وجوب الالتزام
بحكم الله الواقعي، لم ينفع، لأن (3) الأصول تحكم في مجاريها بانتفاء
الحكم الواقعي، فهي - كالأصول في الشبهة الموضوعية - مخرجة لمجاريها
عن موضوع ذلك الحكم، أعني وجوب الأخذ (4) بحكم الله.

(1) في (ظ) و (م) زيادة: " الواقعي ".
(2) في (ظ) و (ه‍) ونسخة بدل (ص): " وجوب الموافقة وحرمة المخالفة ".
(3) وردت في (ل) و (م) بدل عبارة "... الواقعي لم ينفع لأن " عبارة: "... الواقعي
إلا أن "، نعم وردت العبارة في نسخة بدل (م) كما في المتن.
(4) في نسخة بدل (ص) بدل " الأخذ ": " الالتزام ".
85

هذا، ولكن التحقيق: أنه لو ثبت هذا التكليف - أعني وجوب
الأخذ بحكم الله والالتزام به (1) مع قطع النظر عن العمل - لم تجر
الأصول، لكونها موجبة للمخالفة العملية للخطاب التفصيلي أعني وجوب
الالتزام بحكم الله، وهو (2) غير جائز حتى في الشبهة الموضوعية - كما
سيجئ (3) - فيخرج عن المخالفة الغير العملية.
فالحق: منع فرض قيام الدليل على وجوب الالتزام بما جاء به
الشارع (4).
فالتحقيق (5): أن طرح (6) الحكم الواقعي ولو كان معلوما تفصيلا
ليس محرما إلا من حيث كونها معصية دل العقل على قبحها واستحقاق
العقاب بها (7)، فإذا فرض العلم تفصيلا بوجوب شئ (8) فلم يلتزم به
المكلف إلا أنه (9) فعله لا لداعي الوجوب، لم يكن عليه شئ. نعم، لو

(1) " به " من (ص) و (ل).
(2) كذا، والمناسب: " هي ".
(3) انظر الصفحة 93.
(4) لم ترد " فالحق - إلى - الشارع " في غير (ت) و (ه‍)، نعم وردت بدلها في (ر)
و (ص) عبارة " فالحق مع فرض عدم الدليل على وجوب الالتزام بما جاء به
الشارع على ما جاء به ".
(5) لم ترد " فالتحقيق " في (ر) و (ص).
(6) في (ر) ونسخة بدل (ص): " ترك ".
(7) في نسخة بدل (ص): " عليها ".
(8) كذا في (م)، وفي غيرها: " الشئ ".
(9) في (ر)، (ص) و (ل) بدل " إلا أنه ": " لكنه ".
86

اخذ في ذلك الفعل نية (1) القربة، فالإتيان به لا للوجوب مخالفة عملية
ومعصية، لترك المأمور به، ولذا قيدنا الوجوب والتحريم في صدر
المسألة (2) بغير ما علم كون أحدهما المعين تعبديا (3).
فإذا كان هذا حال العلم التفصيلي، فإذا علم إجمالا بحكم مردد
بين الحكمين، وفرضنا إجراء الأصل في نفي الحكمين اللذين علم بكون
أحدهما حكم الشارع، والمفروض أيضا عدم مخالفتهما (4) في العمل، فلا
معصية ولا قبح، بل وكذلك لو فرضنا عدم جريان الأصل، لما
عرفت من ثبوت ذلك في العلم التفصيلي (5).
فملخص الكلام: أن المخالفة من حيث الالتزام ليست مخالفة،
ومخالفة الأحكام الفرعية إنما هي في العمل، ولا عبرة بالالتزام
وعدمه.
ويمكن أن يقرر دليل الجواز بوجه أخصر، وهو: أنه لو وجب
الالتزام:
فإن كان بأحدهما المعين واقعا فهو تكليف من غير بيان،
ولا يلتزمه أحد (6).

(1) في (ت)، (ظ) و (م): " لو اخذ في ذلك، الفعل بنية ".
(2) راجع الصفحة 84.
(3) لم ترد عبارة " ولذا قيدنا - إلى - تعبديا " في (م).
(4) في (ت) و (ه‍): " مخالفته ".
(5) في (ت) زيادة العبارة التالية: " مع قطع النظر عن وجوب تصديق النبي (صلى الله عليه وآله) ".
(6) وردت في (ل) و (م) بدل عبارة " واقعا فهو - إلى - أحد " عبارة: " فلا
يلتزمه أحد، لأنه تكليف من غير بيان ".
87

وإن كان بأحدهما المخير فيه (1) فهذا لا يمكن أن يثبت بذلك
الخطاب الواقعي المجمل، فلا بد له من خطاب آخر عقلي أو نقلي (2)،
وهو - مع أنه لا دليل عليه - غير معقول، لأن الغرض من هذا الخطاب
المفروض كونه توصليا، حصول مضمونه - أعني إيقاع الفعل أو الترك
تخييرا - وهو حاصل من دون الخطاب التخييري، فيكون الخطاب طلبا
للحاصل، وهو محال.
إلا أن يقال: إن المدعي للخطاب التخييري إنما يدعي ثبوته بأن
يقصد منه التعبد بأحد الحكمين، لا مجرد حصول مضمون أحد الخطابين
الذي هو حاصل، فينحصر دفعه حينئذ بعدم (3) الدليل، فافهم (4).
وأما دليل (5) وجوب الالتزام بما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) فلا يثبت إلا
الالتزام بالحكم الواقعي على ما هو عليه، لا الالتزام بأحدهما تخييرا
عند الشك (6)، فافهم (7).

(1) في (ل): " بأحدهما على وجه التخيير "، ولم ترد في (م): " فيه ".
(2) لم ترد عبارة " عقلي أو نقلي " في (ر)، (ص) و (ظ).
(3) في (ت): " في عدم ".
(4) لم ترد " فافهم " في (ت)، (ر) و (ه‍).
(5) لم ترد " دليل " في (ت) و (ه‍).
(6) وردت في (ت) و (ه‍) بدل عبارة " تخييرا عند الشك ": " المخير ".
(7) وردت في (ل) و (م) بدل عبارة " المجمل، فلا بد له من خطاب آخر - إلى -
فافهم " العبارة التالية: " المعين المردد بين الأمر والنهي، فلا بد له من خطاب
آخر عقلي أو نقلي، والمفروض عدم ثبوته.
مع أن ذلك الخطاب حيث فرض كونه توصليا، فالغرض منه - وهو واحد
من الفعل والترك - حاصل بدونه، فهو محال، لأنه طلب للحاصل، إلا أن يلتزم
بأن الخطاب التخييري المدعى ثبوته ليس الغرض منه ما هو حاصل بدونه، بل
المقصود منه صدور واحد من الفعل أو الترك مع الالتزام بالحكم، لا على وجه
عدم المبالاة والتقييد بالمعلوم إجمالا من الشارع، فافهم ".
وبين النسختين اختلاف يسير، وما أثبتناه مطابق لنسخة (م).
88

ولكن الظاهر من جماعة من الأصحاب (1) - في مسألة الإجماع
المركب -: إطلاق القول بالمنع عن الرجوع إلى حكم علم عدم كونه
حكم الإمام (عليه السلام) في الواقع، وعليه بنوا عدم جواز الفصل فيما علم
كون الفصل فيه طرحا لقول الإمام (عليه السلام).
نعم، صرح غير واحد من المعاصرين (2) - في تلك المسألة -
فيما إذا اقتضى الأصلان حكمين يعلم بمخالفة أحدهما للواقع، بجواز
العمل بكليهما، وقاسه بعضهم (3) على العمل بالأصلين المتنافيين في
الموضوعات.
لكن القياس في غير محله، لما تقدم: من أن الأصول في
الموضوعات حاكمة على أدلة التكليف، فإن البناء على عدم تحريم المرأة
لأجل البناء - بحكم الأصل - على عدم تعلق الحلف بترك وطئها، فهي

(1) كالمحقق في المعارج: 131، وصاحب المعالم في المعالم: 178، والمحقق القمي في
القوانين 1: 378، وصاحب الفصول في الفصول: 256، والفاضل النراقي في
مناهج الأحكام: 202.
(2) منهم صاحب الفصول في الفصول: 256 - 257، والفاضل النراقي في
المناهج: 204.
(3) هو صاحب الفصول، نفس المصدر.
89

خارجة عن موضوع الحكم بتحريم وطء من حلف على ترك وطئها.
وكذا الحكم بعدم وجوب وطئها لأجل البناء على عدم الحلف على
وطئها، فهي خارجة عن موضوع الحكم بوجوب وطء من حلف على
وطئها. وهذا بخلاف الشبهة الحكمية، فإن الأصل فيها معارض لنفس
الحكم المعلوم بالإجمال، وليس مخرجا لمجراه عن موضوعه حتى لا ينافيه
جعل (1) الشارع.
لكن هذا المقدار من الفرق غير مجد، إذ اللازم من منافاة
الأصول لنفس الحكم الواقعي، حتى مع العلم التفصيلي ومعارضتها له،
هو كون العمل بالأصول موجبا لطرح الحكم الواقعي من حيث الالتزام،
فإذا فرض جواز ذلك - لأن العقل والنقل (2) لم يدلا (3) إلا على حرمة
المخالفة العملية - فليس الطرح من حيث الالتزام مانعا عن إجراء
الأصول المتنافية في الواقع.
ولا يبعد حمل إطلاق كلمات العلماء في عدم جواز طرح قول
الإمام (عليه السلام) في مسألة الإجماع، على طرحه من حيث العمل، إذ هو
المسلم المعروف من طرح قول الحجة، فراجع كلماتهم فيما إذا اختلفت
الأمة على قولين ولم يكن مع أحدهما دليل، فإن ظاهر الشيخ (رحمه الله) (4)
الحكم بالتخيير الواقعي، وظاهر المنقول عن بعض طرحهما والرجوع إلى

(1) في (ر)، (ظ) و (م): " بجعل ".
(2) لم ترد " والنقل " في (ر)، وشطب عليها في (ص).
(3) كذا في (ه‍) ومصححة (ت)، وفي غيرهما: " لم يدل ".
(4) انظر العدة 2: 637.
90

الأصل (1)، ولا ريب أن في كليهما طرحا للحكم الواقعي، لأن التخيير
الواقعي كالأصل حكم ثالث.
نعم، ظاهرهم في مسألة " دوران الأمر بين الوجوب والتحريم ":
الاتفاق على عدم الرجوع إلى الإباحة، وإن اختلفوا بين قائل
بالتخيير (2)، وقائل بتعيين الأخذ بالحرمة (3).
والإنصاف: أنه لا يخلو عن قوة، لأن المخالفة العملية التي لا تلزم
في المقام هي المخالفة دفعة و (4) في واقعة (5)، وأما المخالفة تدريجا و (6) في
واقعتين فهي لازمة البتة، والعقل كما يحكم بقبح المخالفة دفعة عن قصد
وعمد (7)، كذلك يحكم بحرمة المخالفة في واقعتين تدريجا عن قصد إليها
من غير تعبد (8) بحكم ظاهري عند كل واقعة، وحينئذ فيجب بحكم
العقل الالتزام بالفعل أو الترك، إذ في عدمه ارتكاب لما هو مبغوض
للشارع يقينا عن قصد.
وتعدد الواقعة إنما يجدي مع الإذن من الشارع عند كل واقعة،

(1) نقله الشيخ في العدة 2: 636.
(2) كصاحب الفصول في الفصول: 356.
(3) كالعلامة في نهاية الوصول (مخطوط): 460.
(4) لم ترد " الواو " في (ر).
(5) في (ر) و (ص) زيادة: " عن قصد وعلم "، وفي نسخة بدل (ت): " عن قصد
وعمد "، ولم ترد " وفي واقعة " في (ظ).
(6) لم ترد " الواو " في (ت) و (ر).
(7) في (ر)، (ص)، (ظ) و (ل) بدل " عمد ": " علم ".
(8) كذا في (ت)، (ه‍) ومحتمل (ص)، وفي غيرها: " تقييد ".
91

كما في تخيير الشارع للمقلد بين قولي المجتهدين تخييرا مستمرا يجوز معه
الرجوع عن أحدهما إلى الآخر، وأما مع عدمه فالقادم على ما هو
مبغوض للشارع يستحق عقلا العقاب على ارتكاب ذلك المبغوض، أما
لو التزم بأحد الاحتمالين قبح عقابه على مخالفة الواقع لو اتفقت.
ويمكن استفادة الحكم أيضا من فحوى أخبار التخيير عند
التعارض.
لكن هذا الكلام لا يجري في الشبهة الواحدة التي لم تتعدد فيها
الواقعة حتى تحصل المخالفة العملية تدريجا، فالمانع في الحقيقة هي المخالفة
العملية القطعية ولو تدريجا مع عدم التعبد بدليل ظاهري، فتأمل جدا (1).
هذا كله في المخالفة القطعية للحكم المعلوم إجمالا من حيث
الالتزام، بأن لا يلتزم به أو يلتزم بعدمه في مرحلة الظاهر إذا اقتضت
الأصول ذلك (2).

(1) وردت بدل عبارة " والعقل كما يحكم - إلى - ظاهري " في (ل) و (م) العبارة
التالية:
" والعقل يقبح المخالفة التدريجية إذا كان عن قصد إليها ومن غير تقييد بحكم
ظاهري عند كل واقعة، لأن ارتكاب ما هو مبغوض للمولى من قصد قبيح
- ولو كان في واقعتين - إذا لم يكن له عند كل واقعة ما هو بدل ظاهرا للمعلوم
إجمالا في الواقعتين، وحينئذ: فيجب بحكم العقل الالتزام بالفعل أو الترك،
وبقبح عقابه لو اتفق مخالفة ما التزم للحكم الواقعي، لأن هذا الالتزام غاية
الإمكان في الانقياد لذلك التكليف المجهول، فافهم ".
وبين النسختين اختلاف يسير غير مخل.
(2) لم ترد عبارة " هذا كله - إلى - ذلك " في (م).
92

وأما المخالفة العملية:
فإن كانت لخطاب تفصيلي، فالظاهر عدم جوازها، سواء كانت في
الشبهة الموضوعية، كارتكاب الإناءين المشتبهين المخالف لقول الشارع:
" اجتنب عن النجس "، و (1) كترك القصر والإتمام في موارد اشتباه الحكم،
لأن ذلك معصية لذلك الخطاب، لأن المفروض وجوب الاجتناب عن
النجس الموجود بين الإناءين، ووجوب صلاة الظهر والعصر - مثلا -
قصرا أو إتماما (2)، وكذا لو قال: أكرم زيدا، واشتبه بين شخصين، فإن
ترك إكرامهما معصية.
فإن قلت: إذا أجرينا أصالة الطهارة في كل من الإناءين
وأخرجناهما عن موضوع النجس بحكم الشارع، فليس في ارتكابهما
- بناء على طهارة كل منهما - مخالفة لقول الشارع: " اجتنب عن
النجس ".
قلت: أصالة الطهارة في كل منهما بالخصوص إنما يوجب جواز
ارتكابه من حيث هو، وأما الإناء النجس الموجود بينهما فلا أصل يدل
على طهارته، لأنه نجس يقينا، فلا بد إما من اجتنابهما، تحصيلا
للموافقة القطعية، وإما أن يجتنب أحدهما، فرارا عن المخالفة القطعية،
على الاختلاف المذكور في محله (3).

(1) في (خ)، (ع)، (ف) و (ن) زيادة: " أو في الشبهة الحكمية ".
(2) لم ترد عبارة " ووجوب صلاة الظهر - إلى - إتماما " في (ظ)، (ل) و (م)، ولم
ترد عبارة " مثلا قصرا أو إتماما " في (ر).
(3) انظر مبحث الاشتغال 2: 210.
93

هذا، مع أن حكم الشارع بخروج مجرى الأصل عن موضوع
التكليف الثابت بالأدلة الاجتهادية لا معنى له إلا رفع حكم ذلك
الموضوع، فمرجع أصالة الطهارة إلى عدم وجوب الاجتناب المخالف
لقوله: " اجتنب عن النجس "، فافهم (1).
وإن كانت المخالفة مخالفة لخطاب مردد بين خطابين - كما إذا علمنا
بنجاسة هذا المائع أو بحرمة هذه المرأة، أو علمنا بوجوب الدعاء عند
رؤية هلال شهر (2) رمضان أو بوجوب الصلاة عند ذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) -
ففي المخالفة القطعية حينئذ وجوه:
أحدها: الجواز مطلقا، لأن المردد بين الخمر والأجنبية لم يقع
النهي عنه في خطاب من الخطابات الشرعية حتى يحرم ارتكابه، وكذا
المردد بين الدعاء والصلاة، فإن الإطاعة والمعصية عبارة عن موافقة
الخطابات التفصيلية ومخالفتها.
الثاني: عدم الجواز مطلقا، لأن مخالفة الشارع قبيحة عقلا مستحقة
للذم عليها، ولا يعذر فيها إلا الجاهل بها.
الثالث: الفرق بين الشبهة في الموضوع والشبهة في الحكم، فيجوز
في الأولى دون الثانية (3)، لأن المخالفة القطعية في الشبهات الموضوعية
فوق حد الإحصاء، بخلاف الشبهات الحكمية، كما يظهر من كلماتهم في
مسائل الإجماع المركب.

(1) في (ر)، (ص) و (ل) بدل " فافهم ": " فتأمل ".
(2) " شهر " من (ت) و (ه‍).
(3) كذا في (ت) و (ه‍)، وفي غيرهما: " الأول دون الثاني ".
94

وكأن الوجه ما تقدم: من أن الأصول في الموضوعات تخرج
مجاريها عن موضوعات أدلة التكليف، بخلاف الأصول في الشبهات
الحكمية، فإنها منافية لنفس الحكم الواقعي المعلوم إجمالا.
وقد عرفت ضعف ذلك، وأن مرجع الإخراج الموضوعي إلى رفع
الحكم المترتب (1) على ذلك، فيكون الأصل في الموضوع في الحقيقة منافيا
لنفس الدليل الواقعي، إلا أنه حاكم عليه لا معارض له، فافهم.
الرابع: الفرق بين كون الحكم المشتبه في موضوعين واحدا
بالنوع - كوجوب أحد الشيئين - وبين اختلافه، كوجوب الشئ وحرمة
آخر.
والوجه في ذلك: أن الخطابات في الواجبات الشرعية بأسرها في
حكم خطاب واحد بفعل الكل، فترك البعض معصية عرفا، كما لو قال
المولى: افعل كذا وكذا وكذا، فإنه بمنزلة افعلها جميعا، فلا فرق في
العصيان بين ترك واحد منها معينا أو واحد غير معين عنده.
نعم، في وجوب الموافقة القطعية بالإتيان بكل واحد من المحتملين
كلام آخر مبني على: أن مجرد العلم بالحكم الواقعي يقتضي البراءة
اليقينية (2) عنه، أو يكتفى بأحدهما، حذرا عن المخالفة القطعية التي هي
بنفسها مذمومة عند العقلاء ويعد (3) معصية عندهم وإن لم يلتزموا
الامتثال اليقيني لخطاب مجمل.

(1) في (م) و (ه‍): " المرتب ".
(2) في (ظ) و (م): " اليقينية العلمية ".
(3) كذا في النسخ.
95

والأقوى من هذه الوجوه: هو الوجه الثاني، ثم الأول، ثم الثالث.
هذا كله في اشتباه الحكم من حيث الفعل المكلف به.
وأما الكلام في اشتباهه من حيث الشخص المكلف بذلك الحكم،
فقد عرفت أنه:
يقع تارة في الحكم الثابت لموضوع واقعي مردد بين شخصين،
كأحكام الجنابة المتعلقة بالجنب المردد بين واجدي المني.
وقد يقع في الحكم الثابت لشخص من جهة تردده بين موضوعين،
كحكم الخنثى المردد بين الذكر والأنثى.
أما الكلام في الأول، فمحصله:
أن مجرد تردد التكليف بين شخصين لا يوجب على أحدهما شيئا،
إذ العبرة في الإطاعة والمعصية بتعلق الخطاب بالمكلف الخاص،
فالجنب (1) المردد بين شخصين غير مكلف بالغسل وإن ورد من الشارع:
أنه يجب الغسل على كل جنب، فإن كلا منهما شاك في توجه هذا
الخطاب إليه، فيقبح عقاب واحد من الشخصين يكون جنبا بمجرد هذا
الخطاب الغير المتوجه (2) إليه.
نعم، لو اتفق لأحدهما أو لثالث علم بتوجه خطاب (3) إليه دخل
في اشتباه متعلق التكليف الذي تقدم حكمه بأقسامه.

(1) في (ت) و (ر): " والجنب ".
(2) في (ر) و (م): " الموجه ".
(3) في (ص): " الخطاب ".
96

ولا بأس بالإشارة إلى بعض فروع المسألة، ليتضح انطباقها على
ما تقدم في العلم الإجمالي بالتكليف.
فمنها: حمل أحدهما الآخر وإدخاله في المسجد للطواف أو لغيره،
بناء على تحريم إدخال الجنب أو إدخال النجاسة الغير المتعدية:
فإن قلنا: إن الدخول والإدخال متحققان بحركة واحدة، دخل في
المخالفة (1) المعلومة تفصيلا وإن تردد بين كونه من جهة الدخول أو
الإدخال.
وإن جعلناهما متغايرين في الخارج كما في الذهن:
فإن جعلنا الدخول والإدخال راجعين إلى عنوان محرم واحد
- وهو القدر المشترك بين إدخال النفس وإدخال الغير - كان من المخالفة
المعلومة للخطاب التفصيلي، نظير ارتكاب المشتبهين بالنجس.
وإن جعلنا كلا منهما عنوانا مستقلا، دخل في المخالفة للخطاب
المعلوم بالإجمال الذي عرفت فيه الوجوه المتقدمة.
وكذا من جهة دخول المحمول واستئجاره الحامل - مع قطع النظر
عن حرمة الدخول والإدخال عليه أو فرض عدمها (2) -، حيث إنه
علم (3) إجمالا بصدور أحد المحرمين: إما دخول المسجد جنبا (4)، أو
استئجار جنب للدخول في المسجد.

(1) كذا في (م)، وفي غيرها زيادة: " القطعية ".
(2) لم ترد عبارة " مع قطع النظر - إلى - عدمها " في (ظ)، (ل) و (م).
(3) في (ت) و (ه‍): " يعلم ".
(4) لم ترد " جنبا " في (ظ)، (ل) و (م).
97

إلا أن يقال بأن الاستئجار تابع لحكم الأجير، فإذا لم يكن (1)
في تكليفه محكوما بالجنابة وأبيح له الدخول في المسجد، صح استئجار
الغير له.
ومنها: اقتداء الغير بهما في صلاة أو صلاتين:
فإن قلنا بأن عدم جواز الاقتداء من أحكام الجنابة الواقعية، كان
الاقتداء بهما في صلاة واحدة موجبا للعلم التفصيلي ببطلان الصلاة،
والاقتداء بهما في صلاتين من قبيل ارتكاب الإناءين، والاقتداء بأحدهما
في صلاة واحدة كارتكاب أحد الإناءين.
وإن قلنا: إنه يكفي في جواز الاقتداء عدم جنابة الشخص في
حكم نفسه، صح الاقتداء في صلاة فضلا عن صلاتين، لأنهما طاهران
بالنسبة إلى حكم الاقتداء.
والأقوى: هو الأول، لأن الحدث مانع واقعي لا علمي.
نعم، لا إشكال في استئجارهما لكنس المسجد فضلا عن استئجار
أحدهما، لأن صحة الاستئجار تابعة لإباحة الدخول لهما لا للطهارة
الواقعية، والمفروض إباحته لهما.
وقس على ما ذكرنا جميع ما يرد عليك، مميزا بين الأحكام
المتعلقة بالجنب من حيث الحدث الواقعي، وبين الأحكام المتعلقة بالجنب
من حيث إنه مانع ظاهري للشخص المتصف به.
وأما الكلام في الخنثى:
فيقع تارة في معاملتها مع غيرها من معلوم الذكورية والأنوثية أو

(1) في (ر) و (ص) زيادة: " هو ".
98

مجهولهما، وحكمها بالنسبة إلى التكاليف المختصة بكل من الفريقين، وتارة
في معاملة الغير معها. وحكم الكل يرجع إلى ما ذكرنا في الاشتباه
المتعلق بالمكلف به (1).
أما معاملتها مع الغير، فمقتضى القاعدة احترازها عن غيرها
مطلقا، للعلم الإجمالي بحرمة نظرها إلى إحدى الطائفتين، فتجتنب عنهما
مقدمة.
وقد يتوهم: أن ذلك من باب الخطاب الإجمالي، لأن الذكور
مخاطبون بالغض عن الإناث وبالعكس، والخنثى شاك في دخوله في أحد
الخطابين.
والتحقيق: هو الأول، لأنه علم تفصيلا بتكليفه بالغض عن
إحدى الطائفتين، ومع العلم التفصيلي لا عبرة بإجمال الخطاب، كما تقدم
في الدخول والإدخال في المسجد لواجدي المني.
مع أنه يمكن إرجاع الخطابين إلى خطاب واحد، وهو تحريم نظر
كل إنسان إلى كل بالغ لا يماثله في الذكورية والأنوثية عدا من يحرم
نكاحه.
ولكن يمكن أن يقال: إن الكف عن النظر إلى ما عدا المحارم
مشقة عظيمة، فلا يجب الاحتياط فيه، بل العسر فيه أولى من الشبهة
الغير المحصورة.
أو يقال: إن رجوع الخطابين إلى خطاب واحد في حرمة المخالفة
القطعية، لا في وجوب الموافقة القطعية، فافهم.

(1) في (ت)، (ه‍) ونسخة بدل (ص): " اشتباه متعلق التكليف ".
99

وهكذا حكم لباس الخنثى، حيث إنه يعلم إجمالا بحرمة واحد من
مختصات الرجال كالمنطقة والعمامة أو مختصات النساء عليه، فيجتنب
عنهما.
وأما حكم ستارته في الصلاة: فيجتنب الحرير ويستر جميع بدنه.
وأما حكم الجهر والإخفات:
فإن قلنا بكون الإخفات في العشاءين والصبح رخصة للمرأة جهر
الخنثى بهما (1).
وإن قلنا: إنه عزيمة لها فالتخيير إن قام الإجماع على عدم
وجوب تكرار الصلاة في حقها.
وقد يقال بالتخيير مطلقا (2)، من جهة ما ورد: من أن الجاهل
في (3) الجهر (4) والإخفات معذور (5).
وفيه - مضافا إلى أن النص إنما دل على معذورية الجاهل بالنسبة
إلى لزوم الإعادة لو خالف الواقع، وأين هذا من تخيير الجاهل من
أول الأمر بينهما؟ بل الجاهل لو جهر أو أخفت مترددا بطلت صلاته،
إذ يجب عليه الرجوع إلى العلم أو العالم -: أن الظاهر من الجهل في
الأخبار غير هذا الجهل.

(1) في (ر) و (م): " بها ".
(2) انظر الذكرى (الطبعة الحجرية): 190، والفصول: 363.
(3) في (ه‍) زيادة: " القصر والإتمام و ".
(4) في (ت)، (ظ)، (ل) و (م) بدل " الجهر ": " القصر ".
(5) انظر الوسائل 4: 766، الباب 2 من أبواب القراءة، الحديث 1.
100

وأما تخيير قاضي الفريضة المنسية من (1) الخمس في ثلاثية
ورباعية وثنائية، فإنما هو بعد ورود النص بالاكتفاء (2) بالثلاث (3)،
المستلزم لإلغاء الجهر والإخفات بالنسبة إليه، فلا دلالة فيه على تخيير
الجاهل بالموضوع مطلقا.
وأما معاملة الغير معها، فقد يقال بجواز نظر كل من الرجل
والمرأة إليها، لكونها شبهة في الموضوع، والأصل الإباحة (4).
وفيه: أن عموم وجوب الغض على المؤمنات إلا عن نسائهن أو
الرجال المذكورين في الآية (5)، يدل على وجوب الغض عن الخنثى، ولذا
حكم في جامع المقاصد بتحريم نظر الطائفتين إليها، كتحريم نظرها
إليهما (6)، بل ادعى سبطه الاتفاق على ذلك (7)، فتأمل جدا (8).
ثم إن جميع ما ذكرنا إنما هو في غير النكاح. وأما التناكح،
فيحرم بينه وبين غيره قطعا، فلا يجوز له تزويج امرأة، لأصالة عدم
ذكوريته - بمعنى عدم ترتب أثر الذكورية من جهة النكاح ووجوب

(1) كذا في (ظ) و (م)، وفي غيرهما: " عن ".
(2) كذا في (ظ) و (م)، وفي غيرهما: " في الاكتفاء ".
(3) انظر الوسائل 5: 364، الباب 11 من أبواب قضاء الصلوات.
(4) انظر الفصول: 363.
(5) النور: 31.
(6) جامع المقاصد 12: 42.
(7) هو المحقق الداماد في رسالة ضوابط الرضاع (كلمات المحققين): 45.
(8) لم ترد عبارة " ولذا - إلى - فتأمل جدا " في (ظ)، (ل) و (م)، ولم ترد:
" فتأمل جدا " في (ت).
101

حفظ الفرج إلا عن الزوجة وملك اليمين (1) - ولا التزوج (2) برجل،
لأصالة عدم كونه امرأة، كما صرح به الشهيد (3)، لكن ذكر الشيخ مسألة
فرض الوارث الخنثى المشكل زوجا أو زوجة (4)، فافهم (5).
هذا تمام الكلام في اعتبار العلم.

(1) لم ترد عبارة " بمعنى - إلى - اليمين " في (ظ)، (ل) و (م).
(2) في (ص) و (م): " التزويج ".
(3) الدروس 2: 380.
(4) المبسوط 4: 117.
(5) لم ترد عبارة " كما صرح - إلى - فافهم " في (ظ)، (ل) و (م).
102

[المقصد الثاني]
[في]
[الظن]
103

المقصد الثاني
في الظن
والكلام فيه يقع في مقامين:
أحدهما: في إمكان التعبد به عقلا، والثاني: في وقوعه عقلا أو
شرعا.
أما الأول (1)
فاعلم: أن المعروف هو إمكانه، ويظهر من الدليل المحكي (2) عن
ابن قبة (3) - في استحالة العمل بخبر الواحد -: عموم المنع لمطلق الظن،
فإنه استدل على مذهبه بوجهين:
الأول: أنه لو جاز التعبد بخبر الواحد في الإخبار عن النبي (صلى الله عليه وآله)
لجاز التعبد به في الإخبار عن الله تعالى، والتالي باطل إجماعا.
والثاني: أن العمل به موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال،

(1) سيأتي الكلام في المقام الثاني في الصفحة 125.
(2) حكاه المحقق في المعارج: 141.
(3) هو أبو جعفر محمد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي، من متكلمي الإمامية،
وكان معتزليا، ثم تبصر، انظر رجال النجاشي: 375.
105

إذ لا يؤمن أن يكون ما أخبر بحليته حراما وبالعكس.
وهذا الوجه - كما ترى - جار في مطلق الظن، بل في مطلق
الأمارة الغير العلمية وإن لم يفد الظن.
واستدل المشهور على الإمكان: بأنا نقطع بأنه لا يلزم من التعبد
به محال (1).
وفي هذا التقرير نظر، إذ القطع بعدم لزوم المحال في الواقع موقوف
على إحاطة العقل (2) بجميع الجهات المحسنة والمقبحة وعلمه (3) بانتفائها،
وهو غير حاصل فيما نحن فيه.
فالأولى أن يقرر هكذا: إنا لا نجد في عقولنا بعد التأمل ما
يوجب الاستحالة، وهذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان.
والجواب عن دليله الأول: أن الإجماع إنما قام على عدم الوقوع،
لا على الامتناع.
مع أن عدم الجواز قياسا على الإخبار عن الله تعالى - بعد
تسليمه (4) - إنما (5) هو فيما إذا بني تأسيس الشريعة أصولا و (6) فروعا على

(1) انظر العدة 1: 103.
(2) كذا في (ر) و (ص)، وفي غيرهما: " العقول ".
(3) في (ت) و (ه‍): " علمها ".
(4) في (ر) و (ص): " بعد تسليم صحة الملازمة ".
(5) وردت في (ظ)، (ل) و (م) بدل عبارة: " مع أن - إلى - إنما ": " مع أن
الإجماع على عدم الجواز إنما ".
(6) في (ص)، (ظ)، (ل) و (م): " أو ".
106

العمل بخبر الواحد (1)، لا مثل (2) ما نحن فيه مما ثبت أصل الدين
وجميع فروعه بالأدلة القطعية، لكن عرض اختفاؤها (3) من جهة العوارض
و (4) إخفاء الظالمين للحق.
وأما دليله الثاني، فقد أجيب عنه (5):
تارة: بالنقض بالأمور الكثيرة الغير المفيدة للعلم، كالفتوى والبينة
واليد، بل القطع أيضا، لأنه قد يكون جهلا مركبا.
وأخرى: بالحل، بأنه إن أريد تحريم الحلال الظاهري أو عكسه
فلا نسلم لزومه، وإن أريد تحريم الحلال الواقعي ظاهرا فلا نسلم
امتناعه.
والأولى أن يقال: إنه إن أراد امتناع التعبد (6) بالخبر في المسألة
التي انسد فيها باب العلم بالواقع، فلا يعقل المنع عن العمل به، فضلا
عن امتناعه، إذ مع فرض عدم التمكن من العلم بالواقع إما أن يكون
للمكلف حكم في تلك الواقعة، وإما أن لا يكون له فيها حكم،
كالبهائم والمجانين.

(1) في (ظ)، (ل) و (م) زيادة: " عن الله سبحانه "، وفي (ه‍) زيادة: " عن الله ".
(2) في (ت) و (ه‍) بدل " مثل ": " في ".
(3) في (ص) و (ل) زيادة: " في الجملة ".
(4) لم ترد " العوارض و " في (ت)، (ظ)، (ل) و (م)، نعم وردت في نسخة بدل
(ت).
(5) انظر الفصول: 271.
(6) في (ظ) و (م): " امتناع العمل ".
107

فعلى الأول، فلا مناص عن إرجاعه إلى ما لا يفيد العلم من
الأصول أو الأمارات الظنية التي منها خبر (1) الواحد.
وعلى الثاني، يلزم ترخيص فعل الحرام الواقعي وترك الواجب
الواقعي، وقد فر المستدل منهما.
فإن التزم أن مع عدم التمكن من العلم لا وجوب ولا تحريم،
لأن الواجب والحرام ما علم بطلب فعله أو تركه.
قلنا: فلا يلزم من التعبد بالخبر تحليل حرام أو عكسه.
وكيف كان: فلا نظن بالمستدل إرادة الامتناع في هذا الفرض، بل
الظاهر أنه يدعي الانفتاح، لأنه أسبق من السيد وأتباعه الذين ادعوا
انفتاح باب العلم.
ومما ذكرنا ظهر: أنه لا مجال للنقض عليه بمثل الفتوى، لأن
المفروض انسداد باب العلم على المستفتي، وليس له شئ أبعد من
تحريم الحلال وتحليل الحرام من العمل بقول المفتي، حتى أنه لو تمكن
من الظن الاجتهادي فالأكثر على عدم جواز العمل بفتوى الغير (2).
وكذلك نقضه بالقطع مع احتمال كونه في الواقع جهلا مركبا، فإن
باب هذا الاحتمال منسد على القاطع.
وإن أراد الامتناع مع انفتاح باب العلم والتمكن منه في مورد
العمل بالخبر، فنقول:
إن التعبد بالخبر حينئذ يتصور على وجهين:

(1) كذا في (ت)، وفي غيرها: " الخبر ".
(2) لم ترد " حتى أنه - إلى - بفتوى الغير " في (ظ)، (ل) و (م).
108

أحدهما (1): أن يجب العمل به لمجرد كونه طريقا إلى الواقع
وكاشفا ظنيا عنه، بحيث لم يلاحظ فيه مصلحة سوى الكشف عن الواقع،
كما قد يتفق ذلك حين انسداد باب العلم وتعلق الغرض بإصابة الواقع،
فإن الأمر بالعمل بالظن الخبري أو غيره لا يحتاج إلى مصلحة سوى
كونه كاشفا ظنيا عن الواقع.
الثاني: أن يجب العمل به لأجل أنه يحدث فيه - بسبب قيام تلك
الأمارة - مصلحة راجحة على المصلحة الواقعية التي تفوت عند مخالفة
تلك الأمارة للواقع، كأن يحدث في صلاة الجمعة - بسبب إخبار العادل
بوجوبها - مصلحة راجحة على المفسدة في فعلها على تقدير حرمتها
واقعا.
أما إيجاب العمل بالخبر على الوجه الأول، فهو وإن كان في نفسه
قبيحا مع فرض انفتاح باب العلم - لما ذكره المستدل من تحريم الحلال
وتحليل الحرام - لكن لا يمتنع أن يكون الخبر أغلب مطابقة للواقع في
نظر الشارع من الأدلة القطعية التي يستعملها المكلف للوصول إلى الحرام
والحلال الواقعيين، أو يكونا متساويين في نظره من حيث الإيصال إلى
الواقع.
إلا أن يقال: إن هذا رجوع إلى فرض انسداد باب العلم والعجز
عن الوصول إلى الواقع، إذ ليس المراد انسداد باب الاعتقاد ولو كان
جهلا مركبا، كما تقدم سابقا (2).

(1) في (ظ) ونسخة بدل (ص): " الأول ".
(2) في الصفحة السابقة.
109

فالأولى: الاعتراف بالقبح مع فرض التمكن من الواقع.
وأما وجوب العمل بالخبر على الوجه الثاني، فلا قبح فيه أصلا،
كما لا يخفى.
قال في النهاية في هذا المقام - تبعا للشيخ (قدس سره) في العدة -: إن
الفعل الشرعي إنما يجب لكونه مصلحة، ولا يمتنع أن يكون مصلحة إذا
فعلناه ونحن على صفة مخصوصة، وكوننا ظانين بصدق الراوي صفة من
صفاتنا، فدخلت في جملة أحوالنا التي يجوز كون الفعل عندها مصلحة (1)،
انتهى موضع الحاجة.
فإن قلت: إن هذا إنما يوجب التصويب، لأن المفروض على هذا
أن في صلاة الجمعة التي أخبر بوجوبها مصلحة راجحة على المفسدة
الواقعية، فالمفسدة الواقعية سليمة عن المعارض الراجح بشرط عدم
إخبار العادل بوجوبها، وبعد الإخبار يضمحل المفسدة، لعروض المصلحة
الراجحة، فلو ثبت مع هذا الوصف تحريم ثبت بغير مفسدة توجبه، لأن
الشرط في إيجاب المفسدة له خلوها عن معارضة المصلحة الراجحة،
فيكون إطلاق الحرام الواقعي حينئذ بمعنى أنه حرام لولا الإخبار، لا أنه
حرام بالفعل ومبغوض واقعا، فالموجود بالفعل في هذه الواقعة عند
الشارع ليس إلا المحبوبية والوجوب، فلا يصح إطلاق الحرام على ما فيه
المفسدة المعارضة بالمصلحة الراجحة عليها.
ولو فرض صحته فلا يوجب ثبوت حكم شرعي مغاير للحكم
المسبب عن المصلحة الراجحة.

(1) نهاية الوصول (مخطوط): 290، والعدة 1: 103.
110

والتصويب وإن لم ينحصر في هذا المعنى، إلا أن الظاهر بطلانه
أيضا، كما اعترف به العلامة في النهاية في مسألة التصويب (1)، وأجاب به
صاحب المعالم - في تعريف الفقه (2) - عن قول العلامة: بأن ظنية الطريق
لا تنافي قطعية الحكم.
قلت: لو سلم كون هذا تصويبا مجمعا على بطلانه وأغمضنا النظر (3)
عما سيجئ من عدم كون ذلك تصويبا (4)، كان الجواب به عن ابن قبة
من جهة أنه أمر ممكن غير مستحيل، وإن لم يكن واقعا لإجماع أو
غيره، وهذا المقدار يكفي في رده.
إلا أن يقال: إن كلامه (قدس سره) بعد الفراغ عن بطلان التصويب، كما
هو ظاهر استدلاله: من تحليل الحرام الواقعي (5).

(1) نهاية الوصول (مخطوط): 439.
(2) المعالم: 27.
(3) لم ترد " النظر " في (ت)، (ر) و (ل).
(4) انظر الصفحة 121.
(5) لم ترد " إلا أن يقال - إلى - الواقعي " في (ظ)، (ل) و (م)، ولم ترد " من
تحليل الحرام الواقعي " في (ر) و (ص).
111

[التعبد بالأمارات غير العلمية] (1)
وحيث انجر الكلام إلى التعبد بالأمارات الغير العلمية، فنقول في
توضيح هذا المرام وإن كان خارجا عن محل الكلام: إن ذلك يتصور
على وجهين:
الأول: أن يكون ذلك من باب مجرد الكشف عن الواقع، فلا يلاحظ
في التعبد بها إلا الإيصال إلى الواقع، فلا مصلحة في سلوك هذا الطريق
وراء مصلحة الواقع، كما لو أمر المولى عبده عند تحيره في طريق بغداد
بسؤال الأعراب عن الطريق، غير ملاحظ في ذلك إلا كون قول الأعراب
موصلا إلى الواقع دائما أو غالبا، والأمر بالعمل (2) في هذا القسم ليس
إلا للإرشاد.
الثاني: أن يكون ذلك لمدخلية سلوك الأمارة في مصلحة العمل (3)
وإن خالف الواقع، فالغرض إدراك مصلحة سلوك هذا الطريق التي هي
مساوية لمصلحة الواقع أو أرجح منها.
أما القسم الأول، فالوجه فيه لا يخلو من أمور:
أحدها: كون الشارع العالم بالغيب عالما بدوام موافقة هذه
الأمارة (4) للواقع وإن لم يعلم بذلك المكلف.

(1) العنوان منا.
(2) لم ترد " بالعمل " في (ظ) و (م).
(3) في (ص) و (ه‍) زيادة: " بها ".
(4) كذا في (ظ)، (م) و (ه‍)، وفي غيرها: " الأمارات ".
112

الثاني: كونها في نظر الشارع غالب المطابقة.
الثالث: كونها في نظره أغلب مطابقة من العلوم الحاصلة للمكلف
بالواقع، لكون أكثرها في نظر الشارع جهلا مركبا.
والوجه الأول والثالث يوجبان الأمر بسلوك الأمارة ولو مع
تمكن المكلف من الأسباب المفيدة للقطع. والثاني لا يصح إلا مع تعذر
باب العلم، لأن تفويت الواقع على المكلف - ولو في النادر - من دون
تداركه بشئ، قبيح.
وأما القسم الثاني، فهو على وجوه:
أحدها: أن يكون الحكم - مطلقا (1) - تابعا لتلك الأمارة، بحيث
لا يكون في حق الجاهل - مع قطع النظر عن وجود هذه الأمارة
وعدمها - حكم، فتكون الأحكام الواقعية مختصة في الواقع بالعالمين بها،
والجاهل - مع قطع النظر عن قيام أمارة عنده على حكم العالمين -
لا حكم له أو محكوم بما يعلم الله أن الأمارة تؤدي إليه، وهذا
تصويب باطل عند أهل الصواب من التخطئة (2)، وقد تواتر بوجود
الحكم المشترك بين العالم والجاهل الأخبار والآثار (3).

(1) في (ت)، (ل) و (ه‍) بدل " مطلقا ": " من أصله "، وشطب في (ص) على
" من أصله ".
(2) في (ه‍): " المخطئة ".
(3) انظر الفصول: 406 - 407، وراجع الكافي 1: 40، باب سؤال العالم وتذاكره،
والصفحة 58، الحديث 19، والصفحة 59، الحديث 2، والصفحة 199، الحديث
الأول، والبحار 1: 178، الحديث 58.
113

الثاني: أن يكون الحكم الفعلي تابعا لهذه الأمارة، بمعنى: أن لله
في كل واقعة حكما يشترك فيه العالم والجاهل لولا قيام الأمارة على
خلافه، بحيث يكون قيام الأمارة المخالفة مانعا عن فعلية ذلك الحكم،
لكون مصلحة سلوك هذه الأمارة غالبة على مصلحة الواقع، فالحكم
الواقعي فعلي في حق غير الظان بخلافه، وشأني في حقه، بمعنى وجود
المقتضي لذلك الحكم لولا الظن على خلافه.
وهذا أيضا كالأول في عدم ثبوت الحكم الواقعي للظان بخلافه،
لأن الصفة المزاحمة بصفة أخرى لا تصير منشأ للحكم (1)، فلا يقال
للكذب النافع: إنه قبيح واقعا.
والفرق بينه وبين الوجه الأول - بعد اشتراكهما في عدم ثبوت
الحكم الواقعي (2) للظان بخلافه -: أن العامل بالأمارة المطابقة حكمه
حكم العالم، ولم يحدث في حقه بسبب ظنه حكم، نعم كان ظنه مانعا
عن المانع، وهو الظن بالخلاف.
الثالث: أن لا يكون للأمارة القائمة على الواقعة تأثير في الفعل
الذي تضمنت الأمارة حكمه ولا تحدث فيه مصلحة، إلا أن العمل (3)

(1) في (ص)، (ل) و (ه‍): " الحكم "، وفي (ظ) و (م): " لحكم ".
(2) في (ظ) و (م): " حكم واقعي ".
(3) في (ص) والنسخة الموجودة عند المحقق الهمداني (قدس سره) - على ما هو ظاهر
تعليقته على الرسائل -: " الأمر بالعمل "، انظر حاشية الهمداني: 33.
وللمحقق النائيني (قدس سره) هنا تنبيه ينفعنا في المقام، فقد جاء في فوائد الأصول:
" تنبيه: نقل شيخنا الأستاذ (مد ظله): أن العبارة التي صدرت من الشيخ (قدس سره)
في الوجه الثالث كانت هكذا:... " ثم قال - بعد نقل العبارة كما أوردناه في
المتن -: " ولم يكن في أصل العبارة لفظ " الأمر " وإنما أضافها بعض أصحابه،
وعلى ذلك جرت نسخ الكتاب "، فوائد الأصول 3: 98.
114

على طبق تلك الأمارة والالتزام به في مقام العمل على أنه هو الواقع
وترتيب (1) الآثار الشرعية المترتبة عليه واقعا، يشتمل على مصلحة،
فأوجبه الشارع.
ومعنى إيجاب العمل على الأمارة: وجوب تطبيق العمل عليها،
لا وجوب إيجاد عمل على طبقها، إذ قد لا تتضمن الأمارة إلزاما على
المكلف، فإذا تضمنت استحباب شئ أو وجوبه تخييرا أو إباحته (2)،
وجب عليه إذا أراد الفعل أن يوقعه على وجه الاستحباب أو الإباحة،
بمعنى حرمة قصد غيرهما، كما لو قطع بهما (3).
وتلك المصلحة لا بد أن تكون مما يتدارك بها ما يفوت من
مصلحة الواقع لو كان الأمر بالعمل به مع التمكن من العلم (4)، وإلا كان
تفويتا لمصلحة الواقع، وهو قبيح، كما عرفت في كلام ابن قبة (5).
فإن قلت: ما الفرق بين هذا الوجه الذي مرجعه إلى المصلحة في

(1) في (ظ)، (ل) و (م): " ترتب ".
(2) العبارة في (ظ) هكذا: " استحباب شئ أو وجود تخيير أو إباحة ".
(3) لم ترد " ومعنى - إلى - كما لو قطع بهما " في (ه‍)، وفي (ت) أنها " غلط "،
وكتب في (ص) عليها: " زيادة ".
(4) لم ترد " لو كان - إلى - من العلم " في (ت) و (ه‍).
(5) راجع الصفحة 109.
115

العمل (1) بالأمارة (2) وترتيب (3) أحكام الواقع على مؤداها، وبين الوجه
السابق الراجع إلى كون قيام الأمارة سببا لجعل مؤداها (4) على المكلف؟
مثلا: إذا فرضنا قيام الأمارة على وجوب صلاة الجمعة مع كون
الواجب في الواقع هي الظهر، فإن كان في فعل الجمعة مصلحة يتدارك
بها ما يفوت بترك صلاة الظهر، فصلاة الظهر في حق هذا الشخص
خالية عن المصلحة الملزمة، فلا صفة تقتضي وجوبها الواقعي، فهنا
وجوب واحد - واقعا وظاهرا - متعلق (5) بصلاة الجمعة. وإن لم تكن في
فعل الجمعة صفة كان الأمر بالعمل بتلك الأمارة قبيحا، لكونه مفوتا
للواجب مع التمكن من إدراكه بالعلم.
فالوجهان مشتركان في اختصاص الحكم الواقعي بغير من قام
عنده الأمارة على وجوب صلاة الجمعة، فيرجع الوجه الثالث إلى
الوجه الثاني، وهو كون الأمارة سببا لجعل مؤداها هو الحكم الواقعي
لا غير وانحصار الحكم في المثال بوجوب (6) صلاة الجمعة، وهو التصويب
الباطل.
قلت: أما رجوع الوجه الثالث إلى الوجه الثاني فهو باطل، لأن

(1) في (ص) و (ه‍): " في الأمر بالعمل ".
(2) في (ت) و (ه‍): " على الأمارة ".
(3) في (ظ)، (ل) و (م): " ترتب ".
(4) في (ت) و (ه‍) زيادة: " هو الحكم الواقعي ".
(5) في (ظ) و (م): " يتعلق "، وفي (ر) و (ه‍): " متعلقا ".
(6) في نسخة بدل (ص): " في وجوب ".
116

مرجع جعل مدلول الأمارة في حقه - الذي هو مرجع الوجه الثاني -
إلى أن صلاة الجمعة واجبة (1) عليه واقعا، كالعالم بوجوب صلاة الجمعة،
فإذا صلاها فقد فعل الواجب الواقعي، فإذا انكشف مخالفة الأمارة
للواقع فقد انقلب موضوع الحكم واقعا إلى موضوع آخر، كما إذا صار
المسافر بعد فعل (2) صلاة القصر حاضرا إذا قلنا بكفاية السفر في أول
الوقت لصحة القصر واقعا.
ومعنى وجوب العمل (3) على طبق الأمارة (4): وجوب ترتيب (5)
أحكام الواقع (6) على (7) مؤداها من دون أن يحدث في الفعل مصلحة على
تقدير مخالفة الواقع - كما يوهمه ظاهر عبارتي العدة والنهاية المتقدمتين (8) -
فإذا أدت إلى وجوب صلاة الجمعة واقعا، وجب ترتيب أحكام الوجوب
الواقعي وتطبيق العمل على وجوبها الواقعي، فإن كان في أول الوقت
جاز الدخول فيها بقصد الوجوب وجاز تأخيرها، فإذا فعلها جاز له
فعل النافلة وإن حرمت في وقت الفريضة المفروض كونها في الواقع هي

(1) في (ت)، (ر)، (ل) و (ه‍): " هي واجبة "، وفي (ص): " هي الواجبة ".
(2) لم ترد " فعل " في (ر)، (ظ) و (م).
(3) في (ه‍): " ومعنى الأمر بالعمل ".
(4) في (ظ)، (ل) و (م) زيادة: " على أن مضمونها هو الحكم الواقعي ".
(5) في (ص) بدل " وجوب ترتيب ": " الرخصة في ترتيب ".
(6) في (ت) و (ه‍): " أحكام الواجب الواقعي ".
(7) لم ترد " الواقع على " في (م).
(8) لم ترد " من دون - إلى - المتقدمتين " في (ظ)، (ل) و (م).
117

الظهر، لعدم وجوب الظهر عليه فعلا ورخصته في تركها. وإن كان في
آخر وقتها حرم تأخيرها والاشتغال بغيرها.
ثم إن استمر هذا الحكم الظاهري - أعني الترخيص في ترك الظهر
إلى آخر وقتها - وجب كون الحكم الظاهري بكون ما فعله في أول
الوقت هو الواقع - المستلزم لفوت (1) الواقع على المكلف (2) - مشتملا على
مصلحة يتدارك بها ما فات لأجله من مصلحة الظهر، لئلا يلزم تفويت
الواجب الواقعي على المكلف مع التمكن من إتيانه بتحصيل العلم به.
وإن لم يستمر، بل علم بوجوب الظهر في المستقبل، بطل وجوب
العمل على طبق وجوب صلاة الجمعة واقعا، ووجب العمل على طبق
عدم وجوبه في نفس الأمر من أول الأمر، لأن المفروض عدم حدوث
الوجوب النفس الأمري، وإنما عمل على طبقه ما دامت أمارة الوجوب
قائمة، فإذا فقدت بانكشاف وجوب الظهر وعدم وجوب الجمعة، وجب
حينئذ ترتيب ما هو كبرى لهذا المعلوم - أعني وجوب الإتيان بالظهر -
ونقض آثار وجوب صلاة الجمعة إلا ما فات منها، فقد تقدم أن مفسدة
فواته متداركة بالحكم الظاهري المتحقق في زمان الفوت.
فلو فرضنا العلم بعد خروج وقت الظهر، فقد تقدم أن حكم
الشارع بالعمل بمؤدى الأمارة - اللازم منه ترخيص ترك الظهر في الجزء

(1) في (ت)، (ر) و (ه‍): " لفوات ".
(2) لم ترد " بكون - إلى - المكلف " في (ظ)، (ل) و (م)، ووردت بدلها عبارة:
" بجواز تركها إلى آخر وقتها - وكان الحكم الظاهري المستمر - "، مع اختلاف
يسير بينها.
118

الأخير - لا بد أن يكون لمصلحة يتدارك بها مفسدة ترك الظهر.
ثم إن قلنا: إن القضاء فرع صدق الفوت المتوقف على فوات
الواجب من حيث إن فيه مصلحة، لم يجب فيما نحن فيه، لأن الواجب
وإن ترك إلا أن مصلحته متداركة، فلا يصدق على هذا الترك الفوت.
وإن قلنا: إنه متفرع على مجرد ترك الواجب، وجب هنا، لفرض
العلم بترك صلاة الظهر مع وجوبها عليه واقعا.
إلا أن يقال: إن غاية ما يلزم في المقام، هي المصلحة في
معذورية هذا الجاهل مع تمكنه من العلم ولو كانت لتسهيل الأمر على
المكلفين، ولا ينافي ذلك صدق الفوت، فافهم (1).
ثم إن هذا كله على ما اخترناه من عدم اقتضاء الأمر الظاهري
للإجزاء، واضح.
وأما على القول باقتضائه له، فقد يشكل (2) الفرق بينه وبين القول
بالتصويب، وظاهر شيخنا في تمهيد القواعد استلزام القول بالتخطئة لعدم
الإجزاء، قال (قدس سره) (3): من فروع مسألة التصويب والتخطئة، لزوم الإعادة
للصلاة بظن القبلة وعدمه (4). وإن كان تمثيله لذلك بالموضوعات محل
نظر.

(1) لم ترد " فافهم " في (ت) و (ه‍).
(2) في (ت) و (ه‍) بدل " باقتضائه له فقد يشكل ": " بالاقتضاء فيشكل ".
(3) لم ترد عبارة " إلا أن يقال - إلى - قدس سره " في (ظ)، (ل) و (م)، ووردت
بدلها: " ولأجل ما ذكرنا ذكر في تمهيد القواعد "، نعم وردت عبارة " إلا أن
يقال - إلى - (قدس سره) " في هامش (ل) تصحيحا.
(4) تمهيد القواعد: 322 - 323.
119

فعلم من ذلك: أن ما ذكره من وجوب كون فعل الجمعة مشتملا
على مصلحة تتدارك مفسدة ترك الواجب ومعه يسقط عن الوجوب، ممنوع،
لأن فعل الجمعة قد لا يستلزم إلا ترك الظهر في بعض أجزاء وقته.
فالعمل على الأمارة معناه: الإذن في الدخول فيها على قصد
الوجوب، والدخول في التطوع بعد فعلها.
نعم، يجب في الحكم بجواز فعل النافلة اشتماله على مصلحة تتدارك
مفسدة فعل التطوع في وقت الفريضة لو شمل دليله الفريضة الواقعية
المأذون في تركها ظاهرا، وإلا كان جواز التطوع في تلك الحال حكما
واقعيا لا ظاهريا.
وأما قولك: إنه مع تدارك المفسدة بمصلحة الحكم الظاهري يسقط
الوجوب، فممنوع أيضا، إذ قد يترتب على وجوبه واقعا حكم شرعي
وإن تدارك مفسدة تركه مصلحة فعل آخر، كوجوب (1) قضائه إذا علم
بعد خروج الوقت بوجوبه واقعا (2).
وبالجملة: فحال الأمر بالعمل بالأمارة القائمة على حكم شرعي
حال الأمر بالعمل بالأمارة (3) القائمة على الموضوع الخارجي، كحياة زيد
وموت عمرو، فكما أن الأمر بالعمل (4) في الموضوعات لا يوجب جعل

(1) في (ظ) و (م): " لوجوب ".
(2) وردت عبارة " فعلم من ذلك - إلى - بوجوبه واقعا " في (ر)، (ظ)، (ل)، (م)
ونسخة بدل (ص) مع اختلافات يسيرة، ولم ترد في (ت)، (ص) و (ه‍).
(3) في (ر)، (ظ)، (ل)، (م)، (ه‍) ونسخة بدل (ت) و (ص): " على الأمارة ".
(4) في (ص) زيادة: " بها "، وفي (ر) زيادة: " بالأمارة ".
120

نفس الموضوع، وإنما يوجب جعل أحكامه، فيترتب عليه الحكم ما
دامت الأمارة قائمة عليه، فإذا فقدت الأمارة وحصل العلم بعدم ذلك
الموضوع، ترتب عليه في المستقبل جميع أحكام عدم ذلك الموضوع من
أول الأمر، فكذلك حال الأمر بالعمل على الأمارة القائمة على الحكم.
وحاصل الكلام: ثبوت الفرق الواضح بين جعل مدلول الأمارة
حكما واقعيا والحكم بتحققه واقعا عند قيام الأمارة، وبين الحكم واقعا
بتطبيق العمل على الحكم الواقعي المدلول عليه بالأمارة، كالحكم واقعا
بتطبيق العمل على طبق الموضوع الخارجي الذي قامت عليه الأمارة.
وأما قولك (1): إن مرجع تدارك مفسدة مخالفة الحكم الواقعي
بالمصلحة الثابتة في العمل على طبق مؤدى الأمارة إلى التصويب الباطل،
نظرا إلى خلو الحكم الواقعي حينئذ عن المصلحة الملزمة التي تكون في
فوتها المفسدة، ففيه:
منع كون هذا تصويبا، كيف والمصوبة يمنعون حكم الله في الواقع،
فلا يعقل عندهم إيجاب العمل بما جعل طريقا إليه والتعبد بترتيب آثاره
في الظاهر، بل التحقيق عد مثل هذا من وجوه الرد على المصوبة.
وأما ما ذكر (2): من أن الحكم الواقعي إذا كان مفسدة مخالفته
متداركة بمصلحة العمل (3) على طبق الأمارة، فلو بقي في الواقع كان
حكما بلا صفة، وإلا ثبت انتفاء الحكم في الواقع، وبعبارة أخرى: إذا

(1) في (ص) بدل " قولك ": " توهم ".
(2) في (ت): " وأما ما ذكره ".
(3) كذا في (ص) وفي غيرها: " الفعل ".
121

فرضنا الشئ في الواقع واجبا وقامت أمارة على تحريمه، فإن لم يحرم
ذلك الفعل لم يجب العمل بالأمارة، وإن حرم، فإن بقي الوجوب لزم
اجتماع الحكمين المتضادين، وإن انتفى ثبت انتفاء الحكم الواقعي، ففيه:
أن المراد بالحكم الواقعي الذي يلزم بقاؤه، هو الحكم المتعين (1)
المتعلق بالعباد (2) الذي يحكي عنه الأمارة ويتعلق به العلم أو (3) الظن
وامر السفراء بتبليغه، وإن لم يلزم امتثاله فعلا في حق من قامت عنده
أمارة على خلافه، إلا أنه يكفي في كونه حكمه (4) الواقعي: أنه لا يعذر
فيه إذا كان عالما به أو جاهلا مقصرا، والرخصة في تركه عقلا كما في
الجاهل القاصر، أو شرعا كمن قامت عنده أمارة معتبرة على خلافه.
ومما ذكرنا يظهر حال الأمارة على الموضوعات الخارجية، فإنها
من هذا (5) القسم الثالث.
والحاصل: أن المراد بالحكم الواقعي، هي (6): مدلولات الخطابات
الواقعية الغير المقيدة بعلم المكلفين ولا بعدم قيام الأمارة على خلافها،
و (7) لها آثار عقلية وشرعية تترتب عليها عند العلم بها أو قيام أمارة

(1) في (ت) و (ل) زيادة: " المنزل "، وفي نسخة بدل (ص) و (م) بدل " المتعين ":
" المنزل ".
(2) لم ترد " المتعلق بالعباد " في (ت) و (ل)، نعم وردت في نسخة بدل (ل).
(3) في (ر)، (ظ)، (ل) و (م) بدل " أو ": " و ".
(4) في (ر) و (ه‍) ومصححة (ت): " الحكم ".
(5) لم ترد " هذا " في (ر) و (ص).
(6) في (ت)، (ر) و (ظ): " هو ".
(7) لم ترد " و " في (ر)، (ظ) و (م).
122

حكم الشارع بوجوب البناء على كون مؤداها هو الواقع، نعم هذه
ليست أحكاما فعلية بمجرد وجودها الواقعي.
وتلخص من جميع ما ذكرنا: أن ما ذكره ابن قبة - من استحالة
التعبد بخبر الواحد أو بمطلق الأمارة الغير العلمية - ممنوع على إطلاقه،
وإنما يقبح (1) إذا ورد التعبد على بعض الوجوه، كما تقدم تفصيل
ذلك.
ثم إنه ربما ينسب إلى بعض (2): إيجاب التعبد بخبر الواحد أو
مطلق الأمارة على الله تعالى، بمعنى قبح تركه منه، في مقابل قول ابن
قبة.
فإن أراد (3) به وجوب إمضاء حكم العقل بالعمل به عند عدم
التمكن من العلم وبقاء التكليف، فحسن.
وإن أراد (4) وجوب الجعل بالخصوص في حال الانسداد، فممنوع،
إذ جعل الطريق بعد انسداد باب العلم إنما يجب عليه إذا لم يكن هناك
طريق عقلي وهو الظن، إلا أن يكون لبعض الظنون في نظره خصوصية (5).
وإن أراد حكم صورة الانفتاح:

(1) في (ص) و (ظ): " يصح "، وفي غيرهما ونسخة بدل (ص) ما أثبتناه.
(2) حكي هذا المذهب عن ابن سريج وغيره، انظر العدة 1: 98، والمعتمد
للبصري 2: 106، والإحكام للآمدي 2: 65.
(3) في (ر)، (ظ)، (ل) و (م): " أريد ".
(4) في (ظ) و (م): " أريد ".
(5) لم ترد " إلا أن - إلى - خصوصية " في (ظ)، (ل) و (م).
123

فإن أراد وجوب التعبد العيني فهو غلط، لجواز تحصيل العلم معه
قطعا.
وإن أراد وجوب التعبد به تخييرا، فهو مما لا يدركه العقل، إذ
لا يعلم العقل بوجود مصلحة في الأمارة يتدارك بها مصلحة الواقع التي
تفوت بالعمل بالأمارة.
اللهم إلا أن يكون في تحصيل العلم حرج يلزم في العقل رفع
إيجابه بنصب أمارة هي أقرب من غيرها إلى الواقع أو أصح في نظر
الشارع من غيره في مقام البدلية عن الواقع، وإلا فيكفي إمضاؤه للعمل
بمطلق الظن كصورة الانسداد (1).

(1) لم ترد في (ظ) و (م): " وإلا فيكفي - إلى - الانسداد "، ولم ترد في (ل): " عن
الواقع - إلى - الانسداد "، وفي (ه‍) زيادة: " أو في الجملة ".
124

[المقام الثاني] (1)
ثم إذا تبين عدم استحالة تعبد الشارع بغير العلم، وعدم القبح
فيه ولا في تركه، فيقع الكلام في المقام الثاني (2) في وقوع التعبد به في
الأحكام الشرعية مطلقا، أو في الجملة.
وقبل الخوض في ذلك، لا بد من تأسيس الأصل الذي يكون
عليه المعول عند عدم الدليل على وقوع التعبد بغير العلم مطلقا أو في
الجملة، فنقول:
التعبد بالظن الذي لم يدل على التعبد به دليل، محرم بالأدلة الأربعة.
ويكفي من الكتاب: قوله تعالى: * (قل آلله أذن لكم أم على الله
تفترون) * (3).
دل على أن ما ليس بإذن من الله من إسناد الحكم إلى الشارع،
فهو افتراء.

(1) العنوان منا.
(2) تقدم الكلام في المقام الأول في الصفحة 105.
(3) يونس: 59.
125

ومن السنة: قوله (عليه السلام) في عداد القضاة من أهل النار: " ورجل
قضى بالحق وهو لا يعلم " (1).
ومن الإجماع: ما ادعاه الفريد البهبهاني في بعض رسائله: من
كون عدم الجواز بديهيا عند العوام فضلا عن العلماء (2).
ومن العقل: تقبيح العقلاء من يتكلف من قبل مولاه بما لا يعلم
بوروده عن المولى ولو كان جاهلا (3) مع التقصير.
نعم، قد يتوهم متوهم: أن الاحتياط من هذا القبيل.
وهو غلط واضح، إذ فرق بين الالتزام بشئ من قبل المولى على
أنه منه مع عدم العلم بأنه منه، وبين الالتزام بإتيانه لاحتمال كونه منه
أو رجاء كونه منه، وشتان ما بينهما، لأن العقل يستقل بقبح الأول
وحسن الثاني.
والحاصل: أن المحرم هو العمل بغير العلم متعبدا به ومتدينا به،
وأما العمل به من دون تعبد بمقتضاه:
فإن كان لرجاء إدراك الواقع، فهو حسن ما لم يعارضه احتياط
آخر ولم يثبت من دليل آخر وجوب العمل على خلافه، كما لو ظن
الوجوب واقتضى الاستصحاب الحرمة، فإن الإتيان بالفعل محرم وإن لم
يكن على وجه التعبد بوجوبه والتدين به.
وإن لم يكن لرجاء إدراك الواقع:

(1) الوسائل 18: 11، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6.
(2) انظر الرسائل الأصولية: 12.
(3) كذا في (ظ)، (ل)، (م)، (ه‍) ونسخة بدل (ت)، وفي غيرها: " عن جهل ".
126

فإن لزم منه طرح أصل دل الدليل على وجوب الأخذ به حتى
يعلم خلافه، كان محرما أيضا، لأن فيه طرحا للأصل الواجب العمل،
كما فيما ذكر من مثال كون الظن بالوجوب على خلاف استصحاب
التحريم.
وإن لم يلزم منه ذلك جاز العمل، كما لو ظن بوجوب ما تردد
بين الحرمة والوجوب، فإن الالتزام بطرف الوجوب لا على أنه حكم
الله المعين جائز. لكن في تسمية هذا عملا بالظن مسامحة، وكذا في
تسمية الأخذ به من باب الاحتياط.
وبالجملة: فالعمل بالظن إذا لم يصادف الاحتياط محرم إذا وقع
على وجه التعبد به والتدين، سواء استلزم طرح الأصل أو الدليل
الموجود في مقابله أم لا، وإذا وقع على غير وجه التعبد به فهو محرم
إذا استلزم طرح ما يقابله من الأصول والأدلة المعلوم وجوب العمل
بها (1).
هذا، وقد يقرر الأصل هنا بوجوه اخر:
منها: أن الأصل عدم الحجية، وعدم وقوع التعبد به وإيجاب
العمل به.
وفيه: أن الأصل وإن كان ذلك، إلا أنه لا يترتب على مقتضاه
شئ، فإن حرمة العمل (2) يكفي في موضوعها عدم العلم بورود التعبد،

(1) لم ترد في (ه‍): " المعلوم وجوب العمل بها "، وشطب عليها في (ت)، ووردت
بدلها فيهما: " الموجودة في مورده "، وفي هامش (ص): " الموجودة في مورده، خ ".
(2) في (ر) و (ص) زيادة: " بالظن "، وشطب عليها في (ت).
127

من غير حاجة إلى إحراز عدم ورود التعبد به ليحتاج في ذلك إلى
الأصل، ثم إثبات الحرمة.
والحاصل: أن أصالة عدم الحادث إنما يحتاج إليها في الأحكام
المترتبة على عدم ذلك الحادث، وأما الحكم المترتب على عدم العلم
بذلك الحادث فيكفي فيه الشك فيه، ولا يحتاج إلى إحراز عدمه
بحكم الأصل.
وهذا نظير قاعدة الاشتغال الحاكمة بوجوب اليقين بالفراغ، فإنه
لا يحتاج في إجرائها إلى إجراء أصالة عدم فراغ الذمة، بل يكفي فيها
عدم العلم بالفراغ، فافهم.
ومنها: أن الأصل هي إباحة العمل بالظن، لأنها الأصل في
الأشياء، حكاه بعض عن السيد المحقق الكاظمي (1).
وفيه - على تقدير صدق النسبة -:
أولا: أن إباحة التعبد بالظن غير معقول، إذ لا معنى لجواز التعبد
وتركه لا إلى بدل، غاية الأمر التخيير بين التعبد بالظن والتعبد بالأصل
أو الدليل الموجود هناك (2) في مقابله (3) الذي يتعين الرجوع إليه لولا
الظن، فغاية الأمر وجوب التعبد به أو بالظن تخييرا، فلا معنى للإباحة
التي هي الأصل في الأشياء.

(1) حكاه عنه السيد المجاهد في مفاتيح الأصول: 452، وانظر الوافي للمحقق
الكاظمي (مخطوط): الورقة 29.
(2) لم ترد " هناك " في (ل)، وردت بدلها في (ت)، (ظ)، (م) و (ه‍): " هنالك ".
(3) لم ترد " في مقابله " في (ظ) و (م)، وكتب عليها في (ت): " زائد ".
128

وثانيا: أن أصالة الإباحة إنما هي فيما لا يستقل العقل بقبحه،
وقد عرفت استقلال العقل بقبح التعبد بالظن من دون العلم بوروده من
الشارع.
ومنها: أن الأمر في المقام دائر بين الوجوب والتحريم، ومقتضاه
التخيير أو ترجيح جانب التحريم، بناء على أن دفع المفسدة أولى من
جلب المنفعة.
وفيه: منع الدوران، لأن عدم العلم بالوجوب كاف في ثبوت
التحريم، لما عرفت (1): من إطباق الأدلة الأربعة على عدم جواز التعبد
بما لم يعلم (2) وجوب التعبد (3) به من الشارع، ألا ترى: أنه إذا دار
الأمر بين رجحان عبادة وحرمتها، كفى عدم ثبوت الرجحان في ثبوت
حرمتها.
ومنها: أن الأمر في المقام دائر بين وجوب تحصيل مطلق
الاعتقاد بالأحكام الشرعية المعلومة إجمالا، وبين وجوب تحصيل
خصوص الاعتقاد القطعي، فيرجع إلى الشك في المكلف به وتردده بين
التخيير والتعيين، فيحكم بتعيين تحصيل خصوص الاعتقاد القطعي،
تحصيلا لليقين بالبراءة، خلافا لمن لم يوجب ذلك في مثل المقام.
وفيه:
أولا: أن وجوب تحصيل الاعتقاد بالأحكام مقدمة عقلية للعمل

(1) راجع الصفحة 125.
(2) كذا في (ظ) و (م)، وفي غيرهما: " لا يعلم ".
(3) لم ترد عبارة: " بما لم يعلم وجوب التعبد " في (ه‍).
129

بها وامتثالها، فالحاكم بوجوبه هو العقل، ولا معنى لتردد العقل في
موضوع حكمه، وأن الذي حكم هو بوجوبه تحصيل مطلق الاعتقاد
أو خصوص العلم، بل إما أن يستقل بوجوب تحصيل خصوص
الاعتقاد القطعي - على ما هو التحقيق -، وإما أن يحكم بكفاية مطلق
الاعتقاد. ولا يتصور الإجمال في موضوع الحكم العقلي، لأن التردد
في الموضوع يستلزم التردد في الحكم، وهو لا يتصور من نفس
الحاكم، وسيجئ الإشارة إلى هذا في رد من زعم أن نتيجة دليل
الانسداد مهملة مجملة، مع عده دليل الانسداد دليلا عقليا وحكما
يستقل به العقل.
وأما ثانيا: فلأن العمل بالظن في مورد مخالفته للأصول والقواعد
- الذي هو محل الكلام - مخالفة قطعية لحكم الشارع بوجوب الأخذ
بتلك الأصول حتى يعلم خلافها، فلا حاجة في رده إلى مخالفته لقاعدة
الاشتغال الراجعة إلى قدح المخالفة الاحتمالية للتكليف المتيقن.
مثلا: إذا فرضنا أن الاستصحاب يقتضي الوجوب، والظن حاصل
بالحرمة، فحينئذ يكون العمل بالظن مخالفة قطعية لحكم الشارع بعدم
نقض اليقين بغير اليقين، فلا يحتاج إلى تكلف أن التكليف بالواجبات
والمحرمات يقيني، ولا نعلم كفاية تحصيل مطلق الاعتقاد الراجح فيها،
أو وجوب تحصيل الاعتقاد القطعي وأن في تحصيل الاعتقاد الراجح
مخالفة احتمالية للتكليف المتيقن، فلا يجوز، فهذا أشبه شئ بالأكل
من القفا.
فقد تبين مما ذكرنا: أن ما ذكرنا في بيان الأصل هو الذي
ينبغي أن يعتمد عليه، وحاصله:
130

أن التعبد بالظن مع الشك في رضا الشارع بالعمل به في الشريعة
تعبد بالشك، وهو باطل عقلا ونقلا، وأما مجرد العمل على طبقه، فهو
محرم إذا خالف أصلا من الأصول اللفظية أو العملية الدالة على وجوب
الأخذ بمضمونها حتى يعلم الواقع (1).
فالعمل بالظن قد تجتمع فيه جهتان للحرمة، كما إذا عمل به
ملتزما أنه حكم الله وكان العمل (2) مخالفا لمقتضى الأصول.
وقد تتحقق فيه جهة واحدة، كما إذا خالف الأصل ولم يلتزم
بكونه حكم الله، أو التزم ولم يخالف مقتضى الأصول.
وقد لا يكون فيه عقاب أصلا، كما إذا لم يلتزم بكونه حكم الله
ولم يخالف أصلا، وحينئذ قد يستحق عليه (3) الثواب، كما إذا عمل به
على وجه الاحتياط.
هذا، ولكن حقيقة العمل بالظن هو الاستناد إليه في العمل والالتزام
بكون مؤداه حكم الله في حقه، فالعمل على ما يطابقه بلا استناد إليه
ليس عملا به، فصح أن يقال: إن العمل بالظن والتعبد به حرام مطلقا،
وافق الأصول أو خالفها، غاية الأمر أنه إذا خالف الأصول يستحق
العقاب من جهتين: من جهة الالتزام (4) والتشريع، ومن جهة طرح
الأصل المأمور بالعمل به حتى يعلم بخلافه.

(1) كذا في (ص) و (ظ) وظاهر (ل)، وفي غيرها: " الرافع ".
(2) في (ر)، (ص) و (ظ) زيادة: " به ".
(3) في (ت) و (ه‍): " عمله ".
(4) في (ظ): " الافتراء ".
131

وقد أشير في الكتاب والسنة إلى الجهتين:
فمما أشير فيه إلى الأولى قوله تعالى: * (قل آلله أذن لكم أم على
الله تفترون) * (1) بالتقريب المتقدم، وقوله (عليه السلام): " رجل قضى بالحق وهو
لا يعلم " (2).
ومما أشير فيه إلى الثانية قوله تعالى: * (إن الظن لا يغني من الحق
شيئا) * (3)، وقوله (عليه السلام): " من أفتى الناس بغير علم كان ما يفسده أكثر
مما يصلحه " (4)، ونفس أدلة الأصول.
ثم إن ما ذكرنا من الحرمة من جهتين مبني على ما هو التحقيق:
من أن اعتبار الأصول - لفظية كانت أو عملية - غير مقيد بصورة عدم
الظن على خلافها، وأما إذا قلنا باشتراط عدم كون الظن على خلافها،
فلقائل أن يمنع أصالة حرمة العمل بالظن مطلقا، لا على وجه الالتزام
ولا على غيره.
أما مع عدم تيسر العلم في المسألة، فلدوران الأمر فيها بين العمل
بالظن وبين الرجوع إلى الأصل الموجود في تلك المسألة على خلاف
الظن، وكما لا دليل على التعبد بالظن كذلك لا دليل على التعبد بذلك
الأصل، لأنه المفروض، فغاية الأمر التخيير بينهما، أو تقديم الظن،
لكونه أقرب إلى الواقع، فيتعين بحكم العقل.

(1) يونس: 59.
(2) الوسائل 18: 11، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6.
(3) يونس: 36.
(4) المستدرك 17: 248، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 14.
132

وأما مع التمكن من العلم في المسألة، فعدم (1) جواز الاكتفاء فيها
بتحصيل الظن ووجوب تحصيل اليقين، مبني على القول بوجوب تحصيل
الواقع علما، أما إذا ادعي أن العقل لا يحكم بأزيد من وجوب تحصيل
الظن، وأن الضرر الموهوم لا يجب دفعه، فلا دليل على لزوم تحصيل
العلم مع التمكن.
ثم إنه ربما يستدل على أصالة حرمة العمل بالظن بالآيات الناهية
عن العمل بالظن (2)، وقد أطالوا الكلام في النقض والإبرام في هذا المقام (3)
بما لا ثمرة مهمة في ذكره بعد ما عرفت.
لأنه إن أريد الاستدلال بها على حرمة التعبد والالتزام والتدين
بمؤدى الظن، فقد عرفت (4) أنه من ضروريات العقل، فضلا عن تطابق
الأدلة الثلاثة النقلية عليه.
وإن أريد دلالتها على حرمة العمل المطابق للظن وإن لم يكن عن
استناد إليه:
فإن أريد حرمته إذا خالف الواقع مع التمكن من العلم به، فيكفي
في ذلك الأدلة الواقعية.
وإن أريد حرمته إذا خالف الأصول مع عدم التمكن من العلم،
فيكفي فيه - أيضا - أدلة الأصول، بناء على ما هو التحقيق: من أن

(1) كذا في (ص)، وفي غيرها: " فلأن عدم ".
(2) يونس: 36، والإسراء: 36.
(3) انظر مفاتيح الأصول: 453، ومناهج الأحكام: 255.
(4) راجع الصفحة 125 - 126.
133

مجاريها صور عدم العلم الشامل للظن.
وإن أريد حرمة العمل المطابق للظن من دون استناد إليه
وتدين به، وعدم مخالفة العمل للواقع مع التمكن منه ولا لمقتضى
الأصول مع العجز عن الواقع، فلا دلالة فيها ولا في غيرها على حرمة
ذلك، ولا وجه لحرمته أيضا.
والظاهر: أن مضمون الآيات هو التعبد بالظن والتدين به، وقد
عرفت أنه ضروري التحريم، فلا مهم في إطالة الكلام في دلالة الآيات
وعدمها.
إنما المهم - الموضوع له هذه الرسالة (1) - بيان ما خرج أو قيل
بخروجه من هذا الأصل، من الأمور الغير العلمية التي أقيم الدليل على
اعتبارها مع قطع النظر عن انسداد باب العلم الذي جعلوه موجبا
للرجوع إلى الظن مطلقا أو في الجملة، وهي أمور:

(1) في (ه‍) بدل " هذه الرسالة ": " هذا المقصد ".
134

[الأمارات المستعملة في استنباط الأحكام]
[من ألفاظ الكتاب والسنة] (1)
منها: الأمارات المعمولة في استنباط الأحكام الشرعية من ألفاظ
الكتاب والسنة.
وهي على قسمين:
القسم الأول: ما يعمل لتشخيص مراد المتكلم عند احتمال إرادته
خلاف ذلك، كأصالة الحقيقة عند احتمال إرادة المجاز، وأصالة العموم
والإطلاق، ومرجع الكل إلى أصالة عدم القرينة الصارفة عن المعنى
الذي يقطع بإرادة المتكلم الحكيم له لو حصل القطع بعدم القرينة،
وكغلبة استعمال المطلق في الفرد الشائع بناء على عدم وصوله إلى حد
الوضع، وكالقرائن المقامية التي يعتمدها أهل اللسان (2) في محاوراتهم،
كوقوع الأمر عقيب توهم الحظر، ونحو ذلك، وبالجملة: الأمور المعتبرة
عند أهل اللسان في محاوراتهم بحيث لو أراد المتكلم القاصد للتفهيم
خلاف مقتضاها من دون نصب قرينة معتبرة، عد ذلك منه قبيحا.

(1) العنوان منا.
(2) في (ظ) و (م) بدل " أهل اللسان ": " العقلاء "، وفي (ت) و (ه‍): " عقلاء أهل
اللسان ".
135

و (1) القسم الثاني: ما يعمل لتشخيص أوضاع الألفاظ، وتمييز (2)
مجازاتها من حقائقها، وظواهرها عن خلافها، كتشخيص أن لفظ
" الصعيد " موضوع لمطلق وجه الأرض أو التراب الخالص؟ وتعيين أن
وقوع الأمر عقيب توهم الحظر هل يوجب ظهوره في الإباحة المطلقة؟
وأن الشهرة في المجاز المشهور هل توجب احتياج الحقيقة إلى القرينة
الصارفة عن الظهور العرضي المسبب من الشهرة، نظير احتياج المطلق
المنصرف إلى بعض أفراده؟
وبالجملة: فالمطلوب في هذا القسم أن اللفظ ظاهر في هذا المعنى
أو غير ظاهر؟ وفي القسم الأول أن الظاهر المفروغ عن كونه ظاهرا
مراد أو لا؟
والشك في الأول مسبب عن الأوضاع اللغوية والعرفية، وفي
الثاني عن اعتماد المتكلم على القرينة وعدمه.
فالقسمان من قبيل الصغرى والكبرى لتشخيص المراد (3).

(1) لم ترد " و " في (ر)، (ظ) و (م).
(2) كذا في (ت)، (ظ) و (ه‍)، وفي غيرها: " تشخيص ".
(3) لم ترد " فالقسمان - إلى - المراد " في (ت) و (ه‍)، وكتب عليها في (ص):
" زائد ".
136

أما القسم الأول:
فاعتباره في الجملة مما (1) لا إشكال فيه ولا خلاف، لأن
المفروض كون تلك الأمور معتبرة عند أهل اللسان في محاوراتهم
المقصود بها التفهيم، ومن المعلوم بديهة أن طريق محاورات الشارع في
تفهيم مقاصده للمخاطبين لم يكن طريقا مخترعا مغايرا لطريق محاورات
أهل اللسان في تفهيم مقاصدهم.
وإنما الخلاف والإشكال وقع في موضعين:
أحدهما: جواز العمل بظواهر الكتاب.
والثاني: أن العمل بالظواهر مطلقا في حق غير المخاطب بها قام
الدليل عليه بالخصوص - بحيث لا يحتاج إلى إثبات انسداد باب العلم
في الأحكام الشرعية - أم لا؟
والخلاف الأول ناظر إلى عدم كون المقصود بالخطاب استفادة
المطلب منه مستقلا.
والخلاف الثاني ناظر إلى منع كون المتعارف بين أهل اللسان
اعتماد غير من قصد إفهامه بالخطاب على ما يستفيده من الخطاب
بواسطة أصالة عدم القرينة عند التخاطب.
فمرجع كلا الخلافين إلى منع الصغرى. وأما الكبرى - أعني كون
الحكم عند الشارع في استنباط مراداته من خطاباته المقصود بها التفهيم،
ما هو المتعارف عند أهل اللسان في الاستفادة - فمما لا خلاف فيه
ولا إشكال.

(1) لم ترد " مما " في (ت)، (ر) و (ل).
137

[حجية ظواهر الكتاب] (1)
أما الكلام في الخلاف الأول، فتفصيله:
أنه ذهب جماعة من الأخباريين (2) إلى المنع عن العمل بظواهر
الكتاب من دون ما يرد التفسير وكشف المراد عن الحجج المعصومين
صلوات الله عليهم.
وأقوى ما يتمسك لهم على ذلك وجهان:
أحدهما: الأخبار المتواترة المدعى ظهورها في المنع عن ذلك:
مثل النبوي (صلى الله عليه وآله): " من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من
النار " (3).
وفي رواية أخرى: " من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ... " (4).

(1) العنوان منا.
(2) انظر الفوائد المدنية: 17 و 128، وشرح الوافية (مخطوط): 137 - 150،
والحدائق: 27 - 35، والدرر النجفية: 169 - 174، والفوائد الطوسية: 186.
(3) عوالي اللآلي 4: 104، الحديث 154.
(4) الوسائل 18: 140، الباب 13 من أبواب صفات القاضي، الحديث 35.
139

وفي نبوي ثالث: " من فسر القرآن برأيه فقد افترى على الله
الكذب " (1).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام): " من فسر القرآن برأيه إن أصاب
لم يؤجر، وإن أخطأ سقط (2) أبعد من السماء " (3).
وفي النبوي العامي: " من فسر القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ " (4).
وعن مولانا الرضا (عليه السلام)، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليهم السلام)،
قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله عز وجل قال في الحديث القدسي:
ما آمن بي من فسر كلامي برأيه، وما عرفني من شبهني بخلقي،
وما على ديني من استعمل القياس في ديني " (5).
وعن تفسير العياشي، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " قال: من حكم
برأيه بين اثنين فقد كفر، ومن فسر برأيه آية من كتاب الله فقد
كفر " (6).
وعن مجمع البيان: أنه قد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله) وعن الأئمة القائمين

(1) الوسائل 18: 140، الباب 13 من أبواب صفات القاضي، الحديث 37.
(2) في (م) بدل " سقط ": " لقد "، وفي الوسائل: " خر ".
(3) الوسائل 18: 149، الباب 13 من أبواب صفات القاضي، الحديث 66.
(4) الوسائل 18: 151، الباب 13 من أبواب صفات القاضي، الحديث 79،
وفيه: " فأصاب الحق ".
(5) الوسائل 18: 28، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 22.
(6) تفسير العياشي 1: 18، الحديث 6، والوسائل 18: 39، الباب 6 من أبواب
صفات القاضي، الحديث 45.
140

مقامه: أن تفسير القرآن لا يجوز إلا بالأثر الصحيح والنص الصريح (1).
وقوله (عليه السلام): " ليس شئ أبعد من عقول الرجال من تفسير
القرآن، إن الآية يكون أولها في شئ وآخرها في شئ، وهو كلام
متصل ينصرف إلى وجوه " (2).
وفي مرسلة شبيب (3) بن أنس، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال
لأبي حنيفة: " أنت فقيه أهل العراق؟ قال: نعم، قال: فبأي شئ تفتيهم؟
قال: بكتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله)، قال: يا أبا حنيفة، تعرف كتاب الله
حق معرفته، وتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: نعم، قال (عليه السلام):
يا أبا حنيفة، لقد ادعيت علما! ويلك، ما جعل الله ذلك إلا عند أهل
الكتاب الذين انزل عليهم، ويلك، ولا هو إلا عند الخاص من ذرية
نبينا محمد (صلى الله عليه وآله)، وما ورثك الله من كتابه حرفا " (4).
وفي رواية زيد الشحام، قال: " دخل قتادة على أبي جعفر (عليه السلام)،
فقال له: أنت فقيه أهل البصرة؟ فقال: هكذا يزعمون، فقال (عليه السلام):
بلغني أنك تفسر القرآن، قال: نعم... " - إلى أن قال له -: " يا قتادة،

(1) مجمع البيان 1: 13، والوسائل 18: 151، الباب 13 من أبواب صفات
القاضي، الحديث 78.
(2) تفسير العياشي 1: 12، الحديث 8، وقريب منه في الوسائل 18: 150،
الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 73.
(3) كذا في (ل) و (م) ونسخة بدل (ص) و (ه‍) والمصدر، وفي (ت)، (ر)، (ص)
و (ه‍): " شعيب ".
(4) الوسائل 18: 30، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 27.
141

إن كنت قد فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت، وإن
كنت قد فسرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت، ويحك يا قتادة، إنما
يعرف القرآن من خوطب به " (1).
إلى غير ذلك مما ادعى في الوسائل - في كتاب القضاء - تجاوزها
عن حد التواتر (2).
وحاصل هذا الوجه يرجع إلى: أن منع الشارع عن ذلك يكشف
عن أن مقصود المتكلم ليس تفهيم مطالبه بنفس هذا الكلام، فليس من
قبيل المحاورات العرفية.
والجواب عن الاستدلال بها:
أنها لا تدل على المنع عن العمل بالظواهر الواضحة المعنى بعد
الفحص عن نسخها وتخصيصها وإرادة خلاف ظاهرها في الأخبار، إذ
من المعلوم أن هذا لا يسمى تفسيرا، فإن أحدا من العقلاء إذا رأى في
كتاب مولاه أنه أمره بشئ بلسانه المتعارف في مخاطبته له - عربيا أو
فارسيا أو غيرهما - فعمل به وامتثله، لم يعد هذا تفسيرا، إذ التفسير
كشف القناع.
ثم لو سلم كون مطلق حمل اللفظ على معناه تفسيرا، لكن الظاهر
أن المراد بالرأي هو الاعتبار العقلي الظني الراجع إلى الاستحسان،
فلا يشمل حمل ظواهر الكتاب على معانيها اللغوية والعرفية.
وحينئذ: فالمراد بالتفسير بالرأي: إما حمل اللفظ على خلاف

(1) الوسائل 18: 136، الباب 13 من أبواب صفات القاضي، الحديث 25.
(2) الوسائل 18: 151، الباب 13 من أبواب صفات القاضي، ذيل الحديث 80.
142

ظاهره أو أحد احتماليه، لرجحان ذلك في نظره القاصر وعقله الفاتر.
ويرشد إليه: المروي عن مولانا الصادق (عليه السلام)، قال في حديث
طويل: " وإنما هلك الناس في المتشابه، لأنهم لم يقفوا على معناه
ولم يعرفوا حقيقته، فوضعوا له تأويلا من عند أنفسهم بآرائهم،
واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء (عليهم السلام) فيعرفونهم " (1).
وإما الحمل على ما يظهر له في بادئ الرأي من المعاني العرفية
واللغوية، من دون تأمل في الأدلة العقلية ومن دون تتبع في القرائن
النقلية، مثل الآيات الاخر الدالة على خلاف هذا المعنى، والأخبار
الواردة في بيان المراد منها وتعيين ناسخها من منسوخها.
ومما يقرب هذا المعنى الثاني وإن كان الأول أقرب عرفا: أن
المنهي في تلك الأخبار المخالفون الذين يستغنون بكتاب الله تعالى عن
أهل البيت (عليهم السلام)، بل يخطئونهم به، ومن المعلوم ضرورة من مذهبنا
تقديم نص الإمام (عليه السلام) على ظاهر القرآن، كما أن المعلوم ضرورة من
مذهبهم العكس.
ويرشدك إلى هذا: ما تقدم (2) في رد الإمام (عليه السلام) على أبي حنيفة
حيث إنه يعمل بكتاب الله، ومن المعلوم أنه إنما كان يعمل بظواهره،
لا أنه كان يؤوله بالرأي، إذ لا عبرة بالرأي عندهم مع الكتاب
والسنة.

(1) الوسائل 18: 148، الباب 13 من أبواب صفات القاضي، الحديث 62،
وليس فيه: " فيعرفونهم ".
(2) راجع الصفحة 141.
143

ويرشد إلى هذا: قول أبي عبد الله (عليه السلام) في ذم المخالفين: " إنهم
ضربوا القرآن بعضه ببعض، واحتجوا بالمنسوخ وهم يظنون أنه الناسخ،
واحتجوا بالخاص وهم يظنون أنه العام، واحتجوا بأول الآية وتركوا
السنة في تأويلها، ولم ينظروا إلى ما يفتح (1) الكلام وإلى ما يختمه،
ولم يعرفوا موارده ومصادره، إذ لم يأخذوه عن أهله فضلوا وأضلوا " (2).
وبالجملة: فالإنصاف يقتضي عدم الحكم بظهور الأخبار المذكورة
في النهي عن العمل بظاهر الكتاب بعد الفحص والتتبع في سائر الأدلة،
خصوصا الآثار الواردة عن المعصومين (عليهم السلام)، كيف ولو دلت على المنع
من العمل على هذا الوجه، دلت على عدم جواز العمل بأحاديث أهل
البيت (عليهم السلام).
ففي رواية سليم بن قيس الهلالي، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " إن
أمر النبي (صلى الله عليه وآله) مثل القرآن، منه ناسخ ومنسوخ، وخاص وعام، ومحكم
ومتشابه، وقد كان يكون من رسول الله (صلى الله عليه وآله) الكلام (3) له وجهان،
وكلام عام وكلام خاص، مثل القرآن " (4).
وفي رواية ابن مسلم: " إن الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن " (5).
هذا كله، مع معارضة الأخبار المذكورة بأكثر منها مما يدل على

(1) كذا في المصدر وفي النسخ زيادة: " به ".
(2) الوسائل 18: 148، الباب 13 من أبواب صفات القاضي، الحديث 62.
(3) كذا في المصدر، وفي النسخ زيادة: " يكون ".
(4) الوسائل 18: 153، الباب 14 من أبواب صفات القاضي، الحديث الأول.
(5) الوسائل 18: 77، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 4.
144

جواز التمسك بظاهر القرآن، مثل خبر الثقلين - المشهور بين الفريقين (1) -
وغيرها مما دل على الأمر بالتمسك بالقرآن والعمل بما فيه (2)، وعرض
الأخبار المتعارضة بل ومطلق الأخبار عليه (3)، ورد الشروط المخالفة
للكتاب في أبواب العقود (4)، والأخبار الدالة - قولا و (5) فعلا و (6) تقريرا -
على جواز التمسك بالكتاب.
مثل قوله (عليه السلام) لما قال زرارة: من أين علمت أن المسح ببعض
الرأس؟ فقال (عليه السلام): " لمكان الباء " (7)، فعرفه (عليه السلام) مورد استفادة الحكم
من ظاهر الكتاب.
وقول الصادق (عليه السلام) في مقام نهي الدوانيقي عن قبول خبر النمام:
" إنه فاسق، وقال الله: * (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا... الآية) * " (8).

(1) الوسائل 18: 19، الباب 5 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9، ومسند
أحمد بن حنبل 3: 14، وانظر كتاب حديث الثقلين للسيد علي الحسيني
الميلاني.
(2) مثل ما في الوسائل 11: 130، الباب 2 من أبواب جهاد النفس، الحديث 7.
(3) الوسائل 18: 75 - 80، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الأحاديث 1،
11، 18 و 19.
(4) الوسائل 12: 353، الباب 6 من أبواب الخيار، الحديث 2.
(5) في (م): " أو ".
(6) في (ظ)، (ل) و (م): " أو ".
(7) الوسائل 1: 291، الباب 23 من أبواب الوضوء، الحديث الأول.
(8) الوسائل 8: 619، الباب 164 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 10،
والآية من سورة الحجرات: 6.
145

وقوله (عليه السلام) لابنه إسماعيل: " إن الله عز وجل يقول: * (يؤمن بالله
ويؤمن للمؤمنين) *، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم " (1).
وقوله (عليه السلام) لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء،
اعتذارا بأنه لم يكن شيئا أتاه برجله: " أما سمعت قول الله عز وجل:
* (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) * " (2).
وقوله (عليه السلام) في تحليل العبد للمطلقة ثلاثا: " إنه زوج، قال الله عز
وجل: * (حتى تنكح زوجا غيره) * " (3)، وفي عدم تحليلها بالعقد المنقطع:
" إنه تعالى قال: * (فإن طلقها فلا جناح عليهما) * " (4).
وتقريره (عليه السلام) التمسك بقوله تعالى: * (والمحصنات من الذين أوتوا
الكتاب) *، وأنه نسخ بقوله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركات) * (5).
وقوله (عليه السلام) في رواية عبد الأعلى - في حكم من عثر، فوقع ظفره،
فجعل على إصبعه مرارة -: " إن هذا وشبهه يعرف من كتاب الله

(1) الوسائل 13: 230، الباب 6 من أحكام الوديعة، الحديث الأول، والآية من
سورة التوبة: 61.
(2) الوسائل 2: 957، الباب 18 من أبواب الأغسال المسنونة، الحديث الأول،
والآية من سورة الإسراء: 36.
(3) الوسائل 15: 370، الباب 12 من أبواب أقسام الطلاق، الحديث الأول،
والآية من سورة البقرة: 230.
(4) الوسائل 15: 369، الباب 9 من أبواب أقسام الطلاق، الحديث 4، والآية
من سورة البقرة: 230.
(5) الوسائل 14: 410، الباب الأول من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه، الحديث
3، والآيتان من سورتي المائدة: 5، والبقرة: 221.
146

* (ما جعل عليكم في الدين من حرج) *، ثم قال: امسح عليه " (1)،
فأحال (عليه السلام) معرفة حكم المسح على إصبعه المغطى بالمرارة إلى الكتاب،
موميا إلى أن هذا لا يحتاج إلى السؤال، لوجوده في ظاهر القرآن.
ولا يخفى: أن استفادة الحكم المذكور من ظاهر الآية الشريفة
مما لا يظهر إلا للمتأمل المدقق، نظرا إلى أن الآية الشريفة إنما تدل
على نفي وجوب الحرج، أعني المسح على نفس الإصبع، فيدور الأمر في
بادئ النظر بين سقوط المسح رأسا، وبين بقائه مع سقوط قيد
" مباشرة الماسح للممسوح "، فهو بظاهره لا يدل على ما حكم به
الإمام (عليه السلام)، لكن يعلم عند التأمل: أن الموجب للحرج هو اعتبار
المباشرة في المسح، فهو الساقط دون أصل المسح، فيصير نفي الحرج
دليلا على سقوط اعتبار المباشرة في المسح، فيمسح على الإصبع المغطى.
فإذا أحال الإمام (عليه السلام) استفادة مثل هذا الحكم إلى الكتاب،
فكيف يحتاج نفي وجوب الغسل أو الوضوء عند الحرج الشديد المستفاد
من ظاهر الآية المذكورة، أو غير ذلك من الأحكام التي يعرفها كل
عارف باللسان من ظاهر القرآن، إلى ورود التفسير بذلك من أهل
البيت (عليهم السلام).
ومن ذلك: ما ورد من أن المصلي أربعا في السفر إن قرئت عليه
آية القصر وجب عليه الإعادة، وإلا فلا (2)، وفي بعض الروايات: " إن

(1) الوسائل 1: 327، الباب 39 من أبواب الوضوء، الحديث 5. والآية من
سورة الحج: 78.
(2) مستدرك الوسائل 6: 539، الباب 12 من أبواب صلاة المسافر، الحديث
الأول.
147

قرئت عليه وفسرت له " (1).
والظاهر - ولو بحكم أصالة الإطلاق في باقي الروايات -: أن المراد
من تفسيرها له بيان أن المراد من قوله تعالى: * (فليس عليكم جناح أن
تقصروا) * (2) بيان الترخيص في أصل تشريع القصر وكونه مبنيا على
التخفيف، فلا ينافي تعين القصر على المسافر وعدم صحة الإتمام منه،
ومثل هذه المخالفة للظاهر يحتاج إلى التفسير بلا شبهة.
وقد ذكر زرارة ومحمد بن مسلم للإمام (عليه السلام): " إن الله تعالى
قال: * (فليس عليكم جناح) * (3)، ولم يقل: افعلوا، فأجاب (عليه السلام) بأنه من
قبيل قوله تعالى: * (فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف
بهما) * " (4).
وهذا - أيضا - يدل على تقرير الإمام (عليه السلام) لهما في التعرض
لاستفادة الأحكام من الكتاب والدخل والتصرف في ظواهره.
ومن ذلك: استشهاد الإمام (عليه السلام) بآيات كثيرة، مثل الاستشهاد
لحلية بعض النسوان بقوله تعالى: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * (5)، وفي

(1) الوسائل 5: 531، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 4.
(2) النساء: 101، وفي النسخ وردت الآية هكذا: " لا جناح عليكم أن
تقصروا ".
(3) في النسخ بدل " فليس عليكم جناح ": " لا جناح ".
(4) الوسائل 5: 538، الباب 22 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2، والآية
من سورة البقرة: 158.
(5) الوسائل 14: 377، الباب 30 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة، الحديث 11،
والآية من سورة النساء: 24.
148

عدم جواز طلاق العبد بقوله: * (عبدا مملوكا لا يقدر على شئ) * (1).
ومن ذلك: الاستشهاد لحلية بعض الحيوانات بقوله تعالى: * (قل لا
أجد في ما أوحي إلي محرما... الآية) * (2)، إلى غير ذلك مما لا يحصى.
الثاني من وجهي المنع:
أنا نعلم بطرو التقييد والتخصيص والتجوز في أكثر ظواهر
الكتاب، وذلك مما يسقطها عن الظهور.
وفيه:
أولا: النقض بظواهر السنة، فإنا نقطع بطرو مخالفة الظاهر في
أكثرها.
وثانيا: أن هذا لا يوجب السقوط، وإنما يوجب الفحص عما
يوجب مخالفة الظاهر.
فإن قلت: العلم الإجمالي بوجود مخالفات الظواهر لا يرتفع أثره
- وهو وجوب التوقف - بالفحص، ولذا لو تردد اللفظ بين معنيين، أو
علم إجمالا بمخالفة أحد الظاهرين لظاهره (3) - كما في العامين من وجه
وشبههما - وجب التوقف فيه ولو بعد الفحص.
قلت: هذه شبهة ربما تورد على من استدل على وجوب الفحص

(1) الوسائل 15: 341، الباب 43 من أبواب مقدمات الطلاق، الحديث 2،
والآية من سورة النحل: 75.
(2) الوسائل 16: 324، الباب 4 من أبواب كراهة لحوم الخيل والبغال، الحديث
6، والآية من سورة الأنعام: 145.
(3) كذا في (ظ)، (ل) و (م)، وفي (ر): " لظاهر الآخر ".
149

عن المخصص في العمومات بثبوت العلم الإجمالي بوجود المخصصات،
فإن العلم الإجمالي إما أن يبقى أثره ولو بعد العلم التفصيلي بوجود عدة
مخصصات، وإما أن لا يبقى، فإن بقي فلا يرتفع بالفحص، وإلا
فلا مقتضي للفحص.
وتندفع هذه الشبهة: بأن المعلوم إجمالا هو وجود مخالفات كثيرة
في الواقع فيما بأيدينا بحيث تظهر تفصيلا بعد الفحص، وأما وجود
مخالفات في الواقع زائدا على ذلك فغير معلوم، فحينئذ لا يجوز (1) العمل
قبل الفحص، لاحتمال وجود مخصص يظهر بالفحص (2)، ولا يمكن (3) نفيه
بالأصل، لأجل العلم الإجمالي، وأما بعد الفحص فاحتمال وجود
المخصص في الواقع ينفى بالأصل السالم عن العلم الإجمالي.
والحاصل: أن المنصف لا يجد فرقا بين ظواهر (4) الكتاب والسنة،
لا (5) قبل الفحص ولا (6) بعده.
ثم إنك قد عرفت (7): أن العمدة في منع الأخباريين من العمل
بظواهر الكتاب هي الأخبار المانعة عن تفسير القرآن، إلا أنه يظهر من

(1) في (ص)، (ر) و (ل): " فلا يجوز ".
(2) كذا في (ت)، (ل)، (ه‍) ونسخة بدل (ص)، وفي (ص)، (ر)، (ظ) و (م) بدل
" بالفحص ": " بعد الفحص ".
(3) في (ت)، (ل) و (ه‍): " ولا يمكنه ".
(4) في (ت)، (ل) و (ه‍): " ظاهر ".
(5) و (6) لم ترد " لا " في (ظ)، (ل) و (م).
(7) راجع الصفحة 139.
150

كلام السيد الصدر - شارح الوافية - في آخر كلامه: أن المنع عن العمل
بظواهر الكتاب هو مقتضى الأصل، والعمل بظواهر الأخبار خرج
بالدليل، حيث قال - بعد إثبات أن في القرآن محكمات وظواهر، وأنه
مما لا يصح إنكاره، وينبغي النزاع في جواز العمل بالظواهر، وأن
الحق مع الأخباريين - ما خلاصته:
أن التوضيح يظهر بعد مقدمتين:
الأولى: أن بقاء التكليف مما لا شك فيه، ولزوم العمل بمقتضاه
موقوف على الإفهام، وهو يكون في الأكثر بالقول، ودلالته في الأكثر
تكون ظنية، إذ مدار الإفهام على إلقاء الحقائق مجردة عن القرينة وعلى
ما يفهمون، وإن كان احتمال التجوز وخفاء القرينة باقيا.
الثانية: أن المتشابه كما يكون في أصل اللغة كذلك يكون بحسب
الاصطلاح، مثل أن يقول أحد: أنا أستعمل العمومات، وكثيرا ما أريد
الخصوص من غير قرينة، وربما أخاطب أحدا وأريد غيره، ونحو ذلك،
فحينئذ لا يجوز لنا القطع بمراده، ولا يحصل لنا الظن به، والقرآن من
هذا القبيل، لأنه نزل على اصطلاح خاص، لا أقول على وضع جديد،
بل أعم من أن يكون ذلك أو يكون فيه مجازات لا يعرفها العرب،
ومع ذلك قد وجدت فيه كلمات لا يعلم المراد منها كالمقطعات.
ثم قال (1):
قال سبحانه: * (منه آيات محكمات هن أم الكتاب واخر
متشابهات... الآية) * (2)، ذم على اتباع المتشابه، ولم يبين لهم المتشابهات

(1) لم ترد " قال " في غير (ص).
(2) آل عمران: 7.
151

ما هي؟ وكم هي؟ بل لم يبين لهم المراد من هذا اللفظ، وجعل البيان
موكولا إلى خلفائه، والنبي (صلى الله عليه وآله) نهى الناس عن التفسير بالآراء،
وجعلوا الأصل عدم العمل بالظن إلا ما أخرجه الدليل.
إذا تمهدت (1) المقدمتان، فنقول: مقتضى الأولى العمل بالظواهر،
ومقتضى الثانية عدم العمل، لأن ما صار متشابها لا يحصل الظن بالمراد
منه، وما بقى ظهوره مندرج في الأصل المذكور، فنطالب بدليل جواز
العمل، لأن الأصل الثابت عند الخاصة هو عدم جواز العمل بالظن إلا
ما أخرجه الدليل.
لا يقال: إن الظاهر من المحكم، ووجوب العمل بالمحكم إجماعي.
لأنا نمنع الصغرى، إذ المعلوم عندنا مساواة المحكم للنص، وأما
شموله للظاهر فلا.
إلى أن قال:
لا يقال: إن ما ذكرتم - لو تم - لدل على عدم جواز العمل
بظواهر الأخبار أيضا، لما فيها من الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه،
والعام (2) المخصص، والمطلق (3) المقيد.
لأنا نقول: إنا لو خلينا وأنفسنا، لعملنا بظواهر الكتاب والسنة
مع عدم نصب القرينة على خلافها، ولكن منعنا من ذلك في القرآن،
للمنع من اتباع المتشابه وعدم بيان حقيقته، ومنعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن
تفسير القرآن، ولا ريب في أن غير النص محتاج إلى التفسير.

(1) كذا في (ص)، وفي غيرها: " تمهد ".
(2) و (3) في غير (ل) و (م) زيادة " و "، وما أثبتناه مطابق للمصدر.
152

وأيضا: ذم الله تعالى على اتباع الظن وكذا الرسول (صلى الله عليه وآله)
وأوصياؤه (عليهم السلام)، ولم يستثنوا ظواهر القرآن.
إلى أن قال:
وأما الأخبار، فقد سبق أن أصحاب الأئمة (عليهم السلام) كانوا عاملين
بأخبار الآحاد (1) من غير فحص عن مخصص أو معارض ناسخ أو
مقيد، ولولا هذا لكنا في العمل بظواهر الأخبار أيضا من المتوقفين (2)،
انتهى.
أقول: وفيه مواقع للنظر، سيما في جعل العمل بظواهر الأخبار من
جهة قيام الإجماع العملي، ولولاه لتوقف في العمل بها أيضا، إذ لا يخفى
أن عمل أصحاب الأئمة (عليهم السلام) بظواهر الأخبار لم يكن لدليل شرعي
خاص وصل إليهم من أئمتهم، وإنما كان أمرا مركوزا في أذهانهم
بالنسبة إلى مطلق الكلام الصادر من المتكلم لأجل الإفادة والاستفادة،
سواء كان من الشارع أم غيره، وهذا المعنى جار في القرآن أيضا على
تقدير كونه ملقى للإفادة والاستفادة، على ما هو الأصل في خطاب كل
متكلم.
نعم، الأصل الأولي هي حرمة العمل بالظن، على ما عرفت
مفصلا، لكن الخارج منه ليس خصوص ظواهر الأخبار حتى يبقى
الباقي، بل الخارج منه هو مطلق الظهور الناشئ عن كلام كل متكلم
ألقى إلى غيره للإفهام.

(1) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " واحد ".
(2) شرح الوافية (مخطوط): 140 - 146.
153

ثم إن ما ذكره - من عدم العلم بكون الظواهر من المحكمات
واحتمال كونها من المتشابهات - ممنوع:
أولا: بأن المتشابه لا يصدق على الظواهر لا لغة ولا عرفا، بل
يصح سلبه عنه، فالنهي الوارد عن اتباع المتشابه لا يمنع، كما اعترف به
في المقدمة الأولى، من أن مقتضى القاعدة وجوب العمل بالظواهر.
وثانيا: بأن احتمال كونها من المتشابه لا ينفع في الخروج عن
الأصل الذي اعترف به.
ودعوى اعتبار العلم بكونها من المحكم هدم لما اعترف به من
أصالة حجية الظواهر، لأن مقتضى ذلك الأصل جواز العمل إلا أن
يعلم كونه (1) مما نهى الشارع عنه.
وبالجملة: فالحق ما اعترف به (قدس سره)، من أنا لو خلينا وأنفسنا
لعملنا بظواهر الكتاب، ولا بد للمانع من إثبات المنع.
ثم إنك قد عرفت مما ذكرنا: أن خلاف الأخباريين في ظواهر
الكتاب ليس في الوجه الذي ذكرنا، من اعتبار الظواهر اللفظية في
الكلمات الصادرة لإفادة المطالب (2) واستفادتها (3)، وإنما يكون خلافهم في
أن خطابات الكتاب لم يقصد بها استفادة المراد من أنفسها، بل بضميمة
تفسير أهل الذكر، أو أنها ليست بظواهر بعد احتمال كون محكمها من
المتشابه، كما عرفت من كلام السيد المتقدم (4).

(1) في (ظ): " كونها ".
(2) في (ص) و (ل): " المطلب ".
(3) في (ص): " استفادته ".
(4) أي السيد الصدر المتقدم كلامه في الصفحة 151.
154

وينبغي التنبيه على أمور:
الأول:
أنه ربما يتوهم (1) بعض (2): أن الخلاف في اعتبار ظواهر الكتاب
قليل الجدوى، إذ ليست آية متعلقة بالفروع أو الأصول (3) إلا و (4) ورد
في بيانها أو في الحكم الموافق لها خبر أو أخبار كثيرة، بل انعقد
الإجماع على أكثرها. مع أن جل آيات الأصول والفروع - بل كلها -
مما تعلق الحكم فيها بأمور مجملة لا يمكن العمل بها إلا بعد أخذ
تفصيلها من الأخبار (5)، انتهى.
أقول: ولعله قصر نظره على (6) الآيات الواردة في العبادات،
فإن أغلبها من قبيل ما ذكره، وإلا فالإطلاقات الواردة في المعاملات
مما يتمسك بها في الفروع الغير المنصوصة أو المنصوصة بالنصوص
المتكافئة، كثيرة جدا، مثل: * (أوفوا بالعقود) * (7)، و * (أحل الله البيع) * (8)،

(1) في (م) و (ه‍): " توهم ".
(2) وهو الفاضل النراقي.
(3) في (ت)، (ر) و (ه‍): " والأصول ".
(4) " و " من (م) و (ه‍).
(5) مناهج الأحكام: 156.
(6) كذا في (ت) و (ه‍)، وفي غيرهما: " إلى ".
(7) المائدة: 1.
(8) البقرة: 275.
155

و * (تجارة عن تراض) * (1)، و * (فرهان مقبوضة) * (2)، و * (لا تؤتوا السفهاء
أموالكم) * (3)، و * (لا تقربوا مال اليتيم) * (4)، و * (أحل لكم ما وراء
ذلكم) * (5)، و * (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) * (6)، و * (فلولا نفر من كل
فرقة) * (7)، و * (فسئلوا أهل الذكر) * (8)، و * (عبدا مملوكا لا يقدر على
شئ) * (9)، و * (ما على المحسنين من سبيل) * (10)، وغير ذلك مما
لا يحصى.
بل وفي العبادات أيضا كثيرة، مثل قوله تعالى: * (إنما المشركون
نجس فلا يقربوا المسجد الحرام) * (11)، وآيتي (12) التيمم والوضوء
والغسل (13).

(1) النساء: 29.
(2) البقرة: 283.
(3) النساء: 5.
(4) الأنعام: 152، والإسراء: 34.
(5) النساء: 24.
(6) الحجرات: 6.
(7) التوبة: 122.
(8) النحل: 43، والأنبياء: 7.
(9) النحل: 75.
(10) التوبة: 91.
(11) التوبة: 28.
(12) في (ت)، (ر)، (ص) و (ه‍): " آيات ".
(13) النساء: 43، والمائدة: 6.
156

وهذه العمومات وإن ورد فيها أخبار في الجملة، إلا أنه ليس كل فرع
مما يتمسك فيه بالآية ورد فيه خبر سليم عن المكافئ، فلاحظ وتتبع.
الثاني:
أنه إذا اختلفت (1) القراءة في الكتاب على وجهين مختلفين في
المؤدى، كما في قوله تعالى: * (حتى يطهرن) * (2)، حيث قرئ بالتشديد
من التطهر الظاهر في الاغتسال، وبالتخفيف (3) من الطهارة الظاهرة في
النقاء من الحيض، فلا يخلو: إما أن نقول بتواتر القراءات كلها كما هو
المشهور (4)، خصوصا في ما كان الاختلاف في المادة، وإما أن لا نقول
كما هو مذهب جماعة (5).
فعلى الأول: فهما بمنزلة آيتين تعارضتا، لا بد من الجمع بينهما
بحمل الظاهر على النص أو على الأظهر، ومع التكافؤ لا بد من الحكم
بالتوقف والرجوع إلى غيرهما (6).

(1) كذا في (خ)، (د)، (ف) و (ن)، وفي نسخنا: " اختلف ".
(2) البقرة: 222.
(3) في (ت)، (ر)، (ص) و (ل): " والتخفيف ".
(4) انظر القوانين 1: 406، ومفاتيح الأصول: 322، ومناهج الأحكام: 150،
وشرح الوافية (مخطوط): 153 - 154.
(5) ذكرهم في القوانين ومفاتيح الأصول، وذهب إليه الفاضل النراقي في المناهج
أيضا.
(6) في هامش (م) زيادة العبارة التالية: " قال البيضاوي عند تفسير قوله تعالى:
* (حتى يطهرن) *: إن القراءتين آيتان يعمل بهما، ثم فرع على ذلك ما لا يخلو
تفرعه عن بحث ".
157

وعلى الثاني: فإن ثبت جواز الاستدلال بكل قراءة - كما ثبت
بالإجماع جواز القراءة بكل قراءة - كان الحكم كما تقدم، وإلا فلا بد
من التوقف في محل التعارض والرجوع إلى القواعد مع عدم المرجح، أو
مطلقا بناء على عدم ثبوت الترجيح هنا (1)، فيحكم باستصحاب الحرمة
قبل الاغتسال، إذ لم يثبت تواتر التخفيف، أو بالجواز بناء على عموم
قوله تعالى: * (فأتوا حرثكم أنى شئتم) * (2) من حيث الزمان خرج منه
أيام الحيض على الوجهين في كون المقام من استصحاب حكم المخصص
أو العمل بالعموم الزماني.
الثالث:
أن وقوع التحريف في القرآن - على القول به - لا يمنع من التمسك
بالظواهر، لعدم العلم الإجمالي باختلال الظواهر بذلك. مع أنه لو علم
لكان من قبيل الشبهة الغير المحصورة. مع أنه لو كان من قبيل الشبهة
المحصورة أمكن القول بعدم قدحه، لاحتمال كون الظاهر المصروف عن
ظاهره من الظواهر الغير المتعلقة بالأحكام الشرعية العملية التي أمرنا
بالرجوع فيها إلى ظاهر الكتاب، فافهم.
الرابع:
قد يتوهم (3): أن وجوب العمل بظواهر الكتاب بالإجماع مستلزم
لعدم جواز العمل بظواهره (4)، لأن من تلك الظواهر ظاهر الآيات

(1) في (ص) و (ه‍) زيادة: " كما هو الظاهر ".
(2) البقرة: 223.
(3) ذكره المحقق القمي في القوانين 2: 109.
(4) كذا في (ظ)، (ل) و (م)، وفي غيرها: " بظاهره ".
158

الناهية عن العمل بالظن مطلقا حتى ظواهر الكتاب.
وفيه: أن فرض وجود الدليل على حجية الظواهر موجب لعدم
ظهور الآيات الناهية في حرمة العمل بالظواهر.
مع أن ظواهر الآيات الناهية لو نهضت للمنع عن ظواهر الكتاب
لمنعت عن حجية أنفسها، إلا أن يقال: إنها لا تشمل أنفسها، فتأمل.
وبإزاء هذا التوهم توهم: أن خروج ظواهر الكتاب عن الآيات
الناهية ليس من باب التخصيص، بل من باب التخصص، لأن وجود
القاطع على حجيتها يخرجها عن غير العلم إلى العلم.
وفيه ما لا يخفى.
159

[حجية الظواهر بالنسبة إلى من لم يقصد إفهامه] (1)
وأما التفصيل الآخر:
فهو الذي يظهر من صاحب القوانين - في آخر مسألة حجية
الكتاب (2)، وفي أول مسألة الاجتهاد والتقليد (3) - وهو: الفرق بين من
قصد إفهامه بالكلام، فالظواهر حجة بالنسبة إليه من باب الظن الخاص
- سواء كان مخاطبا كما في الخطابات الشفاهية، أم لا كما في الناظر في
الكتب المصنفة لرجوع كل من ينظر إليها - وبين من لم يقصد إفهامه
بالخطاب، كأمثالنا بالنسبة إلى أخبار الأئمة (عليهم السلام) الصادرة عنهم في مقام
الجواب عن سؤال السائلين، وبالنسبة إلى الكتاب العزيز بناء على عدم
كون خطاباته موجهة إلينا وعدم كونه من باب تأليف المصنفين،
فالظهور اللفظي ليس حجة حينئذ لنا، إلا من باب الظن المطلق الثابت
حجيته عند انسداد باب العلم.
ويمكن توجيه هذا التفصيل: بأن الظهور اللفظي ليس حجة إلا
من باب الظن النوعي، وهو كون اللفظ بنفسه - لو خلي وطبعه - مفيدا
للظن بالمراد، فإذا (4) كان مقصود المتكلم من الكلام إفهام من يقصد

(1) العنوان منا.
(2) القوانين 1: 398 - 403.
(3) القوانين 2: 103.
(4) في (ت)، (ر)، (ص) و (ل): " فإن ".
160

إفهامه، فيجب عليه إلقاء الكلام على وجه لا يقع معه الملقى إليه في
خلاف المراد (1)، بحيث لو فرض وقوعه في خلاف المقصود كان إما لغفلة
منه في الالتفات إلى ما اكتنف به الكلام الملقى إليه (2)، وإما لغفلة من
المتكلم في إلقاء الكلام على وجه يفي بالمراد، ومعلوم أن احتمال الغفلة
من المتكلم أو (3) السامع احتمال مرجوح في نفسه، مع انعقاد الإجماع من
العقلاء والعلماء على عدم الاعتناء باحتمال الغفلة في جميع أمور العقلاء،
أقوالهم وأفعالهم.
وأما إذا لم يكن الشخص مقصودا بالإفهام، فوقوعه في خلاف
المقصود لا ينحصر سببه في الغفلة، فإنا إذا لم نجد في آية أو رواية ما
يكون صارفا عن ظاهرها، واحتملنا أن يكون المخاطب قد فهم المراد
بقرينة قد اختفت (4) علينا، فلا يكون هذا الاحتمال لأجل غفلة من المتكلم
أو منا، إذ لا يجب على المتكلم إلا نصب القرينة لمن يقصد إفهامه.
مع أن عدم تحقق الغفلة من المتكلم في محل الكلام مفروض،
لكونه معصوما، وليس اختفاء القرينة علينا مسببا عن غفلتنا عنها، بل
لدواعي الاختفاء الخارجة عن مدخلية المتكلم ومن القي إليه الكلام.

(1) كذا في (م)، وفي (ر)، (ص) و (ل): " على وجه لا يقع المخاطب معه في
خلاف المراد "، وفي (ه‍): " على وجه لا يقع المخاطب الملقى إليه معه في خلاف
المراد "، وفي (ت) و (ظ): " على وجه لا يقع الملقى إليه في خلاف المراد ".
(2) لم ترد " الملقى إليه " في (ظ)، (ل) و (م)، وكتب عليها في (ت): " زائد ".
(3) في (ت)، (ل) و (ه‍): " و ".
(4) في (ر)، (ص) و (ل): " أخفيت ".
161

فليس هنا شئ يوجب بنفسه الظن بالمراد حتى لو فرضنا
الفحص، فاحتمال وجود القرينة حين الخطاب واختفائه علينا، ليس هنا
ما يوجب مرجوحيته حتى لو تفحصنا عنها ولم نجدها، إذ لا يحكم
العادة - ولو ظنا - بأنها لو كانت لظفرنا بها، إذ كثير (1) من الأمور قد
اختفت علينا، بل لا يبعد دعوى العلم بأن ما اختفى علينا من الأخبار
والقرائن أكثر مما ظفرنا بها.
مع أنا لو سلمنا حصول الظن بانتفاء القرائن المتصلة، لكن
القرائن الحالية وما اعتمد عليه المتكلم من الأمور العقلية أو النقلية
الكلية أو الجزئية المعلومة عند المخاطب الصارفة لظاهر الكلام، ليست
مما يحصل الظن بانتفائها بعد البحث والفحص.
ولو فرض حصول الظن من الخارج بإرادة الظاهر من الكلام لم
يكن ذلك ظنا مستندا إلى الكلام، كما نبهنا عليه في أول المبحث (2).
وبالجملة: فظواهر الألفاظ حجة - بمعنى عدم الاعتناء باحتمال
إرادة خلافها - إذا كان منشأ ذلك الاحتمال غفلة المتكلم في كيفية
الإفادة أو المخاطب في كيفية الاستفادة، لأن احتمال الغفلة مما هو
مرجوح في نفسه ومتفق على عدم الاعتناء به في جميع الأمور، دون ما
إذا (3) كان الاحتمال مسببا عن اختفاء أمور لم تجر العادة القطعية أو
الظنية بأنها لو كانت لوصلت إلينا.

(1) في (ظ)، (ل) و (م): " كثيرا ".
(2) راجع الصفحة 161.
(3) لم ترد " إذا " في (ت)، (ر) و (ل).
162

ومن هنا ظهر: أن ما ذكرنا سابقا (1) - من اتفاق العقلاء والعلماء
على العمل بظواهر الكلام في الدعاوي، والأقارير، والشهادات،
والوصايا، والمكاتبات - لا ينفع في رد هذا التفصيل، إلا أن يثبت كون
أصالة عدم القرينة حجة من باب التعبد، ودون إثباتها خرط القتاد.
ودعوى: أن الغالب اتصال القرائن، فاحتمال اعتماد المتكلم على
القرينة المنفصلة مرجوح لندرته.
مردودة: بأن من المشاهد المحسوس تطرق التقييد والتخصيص إلى
أكثر العمومات والإطلاقات مع عدم وجوده في الكلام، وليس إلا
لكون الاعتماد في ذلك كله على القرائن المنفصلة، سواء كانت منفصلة
عند الاعتماد كالقرائن العقلية والنقلية الخارجية، أم كانت مقالية متصلة
لكن عرض لها الانفصال بعد ذلك، لعروض التقطيع للأخبار، أو (2)
حصول التفاوت من جهة النقل بالمعنى، أو غير ذلك، فجميع ذلك مما
لا يحصل الظن بأنها لو كانت لوصلت إلينا.
مع إمكان أن يقال: إنه لو حصل الظن لم يكن على اعتباره
دليل خاص. نعم، الظن الحاصل في مقابل احتمال الغفلة الحاصلة
للمخاطب أو المتكلم مما أطبق عليه العقلاء في جميع أقوالهم وأفعالهم.
هذا غاية ما يمكن من التوجيه لهذا التفصيل.
ولكن الإنصاف: أنه لا فرق في العمل بالظهور اللفظي وأصالة
عدم الصارف عن الظاهر بين من قصد إفهامه ومن لم يقصد، فإن جميع

(1) راجع الصفحة 161.
(2) في (ه‍): " و ".
163

ما دل من إجماع العلماء وأهل اللسان على حجية الظاهر بالنسبة إلى
من قصد إفهامه جار في من لم يقصد، لأن أهل اللسان إذا نظروا إلى
كلام صادر من متكلم إلى مخاطب، يحكمون بإرادة ظاهره منه إذا لم
يجدوا قرينة صارفة بعد الفحص في مظان وجودها، ولا يفرقون في
استخراج مرادات المتكلمين بين كونهم مقصودين بالخطاب وعدمه، فإذا
وقع المكتوب الموجه من شخص إلى شخص بيد ثالث، فلا يتأمل في
استخراج مرادات المتكلم من الخطاب الموجه (1) إلى المكتوب إليه، فإذا
فرضنا اشتراك هذا الثالث مع المكتوب إليه فيما أراد المولى منه (2)،
فلا يجوز له الاعتذار في ترك الامتثال بعدم الاطلاع على مراد المولى،
وهذا واضح لمن راجع الأمثلة العرفية.
هذا حال أهل اللسان في الكلمات الواردة إليهم، وأما العلماء
فلا خلاف بينهم في الرجوع إلى أصالة الحقيقة في الألفاظ المجردة عن
القرائن الموجهة من متكلم إلى مخاطب، سواء كان ذلك في الأحكام
الجزئية، كالوصايا الصادرة عن الموصي المعين إلى شخص معين، ثم
مست الحاجة إلى العمل بها مع فقد الموصى إليه، فإن العلماء لا يتأملون
في الإفتاء بوجوب العمل بظاهر ذلك الكلام الموجه إلى الموصى إليه
المفقود (3). وكذا في الأقارير.
أم كان في الأحكام الكلية، كالأخبار الصادرة عن الأئمة (عليهم السلام)

(1) في (ت)، (ر) و (ص): " المتوجه ".
(2) في غير (ت) و (ه‍): " منهم ".
(3) كذا في (ص)، (ظ)، (م) ونسخة بدل (ر)، وفي غيرها: " المقصود ".
164

مع كون المقصود منها تفهيم مخاطبيهم (1) لا غير، فإنه لم (2) يتأمل أحد
من العلماء في استفادة الأحكام من ظواهرها معتذرا بعدم الدليل على
حجية أصالة عدم القرينة بالنسبة إلى غير المخاطب ومن قصد إفهامه.
ودعوى: كون ذلك منهم للبناء على كون الأخبار الصادرة عنهم (عليهم السلام)
من قبيل تأليف المصنفين، واضحة الفساد.
مع أنها لو صحت لجرت في الكتاب العزيز، فإنه أولى بأن يكون
من هذا القبيل، فترتفع ثمرة التفصيل المذكور، لأن المفصل معترف (3) بأن
ظاهر الكلام الذي هو من قبيل تأليف المؤلفين حجة بالخصوص، لا لدخوله
في مطلق الظن، وإنما كلامه في اعتبار ظهور الكلام الموجه إلى مخاطب
خاص بالنسبة إلى غيره.
والحاصل: أن القطع حاصل لكل متتبع في طريقة فقهاء المسلمين،
بأنهم يعملون بظواهر الأخبار من دون ابتناء ذلك على حجية الظن
المطلق الثابتة بدليل الانسداد، بل يعمل بها من يدعي الانفتاح وينكر
العمل بأخبار الآحاد، مدعيا كون معظم الفقه معلوما بالإجماع والأخبار
المتواترة.
ويدل على ذلك أيضا: سيرة أصحاب الأئمة (عليهم السلام)، فإنهم كانوا
يعملون بظواهر الأخبار الواردة إليهم من الأئمة الماضين (عليهم السلام) (4)،

(1) كذا في (ت) و (ه‍)، وفي غيرهما: " مخاطبهم ".
(2) في (ر)، (ص) و (ل): " لا ".
(3) في (ر)، (ص) وظاهر (ل): " اعترف ".
(4) لم ترد عبارة " من الأئمة الماضين (عليهم السلام) " في (ر)، (م)، (ص) و (ظ)، ولم ترد
" الماضين " في (ت).
165

كما (1) يعملون بظواهر الأقوال التي يسمعونها (2) من أئمتهم (عليهم السلام)، لا يفرقون
بينهما إلا بالفحص وعدمه، كما سيأتي (3).
والحاصل: أن الفرق في حجية أصالة الحقيقة وعدم القرينة بين
المخاطب وغيره مخالف للسيرة القطعية من العلماء وأصحاب الأئمة (عليهم السلام).
هذا كله، مع أن التوجيه المذكور لذلك التفصيل - لابتنائه على
الفرق بين أصالة عدم الغفلة والخطأ في فهم المراد، وبين مطلق أصالة
عدم القرينة - يوجب عدم كون ظواهر الكتاب من الظنون المخصوصة
وإن قلنا بشمول الخطاب للغائبين، لعدم جريان أصالة عدم الغفلة في
حقهم مطلقا.
فما ذكره - من ابتناء كون ظواهر الكتاب ظنونا مخصوصة على
شمول الخطاب للغائبين - غير سديد، لأن الظن المخصوص إن كان
هو الحاصل من المشافهة الناشئ عن ظن عدم الغفلة والخطأ، فلا يجري
في حق الغائبين وإن قلنا بشمول الخطاب لهم، وإن كان هو الحاصل
من أصالة عدم القرينة فهو جار في الغائبين وإن لم يشملهم
الخطاب.
ومما يمكن أن يستدل به أيضا - زيادة على ما مر من اشتراك
أدلة حجية الظواهر، من إجماعي العلماء وأهل اللسان -: ما ورد في
الأخبار المتواترة معنى، من الأمر بالرجوع إلى الكتاب وعرض الأخبار

(1) في (ص) زيادة: " كانوا ".
(2) في (ظ) و (م): " سمعوها ".
(3) انظر الصفحة 347.
166

عليه (1)، فإن هذه الظواهر المتواترة حجة للمشافهين بها، فيشترك غير
المشافهين ويتم (2) المطلوب، كما لا يخفى.
ومما ذكرنا تعرف النظر فيما ذكره المحقق القمي (رحمه الله) - بعد ما ذكر
من عدم حجية ظواهر الكتاب بالنسبة إلينا بالخصوص - بقوله:
فإن قلت: إن أخبار الثقلين تدل على كون ظاهر الكتاب حجة
لغير المشافهين بالخصوص.
فأجاب عنه: بأن رواية الثقلين ظاهرة في ذلك، لاحتمال كون
المراد التمسك بالكتاب بعد ورود تفسيره عن الأئمة (عليهم السلام) كما يقوله
الأخباريون، وحجية ظاهر رواية الثقلين بالنسبة إلينا مصادرة، إذ
لا فرق بين ظواهر الكتاب والسنة في حق غير المشافهين بها (3).
توضيح النظر: أن العمدة في حجية ظواهر الكتاب غير خبر
الثقلين من الأخبار المتواترة الآمرة باستنباط الأحكام من ظواهر
الكتاب (4)، وهذه الأخبار تفيد القطع بعدم إرادة الاستدلال بظواهر
الكتاب بعد ورود تفسيرها من الأئمة صلوات الله عليهم، وليست ظاهرة
في ذلك حتى يكون التمسك بظاهرها لغير المشافهين بها مصادرة.

(1) انظر الوسائل 4: 828، الباب 3 من أبواب قراءة القرآن، و 18: 75 -
89، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الأحاديث 1، 10، 12، 14، 15،
18، 29، 35 و 37، والكافي 1: 59، باب الرد إلى الكتاب والسنة.
(2) في (ت) و (ر): " فيتم ".
(3) القوانين 2: 104.
(4) تقدمت الإشارة إلى كثير منها في الصفحة 145 - 149.
167

بل يمكن أن يقال: إن خبر الثقلين ليس له ظهور (1) إلا في
وجوب إطاعتهما وحرمة مخالفتهما، وليس في مقام اعتبار الظن الحاصل
بهما في تشخيص الإطاعة والمعصية، فافهم.
ثم إن لصاحب المعالم (رحمه الله) في هذا المقام كلاما يحتمل التفصيل
المتقدم (2)، لا بأس بالإشارة إليه، قال - في الدليل الرابع من أدلة حجية
خبر الواحد، بعد ذكر انسداد باب العلم في غير الضروري من الأحكام،
لفقد الإجماع والسنة المتواترة، ووضوح كون أصل البراءة لا يفيد غير
الظن، وكون الكتاب ظني الدلالة - ما لفظه:
لا يقال: إن الحكم المستفاد من ظاهر الكتاب مقطوع لا مظنون،
وذلك بضميمة مقدمة خارجية، وهي قبح خطاب الحكيم بما له ظاهر
وهو يريد خلافه من غير دلالة تصرف عن ذلك الظاهر.
سلمنا، ولكن ذلك ظن مخصوص، فهو من قبيل الشهادة لا يعدل
عنه إلى غيره إلا بدليل.
لأنا نقول: أحكام الكتاب - كلها - من قبيل خطاب المشافهة،
وقد مر أنه مخصوص بالموجودين في زمن الخطاب، وأن ثبوت حكمه
في حق من تأخر إنما هو بالإجماع وقضاء الضرورة باشتراك التكليف
بين الكل، وحينئذ: فمن الجائز أن يكون قد اقترن ببعض تلك الظواهر
ما يدلهم على إرادة خلافها، وقد وقع ذلك في مواضع علمناها بالإجماع

(1) وردت العبارة في (ص)، (ل) ونسخة بدل (ه‍) هكذا: " وأما خبر الثقلين
فيمكن منع ظهوره ".
(2) المتقدم في الصفحة 160.
168

ونحوه، فيحتمل الاعتماد في تعريفنا لسائرها على الأمارات المفيدة للظن
القوي، وخبر الواحد من جملتها، ومع قيام هذا الاحتمال ينفى القطع بالحكم.
ويستوي حينئذ: الظن المستفاد من ظاهر الكتاب والحاصل من
غيره بالنظر إلى إناطة التكليف به، لابتناء الفرق بينهما على كون
الخطاب متوجها إلينا، وقد تبين خلافه. ولظهور اختصاص الإجماع
والضرورة - الدالين على المشاركة في التكليف المستفاد من ظاهر
الكتاب - بغير صورة وجود الخبر الجامع للشرائط الآتية المفيدة للظن (1) (2)،
انتهى كلامه، رفع مقامه.
ولا يخفى: أن في كلامه (قدس سره) - على إجماله واشتباه المراد منه، كما
يظهر من المحشين - مواقع للنظر والتأمل.
* * *
ثم إنك قد عرفت: أن مناط الحجية والاعتبار في دلالة الألفاظ
هو الظهور العرفي، وهو كون الكلام بحيث يحمل عرفا على ذلك المعنى
ولو بواسطة القرائن المقامية المكتنفة بالكلام، فلا فرق بين إفادته الظن
بالمراد وعدمها، ولا بين وجود الظن الغير المعتبر على خلافه وعدمه،
لأن ما ذكرنا من الحجة على العمل بها جار في جميع الصور المذكورة.
وما ربما يظهر من العلماء: من التوقف في العمل بالخبر الصحيح
المخالف لفتوى المشهور أو طرحه، مع اعترافهم بعدم حجية الشهرة،
فليس من جهة مزاحمة الشهرة لدلالة الخبر الصحيح من عموم أو

(1) في المصدر وهامش (ص) زيادة: " الراجح بأن التكليف بخلاف ذلك الظاهر ".
(2) المعالم: 193 - 194.
169

إطلاق، بل من جهة مزاحمتها للخبر من حيث الصدور، بناء على أن ما
دل من الدليل على حجية الخبر (1) من حيث السند لا يشمل المخالف
للمشهور، ولذا لا يتأملون في العمل بظواهر الكتاب والسنة المتواترة إذا
عارضها الشهرة.
فالتأمل في الخبر المخالف للمشهور إنما هو إذا خالفت الشهرة نفس
الخبر، لا عمومه أو إطلاقه، فلا يتأملون في عمومه إذا كانت الشهرة
على التخصيص.
نعم، ربما يجري على لسان بعض متأخري المتأخرين من
المعاصرين (2)، عدم الدليل على حجية الظواهر إذا لم تفد الظن، أو إذا
حصل الظن الغير المعتبر على خلافها.
لكن الإنصاف: أنه مخالف لطريقة أرباب اللسان والعلماء في كل
زمان، ولذا عد بعض الأخباريين (3) - كالأصوليين (4) - استصحاب حكم
العام والمطلق حتى يثبت المخصص والمقيد من الاستصحابات المجمع
عليها، وهذا وإن لم يرجع إلى الاستصحاب المصطلح إلا بالتوجيه، إلا
أن الغرض من الاستشهاد به بيان كون هذه القاعدة إجماعية.
وربما فصل بعض من المعاصرين (5) تفصيلا يرجع حاصله إلى: أن

(1) في (ت)، (ر)، (ه‍) ونسخة بدل (ص) زيادة: " الواحد ".
(2) قيل: هو المحقق الكلباسي، وسيأتي من المصنف في الصفحة 591 أنه حكاه
له بعض معاصريه عن شيخه.
(3) هو المحدث البحراني في الدرر النجفية: 34.
(4) انظر تمهيد القواعد: 271، والقواعد والفوائد 1: 133.
(5) هو الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين: 40.
170

الكلام إن كان مقرونا بحال أو مقال يصلح أن يكون صارفا عن المعنى
الحقيقي، فلا يتمسك فيه بأصالة الحقيقة، وإن كان الشك في أصل وجود
الصارف أو كان هنا أمر منفصل يصلح لكونه صارفا، فيعمل على
أصالة الحقيقة.
وهذا تفصيل حسن متين، لكنه تفصيل في العمل بأصالة الحقيقة
عند الشك في الصارف، لا في حجية الظهور اللفظي، بل مرجعه (1) إلى
تعيين الظهور العرفي وتمييزه عن موارد الإجمال، فإن اللفظ في القسم
الأول يخرج عن الظهور إلى الإجمال بشهادة العرف، ولذا توقف جماعة
في المجاز المشهور، والعام المتعقب بضمير يرجع إلى بعض أفراده،
والجمل المتعددة المتعقبة للاستثناء، والأمر والنهي الواردين في مظان
الحظر والإيجاب (2)، إلى غير ذلك مما احتف اللفظ بحال أو مقال يصلح
لكونه صارفا، ولم يتوقف أحد في عام بمجرد احتمال دليل منفصل يحتمل
كونه مخصصا له، بل ربما يعكسون الأمر فيحكمون بنفي ذلك الاحتمال
وارتفاع الإجمال لأجل ظهور العام، ولذا لو قال المولى: أكرم العلماء،
ثم ورد قول آخر من المولى: إنه لا تكرم زيدا، واشترك زيد بين عالم
وجاهل، فلا يرفع اليد عن العموم بمجرد الاحتمال، بل يرفعون الإجمال
بواسطة العموم، فيحكمون بإرادة زيد الجاهل من النهي.
وبإزاء التفصيل المذكور تفصيل آخر ضعيف، وهو: أن احتمال

(1) في (ر)، (ص) و (ه‍): " ومرجعه ".
(2) انظر المعالم: 53، 90، 137 و 121، والقوانين 1: 88، 89، 136، 283
و 300.
171

إرادة خلاف مقتضى اللفظ إن حصل من أمارة غير معتبرة، فلا يصح
رفع اليد عن الحقيقة، وإن حصل من دليل معتبر فلا يعمل بأصالة
الحقيقة، ومثل له بما إذا ورد في السنة المتواترة عام، وورد فيها أيضا
خطاب مجمل يوجب الإجمال في ذلك العام ولا يوجب الظن بالواقع.
قال: فلا دليل على لزوم العمل بالأصل تعبدا. ثم قال:
ولا يمكن دعوى الإجماع على لزوم العمل بأصالة الحقيقة تعبدا،
فإن أكثر المحققين توقفوا في ما إذا تعارض الحقيقة المرجوحة مع المجاز
الراجح (1)، انتهى.
ووجه ضعفه يظهر مما ذكر، فإن التوقف في ظاهر خطاب لأجل
إجمال (2) خطاب آخر - لكونه معارضا - مما لم يعهد من أحد من العلماء،
بل لا يبعد ما تقدم (3): من حمل المجمل في أحد الخطابين على المبين في
الخطاب الآخر.
وأما قياس ذلك على مسألة تعارض الحقيقة المرجوحة مع المجاز
الراجح، فعلم فساده مما ذكرنا في التفصيل المتقدم: من أن الكلام
المكتنف بما يصلح أن يكون صارفا قد اعتمد عليه المتكلم في إرادة
خلاف الحقيقة لا يعد من الظواهر، بل من المجملات، وكذلك المتعقب
بلفظ يصلح للصارفية، كالعام المتعقب بالضمير، وشبهه مما تقدم.

(1) هذا التفصيل للسيد المجاهد في مفاتيح الأصول: 35 - 36.
(2) في (ت)، (ر)، (ظ)، (ل)، (م) و (ه‍): " احتمال ".
(3) في الصفحة السابقة.
172

وأما القسم الثاني (1):
وهو الظن الذي يعمل لتشخيص الظواهر، كتشخيص أن اللفظ
المفرد الفلاني كلفظ " الصعيد " أو صيغة " افعل "، أو أن المركب الفلاني
كالجملة الشرطية، ظاهر بحكم الوضع في المعنى الفلاني، وأن الأمر
الواقع عقيب الحظر ظاهر - بقرينة وقوعه في مقام رفع الحظر - في مجرد
رفع الحظر دون الإلزام.
والظن الحاصل هنا يرجع إلى الظن بالوضع اللغوي أو الانفهام
العرفي، والأوفق بالقواعد عدم حجية الظن هنا، لأن الثابت المتيقن هي
حجية الظواهر، وأما حجية الظن في أن هذا ظاهر فلا دليل عليه، عدا
وجوه ذكروها في إثبات جزئي من جزئيات (2) هذه المسألة، وهي حجية
قول اللغويين في الأوضاع.
فإن المشهور كونه من الظنون الخاصة التي ثبتت (3) حجيتها مع
قطع النظر عن انسداد باب العلم في الأحكام الشرعية وإن كانت الحكمة
في اعتبارها انسداد باب العلم في غالب مواردها، فإن الظاهر أن حكمة
اعتبار أكثر الظنون الخاصة - كأصالة الحقيقة المتقدم ذكرها (4) وغيرها -
انسداد باب العلم في غالب مواردها من العرفيات والشرعيات.

(1) تقدم الكلام في القسم الأول في الصفحة 137.
(2) " جزئيات " من (ت) و (ه‍).
(3) كذا في (م)، وفي غيرها: " ثبت ".
(4) تقدم ذكرها في الصفحة 164.
173

والمراد بالظن المطلق ما ثبت اعتباره من أجل انسداد باب العلم
بخصوص الأحكام الشرعية، وبالظن الخاص ما ثبت اعتباره، لا لأجل
الاضطرار إلى اعتبار مطلق الظن بعد تعذر العلم.
وكيف كان: فاستدلوا على اعتبار قول اللغويين: باتفاق العلماء بل
جميع العقلاء على الرجوع إليهم في استعلام اللغات والاستشهاد بأقوالهم
في مقام الاحتجاج، ولم ينكر ذلك أحد على أحد، وقد حكي عن
السيد (رحمه الله) في بعض كلماته: دعوى الإجماع على ذلك (1)، بل ظاهر
كلامه (2) المحكي اتفاق المسلمين.
قال الفاضل السبزواري - فيما حكي عنه في هذا المقام (3) - ما هذا
لفظه:
صحة المراجعة إلى أصحاب الصناعات البارزين في صنعتهم
البارعين في فنهم في ما اختص بصناعتهم، مما اتفق عليه العقلاء في
كل عصر وزمان (4)، انتهى.
وفيه: أن المتيقن من هذا الاتفاق هو الرجوع إليهم مع اجتماع
شرائط الشهادة من العدد والعدالة ونحو ذلك، لا مطلقا، ألا ترى أن
أكثر علمائنا على اعتبار العدالة فيمن يرجع إليه من أهل الرجال، بل

(1) لم نعثر عليه في كلمات السيد المرتضى، ولا على الحاكي، نعم حكاه السيد
المجاهد عن السيد الأستاذ، انظر مفاتيح الأصول: 61.
(2) لم ترد " كلامه " في (م).
(3) حكاه عنه السيد المجاهد في مفاتيح الأصول: 62.
(4) رسالة في الغناء (مخطوطة) للفاضل السبزواري، لا توجد لدينا.
174

وبعضهم على اعتبار التعدد، والظاهر اتفاقهم على اشتراط التعدد
والعدالة في أهل الخبرة في مسألة التقويم وغيرها.
هذا، مع أنه لا يعرف الحقيقة عن المجاز بمجرد قول اللغوي - كما
اعترف به المستدل في بعض كلماته - فلا ينفع في تشخيص الظواهر.
فالإنصاف: أن الرجوع إلى أهل اللغة مع عدم اجتماع شروط
الشهادة:
إما في مقامات يحصل العلم بالمستعمل فيه من مجرد ذكر لغوي
واحد أو أزيد له على وجه يعلم كونه من المسلمات عند أهل اللغة، كما
قد يحصل العلم بالمسألة الفقهية من إرسال جماعة (1) لها إرسال المسلمات.
وإما في مقامات يتسامح فيها، لعدم التكليف الشرعي بتحصيل
العلم بالمعنى اللغوي، كما إذا أريد تفسير خطبة أو رواية لا تتعلق
بتكليف شرعي.
وإما في مقام انسد فيه طريق العلم ولا بد من العمل، فيعمل
بالظن بالحكم الشرعي المستند بقول أهل اللغة.
ولا يتوهم: أن طرح قول اللغوي الغير المفيد للعلم في ألفاظ
الكتاب والسنة مستلزم لانسداد طريق الاستنباط في غالب الأحكام.
لاندفاع ذلك: بأن أكثر مواد اللغات إلا ما شذ وندر - كلفظ
" الصعيد " ونحوه (2) - معلوم من العرف واللغة، كما لا يخفى. والمتبع في
الهيئات هي القواعد العربية المستفادة من الاستقراء القطعي واتفاق أهل

(1) في (ل) ونسخة بدل (ص) زيادة: " بل فقيه واحد ".
(2) لم ترد " كلفظ الصعيد ونحوه " في (ظ) و (م).
175

العربية، أو التبادر بضميمة أصالة عدم القرينة، فإنه قد يثبت به الوضع
الأصلي الموجود في الحقائق، كما في صيغة " إفعل " أو الجملة الشرطية
أو الوصفية، ومن هنا يتمسكون (1) - في إثبات مفهوم الوصف - بفهم أبي
عبيدة في حديث: " لي الواجد " (2)، ونحوه غيره من موارد الاستشهاد
بفهم أهل اللسان (3). وقد يثبت به الوضع بالمعنى الأعم الثابت في
المجازات المكتنفة بالقرائن المقامية، كما يدعى أن الأمر عقيب الحظر
بنفسه - مجردا عن القرينة - يتبادر منه مجرد رفع الحظر دون الإيجاب
والإلزام. واحتمال كونه لأجل قرينة خاصة، يدفع بالأصل، فيثبت به
كونه لأجل القرينة العامة، وهي الوقوع في مقام رفع الحظر، فيثبت
بذلك ظهور ثانوي لصيغة " إفعل " بواسطة القرينة الكلية.
وبالجملة: فالحاجة إلى قول اللغوي الذي لا يحصل العلم بقوله
- لقلة مواردها - لا تصلح سببا للحكم باعتباره لأجل الحاجة.
نعم، سيجئ (4): أن كل من عمل بالظن في مطلق الأحكام
الشرعية الفرعية يلزمه العمل بالظن بالحكم الناشئ من الظن بقول
اللغوي، لكنه لا يحتاج إلى دعوى انسداد باب العلم في اللغات، بل

(1) انظر القوانين: 178، والفصول: 152.
(2) نص الحديث: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لي الواجد بالدين يحل عرضه
وعقوبته، ما لم يكن دينه فيما يكره الله عز وجل " الوسائل 13: 90، الباب 8
من أبواب الدين والقرض، الحديث 4.
(3) لم ترد في (م): " أو الوصفية - إلى - أهل اللسان ".
(4) انظر الصفحة 538.
176

العبرة عنده بانسداد باب العلم في معظم الأحكام، فإنه يوجب الرجوع
إلى الظن بالحكم الحاصل من الظن باللغة وإن فرض انفتاح باب العلم
فيما عدا هذا المورد من اللغات، وسيتضح هذا زيادة على هذا إن شاء
الله تعالى.
هذا، ولكن الإنصاف: أن مورد الحاجة إلى قول اللغويين أكثر
من أن يحصى في تفاصيل المعاني بحيث يفهم دخول الأفراد المشكوكة أو
خروجها، وإن كان المعنى في الجملة معلوما من دون مراجعة قول
اللغوي، كما في مثل ألفاظ " الوطن "، و " المفازة "، و " التمر "، و " الفاكهة "،
و " الكنز "، و " المعدن "، و " الغوص "، وغير ذلك من متعلقات الأحكام
مما لا يحصى، وإن لم تكن الكثرة بحيث يوجب التوقف فيها محذورا،
ولعل هذا المقدار (1) مع الاتفاقات المستفيضة كاف في المطلب، فتأمل (2).

(1) لم ترد " المقدار " في (ت) و (ه‍).
(2) لم ترد " هذا ولكن الإنصاف - إلى - فتأمل " في (ظ)، (ل) و (م).
177

[الإجماع المنقول] (1)
ومن جملة الظنون الخارجة عن الأصل:
الإجماع المنقول بخبر الواحد، عند كثير ممن يقول باعتبار الخبر
بالخصوص (2)، نظرا إلى أنه من أفراده، فيشمله أدلته.
والمقصود من ذكره هنا - مقدما على بيان الحال في الأخبار - هو
التعرض للملازمة بين حجية الخبر وحجيته، فنقول:
إن ظاهر أكثر القائلين باعتباره بالخصوص: أن الدليل عليه هو
الدليل على حجية خبر العادل، فهو عندهم كخبر صحيح عالي السند،
لأن مدعي الإجماع يحكي مدلوله ويرويه عن الإمام (عليه السلام) بلا واسطة.
ويدخل الإجماع ما يدخل الخبر من الأقسام، ويلحقه ما يلحقه من
الأحكام.
والذي يقوى في النظر: هو عدم الملازمة بين حجية الخبر وحجية

(1) العنوان منا.
(2) منهم صاحب المعالم في المعالم: 180، وصاحب الفصول في الفصول: 258،
والمحقق القمي في القوانين 1: 384.
179

الإجماع المنقول، وتوضيح ذلك يحصل بتقديم أمرين:
الأول: أن الأدلة الخاصة التي أقاموها على حجية خبر العادل
لا تدل إلا على حجية الإخبار عن حس، لأن العمدة من تلك الأدلة
هو الاتفاق الحاصل من عمل القدماء وأصحاب الأئمة (عليهم السلام)، ومعلوم
عدم شموله (1) إلا للرواية المصطلحة.
وكذلك الأخبار الواردة في العمل بالروايات.
اللهم إلا أن يدعى: أن المناط في وجوب العمل بالروايات هو
كشفها عن الحكم الصادر عن المعصوم، ولا يعتبر في ذلك حكاية ألفاظ
الإمام (عليه السلام)، ولذا يجوز النقل بالمعنى، فإذا كان المناط كشف الروايات
عن صدور معناها عن الإمام (عليه السلام) ولو بلفظ آخر، والمفروض أن
حكاية الإجماع - أيضا - حكاية حكم صادر عن المعصوم (عليه السلام) بهذه
العبارة التي هي معقد الإجماع أو بعبارة أخرى، وجب العمل به.
لكن هذا المناط لو ثبت دل على حجية الشهرة، بل فتوى الفقيه
إذا كشف عن صدور الحكم بعبارة الفتوى أو بعبارة غيرها، كما عمل
بفتاوى علي بن بابويه (قدس سره)، لتنزيل فتواه منزلة روايته، بل على حجية
مطلق الظن بالحكم الصادر عن الإمام (عليه السلام)، وسيجئ توضيح الحال (2)
إن شاء الله تعالى.
وأما الآيات: فالعمدة فيها من حيث وضوح الدلالة هي آية النبأ (3)،

(1) كذا في (ت) و (ه‍)، وفي غيرهما: " شمولها ".
(2) انظر الصفحة 357 - 359.
(3) الحجرات: 6.
180

وهي إنما تدل على وجوب قبول خبر العادل دون خبر الفاسق،
والظاهر منها - بقرينة التفصيل بين العادل حين الإخبار والفاسق،
وبقرينة تعليل اختصاص التبين بخبر الفاسق بقيام احتمال الوقوع في
الندم احتمالا مساويا، لأن الفاسق لا رادع له عن الكذب - هو: عدم
الاعتناء باحتمال تعمد كذبه، لا وجوب البناء على إصابته وعدم خطائه
في حدسه، لأن الفسق والعدالة حين الإخبار لا يصلحان مناطين (1)
لتصويب المخبر وتخطئته بالنسبة إلى حدسه، وكذا احتمال الوقوع في الندم
من جهة الخطأ في الحدس أمر مشترك بين العادل والفاسق، فلا يصلح
لتعليل الفرق به.
فعلمنا من ذلك: أن المقصود من الآية إرادة نفي احتمال تعمد
الكذب عن العادل حين الإخبار دون الفاسق، لأن هذا هو الذي
يصلح لإناطته بالفسق والعدالة حين الإخبار.
ومنه تبين: عدم دلالة الآية على قبول الشهادة الحدسية إذا قلنا
بدلالة الآية على اعتبار شهادة العدل.
فإن قلت: إن مجرد دلالة الآية على ما ذكر لا يوجب قبول (2)
الخبر، لبقاء احتمال خطأ العادل فيما أخبر وإن لم يتعمد الكذب، فيجب
التبين في خبر العادل أيضا، لاحتمال خطائه وسهوه، وهو خلاف الآية
المفصلة بين العادل والفاسق، غاية الأمر وجوبه في خبر الفاسق من
وجهين وفي العادل من جهة واحدة.

(1) في (ر)، (ص)، (ظ)، (ل) و (م): " لا تصلح مناطا ".
(2) في (ر)، (ص)، (ظ) و (ل): " قبولية "، وفي (م): " مقبولية ".
181

قلت: إذا ثبت بالآية عدم جواز الاعتناء باحتمال تعمد كذبه،
ينفى احتمال خطائه وغفلته واشتباهه بأصالة عدم الخطأ في الحس، وهذا
أصل عليه إطباق العقلاء والعلماء في جميع الموارد.
نعم، لو كان المخبر ممن يكثر عليه الخطأ والاشتباه لم يعبأ بخبره،
لعدم جريان أصالة عدم الخطأ والاشتباه، ولذا يعتبرون في الراوي
والشاهد (1) الضبط، وإن كان ربما يتوهم الجاهل ثبوت ذلك من
الإجماع، إلا أن المنصف يشهد: أن (2) اعتبار هذا في جميع موارده ليس
لدليل خارجي مخصص لعموم آية النبأ ونحوها مما دل على وجوب
قبول قول العادل، بل لما ذكرنا: من أن المراد بوجوب قبول قول
العادل رفع التهمة عنه من جهة احتمال تعمده الكذب، لا تصويبه وعدم
تخطئته أو غفلته (3).
ويؤيد ما ذكرنا: أنه لم يستدل أحد من العلماء على حجية
فتوى الفقيه على العامي بآية النبأ، مع استدلالهم عليها بآيتي النفر
والسؤال (4).
والظاهر: أن ما ذكرنا - من عدم دلالة الآية وأمثالها من أدلة
قبول قول العادل على وجوب تصويبه في الاعتقاد - هو الوجه فيما

(1) في (ر)، (ص) و (ه‍): " الشاهد والراوي ".
(2) كذا في (ظ)، (ل) و (م)، وفي غيرها: " بأن ".
(3) لم ترد " أو غفلته " في (م).
(4) منهم المحقق في المعارج: 198، وصاحب الفصول في الفصول: 411، والمحقق
القمي في القوانين 1: 325، والسيد المجاهد في مفاتيح الأصول: 594.
182

ذهب إليه المعظم (1)، بل أطبقوا عليه كما في الرياض (2): من عدم (3)
اعتبار الشهادة في المحسوسات إذا لم تستند إلى الحس، وإن علله في
الرياض بما لا يخلو عن نظر: من أن الشهادة من الشهود وهو الحضور،
فالحس مأخوذ في مفهومها.
والحاصل: أنه لا ينبغي الإشكال في أن الإخبار عن حدس واجتهاد
ونظر ليس حجة إلا على من وجب عليه تقليد المخبر في الأحكام
الشرعية، وأن الآية ليست عامة لكل خبر ودعوى (4) خرج ما خرج.
فإن قلت: فعلى هذا إذا أخبر الفاسق بخبر يعلم بعدم تعمده
للكذب فيه، تقبل شهادته فيه، لأن احتمال تعمده للكذب منتف
بالفرض، واحتمال غفلته وخطائه منفي بالأصل المجمع عليه، مع أن
شهادته مردودة إجماعا.
قلت: ليس المراد مما ذكرنا عدم قابلية العدالة والفسق لإناطة (5)
الحكم بهما وجودا وعدما تعبدا، كما في الشهادة والفتوى ونحوهما، بل

(1) كالمحقق في الشرائع 4: 132، والشهيد في الدروس 2: 134، والفاضل
المقداد في التنقيح الرائع 4: 310.
(2) الرياض (الطبعة الحجرية) 2: 446.
(3) في (م) بدل عبارة " والظاهر أن - إلى - من عدم اعتبار " العبارة التالية:
" ولعل لما ذكرنا - من عدم دلالة الآية وأمثالها من أدلة قبول قول العادل، على
وجوب تصويبه في الاعتقاد - ذهب المعظم، بل أطبقوا كما في الرياض على عدم
اعتبار... ".
(4) في (ر): " بدعوى ".
(5) في (ظ) و (ل) بدل " لإناطة ": " لاشتراط ".
183

المراد أن الآية المذكورة لا تدل إلا على مانعية الفسق من حيث قيام
احتمال تعمد الكذب معه، فيكون مفهومها عدم المانع في العادل من هذه
الجهة، فلا يدل على وجوب قبول خبر العادل إذا لم يمكن نفي خطائه
بأصالة عدم الخطأ المختصة بالأخبار الحسية، فالآية (1) لا تدل أيضا على
اشتراط العدالة ومانعية الفسق في صورة العلم بعدم تعمد (2) الكذب، بل
لا بد له من دليل آخر، فتأمل (3).
الأمر الثاني: أن الإجماع في مصطلح الخاصة، بل العامة - الذين
هم الأصل له وهو الأصل لهم - هو (4): اتفاق جميع العلماء في عصر، كما
ينادي بذلك تعريفات كثير من (5) الفريقين (6).
قال في التهذيب: الإجماع هو اتفاق أهل الحل والعقد من أمة
محمد (صلى الله عليه وآله) (7).
وقال صاحب غاية البادى (8) - شارح المبادئ، الذي هو أحد علمائنا

(1) في (ظ) و (ل) بدل " فالآية ": " و ".
(2) في (ت)، (ر)، (ل) و (ص): " تعمده ".
(3) لم ترد في (ظ)، (ل) و (م): " فتأمل ".
(4) في (ت) و (ه‍) زيادة: " عبارة عن ".
(5) في (م): " كثير من تعريفات ".
(6) انظر المستصفى للغزالي 1: 173، والإحكام للآمدي 1: 254، وشرح مختصر
الأصول 1: 122، وستأتي الإشارة إلى كلمات الخاصة.
(7) تهذيب الوصول للعلامة الحلي: 65.
(8) هو الشيخ محمد بن علي بن محمد الجرجاني الغروي، تلميذ العلامة الحلي.
انظر الذريعة إلى تصانيف الشيعة 16: 10.
184

المعاصرين للعلامة (قدس سره) -: الإجماع في اصطلاح فقهاء أهل البيت (عليهم السلام)
هو: اتفاق أمة محمد (صلى الله عليه وآله) على وجه يشتمل على قول المعصوم (1)،
انتهى.
وقال في المعالم: الإجماع في الاصطلاح: اتفاق خاص، وهو اتفاق
من يعتبر قوله من الأمة (2)، انتهى.
وكذا غيرها من العبارات المصرحة بذلك (3) في تعريف الإجماع
وغيره من المقامات، كما تراهم يعتذرون كثيرا عن وجود المخالف
بانقراض عصره (4).
ثم إنه لما كان وجه حجية الإجماع عند الإمامية اشتماله على قول
الإمام (عليه السلام)، كانت الحجية دائرة مدار وجوده (عليه السلام) في كل جماعة هو
أحدهم، ولذا قال السيد المرتضى:
إذا كان علة كون الإجماع حجة كون الإمام فيهم، فكل جماعة
- كثرت أو قلت - كان قول الإمام في أقوالها، فإجماعها حجة، وأن
خلاف الواحد والاثنين إذا كان الإمام أحدهما - قطعا أو تجويزا -
يقتضي عدم الاعتداد بقول الباقين وإن كثروا، وأن الإجماع بعد الخلاف

(1) غاية البادئ في شرح المبادئ (مخطوط): الورقة 73، وفيه: " اتفاق جمع
من أمة محمد ".
(2) المعالم: 172.
(3) انظر المعارج: 125، والوافية: 151.
(4) انظر إيضاح الفوائد 3: 318، وحاشية الشرائع للمحقق الثاني (مخطوط):
99، والجواهر 2: 10.
185

كالمبتدأ في الحجية (1)، انتهى.
وقال المحقق في المعتبر - بعد إناطة حجية الإجماع بدخول قول
الإمام (عليه السلام) -: إنه لو خلا المائة من فقهائنا من قوله لم يكن قولهم
حجة، ولو حصل في اثنين كان قولهما حجة (2)، انتهى.
وقال العلامة (رحمه الله) - بعد قوله: إن الإجماع عندنا حجة لاشتماله
على قول المعصوم -: وكل جماعة قلت أو كثرت كان قول الإمام (عليه السلام)
في جملة أقوالها فإجماعها حجة لأجله، لا لأجل الإجماع (3)، انتهى.
هذا، ولكن لا يلزم من كونه حجة تسميته إجماعا في الاصطلاح،
كما أنه ليس كل خبر جماعة يفيد العلم متواترا في الاصطلاح.
وأما ما اشتهر بينهم: من أنه لا يقدح خروج معلوم النسب
واحدا أو أكثر، فالمراد أنه لا يقدح في حجية اتفاق الباقي، لا في
تسميته إجماعا، كما علم من فرض المحقق (قدس سره) الإمام (عليه السلام) في اثنين.
نعم، ظاهر كلمات جماعة (4) يوهم تسميته إجماعا (5)، حيث تراهم
يدعون الإجماع في مسألة ثم يعتذرون عن وجود المخالف بأنه معلوم
النسب.

(1) الذريعة 2: 630، 632 و 635.
(2) المعتبر 1: 31.
(3) نهاية الوصول (مخطوط): 241.
(4) مثل: الشهيد الثاني في المسالك 1: 389، وصاحب الرياض في الرياض 2:
346.
(5) في (ر) زيادة: " اصطلاحا "، وفي (ص) زيادة: " في الاصطلاح ".
186

لكن التأمل الصادق يشهد بأن الغرض الاعتذار عن قدح المخالف
في الحجية، لا في التسمية.
نعم، يمكن أن يقال: إنهم قد تسامحوا في إطلاق الإجماع على
اتفاق الجماعة التي علم دخول الإمام (عليه السلام) فيها، لوجود مناط الحجية
فيه، وكون وجود المخالف غير مؤثر شيئا. وقد شاع هذا التسامح بحيث
كاد أن (1) ينقلب اصطلاح الخاصة عما وافق اصطلاح العامة إلى ما
يعم اتفاق طائفة من الإمامية، كما يعرف من أدنى تتبع لموارد
الاستدلال.
بل إطلاق لفظ " الإجماع " بقول مطلق على إجماع الإمامية فقط
- مع أنهم بعض الأمة لا كلهم - ليس إلا لأجل المسامحة، من جهة أن
وجود المخالف كعدمه من حيث مناط الحجية.
وعلى أي تقدير: فظاهر إطلاقهم إرادة دخول قول الإمام (عليه السلام)
في أقوال المجمعين بحيث يكون دلالته عليه بالتضمن، فيكون الإخبار
عن الإجماع إخبارا عن قول الإمام (عليه السلام)، وهذا هو الذي يدل عليه
كلام المفيد (2) والمرتضى (3) وابن زهرة (4) والمحقق (5) والعلامة (6)

(1) لم ترد " أن " في (ه‍)، وشطب عليها في (ت).
(2) أوائل المقالات (مصنفات الشيخ المفيد) 4: 121.
(3) الذريعة 2: 605.
(4) الغنية (الجوامع الفقهية): 477.
(5) المعتبر 1: 31، والمعارج: 132.
(6) نهاية الوصول (مخطوط): 241، وتهذيب الوصول: 65 و 70.
187

والشهيدين (1) ومن تأخر عنهم (2).
وأما اتفاق من عدا الإمام (عليه السلام) بحيث يكشف عن صدور الحكم
عن الإمام (عليه السلام) بقاعدة اللطف كما عن الشيخ (رحمه الله) (3)، أو التقرير كما عن
بعض المتأخرين (4)، أو بحكم العادة القاضية باستحالة توافقهم على الخطأ
مع كمال بذل الوسع في فهم الحكم الصادر عن الإمام (عليه السلام)، فهذا ليس
إجماعا اصطلاحيا، إلا أن ينضم قول الإمام (عليه السلام) - المكشوف عنه
باتفاق هؤلاء - إلى أقوالهم (5) فيسمى المجموع إجماعا، بناء على ما تقدم (6):
من المسامحة في تسمية اتفاق جماعة مشتمل على قول الإمام (عليه السلام)
إجماعا وإن خرج عنه الكثير أو الأكثر. فالدليل في الحقيقة هو اتفاق
من عدا الإمام (عليه السلام)، والمدلول الحكم الصادر عنه (عليه السلام)، نظير كلام
الإمام (عليه السلام) ومعناه.
فالنكتة في التعبير عن الدليل بالإجماع - مع توقفه على ملاحظة
انضمام مذهب الإمام (عليه السلام) الذي هو المدلول إلى الكاشف عنه، وتسمية
المجموع دليلا -: هو التحفظ على ما جرت عليه (7) سيرة أهل الفن، من

(1) الذكرى 1: 49، والقواعد والفوائد 1: 217، وتمهيد القواعد: 251.
(2) منهم: صاحب المعالم في المعالم: 173، والفاضل التوني في الوافية: 151.
(3) العدة 2: 631 و 637.
(4) هو المحقق التستري في كشف القناع: 164.
(5) في (م): " قولهم ".
(6) راجع الصفحة السابقة.
(7) لم ترد " عليه " في غير (ت) و (ه‍).
188

إرجاع كل دليل إلى أحد الأدلة المعروفة بين الفريقين، أعني الكتاب
والسنة والإجماع والعقل، ففي إطلاق الإجماع على هذا مسامحة في
مسامحة.
وحاصل المسامحتين: إطلاق الإجماع على اتفاق طائفة يستحيل
بحكم العادة خطأهم وعدم وصولهم إلى حكم الإمام (عليه السلام).
والاطلاع على تعريفات الفريقين واستدلالات الخاصة وأكثر العامة
على حجية الإجماع، يوجب القطع بخروج هذا الإطلاق عن المصطلح
وبنائه على المسامحة، لتنزيل وجود من خرج عن هذا الاتفاق منزلة
عدمه، كما قد عرفت من السيد والفاضلين قدست أسرارهم (1): من أن
كل جماعة - قلت أو كثرت - علم دخول قول الإمام (عليه السلام) فيهم،
فإجماعها حجة.
ويكفيك في هذا: ما سيجئ (2) من المحقق الثاني في تعليق
الشرائع: من دعوى الإجماع على أن خروج الواحد من علماء العصر
قادح في انعقاد الإجماع. مضافا إلى ما عرفت (3): من إطباق الفريقين
على تعريف الإجماع باتفاق الكل.
ثم إن المسامحة من الجهة الأولى أو الثانية في إطلاق لفظ
" الإجماع " على هذا من دون قرينة لا ضير فيها، لأن العبرة في
الاستدلال بحصول العلم من الدليل للمستدل (4).

(1) راجع الصفحة 185 - 186.
(2) انظر الصفحة 196.
(3) راجع الصفحة 184.
(4) لم ترد " للمستدل " في (ه‍).
189

نعم، لو كان نقل الإجماع المصطلح حجة عند الكل (1) كان إخفاء
القرينة في الكلام الذي هو المرجع للغير تدليسا، أما لو لم يكن نقل
الإجماع حجة، أو كان نقل مطلق الدليل القطعي حجة، لم يلزم تدليس
أصلا.
ويظهر من ذلك: ما في كلام صاحب المعالم (رحمه الله)، حيث إنه
بعدما (2) ذكر أن حجية الإجماع إنما هي لاشتماله على قول المعصوم،
واستنهض بكلام المحقق الذي تقدم (3)، واستجوده، قال:
والعجب من غفلة جمع من الأصحاب عن هذا الأصل وتساهلهم
في دعوى الإجماع عند احتجاجهم به للمسائل الفقهية، حتى جعلوه
عبارة عن اتفاق جماعة من الأصحاب، فعدلوا به عن معناه الذي
جرى عليه الاصطلاح من دون نصب قرينة جلية، ولا دليل لهم على
الحجية يعتد به (4)، انتهى.
وقد عرفت (5): أن مساهلتهم وتسامحهم في محله، بعد ما كان
مناط حجية الإجماع الاصطلاحي موجودا في اتفاق جماعة من
الأصحاب. وعدم تعبيرهم عن هذا الاتفاق بغير لفظ " الإجماع "، لما
عرفت (6) من التحفظ على عناوين الأدلة المعروفة بين الفريقين.

(1) في (ص) و (ه‍) زيادة: " أو الأكثر ".
(2) لم ترد " ما " في (ص)، (ظ)، (ل) و (م)، وورد بدلها في (ظ): " أن ".
(3) أي كلام المحقق في المعتبر المتقدم في الصفحة 186.
(4) المعالم: 174.
(5) راجع الصفحة السابقة.
(6) راجع الصفحة 188.
190

إذا عرفت ما ذكرنا، فنقول:
إن الحاكي للاتفاق قد ينقل الإجماع بقول مطلق، أو مضافا إلى
المسلمين، أو الشيعة، أو أهل الحق، أو غير ذلك مما يمكن أن يراد به
دخول الإمام (عليه السلام) في المجمعين.
وقد ينقله مضافا إلى من عدا الإمام (عليه السلام)، كقوله: أجمع علماؤنا
أو أصحابنا أو فقهاؤنا أو فقهاء أهل البيت (عليهم السلام)، فإن ظاهر ذلك من
عدا الإمام (عليه السلام)، وإن كان إرادة العموم محتملة بمقتضى المعنى اللغوي،
لكنه مرجوح.
فإن أضاف الإجماع إلى من عدا الإمام (عليه السلام) فلا إشكال في عدم
حجية نقله، لأنه لم ينقل حجة، وإن فرض حصول العلم للناقل بصدور
الحكم عن الإمام (عليه السلام) من جهة هذا الاتفاق، إلا أنه إنما نقل سبب
العلم، ولم ينقل المعلوم وهو قول الإمام (عليه السلام) حتى يدخل في نقل الحجة
وحكاية السنة بخبر الواحد.
نعم، لو فرض أن السبب المنقول مما يستلزم عادة موافقة قول
الإمام (عليه السلام) أو وجود دليل ظني معتبر حتى بالنسبة إلينا، أمكن إثبات
ذلك السبب المحسوس بخبر العادل، والانتقال منه إلى لازمه، لكن
سيجئ بيان الإشكال في تحقق ذلك (1).
وفي حكم الإجماع المضاف إلى من عدا الإمام (عليه السلام): الإجماع
المطلق المذكور في مقابل الخلاف، كما يقال: خرء الحيوان الغير المأكول
غير الطير نجس إجماعا، وإنما اختلفوا في خرء الطير، أو يقال: إن محل

(1) انظر الصفحة 202 و 217.
191

الخلاف هو كذا، وأما كذا فحكمه كذا إجماعا، فإن معناه في مثل هذا
كونه قولا واحدا.
وأضعف مما ذكر: نقل عدم الخلاف، وأنه ظاهر الأصحاب، أو
قضية المذهب، وشبه ذلك.
وإن أطلق الإجماع أو أضافه على وجه يظهر منه إرادة المعنى
المصطلح المتقدم (1) - ولو مسامحة، لتنزيل وجود المخالف منزلة العدم،
لعدم قدحه في الحجية - فظاهر الحكاية كونها حكاية للسنة، أعني حكم
الإمام (عليه السلام)، لما عرفت (2): من أن الإجماع الاصطلاحي متضمن لقول
الإمام (عليه السلام) فيدخل في الخبر والحديث، إلا أن مستند علم الحاكي بقول
الإمام (عليه السلام) أحد أمور:
أحدها: الحس، كما إذا سمع الحكم من الإمام (عليه السلام) في جملة جماعة
لا يعرف أعيانهم فيحصل له العلم بقول الإمام (عليه السلام).
وهذا في غاية القلة، بل نعلم جزما أنه لم يتفق لأحد من هؤلاء
الحاكين للإجماع، كالشيخين والسيدين وغيرهما، ولذا صرح الشيخ في
العدة - في مقام الرد على السيد حيث أنكر الإجماع من باب وجوب
اللطف -: بأنه لولا قاعدة اللطف لم يمكن التوصل إلى معرفة موافقة
الإمام للمجمعين (3).
الثاني: قاعدة اللطف، على ما ذكره الشيخ في العدة (4) وحكي

(1) في الصفحة 184.
(2) راجع الصفحة 187 - 188.
(3) العدة 2: 631.
(4) العدة 2: 631 و 637.
192

القول به عن غيره من المتقدمين (1).
ولا يخفى أن الاستناد إليه غير صحيح على ما ذكر في محله (2)،
فإذا علم استناد الحاكي إليه فلا وجه للاعتماد على حكايته، والمفروض
أن إجماعات الشيخ كلها مستندة إلى هذه القاعدة، لما عرفت من كلامه
المتقدم من العدة، وستعرف منها ومن غيرها من كتبه (3).
فدعوى مشاركته للسيد (قدس سره) في استكشاف قول الإمام (عليه السلام) من
تتبع أقوال الأمة واختصاصه بطريق آخر مبني على قاعدة " وجوب (4)
اللطف "، غير ثابتة وإن ادعاها بعض (5)، فإنه (قدس سره) قال في العدة - في حكم
ما إذا اختلفت الإمامية على قولين يكون أحد القولين قول الإمام (عليه السلام)
على وجه لا يعرف بنفسه، والباقون كلهم على خلافه -:
إنه متى اتفق ذلك، فإن كان على القول الذي انفرد به الإمام (عليه السلام)
دليل من كتاب أو سنة مقطوع بها، لم يجب عليه الظهور ولا الدلالة
على ذلك، لأن الموجود من الدليل كاف في إزاحة التكليف، ومتى لم
يكن عليه دليل وجب عليه الظهور، أو إظهار من يبين الحق في تلك
المسألة - إلى أن قال -:

(1) حكاه السيد المجاهد في مفاتيح الأصول عن جماعة، منهم الحلبي في ظاهر
الكافي، انظر مفاتيح الأصول: 496، والكافي: 507 - 510.
(2) انظر القوانين 1: 353، والفصول: 245 - 246.
(3) انظر الصفحة الآتية.
(4) كذا في (ص)، (ظ) و (م)، وفي غيرها: " وجوب قاعدة ".
(5) هو المحقق القمي في القوانين 1: 350.
193

وذكر المرتضى علي بن الحسين الموسوي أخيرا: أنه يجوز أن
يكون الحق عند الإمام (عليه السلام) والأقوال الاخر كلها باطلة، ولا يجب عليه
الظهور، لأنا إذا كنا نحن السبب في استتاره، فكل ما يفوتنا من
الانتفاع به وبما (1) معه من الأحكام يكون (2) قد فاتنا من قبل أنفسنا،
ولو أزلنا سبب الاستتار لظهر وانتفعنا به وأدى إلينا الحق الذي كان عنده.
قال: وهذا عندي غير صحيح، لأنه يؤدي إلى أن لا يصح
الاحتجاج بإجماع الطائفة أصلا، لأنا لا نعلم دخول الإمام (عليه السلام) فيها
إلا بالاعتبار الذي بيناه، ومتى جوزنا انفراده بالقول وأنه لا يجب
ظهوره، منع ذلك من الاحتجاج بالإجماع (3)، انتهى كلامه.
وذكر في موضع آخر من العدة: أن هذه الطريقة - يعني طريقة
السيد المتقدمة - غير مرضية عندي، لأنها تؤدي إلى أن لا يستدل
بإجماع الطائفة أصلا، لجواز أن يكون قول الإمام (عليه السلام) مخالفا لها ومع
ذلك لا يجب عليه إظهار ما عنده (4)، انتهى.
وأصرح من ذلك في انحصار طريق الإجماع عند الشيخ فيما ذكره
من قاعدة اللطف: ما حكي عن بعض (5) أنه حكاه عن كتاب التمهيد للشيخ:

(1) في غير (ل) و (م) زيادة: " يكون ".
(2) لم ترد " يكون " في (ر)، (ص) و (ه‍).
(3) العدة 2: 631.
(4) العدة 2: 637.
(5) حكاه المحقق التستري عن الشيخ الحمصي في التعليق العراقي، راجع كشف
القناع: 118.
194

أن سيدنا المرتضى (قدس سره) كان يذكر كثيرا: أنه لا يمتنع أن يكون
هنا أمور كثيرة غير واصلة إلينا علمها مودع عند الإمام (عليه السلام) وإن
كتمها الناقلون، ولا يلزم مع ذلك سقوط التكليف عن الخلق... إلى أن
قال:
وقد اعترضنا على هذا في كتاب العدة في أصول الفقه، وقلنا:
هذا الجواب صحيح لولا ما نستدل في أكثر الأحكام على صحته بإجماع
الفرقة، فمتى جوزنا أن يكون قول الإمام (عليه السلام) خلافا لقولهم ولا يجب
ظهوره، جاز لقائل أن يقول: ما أنكرتم أن يكون قول الإمام (عليه السلام)
خارجا عن قول من تظاهر بالإمامة ومع هذا لا يجب عليه الظهور،
لأنهم أتوا من قبل أنفسهم، فلا يمكننا الاحتجاج بإجماعهم أصلا (1)،
انتهى.
فإن صريح هذا الكلام أن القادح في طريقة السيد منحصر في
استلزامها رفع التمسك بالإجماع، ولا قادح فيها سوى ذلك، ولذا صرح
في كتاب الغيبة بأنها قوية تقتضيها الأصول (2)، فلو كان لمعرفة الإجماع
وجواز الاستدلال به طريق آخر غير قاعدة وجوب إظهار الحق عليه،
لم يبق ما يقدح في طريقة السيد، لاعتراف الشيخ بصحتها لولا كونها
مانعة عن الاستدلال بالإجماع.

(1) تمهيد الأصول (مخطوط)، لا يوجد لدينا، وهو شرح على " جمل العلم
والعمل " للسيد المرتضى، يوجد منه نسخة في الخزانة الرضوية، كما في الذريعة
إلى تصانيف الشيعة 4: 433، وانظر العدة 2: 631.
(2) كتاب الغيبة: 97.
195

ثم إن الاستناد إلى هذا الوجه ظاهر من كل من اشترط في تحقق
الإجماع عدم مخالفة أحد من علماء العصر، كفخر الدين والشهيد والمحقق
الثاني.
قال في الإيضاح في مسألة ما يدخل في المبيع: إن من عادة
المجتهد أنه إذا تغير اجتهاده إلى التردد أو الحكم بخلاف ما اختاره
أولا، لم يبطل ذكر الحكم الأول، بل يذكر ما أداه إليه اجتهاده ثانيا في
موضع آخر، لبيان عدم انعقاد إجماع أهل عصر الاجتهاد الأول على
خلافه، وعدم انعقاد إجماع أهل العصر الثاني على كل واحد منهما،
وأنه لم يحصل في الاجتهاد الثاني مبطل للأول، بل معارض لدليله مساو
له (1)، انتهى.
وقد أكثر في الإيضاح من عدم الاعتبار بالخلاف، لانقراض عصر
المخالف (2)، وظاهره الانطباق على هذه الطريقة، كما لا يخفى.
وقال في الذكرى: ظاهر العلماء المنع عن العمل بقول الميت،
محتجين بأنه لا قول للميت، ولهذا ينعقد الإجماع على خلافه ميتا (3).
واستدل المحقق الثاني في حاشية الشرائع على أنه لا قول للميت:
بالإجماع على أن خلاف الفقيه الواحد لسائر أهل عصره يمنع من انعقاد
الإجماع، اعتدادا بقوله واعتبارا بخلافه، فإذا مات وانحصر أهل العصر
في المخالفين له انعقد وصار قوله غير منظور إليه، ولا يعتد به (4)، انتهى.

(1) إيضاح الفوائد 1: 502.
(2) انظر إيضاح الفوائد 3: 318.
(3) الذكرى 1: 44.
(4) حاشية الشرائع (مخطوط): 99.
196

وحكي عن بعض: أنه حكى عن المحقق الداماد، أنه (قدس سره) قال في
بعض كلام له في تفسير " النعمة الباطنة " (1): إن من فوائد الإمام عجل
الله فرجه أن يكون مستندا لحجية إجماع أهل الحل والعقد من العلماء
على حكم من الأحكام - إجماعا بسيطا في أحكامهم الإجماعية، وحجية
إجماعهم المركب في أحكامهم الخلافية - فإنه عجل الله فرجه لا ينفرد
بقول، بل من الرحمة الواجبة في الحكمة الإلهية أن يكون في المجتهدين
المختلفين في المسألة المختلف فيها من علماء العصر من يوافق رأيه رأي
إمام عصره وصاحب أمره، ويطابق قوله قوله وإن لم يكن ممن نعلمه
بعينه ونعرفه بخصوصه (2)، انتهى.
وكأنه لأجل مراعاة هذه الطريقة التجأ الشهيد في الذكرى (3)
إلى توجيه الإجماعات التي ادعاها جماعة في المسائل الخلافية مع
وجود المخالف فيها: بإرادة غير المعنى الاصطلاحي من الوجوه التي
حكاها عنه في المعالم (4)، ولو جامع الإجماع وجود الخلاف - ولو من
معلوم النسب - لم يكن داع إلى التوجيهات المذكورة، مع بعدها أو
أكثرها.
الثالث من طرق انكشاف قول الإمام (عليه السلام) لمدعي الإجماع:
الحدس، وهذا على وجهين:
أحدهما: أن يحصل له ذلك من طريق لو علمنا به ما خطأناه في

(1) الواردة في قوله تعالى: * (وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) * لقمان: 20.
(2) الحاكي عن البعض هو المحقق التستري في كشف القناع: 145.
(3) الذكرى 1: 51.
(4) المعالم: 174.
197

استكشافه، وهذا على وجهين:
أحدهما: أن يحصل (1) الحدس الضروري من مبادئ محسوسة
بحيث يكون الخطأ فيه من قبيل الخطأ في الحس، فيكون بحيث لو
حصل لنا تلك الأخبار لحصل (2) لنا العلم كما حصل له.
ثانيهما: أن يحصل الحدس له من إخبار جماعة اتفق له
العلم بعدم اجتماعهم على الخطأ، لكن ليس إخبارهم ملزوما عادة
للمطابقة لقول الإمام (عليه السلام) بحيث لو حصل لنا علمنا بالمطابقة
أيضا.
الثاني: أن يحصل ذلك من مقدمات نظرية واجتهادات كثيرة
الخطأ، بل علمنا بخطأ بعضها في موارد كثيرة من نقلة الإجماع، علمنا
ذلك منهم بتصريحاتهم في موارد، واستظهرنا ذلك منهم في موارد اخر،
وسيجئ جملة منها (3).
إذا عرفت أن مستند خبر المخبر بالإجماع المتضمن للإخبار من
الإمام (عليه السلام) لا يخلو من الأمور الثلاثة المتقدمة، وهي: السماع عن
الإمام (عليه السلام) مع عدم معرفته بعينه، واستكشاف قوله من قاعدة " اللطف "،
وحصول العلم من " الحدس "، وظهر لك أن الأول هنا غير متحقق
عادة لأحد من علمائنا المدعين للإجماع، وأن الثاني ليس طريقا للعلم،
فلا يسمع دعوى من استند إليه، فلم يبق مما يصلح أن يكون المستند

(1) في (ر) و (ص) زيادة: " له ".
(2) كذا في (ت) و (ه‍)، وفي غيرهما: " يحصل ".
(3) انظر الصفحة 204 - 208.
198

في الإجماعات المتداولة على ألسنة ناقليها: إلا " الحدس " (1).
وعرفت أن الحدس قد يستند إلى مبادئ محسوسة ملزومة عادة
لمطابقة قول الإمام (عليه السلام)، نظير العلم الحاصل من الحواس الظاهرة،
ونظير الحدس الحاصل لمن أخبر بالعدالة والشجاعة لمشاهدته آثارهما
المحسوسة الموجبة للانتقال إليهما بحكم العادة، أو إلى مبادئ محسوسة
موجبة لعلم المدعي بمطابقة قول الإمام (عليه السلام) من دون ملازمة عادية،
وقد يستند إلى اجتهادات وأنظار.
وحيث لا دليل على قبول خبر العادل المستند إلى القسم الأخير
من الحدس، بل ولا المستند إلى الوجه الثاني، ولم يكن هناك ما يعلم
به كون الإخبار مستندا إلى القسم الأول من الحدس، وجب التوقف في
العمل بنقل الإجماع، كسائر الأخبار المعلوم استنادها إلى الحدس المردد
بين الوجوه المذكورة.
فإن قلت: ظاهر لفظ " الإجماع " اتفاق الكل، فإذا أخبر
الشخص بالإجماع فقد أخبر باتفاق الكل، ومن المعلوم أن حصول العلم
بالحكم من اتفاق الكل كالضروري، فحدس المخبر مستند إلى مباد
محسوسة ملزومة لمطابقة قول الإمام (عليه السلام) عادة، فإما أن يجعل الحجة
نفس ما استفاده من الاتفاق نظير الإخبار بالعدالة، وإما أن يجعل
الحجة إخباره بنفس الاتفاق المستلزم عادة لقول الإمام (عليه السلام)، ويكون
نفس المخبر به حينئذ محسوسا، نظير إخبار الشخص بأمور تستلزم العدالة

(1) العبارة في (ظ)، (ل) و (م) هكذا: " فلا يسمع دعوى من استند إليه، تعين
كون المستند في الإجماعات المتداولة على ألسنة ناقليها هو الحدس ".
199

أو (1) الشجاعة عادة.
وقد أشار إلى الوجهين بعض السادة الأجلة (2) في شرحه على
الوافية، فإنه (قدس سره) لما اعترض على نفسه: بأن المعتبر من الأخبار ما
استند إلى إحدى الحواس، والمخبر بالإجماع إنما رجع إلى بذل الجهد،
ومجرد الشك في دخول مثل ذلك في الخبر يقتضي منعه، أجاب عن
ذلك:
بأن المخبر هنا - أيضا - يرجع إلى السمع فيما يخبر عن العلماء وإن
جاء العلم بمقالة المعصوم من مراعاة أمر آخر، كوجوب اللطف وغيره.
ثم أورد: بأن المدار في حجية الإجماع على مقالة المعصوم (عليه السلام)،
فالإخبار إنما هو بها، ولا يرجع إلى سمع.
فأجاب عن ذلك:
أولا: بأن مدار الحجية وإن كان ذلك، لكن استلزام اتفاق كلمة
العلماء لمقالة المعصوم (عليه السلام) معلوم لكل أحد لا يحتاج فيه إلى النقل،
وإنما الغرض من النقل ثبوت الاتفاق، فبعد اعتبار خبر الناقل - لوثاقته
ورجوعه في حكاية الاتفاق إلى الحس - كان الاتفاق معلوما، ومتى
ثبت ذلك كشف عن مقالة المعصوم، للملازمة المعلومة.
وثانيا: أن الرجوع في حكاية الإجماع إلى نقل مقالة المعصوم (عليه السلام)
لرجوع الناقل في ذلك إلى الحس، باعتبار أن الاتفاق من آثارها،
ولا كلام في اعتبار مثل ذلك، كما في الإخبار بالإيمان والفسق

(1) في (ت)، (ر)، (ص) و (ه‍) بدل " أو ": " و ".
(2) هو السيد المحقق الكاظمي المعروف بالسيد الأعرجي.
200

والشجاعة والكرم وغيرها من الملكات، وإنما لا يرجع إلى الأخبار في
العقليات المحضة، فإنه لا يعول عليها وإن جاء بها ألف من الثقات حتى
يدرك مثل ما أدركوا.
ثم أورد على ذلك: بأنه يلزم من ذلك الرجوع إلى المجتهد، لأنه
وإن لم يرجع إلى الحس في نفس الأحكام إلا أنه رجع في لوازمها
وآثارها إليه، وهي أدلتها السمعية، فيكون رواية، فلم لا يقبل إذا جاء
به الثقة.
وأجاب: بأنه إنما يكفي الرجوع إلى الحس في الآثار إذا كانت
الآثار مستلزمة له عادة، وبالجملة إذا أفادت اليقين، كما في آثار
الملكات وآثار مقالة الرئيس وهي مقالة رعيته، وهذا بخلاف ما
يستنهضه المجتهد من الدليل على الحكم.
ثم قال: على أن التحقيق في الجواب عن السؤال الأول هو
الوجه الأول، وعليه فلا أثر لهذا السؤال (1)، انتهى.
قلت: إن الظاهر من الإجماع اتفاق أهل عصر واحد، لا جميع
الأعصار كما يظهر من تعاريفهم وسائر كلماتهم، ومن المعلوم أن إجماع
أهل عصر واحد - مع قطع النظر عن موافقة أهالي الأعصار المتقدمة
ومخالفتهم - لا يوجب عن طريق الحدس العلم الضروري بصدور الحكم
عن الإمام (عليه السلام)، ولذا قد يتخلف، لاحتمال مخالفة من تقدم عليهم أو
أكثرهم. نعم يفيد العلم من باب وجوب اللطف الذي لا نقول بجريانه
في المقام، كما قرر في محله (2).

(1) الوافي في شرح الوافية (مخطوط): الورقة 150.
(2) انظر القوانين 1: 353، والفصول: 245 - 246.
201

مع أن علماء العصر إذا كثروا - كما في الأعصار السابقة - يتعذر
أو يتعسر الاطلاع عليهم حسا بحيث يقطع بعدم من سواهم في العصر،
إلا إذا كان العلماء في عصر قليلين يمكن الإحاطة برأيهم في المسألة
فيدعى الإجماع، إلا أن مثل هذا الأمر المحسوس لا يستلزم عادة
لموافقة المعصوم (عليه السلام).
فالمحسوس المستلزم عادة لقول الإمام (عليه السلام) مستحيل التحقق
للناقل، والممكن المتحقق له غير مستلزم عادة.
وكيف كان: فإذا ادعى الناقل الإجماع خصوصا إذا كان ظاهره
اتفاق جميع علماء الأعصار أو أكثرهم إلا من شذ - كما هو الغالب في
إجماعات مثل الفاضلين والشهيدين - انحصر محمله في وجوه:
أحدها: أن يراد به اتفاق المعروفين بالفتوى، دون كل قابل
للفتوى من أهل عصره أو مطلقا.
الثاني: أن يريد إجماع الكل، ويستفيد ذلك من اتفاق المعروفين
من أهل عصره.
وهذه الاستفادة ليست ضرورية وإن كانت قد تحصل، لأن اتفاق
أهل عصره - فضلا عن المعروفين منهم - لا يستلزم عادة اتفاق غيرهم
ومن قبلهم، خصوصا بعد ملاحظة التخلف في كثير من الموارد لا يسع
هذه الرسالة لذكر معشارها. ولو فرض حصوله للمخبر كان من باب
الحدس الحاصل عما لا يوجب العلم عادة. نعم هي (1) أمارة ظنية على
ذلك، لأن الغالب في الاتفاقيات عند أهل عصر كونه من الاتفاقيات

(1) في (ه‍): " هو ".
202

عند من تقدمهم. وقد يحصل العلم بضميمة أمارات اخر، لكن الكلام
في كون الاتفاق مستندا إلى الحس أو إلى حدس لازم عادة للحس.
والحق بذلك: ما إذا علم اتفاق الكل من اتفاق جماعة لحسن ظنه
بهم، كما ذكره (1) في أوائل المعتبر، حيث قال: " ومن المقلدة من لو
طالبته بدليل المسألة ادعى الإجماع، لوجوده في كتب الثلاثة قدست
أسرارهم، وهو جهل إن لم يكن تجاهلا " (2).
فإن في توصيف المدعي بكونه مقلدا مع أنا نعلم أنه لا يدعي
الإجماع إلا عن علم، إشارة إلى استناده في دعواه إلى حسن الظن بهم
وأن جزمه في غير محله (3)، فافهم.
الثالث: أن يستفيد اتفاق الكل على الفتوى من اتفاقهم على
العمل بالأصل عند عدم الدليل، أو بعموم دليل عند عدم وجدان
المخصص، أو بخبر معتبر عند عدم وجدان المعارض، أو اتفاقهم على
مسألة أصولية - نقلية أو عقلية - يستلزم القول بها الحكم (4) في المسألة
المفروضة، وغير ذلك من الأمور المتفق عليها التي يلزم باعتقاد المدعي
من القول بها - مع فرض عدم المعارض - القول بالحكم المعين في
المسألة.
ومن المعلوم: أن نسبة هذا الحكم إلى العلماء في مثل ذلك

(1) في (ه‍): كما ذكر.
(2) المعتبر 1: 62.
(3) لم ترد عبارة " وأن جزمه في غير محله " في (م).
(4) في (ظ) و (م): " لحكم ".
203

لم تنشأ (1) إلا من مقدمتين أثبتهما المدعي باجتهاده:
إحداهما: كون ذلك الأمر المتفق عليه مقتضيا ودليلا للحكم
لولا المانع.
والثانية: انتفاء المانع والمعارض. ومن المعلوم أن الاستناد
إلى الخبر المستند إلى ذلك غير جائز عند أحد من العاملين بخبر
الواحد.
ثم إن الظاهر أن الإجماعات المتعارضة من شخص واحد أو من
معاصرين أو متقاربي العصر (2)، ورجوع المدعي عن الفتوى التي ادعى
الإجماع فيها، ودعوى الإجماع في مسائل غير معنونة في كلام من تقدم
على المدعي، وفي مسائل قد اشتهر خلافها بعد المدعي بل في زمانه بل
في ما قبله، كل ذلك مبني على الاستناد في نسبة القول إلى العلماء على
هذا الوجه.
ولا بأس بذكر بعض موارد (3) صرح المدعي بنفسه أو غيره في
مقام توجيه كلامه فيها بذلك.
فمن ذلك: ما وجه المحقق به دعوى المرتضى (4) والمفيد (5) - أن من
مذهبنا جواز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات - قال:

(1) في (ت)، (ر)، (ص) و (ل): " لا تنشأ ".
(2) كذا في (ت) و (ه‍)، وفي غيرهما: " العصرين ".
(3) في (ت)، (ر) و (ه‍): " الموارد ".
(4) الخلاف أو مسائل الخلاف من مصنفات السيد المرتضى، وهي مفقودة.
(5) مسائل الخلاف من مصنفات الشيخ المفيد، وهي مفقودة أيضا.
204

وأما قول السائل: كيف أضاف المفيد والسيد ذلك إلى مذهبنا
ولا نص فيه؟ فالجواب: أما علم الهدى، فإنه ذكر في الخلاف: أنه
إنما أضاف ذلك إلى مذهبنا، لأن من أصلنا العمل بالأصل ما لم يثبت
الناقل، وليس في الشرع ما يمنع الإزالة بغير الماء من المائعات، ثم قال:
وأما المفيد، فإنه ادعى في مسائل الخلاف: أن ذلك مروي عن
الأئمة (عليهم السلام) (1)، انتهى.
فظهر من ذلك: أن نسبة السيد (قدس سره) الحكم المذكور إلى مذهبنا من
جهة الأصل.
ومن ذلك: ما عن الشيخ في الخلاف، حيث إنه ذكر فيما إذا بان
فسق الشاهدين بما يوجب القتل، بعد القتل: بأنه (2) يسقط القود وتكون
الدية من بيت المال. قال:
دليلنا إجماع الفرقة، فإنهم رووا: أن ما أخطأت القضاة ففي بيت
مال المسلمين (3)، انتهى.
فعلل انعقاد الإجماع بوجود الرواية عند الأصحاب.
وقال بعد ذلك، فيما إذا تعددت الشهود في من أعتقه المريض
وعين كل غير ما عينه الآخر ولم يف الثلث بالجميع: إنه يخرج
السابق (4) بالقرعة، قال:

(1) المسائل المصرية (الرسائل التسع): 215 و 216، وأما مسائل الخلاف فهي
من مصنفات الشيخ المفيد المفقودة.
(2) الأنسب: " أنه "، كما في نسخة (د).
(3) الخلاف 6: 290، المسألة 36.
(4) لم ترد " السابق " في (ه‍)، وكتب عليه في (ص): " زائد ".
205

دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم، فإنهم أجمعوا على أن كل أمر
مجهول فيه القرعة (1)، انتهى.
ومن الثاني (2): ما عن المفيد في فصوله، حيث إنه سئل عن الدليل
على أن المطلقة ثلاثا في مجلس واحد يقع منها واحدة؟ فقال:
الدلالة على ذلك من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) وإجماع
المسلمين، ثم استدل من الكتاب بظاهر قوله تعالى: * (الطلاق مرتان) * (3)،
ثم بين وجه الدلالة، ومن السنة قوله (صلى الله عليه وآله): " كل ما لم يكن على أمرنا
هذا فهو رد " (4)، وقال: " ما وافق الكتاب فخذوه، وما لم يوافقه
فاطرحوه " (5)، وقد بينا أن المرة لا تكون مرتين أبدا وأن الواحدة
لا تكون ثلاثا، فأوجب السنة إبطال طلاق الثلاث.
وأما إجماع الأمة، فهم مطبقون على أن ما خالف الكتاب والسنة
فهو باطل، وقد تقدم وصف خلاف الطلاق بالكتاب والسنة، فحصل
الإجماع على إبطاله (6)، انتهى.

(1) الخلاف 6: 290، المسألة 37.
(2) في (ص): " ومن الأول "، وفي غيرها ونسخة بدل (ص) ما أثبتناه.
(3) البقرة: 229.
(4) لم نقف عليه بلفظه، وورد ما يقرب منه في كنز العمال 1: 219 - 220،
الحديث 1101 و 1109.
(5) الوسائل 14: 356، الباب 20 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة، الحديث 4،
مع تفاوت يسير.
(6) الفصول المختارة (مصنفات الشيخ المفيد) 2: 175 - 177.
206

وحكي عن الحلي في السرائر الاستدلال بمثل هذا (1).
ومن ذلك: الإجماع الذي ادعاه الحلي على المضايقة في قضاء
الفوائت - في رسالته المسماة بخلاصة الاستدلال - حيث قال:
أطبقت عليه الإمامية خلفا عن سلف وعصرا بعد عصر وأجمعت
على العمل به، ولا يعتد بخلاف نفر يسير من الخراسانيين، فإن ابني
بابويه، والأشعريين كسعد بن عبد الله - صاحب كتاب الرحمة - وسعد
ابن سعد ومحمد بن علي بن محبوب - صاحب كتاب نوادر الحكمة (2) -،
والقميين أجمع كعلي بن إبراهيم بن هاشم ومحمد بن الحسن بن الوليد،
عاملون بأخبار المضايقة، لأنهم ذكروا أنه لا يحل رد الخبر الموثوق
برواته، وحفظتهم (3) الصدوق ذكر ذلك في كتاب من لا يحضره الفقيه،
وخريت هذه الصناعة ورئيس الأعاجم الشيخ أبو جعفر الطوسي مودع
أخبار المضايقة في كتبه، مفت بها، والمخالف إذا علم باسمه ونسبه
لم يضر خلافه (4)، انتهى.

(1) السرائر 2: 682 - 684.
(2) كذا في النسخ، ويبدو أن الصحيح " نوادر المصنف " كما في غاية المراد 1:
102، والسرائر 3: 601، أو " نوادر المصنفين " كما في الوسائل 20: 47، وأما
كتاب نوادر الحكمة فإنه من تأليفات محمد بن أحمد بن يحيى، كما ستأتي الإشارة
إليه في الصفحة 324، وانظر الذريعة إلى تصانيف الشيعة 24: 346 و 349.
(3) رجل حفظة كهمزة، أي كثير الحفظ، تاج العروس 5: 251.
(4) رسالة خلاصة الاستدلال من مؤلفات الحلي (قدس سره)، وهي مفقودة، وحكاه عنه
الشهيد (قدس سره) في غاية المراد 1: 102.
207

ولا يخفى: أن إخباره بإجماع العلماء على الفتوى بالمضايقة مبني
على الحدس والاجتهاد من وجوه:
أحدها: دلالة ذكر الخبر على عمل الذاكر به. وهذا وإن كان
غالبيا إلا أنه لا يوجب القطع، لمشاهدة التخلف كثيرا.
الثاني: تمامية دلالة تلك الأخبار عند أولئك على الوجوب، إذ
لعلهم فهموا منها بالقرائن الخارجية تأكد الاستحباب.
الثالث: كون رواة تلك الروايات موثوقا بهم عند أولئك، لأن
وثوق الحلي بالرواة لا يدل على وثوق أولئك.
مع أن الحلي لا يرى جواز العمل بأخبار الآحاد وإن كانوا
ثقات، والمفتي إذا استند فتواه إلى خبر واحد، لا يوجب اجتماع أمثاله
القطع بالواقع، خصوصا لمن يخطئ العمل بأخبار الآحاد.
وبالجملة: فكيف يمكن أن يقال: إن مثل هذا الإجماع إخبار عن
قول الإمام (عليه السلام)، فيدخل في الخبر الواحد؟ مع أنه في الحقيقة اعتماد
على اجتهادات الحلي مع وضوح فساد بعضها، فإن كثيرا ممن ذكر
أخبار المضايقة قد ذكر أخبار المواسعة أيضا (1)، وأن المفتي إذا علم
استناده إلى مدرك لا يصلح للركون (2) إليه - من جهة الدلالة أو
المعارضة - لا يؤثر فتواه في الكشف عن قول الإمام (عليه السلام).
وأوضح حالا في عدم جواز الاعتماد: ما ادعاه الحلي من الإجماع

(1) كالشيخ الصدوق في الفقيه 1: 358، و 434، الحديث 1031 و 1264،
والشيخ الطوسي في التهذيب 2: 171 و 273، الحديث 680 و 1086.
(2) في (ظ) و (ه‍): " الركون ".
208

على وجوب فطرة الزوجة ولو كانت ناشزة على الزوج (1)، ورده المحقق
بأن أحدا من علماء الإسلام لم يذهب إلى ذلك (2).
فإن الظاهر أن الحلي إنما اعتمد في استكشاف أقوال العلماء على
تدوينهم للروايات الدالة بإطلاقها على وجوب فطرة (3) الزوجة على
الزوج (4)، متخيلا أن الحكم معلق على الزوجة من حيث هي زوجة،
ولم يتفطن لكون الحكم من حيث العيلولة، أو وجوب الانفاق.
فكيف يجوز الاعتماد في مثله على الإخبار بالاتفاق الكاشف عن
قول الإمام (عليه السلام)، ويقال: إنها سنة محكية؟
وما أبعد ما بين ما استند إليه الحلي في هذا المقام وبين ما ذكره
المحقق في بعض كلماته المحكية، حيث قال:
إن الاتفاق على لفظ مطلق شامل لبعض أفراده الذي وقع فيه
الكلام، لا يقتضي الإجماع على ذلك الفرد، لأن المذهب لا يصار إليه
من إطلاق اللفظ ما لم يكن معلوما من القصد، لأن الإجماع مأخوذ
من قولهم: " أجمع على كذا " إذا عزم عليه، فلا يدخل في الإجماع
على الحكم إلا من علم منه القصد إليه. كما أنا لا نعلم مذهب
عشرة من الفقهاء الذين لم ينقل مذهبهم لدلالة عموم القرآن وإن كانوا
قائلين به (5)، انتهى كلامه.

(1) السرائر 1: 466.
(2) المعتبر 2: 601 - 602.
(3) في (ظ)، (ل) و (م): " نفقة ".
(4) انظر الوسائل 6: 228، الباب 5 من أبواب زكاة الفطرة، الحديث 3 و 4.
(5) المسائل العزية (الرسائل التسع): 144 - 145.
209

وهو في غاية المتانة. لكنك عرفت (1) ما وقع من جماعة من
المسامحة في إطلاق لفظ " الإجماع "، وقد حكى في المعالم عن الشهيد:
أنه أول كثيرا من الاجماعات - لأجل مشاهدة المخالف في مواردها -
بإرادة الشهرة، أو بعدم الظفر بالمخالف حين دعوى الإجماع، أو بتأويل
الخلاف على وجه لا ينافي الإجماع، أو بإرادة الإجماع على الرواية
وتدوينها في كتب الحديث (2)، انتهى.
وعن المحدث المجلسي (قدس سره) في كتاب الصلاة من البحار بعد ذكر
معنى الإجماع ووجه حجيته عند الأصحاب:
إنهم لما رجعوا إلى الفقه كأنهم نسوا ما ذكروه في الأصول - ثم
أخذ في الطعن على إجماعاتهم إلى أن قال: - فيغلب على الظن أن
مصطلحهم في الفروع غير ما جروا عليه في الأصول (3)، انتهى.
والتحقيق: أنه لا حاجة إلى ارتكاب التأويل في لفظ " الإجماع "
بما ذكره الشهيد، ولا إلى ما ذكره المحدث المذكور (4) (قدس سرهما)، من تغاير
مصطلحهم في الفروع والأصول، بل الحق: أن دعواهم للاجماع في
الفروع مبني على استكشاف الآراء ورأي الإمام (عليه السلام) إما من حسن
الظن بجماعة من السلف، أو من أمور تستلزم - باجتهادهم - إفتاء
العلماء بذلك وصدور الحكم عن الإمام (عليه السلام) أيضا.

(1) راجع الصفحة 186 - 187.
(2) انظر المعالم: 174، والذكرى 1: 51.
(3) البحار 89: 222.
(4) لم ترد في (م): " المذكور ".
210

وليس في هذا مخالفة لظاهر لفظ " الإجماع " حتى يحتاج إلى
القرينة، ولا تدليس، لأن دعوى الإجماع ليست (1) لأجل اعتماد الغير
عليه وجعله دليلا يستريح إليه في المسألة.
نعم، قد يوجب التدليس من جهة نسبة الفتوى إلى العلماء،
الظاهرة في وجدانها في كلماتهم، لكنه يندفع بأدنى تتبع في الفقه، ليظهر
أن مبنى ذلك على استنباط المذهب، لا على وجدانه مأثورا.
والحاصل: أن المتتبع في الاجماعات المنقولة يحصل له القطع من
تراكم أمارات كثيرة، باستناد دعوى الناقلين للاجماع - خصوصا إذا
أرادوا به اتفاق علماء جميع الأعصار كما هو الغالب في إجماعات
المتأخرين - إلى الحدس الحاصل من حسن الظن بجماعة ممن تقدم على
الناقل، أو من الانتقال من الملزوم إلى لازمه (2)، مع ثبوت الملازمة
باجتهاد الناقل واعتقاده.
وعلى هذا ينزل الإجماعات المتخالفة من العلماء مع اتحاد العصر
أو تقارب العصرين، وعدم المبالاة كثيرا بإجماع الغير والخروج عنه
للدليل، وكذا دعوى الإجماع مع وجود المخالف، فإن ما ذكرنا في مبنى
الإجماع من أصح المحامل لهذه الأمور المنافية لبناء دعوى الإجماع على
تتبع الفتاوى في خصوص المسألة.
وذكر المحقق السبزواري في الذخيرة، بعد بيان تعسر العلم
بالاجماع:

(1) في غير (ت): " ليس ".
(2) في (ه‍): " اللازم ".
211

أن مرادهم بالإجماعات المنقولة في كثير من المسائل بل في
أكثرها، لا يكون محمولا على معناه الظاهر، بل إما يرجع إلى اجتهاد
من الناقل مؤد - بحسب القرائن والأمارات التي اعتبرها - إلى أن
المعصوم (عليه السلام) موافق في هذا الحكم، أو مرادهم الشهرة، أو اتفاق
أصحاب الكتب المشهورة، أو غير ذلك من المعاني المحتملة.
ثم قال بعد كلام له: والذي ظهر لي من تتبع كلام المتأخرين،
أنهم كانوا ينظرون إلى كتب الفتاوى الموجودة عندهم في حال التأليف،
فإذا رأوا اتفاقهم على حكم قالوا: إنه إجماعي، ثم إذا اطلعوا على
تصنيف آخر خالف مؤلفه الحكم المذكور، رجعوا عن الدعوى المذكورة،
ويرشد إلى هذا كثير من القرائن التي لا يناسب هذا المقام تفصيلها (1)،
انتهى.
وحاصل الكلام من أول ما ذكرنا إلى هنا: أن الناقل للإجماع إن
احتمل في حقه تتبع فتاوى من ادعى اتفاقهم حتى الإمام الذي هو
داخل في المجمعين، فلا إشكال في حجيته وفي إلحاقه بالخبر الواحد، إذ
لا يشترط في حجيته معرفة الإمام (عليه السلام) تفصيلا حين السماع منه.
لكن هذا الفرض مما يعلم بعدم وقوعه، وأن المدعي للإجماع
لا يدعيه على هذا الوجه.
وبعد هذا، فإن احتمل في حقه تتبع فتاوى جميع المجمعين،
والمفروض أن الظاهر من كلامه هو (2) اتفاق الكل المستلزم عادة لموافقة

(1) ذخيرة المعاد: 50 - 51.
(2) لم ترد: " هو " في (ظ)، (ل) و (م).
212

قول الإمام (عليه السلام)، فالظاهر حجية خبره للمنقول إليه، سواء جعلنا المناط
في حجيته تعلق خبره بنفس الكاشف، الذي هو من الأمور المحسوسة
المستلزمة ضرورة لأمر حدسي وهو قول الإمام (عليه السلام)، أو جعلنا المناط
تعلق خبره بالمنكشف وهو قول الإمام (عليه السلام)، لما عرفت (1): من أن
الخبر الحدسي المستند إلى إحساس ما هو ملزوم للمخبر به عادة،
كالخبر الحسي في وجوب القبول. وقد تقدم الوجهان في كلام السيد
الكاظمي في شرح الوافية (2).
لكنك قد عرفت سابقا (3): القطع بانتفاء هذا الاحتمال، خصوصا
إذا أراد الناقل اتفاق علماء جميع الأعصار.
نعم، لو فرضنا قلة العلماء في عصر بحيث يحاط بهم، أمكن
دعوى اتفاقهم عن حس، لكن هذا غير مستلزم عادة لموافقة قول
الإمام (عليه السلام). نعم، يكشف عن موافقته بناء على طريقة الشيخ المتقدمة (4)
التي لم تثبت عندنا وعند الأكثر (5).
ثم إذا علم عدم استناد دعوى اتفاق العلماء المتشتتين في الأقطار
- الذي يكشف عادة عن موافقة الإمام (عليه السلام) - إلا إلى الحدس الناشئ
عن أحد الأمور المتقدمة التي مرجعها إلى حسن الظن أو الملازمات

(1) راجع الصفحة 198 - 199.
(2) راجع الصفحة 200.
(3) راجع الصفحة 202.
(4) في الصفحة 192.
(5) في (ت)، (ر) و (ص): " الأكثرين ".
213

الاجتهادية، فلا عبرة بنقله، لأن الإخبار بقول الإمام (عليه السلام) حدسي غير
مستند إلى حس ملزوم له عادة ليكون نظير الإخبار بالعدالة المستندة
إلى الآثار الحسية، والإخبار بالاتفاق أيضا حدسي.
نعم، يبقى هنا شئ، وهو: أن هذا المقدار من النسبة المحتمل
استناد الناقل فيها إلى الحس يكون خبره حجة فيها، لأن ظاهر
الحكاية محمول على الوجدان إلا إذا قام هناك صارف، والمعلوم من
الصارف هو عدم استناد الناقل إلى الوجدان والحس في نسبة الفتوى
إلى جميع من ادعى إجماعهم، وأما استناد نسبة الفتوى إلى جميع أرباب
الكتب المصنفة في الفتاوى إلى الوجدان في كتبهم بعد التتبع، فأمر محتمل
لا يمنعه عادة ولا عقل.
وما تقدم من المحقق السبزواري (1) - من ابتناء دعوى الإجماع على
ملاحظة الكتب الموجودة عنده حال التأليف - فليس عليه شاهد، بل
الشاهد على خلافه. وعلى تقديره، فهو ظن لا يقدح في العمل بظاهر
النسبة، فإن نسبة الأمر الحسي إلى شخص ظاهر في إحساس الغير إياه
من ذلك الشخص.
وحينئذ: فنقل الإجماع غالبا - إلا ما شذ - حجة بالنسبة إلى
صدور الفتوى عن جميع المعروفين من أهل الفتاوى.
ولا يقدح في ذلك: أنا نجد الخلاف في كثير من موارد دعوى
الإجماع، إذ من المحتمل إرادة الناقل ما عدا المخالف، فتتبع كتب من
عداه ونسب الفتوى إليهم، بل لعله اطلع على رجوع من نجده مخالفا،

(1) راجع الصفحة 212.
214

فلا حاجة إلى حمل كلامه على من عدا المخالف.
وهذا المضمون المخبر به عن حس وإن لم يكن مستلزما بنفسه
عادة لموافقة قول الإمام (عليه السلام)، إلا أنه قد يستلزمه (1) بانضمام أمارات
اخر يحصلها المتتبع، أو بانضمام أقوال المتأخرين دعوى الإجماع.
مثلا: إذا ادعى الشيخ (قدس سره) الإجماع على اعتبار طهارة مسجد
الجبهة، فلا أقل من احتمال أن يكون دعواه مستندة إلى وجدان الحكم
في الكتب المعدة للفتوى - وإن كان بإيراد الروايات التي يفتي المؤلف
بمضمونها - فيكون خبره المتضمن لإفتاء جميع أهل الفتوى بهذا الحكم
حجة في المسألة، فيكون كما لو وجدنا الفتاوى في كتبهم، بل سمعناها
منهم، وفتواهم وإن لم تكن بنفسها مستلزمة عادة لموافقة الإمام (عليه السلام)،
إلا أنا إذا ضممنا إليها فتوى من تأخر عن الشيخ من أهل الفتوى،
وضم إلى ذلك أمارات اخر، فربما حصل من المجموع القطع بالحكم،
لاستحالة تخلف هذه جميعها عن قول الإمام (عليه السلام).
وبعض هذا المجموع - وهو اتفاق أهل الفتاوى المأثورة عنهم -
وإن لم يثبت لنا بالوجدان، إلا أن المخبر قد أخبر به عن حس، فيكون
حجة كالمحسوس لنا.
وكما أن مجموع ما يستلزم عادة لصدور (2) الحكم عن الإمام (عليه السلام)
- إذا أخبر به العادل عن حس - قبل منه وعمل بمقتضاه، فكذا إذا
أخبر العادل ببعضه عن حس.

(1) في (ت)، (ر)، (ص) و (ه‍): " يستلزم ".
(2) في (ت) و (ه‍): " صدور ".
215

وتوضيحه بالمثال الخارجي أن نقول: إن خبر مائة عادل أو ألف
مخبر بشئ مع شدة احتياطهم في مقام الإخبار يستلزم عادة ثبوت
المخبر به في الخارج، فإذا أخبرنا عادل بأنه قد أخبر ألف عادل بموت
زيد وحضور دفنه، فيكون خبره بإخبار الجماعة بموت زيد حجة،
فيثبت به لازمه العادي وهو موت زيد، وكذلك إذا أخبر العادل
بإخبار بعض هؤلاء، وحصلنا إخبار الباقي بالسماع منهم.
نعم، لو كانت الفتاوى المنقولة إجمالا بلفظ " الإجماع " على تقدير
ثبوتها لنا بالوجدان، مما لا يكون بنفسها أو بضميمة أمارات اخر
مستلزمة عادة للقطع بقول الإمام (عليه السلام) - وإن كانت قد تفيده - لم يكن
معنى لحجية خبر الواحد في نقلها تعبدا، لأن معنى التعبد بخبر الواحد
في شئ ترتيب لوازمه الثابتة له ولو بضميمة أمور اخر، فلو أخبر
العادل بإخبار عشرين بموت زيد، وفرضنا أن إخبارهم قد يوجب
العلم وقد لا يوجب، لم يكن خبره حجة بالنسبة إلى موت زيد، إذ
لا يلزم من إخبار عشرين بموت زيد موته.
وبالجملة: فمعنى حجية خبر العادل وجوب ترتيب ما يدل عليه
المخبر به - مطابقة، أو تضمنا، أو التزاما عقليا أو عاديا أو شرعيا -
دون ما يقارنه أحيانا.
ثم إن ما ذكرنا لا يختص بنقل الإجماع، بل يجري في لفظ (1)
" الاتفاق " وشبهه، و (2) يجري في نقل الشهرة، ونقل الفتاوى عن

(1) في (ص) بدل " لفظ ": " نقل ".
(2) في (ر) و (ه‍) بدل " و ": " بل ".
216

أربابها تفصيلا.
ثم إنه لو لم يحصل من مجموع ما ثبت بنقل العادل وما حصله
المنقول إليه بالوجدان من الأمارات والأقوال القطع بصدور الحكم
الواقعي عن الإمام (عليه السلام)، لكن حصل منه القطع بوجود دليل ظني معتبر
بحيث لو نقل إلينا لاعتقدناه تاما من جهة الدلالة وفقد المعارض، كان
هذا المقدار - أيضا - كافيا في إثبات المسألة الفقهية، بل قد يكون نفس
الفتاوى - التي نقلها الناقل للإجماع إجمالا - مستلزما لوجود دليل معتبر،
فيستقل الإجماع المنقول بالحجية بعد إثبات حجية خبر العادل في
المحسوسات.
إلا إذا منعنا - كما تقدم سابقا (1) - عن استلزام اتفاق أرباب
الفتاوى عادة لوجود دليل لو نقل إلينا لوجدناه تاما، وإن كان قد
يحصل العلم بذلك من ذلك، إلا أن ذلك شئ قد يتفق، ولا يوجب
ثبوت الملازمة العادية التي هي المناط في الانتقال من المخبر به
إليه.
ألا ترى: أن إخبار عشرة بشئ قد يوجب العلم به، لكن
لا ملازمة عادية بينهما، بخلاف إخبار ألف عادل محتاط في الإخبار.
وبالجملة: يوجد في الخبر مرتبة تستلزم عادة لتحقق (2) المخبر به،
لكن ما يوجب العلم أحيانا قد لا يوجبه، وفي الحقيقة ليس هو بنفسه
الموجب في مقام حصول العلم، وإلا لم يتخلف.

(1) راجع الصفحة 191.
(2) في (ت) و (ه‍): " تحقق ".
217

ثم إنه قد نبه على ما ذكرنا - من فائدة نقل الإجماع - بعض
المحققين في كلام طويل له، وما ذكرنا وإن كان محصل كلامه على ما
نظرنا فيه، لكن الأولى نقل عبارته بعينها، فلعل الناظر يحصل منها غير
ما حصلنا، فإنا قد مررنا على العبارة مرورا، ولا يبعد أن يكون قد
اختفى علينا بعض ما له دخل في مطلبه.
قال (قدس سره) في كشف القناع وفي رسالته التي صنفها في المواسعة
والمضايقة، ما هذا لفظه:
وليعلم أن المحقق في ذلك، هو: أن الإجماع الذي نقل بلفظه
المستعمل في معناه المصطلح أو بسائر الألفاظ على كثرتها، إذا لم يكن
مبتنيا على دخول المعصوم بعينه أو ما في حكمه في المجمعين، فهو إنما
يكون حجة على غير الناقل باعتبار نقله السبب الكاشف عن قول
المعصوم أو عن الدليل القاطع أو مطلق الدليل المعتد به وحصول
الانكشاف للمنقول إليه والتمسك به بعد البناء على قبوله، لا باعتبار ما
انكشف منه لناقله بحسب ادعائه.
فهنا مقامان:
الأول: حجيته بالاعتبار الأول، وهي مبتنية من جهتي الثبوت
والإثبات على مقدمات:
الأولى: دلالة اللفظ على السبب، وهذه لا بد من اعتبارها،
وهي متحققة ظاهرا في الألفاظ المتداولة بينهم ما لم يصرف عنها
صارف.
وقد يشتبه الحال إذا كان النقل بلفظ " الإجماع " في مقام
الاستدلال.
218

لكن من المعلوم أن مبناه ومبنى غيره ليس على الكشف الذي
يدعيه جهال الصوفية، ولا على الوجه الأخير الذي إن وجد في
الأحكام ففي غاية الندرة، مع أنه على تقدير بناء الناقل عليه وثبوته
واقعا كاف في الحجية، فإذا انتفى الأمران تعين سائر الأسباب المقررة،
وأظهرها غالبا عند الإطلاق حصول الاطلاع - بطريق القطع أو الظن
المعتد به - على اتفاق الكل في نفس الحكم، ولذا صرح جماعة منهم
باتحاد معنى الإجماع عند الفريقين، وجعلوه مقابلا للشهرة، وربما بالغوا
في أمرها بأنها كادت تكون إجماعا ونحو ذلك، وربما قالوا: إن كان
هذا مذهب فلان فالمسألة إجماعية.
وإذا لوحظت القرائن الخارجية من جهة العبارة والمسألة والنقلة،
واختلف الحال في ذلك، فيؤخذ بما هو المتيقن أو الظاهر.
وكيف كان: فحيث دل اللفظ ولو بمعونة القرائن على تحقق
الاتفاق المعتبر كان معتبرا، وإلا فلا.
الثانية: حجية نقل السبب المذكور وجواز التعويل عليه، وذلك
لأنه ليس إلا كنقل فتاوى العلماء وأقوالهم وعباراتهم الدالة عليها
لمقلديهم وغيرهم، ورواية ما عدا قول المعصوم ونحوه من سائر ما
تضمنه الأخبار، كالأسئلة التي تعرف (1) منها (2) أجوبته، والأقوال
والأفعال التي يعرف منها تقريره، ونحوها مما تعلق بها، وما نقل عن
سائر الرواة المذكورين في الأسانيد وغيرها، وكنقل الشهرة واتفاق سائر

(1) في (ظ) والمصدر: " يعرف ".
(2) في (ظ) و (م): " بها ".
219

اولي الآراء والمذاهب وذوي الفتوى أو جماعة منهم، وغير ذلك.
وقد جرت طريقة السلف والخلف من جميع الفرق على قبول
أخبار الآحاد في كل ذلك مما كان النقل فيه على وجه الإجمال أو
التفصيل، وما تعلق بالشرعيات أو غيرها، حتى أنهم كثيرا ما ينقلون
شيئا مما ذكر معتمدين على نقل غيرهم من دون تصريح بالنقل عنه
والاستناد إليه، لحصول الوثوق به وإن لم يصل إلى مرتبة العلم، فيلزم
قبول خبر الواحد فيما نحن فيه أيضا، لاشتراك الجميع في كونها نقل
قول غير معلوم من غير معصوم وحصول الوثوق بالناقل، كما هو
المفروض.
وليس شئ من ذلك من الأصول حتى يتوهم عدم الاكتفاء فيه
بخبر الواحد، مع أن هذا الوهم فاسد من أصله، كما قرر في محله.
ولا من الأمور المتجددة التي لم يعهد الاعتماد فيها على خبر الواحد في
زمان النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) والصحابة. ولا مما يندر اختصاص
معرفته ببعض دون بعض، مع أن هذا لا يمنع من التعويل على نقل
العارف به، لما ذكر.
ويدل عليه مع ذلك: ما دل على حجية خبر الثقة العدل بقول
مطلق. وما اقتضى كفاية الظن فيما لا غنى عن معرفته ولا طريق إليه
غيره غالبا، إذ من المعلوم شدة الحاجة إلى معرفة أقوال علماء الفريقين
وآراء سائر أرباب العلوم لمقاصد شتى لا محيص عنها، كمعرفة المجمع
عليه والمشهور والشاذ من الأخبار والأقوال، والموافق للعامة أو أكثرهم
والمخالف لهم، والثقة والأوثق والأورع والأفقه، وكمعرفة اللغات
وشواهدها المنثورة والمنظومة، وقواعد العربية التي عليها يبتني استنباط
220

المطالب الشرعية، وفهم معاني الأقارير والوصايا وسائر العقود
والايقاعات المشتبهة، وغير ذلك مما لا يخفى على المتأمل.
ولا طريق إلى ما اشتبه من جميع ذلك - غالبا - سوى النقل الغير
الموجب للعلم، والرجوع إلى الكتب المصححة ظاهرا، وسائر الأمارات
الظنية، فيلزم جواز العمل بها والتعويل عليها فيما ذكر.
فيكون خبر الواحد الثقة حجة معتمدا عليها فيما نحن فيه، ولا سيما
إذا كان الناقل من الأفاضل الأعلام والأجلاء الكرام كما هو الغالب،
بل هو أولى بالقبول والاعتماد من أخبار الآحاد في نفس الأحكام،
ولذا بني على المسامحة فيه من وجوه شتى بما لم يتسامح فيها، كما
لا يخفى.
الثالثة: حصول استكشاف الحجة المعتبرة من ذلك السبب.
ووجهه: أن السبب المنقول بعد حجيته، كالمحصل في ما يستكشف
منه والاعتماد عليه وقبوله وإن كان من الأدلة الظنية باعتبار ظنية
أصله، ولذا كانت النتيجة في الشكل الأول تابعة - في الضرورية
والنظرية والعلمية والظنية وغيرها - لأخس مقدمتيه مع بداهة إنتاجه.
فينبغي حينئذ: أن يراعى حال الناقل حين نقله من جهة ضبطه،
وتورعه في النقل، وبضاعته في العلم، ومبلغ نظره ووقوفه على الكتب
والأقوال، واستقصائه لما تشتت منها، ووصوله إلى وقائعها، فإن أحوال
العلماء مختلف فيها اختلافا فاحشا. وكذلك حال الكتب المنقول فيها
الإجماع، فرب كتاب لغير متتبع موضوع على مزيد التتبع والتدقيق،
ورب كتاب لمتتبع موضوع على المسامحة وقلة التحقيق.
ومثله الحال في آحاد المسائل، فإنها تختلف أيضا في ذلك.
221

وكذا حال لفظه بحسب وضوح دلالته على السبب وخفائها،
وحال ما يدل عليه من جهة متعلقه وزمان نقله، لاختلاف الحكم
بذلك، كما هو ظاهر.
ويراعى أيضا وقوع دعوى الإجماع في مقام ذكر الأقوال أو
الاحتجاج، فإن بينهما تفاوتا من بعض الجهات، وربما كان الأول
الأولى (1) بالاعتماد بناء على اعتبار السبب كما لا يخفى.
وإذا (2) وقع التباس فيما يقتضيه ويتناوله كلام الناقل بعد ملاحظة
ما ذكر، اخذ بما هو المتيقن أو الظاهر.
ثم ليلحظ مع ذلك: ما يمكن معرفته من الأقوال على وجه العلم
واليقين، إذ لا وجه لاعتبار المظنون المنقول على سبيل الاجمال دون
المعلوم على التفصيل. مع أنه لو كان المنقول معلوما لما اكتفي به في
الاستكشاف عن ملاحظة سائر الأقوال التي لها دخل فيه، فكيف إذا
لم يكن كذلك؟
ويلحظ أيضا: سائر ما له تعلق في الاستكشاف بحسب ما يعتمد
عليه (3) من تلك الأسباب - كما هو مقتضى الاجتهاد - سواء كان من
الأمور المعلومة أو المظنونة، ومن الأقوال المتقدمة على النقل أو المتأخرة
أو المقارنة.
وربما يستغني المتتبع بما ذكر عن الرجوع إلى كلام ناقل الإجماع،

(1) كذا في المصدر، والأنسب: " كان الأول أولى ".
(2) كذا في (ظ) و (م)، وفي غيرهما: " فإذا ".
(3) " عليه " من المصدر.
222

لاستظهاره عدم مزية (1) عليه في التتبع والنظر، وربما كان الأمر بالعكس
وأنه إن تفرد بشئ كان نادرا لا يعتد به.
فعليه أن يستفرغ وسعه ويتبع نظره وتتبعه، سواء تأخر عن
الناقل أم عاصره، وسواء أدى فكره إلى الموافقة له أو المخالفة، كما هو
الشأن في معرفة سائر الأدلة وغيرها مما تعلق بالمسألة، فليس الإجماع
إلا كأحدها.
فالمقتضي للرجوع إلى النقل هو مظنة وصول الناقل إلى ما
لم يصل هو إليه من جهة السبب، أو احتمال ذلك، فيعتمد عليه في هذا
خاصة بحسب ما استظهر من حاله ونقله وزمانه، ويصلح كلامه مؤيدا
فيما عداه مع الموافقة، لكشفه عن توافق النسخ وتقويته للنظر.
فإذا لوحظ جميع ما ذكر، وعرف الموافق والمخالف إن وجد،
فليفرض المظنون منه كالمعلوم، لثبوت حجيته بالدليل العلمي ولو
بوسائط.
ثم لينظر: فإن حصل من ذلك استكشاف معتبر كان حجة ظنية،
حيث كان متوقفا على النقل الغير الموجب للعلم بالسبب أو كان
المنكشف غير الدليل القاطع، وإلا فلا.
وإذا تعدد ناقل الإجماع أو النقل، فإن توافق الجميع لوحظ كل (2)
ما علم على ما فصل واخذ بالحاصل، وإن تخالف لوحظ جميع ما ذكر
واخذ فيما اختلف فيه النقل بالأرجح بحسب حال الناقل، وزمانه،

(1) في (ظ) و (ه‍): " عدم مزيته ".
(2) في (ت)، (ر)، (ل) و (م) زيادة " مع "، وشطب عليها في (ص).
223

ووجود المعاضد وعدمه، وقلته وكثرته، ثم ليعمل بما هو المحصل،
ويحكم على تقدير حجيته بأنه دليل واحد وإن توافق النقل وتعدد
الناقل.
وليس ما ذكرناه مختصا بنقل الإجماع المتضمن لنقل الأقوال
إجمالا، بل يجري في نقلها تفصيلا أيضا، وكذا في نقل سائر الأشياء التي
يبتني عليها معرفة الأحكام. والحكم فيما إذا وجد المنقول موافقا لما
وجد أو مخالفا مشترك بين الجميع، كما هو ظاهر.
وقد اتضح بما بيناه: وجه ما جرت عليه طريقة معظم الأصحاب:
من عدم الاستدلال بالاجماع المنقول على وجه الاعتماد والاستقلال
غالبا، ورده بعدم الثبوت أو بوجدان الخلاف ونحوهما، فإنه المتجه على
ما قلنا، ولا سيما فيما شاع فيه النزاع والجدال، أو عرفت (1) فيه الأقوال،
أو كان من الفروع النادرة التي لا يستقيم فيها دعوى الإجماع، لقلة
المتعرض (2) لها إلا على بعض الوجوه التي لا يعتد بها، أو كان الناقل
ممن لا يعتد بنقله، لمعاصرته، أو قصور باعه، أو غيرهما مما يأتي
بيانه، فالاحتياج إليه مختص بقليل من المسائل بالنسبة إلى قليل من
العلماء ونادر من النقلة الأفاضل (3)، انتهى كلامه، رفع مقامه.
لكنك خبير: بأن هذه الفائدة للإجماع المنقول كالمعدومة، لأن
القدر الثابت من الاتفاق بإخبار الناقل - المستند إلى حسه - ليس مما

(1) في (ر) و (ص): " إذ عرفت ".
(2) في (ظ): " التعرض ".
(3) كشف القناع: 400 - 405.
224

يستلزم عادة موافقة الإمام (عليه السلام)، وإن كان هذا الاتفاق لو ثبت لنا
أمكن أن يحصل العلم بصدور مضمونه، لكن ليس علة تامة لذلك، بل
هو نظير إخبار عدد معين في كونه قد يوجب العلم بصدق خبرهم وقد
لا يوجب. وليس أيضا مما يستلزم عادة وجود الدليل المعتبر حتى
بالنسبة إلينا، لأن استناد كل بعض منهم إلى ما لا نراه دليلا، ليس
أمرا مخالفا للعادة.
ألا ترى: أنه ليس من البعيد أن يكون القدماء القائلون بنجاسة
البئر، بعضهم قد استند إلى دلالة الأخبار الظاهرة في ذلك مع عدم
الظفر بما يعارضها، وبعضهم قد ظفر بالمعارض ولم يعمل به، لقصور
سنده، أو لكونه من الآحاد عنده، أو لقصور دلالته، أو لمعارضته
لأخبار النجاسة وترجيحها عليه (1) بضرب من الترجيح، فإذا ترجح في
نظر المجتهد المتأخر أخبار الطهارة فلا يضره اتفاق القدماء على النجاسة
المستند إلى الأمور المختلفة المذكورة.
وبالجملة: الإنصاف (2) - بعد التأمل وترك المسامحة بإبراز المظنون
بصورة القطع كما هو متعارف محصلي عصرنا - أن اتفاق من يمكن
تحصيل فتاواهم على أمر كما لا يستلزم عادة موافقة الإمام (عليه السلام)،
كذلك لا يستلزم وجود دليل معتبر عند الكل من جهة أو من جهات
شتى.
فلم يبق في المقام إلا أن يحصل المجتهد أمارات اخر من أقوال

(1) كذا في (ت) و (ه‍)، وفي غيرهما: " عليها ".
(2) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " فالإنصاف ".
225

باقي العلماء وغيرها ليضيفها إلى ذلك، فيحصل من مجموع المحصل له
والمنقول إليه - الذي فرض بحكم المحصل من حيث وجوب العمل به
تعبدا (1) - القطع في مرحلة الظاهر باللازم، وهو قول الإمام (عليه السلام) أو وجود
دليل معتبر الذي هو أيضا يرجع إلى حكم الإمام (عليه السلام) بهذا الحكم
الظاهري المضمون لذلك الدليل، لكنه أيضا مبني على كون مجموع
المنقول من الأقوال والمحصل من الأمارات ملزوما عاديا لقول الإمام (عليه السلام)
أو وجود الدليل المعتبر، وإلا فلا معنى لتنزيل المنقول منزلة المحصل
بأدلة حجية خبر الواحد، كما عرفت سابقا (2).
ومن ذلك ظهر: أن ما ذكره هذا البعض ليس تفصيلا في مسألة
حجية الإجماع المنقول، ولا قولا بحجيته في الجملة من حيث إنه إجماع
منقول، وإنما يرجع محصله إلى: أن الحاكي للإجماع (3) يصدق فيما يخبره
عن حس، فإن فرض كون ما يخبره عن حسه ملازما - بنفسه أو
بضميمة أمارات اخر - لصدور الحكم الواقعي أو مدلول الدليل المعتبر
عند الكل، كانت حكايته حجة، لعموم أدلة حجية الخبر في المحسوسات،
وإلا فلا، وهذا يقول به كل من يقول بحجية الخبر (4) في الجملة، وقد
اعترف بجريانه في نقل الشهرة وفتاوى آحاد العلماء.
* * *

(1) لم ترد في (م): " تعبدا ".
(2) راجع الصفحة 180.
(3) في (م) زيادة: " إنما ".
(4) في (ت) و (ه‍) زيادة: " الواحد ".
226

ومن جميع ما ذكرنا يظهر الكلام في المتواتر المنقول، وأن نقل
التواتر في خبر لا يثبت حجيته ولو قلنا بحجية خبر الواحد، لأن
التواتر صفة في الخبر تحصل بإخبار جماعة تفيد العلم للسامع، ويختلف
عدده باختلاف خصوصيات المقامات، وليس كل تواتر ثبت لشخص
مما يستلزم في نفس الأمر عادة تحقق المخبر به، فإذا أخبر بالتواتر فقد
أخبر بإخبار جماعة أفاد له العلم بالواقع، وقبول هذا الخبر لا يجدي
شيئا، لأن المفروض أن تحقق مضمون المتواتر ليس من لوازم إخبار
الجماعة الثابت بخبر العادل.
نعم، لو أخبر بإخبار جماعة يستلزم عادة تحقق المخبر به، بأن
يكون حصول العلم بالمخبر به لازم الحصول لإخبار الجماعة - كأن أخبر
مثلا بإخبار ألف عادل أو أزيد بموت زيد وحضور جنازته - كان
اللازم من قبول خبره الحكم بتحقق الملزوم وهو إخبار الجماعة، فيثبت
اللازم وهو تحقق موت زيد.
إلا أن لازم من يعتمد على الإجماع المنقول - وإن كان إخبار
الناقل مستندا إلى حدس غير مستند إلى المبادئ المحسوسة المستلزمة
للمخبر به - هو القول بحجية التواتر المنقول.
لكن ليعلم: أن معنى قبول نقل التواتر مثل الإخبار بتواتر موت
زيد مثلا، يتصور على وجهين:
الأول: الحكم بثبوت الخبر المدعى تواتره أعني موت زيد، نظير
حجية الإجماع المنقول بالنسبة إلى المسألة المدعى عليها الإجماع، وهذا
هو الذي ذكرنا: أنه يشترط (1) في قبول خبر الواحد فيه كون ما أخبر

(1) في (ر)، (ص) و (ل) بدل " أنه يشترط ": " أن الشرط ".
227

به مستلزما عادة لوقوع متعلقه.
الثاني: الحكم بثبوت تواتر الخبر المذكور ليترتب (1) على ذلك
الخبر آثار المتواتر وأحكامه الشرعية، كما إذا نذر أن يحفظ أو يكتب
كل خبر متواتر. ثم أحكام التواتر، منها ما ثبت لما تواتر في الجملة
ولو عند غير هذا الشخص، ومنها ما ثبت لما تواتر بالنسبة إلى هذا
الشخص.
ولا ينبغي الاشكال في أن مقتضى قبول نقل التواتر العمل به على
الوجه الأول، وأول وجهي الثاني، كما لا ينبغي الاشكال في عدم ترتب
آثار تواتر المخبر به عند نفس هذا الشخص.
ومن هنا يعلم: أن الحكم بوجوب القراءة في الصلاة إن كان
منوطا بكون المقروء قرآنا واقعيا قرأه النبي (صلى الله عليه وآله)، فلا إشكال في جواز
الاعتماد على إخبار الشهيد (رحمه الله) بتواتر القراءات الثلاث (2)، أعني قراءة
أبي جعفر وأخويه (3)، لكن بالشرط المتقدم، وهو كون ما أخبر به
الشهيد من التواتر ملزوما عادة لتحقق القرآنية.
وكذا لا إشكال في الاعتماد من دون شرط إن كان الحكم منوطا
بالقرآن المتواتر في الجملة، فإنه قد ثبت تواتر تلك القراءات عند
الشهيد بإخباره (4).

(1) في (ر)، (ل) و (ه‍): " ليرتب ".
(2) الذكرى (الطبعة الحجرية): 187.
(3) في (ت) و (ل) زيادة: " يعقوب وخلف ".
(4) في (ظ) و (م): " بإخبار ".
228

وإن كان الحكم معلقا على القرآن المتواتر عند القارئ أو
مجتهده، فلا يجدي إخبار الشهيد بتواتر تلك القراءات.
وإلى أحد الأولين نظر (1) حكم المحقق والشهيد الثانيين (2) بجواز
القراءة بتلك القراءات، مستندا إلى أن الشهيد (3) والعلامة (4) (قدس سرهما) قد
ادعيا تواترها وأن هذا لا يقصر عن نقل الإجماع.
وإلى الثالث نظر صاحب المدارك (5) وشيخه المقدس الأردبيلي (6) (قدس سرهما)،
حيث اعترضا على المحقق والشهيد: بأن هذا رجوع عن اشتراط التواتر
في القراءة.
ولا يخلو نظرهما عن نظر، فتدبر.
والحمد لله، وصلى الله على محمد وآله، ولعنة الله على أعدائهم
أجمعين.

(1) في (ر)، (ص)، (ل)، (ه‍) ونسخة بدل (ت): ينظر.
(2) انظر جامع المقاصد 2: 246، وروض الجنان: 262، والمقاصد العلية: 137.
(3) الذكرى (الطبعة الحجرية): 187.
(4) لم نعثر عليه في كتب العلامة، بل وجدنا خلافه، انظر نهاية الإحكام 1:
565، ولم ينسبه المحقق والشهيد الثانيان في الكتب المذكورة إلا إلى الشهيد،
ويبدو أن المصنف اعتمد في ذلك على ما نقله السيد المجاهد في مفاتيح الأصول:
326.
(5) المدارك 3: 338.
(6) مجمع الفائدة 2: 217 - 218.
229

[الشهرة الفتوائية] (1)
ومن جملة الظنون التي توهم حجيتها بالخصوص:
الشهرة في الفتوى، الحاصلة بفتوى جل الفقهاء المعروفين، سواء
كان في مقابلها فتوى غيرهم بالخلاف (2) أم لم يعرف الخلاف والوفاق
من غيرهم.
ثم إن المقصود هنا ليس التعرض لحكم الشهرة من حيث الحجية
في الجملة، بل المقصود إبطال توهم كونها من الظنون الخاصة، وإلا
فالقول بحجيتها من حيث إفادة المظنة بناء على دليل الانسداد غير
بعيد.
ثم إن منشأ توهم كونها من الظنون الخاصة أمران:
أحدهما: ما يظهر من بعض (3): من أن أدلة حجية خبر الواحد
تدل على حجيتها بمفهوم الموافقة، لأنه ربما يحصل منها الظن الأقوى من

(1) العنوان منا.
(2) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " بخلاف ".
(3) انظر مفاتيح الأصول: 480 و 499 - 501.
231

الحاصل من خبر العادل.
وهذا خيال ضعيف تخيله بعض في بعض رسائله، ووقع نظيره من
الشهيد الثاني في المسالك (1)، حيث وجه حجية الشياع الظني بكون الظن
الحاصل منه أقوى من الحاصل من شهادة العدلين.
وجه الضعف: أن الأولوية الظنية أوهن بمراتب من الشهرة،
فكيف يتمسك بها في حجيتها؟! مع أن الأولوية ممنوعة رأسا، للظن
بل العلم بأن المناط والعلة في حجية الأصل ليس مجرد إفادة الظن.
وأضعف من ذلك: تسمية هذه الأولوية في كلام ذلك البعض
مفهوم الموافقة، مع أنه ما كان استفادة حكم الفرع من الدليل اللفظي
الدال على حكم الأصل، مثل قوله تعالى: * (فلا تقل لهما أف) * (2).
الأمر (3) الثاني: دلالة مرفوعة زرارة، ومقبولة ابن حنظلة على
ذلك:
ففي الأولى: " قال زرارة: قلت: جعلت فداك، يأتي عنكم
الخبران أو (4) الحديثان المتعارضان، فبأيهما نعمل؟ قال: خذ بما اشتهر
بين أصحابك، ودع الشاذ النادر، قلت: يا سيدي، إنهما معا مشهوران
مأثوران عنكم؟ قال: خذ بما يقوله أعدلهما... الخبر " (5).

(1) المسالك (الطبعة الحجرية) 2: 327.
(2) الإسراء: 23.
(3) لم ترد في (ت)، (ر) و (ه‍): " الأمر ".
(4) كذا في (ص) والمصدر، وفي غيرهما: " و ".
(5) مستدرك الوسائل 17: 303، الحديث 2.
232

بناء على أن المراد بالموصول مطلق المشهور رواية كان أو فتوى،
أو أن إناطة الحكم بالاشتهار تدل على اعتبار الشهرة في نفسها وإن
لم تكن في الرواية.
وفي المقبولة بعد فرض السائل تساوي الراويين في العدالة، قال (عليه السلام):
" ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك - الذي حكما به -
المجمع عليه بين أصحابك، فيؤخذ به، ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور
عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه، وإنما الأمور ثلاثة: أمر
بين رشده فيتبع، وأمر بين غيه فيجتنب، وأمر مشكل يرد حكمه إلى
الله ورسوله، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): حلال بين، وحرام بين، وشبهات بين
ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات وقع في
المحرمات وهلك من حيث لا يعلم.
قلت: فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات
عنكم... إلى آخر الرواية " (1).
بناء على أن المراد بالمجمع عليه في الموضعين هو المشهور، بقرينة
إطلاق المشهور عليه في قوله: " ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور "،
فيكون في التعليل بقوله: " فإن المجمع عليه... الخ " دلالة على أن المشهور
مطلقا مما يجب العمل به، وإن كان مورد التعليل الشهرة في الرواية.
ومما يؤيد إرادة الشهرة من الإجماع: أن المراد لو كان الإجماع
الحقيقي لم يكن ريب في بطلان خلافه، مع أن الإمام (عليه السلام) جعل مقابله
مما فيه الريب.

(1) الوسائل 18: 75، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث الأول.
233

ولكن في الاستدلال بالروايتين ما لا يخفى من الوهن:
أما الأولى: فيرد عليها - مضافا إلى ضعفها، حتى أنه ردها من
ليس دأبه الخدشة في سند الروايات كالمحدث البحراني (1) -: أن المراد
بالموصول هو (2) خصوص الرواية المشهورة من الروايتين دون مطلق
الحكم (3) المشهور، ألا ترى أنك لو سئلت عن أن أي المسجدين أحب
إليك، فقلت: ما كان الاجتماع فيه أكثر، لم يحسن للمخاطب أن ينسب
إليك محبوبية كل مكان يكون الاجتماع فيه أكثر، بيتا كان أو خانا أو
سوقا، وكذا لو أجبت عن سؤال المرجح لأحد الرمانين فقلت: ما كان
أكبر.
والحاصل: أن دعوى العموم في المقام لغير الرواية مما لا يظن
بأدنى التفات (4).
مع أن الشهرة الفتوائية مما لا يقبل أن يكون في طرفي المسألة،
فقوله: " يا سيدي، إنهما معا (5) مشهوران مأثوران " أوضح شاهد على
أن المراد بالشهرة الشهرة في الرواية الحاصلة بأن يكون الرواية (6) مما

(1) الحدائق 1: 99.
(2) في (ت)، (ظ)، (ل) و (م): " هي ".
(3) في (ت)، (ل) و (ه‍): " حكم ".
(4) في (ص)، (ظ)، (ل) و (م): " ملتفت ".
(5) لم ترد " معا " في (ر)، (ص)، (ل) و (م).
(6) كذا في (ص)، وفي (ر)، (ظ)، (ل) و (م): " أن المراد بالشهرة في الرواية
الحاصلة بأن يكون الرواية "، إلا أن في (ر) بدل " بالشهرة ": " الشهرة "، وفي
(ت) و (ه‍): " أن المراد بالشهرة في الرواية الظهور بأن يكون الرواية ".
234

اتفق الكل على روايته أو تدوينه، وهذا مما يمكن اتصاف الروايتين
المتعارضتين به.
ومن هنا يعلم الجواب عن التمسك بالمقبولة، وأنه لا تنافي بين
إطلاق المجمع عليه على المشهور وبالعكس حتى تصرف أحدهما عن
ظاهره بقرينة الآخر، فإن إطلاق المشهور في مقابل الإجماع إنما هو
إطلاق حادث مختص بالأصوليين، وإلا فالمشهور هو الواضح المعروف،
ومنه: شهر فلان سيفه، وسيف شاهر.
فالمراد أنه يؤخذ بالرواية التي يعرفها جميع أصحابك ولا ينكرها
أحد منهم، ويترك ما لا يعرفه إلا الشاذ ولا يعرفه (1) الباقي، فالشاذ
مشارك للمشهور في معرفة الرواية المشهورة، والمشهور لا يشاركون (2)
الشاذ في معرفة الرواية الشاذة، ولهذا كانت الرواية المشهورة من قبيل
بين الرشد، والشاذ من قبيل المشكل الذي يرد علمه إلى أهله، وإلا
فلا معنى للاستشهاد بحديث التثليث.
ومما يضحك الثكلى في هذا المقام، توجيه قوله: " هما معا
مشهوران " بإمكان انعقاد الشهرة في عصر على فتوى وفي عصر آخر
على خلافها، كما قد يتفق بين القدماء والمتأخرين، فتدبر.

(1) كذا في (ت)، وفي غيرها: " ولا يعرفها ".
(2) في (ر) و (ص): " لا يشارك ".
235

[خبر الواحد] (1)
ومن جملة الظنون الخارجة (2) بالخصوص عن أصالة حرمة العمل
بغير العلم:
خبر الواحد - في الجملة - عند المشهور، بل كاد أن يكون إجماعا.
إعلم: أن إثبات الحكم الشرعي بالأخبار المروية عن الحجج (عليهم السلام) (3)
موقوف على مقدمات ثلاث:
الأولى: كون الكلام صادرا عن الحجة.
الثانية: كون صدوره لبيان حكم الله، لا على وجه آخر، من
تقية أو (4) غيرها.
الثالثة: ثبوت دلالته (5) على الحكم المدعى، وهذا يتوقف:

(1) العنوان منا.
(2) كذا في (ت) و (ر)، وفي غيرهما: " الخارج ".
(3) في (ت)، (ص) و (ه‍) زيادة: " الحاكية لقولهم ".
(4) في غير (م): " و ".
(5) في غير (ت): " دلالتها ".
237

أولا: على تعيين أوضاع ألفاظ الرواية.
وثانيا: على تعيين المراد منها، وأن المراد مقتضى وضعها أو غيره.
فهذه أمور أربعة:
قد (1) أشرنا (2) إلى كون الجهة الثانية من المقدمة الثالثة من الظنون
الخاصة، وهو المعبر عنه بالظهور اللفظي، وإلى أن الجهة الأولى منها
مما لم يثبت كون الظن الحاصل فيها بقول اللغوي من الظنون الخاصة،
وإن لم نستبعد الحجية أخيرا (3).
وأما المقدمة الثانية: فهي أيضا ثابتة بأصالة عدم صدور الرواية
لغير داعي بيان الحكم الواقعي، وهي حجة، لرجوعها إلى القاعدة
المجمع عليها بين العلماء والعقلاء: من حمل كلام المتكلم على كونه صادرا
لبيان مطلوبه الواقعي، لا لبيان خلاف مقصوده من تقية أو خوف، ولذا
لا يسمع دعواه ممن يدعيه إذا لم يكن كلامه محفوفا بأماراته.
و (4) أما المقدمة الأولى: فهي التي عقد لها مسألة حجية أخبار
الآحاد، فمرجع هذه المسألة إلى أن السنة - أعني قول الحجة أو فعله أو
تقريره - هل تثبت بخبر الواحد أم لا تثبت إلا بما يفيد القطع من
التواتر والقرينة؟

(1) في (ت)، (ص) و (ل): " وقد "، لكن شطب على " و " في (ص).
(2) راجع الصفحة 137.
(3) راجع الصفحة 177، ولم ترد في (ظ)، (ل) و (م): " وإن لم نستبعد الحجية
أخيرا ".
(4) لم ترد " و " في (ت)، (ر)، (ص) و (ه‍).
238

ومن هنا يتضح دخولها في مسائل أصول الفقه الباحثة عن
أحوال الأدلة، ولا حاجة إلى تجشم دعوى: أن البحث عن دليلية
الدليل بحث عن أحوال الدليل (1).
ثم اعلم: أن أصل وجوب العمل بالأخبار المدونة في الكتب
المعروفة مما أجمع عليه في هذه الأعصار، بل لا يبعد كونه ضروري
المذهب.
وإنما الخلاف في مقامين:
أحدهما: كونها مقطوعة الصدور أو غير مقطوعة؟
فقد ذهب شرذمة من متأخري الأخباريين (2) - فيما نسب إليهم -
إلى كونها قطعية الصدور.
وهذا قول لا فائدة في بيانه والجواب عنه، إلا التحرز عن
حصول هذا الوهم لغيرهم كما حصل لهم، وإلا فمدعي القطع لا يلزم
بذكر ضعف مبنى قطعه. وقد كتبنا في سالف الزمان في رد هذا القول
رسالة (3) تعرضنا فيها لجميع ما ذكروه، وبيان ضعفها بحسب ما أدى إليه
فهمي القاصر.
الثاني: أنها مع عدم قطعية صدورها معتبرة بالخصوص أم
لا؟

(1) هذه الدعوى من صاحب الفصول في الفصول: 12.
(2) منهم: صاحب الوسائل في الوسائل 18: 52 و 75، والشيخ حسين الكركي
في هداية الأبرار: 17.
(3) الظاهر أن هذه الرسالة مفقودة.
239

فالمحكي عن السيد (1) والقاضي (2) وابن زهرة (3) والطبرسي (4) وابن
إدريس (5) قدس الله أسرارهم: المنع، وربما نسب إلى المفيد (6) (قدس سره)، حيث
حكى عنه في المعارج (7) أنه قال: " إن خبر الواحد القاطع للعذر هو
الذي يقترن إليه دليل يفضي بالنظر إلى العلم، وربما يكون ذلك إجماعا
أو شاهدا من عقل " (8)، وربما ينسب إلى الشيخ، كما سيجئ عند نقل
كلامه (9)، وكذا إلى المحقق، بل إلى ابن بابويه (10)، بل في الوافية: أنه
لم يجد القول بالحجية صريحا ممن تقدم على العلامة (11)، وهو عجيب.
وأما القائلون بالاعتبار، فهم مختلفون من جهة: أن المعتبر
منها كل ما في الكتب المعتبرة (12) - كما يحكى عن بعض

(1) الذريعة 2: 528، رسائل الشريف المرتضى 3: 309.
(2) حكاه عنه صاحب المعالم في المعالم: 189.
(3) الغنية (الجوامع الفقهية): 475.
(4) مجمع البيان 5: 133.
(5) السرائر 1: 51.
(6) في (ظ) و (م): " ينسب ".
(7) المعارج: 187.
(8) التذكرة بأصول الفقه (مصنفات الشيخ المفيد) 9: 44.
(9) انظر الصفحة 319، وما بعدها.
(10) نسبه إليهم الفاضل التوني في الوافية: 158.
(11) الوافية: 158.
(12) لم ترد " المعتبرة " في (ر) و (ظ)، وشطب عليها في (ل)، ووردت بدلها في (ر)
و (ظ): " الأربعة "، وفي (ت) ونسخة بدل (ص) و (ه‍) زيادة: " الأربعة ".
240

الأخباريين (1) أيضا، وتبعهم بعض المعاصرين من الأصوليين (2) بعد استثناء
ما كان مخالفا للمشهور -، أو أن المعتبر بعضها، وأن المناط في الاعتبار
عمل الأصحاب كما يظهر من كلام المحقق (3)، أو عدالة الراوي، أو وثاقته،
أو مجرد الظن بصدور الرواية من غير اعتبار صفة في الراوي، أو غير
ذلك من التفصيلات (4) (5).
والمقصود هنا: بيان إثبات حجيته بالخصوص في الجملة في مقابل
السلب الكلي.
ولنذكر - أولا - ما يمكن أن يحتج به القائلون بالمنع، ثم نعقبه بذكر
أدلة الجواز، فنقول:

(1) منهم: المحدث العاملي في الوسائل 18: 52 و 75، والمحدث البحراني في
الحدائق 1: 25، والشيخ حسين الكركي في هداية الأبرار: 17.
(2) وهو المحقق النراقي في المناهج: 165.
(3) المعتبر 1: 29.
(4) انظر تفصيل ذلك في مفاتيح الأصول: 357 - 371.
(5) في (ت)، (ر) و (ص) زيادة: " في الأخبار "، وشطب عليها في (م)، وفي
(ص) كتب فوقها: نسخة.
241

أما حجة المانعين، فالأدلة الثلاثة:
أما الكتاب:
فالآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم (1)، والتعليل المذكور في
آية النبأ (2) على ما ذكره أمين الإسلام: من أن فيها دلالة على عدم
جواز العمل بخبر الواحد (3).
وأما السنة:
فهي أخبار كثيرة تدل على المنع من العمل بالخبر الغير المعلوم
الصدور إلا إذا احتف بقرينة معتبرة من كتاب أو سنة معلومة:
مثل: ما رواه في البحار عن بصائر الدرجات، عن محمد بن
عيسى، قال:
" أقرأني داود بن فرقد الفارسي كتابه إلى أبي الحسن الثالث (عليه السلام)
وجوابه (عليه السلام) بخطه، فكتب: نسألك عن العلم المنقول عن آبائك
وأجدادك صلوات الله عليهم أجمعين قد اختلفوا علينا فيه، فكيف العمل
به على اختلافه؟ فكتب (عليه السلام) بخطه - وقرأته -: ما علمتم أنه قولنا
فالزموه، وما لم تعلموه فردوه إلينا " (4). ومثله عن مستطرفات السرائر (5).

(1) الإسراء: 36، يونس: 36، الأنعام: 116.
(2) الحجرات: 6.
(3) مجمع البيان 5: 133.
(4) بصائر الدرجات: 524، الحديث 26، والبحار 2: 241، الحديث 33.
(5) السرائر 3: 584.
242

والأخبار الدالة على عدم جواز العمل بالخبر المأثور إلا إذا
وجد له شاهد من كتاب الله أو من السنة المعلومة، فتدل على المنع عن
العمل بالخبر (1) المجرد عن القرينة:
مثل: ما ورد في غير واحد من الأخبار: أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال:
" ما جاءكم عني لا يوافق القرآن فلم أقله " (2).
وقول أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام): " لا يصدق علينا إلا ما
يوافق كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) " (3).
وقوله (عليه السلام): " إذا جاءكم حديث عنا فوجدتم عليه شاهدا أو
شاهدين من كتاب الله فخذوا به، وإلا فقفوا عنده، ثم ردوه إلينا حتى
نبين لكم " (4).
ورواية ابن أبي يعفور قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن اختلاف
الحديث، يرويه من نثق به ومن لا نثق به؟ قال: إذا ورد عليكم
حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله (صلى الله عليه وآله)
فخذوا به، وإلا فالذي جاءكم به أولى به " (5).

(1) في (ت) و (ه‍) زيادة: " الواحد ".
(2) الوسائل 18: 79، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 15، وفيه
بدل " لا يوافق القرآن ": " يخالف كتاب الله ".
(3) الوسائل 18: 89، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 47، وفيه
بدل " لا يصدق ": " لا تصدق ".
(4) الوسائل 18: 80، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 18. وفيه:
" حتى يستبين ".
(5) الوسائل 18: 78، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 11.
243

وقوله (عليه السلام) لمحمد بن مسلم: " ما جاءك من رواية - من بر أو
فاجر - يوافق كتاب الله فخذ به، وما جاءك من رواية - من بر أو
فاجر - يخالف كتاب الله فلا تأخذ به " (1).
وقوله (عليه السلام): " ما جاءكم من حديث لا يصدقه كتاب الله فهو
باطل " (2).
وقول أبي جعفر (عليه السلام): " ما جاءكم عنا فإن وجدتموه موافقا
للقرآن فخذوا به، وإن لم تجدوه موافقا فردوه، وإن اشتبه الأمر عندكم
فقفوا عنده وردوه إلينا حتى نشرح من ذلك ما شرح لنا " (3).
وقول الصادق (عليه السلام): " كل شئ مردود إلى كتاب الله والسنة،
وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف " (4).
وصحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام): " لا تقبلوا
علينا حديثا إلا ما وافق الكتاب والسنة، أو تجدون معه شاهدا من
أحاديثنا المتقدمة، فإن المغيرة بن سعيد لعنه الله دس في كتب أصحاب
أبي أحاديث لم يحدث بها أبي، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف
قول ربنا وسنة نبينا (صلى الله عليه وآله) " (5).

(1) مستدرك الوسائل 17: 304، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.
(2) مستدرك الوسائل 17: 304، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث
7. وفيه: " ما أتاكم ".
(3) الوسائل 18: 86، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 37.
(4) الوسائل 18: 79، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 14.
(5) البحار 2: 250، الحديث 62.
244

والأخبار الواردة في طرح الأخبار المخالفة للكتاب والسنة ولو مع
عدم المعارض متواترة جدا.
وجه الاستدلال بها:
أن من الواضحات: أن الأخبار الواردة عنهم صلوات الله عليهم
في مخالفة ظواهر الكتاب والسنة في غاية الكثرة، والمراد من المخالفة
للكتاب في تلك الأخبار - الناهية عن الأخذ بمخالف (1) الكتاب والسنة -
ليس هي المخالفة على وجه التباين الكلي بحيث يتعذر أو يتعسر الجمع،
إذ لا يصدر من الكذابين عليهم ما يباين الكتاب والسنة كلية، إذ
لا يصدقهم أحد في ذلك، فما كان يصدر عن الكذابين (2) من الكذب لم
يكن إلا نظير ما كان يرد من الأئمة صلوات الله عليهم في مخالفة
ظواهر الكتاب والسنة، فليس المقصود من عرض ما يرد من الحديث
على الكتاب والسنة إلا عرض ما كان منها غير معلوم الصدور عنهم،
وأنه إن وجد له قرينة وشاهد معتمد فهو، وإلا فليتوقف فيه، لعدم
إفادته العلم بنفسه، وعدم اعتضاده بقرينة معتبرة.
ثم إن عدم ذكر الإجماع ودليل العقل من جملة قرائن الخبر في
هذه الروايات - كما فعله الشيخ في العدة (3) - لأن مرجعهما إلى الكتاب
والسنة، كما يظهر بالتأمل.
ويشير إلى ما ذكرنا - من أن المقصود من عرض الخبر على

(1) في غير (م): " بمخالفة ".
(2) في (ت) و (ه‍) زيادة: " عليهم ".
(3) العدة 1: 143 و 145.
245

الكتاب والسنة هو في غير معلوم الصدور -: تعليل العرض في بعض
الأخبار بوجود الأخبار المكذوبة في أخبار الإمامية.
وأما الإجماع:
فقد ادعاه السيد المرتضى (قدس سره) في مواضع من كلامه، وجعله في
بعضها بمنزلة القياس في كون ترك العمل به معروفا من مذهب
الشيعة (1).
وقد اعترف بذلك الشيخ على ما يأتي في كلامه (2)، إلا أنه أول
معقد الإجماع بإرادة الأخبار التي يرويها المخالفون.
وهو ظاهر المحكي عن الطبرسي في مجمع البيان، قال: لا يجوز
العمل بالظن عند الإمامية إلا في شهادة العدلين وقيم المتلفات وأروش
الجنايات (3)، انتهى (4).
والجواب:
أما عن الآيات، فبأنها - بعد تسليم دلالتها - عمومات مخصصة بما
سيجئ من الأدلة.
وأما عن الأخبار:
فعن الرواية الأولى، فبأنها خبر واحد لا يجوز الاستدلال بها
على المنع عن الخبر الواحد.

(1) رسائل الشريف المرتضى 1: 24، و 3: 309.
(2) انظر الصفحة 313.
(3) مجمع البيان 4: 57، ذيل آية 79 من سورة الأنبياء.
(4) لم ترد " انتهى " في (ت)، (ر) و (ه‍).
246

وأما أخبار العرض على الكتاب، فهي وإن كانت متواترة بالمعنى
إلا أنها بين طائفتين:
إحداهما: ما دل على طرح الخبر الذي يخالف الكتاب.
والثانية: ما دل على طرح الخبر الذي لا يوافق الكتاب.
أما الطائفة الأولى، فلا تدل على المنع عن الخبر الذي لا يوجد
مضمونه (1) في الكتاب والسنة.
فإن قلت: ما من واقعة إلا ويمكن استفادة حكمها من عمومات
الكتاب المقتصر في تخصيصها على السنة القطعية، مثل قوله تعالى:
* (خلق لكم ما في الأرض جميعا) * (2)، وقوله تعالى: * (إنما حرم عليكم
الميتة... الخ) * (3)، و * (كلوا مما غنمتم حلالا طيبا) * (4)، و * (يريد الله بكم
اليسر ولا يريد بكم العسر) * (5)، ونحو ذلك، فالأخبار المخصصة لها - كلها -
ولكثير (6) من عمومات السنة القطعية مخالفة للكتاب والسنة (7).
قلت:
أولا: إنه لا يعد مخالفة ظاهر العموم - خصوصا مثل هذه

(1) لم ترد " مضمونه " في (ظ) و (م).
(2) البقرة: 29.
(3) البقرة: 173.
(4) الأنفال: 69.
(5) البقرة: 185.
(6) في (ص)، (ظ)، (ل) و (م): " كثير ".
(7) لم ترد " والسنة " في (ظ)، (ل) و (م).
247

العمومات -، مخالفة، وإلا لعدت الأخبار الصادرة يقينا عن الأئمة (عليهم السلام)
المخالفة لعمومات الكتاب والسنة النبوية، مخالفة للكتاب والسنة، غاية
الأمر ثبوت الأخذ بها مع مخالفتها لكتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله)، فتخرج
عن عموم أخبار العرض، مع أن الناظر في أخبار العرض على الكتاب
والسنة يقطع بأنها تأبى عن التخصيص.
وكيف يرتكب التخصيص في قوله (عليه السلام): " كل حديث لا يوافق
كتاب الله فهو زخرف " (1)، وقوله: " ما أتاكم من حديث لا يوافق
كتاب الله فهو باطل " (2)، وقوله (عليه السلام): " لا تقبلوا علينا خلاف القرآن،
فإنا إن حدثنا حدثنا بموافقة القرآن وموافقة السنة " (3)، وقد صح عن
النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " ما خالف كتاب الله فليس من حديثي (4)، أو
لم أقله " (5)، مع أن أكثر عمومات الكتاب قد خصص بقول النبي (صلى الله عليه وآله)؟
ومما يدل على أن المخالفة لتلك العمومات لا تعد مخالفة: ما دل
من الأخبار على بيان حكم ما لا يوجد حكمه في الكتاب والسنة
النبوية، إذ بناء على تلك العمومات لا يوجد واقعة لا يوجد حكمها
فيهما.
فمن تلك الأخبار: ما عن البصائر والاحتجاج وغيرهما (6)

(1) و (2) تقدم الحديثان في الصفحة 244.
(3) البحار 2: 250، ضمن الحديث 62.
(4) البحار 2: 227، الحديث 5.
(5) الوسائل 18: 79، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 15.
(6) كما في معاني الأخبار 1: 156.
248

مرسلا (1) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أنه قال:
" ما وجدتم في كتاب الله فالعمل به لازم و (2) لا عذر لكم في
تركه، وما لم يكن في كتاب الله تعالى وكانت فيه سنة مني فلا عذر
لكم في ترك سنتي (3)، وما لم يكن فيه سنة مني، فما قال أصحابي فقولوا
به، فإنما مثل أصحابي فيكم كمثل النجوم، بأيها اخذ اهتدي، وبأي
أقاويل أصحابي أخذتم اهتديتم، واختلاف أصحابي رحمة لكم، قيل: يا
رسول الله، ومن أصحابك؟ قال: أهل بيتي... الخبر " (4).
فإنه صريح في أنه قد يرد من الأئمة (عليهم السلام) ما لا يوجد في
الكتاب والسنة.
ومنها: ما ورد في تعارض الروايتين: من رد ما لا يوجد في
الكتاب والسنة إلى الأئمة (عليهم السلام).
مثل: ما رواه في العيون عن ابن الوليد، عن سعد بن عبد الله،
عن محمد بن عبد الله المسمعي، عن الميثمي، وفيها:
" فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله "
- إلى أن قال: - " وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه (5) على سنن

(1) في غير (م): " مرسلة ".
(2) لم ترد " و " في (ظ) والبصائر.
(3) كذا في المصدر، وفي جميع النسخ إلا (ظ) بدل " سنتي ": " شئ "، وفي (ص)
زيادة: " منه ".
(4) بصائر الدرجات 1: 11، الحديث 2، والاحتجاج 2: 105.
(5) كذا في المصدر، وفي جميع النسخ: " فاعرضوهما ".
249

رسول الله (صلى الله عليه وآله) " - إلى أن قال: - " وما لم تجدوه (1) في شئ من هذه
فردوا إلينا علمه، فنحن أولى بذلك... الخبر " (2).
والحاصل: أن القرائن الدالة على أن المراد بمخالفة الكتاب ليس
مجرد مخالفة عمومه أو إطلاقه كثيرة، تظهر لمن له أدنى تتبع.
ومن هنا يظهر: ضعف التأمل في تخصيص الكتاب بخبر الواحد
لتلك الأخبار، بل منعه لأجلها كما عن الشيخ في العدة (3). أو لما ذكره
المحقق: من أن الدليل على وجوب العمل بخبر الواحد الإجماع على
استعماله فيما لا يوجد فيه دلالة، ومع الدلالة القرآنية يسقط وجوب
العمل به (4).
وثانيا: إنا نتكلم في الأحكام التي لم يرد فيها عموم من القرآن
والسنة، ككثير من أحكام المعاملات بل العبادات التي لم ترد فيها إلا
آيات مجملة أو مطلقة من الكتاب، إذ لو سلمنا أن تخصيص العموم يعد
مخالفة، أما تقييد المطلق فلا يعد في العرف مخالفة، بل هو مفسر،
خصوصا على المختار: من عدم كون المطلق مجازا عند التقييد (5).
فإن قلت: فعلى أي شئ تحمل تلك الأخبار الكثيرة الآمرة

(1) كذا في المصدر، وفي جميع النسخ: " وما لم تجدوا ".
(2) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 21، ضمن الحديث 45، والوسائل 18: 82،
الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ضمن الحديث 21.
(3) العدة 1: 145.
(4) المعارج: 96.
(5) انظر مطارح الأنظار: 216.
250

بطرح مخالف الكتاب؟ فإن حملها على طرح ما يباين الكتاب كلية حمل
على فرد نادر بل معدوم، فلا ينبغي لأجله هذا الاهتمام الذي عرفته في
الأخبار.
قلت: هذه الأخبار على قسمين:
منها: ما يدل على عدم صدور الخبر المخالف للكتاب والسنة
عنهم (عليهم السلام)، وأن المخالف لهما باطل، وأنه ليس بحديثهم.
ومنها: ما يدل على عدم جواز تصديق الخبر المحكي عنهم (عليهم السلام)
إذا خالف الكتاب والسنة.
أما الطائفة الأولى - فالأقرب حملها على الأخبار الواردة في
أصول الدين، مثل مسائل الغلو والجبر والتفويض التي ورد فيها الآيات
والأخبار النبوية، وهذه الأخبار غير موجودة في كتبنا الجوامع، لأنها
اخذت عن الأصول بعد تهذيبها من تلك الأخبار.
وأما الثانية - فيمكن حملها على ما ذكر في الأولى. ويمكن حملها
على صورة تعارض الخبرين، كما يشهد به مورد بعضها. ويمكن حملها
على خبر غير الثقة، لما سيجئ من الأدلة على اعتبار خبر
الثقة.
هذا كله في الطائفة الدالة على طرح الأخبار المخالفة للكتاب
والسنة.
وأما الطائفة الآمرة بطرح ما لا يوافق (1) الكتاب أو لم يوجد
عليه شاهد من الكتاب والسنة:

(1) في (ظ) و (م): " لم يوافق ".
251

فالجواب عنها - بعد ما عرفت (1) من القطع بصدور الأخبار الغير
الموافقة لما يوجد في الكتاب منهم (عليهم السلام)، كما دل عليه روايتا الاحتجاج
والعيون المتقدمتان (2) المعتضدتان بغيرهما من الأخبار (3) -:
أنها محمولة على ما تقدم في الطائفة الآمرة بطرح الأخبار المخالفة
للكتاب والسنة.
وأن ما دل منها على بطلان ما لم يوافق وكونه زخرفا محمول
على الأخبار الواردة في أصول الدين، مع احتمال كون ذلك من
أخبارهم الموافقة للكتاب والسنة على (4) الباطن الذي يعلمونه منهما (5)،
ولهذا كانوا يستشهدون كثيرا بآيات لا نفهم دلالتها.
وما دل على عدم جواز تصديق الخبر الذي لا يوجد عليه شاهد
من كتاب الله، على خبر غير الثقة أو صورة التعارض، كما هو ظاهر
غير واحد من الأخبار العلاجية.
ثم إن الأخبار المذكورة - على فرض تسليم دلالتها - وإن كانت
كثيرة، إلا أنها لا تقاوم الأدلة الآتية، فإنها موجبة للقطع بحجية خبر
الثقة، فلا بد من مخالفة الظاهر في هذه الأخبار.
وأما الجواب عن الإجماع الذي ادعاه السيد والطبرسي (قدس سرهما):

(1) راجع الصفحة 48.
(2) في الصفحة 249 - 250.
(3) انظر الوسائل 18: 84، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 29.
(4) في (ظ) و (م): " وعلى ".
(5) في (ر)، (ص)، (ظ) و (ل): " منها ".
252

فبأنه لم يتحقق لنا هذا الإجماع، والاعتماد على نقله تعويل على خبر
الواحد، مع معارضته بما سيجئ (1): من دعوى الشيخ - المعتضدة
بدعوى جماعة أخرى - الإجماع على حجية خبر الواحد في الجملة،
وتحقق الشهرة على خلافها بين القدماء والمتأخرين (2).
وأما نسبة بعض العامة - كالحاجبي والعضدي (3) - عدم الحجية إلى
الرافضة، فمستندة إلى ما رأوا من السيد: من دعوى الإجماع بل
ضرورة المذهب على كون خبر الواحد كالقياس عند الشيعة.

(1) انظر الصفحة 311 و 333.
(2) لم ترد في (ظ): " بين القدماء والمتأخرين "، وشطب عليها في (م).
(3) انظر شرح مختصر الأصول 1: 160 - 161، المتن للحاجبي، والشرح
للعضدي.
253

وأما المجوزون فقد استدلوا على حجيته بالأدلة الأربعة:
أما الكتاب، فقد ذكروا منه آيات ادعوا دلالتها:
منها: قوله تعالى في سورة الحجرات:
* (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما
بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) * (1).
والمحكي في وجه الاستدلال بها وجهان:
أحدهما: أنه سبحانه علق وجوب التثبت على مجئ الفاسق،
فينتفي عند انتفائه - عملا بمفهوم الشرط - وإذا لم يجب التثبت عند مجئ
غير الفاسق، فإما أن يجب القبول وهو المطلوب، أو الرد وهو باطل،
لأنه يقتضي كون العادل أسوأ حالا من الفاسق، وفساده بين.
الثاني: أنه تعالى أمر بالتثبت عند إخبار الفاسق، وقد اجتمع فيه
وصفان، ذاتي وهو كونه خبر واحد، وعرضي وهو كونه خبر فاسق،
ومقتضى التثبت هو الثاني، للمناسبة والاقتران، فإن الفسق يناسب عدم
القبول، فلا يصلح الأول للعلية، وإلا لوجب الاستناد إليه، إذ التعليل
بالذاتي الصالح للعلية أولى من التعليل بالعرضي، لحصوله قبل حصول
العرضي، فيكون الحكم قد حصل قبل حصول العرضي، وإذا لم يجب
التثبت عند إخبار العدل، فإما أن يجب القبول، وهو المطلوب، أو الرد،
فيكون حاله أسوأ من حال الفاسق، وهو محال.
أقول: الظاهر أن أخذهم للمقدمة الأخيرة - وهي أنه إذا لم يجب

(1) الحجرات: 6.
254

التثبت وجب القبول، لأن الرد مستلزم لكون العادل أسوأ حالا من
الفاسق - مبني على ما يتراءى من ظهور الأمر بالتبين في الوجوب
النفسي، فيكون هنا أمور ثلاثة، الفحص عن الصدق والكذب، والرد
من دون تبين، والقبول كذلك.
لكنك خبير: بأن الأمر بالتبين هنا مسوق لبيان الوجوب
الشرطي، وأن التبين شرط للعمل بخبر الفاسق دون العادل، فالعمل بخبر
العادل غير مشروط بالتبين، فيتم المطلوب من دون ضم مقدمة
خارجية، وهي كون العادل أسوأ حالا من الفاسق.
والدليل على كون الأمر بالتبين للوجوب الشرطي لا النفسي
- مضافا إلى أنه المتبادر عرفا في أمثال المقام، وإلى أن الإجماع قائم
على عدم ثبوت الوجوب النفسي للتبين في خبر الفاسق، وإنما أوجبه
من أوجبه عند إرادة العمل به، لا مطلقا - هو:
أن التعليل في الآية بقوله تعالى: * (أن تصيبوا... الخ) * (1) لا يصلح (2)
أن يكون تعليلا للوجوب النفسي، لأن حاصله يرجع إلى أنه: لئلا
تصيبوا قوما بجهالة بمقتضى العمل بخبر الفاسق فتندموا على فعلكم بعد
تبين الخلاف، ومن المعلوم أن هذا لا يصلح إلا علة لحرمة العمل بدون
التبين، فهذا هو المعلول، ومفهومه جواز العمل بخبر العادل من دون
تبين.
مع أن في الأولوية (3) المذكورة في كلام الجماعة بناء على كون

(1) الحجرات: 6.
(2) في (م): " لا يصح ".
(3) في (ص): " الأسوئية ".
255

وجوب التبين نفسيا، ما لا يخفى، لأن الآية على هذا ساكتة عن حكم
العمل بخبر الواحد - قبل التبين أو بعده (1) - فيجوز اشتراك الفاسق
والعادل في عدم جواز العمل قبل التبين، كما أنهما يشتركان قطعا في
جواز العمل بعد التبين والعلم بالصدق، لأن العمل - حينئذ - بمقتضى
التبين لا باعتبار الخبر.
فاختصاص الفاسق بوجوب التعرض لخبره والتفتيش عنه دون
العادل، لا يستلزم كون العادل أسوأ حالا، بل مستلزم لمزية كاملة
للعادل على الفاسق، فتأمل.
وكيف كان: فقد أورد على الآية إيرادات كثيرة ربما تبلغ إلى
نيف وعشرين، إلا أن كثيرا منها قابلة للدفع، فلنذكر أولا ما لا يمكن
الذب عنه، ثم نتبعه بذكر بعض ما أورد من الإيرادات القابلة للدفع.
أما ما لا يمكن الذب عنه فإيرادان:
أحدهما: أن الاستدلال إن كان راجعا إلى اعتبار (2) مفهوم
الوصف - أعني الفسق -، ففيه: أن المحقق في محله عدم اعتبار المفهوم في
الوصف، خصوصا في الوصف الغير المعتمد على موصوف محقق كما فيما
نحن فيه، فإنه أشبه بمفهوم اللقب.
ولعل هذا مراد من أجاب عن الآية - كالسيدين (3) وأمين الإسلام (4)

(1) في (ظ) بدل " بعده ": " مع تعذره ".
(2) لم ترد " اعتبار " في (ظ).
(3) الذريعة 2: 535، والغنية (الجوامع الفقهية): 475.
(4) مجمع البيان 5: 133.
256

والمحقق (1) والعلامة (2) وغيرهم (3) -: بأن هذا الاستدلال مبني على دليل
الخطاب، ولا نقول به.
وإن كان باعتبار مفهوم الشرط، كما يظهر من المعالم (4) والمحكي
عن جماعة (5)، ففيه:
أن مفهوم الشرط عدم مجئ الفاسق بالنبأ، وعدم التبين هنا
لأجل عدم ما يتبين، فالجملة الشرطية هنا مسوقة لبيان تحقق الموضوع،
كما في قول القائل: " إن رزقت ولدا فاختنه "، و " إن ركب زيد فخذ
ركابه "، و " إن قدم من السفر فاستقبله "، و " إن تزوجت فلا تضيع
حق زوجتك "، و " إذا قرأت الدرس فاحفظه "، قال الله سبحانه:
* (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) * (6)، و * (إذا حييتم بتحية فحيوا
بأحسن منها أو ردوها) * (7)، إلى غير ذلك مما لا يحصى.
ومما ذكرنا ظهر فساد ما يقال تارة: إن عدم مجئ الفاسق
يشمل ما لو جاء العادل بنبأ، فلا يجب تبينه، فيثبت المطلوب.
وأخرى: إن جعل مدلول الآية هو عدم وجوب التبين في خبر الفاسق

(1) معارج الأصول: 145.
(2) انظر نهاية الوصول (مخطوط): 294.
(3) كالشيخ الطوسي في العدة 1: 111.
(4) معالم الأصول: 191.
(5) حكاه السيد المجاهد عن جماعة، انظر مفاتيح الأصول: 354.
(6) الأعراف: 204.
(7) النساء: 86.
257

لأجل عدمه، يوجب حمل السالبة على المنتفية بانتفاء الموضوع، وهو
خلاف الظاهر.
وجه الفساد: أن الحكم إذا ثبت لخبر الفاسق بشرط مجئ
الفاسق به، كان المفهوم - بحسب الدلالة العرفية أو العقلية - انتفاء الحكم
المذكور في المنطوق عن الموضوع المذكور فيه عند انتفاء الشرط المذكور
فيه، ففرض مجئ العادل بنبأ عند عدم الشرط - وهو مجئ الفاسق
بالنبأ - لا يوجب انتفاء التبين عن خبر العادل الذي جاء به، لأنه
لم يكن مثبتا في المنطوق حتى ينتفي في المفهوم، فالمفهوم في الآية
وأمثالها ليس قابلا لغير السالبة بانتفاء الموضوع، وليس هنا قضية لفظية
سالبة دار الأمر بين كون سلبها لسلب المحمول عن الموضوع الموجود
أو لانتفاء الموضوع.
الثاني: ما أورده في محكي (1) العدة (2) والذريعة (3) والغنية (4)
ومجمع البيان (5) والمعارج (6) وغيرها (7): من أنا لو سلمنا دلالة المفهوم
على قبول خبر العادل الغير المفيد للعلم، لكن نقول: إن مقتضى

(1) حكى عنهم في مفاتيح الأصول: 355.
(2) العدة 1: 113.
(3) الذريعة 2: 536.
(4) الغنية (الجوامع الفقهية): 475.
(5) مجمع البيان 5: 133.
(6) معارج الأصول: 146.
(7) انظر شرح زبدة الأصول للمولى صالح المازندراني (مخطوط): 166.
258

عموم التعليل وجوب التبين في كل خبر لا يؤمن الوقوع في الندم من
العمل به وإن كان المخبر عادلا، فيعارض المفهوم، والترجيح مع ظهور
التعليل.
لا يقال: إن النسبة بينهما وإن كان عموما من وجه، فيتعارضان
في مادة الاجتماع وهي خبر العادل الغير المفيد للعلم، لكن يجب تقديم
عموم المفهوم وإدخال مادة الاجتماع فيه، إذ لو خرج عنه وانحصر
مورده في خبر العادل المفيد للعلم لكان (1) لغوا، لأن خبر الفاسق المفيد
للعلم أيضا واجب العمل، بل الخبر المفيد للعلم خارج عن المنطوق
والمفهوم معا، فيكون المفهوم أخص مطلقا من عموم التعليل.
لأنا نقول: ما ذكره أخيرا - من أن المفهوم أخص مطلقا من
عموم التعليل - مسلم، إلا أنا ندعي التعارض بين ظهور عموم التعليل
في عدم جواز (2) العمل بخبر العادل الغير العلمي وظهور الجملة الشرطية
أو الوصفية في ثبوت المفهوم، فطرح المفهوم (3) والحكم بخلو الجملة
الشرطية عن المفهوم أولى من ارتكاب التخصيص في التعليل. وإليه
أشار في محكي العدة بقوله: لا يمنع ترك دليل الخطاب لدليل، والتعليل
دليل (4).
وليس في ذلك منافاة لما هو الحق وعليه الأكثر: من جواز

(1) في (ت)، (ر)، (ص) و (ه‍): " كان ".
(2) في (ت) و (ه‍): " عدم وجوب "، والأنسب ما أثبتناه.
(3) لم ترد في (ظ): " فطرح المفهوم ".
(4) العدة 1: 113.
259

تخصيص العام بمفهوم المخالفة، لاختصاص ذلك - أولا - بالمخصص
المنفصل، ولو سلم جريانه في الكلام الواحد منعناه في العلة والمعلول،
فإن الظاهر عند العرف أن المعلول يتبع العلة في العموم والخصوص.
فالعلة تارة تخصص مورد المعلول وإن كان عاما بحسب اللفظ،
كما في قول القائل: " لا تأكل الرمان، لأنه حامض "، فيخصصه بالأفراد
الحامضة، فيكون عدم التقييد في الرمان لغلبة (1) الحموضة فيه.
وقد توجب عموم المعلول وإن كان بحسب الدلالة اللفظية خاصا،
كما في قول القائل: " لا تشرب الأدوية التي تصفها لك النسوان "، أو
" إذا وصفت لك امرأة دواء فلا تشربه، لأنك لا تأمن ضرره "، فيدل
على أن الحكم عام في كل دواء لا يؤمن ضرره من أي واصف كان،
ويكون تخصيص النسوان بالذكر من بين الجهال لنكتة خاصة أو عامة
لاحظها المتكلم.
وما نحن فيه من هذا القبيل، فلعل النكتة فيه التنبيه على فسق
الوليد، كما نبه عليه في المعارج (2).
وهذا الإيراد مبني على أن المراد بالتبين هو التبين العلمي كما هو
مقتضى اشتقاقه.
ويمكن أن يقال: إن المراد منه ما يعم الظهور العرفي الحاصل من
الاطمئنان الذي هو مقابل الجهالة، وهذا وإن كان يدفع الإيراد المذكور
عن المفهوم، من حيث رجوع الفرق بين الفاسق والعادل في وجوب

(1) في (ظ)، (ص)، (ل) و (م): " لعلة ".
(2) معارج الأصول: 146.
260

التبين إلى: أن العادل الواقعي يحصل منه غالبا الاطمئنان المذكور بخلاف
الفاسق، فلهذا وجب فيه تحصيل هذا (1) الاطمئنان من الخارج، لكنك
خبير بأن الاستدلال بالمفهوم على حجية خبر العادل المفيد للاطمئنان
غير محتاج إليه، إذ المنطوق على هذا التقرير (2) يدل على حجية كل ما
يفيد الاطمئنان كما لا يخفى، فيثبت اعتبار مرتبة خاصة من مطلق
الظن (3).
ثم إن المحكي عن بعض (4): منع دلالة التعليل على عدم جواز
الإقدام على ما هو مخالف للواقع، بأن المراد بالجهالة السفاهة وفعل ما
لا يجوز فعله، لا مقابل العلم، بدليل قوله تعالى: * (فتصبحوا على ما
فعلتم نادمين) * (5)، ولو كان المراد الغلط في الاعتقاد لما جاز الاعتماد
على الشهادة والفتوى.
وفيه - مضافا إلى كونه خلاف ظاهر لفظ " الجهالة " -: أن الإقدام
على مقتضى قول الوليد لم يكن سفاهة قطعا، إذ العاقل بل جماعة من
العقلاء لا يقدمون على الأمور من دون وثوق بخبر المخبر بها، فالآية
تدل على المنع عن العمل بغير العلم لعلة: هي كونه في معرض المخالفة
للواقع.

(1) لم ترد " هذا " في (ر) و (ص).
(2) في (ظ) و (م): " التقدير ".
(3) لم ترد " فيثبت - إلى - مطلق الظن " في (ظ)، (ل) و (م).
(4) حكاه ابن التلمساني عن القاضي، انظر مفاتيح الأصول: 356.
(5) الحجرات: 6.
261

وأما جواز الاعتماد على الفتوى والشهادة، فلا يجوز القياس به (1)،
لما تقدم في توجيه كلام ابن قبة: من أن الاقدام على ما فيه مخالفة
الواقع أحيانا قد يحسن، لأجل الاضطرار إليه وعدم وجود الأقرب إلى
الواقع منه كما في الفتوى، وقد يكون لأجل مصلحة تزيد على مصلحة
إدراك الواقع، فراجع (2).
فالأولى لمن يريد التفصي عن هذا الإيراد: التشبث بما ذكرنا، من
أن المراد ب‍ " التبين " تحصيل الاطمئنان، وب‍ " الجهالة ": الشك أو الظن
الابتدائي الزائل بعد الدقة والتأمل، فتأمل.
وفيها (3) إرشاد إلى عدم جواز مقايسة الفاسق بغيره وإن حصل
منهما الاطمئنان، لأن (4) الاطمئنان الحاصل من الفاسق يزول بالالتفات
إلى فسقه وعدم مبالاته بالمعصية وإن كان متحرزا عن الكذب.
ومنه يظهر الجواب عما ربما يقال: من أن العاقل لا يقبل الخبر
من دون اطمئنان بمضمونه - عادلا كان المخبر أو فاسقا -، فلا وجه
للأمر بتحصيل الاطمئنان في الفاسق.
وأما ما أورد على الآية بما (5) هو قابل للذب عنه فكثير:
منها: معارضة مفهوم الآية بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم،

(1) في (ظ) و (م): " بهما "، وفي (ر)، (ص) و (ل): " بها ".
(2) راجع الصفحة 108 - 110.
(3) في (ت)، (ظ) و (ل): " ففيها ".
(4) كذا في (ه‍)، وفي غيرها: " إلا أن ".
(5) في (ت)، (ظ) و (م) بدل " بما ": " مما ".
262

والنسبة عموم من وجه، فالمرجع إلى أصالة عدم الحجية.
وفيه: أن المراد ب‍ " النبأ " في المنطوق ما لا يعلم صدقه ولا كذبه،
فالمفهوم أخص مطلقا من تلك الآيات، فيتعين تخصيصها، بناء على ما
تقرر: من أن ظهور الجملة الشرطية في المفهوم أقوى من ظهور العام
في العموم.
وأما منع ذلك فيما تقدم من التعارض بين عموم التعليل وظهور
المفهوم، فلما عرفت: من منع ظهور الجملة الشرطية المعللة بالتعليل
الجاري في صورتي وجود الشرط وانتفائه، في إفادة الانتفاء عند
الانتفاء، فراجع (1).
وربما يتوهم: أن للآيات الناهية جهة خصوص، إما من جهة
اختصاصها بصورة التمكن من العلم، وإما من جهة اختصاصها بغير
البينة العادلة وأمثالها مما خرج عن تلك الآيات قطعا.
ويندفع الأول - بعد منع الاختصاص -: بأنه يكفي المستدل كون
الخبر حجة بالخصوص عند الانسداد.
والثاني (2): بأن خروج ما خرج من أدلة حرمة العمل بالظن
لا يوجب جهة عموم في المفهوم، لأن المفهوم - أيضا - دليل خاص،
مثل الخاص الذي خصص أدلة حرمة العمل بالظن، فلا يجوز تخصيص
العام بأحدهما أولا ثم ملاحظة النسبة بين العام بعد ذلك التخصيص
وبين الخاص الأخير (3).

(1) راجع الصفحة 259.
(2) لم ترد " الأول بعد - إلى - والثاني " في (ظ)، (ل)، (م) و (ه‍).
(3) في (م): " الآخر ".
263

فإذا ورد: أكرم العلماء، ثم قام الدليل على عدم وجوب إكرام
جماعة من فساقهم، ثم ورد دليل ثالث على عدم وجوب إكرام مطلق
الفساق منهم، فلا مجال لتوهم تخصيص العام بالخاص الأول أولا، ثم
جعل النسبة بينه وبين الخاص الثاني عموما من وجه، وهذا أمر واضح
نبهنا عليه في باب التعارض (1).
ومنها: أن مفهوم الآية لو دل على حجية خبر العادل لدل على
حجية الإجماع الذي أخبر به السيد المرتضى وأتباعه قدست أسرارهم:
من عدم حجية خبر العادل، لأنهم عدول أخبروا بحكم الإمام (عليه السلام)
بعدم حجية الخبر.
وفساد هذا الإيراد أوضح من أن يبين، إذ بعد الغض عما ذكرنا
سابقا (2) في عدم شمول آية النبأ للاجماع المنقول، وبعد الغض عن أن
إخبار هؤلاء معارض بإخبار الشيخ (قدس سره)، نقول: إنه لا يمكن دخول
هذا الخبر تحت الآية.
أما أولا: فلأن دخوله يستلزم خروجه - لأنه خبر عادل (3) -
فيستحيل دخوله.
ودعوى: أنه لا يعم نفسه، مدفوعة: بأنه وإن لم يعم (4) نفسه
- لقصور دلالة اللفظ عليه - إلا أنه يعلم أن الحكم ثابت لهذا الفرد (5)،

(1) انظر مبحث انقلاب النسبة في مبحث التعادل والتراجيح 4: 102.
(2) راجع الصفحة 180.
(3) في (ص)، (ل) و (ه‍): " العادل ".
(4) كذا في (ظ) و (م)، وفي غيرهما: " لا يعم ".
(5) في (ص) زيادة: " أيضا ".
264

للعلم بعدم خصوصية مخرجة له عن الحكم، ولذا لو سألنا السيد عن
أنه إذا ثبت إجماعك لنا بخبر واحد هل يجوز الاتكال عليه؟ فيقول:
لا.
وأما ثانيا: فلو (1) سلمنا جواز دخوله، لكن نقول: إنه وقع
الإجماع على خروجه من النافين لحجية الخبر ومن المثبتين، فتأمل.
وأما ثالثا: فلدوران الأمر بين دخوله وخروج ما عداه وبين
العكس، ولا ريب أن العكس متعين، لا لمجرد قبح انتهاء التخصيص إلى
الواحد، بل لأن المقصود من الكلام حينئذ (2) ينحصر (3) في بيان عدم
حجية خبر العادل، ولا ريب أن التعبير عن هذا المقصود بما يدل على
عموم حجية خبر العادل قبيح في الغاية وفضيح إلى النهاية، كما يعلم
من قول القائل: " صدق زيدا في جميع ما يخبرك "، فأخبرك زيد بألف
من الأخبار، ثم أخبر بكذب جميعها، فأراد القائل من قوله: " صدق...
الخ " خصوص هذا الخبر.
وقد أجاب بعض من لا تحصيل له (4): بأن الإجماع المنقول مظنون
الاعتبار وظاهر الكتاب مقطوع الاعتبار.
ومنها: أن الآية لا تشمل الأخبار مع الواسطة، لانصراف النبأ
إلى الخبر بلا واسطة، فلا يعم الروايات المأثورة عن الأئمة (عليهم السلام)،

(1) في (ت): " فلأنا لو ".
(2) لم ترد " حينئذ " في (ت)، (ر) و (ه‍).
(3) في (ظ) و (م): " منحصر ".
(4) لم نقف عليه.
265

لاشتمالها على وسائط.
وضعف هذا الإيراد على ظاهره واضح، لأن كل واسطة من
الوسائط إنما يخبر خبرا بلا واسطة، فإن الشيخ (قدس سره) إذا قال: حدثني
المفيد، قال: حدثني الصدوق، قال: حدثني أبي، قال: حدثني الصفار،
قال: كتب إلي العسكري (عليه السلام) بكذا (1)، فإن هناك (2) أخبارا متعددة
بتعدد الوسائط، فخبر الشيخ قوله: حدثني المفيد الخ، وهذا خبر
بلا واسطة يجب تصديقه، فإذا حكم بصدقه وثبت (3) شرعا أن المفيد
حدث الشيخ بقوله: حدثني الصدوق، فهذا الإخبار - أعني قول المفيد
الثابت بخبر الشيخ: حدثني الصدوق - أيضا خبر عادل وهو المفيد،
فنحكم بصدقه وأن الصدوق حدثه، فيكون كما لو سمعنا من الصدوق
إخباره بقوله: حدثني أبي، والصدوق عادل، فيصدق في خبره، فيكون
كما لو سمعنا أباه يحدث بقوله: حدثني الصفار، فنصدقه، لأنه عادل،
فيثبت خبر الصفار: أنه كتب إليه العسكري (عليه السلام)، وإذا كان الصفار
عادلا وجب تصديقه والحكم بأن العسكري (عليه السلام) كتب إليه ذلك القول،
كما لو شاهدنا الإمام (عليه السلام) يكتبه إليه، فيكون المكتوب حجة، فيثبت
بخبر كل لاحق إخبار سابقه، ولهذا يعتبر العدالة في جميع الطبقات، لأن
كل واسطة مخبر بخبر مستقل.

(1) لم ترد " بكذا " في (ت)، (ر)، (ل) و (ه‍).
(2) في (ر) و (ص) زيادة: " بمقتضى الآية ".
(3) كذا في (ر)، (ظ) و (م)، ولم ترد " و " في (ص) و (ه‍)، وفي (ت) و (ص):
" يثبت ".
266

هذا، ولكن قد يشكل الأمر (1): بأن ما يحكيه الشيخ عن المفيد
صار خبرا للمفيد بحكم وجوب التصديق، فكيف يصير موضوعا
لوجوب التصديق الذي لم يثبت موضوع الخبرية إلا به (2)؟

(1) اضطربت النسخ في تقرير الاشكال وفي بيان جوابه الحلي، كما سيوافيك. وما
اخترناه مطابق لنسخة (ه‍)، (ت)، ومصححة (ص)، مع اختلاف يسير بينها.
(2) في (ه‍) بدل " لم يثبت موضوع الخبرية إلا به ": " أثبت موضوع المخبر به "،
ولم ترد عبارة " ما يحكيه - إلى - الخبرية إلا به " في (ظ)، (ص)، (ل) و (م)،
وورد بدلها ما يلي:
" بأن الآية إنما تدل على وجوب تصديق كل مخبر، ومعنى وجوب تصديقه
ليس إلا ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على صدقه عليه، فإذا قال المخبر: إن
زيدا عدل، فمعنى وجوب تصديقه: وجوب ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على
عدالة زيد، من جواز الاقتداء به وقبول شهادته، وإذا قال المخبر: أخبرني
عمرو أن زيدا عادل فمعنى تصديق المخبر - على ما عرفت - وجوب ترتيب
الآثار الشرعية المترتبة على إخبار عمرو بعدالة زيد، ومن الآثار الشرعية
المترتبة على إخبار عمرو بعدالة زيد - إذا كان عادلا - وإن كان هو وجوب
تصديقه في عدالة زيد، إلا أن هذا الحكم الشرعي لإخبار عمرو إنما حدث
بهذه الآية، وليس من الآثار الشرعية الثابتة للمخبر به مع قطع النظر عن الآية
حتى يحكم بمقتضى الآية بترتيبه على إخبار عمرو به.
والحاصل: أن الآية تدل على ترتيب الآثار الشرعية الثابتة للمخبر به
الواقعي على إخبار العادل، ومن المعلوم أن المراد من الآثار غير هذا الأثر
الشرعي الثابت بنفس الآية، فاللازم على هذا دلالة الآية على ترتيب جميع
آثار المخبر به على الخبر إلا الأثر الشرعي الثابت بهذه الآية للمخبر به إذا كان
خبرا.
وبعبارة أخرى: الآية لا تدل على وجوب قبول الخبر الذي لم يثبت
موضوع الخبرية له إلا بدلالة الآية على وجوب قبول الخبر، لأن الحكم لا
يشمل الفرد الذي يصير موضوعا له بواسطة ثبوته لفرد آخر.
ومن هنا يتجه أن يقال: إن أدلة قبول الشهادة لا تشمل الشهادة على
الشهادة، لأن الأصل لا يدخل في موضوع الشاهد إلا بعد قبول شهادة الفرع ".
وهذه العبارة بزيادة: " ويشكل " في أولها موجودة في (ر) أيضا.
267

ولكن يضعف هذا الإشكال:
أولا: بانتقاضه بورود مثله في نظيره الثابت بالإجماع كالإقرار
بالإقرار، وإخبار العادل بعدالة مخبر، فإن الآية تشمل الإخبار بالعدالة
بغير إشكال (1).
وثانيا: بأن (2) عدم قابلية اللفظ العام لأن يدخل فيه الموضوع

(1) في (ت) ومصححة (ص) زيادة: " وعدم قبول الشهادة على الشهادة - لو
سلم - ليس من هذه الجهة ".
(2) لم ترد عبارة " وإخبار العادل - إلى - وثانيا بأن " في (ر)، (ظ)، (ص)، (ل)
و (م)، وورد بدلها في غير (ر) ما يلي:
" وكرفع اليد عن اليقين السابق بنجاسة الثوب المغسول بالماء المستصحب
الطهارة باليقين الاستصحابي بطهارته. وثانيا بالحل: وهو أنه لا مانع من ترتب
أفراد العام في الوجود الخارجي، وكون وجود بعضها موقوفا على ثبوت الحكم
لبعضها الآخر. وهذا لا ينافي كون أفراد العام متساوية الأقدام في شمول الحكم
لها في نظر المتكلم، لا في الوجود الخارجي حتى لا يكون لبعضها تقدم على
بعض في الوجود. وأما ثالثا: فلأن ".
ووردت بدلها في (ر): " ومخالفة قبول الشهادة على الشهادة ليست من هذه
الجهة. وثانيا بالحل: وهو أن الممتنع هو توقف فردية بعض أفراد العام على
إثبات الحكم لبعضها الآخر، كما في قول القائل: " كل خبري صادق أو
كاذب "، أما توقف العلم ببعض الأفراد وانكشاف فرديته على ثبوت الحكم
لبعضها الآخر - كما فيما نحن فيه - فلا مانع منه. وأما ثالثا: فلأن ".
وورد هذا الجواب الحلي في مصححة (ص) أيضا.
268

الذي لا يتحقق ولا يوجد إلا بعد ثبوت حكم هذا العام لفرد آخر،
لا يوجب التوقف في الحكم إذا علم المناط الملحوظ في الحكم العام
وأن المتكلم لم يلاحظ موضوعا دون آخر (1)، لأن هذا الخروج مستند
إلى قصور العبارة وعدم قابليتها لشموله، لا للفرق بينه وبين غيره في
نظر المتكلم حتى يتأمل في شمول حكم العام له.
بل لا قصور في العبارة بعدما فهم منها أن هذا المحمول وصف

(1) في (ظ)، (ل) و (م) زيادة ما يلي:
" فإن موضوع اليقين بطهارة الثوب الناقض لليقين بنجاسته إنما يحدث بحكم
الشارع باستصحاب طهارة الماء، فيثبت الحكم لذلك الموضوع، الموجود بعد تحقق
الحكم وإن لم يكن كلام المتكلم قابلا لإرادة ذلك الموضوع الغير الثابت إلا بعد
الحكم العام. فوجوب تصديق قول المخبر: " أخبرني عمرو بعدالة زيد " وإن لم
يكن داخلا في موضوع ذلك الحكم العام - وإلا لزم تأخير الموضوع وجودا عن
الحكم - إلا أنه معلوم أن هذا الخروج... الخ ".
وفي (ر) وردت الزيادة هكذا: " فإخبار عمرو بعدالة زيد فيما لو قال المخبر:
" أخبرني عمرو بأن زيدا عادل " وإن لم يكن داخلا في موضوع ذلك الحكم
العالم - وإلا لزم تأخير الموضوع وجودا عن الحكم - إلا أنه معلوم أن هذا
الخروج... ".
269

لازم لطبيعة الموضوع ولا ينفك عن مصاديقها، فهو مثل ما لو أخبر
زيد بعض عبيد المولى بأنه قال: لا تعمل بأخبار زيد، فإنه لا يجوز له
العمل به ولو اتكالا على دليل عام يدل على الجواز، لأن عدم شموله
له ليس إلا لقصور اللفظ وعدم قابليته للشمول، لا للتفاوت بينه وبين
غيره من أخبار زيد في نظر المولى (1). وقد تقدم في الإيراد الثاني من
هذه الإيرادات ما يوضح لك (2)، فراجع (3).
ومنها: أن العمل بالمفهوم في الأحكام الشرعية غير ممكن،
لوجوب التفحص عن المعارض لخبر العدل في الأحكام الشرعية، فيجب
تنزيل الآية على الإخبار في الموضوعات الخارجية، فإنها هي التي
لا يجب التفحص فيها عن المعارض، ويجعل المراد من القبول فيها هو
القبول في الجملة، فلا ينافي اعتبار انضمام عدل آخر إليه، فلا يقال: إن
قبول خبر الواحد في الموضوعات الخارجية مطلقا يستلزم قبوله في
الأحكام بالإجماع المركب والأولوية (4).
وفيه: أن وجوب التفحص عن المعارض غير وجوب التبين في
الخبر، فإن الأول يؤكد حجية خبر العادل ولا ينافيها، لأن مرجع
التفحص عن المعارض إلى الفحص عما أوجب الشارع العمل به كما
أوجب العمل بهذا، والتبين المنافي للحجية هو التوقف عن العمل

(1) لم ترد عبارة " بل لا قصور - إلى - في نظر المولى " في (ظ)، (ل) و (م).
(2) في (ه‍) بدل " لك ": " ذلك ".
(3) راجع الصفحة 265.
(4) في (ظ) زيادة: " القطعية ".
270

والتماس دليل آخر، فيكون ذلك الدليل هو المتبع ولو كان أصلا من
الأصول. فإذا يئس عن المعارض عمل بهذا الخبر، وإذا وجده أخذ
بالأرجح منهما. وإذا يئس عن التبين توقف عن العمل ورجع إلى ما
يقتضيه الأصول العملية.
فخبر الفاسق وإن اشترك مع خبر العادل في عدم جواز العمل
بمجرد المجئ، إلا أنه بعد اليأس عن وجود المنافي يعمل بالثاني دون
الأول، ومع وجدان المنافي يؤخذ به في الأول ويؤخذ بالأرجح في
الثاني.
فتتبع الأدلة في الأول لتحصيل المقتضي الشرعي للحكم (1) الذي
تضمنه خبر الفاسق، وفي الثاني لطلب المانع عما اقتضاه الدليل
الموجود.
ومنها: أن مفهوم الآية غير معمول به في الموضوعات الخارجية
التي منها مورد الآية وهو إخبار الوليد بارتداد طائفة، ومن المعلوم أنه
لا يكفي فيه خبر العادل الواحد (2)، بل لا أقل من اعتبار العدلين،
فلا بد من طرح المفهوم، لعدم جواز إخراج المورد.
وفيه: أن غاية الأمر لزوم تقييد المفهوم - بالنسبة إلى الموضوعات -
بما إذا تعدد المخبر العادل، فكل واحد من خبري (3) العدلين في البينة
لا يجب التبين فيه.

(1) في (ظ): " المقتضي للحكم الشرعي ".
(2) كذا في نسخة بدل (ص)، ولم ترد " الواحد " في غيرها.
(3) في (ت) و (ل): " خبر العدلين ".
271

وأما لزوم إخراج المورد فممنوع، لأن المورد داخل في منطوق
الآية لا مفهومها.
وجعل أصل خبر الارتداد موردا للحكم بوجوب التبين إذا كان
المخبر به فاسقا وبعدمه (1) إذا كان المخبر به عادلا، لا يلزم منه إلا تقييد
لحكمه (2) في طرف المفهوم وإخراج بعض أفراده، وهذا ليس من إخراج
المورد المستهجن في شئ.
ومنها: ما عن غاية البادى (3): من أن المفهوم يدل على عدم
وجوب التبين، وهو لا يستلزم العمل، لجواز وجوب التوقف (4).
وكأن هذا الايراد مبني على ما تقدم (5) فساده: من إرادة وجوب
التبين نفسيا، وقد عرفت ضعفه، وأن المراد وجوب التبين لأجل العمل
عند إرادته، وليس التوقف حينئذ واسطة.
ومنها: أن المسألة أصولية، فلا يكتفى فيها بالظن.
وفيه: أن الظهور اللفظي لا بأس بالتمسك به في أصول الفقه،
والأصول التي لا يتمسك فيها (6) بالظن مطلقا هو أصول الدين لا أصول

(1) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " لعدمه ".
(2) في (ت) و (ل): " الحكم "، وفي (ص): " للحكم ".
(3) في النسخ: " غاية المبادي "، والصحيح ما أثبتناه.
(4) حكاه عنه في مفاتيح الأصول: 356، ولكنه لا يوجد فيه، انظر غاية البادى
(مخطوط): الورقة 89.
(5) راجع الصفحة 255.
(6) كذا في (ظ) و (ت)، وفي غيرهما: " لها ".
272

الفقه، والظن الذي لا يتمسك به في الأصول مطلقا هو مطلق الظن،
لا الظن الخاص.
ومنها: أن المراد بالفاسق مطلق الخارج عن طاعة الله ولو
بالصغائر، فكل من كان كذلك أو احتمل في حقه ذلك وجب التبين في
خبره، وغيره ممن يفيد قوله العلم، لانحصاره في المعصوم أو من هو
دونه، فيكون في تعليق الحكم بالفسق إشارة إلى أن مطلق خبر المخبر
غير المعصوم لا عبرة به، لاحتمال فسقه، لأن المراد الفاسق الواقعي
لا المعلوم.
فهذا وجه آخر لإفادة الآية حرمة اتباع غير العلم، لا يحتاج
معه إلى التمسك في ذلك بتعليل الآية، كما تقدم (1) في الإيراد الثاني من
الإيرادين الأولين.
وفيه: أن إرادة مطلق الخارج عن طاعة الله من إطلاق الفاسق
خلاف الظاهر عرفا، فالمراد به: إما الكافر، كما هو الشائع إطلاقه في
الكتاب، حيث إنه يطلق غالبا في مقابل المؤمن. وإما الخارج عن طاعة
الله بالمعاصي الكبيرة الثابتة تحريمها في زمان نزول هذه الآية، فالمرتكب
للصغيرة غير داخل تحت إطلاق الفاسق في عرفنا المطابق للعرف
السابق.
مضافا إلى قوله تعالى: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم
سيئاتكم) * (2).

(1) راجع الصفحة 259.
(2) النساء: 31.
273

مع أنه يمكن فرض الخلو عن الصغيرة والكبيرة، كما إذا علم منه
التوبة من الذنب السابق، وبه يندفع الإيراد المذكور، حتى على مذهب
من يجعل كل ذنب كبيرة (1).
وأما احتمال فسقه بهذا الخبر - لكذبه فيه - فهو غير قادح، لأن
ظاهر قوله: * (إن جاءكم فاسق بنبأ) * (2) تحقق الفسق قبل النبأ لا به،
فالمفهوم يدل على قبول خبر من ليس فاسقا مع قطع النظر عن هذا
النبأ واحتمال فسقه به.
هذه جملة مما أوردوه على ظاهر الآية، وقد عرفت (3) أن الوارد
منها إيرادان، والعمدة الايراد الأول الذي أورده جماعة من القدماء
والمتأخرين (4).
ثم إنه كما استدل بمفهوم الآية على حجية خبر العادل، كذلك قد
يستدل بمنطوقها على حجية خبر غير العادل إذا حصل الظن بصدقه،
بناء على أن المراد ب‍ " التبين ": ما يعم تحصيل الظن، فإذا حصل من
الخارج ظن بصدق خبر الفاسق كفى في العمل به.
ومن التبين الظني: تحصيل شهرة العلماء على العمل بالخبر أو على
مضمونه أو على (5) روايته، ومن هنا تمسك بعض (6) بمنطوق الآية على

(1) كالحلي في السرائر 2: 118، وانظر تفصيل ذلك في مفاتيح الأصول: 554.
(2) الحجرات: 6.
(3) راجع الصفحة 256.
(4) تقدم ذكرهم في الصفحة 256 - 257.
(5) لم ترد " على " في (ت)، (ر) و (ظ).
(6) انظر الفوائد الحائرية: 489، ومفاتيح الأصول: 475.
274

حجية الخبر الضعيف المنجبر بالشهرة، وفي حكم الشهرة أمارة أخرى
غير معتبرة.
ولو عمم التبين للتبين الاجمالي - وهو تحصيل الظن بصدق
مخبره - دخل خبر الفاسق المتحرز عن الكذب، فيدخل الموثق وشبهه
بل الحسن أيضا.
وعلى ما ذكر، فيثبت من آية النبأ - منطوقا ومفهوما - حجية
الأقسام الأربعة للخبر: الصحيح، والحسن، والموثق، والضعيف المحفوف
بقرينة ظنية.
ولكن فيه من الإشكال ما لا يخفى، لأن التبين ظاهر في العلمي،
كيف ولو كان المراد مجرد الظن لكان الأمر به في خبر الفاسق لغوا، إذ
العاقل لا يعمل بخبر إلا بعد رجحان صدقه على كذبه.
إلا أن يدفع اللغوية بما ذكرنا سابقا: من أن المقصود التنبيه
والارشاد على أن الفاسق لا ينبغي أن يعتمد عليه، وأنه لا يؤمن من
كذبه وإن كان المظنون صدقه.
وكيف كان: فمادة " التبين " ولفظ " الجهالة " وظاهر التعليل
- كلها - آبية عن (1) إرادة مجرد الظن.
نعم، يمكن دعوى صدقه على الاطمئنان الخارج عن التحير
والتزلزل بحيث لا يعد في العرف العمل به تعريضا للوقوع في الندم،
فحينئذ لا يبعد انجبار خبر الفاسق به.
لكن، لو قلنا بظهور المنطوق في ذلك كان دالا على حجية الظن

(1) في غير (ظ) و (م): " من ".
275

الاطمئناني المذكور وإن لم يكن معه خبر فاسق، نظرا إلى أن الظاهر
من الآية أن خبر الفاسق وجوده كعدمه، وأنه لا بد من تبين الأمر
من الخارج، والعمل على ما يقتضيه التبين الخارجي.
نعم، ربما يكون نفس الخبر من الأمارات التي يحصل من مجموعها
التبين.
فالمقصود: الحذر عن الوقوع في مخالفة الواقع، فكلما حصل
الأمن منه جاز العمل، فلا فرق حينئذ بين خبر الفاسق المعتضد
بالشهرة إذا حصل الاطمئنان بصدقه وبين الشهرة المجردة إذا حصل
الاطمئنان بصدق مضمونها.
والحاصل: أن الآية تدل على أن العمل يعتبر فيه التبين من دون
مدخلية لوجود خبر الفاسق وعدمه، سواء قلنا بأن المراد منه العلم أو
الاطمئنان أو مطلق الظن، حتى أن من قال (1) بأن (2) خبر الفاسق يكفي
فيه مجرد الظن بمضمونه - لحسن (3) أو توثيق أو غيرهما من صفات
الراوي - فلازمه القول بدلالة الآية على حجية مطلق الظن بالحكم
الشرعي وإن لم يكن معه خبر أصلا، فافهم واغتنم واستقم.
هذا، ولكن لا يخفى: أن حمل التبين على تحصيل مطلق الظن أو
الاطمئنان يوجب خروج مورد المنطوق، وهو الإخبار بالارتداد (4).

(1) كالمحقق القمي في القوانين 1: 223.
(2) في (ت)، (ر)، (ص) و (ل): " إن ".
(3) كذا في (ظ) و (م)، وفي غيرهما: " بحسن ".
(4) لم ترد " هذا ولكن - إلى - بالارتداد " في (ظ)، (ل) و (م).
276

ومن جملة الآيات: قوله تعالى في سورة براءة:
* (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا
قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) * (1).
دلت على وجوب الحذر عند إنذار المنذرين، من دون اعتبار
إفادة خبرهم العلم لتواتر أو قرينة، فيثبت وجوب العمل بخبر الواحد.
أما وجوب الحذر، فمن وجهين:
أحدهما: أن لفظة " لعل " بعد انسلاخها عن معنى الترجي ظاهرة
في كون مدخولها محبوبا للمتكلم، وإذا تحقق حسن الحذر ثبت وجوبه،
إما لما ذكره في المعالم: من أنه لا معنى لندب الحذر، إذ مع قيام
المقتضي يجب ومع عدمه لا يحسن (2)، وإما لأن رجحان العمل بخبر
الواحد مستلزم لوجوبه بالإجماع المركب، لأن كل من أجازه فقد
أوجبه.
الثاني: أن ظاهر الآية وجوب الإنذار، لوقوعه غاية للنفر
الواجب بمقتضى كلمة " لولا "، فإذا وجب الإنذار أفاد وجوب الحذر
لوجهين:
أحدهما: وقوعه غاية للواجب، فإن الغاية المترتبة على فعل
الواجب مما لا يرضى الآمر بانتفائه، سواء كان من الأفعال المتعلقة
للتكليف أم لا، كما في قولك: " تب لعلك تفلح "، و " أسلم لعلك تدخل
الجنة "، وقوله تعالى: * (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) * (3).

(1) التوبة: 122.
(2) المعالم: 47.
(3) طه: 44.
277

الثاني: أنه إذا وجب الإنذار ثبت وجوب القبول، وإلا لغى
الإنذار.
ونظير ذلك: ما تمسك به في المسالك على وجوب قبول قول
المرأة وتصديقها في العدة، من قوله تعالى: * (ولا يحل لهن أن يكتمن ما
خلق الله في أرحامهن) * (1)، فاستدل بتحريم الكتمان ووجوب الإظهار
عليهن، على قبول قولهن بالنسبة إلى ما في الأرحام (2).
فإن قلت: المراد بالنفر النفر إلى الجهاد، كما يظهر من صدر الآية
وهو قوله تعالى: * (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) *، ومن المعلوم أن
النفر إلى الجهاد ليس للتفقه والإنذار.
نعم ربما يترتبان عليه، بناء على ما قيل (3): من أن المراد
حصول البصيرة في الدين من مشاهدة آيات الله وظهور أوليائه على
أعدائه وسائر ما يتفق في حرب المسلمين مع الكفار من آيات عظمة
الله وحكمته، فيخبروا بذلك عند رجوعهم (4) الفرقة المتخلفة الباقية في
المدينة، فالتفقه والإنذار من قبيل الفائدة، لا الغاية حتى تجب بوجوب
ذيها.
قلت:

(1) البقرة: 228.
(2) المسالك 9: 194.
(3) قاله الحسن وأبو مسلم، انظر تفسير التبيان 5: 321، ومجمع البيان 3: 83
- 84.
(4) في (ر)، (ص) و (ه‍) زيادة: " إلى "، وشطب عليه في (ت).
278

أولا: إنه ليس في صدر الآية دلالة على أن المراد النفر إلى
الجهاد، وذكر الآية في آيات الجهاد لا يدل على ذلك.
وثانيا: لو سلم أن المراد النفر إلى الجهاد، لكن لا يتعين
أن يكون النفر من كل قوم طائفة لأجل مجرد الجهاد، بل لو كان
لمحض الجهاد لم يتعين أن ينفر من كل قوم طائفة، فيمكن أن
يكون التفقه غاية لإيجاب النفر على طائفة من كل قوم، لا لإيجاب
أصل النفر.
وثالثا: إنه قد فسر الآية بأن المراد نهي المؤمنين عن نفر جميعهم
إلى الجهاد (1)، كما يظهر من قوله: * (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) * (2)،
وأمر بعضهم بأن يتخلفوا عند النبي (صلى الله عليه وآله) ولا يخلوه وحده، فيتعلموا
مسائل حلالهم وحرامهم حتى ينذروا قومهم النافرين إذا رجعوا
إليهم.
والحاصل: أن ظهور الآية في وجوب التفقه والإنذار مما لا ينكر،
فلا محيص عن حمل الآية عليه وإن لزم مخالفة الظاهر في سياق الآية
أو بعض ألفاظها.
ومما يدل على ظهور الآية في وجوب التفقه والإنذار: استشهاد
الإمام بها على وجوبه في أخبار كثيرة.
منها: ما عن الفضل بن شاذان في علله، عن الرضا (عليه السلام) في
حديث، قال:

(1) فسره بذلك الشيخ الطبرسي في مجمع البيان 3: 83.
(2) التوبة: 122.
279

" إنما أمروا بالحج، لعلة الوفادة إلى الله، وطلب الزيادة، والخروج
عن كل ما اقترف العبد " - إلى أن قال -: " ولأجل (1) ما فيه من التفقه
ونقل أخبار الأئمة (عليهم السلام) إلى كل صقع وناحية، كما قال الله عز وجل:
* (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة... الآية) * " (2).
ومنها: ما ذكره في ديباجة المعالم (3): من رواية علي بن أبي
حمزة، قال:
" سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: تفقهوا في الدين، فإنه من لم يتفقه
منكم في الدين فهو أعرابي، إن الله عز وجل يقول: * (ليتفقهوا في الدين
ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) * " (4).
ومنها: ما رواه في الكافي - في باب ما يجب على الناس عند
مضي الإمام (عليه السلام) - من صحيحة يعقوب بن شعيب، قال:
" قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إذا حدث على الإمام حدث كيف
يصنع الناس؟ قال: أين قول الله عز وجل: * (فلولا نفر...) *؟ قال:
هم في عذر ما داموا في الطلب، وهؤلاء الذين ينتظرونهم في عذر حتى
يرجع إليهم أصحابهم " (5).
ومنها: صحيحة عبد الأعلى، قال:

(1) لم ترد " ولأجل " في (ظ) و (م).
(2) الوسائل 18: 69، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 65.
(3) معالم الأصول: 25.
(4) الكافي 1: 31، باب فرض العلم، الحديث 6.
(5) الكافي 1: 378، الحديث 1.
280

" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول العامة: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
قال: من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية؟ قال: حق والله،
قلت: فإن إماما هلك، ورجل بخراسان لا يعلم من وصيه، لم يسعه
ذلك؟ قال: لا يسعه، إن الإمام إذا مات وقعت (1) حجة وصيه على من
هو معه في البلد، وحق النفر على من ليس بحضرته إذا بلغهم، إن الله
عز وجل يقول: * (فلولا نفر من كل فرقة... الآية) * " (2).
ومنها: صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وفيها:
" قلت: أفيسع الناس إذا مات العالم أن لا يعرفوا الذي بعده؟ فقال:
أما أهل هذه البلدة فلا - يعني أهل المدينة - وأما غيرها من البلدان
فبقدر مسيرهم، إن الله عز وجل يقول: * (فلولا نفر من كل فرقة منهم
طائفة) * " (3).
ومنها: صحيحة البزنطي المروية في قرب الإسناد، عن أبي الحسن
الرضا (عليه السلام) (4).
ومنها: رواية عبد المؤمن الأنصاري الواردة في جواب من سأل
عن قوله (صلى الله عليه وآله): " اختلاف أمتي رحمة "، قال: " إذا كان اختلافهم رحمة

(1) كذا في الكافي، وفي (ص)، (ظ)، (ل)، (م) و (ه‍): " دفعت "، وفي (ت)
و (ر): " رفعت ".
(2) الكافي 1: 378، باب ما يجب على الناس عند مضي الإمام، الحديث 2.
(3) الكافي 1: 380، باب ما يجب على الناس عند مضي الإمام، ضمن الحديث
3.
(4) قرب الإسناد: 348 - 350، الحديث 1260.
281

فاتفاقهم عذاب؟! ليس هذا يراد، إنما يراد الاختلاف في طلب العلم،
على ما قال الله عز وجل: * (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) * " (1)،
الحديث منقول بالمعنى ولا يحضرني ألفاظه.
وجميع هذا هو السر في استدلال أصحابنا بالآية الشريفة على
وجوب تحصيل العلم وكونه كفائيا.
هذا غاية ما قيل أو يقال في توجيه الاستدلال بالآية الشريفة.
لكن الإنصاف: عدم جواز الاستدلال بها من وجوه:
الأول: أنه لا يستفاد من الكلام إلا مطلوبية الحذر عقيب الإنذار
بما يتفقهون في الجملة، لكن ليس فيها إطلاق وجوب الحذر، بل يمكن
أن يتوقف وجوبه على حصول العلم، فالمعنى: لعله يحصل لهم العلم
فيحذروا، فالآية مسوقة لبيان مطلوبية الإنذار بما يتفقهون، ومطلوبية
العمل من المنذرين بما أنذروا، وهذا لا ينافي اعتبار العلم في العمل،
ولهذا صح ذلك فيما يطلب فيه العلم.
فليس في هذه الآية تخصيص للأدلة الناهية عن العمل بما لم يعلم،
ولذا استشهد الإمام - فيما سمعت من الأخبار المتقدمة (2) - على وجوب
النفر في معرفة الإمام (عليه السلام) وإنذار النافرين للمتخلفين، مع أن الإمامة
لا تثبت إلا بالعلم.
الثاني: أن التفقه الواجب ليس إلا معرفة الأمور الواقعية من
الدين، فالإنذار الواجب هو الإنذار بهذه الأمور المتفقه فيها، فالحذر

(1) الوسائل 18: 101، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10.
(2) في نفس هذه الصفحة والصفحتين السابقتين.
282

لا يجب إلا عقيب الإنذار بها، فإذا لم يعرف المنذر - بالفتح - أن
الإنذار هل وقع بالأمور الدينية الواقعية أو بغيرها خطأ أو تعمدا من
المنذر - بالكسر - لم يجب الحذر حينئذ، فانحصر وجوب الحذر فيما إذا
علم المنذر صدق المنذر في إنذاره بالأحكام الواقعية، فهو نظير قول
القائل: أخبر فلانا بأوامري لعله يمتثلها (1).
فهذه الآية (2) نظير ما ورد من الأمر (3) بنقل الروايات (4)، فإن
المقصود من هذا الكلام ليس إلا وجوب العمل بالأمور الواقعية،
لا وجوب تصديقه فيما يحكي ولو (5) لم يعلم مطابقته للواقع، ولا يعد
هذا ضابطا لوجوب العمل بالخبر الظني الصادر من المخاطب في الأمر
الكذائي.
ونظيره: جميع ما ورد، من بيان الحق للناس ووجوب تبليغه
إليهم، فإن المقصود منه اهتداء الناس إلى الحق الواقعي، لا إنشاء
حكم ظاهري لهم بقبول كل ما يخبرون به وإن لم يعلم مطابقته
للواقع.

(1) في (ظ) و (م) بدل " بأوامري لعله يمتثلها ": " بكذا لعله يقبل منك ".
(2) في (ل) بدل " فهذه الآية ": " لأنه ".
(3) يأتي بعضها في الصفحة 308.
(4) لم ترد " فهذه - إلى - الروايات " في (ظ) و (م)، وفي (ص) كتب أنها
زائدة.
(5) في (ظ) و (م) بدل " العمل بالأمور - إلى - فيما يحكي ولو ": " قبول الخبر
الكذائي بالخصوص لا قبول كل ما يخبر فلان بأنه كذا وإن ".
283

ثم الفرق بين هذا الإيراد وسابقه: أن هذا الإيراد مبني على أن
الآية ناطقة باختصاص مقصود المتكلم بالحذر عن الأمور الواقعية،
المستلزم لعدم وجوبه إلا بعد إحراز كون الإنذار متعلقا بالحكم الواقعي،
وأما الإيراد الأول فهو مبني على سكوت الآية عن التعرض لكون
الحذر واجبا على الإطلاق أو بشرط حصول العلم.
الثالث: لو سلمنا دلالة الآية على وجوب الحذر مطلقا عند إنذار
المنذر ولو لم يفد العلم، لكن لا تدل على وجوب العمل بالخبر من
حيث إنه خبر، لأن الإنذار هو الإبلاغ مع التخويف، فإنشاء التخويف
مأخوذ فيه، والحذر هو التخوف الحاصل عقيب هذا التخويف الداعي
إلى العمل بمقتضاه فعلا، ومن المعلوم أن التخويف لا يجب إلا على
الوعاظ في مقام الإيعاد على الأمور التي يعلم المخاطبون بحكمها من
الوجوب والحرمة، كما يوعد على شرب الخمر وفعل الزنا وترك الصلاة،
أو (1) على المرشدين في مقام إرشاد الجهال، فالتخوف لا يجب إلا على
المتعظ أو (2) المسترشد، ومن المعلوم أن تصديق الحاكي فيما يحكيه من
لفظ الخبر الذي هو محل الكلام خارج عن الأمرين.
توضيح ذلك: أن المنذر إما أن ينذر ويخوف على وجه الإفتاء
ونقل ما هو مدلول الخبر باجتهاده، وإما أن ينذر ويخوف بلفظ الخبر
حاكيا له عن الحجة.
فالأول، كأن يقول: " يا أيها الناس اتقوا الله في شرب العصير،

(1) في (ر): " و ".
(2) في (ت) و (ظ): " و ".
284

فإن شربه يوجب المؤاخذة ". والثاني، كأن يقول في مقام التخويف (1):
قال الإمام (عليه السلام): " من شرب العصير فكأنما شرب الخمر ".
أما الإنذار على الوجه الأول، فلا يجب الحذر عقيبه إلا على
المقلدين لهذا المفتي.
وأما الثاني، فله جهتان: إحداهما: جهة تخويف وإيعاد. والثانية:
جهة حكاية قول من الإمام (عليه السلام).
ومن المعلوم أن الجهة الأولى ترجع إلى الاجتهاد في معنى
الحكاية، فهي ليست حجة إلا على من هو مقلد له، إذ هو الذي يجب
عليه التخوف عند تخويفه.
وأما الجهة الثانية، فهي التي تنفع المجتهد الآخر الذي يسمع منه
هذه الحكاية، لكن وظيفته مجرد تصديقه في صدور هذا الكلام عن
الإمام (عليه السلام)، وأما أن مدلوله متضمن لما يوجب التحريم الموجب
للتخوف (2) أو الكراهة، فهو مما ليس فهم المنذر حجة فيه بالنسبة إلى
هذا المجتهد.
فالآية الدالة على وجوب التخوف عند تخويف المنذرين مختصة
بمن يجب عليه اتباع المنذر في مضمون الحكاية وهو المقلد له، للإجماع
على أنه لا يجب على المجتهد التخوف عند إنذار غيره. إنما الكلام في
أنه هل يجب عليه تصديق غيره في الألفاظ والأصوات التي يحكيها عن
المعصوم (عليه السلام) أم لا؟ والآية لا تدل على وجوب ذلك على من لا يجب

(1) لم ترد " في مقام التخويف " في (ص)، (ل) و (ه‍).
(2) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " للخوف ".
285

عليه التخوف عند التخويف.
فالحق: أن الاستدلال بالآية على وجوب الاجتهاد كفاية ووجوب
التقليد على العوام، أولى من الاستدلال بها على وجوب العمل بالخبر.
وذكر شيخنا البهائي (قدس سره) في أول أربعينه:
أن الاستدلال بالنبوي المشهور: " من حفظ على أمتي أربعين
حديثا بعثه الله يوم القيامة فقيها عالما " (1) على حجية الخبر، لا يقصر
عن الاستدلال عليها بهذه الآية (2).
وكأن فيه إشارة إلى ضعف الاستدلال بها، لأن الاستدلال
بالحديث المذكور ضعيف جدا، كما سيجئ (3) إن شاء الله عند ذكر
الأخبار.
هذا، ولكن ظاهر الرواية المتقدمة (4) عن علل الفضل يدفع هذا
الإيراد. لكنها من الآحاد، فلا ينفع في صرف الآية عن ظاهرها في
مسألة حجية الآحاد. مع إمكان منع دلالتها على المدعى، لأن (5) الغالب
تعدد من يخرج إلى الحج من كل صقع بحيث يكون الغالب حصول
القطع من حكايتهم لحكم الله الواقعي عن الإمام (عليه السلام)، وحينئذ فيجب

(1) انظر الوسائل 18: 66 - 67، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث
54، 58، 59، 60 و 62.
(2) الأربعون حديثا: 71.
(3) انظر الصفحة 307.
(4) في الصفحة 280.
(5) في (ت)، (ص)، (ظ) و (م) بدل " لأن ": " وأن ".
286

الحذر عقيب إنذارهم، فإطلاق الرواية منزل على الغالب.
ومن جملة الآيات التي استدل بها جماعة (1) - تبعا للشيخ في
العدة (2) - على حجية الخبر، قوله تعالى:
* (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه
للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) * (3).
والتقريب فيه: نظير ما بيناه في آية النفر: من أن حرمة الكتمان
تستلزم وجوب القبول عند الإظهار.
ويرد عليها (4): ما ذكرنا من الإيرادين الأولين في آية النفر، من
سكوتها وعدم التعرض فيها لوجوب القبول وإن لم يحصل العلم عقيب
الاظهار، أو اختصاص وجوب القبول المستفاد منها بالأمر الذي يحرم
كتمانه ويجب إظهاره، فإن من أمر غيره بإظهار الحق للناس ليس
مقصوده إلا عمل الناس بالحق، ولا يريد بمثل هذا الخطاب تأسيس
حجية قول المظهر تعبدا ووجوب العمل بقوله وإن لم يطابق الحق.
ويشهد لما ذكرنا: أن مورد الآية كتمان اليهود لعلامات النبي (صلى الله عليه وآله)
بعد ما بين الله لهم ذلك في التوراة (5)، ومعلوم أن آيات (6) النبوة

(1) منهم: المحقق القمي في القوانين 1: 438، وصاحب الفصول في الفصول:
276.
(2) انظر العدة 1: 113.
(3) البقرة: 159.
(4) في نسخة بدل (ل): " عليه ".
(5) انظر مجمع البيان 1: 241.
(6) لم ترد " آيات " في (ظ).
287

لا يكتفى فيها بالظن.
نعم، لو وجب الإظهار على من لا يفيد قوله العلم غالبا أمكن
جعل ذلك دليلا على أن المقصود العمل بقوله وإن لم يفد العلم، لئلا
يكون إلقاء هذا الكلام كاللغو.
ومن هنا يمكن الاستدلال بما تقدم (1): من آية تحريم كتمان ما في
الأرحام على النساء على وجوب تصديقهن، وبآية وجوب إقامة
الشهادة (2) على وجوب قبولها بعد الإقامة.
مع إمكان كون وجوب الإظهار لأجل رجاء وضوح الحق من
تعدد المظهرين.
ومن جملة الآيات التي استدل بها بعض المعاصرين (3)، قوله تعالى:
* (فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) * (4).
بناء على أن وجوب السؤال يستلزم وجوب قبول الجواب، وإلا
لغى وجوب السؤال، وإذا وجب قبول الجواب وجب قبول كل ما يصح
أن يسأل عنه ويقع جوابا له، لأن خصوصية المسبوقية بالسؤال لا دخل
فيه قطعا، فإذا سئل الراوي الذي هو من أهل العلم عما سمعه عن
الإمام (عليه السلام) في خصوص الواقعة، فأجاب بأني سمعته يقول كذا، وجب
القبول بحكم الآية، فيجب قبول قوله ابتداء: إني سمعت الإمام (عليه السلام)

(1) راجع الصفحة 278.
(2) البقرة: 282.
(3) هو صاحب الفصول في الفصول: 276.
(4) النحل: 43، الأنبياء: 7.
288

يقول كذا، لأن حجية قوله هو الذي أوجب السؤال عنه، لا أن
وجوب السؤال أوجب قبول قوله، كما لا يخفى.
ويرد عليه:
أولا (1): أن الاستدلال إن كان بظاهر الآية، فظاهرها بمقتضى
السياق إرادة علماء أهل الكتاب، كما عن ابن عباس ومجاهد (2) والحسن
وقتادة (3)، فإن المذكور في سورة النحل: * (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا
نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر) *، وفي
سورة الأنبياء: * (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسئلوا أهل
الذكر إن كنتم لا تعلمون) *.
وإن كان مع قطع النظر عن سياقها، ففيه: (4) أنه ورد في الأخبار
المستفيضة: أن أهل الذكر هم الأئمة (عليهم السلام)، وقد عقد في أصول الكافي
بابا لذلك (5)، وأرسله في المجمع عن علي (عليه السلام) (6).
ورد بعض مشايخنا (7) هذه الأخبار بضعف السند، بناء على
اشتراك بعض الرواة في بعضها وضعف بعضها في الباقي.

(1) لم ترد " أولا " في (ت)، (ظ) و (ه‍).
(2) مجمع البيان 3: 362.
(3) مجمع البيان 4: 40.
(4) في جميع النسخ زيادة: " أولا "، ولكن شطب عليها في (ص) و (ل).
(5) الكافي 1: 210.
(6) مجمع البيان 4: 40.
(7) هو السيد المجاهد في مفاتيح الأصول: 597.
289

وفيه نظر، لأن روايتين منها صحيحتان، وهما روايتا محمد بن
مسلم والوشاء (1)، فلاحظ، ورواية أبي بكر الحضرمي (2) حسنة أو موثقة.
نعم ثلاث روايات اخر منها (3) لا تخلو من ضعف، ولا تقدح قطعا.
وثانيا: أن الظاهر من وجوب السؤال عند عدم العلم وجوب
تحصيل العلم، لا وجوب السؤال للعمل بالجواب تعبدا، كما يقال في
العرف: سل إن كنت جاهلا.
ويؤيده: أن الآية واردة في أصول الدين وعلامات النبي (صلى الله عليه وآله)
التي لا يؤخذ فيها بالتعبد إجماعا.
وثالثا: لو سلم حمله على إرادة وجوب السؤال للتعبد بالجواب
لا لحصول العلم منه، قلنا: إن المراد من أهل العلم ليس مطلق من
علم ولو بسماع رواية من الإمام (عليه السلام)، وإلا لدل على حجية قول كل
عالم بشئ ولو من طريق السمع والبصر، مع أنه يصح سلب هذا العنوان
عن (4) مطلق من أحس شيئا بسمعه أو بصره، والمتبادر من وجوب
سؤال أهل العلم - بناء على إرادة التعبد بجوابهم - هو سؤالهم عما هم
عالمون به ويعدون من أهل العلم في مثله، فينحصر مدلول الآية في
التقليد، ولذا تمسك به جماعة (5) على وجوب التقليد على العامي.

(1) الكافي 1: 210 - 211، باب أن أهل الذكر هم الأئمة (عليهم السلام)، الحديث 7 و 3.
(2) المصدر المتقدم، الحديث 6.
(3) المصدر المتقدم، الأحاديث 1، 2 و 8.
(4) في (ت)، (ر)، (ل) و (ه‍): " من ".
(5) منهم: الشهيد الثاني في تمهيد القواعد: 319، والمحقق القمي في القوانين 2:
155، وصاحب الفصول في الفصول: 411.
290

وبما ذكرنا يندفع ما يتوهم: من أنا نفرض الراوي من أهل العلم،
فإذا وجب قبول روايته وجب قبول رواية من ليس من أهل العلم
بالإجماع المركب.
حاصل وجه الاندفاع: أن سؤال أهل العلم عن الألفاظ التي
سمعوها (1) من الإمام (عليه السلام) والتعبد بقولهم (2) فيها، ليس سؤالا من أهل
العلم من حيث هم أهل العلم، ألا ترى أنه لو قال: " سل الفقهاء إذا
لم تعلم أو الأطباء "، لا يحتمل أن يكون قد أراد ما يشمل المسموعات
والمبصرات الخارجية من قيام زيد وتكلم عمرو، وغير ذلك؟
ومن جملة الآيات، قوله تعالى في سورة براءة:
* (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو اذن قل اذن خير لكم يؤمن
بالله ويؤمن للمؤمنين) * (3).
مدح الله عز وجل رسوله (صلى الله عليه وآله) بتصديقه للمؤمنين، بل قرنه
بالتصديق بالله جل ذكره، فإذا كان التصديق حسنا يكون واجبا.
ويزيد تقريب الاستدلال وضوحا: ما رواه في فروع الكافي في
الحسن ب‍ - " ابن هاشم " (4)، أنه كان لإسماعيل بن أبي عبد الله دنانير،
وأراد رجل من قريش أن يخرج إلى اليمن، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام):
" يا بني أما بلغك أنه يشرب الخمر؟ قال: سمعت الناس يقولون،

(1) في (ر)، (ص)، (ظ)، (ل) و (م): " سمعها ".
(2) في (ر)، (ص)، (ظ)، (ل) و (م): " بقوله ".
(3) التوبة: 61.
(4) في (ص) و (ظ): " بإبراهيم بن هاشم ".
291

فقال: يا بني، إن الله عز وجل يقول: * (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) *،
يقول: يصدق الله ويصدق للمؤمنين، فإذا شهد عندك المسلمون
فصدقهم " (1).
ويرد عليه:
أولا: أن المراد بالاذن سريع التصديق والاعتقاد بكل ما يسمع،
لا من يعمل تعبدا بما يسمع من دون حصول الاعتقاد بصدقه، فمدحه (صلى الله عليه وآله)
بذلك، لحسن ظنه بالمؤمنين وعدم اتهامهم.
وثانيا: أن المراد من التصديق في الآية ليس جعل المخبر به واقعا
وترتيب جميع آثاره عليه، إذ لو كان المراد به ذلك لم يكن اذن خير
لجميع الناس، إذ لو أخبره أحد بزنا أحد، أو شربه، أو قذفه، أو
ارتداده، فقتله النبي أو جلده، لم يكن في سماعه (2) ذلك الخبر خير
للمخبر عنه، بل كان محض الشر له، خصوصا مع عدم صدور الفعل
منه في الواقع. نعم، يكون (3) خيرا للمخبر من حيث متابعة قوله وإن
كان منافقا مؤذيا للنبي (صلى الله عليه وآله)، على ما يقتضيه الخطاب في " لكم "،
فثبوت الخير لكل من المخبر والمخبر عنه لا يكون إلا إذا صدق المخبر،
بمعنى إظهار القبول عنه وعدم تكذيبه وطرح قوله رأسا، مع العمل في
نفسه بما يقتضيه الاحتياط التام بالنسبة إلى المخبر عنه، فإن كان المخبر به
مما يتعلق بسوء حاله لا يؤذيه (4) في الظاهر، لكن يكون على حذر منه

(1) الوسائل 13: 230، الباب 6 من أبواب أحكام الوديعة، الحديث الأول.
(2) في (ت) و (ه‍): " لسماعه ".
(3) في (ظ) و (م): " كان ".
(4) في (ل) بدل " لا يؤذيه ": " لا يؤذنه "، وفي (ظ): " لا يؤذن به ".
292

في الباطن، كما كان هو مقتضى المصلحة في حكاية إسماعيل المتقدمة.
ويؤيد هذا المعنى: ما عن تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): من
أنه يصدق المؤمنين، لأنه (صلى الله عليه وآله) كان رؤوفا رحيما بالمؤمنين (1)، فإن تعليل
التصديق بالرأفة والرحمة على كافة المؤمنين ينافي إرادة قبول قول
أحدهم على الآخر بحيث يرتب (2) عليه آثاره وإن أنكر المخبر عنه
وقوعه، إذ مع الإنكار لا بد من تكذيب أحدهما، وهو مناف لكونه
" اذن خير " ورؤوفا رحيما بالجميع (3)، فتعين إرادة التصديق بالمعنى
الذي ذكرنا.
ويؤيده أيضا: ما عن القمي (رحمه الله) في سبب نزول الآية:
" أنه نم منافق على النبي (صلى الله عليه وآله)، فأخبره الله بذلك (4)، فأحضره
النبي (صلى الله عليه وآله) وسأله، فحلف: أنه لم يكن شئ مما ينم (5) عليه، فقبل منه
النبي (صلى الله عليه وآله)، فأخذ هذا الرجل بعد ذلك يطعن على النبي (صلى الله عليه وآله) ويقول: إنه
يقبل كل ما يسمع، أخبره الله أني أنم عليه وأنقل أخباره فقبل،
وأخبرته أني لم أفعل فقبل، فرده الله تعالى بقوله لنبيه (صلى الله عليه وآله): * (قل اذن
خير لكم) * " (6).

(1) تفسير العياشي 2: 95، وحكاه عنه الفيض الكاشاني في تفسير الصافي 2:
354.
(2) كذا في (ه‍)، وفي غيرها: " يترتب ".
(3) في (ه‍): " لجميع المؤمنين "، وفي (ت): " بجميع المؤمنين ".
(4) كذا في (ظ) و (م)، وفي غيرهما: " ذلك ".
(5) في (ظ) و (م): " نم ".
(6) تفسير القمي 1: 300.
293

ومن المعلوم: أن تصديقه (صلى الله عليه وآله) للمنافق لم يكن بترتيب آثار
الصدق عليه مطلقا.
وهذا التفسير (1) صريح في أن المراد من " المؤمنين ": المقرون (2)
بالإيمان من غير اعتقاد، فيكون الإيمان لهم على حسب إيمانهم.
ويشهد بتغاير معنى الإيمان في الموضعين - مضافا إلى تكرار
لفظه -: تعديته في الأول بالباء وفي الثاني باللام، فافهم.
وأما توجيه الرواية، فيحتاج إلى بيان معنى التصديق، فنقول: إن
المسلم إذا أخبر بشئ فلتصديقه معنيان:
أحدهما: ما يقتضيه أدلة تنزيل (3) فعل المسلم على الصحيح
والأحسن، فإن الإخبار من حيث إنه فعل من أفعال المكلفين، صحيحه
ما كان مباحا، وفاسده ما كان نقيضه، كالكذب والغيبة ونحوهما، فحمل
الإخبار على الصادق حمل (4) على أحسنه.
والثاني: هو حمل إخباره من حيث إنه لفظ دال على معنى يحتمل
مطابقته للواقع وعدمها، على كونه مطابقا للواقع وترتيب (5) آثار الواقع
عليه.
و (6) المعنى الثاني هو الذي يراد من العمل بخبر العادل. وأما المعنى

(1) في (ل) بدل " التفسير ": " التعبير "، وفي (م): " التفصيل ".
(2) في (ه‍) بدل " المقرون ": " المقرونون ".
(3) في (ه‍) بدل " تنزيل ": " حمل ".
(4) في (ظ)، (ل) و (م): " حمله ".
(5) في (ر)، (ص) و (ه‍): " بترتيب ".
(6) في (ص)، (ظ) و (م) زيادة: " الحاصل أن ".
294

الأول، فهو الذي يقتضيه أدلة حمل فعل المسلم على الصحيح والأحسن،
وهو ظاهر الأخبار الواردة في: أن من حق المؤمن على المؤمن أن
يصدقه ولا يتهمه (1)، خصوصا مثل قوله (عليه السلام): " يا أبا محمد، كذب
سمعك وبصرك عن أخيك، فإن شهد عندك خمسون قسامة: أنه قال
قولا، وقال: لم أقله، فصدقه وكذبهم... الخبر " (2).
فإن تكذيب القسامة مع كونهم أيضا مؤمنين، لا يراد منه إلا
عدم ترتيب آثار الواقع على كلامهم، لا ما يقابل تصديق المشهود عليه،
فإنه ترجيح بلا مرجح، بل ترجيح المرجوح.
نعم، خرج من ذلك مواضع (3) وجوب قبول شهادة المؤمن على
المؤمن وإن أنكر المشهود عليه.
وأنت إذا تأملت هذه الرواية ولاحظتها مع الرواية المتقدمة (4) في
حكاية إسماعيل، لم يكن لك بد من حمل التصديق على ما ذكرنا.
وإن أبيت إلا عن ظهور خبر إسماعيل في وجوب التصديق بمعنى
ترتيب آثار الواقع، فنقول: إن الاستعانة بها على دلالة الآية خروج
عن الاستدلال بالكتاب إلى السنة، والمقصود هو الأول. غاية الأمر
كون هذه الرواية في عداد الروايات الآتية (5) إن شاء الله تعالى.

(1) يأتي بعضها في مبحث الاستصحاب 3: 346 - 347.
(2) الوسائل 8: 609، الباب 157 من أحكام العشرة، الحديث 4. وفيه: " يا
محمد "، كما يأتي في مبحث الاستصحاب 3: 347.
(3) في (ت) و (ه‍): " موضع ".
(4) راجع الصفحة 291.
(5) الآتية في الصفحة 297، فما بعد.
295

ثم إن هذه الآيات، على تقدير تسليم دلالة كل واحدة منها
على حجية الخبر، إنما تدل - بعد تقييد المطلق منها الشامل لخبر العادل
وغيره بمفهوم (1) آية النبأ - على حجية خبر العادل الواقعي أو من أخبر
عدل واقعي بعدالته، بل يمكن انصراف المفهوم - بحكم الغلبة وشهادة
التعليل بمخافة الوقوع في الندم (2) - إلى صورة إفادة خبر العادل الظن
الاطمئناني بالصدق، كما هو الغالب مع القطع بالعدالة، فيصير حاصل
مدلول الآيات اعتبار خبر العادل الواقعي بشرط إفادته (3) الظن
الاطمئناني والوثوق، بل هذا أيضا منصرف سائر الآيات، وإن لم يكن
انصرافا موجبا لظهور عدم إرادة غيره حتى لا يعارض (4) المنطوق (5).

(1) كذا في (ظ) و (م) ونسخة بدل (ص)، وفي غيرها بدل " بمفهوم ":
" بمنطوق ".
(2) لم ترد عبارة " وشهادة - إلى - الندم " في (ص) و (ه‍) والنسخة المصححة
الموجودة عند المحقق الآشتياني (قدس سره) على ما ذكره في بحر الفوائد 1: 160،
وشطب عليها في (ل).
(3) في (ت)، (ر)، (ص) و (ل): " إفادة ".
(4) في (ص) و (ل): " يعارض ".
(5) كذا في (ه‍) وهامش (ت) و (ل)، ولم ترد عبارة " والوثوق - إلى - المنطوق "
في (ت)، (ر)، (ظ)، (ل) و (م)، نعم وردت فيها العبارة التالية: " وهو المعبر
عنه بالوثوق، نعم لو لم نقل بدلالة آية النبأ من جهة عدم المفهوم لها اقتصر
على منصرف سائر الآيات وهو الخبر المفيد للوثوق وإن لم يكن المخبر عادلا "،
ولكن شطب عليها في (ل)، وكتب عليها في (ت): " زائد "، ووردت كلتا
العبارتين في (ص) وكتب على الثانية: " زائد ".
296

[الثاني: السنة] (1)
وأما السنة، فطوائف من الأخبار:
منها: ما ورد في الخبرين المتعارضين: من الأخذ بالأعدل
والأصدق (2) أو (3) المشهور، والتخيير عند التساوي:
مثل مقبولة عمر بن حنظلة، (4) حيث يقول: " الحكم ما حكم به
أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث " (5).
وموردها وإن كان في الحاكمين، إلا أن ملاحظة جميع الرواية
تشهد: بأن المراد بيان المرجح للروايتين اللتين استند إليهما الحاكمان.
ومثل رواية عوالي اللآلي المروية عن العلامة، المرفوعة إلى زرارة:
" قال: يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان، فبأيهما آخذ؟ قال:
خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر، قلت: إنهما معا
مشهوران؟ قال: خذ بأعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك " (6).

(1) العنوان منا.
(2) لم ترد في (ظ) و (م): " والأصدق ".
(3) في (ر) و (ص): " و ".
(4) في (ت)، (ر)، (ص)، (ظ) و (م) زيادة: " وهي وإن وردت في الحكم ".
(5) الوسائل 18: 75 و 76، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ضمن الحديث
الأول.
(6) عوالي اللآلي 4: 133، الحديث 229، ومستدرك الوسائل 17: 303،
الحديث 2.
297

ومثل رواية ابن الجهم (1) عن الرضا (عليه السلام): " قلت: يجيئنا الرجلان
- وكلاهما ثقة - بحديثين مختلفين، فلا نعلم أيهما الحق، قال: إذا لم تعلم
فموسع عليك بأيهما أخذت " (2).
ورواية الحارث بن المغيرة عن الصادق (عليه السلام)، قال: " إذا
سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة، فموسع عليك حتى ترى
القائم " (3).
وغيرها من الأخبار (4).
والظاهر: أن دلالتها على اعتبار الخبر الغير المقطوع الصدور
واضحة، إلا أنه لا إطلاق لها، لأن السؤال عن الخبرين اللذين فرض
السائل كلا منهما حجة يتعين العمل بها لولا المعارض، كما يشهد به
السؤال بلفظة (5) " أي " الدالة على السؤال عن المعين (6) مع العلم بالمبهم،
فهو كما إذا سئل عن تعارض الشهود أو أئمة الصلاة، فأجاب ببيان
المرجح، فإنه لا يدل إلا على أن المفروض تعارض من كان منهم
مفروض القبول لولا المعارض.

(1) كذا في (ظ) و (م) وفي المصدر: " الحسن بن الجهم "، وفي (ل): " أبي
الجهم "، وفي غيرها: " ابن أبي جهم ".
(2) الوسائل 18: 87، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 40.
(3) الوسائل 18: 87، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 41.
(4) انظر مبحث التعادل والتراجيح 4: 57 - 66.
(5) في (ر)، (ل) و (ه‍): " بلفظ ".
(6) في (ر)، (ل) و (ه‍): " التعيين ".
298

نعم، رواية ابن المغيرة (1) تدل على اعتبار خبر كل ثقة، وبعد
ملاحظة ذكر الأوثقية والأعدلية في المقبولة والمرفوعة يصير الحاصل من
المجموع اعتبار خبر الثقة، بل العادل.
لكن الإنصاف: أن ظاهر مساق الرواية أن الغرض من العدالة
حصول الوثاقة، فيكون العبرة بها.
ومنها: ما دل على إرجاع آحاد الرواة إلى آحاد أصحابهم (عليهم السلام)،
بحيث يظهر منه عدم الفرق بين الفتوى والرواية، مثل: إرجاعه (عليه السلام)
إلى زرارة بقوله (عليه السلام): " إذا أردت حديثا فعليك بهذا الجالس " مشيرا
إلى زرارة (2).
وقوله (عليه السلام) في رواية أخرى: " أما ما رواه زرارة عن أبي (عليه السلام)
فلا يجوز رده " (3).
وقوله (عليه السلام) لابن أبي يعفور بعد السؤال عمن يرجع إليه إذا
احتاج أو سئل عن مسألة: " فما يمنعك عن الثقفي؟ - يعني محمد بن
مسلم - فإنه سمع من أبي أحاديث، وكان عنده وجيها " (4).
وقوله (عليه السلام) - فيما عن الكشي - لسلمة بن أبي حبيبة (5): " ائت أبان

(1) في نسخة بدل (ت) بدل " ابن المغيرة ": " ابن جهم ".
(2) الوسائل 18: 104، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 19.
(3) الوسائل 18: 104، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 17.
(4) الوسائل 18: 105، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 23.
(5) كذا في (ت)، (ر)، (ظ)، (م) و (ه‍)، وفي (ص)، (ل) ونسخة بدل (ت):
" سلمة بن أبي حبلة " وكتب في (ص) فوق " حبلة ": " حبيبة "، وفي المصدر:
" مسلم بن أبي حية "، وفي رجال النجاشي: " سليم بن أبي حية ".
299

ابن تغلب، فإنه قد سمع مني حديثا كثيرا، فما روى لك عني فاروه
عني " (1).
وقوله (عليه السلام) لشعيب العقرقوفي بعد السؤال عمن يرجع إليه:
" عليك بالأسدي " يعني أبا بصير (2).
وقوله (عليه السلام) لعلي بن المسيب بعد السؤال عمن يأخذ عنه معالم
الدين: " عليك بزكريا بن آدم المأمون على الدين والدنيا " (3).
وقوله (عليه السلام) لما قال له عبد العزيز بن المهتدي (4): " ربما أحتاج
ولست ألقاك في كل وقت، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم
ديني؟ قال: نعم " (5).
وظاهر هذه الرواية: أن قبول قول الثقة كان أمرا مفروغا عنه
عند الراوي، فسأل عن وثاقة يونس، ليرتب (6) عليه أخذ المعالم منه.
ويؤيده في إناطة وجوب القبول بالوثاقة: ما ورد في العمري
وابنه اللذين هما من النواب والسفراء، ففي الكافي في باب النهي عن
التسمية، عن الحميري، عن أحمد بن إسحاق، قال: " سألت أبا الحسن (عليه السلام)

(1) اختيار معرفة الرجال، المعروف برجال الكشي 2: 623.
(2) الوسائل 18: 103، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 15.
(3) الوسائل 18: 106، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 27،
اختيار معرفة الرجال 2: 784.
(4) كذا في الوسائل واختيار معرفة الرجال، ولكن في جميع النسخ: " عبد العزيز
ابن المهدي ".
(5) الوسائل 18: 107، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 33.
(6) في أكثر النسخ: " ليترتب ".
300

وقلت له: من أعامل، أو عمن آخذ، وقول من أقبل؟ فقال (عليه السلام) له:
العمري ثقتي، فما أدى إليك عني فعني يؤدي، وما قال لك عني فعني
يقول، فاسمع له وأطع، فإنه الثقة المأمون " (1).
وأخبرنا أحمد بن إسحاق: أنه سأل أبا محمد (عليه السلام) عن مثل ذلك،
فقال له: " العمري وابنه ثقتان، فما أديا إليك عني فعني يؤديان، وما
قالا لك فعني يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنهما الثقتان المأمونان...
الخبر " (2).
وهذه الطائفة - أيضا - مشتركة مع الطائفة الأولى في الدلالة على
اعتبار خبر الثقة المأمون.
ومنها: ما دل على وجوب الرجوع إلى الرواة والثقات والعلماء
على وجه يظهر منه: عدم الفرق بين فتواهم بالنسبة إلى أهل الاستفتاء،
وروايتهم بالنسبة إلى أهل العمل (3) بالرواية، مثل: قول الحجة، عجل
الله فرجه، لإسحاق بن يعقوب - على ما في كتاب الغيبة للشيخ، وكمال
الدين (4) للصدوق، والاحتجاج للطبرسي -: " وأما الحوادث الواقعة
فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله
عليهم " (5).

(1) الكافي 1: 330، باب تسمية من رآه (عليه السلام)، الحديث الأول.
(2) نفس المصدر، ذيل الحديث.
(3) في (ل): " العلم ".
(4) في غير (ظ)، (ل) و (م): " إكمال الدين ".
(5) كمال الدين: 484، ضمن الحديث 4، والغيبة للطوسي: 291، ضمن الحديث
247، والاحتجاج 2: 283.
301

فإنه لو سلم أن ظاهر الصدر الاختصاص بالرجوع في حكم
الوقائع إلى الرواة أعني الاستفتاء منهم، إلا أن التعليل بأنهم حجته (عليه السلام)
يدل على وجوب قبول خبرهم.
ومثل الرواية المحكية عن العدة، من قوله (عليه السلام):
" إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما روي عنا، فانظروا
إلى ما رووه عن علي (عليه السلام) " (1).
دل على الأخذ بروايات الشيعة وروايات العامة مع عدم وجود
المعارض من روايات الخاصة.
ومثل ما في الاحتجاج عن تفسير العسكري (عليه السلام) - في قوله
تعالى: * (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب... الآية) * (2) - من أنه قال
رجل للصادق (عليه السلام):
" فإذا كان هؤلاء القوم من اليهود والنصارى لا يعرفون الكتاب
إلا بما يسمعون من علمائهم، لا سبيل لهم إلى غيره، فكيف ذمهم
بتقليدهم والقبول من علمائهم؟ وهل عوام اليهود إلا كعوامنا يقلدون
علماءهم؟ فإن لم يجز لأولئك القبول من علمائهم لم يجز لهؤلاء القبول
من علمائهم ".
فقال (عليه السلام): " بين عوامنا وعلمائنا وبين عوام اليهود وعلمائهم فرق
من جهة وتسوية من جهة: أما من حيث استووا، فإن الله تعالى ذم

(1) الوسائل 18: 64، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 47، وانظر
العدة 1: 60.
(2) البقرة: 78.
302

عوامنا بتقليدهم علماءهم كما ذم عوامهم بتقليدهم علماءهم، وأما من
حيث افترقوا فلا.
قال: بين لي يا بن رسول الله؟
قال: إن عوام اليهود قد عرفوا علماءهم بالكذب الصريح وبأكل
الحرام والرشاء، وبتغيير الأحكام عن وجهها بالشفاعات والنسابات
والمصانعات، وعرفوهم بالتعصب الشديد الذي يفارقون به أديانهم،
وأنهم إذا تعصبوا أزالوا حقوق من تعصبوا عليه، وأعطوا ما لا يستحقه
من تعصبوا له من أموال غيرهم وظلموهم من أجلهم (1)، وعلموهم
يقارفون (2) المحرمات، واضطروا بمعارف قلوبهم إلى أن من فعل ما يفعلونه
فهو فاسق، لا يجوز أن يصدق على الله تعالى ولا على الوسائط بين
الخلق وبين الله تعالى، فلذلك ذمهم لما قلدوا من عرفوا ومن علموا
أنه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه ولا العمل بما يؤديه إليهم
عمن لم يشاهدوه، ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله)،
إذ كانت دلائله أوضح من أن تخفى، وأشهر من أن لا تظهر لهم.
وكذلك عوام أمتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر والعصبية
الشديدة والتكالب على حطام الدنيا وحرامها، وإهلاك من يتعصبون
عليه وإن كان لإصلاح أمره مستحقا، والترفرف بالبر والإحسان على
من تعصبوا له وإن كان للإذلال والإهانة مستحقا.

(1) كذا في (ر) و (ص) والمصدر، ولم ترد " من أجلهم " في (ظ)، (ل)، (م) و (ه‍).
(2) في (ت)، (ر)، (ص) و (ه‍): " يتعارفون "، وفي (م): " تقارفون "، وما أثبتناه
مطابق للمصدر.
303

فمن قلد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء، فهم مثل اليهود الذين
ذمهم الله تعالى بالتقليد لفسقة فقهائهم. فأما من كان من الفقهاء صائنا
لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا على هواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام أن
يقلدوه، وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة، لا جميعهم. فأما من
ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامة فلا تقبلوا منهم
عنا شيئا، ولا كرامة.
وإنما كثر التخليط فيما يتحمل عنا أهل البيت لذلك (1)، لأن الفسقة
يتحملون عنا فيحرفونه بأسره لجهلهم، ويضعون الأشياء على غير
وجوهها لقلة معرفتهم، وآخرون يتعمدون الكذب علينا، ليجروا من
عرض الدنيا ما هو زادهم إلى نار جهنم، ومنهم قوم نصاب لا يقدرون
على القدح فينا، فيتعلمون بعض علومنا الصحيحة، فيتوجهون به (2) عند
شيعتنا، وينتقصون (3) بنا عند أعدائنا، ثم يضعون إليه أضعافه وأضعاف
أضعافه من الأكاذيب علينا التي نحن براء منها، فيقبله المستسلمون من
شيعتنا على أنه من علومنا، فضلوا وأضلوا، أولئك أضر على ضعفاء
شيعتنا من جيش يزيد - لعنه الله - على الحسين بن علي (عليه السلام) " (4)،
انتهى.
دل هذا الخبر الشريف اللائح منه آثار الصدق على جواز قبول

(1) كذا في المصدر، وفي النسخ: " لتلك ".
(2) " به " من (ص) والمصدر.
(3) كذا في (ر)، (ص)، (ل) والمصدر، وفي (ت)، (ظ) و (م): " ينتقضون ".
(4) الاحتجاج 2: 508 - 512، الحديث 337، وتفسير العسكري: 299 - 301.
304

قول من عرف بالتحرز عن الكذب وإن كان ظاهره اعتبار العدالة بل
ما فوقها، لكن المستفاد من مجموعه: أن المناط في التصديق هو التحرز
عن الكذب، فافهم.
ومثل ما عن أبي الحسن (عليه السلام) فيما كتبه جوابا عن السؤال عمن
يعتمد عليه في الدين، قال:
" اعتمدا في دينكما على كل مسن في حبنا، كثير القدم في
أمرنا " (1).
وقوله (عليه السلام) في رواية أخرى:
" لا تأخذن معالم دينك من غير شيعتنا، فإنك إن تعديتهم أخذت
دينك من الخائنين الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم، إنهم
ائتمنوا على كتاب الله فحرفوه وبدلوه... الحديث " (2).
وظاهرهما (3) وإن كان الفتوى، إلا أن الإنصاف شمولهما (4) للرواية
بعد التأمل، كما تقدم في سابقيهما (5).
ومثل ما في كتاب الغيبة بسنده الصحيح إلى عبد الله الكوفي
- خادم الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح - حيث سأله أصحابه عن

(1) الوسائل 18: 110، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 45.
(2) الوسائل 18: 109، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 42.
(3) كذا في (ر)، (ص)، (ظ) و (م)، وفي (ت)، (ل) و (ه‍): " ظاهرها ".
(4) كذا في (ت)، (ر)، (ص) و (م)، وفي (ظ)، (ل) و (ه‍): " شمولها ".
(5) كذا في (ظ) و (م)، وفي (ر) و (ص): " سابقتهما "، وفي (ت) و (ه‍): " سابقتها "،
وفي (ل): " سابقيها ".
305

كتب الشلمغاني، فقال الشيخ: أقول فيها ما قاله العسكري (عليه السلام) في
كتب بني فضال، حيث قالوا له (1): " ما نصنع بكتبهم وبيوتنا منها ملاء؟
قال: خذوا ما رووا وذروا ما رأوا " (2).
فإنه دل بمورده على جواز الأخذ بكتب بني فضال، وبعدم الفصل
على كتب غيرهم من الثقات ورواياتهم، ولهذا أن الشيخ الجليل المذكور
الذي لا يظن به القول في الدين بغير السماع من الإمام (عليه السلام) قال:
أقول في كتب الشلمغاني ما قاله العسكري (عليه السلام) في كتب بني فضال، مع
أن هذا الكلام بظاهره قياس باطل.
ومثل ما ورد مستفيضا في المحاسن وغيره: " حديث واحد في
حلال وحرام تأخذه من صادق خير لك من الدنيا وما فيها من ذهب
وفضة " (3). وفي بعضها: " يأخذ صادق عن صادق " (4).
ومثل ما في الوسائل، عن الكشي، من أنه ورد توقيع على
القاسم بن العلاء، وفيه: " إنه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما
يرويه عنا ثقاتنا، قد علموا أنا نفاوضهم سرنا ونحمله إليهم " (5).
ومثل مرفوعة الكناني، عن الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى:

(1) لم ترد " له " في (ظ) و (ل).
(2) الغيبة للشيخ الطوسي: 389 - 390، الحديث 355.
(3) المحاسن 1: 356، الحديث 157 و 158، والوسائل 18: 69، الباب 8 من
أبواب صفات القاضي، الأحاديث 67 - 70.
(4) المستدرك 17: 298، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 43.
(5) الوسائل 18: 108، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 40.
306

* (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) * (1)، قال:
" هؤلاء قوم من شيعتنا ضعفاء، وليس عندهم ما يتحملون به إلينا
فيسمعون حديثنا ويفتشون من علمنا، فيرحل قوم فوقهم وينفقون
أموالهم ويتعبون أبدانهم حتى يدخلوا علينا ويسمعوا حديثنا فينقلوا
إليهم، فيعيه أولئك ويضيعه هؤلاء، فأولئك الذين يجعل الله لهم مخرجا
ويرزقهم من حيث لا يحتسبون " (2).
دل على جواز العمل بالخبر وإن نقله من يضيعه ولا يعمل به.
ومنها: الأخبار الكثيرة التي يظهر من مجموعها جواز العمل بخبر
الواحد وإن كان في دلالة كل واحد على ذلك نظر.
مثل النبوي المستفيض بل المتواتر: " إنه من حفظ على أمتي
أربعين حديثا بعثه الله فقيها عالما يوم القيامة " (3).
قال شيخنا البهائي (قدس سره) في أول أربعينه: إن دلالة هذا الخبر على
حجية خبر الواحد لا يقصر عن دلالة آية النفر (4).
ومثل الأخبار الكثيرة الواردة في الترغيب في الرواية والحث
عليها، وإبلاغ ما في كتب الشيعة (5)، مثل ما ورد في شأن الكتب التي

(1) الطلاق: 2.
(2) الوسائل 18: 64، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 45، وفيه:
" مرفوعة الكناسي ".
(3) الوسائل 18: 66 - 67، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الأحاديث
54، 58، 59، 60 و 62.
(4) الأربعون حديثا: 71.
(5) في (ر)، (ظ) و (ل) ونسخة بدل (ص) بدل " الشيعة ": " الثقة ".
307

دفنوها لشدة التقية، فقال (عليه السلام): " حدثوا بها فإنها حق " (1).
ومثل ما ورد في مذاكرة الحديث والأمر بكتابته، مثل قوله [(عليه السلام)]
للراوي: " اكتب وبث علمك في بني عمك، فإنه يأتي زمان هرج،
لا يأنسون إلا بكتبهم " (2).
وما ورد في ترخيص النقل بالمعنى (3).
وما ورد مستفيضا بل متواترا، من قولهم (عليهم السلام): " إعرفوا منازل
الرجال منا بقدر روايتهم عنا " (4).
وما ورد من قولهم (عليهم السلام): " لكل رجل منا من يكذب عليه " (5).
وقوله (صلى الله عليه وآله): " ستكثر بعدي القالة، وإن من كذب علي فليتبوأ
مقعده من النار " (6).
وقول أبي عبد الله (عليه السلام): " إنا أهل بيت صديقون، لا نخلو من

(1) الوسائل 18: 58، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 27.
(2) الوسائل 18: 56، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 18، وفي
المصدر بدل " بني عمك ": " إخوانك ".
(3) الوسائل 18: 54، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9.
(4) الوسائل 18: 99، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3،
والصفحة 109، نفس الباب، الحديث 41.
(5) لم نقف عليه في المجاميع الحديثية، ورواه في المعتبر مرسلا عن الصادق (عليه السلام)،
المعتبر 1: 29.
(6) لم نقف عليه في المجاميع الحديثية، ورواه في المعتبر مرسلا عن النبي (صلى الله عليه وآله)،
المعتبر 1: 29، وورد قريب منه في الوسائل 18: 153، الباب 14 من أبواب
صفات القاضي، ضمن الحديث الأول.
308

كذاب يكذب علينا " (1).
وقوله (عليه السلام): " إن الناس أولعوا بالكذب علينا، كأن الله افترض
عليهم ولا يريد منهم غيره " (2).
وقوله (عليه السلام): " لكل منا من يكذب عليه " (3).
فإن بناء المسلمين لو كان على الاقتصار على المتواترات لم يكثر
القالة والكذابة، والاحتفاف بالقرينة القطعية في غاية القلة.
إلى غير ذلك من الأخبار التي يستفاد من مجموعها: رضا الأئمة (عليهم السلام)
بالعمل بالخبر وإن لم يفد القطع.
وقد ادعى في الوسائل تواتر الأخبار بالعمل بخبر الثقة (4)، إلا أن
القدر المتيقن منها هو خبر الثقة الذي يضعف فيه احتمال الكذب على
وجه لا يعتني به العقلاء ويقبحون التوقف فيه لأجل ذلك الاحتمال، كما
دل عليه ألفاظ " الثقة " و " المأمون " و " الصادق " وغيرها الواردة في
الأخبار المتقدمة، وهي أيضا منصرف إطلاق غيرها.
وأما العدالة، فأكثر الأخبار المتقدمة خالية عنها، بل في كثير منها
التصريح بخلافه، مثل رواية العدة الآمرة بالأخذ بما رووه عن علي (عليه السلام)،
والواردة في كتب بني فضال، ومرفوعة الكناني وتاليها (5).

(1) البحار 2: 217، الحديث 12، وفيه: " صادقون ".
(2) البحار 2: 246، ضمن الحديث 58، وسيأتي الحديث بكامله في الصفحة
325.
(3) لم نقف عليه في المجاميع الحديثية، ولعله منقول بالمعنى.
(4) الوسائل 20: 93 (الفائدة الثامنة).
(5) تقدمت بأجمعها في الصفحة 302 و 306 - 307.
309

نعم، في غير واحد منها حصر المعتمد في أخذ معالم الدين في
الشيعة (1)، لكنه محمول على غير الثقة أو على أخذ الفتوى، جمعا بينها
وبين ما هو أكثر منها، وفي رواية بني فضال شهادة على هذا الجمع.
مع أن التعليل للنهي في ذيل الرواية بأنهم ممن خانوا الله
ورسوله يدل على انتفاء النهي عند انتفاء الخيانة المكشوف عنه بالوثاقة،
فإن الغير الإمامي الثقة - مثل ابن فضال وابن بكير - ليسوا خائنين في
نقل الرواية، وسيأتي توضيحه عند ذكر الإجماع إن شاء الله.

(1) مثل ما تقدم في الصفحة 305.
310

[الثالث: الإجماع] (1)
وأما الإجماع، فتقريره من وجوه:
أحدها: الإجماع على حجية خبر الواحد في مقابل السيد وأتباعه،
وطريق تحصيله أحد وجهين على سبيل منع الخلو:
أحدهما: تتبع أقوال العلماء من زماننا إلى زمان الشيخين فيحصل
من ذلك: القطع بالاتفاق الكاشف عن رضا الإمام (عليه السلام) بالحكم، أو
عن وجود نص معتبر في المسألة.
ولا يعتنى بخلاف السيد وأتباعه، إما لكونهم معلومي (2) النسب كما
ذكره الشيخ في العدة (3)، وإما للاطلاع على أن ذلك لشبهة حصلت لهم،
كما ذكره العلامة في النهاية (4) ويمكن أن يستفاد من العدة أيضا، وإما
لعدم اعتبار اتفاق الكل في الإجماع على طريق المتأخرين المبني على
الحدس.
والثاني: تتبع الإجماعات المنقولة في ذلك:
فمنها: ما حكي عن الشيخ (قدس سره) في العدة في هذا المقام، حيث
قال:

(1) العنوان منا.
(2) في (ظ) و (ل): " معلوم ".
(3) العدة 1: 128 - 129.
(4) نهاية الوصول (مخطوط): 296.
311

وأما ما اخترته من المذهب فهو: أن خبر الواحد إذا كان واردا
من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة وكان ذلك مرويا عن النبي (صلى الله عليه وآله) أو
عن أحد الأئمة (عليهم السلام) وكان ممن لا يطعن في روايته ويكون سديدا في
نقله ولم يكن هناك قرينة تدل على صحة ما تضمنه الخبر -، لأنه إذا
كان هناك قرينة تدل على صحة ذلك كان الاعتبار بالقرينة، وكان ذلك
موجبا للعلم كما تقدمت القرائن -، جاز العمل به.
والذي يدل على ذلك: إجماع الفرقة المحقة، فإني وجدتها مجمعة
على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم ودونوها في أصولهم،
لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعون، حتى أن واحدا منهم إذا أفتى بشئ
لا يعرفونه، سألوه من أين قلت هذا؟ فإذا أحالهم على كتاب معروف
أو أصل مشهور وكان راويه ثقة لا ينكر حديثه، سكتوا وسلموا الأمر
وقبلوا قوله.
هذه عادتهم وسجيتهم من عهد النبي (صلى الله عليه وآله) ومن بعده من الأئمة
صلوات الله عليهم إلى زمان جعفر بن محمد (عليه السلام) الذي انتشر عنه العلم
وكثرت الرواية من جهته، فلولا أن العمل بهذه الأخبار كان جائزا لما
أجمعوا على ذلك، لأن إجماعهم فيه معصوم لا يجوز عليه الغلط والسهو.
والذي يكشف عن ذلك: أنه لما كان العمل بالقياس محظورا
عندهم في الشريعة لم يعملوا به أصلا، وإذا شذ منهم واحد و (1) عمل به
في بعض المسائل أو استعمله على وجه المحاجة لخصمه وإن لم يكن
اعتقاده، ردوا قوله وأنكروا عليه وتبرأوا من قوله، حتى أنهم يتركون

(1) " و " من (ه‍).
312

تصانيف من وصفناه ورواياته لما كان عاملا بالقياس، فلو كان العمل
بالخبر الواحد جرى بذلك المجرى لوجب فيه أيضا مثل ذلك، وقد
علمنا خلافه.
فإن قيل: كيف تدعون إجماع الفرقة المحقة على العمل بخبر
الواحد، والمعلوم من حالها أنها لا ترى العمل بخبر الواحد، كما أن
المعلوم أنها لا ترى العمل بالقياس، فإن جاز ادعاء أحدهما جاز
ادعاء الآخر.
قيل له: المعلوم من حالها الذي لا ينكر، أنهم لا يرون العمل
بخبر الواحد الذي يرويه مخالفوهم في الاعتقاد ويختصون بطريقه، وأما (1)
ما كان رواته منهم وطريقه أصحابهم، فقد بينا أن المعلوم خلاف ذلك،
وبينا الفرق بين ذلك وبين القياس، وأنه لو كان معلوما حظر العمل
بخبر الواحد لجرى مجرى العلم بحظر القياس، وقد علم خلاف ذلك.
فإن قيل: أليس شيوخكم لا يزالون يناظرون خصومهم في أن
خبر الواحد لا يعمل به، ويدفعونهم عن صحة ذلك، حتى أن منهم من
يقول: لا يجوز ذلك عقلا، ومنهم من يقول: لا يجوز ذلك لأن السمع
لم يرد به، وما رأينا أحدا تكلم في جواز ذلك، ولا صنف فيه كتابا،
ولا أملى فيه مسألة، فكيف أنتم تدعون خلاف ذلك؟
قيل له: من أشرت إليهم من المنكرين لأخبار الآحاد، إنما
تكلموا من خالفهم في الاعتقاد، ودفعوهم عن وجوب العمل بما يروونه
من الأخبار المتضمنة للأحكام التي يروون خلافها، وذلك صحيح على

(1) كذا في (ص) و (م)، وفي غيرهما والمصدر: " فأما ".
313

ما قدمناه، ولم نجدهم اختلفوا في ما بينهم وأنكر بعضهم على بعض
العمل بما يروونه، إلا مسائل دل الدليل الموجب للعلم على صحتها.
فإذا خالفوهم فيها أنكروا عليهم، لمكان الأدلة الموجبة للعلم والأخبار
المتواترة بخلافه (1).
على أن الذين أشير إليهم في السؤال أقوالهم متميزة بين أقوال
الطائفة المحقة، وقد علمنا أنهم لم يكونوا أئمة معصومين، وكل قول قد
علم قائله وعرف نسبه وتميز من أقاويل سائر الفرقة المحقة، لم يعتد
بذلك القول، لأن قول الطائفة إنما كان حجة من حيث كان فيهم
معصوم، فإذا كان القول من غير معصوم علم أن قول المعصوم داخل
في باقي الأقوال، ووجب المصير إليه على ما بينته في الإجماع (2)، انتهى
موضع الحاجة من كلامه.
ثم أورد على نفسه: بأن العقل إذا جوز التعبد بخبر الواحد،
والشرع ورد به، فما الذي يحملكم على الفرق بين ما يرويه الطائفة
المحقة وبين ما يرويه أصحاب الحديث من العامة؟
ثم أجاب عن ذلك: بأن خبر الواحد إذا كان دليلا شرعيا
فينبغي أن يستعمل بحسب ما قررته الشريعة، والشارع يرى العمل بخبر
طائفة خاصة، فليس لنا التعدي إلى غيرها. على أن العدالة شرط في
الخبر بلا خلاف، ومن خالف الحق لم يثبت عدالته، بل ثبت فسقه.

(1) في (ص) زيادة: " وأما من أحال ذلك عقلا فقد دللنا فيما مضى على بطلان
قوله، وبينا أن ذلك جائز، فمن أنكره كان محجوجا بذلك ".
(2) العدة 1: 126 - 129.
314

ثم أورد على نفسه: بأن العمل بخبر الواحد يوجب كون الحق في
جهتين عند تعارض خبرين.
ثم أجاب - أولا -: بالنقض بلزوم ذلك عند من منع العمل بخبر
الواحد إذا كان هناك خبران (1) متعارضان، فإنه يقول مع عدم الترجيح
بالتخيير، فإذا اختار كلا منهما إنسان لزم كون الحق في جهتين، وأيد
ذلك: بأنه قد سئل الصادق (عليه السلام) عن اختلاف أصحابه في المواقيت
وغيرها، فقال (عليه السلام): " أنا خالفت بينهم " (2). ثم قال بعد ذلك:
فإن قيل: كيف تعملون بهذه الأخبار، ونحن نعلم أن رواتها كما
رووها رووا أيضا أخبار الجبر والتفويض وغير ذلك من الغلو والتناسخ
وغير ذلك من المناكير، فكيف يجوز الاعتماد على ما يرويه أمثال
هؤلاء؟
قلنا لهم: ليس كل الثقات نقل حديث الجبر والتشبيه، ولو صح
أنه نقل لم يدل على أنه كان معتقدا لما تضمنه الخبر، ولا يمتنع أن
يكون إنما رواه ليعلم أنه لم يشذ عنه شئ من الروايات، لا لأنه
معتقد ذلك، ونحن لم نعتمد على مجرد نقلهم، بل اعتمدنا على العمل
الصادر من جهتهم وارتفاع النزاع فيما بينهم، وأما مجرد الرواية
فلا حجية (3) فيه على حال.

(1) في (ه‍) زيادة: " متوازيان ".
(2) انظر الوسائل 3: 101، الباب 7 من أبواب المواقيت، الحديث 3، والكافي
1: 65، باب اختلاف الحديث، الحديث 5، والبحار 2: 236 و 252،
الأحاديث 22، 23، 24 و 69.
(3) في (ظ)، (ل) و (م) والمصدر: " حجة ".
315

فإن قيل: كيف تعولون على هذه الروايات، وأكثر رواتها المجبرة
والمشبهة والمقلدة والغلاة والواقفية والفطحية وغير هؤلاء من فرق
الشيعة المخالفة للاعتقاد الصحيح، ومن شرط خبر الواحد أن يكون
راويه عدلا عند من أوجب العمل به؟
وإن عولتم على عملهم دون روايتهم فقد وجدناهم عملوا بما
طريقه هؤلاء الذين ذكرناهم، وذلك يدل على جواز العمل بأخبار
الكفار والفساق.
قيل لهم: لسنا نقول إن جميع أخبار الآحاد يجوز العمل بها، بل
لها شرائط نذكرها فيما بعد، ونشير ههنا إلى جملة من القول فيه.
فأما ما يرويه العلماء المعتقدون للحق فلا طعن على ذلك به.
وأما ما يرويه قوم من المقلدة، فالصحيح الذي أعتقده: أن المقلد
للحق وإن كان مخطئا في الأصل، معفو عنه، ولا أحكم فيه بحكم
الفساق، ولا يلزم على هذا ترك ما نقلوه.
على أن من أشاروا إليه (1) لا نسلم أنهم كلهم مقلدة، بل لا يمتنع
أن يكونوا عالمين بالدليل على سبيل الجملة، كما يقوله جماعة أهل العدل
في كثير من أهل الأسواق والعامة.
وليس من حيث يتعذر عليهم إيراد الحجج ينبغي أن يكونوا غير
عالمين، لأن إيراد الحجج والمناظرة صناعة ليس يقف حصول المعرفة
على حصولها، كما قلنا في أصحاب الجملة.
وليس لأحد أن يقول: هؤلاء ليسوا من أصحاب الجملة، لأنهم

(1) في (ت) و (ه‍): " أشار إليهم ".
316

إذا سئلوا عن التوحيد أو العدل أو صفات الأئمة أو صحة النبوة قالوا
روينا كذا، ويروون في ذلك كله الأخبار، وليس هذا طريقة أصحاب
الجملة.
وذلك أنه ليس يمتنع أن يكون هؤلاء أصحاب الجملة وقد حصل
لهم المعارف بالله، غير أنهم لما تعذر عليهم إيراد الحجج في ذلك
أحالوا على ما كان سهلا عليهم.
وليس يلزمهم أن يعلموا أن ذلك لا يصح أن يكون دليلا إلا بعد
أن يتقدم منهم المعرفة بالله، وإنما الواجب عليهم أن يكونوا عالمين،
وهم عالمون على الجملة كما قررنا، فما يتفرع عليه من الخطأ لا يوجب
التكفير ولا التضليل.
وأما الفرق الذين أشار إليهم من الواقفية والفطحية وغير ذلك،
فعن ذلك جوابان، ثم ذكر الجوابين:
وحاصل أحدهما: كفاية الوثاقة في العمل بالخبر، ولهذا قبل
خبر (1) ابن بكير وبني فضال وبني سماعة.
وحاصل الثاني: أنا لا نعمل برواياتهم إلا إذا انضم إليها رواية
غيرهم.
ومثل الجواب الأخير ذكر في رواية الغلاة ومن هو متهم في نقله،
وذكر الجوابين أيضا في روايات المجبرة والمشبهة، بعد منع كونهم مجبرة
ومشبهة، لأن روايتهم لأخبار الجبر والتشبيه لا تدل على ذهابهم إليه.
ثم قال:

(1) في (م): " عمل بخبر ".
317

فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون الذين أشرتم إليهم لم يعملوا بهذه
الأخبار لمجردها، بل إنما عملوا بها لقرائن اقترنت بها دلتهم على
صحتها، ولأجلها عملوا بها، ولو تجردت لما عملوا بها، وإذا جاز ذلك
لم يمكن (1) الاعتماد على عملهم بها.
قيل لهم: القرائن التي تقترن بالخبر وتدل على صحته أشياء
مخصوصة نذكرها فيما بعد من الكتاب والسنة والإجماع والتواتر، ونحن
نعلم أنه ليس في جميع المسائل التي استعملوا فيها أخبار الآحاد ذلك،
لأنها أكثر من أن تحصى موجودة في كتبهم وتصانيفهم وفتاواهم، لأنه
ليس في جميعها يمكن الاستدلال بالقرآن، لعدم ذكر ذلك في صريحه
وفحواه ودليله ومعناه. ولا بالسنة (2) المتواترة، لعدم ذكر ذلك في أكثر
الأحكام، بل وجودها في مسائل معدودة. ولا بإجماع (3)، لوجود
الاختلاف في ذلك.
فعلم: أن دعوى القرائن في جميع ذلك دعوى محالة. ومن ادعى
القرائن في جميع ما ذكرنا كان السبر بيننا وبينه، بل كان معولا على ما
يعلم ضرورة خلافه، ومدافعا لما يعلم من نفسه ضده ونقيضه.
ومن قال عند ذلك: إني متى عدمت شيئا من القرائن حكمت بما
كان يقتضيه العقل، يلزمه أن يترك أكثر الأخبار وأكثر الأحكام
ولا يحكم فيها بشئ ورد الشرع به، وهذا حد يرغب أهل العلم عنه،

(1) في (ت)، (ر) و (ص): " لم يكن ".
(2) كذا في (ت) و (ه‍)، وفي غيرهما والمصدر: " في السنة ".
(3) كذا في (ت) و (ه‍)، وفي غيرهما: " في إجماع "، وفي المصدر: " في الإجماع ".
318

ومن صار إليه لا يحسن مكالمته، لأنه يكون معولا على ما يعلم
ضرورة من الشرع خلافه، انتهى.
ثم أخذ في الاستدلال - ثانيا - على جواز العمل بهذه الأخبار:
بأنا وجدنا أصحابنا مختلفين في المسائل الكثيرة في جميع أبواب الفقه،
وكل منهم يستدل ببعض هذه الأخبار، ولم يعهد من أحد منهم تفسيق
صاحبه وقطع المودة عنه، فدل ذلك على جوازه عندهم.
ثم استدل - ثالثا - على ذلك: بأن الطائفة وضعت الكتب لتمييز
الرجال الناقلين لهذه الأخبار وبيان أحوالهم من حيث العدالة والفسق،
والموافقة في المذهب والمخالفة، وبيان من يعتمد على حديثه ومن
لا يعتمد، واستثنوا الرجال من جملة ما رووه في التصانيف، وهذه
عادتهم من قديم الوقت إلى حديثه، فلولا جواز العمل برواية من سلم
عن الطعن لم يكن فائدة لذلك كله (1)، انتهى المقصود من كلامه، زاد الله
في علو مقامه.
وقد أتى في الاستدلال على هذا المطلب بما لا مزيد عليه، حتى
أنه أشار في جملة (2) كلامه إلى دليل الانسداد، وأنه لو اقتصر على
الأدلة العلمية وعمل بأصل البراءة في غيرها، لزم ما علم ضرورة من
الشرع خلافه، فشكر الله سعيه.
ثم إن من العجب أن غير واحد من المتأخرين (3) تبعوا صاحب

(1) العدة 1: 129 - 142.
(2) في (ص) و (م) زيادة: " من ".
(3) سيأتي ذكرهم في الصفحة 321.
319

المعالم في دعوى عدم دلالة كلام الشيخ على حجية الأخبار المجردة عن
القرينة، قال في المعالم على ما حكي عنه:
والإنصاف: أنه لم يتضح من حال الشيخ وأمثاله مخالفتهم
للسيد (قدس سره)، إذ كانت أخبار الأصحاب يومئذ قريبة العهد بزمان لقاء
المعصوم (عليه السلام) واستفادة الأحكام منه (1)، وكانت القرائن المعاضدة لها
متيسرة كما أشار إليه السيد (قدس سره)، ولم يعلم أنهم اعتمدوا على الخبر
المجرد ليظهر مخالفتهم لرأيه فيه. وتفطن المحقق من كلام الشيخ لما قلناه،
حيث قال في المعارج:
ذهب شيخنا أبو جعفر (قدس سره) إلى العمل بخبر الواحد العدل من رواة
أصحابنا، لكن لفظه وإن كان مطلقا فعند التحقيق يتبين: أنه لا يعمل
بالخبر مطلقا، بل بهذه الأخبار التي رويت عن الأئمة (عليهم السلام) ودونها
الأصحاب، لا أن كل خبر يرويه عدل إمامي يجب العمل به، هذا هو
الذي تبين لي من كلامه. ويدعي إجماع الأصحاب على العمل بهذه
الأخبار، حتى لو رواها غير الإمامي وكان الخبر سليما عن المعارض
واشتهر نقله في هذه الكتب الدائرة بين الأصحاب، عمل به (2)، انتهى.
قال بعد نقل هذا عن المحقق: وما فهمه المحقق من كلام الشيخ هو
الذي ينبغي أن يعتمد عليه، لا ما نسبه العلامة إليه (3)، انتهى كلام
صاحب المعالم.

(1) في غير (ص) والمصدر: " منهم ".
(2) المعارج: 147.
(3) المعالم: 197 - 198.
320

وأنت خبير: بأن ما ذكره في وجه الجمع - من تيسر القرائن
وعدم اعتمادهم على الخبر المجرد - قد صرح الشيخ في عبارته المتقدمة (1)
ببداهة بطلانه، حيث قال: إن دعوى القرائن في جميع ذلك دعوى محالة،
وأن المدعي لها معول على ما يعلم ضرورة خلافه ويعلم من نفسه
ضده ونقيضه. والظاهر - بل المعلوم - أنه (قدس سره) لم يكن عنده كتاب العدة.
وقال المحدث الاسترآبادي - في محكي الفوائد المدنية -: إن
الشيخ (قدس سره) لا يجيز العمل إلا بالخبر المقطوع بصدوره عنهم، وذلك هو
مراد المرتضى (قدس سره)، فصارت المناقشة لفظية، لا كما توهمه العلامة ومن
تبعه (2)، انتهى كلامه.
وقال بعض من تأخر عنه من الأخباريين (3) في رسالته، بعد ما
استحسن ما ذكره صاحب المعالم:
ولقد أحسن النظر وفهم طريقة الشيخ والسيد (قدس سرهما) من كلام
المحقق (قدس سره) كما هو حقه.
والذي يظهر منه: أنه لم ير عدة الأصول للشيخ، وإنما فهم ذلك
مما نقله المحقق (قدس سره)، ولو رآها لصدع بالحق أكثر من هذا. وكم له من
تحقيق أبان به من غفلات المتأخرين، كوالده وغيره. وفيما ذكره كفاية
لمن طلب الحق وعرفه، وقد تقدم كلام الشيخ، وهو صريح فيما فهمه

(1) في الصفحة 318.
(2) الفوائد المدنية: 67.
(3) هو الشيخ حسين بن شهاب الدين الكركي العاملي في كتاب هداية الأبرار،
كما سيأتي، انظر شرح الوافية (مخطوط): 186.
321

المحقق (قدس سره)، وموافق لما يقوله السيد (قدس سره)، فليراجع.
والذي أوقع العلامة في هذا الوهم: ما ذكره الشيخ في العدة: من
أنه يجوز العمل بخبر العدل الإمامي، ولم يتأمل بقية الكلام كما تأمله
المحقق، ليعلم أنه إنما يجوز العمل بهذه الأخبار التي دونها الأصحاب
واجتمعوا على جواز العمل بها، وذلك مما يوجب العلم بصحتها، لا أن
كل خبر يرويه عدل إمامي يجب العمل به، وإلا فكيف يظن بأكابر
الفرقة الناجية وأصحاب الأئمة صلوات الله عليهم - مع قدرتهم على
أخذ أصول الدين وفروعه منهم (عليهم السلام) بطريق اليقين - أن يعولوا فيها
على أخبار الآحاد المجردة، مع أن مذهب العلامة (1) وغيره (2) أنه لا بد
في أصول الدين من الدليل القطعي، وأن المقلد في ذلك خارج عن ربقة
الإسلام؟ وللعلامة وغيره كثير من هذه الغفلات، لألفة أذهانهم بأصول
العامة.
ومن تتبع كتب القدماء وعرف أحوالهم، قطع بأن الأخباريين من
أصحابنا لم يكونوا يعولون في عقائدهم إلا على الأخبار المتواترة أو
الآحاد المحفوفة بالقرائن المفيدة للعلم، وأما خبر الواحد فيوجب عندهم
الاحتياط دون القضاء والافتاء، والله الهادي (3)، انتهى كلامه.
أقول: أما دعوى دلالة كلام الشيخ في العدة على عمله بالأخبار

(1) انظر الباب الحادي عشر: 3 - 4، ونهاية الوصول (مخطوط): 448.
(2) كالشيخ الطوسي في العدة 2: 731، والمحقق في المعارج: 199، والشهيد
الأول في الألفية: 38، والشهيد الثاني في المقاصد العلية: 21.
(3) هداية الأبرار إلى طريق الأئمة الأطهار: 68 - 69.
322

المحفوفة بالقرائن العلمية دون المجردة عنها وأنه ليس مخالفا للسيد (قدس سرهما)،
فهو كمصادمة الضرورة، فإن في العبارة المتقدمة من العدة (1) وغيرها
مما لم نذكرها مواضع تدل على مخالفة السيد.
نعم، يوافقه في العمل بهذه الأخبار المدونة، إلا أن السيد يدعي
تواترها له أو احتفافها بالقرينة المفيدة للعلم، كما صرح به في محكي
كلامه في جواب المسائل التبانيات: من أن أكثر أخبارنا المروية في
كتبنا معلومة مقطوع على صحتها، إما بالتواتر أو بأمارة وعلامة تدل
على صحتها وصدق رواتها، فهي موجبة للعلم مفيدة للقطع وإن
وجدناها في الكتب مودعة بسند مخصوص من طريق الآحاد (2)، انتهى.
والشيخ يأبى عن احتفافها بها (3)، كما عرفت (4) كلامه السابق في جواب
ما أورده على نفسه بقوله: فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون الذين أشرتم
إليهم لم يعملوا بهذه الأخبار بمجردها، بل إنما عملوا بها لقرائن اقترنت
بها دلتهم على صحتها، إلى آخر ما ذكره (5).
ومجرد عمل السيد والشيخ بخبر خاص - لدعوى الأول تواتره،
والثاني كون خبر الواحد حجة - لا يلزم منه توافقهما في مسألة خبر
الواحد، فإن الخلاف فيها يثمر في خبر يدعي السيد تواتره ولا يراه

(1) راجع الصفحة 318.
(2) المسائل التبانيات (رسائل الشريف المرتضى) 1: 26.
(3) في (ت) و (ه‍) بدل " بها ": " بالقرينة ".
(4) في (ت) و (ه‍) زيادة: " من ".
(5) راجع الصفحة 318.
323

الشيخ جامعا لشرائط الخبر المعتبر، وفي خبر يراه الشيخ جامعا
ولم يحصل تواتره للسيد، إذ ليس جميع ما دون في الكتب متواترا عند
السيد ولا جامعا لشرائط الحجية عند الشيخ.
ثم إن إجماع الأصحاب الذي ادعاه الشيخ على العمل بهذه
الأخبار لا يصير قرينة لصحتها بحيث تفيد العلم، حتى يكون حصول
الإجماع للشيخ قرينة عامة لجميع هذه الأخبار، كيف وقد عرفت (1)
إنكاره للقرائن حتى لنفس المجمعين؟ ولو فرض كون الإجماع على العمل
قرينة، لكنه غير حاصل في كل خبر بحيث يعلم أو يظن أن هذا الخبر
بالخصوص وكذا ذاك وذاك، مما اجتمع (2) على العمل به، كما لا يخفى.
بل المراد الإجماع على الرجوع إليها والعمل بها بعد حصول
الوثوق من الراوي أو من القرائن، ولذا استثنى القميون كثيرا من
رجال نوادر الحكمة (3) مع كونه من الكتب المشهورة المجمع على
الرجوع إليها، واستثنى ابن الوليد (4) من روايات العبيدي ما يرويها عن
يونس مع كونها في (5) الكتب المشهورة.
والحاصل: أن معنى الإجماع على العمل بها عدم ردها من جهة
كونها أخبار آحاد، لا الإجماع على العمل بكل خبر خبر منها.

(1) راجع الصفحة 318.
(2) في (ت) و (ص): " أجمع ".
(3) كتاب نوادر الحكمة لمحمد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري القمي.
(4) هو محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، أبو جعفر، شيخ القميين وفقيههم.
(5) في (ه‍): " من ".
324

ثم إن ما ذكره (1) - من تمكن أصحاب الأئمة (عليهم السلام) من أخذ
الأصول والفروع بطريق اليقين - دعوى ممنوعة واضحة المنع. وأقل ما
يشهد عليها: ما علم بالعين (2) والأثر: من اختلاف أصحابهم صلوات
الله عليهم في الأصول والفروع، ولذا شكى غير واحد من أصحاب
الأئمة (عليهم السلام) إليهم اختلاف أصحابهم (3)، فأجابوهم تارة: بأنهم (عليهم السلام) قد
ألقوا الاختلاف بينهم حقنا لدمائهم، كما في رواية حريز (4) وزرارة (5)
وأبي أيوب الخزاز (6)، وأخرى أجابوهم: بأن ذلك من جهة الكذابين،
كما في رواية الفيض بن المختار، قال:
" قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلني الله فداك، ما هذا الاختلاف
الذي بين شيعتكم؟ قال: وأي الاختلاف يا فيض؟ فقلت له: إني
أجلس في حلقهم بالكوفة وأكاد أشك في اختلافهم في حديثهم، حتى
أرجع إلى المفضل بن عمر، فيوقفني من ذلك على ما تستريح به نفسي،
فقال (عليه السلام): أجل (7)، كما ذكرت يا فيض، إن الناس قد أولعوا بالكذب
علينا، كأن الله افترض عليهم ولا يريد منهم غيره، إني أحدث أحدهم

(1) أي: الشيخ حسين الكركي العاملي في كلامه المتقدم في الصفحة 322.
(2) في (ظ) و (م) بدل " بالعين ": " باليقين ".
(3) في غير (ص): " أصحابه ".
(4) علل الشرائع 2: 395، الحديث 14.
(5) نفس المصدر، الحديث 16.
(6) نفس المصدر، الحديث 15.
(7) في المصدر زيادة: " هو ".
325

بحديث، فلا يخرج من عندي حتى يتأوله (1) على غير تأويله، وذلك
لأنهم لا يطلبون بحديثنا وبحبنا ما عند الله تعالى، وكل يحب أن يدعى
رأسا " (2). وقريب منها: رواية داود بن سرحان (3).
واستثناء القميين كثيرا من رجال نوادر الحكمة معروف (4)، وقصة
ابن أبي العوجاء - أنه قال عند قتله: قد دسست في كتبكم أربعة آلاف
حديث - مذكورة في الرجال (5). وكذا ما ذكره يونس بن عبد الرحمن:
من أنه أخذ أحاديث كثيرة من أصحاب الصادقين (عليهما السلام)، ثم عرضها
على أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، فأنكر منها أحاديث كثيرة (6)، إلى غير
ذلك مما يشهد بخلاف ما ذكره.
وأما ما ذكره (7): من عدم عمل الأخباريين في عقائدهم إلا على
الأخبار المتواترة والآحاد العلمية، ففيه:
أن الأظهر في مذهب الأخباريين ما ذكره العلامة (8): من أن
الأخباريين لم يعولوا في أصول الدين وفروعه إلا على أخبار الآحاد.

(1) في (ظ): " يأوله ".
(2) اختيار معرفة الرجال 1: 347، الحديث 216.
(3) نفس المصدر 1: 399، الحديث 287.
(4) كما تقدم في الصفحة 324.
(5) انظر أمالي السيد المرتضى 1: 95.
(6) اختيار معرفة الرجال 2: 489 - 490.
(7) أي: الشيخ الكركي العاملي في كلامه المتقدم في الصفحة 322.
(8) نهاية الوصول (مخطوط): 296.
326

ولعلهم المعنيون مما ذكره الشيخ في كلامه السابق (1) في المقلدة (2): أنهم
إذا سئلوا عن التوحيد وصفات الأئمة و (3) النبوة، قالوا: روينا كذا،
وأنهم يروون في ذلك الأخبار.
وكيف كان: فدعوى دلالة كلام الشيخ في العدة على موافقة
السيد في غاية الفساد، لكنها غير بعيدة ممن يدعي قطعية صدور أخبار
الكتب الأربعة، لأنه إذا ادعى القطع لنفسه بصدور الأخبار التي أودعها
الشيخ في كتابيه، فكيف يرضى للشيخ ومن تقدم عليه من المحدثين أن
يعملوا بالأخبار المجردة عن القرينة؟
وأما صاحب المعالم (قدس سره)، فعذره أنه لم يحضره عدة الشيخ حين
كتابة هذا الموضع، كما حكي عن بعض حواشيه (4) واعترف به هذا
الرجل (5).
وأما المحقق (قدس سره)، فليس في كلامه المتقدم (6) منع دلالة كلام الشيخ
على حجية خبر الواحد المجرد مطلقا، وإنما منع من دلالته على الإيجاب
الكلي وهو: أن كل خبر يرويه عدل إمامي يعمل به، وخص مدلوله

(1) راجع الصفحة 317.
(2) في (ت) و (ه‍) زيادة: " من ".
(3) في غير (ه‍): " أو ".
(4) ذكره المولى صالح المازندراني في حاشيته على المعالم، انظر هامش المعالم
(الطبعة الحجرية): 197.
(5) أي الشيخ حسين الكركي العاملي.
(6) في الصفحة 320.
327

بهذه الأخبار التي دونها الأصحاب، وجعله موافقا لما اختاره في المعتبر:
من التفصيل في أخبار الآحاد المجردة بعد ذكر الأقوال فيها، وهو: أن
ما قبله الأصحاب أو دلت القرائن على صحته عمل به، وما أعرض
الأصحاب عنه أو شذ يجب اطراحه (1)، انتهى.
والإنصاف: أن ما فهمه العلامة من إطلاق قول الشيخ بحجية
خبر العدل الإمامي أظهر مما فهمه المحقق من التقييد، لأن الظاهر أن
الشيخ إنما يتمسك بالإجماع على العمل بالروايات المدونة في كتب
الأصحاب على حجية مطلق خبر العدل الإمامي، بناء منه على أن
الوجه في عملهم بها كونها أخبار عدول، وكذا ما ادعاه من الإجماع
على العمل بروايات الطوائف الخاصة من غير الإمامية، وإلا فلم يأخذه
في عنوان مختاره، ولم يشترط كون الخبر مما رواه الأصحاب وعملوا
به، فراجع كلام الشيخ وتأمله، والله العالم وهو الهادي إلى الصواب.
ثم إنه لا يبعد وقوع مثل هذا التدافع بين دعوى السيد ودعوى
الشيخ - مع كونهما معاصرين خبيرين بمذهب الأصحاب - في العمل بخبر
الواحد، فكم من مسألة فرعية وقع الاختلاف بينهما في دعوى الإجماع
فيها، مع أن المسألة الفرعية أولى بعدم خفاء مذهب الأصحاب فيها
عليهما، لأن المسائل الفرعية معنونة في الكتب مفتى بها غالبا بالخصوص
- نعم قد يتفق دعوى الإجماع بملاحظة قواعد الأصحاب - والمسائل
الأصولية لم تكن معنونة في كتبهم، إنما المعلوم من حالهم أنهم عملوا
بأخبار وطرحوا أخبارا.

(1) المعتبر 1: 29.
328

فلعل وجه عملهم بما عملوا كونه متواترا أو محفوفا عندهم،
بخلاف ما طرحوا، على ما يدعيه السيد (قدس سره) على ما صرح به في كلامه
المتقدم (1): من أن الأخبار المودعة في الكتب بطريق الآحاد متواترة أو
محفوفة. ونص في مقام آخر (2) على: أن معظم الأحكام يعلم بالضرورة
والأخبار المعلومة.
ويحتمل: كون الفارق بين ما عملوا وما طرحوا - مع اشتراكهما في
عدم التواتر والاحتفاف - فقد شرط العمل في أحدهما دون الآخر، على
ما يدعيه الشيخ (قدس سره) على ما صرح به في كلامه المتقدم (3)، من الجواب
عن احتمال كون عملهم بالأخبار لاقترانها بالقرائن.
نعم، لا يناسب ما ذكرنا من الوجه تصريح السيد بأنهم شددوا
الإنكار على العامل بخبر الواحد.
ولعل الوجه فيه: ما أشار إليه الشيخ في كلامه المتقدم (4) بقوله:
إنهم منعوا من الأخبار التي رواها المخالفون في المسائل التي روى
أصحابنا خلافها (5).
واستبعد هذا صاحب المعالم - في حاشية منه على هامش المعالم،
بعد ما حكاه عن الشيخ -: بأن الاعتراف بإنكار عمل الإمامية بأخبار

(1) في الصفحة 323.
(2) رسائل الشريف المرتضى 3: 312.
(3) في الصفحة 318.
(4) في الصفحة 313.
(5) في (ر)، (ظ)، (ل) و (م): " خلافه ".
329

الآحاد لا يعقل صرفه إلى روايات مخالفيهم، لأن اشتراط العدالة
عندهم وانتفاءها في غيرهم كاف في الإضراب عنها، فلا وجه للمبالغة
في نفي العمل بخبر يروونه (1)، انتهى.
وفيه: أنه يمكن أن يكون إظهار هذا المذهب والتجنن به في مقام
لا يمكنهم التصريح بفسق الراوي، فاحتالوا في ذلك بأنا لا نعمل إلا بما
حصل لنا القطع بصدقه بالتواتر أو (2) بالقرائن، ولا دليل عندنا على
العمل بالخبر الظني وإن كان راويه غير مطعون، وفي عبارة الشيخ
- المتقدمة (3) - إشارة إلى ذلك، حيث خص إنكار الشيوخ للعمل بالخبر
المجرد بصورة المناظرة مع خصومهم.
والحاصل: أن الإجماع الذي ادعاه السيد (قدس سره) قولي، وما ادعاه
الشيخ (قدس سره) إجماع عملي، والجمع بينهما يمكن بحمل عملهم على ما احتف
بالقرينة عندهم، وبحمل قولهم على ما ذكرنا من الاحتمال في دفع
الروايات الواردة فيما لا يرضونه من المطالب، والحمل الثاني مخالف
لظاهر القول، والحمل الأول ليس مخالفا لظاهر العمل، لأن العمل مجمل
من أجل (4) الجهة التي وقع عليها.
إلا أن الإنصاف: أن القرائن تشهد بفساد الحمل الأول كما سيأتي (5)،

(1) حكى المولى صالح المازندراني هذه الحاشية في حاشيته على المعالم، انظر
هامش المعالم (الطبعة الحجرية): 199.
(2) في (ت)، (ل) و (ه‍): " و ".
(3) في الصفحة 213.
(4) لم ترد " أجل " في (ل).
(5) انظر الصفحة 331 - 332.
330

فلا بد من حمل قول من حكى عنهم السيد المنع، إما على ما ذكرنا:
من إرادة دفع أخبار المخالفين التي لا يمكنهم ردها بفسق الراوي، وإما
على ما ذكره الشيخ: من كونهم جماعة معلومي النسب لا يقدح مخالفتهم
بالإجماع.
ويمكن الجمع بينهما بوجه آخر (1)، وهو: أن مراد السيد (قدس سره) من
العلم الذي ادعاه في صدق الأخبار هو مجرد الاطمئنان، فإن المحكي
عنه (قدس سره) في تعريف العلم: أنه ما اقتضى سكون النفس (2)، وهو الذي
ادعى بعض الأخباريين (3): أن مرادنا بالعلم بصدور الأخبار هو هذا
المعنى، لا اليقين الذي لا يقبل الاحتمال رأسا.
فمراد الشيخ من تجرد هذه الأخبار عن القرائن: تجردها عن
القرائن الأربع التي ذكرها أولا، وهي موافقة الكتاب أو السنة أو
الإجماع أو دليل العقل، ومراد السيد من القرائن التي ادعى في عبارته
المتقدمة (4) احتفاف أكثر الأخبار بها: هي الأمور (5) الموجبة للوثوق
بالراوي أو بالرواية، بمعنى سكون النفس بهما وركونها إليهما، وحينئذ
فيحمل إنكار الإمامية للعمل بخبر الواحد على إنكارهم للعمل به تعبدا،
أو (6) لمجرد حصول رجحان بصدقه على ما يقوله المخالفون.

(1) في (ر) و (ص) ونسخة بدل (ت) بدل " آخر ": " أحسن ".
(2) الذريعة 1: 20.
(3) وهو المحدث البحراني في الدرر النجفية: 63.
(4) في الصفحة 323.
(5) في (ت)، (ص) و (ه‍) زيادة: " الخارجية "، وفي (ظ) زيادة: " الخارجة ".
(6) في (م): " و ".
331

والإنصاف: أنه لم يتضح من كلام الشيخ دعوى الإجماع على
أزيد من الخبر الموجب لسكون النفس ولو بمجرد وثاقة الراوي وكونه
سديدا في نقله لم يطعن في روايته.
ولعل هذا الوجه أحسن وجوه الجمع بين كلامي (1) الشيخ والسيد (قدس سرهما)،
خصوصا مع ملاحظة تصريح السيد (قدس سره) في كلامه بأن أكثر الأخبار
متواترة أو محفوفة (2)، وتصريح الشيخ (قدس سره) في كلامه المتقدم (3) بإنكار
ذلك.
وممن نقل الإجماع على حجية أخبار الآحاد: السيد الجليل
رضي الدين بن طاووس، حيث قال في جملة كلام له يطعن فيه على
السيد (قدس سره):
ولا يكاد تعجبي ينقضي كيف اشتبه عليه أن الشيعة تعمل (4)
بأخبار الآحاد في الأمور الشرعية؟ ومن اطلع على التواريخ والأخبار
وشاهد عمل ذوي الاعتبار، وجد المسلمين والمرتضى (5) وعلماء الشيعة
الماضين (6) عاملين بأخبار الآحاد بغير شبهة عند العارفين، كما ذكر محمد
ابن الحسن الطوسي في كتاب العدة، وغيره من المشغولين بتصفح أخبار

(1) في (ل): " كلام ".
(2) في (ت) و (ه‍) زيادة: " بالقرائن ".
(3) في الصفحة 318.
(4) في (ر) و (ص): " لا تعمل "
(5) شطب على " والمرتضى " في (ت).
(6) في (ر): " والماضين ".
332

الشيعة وغيرهم من المصنفين (1)، انتهى.
وفيه دلالة على: أن غير الشيخ من العلماء أيضا ادعى الإجماع
على عمل الشيعة بأخبار الآحاد.
وممن نقل الإجماع أيضا: العلامة (رحمه الله) في النهاية حيث قال: إن
الأخباريين منهم لم يعولوا في أصول الدين وفروعه إلا على أخبار
الآحاد، والأصوليين منهم - كأبي جعفر الطوسي وغيره - وافقوا (2) على
قبول خبر الواحد، ولم ينكره سوى المرتضى وأتباعه، لشبهة حصلت
لهم (3)، انتهى.
وممن ادعاه أيضا: المحدث المجلسي (قدس سره) في بعض رسائله، حيث
ادعى تواتر الأخبار وعمل الشيعة في جميع الأعصار على العمل بخبر
الواحد (4).
ثم إن مراد العلامة (قدس سره) من الأخباريين، يمكن أن يكون مثل
الصدوق (5) وشيخه (قدس سرهما) (6)، حيث أثبتا السهو للنبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)،
لبعض أخبار الآحاد، وزعما أن نفيه عنهم (عليهم السلام) أول درجة في الغلو،

(1) لم نعثر عليه، ولا على من حكاه.
(2) كذا في (ت) و (ه‍) والمصدر، نعم " وغيره " من المصدر فقط، وفي غيرها بدل
" وغيره - إلى - الواحد ": " عمل بها ".
(3) نهاية الوصول (مخطوط): 296.
(4) انظر البحار 2: 245، ذيل الحديث 55.
(5) انظر الفقيه 1: 359 - 360، ذيل الحديث 1031.
(6) وهو محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، انظر نفس المصدر.
333

ويكون ما تقدم في كلام الشيخ (1) من المقلدة الذين إذا سئلوا عن
التوحيد وصفات النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام (عليه السلام) قالوا: روينا كذا، ورووا في
ذلك الأخبار. وقد نسب الشيخ (قدس سره) - في هذا المقام من العدة - العمل
بأخبار الآحاد في أصول الدين إلى بعض غفلة أصحاب الحديث.
ثم إنه يمكن أن يكون الشبهة التي ادعى العلامة (قدس سره) حصولها
للسيد وأتباعه، هو: زعم الأخبار التي عمل بها الأصحاب ودونوها في
كتبهم محفوفة عندهم بالقرائن، أو أن من قال من شيوخهم بعدم حجية
أخبار الآحاد أراد بها مطلق الأخبار، حتى الأخبار الواردة من طرق
أصحابنا مع وثاقة الراوي، أو أن مخالفته لأصحابنا في هذه المسألة
لأجل شبهة حصلت له، فخالف المتفق عليه بين الأصحاب.
ثم إن دعوى الإجماع (2) على العمل بأخبار الآحاد، وإن لم نطلع (3)
عليها صريحة في كلام غير الشيخ وابن طاووس والعلامة والمجلسي
قدست أسرارهم، إلا أن هذه الدعوى منهم مقرونة بقرائن تدل على
صحتها وصدقها، فخرج عن الإجماع المنقول بخبر الواحد المجرد عن
القرينة، ويدخل في المحفوف بالقرينة، وبهذا الاعتبار يتمسك به (4) على
حجية الأخبار.
بل السيد (قدس سره) قد اعترف في بعض كلامه المحكي - كما يظهر منه -

(1) راجع الصفحة 317.
(2) في غير (ر) زيادة: " صريحا ".
(3) في (ظ)، (ل) و (م): " لم يطلع ".
(4) كذا في (ت)، وفي (ر)، (ص)، (ظ)، (م) و (ه‍): " بها ".
334

بعمل الطائفة بأخبار الآحاد، إلا أنه يدعي أنه لما كان من المعلوم
عدم عملهم بالأخبار المجردة كعدم عملهم بالقياس، فلا بد من حمل
موارد عملهم على الأخبار المحفوفة.
قال في الموصليات على ما حكي عنه في محكي السرائر:
إن قيل: أليس شيوخ هذه الطائفة عولوا في كتبهم في الأحكام
الشرعية على الأخبار التي رووها عن ثقاتهم وجعلوها العمدة والحجة
في الأحكام، حتى رووا عن أئمتهم (عليهم السلام) في ما يجئ مختلفا من
الأخبار عند عدم الترجيح: أن يؤخذ منه ما هو أبعد من قول العامة،
وهذا يناقض ما قدمتموه.
قلنا: ليس ينبغي أن يرجع عن الأمور المعلومة المشهورة المقطوع
عليها بما هو (1) مشتبه وملتبس مجمل، وقد علم كل موافق ومخالف أن
الشيعة الإمامية تبطل القياس في الشريعة حيث لا يؤدي إلى العلم،
وكذلك نقول في أخبار الآحاد (2)، انتهى المحكي عنه.
وهذا الكلام - كما ترى - اعتراف بما (3) يظهر منه عمل الشيوخ
بأخبار الآحاد، إلا أنه (قدس سره) ادعى معلومية خلافه من مذهب الإمامية،
فترك هذا الظهور أخذا بالمقطوع، ونحن نأخذ بما ذكره أولا، لاعتضاده
بما يوجب الصدق، دون ما ذكره أخيرا، لعدم ثبوته إلا من قبله، وكفى

(1) كذا في المصدر.
(2) المسائل الموصليات الثالثة (رسائل الشريف المرتضى) 1: 210 - 211،
وحكى عنه في السرائر 1: 50.
(3) لم ترد " اعتراف بما " في (ر) و (ص).
335

بذلك موهنا، بخلاف الإجماع المدعى من الشيخ والعلامة، فإنه معتضد
بقرائن كثيرة تدل على صدق مضمونه وأن الأصحاب عملوا بالخبر
الغير العلمي في الجملة.
فمن تلك القرائن: ما ادعاه الكشي، من إجماع العصابة على
تصحيح ما يصح عن جماعة (1)، فإن من المعلوم أن معنى التصحيح
المجمع عليه هو عد خبره صحيحا بمعنى عملهم به، لا القطع بصدوره،
إذ الإجماع وقع على التصحيح لا على الصحة، مع أن الصحة عندهم
- على ما صرح به غير واحد (2) - عبارة عن الوثوق والركون، لا القطع
واليقين.
ومنها: دعوى النجاشي أن مراسيل ابن أبي عمير مقبولة عند
الأصحاب (3). وهذه العبارة تدل على عمل الأصحاب بمراسيل مثل ابن
أبي عمير، لا من أجل القطع بالصدور، بل لعلمهم بأنه لا يروي أو
لا يرسل إلا عن ثقة، فلولا قبولهم لما يسنده الثقة إلى الثقة لم يكن
وجه لقبول مراسيل ابن أبي عمير الذي لا يروي إلا عن الثقة.
والاتفاق المذكور قد ادعاه الشهيد في الذكرى (4) أيضا. وعن

(1) اختيار معرفة الرجال 2: 507، الترجمة 6739.
(2) كالشيخ البهائي، انظر مشرق الشمسين (رسائل الشيخ البهائي): 269،
والمحدث البحراني في الحدائق 1: 14، والمحقق القمي في القوانين 1: 484،
وصاحب الفصول في الفصول: 309.
(3) انظر رجال النجاشي: 326، رقم الترجمة 887.
(4) الذكرى 1: 49.
336

كاشف الرموز تلميذ المحقق: أن الأصحاب عملوا بمراسيل البزنطي (1).
ومنها: ما ذكره ابن إدريس - في رسالة خلاصة الاستدلال التي
صنفها في مسألة فورية القضاء - في مقام دعوى الإجماع على المضايقة،
وأنها مما أطبقت عليه الإمامية إلا نفر يسير من الخراسانيين، قال في
مقام تقريب الإجماع:
إن ابني بابويه والأشعريين: كسعد بن عبد الله وسعد بن سعد
ومحمد بن علي بن محبوب، والقميين أجمع: كعلي بن إبراهيم ومحمد بن
الحسن بن الوليد، عاملون بالأخبار المتضمنة للمضايقة، لأنهم ذكروا أنه
لا يحل رد الخبر الموثوق برواته (2)، انتهى.
فقد استدل على مذهب الإمامية: بذكرهم لأخبار المضايقة
وذهابهم إلى العمل برواية الثقة، فاستنتج من هاتين المقدمتين ذهابهم
إلى المضايقة.
وليت شعري: إذا علم ابن إدريس أن مذهب هؤلاء - الذين هم
أصحاب الأئمة (عليهم السلام)، ويحصل العلم بقول الإمام (عليه السلام) من اتفاقهم -
وجوب العمل برواية الثقة وأنه لا يحل ترك العمل بها، فكيف تبع
السيد في مسألة خبر الواحد؟
إلا أن يدعى أن المراد بالثقة من يفيد قوله القطع، وفيه ما لا يخفى.
أو يكون مراده ومراد السيد (قدس سرهما) من الخبر العلمي ما يفيد الوثوق
والاطمئنان لا ما يفيد (3) اليقين، على ما ذكرناه سابقا في الجمع بين

(1) كشف الرموز 1: 452.
(2) تقدم نقل هذا الكلام من خلاصة الاستدلال في الصفحة 207.
(3) كذا في (ر)، (ظ)، (م) ونسخة بدل (ص)، وفي غيرها بدل " يفيد ": " يوجب ".
337

كلامي السيد والشيخ (قدس سرهما) (1).
ومنها: ما ذكره المحقق في المعتبر في مسألة خبر الواحد، حيث
قال:
أفرط الحشوية في العمل بخبر الواحد حتى انقادوا لكل خبر، وما
فطنوا لما تحته من التناقض، فإن من جملة الأخبار قول النبي (صلى الله عليه وآله):
" ستكثر بعدي القالة علي "، وقول الصادق (عليه السلام): " إن لكل رجل منا
رجلا يكذب عليه " (2).
واقتصر بعضهم من هذا الإفراط، فقال: كل سليم السند يعمل
به. وما علم أن الكاذب قد يصدق، ولم يتنبه على أن ذلك طعن في
علماء الشيعة وقدح في المذهب، إذ ما من مصنف إلا وهو يعمل بخبر
المجروح كما يعمل بخبر العدل.
وأفرط آخرون في طريق رد الخبر حتى أحالوا استعماله عقلا.
واقتصر آخرون، فلم يروا العقل مانعا، لكن الشرع لم يأذن في
العمل به.
وكل هذه الأقوال منحرفة عن السنن، والتوسط أقرب، فما قبله
الأصحاب أو دلت القرائن على صحته عمل به، وما أعرض عنه
الأصحاب أو شذ يجب اطراحه (3)، انتهى.
وهو - كما ترى - ينادي: بأن علماء الشيعة قد يعملون بخبر

(1) راجع الصفحة 331.
(2) تقدم الحديثان في الصفحة 308.
(3) المعتبر 1: 29.
338

المجروح كما يعملون بخبر العدل، وليس المراد عملهم بخبر المجروح
والعدل إذا أفاد العلم بصدقه، لأن كلامه في الخبر الغير العلمي، وهو
الذي أحال قوم استعماله عقلا ومنعه آخرون شرعا.
ومنها: ما ذكره الشهيد في الذكرى (1) والمفيد الثاني ولد شيخنا
الطوسي (2): من أن الأصحاب قد عملوا بشرائع الشيخ أبي الحسن علي
ابن بابويه عند إعواز النصوص، تنزيلا لفتاواه منزلة رواياته. ولولا
عمل الأصحاب برواياته الغير العلمية لم يكن وجه في العمل بتلك
الفتاوى عند عدم رواياته.
ومنها: ما ذكره المجلسي في البحار - في تأويل بعض الأخبار التي
تقدم ذكرها في دليل السيد وأتباعه مما دل على المنع من العمل بالخبر
الغير المعلوم الصدور -: من أن عمل أصحاب الأئمة (عليهم السلام) بالخبر الغير
العلمي متواتر بالمعنى (3).
ولا يخفى: أن شهادة مثل هذا المحدث الخبير الغواص في بحار
أنوار أخبار الأئمة الأطهار بعمل أصحاب الأئمة (عليهم السلام) بالخبر الغير
العلمي، ودعواه حصول القطع له بذلك من جهة التواتر، لا يقصر عن
دعوى الشيخ والعلامة الإجماع على العمل بأخبار الآحاد، وسيأتي أن
المحدث الحر العاملي في الفصول المهمة ادعى أيضا تواتر الأخبار بذلك (4).

(1) الذكرى 1: 51.
(2) كتبه (قدس سره) غير مطبوعة، ولم نعثر على مخطوطها.
(3) البحار 2: 245، ذيل الحديث 55.
(4) لم نعثر عليه في ما سيأتي، نعم تقدم ذلك عن الوسائل، راجع الصفحة 309.
339

ومنها: ما ذكره شيخنا البهائي في مشرق الشمسين: من أن
الصحيح عند القدماء ما كان محفوفا بما يوجب ركون النفس إليه. وذكر
فيما يوجب الوثوق أمورا لا تفيد إلا الظن (1).
ومعلوم أن الصحيح عندهم هو المعمول به، وليس مثل الصحيح
عند المتأخرين في أنه قد لا يعمل به لإعراض الأصحاب عنه أو لخلل
آخر، فالمراد أن المقبول عندهم ما تركن إليه النفس وتثق به.
هذا ما حضرني من كلمات الأصحاب، الظاهرة في دعوى الاتفاق
على العمل بخبر الواحد الغير العلمي في الجملة، المؤيدة لما ادعاه الشيخ
والعلامة.
وإذا ضممت إلى ذلك كله ذهاب معظم الأصحاب بل كلهم - عدا
السيد وأتباعه - من زمان الصدوق إلى زماننا هذا، إلى حجية الخبر
الغير العلمي، حتى أن الصدوق تابع في التصحيح والرد لشيخه ابن
الوليد، وأن ما صححه فهو صحيح وأن ما رده فهو مردود - كما صرح
به في صلاة الغدير (2)، وفي الخبر الذي رواه في العيون عن كتاب
الرحمة (3) -، ثم ضممت إلى ذلك ظهور عبارة أهل الرجال في تراجم
كثير من الرواة في كون العمل بالخبر الغير العلمي مسلما عندهم، مثل
قولهم: فلان لا يعتمد على ما ينفرد به، وفلان مسكون في روايته،
وفلان صحيح الحديث، والطعن في بعض بأنه يعتمد الضعفاء والمراسيل،

(1) مشرق الشمسين (رسائل الشيخ البهائي): 269.
(2) الفقيه 2: 90، ذيل الحديث 1817.
(3) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 20 - 23، الحديث 45.
340

و (1) غير ذلك، وضممت إلى ذلك ما يظهر من بعض أسئلة الروايات
السابقة: من أن العمل بالخبر الغير العلمي كان مفروغا عنه عند الرواة،
تعلم علما يقينيا (2) صدق ما ادعاه الشيخ من إجماع الطائفة (3).
والإنصاف: أنه لم يحصل في مسألة يدعى فيها الإجماع من
الإجماعات المنقولة والشهرة العظيمة (4) والأمارات الكثيرة الدالة على
العمل، ما حصل في هذه المسألة، فالشاك في تحقق الإجماع في هذه
المسألة لا أراه يحصل له الإجماع في مسألة من المسائل الفقهية، اللهم
إلا في ضروريات المذهب.
لكن الإنصاف: أن المتيقن من هذا كله الخبر المفيد للاطمئنان،
لا مطلق الظن. ولعله مراد السيد من العلم كما أشرنا إليه آنفا (5).
بل ظاهر كلام بعض احتمال أن يكون مراد السيد (قدس سره) من خبر الواحد
غير مراد الشيخ (قدس سره).

(1) في (ر) و (ص) بدل " و ": " إلى ".
(2) في غير (ص)، (ظ) و (م): " يقينا ".
(3) وردت هنا في (ر) زيادة، وهي: " وحكى السيد المحدث الجزائري عمن يثق به:
أنه قد زار السيد صاحب المدارك المشهد الغروي، فزاره العلماء وزارهم إلا المولى
عبد الله التستري، فقيل للسيد في ذلك، فاعتذر بأنه لا يرى العمل بأخبار الآحاد
فهو مبدع، ونقل في ذلك رواية مضمونها: أن من زار مبدعا فقد خرب الدين.
وهذه حكاية عجيبة لا بد من توجيهها، كما لا يخفى على من اطلع على
طريقة المولى المشار إليه ومسلكه في الفقه، فراجع ".
(4) في (ت) و (ر) بدل " العظيمة ": " القطعية ".
(5) راجع الصفحة 331.
341

قال الفاضل القزويني في لسان الخواص - على ما حكي عنه -:
إن هذه الكلمة أعني خبر الواحد - على ما يستفاد من تتبع كلماتهم -
تستعمل في ثلاثة معان:
أحدها: الشاذ النادر الذي لم يعمل به أحد، أو ندر من يعمل به،
ويقابله ما عمل به كثيرون.
الثاني: ما يقابل المأخوذ من الثقات المحفوظ في الأصول المعمولة
عند جميع خواص الطائفة، فيشمل الأول ومقابله.
الثالث: ما يقابل المتواتر القطعي الصدور، وهذا يشمل الأولين
وما يقابلهما.
ثم ذكر ما حاصله: أن ما نقل إجماع الشيعة على إنكاره هو
الأول، وما انفرد السيد (قدس سره) برده هو الثاني، وأما الثالث، فلم يتحقق
من أحد نفيه على الإطلاق (1)، انتهى.
وهو كلام حسن. وأحسن منه ما قدمناه (2): من أن مراد السيد
من العلم ما يشمل الظن الاطمئناني، كما يشهد به التفسير المحكي عنه
للعلم، بأنه: ما اقتضى سكون النفس (3)، والله العالم.
الثاني من وجوه تقرير الإجماع:
أن يدعى الإجماع حتى من السيد وأتباعه على وجوب العمل

(1) لسان الخواص (مخطوط): 42.
(2) راجع الصفحة 331.
(3) الذريعة 1: 20.
342

بالخبر الغير العلمي في زماننا هذا وشبهه مما انسد فيه باب القرائن
المفيدة للعلم بصدق الخبر، فإن الظاهر أن السيد إنما منع من ذلك لعدم
الحاجة إلى خبر الواحد المجرد، كما يظهر من كلامه المتضمن للاعتراض
على نفسه بقوله:
فإن قلت: إذا سددتم طريق العمل بأخبار الآحاد فعلى أي شئ
تعولون في الفقه كله؟
فأجاب بما حاصله: أن معظم الفقه يعلم بالضرورة والإجماع
والأخبار العلمية، وما يبقى من المسائل الخلافية يرجع فيها إلى
التخيير (1).
وقد اعترف السيد (رحمه الله) في بعض كلامه - على ما في المعالم (2) - بل
وكذا الحلي في بعض كلامه (3) - على ما هو ببالي -: بأن العمل بالظن
متعين فيما لا سبيل فيه إلى العلم.
الثالث من وجوه تقرير الإجماع:
استقرار سيرة المسلمين طرا على استفادة الأحكام الشرعية من
أخبار الثقات المتوسطة بينهم وبين الإمام (عليه السلام) أو المجتهد.
أترى: أن المقلدين يتوقفون في العمل بما يخبرهم الثقة عن المجتهد،
أو الزوجة تتوقف فيما يحكيه زوجها عن المجتهد في مسائل حيضها وما

(1) رسائل الشريف المرتضى 3: 312 - 313، وراجع الصفحة 329.
(2) المعالم: 196 - 197، وانظر رسائل الشريف المرتضى 1: 210.
(3) انظر السرائر 1: 46 و 49.
343

يتعلق بها إلى أن يعلموا من المجتهد تجويز العمل بالخبر الغير العلمي؟
وهذا مما لا شك فيه.
ودعوى: حصول القطع لهم في جميع الموارد، بعيدة عن الإنصاف.
نعم، المتيقن من ذلك صورة حصول الاطمئنان بحيث لا يعتنى باحتمال
الخلاف.
وقد حكي اعتراض السيد (قدس سره) على نفسه (1): بأنه لا خلاف بين
الأمة في أن من وكل وكيلا أو استناب صديقا في ابتياع أمة أو عقد
على امرأة في بلده أو في بلاد نائية، فحمل إليه الجارية وزف إليه المرأة،
وأخبره أنه أزاح العلة في ثمن الجارية ومهر المرأة، وأنه اشترى هذه
وعقد على تلك: أن له وطأها والانتفاع بها في كل ما يسوغ للمالك
والزوج. وهذه سبيله مع زوجته وأمته إذا أخبرته بطهرها وحيضها،
ويرد الكتاب على المرأة بطلاق زوجها أو بموته فتتزوج، وعلى الرجل
بموت امرأته فيتزوج أختها.
وكذا لا خلاف بين الأمة في أن للعالم أن يفتي وللعامي أن يأخذ
منه، مع عدم علم أن ما أفتى به من شريعة الإسلام وأنه مذهبه.
فأجاب بما حاصله: أنه إن كان الغرض من هذا الرد على من
أحال التعبد بخبر الواحد، فمتوجه ولا محيص (2). وإن كان الغرض
الاحتجاج به على وجوب العمل بأخبار الآحاد في التحليل والتحريم،
فهذه مقامات ثبت فيها التعبد بأخبار الآحاد من طرق علمية من

(1) لم ترد في (ظ) و (م): " على نفسه ".
(2) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " فلا محيص ".
344

إجماع وغيره على أنحاء مختلفة، في بعضها لا يقبل إلا إخبار أربعة، وفي
بعضها لا يقبل إلا عدلان، وفي بعضها يكفي قول العدل الواحد (1)، وفي
بعضها يكفي خبر الفاسق والذمي، كما في الوكيل ومبتاع (2) الأمة
والزوجة في الحيض والطهر. وكيف يقاس على ذلك رواية الأخبار في
الأحكام (3).
أقول: المعترض حيث ادعى الإجماع على العمل في الموارد
المذكورة، فقد لقن الخصم طريق إلزامه والرد عليه بأن هذه الموارد
للإجماع، ولو ادعى استقرار سيرة المسلمين على العمل في الموارد
المذكورة وإن لم يطلعوا على كون ذلك إجماعيا عند العلماء، كان أبعد
عن الرد، فتأمل.
الرابع:
استقرار طريقة العقلاء طرا على الرجوع إلى خبر الثقة في
أمورهم العادية، ومنها الأوامر الجارية من الموالي إلى العبيد.
فنقول: إن الشارع إن اكتفى بذلك منهم في الأحكام الشرعية
فهو، وإلا وجب عليه ردعهم وتنبيههم على بطلان سلوك هذا الطريق
في الأحكام الشرعية، كما ردع في مواضع خاصة، وحيث لم يردع علم
منه رضاه بذلك، لأن اللازم في باب الإطاعة والمعصية الأخذ بما يعد

(1) في (ظ)، (ل) و (م) بدل " قول العدل الواحد ": " العلم ".
(2) لم ترد في (ر) و (ص): " مبتاع ".
(3) رسائل الشريف المرتضى 1: 37 - 41.
345

طاعة في العرف وترك ما يعد معصية كذلك.
فإن قلت: يكفي في ردعهم الآيات المتكاثرة (1) والأخبار المتظافرة
بل المتواترة (2) على حرمة العمل بما عدا العلم.
قلت: قد عرفت انحصار دليل حرمة العمل بما عدا العلم في
أمرين، وأن الآيات والأخبار راجعة إلى أحدهما:
الأول: أن العمل بالظن والتعبد به من دون توقيف من الشارع
تشريع محرم بالأدلة الأربعة.
والثاني: أن فيه طرحا لأدلة الأصول العملية واللفظية التي
اعتبرها الشارع عند عدم العلم بخلافها.
وشئ من هذين الوجهين لا يوجب ردعهم عن العمل، لكون
حرمة العمل بالظن من أجلهما مركوزا في ذهن العقلاء، لأن حرمة
التشريع ثابت عندهم، والأصول العملية واللفظية معتبرة عندهم مع
عدم الدليل على الخلاف، ومع ذلك نجد (3) بناءهم على العمل بالخبر
الموجب للاطمئنان.
والسر في ذلك: عدم جريان الوجهين المذكورين بعد استقرار
سيرة العقلاء على العمل بالخبر، لانتفاء تحقق التشريع مع بنائهم على
سلوكه في مقام الإطاعة والمعصية، فإن الملتزم بفعل ما أخبر الثقة
بوجوبه وترك ما أخبر بحرمته لا يعد مشرعا، بل لا يشكون في كونه

(1) الأنعام: 116، الإسراء: 36، يونس: 36.
(2) راجع الصفحة 242 - 244.
(3) لم ترد " نجد " في (ظ) و (م).
346

مطيعا، ولذا يعولون عليه (1) في أوامرهم العرفية من الموالي إلى العبيد،
مع أن قبح التشريع عند العقلاء لا يختص بالأحكام الشرعية.
وأما الأصول المقابلة للخبر، فلا دليل على جريانها في مقابل
خبر الثقة، لأن الأصول التي مدركها حكم العقل - لا الأخبار،
لقصورها عن إفادة اعتبارها - كالبراءة والاحتياط والتخيير، لا إشكال
في عدم جريانها في مقابل خبر الثقة بعد الاعتراف ببناء العقلاء على
العمل به في أحكامهم العرفية، لأن نسبة العقل في حكمه بالعمل
بالأصول المذكورة إلى الأحكام الشرعية والعرفية سواء.
وأما الاستصحاب، فإن اخذ من العقل فلا إشكال في أنه لا يفيد
الظن في المقام، وان اخذ من الأخبار فغاية الأمر حصول الوثوق
بصدورها دون اليقين.
وأما الأصول اللفظية كالإطلاق والعموم، فليس بناء أهل اللسان
على اعتبارها حتى في مقام وجود الخبر الموثوق به في مقابلها، فتأمل.
الخامس:
ما ذكره العلامة في النهاية: من إجماع الصحابة على العمل بخبر
الواحد من غير نكير، وقد ذكر في النهاية مواضع كثيرة عمل فيها
الصحابة بخبر الواحد (2).
وهذا الوجه لا يخلو من تأمل، لأنه: إن أريد من الصحابة العاملين

(1) في (ص) و (ل) بدل " يعولون عليه ": " يقولون به ".
(2) نهاية الوصول (مخطوط): 295.
347

بالخبر من كان في ذلك الزمان لا يصدر إلا عن رأي الحجة (عليه السلام)، فلم
يثبت عمل أحد منهم بخبر الواحد، فضلا عن ثبوت تقرير الإمام (عليه السلام)
له.
وإن أريد به الهمج الرعاع الذين يصغون إلى كل ناعق، فمن
المقطوع عدم كشف عملهم عن رضا الإمام (عليه السلام)، لعدم ارتداعهم بردعه
في ذلك اليوم.
ولعل هذا مراد السيد (قدس سره)، حيث أجاب عن هذا الوجه: بأنه إنما
عمل بخبر الواحد المتأمرون الذين يتحشم (1) التصريح بخلافهم، وإمساك
النكير عليهم لا يدل على الرضا بعملهم (2).
إلا أن يقال: إنه لو كان عملهم منكرا لم يترك الإمام بل
ولا أتباعه من الصحابة النكير على العاملين، إظهارا للحق وإن
لم يظنوا الارتداع، إذ ليست هذه المسألة بأعظم من مسألة الخلافة التي
أنكرها عليهم من أنكر، لإظهار الحق، ودفعا لتوهم دلالة السكوت على
الرضا.
السادس:
دعوى الإجماع من الإمامية حتى السيد وأتباعه، على وجوب
الرجوع إلى هذه الأخبار الموجودة في أيدينا المودعة في أصول الشيعة
وكتبهم.

(1) كذا في (ر)، وفي غيرها: " يتجشم ".
(2) انظر الذريعة 2: 537.
348

ولعل (1) هذا هو الذي فهمه بعض (2) من عبارة الشيخ المتقدمة عن
العدة (3)، فحكم بعدم مخالفة الشيخ للسيد (قدس سرهما).
وفيه:
أولا: أنه إن أريد ثبوت الاتفاق على العمل بكل واحد واحد (4)
من أخبار هذه الكتب، فهو مما علم خلافه بالعيان، وإن أريد ثبوت
الاتفاق على العمل بها في الجملة - على اختلاف العاملين في شروط
العمل، حتى يجوز أن يكون المعمول به عند بعضهم مطروحا عند آخر -
فهذا لا ينفعنا إلا في حجية ما علم اتفاق الفرقة على العمل به
بالخصوص، وليس يوجد ذلك في الأخبار إلا نادرا، خصوصا مع ما
نرى من رد بعض المشايخ - كالصدوق والشيخ - بعض الأخبار المودعة (5)
في الكتب المعتبرة بضعف السند، أو بمخالفة الإجماع، أو نحوهما.
وثانيا: أن ما ذكر من الاتفاق لا ينفع حتى في الخبر الذي علم
اتفاق الفرقة على قبوله والعمل به، لأن الشرط في الاتفاق العملي أن
يكون وجه عمل المجمعين معلوما، ألا ترى أنه لو اتفق جماعة - يعلم (6)
برضا (7) الإمام (عليه السلام) بعملهم - على النظر إلى امرأة، لكن يعلم أو يحتمل

(1) لم ترد " لعل " في (ل).
(2) هو الشيخ حسين الكركي العاملي المتقدم كلامه في الصفحة 321 - 322.
(3) راجع الصفحة 312 - 319.
(4) لم تتكرر " واحد " في (ر) و (ظ).
(5) في (ر) و (ه‍) ونسخة بدل (ص): " المروية ".
(6) في (ت) و (ه‍) زيادة: " منه ".
(7) في (ر) و (ه‍): " رضا ".
349

أن يكون وجه نظرهم كونها زوجة لبعضهم واما لآخر وبنتا لثالث
وأم زوجة لرابع وبنت زوجة لخامس، وهكذا، فهل يجوز لغيرهم ممن
لا محرمية بينها وبينه أن ينظر إليها من جهة اتفاق الجماعة الكاشف عن
رضا الإمام (عليه السلام)؟ بل لو رأى شخص الإمام (عليه السلام) ينظر إلى امرأة،
فهل يجوز لعاقل التأسي به؟ وليس هذا كله إلا من جهة أن الفعل
لا دلالة فيه على الوجه الذي يقع عليه.
فلا بد في الاتفاق العملي من العلم بالجهة والحيثية التي اتفق
المجمعون على إيقاع الفعل من تلك الجهة والحيثية، ومرجع هذا إلى
وجوب إحراز الموضوع في الحكم الشرعي المستفاد من الفعل.
ففيما نحن فيه: إذا علم بأن بعض المجمعين يعملون بخبر من حيث
علمه بصدوره بالتواتر أو بالقرينة، وبعضهم من حيث كونه ظانا
بصدوره قاطعا بحجية هذا الظن، فإذا لم يحصل لنا العلم بصدوره
ولا العلم بحجية الظن الحاصل منه، أو علمنا بخطأ من يعمل به لأجل
مطلق الظن، أو احتملنا خطأه، فلا يجوز لنا العمل بذلك الخبر تبعا
للمجمعين.
350

الرابع: دليل العقل
وهو من وجوه، بعضها يختص بإثبات حجية خبر الواحد،
وبعضها يثبت حجية الظن مطلقا أو في الجملة فيدخل فيه الخبر:
أما الأول، فتقريره من وجوه:
أولها:
ما اعتمدته سابقا، وهو: أنه لا شك للمتتبع في أحوال الرواة
المذكورة في تراجمهم في كون (1) أكثر الأخبار بل جلها - إلا ما شذ
وندر - صادرة عن الأئمة (عليهم السلام)، وهذا يظهر بعد التأمل في كيفية
ورودها إلينا، وكيفية اهتمام أرباب الكتب - من المشايخ الثلاثة ومن
تقدمهم - في تنقيح ما أودعوه (2) في كتبهم، وعدم الاكتفاء بأخذ الرواية
من كتاب وإيداعها في تصانيفهم، حذرا من كون ذلك الكتاب (3)
مدسوسا فيه من بعض الكذابين.
فقد حكي عن أحمد بن محمد بن عيسى، أنه جاء إلى الحسن بن
علي الوشاء وطلب إليه (4) أن يخرج إليه كتابا لعلاء بن رزين وكتابا

(1) في (ر) و (ص): " أن ".
(2) في (ت)، (ظ)، (ل) و (م): " ودعوه ".
(3) لم ترد " الكتاب " في (م).
(4) في (ر)، (ص) و (ظ): " وطلب منه ".
351

لأبان بن عثمان الأحمر، فلما أخرجهما، قال: أحب أن أسمعهما، فقال:
رحمك الله ما أعجلك؟! اذهب، فاكتبهما واسمع من بعد (1)، فقال (2):
لا آمن الحدثان، فقال: لو علمت أن الحديث يكون له هذا الطلب
لاستكثرت منه، فإني قد أدركت في هذا المسجد تسعمائة شيخ (3)، كل
يقول: حدثني جعفر بن محمد (عليهما السلام) (4).
وعن حمدويه، عن أيوب بن نوح: أنه دفع (5) إليه دفترا فيه
أحاديث محمد بن سنان، فقال: إن شئتم أن تكتبوا ذلك فافعلوا (6)،
فإني كتبت عن محمد بن سنان، ولكن لا أروي لكم عنه شيئا، فإنه
قال قبل موته: كل ما حدثتكم فليس بسماع ولا برواية، وإنما وجدته (7).
فانظر: كيف احتاطوا في الرواية عمن لم يسمع من الثقات وإنما
وجد في الكتب.
وكفاك شاهدا: أن علي بن (8) الحسن بن فضال لم يرو كتب أبيه

(1) كذا في (ه‍) والمصدر، وفي (ص)، (ظ)، (ل) و (م): " من بعدي "، وفي (ت)
و (ر): " من بعده ".
(2) وقعت في نقل هذه الحكاية اختلافات غير مهمة بين النسخ، وبينها والمصدر.
(3) كذا في المصدر، وفي جميع النسخ: مائة شيخ.
(4) رجال النجاشي: 39، رقم الترجمة 80.
(5) في (ص)، (ل) و (م): " وقع عنده دفاتر ".
(6) في (ص)، (ظ)، (ل) و (م) بدل " إن شئتم - إلى - فافعلوا ": " إن تكتبوا
ذلك ".
(7) اختيار معرفة الرجال 2: 795، الحديث 976.
(8) لم ترد " بن الحسن " في (ر)، (ظ) و (م).
352

الحسن عنه مع مقابلتها عليه، وإنما يرويها عن أخويه أحمد ومحمد، عن
أبيه، واعتذر عن ذلك بأنه يوم مقابلته الحديث مع أبيه كان صغير
السن، ليس له كثير معرفة بالروايات، فقرأها على أخويه ثانيا (1).
والحاصل: أن الظاهر انحصار مدارهم على إيداع ما سمعوه من
صاحب الكتاب أو ممن سمعه منه، فلم يكونوا يودعون إلا ما سمعوا
ولو بوسائط من صاحب الكتاب ولو كان معلوم الانتساب، مع
اطمئنانهم بالوسائط وشدة وثوقهم بهم.
حتى أنه ربما كانوا يتبعونهم في تصحيح الحديث ورده، كما اتفق
للصدوق بالنسبة إلى شيخه ابن الوليد (قدس سرهما) (2).
وربما كانوا لا يثقون بمن يوجد فيه قدح بعيد المدخلية في
الصدق، ولذا حكي عن جماعة منهم: التحرز عن الرواية عمن يروي
عن الضعفاء ويعتمد المراسيل وإن كان ثقة في نفسه، كما اتفق بالنسبة
إلى البرقي (3). بل يتحرزون (4) عن الرواية عمن يعمل بالقياس، مع أن
عمله لا دخل له بروايته، كما اتفق بالنسبة إلى الإسكافي، حيث ذكر في
ترجمته: أنه كان يرى القياس، فترك رواياته لأجل ذلك (5).
وكانوا يتوقفون في روايات من كان على الحق فعدل عنه وإن

(1) رجال النجاشي: 258.
(2) انظر الفقيه 2: 90، ذيل الحديث 1817، وراجع الصفحة 340.
(3) انظر رجال النجاشي: 76، الرقم 182، ورجال العلامة الحلي: 14، الرقم 7.
(4) في (ت)، (ر)، (ظ) و (م): " يحترزون ".
(5) انظر الفهرست للشيخ الطوسي: 268، الرقم 592.
353

كانت كتبه ورواياته حال الاستقامة، حتى أذن لهم الإمام (عليه السلام) أو
نائبه، كما سألوا العسكري (عليه السلام) عن كتب بني فضال، وقالوا: إن بيوتنا
منها ملاء (1)، فأذن (عليه السلام) لهم (2). وسألوا الشيخ أبا القاسم بن روح عن
كتب ابن أبي عزاقر (3) التي صنفها قبل الارتداد عن مذهب الشيعة،
حتى أذن لهم الشيخ في العمل بها (4).
والحاصل: أن الأمارات الكاشفة عن اهتمام أصحابنا في تنقيح
الأخبار في الأزمنة المتأخرة عن زمان الرضا (عليه السلام) أكثر من أن تحصى،
ويظهر (5) للمتتبع.
والداعي إلى شدة الاهتمام - مضافا إلى كون تلك الروايات أساس
الدين وبها قوام شريعة سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله)، ولذا قال الإمام (عليه السلام) في
شأن جماعة من الرواة: " لولا هؤلاء لاندرست آثار النبوة " (6). وأن
الناس لا يرضون بنقل ما لا يوثق به في كتبهم المؤلفة في التواريخ التي

(1) كذا في الغيبة: 389، وفي البحار 2: 252: " ملئ "، وفيه 51: 358:
" ملأى ".
(2) البحار 2: 252، الحديث 72، و 51: 358، باب أحوال السفراء، والغيبة
للشيخ الطوسي: 389، الرقم 355، وانظر الوسائل 18: 103، الباب 11 من
أبواب صفات القاضي، الحديث 13.
(3) كذا في (ه‍) والمصدر، وفي (ص)، (ل) و (م): " ابن عذافر "، وفي (ر): " ابن
عزاقر "، وفي (ظ): " ابن عزافر ".
(4) انظر المصادر المتقدمة، البحار والغيبة.
(5) لم ترد " ويظهر " في (ت)، (ظ) و (ه‍).
(6) الوسائل 18: 103، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 14.
354

لا يترتب على وقوع الكذب فيها أثر ديني، بل (1) ولا دنيوي، فكيف
في كتبهم المؤلفة لرجوع من يأتي إليها في أمور الدين، على ما أخبرهم
الإمام (عليه السلام) ب‍ " أنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون إلا بكتبهم " (2)،
وعلى ما ذكره الكليني (قدس سره) في ديباجة الكافي: من كون كتابه مرجعا
لجميع من يأتي بعد ذلك - (3):
ما تنبهوا له ونبههم عليه الأئمة (عليهم السلام): من أن الكذابة كانوا
يدسون الأخبار المكذوبة في كتب أصحاب الأئمة (عليهم السلام)، كما يظهر من
الروايات الكثيرة:
منها: أنه عرض يونس بن عبد الرحمن على سيدنا أبي الحسن
الرضا (عليه السلام) كتب جماعة من أصحاب الباقر والصادق (عليهما السلام)، فأنكر منها
أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث أبي عبد الله (عليه السلام)، وقال صلوات
الله عليه: " إن أبا الخطاب كذب على أبي عبد الله (عليه السلام)، وكذلك
أصحاب أبي الخطاب يدسون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب
أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) " (4).
ومنها: ما عن هشام بن الحكم أنه سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:
" كان المغيرة بن سعد لعنه الله يتعمد الكذب على أبي، ويأخذ كتب
أصحابه، وكان أصحابه - المستترون بأصحاب أبي - يأخذون الكتب من

(1) لم ترد " بل " في (ت) و (ل).
(2) الوسائل 18: 56، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 18.
(3) الكافي 1: 8 - 9.
(4) اختيار معرفة الرجال 2: 490، رقم الترجمة 401.
355

أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة لعنه الله، فكان يدس فيها الكفر
والزندقة ويسندها إلى أبي (عليه السلام)... الحديث " (1).
ورواية الفيض بن المختار المتقدمة (2) في ذيل كلام الشيخ، إلى غير
ذلك من الروايات (3).
وظهر مما ذكرنا: أن ما علم إجمالا من الأخبار الكثيرة: من
وجود الكذابين ووضع الأحاديث (4)، فهو إنما كان قبل زمان مقابلة
الحديث وتدوين علمي الحديث والرجال بين أصحاب الأئمة (عليهم السلام).
مع أن العلم بوجود الأخبار المكذوبة إنما ينافي دعوى القطع
بصدور الكل التي تنسب إلى بعض الأخباريين (5)، أو دعوى الظن
بصدور جميعها (6)، ولا ينافي (7) ما نحن بصدده: من دعوى العلم الإجمالي
بصدور أكثرها أو كثير منها، بل هذه دعوى بديهية.
والمقصود مما ذكرنا: دفع ما ربما يكابره المتعسف الخالي عن
التتبع، من منع هذا العلم الإجمالي.

(1) اختيار معرفة الرجال 2: 491، رقم الترجمة 402.
(2) في الصفحة 325.
(3) تقدم بعضها في الصفحة 308 - 309.
(4) في (ت) و (ه‍): " الحديث ".
(5) انظر الفوائد المدنية: 52 - 53، وهداية الأبرار: 17، والحدائق 1: 17.
(6) في (ظ)، (ل) و (م) زيادة: " التي يعترف بها المنصف بعد التأمل في ما ذكرنا
وتتبع أضعافه من تراجم الرواة "، مع اختلاف يسير.
(7) في غير (ظ)، (ل) و (م) زيادة: " ذلك ".
356

ثم إن هذا العلم الإجمالي إنما هو متعلق بالأخبار المخالفة للأصل
المجردة عن القرينة، وإلا فالعلم بوجود مطلق الصادر (1) لا ينفع، فإذا
ثبت العلم الإجمالي بوجود الأخبار الصادرة، فيجب بحكم العقل العمل
بكل خبر مظنون الصدور، لأن تحصيل الواقع الذي يجب العمل به إذا
لم يمكن على وجه العلم تعين المصير إلى الظن في تعيينه، توصلا إلى
العمل بالأخبار الصادرة.
بل ربما يدعى: وجوب العمل بكل واحد منها مع عدم المعارض،
والعمل بمظنون الصدور أو بمظنون المطابقة للواقع من المتعارضين.
والجواب عنه:
أولا: أن وجوب العمل بالأخبار الصادرة إنما هو لأجل وجوب
امتثال أحكام الله الواقعية المدلول عليها بتلك الأخبار، فالعمل بالخبر
الصادر عن الإمام (عليه السلام) إنما يجب من حيث كشفه عن حكم الله
تعالى (2)، وحينئذ نقول: إن العلم الإجمالي ليس مختصا بهذه الأخبار، بل
نعلم إجمالا بصدور أحكام كثيرة عن الأئمة (عليهم السلام)، لوجود (3) تكاليف
كثيرة، وحينئذ: فاللازم أولا الاحتياط، ومع تعذره أو تعسره أو قيام
الدليل على عدم وجوبه يرجع إلى ما أفاد الظن بصدور الحكم الشرعي
التكليفي عن الحجة (عليه السلام)، سواء كان المفيد للظن خبرا أو شهرة أو
غيرهما، فهذا الدليل لا يفيد حجية خصوص الخبر، وإنما يفيد حجية

(1) في (م): " الصادرة ".
(2) في (ت)، (ر)، (ص) و (ه‍) زيادة: " الواقعي ".
(3) في (ظ) و (م): " بوجود "، وفي (ص) و (ل): " لوجوب ".
357

كل ما ظن منه بصدور الحكم عن الحجة وإن لم يكن خبرا.
فإن قلت: المعلوم صدور كثير من هذه الأخبار التي بأيدينا،
وأما صدور الأحكام المخالفة للأصول غير مضمون هذه الأخبار فهو
غير معلوم لنا ولا مظنون.
قلت (1): العلم الإجمالي وإن كان حاصلا في خصوص هذه
الروايات (2) التي بأيدينا، إلا أن العلم الإجمالي حاصل أيضا في مجموع
ما بأيدينا من الأخبار ومن الأمارات الاخر المجردة عن الخبر التي
بأيدينا المفيدة للظن بصدور الحكم عن الإمام (عليه السلام)، وليست هذه
الأمارات خارجة عن أطراف العلم الإجمالي الحاصل في المجموع بحيث
يكون العلم الإجمالي في المجموع مستندا إلى بعضها وهي الأخبار، ولذا
لو فرضنا عزل طائفة من هذه الأخبار وضممنا إلى الباقي مجموع
الأمارات الاخر، كان العلم الإجمالي بحاله.
فهنا علم إجمالي حاصل في الأخبار، وعلم إجمالي حاصل
بملاحظة مجموع الأخبار وسائر الأمارات المجردة عن الخبر، فالواجب
مراعاة العلم الإجمالي الثاني وعدم الاقتصار على مراعاة الأول.
نظير ذلك: ما إذا علمنا إجمالا بوجود شياه (3) محرمة في قطيع
غنم بحيث يكون نسبته إلى كل بعض منها كنسبته إلى البعض الآخر،

(1) في غير (ر)، (ظ) و (ل) زيادة: " أولا "، والصحيح عدمه لعدم وجود ثان
له.
(2) لم ترد " الروايات " في (م).
(3) في (ظ)، (ل) و (م): " شاة ".
358

وعلمنا أيضا بوجود شياه محرمة في خصوص طائفة خاصة من تلك
الغنم بحيث لو لم يكن من الغنم إلا هذه علم إجمالا بوجود الحرام فيها
أيضا، والكاشف عن ثبوت العلم الإجمالي في المجموع ما أشرنا إليه
سابقا: من أنه لو عزلنا من هذه الطائفة الخاصة التي علم بوجود
الحرام فيها قطعة توجب انتفاء العلم الإجمالي فيها وضممنا إليها مكانها
باقي الغنم، حصل العلم الإجمالي بوجود الحرام فيها أيضا، وحينئذ:
فلا بد (1) من أن نجري (2) حكم العلم الإجمالي في تمام الغنم إما بالاحتياط،
أو بالعمل بالمظنة لو بطل وجوب الاحتياط. وما نحن فيه من هذا
القبيل. ودعوى: أن سائر الأمارات المجردة لا مدخل لها في العلم
الإجمالي، وأن هنا علما إجماليا واحدا بثبوت الواقع بين الأخبار،
خلاف الانصاف.
وثانيا: أن اللازم من ذلك العلم الإجمالي هو العمل بالظن في
مضمون تلك الأخبار، لما عرفت (3): من أن العمل بالخبر الصادر إنما
هو باعتبار كون مضمونه حكم الله الذي يجب العمل به، وحينئذ: فكلما
ظن بمضمون خبر منها - ولو من جهة الشهرة - يؤخذ به، وكل خبر لم
يحصل الظن (4) بكون مضمونه حكم الله لا يؤخذ به ولو كان مظنون
الصدور، فالعبرة بظن مطابقة الخبر للواقع، لا بظن الصدور.

(1) في (ت) و (ر): " لا بد ".
(2) في (ت)، (ر) و (ص): " يجري ".
(3) راجع الصفحة 357.
(4) لم ترد " الظن " في (ظ)، (ل) و (م).
359

وثالثا: أن مقتضى هذا الدليل وجوب العمل بالخبر المقتضي
للتكليف، لأنه الذي يجب العمل به، وأما الأخبار الصادرة النافية
للتكليف فلا يجب العمل بها. نعم، يجب الإذعان بمضمونها وإن لم تعرف
بعينها.
وكذلك لا يثبت به حجية الأخبار على وجه ينهض لصرف
ظواهر الكتاب والسنة القطعية (1).
والحاصل: أن معنى حجية الخبر كونه دليلا متبعا في مخالفة
الأصول العملية والأصول اللفظية مطلقا، وهذا المعنى لا يثبت بالدليل
المذكور، كما لا يثبت بأكثر ما سيأتي من الوجوه العقلية بل كلها،
فانتظر.

(1) وردت في (ت) ونسخة بدل (ه‍) زيادة، وهي: " لأن العمل بالخبر من باب
الاحتياط لا يوجب تخصيص العام وتقييد المطلق ".
360

الثاني:
ما ذكره في الوافية - مستدلا على حجية الخبر الموجود في الكتب
المعتمدة للشيعة كالكتب الأربعة مع عمل جمع به من غير رد ظاهر،
بوجوه - قال:
الأول: أنا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة سيما بالأصول
الضرورية، كالصلاة والزكاة والصوم والحج والمتاجر والأنكحة ونحوها،
مع أن جل أجزائها وشرائطها وموانعها إنما يثبت بالخبر الغير القطعي،
بحيث يقطع بخروج حقائق هذه الأمور عن كونها هذه الأمور عند ترك
العمل بخبر الواحد، ومن أنكر فإنما ينكر باللسان وقلبه مطمئن
بالإيمان (1)، انتهى.
ويرد عليه:
أولا: أن العلم الإجمالي حاصل بوجود الأجزاء والشرائط بين
جميع الأخبار، لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره، ومجرد وجود
العلم الإجمالي في تلك الطائفة الخاصة لا يوجب خروج غيرها عن
أطراف العلم الإجمالي، كما عرفت في الجواب الأول عن الوجه
الأول (2)، وإلا (3) أمكن إخراج بعض هذه الطائفة الخاصة ودعوى العلم
الإجمالي في الباقي، كأخبار العدول مثلا، فاللازم حينئذ: إما الاحتياط

(1) الوافية: 159.
(2) راجع الصفحة 357.
(3) في (ر)، (ص) و (ه‍) زيادة: " لما ".
361

والعمل بكل خبر دل على جزئية شئ أو شرطيته، وإما العمل بكل
خبر ظن صدوره مما دل على الجزئية أو الشرطية.
إلا أن يقال: إن المظنون الصدور من الأخبار هو الجامع لما ذكر
من الشروط.
وثانيا: أن مقتضى هذا الدليل وجوب العمل بالأخبار الدالة على
الشرائط والأجزاء دون الأخبار الدالة على عدمهما، خصوصا إذا اقتضى
الأصل الشرطية والجزئية.
362

الثالث:
ما ذكره بعض المحققين من المعاصرين (1) - في حاشيته على المعالم -
لإثبات حجية الظن الحاصل من الخبر لا مطلقا، وقد لخصناه لطوله،
وملخصه:
أن وجوب العمل بالكتاب والسنة ثابت بالإجماع، بل الضرورة
والأخبار المتواترة، وبقاء هذا التكليف أيضا بالنسبة إلينا ثابت بالأدلة
المذكورة، وحينئذ: فإن أمكن الرجوع إليهما على وجه يحصل العلم بهما
بحكم أو الظن الخاص به فهو، وإلا فالمتبع هو الرجوع إليهما على وجه
يحصل الظن منهما (2).
هذا حاصله، وقد أطال (قدس سره) في النقض والإبرام بذكر الإيرادات
والأجوبة على هذا المطلب.
ويرد عليه: أن هذا الدليل بظاهره عبارة أخرى عن دليل
الانسداد الذي ذكروه لحجية الظن في الجملة أو مطلقا، وذلك لأن المراد
بالسنة هو (3): قول الحجة أو فعله أو تقريره، فإذا وجب علينا الرجوع
إلى مدلول (4) الكتاب والسنة ولم نتمكن من الرجوع إلى ما علم أنه
مدلول الكتاب أو السنة، تعين الرجوع - باعتراف المستدل - إلى ما

(1) وهو الشيخ محمد تقي الإصفهاني، صاحب هداية المسترشدين.
(2) هداية المسترشدين: 397، الوجه السادس.
(3) في (ر)، (ص)، (ظ)، (ل) و (م): " هي ".
(4) لم ترد " مدلول " في (ت) و (ظ).
363

يظن (1) كونه مدلولا لأحدهما، فإذا ظننا أن مؤدى الشهرة أو معقد
الإجماع المنقول مدلول للكتاب أو لقول الحجة أو فعله أو تقريره،
وجب الأخذ به، ولا اختصاص للحجية بما يظن كونه مدلولا لأحد
هذه الثلاثة من جهة حكاية أحدها التي تسمى خبرا وحديثا في
الاصطلاح.
نعم، يخرج عن مقتضى هذا الدليل: الظن الحاصل بحكم الله من
أمارة لا يظن كونه (2) مدلولا لأحد الثلاثة، كما إذا ظن بالأولوية العقلية
أو الاستقراء أن الحكم كذا عند الله ولم يظن بصدوره عن الحجة، أو
قطعنا بعدم صدوره عنه (عليه السلام)، إذ رب حكم واقعي لم يصدر عنهم وبقي
مخزونا عندهم لمصلحة من المصالح.
لكن هذا نادر جدا، للعلم العادي بأن هذه المسائل العامة البلوى
قد صدر حكمها في الكتاب أو ببيان الحجة قولا أو فعلا أو تقريرا،
فكل ما ظن من أمارة بحكم الله تعالى فقد ظن بصدور ذلك الحكم
عنهم (3).
والحاصل: أن مطلق الظن بحكم الله ظن بالكتاب أو السنة،
ويدل على اعتباره ما دل على اعتبار الكتاب والسنة الظنية.
فإن قلت: المراد بالسنة الأخبار والأحاديث، والمراد أنه يجب
الرجوع إلى الأخبار المحكية عنهم، فإن تمكن من الرجوع إليها على

(1) في (ظ)، (ر) و (م): " ظن ".
(2) في غير (ر) و (ص): " كونها ".
(3) لم ترد " عنهم " في (ر)، (ص)، (ظ) و (م).
364

وجه يفيد العلم فهو، وإلا وجب الرجوع إليها على وجه يظن منه
بالحكم.
قلت: مع أن السنة في الاصطلاح عبارة عن نفس قول الحجة أو
فعله أو تقريره، لا حكاية أحدها، يرد عليه:
أن الأمر بالعمل بالأخبار المحكية المفيدة للقطع بصدورها ثابت بما
دل على الرجوع إلى قول الحجة، وهو الإجماع والضرورة الثابتة من
الدين أو المذهب. وأما الرجوع إلى الأخبار المحكية التي لا تفيد القطع
بصدورها (1) عن الحجة، فلم يثبت ذلك بالإجماع والضرورة من الدين
التي ادعاها المستدل، فإن غاية الأمر دعوى إجماع الإمامية عليه في
الجملة، كما ادعاه الشيخ والعلامة (2) في مقابل السيد وأتباعه قدست
أسرارهم.
وأما دعوى الضرورة من الدين والأخبار المتواترة كما ادعاها
المستدل، فليست في محلها. ولعل هذه الدعوى قرينة على أن مراده من
السنة نفس قول المعصوم أو فعله أو تقريره، لا حكايتها التي لا توصل
إليها على وجه العلم.
نعم، لو ادعى الضرورة على وجوب الرجوع إلى تلك الحكايات
الغير العلمية، لأجل لزوم الخروج عن الدين لو طرحت بالكلية، يرد
عليه:
أنه إن أراد لزوم الخروج عن الدين من جهة العلم بمطابقة كثير

(1) في (ص)، (ظ) و (ل): " بالصدور ".
(2) راجع الصفحة 311 و 333.
365

منها للتكاليف الواقعية التي يعلم بعدم جواز رفع اليد عنها عند الجهل
بها تفصيلا، فهذا يرجع إلى دليل الانسداد الذي ذكروه لحجية الظن،
ومفاده ليس إلا حجية كل أمارة كاشفة عن التكليف الواقعي.
وإن أراد لزومه من جهة خصوص العلم الإجمالي بصدور أكثر
هذه الأخبار - حتى لا يثبت به غير الخبر الظني من الظنون - ليصير
دليلا عقليا على حجية خصوص (1) الخبر، فهذا الوجه يرجع إلى الوجه
الأول الذي قدمناه وقدمنا الجواب عنه، فراجع (2).
هذا تمام الكلام في الأدلة التي أقاموها على حجية الخبر، وقد
علمت دلالة بعضها وعدم دلالة البعض الآخر.
والإنصاف: أن الدال منها لم يدل إلا على وجوب العمل بما يفيد
الوثوق والاطمئنان بمؤداه، وهو الذي فسر به الصحيح في مصطلح
القدماء (3)، والمعيار فيه: أن يكون احتمال مخالفته للواقع بعيدا، بحيث
لا يعتني به العقلاء ولا يكون عندهم موجبا للتحير والتردد الذي
لا ينافي حصول مسمى الرجحان، كما نشاهد في الظنون الحاصلة بعد
التروي في شكوك الصلاة، فافهم. وليكن على ذكر منك، لينفعك فيما
بعد.

(1) لم ترد " خصوص " في (ر).
(2) راجع الصفحة 351 و 357.
(3) راجع الصفحة 336.
366

[أدلة حجية مطلق الظن] (1)
فلنشرع في الأدلة التي أقاموها على حجية الظن من غير
خصوصية للخبر يقتضيها نفس الدليل، وإن اقتضاها أمر (2) آخر، وهو
كون الخبر مطلقا أو خصوص قسم منه متيقن الثبوت من ذلك الدليل
إذا فرض أنه لا يثبت إلا الظن في الجملة ولا يثبته كلية، وهي أربعة:
الأول:
أن في مخالفة المجتهد لما ظنه من الحكم الوجوبي أو التحريمي مظنة
للضرر، ودفع الضرر المظنون لازم (3).
أما الصغرى، فلأن الظن بالوجوب ظن باستحقاق العقاب على
الترك، كما أن الظن بالحرمة ظن باستحقاق العقاب على الفعل. أو لأن

(1) العنوان منا.
(2) في (ر) ونسخة بدل (ص) بدل " أمر ": " دليل ".
(3) استدل به العلامة في النهاية كما سيأتي، والمحقق القمي في القوانين 1: 447،
وصاحب الفصول في الفصول: 278، وانظر مفاتيح الأصول: 484 و 485.
367

الظن بالوجوب ظن بوجود المفسدة في الترك، كما أن الظن بالحرمة ظن
بالمفسدة في الفعل، بناء على قول " العدلية " بتبعية الأحكام للمصالح
والمفاسد، وقد جعل في النهاية (1) كلا من الضررين (2) دليلا مستقلا على
المطلب.
وأجيب عنه بوجوه:
أحدها: ما عن الحاجبي (3)، وتبعه غيره (4)، من منع الكبرى، وأن
دفع الضرر المظنون إذا قلنا بالتحسين والتقبيح العقليين احتياط
مستحسن، لا واجب.
وهو فاسد، لأن الحكم المذكور حكم إلزامي أطبق العقلاء على
الالتزام به في جميع أمورهم وذم من خالفه (5)، ولذا استدل به المتكلمون (6)
في (7) وجوب شكر المنعم (8) الذي هو مبنى وجوب معرفة الله تعالى،
ولولاه لم يثبت وجوب النظر في المعجزة، ولم يكن لله على غير الناظر
حجة، ولذا خصوا النزاع في الحظر والإباحة في غير المستقلات العقلية

(1) انظر نهاية الوصول (مخطوط): 297.
(2) في (ظ): " التقريرين ".
(3) انظر شرح مختصر الأصول: 163، المتن للحاجبي والشرح للعضدي.
(4) كالعضدي (شارح المختصر)، المصدر نفسه.
(5) في (ر) و (ص) ومحتمل (ت): " يخالفه ".
(6) لم ترد " المتكلمون " في (ظ)، (ل) و (م).
(7) في (ظ): " على ".
(8) انظر كتاب المنقذ من التقليد للشيخ سديد الدين الحمصي الرازي 1: 255 -
256.
368

بما كان مشتملا على منفعة وخاليا عن أمارة المفسدة، فإن هذا التقييد
يكشف عن أن ما فيه أمارة المضرة لا نزاع في قبحه، بل الأقوى - كما
صرح به الشيخ في العدة في مسألة الإباحة والحظر (1)، والسيد في
الغنية (2) -: وجوب دفع الضرر المحتمل، وببالي أنه تمسك في العدة بعد
العقل بقوله تعالى: * (ولا تلقوا... الخ) * (3).
ثم إن ما ذكره: من ابتناء الكبرى على التحسين والتقبيح
العقليين، غير ظاهر، لأن تحريم تعريض النفس للمهالك والمضار
الدنيوية والأخروية مما دل عليه الكتاب والسنة، مثل التعليل في آية
النبأ (4)، وقوله تعالى: * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * (5)، وقوله تعالى:
* (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب
أليم) * (6) بناء على أن المراد العذاب والفتنة الدنيويان، وقوله تعالى:
* (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) * (7)، وقوله تعالى:
* (ويحذركم الله نفسه) * (8)، وقوله تعالى: * (أفأمن الذين مكروا

(1) العدة 2: 742 و 747.
(2) الغنية (الجوامع الفقهية): 476 - 477.
(3) ليس في العدة في البحث المذكور تمسك بالآية المذكورة، نعم استدل بها فخر
المحققين في إيضاح الفوائد 2: 256، والآية من سورة البقرة: 195.
(4) الحجرات: 6.
(5) البقرة: 195.
(6) النور: 63.
(7) الأنفال: 25.
(8) آل عمران: 28.
369

السيئات) * (1)، إلى غير ذلك.
نعم، التمسك في سند الكبرى بالأدلة الشرعية يخرج الدليل المذكور
عن الأدلة العقلية. لكن الظاهر أن مراد الحاجبي منع أصل الكبرى،
لا مجرد منع استقلال العقل بلزومه، ولا يبعد عن الحاجبي أن يشتبه
عليه حكم العقل الإلزامي بغيره، بعد أن اشتبه عليه أصل حكم العقل
بالحسن والقبح، والمكابرة في الأول ليس بأعظم منها في الثاني.
ثانيها: ما يظهر من العدة (2) والغنية (3) وغيرهما (4): من أن الحكم
المذكور مختص بالأمور الدنيوية، فلا يجري في الأخروية مثل العقاب.
وهذا كسابقه في الضعف، فإن المعيار هو التضرر. مع أن المضار
الأخروية أعظم.
اللهم إلا أن يريد المجيب ما سيجئ (5): من أن العقاب مأمون
على ما لم ينصب الشارع دليلا على التكليف به، بخلاف المضار الدنيوية
التابعة لنفس الفعل أو الترك، علم حرمته أو لم يعلم. أو يريد أن
المضار الغير الدنيوية - وإن لم تكن خصوص العقاب - مما دل العقل
والنقل على وجوب إعلامها على الحكيم، وهو الباعث له على التكليف
والبعثة (6).

(1) النحل: 45.
(2) العدة 1: 107.
(3) الغنية (الجوامع الفقهية): 476.
(4) انظر الذريعة 2: 549.
(5) انظر الصفحة 373.
(6) في (ص): " البعث ".
370

لكن هذا الجواب راجع إلى منع الصغرى، لا الكبرى.
ثالثها: النقض بالأمارات التي قام الدليل القطعي على عدم
اعتبارها، كخبر الفاسق والقياس على مذهب الإمامية (1).
وأجيب عنه (2) تارة: بعدم التزام حرمة العمل بالظن عند انسداد
باب العلم.
وأخرى: بأن الشارع إذا ألغى ظنا تبين أن في العمل به ضررا
أعظم من ضرر ترك العمل به.
ويضعف الأول: بأن (3) دعوى وجوب العمل بكل ظن في كل
مسألة انسد فيها باب العلم وإن لم ينسد في غيرها، الظاهر أنه خلاف
مذهب الشيعة، لا أقل من كونه مخالفا لإجماعاتهم المستفيضة بل
المتواترة، كما يعلم مما ذكروه في القياس.
والثاني: بأن إتيان الفعل حذرا من ترتب الضرر على تركه أو
تركه حذرا من التضرر بفعله، لا يتصور فيه ضرر أصلا، لأنه من
الاحتياط الذي استقل العقل بحسنه وإن كانت الأمارة مما ورد النهي
عن اعتباره.
نعم، متابعة الأمارة المفيدة للظن بذلك الضرر وجعل مؤداها
حكم الشارع والالتزام به (4) والتدين به، ربما كان ضرره أعظم من

(1) هذا النقض مذكور في الذريعة 2: 550، والغنية (الجوامع الفقهية): 476،
والمعارج: 43، وانظر مفاتيح الأصول: 486 - 487.
(2) الجواب من المحقق القمي في القوانين 1: 448.
(3) في (ت)، (ظ)، (ل) و (م): " أن ".
(4) لم ترد " به " في (ت)، (ر) و (ه‍).
371

الضرر المظنون، فإن العقل مستقل بقبحه ووجود المفسدة فيه واستحقاق
العقاب عليه، لأنه تشريع.
لكن هذا لا يختص بما علم إلغاؤه، بل هو جار في كل ما لم
يعلم اعتباره. توضيحه:
أنا قدمنا لك في تأسيس الأصل في العمل بالمظنة (1): أن كل ظن
لم يقم على اعتباره دليل قطعي - سواء قام دليل على عدم اعتباره أم
لا - فالعمل به بمعنى التدين بمؤداه وجعله حكما شرعيا، تشريع محرم
دل على حرمته الأدلة الأربعة. وأما العمل به بمعنى إتيان ما ظن
وجوبه مثلا (2) أو ترك ما ظن حرمته من دون أن يتشرع بذلك،
فلا قبح فيه إذا (3) لم يدل دليل من الأصول والقواعد المعتبرة يقينا على
خلاف مؤدى هذا الظن، بأن يدل على تحريم ما ظن وجوبه أو
وجوب ما ظن تحريمه.
فإن أراد أن الأمارات التي يقطع بعدم حجيتها - كالقياس
وشبهه - يكون في العمل بها بمعنى التدين بمؤداها وجعله حكما شرعيا،
ضرر أعظم من الضرر المظنون، فلا اختصاص لهذا الضرر بتلك
الظنون، لأن كل ظن لم يقم على اعتباره قاطع يكون في العمل به
بذلك المعنى هذا الضرر العظيم، أعني التشريع.
وإن أراد ثبوت الضرر في العمل بها بمعنى إتيان ما ظن وجوبه

(1) راجع الصفحة 125.
(2) لم ترد " مثلا " في (ت) و (ل).
(3) في (ت): " إذ ".
372

حذرا من الوقوع في مضرة ترك الواجب، وترك ما ظن حرمته لذلك،
كما يقتضيه قاعدة دفع الضرر، فلا ريب في استقلال العقل وبداهة
حكمه بعدم الضرر في ذلك أصلا وإن كان ذلك في الظن القياسي.
وحينئذ (1): فالأولى لهذا المجيب أن يبدل دعوى الضرر في العمل
بتلك الأمارات المنهي عنها بالخصوص بدعوى: أن في نهي الشارع عن
الاعتناء بها وترخيصه في مخالفتها - مع علمه بأن تركها ربما يفضي إلى
ترك الواجب وفعل الحرام - مصلحة يتدارك بها الضرر المظنون على
تقدير ثبوته في الواقع، فتأمل.
وسيجئ تمام الكلام عند التكلم في الظنون المنهي عنها بالخصوص،
وبيان كيفية عدم شمول أدلة حجية الظن لها إن شاء الله تعالى (2).
فالأولى أن يجاب عن هذا الدليل:
بأنه إن أريد من الضرر المظنون العقاب، فالصغرى ممنوعة، فإن
استحقاق العقاب على الفعل أو الترك - كاستحقاق الثواب عليهما - ليس
ملازما للوجوب والتحريم الواقعيين، كيف وقد يتحقق التحريم ونقطع
بعدم العقاب في الفعل، كما في الحرام والواجب المجهولين جهلا بسيطا أو
مركبا، بل استحقاق الثواب والعقاب إنما هو على تحقق الإطاعة
والمعصية اللتين لا تتحققان إلا بعد العلم بالوجوب والحرمة أو الظن
المعتبر بهما، وأما الظن المشكوك الاعتبار فهو كالشك، بل هو هو، بعد
ملاحظة أن من الظنون ما أمر الشارع بإلغائه ويحتمل أن يكون

(1) لم ترد " وحينئذ " في (ظ) و (م).
(2) انظر الصفحة 516 وما بعدها.
373

المفروض منها (1).
اللهم إلا أن يقال: إن الحكم بعدم العقاب والثواب فيما فرض من
صورتي الجهل البسيط و (2) المركب بالوجوب والحرمة، إنما هو لحكم العقل
بقبح التكليف مع الشك أو القطع بالعدم، أما (3) مع الظن بالوجوب أو
التحريم فلا يستقل العقل بقبح المؤاخذة، ولا إجماع أيضا على أصالة
البراءة في موضع النزاع.
ويرده: أنه لا يكفي المستدل منع استقلال العقل وعدم ثبوت
الإجماع، بل لا بد له من إثبات أن مجرد الوجوب والتحريم الواقعيين
مستلزمان للعقاب حتى يكون الظن بهما ظنا به، فإذا لم يثبت ذلك
بشرع ولا عقل لم يكن العقاب مظنونا، فالصغرى غير ثابتة.
ومنه يعلم فساد ما ربما يتوهم: أن قاعدة دفع الضرر يكفي
للدليل على ثبوت الاستحقاق.
وجه الفساد: أن هذه القاعدة موقوفة على ثبوت الصغرى وهي
الظن بالعقاب.
نعم، لو ادعي أن دفع الضرر المشكوك لازم توجه فيما نحن فيه
الحكم بلزوم الاحتراز في صورة الظن، بناء على عدم ثبوت الدليل على
نفي العقاب عند الظن، فيصير وجوده محتملا، فيجب دفعه.
لكنه رجوع عن الاعتراف باستقلال العقل وقيام الإجماع على
عدم المؤاخذة على الوجوب والتحريم المشكوكين.

(1) لم ترد " بل هو هو - إلى - المفروض منها " في (ت) و (ه‍).
(2) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " أو ".
(3) في (ر)، (ص) و (ه‍): " وأما ".
374

وإن أريد من الضرر المظنون المفسدة المظنونة، ففيه أيضا: منع
الصغرى، فإنا وإن لم نقل بتغير المصالح والمفاسد بمجرد الجهل، إلا أنا
لا نظن بترتب المفسدة بمجرد ارتكاب ما ظن حرمته، لعدم كون فعل
الحرام علة تامة لترتب المفسدة حتى مع القطع بثبوت الحرمة، لاحتمال
تداركها بمصلحة فعل آخر لا يعلمه المكلف أو يعلمه بإعلام الشارع،
نظير الكفارة والتوبة وغيرهما من الحسنات التي يذهبن السيئات.
ويرد عليه: أن الظن بثبوت مقتضي المفسدة مع الشك في وجود
المانع كاف في وجوب الدفع، كما في صورة القطع بثبوت المقتضي مع
الشك في وجود (1) المانع، فإن احتمال وجود المانع للضرر أو وجود ما
يتدارك الضرر لا يعتنى به عند العقلاء، سواء جامع الظن بوجود
مقتضي الضرر أم القطع به، بل أكثر موارد التزام العقلاء التحرز عن
المضار المظنونة - كسلوك الطرق المخوفة وشرب الأدوية المخوفة ونحو
ذلك - من موارد الظن بمقتضي الضرر دون العلة التامة له، بل المدار في
جميع غايات حركات الإنسان - من المنافع المقصود جلبها والمضار
المقصود دفعها - على المقتضيات دون العلل التامة، لأن الموانع والمزاحمات
مما لا تحصى ولا يحاط بها.
وأضعف من هذا الجواب ما يقال: إن في نهي الشارع عن العمل
بالظن كلية إلا ما خرج، ترخيصا في ترك مراعاة الضرر المظنون، ولذا
لا يجب مراعاته إجماعا في القياس.
ووجه الضعف ما ثبت سابقا (2): من أن عمومات حرمة العمل

(1) لم ترد " وجود " في (ل) و (م).
(2) راجع الصفحة 126.
375

بالظن أو بما عدا العلم إنما تدل على حرمته من حيث إنه لا يغني عن
الواقع، ولا تدل على حرمة العمل به في مقام إحراز الواقع والاحتياط
لأجله والحذر عن مخالفته.
فالأولى أن يقال: إن الضرر وإن كان مظنونا، إلا أن حكم
الشارع - قطعا أو ظنا - بالرجوع في مورد الظن إلى البراءة والاستصحاب
وترخيصه لترك مراعاة الظن أوجب القطع أو الظن بتدارك ذلك الضرر
المظنون، وإلا كان ترخيص العمل على الأصل المخالف للظن إلغاء
للمفسدة (1).
توضيح ذلك: أنه لا إشكال في أنه متى ظن بوجوب شئ وأن
الشارع الحكيم طلب فعله منا طلبا حتميا منجزا لا يرضى بتركه إلا
أنه اختفى علينا ذلك الطلب، أو حرم علينا فعلا كذلك، فالعقل مستقل
بوجوب فعل الأول وترك الثاني، لأنه يظن في ترك الأول الوقوع في
مفسدة ترك الواجب المطلق الواقعي والمحبوب المنجز النفس الأمري،
ويظن في فعل الثاني الوقوع في مفسدة الحرام الواقعي والمبغوض النفس
الأمري، إلا أنه لو صرح الشارع بالرخصة في ترك العمل في هذه
الصورة كشف ذلك عن مصلحة يتدارك بها ذلك الضرر المظنون، ولذا
وقع الإجماع على عدم وجوب مراعاة الظن بالوجوب و (2) الحرمة إذا
حصل الظن من القياس، وعلى جواز مخالفة الظن في الشبهات
الموضوعية حتى يستبين التحريم أو تقوم به البينة.
ثم إنه لا فرق بين أن يحصل القطع بترخيص الشارع ترك مراعاة

(1) كذا في (ت) و (ه‍)، وفي غيرهما: " المفسدة ".
(2) في (ت)، (ر)، (ص) و (ه‍): " أو ".
376

الظن بالضرر - كما عرفت (1) من الظن القياسي بالوجوب والتحريم ومن
حكم الشارع بجواز الارتكاب في الشبهة الموضوعية -، وبين أن يحصل الظن
بترخيص الشارع في ترك مراعاة ذلك الظن، كما في الظن الذي ظن كونه
منهيا عنه عند الشارع، فإنه يجوز ترك مراعاته، لأن المظنون تدارك
ضرر مخالفته لأجل ترك مظنون الوجوب أو فعل مظنون الحرمة، فافهم.
إذا عرفت ذلك، فنقول: إن أصل البراءة والاستصحاب إن قام
عليهما الدليل القطعي بحيث يدل على وجوب الرجوع إليهما في صورة
عدم العلم ولو مع وجود الظن الغير المعتبر، فلا إشكال في عدم
وجوب مراعاة ظن الضرر، وفي أنه لا يجب الترك أو الفعل بمجرد ظن
الوجوب أو الحرمة، لما عرفت (2): من أن ترخيص الشارع الحكيم
للإقدام على ما فيه ظن الضرر لا يكون إلا لمصلحة يتدارك بها ذلك (3)
الضرر المظنون على تقدير الثبوت واقعا.
وإن منعنا عن قيام الدليل القطعي على الأصول وقلنا: إن الدليل
القطعي لم يثبت على اعتبار الاستصحاب، خصوصا في الأحكام
الشرعية وخصوصا مع الظن بالخلاف، وكذلك الدليل لم يثبت على
الرجوع إلى البراءة حتى مع الظن بالتكليف، لأن العمدة في دليل
البراءة الإجماع والعقل المختصان بصورة عدم الظن بالتكليف، فنقول:
لا أقل من ثبوت بعض الأخبار الظنية على الاستصحاب والبراءة عند
عدم العلم الشامل لصورة الظن، فيحصل الظن بترخيص الشارع لنا في

(1) و (2) راجع الصفحة السابقة.
(3) لم ترد " ذلك " في (ر) و (ت).
377

ترك مراعاة ظن الضرر (1)، وهذا القدر يكفي في عدم الظن بالتضرر (2).
وتوهم: أن تلك الأخبار الظنية (3) لا تعارض العقل المستقل بدفع
الضرر المظنون، مدفوع: بأن الفرض أن الشارع لا يحكم بجواز
الاقتحام في مظان الضرر إلا عن مصلحة يتدارك بها الضرر المظنون
على تقدير ثبوته، فحكم الشارع ليس مخالفا للعقل، فلا وجه لاطراح
الأخبار الظنية الدالة على هذا الحكم الغير المنافي لحكم العقل (4).

(1) في (ر): " الظن بالضرر ".
(2) في (ت) و (ه‍): " بالضرر ".
(3) في (ر) و (ص): " ظنية ".
(4) في هامش (ت)، (ر) و (ص) زيادة مع اختلاف يسير بينها، وهي:
" ومحصل الكلام: أن الضرر الدنيوي لما جاز حكم الشارع عليه بجواز
الارتكاب بخلاف الضرر الأخروي، فيجوز أن يحكم الشارع بجواز الارتكاب مع
ظنه، فيكون ترك مظنون الضرر كمحتمله مرخصا فيه بأدلة الأصول.
نعم، لو ثبت طريقية الظن وحجيته كان كمقطوع الضرر، فإذا فرضنا أن الإضرار
الواقعي بالنفس محرم فإن قطع أو ظن بظن معتبر جاء التحريم، وإلا دخل تحت
الشبهة الموضوعية المرخص فيها مع الشك والظن غير المعتبر، فوجوب رفع
الضرر المظنون موقوف على إثبات طريقية الظن، فإثباتها به دور ظاهر.
فالتحقيق: أن الظن بالضرر إن استند إلى الأمارات الخارجية في الشبهات
الموضوعية كان طريقا وحجة بإجماع العلماء والعقلاء، والسر فيه انسداد باب
العلم بالضرر في الأمور الخارجية، فالعمل بالأصول في مقابل الظن يوجب
الوقوع في المضار الكثيرة بحيث يختل نظام المعاش نظير العمل بظن السلامة.
وإن كان مستندا إلى الأمارات في الشبهات الحكمية فلا دليل على اعتباره، بل
المرجع الأصول المرخصة النافية للتكليف، إلا إذا ثبت انسداد باب العلم فيها
فيرجع إلى دليل الانسداد. وكذلك الكلام في ظن السلامة في مقابل الأصول
المثبتة للتكليف، فتأمل.
والأولى والأسلم: الجواب بمنع ترتب الضرر الدنيوي على مخالفة الواجب
والحرام إما بالوجدان، وإما لاحتمال كون المصالح والمفاسد مترتبة على المخالفة
عصيانا لا مطلقا، ولا يلزم من ذلك عدم حسن الاحتياط في موارد الشك
فافهم، (منه قدس سره) " *
* في (ر) بدل (منه قدس سره): " صح ".
378

ثم إن مفاد هذا الدليل هو وجوب العمل بالظن إذا طابق الاحتياط
لا من حيث هو، وحينئذ: فإذا كان الظن مخالفا للاحتياط الواجب
- كما في صورة الشك في المكلف به - فلا وجه للعمل بالظن حينئذ.
ودعوى الإجماع المركب وعدم القول بالفصل، واضحة الفساد،
ضرورة أن العمل في الصورة الأولى لم يكن بالظن من حيث هو بل
من حيث كونه احتياطا، وهذه الحيثية نافية للعمل بالظن في الصورة
الثانية، فحاصل ذلك: العمل بالاحتياط كلية وعدم العمل بالظن رأسا (1).

(1) في (ت) و (ر) وهامش (ص) زيادة مع اختلاف يسير، وهي كما يلي:
" ويمكن أن يرد أيضا: بأنها قاعدة عملية لا تنهض دليلا حتى ينتفع به في
مقابل العمومات الدالة على الحكم الغير الضرري.
وقد يشكل: بأن المعارضة حينئذ تقع بين هذه القاعدة وبين الأصول اللفظية،
فإن نهضت للحكومة على هذه القاعدة جرى ذلك أيضا في البراءة والاستصحاب
النافيين للتكليف المرخصين للفعل والترك المؤمنين من الضرر، فافهم ".
379

الثاني: أنه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح،
وهو قبيح (1).
وربما يجاب عنه (2): بمنع قبح ترجيح المرجوح على الراجح، إذ
المرجوح قد يوافق الاحتياط، فالأخذ به حسن عقلا.
وفيه: أن المرجوح المطابق للاحتياط ليس العمل به ترجيحا
للمرجوح، بل هو جمع في العمل بين الراجح والمرجوح، مثلا: إذا ظن
عدم وجوب شئ وكان وجوبه مرجوحا، فحينئذ الإتيان به من باب
الاحتياط ليس طرحا للراجح في العمل، لأن الإتيان لا ينافي عدم
الوجوب.
وإن أريد الإتيان بقصد الوجوب المنافي لعدم الوجوب، ففيه: أن
الإتيان على هذا الوجه مخالف للاحتياط، فإن الاحتياط هو الإتيان
لاحتمال الوجوب، لا بقصده.
وقد يجاب أيضا: بأن ذلك فرع وجوب الترجيح، بمعنى أن الأمر
إذا دار بين ترجيح المرجوح وترجيح الراجح كان الأول قبيحا، وأما
إذا لم يثبت وجوب الترجيح فلا يرجح المرجوح ولا الراجح (3).

(1) هذا الاستدلال أشار إليه العلامة أيضا في ذيل الدليل السابق، انظر نهاية
الوصول (مخطوط): 297، وكذا المحقق القمي في القوانين 1: 243، وصاحب
الفصول في الفصول: 286.
(2) هذا الجواب من الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين: 411.
(3) في (ت)، (ل) و (ه‍): " فلا مرجح للمرجوح ولا للراجح ".
380

وفيه: أن التوقف عن ترجيح الراجح أيضا قبيح، كترجيح
المرجوح (1).
فالأولى الجواب أولا: بالنقض بكثير من الظنون المحرمة العمل
بالإجماع أو الضرورة.
وثانيا: بالحل، وتوضيحه: تسليم القبح إذا كان التكليف وغرض
الشارع متعلقا بالواقع ولم يمكن الاحتياط، فإن العقل قاطع بأن الغرض
إذا تعلق بالذهاب إلى بغداد وتردد الأمر بين طريقين، أحدهما مظنون
الإيصال والآخر موهومه، فترجيح الموهوم قبيح، لأنه نقض للغرض،
وأما إذا لم يتعلق التكليف بالواقع أو تعلق به مع إمكان الاحتياط،
فلا يجب الأخذ بالراجح، بل اللازم في الأول هو الأخذ بمقتضى
البراءة، وفي الثاني الأخذ بمقتضى الاحتياط، فإثبات القبح موقوف على
إبطال الرجوع إلى البراءة في موارد الظن وعدم وجوب الاحتياط فيها،
ومعلوم أن العقل قاض حينئذ بقبح ترجيح المرجوح (2)، فلا بد من
إرجاع هذا الدليل إلى دليل الانسداد الآتي (3)، المركب من بقاء
التكليف، وعدم جواز الرجوع إلى البراءة، وعدم لزوم الاحتياط، وغير
ذلك من المقدمات التي لا يتردد الأمر بين الأخذ بالراجح والأخذ
بالمرجوح إلا بعد إبطالها.

(1) في (ر) و (ص) زيادة: " فتأمل جدا ".
(2) في (ص) زيادة: " بل ترك ترجيح الراجح على المرجوح "، وقريب منها في
(ر).
(3) في الصفحة 384.
381

الثالث: ما حكاه الأستاذ عن أستاذه السيد الطباطبائي (قدس سرهما) (1):
من أنه لا ريب في وجود واجبات ومحرمات كثيرة بين المشتبهات،
ومقتضى ذلك وجوب الاحتياط بالإتيان بكل ما يحتمل الوجوب ولو
موهوما، وترك ما يحتمل الحرمة كذلك، ولكن مقتضى قاعدة نفي العسر
والحرج عدم وجوب ذلك كله (2)، لأنه عسر أكيد وحرج شديد، فمقتضى
الجمع بين قاعدتي " الاحتياط " و " انتفاء الحرج "، العمل بالاحتياط في
المظنونات دون المشكوكات والموهومات، لأن الجمع على غير هذا
الوجه بإخراج بعض المظنونات وإدخال بعض المشكوكات والموهومات
باطل إجماعا.
وفيه: أنه راجع إلى دليل الانسداد الآتي (3)، إذ ما من مقدمة من
مقدمات ذلك (4) الدليل إلا و (5) يحتاج (6) إليها في إتمام هذا الدليل، فراجع
وتأمل حتى يظهر لك حقيقة الحال.
مع أن العمل بالاحتياط في المشكوكات - أيضا - كالمظنونات

(1) حكاه شريف العلماء عن أستاذه صاحب الرياض (قدس سرهما) في مجلس المذاكرة، على
ما في بحر الفوائد 1: 189.
(2) لم ترد " كله " في (ظ) و (م).
(3) في الصفحة 384.
(4) في (ه‍) ونسخة بدل (ص): " هذا ".
(5) في (ت)، (ر)، (ص) و (ظ) زيادة: " هي ".
(6) في (ظ): " محتاج ".
382

لا يلزم منه حرج قطعا، لقلة موارد الشك المتساوي الطرفين كما لا يخفى،
فيقتصر في ترك الاحتياط على الموهومات فقط.
ودعوى: أن كل من قال بعدم الاحتياط في الموهومات قال
بعدمه - أيضا - في المشكوكات، في غاية الضعف والسقوط.
383

الدليل الرابع: هو الدليل المعروف بدليل الانسداد.
وهو مركب من مقدمات:
الأولى: انسداد باب العلم والظن الخاص في معظم المسائل
الفقهية.
الثانية: أنه لا يجوز لنا إهمال الأحكام المشتبهة، وترك التعرض
لامتثالها بنحو من أنحاء امتثال الجاهل العاجز عن العلم التفصيلي (1)، بأن
نقتصر في الإطاعة على التكاليف القليلة المعلومة تفصيلا أو بالظن
الخاص القائم مقام العلم بنص الشارع، ونجعل أنفسنا في تلك الموارد
ممن لا حكم عليه فيها كالأطفال والبهائم، أو ممن (2) حكمه فيها الرجوع
إلى أصالة العدم.
الثالثة: أنه إذا وجب التعرض لامتثالها فليس امتثالها بالطرق
الشرعية المقررة للجاهل: من الأخذ بالاحتياط الموجب للعلم الإجمالي
بالامتثال، أو الأخذ في كل مسألة بالأصل المتبع شرعا في نفس تلك
المسألة مع قطع النظر عن ملاحظتها منضمة إلى غيرها من المجهولات،
أو الأخذ بفتوى العالم بتلك المسألة وتقليده فيها.
الرابعة: أنه إذا بطل الرجوع في الامتثال إلى الطرق الشرعية
المذكورة - لعدم الوجوب في بعضها وعدم الجواز في الآخر -، والمفروض
عدم سقوط الامتثال بمقتضى المقدمة الثانية، تعين بحكم العقل المستقل

(1) في (ت) و (ص) بدل " التفصيلي ": " اليقيني ".
(2) في (ظ): " من ".
384

الرجوع إلى الامتثال الظني والموافقة الظنية للواقع، ولا يجوز العدول
عنه إلى الموافقة الوهمية بأن يؤخذ بالطرف المرجوح، ولا إلى الامتثال
الاحتمالي والموافقة الشكية بأن يعتمد على أحد طرفي المسألة من دون
تحصيل الظن فيها، أو يعتمد على ما يحتمل كونه طريقا شرعيا للامتثال
من دون إفادته للظن أصلا (1).

(1) في (ت) و (ر) ونسخة بدل (ص) زيادة: " فيحصل من جميع هذه المقدمات
وجوب الامتثال الظني والرجوع إلى الظن ".
385

أما المقدمة الأولى:
فهي بالنسبة إلى انسداد باب العلم في الأغلب غير محتاجة إلى
الإثبات، ضرورة قلة ما يوجب العلم التفصيلي بالمسألة على وجه
لا يحتاج العمل فيها إلى إعمال أمارة غير علمية. وأما بالنسبة إلى
انسداد باب الظن الخاص، فهي مبنية على أن لا يثبت من الأدلة
المتقدمة لحجية خبر الواحد حجية مقدار منه يفي - بضميمة الأدلة
العلمية وباقي الظنون الخاصة - بإثبات معظم الأحكام الشرعية، بحيث
لا يبقى مانع عن الرجوع في المسائل الخالية عن الخبر وأخواته من
الظنون الخاصة إلى ما يقتضيه الأصل في تلك الواقعة، من البراءة أو
الاستصحاب أو الاحتياط أو التخيير.
فتسليم هذه المقدمة ومنعها لا يظهر إلا بعد التأمل التام وبذل
الجهد في النظر فيما تقدم من أدلة حجية الخبر، وأنه هل يثبت بها
حجية مقدار واف من الخبر أم لا؟
وهذه هي عمدة مقدمات دليل الانسداد، بل (1) الظاهر المصرح به
في كلمات بعض (2) أن ثبوت هذه المقدمة يكفي في حجية الظن المطلق،
للإجماع عليه على تقدير انسداد باب العلم والظن الخاص (3)، ولذا

(1) في (ظ): " إذ ".
(2) كالسيد المجاهد في مفاتيح الأصول: 459.
(3) لم ترد عبارة " للإجماع - إلى - الظن الخاص " في (ر)، وكتب عليها في (ص):
" نسخة ".
386

لم يذكر صاحب المعالم (1) وصاحب الوافية (2) في إثبات حجية الظن
الخبري غير انسداد باب العلم.
وأما الاحتمالات الآتية في ضمن المقدمات الآتية، من الرجوع بعد
انسداد باب العلم والظن الخاص إلى شئ آخر غير الظن، فإنما هي
أمور احتملها بعض المدققين من متأخري المتأخرين، أولهم - فيما أعلم -
المحقق جمال الدين الخوانساري، حيث أورد على دليل الانسداد باحتمال
الرجوع إلى البراءة واحتمال الرجوع إلى الاحتياط (3)، وزاد عليها بعض
من تأخر (4) احتمالات اخر.

(1) انظر المعالم: 192.
(2) انظر الوافية: 159.
(3) سيأتي نقل كلامه في الصفحة 400 - 401.
(4) كالفاضل النراقي في عوائد الأيام: 379.
387

وأما المقدمة الثانية:
وهي عدم جواز إهمال الوقائع المشتبهة على كثرتها، وترك
التعرض لامتثالها بنحو من الأنحاء، فيدل عليه وجوه:
الأول: الإجماع القطعي على أن المرجع على تقدير انسداد باب
العلم وعدم ثبوت الدليل على حجية أخبار الآحاد بالخصوص، ليس
هي البراءة وإجراء أصالة العدم في كل حكم، بل لا بد من التعرض
لامتثال الأحكام المجهولة بوجه ما، وهذا الحكم وإن لم يصرح به أحد
من قدمائنا بل المتأخرين في هذا المقام، إلا أنه معلوم للمتتبع في طريقة
الأصحاب بل علماء الإسلام طرا، فرب مسألة غير معنونة يعلم اتفاقهم
فيها من ملاحظة كلماتهم في نظائرها.
أترى: أن علماءنا العاملين بالأخبار التي بأيدينا لو لم يقم عندهم
دليل خاص على اعتبارها، كانوا يطرحونها ويستريحون في مواردها إلى
أصالة العدم؟! حاشا ثم حاشا.
مع أنهم كثيرا ما يذكرون أن الظن يقوم مقام العلم في الشرعيات
عند تعذر العلم، وقد حكي عن السيد في بعض كلماته: الاعتراف
بالعمل بالظن عند تعذر العلم (1)، بل قد ادعى في المختلف في باب قضاء
الفوائت الإجماع على ذلك (2).
الثاني: أن الرجوع في جميع تلك الوقائع إلى نفي الحكم مستلزم

(1) انظر رسائل الشريف المرتضى 3: 39، وحكاه عنه في المعالم: 197.
(2) المختلف 3: 26.
388

للمخالفة القطعية الكثيرة، المعبر عنها في لسان جمع من مشايخنا بالخروج
عن الدين (1)، بمعنى أن المقتصر على التدين بالمعلومات التارك للأحكام
المجهولة جاعلا لها كالمعدومة، يكاد يعد خارجا عن الدين، لقلة
المعلومات التي أخذ بها وكثرة المجهولات التي أعرض عنها، وهذا أمر
يقطع ببطلانه كل أحد بعد الالتفات إلى كثرة المجهولات، كما يقطع
ببطلان الرجوع إلى نفي الحكم وعدم الالتزام بحكم أصلا (2) لو فرض
- والعياذ بالله - انسداد باب العلم والظن الخاص في جميع الأحكام،
وانطماس هذا المقدار القليل من الأحكام المعلومة.
فيكشف بطلان الرجوع إلى البراءة عن وجوب التعرض لامتثال
تلك المجهولات ولو على غير وجه العلم والظن الخاص، لا أن يكون
تعذر العلم والظن الخاص منشأ للحكم بارتفاع التكليف بالمجهولات، كما
توهمه بعض من تصدى للإيراد على كل واحدة واحدة من مقدمات
الانسداد (3).
نعم، هذا إنما يستقيم في حكم واحد أو أحكام قليلة لم يوجد
عليه دليل علمي أو ظني معتبر، كما هو دأب المجتهدين بعد تحصيل
الأدلة والأمارات في أغلب الأحكام، أما إذا صار معظم الفقه أو كله
مجهولا فلا يجوز أن يسلك فيه هذا المنهج.

(1) انظر هداية المسترشدين: 402، ومفاتيح الأصول: 468 - 469، وضوابط
الأصول: 252.
(2) لم ترد " أصلا " في (ظ) و (م).
(3) هو الفاضل النراقي في عوائد الأيام: 360، ومناهج الأحكام: 256 - 257.
389

والحاصل: أن طرح أكثر الأحكام الفرعية بنفسه محذور مفروغ
عن بطلانه، كطرح جميع الأحكام لو فرضت مجهولة، وقد وقع ذلك
تصريحا أو تلويحا في كلام جماعة من القدماء والمتأخرين:
منهم: الصدوق في الفقيه - في باب الخلل الواقع في الصلاة، في
ذيل أخبار سهو النبي - حيث قال (رحمه الله) (1): فلو جاز رد هذه الأخبار
الواردة في هذا الباب لجاز رد جميع الأخبار، وفيه إبطال للدين
والشريعة (2)، انتهى.
و (3) منهم: السيد (قدس سره) حيث أورد على نفسه في المنع عن العمل
بخبر الواحد، وقال: فإن قلت: إذا سددتم طريق العمل بأخبار الآحاد،
فعلى أي شئ تعولون في الفقه كله؟ فأجاب بما حاصله: دعوى انفتاح
باب العلم في الأحكام (4).
ولا يخفى: أنه لو جاز طرح الأحكام المجهولة ولم يكن شيئا
منكرا لم يكن وجه للايراد المذكور، إذ الفقه حينئذ ليس إلا عبارة عن
الأحكام التي قام عليها الدليل والمرجع وكان فيها (5) معول. ولم يكن
وقع أيضا للجواب بدعوى الانفتاح الراجعة إلى دعوى عدم الحاجة إلى

(1) " حيث قال رحمه الله " من (ت) فقط.
(2) الفقيه 1: 360، ذيل الحديث 1031.
(3) لم ترد عبارة " منهم الصدوق - إلى - انتهى و " في (ظ)، (ل) و (م)، وكتب
عليها في (ص): " نسخة ".
(4) انظر رسائل الشريف المرتضى 3: 312.
(5) في غير (ه‍): " فيه ".
390

أخبار الآحاد.
بل المناسب حينئذ الجواب: بأن عدم المعول في أكثر المسائل
لا يوجب فتح باب العمل (1) بخبر الواحد.
والحاصل: أن ظاهر السؤال والجواب المذكورين التسالم والتصالح (2)
على أنه لو فرض الحاجة إلى أخبار الآحاد - لعدم المعول في أكثر
الفقه -، لزم العمل عليها وإن لم يقم عليه دليل بالخصوص، فإن نفس
الحاجة إليها هي أعظم دليل، بناء على عدم جواز طرح الأحكام، ومن
هنا ذكر السيد صدر الدين في شرح الوافية: أن السيد قد اصطلح بهذا
الكلام مع المتأخرين (3).
ومنهم: الشيخ (قدس سره) في العدة، حيث إنه - بعد دعوى الإجماع على
حجية أخبار الآحاد - قال ما حاصله: أنه لو ادعى أحد أن (4) عمل
الإمامية بهذه الأخبار كان لأجل قرائن انضمت إليها، كان معولا على
ما يعلم من الضرورة خلافه - ثم قال -:
ومن قال: إني متى عدمت شيئا من القرائن حكمت بما كان
يقتضيه العقل، يلزمه أن يترك أكثر الأخبار وأكثر الأحكام ولا يحكم
فيها بشئ ورد الشرع به. وهذا حد يرغب أهل العلم عنه، ومن صار
إليه لا يحسن مكالمته، لأنه يكون معولا على ما يعلم ضرورة من

(1) في (م) و (ه‍): " باب العلم ".
(2) في (م): " أو التصالح ".
(3) شرح الوافية (مخطوط): 188.
(4) في النسخ زيادة: " دعوى ".
391

الشرع خلافه (1)، انتهى.
ولعمري، أنه يكفي مثل هذا الكلام من الشيخ في قطع توهم
جواز الرجوع إلى البراءة عند فرض فقد العلم والظن الخاص في أكثر
الأحكام (2).
ومنهم: العلامة في نهج المسترشدين - في مسألة إثبات عصمة
الإمام - حيث ذكر: أنه (عليه السلام) لا بد أن يكون حافظا للأحكام، واستدل
بأن الكتاب والسنة لا يدلان على التفاصيل - إلى أن قال -: والبراءة
الأصلية ترفع جميع الأحكام (3).
ومنهم: بعض أصحابنا (4) - في رسالته المعمولة في علم الكلام
المسماة بعصرة المنجود - حيث استدل على عصمة الإمام (عليه السلام): بأنه
حافظ للشريعة، لعدم إحاطة الكتاب والسنة به - إلى أن قال -:
والقياس باطل، والبراءة الأصلية ترفع جميع الأحكام (5)، انتهى.
ومنهم: الفاضل المقداد في شرح الباب الحادي عشر، إلا أنه

(1) العدة 1: 136.
(2) في (ت)، (ص) و (ه‍) زيادة: " ومنهم: المحقق في المعتبر، حيث قال في مسألة
خمس الغوص - في رد من نفاه مستدلا بأنه لو كان لنقل بالسنة -: قلنا: أما
تواترا فممنوع، وإلا لبطل كثير من الأحكام " انتهى. وزاد في (ص) أيضا:
" لعدم وجود التواتر في كثير من الأحكام ". انظر المعتبر 2: 622.
(3) نهج المسترشدين: 63.
(4) هو الشيخ زين الدين البياضي النباطي العاملي، المتوفى سنة 877.
(5) عصرة المنجود (مخطوط)، باب الإمامة، الصفحة 3.
392

قال: إن الرجوع إلى البراءة الأصلية يرفع أكثر الأحكام (1).
والظاهر: أن مراد العلامة وصاحب الرسالة (قدس سرهما) من جميع الأحكام
ما عدا المستنبط من الأدلة العلمية، لأن كثيرا من الأحكام ضرورية
لا ترفع (2) بالأصل، ولا يشك فيها حتى يحتاج إلى الإمام (عليه السلام).
ومنهم: المحقق الخوانساري في ما حكى عنه السيد الصدر في
شرح الوافية (3): من أنه رجح الاكتفاء في تعديل الراوي بعدل، مستدلا
- بعد مفهوم آية النبأ -: بأن اعتبار التعدد يوجب خلو أكثر الأحكام
عن الدليل (4).
ومنهم: صاحب الوافية، حيث تقدم عنه (5) الاستدلال على حجية
أخبار الآحاد: بأنا نقطع مع طرح أخبار الآحاد في مثل الصلاة
والصوم والزكاة والحج والمتاجر والأنكحة وغيرها، بخروج حقائق هذه
الأمور عن كونها هذه الأمور.
وهذه عبارة أخرى عن الخروج عن الدين الذي عبر به جماعة
من مشايخنا (6).

(1) شرح الباب الحادي عشر: 43.
(2) في (ت)، (ص)، (م) ونسخة بدل (ه‍): " لا ترتفع ".
(3) شرح الوافية (مخطوط): 209.
(4) حاشية شرح مختصر الأصول للمحقق جمال الدين الخوانساري (مخطوط):
الورقة 130، فما بعدها.
(5) راجع الصفحة 361.
(6) تقدم ذكرهم في الصفحة 389.
393

ومنهم: بعض شراح الوسائل (1)، حيث استدل على حجية أخبار
الآحاد: بأنه لو لم يعمل بها بطل التكليف، وبطلانه ظاهر.
ومنهم: المحدث البحراني صاحب الحدائق، حيث ذكر في مسألة
ثبوت الربا في الحنطة بالشعير خلاف الحلي في ذلك (2)، وقوله بكونهما
جنسين، وأن الأخبار الواردة في اتحادهما آحاد لا توجب علما
ولا عملا، قال في رده: إن الواجب عليه مع رد هذه الأخبار ونحوها
من أخبار الشريعة هو الخروج عن هذا الدين إلى دين آخر (3)، انتهى.
ومنهم: العضدي - تبعا للحاجبي - حيث حكى عن بعضهم الاستدلال
على حجية خبر الواحد: بأنه لولاها لخلت أكثر الوقائع عن المدرك (4).
ثم، إنه وإن ذكر في الجواب عنه (5): أنا نمنع الخلو عن المدرك،
لأن الأصل من المدارك، لكن هذا الجواب من العامة القائلين بعدم
إتيان النبي (صلى الله عليه وآله) بأحكام جميع الوقائع، ولو كان المجيب من الإمامية
القائلين بإتمام (6) الشريعة وبيان جميع الأحكام لم يجب بذلك.
وبالجملة: فالظاهر أن خلو أكثر الأحكام عن المدرك المستلزم

(1) لم نقف عليه.
(2) انظر السرائر 2: 254.
(3) الحدائق 19: 231.
(4) في المصدر: " عن الحكم "، انظر شرح مختصر الأصول: 163 - 164، المتن
للحاجبي، والشرح للعضدي.
(5) حكاه الحاجبي في ذيل الاستدلال المذكور.
(6) كذا في (ت)، (ر)، (م)، (ه‍) ونسخة بدل (ص)، وفي غيرها: " بإكمال ".
394

للرجوع فيها إلى نفي الحكم وعدم الالتزام في معظم الفقه بحكم تكليفي،
كأنه أمر مفروغ البطلان.
والغرض من جميع ذلك: الرد على بعض من تصدى لرد هذه
المقدمة (1)، ولم يأت بشئ عدا ما قرع سمع كل أحد، من أدلة البراءة
وعدم ثبوت التكليف إلا بعد البيان، ولم يتفطن لأن مجراها في غير ما
نحن فيه، فهل يرى من نفسه إجراءها لو فرضنا - والعياذ بالله - ارتفاع
العلم بجميع الأحكام.
بل نقول: لو فرضنا أن مقلدا دخل عليه وقت الصلاة ولم يعلم
من الصلاة عدا ما تعلم من أبويه بظن الصحة - مع احتمال الفساد عنده
احتمالا ضعيفا - ولم يتمكن من أزيد من ذلك، فهل يلتزم بسقوط
التكليف عنه بالصلاة في هذه الحالة، أو أنه يأتي بها على حسب ظنه
الحاصل من قول أبويه، والمفروض أن قول أبويه مما لم يدل عليه
دليل شرعي؟ فإذا لم تجد من نفسك الرخصة في تجويز ترك الصلاة
لهذا الشخص، فكيف ترخص الجاهل بمعظم الأحكام في نفي الالتزام
بشئ منها عدا القليل المعلوم أو المظنون بالظن الخاص، وترك ما عداه
ولو كان مظنونا بظن لم يقم على اعتباره دليل خاص؟
بل الإنصاف: أنه لو فرض - والعياذ بالله - فقد الظن المطلق في
معظم الأحكام، كان الواجب الرجوع إلى الامتثال الاحتمالي بالتزام ما
لا يقطع معه بطرح الأحكام الواقعية.

(1) هو الفاضل النراقي في عوائد الأيام: 359 - 376، ومناهج الأحكام: 256
- 257.
395

الثالث: أنه لو سلمنا أن الرجوع إلى البراءة لا يوجب شيئا مما
ذكر من المحذور البديهي، وهو الخروج عن الدين، فنقول: إنه لا دليل
على الرجوع إلى البراءة من جهة العلم الإجمالي بوجود الواجبات
والمحرمات، فإن أدلتها مختصة بغير هذه الصورة، ونحن نعلم إجمالا أن
في المظنونات (1) واجبات كثيرة ومحرمات كثيرة.
والفرق بين هذا الوجه وسابقه: أن الوجه السابق كان مبنيا على
لزوم المخالفة القطعية الكثيرة المعبر عنها بالخروج عن الدين، وهو محذور
مستقل وإن قلنا بجواز العمل بالأصل في صورة لزوم مطلق المخالفة
القطعية.
وهذا الوجه مبني على أن مطلق المخالفة القطعية غير جائز، وأصل
البراءة في مقابلها غير جار ما لم يصل المعلوم الإجمالي إلى حد الشبهة
الغير المحصورة، وقد ثبت في مسألة البراءة: أن مجراها الشك في أصل
التكليف، لا الشك في تعيينه مع القطع بثبوت أصله، كما في ما نحن
فيه.
فإن قلت: إذا فرضنا أن ظن المجتهد أدى في جميع الوقائع إلى ما
يوافق البراءة، فما تصنع؟
قلت:
أولا: إنه مستحيل، لأن العلم الإجمالي بوجود الواجبات والمحرمات
الكثيرة في جملة الوقائع المشتبهة يمنع عن حصول الظن بعدم وجوب
شئ من الوقائع المحتملة للوجوب وعدم حرمة شئ من الوقائع المحتملة

(1) في (ت) و (ص): " المشتبهات ".
396

للتحريم، لأن الظن بالسالبة الكلية يناقض العلم بالموجبة الجزئية، فالظن
بأنه (1) " لا شخص من العلماء بفاسق " يناقض العلم إجمالا بأن " بعض
العلماء فاسق ".
وثانيا: إنه على تقدير الإمكان غير واقع، لأن الأمارات التي
يحصل للمجتهد (2) منها الظن في الوقائع لا تخلو عن الأخبار المتضمن
كثير منها لإثبات التكليف وجوبا وتحريما، فحصول الظن بعدم التكليف
في جميع الوقائع أمر يعلم عادة بعدم وقوعه.
وثالثا: لو سلمنا وقوعه، لكن لا يجوز حينئذ العمل بعدم
التكليف في جميع الوقائع، لأجل العلم الإجمالي المفروض، فلا بد حينئذ
من التبعيض بين مراتب الظن بالقوة والضعف، فيعمل في موارد الظن
الضعيف بنفي التكليف بمقتضى الاحتياط، وفي موارد الظن القوي بنفي
التكليف بمقتضى البراءة، ولو فرض التسوية في القوة والضعف كان
الحكم كما لو لم يكن ظن في شئ من تلك الوقائع: من التخيير إن لم
يتيسر لهذا الشخص الاحتياط، وإن تيسر الاحتياط تعين الاحتياط في
حق نفسه وإن (3) لم يجز لغيره تقليده، ولكن الظاهر أن ذلك مجرد فرض
غير واقع، لأن الأمارات كثير منها مثبتة للتكليف، فراجع كتب
الأخبار.
ثم إنه قد يرد (4) الرجوع إلى أصالة البراءة - تبعا لصاحب

(1) في (ظ)، (ل) و (م): " بأن ".
(2) في (ت)، (ر) و (ص): " المجتهد ".
(3) لم ترد " إن " في (ظ) و (م).
(4) الراد هو المحقق القمي في القوانين 1: 442.
397

المعالم (1) وشيخنا البهائي في الزبدة (2) -: بأن اعتبارها من باب الظن،
والظن منتف في مقابل الخبر ونحوه من أمارات الظن.
وفيه: منع كون البراءة من باب الظن. كيف؟ ولو كانت كذلك
لم يكن دليل على اعتبارها، بل هو من باب حكم العقل القطعي بقبح
التكليف (3) من دون بيان.
وذكر المحقق القمي (رحمه الله) في منع حكم العقل المذكور: أن حكم
العقل إما أن يريد به الحكم القطعي أو الظني.
فإن كان الأول، فدعوى كون مقتضى أصل البراءة قطعيا أول
الكلام، كما لا يخفى على من لاحظ أدلة المثبتين والنافين من العقل
والنقل.
سلمنا كونه قطعيا في الجملة، لكن المسلم إنما هو قبل ورود
الشرع، وأما بعد ورود الشرع فالعلم بأن فيه أحكاما إجمالية على
سبيل اليقين يثبطنا عن الحكم بالعدم قطعا، كما لا يخفى.
سلمنا ذلك، ولكن لا نسلم حصول القطع بعد ورود مثل الخبر
الواحد الصحيح على خلافه.
وإن أراد الحكم الظني - سواء كان بسبب كونه بذاته مفيدا للظن
أو من جهة استصحاب الحالة السابقة - فهو أيضا ظن مستفاد من ظاهر
الكتاب والأخبار التي لم يثبت حجيتها (4) بالخصوص. مع أنه ممنوع بعد

(1) انظر المعالم: 192 - 193.
(2) الزبدة: 58.
(3) في (ل): " بعدم التكليف ".
(4) في (ت)، (ر) و (ه‍): " حجيتهما ".
398

ورود الشرع ثم بعد ورود الخبر الصحيح إذا حصل من خبر الواحد
ظن أقوى منه (1)، انتهى كلامه رفع مقامه.
وفيه: أن حكم العقل بقبح المؤاخذة من دون البيان حكم قطعي
لا اختصاص له بحال دون حال، فلا وجه لتخصيصه بما قبل ورود
الشرع، ولم يقع فيه خلاف بين العقلاء، وإنما ذهب من ذهب إلى
وجوب الاحتياط لزعم نصب الشارع البيان على وجوب الاحتياط من
الآيات والأخبار (2) التي ذكروها. وأما الخبر الصحيح فهو كغيره من
الظنون إن قام دليل قطعي على اعتباره كان داخلا في البيان، ولا كلام
في عدم جريان البراءة معه، وإلا فوجوده كعدمه غير مؤثر في الحكم
العقلي.
والحاصل: أنه لا ريب لأحد - فضلا عن أنه لا خلاف (3) - في
أنه على تقدير عدم بيان التكليف بالدليل العام أو الخاص فالأصل
البراءة، وحينئذ فاللازم إقامة الدليل على كون الظن المقابل بيانا.
ومما ذكرنا ظهر: صحة دعوى الإجماع على أصالة البراءة في
المقام، لأنه إذا فرض عدم الدليل على اعتبار الظن المقابل صدق قطعا
عدم البيان، فتجري البراءة.
وظهر فساد دفع أصل البراءة بأن المستند فيها إن كان هو
الإجماع فهو مفقود في محل البحث، وإن كان هو العقل فمورده صورة

(1) القوانين 1: 442.
(2) في (ت): " أو الأخبار ".
(3) في (ه‍): " فضلا من الاختلاف ".
399

عدم الدليل ولا نسلم عدم الدليل مع وجود الخبر.
وهذا الكلام - خصوصا الفقرة الأخيرة منه - مما يضحك الثكلى (1)،
فإن عدم ثبوت كون الخبر دليلا يكفي في تحقق مصداق القطع بعدم
الدليل الذي هو مجرى البراءة.
واعلم: أن الاعتراض على مقدمات دليل الانسداد بعدم استلزامها
للعمل بالظن، لجواز الرجوع إلى البراءة، وإن كان قد أشار إليه
صاحب المعالم وصاحب الزبدة وأجابا عنه بما تقدم (2) مع رده: من أن
أصالة البراءة لا يقاوم الظن الحاصل من خبر الواحد، إلا أن أول من
شيد الاعتراض به وحرره لا من باب الظن، هو المحقق المدقق جمال
الدين (قدس سره) في حاشيته (3)، حيث قال:
يرد على الدليل المذكور: أن انسداد باب العلم بالأحكام الشرعية
غالبا لا يوجب جواز العمل بالظن حتى يتجه ما ذكروه، لجواز أن
لا يجوز العمل بالظن، فكل حكم حصل العلم به من ضرورة أو إجماع
نحكم به، وما لم يحصل العلم به نحكم فيه بأصالة البراءة، لا لكونها
مفيدة للظن، ولا للإجماع على وجوب التمسك بها، بل لأن العقل يحكم
بأنه لا يثبت تكليف علينا إلا بالعلم به، أو بظن يقوم على اعتباره
دليل يفيد العلم، ففيما انتفى الأمران فيه يحكم العقل ببراءة الذمة عنه
وعدم جواز العقاب على تركه، لا لأن الأصل المذكور يفيد ظنا

(1) في (ص) بدل " مما يضحك الثكلى ": " كما ترى ".
(2) راجع الصفحة 398.
(3) أي في حاشيته على شرح مختصر الأصول.
400

بمقتضاها حتى يعارض بالظن الحاصل من أخبار الآحاد بخلافها، بل لما
ذكرنا: من حكم العقل بعدم لزوم شئ علينا ما لم يحصل العلم لنا،
ولا يكفي الظن به. ويؤكده: ما ورد من النهي عن اتباع الظن.
وعلى هذا، ففي ما لم يحصل العلم به على أحد الوجهين وكان لنا
مندوحة عنه - كغسل الجمعة - فالخطب سهل، إذ نحكم بجواز تركه
بمقتضى الأصل المذكور.
وأما فيما لم يكن مندوحة عنه، كالجهر بالتسمية والإخفات بها في
الصلاة الإخفاتية التي قال بوجوب كل منهما قوم ولا يمكن لنا ترك
التسمية، فلا محيص لنا عن الإتيان بأحدهما، فنحكم بالتخيير فيها،
لثبوت وجوب أصل التسمية وعدم ثبوت وجوب الجهر أو الإخفات،
فلا حرج لنا في شئ منهما، وعلى هذا فلا يتم الدليل المذكور، لأنا لا
نعمل بالظن أصلا (1)، انتهى كلامه رفع مقامه.
وقد عرفت (2): أن المحقق القمي (قدس سره) (3) أجاب عنه بما لا يسلم عن
الفساد، فالحق رده بالوجوه الثلاثة المتقدمة (4).
ثم إن ما ذكره: من التخلص عن العمل بالظن بالرجوع إلى
البراءة، لا يجري في جميع الفقه، إذ قد يتردد الأمر بين كون المال
لأحد شخصين، كما إذا شك في صحة بيع المعاطاة فتبايع بها اثنان، فإنه

(1) حاشية جمال الدين الخوانساري على شرح المختصر (مخطوط): الورقة 119.
(2) راجع الصفحة 398.
(3) في (ت) و (ه‍) زيادة: " قد ".
(4) في الصفحة 396 - 397.
401

لا مجرى هنا للبراءة، لحرمة تصرف كل منهما على تقدير كون المبيع
ملك صاحبه وكذا في الثمن، ولا معنى للتخيير أيضا، لأن كلا منهما
يختار مصلحته، وتخيير الحاكم هنا لا دليل عليه.
مع أن الكلام في حكم الواقعة، لا في علاج الخصومة.
اللهم إلا أن يتمسك في أمثاله بأصالة عدم ترتب الأثر، بناء على
أن أصالة العدم من الأدلة الشرعية، فلو ابدل في الإيراد أصالة البراءة
بأصالة العدم كان أشمل.
ويمكن أن يكون هذا الأصل - يعني أصل الفساد وعدم التملك
وأمثاله - داخلا في المستثنى في قوله: " لا يثبت تكليف علينا إلا بالعلم
أو بظن يقوم على اعتباره دليل يفيد العلم "، بناء على أن أصل العدم
من الظنون الخاصة التي قام على اعتبارها الإجماع والسيرة، إلا أن يمنع
قيامهما على اعتباره عند اشتباه الحكم الشرعي مع وجود الظن على
خلافه.
واعتباره من باب الاستصحاب - مع ابتنائه على حجية الاستصحاب
في الحكم الشرعي - رجوع إلى الظن العقلي أو الظن الحاصل من أخبار
الآحاد الدالة على الاستصحاب.
اللهم إلا أن يدعى تواترها ولو إجمالا، بمعنى حصول العلم
بصدور بعضها إجمالا، فيخرج عن حيز الآحاد (1)، ولا يخلو عن تأمل.
وكيف كان، ففي الأجوبة المتقدمة (2) ولا أقل من الوجه الأخير
غنى وكفاية إن شاء الله تعالى.

(1) في غير (ظ) و (م): " خبر الآحاد ".
(2) في الصفحة 396 - 397.
402

المقدمة الثالثة:
في بيان بطلان وجوب تحصيل الامتثال بالطرق المقررة للجاهل:
من الاحتياط، أو الرجوع في كل مسألة إلى ما يقتضيه الأصل في تلك
المسألة، أو الرجوع إلى فتوى العالم بالمسألة وتقليده فيها، فنقول:
إن كلا من هذه الأمور الثلاثة وإن كان طريقا شرعيا في الجملة
لامتثال الحكم المجهول، إلا أن منها ما لا يجب في المقام ومنها ما
لا يجري.
أما الاحتياط، فهو وإن كان مقتضى الأصل والقاعدة العقلية
والنقلية عند ثبوت العلم الإجمالي بوجود الواجبات والمحرمات، إلا أنه
في المقام - أعني صورة انسداد باب العلم في معظم المسائل الفقهية - غير
واجب، لوجهين:
أحدهما: الإجماع القطعي على عدم وجوبه في المقام، لا بمعنى أن
أحدا من العلماء لم يلتزم بالاحتياط في كل الفقه أو جله حتى يرد
عليه: أن عدم التزامهم به إنما هو لوجود المدارك المعتبرة عندهم
للأحكام فلا يقاس عليهم من لا يجد مدركا في المسألة، بل بالمعنى
الذي تقدم نظيره في الإجماع على عدم الرجوع إلى البراءة.
وحاصله: دعوى الإجماع القطعي على أن المرجع في الشريعة
- على تقدير انسداد باب العلم في معظم الأحكام وعدم ثبوت حجية
أخبار الآحاد رأسا أو باستثناء قليل هو في جنب الباقي كالمعدوم -
ليس هو الاحتياط في الدين والالتزام بفعل كل ما يحتمل الوجوب ولو
موهوما، وترك كل ما يحتمل الحرمة كذلك.
403

وصدق هذه الدعوى مما يجده المنصف من نفسه (1) بعد ملاحظة
قلة المعلومات، مضافا إلى ما يستفاد من أكثر كلمات العلماء، المتقدمة (2)
في بطلان الرجوع إلى البراءة وعدم التكليف في المجهولات، فإنها
واضحة الدلالة على أن (3) بطلان الاحتياط كالبراءة مفروغ عنه،
فراجع (4).
الثاني: لزوم العسر الشديد والحرج الأكيد في التزامه، لكثرة ما
يحتمل موهوما وجوبه خصوصا في أبواب الطهارة والصلاة، فمراعاته
مما يوجب الحرج، والمثال لا يحتاج إليه، فلو بنى العالم الخبير بموارد
الاحتياط فيما لم ينعقد عليه إجماع قطعي أو خبر متواتر على الالتزام
بالاحتياط في جميع أموره يوما وليلة، لوجد صدق ما ادعيناه.
هذا كله بالنسبة إلى نفس العمل بالاحتياط.
وأما تعليم المجتهد موارد الاحتياط لمقلده، وتعلم المقلد موارد
الاحتياط الشخصية، وعلاج تعارض الاحتياطات، وترجيح الاحتياط
الناشئ عن الاحتمال القوي على الاحتياط الناشئ عن الاحتمال
الضعيف، فهو أمر مستغرق لأوقات المجتهد والمقلد، فيقع الناس من جهة
تعليم هذه الموارد وتعلمها في حرج يخل بنظام معاشهم ومعادهم.

(1) في (ت)، (ر) ونسخة بدل (ص): " في نفسه ".
(2) راجع الصفحة 390 - 394.
(3) في غير (ت): " في أن ".
(4) لم ترد عبارة " مضافا - إلى - فراجع " في (ظ) و (م)، وكتب فوقها في (ص):
" نسخة ".
404

توضيح ذلك: أن الاحتياط في مسألة التطهير بالماء المستعمل في
رفع الحدث الأكبر ترك التطهير به، لكن قد يعارضه في الموارد
الشخصية احتياطات اخر، بعضها أقوى منه وبعضها أضعف وبعضها
مساو، فإنه قد يوجد ماء آخر للطهارة، وقد لا يوجد معه إلا التراب،
وقد لا يوجد من مطلق الطهور غيره، فإن الاحتياط في الأول هو
الطهارة من ماء آخر لو لم يزاحمه الاحتياط من جهة أخرى، كما إذا
كان قد أصابه ما (1) لم ينعقد الإجماع على طهارته. وفي الثاني هو الجمع
بين الطهارة المائية والترابية إن لم يزاحمه ضيق الوقت المجمع عليه (2).
وفي الثالث الطهارة من ذلك المستعمل والصلاة إن لم يزاحمه أمر آخر
واجب أو محتمل الوجوب.
فكيف يسوغ للمجتهد أن يلقي إلى مقلده أن الاحتياط في ترك
الطهارة بالماء المستعمل مع كون الاحتياط في كثير من الموارد استعماله
فقط أو الجمع بينه وبين غيره.
وبالجملة: فتعليم موارد الاحتياط الشخصية وتعلمها - فضلا عن
العمل بها - أمر يكاد يلحق بالمتعذر، و (3) يظهر ذلك (4) بالتأمل في الوقائع
الاتفاقية.
فإن قلت: لا يجب على المقلد متابعة هذا الشخص الذي أدى

(1) في (ت) و (ص): " قد أصابه ماء ".
(2) لم ترد " المجمع عليه " في (ر) و (ل)، وشطب عليها في (ت) و (ه‍).
(3) لم ترد " و " في (ر)، (ظ)، (ل) و (م).
(4) في (ل): " يظهر لك ".
405

نظره إلى انسداد باب العلم في معظم المسائل ووجوب الاحتياط، بل
يقلد غيره.
قلت - مع أن لنا أن نفرض انحصار المجتهد في هذا الشخص -: إن
كلامنا في حكم الله سبحانه بحسب اعتقاد هذا المجتهد الذي اعتقد
انسداد باب العلم، وعدم الدليل على ظن خاص يكتفى به في تحصيل
غالب الأحكام، وأن من يدعي وجود الدليل على ذلك فإنما نشأ
اعتقاده مما لا ينبغي الركون إليه ويكون الركون إليه جزما في غير
محله، فالكلام في: أن حكم الله تعالى - على تقدير انسداد باب العلم
وعدم نصب الطريق الخاص - لا يمكن أن يكون هو الاحتياط بالنسبة
إلى العباد، للزوم الحرج البالغ حد اختلال النظام.
ولا يخفى: أنه لا وجه لدفع هذا الكلام بأن العوام يقلدون مجتهدا
غير هذا قائلا بعدم انسداد باب العلم أو بنصب الطرق الظنية الوافية
بأغلب الأحكام، فلا يلزم عليهم حرج وضيق.
ثم إن هذا كله مع كون المسألة في نفسها مما يمكن فيه الاحتياط
ولو بتكرار العمل في العبادات، أما مع عدم إمكان الاحتياط - كما لو
دار المال بين صغيرين يحتاج كل واحد منهما إلى صرفه عليه في الحال،
وكما في المرافعات - فلا مناص عن العمل بالظن.
وقد يورد على إبطال الاحتياط بلزوم الحرج بوجوه لا بأس
بالإشارة إلى بعضها:
منها: النقض بما لو أدى اجتهاد المجتهد وعمله بالظن إلى فتوى
يوجب الحرج، كوجوب الترتيب بين الحاضرة والفائتة لمن عليه فوائت
كثيرة، أو وجوب الغسل على مريض أجنب متعمدا وإن أصابه من
406

المرض ما أصابه كما هو قول بعض أصحابنا (1)، وكذا لو فرضنا أداء
ظن المجتهد إلى وجوب أمور كثيرة يحصل العسر بمراعاتها (2).
وبالجملة: فلزوم الحرج من العمل بالقواعد لا يوجب الإعراض
عنها، ففيما نحن فيه (3) إذا اقتضى القاعدة رعاية الاحتياط لم يرفع اليد
عنها للزوم العسر.
والجواب: أن ما ذكر في غاية الفساد، لأن مرجعه إن كان إلى
منع نهوض أدلة نفي الحرج للحكومة على مقتضيات القواعد والعمومات
وتخصيصها بغير صورة لزوم الحرج، فينبغي أن ينقل الكلام في منع
ثبوت قاعدة الحرج، ولا يخفى أن منعه في غاية السقوط، لدلالة
الأخبار المتواترة معنى عليه (4)، مضافا إلى دلالة ظاهر الكتاب (5).
والحاصل: أن قاعدة نفي الحرج مما ثبتت بالأدلة الثلاثة، بل
الأربعة في مثل المقام، لاستقلال العقل بقبح التكليف بما يوجب اختلال
نظام أمر المكلف. نعم، هي في غير ما يوجب الاختلال قاعدة ظنية
تقبل الخروج عنها بالأدلة الخاصة المحكمة وإن لم تكن قطعية.

(1) كالشيخ المفيد في المقنعة: 60.
(2) في (ت)، (ل)، (ه‍) ونسخة بدل (ص): " لمراعاتها ".
(3) كذا في (ص)، وفي غيرها: " وفيما نحن فيه ".
(4) مثل: ما في الوسائل 1: 327، الباب 39 من أبواب الوضوء، الحديث 5،
والصفحة 113 و 115، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحديث 5 و 11،
وانظر عوائد الأيام: 174 - 181.
(5) سورة الحج: 78.
407

وأما القواعد والعمومات المثبتة للتكليف، فلا إشكال بل لا خلاف
في حكومة أدلة نفي الحرج عليها، لا لأن النسبة بينهما عموما من وجه
فيرجع إلى أصالة البراءة كما قيل (1)، أو إلى المرجحات الخارجية
المعاضدة لقاعدة نفي الحرج كما زعم (2)، بل لأن أدلة نفي العسر (3) بمدلولها
اللفظي حاكمة على العمومات المثبتة للتكاليف، فهي بالذات مقدمة
عليها، وهذا هو السر في عدم ملاحظة الفقهاء المرجح الخارجي، بل
يقدمونها من غير مرجح خارجي.
نعم، جعل بعض متأخري المتأخرين (4) عمل الفقهاء بها في الموارد
من المرجحات لتلك القاعدة، زعما منه أن عملهم لمرجح توقيفي اطلعوا
عليه واختفى علينا (5). ولم يشعر أن وجه التقديم كونها حاكمة على العمومات.
ومما يوضح ما ذكرنا، و (6) يدعو إلى التأمل في وجه التقديم
المذكور في محله، ويوجب الإعراض عما زعمه غير واحد (7)، من

(1) انظر القوانين 2: 50.
(2) زعمه السيد المجاهد في مفاتيح الأصول: 537.
(3) في (ت) و (ه‍) زيادة: " والحرج ".
(4) انظر كفاية الأحكام: 241.
(5) في (ر)، (ظ) و (م) ومصححة (ل) ونسخة بدل (ص): " واختفى عنا ".
(6) في (ظ)، (ل) و (م) ونسخة بدل (ص) بدل " ومما يوضح ما ذكرنا و ":
" وتوضيح هذا وإن كان له مقام آخر، إلا أنا نشير إجمالا إلى ما "، وفي (ظ)
و (م) بدل " له ": " في ".
(7) كالسيد المجاهد في مفاتيح الأصول: 537، والفاضل النراقي في عوائد الأيام:
194.
408

وقوع التعارض بينها وبين سائر العمومات، فيجب الرجوع إلى الأصول
أو المرجحات: ما رواه عبد الأعلى مولى آل سام في من عثر، فانقطع
ظفره، فجعل عليه مرارة، فكيف يصنع بالوضوء؟ فقال (عليه السلام): " يعرف
هذا وأشباهه من كتاب الله: * (ما جعل عليكم في الدين من حرج) *،
إمسح عليه " (1).
فإن في إحالة الإمام (عليه السلام) لحكم هذه الواقعة إلى عموم نفي
الحرج، وبيان أنه ينبغي أن يعلم منه أن الحكم في هذه الواقعة المسح
فوق المرارة، مع معارضة العموم المذكور بالعمومات الموجبة للمسح على
البشرة، دلالة واضحة على حكومة عمومات نفي الحرج بأنفسها على
العمومات المثبتة للتكاليف من غير (2) ملاحظة تعارض وترجيح في
البين، فافهم.
وإن كان مرجع ما ذكره إلى: أن التزام العسر إذا دل عليه
الدليل لا بأس به، كما فيما ذكر من المثال والفرض، ففيه ما عرفت (3)،
من: أنه لا يخصص تلك العمومات إلا ما يكون أخص منها معاضدا
بما يوجب قوته (4) على تلك العمومات الكثيرة الواردة في الكتاب
والسنة، والمفروض أنه ليس في المقام إلا قاعدة الاحتياط التي قد رفع
اليد عنها لأجل العسر في موارد كثيرة: مثل الشبهة الغير المحصورة،

(1) الوسائل 1: 327، الباب 39 من أبواب الوضوء، الحديث 5، والآية من
سورة الحج: 78.
(2) في غير (ظ)، (ل) و (م) زيادة: " حاجة إلى ".
(3) راجع الصفحة 407.
(4) كذا في مصححة (ت)، وفي غيرها: " قوتها ".
409

وما لو علم أن عليه فوائت ولا يحصي عددها، وغير ذلك.
بل أدلة نفي العسر بالنسبة إلى قاعدة الاحتياط من قبيل الدليل
بالنسبة إلى الأصل، فتقديمها عليها أوضح من تقديمها على العمومات
الاجتهادية.
وأما ما ذكره: من فرض أداء ظن المجتهد إلى وجوب أمور يلزم
من فعلها الحرج، فيرد عليه:
أولا: منع إمكانه، لأنا علمنا بأدلة نفي الحرج أن الواجبات
الشرعية في الواقع ليست بحيث يوجب العسر على المكلف، ومع هذا
العلم الإجمالي يمتنع الظن التفصيلي بوجوب أمور في الشريعة يوجب
ارتكابها العسر، على ما مر نظيره في الإيراد على دفع الرجوع إلى
البراءة.
وثانيا: سلمنا إمكان ذلك - إما لكون الظنون الحاصلة في المسائل
الفرعية كلها أو بعضها ظنونا نوعية لا تنافي العلم الإجمالي بمخالفة
البعض للواقع، أو بناء على أن المستفاد من أدلة نفي العسر (1) ليس هو
القطع ولا الظن الشخصي بانتفاء العسر، بل غايته الظن النوعي الحاصل
من العمومات بذلك، فلا ينافي الظن الشخصي التفصيلي في المسائل
الفرعية على الخلاف، وإما بناء على ما ربما يدعى: من عدم التنافي بين
الظنون التفصيلية الشخصية والعلم الإجمالي بخلافها، كما في الظن الحاصل
من الغلبة مع العلم الإجمالي بوجود الفرد النادر على الخلاف - لكن (2)

(1) في (ت) و (ه‍) زيادة: " والحرج ".
(2) في (ت)، (ر)، (ص) و (ه‍): " ولكن ".
410

نمنع وقوع ذلك، لأن الظنون الحاصلة للمجتهد - بناء على مذهب
الإمامية من عدم اعتبار الظن القياسي وأشباهه - ظنون حاصلة من
أمارات مضبوطة محصورة، كأقسام الخبر والشهرة والاستقراء والإجماع
المنقول والأولوية الاعتبارية ونظائرها، ومن المعلوم للمتتبع فيها أن
مؤدياتها لا تفضي إلى الحرج، لكثرة ما يخالف الاحتياط فيها، كما
لا يخفى على من لاحظها وسبرها سبرا إجماليا.
وثالثا: سلمنا إمكانه ووقوعه، لكن العمل بتلك الظنون لا يؤدي
إلى اختلال النظام حتى لا يمكن إخراجها عن عمومات نفي العسر،
فنعمل (1) بها في مقابلة عمومات نفي العسر ونخصصها (2) بها، لما عرفت (3)
من قبولها التخصيص في غير مورد الاختلال.
وليس في هذا كر على ما فر منه، حيث إنا عملنا بالظن فرارا
عن لزوم العسر، فإذا أدى إليه فلا وجه للعمل به، لأن العسر اللازم
على تقدير طرح العمل بالظن كان بالغا حد اختلال النظام من جهة
لزوم مراعاة الاحتمالات الموهومة والمشكوكة، وأما الظنون المطابقة
لمقتضى الاحتياط فلا بد من العمل عليها، سواء عملنا بالظن أو عملنا
بالاحتياط، وحينئذ: فليس العسر اللازم من العمل بالظنون الاجتهادية
في فرض المعترض من جهة العمل بالظن، بل من جهة مطابقته (4)

(1) في (ظ)، (ل) و (م): " فتعمل ".
(2) في (ت): " وتخصصها ".
(3) راجع الصفحة 407.
(4) في (ت) و (ر): " المطابقة ".
411

لمقتضى الاحتياط، فلو عمل بالاحتياط وجب عليه أن يضيف إلى تلك
الظنون الاحتمالات الموهومة والمشكوكة المطابقة للاحتياط.
ومنها: أنه يقع التعارض بين الأدلة الدالة على حرمة العمل
بالظن والعمومات النافية للحرج، والأول أكثر، فيبقى أصالة الاحتياط
مع العلم الإجمالي بالتكاليف الكثيرة سليمة عن المزاحم.
وفيه: ما لا يخفى، لما عرفت في تأسيس الأصل (1): من أن العمل
بالظن ليس فيه - إذا لم يكن بقصد التشريع والالتزام شرعا بمؤداه -
حرمة ذاتية، وإنما يحرم إذا أدى إلى مخالفة الواقع من وجوب أو
تحريم، فالنافي للعمل بالظن فيما نحن فيه ليس إلا قاعدة الاحتياط
الآمرة بإحراز الاحتمالات الموهومة وترك العمل بالظنون المقابلة لتلك
الاحتمالات، وقد فرضنا أن قاعدة الاحتياط ساقطة بأدلة نفي العسر (2).
ثم لو فرضنا ثبوت الحرمة الذاتية للعمل بالظن ولو لم يكن على جهة
التشريع، لكن عرفت سابقا (3) عدم معارضة عمومات نفي العسر لشئ
من العمومات المثبتة للتكليف المتعسر.
ومنها: أن الأدلة النافية للعسر إنما تنفي وجوده في الشريعة
بحسب أصل الشرع أولا وبالذات، فلا تنافي وقوعه بسبب عارض
لا يسند إلى الشارع، ولذا لو نذر المكلف أمورا عسرة - كالأخذ
بالاحتياط في جميع الأحكام الغير المعلومة، وكصوم الدهر، أو

(1) راجع الصفحة 134.
(2) في (ت) و (ه‍) زيادة: " والحرج ".
(3) راجع الصفحة 408.
412

إحياء (1) الليالي أو المشي إلى الحج والزيارات (2) - لم يمنع تعسرها
عن انعقاد نذرها، لأن الالتزام بها إنما جاء من قبل المكلف. وكذا
لو آجر نفسه لعمل شاق لم يمنع مشقته من صحة الإجارة ووجوب
الوفاء بها.
وحينئذ، فنقول: لا ريب أن وجوب الاحتياط - بإتيان كل ما
يحتمل الوجوب وترك كل ما يحتمل الحرمة - إنما هو من جهة اختفاء
الأحكام الشرعية المسبب عن المكلفين المقصرين في محافظة الآثار
الصادرة عن الشارع المبينة للأحكام والمميزة للحلال عن الحرام، وهذا
السبب وإن لم يكن عن (3) فعل كل مكلف - لعدم مدخلية أكثر المكلفين
في ذلك - إلا أن التكليف بالعسر ليس قبيحا عقليا حتى يقبح أن
يكلف به من لم يكن سببا له ويختص عدم قبحه بمن صار التعسر من
سوء اختياره، بل هو أمر منفي بالأدلة السمعية، وظاهرها أن المنفي هو
جعل الأحكام الشرعية أولا وبالذات على وجه يوجب العسر على
المكلف، فلا ينافي عروض التعسر لامتثالها من جهة تقصير المقصرين
في ضبطها وحفظها عن الاختفاء مع كون ثواب الامتثال حينئذ أكثر
بمراتب.
ألا ترى: أن الاجتهاد الواجب على المكلفين - ولو كفاية - من

(1) في (ت)، (ظ) و (م): " وإحياء "، وفي غير (ه‍) و (ت): " إحياء بعض
الليالي ".
(2) في (ر) و (ص): " أو الزيارات ".
(3) في (ت)، (ظ)، (م) و (ه‍): " من ".
413

الأمور الشاقة جدا خصوصا في هذه الأزمنة، فهل السبب فيه إلا
تقصير المقصرين الموجبين لاختفاء آثار الشريعة؟ وهل يفرق في نفي
العسر بين الوجوب الكفائي والعيني؟
والجواب عن هذا الوجه: أن أدلة نفي العسر - سيما البالغ منه حد
اختلال النظام والإضرار بأمور المعاش والمعاد - لا فرق فيها بين ما
يكون بسبب يسند عرفا إلى الشارع، وهو الذي أريد بقولهم (عليهم السلام):
" ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر " (1)، وبين ما يكون مسندا إلى
غيره.
ووجوب صوم الدهر على ناذره إذا كان فيه مشقة لا يتحمل
عادة ممنوع. وكذا أمثالها (2): من المشي إلى بيت الله جل ذكره، وإحياء
الليالي، وغيرهما.
مع إمكان أن يقال: بأن ما ألزمه المكلف على نفسه من
المشاق (3)، خارج عن العمومات، لا ما كان السبب فيه نفس المكلف،
فيفرق بين الجنابة متعمدا فلا يجب الغسل مع المشقة وبين إجارة النفس
للمشاق، فإن الحكم في الأول تأسيس من الشارع وفي الثاني إمضاء لما
ألزمه المكلف على نفسه، فتأمل.
وأما الاجتهاد الواجب كفاية عند انسداد باب العلم - فمع أنه
شئ يقضي بوجوبه الأدلة القطعية، فلا ينظر إلى تعسره وتيسره - فهو

(1) الوسائل 7: 162، الباب 24 من أبواب من يصح منه الصوم، الحديث 6.
(2) كذا في جميع النسخ، والأنسب: " أمثاله ".
(3) في (ت)، (ل) و (ه‍) زيادة: " لازم "، وفي (ظ) و (م) زيادة: " بملزم ".
414

ليس أمرا حرجا (1)، خصوصا بالنسبة إلى أهله، فإن مزاولة العلوم
لأهلها ليس بأشق من أكثر المشاغل الصعبة التي يتحملها الناس
لمعاشهم، وكيف كان فلا يقاس عليه.
وأما عمل العباد بالاحتياط ومراقبة ما هو أحوط الأمرين أو
الأمور في الوقائع الشخصية إذا دار الأمر فيها بين الاحتياطات
المتعارضة، فإن هذا دونه خرط القتاد، إذ أوقات المجتهد لا يفي بتمييز (2)
موارد الاحتياط (3)، ثم إرشاد المقلدين إلى ترجيح بعض الاحتياطات
على بعض عند تعارضها في الموارد الشخصية التي تتفق (4) للمقلدين، كما
مثلنا لك سابقا بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر.
وقد يرد الاحتياط بوجوه اخر غير ما ذكرنا من الإجماع
والحرج:
منها: أنه لا دليل على وجوب الاحتياط، وأن الاحتياط أمر
مستحب إذا لم يوجب إلغاء الحقوق الواجبة.
وفيه: أنه إن أريد أنه لا دليل على وجوبه في كل واقعة إذا
لوحظت مع قطع النظر عن العلم الإجمالي بوجود التكليف (5) بينها وبين
الوقائع الاخر، فهو مسلم بمعنى: أن كل واقعة ليست مما يقتضي الجهل

(1) في (ر): " حرجيا ".
(2) في غير (ه‍): " بتميز ".
(3) كذا في (ظ)، (ل) و (م)، وفي غيرها: " الاحتياطات ".
(4) في النسخ: " يتفق ".
(5) في (ت) و (ه‍): " التكاليف ".
415

فيها - بنفسها - للاحتياط (1)، بل الشك فيها إن رجع إلى التكليف - كما
في شرب التتن ووجوب الدعاء عند رؤية الهلال - لم يجب فيها
الاحتياط، وإن رجع إلى تعيين المكلف به - كالشك في القصر والإتمام
والظهر والجمعة، وكالشك في مدخلية شئ في العبادات بناء على
وجوب الاحتياط فيما شك في مدخليته - وجب فيها الاحتياط، لكن
وجوب الاحتياط في ما نحن فيه في الوقائع المجهولة من جهة العلم
الإجمالي بوجود الواجبات والمحرمات فيها وإن كان الشك في نفس
الواقعة شكا في التكليف، ولذا ذكرنا سابقا (2): أن الاحتياط هو مقتضى
القاعدة الأولية عند انسداد باب العلم.
نعم، من لا يوجب الاحتياط حتى مع العلم الإجمالي بالتكليف
فهو مستريح عن كلفة الجواب عن الاحتياط.
ومنها: أن العمل بالاحتياط مخالف للاحتياط، لأن مذهب جماعة
من العلماء بل المشهور بينهم اعتبار معرفة الوجه، بمعنى تمييز (3) الواجب
عن المستحب اجتهادا أو تقليدا - قال في الإرشاد في أوائل الصلاة:
يجب معرفة واجب أفعال الصلاة من مندوبها وإيقاع كل منهما (4) على
وجهه (5) - وحينئذ: ففي الاحتياط إخلال بمعرفة الوجه، التي أفتى جماعة

(1) كذا في جميع النسخ، ولعل الأنسب: " الاحتياط ".
(2) راجع الصفحة 403.
(3) في (ر)، (ص)، (ظ)، (ل) و (م): " تميز ".
(4) في (ت) و (م): " كل منها ".
(5) إرشاد الأذهان 1: 251.
416

بوجوبها وبإطلاق بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد.
وفيه:
أولا: أن معرفة الوجه مما يمكن - للمتأمل في الأدلة وفي
إطلاقات العبادة وفي سيرة المسلمين وفي سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)
مع الناس - الجزم بعدم اعتبارها حتى مع التمكن من المعرفة العلمية،
ولذا ذكر المحقق (قدس سره) - كما في المدارك في باب الوضوء -: أن ما حققه
المتكلمون من وجوب إيقاع الفعل لوجهه (1) أو وجه وجوبه كلام
شعري (2)، وتمام الكلام في غير هذا المقام.
وثانيا: لو سلمنا وجوب المعرفة أو احتمال وجوبها الموجب
للاحتياط، فإنما هو مع التمكن من المعرفة العلمية، أما مع عدم التمكن
فلا دليل عليه قطعا، لأن اعتبار معرفة الوجه إن كان لتوقف نية الوجه
عليها، فلا يخفى أنه لا يجدي المعرفة الظنية في نية الوجه، فإن مجرد
الظن بوجوب شئ لا يتأتى معه القصد إليه (3) لوجوبه، إذ لا بد من
الجزم بالغاية. ولو اكتفي بمجرد الظن بالوجوب - ولو لم يكن نية
حقيقة - فهو مما لا يفي بوجوبه ما ذكروه في اشتراط نية الوجه. نعم،
لو كان الظن المذكور مما ثبت وجوب العمل به تحقق معه نية الوجه
الظاهري على سبيل الجزم. لكن الكلام بعد في وجوب العمل بالظن.
فالتحقيق: أن الظن بالوجه إذا لم يثبت حجيته فهو كالشك فيه

(1) في (ت) و (ص): " بوجهه ".
(2) انظر الرسائل التسع: 317، والمدارك 1: 188 - 189.
(3) لم ترد " إليه " في (ر)، (ص) و (ظ).
417

لا وجه لمراعاة نية الوجه (1) معه أصلا.
وإن كان اعتبارها لأجل توقف الامتثال التفصيلي المطلوب عقلا
وشرعا (2) عليه - ولذا أجمعوا ظاهرا (3) على عدم كفاية الامتثال الإجمالي
مع التمكن من التفصيلي، بأن يتمكن من الصلاة إلى القبلة في مكان
ويصلي في مكان آخر غير معلوم القبلة إلى أربع جهات، أو يصلي في
ثوبين مشتبهين أو أكثر مرتين أو أكثر مع إمكان صلاة واحدة في ثوب
معلوم الطهارة، إلى غير ذلك - ففيه:
أن ذلك إنما هو مع التمكن من العلم التفصيلي، وأما مع عدم
التمكن منه - كما في ما نحن فيه - فلا دليل على ترجيح الامتثال
التفصيلي الظني على الامتثال الإجمالي العلمي، إذ لا دليل على ترجيح
صلاة واحدة في مكان إلى جهة مظنونة على الصلاة (4) المكررة في مكان
مشتبه الجهة، بل بناء العقلاء في إطاعاتهم العرفية على ترجيح العلم
الإجمالي على الظن التفصيلي.
وبالجملة: فعدم جواز الاحتياط مع التمكن من تحصيل الظن مما
لم يقم له وجه، فإن كان ولا بد من إثبات العمل بالظن فهو بعد تجويز
الاحتياط والاعتراف برجحانه وكونه مستحبا، بل لا يبعد ترجيح الاحتياط
على تحصيل (5) الظن الخاص الذي قام الدليل عليه بالخصوص، فتأمل.

(1) في (ص)، (م) و (ه‍) زيادة: " فيه ".
(2) في (ت)، (ل) و (ه‍): " أو شرعا ".
(3) لم ترد " ظاهرا " في (ظ)، (ل) و (م).
(4) في (ظ)، (ل) و (ه‍): " الصلوات ".
(5) لم ترد " تحصيل " في (ر)، (ص) و (ظ).
418

نعم، الاحتياط مع التمكن من العلم التفصيلي في العبادات مما
انعقد الإجماع ظاهرا على عدم جوازه، كما أشرنا إليه في أول الرسالة
في مسألة اعتبار العلم الإجمالي وأنه كالتفصيلي من جميع الجهات أم لا،
فراجع (1).
ومما ذكرنا ظهر: أن القائل بانسداد باب العلم وانحصار المناص
في مطلق الظن ليس له أن يتأمل في صحة عبادة تارك طريقي الاجتهاد
والتقليد إذا أخذ بالاحتياط، لأنه لم يبطل عند انسداد باب العلم إلا
وجوب الاحتياط لا جوازه أو رجحانه، فالأخذ بالظن (2) وترك الاحتياط
عنده من باب الترخيص ودفع (3) العسر والحرج، لا من باب العزيمة.
وثالثا: سلمنا تقديم الامتثال التفصيلي ولو كان ظنيا على
الإجمالي ولو كان علميا، لكن الجمع ممكن بين تحصيل الظن في المسألة
ومعرفة الوجه ظنا والقصد إليه على وجه الاعتقاد الظني، والعمل على
الاحتياط.
مثلا: إذا حصل الظن بوجوب القصر في ذهاب أربعة فراسخ،
فيأتي بالقصر بالنية الظنية الوجوبية، ويأتي بالإتمام بقصد القربة احتياطا
أو بقصد الندب (4). وكذلك إذا حصل الظن بعدم وجوب السورة في

(1) راجع الصفحة 71 - 72.
(2) في (ظ)، (ل)، (م) و (ه‍) زيادة: " عنده ".
(3) في (ر)، (ص) و (م): " رفع ".
(4) لم ترد عبارة " أو بقصد الندب " في (ت)، (ر) و (ه‍). وشطب عليها في
(ص).
419

الصلاة، فينوي الصلاة الخالية عن السورة على وجه الوجوب، ثم يأتي
بالسورة قربة إلى الله تعالى للاحتياط (1).
ورابعا: لو أغمضنا عن جميع ما ذكرنا، فنقول: إن الظن إذا
لم يثبت حجيته فقد (2) كان اللازم بمقتضى العلم الإجمالي بوجود
الواجبات والمحرمات في الوقائع المشتبهة هو الاحتياط كما عرفت
سابقا (3)، فإذا وجب الاحتياط حصل معرفة وجه العبادة وهو الوجوب،
وتأتى نية الوجه (4) الظاهري كما تأتى في جميع الموارد التي يفتي فيها
الفقهاء بالوجوب من باب الاحتياط واستصحاب الاشتغال (5).
فتحصل مما ذكرنا: أن العمدة في رد الاحتياط هي ما تقدم من
الإجماع ولزوم العسر دون غيرهما.

(1) في (ه‍) زيادة: " بناء على اعتبار قصد الوجه "، وفي (ص)، (ظ)، (ل) و (م)
زيادة عبارة أخرى - مع اختلاف يسير بينها - وهي: " أو بقصد الندب بناء
على اعتبار قصد الوجه.
ودعوى: أن التمام المأتي به في الفرض الأول والسورة المأتي بها في الفرض
الثاني، يحتمل وجوبهما، فيكون نية الندب نية الخلاف والندب مخالفة للاحتياط،
يدفعها: الإجماع على أنه لا يعتبر فيما يؤتى به لخصوص الاحتياط إلا الوجه
الظاهري، وإلا لارتفع الاحتياط رأسا، وهو باطل بديهة من العقل والشرع "،
ولكن كتب فوقها في (ص): " زيادة ".
(2) لم ترد " فقد " في (ت) و (ه‍).
(3) راجع الصفحة 403.
(4) في (ل) و (ص): " نية الوجوب ".
(5) في (ر) و (ص) زيادة: " فتأمل ".
420

إلا أن هنا شيئا ينبغي أن ينبه عليه، وهو:
أن نفي الاحتياط بالإجماع والعسر لا يثبت إلا أنه لا يجب
مراعاة جميع الاحتمالات - مظنونها ومشكوكها وموهومها - ويندفع العسر
بترخيص موافقة الظنون المخالفة للاحتياط كلا أو بعضا، بمعنى عدم
وجوب مراعاة الاحتمالات الموهومة، لأنها الأولى بالإهمال إذا ساغ
- لدفع الحرج - ترك الاحتياط في مقدار ما من المحتملات يندفع به
العسر، ويبقى الاحتياط على حاله في الزائد على هذا المقدار، لما تقرر
في مسألة الاحتياط: من أنه إذا كان مقتضى الاحتياط هو الإتيان
بمحتملات وقام الدليل الشرعي على عدم وجوب إتيان بعض المحتملات
في الظاهر (1)، تعين مراعاة الاحتياط في باقي المحتملات ولم يسقط
وجوب الاحتياط رأسا.
توضيح ما ذكرنا: أنا نفرض المشتبهات التي علم إجمالا بوجود
الواجبات الكثيرة فيها بين مظنونات الوجوب ومشكوكات الوجوب
وموهومات الوجوب، وكان الإتيان بالكل عسرا أو قام الإجماع على
عدم وجوب الاحتياط في الجميع، تعين ترك الاحتياط وإهماله في
موهومات الوجوب، بمعنى أنه إذا تعلق ظن بعدم الوجوب لم يجب
الإتيان.
وليس هذا معنى حجية الظن، لأن الفرق بين المعنى المذكور وهو
أن مظنون عدم الوجوب لا يجب الإتيان به، وبين حجية الظن بمعنى
كونه في الشريعة معيارا لامتثال التكاليف الواقعية نفيا وإثباتا - وبعبارة

(1) لم ترد " في الظاهر " في (ر) و (م).
421

أخرى: الفرق بين تبعيض الاحتياط في الموارد المشتبهة وبين جعل
الظن فيها حجة - هو: أن الظن إذا كان حجة في الشرع كان الحكم في
الواقعة الخالية عنه الرجوع إلى ما يقتضيه الأصل في تلك الواقعة من
دون التفات إلى العلم الإجمالي بوجود التكاليف الكثيرة بين المشتبهات،
إذ حال الظن حينئذ كحال العلم التفصيلي والظن الخاص بالوقائع،
فيكون الوقائع بين معلومة الوجوب تفصيلا أو ما هو بمنزلة المعلوم،
وبين مشكوك الوجوب رأسا.
وأما إذا لم يكن الظن حجة - بل كان غاية الأمر بعد قيام
الإجماع ونفي الحرج على عدم لزوم الاحتياط في جميع الوقائع المشتبهة
التي علم إجمالا بوجود التكاليف بينها، عدم وجوب الاحتياط بالإتيان
بما ظن عدم وجوبه، لأن ملاحظة الاحتياط في موهومات الوجوب
خلاف الإجماع وموجب للعسر - كان اللازم في الواقعة الخالية عن الظن
الرجوع إلى ما يقتضيه العلم الإجمالي المذكور من الاحتياط، لأن
سقوط الاحتياط في سلسلة الموهومات لا يقتضي سقوطه في المشكوكات،
لاندفاع الحرج بذلك.
وحاصل ذلك: أن مقتضى القاعدة العقلية والنقلية لزوم الامتثال
العلمي التفصيلي للأحكام والتكاليف المعلومة إجمالا، ومع تعذره يتعين
الامتثال العلمي الإجمالي وهو الاحتياط المطلق، ومع تعذره لو دار
الأمر بين الامتثال الظني في الكل وبين الامتثال العلمي الإجمالي في
البعض والظني في الباقي، كان الثاني هو المتعين عقلا ونقلا.
ففيما نحن فيه إذا تعذر الاحتياط الكلي، ودار الأمر بين إلغائه
بالمرة والاكتفاء بالإطاعة الظنية، وبين إعماله في المشكوكات والمظنونات
422

وإلغائه في الموهومات، كان الثاني هو المتعين.
ودعوى: لزوم الحرج أيضا من الاحتياط في المشكوكات، خلاف
الإنصاف، لقلة المشكوكات، لأن الغالب حصول الظن إما بالوجوب
وإما بالعدم.
اللهم إلا أن يدعى: قيام الإجماع على عدم وجوب الاحتياط في
المشكوكات أيضا، وحاصله: دعوى أن الشارع لا يريد الامتثال
العلمي الإجمالي في التكاليف الواقعية المشتبهة بين الوقائع، فيكون
حاصل دعوى الإجماع: دعوى انعقاده على أنه لا يجب شرعا الإطاعة
العلمية الإجمالية في الوقائع المشتبهة مطلقا - لا في الكل ولا في البعض -
وحينئذ يتعين (1) الانتقال إلى الإطاعة الظنية.
لكن الإنصاف: أن دعواه مشكلة جدا وإن كان تحققه مظنونا
بالظن القوي، لكنه (2) لا ينفع ما لم ينته إلى حد العلم.
فإن قلت: إذا ظن بعدم وجوب الاحتياط في المشكوكات فقد
ظن بأن المرجع في كل مورد منها إلى ما يقتضيه الأصل الجاري في
ذلك المورد، فيصير الأصول مظنونة الاعتبار في المسائل المشكوكة،
فالمظنون في تلك المسائل عدم وجوب الواقع فيها على المكلف، وكفاية
الرجوع إلى الأصول، وسيجئ (3): أنه لا فرق في الظن الثابت حجيته
بدليل الانسداد بين الظن المتعلق بالواقع، وبين الظن المتعلق بكون شئ

(1) كذا في (ت)، وفي غيرها: " تعين ".
(2) في (ت)، (ر)، (ص) و (ه‍): " لكن ".
(3) انظر الصفحة 437.
423

طريقا إلى الواقع وكون العمل به مجزيا عن الواقع وبدلا عنه ولو تخلف
عن الواقع (1).
قلت: مسألة اعتبار الظن بالطريق موقوف على هذه المسألة، بيان
ذلك: أنه لو قلنا ببطلان لزوم الاحتياط في الشريعة رأسا - من جهة
اشتباه التكاليف الواقعية فيها، وعدم لزوم الامتثال العلمي الإجمالي حتى
في المشكوكات، وكفاية الامتثال الظني في جميع تلك الواقعيات المشتبهة -
لم يكن فرق بين حصول الظن بنفس الواقع وبين حصول الظن بقيام
شئ من الأمور التعبدية مقام الواقع في حصول البراءة الظنية عن
الواقع والظن بسقوط الواقع في الواقع أو في حكم الشارع وبحسب
جعله.
أما لو لم يثبت ذلك، بل كان غاية ما ثبت هو عدم لزوم
الاحتياط بإحراز الاحتمالات الموهومة - للزوم العسر - كان اللازم جواز
الفعل (2) على خلاف الاحتياط في الوقائع المظنون عدم وجوبها أو عدم
تحريمها، وأما الوقائع المشكوك وجوبها أو تحريمها فهي باقية على طبق
مقتضى الأصل من الاحتياط اللازم المراعاة، بل الوقائع المظنون

(1) وردت في (ت)، و (ر)، (ص)، (ه‍) وهامش (ل)، بخط يغاير خط المتن،
زيادة، وهي: " قلت: مرجع الإجماع - قطعيا كان أو ظنيا - على الرجوع في
المشكوكات إلى الأصول، هو الإجماع على وجود الحجة الكافية في المسائل التي
انسد فيها باب العلم حتى تكون المسائل الخالية عنها موارد للأصول، ومرجع
هذا إلى دعوى الإجماع على حجية الظن بعد الانسداد ".
(2) في هامش (ص): " العمل "، وفي (ل) شطب عليها.
424

وجوبها أو تحريمها نحكم فيها بلزوم الفعل أو الترك، من جهة كونها من
محتملات الواجبات والمحرمات الواقعية.
وحينئذ: فإذا قام ما يظن كونه طريقا على عدم وجوب أحد
الموارد المشكوك وجوبها، فلا يقاس بالظن القائم على عدم وجوب
مورد من الموارد المشتبهة في ترك الاحتياط، بل اللازم هو العمل
بالاحتياط، لأنه من الموارد المشكوكة، والظن بطريقية ما قام عليه
لم يخرجه عن كونه مشكوكا.
وأنت خبير: بأن جميع موارد الطرق المظنونة التي يراد إثبات
اعتبار الظن بالطريق فيها إنما هي من المشكوكات، إذ لو كان نفس
المورد مظنونا مع ظن الطريق القائم عليه لم يحتج إلى إعمال الظن
بالطريق، ولو كان مظنونا بخلاف الطريق التعبدي المظنون كونه طريقا،
لتعارض الظن الحاصل من الطريق والظن الحاصل في المورد على
خلاف الطريق، وسيجئ الكلام في حكمه (1) على تقدير اعتبار الظن
بالطريق (2).
فإن قلت: إذا لم يقم في موارد الشك ما ظن طريقيته لم يجب
الاحتياط في ذلك المورد من جهة كونه أحد محتملات الواجبات
و (3) المحرمات الواقعية - وإن حكم بوجوب الاحتياط من جهة اقتضاء

(1) انظر الصفحة 532، وما بعدها.
(2) لم ترد عبارة " قلت: مسألة اعتبار - إلى - اعتبار الظن بالطريق " في (ر)
و (ه‍)، وشطب عليها في (ل)، ووردت في هامش (ص).
(3) كذا في (ل) و (ه‍)، وفي (ر)، (ص)، (ظ) و (م): " أو ".
425

القاعدة في نفس المسألة، كما لو كان الشك فيه في المكلف به - وهذا
إجماع من العلماء، حيث لم يحتط أحد منهم في مورد الشك من جهة
احتمال كونه من الواجبات والمحرمات الواقعية، وإن احتاط الأخباريون
في الشبهة التحريمية من جهة مجرد احتمال التحريم، فإذا كان عدم
وجوب الاحتياط إجماعيا مع عدم قيام ما يظن طريقيته على عدم
الوجوب، فمع قيامه لا يجب الاحتياط بالأولوية القطعية.
قلت: العلماء إنما لم يذهبوا إلى الاحتياط في موارد الشك،
لعدم العلم الإجمالي لهم بالتكاليف، بل الوقائع لهم بين معلوم التكليف
تفصيلا أو مظنون لهم بالظن الخاص، وبين مشكوك التكليف رأسا،
ولا يجب الاحتياط في ذلك عند المجتهدين، بل عند غيرهم في الشبهة
الوجوبية.
والحاصل: أن موضوع عمل العلماء القائلين بانفتاح باب العلم أو
الظن الخاص مغاير لموضوع عمل القائلين بالانسداد، وقد نبهنا على
ذلك غير مرة في بطلان التمسك على بطلان البراءة والاحتياط بمخالفتهما
لعمل العلماء، فراجع.
والحاصل: أن اعتبار الظن بالطريق وكونه كالظن بالواقع (1) مبني
على القطع ببطلان الاحتياط رأسا، بمعنى أن الشارع لم يرد منا في مقام
امتثال الأحكام المشتبهة الامتثال العلمي الإجمالي، حتى يستنتج من
ذلك حكم العقل بكفاية الامتثال الظني، لأنه المتعين بعد الامتثال العلمي
بقسميه من التفصيلي والإجمالي، فيلزم من ذلك ما سنختاره: من عدم

(1) كذا في (ظ)، وفي (ل) و (م): " في الواقع ".
426

الفرق - بعد كفاية الامتثال الظني - بين الظن بأداء الواقع والظن بمتابعة
طريق جعله الشارع مجزيا عن الواقع، وسيجئ تفصيل ذلك (1) إن شاء
الله تعالى (2).
ويحصل (3) مما ذكر إشكال آخر - أيضا - من جهة: أن نفي
الاحتياط بلزوم العسر لا يوجب كون الظن حجة ناهضة لتخصيص
العمومات الثابتة بالظنون الخاصة ومخالفة سائر الظواهر الموجودة فيها (4).
ودعوى: أن باب العلم والظن الخاص إذا فرض انسداده سقط
عمومات الكتاب والسنة المتواترة وخبر الواحد الثابت حجيته بالخصوص
عن الاعتبار، للعلم الإجمالي بمخالفة ظواهر أكثرها لمراد المتكلم،
فلا يبقى ظاهر منها على حاله حتى يكون الظن الموجود على خلافه
من باب المخصص والمقيد، مجازفة، إذ لا علم ولا ظن بطرو مخالفة
الظاهر في غير الخطابات التي علم إجمالها بالخصوص، مثل: * (أقيموا
الصلاة) * (5) و * (لله على الناس حج البيت) * (6) وشبههما. وأما كثير من

(1) انظر الصفحة 437.
(2) لم ترد عبارة " قلت: مسألة اعتبار - إلى - تعالى " في (ت)، ولم ترد عبارة
" والحاصل أن اعتبار - إلى - تعالى " في (ر) و (ه‍)، ووردت في هامش (ص)
وكتب عليها: " زائد ".
(3) في (ت) و (ه‍): " وتحصل ".
(4) في (ل) زيادة: " وسيجئ بيان ذلك عند التعرض لحال نتيجة المقدمات إن
شاء الله تعالى ".
(5) المزمل: 20.
(6) آل عمران: 97.
427

العمومات التي لا نعلم (1) بإجمال كل منها، فلا نعلم ولا نظن (2) بثبوت
المجمل بينها لأجل طرو التخصيص في بعضها. وسيجئ بيان ذلك عند
التعرض لحال نتيجة المقدمات إن شاء الله.
هذا كله حال الاحتياط في جميع الوقائع.
وأما الرجوع في كل واقعة إلى ما يقتضيه الأصل في تلك الواقعة
من غير التفات إلى العلم الإجمالي بوجود الواجبات والمحرمات بين
الوقائع، بأن يلاحظ نفس الواقعة: فإن كان فيها حكم سابق يحتمل
بقاؤه استصحب، كالماء المتغير بعد زوال التغيير، وإلا: فإن كان الشك
في أصل التكليف - كشرب التتن - أجري البراءة، وإن كان الشك في
تعيين المكلف به - مثل القصر والإتمام -: فإن أمكن الاحتياط وجب،
وإلا تخير، كما إذا كان الشك في تعيين التكليف الإلزامي، كما إذا دار
الأمر بين الوجوب والتحريم.
ويرد هذا الوجه: أن العلم الإجمالي بوجود الواجبات والمحرمات
يمنع عن إجراء البراءة والاستصحاب المطابق لها (3) المخالف للاحتياط، بل
وكذا العلم الإجمالي بوجود غير الواجبات والمحرمات في الاستصحابات
المطابقة للاحتياط يمنع عن العمل بالاستصحابات من حيث إنها
استصحابات (4)، وإن كان لا يمنع عن العمل بها من حيث الاحتياط،

(1) في (ت)، (ر) و (ل): " لا يعلم ".
(2) في غير (ظ)، (م) و (ه‍): " فلا يعلم ولا يظن ".
(3) لم ترد " المطابق لها " في (ت)، (ر)، (ص) و (ه‍).
(4) في (ص) زيادة: " فتأمل ".
428

لكن الاحتياط في جميع ذلك يوجب العسر.
وبالجملة: فالعمل بالأصول النافية للتكليف في مواردها مستلزم
للمخالفة القطعية الكثيرة، وبالأصول المثبتة للتكليف من الاحتياط
والاستصحاب مستلزم للحرج، وهذا لكثرة المشتبهات في المقامين، كما
لا يخفى على المتأمل.
وأما رجوع هذا الجاهل الذي انسد عليه باب العلم في المسائل
المشتبهة إلى فتوى العالم بها وتقليده فيها، فهو باطل، لوجهين:
أحدهما: الإجماع القطعي.
والثاني: أن الجاهل الذي وظيفته الرجوع إلى العالم هو الجاهل
العاجز عن الفحص، وأما الجاهل الذي بذل الجهد وشاهد مستند العالم
وغلطه في استناده إليه واعتقاده عنه، فلا دليل على حجية فتواه
بالنسبة إليه، وليست فتواه من الطرق المقررة لهذا الجاهل، فإن من
يخطئ القائل بحجية خبر الواحد في فهم دلالة آية النبأ عليها كيف
يجوز له متابعته؟ وأي مزية له عليه حتى يجب رجوعه إليه ولا يجب
العكس؟
وهذا هو الوجه فيما أجمع عليه العلماء: من أن المجتهد إذا لم يجد
دليلا في المسألة على التكليف كان حكمه الرجوع إلى البراءة، لا إلى
من يعتقد وجود الدليل على التكليف.
والحاصل: أن اعتقاد مجتهد ليس حجة على مجتهد آخر خال عن
ذلك (1) الاعتقاد، وأدلة وجوب رجوع الجاهل إلى العالم يراد بها العالم

(1) لم ترد " ذلك " في (ر) و (م).
429

الذي يختفي منشأ علمه على ذلك الجاهل (1)، لا مجرد المعتقد (2) بالحكم،
ولا فرق بين المجتهدين المعتقدين المختلفين في الاعتقاد، وبين المجتهدين
اللذين أحدهما اعتقد الحكم عن دلالة، والآخر اعتقد فساد تلك
الدلالة فلم يحصل له اعتقاد.
وهذا شئ مطرد في باب مطلق رجوع الجاهل إلى العالم، شاهدا
كان أو مفتيا أو (3) غيرهما.

(1) وردت في (ر) بدل " العالم الذي - إلى - ذلك الجاهل ": " غير ذلك ".
(2) في (ر) زيادة: " ولو كان أعلم ".
(3) في (ر)، (ص) و (م): " أم ".
430

المقدمة الرابعة:
في أنه إذا وجب التعرض لامتثال الأحكام المشتبهة ولم يجز
إهمالها بالمرة كما هو مقتضى المقدمة الثانية (1)، وثبت عدم وجوب كون
الامتثال على وجه الاحتياط وعدم جواز الرجوع فيه إلى الأصول
الشرعية، كما هو مقتضى المقدمة الثالثة، تعين بحكم العقل (2) التعرض
لامتثالها على وجه الظن بالواقع فيها، إذ ليس بعد الامتثال العلمي
والظني بالظن الخاص المعتبر في الشريعة امتثال مقدم على الامتثال
الظني.
توضيح ذلك: أنه إذا وجب عقلا أو شرعا التعرض لامتثال
الحكم الشرعي، فله مراتب أربع:

(1) كذا في (ر)، (ظ)، (ل) و (م)، وفي (ت) و (ه‍) جاءت العبارة كما يلي:
" المقدمة الرابعة: في أنه إذا وجب التعرض لامتثال الواقع في مسألة واحدة
أو في مسائل، ولم يمكن الرجوع فيها إلى الأصول، ولم يجب أو لم يجز
الاحتياط، تعين العمل فيها بمطلق الظن. ولعله لذلك يجب العمل بالظن في
الضرر والعدالة وأمثالهما.
إذا تمهدت هذه المقدمات، فنقول: إذا ثبت وجوب التعرض فيما نحن فيه
للامتثال حيث انسد فيه باب العلم والظن الخاص كما مر في المقدمة الأولى ".
ومن المحتمل: أن يكون الصادر من قلمه الشريف أولا ما أثبتناه ثم شطب
عليه وأثبت ما في (ت) و (ه‍)، كما أشار إلى ذلك المحقق الحاج ميرزا موسى
التبريزي (قدس سره) في هامش أوثق الوسائل.
(2) في (ت) و (ه‍) زيادة: " المستقل "، وفي (ص) بدل (العقل) " المقدمة الرابعة ".
431

الأولى: الامتثال العلمي التفصيلي، وهو أن يأتي بما يعلم تفصيلا
أنه هو المكلف به.
وفي معناه ما إذا ثبت كونه هو المكلف به بالطريق الشرعي وإن
لم يفد العلم ولا الظن، كالأصول الجارية في مواردها، وفتوى المجتهد
بالنسبة إلى الجاهل العاجز عن الاجتهاد.
الثانية: الامتثال العلمي الإجمالي، وهو يحصل بالاحتياط.
الثالثة: الامتثال الظني، وهو أن يأتي بما يظن أنه المكلف به.
الرابعة: الامتثال الاحتمالي، كالتعبد بأحد طرفي المسألة من
الوجوب والتحريم، أو التعبد ببعض محتملات المكلف به عند عدم
وجوب الاحتياط أو عدم إمكانه.
وهذه المراتب مترتبة لا يجوز بحكم العقل العدول عن سابقتها إلى
لاحقتها (1) إلا مع تعذرها، على إشكال في الأولين تقدم (2) في أول
الكتاب (3)، وحينئذ فإذا تعذرت المرتبة الأولى ولم يجب الثانية تعينت
الثالثة، ولا يجوز الاكتفاء بالرابعة.
فاندفع بذلك: ما زعمه بعض (4) من تصدى لرد دليل الانسداد:
بأنه لا يلزم من إبطال الرجوع إلى البراءة ووجوب العمل بالاحتياط

(1) في (ص)، (ظ)، (ل) و (م): " سابقه إلى لاحقه ".
(2) راجع الصفحات 71 - 72.
(3) لم ترد عبارة " على إشكال - إلى - الكتاب " في (ظ)، (ل) و (م)، نعم وردت
في هامش (ل).
(4) هو الفاضل النراقي في عوائد الأيام: 377 - 379.
432

وجوب العمل بالظن، لجواز أن يكون المرجع شيئا آخر لا نعلمه، مثل
القرعة والتقليد أو غيرهما مما لا نعلمه، فعلى المستدل سد باب هذه
الاحتمالات، والمانع يكفيه الاحتمال.
توضيح الاندفاع - بعد الاغماض عن الإجماع على عدم الرجوع
إلى القرعة وما بعدها (1) -: أن مجرد احتمال كون شئ غير الظن طريقا
شرعيا لا يوجب العدول عن الظن إليه، لأن الأخذ بمقابل المظنون قبيح
في مقام امتثال الواقع وإن قام عليه ما يحتمل أن يكون طريقا شرعيا،
إذ مجرد الاحتمال لا يجدي في طرح الطرف المظنون، فإن العدول عن
الظن إلى الوهم والشك قبيح.
والحاصل: أنه كما لا يحتاج الامتثال العلمي إلى جعل جاعل،
فكذلك الامتثال الظني بعد تعذر الامتثال العلمي وفرض عدم سقوط
الامتثال.
واندفع بما ذكرنا أيضا: ما ربما يتوهم، من التنافي بين التزام بقاء
التكليف في الوقائع المجهولة الحكم وعدم ارتفاعه بالجهل وبين التزام
العمل بالظن، نظرا إلى أن التكليف بالواقع لو فرض بقاؤه فلا يجدي
غير الاحتياط وإحراز الواقع في امتثاله (2).
توضيح الاندفاع: أن المراد من بقاء التكليف بالواقع نظير التزام
بقاء التكليف فيما تردد الأمر بين محذورين من حيث الحكم أو من
حيث الموضوع بحيث لا يمكن الاحتياط، فإن الحكم بالتخيير لا ينافي

(1) لم ترد عبارة " بعد الاغماض - إلى - وما بعدها " في (ظ)، (ل) و (م).
(2) في (ت) و (ه‍): " في إحراز الواقع وامتثاله ".
433

التزام بقاء التكليف فيقال: إن الأخذ بأحدهما لا يجدي في امتثال
الواقع، لأن المراد ببقاء التكليف عدم السقوط رأسا بحيث لا يعاقب
عند ترك المحتملات كلا، بل العقل يستقل باستحقاق العقاب عند الترك
رأسا، نظير جميع الوقائع المشتبهة.
فما نحن فيه (1) نظير اشتباه الواجب بين (2) الظهر والجمعة في يوم
الجمعة بحيث يقطع بالعقاب بتركهما معا، مع عدم إمكان الاحتياط أو
كونه عسرا قد نص الشارع على نفيه، مع وجود الظن بأحدهما (3)، فإنه
يدور الأمر بين العمل بالظن والتخيير والعمل بالموهوم، فإن إيجاب
العمل بكل من الثلاثة وإن لم يحرز به الواقع، إلا أن العمل بالظن
أقرب إلى الواقع من العمل بالموهوم والتخيير، فيجب عقلا، فافهم.
ولا فرق في قبح طرح الطرف الراجح والأخذ بالمرجوح بين أن
يقوم على المرجوح ما يحتمل أن يكون طريقا معتبرا شرعا، وبين أن
لا يقوم، لأن العدول عن الظن إلى الوهم قبيح ولو باحتمال كون
الطرف الموهوم واجب الأخذ شرعا، حيث قام عليه ما يحتمل كونه
طريقا.
نعم، لو قام على الطرف الموهوم ما يظن كونه طريقا معتبرا
شرعيا، ودار الأمر بين تحصيل الظن بالواقع وبين تحصيل الظن بالطريق
المعتبر الشرعي، ففيه كلام سيأتي إن شاء الله تعالى.

(1) كذا في (ص)، وفي غيرها: " فيما نحن فيه ".
(2) كذا في (ر) و (ص)، وفي غيرهما: " من ".
(3) في (ظ)، (ل) و (م): " بإحداهما ".
434

والحاصل: أنه بعدما ثبت - بحكم المقدمة الثانية - وجوب التعرض
لامتثال المجهولات بنحو من الأنحاء وحرمة إهمالها وفرضها كالمعدوم،
وثبت - بحكم المقدمة الثالثة - عدم وجوب امتثال المجهولات بالاحتياط،
وعدم جواز الرجوع في امتثالها إلى الأصول الجارية في نفس تلك
المسائل، ولا إلى فتوى من يدعي انفتاح باب العلم بها: تعين وجوب
تحصيل الظن بالواقع فيها وموافقته، ولا يجوز قبل تحصيل الظن الاكتفاء
بالأخذ بأحد طرفي المسألة، ولا بعد تحصيل الظن الأخذ بالطرف
الموهوم، لقبح الاكتفاء في مقام الامتثال بالشك والوهم مع التمكن من
الظن، كما يقبح الاكتفاء بالظن مع التمكن من العلم، ولا يجوز أيضا
الاعتناء بما يحتمل أن يكون طريقا معتبرا مع عدم إفادته للظن (1)، لعدم
خروجه عن الامتثال الشكي أو الوهمي.
هذا خلاصة الكلام في مقدمات دليل الانسداد المنتجة لوجوب
العمل بالظن في الجملة.

(1) في (ت)، (ل) و (ه‍): " الظن ".
435

وينبغي التنبيه على أمور:
الأول
أنك قد عرفت أن قضية المقدمات المذكورة وجوب الامتثال
الظني للأحكام المجهولة، فاعلم:
أنه لا فرق في الامتثال الظني بين تحصيل الظن بالحكم الفرعي
الواقعي - كأن يحصل من شهرة القدماء الظن بنجاسة العصير العنبي -
وبين تحصيل الظن بالحكم الفرعي الظاهري، كأن يحصل من أمارة الظن
بحجية أمر لا يفيد الظن كالقرعة مثلا، فإذا ظن حجية القرعة حصل
الامتثال الظني في مورد القرعة وإن لم يحصل ظن بالحكم الواقعي، إلا
أنه حصل ظن ببراءة ذمة المكلف في الواقعة الخاصة، وليس الواقع بما
هو واقع مقصودا للمكلف إلا من حيث كون تحققه مبرءا للذمة.
فكما أنه لا فرق في مقام التمكن من العلم بين تحصيل العلم
بنفس الواقع وبين تحصيل العلم بموافقة طريق علم كون سلوكه مبرءا
للذمة في نظر الشارع، فكذا لا فرق عند تعذر العلم بين الظن بتحقق
الواقع وبين الظن ببراءة الذمة في نظر الشارع.
وقد خالف في هذا التعميم فريقان:
437

أحدهما: من يرى (1) أن مقدمات دليل الانسداد لا تثبت إلا
اعتبار الظن وحجيته في كون الشئ طريقا شرعيا مبرءا للذمة في نظر
الشارع، ولا يثبت اعتباره في نفس الحكم الفرعي، زعما منهم عدم
نهوض المقدمات المذكورة لإثبات حجية الظن في نفس الأحكام
الفرعية، إما مطلقا أو بعد العلم الإجمالي بنصب الشارع طرقا للأحكام
الفرعية.
الثاني: مقابل هذا، وهو من يرى (2) أن المقدمات المذكورة
لا تثبت إلا اعتبار الظن في نفس الأحكام الفرعية، وأما الظن بكون
شئ طريقا مبرءا للذمة فهو ظن في المسألة الأصولية لم يثبت اعتباره
فيها من دليل الانسداد، لجريانها في المسائل الفرعية دون الأصولية.
أما الطائفة الأولى، فقد ذكروا لذلك وجهين:
أحدهما - وهو الذي اقتصر عليه بعضهم (3) - ما لفظه:
" إنا كما نقطع بأنا مكلفون في زماننا هذا تكليفا فعليا بأحكام
فرعية كثيرة، لا سبيل لنا بحكم العيان وشهادة الوجدان إلى تحصيل
كثير منها بالقطع ولا بطريق معين يقطع من السمع بحكم الشارع بقيامه
أو قيام طريقه مقام القطع ولو عند تعذره، كذلك نقطع بأن الشارع

(1) منهم: الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين وأخوه صاحب الفصول، كما
سيأتي.
(2) منهم: شريف العلماء، انظر تقريرات درسه في ضوابط الأصول: 266، وكذا
السيد المجاهد في مفاتيح الأصول: 458 - 459.
(3) وهو صاحب الفصول.
438

قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طرقا مخصوصة، وكلفنا تكليفا فعليا
بالرجوع إليها في معرفتها.
ومرجع هذين القطعين عند التحقيق إلى أمر واحد، وهو القطع
بأنا مكلفون تكليفا فعليا بالعمل بمؤدى طرق مخصوصة، وحيث إنه
لا سبيل غالبا إلى تعيينها بالقطع ولا بطريق يقطع عن السمع بقيامه
بالخصوص أو قيام طريقه كذلك مقام القطع ولو بعد تعذره، فلا ريب
أن الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنما هو الرجوع في تعيين تلك
الطرق (1) إلى الظن الفعلي الذي لا دليل على عدم حجيته، لأنه أقرب
إلى العلم وإلى إصابة الواقع مما عداه " (2).
وفيه: أولا: إمكان منع نصب الشارع طرقا خاصة للأحكام
الواقعية (3)، كيف؟ وإلا لكان وضوح تلك الطرق كالشمس في رابعة
النهار، لتوفر الدواعي بين المسلمين على ضبطها، لاحتياج كل مكلف
إلى معرفتها أكثر من حاجته إلى مسألة صلواته الخمس.
واحتمال اختفائها مع ذلك، لعروض دواعي الاختفاء - إذ ليس
الحاجة إلى معرفة الطريق أكثر من الحاجة إلى معرفة المرجع بعد
النبي (صلى الله عليه وآله) - مدفوع، بالفرق بينهما، كما لا يخفى.
وكيف كان: فيكفي في رد الاستدلال، احتمال عدم نصب الطريق
الخاص للأحكام وإرجاع امتثالها إلى ما يحكم به العقلاء وجرى عليه

(1) في (ل)، (ظ) و (م) بدل " تلك الطرق ": " ذلك ".
(2) الفصول: 277.
(3) في (ر) وهامش (ص) زيادة: " وافية بها ".
439

ديدنهم في امتثال أحكام الملوك والموالي مع العلم بعدم نصب الطريق
الخاص (1): من الرجوع إلى العلم الحاصل من تواتر النقل عن صاحب
الحكم أو باجتماع جماعة من أصحابه على عمل خاص، أو الرجوع إلى
الظن الاطمئناني الذي يسكن إليه النفس ويطلق عليه العلم عرفا ولو
تسامحا في إلقاء احتمال الخلاف، وهو الذي يحتمل حمل كلام السيد (2)
عليه، حيث ادعى انفتاح باب العلم.
هذا حال المجتهد، وأما المقلد: فلا كلام في نصب الطريق الخاص
له وهي فتوى مجتهده، مع احتمال عدم النصب في حقه أيضا، فيكون
رجوعه إلى المجتهد من باب الرجوع إلى أهل الخبرة المركوز في أذهان
جميع العقلاء، ويكون بعض ما ورد من الشارع في هذا الباب تقريرا
لهم، لا تأسيسا.
وبالجملة: فمن المحتمل قريبا إحالة الشارع للعباد في طريق امتثال
الأحكام إلى ما هو المتعارف بينهم في امتثال أحكامهم العرفية: من
الرجوع إلى العلم أو الظن (3) الاطمئناني، فإذا فقدا (4) تعين الرجوع أيضا
بحكم العقلاء إلى الظن الغير الاطمئناني، كما أنه لو فقد - والعياذ بالله -
تعين الامتثال بأخذ أحد طرفي الاحتمال (5)، فرارا عن المخالفة القطعية

(1) في (ر) و (ص) زيادة: " للأحكام ".
(2) تقدم كلامه في الصفحة 331.
(3) في (ظ) و (م): " والظن ".
(4) في (ت)، (ر)، (ل) و (ه‍): " فقد ".
(5) كذا في (ر) ونسخة بدل (ص)، وفي غيرهما بدل " الاحتمال ": " الامتثال ".
440

والإعراض عن التكاليف الإلهية الواقعية.
فظهر مما ذكرنا: اندفاع ما يقال: من أن منع نصب الطريق
لا يجامع القول ببقاء الأحكام الواقعية، إذ بقاء التكليف من دون نصب
طريق إليها ظاهر البطلان.
توضيح الاندفاع: أن التكليف إنما يقبح مع عدم ثبوت الطريق
رأسا ولو بحكم العقل الحاكم بالعمل بالظن مع عدم الطريق الخاص،
أو مع ثبوته وعدم رضا الشارع بسلوكه، وإلا فلا يقبح التكليف مع
عدم الطريق الخاص وحكم العقل بمطلق الظن ورضا الشارع به،
ولذا اعترف هذا المستدل: بأن الشارع لم ينصب طريقا خاصا يرجع
إليه عند انسداد باب العلم في تعيين الطرق (1) الشرعية مع بقاء
التكليف بها.
وربما يستشهد للعلم الاجمالي بنصب الطريق: بأن المعلوم من
سيرة العلماء في استنباطهم هو اتفاقهم على طريق خاص وإن اختلفوا
في تعيينه.
وهو ممنوع:
أولا: بأن جماعة من أصحابنا - كالسيد (2) (رحمه الله) وبعض من تقدم عليه
وتأخر (3) عنه - منعوا نصب الطريق الخاص رأسا، بل أحاله بعضهم (4).

(1) في (ت) و (ه‍) زيادة: " الخاصة ".
(2) راجع الصفحة 240.
(3) تقدم ذكرهم في الصفحة 240 أيضا.
(4) وهو ابن قبة، راجع الصفحة 105.
441

وثانيا: لو أغمضنا عن مخالفة السيد وأتباعه، لكن مجرد قول كل
من العلماء بحجية طريق خاص - حيث ما (1) أدى إليه نظره - لا يوجب
العلم الإجمالي بأن بعض هذه الطرق منصوبة، لجواز خطأ كل واحد فيما
أدى إليه نظره.
واختلاف الفتاوى في الخصوصيات لا يكشف عن تحقق القدر
المشترك، إلا إذا كان اختلافهم راجعا إلى التعيين على وجه ينبئ عن
اتفاقهم على قدر مشترك، نظير الأخبار المختلفة في الوقائع المختلفة، فإنها
لا توجب تواتر القدر المشترك، إلا إذا علم من أخبارهم كون
الاختلاف راجعا إلى التعيين، وقد حقق ذلك في باب التواتر الإجمالي
والإجماع المركب.
وربما يجعل تحقق الإجماع على المنع عن العمل بالقياس وشبهه ولو
مع انسداد باب العلم كاشفا عن أن المرجع إنما هو طريق خاص.
وينتقض أولا: بأنه مستلزم لكون المرجع في تعيين الطريق أيضا
طريقا خاصا، للإجماع على المنع عن العمل فيه بالقياس.
ويحل ثانيا: بأن مرجع هذا إلى الإشكال الآتي (2) في خروج
القياس عن مقتضى دليل الانسداد، فيدفع بأحد الوجوه الآتية (3).
فإن قلت: ثبوت الطريق إجمالا مما لا مجال لإنكاره حتى على

(1) لم ترد " حيث ما " في (ر)، (ص) و (ه‍). نعم، ورد بدلها في (ص) و (ه‍):
" حسب ما ".
(2) في الصفحة 517.
(3) في الصفحة 517 - 529.
442

مذهب من يقول بالظن المطلق، فإن غاية الأمر أنه يجعل مطلق الظن
طريقا عقليا رضي به الشارع، فنصب الشارع للطريق بالمعنى الأعم من
الجعل والتقرير معلوم.
قلت: هذه مغالطة، فإن مطلق الظن ليس طريقا في عرض الطرق
المجعولة حتى يتردد الأمر بين كون الطريق هو مطلق الظن أو طريق
آخر مجعول، بل الطريق العقلي بالنسبة إلى الطريق الجعلي كالأصل
بالنسبة إلى الدليل، إن وجد الطريق الجعلي لم يحكم العقل بكون الظن
طريقا، لأن الظن بالواقع لا يعمل به في مقابلة القطع ببراءة الذمة. وإن
لم يوجد كان طريقا، لأن احتمال البراءة لسلوك الطريق المحتمل لا يلتفت
إليه مع الظن بالواقع، فمجرد عدم ثبوت الطريق الجعلي - كما في ما نحن
فيه - كاف في حكم العقل بكون مطلق الظن طريقا، وعلى كل حال
فتردد الأمر بين مطلق الظن وطريق خاص آخر مما لا معنى له.
وثانيا: سلمنا نصب الطريق، لكن بقاء ذلك الطريق لنا غير
معلوم، بيان ذلك:
أن ما حكم بطريقيته لعله قسم من الأخبار ليس منه بأيدينا
اليوم إلا قليل، كأن يكون الطريق المنصوب هو الخبر المفيد للاطمئنان
الفعلي بالصدور - الذي كان كثيرا في الزمان السابق لكثرة القرائن -
ولا ريب في ندرة هذا القسم في هذا الزمان، أو خبر العادل
أو الثقة الثابت عدالته أو وثاقته بالقطع أو بالبينة الشرعية أو الشياع
مع إفادته الظن الفعلي بالحكم، ويمكن دعوى ندرة هذا القسم في
هذا الزمان، إذ غاية الأمر أن نجد الراوي في الكتب الرجالية محكي
التعديل بوسائط عديدة من مثل الكشي والنجاشي وغيرهما، ومن
443

المعلوم أن مثل هذا لا تعد بينة شرعية، ولهذا لا يعمل (1) مثله (2) في
الحقوق.
ودعوى حجية مثل ذلك بالإجماع ممنوعة، بل المسلم أن الخبر
المعدل بمثل هذا حجة بالاتفاق (3). لكن قد عرفت سابقا (4) - عند تقرير
الإجماع على حجية خبر الواحد - أن مثل هذا الاتفاق العملي لا يجدي
في الكشف عن قول الحجة. مع أن مثل هذا الخبر في غاية القلة،
خصوصا إذا انضم إليه إفادة الظن الفعلي.
وثالثا: سلمنا نصب الطريق ووجوده في جملة ما بأيدينا من
الطرق الظنية - من أقسام الخبر والإجماع المنقول والشهرة وظهور
الإجماع والاستقراء والأولوية الظنية -، إلا أن اللازم من ذلك هو
الأخذ بما هو المتيقن من هذه، فإن وفى بغالب الأحكام اقتصر عليه،
وإلا فالمتيقن من الباقي - مثلا: الخبر الصحيح والإجماع المنقول متيقن
بالنسبة إلى الشهرة وما بعدها من الأمارات، إذ لم يقل أحد بحجية
الشهرة وما بعدها دون الخبر الصحيح والإجماع المنقول - فلا معنى
لتعيين الطريق بالظن بعد وجود القدر المتيقن ووجوب الرجوع في
المشكوك إلى أصالة حرمة العمل.

(1) كذا في (ت)، (ر)، (ظ)، (ه‍) ونسخة بدل (ص)، وفي (ص)، (ل) ونسخة
بدل (ت) و (ه‍): " لا يقبل ".
(2) في (ر): " بمثله ".
(3) في (ر) زيادة: " العملي ".
(4) راجع الصفحة 349.
444

نعم، لو احتيج إلى العمل بإحدى أمارتين واحتمل نصب كل
منهما، صح تعيينه بالظن بعد الإغماض عما سيجئ من الجواب.
ورابعا: سلمنا عدم وجود القدر المتيقن، لكن اللازم من ذلك
وجوب الاحتياط، لأنه مقدم على العمل بالظن، لما عرفت (1): من
تقديم الامتثال العلمي على الظني. اللهم إلا أن يدل دليل على عدم
وجوبه، وهو في المقام مفقود.
ودعوى: أن الأمر دائر بين الواجب والحرام، لأن العمل بما ليس
طريقا حرام، مدفوعة: بأن العمل بما ليس طريقا إذا لم يكن على وجه
التشريع غير محرم، والعمل بكل ما يحتمل الطريقية رجاء أن يكون هذا
هو الطريق لا حرمة فيه من جهة التشريع.
نعم، قد عرفت: أن حرمته مع عدم قصد التشريع إنما هي من
جهة أن فيه طرحا للأصول المعتبرة من دون حجة شرعية، وهذا أيضا
غير لازم في المقام، لأن مورد العمل بالطريق المحتمل (2) إن كان الأصول
على طبقه فلا مخالفة، وإن كان مخالفا للأصول: فإن كان مخالفا
للاستصحاب (3) فلا إشكال، لعدم حجية الاستصحابات بعد العلم الإجمالي
بأن بعض الأمارات الموجودة على خلافها معتبرة عند الشارع. وإن
كان مخالفا للاحتياط فحينئذ يعمل بالاحتياط في المسألة الفرعية،

(1) راجع الصفحة 432.
(2) كذا في (ت)، (ر)، (ه‍) ونسخة بدل (ص)، وفي غيرها بدل " بالطريق
المحتمل ": " بالظن ".
(3) في (ر)، (ص) و (ه‍) زيادة: " النافي للتكليف ".
445

ولا يعمل بذلك الظن (1).
فحاصل الأمر يرجع إلى العمل بالاحتياط في المسألة الأصولية
- أعني نصب الطريق - إذا لم يعارضه الاحتياط في المسألة الفرعية،
فالعمل مطلقا على الاحتياط.
اللهم إلا أن يقال: إنه يلزم الحرج من الاحتياط في موارد
جريان الاحتياط في نفس المسألة، كالشك في الجزئية وفي موارد
الاستصحابات المثبتة للتكليف والنافية له بعد العلم الإجمالي بوجوب
العمل في بعضها على خلاف الحالة السابقة، إذ يصير حينئذ كالشبهة
المحصورة، فتأمل.
وخامسا: سلمنا العلم الإجمالي بوجود الطريق المجعول وعدم
المتيقن وعدم وجوب الاحتياط، لكن نقول: إن ذلك لا يوجب تعيين
العمل بالظن في مسألة تعيين الطريق فقط بل هو مجوز له، كما يجوز
العمل بالظن في المسألة الفرعية، وذلك لأن الطريق المعلوم نصبه إجمالا:
إن كان منصوبا حتى حال انفتاح باب العلم فيكون هو في عرض
الواقع مبرءا للذمة بشرط العلم به، كالواقع المعلوم.
مثلا: إذا فرضنا حجية الخبر مع الانفتاح تخير المكلف بين امتثال
ما علم كونه حكما واقعيا بتحصيل (2) العلم به، وبين امتثال مؤدى
الطريق المجعول الذي علم (3) جعله بمنزلة الواقع، فكل من الواقع ومؤدى

(1) لم ترد " ولا يعمل بذلك الظن " في (ر)، (ص) و (ه‍)، وإنما زيد فيها وفي
(ت): " وكذا لو كان مخالفا للاستصحاب المثبت للتكليف ".
(2) في (ظ) و (ه‍): " يحصل "، وفي (ت): " ويحصل ".
(3) لم ترد " علم " في (م).
446

الطريق مبرء مع العلم به، فإذا انسد باب العلم التفصيلي بأحدهما تعين
الآخر، وإذا انسد باب العلم التفصيلي بهما تعين العمل فيهما بالظن،
فلا فرق بين الظن بالواقع والظن بمؤدى الطريق في كون كل واحد
امتثالا ظنيا.
وإن كان ذلك الطريق منصوبا عند انسداد باب العلم بالواقع،
فنقول: إن تقديمه حينئذ على العمل بالظن إنما هو مع العلم به وتميزه
عن غيره، إذ حينئذ يحكم العقل بعدم جواز العمل بمطلق الظن مع
وجود هذا الطريق المعلوم، إذ فيه عدول عن الامتثال القطعي إلى
الظني (1)، أما مع انسداد باب العلم بهذا الطريق وعدم تميزه عن غيره
إلا بإعمال مطلق الظن، فالعقل لا يحكم بتقديم إحراز الطريق بمطلق
الظن على إحراز الواقع بمطلق الظن.
وكأن المستدل توهم: أن مجرد نصب الطريق - ولو مع عروض
الاشتباه فيه - موجب لصرف التكليف عن الواقع إلى العمل بمؤدى
الطريق، كما ينبئ عنه قوله (2): وحاصل القطعين إلى أمر واحد، وهو
التكليف الفعلي بالعمل بمؤديات الطرق.
وسيأتي مزيد توضيح لاندفاع هذا التوهم إن شاء الله تعالى.

(1) في (ت)، (ر) و (ص) زيادة: " وكذا مع العلم الاجمالي، بناء على أن الامتثال
التفصيلي مقدم على الاجمالي. أو لأن الاحتياط يوجب الحرج المؤدي إلى
الاختلال "، وفي (ت) زيادة " لو كان " بعد " وكذا ".
وكتب فوقها في (ت): " زائد "، وفي (ص): " نسخة... ".
(2) في الصفحة 439.
447

فإن قلت: نحن نرى أنه إذا عين الشارع طريقا للواقع عند
انسداد باب العلم به ثم انسد باب العلم بذلك الطريق، كان البناء على
العمل بالظن في الطريق دون نفس الواقع، ألا ترى: أن المقلد يعمل
بالظن في تعيين المجتهد لا في نفس الحكم الواقعي، والقاضي يعمل بالظن
في تحصيل الطرق المنصوبة لقطع المرافعات لا في تحصيل الحق الواقعي
بين المتخاصمين؟
قلت: فرق بين ما نحن فيه وبين المثالين، فإن الظنون الحاصلة
للمقلد والقاضي في المثالين بالنسبة إلى الواقع أمور غير مضبوطة كثير
المخالفة للواقع، مع قيام الإجماع على عدم جواز العمل بها كالقياس،
بخلاف ظنونهما المعمولة في تعيين الطريق، فإنها حاصلة من أمارات
منضبطة غالب المطابقة لم يدل دليل بالخصوص على عدم جواز العمل
بها.
فالمثال المطابق لما نحن فيه: أن يكون الظنون المعمولة في تعيين
الطريق بعينها هي المعمولة في تحصيل الواقع لا يوجد بينهما فرق من
جهة العلم الإجمالي بكثرة مخالفة إحداهما للواقع، ولا من جهة منع
الشارع عن إحداهما (1) بالخصوص، كما أنا لو فرضنا أن الظنون المعمولة
في نصب الطريق على العكس في المثالين (2) كان المتعين العمل بالظن في
نفس الواقع دون الطريق.
فما ذكرنا: من العمل على الظن سواء تعلق بالطريق أم بنفس

(1) في (ظ)، (ل) و (م): " أخذها "، وفي (ص): " أخذهما ".
(2) في (ظ)، (ل) و (م): " من المثالين ".
448

الواقع، فإنما هو مع مساواتهما من جميع الجهات، فإنا لو فرضنا أن
المقلد يقدر على إعمال نظير الظنون التي يعملها لتعيين المجتهد في
الأحكام الشرعية مع قدرة الفحص عما يعارضها على الوجه المعتبر
في العمل بالظن، لم يجب عليه العمل بالظن في تعيين المجتهد، بل وجب
عليه العمل بظنه في تعيين الحكم الواقعي.
وكذا القاضي إذا شهد عنده عادل واحد بالحق لا يعمل به،
وإذا أخبره هذا العادل بعينه بطريق قطع هذه المخاصمة يأخذ به،
فإنما هو لأجل قدرته على الاجتهاد في مسألة الطريق بإعمال الظنون
وبذل الجهد في المعارضات ودفعها، بخلاف الظن بحقية أحد المتخاصمين،
فإنه مما يصعب الاجتهاد وبذل الوسع في فهم الحق من المتخاصمين،
لعدم انضباط الأمارات في الوقائع الشخصية وعدم قدرة المجتهد على
الإحاطة بها حتى يأخذ بالأحرى، وكما أن المقلد عاجز عن الاجتهاد
في المسألة الكلية، كذلك القاضي عاجز عن الاجتهاد في الوقائع
الشخصية، فتأمل.
هذا، مع إمكان أن يقال: إن مسألة عمل القاضي بالظن في
الطريق مغايرة لمسألتنا، من جهة أن الشارع لم يلاحظ الواقع في
نصب الطرق وأعرض عنه، وجعل مدار قطع الخصومة على الطرق
التعبدية، مثل الإقرار والبينة واليمين والنكول والقرعة وشبهها، بخلاف
الطرق المنصوبة للمجتهد على الأحكام الواقعية، فإن الظاهر أن
مبناها على الكشف الغالبي عن الواقع، ووجه تخصيصها من بين
سائر الأمارات كونها أغلب مطابقة للواقع وكون غيرها غير
غالب المطابقة، بل غالب المخالفة، كما ينبئ عنه: ما ورد في
449

نتيجة (1) العمل بالعقول في دين الله، وأنه ليس شئ أبعد عن دين الله
من عقول الرجال (2)، وأن ما يفسده أكثر مما يصلحه (3)، وأن الدين
يمحق بالقياس (4)، ونحو ذلك (5).
ولا ريب: أن المقصود من نصب الطريق (6) إذا كان غلبة
الوصول إلى الواقع لخصوصية فيها من بين سائر الأمارات، ثم انسد
باب العلم بذلك الطريق المنصوب، والتجأ إلى إعمال سائر الأمارات
التي لم يعتبرها الشارع في نفس الحكم لوجود الأوفق منها بالواقع،
فلا فرق بين إعمال هذه الأمارات في تعيين ذلك الطريق وبين إعمالها في
نفس الحكم الواقعي.
بل الظاهر: أن إعمالها في نفس الواقع أولى، لإحراز المصلحة
الأولية التي هي أحق بالمراعاة من مصلحة نصب الطريق، فإن غاية ما
في نصب الطريق من المصلحة ما به يتدارك المفسدة المترتبة على مخالفة
الواقع اللازمة من العمل بذلك الطريق، لا إدراك المصلحة الواقعية،

(1) لم ترد " نتيجة " في (ر)، (ص) و (ل).
(2) لم نعثر على هذا المضمون في المجاميع الحديثية، نعم ورد في الوسائل:
" ليس شئ أبعد من عقول الرجال عن القرآن " أو " من تفسير القرآن "،
انظر الوسائل 18: 149، الباب 13 من أبواب صفات القاضي، الحديث 69
و 73.
(3) الوسائل 5: 394، الباب 11 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 14.
(4) الوسائل 18: 25، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10.
(5) تقدم بعضها في الصفحة 62 - 63.
(6) في (ت) و (ه‍): " الطرق ".
450

ولهذا اتفق العقل والنقل على ترجيح الاحتياط على تحصيل الواقع
بالطريق المنصوب في غير العبادات مما لا يعتبر فيه نية الوجه اتفاقا،
بل الحق ذلك فيها أيضا، كما مرت (1) الإشارة إليه في إبطال وجوب
الاحتياط.
فإن قلت: العمل بالظن في الطريق عمل بالظن في الامتثال
الظاهري والواقعي، لأن الفرض إفادة الطريق للظن بالواقع، بخلاف غير
ما ظن طريقيته، فإنه ظن بالواقع وليس ظنا بتحقق الامتثال في
الظاهر، بل الامتثال الظاهري مشكوك أو موهوم بحسب احتمال اعتبار
ذلك الظن.
قلت:
أولا: إن هذا خروج عن الفرض، لأن مبنى الاستدلال المتقدم
على وجوب العمل بالظن في الطريق (2) وإن لم يكن الطريق مفيدا للظن
بالواقع (3) أصلا. نعم، قد (4) اتفق في الخارج أن الأمور التي يعلم بوجود
الطريق فيها إجمالا مفيدة للظن (5)، لا أن مناط الاستدلال اتباع الظن
بالطريق المفيد للظن بالواقع.

(1) راجع الصفحة 417 - 420.
(2) في (ص): " بالطريق ".
(3) لم ترد " بالواقع " في (ظ)، (ل) و (م)، وورد بدلها في (ر) و (ص): " به ".
(4) لم ترد " قد " في (ظ)، (ل) و (م).
(5) في (ر) و (ص) زيادة: " شخصا أو نوعا "، وفي (ت) زيادة: " نوعا أو
شخصا ".
451

وثانيا: إن هذا يرجع إلى ترجيح بعض الأمارات الظنية على
بعض باعتبار الظن باعتبار بعضها شرعا دون الآخر، بعد الاعتراف
بأن مؤدى دليل الانسداد حجية الظن بالواقع لا بالطريق. وسيجئ (1)
الكلام في أن نتيجة دليل الانسداد - على تقدير إفادته اعتبار الظن
بنفس الحكم - كلية بحيث لا يرجح بعض الظنون على بعض، أو مهملة
بحيث يجب الترجيح بين الظنون، ثم التعميم مع فقد المرجح.
والاستدلال المذكور مبني على إنكار ذلك كله، وأن دليل الانسداد
جار في مسألة تعيين الطريق وهي المسألة الأصولية، لا في نفس
الأحكام الواقعية الفرعية، بناء منه على أن الأحكام الواقعية بعد نصب
الطرق (2) ليست مكلفا بها تكليفا فعليا إلا بشرط قيام تلك الطرق
عليها، فالمكلف به في الحقيقة مؤديات تلك الطرق، لا الأحكام الواقعية
من حيث هي.
وقد عرفت مما ذكرنا: أن نصب هذه الطرق ليس إلا لأجل
كشفها الغالبي عن الواقع ومطابقتها له، فإذا دار الأمر بين إعمال ظن (3)
في تعيينها أو في تعيين الواقع لم يكن رجحان للأول.
ثم إذا فرضنا أن نصبها ليس لمجرد الكشف، بل لأجل مصلحة
يتدارك بها مصلحة الواقع، لكن ليس مفاد نصبها تقييد الواقع بها
واعتبار مساعدتها في إرادة الواقع، بل مؤدى وجوب العمل بها: جعلها

(1) انظر الصفحة 463.
(2) كذا في (ظ)، (ل) و (م)، وفي غيرها: " الطريق ".
(3) في (ت) و (ل): " الظن ".
452

عين الواقع ولو بحكم الشارع، لا قيدا له.
والحاصل: أنه فرق بين أن يكون مرجع نصب هذه الطرق إلى
قول الشارع: " لا أريد من الواقع إلا ما ساعد عليه ذلك الطريق "،
فينحصر التكليف الفعلي حينئذ في مؤديات الطرق (1)، ولازمه إهمال ما
لم يؤد إليه الطريق من الواقع، سواء انفتح باب العلم بالطريق أم انسد،
وبين أن يكون التكليف الفعلي بالواقع باقيا على حاله، إلا أن الشارع
حكم بوجوب البناء على كون مؤدى الطريق هو ذلك الواقع، فمؤدى
هذه الطرق واقع جعلي، فإذا انسد طريق العلم إليه ودار الأمر بين
الظن بالواقع الحقيقي وبين الظن بما جعله الشارع واقعا فلا ترجيح، إذ
الترجيح مبني على إغماض الشارع عن الواقع.
وبذلك ظهر ما في قول بعضهم (2) (3): من أن التسوية بين الظن
بالواقع والظن بالطريق إنما يحسن لو كان أداء التكليف المتعلق بكل من
الفعل والطريق المقرر مستقلا، لقيام الظن في كل من التكليفين حينئذ
مقام العلم به مع قطع النظر عن الآخر، وأما لو كان أحد التكليفين
منوطا بالآخر مقيدا له، فمجرد حصول الظن بأحدهما دون حصول
الظن بالآخر المقيد له لا يقتضي الحكم بالبراءة. وحصول البراءة في
صورة العلم بأداء الواقع إنما هو لحصول الأمرين به، نظرا إلى أداء

(1) في (ر) و (ص): " الطريق ".
(2) هو الشيخ محمد تقي صاحب هداية المسترشدين.
(3) كذا في نسخة بدل (ص) و (ل)، وفي غيرهما: " هذا المستدل "، إلا أنه لم ترد
" هذا " في (ل).
453

الواقع وكونه من الوجه المقرر، لكون العلم طريقا إلى الواقع في العقل
والشرع، فلو كان الظن بالواقع ظنا بالطريق جرى ذلك فيه أيضا، لكنه
ليس كذلك، فلذا لا يحكم بالبراءة معه (1)، انتهى.
الوجه الثاني: ما ذكره بعض المحققين من المعاصرين (2) مع الوجه
الأول وبعض الوجوه الاخر (3)، قال:
لا ريب في كوننا مكلفين بالأحكام الشرعية ولم يسقط عنا
التكليف بالأحكام الشرعية في الجملة، وأن الواجب علينا أولا هو
تحصيل العلم بتفريغ الذمة في حكم المكلف، بأن يقطع معه بحكمه بتفريغ
ذمتنا عما كلفنا به وسقوط التكليف عنا، سواء حصل العلم منه بأداء
الواقع أو لا، حسب ما مر تفصيل القول فيه.
وحينئذ فنقول: إن صح لنا تحصيل العلم بتفريغ الذمة في حكم
الشارع فلا إشكال في وجوبه وحصول البراءة به، وإن انسد علينا
سبيل العلم به كان الواجب علينا تحصيل الظن بالبراءة في حكمه، إذ
هو الأقرب إلى العلم به، فتعين الأخذ به عند التنزل من العلم في
حكم العقل بعد انسداد سبيل العلم والقطع ببقاء التكليف، دون ما
يحصل معه الظن بأداء الواقع كما يدعيه القائل بأصالة حجية الظن.
وبينهما بون بعيد، إذ المعتبر في الوجه الأول هو الأخذ بما يظن
كونه حجة، لقيام دليل ظني على حجيته سواء حصل منه الظن بالواقع

(1) هداية المسترشدين: 394.
(2) هو الشيخ محمد تقي صاحب هداية المسترشدين أيضا.
(3) في (ظ)، (م) ونسخة بدل (ص) بدل " الاخر ": " الآتية ".
454

أو لا، وفي الوجه الثاني لا يلزم حصول الظن بالبراءة في حكم
الشارع، إذ لا يستلزم مجرد الظن بالواقع الظن باكتفاء المكلف بذلك
الظن في العمل، سيما بعد النهي عن اتباع الظن، فإذا تعين تحصيل ذلك
بمقتضى العقل يلزم اعتبار أمر آخر يظن معه رضى المكلف بالعمل به،
وليس ذلك إلا الدليل الظني الدال على حجيته، فكل طريق قام ظن
على حجيته عند الشارع يكون حجة، دون ما لم يقم عليه ذلك (1)،
انتهى بألفاظه.
وأشار بقوله: " حسب ما مر تفصيل القول فيه " إلى ما ذكره
سابقا في مقدمات هذا المطلب، حيث قال في المقدمة الرابعة من تلك
المقدمات:
إن المناط في وجوب الأخذ بالعلم وتحصيل اليقين من الدليل هل
هو اليقين بمصادفة الأحكام الواقعية الأولية إلا أن يقوم دليل على
الاكتفاء بغيره؟ أو أن الواجب أولا هو تحصيل اليقين بتحصيل
الأحكام، وأداء الأعمال على وجه أراده الشارع منا في الظاهر وحكم
معه قطعا بتفريغ ذمتنا بملاحظة الطرق المقررة لمعرفتها مما جعلها وسيلة
للوصول إليها، سواء علم بمطابقته للواقع أو ظن ذلك، أو لم يحصل به
شئ منهما؟ وجهان.
الذي يقتضيه التحقيق: هو الثاني، فإنه القدر الذي يحكم العقل
بوجوبه ودلت الأدلة المتقدمة على اعتباره، ولو حصل العلم بها على
الوجه المذكور لم يحكم العقل قطعا بوجوب تحصيل العلم بما في الواقع،

(1) هداية المسترشدين: 391.
455

ولم يقض شئ من الأدلة الشرعية بوجوب تحصيل شئ آخر وراء
ذلك، بل الأدلة الشرعية قائمة على خلاف ذلك، إذ لم يبن الشريعة من
أول الأمر على وجوب تحصيل كل من الأحكام الواقعية على سبيل
القطع واليقين، ولم يقع التكليف به حين انفتاح سبيل العلم بالواقع، وفي
ملاحظة طريقة السلف من زمن النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) كفاية في ذلك،
إذ لم يوجب النبي (صلى الله عليه وآله) على جميع من في بلده من الرجال والنسوان
السماع منه في تبليغ الأحكام، أو حصول التواتر لآحادهم بالنسبة إلى
آحاد الأحكام، أو قيام القرينة القاطعة على عدم تعمد الكذب أو
الغلط في الفهم أو في سماع اللفظ بالنظر إلى الجميع، بل لو سمعوه من
الثقة اكتفوا به (1)، انتهى.
ثم شرع في إبطال دعوى حصول العلم بقول الثقة مطلقا، إلى أن
قال:
فتحصل مما قررناه: كون العلم الذي هو مناط التكليف أولا هو
العلم بالأحكام من الوجه المقرر لمعرفتها والوصول إليها، والواجب
بالنسبة إلى العمل هو أداؤه على وجه يقطع معه بتفريغ الذمة في حكم
الشرع، سواء حصل العلم بأدائه على طبق الواقع أو على طبق الطريق
المقرر من الشارع وإن لم يعلم ولم يظن بمطابقتها للواقع.
وبعبارة أخرى: لا بد من المعرفة بالتكليف، وأداء المكلف به على
وجه اليقين أو على وجه منته إلى اليقين، من غير فرق بين الوجهين،
ولا ترتيب بينهما.

(1) هداية المسترشدين: 384.
456

نعم، لو لم يظهر طريق مقرر من الشارع لمعرفتها تعين الأخذ
بالعلم بالواقع مع إمكانه، إذ هو طريق إلى الواقع بحكم العقل من غير
توقف لإيصاله إلى الواقع على بيان الشرع، بخلاف غيره من الطرق
المقررة (1)، انتهى كلامه رفع مقامه.
أقول: ما ذكره في مقدمات مطلبه: من عدم الفرق بين علم
المكلف بأداء الواقع على ما هو عليه (2) وبين العلم بأدائه من الطريق
المقرر، مما لا إشكال فيه.
نعم، ما جزم به من أن المناط في تحصيل العلم أولا هو العلم
بتفريغ الذمة دون أداء الواقع على ما هو عليه، فيه:
أن تفريغ الذمة عما اشتغلت به إما بفعل نفس ما أراده الشارع
في ضمن الأوامر الواقعية، وإما بفعل ما حكم حكما جعليا بأنه نفس
المراد وهو مضمون الطرق المجعولة، فتفريغ الذمة بهذا - على مذهب
المخطئة - من حيث إنه نفس المراد الواقعي بجعل الشارع، لا من حيث
إنه شئ مستقل في مقابل المراد الواقعي، فضلا عن أن يكون هو
المناط في لزوم تحصيل العلم واليقين.
والحاصل: أن مضمون الأوامر الواقعية المتعلقة بأفعال المكلفين مراد
واقعي حقيقي، ومضمون الأوامر الظاهرية المتعلقة بالعمل بالطرق المقررة
ذلك المراد الواقعي، لكن على سبيل الجعل لا الحقيقة - وقد اعترف (3)

(1) هداية المسترشدين: 384 - 385.
(2) لم ترد " عليه " في (ظ)، (ل) و (م).
(3) في (ت) زيادة: " به ".
457

المحقق المذكور، حيث عبر عنه بأداء الواقع من الطريق المجعول - فأداء
كل من الواقع الحقيقي والواقع الجعلي لا يكون بنفسه امتثالا وإطاعة
للأمر (1) المتعلق به ما لم يحصل العلم به.
نعم، لو كان كل من الأمرين المتعلقين بالأداءين مما لا يعتبر
في سقوطه قصد الإطاعة والامتثال، كان مجرد إتيان كل منهما مسقطا
للأمر من دون امتثال، وأما الامتثال للأمر بهما فلا يحصل إلا مع
العلم.
ثم إن هذين الأمرين مع التمكن من امتثالهما يكون المكلف مخيرا
في امتثال أيهما، بمعنى أن المكلف مخير بين تحصيل العلم بالواقع فيتعين
عليه وينتفي موضوع الأمر الآخر، إذ المفروض كونه ظاهريا قد اخذ
في موضوعه عدم العلم بالواقع، وبين ترك تحصيل الواقع وامتثال الأمر
الظاهري.
هذا مع التمكن من امتثالهما، وأما لو تعذر عليه امتثال
أحدهما تعين عليه امتثال الآخر، كما لو عجز عن تحصيل العلم بالواقع
وتمكن من سلوك الطريق المقرر، لكونه معلوما له، أو انعكس الأمر
بأن تمكن من العلم وانسد عليه باب سلوك الطريق المقرر، لعدم
العلم به.
ولو عجز عنهما معا قام الظن بهما مقام العلم بهما بحكم العقل.
فترجيح الظن بسلوك الطريق المقرر (2) على الظن بسلوك الواقع

(1) في (ت)، (ر)، (ص)، (ظ) و (م): " لأمره ".
(2) لم ترد " المقرر " في (ر) و (ل).
458

لم يعلم وجهه، بل الظن بالواقع أولى في مقام الامتثال، لما أشرنا إليه
سابقا (1): من حكم العقل والنقل بأولوية إحراز الواقع.
هذا في الطريق المجعول في عرض العلم بأن أذن في سلوكه مع
التمكن من العلم، وأما إذا نصبه بشرط العجز عن تحصيل العلم، فهو
أيضا كذلك، ضرورة أن القائم مقام تحصيل العلم الموجب للإطاعة
الواقعية عند تعذره هي الإطاعة الظاهرية المتوقفة على العلم بسلوك
الطريق المجعول، لا على مجرد سلوكه.
والحاصل: أن سلوك الطريق المجعول - مطلقا أو عند تعذر العلم -
في مقابل العمل بالواقع، فكما أن العمل بالواقع مع قطع النظر عن العلم
لا يوجب امتثالا، وإنما يوجب فراغ الذمة من المأمور به واقعا لو لم
يؤخذ فيه تحققه على وجه الامتثال، فكذلك سلوك الطريق المجعول،
فكل منهما موجب لبراءة الذمة واقعا وإن لم يعلم بحصوله، بل ولو
اعتقد عدم حصوله.
وأما العلم بالفراغ المعتبر في الإطاعة فلا يتحقق في شئ منهما
إلا بعد العلم أو الظن القائم مقامه.
فالحكم بأن الظن بسلوك الطريق المجعول يوجب الظن بفراغ
الذمة، بخلاف الظن بأداء الواقع فإنه لا يوجب الظن بفراغ الذمة، إلا
إذا ثبت حجية ذلك الظن، وإلا فربما يظن بأداء الواقع من طريق يعلم
بعدم حجيته، تحكم صرف.
ومنشأ ما ذكره (قدس سره): تخيل أن نفس سلوك الطريق الشرعي

(1) راجع الصفحة 451.
459

المجعول، في مقابل سلوك الطريق العقلي الغير المجعول وهو العلم بالواقع
الذي هو سبب تام لبراءة الذمة، فيكون هو أيضا كذلك، فيكون الظن
بالسلوك ظنا بالبراءة، بخلاف الظن بالواقع، لأن نفس أداء الواقع ليس
سببا تاما للبراءة حتى يحصل من الظن به الظن بالبراءة، فقد قاس
الطريق الشرعي بالطريق العقلي.
وأنت خبير: بأن الطريق الشرعي لا يتصف بالطريقية فعلا إلا
بعد العلم به تفصيلا، وإلا فسلوكه - أعني مجرد تطبيق الأعمال عليه - مع
قطع النظر عن حكم الشارع، لغو صرف، ولذلك أطلنا الكلام في أن
سلوك الطريق المجعول في مقابل العمل بالواقع، لا في مقابل العلم
بالعمل (1) بالواقع، ويلزم من ذلك كون كل من العلم والظن المتعلق
بأحدهما في مقابل المتعلق بالآخر، فدعوى: أن الظن بسلوك الطريق
يستلزم الظن بالفراغ، بخلاف الظن بإتيان الواقع، فاسدة.
هذا كله، مع ما علمت سابقا في رد الوجه الأول: من إمكان
منع جعل الشارع طريقا إلى الأحكام، وإنما اقتصر على الطرق المنجعلة
عند العقلاء وهو العلم، ثم على الظن الاطمئناني.
ثم إنك حيث عرفت أن مآل هذا القول إلى أخذ نتيجة دليل
الانسداد بالنسبة إلى المسائل الأصولية وهي حجية الأمارات المحتملة
للحجية، لا بالنسبة إلى نفس الفروع، فاعلم:
أن في مقابله قولا آخر لغير واحد من مشايخنا المعاصرين قدس
الله أسرارهم (2)، وهو عدم جريان دليل الانسداد على وجه يشمل مثل

(1) لم ترد " بالعمل " في (م) و (ه‍).
(2) تقدم ذكرهم في الصفحة 438، الهامش (2).
460

هذه المسألة الأصولية، أعني حجية الأمارات المحتملة، وهذا هو القول
الذي ذكرنا في أول التنبيه: أنه ذهب إليه فريق. وسيأتي الكلام فيه
عند التكلم في حجية الظن المتعلق بالمسائل الأصولية إن شاء الله
تعالى (1).
ثم اعلم: أن بعض من لا خبرة له - لما لم يفهم من دليل
الانسداد إلا ما تلقن من لسان بعض مشايخه (2) وظاهر عبارة كتاب
القوانين (3) - رد القول الذي ذكرناه أولا عن بعض المعاصرين (4): من
حجية الظن في الطريق لا في نفس الأحكام، بمخالفته لإجماع العلماء،
حيث زعم أنهم بين من يعمم دليل الانسداد لجميع المسائل العلمية (5)
- أصولية أو فقهية - كصاحب القوانين (6)، وبين من يخصصه بالمسائل
الفرعية، فالقول بعكس هذا خرق للإجماع المركب (7).
ويدفعه: أن المسألة ليست من التوقيفيات التي يدخلها الإجماع
المركب، مع أن دعواه في مثل هذه المسائل المستحدثة بشيعة جدا. بل

(1) انظر الصفحة 541، وما بعدها.
(2) وهو شريف العلماء.
(3) القوانين 1: 440.
(4) راجع الصفحة 438 و 454.
(5) في (ت) و (ظ): " العملية ".
(6) القوانين 1: 452.
(7) وقفنا على هذا المطلب في ضوابط الأصول للسيد إبراهيم القزويني: 266،
وقد أثبت فيه دروس أستاذه شريف العلماء.
461

المسألة عقلية، فإذا فرض استقلال العقل بلزوم العمل بالظن في مسألة
تعيين الطرق (1)، فلا معنى لرده بالإجماع المركب.
فلا سبيل إلى رده إلا بمنع جريان حكم العقل، وجريان مقدمات
الانسداد في خصوصها كما عرفته منا، أو فيها في ضمن مطلق الأحكام
الشرعية، كما فعله غير واحد من مشايخنا (2).

(1) في (ل) و (ه‍): " الطريق ".
(2) كالوحيد البهبهاني في الفوائد الحائرية: 276، والرسائل الأصولية: 430 -
431، والمحقق القمي في القوانين 1: 440.
462

الأمر الثاني
وهو أهم الأمور في هذا الباب: أن نتيجة دليل الانسداد هل هي
قضية مهملة من حيث أسباب الظن، فلا يعم الحكم لجميع الأمارات
الموجبة للظن إلا بعد ثبوت معمم - من لزوم ترجيح بلا مرجح، أو
إجماع مركب، أو غير ذلك -، أو قضية كلية لا تحتاج (1) في التعميم إلى
شئ؟
وعلى التقدير الأول، فهل ثبت المرجح لبعض الأسباب على بعض
أم لم يثبت؟
وعلى التقدير الثاني - أعني كون القضية كلية - فكيف توجيه
خروج القياس، مع أن الدليل العقلي لا يقبل التخصيص؟
فهنا مقامات:

(1) في جميع النسخ: " لا يحتاج ".
463

الأول
في كون نتيجة دليل الانسداد مهملة أو معينة:
والتحقيق: أنه لا إشكال في أن المقدمات السابقة - التي حاصلها
بقاء التكليف، وعدم التمكن من العلم، وعدم وجوب الاحتياط، وعدم
جواز الرجوع إلى القاعدة التي يقتضيها المقام - إذا جرت في مسألة،
تعين وجوب العمل بأي ظن حصل في تلك المسألة من أي سبب،
وهذا الظن كالعلم في عدم الفرق في اعتباره بين الأسباب والموارد
والأشخاص، وهذا ثابت بالإجماع وبالعقل.
وقد سلك هذا المسلك صاحب القوانين، حيث إنه أبطل البراءة
في كل مسألة من غير ملاحظة لزوم الخروج عن الدين، وأبطل لزوم
الاحتياط كذلك مع قطع النظر عن لزوم الحرج (1). ويظهر أيضا من
صاحبي المعالم (2) والزبدة (3)، بناء على اقتضاء ما ذكراه لإثبات حجية
خبر الواحد للعمل (4) بمطلق الظن، فلاحظ.
لكنك قد عرفت مما سبق: أنه لا دليل على منع (5) جريان

(1) انظر القوانين 1: 440.
(2) المعالم: 192.
(3) الزبدة: 58.
(4) في (ت)، (ل) و (ص): " العمل ".
(5) في (ل) ونسخة بدل (ص) بدل " منع ": " بطلان ".
464

أصالة البراءة وأصالة (1) الاحتياط أو الاستصحاب (2) المطابق لإحداهما (3)
في كل مورد مورد (4) من مواردها بالخصوص، إنما الممنوع جريانها في
جميع المسائل، للزوم المخالفة القطعية الكثيرة ولزوم الحرج عن
الاحتياط، وهذا المقدار لا يثبت إلا وجوب العمل بالظن في الجملة،
من دون تعميم بحسب الأسباب ولا بحسب الموارد ولا بحسب مرتبة
الظن.
وحينئذ فنقول: إنه إما أن يقرر دليل الانسداد على وجه يكون
كاشفا عن حكم الشارع بلزوم العمل بالظن، بأن يقال: إن بقاء
التكاليف - مع العلم بأن الشارع لم يعذرنا في ترك التعرض لها وإهمالها،
مع عدم إيجاب الاحتياط علينا، وعدم بيان طريق مجعول فيها - يكشف
عن أن الظن جائز العمل، وأن العمل به ماض عند الشارع، وأنه
لا يعاقبنا على ترك واجب إذا ظن بعدم وجوبه ولا بفعل محرم إذا ظن
بعدم تحريمه.
فحجية الظن على هذا التقرير تعبد شرعي كشف عنه العقل من
جهة دوران الأمر بين أمور كلها باطلة سواه، فالاستدلال عليه من
باب الاستدلال على تعيين أحد طرفي المنفصلة أو أطرافها بنفي الباقي،
فيقال: إن الشارع إما أن أعرض عن هذه التكاليف المعلومة إجمالا، أو

(1) في (ظ)، (م) و (ه‍): " أو أصالة ".
(2) في (ر) و (ص): " والاستصحاب ".
(3) في غير (م): " لأحدهما ".
(4) لم ترد في (ت) و (ظ): " مورد " الثانية.
465

أراد الامتثال بها على (1) العلم، أو أراد الامتثال المعلوم إجمالا، أو أراد
امتثالها من طريق خاص تعبدي، أو أراد امتثالها الظني، وما عدا
الأخير باطل، فتعين هو.
وإما أن يقرر على وجه يكون العقل منشأ للحكم بوجوب
الامتثال الظني، بمعنى حسن المعاقبة على تركه وقبح المطالبة بأزيد منه،
كما يحكم بوجوب تحصيل العلم وعدم كفاية الظن عند التمكن من
تحصيل العلم، فهذا الحكم العقلي ليس من مجعولات الشارع، إذ كما أن
نفس وجوب الإطاعة وحرمة المعصية بعد تحقق الأمر والنهي من
الشارع ليس من الأحكام المجعولة للشارع، بل شئ يستقل به العقل
لا على وجه الكشف، فكذلك كيفية الإطاعة وأنه يكفي فيها الظن
بتحصيل مراد الشارع في مقام، ويعتبر فيها العلم بتحصيل المراد في
مقام آخر إما تفصيلا أو إجمالا.
وتوهم: أنه يلزم على هذا انفكاك حكم العقل عن حكم الشرع،
مدفوع بما قررنا في محله: من أن التلازم بين الحكمين إنما هو مع قابلية
المورد لهما، أما لو كان قابلا لحكم العقل دون الشرع فلا تلازم (2)،
كما في الإطاعة والمعصية، فإنهما لا يقبلان لورود حكم الشارع عليهما
بالوجوب والتحريم الشرعيين - بأن يريد فعل الأولى وترك الثانية
بإرادة مستقلة غير إرادة فعل المأمور به وترك المنهي عنه الحاصلة
بالأمر والنهي - حتى أنه لو صرح بوجوب الإطاعة وتحريم المعصية

(1) في (ص) زيادة: " وجه ".
(2) " فلا تلازم " من (ت) و (ص).
466

كان الأمر والنهي للإرشاد لا للتكليف، إذ لا يترتب على مخالفة هذا
الأمر والنهي إلا ما يترتب على ذات المأمور به والمنهي عنه،
أعني نفس الإطاعة والمعصية، وهذا (1) دليل الإرشاد، كما في أوامر
الطبيب، ولذا لا يحسن من الحكيم عقاب آخر أو ثواب آخر غير
ما يترتب على نفس المأمور به والمنهي عنه فعلا أو تركا من الثواب
والعقاب.
ثم إن هذين التقريرين مشتركان في الدلالة على التعميم من
حيث الموارد يعني المسائل، إذ على الأول يدعى الإجماع القطعي على
أن العمل بالظن لا يفرق فيه بين أبواب الفقه، وعلى الثاني يقال: إن
العقل مستقل بعدم الفرق في باب الإطاعة والمعصية بين واجبات الفروع
من أول الفقه إلى آخره ولا بين محرماتها كذلك، فيبقى التعميم من
جهتي الأسباب ومرتبة الظن.
فنقول:
أما التقرير الثاني، فهو يقتضي التعميم والكلية من حيث الأسباب،
إذ العقل لا يفرق في باب الإطاعة الظنية (2) بين أسباب الظن، بل هو
من هذه الجهة نظير العلم لا يقصد منه إلا الانكشاف.
وأما من حيث مرتبة الانكشاف قوة وضعفا فلا تعميم في
النتيجة (3)، إذ لا يلزم من بطلان كلية العمل بالأصول - التي هي طرق

(1) في (ر)، (ص) و (ه‍) زيادة: " نفس "، لكن، شطب عليها في (ص) و (ه‍).
(2) في (ظ) و (م): " بالمظنة ".
(3) في هامش (ل) زيادة: " بحيث يحكم العقل العمل بكل ظن قويا وضعيفا ".
467

شرعية - الخروج عنها بالكلية، بل يمكن الفرق في مواردها بين الظن
القوي البالغ حد سكون النفس في مقابلها فيؤخذ به، وبين ما دونه
فيؤخذ بها.
وأما التقرير الأول، فالإهمال فيه ثابت من جهة الأسباب ومن
جهة المرتبة.
إذا عرفت ذلك، فنقول: الحق في تقرير دليل الانسداد هو التقرير
الثاني، وأن التقرير على وجه الكشف فاسد.
أما أولا: فلأن المقدمات المذكورة لا تستلزم جعل الشارع
للظن (1) - مطلقا أو بشرط حصوله من أسباب خاصة - حجة، لجواز أن
لا يجعل الشارع طريقا للامتثال بعد تعذر العلم أصلا، بل عرفت - في
الوجه الأول من الإيراد على القول باعتبار الظن في الطريق -: أن ذلك
غير بعيد.
وهو أيضا طريق العقلاء في التكاليف العرفية، حيث يعملون
بالظن في تكاليفهم العرفية مع القطع بعدم جعل طريق لها من جانب
الموالي، ولا يجب على الموالي نصب الطريق عند تعذر العلم، نعم يجب
عليهم الرضا بحكم العقل ويقبح عليهم المؤاخذة على مخالفة الواقع الذي
يؤدي إليه الامتثال الظني.
إلا أن يقال: إن مجرد إمكان ذلك ما لم يحصل العلم به لا يقدح
في إهمال النتيجة وإجمالها، فتأمل (2).

(1) كذا في النسخ.
(2) لم ترد عبارة " إلا أن يقال - إلى - فتأمل " في (ظ)، (ل) و (م).
468

وأما ثانيا: فلأنه إذا بني على كشف المقدمات المذكورة عن جعل
الظن على وجه الإهمال والإجمال، صح المنع الذي أورده بعض
المتعرضين (1) لرد هذا الدليل، وقد أشرنا إليه سابقا (2)، وحاصله:
أنه كما يحتمل أن يكون الشارع قد جعل لنا مطلق الظن أو الظن
في الجملة - المتردد بين الكل والبعض المردد بين (3) الأبعاض - كذلك
يحتمل أن يكون قد جعل لنا شيئا آخر حجة من دون اعتبار إفادته
الظن، لأنه أمر ممكن غير مستحيل، والمفروض عدم استقلال العقل
بحكم في هذا المقام، فمن أين يثبت جعل الظن في الجملة دون شئ
آخر، ولم يكن لهذا المنع دفع أصلا؟ إلا أن يدعى الإجماع على عدم
نصب شئ آخر غير الظن في الجملة، فتأمل (4).
وأما ثالثا: فلأنه لو صح كون النتيجة مهملة مجملة لم ينفع
أصلا إن بقيت على إجمالها، وإن عينت: فإما أن تعين (5) في ضمن
كل الأسباب، وإما أن تعين (6) في ضمن بعضها المعين، وسيجئ (7)
عدم تمامية شئ من هذين إلا بضميمة الإجماع، فيرجع الأمر
بالأخرة إلى دعوى الإجماع على حجية مطلق الظن بعد الانسداد،

(1) كذا في (ل) و (ه‍)، وفي غيرهما: " المعترضين ".
(2) راجع الصفحة 432.
(3) لم ترد عبارة " الكل والبعض المردد بين " في (ظ).
(4) لم ترد عبارة " إلا أن - إلى - فتأمل " في (ظ)، (ل) و (م).
(5) و (6) في (ص)، (ل)، (م) و (ه‍): " يعين ".
(7) في المقام الثاني، الصفحة 471.
469

فتسميته دليلا عقليا لا يظهر له وجه، عدا كون الملازمة بين تلك
المقدمات الشرعية ونتيجتها عقلية، وهذا جار في جميع الأدلة السمعية،
كما لا يخفى.
470

المقام الثاني
في أنه على أحد التقريرين السابقين (1) هل يحكم بتعميم الظن من
حيث الأسباب والمرتبة (2)، أم لا؟
فنقول: أما على تقدير كون العقل كاشفا عن حكم الشارع بحجية
الظن في الجملة، فقد عرفت أن الإهمال بحسب الأسباب وبحسب
المرتبة، ويذكر للتعميم من جهتهما (3) وجوه:
الأول: عدم المرجح لبعضها على بعض، فيثبت التعميم، لبطلان
الترجيح بلا مرجح والإجماع على بطلان التخيير.
والتعميم بهذا الوجه يحتاج إلى ذكر ما يصلح (4) أن يكون مرجحا
وإبطاله، وليعلم أولا (5): أنه لا بد أن يكون المعين والمرجح معينا لبعض
كاف، بحيث لا يلزم من الرجوع بعد الالتزام به إلى الأصول محذور،
وإلا فوجوده لا يجدي.
إذا تمهد هذا، فنقول:

(1) في الصفحة 465 - 466.
(2) في (ل) و (ص): " أو المرتبة ".
(3) كذا في (ت) و (ر)، وفي غيرهما: " جهتها ".
(4) في (ظ) و (م): " يستصلح ".
(5) لم ترد " أولا " في (ر) و (ص).
471

ما يصلح أن يكون معينا أو مرجحا أحد أمور ثلاثة:
الأول من هذه الأمور: كون بعض الظنون متيقنا (1) بالنسبة إلى
الباقي، بمعنى كونه واجب العمل قطعا على كل تقدير، فيؤخذ به ويطرح
الباقي، للشك في حجيته.
وبعبارة أخرى: يقتصر في القضية المهملة المخالفة للأصل على
المتيقن، وإهمال النتيجة حينئذ من حيث الكم فقط، لتردده بين الأقل
المعين (2) والأكثر.
ولا يتوهم: أن هذا المقدار المتيقن حينئذ من الظنون الخاصة،
للقطع التفصيلي بحجيته.
لاندفاعه بأن المراد بالظن (3) الخاص ما علم حجيته بغير دليل
الانسداد، فتأمل.
الثاني: كون بعض الظنون أقوى من بعض، فيتعين العمل عليه،
للزوم الاقتصار في مخالفة الاحتياط اللازم في كل واحد من محتملات
التكاليف الواقعية من الواجبات والمحرمات على القدر المتيقن، وهو ما
كان الاحتمال المخالف (4) للاحتياط فيه في غاية البعد، فإنه كلما ضعف
الاحتمال المخالف (5) للاحتياط كان ارتكابه أهون.
الثالث: كون بعض الظنون مظنون الحجية، فإنه في مقام دوران

(1) في (ظ)، (ل)، (م) و (ه‍): " متعينا ".
(2) في نسخة بدل (ص): " المتيقن ".
(3) في (ت)، (ل) و (ه‍) ونسخة بدل (ص): " من الظن ".
(4) و (5) في (ت)، (ر)، (ص) و (ه‍) بدل " المخالف ": " الموافق ".
472

الأمر بينه وبين غيره يكون أولى من غيره:
إما لكونه أقرب إلى الحجية من غيره، ومعلوم أن القضية المهملة
المجملة تحمل - بعد صرفها إلى البعض بحكم العقل - على ما هو أقرب
محتملاتها إلى الواقع.
وإما لأنه أقرب إلى إحراز مصلحة الواقع، لأن المفروض رجحان
مطابقته للواقع، لأن المفروض كونه من الامارات المفيدة للظن بالواقع،
ورجحان كونه بدلا عن الواقع، لأن المفروض الظن بكونه طريقا قائما
مقام الواقع بحيث يتدارك مصلحة الواقع على تقدير مخالفته له.
فاحتمال مخالفة هذه الأمارة للواقع ولبدله موهوم في موهوم،
بخلاف احتمال مخالفة سائر الأمارات للواقع، لأنها على تقدير مخالفتها
للواقع لا يظن كونها بدلا عن الواقع.
ونظير ذلك: ما لو تعلق غرض المريض بدواء تعذر الاطلاع
العلمي عليه، فدار الأمر بين دواءين: أحدهما يظن أنه ذلك الدواء،
وعلى تقدير كونه غيره يظن كونه بدلا عنه في جميع الخواص، والآخر
يظن أنه ذلك الدواء، لكن لا يظن أنه على تقدير المخالفة بدل عنه،
ومعلوم بالضرورة أن العمل بالأول أولى.
ثم إن البعض المظنون الحجية: قد يعلم بالتفصيل، كما إذا ظن
حجية الخبر المزكى رواته بعدل واحد أو حجية الإجماع المنقول.
وقد يعلم إجمالا وجوده بين أمارات، فالعمل بهذه الأمارات
أرجح من غيرها الخارج عن محتملات ذلك المظنون الاعتبار، وهذا كما
لو ظن عدم حجية بعض الأمارات، كالأولوية والشهرة والاستقراء
وفتوى الجماعة الموجبة للظن، فإنا إذا فرضنا نتيجة دليل الانسداد مجملة
473

مرددة بين هذه الأمور (1) وغيرها، وفرضنا الظن بعدم حجية هذه،
لزم من ذلك الظن بأن الحجة في غيرها وإن كان مرددا بين أبعاض
ذلك الغير، فكان الأخذ بالغير أولى من الأخذ بها، لعين ما تقدم وإن
لم يكن بين أبعاض ذلك (2) الغير مرجح، فافهم.
هذه غاية ما يمكن أن يقال في ترجيح بعض الظنون على بعض.
لكن نقول: إن المسلم من هذه في الترجيح لا ينفع، والذي ينفع
غير مسلم كونه مرجحا.
توضيح ذلك هو: أن المرجح الأول - وهو تيقن البعض بالنسبة
إلى الباقي - وإن كان من المرجحات (3)، بل لا يقال له المرجح - لكونه
معلوم الحجية تفصيلا، وغيره مشكوك الحجية، فيبقى تحت (4) الأصل -
لكنه لا ينفع، لقلته وعدم كفايته، لأن القدر المتيقن من هذه الأمارات
هو الخبر الذي زكي جميع رواته بعدلين، ولم يعمل في تصحيح رجاله
ولا في تمييز مشتركاته بظن أضعف نوعا من سائر الأمارات الاخر،
ولم يوهن بمعارضة شئ (5) منها، وكان معمولا به عند الأصحاب كلا أو

(1) لم ترد " الأمور " في (ت)، (ل) و (م).
(2) لم ترد " ذلك " في (ل) و (م).
(3) العبارة في (ظ)، (ل) و (م) هكذا: " توضيح ذلك: هو أن تيقن البعض
بالنسبة إلى الباقي من المرجحات ".
(4) في (ل) بدل " فيبقى تحت ": " منفي بحسب ".
(5) كذا في (ت) و (ظ)، وفي (ه‍): " لمعارضته بشئ "، وفي (ل): " بمعارضته
شئ "، وفي (ر) و (ص): " لمعارضة شئ "، وفي (م): " لمعارضته شئ ".
474

جلا، ومفيدا للظن الاطمئناني بالصدور، إذ لا ريب أنه كلما انتفى أحد
هذه القيود (1) الخمسة في خبر احتمل كون غيره حجة دونه، فلا يكون
متيقن الحجية على كل تقدير.
وأما عدم كفاية هذا الخبر لندرته (2)، فهو واضح، مع أنه لو كان
بنفسه كثيرا كافيا لكن يعلم إجمالا بوجود مخصصات كثيرة ومقيدات له
في الأمارات الاخر، فيكون نظير ظواهر الكتاب في عدم جواز التمسك
بها مع قطع النظر عن غيرها، إلا أن يؤخذ بعد الحاجة إلى التعدي
منها بما هو متيقن (3) بالإضافة إلى ما بقي، فتأمل.
وأما المرجح الثاني، وهو كون بعضها أقوى ظنا من الباقي، ففيه:
أن ضبط مرتبة خاصة له متعسر أو متعذر، لأن القوة والضعف
إضافيان، وليس تعارض القوي مع الضعيف هنا في متعلق واحد حتى
يذهب الظن من (4) الأضعف ويبقى في الأمارة الأخرى. نعم يوجد مرتبة
خاصة، وهو الظن الاطمئناني الملحق بالعلم حكما بل موضوعا، لكنه
نادر التحقق.
مع أن كون القوة معينة للقضية المجملة محل منع، إذ لا يستحيل
أن يعتبر الشارع في حال الانسداد ظنا يكون أضعف من غيره، كما هو
المشاهد في الظنون الخاصة، فإنها ليست على الإطلاق أقوى من غيرها

(1) في (ر) و (ص): " الأمور ".
(2) في (ر) و (ص): " وأما عدم كفايته لندرته ".
(3) في (ت)، (م) و (ه‍): " متعين ".
(4) لم ترد " من " في (ظ).
475

بالبديهة.
وما تقدم في تقريب مرجحية القوة (1)، إنما هو مع كون إيجاب
العمل بالظن عند انسداد باب العلم من منشآت العقل وأحكامه، وأما
على تقدير كشف مقدمات الانسداد عن أن الشارع جعل الظن حجة
في الجملة، وتردد أمره في أنظارنا بين الكل والأبعاض، فلا يلزم من
كون بعضها أقوى كونه هو المجعول حجة، لأنا قد وجدنا تعبد الشارع
بالظن الأضعف وطرح الأقوى في موارد كثيرة.
وأما المرجح الثالث، وهو الظن باعتبار بعض فيؤخذ به لأحد
الوجهين المتقدمين (2)، ففيه - مع أن الوجه الثاني لا يفيد لزوم التقديم،
بل أولويته -:
أن الترجيح على هذا الوجه يشبه الترجيح بالقوة والضعف في أن
مداره على الأقرب إلى الواقع، وحينئذ: إذا (3) فرضنا كون الظن الذي
لم يظن حجيته (4) أقوى ظنا بمراتب من الظن الذي ظن حجيته، فليس
بناء العقلاء على ترجيح الثاني، فيرجع الأمر إلى لزوم ملاحظة الموارد
الخاصة، وعدم وجود ضابطة كلية بحيث يؤخذ بها في ترجيح الظن
المظنون الاعتبار.
نعم، لو فرض تساوي أبعاض الظنون دائما من حيث القوة

(1) راجع الصفحة 472.
(2) في الصفحة 473.
(3) في غير (ر) و (ص): " فإذا ".
(4) كذا في (ه‍)، وفي غيرها: " بحجيته ".
476

والضعف، كان ذلك المرجح بنفسه منضبطا، ولكن الفرض مستبعد بل
مستحيل.
مع أن اللازم على هذا أن لا يعمل بكل مظنون الحجية، بل بما
ظن حجيته بظن قد ظن حجيته، لأنه أبعد عن مخالفة الواقع وبدله بناء
على التقرير المتقدم (1).
وأما الوجه الأول المذكور في تقريب ترجيح مظنون الاعتبار على
غيره، ففيه:
أولا: أنه لا أمارة تفيد الظن بحجية أمارة على الإطلاق، فإن
أكثر ما أقيم على حجيته (2) الأدلة - من الأمارات الظنية المبحوث عنها -
الخبر الصحيح، ومعلوم عند المنصف أن شيئا مما ذكروه لحجيته (3)
لا يوجب الظن بها على الإطلاق.
وثانيا: أنه لا دليل على اعتبار مطلق الظن في مسألة تعيين هذا
الظن المجمل.
ثم إنه قد توهم غير واحد (4): أنه ليس المراد اعتبار مطلق الظن
وحجيته في مسألة تعيين القضية المهملة، وإنما المقصود ترجيح بعضها
على بعض.

(1) في الصفحة 473.
(2) في (ر)، (ص) و (ظ): " حجية ".
(3) كذا في (ت)، (ر) ونسخة بدل (ص)، وفي غيرها: " لحجيتها ".
(4) منهم صاحب هداية المسترشدين كما سيأتي، وكذا صاحب الفصول في
الفصول: 280.
477

فقال بعضهم (1) في توضيح (2) لزوم الأخذ بمظنون الاعتبار - بعد
الاعتراف بأنه ليس المقصود هنا إثبات حجية الظنون المظنونة الاعتبار
بالأمارات الظنية القائمة عليها، ليكون الاتكال في حجيتها على مجرد
الظن -:
إن الدليل العقلي المثبت لحجيتها هو الدليل العقلي المذكور،
والحاصل من تلك الأمارات الظنية هو ترجيح بعض الظنون على
البعض، فيمنع ذلك من إرجاع القضية المهملة إلى الكلية، بل يقتصر في
مفاد القضية المهملة على تلك الجملة، فالظن المفروض إنما يبعث على
صرف مفاد الدليل المذكور إلى ذلك وعدم صرفه إلى سائر الظنون،
نظرا إلى حصول القوة بالنسبة إليها، لانضمام الظن بحجيتها إلى الظن
بالواقع.
فإذا قطع العقل بحجية الظن بالقضية المهملة، ثم وجد الحجية
متساوية بالنظر إلى الجميع، حكم بحجية الكل، وأما إذا وجدها مختلفة
وكان جملة منها أقرب إلى الحجية من الباقي - نظرا إلى الظن بحجيتها
دون الباقي -، فلا محالة يقدم المظنون على المشكوك، والمشكوك على
الموهوم في مقام الحيرة والجهالة، فليس الظن مثبتا لحجية ذلك الظن،
وإنما هو قاض بتقديم جانب الحجية في تلك الظنون، فينصرف إليه ما
قضى به الدليل المذكور.
ثم اعترض على نفسه: بأن صرف الدليل إليها إن كان على وجه

(1) هو الشيخ محمد تقي صاحب هداية المسترشدين.
(2) في (ت) ونسخة بدل (ه‍): " توجيه ".
478

اليقين تم ما ذكر، وإلا كان اتكالا على الظن.
والحاصل: أنه لا قطع لصرف الدليل إلى تلك الظنون.
ثم أجاب: بأن الاتكال ليس على الظن الحاصل بحجيتها،
ولا على الظن بترجيح تلك الظنون على غيرها، بل التعويل على القطع
بالترجيح.
وتوضيحه: أن قضية دليل الانسداد حجية الظن على سبيل
الإهمال، فيدور الأمر بين القول بحجية الجميع والبعض، ثم الأمر في
البعض يدور بين المظنون وغيره، وقضية العقل في الدوران بين الكل
والبعض هو الاقتصار على البعض، أخذا بالمتيقن، ولذا قال علماء
الميزان: إن المهملة في قوة الجزئية.
ولو لم يتعين البعض في المقام ودارت الحجية بينه وبين سائر
الأبعاض من غير تفاوت في نظر العقل، لزم الحكم بحجية الكل، لبطلان
الترجيح من غير مرجح.
وأما لو كانت حجية البعض - مما فيه الكفاية - مظنونة بخصوصه
بخلاف الباقي، كان ذلك أقرب إلى الحجية من غيره مما لم يقم على
حجيته دليل، فيتعين عند العقل الأخذ به دون غيره، فإن الرجحان
حينئذ قطعي وجداني، والترجيح من جهته ليس ترجيحا بمرجح ظني
وإن كان ظنا بحجية تلك الظنون، فإن كون المرجح ظنا لا يقتضي كون
الترجيح ظنيا، وهو ظاهر (1)، انتهى كلامه رفع مقامه.
أقول: قد عرفت سابقا (2): أن مقدمات دليل الانسداد، إما أن

(1) هداية المسترشدين: 394 - 395.
(2) راجع الصفحة 465 - 466.
479

تجعل كاشفة عن كون الظن في الجملة حجة علينا بحكم الشارع، كما
يشعر به قوله: كان بعض الظنون أقرب إلى الحجية من الباقي. وإما أن
تجعل (1) منشأ لحكم العقل بتعين (2) إطاعة الله سبحانه حين الانسداد على
وجه الظن، كما يشعر به قوله: نظرا إلى حصول القوة لتلك الجملة،
لانضمام الظن بحجيتها إلى الظن بالواقع.
فعلى الأول، إذا كان الظن المذكور مرددا بين الكل والبعض (3)
اقتصر على البعض، كما ذكره، لأنه المتيقن. وأما إذا تردد ذلك البعض
بين الأبعاض، فالمعين لأحد المحتملين أو المحتملات لا يكون إلا بما يقطع
بحجيته، كما أنه إذا احتمل في الواقعة الوجوب والحرمة لا يمكن ترجيح
أحدهما بمجرد الظن به إلا بعد إثبات حجية ذلك الظن.
بل التحقيق: أن المرجح لأحد الدليلين عند التعارض - كالمعين
لأحد الاحتمالين - يتوقف على القطع باعتباره عقلا أو نقلا، وإلا
فأصالة عدم اعتبار الظن لا فرق في مجراها بين جعله دليلا وجعله
مرجحا.
هذا، مع أن الظن المفروض إنما قام على حجية بعض الظنون في
الواقع من حيث الخصوص، لا على تعيين الثابت حجيته بدليل
الانسداد، فتأمل.
وأما على الثاني، فالعقل إنما يحكم بوجوب الإطاعة على الوجه

(1) في (ر)، (ص)، (م) و (ه‍): " يجعل ".
(2) كذا في (ت)، (ر) و (ه‍)، وفي غيرها: " بتعيين ".
(3) لم ترد " والبعض " في (ظ)، (ل) و (م)، نعم ورد في هامش (ل) تصحيحا.
480

الأقرب إلى الواقع، فإذا فرضنا أن مشكوك الاعتبار يحصل منه ظن
بالواقع أقوى مما يحصل من الظن المظنون الاعتبار، كان الأول أولى
بالحجية في نظر العقل، ولذا قال صاحب المعالم: إن العقل قاض بأن
الظن إذا كان له جهات متعددة متفاوتة بالقوة والضعف، فالعدول عن
القوي منها إلى الضعيف قبيح (1)، انتهى.
نعم، لو كان قيام الظن على حجية بعضها مما يوجب قوتها في
نظر العقل - لأنها جامعة لإدراك الواقع أو بدله على سبيل الظن،
بخلافه - رجع الترجيح به إلى ما ذكرنا سابقا، وذكرنا ما فيه.
وحاصل الكلام يرجع إلى: أن الظن بالاعتبار إنما يكون صارفا
للقضية إلى ما قام عليه من الظنون إذا حصل القطع بحجيته في تعيين
الاحتمالات، أو صار موجبا لكون الإطاعة بمقتضاها أتم، لجمعها بين
الظن بالواقع والظن بالبدل. والأول موقوف على حجية مطلق الظن.
والثاني لا اطراد له، لأنه قد يعارضها قوة المشكوك الاعتبار.
وربما التزم بالأول بعض من أنكر حجية مطلق الظن (2)، وأورده
إلزاما على العاملين (3) بمطلق الظن، فقال:
" كما يقولون يجب علينا في كل واقعة البناء على حكم، ولعدم
كونه معلوما يجب في تعيينه العمل بالظن، فكذا نقول: بعدما وجب
علينا العمل بالظن ولم نعلم تعيينه، يجب علينا في تعيين هذا الظن

(1) المعالم: 192 - 193.
(2) هو الفاضل النراقي (قدس سره).
(3) كذا في (ظ)، (م) ونسخة بدل (ت)، وفي غيرها: " القائلين ".
481

العمل بالظن.
ثم اعترض على نفسه بما حاصله: أن وجوب العمل بمظنون
الحجية لا ينفي غيره.
فقال: قلنا: نعم، ولكن لا يكون حينئذ دليل على حجية ظن
آخر، إذ بعد ثبوت حجية الظن المظنون الحجية ينفتح باب الأحكام
ولا يجري دليلك فيه ويبقى تحت أصالة عدم الحجية " (1).
وفيه: أنه إذا التزم باقتضاء مقدمات الانسداد مع فرض عدم
المرجح العمل بمطلق الظن في الفروع، دخل الظن المشكوك الاعتبار
وموهومه، فلا مورد للترجيح والتعيين حتى يعين بمطلق الظن، لأن
الحاجة إلى التعيين بمطلق الظن فرع عدم العمل بمطلق الظن.
وبعبارة أخرى: إما أن يكون مطلق الظن حجة وإما لا، فعلى
الأول لا مورد للتعيين والترجيح، وعلى الثاني لا يجوز الترجيح بمطلق
الظن، فالترجيح بمطلق الظن ساقط على كل تقدير.
وليس للمعترض القلب: بأنه إن ثبت حجية مطلق الظن تعين
ترجيح مظنون الاعتبار به، إذ على تقدير ثبوت حجية مطلق الظن
لا يتعقل ترجيح حتى يتعين الترجيح بمطلق الظن.
ثم إن لهذا المعترض (2) كلاما في ترجيح مظنون الاعتبار بمطلق
الظن، لا من حيث حجية مطلق الظن حتى يقال: إن بعد ثبوتها
لا مورد للترجيح، لا بأس بالإشارة إليه وإلى ما وقع من الخلط

(1) عوائد الأيام: 397 - 398.
(2) أي: الفاضل النراقي.
482

والغفلة منه في المراد بالترجيح هنا. فقال معترضا على القائل بما قدمنا
- من أن ترجيح أحد المحتملين عين تعيينه بالاستدلال - بقوله:
إن هذا القائل خلط بين ترجيح الشئ وتعيينه ولم يعرف الفرق
بينهما، ولبيان هذا المطلب نقدم مقدمة، ثم نجيب عن كلامه، وهي:
أنه لا ريب في بطلان الترجيح بلا مرجح، فإنه مما يحكم بقبحه
العقل والعرف والعادة، بل يقولون بامتناعه الذاتي كالترجح بلا مرجح،
والمراد بالترجيح بلا مرجح هو سكون النفس إلى أحد الطرفين والميل
إليه من غير مرجح وإن لم يحكم بتعيينه وجوبا، وأما الحكم بذلك فهو
أمر آخر وراء ذلك. ثم أوضح ذلك بأمثلة:
منها: أنه لو دار أمر العبد في أحكام السلطان المرسلة إليه بين
أمور، وكان بعضها مظنونا بظن لم يعلم حجيته من طرف السلطان،
صح له ترجيح المظنون، ولا يجوز له الحكم بلزوم ذلك.
ومنها: أنه لو أقدم (1) إلى (2) أحد طعامان أحدهما ألذ من الآخر
فاختاره عليه، لم يرتكب ترجيحا بلا مرجح، وإن لم يلزم أكل الألذ،
ولكن لو حكم بلزوم الأكل لا بد من تحقق دليل عليه، ولا يكفي مجرد
الألذية. نعم لو كان أحدهما مضرا صح الحكم باللزوم.
ثم قال:
وبالجملة: فالحكم بلا دليل غير الترجيح بلا مرجح، فالمرجح
غير الدليل، والأول يكون في مقام الميل والعمل، والثاني يكون في مقام

(1) كذا في النسخ، والأنسب: " قدم ".
(2) في (ه‍): " على ".
483

التصديق والحكم.
ثم قال:
أن ليس المراد أنه يجب العمل بالظن المظنون حجيته وأنه الذي
يجب العمل به بعد انسداد باب العلم، بل مراده: أنه بعد ما وجب على
المكلف - لانسداد باب العلم وبقاء التكليف - العمل بالظن، ولا يعلم
أي ظن، لو عمل بالظن المظنون حجيته أي نقص يلزم عليه؟
فإن قلت: ترجيح بلا مرجح، فقد غلطت غلطا ظاهرا، وإن كان
غيره، فبينه حتى ننظر (1)، انتهى كلامه.
أقول: لا يخفى أنه ليس المراد من أصل دليل الانسداد إلا
وجوب العمل بالظن، فإذا فرض أن هذا الواجب تردد بين ظنون،
فلا غرض إلا في تعيينه بحيث يحكم بأن هذا هو الذي يجب العمل به
شرعا، حتى يبني المجتهد عليه في مقام العمل ويلتزم بمؤداه على أنه
حكم شرعي عزمي (2) من الشارع. وأما دواعي ارتكاب بعض الظنون
دون بعض فهي مختلفة غير منضبطة: فقد يكون الداعي إلى الاختيار
موجودا في موهوم الاعتبار لغرض من الأغراض، وقد يكون في
مظنون الاعتبار.
فليس الكلام إلا في أن الظن بحجية بعض الظنون هل يوجب الأخذ
بذلك الظن شرعا، بحيث يكون الآخذ بغيره لداع من الدواعي معاقبا

(1) عوائد الأيام: 396 - 397.
(2) لم ترد " عزمي " في (ت)، (ر)، (ل)، وورد بدلها في (ت): " عرفي وجوبي "،
وفي (ل): " جزمي ".
484

عند الله في ترك ما هو وظيفته من سلوك الطريق؟ وبعبارة أخرى:
هل يجوز شرعا أن يعمل المجتهد بغير مظنون الاعتبار، أم لا يجوز؟
إن قلت: لا يجوز شرعا.
قلنا: فما الدليل الشرعي بعد جواز العمل بالظن في الجملة على
أن تلك المهملة غير هذه الجزئية؟
وإن قلت: يجوز (1)، لكن بدلا عن مظنون الاعتبار لا جمعا بينهما،
فهذا هو التخيير الذي التزم المعمم ببطلانه.
وإن قلت يجوز جمعا بينهما، فهذا هو مطلب المعمم.
فليس المراد بالمرجح ما يكون داعيا إلى إرادة أحد الطرفين، بل
المراد: ما يكون دليلا على حكم الشارع، ومن المعلوم أن هذا الحكم
الوجوبي لا يكون إلا عن حجة شرعية، فلو كان هي مجرد الظن
بوجوب العمل بذلك البعض فقد لزم العمل بمطلق الظن عند اشتباه
الحكم الشرعي، فإذا جاز ذلك في هذا المقام لم لا يجوز في سائر
المقامات؟ فلم قلتم: إن نتيجة دليل الانسداد حجية الظن في الجملة؟
وبعبارة أخرى: لو اقتضى انسداد باب العلم في الأحكام تعيين
الأحكام المجهولة بمطلق الظن، فلم منعتم إفادة ذلك الدليل إلا لإثبات
حجية الظن في الجملة؟ وإن اقتضى تعيين الأحكام بالظن في الجملة،
لم يوجب انسداد باب العلم في تعيين الظن في الجملة - الذي وجب
العمل به بمقتضى الانسداد - العمل في تعيينه بمطلق الظن.
وحاصل الكلام: أن المراد من المرجح هنا هو المعين والدليل

(1) في (ت) و (ه‍) زيادة: " ذلك ".
485

الملزم من جانب الشارع ليس إلا، فإن كان في المقام شئ غير الظن
فليذكر، وإن كان مجرد الظن فلم تثبت حجية مطلق الظن.
فثبت من جميع ذلك: أن الكلام ليس في المرجح للفعل، بل
المطلوب المرجح للحكم بأن الشارع أوجب بعد الانسداد العمل بهذا
دون ذاك.
ومما ذكرنا يظهر ما في آخر كلام البعض المتقدم ذكره (1) في
توضيح مطلبه: من أن كون المرجح ظنا لا يقتضي كون الترجيح
ظنيا.
فإنا نقول: إن كون المرجح قطعيا لا يقتضي ذلك، بل إن قام
دليل على اعتبار ذلك المرجح شرعا (2) كان الترجيح به قطعيا، وإلا
فليس ظنيا أيضا.
ثم إن ما ذكره الأخير في مقدمته: من أن الترجيح بلا مرجح
قبيح بل محال، يظهر منه خلط بين الترجيح بلا مرجح في الإيجاد
والتكوين، وبينه في مقام الإلزام والتكليف، فإن الأول محال لا قبيح،
والثاني قبيح لا محال، فالإضراب في كلامه عن القبح إلى الاستحالة
لا مورد له، فافهم.
فثبت مما ذكرنا: أن تعيين الظن في الجملة من بين الظنون بالظن
غير مستقيم.
وفي حكمه: ما لو عين بعض الظنون لأجل الظن بعدم حجية ما

(1) أي الشيخ محمد تقي، وقد تقدم كلامه في الصفحة 479.
(2) لم ترد " شرعا " في (ظ).
486

سواه، كالأولوية والاستقراء بل الشهرة، حيث إن المشهور على عدم
اعتبارها، بل لا يبعد دخول الأولين تحت القياس المنهي عنه، بل النهي
عن العمل بالأولى منهما وارد في قضية " أبان " المتضمنة لحكم دية
أصابع المرأة (1)، فإنه يظن بذلك: أن الظن المعتبر بحكم الانسداد في ما
عدا هذه الثلاثة.
وقد ظهر ضعف ذلك مما ذكرنا: من عدم استقامة تعيين القضية
المهملة بالظن.
ونزيد هنا: أن دعوى حصول الظن على عدم اعتبار هذه الأمور
ممنوعة، لأن مستند الشهرة على عدم اعتبارها ليس إلا عدم الدليل
عند المشهور على اعتبارها، فيبقى تحت الأصل - لا لكونها منهيا عنها
بالخصوص كالقياس - ومثل هذه الشهرة المستندة إلى الأصل لا يوجب
الظن بالواقع.
وأما دعوى كون الأولين قياسا، فنكذبه بعمل غير واحد من
أصحابنا (2) عليهما، بل الأولوية قد عمل بها غير واحد من أهل الظنون
الخاصة في بعض الموارد (3).

(1) تقدم الحديث في الصفحة 63.
(2) الزبدة: 74، والحدائق 1: 60، وانظر مفاتيح الأصول: 480، 526 - 527،
و 667 - 671.
(3) كالشهيد الثاني في المسالك 1: 310، و 2: 104، 169 و 182، وكولده
صاحب المعالم في فقه المعالم: 403، كما ستأتي الإشارة إليه في مبحث
الاستصحاب 3: 299.
487

ومنه يظهر: الوهن في دلالة قضية " أبان " على حرمة العمل
عليها بالخصوص، فلا يبقى ظن من الرواية بحرمة العمل عليها
بالخصوص.
ولو فرض ذلك: دخل الأولوية في ما قام الدليل على عدم
اعتباره، لأن الظن الحاصل من رواية " أبان " متيقن الاعتبار بالنسبة
إلى الأولوية، فحجيتها مع عدم حجية الخبر الدال على المنع عنها غير
محتملة، فتأمل.
ثم بعد ما عرفت: من عدم استقامة تعيين القضية المهملة بمطلق
الظن، فاعلم: أنه قد يصح تعيينها بالظن في مواضع:
أحدها: أن يكون الظن القائم على حجية بعض الظنون من
المتيقن اعتباره بعد الانسداد، إما مطلقا كما إذا قام فرد من الخبر
الصحيح المتيقن (1) اعتباره من بين سائر الأخبار وسائر الأمارات على
حجية بعض ما دونه، فإنه يصير حينئذ متيقن الاعتبار، لأجل قيام
الظن المتيقن الاعتبار على اعتباره.
وإما بالإضافة إلى ما قام على اعتباره إذا ثبت حجية ذلك الظن
القائم، كما لو قام الإجماع المنقول على حجية الاستقراء مثلا، فإنه يصير
بعد إثبات حجية الإجماع المنقول ببعض (2) الوجوه ظنا معتبرا.
ويلحق (3) به ما هو متيقن بالنسبة إليه، كالشهرة إذا كانت متيقنة

(1) في (ظ)، (ل) و (م): " متيقن ".
(2) في (ل): " على بعض ".
(3) في (ظ)، (م)، و (ه‍): " والحق ".
488

الاعتبار بالنسبة إلى الاستقراء بحيث لا يحتمل اعتباره دونها (1).
لكن، هذا مبني على عدم الفرق في حجية الظن بين كونه في
المسائل الفروعية وكونه في المسائل الأصولية، وإلا فلو قلنا: إن الظن
في الجملة الذي قضى به مقدمات (2) الانسداد، إنما هو المتعلق بالمسائل
الفرعية دون غيرها، فالقدر المتيقن إنما هو متيقن بالنسبة إلى الفروع،
لا غير.
وما ذكرنا سابقا (3): من عدم الفرق بين تعلق الظن بنفس الحكم
الفرعي وبين تعلقه بما جعل طريقا إليه، إنما هو بناء على ما هو
التحقيق من تقرير مقدمات الانسداد على وجه يوجب حكومة العقل
دون كشفه عن جعل الشارع، والقدر المتيقن مبني على الكشف، كما
سيجئ (4).
إلا أن يدعى: أن القدر المتيقن في الفروع هو متيقن في المسائل
الأصولية أيضا (5).

(1) لم ترد عبارة " وإما بالإضافة - إلى - اعتباره دونها " هنا في (ر)، (ظ)، (م)
و (ه‍)، وشطب عليها في (ل)، نعم كتبت هنا في هامش (ه‍).
(2) في (ت) و (ه‍) زيادة: " دليل ".
(3) راجع الصفحة 437.
(4) انظر الصفحة 491.
(5) لم ترد عبارة " إلا أن - إلى - أيضا " في (ظ) و (م)، وفي (ر)، (ظ)، (م)
و (ه‍) هنا زيادة: " وإما بالإضافة - إلى - اعتباره دونها " التي تقدمت في الصفحة
السابقة.
489

الثاني: أن يكون الظن القائم على حجية ظن متحدا لا تعدد فيه،
كما إذا كان مظنون الاعتبار منحصرا فيما قامت أمارة واحدة على
حجيته، فإنه يعمل به في تعيين المتبع وإن كان أضعف الظنون، لأنه إذا
انسد باب العلم في مسألة تعيين ما هو المتبع بعد الانسداد ولم يجز
الرجوع فيها إلى الأصول حتى الاحتياط كما سيجئ (1)، تعين الرجوع
إلى الظن الموجود في المسألة فيؤخذ به، لما عرفت (2): من أن كل مسألة
انسد فيها باب العلم وفرض عدم صحة الرجوع فيها إلى مقتضى
الأصول، تعين - بحكم العقل - العمل بأي ظن وجد في تلك المسألة.
الثالث: أن يتعدد الظنون في مسألة تعيين المتبع بعد الانسداد
بحيث يقوم كل واحد منها على اعتبار طائفة من الأمارات كافية في
الفقه، لكن يكون هذه الظنون القائمة - كلها - في مرتبة لا يكون اعتبار
بعضها مظنونا، فحينئذ: إذا وجب - بحكم مقدمات (3) الانسداد في مسألة
تعيين المتبع - الرجوع فيها إلى الظن في الجملة، والمفروض تساوي
الظنون الموجودة في تلك المسألة وعدم المرجح لبعضها، وجب الأخذ
بالكل بعد بطلان التخيير بالإجماع وتعسر ضبط البعض الذي لا يلزم
العسر من الاحتياط فيه (4).
ثم على تقدير صحة تقرير دليل الانسداد على وجه الكشف،

(1) انظر الصفحة 504.
(2) راجع الصفحة 435.
(3) في (ت) و (ه‍) زيادة: " دليل ".
(4) لم ترد عبارة " بعد بطلان - إلى - الاحتياط فيه " في (ظ) و (م).
490

فالذي ينبغي أن يقال (1): إن اللازم على هذا - أولا - هو الاقتصار على
المتيقن من الظنون.
وهل يلحق به كل ما قام المتيقن على اعتباره؟ وجهان: أقواهما
العدم كما تقدم، إذ بناء على هذا التقرير لا نسلم (2) كشف العقل بواسطة
مقدمات الانسداد إلا عن اعتبار الظن في الجملة في الفروع دون
الأصول، والظن بحجية الأمارة الفلانية ظن بالمسألة الأصولية.
نعم، مقتضى تقرير الدليل على وجه حكومة العقل: أنه لا فرق
بين تعلق الظن بالحكم الفرعي أو بحجية طريق.
ثم إن كان القدر المتيقن كافيا في الفقه - بمعنى أنه لا يلزم من
العمل بالأصول في مجاريها المحذور اللازم على تقدير الاقتصار على
المعلومات - فهو، وإلا فالواجب الأخذ بما هو المتيقن من الأمارات
الباقية الثابتة (3) بالنسبة إلى غيرها، فإن كفى في الفقه بالمعنى الذي ذكرنا
فهو، وإلا فيؤخذ بما هو المتيقن بالنسبة، وهكذا.
ثم لو فرضنا عدم القدر المتيقن بين الأمارات أو عدم كفاية ما
هو (4) المتيقن مطلقا أو بالنسبة: فإن لم يكن على شئ منها أمارة
فاللازم الأخذ بالكل، لبطلان التخيير بالإجماع وبطلان طرح الكل

(1) وردت عبارة " فالذي ينبغي أن يقال " مقدمة على " تقدير... " في غير (ظ)
و (م)، ولم ترد في تلك النسخ " ثم ".
(2) في (ظ) و (م): " لا يسلم ".
(3) لم ترد " الثابتة " في (ت) و (ه‍).
(4) في (ت) و (ه‍) زيادة: " القدر ".
491

بالفرض وفقد المرجح، فتعين الجمع (1).
وإن قام على بعضها أمارة: فإن كانت أمارة واحدة - كما إذا
قامت الشهرة على حجية جملة من الأمارات - كان اللازم الأخذ بها،
لتعيين (2) الرجوع إلى الشهرة في تعيين المتبع من بين الظنون.
وإن كانت أمارات متعددة قامت كل واحدة منها على حجية ظن
مع الحاجة إلى جميع تلك الظنون في الفقه وعدم كفاية بعضها، عمل
بها. ولا فرق حينئذ بين تساوي تلك الأمارات القائمة من حيث الظن
بالاعتبار والعدم، وبين تفاوتها في ذلك.
وأما لو قامت كل واحدة منها على مقدار من الأمارات كاف في
الفقه: فإن لم تتفاوت الأمارات القائمة في الظن بالاعتبار، وجب الأخذ
بالكل - كالأمارة الواحدة -، لفقد المرجح. وإن تفاوتت، فما قام متيقن
الاعتبار ومظنون الاعتبار على اعتباره يصير معينا (3)، كما إذا قام
الإجماع المنقول - بناء على كونه مظنون الاعتبار - على حجية أمارة غير
مظنون الاعتبار، وقامت تلك الأمارة، فإنها تتعين (4) بذلك.
هذا كله على تقدير كون دليل الانسداد كاشفا.
وأما على ما هو المختار من كونه حاكما، فسيجئ الكلام فيه (5)

(1) في (ر) و (ل): " الجميع ".
(2) في (ر): " لتعين ".
(3) في (ظ) زيادة: " بعده "، وفي (ل)، (م) و (ه‍) زيادة: " لغيره ".
(4) في (ظ): " تعين ".
(5) انظر الصفحة 502.
492

بعد الفراغ عن المعممات التي ذكروها لتعميم النتيجة إن شاء الله
تعالى.
إذا عرفت ذلك: فاللازم على المجتهد أن يتأمل في الأمارات،
حتى يعرف المتيقن منها حقيقة أو بالإضافة إلى غيره (1)، ويحصل ما
يمكن تحصيله من الأمارات القائمة على حجية تلك الأمارات، ويميز بين
تلك الأمارات القائمة من حيث التساوي والتفاوت من حيث الظن
بحجية بعضها من أمارة أخرى، ويعرف كفاية ما أحرز اعتباره من
تلك الأمارات وعدم كفايته في الفقه.
وهذا يحتاج إلى سير مسائل الفقه إجمالا، حتى يعرف أن القدر
المتيقن من الأخبار لا يكفي مثلا في الفقه، بحيث يرجع في موارد خلت
عن هذا الخبر إلى الأصول التي يقتضيها الجهل بالحكم في ذلك المورد،
وأنه إذا انضم إليه قسم آخر من الخبر - لكونه متيقنا إضافيا، أو لكونه
مظنون الاعتبار بظن متبع - هل يكفي أم لا؟ فليس له الفتوى على
وجه يوجب طرح سائر الظنون حتى يعرف كفاية ما أحرزه من جهة
اليقين أو الظن المتبع. وفقنا الله للاجتهاد الذي هو أشد من طول
الجهاد، بحق محمد وآله الأمجاد.
الثاني من طرق التعميم: ما سلكه غير واحد من المعاصرين (2):
من عدم الكفاية، حيث اعترفوا - بعد تقسيم الظنون إلى مظنون

(1) في (ر)، (ص) و (ه‍): " غيرها ".
(2) انظر الفصول: 278، وهداية المسترشدين: 402.
493

الاعتبار ومشكوكه وموهومه - بأن مقتضى القاعدة بعد إهمال النتيجة
الاقتصار على مظنون الاعتبار، ثم على المشكوك، ثم يتسرى إلى
الموهوم.
لكن الظنون المظنونة الاعتبار غير كافية، إما بأنفسها، بناء على
انحصارها في الأخبار الصحيحة بتزكية عدلين. وإما لأجل العلم الإجمالي
بمخالفة كثير من ظواهرها للمعاني الظاهرة (1) منها ووجود ما يظن منه
ذلك في الظنون المشكوكة الاعتبار، فلا يجوز التمسك بتلك الظواهر،
للعلم الإجمالي المذكور، فيكون حالها حال ظاهر الكتاب والسنة
المتواترة في عدم الوفاء بمعظم الأحكام.
فلا بد من التسري - بمقتضى قاعدة الانسداد ولزوم المحذور من
الرجوع إلى الأصول - إلى الظنون المشكوكة الاعتبار التي دلت على
إرادة خلاف الظاهر في ظواهر مظنون الاعتبار، فيعمل بما هو - من
مشكوك الاعتبار - مخصص لعمومات مظنون الاعتبار ومقيد لإطلاقاته
وقرائن لمجازاته.
فإذا وجب العمل بهذه الطائفة من مشكوك الاعتبار ثبت وجوب
العمل بغيرها (2) مما ليس فيها معارضة لظواهر الأمارات المظنونة
الاعتبار، بالإجماع على عدم الفرق بين أفراد مشكوك الاعتبار، فإن
أحدا لم يفرق بين الخبر الحسن المعارض لإطلاق الصحيح، وبين خبر
حسن آخر غير معارض لخبر صحيح، بل بالأولوية القطعية، لأنه إذا

(1) ورد في (ص) بدل " الظاهرة ": " المرادة ".
(2) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " لغيرها ".
494

وجب العمل بمشكوك الاعتبار الذي له معارضة لظاهر مظنون الاعتبار،
فالعمل بما ليس له معارض أولى.
ثم نقول: إن في ظواهر مشكوك الاعتبار موارد كثيرة يعلم
إجمالا بعدم إرادة المعاني الظاهرة، والكاشف عن ذلك - ظنا - هي
الأمارات الموهومة الاعتبار، فنعمل بتلك الأمارات، ثم نعمل بباقي
أفراد الموهوم الاعتبار بالإجماع المركب، حيث إن أحدا لم يفرق بين
الشهرة المعارضة للخبر الحسن بالعموم والخصوص وبين غير المعارض
له، بل بالأولوية، كما عرفت.
أقول: الإنصاف: أن التعميم بهذا الطريق أضعف من التخصيص
بمظنون الاعتبار، لأن هذا المعمم قد جمع ضعف القولين، حيث اعترف
بأن مقتضى القاعدة - لولا عدم الكفاية - الاقتصار على مظنون الاعتبار،
وقد عرفت أنه لا دليل على اعتبار مطلق الظن بالاعتبار إلا إذا ثبت
جواز العمل بمطلق الظن عند انسداد باب العلم.
وأما ما ذكره: من التعميم لعدم (1) الكفاية، ففيه:
أولا: أنه مبني على زعم كون مظنون الاعتبار منحصرا في الخبر
الصحيح بتزكية عدلين، وليس كذلك، بل الأمارات الظنية - من الشهرة،
وما دل على اعتبار قول الثقة، مضافا إلى ما استفيد من سيرة القدماء
في العمل بما يوجب سكون النفس من الروايات وفي تشخيص أحوال
الرواة - توجب الظن القوي بحجية الخبر الصحيح بتزكية عدل واحد،
والخبر الموثق، والضعيف المنجبر بالشهرة من حيث الرواية، ومن

(1) في (م): " بعدم ".
495

المعلوم: كفاية ذلك وعدم لزوم محذور من الرجوع في موارد فقد تلك
الأمارات إلى الأصول.
وثانيا: أن العلم الاجمالي الذي ادعاه يرجع حاصله إلى العلم
بمطابقة بعض مشكوكات الاعتبار للواقع من جهة كشفها عن المرادات
في مظنونات الاعتبار، ومن المعلوم أن العمل بها لأجل ذلك لا يوجب
التعدي إلى ما ليس فيه هذه العلة، أعني مشكوكات الاعتبار الغير
الكاشفة عن مرادات مظنونات الاعتبار، فإن العلم الإجمالي بوجود
شهرات متعددة مقيدة لإطلاقات (1) الأخبار أو مخصصة لعموماتها،
لا يوجب التعدي إلى الشهرات الغير المزاحمة للأخبار بتقييد أو
تخصيص، فضلا عن التسري إلى الاستقراء والأولوية.
ودعوى الإجماع لا يخفى ما فيها، لأن الحكم بالحجية في القسم
الأول لعلة غير مطردة في القسم الثاني حكم عقلي نعلم (2) بعدم تعرض
الإمام (عليه السلام) له قولا ولا فعلا، إلا من باب تقرير حكم العقل، والمفروض
عدم جريان حكم العقل في غير مورد العلة، وهي وجود العلم
الإجمالي.
ومن ذلك يعرف الكلام في دعوى الأولوية، فإن المناط في العمل
بالقسم الأول إذا كان هو العلم الإجمالي، فكيف يتعدى إلى ما
لا يوجد فيه المناط، فضلا عن كونه أولى؟
وكأن متوهم الإجماع رأى أن أحدا من العلماء لم يفرق بين أفراد

(1) في جميع النسخ: " لإطلاق ".
(2) في (ر): " يعلم "، وفي (ت)، (ل) و (ه‍): " فعلم ".
496

الخبر الحسن أو (1) أفراد الشهرة، ولم يعلم أن الوجه عندهم ثبوت
الدليل عليهما مطلقا أو نفيه كذلك، لأنهم أهل الظنون الخاصة، بل لو
ادعى الإجماع على أن كل من عمل بجملة من الأخبار الحسان أو
الشهرات لأجل العلم الإجمالي بمطابقة بعضها للواقع لم يعمل بالباقي
الخالي عن هذا العلم الإجمالي، كان في محله.
الثالث من طرق التعميم: ما ذكره بعض مشايخنا طاب ثراه (2)،
من قاعدة الاشتغال، بناء على أن الثابت من دليل الانسداد وجوب
العمل بالظن في الجملة، فإذا لم يكن قدر متيقن كاف في الفقه وجب
العمل بكل ظن.
ومنع جريان قاعدة الاشتغال هنا - لكون ما عدا واجب العمل
من الظنون محرم العمل - قد (3) عرفت الجواب عنه في بعض أجوبة
الدليل الأول من أدلة اعتبار الظن بالطريق.
ولكن فيه: أن قاعدة الاشتغال في مسألة العمل بالظن معارضة
في بعض الموارد بقاعدة الاشتغال في المسألة الفرعية، كما إذا اقتضى
الاحتياط في الفرع (4) وجوب السورة، وكان ظن مشكوك الاعتبار على
عدم وجوبها، فإنه يجب مراعاة قاعدة الاحتياط في الفروع وقراءة

(1) في (ر): " وأفراد ".
(2) هو شريف العلماء، انظر تقريرات درسه في ضوابط الأصول: 255.
(3) في (ت)، (ر) و (ص): " فقد ".
(4) في (ص): " في الفروع ".
497

السورة، لاحتمال وجوبها، ولا ينافيه الاحتياط في المسألة الأصولية،
لأن الحكم الأصولي المعلوم بالإجمال - وهو وجوب العمل بالظن القائم
على عدم الوجوب - معناه وجوب العمل على وجه ينطبق مع عدم
الوجوب، ويكفي فيه أن يقع الفعل على وجه الوجوب، ولا تنافي بين
الاحتياط وفعل (1) السورة لاحتمال الوجوب، وكونه لا على وجه
الوجوب الواقعي.
وتوضيح ذلك: أن معنى وجوب العمل بالظن وجوب تطبيق
عمله عليه، فإذا فرضنا أنه يدل على عدم وجوب شئ، فليس معنى
وجوب العمل به إلا أنه لا يتعين عليه ذلك الفعل، فإذا (2) اختار فعل
ذلك فيجب أن يقع الفعل لا على وجه الوجوب، كما لو لم يكن هذا
الظن وكان غير واجب بمقتضى الأصل، لا أنه يجب أن يقع على وجه
عدم الوجوب، إذ لا يعتبر في الأفعال الغير الواجبة قصد عدم
الوجوب. نعم، يجب التشرع والتدين بعدم الوجوب - سواء فعله أو
تركه - من باب وجوب التدين بجميع ما علم من الشرع.
وحينئذ: فإذا تردد الظن - الواجب العمل - المذكور بين ظنون
تعلقت بعدم وجوب أمور، فمعنى وجوب ملاحظة ذلك الظن المجمل
المعلوم إجمالا وجوب (3) أن لا يكون فعله لهذه الأمور على وجه
الوجوب، كما لو لم يكن هذه الظنون وكانت هذه الأمور مباحة

(1) في (ر) و (ه‍): " بفعل ".
(2) في (ظ)، (ل) و (ه‍): " وإذا ".
(3) كذا في (ر)، (ل)، (ه‍) ومصححة (ت)، وفي غيرها: " وجوبه ".
498

بحكم الأصل، ولذا يستحب الاحتياط وإتيان الفعل لاحتمال أنه
واجب.
ثم إذا فرض العلم الإجمالي من الخارج بوجوب أحد هذه
الأشياء على وجه يجب الاحتياط والجمع بين تلك الأمور، فيجب
على المكلف الالتزام بفعل كل واحد (1) منها، لاحتمال أن يكون هو
الواجب.
وما اقتضاه الظن القائم على عدم وجوبه - من وجوب أن يكون
فعله لا على وجه الوجوب - باق بحاله، لأن الاحتياط في الجميع
لا يقتضي إتيان كل منها بعنوان الوجوب الواقعي، بل بعنوان أنه محتمل
الوجوب، والظن القائم على عدم وجوبه لا يمنع من لزوم إتيانه على
هذا الوجه، كما أنه لو فرضنا ظنا معتبرا معلوما بالتفصيل - كظاهر
الكتاب - دل على عدم وجوب شئ، لم يناف مؤداه لاستحباب الإتيان
بهذا الشئ لاحتمال الوجوب.
هذا، وأما ما قرع سمعك: من تقديم قاعدة الاحتياط في المسألة
الأصولية على الاحتياط في المسألة الفرعية أو تعارضهما، فليس في مثل
المقام.
بل مثال الأول منهما: ما إذا كان العمل بالاحتياط في المسألة
الأصولية مزيلا للشك الموجب للاحتياط في المسألة الفرعية، كما إذا
تردد الواجب بين القصر والإتمام ودل على أحدهما أمارة من الأمارات
التي يعلم إجمالا بوجوب العمل ببعضها، فإنه إذا قلنا بوجوب العمل

(1) لم ترد " واحد " في (ظ)، (ل) و (م).
499

بهذه الأمارات (1) يصير (2) حجة معينة لإحدى الصلاتين.
إلا أن يقال: إن الاحتياط في المسألة الأصولية إنما يقتضي (3)
إتيانها لا نفي غيرها، فالصلاة الأخرى حكمها حكم السورة في عدم
جواز إتيانها على وجه الوجوب، فلا ينافي وجوب إتيانها لاحتمال
الوجوب، فيصير نظير ما نحن فيه.
وأما الثاني وهو مورد المعارضة، فهو كما إذا علمنا إجمالا بحرمة
شئ من بين أشياء، ودلت على وجوب كل منها أمارات نعلم إجمالا
بحجية إحداها، فإن مقتضى هذا وجوب الإتيان بالجميع، ومقتضى ذاك
ترك الجميع، فافهم.
وأما دعوى: أنه إذا ثبت وجوب العمل بكل ظن في مقابل غير
الاحتياط من الأصول وجب العمل به في مقابل الاحتياط، للإجماع
المركب، فقد عرفت شناعته (4).
فإن قلت: إذا عملنا في مقابل الاحتياط بكل ظن يقتضي
التكليف وعملنا في مورد الاحتياط بالاحتياط، لزم العسر والحرج،
إذ يجمع حينئذ بين كل مظنون الوجوب وكل مشكوك الوجوب أو (5)

(1) في (ت) و (ظ): " الأمارة ".
(2) في (ت): " تصير ".
(3) في (ت) و (ه‍) زيادة: " وجوب ".
(4) راجع الصفحة 461.
(5) في (ت)، (ر) و (ص) بدل " أو ": " و "، وفي (ر)، (ص) و (م) زيادة:
" كل ".
500

موهوم الوجوب مع كونه مطابقا للاحتياط اللازم، فإذا فرض لزوم
العسر من مراعاة الاحتياطين معا في الفقه تعين دفعه بعدم وجوب
الاحتياط في مقابل الظن، فإذا فرض (1) هذا الظن مجملا لزم العمل بكل
ظن مما يقتضى الظن بالتكليف احتياطا، وأما الظنون المخالفة للاحتياط
اللازم فيعمل بها، فرارا عن لزوم العسر.
قلت: دفع العسر يمكن بالعمل ببعضها، فما المعمم؟ فيرجع الأمر
إلى أن قاعدة الاشتغال لا تنفع ولا تثمر (2) في الظنون المخالفة للاحتياط،
لأنك عرفت (3) أنه لا يثبت وجوب التسري إليها فضلا عن التعميم
فيها، لأن التسري إليها كان للزوم العسر، فافهم.
هذا كله على تقدير تقرير مقدمات دليل الانسداد على وجه
يكشف عن حكم الشارع بوجوب العمل بالظن في الجملة، وقد
عرفت (4) أن التحقيق خلاف هذا التقرير، وعرفت (5) أيضا ما ينبغي
سلوكه على تقدير تماميته: من وجوب اعتبار المتيقن - حقيقة أو
بالإضافة - ثم ملاحظة مظنون الاعتبار بالتفصيل الذي تقدم في آخر
المعمم الأول من المعممات الثلاثة (6).

(1) في (ر)، (ص) و (ه‍): " فرضنا ".
(2) كذا في (ت)، وفي (ص) و (ل): " لا ينفع ولا يثمر "، وفي (ر)، (ظ)، (م)
و (ه‍): " لا ينفع ولا يتم ".
(3) راجع الصفحة 497.
(4) راجع الصفحة 468.
(5) راجع الصفحة 491.
(6) راجع الصفحة 493.
501

وأما على تقدير تقريرها على وجه يوجب حكومة العقل بوجوب
الإطاعة الظنية والفرار عن المخالفة الظنية، وأنه يقبح من الشارع تعالى
إرادة أزيد من ذلك كما يقبح من المكلف الاكتفاء بما دون ذلك،
فالتعميم وعدمه لا يتصور بالنسبة إلى الأسباب، لاستقلال العقل بعدم
الفرق فيما إذا كان المقصود الانكشاف الظني بين الأسباب المحصلة له،
كما لا فرق فيما (1) كان المقصود الانكشاف الجزمي بين أسبابه، وإنما
يتصور من حيث مرتبة الظن ووجوب الاقتصار على الظن القوي الذي
يرتفع معه التحير عرفا.
بيان ذلك: أن الثابت من مقدمتي بقاء التكليف وعدم التمكن من
العلم التفصيلي: هو وجوب الامتثال الإجمالي بالاحتياط في إتيان كل
ما يحتمل الوجوب وترك كل ما يحتمل الحرمة، لكن المقدمة الثالثة
النافية للاحتياط إنما أبطلت (2) وجوبه على وجه الموجبة الكلية، بأن
يحتاط في كل واقعة قابلة للاحتياط أو يرجع إلى الأصل كذلك، ومن
المعلوم أن إبطال الموجبة الكلية لا يستلزم صدق السالبة الكلية،
وحينئذ فلا يثبت من ذلك إلا وجوب العمل بالظن على خلاف
الاحتياط والأصول في الجملة.
ثم إن العقل حاكم بأن الظن القوي الاطمئناني أقرب إلى العلم
عند تعذره، وأنه إذا لم يمكن القطع بإطاعة مراد الشارع وترك ما
يكرهه وجب تحصيل ذلك بالظن الأقرب إلى العلم.

(1) في (ر)، (ص) و (ه‍) زيادة: " إذا ".
(2) في النسخ: " أبطل ".
502

وحينئذ: فكل واقعة تقتضي (1) الاحتياط الخاص بنفس المسألة أو
الاحتياط العام من جهة كونها إحدى المسائل التي نقطع (2) بتحقق
التكليف فيها، إن قام على خلاف مقتضى الاحتياط أمارة ظنية توجب
الاطمئنان بمطابقة الواقع تركنا الاحتياط وأخذنا بها.
وكل واقعة ليست فيها أمارة كذلك، نعمل (3) فيها بالاحتياط،
سواء لم توجد (4) أمارة أصلا كالوقائع المشكوكة، أو كانت ولم تبلغ (5)
مرتبة الاطمئنان.
وكل واقعة (6) لم يمكن فيها الاحتياط، تعين التخيير في الأول،
والعمل بالظن في الثاني وإن كان في غاية الضعف، لأن الموافقة الظنية
أولى من غيرها، والمفروض عدم جريان البراءة والاستصحاب،
لانتقاضهما بالعلم الإجمالي، فلم يبق من الأصول إلا التخيير، ومحله
عدم رجحان أحد الاحتمالين، وإلا فيؤخذ بالراجح (7).
ونتيجة هذا: هو الاحتياط في المشكوكات والمظنونات بالظن
الغير الاطمئناني إن أمكن (8)، والعمل بالظن في الوقائع المظنونة بالظن

(1) في النسخ: " يقتضي ".
(2) كذا في (ر) و (ص)، وفي غيرهما: " يقطع ".
(3) في (ظ) و (م): " يعمل ".
(4) في النسخ: " لم يوجد ".
(5) في النسخ: " ولم يبلغ ".
(6) في (م) و (ظ) بدل " وكل واقعة ": " نعم لو ".
(7) لم ترد عبارة " والمفروض عدم - إلى - فيؤخذ بالراجح " في (ظ) و (م).
(8) في (ر)، (ص)، (ظ) و (م) زيادة: " وإلا فبالأصول ".
503

الاطمئناني، فإذا عمل المكلف قطع بأنه لم يترك القطع بالموافقة
- الغير الواجب على المكلف من جهة العسر - إلا إلى الموافقة الاطمئنانية،
فيكون مدار العمل على العلم بالبراءة والظن الاطمئناني بها.
وأما مورد التخيير، فالعمل فيه على الظن الموجود في المسألة وإن
كان ضعيفا، فهو خارج عن الكلام، لأن العقل لا يحكم فيه بالاحتياط
حتى يكون التنزل منه إلى شئ آخر، بل التخيير أو العمل بالظن
الموجود تنزل من العلم التفصيلي إليهما بلا واسطة.
وإن شئت قلت: إن العمل في الفقه في موارد (1) الانسداد على
الظن الاطمئناني ومطلق الظن والتخيير، كل في مورد خاص، وهذا هو
الذي يحكم به العقل المستقل.
وقد سبق لذلك مثال في الخارج، وهو: ما إذا علمنا بوجود شياه
محرمة في قطيع، وكان أقسام القطيع - بحسب احتمال كونها مصداقا
للمحرمات - خمسة، قسم منها يظن كونها محرمة بالظن القوي الاطمئناني
لا أن المحرم منحصر فيه، وقسم منها يظن ذلك فيها بظن قريب من
الشك والتحير، وثالث يشك في كونها محرمة، وقسم منها في مقابل
الظن الأول، وقسم منها (2) في مقابل الظن الثاني، ثم فرضنا في
المشكوكات وهذا القسم من الموهومات ما يحتمل أن يكون واجب
الارتكاب.
وحينئذ: فمقتضى الاحتياط وجوب اجتناب الجميع مما لا يحتمل

(1) في (ت)، (ل) و (ه‍): " مورد ".
(2) في غير (ه‍) زيادة: " موهوما "، ولكن شطب عليها في (ت).
504

الوجوب، فإذا انتفى وجوب الاحتياط لأجل العسر واحتيج إلى
ارتكاب موهوم الحرمة، كان ارتكاب الموهوم في مقابل الظن الاطمئناني
أولى من الكل، فيبنى على العمل به، ويتخير في المشكوك الذي يحتمل
الوجوب، ويعمل بمطلق الظن في المظنون منه.
لكنك خبير: بأن هذا ليس من حجية مطلق الظن ولا الظن
الاطمئناني في شئ، لأن معنى حجيته أن يكون دليلا في الفقه - بحيث
يرجع في موارد وجوده إليه لا إلى غيره، وفي موارد عدمه إلى مقتضى
الأصل (1) الذي يقتضيه -، والظن هنا ليس كذلك، إذ العمل:
أما في موارد وجوده (2)، ففيما طابق منه الاحتياط (3) على
الاحتياط لا عليه، إذ لم يدل (4) على ذلك مقدمات الانسداد، وفيما
خالف الاحتياط لا يعول عليه إلا بمقدار مخالفة الاحتياط لدفع العسر،
وإلا فلو فرض فيه جهة أخرى لم يكن معتبرا من تلك الجهة (5)، كما لو
دار الأمر بين شرطية شئ وإباحته واستحبابه، فظن باستحبابه، فإنه
لا يدل مقدمات دليل الانسداد إلا على عدم وجوب الاحتياط في ذلك
الشئ، والأخذ بالظن في عدم وجوبه، لا في إثبات استحبابه.

(1) كذا في (ل)، وورد في غيرها بدل " وفي موارد عدمه إلى مقتضى الأصل ":
" وفي موارد الخلو عنه بمقتضى الأصل ".
(2) في (ظ)، (ل) و (م) بدل " موارد وجوده ": " موارده ".
(3) في (ت)، (ر)، (ص) و (ه‍) زيادة: " فالعمل "، ولكن شطب عليه في (ص).
(4) في (ر) و (ص): " لا يدل ".
(5) لم ترد " الجهة " في (ظ)، (ل)، (م) و (ه‍).
505

وأما في موارد عدمه وهو الشك، فلا يجوز العمل إلا بالاحتياط
الكلي الحاصل من احتمال كون الواقعة من موارد التكليف المعلوم (1)
إجمالا وإن كان لا يقتضيه نفس المسألة، كما إذا شك في حرمة
عصير التمر أو وجوب الاستقبال بالمحتضر، بل العمل على هذا الوجه
يتبعض (2) في الاحتياط وطرحه في بعض الموارد دفعا للحرج، ثم يعين
العقل للطرح البعض الذي يكون وجود التكليف فيها احتمالا ضعيفا في
الغاية.
فإن قلت: إن العمل بالاحتياط في المشكوكات منضمة إلى
المظنونات (3) يوجب العسر فضلا عن انضمام العمل به في الموهومات
المقابلة للظن الغير القوي (4)، فيثبت وجوب العمل بمطلق الظن ووجوب
الرجوع في المشكوكات إلى مقتضى الأصل (5)، وهذا مساو في المعنى
لحجية الظن المطلق، وإن كان حقيقة تبعيضا في الاحتياط الكلي، لكنه
لا يقدح بعد عدم الفرق في العمل.
قلت: لا نسلم لزوم الحرج من مراعاة الاحتياط في المظنونات

(1) كذا في (ت)، وفي غيرها: " المعلومة ".
(2) كذا في (ل) وظاهر (م)، وفي غيرهما: " تبعيض ".
(3) في (ظ) و (م) بدل " المظنونات ": " الموهومات "، وفي (ل) و (ه‍) زيادة:
" مطلقا ".
(4) في (ظ)، (ل) و (م) بدل " في الموهومات المقابلة للظن الغير القوي ": " في
المظنونات بالظن الغير القوي ".
(5) في (ظ) و (م) زيادة: " في كل منها ".
506

بالظن الغير القوي في نفي التكليف، فضلا (1) عن لزومه من الاحتياط في
المشكوكات فقط بعد الموهومات، وذلك لأن حصول الظن الاطمئناني
غير عزيز في الأخبار وغيرها.
أما في غيرها، فلأنه كثيرا ما يحصل الاطمئنان من الشهرة
والإجماع المنقول والاستقراء والأولوية.
وأما الأخبار، فلأن الظن المبحوث عنه في هذا المقام هو الظن
بصدور المتن، وهو يحصل غالبا من خبر من يوثق بصدقه - ولو في
خصوص الرواية - وإن لم يكن إماميا أو ثقة على الإطلاق، إذ ربما
يتسامح في غير الروايات بما لا يتسامح فيها.
وأما احتمال الإرسال، فمخالف لظاهر كلام الراوي، وهو داخل في
ظواهر الألفاظ، فلا يعتبر فيها إفادة الظن فضلا عن الاطمئناني منه،
فلو فرض عدم حصول الظن بالصدور لأجل عدم الظن بالإسناد،
لم يقدح في اعتبار ذلك الخبر، لأن الجهة التي يعتبر فيها (2) الظن
الاطمئناني هو جهة صدق الراوي في إخباره عمن يروي عنه، وأما
أن إخباره بلا واسطة فهو ظهور لفظي لا بأس بعدم إفادته للظن،
فيكون صدور المتن غير مظنون أصلا، لأن النتيجة تابعة لأخس
المقدمتين.
وبالجملة: فدعوى كثرة الظنون الاطمئنانية في الأخبار وغيرها

(1) في (ظ) و (م) بدل " بالظن الغير القوي في نفي التكليف فضلا ": " بالظن
القوي فضلا ".
(2) في (ت)، (ر)، (ص) و (ه‍) زيادة: " إفادة ".
507

من الأمارات، بحيث لا يحتاج إلى ما دونها، ولا يلزم من الرجوع في
الموارد الخالية عنها إلى الاحتياط (1) محذور وإن كان هناك ظنون
لا تبلغ مرتبة الاطمئنان، قريبة جدا. إلا أنه يحتاج إلى مزيد تتبع في
الروايات وأحوال الرواة وفتاوى العلماء.
وكيف كان: فلا أرى الظن الاطمئناني الحاصل من الأخبار
وغيرها من الأمارات أقل عددا من الأخبار المصححة بعدلين، بل لعل
هذا (2) أكثر.
ثم إن الظن الاطمئناني من أمارة أو أمارات إذا تعلقت (3) بحجية
أمارة ظنية كانت في حكم الاطمئنان وإن لم تفده، بناء على ما تقدم (4):
من عدم الفرق بين الظن بالحكم والظن بالطريق (5)، إلا أن يدعي مدع
قلتها بالنسبة إلى نفسه، لعدم الاطمئنان له غالبا من الأمارات القوية
وعدم ثبوت حجية أمارة بها أيضا، وحينئذ فيتعين في حقه التعدي منه
إلى مطلق الظن.
وأما العمل في المشكوكات (6) بما يقتضيه الأصل في المورد،
فلم يثبت، بل اللازم بقاؤه على الاحتياط، نظرا إلى كون المشكوكات

(1) كذا في (ص)، وفي غيرها ونسخة بدلها بدل " الاحتياط ": " الأصول ".
(2) في النسخ: " هذه ".
(3) في (ر) و (ت): " تعلق ".
(4) راجع الصفحة 437.
(5) في (ظ)، (ل) و (م) ونسخة بدل (ص) بدل " بالطريق ": " بالواقع ".
(6) في (ظ)، (ل) و (م) ونسخة بدل (ص): " المشكوك ".
508

من المحتملات التي يعلم إجمالا بتحقق التكليف فيها وجوبا وتحريما.
ولا عسر في الاحتياط فيها، نظرا إلى قلة المشكوكات، لأن أغلب
المسائل يحصل فيها الظن بأحد الطرفين، كما لا يخفى.
مع أن الفرق بين الاحتياط في جميعها والعمل بالأصول الجارية في
خصوص مواردها إنما يظهر في الأصول المخالفة للاحتياط، ولا ريب أن
العسر لا يحدث بالاحتياط فيها، خصوصا مع كون مقتضى الاحتياط في
شبهة التحريم الترك، وهو غير موجب للعسر.
وحينئذ: فلا يثبت المدعى، من حجية الظن وكونه دليلا بحيث
يرجع في موارد عدمه إلى الأصل، بل يثبت عدم وجوب الاحتياط في
المظنونات.
والحاصل: أن العمل بالظن من باب الاحتياط (1) لا يخرج
المشكوكات عن حكم الاحتياط الكلي الثابت بمقتضى العلم الإجمالي في
الوقائع.
نعم، لو ثبت بحكم العقل أن الظن عند انسداد باب العلم مرجع
في الأحكام الشرعية نفيا وإثباتا كالعلم، انقلب التكليف إلى الظن،
وحكمنا بأن الشارع لا يريد إلا الامتثال الظني، وحيث (2) لا ظن - كما
في المشكوكات - فالمرجع إلى الأصول الموجودة في خصوصيات المقام،
فيكون كما لو انفتح باب العلم أو الظن الخاص، فيصير لزوم العسر
حكمة في عدم ملاحظة الشارع العلم الإجمالي في الامتثال بعد تعذر

(1) في نسخة بدل (ص) بدل " الاحتياط ": " العسر ".
(2) في غير (ه‍): " فحيث ".
509

التفصيلي، لا علة حتى يدور الحكم مدارها.
ولكن الإنصاف: أن المقدمات المذكورة لا تنتج هذه النتيجة، كما
يظهر لمن راجعها وتأملها. نعم، لو ثبت أن الاحتياط في المشكوكات
يوجب العسر ثبتت (1) النتيجة المذكورة، لكن عرفت (2) فساد دعواه في
الغاية، كدعوى أن العلم الإجمالي المقتضي للاحتياط الكلي إنما هو في
موارد الأمارات دون المشكوكات، فلا مقتضي فيها للعدول عما
تقتضيه (3) الأصول الخاصة في مواردها، فإن هذه الدعوى يكذبها ثبوت
العلم الإجمالي بالتكليف الإلزامي قبل استقصاء الأمارات، بل قبل
الاطلاع عليها، وقد مر تضعيفه سابقا، فتأمل فيه، فإن ادعاء ذلك
ليس كل البعيد.
ثم إن نظير هذا الإشكال الوارد في المشكوكات من حيث
الرجوع فيها بعد العمل بالظن إلى الأصول العملية، وارد فيها من حيث
الرجوع فيها بعد العمل بالظن إلى الأصول اللفظية الجارية في ظواهر
الكتاب والسنة المتواترة والأخبار المتيقن كونها ظنونا خاصة.
توضيحه: أن من مقدمات دليل الانسداد (4) إثبات عدم جواز
العمل بتلك (5) الظواهر، للعلم الإجمالي بمخالفة ظواهرها في كثير من

(1) في (ر) و (ص): " تثبت ".
(2) راجع الصفحة 423.
(3) في غير (ظ): " عما يقتضيه ".
(4) هنا زيادة " تقتضي " في طبعة جماعة المدرسين.
(5) في (ر) و (ص): " بأكثر تلك ".
510

الموارد، فتصير مجملة لا تصلح للاستدلال.
فإذا فرضنا رجوع الأمر إلى ترك الاحتياط في المظنونات أو في
المشكوكات أيضا، وجواز العمل بالظن المخالف للاحتياط وبالأصل
المخالف للاحتياط، فما الذي أخرج تلك الظواهر عن الإجمال حتى يصح
الاستدلال بها (1) في المشكوكات، إذ (2) لم يثبت كون الظن مرجعا كالعلم،
بحيث يكفي في الرجوع (3) إلى الظواهر عدم الظن بالمخالفة؟
مثلا: إذا أردنا التمسك ب‍ * (أوفوا بالعقود) * (4) لإثبات صحة عقد
انعقدت أمارة - كالشهرة أو الإجماع المنقول - على فساده، قيل:
لا يجوز التمسك بعمومه، للعلم الإجمالي بخروج كثير من العقود عن هذا
العموم لا نعلم تفصيلها.
ثم إذا ثبت وجوب العمل بالظن - من جهة عدم إمكان الاحتياط
في بعض الموارد، وكون الاحتياط في جميع موارد إمكانه مستلزما
للحرج -، فإذا شك في صحة عقد لم يقم على حكمه أمارة ظنية،
قيل: إن الواجب الرجوع إلى عموم الآية، ولا يخفى أن إجمالها
لا يرتفع بمجرد حكم العقل بعدم وجوب الاحتياط فيما ظن فيه بعدم
التكليف.
ودفع هذا - كالإشكال السابق - منحصر في أن يكون نتيجة دليل

(1) في غير (ظ): " بها الاستدلال ".
(2) في (ر)، (ص) و (ظ): " إذا ".
(3) في (ه‍) زيادة: " عملا ".
(4) المائدة: 1.
511

الانسداد حجية الظن كالعلم، ليرتفع الإجمال في الظواهر - لقيامه في
كثير من مواردها - من جهة ارتفاع العلم الإجمالي، كما لو علم تفصيلا
بعض تلك الموارد بحيث لا يبقى علم إجمالا في الباقي.
أو يدعى أن العلم الإجمالي الحاصل في تلك الظواهر إنما هو
بملاحظة موارد الأمارات، فلا يقدح في المشكوكات سواء ثبت حجية
الظن أم لا.
وأنت خبير: بأن دعوى النتيجة على الوجه المذكور يكذبها
مقدمات دليل الانسداد.
ودعوى: اختصاص المعلوم إجمالا من مخالفة الظواهر بموارد
الأمارات، مضعفة بأن هذا العلم حاصل بملاحظة (1) الأمارات ومواردها،
وقد تقدم سابقا أن المعيار في دخول طائفة من المحتملات في أطراف
العلم الإجمالي - لنراعي فيها حكمه - وعدم دخولها، هو تبديل طائفة
من المحتملات - المعلوم لها دخل في العلم الإجمالي - بهذه الطائفة
المشكوك دخولها، فإن حصل العلم الإجمالي كانت من أطراف العلم،
وإلا فلا.
وقد يدفع الاشكالان: بدعوى قيام الإجماع بل الضرورة على أن
المرجع في المشكوكات إلى العمل بالأصول اللفظية إن كانت، وإلا فإلى
الأصول العملية.
وفيه: أن هذا الإجماع مع ملاحظة الأصول في أنفسها، وأما مع
طرو العلم الإجمالي بمخالفتها في كثير من الموارد - غاية الكثرة -

(1) في (ر) و (ص): " من دون ملاحظة ".
512

فالإجماع على سقوط العمل بالأصول مطلقا، لا على ثبوته.
ثم إن هذا العلم الإجمالي وإن كان حاصلا لكل أحد قبل تمييز (1)
الأدلة عن غيرها، إلا أن من تعينت له الأدلة وقام الدليل القطعي
عنده على بعض الظنون عمل بمؤداها، وصار المعلوم بالإجمال عنده
معلوما بالتفصيل، كما إذا قامت أمارة معتبرة كالبينة واليد على حرمة
بعض (2) القطيع الذي علم بحرمة كثير من شياهها، فإنه يعمل بمقتضى
الأمارة، ثم يرجع في مورد فقدها إلى أصالة الحل، لأن المعلوم إجمالا
صار معلوما بالتفصيل، والحرام الزائد عليه غير معلوم التحقق في أول
الأمر.
وأما من لم يقم عنده الدليل (3) على أمارة، إلا أنه ثبت له
عدم وجوب الاحتياط، والعمل بالأمارات لا من حيث إنها أدلة، بل
من حيث إنها مخالفة للاحتياط وترك الاحتياط فيها موجب لاندفاع
العسر، فلا رافع (4) لذلك العلم الإجمالي لهذا الشخص بالنسبة إلى
المشكوكات.
فعلم مما ذكرنا: أن مقدمات دليل الانسداد على تقرير الحكومة
وإن كانت تامة في الإنتاج إلا أن نتيجتها لا تفي بالمقصود: من حجية

(1) في (ت)، (ر) و (ه‍): " تميز ".
(2) كذا في (ظ) و (م)، وفي غيرهما بدل " قامت - إلى - بعض ": " نصب أمارة
طريقا لتعيين المحرمات في ".
(3) في (م): " دليل ".
(4) في (ت)، (ر)، (ص) و (ظ): " فلا دافع ".
513

الظن وجعله كالعلم أو كالظن الخاص.
وأما على تقرير الكشف، فالمستنتج منها وإن كان عين المقصود،
إلا أن الإشكال والنظر بل المنع في استنتاج تلك النتيجة.
فإن كنت تقدر على إثبات حجية قسم من الخبر لا يلزم من
الاقتصار عليه محذور، كان أحسن، وإلا فلا تتعد على تقرير الكشف
عما (1) ذكرناه (2) من المسلك في آخره، وعلى تقدير الحكومة ما بينا هنا
أيضا: من الاقتصار في مقابل الاحتياط على الظن الاطمئناني بالحكم
أو بطريقية أمارة دلت على الحكم وإن لم تفد اطمئنانا بل ولا ظنا،
بناء على ما عرفت من مسلكنا المتقدم (3): من عدم الفرق بين الظن
بالحكم والظن بالطريق.
وأما في ما لا يمكن الاحتياط، فالمتبع فيه - بناء على ما تقدم (4)
في المقدمات: من سقوط الأصول عن الاعتبار، للعلم الإجمالي بمخالفة
الواقع فيها - هو مطلق الظن إن وجد، وإلا فالتخيير.
وحاصل الأمر: عدم رفع اليد عن الاحتياط في الدين مهما أمكن
إلا مع الاطمئنان بخلافه.
وعليك بمراجعة ما قدمنا من الأمارات على حجية الأخبار،
عساك تظفر فيها بأمارات توجب الاطمئنان بوجوب العمل بخبر الثقة

(1) في (ر)، (ظ) و (م) بدل " عما ": " ما ".
(2) راجع الصفحة 493.
(3) راجع الصفحة 437.
(4) في الصفحة 428.
514

عرفا إذا أفاد الظن وإن لم يفد الاطمئنان، بل لعلك تظفر فيها بخبر
مصحح بعدلين مطابق لعمل المشهور مفيد للاطمئنان يدل على حجية
المصحح بواحد عدل - نظرا إلى حجية قول الثقة المعدل في تعديله،
فيصير بمنزلة المعدل بعدلين - حتى يكون المصحح بعدل واحد متبعا، بناء
على دليل الانسداد بكلا تقريريه، لأن المفروض حصول الاطمئنان من
الخبر القائم على حجية قول الثقة (1) المستلزم لحجية المصحح بعدل
واحد، بناء على شمول دليل اعتبار خبر الثقة للتعديلات (2)، فيقضي به
تقرير الحكومة، وكون مثله متيقن الاعتبار من بين الأمارات فيقضي به
تقرير الكشف.

(1) لم ترد " الثقة " في (ه‍)، وفي غير (ظ) و (م) زيادة: " المعدل ".
(2) لم ترد عبارة " بناء - إلى - للتعديلات " في (ظ) و (م).
515

المقام الثالث (1)
في أنه إذا بني على تعميم الظن، فإن كان التعميم على تقرير
الكشف، بأن يكون مقدمات الانسداد كاشفة عن حكم الشارع
بوجوب العمل بالظن في الجملة ثم تعميمه بأحد (2) المعممات المتقدمة،
فلا إشكال (3) من جهة العلم بخروج القياس عن هذا العموم، لعدم
جريان المعمم فيه بعد وجود الدليل على حرمة العمل به (4)، فيكون
التعميم بالنسبة إلى ما عداه، كما لا يخفى على من راجع المعممات
المتقدمة.
وأما على تقرير الحكومة، بأن يكون مقدمات الدليل موجبة
لحكومة العقل بقبح إرادة الشارع ما عدا الظن وقبح اكتفاء المكلف بما
دونه (5)، فيشكل توجيه خروج القياس، وكيف يجامع حكم العقل بكون
الظن كالعلم مناطا للإطاعة والمعصية ويقبح من الآمر والمأمور التعدي
عنه، ومع ذلك يحصل الظن أو خصوص الاطمئنان من القياس،
ولا يجوز الشارع العمل به؟ فإن المنع عن العمل بما يقتضيه العقل - من

(1) قد تقدم الكلام في المقامين الأولين في الصفحة 464 و 471.
(2) في (ل) و (ه‍): " بإحدى ".
(3) في (ص) زيادة: " أصلا "، وفي (ت)، (ظ)، (م) و (ه‍) زيادة: " أيضا ".
(4) لم ترد " به " في (ر)، (ظ)، (ل) و (م).
(5) كذا في (ت) و (ه‍)، وفي غيرهما: " على ما دونه ".
516

الظن أو خصوص الاطمئنان - لو فرض ممكنا جرى في غير القياس،
فلا يكون العقل مستقلا، إذ لعله نهى عن أمارة مثل ما نهى عن
القياس بل وأزيد، واختفى علينا.
ولا رافع (1) لهذا الاحتمال إلا قبح ذلك على الشارع، إذ احتمال
صدور الممكن بالذات عن الحكيم لا يرتفع إلا بقبحه. وهذا من أفراد
ما اشتهر: من أن الدليل العقلي لا يقبل التخصيص، ومنشؤه لزوم
التناقض.
ولا يندفع إلا بكون الفرد الخارج عن الحكم خارجا عن
الموضوع وهو التخصص. وعدم التناقض في تخصيص العمومات اللفظية
إنما هو لكون العموم صوريا، فلا يلزم إلا التناقض الصوري.
ثم إن الإشكال هنا في مقامين:
أحدهما: في خروج مثل القياس وأمثاله مما نقطع بعدم اعتباره.
الثاني: في حكم الظن الذي قام على عدم اعتباره ظن آخر،
حيث إن الظن المانع والممنوع متساويان في الدخول تحت دليل
الانسداد ولا يجوز العمل بهما، فهل يطرحان أو يرجح المانع أو الممنوع
منه أو يرجع إلى الترجيح؟ وجوه بل أقوال.
أما المقام الأول، فقد قيل في توجيهه أمور:
الأول: ما مال إليه أو قال به بعض (2): من منع حرمة العمل

(1) في (ر)، (ص)، (ظ) و (م): " لا دافع ".
(2) هو المحقق القمي في القوانين 1: 449، و 2: 113.
517

بالقياس في أمثال زماننا، وتوجيهه بتوضيح منا:
أن الدليل على الحرمة: إن كان هي الأخبار المتواترة معنى في
الحرمة (1)، فلا ريب أن بعض تلك الأخبار في مقابلة معاصري الأئمة
صلوات الله عليهم من العامة التاركين للثقلين (2)، حيث تركوا الثقل
الأصغر الذي عنده علم الثقل الأكبر، ورجعوا إلى اجتهاداتهم وآرائهم،
فقاسوا واستحسنوا وضلوا وأضلوا، وإليهم أشار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيان من
يأتي من بعده من الأقوام، فقال: " برهة يعملون بالقياس " (3)، والأمير
صلوات الله عليه بما معناه: " إن قوما تفلتت عنهم الأحاديث أن
يحفظوها وأعوزتهم النصوص أن يعوها، فتمسكوا بآرائهم... إلى آخر
الرواية " (4).
وبعض منها: إنما (5) يدل على الحرمة من حيث إنه ظن لا يغني
من الحق شيئا.
وبعض منها: يدل على الحرمة من حيث استلزامه لإبطال الدين
ومحق السنة، لاستلزامه الوقوع غالبا في خلاف الواقع (6).

(1) الوسائل 18: 20، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2، 3، 4،
10، 11، 15، 18، 20 وغيرها.
(2) نفس المصدر، الحديث 2، 3، 4، 24 وغيرها.
(3) البحار 2: 308، الحديث 68.
(4) البحار 2: 84، الحديث 9، مع تفاوت.
(5) لم ترد " إنما " في (ت)، (ظ) و (ل).
(6) الوسائل 18: 25، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10.
518

وبعض منها: يدل على الحرمة ووجوب التوقف إذا لم يوجد ما
عداه (1)، ولازمه الاختصاص بصورة التمكن من إزالة التوقف لأجل
العمل بالرجوع إلى أئمة الهدى (عليهم السلام)، أو بصورة ما إذا كانت المسألة
من غير العمليات، أو نحو ذلك.
ولا يخفى: أن شيئا من الأخبار الواردة على أحد هذه الوجوه
المتقدمة، لا يدل على حرمة العمل بالقياس الكاشف عن صدور الحكم
عموما أو خصوصا عن النبي (صلى الله عليه وآله) أو أحد امنائه صلوات الله عليهم
أجمعين، مع عدم التمكن من تحصيل العلم به ولا الطريق الشرعي،
ودوران الأمر بين العمل بما يظن أنه صدر منهم (عليهم السلام) والعمل بما يظن
أن خلافه صدر منهم، كمقتضى الأصول المخالفة للقياس في موارده أو
الأمارات (2) المعارضة له. وما ذكرنا واضح على من راعى الإنصاف
وجانب الاعتساف.
وإن كان الدليل هو الإجماع، بل الضرورة عند علماء المذهب كما
ادعي (3)، فنقول: إنه كذلك، إلا أن دعوى الإجماع والضرورة على
الحرمة في كل زمان ممنوعة.
ألا ترى: أنه لو فرض - والعياذ بالله - انسداد باب الظن من
الطرق السمعية لعامة المكلفين أو لمكلف واحد باعتبار ما سنح له من
البعد عن بلاد الإسلام، فهل تقول: إنه يحرم عليه العمل بما يظن

(1) نفس المصدر، الحديث 49.
(2) في (ظ) و (م): " أو الأمارة "، وفي (ر)، (ص): " والأمارة ".
(3) انظر القوانين 1: 449، ومفاتيح الأصول: 663 - 664.
519

بواسطة القياس أنه الحكم الشرعي المتداول بين المتشرعة، وأنه مخير
بين العمل به والعمل بما يقابله من الاحتمال الموهوم، ثم تدعي الضرورة
على ما ادعيته من الحرمة؟ حاشاك!
ودعوى: الفرق بين زماننا هذا وزمان انطماس جميع الأمارات
السمعية ممنوعة، لأن المفروض أن الأمارات السمعية الموجودة بأيدينا
لم تثبت كونها مقدمة (1) في نظر الشارع على القياس، لأن تقدمها: إن
كان لخصوصية فيها، فالمفروض بعد انسداد باب الظن الخاص عدم
ثبوت خصوصية فيها، واحتمالها بل ظنها لا يجدي، بل نفرض الكلام
فيما إذا قطعنا بأن الشارع لم ينصب تلك الأمارات (2) بالخصوص.
وإن كان لخصوصية في القياس أوجبت كونه دونها في المرتبة،
فليس الكلام إلا في ذلك.
وكيف كان، فدعوى الإجماع والضرورة في ذلك في الجملة
مسلمة، وأما كلية فلا. وهذه الدعوى ليست بأولى من دعوى السيد
ضرورة المذهب على حرمة العمل بأخبار الآحاد (3).
لكن الإنصاف: أن إطلاق بعض الأخبار وجميع معاقد الإجماعات
يوجب الظن المتاخم للعلم بل العلم بأنه ليس مما يركن إليه في الدين
مع وجود الأمارات السمعية، فهو حينئذ مما قام الدليل على عدم
حجيته، بل العمل بالقياس المفيد للظن في مقابل الخبر الصحيح - كما هو

(1) في (ر) و (م): " متقدمة ".
(2) في غير (ر) و (ص): " الأمارة ".
(3) رسائل الشريف المرتضى 1: 24.
520

لازم القول بدخول القياس في مطلق الظن المحكوم بحجيته - ضروري
البطلان في المذهب.
الثاني (1): منع إفادة القياس للظن، خصوصا بعد ملاحظة أن
الشارع جمع في الحكم بين ما يتراءى متخالفة، وفرق بين ما يتخيل
متؤالفة.
وكفاك في هذا: عموم ما ورد من (2): " أن دين الله لا يصاب
بالعقول " (3)، و " أن السنة إذا قيست محق الدين " (4)، و " أنه لا شئ
أبعد عن عقول الرجال من دين الله " (5)، وغيرها مما دل على غلبة
مخالفة الواقع في العمل بالقياس (6)، وخصوص رواية أبان بن تغلب
الواردة في دية أصابع الرجل والمرأة الآتية (7).
وفيه: أن منع حصول الظن من القياس في بعض الأحيان مكابرة
مع الوجدان. وأما كثرة تفريق الشارع بين المؤتلفات وتأليفه بين
المختلفات، فلا يؤثر في منع الظن، لأن هذه الموارد بالنسبة إلى موارد

(1) هذا الجواب أيضا ذكره المحقق القمي في القوانين 1: 448، و 2: 112.
(2) لم ترد " من " في (ت)، (ظ)، (ل) و (م).
(3) كمال الدين: 324، الحديث 9، والبحار 2: 303، الحديث 41، وفي
المصدر: " بالعقول الناقصة ".
(4) الوسائل 18: 25، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10.
(5) لم نعثر عليه، نعم في الوسائل ما يقرب منه، انظر الوسائل 18: 149، الباب
13 من أبواب صفات القاضي، الحديث 69 و 73.
(6) الوسائل 18: 27، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 18.
(7) تقدمت الرواية في الصفحة 63، ولم نعثر عليها فيما يأتي.
521

الجمع بين المؤتلفات أقل قليل.
نعم، الإنصاف: أن ما ذكر من الأخبار في منع العمل بالقياس (1)
موهن قوي يوجب غالبا ارتفاع الظن الحاصل منه في بادئ النظر، أما
منعه عن ذلك دائما فلا، كيف؟ وقد يحصل من القياس القطع، وهو
المسمى عندهم بتنقيح المناط القطعي. وأيضا: فالأولوية الاعتبارية من
أقسام القياس، ومن المعلوم إفادتها للظن، ولا ريب أن منشأ الظن فيها
هو استنباط المناط ظنا، وأما آكديته في الفرع فلا مدخل له في حصول
الظن.
الثالث (2): أن باب العلم في مورد القياس ومثله مفتوح، للعلم
بأن الشارع أرجعنا في هذه الموارد إلى الأصول اللفظية أو العملية،
فلا يقضي دليل الانسداد باعتبار ظن القياس في موارده.
وفيه: أن هذا العلم إنما حصل من جهة النهي عن القياس،
ولا كلام في وجوب الامتناع عنه بعد منع الشارع، إنما الكلام في
توجيه نهي الشارع (3) عن العمل به مع أن موارده وموارد سائر
الأمارات متساوية، فإن أمكن منع الشارع عن العمل بالقياس أمكن
ذلك في أمارة أخرى، فلا يستقل العقل بوجوب العمل بالظن وقبح

(1) في (ص)، (ظ) و (م): " أن ما ذكر من تتبع الأخبار في أحوال القياس "،
وفي (ه‍) ونسخة بدل (ص): " أن ما ذكر من تتبع الأخبار في منع العمل
بالقياس "، وفي (ل): " أن ما ذكر من الأخبار في أحوال القياس ".
(2) هذا الجواب أيضا للمحقق القمي في القوانين 1: 448 - 449، و 2: 112.
(3) في (ت)، (ل) و (ه‍): " توجيه صحة منع الشارع ".
522

الاكتفاء بغيره من المكلف (1). وقد تقدم أنه لولا ثبوت القبح في التكليف
بالخلاف لم يستقل العقل بتعين (2) العمل بالظن، إذ لا مانع عقلا عن
وقوع الفعل الممكن ذاتا من الحكيم إلا قبحه.
والحاصل: أن الانفتاح المدعى إن كان مع قطع النظر عن منع
الشارع فهو خلاف المفروض، وإن كان بملاحظة منع الشارع، فالإشكال
في صحة المنع ومجامعته مع استقلال العقل بوجوب العمل بالظن، فالكلام
هنا في توجيه المنع، لا في تحققه.
الرابع (3): أن مقدمات دليل الانسداد - أعني انسداد باب العلم مع
العلم ببقاء التكليف - إنما توجب جواز العمل بما يفيد الظن، يعني (4) في
نفسه ومع قطع النظر عما يفيد ظنا أقوى، وبالجملة: هي تدل على
حجية الأدلة الظنية دون مطلق الظن النفس الأمري، والأول أمر قابل
للاستثناء، إذ يصح (5) أن يقال: إنه يجوز العمل بكل ما يفيد الظن
بنفسه ويدل على مراد الشارع ظنا إلا الدليل الفلاني، وبعد إخراج ما
خرج عن ذلك يكون باقي الأدلة (6) المفيدة للظن حجة معتبرة، فإذا
تعارضت تلك الأدلة لزم الأخذ بما هو الأقوى وترك ما هو الأضعف،

(1) في (ظ) و (م) زيادة: " وقبح الأمر بغيره من المكلف ".
(2) في (ت)، (ر)، (ص)، (ظ) و (ه‍): " بتعيين ".
(3) هذا الجواب أيضا للمحقق القمي.
(4) لم ترد " يعني " في (ر) و (ص).
(5) في (ر)، (ص) و (ه‍): " إذ لا يقبح ".
(6) في (م): " يكون ما في الأدلة ".
523

فالمعتبر حينئذ هو الظن بالواقع، ويكون مفاد الأقوى حينئذ ظنا
والأضعف وهما، فيؤخذ بالظن ويترك غيره (1)، انتهى.
أقول: كأن غرضه - بعد فرض جعل الأصول من باب الظن
وعدم وجوب العمل بالاحتياط -: أن انسداد باب العلم في الوقائع مع
بقاء التكليف فيها يوجب عقلا الرجوع إلى طائفة من الأمارات الظنية،
وهذه القضية يمكن أن تكون مهملة ويكون القياس خارجا عن حكمها،
لا أن (2) العقل يحكم بعمومها ويخرج الشارع القياس، لأن هذا عين ما
فر منه من الإشكال. فإذا علم بخروج القياس عن هذا الحكم فلا بد
من إعمال الباقي في مواردها، فإذا وجد في مورد أصل وأمارة
- والمفروض أن الأصل لا يفيد الظن في مقابل الأمارة - وجب الأخذ
بها، وإذا فرض خلو المورد عن الأمارة اخذ بالأصل، لأنه يوجب
الظن بمقتضاه.
وبهذا (3) التقرير: يجوز منع الشارع عن القياس، بخلاف ما لو
قررنا دليل الانسداد على وجه يقتضي الرجوع في كل مسألة إلى الظن
الموجود فيها، فإن هذه القضية لا تقبل الإهمال ولا التخصيص، إذ
ليس في كل مسألة إلا ظن واحد.
وهذا معنى قوله في مقام آخر: إن القياس مستثنى من الأدلة
الظنية، لا أن الظن القياسي مستثنى من مطلق الظن. والمراد بالاستثناء

(1) القوانين 1: 448، و 2: 112.
(2) في (ر)، (ل) و (م) زيادة: " يكون ".
(3) في (ظ) و (م): " وهذا ".
524

هنا إخراج ما لولاه لكان قابلا للدخول، لا داخلا بالفعل، وإلا
لم يصح بالنسبة إلى المهملة.
هذا غاية ما يخطر بالبال في كشف مراده.
وفيه: أن نتيجة المقدمات المذكورة لا تتغير بتقريرها على وجه
دون وجه، فإن مرجع ما ذكر - من الحكم بوجوب الرجوع إلى
الأمارات الظنية في الجملة - إلى العمل بالظن في الجملة (1)، إذ ليس
لذات الأمارة مدخلية في الحجية في لحاظ العقل، والمناط هو وصف
الظن، سواء اعتبر مطلقا أو على وجه الإهمال، وقد تقدم (2): أن
النتيجة على تقرير الحكومة ليست مهملة، بل هي معينة للظن الاطمئناني
مع الكفاية، ومع عدمها فمطلق الظن، وعلى كلا التقديرين لا وجه
لإخراج القياس. وأما على تقرير الكشف فهي مهملة لا يشكل معها
خروج القياس، إذ الإشكال (3) مبني على عدم الإهمال وعموم النتيجة،
كما عرفت (4).
الخامس (5): أن دليل الانسداد إنما يثبت حجية الظن الذي لم يقم
على عدم حجيته دليل، فخروج القياس على وجه التخصص دون

(1) في غير (ت) و (ه‍): " بالجملة ".
(2) راجع الصفحة 467.
(3) في (ظ)، (ل) و (م) بدل " الاشكال ": " القياس ".
(4) راجع الصفحة 468.
(5) هذا الجواب ذكره الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين: 395، وأخوه
صاحب الفصول في الفصول: 285.
525

التخصيص.
توضيح ذلك: أن العقل إنما يحكم باعتبار الظن وعدم الاعتناء
بالاحتمال الموهوم في مقام الامتثال، لأن البراءة الظنية تقوم مقام
العلمية، أما إذا حصل بواسطة منع الشارع القطع بعدم البراءة بالعمل
بالقياس، فلا يبقى براءة ظنية حتى يحكم العقل بوجوبها.
واستوضح ذلك من حكم العقل بحرمة العمل بالظن وطرح
الاحتمال الموهوم عند انفتاح باب العلم في المسألة، كما تقدم (1) في تقرير
أصالة حرمة العمل بالظن، فإذا فرض قيام الدليل من الشارع على
اعتبار ظن ووجوب العمل به، فإن هذا لا يكون (2) تخصيصا في حكم
العقل بحرمة العمل بالظن، لأن حرمة العمل بالظن مع التمكن إنما هو
لقبح الاكتفاء بما دون الامتثال العلمي مع التمكن من العلمي، فإذا فرض
الدليل على اعتبار ظن ووجوب العمل به صار الامتثال - في العمل
بمؤداه - علميا، فلا يشمله حكم العقل بقبح الاكتفاء بما دون الامتثال
العلمي، فما نحن فيه على العكس من ذلك.
وفيه: أنك قد عرفت - عند التكلم في مذهب ابن قبة (3) -: أن
التعبد بالظن مع التمكن من العلم على وجهين:
أحدهما: على وجه الطريقية بحيث لا يلاحظ الشارع في أمره
عدا كون الظن انكشافا ظنيا للواقع بحيث لا يترتب على العمل به عدا

(1) في غير (ظ) زيادة: " نظيره ".
(2) في (ت) و (ه‍) بدل عبارة " فإن هذا لا يكون ": " لم يوجب ذلك ".
(3) راجع الصفحة 108 - 112.
526

مصلحة الواقع على تقدير المطابقة.
والثاني: على وجه يكون في سلوكه مصلحة يتدارك بها مصلحة
الواقع الفائتة على تقدير مخالفة الظن للواقع.
وقد عرفت (1): أن الأمر بالعمل بالظن مع التمكن من العلم على
الوجه الأول قبيح جدا، لأنه مخالف لحكم العقل بعدم الاكتفاء في
الوصول إلى الواقع بسلوك طريق ظني يحتمل الإفضاء إلى خلاف
الواقع. نعم، إنما يصح التعبد على الوجه الثاني.
فنقول: إن الأمر في ما نحن فيه كذلك، فإنه بعد ما حكم العقل
بانحصار الامتثال عند فقد العلم في سلوك الطريق الظني، فنهي الشارع
عن العمل ببعض الظنون: إن كان على وجه الطريقية - بأن نهى عند
فقد العلم عن سلوك هذا الطريق من حيث إنه ظن يحتمل فيه الخطأ -
فهو قبيح، لأنه معرض لفوات الواقع فينتقض به الغرض، كما كان يلزم
ذلك من الأمر بسلوكه على وجه الطريقية عند التمكن من العلم، لأن
حال الظن عند الانسداد من حيث الطريقية حال العلم مع الانفتاح
لا يجوز النهي عنه من هذه الحيثية في الأول كما لا يجوز الأمر به
في الثاني، فالنهي عنه وإن كان مخرجا للعمل به عن ظن البراءة إلى
القطع بعدمها، إلا أن الكلام في جواز هذا النهي، لما عرفت من أنه
قبيح.
وإن كان على وجه يكشف النهي عن وجود مفسدة في العمل
بهذا الظن يغلب على مفسدة مخالفة الواقع اللازمة عند طرحه، فهذا وإن

(1) راجع الصفحة 109 - 110.
527

كان جائزا حسنا نظير الأمر به على هذا الوجه مع الانفتاح، إلا أنه
يرجع إلى ما سنذكره (1) (2).
الوجه السادس: وهو الذي اخترناه سابقا (3)، وحاصله: أن النهي
يكشف عن وجود مفسدة غالبة على المصلحة الواقعية المدركة على
تقدير العمل به، فالنهي عن الظنون الخاصة في مقابل حكم العقل
بوجوب العمل بالظن مع الانسداد نظير الأمر بالظنون الخاصة في مقابل
حكم العقل بحرمة العمل بالظن مع الانفتاح.
فإن قلت: إذا بني على ذلك، فكل ظن من الظنون يحتمل أن
يكون في العمل به مفسدة كذلك.
قلت: نعم، ولكن احتمال المفسدة لا يقدح في حكم العقل بوجوب
سلوك طريق يظن معه بالبراءة عند الانسداد، كما أن احتمال وجود
المصلحة المتداركة لمصلحة الواقع في ظن لا يقدح في حكم العقل بحرمة
العمل بالظن مع الانفتاح، وقد تقدم في آخر مقدمات الانسداد (4): أن
العقل مستقل بوجوب العمل بالظن مع انسداد باب العلم (5)، ولا اعتبار
باحتمال كون شئ آخر هو المتعبد به غير الظن، إذ لا يحصل من العمل

(1) في الوجه الآتي.
(2) في غير (ت) و (ه‍) زيادة: " في ".
(3) لم ترد عبارة " وهو الذي اخترناه سابقا " في (ر) و (ل).
(4) راجع الصفحة 434.
(5) وردت في (ظ)، (ل) و (م) بدل عبارة " العمل - إلى - العلم " عبارة:
" البراءة الظنية مع عدم العلم ".
528

بذلك المحتمل سوى الشك في البراءة أو توهمها، ولا يجوز العدول عن
البراءة الظنية إليهما.
وهذا الوجه وإن كان حسنا وقد اخترناه سابقا، إلا أن ظاهر
أكثر الأخبار الناهية عن القياس: أنه لا مفسدة فيه إلا الوقوع في
خلاف الواقع، وإن كان بعضها ساكتا عن ذلك وبعضها ظاهرا في ثبوت
المفسدة الذاتية، إلا أن دلالة الأكثر أظهر، فهي الحاكمة (1) على غيرها،
كما يظهر لمن راجع الجميع، فالنهي راجع إلى سلوكه من باب الطريقية،
وقد عرفت الاشكال في النهي على هذا الوجه (2).
إلا أن يقال: إن النواهي اللفظية عن العمل بالقياس من حيث
الطريقية لابد من حملها - في مقابل العقل المستقل - على صورة انفتاح
باب العلم بالرجوع إلى الأئمة (عليهم السلام). والأدلة القطعية منها - كالإجماع
المنعقد على حرمة العمل به حتى مع الانسداد - لا وجه له غير المفسدة
الذاتية، كما أنه إذا قام دليل على حجية ظن مع التمكن من العلم نحمله
على وجود المصلحة المتداركة لمخالفة الواقع، لأن حمله على العمل من
حيث الطريقية مخالف لحكم العقل بقبح الاكتفاء بغير العلم مع تيسره.
الوجه السابع: هو أن خصوصية القياس من بين سائر الأمارات
هي غلبة مخالفتها للواقع، كما يشهد به قوله (عليه السلام): " إن السنة إذا قيست
محق الدين " (3)، وقوله: " كان ما يفسده أكثر مما يصلحه " (4)، وقوله:

(1) في (ه‍) ونسخة بدل (ت): " المحكمة ".
(2) راجع الصفحة 527.
(3) الوسائل 18: 25، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10.
(4) الوسائل 5: 394، الباب 11 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 14.
529

" ليس شئ أبعد عن عقول الرجال من دين الله " (1)، وغير ذلك (2).
وهذا المعنى لما (3) خفي على العقل الحاكم بوجوب سلوك الطرق
الظنية عند فقد العلم، فهو إنما يحكم بها لإدراك أكثر الواقعيات المجهولة
بها، فإذا كشف الشارع عن حال القياس وتبين عند العقل حال
القياس فيحكم - حكما إجماليا - بعدم جواز الركون إليه.
نعم، إذا حصل الظن منه في خصوص مورد، لا يحكم بترجيح
غيره عليه في مقام البراءة عن الواقع، لكن يصح للشارع المنع عنه
تعبدا بحيث يظهر (4): أني ما أريد الواقعيات التي تضمنها (5)، فإن الظن
ليس كالعلم في عدم جواز تكليف الشخص بتركه والأخذ بغيره.
وحينئذ: فالمحسن لنهي الشارع عن سلوكه على وجه الطريقية
كونه في علم الشارع مؤديا في الغالب إلى مخالفة الواقع.
والحاصل: أن قبح النهي عن العمل بالقياس على وجه الطريقية،
إما أن يكون لغلبة الوقوع في خلاف الواقع مع طرحه فينافي الغرض،
وإما أن يكون لأجل قبح ذلك في نظر الظان، حيث إن مقتضى القياس
أقرب في نظره إلى الواقع، فالنهي عنه نقض لغرضه في نظر الظان.

(1) لم نعثر عليه، نعم ورد ما يقرب منه، في الوسائل 18: 149 - 150، الباب
13 من أبواب صفات القاضي، الحديث 69 و 73.
(2) تقدم بعضها في الصفحة 62 - 63.
(3) لم ترد " لما " في (ظ)، (ل) و (م).
(4) في (ر) و (ص) زيادة: " منه "، وفي (ت) و (ه‍) زيادة: " له ".
(5) في (ص) زيادة: " القياس ".
530

أما الوجه الأول، فهو مفقود في المقام، لأن المفروض غلبة مخالفته
للواقع.
وأما الوجه الثاني، فهو غير قبيح بعد إمكان حمل الظان النهي في
ذلك المورد الشخصي على عدم إرادة الواقع منه في هذه المسألة ولو
لأجل اطراد الحكم.
ألا ترى: أنه يصح أن يقول الشارع للوسواسي القاطع بنجاسة
ثوبه: " ما أريد منك الصلاة بطهارة الثوب " وإن كان ثوبه في الواقع
نجسا، حسما لمادة وسواسه.
ونظيره: أن الوالد إذا أقام ولده الصغير في دكانه في مكانه،
وعلم منه أنه يبيع أجناسه بحسب ظنونه القاصرة، صح له منعه عن
العمل بظنه، ويكون منعه في الواقع لأجل عدم الخسارة في البيع،
ويكون هذا النهي في نظر الصبي الظان بوجود النفع في المعاملة
الشخصية إقداما منه ورضى بالخسارة وترك العمل بما يظنه نفعا، لئلا
يقع في الخسارة في مقامات اخر، فإن حصول الظن الشخصي بالنفع
تفصيلا في بعض الموارد لا ينافي علمه بأن العمل بالظن القياسي منه
ومن غيره في هذا المورد وفي غيره يوجب الوقوع غالبا في مخالفة
الواقع، ولذا علمنا ذلك من الأخبار المتواترة معنى مع حصول الظن
الشخصي في الموارد منه، إلا أنه كل مورد حصل الظن نقول بحسب
ظننا: إنه ليس من موارد التخلف، فنحمل عموم نهي الشارع الشامل
لهذا المورد على رفع الشارع يده عن الواقع وإغماضه عن الواقع في
موارد مطابقة القياس، لئلا يقع في مفسدة تخلفه عن الواقع في أكثر
الموارد.
531

هذه جملة ما حضرني من نفسي ومن غيري في دفع الإشكال،
وعليك بالتأمل في هذا المجال، والله العالم بحقيقة الحال.
المقام الثاني (1):
فيما إذا قام ظن من أفراد مطلق الظن على حرمة العمل ببعضها
بالخصوص، لا على عدم الدليل على اعتباره، فيخرج مثل الشهرة
القائمة على عدم حجية الشهرة، لأن مرجعها إلى انعقاد الشهرة على
عدم الدليل على حجية الشهرة وبقائها تحت الأصل.
وفي وجوب العمل بالظن الممنوع أو المانع أو الأقوى منهما أو
التساقط وجوه، بل أقوال.
ذهب بعض مشايخنا (2) إلى الأول، بناء منه على ما عرفت
سابقا (3): من بناء غير واحد منهم على أن دليل الانسداد لا يثبت
اعتبار الظن في المسائل الأصولية التي منها مسألة حجية الممنوع.
ولازم بعض المعاصرين (4) الثاني، بناء على ما عرفت منه: من أن
اللازم بعد الانسداد تحصيل الظن بالطريق، فلا عبرة بالظن بالواقع ما
لم يقم على اعتباره ظن.
وقد عرفت ضعف كلا البناءين (5)، وأن نتيجة مقدمات الانسداد

(1) قد تقدم الكلام في المقام الأول في الصفحة 517.
(2) هو شريف العلماء، انظر تقريرات درسه في ضوابط الأصول: 267.
(3) راجع الصفحة 438.
(4) هو صاحب الفصول، وقد تقدم كلامه في الصفحة 438 - 439.
(5) راجع الصفحة 437.
532

هو الظن بسقوط التكاليف الواقعية في نظر الشارع الحاصل بموافقة نفس
الواقع، وبموافقة طريق رضي الشارع به عن الواقع.
نعم، بعض من وافقنا (1) - واقعا أو تنزلا - في عدم الفرق في
النتيجة بين الظن بالواقع والظن بالطريق، اختار في المقام وجوب طرح
الظن الممنوع، نظرا إلى أن مفاد دليل الانسداد - كما عرفت في الوجه
الخامس (2) من وجوه دفع (3) إشكال خروج القياس - هو اعتبار كل ظن
لم يقم على عدم اعتباره دليل معتبر، والظن الممنوع مما قام على عدم
اعتباره دليل معتبر وهو الظن المانع، فإنه معتبر، حيث لم يقم دليل
على المنع منه، لأن الظن الممنوع لم يدل على حرمة الأخذ بالظن المانع،
غاية الأمر: أن الأخذ به مناف للأخذ بالمانع، لا أنه يدل على وجوب
طرحه، بخلاف الظن المانع فإنه يدل على وجوب طرح الظن الممنوع.
فخروج الممنوع من باب التخصص لا التخصيص، فلا يقال: إن
دخول أحد المتنافيين تحت العام لا يصلح دليلا لخروج الآخر مع
تساويهما في قابلية الدخول من حيث الفردية.
ونظير ما نحن فيه: ما تقرر في الاستصحاب (4)، من أن مثل
استصحاب طهارة الماء المغسول به الثوب النجس دليل حاكم على
استصحاب نجاسة الثوب، وإن كان كل من طهارة الماء ونجاسة الثوب

(1) هو الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين: 395.
(2) راجع الصفحة 525.
(3) في (ت)، (ظ) و (م): " رفع ".
(4) انظر مبحث الاستصحاب 3: 394.
533

- مع قطع النظر عن حكم الشارع بالاستصحاب - متيقنة في السابق مشكوكة
في اللاحق، وحكم الشارع بإبقاء كل متيقن في السابق مشكوك في
اللاحق متساويا بالنسبة إليهما، إلا أنه لما كان دخول يقين الطهارة في
عموم الحكم بعدم النقض والحكم عليه بالبقاء يكون دليلا على زوال
نجاسة الثوب المتيقنة سابقا، فيخرج عن المشكوك لاحقا، بخلاف دخول
يقين النجاسة والحكم عليها بالبقاء، فإنه لا يصلح للدلالة على طرو
النجاسة للماء المغسول به قبل الغسل وإن كان منافيا لبقائه على الطهارة.
وفيه: أولا: أنه لا يتم فيما إذا كان الظن المانع والممنوع من
جنس أمارة واحدة، كأن يقوم الشهرة مثلا على عدم حجية الشهرة،
فإن العمل ببعض أفراد الأمارة وهي الشهرة في المسألة الأصولية دون
البعض الآخر وهي الشهرة في المسألة الفرعية، كما ترى.
وثانيا: أن الظن المانع إنما يكون - على فرض اعتباره - دليلا على
عدم اعتبار الممنوع، لأن الامتثال بالممنوع حينئذ مقطوع العدم - كما
تقرر في توضيح (1) الوجه الخامس من وجوه دفع إشكال خروج
القياس (2) - وهذا المعنى موجود في الظن الممنوع. مثلا: إذا فرض
صيرورة الأولوية مقطوعة الاعتبار بمقتضى دخولها تحت دليل الانسداد،
لم يعقل بقاء الشهرة المانعة عنها على إفادة الظن بالمنع.
ودعوى: أن بقاء الظن من الشهرة بعدم اعتبار الأولوية دليل على
عدم حصول القطع من دليل الانسداد بحجية الأولوية، وإلا لارتفع الظن
بعدم حجيتها، فيكشف ذلك عن دخول الظن المانع تحت دليل الانسداد.

(1) في (ل): " في ترجيح ".
(2) راجع الصفحة 525.
534

معارضة: بأنا لا نجد من أنفسنا القطع بعدم تحقق الامتثال بسلوك
الطريق الممنوع، فلو كان الظن المانع داخلا لحصل القطع بذلك.
وحل ذلك: أن الظن بعدم اعتبار الممنوع إنما هو مع قطع النظر
عن ملاحظة دليل الانسداد، ولا نسلم بقاء الظن بعد ملاحظته.
ثم إن الدليل العقلي أو الأمارة القطعية (1) يفيد القطع بثبوت
الحكم بالنسبة إلى جميع أفراد موضوعه، فإذا تنافى دخول فردين: فإما
أن يكشف عن فساد ذلك الدليل، وإما أن يجب طرحهما - لعدم حصول
القطع من ذلك الدليل العقلي بشئ منهما -، وإما أن يحصل القطع
بدخول أحدهما فيقطع بخروج الآخر، فلا معنى للتردد بينهما وحكومة
أحدهما على الآخر.
فما مثلنا به المقام: من استصحاب طهارة الماء واستصحاب نجاسة
الثوب، مما لا وجه له، لأن مرجع تقديم الاستصحاب الأول إلى
تقديم التخصص على التخصيص، ويكون أحدهما دليلا رافعا لليقين
السابق بخلاف الآخر، فالعمل بالأول تخصص وبالثاني تخصيص،
ومرجعه - كما تقرر في مسألة تعارض الاستصحابين (2) - إلى وجوب
العمل بالعام تعبدا إلى أن يحصل الدليل على التخصيص.
إلا أن يقال: إن القطع بحجية المانع عين القطع بعدم حجية
الممنوع، لأن معنى حجية كل شئ وجوب الأخذ بمؤداه، لكن القطع
بحجية الممنوع - التي هي نقيض مؤدى المانع - مستلزم للقطع بعدم حجية

(1) في (ص): " والأمارة القطعية "، وفي (ظ) و (م): " أو الأمارة العقلية "، وفي
(ل) و (ه‍): " أو الأمارات العقلية ".
(2) انظر مبحث الاستصحاب 3: 395 - 396.
535

المانع، فدخول المانع لا يستلزم خروج الممنوع، وإنما هو عين خروجه،
فلا ترجح ولا تخصص (1)، بخلاف دخول الممنوع، فإنه يستلزم خروج
المانع، فيصير ترجيحا من غير مرجح، فافهم.
والأولى (2) أن يقال: إن الظن بعدم حجية الأمارة الممنوعة لا يجوز
- كما عرفت سابقا في الوجه السادس (3) - أن يكون من باب الطريقية،
بل لا بد أن يكون من جهة اشتمال الظن الممنوع على مفسدة غالبة على
مصلحة إدراك الواقع، وحينئذ: فإذا ظن بعدم اعتبار ظن فقد ظن
بإدراك الواقع، لكن مع الظن بترتب مفسدة غالبة، فيدور الأمر بين
المصلحة المظنونة والمفسدة المظنونة، فلا بد من الرجوع إلى الأقوى.
فإذا ظن بالشهرة نهي الشارع عن العمل بالأولوية، فيلاحظ
مرتبة هذا الظن، فكل أولوية في المسألة كان أقوى مرتبة من ذلك
الظن الحاصل من الشهرة اخذ به، وكل أولوية كان أضعف منه وجب
طرحه، وإذا لم يتحقق الترجيح بالقوة حكم بالتساقط، لعدم استقلال
العقل بشئ منهما حينئذ.
هذا إذا لم يكن العمل بالظن المانع سليما عن محذور ترك العمل
بالظن الممنوع، كما إذا خالف الظن الممنوع الاحتياط اللازم في المسألة،
وإلا تعين العمل به، لعدم التعارض (4).

(1) كذا في (ظ) و (م)، وفي غيرهما: " فلا ترجيح ولا تخصيص ".
(2) في (ر)، (ص) و (ه‍): " فالأولى ".
(3) راجع الصفحة 528.
(4) لم ترد عبارة " هذا إذا - إلى - التعارض " في (ظ)، (ل) و (م)، نعم وردت في
هامش (ل) مع اختلاف.
536

الأمر الثالث (1)
أنه لا فرق في نتيجة مقدمات دليل الانسداد بين الظن الحاصل
أولا من الأمارة بالحكم الفرعي الكلي كالشهرة أو نقل الإجماع على
حكم، وبين الحاصل به من أمارة متعلقة بألفاظ الدليل، كأن يحصل
الظن من قوله تعالى: * (فتيمموا صعيدا) * (2)، بجواز التيمم بالحجر مع
وجود التراب الخالص، بسبب قول جماعة من أهل اللغة: إن الصعيد
هو مطلق وجه الأرض (3).
ثم الظن المتعلق بالألفاظ على قسمين، ذكرناهما في بحث حجية
الظواهر (4).
أحدهما: ما يتعلق بتشخيص الظواهر، مثل الظن من الشهرة
بثبوت الحقائق الشرعية، وبأن الأمر ظاهر في الوجوب لأجل الوضع،

(1) قد تقدم الكلام في الأمر الأول والثاني في الصفحة 437 و 463.
(2) النساء: 43.
(3) القاموس المحيط 1: 307، والمصباح المنير: 339.
(4) راجع الصفحة 135 - 136.
537

وأن الأمر عقيب الحظر ظاهر في الإباحة الخاصة أو في مجرد رفع
الحظر، وهكذا.
والثاني: ما يتعلق بتشخيص إرادة الظواهر وعدمها، كأن يحصل
ظن بإرادة المعنى المجازي أو أحد معاني المشترك، لأجل تفسير الراوي
مثلا أو من جهة كون مذهبه مخالفا لظاهر الرواية.
وحاصل القسمين: الظنون غير الخاصة المتعلقة بتشخيص الظواهر
أو المرادات.
والظاهر: حجيتها عند كل من قال بحجية مطلق الظن لأجل
الانسداد، ولا يحتاج إثبات ذلك إلى إعمال دليل الانسداد في نفس
الظنون المتعلقة بالألفاظ، بأن يقال: إن العلم فيها قليل، فلو بني الأمر
على إجراء الأصل لزم كذا وكذا.
بل لو انفتح باب العلم في جميع الألفاظ إلا في مورد واحد وجب
العمل بالظن الحاصل بالحكم الفرعي من تلك الأمارة المتعلقة بمعاني
الألفاظ عند انسداد باب العلم في الأحكام.
وهل يعمل بذلك الظن في سائر الثمرات المترتبة على تعيين معنى
اللفظ في غير مقام تعيين الحكم الشرعي الكلي، كالوصايا والأقارير
والنذور؟
فيه إشكال، والأقوى العدم، لأن مرجع العمل بالظن فيها إلى
العمل بالظن في الموضوعات الخارجية المترتبة عليها الأحكام الجزئية
الغير المحتاجة إلى بيان الشارع حتى يدخل في ما انسد فيه باب العلم،
وسيجئ عدم اعتبار الظن فيها (1).

(1) انظر الصفحة 550.
538

نعم، من جعل الظنون المتعلقة بالألفاظ من الظنون الخاصة مطلقا
لزمه الاعتبار (1) في الأحكام والموضوعات، وقد مر تضعيف هذا القول
عند الكلام في الظنون الخاصة (2).
وكذا: لا فرق بين الظن الحاصل بالحكم الفرعي الكلي من نفس
الأمارة أو عن أمارة متعلقة بالألفاظ، وبين (3) الحاصل بالحكم الفرعي
الكلي من الأمارة المتعلقة بالموضوع الخارجي، ككون الراوي عادلا أو
مؤمنا حال الرواية، وكون زرارة هو ابن أعين لا ابن لطيفة، وكون
علي بن الحكم هو الكوفي بقرينة رواية أحمد بن محمد عنه، فإن جميع
ذلك وإن كان ظنا بالموضوع الخارجي، إلا أنه لما كان منشأ للظن
بالحكم الفرعي الكلي الذي انسد فيه باب العلم عمل به من هذه الجهة،
وإن لم يعمل به من سائر الجهات المتعلقة بعدالة ذلك الرجل أو
بتشخيصه عند إطلاق اسمه المشترك.
ومن هنا تبين: أن الظنون الرجالية معتبرة بقول مطلق عند من
قال بمطلق الظن في الأحكام، ولا يحتاج إلى تعيين أن اعتبار أقوال
أهل الرجال من جهة دخولها في الشهادة أو في (4) الرواية، ولا يقتصر
على أقوال أهل الخبرة، بل يقتصر على تصحيح الغير للسند وإن كان
من آحاد العلماء إذا أفاد قوله الظن بصدق الخبر المستلزم للظن بالحكم

(1) في (ص): " لزمه القول بالاعتبار ".
(2) راجع الصفحة 173 - 174.
(3) في (ص) زيادة: " الظن ".
(4) لم ترد " في " في (ت) و (ل).
539

الفرعي الكلي.
وملخص هذا الأمر الثالث: أن كل ظن تولد منه الظن بالحكم
الفرعي الكلي فهو حجة من هذه الجهة، سواء كان الحكم الفرعي واقعيا
أو كان ظاهريا - كالظن بحجية الاستصحاب تعبدا وبحجية (1) الأمارة
الغير المفيدة للظن الفعلي بالحكم -، وسواء تعلق الظن أولا بالمطالب
العلمية (2) أو غيرها أو بالأمور الخارجية من غير استثناء في سبب هذا
الظن.
ووجهه واضح، فإن مقتضى النتيجة هو لزوم الامتثال الظني
وترجيح الراجح على المرجوح في العمل. حتى أنه لو قلنا بخصوصية في
بعض الأمارات - بناء على عدم التعميم في نتيجة دليل الانسداد -
لم يكن فرق بين ما تعلق تلك الأمارة بنفس الحكم أو بما يتولد منه
الظن بالحكم، ولا إشكال في ذلك أصلا، إلا أن يغفل غافل عن
مقتضى دليل الانسداد فيدعي الاختصاص بالبعض دون البعض من
حيث لا يشعر.
وربما تخيل بعض (3): أن العمل بالظنون المطلقة في الرجال غير
مختص بمن يعمل بمطلق الظن في الأحكام، بل المقتصر على الظنون
الخاصة في الأحكام أيضا عامل بالظن المطلق في الرجال.

(1) في (ت) و (ر): " أو بحجية ".
(2) في (ظ)، (م) و (ه‍) زيادة: " العملية "، إلا أنه كتب فوقها في (ه‍): " خ ل "،
وفي (ر) بدل " العلمية ": " العملية ".
(3) هو السيد المجاهد في مفاتيح الأصول: 492.
540

وفيه نظر، يظهر للمتتبع لعمل العلماء في الرجال، فإنه يحصل
القطع بعدم بنائهم فيها على العمل بكل أمارة.
نعم، لو كان الخبر المظنون الصدور - مطلقا أو بالظن الاطمئناني -
من الظنون الخاصة لقيام الأخبار أو الإجماع عليه، لزم القائل به العمل
بمطلق الظن أو الاطمئناني (1) منه في الرجال، كالعامل (2) بالظن المطلق في
الأحكام.
ثم إنه قد ظهر مما ذكرنا: أن الظن في المسائل الأصولية العملية
حجة بالنسبة إلى ما يتولد منه، من الظن بالحكم الفرعي الواقعي أو
الظاهري (3)، وربما منع منه غير واحد من مشايخنا رضوان الله عليهم (4)،
وما استند إليه أو يصح الاستناد إليه للمنع أمران:
أحدهما: أصالة الحرمة وعدم شمول دليل الانسداد، لأن دليل
الانسداد: إما أن يجري في خصوص المسائل الأصولية كما يجري في
خصوص الفروع، وإما أن يقرر دليل الانسداد بالنسبة إلى جميع
الأحكام الشرعية، فيثبت حجية الظن في الجميع ويندرج فيها المسائل
الأصولية، وإما أن يجري في خصوص المسائل الفرعية، فيثبت به اعتبار
الظن في خصوص الفروع، لكن الظن بالمسألة الأصولية يستلزم الظن

(1) في (ر) و (ه‍): " الاطمئنان ".
(2) في (ر)، (ص)، (ه‍) ونسخة بدل (ت): " كالقائل ".
(3) لم ترد في (ظ) و (م): " الواقعي أو الظاهري ".
(4) مثل شريف العلماء والسيد المجاهد كما تقدم، راجع الصفحة 438.
541

بالمسألة الفرعية التي تبتني عليها.
وهذه الوجوه بين ما لا يصح وما لا يجدي.
أما الأول، فهو غير صحيح، لأن المسائل الأصولية التي ينسد
فيها باب العلم ليست في أنفسها من الكثرة بحيث يلزم من إجراء
الأصول فيها محذور كان يلزم من إجراء الأصول في المسائل الفرعية
التي انسد فيها باب العلم، لأن ما كان من المسائل الأصولية يبحث
فيها عن كون شئ حجة - كمسألة حجية الشهرة ونقل الإجماع
وأخبار الآحاد - أو عن كونه مرجحا، فقد انفتح فيها باب العلم
وعلم الحجة منها من غير الحجة والمرجح منها من غيره، بإثبات
حجية الظن في المسائل الفرعية، إذ بإثبات ذلك المطلب حصل الدلالة
العقلية على أن ما كان من الأمارات داخلا (1) في نتيجة دليل الانسداد
فهو حجة.
وقس على ذلك معرفة المرجح، فإنا قد علمنا بدليل الانسداد أن
كلا من المتعارضين إذا (2) اعتضد بما يوجب قوته على غيره من جهة
من الجهات، فهو راجح على صاحبه مقدم عليه في العمل.
وما كان منها يبحث فيها عن الموضوعات الاستنباطية - وهي
ألفاظ الكتاب والسنة من حيث استنباط الأحكام عنهما، كمسائل الأمر
والنهي، وأخواتهما من المطلق والمقيد، والعام والخاص، والمجمل والمبين،
إلى غير ذلك - فقد علم حجية الظن فيها من حيث استلزام الظن بها

(1) في غير (ظ): " داخلة ".
(2) لم ترد " إذا " في (ظ) و (م).
542

الظن بالحكم الفرعي (1) الواقعي، لما عرفت: من أن مقتضى دليل
الانسداد في الفروع حجية الظن الحاصل بها من الأمارة ابتداء، والظن
المتولد من أمارة موجودة في مسألة لفظية.
ويلحق بهما (2): بعض المسائل العقلية، مثل وجوب المقدمة وحرمة
الضد وامتناع اجتماع الأمر والنهي والأمر مع العلم بانتفاء شرطه (3)،
ونحو ذلك مما يستلزم الظن به الظن بالحكم الفرعي، فإنه يكتفى في
حجية الظن فيها بإجراء دليل الانسداد في خصوص الفروع، ولا يحتاج
إلى إجرائه في الأصول.
وبالجملة: فبعض المسائل الأصولية صارت معلومة بدليل الانسداد،
وبعضها صارت حجية الظن فيها معلومة بدليل الانسداد في الفروع،
فالباقي (4) منها - الذي يحتاج (5) إثبات حجية الظن فيها إلى إجراء دليل
الانسداد في خصوص الأصول - ليس في الكثرة بحيث يلزم من العمل
بالأصول وطرح الظن الموجود فيها محذور وإن كانت في أنفسها كثيرة،
مثل المسائل الباحثة عن حجية بعض الأمارات، كخبر الواحد ونقل
الإجماع لا بشرط الظن الشخصي، وكالمسائل الباحثة عن شروط أخبار

(1) في (ص) بدل " الفرعي ": " الشرعي "، وفي (ت) ونسخة بدل (ص):
" الفرعي الكلي ".
(2) في (ت)، (ظ)، (ل) و (ه‍): " بها ".
(3) كذا في (ت) و (ل)، وفي غيرهما: " الشرط ".
(4) في (ر): " والباقي ".
(5) في غير (ظ)، (ل) و (م) زيادة: " في ".
543

الآحاد على مذهب من يراها ظنونا خاصة، والباحثة عن بعض
المرجحات التعبدية، ونحو ذلك، فإن هذه المسائل لا تصير معلومة
بإجراء دليل الانسداد في خصوص الفروع. لكن هذه المسائل بل (1)
وأضعافها ليست في الكثرة بحيث لو رجع مع حصول الظن بأحد
طرفي المسألة إلى الأصول وطرح ذلك الظن لزم محذور كان يلزم في
الفروع.
وأما الثاني، وهو إجراء دليل الانسداد في مطلق الأحكام
الشرعية - فرعية كانت أو أصلية - فهو غير مجد، لأن النتيجة وهو
العمل بالظن لا يثبت عمومه من حيث موارد الظن إلا بالإجماع المركب
أو الترجيح بلا مرجح، بأن يقال: إن العمل بالظن في الطهارات دون
الديات - مثلا - ترجيح بلا مرجح ومخالف للإجماع، وهذان الوجهان
مفقودان في التعميم والتسوية بين المسائل الفرعية والمسائل الأصولية.
أما فقد الإجماع فواضح، لأن المشهور - كما قيل - على عدم
اعتبار الظن في الأصول.
وأما وجود المرجح، فلأن الاهتمام بالمطالب الأصولية أكثر، لابتناء
الفروع عليها، وكلما كانت المسألة مهمة كان الاهتمام فيها أكثر، والتحفظ
عن الخطأ فيها آكد، ولذا يعبرون في مقام المنع عن ذلك بقولهم: إن
إثبات مثل هذا الأصل بهذا مشكل، أو (2) إنه إثبات أصل بخبر، ونحو
ذلك.

(1) لم ترد " بل " في (ظ) و (م).
(2) في (ص): " وأنه ".
544

وأما الثالث، وهو اختصاص مقدمات الانسداد ونتيجتها بالمسائل
الفرعية، إلا أن الظن بالمسألة الفرعية قد يتولد من الظن بالمسألة (1)
الأصولية، فالمسألة الأصولية بمنزلة المسائل اللغوية يعتبر الظن فيها، من
حيث كونه منشأ للظن بالحكم الفرعي، ففيه:
أن الظن بالمسألة الأصولية: إن كان منشأ للظن بالحكم الفرعي
الواقعي - كالباحثة عن الموضوعات المستنبطة، والمسائل العقلية مثل
وجوب المقدمة وامتناع اجتماع الأمر والنهي - فقد اعترفنا بحجية الظن
فيها.
وأما ما لا يتعلق بذلك وتكون باحثة عن أحوال الدليل من
حيث الاعتبار في نفسه أو عند المعارضة - وهي التي منعنا عن حجية
الظن فيها - فليس يتولد من الظن فيها الظن بالحكم الفرعي الواقعي،
وإنما ينشأ منه الظن بالحكم الفرعي الظاهري، وهو مما لم يقتض
انسداد باب العلم بالأحكام الواقعية العمل بالظن فيه، فإن انسداد باب
العلم في حكم العصير العنبي إنما يقتضي العمل بالظن في ذلك الحكم
المنسد، لا في حكم العصير من حيث أخبر عادل بحرمته.
بل أمثال هذه الأحكام الثابتة للموضوعات لا من حيث هي، بل
من حيث قيام الأمارة الغير المفيدة للظن الفعلي عليها: إن ثبت انسداد
باب العلم فيها على وجه يلزم المحذور من الرجوع فيها إلى الأصول
عمل فيها بالظن، وإلا (2) فانسداد باب العلم في الأحكام الواقعية وعدم

(1) في (ر)، (ص) و (ه‍): " في المسألة ".
(2) في (ظ) زيادة: " فلا ".
545

إمكان العمل فيها بالأصول لا يقتضي العمل بالظن في هذه الأحكام،
لأنها لا تغني عن الواقع المنسد فيه العلم.
هذا غاية توضيح ما قرره استاذنا الشريف قدس سره اللطيف (1)،
في منع نهوض دليل الانسداد لإثبات حجية الظن في المسائل الأصولية.
الثاني من دليلي المنع: هو أن الشهرة المحققة والإجماع المنقول
على عدم حجية الظن في مسائل أصول الفقه، وهي مسألة أصولية، فلو
كان الظن فيها حجة وجب الأخذ بالشهرة ونقل الإجماع في هذه
المسألة.
والجواب:
أما عن الوجه الأول: فبأن دليل الانسداد وارد على أصالة
حرمة العمل بالظن، والمختار في الاستدلال به في المقام (2) هو الوجه
الثالث، وهو إجراؤه في الأحكام الفرعية، والظن في المسائل الأصولية
مستلزم للظن في المسألة الفرعية.
وما ذكر: من كون اللازم منه هو الظن بالحكم الفرعي الظاهري
صحيح، إلا أن ما ذكر - من أن انسداد باب العلم في الأحكام الواقعية
وبقاء التكليف بها وعدم جواز الرجوع فيها إلى الأصول، لا يقتضي
إلا اعتبار الظن بالحكم الفرعي الواقعي - ممنوع، بل المقدمات المذكورة
كما عرفت غير مرة، إنما تقتضي اعتبار الظن بسقوط تلك الأحكام

(1) انظر تقريرات درسه في ضوابط الأصول: 266.
(2) في (ت)، (ل) و (ه‍): " للمقام ".
546

الواقعية وفراغ الذمة منها.
فإذا فرضنا مثلا: أنا ظننا بحكم العصير لا واقعا، بل من حيث
قام عليه ما لا يفيد الظن الفعلي بالحكم الواقعي، فهذا الظن يكفي في
الظن بسقوط الحكم الواقعي للعصير.
بل لو فرضنا: أنه لم يحصل ظن بحكم واقعي أصلا، وإنما حصل
الظن بحجية أمور لا تفيد الظن، فإن العمل بها يظن معه سقوط
الأحكام الواقعية عنا، لما تقدم (1): من أنه لا فرق في سقوط الواقع بين
الإتيان بالواقع علما أو ظنا، وبين الإتيان ببدله كذلك، فالظن بالإتيان
بالبدل كالظن بإتيان الواقع، وهذا واضح.
وأما الجواب عن الثاني:
أولا: فبمنع الشهرة والإجماع، نظرا إلى أن المسألة من المستحدثات،
فدعوى الإجماع فيها مساوقة لدعوى الشهرة.
وثانيا: لو سلمنا الشهرة، لكنه لأجل بناء المشهور على الظنون
الخاصة كأخبار الآحاد والإجماع المنقول، وحيث إن المتبع فيها الأدلة
الخاصة، وكانت أدلتها كالإجماع والسيرة على حجية أخبار الآحاد
مختصة بالمسائل الفرعية، بقيت المسائل الأصولية تحت أصالة حرمة
العمل بالظن، ولم يعلم بل ولم يظن من مذهبهم الفرق بين الفروع
والأصول، بناء على مقدمات الانسداد واقتضاء العقل كفاية الخروج
الظني عن عهدة التكاليف الواقعية.
وثالثا: سلمنا قيام الشهرة والإجماع المنقول على عدم الحجية على

(1) راجع الصفحة 437.
547

تقدير الانسداد، لكن المسألة - أعني كون مقتضى الانسداد هو العمل
بالظن مطلقا (1) في الفروع (2) دون الأصول - عقلية (3)، والشهرة ونقل
الإجماع إنما يفيدان الظن في المسائل التوقيفية دون العقلية.
ورابعا: أن حصول الظن بعدم الحجية مع تسليم دلالة دليل
الانسداد على الحجية لا يجتمعان، فتسليم دليل الانسداد يمنع من
حصول الظن.
وخامسا: سلمنا (4) حصول الظن، لكن غاية الأمر دخول المسألة
فيما تقدم، من قيام الظن على عدم حجية ظن (5)، وقد عرفت أن المرجع
فيه إلى متابعة الظن الأقوى، فراجع (6).

(1) لم ترد " مطلقا " في (ظ)، (ل) و (م).
(2) في (ه‍) ونسخة بدل (ص): " أو في خصوص الفروع ".
(3) لم ترد " عقلية " في (ظ) و (ل).
(4) لم ترد عبارة " أن حصول الظن - إلى - سلمنا " في (ظ)، (ل) و (م).
(5) في (ر) و (ص): " الظن ".
(6) راجع الصفحة 536.
548

الأمر الرابع (1)
أن الثابت بمقدمات دليل الانسداد هو الاكتفاء بالظن في الخروج
عن عهدة الأحكام المنسد فيها باب العلم، بمعنى أن المظنون إذا خالف
حكم الله الواقعي لم يعاقب (2) بل يثاب عليه، فالظن بالامتثال إنما يكفي
في مقام تعيين الحكم الشرعي الممتثل.
وأما في مقام تطبيق العمل الخارجي على ذلك المعين، فلا دليل
على الاكتفاء فيه بالظن، مثلا: إذا شككنا في وجوب الجمعة أو الظهر
جاز لنا تعيين الواجب الواقعي بالظن، فلو ظننا وجوب الجمعة
فلا نعاقب على تقدير وجوب الظهر واقعا، لكن لا يلزم من ذلك

(1) في (ظ)، (ل) و (م): " الأمر الخامس ".
هذا، ولكن من المحتمل أن يكون ما صدر عن الشيخ الأعظم (قدس سره) هو:
" الأمر الخامس "، وذلك لأنه (قدس سره) تعرض للبحث عن الظن في المسائل الأصولية
العملية في ذيل الأمر الثالث، من غير أن يعده أمرا مستقلا، فلعله عده - في
نفسه - أمرا رابعا، وكتب هنا: " الأمر الخامس ".
(2) في (ر) زيادة: " عليه ".
549

حجية الظن في مقام العمل على طبق ذلك الظن، فإذا ظننا بعد مضي
مقدار من الوقت بأنا قد أتينا بالجمعة في هذا اليوم، لكن احتمل
نسيانها، فلا يكفي الظن بالامتثال من هذه الجهة، بمعنى أنه إذا لم نأت
بها في الواقع ونسيناها قام الظن بالإتيان مقام العلم به، بل يجب بحكم
الأصل وجوب الاتيان بها. وكذلك لو ظننا بدخول الوقت وأتينا
بالجمعة فلا يقتصر على هذا الظن بمعنى عدم العقاب على تقدير مخالفة
الظن للواقع بإتيان الجمعة قبل الزوال.
وبالجملة: إذا ظن المكلف بالامتثال وبراءة ذمته وسقوط الواقع،
فهذا الظن: إن كان مستندا إلى الظن في تعيين الحكم الشرعي كان
المكلف فيه معذورا مأجورا على تقدير المخالفة للواقع، وإن كان مستندا
إلى الظن بكون الواقع في الخارج منه منطبقا على الحكم الشرعي فليس
معذورا، بل يعاقب على ترك الواقع أو ترك الرجوع إلى القواعد
الظاهرية التي هي المعول لغير العالم.
ومما ذكرنا تبين: أن الظن بالأمور الخارجية عند فقد العلم
بانطباقها على المفاهيم الكلية التي تعلق بها الأحكام الشرعية لا دليل
على اعتباره، وأن دليل الانسداد إنما يعذر الجاهل فيما انسد فيه باب
العلم لفقد الأدلة المنصوبة من الشارع أو إجمال (1) ما وجد منها،
ولا يعذر الجاهل بالامتثال من غير هذه الجهة، فإن المعذور فيه هو
الظن بأن قبلة العراق (2) ما بين المشرق والمغرب، أما الظن بوقوع

(1) في غير (ص): " وإجمال ".
(2) في (ت) و (ص) زيادة: " هو ".
550

الصلاة إليه فلا يعذر فيه.
فظهر: اندفاع توهم أنه إذا بني على الامتثال الظني للأحكام
الواقعية فلا يجدي إحراز العلم بانطباق الخارج على المفهوم، لأن
الامتثال يرجع بالأخرة إلى الامتثال الظني، حيث إن الظان بكون القبلة
ما بين المشرق والمغرب امتثاله للتكاليف الواقعية ظني، علم بما بين
المشرق والمغرب أو ظن.
وحاصله (1): أن حجية الظن في تعيين الحكم بمعنى معذورية
الشخص مع المخالفة لا تستلزم حجيته في الانطباق بمعنى معذوريته لو
لم يكن الخارج منطبقا على ذلك الذي عين، وإلا لكان الإذن في العمل
بالظن في بعض شروط الصلاة أو أجزائها يوجب جوازه في سائرها،
وهو بديهي البطلان.
فعلم: أن قياس الظن بالأمور الخارجية على المسائل الأصولية
واللغوية، واستلزامه الظن بالامتثال قياس مع الفارق، لأن جميع هذه
يرجع إلى شئ واحد هو الظن بتعيين الحكم.
ثم من المعلوم عدم جريان دليل الانسداد في نفس الأمور
الخارجية، لأنها غير منوطة بأدلة وأمارات مضبوطة حتى يدعى طرو
الانسداد فيها في هذا الزمان فيجري دليل الانسداد في أنفسها، لأن
مرجعها ليس إلى الشرع ولا إلى مرجع آخر منضبط.
نعم، قد يوجد في الأمور الخارجية ما لا يبعد إجراء نظير دليل
الانسداد فيه، كما في موضوع الضرر الذي أنيط به أحكام كثيرة من

(1) في (ت)، (ل) و (ه‍): " والحاصل ".
551

جواز التيمم والافطار وغيرهما، فيقال: إن باب العلم بالضرر منسد
غالبا، إذ لا يعلم غالبا إلا بعد تحققه، وإجراء (1) أصالة عدمه في تلك
الموارد يوجب المحذور، وهو الوقوع في الضرر غالبا، فتعين إناطة الحكم
فيه بالظن.
هذا إذا أنيط الحكم بنفس الضرر، وأما إذا أنيط بموضوع الخوف
فلا حاجة إلى ذلك، بل يشمل حينئذ الشك أيضا.
ويمكن أن يجري مثل ذلك في مثل العدالة والنسب وشبههما من
الموضوعات التي يلزم من إجراء الأصول فيها مع عدم العلم الوقوع في
مخالفة الواقع كثيرا، فافهم.

(1) كذا في (ل) و (ه‍)، وفي غيرهما: " فإجراء ".
552

الأمر الخامس (1)
في اعتبار الظن في أصول الدين
والأقوال المستفادة من تتبع كلمات العلماء في هذه المسألة، من
حيث وجوب مطلق المعرفة، أو الحاصلة عن خصوص النظر، وكفاية
الظن مطلقا، أو في الجملة، ستة.
الأول: اعتبار العلم فيها من النظر والاستدلال، وهو المعروف
عن الأكثر (2)، وادعى عليه العلامة - في الباب الحادي عشر من مختصر
المصباح - إجماع العلماء كافة (3). وربما يحكى دعوى الإجماع عن
العضدي (4)، لكن الموجود منه في مسألة عدم جواز التقليد في العقليات

(1) في (ظ)، (ل) و (م): " السادس "، وقد تقدم توجيهه في الصفحة 549.
(2) كالشيخ الطوسي في العدة 2: 730 - 731، والمحقق في المعارج: 199،
والعلامة في نهاية الوصول (مخطوط): 448، والشهيد الأول في الألفية: 38،
والشهيد الثاني في المقاصد العلية: 21، وانظر مناهج الأحكام: 294،
والفصول: 416، والمعالم: 243.
(3) الباب الحادي عشر: 3 - 4.
(4) حكاه عنه الفاضل النراقي في المناهج: 293، والمحقق القمي في القوانين 2:
174.
553

من أصول الدين: دعوى إجماع الأمة على وجوب معرفة الله (1).
الثاني: اعتبار العلم ولو من التقليد، وهو المصرح به في كلام
بعض (2) والمحكي عن آخرين (3).
الثالث: كفاية الظن مطلقا، وهو المحكي عن جماعة، منهم المحقق
الطوسي في بعض الرسائل المنسوبة إليه (4) وحكي نسبته إليه في فصوله (5)
ولم أجده فيه، وعن المحقق الأردبيلي وتلميذه صاحب المدارك وظاهر
شيخنا البهائي والعلامة المجلسي والمحدث الكاشاني وغيرهم (6) قدس الله
أسرارهم (7).
الرابع: كفاية الظن المستفاد من النظر والاستدلال دون التقليد،
حكي عن شيخنا البهائي (قدس سره) في بعض تعليقاته على شرح المختصر: أنه
نسبه إلى بعض (8).

(1) شرح مختصر الأصول: 480.
(2) كالسيد الصدر في شرح الوافية (مخطوط): 480.
(3) حكاه الشهيد الثاني عن جماعة من المحققين منا ومن الجمهور، انظر المقاصد
العلية: 26، وراجع القوانين 2: 173، ومناهج الأحكام: 294.
(4) لم نعثر عليه.
(5) الفصول النصيرية، فارسي في أصول الدين.
(6) لم ترد " وغيرهم " في (ر) و (ص).
(7) حكاه عن أكثرهم المحقق القمي في القوانين 2: 180، والفاضل النراقي في
المناهج: 293، وانظر مجمع الفائدة للمحقق الأردبيلي 2: 183، والزبدة للشيخ
البهائي: 124.
(8) حاشية الشيخ البهائي على شرح مختصر ابن الحاجب (مخطوط)، لا يوجد لدينا.
554

الخامس: كفاية الظن المستفاد من أخبار الآحاد، وهو الظاهر
مما حكاه العلامة (قدس سره) في النهاية عن الأخباريين: من أنهم لم يعولوا
في أصول الدين وفروعه إلا على أخبار الآحاد (1)، وحكاه الشيخ
في عدته في مسألة حجية أخبار الآحاد عن بعض غفلة أصحاب
الحديث (2).
والظاهر: أن مراده حملة الأحاديث، الجامدون على ظواهرها،
المعرضون عما عداها من البراهين العقلية المعارضة لتلك الظواهر.
السادس: كفاية الجزم بل الظن من التقليد، مع كون النظر واجبا
مستقلا لكنه معفو عنه، كما يظهر من عدة الشيخ (قدس سره) في مسألة حجية
أخبار الآحاد وفي أواخر العدة (3).
ثم إن محل الكلام في كلمات هؤلاء الأعلام غير منقح، فالأولى
ذكر الجهات التي يمكن أن يتكلم فيها، وتعقيب كل واحدة منها بما
يقتضيه النظر من حكمها، فنقول - مستعينا بالله -:
إن مسائل أصول الدين، وهي التي لا يطلب فيها أولا وبالذات
إلا الاعتقاد باطنا والتدين ظاهرا وإن ترتب على وجوب ذلك بعض
الآثار العملية، على قسمين:
أحدهما: ما يجب على المكلف الاعتقاد والتدين به غير مشروط
بحصول العلم كالمعارف، فيكون تحصيل العلم من مقدمات الواجب

(1) نهاية الوصول (مخطوط): 296.
(2) العدة 1: 131.
(3) العدة 1: 132، و 2: 731.
555

المطلق، فيجب.
الثاني: ما يجب الاعتقاد والتدين به إذا اتفق حصول العلم به،
كبعض تفاصيل المعارف.
أما الثاني (1)، فحيث كان المفروض عدم وجوب تحصيل (2) المعرفة
العلمية (3) كان الأقوى القول بعدم وجوب العمل فيه بالظن لو فرض
حصوله، ووجوب التوقف فيه، للأخبار الكثيرة الناهية عن القول بغير
علم والآمرة بالتوقف (4)، وأنه: " إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به، وإذا
جاءكم ما لا تعلمون فها. وأهوى بيده إلى فيه " (5).
ولا فرق في ذلك بين أن تكون الأمارة الواردة في تلك المسألة
خبرا صحيحا أو غيره.
قال شيخنا الشهيد الثاني في المقاصد العلية - بعد ذكر أن المعرفة
بتفاصيل البرزخ والمعاد غير لازم -: وأما ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله) في ذلك من
طريق الآحاد فلا يجب التصديق به مطلقا وإن كان طريقه صحيحا،
لأن خبر الواحد ظني، وقد اختلف في جواز العمل به في الأحكام

(1) سيأتي البحث في القسم الأول في الصفحة 569.
(2) في (ظ) و (ل) بدل " عدم وجوب تحصيل ": " عدم حصول ".
(3) لم ترد " العلمية " في (ظ) و (م)، وفي (ت) و (ه‍) زيادة: " فيه ".
(4) راجع الوسائل 18: 111، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، في وجوب
التوقف والاحتياط.
(5) الوسائل 18: 23، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.
556

الشرعية الظنية، فكيف بالأحكام الاعتقادية العلمية (1)، انتهى.
وظاهر الشيخ في العدة: أن عدم جواز التعويل في أصول الدين
على أخبار الآحاد اتفاقي إلا عن بعض غفلة أصحاب الحديث (2).
وظاهر المحكي في السرائر عن السيد المرتضى عدم الخلاف فيه
أصلا (3) (4). وهو مقتضى كلام كل من قال بعدم اعتبار أخبار الآحاد في
أصول الفقه.
لكن يمكن أن يقال: إنه إذا حصل الظن من الخبر:
فإن أرادوا بعدم وجوب التصديق بمقتضى الخبر عدم تصديقه
علما أو ظنا، فعدم حصول الأول كحصول الثاني قهري لا يتصف
بالوجوب وعدمه.
وإن أرادوا (5) التدين به الذي ذكرنا وجوبه في الاعتقاديات وعدم
الاكتفاء فيها بمجرد الاعتقاد - كما يظهر من بعض الأخبار الدالة على أن
فرض اللسان القول والتعبير عما عقد عليه القلب وأقر به، مستشهدا
على ذلك بقوله تعالى: * (قولوا آمنا بالله وما انزل إلينا... إلى آخر
الآية) * (6) - فلا مانع من وجوبه في مورد خبر الواحد، بناء على أن

(1) المقاصد العلية: 25.
(2) العدة 1: 131.
(3) السرائر 1: 50، وانظر رسائل الشريف المرتضى 1: 211.
(4) لم ترد عبارة " وظاهر المحكي - إلى - أصلا " في (م).
(5) في (ر) زيادة: " عدم ".
(6) الوسائل 11: 129، الباب 2 من أبواب جهاد النفس، الحديث 7، والآية
من سورة البقرة: 136.
557

هذا نوع عمل بالخبر، فإن ما دل على وجوب تصديق العادل لا يأبى
الشمول لمثل ذلك.
نعم، لو كان العمل بالخبر لا لأجل الدليل الخاص على وجوب
العمل به، بل من جهة الحاجة إليه - لثبوت التكليف وانسداد باب
العلم - لم يكن وجه للعمل به في مورد لم يثبت التكليف فيه بالواقع كما
هو المفروض، أو يقال: إن عمدة أدلة حجية أخبار الآحاد - وهي
الإجماع العملي - لا تساعد على ذلك.
ومما ذكرنا يظهر الكلام في العمل بظاهر الكتاب والخبر المتواتر
في أصول الدين، فإنه قد لا يأبى دليل حجية الظواهر عن وجوب
التدين بما تدل عليه من المسائل الأصولية التي لم يثبت التكليف
بمعرفتها، لكن ظاهر كلمات كثير عدم العمل بها في ذلك.
ولعل الوجه في ذلك: أن وجوب التدين المذكور إنما هو من آثار
العلم بالمسألة الأصولية لا من آثار نفسها، واعتبار الظن مطلقا (1) أو
الظن الخاص - سواء كان من الظواهر أو غيرها - معناه: ترتيب الآثار
المتفرعة على نفس الأمر المظنون لا على العلم به (2).
وأما ما يتراءى من التمسك بها أحيانا لبعض العقائد، فلاعتضاد
مدلولها بتعدد الظواهر وغيرها من القرائن، وإفادة كل منها الظن،
فيحصل من المجموع القطع بالمسألة، وليس استنادهم في تلك المسألة
إلى مجرد أصالة الحقيقة التي قد لا تفيد الظن بإرادة الظاهر، فضلا

(1) في (ه‍): " الظن المطلق ".
(2) لم ترد عبارة " ولعل - إلى - لا على العلم به " في (ظ)، (ل) و (م).
558

عن العلم.
ثم، إن الفرق بين القسمين المذكورين، وتمييز ما يجب تحصيل
العلم به عما لا يجب في غاية الإشكال.
وقد ذكر العلامة (قدس سره) في الباب الحادي عشر - فيما يجب معرفته
على كل مكلف من تفاصيل التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد - أمورا
لا دليل على وجوبها كذلك، مدعيا أن الجاهل بها عن نظر واستدلال
خارج عن ربقة الإيمان (1) مستحق للعذاب الدائم (2). وهو في غاية
الإشكال.
نعم، يمكن أن يقال: إن مقتضى عموم وجوب المعرفة - مثل قوله
تعالى: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (3) أي ليعرفون، وقوله (صلى الله عليه وآله):
" ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات (4) الخمس " (5)، بناء
على أن الأفضلية من الواجب خصوصا مثل الصلاة تستلزم الوجوب -،
وكذا عمومات وجوب التفقه في الدين (6) الشامل للمعارف، بقرينة

(1) في (ر)، (ص)، (م) ونسخة بدل (ت): " ربقة الإسلام ".
(2) الباب الحادي عشر: 3 - 5.
(3) الذاريات: 56.
(4) في (ر) و (م): " الصلاة ".
(5) انظر الوسائل 3: 25، الباب 10 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث الأول.
والحديث مروي في مصادر الحديث عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وفيه بدل " هذه
الصلوات الخمس ": " هذه الصلاة ".
(6) مثل آية النفر في سورة التوبة: 122، وانظر تفسير القمي 1: 307.
559

استشهاد الإمام (عليه السلام) بها لوجوب النفر لمعرفة الإمام بعد موت الإمام
السابق (عليه السلام)، وعمومات طلب العلم (1)، هو وجوب معرفة الله جل ذكره
ومعرفة النبي (صلى الله عليه وآله) ومعرفة (2) الإمام (عليه السلام) ومعرفة ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله)
على كل قادر يتمكن من تحصيل العلم، فيجب الفحص حتى يحصل
اليأس، فإن حصل العلم بشئ من هذه التفاصيل اعتقد وتدين، وإلا
توقف ولم يتدين بالظن لو حصل له.
ومن هنا قد يقال: إن الاشتغال بالعلم المتكفل لمعرفة الله ومعرفة
أوليائه صلوات الله عليهم أهم من الاشتغال بعلم المسائل العملية، بل
هو المتعين، لأن العمل يصح عن تقليد، فلا يكون الاشتغال بعلمه إلا
كفائيا، بخلاف المعرفة.
هذا، ولكن الإنصاف عمن جانب الاعتساف يقتضي الإذعان
بعدم التمكن من ذلك إلا للأوحدي من الناس، لأن المعرفة المذكورة
لا يحصل إلا بعد تحصيل قوة استنباط المطالب من الأخبار، وقوة
نظرية أخرى، لئلا يأخذ بالأخبار المخالفة للبراهين العقلية، ومثل هذا
الشخص مجتهد في الفروع قطعا، فيحرم عليه التقليد.
ودعوى جوازه له للضرورة، ليس بأولى من دعوى جواز ترك
الاشتغال بالمعرفة التي لا تحصل غالبا بالأعمال المبتنية على التقليد.
هذا إذا لم يتعين عليه الإفتاء والمرافعة لأجل قلة المجتهدين، وأما
في مثل زماننا فالأمر واضح.

(1) انظر الكافي 1: 30، باب فرض العلم ووجوب طلبه.
(2) لم ترد " معرفة " في (ت)، (ل) و (ه‍).
560

فلا تغتر حينئذ بمن قصر استعداده أو همته عن تحصيل مقدمات
استنباط المطالب الاعتقادية الأصولية والعملية عن الأدلة العقلية
والنقلية، فيتركها بغضا لها، لأن الناس أعداء ما جهلوا، ويشتغل بمعرفة
صفات الرب جل ذكره وأوصاف حججه صلوات الله عليهم، ينظر (1) في
الأخبار لا يعرف (2) من ألفاظها الفاعل من المفعول، فضلا عن معرفة
الخاص من العام، وينظر (3) في المطالب العقلية لا يعرف به البديهيات
منها، ويشتغل في خلال ذلك بالتشنيع على حملة الشريعة العملية
والاستهزاء بهم بقصور الفهم وسوء النية، فسيأتيهم أنباء ما كانوا به
يستهزءون.
هذا كله حال وجوب المعرفة مستقلا، وأما اعتبار ذلك في
الإسلام أو الإيمان فلا دليل عليه، بل يدل على خلافه الأخبار الكثيرة
المفسرة لمعنى الإسلام والإيمان.
ففي رواية محمد بن سالم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، المروية في الكافي:
" إن الله عز وجل بعث محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو بمكة عشر سنين، فلم يمت
بمكة في تلك العشر سنين أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أدخله الله الجنة بإقراره، وهو إيمان التصديق (4) "،
فإن الظاهر أن حقيقة الإيمان التي يخرج الإنسان بها عن حد الكفر

(1) في (ر)، (ص)، (ل) و (م): " بنظر ".
(2) في (ت)، (ظ)، (ل) و (ه‍) زيادة " به ".
(3) في (ر)، (ص) و (ل): " بنظر ".
(4) الكافي 2: 29، ضمن الحديث الأول.
561

الموجب للخلود في النار، لم تتغير بعد انتشار الشريعة.
نعم، ظهر في الشريعة أمور صارت ضرورية الثبوت من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
فيعتبر في الإسلام عدم إنكارها، لكن هذا لا يوجب التغيير (1)، فإن
المقصود أنه لم يعتبر في الإيمان أزيد من التوحيد والتصديق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وبكونه رسولا صادقا فيما يبلغ، وليس المراد معرفة تفاصيل ذلك، وإلا
لم يكن من آمن بمكة من أهل الجنة أو كان حقيقة الإيمان بعد انتشار
الشريعة غيرها في صدر الإسلام.
وفي رواية سليم بن قيس، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " إن أدنى
ما يكون به العبد مؤمنا أن يعرفه الله تبارك وتعالى إياه فيقر له
بالطاعة، ويعرفه نبيه فيقر له بالطاعة، ويعرفه إمامه وحجته في أرضه
وشاهده على خلقه فيقر له بالطاعة، فقلت: يا أمير المؤمنين وإن
جهل جميع الأشياء إلا ما وصفت؟ قال: نعم " (2)، وهي صريحة في
المدعى.
وفي رواية أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " جعلت
فداك، أخبرني عن الدين الذي افترضه الله تعالى على العباد، ما
لا يسعهم جهله ولا يقبل منهم غيره، ما هو؟ فقال: أعد علي، فأعاد
عليه، فقال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله)،
وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا،
وصوم شهر رمضان - ثم سكت قليلا، ثم قال -: والولاية، مرتين

(1) في (ر) و (ظ): " التغير ".
(2) كتاب سليم بن قيس: 59، والبحار 69: 16، الحديث 3.
562

- ثم قال -: هذا الذي فرض الله عز وجل على العباد، لا يسأل الرب
العباد يوم القيامة، فيقول: ألا زدتني على ما افترضت عليك، ولكن
من زاد زاده الله، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) سن سنة حسنة ينبغي للناس
الأخذ بها " (1).
ونحوها رواية عيسى بن السري: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):
حدثني عما بنيت عليه دعائم الإسلام، التي إذا أخذت بها زكى عملي
ولم يضرني جهل ما جهلت بعده؟ فقال: شهادة أن لا إله إلا الله،
وأن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والاقرار بما جاء من عند الله، وحق في
الأموال الزكاة، والولاية التي أمر الله بها ولاية آل محمد (صلى الله عليه وآله)، فإن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية،
وقال الله تعالى: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) *، فكان
علي، ثم صار من بعده الحسن، ثم من بعده الحسين، ثم من بعده علي
ابن الحسين، ثم من بعده محمد بن علي، ثم هكذا يكون الأمر، إن
الأرض لا تصلح إلا بإمام... الحديث " (2).
وفي صحيحة أبي اليسع: " قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أخبرني
بدعائم (3) الإسلام التي لا يسع أحدا التقصير عن معرفة شئ منها،
التي من قصر عن معرفة شئ منها فسد عليه دينه ولم يقبل منه عمله،
ومن عرفها وعمل بها صلح دينه وقبل عمله ولم يضق به مما هو فيه

(1) الكافي 2: 22، الحديث 11.
(2) الكافي 2: 21، الحديث 9، والآية من سورة النساء: 59.
(3) كذا في المصدر، وفي (ت)، (ر) و (ص): " عن دعائم ".
563

لجهل شئ من الأمور جهله؟ فقال: شهادة أن لا إله إلا الله،
والإيمان بأن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والإقرار بما جاء به من عند
الله، وحق في الأموال الزكاة، والولاية التي أمر الله عز وجل بها ولاية
آل محمد (صلى الله عليه وآله) " (1).
وفي رواية إسماعيل: " قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الدين الذي
لا يسع العباد جهله، فقال: الدين واسع، وإن الخوارج ضيقوا على
أنفسهم بجهلهم، فقلت: جعلت فداك أما أحدثك بديني الذي أنا عليه؟
فقال: بلى، قلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله،
والإقرار بما جاء به من عند الله، وأتولاكم، وأبرأ من عدوكم ومن
ركب رقابكم وتأمر عليكم وظلمكم حقكم، فقال: ما جهلت شيئا (2)،
هو والله الذي نحن عليه، قلت: فهل سلم أحد لا يعرف هذا الأمر؟
قال: لا، إلا المستضعفين، قلت: من هم؟ قال: نساؤكم وأولادكم،
قال: أرأيت أم أيمن، فإني أشهد أنها من أهل الجنة، وما كانت تعرف
ما أنتم عليه " (3).
فإن في قوله (عليه السلام) " ما جهلت شيئا " دلالة واضحة على عدم
اعتبار الزائد في أصل الدين.
والمستفاد من هذه الأخبار المصرحة بعدم اعتبار معرفة أزيد مما
ذكر فيها في الدين - وهو الظاهر أيضا من جماعة من علمائنا الأخيار،

(1) الكافي 2: 19، الحديث 6.
(2) كذا في المصدر، وفي النسخ زيادة: " فقال ".
(3) الكافي 2: 405، الحديث 6.
564

كالشهيدين في الألفية (1) وشرحها (2)، والمحقق الثاني في الجعفرية (3)،
وشارحها (4)، وغيرهم (5) - هو: أنه يكفي في معرفة الرب التصديق بكونه
موجودا (6) واجب الوجود لذاته، والتصديق بصفاته الثبوتية الراجعة إلى
صفتي العلم والقدرة، ونفي الصفات الراجعة إلى الحاجة والحدوث، وأنه
لا يصدر منه القبيح فعلا أو تركا.
والمراد بمعرفة هذه الأمور: ركوزها (7) في اعتقاد المكلف، بحيث إذا
سألته عن شئ مما ذكر، أجاب بما هو الحق فيه وإن لم يعرف التعبير
عنه بالعبارات المتعارفة على ألسنة الخواص.
ويكفي في معرفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): معرفة شخصه بالنسب المعروف
المختص به، والتصديق بنبوته وصدقه، فلا يعتبر في ذلك الاعتقاد
بعصمته، أعني كونه معصوما بالملكة من أول عمره إلى آخره.
قال في المقاصد العلية: ويمكن اعتبار ذلك، لأن الغرض المقصود
من الرسالة لا يتم إلا به، فينتفي الفائدة التي باعتبارها وجب إرسال
الرسل. وهو ظاهر بعض كتب العقائد المصدرة بأن من جهل ما ذكروه

(1) الألفية والنفلية: 38.
(2) المقاصد العلية: 20 - 21.
(3) الرسالة الجعفرية (رسائل المحقق الكركي) 1: 80.
(4) الفوائد العلية في شرح الجعفرية للفاضل الجواد (مخطوط): 13 - 15.
(5) كأبي المجد الحلبي في إشارة السبق: 14.
(6) في (ت)، (ر)، (ص) و (ه‍) زيادة: " و ".
(7) في (ت) و (ه‍): " ركزها ".
565

فيها فليس مؤمنا مع ذكرهم ذلك. والأول غير بعيد من الصواب (1)،
انتهى.
أقول: والظاهر أن مراده ببعض كتب العقائد هو الباب الحادي
عشر للعلامة (قدس سره) حيث ذكر تلك العبارة، بل ظاهره دعوى إجماع
العلماء عليه (2).
نعم، يمكن أن يقال: إن معرفة ما عدا النبوة واجبة بالاستقلال
على من هو متمكن منه بحسب الاستعداد وعدم الموانع، لما ذكرنا: من
عمومات وجوب التفقه وكون المعرفة أفضل من الصلوات الواجبة، وأن
الجهل بمراتب سفراء الله جل ذكره مع تيسر العلم بها تقصير في حقهم،
وتفريط في حبهم، ونقص يجب بحكم العقل رفعه (3)، بل من أعظم
النقائص.
وقد أومأ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ذلك حيث قال - مشيرا إلى بعض
العلوم الخارجة عن العلوم الشرعية -: " إن ذلك علم لا يضر جهله.
- ثم قال: - إنما العلوم ثلاثة: آية محكمة وفريضة عادلة وسنة قائمة، وما
سواهن فهو فضل (4) " (5).
وقد أشار إلى ذلك رئيس المحدثين في ديباجة الكافي، حيث قسم

(1) المقاصد العلية: 24 - 25.
(2) انظر الباب الحادي عشر: 3 و 5.
(3) في (ت) و (ل): " دفعه ".
(4) كذا في المصدر، وفي النسخ: " فضول ".
(5) الوسائل 12: 245، الباب 105 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.
566

الناس إلى أهل الصحة والسلامة وأهل المرض والزمانة، وذكر وضع
التكليف عن الفرقة الأخيرة (1).
ويكفي في معرفة الأئمة صلوات الله عليهم: معرفتهم بنسبهم
المعروف والتصديق بأنهم أئمة يهدون بالحق ويجب الانقياد إليهم والأخذ
منهم.
وفي وجوب الزائد على ما ذكر من عصمتهم الوجهان.
وقد ورد في بعض الأخبار: تفسير معرفة حق الإمام (عليه السلام) بمعرفة
كونه إماما مفترض الطاعة (2).
ويكفي في التصديق بما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): التصديق بما علم مجيئه
به (3) متواترا، من أحوال المبدأ والمعاد، كالتكليف بالعبادات والسؤال في
القبر وعذابه والمعاد الجسماني والحساب والصراط والميزان والجنة والنار
إجمالا، مع تأمل في اعتبار معرفة ما عدا المعاد الجسماني من هذه
الأمور في الإيمان المقابل للكفر الموجب للخلود في النار، للأخبار
المتقدمة (4) المستفيضة (5)، والسيرة المستمرة، فإنا نعلم بالوجدان جهل كثير
من الناس بها من أول البعثة إلى يومنا هذا.
ويمكن أن يقال: إن المعتبر هو عدم إنكار هذه الأمور وغيرها

(1) انظر الكافي 1: 5.
(2) انظر الوسائل 10: 435، الباب 82 من أبواب المزار، الحديث 10.
(3) لم ترد " به " في (ر).
(4) في الصفحة 562 - 563، ولم ترد " المتقدمة " في (م).
(5) لم ترد " المستفيضة " في (ر)، (ظ) و (ل).
567

من الضروريات، لا وجوب الاعتقاد بها، على ما يظهر من بعض
الأخبار، من أن الشاك إذا لم يكن جاحدا فليس بكافر، ففي رواية
زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا
ولم يجحدوا، لم يكفروا " (1)، ونحوها غيرها (2).
ويؤيدها: ما عن كتاب الغيبة للشيخ (قدس سره) بإسناده عن الصادق (عليه السلام):
" إن جماعة يقال لهم الحقية، وهم الذين يقسمون بحق علي ولا يعرفون
حقه وفضله، وهم يدخلون الجنة " (3).
وبالجملة: فالقول بأنه يكفي في الإيمان الاعتقاد بوجود
الواجب الجامع للكمالات المنزه عن النقائص وبنبوة محمد (صلى الله عليه وآله) وبإمامة
الأئمة (عليهم السلام)، والبراءة من أعدائهم والاعتقاد بالمعاد الجسماني الذي
لا ينفك غالبا عن الاعتقادات السابقة، غير بعيد، بالنظر إلى الأخبار
والسيرة المستمرة.
وأما التدين بسائر الضروريات، ففي اشتراطه، أو كفاية عدم
إنكارها، أو عدم اشتراطه أيضا، فلا يضر إنكارها إلا مع العلم بكونها
من الدين (4)، وجوه أقواها الأخير، ثم الأوسط.

(1) الوسائل 1: 21، الباب 2 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 8.
(2) الوسائل 1: 26، الباب 2 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 19.
(3) الغيبة للشيخ الطوسي: 149، مع اختلاف.
(4) العبارة في (ظ)، (ل) و (م) هكذا: " وأما التدين بسائر الضروريات ففي
اشتراطه أو كفاية عدم إنكارها مع العلم بكونها من الدين أو لا يشترط ذلك "
مع زيادة في (ل)، وهي: " فلا يضر إنكارها إلا مع العلم بكونها من الدين ".
568

وما استقربناه في ما يعتبر في الإيمان وجدته بعد ذلك في كلام
محكي عن المحقق الورع الأردبيلي في شرح الإرشاد (1).
ثم إن الكلام إلى هنا في تمييز القسم الثاني - وهو ما لا يجب
الاعتقاد به إلا بعد حصول العلم به - عن القسم الأول، وهو ما يجب
الاعتقاد به مطلقا فيجب تحصيل مقدماته (2)، أعني الأسباب المحصلة
للاعتقاد، وقد عرفت (3): أن الأقوى عدم جواز العمل بغير العلم في
القسم الثاني.
وأما القسم الأول الذي يجب فيه النظر لتحصيل الاعتقاد،
فالكلام فيه يقع تارة بالنسبة إلى القادر على تحصيل العلم وأخرى
بالنسبة إلى العاجز، فهنا مقامان:
الأول: في القادر
والكلام في جواز عمله بالظن يقع في موضعين:
الأول: في حكمه التكليفي.
والثاني: في حكمه الوضعي من حيث الإيمان وعدمه، فنقول:
أما حكمه التكليفي، فلا ينبغي التأمل في عدم جواز اقتصاره على
العمل بالظن، فمن ظن بنبوة نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أو بإمامة أحد من الأئمة
صلوات الله عليهم فلا يجوز له الاقتصار، فيجب عليه - مع التفطن

(1) انظر مجمع الفائدة والبرهان 3: 220.
(2) كذا في (ت) و (ه‍)، وفي غيرهما: " مقدمته ".
(3) راجع الصفحة 556.
569

لهذه (1) المسألة - زيادة النظر، ويجب على العلماء أمره بزيادة النظر
ليحصل له العلم إن لم يخافوا عليه الوقوع في خلاف الحق، لأنه حينئذ
يدخل في قسم العاجز عن تحصيل العلم بالحق، فإن بقاءه على الظن
بالحق أولى من رجوعه إلى الشك أو الظن بالباطل، فضلا عن العلم
به.
والدليل على ما ذكرنا: جميع الآيات والأخبار الدالة على وجوب
الإيمان والعلم والتفقه والمعرفة والتصديق والإقرار والشهادة والتدين
وعدم الرخصة في الجهل والشك ومتابعة الظن، وهي أكثر من أن
تحصى.
وأما الموضع الثاني: فالأقوى فيه - بل المتعين (2) - الحكم بعدم
الإيمان، للأخبار المفسرة للإيمان بالإقرار والشهادة والتدين والمعرفة
وغير ذلك من العبائر الظاهرة في العلم (3).
وهل هو كافر مع ظنه بالحق؟ فيه وجهان:
من إطلاق ما دل على أن الشاك وغير المؤمن كافر (4)، وظاهر ما
دل من الكتاب والسنة على حصر المكلف في المؤمن والكافر (5).

(1) في (ر)، (ص)، (ظ) و (م): " بهذه ".
(2) في (ت) و (ل) ونسخة بدل (ه‍): " المتيقن ".
(3) راجع الكافي 2: 18، الحديث 1، 6، 9، 10، 11، 13 و 14، والصفحة
27، الحديث الأول.
(4) الوسائل 18: 561، الباب 10 من أبواب حد المرتد، الحديث 22، 52، 53
و 56.
(5) انظر سورة التغابن: 2، والكافي 2: 2، باب طينة المؤمن والكافر.
570

ومن تقييد كفر الشاك في غير واحد من الأخبار بالجحود (1)،
فلا يشمل ما نحن فيه، ودلالة الأخبار المستفيضة على ثبوت الواسطة
بين الكفر والإيمان، وقد أطلق عليه في الأخبار الضلال (2).
لكن أكثر الأخبار الدالة على الواسطة مختصة بالإيمان بالمعنى
الأخص، فيدل على أن من المسلمين من ليس بمؤمن ولا كافر، لا على
ثبوت الواسطة بين الإسلام والكفر، نعم بعضها (3) قد يظهر منه ذلك.
وحينئذ: فالشاك في شئ مما يعتبر في الإيمان بالمعنى الأخص
ليس بمؤمن ولا كافر، فلا يجري عليه أحكام الإيمان.
وأما الشاك في شئ مما يعتبر في الإسلام بالمعنى الأعم كالنبوة
والمعاد، فإن اكتفينا في الإسلام بظاهر الشهادتين وعدم الإنكار ظاهرا
وإن لم يعتقد باطنا فهو مسلم. وإن اعتبرنا في الإسلام الشهادتين مع
احتمال الاعتقاد على طبقهما - حتى يكون الشهادتان أمارة على الاعتقاد
الباطني - فلا إشكال في عدم إسلام الشاك لو علم منه الشك،
فلا يجري عليه أحكام المسلمين: من جواز المناكحة والتوارث
وغيرهما.
وهل يحكم بكفره ونجاسته حينئذ؟

(1) انظر الوسائل 18: 568، الباب 10 من أبواب حد المرتد، الحديث 50.
و 1: 21، الباب 2 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 8.
(2) الوسائل 18: 566، الباب 10 من أبواب حد المرتد، الحديث 43، 48
و 49.
(3) الكافي 2: 403، باب الضلال من كتاب الإيمان والكفر، الحديث 2.
571

فيه إشكال: من تقييد كفر الشاك في غير واحد من الأخبار
بالجحود.
هذا كله في الظان بالحق، أما الظان بالباطل فالظاهر كفره.
بقي الكلام في أنه إذا لم يكتف بالظن وحصل الجزم من تقليد،
فهل يكفي ذلك أو لا بد من النظر والاستدلال؟
ظاهر الأكثر: الثاني، بل ادعى عليه العلامة (قدس سره) - في الباب
الحادي عشر - الإجماع، حيث قال: " أجمع العلماء على وجوب معرفة
الله وصفاته الثبوتية وما يصح عليه وما يمتنع عنه والنبوة والإمامة
والمعاد بالدليل لا بالتقليد " (1). فإن صريحه أن المعرفة بالتقليد غير
كافية. وأصرح منها (2) عبارة المحقق في المعارج، حيث استدل على
بطلان التقليد بأنه جزم في غير محله (3). ومثلهما عبارة الشهيد الأول (4)
والمحقق الثاني (5) (6).
لكن مقتضى استدلال العضدي (7) على منع التقليد بالإجماع على

(1) الباب الحادي عشر: 3 - 4.
(2) في غير (ظ) و (م): " منهما ".
(3) المعارج: 199.
(4) القواعد والفوائد 1: 319، القاعدة 112.
(5) الرسالة الجعفرية (رسائل المحقق الكركي) 1: 80.
(6) وردت عبارة " ومثلهما - إلى - الثاني " في (ت)، (ر) و (ه‍) قبل قوله:
" وأصرح... "، وورد في غير (ظ) و (م) بدل " ومثلهما ": " ومثلها ".
(7) انظر شرح مختصر الأصول: 480.
572

وجوب معرفة الله وأنها لا تحصل بالتقليد، هو: أن الكلام في التقليد
الغير المفيد للمعرفة. وهو الذي يقتضيه أيضا ما ذكره شيخنا في العدة
- كما سيجئ كلامه (1) - وكلام الشهيد في القواعد: من عدم جواز التقليد
في العقليات، ولا في الأصول الضرورية من السمعيات، ولا في غيرها
مما لا يتعلق به عمل ويكون المطلوب فيها العلم، كالتفاضل بين
الأنبياء السابقة (2). ويقتضيه (3) أيضا: ظاهر ما عن شيخنا البهائي (قدس سره) في
حاشية الزبدة: من أن النزاع في جواز التقليد وعدمه يرجع إلى النزاع
في كفاية الظن وعدمها (4).
ويؤيده أيضا (5): اقتران التقليد في الأصول في كلماتهم بالتقليد في
الفروع، حيث يذكرون في أركان الفتوى أن المستفتى فيه هي الفروع
دون الأصول.
لكن الظاهر: عدم المقابلة التامة بين التقليدين، إذ لا يعتبر في
التقليد في الفروع حصول الظن، فيعمل المقلد مع كونه شاكا، وهذا
غير معقول في أصول الدين التي يطلب فيها الاعتقاد حتى يجري
فيه الخلاف.
وكذا ليس المراد من كفاية التقليد هنا كفايته عن الواقع، مخالفا

(1) انظر الصفحة 581.
(2) القواعد والفوائد 1: 319، القاعدة 112.
(3) في (ت)، (ر)، (ص) و (ه‍): " ويعضده ".
(4) الزبدة: 120.
(5) لم ترد " أيضا " في (ر).
573

كان في الواقع أو موافقا كما في الفروع، بل المراد كفاية التقليد في الحق
وسقوط النظر به عنه، إلا أن يكتفي فيها بمجرد التدين ظاهرا وإن
لم يعتقد، لكنه بعيد.
ثم إن ظاهر كلام الحاجبي والعضدي اختصاص الخلاف بالمسائل
العقلية، وهو في محله، بناء على ما استظهرنا منهم من عدم حصول
الجزم من التقليد، لأن الذي لا يفيد الجزم من التقليد إنما هو في
العقليات المبتنية (1) على الاستدلالات العقلية، وأما النقليات فالاعتماد فيها
على قول المقلد - بالفتح - كالاعتماد على قول المخبر الذي قد يفيد الجزم
بصدقه بواسطة القرائن، وفي الحقيقة يخرج هذا عن التقليد.
وكيف كان: فالأقوى كفاية الجزم الحاصل من التقليد، لعدم
الدليل على اعتبار الزائد على المعرفة والتصديق والاعتقاد، وتقييدها
بطريق خاص لا دليل عليه.
مع أن الإنصاف: أن النظر والاستدلال بالبراهين العقلية للشخص
المتفطن لوجوب النظر في الأصول لا يفيد بنفسه الجزم، لكثرة الشبه
الحادثة في النفس والمدونة في الكتب، حتى أنهم ذكروا شبها يصعب
الجواب عنها للمحققين الصارفين لأعمارهم في فن الكلام، فكيف حال
المشتغل به مقدارا من الزمان لأجل تصحيح عقائده، ليشتغل بعد ذلك
بأمور معاشه ومعاده، خصوصا والشيطان يغتنم الفرصة لإلقاء الشبهات
والتشكيك في البديهيات، وقد شاهدنا جماعة (2) صرفوا أعمارهم

(1) في (ر) و (ظ): " المبنية ".
(2) في (ت)، (ص)، (ل) و (ه‍) زيادة: " قد ".
574

ولم يحصلوا منها (1) شيئا (2) إلا القليل.
المقام الثاني: في غير المتمكن من العلم
والكلام فيه: تارة في تحقق موضوعه في الخارج.
وأخرى في أنه يجب عليه مع اليأس من العلم تحصيل الظن أم
لا؟
وثالثة في حكمه الوضعي قبل الظن وبعده.
أما الأول، فقد يقال فيه بعدم وجود العاجز، نظرا إلى العمومات
الدالة على حصر الناس في المؤمن والكافر (3)، مع ما دل على خلود
الكافرين بأجمعهم في النار (4)، بضميمة حكم العقل بقبح عقاب الجاهل
القاصر، فيكشف (5) ذلك عن تقصير كل غير مؤمن، وأن من نراه
قاصرا عاجزا عن العلم قد يمكن عليه تحصيل (6) العلم بالحق ولو في
زمان ما وإن كان (7) عاجزا قبل ذلك أو (8) بعده، والعقل لا يقبح عقاب
مثل هذا الشخص، ولهذا ادعى غير واحد - في مسألة التخطئة

(1) في (ت) و (ل): " منه ".
(2) في (ظ) و (م) زيادة: " نعم ".
(3) التغابن: 2.
(4) البينة: 6.
(5) كذا في (ت) ونسخة بدل (ه‍)، وفي غيرهما: " فينتج ".
(6) في (ت): " قد تمكن من تحصيل "، وفي (ل) و (ه‍): " تمكن عليه ".
(7) في غير (ل): " صار ".
(8) في (ت): " و ".
575

والتصويب - الإجماع على أن المخطئ في العقائد غير معذور (1).
لكن الذي يقتضيه الإنصاف: شهادة الوجدان بقصور بعض
المكلفين، وقد تقدم عن الكليني ما يشير إلى ذلك (2)، وسيجئ عن
الشيخ (قدس سره) في العدة (3): من كون العاجز (4) عن التحصيل بمنزلة البهائم.
هذا (5)، مع ورود الأخبار المستفيضة بثبوت الواسطة بين المؤمن
والكافر (6)، وقضية مناظرة زرارة وغيره مع الإمام (عليه السلام) في ذلك
مذكورة في الكافي (7). ومورد الإجماع على أن المخطئ آثم هو المجتهد
الباذل جهده بزعمه، فلا ينافي كون الغافل والملتفت العاجز عن بذل
الجهد معذورا غير آثم.
وأما الثاني، فالظاهر فيه عدم وجوب تحصيل الظن (8)، لأن
المفروض عجزه عن الإيمان والتصديق المأمور به، ولا دليل آخر على
عدم جواز التوقف، وليس المقام من قبيل الفروع في وجوب العمل
بالظن مع تعذر العلم، لأن المقصود فيها العمل، ولا معنى للتوقف فيه،

(1) كالشيخ الطوسي في العدة 2: 723، وصاحب المعالم في المعالم: 241.
(2) راجع الصفحة 567.
(3) انظر الصفحة 582.
(4) في (ت) و (ل): " القاصر ".
(5) لم ترد " هذا " في (ظ) و (م).
(6) الوسائل 18: 566، الباب 10 من أبواب حد المرتد، الحديث 43، 48
و 49.
(7) الكافي 2: 403، الحديث 2.
(8) في (ت) و (ه‍) زيادة: " عليه ".
576

فلا بد عند انسداد باب العلم من العمل على طبق أصل أو ظن.
والمقصود فيما نحن فيه الاعتقاد، فإذا عجز عنه فلا دليل على وجوب
تحصيل الظن الذي لا يغني عن الحق شيئا (1)، فيندرج في عموم
قولهم (عليهم السلام): " إذا جاءكم ما لا تعلمون فها " (2).
نعم، لو رجع الجاهل بحكم هذه المسألة إلى العالم، ورأى العالم
منه التمكن من تحصيل الظن بالحق ولم يخف عليه إفضاء نظره الظني إلى
الباطل، فلا يبعد وجوب إلزامه بالتحصيل، لأن انكشاف الحق - ولو
ظنا - أولى من البقاء على الشك فيه.
وأما الثالث، فإن لم يقر في الظاهر بما هو مناط الإسلام فالظاهر
كفره.
وإن أقر به مع العلم بأنه شاك باطنا فالظاهر عدم إسلامه، بناء
على أن الإقرار الظاهري مشروط باحتمال اعتقاده لما يقر به.
وفي جريان حكم الكفر عليه حينئذ إشكال:
من إطلاق بعض الأخبار بكفر الشاك (3).
ومن تقييده في غير واحد من الأخبار بالجحود، مثل: رواية
محمد بن مسلم، قال: " سأل أبو بصير أبا عبد الله (عليه السلام)، قال: ما تقول
في من شك في الله؟ قال: كافر، يا أبا محمد. قال: فشك في رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟
قال: كافر. ثم التفت إلى زرارة، فقال: إنما يكفر إذا جحد " (4)، وفي

(1) لم ترد " شيئا " في (ظ) و (م).
(2) الوسائل 18: 23، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.
(3) راجع الصفحة 571، الهامش (1).
(4) الوسائل 18: 569، الباب 10 من أبواب حد المرتد، الحديث 56.
577

رواية أخرى: " لو أن الناس إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا " (1).
ثم إن جحود الشاك، يحتمل أن يراد به إظهار عدم الثبوت
وإنكار التدين به، لأجل عدم الثبوت، ويحتمل أن يراد به الإنكار
الصوري على سبيل الجزم، وعلى التقديرين فظاهرها: أن المقر ظاهرا
الشاك باطنا الغير المظهر لشكه، غير كافر.
ويؤيد هذا: رواية زرارة - الواردة في تفسير قوله تعالى:
* (وآخرون مرجون لأمر الله) * - عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " قوم كانوا
مشركين فقتلوا مثل حمزة وجعفر وأشباههما من المؤمنين، ثم إنهم دخلوا
في الإسلام فوحدوا الله وتركوا الشرك، ولم يعرفوا الإيمان بقلوبهم
فيكونوا مؤمنين فتجب (2) لهم الجنة، ولم يكونوا على جحودهم فيكفروا
فتجب (3) لهم النار، فهم على تلك الحالة إما يعذبهم وإما يتوب
عليهم " (4)، وقريب منها غيرها (5).
ولنختم الكلام بذكر كلام السيد الصدر الشارح للوافية، في أقسام
المقلد في أصول الدين بناء على القول بجواز التقليد، وأقسامه بناء على
عدم جوازه، قال:
إن أقسام المقلد - على القول بجواز التقليد - ستة، لأنه: إما أن
يكون مقلدا في مسألة حقة أو في باطلة، وعلى التقديرين: إما أن

(1) الوسائل 1: 21، الباب 2 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 8.
(2) و (3) كذا في المصدر، وفي النسخ: " فيجب ".
(4) الكافي 2: 407، الحديث الأول، والآية من سورة التوبة: 106.
(5) الكافي 2: 407، الحديث 2.
578

يكون جازما بها أو ظانا، وعلى تقديري التقليد في الباطل: إما أن
يكون إصراره على التقليد مبتنيا على عناد وتعصب، بأن حصل له
طريق علم إلى الحق فما سلكه، وإما لا، فهذه أقسام ستة.
فالأول: وهو من قلد في مسألة حقة جازما بها - مثلا: قلد في
وجود الصانع وصفاته وعدله - فهذا مؤمن، واستدل عليه بما تقدم
حاصله: من أن التصديق معتبر من أي طريق حصل - إلى أن قال: -
الثاني: من قلد في مسألة حقة ظانا بها من دون جزم، فالظاهر
إجراء حكم المسلم عليه في الظاهر إذا أقر (1)، إذ ليس حاله بأدون من
حال المنافق، سيما إذا كان طالبا للجزم مشغولا بتحصيله فمات قبل
ذلك.
أقول: هذا مبني على أن الإسلام مجرد الإقرار الصوري وإن
لم يحتمل مطابقته للاعتقاد. وفيه: ما عرفت من الإشكال وإن دل عليه
غير واحد من الأخبار.
الثالث: من قلد في باطل - مثل إنكار الصانع أو شئ مما يعتبر
في الإيمان - وجزم به من غير ظهور حق ولا عناد.
الرابع: من قلد في باطل وظن به كذلك.
والظاهر في هذين إلحاقهما بمن يقام عليه الحجة يوم القيامة، وأما
في الدنيا فيحكم عليهما بالكفر إن اعتقدا ما يوجبه، وبالإسلام إن
لم يكونا كذلك. فالأول كمن أنكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مثلا، والثاني كمن أنكر
إماما.

(1) في (ت) و (ه‍) زيادة: " باللسان ".
579

الخامس: من قلد في باطل جازما مع العناد.
السادس: من قلد في باطل ظانا كذلك.
وهذان يحكم بكفرهما مع ظهور الحق والإصرار.
ثم ذكر أقسام المقلد على القول بعدم جواز التقليد، قال:
إنه إما أن يكون مقلدا في حق أو في باطل، وعلى التقديرين:
مع الجزم أو الظن، وعلى تقديري التقليد في الباطل: بلا عناد أو به،
وعلى التقادير كلها: دل عقله على الوجوب أو بين له غيره، وعلى
تقدير الدلالة: أصر على التقليد أو رجع ولم يحصل له كمال الاستدلال
بعد أو لا.
فهذه أقسام أربعة عشر.
الأول: التقليد في الحق جازما مع العلم بوجوب النظر والإصرار،
فهذا مؤمن فاسق، لإصراره على ترك الواجب.
الثاني: هذه الصورة مع ترك الإصرار والرجوع، فهذا مؤمن غير
فاسق.
الثالث: المقلد في الحق الظان مع الإصرار، والظاهر أنه مؤمن
مرجى في الآخرة، وفاسق، للإصرار.
الرابع: هذه الصورة مع عدم الإصرار، فهذا مسلم ظاهرا غير
فاسق.
الخامس والسادس: المقلد في الحق جازما أو ظانا مع عدم العلم
بوجوب الرجوع، فهذان كالسابق بلا فسق.
أقول: الحكم بإيمان هؤلاء لا يجامع فرض القول بعدم جواز
التقليد، إلا أن يريد بهذا القول قول الشيخ (قدس سره): من وجوب النظر
580

مستقلا، لكن ظاهره إرادة قول المشهور، فالأولى الحكم بعدم إيمانهم
على المشهور، كما يقتضيه إطلاق معقد إجماع العلامة في أول الباب
الحادي عشر، لأن الإيمان عندهم المعرفة الحاصلة عن الدليل لا التقليد.
ثم قال:
السابع: المقلد في الباطل جازما معاندا مع العلم بوجوب النظر
والاصرار عليه، فهذا أشد الكافرين.
الثامن: هذه الصورة من غير عناد ولا إصرار، فهذا أيضا كافر.
ثم ذكر الباقي وقال: إن حكمها يظهر مما سبق (1).
أقول: مقتضى هذا القول الحكم بكفرهم، لأنهم أولى به من
السابقين.
بقي الكلام في ما نسب إلى الشيخ في العدة: من القول بوجوب
النظر مستقلا مع العفو، فلا بد من نقل عبارة العدة، فنقول:
قال في باب التقليد - بعدما ذكر استمرار السيرة على التقليد
في الفروع، والكلام في عدم جواز التقليد في الأصول، مستدلا بأنه
لا خلاف في أنه يجب على العامي معرفة الصلاة وأعدادها -: وإذا كان
لا يتم ذلك إلا بعد معرفة الله ومعرفة عدله ومعرفة النبوة، وجب أن
لا يصح التقليد في ذلك.
ثم اعترض:
بأن السيرة كما جرت له على تقرير المقلدين في الفروع كذلك
جرت على تقرير المقلدين في الأصول وعدم الإنكار عليهم.

(1) شرح الوافية (مخطوط): 482 - 484.
581

فأجاب: بأن على بطلان التقليد في الأصول أدلة عقلية وشرعية
من كتاب وسنة وغير ذلك، وهذا كاف في النكير.
ثم قال:
على أن المقلد للحق في أصول الديانات وإن كان مخطئا في تقليده
غير مؤاخذ به وأنه معفو عنه، وإنما قلنا ذلك لمثل هذه الطريقة التي
قدمناها، لأني لم أجد أحدا من الطائفة ولا من الأئمة (عليهم السلام) قطع
موالاة من يسمع قولهم واعتقد مثل اعتقادهم وإن لم يستند ذلك إلى
حجة من عقل أو شرع.
ثم اعترض على ذلك: بأن ذلك لا يجوز، لأنه يؤدي إلى الإغراء
بما لا يأمن أن يكون جهلا.
وأجاب: بمنع ذلك، لأن هذا المقلد لا يمكنه أن يعلم سقوط
العقاب عنه فيستديم الاعتقاد، لأنه إنما يمكنه معرفة ذلك إذا عرف
الأصول، وقد فرضنا أنه مقلد في ذلك كله، فكيف يكون إسقاط
العقاب مغريا؟ وإنما يعلم ذلك غيره من العلماء الذين حصل لهم العلم
بالأصول وسبروا أحوالهم، وأن العلماء لم يقطعوا موالاتهم ولا أنكروا
عليهم، ولا يسوغ ذلك لهم إلا بعد العلم بسقوط العقاب عنهم، وذلك
يخرجه من باب الإغراء، وهذا القدر كاف في هذا الباب إن شاء الله.
وأقوى مما ذكرنا: أنه لا يجوز التقليد في الأصول إذا كان
للمقلد طريق إلى العلم به، إما على جملة أو تفصيل، ومن ليس له
قدرة على ذلك أصلا فليس بمكلف، وهو بمنزلة البهائم التي ليست
مكلفة بحال (1)، انتهى.

(1) العدة 2: 731 - 732.
582

وذكر عند الاحتجاج على حجية أخبار الآحاد ما هو قريب من
ذلك، قال:
وأما ما يرويه قوم من المقلدة، فالصحيح الذي أعتقده أن المقلد
للحق وإن كان مخطئا معفو عنه، ولا أحكم فيه بحكم الفساق، فلا يلزم
على هذا ترك ما نقلوه (1)، انتهى.
أقول: ظاهر كلامه (قدس سره) في الاستدلال على منع التقليد بتوقف
معرفة الصلاة وأعدادها على معرفة أصول الدين: أن الكلام في المقلد
الغير الجازم، وحينئذ فلا دليل على العفو.
وما ذكره: من عدم قطع العلماء والأئمة موالاتهم مع المقلدين
- بعد تسليمه والغض عن إمكان كون ذلك من باب الحمل على الجزم
بعقائدهم، لعدم العلم بأحوالهم - لا يدل على العفو، وإنما يدل على
كفاية التقليد.
وإمساك النكير عليهم في ترك النظر والاستدلال إذا لم يدل على
عدم وجوبه عليهم - لما اعترف به قبل ذلك من كفاية النكير المستفاد
من الأدلة الواضحة على بطلان التقليد في الأصول - لم يدل على العفو
عن هذا الواجب المستفاد من الأدلة، فلا دليل على العفو عن هذا
الواجب المعلوم وجوبه.
والتحقيق: أن إمساك النكير لو ثبت ولم يحتمل كونه لحمل أمرهم
على الصحة وعلمهم بالأصول، دليل على عدم الوجوب، لأن وجود
الأدلة لا يكفي في إمساك النكير من باب الأمر بالمعروف والنهي عن

(1) العدة 1: 132.
583

المنكر وإن كفى فيه من حيث الإرشاد والدلالة على الحكم الشرعي،
لكن الكلام في ثبوت التقرير وعدم احتمال كونه لاحتمال العلم في حق
المقلدين.
فالإنصاف: أن المقلد الغير الجازم المتفطن لوجوب النظر عليه
فاسق مؤاخذ على تركه للمعرفة الجزمية بعقائده، بل قد عرفت احتمال
كفره، لعموم أدلة كفر الشاك.
وأما الغير المتفطن لوجوب النظر لغفلته أو العاجز عن تحصيل
الجزم فهو معذور في الآخرة. وفي جريان حكم الكفر احتمال تقدم.
وأما الجازم فلا يجب عليه النظر والاستدلال وإن علم من
عمومات (1) الآيات والأخبار وجوب النظر والاستدلال، لأن وجوب
ذلك توصلي لأجل حصول المعرفة، فإذا حصلت سقط وجوب تحصيلها
بالنظر، اللهم إلا أن يفهم هذا الشخص منها كون النظر والاستدلال
واجبا تعبديا مستقلا أو شرطا شرعيا للإيمان، لكن الظاهر خلاف ذلك،
فإن الظاهر كون ذلك من المقدمات العقلية.

(1) في (ر)، (ص)، (ظ) و (م): " عموم ".
584

الأمر السادس (1)
إذا بنينا على عدم حجية ظن أو على عدم حجية الظن المطلق،
فهل يترتب عليه آثار اخر غير الحجية بالاستقلال، مثل كونه جابرا
لضعف سند أو قصور دلالة، أو كونه موهنا لحجة أخرى، أو كونه
مرجحا لأحد المتعارضين على الآخر؟
ومجمل القول في ذلك: أنه كما يكون الأصل في الظن عدم
الحجية، كذلك الأصل فيه عدم ترتب الآثار المذكورة: من الجبر،
والوهن، والترجيح.
وأما تفصيل الكلام في ذلك فيقع في مقامات ثلاثة:

(1) في (ظ) و (م): " السابع ".
585

الأول: الجبر بالظن الغير المعتبر
فنقول: عدم اعتباره: إما أن يكون من جهة ورود النهي عنه
بالخصوص كالقياس ونحوه، وإما من جهة دخوله تحت عموم أصالة
حرمة العمل بالظن.
أما الأول، فلا ينبغي التأمل في عدم كونه مفيدا للجبر، لعموم ما
دل على عدم جواز الاعتناء به واستعماله في الدين.
وأما الثاني، فالأصل فيه وإن كان ذلك، إلا أن الظاهر أنه إذا
كان المجبور محتاجا إليه من جهة إفادته للظن بالصدور (1) - كالخبر إذا
قلنا بكونه حجة بالخصوص بوصف (2) كونه مظنون الصدور، فأفاد تلك
الأمارة الغير المعتبرة الظن بصدور ذلك الخبر - انجبر قصور سنده به.
إلا أن يدعى: أن الظاهر اشتراط حجية ذلك الخبر بإفادته للظن
بالصدور، لا مجرد كونه مظنون الصدور ولو حصل الظن بصدوره من
غير سنده.
وبالجملة: فالمتبع هو ما يفهم من دليل حجية المجبور، ومن هنا
لا ينبغي التأمل في عدم انجبار قصور الدلالة بالظن المطلق، لأن المعتبر
في باب الدلالات هو ظهور الألفاظ نوعا في مدلولاتها، لا مجرد الظن
بمطابقة مدلولاتها (3) للواقع ولو من الخارج.

(1) كذا في مصححة (ت)، ولم ترد " بالصدور " في (ه‍)، وفي غيرهما: " بمضمونه ".
(2) في غير (ت) و (ه‍): " لوصف ".
(3) في غير (ص): " مدلولها ".
586

فالكلام إن كان ظاهرا في معنى بنفسه أو بالقرائن الداخلة فهو،
وإلا - بأن كان مجملا أو كان دلالته في الأصل ضعيفة كدلالة الكلام
بمفهومه الوصفي - فلا يجدي الظن بمراد الشارع من أمارة خارجية غير
معتبرة بالفرض، إذ التعويل حينئذ على ذلك الظن من غير مدخلية
للكلام.
بل ربما لا تكون تلك الأمارة موجبة للظن بمراد الشارع من هذا
الكلام، غايته إفادة الظن بالحكم الفرعي، ولا ملازمة بينه وبين الظن
بإرادته من اللفظ، فقد لا يريده بذلك اللفظ. نعم، قد يعلم من الخارج
كون المراد هو الحكم الواقعي، فالظن به يستلزم الظن بالمراد، لكن هذا
من باب الاتفاق.
ومما ذكرنا يظهر (1): أن (2) ما اشتهر - من أن ضعف الدلالة منجبر
بعمل الأصحاب - غير معلوم المستند، بل وكذلك دعوى انجبار قصور
الدلالة بفهم الأصحاب لم يعلم لها بينة.
والفرق: أن فهم الأصحاب وتمسكهم به كاشف ظني عن قرينة
على المراد، بخلاف عمل الأصحاب، فإن غايته الكشف عن الحكم
الواقعي الذي قد عرفت أنه لا يستلزم كونه مرادا من ذلك اللفظ، كما
عرفت.
بقي الكلام في مستند المشهور، في كون الشهرة في الفتوى جابرة
لضعف سند الخبر:

(1) في (ت) و (ه‍): " ظهر ".
(2) في (ظ)، (م) ونسخة بدل كل من (ت) و (ص) بدل " أن ": " ضعف ".
587

فإنه إن كان من جهة إفادتها الظن بصدق الخبر، ففيه - مع أنه
قد لا يوجب الظن بصدور ذلك الخبر، نعم يوجب الظن بصدور حكم
عن الشارع مطابق لمضمون الخبر -: أن جلهم لا يقولون بحجية الخبر
المظنون الصدور مطلقا، فإن المحكي عن المشهور اعتبار الإيمان في
الراوي (1)، مع أنه لا يرتاب في إفادة الموثق للظن.
فإن قيل: إن ذلك لخروج خبر غير الإمامي بالدليل الخاص،
مثل منطوق آية النبأ (2)، ومثل قوله (عليه السلام): " لا تأخذن معالم دينك من
غير شيعتنا " (3).
قلنا: إن كان ما خرج بحكم الآية والرواية مختصا بما لا يفيد
الظن فلا يشمل الموثق، وإن كان عاما لما ظن بصدوره كان خبر غير
الإمامي المنجبر بالشهرة والموثق متساويين في الدخول تحت الدليل
المخرج. ومثل الموثق خبر الفاسق المتحرز عن الكذب والخبر المعتضد
بالأولوية والاستقراء وسائر الأمارات الظنية، مع أن المشهور لا يقولون
بذلك.
وإن كان لقيام دليل خاص عليه، ففيه: المنع من وجود هذا
الدليل (4).

(1) حكاه في المعالم: 200، وغاية المأمول (مخطوط): الورقة 110، وانظر مفاتيح
الأصول: 362.
(2) الحجرات: 6.
(3) الوسائل 18: 109، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 42.
(4) لم ترد عبارة " وإن كان لقيام - إلى - الدليل " في (ظ) و (م).
588

وبالجملة: فالفرق بين الضعيف المنجبر بالشهرة والمنجبر بغيرها
من الأمارات وبين الخبر الموثق المفيد لمثل الظن الحاصل من الضعيف
المنجبر، في غاية الإشكال، خصوصا مع عدم العلم باستناد المشهور إلى
تلك الرواية. وإليه أشار شيخنا في موضع من المسالك بأن جبر الضعف
بالشهرة ضعيف مجبور بالشهرة (1).
وربما يدعى كون الخبر الضعيف المنجبر من الظنون الخاصة، حيث
ادعي الإجماع على حجيته (2)، ولم يثبت.
وأشكل من ذلك: دعوى دلالة منطوق آية النبأ عليه، بناء على
أن التبين يعم الظني (3) الحاصل من ذهاب المشهور إلى مضمون الخبر.
وهو بعيد، إذ لو أريد مطلق الظن فلا يخفى بعده، لأن المنهي عنه
ليس إلا خبر الفاسق المفيد للظن، إذ لا يعمل أحد بالخبر المشكوك
صدقه. وإن أريد البالغ حد الاطمئنان فله وجه، غير أنه يقتضي
دخول سائر الظنون الجابرة إذا بلغت - ولو بضميمة المجبور - حد
الاطمئنان ولا يختص بالشهرة. فالآية تدل على حجية الخبر المفيد
للوثوق والاطمئنان، ولا بعد فيه، وقد مر في أدلة حجية الأخبار ما
يؤيده أو يدل عليه، من حكايات الإجماع والأخبار.
وأبعد من الكل: دعوى استفادة حجيته مما دل من الأخبار

(1) المسالك 6: 156.
(2) ادعاه الوحيد البهبهاني في الفوائد الحائرية: 487، وكذا كاشف الغطاء في
كشف الغطاء: 38.
(3) في (ت): " الظن ".
589

- كمقبولة ابن حنظلة (1) والمرفوعة إلى زرارة (2) - على الأمر بالأخذ بما
اشتهر بين الأصحاب من المتعارضين، فإن ترجيحه على غيره في مقام
التعارض يوجب حجيته في مقام عدم المعارض (3) بالإجماع والأولوية.
وتوضيح فساد ذلك: أن الظاهر من الروايتين شهرة الخبر من
حيث الرواية، كما يدل عليه قول السائل فيما بعد ذلك: " إنهما معا
مشهوران "، مع أن ذكر الشهرة من المرجحات يدل على كون الخبرين
في أنفسهما معتبرين مع قطع النظر عن الشهرة.

(1) الوسائل 18: 75 - 76، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث الأول.
(2) المستدرك 17: 303، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.
(3) في (ت) و (ظ) بدل " مقام عدم المعارض ": " غير مقام التعارض ".
590

المقام الثاني: في كون الظن الغير المعتبر موهنا
والكلام هنا أيضا يقع: تارة فيما علم بعدم اعتباره، وأخرى فيما
لم يثبت اعتباره.
وتفصيل الكلام في الأول: أن المقابل له إن كان من الأمور
المعتبرة لأجل إفادته الظن النوعي - أي لكون نوعه لو خلي وطبعه
مفيدا للظن، وإن لم يكن مفيدا له في المقام الخاص - فلا إشكال في
عدم وهنه بمقابلة ما علم عدم اعتباره، كالقياس في مقابل الخبر
الصحيح بناء على كونه من الظنون الخاصة على هذا الوجه. ومن هذا
القبيل: القياس في مقابلة الظواهر اللفظية، فإنه لا عبرة به أصلا بناء
على كون اعتبارها من باب الظن النوعي.
ولو كان من باب التعبد فالأمر أوضح.
نعم، لو كان حجيته - سواء كان من باب الظن النوعي أو كان
من باب التعبد - مقيدة بصورة عدم الظن على خلافه، كان للتوقف
مجال.
ولعله الوجه فيما حكاه لي بعض المعاصرين، عن شيخه: أنه ذكر
له مشافهة: أنه يتوقف في الظواهر المعارضة بمطلق الظن على الخلاف
حتى القياس وأشباهه.
لكن هذا القول - أعني تقييد حجية الظواهر بصورة عدم الظن
على خلافها - بعيد في الغاية.
وبالجملة: فيكفي في المطلب ما دل على عدم جواز الاعتناء
591

بالقياس (1)، مضافا إلى استمرار سيرة الأصحاب على ذلك.
مع أنه يمكن أن يقال: إن مقتضى النهي عن القياس - معللا بما
حاصله غلبة مخالفته للواقع - يقتضي أن لا يترتب شرعا على القياس
أثر، لا من حيث تأثيره في الكشف ولا من حيث قدحه فيما هو
كاشف بالذات، فحكمه حكم عدمه، فكأن مضمونه مشكوك لا مظنون،
بل مقتضى ظاهر التعليل أنه كالموهوم، فكما أنه لا ينجبر به ضعيف
لا يضعف به قوي.
ويؤيد ما ذكرنا: الرواية المتقدمة عن أبان (2) الدالة على ردع
الإمام له في رد الخبر الوارد في تنصيف دية أصابع المرأة بمجرد مخالفته
للقياس، فراجع (3).
وهذا حسن، لكن الأحسن منه: تخصيص ذلك بما كان اعتباره
من قبل الشارع كما لو دل الشرع على حجية الخبر ما لم يكن الظن
على خلافه، فإن نفي الأثر شرعا من الظن القياسي يوجب بقاء اعتبار
تلك الأمارة على حاله.
وأما ما كان اعتباره من باب بناء العرف وكان مرجع حجيته
شرعا إلى تقرير ذلك البناء كظواهر الألفاظ، فإن وجود القياس إن
كان يمنع عن بنائهم فلا يرتفع ذلك بما ورد من قصور القياس عن
الدلالة على الواقع، فتأثير الظن بالخلاف في القدح في حجية الظواهر

(1) انظر الوسائل 18: 20، الباب 6 من أبواب صفات القاضي.
(2) تقدمت في الصفحة 63.
(3) لم ترد عبارة " ويؤيد - إلى - فراجع " في (ظ) و (م).
592

ليس مثل تأثيره في القدح في حجية الخبر المظنون الخلاف في كونه
مجعولا شرعيا يرتفع بحكم الشارع بنفي الأثر عن القياس، لأن المنفي في
حكم الشارع من آثار الشئ الموجود حسا هي الآثار المجعولة دون
غيرها.
نعم، يمكن أن يقال: إن العرف بعد تبين حال القياس لهم من
قبل الشارع لا يعبأون به في مقام استنباط أحكام الشارع من
خطاباته، فيكون النهي عن القياس ردعا لبنائهم على تعطيل الظواهر
لأجل مخالفتها للقياس.
ومما ذكرنا يعلم حال القياس في مقابل الدليل الثابت حجيته
بشرط الظن، كما لو جعلنا الحجة من الأخبار المظنون الصدور منها أو
الموثوق به منها، فإن في وهنهما (1) بالقياس الوجهين:
من حيث رفعه للقيد المأخوذ في حجيتهما (2) على وجه الشرطية،
فمرجعه إلى فقدان شرط وجداني - أعني وصف الظن - بسبب القياس.
ونفي الآثار الشرعية للظن القياسي لا يجدي، لأن الأثر المذكور أعني
رفع الظن ليس من الأمور المجعولة.
ومن أن أصل اشتراط الظن من الشارع، فإذا علمنا من الشارع
أن الخبر المزاحم بالظن القياسي لا ينقص أصلا - من حيث الإيصال
إلى الواقع وعدمه - من (3) الخبر السليم عن مزاحمته، وأن وجود القياس

(1) في (ت)، (ر) و (ص): " وهنها ".
(2) في (ت)، (ر) و (ص): " حجيتها ".
(3) في (ظ) و (م): " عن ".
593

وعدمه في نظره سيان، فلا إشكال في الحكم بكون الخبرين المذكورين
عنده على حد سواء.
ومن هنا يمكن جريان التفصيل السابق: بأنه إن كان الدليل
المذكور المقيد اعتباره بالظن مما دل الشرع على اعتباره، لم يزاحمه
القياس الذي دل الشرع على كونه كالعدم من جميع الجهات التي لها
مدخل في الوصول إلى دين الله، وإن كان مما دل على اعتباره العقل
الحاكم بتعيين الأخذ بالراجح عند انسداد باب العلم والطرق الشرعية،
فلا وجه لاعتباره مع مزاحمة القياس الرافع لما هو مناط حجيته أعني
الظن، فان غاية الأمر صيرورة مورد اجتماع تلك الأمارة والقياس
مشكوكا، فلا يحكم العقل فيه بشئ.
إلا أن يدعي المدعي: أن العقل بعد تبين حال القياس لا يسقط
عنده الأمارة المزاحمة به عن القوة التي تكون لها على تقدير عدم
المزاحم، وإن كان لا يعبر عن تلك القوة حينئذ بالظن وعن مقابلها
بالوهم.
والحاصل: أن العقلاء إذا وجدوا في شهرة خاصة أو إجماع منقول
مقدارا من القوة والقرب إلى الواقع، والتجأوا إلى العمل على طبقهما
مع فقد العلم، وعلموا من (1) حال القياس ببيان الشارع أنه (2) لا عبرة
بما يفيده من الظن ولا يرضى الشارع بدخله في دين الله، لم يفرقوا
بين كون الشهرة والإجماع المذكورين مزاحمين بالقياس أم لا، لأنه

(1) لم ترد " من " في (ه‍).
(2) في (ظ) و (م): " أن القياس "، وفي (ص) و (ه‍): " وأنه ".
594

لا ينقصهما عما هما عليه من القوة والمزية المسماة بالظن الشأني
والنوعي والطبعي.
ومما ذكرنا: صح للقائلين بمطلق الظن لأجل الانسداد (1) إلا ما
خرج، أن يقولوا بحجية الظن الشأني، بمعنى أن الظن الشخصي إذا ارتفع
عن الأمارات المشمولة لدليل الانسداد بسبب الأمارات الخارجة عنه
لم يقدح ذلك في حجيتها، بل يجب القول بذلك على رأي (2) بعضهم (3) ممن
يجري دليل الانسداد في كل مسألة مسألة، لأنه إذا فرض في مسألة
وجود أمارة مزاحمة بالقياس، فلا وجه للأخذ بخلاف تلك الأمارة، فافهم.
هذا كله، مع استمرار السيرة على عدم ملاحظة القياس في مورد
من الموارد الفقهية وعدم الاعتناء به في الكتب الأصولية، فلو كان له
أثر شرعي ولو في الوهن لوجب التعرض لأحكامه (4) في الأصول،
والبحث والتفتيش عن وجوده في كل مورد من موارد الفروع، لأن
الفحص عن الموهن كالفحص عن المعارض واجب، وقد تركه أصحابنا
في الأصول والفروع، بل تركوا روايات من اعتنى به منهم وإن كان
من المؤسسين لتقرير الأصول وتحرير الفروع، كالإسكافي الذي نسب
إليه أن بناء تدوين أصول الفقه من الإمامية منه ومن العماني يعني ابن
أبي عقيل (قدس سرهما) (5)، وفي كلام آخر: أن تحرير الفتاوى في الكتب المستقلة

(1) في (ظ) و (م): " لأصل الانسداد ".
(2) لم ترد " رأي " في (ظ) و (م).
(3) هو المحقق القمي، كما تقدم في الصفحة 464.
(4) في (ت) و (ه‍): " لحاله ".
(5) انظر الوافية: 252، ورجال السيد بحر العلوم 2: 220.
595

منهما أيضا، جزاهما الله وجميع من سبقهما ولحقهما خير الجزاء.
ثم إنك تقدر بملاحظة ما ذكرنا في التفصي عن إشكال خروج
القياس عن عموم دليل الانسداد من الوجوه، على التكلم فيما سطرنا
ههنا نقضا وإبراما.
هذا (1) تمام الكلام في وهن الأمارة المعتبرة بالظن المنهي عنه
بالخصوص، كالقياس وشبهه.
وأما الظن الذي لم يثبت إلغاؤه إلا من جهة بقائه تحت أصالة
حرمة العمل بالظن، فلا إشكال في وهنه لما كان من الأمارات اعتبارها
مشروطا بعدم الظن بالخلاف، فضلا عما كان اعتباره مشروطا بإفادة
الظن، والسر فيه انتفاء الشرط.
وتوهم: جريان ما ذكرنا في القياس هنا، من جهة أن النهي يدل
على عدم كونه مؤثرا أصلا، فوجوده كعدمه من جميع الجهات، مدفوع.
كما أنه لا إشكال في عدم الوهنية (2) إذا (3) كان اعتبارها من باب
الظن النوعي (4).

(1) لم ترد عبارة " من الطائفة - من الصفحة 582، السطر 6، إلى - هذا " في
(ل).
(2) في (ه‍): " عدم وهنه ".
(3) في (ت)، (ص) و (ه‍): " لما ".
(4) في (ص) زيادة: " المطلق "، ولم ترد عبارة " كما أنه - إلى - النوعي " في
(ظ)، (ل) و (م).
596

المقام الثالث: في الترجيح بالظن الغير المعتبر
وقد عرفت (1) أنه على قسمين: أحدهما ما ورد النهي عنه
بالخصوص كالقياس وشبهه (2)، والآخر ما لم يعتبر لأجل عدم الدليل
وبقائه تحت أصالة الحرمة.
أما الأول، فالظاهر من أصحابنا عدم الترجيح به (3)، نعم يظهر
من المعارج وجود القول به بين أصحابنا، حيث قال في باب القياس:
ذهب ذاهب إلى أن الخبرين إذا تعارضا وكان القياس موافقا لما
تضمنه أحدهما، كان ذلك وجها يقتضي ترجيح ذلك الخبر على
معارضه، ويمكن أن يحتج لذلك بأن الحق في أحد الخبرين فلا يمكن
العمل بهما ولا طرحهما، فتعين العمل بأحدهما، وإذا كان التقدير تقدير
التعارض، فلا بد للعمل بأحدهما من مرجح، والقياس يصلح أن يكون
مرجحا، لحصول الظن به، فتعين العمل بما طابقه.
لا يقال: أجمعنا على أن القياس مطروح في الشريعة.
لأنا نقول: بمعنى أنه ليس بدليل على الحكم، لا بمعنى أنه
لا يكون مرجحا لأحد الخبرين على الآخر، وهذا لأن فائدة كونه

(1) راجع الصفحة 586.
(2) لم ترد في (ظ) و (م): " كالقياس وشبهه ".
(3) في (ظ)، (ل) و (م) زيادة: " كالقياس وشبهه ".
597

مرجحا كونه دافعا (1) للعمل بالخبر المرجوح، فيعود الراجح كالخبر
السليم عن المعارض، فيكون العمل به، لا بذلك القياس. وفيه نظر (2)،
انتهى.
ومال إلى ذلك بعض سادة مشايخنا المعاصرين (قدس سره) (3) بعض الميل،
والحق خلافه، لأن رفع (4) الخبر المرجوح بالقياس عمل به حقيقة، فإنه
لولا القياس كان العمل به جائزا، والمقصود تحريم العمل به لأجل
القياس (5)، وأي عمل أعظم من هذا؟
والفرق بين المرجح والدليل ليس إلا أن الدليل مقتض لتعين
العمل به والمرجح رافع (6) للمزاحم عنه، فلكل منهما مدخل في العلة
التامة لتعين العمل به، فإذا كان استعمال القياس محظورا وأنه لا يعبأ به
في الشرعيات كان وجوده كعدمه غير مؤثر.
مع أن مقتضى الاستناد في الترجيح به إلى إفادته للظن كونه من
قبيل الجزء لمقتضي تعين العمل، لا من قبيل دفع المزاحم، فيشترك مع
الدليل المنضم إليه في الاقتضاء.
هذا كله على مذهب غير القائلين بمطلق الظن، وأما على مذهبهم

(1) كذا في (م)، وفي غيرها: " رافعا ".
(2) المعارج: 186 - 187.
(3) هو السيد المجاهد في مفاتيح الأصول: 716.
(4) في (ر)، (ص) و (م): " دفع ".
(5) في (ظ) و (م) بدل " لأجل القياس ": " بالقياس ".
(6) كذا في (ت)، (ر) و (ه‍)، وفي (ص)، (ظ) و (م): " دافع ".
598

فيكون القياس تمام المقتضي بناء على كون الحجة عندهم الظن الفعلي،
لأن الخبر (1) المنضم إليه ليس له مدخل في حصول الظن الفعلي بمضمونه.
نعم، قد يكون الظن مستندا إليهما فيصير من قبيل جزء المقتضي،
فتأمل (2).
ويؤيد ما ذكرنا، بل يدل عليه: استمرار سيرة أصحابنا الإمامية
رضوان الله عليهم في الاستنباط على هجره وترك الاعتناء بما حصل
لهم من الظن القياسي أحيانا، فضلا عن أن يتوقفوا في التخيير بين
الخبرين المتعارضين (3) مع عدم مرجح آخر أو الترجيح بمرجح موجود،
إلى أن يبحثوا عن القياس، كيف ولو كان كذلك لاحتاجوا إلى عنوان
مباحث القياس والبحث عنه بما يقتضي البحث عنها على تقدير الحجية.
وأما القسم الآخر، وهو الظن الغير المعتبر لأجل بقائه تحت
أصالة حرمة العمل.
فالكلام في الترجيح به يقع في مقامات:
الأول: الترجيح به في الدلالة، بأن يقع التعارض بين ظهوري
الدليلين كما في العامين من وجه وأشباهه. وهذا لا اختصاص له بالدليل
الظني السند، بل يجري في الكتاب والسنة المتواترة.
الثاني: الترجيح به في وجه الصدور، بأن نفرض الخبرين

(1) في (ر) و (ه‍): " الجزء ".
(2) لم ترد " فتأمل " في (ت) و (ه‍).
(3) لم ترد " المتعارضين " في (ر)، (ظ) و (م).
599

صادرين وظاهري الدلالة، وانحصر التحير في تعيين ما صدر لبيان
الحكم وتمييزه عما صدر على وجه التقية أو غيرها من الحكم المقتضية
لبيان خلاف الواقع. وهذا يجري في مقطوعي الصدور ومظنوني الصدور
مع بقاء الظن بالصدور في كل منهما.
الثالث: الترجيح به من حيث الصدور، بأن صار بالمرجح
أحدهما مظنون الصدور.
أما المقام الأول، فتفصيل القول فيه:
أنه إن قلنا بأن مطلق الظن على خلاف الظواهر يسقطها عن
الاعتبار - لاشتراط حجيتها بعدم الظن على الخلاف - فلا إشكال في
وجوب الأخذ بمقتضى ذلك الظن المرجح، لكن يخرج حينئذ عن كونه
مرجحا، بل يصير سببا لسقوط الظهور المقابل له عن الحجية، لا لدفع
مزاحمته للظهور المنضم إليه، فيصير ما وافقه حجة سليمة عن الدليل
المعارض، إذ لو لم يكن في مقابل ذلك المعارض إلا هذا الظن لأسقطه
عن الاعتبار، نظير الشهرة في أحد الخبرين الموجبة لدخول الآخر في
الشواذ التي لا اعتبار بها، بل أمرنا بتركها (1) ولو لم يكن في مقابلها
خبر معتبر.
وأولى من هذا: إذا قلنا باشتراط حجية الظواهر بحصول الظن
منها أو من غيرها على طبقها. لكن هذا القول سخيف جدا، والأول
أيضا بعيد، كما حقق في مسألة حجية الظواهر (2).

(1) لم ترد " بل أمرنا بتركها " في (ظ) و (م).
(2) راجع الصفحة 170.
600

وإن قلنا بأن حجية الظواهر من حيث إفادتها للظن الفعلي وأنه
لا عبرة بالظن الحاصل من غيرها على طبقها، أو قلنا بأن حجيتها من
حيث الاتكال على أصالة عدم القرينة التي لا يعتبر فيها إفادتها للظن
الفعلي، فالأقوى عدم اعتبار مطلق الظن في مقام الترجيح، إذ المفروض
على هذين القولين سقوط كلا الظاهرين عن الحجية في مورد التعارض،
وأنه إذا صدر عنه قوله - مثلا -: " اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل
لحمه "، وورد أيضا: " كل شئ يطير لا بأس بخرئه وبوله "، وفرض
عدم قوة أحد الظاهرين من حيث نفسه على الآخر، كان ذلك مسقطا
لظاهر كليهما عن الحجية في مادة التعارض، أعني خرء الطير الغير
المأكول (1) وبوله.
أما على القول الأول، فلأن حجية الظواهر مشروطة بالظن المفقود
في المقام.
وأما على الثاني، فلأن أصالة عدم القرينة في كل منهما معارضة
بمثلها في الآخر، والحكم (2) في باب تعارض الأصلين مع عدم حكومة
أحدهما على الآخر، التساقط والرجوع إلى عموم أو أصل يكون
حجيته مشروطة (3) بعدم وجودهما على قابلية الاعتبار، فلو عمل حينئذ
بالظن الموجود مع أحدهما - كالشهرة القائمة في المسألة المذكورة على
النجاسة - كنا قد عملنا بذلك الظن مستقلا، لا من باب كونه مرجحا،

(1) لم ترد " الغير المأكول " في (ظ)، (ل) و (م).
(2) في (ظ)، (م) و (ه‍): " والمحكم ".
(3) كذا في (ر)، وفي غيرها: " مشروطا ".
601

لفرض (1) تساقط الظاهرين وصيرورتهما كالعدم، فالمتجه حينئذ الرجوع
في المسألة - بعد الفراغ من المرجحات من حيث السند أو من حيث
الصدور تقية أو لبيان الواقع - إلى قاعدة الطهارة.
وأما المقام الثاني، فتفصيل القول فيه:
أن أصالة عدم التقية: إن كان المستند فيها أصل العدم في كل
حادث - بناء على أن دواعي التقية التي هي من قبيل الموانع لإظهار
الحق حادثة تدفع بالأصل - فالمرجع بعد معارضة هذا الأصل في كل
خبر بمثله في الآخر، هو التساقط. وكذلك لو استندنا فيها إلى أن ظاهر
حال المتكلم بالكلام - خصوصا الإمام (عليه السلام) في مقام إظهار الأحكام
التي نصب لأجلها - هو بيان الحق، وقلنا بأن (2) اعتبار هذا الظهور
مشروط بإفادته الظن الفعلي المفروض سقوطه من الطرفين.
وحينئذ: فإن عملنا بمطلق الظن في تشخيص التقية وخلافها - بناء
على حجية الظن في هذا المقام، لأجل الحاجة إليه، من جهة العلم
بصدور كثير من الأخبار تقية، وأن الرجوع إلى أصالة عدمها في كل
مورد يوجب الافتاء بكثير مما صدر تقية، فيتعين العمل بالظن، أو
لأنا نفهم مما ورد في ترجيح ما خالف العامة على ما وافقهم كون
ذلك من أجل كون الموافقة مظنة للتقية، فيتعين العمل بما هو أبعد عنها
بحسب كل أمارة - كان ذلك الظن دليلا مستقلا في ذلك المقام وخرج
عن كونه مرجحا.

(1) في (ت) و (ه‍) زيادة: " لزوم ".
(2) في (ل)، (م) و (ه‍) بدل " بأن ": " إن ".
602

ولو استندنا فيها إلى الظهور المذكور واشترطنا في اعتباره عدم
الظن على خلافه، كان الخبر الموافق لذلك الظن حجة سليمة عن
المعارض لا عن المزاحم، كما عرفت نظيره في المقام الأول (1).
وإن استندنا فيها إلى الظهور النوعي، نظير ظهور فعل المسلم في
الصحيح وظهور تكلم المتكلم في كونه قاصدا لا هازلا، ولم نشترط في
اعتباره الظن الفعلي ولا عدم الظن بالخلاف، تعارض الظاهران، فيقع
الكلام في الترجيح بهذا الظن المفروض، والكلام فيه يعلم مما سيجئ
في (2) المقام الثالث.
[وأما المقام الثالث] (3):
وهو ترجيح السند بمطلق الظن، إذ الكلام (4) فيه أيضا مفروض
فيما إذا لم نقل بحجية الظن المطلق ولا بحجية الخبرين بشرط إفادة الظن
ولا بشرط عدم الظن على خلافه، إذ يخرج الظن المفروض على هذه
التقادير عن المرجحية.
بل يصير حجة مستقلة على الأول، سواء كان حجية المتعارضين
من باب الظن المطلق أو من باب الاطمئنان أو من باب الظن الخاص،
فإن القول بالظن المطلق لا ينافي القول بالظن الخاص في بعض
الأمارات كالخبر الصحيح بعدلين. ويسقط المرجوح عن الحجية على

(1) راجع الصفحة 600.
(2) في (ه‍) بدل " في ": " أما "، وفي (ت): " وأما ".
(3) ما بين المعقوفتين منا.
(4) في (ت) و (ه‍) بدل " إذ الكلام ": " فالكلام ".
603

الأخيرين.
فيتعين الكلام في مرجحيته فيما إذا قلنا بحجية كل منهما من حيث
الظن النوعي كما هو مذهب الأكثر.
والكلام يقع: تارة في الترجيح بالظن في مقام لولاه لحكم
بالتخيير، وأخرى في الترجيح به في مقابل المرجحات المنصوصة في
الأخبار العلاجية.
أما الكلام في الأول (1) فملخصه:
أنه لا ريب في أن مقتضى الأصل عدم الترجيح كما أن الأصل
عدم الحجية، لأن العمل بالخبر الموافق لذلك الظن إن كان على وجه
التدين والالتزام بتعين العمل به من جانب الشارع وأن الحكم الشرعي
الواقعي هو مضمونه - لا مضمون الآخر - من غير دليل قطعي يدل
على ذلك، فهو تشريع محرم بالأدلة الأربعة. والعمل به لا على هذا
الوجه محرم إذا استلزم مخالفة القاعدة أو الأصل الذي يرجع إليه على
تقدير فقد هذا الظن.
فالوجه المقتضي لتحريم العمل بالظن مستقلا - من التشريع أو
مخالفة الأصول القطعية الموجودة في المسألة - جار بعينه في الترجيح
بالظن، والآيات والأخبار الناهية عن القول بغير علم كلها متساوية
النسبة إلى الحجية وإلى المرجحية، وقد عرفت (2) في الترجيح بالقياس

(1) لم ترد عبارة " والكلام - إلى - في الأول " في (ر) و (ه‍)، وكتب عليها في
(ت): " زائد "، وفي (ص): " نسخة ".
(2) راجع الصفحة 598.
604

أن المرجح يحدث حكما شرعيا لم يكن مع عدمه، وهو وجوب العمل
بموافقة (1) عينا مع كون الحكم لا معه هو التخيير أو الرجوع إلى الأصل
الموافق للآخر.
هذا، ولكن الذي يظهر من كلمات معظم الأصوليين (2) هو الترجيح
بمطلق الظن.
وليعلم أولا: أن محل الكلام - كما عرفت في عنوان المقامات
الثلاثة، أعني: الجبر، والوهن، والترجيح - هو الظن الذي لم يعلم
اعتباره.
فالترجيح به من حيث السند أو الدلالة ترجيح بأمر خارجي،
وهذا لا دخل له بمسألة أخرى اتفاقية، وهي وجوب العمل بأقوى
الدليلين وأرجحهما، فإن الكلام فيها في (3) ترجيح أحد الخبرين
الذي يكون بنفسه أقوى من الآخر من حيث السند، كالأعدل والأفقه
أو المسند أو الأشهر رواية أو غير ذلك، أو من حيث الدلالة،
كالعام على المطلق، والحقيقة على المجاز، والمجاز على الإضمار،
وغير ذلك.
وبعبارة أخرى: الترجيح بالمرجحات الداخلية من جهة السند (4)

(1) كذا في (ظ) و (م)، وفي غيرهما: " بموافقته ".
(2) انظر نهاية الوصول (مخطوط): 451، وغاية البادى (مخطوط): 276، وغاية
المأمول (مخطوط) الورقة: 218، والفصول: 443، ومفاتيح الأصول: 686.
(3) في (ظ) و (م) بدل عبارة " الكلام فيها في ": " المراد بها ".
(4) كتب في (ص) على عبارة " من جهة السند ": " زائد ".
605

اتفاقي، واستفاض نقل الإجماع من الخاصة والعامة على وجوب العمل
بأقوى الدليلين عن الآخر (1).
والكلام هنا في المرجحات الخارجية المعاضدة لمضمون أحد
الخبرين الموجبة لصيرورة مضمونه أقرب إلى الواقع من مضمون
الآخر.
نعم، لو كشف تلك الأمارة عن مزية داخلية لأحد الخبرين على
الآخر من حيث سنده أو دلالته دخلت في المسألة الاتفاقية ووجب
الأخذ بها، لأن العمل بالراجح من الدليلين واجب إجماعا (2)، سواء علم
وجه الرجحان تفصيلا أم لم يعلم إلا إجمالا.
ومن هنا ظهر: أن الترجيح بالشهرة والإجماع المنقول إذا كشفا
عن مزية داخلية في سند أحد الخبرين أو دلالته، مما لا ينبغي الخلاف
فيه. نعم، لو لم يكشفا عن ذلك إلا ظنا ففي حجيته أو إلحاقه بالمرجح
الخارجي وجهان: أقواهما الأول كما سيجئ.
وكيف كان: فالذي يمكن أن يستدل به للترجيح بمطلق الظن
الخارجي وجوه:
الأول: قاعدة الاشتغال، لدوران الأمر بين التخيير وتعيين الموافق
للظن.
وتوهم: أنه قد يكون الطرف المخالف للظن موافقا للاحتياط
اللازم في المسألة الفرعية فيعارض الاحتياط في المسألة الأصولية، بل

(1) انظر مفاتيح الأصول: 686 - 688، ومناهج الأحكام: 313.
(2) لم ترد في (ظ): " إجماعا ".
606

يرجح عليه في مثل المقام كما نبهنا عليه عند الكلام في معممات نتيجة
دليل الانسداد.
مدفوع: بأن المفروض في ما نحن فيه عدم وجوب الأخذ بما
وافق الاحتياط من الخبرين لولا الظن، لأن الأخذ به: إن كان من
جهة اقتضاء المورد للاحتياط، فقد ورد عليه حكم الشارع بالتخيير
المرخص للأخذ بخلاف الاحتياط، وبراءة الذمة من الواقع في حكم
الشارع بالعمل بالخبر المخالف له، ولهذا يحكم بالتخيير أيضا وإن كان
أحدهما موافقا للاستصحاب والآخر مخالفا، إذ كما أن الدليل المعين
للعمل به يكون حاكما على الأصول، كذلك الدليل المخير في العمل به
وبمعارضه.
وإن كان من جهة بعض الأخبار الدالة على وجوب الأخذ بما
وافق الاحتياط وطرح ما خالفه (1).
ففيه: ما تقرر في محله (2)، من عدم نهوض تلك الأخبار
لتخصيص الأخبار الدالة على التخيير.
بل هنا كلام آخر، وهو: أن حجية الخبر المرجوح في المقام
وجواز الأخذ به يحتاج إلى توقيف، إذ لا يكفي في ذلك ما دل على
حجية كلا المتعارضين بعد فرض امتناع العمل بكل منهما، فيجب الأخذ
بالمتيقن جواز العمل به وطرح المشكوك، وليس المقام مقام التكليف
المردد بين التعيين والتخيير حتى يبنى على مسألة البراءة والاشتغال.

(1) المستدرك 17: 303، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.
(2) انظر مبحث التعادل والتراجيح 4: 40.
607

وتمام الكلام في خاتمة الكتاب في مبحث التراجيح (1) إن شاء الله
تعالى (2).
الثاني: ظهور الإجماع على ذلك، كما استظهره بعض مشايخنا (3)،
فتراهم يستدلون في موارد الترجيح (4) ببعض المرجحات الخارجية،
بإفادته للظن بمطابقة أحد الدليلين للواقع، فكأن الكبرى - وهي وجوب
الأخذ بمطلق ما يفيد الظن على طبق أحد الدليلين - مسلمة عندهم.
وربما يستفاد ذلك من الإجماعات المستفيضة على وجوب الأخذ بأقوى
المتعارضين (5).
إلا أنه يشكل بما ذكرنا: من (6) أن الظاهر أن المراد بأقوى
الدليلين فيها (7) ما كان كذلك في نفسه ولو لكشف أمر خارجي عن
ذلك، كعمل الأكثر الكاشف عن مرجح داخلي لا نعلمه تفصيلا،
فلا يدخل فيه ما كان مضمونه مطابقا لأمارة غير معتبرة، كالاستقراء
والأولوية الظنية مثلا على تقدير عدم اعتبارهما، فإن الظاهر خروج

(1) انظر مبحث التعادل والتراجيح 4: 48 - 50.
(2) لم ترد عبارة " بل هنا كلام - إلى - تعالى " في (ظ) و (م).
(3) هو السيد المجاهد في مفاتيح الأصول: 717.
(4) في (ظ) و (م): " للترجيح ".
(5) انظر نهاية الوصول (مخطوط): 451، ومبادي الوصول: 232، ومفاتيح
الأصول: 686.
(6) في (ظ) و (م) بدل عبارة " إلا أنه يشكل بما ذكرنا من ": " إلا أن يقال ".
(7) في (ت) و (ر) " منهما "، وفي (ص): " فيهما ".
608

ذلك عن معقد تلك الإجماعات وإن كان بعض أدلتهم الاخر قد يفيد
العموم لما نحن فيه كقبح ترجيح المرجوح، إلا أنه لا يبعد أن يكون
المراد المرجوح في نفسه من المتعارضين لا مجرد المرجوح بحسب الواقع،
وإلا اقتضى ذلك حجية نفس المرجح مستقلا.
نعم، الإنصاف: أن بعض كلماتهم يستفاد منه، أن العبرة في
الترجيح بصيرورة مضمون أحد الخبرين بواسطة المرجح أقرب إلى
الواقع من مضمون الآخر.
وقد استظهر بعض مشايخنا (1) الاتفاق على الترجيح بكل ظن ما
عدا القياس.
فمنها: ما تقدم عن المعارج (2)، من الاستدلال للترجيح بالقياس
بكون مضمون الخبر الموافق له أقرب إلى الواقع من مضمون
الآخر.
ومنها: ما ذكروه في مسائل تعارض الناقل مع المقرر، فإن مرجع
ما ذكروا فيها لتقديم أحدهما على الآخر إلى الظن بموافقة أحدهما لحكم
الله الواقعي.
إلا أن يقال: إن هذا حاصل من نفس الخبر المتصف بكونه مقررا
أو ناقلا.
ومنها: ما ذكروه في ترجيح أحد الخبرين بعمل أكثر السلف
معللين: بأن الأكثر يوفق للصواب بما لا يوفق له الأقل، وفي ترجيحه

(1) هو السيد المجاهد في مفاتيح الأصول: 717.
(2) راجع الصفحة 597.
609

بعمل علماء المدينة.
إلا أن يقال أيضا: إن ذلك كاشف عن مرجح داخلي في أحد
الخبرين.
وبالجملة: فتتبع كلماتهم يوجب الظن القوي بل القطع بأن بناءهم
على الأخذ بكل ما يشتمل على ما يوجب أقربيته إلى الصواب، سواء
كان لأمر راجع إلى نفسه أو لاحتفافه بأمارة أجنبية توجب قوة
مضمونها.
ثم لو فرض عدم حصول القطع من هذه الكلمات بمرجحية
مطلق الظن (1) المطابق لمضمون أحد الخبرين، فلا أقل من كونه مظنونا،
والظاهر وجوب العمل به في مقابل التخيير وإن لم يجب العمل به في
مقابل الأصول، وسيجئ بيان ذلك (2) إن شاء الله تعالى.
الثالث: ما يظهر من بعض الأخبار، من أن المناط في الترجيح
كون أحد الخبرين أقرب مطابقة للواقع، سواء كان لمرجح داخلي
كالأعدلية مثلا، أو لمرجح (3) خارجي كمطابقته لأمارة توجب كون
مضمونه أقرب إلى الواقع من مضمون الآخر:
فمنها (4): ما دل على الترجيح بالأصدقية في الحديث كما في مقبولة
ابن حنظلة (5)، فإنا نعلم أن وجه الترجيح بهذه الصفة ليس إلا كون

(1) في (ت)، (ل) و (ه‍): " الظن المطلق ".
(2) انظر الصفحة 617 - 619.
(3) في (ت) و (ل): " مرجح ".
(4) كذا في (ص)، (ظ) و (م)، وفي (ت)، (ر)، (ه‍) ونسخة بدل (ص): " مثل ".
(5) الوسائل 18: 85، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث الأول.
610

خبر الموصوف بها أقرب إلى الواقع من خبر غير الموصوف بها،
لا لمجرد كون راوي أحدهما أصدق (1)، وليس هذه الصفة مثل الأعدلية
وشبهها في احتمال كون العبرة بالظن الحاصل من جهتها بالخصوص، ولذا
اعتبر الظن الحاصل من عدالة البينة دون الحاصل من مطلق وثاقته (2)،
لأن صفة الصدق ليست إلا المطابقة للواقع، فمعنى الأصدق هو الأقرب
إلى الواقع، فالترجيح بها يدل على أن العبرة بالأقربية من أي سبب
حصلت.
ومنها (3): ما دل (4) على ترجيح أوثق المخبرين (5)، فإن معنى
الأوثقية شدة الاعتماد عليه، وليس إلا لكون خبره أوثق (6)، فإذا حصل
هذا المعنى في أحد الخبرين من مرجح خارجي، اتبع.
ومما يستفاد منه المطلب على وجه الظهور: ما دل (7) على
ترجيح أحد الخبرين على الآخر بكونه مشهورا بين الأصحاب بحيث

(1) لم ترد عبارة " لا لمجرد كون راوي أحدهما أصدق " في (ل) و (م).
(2) في (ت): " الوثاقة "، والأنسب: " وثاقتها ".
(3) في (ت)، (ر) و (ه‍) بدل " منها ": " مثل ".
(4) وهي مرفوعة زرارة، المستدرك 17: 303، الباب 9 من أبواب صفات
القاضي، الحديث 2.
(5) كذا في (ظ) و (م)، وفي غيرهما: " الخبرين ".
(6) لم ترد عبارة " عليه - إلى - أوثق " في (م).
(7) وهي مقبولة ابن حنظلة، الوسائل 18: 75 - 76، الباب 9 من أبواب
صفات القاضي، الحديث الأول.
611

يعرفه كلهم وكون الآخر غير مشهور الرواية بينهم بل ينفرد (1) بروايته
بعضهم دون بعض، معللا ذلك بأن المجمع عليه لا ريب فيه، فيدل على
أن طرح الآخر لأجل ثبوت الريب فيه، لا لأنه لا ريب في بطلانه كما
قد يتوهم، وإلا لم يكن معنى للتعارض وتحير السائل، ولا لتقديمه على
الخبر المجمع عليه، إذا كان راويه أعدل كما يقتضيه - صدر الخبر،
ولا لقول السائل بعد ذلك: " هما معا مشهوران ".
فحاصل المرجح: هو ثبوت الريب في الخبر الغير المشهور
وانتفاؤه في المشهور، فيكون المشهور من الأمر البين الرشد، وغيره من
الأمر المشكل، لا بين الغي كما توهم.
وليس المراد به (2) نفي الريب من جميع الجهات، لأن الإجماع على
الرواية لا يوجب ذلك ضرورة، بل المراد وجود ريب في غير المشهور
يكون منتفيا في الخبر المشهور، وهو احتمال وروده على بعض الوجوه
أو عدم صدوره رأسا.
وليس المراد بالريب مجرد الاحتمال ولو موهوما، لأن الخبر
المجمع عليه يحتمل فيه أيضا من حيث الصدور بعض الاحتمالات
المتطرقة في غير المشهور، غاية الأمر كونه في المشهور في غاية
الضعف بحيث يكون خلافه واضحا وفي غير المشهور احتمالا مساويا
يصدق عليه الريب عرفا.
وحينئذ: فيدل على رجحان كل خبر يكون نسبته إلى معارضه

(1) في (ر) و (ص): " يتفرد ".
(2) لم ترد " به " في (ظ) و (م).
612

مثل نسبة الخبر المجمع على روايته إلى الخبر الذي اختص بروايته بعض
دون بعض مع كونه بحيث لو سلم عن المعارض أو كان راويه أعدل
وأصدق من راوي معارضه المجمع عليه لاخذ به، ومن المعلوم أن الخبر
المعتضد بأمارة توجب الظن بمطابقته ومخالفة معارضه للواقع نسبته إلى
معارضه تلك النسبة.
ولعله لذا علل تقديم الخبر المخالف للعامة على الموافق: بأن ذاك
لا يحتمل إلا الفتوى وهذا يحتمل التقية، لأن الريب الموجود في الثاني
منتف في الأول. وكذا كثير من المرجحات الراجعة إلى وجود احتمال في
أحدهما مفقود - علما أو ظنا - في الآخر، فتدبر.
فكل خبر من المتعارضين يكون فيه ريب لا يوجد في الآخر، أو
يوجد ولا يعد لغاية ضعفه ريبا، فذاك الآخر مقدم عليه.
وأظهر من ذلك كله في إفادة الترجيح بمطلق الظن: ما دل من
الأخبار العلاجية على الترجيح بمخالفة العامة (1)، بناء على أن الوجه في
الترجيح بها أحد وجهين:
أحدهما: كون الخبر (2) المخالف أبعد من التقية، كما علل (3) به الشيخ (4)
والمحقق (5)، فيستفاد منه اعتبار كل قرينة خارجية توجب أبعدية

(1) الوسائل 18: 85، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث الأول.
(2) لم ترد " الخبر " في (ر)، (ص)، (ظ) و (م).
(3) في (ظ) و (م): " كما علله ".
(4) انظر العدة 1: 147.
(5) انظر المعارج: 156.
613

أحدهما عن خلاف الحق ولو كانت مثل الشهرة والاستقراء، بل يستفاد
منه: عدم اشتراط الظن في الترجيح، بل يكفي تطرق احتمال غير بعيد
في أحد الخبرين بعيد في الآخر، كما هو مفاد الخبر المتقدم (1) الدال
على ترجيح ما لا ريب فيه على ما فيه الريب بالإضافة إلى
معارضه.
لكن هذا الوجه لم ينص عليه في الأخبار، وإنما هو شئ مستنبط
منها، ذكره الشيخ ومن تأخر عنه (2). نعم في رواية عبيد بن زرارة:
" ما سمعت مني يشبه قول الناس ففيه التقية، وما سمعت مني لا يشبه
قول الناس فلا تقية فيه (3) " (4).
الثاني: كون الخبر (5) المخالف أقرب من حيث المضمون إلى الواقع.
والفرق بين الوجهين: أن الأول كاشف عن وجه صدور الخبر، والثاني
كاشف عن مطابقة مضمون أحدهما للواقع.
وهذا الوجه لما نحن فيه (6) منصوص في الأخبار، مثل: تعليل
الحكم المذكور فيها بقولهم (عليهم السلام) (7): " فإن الرشد في خلافهم " (8)، و " ما

(1) وهي مقبولة ابن حنظلة المتقدمة في الصفحة 611، الهامش (8).
(2) كصاحب المعالم في المعالم: 255.
(3) لم ترد عبارة " نعم - إلى - فلا تقية فيه " في (م).
(4) الوسائل 15: 492، الباب 3 من أبواب الخلع والمباراة، الحديث 7.
(5) لم ترد " الخبر " في (ر)، (ص)، (ظ) و (م).
(6) لم ترد " لما نحن فيه " في (ت)، (ر)، (ل) و (ه‍).
(7) في (ر)، (ص) و (ه‍): " بقوله (عليه السلام) ".
(8) الوسائل 18: 80، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ضمن الحديث 19.
614

خالف العامة ففيه الرشاد " (1)، فإنه هذه القضية قضية غالبية لا دائمية،
فيدل على أنه يكفي في الترجيح الظن بكون الرشد في مضمون أحد
الخبرين.
ويدل على هذا التعليل أيضا: ما ورد في صورة عدم وجدان
المفتي بالحق في بلد، من قوله: " ائت فقيه البلد فاستفته في أمرك، فإذا
أفتاك بشئ فخذ بخلافه، فإن الحق فيه " (2).
وأصرح من الكل في التعليل بالوجه المذكور: مرفوعة أبي
إسحاق الأرجائي إلى أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال (عليه السلام): " أتدري لم
أمرتم بالأخذ بخلاف ما يقوله العامة؟ فقلت: لا أدري، فقال: إن
عليا (عليه السلام) لم يكن يدين الله بدين إلا خالف عليه الأمة إلى غيره،
إرادة لإبطال أمره، وكانوا يسألون أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الشئ الذي
لا يعلمونه، فإذا أفتاهم بشئ جعلوا له ضدا من عند أنفسهم ليلبسوا
على الناس " (3).
ويصدق هذا الخبر سيرة أهل الباطل مع الأئمة (عليهم السلام) على هذا
النحو تبعا لسلفهم، حتى أن أبا حنيفة حكي عنه أنه قال: خالفت
جعفرا في كل ما يقول أو يفعل، لكني لا أدري هل يغمض عينيه في
السجود أو يفتحهما (4).

(1) من مقبولة ابن حنظلة المتقدمة في الصفحة 611، الهامش (8).
(2) الوسائل 18: 83، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 23.
(3) الوسائل 18: 83، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 24.
(4) حكاه المحدث الجزائري في زهر الربيع: 522.
615

والحاصل: أن تعليل الأخذ بخلاف العامة في هذه الروايات بكونه
أقرب إلى الواقع - حتى أنه يجعل دليلا مستقلا عند فقد من يرجع إليه
في البلد - ظاهر في وجوب الترجيح بكل ما هو من قبيل هذه الأمارة
في كون مضمونه مظنة الرشد، فإذا انضم هذا الظهور إلى الظهور الذي
ادعيناه في روايات الترجيح بالأصدقية والأوثقية، فالظاهر أنه يحصل
من المجموع دلالة لفظية تامة.
ولعل هذا الظهور المحصل من مجموع الأخبار العلاجية هو الذي
دعا أصحابنا إلى العمل بكل ما يوجب رجحان أحد الخبرين على
الآخر، بل يوجب في أحدهما مزية مفقودة في الآخر ولو بمجرد كون
خلاف الحق في أحدهما أبعد منه في الآخر، كما هو كذلك في كثير من
المرجحات.
فما ظنه بعض المتأخرين من أصحابنا (1) على العلامة وغيره
قدست أسرارهم: من متابعتهم في ذلك (2) طريقة العامة، ظن في غير
المحل.
ثم إن الاستفادة التي ذكرناها إن دخلت تحت الدلالة اللفظية،
فلا إشكال في الاعتماد عليها، وإن لم يبلغ هذا الحد - بل لم يكن إلا
مجرد الإشعار - كان مؤيدا لما ذكرناه من ظهور الاتفاق، فإن لم يبلغ
المجموع حد الحجية (3) فلا أقل من كونها أمارة مفيدة للظن بالمدعى،

(1) انظر الحدائق 1: 90، وهداية الأبرار: 68.
(2) لم ترد " في ذلك " في (ظ) و (م).
(3) في (ظ) و (م): " الحجة ".
616

ولا بد من العمل به، لأن التكليف بالترجيح بين المتعارضين ثابت، لأن
التخيير في جميع الموارد وعدم ملاحظة المرجحات يوجب مخالفة الواقع
في كثير من الموارد، لأنا نعلم بوجوب الأخذ ببعض الأخبار
المتعارضة وطرح بعضها معينا، والمرجحات المنصوصة في الأخبار غير
وافية، مع أن تلك الأخبار معارض بعضها بعضا، بل بعضها غير
معمول به بظاهره، كمقبولة ابن حنظلة المتضمنة لتقديم الأعدلية على
الشهرة ومخالفة العامة وموافقة الكتاب.
وحاصل هذه المقدمات: ثبوت التكليف بالترجيح، وانتفاء المرجح
اليقيني، وانتفاء ما دل الشرع على كونه مرجحا، فينحصر العمل في
الظن بالمرجح (1)، فكل ما ظن أنه مرجح في نظر الشارع وجب
الترجيح به، وإلا لوجب ترك الترجيح أو العمل بما ظن من المتعارضين
أن الشارع رجح (2) غيره عليه، والأول مستلزم للعمل بالتخيير في
موارد كثيرة نعلم (3) بوجوب الترجيح، والثاني ترجيح للمرجوح على
الراجح في مقام وجوب البناء - لأجل تعذر العلم - على أحدهما،
وقبحه بديهي، وحينئذ: فإذا ظننا من الأمارات السابقة أن مجرد
أقربية مضمون أحد الخبرين إلى الواقع مرجح في نظر الشارع تعين
الأخذ به.

(1) العبارة في (ت) و (ه‍) هكذا: " فينحصر الأمر في العمل بالظن بالترجيح ".
(2) كذا في (ه‍)، وفي (ر)، (ظ) و (م): " مرجح "، وفي (ص) و (ل) وظاهر (ت):
" لم يرجح ".
(3) في غير (ظ) زيادة: " التكليف ".
617

هذا، ولكن لمانع أن يمنع وجوب الترجيح بين المتعارضين
الفاقدين للمرجحات المعلومة، كالتراجيح الراجعة إلى الدلالة التي
دل العرف على وجوب الترجيح بها كتقديم النص والأظهر على
الظاهر.
بيان ذلك: أن ما كان من المتعارضين من قبيل النص والظاهر
- كالعام والخاص وشبههما مما لا يحتاج الجمع بينهما إلى شاهد -
فالمرجح فيه معلوم من العرف.
وما كان من قبيل تعارض الظاهرين كالعامين من وجه وشبههما
مما يحتاج الجمع بينهما إلى شاهد واحد، فالوجه فيه - كما عرفت
سابقا -: عدم الترجيح إلا بقوة الدلالة، لا بمطابقة أحدهما لظن
خارجي غير معتبر، ولذا لم يحكم فيه بالتخيير مع عدم ذلك الظن، بل
يرجع فيه إلى الأصول والقواعد، فهذا كاشف عن أن الحكم فيهما (1)
ذلك من أول الأمر، للتساقط، لإجمال الدلالة.
وما كان من قبيل المتباينين اللذين لا يمكن الجمع بينهما إلا
بشاهدين، فهذا هو المتيقن من مورد وجوب الترجيح بالمرجحات
الخارجية. ومن المعلوم أن موارد هذا التعارض على قسمين:
أحدهما: ما يمكن الرجوع فيه إلى أصل أو عموم كتاب أو سنة
مطابق لأحدهما، وهذا القسم يرجع فيه إلى ذلك العموم أو الأصل وإن
كان الخبر المخالف لأحدهما مطابقا لأمارة خارجية، وذلك لأن العمل
بالعموم والأصل يقيني لا يرفع اليد عنه إلا بوارد يقيني، والخبر المخالف

(1) في (ظ)، (ل) و (م): " فيها ".
618

له لا ينهض لذلك - لمعارضته بمثله -، والمفروض أن وجوب الترجيح
بذلك الظن لم يثبت، فلا وارد على العموم والأصل.
القسم الثاني: ما لا يكون كذلك، وهذا أقل قليل بين المتعارضات،
فلو فرضنا العمل فيه بالتخيير مع وجود ظن خارجي على طبق
أحدهما لم يلزم (1) محذور - نعم الاحتياط يقتضي الأخذ بما يطابق الظن -
خصوصا مع أن مبنى المسألة على حجية الخبر من باب الظن غير مقيد
بعدم الظن الفعلي على خلافه، والدليل على هذا الاطلاق مشكل،
خصوصا لو كان الظن المقابل من الشهرة المحققة أو نقل الإجماع
الكاشف عن تحقق الشهرة، فإن إثبات حجية الخبر المخالف للمشهور في
غاية الإشكال وإن لم نقل بحجية الشهرة، ولذا قال صاحب المدارك:
إن العمل بالخبر المخالف للمشهور مشكل، وموافقة الأصحاب من غير
دليل أشكل (2).
وبالجملة: فلا ينبغي ترك الاحتياط بالأخذ بالمظنون في مقابل
التخيير، وأما في مقابل العمل بالأصل (3): فإن كان الأصل مثبتا
للاحتياط - كالاحتياط اللازم في بعض الموارد - فالأحوط العمل
بالأصل، وإن كان نافيا للتكليف كأصل البراءة والاستصحاب النافي
للتكليف، أو مثبتا له مع عدم التمكن من الاحتياط كأصالة الفساد في
باب المعاملات ونحو ذلك، ففيه الإشكال. وفي باب التراجيح تتمة

(1) في (ه‍): " لم يكن يلزم " وكذا استظهره في (ص)، وفي (ر): " لم يكن ".
(2) المدارك 4: 95.
(3) في (ر)، (ص) و (ه‍): " بالأصول ".
619

المقال (1)، والله العالم بحقيقة الحال.
والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

(1) لم ترد عبارة " وفي باب التراجيح تتمة المقال " في (ظ) و (م).
620

تم
الجزء الأول
ويليه
الجزء الثاني
في
البراءة والاشتغال
621