الكتاب: وقاية الأذهان
المؤلف: الشيخ أبي محمد رضا النجفي الأصفهاني
الجزء:
الوفاة: ١٣٦٢
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق: مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التراث - قم
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٣
المطبعة: مهر - قم
الناشر: مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التراث - قم
ردمك:
ملاحظات: وقاية الأذهان مع رسالتي سمطا اللآل في مسألتي الوضع والإستعمال واماطة الغين عن استعمال العين في معنيين

وقاية الأذهان
1

142
وقاية الأذهان
مع رسالتي
سمطا اللآل في مسألتي الوضع والاستعمال
و
إماطة الغين عن استعمال العين في معنيين
تأليف
العلامة آية الله المحقق
الشيخ محمد رضا النجفي الاصفهاني
المتوفى سنة 1362 ه‍
تحقيق
مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث
3

الكتاب: وقاية الأذهان
المؤلف: الشيخ محمد رضا النجفي الاصفهاني
تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث - قم
التصوير الفني (الزينگغراف): تيزهوش - قم
الطبعة: الأولى - 1413 ه‍
المطبعة: مهر - قم
الكمية: 3000 نسخة
السعر: 250 تومان
4

بسم الله الرحمن الرحيم
5

جميع الحقوق محفوظة ومسجلة
لمؤسسة آل البيت - عليهم السلام - لاحياء التراث
مؤسسة آل البيت - عليهم السلام - لاحياء التراث
قم - صفائية - ممتاز - پلاك 737 - ص. ب. 996 / 37158 - هاتف 23456
6

تقديم:
بقلم حفيد المصنف آية الله الحاج الشيخ مهدي مجد الإسلام النجفي.
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة على محمد وآله الطاهرين.
أما بعد، فإن علم أصول الفقه يعد من مقدمات الاستنباط.
وقال المحقق الخراساني في تعريفه: «صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام، أو التي ينتهى إليها في مقام العمل» (1).
الأصول والأدوار التي مر بها هذا العلم عند الشيعة الإمامية تنقسم أدواره إلى خمسة:
1 - العصر التأسيسي:
لقد ألقى الإمامان محمد بن علي الباقر، وابنه جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام، على تلاميذهما قواعد علم الأصول وطرق الاستنباط، فهذان الإمامان يعدان هما المبتكران والمؤسسان لعلم الأصول، وجاء من بعدهما تلاميذهما ورواة أحاديثهما، فعنهما أخذوا، ومن أنوارهما

(1) كفاية الأصول: 9.
7

اقتبسوا.
وأنت تجد بعض هذه القواعد الأصولية في رواياتهم الكثيرة الوفيرة المبثوثة في مطاوي كتب الأخبار، ومجاميع الأحاديث (1)، وهذه شواهد تاريخية على ذلك حيث تكشف عن وجود بذرة التفكير الأصولي عندهم.
وإذا نظرنا نظرة فاحصة نجد أن أول من صنف في الأصول هو هشام ابن الحكم، وهو من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام، إذ صنف كتاب الألفاظ ومباحثها، كما صرح به ابن النديم في الفهرست (2).
وجاء من بعده يونس بن عبد الرحمن مولى آل يقطين، صنف كتاب اختلاف الحديث ومسائله عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام، وهو مبحث تعارض الحديثين، كما ذكره الشيخ في الفهرست (3)، والسيد الصدر في تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام (4).
2 - العصر التمهيدي:
وهو - كما قيل - عصر وضع البذور الأساسية لعلم الأصول (5)، واستمر على نحو قرنين من الزمن، ابتداء من عصر الغيبة سنة 260 ه‍ إلى زمن الشيخ الطوسي (ت 460 ه‍).
ومن مختصات هذا الدور التأليف والتصنيف وشرح الأحاديث الواردة عن الأئمة عليهم السلام في المقام، والشيخ رحمه الله هو الحلقة الوسطى في هذا الدور والذي يليه، ومن أعلام هذه
الفترة:
الحسن بن موسى النوبختي، ذكره ابن النديم في الفهرست، وقال: متكلم

(1) أنظر على سبيل المثال، المجلد الأول من جامع أحاديث الشيعة.
(2) ص 244.
(3) ص 181 رقم 789
(4) ص 310 - 311
(5) أنظر المعالم الجديدة - للسيد محمد باقر الصدر -: 87.
8

فيلسوف (1).
وقال النجاشي: شيخنا المتكلم المبرز على نظرائه في زمانه قبل الثلاثمائة وبعدها، له على الأوائل كتب كثيرة، منها:..... كتاب الخصوص والعموم..... كتاب في خبر الواحد والعمل به (2).
ومنهم: محمد بن أحمد بن الجنيد، أبو علي الكاتب الإسكافي (ت 381 ه‍).
قال النجاشي: وجه في أصحابنا، ثقة، جليل القدر، وله... كتاب كشف التمويه والإلباس على أغمار الشيعة في أمر القياس (3).
ومنهم: أبو منصور الصرام النيشابوري المتكلم المشهور صاحب كتاب بيان الدين في الأصول، وله كتاب في إبطال القياس، ذكره الشيخ في الفهرست (4)، والسيد الصدر في التأسيس (5).
ومنهم: محمد بن أحمد بن داود بن علي، أبو الحسن (ت 361 ه‍).
قال النجاشي: شيخ هذه الطائفة وعالمها، وشيخ القميين في وقته وفقيههم.... صنف كتبا... كتاب الحديثين المختلفين (6)، وهو مبحث التعارض في الأصول.
ومنهم: أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان، الشيخ المفيد (ت 413 ه‍).
قال النجاشي: شيخنا وأستاذنا - رضي الله عنه - فضله أشهر من أن يوصف في الفقه، والكلام، والرواية، والثقة، والعلم، له كتب:..... كتاب أصول

(1) ص 225.
(2) رجال النجاشي: 63 رقم 148.
(3) رجال النجاشي: 385 و 387 رقم 1047.
(4) ص 190 رقم 852.
(5) تأسيس الشيعة: 312.
(6) رجال النجاشي: 384 رقم 1045.
9

الفقه (1).
وقال عنه السيد الصدر: تام المباحث مع صغر حجمه، وقد رواه - قراءة - عنه الشيخ أبو الفتح الكراجكي، وأدرجه بتمامه في كتابه كنز الفوائد (2).
ومنهم: السيد المرتضى علي بن الحسين الموسوي، علم الهدى (ت 436 ه‍).
قال النجاشي: حاز من العلوم ما لم يدانه فيه أحد في زمانه... صنف كتبا منها:... كتاب الخلاف في أصول الفقه.. كتاب الذريعة [إلى أصول الشريعة] (3).
قال السيد الصدر: كان هذا الكتاب (الذريعة) هو المرجع الوحيد في هذا العلم، والذي يقرؤه الناس إلى زمان المحقق نجم الدين الحلي، فلما صنف المعارج وكان كتابه سهل العبارة والمأخذ عكفت الطلبة عليه (4).
3 - عصر العلم،
وهو - كما قيل -: العصر الذي اختمرت فيه تلك البذور، وأثمرت وتحددت معالم الفكر الأصولي، وانعكست على مجالات البحث الفقهي في نطاق واسع (5).
ويعد ابتداء هذا العصر من قبل وفاة رائده الشيخ الطوسي في عام 460 ه‍، واستمر إلى زمن أستاذ الكل الوحيد البهبهاني (رضي الله عنه)، ومن أعلام هذا العصر:
الشيخ الطوسي صاحب عدة الأصول، والشيخ سديد الدين محمود الحمصي الرازي، ونجم الدين المحقق الحلي (ت 676 ه‍) صاحب معارج

(1) رجال النجاشي: 399 رقم 1067.
(2) تأسيس الشيعة: 312.
(3) رجال النجاشي: 270 - 271 رقم 708.
(4) تأسيس الشيعة: 313.
(5) المعالم الجديدة: 87.
10

الأصول، وابن أخته آية الله العلامة جمال الدين الحلي (ت 726 ه‍) صاحب النهاية، وتهذيب الأصول، والمبادئ، وشرح غاية الوصول في علم الأصول، وغيرها.
والشهيد الأول الذي استشهد (عام 786 ه‍) والشهيد الثاني الذي استشهد (عام 966 ه‍).
وفي أواخر هذه الدورة اشتد اختلاف الأخباريين مع الأصوليين، وبرزت شخصيات علمية أخبارية كبيرة كان لها دورها حينئذ. ويعد ابتداء هذا العصر من أواسط القرن الخامس إلى أواخر القرن الثاني عشر.
4 - عصر الكمال العلمي،
وابتداؤه على يد الوحيد البهبهاني رحمه الله إلى زمن تلاميذ المحقق الخراساني رحمه الله إذ استمرت - تقريبا - قرنين من الزمان.
ومن مختصات هذا العصر غلبة الأصوليين على الأخباريين على يد رائد هذه المدرسة وهو الوحيد البهبهاني (ت 1206 ه‍) صاحب الرسالة اجتهاد والأخبار، ومن أعلام هذا الدور:
السيد مهدي الطباطبائي بحر العلوم (ت 1212 ه‍).
وجدنا من طريق الأم الشيخ جعفر كاشف الغطاء (ت 1228 ه‍).
والميرزا أبو القاسم القمي صاحب القوانين (ت 1231 ه‍).
وجدنا العلامة التقي الشيخ محمد تقي الأصفهاني (ت 1248 ه‍) صاحب الهداية.
وشريف العلماء المازندراني (ت 1245 ه‍) وعمنا الأكرم الشيخ محمد حسين الأصفهاني (ت 1216 ه‍) صاحب الفصول، والشيخ الأعظم الأنصاري (ت 1281 ه‍) والمحقق الخراساني (ت 1329 ه‍) ومن بعده تلاميذه المشهورون، منهم:
11

جدنا أبو المجد الشيخ محمد رضا النجفي الأصفهاني (ت 1362 ه‍) صاحب الوقاية، والمحقق الأصفهاني صاحب نهاية الدراية (ت 1361 ه‍) والمحقق العراقي (ت 1361 ه‍) صاحب مقالات الأصول، وصاحب التقريرات المشهورة المحقق النائيني (ت 1355 ه‍).
5 - عصر التهذيب والتلخيص والتبويب.
صار اليوم علم الأصول علما واسعا جدا بحيث كاد أن يهلك طالبه فيه، وله أبحاث ليس فيها ثمرة عملية في علم الفقه ككثير من مقدماته وتعريفاته، فعلى الأصولي - اليوم - تهذيب علم الأصول من الزوائد، وعلى طالب علم الأصول أن ينظر إلى الأصول بعنوان علم آلي لا غير، شأنه آليته، وهي إيصال الطالب إلى الاستنباط وعونه عليه.
ولعل بذور هذه الدورة انتشرت من العلامة السيد محمد الفشاركي الأصفهاني (1253 - 1316) المدرس أولا بسامراء، وثانيا في النجف الأشرف، ثم من تلميذيه، وهما جدنا العلامة صاحب الوقاية (1287 - 1362) والعلامة المؤسس الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي (1276 - 1355) صاحب درر الفوائد، وتبعهم في ذلك بعض أعلام العصر، منهم: فقيد الإسلام الحاج آغا حسين الطباطبائي البروجردي (قدس سره) في تقريراته - المسماة ب - نهاية الأصول.
والعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي رحمه الله صاحب الميزان في حاشيته على الكفاية.
والعلامة الشيخ محمد رضا المظفر في كتابه أصول الفقه الرائج في الحوزات العلمية بين الطلبة.
والعلامة الشهيد السيد محمد باقر الصدر في المعالم الجديدة وحلقاته الأصولية.
12

والعلامة السيد محمد الطهراني الشهير بالعصار في (بركات الرضوية في تلخيص الأصول عن الزوائد والفضول).
والشيخ غلام حسين التبريزي نزيل خراسان في (أصول مهذبة).
والإمام السيد روح الله الموسوي الخميني في تقريراته المسماة ب (تهذيب الأصول).
أثمرت تلك البذور من أواسط القرن الرابع عشر، وتدوم إلى الآن، وتؤتي أكلها كل حين.
هذه الأدوار الأصولية عند الإمامية على سبيل الاختصار والإجمال، والتفصيل يطلب من محله.
تنبيه:
قال السيوطي في الأوائل: أول من صنف في أصول الفقه الشافعي بالإجماع.
أقول: إن أراد السيوطي أول من صنف في الأصول مطلقا من الخاصة والعامة، فهو مردود بقول العلامة الصدر في تأسيس الشيعة حيث يقول:
وحينئذ فقول الجلال السيوطي في كتاب الأوائل: أول من صنف في أصول الفقه الشافعي بالإجماع، في غير محله إن أراد التأسيس والابتكار - كما مر في عصر التأسيس -.
وإن أراد المعنى المتعارف من التصنيف، فقد تقدم على الإمام الشافعي في التأليف فيه هشام بن الحكم - المتكلم المعروف - من أصحاب أبي عبد الله الصادق عليه السلام (1).

(1) تأسيس الشيعة: 310.
13

وإن أراد أول من صنف من العامة فقط فهو أيضا محل ترديد.
قال الأستاذ الفقيد محمود الشهابي الخراساني في ذيل قول السيوطي:
ولكني لست على يقين من ذلك، بل المحتمل عندي أن يكون أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم - وهو أول من لقب ب (قاضي القضاة) - سابقا على الشافعي بتأليف الأصول لأن القاضي توفي سنة (182 ه‍ ق) والشافعي مات في سنة (204 ه‍ ق) وقد قال ابن خلكان في ترجمته: إن أبا يوسف أول من صنف في أصول الفقه وفق مذهب أستاذه أبي حنيفة.
وهكذا يحتمل جدا أن يكون محمد بن الحسن الشيباني - فقيه العراق الذي لما مات هو والكسائي في يوم واحد ب (الري) وكانا ملازمين للرشيد في سفره إلى خراسان، قال الرشيد في حقه: دفنت الفقه والأدب ب (رنبويه) - مقدما على الشافعي في تأليف الأصول، لأن الشيباني توفي سنة (182 - أو - 189 ه‍ ق) وقد صرح ابن النديم في الفهرست بأن الشيباني من مؤلفاته الكثيرة تأليفا يسمى ب (أصول الفقه) وتأليفا سماه (كتاب الاستحسان) وآخر باسم (كتاب اجتهاد الرأي).
على أن الشافعي - بتصريح من ابن النديم - لازم الشيباني سنة كاملة، واستنسخ في المدة لنفسه من كتب الشيباني ما استحسن، وقد أذعن الشافعي نفسه بذلك وأعلن، فقال من غير نكير: كتبت من كتب الشيباني حمل بعير، وكيف كان، فإن لم يحصل اليقين بتقدم القاضي والشيباني على الشافعي في التأليف فلا أقل من أن لا يحصل لنا يقين بتقدمه عليهما، فالحكم البات بكون الشافعي أول من صنف في أصول الفقه كما ترى (1). انتهى.

(1) فوائد الأصول (المقدمة): 7 - 8.
14

بين يدي الوقاية
قال العلامة الطهراني في تعريف الوقاية: «... وقاية الأذهان والألباب ولباب أصول السنة والكتاب، في أصول الفقه، كبير جدا، في غاية الحسن وبداعة الأسلوب ورشاقة البيان، والحق أنه أدخل في تأليف هذا الكتاب على علم الأصول نوعا من التجدد في التبويب والتهذيب والنمط» (1).
أقول: صنف العلامة الجد، الوقاية ما بين عشر الثلاثين إلى عشر الخمسين من القرن الرابع عشر، وطبع في ذاك الزمان أجزاء منها ببلدة أصبهان.
وللوقاية مختصات
نشير إلى جملة منها، والباقي مفوض إلى القارئ الفطن.
الأول:
لما كان مصنفها أديبا كبيرا، صارت مباحث ألفاظها مشحونة بالتحقيقات والتدقيقات التي لم تجدها في كثير من الكتب الأصولية، وللمصنف فيها إبداعات ومتفردات حيث انه جعل رسالة مستقلة في مقدمات الأصول وهي: سمطا اللئال - أو - جلية الحال في مسألتي الوضع والاستعمال.
ومن متفرداته: جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.
قال مخاطبا لأستاذه صاحب الكفاية: وقد ذكر هذا الأستاذ في بعض كلامه: إنه لا يمكن استعمال اللفظ في معنيين إلا إذا كان المستعمل أحول العينين، وما هذا إلا خطابة حسنة، ولكن أحسن منها أن يقال: إنه يكفي في ذلك أن لا يكون ذا عين واحدة، فإذا كان ذا عينين أمكنه استعمال العين في معنيين (1).
ولما بلغ ذلك المحقق العراقي، قال في مقالاته الأصولية: «ثم إن بعض أعاظم العصر بالغ في جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، واستشهد

(1) نقباء البشر 2: 752.
(2) راجع: صفحة 87 من هذا الكتاب.
15

بأبيات وعبارات من القصص والحكايات على مدعاه، وذلك ليس إلا من جهة خلط المبحث...» (1).
وأجاب عنه المصنف العلامة في رسالة مفردة سماها ب (إماطة الغين عن استعمال العين في معنيين) (2).
وأرسل المصنف نسخة منها إلى المحقق العراقي، ونسخة أخرى إلى بيت صاحبه العلامة المؤسس الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي، حيث وافاه الأجل قبل تصنيف الرسالة بأربع سنين، ونسختها موجودة عند العلامة الفقيد الشيخ مرتضى الحائري حيث رآها العلامة السيد موسى الشبيري الزنجاني - مد ظله - كما ذكره لي، والنسخة التي بخط المصنف موجودة عندنا بتمامها، فرغ منها سابع عشر شهر شعبان سنة 1359 ه‍ ق، وقد طبعت في ختام رسالة في الوضع والاستعمال ((3) للعلامة الشيخ محمد حسن القديري من غير تعرض لاسمها، ونقلها من خط والده العلامة الشيخ علي القديري من أعلام تلاميذ المصنف ويحدثنا المصنف عن علة تأليفها:.... والذي دعاني إلى تجديد القول أن عالم العصر وعلامة الزمان والعلم المشار إليه في العلمين وغيرهما بالبنان، الراقي مدارج العلم أعلى المراقي صاحبي الشيخ ضياء الدين العراقي دام فضله، شرفني بنقل مقالتي في كتاب المقالات، وقال ما نصه: «ثم إن بعض أعاظم العصر... وهذا حكومة بيني وبين المانعين».
وقبل هذا القول - جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد - المؤسس الحائري حيث قال في درره ما نصه: «اختلف في جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد... على أقوال لا يهمنا ذكرها بعد ما تطلع على ما هو الحق

(1) مقالات الأصول 1: 48.
(2) راجع صفحة 612 من هذا الكتاب.
(3) ص 73 - 81.
16

في هذا الباب، والحق الجواز، بل لعله يعد في بعض الأوقات من محسنات الكلام...» (1).
قال المصنف في (إماطة الغين) عن قبول المؤسس الحائري لهذا القول:
«عرضت ذلك على عدة من علية أهل العلم وزعمائه قابلني بالقبول عدة من أعلامهم، أكتفي بذكر واحد منهم لأنه كما قيل: (ألف ويدعى واحدا) أعني واحد الدهر وفريده، وعلامة الزمان وحفيده، صاحبي الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري بوأه الله من الجنان في خير مستقر، كما حلي عاطل جيد العلم بغالي الدرر، فإنه ذهب إلى ما ذهبت إليه بعد طول البحث في ذلك» (2).
وبعد المصنف قبل بعض الأعلام هذه المقالة منهم:
آية الله العظمى المحقق الخوئي، يقول:.... فالمتحصل من المجموع أنه لا مانع من استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد (1). واستدرك عليه بعد صفحة: نعم هو مخالف للظهور العرفي فلا يمكن حمل اللفظ عليه بلا نصب قرينة ترشد إليه (2).
ومنهم: آية الله المحقق السيد علي الفاني، حيث يقول: «فتلخص من جميع ما ذكرنا جواز استعمال لفظ واحد في غير واحد من المعاني، كما ظهر أن استشهاد شيخ مشايخنا النجفي (قدس سره) لجواز الاستعمال بأبيات عربية، واستعمالات أدبية الذي سماه بعض الأعاظم رحمه الله بالاستشهاد بأبيات وحكايات، إنما هو استدلال لإمكان الشيء بوقوعه...» (3).
ومنهم: العلامة الشيخ محمد حسن القديري، قال: «فتحصل أن استعمال

(1) درر الفوائد 1: 55، الطبعة، الحديثة.
(2) راجع صفحة 607 من هذا الكتاب.
(3) محاضرات في أصول الفقه 1: 208 و 210.
(4) آراء الأصول 1: 237.
17

اللفظ في أكثر من المعنى الواحد جائز وحقيقي» (1).
ومن متفرداته: أن جميع الاستعمالات فيما وضع له، حتى المجاز منها، وأنكر تعريف المجاز بأنه وضع اللفظ في غير ما وضع له من أصله، وأقام على دعواه البرهان والوجدان، وأول من قبل هذا القول منه العلامة الكبير الشيخ عبد الله الگلپايگاني من أعاظم تلاميذ المحقق الخراساني.
يحدثنا المصنف عن كيفية قبوله: «إني لما ألقيت هذا المذهب على جماعة من الطلبة كانوا يقرؤن علي كتاب الفصول في النجف الأشرف سنة 1316 ه‍ لم يلبث حتى اشتهر ذلك مني في أندية العلم ومجالس البحث، فتلقته الأذهان بالحكم بالفساد، وتناولته الألسن بالاستبعاد، وعهدي بصاحبي الصفي، وصديقي الوفي، وحيد عصره في دقة الفهم واستقامة السليقة وحسن الطريقة، العالم الكامل الرباني، الشيخ عبد الله الجرفادقاني، رحم الله شبابه، وأجزل ثوابه، سمع بعض الكلام علي، فأدركته شفقة الأخوة، وأخذته عصبية الصداقة، فأتى داري بعد هزيع من الليل، وكنت على السطح، فلم يملك نفسه حتى شرع بالعتاب وهو واقف - بعد - على الباب وقال: ما هذا الذي ينقل عنك ويعزى إليك، فقلت: نعم وقد أصبت الواقع وصدق الناقل، فقال: إذا قلت في شجاع:
إنه أسد، فهل له ذنب؟ فقلت له مداعبا: تقوله في مقام المدح، ولا خير في أسد أبتر، ثم صعد إلي وبعد ما أسمعني أمض الملام ألقيت عليه طرفا من هذا الكلام، فقبله طبعه السليم، وذهنه المستقيم، فقال: هذا حق لا معدل عنه ولا شك فيه، ثم كتب في ذلك رسالة سماها: فصل القضاء في الانتصار للرضا، ومن ذلك اشتهر القول به، وقبلته الأذهان الصافية، ورفضته الأفهام السقيمة» (2).

(1) رسالة في الوضع والاستعمال: 73.
(2) راجع: صفحة 114 - 115 من هذا الكتاب.
18

أقول: قال العلامة الطهراني في تعريف هذه الرسالة: «فصل القضاء للانتصار للرضا، رسالة ألفها الشيخ عبد الله الگلپايگاني (1285 - 1327) مؤلف التبر المسكوك وغيره، انتصر فيه للشيخ أبي المجد محمد الرضا الشهير بآقا رضا الأصفهاني من إنكاره المجاز رأسا، وأن جميع الاستعمالات فيما وضع له من العرب، وذكر تفصيله في كتابه (جلية الحال في معرفة الوضع والاستعمال) مطبوع» (1).
ومن الذين قبلوا من المصنف هذا القول فقيد الإسلام الحاج آغا حسين الطباطبائي البروجردي، فقال: «والحاصل أن اللفظ يستعمل دائما في نفس ما وضع له، غاية الأمر أن المراد الجدي إما أن يكون نفس الموضوع له حقيقة، وإما أن يكون عينه أو من أفراده ادعاء وتنزيلا» (2).
ومنهم: العلامة الإمام السيد روح الله الموسوي الخميني، فقال في الأمر الخامس في معنى المجاز ما نصه: «ثم إني أرى خلاف الإنصاف أن أرتضي رأيا في هذا المقام غير ما وقفت على تحقيقه من العلامة أبي المجد الشيخ محمد رضا الأصفهاني (قدس سره) في وقايته، واستفدت منه شفاها، وملخص ما أفاده..» (3).
وقال نجله العلامة السيد مصطفى الخميني: «الطريقة الثانية ما أفاده السكاكي في خصوص الاستعارات، وهو السبب لانتقال الشيخ أبي المجد محمد رضا الأصفهاني رحمه الله في الوقاية إلى تهذيبه وتوسعته فهذبه... وإلى هذه المقالة خضع جمع من الأعلام كالوالد والسيد البروجردي، وهو مما لا ينكر بنحو

(1) الذريعة 17: 234.
(2) نهاية الأصول 1: 26.
(3) تهذيب الأصول 1: 44، الطبعة الحديثة.
19

الإجمال بالضرورة» (1).
ومنهم: العلامة الشيخ محمد حسن القديري، فقال في رسالته في الوضع والاستعمال: «وحيث ان هذا الكلام مرضي عندي أيضا أنقل ما أفاده من وقايته أداء لحقه وحق والدي رحمة الله عليهما» (2).
ومن متفرداته: حجية قول اللغوي، قال المصنف: «وكيف يعد الرازي والقرشي من أهل صناعة الطب، ولا يعد الخليل وأبو عمرو بن العلاء من أهل صناعة اللغة ثم إن أئمة هذا الفن هم الأئمة المقتدى بهم في علمي النحو والصرف وغيرهما من العلوم العربية، فكيف صار كلامهم حجة في تلك العلوم دونها؟ وبأي وجه لا يصدق الخليل وهو الوجه والعين فيما ينقله عنه صاحب الكتاب من وجوه الإعراب؟ هذا هو الحيف، إلا أن يمنع هذا المانع حجية أقوالهم في جميعها، فتكون هذه الطامة جناية على علوم العربية عامة» (3).
وعلق على أبي عمرو بن العلاء بقوله: «الإمام المعروف أحد السبع الذي اتفق الأصحاب على صحة قراءته، فكيف يؤتمن على كلام الله تعالى ولا يؤتمن على كلام العرب» (4)؟.
الثاني من مختصات الوقاية:
قلم مصنفها العربي الذي لا يكاد يشم منها رائحة العجمة، حتى أنه انتقده بعض الأعاجم لهذه الجهة.
يحدثنا المصنف عن ذلك، فيقول: «بلغني أن بعض فضلاء العجم اطلع على أجزاء من هذا الكتاب، فقرضه أبلغ تقريظ، واثني عليه أحسن الثناء، ولكنه انتقد عليه بعبارة فارسية، محصلها: أن عبارته عريقة في العربية لا تشبه متعارف

(1) تحريرات في الأصول 1: 88 - 89.
(2) رسالة في الوضع والاستعمال: 55.
(3 - 4) راجع: صفحة 510 من هذا الكتاب.
20

الكتب الأصولية، لك العتبى أيها الفاضل فلك علي يد لا أجحدها، ونعمة أشكرها، وذلك مني طبيعة لا تطبع، وجري على ما تعودته لا تكلف، وإني لم أتعود منذ نعومة الأظفار ومقتبل الشباب إلا هذا النمط من الكتابة (وصعب على الإنسان ما لم يعود) على أن هذا عند ذوي الآداب لا يحط من قدر الكتاب بل يزينه ولا يشينه، ويغلي قدره ولا يرخصه.
وإذا محاسني التي أزهو بها * صارت مثالب لي فما ذا أصنع.
وشتان بين هذا الفاضل وبين أحد علماء العراق، وقد بلغني قوله فيه: هو أول كتاب في فن الأصول ملؤه دقائق عجمية بعبارات عربية (1).
الثالث من مختصات الوقاية التي زادها الله شرفا:
أن مصنفها من أجلة تلامذة العلامة السيد محمد الفشاركي الأصفهاني، ومن الذين حضروا دروس السيد في سامراء والغري الشريف.
ومن الأسف أن آثار السيد لم تصل إلينا حتى وريقة منها، فهذا الكتاب يصح أن يعد من لباب أفكاره وآثاره حيث قال المصنف في أول كتابه: ترجمة مختصرة لسيدنا الأستاذ السيد محمد الفشاركي... وأما وصف محاسن خلاله ومحامد أقواله وأحواله وأفعاله وما منحه الله من العلم والتقوي وحسن البيان وطلاقة اللسان، فإنه يدع سحبان وائل وهو أعيا من بأقل، وهذا أمر أعترف بعجزي عنه، فليعذرني الناظر وما أساء من اعتذر، ولو لا خوف تسرع القراء إلى الإنكار لذكرت بعضها، ولكن صدور الأحرار قبور الأسرار، وحسبك منها ما تراه في خلال هذا الكتاب من غرر فوائده، ومن رأي من السيف أثره فقد رأى أكثره، واسأل الله أن يجزيه عنا أفضل جزاء المحسنين، ويحشره مع أجداده الطاهرين،

(1) راجع: صفحة 603 من هذا الكتاب.
21

وأنا أعبر عنه بالسيد الأستاذ أو سيدنا الأستاذ (1).
الرابع:
صار الكتاب من ابتداء تأليفه مصدرا للتدريس والتحقيق والتحشية، ومن المحشين على الوقاية نجل المصنف والدنا العلامة الفقيد آية الله العظمى الحاج الشيخ مجد الدين (مجد العلماء) النجفي الأصفهاني رحمه الله (1326 - 1403 ه‍) وأنت تجد حاشيته الموجزة على مقدمة الوقاية المسماة ب (سمطا اللئال) وعلى متن (الوقاية) في الهامش مع رمز (مجد الدين).
ومن المحشين العلامة الفقيد الشيخ يحيى الهرندي الشهير ب (الفاضل الهرندي) (ت 1369)
(2).
ومن المحشين العلامة الفقيد الشيخ علي القديري (ت 1407 ه‍) (3) وقد تعرض لبعض أبحاثه نجله العلامة الشيخ محمد حسن القديري في رسالته في الوضع والاستعمال فراجع.
تنبيه:
عبر المصنف في كتابه عن بعض أساتيذه بالوصف.
فقد عبر عن أستاذه السيد محمد الفشاركي بسيدنا الأستاذ أو السيد الأستاذ، وعبر عن أستاذه المحقق الخراساني بالشيخ الأستاذ، وبعضا بصاحب الكفاية، وعبر عن أستاذه السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي ببعض أساتيذنا، وعبر عن صديقه الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري بصاحبنا العلامة.

(1) راجع الصفحات 143 - 146.
(2) ذكره العلامة المهدوي في (تاريخ علمي واجتماعي أصفهان در دو قرن أخير) 2: 354 و في (دانشمندان وبزرگان أصفهان): 456.
(3) ذكره في (تاريخ علمي واجتماعي أصفهان در دو قرن أخير) 2: 328.
22

هذا وقد نقل المصنف في الكتاب بعض مناظراته مع بعض أساتيذه، يحدثنا عن إحداها، فيقول:
وعهدي بمجلس حافل اجتمعت فيه بخدمة الشيخ الأستاذ صاحب الكفاية (طاب ثراه) وأنا إذ ذاك غلام قد بقل خدي أو كاد، فجرى حديث هذه المسألة وكان من أشد المنكرين للمقدمة الموصلة، وبعد بحث طويل أوردت عليه أمثال هذه الأمثلة، فلم يكن جوابه إلا قوله:
إن معك الوجدان ومعي البرهان، فقلت: إن أقصى مدارج العلم أن تنتهي مسائله إلى الوجدان، فإذا سلمته وعجزت عن الجواب - ولا أعجز إن شاء الله - فليس البرهان إلا شبهة في مقابلة البداهة، فسكت رحمه الله ولم ينبس بنت شفة، واشتهر بين أهل النظر أمر هذه المناظرة (1).
وأنت إذا تأملت وتفحصت أوراق الكتاب تجد مزايا فريدة اختص بها مصنفه ومصنفه.
تذكرة:
قال المصنف في ديوانه المطبوع وقد بعث بكتاب الوقاية من تصنيفه في علم الأصول إلى بعض أصحابه وكتب على غلافه:
وقيت كل الرزايا لما أتتك الوقاية خذها ودع ما سواها فإن فيها (الكفاية) (2)

راجع صفحة 264 من هذا الكتاب.
(2) يريد «كفاية الأصول» للمولى محمد كاظم الآخوند الخراساني.
23

إن (الهداية) (1) منا * بداية ونهاية (2)
تقدير وشكر:
يجب علي أن أشكر من سعى لتخريج هذا الكتاب ثانيا بهذه الصورة الزاهية، وهم:
العلامة الفقيه آية الله الحاج السيد مصطفى المهدوي الأصفهاني (3) مد ظله، وهو من أعلام تلاميذ المصنف، والمجازين منه.
وحجج الإسلام أصحاب مؤسسة آل البيت، أيدهم الله لا سيما من حجة الإسلام المحقق الشيخ محمد الباقري حفظه الله، وعلى رأسهم عميدها العلامة المحقق حجة الإسلام السيد جواد الشهرستاني دامت بركاته، حيث حققوا وطبعوا ونشروا الكتاب للمرة الثانية، فجزاهم الله خيرا.
وولدي العزيز حجة الإسلام الشيخ محمد هادي النجفي حفظه الله تعالى حيث بذل من جهده الكثير لطبع هذا الكتاب الشريف.
تمت هذه المقدمة على يد العبد الشيخ مهدي مجد الإسلام النجفي في ليلة الجمعة الحادي عشر من شهر صفر المظفر سنة 1409 ه‍ ببلدة أصفهان صانها الله تعالى عن الحدثان، والحمد الله أول وآخرا وظاهرا وباطنا.

(1) يريد " هداية المسترشدين في شرح معالم الدين " لجده الشيخ محمد تقي الأصفهاني.
(2) ديوان أبي المجد: 146.
(3) لقد سبقت كتابة المقدمة وفاته " رضوان الله تعالى عليه ".
24

ترجمة المصنف
من كتاب «المفصل في تراجم الأعلام» للعلامة المحقق السيد أحمد الحسيني.
العلامة المتبحر في الفنون والعلوم، الأديب الكبير، والشاعر القدير، آية الله الشيخ أبو المجد محمد رضا بن الشيخ محمد حسين بن الشيخ محمد باقر بن الشيخ محمد تقي بن محمد رحيم بيك الأيوان كيفي الرازي الأصبهاني المعروف بالمسجد شاهي.
عشيرته وبيته:
أصله من عشيرة «استاجلو» وجده الأعلى الحاج محمد رحيم بيك، المتوفى سنة (1217 ه‍) انحدر من هذه العشيرة، وقيل: هو أول من سكن أصبهان.
كان آباء أبي المجد من العلماء المشاهير، والفضلاء ذوي الأقدار والمكانة، كما أن أمه العلوية (السيدة ربابة سلطان بيكم) بنت السيد محمد علي المعروف بآقا مجتهد بنت السيد محمد باقر الأصفهاني المعروف بحجة الإسلام الشفتي من بيت السيادة والشرف الجامعين للعلم والفضيلة.
25

وأم أبيه العلوية بنت السيد صدر الدين العاملي، وأم جده الشيخ محمد باقر، هي (نسمة خاتون) بنت الفقيه الأكبر الشيخ جعفر الجناجي النجفي صاحب كتاب «كشف الغطاء» وأبوه الشيخ
محمد حسين الأصبهاني المتوفى سنة (1308 ه‍) من وجوه تلامذة الإمام المجدد الميرزا محمد حسن الشيرازي.
وجده الشيخ محمد باقر الأصبهاني المتوفى سنة (1301 ه‍) من أعاظم علماء أصبهان والفقهاء في عصره.
وجده الأعلى الشيخ محمد تقي الأصبهاني المتوفى سنة (1248 ه‍) معروف بالتحقيق في الفقه والأصول وهو صاحب الكتاب المعروف «هداية المسترشدين في شرح معالم الدين».
قال الشيخ آقا بزرگ الطهراني: «آل صاحب الحاشية» بيت علم جليل في أصفهان، يعد من أشرفها وأعرقها في الفضل، فقد نبغ فيه جمع من فطاحل العلماء ورجال الدين الأفاضل، كما قضوا دورا مهما في خدمة الشريعة، ونالوا الرئاسة العامة، لا في أصفهان فحسب، بل في إيران مطلقا، والمترجم له - يقصد الشيخ محمد رضا - آخر عظماء هذه الأسرة الذين دوي ذكرهم، واجتمعت الكلمة عليه، وإلا ففيهم اليوم علماء، وفضلاء، وأجلاء، لكن لا يقاسون بصاحب العنوان ومن سبقه.
مولده ونشأته:
ولد بالنجف الأشرف قبل ظهر يوم الجمعة عشرين شهر محرم سنة (1287 ه‍) (1) وبها نشأ نشأته الأولى، وتعلم القراءة والكتابة.

(1) قال أبو المجد في تاريخ ولادته:
واذا عددت سني ثم نقصتها * زمن الهموم فتلك ساعة مولدي
26

وفي التاسعة من عمره ذهب به أبوه إلى أصبهان فقرأ النحو وكتاب «نجاة العباد» و «معالم الأصول» و «شرح اللمعة» على السيد إبراهيم القزويني، و «الرسائل» و «الفصول» وعلم العروض والحديث على أبيه وآخرين.
وفي شهر ذي الحجة من سنة (1300 ه‍) عاد إلى النجف بصحبة أبيه وجده الشيخ محمد باقر الأصبهاني، ودرس بها على علمائها الاعلام، فتتلمذ في الفقه والأصول على الميرزا حبيب الله الرشتي، والحاج آقا رضا الهمداني، والمولى محمد كاظم الآخوند الخراساني، والسيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، والسيد إسماعيل الصدر، وشيخ الشريعة الأصبهاني.
ولما هبط النجف السيد محمد الفشاركي الأصبهاني مهاجرا من سامراء صحبه شيخنا صاحب الترجمة، ولازمه فاستفاد منه كثيرا، وكان كثير الثناء عليه بحيث كان يعتقد بأن استفادته منه على قصر المدة فوق ما حصل عليه من الآخرين، وبعد وفاة أستاذه هذا لم يدرس عند شيخ آخر.
وأخذ علوم الحديث والرجال والدراية عن الميرزا حسين النوري صاحب «المستدرك» والسيد مرتضى الكشميري.
وقرأ العلوم الرياضية وجانبا من علم الفلسفة على الميرزا حبيب الله الطهراني الشهير بذي الفنون.
وتخرج في الأدب والشعر على شاعر عصره الشهير السيد جعفر الحلي، وساجل كبار شعراء العراق حتى برع في الشعر العربي، ونظم فيه فأجاد كل الإجادة.
ثقافته العالية:
كان شيخنا أبو المجد يتمتع بذكاء وعبقرية وحافظة ممتازة، وفي أيام دراسته جد في التحصيل، واجتهد في اكتساب العلوم والمعارف الدينية والزمنية،
27

وخالط في النجف وأصبهان وكل مدينة حل بها كبار العلماء والمجتهدين وذوي المكانة العلمية العالية، بالإضافة إلى مواهبه الجيدة التي منحه الله تعالى إياها، فكانت حصيلتها ثقافة عالية، وإحاطة بالعلوم الإسلامية المتداولة ومعرفة تامة بالعلوم العصرية، واعترف له بالتقدم كل من ترجمه وعاصره وعاشره.
قال الشيخ آقا بزرگ الطهراني: «جد في الاشتغال في دوري الشباب والكهولة حتى أصاب من كل علم حظا، وفاق كثيرا من أقرانه في الجامعية والتفنن، فقد برع في المعقول والمنقول، وبرز بين الاعلام متميزا بالفضل، مشارا إليه بالنبوغ والعبقرية، وذلك لتوفر المواهب والقابليات عنده، حيث خصه الله بذكاء مفرط، وحافظة عجيبة، واستعداد فطري، وعشق للفضل، وقد جعلت منه هذه العوامل إنسانا فذا وشخصية علمية رصينة تلتقي عندها الفضائل».
«كان مجتهدا في الفقه، محيطا بأصوله وفروعه، متبحرا في الأصول، متقنا لمباحثه ومسائله، متضلعا في الفلسفة خبيرا بالتفسير، بارعا في الكلام والعلوم الرياضية وله في كل ذلك آراء ناضجة ونظريات صائبة».
«أضف إلى ذلك نبوغه في الأدب والشعر، فقد ولع بالقريض، فصحب فريقا من أعلامه يوم ذاك كالسيد جعفر الحلي - وكان تخرجه عليه كما حدث به - والسيد إبراهيم الطباطبائي، والسيد محمد سعيد الحبوبي، والشيخ عبد الحسين الجواهري، والشيخ هادي آل كاشف الغطاء، والشيخ جواد الشبيبي، والشيخ محمد السماوي وغيرهم، عاشر هؤلاء الأفذاذ زمنا طويلا ونازلهم في سائر الحلبات والأندية الأدبية النجفية حتى برز بينهم مرموقا بعين الإكبار والإعجاب والتقدير».
«وإن شعره وشاعريته في غنى عن الإطراء والوصف، إذ لا ينكر أحد مكانته بعد أن بذ كثيرا من شعراء العرب، وتفوق على بعض زملائه المذكورين الذين تمحضوا للشعر فقط، فحير عقولهم، وأذهل ألبابهم لبراعته في الأدب،
28

وفهمه لأسراره، وإحاطته بالمفردات اللغوية إحاطة تندر عن العلماء، أضف إلى ذلك تأثره بالصفي الحلي وعشقه لأنواع البديع، ولا يكاد يخلو من ذلك شيء من نظمه».
«وكان حلو المعشر، ظريف المحضر، كثير المداعبة، جميل المحاورة، يرصد النكتة ويجيد النادرة لكنه لا يخرج عن الآداب العرفية، ولا يجره ذلك إلى الخفة والرعونة مهما كانت النادرة مضحكة، بل يبلى المستمعين بذلك ويبقى محافظا على وقاره ورزانته، وهو حتى في حال النظم والمساجلة يبدو عالما أكثر منه شاعرا كما أن نكاته الشعرية علمية على الأكثر».
ان أبا المجد، هذا العالم النحرير الذي اعترف بفضله وفضيلته عارفوه يعاني الفقر والإعواز، ويشكو قلة ما في يده، ويتضجر إلى خلص أصدقائه مما يمسه من آلام الحاجة، وربما يبث ذلك في شعره ونثره.
قال الشيخ آقا بزرگ الطهراني بهذا الصدد:
«ومع تلك المكانة العلمية والشهرة لم تكن حالته المادية على ما يرام، فكان غير مرتاح دائما كما يبدو ذلك من مكاتيبه لي، فتراه يتمثل في آخر «تنبيهات دليل الانسداد» بقول الشاعر:
بيني وبين الدهر حرب البسوس * إن شئت شرح الحال بينا نسوس
ويقول في الفائدة الفقهية الملحقة به عند ذكره لأيام سكناه بكربلاء:
لقلت لأيام مضين ألا ارجعي * وقلت لأيام أتين ألا أبعدي»
في أصبهان:
بعد أن استحصل شيخنا المترجم له العلم في الحوزة العلمية بالنجف الأشرف أكثر من ثلاثين سنة، وبلغ المرتبة السامية من الثقافة العالية عزم في سنة (1333 ه‍) على العودة إلى أصبهان للمضايقات والفتن التي كان يصيبه
29

طرف منها بسبب قيام الحرب العالمية، فخرج من العراق بصحبة الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي إلى (سلطان آباد) حيث بقي الشيخ الحائري بها، وأم أبو المجد أصبهان فوصلها في يوم
الثلاثاء غرة شهر محرم سنة (1334 ه‍).
قوبل في أصبهان بحفاوة وإكبار بالغين، وحصل له ما كان لسلفه الأعلام من الزعامة الدينية والمكانة الروحية، فنهض بأعباء الرئاسة والهداية والإرشاد والتوجيه، وقام مقام والده في سائر الوظائف الشرعية من الإمامة والتدريس ونشر الأحكام وتمهيد قواعد العلم.
كان يقيم صلاة الجماعة في المسجد المعروف ب «مسجد نو» وهو من المساجد المهمة المزدحمة في سوق أصبهان.
وكان محبوبا عند سائر الطبقات، له مكانة عظيمة واحترام فائق، وذلك لبشاشة وجهه وحسن أخلاقه وظرفه المحبب في أحاديثه الخاصة والعامة، لا تخلو محافله من نكات أدبية طريفة تهش إليها الأسماع وتتفتح لها القلوب.
أما تدريسه فقد ولع به الكثيرون من الطلاب وأرباب الفضل، وذلك لبلاغة تعبيره، وحسن تقريره وجامعيته، فقد كان يشفع أقواله بالأدلة والشواهد من الشعر الفارسي والعربي وأقوال اللغويين وأكابر السلف.
وفي سنة (1344 ه‍) ذهب إلى قم، وبقي بها مدرسا نحو سنة واحدة، فتزاحم على مجالس درسه أفاضل الطلاب والمتعلمين، وكان زعيم الحوزة العلمية في قم المغفور له الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري يوصي الطلبة بالحضور لديه والاستفادة منه، ويشجعهم على ذلك لما يعلم من مبلغ علمه وإحاطته بالعلوم الحوزوية وغيرها، إذ كان شريك درسه عند بعض الشيوخ الأساتذة، وكان يدرك فائدة وجوده في الحوزة، ولكن اضطر - شيخنا المترجم له - إلى العودة إلى أصبهان وترك قم.
30

نظرة في شعره:
عالج أبو المجد في شعره أغراضا إخوانية أكثر من غيرها فقد مدح أناسا كان يكبرهم ويقدر شخصيتهم، ويراهم أهلا للإكبار والتقدير، وأكثر هؤلاء ذكرا في شعره وجوه علماء آل كاشف الغطاء، وجماعة من معاريف شعراء عصره ممن كان له بهم صلات ودية ومساجلات شعرية، وربما هجا أناسا اصابته منهم آلام روحية، ولكن بأبيات قليلة ذات محتوى مقذع.
وبعد إخوانياته تأتي المعاني الأخرى التي طرقها في شعره في مقاطيع قصيرة لا تتجاوز الأبيات، وهي مع قلة الأبيات مفعمة بالمعاني الراقية والصنائع البديعية وألوان من التورية والجناس وغيرهما من اللطائف التي تطرب القارئ المتذوق.
والميزة التي اتفق عليها واصفو شعره التركيب العربي الذي لا تشوبه العجمة، ولا يسري إليه الضعف اللغوي الموجود في شعر كثير من أبناء الفرس الذين يعانون الشعر العربي وينظمون في هذه اللغة، فكأنه خلق عربيا في بيئته وثقافته ولم يزاول لغة أخرى تشوب لغته الخالصة.
قال الأستاذ علي الخاقاني يصف مواهب أبي المجد الشعرية:
«لا مجال لأي أديب أن يجحف حق الأصفهاني وأدبه الذي فاز به على كثير من أدباء العرب، ومن تأمل في سيرته لا شك يرى أن المترجم له قد تجلت فيه بعض ظواهر العبقرية فإحاطته بالأدب، وفهمه لأسراره، وتوغله بالتتبع ووقوفه على المفردات اللغوية تدلنا على ذكاء وحافظة نادرين، وشعره تأثر فيه بالصفي الحلي ومدرسته، فقد عشق البديع وأنواعه، وتأثر بالنكات الأدبية الدقيقة، ولا يكاد يخلو كل بيت له من ذلك، وتفوقه في المعنى هو من فهمه للأدب الفارسي الذي عرف بسعة الخيال والابتكار في المعاني، فلا بدع - إذن - امتيازه في
31

شعره الذي لم يتعد كونه - لفظيا - بأسلوب اختلف فيه عن كثير من شعراء عصره».
وقال السيد محسن الأمين العاملي:
«له شعر عربي فائق، لا يلوح عليه شيء من العجمة، رغما عن أنه نشأ مدة في بلاد العجم بعد ولادته في النجف، وذلك لاختلاطه بأدباء النجف بعد عودة إليها مدة طويلة وملازمته لهم وتخرجه بهم كما مرت الإشارة، ويكثر في شعره أنواع البديع والنكات الأدبية الدقيقة، وقلما يخلو بيت له من ذلك، ويصح أن يقال فيه:
إنه نظم المعاني الفارسية بالألفاظ العربية، كما قيل في مهيار».
من شعره هذه الأبيات الرقيقة في شكوى الزمان:
ليل الشباب إذ غدا مفارقي * لاح صباح الشيب في مفارقي
ليت بياض ذي الصباح ما بدى * ودام لي ذاك السواد الفائق
قد شاب لهوي مثل ما شبت فلا * أصبو لذات القرط والقراطق
لا أستعير الغصن للقد ولا * أشبه الخدود بالشقائق
أصبو إلى الدنيا وأدري انها * معشوقة تمطل وعد العاشق
فلست بالذليل لما أدبرت * ولا على إقبالها بالواثق
ما شمت برقا قط الا خلبا * وما رأيت ضوء برق صادق
فليقطعني معشري فإنني * قطعت منهم قبلهم علائقي
ما القرب في الأنساب نافع إذا * تباعد الأرحام في الخلائق
كم عارض [منهم] رجوت سيبه * ‌ فلم أصب منه سوى الصواعق
لا غرو ان حرمته فان ذا * جزاء من يأمل غير الخالق
ليس ابن عمي مانع الرزق ولا * عمي من دون الإله رازقي
أعضل داء قلة الحظ فكم * أعيا دواه كل طب حاذق
فكم ترى مقصرا في حلبه * ‌أوهمه الحظ بوهم السابق
32

يا نفس لي من الآباء شيمة * فصاحبيني مرة أو فارقي
لا رجعت كفى إلي بعد ما * لحاجة مدت إلى الخلائق
اني امرؤ لا اليسر يطغيني * ولا العسر عن الجود تراه عايقي
لي سيف عزم ما نبا قط ولا * نجاره فارق يوما عاتقي
نثره الفني:
تختلف طريقة نثر أبي المجد في تآليفه عن رسائله الخاصة إلى بعض الأدباء وما يسمى ب «النثر الفني».
فهو في كتبه ناثر سهل التعبير جيد الأداء لا تعقيد فيه ولا تقييد بالصنائع اللفظية، إلا ما يأتي عفوا على جري القلم لأمثاله من الأدباء المتوغلين في الأدب.
وهو في مؤلفاته العلمية يجد في أن يعطي صورة واضحة عما يريد البحث عنه، فيبتعد سعيا وراء المعنى عن المحسنات الظاهرية للجمل والتعابير، تلك المحسنات التي توجب لا محالة تعقيدا يكلف القارئ مزيدا من الجهد في فهم المقصود.
أما نثره الفني في رسائله إلى إخوانه الأدباء فهو على طريقة القدماء ملتزم بالسجع، ومقيد بالصنائع البديعية، واختيار المواد اللغوية المحتاجة في استكشاف معنى بعض موادها إلى الرجوع إلى قواميس اللغة والمصادر الأدبية.
وهذه الطريقة مع ما فيها من جمال فني لا تخلو عن التعقيد في تركيب الجمل، وطنطنة في الألفاظ، إلا أن أبا المجد لتمكنه من علم اللغة وطول دراسته لآدابها يظهر فيما يكتبه كاتبا قديرا، كأن الألفاظ جاءت طيعة لقلمه موضوعة في مواضعها اللائقة بها.
وإليك فيما يلي قطعة من رسالة كتبها أبو المجد إلى صديقه العلامة الشيخ
33

محمد الحسين آل كاشف الغطاء:
«يا من ذكرني حين نسيني بقية الأصحاب، وسلك معي طريق الوفاء مذ جفاني الأخدان والأتراب، كيف أطيق أن أؤدي شكر جميلك بلسان القلم وأنت المعجز للعرب الفصحاء فكيف بالأعجم الأبكم، وقد وصلت القصيدة المزرية بعقود الجمان، فقلت: سبحان من خلقت وعلمك البيان، امتثلت أمرك برد الجواب مع علمي بأني لست من فرسان هذا الميدان ولو أصبحت من نابغة بني ذبيان ولكني رأيت امتثال أمرك من الفرض الواجب، فبعثت بأبيات أرجو من فضلك العفو عن جميعها، فلو لا اشتمالها على مدحك لقلت: كلها معايب، وكيف يبلغ حضيض الأرض ذرى كيوان، أم كيف يقابل بصغار الحصى غوالي الدر والمرجان».
مع معاصريه من الأدباء والشعراء:
لقد سبق منا القول بان أبا المجد كان يحتل مكانة سامية بين أدباء العراق عامة وشعراء النجف الأشرف خاصة، فان الصلات الودية كانت وثيقة بينه وبينهم، يحضر محافلهم الأدبية ويشاركهم في أفراحهم وأحزانهم بما تجود به القرائح من النكات الطريفة وأبيات تثيرها المناسبات، كما كان يساجلهم نظما ونثرا عند ما تبتعد الديار ويفصل بينهم الزمان.
ولقد حفظت الدواوين الشعرية بعض القصائد والمقطوعات التي أنشدها الشعراء في مدح أبي المجد والثناء على فضله وعلمه وخلقه الرفيع، يطول الكلام بذكرها كلها ولكن لا بأس بذكر نماذج منها فيما يلي:
قال صديقه السيد جعفر الحلي في قصيدة يرثي بها والده الشيخ محمد حسين الأصبهاني:
لا أسخطن من الزمان لفعله * وأرى (الرضا) بعلى أبيه قمينا
مولى تحمل علم أهل البيت بالإلهام * لا كسبا ولا تلقينا
34

يرنو المغيب في فراسة مؤمن * فبحدسه تجد الظنون يقينا
سبط اليمين فلو رأتها ديمة * حلفت وقالت ما وصلت يمينا
ولأنشدتها إذ يمزقها الهوى * (ما ذا لقيت من الهوى ولقينا)
وإذا نظرت لحسنه ووقاره * فلقد رأيت البدر والراهونا
لو تنظر الحرباء ليلا وجهه * لتلونت فرحا به تلوينا
وكتب إليه الشيخ محمد علي اليعقوبي النجفي قصيدة أولها:
أبا المجد حسب المجد فخرا بأنه * يكنيك فيه حاضر الناس والبادي
ورثت المزايا الغر عن خير أسرة * وأنجب آباء وأطيب أجداد
ومن قصيدة للسيد علي العلاق كتبها له مراسلا:
يا مهر لا تسأم فعند الص * بح يحمد منه مسرى
ولسوف ترضى بالرضا * ملكا أعار العدل كسرى
ندب يرى حبس الندى * فقرا وبذل المال وفرا
بحر يزجي السحب للنا * ئي ويقري الوفد درا
وإذا تكلم خلته * ليثا بأجمته هزبرا
قد شاد بنيان المعا * لي فاطمأن بها وقرا
نشرت فضائله فشع * ت في سماء المجد زهرا
وجرت أنامله فسح * ت في ثرى الغافقين تبرا
وشدت محامده فطب * ق نشرها الملوين عطرا
من خير قوم وطئوا * من جامع الأيام ظهرا
* * *
35

شيوخه في رواية الحديث:
1 - شيخ الشريعة الأصبهاني.
2 - السيد حسن الصدر الكاظمي، أجازه ليلة السبت 14 ذي القعدة سنة (1333 ه‍).
3 - ميرزا حسين النوري، أجازه في الحائر الحسيني بكربلاء.
4 - الشيخ محمد باقر البهاري الهمداني.
5 - السيد محمد بن المهدي القزويني الحلي.
6 - السيد حسين بن المهدي القزويني الحلي.
المجازون منه وتلاميذه:
كتب شيخنا - المترجم له - إجازات مبسوطة لبعض المستجيزين منه أحال إليها في بعض إجازاته المختصرة، وبلغت إجازاته أكثر من مائة إجازة حديثية، وقد أجاز بعض هؤلاء أيضا بإجازات اجتهادية وفيما يلي أسماء من اطلعنا عليه من المجازين منه وتلاميذه:
1 - سماحة السيد أحمد الحسيني الزنجاني.
2 - الشيخ أحمد الفياض الفروشاني.
3 - سماحة السيد أحمد الموسوي الخوانساري.
4 - السيد إسماعيل الهاشمي الأصفهاني.
5 - الشيخ إسماعيل الكلباسي.
6 - الشيخ محمد باقر النجفي الأصفهاني.
7 - الشيخ محمد باقر الكمره اي.
8 - الشيخ محمد تقي النجفي الأصفهاني.
36

9 - الدكتور محمد حسن سه چهاري.
10 - الشيخ محمد حسين الفاضل كوهاني.
11 - السيد محمد حسين الموسوي بيدآبادي.
12 - الدكتور محمد حسين الضيائي القمي.
13 - الشيخ محمد حسين النجفي الأصفهاني.
14 - الشيخ حيدر علي المحقق.
15 - الميرزا خليل الكمره اي.
16 - السيد محمد رضا الشفتي.
17 - السيد محمد رضا الخراساني.
18 - سماحة السيد محمد رضا الموسوي الگلپايگاني.
19 - الشيخ محمد رضا الطبسي.
20 - الحاج آقا رضا المدني الكاشاني.
21 - سماحة الإمام الفقيد الحاج آقا روح الله الموسوي الخميني.
22 - سماحة السيد شهاب الدين النجفي المرعشي.
23 - السيد زين العابدين الطباطبائي الأبرقوئي.
24 - الشيخ عباس علي الأديب الأصفهاني.
25 - السيد عبد الحجة البلاغي النائيني.
26 - ولده الشيخ عز الدين النجفي الأصفهاني.
27 - الشيخ عبد الحسين ابن الدين.
28 - الشيخ عبد الله المجتهدي التبريزي.
29 - الشيخ علي المشكاتي.
30 - الشيخ علي القديري.
31 - سماحة السيد علي العلامة الفاني الأصفهاني.
37

32 - الشيخ محمد علي المعلم حبيب آبادي.
33 - الميرزا محمد علي المدرس التبريزي.
34 - السيد علي نقي النقوي الكهنوي.
35 - الدكتور السيد كمال الدين النور بخش.
36 - السيد مجتبى الصادقي.
37 - نجله الشيخ مجد الدين النجفي الأصفهاني.
38 - الشيخ مرتضى المظاهري النجفي.
39 - الشيخ مرتضى الأردكاني.
40 - الميرزا محمد الثقفي الطهراني.
41 - السيد مصطفى الصفائي الخوانساري.
42 - السيد مصطفى المهدوي الأصفهاني.
43 - العلوية نصرت بيكم الأمين.
44 - الشيخ يحيى الفاضل هرندي.
ولتفصيل تراجمهم راجع المجلد الثاني من كتاب «تاريخ علمي واجتماعي أصفهان در دو قرن أخير» (بيان سبل الهداية في ذكر أعقاب صاحب الهداية).
مؤلفاته:
لشيخنا أبي المجد حواش كثيرة على الكتب التي كان يقرؤها في الفقه والأصول والحديث والتفسير والكلام والتراجم والأدب، فكان يدون ما يرتئيه من النقد والرد والشواهد وغيرها، وفيما يلي قائمة بتآليفه المدونة المطبوعة وغير المطبوعة.،
الإجازة الشاملة للسيدة الفاضلة، إجازة حديثية كتبها للحاجية أمينة الأصبهانية، وقد طبعت في آخر كتاب «جامع الشتات» للمجازة.
38

* أداء المفروض في شرح أرجوزة العروض، والأرجوزة لميرزا مصطفى التبريزي، طبع.
* استيضاح المراد من قول الفاضل الجواد، وهو بحث فقهي في ملاقي المتنجس طبع.
* إماطة الغين عن استعمال العين في معنيين فرغ منها سنة (1359 ه‍).
* الأمجدية في آداب شهر رمضان المبارك ألفه باسم ولده الشيخ مجد الدين طبع ثلاث مرات.
* الإيراد والإصدار، في حل مسائل مشكلة من فنون متفرقة.
* تصانيف الشيعة، خرج منه قليل.
* تعريب رسالة السير والسلوك، للسيد بحر العلوم.
* تنبيهات دليل الانسداد، وهو فصل من كتابه الكبير «وقاية الأذهان» طبع بأصبهان سنة (1346 ه‍).
* جلية الحال في مسألتي الوضع والاستعمال، ويسمى: سمطا اللئال في مسألتي الوضع والاستعمال، وهو كالمدخل لكتابه الكبير في الأصول «وقاية الأذهان» طبع.
* حاشية أكرثا وذو ذوسيوس.
* حاشية ديوان المتنبي، كتبها بين سنتي (1354 - 1356 ه‍) وهي غير مدونة.
* حاشية روضات الجنات، طبعت.
* حلي الزمن العاطل فيمن أدركته من الأفاضل.
* ديوان شعره، طبع باسم «ديوان أبي المجد» بتحقيق السيد أحمد الحسيني في عام 1408 بقم المقدسة.
* ذخائر المجتهدين في شرح كتاب «معالم الدين في فقه آل يس» لم يتم،
39

وفرغ من كتاب النكاح منه سنة (1312 ه‍).
* الرد على «فصل القضاء في عدم حجية فقه الرضا».
* الروض الأريض فيما قال أو قيل فيه من القريض.
* الروضة الغناء في تحقيق الغناء، سمى الشيخ - المترجم له - نفسه في هذه الرسالة «عبد المنعم بن عبد ربه» وقد طبعت في مجلة «نور علم» السنة الثانية ع 4 - 123، وترجمت إلى الفارسية وطبعت في مجلة «كيهان انديشه» ع 18 - 104.
* سقط الدر في أحكام الكر.
* السيف الصنيع على رقاب منكري علم البديع، ألفه سنة (1324 ه‍).
* العقد الثمين في أجوبة مسائل الشيخ شجاع الدين.
* غالية العطر في حكم الشعر.
* القبلة، رسالة.
* القول الجميل إلى صدقي جميل، رد على الزهاوي.
* گوهر گرانبها در رد عبد البهاء.
* نجعة المرتاد في شرح نجاة العباد، ويسمى أيضا «كبوات الجياد في حواشي ميدان نجاة العباد».
* نقد فلسفة داروين، ثلاثة اجزاء، طبع الأول والثاني منها ببغداد سنة (1331 ه‍)، النوافج والروزنامج.
* وقاية الأذهان والألباب ولباب أصول السنة والكتاب - وهي بين يديك - طبع قطع من هذا الكتاب بأصبهان باسم «وقاية الأذهان» و «تنبيهات دليل الانسداد» و «سمطا اللئال في مسألتي الوضع والاستعمال».
40

وفاته:
توفي - قدس الله سره - بأصبهان يوم الأحد رابع عشرين من شهر محرم الحرام سنة (1362 ه‍) وكان يوم وفاته يوما مشهودا، عطلت له الأسواق، وشيع تشييعا حافلا حتى دفن بتخت فولاد في مقبرة جده الشيخ محمد تقي الأصبهاني.
مراثيه:
رثاه جمع من الشعراء والعلماء:
1 - منهم المؤرخ الأنصاري
بقوله:
لقد أفل الكواكب مذ توفي * رئيس العلم في ذاك الزمان
محمد رضا الغروي شيخ * سماء العلم لأهل الاصبهان
ولما راح راح الروح عما * به شأن البيان من المعاني
تمنى الجابري بأن يؤرخ * وكل لسانه عند البيان
إذا جاء البشير وقال أرخ * «لقد أوى الرضا بالجنان»
1321 الشمسي
2 - ومنهم الحاج الميرزا حبيب الله النير بقوله:
يا دهرا ذهبت بآية الله * غدرت بنا فوا أسفا ولهفاه
محمد الرضا الغروي أبو المجد * مضى نحو الجنان بقرب مولاه
أراد النير استيضاح فوته * ففي شهر المحرم طاب مثواه
فارخ بعد نقص الست للعام * «رضا النجفي لبى داعي الله»
1362 القمري.
41

مصادر الترجمة
ترجمته بقلمه.
سحر بابل وسجع البلابل - 82.
نقباء البشر - 747.
الذريعة في مختلف الأجزاء.
مصفى المقال - 179.
تذكرة القبور - 328.
ريحانة الأدب 7 - 252.
آثار الحجة 1 - 77.
گنجينه دانشمندان 1 - 242.
شعراء الغري 4 - 42.
أعيان الشيعة 7 - 16.
معجم المؤلفين العراقيين 1 - 472.
الأعلام للزركلي 3 - 26.
معجم المؤلفين 4 - 163.
مستدرك معجم المؤلفين - 251.
ماضي النجف وحاضرها 3 - 214.
معارف الرجال 3 - 245.
مجلة نور علم، السنة الثانية ع 9 - 79.
تاريخ علمي واجتماعي أصفهان در دو قرن أخير 2 - 219.
42

ترجمة المحشي.
العلامة الأديب الرياضي الهيوي المفسر الفقيه آية الله العظمى الحاج الشيخ محمد علي الملقب بأمجد الدين ومجد الدين، والشهير بمجد العلماء النجفي الأصفهاني قدس سره.
نسبه:
هو ابن العلامة الأكبر آية الله العظمى أبي المجد الشيخ محمد الرضا النجفي الأصفهاني (ت 1362 ه‍) - صاحب تأليفات كثيرة، منها: «نقد فلسفة داروين» و «وقاية الأذهان» و «شرح نجاة العباد» و «ديوان شعر» - ابن العلامة الرباني، والفقيه الصمداني، والعارف الكامل الحاج الشيخ محمد حسين صاحب «مجد البيان في تفسير القرآن» (ت 1308) ابن العلامة الأكبر، والفقيه المرجع الرئيس، الحاج الشيخ محمد باقر صاحب «لب الفقه» و «لب الأصول» وغيرهما (ت 1301 ه‍) ابن العلامة المحقق، والأصولي المدقق، الشيخ محمد تقي
االاصفهاني صاحب حاشية معالم الدين المسماة ب‍ «هداية المسترشدين» (ت 1248 ه‍) قدس الله أسرارهم وطيب الله ثراهم.
ولادته وأمه:
أنجبته العلوية زهرا بيگم (ت 1356 ه‍) بنت سيد العلماء العلامة السيد محمد الإمامي الخاتون آبادي الأصفهاني النجفي، في اليوم الثالث والعشرين من جمادى الأولى عام 1326 ه‍ في النجف الأشرف.
ثم سافر إلى أصبهان مع أبيه العلامة في سنة 1333 ه‍.
43

أساتذته:
ابتدأ بالعلوم في النجف الأشرف وهو طفل، ثم حضر في أصبهان في السطح الأولي، على الحاج الشيخ علي اليزدي (ت 1351 ه‍) والسيد ميرزا الأردستاني (ت 1351 ه‍) واشتغل بالسطح العالي - ولم يبلغ الحلم - على الحاج آقا رحيم الأرباب، والحاج آقا منير الدين البروجردي (1269 - 1342 ه‍) والحاج الميرزا محمد صادق الخاتون آبادي (ت 1348 ه‍) والسيد محمد النجف آبادي (1294 - 1358).
ثم اشتغل بالدراسات العليا في الفقه والأصول على الحاج الميرزا محمد صادق الخاتون آبادي والسيد محمد النجف آبادي المذكورين، وعم والده آية الله على الإطلاق الشهيد الحاج آقا نور الله النجفي الأصفهاني (ت 1346 ه‍)، وحضر برهة من الزمان على العلامة المؤسس الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي (ت 1355 ه‍) بقم، ولكن أكثر استفاداته العلمية كانت من والده العلامة، فقد تتلمذ عليه في الفقه والأصول والهيئة والرياضي و....
مشايخه في الرواية والراوون عنه:
لم نعرف من مشايخه في الرواية إلا والده العلامة أبا المجد الشيخ محمد الرضا النجفي الأصفهاني رحمه الله والمرجع الفقيه السيد أبو الحسن الموسوي الأصفهاني (قدس سره).
ولم نعرف من الراويين عنه إلا نجله الشيخ مهدي مجد الإسلام النجفي.
الأقوال فيه:
1 - قال والده العلامة في ختام رسالته أمجدية: «وچون سال تأليف رساله
44

مصادف بود با سال أول وجوب روزه مر قرة العين معظم، نخبة أرباب الفهم والاستعداد، والمرجو لإحياء مراسم أجداده الأمجاد، آقا شيخ أمجد الدين أبقاه الله خلفا عن سلفه الماضين، وجعله علما يهتدى به في الدنيا والدين، أو را مخاطب در اين رساله داشتم، ونام آن رساله را رساله امجديه گذاشتم.....».
2 - وقال والده أيضا في تبحره في الهيئة: «إن مجدنا أستاذ في الهيئة» (1).
3 - وأيضا قال والده العلامة في إجازته له: «..... وبعد، فان العالم الفاضل الخبير المهذب النحرير قرة عيني الشيخ مجد الدين ممن حضر دروسي الشرعية، فقهية وأصولية، فوجدته ذا قوة تسمى الاجتهاد، بصيرا بمباني الأحكام، فله العمل بما استنبطه من الأحكام استنباطا مطابقا للقواعد المقررة...».
4 - وقال العلامة الطهراني رحمه الله في خاتمة ترجمة أبيه: «وولده الشيخ مجد الدين من العلماء وأئمة الجماعة اليوم في أصفهان».
5 - وقال المؤرخ العلامة الشيخ محمد علي المعلم الحبيب آبادي صاحب مكارم الآثار في ختام مقالته عقيب رحلة والد المترجم: «وآقاى مجد العلماء پسر بزرگ آن مرحوم در حدود سال هزار وسيصد وبيست وشش يا قدري پس وپيش در كربلاء متولد شده ودر خدمت پدر نامور، تحصيلات خود را در علوم فقه وأصول وهيئت ورياضي قديم به پايان آورده، وبزيور اجتهاد زينت يافته، وبتصديق اجتهاد وإجازات روايت از آن فقيد مرحوم سرافراز گشته، واينك بجاى وى در مسجد نو امامت مينمايد».
6 - وقال صاحب «دانشمندان وبزرگان أصفهان» في عد مصنفات أبيه:
«أمجديه در إعمال ماه رمضان بنام فرزندش عالم زاهد ورع مجد العلماء.....».
7 - وقال صاحب «گنجينهء دانشمندان» في حقه: «حضرت آية الله آقاى

(1) نقله لنا آية الله الحاج السيد مصطفى المهدوي الاصفهاني المجاز من والد المصنف (قدس سرهما).
45

حاج شيخ مجد الدين نجفي فرزند ارشد مرحوم آية الله العظمى أبو المجد آقا شيخ محمد رضا نجفي بن عالم رباني شيخ محمد حسين بن علامه محقق حاج شيخ محمد باقر طاب ثراه، معروف به مجد العلماء....».
وقال أيضا في ختام ترجمته: «در ماه شوال 1394 ه‍ كه براي امرى به أصفهان رفتم در مسجد نو موفق به زيارتشان شده، واز سيماى ملكوتي آن جناب مستنير گرديدم، آثار وعلائم ربانيين را از چهره منيرش مشاهده كردم، وبايد همينطور باشند، زيرا فرزند ارجمند آية الله العظمى آقا رضا كه مجسمهء علم وكمال، وحفيد عالم ربانى وآية سبحانى حاج شيخ محمد حسين نجفي هستند كه داراى كرامات ومقامات معنوي بوده، ومرحوم آية الله حاج آقا نور الله أصفهاني كتابي در شرح زندگانى آن بزرگوار وحالاتش نوشته است».
8 - وقال صاحب «تاريخ علمي واجتماعي أصفهان در دو قرن أخير»:
«عالم فاضل، وفقيه كامل ومفسر أديب، جليل القدر، عظيم المنزلة، أستاذ رياضى وهيئت، جامع معقول ومنقول، وحاوي فروع وأصول، از مدرسين خارج فقه وأصول در مدرسهء مرحوم ثقة الاسلام عموى والد بزرگوارشان، وامام جماعت مورد وثوق قاطبه طبقات اجتماع در مسجد نو بازار آثار زهد وتقوى از سيماى أو نمودار كه «سيماهم في وجوههم من أثر السجود» متجاوز از چهل سال پس از فوت پدر در مسجد ايشان در ظهر وشب اقامه جماعت مى نمود، وعدهء كثيرى از مؤمنين حضور به جماعتش را غنيمت مى شمردند...».
مجالس درسه:
كان يدرس مختلف العلوم الإسلامية من الفقه والأصول والحكمة والهيئة والرياضي، واشتهر بالأخيرين اشتهارا واسعا.
كان يلقي دروسه في الرياضي في المسجد الجامع العباسي (مسجد الإمام)
46

سابقا ودروس الهيئة كانت بمسجد «نو بازار» والفقه بمدرسة عمه آية الله العظمى الحاج الشيخ محمد علي النجفي الشهير بثقة الإسلام.
وقد حضر أبحاثه جمع من الآيات والحجج والأعلام.
تأليفاته القيمة:
له تأليفات قيمة في غاية الحسن والفصاحة كما ينبغي له، وإليك سرد أسمائها:
1 - ايرادات وانتقادات على دائرة المعارف لفريد وجدي.
2 - ترجمة «نقد فلسفة داروين» من العربية إلى الفارسية في مجلدين ضخمين.
3 - حاشية الروضات، طبع بعض منها مع حاشية والده على الروضات.
4 - حاشية «سمطا اللئال في مسألتي الوضع والاستعمال» وهي بين يديك.
5 - حاشية «وقاية الأذهان» في علم الأصول، وهي بين يديك.
6 - دروس في فقه الإمامية «كتاب الصلاة وكتاب الصوم» وهي دروسه التي كان يلقيها على تلامذته في البحث المعروف بالخارج.
7 - رسالتان في ترجمة والده ونفسه. طبعا.
8 - رسالة في ترجمة جده العلامة الحاج الشيخ محمد حسين النجفي الأصفهاني (قدس سره) كتبها بعنوان المقدمة لتفسيره «مجد البيان في تفسير القرآن».
9 - صرف افعال ألفها في صغره.
10 - الفوائد الرضوية في شرح الفصول الغروية، أو حاشية على فصول عمه العلامة الشيخ محمد حسين الأصفهاني في علم الأصول.
11 - گل گلشن، انتخبها من منظومة «گلشن راز» للعارف المشهور الشيخ
47

محمود الشبستري.
12 - المختار من القصائد والأشعار، طبع.
13 - مسائل العلوم.
14 - اليواقيت الحسان في تفسير سورة الرحمن، طبع.
إمامته للجماعة:
كان يقيم الجماعة في المسجدين الأعظمين المزدحمين: «مسجد نو» في سوق أصبهان، و «مسجد الإمام» أكثر من أربعين عاما.
واقتدى به جماعة كبيرة من مختلف الطبقات من وجوه الفضلاء والمتدينين والوجهاء.
أخلاقه الفاضلة:
كان رحمه الله مؤدبا بالأخلاق الإسلامية والآداب القرآنية، متبعا للتعاليم النبوية، متأدبا بالأخلاق المحمدية، كما وصف الله تعالى نبيه الأكرم في كتابه الكريم بقوله عز من قائل: إنك لعلى خلق عظيم (1) وكما قال النبي صلى الله عليه وآله: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
وهو - من غير ملق ومجاملة - اقتدى بالنبي الأكرم والأئمة الهداة المهديين عليهم صلوات رب العالمين، ولذا كان محبوب القلوب ووجيه الملة عند جميع الطبقات من الخواص والعوام.

(1) القلم: 4.
48

وفاته ومدفنه:
ارتحل إلى رحمة الله تعالى في صبيحة يوم الأربعاء عشرين من (ذي الحجة) عام 1403 ق المطابق لسادس شهر (مهر) 1362 ش في طهران ونقل جثمانه الشريف إلى أصبهان فوصل إليها يوم الخميس، وغسل في بيته، ثم شيع تشييعا ضخما إلى مسجد الإمام ومنه إلى مسجد «نو» - الذي بناه جده الأكبر العلامة الفقيه الرئيس آية الله العظمى الحاج الشيخ محمد باقر النجفي الأصفهاني من تلاميذ الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سرهما - بعد ان تعطلت الأسواق، ودفن هناك في الأيوان الشمالي الشرقي، رحمة الله عليه رحمة واسعة.
ومن طريف البيان، أن سمع منه أنه كان يقول: نعم اليوم يوم الأربعاء، ولعله كان يشير إلى هذا البيت الفارسي:
خرم آن روز كه زين منزل ويران بروم * پى جانان طلبم در پى آنان بروم
مراثيه:
رثاه جمع من العلماء والشعراء، منهم:
1 - العلامة الحجة الحاج السيد مجتبى الصادقي أدام الله أيامه رثاه بأبيات أرخ فيها سنة الوفاة أيضا:
لهفي لموت البطل العليم * ذي المجد ثم الحسب القديم
أف لدهر يقتطف ثمر الهدى * من دوحة العلم ذي النسب الكريم
فأردت أن أؤرخ عام وفاته * ليكون تذكرة الأخلاف والحميم
ألحق إلى المجموع سبعا ثم قل * «نرجو لمجد العلم مثوى في النعيم»
(1362 ش).
2 - ومنهم: الأديب الأستاذ علي المظاهري، قال في أبيات بالفارسية:
49

مجد العلماء ومجد دين رفت * آن عالم عالم يقين رفت
آن مظهر زهد وپارسائى * آن رهبر راه راستين رفت
از مجمع عالمان معلم * از حلقه زاهدان نگين رفت
محراب نشين مسجد نو * بر منبر عرش از زمين رفت
آن دم كه از اين جهان به جنت * آن پاك نهاد پاك بين رفت
تاريخ وفات أو رقم شد * «رونق ده علم وحصن دين رفت»
(1362 ش).
والشطر الأخير الذي نظم فيه التاريخ هو للأستاذ الأديب السيد قدرة الله الهاتفي وفقه الله تعالى.
مصادر الترجمة:
ترجمته بقلمه - أمجدية: 11 الطبعة الثالثة.
تاريخ علمي واجتماعي أصفهان در دو قرن أخير 2: 417 و 3: 162.
دانشمندان وبزرگان أصفهان: 329.
گنجينهء دانشمندان 5: 384.
نقباء البشر 2: 753.
جريدة عرفان (شهر فروردين 1322 ش).
* * *
50

مقدمة المؤسسة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله منتهى الحمد والصلاة والسلام على عبده المجتبى ونبيه المصطفى، وعلى أهل بيته المعصومين أحباء الله وأصفيائه الطيبين الطاهرين.
جاءت الشريعة الإسلامية السمحاء المتلقاة من لدن عليم خبير كاملة متكاملة، لتصوغ وتربي البشرية على هديها ومنهاجها القويم من أجل السير بها حثيثا نحو الكمال المنشود.
فلم يواجه المسلم في زمن النص والتشريع مشاكل حادة من أجل تحديد تكليفه الشرعي، إذ كان يعيش في أجواء الرسالة فيستلم الأحكام بشكل حي مباشر، معتمدا في فهمها على الذوق اللغوي المتعارف عليه، وعلى معرفته التامة بظروف وملابسات الحكم.
بل حتى بعد عصر النص بقليل، كانت لوفرة الروايات الموروثة، وقلة المسائل الجديدة المثارة، يساعدان على استخلاص الحكم الشرعي بسهولة ويسر بالاعتماد على التواتر والاستفاضة في الاخبار، بالشكل الذي يجعل الرأي القائل بحجية الخبر الواحد في غير محله، لأنه يبقى في مجال الظن الذي يمكن أن يلغيه يقين الاستفاضة والتواتر.
51

وعليه فقد كان النص الشرعي واضحا في معناه وفهمه ودلالته وقطعية صدوره، وفي جملة الملابسات والظروف التي أحاطت به.
وضمن هذه الظروف لم تواجه الشريعة فراغا أو فجوات تفرضها حوادث طارئة متكثرة، ولم يكن المكلف يعاني من أزمة في النص أو في تحديد التكليف الشرعي، ولم يكن الممارس للعمل الفقهي يعاني مشقة كبيرة في استحصال الحكم الشرعي لمحدودية أدوات الاستنباط المترسخة في الذهن.
ولكن هذه الحالة لم تستمر طويلا، إذ بانتهاء عصر النص والتشريع - أي سنة 329 ه‍ وهي ابتداء الغيبة الكبرى للإمام المهدي عليه السلام وكلما زاد البعد عنه، بدأ وضوح النص يخفت تدريجيا، ويواجه إشكالات عديدة تطال أكثر الاجزاء المكونة له، أي معناه وقاطعية صدوره... إلخ.
وبدأ الفاصل الزمني يفعل فعله القاهر كحاجز كبير بين النص ومكوناته، وبين الفقيه وممارسته الفقهية.
فقد أصبحت الحاجة ملحة لأن تقعد هذه النصوص ويوضع نظام عام لها مضبوط ومحكوم بأصول وقواعد مشتركة تستخلص من جملة هذه النصوص لتنضوي تحتها العديد من العناوين الفقهية القديمة أو المستجدة.
وهذا ما بدأ يمارسه الفقهاء مستندين بذلك على البيان الشرعي - الكتاب الكريم والسنة - إذ كان الأئمة عليهم السلام باعتبارهم أمناء الرسالة يعون أبعاد الثغرة التي ستحدث، لذا كانوا يغرسون بذرة التفكير الأصولي في أذهان أصحابهم، ويوضحون لهم بعض القواعد الأساسية العامة لتكون هي المستند الكاشف عن الحكم الشرعي «كل شيء طاهر حتى تعلم انه نجس» وكجملة من الروايات الواردة في التوفيق بين النصوص المتعارضة وحجية خبر الثقة... إلخ.
ومستندين أيضا على الإدراك العقلي القائم على أساس الحس والتجربة
52

أو البداهة أو التأمل النظري، وله مستويات متباينة من حيث المنابع المنتجة له، ومن حيث درجة اليقين التي يوفرها، وفي البحوث المفصلة مناقشات واسعة في ذلك.
وهكذا بدأ علم الأصول يكشف عن نفسه ويستقل بها عن العلوم التي نشأ بإحضانها أو رافقها تاريخيا لظروف معينة، ويطرح نفسه باعتباره الإجابة الوحيدة الممكنة للمشكلات السابقة، وباعتباره الإطار النظري للممارسة الفقهية. وكأي علم حي نام تستثيره المشكلات من الخارج كما يتابع هو الأسئلة من الداخل استطاع علم الأصول وعلى مر السنوات ان يتسع ويغتني تبعا لتوسع البحث الفقهي للعلاقة الطردية العميقة القائمة بينهما، ومستفيدا كذلك من العلوم الأخرى حتى وصل في الوقت الحاضر إلى قمة اكتماله ونضوجه.
وبرز في هذا العلم من خلال مدرسة الوحيد البهبهاني الأصولية الكبرى كل من الشيخ الأنصاري والآخوند الخراساني والميرزا النائيني والشيخ الأصفهاني و... وغيرهم.
ولعل الكتاب الماثل بين يدي القارئ الكريم، ومؤلفه العلامة آية الله الشيخ أبو المجد محمد رضا الأصبهاني المتوفى سنة 1362 ه‍، هو أحد تلك الشواهد البارزة في ذلك العلم الرحيب.
وحرصا من مؤسسة آل البيت على إخراج هذا السفر الجليل بالشكل الذي يليق بمكانته العلمية عملت على تحقيقه ونشره، أسوة بما تقوم بنشره من المؤلفات المهمة والقيمة لعلماء هذه الطائفة الاعلام.
مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث.
53

نموذج من كتاب وقاية الأذهان بخط المؤلف رحمه الله.
54

نموذج من كتاب وقاية الأذهان بخط المؤلف رحمه الله.
55

سمطا اللئال في مسألتي الوضع والاستعمال
تصدير (1)
لا يخفى أن هذه الرسالة جزء من كتابنا المسمى (وقاية الأذهان والألباب ولباب أصول السنة والكتاب) الموضوع في فن أصول الفقه، وقد أفرزتها عنه، لدواع، أهمها: أن إيضاح عدة من مسائلها كان متوقفا على استطراد بعض المباحث الأدبية، وسرد الشواهد الشعرية، وفي ذلك ما تنبو عنه طبائع كثير ممن يتعاطى فن أصول الفقه في هذا الزمان، ولا أقول جميعهم، وربما أخذ بعضهم ذلك طعنا علي، ونقصا في ذلك الكتاب، فليقل من شاء ما شاء، ولكن الفاضل البصير يعلم أن أوضاع العلوم يدور بعضها على بعض، والاستعانة على فن بفن آخر إن كان يعده ذنبا فإني وأيم الحق يسرني أن أكون في صف يعدهم من المذنبين، فيه شيوخ العلم وأئمة الدين.
هذا، على أنها - كما ذكرت في أولها - نمط جديد من العلم فيحق لها الاستقلال، وأن تعد مدخلا لسائر العلوم، والحمد لله أولا وآخرا.

(1) صدر المصنف - رحمه الله - مباحث الألفاظ بهذه الجمل التي لا تخلو من فائدة تاريخية.
57

بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي الحمد لله الذي رزقنا بصائر تنفذ المجازات (1)، فلا تراها (2) إلا الحقائق، ووفقنا لاستعمال أفهامنا فيما وضعت له من معرفة الدقائق.
والصلاة على محمد وآله ما دلت الألفاظ على معانيها، وبدا خافيها لمعاينها.
وبعد: فهذا نمط جديد من العلم، ونظام فريد لجيد الفضل، وأساس تبنى عليه علالي (3) مسائل مهمة، ونبراس (4) تنجاب (5) بنوره حنادس (6) معضلات

(1) يناسب ما يأتي من أن المجازات حقائق في الحقيقة. (منه ره).
(2) في نسخة: فلا نرى بها.
(3) جمع علية: وهي: الغرفة (منه ره) وانظر القاموس المحيط 4: 368 (علو) والصحاح 6: 2437، و مجمع
البحرين 1: 303 (علا)
(4) النبراس: المصباح، الصحاح 3: 981 (نبرس).
(5) انجابت السحابة: انكشفت. الصحاح 1: 104، إنجاب عنه الظلام: انشق. لسان العرب 1: 285 (جوب).
(6) جمع حندس: الليل الشديد الظلمة. الصحاح 3: 916 (حدس)، القاموس المحيط 2: 209 (الحندس).
59

جمة، وأصول محكمة الدلائل تحل بها مصمئلات (1) المسائل، وما هي إلا بيان الحال في المهمين: الوضع والاستعمال.
ولا بد لمن يزاول العلوم الباحثة عن الألفاظ - على تكثر فنونها، وتشعب أفنانها (2) - من معرفة هذين الأصلين، لأن جميع مباحثها يرجع إليهما، ولا تدور أوضاعها إلا عليهما.
فمن بحث عنهما بعد إتقان عرفانهما، فقد مت (3) إليها بأسبابها، ودخل خمائلها (4) من أبوابها، والمعرض عنهما كالساري في الظلام بلا مصباح، ولا غرو إذا ذهب تعبه إدراج الرياح.
وقد وضعت لبيانهما هذه الرسالة، وسميتها: (جلية الحال - أو - سمطا اللئال في معرفة الوضع والاستعمال).
ورتبتها على فصلين، ذكرت في أولهما المباحث المتعلقة بهذين الأصلين، وفي ثانيهما عدة من الحقائق الراهنة التي تعرف بمعرفتها.
وها أنا أجليها على ذوي الأفهام، وأعرضها - عرض السابري (5) - على فضلاء الأنام، وظني - وظن الألمعي (6) يقين - أن سوف ينفق في سوق العلم هذا

(1) جمع مصمئلة: الداهية، الصحاح 5: 1746، القاموس المحيط 4: 4 (صمل).
(2) جمع فنن، بمعنى: الغصن، الصحاح 6: 1278، القاموس المحيط 4: 285 (فنن).
(3) مت، أي: توسل. الصحاح 1: 266 (متت)، القاموس المحيط 1: 157 (المت)
(4) جمع خميلة، والمراد منها: البستان (منه ره) وانظر الصحاح: 4: 1689، والقاموس المحيط 3: 371 (خمل).
(5) السابري: ثوب رقيق جيد يرغب فيه بأدنى عرض. (منه ره) وانظر: الصحاح 2: 675 - 676.
والقاموس المحيط 2: 44 (سبر).
(6) الألمعي: الذكي المتوقد. الصحاح 3: 1281، القاموس المحيط 3: 82، مجمع البحرين 4: 388 (لمع)
60

العلق (1) الثمين، وأن الفاضل المنصف لا بد أن يعرف قدرها، ويجعل حسن القبول مهرها، ولا أكثرت (2) - إن صح الظن - بجحود أولي الأحقاد والإحن (3) ممن قلت في سوق العلم بضاعته، فما ربحت فيها تجارته.
من الخفيف:
فكذا الورود فيه للناس طيب * ثم فيه لآخرين زكام
ولا أقابل المعاند المكابر إلا بقول الشاعر:
من الطويل:
إذا رضيت عني كرام عشيرتي * فلا زال غضبانا على لئامها.
(حقيقة الوضع)
لا شك في أن دلالة الألفاظ على معانيها ليست بذاتية كدلالة الدخان على النار.
فما يحكى عن الصيمري من أن دلالتها بالطبع (4). فهو بظاهره وعلى إطلاقه ظاهر الفساد - كما يمر عليك بيانه في خلال المباحث الآتية إن شاء الله تعالى - بل هي بالجعل المعبر عنه بالوضع، ولولاه لكانت نسبة جميع الألفاظ إلى كل واحد من المعاني متساوية أو متقاربة (5)، لا يترجح بعضها على بعض عند استماع لفظ من الألفاظ.

(1) علق: النفيس من كل شيء. الصحاح 4: 1530، القاموس المحيط 3: 267، مجمع البحرين 5: 217 (علق)
(2) أي لا أبالي، الصحاح 1: 290، مجمع البحرين 2: 262 (كرث).
(3) جمع إحنة. بمعنى: الحقد، الصحاح 5: 2608 (أحن) القاموس المحيط 4: 195 (الإحنة).
(4) الفصول الغروية: 23.
(5) قوله: أو متقاربة. أقول: إشارة إلى بعض الألفاظ التي لم تكن نسبتها إلى بعض المعاني بالتساوي كلفظ الغزال، والغضنفر بالنسبة إلى الأسد. (مجد الدين).
61

وقد عرف الوضع تارة بأنه (تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه) (1).
وتارة بأنه (نوع تخصيص ينشئه الواضع) (2) ومرجعه إلى قصر اللفظ على المعنى.
وتارة بأنه (نحو اختصاص اللفظ بالمعنى) (3) أو (تعيين شيء لشيء) (4) إلى غير ذلك من التعاريف، المتقاربة في المراد، المتشابهة في الإجمال، مما يقف عليه من تصفح كتب القوم، وتفحص عنها، بعضها تعريف له بالمعنى المصدري، وبعض له بالمعنى الحاصل منه.
ولا أرى لك صرف نقد الوقت في انتقاد هذه التعاريف، وفيما يرد عليها طردا وعكسا، بل أرى أن تسالم هؤلاء جميعا، وتصرف عنان الهم نحو معرفة ما يحصل به ذلك الاختصاص، أو التخصيص، أو التعيين، أو الارتباط، ويتوصل بذريعته إلى هذه الأمور، ويترتب عليه المقصود من جعل الدلالة.
ولا يمكن جميع ذلك إلا بالتعهد أعني تعهد المتكلم للمخاطب، والتزامه له بأنه لا ينطق بلفظ خاص إلا عند إرادته معنى خاصا، أو أنه إذا أراد إفهامه معنى معينا لا يتكلم إلا بلفظ معين، فمتى تعهد له بذلك وأعلمه به حصلت الدلالة وحصل الإفهام، ولا يكاد يحصل بغير ذلك.
فلنا في المقام دعويان: حصول الوضع بالتعهد المذكور، وعدم إمكان حصوله بغيره.
أما الأول فظاهر، إذ من الواضح أن السامع إذا عرف التزام المتكلم بأنه لا يطلق لفظ الأسد - مثلا - إلا على ذلك الحيوان المفترس، وأنه عند إرادته

(1) [راجع] الفصول [الغروية] في مبحث الوضع [: 14] (منه ره).
(2) [راجع] الفصول [الغروية: 54] في مبحث استعمال المشترك (منه ره).
(3) [راجع] كفاية الأصول [: 9] (منه ره).
نقله في الفصول [: 54] عن بعضهم. (منه ره).
62

إفهامه هذا المعنى لا ينطق بغيره عرف المراد، وتمت الدلالة عنده من غير احتياج إلى تكلف جعل ارتباط أو إنشاء اختصاص، كما أن من الواضح عدم حصول فهم المعنى المراد إذا لم يعلم منه التعهد المذكور ولو صرح ألف مرة بإنشائه الاختصاص أو جعله للعلاقة.
وكيف يفهم مراد اللافظ به إذا علم عدم تعهده بما عرفت، بل عرف من حاله أنه في كل استعمال يريد به غير ما قصده في استعمال آخر.
وأما البرهان على ذلك، فتقريره: أن دلالة الألفاظ - كما عرفت - ليست بذاتية، وتغيير الذاتيات رفعا ووضعا مستحيل، باتفاق العقول، فكما لا يمكن سلب دلالة الدخان على النار، كذلك لا يمكن جعله - مثلا - دليلا على الماء.
وإن شئت قلت: إن الدلالة من المعقولات الثانية أعني أنها كالمحاذاة والفوقية، لا يكاد تنالها يد التصرف ابتداء، فكما أن جعل المحاذاة بين الجسمين لا يمكن إلا بالتصرف في أحدهما أو فيهما معا، كذلك لا يمكن جعل الدلالة بين اللفظ والمعنى إلا بالتصرف فيما يقع تحت القدرة والاختيار من قصر أحد الألفاظ على أحد المعاني.
فالقائل بأنه جعل ارتباط، أو نحو اختصاص، إن أراد به نحو اعتبار يلحق الألفاظ بعد التعهد المذكور فلا ننازعه في ذلك، وإن أراد به كون الارتباط ونحوه مجعولا ابتدائيا للواضع فهو مردود عند قاضي الإنصاف بشهادة العدلين:
الوجدان والبرهان.
وبمثل ذلك نقول في جميع الإنشاءات من العقود والإيقاعات، وليس المقام مقام تفصيل القول فيه، ولكن نقول بالإجمال:
إن جعل العلاقة بين الزوجين ابتداء بإجراء صيغة النكاح غير معقول، إذ الألفاظ قوالب المعاني، فلا تكلف إلا بما في وسعها من الكشف عن المرادات لا تغيير الذاتيات وإيجاد المعدومات، إذ ليس ألفاظ المعاملات من باب عزائم
63

الجن ورقى العقارب، فتكون مؤثرة بذواتها بل هي مؤثرة بأوضاعها، ولا معنى للوضع إلا تعهد الاستعمال ولا معنى للاستعمال إلا الكشف عن المراد.
فالمتصور في عقد النكاح - مثلا - كشف كل من الإيجاب والقبول عن التزام كل من الزوجين للآخر بآثار الزوجية، وتعهده له بما عليه من أحكامها، وإعلامه هذا التعهد بهذه الألفاظ، ولا نمنع بعد ذلك إمكان اعتبار العلاقة بين الزوجين، وانتزاعها من التعهد المذكور، وللكلام تتمة ستقف عليها إن شاء الله في مبحث الأوامر.
وقد استبان بما ذكرنا [ه] أمور:
منها: أن تمام الوضع بالإعلام فلا يكاد يحصل الغرض إلا به، ولا ينحصر الإعلام بلفظ خاص، وبكيفية مخصوصة فيحصل بلفظ سميته، وجعلته، ووضعته، بل بنفس الاستعمال مع القرينة في وجه، كما لو وجه الخطاب إلى شخص، وناداه ب (يا زيد) قاصدا إعلام الحاضرين بأنه سماه زيدا، فبالاستعمال يحصل الإعلام بالوضع. لا نفس الوضع، كما سمعناه مرارا في مجلس الدرس عن الشيخ الأستاذ (1)، وهو مبني على ما كان يذهب إليه من أن الوضع جعل العلاقة.
وقد يكتفي عن التصريح به بالشهرة وكثرة الاستعمال، فتقومان مقام الإعلام، وهذا هو الوضع (2) التعيني.
فالوضع على هذا ليس إلا قسما واحدا في حد ذاته، وإنما التعدد في طرق الإعلام.

(1) هو صاحب كفاية الأصول الآخوند محمد كاظم الخراساني (قدس سره).
(2) الوضع تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه، فالتعيين جنس يشمل التعينيات، والمراد ما يشمل التعيين عن قصد كما في المرتجل ويسمى هذا النوع من الوضع بالوضع التعييني، والتعيين من غير قصدكما في المنقولات بالغلبة، ويسمى هذا النوع من الوضع بالوضع التعيني.
والمصنف أنكر هنا تنويع الوضع، وصرح أن التعدد في طرق الإعلام. (مجد الدين).
64

ومنها: أن الوضع في عمومه وخصوصه يتبع التعهد، فيمكن عمومه في جميع الأزمان والحالات، ولجميع الأشخاص، كما هو الحال في سائر الألفاظ الموضوعة.
ويمكن أن يختص ببعض ذلك فيكون موضوعا لقوم دون آخرين، وبزمان معين، وإلى أجل مضروب، وهذا وإن كان نادر الوقوع، ولكنه بمكان من الإمكان.
ولعل منها: تسمية الأطفال بأسماء لا تناسب الكبار، ومخاطبتهم بألفاظ لا تناسب إلا ألسنتهم وحالاتهم، وهكذا الألفاظ التي لا يتفوه بها إلا الأنذال (1)، ويأنف منها الأشراف.
بل قد يرجع عن التعهد في استعمال خاص كما في المجاز عند أستاذنا المؤسس (2) لأساس التعهد - سقى الله معهده - وإن كان لي فيه نظر ستعرف وجهه في بحث الاستعمال.
ومنها: أنه كما يمكن وضع اللفظ لمعنى واحد، يمكن وضعه لمعان متعددة، وجمل شتى مختلفة غير مرتبطة من غير لحاظ التركيب، كما لو قال: إني متى طلبت الماء، وأردت الإخبار عن قيام عمرو، ومجئ زيد، والنهي عن الكلام، أتكلم بهذا اللفظ.
ولهذا الكلام مزيد توضيح وبيان سيأتي في خلال المباحث الآتية إن شاء الله تعالى.
ومنها: أن الوضع هو تعهد الاستعمالات الآتية، فلا معنى للوضع إذا لم يلحقه الاستعمال، كما أن الاستعمال - كما سيأتي - هو الوفاء بالتعهد، أعني الوضع، فلا وضع لو لا الاستعمال، ولا استعمال لو لا الوضع.

(1) جمع نذيل: الخسيس من الناس والمحتقر في جميع أحواله. الصحاح 5: 1828، القاموس المحيط: 4
56، مجمع البحرين 5: 480 (نذل).
(2) صاحب تشريح الأصول (مجد الدين).
65

(كيفية الوضع)
لا بد للواضع من معنى يلاحظه حال الوضع، فإن كان الملحوظ معنى عاما كليا ووضع اللفظ بإزائه، سمي بالوضع العام والموضوع له كذلك، وإن كان معنى خاصا ووضع اللفظ لذلك الخاص، سمي كل منهما خاصا، وإن لاحظ العام ووضع اللفظ لكل فرد فرد منه، سمي الوضع عاما والموضوع له خاصا.
وقد حكم بامتناع العكس، لأن الخاص لا يكون مرآة للعام إلا بعد تجريده عن الخصوصية وعند ذلك يرجع إلى العام، لأن الخاص بعد التجريد عنها يكون عاما.
قلت: يكفي في ذلك الاتحاد - ولو بوجه - بين المعنى الملحوظ والموضوع له، وهذا موجود في هذا القسم.
ولو لزم الاتحاد من جميع الوجوه لزم امتناع القسم الثالث أيضا، إذ العام بوصف كونه عاما غير الخاص، ويكفي مثالا لذلك: أنه لو رأى شبحا من بعيد، ولم يعلم أنه جماد أو حيوان أو نبات وعلى كل منها لم يدر أنه من أي نوع، فوضع اللفظ بإزاء ما هو نوع له بحسب الواقع ومتحد معه في الصورة النوعية، ولا شك في أن الموضوع له في هذه الصورة ملحوظ إجمالا، وليس وجهه إلا الجزئي المتصور، إذ المفروض أن الجامع لم يتحقق عنده إلا بعنوان الاتحاد مع هذا الشخص.
ثم إن المثال للوضع المطابق للموضوع [له] بقسميه واضح، فمن قبيل ما إذا كانا عامين: أسماء الأجناس، ومن قبيل ما إذا كانا خاصين: الأعلام الشخصية، وأما الوضع الخاص مع عموم الموضوع له فعلى فرض إمكانه غير متحقق الوقوع.
وأما عكسه، فقد عد منها جماعة من المتأخرين وضع الحروف وما شابهها، فحكموا بأن الواضع لاحظ حين الوضع معنى الاستعلاء - مثلا - ووضع لفظ
66

(على) لكل جزئي من جزئياته، وللواقع مرآة لحال مدخوله.
وقد استدلوا على ذلك بوجوه ستة تجدها مفصلة في كتاب هداية (1) الجد العلامة - أعلى الله مقامه - وأثر التكلف باد على أكثرها، بل على جميعها.
ويعلم منها أن الذي ألجأهم إلى هذا التكلف هو زعمهم انحصار التخلص عن المنافاة بين وضعها للمفهومات الكلية وبين عدم صحة استعمالها إلا في الجزئيات، في ذلك، وعدم إمكان الفرق بينها وبين معانيها الاسمية إلا بذلك، ولا شك أنه لو تأتى لهم الجمع بين الأمرين، والفرق بينهما، لما ذهبوا إلى هذا التكلف الذي لا يقبله الطبع السليم، ويرفضه الذهن المستقيم.
ولهذا ذهب جماعة من محققي المتأخرين، أولهم - فيما أعلم - الجد العلامة في (الهداية) إلى أنها موضوعة بالوضع والموضوع له العامين، وأن معانيها كلية كمعاني متعلقاتها، ويمكن بيانه من وجوه:
أولها: ما ذهب إليه - طاب ثراه - وملخصه: أن الحروف موضوعة للمعاني الرابطية المتقومة بمتعلقاتها الملحوظة مرآة لحال غيرها، وذلك المعنى الرابطي مأخوذ في الوضع على وجه كلي، ولكن لا يمكن إرادته من اللفظ إلا بذكر ما يرتبط به، فلا يمكن استعمال اللفظ في ذلك المعنى الكلي إلا في ضمن الخصوصيات الحاصلة من ضم ما جعل مرآة لملاحظته لتقوم المعنى الرابطي به، فالحصول في ضمن الجزئي من لوازم الاستعمال فيما وضعت له لا لتعلق الوضع بتلك الخصوصيات، فعدم استعمالها في المعنى العام على إطلاقه إنما هو لعدم إمكان إرادته كذلك، لا لعدم تعلق الوضع به كما زعموه (2).
ثانيها: ما قرره السيد الأستاذ - قدس سره - وتوضيحه يبتني على مقدمة

(1) راجع هداية المسترشدين: 31 - 36.
(2) مقتطفة من الهداية، ومن أراد التفصيل فليراجعها. (منه ره). راجع هداية المسترشدين: 32.
67

وهي: أن من المفاهيم ما لا يوجد في الخارج إلا تبعا للغير، فتلك المفاهيم كالابتداء والانتهاء - مثلا - موجودة بغيرها، ومأخوذة صفة من صفاتها، ولكنها توجد في الذهن على قسمين:
أولهما: أن توجد على نحو وجودها في الخارج، أعني قائمة بغيرها مندكة فيها.
وثانيهما: أن توجد مستقلة بنفسها، بمعنى أن يلاحظها المتصور في حد نفسها، ويجردها عن الخصوصيات التي لا توجد في الخارج بدونها، ولا شك في إمكان وجودها في الذهن بهذا النحو، أعني استقلالا، وإن احتاج في تصورها إلى تصور ما يقوم بها، ومجرد الاحتياج إلى الغير لا يوجب أن يكون ذلك الغير جزءا منها، ودخيلا في وضعها، وما أشبهها من هذه الجهة بالأعراض فإنها تحتاج إلى الجوهر في وجودها الخارجي من غير أن يكون الجوهر جزءا من معناه، وبالربح الذي لا بد في تصوره من تصور التجارة، إلى غير ذلك من أشباهها وهي كثيرة
.
ثم نقول: إن الحروف موضوعة لتلك المعاني الموجودة على نحو الوجود الخارجي، ومعانيها الاسمية موضوعة لتلك أيضا ولكن على النحو الثاني وهي في اللحاظ الأول كليات كما في اللحاظ الثاني، إذ اختلاف اللحاظ لا يوجب الاختلاف في الحقيقة، واحتياجها في الذهن إلى مفاهيم ترتبط بها لا يوجب جزئيتها، كما لا يوجبها احتياجها في الخارج إلى محال توجد بها.
ثالثها: ما ذهب إليه الشيخ الأستاذ (1)، وبينه في مواضع من كتبه، وهو:
«أن الحرف وضع ليستعمل وأريد منه معناه حالة لغيره وبما هو في الغير، ووضع غيره ليستعمل وأريد منه معناه بما هو هو.
وعليه يكون كل من الاستقلال بالمفهومية وعدم الاستقلال بها إنما اعتبر في جانب الاستعمال، لا في المستعمل فيه ليكون بينهما تفاوت بحسب المعنى،

(1) صاحب الكفاية تاب ثراه (مجد الدين).
68

فلفظ (الابتداء) لو استعمل في المعنى الآلي، ولفظة (من) في المعنى الاستقلالي لما كان مجازا، أو استعمالا له في غير ما وضع له وإن كان بغير ما وضع له، فالمعنى في كليهما في نفسه كلي طبيعي يصدق على كثيرين، ومقيدا باللحاظ الاستقلالي أو الآلي كلي عقلي، وإن كان بملاحظة أن لحاظه وجوده ذهنا كان جزئيا ذهنيا، فإن الشيء ما لم يتشخص لم يوجد وإن كان بالوجود الذهني» (1) انتهى.
وحاصل ما يفهم من هذا الكلام، ومن سائر ما بينه في غير هذا المقام، هو اتحاد الوضع والموضوع له بين الحرف وبين متعلقه، ولكن الواضع جعل على متابعيه أن لا يستعمل لفظ (الابتداء) مثلا إلا على النحو الاستقلالي ولفظ (من) إلا على النحو الآلي التبعي، من غير أن يكون لكل من اللحاظين دخل في الموضوع له، بل صرح في غير هذا المقام بامتناع أخذ كل من اللحاظين في المعنى، وجعله من خصوصياته، وقد نقل ذلك عن التفتازاني أيضا.
ويرده أن اللازم من متابعة الواضع إنما هو استعمال ما وضع له مع مراعاة ما اعتبره من القيود فيه، وأما متابعته في سائر أوامره فليس بلازم ولو قلنا بأنه الشارع، إذ الكلام في متابعته من حيث إنه واضع لا شارع إلا أن يكون وجوب هذه المتابعة من قبيل وجوب الصلاة والصيام وحرمة مخالفته كحرمة شرب المدام (2)، والمتابعة بهذا المعنى خارجة من محل الكلام.
ولازم ما ذكره ترادف لفظي (الابتداء) و (من) وهذا مما يقطع بفساده كل متضلع في العربية، ومطلع على مبادئ العلوم الأدبية.
وقوله: «فلفظ (الابتداء) لو استعمل في المعنى الآلي، ولفظة (من) في المعنى الاستقلالي لما كان مجازا» (3) إلى آخره.

(1) كفاية الأصول: 42.
(2) المدام: الخمر. الصحاح 5: 1923 (دوم)
(3) كفاية الأصول 1: 63.
69

نقول: نعم، لا يكون مجازا ولا حقيقة، بل يكون غلطا قبيحا، إذ من أسمج التعبير وأقبحه قول القائل: (من) زيد خير من (إلى) عمرو. أو: (من) سيري البصرة و (إلى ه) الكوفة. إلا أن يكون المراد منه اللفظ كما في قوله: ألام على لو (1). وفي قوله: هل ينفع شيئا ليت (2). أو تحسنه صناعة بديعية، هذا.
وأما على ما تقدم من السيد الأستاذ فهما مختلفان بحسب المفهوم إذ الملحوظ الاستقلالي غير الملحوظ الآلي وإن اشتركا بعد تجريد المعنى عن اللحاظين.
هذا، وفي معاني الحروف مسلك آخر، وهو أدق وألطف مما تقدم، ذهب إليه جماعة أو لهم - فيما أعلم - نجم الأئمة الرضي في شرح الكافية، وتبعه غير واحد من المتأخرين.
وحاصله على اختلاف تقادير الذاهبين إليه: أن الحروف لا معاني لها أصلا، بل هي كالعلم المنصوب بجنب الأسماء (3) لتعين مواقعها من الكلام، وتربط بعضها ببعض، وما هي إلا كرفع الفاعل ونصب المفعول، فكما أن رفع (زيد) ونصب (عمرو) في قولك: ضرب زيد عمرا. لا يزيدان في الجملة معنى أصلا، ولا وظيفة لهما إلا تعيين أن موقع (زيد) فيها موقع الفاعل، و (عمرو) موقع المفعول.
كذلك موقع (الباء) و (في) في قولك: ضربت فلانا بالسوط في الدار. فإنه لا

(1) صدر بيت، لم يسم قائله، وتمام البيت هكذا:
الأم على لو وإن كنت عالما * بأذناب لو لم تفتني أوائله.
(2) صدر بيت، وتمامه هكذا:
ليت وهل ينفع شيئا ليت * ليت شبابا بوع فاشتريت
من أبيات رؤبة بن الحجاج بن رؤبة التميمي.
(3) شرح الكافية 1: 10.
70

حاجة إليهما إلا لربط الاسمين أعني السوط والدار بالضرب، وبيان أن موقع الأول كونه آلة للضرب، والثاني محلا له من غير أن يزيدا معنى فيها أو يشيدا مبنى لها، فليست الحروف إلا روابط للأسماء الواقعة في الكلام، تعين مواقعها، وتضعها في مواضعها.
وهذا المسلك في معاني الحروف - على قربه للوجدان - قريب إلى الخبر المأثور المشهور عن واضع علم النحو عليه السلام (1) (2)، وتعريف أئمة الإعراب للحرف، إذ لو كانت للحروف معان قد وضعت لها شاركت الأسماء في الإنباء عن مسمياتها، ولم يكن قوله عليه السلام في حد الاسم، إنه: «ما أنبأ عن المسمى» حدا مانعا، لأن الاختلاف في أنواع المنبأ لا يستلزم عدم صدق النبأ.
وكذلك قوله عليه السلام: «والحرف ما أوجد معنى في غيره» وقول النحاة:
«إن الحرف ما دل على معنى في غيره» إذ ظاهرهما أن الحرف يوجد معنى في الغير بوصف كونه معنى، أو يدل عليه كذلك.
هذا إجمال القول في تقريب هذا القول إلى الأفهام، وعليك بكتب أصحابه إن شئت تفصيل الكلام.
وإن كان لا بد من مثال لهذا القسم من الوضع، فليكن وضع أعلام الأجناس، فإنها مما اختلفت فيه الآراء، وذهبت الأفكار فيها كل مذهب، حتى ألجأ بعضهم إلى أن التعريف فيها لفظي، وقاسه بالتأنيث اللفظي - وأنت تعلم بالبعد الشاسع ما بين الأمرين - وبعضهم إلى تكلف أمور دقيقة، نعلم أن الواضع بعيد عنها بمراحل.

(1) هو الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، والخبر ما رواه أبو الأسود الدؤلي عنه عليه السلام، وهذا الخبر أشهر من أن يذكر. (مجد الدين).
(2) راجع الأشباه والنظائر للسيوطي 1: 12. وتهذيب التهذيب 12: 12، ومعجم الأدباء 14: 49، وكنز العمال
10: 283 / 29456، وتأسيس الشيعة: 40
71

ولو قيل: بأن الواضع لأعلام الأجناس لاحظ جنس الأسد - مثلا - وهو عام، ثم وضع لفظ أسامة لكل فرد فرد منها بخصوصياته الشخصية، كما لو لاحظ الإنسان عنوان المولود له، وسمى كل واحد منهم محمدا، فهي أعلام، لأنها موضوعة للشخص بخصوصياته وتشخصاته، ومعارف كسائر الأعلام، ولا فرق بينها وبين سائر الأعلام إلا أن الملحوظ فيها الجنس، ولهذا سميت بأعلام الأجناس.
واعلم أن من الحروف ما لم يوضع لإيجاد ربط، ولا لإفادة معنى، بل وضعت لأغراض اخر من تزيين الكلام ونحوه، وهذا نوع آخر من التعهد يقاربه ولا يطابقه، كما يظهر للمتأمل.
وقد منع السيد الرضي (1)، وفاقا للمبرد، وقوع هذه الحروف في الكتاب العزيز، لظنهما لزوم اللغو الذي ينبغي أن ينزه عنه كلام الله سبحانه، كما بينه - رضي الله عنه - في تفسيره المسمى ب (حقائق التنزيل ودقائق التأويل) (2) (3) عند

(1) هو سيد العلماء، وأشرف الفقهاء، وأزهد الفضلاء، وأشعر الشعراء أبو الحسن محمد بن السيد النقيب أبي أحمد حسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن الإمام الهمام موسى ابن جعفر الصادق صلوات الله عليهما - أخو السيد المرتضى علم الهدى - الملقب بالسيد الرضي، المشتهر بذلك، وأمره في الثقة والجلالة أشهر من أن يذكر، وأعلى من أن يسطر، هذا.
ونقل أنه كان يوما عند الخليفة الطائع لله العباسي وهو يعبث بلحيته ويرفعها إلى أنفه، فقال له الطائع: أظنك تشتم منها رائحة الخلافة. فقال الرضي: بل رائحة النبوة. هذا.
وله تصانيف كثيرة، منها: التفسير الكبير المذكور في المتن، ومنها: كتاب نهج البلاغة، وهو معروف، تولد الرضي سند 359، وتوفي سنة 406، فكان عمره الشريف سبع وأربعين سنة، فرحمة الله تعالى عليه. (مجد الدين).
(2) وهذا الكتاب غير محتاج إلى التوصيف، بل هو أحسن من كل تصنيف، وهو أبسط من التبيان الذي هو للشيخ الطوسي. راجع مستدرك الوسائل [ج 3 ص 510] (مجد الدين).
(3) حقائق التأويل للشريف الرضي: 165.
72

الكلام على (الواو) في قوله تعالى: ولو افتدى به (1)، وهذه شبهة ضعيفة، إذ التزين ونحوه من أغراض الفصاحة، ومعه تنتفي اللغوية، فانظر أيها الأديب إلى موقع (الهاء) من قوله تعالى: ما أغنى عني ماليه. هلك عني سلطانيه (2) وأن هذا الحرف الزائد كيف زاد الكلام حسنا، وأكسبه رونقا، وكيف ينحط الكلام إذا حذفته منه، ويذهب منه رونق الوحي الإلهي، وبهاء المعجز النبوي.
(الواضع)
اختلفوا في واضع اللغات، فذهبت الأشاعرة إلى أنه الله تعالى، وجماعة إلى أنه البشر، وآخرون إلى تفاصيل (3) تجدها مفصلة في (الفصول) (4) وغيره.
ولا يخفى على من عرف ما ذكرناه في حقيقة الوضع، أن كل متكلم - بأي لغة كانت - هو واضع حقيقة وإن جرى الاصطلاح على تخصيص الواضع بالمتعهد الأول، لأنه تعهد، والتعهد - كما عرفت - حقيقة الوضع، ولا فرق بينه وبين الواضع الأول إلا التابعية والمتبوعية، وكون تعهد الأول تفصيليا، والثاني إجماليا، فمن تعهد بالتكلم بالعربية - مثلا - فقد تعهد إجمالا بجميع ما تعهد به سائر المتكلمين بها، وينحل ذلك التعهد إلى تعهدات كثيرة بعدد مفردات تلك

(1) آل عمران: 91.
(2) الحاقة: 28 و 29.
(3) واعلم أن في تعيين الواضع ثلاثة أقوال مشهورة:
الأول: ما ذهب إليه الأشعري وجماعة، وهو أن الله تعالى هو الواضع.
الثاني: ما ذهب إليه أصحاب أبي هاشم، وهو أن الواضع هو البشر إما واحدا أو أكثر.
الثالث: ما ذهب إليه أبو إسحاق الأسفرائني، وهو أن الواضع في القدر الضروري المحتاج إليه في الاصطلاح هو الله تعالى، وفي الباقي هو البشر.
لكن الحق ما حققه المصنف في هذا الكتاب، وهو الذي يقبله الذوق الصحيح وأولو الألباب.
(مجد الدين).
(4) أنظر الفصول الغروية: 23.
73

اللغة، هذا.
وأما المتعهد الأول فلا سبيل إلى تعيينه على سبيل القطع، وما تشبث به أرباب الأقوال السابقة، فهي وجوه ضعيفة، وتخرصات واهية، غير أنا نقول: من الواضح الذي ينبغي أن يقطع عليه أنه ليس لكل واحدة من اللغات المعروفة واضع شخصي قد تصدى الوضع لكل واحدة واحدة من مفرداتها، ولا جماعة قد تعاقدوا واجتمعوا لذلك، بل الذي يشهد به الاعتبار، ويدل عليه تتبع اللغات، ومقايسة مفردات بعضها ببعض، أن جميعها مأخوذ من أصول قليلة قديمة قد خالفت أصولها، واختلفت ما فيها، لاختلاف المتكلمين بها بحسب اختلاف بلادها وأزمنتها وغيرهما حتى قلت المشابهة بين كثير منها، بل عزت بين بعضها وبعض، ولكن قد بقي إلى اليوم ما يشهد بصحة ما قلناه، هذه اللغة المباركة العربية إذا قست بين مفرداتها وبين مفردات اللغة العبرية رأيت بينهما من المشابهة الكلية ما تصدق قول بعض الأدباء: إن الفرق بين اللغتين (1) كالفرق بين اللفظين.
وكذلك شباهتها بالسريانية، حتى قال عبد الملك بن حبيب: إنها عربية محرفة، وإنك ترى اليوم اختلاف المتكلمين بلغة واحدة كالفارسية - مثلا - فيها حتى يكاد أن لا يفهم أهل صقع من بلادها لسان أهل صقع آخر، بل هذا الاختلاف يشاهد كثيرا بين بلد (2) واحد، وقراه المتصلة به.
ثم إن المخالطة بين القبائل، وفتح (3) بعضها بلاد بعض أوجب اختلاط فروع الأصول المختلفة، ولذلك ترى اليوم في اللغة الفارسية من الألفاظ العربية ما

(1) كالعربي والعبري. (مجد الدين).
(2) كبلدنا أصبهان وكثير من قراه المتصلة به أو القريبة إليه كقرية (جز) والقرية الكبيرة المعروفة ب (سدة) فإن أهلهما يتكلمون بينهم لغة خاصة بهم لا يكاد يعرفها أهل البلد، وقد شاهدت ذلك بالعيان، والله المستعان. (مجد الدين).
(3) كفتح العرب بلاد الفرس في صدر الإسلام. (مجد الدين).
74

يكاد أن يربو على ألفاظها الأصلية، وتكثر في العربية المعرب والدخيل.
ثم إن الصنائع المخترعة والمكتشفات الجديدة تستدعي بالطبع وضع الألفاظ المولدة، كما أن توسعة نطاق العلوم توجب جعل الاصطلاحات العلمية فتحدث في اللغة ألفاظا كثيرة لا عهد لأربابها الأقدمين بها، ولا شك أن أحد الكتب المصنفة في الحكمة أو الأصولين لو عرض على عرب زمان الجاهلية لزعمته من الرطانة الهندية أو اليونانية.
وبالجملة كلما كثرت الألفاظ التي تستعمل على نحو من التوسعة يعود وضعا تعينيا للمستعل فيه، والتي على سبيل التحريف فتكون لغة أصلية كأكثر أمثلة الاشتقاق الكبير والأكبر ولغيرهما من أسباب كثيرة يد قوية في حصول التباينات بين المتقاربة من اللغات، وهذا المقام يتحمل بحثا طويلا نكله إلى تتبع الناظر وتأمله، وإنما غرضنا الإشارة لا التفصيل، هذا.
وأما قوله تعالى (1): (وعلم آدم الأسماء) (2) فلا ينافي ما قلناه، إذ لم يظهر المراد من الأسماء، وأنها هل كانت من قبيل اللغات أو غيرها، وفي تفاسير أهل البيت عليهم السلام ما يدل على الثاني وعلى الأول، فلا يعلم بأي لغة كانت، فلعلها كانت بغير لغات البشر، أو ببعض أصولها المجهولة، والله العالم.

(1) هذا جواب عن احتجاج القائلين بأن الواضع هو الله تعالى، والاحتجاج ما ذكره في الفصول وغيره، وهو قوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها).
ووجه الدلالة: أن المراد بالأسماء إما معناها الأصلي أعني العلامات، فيتأول الألفاظ لكونها علامة لمعانيها، والتعليم فرع الوضع، أو معانيها العرفي أعني ما يقابل الأفعال والحروف، فيدل على وضعه لها بتقريب ما مر، وعلى وضعه لهما لتعسر أداء المراد بها بدونهما غالبا، ولعدم قائل بالفصل، فتدبر. (مجد الدين).
(2) البقرة: 31.
75

(الموضوع والموضوع له)
أما الموضوع: فكل ما تناله يد القدرة رفعا ووضعا، أو إيجاده على عدد خاص أو كيفية خاصة ونحو ذلك، وأمكن إعلام الغير به فهو قابل للوضع، وأتم الموضوعات نفعا، وأسهلها استعمالا الألفاظ، ثم الكتابة وإن كانت تفوق على الألفاظ بإمكان الإفهام لغير الحاضرين، بل لغير الموجودين، وبقائه بها في آلاف من السنين، ثم ما بعدهما من المراتب، حتى تنتهي النوبة إلى النصب التي لا يعلم بها إلا الطريق، وعدد الفراسخ ونحوهما.
وأما الموضوع له: فكل ما يتعلق الغرض بإفهامه الغير يكون قابلا للوضع له، سواء كان معقولا أوليا أو ثانويا (1)، كليا أو جزئيا، إلى غير ذلك من الأقسام التي يصعب سردها، بل يتعذر عدها حتى أنه يمكن وضع اللفظ للفظ ومنه أسامي الحروف، فلفظ الجيم موضوع لأول الحروف من لفظ جعفر، والعين لثانيها كما قال الخليل، وعد جماعة أسماء الأفعال منه، وزعموا أن لفظ (صه) مثلا موضوع للفظ اسكت. وهكذا، ولكنه بعيد جدا، بل الظاهر أنها موضوعات لمعان الأفعال، لكن مع خصوصيات حرفية، فلفظ (صه) موضوع لطلب السكوت، لكن مع زجر ومنع زائد على ماهية الطلب، نظير وضع اليد على فم المتكلم حال الكلام، وكذلك لفظ (هلم) فهو موضوع لطلب المجيء، لكن مع خصوصية تشبه الإشارة باليد، ولعله لما فيه من الجفاء ومخالفة الأدب لا يخاطب الوضيع به الشريف، ولهذا (2) منعت من التصريف والاشتقاق، فهي بأن تسمي أفعال الحروف أولى وأجدر من تسميتها بأسماء الأفعال.

(1) يعني كالمحاذاة والفوقية والتحتية. (مجد الدين).
(2) إشارة لما ذكر أولا أي مع خصوصيات حرفية، أي فكما أن الحروف غير قابل للتعريف والاشتقاق فهكذا أسماء الأفعال. (مجد الدين).
76

(الاستعمال)
الاستعمال ثمرة الوضع وفائدته وهو وفاء الواضع بالوعد وعمله بالتعهد الذي سبق منه، بل لولاه لم يكن معنى للوضع، ولم يتحقق له وجود في الخارج بغيره، لأنه - كما عرفت - تعهد الاستعمالات المتأخرة عنه فلا موضوع للتعهد لو لا الاستعمال، وحقيقته إفهام المعنى للمخاطب بإسماعه اللفظ، وجعل اللفظ آلة لإحضار ما يريد من المعاني في ذهنه، ومرآة تريه الأشياء بما هي عليها من النسب والخصوصيات على ما يريد المتكلم إراءتها له سواء كان مطابقا للواقع أم لا، وسواء كان على طريق الجد منه أو الهزل بأي غرض سنح، وداع اتفق.
وبالجملة قوام الاستعمال بأمرين: إلقاء اللفظ على مسمع المخاطب، وقصد إلقاء المعنى في ذهنه به، فلا يشترط فيه غيرهما، فمتى اجتمعا تحقق الاستعمال، وينتفي بانتفاء أحدهما.
(القسم الثاني)
وأنت إذا أتقنت هذا الأمر الواضح - بعد البيان الذي يغنيه صريح الوجدان عن تجشم البرهان - عرفت الحق في عدة مسائل تضاربت فيها الأفكار، واختلفت فيها الأنظار.
منها: أنه لا فرق بين القضية الصادقة والكاذبة في كون ألفاظهما مستعملة في معانيها لما عرفت من أنه لا معنى للاستعمال إلا إرادة المتكلم إلقاء المعنى على السامع من غير أن يكون لمطابقة الواقع وعدمها دخل فيه، خلافا لبعض مشايخنا (1) حيث كان رحمه الله يخصص الاستعمال بالأولى ويزعم أن الكاذب

(1) صاحب تشريح الأصول. (مجد الدين).
77

يغري السامع بالجهل، ويوهمه أن قد استعمل الألفاظ في معانيها لا أنه يستعملها فيها وما كان يزيد في بيان ذلك، على أن الوضع من أفعال العقلاء، وأغراضهم لا تتعلق إلا ببيان الواقعيات فالكذب خلاف حكمة الوضع فلا يصدر من الواضع.
وهذا منه من الغرابة بمكان، بل هو - فيما أرى - نقض لما شيده في الوضع من محكم البنيان، إذ عرفت أن كل متكلم بلغة واضع حقيقة، ولا خصوصية للواضع الأول إلا المتبوعية، والاختراع والتكلم باللغات لا يختص بالعقلاء.
وأيضا الكذب من الأغراض العقلائية، والعقل بالمعنى (1) الذي يدعو إلى الوضع وأمثاله لا يمنع عن الكذب، بل قد يدعو إليه والعاقل لا يتحاشى عن الكذب إلا برادع أخلاقي أو شرعي كما يتحاشى عن سائر المحارم.
وبالجملة لا معنى للاستعمال - كما عرفت - سوى إرادة إفهام السامع معنى من المعاني بدواع وأغراض تدعوه إلى ذلك، واختلاف الأغراض في الحسن والقبح والحلية والحرمة لا يوجب الاختلاف في الاستعمال.
ومنها: أن بعض الأساتيذ (2) ذكر في كتابه:
«أن حقيقة الاستعمال ليست مجرد جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى بل جعله وجها وعنوانا له، بل بوجه نفسه كأنه الملقى، فلذا يسري إليه قبحه وحسنه كما لا يخفى» (3) إلى آخره.
وبنى عليه عدم جواز استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى واحد، وصرح بجواز جعله علامة لمعان كثيرة.
أقول: من الواضح لدى من أتقن معرفة ما ذكرناه سابقا، أن لا معنى

(1) احتراز عن العقل الحقيقي وهو ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان (مجد الدين).
(2) صاحب الكفاية طاب ثراه (مجد الدين).
(3) كفاية الأصول: 36.
78

للاستعمال إلا إفهام المراد، ولا يحصل ذلك إلا بجعل اللفظ علامة للمعنى بالمعنى الذي عرفناك به، ولا نتعقل وراء ذلك شيئا نسميه جعل اللفظ وجها وعنوانا للمعنى كما ذكره هنا ولا رميا للمعنى به كما كان يذكره في مجلس البحث.
وأما ما ذكره من سراية القبح إلى اللفظ فهو في غاية الخفاء، وإن قال فيه: كما لا يخفى. وما تراه من قبح التكلم ببعض الألفاظ فليس لقبح اللفظ (1)، بل لقبح إفهام المعنى للسامع، وإحضاره في ذهنه، ولهذا ترى هذا القبح موجودا حتى في الإشارة التي صرح في بعض فوائده - على ما ببالي - أنه من قبيل العلامة لا إلقاء المعنى، وكذا في غيرها من العلامات، ولهذا المقام تتمة مهمة تسمعها في مسألة استعمال المشترك في معنييه إن شاء الله.
ومنها: أن صاحب الفصول قال ما لفظه: «هل الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي أو من حيث كونها مرادة للافظها؟ وجهان» (2).
ثم ذكر (3) ما يمكن أن يستدل لكل من الوجهين.
وجزم صاحب الكفاية بالأول فقال، وهذا لفظه: «لا ريب في كون
الألفاظ موضوعة لمعانيها من حيث هي لا من حيث هي مرادة للافظها، لما
عرفت من أن قصد المعنى على أنحائه من مقومات الاستعمال فلا يكاد يكون
من قيود المستعمل فيه، هذا.

(1) إذ لو كان لقبح اللفظ لزم ذلك، أي يكون ذلك القبح ولو كان السامع غير عالم بالوضع، والحال أنه ليس كذلك قطعا، فتأمل. (مجد الدين).
(2) الفصول الغروية: 17.
(3) ذكر صاحب الفصول دليلين للقول الأول، أولهما: إطلاقهم بأن الوضع تعيين اللفظ للدلالة على المعنى من غير اعتبار حيثية.
وثانيهما: أن الحيثية المذكورة أمر زائد على المعنى، فالأصل عدم اعتبارها في الوضع.
ولكن صاحب الفصول ضعف الدليلين، ومن أراد التفصيل فليراجع الفصول [ص 17].
(مجد الدين)
79

مضافا إلى ضرورة صحة الحمل والإسناد في الجمل بلا تصرف في ألفاظ الأطراف، مع أنه لو كانت موضوعة لها بما هي مرادة لما صح بدونه، بداهة أن المحمول على (زيد) في (زيد قائم) والمسند إليه في (ضرب زيد) هما نفس القيام والضرب لا بما هما مرادان، مع أنه يلزم كون وضع عامة الألفاظ عاما والموضوع له خاصا، لمكان اعتبار خصوصية [إرادة] (1) اللافظين فيما وضع له اللفظ، فإنه لا مجال لتوهم أخذ مفهوم الإرادة فيه كما لا يخفى، وهكذا الحال في طرف الموضوع له» (2).
ثم نقل ما نقله في الفصول عن الشيخ الرئيس والمحقق الطوسي من مصيرهما إلى أن دلالة الألفاظ تتبع الإرادة (3)، وتصدى لتأويل كلامهما بما يغني عنه ما نلقيه عليك من صحيح القول المعتضد بواضح البيان، ونقول:
قد عرفت سابقا عدم معقولية جعل العلقة ابتداء بين اللفظ والمعنى، وإنما المعقول التزام الواضع وتعهده بأنه متى ما أراد إفهام الغير بما في ضميره من معنى معين أتى بلفظ معين، وبعد هذا التعهد والإعلام به يصير اللفظ متى أطلقه دليلا على إرادته إفهام ذلك المعنى فقط من غير أن يكون بين اللفظ والمعنى ربط ابتدائي مع قطع النظر عن الإرادة.
فالقائل بأن الألفاظ موضوعة للمعاني من حيث إنها مرادة، إن أراد ما قررناه - وظني أنه لا يريد غيره - فهو حق لا مناص عنه ولا ضير فيه، وكيف ينكره المتأمل؟ وصريح الوجدان يشهد بأن المفهوم من قول القائل: (زيد قائم).
ليس إلا إرادته إفهام السامع هذه النسبة الخاصة بين زيد والقيام حتى أن مطابقته للواقع وعدمها ليست مفهومة من اللفظ بل تعرف بضم أمور خارجية

(1) الزيادة من المصدر.
(2) كفاية الأصول 1: 22.
(3) كفاية الأصول: 16 - 17، وانظر الفصول الغروية: 17.
80

إليه، كالعلم بعدالة المخبر، فكلام الصادق والكاذب في الإخبار على حد سواء في الدلالة اللفظية، وبهذا يصح لك أن تختصر الكلام، وتقول: إن اللفظ إما تكون دلالتها على أن لافظها أراد إفهام معانيها، وإما أن تكون على الوقوع واللاوقوع، وحيث إن الشق الثاني خارج عن عهدة اللفظ يتعين الأول.
وإن أراد أن معاني الألفاظ مقيدة بالإرادة بمعنى أنها لوحظت بالمعنى الاسمي قيدا لها فوضوح فساده مغن عن الإطالة في رده، وما ذكره هذا الأستاذ من الإيراد لا يتوجه على ما قررناه أصلا.
أما قوله: «وإن قصد المعنى من مقومات الاستعمال». فللتأمل في فهمه مجال، ومهما كان المراد منه فليس الاستعمال إلا الإتيان باللفظ لإرادة إفهام المعنى، وهذا لا محذور فيه أصلا.
وأما ما ذكره «من صحة الحمل بلا تصرف في [ألفاظ] (1) الأطراف» (2) إلى آخره فهو أجنبي عما قلناه، ويتجه على من يقول بتقييد المعاني بالإرادة بالمعنى الاسمي إن وجد قائل به.
وكذا ما ذكره أخيرا، على أنه فيه: أن كل لفظ يدل بالوضع على معنى جعلوه من باب عموم الموضوع له، وفي قباله الألفاظ الدالة على المعنى الخاص، ولا مشاحة في الاصطلاح.
فاستبان مما ذكرناه: أن الدلالة اللفظية لا تتحقق إلا في الألفاظ الصادرة عن شاعر قابل للإرادة، وما يرى من انتقال الذهن إلى المعنى عند سماع اللفظ من غيره فهو من باب أنس الذهن، لا من باب الدلالة قطعا.
ومنه يظهر الجواب عما أورده في الفصول «من أنه يلزم على تقدير أن تكون الحيثية المذكورة داخلة في المعنى أن يكون كل لفظ متضمنا معنى حرفيا

(1) الزيادة من المصدر.
(2) كفاية الأصول: 16.
81

وهو بعيد عن الاعتبار» (1). انتهى.
وأنت تعلم أن مثل هذا إنما يتوجه على من يجعل هذه الحيثية مأخوذة في المعنى على نحو القيدية، ونحن لا نقول به، ولا يقول به أحد - فيما أظن - وإنما نقول: إن معنى وضع اللفظ هو كشف اللفظ عن المراد كما يدل عليه لفظ المعنى، وأين هذا من اعتباره في الموضوع له؟ ومنه يظهر مراد الشيخ والمحقق الطوسي (2) فيما ذهبا إليه من تبعية الدلالة للإرادة. بل هو - إذا تأملت - عبارة أخرى عن القول بوضع الألفاظ من حيث كونها مرادة، وأقصى الفرق أن هذا بيانه في مقام الوضع، وذاك في مقام الاستعمال، ولكن هذا الأستاذ حمل كلام المحققين على ما يليق به ويليق بهما، وخص القول الآخر بحمله على ما لا يقول به من له حظ من العلم.
(المشترك)
لا ريب في إمكان الاشتراك (3) بين المعنيين، بل وقوعه في الجملة، ولا ينافي

(1) الفصول الغروية: 17
(2) قوله: مراد الشيخ والمحقق الطوسي.
أقول: المراد بالأول هو الشيخ الرئيس حسين بن عبد الله بن سينا صاحب التصانيف المشهورة كالقانون والإشارات وغيرهما مما لا مجال لنا في ذكرها.
تولد الشيخ الرئيس سنة 373، وتوفي جمعة شهر رمضان، وكان يكنى ب (أبي علي).
والمراد بالثاني هو الخواجة نصير الملة والدين محمد بن محمد بن الحسن الطوسي، المتوفى سنة 672.
(مجد الدين).
(3) الاشتراك على قسمين: الأول: الاشتراك اللفظي وهو أن يكون اللفظ مشتركا بين المعنيين فما زاد، بوضعين فما زاد، وهو المراد عند الإطلاق في كتب الأصول.
الثاني: الاشتراك المعنوي وهو أن يوضع اللفظ لمعنى جامع لفردين أو الأفراد، وهذا ليس باشتراك في الحقيقة، ولم يكن له إلا وضع واحد.
والمراد من قولهم: المجاز خير من الاشتراك. هو الاشتراك اللفظي لا المعنوي، فافهم. (مجد الدين).
82

ذلك التعهد الذي عرفت أنه حقيقة الوضع، لأن شموله لجميع الاستعمالات بالعموم، فيمكن
تخصيصه ببعض دون بعض، ويتعهد في بعض استعمالاته للفظ بغير تعهده الأول مثلا تعهده بأنه لا ينطق بلفظ العين إلا إذا أراد إفهام الجارحة (1) يعم جميع استعمالاته له ويشملها بالعموم،
فيخصص بالوضع الثاني بغير ما إذا أراد إفهام الذهب، فمرجع الوضعين إلى أنه لا يتكلم بهذا اللفظ إلا إذا أراد أحد المعنيين، وبحكم الوضع يعرف نفي غيرهما من المعاني، ويبقى تعيين أحدهما في عهدة القرينة، ولهذا تسمى القرينة فيه معينة.
وإذا عرفت حقيقة الحال في المشترك لا يصعب عليك البيان في المترادف الذي هو عكسه.
ومن منع وقوعهما لزعمه أنهما منافيان لحكمة الوضع فقد أخطأ المرمي ولم يصب المحز، إذ كثيرا ما تقتضيهما الحكمة وتدعو إليهما قواعد الفصاحة ونكات الصناعة.
ومع ذلك كله فلا يذهب عليك أنهما قليلان جدا بحسب أصل اللغة، فكثير من الألفاظ التي ترى أنها مترادفة في بادئ النظر موضوعة لمعان متقاربة، والتي يدعى أنها مشتركة لفظا موضوعة لمعنى واحد فتكون مشتركة معنى، وما كان منهما على حقيقة الاشتراك والترادف فمنشؤهما تداخل اللغات وحدوث الأوضاع التعينية وكثرة الاستعمالات أو المسامحة فيها باستعمال اللفظ فيما يقارب معناه، وإلا فمن البعيد حدوثهما من واضع واحد، هذا.
وأما استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، فأكثر المتأخرين على المنع

(1) لعله غلط مطبعي، وصحيحة: الجارية أو الباكية أو غيرهما من معانيها المعروفة، والأول أظهر لتشابه اللفظين. (مجد الدين).
83

عنه مطلقا (1) بل استحالته (2) عقلا، وذهب جماعة إلى المنع في المفرد، وجوازه في غيره، وآخرون إلى التفصيل بين النفي والإثبات.
والحق جوازه مطلقا (3)، بل وقوعه كثيرا، بل حسنه، وابتناء كثير من نكات الصناعة عليه.
أما الأول فلوجود المقتضي، وعدم المانع.
أما المقتضي فهو الوضع لأن الموضوع له هو ذوات المعاني بأوضاع عديدة من غير تقييد بالوحدة وجدانا، ولا تمانع بين الوضعين، فكل وضع يقتضي الاستعمال مطلقا.
وأما عدم المانع فلأنه إن كان ثمة منع فإما أن يكون من جهة نفس الوضع، أو الواضع أو من العقل، أما من جهة الوضع فقد عرفت أنه لا يمنع منه، بل يقتضيه، وأما من جهة الواضع فلأنه لم يلاحظ حال الوضع وجود وضع آخر ولا عدم وجوده، فاستعماله في حال الاجتماع عمل بالوضع كاستعماله حال الانفراد، وأما عدم المانع عقلا فليس في المقام ما يوهمه إلا ما ذكره غير واحد.
قال الوالد العلامة - أعلى الله مقامه - في المقدمة الرابعة من كتاب التفسير (4)، ما لفظه: «إن المانع من استعمال اللفظ في أكثر من معنى عدم إمكان حقيقة الاستعمال فيه».
وملخص بيانه: أن الاستعمال عبارة عن إيراد اللفظ بإزاء المعنى، وجعله

(1) سواء كان مفردا أو غيره، نفيا أو إثباتا. (مجد الدين).
(2) وبها قال صاحب الكفاية طاب ثراه [انظر كفاية الأصول: 36] (مجد الدين).
(3) في المفرد وغيره، في النفي والإثبات. (مجد الدين).
(4) هذا التفسير من أحسن التفاسير لكنه غير تام، وهو مشتمل على مقدمات وتفسير سورة الفاتحة وآيات من أوائل سورة البقرة وهو موجود بخط مصنفه - طاب ثراه - عندي، وتوفي - قدس سره - في سنة 1308 [هجرية] وترجمته مذكورة بقلم أخيه في آخر التفسير المذكور، المطبوع [بالطبعة الحجرية] في إيران، [وفي الطبعة الحديثة في أول التفسير]. (مجد الدين).
84

قالبا له، ومرآة للانتقال إليه، وآلة لتصويره في ذهن السامع، كما أن الوضع عبارة عن تعيين لفظ المعنى وتخصيصه به على وجه كلي بحيث متى أطلق أو أحس فهم منه ذلك المعنى، ومفاد المقامين هو صيرورة اللفظ كلية في الثاني، وفي الكلام الخاص في الأول بإزاء المعنى بحيث يكون اللفظ المركب من حيث كونه مجتمعا وحدانيا بإزاء المعنى البسيط أو المركب من حيث كونه مركبا وحدانيا، فالمحاكاة هنا بين اللفظ الواحد والمعنى الواحد ولو كانت الوحدة اعتبارية، والحاكي الواحد في الاستعمال الواحد لا يحكي إلا حكاية واحدة عن الشيء الواحد، ومن ضروريته أن لا يقع بإزاء الأكثر، ولا قالبا له ولا مرآة له لبساطته في هذا اللحاظ إلا أن يلاحظ الأكثر من حيث الاجتماع واحدا فيخرج عن العنوان ويندرج تحت استعمال اللفظ في مجموع معنيين وهو غير الموضوع له، فإن تمت العلاقة صح مجازا، وإلا بطل.
وإن شئت قلت: معنى الوضع تخصيص لفظ بمعنى بحيث يكون الأول بتمامه واقعا بحذاء الثاني، ويصير بكليته مرآة له ومتمحضا في الدلالة عليه فلا يطابقه الاستعمال إلا حال وحدة المعنى، وتوضيحه موكول إلى فنه» (1) انتهى.
وقال الأستاذ (2) بعد ما ذكر اختلافهم في المسألة على أقوال، ما لفظه: «أظهرها عدم جواز الاستعمال في الأكثر عقلا، وبيانه:
أن حقيقة الاستعمال ليس مجرد جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى، بل جعله وجها (3) وعنوانا له، [بل] (4) بوجه نفسه كأنه الملقى، ولذا يسري إليه قبحه وحسنه كما لا يخفى، ولا يكاد يمكن جعل اللفظ كذلك إلا لمعنى واحد، ضرورة

(1) مجد البيان في تفسير القرآن: 75 - 76.
(2) صاحب الكفاية. (مجد الدين).
(3) ونفس هذا الدليل يحتاج إلى بيان. (مجد الدين).
(4) الزيادة من المصدر.
85

أن لحاظه هكذا في إرادة معنى ينافي لحاظه كذلك في إرادة الآخر، حيث إن لحاظه كذلك لا يكاد يكون إلا بتبع لحاظ المعنى فانيا فيه فناء الوجه في ذي الوجه، والعنوان في المعنون، ومعه كيف يمكن إرادة معنى آخر معه كذلك في استعمال واحد مع استلزامه للحاظ آخر غير لحاظه كذلك في هذا الحال.
وبالجملة، لا يكاد يمكن في حال استعمال واحد لحاظه وجها لمعنيين، وفانيا في الاثنين إلا أن يكون اللاحظ أحول العينين» (1) انتهى.
أقول: وهذان الكلامان (2) مغزاهما (3) واحد، وهو إثبات درجة رفيعة للاستعمال فوق ما نعرفه من الكشف عن المراد، والدلالة على المعنى بواسطة الوضع فكأنه كلام (4) أخذ من كتب أهل المعقول فجعل في غير موضعه من كتب الأصول، ولا أظن الوالد، ولا هذا الأستاذ ينازعان في إمكان الكشف عن المراد بغير هذا الطريق الذي سمياه استعمالا، بل على نحو العلامة الذي صرح بجواز جعله لأشياء متعددة، ونحن لا نتصور قسمين للإفهام يسمى أحدهما استعمالا، ويكون إلقاء للمعنى، وفناء للفظ فيه، ونحو ذلك من التعبير، ويسمى الآخر علامة تدل على المراد، فإذا ضممت إلى ذلك ما عرفت من أن الإفهام في المحاورات ليس إلا بجعل الألفاظ علائم للمعاني، ارتفع النزاع بيننا وبينه، وصحت لنا دعوى الاتفاق على الإمكان حتى في متعارف المحاورات، ولم يبق إلا النزاع في تسمية ذلك بالاستعمال وعدمها، وهذا نزاع لفظي بحت لا طائل تحته،

(1) كفاية الأصول: 36.
(2) أي كلام الوالد [صاحب التفسير] والأستاذ [صاحب الكفاية]. (مجد الدين).
(3) أي مفادهما ومعناهما واحد. (مجد الدين).
(4) لا يخفى أن ما ذكره صاحب الكفاية وغيره من [أن] الاستعمال عبارة عن فناء اللفظ في المعنى فناء الوجه في ذي الوجه، والمرآة في المرئي، والعنوان في المعنون، ادعاء محض، بل دقة عقلية في مسألة لغوية أدبية محضة من غير مناسبة. (مجد الدين).
86

ونحن ندع له إنشاء هذا اللفظ لينحل له ذلك المعنى الغير المتصور كرامة له وكراهة للمنازعة معه.
وقد ذكر هذا الأستاذ في بعض كلامه: أنه لا يمكن استعمال اللفظ في معنيين إلا إذا كان المستعمل أحول العينين (1). وما هذا إلا خطابة حسنة، ولكن أحسن منها أن يقال: إنه يكفي في ذلك أن لا يكون ذا عين واحدة فإذا كان ذا عينين أمكنه استعمال العين في معنيين.
واعلم، أن أقوى أدلة الإمكان وأسدها الوقوع، وهذا النحو من الاستعمال واقع كثيرا، وهو في كثير من المواقع حسن جيد جدا.
وعليه تدور رحى عدة من نكات البديع كبراعة الجواب والتورية وأحسن أقسام التوشيع، فانظر - إذا شئت - إلى قول القائل في مدح النبي الأكرم والحبيب الأعظم صلى الله عليه وآله، من البسيط:
المرتمي في دجى، والمبتلى بعمى * والمشتكي ظمأ، والمبتغي دينا
يأتون سدته من كل ناحية * ويستفيدون من نعمائه عينا
تراه قد استعمل الكلمة الأخيرة من البيت الثاني في معان أربعة يوضحها البيت الأول.
وإلى (2) قول القائل في جواب السائل، من الكامل:
أي المكان تروم ثم من الذي * تمضي له فأجبته المعشوقا
أراد بالكلمة الأخيرة معناه الاشتقاقي، وقصرا كان للمتوكل بسامراء.
وقول المشتكي طول ليلته ودماميل في جسده: «وما لليلتي وما لها فجر».
ولا أدري ما ذا يقول المانع في هذه الأبيات الثلاثة ونظائرها الكثيرة، فهل

(1) كفاية الأصول: 54 - 55
(2) معطوف على قوله: فانظر إذا شئت إلى قول القائل. وكذا (قول المشتكي) [الآتي]. (مجد الدين).
87

يصادم الوجدان، ويزعم إهمال الألفاظ الثلاثة أعني: العين والمعشوق والفجر، وعدم استعمالها في معنى أصلا، ولازمه انعدام معنى كل بيت بأجمعه، ضرورة توقف معاني سائر ألفاظه على وجود المعنى للقافية، أو يلتزم باستعمالها في أحد المعاني، ولا يكترث بامتناع الترجيح بلا مرجح، وحينئذ تلزم اللغوية في سائر ألفاظ البيت؟ فلو حمل - مثلا - لفظ العين في البيت الأول على إرادة الشمس صلح أول البيت، ولزم اللغو في سائر ألفاظه، أو المعشوق في الثاني على المعنى الاشتقاقي لم يبق معنى لقوله: أي المكان تروم، وكذلك حمل الفجر - في الثالث - على الصبح يلزم منه محذور اللغوية في قوله: وما لها. وهكذا، وكأني به ولا يقول بهذا ولا بذاك، بل يؤولها إلى إرادة المسمى وهو من أبرد التأويل، وستعرف الكلام فيه قريبا إن شاء الله.
وإذا انتهيت إلى التورية البديعية، وفرقت بينها وبين التورية العرفية، ولم تقع فيما وقع فيه علماء البديع من الخلط بينهما، ونخلتها (1) من الشواهد الغريبة التي ليست من بابها فقد انتهيت إلى ما يزيح عنك كل ريب، ولا يدع لك مجالا للشبهة فيما قلناه. واتضح لديك أن هذه النكتة التي هي من أجل صنائع البديع مبنية على استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، وتفصيل القول لا يناسب موضوع هذا الكتاب، وقد أوضحت جميع ذلك في رسالتي التي سميتها: (السيف الصنيع لرقاب منكري البديع) وشرحته فيها شرحا كافيا.
ومجمل القول هنا: أن علماء البديع جعلوا مبنى التورية على لفظ يكون له معنيان: أحدهما قريب، والآخر بعيد، فيقصد المتكلم المعنى البعيد، ويوهم السامع القريب، وهذا إنما يناسب التورية العرفية وهي التي يسميها العرب

(1) نخل الدقيق: غربلته. الصحاح 5: 1827، مجمع البحرين 5: 497 (نخل)
88

بالملاحن والمعاريض وتقول فيها: إن في المعاريض مندوحة عن الكذب.
وتختلف الفقهاء في وجوبها لدى الاضطرار إلى الكذب، نحو قولك: ما رأيت زيدا ولا كلمته. فإنك تفهم السامع عدم رؤيتك له، وتكلمك معه، وتضمر في نفسك أنك ما ضربت ريته، ولا جرحته على غموض معنى إضمار المعنى في النفس كما ستعرف إن شاء الله.
وحيث إن الغرض في هذه التورية إغفال السامع عن المراد، وإخفاء الواقع عليه لزم فيها اختلاف المعنيين ظهورا وخفاء، وكون المراد هو الخفي منهما، وامتنع ترشيحها بما يناسب المعنى البعيد لكونه نقضا للغرض، بل قد يلزم ذكر ما يلائم القريب إذا اقتضى المقام التأكيد في تمويه الأمر على السامع، وتبعيده عن الواقع، وتسمى حينئذ في الاصطلاح بالتورية المبينة، وأين هذه من التورية البديعة البديعية التي يقصد الشاعر أو الناثر إفهام المعنيين معا لأن في ذلك كمال صنعته وإظهار قدرته، ولهذا تراه إذا غفل السامع عن أحدهما يجتهد في إفهامه، ويصرح له بقصده، ولا تتوقف - كأختها (1) - على اختلاف المعنيين في الظهور والخفاء، بل إذا كانا متكافئين في لظهور كانت أبدع في الصنعة، وأملح في الذوق، ومع اختلافهما في ذلك فكثيرا ما يرشح البعيد بما يقربه إلى المعنى الآخر احتيالا منه في جعلها في مرتبة واحدة أو في درجتين متقاربتين، والقوم لعدم تنبههم للفرق بين التوريتين وقع لهم الخبط في الخلط بين القسمين، فذكروا تعريف التورية العرفية وأحكامها وأقسامها للتورية البديعية، ثم تكلفوا في بعض الشواهد التي يتقارب فيها المعنيان للفظ بجعل أحدهما بعيدا والآخر قريبا، وكثيرا ما يعجزون حتى عن التكلف، فيرون السكوت عن ذلك هو الأجدر بهم والأصلح لهم.

(1) التورية العرفية. (مجد الدين).
89

ثم جعلوا التورية العرفية نكتة أخرى، وغيروا اسمهما إلى الموارية مع ضم ما ليس من بابها إليها، مع أن الإنصاف أن لفظ التورية بالعرفية ألصق، وهي بها أحق لأنها من ورى الحديث إذا أخفاه (1)، ولا إخفاء في البديعية أصلا، بخلاف العرفية، كما عرفت.
ولا بد لنا في توضيح ما ادعيناه من الفرق بين التوريتين، وكون اللفظ في البديعية مستعملا في المعنيين، من ذكر بعض الشواهد ليرى السامع بالعيان صحة ما أوضحناه بساطع (2) البرهان.
قال سراج الدين الوراق - وقد اجتمع برئيسين يلقب أحدهما بشمس الدين والآخر ببدر الدين، ثم فارقهما -:
لما رأيت الشمس والبدر معا * قد انجلت دونهما الدياجي
حقرت نفسي ومضيت هاربا * وقلت: ما ذا موضع السراج
فلفظ السراج يحمل على معناه اللقبي إذا حمل لفظ الشمس والبدر عليهما، ويكون المعنى أنه لا موضع له معهما لانحطاط رتبته عنهما، وعلى ما يستضاء به إذا حمل اللفظان على النيرين، ويكون المعنى أن السراج لا ضوء له معهما، والمعنيان كما ترى متكافئان (3) أو متقاربان، واللفظ مستعمل قطعا، وحمل اللفظ على أحدهما يذهب برونقه ويحط من قدره، على أنه ترجيح بلا مرجح (3).
وقوله (4) أيضا:
فها أنا شاعر سراج فاقطع لساني أزدك نورا

(1) أنظر الصحاح 6: 2523، القاموس المحيط 4: 399 (علا).
(2) متعلق ب (ليرى) لا ب (أوضحناه). (مجد الدين)
(3) أي متساويان (مجد الدين).
(4) الترجيح بلا مرجح صحيح إن كان المعنيان متكافئين، أما إن كانا متقاربين فلا. (مجد الدين)
(5) أي: سراج الدين الوراق. (مجد الدين).
90

فلو حمل قطع اللسان على قط الشمعة لم يبق محل لذكره لفظ (الشاعر)، ولو حمل على الصلة لم يبق موضع للفظ (السراج) فلا بد من حمله على المعنيين معا.
وقول الآخر:
قام يقط شمعة * فهل رأيت البدر قط
وهل ترى الحسن الذي يأخذ بمجامع القلب ويسحر اللب إلا من استعماله لفظ قط في معنيين؟ ولا أدري أيهما القريب المورى به، وأيهما البعيد المورى عنه؟ وأيهما الذي أراد إخفاءه؟ ولما ذا يخفيه، وفي إظهاره ظهور قدرته وكمال صنعته؟.
ومثله قول الآخر في مليحة قامرت مليحا (من مجزو الرجز):
قالت أنا قمرته * قلت اسكتي فهو قمر (1)
وحمل لفظ القمر على النير فقط موجب لعدم ارتباط الشطرين، وعلى خصوص معناه الفعلي مخل بفصاحته، ومخلق لديباجته، ومنزله من الدرجة العالية التي لها من الحسن إلى درك كلام سوقي سافل، وبحمله على ما وصفنا يلتئم الشطران، ويظهر حسن البيان.
وقول القائل من أهل العصر (2) - كان الله له - في مخلعته المشهورة:
واحرب القلب من صغير * علي من تيهه تكبر
صغره عاذلي ولما * شاهد ذاك الجمال كبر
لما رأى صورة سبتني * صدق ما مثلها تصور (3)

(1) استعمل الشاعر لفظة قمر في معنيين، أي هو النير، أو غلب في القمار. (مجد الدين).
(2) وهو نفس المصنف - طاب ثراه - (مجد الدين).
(3) راجع ديوانه المطبوع ص 77 - 78.
91

وعلى هذا النمط البديع جرى في كثير (1) من أبيات القصيدة قال قائلها، وليقل من شاء ما شاء إني لعمر الفضل قد أردت من هذه القوافي الثلاثة معاني ستة من كل واحدة اثنين، وفي هذا كفاية لمن تأمل وأنصف إن كان ذا ذهن سليم، ولم تأخذه سورة العصبية للرأي القديم.
وعلى ذكر التورية، فلا بأس بالإشارة إلى نكتة مهمة - وإن كانت خارجة عن المقصود - وهي أن التورية بقسميها وإيهامها لا تختص موردها بلفظ واحد له معنيان، كما في كلام كثير من علماء الفن، بل تأتي في كل كلام يمكن انصرافه إلى وجهين وأكثر سواء كان لاشتراك لفظ من ألفاظه أو لتردده بين لفظ لفظين (2)، كقول القائل من أهل العصر (3) - كان الله له - في موشحة بديعية في وصف الخد، من بحر المجتث:
........................ عن دم قلبي تخضب (4) فصح لو قيل عن دم أو لاحتمال رجوع الضمير إلى أكثر من واحد، كقوله فيها أيضا:
فقسه بالبدر إن تم.
إذ الضمير في (تم) يحتمل رجوعه إلى القياس، وإلى البدر، أي: إن تم القياس، أو إن تم البدر.

(1) كقوله - طاب ثراه - في تلك القصيدة:
لدولة الحسن نحن جند وأنت سلطانها المظفر لأن المراد من المظفر، المعنى الفعلي وهو المظفر والمنصور على الأعداء، والمعنى اللقبي، إذ هو لقب سلطان ذلك الوقت (مظفر الدين شاه القاجاري). (مجد الدين).
(2) كالبيت [الآتي] فإن الكلمة الأخيرة منها مركب من لفظين، أعني الجار والمجرور، أو لفظ واحد على اختلاف المعنيين. (مجد الدين).
(3) المصنف نفسه - طاب ثراه - (مجد الدين).
(4) وقبله: خد زهي باحمرار. راجع ديوانه المطبوع ص 128.
92

أو لكون اللفظ بعضا لكلمة أخرى كما في صنعة الجمع بين الاكتفاء (1) والتورية، إلى غير ذلك من الأسباب التي تفنن فيها المتأخرون من أهل البديع، فأحسنوا فيها كل الإحسان.
ومن أغرب ما أذكره الآن، قول أحدهم: «قلب بهرام ما رهب» فقد استعمل الكلمة الأولى في معنيين، ثم جمع في الكلمتين الأخريين بين استعمال اللفظ في نفسه وفي معناه - على ما يقولون - فصار لمجموع الكلام معنيان مختلفان.
ولعمري لقد أحسن فيه، وأرتج (2) باب التأويل بالمسمى على أصحابه، ومثله قول القائل: «وكل ساق قلبه قاس».
وقول القائل (3) من أهل العصر - كان الله له -: (من مخلع البسيط)
قد نقط الخال دال صدغ * منك كجنح الغراب حالك
كم خط كف الجمال ذالا * وما رأينا شبيه ذلك (4)
ولئن ضيق بعضهم نطاق التورية من هذه الجهة فقد توسع في الشواهد عليها بما لا مساس له بها أصلا فذكر منها شواهد إيهام التورية والمغالطة والتوجيه وغيرها من ضروب الصناعة

(1) الاكتفاء في الصناعة أن يأتي [الشاعر] ببيت قافيته بعض الكلام أو الكلمة، وشاهده مع التورية قول ابن مكانس:
أفدي الذي قد جاءني زائرا * مستوفرا مرتكبا للخطر
فلم يقم إلا بمقدار ما * قلت له أهلا وسهلا ومر (حبا).
(منه رحمه الله).
(2) أرتج: أغلق. الصحاح 1: 317، القاموس المحيط 1: 190، مجمع البحرين 1: 302 (ترج).
(3) معطوف على قول القائل، أي: ومثله قول القائل من أهل العصر... والمراد من تلك العبارة [قول القائل من أهل العصر] في أي موضع وقعت من الكتاب، نفس المصنف. (مجد الدين).
(4) راجع ديوانه المطبوع: 107 - 108.
93

ولقد أفضى بنا الكلام إلى ما هو خارج عن مقتضى المقام، فلنعد إلى المقصود، ونقول:
إن أقصى ما تناله أيدي المانعين من التكلف في تأويل هذه الأمثلة وأمثالها حملها على أن اللفظ مستعمل في معنى آخر يشمل المعاني المفهومة منه، إما على نحو شمول الكل لأجزائه، أو شمول الكلي لجزئياته كمفهوم المسمى، ويسمونه بعموم الاشتراك، ولا يخفى ما في كل منها من الضعف.
أما الأول (1)، فلأنه لا يتأتى إلا فيما تعلق حكم واحد بالجميع أو أمكن تعلق الأحكام المتعددة بالمجموع دون ما إذا كان لكل معنى لا يشاركه الآخر فيه كلفظ العين في مديح النبوي السابق (2)، وما يصنع المرتمي في الدجى بالماء والذهب، ومبتغي الدين بالشمس والماء، وهكذا هذا.
على أن الوجدان الصحيح يحكم بأن المستعمل لم يلاحظ الهيئة المجموعية في استعماله قط، ولم يتعلق له غرض به وأن مركبا من الشمس والماء والباصرة والذهب لمعجون طريف ما اهتدى إليه جالينوس (2) طول عمره، ولم يذكره طبيب في قرابادينة (4).
وأما الثاني (5)، فإن أرادوا أن المستعمل لا بد له من ملاحظة مفهوم المسمى حين الاستعمال أولا فهذا مما لا ننكره، ولكن لا يلزم منه اتحاد المستعمل فيه، كما أن ملاحظة الجزئي في الوضع الخاص والموضوع له العام لا توجب اتحاد الموضوع له، وملاحظة مفهوم العام في العام الأفرادي لا يلزم منه اتحاد الحكم،

(1) أي على نحو شمول الكل لأجزائه. (مجد الدين).
(2) تقدم في صفحة 87.
(3) جالينوس طبيب حكيم يوناني معروف. (مجد الدين).
(4) قرابادين معرب لفظ يوناني، والمراد: معجم الأدوية وخواصها. (مجد الدين).
(5) أي على نحو شمول الكلي لجزئياته. (مجد الدين).
94

فإذا كان الأمر في الوضع والحكم هكذا فليكن في الاستعمال كذلك، فكما أن ملاحظة الجزئي حال الوضع لا ينافي تعدد الموضوع له، وملاحظة مفهوم العام واستعمال اللفظ فيه لا ينافي تعدد الحكم، كذلك لا ينافي ملاحظة مفهوم المسمى تعدد الاستعمال.
ومن هذا يظهر الجواب عما جعله بعض الأساتيذ عمدة مستنده في المنع وهي امتناع توجه النفس إلى شيئين في زمان واحد، كما أن المبصرات الكثيرة لا تبصر بنظرة واحدة.
وقد عرفت أن جميع ذلك لو سلم فهو لا ينافي تعدد المستعمل فيه، كما أن ملاحظة الجزئي حال الوضع لا ينافي تعدد الموضوع له.
وإن أرادوا به استعمال اللفظ في المسمى، فيرد عليه:
أولا: أن الألفاظ إنما وضعت للمعاني بلحاظ ذواتها لا بلحاظ عناوين خارجة عنها كالمسمى وغيره.
وأيضا الاستعمال في المسمى لو سلمنا صحته فإنما يحسن فيما إذا كان الحكم متعلقا بهذا العنوان، كقولك: عبد الله خير من عبد المسيح. أي المسمى بعبد الله خير من المسمى بعبد المسيح لصدق التسمية في الأول، وكذبها في الثاني، وهذا نادر في موارد الاستعمال.
هذا، على أنه قد مرت عليك من الشواهد مالا يمكن فيه هذا التأويل، كما نبهناك عليه، فراجع.
ثم إن للمانعين تشبثات أخرى لا بأس بالإشارة إليها وإلى ما يرد عليها.
منها: ما ذكره العم - طاب ثراه - في الفصول، وهو: «أن الذي ثبت [من الوضع] (1) جواز استعمال اللفظ في معنى واحد، وأما استعماله فيما زاد عليه فلم

(1) الزيادة من المصدر.
95

يتبين لنا بعد الفحص ما يوجب جوازه، ومجرد إطلاق الوضع - على تقدير تسليمه - مدفوع بعدم مساعدة الطبع عليه، فقضية كون الأوضاع توقيفية، الاقتصار على القدر المعلوم» (1) انتهى.
ولا أدري كيف لا يسلم إطلاق الوضع، مع أن اعتبار قيد الوحدة في المعنى مما يقطع بخلافه كما يعترف به، وكون الموضوع له في حال الوحدة لا يقضي إلا بعدم كون الآخر موضوعا له بهذا الوضع، ويتبعه عدم صحة الاستعمال به، ولا يوجب ذلك عدم وضع آخر وإلا لامتنع الاشتراك، ولا عدم صحة الاستعمال بملاحظة الوضع الآخر.
وما أبعد بين ما أوضحناه لك من حسن هذا النحو من الاستعمال، وكونه مبنى كثير من نكات صناعة البديع، وبين ما يدعيه من عدم مساعدة الطبع عليه.
ثم إن توقيفية الأوضاع لا يوجب توقيفية الاستعمال، وإني لأعجب من استدلال مثله رحمه الله بمثل هذا في مسألتنا هذه، وهي لغوية محضة، لا شرعية يتأتى فيها لزوم الاحتياط.
ومنها: ما ذكره أيضا من عدم تحقق مثل هذا الاستعمال في لغة العرب قديما وحديثا مع مسيس الحاجة إليه، وعدم الوجدان بعد الاستقراء يدل على عدم الوجود، وهو يورث ظنا قويا بعدم الجواز إن لم يوجب العلم به، والظن حجة في مباحث الألفاظ (2) انتهى.
وقد عرفت ثبوت الاستعمال على هذا النحو كثيرا، وفي دعوى عدم الجواز ما تقدم في سابقه، وفي المراد من حجية الظن في هذا المورد وأمثاله خفاء وغموض.

(1) الفصول الغروية: 55
(2) الفصول الغروية: 54 - 55.
96

ومنها: عدم ثبوت الإذن من الواضع فيه، وفيه ما تقدم مرارا من عدم توقف الاستعمال على إذنه، بل يصح حتى مع تصريحه بالمنع إن لم يرجع إلى تخصيص الوضع.
(تتمة)
من الأقوال: جواز الاستعمال على هذا النحو في التثنية والجمع دون المفرد نظرا إلى أن اللفظ فيهما في قوة تكرير المفرد، ولا ريب في جواز الاستعمال مع التكرار، وأيضا لا ريب في جواز ذلك في الأعلام، وظاهر أن الاتفاق هناك في مجرد اللفظ.
وأجاب عنه في الفصول: «بأنا لا نسلم أنهما في قوة تكرير المفرد حتى في جواز إرادة المعاني المختلفة منهما، وسبكهما من الأعلام مؤول بالمسمى مجازا» إلى آخر كلامه.
وقال في أثنائه: «ومما يدل على التأويل المذكور في الأعلام دخول لام التعريف عليها حينئذ مع امتناع دخولها على مفردها، ووصفها معها بالمعرف وعند التجريد بالمنكر» (1).
أقول: اللفظ مهما استعمل لا يدل إلا على إرادة طبيعة المعنى فقط من غير لحاظ التعدد فيه ولا عدم التعدد، وحينئذ فلا بد في استفادة أحدهما إلى دال آخر، وأداة التثنية والجمع حرفان موضوعان لبيان التعدد من غير لحاظ أن المعنيين هل هما بوضع واحد أو بأوضاع شتى، فكما أن استفادة التعدد من اللفظ محتاجة إلى أحد الأداتين كذلك تحتاج في كونهما بوضع واحد أو بوضعين إلى دال آخر، فإذا قلت: رأيت عينين لم يدل الاسم إلا على تعلق الرؤية بطبيعة العين

(1) الفصول الغروية: 56.
97

فقط من غير لحاظ الانفراد والتعدد، فضلا عن لحاظ الوضع الواحد أو الوضعين، ولا الحرف إلا على التعدد من غير دلالة على أن التعدد بوضع واحد أو وضعين، فإذا أتبعته بقولك: سحارة وخرارة (1) فقد أزحت الإجمال عن اللفظ، وأعلمت السامع باستعمالك اللفظ في المعنيين، ولم تخرج بذلك عن معنى الحرف، ولم تستعمله في غير ما وضع لأجله، والوجدان السليم يكفي المنصف شاهدا على ذلك، إذ لا ترى في قولك: رأيت عينين سحارة وخرارة. تكلفا ولا تأويلا أصلا، بل لا ترى فرقا بين قولك هذا، وبين قولك: رأيت عينين جاريتين. إلا أن الأول ألطف في الذوق، وأبدع في السمع، وعليه جرى الحريري في مقاماته، فقال - من الخفيف -:
جاد بالعين حين أعمى هواه * عينه فانثنى بلا عينين (2)
ولعمري لقد أحسن، وأخطأ من خطأه في ذلك، وعليه يجري كثير من بديع أمثلة التوشيع (3)، كقول الصفي الحلي:
رأيت بدرين من وجه ومن قمر * في ظل جنحين من ليل ومن شعر (4)
بناء على ما يذهبون إليه من كون استعمال البدر في الوجه مجازا، وأن المجازات لها أوضاع نوعية، لا على ما حققناه سابقا.
وقول بلدية (5) السيد حيدر رحمه الله في رثاء الحسين عليه السلام:
فظاهر فيها بين درعين نثرة * وصبر ودرع الصبر أقواهما عرى (6)

(1) الخرير: صوت الماء، ومنه عين خرارة. الصحاح 2: 643 (خرر).
(2) مقامات الحريري: 80.
(3) التوشيع في اصطلاح البديعين أن يأتي الشاعر باسم مثنى، ثم يأتي باسمين مفردين يفسران الأول. (منه قدس سره).
(4) ديوان صفي الدين الحلي: 723.
(5) أي من بلده وموطنه، لأنهما من أهل الحلة من بلاد العراق. (مجد الدين).
(6) ديوان السيد حيدر الحلي 1: 80.
98

ولهذا يسبكان في الأعلام فلا يحتاجان إلى هذا التأويل البارد أعني التأويل بالمسمى كما ذكره العم
(1) - طاب ثراه - وتبعه فيه غيره، فإنه تأويل ثقيل على السمع سمج لا يقبله الطبع، وحسب المنصف ملاحظة نفسه حال الاستعمال إذ لا يرى المسمى يخطر منه بالبال.
وأما استدلاله على التأويل المذكور بدخول اللام عليها حينئذ فليس ذلك لتأويل المسمى، بل الوجه فيه أن التعدد ينافي المعرفة المحضة فيدخل اللام عليها كما يضاف في مثل هذا الحال، كقوله:
علا زيدنا يوم * النقا رأس زيدكم
مع أن الظاهر عدم التزامهم بالتأويل المذكور فيه.
إذا عرفت ذلك، نقول: هذا القائل إن أراد هذا المعنى فهو حق لا ينبغي أن يقابل إلا بالقبول، إذ لا بد لبيان التعدد من دال عليه من الأداتين أو غيرهما مما يفيد فائدتهما.
وإن أراد أنهما يدلان على أحد المعنيين ومدخولهما على المعنى الآخر فهو واضح الفساد إذ هما حرفان، وأين الحرف من إفادة معنى الاسم.
هذا، على أن كلا من الحرف ومدخوله إن دل على أحدهما المعين، والآخر على الآخر المعين فهو ترجيح بلا مرجح، وإن دل كل على أحدهما على وجه الترديد فهو باطل كما بينه العم (2) رحمه الله في رد صاحب المفتاح (3)، فلاحظ كلامه إن شئت، وتأمل فيه.

(1) في الفصول الغروية [: 56]. (مجد الدين).
(2) الفصول [: 53]. (مجد الدين).
(3) وهو أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر محمد بن علي السكاكي المتوفي سنة 626 ه‍ صاحب
مفتاح العلوم.
99

(تنبيه)
التورية العرفية مما يشهد بها الوجدان وقد استعملتها العرب، ونطق بها مستفيض الأخبار، ولكن تطبيقها على القواعد العلمية لا يخلو عن صعوبة إذ مبناها - كما عرفت - على أن يفهم السامع معنى يريد غيره، ولا نتصور من الإرادة في المقام إلا ما يريد إفهامه، فإن كان مطابقا للواقع كان صدقا وإلا كان كذبا، ولا واسطة بينهما حتى يصح بها تثليث القسمين، أو يجعل مرتبة من الكذب هي أخف قبحا من غيرها، أو مرتبة من الصدق لا تجوز إلا مع الضرورة.
وبالجملة، الصدق والكذب قسمان من الاستعمال، والاستعمال - كما عرفت - لا معنى له إلا الإفهام، فإذا قصد إفهام غير الواقع فقد تحقق موضوع الكذب، ولا يبقى محل لإرادة غير المستعمل فيه، ولكنها - كما عرفت - أمر وجداني، فهل المراد بها إخطار المعنى الآخر، أو عقد القلب عليه، أو الكلام له حقيقة أخرى في النفس (1) واللفظ كاشف عنه كما تقوله الأشاعرة؟ وجوه لا تطمئن النفس بشيء منها.
وقد نقل لي جمع من أصحابنا عن أستاذ والدي صاحب البدائع - طاب ثراهما - أنه كان يحكم بكونها كذبا، ويقول: إنها تبتني على الكلام النفسي الباطل عند الشيعة، ولكنها - كما عرفت - أمر وجداني، فالشأن في معرفة حقيقتها، لا المكابرة في إنكارها، وبطلان الكلام النفسي مطلقا غير معلوم، وللكلام عليه محل آخر، وهذا أحد مشكلات العلم التي لم أقدر على حلها، ولعل

(1) وهي الكلام النفسي الذي قالت به الأشاعرة، وقيل في ذلك:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما * جعل اللسان على الكلام دليلا (مجد الدين).
100

غيري يهتدي إلى ما خفي علي، أو يحدث الله بعد ذلك أمرا.
(القول في مباحث الحقيقة والمجاز)
لا يخفى أن من أهم ما يترتب على ما حققناه في مسألتي الوضع والاستعمال معرفة حقيقة الذي يسمى بالمجاز، ولنقدم قبل بيانه خلاصة ما وصل إلينا من كلام محققي علماء الأصول والبيان، ونقول:
قالوا: إن اللفظ إن استعمل فيما وضع له فهو حقيقة، وإن استعمل في غيره بعلاقة معتبرة مع قرينة معاندة فهو مجاز، وإلا فهو غلط.
والمحققون من علماء البيان زادوا قسما آخر، وهو الكناية، وعرفوها بلفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادته، فأخرجوها عن حد الحقيقة بكونها مستعملة في غير ما وضع له، وعن المجاز لاعتبارهم فيه القرينة المعاندة، وجعلها بعضهم من أقسام الحقيقة.
ثم اختلفوا في وضع المجازات على أقوال، فالجمهور - كما في الفصول - «على أنها موضوعة بالوضع التأويلي التعييني النوعي، وأن صحته متوقفة على نقل النوع، وخالف في ذلك شرذمة، فاعتبروا نقل الآحاد، ويلزمهم أن تكون المجازات التي أحدثها فصحاء المتأخرين وغيرهم غلطا، وهو غلط».
«وربما فصل بعض الأفاضل بين الألفاظ التي ضبطوا معانيها المجازية كالحروف وصيغ الأمر والنهي وبين غيرها، فاقتصر في الأول على القدر المنقول دون الثاني» (1) انتهى.
وربما يقال بأنه لا يحتاج المجاز إلى وضع آخر، بل هو موضوع بنفس وضع اللفظ للمعنى الحقيقي، فإذا وضع له اللفظ فقد وضع لجميع ما يناسبه، وتوجد

(1) الفصول الغروية: 24.
101

فيه العلاقة معه، فهو يشبه لوازم الماهيات التي لا تحتاج إلى جعل، بل لا يعقل جعلها، وإنما تجعل بجعل ملزوماتها.
وقد يقال بأن المجازات لم تنلها يد الوضع لا أصالة ولا تبعا، بل جواز إطلاق اللفظ على ما يناسبه طبعي، وهذا نظير ما عن بعضهم في مسألة استعمال اللفظ في نفسه.
ويظهر هذا الوجه من الفصول، مع زيادة قوله: «إنه مبني على المسامحة والتأويل في الوضع الأصلي» (1) وستعرف البحث في معنى التأويل الواقع في كلامه، وفي كلام المشهور.
ولبعض (2) المؤسسين في كتابه المسمى ب «تشريح الأصول» كلام مسهب في هذا المقام، ولا يخلو بظاهره عن اضطراب وتهافت.
وحاصل ما كان يذكره في مجلس الدرس: أنه رجوع عن عموم التعهد بالوضع الأول في استعمال خاص، وأنه لا فرق بين النقل والمجاز إلا أن الأول عدول كلي عن الوضع الأول، والثاني في خصوص استعمال خاص لا في سائر الاستعمالات.
ومنه يعلم أن وضع المجازات شخصي يقع بوقوع المجاز، وبيانه إنما هو بقرينة واحدة جامعة للمعاندية والمعينية، أو بقرينتين: إحداهما معاندة للحقيقة، والأخرى معينة لإحدى المجازات.
وأثر التكلف ظاهر على هذه الوجوه، بل كثير منها مما يقطع بفساده، فلو حلف الإنسان بغموس
(3) الإيمان على أن واضع اللغة لم يكن يعرف هذه العلائق حتى يضع لكل نوع منها وضعا جديدا لم يحنث، ولم تلزمه الكفارة، بل ولو حلف

(1) الفصول الغروية: 25.
(2) هو الشيخ علي النهاوندي مؤسس أساس التعهد في الوضع. (مجد الدين).
(3) هي اليمين الكاذبة الفاجرة. لسان العرب 6: 157 (غمس).
102

على أنه لم يصدر منه وضع آخر لكان كذلك.
وما ذهب إليه صاحب التشريح فيبعده، بل يشهد بفساده القطع بأن استعمال المجاز ليس بتعهد خاص شخصي، بل هو أمر مرتكز في ذهن السامع قبل سماعه هذا اللفظ، قد استعمله آباؤه من قبل كذلك.
وأمتن هذه الطرق ما تقدم عن صاحب الفصول، ولكن يتجه عليه أن دلالة الألفاظ ليست بذاتية، بل هي جعلية، وليس الجعل إلا الوضع، فكيف يعقل أن تدل على معنى بدونه، والقرينة من شأنها نفي المعنى الموضوع له لا إثبات الوضع لغيره إلا أن يبتنى قوله: «مبني على المسامحة والتأويل» على المسامحة والتأويل، ويرجع إلى ما سنبينه لك إن شاء الله.
ولصعوبة إثبات الوضع للمجازات التزم جماعة بأن دلالتها ليست وضعية، فوقعوا في تكلفات هي أشد وأبين فسادا مما وقع فيها إخوانهم من قبل، كما لا يخفى على من راجع هداية - الجد - العلامة، وغيره من الكتب المبسوطة.
ولمعرفة حقيقة الحال في المجاز مسلك آخر - يطابقه الوجدان، ويعضده البرهان، ولا يعرض على ذهن مستقيم إلا قبله، ولا على طبع سقيم إلا رفضه (1) - وهو أن تلك الألفاظ مستعملة في معانيها الأصلية، ومستعملها لم يحدث معنى جديدا، ولم يرجع عن تعهده الأول، بل أراد بها معانيها الأولية بالإرادة الاستعمالية على نحو سائر استعمالاته من غير فرق بينهما في مرحلتي الوضع والاستعمال أصلا.
بيانه: أن الطبع السليم يشهد بأن القائل: «إني قاتلت اليوم أسدا هصورا» (2) و «قابلت أمس قمرا منيرا» وهو لم يقاتل إلا رجلا شجاعا مشيحا، ولم

(1) الرفض: الطرح. (مجد الدين).
(2) أسد هصور: الأسد الشديد الذي يفترس ويكسر. الصحاح 2: 855، لسان العرب: 5: 265 (هصر).
103

يقابل إلا وجها صبيحا لا يريد إلا إلقاء المعنى الأصلي الموضوع له على السامع، وإفهامه إياه وإن لم يكن مطابقا للواقع، ولم يكن ذلك منه على سبيل الجد.
وقد عرفت سابقا أنه لا معنى للاستعمال إلا ما أريد إفهامه للسامع وإلقاؤه عليه، سواء كان صدقا أو كذبا، جدا أو هزلا، بأي داع سنح وغرض اتفق.
ولو لا إرادة معاني هذه الألفاظ لما كان موقع للتعجب عن محبوبته إذا ظللته عن الشمس (1)، أو زارته آخر الشهر (2)، ولا لليأس من رجوع محبوبه (3)، ولا لتكذيب الناس إذا رجع (4)، ولا للمفاخرة مع قمر السماء بأن قمره معدل بلا تعديل، وأنه لا ممثل له ولا مثيل (5)، ولا للتعجب عن عدم ذهاب الدجى مع طلوع

(1) قامت تظللني ومن عجب * شمس تظللني من الشمس أولها:
قامت تظللني من الشمس نفس أعز علي من نفسي (مجد الدين)
(2) زارتك في ليل سرار ومن أبصر بدرا آخر الشهر
(3) يؤيسني من لقائك قولهم بأنه لا رجوع للقمر (1)
(4) رجعت فأحييت الغري وأهله وكذبت قول الناس لا يرجع البدر (3 - 4) إن الخمسة المتحيرة من السيارات السبعة لها رجوع إقامة واستقامة، والقمر لا رجوع له ولا إقامة، فقال: إن رجوع بدري دليل على كذب أهل الهيئة حيث قالوا: لا رجوع للقمر. (مجد الدين).
(5) قل للسماء دعي الفخار فإن ذا قمري بغير ممثل ومثيل قمر السماء معدل بثلاثة ومعدل قمري بلا تعديل إن أهل الهيئة والفلك احتاجوا في ضبط حركة القمر إلى ثلاثة تعديلات، وأثبتوا له أفلاكا كالحامل والجوزهر، فقال طاب ثراه: إن قمري خير من قمر السماء، لأنه معدل من غير احتياج إلى تعديلات ثلاثة ولا أفلاك متعددة. (مجد الدين).
الحامل والجوزهر من مصطلحات أهل الهيئة. انظر: مفاتيح العلوم: 220، وكشاف اصطلاحات الفنون 1: 356 و 407.
104

الشمس على رمح (1)، إلى غير ذلك مما لو عددناه لأفضى بنا إلى الإسهاب، والخروج عن وضوع الكتاب.
ولهذا إذا سمي الشجاع أسدا سمي صوته زئيرا، وولده شبلا، ومحله خيسا، أو الجميلة ظبية سمي صوتها بغاما، وولدها خشفا، ودارها كناسا، بل لو خالف هذا النظام فقال:
«رأيت أسدا يتبعه طفله» أو «ظبية تحمل طفلها» لكان أدون في الفصاحة بمراتب من قوله: «رأيت أسدا يتبعه شبله» أو «ظبية تحمل خشفها» بل ربما عد من مستبرد التعبير، وسمج الكلام إلا أن تجبره جهات أخرى، ولا وجه لجميع ذلك إلا أن المقصود منها المعاني الأصلية، وهذا ظاهر لدى الخبير بحقائق فن البيان وصناعة البديع، وكتابنا هذا موضوع في فن أصول الفقه لا في فنون البلاغة كي يتسع لنا المجال في سرد الشواهد والأمثال، ولكني لم أملك عنان القلم وما عليه جناح حتى أثبت قول ابن معتوق في محبوبته وقد روعها الصباح:
وتنهدت جزعا فأثر كفها * في صدرها فنظرت ما لم انظر
أقلام ياقوت كتبن بعنبر * بصحيفة البلور خمسة أسطر
نشدتك والإنصاف إلا نظرت إلى قوله: ونظرت ما لم انظر، وتأملت في

(1) لقائل:
بدا وجهه من فوق أسمر قده * وقد لاح من ليل الذوائب في جنح
فقلت عجيبا كيف لم يذهب الدجى * وقد طلعت شمس النهار على رمح
105

السبب الذي أوجب له العجب فهل ضرب المرأة الجميلة المختضبة صدرها ضربا يسود موضع الضرب منه، وهو أمر مبذول لعله أو غيره نظر إلى أمثاله كثيرة، أو هو حقيقة كتابة أقلام الياقوت خمسة أسطر بالعنبر على البلور، وأين موضع هذه البلاغة التي تأخذ بمجامع القلب، وهذه الملاحة التي تسحر اللب، فهل هو في مجرد وضع الأقلام موضع الأصابع، ولفظي العنبر والبلور موضعي السواد وبياض الصدر، أم في وضع معاني هذه الألفاظ في موضع معاني تلك؟ ثم إذا قرع سمعك قول الوأواء (1) الدمشقي في محبوبته لما جرت دموعها على خديها، وعضت أناملها حذر الفراق:
فاستمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت * وردا وعضت على العناب بالبرد
أي صورة تصورها هذه الألفاظ في مرآة ذهنك فتسكرك بلا راح، وتطربك بلا سماع، هل إمطار اللؤلؤ من النرجس، وسقي الورد، وعض العناب بالبرد، أم تلك الحالة المحزنة المشجية،
أعني امرأة تبكي، وتعض أناملها؟ فإن كان الثاني وكان هذا حكم إنصافك، فقد أخطأت أنا ولم يحسن الوأواء، وإن كان الأول فقد أحسن نظما وأحسنت فهما، وأنت - أعزك الله - إذا أعطيت التأمل حقه فيما نبهناك عليه في هذا المثال، وجعلته أنموذجا لنظائره من صنوف الاستعمال علمت علما لا يشوبه شك، ولا يحوم حول حماه ريب، أن المجاز ليس وضع اللفظ محل اللفظ، بل هو وضع المعنى محل المعنى، وهذا هو الذي يورثه الملاحة، ويوجب لها المبالغة وإخوانها من نكات الصناعة، وإلا فالألفاظ متكافئة غالبا، ولفظ الخد ليس بغريب ولا بثقيل على اللسان وهو

(1) الوأواء، بفتح الأول، وسكون الثاني، وفتح الثالث، وسكون الرابع، شاعر معروف من أهل دمشق. (مجد الدين).
106

بمعناه أحق، ودلالته عليه أوضح، فلأمر ما عدل عنه إلى الورد؟ تأمل فيما قلناه، تجده واضحا إن شاء الله.
(فصل)
وليت شعري ما ذا يقول القائل بأن اللفظ مستعمل في غير معناه في مثل قوله: هو ملك بل ملك، وفلان شجاع بل أسد؟ وكيف يمكن أن يكون المراد من الملك - بالفتح - والأسد، الملك - بالكسر - والشجاع؟ وقد ذكرهما أولا وأضرب عنهما، وما ذا يقول في الاستعمالات التي يصرح فيها بنفي المعنى الحقيقي، كقوله تعالى: ما هذا بشر إن هذا إلا ملك كريم (1) على أظهر الوجهين فيه، وكقولك: ليس هذا بوجه بل هو بدر، وليس هذه كف بل هي بحر؟ وما ذا يقول في مثل قولهم: يا أخا البدر، ويا أخت الشمس ونحوهما؟ كقوله:
حكيت أخاك البدر عند تمامه * سنا وسناء مذ تشابهتما سنا (2)
مما لا يمكن فيه تفسير شيء من المضاف ولا المضاف إليه بغير معناه إلا بتكلف يمجه السمع، وينبو عنه الطبع (3).
وفي مثل قوله - من الوافر -:
وفي ديباجتيه فتيت مسك * يقال له بزعم الناس حال
وفي مثل قوله - من البسيط -:
يا من يريني المنايا واسمها نظر * من السيوف المواضي واسمها مقل

(1) يوسف: 31.
(2) أي: أربعة عشر [على حساب الجمل] وجه المشابهة:
فلك أربع عشرة سنة، وللقمر أربع عشرة ليلة. (مجد الدين).
(3) أي: يأباه السمع ولا يقبله الطبع. (مجد الدين).
107

إلى غير ذلك من الموارد التي تنيف على الألوف بل على آلافها مما إذا أطاعهم التكلف في واحد منها عصاهم في عشرة، وإذا فتح لهم باب التأويل في عشرة أرتج عليهم الباب في الف، وقد سبقت أمثلة لذلك، منها:
تبدت ومرآة السماء صقيلة * فأثر فيها وجهها صورة البدر
وإذا كان الشاعر يصح له إنكار البدر، ودعوى أن البازغ في السماء هو صورة محبوبته، فما ذا يمنعه من دعوى أن ذلك البدر هي بعينها، فينفي التعجب إذا زارته ليلا قائلا: ولا عجب فالبدر بالليل يطلع، ويتعجب إذا رأته نهارا قائلا:
ومن عجب أن يطلع البدر نهارا.
فكأن القوم قصرت أنظارهم على مثل: أسد يرمي. ونحوه، وغفلوا عن هذه الأمثلة وأمثالها (1).
(فصل)
ولعلك تقول: إن المجاز - على ما ذكرت - كذب، وتغفل من الفرق بين الإرادة الجدية والاستعمالية.
وبيانه: أن الكذب الذي هو قبيح عقلا، ومحظور شرعا هو الذي يكون الغرض منه إلقاء السامع في خلاف الواقع، وإغراءه بالجهل، وتصديقه بمعنى اللفظ، وتكون إرادته الجدية الواقعية مطابقة لإرادته الاستعمالية.
وأما في المجاز فليس الغرض من إلقاء المعنى إلى السامع إلا مجرد تصوره له من غير أن يريد تصديقه واعتقاده به، ولهذا يأتي بالقرينة التي سموها ب‍

(1) لهذا البحث تتمة يلاحظ الملحق بالرسالة. (منه طاب ثراه).
والظاهر أنها سقطت من الملحق فلم نعثر عليه.
108

(المعاندة) لزعمهم أنها تعاند الحقيقة، وفي الحقيقة هي تعاند الإرادة الجدية، فهو يأتي بها، لأنه لا غرض له إلا بنفس الاستعمال وتصوره لمعناه، ويتعمد الكاذب تركها لأنه يريد تصديق المخاطب به لغرض له هناك وراء تصور السامع وصرف الاستعمال، فالمجاز إلى الكذب ما هو وليس به، وليس هذا ببدع في المجاز ولا بأمر تختص به، بل سبيله سبيل أشباهه من نكات الصناعة وتفننات البلغاء كالمراجعة (1) فكم تقول: قال لي الدهر كذا، فقلت له كيت وكيت، ولم يجز بينكما حديث قط.
وكالتجريد فإنك تجرد من نفسك شخصا تخاطبه ويخاطبك، وتنقل المفاوضة بينكما ولا واقع لها أصلا، وإنما يتضح الحال بالإكثار من الشاهد والمثال، وبه تخرج عن موضوع الكتاب، ولا يسعه المجال، ويغنيك عنه تتبع ما للبلغاء من المنظوم والمنثور.
قال أحد شعراء اليتيمة:
أ رأيت ما قد قال لي بدر الدجى * لما رأى طرفي يطيل هجودا
حتام ترمقني بطرف ساهر * أقصر فلست حبيبك المفقودا (2)
متى وقع هذا الخطاب، وبأي لغة كان الجواب، فهل تسمح نفسك أن تسمي هذا القائل كاذبا والكاذب ممقوت، وقد أحسن هذا وأجاد، أو تعتقد صدقه فتكون بمراحل عما أراد؟
وبالجملة، من أراد تنزيه جميع كلام الفصحاء من الكذب الاستعمالي فقد

(1) وكقول الشاعر:
وقلت لبدر التم تعرف ذا الفتى فقال نعم هذا أخي وشقيقي (مجد الدين)
(2) البيتان لأبي الفتح علي بن محمد الكاتب البستي، راجع يتيمة الدهر 4: 308.
109

حاول صعبا، بل رام ممتنعا، فحال المجاز حال غيره من مذاهب البلغاء، ويشبه من هذه الجهة ما يتكلم به على سبيل المزاح والمجون (1)، ولهذا قال الفقهاء:
إن المبالغة ليست بكذب كغيرها من هزل الكلام ومجونه.
(فصل)
ومما ذكرنا في المجاز يتضح الحال في الكناية، ويستغنى به عن تلك التكلفات والتطويلات المملة المذكورة في كتب الأصول والبيان، وأن الحال فيها كالحال في المجاز بعينه، والألفاظ فيها مستعملة في معانيها الحقيقة بالإرادة الاستعمالية، والغرض الذي يعبر عنه بالإرادة الجدية هو الملزوم.
ومن الغريب ما ذكروه في الفرق بينها وبين المجاز من لزوم القرينة المعاندة فيه وعدمها فيها مع أن الحال فيهما واحد، لأن السامع إن كان عالما بالغرض الأصلي، وعدم مطابقته مع الاستعمال فهو يستغني عن القرينة فيهما معا، وإلا فهي لازمة في الكناية لزومها في المجاز بعينه، فمن قال: «زيد طويل النجاد» (2) كناية، وكان السامع بليدا يزعم أنه يريد الإخبار عن طول النجاد (3) فلا بد أن ينصب له قرينة تدله على أن المراد طول قامته، وأنه لم يشتمل سيفا طول عمره، ولم يصاحب عاتقه نجاد قط.
ومن هذا يظهر خطأ من جعل الكناية قسيما للحقيقة والمجاز، وثلثهما بها،

(1) مجن مجونا فهو ماجن: من لا يبالي قولا ولا فعلا. القاموس المحيط 4: 270، مجمع البحرين 6: 314 (مجن).
(2) من ألفاظ المدح عند العرب، قولهم: فلان طويل النجاد، أو كثير الرماد، كناية عن طول القامة، وكثرة الضيافة. (مجد الدين).
(3) نجاد: حمائل السيف، القاموس المحيط 1: 340، الصحاح 2: 543 (نجد).
110

وقال في تعريفها: إنها استعمال اللفظ في غير ما وضع له مع جواز إرادته منها (1).
(فصل)
وهذا الذي قررناه في المجاز غير الذي ذهب إليه السكاكي في الاستعارة من الحقيقة الادعائية لأن ما ذكرناه يعم مطلق المجاز مرسلا كان أم استعارة، والسكاكي يقول بمقالته في خصوص الاستعارة، ولم يظهر لي إلى الآن وجه للفرق يدعو مثل هذا الأستاذ إلى التفصيل، فقولك في مريض - يئس من برئه الأطباء، وانقطع من شفائه الرجاء -: هذا ميت، كقولك ذلك فيمن لا يرجى نفعه ولا يخشى ضره، وقولك في متاع نفيس ينفق في السوق: هذا ذهب، كقولك ذلك فيما يشبه الذهب بعينه.
وببالي أن بملاحظة مجموع كلامه في المفتاح يظهر أنه يعم مذهبه في مطلق المجاز، وإنما خص الاستعارة بالمثال لأنها من أشهر أقسامه وأهمها، فليراجعه من شاء.
ومن البعيد من مثله أن يفرق بينهما من غير فارق أصلا، إذ الادعاء الذي بنى عليه مذهبه ممكن في جميع أقسام المجاز، وأي فرق في إمكان ادعاء فرد آخر للميت والذهب - في المثالين المتقدمين - إذا كان بعلاقة الأول، أو بعلاقة التشبيه.
وعمدة الفرق بين المقالتين هي أن السكاكي يبني مذهبه على أن التصرف في أمر عقلي، وأن المستعير يدعي أن للمشبه به فردا آخر وهو المستعار له، ويجعل مقالته غرضا لسهام الانتقاد والاعتراض عليه، بأن اللفظ موضوع للفرد الواقعي لا الادعائي فيعود الاستعمال إلى المجاز اللغوي، وما ذكرناه لا يبنى

(1) انظر الفصول الغروية: 28.
111

على الادعاء بهذا المعنى أصلا، ولهذا تأتي الاستعارة في غير الكليات كالأعلام الشخصية، فنقول - في ولد زيد إذا كان يشبهه -: هذا زيد، وفي الجواد: هذا حاتم، مريدا به الطائي المعروف، من غير تخصيص له بما فيه نوع وصفية كالمثال الثاني، ولا حاجة إلى ما تكلفه التفتازاني بقوله: «إن المستعير يتأول في وضع اللفظ، ويجعل حاتم كأنه موضوع للجواد، وبهذا التأويل يتناول الرجل المعروف من قبيلة طي والفرد الغير المتعارف وهو الرجل الجواد» (1).
وحسبك شاهدا على فساد هذا التكلف، وعلى صحة ما قلناه وجدانك عند الاستعمال، فإنك تريد به مبالغة أن هذا الجواد هو ذاك الطائي بعينه.
رجع إلى انتقاد مذهب السكاكي.
وكيف يكون المراد من الاستعارة ادعاء فرد آخر من جنس المشبه به؟ وكثيرا ما ترى في مليح الكلام ترتيب آثار الفرد المتعارف عليها، كقول من بات محبوبه عنده، وزعم أن الليل فقد بدره، وبات ينشده:
أما دري الليل أن البدر في عضدي................ وأمثال هذا الاستعمال شائع جدا كما تقول في موت عالم: كيف لا تظلم الدنيا وقد فقدت الشمس أو انخسف البدر، ونحو ذلك.
ومن الغريب أنه هدم مبناه، والتزم بالمجاز اللفظي في نحو «وإذا المنية أنشبت أظفارها» (2) وغيره مما يسميه البيانيون الاستعارة بالكناية، ومن حقها - على أصولهم - أن تسمى التشبيه بالكناية لأن شرط الاستعارة عندهم أن يطوي ذكر المشبه بالكلية، وهنا عكس الأمر فحذف المشبه به واكتفي عن أداة التشبيه

(1) بشرح التفتازاني على التلخيص (المطول): 363، و (المختصر): 2: 74، وحكاه في الفصول الغروية: 26.
(2) حكاه في الفصول الغروية: 27.
112

بلازم التشبيه، ومع ذلك فللسكاكي الفضل ولا نبخسه حقه ولا ننكر سبقه، فله حسن الاختراع، ولنا حسن الاتباع.
ولعمري أن علماء البيان لم ينصفوا السكاكي في هذا المقام حيث أنكروا عليه هذا الادعاء، ثم جعلوه محورا يدور عليه معظم أحكامهم في بحث الاستعارة، فمنعوها في الأعلام معللين ذلك بأنها تقتضي إدخال المشبه في جنس المشبه به، ولا يمكن ذلك في العلم لمنافاته الجنسية.
وربما قالوا بمقالته بعينها مع تغيير اللفظ كقولهم: إن الاستعارة يفارق الكذب بأنها مبنية على التأويل بدعوى دخول المشبه في جنس المشبه به، ولا معنى لهذا التأويل إلا أن يؤول إلى ذلك.
وربما صرحوا به بلفظه كقولهم: والشرط في حسن الاستعارة أن لا يشم رائحة التشبيه لفظا لأن ذلك يبطل الغرض من الاستعارة أعني ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع الماهر، ولا تنس قولهم: إن الاستعارة مبنية على تناسي التشبيه، وتأمل في معنى التناسي أولا، ثم في السبب الداعي إليه، إلا أن يقال: إن المحققين منهم لم ينكروا الادعاء الذي يدعيه، وإنما أنكروا عليه خروجه بذلك عن المجازية.
(فصل) ولا نكترث بأن تسمي ما ذكرناه إنكارا للمجاز أصلا، ولا نتحاشى عنه بعد ما ذهب إليه الأسفرائيني من المتقدمين وإمام العربية غير مدافع عنه ولا مختلف فيه أعني الشيخ أبا علي الفارسي (1)، ولكن ينبغي أن تعلم أنه كما يصح

(1) هو الفاضل الأقدم، والإمام الأعظم حسن بن أحمد بن عبد الغفار بن محمد بن سليمان بن أبان المكنى ب (أبي علي) المشتهر بهذه الكنية: الفارسي، النحوي الشيعي المشهور، المتولد سنة 288، المتوفى سنة 377، وكان عمره 89 سنة. (مجد الدين).
113

على مذهبنا ذلك يصح معه أيضا قول تلميذه ابن جني، وهو أن أكثر لغة العرب مجازات، وأنه لا اختلاف بين هذين الإمامين، ولا تناقض بين القولين، ولا أظنك تحتاج إلى مزيد بيان إن كنت أتقنت ما أسلفنا فهما وأحطت به علما.
بل يحق لك العجب من قوم تعجبوا من الأسفرائيني، وحاولوا تأويل كلامه بما لا يرضى به كما في إشارات الأصول (1)، ومن ابن الدهان حيث قال بعد ما نقل عن أبي علي هذا القول، ما حاصله: «إن العجب كل العجب من هذا الإمام كيف أذهب بهاء لغة العرب ورونقها لأنهما قائمان بالمجاز، وشتان بين قوله وقول تلميذه ابن جني» انتهى.
وكان الأجدر به أن يتعجب من نفسه حيث ترك تعاطي صنعة أبيه، وكانت هي اللائقة به، وتكلف العلم ورأس ماله هذا الفهم، وكيف يرضى المنصف بأن يكون ابن من يبيع الدهن اهتدى إلى الواضح البديهي، وهو أن العرب تدعو الخد بالورد وتعبر بالغصن عن القد، وخفي ذلك على مثل هذا الأستاذ؟ ولقد وقعت فيما وقع فيه الشيخ أبو علي، وذلك أني لما ألقيت هذا المذهب على جماعة من الطلبة كانوا يقرؤن علي كتاب الفصول في النجف الأشرف سنة (1316) لم يلبث حتى اشتهر ذلك مني في أندية العلم ومجالس البحث فتلقته الأذهان بالحكم بالفساد، وتناولته الألسن بالاستبعاد.
وعهدي بصاحبي الصفي وصديقي الوفي وحيد عصره في دقة الفهم واستقامة السليقة وحسن الطريقة العالم الكامل الرباني الشيخ عبد الله الجرفادقاني (2) - رحم الله شبابه، وأجزل ثوابه - سمع بعض الكلام علي فأدركته شفقة الأخوة، وأخذته عصبية الصداقة، فأتى داري بعد هزيع (3) من الليل وكنت

(1) إشارات الأصول ج 1 ورقة 9 - 10.
(2) أي: الكلبايكاني: انظر الذريعة - للعلامة الشيخ آقا بزرك الطهراني - 16: 234 / 922.
(3) معنى هزيع من الليل اي: طائفة، وهو نحو من ثلثه أو ربعه. الصحاح 3: 1306 (هزع).
114

على السطح، فلم يملك نفسه حتى شرع بالعتاب وهو واقف بعد على الباب، وقال: «ما هذا الذي ينقل عنك ويعزى إليك؟» فقلت: «نعم وقد أصبت الواقع وصدق الناقل» فقال: «إذا قلت في شجاع إنه أسد فهل له ذنب؟» فقلت له مداعبا: «تقوله في مقام المدح ولا خير في أسد أبتر» ثم صعد إلي، وبعد ما أسمعني أمض. (1) الملام ألقيت عليه طرفا من هذا الكلام، فقبله طبعه السليم وذهنه المستقيم، فقال: «هذا حق لا معدل عنه ولا شك فيه» ثم كتب في ذلك رسالة سماها (فصل القضاء في الانتصار للرضا) ومن ذلك اشتهر القول به، وقبلته الأذهان الصافية، ورفضته الأفهام السقيمة.
ومن يك ذا فم مر مريض يجد مر به العذب الزلالا (2) وأنت إذا تصفحت كتب المحققين كالفصول وهداية المسترشدين وجدت هذا المعنى مرتكزا في أذهانهم، ولكن تقريره بواضح البيان وإثباته بقائم الحجة والبرهان كان مدخرا لنا في حقيبة (3) الزمان.
(فصل) وكأني بك وقد زعمت أني قد أطنبت فمللت، ولم تدر أني قد سهلت لك الوعر (4)، وأوضحت لك الطريق، وأرحتك عن تلك التطويلات المملة التي ذكروها في تعداد العلائق المجوزة لاستعمال المجاز، وما تجده في المفصلات من علائمها وعلائم الحقيقة، وعن الدور والجواب عنه بالإجمال والتفصيل، وعن البحث في موارد كل من قاعدتي أصالة الحقيقة، وأن الاستعمال أعم من الحقيقة

(1) المض: الحرقة: لسان العرب 7: 233.
(2) البيت من قصيدة لأبي الطيب المتنبي. (ديوان المتنبي 3: 228) وفيه: الماء: بدل العذب.
(3) بالفارسية: خورجين. (مجد الدين).
(4) الوعر: ضد السهل. القاموس المحيط 2: 154 (وعر).
115

والمجاز إلى غير ذلك من المباحث الكثيرة المبتنية على ثبوت المجاز بالمعنى المعروف.
وأما علائق المجاز فإنما يهم أمرها من يزعم أنه استعمال في غير ما وضعه الواضع، فيطلب مواضع الرخصة، أو يلتمس عذرا عن مخالفته، ومندوحة عن الاحتياج إلى وضعه.
وبما عرفناك ظهر أنه استعمال فيما وضعه الواضع، ومطابق للغرض الداعي إلى الوضع، ولا يحتاج فيه إلا إلى نكتة محسنة للاستعمال، وبدونها لا يكون غلطا بل قبيحا إذا لم يكن عن جهل أو خطأ، والنكات المحسنة لا حصر لها، والموارد تختلف اختلافا شديدا، هذه علاقة التشبيه وهي من أشهرها وأحسنها، ترى الاستعارة بها حسنة في مورد خشنة في آخر، يقبلها الطبع تارة، وينبو عنها أخرى، وربما لا تكون علاقة أصلا أو كانت ولم تكن كافية، فبالاستعمال والتكرار تقوى العلاقة ويزاح الاستهجان، حتى أن عمي العلامة - أعلى الله مقامه - عد من العلائق علاقة الاستعمال، وقال: «لم أقف على من تنبه له» (1) فراجع كلامه إن شئت، تجده قد أحسن فيه ما شاء.
وكثيرا ما كنت أقول لإخواني الأدباء من أهل العراق: إن أقل ما يجب على من اخترع استعارة هذين الحيوانين القبيحين - أعني العقرب والحية - للأصداغ والشعور ألف سوط، ولكنهما الآن كأنهما من الأصول الموضوعة في الصناعة ومن أحسن التشبيه، وربما لم تكن بين المعنيين علاقة أصلا، فيحسن الاستعمال وقوع لفظ آخر قبله أو بعده كما في علاقة المشاكلة، وقد يعبر عنها بعلاقة المجاورة، وهذه العلاقة مما أعيا علماء البيان والأصول أمرها، وأكثروا من الكلام عليها.

(1) الفصول الغروية: 25.
116

ولا يخفى على الخبير بأن مجرد المجاورة لا يحسن الاستعمال، بل لا بد من انضمام خصوصيات إليها، وشرحها لا يناسب المقام، وربما يحسنه مجرد الاشتراك اللفظي كما في قوله - وقد أخذته حمى النوبة -: «وهل يبقى الأمير بغير نوبة» والنوبة بمعناها الآخر هي الطبول التي تضرب للأمراء في أوقات معينة من الليل والنهار، وهذا قسم من نكات البديع، بديع في بابه، فائق على أترابه، وهو من النكات العشر التي استخرجتها وسميتها: (المغالطة اللفظية) والمتأخرون من علماء البديع ذكروا جملة من أمثلتها في صناعة التورية وهي بمعزل عنها، ولها شواهد مليحة، ولا يناسب المقام ذكرها، ولكن لا أملك عنان القلم عن رسم قول القائل (1) - في بحر المجتث -:
يا بدر أهلك جاروا * وعلموك التجري
وحرموا لك وصلي * وحللوا لك هجري
فليفعلوا ما يشاؤا * فإنهم أهل بدر
وقد أحسن ما شاء وأجاد في الصنعة، ألا تراه استعار البدر لمحبوبه أولا، وجعل أهله أهل بدر، ثم بالمغالطة اللفظية نزل عليهم المنقول من قوله صلى الله عليه وآله: (يا أهل بدر افعلوا ما شئتم فقد غفر لكم) (2).
وربما يحسن الاستعمال بغير هذه وتلك، ألا ترى أنه لو أراد أحد أن يقول
(1) ونظيره قول سلطان المحققين خواجة نصير الملة والدين:
ما للقياس الذي ما زال مشتهر * اللمنطقيين في الشرطي تنديد
أما رأوا وجه من أهوى وطرته * فالشمس طالعة والليل موجود
فانظر أيها الأديب كيف اعترض على المنطقيين لقولهم: كلما كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، إذ لو كان المراد بالشمس الوجه، وبالليل الطرة فهل يكون ذلك اعتراضا عليهم كيف وهم لم يقصدوا في قولهم إلا الشمس الواقعية والنهار كذلك. (ابن المصنف مجد الدين).

(1) ونظيره قول سلطان المحققين خواجة نصير الملة والدين:
ما للقياس الذي ما زال مشتهرا * للمنطقيين في الشرطي تنديد
أما رأوا وجه من أهوى وطرته * فالشمس طالعة والليل موجود
فانظر أيها الأديب كيف اعترض على المنطقيين لقولهم: كلما كانت الشمس طالعة فالنهار موجود،
إذ لو كان المراد بالشمس الوجه، وبالليل الطرة فهل يكون ذلك اعتراضا عليهم كيف وهم لم يقصدوا في قولهم إلا الشمس الواقعية والنهار كذلك. (ابن المصنف مجد الدين).
(2) صحيح مسلم 14: 1941 / 2494، كنز العمال 14: 69 / 37957 و 37958 باختلاف يسير.
117

شربت الماء فقال: شربت السماء، صح لك من باب التهكم والمزاح والتعريض ونحوها أن تقول مثل قوله، مع أنه لا مناسبة بين الماء والسماء أصلا، ولم يحسنه إلا عدم إحسان الذي قاله قبلك.
وفذلكة المقام: أن العلائق ليست بأمور قابلة للحصر، بل هي تختلف باختلاف المقامات والخصوصيات، بل باختلاف اللغات والعادات اختلافا بينا، فمن حاول عدها فقد كلف نفسه شططا.
وبهذا يتفاخر الفصحاء، وتعرف منازل الشعراء، ومنه تظهر قوة جنان الشاعر، وطول باعه، وقدرته على الصنعة، فاستعارة الغيث للسيف لا يقدم عليه إلا مثل المتنبي حيث يقول:
........................ وأترك الغيث في غمدي وأنتجع (1) وأما علائم الحقيقة والمجاز، وأصالة الحقيقة فلا شك أن المعنى الموضوع له يتبادر إلى ذهن السامع إذا كان عارفا بالوضع ملتفتا إليه، ولا طريق إلى معرفة الوضع إلا بتنصيص الواضع أو أتباعه، أو معرفة ذلك من تتبع موارد الاستعمال.
ثم إن الأصل مطابقة الإرادة الجدية للاستعمالية لأن الألفاظ إنما وضعت لبيان المقاصد العقلائية الواقعية بلفظ مطابق لمعناه وإنما يعدل عنها لدواع أخر لا يصار إليها إلا بقرينة معاندة معها لأن في عدم نصبها إخلالا بالغرض من الوضع فلا بد لمن لم تكن له إرادة جدية كالمازح والهازل، أو كانت ولم تكن مطابقة للاستعمال كالمكني أو المستعير والمبالغ من نصب القرينة، وإلا كان ناقضا لغرضه.
اللهم إلا أن يكون غرضه تغرير السامع وإفهامه خلاف الواقع أعني الكذب فمع القطع بعدم الاعتماد على القرينة يقطع بالمراد الواقعي، ومع الشك يبنى على عدمها كما في نظائرها.

(1) صدر البيت هكذا: أأطرح المجد عن كتفي وأطلبه *..............
ديوان المتنبي بشرح العكبري 2: 222.
118

وستعلم في محله - إن شاء الله - أن أصل العدم من الأصول الفطرية المعتمدة عليها عند العقلاء في أمثال هذا المورد، وهذا هو الوجه في أصالة الحقيقة، وقد أغرب بعض أساتيذنا، فجعل الوجه فيه الوجوب التعبدي من المولى في بيان طويل لا يناسب المقام نقله.
وإن كان لا بد من تصور المجاز بالمعنى المشهور، وتكلف الوضع له فأحسن القول فيه أن يقال: إن اللفظ متى حصلت له خصوصية مع معنى من المعاني بواسطة الوضع، فلازم ذلك حصولها لما يشابهه بل لمطلق ما يناسبه على ما هو المطرد في سائر الخصوصيات الحاصلة بين الأشياء، فالدار إذا صارت لزيد وحصلت علاقة الملكية بينها وبينه فلا بد من حصول مرتبة منها بين أولاد زيد وإخوته - مثلا - معها، وعلى هذا فاللفظ الموضوع لمعنى لا بد لوجود مرتبة من الوضع لما يناسبه، وإذا منعت القرينة عن إرادة المعنى الأصلي الذي وضع له اللفظ تعين إرادة أقرب ما يناسبه.
اللهم هذا هو التكلف الذي يثقل على السمع، وينبو عنه الطبع، وعلى علاته فهو خير من أكثر ما ذهب إليه، واعتمد الأفاضل عليه، ويمكنك أن تجعله شرحا لمقال القائل بأن جواز المجاز بالطبع.
(المجاز المركب)
وكما أثبتوا المجاز في المفرد أثبتوه في المركب أيضا، وحده - على ما في الفصول - «استعمال المركب أو المركب المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة بينهما، وإن كانت العلاقة مشابهة سميت استعارة تمثيلية كقولهم للمتردد في أمر: أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى، فيصح فيه أن يلاحظ ما يلزم من تقدم رجل وتأخر أخرى عادة من التردد، وعدم ثبات الرأي، فتطلق عليه الألفاظ الموضوعة بإزاء ملزومه بعلاقة اللزوم فيكون مجازا مركبا، وأن يشبه حال إقبال المخاطب المتردد على الأمر تارة وإدباره أخرى بحالة من يتردد في سلوك طريق فيقدم رجلا
119

ويؤخر أخرى بجامع التردد وعدم الثبات، والتداني إلى المقصود تارة والتباعد عنه أخرى فيكون استعارة تمثيلية» (1).
أقول: فعلى ما ذكره - طاب ثراه - لا يختص المجاز المركب بخصوص ما كانت العلاقة فيه المشابهة، بل يكون الحال فيه كما كان في المفرد، فكما أن المجاز في المفرد مقسوم إلى ما كانت العلاقة فيه المشابهة، فيسمى استعارة، وإلى ما كانت غيرها فيسمى مجازا مرسلا، فكذلك المجاز المركب إن كانت العلاقة مشابهة سميت استعارة تمثيلية أو التمثيل مطلقا، وإلا كانت مجازا مركبا كما اصطلح عليه، وهذا أحسن من تخصيص صاحب التلخيص المجاز المركب بخصوص الأول
(2).
عاد كلامه.
قال: «ثم إنهم بنوا أمر المجاز المركب على ثبوت الوضع للمركبات، فالتزموا القول بأن المركبات موضوعة بإزاء المعاني المركبة، كما أن المفردات موضوعة بإزاء المعاني المفردة، وخالف في ذلك العضدي، فأنكر المجاز المركب رأسا وخصه بالمفرد محتجا عليه بأن المركبات لا وضع لها فلا يتطرق التجوز إليها، إذ التجوز من توابع الوضع».
«والحق ما ذهب إليه الأكثرون من ثبوت المجاز في المركب، لكنه عندي لا يبتنى على أن يكون للمركب وضع مغاير لوضع مفرداته كما زعموه، بل يكفي فيه مجرد وضع مفرداته لمعانيها الأفرادية، فإن كل مفرد من المفردات إذا دل على معناه الأفرادي بالوضع فقد دل المركب منها على المركب منه بالوضع، إذ المراد بالمعنى المركب هو نفس مداليل المفردات المشتملة على النسبة، كما أن المراد باللفظ المركب هو نفس الألفاظ المفردة المشتملة على النسبة اللفظية، وكما يجوز

(1) الفصول الغروية: 27.
(2) تلخيص المفتاح المطبوع مع شرح المختصر 2: 95.
120

بقاعدة الوضع أو الطبع أن يستعمل اللفظ المفرد في غير معناه الأصلي إذا كان بينه وبين معناه الأصلي علاقة كذلك يجوز بالقاعدة المذكورة أن يستعمل اللفظ المركب في غير معناه الأصلي إذا كان بينهما علاقة، وإن لم يكن بين المفردات علاقة فالمركب المستعمل في غير معناه الأصلي مجاز بالنسبة إلى وضع مفرداته».
«فظهر أنه يكفي في مجازية المركب استعماله في غير ما وضع له مفرداته، كما أنه يكفي في كونه حقيقة فيه استعمال مفرداته فيما وضعت بإزائه».
«وأما ما التزموا به من أن المركبات موضوعة بإزاء معانيها التركيبية بوضع مغاير لوضع مفرداتها، ففساده ظاهر إذ بعد وضع المفردات أعني الطرفين والنسبة لا حاجة إلى وضع المركب، لحصول المقصود بدونه، فإن وضع الطرفين لطرفي الحكم والنسبة اللفظية للنسبة الذهنية من حيث قصد مطابقتها للواقع وكشفها عنه كاف في إفادة ما هو المقصود قطعا، فلا يبقى هناك حاجة تمس إلى وضع المركب».
«وأيضا لو كان المركب من الطرفين والإسناد موضوعا بإزاء المركب من مداليلها لدل كل جملة خبرية بحسب وضعها على الإخبار بوقوع مدلولها مرتين تارة تفصيلا كما ذكرناه، وأخرى إجمالا لما ذكروه، وعلى قياسها الجمل الإنشائية وغيرها، وهذا مما لا يلتزم به ذو مسكة».
«نعم لو قيل بأن الهيئة التركيبية أو ما يقوم مقامها موضوعة لمجرد النسبة والربط والمجموع المركب موضوع لإفادة مطابقتها للواقع لم يلزم منه المحذوران لكنه مع فساده في نفسه بشهادة الوجدان على خلافه، ومخالفته لظاهر كلماتهم بل صريحها، غير مجد في المقام إذ لم يقصدوا بالتجوز في المركب التجوز في مثل هذا المعنى» (1).

(1) الفصول الغروية: 27 - 28.
121

أقول: ما ذكره - طاب ثراه - من فساد القول بثبوت القول بثبوت الوضع للمركبات حق لا شك فيه، وإن أمكن القول بالوضع لها فإنما هو في المعاني التي تستفاد من الكلام ولا تقوم مفرداته بالدلالة عليها، كالحصر المستفاد من تقديم الضمير على الفعل في قوله تعالى: إياك نعبد (1) ونحو ذلك مما تكفل علم المعاني بيانه، وذلك بمعزل عما يرومه القائل بثبوت المجاز المركب.
نعم ما وضعت المفردات إلا لأن يتركب منها الكلام، وتفيد فائدة تامة في ضمنه، كما أن حروف الهجاء ما عينت إلا لأن تتركب منها الكلمات، ولكن أين يقع هذا مما يرومه هذا القائل من إثبات الوضع للمركبات وضعا مستقلا مباينا لوضع مفرداته بحيث تكون نسبة الكلمات إلى المركب كنسبة حروف الهجاء إليها.
وما ذكره من توجيه هذا القول في قوله: «نعم، لو قيل....» إلى آخره، فيرده - زيادة على ما قرره في تضعيفه - أن الألفاظ لم توضع إلا لبيان ما يريد المتكلم إفهامه المخاطب حقا كان أم باطلا، صدقا كان أم كذبا، وليس في وسعها بيان مطابقة الواقع، وإنما ذلك وظيفة أمور اخر خارجة عنها من العلم بتحرز المتكلم عن الكذب وعدم اتهامه بالخطإ فيما يخبر عنه، وقد سبق بيان ذلك مفصلا في بحث الاستعمال.
وأما ما ذكره قبل ذلك لتصوير المجاز في المركب فغامض جدا، بل لا أعرف لظاهره وجها أصلا، إذ ليس المركب إلا مجموع تلك المفردات بعينها، ولا وجود له وجودا مستقلا عنها كما اعترف به في قوله: «فإن كل مفرد من المفردات...» إلى آخره، فإذا انتفى الوضع انتفى الاستعمال لأنه فرع الوضع، وليس وراء المفردات شيء آخر حتى يستعمل في معنى آخر، فإذا قلت: زيد قائم - مثلا - فكل من المسند والمسند إليه يدل بحكم الوضع على معناه ويدل النسبة اللفظية

(1) الفاتحة: 5.
122

على اتصاف زيد بالقيام، وليس هناك شيء آخر كي يدل على معنى آخر ويستعمل فيه.
وعليه فقس المثال الذي ذكره، وسائر أمثلة الباب، كقولهم: يد تجرح ويد تأسو (1).
ومن المحال أن تدل هاتان الجملتان على غير ما تدل عليه مفرداتها.
وأعجب من ذلك قوله - بعد عدة سطور -: «بل التحقيق أن مفردات المجاز المركب غير مستعملة في شيء من معانيها الحقيقة ولا المجازية، وإنما المستعمل هو المجموع» (2).
ولازم ذلك - فيما أرى - أن تلغو الجملة رأسا، ولا يكون لها معنى أصلا، لأن المعنى فرع الاستعمال، والاستعمال فرع الوضع - كما عرفت - والمفردات التي لها وضع لا استعمال لها، والمستعمل أعني المركب لا وضع له، فالمستعمل غير موضوع، والموضوع غير مستعمل.
ولو سلم ما تقدم من قوله: «إنه يكفي في وضع المركب وضع مفرداته» فلا يكفي في إفادة المعنى مع عدم استعمال مفرداته كما يظهر بالتأمل.
وقال - طاب ثراه - في بحث الكناية: «إنه ليس شيء من مفرداته مستعملا حينئذ، وإنما لوحظ معانيها واستعمل المجموع» (3).
وظاهر أن مجرد اللحاظ لا يكفي في إفادة المعنى ما لم يقصد به إفهام المخاطب، ومع هذا القصد يتحقق الاستعمال.
وبالجملة لا بد - إذن - من الالتزام باستعمالها إما في معانيها الحقيقة كما

(1) آسى الجرح: داواه. (منه).
(2 و 3) الفصول الغروية: 28.
123

نقله عن التفتازاني (1)، أو في معانيها المجازية كما نقله عن بعض الناس (2).
هذا، على أنه لا معنى للاستعمال إلا إرادة الإفهام كما بيناه سابقا، ومن الواضح أن المتكلم بالمثالين المتقدمين يريد إفهام مخاطبه معنى التقدم والتأخر للرجلين، واختلاف فعل اليدين.
وبالجملة فمرامه - طاب ثراه - في هذا المقام ملتبس علي جدا، وليس مثلي من يسرع في الاعتراض على مثله، وقد نقلت كلامه بنصه طمعا في أن يظهر للناظر الفطن في هذا الكتاب ما خفي علي من الصواب.
وأنت - رعاك الله - إذا راعيت الأصلين السابقين، وسرت على منهاجهما الواضح، رفعت لك أعلام الحقيقة، وظهر لك أن الحال في مركب المجاز كالحال في مفرده، وأن ألفاظه مستعملة ولم تستعمل إلا فيما وضعت له، وأن المتكلم به لا يريد بالإرادة الاستعمالية إلا إفهام المخاطب تلك المعاني الأصلية التي وضعت لها الألفاظ.
وأما إفهامه التردد في المثال الأول فهو الغرض الداعي إلى الاستعمال وإلى إفهامه هذه الجملة لا أنه المستعمل فيه، والبعد بين الغرض الداعي إلى التكلم وبين معنى الكلام بعد شاسع وشوط بطين (3)، فمن وعدك بجبة إذا دخل الشتاء، وبممطرة إذا مطرت السماء تقول له: جاء الشتاء وجادت السماء، وليس معنى هذين الإخبارين إنشاء: أعطني جبة وممطرة، بل تخبره بهما ليتذكر الوعد فينجزهما لك.
وإذا تأملت المحاورات العرفية ظهر لك أن الكثير منها - إن لم تكن الأكثر - من هذا النمط، بل ربما ترتبت الأغراض، وتسلسلت الدواعي، وتكثرت

(1 و 2) الفصول الغروية: 28.
(3) البطين بمعنى: البعيد. (منه). وانظر لسان العرب 13: 57.
124

الوسائط بين ما يتكلم به وبين الغرض الأصلي من التكلم.
وبهذا يظهر لك مواقع النظر في كلام الجد الأعظم - قدس سره - حيث قال في أثناء كلام له، وهذا لفظه:
«هذا إذا كان المقصود إسناد تلك المحمولات إلى موضوعاتها على سبيل الحقيقة، وأما إذا لم يكن إسنادها إلى موضوعاتها مقصودا في ذلك المقام، بل كان المقصود بيان ما يلزم ذلك من التخضع ونحوه كقولك: أنا عبدك وأنا مملوكك. فلا ريب إذن في الخروج عن مقتضى الوضع إذ ليس المقصود في المقام بيان ما تعطيه [من] (1) معاني المفردات بحسب أوضاعها، فحينئذ يمكن التزام التجوز في المفردات كأن يراد بعبدك أو مملوكك لازمه، أو في المركب بأن يراد من الحكم بثبوت النسبة المذكورة لازمها، وعلى كل حال فالتجوز حاصل هناك» (2) انتهى.
وقد عرفت الفرق بين المقصود من التكلم، وبين المقصود من الكلام، وبين الاستعمال وبين الداعي إليه، والتخضع هو الداعي إلى أن يقول لمن يريد الخضوع له: أنا عبدك، لا أنه معنى للكلام، ويقوله هذا كما يقوله المملوك واقعا من غير فرق من جهة الاستعمال أصلا.
ومثله الجمل التي تستعمل في مقام التخويف والتهديد والمدح والدعاء وغير ذلك مما لا يدع وضوح الأمر فيها سبيلا إلى تعداد الأمثلة لها.
ومن هذا القبيل الجمل الخبرية التي تورد في مقام الطلب فهي مستعملة في معانيها، لكن لا بداعي الاعلام بل بداعي البعث بنحو آكد كما بينه الأستاذ في الكفاية (3) وأحسن ما شاء، بل وكذلك جميع الجمل الخبرية التي لا يراد منها

(1) الزيادة من المصدر.
(2) هداية المسترشدين: 35.
(3) كفاية الأصول: 70 - 71.
125

الإخبار، لا كما زعمه التفتازاني في شرح التلخيص (1)، وحروف الاستفهام الواردة لغير طلب الفهم كالتقرير والتوبيخ والإنكار، وليس كما زعمه صاحب مغني اللبيب (2).
فقال: «قد تخرج الهمزة من معناه الحقيقي فترد لثمانية أوجه» (3).
ومن المضحك عده الاستبطاء منها، وتمثيله له بقوله تعالى: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله (4) (5) إذ من الواضح أن ليس معنى الهمزة وحدها، بل هو معنى حرف الاستفهام الوارد على حرف الجحد، الداخل على فعل يدل بمادته على القرب.
فإذا كان جميع ذلك معنى الهمزة فما ذا حبسه عن الجري على ذلك إلى آخر الآية، ويجعل معنى الهمزة استبطاء خشوع قلوب المؤمنين لذكر الله تعالى؟ وبالجملة جميع ذلك وأشباهه الكثيرة قد نشأ عن الخلط بين الداعي إلى الاستعمال وبين نفس الاستعمال.

(1) انظر المطول: 43.
(2) هو الأستاذ جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام المصري الأنصاري الحنبلي النحوي المشتهر ب (ابن هشام) صاحب كتاب مغني اللبيب المتداول بين أهل العلم في هذا الزمان المشتمل على ثمانية أبواب، ولقد قال في وصف هذا الكتاب أحد الشعراء قصيدة بليغة لا مجال لنا في ذكرها بتمامها منها هذا [البيت]:
وما هي إلا جنة قد تزخرفت * ألم تنظر الأبواب منها ثمانية
ولد في ذي القعدة سنة (708) وتوفي في ذي القعدة سنة (761) فكان عمره ثلاث وخمسين
سنة.
(3) مغنى اللبيب 1: 24.
(4) الحديد: 16.
(5) مغنى اللبيب 1: 27.
(مجد الدين)
126

وإذا كان في الأنابيب حيف * وقع الطيش في صدور الصعاد (1)
(المجاز في الإسناد)
ويسمى مجازا عقليا، ومجازا حكميا (2)، ومجازا في الإثبات. وقالوا في حده:
إنه إسناد الفعل أو ما هو بمعناه إلى ملابس له غير ما هو له بتأول، وجعلوا منه قولهم: فتح الأمير البلد، وهزم (3) الجند، وضربه التأديب، وسرتني رؤيتك، وكذا قول الموحد: شفى الطبيب المريض، وأنبت الربيع البقل، لأن شفاء المريض وإنبات البقل من فعل الله تعالى، فيقوله الموحد بتأول، بخلاف الجاهل لأنه يعتقد ظاهر النسبة فلا تأول فيه، إلى غير ذلك من الأمثلة التي تجدها في كتب علماء البلاغة والأصول.
وقد بالغوا في أمر هذا المجاز، وحكموا بأنه كثير في القرآن الكريم، وعدوا منه قوله تعالى: وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا (4) وقوله تعالى: يوما يجعل الولدان شيبا (5) وأخرجت الأرض أثقالها (6) يذبح أبناءهم (7) قالوا: لأن زيادة الإيمان وجعل الولدان شيبا، وإخراج أثقال الأرض من فعل

(1) البيت من قصيدة لأبي الطيب المتنبي، انظر ديوانه ج 2 ص 34 وفيه: خلف: بدل حيف.
(2) بضم الأول وسكون الثاني وكسر الثالث وتشديد الرابع، منسوبة إلى الحكم أي مجازا في الحكم. وقيل:
بكسر الحاء منسوبة إلى الحكمة. أما بفتح الأول والثاني وكسر الثالث وتشديد الرابع منسوبة إلى الحكيم فلا مناسبة لها في هذا المقام إلا ببعض التأويلات التي لا يقبلها إلا ذوو الأسقام.
(مجد الدين).
(3) بصيغة المعلوم، أي: هزم الأمير الجند.
(4) الأنفال: 2.
(5) المزمل: 17.
(6) الزلزلة: 2.
(7) القصص: 4.
127

الله تعالى، وقد نسبت إلى الآيات والزمان والأرض، وذبح الأبناء من فعل جيش فرعون وقد نسب إليه (1).
أقول: ليس في جميع هذه الأمثلة وأمثالها إسناد إلى غير ما هو له حتى يلزم هذا المجاز، بل الإسناد فيها إلى ما هو له حقيقة، ولكن الاختلاف في جهات الإسناد وأقسامه، ولكل انتساب إلى الفعل حقيقة ولكن بجهة تخالف جهة الآخر، فإذا أساء الأدب رجل بحضرة الملك، فأمر الشرطي بقتله فضرب رقبته بالسيف، فلهذا القتل استناد إلى كل من الملك والشرطي والسيف وسوء الأدب، فيصح أن يقال: قتله الملك، وقتله الشرطي، وقتله السيف، وقتله سوء أدبه، وكل جهة من هذه الجهات نسبة حقيقية، وليست إحدى تلك الجهات أحق من غيرها بالحقيقة، فتخصيص إحداها بها حيف في الحكم، وترجيح بلا مرجح، بل قد يسند الفعل إلى الله تعالى، لأنه يقع بعلمه وإرادته وقضائه ومشيئته.
وكذا الحال في قول القائل: أنبت الله البقل، أو أنبت الربيع البقل، فكل من نسبتي الإنبات نسبة حقيقية من غير فرق بين صدوره من المؤمن أو المعطل، وإنما الفرق خطأ المعطل في تعطيله الجهة الإلهية، وزعمه أن نسبة الخلق والإيجاد إلى الربيع.
وكما تصح النسبة الحقيقية إلى الربيع كذلك تصح نسبة الإنبات إلى الماء والتراب والزارع والآمر به، ولقد خالطت هذا لخبط نزغات أشعرية، ومزج لقواعد العربية بدقائق مسائل كلامية.
فقالوا في مثل قول القائل: سرتني رؤيتك، إن المعنى سرني الله عند رؤيتك، وفي قول الشاعر:
يزيدك وجهه حسنا * إذا ما زدته نظرا

(1) أي إلى فرعون.
128

إن المعنى يزيدك الله حسنا في وجهه لما أودعه فيه من دقائق الحسن والجمال، وقالوا بمثل ذلك في الآيات السابقة لزعمهم أن زيادة الإيمان، وجعل الولدان شيبا، وإخراج أثقال الأرض من فعل الله سبحانه، وقد نسبت إلى الآيات والزمان والأرض، وحكموا في قولهم: أنبت الربيع البقل. بالتفصيل بين أن يكون القائل مؤمنا أو معطلا - كما سبق - وتوقفوا في قول الشاعر:
أشاب الصغير وأفنى الكبير كر الغداة ومر العشي حتى يعلم معتقد القائل، فهو مجاز عقلي إن علم أو ظن أن قائله لم يعتقد ظاهره، وما دعاهم إلى هذه التكلفات إلا زعمهم أن نسبة التأثير في الوجود إلى غيره تعالى ينافي التوحيد، ولو بني على هذا الاعتقاد وعلى منافاته للقواعد اللفظية، لم تبق نسبة حقيقية بين موضوع ومحمول قط إلا ما شذ.
ولكن عهدي بأهل التحقيق منهم وهم يفرقون بين الخالق للفعل وبين من نسب الفعل إليه.
وإذا اعترض عليهم خصمهم بأن لازم معتقدكم صحة اشتقاق اسم الفاعل من الزنا والسرقة لله - تعالى الله عن ذلك - أجابوا بأن الفاعل العبد وهو - سبحانه - خالق لفعل العبد، فهلا جروا على هذه السنة وقالوا: إن الله تعالى خالق زيادة الحسن، وتركوا نسبتها إلى الوجه على حالها، ولم يخلقوا بهذا الاختلاق ديباجة حسنة، إذ نسبة زيادة الحسن إلى الوجه هي الوجه في زيادة حسن البيت، وما هذا التأويل البارد سوى معول يهدم به بنيان حسنه وأساس رونقه، وهب تأتي لهم هذا التكلف في قوله: أشاب الصغير (البيت) والقول بأن المراد أشاب الله هذا، وأفنى ذاك، فما ذا يكون قولهم في مثل «فلان خانه الدهر» و «غدر به الزمان» و «ظلمته الأيام» فهل يحكم بالغلط في هذه الاستعمالات أديب أو يتجاسر على أن يفوه بتلك المقالة من له من الدين أقل نصيب؟.
وقد أنكر السكاكي هذا النوع من المجاز، وجعله من قبيل الاستعارة
129

بالكناية على مذهبه ولكن وقع فيما هو أدهى وأمر، فإنه قال - على ما في التلخيص وشرحه -: إن المراد بالربيع الفاعل الحقيقي للإنبات يعني القادر المختار بقرينة نسبة الإنبات إليه (1)، ورده في التلخيص (1) (2) بوجوه:
منها: أن لازم ذلك أن يتوقف نحو أنبت الربيع البقل على السمع لأن أسماء الله تعالى توقيفية، مع أن هذا الاستعمال صحيح شائع، ورد في الشرع أم لا (4).
ولقد أكثر العلماء من الرد على هذا القول والاعتراض عليه، ومن الانتقاد والانتصار له، والتعرض لذلك خروج عن موضوع الرسالة بأكثر مما يسمح به الاستطراد.
ويكفي - فيما أرى - ردا عليه ان إطلاق الربيع في مثل المقام على ذلك المقام الرفيع سمج قبيح، لا يقبله الذوق الصحيح بأي وجه كان، مجازا كان أم حقيقة، كناية أم استعارة من غير فرق بين أن تكون أسماؤه تعالى توقيفية أم قياسية.

(1) تلخيص المفتاح بشرح المختصر للتفتازاني: 59.
(2) وهو ملخص القسم الثالث من مفتاح العلوم للسكاكي. (مجد الدين).
(3) وهذا الكتاب للإمام العلامة أبي المعالي قاضي القضاة محمد بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد العجلي جلال الدين القزويني الشافعي المشتهر بالخطيب الدمشقي.
هذا، وذلك الكتاب مشهور بين الأنام، ومعتبر عند الأعلام، وشرحه المولى الإمام مسعود بن عمر ابن عبد الله التفتازاني الشافعي الخراساني المعروف ب (العلامة التفتازاني) - المتولد سنة (712) وقيل:
سنة (722) المتوفى سنة 792 - بشرحين معروفين المشتهر أحدهما ب (المطول) وثانيهما ب (المختصر).
هذا، وولد الخطيب سنة (666) وتوفي سنة (739) فكان عمره ثلاث وسبعين سنة.
(مجد الدين)
(4) تلخيص المفتاح بشرح المختصر للتفتازاني: 60.
130

وكما يقال: أنبت الربيع البقل، يقال: صوحه (1) الخريف، وأذاب الصيف الثلج، فهل يخصص السكاكي مقالته بالمثال من غير مخصص، أم يجري طلق العنان في المثالين وفيما لا تحصى من أمثالهما، ولا يبالي بما يصيبه من أهل الأدب والآداب؟.
والعجب من العلامة صاحب الفصول حيث وقع في مثل ما وقع فيه السكاكي، فقال وهذا لفظه: «اعلم أن في مثل قولهم: أنبت الربيع البقل وجوها:
أحدها: أن ينزل الربيع منزلة الفاعل، ويدل عليه بإثبات بعض لوازمه من إسناد الإنبات إليه فيكون الربيع حينئذ استعارة بالكناية فيكون الإنبات أو إسناده إليه استعارة تخييلية، ولا تجوز حينئذ فيه، أما في طرفي الإسناد فظاهر، وأما في الإسناد فلأن المراد منه معناه الحقيقي على ما مر، ولا يلزم الكذب لابتنائه على التأويل في أحد طرفيه، بخلاف الكذب فإنه لا يبتنى على التأويل.
الثاني: أن يكون إسناد الإنبات إليه مبنيا على دعوى كونه فاعلا له نظرا إلى كونه سببا إعداديا له، فحينئذ يكون المجاز عقليا حيث أعطي ما ليس بفاعل حكم الفاعل وأثره، وأقيم مقامه.
والفرق بين هذا الوجه والوجه المتقدم أنه لا تأويل هنا في نفس الربيع بخلاف الوجه السابق.
الثالث: أن ينزل تسببه الإعدادي منزلة التسبب الفاعلي فيعبر عنه باللفظ الدال عليه، وحينئذ يكون الإسناد مجازا لغويا لأنه غير موضوع في مثل أنبت، للتعلق بالسبب الإعدادي، بل الفاعلي - ثم قال -: هكذا ينبغي تحقيق المقام» (2).

(1) تصوح البقل إذا يبس. الصحاح 1: 384، القاموس المحيط 1: 235 (صوح).
(2) الفصول الغروية: 29.
131

وأقول (1) والأجدر بأن يكون تحقيقا للمقام أن يقال - وهو فذلكة جميع ما تقدم -: إن جهات النسبة مختلفة، ولكل فعل عدة منها، والهيئة الدالة على النسبة لم توضع لواحدة معينة منها، بل هي موضوعة للجميع على سبيل الاشتراك المعنوي، وتعيين تلك الجهة موكولة إلى مناسبة الحكم والموضوع، أو سائر القرائن الخارجية، فربما اتضح وجه النسبة كقولك: خلقه الله، وربما خفي الوجه كقولك: قتله الملك، فإنه يصح السؤال هل قتله بأمره، أو باشر قتله بيده؟ فإذا أمر الطيب المريض بشرب الدواء فشربه وأبل (2) من الداء يصح أن ينسب الشفاء إلى الله تعالى، وإلى الطبيب، وإلى الدواء، فيقال: شفاه الله، وشفاه الطبيب، وشفاه الدواء، والكل نسبة حقيقية على اختلاف جهاتها.
ويؤيد ما نقول ترتب الأثر شرعا وعرفا على كل من السبب والمباشر.
ومن هذا الباب ما يذكره الفقهاء في أبواب الضمان والقصاص وغيرهما من تقديم الأقوى من السبب والمباشر تارة، أو تضمينهما معا تارة أخرى، ولو لا أن النسبة حقيقية لما كان وجه لترتيب الأثر على غير المباشر إذ النسبة المجازية لا يترتب عليها أثر قطعا، فتأمل.
فعلى ما حققناه نسبة الإثبات إلى الربيع حقيقة بلا احتياج إلى هذه الوجوه التي فيها مواقع للنظر لا تخفى على أهله.

(1) لا يقال: إن ملاحظة جميع كلامه في هذا المقام يعطي أنه لا فرق بين المباشرة وغيرها من الأسباب، وسيأتي في أواخر مسألة اعتبار المباشرة ما يخالفه.
لأنا نقول: إن كلامه هنا لا يعطي إلا عدم الفرق بين المباشرة وغيرها في أن كلا منهما نسبة حقيقية، وما في أواخر مسألة اعتبار المباشرة غير مناف لهذا.
على أن ما في أواخر المسألة المذكورة حكم صورة الشك، فلا اختلاف بين الكلامين، فتأمل (مجد الدين)
(2) البل بالكسر: الشفاء. الصحاح 4: 1639، القاموس المحيط 3: 337 (بلل).
132

نعم قد يجري في الإسناد نظير ما يجري في المفرد والمركب من المخالفة بين الإرادة الجدية والاستعمالية، والاختلاف بين الداعي إلى التكلم وإلى المقصود من الكلام، كقولك لبخيل خامل متهكما به: أنت الذي أطعمت الوفد وبلغت ذروة المجد.
وبما قررناه في المجازين السابقين تظهر لك الحقيقة، وقد أدينا الواجب من البيان فلا يلزمنا الإعادة.
هذا، وقد يعد من قبيل هذا المجاز مثل قوله تعالى: في عيشة راضية (1) وقولهم: نهاره صائم، وليله قائم وشعر شاعر وظل ظليل، وغير ذلك، ولكن ليس جميع ذلك - فيما أرى - من باب واحد، بل لكل وجه، بل وجوه في قواعد العربية، ومخارج في فنون البلاغة، وبيانها يفضي إلى الإطالة، والإطالة مظنة الملالة.
(مجاز الحذف)
عدوا منه قوله تعالى: وجاء ربك (2) وسئل القرية (3) وقالوا: إن التقدير: جاء أمر ربك، وسئل أهل القرية، وربما يعدان من باب المجاز في الإسناد.
أقول: لا ينكر أمر الحذف كأخويه: الإضمار والتقدير، وكثرته في اللغة، ولكن عمدة البلاغة الموجودة في الآيتين الكريمتين قائمة بإبقائهما على ظاهرهما من نسبة المجيء والسؤال بالإرادة
الاستعمالية إلى الله تعالى، وإلى القرية، إذ

(1) الحاقة: 21.
(2) الفجر: 22.
(3) يوسف: 82.
133

الذي يحكم الشرع والعقل بامتناعه هو نسبة المجيء إليه سبحانه بالإرادة الجدية لا الاستعمالية، ولهذا لو ذكر هذا المحذوف وقيل: جاء أمر ربك، فقد من الكلام جانب من حسنه، ولم يناسب عطف الملك (1) عليه.
والظاهر أن أكثر الألفاظ التي ورد في الشرع إطلاقها عليه تعالى مما لا يليق بمقدس ذاته من هذا القبيل، وما وقعت المجسمة والمشبهة فيما وقعوا فيه، إلا لجهلهم بالفرق بين الإرادتين.
وكذلك سؤال القرية فإن سؤال الجماد محال واقعا لا استعمالا، ولا زالت العرب تخاطب الربوع
(2) والديار، وتكثر من سؤال الأطلال (3) والآثار وهي قفر ليس فيها ديار، والقرآن الكريم نزل على محاورات العرب، فإذا كان هذا دأبهم في موارد لا يمكن فيها تقدير الإرادة الجدية والسؤال الحقيقي، فكيف في هذه الآية وما يجري مجراها، والقرية مأهولة عامرة نعم في مثل جرى النهر والميزاب يحتمل كل من الحذف والاستعمال على هذا النمط، والثاني هو الأولى، وأما احتمال المجاز في الكلمة بأن يكون المراد من النهر والميزاب الماء بعلاقة الحال والمحل فقبيح لا يقبله الذوق الصحيح.
هذا، والوجه في عد هذا الباب من أقسام المجاز لا يخلو عن خفاء، إذ ليس فيه استعمال في غير ما وضع له لأن المفروض في قوله تعالى: وسئل القرية (4) أن المفردات مستعملة في معانيها، وإلا كان المجاز في المفرد، وكذلك المركب - على القول بالوضع له - وإلا كان المجاز فيه، وهكذا النسبة وإلا كان المجاز فيها، فإذن لا فرق بينه وبين سائر الكلام إلا حذف بعض ألفاظ الجملة،

(1) إشارة إلى قوله تعالى: * (والملك صفا صفا) * الفجر: 22.
(2) الربوع جمع الربع: الدار بعينها حيث كانت. الصحاح 3: 1211 (ربع).
(3) أطلال جمع طلل: ما شخص من آثار الدار. الصحاح 5: 1752 (طلل).
(4) يوسف: 82.
134

ذلك الأمر الشائع في موارد لا تحصى كثرة، فمجاز الحذف لا يجري على الاصطلاح في المجاز، بحيث يعد قسيما للأقسام المتقدمة، إلا أن يكون مجازا في لفظ المجاز.
(إطلاق اللفظ على اللفظ)
قال في الفصول ما لفظه: «قد يطلق اللفظ ويراد به نوعه مطلقا أو مقيدا كما يقال: (ضرب) موضوع لكذا، أو فعل، أو أنه في قولك: زيد ضرب. خبر إذا لم يقصد به شخص القول، وقد يطلق ويراد به فرد مثله كقولك: زيد - في قولك:
ضرب زيد - فاعل إذا أريد به شخص القول، وربما يرجع هذا - كسابقه - إلى القسم الأول إذا كانت الخصوصية مستفادة من خارج».
«وأما لو أطلق وأريد به شخص نفسه كقولك: زيد لفظ، إذا أردت به شخصه ففي صحته بدون تأويل نظر لاستلزامه اتحاد الدال والمدلول، أو تركيب القضية من جزءين مع عدم مساعدة الاستعمال عليه» (1).
أقول: وبالتأمل فيما سبق في أصلي الوضع والاستعمال يظهر أن هذا الإطلاق ليس على نحو الاستعمال أصلا، وذلك لأن الوضع هو تعهد الاستعمالات بمعنى تعهد المتكلم بأنه لا ينطق بلفظ زيد قائم - مثلا - إلا إذا أراد إثبات صفة القيام لهذا الشخص، وبعبارة أخرى: لا يسمعه اللفظ إلا إذا أراد إفهام شيء آخر، وبعبارة ثالثة: يحكم على اللفظ ويحكم به لا بما هو لفظ، بل بما هو مرآة للغير.
فإذا أراد به إثبات تلك الصفة له فقد حصل الاستعمال وتمت الدلالة بواسطة الوضع.

(1) الفصول الغروية: 22.
135

وأما إذا قال: زيد موضوع أو ثلاثي، فإنه لا يريد بلفظ زيد إفهام شيء به ليتحقق الاستعمال، بل يريد إفهام نفسه، ولا الحكم على شيء بواسطة اللفظ، بل يريد أن يحكم عليه بذاته.
وبالجملة، اللفظ قد يلاحظ بما هو حاك للشيء، وكاشف عنه من غير نظر إلى ذاته أصلا، ولا داع للتلفظ به إلا إراءة الغير، وهذا مرحلة استعماله، وهو في هذه المرحلة ليس بمحكوم ولا بمحكوم عليه بحسب الواقع، وإنما الحكم لذلك الغير.
وقد يلاحظ بما هو لفظ فيحكم عليه بما هو من صفاته كقولك: زيد موضوع وثلاثي، وهو في هذا الحال ليس بمستعمل أصلا، ولا يحتاج إلى الوضع أيضا إذ الوضع إنما يحتاج إليه لدلالة شيء على شيء آخر، ولا دلالة هنا، ولا استعمال، ولا وضع، وما هو إلا كالمرآة قد يلاحظ بلحاظ حكايتها عن ما يرى فيها فيترتب عليها أحكام المرئي فيقال: هذا زيد، وهذا عمرو، وقد ينظر إليها بذاتها فتنسب إليها صفاتها فيقال: هي صافية أو هي ثمينة، وهذا كله تطويل ألجأنا إليه حب إيضاح الحق، وإلا فمن الواضح لدى الفطن اللبيب استحالة اتحاد المستعمل والمستعمل فيه، ضرورة أن الحاكي غير المحكي، والدال غير المدلول، ولا يرفع هذا الخرق بما ذكره الأستاذ - طاب ثراه - في الكفاية في تصحيح الاستعمال في القسم الثالث من قوله:
«يكفي تعدد الدال والمدلول اعتبارا وإن كانا متحدين ذاتا فمن حيث إنه لفظ صادر عن لافظه كان دالا، ومن حيث إن نفسه وشخصه مراده كان مدلولا» (1) انتهى.
وذلك لأن المدلول من حيث إنه مدلول مقدم رتبة على الدال فلا يعقل

(1) كفاية الأصول: 14 - 15.
136

إيجاد المدلول بنفس الدال عليه كما يظهر بالتأمل، وهذا المحذور أعني اتحاد الدال والمدلول لا يختص بهذا القسم، بل يعم الأقسام الثلاثة، ولا مناص عنه إلا بما قلناه من أن ذلك ليس من باب الاستعمال، ولقد ألم به هذا الأستاذ في قوله - بعد العبارة المتقدم نقلها -:
«مع أن حديث تركب القضية من جزءين - لو لا اعتبار الدلالة في البين - إنما يلزم إذا لم يكن الموضوع نفس شخصه وإلا كان أجزاؤها الثلاثة تامة، وكان المحمول [فيها] (1) منتسبا إلى شخص اللفظ ونفسه، غاية الأمر أنه نفس الموضوع لا الحاكي عنه، فافهم فإنه لا يخلو عن دقة».
«وعلى هذا ليس من باب استعمال اللفظ بشيء، بل يمكن أن يقال: إنه ليس أيضا من هذا الباب ما إذا أطلق اللفظ وأريد به نوعه أو صنفه، فإنه فرده ومصداقه حقيقة، لا لفظه وذاك معناه كي يكون مستعملا فيه استعمال اللفظ في المعنى، فيكون اللفظ نفس الموضوع الملقى إلى المخاطب خارجا قد أحضر في ذهنه بلا وساطة حاك، وقد حكم عليه ابتداء بدون واسطة أصلا، لا لفظه، كما لا يخفى، فلا يكون في البين لفظ قد استعمل في معنى، بل فرد قد حكم في القضية عليه بما هو مصداق لكلي اللفظ لا بما هو خصوص جزئية» (2). انتهى.
ولقد أحسن كل الإحسان، وليته قطع عليه ولم يذكر بعده ما يوهم إمكان الاستعمال على هذا النحو، ولم يقل قبل هذا البحث: «إن صحة استعمال اللفظ في نوعه أو في مثله بالطبع» (3).
وبالجملة، فكل من لفظي (زيد) و (ضرب) في قولك: زيد ثلاثي، وضرب فعل ماض، موضوع محكوم عليه بلا احتياج إلى كاشف عنه لظهوره كالمرآة

(1) الزيادة من المصدر.
(2) كفاية الأصول: 15.
(3) كفاية الأصول: 14.
137

التي لا تحتاج في ملاحظة حسنها وصفائها إلى مرآة أخرى، فإن شئت تكلفت وقدرت وقلت: لفظ (زيد) ثلاثي، ولفظ (ضرب) موضوع لكذا، وإن شئت تركت الجملة على حالها لظهور المراد منها.
وعلى أي حال، ليس المراد منها أن لفظ (ضرب) فعل بالحمل الشائع ليتجه الاعتراض بأنه ليس بفعل في هذا المقام قطعا وإلا لما صح الإخبار عنه، ويلتجأ إلى أنه مستعمل في جنسه أو نوعه، بل المراد ما عرفت، وبالله التوفيق.
ومن ذلك يظهر ما في باقي كلام صاحب الفصول - طاب ثراه - مما تركنا نقله بلفظه مخافة التطويل، وحاصله: «البحث عن الوجه في هذه الدلالة، واختياره أنها بالقرينة بعد استدلاله على
أنه لا يمكن أن تكون وضعية ولا طبعية ولا عقلية، وحكمه بخروج هذا الاستعمال عن حدي الحقيقة والمجاز» فراجع (1) كلامه إن شئت وإن كنت في غنى عن هذه التكلفات بما عرفناك.
ومن الطريف ما نقله عن التفتازاني من أن هذه الدلالة نشأت من الاصطلاح والاتفاق حيث جرت طريقتهم على إطلاق اللفظ وإرادة نفسها (2)، فتأمل فيه فإنه من العجائب.
(الحكاية)
قد يتوهم أن الجملة المحكية بألفاظها لا استعمال لمفرداتها، وهذا وهم واضح الفساد، لأن لازمه أن لا تكون لتلك الجمل معان أصلا، وأن لا يفهم شيء منها إذ المعنى فرع الاستعمال، ولا يعقل الإفهام إلا بالاستعمال.
والحق أن ألفاظها مستعملة كسائر الجمل، ولكن المستعمل ليس هو

(1) راجع الفصول الغروية: 22 - 23.
(2) الفصول الغروية: 23.
138

الحاكي، بل المحكي عنه هو الذي استعمل الألفاظ وألقى معانيها إلى السامع بواسطة الحاكي عنه من غير أن يكون بما هو حاك قاصدا لمعنى أو مريدا للإفهام الذي عرفت أنه معنى الاستعمال، بل ربما لا يعرف معاني تلك الألفاظ، ولا يدري فيما استعملت، ولا لما ذا وضعت.
ولهذا استشكل شيخ مشايخنا (1) المرتضى - طاب ثراه - على ما نقل لنا عنه، في قصد الدعاء من الآيات الدعائية كقوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم (2) في قراءة الصلاة لأن قراءة القرآن التي جعلت جزءا للصلاة معناها الحكاية وهي منافية لقصد المعنى.
ويمكن الجواب عنه بمنع التنافي بين الحكاية وإنشاء المعنى، وتجويز اجتماع اللحاظين معا على حذو ما سبق في بحث استعمال المشترك في معنيين، ومع الغض عن ذلك، نقول: يكفي في صدق القراءة الدعاء بألفاظ القرآن بقصد أنه من القرآن كما تمدح الملك - مثلا - بشعر غيرك فتقول: أنت كما قال فلان: «فإنك شمس والملوك كواكب».
وتكون حينئذ قد أنشأت مدحة الملك وأنشدت شعر غيرك.
وإن شئت تركت قراءة الآيات على حكايتها، وجعلت الدعاء داعيا على الحكاية، وذلك كاف في تحقق الدعاء.
وفذلكة القول في المقام: أن الحكاية تنزيل الحاكي صوته منزلة صوت غيره فما هو إلا كناقلة الصوت (3) المتعارفة في هذا الجيل، أو كالصدى المسموع

(1) الشيخ مرتضى الأنصاري، وقد عبر عنه المصنف في غير هذا المقام ب (الشيخ الأعظم). (مجد الدين).
(2) الفاتحة: 6.
(3) وهي آلة لهوية متعارفة بين جمع من أبناء الزمان، والظاهر أنها مسماة في اللغة الأروبائية ب (فنوگراف) وفي اللغة العربية المباركة ب (حفظ الصوت) و (حافظة الصوت) وغيرهما كما تركنا ذكره. (مجد الدين).
139

عن صفحة الجبل، وعلى ذكر الصدى وبمناسبة (1) لا تخفى إلا على الغبي (2) نختم الرسالة بقول المتنبي:
ودع كل صوت غير صوتي فإنني * أنا الصائح المحكي والآخر الصدى (3)
اللهم يا رحمان يا رحيم اهدنا الصراط المستقيم، كما هديتنا إلى دينك القويم، وبلغ روح نبيك محمد وآله عنا أفضل الصلاة والتسليم.
(اعتذار)
التفتنا بعد إتمام نسخة الطبع إلى أن جمع اللؤلؤ على اللئال مما لا يساعد عليه ظاهر اللغة، ولكنا تبعنا في ذلك عدة من أهل العلم والأدب كأبي ذر الحلبي، فقد سمى كتابه (عقد اللئال فيما يقال في السلسال) والسيوطي حيث سمى كتابه في وصف الهلال ب (رصف اللئال) ولغيرهما (نظم اللئال في مدح النبي والآل) فهذا على فرض عدم الصحة من الغلط المشهور الذي قيل فيه: إنه لا يقصر عن الصحيح المأثور، وكيف لا يكون من أفصح المقال بعد قول الله الكبير المتعال.

(1) إشارة إلى أنه سلك في هذا الكتاب ما هو أهدى إلى الصواب، فيجب على كل ذي مسكة موافقته ولا يجوز مخالفته، وأن يتمسك بقوله ويدع قول غيره. (مجد الدين).
(2) الغبي: قليل الفطنة. الصحاح 6: 2443، القاموس المحيط 4: 368 (غبا).
(3) البيت من قصيدة لأبي الطيب المتنبي. ديوان المتنبي 1: 291.
140

وقاية الأذهان والألباب ولباب أصول السنة والكتاب
141

ترجمة مختصرة لسيدنا الأستاذ السيد محمد الفشاركي رحمه الله (1).
هو من أسرة كريمة النجار، عريقة في الفخار، أصلها من الشرفاء الطباطبائية القاطنين ببلدة (أزوارة) (2) هاجر منها جده الأعلى أعني الأمير شريف، وأخوه الأمير مشرف ابنا الأمير أشرف، إلى (قهپاية) من نواحي أصبهان، فتوطن الأمير مشرف قرية (وير) والأمير شريف قرية (فشارك) وولد بها صاحب الترجمة سنة 1253، وكان عمره لما توفي والده الحاج الأمير أبو القاسم، ست سنين، وسافر إلى العراق وهو ابن إحدى عشرة سنة، وجاور الحائر الشريف، وكفله هناك أخوه العالم السيد إبراهيم المعروف ب (الكبير) فكمل العربية والمنطق، ثم اشتغل بالفقه وأصوله على عدة من علمائه كالعالم الشهير السيد ابن المجاهد الطباطبائي، والأستاذ المعروف ب (الفاضل الأردكاني).
ولما قدم إليه رئيس المذهب وطراز (3) شرفه المذهب، آية الله في الزمن الحاج ميرزا محمد حسن الشيرازي، انقطع إليه، واقتصر في الحضور عليه، وسافر معه إلى سامراء وتوطنها معه، فآثره على جل أصحابه حتى صار عيبة سره المصون من العيب، وخزانة علمه المنزه من الريب، ولما كثرت أشغال العلامة المذكور، لتحمله أعباء الإمامة، وتفرده بالرئاسة العامة، فوض أمر التدريس إليه، واعتمد في تربية الأفاضل عليه، فقام بتلك الوظيفة بهمة دونها العيوق (4)،

(1) الترجمة بقلم المصنف طاب ثراه.
(2) وهو معرب (زوارة) التي تكون قريبة من أصبهان. (مجد الدين).
(3) الطراز: حاشية الثوب، وجمال الثوب بجمال حاشيته.
(4) العيوق من نجوم السماء. والعبارة إشارة إلى علو همة المترجم.
143

وأقام للعلم بها أنفق سوق حتى صارت كعبة العلم ومطاف أصحابه، ومنتجع وفد الفضل ومراد طلابه.
ولما أصابت أمة العلم فيها عين الزمان، وشتتت شملها يد الحدثان، وهاجر أستاذه العلامة إلى دار الكرامة، هاجر بأهله وأولاده إلى الغري الشريف، والغري إذ ذاك مجمع شيوخ الطائفة وسدنة العلم، ومختلف ذوي الفضل والفهم، فتهافتت عليه الطلاب تهافت الفراش على الشمع، وضربوا إليه أكباد الإبل ما بين بصر الأرض والسمع، فوردت الأفهام لديه من علوم الشريعة أعذب منهل وأصفى شريعة، وشرع في الدرس العمومي في داره الشريعة، ثم وضع له منبر التدريس في القبة التي فيها قبر أستاذه (1)، فدرس هناك مدة، ثم في الجامع المعروف ب (الجامع الهندي) وربما كان له مجلس درس آخر في داره يحضره خواص أصحابه، وكنت - والحمد الله - منهم، وقد حضرنا عليه فيها قطعة صالحة من كتاب البيع ومسألتي المشتق واللباس المشكوك وغيرها.
وكان - سقى الله رمسه - قد فرغ نفسه الشريفة للعلم والعبادة وتحامى الرئاسة، ولو شاء أن يكون مرجعا للتقليد لرميت إليه منها المقاليد، ولكنه لفظ الدنيا لفظ النواة، ورماها رمي الحجيج الحصاة، ورأى الاجتناب عنها أولى، وأن الآخرة خير له من الأولى، فسلك مسلك أجداده الأمجاد، وعاش فيها عيش الزهاد، ما بنى فيها دارا، ولم يخلف عقارا، حتى أنه لم يكن له لما أدركناه خادم يخدمه، بل كان يذهب إلى السوق بنفسه لشراء حوائجه والطلبة حافون به يسألونه عما أشكل عليهم من درسه وهو واقف على باب بعض الحوانيت.
وكان مع ما منحه الله من الطبع الحر والإباء المر - وذلك منه شنشنة هاشمية لا أخزمية، وسجية علوية فاطمية - في أقصى درجات حسن الخلق والتواضع

(1) السيد محمد حسن الشيرازي المتقدم ذكره. (مجد الدين).
144

والتعطف على طلبة العلم، وكانوا يختلفون إليه على اختلاف طبقاتهم واختلاف مراتبهم ومآربهم، حتى أن الأصاغر منهم يقصدونه للسؤال عن بعض عبارات الكتب الابتدائية فيسمح لهم بالجواب، ويلاطفهم في الخطاب وهو جالس في صحن داره على التراب.
ولم يزل لأبناء العلم كالوالد الشفيق، وبيته كالبيت يحجون إليه من كل فج عميق، إلى أن وقف عمره على ثنية الوداع، وأذنت مزنة (1) الفض بالإقلاع، فظهرت في كفه الشريفة قرحة أقرحت منا القلوب والأكباد، ووددنا أن نفديه منها بأرواحنا لا الأجساد، وتولدت منها عوارض أخرى، إلى أن لزم داره، واستمر به المرض مدة تقرب من شهر حتى قضى نحبه، وجاور
ربه في شهر ذي القعدة الحرام من شهور سنة 1316 ولا تسأل عما جرى في جنازته من العويل والبكاء، وقد جرت عن العيون بدل الدموع الدماء، ودفناه في إحدى حجرات الصحن الشريف من جهة باب السوق الكبير على يسار الداخل إليه.
وكان قليل التصنيف جدا، على أني سمعت منه في الدرس يقول: إني لم أباحث قط من غير مطالعة، بل ولا من غير كتابة.
والموجود - الآن - مما خطه بقلمه: قطعة في شرح أوائل رسالة البراءة من رسائل الشيخ الأعظم، ورسالة في الدماء الثلاثة، ورسالة في خلل الصلاة.
وخلف من الذكور أربعة:
أولهم: الشاب العالم الفاضل السيد محمد باقر، وكان وضي الطلعة، دمث الأخلاق، محبوبا عند أهل العلم.
وكان صهر أعز أصدقاء والده، العلامة الآقا ميرزا محمد تقي آية الله الشيرازي الثاني، وكان مدبر أمره ومستودع سره، ولكنه أدركه المحاق قبل

(1) المزنة: السحابة الممطرة [الصحاح 6: 2203 مزن] وإقلاعها كناية عن انتهاء عمره.
145

الإبدار (1)، وقضى - وعمره من أقصار الأعمار - حدود سنة ست أو سبع وثلاثين.
وثانيهم: العالم الفاضل الكامل السيد عباس، وهو - على ما يبلغني عنه - قد جمع بين طريف المجد وتالده، وسلك في سبل المكارم طريق والده، وهو اليوم قاطن أرض الغري، مجد في الاشتغال، ويزداد كل يوم في الكمال كالهلال، وسوف يلوح في سماء العلم بدرا (ولا بد لابن الصقر أن يشبه الصقرا).
إن الهلال إذا رأيت نموه * أيقنت أن سيصير بدرا كاملا
وثالثهم: السيد العالم الفاضل السيد علي أكبر، وقد استوطن عاصمة طهران، وهو الآن أحد علماء تلك البلدة ووجوهها.
ورابعهم: الشاب المهذب الصفي السيد أبو طالب، وكان (2) رحمه الله يحبه حبا شديدا، وقد انقطعت عني أحواله ببعد الديار وانقطاع الأخبار.
هذا، وأما وصف محاسن خلاله ومحامد أقواله وأحواله وأفعاله وما منحه الله من العلم والتقوي وحسن البيان وطلاقة اللسان فإنه يدع سحبان وائل وهو أعيا من بأقل.
وهذا أمر أعترف بعجزي عنه، فليعذرني الناظر، وما أساء من اعتذر، ولو لا خوف تسرع القراء إلى الإنكار لذكرت بعضها، ولكن صدور الأحرار قبور الأسرار، وحسبك منها ما تراه في خلال هذا الكتاب من غرر فوائده، ومن رأي من السيف أثره فقد رأى أكثره.
وأسأل الله أن يجزيه عنا أفضل جزاء المحسنين، ويحشره مع أجداده الطاهرين، وأنا أعبر عنه ب (السيد الأستاذ) أو ب (سيدنا الأستاذ).

(1) أي: مات شابا كالقمر لم يصل منتصف الشهر.
(2) أي: وكان والده....
146

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
أما بعد حمد الله الذي جعل الحمد أول كتابه (1)، وآخر دعوى (2) ساكني دار ثوابه (3)، والصلاة على محمد والطاهرين من ولده، والصالحين من أصحابه.
فإنه لما ظهرت الفتن في بلاد العراق، وقامت الحرب فيها على ساق، تحكم الدهر الجائر، لا، بل حكم علي القدر القاهر، بالمهاجرة عن بلاد عق تمائمي (4) فيها الشباب، وأول أرض مس جلدي منها التراب.
أرض الغري وبوركت أرضا * أرضى ولست بغيرها أرضى

(1) أي أول القرآن الكريم في سورة فاتحة الكتاب. (مجد الدين).
(2) أي وجعل الحمد آخر دعوى ساكني. (مجد الدين).
(3) أي الجنة، وهذه إشارة إلى قوله تعالى: وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين. (مجد الدين)
(4) التمائم: جمع التميمة، وهي ما يعلق على الطفل لأجل الحفظ. (مجد الدين).
147

ففارقت معاهد أنسي ولذاتي، ومواطن إخواني ولداتي، وسرت (1) عام (1333) إلى بلاد الأمن والإيمان، أعني بلاد إيران، وألقيت عصا التسيار في سيدة أمصارها، ضرة رياض الجنان: أصفهان.
فهناك أحاطت بي أفاضل حملة العلم وطلابه إحاطة الهالة (2) بالقمر المنير، وحاموا حولي كما يحوم الصادي (3) حول العذب النمير، وكثيرا ما كنت أكتب ما أقرره لهم من مسائل أصول الفقه بعد الفراغ من التدريس، في قطع متفرقة من أسحية القراطيس، من غير أن أفصل شذورها في ضمن فصول وأبواب، لأني لم أقصد به تأليف رسالة في ذلك الفن، ولا تصنيف كتاب، ولكن بعض الأفاضل (4) من الأصحاب عرف قدرها، فجمع شملها، ثم عرضها علي، وحثني على إعادة النظر فيها، وتهذيبها، وطلب مني ترتيبها، وتبويبها، فأجبته إلى ذلك خوفا على تلك الأعلاق النفسية من الضياع، وطمعا في أن يعم بها الانتفاع.
فهاك أيها الطالب لحقائق هذا الفن، ولباب هذا العلم، وما كنت تبتغيه، وأرجو أن يكون - إن شاء الله - كما ترتضيه، فقد مخضت لك الرغوة عن الصريح، وميزت السقيم من الصحيح، وفرقت بين الدر والمخشلب (5)، وأخلصت

(1) وكان المسير أيام الحرب العمومية (بين الملل) وكثرة الخوف والتعب، وكيف والقائد العثماني (حسين رؤوف) يقتل الطلبة الشيعي فكيف العالم، وكان من من الله تعالى أن الليلة التي أردنا المسير ليومها وصل إلينا خبر انعزاله. (مجد الدين)
(2) الهالة: الدائرة المنعقدة حول القمر وهو تشبيه حسن لحلقة الدرس. (مجد الدين).
(3) الصادي: طالب الماء، أو العطشان. (مجد الدين).
(4) وهذا البعض هو الشيخ محمد رضا البافراني من خواص المصنف. (مجد الدين)
(5) المخشلب بضم الأول وسكون الثاني وفتح الثالث والرابع، وهي الدرر الجعلية، ومعناها بالفارسية (خر مهره).
(مجد الدين).
148

عن المموه (1) صافي الذهب، وجمعت فيه خلاصة ما وصل إليه الفكر، وما تلقيته عن مشايخ العصر، لا سيما ما استفدته عن سيدي ومولاي وأستاذي ومن عليه استنادي وعنه إسنادي، الإمام العلامة أبي المكارم السيد محمد الفشاركي الأصفهاني، ثم الحائري النجفي، أعلى الله تعالى في غرف الجنان رتبته، وسقى بصيب الغفران تربته، فقد حرصت على أن لا يشذ عني شيء منه، فجعلت جمعه وكدي (2)، بعد ما بذلت في فهمه جهدي، وأنا أعلم أنه قد فاتني منه الكثير، وأن مثلي لا يخلو في فهم مقاصد مثله عن قصور وتقصير، فما وجدت فيه من السفاسف فذلك من نقصان هذا العبد، والكمال للرب سبحانه وحده، وقد يتكهم العضب الصيقل، ويضل الخريت عن لاحب السبيل، ولكن رجائي منك لحسن ظني بك، أن لا تسارع في الانتقاد، وأن تحكم قبل قيام البينة بالفساد، ولك الحكم بعده إن ألزمت نفسك الإنصاف، الذي هو من أشرف الأوصاف.
هذا، وقد سبق من هذا الكتاب جزء في مسألتي الوضع والاستعمال، جعلته كالمدخل إليه، وأفردته عنه لعذر بينته فيه، وأنا أشرع بتوفيق الله تعالى في بيان سائر مباحث الألفاظ، وأجعل عناوين المسائل غالبا ما هو المصطلح عليه لدى أهل العلم في هذا الزمان.
(الحقيقة الشرعية)
قال في الفصول، ما لفظه: «الحقيقة الشرعية: هي الكلمة المستعملة في معناها الشرعي بوضع شرعي فخرج بقولنا: في معناها الشرعي. ما استعمل في غيره ولو بوضع شرعي كإبراهيم، وبقولنا: بوضع شرعي. الكلمة المستعملة في

(1) المموه بضم الأول وفتح الثاني وفتح الثالث مشددة: الذهب المزيف فهي مرادف المطلى. (مجد الدين).
(2) وكدي أي همي ومرامي. (مجد الدين).
149

معناها الشرعي بوضع لغوي، أو عرفي، أو بوضع شرعي لمعنى آخر، فإن المتبادر منه أن يكون بمقتضاه الأول، أو لأن الظاهر منه أن يكون الوضع سببا مستقلا في صحة الاستعمال، وليس الأمر في المجاز كذلك».
«وينبغي أن يعتبر قيد الحيثية في الوضع الشرعي، فيخرج مثل لفظ الحسن والحسين عليهما السلام فإنه وإن كان لمسماهما تعلق بالشرع لحكم الشارع بوجوب اتباعهما، والاعتراف بإمامتهما، إلا أنه لم يضع اللفظين من حيث كونهما شارعا بمعنى أن لا مدخلية لكونه شارعا في التسمية، بخلاف مثل لفظ الصراط والميزان والجنة والحساب، بناء على أنها حقائق في معانيها
الشخصية، أو المخصوصة، فإن لجهة الشرع مدخلا فيها، لأن الغرض الداعي إلى وضعها، إنما هو بيان آثارها الشرعية» (1) إلى آخره.
قلت: لعل الوجه في أخذه قيد الاستعمال في الحد، ما قرروه من أن اللفظ قبل الاستعمال لا يسمى حقيقة ولا مجازا، وفيه بحث ليس هذا موضع بيانه، ولكن يمكن أن يحرر البحث في وضع الشارع لهذه الألفاظ وعدمه.
فيقال: الحقيقة الشرعية هي الكلمة التي وضعها الشارع لمعانيها الشرعية، ثم ينازع في ثبوتها وعدمه، فيستغنى عن هذا القيد، فيتأتى النزاع ولو فرض عدم الاستعمال أصلا، إلا أن يقال بعدم تحقق الوضع إذا لم يلحقه الاستعمال، وقد مر القول فيه.
ثم إن ما ذكره في لفظ الصراط وغيره لا يتم إلا إذا كان المراد من الشرع جميع ما أتى به الشارع ولو في الأمور التي أخبر بها من المغيبات التي كشف عنها، ولفظ الشرع لا يساعد عليه إلا أن يكون حقيقة شرعية، ولا أعرف أثرا شرعيا ابتدائيا لهذه الألفاظ، إلا أن يكون وجوب التصديق بمسمياتها،

(1) الفصول الغروية: 42.
150

فهي - إذن - كلفظي الحسن والحسين، وقد حكم بخروجهما عن حد البحث، ولو اكتفى في الأثر الشرعي ولو بوسائط لاتسع المجال، ودخل في حريم الجدال ألفاظ الملائكة والحور والقصور، إلى غير ذلك.
ومع الغض عن جميع ذلك، لا شك في أن النزاع يختص بما يتعلق به الأحكام الشرعية ابتداء إذ لا يتعلق غرض الباحث عن أصول الفقه إلا به.
اللهم إلا بجعل الكلام فيها، كما في الأوامر والنواهي والعموم والخصوص ونحوها مما يبحث فيه عن عموم الألفاظ وإن اختص غرض الأصولي بخصوص الوارد منها في الكتاب والسنة، وفيه بعد.
والأخصر الأولى، أن يقال: إن الحقيقة الشرعية هو اللفظ الذي وضعه الشارع لمعنى شرعي من حيث إنه شارع، بل لك أن تترك قيد الحيثية لما مر، فإن الحسن والحسين ليسا بمعنى شرعي بالمعنى الذي عرفت.
والشارع هو النبي صلى الله عليه وآله على المشهور - أو هو الله تعالى - على قول - ويؤيده قوله تعالى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا (1) الآية الكريمة، أو كل منهما شارع - في وجه آخر - وأيا كان تخرج عن النزاع الألفاظ الواردة في غير كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وآله.
وبهذا يظهر قلة الجدوى في هذه المسألة عند أصحابنا لأن أكثر أخبار الأحكام عندهم مروي عن الصادقين ومن بعدهما من الأئمة على جميعهم السلام.
فهي - على هذا - حقائق متشرعية، ولو تكلف لشمول النزاع لها فلا شك في أن هذه الألفاظ المبحوثة عنها قد وصلت إلى حد الحقيقة في زمانهم فتقل الفائدة أيضا.

(1) الشورى: 13.
151

اللهم إلا في ألفاظ نبوية قد وردت من طرقهم، وعلم نقلهم لها بألفاظها.
إذا عرفت ذلك كله، فاعلم أنهم قد اختلفوا في استعمال الشارع لهذه الألفاظ، فقال قوم: إنه استعمال حقيقي لأنه وضعه لهذه المعاني، وقال آخرون:
إنه مجاز، وفصل آخر بين ألفاظ العبادات والمعاملات، فأثبتها في العبادات، ونفاها في المعاملات.
ونقل عن الباقلاني إنكار استعماله في غير معانيها اللغوية، وأن الزيادات شروط للصحة أو القبول (1).
ورماه القوم بالضعف والوهن بقوس واحدة، وليس عندي بذلك البعد، بل هو الحق في الجملة (2) لما ستعرف.
والواجب أولا، معرفة ما لهذه الألفاظ المتداولة بين الفقهاء من الأقسام ليظهر الحال في كل منها، إذ منها ما نعلم بأنها اصطلاحات علمية لم تحدث إلا بعد تدوين علم الفقه، وذلك بعد عصره صلى الله عليه وآله بل وعصر التابعين، كلفظ طبقات الإرث ومناسخاته، فما كان من هذا القبيل فسبيله سبيل سائر الاصطلاحات المتداولة في سائر العلوم، وهو عن هذا النزاع بمراحل (3).
ومنها ألفاظ لمعان معروفة يعلم استعمال الشارع لها، ولكن لا على سبيل النقل والوضع، بل على سبيل متابعة اللغة وإن جعل لها حدودا وزادها موانع وشروطا، وهذا لا يلزم وضعا جديدا، كما يظهر بالتأمل، وذلك كالنكاح، والطلاق، والظهار، والعتق، وهذا القسم كثير جدا، بل منه - فيما أرى - الشطر الأكثر،

(1) الفصول الغروية: 43، هداية المسترشدين: 94.
(2) في بعض الأقسام الآتية. (مجد الدين).
(3) أي بعيد عن محل النزاع بمسافة كثيرة، إذ الكلام في الألفاظ الواردة في كلام الشارع، لا الألفاظ والمعاني التي حدثت بعده صلى الله عليه وآله، بل بعد عصر التابعين، وحاصله: أن النزاع في الحقيقة الشرعية لا المتشرعة. (مجد الدين)
152

حتى أن الباقلاني جعل جميع هذه الألفاظ منه، وأنكر استعماله في غير المعاني اللغوية ولو مجازا (1).
ومن هذا القبيل ألفاظ العبادات التي كانت معروفة قبل الشارع كالحج والطواف، بل الصلاة - في وجه - كما لعله الظاهر من قوله تعالى: وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية (2).
ومنها ألفاظ لمعان دينية، لا عهد للعرب بها، وهي ألفاظ قليلة، ومهما وردت عنه فالغالب كونها مقرونة بقرائن تعين المراد منها، وهذا أيضا مما يوجب قلة النفع في هذا البحث، ويحط من قدره.
وبالجملة، ذكر القوم هذا النزاع فيها، وسكتوا عما لها من الأقسام، بل أدخل بعضهم في حريمه جميع الألفاظ المتداولة في ألسن المتشرعة الكائنة حقيقة عندهم في المعاني الشرعية.
وقد تنبه لوضوح فساده صاحب الهداية (3)، ووضع للتي تدور مدار البحث عليها شروطا ملخصها: كون الألفاظ متداولة في ألسنة المتشرعة من قديم الأيام، وأن تكون بالغة حد الحقيقة عند المتشرعة في ذلك الزمان، وأن تكون تلك الألفاظ هي التي يعبر بها الشارع عن تلك المعاني غالبا، وحكم بشمول النزاع لجميع ما اجتمعت فيه هذه الشروط من هذه الألفاظ، واستظهر ذلك من القائلين بثبوت الحقيقة الشرعية، ثم اختار القول بالإثبات، واستدل له بوجوه عرف مواقع النظر
(2) فيها، فاعتذر بأن من ضم بعضها إلى بعض تحصل المظنة

(1) الفصول الغروية: 43.
(2) الأنفال: 35.
(3) الشيخ محمد تقي صاحب (هداية المسترشدين) جد المصنف طاب ثراهما. (مجد الدين)
(4) عرف ضعفها، وورود الإشكال عليها. (مجد الدين)
153

وهي كافية في المقام (1).
أقول: ومع مراعاة ما ذكره من الشروط فالقول بثبوتها في جميع هذه الألفاظ صعب جدا.
نعم لا ينبغي الريب في ثبوتها في الجملة، فالحق مع المثبت إن قنع بالإيجاب الجزئي في مقابل السلب الكلي، ولا سيما لو جعل الوضع أعم من التعييني والتعيني، لأنا نعلم أن مثل لفظ الصلاة الذي كان لا يقرع أسماع الصحابة في كل يوم وليلة أقل من عشرين مرة، كانوا يفهمون هذه العبادة من اللفظ من غير احتياج إلى قرينة، ولكن الظاهر عدم الوضع تعيينا، بل حصوله تعينا في صدر الإسلام.
وكان بعض مشايخنا رحمه الله يذهب إلى ثبوت الوضع على النحو الأول، ويقول: إن قوله عليه السلام: «إن الصلاة ثلث طهور، وثلث ركوع» (2) وقوله: «لا يضر الصائم إذا اجتنب أربع خصال» (3) ونحو ذلك بمنزلة ما يقوله مخترع بعض المعاجين: إن الإطريفل (4) أجزاؤه كذا وكذا، فإنه بيان للوضع وإعلام به بلسان بيان أجزائه الموضوع له، وهذا
استحسان حسن، مأخوذ من كلام العلامة - الجد - في الهداية، ولكن هذه الروايات لم ترد عن النبي صلى الله عليه وآله، بل وردت في أزمنة لا يحتاج إثبات الحقيقة فيه إلى دليل.

(1) هداية المسترشدين: 93 - 94.
(2) الفقيه 1: 22 / 66، الكافي 3: 273 / 8، التهذيب 2: 140 / 544 والحديث مروي عن الصادق عليه السلام، ونص الحديث هكذا: " الصلاة ثلاثة أثلاث، ثلث طهور، وثلث ركوع، وثلث سجود ".
(3) الفقيه 2: 67 / 276. وفيه عن الامام الباقر عليه السلام.
(4) بكسر الهمزة وسكون الطاء المهملة وكسر الراء وسكون الياء وكسر الفاء: معجون معروف ودواء مشهور في الطب القديم. (مجد الدين)
154

واعلم أن الشيخ الأستاذ (1) بعد أن استقرب الوضع التعيني في الألفاظ المتداولة على لسان الشارع، قال ما لفظه:
«هذا كله بناء على كون معانيها مستحدثة في شرعنا، وأما بناء على كونها ثابتة في الشرائع السابقة، كما هو قضية غير واحد من الآيات، مثل قوله تعالى:
كتب عليكم الصيام كما كتب (2) إلى آخره، وقوله: وأذن في الناس بالحج (3) وقوله تعالى: وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا (4) إلى غير ذلك، فألفاظها حقائق لغوية لا شرعية، واختلاف الشرائع فيها جزءا وشرطا لا يوجب اختلافها في الحقيقة والماهية، إذ لعله كان من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحققات كاختلافها بحسب الحالات في شرعنا» (5) انتهى.
واعترض عليه بعض الأعلام (6) دام توفيقه بقوله: إنها حكايات معان بألفاظ دالة على تلك المعاني في عرف المخاطب بهذا الكلام، ولا يدل على كونها دالة على تلك المعاني في العرف السابق، وهذا واضح.
أقول: لو اقتصر في بيان هذا المدعى بهذا المقدار من البيان لكان ورود هذا الاعتراض واضحا كما ذكره، إذ الآيات الكريمة تدل على ثبوت تلك الماهيات في تلك الشرائع، لا على أنها كانت تسمى بهذه الألفاظ، كيف ولغات

(1) الشيخ محمد كاظم الخراساني صاحب الكفاية طاب ثراه في الكفاية. (مجد الدين)
(2) البقرة: 183.
(3) الحج: 27.
(4) مريم: 31.
(5) كفاية الأصول: 21 - 22.
(6) وهذا البعض، الشيخ عبد الكريم اليزدي. (مجد الدين) وانظر درر الفوائد 1: 16 - 17.
155

أهلها لم تكن عربية، وما أرسل الله رسولا إلا بلسان قومه (1)، وهذه لغات عربية قطعا، ومرادفاتها في تلك اللغات معروفة، وما هي إلا كسائر ألفاظ الآية التي نقلت معانيها بألفاظ العرب.
ولكن هذا الكلام - فيما أرى - مقتطع أصلا ودليلا من كلام صاحب الفصول، ولو أن هذا الأستاذ كان نقله بجملته لم يتجه عليه هذا الاعتراض، وكان قد برئ من عهدته، وهاك كلام الفصول بنصه، قال:
«فالذي يقوى عندي، أن جملة من تلك الألفاظ قد كانت حقائق في معانيها الشرعية في الشرائع السابقة كالصلاة، والصوم، والزكاة، والحج» (2).
ثم قال بعد ذكر الآيات المتقدمة: «وإذا ثبت أن هذه الماهيات كانت مقررة في الشرائع السابقة ثبت كون هذه الألفاظ حقيقة فيها في لغة العرب في الزمن السابق لتدينهم بتلك الأديان، وتداول ألفاظها بينهم، وعدم نقل لفظ آخر عنهم بإزائها، ولو كان لقضت العادة بنقله، ولا يقدح وقوع الاختلاف في ماهياتها بحسب اختلاف الشرائع - إلى أن قال - فيكون الاختلاف في المصاديق لا في نفس المفهوم، كاختلاف مصاديق مهياتها المعتبرة في شرعنا باختلاف الأحوال تمكنا وعجزا، تذكرا ونسيانا، وغير ذلك، فكما لا يوجب هذا الاختلاف تعدد الوضع مع تفاحشه في البعض كالصلاة، فليكن الاختلاف المذكور كذلك» (3) انتهى.
فتراه - طاب ثراه - قد سد طريق هذا الاعتراض بقوله: «لتدينهم بتلك الأديان» إلى آخره.
نعم في كلامه اختلال من جهة أخرى، وهي أن الظاهر من آخر كلامه أن هذه الألفاظ بأعيانها كانت موضوعة لتلك الماهيات في تلك اللغات حيث قال

(1) مضمون الآية (4) من سورة إبراهيم.
(2 و 3) الفصول الغروية: 43.
156

بعد ما مر نقله:
«ثم على تقدير تحقق هذه الحقائق في الشرائع السابقة فهل هي بوضعه تعالى لها فيها، أو بوضع أول نبي شرعت تلك الماهيات في شرعه، أو بغلبة الاستعمال في لسانه، أو لسان متابعيه، أو الجميع» (1) انتهى.
وهذا لا يثبت بهذه الحجة، إذ وجود هذه الماهيات في لغة العرب لا يستلزم أن تكون أسماؤها عندهم تلك الأسماء الموضوعة لها في اللغة الأخرى، هذه الفرس تدين بدين العرب، وللعبادات المقررة فيه كالصلاة والصوم ألفاظ في لغتهم (2) غير تلك الألفاظ، وقد عرفت سابقا معلومية لغات تلك الشرائع، وأنها غير هذه اللغات.
وقد ذكره أخوه - الجد - طاب ثراه هذا الوجه في عداد الوجوه الدالة على ثبوت الحقيقة الشرعية، وتنبه لما يقرب من هذا الإشكال، ودفعه بما ملخصه: «أن العرب كانوا يعبرون عنها بهذه الألفاظ، ولذا وقع التعبير بها في الكتاب العزيز، فكانت تلك الألفاظ معروفة عندهم وإن كان المعبر عنها في أصل شرعهم من غير اللغة العربية» (3).
وبالجملة يكفي فيما يرومه صاحب الفصول من كونها حقائق لغوية وجودها في لغة العرب قبل زمان الشارع، واستعماله لها في تلك المعاني من غير حاجة إلى كونها هي تلك الألفاظ الموجودة في أصل ذلك الشارع، فتكون ألفاظا عربية أصلية لا عبرية دخيلة في لغة العرب.
هذا، وثمرة النزاع تظهر في حمل ما ورد في كلام الشارع من هذه الألفاظ

(1) الفصول الغروية: 43.
(2) كما ترى أنهم يقولون للصلاة (نماز) وللصوم (روزه) ونحو ذلك. (مجد الدين)
(3) هداية المسترشدين: 98.
157

على معانيها الشرعية على القول بثبوت الحقيقة الشرعية (1)، ولكنه يتوقف على ثبوت تأخر الاستعمال عن الوضع، ولا طريق إليه غالبا، وأما الأصل فهو إما مثبت أو معارض.
(المشتق)
وهو كما في الفصول: «هو اللفظ المأخوذ من لفظ ويسمى الأول فرعا، والثاني أصلا، ولا بد بينهما من مناسبة لتحقق الأخذ والاشتقاق.
وأقسامه ثلاثة لأن الفرع إما أن يشتمل على أصول حروف الأصل وترتيبه أولا، والأول هو المشتق بالاشتقاق الصغير، ويقال له: الأصغر أيضا والثاني إما أن يشتمل على حروف الأصل أولا، والأول هو المشتق بالاشتقاق الكبير، ويقال له: الصغير أيضا كجبذ وجذب، والثاني هو المشتق بالاشتقاق الأكبر كثلم وثلب، وحيث يطلق المشتق هنا فالمراد منه القسم الأول.
وحده: لفظ وافق أصلا بأصول حروفه ولو حكما مع مناسبة المعنى وموافقة الترتيب - إلى أن قال - وقولنا بأصول حروفه. احتراز عن المشتق بالاشتقاق الأكبر، وعن دخول مثل الاستعمال (2) والاستخراج حيث يتوافقان في الحروف الزوائد، وعن خروج مثل الخروج والاستخراج حيث لا يتوافقان في الحروف الزوائد، وقولنا: حكما. لدخول مثل (قول) و (قال) لأن الألف المقلوبة، واو حكما، وكذلك (عد) من (وعد) فإن الفاء المحذوفة بحكم المذكور، وقولنا: مع مناسبة المعنى. احتراز عن مثل (اضرب) بمعنى (أعرض) بالنسبة إلى الضرب بمعناه المعروف - إلى أن قال - مع موافقة الترتيب احتراز عن المشتق بالاشتقاق

(1) وعلى معانيها اللغوية على القول بعدم ثبوتها، لكن ذلك كله عند عدم القرينة. (مجد الدين)
(2) في المصدر: (الاستعجال).
158

الكبير، فإنه وإن اشتمل على حروفه الأصلية لكنه لا يشتمل على ترتيبه».
ثم قال رحمه الله: «ولا بد في الاشتقاق من تغيير في اللفظ تحقيقا للأصلية والفرعية، والأخصر أن يقال: ليتحقق الأخذ، وهو أعم من الحقيقي والحكمي، فيدخل نحو (فلك) مفردا وجمعا» (1).
هذا، وبيان المهم من مسائل هذا البحث يتم برسم أمور:
الأول: قد عرفت أنه لا بد في الاشتقاق من مبدأ وأصل، وذلك المبدأ لا بد أن يكون كالطبيعة السارية في الأفراد موجودا بتمامه في تمام المشتقات، ويكون تمايز أفراده بتمايز تشخصاته
الخارجة عنه، ويكون مع كل فرد متلبسا بصورته، متشخصا بتشخصاته من غير أن يكون له تشخصا وصورة، بل يكون قائما بحقيقة ووحدته النوعية أو الجنسية، وإلا فلا يكون مبدأ، بل يكون فردا كسائر الأفراد، فالمصدر الذي يقال إنه المبدأ ليس موجودا في جميع المشتقات بما هو هو، فلا يمكن أن يكون مبدأ لجميعها، لا بحسب المعنى، ولا بحسب اللفظ.
أما الأول، فلأن المبدأ لا بد أن يكون معرى عن الهيئة في مرحلة ذاته لكي يكون قابلا لأن تعتريه أي هيئة أريد اشتقاقها منه، فهو كالهيولى التي لا صورة لها في حد ذاتها وإن احتاجت إليها في مرحلة فعليتها، أو كالقسم الذي لا يمكن أن تكون له خصوصية في قبال سائر الأقسام، وإلا كان قسما، لا مقسما كالكلمة، فإنها بذاتها ليست مشخصة بتشخص أحد أقسامها الثلاثة، وإلا كان أحدها، ولا يتشخص آخر في قبالها وإلا كان قسما رابعا لا مقسما، بل هي في مرحلة ذاتها عرية عن جميع الصور، وتظهر مع كل من الاسم والفعل والحرف بصورته المختصة به.
إذا تقرر ذلك، نقول: إن المصدر له خصوصية زائدة على الذات كسائر

(1) الفصول الغروية: 58 و 59.
159

المشتقات، فهو إذن يعد أحدها لا مبدأ لها، اللهم إلا أن يعتبر في حد ذاته، ويجرد عن صورته، ويكون بعد ذلك قابلا لأن تعتوره أي هيئة كانت من هيئات المشتقات، ولكن هذا ليس بأمر يختص بالمصدر، بل يشاركه فيه جميع المشتقات، وما من مشتق إلا ويمكن اعتباره مبدأ لجميع المشتقات التي من بابه كذلك، وذلك لأن كل شخص إذا جرد عن تشخصه كان نوعا، وإذا جرد عنه النوع كان جنسا، وهكذا هلم صاعدا إلى جنس الأجناس.
وبالجملة لا يمكن أن يكون المصدر مبدأ مع بقائه على صورته، ويمكن ذلك مع تجريده عنها، ولكنه لا يكون حينئذ مصدرا، ويشاركه في ذلك جميع المشتقات التي من بابه.
وأما الثاني أعني عدم صلاحية المصدر لذلك بحسب اللفظ، فلأن له أوضاعا نوعية، وما له وضع نوعي لا يصلح لأن يكون أصلا ومبدأ.
أما الأول فلأن له أصنافا وأنواعا مختلفة، وكل صنف ونوع منه مشتمل على أفراد متماثلة، ولا يمكن ذلك عادة إلا بالوضع النوعي، بل صرح علماء العربية بقياسية عدة منها، ك (فعل) للمصدر المعدى الثلاثي، وغيره، ولا معنى لكونه قياسيا إلا عدم توقفه على السماع في كل مادة مادة، ولو كان شخصيا ليتوقف عليه فصحته من غير سماع حتى في الجوامد كالتحجر والتطين آية نوعية الأوضاع فيها.
وأما الثاني فلأن الوضع النوعي يحتاج إلى مبدأ سابق عليه إذ الواضع إذا وضع فعلا - مثلا - للماضي من كل مادة، فلا بد أن تكون مواد تلك الألفاظ، وطبائع تلك المعاني معينة قبل ذلك، وتكون مادة كل لفظ بإزاء طبيعة معنى، وهذا البرهان هو الذي أحوجنا إلى الالتزام بأصل لزوم المادة في المشتقات، ولولاه لكنا في مندوحة من الالتزام به رأسا، وذلك لأنه لما علمنا من تتبع المشتقات أن هيئة واحدة شخصية في مواد لا تحصى كثرة تدل على الماضي مثلا، والمضارع
160

غيرهما، علمنا أن وضع تلك الهيئات نوعي إذ من البعيد - بل من المقطوع بعدمه - أن يضع الواضع في كل مادة مادة على كثرتها هيئة (فعل) للماضي، و (يفعل) للمضارع وهلم جرا، فإنه لغو وعبث صرف لا تكاد أن يصدر عن عاقل.
وإذا أضفت إلى ذلك ما تعلمه من أن الماضوية، أو المضارعية، أو المصدرية - مثلا - يفهم من تلك الهيئات من غير توقف على فهم المادة، وتذكرت ما نبهناك عليه من قياسية تلك الهيئات، وصحة إجرائها حتى في الجوامد، عرفت أن القطع الذي ادعيناه ليس بكذب ولا بجزاف، والوضع النوعي - كما عرفت - يحتاج إلى مبدأ سابق عليه، احتياج الصورة إلى الهيولى.
وكان السيد الأستاذ يقول: إن أسماء المصادر أولى بأن يكون مبادئا لمشتقاتها، ولكنها قليلة في لغة العرب، فلا يمكن اعتبارها في جميع الأبواب.
فالتحقيق في المقام أن يقال: للواضع أن يلاحظ أولا حروف لفظ المادة مجردة عن كل هيئة، وصورة إجمالية أو تفصيلية كحروف (ض) (ر) (ب) ويضعها بإزاء صرف المعنى كذلك غير ملحوظ معه نسبة إلى فاعل، أو مفعول، أو زمان، ونحوها من الخصوصيات حتى المصدرية وهو المعنى الساري في جميع المشتقات بوحدته المطلقة، ويفعل كذلك في كل المواد التي يريد وضعها، ثم يعقبه بوضع الهيئات.
لا يقال: يلزم - على ما ذكرت - أن يكون معاني المشتقات مركبة، وسيأتي أنها بسيطة، بل يلزم منه ما هو أمر من التركيب، وهو أن يدل كل واحد منها على معنيين متعددين مستقلين غير مركبين، وغاية الأمر كونهما متناسبين كبائع التمر، فإنهم وإن اختلفوا في بساطة معاني المشتقات وتركيبها، ولكن لم يقل أحد بتعددها.
لأنا نقول: المادة ملحوظة أيضا في وضع الهيئات، فيكون الموضوع هي المادة المتهيئة بالهيئة الخاصة، وهو الوضع الحقيقي الدال على المعنى، وليس الوضع
161

الأول إلا مقدمة لهذا الوضع وتهيئة له، ولا نبالي بعدم تسمية الأول وضعا، إذ تمام المقصود هو الوضع الثاني، كذا قال السيد الأستاذ أعلى الله رتبته وقدس تربته.
أقول: وهذا أيضا قسم من الوضع يسمى بالوضع التحصلي، كما ذكره - الجد - العلامة في الهداية، ومثل له بوضع الحروف الهجائية لتركيب الكلمات (1).
وهذا إن لم يكنه فهو قريب منه، ولكن ينبغي أن يكون مراده - طاب ثراه - ملاحظة المواد إجمالا عند وضع الهيئات، إذ ملاحظتها تفصيلا يعيد محذور الوضع الشخصي، وكما أن المحذور يندفع بملاحظة المواد إجمالا، كذلك يندفع بوضع الهيئات في مادة مخصوصة كمادة (ض) (ر) (ب) ثم قياس بقية المواد عليها.
هذا، ولي في المقام كلام لعله مما يرتضيه الأفكار العالية، والأفهام الثاقبة، ويتوقف ذلك على بيان معنى الهيئة، ونقول مقدمة لتوضيحه:
إن المركوز في الأذهان أن حروف المباني بأنفسها ومن غير ملاحظة ما بعدها إما متحركة أو ساكنة، وأن السكون والحركات الثلاث عوارض على نفس الحروف، وكيفيات لها، وليس الأمر كذلك عند دقيق النظر، كما نبه عليه الشيخ نجم الأئمة (2) في شرح الكافية (3)، بل الحرف بنفسه ليس بمتحرك ولا ساكن، وليس الذي يدعى متحركا إلا الذي بعده أحد حروف الإعراب أعني: الألف والياء والواو، أو مرتبة ناقصة خفيفة منها، وهي التي تسمى بالفتحة والكسرة

(1) هداية المسترشدين: 23.
(2) هو إمام العربية، وركن الأدبية، وفخر الإمامية، رضي الدين محمد بن الحسن الأسترآبادي، المشتهر بالشارح الرضي، صاحب شرح الكافية، وشرح الشافية اللذين لم يعمل مثلهما، بل ولا نظيرهما من حيث التحقيق، وقد اعترف بذلك الموافقون والمخالفون (والفضل ما شهدت به الأعداء) وكلاهما مبسوطان موجودان الآن عندي، وله أيضا شرح قصائد ابن أبي الحديد السبع المشهورات في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام، وغير ذلك، وبالجملة، فهذا الرجل محقق، مدقق، عالم، فاضل، جليل القدر، عظيم المنزلة، شيعي اثنا عشري. هذا، وتوفي طاب ثراه سنة (686) من الهجرة المقدسة.
(مجد الدين)
(3) شرح الكافية 1: 23 - 24.
162

والضمة، ولا الساكن إلا الذي لم يكن بعده أحدها، سواء كان بعده حرف من غيرها أو لم يكن حرف أصلا، ومن شأن هذه الحروف أن قلتها في الكلام توجب صعوبة النطق، بل عدم إمكانه كما في ابتداء الكلام، وكثرتها توجب ركاكته وانحلاله، ولهذا منعوا من التقاء الساكنين، ومن توالي أربع حركات أو أكثر، وفي بعض اللغات (1) المتعارفة لا توجد هذه الحروف إلا تامة، وليس فيها ما نسميه فتحة وضمة وكسرة.
إذا عرفت هذا، فاعلم أن هيئات المشتقات ليست إلا حروفا تامة وناقصة وزعت على حروف المادة، وجعلت خلالها على ترتيب مخصوص، وليست هيئة (مضروب) إلا ميم وواو، جعلت الميم قبل الحرف الأول من المادة، والواو ما قبل آخرها، وما هي إلا كلفظ (من) من حيث الوضع والمعنى.
وقد سبق منا في مبحث معاني الحروف أن الحروف ليست إلا علامات لتعيين موضع مدخولاتها، فلفظ (في) في قولك: زيد في الدار. لا وظيفة لها إلا تعيين أن الدار في هذه الجملة موضعها الظرفية، وكذلك الحرف المتخلل بين حروف المادة لا موقع لها إلا بيان أن المادة في هذا الاستعمال وقعت موقع المفعولية، وقس عليه سائر الهيئات المشتقات.
وبالجملة، فالحروف على قسمين: قسم يقع بجميع حروفه قبل الأسماء ك (من) و (إلى) ونحوهما، وقسم يتفرق بين أجزاء المادة، والسر في ذلك واضح.
الثاني: أنه قد تقدم في صدر المبحث عن (الفصول) تعريف لفظ المشتق وعن السيد الأستاذ تعريف المبدأ ومعناه إجمالا، وبقي علينا البحث عن معنى المشتق وما يصلح للمبدئية.
فنقول: لو قيل: إن المشتق هو المادة الملحوظة ببعض تطوراتها وحيثياتها

(1) كاللغة الأروبائية. (مجد الدين)
163

لم يبعد كل البعد عن الواقع، فعلى هذا فالمبدأ هو الملحوظ بذاته من غير نظر إلى شيء من اعتباراته، والمشتق هو المبدأ مع لحاظها معه.
وبهذا يظهر الفرق بينهما من غير حاجة إلى تلك التطويلات المملة، والعبائر المفصلة التي فهمها أشكل من فهم أصل المسألة.
ويظهر أيضا السر في عدم صحة حمل المبدأ على الذات، وصحة حمل المشتق عليه، إذ من الواضح أن المبدأ بما هو مبدأ مباين مع الذات، فمفهوم القيام غير (زيد) ولكنه عين (زيد) باعتباره الفاعلي، وعين (عمرو) باعتباره المفعولي، وهكذا.
ثم إن الاعتبارات التي تعتور المواد ذات أنواع شتى، وأكثر الأنواع له أصناف بها تحصل للمشتق أبواب مختلفة، ويبتنى منها صيغ مختلفة، فإن لوحظ المبدأ باعتبار ثبوته للشيء فقط كالحسن والقبيح فهو باب الصفة المشبهة.
وإن كان معه اعتبار الكثرة والشدة ونحوهما، فهو معنى صيغ المبالغة كالشريب والقتال ونحوهما، وعكسه باب التصغير بحسب أصل الوضع لا ما يؤتى منه للتعظيم ببعض العنايات.
وإذا بلغت الشدة مرتبة تورث التعجب، فهي باب أفعال التعجب، وينبغي التأمل في عد هذا الباب من الأفعال، مع أنه ألصق بالأسماء، ولا يوجد فيه شيء من العلائم اللفظية والمعنوية للفعل، اللهم إلا ببعض التأويلات المذكورة في محلها.
وإذا وجدت المادة في شيئين، وكانت في أحدهما أشد من الآخر كان باب أفعل التفضيل.
ومنه يظهر التقارب بين صيغ المبالغة وبينه، إذ لا فرق بينهما، إلا أن تلك الصيغ موضوعة للأشدية المطلقة، وباب (أفعل) للأشدية النسبية.
وإن كان باعتبار صدوره، فإن لم يعتبر فيه الوقوع على الغير، والزمان
164

فهو اسم الفاعل من اللازم كقائم، وإن أخذ فيه الوقوع على الغير فهو اسم الفاعل من المتعدي ك (ضارب).
وإن اعتبر الآلية، أو الزمان، أو المكان للمبدأ فهو اسم آلة، أو زمان، أو مكان.
وإن كان معه اعتبار الزمان على النحو الآتي فمع اعتبار الاتصاف به فقط مع زمن ما، فهو من باب الفعل اللازم، ومع ملاحظة وقوعه على الغير فهو باب المتعدي المجرد، وبعض الزوائد مثل باب الأفعال.
ومع ملاحظة مطاوعة المبدأ فهو من باب الانفعال نحو كسرته فانكسر، وقد يأتي من هذا الباب عدم ملاحظة الفاعل أصلا نحو: انفطر الجدار، حيث يراد به صرف ظهور الأثر من غير لحاظ مطاوعة الغير أصلا.
وقد يكون باعتبار تكلف المادة فهو بعض معاني باب التفعل ك (تجلد) أو باعتبار قيام فرد واحد منه لشخصين نحو زيد وعمرو تراميا.
أو باعتبار طلب المبدأ كبعض معاني باب الاستفعال نحو الاستعلام، إلى غير ذلك مما لا يساعد على استقصائه الحال، ولا يسعه المجال.
وما ذكرناه فإنما هو من باب النموذج، قصدا لتنشيط همم أذكياء المحصلين في استخراج معاني سائر الأبواب.
وليعلم أن لتنوعات المواد أنواعا غريبة، وضروبا شتى، حتى أن باب الأفعال كثيرا ما يأتي لإزالة المبدأ على خلاف غالب المشتقات التي هي لقيام المبدأ بها، نحو أشكيته أي: أزلت شكايته، وبه فسر الجمهور قوله تعالى: إن الساعة آتية أكاد أخفيها (1) أي: أزيل خفاءها، فعلى المتأمل الفطن أن يعلم أن جميع ذلك نحو من اعتبار القيام، ولا يخرج شيء منه عما عرفت من الأقسام.
ثم لا يخفى أن جميع ما ذكر، إنما هو بحسب وضع الأبواب، فلا ينافي

(1) طه: 15.
165

خروج بعضها عن الأصل، لخصوصيات لبعض المواد، أو عنايات خارجية في بعض الاستعمالات، واستقصاء ذلك متعسر، بل متعذر، ومع ذلك فليس من وظائف هذا الكتاب.
هذا، وقد كان السيد الأستاذ قدس الله تربته وشرف رتبته، يقول - عند ذكر بعض هذه الأقسام -: إنها إنما تكون بالنظر إلى كلية الأبواب، فلا ينافي وجود مادة من المواد غير قابلة لتمام تلك الاعتبارات، إذ لم يستعمل بعضها في اللغة، أو صرح بعدمه علماؤها.
قلت: توقف صحة الاستعمال على السماع ينافي ما أسسه رحمه الله من الوضع النوعي للهيئات، بل مقتضاه جوازه، حتى مع منع الواضع عنه، لما عرفت سابقا في مبحث معاني الحروف، من عدم معقولية شرط الاستعمال.
وبالجملة مجرد عدم الاستعمال، بل ومجرد منع اللغويين عن بعض الهيئات في بعض المواد لا يوجب عدم قابلية المادة، بل لا بد أن يكون كل من عدم الاستعمال أو المنع مسببا عن قصور في نفس المادة أو الوضع.
أما الأول فمثاله: المساجلة، فإنها بمعنى المفاخرة (1)، ولا تستعمل من غير باب المفاعلة، والسر فيه أن السجل في اللغة بمعنى الدلو العظيمة (2)، ولا مناسبة بين الدلو والفخر حتى يطرد القياس، ويتأتى منه جميع الهيئات، وإنما المناسبة المصححة للاستعمال في خصوص هذا الباب
(3)، أن المتفاخرين لما كان كل منهما إذا أتى بمكرمة لنفسه أو منقبة لعشيرته عارضه الآخر بمثله، ونزح من ركي مكارمه دلوا كدلوه، كانا كالمتساجلين، يمتح (4) هذا دلوا والآخر أخرى.

(1) راجع لسان العرب 11: 326.
(2) لسان العرب 11: 325.
(3) أي: باب المفاعلة. (مجد الدين).
(4) الماتح: المستقي من البئر. من أعلاها. لسان العرب 2: 588.
166

وأما الثاني فمثاله: المناضلة وهي بمعنى المراماة، ولا يأتي - فيما أعلم - من غير باب المفاعلة، أو ما فيه معناها أيضا، والسر فيه أن الواضع لم يضع أصل النضل للرمي كما فعله في لفظ الرمي، كي يصح منه جميع الهيئات، وإنما وضع المادة المتهيئة بهيئة هذا الباب خاصة.
ومن هذا الباب: الملوان بمعنى الليل والنهار، حيث لا يستعمل مفرد هذا اللفظ، وذلك لأن الواضع لم يلاحظ مادة الملو مستقلا، كما فعله في لفظ الليل، بل لاحظها مقرونة بصورة التثنية، ووضعها مقيدة بها لمجموع الليل والنهار.
ومن هذا النمط الألفاظ المفردة التي لا تثنى ولا تجمع، والجموع التي لا مفرد لها من جنسها، وهي في غاية الكثرة في لغة العرب.
هذا كله في البحث عن معنى المشتق، وأما البحث عن معنى المبدأ، فمختصر الكلام فيه أنه كل ما أمكن أن ينتزع منه اعتبار يتحد مع الذات، كالأفعال، والصفات، والحالات، وغيرها حتى الجوامد، نحو: أدماه، فإن الدم وإن كان اسم عين، لكنه كجرح وقتل، لاتحادهما في المناط المذكور، ومثله: (تدثر) و (تجورب) ونحوهما، لأن منهما ينتزع عنوان اللبس والاشتمال.
وما يرى من غرابة الاشتقاق في بعض الجوامد فمنشؤه قلة الاستعمال، إذ الاستعمال في تأهيل الوحشي من الألفاظ، وتسهيل الوعر منها عمل عظيم، ألا ترى أن الرمح، والسيف، والخنجر، أسماء ثلاثة للأعيان الثلاثة من السلاح، والرمح بلغ حدا من الشيوع حتى صار كالقائم والقاعد، فلا يتصف بحسن ولا قبح، والسائف لطيف في الذوق لاستعماله قليلا في كلمات الفصحاء، والمخنجر قبيح، ولا منشأ له إلا عدم الاستعمال، وعلى هذا فلا فرق بين المشتقات الأصلية وما يسمى بالاشتقاقات الجعلية إلا أن المواد في الأولى لا أوضاع لها تامة إلا في ضمن الهيئات - على ما مر تحقيقه - بخلاف الثانية.
الثالث: أن المشتقات على قسمين: فعلية واسمية، فالكلام هنا في مقامين:
167

الأول: قد مر القول في معنى الفعل إجمالا، ونزيده توضيحا، ونقول:
مدلول الفعل هو الحدث المقيد بالزمان، والنسبة إلى فاعل ما على نحو دخول التقييد، وخروج القيد، فمدلول الفعل مركب من أمرين: نفس الحدث، والتقييد، بل إطلاق التركيب عليه مسامحة، لأن ذلك التقييد ليس أمرا مغايرا للحدث، بل هو من خصوصياته وحدوده، فمدلوله حقيقة هو الحدث الخاص كالمصدر وسائر المشتقات، فجميعها مع اشتراكها في معنى الحدث يتمايز بتمايز الخصوصيات، ويتباين بتباين القيود.
إذا عرفت ذلك عرفت أن دلالة الفعل على الزمان ليس بالتضمن، كما يظهر من جمهور علماء العربية، لخروج الزمان - بداهة - عن مدلوله، وإنما هو بالالتزام البين بالمعنى الأخص، لأن مدلوله لما كان الحدث المقيد بالزمان فتصوره يتوقف على تصور الزمان، كما في العمى والبصر، إذ العمى لما كان موضوعا لعدم البصر مما هو من شأنه، فتصور العمى موقوف على تصور البصر، وبهذا تمتاز دلالة الفعل على الزمان عن دلالته على المكان ونحوه، مع اشتراك الكل في اللزوم العقلي، إذ دلالته على الزمان دلالة لفظية من القسم الثالث من أقسامها، بخلاف المكان، فإن دلالته عليه عقلية صرفة.
هذا وأما دلالته على التقييد بالزمان، لا على نفس الزمان يكون تضمنيا لأنه من أجزائه العقلية، وإن لم يكن من أجزائه الخارجية.
هذا إن قلنا بوجود الدلالة التضمنية، وتثليث أقسام الدلالات بها، كما هو المشهور، وأما على ما هو التحقيق من إنكار دلالة الكل على الأجزاء دلالة مستقلة تعد في قبال المطابقة، فلا وجود لهذا القسم من الدلالة أصلا، كما حققه السيد الأستاذ طاب ثراه، ويأتي تفصيله - إن شاء الله - في بحث وجوب الأجزاء من مباحث مقدمة الواجب.
وإجمال الكلام فيه أن التركيب بين الأشياء المتباينة لا يتحقق إلا بلحاظ
168

الوحدة بينها، ولا يتحقق هذا اللحاظ إلا بتجريد المتباينات عن الخصوصيات، وتعريتها عن المشخصات، فيرجع الكثرة إلى الوحدة، ولا تبقى بهذا اللحاظ أجزاء بالمرة، فحينئذ فإن دل اللفظ على الجزء بتميز عن الجزء الآخر، وكان ذلك خلاف مفهوم الكل، فلا جزء إلا مندمجا للكل لا تشخص له غير تشخص الكل، ولا صورة له غير صورته، فهو عين الكل، فدلالته عليه عين دلالته على الكل.
نعم للعقل أن يلاحظ الكل ثانيا، ويحلله إلى أجزائه، ويلاحظ دلالة اللفظ على كل واحد منها، ولكن هذا بالالتزام أشبه منه بالتضمن، هذا ملخص كلامه طاب ثراه.
ولقائل يقول: إن هذا القسم من الالتزام سماه القوم تضمنا، فهو أمر اصطلاحي لا مشاحة فيه، ولا أهمية له في هذا المقام وإن كان نفسيا في نفسه، نافعا في مسألة وجوب الأجزاء، كما يأتي إن شاء الله، وإنما المهم صرف عنان الفكر إلى أصل دلالة جميع الأفعال على الزمان بأي نحو كانت، بحيث تكون مقومة لمعنى الأفعال مطلقا، وفارقة بينها وبين الأسماء، كما ذكره النحاة، مع ما نرى بالوجدان عدم دلالة الأمر عليه مطلقا، فضلا عن خصوص الزمان الحاضر، كما ذكره الصرفيون.
نعم هو زمان لوقوع الإنشاء، كما هو زمان لوقوع الإخبار أيضا، وكذا الكلام في النهي أيضا.
نعم دلالة الماضي على وجود المبدأ على نحو المضي، ودلالة المضارع على نحو الوجود الاستقبالي مما لا ينبغي أن يشك فيه، ولا أظن أحدا يصحح قول القائل: ضرب زيد غدا، ويضرب زيد أمس.
نعم في كون هذا النحو من التقييد تقييدا بالزمان تأمل، فكأنه غير التقييد به أصلا وإن كان لازما له، ولهذا يصح قولك: مضى الزمان الماضي، ويأتي
169

الزمان المستقبل.
ومن رام إنكار دلالة جميع الأفعال على الزمان حتى الماضي والمضارع ولو بهذا المعنى فهو إنكار لصريح الوجدان، وإلا فله وجه، بل هو الوجه.
وقد تمسك بعض من عاصرناه من الشيوخ (1) على نفي دلالة الفعل على الزمان بأن الفعل ليس إلا مادة وهيئة، والمادة تدل على الحدث، والهيئة على النسبة، فأين الدال على الزمان؟ وجوابها يظهر مما تقدم من إفادات السيد الأستاذ أعلى الله رتبته.
الثاني من المقامين: في المشتقات الاسمية، فنقول: معنى المشتق مفهوم بسيط منتزع عن الذات بلحاظ تلبسه بشيء من الصفات، فيكون المفهوم عنوانا للذات بعنوان بعض صفاته.
وقال بعضهم: إن معناه ذات ثبت له المبدأ كالضرب مثلا في (ضارب) فإن أراد - على بعد - بيان منشأ الانتزاع وما يعتبر فيه فلا كلام فيه، وإن أراد أنه معنى اللفظ فيرد عليه أن هذه ألفاظ متعددة، لها معان متعددة مرتبطة، ولا شك أن المشتق دال واحد على معنى واحد، وهذا من الوضوح مما لا يرتاب فيه أحد.
والقائل بالتركيب في معناه لا يريد به هذا المعنى، وإنما يريد به كونه ذا أجزاء، وأنه قابل للتحليل إليها.
وفي مقابل هذا القول، أنه بسيط لا يقبل الانحلال وإن كان منشؤه ذا أجزاء فعلية، اللهم إلا باللحاظ الثانوي الذي هو حقيقة غير معنى المشتق، فإنه لا يضر بالبساطة، كما تقدمت الإشارة إليه، وستأتي تتمة بيانه، كما قلنا مثله في مأخوذية المبدأ في المشتقات أن مثله لا يضر بالبساطة.
هذا، والحق هو الثاني، والذي دعا القائل بالتركيب إلى القول به، إن كان

(1) الشيخ هادي الطهراني أعلى الله تعالى مقامه. (مجد الدين).
170

عدم تصوره انتزاع البسيط من المركب، وزعمه عدم إمكان ذلك، كما هو الظاهر، فعلينا بيان إمكانه، وإن كان نزاعه في مقام الإثبات فبيننا وبينه التبادر، ويأتي بيانه قريبا إن شاء الله.
ونقول في تقريب إمكان الانتزاع المذكور: إن للعقل أن ينتزع من عدة أمور مقيد بعضها ببعض، مفهوما بسيطا لا تركيب فيه أصلا، ألا ترى أن المفهوم من لفظ (الحجر) معنى بسيط، مع أنه منتزع من ذات ثبت له الأبعاد الثلاثة، أو أمكن أن تتقاطع فيه ثلاثة خطوط على زوايا قائمة صلب لا نمو له أصلا ولا نطق، وهكذا معاني سائر الألفاظ.
وبالجملة فالمفاهيم المنتزعة بإزاء الأنواع الذاتية بناء على كونها أجناسا لما تحتها ليس اختلافها إلا باعتبار الخصوصيات المتبادلة، أي الفصول المقومة، مثلا: الفرق بين النبات والحيوان ليس إلا أن مفهوم الأول منتزع من جسم ذي نمو بلا إرادة، والثاني من جسم نام مع الإرادة، وهكذا، ولو كان مثل ذلك موجبا للتركيب لانحصرت البسائط في المختلفات بتمام الحقيقة كالجوهر والكم مثلا، ويكون تمام الأجناس الداخلة تحت الأجناس العالية مركبات مفهوما، وهذا مما لا يلتزم به أحد.
فإذا جاز ذلك في سائر المفاهيم جاز في المشتق أيضا، بل الجواز فيه أولى لأنه منتزع من صرف التلبس بأحد المبادئ، بخلاف المفاهيم فإنها تنتزع من عدة أمور.
ثم نقول في مقام الإثبات: إن مفهوم المشتق مطابق لأول ما ينطبع في مرآة الذهن من ملاحظة المبدأ المعنون بأحد العناوين، وتلتفت إليه النفس، ولا شك أنه معنى بسيط، فمن نظر إلى النجم لا يرى في بدء النظر جسما ونورا مرتبطين، ولا شيئا ثالثا مركبا، بل يرى جسما معنونا بعنوان النورانية، وكذلك من رأي فرسا راكضا لا يرى إلا الفرس المعنون بعنوان الركض، لا فرسا وركضا، ولا
171

ثالثا مركبا منهما.
وقس عليهما الضارب، والمضروب، وسائر المشتقات، وإذا فعلت ذلك وأنصفت عرفت أن مفاد المشتق ليس إلا الذات، محدودة بتلك الحدود، ومعنونا بتلك العناوين، ولا فرق بين هذه المفاهيم وبين مفهوم الحجر، وسائر مفاهيم الذوات، إلا أنك تفهم من لفظ الحجر العنوان المنتزع من الذات بما هو ذات، ومن المشتقات بما هو متصف بصفة معينة، ومحدود بحدود معلومة، ومجرد ذلك لا يوجب بساطة مفهوم الأول وتركب الثاني، إذ لا فرق بينهما في ناحية المعنى أصلا، وإنما هو في اللفظ فقط.
وإذا عرفت ذلك ظهر لك الفرق بين المشتق ومبدئه، إذ هذا المعنى الأولي البسيط هو معنى المشتق، وللعقل بعد ذلك أن يجرد المبدأ عن الذات ويفككه، كما تجرد الصور عن موادها، والأجناس عن فصولها، وينسبه إلى الذات، وهذا الملحوظ بالنظر التحليلي الثانوي هو معنى المبدأ.
وقد اتضح من ذلك مراد بعض أهل المعقول، حيث قال: إن الفرق بين المشتق ومبدئه كالفرق بين العرضي والعرض، وجعلهما متحدا في الذات، وجعل الفرق بينهما بالاعتبار، فإن أخذ لا بشرط كان عرضيا، فيصح حمله على الذات، كما أن الجزء الصوري أو المادي إن أخذا لا بشرط كانا جنسا أو فصلا، وصح حملهما على الذات، وإن أخذا بشرط لا كانا المعبر عنهما بالصورة والهيولى، فإن مراده من لا بشرط، ملاحظة المعنى من دون ضم شيء آخر معه وجودا ولا عدما، ومعلوم أن المبدأ بهذا الوجه لا يكون إلا مندكا في الذات، متحدا في اللحاظ لا يمتاز عنه، لما عرفت أن ملاحظة المبدأ في ذاته بذاته يحتاج إلى عناية زائدة من ملاحظة تجرده وتفكيكه، إذ لا وجود له في الخارج مستقلا، بل هو موجود مندكا في الغير، مندمجا فيه، وغير ملحوظ إلا بصفة أنه حد لموجود، وما أشبهه من هذه الجهة بجملة من الأعراض، فإن من نظر إلى مربع لا يرى إلا جسما بصفة
172

التربيع، ولكن العقل يفككه في النظر الثانوي، ويفرق بين الحد والمحدود.
وتبين من جميع ما ذكرنا، أن المبدأ بشرط لا، والمشتق لا بشرط، وأن المصحح لحمله على الذات ملاحظته لا بشرط، لأنه إذا لوحظ هكذا - على ما عرفت - اتحد مع الذات، وصح حمله عليها، دون ما إذا لو حظ بشرط لا فإنه مباين معها، ولا يكاد يتصور حمله عليها.
والسر فيه أنه إذا لوحظ الوصف فمجرد عدم اعتبار عدم الذات يكفي في كونه عنوانا للذات، ومتحدا معه بالاعتبار.
ثم إن صاحب الفصول - طاب ثراه - جعل مفاد المشتق باعتبار الهيئة مفاد (ذو) وحكم بعدم الفرق بين قولنا: ذو بياض، وذو مال، ثم قال: «فالفرق بين المشتق ومبدئه هو الفرق بين ذي الشيء والشيء» (1) انتهى.
ولو كان معنى الهيئة معنى (ذو) فلا شك أن مفاد (ذو) مفاد (صاحب)، فكانت هيئته أيضا مرادفا له، وكذلك إلى أن يتسلسل.
ويرد نظير هذا على القائل بأن المشتق ذات ثبت له المبدأ، لأن المصحح لحمل المبدأ على الذات لو كان معنى مصدريا كالثبوت وأمثاله لاحتاج ذلك المعنى إلى معنى مصدري آخر، يتسلسل أيضا.
فالتحقيق ما عرفت من أن معنى المشتق مفهوم بسيط منتزع من الذات، بلحاظ تلبسه بشيء من الأعراض، سواء وضع له لفظ من المشتقات كضارب، أم لم يوضع له كالحجر ونحوه، انتهى ملخص مرامه، زاد الله في علو مقامه.
أقول: ما يذهب إليه السيد الأستاذ في معنى المشتق، هو الذي ذهب إليه صاحب الفصول بعينه، فإنه قال في آخر كلامه ما لفظه: «فمدلول المشتق أمر

(1) الفصول الغروية: 62.
173

اعتباري منتزع من الذات بملاحظة قيام المبدأ بها» (1).
وهذا الكلام كما تراه صريح فيما أفاده الأستاذ فينبغي التأمل في مراده من الكلام السابق، وفي وجه الجمع بينه وبين ما ذكره أخيرا.
وظني أنه رحمه الله لا يريد ترادف الهيئة مع لفظ (ذو)، فإنه يبعد صدوره عن صغار المحصلين فكيف عن محقق مثله، وإنما يريد به بيان أن مفاد المشتق ليس عين المبدأ ولو باعتبار اللا بشرطية، كما يوهمه ظاهر كلام بعض أهل المعقول، وإنما معناه انتساب المبدأ بالذات وقيامه بها باعتبار الانتساب، ولهذا لم يقل: إنه مرادف ل (ذو)، ولا ان معناه معنى (ذو)، بل قال: مفاده أي حاصله ومآله، وبيان تلك النسبة الحرفية الربطية التي هي معنى الهيئة لا يمكن بأحسن من هذا البيان.
وإذا نظرت إلى مجموع كلامه، وجمعت بين جميع أطرافه، علمت أنه لا يريد بما أفاده إلا أن مجرد أخذ المبدأ لا بشرط لا يجوز حمل الذات عليه، بل لا بد فيه من اعتبار الوحدة كما في قولك: الإنسان جسم. ولا يمكن ذلك في قولك: زيد عالم، أو متحرك. لأنه لا يراد ب (زيد) المركب من الذات، وصفة العلم أو الحركة، وهذا بحث آخر غير البحث عن مفهوم المشتق، بل هو بحث في بيان شرائط الحمل فيه، كما هو صريح قوله: (إن حمل أحد المتغايرين لا يصح إلا بشروط ثلاثة) (2) فراجع.
الرابع: إطلاق المشتق على الذات المتصفة بمبدئه في الحال حقيقة اتفاقا، كما أن إطلاقه على ما يتصف به في الاستقبال مجاز اتفاقا، وفي إطلاقه على ما

(1 و 2) الفصول الغروية: 62.
174

اتصف به في الماضي، أقوال، كذا في الفصول (1).
ولم يظهر لي وجه حسن للفرق بين الماضي والاستقبال مع اتحادهما في المناط، وما أدري ما الذي يمنع القائل بأن زيدا ضارب حقيقة وقد ضرب أمس، أن يقول بها إذا علم أنه سيضرب غدا.
ثم عد أقوالا كثيرة ستعرف أكثرها، مع السبب الذي دعا أربابها إليها، إذا عرفناك بالحق منها.
ثم إنه رحمه الله بعد ما جزم بعدم شمول النزاع للأفعال والمصادر المزيدة، نقل الخلاف في أن النزاع هل يعم جميع المشتقات، أو يختص باسم الفاعل وما في معناه؟ وعد فيها أقوالا كثيرة
(2).
أقول: أما خروج الأفعال عن حريم النزاع فواضح، لدلالتها على الزمان كما سبق، وأما غيرها فلا أعرف - أيضا - وجها وجيها للفرق بين كثير من صنوف المشتقات بعد اشتراكها في المناط.
وبالجملة فالحق أنها حقيقة في المتلبس به في طرف الحمل وزمان النسبة كما في الجوامد في العناوين المنتزعة من الذات بما هي ذات، فكما أن الحجر لا يصدق على ما كان حجرا سابقا،
والنطفة على من هو إنسان فعلا، فكذلك الضارب ونحوه، إذ لا فرق بين الجوامد وبين المشتقات من هذه الجهة، وهذا لوضوحه غني عن إطالة البيان.
ومع ذلك يرد على من يجعله حقيقة فيما انقضى عنه المبدأ، أن يكون المشتق مشتركا بين الحال والاستقبال، فيلزم أن يتوقف بينهما إذا ورد اللفظ مجردا عن القرينة، ويحتاج في التعيين إلى القرينة، والوجدان يدل على خلافه إلا أن

(1) الفصول الغروية: 59.
(2) الفصول الغروية: 60.
175

يتمسك الخصم بالتبادر الإطلاقي، نظرا إلى كثرة استعماله في الحال، وهو ممنوع.
هذا، على أن لازم مذهبه أن يصح قول القائل: زيد ضارب فعلا في المستقبل، وهذا لوضوحه لا ينبغي أن يكون محطا لأنظار العلماء، نعم اختلاف قيام المبادئ بالهيئات تختلف من حيث كونها فعلا، أو قوة، أو ملكة، أو صنعة، فلو أخذت من حيث القوة والملكة لزم وجودهما فعلا، ففي قولك: هذا النبت سم، أو هذا السيف قاطع. ليس المراد من المادة إلا القوة والملكة، ويلزم بقاؤهما فعلا، وكذلك قولك: زيد شاعر. أي صنعته الشعر، فيلزم كونه صناعته فعلا.
ومن هنا يظهر أن الحكم المترتب على الشجرة المثمرة ونحوه لا ينبغي أن يعد من ثمرات هذه المسألة، لأن مبنى الشك ومنشئه هو أن الموضوع للحكم هل هو قوة للأثمار في مقابل الشجرة اليابسة أو وجود الثمرة فعلا؟ وأيهما كان فاللازم وجوده فعلا، وتعيين أحدهما ليس من وظيفة مسألة المشتق، بل هو شأن الأدلة الدالة على أصل الحكم.
وليعلم أن المشتق كثيرا ما يلاحظ عنوانا للذات، ومعرفا لها كالقاتل والسارق والمحدود ونحو ذلك، حتى أنه قد يقوم مقام النعت والصفة إذا كان من الأفعال العظيمة كقالع الباب، وفاتح البلد، وحينئذ يكفي في صدق اللفظ اتصافها به ولو في غير زمان التلبس.
ومن الخلط بين هذين القسمين نشأ كثير من الأقوال التي تجدها مفصلة في الفصول وغيره، حيث إن صاحب كل قول نظر إلى عدة استعمالات اعتبر فيها المشتق عنوانا للذات، فقاده ذلك إلى القول بعدم اشتراط التلبس في الحال فيما هو من قبيلها، فلا بد في تعيين ذلك إلى ملاحظة المتعارف في المحاورات، وخصوصيات المقامات، ومناسبات الأحكام مع الموضوعات، فربما حصل القطع بأحد الوجهين، كما لو قال: أو لم على باني المساجد ومعمري المشاهد. وربما بقي الأمر على الشك كما في الماء المسخن بالشمس، الذي حكموا بكراهة التوضؤ به.
176

وقد احتمل العلامة - الجد - البناء حينئذ على الوجه الأول، نظرا إلى أنه قضية ظاهر اللفظ، ولأصالة عدم تعلق الحكم بما عدا ذلك (1)، وفي كلا الوجهين نظر.
(القول في الأوامر
والنواهي) وفيه مطالب:
الأول:
اللفظ الدال على الطلب إما أن يكون دالا عليه بمادته، أي تكون المادة موضوعة له نحو: آمر وأريد وأطلب، أو بهيئته كإفعل، أو بوضعه الابتدائي ك (صه) ونحوه من أسماء الأفعال.
ومن خصائص القسم الأول أنه لا بد أن تكون دلالته على الطلب بلفظ الإخبار، وأن يذكر بعده المطلوب نحو آمر بكذا، وأريد كذا، ولا تتعلق به الهيئة إلا إذا كان الطلب هو المطلوب نحو مر زيدا بكذا، وهذا موضوع البحث الآتي من أن الأمر بالأمر هل هو أمر به أم لا؟ والظاهر أن العلو مأخوذ في خصوص لفظ الأمر لغة، فلا يقال: إن الفقير أمر بإعطاء الكسرة من الخبز، بل يقال: سألها.
نعم لا يعتبر فيه العلو الحقيقي، بل يكفي الادعائي منه، فمن اعتبر الاستعلاء في الأمر مقتصرا عليه - كما هو المنسوب إلى أكثر العلماء الأصوليين من العامة والخاصة - إن أراد به ما ذكرنا من كفاية العلو ادعاء فهو حق، وإلا فلا وجه له، بل يرده ما ذكره - الجد - العلامة في الهداية من إطلاق الأمر حقيقة على الأوامر الصادرة من الأمير إلى الرعية، والسيد إلى العبد وإن كان المتكلم غافلا عن علوه حين الخطاب (2).

(1) هداية المسترشدين: 90.
(2) هداية المسترشدين: 132.
177

ومنه يظهر وجه التأمل فيمن جمع بين اعتبارهما معا كما ذهب إليه بعض المتأخرين، وحكاه عن جماعة، والظاهر أن ألفاظ هذا القسم ولا سيما لفظ الأمر منها لها ظهور قوي في الوجوب، حتى أن كثيرا من القائلين باشتراك الصيغة بين الوجوب والندب يقولون باختصاص لفظ الأمر بالوجوب، والدليل عليه الفهم العرفي لا بعض الاستعمالات الواردة في الكتاب والسنة، كما استدل به في الفصول (1)، وتبعه فيه بعض الأساتيذ، لوجوه شتى لا يخفى شيء منها على المتأمل، كما اعترف ببعضه.
وأما القسم الثاني فهو الذي يسمى في اصطلاح الأصوليين بصيغة الأمر، وهذا مراد من جعل العنوان صيغة افعل، وما في معناها، ولعله عدل عنه لئلا يوهم أن المراد لفظ الأمر، كما ذكره في الفصول، وأورد عليه بأنه يتناول ما دل على معناه ولو مجازا، وهو خارج عن المبحث قطعا (2).
ولم يظهر لي وجه خروج ذلك عن المبحث، فضلا عن القطع به، إذ البحث في مدلول الهيئة، والهيئة في مثل قولك: اقتله. أي اضربه ضربا موجعا، مستعملة في معناها الحقيقي، ولا مجاز فيه إن قلنا به إلا في المادة، وهو إرادة الضرب من القتل، ومثل هذا داخل في محل النزاع قطعا.
اللهم إلا أن يريد به الجمل الإخبارية المستعملة في الإنشاء، فإن كانت خارجة عن مورد النزاع فهي أيضا خارجة عن معنى افعل.
وأما القسم الثالث فقد جزم في الفصول بخروجه من محل النزاع لفظا وإن دخل فيه معنى (3).
أقول: وهذا حسن لو كان الكلام في مدلول هيئة المشتقات، كما هو ظاهر

(1) الفصول الغروية: 62 و 73.
(2 و 3) الفصول الغروية: 64.
178

كثير من العناوين، ولكن سوف تعلم أن النزاع في مطلق الألفاظ الدالة على الطلب.
وأما صيغة الأمر فلا ينبغي الإشكال في كونها موضوعة لمطلق الطلب، كما أنه لا ينبغي الإشكال في أن الطلب المجرد عن القرينة يحمل على الوجوب بالمعنى الذي ستعرفه.
وهل ذلك لظهور اللفظ فيه وانصرافه إليه عند الإطلاق للأكملية، كما ذكره - الجد - العلامة في الهداية (1)، أو لغيرها من أسباب الانصراف، أو أن الطلب بنفسه موجب لتمامية الحجة من طرف الآمر وانقطاع العذر من المأمور، إلا أن يأذن الآمر في الترك؟ وجهان.
هذا، ومن الغريب ما تكلفه جمع من المتقدمين، وحاوله بعض المتأخرين من إقامة القرائن العامة على الوجوب في خصوص الأوامر الشرعية، مع أنه لا فرق بين أوامر الشارع، وبين أوامر غيره من هذه الجهة قطعا، بل ولا فرق بين مطلق الأمر وبين غيره من أقسام الطلب، كالسؤال ونحوه، ولنا أن نبين الوجه في حمل الصيغة المجردة على الوجوب العيني التعييني بعينه، كما لا يخفى على المتأمل.
واعلم أن الصيغة قد تستعمل للتهديد والتعجيز ونحوهما، فيظن أنها مستعملة فيها، وأنها خرجت بذلك عن معناها الأصلي، وليس كذلك، بل هي مستعملة في الطلب لكن لا بداعي الطلب بل بتلك الدواعي، بل تلك الدواعي لا تتحقق إلا بإنشاء الطلب حقيقة، كما تستعمل الهمزة في الاستفهام لكن بغير داعي الاستفهام، وليست حينئذ خارجة عن معناها كما زعم صاحب مغني

(1) هداية المسترشدين: 136.
179

اللبيب، فقال: قد تخرج الهمزة عن معناها الحقيقي فترد لثمانية أمور (1). وقد سبق الكلام فيه في بحث الاستعمال.
أحسنهما (2): الثاني، كما اختاره بعض مشايخنا.
وأقوى أدلة القائلين بوضع الصيغة للوجوب وهو التبادر، لا يدل على أزيد من استحقاق تارك الامتثال الذم والعقاب بمجرد الترك، ولا يدل على أنه لظهور اللفظ في الوجوب، بل التأمل الصحيح يشهد بأن العقلاء لا يسندون الذم على المخالفة إلى ظهور اللفظ في الوجوب، فضلا عن كونه معناه، بل يسندونه إلى مخالفة الطلب ولو لم يكن بصيغة الأمر، ويرون الطلب بنفسه مقتضيا للامتثال، ولا يكترثون باعتذار المأمور بأن الطلب له فردان، ولم أعلم بأن المراد من الطلب هو الفرد الإلزامي.
لا يقال: إن اللازم من هذا البيان الحكم بالوجوب فيما ثبت فيه الطلب بالدليل اللبي، مع أنه لا يحمل عليه إجماعا، ولا شك أنه مورد أصالة البراءة.
لأنا نقول: إن كان مفاد الدليل اللبي صدور اللفظ الدال على الطلب وشبه اللفظ فإنا لا نلتزم بجريان البراءة، بل نقول باتحاد الحال فيه مع غيره، ولا نرى فرقا بين أسباب العلم بالطلب وإن كان مفاده صرف الرجحان والمحبوبية، فمثله لا يوجب الإلزام ولو بسماعه من شفتي الآمر، بل ليس هذا بأمر حقيقة كما سيتضح لك ذلك بما نبينه من معنى الطلب.
(المطلب الثاني): في بيان معاني بعض الألفاظ المستعملة في هذه المباحث كالوجوب والندب.
قد يقال: إن الوجوب أو الإيجاب هو طلب الفعل مع المنع من الترك، والندب طلب الفعل مع عدم المنع عنه، وعلى هذا فالفصل في حد الوجوب

(1) مغني اللبيب: 1: 24.
(2) أي: أحسن الوجهين الذين سبق ذكرهما آنفا.
180

وجودي، وفي الندب عدمي، وليس هذا أولى من العكس، بأن يقال: إن الوجوب طلب الفعل مع عدم الإذن في الترك، والندب طلبه مع الإذن في تركه، وقد يجعل الفصل في الحدين وجوديا، فيؤخذ المنع في حد الأول، والإذن في حد الثاني.
ويرد على التقريرين معا أن الطبع السليم يشهد ببساطة مفهومي الوجوب والندب، وظاهر هذين التقريرين تركيبهما.
وأيضا لا يعقل طلب الفعل مع عدم المنع من الترك مطلقا، بل هما مثل كفتي الميزان، فبأي مرتبة فرض رجحان الفعل وطلبه كان الترك مرجوحا وممنوعا بتلك المرتبة بعينها، وحسبك شاهدا عليه حكم الوجدان بعدم الفرق عند اللب بين قولك: افعل. وبين قولك: لا تترك.
وبالجملة لا يعقل طلب الفعل مع عدم تحقق المنع عن الترك أصلا، ولا رجحانه مع عدم مرجوحية تركه أصلا، فهما متلازمان، بل هما عبارتان عن معنى واحد، إلا أن يراد بالمنع مرتبة خاصة منه، وتلك المرتبة غير بينة ولا مبينة في الحدين.
وقد يقال: إن الواجب ما اشتمل فعله على المصلحة وتركه على المفسدة، والمندوب ما اشتمل فعله على المصلحة فقط من غير مفسدة في تركه.
ويرد عليه أن الوجدان يشهد بأن تأكد المصلحة كثيرا ما يوجب إيجاب الفعل من غير أن تكون في الترك مفسدة أو محذور أصلا سوى فوت المصلحة، وبأنه كثيرا ما يوجد في ترك المندوب مرتبة من مراتب المفسدة.
وقد يقال: إن الواجب ما يستحق فاعله الثواب، وتاركه العقاب، والمندوب ما استحق فاعله الثواب فقط، وبين هذا القول وبين ما ترومه من بيان حقيقة هذين مراحل كثيرة.
وذهب بعض مشايخنا إلى أن الواجب ما وعد الشارع على فعله، وأوعد على تركه، والمستحب ما وعد على فعله فقط، وهذا مبني على ما يذهب إليه من
181

إنكار حكم العقل باستحقاق العاصي العقوبة، بل قبح عقاب العاصي، إلا بعد جعل الوعيد دفعا للأفسد بالفاسد، وله بيان مسهب ليس هنا موضع ذكره، ولعلنا نذكره في بعض المباحث الآتية.
ويكفينا هنا أن نقول على هذا وعلى ما قبله: إن الفرق بين الطلب الإلزامي وبين غيره ما نشاهده في طلب غير القادر على العقاب، بل وغير من تجب طاعته، حتى انا نرى هذا الفرق بين مسمى طلب الملتمس، والسائل، ونحن نعلم بعدم الفرق في حقيقة الطلب باختلاف الطالبين، وليس كلامنا إلا معرفة الحقيقة لا اللفظ.
ولعلك لا تجد في الفرق بين قسمي الطلب عبارة أوضح ولا أصح مما كان يذكره السيد الأستاذ طاب ثراه من أن الواجب - وإن شئت قلت - إن الطلب الإلزامي ما لم يوطن الطالب نفسه على عدم وقوعه، وغير الإلزامي ما وطن نفسه عليه.
وهذا التفسير وإن كان لا يناسب الأوامر الشرعية إلا أنك بعد معرفة حقيقة المراد منه، يسهل لك التعبير عنه بما يناسب ذلك المقام الرفيع، كما قال:
فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر (1) فإنه أحسن عبارة في حقه تعالى، والله العالم.
(الطلب والإرادة) والكلام فيهما يقع في مقامين:
أولهما في حقيقة الإرادة، وأقسامها، وسائر ما يتعلق بها، وثانيهما في نسبتها إلى الطلب، وأنها هل هي عينه أو غيره؟
المقام الأول: اختلفوا في حقيقة الإرادة على أقوال ثلاثة:
الأول: إنها

(1) الزمر: 7.
182

الاعتقاد بالنفع مطلقا.
والثاني: أنها صفة نفسانية مطلقا، وهذا القول منسوب إلى الأشاعرة.
والثالث: التفصيل بين إرادة الله سبحانه وبين إرادة غيره، فالأولى هي الاعتقاد بالنفع، والثانية صفة نفسانية غير الاعتقاد.
وقد جرى الاصطلاح على التعبير عن إرادة الله سبحانه بالعلم بالأصلح، وعن إرادة غيره باعتقاد النفع.
والوجه في العدول عن لفظ الاعتقاد إلى لفظ العلم واضح لأن الاعتقاد قد يخالف الواقع وهو مستحيل في حقه سبحانه، بخلاف غيره.
والعدول عن لفظ النفع إلى لفظ الأصلح، فقد بينه بعض مشايخنا بما لا يخلو عن نظر، بل منع، ولعل في لفظ النفع ظهورا ما في الاحتياج والاستكمال المستحيلين في حقه سبحانه، فكان التعبير بالصلاح أقرب إلى التأدب.
وكذلك الوجه في التعبير بصيغة التفضيل فقد بينه الأستاذ المذكور بما لا يخلو عن نظر أيضا، والأمر في الاصطلاح سهل.
والحق هو القول الأول كما صرح به المحقق الطوسي (1)، والدليل عليه الوجدان، فإنك إذا تأملت في أفعالك الاختيارية لا ترى نفسك قادمة على شيء منها إلا بعد اعتقادك النفع فيه، وبعد حصول الاعتقاد به لا ترى نفسك قادمة على شيء منها إلا وأنت مشغول بمقدمات إيجاده من غير أن يفصل بين ذلك الاعتقاد وبين التشبث بالمقدمات شيء مؤثر في حصول الفعل، بل ولا تجد حاجة إلى ما تسميه صفة نفسانية، إذ مجرد ذلك الاعتقاد كاف في تحصيل الفعل، وهو مقارن له من غير أن يفصل بينهما زمان، أو يحتاج إلى شيء آخر، صفة نفسية

(1) سلطان المحققين الخواجة نصير الحق والحقيقة والدين، صاحب التجريد وشرح الإشارات وغيرهما من المصنفات.
(مجد الدين).
183

كانت أو غيرها، فإذا كنت في مفازة أعوزك الماء، وبلغ بك العطش مرتبة خشيت منها على نفسك، ثم ظفرت بعين عذبة صافية، فهل ترى نفسك بعد الاعتقاد بأن في ورودها رواء غلتك (1) متوقفا عن ورودها، ومحتاجة في الاغتراف منها إلى شيء آخر تزعمه صفة نفسانية، وتسميه إرادة، أو ترى اعتقادك علة تامة كافية، ولا تشعر بنفسك إلا وكفاك ممدودتان نحو الماء،
أو مملوءتان منه.
وما قد يصحب هذا الاعتقاد من الشوق المؤكد وتشتغل نحوه مما تزعم أنه الإرادة بنفسها أو هو من مبادئها فالتأمل يشهد بأنها من لوازم الاعتقاد بالنفع أعني الإرادة، لا أنه مؤثر في حصول الفعل، فضلا عن كونه هي الإرادة بعينها نظير ارتعاد الفرائض، وخفقان القلب عند الهرب من السبع، فإنهما من لوازم الخوف، لا أنهما علتان للهرب، وكذلك تحرك العضلات نحو الفعل، فإنه ليس من مبادئ الإرادة كما توهم، بل هو فعل اختياري، فهو مسبوق بالإرادة قطعا.
نعم هو أول مقدمة يأتي به المريد بعد اعتقاده النفع.
هذا وقد ذكر بعض مشايخنا لإثبات المطلوب وجوها أخر، وهي على طولها لا تخلو من مواقع للنظر فيها، وفي إنصاف المنصف، ورجوعه إلى وجدانه غنى منها.
وإذا اتضح عندك ما قررناه، فاعلم أن مطلق ذلك الاعتقاد ليس بإرادة، بل هي الاعتقاد بنفع أمر ممكن فعلا تحصيله، غير مترقب بغير تحصيله حصوله، فإن تعلق بأمر مستحيل فهو التمني، أو بأمر ممكن حصوله، غير ممكن تحصيله أبدا فهو الترجي، وإن كان ممكن التحصيل في زمان متأخر فهو العزم، أو كان معلوم الحصول من غير احتياج إلى التحصيل فهو الرضا.

(1) الغلة: حرارة العطش. الصحاح 5: 1784 (غلل).
184

وبالجملة هذه العناوين متحدة مع الإرادة حقيقة، ولكنها مختلفة معها بحسب المتعلق، ولهذا ورد: إن الراضي بفعل قوم منهم (1). لأنه شريك مع الفاعل في الشقاوة والسعادة، وحسن الفطرة وقبحها، وحقيقة الإرادة التي هي العلة التامة للفعل، وعليها يقع المدح والذم، والثواب والعقاب، ولا يختلف معها إلا في ترتب الفعل على الإرادة، وعدم ترتبه على الرضا الموجبين للحسن والقبح الفعليين لا الفاعليين.
هذا وبعض مشايخنا لا يسميها الإرادة إلا بعد الإشراف على الفعل، والاشتغال به ولو بإتيان بعض مقدماته، وأما بدون ذلك فتارة لا يسميها إرادة أصلا، وتارة يسميها إرادة شأنية، وهذا على أنه مما لا أرى داعيا إليه، يلزمه حصول أول المقدمات للفعل من غير إرادة مع أنه اختياري قطعا، وليس الفاصل بين الاختياري والاضطراري إلا الإرادة، وسيأتي تمام الكلام فيه في خلال المباحث الآتية.
ويظهر من عدة مواضع من كلامه اشتراط ترتب الفعل عليها أيضا، وأن عنوان الإرادة يحدث من قبل تحقق الفعل، وهذا أيضا مما لا يساعده الاعتبار والاصطلاح، فمن مشهور الكلام - إن لم يكن من مأثوره - أردت أمرا وأراد الله أمرا. وقال الخارجي القاتل لخارجة: أردت عمرا وأراد الله خارجة. فتأمل جيدا، والله العالم.
واعلم أنه تنقسم الإرادة إلى أقسام، أهمها إلى التكوينية والتشريعية، والمراد من الأولى ما لا يتوقف الصلاح في متعلقها إلى توسط إرادة الغير، كما إذا علم الصلاح في مباشرة ضرب زيد بنفسه، والثانية ما توقف على توسطها، كما إذا رئي الصلاح في ضرب زيد عمرا اختيارا.

(1) نهج البلاغة بشرح محمد عبده 2: 191 والوسائل، الباب 5 من أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، الحديث 12.
185

والأمر في الأولى واضح سهل إذ مريد الشيء بهذه الإرادة يشتغل بمقدماته غير الحاصلة، حتى تجتمع أجزاء علته التامة، ويوجد الفعل بعده.
وأما الثانية فمتعلقها غير مقدور للمريد ابتداء، فلا بد له من إيجاد الإرادة له، أي يجعله عالما بالصلاح كما هو عالم به ليتحقق منه الفعل، وذلك إما بإعلامه عين الصلاح الذي يعلمه كقول الطبيب: اشرب هذا الدواء فإنه شفاؤك من الداء. أو بنفس إرادته إن كان المأمور ممن يرى صلاحه في إطاعة الآمر، لحب ونحوه، وإما بجعل الثواب على امتثاله، والعقاب على تركه، إذ الفعل بهما يصير ذا صلاح عنده.
وبالجملة لا بد لوقوع الفعل في هذا القسم من اجتماع الإرادتين، بمعنى إرادة الآمر وإرادة المأمور، فالفعل مستند إليهما، واختياري لهما معا، لكن إحدى الإرادتين في طول الأخرى، أراد الآمر فأراد المأمور، ولعله بذلك يفتح لك الباب إلى فهم قوله عليه السلام: (لا جبر ولا تفويض) (1) وتفصيل ذلك لا يناسب المقام.
المقام الثاني: في أن الإرادة هل هي عين الطلب أو غيره؟
فنقول: المنسوب إلى الأشاعرة هو الثاني، وإلى العدلية (1) هو الأول، وربما نسب إلى - الجد - العلامة، وستعرف ما فيه إن شاء الله.

(1) بحار الأنوار 5: 17 / 27، التوحيد للشيخ الصدوق: 362 / 8 (تصحيح وتعليق السيد هاشم الحسيني الطهراني وطبع جماعة المدرسين بقم المشرفة).
(2) قوله: وإلى العدلية إلى آخره. أقول: المراد بالعدلية في هذا المقام بل في كل موضع مع الإطلاق هم الإمامية والمعتزلة لأنهم هم القائلون بالعدل لله تعالى، وأن لازم مذهب الأشاعرة نفي العدالة عنه تعالى لأنهم هم الجبرية المستلزم مذهبهم هذا نفي العدل عنه تعالى، وتفصيل ذلك لا يناسب المقام. (مجد الدين)
186

وملخص الكلام فيه أن الأشاعرة إن أرادوا إثبات صفة نفسانية أخرى غير الإرادة، فهو واضح الفساد، ضرورة إنا لا نجد في أنفسنا عند الطلب غير الإرادة - بالمعنى الذي عرفت - شيئا آخر.
وإن أرادوا أن الطلب معنى ينتزع عن الإرادة في مرتبة الكشف والإظهار، فهو غير الإرادة المجردة مفهوما وإن اتحدا ذاتا، وبعبارة أخرى: إنه إظهار الإرادة، وإعلام الغير بها، وإلزامه بإيجاد متعلقها منه، ونحو ذلك من التعبير فهو حق لا محيص عنه، إذ الوجدان يشهد بتفاوت الحال بين الإرادة المجردة والإرادة المظهرة، واختلاف حكمهما، والهيئات إنما وضعت لبيان تلك الصفة النفسية وإظهارها فقبل إظهارها لا يسمى طلبا ولا أمرا، ولا يقال: إنه طلب كذا أو أمر كذا.
وأنت إذا تأملت في أدلة الفريقين واطلعت على ما احتج كل منهما على ما ذهب إليه واعترض الآخر عليه، علمت أن الذي أثبته الأشاعرة، ونفاه العدلية، هو إثبات صفة أخرى غير الإرادة، هذا آية الله العلامة (1) احتج على الاتحاد بأنا لا نجد في الآمر أمرا آخر مغايرا للإرادة، إذ ليس المفهوم منه إلا إرادة

(1) هو آية الله في العالمين وأستاذ الخلائق أجمعين حسن بن سدين الدين يوسف بن علي بن المطهر الحلي المشهور بالعلامة أعلى الله مقامه وعلو درجته، غير محتاج إلى البيان وأشهر من أن يقام عليه البرهان، وهو قدس الله رمسه صاحب تصانيف كثيرة ومؤلفات جليلة، بل هو أكثر العلماء تأليفا وأجلهم تحقيقا وتصنيفا حتى قال بعض العلماء ما معناه: «إن مؤلفاته في الكثرة على حد بحيث انها قد حوسبت، فصار بإزاء كل يوم من أيام عمره ألف بيت من المصنفات».
ولد صاحب الترجمة في التاسع والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 648 ووفاته (ره) يوم السبت الحادي والعشرين من محرم الحرام سنة 726. فكان عمره الشريف ثمانية وسبعين سنة. وقد تلمذ - طاب ثراه - عند والده سدين الدين، وخاله صاحب الشرائع، والمحقق الطوسي وغيرهم رحمة الله تعالى عليهم أجمعين إلى يوم الدين. (مجد الدين).
187

الفعل من المأمور، ولو كان هناك معنى آخر لا ندركه فلا شك في كونه أمرا خفيا في غاية الخفاء إلى آخره، إلى غير ذلك من كلام الفريقين.
والعلامة - الجد - لم يخالف العدلية في ذلك، ولم يجنح إلى قول الأشاعرة قط، بل هو من ألد أعداء هذه المقالة، وأشد من خاصمهم، وقد قال في بحث مقدمة الواجب بعد ما بين مذهب العدلية من أن حقيقة الطلب عندهم هي الإرادة المتعلقة بفعل الشيء أو تركه، ما نصه: «وقد خالف في ذلك الأشاعرة، فزعموا أن الطلب أمر آخر وراء الإرادة، وجعلوه من أقسام الكلام النفسي المغاير عندهم للإرادة والكراهة.
وقد عرفت أن ما ذكروه أمر فاسد غير معقول، مبني على فاسد آخر، أعني الكلام النفسي» (1) انتهى.
فلينظر المنصف إلى هذا الإمام كيف يجعل مقالة الأشاعرة أمرا فاسدا غير معقول مبنيا على فاسد آخر.
ثم ليعجب ممن نسب إليه موافقتهم، ويخالف في كلامه سنة الأدب، وهو لم يعرف صحيح مرامه من صريح كلامه، مع أنه - طاب ثراه - لم يأل في إيضاح ما يرومه جهدا، ولم يبق لمتأمل فيه عذرا فقال ما لفظه:
«والذي يقتضيه التحقيق في المقام، أن هناك إرادة لصدور الفعل من الغير بحسب الواقع، واقتضاء له بحسب الخارج، لإيقاعه الفعل بإلزامه به وندبه إليه، ومن البين أن الثاني لا يستلزم الأول وإن كان الظاهر صدور الاقتضاء على طبق الإرادة الواقعية، لظهور إلزام المأمور بالفعل مثلا في كون ذلك الفعل محبوبا للآمر، ومرادا له بحسب الواقع إلا أنه مع العلم بالتخلف لا يخرج عن حقيقته»

(1) هداية المسترشدين: 133.
188

إلى آخره (1).
وأنت إذا أعطيت التأمل حقه في هذا الكلام، وأضفت إليه سائر ما أورده في المقام، عرفت براءة هذا الإمام من هذه الوصمة، وأنه لا يريد إلا ما يحكم به كل عقل سليم، من أن الاقتضاء الخارجي والإلزام بفعل الشيء أو تركه غير الإرادة النفسية المتعلقة بأحدهما، كما قال في بعض كلامه، وهذا لفظه:
«وأنت خبير بأن المعنى المذكور يعني الإرادة الواقعية ليس معنى إنشائيا حاصلا بالصيغة، حتى يندرج من جهته الأمر في الإنشاء، لظهور كون ذلك أمرا قلبيا حاصلا قبل أداء الصيغة، وإنما يحصل لها بيان ذلك وإظهاره» (2) إلى آخره.
وبالجملة من الواضح أن الاقتضاء وهو الطلب غير الإرادة أعني الصفة النفسية، بل الطلب مسبب عنها، وإظهار لها، وإفهام للغير بها، وهو متأخر عنها رتبة تأخر المعلول عن العلة، والطلب من مقولة الفعل أو ما يقاربه، وما أشد تغايرهما وأبعد ما بينهما.
وقال الشيخ الأستاذ طاب ثراه في الكفاية ما لفظه: «الظاهر أن يكون الطلب الذي هو معنى الأمر ليس هو الطلب الحقيقي الذي يكون كليا بالحمل الشائع الصناعي، بل الطلب الإنشائي الذي لا يكون بهذا الحمل طلبا مطلقا، بل طلبا إنشائيا، ولو أبيت إلا عن كونه موضوعا للطلب فلا أقل من كونه منصرفا إلى الإنشائي منه عند إطلاقه، كما هو الحال في لفظ الطلب أيضا، وذلك لكثرة الاستعمال في الطلب الإنشائي، كما أن الأمر في لفظ الإرادة على عكس لفظ الطلب، والمنصرف عنها عند إطلاقها هو الإرادة الحقيقة، واختلافهما في ذلك ألجأ بعض أصحابنا إلى الميل إلى ما ذهب إليه الأشاعرة من المغايرة بين

(1 و 2) هداية المسترشدين: 135.
189

الطلب والإرادة، خلافا لقاطبة أهل الحق، والمعتزلة من اتحادهما» (1) انتهى.
وتراه في ظاهر كلامه، قسم الطلب إلى قسمين حقيقي وإنشائي، ثم جعل الحمل في أحدهما شائعا صناعيا، وصرح بعدمه في الآخر، ولا أدري لأي مكرمة فاز أحدهما بهذا الحمل، ولأي ذنب حرم الآخر منه، وكيف يعقل أن يكون شيء مصداقا لمفهوم، ولا يحمل عليه بهذا الحمل وهل هذا إلا كقولك: إن الحيوان له نوعان: ناطق، وصامت، ثم يجعل حمل أحدهما على مصاديقه صناعيا دون الآخر؟ وقد فسره بعض من زوال (2) هذا الكتاب مدة طويلة، وهو يعاني اليوم تدريسه (3)، بأن المراد: أن لفظ الطلب المطلق مجاز في الإنشائي، وحقيقي في الحقيقي.
وهذا على بعده من اللفظ، وغموض في معناه لا يوجب الاختلاف في ناحية الحمل أصلا، فلو قلت: مررت بأسد في الآجام، ورأيت أسدا في الحمام، فالحمل في قوليك معا شائع صناعي قطعا.
وبالجملة معنى هذا الكلام ملتبس علي جدا، ولعل عند غيري فيه ما يزيح (4) الإشكال.
وأما قوله: واختلافهما في ذلك ألجأ بعض أصحابنا إلى الميل إلى ما ذهب إليه الأشاعرة، إلى آخره، فهو يريد به العلامة - الجد - وبه كان يصرح في مجلس الدرس اللهم غفرا، وحاشا مقدم الفن، وشيخ الصناعة أن يلجئه هذا الاختلاف

(1) كفاية الأصول: 64.
(2) أي مارس. (مجد الدين)
(3) هو السيد محمد النجف آبادي مدرس الكفاية في أصفهان، وكنت حاضرا حين مذاكرات المصنف معه في هذا الباب وأنا في ريعان الشباب، ونسأل الله تعالى حسن العاقبة والمآب. (مجد الدين)
(4) أي يزيل. (مجد الدين).
190

اللفظي الطفيف (1)، إلى الغلط في مسألة عقلية كلامية، ويفارق ما عليه عامة الإمامية.
وقد عرفت بما بينا من صحيح مرامه ونقلنا من واضح كلامه، أن الذي حققه في المقام مما لا يسع أحدا إنكاره، مجبرا كان أو عدليا، إماميا كان أو معتزليا.
وإذا انتهيت إلى كلام شيخنا صاحب تشريح الأصول في الاعتراض على هذا الإمام، وتأملت في تلك الإشكالات السبعة المملة، وأضفت إليه ما أورده غيره عليه، علمت أن العلامة - الجد - بواد، وهؤلاء في واد، وأنه يحق له أن يتمثل بقول القائل:
سارت مشرقة وسرت مغربا * شتان بين مشرق ومغرب
وبالجملة المسألة كما عرفت عقلية كلامية، لا لفظية لغوية، وإن أوهم خلافه ظاهر الكفاية، حيث فسر اتحاد الطلب والإرادة بقوله: بمعنى أن لفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد، إلى آخره، وهي في نفسها واضحة ليست بذات أهمية، ولكن الدفاع عن العلامة - الجد - ألجأنا إلى التطويل، أداء لبعض حقوقه، حذار عقوقه، والفضل بيد الله، وللكلام تتمة تقف عليها قريبا إن شاء الله.
(معنى الإنشاء والفرق بينه وبين الإخبار)
قال الشيخ الأستاذ (2) - طاب ثراه - في الفوائد، ما نصه: «إن الإنشاء هو القول الذي يقصد به إيجاد المعنى في نفس الأمر، لا الحكاية عن ثبوته وتحققه في موطنه من ذهن أو خارج، ولهذا لا يتصف بصدق ولا كذب، بخلاف الخبر،

(1) الخفيف. (مجد الدين).
(2) الشيخ محمد كاظم الخراساني صاحب الكفاية. (مجد الدين).
191

فإنه تقرير للثابت في موطنه، وحكاية عن ثبوته في ظرفه ومحله، فيتصف بأحدهما لا محالة»
(1).
أقول: ما ذكره في معنى الإنشاء من إيجاد المعنى بالقول أمر لا نتعقله لأن الألفاظ لا علية لها بأنفسها لإيجاد المعاني، ولا يمكن جعل العلية لها، لما تقرر في محله من عدم قابليتها للجعل - وقد سبق بيانه في مبحث الوضع - ولا وظيفة للفظ إلا الدلالة على المعنى بالوضع، ومرتبة المعنى مقدمة على اللفظ فكيف يعقل إيجاده به وأيضا يشهد الوجدان بأن القائل: اضرب فلانا. لا يريد به إيجاد أمر معدوم باللفظ، بل يريد إفهام المخاطب معنى اللفظ على حذو ما يريده في الإخبار، ولا فرق بين الإخبار وبينه من هذه الجهة، وإن كان ثمة فرق فهو في ناحية المعنى المفهوم منهما.
وكان يذهب بعض مشايخنا إلى أنه موضوع للدلالة على وجود الإرادة في النفس، وأنه يشارك الإخبار في قبوله الكذب المخبري، بمعنى أنه يمكن أن يخبر عن وجودها في نفسه مع عدم وجودها فيها، ويفارقه في عدم قبوله الكذب الخبري، إذ لا يعقل خطأ الإنسان في إرادة نفسه، ولا يمكن أن تكون له إرادة ولا يعلمها، بخلاف الإخبار.
والذي يظهر لي في المقام هو أن الهيئة موضوعة للدلالة على الإرادة بضميمة معنى حرفي يعبر عنه بالاقتضاء والبعث، فإن كانت موجودة في النفس فهي مستعملة في معناها بالإرادة الجدية والاستعمالية معا، وإلا فهي مستعملة فيه بالثانية فقط، ولكن الظاهر منهما عند الشك هو انبعاثها عن الإرادة الجدية، ووجودها في النفس على حذو ما سبق في مبحث المجاز، فمفاد هيئة افعل هو

(1) فوائد الأصول: 17.
192

مفاد إني مريد منك الفعل، ولا تخالفه إلا في أمرين:
أحدهما: أن دلالة الهيئة بسيطة، ودلالة الجملة الخبرية حاصلة من عدة دوال ومدلولات.
والثاني: اشتمالها على المعنى الحرفي المتقدم، وبمثله نقول في التمني، والترجي، ونحوهما، ويمكن أن يعد ما ذكرناه شرحا لكلام العلامة - الجد - فراجع.
هذا، وقد ذكر صاحبنا (1) العلامة - أدام الله أيامه - في المقام، ما حاصله - بعد تنقيحه وتوضيحه -: إن الإرادة وما شابهها من الصفات النفسانية قد يتحقق في النفس بتحقق مبانيها، كاعتقاد النفع الموجب لحصول الإرادة، أو التمني، أو الترجي على اختلاف مواردها، وقد توجدها النفس لمصلحة في نفسها، واستشهد عليه بأن المسافر قد يتعلق غرضه بالصوم في بلد، وإتمام الصلاة فيه، ويتوقف ذلك على إرادة الإقامة عشرة أيام لا على نفسها، ولهذا يحصل الغرض بحصول ذات الإرادة، وإن لم يمكث فيه غير يوم واحد مع الشرط المذكور في محله من كتب الفروع، فتوجد النفس الإرادة من غير أن تكون مصلحة في متعلقها، وكذلك التمني ونحوه، وإذا تحقق هذا نقول: إن استعملت الألفاظ الدالة على هذه الصفات مع وجودها في النفس ولو بإيجادها لها تكون مستعملة في معانيها، ونلتزم بعدم ذلك مع عدمها مطلقا (2). انتهى.
وببالي أنه - دام إفضاله - نقل لي هذا عن سيدنا الأستاذ - طاب ثراه - مع مثال آخر، وهو أنه لو فرض أن من يمكنه الاطلاع على الضمائر قال لرجل:
إذا أردت الحج أعطيتك فرسا وألف دينار حججت أم لم تحج. فإنه لا إشكال في

(1) الحاج شيخ عبد الكريم اليزدي دم ظله العالي. (المصنف).
(2) درر الفوائد 1: 40.
193

تحقق الإرادة من الرجل لتحقق الصلاح فيها مع عدمه في متعلقها، ولكن هذا لا يلائم ما سلف - في مبحث الإرادة - من أنها العلم بالصلاح في متعلق الإرادة، والجواب عنه على ذلك المبنى لا يخلو عن صعوبة.
(ما تدل عليه الهيئة)
صيغة افعل تدل بمادتها على الطبيعة المجردة عن جميع الاعتبارات حتى الوجود والعدم، وبهيئاتها على الطلب، ومفاد الأمرين معا هو تعلق الطلب بتلك الطبيعة اللا بشرط، وحيث لا يمكن أن تكون ذلك متعلقة للإرادة عقلا يجب اعتبار وجود ما زائدا على ما يقتضيه وضع المادة والهيئة. والوجود يمكن اعتباره على أنحاء:
أحدها: الوجود الساري في جميع الأفراد نظير أحل الله البيع (1).
ثانيها: الوجود المقيد بقيد ما، كالمرة والتكرار، والفور والتراخي، ونحو ذلك.
ثالثها: صرف الوجود في مقابلة العدم الأزلي من دون لحاظ أمر آخر معه، وكان السيد الأستاذ يعبر عن هذا النحو من الوجود تارة بانتقاض العدم الأزلي، وتارة بطرد العدم، وحيث لا يوجد دليل على تعيين أحد هذه الأقسام يجب حمل الأمر على هذا النحو الثالث لأنه المتيقن، وغيره يشتمل على زيادة مدفوعة بالأصل.
وبهذا يظهر لك أن الفور والمرة ونحوهما مما توهم دلالة الأمر عليه، جميعه خارج عن مفاد الصيغة، فلا يصار إلى أحدها إلا بدليل، وبعد وروده لا ينافيها لا مادة ولا هيئة.

(1) البقرة: 275.
194

وبهذا يظهر لك الوجه في الاكتفاء بالمرة، وأنه لو أتى بأفراد متعددة دفعة واحدة سقط الأمر، وكان الجميع مصداقا للواجب.
(الأمر عقيب الحظر) (1)
ورود (2) الأمر عقيب الحظر، بل عقيب توهمه، قرينة (3) غالبية على عدم كونه للوجوب، فلا يحمل عليه إلا بدليل أو قرينة معارضة قوية، ويكون مفاده حينئذ رفع الحظر السابق، وفرضه كالعدم، ولازم ذلك غالبا رجوع الحكم الأول، فيجب إن كان قبل واجبا، كقوله تعالى: وإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين (4) ويجوز إن كان جائزا مثل: وإذا حللتم فاصطادوا (5) فإذا تطهرن فآتوهن (6).
وبهذا يظهر لك ما في القول المشهور من المسامحة، وهو كونه للإباحة وتستغني به عن التفصيل الذي اختاره في الفصول، وهو أن حكم الشيء قبل الحظر إن كان وجوبا أو ندبا كان الأمر الوارد بعده ظاهرا فيه، فيدل على عود الحكم السابق، وإن كان غيره كان ظاهرا في الإباحة، فكلام المشهور صحيح فيما إذا كان الحكم السابق الإباحة، ولكنه ليس لكون الأمر للإباحة، ولا يصح في غيره، وما ذكرناه جامع لكلا شقي التفصيل.
ولا يخفى أن هذا لا يختص بالأمر، بل يشاركه فيه النهي الوارد بعد الأمر،

(1) أي المنع. (مجد الدين).
(2) مبتدأ. (مجد الدين).
(3) خبر. (مجد الدين).
(4) التوبة: 5.
(5) المائدة: 2.
(6) البقرة: 222.
195

فإنه لا يدل غالبا إلا على رفع الأمر السابق، كما لو أمر الطبيب بملازمة شرب الدواء كل يوم، ثم قال بعد مدة: لا تشربه. فإنه لا يدل على أزيد من عدم لزوم شربه، فتأمل جيدا.
(الإجزاء)
اختلفوا في أن إتيان المأمور به على وجهه هل يقتضي الإجزاء أم لا؟.
وليعلم أولا أن الأمر قد لا يلاحظ فيه إلا ذات المكلف، مع قطع النظر عن العناوين الطارئة عليه من اضطرار، أو خوف، أو جهل، ونحو ذلك، وقد يلاحظ بعضها معها.
وعلى الثاني إما أن يكون معه حكم آخر في غير مرتبته أم لا، والأول يسمى بالواقعي الأولي، والثاني بالحكم الظاهري، والثالث بالواقعي الثانوي، سمي واقعيا، لعدم وجود حكم آخر معه، وثانويا لأجل تقييد موضوعه ببعض الأحوال الطارئة المتأخرة عن ملاحظة المكلف بنفسه.
وبهذا يظهر الوجه في تسمية الأول بالواقعي الأولي، والثاني بالظاهري.
ثم إن إجزاء كل أمر عن نفسه إذا أتي به على وجهه أي مستجمعا لجميع الشرائط والأجزاء المأخوذة في موضوعه ينبغي أن يعد من البديهيات، ضرورة حصول متعلقة، فطلبه مع ذلك طلب الحاصل، ولا يشك في امتناعه العاقل، ولو فرض صدور الأمر ثانيا، يعني ما امر به أولا، فما هو إلا أمر آخر بفرد آخر من تلك الطبيعة، وكل منهما إذا أتي به على وجهه سقط التعبد به، وليس كلامنا في إمكان الأمر بفردين أو أكثر من طبيعة واحدة.
ومن ذلك يظهر للمتأمل أن القول بأن الأمر للتكرار لا ينافي القول بالإجزاء.
وما نقل عن القاضي عبد الجبار من أنه لا يمتنع عنده أن يأمر الحكيم،
196

ويقول: إذا فعلته أثبت عليه وأديت الواجب، ويلزم القضاء مع ذلك (1)، فكأنه كلام في غير مسألتنا هذه، ولا يهمنا تحقيق كلامه، وعلى فرض إنكاره الإجزاء فليس أول عالم أنكر واضحا.
وكذلك لا ينافي الإجزاء ما سيأتي من إمكان تبديل الفرد الممتثل به، وعدم سقوط الأوامر التعبدية بالإتيان بها إلا مع قصد القربة بناء على عدم كونها شطرا للمأمور به، ولا شرطا فيه لأن القائل بعدم حصول الغرض بدونه يقول بعود الأمر ثانيا لا سقوط الأمر الأول، كما سيأتي تحقيقه.
وما ذكرناه لا يختص ببعض الأقسام المتقدمة، بل يعم جميعها، فمن كان فرضه الصلاة مع التيمم أو مع الطهارة المستصحبة إذا أتى بهما على وجههما فلا شك أنه لا يجب أن يأتي بهما ثانيا، مع عدم تغير عنوان الحكم، أعني ما دام غير متمكن من الماء، أو شاكا في بقاء الطهارة، وإنما الكلام في كفاية كل من القسمين الأخيرين عن الأمر الواقعي بعد ارتفاع العنوان الذي تقيدا به، كارتفاع الاضطرار فيما إذا أتى بالحكم الواقعي الثانوي، أو ارتفاع الشك فيما لو أتى بموجب الحكم الظاهري، فهاهنا مقامان:
الأول في إجزاء الحكم الواقعي الثانوي.
والثاني في كفاية الأمر الظاهري.
ولك التكلم في مقام ثالث: وهو كفاية الإتيان بالواقعي الأولي عن كل من الأخيرين، إذ الحكم تختلف في مواردها ظهورا وخفاء، بل إثباتا ونفيا.
وفي مقام رابع: وهو كفاية ما أتى به بمقتضى بعض الأصول العقلية عن الأحكام الواقعية.
وبالجملة فحاصل الكلام في المقام الأول يقع أولا في الأقسام المتصورة،

(1) المستصفى من علم الأصول 1: 393، والإحكام في أصول الأحكام 1: 395 - 396.
197

وثانيا في حكم كل صورة صورة منها، وثالثا فيما يستفاد من الأدلة، ورابعا في بيان الأصل الجاري في المقام.
فنقول: أما الأول، فقد يكون المكلف به عند الخوف، أو الاضطرار، ونحوهما من العناوين الطارئة مشتملا على عين تلك المصلحة التي في الواجبات الأولية وبمقدارها كالصلاة مع الطهارة الترابية، لو فرض أن مصلحة الصلاة معها مصلحة الصلاة مع الطهارة المائية ذاتا ومقدارا.
ولا فرق بين هذا القسم وبين تنويع الموضوع، كالمسافر والحاضر، إلا أن الملحوظ فيه عدم القدرة وشبهه، بخلاف المسافر والحاضر مثلا.
وقد يكون مشتملا على مصلحة ملزمة، لكنها من غير نوع تلك المصلحة الموجودة في الفعل الاختياري، لكنها مثلها في كونها متعلقة بغرض الآمر في تلك الحالة.
وقد يكون مشتملا على مرتبة نازلة من المصلحة القائمة بالفعل الاختياري، وهذا أيضا على قسمين، لأن المقدار الفائت يمكن أن يكون بمرتبة يلزم تداركها مع إمكان التدارك، وقد لا يكون بتلك المرتبة.
هذا، ولازم الأول الإجزاء، لمساواته مع الفعل الاختياري في المصلحة كيفا وكما، وحصول تمام الغرض منه، بل لازمه جواز تحصيل الاضطرار اختيارا إلا أن يفرض تقييد المصلحة بالاضطرار الذي لا يرجع إلى القصد.
ولازم الثاني عدم الإجزاء لأن الفعل الاضطراري وإن كان كالاختياري في الاشتمال على المصلحة الملزمة، لكنها مغايرة معها، فلا يجزي دركها عن تلك، إلا أن يفرض بينهما التمانع، أعني عدم قابلية من أدرك المصلحة الاضطرارية لدرك الاختيارية.
ولازم القسم الأول من الثالث عدم الإجزاء إن كان يمكن التدارك، واستحباب التدارك في القسم الثاني منه والإجزاء مع عدم إمكان التدارك.
198

ثم إن التدارك قد يكون بإتيان ما وجب على المختار لدى التمكن منه، وقد يكون بفعل آخر يجبر به تلك النقيصة، وقد يحصل بهما معا، ولازمه التخيير بينهما.
ثم إن التدارك قد يختص بالوقت، فلا يمكن في خارجه، وقد يمكن فيهما معا، ولازم الأول لزوم الإعادة فقط، ولازم الثاني لزوم الإعادة والقضاء معا، بل ومن الممكن - وإن كان بعيدا - إمكان التدارك في خارج الوقت فقط، فيجب القضاء دون الإعادة.
وما يقال: من أن ما لا يجب إعادته لا يجب قضاؤه بالأولى، فالأولوية على إطلاقها ممنوعة.
ولو شك في أصل الحكم بحسب الأدلة، فالمرجع أصالة البراءة مطلقا، كما قيل.
ويمكن التفصيل بين الموارد، والقول بجريان قاعدة الاشتغال في بعضها، كما لو مضى من الوقت مقدار الفعل الاختياري فلم يفعل، وطرأ عليه العذر بعد ذلك، فيقال: بأن التكليف بالفعل التام الوافي بتمام الغرض قد لزم المكلف، ولا يعلم بقيام غيره مقامه في جميع مراتب الغرض، فيحكم بالاشتغال إلى أن تثبت البدلية التامة.
ويمكن الجواب عنه بأن الذي علم وجوبه أولا ليس خصوص الفعل التام، بل الفعل الواحد المردد كما وكيفا بين ما يؤتى في الحالتين، نظير القصر والإتمام، فبدخول وقت الظهرين مثلا يلزم صلاتان كيفيتهما التمام إن بقي حاضرا، والقصر إن سافر في أثنائه وصلاهما في السفر بناء على أن الاعتبار بوقت الأداء لا الوجوب، لا أنه يجب التمام أولا ثم ينسخ ذلك بوجوب القصر.
ويناسب هذا، حكم بعض (1) أساتيذنا بأن من كان حاضرا في بعض

(1) هو السيد الأستاذ السيد محمد كاظم اليزدي (ره) (منه).
199

الوقت، ومسافرا في بعض وفاته الفرض يتخير في القضاء بين التمام والقصر، لأن الواجب صلاة واحدة في مجموع الوقت، تختلف كيفيتها بحسب حالي السفر والحضر، فمتى فاتت صدق الفوت في جميع الوقت، وآخر الوقت محقق للفوت، لا أنه يختص به الفوت، وبيانه مفصلا موكول إلى محله (1).
وهذا البيان إن تم فجريانه مشكل في بعض الصور المتقدمة، كالصورة الثانية، أعني ما كانت المصلحة في الفعل الثانوي من غير نوع الواقعي الأولي، فتأمل جيدا.
هذا، وأما الحكم بحسب الأدلة فهو يختلف باختلاف الموارد وضوحا وخفاء بل وجودا وعدما، والظاهر منها الإجزاء في الصلاة مع التيمم، وفي حال التقية.
وكفاية مثل صلاة المضطجع والغريق عن صلاة المختار لا يخلو عن خفاء، بل منع، فإطلاق الإجزاء كما عن الشيخ الأعظم طاب ثراه لا يخلو عن إشكال.
وأما جواز البدار مع رجاء زوال العذر، فهو يتبع العذر المأخوذ في موضوع الحكم، فإن كان هو العذر المستوعب لتمام الوقت فلازمه عدم الإجزاء لو ارتفع العذر في الأثناء، وإلا فالإجزاء.
نعم لا مانع من القول بصحة العمل في أول الوقت - على الأول - لو انكشف استيعاب العذر، لو لا احتمال لزوم الجزم بالأمر ونحوه مما تبين ضعفه في محله.
قلت: وبهذا يذل لك الصعب من هذه المسألة، ويتضح لك الطريق إلى اختصار القول فيها، بأن نقول: إن إجزاء هذه الأحكام عن الواقعيات الأولية تابع لما يستفاد من الأدلة من أمر العذر الذي أخذه الشارع في موضوعاتها، فإن

(1) العروة الوثقى، صلاة القضاء مسألة 13.
200

علم منها أنه العذر وقت العمل فلا شك في الإجزاء، لأن المفروض أنها بدل عن تلك الأحكام، ولا معنى للجمع بين البدل والمبدل منه، ولا معنى لكفاية العذر حال العمل إلا تمامية في البدلية وقيامه مقامه، بل يستكشف من نفس جعلها كونها شاملة لجميع مراتب مصلحة المبدل منه أو نقصانها لكن لا بمرتبة يؤبه بها، ويلزم تداركها، وإن علم منها أنها العذر المستوعب فلا حكم حتى يبحث عن أجزائه، وعلى فرض عدم استفادة أحد الأمرين من الأدلة، وانتهاء النوبة إلى الأصل العملي، فلا شك أن الأصل عدم تلك الأحكام، فلا بد من إحراز تلك الأوامر أولا، ثم البحث عن إجزائها.
ومن هذا، يظهر لك الحال في إجزائها عن القضاء، بل قد يقال بأن الأمر فيه أوضح، لأن ما لا يجب إعادته لا يجب قضاؤه بطريق أولى، ولكن ليس الأمر بهذه المرتبة من الوضوح لأن القضاء ليس بالأمر الأول، بل هو أمر آخر، موضوعه فوت ما أمر به بأمر آخر، ولا شك في صدقه في هذا المقام، ضرورة عدم وصول المكلف إلى مصلحة الأمر الاختياري، ولا يتوقف صدق الفوت على وجود الأمر، بل يكفي فيه كون المكلف في معرض دركها، وكونه قادرا بعد ذلك على تداركها.
ويشهد بذلك عدهم الجنون والنوم والإغماء ونحوها من أسباب القضاء، بل يصدق ولو مع عدم قابلية الإنسان للامتثال حال الأمر، فلهذا وجب قضاء الصوم على الحائض، فمتى شك في
الإجزاء فمقتضى أدلة القضاء وجوبه.
فالجواب عنه، أولا بأن من المحتمل اشتمال المأتي به على تمام مصلحة الواقعي الأولي كما مر في عداد الأقسام المتصورة، ومعه لا يعلم بفوت شيء أصلا.
وثانيا بأنه لا عموم لدليل القضاء، إذ الموجود في كتب الروايات ليس ما هو المشهور على الألسن من قولهم: اقض ما فات كما فات. بل الموجود فيها
201

قوله: (ما فاتتك من فريضة فاقضها كما فاتتك) (1) ومن المعلوم عدم صدقه في المقام لا سيما بعد ملاحظة وروده في مقام بيان الكيفية فقط.
نعم يصدق الفوت على الزيادة المترتبة على الفعل الاختياري، ولا دلالة في الرواية على وجوب تدارك كل فائتة، والمقدار المذكور ليس من الفرائض، هكذا نقل عن الشيخ الأعظم طاب ثراه.
أقول: ولو فرضت صحة الرواية المشهورة، فالحال فيها كالحال في الرواية المأثورة، إذ لا شك في أن المراد من الموصول فيها الفرض لا سيما بقرينة لفظ القضاء، لأن الظاهر منه العمل، ومن سمج التعبير - فيما أرى - قول القائل:
اقض المصلحة، بل يقال: تدارك المصلحة، ونحو ذلك، فلو سلم صدق لفظ الفوت عليها - كما ذكره - فلفظ القضاء لا يشملها، وهي أيضا في مقام بيان الكيفية أيضا، وهذا قرينة أخرى على أن المراد من الموصول خصوص الفعل.
وفذلكة المقام أن أدلة القضاء موضوعها فوت الفعل خاصة، ولا فوت مع الإتيان بالبدل، ولا شك في أن الأحكام الاضطرارية جعلت بدلا عن الأحكام الأولية، لاشتمالها على مصلحة المبدل منها ولو على مرتبة ضعيفة، ولا يحتمل أن يكون فقد الماء - مثلا - سببا لوجوب مستقل غير مرتبط بالتكليف الأولي كسببية كسوف الشمس لصلاة الآيات مثلا، فتكون نسبة الصلاة مع التيمم إلى الصلاة مع الوضوء كنسبة صلاة الآيات إليها، فبدلية هذه الأحكام عن تلك ينبغي أن تعد من الواضحات التي يستدل بها لا عليها.
وبهذا يظهر المسامحة في عد الصورة الثانية المتقدمة في عداد الأقسام المتصورة للأحكام الاضطرارية، فإنها ليس منها حقيقة، وإذا ثبت كونها بدلا منها، فلا معنى للبدلية إلا قيامها مقام تلك، وكون إتيانها إتيان تلك، فمن أتى بالظهر

(1) عوالي اللآلي 2: 54 / 143.
202

مع التيمم مثلا، فقد أتى بالظهر حقيقة، ولم يفته أصلا، حتى تشمله أدلة القضاء كما يظهر ذلك بالتأمل في سائر الموارد.
وأما إجزاء الأحكام الظاهرية عن الواقعية فحاصل القول فيها: أنه لو قلنا باشتمال متعلقاتها على المصالح، بمعنى أن الفعل بعنوان كونه مؤدى للأمارة ومتعلقا للطريق، له مصلحة غير مصلحة الواقع، فحالها حال الواقعيات الاضطرارية من غير فرق أصلا إلا في إجزاء الأصل في بعض الصور، ولا يخفى ذلك على من تأمل فيما قدمناه، فلا حاجة إلى التكرار.
وإن قلنا بأنها طرق جعلت لرفع تحير المكلف، ولا مصلحة في متعلقاتها، بل المصلحة في جعلها من حفظ الواقعيات وغيره، فلازم ذلك عدم الإجزاء لعدم حصول الغرض الموجب للتكليف بالواقع.
غاية الأمر كونها أعذارا عن الواقع المتخلف عنه، وحده ما دام كونه مشكوكا، فإذا ارتفع الشك ارتفع العذر لوجوب امتثال الأمر المعلوم، وحرمة مخالفته.
ولا فرق فيما ذكرناه بين ما لم يأت بشيء أصلا، كما لو قامت الأمارة أو اقتضى الأصل عدم وجوب شيء ثم انكشف خلافه، وبين ما إذا أتى بعمل على طبق أحدهما ثم انكشف نقصانه أو مخالفته للواقع، كما لو بنى على عدم وجوب السورة فصلى بدونها، ثم ظهر وجوبها، أو صلى الجمعة فظهر أن الواجب هو الظهر كما هو ظاهر.
* * *
203

(مقدمة الواجب)
ومنهم (1) من جعل عنوان المسألة: ما لا يتم الواجب إلا به (2)، ولعله نظر إلى أن لفظ المقدمة ظاهر في العلة وأجزائها، والبحث في أعم منها ومن غيرها مما لا يتم إلا به كرفع الضد الشاغل لحيز ما لتحل محله الضد الآخر، فإن رفعه ليس من أجزاء العلة، وفيه كلام (3) يأتي في مسألة الضد إن شاء الله.
والمشهور لدى المتأخرين: إن البحث هنا في إيجاب الملازمة العقلية بين إيجاب الشيء وبين إيجاب مقدماته، وعدمه، فعلى هذا ينبغي ذكر هذا البحث في عداد مباحث المبادئ الأحكامية عند تقسيم الحكم إلى الخمسة المعروفة، وإلى الوضعي والتكليفي كما صنعه جماعة أولا، ففي الأحكام العقلية لأن ثبوت الملازمة بينهما حكم عقلي صرف كما صنعه آخرون.
ويمكن أن يكون الكلام في ثبوت الدلالة اللفظية للهيئة على وجوب المقدمة وعدمه، فيدعي القائل بالوجوب دلالة اللفظ عليه كما ادعى غيره دلالته على الفور والتكرار، فالبحث إذن يناسب مباحث الألفاظ.
ويمكن أن يكون الكلام فيهما معا، إذ لا ملازمة بين المقامين ولا غناء لأحدهما عن الآخر، فيمكن القول بثبوت الملازمة العقلية، وعدم الدلالة اللفظية، وبالعكس كما في الفور والتكرار على القول بهما، أو بثبوتهما معا ونفيهما كذلك.

(1) كصاحب المعالم طاب ثراه. (مجد الدين).
(2) معالم الدين: 60.
(3) لعل وجه الكلام أن رفع الضد الشاغل للحيز من أجزاء العلة التامة، لأن شغل الحيز مانع عن حلول الضد الآخر، ولا ريب أن عدم المانع من أجزاء العلة التامة، كما لا يخفى على المحصل الأديب أن يلاحظ مسألة الضد بالدقة إن شاء الله تعالى. (مجد الدين).
205

وحيث إن الرابع كان مختار صاحب المعالم استدل على نفي الدلالة اللفظية بانتفاء الدلالات الثلاث، وعلى نفي الملازمة العقلية بعدم المانع العقلي من تصريح الآمر بذي المقدمة بعدم وجوب المقدمة (1)، فمختاره - كما نبه عليه - الجد - العلامة في الهداية - ملفق من أمرين هما: نفي الدلالة والملازمة، فاستدل على كل منهما بدليل، ولهذا اعترض على الفاضل المحشي في جعله كلا من الوجهين دليلا مستقلا (2).
هذا، وقال الشيخ الأستاذ - طاب ثراه - في الكفاية، ما نصه: «والكلام في استقلال العقل بالملازمة وعدمه، لا لفظية كما يظهر من مباحث المعالم، حيث استدل على النفي بانتفاء الدلالات الثلاث، مضافا إلى أنه ذكره في مباحث الألفاظ، ضرورة أنه إذا كان نفس الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ثبوتا محل الإشكال، فلا مجال لتحرير النزاع في الإثبات، والدلالة عليها بإحدى الدلالات الثلاث كما لا يخفى» (3) انتهى.
وقد عرفت أن الدلالة اللفظية لا تتوقف على الملازمة العقلية، فلا موقع هنا للفظي الثبوت والإثبات.
وأما مؤاخذته بذكره في مباحث الألفاظ، فعلى فرض كون النزاع في الملازمة العقلية فقط، فإنه يكفي في ارتباط البحث بها كون الوجوب مدلولا للأمر كما نبه عليه العلامة - الجد - في الهداية (4، وكون الدال على الوجوب غالبا هو اللفظ، وقد ذكروا في مباحث الألفاظ ما هو مثله أو أبعد منه عنها كجواز اجتماع الأمر والنهي، وهذا المعترض قد تبعهم في ذلك.

(1) معالم الدين: 62.
(2) هداية المسترشدين: 203.
(3) كفاية الأصول: 89.
(4) هداية المسترشدين: 203.
206

ولصاحب المعالم أن يذكره بالمثل السائر (تشاركني في الفعل، وتفردني بالتعجب).
هذا، وحيث إن البحث في الدلالة اللفظية ضعيف للغاية، فلا ينبغي أن يكون محطا لأفكار أهل العلم إلا على وجه تعرفه إن شاء الله تعالى، نبني الكلام على النمط الأول، ونقول:
تخصيص العنوان بالواجب لأنه أهم قسمي طلب الفعل، لا لاختصاص البحث به، ضرورة أن الملازمة إن ثبتت تكون بين مطلق الطلب ومقدماته، وذلك ظاهر، بل نقول: تثبت بين النهي
عن الشيء وبين النهي عن مقدماته فتكون مقدمة الحرام محرمة، ولكنها تخالف مقدمة الواجب في أمر، وهو أن الواجب يجب جميع مقدماته من المعدة والمقتضية والشرط وغيرها، فتكون هناك عدة واجبات بعدد المقدمات، أو وجوب واحد تنحل إليها، كما يمر عليك تفصيله إن شاء الله، بخلاف طلب الترك، فإنه لا يجب بها إلا ترك إحدى المقدمات لا بعينها.
والسر فيه إن الفعل في طرف الوجود يحتاج إلى جميع المقدمات، إذ لا يوجد إلا بوجودها أجمع، بخلافه في طلب الترك فإنه يتحقق بترك أحدها، ولا يحتاج إلى ترك جميعها.
فاستبان من ذلك أن حرمة مقدمات الترك للواجب، وإن شئت قلت:
لفعل الحرام، حرمة تخييرية، وللمكلف أن يترك ما شاء من مقدماتها، بخلاف الواجب، وأنه إن لم تبق إلا مقدمة واحدة مقدورة إما لوجود جميعها أو خروج باقيها عن حيز القدرة، حرمت تلك عينا، كما هو الشأن في كل واجب تخييري لم تبق من أفرادها المقدورة غير واحد.
وبهذا يظهر الوجه فيما حكم به سيد (1) مشايخنا - أحسن الله في الجنان

(1) السيد حسن الشيرازي تلميذ شيخنا الأنصاري طاب ثراهما. (مجد الدين).
207

قراه وسقى بصيب الغفران ثراه - من بطلان الوضوء وإن لم يكن المصب منحصرا في المغصوب إذا كان الوضوء علة للتصرف فيه، وذلك لأنه إذا فرض أن صب الماء يترتب عليه التصرف في المحل المغصوب قطعا بحيث لا يقدر بعد الصب على إيجاد المانع، فحرمة الغصب تقضي بحرمة الصب عينا لانحصار المقدمة المقدورة فيه، فلا يرد عليه ما قد توهم من أن الصب ليس بعلة تامة للحرام حتى تحرم، بل هو إحدى المقدمات.
هذا، وبما عرفناك من حرمة مقدمات الحرام تخييرا، يظهر لك عدم مزاحمة تلك الحرمة للوجوب العيني في بعضها إذا اقتضاه دليل من خارج، بل تقصر تلك الحرمة على غيرها من المقدمات بحكم العقل، لإمكان الجمع بين الأمرين، فلا يرفع اليد عن أحد الفرضين ولو كان أحدهما أهم من الآخر، لأن تقديم الأهم على المهم إنما يكون في صورة التزاحم المفقود في المقام.
نعم لو انحصرت المقدمة المقدورة لترك الواجب وقع التزاحم حينئذ، ووجب بحكم العقل تقديم الأهم كما ستطلع عليه في مسألة الضد إن شاء الله.
ولو كان الواجب أيضا تخييريا كمقدمات الحرام، فهل يمكن اجتماعهما ولو قلنا بعدم إمكان اجتماعهما في غير المقام، أم لا؟ قد يقال بالثاني، كما هو مقتضى جليل (1) النظر، لأن قضية كون الشيء من أطراف الوجوب أن يكون تركه مع ترك سائر الأطراف مبغوضا، وقضية كونه طرفا للحرام أن يكون تركه مع ترك بقية الأطراف محبوبا، فيلزم اجتماع الضدين.
ولكن دقيق النظر لا يحكم بذلك إذا فعله على تقدير قصد ترك غيره من بعض الأفراد، إذ لا مانع منه أصلا، ولا قبح فيه عقلا، إلا مع قصد التوصل به

(1) أي بادىء النظر. (مجد الدين).
208

إلى الحرام، هكذا نسب (1) إلى السيد الأستاذ طاب ثراه.
والمقام فيما أراه غير محرر بعد، وفي مسألة جواز الاجتماع ما يتضح به الحال إن شاء الله.
هذا وقد جرت العادة بتصدير هذا البحث بذكر ما لكل من المقدمة والواجب من الأقسام مقدمة وقد اشتملت هذه المقدمة على مسائل هي أهم وأنفس من نفس مسألة المقدمة فلنقتف آثارهم، ونقول:
(تقسيمات المقدمة)
وقد قسموها إلى أقسام كثيرة:
منها: تقسيمها إلى داخلية وخارجية.
فالداخلية هي أجزاء الماهية المركبة، فإنها مما يتوقف عليها الكل، ضرورة احتياج الكل إلى الأجزاء، والخارجية ما عداها مما يتوقف وجودها عليها.
أما الداخلية، فمختصر الكلام فيها أنه قد يقال بأنها واجبات غيرية، منحلة من الوجوب النفسي المتعلق بالكل.
وهذا فاسد جدا إذ الوجوب النفسي ليس مركبا حتى ينحل إليها، بل هو أمر بسيط متعلق بالمركب تعلقه بالبسيط، وإنما التركيب في متعلقة لا في نفسه.
وأيضا لو سلمنا التركيب فيه فلا يعقل انحلاله إلى واجبات غيرية لتغاير النفسي والغيري بالذات.
وقد ينكر وجوبها أصلا، وهذا خلاف الوجدان، إذ البعث إلى الجزء في

(1) والناسب الشيخ عبد الكريم اليزدي صاحب المصنف طاب ثراهما (مجد الدين).
209

الجملة مما لا شك فيه، ولهذا ادعي (1) على وجوبها الإجماع حتى من منكري وجوب المقدمة.
وقد يقال بوجوبها نفسا، لأنها عين الكل وليس ذوها مغايرا للوجود معها، حتى يترشح وجوبه عليها.
وقد يقال بهما (2) معا نظرا إلى تغاير الاعتبار، فباعتبار أنها عين الكل يكون وجوبها نفسيا، وباعتبار أنه يحصل منها الكل يكون غيريا.
وقد يقال بوجوبها غيريا محضا كسائر المقدمات، وهذا مذهب السيد الأستاذ - طاب ثراه - وبيانه:
ان الطلب يتعلق بالوجود الذهني باعتبار حكايته عن الخارج، فالضرب - (زيد) ما لم يوجد في الذهن لا يعقل الأمر به، ويأتي تفصيل هذا الإجمال في مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي، فينبغي تسليمه هنا على نحو الأصول الموضوعة حتى ننبه عليه في محله.
وبعده نقول: إن الآمر إما أن يلاحظ الأجزاء الموجودة في ذهنه، مستقلة في أنفسها، غير مرتبط بعضها ببعض، كالعام الأفرادي، وإما أن يلاحظها على هيئتها الاجتماعية متصورة بصورة وحدتها الكلية.
فعلى الأول لا بد أن ينحل الأمر إلى إرادات متعددة، إذ لا يعقل وحدة العرض مع تعدد المعروض.
وعلى الثاني لا بد أن يكون الملحوظ بهذا الاعتبار أمرا واحدا بسيطا، ولا يعقل أن يشير في هذا اللحاظ إلى أمور متعددة، فالأجزاء في هذا الحال ليست موجودة بوجوداتها الشخصية، بل موجودة تبعا للكل، مندكة فيه، نظير وجود

(1) الظاهر أن مدعي الإجماع سلطان العلماء. (مجد الدين).
(2) أي بالنفسي والغيري معا. (مجد الدين).
210

المطلق في ذهن من لاحظ المقيد، وكوجود المبدأ في ضمن المشتق، فلا وجود للأجزاء بوجوداتها الشخصية حتى يتعلق الأمر بها، ولا وجود إلا للكل، ولا وجوب للكل إلا الوجوب النفسي، كما لا وجود للكل في القسم الأول.
نعم لا بد للآمر من ملاحظة الأجزاء أولا بوجوداتها الاستقلالية مقدمة، وينظر إلى احتياج الكل إليها، ويرى توقف ذلك الواحد البسيط على كل واحد واحد منها.
وهذا مراد الشيخ الأعظم (1) - طاب ثراه - من أن الجزء إذا لوحظ لا بشرط فهو عين الكل، وإذا لوحظ بشرط لا فهو غيره، ومقدمة لوجوده (2).
والمراد من قوله: لا بشرط. هو وجوده الاندكاكي المتحد مع الكل، ومن قوله: بشرط لا. وجوده الاستقلالي المباين مع الكل الذي لا يقبل الاتحاد معه ومن أورد (3) على الشيخ بأن لازم
ذلك وجوب الجزء بوجوبين، ثم رده بعدم جواز اجتماع المثلين بينه وبين مراد الشيخ مراحل كثيرة، وشوط بعيد.
وحاصل الكلام إن الأجزاء ما دامت أجزاء فهي واجبة بالوجوب الغيري كسائر المقدمات الخارجية، بل هي قسم منها لا قسيم لها، وفي غير تلك الحال لا وجود لها حتى تتصف بالوجوب أصلا، وبعبارة أخرى: الكلية والجزئية لحاظان لا يجتمعان، فلا أجزاء مع الكل، ولا كل مع الأجزاء.
وأما المقدمة الخارجية، فقد قسموها تارة باعتبار العلة التامة وأجزائها إلى

(1) اعلم أن المراد من الشيخ الأعظم في هذا الكتاب هو الشيخ الجليل والعالم النبيل، أستاذ المتأخرين وخاتم المجتهدين الشيخ المرتضى بن محمد أمين التستري الدزفولي الأنصاري صاحب كتاب المشتهر بالرسائل عند أهل العراق، والفرائد عند الأعاجم، وكتاب المعروف بالمكاسب عند أهل العراق، والمتاجر عند الأعاجم، المتوفى في أواخر جمادى الآخرة من سنة 1281 هجرية قمرية، وعمره الشريف سبع وستين سنة. (مجد الدين).
(2) مطارح الأنظار: 40.
(3) الظاهر أن المورد الشيخ محمد كاظم الخراساني صاحب الكفاية. (مجد الدين).
211

السبب، والشرط، والمقتضي، والمعد، وأطالوا الكلام في حد كل منها، وبيان ما يرد على كل حد عكسا وطردا.
وجميع ذلك غير مهم في المقام، ضرورة أن الملازمة العقلية بين الأمر بالشيء وبين الأمر بما لا يتم إلا به إن تمت فإنها تعم جميع ما يتوقف عليه، سمي شرطا أو سببا، معدا أو مقتضيا، أو لم يسم بأحد هذه الأسماء أصلا، لأن حكم العقل لا يقبل التخصيص.
وما نسب إلى السيد (1) - قدس سره - من التفصيل بين السبب وغيره (2)، فما هو إلا الغفلة. واضحة عن حقيقة مرامه، كما بين ذلك في الكتب المفصلة، وسائر التفاصيل المذكورة فهو إما مثل ذلك في الغفلة عن مراد القائل به، أو هو واضح الفساد.
ومنها تقسيمها إلى مقدمة الوجود، ومقدمة الوجوب، ومقدمة الصحة، ومقدمة العلم.
ولا شك في دخول الأولى في محل النزاع، وخروج الثانية، ورجوع الثالثة إلى الأولى، كما يظهر بأدنى تأمل.
وأما الأخيرة (3) فلا شك في وجوبها، ولكن لا الوجوب المقدمي المتنازع فيه، بل لقاعدة عقلية أخرى، وهي قاعدة أن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية، فمتى علم الاشتغال بواجب لزم بحكم العقل تحصيل اليقين بامتثاله، قلنا بوجوب مقدمة الواجب أم لا.

(1) السيد المرتضى أخو السيد الرضي المتوفى في آخر ربيع الأول من سنة ست وثلاثين وأربعمائة الهجرية. (مجد الدين).
(2) الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 83.
(3) وذهب في الفصول إلى أن مرجع مقدمة العلم عند التحقيق إلى مقدمة الوجود حيث يتوقف حصول العلم بالواجب عليها فبناء على ما ذكره رحمه الله ترجع مقدمة العلم ومقدمة الصحة إلى مقدمة الوجود، ولم يبق فرق بينهما من هذه الجهة.
(مجد الدين)
212

وأيضا الكلام في وجوب المقدمة - كما مر إجمالا، وستعرفه تفصيلا - ترشح الطلب المولوي من ذي المقدمة عليها، فتجب مولويا، وتحصيل العلم بالفراغ ليس بواجب شرعي أصلا، حتى ينازع في ما يجب تبعا له.
ثم الذي يجب بهذه القاعدة هو الإتيان بما يحتمل أن يكون هو الواجب أو جزء منه، ولا يعقل أن يكون ما يقطع بعدم وجوبه مقدمة علمية له، وهذا ظاهر جدا.
ولكن في كثير من المتون الفقهية في مسألة الوضوء وغيره: أنه يجب غسل شيء من خارج الحد، أو من الباطن مقدمة، فإن أرادوا بها المقدمة الوجودية، على أنه بعيد من ظاهر العبارة، بل ببالي تصريح بعضهم بخلافه، ففيه منع التوقف (1)، وإنما المسلم استلزام غسل مقدار الواجب لانغسال ما خرج عن حده، وأين الاستلزام من المقدمة، واللوازم العادية والعقلية لإتيان الواجب كثيرة، كما لا يخفى، ولا يقول أحد بوجوبها.
وإن أرادوا بها المقدمة العلمية، ففيه ما عرفت من عدم معقولية ذلك، فلو قيل لمن لا يعرف زيدا: أكرم زيدا. فالعلم بإكرامه يحصل بإكرام من يحتمل أن يكون زيدا، ولا يعقل أن يكون إكرام من يعلم أنه عمرو - مثلا - مقدمة للعلم بإكرام زيد، وما الأجزاء القريبة من حد الوجه - مثلا - إذا علم خروجها إلا كالنحر والصدر وغيرهما من الأجزاء البعيدة عنه.
وهذا ظاهر جدا وإن لم أعثر على من تنبه له، فضلا عمن نبه عليه، وقد ذكرت ذلك في شرح كتاب نجاة العباد (2)، فلا مناص في تصحيح ما قالوه، إلا

(1) لأنه يشترط في المقدمة الوجودية توقف الواجب عليها فهنا إنا نمنع توقف الواجب على ما نعلم خروجه، وهذا ظاهر جدا، فمن قال بأن المراد بالتوقف التردد بمعنى إنا لا نتردد فيه فقد أخطأ. (مجد الدين).
(2) المسمى ب (كبوات الجياد في شرح نجاة العباد) وهذا الكتاب أحسن من أن يوصف. (مجد الدين).
213

أن يقال: إن المراد بالخارج ما يحتمل الخروج، لكنه - كما ترى - بعيد عن ظاهر العبارة بأقصى مراتبه، والله العالم.
(تقسيمات الواجب)
وهو ينقسم إلى أقسام كثيرة، باعتبارات مختلفة،
منها: تقسيمه إلى مطلق ومشروط
(1)، والأول كما في الفصول إلى منجز ومعلق (2).
أما المطلق فقد يقال في تعريفه: بأنه ما لا يتوقف وجوبه على شيء بعد الشرائط العامة (3) لجميع التكاليف.
وقد يقال: ما لا يتوقف (4) وجوبه على شيء أصلا حتى الشرائط العامة، كما في تقريرات الشيخ الأعظم (5)، ولازمه أن لا يوجد له مصداق أبدا كما تنبه له، والتزم على بعده به.
وقد يقال: بأنه ما لا يتوقف وجوبه على ما يتوقف عليه وجوده، وعلى هذا

(1) اعلم أن في المطلق والمشروط اصطلاحات، منها: أن المطلق ما لا يتوقف بعد حصول شرائط التكليف على شيء كالمعرفة والمشروط بخلافه كالحج. أقول: فعلى هذا الاصطلاح لم يكن المطلق مطلقا حقيقيا بل اصطلاحيا لكونه مشروطا بهذه الأربعة إلا أن الاصطلاح قد جرى بتسميته مطلقا.
فان قلت: يمكن أن تكون الشرائط شرائط المكلف لا التكليف، فيكون المطلق مطلقا حقيقيا.
قلت: بلى، لكن حينئذ خرج المشروط عن كونه مشروطا، وإمكان اتخاذ شرائطه شرائط المكلف لا التكليف كالحج المشروط بالاستطاعة، فإنه يمكن فيه اتخاذ الاستطاعة شرط المكلف فيكون الحج واجبا مطلقا، انتهى، نقلا من كتابنا مسائل العلوم. (مجد الدين).
(2) الفصول الغروية: 79.
(3) العلم والعقل والقدرة والبلوغ. (مجد الدين).
(4) تعريف الواجب المطلق بهذا المعنى مما يفضي إلى العجب من الفاضل المقرر، وكيف يمكن تصوير الواجب المطلق بهذا المعنى فضلا عن وقوعه، والعقل يحكم بعدم جواز الطلب الإلزامي مثلا من غير القادر، أو غير العاقل، أو غير العالم، أو الصبي؟ منشؤ الاشتباه ما ذكرناه في الحاشية، فراجع. (مجد الدين).
(5) مطارح الأنظار: 44.
214

يختص المشروط بما كان الشرط من مقدمات الوجود، فقول القائل: توضأ إذا وجد الماء، يكون مشروطا على جميع التعاريف، وقوله: إذا دخل الأمير البلد فصل ركعتين، خارجا عن حد المشروط على الأخير دون الأولين.
والأولى أن يلاحظ الإطلاق والاشتراط بالنسبة إلى كل ما يمكن توقفه عليه، سواء كان من مقدمات وجوده أم لا.
فإن كان موقوفا عليه، سمي مشروطا من هذه الحيثية، وإلا سمي مطلقا كذلك، فيكون الحال فيه كالحال في المطلق والمقيد، فكما يقال: عتق الرقبة مطلق بالنسبة إلى الذكورة والأنوثة، ومقيد من حيث الإيمان، فكذلك في الواجب، فيقال: وجوب الحج مطلق من حيث قطع المسافة، مشروط بالاستطاعة.
وفي الفصول ما لفظه: «وقد يطلق الواجب المطلق ويراد به ما لا يتوقف تعلقه بالمكلف على حصول أمر غير حاصل، سواء توقف على غير ما مر وحصل كما في الحج بعد الاستطاعة أو لم يتوقف كما مر، وهو بهذا المعنى محل النزاع في المبحث الآتي (1)، ويقابله المشروط وهو ما يتوقف تعلقه بالمكلف على حصول أمر غير حاصل، والنسبة بين كل من المطلقين ومشروطه تباين، وبين كل منهما وكل من الآخرين عموم من وجه» (2) انتهى، ثم ذكر في الحاشية بيان النسبة وأمثلتها (3).
وهذا كما تراه كلام جيد، وتنبه حسن، إذ دخول البحث في وجوب المقدمة الوجودية للواجب بعد حصول شرط وجوبه مما لا نزاع في دخوله في محل النزاع (4)، ولم يفرق أحد من القائلين بوجوب المقدمة بين مقدمات الواجب

(1) مبحث مقدمة الواجب. (مجد الدين).
(2) الفصول الغروية: 79.
(3) في حاشية الفصول الغروية: 79.
(4) بل هو محل النزاع حقيقة. (مجد الدين).
215

المطلق، وبين الواجب المشروط الذي حصل شرطه، ولهذا قال: «وبهذا المعنى محل النزاع في المبحث الآتي».
ولكن مقرر (1) درس الشيخ الأعظم جرى على عادته في كلمات هذا الرجل العظيم، من عدم التأمل في فهم مرامه، حتى يجد بابا إلى انتقاد (2) كلامه، فظن به ظنا يبعد عن علو مقامه، ولم يكتف بذلك حتى وقع له ما أرجو أن يكون عن خطأ، لا عن تعمد، وهو تحريف كلامه بقوله: «وعرفه بعض الأجلة» (3) إلى آخره، مع أنه رحمه الله لم يجعله تعريفا، بل عرف كلا من المطلق والمشروط بالتعريف الأول، ثم قال: «وقد يطلق» (4) إلى آخره، وأين الإطلاق من التعريف، وهل هذا من المقرر إلا أوضح تحريف؟ ثم إن هذا الإطلاق شائع حتى بين أصاغر الطلبة، وقد صار قولهم:
المشروط مطلق عند حصول شرطه كالمثل السائر بين أهل العلم، وهذا المقدار كاف فيما أهمنا أمره من تعريف الواجبين المطلق والمشروط.
وأما المعلق وهو ما يتعلق وجوبه بالمكلف، ويتوقف حصوله على أمر غير مقدور فالمعروف أن صاحب الفصول رحمه الله أبو عذرته، وأصل دوحته (5)، وليس كذلك بل سبقه إليه أخوه العلامة في الهداية حيث قال: «إذا لم يكن الوقت شرطا في وجوب الفعل، بل كان شرطا في وجوده، كما هو الحال في الحج بالنسبة

(1) المقرر هو الشيخ أبو القاسم الكلانتري الطهراني صاحب التقريرات المسمى ب (مطارح الأنظار) رحمه الله تعالى رحمة واسعة. (مجد الدين).
(2) الانتقاد والنقض وهو بهذا المعنى مراد في هذا المقام، فما قيل من أن الانتقاد هنا التصحيح غير سديد.
(مجد الدين).
(3) مطارح الأنظار: 43.
(4) الفصول الغروية: 79.
(5) العذرة: البكارة، والدوحة: الشجرة أي هو أزال بكارته وهو أصل شجرته، وهما كناية عن الابتكار.
(مجد الدين).
216

إلى وقته، فلا إشكال - إلى أن قال، بعد ما ذكر أن ذلك ليس من باب تقدم وجوب المقدمة على ذي المقدمة، ما لفظه -: ومن ذلك أيضا وجوب غسل الجنابة في الليل للصيام الواجب، إذ الظاهر كون النهار محلا لوقوع الصوم، لا شرطا في وجوبه، كما في الصلوات الخمس، حيث دل الدليل على كون الوقت شرطا في صحتها ووجوبها» (1) إلى آخره.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنه قد يتوقف في إمكان كل من المشروط والمعلق، وقد يتوقف في إمكان الجمع بينهما، وتثليث الأقسام بهما.
أما الإشكال في المشروط (2)، فلأن الهيئة موضوعة للطلب الإنشائي، فإذا فرض تأخر وجود الشرط عن الطلب، فإما أن يقال بحصول الوجوب بإنشاء الأمر، فيلزم تحقق المشروط قبل شرطه، أو بحصوله مع وجود الشرط، فيلزم منه تفكيك الإيجاب عن الوجوب، أو إلغاء القضية.
وأيضا معنى الهيئة حرفي، غير مستقل في النفس، لا يمكن ملاحظته إلا تبعا للغير، والإطلاق والتقييد فرع إمكان ملاحظة المفهوم في الذهن.
وأيضا مقتضى كون وضع الحروف عاما والموضوع له خاصا أن تكون جزئية، والجزئي لا يكون قابلا للإطلاق والتقييد.
قلت: أما الجواب عن الأخيرين، فلا يصعب عليك بعد التذكر لما مر في بحث معاني الحروف، من إمكان تجريد الحرف وملاحظته ثانيا، على نحو يقبل الإطلاق والتقييد، وأن معاني الحروف كليات كالأسماء، فتأمل.

(1) هداية المسترشدين: 218.
(2) قوله: (أما الإشكال في المشروط) إلى آخره.
أقول: وبعبارة أخرى إذا فرض تأخر وجود الشرط عن الطلب فإما أن يقال بحصول الوجوب بإنشاء الطلب أو لا، وعلى الثاني فإما ان حصل الوجوب قبلا أي قبل إنشاء الطلب ولم تفد القضية الوجوب أو لا، فإن قلنا بحصول الوجوب بإنشائه فيلزم تحقق المشروط قبل شرطه، وإن قلنا بعدم الإفادة فيلزم إلغاء القضية، وعلى الثالث فيلزم تفكيك الإيجاب عن الوجوب كما لا يخفى. (مجد الدين).
217

وأما الجواب عن الأول فهو أن المعنى المستفاد من الهيئة والمنشأ بها متحقق فعلا من دون ابتنائه على شيء ولكن المتوقف تأثيره في المكلف.
وبيانه: أن الآمر قد يلاحظ القيد معدوما، ويطلبه مع المقيد، كما في قوله:
صل مع الطهارة. وقد يلاحظ القيد موجودا، وبعد فرض وجوده ينقدح في نفسه الطلب، فيطلب مقيدا مفروضا وجود قيده، فيكون الطلب متحققا بنفس الإنشاء، ولكن تأثيره في المكلف بمعنى انبعاثه نحو الفعل، والتزامه به يتوقف على وجود ذلك القيد المفروض، لأن الطلب في نفس الآمر تحقق على فرض وجوده فلا بد أن يؤثر فيه بعد وجوده، ليطابق الخارج ما كان في نفس الآمر، فكما أنه لو طلب مقيدا بقيد موجود واقعا ما كان يؤثر على فرض عدمه في الخارج، فكذلك لا يؤثر على فرض عدم ما كان في الذهن متعلقة للطلب، فتأمل فيه جيدا، تجده واضحا.
ولك أن تجيب بهذا الجواب عن الإشكالين السابقين، وتجعله جوابا عن الإشكالات الثلاثة أجمع، كما لا يخفى على المتأمل.
ومنه ينفتح الباب إلى الإشكال في الواجب المعلق، لأن إرادة الفعل قد تقتضي تحصيل ذلك القيد وإيجاده إذا لم يكن موجودا، وقد لا تقتضي ذلك، لكونه مأخوذا على فرض وجوده.
وبعبارة أخرى قد يكون القيد داخلا في حيز الإرادة، وقد يكون خارجا، والأول هو المطلق، والثاني هو المشروط، ولا ثالث لهما بحكم العقل، لكي يثلث به الأقسام، ويسمى المعلق.
وحيث إن الزمان خارج عن القدرة، والقيود الخارجة عن قدرة المكلف من قبيل الثاني، لاستحالة التكليف بغير المقدور، فالأوامر المتعلقة بقيد الزمان يكون من قبيل المشروط قطعا.
وهذا مراد الشيخ الأعظم فيما ذكره من الاعتراض على الواجب المعلق،
218

وقد خفي ذلك على مقرر بحثه، حيث جعل المناقشة لفظية محضة، فأطال القول في عدم الفرق بحسب الواقع بين قول القائل: افعل كذا في وقت كذا، وبين قوله: إذا دخل وقت كذا فافعل كذا. وأنت إذا تأملت كلامه الطويل الممل وجدته أجنبيا عن مراد صاحب الفصول والشيخ معا.
نعم في أواخره بعض الإلمام (1) بما ذكرناه، وخفي على غير واحد من الأساتيذ أيضا، فزعموا أن الشيخ يجعل الجميع من قبيل المعلق، وينكر الواجب المشروط، وهذا كان معتقد أهل العلم في النجف الأشرف، حتى قدم عليهم السيد الأستاذ، فعرفهم بأن الشيخ الأعظم ينكر الواجب المعلق، ويجعل الجميع من قبيل المشروط.
وما أوقعهم في ذلك إلا مقرر الشيخ الأعظم، حيث أطال وكرر في هذا البحث حديث عدم قابلية الهيئة للتقييد، ولزوم رجوعه إلى المادة مطلقا، فتوهموا منه إنكاره المشروط.
وقد عرفت من البيان السابق عدم توقف تصور المشروط على تقييد الهيئة، وأن الواجب المطلق أيضا لا يخلو من شرائط تتوقف المصلحة على وجودها، وإنما الفرق حصول تلك الشرائط في الواجب المطلق واقعا، وفي المشروط فرضا، وأين هذا من تقييد الهيئة؟ فتأمل جيدا، وتمام الكلام في الواجب المعلق يأتي قريبا إن شاء الله.
(التعبدي والتوصلي)
قد يطلق التعبدي على الأحكام التي لا يدرك العقل مصلحتها كبعض

(1) الإلمام: نوع خفي من الإعلام. (مجد الدين).
219

أعمال الحج، ونحوه.
وقد يطلق ويراد به الواجبات التي يعتبر فيها قصد القربة، والمعنيان متباعدان جدا.
فما وقع في تقريرات الشيخ الأعظم - طاب ثراه - من الخلط بين المعنيين، ونقله عن بعضهم تعريف التعبدي بالمعنى الأول في مقام تعريفه بالمعنى الثاني، ثم الاعتراض عليه (1)، فجميع ذلك ليس في محله، فلاحظ.
وبالجملة فالكلام في التعبدي بالمعنى الثاني، ومحصل الكلام فيه: أن قصد القربة قد يفسر بقصد الأمر المتوجه إليه، وقد يفسر بغيره، وعلى الأول قد يجعل ذلك قيدا للمأمور به، إما شطرا له أو شرطا فيه، وقد لا يجعل ذلك قيدا له، بل يجعل قيدا للغرض، ودخيلا في حصوله.
وأيضا قد يراد من الأمر الذي يعتبر قصد إطاعته عين الأمر المتوجه إلى نفس تلك العبادة، فيكون قصد القربة في الصلاة قصد الأمر بالصلاة مثلا، وقد يجعل قصد أمر آخر.
أما تفسيره بقصد الأمر المتوجه إلى نفس العبادة، وكونه قيدا لها، كما نسب إلى ظاهر مشهور المتقدمين، فقد ذهب جمهور المحققين من المتأخرين إلى عدم إمكانه عقلا، وذكروا لذلك وجوها:
الأول: لزوم الدور، وبيانه: ان الموضوع مقدم رتبة على الحكم، لأنه معروض له، والمعروض مقدم رتبة على العرض، فإذا أخذ في الموضوع ما ينشأ من الحكم توقف الموضوع على الأمر، إذ قصد الأمر يتوقف على الأمر، ولا يتحقق إلا بعده، فالأمر إذن يتوقف على الموضوع، لكونه عرضا له، والموضوع يتوقف على الأمر، لكونه مقيدا به، ولا يتحقق المقيد إلا بتحقق القيد.

(1) مطارح الأنظار: 59.
220

وأجاب عنه السيد الأستاذ - طاب ثراه - بأن توقف الموضوع على الأمر مسلم لما ذكر.
وأما توقف الأمر على الموضوع، فإن أريد توقفه عليه في الخارج فهو باطل، ضرورة أن الأمر لا يتعلق بالموضوع إلا قبل وجوده، وأما بعده فهو مستحيل لامتناع طلب الحاصل.
وإن أريد توقفه تصورا فمسلم ولكن لا يلزم منه الدور لأن قصارى ما فيه توقف الموضوع على الأمر بحسب وجوده الخارجي، وتوقف الأمر على الوجود الذهني للموضوع، فلا دور.
أقول: ولي في تقرير هذا الوجه، وفيما أورد عليه كلام ستعرفه بعد الفراغ عن ذكر الوجوه التي ذكرها للاستحالة.
وقد يورد عليه بأن القدرة على الموضوع لا يتحقق إلا بعد الأمر، والأمر لا يتعلق بالشيء إلا بعد القدرة عليه، فيتوقف الأمر على القدرة، والقدرة على الأمر.
وفيه: إن الممتنع تعلق الأمر بغير المقدور في وقت الامتثال، وهو غير لازم في المقام، لتحقق القدرة بنفس الأمر حال الامتثال، وأما لزوم كونه مقدورا قبل وقت العمل فهو ممنوع.
وقد يقال في وجه الاستحالة: إن الأمر بإيجاد الصلاة بداعي الأمر يتوقف على الأمر بذات الصلاة، والمفروض أنه لا أمر بها إلا مقيدا بكونها بداعي الأمر، والأمر بالمقيد ليس أمرا بالمجرد عنه فإذن لا أمر حتى يقصد.
وفيه: إن الأمر بالمقيد أمر بالطبيعة حقيقة، لاتحادها معه، والإتيان بها بداعي الأمر لا ينقص عن المطلوب الأصلي أصلا.
وقد يقال وجها للاستحالة: إنه لا معنى للأمر مطلقا حتى التوصلي منه إلا إيجاد الداعي للمكلف إلى الفعل، وبعثه ونحوه، ولو كان قصد الأمر مأخوذا
221

في المأمور به، لزم أن يكون الأمر محركا إلى محركية نفسه، وداعيا إلى كونه داعيا، وهذا الوجه ذكره السيد - طاب ثراه - ولم يعترض عليه بشيء، فكأنه ارتضاه.
وإني أرى أن استحالة أخذ الأمر وكل ما ينشأ من قبله، أو يضاف إليه في موضوع المأمور به، أوضح من أن يحتاج إلى البرهان، وكان يغني عن جميع ما ذكر كلمة واحدة صدر بها الوجه الأول، وهو تأخر الحكم من الموضوع رتبة، إذ من الواضح لزوم كون القيد والمقيد في مرتبة واحدة بحيث يتمكن الآمر من النظر إليهما معا بلحاظ واحد، وطلب أحدهما مقيدا بالآخر، والحكم لتأخره الرتبي لا يتصوره الذهن إلا بعد تصور موضوعه، ولهذا امتنع تعليق الأمر على كل من الإطاعة والعصيان، وامتنع الحكم بقيد الشك في ذلك الحكم بعينه، أو بقيد الظن به كما يأتي بيانه في الترتب الذي هو مذهبه في الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية.
وبالجملة لا بد للحكم من موضوع مستقل بنفسه متصور قبل الحكم، لكي يعرضه الحكم.
وأما صياغة الموضوع من الحكم، فإن لم يكن دورا اصطلاحيا فهو (أخوه غذته أمه بلبانه) بل هو أوضح فسادا من الدور، ولا يمكن إصلاحه بما ذكره في الجواب عن الدور، كما لا يخفى.
وأما كون قصد الأمر دخيلا في الغرض لا في المأمور به، فبيانه أن الأمر متوجه إلى الفعل من غير تقييد بقصد الأمر، ولكن الغرض لا يحصل إلا بإتيان الفعل بداعي الأمر، والعقل إذا اطلع على أخصية الغرض، وكون الطلب أوسع دائرة من المطلوب، يحكم بلزوم الإتيان بالفعل على نحو يحصل به الغرض، فإذا أتى به بغير داعي الأمر لم يحصل الغرض، فلم يسقط الأمر، لأن الغرض كما صار سببا لحدوث الأمر، يكون سببا لبقائه، كذا قيل.
وفيه: إن بقاء الأمر مع الإتيان بالمأمور به مستلزم لعدم إجزاء الأمر
222

الواقعي، وهو بديهي الفساد، كما سبق في بحث الإجزاء.
والأولى أن يقال بسقوط الأمر الأول، وحدوث أمر آخر، لأن ما أوجب الأمر الأول يوجب الثاني وهكذا، وهذا بحث لفظي أوجب ذكره المحافظة على الأصول الموضوعة العلمية، وإن كان ذا فوائد عملية مهمة في غير المقام، كما سيأتي.
وعلى كل حال ما دام الغرض باقيا يكون المكلف مأمورا بإتيان فرد آخر، فإذا أتى بما يحصل به الغرض لم يبق سبب لأمر آخر، وإن لم يأت به حتى يمضي وقت الفعل يكون معاقبا على تفويت المصلحة.
لا يقال: فوت الغرض الذي لم يدخل في حيز التكليف لا يوجب العقاب.
لأنا نقول: هذا يتم في الغرض الذي لم يكن الآمر في صدد تحصيله، وأما ما علم منه أنه مجد في تحصيله ولكنه غير قادر على الأمر بما هو واف بتمام غرضه للاستحالة العقلية فالعقل حاكم بوجوب تحصيله. هذا ملخص ما قيل في بيان هذا الوجه.
ولقائل أن يقول: إن هذه الاستحالة إنما نشأت من استحالة مثل هذا الغرض، ولو كان ممكنا لكان العلم به وهو الإرادة ثم إظهارها وهو الطلب بمكان من الإمكان.
وأما الوجه الأخير، فبيانه: أن الواجبات التعبدية ذوات أمرين: أحدهما يتعلق بذات العبادة، والآخر بالفعل مقيدا بإتيانه بداعي الأمر، فيجب على المكلف - بمقتضى الأمر الثاني - أن يأتي بالفعل بداعي الأمر الأول، ويرتفع محذور الاستحالة لأنه لم يؤخذ في الموضوع قصد الأمر المتعلق به، بل أخذ في موضوع أمر آخر.
ويرد عليه مضافا إلى بعد ذلك في نفسه، ما يترتب عليه من اللوازم البعيدة، بل الفاسدة من تعدد الثواب على تقدير الإطاعة، وتعدد العقاب على
223

تقدير الترك أصلا، واجتماعهما على تقدير الإتيان بذات الفعل بغير قصد الأمر، وسقوط الأمر بهما معا.
أما الأمر الأول فبالإطاعة، وأما الثاني فبارتفاع موضوعه، فيلزم سقوط الأمر بالصلاة مثلا مع بقاء الوقت إذا أتى بها بغير قصد القربة، وهو خلاف الضرورة، إلا أن يقال بحدوث أمرين آخرين على طبق الأولين، لبقاء الغرض، وقد قيل ذلك، ولا يخفى أن ذلك رجوع إلى حديث الغرض الذي عرفت آنفا ضعفه، ومعه لا يبقى احتياج إلى هذا الوجه، ولا تبقى ثمرة مهمة لتكلف الأمرين.
واعلم أن هذا الوجه مما اشتهر نقله عن الشيخ الأعظم، وكلام مقرر درسه غير ظاهر في ذلك، بل ظاهر في خلافه، حيث قال، وهذا لفظه:
«الطالب لو حاول طلب شيء على وجه الامتثال لا بد له أن يحتال في ذلك، بأن يأمر بالفعل المقصود إتيانه بقصد القربة أولا ثم ينبه على أن المقصود هو الامتثال بداعي الأمر» (1) انتهى.
وأين ما ذكره من لزوم التنبيه على المقصود مما نسب إليه من تعدد الأمر، فما ذكره مردد أمره بين أمرين فإما أن يكون راجعا إلى حديث الغرض المتقدم، كما هو الظاهر، أو يكون تصحيحها بوجه آخر على بعد، فتأمل جيدا.
وأما الثالث وهو تفسير قصد القربة بغير قصد الأمر، وهذا الوجه قد يقرر على وجه يرجع حسب اللب إلى اعتبار قصد الأمر، وقد يقرر على وجه لا يرجع إليه.
أما الأول فبيانه: أن الغرض المقيد بقيد ما كما يمكن تحصيله بالأمر بعنوان المقيد، كذلك يمكن بصرف ماله من الأضداد، مثلا من تعلق غرضه

(1) مطارح الأنظار: 60.
224

بالرمان المر، كما يمكنه تحصيل غرضه بالأمر بالرمان مقيدا بكونه مرا، يمكنه أيضا الأمر به مقيدا بأن لا يكون حلوا ولا حامضا، إذ الشيء لا يخلو عن جميع الأضداد، فإذا فرض عدم إمكان البعث على الشيء بعنوان الغرض يتعين الأمر به بعنوان صرف سائر الأضداد.
ونقول في المقام: إن الغرض إذا فرض تعلقه بالشيء مقيدا بإتيانه بقصد الأمر به ولم يمكن الأمر به بهذا العنوان، لما عرفت من الاستحالة العقلية يتعين الأمر به مقيدا بعدم صدوره عن الدواعي النفسانية، ويكون الأمر بهذا القيد في قوة الأمر بإتيان الشيء بقصد الأمر، إذ الفعل الاختياري لا يخلو إتيانه عن أحد الأمرين من الدواعي النفسانية، أو داعي الأمر، وهذا المقدار من البيان - فيما أراه - يكفي لتصور هذا القسم.
ولكن السيد (1) - طاب ثراه - بينه ببيان مسهب، وبناه على مقدمات ثلاث، وما دعاه إلى ذلك إلا استظهاره تركب الغرض من صرف الدواعي النفسانية، ومن كونه بداعي الأمر معا، لأنه أنسب بمقام الإخلاص المعتبر في العبادات، فتأمل.
وأما الثاني وهو عدم تقيد العبادات بقصد الأمر أصلا، لا في مرحلة الأمر، ولا في مرتبة الغرض، ويتضح ذلك ببيان أمرين:
أحدهما: أن من الأفعال ما لا يعتبر القصد في تحقق عنوانه، بل ولو فرض صدوره من غير قصد أصلا، لصدق عليه العنوان، كالضرب مثلا.
ومن الأفعال ما يعتبر القصد في تحققه، وصدق العنوان عليه كالتعظيم والإهانة ونحوهما، وإن كنت في ريب من ذلك فانظر إلى من قبل يد رجل أو

(1) المراد بالسيد، السيد محمد الفشاركي، ولا يخفى عليك أن ذلك خلاف ما تعهد به المصنف في ترجمته، إلا أن يتخذ اللام للعهد الذكري فحينئذ فلا إشكال. (مجد الدين).
225

قام عند مجيئه، فإنك تحكم بتحقق عنواني التقبيل والقيام بمجرد حصولهما في الخارج ولا تحكم بأنه عظم الرجل أو خضع له إلا بعد معرفة قصده التعظيم.
وثانيهما: أن من الأفعال القصدية ما هي محققة لعناوينها بالطبع، أو باتفاق الآراء عليه، ولا يبعد أن تكون دلالة السجود على التعظيم من هذا القبيل.
ومنها ما يكون بالجعل، ولذلك يختلف باختلاف الأمم، وباختلاف المعظم فتحا وكسرا، كالتعمم عندنا لدى الرجل العظيم تعظيما، وكشف الرأس، ونزع القبعة (1) عند الإفرنج، وكالجلوس، أو القيام عندنا بين يدي العظيم، والنوم عند أمة اليابان مثلا.
وبعد هذا، نقول: إن العبادات أفعال قصدية وهي ما يقصد بها الخضوع لله تعالى، كما يدل عليه لفظ العبادة، إذ العبادة لغة هي غاية الخضوع، وأداء الشكر لله تعالى، ومدحه بما هو أهل له، وكان سيد أساتيذنا (2) - طاب ثراه - يعبر عنها ب (ستايش كردن) (1) وهي عبارة فارسية ذكرناها توضيحا للمقصود، وتأسيا به طاب ثراه.
وهذه العبادات منها ما هو من قبيل الأول كالسجود، ومنها ما يتوقف العلم بكونه تعظيما وعبادة على تعريف الشارع كالصوم، ويشترك القسمان في المعنى المتقدم، ولا معنى لتعبديتهما إلا ما عرفت من حصول العبادة بها، ولا معنى للعبادة إلا ما عرفناك من الخضوع ونحوه من المعاني القريبة منه، ولا فرق بينها وبين التوصليات إلا أن المقصود بها العبادة، ومن التوصليات أغراض أخر.
وإذا اتضح هذا لديك - ولا أخاله يخفى بعد هذا البيان عليك - عرفت

(1) كندن كلاه فرنكي. (مجد الدين).
(2) السيد حسن الشيرازي أعلى الله مقامه. (مجد الدين).
(3) قال والدي العلامة: وكان سيد أساتيذنا أيضا يعبر عنها (أي العبادة) ب (كرنش كردن) و (پرستش كردن).
(مجد الدين).
226

أن العبادة لا تتوقف معناها على وجود الأمر أصلا، فضلا عن توقفها على قصده، بل تتحقق مع النهي عنها، كالسجود للأصنام، إذ ليس المحرم مجرد الانحناء لها قطعا، بل المحرم الانحناء بقصد التعظيم والخضوع، ومتى وقع الفعل بهذا القصد كان محرما، لكونه عبادة لغير الله تعالى، وإذا وقع بقصد الخضوع له تعالى كان عبادة له سبحانه، ولو كان قصد الأمر مقوما لمعنى العبادة لزم أن لا تتحقق عبادة غير الله أصلا.
ومما حققناه ظهر لك معنى قول كاشف الغطاء (1) رحمه الله: إن قصد القربة ليس بجزء ولا شرط، بل هو روح العبادة. وظهر أيضا المراد من قصد القربة، وأنه ليس المراد منه حصول القرب، وأن العبادات تنقسم إلى الأحكام الخمسة، فقد تكون محرمة كصلاة الحائض، فإنها عبادة حقيقة، ولكنها مبغوضة منها في حالة الحيض، ولو كان قصد الأمر مقوما لها لزم جواز الصلاة لها، لأنها إن كانت مأمورة بها فقد أتت بالواجب، وإلا فلم تتحقق العبادة المنهية عنها، وقد تكون مكروهة كالصلاة في الأوقات والأمكنة المنصوصة عليها، ولا داعي إلى تكلف أقلية الثواب، لما عرفت من عدم كون الأمر المستلزم للثواب من مقومات العبادة أصلا.
وبالجملة ليست عبادة الله سبحانه إلا تعظيمه والخضوع لديه بأفعال وأقوال مخصوصة يؤدى بها التعظيم والخضوع.
ويمكن اختلاف المصلحة والمفسدة فيها باختلاف الحالات كسائر الأفعال، ويزداد هذا وضوحا بملاحظة تعظيم الملوك وغيرهم، إذ ربما يكون الملك

(1) الشيخ جعفر وهو جد جد المؤلف من قبل الأم لأنه صهر الشيخ محمد تقي صاحب الهداية، وجد ابنه الشيخ محمد باقر من قبل الأم والد الشيخ محمد حسين صاحب التفسير والد المؤلف رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وكانت نسبة المؤلف إلى كاشف الغطاء من جهات شتى لا نذكرها هنا، وتوفي كاشف الغطاء رحمه الله تعالى في أواخر رجب المرجب من شهور سنة 1227 من الهجرة المقدسة. (مجد الدين).
227

في حال يترتب على تعظيمه مفسدة عظيمة، كما لو كان مختفيا من عدو يريد قتله، فإذا عظمه أحد بحضور عدوه عرفه العدو فقتله، فيكون تعظيمه مبغوضا في هذا الحال، وربما يكون المعظم في حال (1) لا ينبغي له تعظيمه.
ولو شك في كون الواجب تعبديا أو توصليا فهل يمكن التمسك بالإطلاق مع اجتماع شرائطه أم لا؟ وعلى فرض عدمه فهل مقتضى الأصل البراءة أو الاشتغال؟ وبعد ذلك فهل في الأدلة الشرعية ما يستفاد منه أصل ثانوي يقضي بالتعبدية أم لا؟ فنقول: أما التمسك بالإطلاق، فعلى ما قدمناه من عدم تقييد العبادة بقيد الأمر فلا إشكال في أن التعبدية قيد زائد كسائر القيود التي يتمسك في نفيها بالإطلاق، لأنه قيد في المأمور به، فلا فرق بينها وبين غيرها أصلا، كما هو ظاهر، وأما بناء على اعتبار قصد الأمر في الغرض، فالذي يظهر من الشيخ الأعظم عدم جواز التمسك بالإطلاق.
وحاصل ما أفاده في ذلك: أن التمسك بالإطلاق لا يكون إلا فيما احتمل مدخلية القيد في المطلوب، والمفروض القطع بعدم مدخليته فيه، وإنما الشك في مساواة الغرض مع المطلوب، أو أخصيته منه، وظاهر أن أصالة الإطلاق بعيدة عن هذا بمراحل (2).
أقول: لا شك في عدم جريان أصالة الإطلاق في نفي كونه قيدا للمطلوب لما ذكره، ولكن لا مانع من إجرائه في مرحلة الغرض.
وبيانه: أن المتكلم كما هو في مقام بيان تمام مقصوده، كذلك لا بد أن يكون في مقام بيان تمام ماله دخل في غرضه ولو ببيان مستقل، فكما يقال: إن عدم بيان

(1) ككونه في حالة دفع البول والجنب. (مجد الدين).
(2) مطارح الأنظار: 60.
228

مدخلية شيء في المأمور به كاشف عن عدم مدخليته فيه، كذلك يمكن أن يقال:
إن عدم بيان مدخلية قصد الأمر كاشف عن عدم مدخليته في الغرض، لأن المانع العقلي إنما يمنع من بيانه بنفس الأمر، لا ببيان مستقل، ولا فرق بين هذا وبين سائر الموارد التي يتمسك فيها بالإطلاق، إلا أن هذا حكم بإطلاق الغرض، وفي غيرها حكم بإطلاق متعلق الطلب، والأمر فيه سهل.
وهنا وجه آخر يستظهر منه توصلية الأمر من غير احتياج إلى مقدمات الحكمة، كان يعتمد عليه السيد الأستاذ طاب ثراه، وهو إن الهيئة عرفا تدل على أن متعلقها تمام المقصود، إذ لولاه لكان الأمر توطئة وتمهيدا لغرض آخر، وهو خلاف ظاهر الأمر.
أقول: وفي تقريرات درس الشيخ الأعظم (1) بعد بيان عدم جواز التمسك بالإطلاق بما تقدم، ما محصله التصريح بأن ظاهر الأمر التوصلية وبينه بما لفظه:
«إذ ليس المستفاد من الأمر إلا تعلق الطلب الذي هو مدلول الهيئة للفعل على ما هو مدلول المادة، وبعد إيجاد المكلف نفس الفعل في الخارج لا مناص من سقوط الطلب، لامتناع طلب الحاصل، وذلك في الأدلة اللفظية ظاهر» (2) انتهى.
فليتأمل في الفرق بين هذا وبين ما ذكره السيد طاب ثراه أولا، وفي وجه الجمع بين هذا القول وبين المنع عن التمسك بالإطلاق ثانيا.
وأما الأصل العملي فعلى ما قررناه وفسرنا به قصد القربة، هو البراءة، لأن المقام حينئذ جزئي من جزئيات مسألة دوران الأمر بين المطلق والمقيد، ويأتي في محله - إن شاء الله - أن الأصل فيها البراءة.
وأما على تفسير قصد القربة بقصد الأمر، فالمنسوب إلى الشيخ الأعظم

(1) الأنصاري. (مجد الدين).
(2) مطارح الانظار: 61.
229

أنه الاشتغال، والمنع عن إجراء البراءة، ووجهه أن مورد البراءة مختص بما كان الشك في مرحلة الثبوت، ولا شك فيه هنا للعلم بعدم اشتراط المأمور به بذلك، وإنما الشك في مرحلة السقوط، وأن الاشتغال بالأمر الثابت هل يسقط بإتيانه بغير قصد الأمر أم لا فلا مجال إلا للاحتياط، وتحصيل البراءة اليقينية من التكليف المعلوم.
هذا، والحق أن الأصل هو البراءة حتى على تفسير القربة بقصد الأمر، وذلك لأن بعد إتيان ذات الفعل لا يعقل بقاء الأمر الأول، لما مر من استلزامه طلب الحاصل، فلا شك في سقوطه، وإنما الشك في حدوث أمر آخر مسبب عن أخصية الغرض، والأصل عدمه.
ولو سلمنا الشك في سقوط الأمر الأول، قلنا: إن الشك إنما نشأ من ثبوت الغرض الأخص، ونقول حينئذ: إن اقتضاء الأمر ذات الفعل متيقن، فيلزم الإتيان به، وأما الزائد عليه فشئ يلزم على الآمر بيانه، والعقاب عليه مع عدمه قبيح، كما تقرر في محله.
ولو منع من إجراء البراءة مع الشك في السقوط أفضى ذلك إلى سد باب إجراء البراءة في مسألة دوران الأمر بين المطلق والمقيد، بل وفي مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين.
أقول: ما تقدم نسبته إلى الشيخ الأعظم من منعه البراءة في المقام ينافي ما في تقريرات درسه، فقد ذكر فيها ما يقرب مما قرره السيد الأستاذ طاب ثراه، وقد قال بعد العبارة المتقدمة في المقام الأول، ما لفظه:
«وأما لو كان الدليل هو الإجماع ففيه أيضا يقتصر على ما هو المعلوم استكشافه منه، والمفروض أنه ليس إلا مطلوبية الفعل فقط، وبعد حصوله لا بد من سقوطه.
وأما الشك في التقيد المذكور فبعد ما عرفت من أنه لا يعقل أن
230

مفادا بالكاشف عن الطلب، لا بد له من بيان زائد على بيان نفس الطلب، والأصل عدمه، واحتمال العقاب على ترك الامتثال به يدفع بقبح العقاب بلا بيان، كما هو المحرر في أصالة البراءة» (1).
وبالجملة ينبغي القطع بأن مثل الشيخ - طاب ثراه - لا يتوقف عن إجراء البراءة، ولا يحكم بلزوم قصد القربة بمجرد احتمال التعبدية، ولا أدري ما ذا يصنع المانع من إجراء البراءة في المقام، والحاكم بالاشتغال فيه إلا مع القطع بعدم بيان أخصية الغرض مع هذه الأوامر الكثيرة المتفرقة في تضاعيف أبواب الفقه التي يحتمل تعبديتها، وصدور بيان الشارع لها، فهل يجازف بالقطع بعدمها بلا دليل ولا برهان، أم يلتزم بالاحتياط؟ واعلم أن القائل بأن الأصل في الأوامر التعبدية لا يقول به، لتقيد المأمور به بخصوص ما يؤتى بداعي الأمر، لأن إطلاق الأمر يشمل حتى ما يؤتى بالدواعي النفسانية قطعا، وذلك لأن تنويع المأمور به إلى نحوي الداعي إنما يكون بعد صدور الأمر، وملاحظة الآمر للإطلاق أو التقييد لا يكون إلا في الأفراد الحاصلة قبل الأمر، ولا يعقل ملاحظتها فيما يحصل بنفس الأمر، إذ لا تنويع قبله، ولا يعقل ملاحظة ما هو متأخر رتبة عن المأمور به، فلا يلاحظ الآمر حين الأمر إلا نفس المأمور به على إطلاقه بعنوان أنه مأمور به، وبعد صدور الأمر يكون جميع الأفراد موردا للأمر.
ولكن بعض مشايخنا (2) كان يقول: للطبيعة المأمور بها فردان: أحدهما غير مسقط للأمر، وهو ما أتي به بالدواعي النفسانية، والآخر مسقط له، وهو ما أتي به بداعي الأمر.

(1) مطارح الأنظار: 61.
(2) صاحب تشريح الأصول. (مجد الدين).
231

وحاصل ما بقي في الذهن من مجلس درسه في تقريب ذلك: أن الإرادة - كما سبق في مبحثها - لا تتعلق بغير المقدور، والفرد الذي تعلق به من أفراد المأمور به هو ما يكون أمره سببا لوجوده، وأما طلبه لما يحصل بغيره يكون من علام الغيوب تحصيلا للحاصل، والغرض من الأمر أن يأتي بمطلق المأمور به، لكن مع تغيير الداعي، أعني عن النفسانية إلى قصد الأمر، فإذا أتى به بغير هذا الداعي لم يسقط الأمر، لأن الغرض منه كان تغير وجهه فلم يحصله.
وببالي أنه رحمه الله كان يصرح بأن ما ثبت توصلية، فأتى به بغير داعي الأمر يكون من قبيل النسخ، والظاهر أنه مذكور في كتابه.
وأقول: إن هناك غرضين: غرضا للآمر من الأمر، وغرضا من المأمور به، واللازم على المأمور تحصيل الثاني لا الأول، فأقصى ما يلزم مما ذكره رحمه الله لغوية الأمر في التوصلي، لحصوله بدون أمره، فليسم ذلك إن شاء نسخا، وإن شاء إسقاطا، كما هو الاصطلاح الشائع.
المقام الثالث: في بيان أنه هل في الأدلة الشرعية ما يوجب الخروج عن ظاهر الأمر، وهو التوصلية؟ وهل يتحصل منها أصل ثانوي في خصوص أوامر الشارع أم لا؟ ذهب جماعة إلى الأول (1)، واستدلوا عليه بوجوه:
أولها: قوله تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين (2) وقد أطال الشيخ الأعظم في بيان وجه الاستدلال به، والجواب عنه، فمن شاء التفصيل فعليه بمراجعة تقريرات درسه (3).
ويكفي في الجواب أن يقال: إن من الواضح أن الآية الكريمة ليست في مقام بيان تأسيس الأصل في الأوامر الشرعية كما هو المقصود، بل في مقام أن

(1) وهو أصالة التعبدية. (مجد الدين).
(2) البينة: 5.
(3) مطارح الأنظار: 61.
232

أهل الكتاب لم يؤمروا إلا بالتوحيد في عبادة الله سبحانه، وعدم الشرك فيها، وهذا مع وضوحه مما تدل عليه نظائرها في القرآن الكريم، وكلام المفسرين، والروايات الواردة في تفسيرها.
ثانيها: قوله تعالى: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم (1) إذ الإطاعة واجبة بنفس الآية، ولا إطاعة إلا بالامتثال (2).
والجواب: أن لا معنى للإطاعة إلا عدم المعصية، وهو تابع للأمر إطلاقا وتقييدا، فيحصل في التعبدي بإتيانه بخصوص ما قصد به الامتثال، وفي غيره بمطلق الإتيان.
وأيضا لو كان المقصود خصوص الأول لزم اعتبار قصد التقرب إلى الرسول وأولي الأمر في أوامرهما، وهذا مما لا يقول به أحد.
ثالثها: ما ورد من قولهم عليهم السلام: «لا عمل إلا بالنية» (3) و «إنما الأعمال بالنيات»
(4) ونظائرهما.
وجه الاستدلال: أن المراد من العمل مطلق (5) الأعمال، ومن النية قصد القربة، وحيث لا يمكن إبقاء النفي على ظاهره، لبداهة تحقق العمل بلا نية لا بد أن يحمل على نفي الأثر.
وأجاب الشيخ (6) عنه أولا بما حاصله: منع كون المراد من الأعمال مطلق الواجبات، بل خصوص العبادات منها، واستشهد على ذلك بنظائرها الواردة في
(5) والدليل على كون المراد مطلق العمل أن الأعمال جمع محلى، والعمل مفرد محلى، والأول عام بلا ريب، والثاني كذلك لقيام القرينة على إرادة العموم منه في أحاديثنا. (مجد الدين).
(6) الشيخ مرتضى الأنصاري المتقدم ترجمته. (مجد الدين).
233

مقامات عديدة.
وثانيا: بمنع كون المراد من النية قصد القربة، بل المراد قصد العنوان (1)، وفيه تكلف.
(في اعتبار المباشرة وقصد العنوان وغيرهما)
انه إذا نظرت إلى الأغراض الباعثة على الأمر رأيتها تختلف اختلافا بينا، فقد يكون الغرض صدور الفعل عن المأمور بشخصه وبمباشرته له، كما لو أمرت ولدك بالذهاب إلى الكتاب، ويتعلم الخط والحساب، فإنه لا يكفيك أن يستأجر أحدا لذلك، أو ينوب (2) عنه أحد فيه، وقد تكتفي بمجرد الإضافة إليه ولو بتسبب منه، كما لو أمرت بكنس الدار، ورش الباب، بل بمجرد الإضافة وإن لم يكن بتسبب منه، كما لو ناب عنه أحد من غير اطلاعه.
وأيضا قد لا يحصل الغرض إلا بإعمال الاختيار فيه، بمعنى صدوره عنه اختيارا، وقد لا يكون للاختيار فيه دخل، فيكفي مجرد الصدور منه.
وكذلك قد يكون لقصد العنوان دخل فيه، فلا بد من إتيان المأمور به بعنوان أنه مأمور به، وقد لا يكون كذلك، وقد يكون الغرض مقيدا بصدور الفعل بدواع خاصة من إطاعة ونحوها، وقد يكفي مطلق الفعل ولو أتى به بالدواعي النفسانية، ولا بد من أن تختلف الأوامر باختلاف هذه الأغراض لتبعيتها لها.
والذي دعانا إلى بيان هذا الأمر بيان أن الصيغة هل لها ظهور في شيء من هذه الأشياء أم لا؟ ثم على فرض عدم الظهور فما ذا مقتضى الأصول العلمية

(1) مطارح الأنظار: 63.
(2) وهذا من باب ذكر العام بعد الخاص، لأن النيابة يمكن أن تكون تبرعا أو باستيجار المنوب، ويمكن أن يكون المراد الأول بقرينة المقابلة. (مجد الدين).
234

إذا فرض حصول الشك في اعتبار شيء منها.
أما الأول (1)، فنقول: إن القيد قد يكون مما يحتاج إليه الطلب بحكم العقل كالقدرة والالتفات ونحوهما، وقد لا يكون كذلك، أما الأول (2) فإما أن يكون مذكورا في القضية أم لا.
فإن لم يكن مذكورا فيها، فالظاهر عدم تقيد الغرض به، لأن الآمر المتصدي لبيان غرضه لا بد أن يبين جميع ماله دخل في غرضه، فيظهر من عدم تنبيهه عليه عدم المدخلية له فيه، فلهذا يفهم من دليل وجوب الصلاة مطلوبيتها حتى من النائم، ويفهم من قوله: أنقذ الغريق، مطلوبية إنقاذ جميع الأفراد ولو وجد غريقان لا يقدر إلا على إنقاذ أحدهما.
وإن كان مذكورا فيها، كما لو قال: زر زيدا إن قدرت على الزيارة، واضرب عمرا إن تمكنت منه. فالظاهر إجمال المادة، لأن ذكر هذا القيد يمكن أن يكون لتقييد المطلوب، ويمكن أن يكون لتوقف الطلب عليه، ولا ظهور حتى يؤخذ به، وحينئذ يكون المرجع هو الأصل العملي عند الشك.
وإذا كان القيد من القسم الثاني، كضرب السوط أي تقييد الضرب بالسوط، والجلوس بكونه في المسجد، فلا إشكال في أنه إذا لم يكن مذكورا في الكلام يتمسك بالإطلاق، والحكم بعدم مدخليته في الحكم مع وجود شرائط الأخذ به، ويرجع إلى ما يقتضيه الأصل مع عدمه.
إذا عرفت هذا، فنقول في اعتبار إضافة الفعل إلى المأمور: إنه يحكم باعتبارها في المطلوب إذا فرض إفادة اللفظ له، لأنها ليست مما يتوقف عليه الطلب إذ من الممكن أن يقول: أريد منك ضرب «زيد» سواء ضربته بنفسك

(1) وهو بيان أن الصفة هل لها ظهور في شيء من هذه الأشياء أم لا؟ (مجد الدين).
(2) وهو أن يكون القيد مما يحتاج إليه الطلب بحكم العقل. (مجد الدين).
235

أو بعثت عليه غيرك، فاللازم في هذه الموارد الحكم بتقييد المطلوب، وعدم حصول الغرض بغير المباشرة، إلا أن يستظهر من الخارج عدم مدخليتها فيه، كما هو الغالب في الأوامر العرفية، بل قد ادعي أيضا في الأوامر الشرعية، وفيه تأمل واضح.
أما الاختيار وقصد العنوان فملخص الكلام فيهما: أن التكليف لا يمكن أن يتعلق بخصوص الصادر من غير اختيار، ولا بخصوص ما لم يكن عنوانه مقصودا، إذ لا معنى للأمر إلا إيجاد الداعي للفاعل المختار على اختياره الفعل على الترك، وبعثه إلى ما أخذه عنوانا للمأمور به، فكيف يعقل مع هذا تقييد الفعل بغير الاختياري، أو بعثه إلى خصوص غير عنوان المأمور به، وعلى هذا فالفعل القابل لتعلق التكليف به منحصر في الاختياري الذي قصد عنوانه.
فحينئذ إن قلنا بأن التكاليف المتعلقة بظواهرها بالطبائع متعلقة بحسب الواقع بالأفراد، فالقيدان المذكوران أعني الاختيار، وقصد العنوان من القيود التي يحتاج إليها الطلب بحكم العقل، وقد مر حكمها.
وإن قلنا بتعلقها بالطبائع بحسب الواقع فيكفي في حسن الخطاب بها مطلقا وجود فرد واحد بحسن الخطاب بالنسبة إليه.
وعلى هذا فلو فرض تعلق التكليف بفعل بقيد الصدور عن الاختيار، أو بقصد العنوان، فالظاهر منه تقييد الغرض لما عرفت سابقا.
نعم قدرة المكلف بالنسبة إلى أصل الطبيعة مما يحتاج إليه الطلب عقلا، فإهمال ذكرها في القضية يوجب بقاء إطلاق المادة بحالها، وذكرها يوجب إجمالها.
هذا، ولا يخفى أن الواجبات التعبدية مما لا مجال للشك في اعتبار الأمرين فيها إذا قلنا: إن المعتبر فيها قصد الأمر، وإن قلنا: إن المعتبر فيها مطلق القربة كما ستعرف إن شاء الله، فكذلك في اعتبار الأمر الأول، بل والثاني على تأمل فيه.
236

وأما الشك في الاكتفاء بالنيابة وعدمه، فينبغي الكلام أولا في إمكانها عقلا في الواجبات التعبدية، ثم في مقتضى القواعد اللفظية، والأصول العملية.
فنقول: قد يقال بامتناعها فيها، لأن الأمر المتوجه إلى الغير لا يعقل أن يصير داعيا نحو الفعل وباعثا له، مع أنه قد لا يكون هناك أمر أصلا حتى للمنوب عنه، كما إذا كان ميتا.
وأيضا كيف يمكن أن يكون مقربا للمنوب عنه مع أنه قد لا يكون له دخل واختيار في وجود الفعل، وما لم يتحقق الفعل من جهة الإرادة والاختيار ولو على بعض الوجوه لا يعقل أن يصير موجبا للقرب.
فهذان الإشكالان يمكن الجواب عن الأول منهما: بأن مباشرة المكلف إن كان لها خصوصية في غرض الآمر، فلا يسقط الأمر بفعل الغير حتى في التوصليات، لعدم حصول الغرض الموجب للأمر.
وإن لم يكن لها ولا لاختياره دخل في الغرض، ولم يكن شيء منهما قيدا للمطلوب، فلا ريب في إمكان أن يصير الأمر المتوجه إلى المنوب عنه داعيا للنائب بأحد الأسباب الداعية إلى تفريغ ذمة المنوب عنه من التكليف، وتخليصه من العقاب من حب أو أخذ أجرة ونحوهما.
ومنه يظهر الجواب عن المورد الذي لا يكون تكليف على المنوب عنه، كالنيابة عن الميت، إذ يكفي فيه قصد تخليصه من العقاب ونحوه إذا علم من الدليل حصوله بفعل النائب.
قلت: وينبغي التأمل في صحة هذا الجواب بناء على أن معنى القربة قصد الأمر.
وأما الجواب عن الإشكال الثاني (1) فيمكن أن يقال: إنه يكفي في

(1) وهو قوله: مع أنه قد لا يكون له دخل واختيار في وجود الفعل - إلى قوله - لا يعقل أن يصير موجبا للقرب.
(مجد الدين).
237

حصول القرب للمنوب عنه رضايته بالفعل وممنونيته من النائب، كما ورد ما معناه: «أن من رضي بعمل قوم اشترك معهم» (1) ويكون هذا الرضا والممنونية كافيا في القرب، وكيف لا
يكون ممنونا من النائب وقد خلصه من تبعات الأمر، ونجاه من العقاب.
وفيه: بعد تسليم كفاية هذا المقدار من الانتساب في حصول القرب، أن الرضا والامتنان يتوقفان على حصول القرب، إذ لا وجه لهما لولاه، فلو توقف القرب عليهما لزم الدور.
ويمكن أن يقال: إنا نرى بالوجدان فرقا ظاهرا بين عبدين امرا بأمرين، أتى نائب أحدهما به، ولم يأت الآخر، فكيف يحكم وجدانك في ترتب الثواب، والنجاة من العقاب عن المنوب عنه؟ بل نرى بالوجدان مزية للأول على الثاني وإن لم يصل إلى مرتبة الممتثل بنفسه، ولكنه لما أتى به نائبه كان له مزية في ذلك، وهذا المقدار يكفي في حصول القرب، وصيرورة الفعل عبادة.
أو يقال: إن المنوب عنه يتلقى الفعل من النائب، ويسلمه إلى الآمر، ولا فرق في حصول القرب بين أن يسلمه إلى الآمر ابتداء، أو يسلمه إليه بعد التلقي من نائبه.
قلت: هذا حاصل ما أفاده السيد الأستاذ - طاب ثراه - ولم أره مدة حضوري عليه - أحسن الله تعالى إليه - يستدل على الحقائق العلمية بمثل هذه الوجوه الضعيفة الشعرية كما رأيته في هذا المقام، إذ الجميع كما ترى في غاية الضعف.
أما حديث الرضا والممنونية فبعد الدور الواضح - المتقدم بيانه - يرد عليه: أن مجردهما لا يكفي في صحة الانتساب أو حصول القرب، وإلا لحصل

(1) بحار الأنوار 45: 295 / 1، عيون أخبار الرضا عليه السلام 1: 273، علل الشرائع 1: 229 / 1.
238

لغير المنوب عنه إذا اطلع على فعل النائب، ورضي به، وحصل له الممنونية.
وأما المزية المتقدمة بين العبدين، فعلى فرض تسليمه فالشأن في تطبيق هذا الوجدان على البرهان، ومعرفة الوجه في حصول القرب بلا مباشرة أو تسبيب.
وأما الوجه الأخير فهو بظاهره كلام شعري، ولم أفهم له معنى معقولا، فتأمل فيه، فعسى أن يظهر لك ما خفي علي منه.
والذي أرى فيه الحل لهذا الإعضال (1)، والشفاء من هذا الداء العضال (2)، هو الالتزام بعدم حصول القرب للمنوب عنه بالمعنى الذي حاول السيد الأستاذ إثباته، والقول مع ذلك بصحة العبادة، وانتفاع المنوب عنه بها.
وبيانه: أن الأغراض الداعية إلى الأمر منها: ما يكون مقيدا بجميع مراتبه بالمباشرة، فلا يحصل شيء منها للمكلف إلا بها، وذلك كشرب الدواء ونحوه.
ومنها: ما لا يتوقف عليها بشيء من مراتبه أصلا، كإنقاذ الغريق مثلا.
ومنها: ما يتوقف عليها ببعض مراتبه لا جميعها كاستقبال القادم من السفر، ومشايعة العازم عليه، إذ في إرسال من ينوب عن الإنسان فيهما درك للمصلحة التي هي إكرام المسافر مثلا وإن كانت المصلحة في المباشرة أتم وأكمل.
إذا عرفت هذا، فاعلم أن الغرض في الفعل إن كان من قبيل الأول فلا تعقل النيابة فيه أصلا، وذلك الظاهر.
ويشترك الأخيران في جواز النيابة معا، ويفترقان في أن اللازم في الثاني جوازها مطلقا، بل التخيير بين المباشرة والنيابة من أول الأمر، ووجوب النيابة

(1) الإعضال مصدر من باب الأفعال، ومعناها الإشكال. (مجد الدين).
(2) العضال كغلام، داء لا دواء له. (مجد الدين).
239

بعد فرض العجز عن المباشرة، واللازم في الثالث جوازها، بل وجوبها بعد فرض العجز عن المباشرة ولكن يشترط فيهما بقاء زمان درك المصلحة، كما هو ظاهر.
وحينئذ فمتى علم حصول كلا الشرطين، أعني كون الأمر من قبيل أحد القسمين الأخيرين، وبقاء وقت درك المصلحة، تحقق موضوع النيابة عقلا، ولا يحتاج إلى الدليل السمعي إلا في مرحلة الإثبات، وبعدها لا بد من انتفاع المنوب عنه، وسقوط العقاب عنه إذا أتى أحد عنه، كما لو تبرع الغير في أداء الدين عن المديون، إذ التحقيق أنه حكم على القواعد، ولا وجه له إلا ما عرفت من عدم توقف الصلاح في الأداء على المباشرة ولا على زمان معين، فمتى تبرع به أحد بوفائه عنه سقط الحق، وبرئت ذمة المديون، واستراح مما كان يلحقه من العتاب والعقاب قطعا، وان لم يستوجب مدحا، ولم يتصف بالوفاء، وحسن المعاملة، بل يكون هو والغني المماطل على حد سواء.
ولا يشترط في تحقق موضوع التبرع، ولا في براءة ذمة المديون، علم المتبرع عنه بتبرع الغير، أو رضاؤه به، بل يحصل ولو مع جهله به، ومع كراهته له وعدم امتنانه من المتبرع عنه، كما هو مشاهد في الديون الراجعة إلى الخلق، فليكن الحال كذلك في دين الخالق، وحقوقه الواجبة على العباد.
فمن الحق الواجب على المستطيع مثلا الحج، فإذا لم يأت به يبقى في ذمته، ولا يزال يطالب به، ويعاقب عليه حتى يحج عنه، وبعده يسقط الحق، ويسقط بسقوطه الآثار المترتبة عليه، علم به أو جهله، أرضاه ذلك أو أسخطه وإن لم يحصل له بذلك قرب، ولم يستحق به المدح، إلا أن يكون قد تشبث إلى الفعل بوصية ونحوها.
ومن ذلك يظهر لك ما في الوجهين الأولين المتقدمين في كلام السيد (1)

(1) المراد بهذا السيد، السيد محمد الفشاركي، ولا يخفى أن ذلك خلاف المعهود إلا أن يتخذ اللام للعهد الذكري كما مر.
(مجد الدين).
240

طاب ثراه، إذ النيابة كافية في إسقاط الحق ولو مع عدم رضاء الميت وامتنانه من النائب كما في الديون الدنيوية.
على أنه من أين يعلم أن جميع الأموات يطلعون على فعل النائب، ويرضون به؟ ولو فرض اطلاعهم عليه فهل ترى من نفسك التوقف في كفاية النيابة، والحكم بلزوم التكرار حتى يأتي من عالم الآخرة خبر رضاء الميت، وامتنانه؟ ولعل ما ذكرته يصلح لأن يكون شرحا لما أفادنا السيد الأستاذ.
وأما حصول القرب الفعلي فغير مأخوذ في مفهومه، ولا لازم له وإن كانت العبادات موضوعة لأن يتقرب بها، ولا ملازمة بين حصول القرب وسقوط الأمر، فكثير من العبادات التي يباشرها المكلف بنفسه لا يعلم بحصول القرب فيها، بل لعل منها ما هي مبعدة لا مقربة، وإنما قصاراها سقوط الأمر، والأمن من العقاب، كما ذكره المحقق القمي على ما ببالي، ولهذا امتازت (1) شرائط الصحة عن شرائط القبول، فرب عبادة صحيحة ترد، ويضرب بها وجه صاحبها كما دل عليه صريح الكتاب، ومتواتر السنة.
وبالجملة قد اتضح بما بيناه عدم لزوم حصول القرب الفعلي في التعبديات، وأنه لا فرق بينها وبين التوصليات إلا لزوم حصول قصد القربة فيها، وأين قصد القربة من التقرب معنى وإن تشابها لفظا.
هذا، ولو شك في لزوم المباشرة فمقتضى ظهور الصيغة لزوم المباشرة قطعا، وهل هذا الظهور مستند إلى الوضع، فيكون مجازا فيما علم بكفاية التسبب فيه، أو النيابة عنه، كما قال المفسرون (2) في قوله تعالى: يا هامان ابن لي

(1) خلافا لبعض أساتيذنا، فإنه زعم أن كل عبادة صحيحة مقبولة، وبالعكس. (مجد الدين).
(2) إذ نسبة البناء إلى هامان - مع كونه غير مباشر لهذا العمل وليس إلا التسبيب - مجاز. (مجد الدين).
241

صرحا (1) ويظهر ذلك من الشيخ الأعظم (2)، أو أنه مستند إلى غيره؟ ومقتضى الأصل العملي عدم وجوب المباشرة وكفاية كل من التسبب والاستنابة لأنها كلفة زائدة يدفعها الأصل كما ثبت في محله.
(الواجب النفسي والغيري، والأصلي والتبعي)
أما الأول فقد عرف بما امر به لنفسه، والغيري بما امر لأجل غيره.
وأورد عليه بأن اللازم من ذلك كون جميع الواجبات، أو ما سوى الشاذ منها واجبات غيرية، لأن كلها أو جلها مطلوبات لأجل الغايات الخارجة عن حقيقتها.
وأجاب عنه في الهداية بما حاصله: «الفرق بين طلب الشيء لثمرة مترتبة عليه، وبين طلبه من جهة كونه وسيلة إلى مطلوب آخر، والواجب الغيري هو الثاني» (3).
وتبعه في ذلك الشيخ (4) فأجاب بمثله، بل زاد في الحد، فقال: «إن الواجب الغيري ما أمر به للتوصل إلى واجب آخر، والنفسي ما لم يكن كذلك» (5).
قلت: الأمر النفسي بغرض التوصل إلى نفسي آخر بمكان من الإمكان، بل واقع كثيرا (6)، وعليه أو على ما يقرب منه حمل صاحب الهداية رحمه الله

(1) غافر: 36.
(2) مطارح الأنظار: 59.
(3) هداية المسترشدين: 193.
(4) الشيخ مرتضى الأنصاري طاب ثراه. (مجد الدين).
(5) مطارح الأنظار: 66.
(6) كالوضوء مثلا فإنه واجب نفسي بغرض التوصل إلى نفسي آخر وهو الصلاة، والأمثلة لذلك كثيرة.
(مجد الدين).
242

المقدمات الواجبة قبل وجوب ذيها (1).
فالأولى أن يقال: إن الواجب الغيري هو الواجب بالغير، والنفسي ما لم يكن كذلك وإن كان واجبا للغير.
وبيانه: أن الغيري ما لا وجوب له بذاته، ولا تتعلق به الإرادة والإنشاء والبعث ابتداء، وإنما يجب بوجوب غيره، ويكون مرادا ومنشأ بنفس إرادة الغير وإنشائه، فهو نظير لوازم الماهيات التي تجعل بنفس جعل ملزوماتها، وهذا بخلاف النفسي الذي هو متعلق الإرادة بذاته، وملحوظ للآمر ابتداء، وقد بعث إليه ووعد وأوعد عليه وإن كانت المصلحة الداعية إلى الأمر به أمرا آخرا حاصلا بسببه حتى التوصل إلى واجب نفسي مثله.
وبالجملة الفرق بينهما بالفرق بين نحوي الجعل الابتدائي والتبعي، لا بالفرق بين نحوي المصلحة، حتى ينتقض الطرد والعكس لكل من الحدين، ويجاب عنه بما لا يخفى التكلف فيه لذي عينين.
فاستبان مما حققناه: أن كل مقدمة للمطلوب يمكن أن يريدها بنفسها، ويبعث عليها، فيترتب على إطاعتها الثواب، وعلى مخالفتها العقاب، فتكون واجبة لذاتها.
ويمكن أن يجعل الأمر الآخر مصبا لطلبه فقط، فتكون واجبة بوجوبه، ومرادة تبعا لإرادة الغير، ويكون ذلك بحسب نظر الآمر، وملاحظة المرجحات الخارجة عن ذات المقدمات، فربما اتفق الآمران في مطلوب، واختلف طلبهما لمقدمة شخصية باختلاف حالي مأموريهما، هذا.
فلو رأيت المصلحة اللازمة في مباشرة عبدك - الذي لا يعرف الكتابة والحساب - دفاتر حسابك، فتارة تأمره أولا بتعلم الحساب والخط، وتثيبه وتعاقبه

(1) هداية المسترشدين: 217.
243

على التعلم وعلى تركه، ولا مصلحة لك فيه إلا أن ترشحه لمباشرة الدفاتر، ثم تأمره بها، وتارة تأمره بها ابتداء فيجب عليه التعلم لوجوبها، والغرض في الصورتين واحد، والأمران مختلفان، وما نشأ الاختلاف إلا من الذي نبهناك عليه.
وأما التقسيم إلى الأصلي والتبعي فإن كان لا بد منه (1)، فليكن الأصلي ما فهم وجوبه بخطاب مستقل، والتبعي ما فهم وجوبه تبعا لخطاب آخر، والفرق بين هذا التقسيم وبين التقسيم الأول: أن هذا تقسيم في مقام الإثبات، والأول في مقام الثبوت.
وعليه (2) فيتصور القسمان في الواجب النفسي، ويختص الغيري بالتبعي إلا أن يكون الخطاب بالمقدمة أصليا لغرض الإرشاد، وبيان المقدمية.
هذا، ولكن الذي يظهر من الشيخ الأعظم تفسير الأصلي بما فسرنا به الغيري، والظاهر المصرح به في كلام بعض الأساطين (3) أنه لم يثبت اصطلاح لهم في هذا التقسيم، فلا ينبغي صرف الوقت في الاصطلاح الذي لا مشاحة فيه.
وبما عرفناك من حقيقة الأمر في الأمر الغيري، تعرف أنه لا يمكن أن يكون محركا نحو الفعل، ولا داعيا إليه، لأنه إن كان مريدا لذي المقدمة فهو مريد لها بالضرورة وإن لم يتعلق بها أمر أصلا، وإلا فلا يعقل إتيانه ولو تعلق بها ألف أمر.
ولهذا (4) وقع الإشكال في المقدمات العبادية بناء على تفسير القربة بقصد الأمر، وانحصر التخلص عنه بالالتزام بكونها محبوبات ذاتية، أو بقصد الأوامر

(1) إشارة إلى عدم لزوم هذا التقسيم، وعدم ترتب فائدة مهمة عليه. (مجد الدين).
(2) أي بناء على هذا. (مجد الدين).
(3) الظاهر أن هذا البعض هو الشيخ حبيب الله الرشتي صاحب البدائع تلميذ شيخنا الأنصاري المتقدم ترجمته. (مجد الدين).
(4) أي ولأجل عدم إمكان كون الأمر الغيري محركا نحو الفعل، ولا داعيا إليه. (مجد الدين).
244

المتعلقة بمشروطاتها.
وأيضا لا يستحق فاعلها الثواب، ولا تاركها العقاب، وإن شئت قلت:
لا إطاعة لها، ولا عصيان إلا بإطاعة ذي المقدمة وعصيانه.
وما ورد في الكتاب والسنة من الثواب على بعض المقدمات كالآيتين الشريفتين من أواخر سورة التوبة (1) والأخبار الواردة في الثواب على الأقدام التي تخطى بها إلى زيارة سيدنا الحسين عليه السلام، ونحو ذلك، فلا يخلو الأمر فيها من أن يكون ذلك لمجرد الفضل من الله سبحانه لا للاستحقاق العقلي، والفضل بيده تعالى لا يعد ولا يحد، أو يكون على ذي المقدمة ولكن بين ذلك بتوزيعه على المقدمات.
والسبب فيه أن الثواب على الفعل يختلف باختلاف صعوبة المقدمات، وسهولتها، وكثرتها، وقلتها، فكلما كانت المقدمات أكثر أو أصعب كان الثواب على نفس الفعل أكثر، إذ (أفضل الأعمال أشقها) (2) ولا يمكن بيان هذا بأحسن من التوزيع المذكور، أو تكون تلك المقدمات مأمورة بها نفسا دعت إليها أهمية الغرض الحاصل منها كما عرفت إمكانها، ولهذا ورد الثواب على الأقدام عند الرجوع من الزيارة، مع أنها ليست بمقدمات مقربة إلى المطلوب، بل هي مبعدات عنه.
هذا، ولا يخفى أن أكثر المذكورات في الآيتين ليس من باب الثواب على

(1) الآية الأولى: ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ان يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح ان الله لا يضيع أجر المحسنين، والآية الثانية: ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون [التوبة: 120 و 121] (مجد الدين).
(2) النهاية لابن الأثير 1: 440، مجمع البحرين 4: 16 (حمز).
245

المقدمة، كما ذكره، بل هو إما من قبيل الواجبات النفسية، كقوله [تعالى]: لا ينالون من عدو نيلا (1) إذ هو معنى الجهاد الواجب، أو من قبيل الآثار المترتبة على ما يصيب الإنسان من التعب والنصب.
وقد ورد نظيره كثيرا فيما يصيب الإنسان من غير اختياره، لتمحيص الذنوب، كالأجر على الحمى ونحوها.
وأما العقاب على الحرام الغيري فلا أذكر اليوم موردا له، وإن كان فهو من باب التحريم النفسي لبعض مقدمات الحرام، نظير تحريم النظر إلى الأجنبية، والخلوة معها، لصرف مصلحة عدم الوقوع في الزنا، ونحو ذلك (2).
(وجوب المقدمة من أي هذه الأقسام؟)
وجوب المقدمة (3) يحتمل فيه وجوه ثلاثة:
أولها: أن تكون واجبة بوجوب غيري تبعي مترشح من الأمر النفسي المتعلق بذي المقدمة، فيكون في كل واجب له مقدمة وجوبان يختلفان في النوع.
ثانيها: أنه ليس إلا وجوب واحد، إن نسب إلى المقدمة كان غيريا، وإن نسب إلى ذيها كان نفسيا.
ثالثها (4): وجوبها نفسا بمعنى عدم تعلق الأمر النفسي حقيقة إلا بها.
أما الاحتمال الأول فهو المنسوب إلى المشهور، ويبعده صعوبة تصور أمر لا يوجد فيه شيء من خواص الأمر ولوازمه من ثواب أو عقاب، بل وطاعة

(1) سورة التوبة: 120.
(2) الظاهر كونه معطوفا بتحريم النظر إلى الأجنبية، ويمكن أن يكون معطوفا بالزنى، أي: وفي نحو الزنا كالقبلة. (مجد الدين).
(3) المراد من المقدمة في هذا المقام هو المقدمات الخارجية لا الداخلية. (مجد الدين).
(4) عليك بالتأمل في هذا الاحتمال بناء على أن المراد المقدمة الخارجية. (مجد الدين).
246

وعصيان، ولا يعقل أن يكون داعيا إلى الفعل ومحركا نحوه، فليس فيه أيضا ما هو حقيقة الأمر وثمرته، أعني كونه باعثا وداعيا.
واما الاحتمال الثاني، فقد ذكره الشيخ الأعظم في أثناء الكلام على المقدمة الموصلة، ودونك عبارة مقرر درسه، قال في أثناء كلام له، ما لفظه:
«وأما بناء على أن الطلب المتعلق بالمقدمات ليس طلبا برأسه، بل الموجود هو طلب واحد، فإن قيس إلى نفس الواجب كان طلبا نفسيا، وإن قيس إلى ما يتوقف عليه وجود الواجب من المقدمات يكون طلبا غيريا» (1) ثم رده بقوله:
«وذلك خروج عما هو المفروض من وجوب المقدمة، إذ الطلب الواحد مما لا يعقل أن يتعلق بمطلوبين مع اختلاف مراتبه بالنفسية والغيرية» (2).
قلت: هذا الاحتمال إن كان زيفه وما ارتضاه، فليس بذلك البعيد، بل ولعله أحسن الوجوه، إذ هو النمط الأوسط بين التفريط والقول بالنفي المطلق، والإفراط وهو القول بتعلق الوجوب النفسي بها ابتداء، وعدم وجوب ذيها أصلا.
وستعرف أن الدليل على وجوب المقدمة منحصر عنده في الوجدان، وهو لا يساعد على أكثر من وجود البعث إلى المقدمات عند الأمر بذيها في الجملة، بل لعل الوجه أن يكذب وجود الطلبات المتعددة، وأوامر عديدة مع اتحاد المطلوب، وكفاية الطلب الواحد، بل ولغوية الزائد، فتأمل.
وأيضا ليس الواجب إلا إتيان المأمور به، إذ ذات الوجود مع عدم لحاظ الإتيان ليس من فعل المكلف، ولا معنى لإتيان الشيء إلا إتيان مقدماته، وهل تجد معنى لقول القائل: اشتر اللحم. إلا دخول السوق، والحضور لدى القصاب وإعطاء الثمن، أو لا ترى أن الأمر بجميع هذه المقدمات ولو ظهرت

(1 و 2) مطارح الأنظار: 77.
247

بصور أوامر عديدة ليس إلا أمرا بشيء واحد هو الشراء، فليس في الذهن إذن إلا طلب واحد، إن لوحظ نسبته إلى ذات الشيء كان طلبا لنفسه، أو إلى مقدماته كان طلبا لغيره، وسيأتي توضيحه، ولا أخالك تحتاج إلى زيادة توضيح بعد هذا البيان في بحث مقدمة الموصلة.
ومن العجب أن هذا المقرر قد ذكر في بيان الدليل على وجوب المقدمة، ما فيه جنوح (1) إلى هذا الوجه الذي زيفه، بل قول به على أظهر الوجوه في كلامه.
هذا، وأما ما أورد عليه من أن الطلب الواحد لا يتعلق بمطلوبين، إلى آخره. ففيه أنه ليس من الباب الذي توهمه، بل هو من باب نسبة الشيء الواحد إلى شيئين، والاختلاف فيه بحسب اختلاف طرف النسبة، وهذا أمر غير عزيز (2)، فمن ضرب عمرا بأمر زيد، فهناك فعل واحد نسب إلى الفاعل مباشرة، وإلى زيد تسببا، ومثله ما لو قيل: احترام الملك في احترام خادمه، فما هو إلا احترام واحد نسب إلى الخادم، ويكون احتراما له بالحمل الشائع، ولكنه تبعي ناشئ عن إرادة احترام الملك.
وأما الاحتمال الثالث (3)، فبيانها: أن التكليف لا بد أن يتعلق بالمقدور، وليس المقدور إلا المقدمة.
وما يقال: إن المقدور بالواسطة مقدور، فهو أحجية (4)، معناها أن الواسطة مقدورة، فلا بد أن يتعلق الوجوب النفسي ابتداء بأول مقدمة ممكنة للواجب،

(1) الجنوح كركوع، الميل. وجنح الشيء أي مال. (مجد الدين).
(2) أي غير قليل. (مجد الدين).
(3) وبهذا الاحتمال قال صاحب تشريح الأصول. (مجد الدين).
(4) الأحجية بضم الهمزة، وسكون الحاء مهملة، وكسر الجيم معجمة، وفتح الياء مشددة، ومعناها اللغز. (مجد الدين).
248

وبعد إتيانها يتعلق بالمقدمة التي بعدها، وهكذا حتى يستوفي المكلف جميع المقدمات الممكنة، ويأتي بالجزء الأخير من العلة التامة التي يكون الفعل بعده واجبا.
ولمثل هذه الشبهة ذهب من ذهب إلى أن الأمر بالمسببات لا بد من إرجاعها إلى الأسباب، لأن المقدور ليس إلا السبب، بل والمسبب ليس من فعل الإنسان، فالحرق والغرق مثلا من فعل النار والماء، وإنما يكون من فعله الإلقاء مثلا.
والجواب (1) أنه ليس مرجع قولهم: المقدور بالواسطة مقدور. إلى ما ذكره، بل إلى أن الشيء مقدور بمقدورية واسطته، والمسبب فعل الإنسان بنفس كون أسبابه من فعله، وإلا لسرت الشبهة حتى إلى جل الأسباب، بل كلها، فتأمل (2).
(الدليل على وجوب المقدمة)
قد استدلوا على وجوب المقدمة بوجوه: أقواها: الوجدان، وعليه اعتمد مشايخنا القائلون بوجوبها.
وتقريره: أن المنصف إذا رجع وجدانه رأى من نفسه الملازمة بين طلب الشيء وطلب مقدماته، ووجد أيضا حالة نفسانية طلبية نحوها مترشحة عن طلب ذيها، ولا ينافي ذلك غفلة الآمر عن كثير من المقدمات حال الأمر، أو عدم

(1) قوله: والجواب - إلى قوله - بمقدورية واسطته، جواب عما بين به الاحتمال الثالث، وقوله: والمسبب - إلى قوله - بل كلها. جواب عما استدل به على أن الأمر بالمسببات لا بد من إرجاعه إلى الأسباب، لكن جميع ما استدل به عليه، بل خصوص قوله: «بل والمسبب ليس من فعل الإنسان» إلى آخره، فتأمل.
(مجد الدين).
(2) إشارة إلى عدم صلاحية هذا الاعتراض لإبطال مذهبه لإمكان التزامه به بل ظاهر كلامه، بل صريح مرامه التزامه بذلك فتدبر. (مجد الدين).
249

علمه بمقدميتها لأن المدعى أنه لو علم والتفت أراد المقدمات.
ومثل هذا الفرض أعني الغفلة وعدم العلم قد يكون في الواجبات النفسية، كما لو غرق ولد المولى وهو لا يعلم، أو لا يعلم أن الغريق ولده، فإن الطلب الفعلي وإن لم يكن متحققا لتوقفه على الالتفات المفروض عدمه، ولكن من المعلوم أنه يكفي في ترتب جميع آثار الأمر من الثواب والعقاب على العلم بأنه لو التفت لأمر.
هذا، وقد استدل بغير هذا من الوجوه الكثيرة المذكورة في المطولات، ولا يخلو جميعها عن خلل وفساد، ولنذكر من باب النموذج وجها واحدا منها هو كالأصل لغيرها، بل هو الأصل في هذه المسألة، وسائر الوجوه عبارات شتى عنه، وتقريرات مختلفة له، وهو ما ذكره أبو الحسين البصري (1)، وملخصه:
أن المقدمة لو لم تكن واجبة لجاز تركها فحينئذ (2) إن بقي الواجب على وجوبه لزم التكليف بالمحال، وإلا خرج الواجب عن كونه واجبا مطلقا.
والجواب عنه أن ما أضيف إليه الظرف بقوله: وحينئذ. إن كان الجواز نختار بقاء الواجب على وجوبه، ولا يلزم منه التكليف بالمحال، لأن تأثير الوجوب في القدرة غير معقول، وإن أراد الترك مع كونه جائزا، فنختار الثاني، ولا يلزم منه خروج الواجب عن كونه واجبا، لأن أمر الآمر يسقطه العصيان، كما يسقطه الإطاعة.
وإلى هذا الوجه يرجع ما ذكره السبزواري من أن المقدمة إن لم

(1) قد ذكرنا ترجمته وكتبه ووفاته مفصلا في كتابنا المسمى بالفوائد الرضوية في شرح الفصول الغروية. (مجد الدين).
(2) ذهب صاحب المعالم وغيره إلى أن قوله: وحينئذ. أي حين الجواز، وذهب السبزواري رحمه الله وغيره إلى أن قوله: حينئذ. أي حين الترك، وذهب الشيخ رحمه الله بأن المراد هما معا أي حين الترك على وجه الجواز. (مجد الدين).
250

تكن واجبة لزم عدم استحقاق تارك الواجب المطلق للعقاب أصلا، فإن الجالس في بيته التارك للخروج مع الرفقة إلى الحج إما أن يكون مستحقا له في زمان ترك الخروج، أو في زمان الحج، لا سبيل إلى الأول لأنه لم يترك واجبا، ولا إلى الثاني، لأنه تكليف بالمحال.
والجواب عنه أنه يمكن القول بكل من الاحتمالين، فإن قلنا بالأول، نقول: إنه يستحق العقاب على ترك الحج، لا على ترك مقدمته، لأن ترك الشيء يصدق بترك آخر مقدماته الممكنة، وإن قلنا بالثاني، نقول: إنه يعاقب على تركه الواجب الذي كان متمكنا منه، ولا يلزم مقارنة القدرة مع زمان العصيان.
(في اعتبار الإيصال أو قصد التوصل في المقدمة)
وجوب المقدمة يتبع وجوب الواجب من حيث الإطلاق، والاشتراط، والتعيين، والتخيير، وغير ذلك (1)، فمقدمات الواجب المطلق واجبة مطلقا، ومقدمات الواجب المشروط مشروطة بشرط الواجب بعينه، ولا يعقل اشتراطها بغيره.
وليس التخيير بين أنواع المقدمات للواجب التعييني إلا كالتخيير بين أفراده فلا يتوهمن المخالفة بين الواجب ومقدمته من هذه الجهة، ولا يعقل أن يكون شرطا في وجوبها، إلا ما هو محقق لمفهومها أعني توقف وجود الواجب عليها.
فما نسب إلى صاحب المعالم من توقف وجوب الواجب الغيري على إرادة الغير، وإلى صاحب الفصول من توقف وجوب المقدمة على الإيصال، فهو ناش من عدم التأمل في كلامهما، ومقام هذين الفحلين المبرزين أسمى من ذلك

(1) إشارة إلى غير ما ذكره نحو العينية والكفائية وغيرهما. (مجد الدين).
251

وأرفع.
والتأمل الصحيح يشهد بأنهما يعتبران في وقوع الواجب الغيري على صفة الوجوب بحيث يكون مصداقا له، إرادة الغير، أو إيصاله إليه (1) كما يتضح لك قريبا، وتعرف إن شاء الله أن ما ذهبا إليه هو الصحيح، ومرادهما واحد وإن اختلف التعبيران، وكيف يخفى عليهما أن لازم ما نسب إليهما أن يعود الأمر بالمقدمة إلى ضرب من العبث والمجون، إذ معناه حينئذ افعل المقدمة إن كنت تفعل ذا المقدمة، وباللازم افعل المقدمة إن كنت تفعلها، لأن فاعل الواجب فاعل لمقدمتها بالضرورة، وأن لا يكون العصاة مكلفين بالمقدمات أصلا، إلى غير ذلك من ضروب الفساد المترتبة على هذا الوهم.
وأما وقوعها على صفة الوجوب فهل يشترط فيه داعي التوصل بها إلى الغير أو ترتبه عليها وكونها موصلة إليه أو لا يشترط فيها شيء منها؟ وجوه نسب الأول إلى الشيخ الأعظم.
وليست هذه النسبة بثابتة عندي، وإن كان يوهمها عنوان مقرر بحثه، ولكن التأمل في سائر ما نقل عنه يقضي بغير ما ذكره في العنوان.
وحاصل ما يستفاد منه أنه - طاب ثراه - يرى توقف خصوص المقدمات العبادية على قصد الغير، لا من حيث مقدميتها كما هو مفروض البحث، بل من حيث كونها عبادة، وقد بنى ذلك على مقدمات، فرغ من إثباتها في مواضعها، من أن المقدمات العبادية ليست مقدمات بذواتها، كما هو الشأن في التوصليات، بل وصف المقدمية ثابت لها باعتبار كونها عبادة ولا عبادة إلا بالامتثال، ولا امتثال إلا بقصد الأمر بحيث يكون الأمر باعثا نحو الفعل، فلا بد في قصد الأمر

(1) وقد صرح بذلك صاحب الفصول - طاب ثراه - عند الكلام على هذا المقام في التنبيه الأول من تنبيهاته التسعة في مبحث مقدمة الواجب. (مجد الدين).
252

الغيري من قصد العنوان إذ لا يعقل بعث الأمر على عنوان آخر غير ما تعلق به، فلا بد - إذن - من قصد عنوان المقدمة على وجه يكون الداعي إلى إيجادها ملاحظة المنفعة التي فيها، وهذا لا يعقل بدون قصد الغير، إذ لا يعقل القصد إلى شيء تترتب عليه فائدة لأجل تلك الفائدة بدون أن تكون تلك الفائدة مقصودة، لكونه تناقضا.
ولعل ذلك مراد كل من حكم بوجوب قصد الاستباحة في الوضوء، إلى آخر ما نقله عنه هذا المقرر، وما ذكرناه أخيرا نموذج منه.
وأنت إذا تأملت في مجموعه، وحملت مجمله على مبينه، عرفت أنا قد أصبنا المحز، ولم نخط المرمي في فهم مرامه، واتضح لديك أنه - قدس سره - لا يرى توقف المقدمات العبادية على قصد الغير، ليكون تخصيصا لقسم من المقدمة بهذا الحكم، وتقييدا لحكم العقل بالملازمة بين طلب الشيء وبين طلب مقدماته، بل يرى أنها لا تكون مقدمة إلا بوصف العبادية، ولا تكون عبادة إلا بقصد الغير، وما أبعد ما بين دخل القصد في تحقق معنى المقدمية، وما بين وقوعها على صفة الوجوب بعد تحقق مفهومها وكونها مقدمة بالحمل الشائع.
ولا أدري كيف خفي ذلك على مثل الأستاذ صاحب الكفاية قدس سره فنسب أولا إلى الشيخ اعتبار داعي التوصل في مطلق المقدمات، ثم أخذ في بيان أمر واضح ما كاد يخفى على أقل تلامذته من: «أن الوجوب لم يكن بحكم العقل إلا لأجل المقدمية والتوقف، وعدم دخل قصد التوصل فيه واضح» (1).
ثم رد بضاعته إليه في صورة الاعتراض عليه قائلا: «ولذا اعترف بالاجتزاء بما لم يقصد به ذلك في غير المقدمات العبادية» (2).

(1) كفاية الأصول: 114.
(2) كفاية الأصول: 114.
253

ولم يقنع بذلك حتى جعله تخصيصا بلا مخصص، وأخذ بعده فيما لا مساس له بالمقام أصلا من الثواب بأشق الأعمال ونحوه مما أطال به المقال.
وأقول توضيحا لمراد الشيخ (1) وإن كنت في غنية عنه بما قدمناه: أنه لا شك في عدم مدخلية القصد في مناط حكم العقل بوجوب المقدمة بعد ثبوت عنوان المقدمية، وهذا مما لا ينكره الشيخ، بل يعترف به كما فصله المقرر في أول كلامه، ولكنه يرى أن المقدمات العبادية لا يثبت لها هذا العنوان، ولا تكون مقدمة بالحمل الشائع، إلا بقصد الامتثال الملازم لقصد العنوان، وقصد العنوان فيها لا يعقل بغير قصد الغير، وقد سبق بيانه، وما ذاك إلا مثل ما لو فرض أخذ الالتفات أو حضور القلب في مقدمية الوضوء مثلا بحيث لا تكون مقدمة إلا بذلك، أو فرض اعتبار الموالاة فيه مثلا، فهل ترى من نفسك الاعتراض عليه بمثل قوله: «إن الوجوب لم يكن بحكم العقل إلا لأجل المقدمية، وعدم دخل الالتفات أو حضور القلب فيه واضح» (2).
وأعجب من ذلك تعجبه من شدة إنكار الشيخ للمقدمة الموصلة مع قوله بقصد الإيصال، وأن جميع ما اعترض به على الموصلة وارد عليه (3)، وقد عرفت البعد الشاسع بين اعتبار الشيء في حقيقة المقدمة وبين اعتباره في اتصافها بالوجوب، وما أوقع هذا الأستاذ - وهو من علمت - إلا قصور تقرير هذا المقرر، وقلة تحصيله لمراد أستاذه، وطالما (4) أوقع بذلك أمثاله في أمثاله.
وبالجملة ما ذكره الشيخ (5) حق بعد ثبوت المقدمات المتقدمة، ولكنك قد

(1) الأنصاري (رحمه الله). (مجد الدين).
(2) كفاية الأصول: 114.
(3) كفاية الأصول: 115.
(4) أي وطالما أوقع المقرر بقصور تقريره وقلة تحصيله لمراد أستاذه هذا الأستاذ في أمثال المقام. (مجد الدين).
(5) الأنصاري (رحمه الله). (مجد الدين).
254

عرفت فيما سبق أن معنى العبادة ليس قصد الأمر، وعلى فرضه فالمقدمات العبادية في أنفسها مستحبة أو واجبة، وأن الأمر الغيري لا يعقل أن يكون باعثا نحو الفعل وداعيا إليه، بل ينبعث المكلف نحو المقدمة بعين الأمر النفسي المتعلق بذي المقدمة فتذكر وراجع.
ويناسب المقام ما كان يذكره السيد الأستاذ - طاب ثراه - من أن القول بوجوب ذات المقدمة من غير مدخلية لقصد الإيصال فيه لا ينافي الالتزام به في بعض الموارد لجهة خارجية كما لو توقف إنقاذ الغريق على التصرف في الأرض المغصوبة، فإنه يختص جواز التصرف فيها بما كان للإنقاذ، لأن إذن الشارع في الغصب مع حرمته ذاتا لم يكن إلا لأهمية مصلحة الإنقاذ والإذن في المبغوض من الضرورات التي تقدر بقدرها، فيكفي الإذن في خصوص التصرف بقصد الإنقاذ، ولا يتجاوزه إلى غيره، وبهذا كان يدفع الإلزامات التي يوردها القائل بوجوب خصوص المقدمة الموصلة، كما ستعرفها إن شاء الله.
أقول: هذا حق، لو كان وجوب المقدمة مما تناله يد الجعل والتصرف، وأما بناء على ما يذهب إليه المحققون - وهو سيدهم - من أنه لازم لوجوب ذي المقدمة بحيث يستحيل انفكاكه عنه بحكم العقل، ولا مناط في حكمه سوى التوقف من غير مدخلية شيء فيه غيره، فلازمه أن يكون الحرام المهم إذا كان مقدمة للواجب الأهم كالمباح، إذ القصد لا مدخلية له في التوقف الذي هو مناط حكم العقل، والحكم العقلي لا يقبل التخصيص.
وأيضا إذا كان من الممكن عقلا تخصيص الوجوب بنوع من المقدمة لجهة أخرى، فلما ذا نقموا على صاحب الفصول قوله بوجوب خصوص الموصلة، واعترضوا عليه بمثل ما اعترضنا على هذا القول؟ فراجع.
ولا ينبغي للمتأمل أن يقيس المقام بما لو كانت للواجب مقدمة مباحة، إذ حكم العقل هناك بلزوم إتيان خصوص المباحة ليس إلا بمناط الجمع بين
255

الغرضين، وأين ذلك من المقام الذي لا يمكن نيل الأهم، إلا برفع اليد عن المهم.
(القول في المقدمة الموصلة)
لا شك في أن الإيصال كيف ما اعتبر، لا دخل له في مقدمية المقدمة، وإلا لزم الدور الواضح (1)، إذ الإيصال عنوان ينتزع من تأثيرها في ذي مقدمتها، فيتوقف إذن على مقدميتها، ولو
توقفت المقدمية على الإيصال لزم المحال (2) المذكور، وهذا لوضوحه في غنية عن البيان، فضلا عن الإطالة في الكلام عليه، كما صنعه مقرر الشيخ (3).
وأيضا لا شك في أن الإيصال لا يمكن اعتباره في الوجوب، لما عرفت من أن مقدمات الواجب تابعة له إطلاقا واشتراطا، وهذا أيضا من الوضوح بمكان، فلا داعي إلى جعله من محتملات القول بوجوب خصوص الموصلة، والإسهاب (4) في رده كما صنعه صاحبنا (5) العلامة أدام الله أيامه (6).
وقد صرح مشيد صرح (7) الموصلة صاحب الفصول بوضوح فساده، فالتعب في رده يذهب إدراج (8) الرياح (9).
-

(1) لأن المقدمية تتوقف على الإيصال، لأن ذلك هو المفروض، والإيصال يتوقف على المقدمية، لأن الإيصال - كما بينه - عنوان ينتزع من تأثير المقدمة في ذيها، فتدبر وتأمل، فإن المقام من مزال الأقدام.
(مجد الدين).
(2) يعني الدور المتقدم. (مجد الدين).
(3) انظر مطارح الأنظار: 77.
(4) الإسهاب مصدر من باب الإفعال ومعناها: الإطناب. (مجد الدين). وانظر لسان العرب 1: 475.
(5) وهو الشيخ عبد الكريم اليزدي الحائري، وصنع ذلك في كتابه المسمى بالدرر الفوائد. (مجد الدين).
(6) درر الفوائد 1: 82.
(7) أي: القصر. (مجد الدين) وانظر مجمع البحرين 2: 384 (صرح).
(8) بفتح الهمزة. (مجد الدين).
(9) مثل عربي يضرب في مقام الإشارة إلى عدم الفائدة لمناسبة معناه. (مجد الدين).
256

وأما اعتباره في وقوع الواجب على صفة الوجوب فقد ذهب إليه العلامة - العم - وبينه في مواضع من كتابه، وملخص ما ينبغي أن يقال في هذا البحث:
أن اعتبار الإيصال المذكور قد يكون على نحو التقييد إما بالإيصال الخارجي على نحو الشرط المتأخر بالمعنى المتقدم، أن بالعنوان المنتزع منه، كالتعقب مثلا على نحو الشرط المقارن، وقد يكون المعتبر لحاظ الإيصال من غير تقييد للمقدمة به أصلا.
أما التقييد به بتقريريه، فأعظم ما يرد عليه أن القيد لا بد أن يكون في مرتبة المقيد بحيث يتمكن الآمر من ملاحظتهما معا، كالإيمان مع الرقبة، وأما ما كان متأخرا عنه فلا يعقل التقييد به كما لا يصح إطلاق لفظ الإطلاق عليه، فالأمر بالنسبة إلى أمثال هذه الصور ليس بمطلق ولا بمقيد، ولهذا امتنع تقييد الأمر بكل من الإطاعة والعصيان، والحكم (1) بكونه مشكوكا فيه أو مقطوعا به، بل وامتنع إطلاقه بالنسبة إليها، لأن ما لا يصح إطلاقه لا يصح تقييده، وهذا أصل شريف يبتنى عليه مسائل مهمة، وتنحل به عقد مشكلات جمة، وستعرف بيانه - إن شاء الله - في مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي.
إذا عرفت ذلك، نقول: إن الإيصال من القيود المتأخرة عن مرتبة ذات المقدمة، فلا يعقل أن يكون قيدا لها، وأيضا يلزم منه أن يعود الأمر بالمقدمة إلى طلب الحاصل، إذ لا معنى للإيصال إلا إتيان الواجب، والذي يأتي بالواجب آت بمقدمته ضرورة، وإلا خرجت عن كونها مقدمة، فيكون حاصل الأمر بالمقدمة، إرادة المقدمة إن كان يأتي بالمقدمة، وقد مر ذلك.
وبالجملة، لا يعقل أن يكون الإيصال منوعا للمقدمة في لحاظ الآمر أولا،

(1) في هذه العبارة ثلاث احتمالات، الأول: أن يكون الحكم معطوفا على التقييد، فيكون مرفوعا. الثاني:
أن يكون معطوفا على مضاف إليه التقييد أعني الأمر، فيكون مجرورا. الثالث: أن يكون معطوفا على الكل فيكون مجرورا أيضا، والأول أولى، والثاني أوسط، والثالث أضعف. فتأمل. (مجد الدين).
257

لكي يأمر بنوع خاص منها، كما أن الإطاعة ليست منوعة للأمر، فالآمر بالمقدمة يأمر بها بغرض الإيصال، لا بقيد الإيصال، كما أن الآمر بالشيء يأمر به بغرض الإطاعة، لا بقيد الإطاعة.
هذا وقد أورد عليه بوجوه قابلة للدفع.
منها: أن اللازم منه عدم حصول الطهارات الثلاث (1) إلا بعد إتيان الصلاة، وهذا مع وضوح فساده، يلزم منه عدم الصلاة أيضا، إذ (لا صلاة إلا بطهور) (2) فالصلاة - إذن - متوقفة على الطهور، والطهور متوقف عليها، وهذا هو الدور الصريح.
قلت: هذا الإيراد يبتنى على تفسير القربة بقصد الأمر، وقد عرفت منعه سابقا، وعلى فرضه فالطهارات الثلاث حتى التيمم مستحبات في أنفسها، أو واجبة، فيكفي في حصولها قصد الأوامر النفسية المتعلقة بها، بل لا يعقل غير ذلك، لما عرفت سابقا من عدم إمكان كون الأمر الغيري محركا نحو الفعل وداعيا إليه.
هذا، على أن الاعتراض لا يتوجه إلا على احتمال كون القيد نفس الإيصال، وأما بناء على احتمال كونه الصفة المنتزعة منه كالتعقب، فلا مساس لهذا الاعتراض به أصلا، لأن الشرط على تقدير حصول الإيصال حاصل فعلا.
هذا، على أن لمانع أن يمنع توقف الصلاة على امتثال الأمر المقدمي بل يجعلها متوقفة على تلك الأفعال الخاصة كالغسلتين والمسحتين في الوضوء مع قصد الإيصال وإن لم يتوصل به أصلا، فتأمل (3).

(1) الوضوء والغسل والتميم. (مجد الدين).
(2) التهذيب 2: 14 / 545. من لا يحضره الفقيه 1: 22 / 67.
(3) لعل وجه التأمل أن ذلك يتم إذا كان المعتبر قصد الإيصال، كما ذهب إليه في المعالم، لا الإيصال الخارجي كما هو المطلوب. (مجد الدين).
258

ومنها: أن الإيصال لا يتحقق إلا بوجود ذي المقدمة، وعلى القول بوجوب خصوص الموصلة يلزم أن يكون ذو المقدمة واجبة لمقدمته، ويترشح عليه الوجوب من مقدمته التي لم تجب إلا بترشح وجوبه عليها.
قلت: لمانع (1) أن يمنع قابلية الواجب الغيري لإيجاب الغير نظرا إلى نقصانه في مرتبة الوجود وعدم تأصله، بل هو كذلك لدى ذي النظر الدقيق، ولهذا تجب مقدمات المقدمات ولو بوسائط كثيرة بنفس وجوب ذي المقدمة، ويترشح الوجوب على جميعها منه دفعة واحدة، لأن مقدمة مقدمة الواجب مقدمة لنفس الواجب، والجميع داخل في موضوع ما لا يتم الواجب إلا به، فيجب جميعا بوجوبه، لا أن كل مقدمة توجب مقدمتها، وتلك أيضا كذلك، وهلم جرا.
وإذا كان الأمر كذلك فيها، فبالأجدر أن لا يسري وجوبها إلى ما لم تجب إلا به، فتكون علة لعلتها.
على أنه (2) لا محذور في الالتزام به، لأنه ليس من الدور الباطل، ولا من التسلسل المحال، كما لا يخفى على المتأمل.
ومنها: ما ذكره المقرر من أن القول بوجوب المقدمة الموصلة يرجع إلى القول بوجوب مطلق المقدمة (3)، وأطال في بيانه إطالة مملة، وتبعه فيه جماعة.
وحاصل ما ذكره: «أن تقييد المأمور به قد يكون بما لا يكون مغايرا في الوجود مع المقيد، كالفصول اللاحقة للأجناس وقد يكون مغايرا معه في الوجود،

(1) هذا ليس بجواب في الحقيقة لأن المورد لم يقل ذلك في مقام الارتضاء به، بل قاله معترضا على القول بوجوب خصوص الموصلة، كما يتضح ذلك بالتأمل في كلامه، بل هو عند التأمل صريح مرامه، على أن ذلك لو لم يكن فاسدا لم يكن اعتراضا وإيرادا، فتأمل. (مجد الدين).
(2) هذا هو التحقيق في الجواب لأن الدور المحال هو الذي يتوقف وجود الشيء على ما يتوقف وجوده عليه بحيث يلزم تقدم الشيء على نفسه، وكذلك التسلسل المحال هو الذي يلزم منه وجود أشياء غير متناهية، والمقام ليس بذلك الإبرام، فتأمل فإنه مختلف الأفهام. (مجد الدين).
(3) مطارح الأنظار: 77.
259

كما لو أمر بإتيان زيد فجاء مع عمرو، والواجب على الأول أمر واحد لا معنى للقول بأنه يجب المطلق مقدمة للمقيد، بخلاف الثاني، فيجب إيجاد ذات المطلق ثم إيجاد القيد، ليتصف به المقيد، وقيد الإيصال من القسم الثاني فيجب إيجاد المطلق أعني ذات المقدمة، ثم إيجاد القيد ليتصف به المقيد» (1) انتهى.
ويمكن أن يقال (2): إن قيد الإيصال وإن كان من القسم الثاني ولكنه فرق بينه وبين المثال المذكور في كلامه، إذ المقدمة ليست مقيدة بغيرها من أخواتها، بل كل مقدمة مقيدة بنفس الواجب، فلنفرض لإيضاحه واجبا ليست له إلا مقدمة واحدة، أو المقدمة الأخيرة لأحد الواجبات، فتلك المقدمة واجبة بنفسها بالوجوب الغيري، وقيدها واجب بالوجوب النفسي، والإيصال ليس بقيد مستقل مغاير مع إتيان الواجب، إذ لا معنى له إلا إتيان الواجب، فليس المقيد - إذن - إلا ذات المقدمة بقيد لحوق الواجب به.
فحينئذ، نسأل هذا المعترض عن الفساد الذي يترتب على ذلك، فإن كان لزوم كون الواجب مقدمة لمقدمته فقد عرفت الجواب عنه، وإن أراد غيره فهو عين مدعى القائل بوجوب خصوص الموصلة، إذ المقيد وهو ذات المقدمة واجب بالوجوب الغيري، وقيده واجب بالوجوب النفسي، فيجب الإتيان بها بالوجوب الغيري مقدمة لحصول القيد، أعني الواجب، وهذا عين ما يدعيه، فأين الاعتراض عليه؟ وهذا المقام يحتاج إلى مزيد تأمل.
وأما اعتبار لحاظ الإيصال في وقوعها على صفة الوجوب من غير أن يكون قيدا فيها فهو الحق الذي لا معدل عنه، ولا مناص عن الذهاب إليه، وكان السيد الأستاذ - طاب ثراه - يعتمد عليه، وينقله عن والدي العلامة.

(1) مطارح الأنظار: 77.
(2) أي: ويمكن أن يقال في الجواب (مجد الدين).
260

وحاصله: أن الطلب يتعلق بالمقدمات في لحاظ الإيصال بمعنى أن الآمر بعد تصور المقدمات بأجمعها يريدها بذواتها، وتلك الذوات بهذا اللحاظ (1) لا ينفك عن الإيصال، وترتب المطلوب النفسي عليها، ولو فرض لحاظه (2) مقدمة منفكة عن سائر أخواتها لم يكن مريدا لها، لأنها وإن كانت بذاتها موردا للإرادة ولكن مطلوبيتها في ظرف ملاحظة سائر المقدمات معها، ولم يكن كل واحدة منها مرادة على نحو الإطلاق بحيث تسري الإرادة إلى صورة انفرادها، وهذا الوجه يتحد في النتيجة مع القول بالموصلة، ولا يرد عليه شيء من الاعتراضات السابقة.
هذا حاصل ما استفدنا منه - أحسن الله إليه - ولكنه يحتاج إلى توضيح ومزيد بيان، إذ لقائل أن يقول: لا تتعقل مرتبة بين الإطلاق والتقييد (3)، ولازم عدم التقييد كفاية المطلق، فتقع على صفة الوجوب وإن لم تكن موصلة، وستعرف منا - إن شاء الله - في أثناء البحث عن مقام الإثبات ما يزيح كل شك وريب، ويصونه عن كل وصمة وعيب.
وأما الكلام في مقام الإثبات، فملخص القول فيه أن الغرض من المقدمة إن كان مجرد إمكان الواجب الأصلي من ناحيتها بعد ما كان عدمها يوجب العدم فلا وجه للتقييد بالموصلة، إذ هذا الغرض يحصل بغيرها فلا وجه للتخصص بها.
وإن كان الغرض ترتب الواجب عليها فلا شك في أنها مع تجردها عن الإيصال لا يتعلق بها الغرض، فلا يمتثل بها الأمر، والحكم في هذا المقام للوجدان وحده.
ومن الطريف أن كلا من الطائفتين يستدل به على معتقده، ويصول به على خصمه.

(1) أي لحاظ الإيصال، وقيل: أي بتصور المقدمات بأجمعها. (مجد الدين)
(2) يعني لحاظ الآمر. (مجد الدين)
(3) أي الإطلاق بالنسبة إلى قيد الإيصال والتقييد به. (مجد الدين).
261

ويكفي القائل بوجوب مطلق المقدمة بداهة سقوط الأمر بكل مقدمة بعد إتيانها، ضرورة سقوط الأمر بالامتثال، وأنه لا يبقى للآمر بعد علمه بإتيانها بعث إليها ولا إرادة، فلا يأمر بعد قطع مسافة ما إلى قطعها ثانيا، بل يأمر بطي باقي المسافة، بل يكون طلبها محالا لأنه يرجع إلى تحصيل الحاصل، وأن الإيصال لا يترتب على المقدمة وحدها إذا كان الواجب يتوقف على غيرها أيضا فلا تكلف إلا ما في وسعها، وما هو إلا ما عرفت من إمكان الوقوع من ناحيتها بعد امتناعها، فالذهاب إلى السوق إذا صار مقدمة للطبخ لا يعقل أن يترتب عليه سوى الوقوف على حانوت القصاب مثلا، وأما وجود المطبوخ فيتوقف على مقدمات أخرى، ولا يكون إلا إذا قامت كل منها بوظيفتها، ولا يعقل أن يكون له أثر إيقاد النار، ولا نصب القدر عليها مثلا.
ويكفي القائل بخصوص الموصلة بداهة أن الجائع الذي يطلب الخبز والصادي الذي يروم الماء لا يسد جوع هذا، ولا يروي عطش ذاك إمكان الخبز والماء، وإذا لم يقع أحدهما على غرضه، فامتناعه من جميع الجهات وإمكانه إلا من جهة واحدة عنده على حد سواء، بل كثيرا ما يكون عدمها عنده أولى من وجوده، بل يكون وجودها مبغوضا عنده، وذلك فيما إذا كانت المقدمة مشتملة على مفسدة في نفسها.
ألا ترى أن الآمر إذا أمر عبده بطلب غريم له في بلد بعيد، وبذل له نفقة كثيرة لسفره، وأركبه أعز خيله، فسافر العبد ولم يطلب الغريم، يصح له مؤاخذته قائلا: إذا كنت عاصيا بترك الطلب فلما ذا أتلفت مالي، وأتعبت فرسي، وتركت الواجب من سائر خدمتي؟ وكذا لو كان الآمر قد نزل بعينه الماء، وكان له عبد كحال (1) فأمر بإخراج

(1) قداح (خ ل).
262

الماء من عينه، فخرق طبقات بصره وغادره (1) يقاسي أمض الأوجاع على فراشه، ثم عصى ولم يخرج ماء عينه فهل يشك المنصف الذي ليفسد وجدانه بمزاولة الشبهات، أن للآمر أن يعاقبه على ما أورد عليه من الحرج والألم في أعز أعضائه (2) قائلا: إذا لم تمتثل أمري فلما ذا خرقت بصري، وأطلت ألمي وسهري ورميتني بالمقعد المقيم (3)، وتركتني أتململ على الفراش تململ السليم (4)، فهل ترى للعبد أن يدفع عن نفسه العقوبة، بل يطلب منه - كما هو مذهب جماعة - على فعله المثوبة قائلا: إني قد أديت الواجب وفعلت ما فعلت بإرادتك وأمرك فهب إن لي معصية واحدة، فلي عليك ضروب من الإحسان حيث أخرجت مطلوبك الممتنع من عدة جهات إلى الإمكان؟ وقد عرفت - سابقا - أن السيد الأستاذ كان يتخلص عن هذه الأمثلة بمدخلية القصد، ويلتزم بعدم الأمر بالمقدمة إلا مع القصد.
ويرده مضافا إلى ما عرفناك به سابقا، أن الوجدان شاهد بصحة العقاب على المقدمات المبغوضة ذاتا حتى لو كان عازما على الإطاعة وقت الإتيان، ويرى له بعده العصيان، فراجع وجدانك وأنصف.
وغيره (5) من مشايخنا (6) كان يلتزم بأشدية العقاب على ترك الواجب الأصلي فيعود إليه السؤال عن سبب أشديته، وكيف يكون الإتيان بواجبات

(1) غادره: تركه وبقاه، ومثلها في المعنى أغدره. (مجد الدين).
(2) العين. (مجد الدين)
(3) هو الألم الذي يقوم الإنسان ويقعد من شدته. (منه ره).
(4) السليم: اللديغ، وبالفارسية: (ما مار گزيده) وهو بهذا المعنى مراد في هذا المقام، ويحتمل أن يكون المراد الجزع الذي أشفى على المهلكة. (مجد الدين)
(5) منصوب لكونه معطوفا على السيد الأستاذ. (مجد الدين)
(6) صاحب الكفاية طاب ثراه (مجد الدين)
263

متعددة وامتثال أوامر عديدة سببا لأشدية العقاب على معصية واحدة بدلا عن أن يكون سببا لتخفيفه، أو ليس الوجدان أعدل شاهد على أن تلك المقدمات باقية على حالها من عدم المصلحة وتمام المفسدة والمبغوضية إذا لم يترتب عليه المقصود؟ وأنت - أعزك الله - إذا تأملت في هذه الأمثلة وضممت إليها ما لا يحصى من أمثالها عرفت أن لا مناص عنها إلا بمصادمة الوجدان، ومكابرة العيان، والخروج عن مذاهب الحكمة الحقة إلى السفسطة المموهة، وأي عاقل يحكم على المستطيع الذي يخرج إلى حانوت خمار واقع في طريق القافلة ليشرب الخمر ويرتكب ضروبا من الكبائر بأنه يفعل الواجب في قطع الطريق، أو أن أهل الشام وأهل الكوفة لما خرجوا إلى صفين
(1) (2)، وإلى الطف (3) لقتال الإمامين (4) كان سفرهم سفر طاعة (5) يجب عليهم القصر في الصلاة لا الإتمام لأن (6) الجهاد مع الإمام والدفاع عنه واجب، ومقدمته واجبة مطلقا؟ (7).
هذا وعهدي بمجلس حافل اجتمعت فيه بخدمة الشيخ الأستاذ صاحب الكفاية - طاب ثراه - وأنا إذ ذاك غلام قد بقل خدي أو كاد، فجرى حديث هذه المسألة وكان من أشد المنكرين للمقدمة الموصلة، وبعد بحث طويل أوردت عليه أمثال هذه الأمثلة فلم يكن جوابه إلا قوله: إن معك الوجدان، ومعي (1) إشارة إلى الحرب التي وقعت بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه ومعاوية بن أبي سفيان لعنة الله عليه، وكانت بداية هذه الواقعة في سنة ست وثلاثين من الهجرة المقدسة، ولشهرة هذه الواقعة المبكية لا نزيد على ما ذكرناه. (مجد الدين)

(1) إشارة إلى الحرب التي وقعت بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه ومعاوية بن أبي سفيان لعنة الله عليه، وكانت بداية هذه الواقعة في سنة ست وثلاثين من الهجرة المقدسة، ولشهرة هذه الواقعة المبكية لا نزيد على ما ذكرناه. (مجد الدين)
(2) إنه اسم مكان وقع فيه الحرب. (مجد الدين).
(3) كربلاء. (مجد الدين)
(4) علي بن أبي طالب، وابنه الحسين صلوات الله عليهما. (مجد الدين)
(5) على بعض الوجوه في سفر الحرام. (منه رحمه الله)
(6) دليل لكون سفرهم سفر طاعة... إلى آخره. (مجد الدين)
(7) سواء كانت موصلة أو لا. (مجد الدين)
264

البرهان، فقلت: إن أقصى مدارج العلم أن تنتهي مسائله إلى الوجدان، فإذا سلمته وعجزت عن الجواب - ولا أعجز إن شاء الله - فليس البرهان إلا شبهة في مقابلة البداهة، فسكت رحمه الله ولم ينبس ببنت شفة، واشتهر بين أهل النظر أمر هذه المناظرة.
(الحكومة بين الفريقين)
وإني أرى أن كلا من الفريقين قد أصاب شاكلة الصواب في دعوى الوجدان، وفي حصول الغرض، وعدم حصوله، إذ الغرض غرضان، غرض في كل مقدمة مقدمة، وهذا لا شك في حصوله بمجرد إتيانها من غير توقف على غيرها، ويدل عليه جميع ما عرفت في تقريبه.
وغرض يتعلق بمجموع المقدمات، والغرض الأول تابع للثاني، كما أن الثاني تابع للغرض الأصلي الذي هو الواجب الأصلي فيتعلق الغرض أولا بالواجب الأصلي، فيدعو إلى الإتيان بجميع المقدمات، لأن الواجب لا يحصل إلا به.
والغرض الثاني يدعو إلى إتيان كل مقدمة مقدمة لأن المجموع لا يحصل إلا بها، فيريد كلا منها، ليحصل الإمكان من ناحيتها، ويريد المجموع ليحصل به الوجود.
وإن شئت قلت: الغرض من المقدمة الواحدة وجود الكل ومن وجود الكل وجود الواجب الأصلي، فالغرض غرضان غرض في كل مقدمة مقدمة أعني الإمكان من جهتها وحدها، وهو يحصل بإتيانها كما ادعاه منكر الموصلة، وغرض في الكل وهو الوجود، فيجتمع الغرضان معا مع وجود ذي المقدمة وينتفي الأول إذا انتفى الثاني، ولا يبقي غرض فيها مع الانفراد.
265

والأغراض المترتبة الكثيرة غير عزيزة، فالإنسان يريد الدراهم لشراء الأرض، وشراء الأرض للزرع، والزرع للثمر، فإذا فرض عدم ترتب الثمر، انتفت الثمرة من جميع تلك المقدمات، وتوجد جميعا بوجودها.
ويوضح ما قلناه ملاحظة الواجبات النفسية، فإن الغرض قد يتعلق بالمركب من عدة أجزاء، ويسري ذلك الغرض إلى كل جزء جزء في حال الانضمام، ويختلف الغرضان، إذ الغرض من الجزء حصول الكل، ومن الكل الفائدة المترتبة عليه، والأول تابع للثاني بمعنى لغويته، وعدم تعلق الأمر به لو لا الغرض الأول، بل ربما يكون مبغوضا في لحاظ الانفراد كما يظهر من ملاحظة المعاجين المركبة من الأجزاء السمية والدرياقية (1).
ولا فرق بين الواجبات النفسية والغيرية من هذه الجهة إلا اختلاف نوع الفائدة، وهو غير فارق في المقام.
ومع انتفاء الغرض ينتفي الأمر قطعا انتفاء المعلول بانتفاء علته، وقد تنبه لذلك مقرر الشيخ - طاب ثراه - فقال ما نصه:
«فإن قلت: مراده (2) من شرط الوجود ما هو شرط لوجود الواجب على صفة الوجوب، كما يظهر ذلك بملاحظة وجود الأجزاء الواجبة في الصلاة، فإن شرط وجود الجزء على وجه الوجوب لحوق الأجزاء الأخر به، فكما ان (الحمد) لا يجزي عما هو الواجب منه ما لم تلحقه الأجزاء اللاحقة، فكذلك المقدمة لا تقع على صفة الوجوب ما لم يترتب عليها الغير، فهو شرط لوقوعها على هذه الصفة، لا شرط لوجودها حتى يدور، ولا لوجوبها حتى يكون متضح الفساد.
قلت: نعم ينبغي حمل كلامه (3) عليه».

(1) أي الترياق. (مجد الدين)
(2) أي مراد صاحب الفصول. (مجد الدين)
(3) أي كلام صاحب الفصول على المذكور. (مجد الدين)
266

ثم أجاب عنه بأن الحال في الأجزاء ليس بأوضح منها في المقدمات والتزم بسقوط الأمر المتعلق بكل جزء بعد الإتيان به (1)، وبينه بما يقرب من بيان الشيخ الأعظم في مسألة استصحاب الصحة من أن الجزء باق على وجوبه لأن ما وقع على صفة يمتنع زوالها عنه، وبطلانه لفقد شرط آخر كالموالاة، أو لمانع كالحدث لا يوجب فساد الجزء المأتي به (2)، وليس هنا محل بيان هذا البحث، وتعرفه إن شاء الله في مسألة الاستصحاب.
ويكفي هناك (3) أن نقول: إن صحة الجزء إذا لم يلحقه سائر الأجزاء صحة تأهلية، بمعنى أنه لو انضمت إليه لكان محصلا للغرض، وأنا الضمين بأن الصحة بهذا المعنى لا ينكرها القائل بالموصلة، ومثل هذا التأهل يمكن فرضه في نفس مفهوم المقدمة، فيقال: لو لا الجبل العظيم في الطريق لكان السير فيه مقدمة للوصول إلى ميقات الحج، ولو لا هزال هذه الناقة لكان السير عليها مقدمة للوصول إليه، ولقد تشيع شطر هذا الرجل.
والحمد لله على أمرين: براءة صاحب الفصول مما احتمله أولا في كلامه من كون الإيصال شرطا لوجود المقدمة أو في وجوبها، ومن اعترافه بكون الوجوب شأنيا لا فعليا.
وفذلكة المقام أن بهذا الجمع الذي عرفناك تحل هذه المعضلة، وتكون النتيجة هو القول بخصوص الموصلة.
ويظهر مراد السيد الأستاذ من قوله: إن المقدمة واجبة في لحاظ الإيصال لا بقيد الإيصال، وتبيين جلية الحال فيما نقله المقرر عن الشيخ (4)، من أن القول

(1) مطارح الأنظار: 76.
(2) فرائد الأصول: 389 و 390
(3) أي في مسألة الاستصحاب. (مجد الدين)
(4) الشيخ مرتضى الأنصاري. (مجد الدين)
267

بالموصلة إما إنكار لوجوب المقدمة، أو قول بوجوب العلة التامة (1)، ولا بد أن يسري منها إلى جميع المقدمات، وتكون النتيجة هو القول المشهور، لأنا نختار الثاني، ونقول بالسراية، لكن بالمعنى الذي عرفت لا بالمعنى الذي فهمه المقرر، فأطال القول وأسهب (2)، بل تجاوز الحد، ولم يحسن الأدب، فإن كان مراد المشهور بالسراية ما عرفناك فالحمد لله على الوفاق.
وإن شئت زيادة توضيح لما قلناه - ولا أخالك في حاجة إليها - فعليك بقياس الإرادة التشريعية بالتكوينية بعد التأمل فيما سلف من أن الإرادتين متحدتان بحسب الحقيقة ومتعلقهما واحد، لا فرق بينهما إلا توسيط فعل الغير في وقوع الفعل المطلوب دون الثانية، فمن أمر عبده بضرب عدوه كمن باشر ضربه بيده، وكلاهما مريد للضرب وفاعل له، ولكن هذا ضارب بيده وذاك بيد عبده.
ثم راجع نفسك فيما تزاوله من أعمالك وسوف تجدها، إذا أردت نيل درة غالية كيف تكابد مشقة الأسفار، وتجوب لطلبها البراري، وتغوص البحار، وترى الصلاح في كل مقدمة من مقدمات الوصول إليها، إذا علمت بأنها سوف يجتمع، ويترتب عليها الوصول إليها، بخلاف ما إذا علمت خلاف ذلك، فإنك لا تجدها تتحرك ولو خطوة نحو واحدة منها، لأنها لا ترى مصلحة فيها، وأمر الغير إحدى مقدمات وقوع الفعل، فلا بد أن يكون الحال فيه كالحال في سائرها.
فحق - إذن - للعلامة - العم - أن يقول: «لا يأبى العقل أن يقول الآمر الحكيم: أريد الحج وأريد المسير الذي يتوصل به إلى فعل الواجب دون مالا يتوصل به إليه، بل الضرورة قاضية بجواز تصريح الآمر بمثل ذلك، كما أنها

(1) مطارح الأنظار: 77.
(2) أسهب: أي أكثر الكلام. (مجد الدين)
268

قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيتها له مطلقا، أو على تقدير التوصل به إليه» (1) انتهى المقصود من كلامه الآن.
وقد ركب المتأخرون عنه كل صعب وذلول في طلب الاعتراض عليه، وفي مقدمتهم الفاضل المقرر، وما ظفرت أكفهم بغير مقابلة هذه الضرورة الواضحة بدعوى ضرورة حصول الإمكان من جهة المقدمة ولو كانت غير موصلة، وقد عرفت في الحكومة السابقة أنها حق، ولكن الإمكان إنما يكون مطلوبا إذا ترتب عليه الغير وإلا فما يصنع الآمر به، وما ذا غرضه فيه، ويا حبذا الإمكان لو كان يبرئ علة أو يروي غلة.
نعم يكون الإمكان من جهة واحدة مطلوبا إذا ترتبت المقدمات، وحصل الإمكان من جميع الجهات، وهذا معنى ترتب الواجب عليه.
ومن الطريف أن الأستاذ - طاب ثراه - أنكر هذه الضرورة، ورماها بالمجازفة أولا، ثم لم يلبث حتى قادته السليقة المستقيمة والفطرة السليمة إلى الإذعان بها، بل زاد على ما ادعاه صاحب الفصول، فقال وهذا نصه:
«نعم إنما يكون التفاوت بينهما في حصول المطلوب النفسي في إحداهما، وعدم حصوله في الأخرى من دون دخل لها في ذلك أصلا، بل كان بحسن اختيار المكلف وسوء اختياره، وجاز للآمر أن يصرح بحصول هذا المطلوب في إحداهما وعدم حصوله في الأخرى، بل من حيث إن الملحوظ بالذات هو هذا المطلوب، وإنما كان الواجب الغيري ملحوظا إجمالا بتبعه كما يأتي أن وجوب المقدمة على الملازمة تبعي، جاز في صورة عدم حصول المطلوب النفسي التصريح بعدم حصول المطلوب أصلا، لعدم التفات إلى ما حصل من المقدمة، فضلا عن كونها مطلوبة، كما جاز التصريح بحصول الغيري، مع عدم فائدته لو التفت إليها» (2)

(1) الفصول الغروية: 86.
(2) كفاية الأصول: 118 - 119.
269

انتهى.
فتراه قد صرح بجواز التصريح بما ادعيناه بعد ما زاد عليه عدم الالتفات إلى ما حصل، ولا ينافيه قوله: كما جاز التصريح إلى آخره، لأن حصول الغيري في الجملة مع عدم الفائدة مما لا ننكره، فتذكر ما سبق في الحكومة، وقد عرضت ذلك على غير واحد ممن يدعي الإحاطة بحقائق الكفاية، فلم يك عندهم سوى حمل الجواز على المجاز، وأنا أحاشي هذا الأستاذ من التمسك
بمسامحة لفظية في مسألة عقلية محضة.
وخير من ذلك أن يقال: إن مراده التفصيل بين صورتي الالتفات وبين عدمه فيخص التجويز بالثاني، ولا يرد عليه حينئذ سوى الخروج عن مدعى صاحب الفصول.
ثم إنه ممن يرى عدم سقوط الأمر بإتيان المأمور به إذا لم يحصل الغرض منه، ويقول ببقائه ما بقي الغرض، كما سبق في مسألة قصد القربة، وهنا قد صرح بعدم الفائدة في حصول الغيري مع عدم الإيصال فهلا قال بمثله في المقام، وكفانا مئونة النقض والإبرام.
وقال - بعد ما تقدم نقله بعدة سطور - ما لفظه: «لا شهادة على الاعتبار في صحة منع المولى عن مقدماته بأنحائها إلا فيما إذا رتب عليه الواجب لو سلم ضرورة أنه وإن لم يكن الواجب منها حينئذ غير الموصلة إلا أنه ليس لأجل الاختصاص بها في باب المقدمة، بل لأجل المنع عن غيرها المانع من الاتصاف بالوجوب هاهنا كما لا يخفى.
مع أن في صحة المنع عنه نظرا، وجهه: أنه يلزم أن لا يكون ترك الواجب حينئذ مخالفة وعصيانا، لعدم التمكن شرعا منه، لاختصاص جواز مقدمته بصورة الإتيان به، وبالجملة يلزم أن يكون الإيجاب مختصا بصورة الإتيان،
270

لاختصاص جواز المقدمة بها وهو محال، فإنه يكون من طلب الحاصل المحال» (1).
أقول: استدلال صاحب الفصول مبني على جواز تصريح الآمر بعدم إرادة غير الموصلة من المقدمات، لا على المنع منها، فكأن هذا الكلام جملة مستقلة عنه، وجواب عن اعتراض مقدر، وأيا كان فهو حق (2)، ولا بد لك من تسليمه بعد ما مر عليك من أمثلة ذلك في طي الحكومة بين الفريقين.
ثم نقول: إن المنع عن غير الموصلة منها إن كان لجهة خارجية كما في الفرد المحرم من المقدمات فهو خارج عن محل البحث قطعا، وقد أشار إليه فيما تركنا نقله من كلامه.
وإن كان لعدم الإيصال يرد عليه جميع ما أورده على التقييد بالموصلة، من وجود ملاك الوجوب في مطلق المقدمة، فكيف يجوز له المنع مع اتحاد المناط.
وأيضا إن كان تقييد وجوب المقدمة بالإيصال ممتنعا لتأخره رتبة، ولم يعقل تنويع المقدمة به - كما هو الحق، وقد مر بيانه - فكذلك تقييد الحرام بغير الموصلة، وإن جاز تقييد الحرام بغير الموصل فليجز تقييد الواجب بالموصل.
هذا، على أن المنع عن جميع المقدمات إلا الموصلة عبارة ثانية عن تقييد الواجب بالموصلة، إذ لا فرق بحسب الواقع بين قوله: يجب الإتيان بخصوص الموصلة، وبين قوله: لا تأت بغيرها.
وبالجملة تسليم هذا المنع تسليم للقول بالموصلة، وذهاب إليه من طريق بعيد، وتعبير عنه بما يشبه الأحجية والإلغاز.
وأما ما قرره في آخر كلامه من لزوم اختصاص الإيجاب بصورة الإتيان به، وانتهائه إلى طلب الحاصل، ففيه أن القائل بوجوب خصوص الموصلة لا يرى الإيجاب مختصا بهذه الصورة، بل يرى ذلك بديهي الفساد - كما مر - وإنما

(1) كفاية الأصول: 120.
(2) أي جواز تصريح الآمر على المنع من المقدمات الباقية. (مجد الدين).
271

يرى اختصاص مصداق الواجب بها، وللمكلف القدرة في كل مقدمة على أن يوجدها بصفة الوجوب بأن يأتي بالواجب بعد إتيانها، وأن يأتي بها بخلاف ذلك، فإذا كان قادرا على الواجب، وعالما بقدرته صح تكليفه لحصول شرط التكليف بوجود الاختيار، والقدرة على الفعل والترك معا، وأين هذا من طلب الحاصل المحال؟ نعم لو كان الجواز مشروطا بنفس الاختيار كان أمرا بما لا بد من وجوده، ولزم المحال.
هذا، وقد توهم جماعة منهم هذا الأستاذ، أن منشأ توهم صاحب الفصول خلطه بين الجهة التقييدية والتعليلية (1).
ولا أدري كيف يصح نسبة هذا الخلط بل الخبط إلى مثله وهو القائل في بيان الفرق بين قسمي الواجب الغيري والنفسي ما نصه:
«المطلوب من المكلف في الواجب الغيري إنما هو إيجاده للتوصل به إلى غيره، على أن يكون التوصل به إليه مطلوبا منه وإن كان حاملا على الطلب أيضا، والمطلوب في الواجب النفسي إيجاده فقط، والتوصل به إلى أمر آخر أو حصوله إن كان مطلوبا فهو أمر خارج في كونه مطلوبا منه، وإنما هو حامل على الطلب» إلى آخره (2).
والغرض من نقل هذا الكلام تنبيه الناظر فيه إلى أنه - طاب ثراه - لم يغفل عن الفرق بين جهتي التعليل والتقييد، بل صرح باجتماعهما في الواجب الغيري، وجعل هذا الاجتماع هو الفارق بين قسيميه، وصرح بإمكان وجود الجهة التعليلية في الواجب النفسي، فكيف ينسب إليه الخلط بينهما؟

(1) كفاية الأصول: 120.
(2) الفصول الغروية: 80 - 81.
272

وإن كان ثمة خلط فهو لمنكري مقالته، حيث خلطوا بين الغرض الأولي والثانوي، أو بين الغرض من الشيء في حد ذاته، وبين الغرض منه في حال اجتماعه مع غيره بالبيان الذي عرفته.
على أن لقائل أن يقول: إن الحاكم بوجوب المقدمة هو العقل، وليس في أحكامه تعليل إلا وهو راجع إلى التقييد، فإذا اعترف المخالف بأن المناط في حكم العقل الإيصال الفعلي لا الشأني فلا بد له من الاعتراف بالتقييد به، فليتأمل.
ولعل لذلك قال في الفصول: «إن وجوب المقدمة لما كان من باب الملازمة العقلية فالعقل لا يدل عليه زائدا على القدر المذكور» (1).
وأورد عليه الأستاذ البارع (2) في البدائع، بقوله: «المسألة عقلية، والمسألة العقلية منوطة بمناط منقح عند العقل فلا بد من النظر في مناط حكم العقل، وأنه ما ذا يقتضي؟ فما ذكره من عدم حكم العقل بوجوب غير الموصلة من غير أن يبين مناط حكم العقل خروج عن دأب المحصلين، إذ المشاجرة في المقام تنتهي إلى أن مناط حكم العقل هل هو موجود في مطلق المقدمة، أو مختص بالموصلة؟» (3) إلى آخره.
وأقول عذرا: أيها الأستاذ فصاحب الفصول لم يخرج عن مرسومك الشريف الذي جعلت خلافه خروجا عن دأب المحصلين، بل بين مناط حكم العقل فقال: «حيث إن المطلوب من المقدمة مجرد التوصل بها إلى الواجب وحصوله، فلا جرم يكون التوصل إليه وحصوله معتبرا في مطلوبيتها فلا تكون

(1) الفصول الغروية: 86.
(2) الشيخ حبيب الله الرشتي أستاذ الجد العلامة أعلى الله مقامه. (مجد الدين).
(3) بدائع الأفكار: 339.
273

مطلوبة إذا انفكت عنه» (1) وقد نقله هذا الأستاذ (2)، ولا أدري كيف غفل عنه، فخرج بذلك عن دأب المحققين وهو شيخهم إذا حاولوا الاعتراض.
وخاتمة القول: أن كلام صاحب الفصول ليس فيه ما يؤخذ به، وينتقد عليه إلا تعبيره في بعض كلامه عن اعتبار الإيصال بلفظ التقييد، ولعله من باب المسامحة.
وقد عبر عنه في أكثر كلامه بلفظ الاعتبار والإناطة، وأما أصل المدعى فهو الحق الذي يجب به الإذعان بحكم (3) العدلين: الوجدان والبرهان، وقد أزحت - والفضل لله تعالى - عنه كل شبهة وريبة، وتركته أجلى من مرآة الغريبة (4) وإن قال الفاضل المقرر: «وضوح فساد هذه المقالة بمكان لا نقدر على تصور ما أفاده، فضلا عن التصديق به، فنحن بمعزل عن ذلك بمراحل» (5).
ولو لا مخافة الوقوع فيما نعيته عليه من مخالفة سنة الآداب، لقلت: إن هذا الفاضل مأخوذ بإقراره، ومعذور في إنكاره، ولكني أعوذ بالله من أن تأخذني سورة حمية الجاهلية فأمتطي غارب العصبية.
وأما ما يترتب على هذا الأصل ويمتاز فيه القولان فقد ذكر الإمامان - الجد والعم - عدة أمور، أهمها أمران:
أولهما: ما سبقت الإشارة إليه من جواز المقدمة المحرمة للواجب الأهم مطلقا ترتب عليه الواجب أم لا، بناء على القول بوجوب مطلق المقدمة،

(1) الفصول الغروية: 86.
(2) كفاية الأصول: 118.
(3) الأنسب أن تكون الشهادة مكان الحكم، أعني بشهادة العدلين بدل بحكم العدلين، كما لا يخفى.
(مجد الدين).
(4) مثل عربي أصله: أن المرأة إذا تزوجت في غير أهلها ولم تجد ناصحة في أحمائها عمدت إلى مرآتها فبالغت في تصفيتها وجلائها. (منه عفي عنه).
(5) مطارح الأنظار: 75.
274

وتخصيصه بما يترتب عليه بناء على تخصيص الوجوب بالموصلة.
وثانيهما: ما يأتي في المسألة الآتية - إن شاء الله - من تصحيح العبادة إذا كانت ضدا للواجب (1).
وأما ما نسب إلى صاحب المعالم (2) من اعتباره قصد الإيصال في وجوب المقدمة، وما يوجد في كلامه من الحكم بعدم وجوب المقدمة مع عدم الداعي إلى فعل الواجب، أو وجود الصارف عنه (3)، فينبغي حمل جميع ذلك على اعتبار نفس الإيصال، والنسبة بين جميع ذلك وبين الإيصال وإن كانت عموما من وجه ولكن لما كان الغالب ملازمة القصد مع ترتب الواجب وعدمه مع عدم الداعي أو وجود الصارف حتى أنه لا يقع الانفكاك بينهما إلا نادرا عبر رحمه الله عن اعتبار الإيصال بهذه العناوين، وفي المسألة الآتية - إن شاء الله - مزيد توضيح لذلك.
(وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها)
بناء على ما سمعته من أن وجوب المقدمة غيري ينبغي أن يتأخر عن

(1) هداية المسترشدين: 219، الفصول الغروية: 95.
(2) هو شيخ الإسلام والمسلمين وآية الله في الأرضين، جمال الملة والحق والدين، أبو منصور حسن بن زين الدين الشهيد الثاني، صاحب التصانيف المعروفة المشهورة، منها:
كتاب منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان.
اقتصر - طاب ثراه - في هذا الكتاب على ذكر هذين النوعين - أعني الصحيح والحسن - من الأخبار نظير كتاب الدرر والمرجان وهو تأليف العلامة في ذلك المعنى.
ولقد رأيت المجلد الأول من منتقى الجمان، وهو موجود عندنا الآن.
ومنها: كتاب معالم الدين وملاذ المجتهدين، خرجت منه مقدمته المشهورة المتداولة بين أهل العلم وشطر من الطهارة وغير ذلك من المصنفات.
تولد - قدس سره - سنة 959، وتوفي سنة 1011، فكان عمره الشريف اثنين وخمسين سنة.
فنسأل الله أن يجزيه عنا أفضل جزاء المحسنين. (مجد الدين).
(3) معالم الدين: 71.
275

وجوب ذي مقدمتها تأخر المعلول عن العلة، والتابع عن المتبوع، فلا يعقل تقدمها عليه، ولذا وقع الإشكال في موارد يوهم خلاف ذلك، كوجوب الغسل قبل طلوع الفجر من يوم الصوم، ووجوب السير إلى الحج على النائي قبل هلال شهره، وإلى الجمعة قبل ظهرها، ووجوب حفظ الماء على المحدث العالم بعدم التمكن منه بعد دخول الوقت - على ما قيل - إلى غير ذلك مما يقف عليه المتتبع، ومن هذا القبيل كل مقدمة لا يسعها وقت الواجب المطلق، أو تلزم مقارنتها لأول أجزائه، وقد ذكر للتخلص عن هذا الإشكال وجوه:
أولها: ما نسبه جماعة أولهم الفاضل المقرر، إلى العلامة - الجد - ولخصه بقوله: «إن وجوب الإتيان بهذه المقدمات ليس من حيث استلزام وجوب ذيها، كما هو المراد بوجوب المقدمة، بل وجوبها نفسي وإن كانت المصلحة في وجوبها النفسي إمكان التوصل بها إلى ذيها.
قال، فيما حكي عنه: إن فسر الوجوب الغيري بما يكون وجوب الفعل منوطا بوجوب غيره، وحاصلا من جهة حصوله من غير أن يكون له مطلوبية بحسب ذاته، بل تكون مطلوبيته لأجل مطلوبية غيره - لم يتعقل وجوبه الغيري قبل حصول الوجوب النفسي للغير، لتفرع حصوله على حصوله، وتقومه به وإن تعلق به أمر أصلي.
وإن فسر الوجوب الغيري بما لا تكون المصلحة الداعية إلى وجوبه حاصلة في نفسه، بل يكون تعلق الطلب به لأجل مصلحة تحصل بفعل غيره لا يجوز تفويت المكلف لها، فيجب عليه ذلك ليتمكن من إتيانه بذلك الغير - أمكن القول بوجوبها قبل وجوب ذيها، لا من جهة الأمر الذي يتعلق بذيها، بل بأمر أصلي يتعلق به، وتكون الحكمة الباعثة على تعلق الطلب به تحصيل الفائدة
276

المترتبة على فعل آخر، يكون ذلك الفعل موصلا إليه إن بقي المكلف على حال يصح تعلق التكليف به عند حضور وقته، وقضية ذلك استحقاق المكلف للعقاب عند تركه لكن عد ذلك من الوجوب الغيري محل تأمل، بل لا يبعد كونه من الوجوب النفسي» (1).
ثم أورد عليه الفاضل المقرر، بقوله: «وفيه إن الوجوب الغيري على التفسير الثاني إما أن يكون من لوازم نفس المقدمية ووجوبها كأن يكون وجوب ذي المقدمة يلازم هذا النحو من الوجوب في المقدمة، وإما أن لا يكون هذا النحو من الوجوب من لوازم وجوب ذيها.
فعلى الأول لا وجه لاختصاص ذلك ببعض المقدمات بعد استوائها فيما هو المناط للوجوب.
وعلى الثاني فلا مدخل له في المقام، إذ الإشكال ناش من جهة وجوبها الغيري على التفسير الأول، والتزام الوجوب النفسي لا يدفع الإشكال الناشئ من جهة الغير» (2) انتهى كلامه.
أقول: على ما وقع له من التحريف في النقل، لا النسبة على إطلاقها ثابتة إليه، ولا الاعتراض وارد عليه.
أما الأول (3) فلأنه - طاب ثراه - لم يقل بهذا النحو من الوجوب النفسي في جميع المقدمات المذكورة، بل قال به في خصوص ما دل الدليل على كون الوقت شرطا في وجوبه ووجوده معا، كالوضوء للصلاة اليومية، وحكم في غيره بأن الوجوب فيه من الغيري المحض، وأن الوقت ظرف للفعل، وجعل الوجوب في ذي مقدمته من قبيل الوجوب الذي سماه أخوه - البارع - بالوجوب المعلق،

(1) مطارح الأنظار: 50، وانظر هداية المسترشدين: 217.
(2) مطارح الأنظار: 51.
(3) أي [قوله]: «ولا النسبة على إطلاقها ثابتة إليه». لا «التحريف»، (مجد الدين).
277

وقد سبق بيانه في تقسيمات الواجب.
ونزيدك إيضاحا لذلك بنقل بعض كلامه، قال - بعد بيان أقسام الواجب - ما نصه:
«إذا لم يكن الوقت شرطا في وجوب الفعل، بل كان شرطا في وجوده كما هو الحال في الحج بالنسبة إلى وقته، فلا إشكال في وجوب المقدمة قبل حضور الزمان المضروب له، بناء على القول بوجوب المقدمة، سواء وسع الوقت لمقدمات الفعل أو لم يسعه وليس ذلك حينئذ من مسألتنا، إذ ليس ذلك من تقدم وجوب المقدمة على ذيها.
ومن ذلك أيضا وجوب غسل الجنابة في الليل للصوم الواجب، إذ الظاهر كون النهار محلا لوقوع الصوم، لا شرطا في وجوبه، كما في الصلاة اليومية بالنسبة إلى أوقاتها، حيث دل الدليل على كون الوقت شرطا في وجوبها وصحتها» (1) انتهى.
وهذا الكلام وغيره مما تركنا نقله حذار الإطناب صريح في أنه لا يقول بالوجوب النفسي إلا فيما دل الدليل على عدم تقدم الوجوب على وقت الفعل، فكيف نسب (2) إليه القول به في جميع المقدمات المذكورة.
ومنه يظهر عدم ورود ما اعترضه عليه، بل عدم محصل له لأنه صريح في التزامه بأن الوجوب في المقدمات المشروط وجوبها بالوقت ليس ناشئا عن وجوب الغير، فإذن أي موقع لقول المعترض: «والتزام الوجوب النفسي لا يدفع الإشكال الناشئ من جهة الغير» (3) بل وأي موقع لما احتمله في كلامه من كون هذا النحو من الوجوب للمقدمة من لوازم وجوب ذيها، ولما اعترض عليه من

(1) هداية المسترشدين: 21.
(2) بصيغة المعلوم ليكون فاعله الفاضل المقرر، ويحتمل أن يكون بصيغة المجهول. (مجد الدين).
(3) مطارح الأنظار: 51.
278

عدم الوجه للاختصاص ببعض المقدمات حينئذ؟ وما نشأ جميع ذلك إلا من الذهول عن مراد هذا الإمام.
وقد اتضح للمتأمل في ما نقلنا من كلامه، وفيما ذكرته في شرحه أنه - طاب ثراه - يجعل الوجوب في جميع هذه الموارد من قبيل المعلق، إلا فيما دل الدليل على عدم الوجوب قبل وقت الفعل، فإنه يجعله من الوجوب النفسي.
ولا بد لصاحب الفصول من غض الطرف عن الوجوب التعليقي فيه، والقول بالوجوب النفسي أو بغيره، وهب إنه قد يأتي له القول بوجوب الغسل قبل الفجر، فكيف يمكنه الالتزام بتقدم وجوب الوضوء للصلاة، أو حفظ الماء له قبل الوقت، مع قولهم عليهم السلام: «إذا دخل الوقت فقد وجب الطهور والصلاة» (1) الدال على عدم وجوب الوضوء قبل وقت الصلاة.
فتلخص مما عرفناك به أنه - طاب ثراه - يقول بالوجوب النفسي المطلوب للغير في بعض هذه الموارد، وبالوجوب التعليقي في بعض.
أما بيان الأول منهما فقد سبق في أوائل بحث المقدمة، وتصحيح هذه الموارد به فلا شيء فيه، إلا أنه يلزم منه عدم العقاب على ترك الصلاة، بل على ترك المقدمة، وهو بعيد.
ولا يخفى أن هذا الاستبعاد يهون خطبة قلة الموارد التي لا يمكن التخلص فيها إلا به، إذ لا أعرف الآن منها إلا وجوب حفظ الماء قبل وقت الصلاة، وهذا على أنه لم يتحقق الإجماع فيه، ولم يتضح الدليل عليه لا يصعب الالتزام باللازم المذكور فيه، إذ الوضوء له بدل شرعي تصح الصلاة به، ولا يصدق تركها معه.
اللهم إلا أن يفرض معه عدم التمكن من الصعيد أيضا، وهو فرض نادر

(1) الفقيه 1: 22 / 67، التهذيب 2: 140 / 546.
279

جدا، والالتزام به في مثل هذا الفرض البعيد أمر هين، وكذلك وجوب السير إلى صلاة الجمعة قبل الوقت، إذ الظهر بدل عنها.
وأما بيان الثاني منهما أعني الوجوب التعليقي فقد سبق أيضا بعض القول فيه، ويأتيك تمامه قريبا إن شاء الله تعالى الوجه الثاني: ما أفاده الشيخ الأعظم، وإليه يرجع ما اختاره السيد الأستاذ - طاب ثراه - وحاصله بعد تلخيصه وتوضيحه:
«أن الحاكم بوجوب المقدمة هو العقل، ولا شك في أنه يقضي بلزوم تحصيل مقدمات الواجب المشروط قبل حصول شرطه إذا علم بحصول الشرط فيما بعد، وعدم قدرته على المقدمة عنده، إذ لا يفرق العقل بين أجزاء الزمان بعد العلم بالتكليف في الزمان الآتي لا محالة في وجوب المقدمة، كما يكشف عن ذلك ملاحظة طريقة العقلاء فإن بناءهم على جواز مؤاخذة من علم بثبوت تكليف عليه في الزمان اللاحق ولم يتهيأ له بترتيب مقدماته مع قدرته عليه حتى طرأ عليه العجز عن الامتثال في وقته، ألا ترى أنه لو قال لعبده: سافر غدا. وكان السفر فيه محتاجا إلى مقدمات يلزم تحصيلها قبله فتركها مع القدرة عليها، فعجز لذلك عن المسافرة، حكم عليه العقلاء باستحقاق العقاب» هكذا نقله عنه تلميذه العلامة في البدائع (1)، وهو محصل ما نقله مقرر درسه، وتعقبه بقوله:
«لا يقال: إن الوجوب في الواجب المشروط يتعلق بالفعل بعد حضور زمانه ووجود الشرط، فليس وجوبه فعليا، ومع ذلك لا يعقل الوجوب الفعلي للمقدمة، إذ يلزم منه مزية الفرع على الأصل.
لأنا نقول: إن الواجب صفة منتزعة من الفعل الواجب الذي تعلق به الطلب في نظر الطالب، وبعد تحقق الطلب - كما هو المفروض - لا وجه لعدم

(1) بدائع الأفكار: 317.
280

اتصاف ذلك الفعل بالوجوب، لوجوب ما هو المناط في انتزاعه عن محله» (1).
وحاصل هذا الجواب على اختلاف عبارات الذاهبين إليه، وإسهابهم في بيانه: أن الطلب المشروط بشيء لا يوجب تحصيل ذلك الشيء - كما سبق بيانه - ولكن بعد العلم بحصوله له يؤثر في المكلف، ويلزمه بإيجاد المقدمات، مقدمة كانت على وقت الفعل أو مقارنة معه.
الوجه الثالث: ما تقدم نقله عن العلامة - الجد - وحرره أخوه البارع، فقال: «وينقسم الواجب باعتبار آخر إلى ما يتعلق وجوبه بالمكلف، ولا يتوقف حصوله على أمر غير مقدور له، وليسم منجزا.
وإلى ما يتعلق وجوبه به ويتوقف حصوله على أمر غير مقدور له، وليسم معلقا كالحج، فإن وجوبه يتعلق بالمكلف من أول زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة، ويتوقف فعله على أمر غير مقدور.
والفرق بين هذا النوع وبين الواجب المشروط، هو أن التوقف هناك للوجوب، وهنا للفعل» (2).
ثم أورد على نفسه - بعد كلام له - بما حاصله:
«إن التكليف لا بد أن يكون مشروطا ببلوغ المكلف إلى الوقت الذي يصح وقوعه منه، وإلا لزم التكليف بالمحال، ولازم الاشتراط عدم الوجوب قبل البلوغ».
وأجاب عنه بما حاصله: «أن الشرط ليس نفس البلوغ، بل كونه ممن يبلغ ذلك الزمان ونحوه من الاعتبارات اللاحقة بالقياس إليه وهو حاصل فعلا، والبلوغ كاشف عن وجوده - إلى أن قال - الفرق بين الواجب المعلق والمشروط أن الموقوف عليه في المشروط شرط الوجوب، وفي المعلق شرط الفعل، فلا

(1) مطارح الأنظار: 53.
(2) الفصول الغروية: 79.
281

تكليف في الأول بالفعل ولا وجوب قبله، بخلاف الثاني، ففرق - إذن - بين قول القائل: إذا دخل وقت كذا فافعل كذا. وبين قوله: افعل كذا في وقت كذا.
فإن الأولى جملة شرطية مفادها تعلق الأمر والإلزام بالمكلف عند دخول الوقت، وهذا قد يقارن وقت الأداء فيه لوقت تعلق الوجوب كما في المثال، وقد يتأخر عنه كقولك: إن زارك زيد في الغداة فزره في العشي.
والثانية جملة طلبية مفادها إلزام المكلف بالفعل في الوقت الآتي.
وحاصل الكلام أنه ينشئ في الأول طلبا مشروطا حصوله بمجيء الوقت، وفي الثاني ينشئ طلبا حاليا، والمطلوب فعل مقيد به.
ومن هذا النوع كل واجب مطلق توقف وجوده على مقدمات مقدورة غير حاصلة، فإنه يجب قبل وجوب المقدمات إيجاد الفعل بعد زمن يمكن إيجادها فيه، وإلا لزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا، أو التكليف بما لا يطاق» (1) انتهى.
وأورد عليه بوجوه، أعجبها: ما ذكره المقرر - وتبعه غيره فيه - «من عدم الفرق بين كواشف الطلب من اللفظ، وأنه لا فرق بين أن يجعل الزمان بحسب القواعد النحوية قيدا للحكم، أو قيدا للفعل، كأن الخطب في الواجب المعلق منحصر في الفرق بين التعبيرين فأتعب نفسه وضيع نقسه (2) وملأ أكثر من صفحة في عدم الفرق بين العبارتين، وظن أن مرامه يظهر غاية الظهور فيما لو تجرد الطلب من الكواشف اللفظية، وثبت تحققه بدليل لبي.
ثم قال: فهل تجد من نفسك فرقا فيما علمت بوجوب شيء في زمان بين الوجهين؟ كلا، فلا فرق في محصل المعنى بين قول القائل: إذا دخل وقت كذا

(1) الفصول الغروية: 80.
(2) النقس - بكسر النون - المداد. الصحاح 3: 986، القاموس المحيط 2: 256 (نقس).
282

فافعل كذا، وبين قوله: افعل كذا في وقت كذا» (1) إلى اخر كلامه.
وهذا الفاضل كما ترى قد استراح من حيث تعب غيره.
ومنها: أن كل قيد يفرض للمأمور به لا يخلو من أن يكون داخلا في حيز الإرادة ولازما تحصيله، أو خارجا عنها، والأول هو المطلق، والثاني هو المشروط، ولا يعقل لهما ثالث كي يثلث به القسمان، وقد سبق بيانه في بحث أقسام الواجب.
ولا يخفى على المتأمل أن هذا الاعتراض إنما يتجه على صاحب الفصول لو كان المعلق عنده قسيما للقسمين لا قسما لأحدهما وليس كذلك، بل هو قسم للواجب المطلق، كما صرح به فيما مر من كلامه وفيما حذفناه منه، فكيف يورد عليه مثل ذلك، ويقال: إن الواجب عنده ينقسم إلى ثلاثة أقسام: مطلق، ومشروط، ومعلق؟.
وهل هذا الاعتراض إلا كالاعتراض على من قال بأن الموجود ينقسم إلى واجب وممكن، والثاني إلى جوهر وعرض بأنه لا يتصور قسم ثالث للواجب والممكن وينعى عليه بأنك جعلت الأقسام ثلاثة؟.
ومن الطريف أن المعترضين بهذا الاعتراض هم المجيبون عن الإشكال بالجواب الثاني، وأنت إذا نضيت (2) عن المعاني ثياب الألفاظ وجدته في غاية القرب إلى الواجب المعلق، بل وجدته عبارة أخرى.
بيانه: أن الوجوب كسائر الأحكام لا يعقل فيه - بحسب ذاته - معنى لتقدمه على الوقت، ولا لمقارنته معه، والمعنى المعقول أن يلاحظ بالنسبة إلى لزوم تحصيل مقدمات الفعل قبل الوقت وعدم لزومه، فما وجب فيه منهما قبل الوقت، عبر عنه بتقدم الوجوب على وقت الفعل، وما لم يجب فيه عبر عنه بمقارنته معه.
وهذا المعنى الذي لا يتصور غيره عبر عنه صاحب الفصول بتعلق

(1) مطارح الأنظار: 51 - 52.
(2) نضا ثوبه. أي: خلعه. الصحاح 6: 2511 (نضا).
283

الوجوب بالمكلف قبل وقت الفعل، وسماه بالواجب المعلق.
وعبر عنه الشيخ والسيد الأستاذ - طاب ثراهما - بلزوم تحصيل مقدمات الواجب المشروط إذا علم حصول شرطه أو بتأثير الإرادة فيها، لدخولها في حيز الإرادة.
وعليه أيضا لا بد من الالتزام بتقدم الوجوب، وإلا كيف تجب المقدمة وليس وجوبها إلا غيريا تبعيا متأخرا عن وجوب ذيها طبعا تأخر المعلول عن علته، ولهذا اعترف به الفاضل المقرر، على أنه من ألد خصوم الواجب المعلق، وصرح في كلامه - المتقدم نقله - باتصاف الفعل به قبل وقته، فلم يبق - إذن - فرق يؤبه به، إلا أن هذا يجعل هذا القسم من الواجب من المطلق، وهؤلاء من المشروط.
ولا شك في أن الأول أقرب إلى كلمات القوم، وأبعد من اللوازم البعيدة لأن مقدمات المشروط خارجة عن حمى النزاع في وجوب المقدمة فهي غير واجبة إجماعا كما نقله المقرر عن جماعة، واللازم من مقالتهم أن يطرد الحكم في جميع الواجبات المشروطة، فتجب مقدماتها قبل أوانها إذا علم بحصول شروطها، فيجب الغسل ليلة أول شعبان لصوم أول يوم من شهر رمضان والسفر مع الرفقة متسكعا (1) في صفر (2) إذا علم بحصول استطاعة الحج في ذي الحجة، إلى غير ذلك من اللوازم البعيدة بل الفاسدة مما ليس في تعدادها فائدة.
وقد تنبه له المقرر الفاضل، فقال: «إن قلت: ذلك يلازم القول بوجوب جميع المقدمات قبل الوقت مع العلم بعدم تمكنه منها بعد الوقت، مع أن الظاهر عدم وجوب بعض المقدمات وإن أدى إلى ترك ذيها».

(1) حج متسكعا: أي: بغير زاد ولا راحلة: مجمع البحرين 4: 346 (سكع).
(2) أي في شهر صفر.
284

وأجاب عنه بما حاصله: «أنه إذا دل الدليل على عدم الوجوب نقول: إن شرط الوجوب فيه هو القدرة على ذلك الواجب، وشرائطه في زمان وجوبه، فيكون من الشروط الشرعية، وليس ذلك تخصيصا لحكم العقل، إذ القدرة المعتبرة قدرة خاصة بحكم الشرع» (1).
أقول: من الظاهر لدى من عرف طريقة الفقهاء، أن الأصل عندهم عدم وجوب المقدمات قبل وقت الفعل، والحكم بسقوط الواجب عن فاقدها في الوقت وإن تمكن منها قبله وتركها عمدا، وإذا ثبت عندهم خلاف ذلك - ولم يثبت إلا في موارد قليلة لا تبلغ عدد أصابع الكف - عمدوا إلى تأويلها، بل إلى الاقتصار على اللازم فيها، فراجع - إن أحببت - كلماتهم في مسألة الغسل قبل الفجر، تجد المنسوب إلى المشهور عدم الوجوب إلا في آخر وقت يمكن وقوعه فيه.
حتى أن الفاضل المقرر نقل عن الشيخ الأعظم اعتماده على أن ما دل على وجوب المقدمة لا يدل على أزيد من ذلك (2)، وأوضحه بما زاده خفاء على خفاء، وضغثا على إبالة (3)، وظني أن كلام الشيخ لا يمكن توجيهه إلا على القول بالتعليق، ولو لا مخافة الإطالة لفصلت القول فيه.
وبالجملة، القول بوجوب مقدمات الواجب المشروط مطلقا يفتح بابا لا يمكن سده، وأي فقيه يلتزم بوجوب الكسب على الغلام أول يوم بلوغه إذا علم بأنه يولد له ولد بعد خمسين سنة يجب عليه نفقته، أو يوجب عليه شراء الراحلة إذا علم بأنه يحصل له من المال فيه بمقدار يستطيع الحج به.

(1) مطارح الأنظار: 54.
(2) مطارح الأنظار: 55.
(3) وهو من الأمثال المشهورة. قال في مجمع الأمثال (1: 419 - 2202): الإبالة: الحزمة من الحطب، والضغث قبضة من حشيش مختلطة الرطب باليابس، ومعنى المثل: بلية على أخرى.
285

هذا، على أن اللازم من ذلك جواز الوضوء قبل الوقت بنية الوجوب لمن علم بقاء قدرته إلى بعد الوقت مع أنهم لا يقولون به.
وقد أجابوا عنه بأن الواجب إقدام المكلف بقدرته الموجودة في الوقت، إذ المصلحة مختصة بالقادر بالوقت، فتأمل فيه فعسى أن يظهر لك المراد منه.
وأما على التعليق، فظاهر أن وجوب المقدمات قبل الوقت تابع لوجود الدليل عليه، فإن وجد فذاك، وإلا فالأصل البراءة عن ذلك الواجب النفسي، كما أنه تابع له في مقدار الزمان الذي يجب قبله وفي سائر الخصوصيات، لأنه في الحقيقة من قبيل التوسعة والتضييق في الواجب النفسي، وهو راجع إلى الشرع لا العقل حتى لا يقبل التخصيص.
هذا، وقد أورد على الواجب المعلق إشكالان آخران:
أولهما: أن الواجب المعلق لا بد من رجوعه إلى المشروط، لاشتراطه بالوقت المستقبل، فلا تجب مقدمته، وقد مر الجواب فيه في كلام صاحب الفصول من أن الشرط ليس الوقت، بل الاعتبار المنتزع منه كالتعقيب، ويأتي له مزيد توضيح عند بيان الشرط المتأخر، ويأتيك قريبا أن الوقت ظرف للفعل لا شرط له.
نعم هذا الإشكال مما لا مخلص عنه لمن جعل المقام من الواجب المشروط إلا بإنكار الواضح من تبعية وجوب المقدمة.
ثانيهما: أن الطلب والإيجاب إنما يكون بإزاء الإرادة المحركة نحو المراد فكما لا تنفك الإرادة عن المراد لا ينفك الإيجاب عن متعلقة، فكيف يتعلق بأمر مستقبل.
وقد كفانا صاحب الكفاية مئونة الجواب، فقال: «إن الإرادة تتعلق بأمر متأخر استقبالي كما تتعلق بأمر حالي، وهو أوضح من أن يخفى على عاقل، فضلا عن فاضل، ضرورة أن تحمل المشاق في تحصيل المقدمات فيما إذا كانت المقصود
286

بعيدة المسافة وكثيرة المئونة ليس إلا لأجل تعلق إرادته، وكونه مريدا له - إلى أن قال - إن البعث إنما يكون لإحداث الداعي للمكلف إلى المكلف به، ولا يكون إلا بعد البعث بزمان، فلا محالة يكون البعث إلى أمر متأخر عنه بزمان، فلا يتفاوت طوله وقصره فيما هو ملاك الاستحالة والإمكان في نظر العقل الحاكم في هذا الباب.
ولعمري ما ذكرناه واضح لا سترة عليه، والإطناب إنما هو لأجل رفع المغالطة الواقعة في أذهان بعض الطلاب» (1) انتهى كلامه.
ولكن الإنصاف عدم ورود أكثر ما أورده عليه، ويظهر ذلك من التأمل في كلامه، وهذا بعضه، قال:
«محبوبية الفعل ومطلوبيته الباعثة على صدور الخطاب إن كان حاصلا فعلا في المأمور به من غير توقف على أمر غير حاصل فهذا واجب مطلق، ومقتضاه وجوب البدار إلى الامتثال بارتكاب المقدمات ولو كانت محتاجة إلى طول زمان.
وإن كان موقوفا على حدوث أمر غير حاصل، وعاريا عن المصلحة فعلا، ولغوا صرفا قبل وجوده، كان هذا واجبا مشروطا مقيدا ولو تأخر لحظة، ومن الواضح عراء الفعل الموقت عن المصلحة رأسا قبل الوقت».
«والحاصل: أن مفاد الكلام إن كان هو مطلوبيته ومحبوبيته من غير انتظار شيء غير حاصل فهو واجب مطلق أي غير متوقف وجوبه على شيء حال الخطاب، وإن كان هو عدم مطلوبيته فعلا، بل بعد تحقق شيء آخر زمانا كان أو لا فهو مشروط، وهذا هو المناط في إطلاق الوجوب واشتراطه».

(1) كفاية الأصول: 102 - 103.
هذا جواب صاحب الكفاية على صاحب تشريح الأصول الشيخ علي أكبر النهاوندي (قدس سره) على ما صرح به المشكيني في حاشيته على الكفاية، فراجع هامش كفاية الأصول 1: 161.
287

«وبما حققنا تعرف أن إطلاق الطلب لا ينافي توقف الامتثال على مضي زمان طويل أو قصير عقلا، كما أن تقييده واشتراطه لا ينافي عدم توقف الامتثال على مضي الزمان».
«ووجه ذلك أن مضي الزمان في المطلق مقدمة للامتثال، وفي المشروط مقدمة لأصل الوجوب ولو توقف عليه الامتثال عقلا» (1) انتهى.
وهذا الكلام وغيره مما حذفناه حذار الإطناب صريح في أن هذا الأستاذ لا ينكر إمكان تأخر زمان الامتثال عن زمان الطلب المطلق، ولا تعلقه بالمستقبل طال الزمان بين الطلب وبين وقت الامتثال أم قصر، وإنما يرى في حد المطلق وجود المصلحة حال الطلب، وما سواه يعده من المشروط، فإذن أكثر ما أورده عليه أجنبي عن مقصوده، والسبب فيه أنه لم يراجع الكتاب، وإنما روي له ذلك كذلك - وما آفة الأخبار إلا رواتها -.
نعم هو تفصيل بديع تفرد به صاحب البدائع فيما أظن.
والحق في جوابه هي الجملة التي ذكرها في أول كلامه بعد أن يزاد فيها دعوى الضرورة ولو فيما لم تكن المصلحة موجودة حال الطلب، بل ولو كانت فيه المفسدة حال الطلب فالعاقل يأمر بشراء المحشو من الثياب في الصيف ليلبسها في الشتاء، والكتان في الشتاء للبسه في الصيف، والممطرة حال الصحو والمظلة يوم الغيم، وبشراء الفرس للسفر بعد سنة، وهذا الكلام وأمثاله من هذا الأستاذ وأمثاله لم يصدر إلا من الظن بأن القائل بالواجب المعلق يجعله قسيما لقسمي المطلق والمشروط، وقد صرح به في مواضع من كتابه.
وإذا اتضح لديك - بما أسلفناه - أن معنى تقدم الوجوب على الوقت - وهو الذي سميناه بالمعلق - هو وجوب تحصيل المقدمات قبله، وتأثير الإرادة فيه

(1) بدائع الأفكار: 316.
288

فليجعله من شاء من المشروط أو المطلق مطلقا، ومن شاء فليفصل فيه بجعله من المطلق إذا كانت المصلحة موجودة وقت الأمر، ومن المشروط الذي وجبت مقدماته قبل حصول الشرط، فإنما همنا المعاني، فإذا سلمت فليصطلح من شاء ما شاء.
ثم نعيد النظر فيما جعلوه المستند في إنكار المعلق، وهو: أن القيد لا يخلو من أن يكون خارجا عن حيز الإرادة، وإما أن يكون داخلا فيه، ولا ثالث لهما عقلا، والقيود الخارجة عن قدرة المكلف من قبيل الأول قطعا.
ونقول - زيادة على ما سلف -: إن ما ذكروه من عدم تثليث الأقسام مما لا ريب فيه، إذ عدم الواسطة بين النقيضين من أجلى الواضحات، وإنما الخطب في إدخالهم القيود الخارجة عن القدرة في التقسيم، لأنه تعبير فاسد، وربما يسري فساده إلى المعنى، إذ الإرادة لا يتحقق مفهومها في غير المقدور، فهو خارج عن المقسم أصلا، وفرق ظاهر بين ما يمكن تعلقها به وبين غيره، والتعبير بالخروج عما ليس من شأنه الدخول مما تأباه قواعد الصناعة، ولعل هذا هو الوجه فيما نقله في البدائع عن بعضهم من أن الوقت ليس شرطا في الوجوب بل هو ظرف له (1).
قال في الفصول - بعد بيان التعليق بالوقت - ما لفظه: «واعلم أنه كما يصح أن يكون وجوب الواجب على تقدير حصول أمر غير مقدور - وقد عرفت بيانه - كذلك يصح أن يكون وجوبه على تقدير حصول أمر مقدور، فيكون بحيث لا يجب على تقدير عدم حصوله، وعلى تقدير حصوله يكون واجبا قبل حصوله، كما لو توقف الحج المنذور على ركوب الدابة المغصوبة» (2) إلى آخر ما ذكره.

(1) بدائع الأفكار: 315.
(2) الفصول الغروية: 80.
289

وجعل من ثمرات ذلك: جواز الأمر وصحة العبادة فيما إذا كانت المقدمة المحرمة حاصلة أثناء الاشتغال بالواجب كالاغتراف من الآنية المغصوبة في الطهارة الحدثية مع الانحصار (1).
وأورد (2) عليه - زيادة على ما مر - بوجهين:
أولهما: أن التكليف بالحج في الفرض المذكور، والوضوء مع انحصار المقدمة في الحرام تكليف بالمحال، لأن النهي عن الاغتراف باق بحاله حال التوضؤ، ومجرد العلم بالعصيان لا يوجب زوال النهي.
وثانيهما: اجتماع الأمر الغيري والنهي النفسي في شيء واحد، إذ الاغتراف مأمور به لكونه مقدمة للواجب، ومنهي عنه لكونه غصبا، وهذا محال حتى لدى مجوزي اجتماع الأمر والنهي، لأنه من قبيل الآمري (3) الذي لا يجوزه المجوزون له.
أقول: ظني أن صاحب الفصول كان في غنى بما عنونه أولا عن هذا العنوان، إذ التعليق في كليهما تعليق على غير المقدور إلا أن ذلك غير مقدور عقلا، وهذا غير مقدور شرعا، ومن المقرر أن العذر الشرعي كالعذر العقلي فيشملهما معا عنوان التعليق على غير المقدور.
وأما الاعتراضان، فقد أجاب - طاب ثراه - عن أولهما بقوله: «والذي يدل على المذهب المختار أن ما دل على عدم وجوب الواجب عند حرمة مقدمته المتعينة هو لزوم التكليف بالمحال، ولا ريب أنه إنما يلزم ذلك لو كلف بالواجب مطلقا على تقدير الإتيان بالمقدمة المحرمة وعدمه، وأما لو كلف به مطلقا على تقدير الإتيان بها خاصة فلا، فيبقي إطلاق الأمر بحاله، فيرجع حاصل التكليفين إلى مطلوبية

(1) الفصول الغروية: 80.
(2) المورد: المحقق الرشتي في بدائع الأفكار: 324.
(3) أي: أنه من قبيل اجتماع الأمر والنهي في مرحلة الإنشاء ويقابله: المأموري. أي: الاجتماع في مرحلة الامتثال.
290

ترك الحرام مطلقا لا على تقدير حصوله، ومطلوبية فعل الواجب على تقدير حصوله» (1) انتهى.
وهذا الجواب لا ينبغي فيه الارتياب بناء على إمكان الترتب، لأنه إن لم يكنه بعينه فهو (أخوه غذته أمه بلبانه) فمن كان من هؤلاء المعترضين منكرا للترتب فلا كلام لنا معه هنا، وموعده المسألة الآتية إن شاء الله.
وأما من يقول به كسيدنا الأستاذ، فما أدري ما الذي يريبه منه؟ وما هو إلا تعبير جيد واضح عن الترتب، لا يتأتى للقائلين به أجود منه ولا أوضح، ولا تكاد أن تجد فرقا بين مقالة هذين الإمامين إلا في التسمية فقط، فصاحب الفصول يجعل ذلك من قبيل المطلق ويسميه المعلق، والسيد الأستاذ يجعله من المشروط الذي يؤول إلى المطلق، ويأتي بيانه - إن شاء الله - في موضعه.
وسمعت من السيد الأستاذ في مجلس الدرس ما حاصله: «إن صحة الوضوء في هذا الفرض مناف لذوق الفقاهة، وأيضا لا تجري قاعدة الترتب إلا فيما يعلم بقاء المصلحة، والمقتضي في الفعل وهو غير معلوم في هذه الصورة، بل جعل البدل له كاشف عن عدم المقتضي له والصلاح فيه، بل يمكن دعوى الإجماع على أن التيمم متى كان مشروعا لا يشرع الوضوء».
أقول: أما الاستبعاد فليس بأول مستبعد فقهي اقتضته قاعدة أصولية، وأنت تعلم أنه يترتب على قاعدتي الترتب وجواز اجتماع الأمر والنهي - اللتين هو المشيد لهما والمدافع عنهما - ما هو أبعد من صحة هذا الوضوء، وعلى العالم بالفنين أن يجري في أمثال هذه المسائل على ما أصله في الأصول حتى يصده نص أو إجماع فيرفع اليد عنه في ذلك المورد خاصة، ولا نص على البطلان قطعا، وتعرف حال دعوى الإجماع قريبا إن شاء الله.
وأما استكشاف عدم المقتضي والمصلحة فيه من جعل البدل له فنحن

(1) الفصول الغروية: 80.
291

نطالب بالوجه في ذلك، إذ جعل البدل لا ينحصر في مورد لا تبقى مصلحة في المبدل عنه ولا مقتض له، فكم في الشرع والعرف موارد نعلم وجودهما في المبدل عنه على نحو أتم وأكمل، لكن جعل البدل عنه للإرفاق أو لغيره من المصالح.
ومع الشك فيهما فالعمومات كافية في إثباتهما، على كلام تسمعه إن شاء الله في مسألة الترتب، بل نقول: إنها كما دلت على مشروعية التيمم مع عدم التمكن دلت كذلك على عدم مشروعيته مع التمكن وبعد فرض العصيان وتحققه بالاغتراف متمكن من الوضوء، فلا تشمله أدلة التيمم، فيخرج عنها خروجا موضوعيا، فالأمر في المقام - إن تأملت وأنصفت - أهون منه في مسألة تزاحم الأهم والمهم.
وبالجملة فهذا الاستكشاف موهون جدا، إلا أن يرقع خرقه بالإجماع الذي ادعاه، وأول ما فيه منعه.
ومن راجع كتب الفروع يلف (1) موارد حكم فيها غير واحد بالتخيير بين الطهارتين، وموارد صرحوا فيها بمشروعية الترابية للمتمكن من المائية، وسمع من جماعة منهم التصريح بصحة الوضوء مع ضيق الوقت، ورأى من المحققين منهم الحكم بثبوت الحكم فيه على مسألة اقتضاء الأمر النهي عن ضده، فمن حكم بفساد الوضوء إنما يحكم لذلك لا لعدم المقتضي فيه.
ثم نقول على تقدير تسليمه: إن الإجماع إنما قام على عدم التخيير بينهما تخييرا بدويا بمعنى تعلق الأمر المطلق بكل منهما، كما في التخيير بين القصر والإتمام في المواطن الأربع، ونحن لا ندعي ذلك هنا ونسلم أن الأمر المطلق لم يتعلق إلا بالتيمم فقط، ولكن نقول: إن الوضوء تعلق به أمر مشروط، أو معلق - كما سماه - مشروط بعصيان الأمر الأول، وفي صورة حصول الاغتراف يحصل

(1) ألفيت: وجدت. المفردات في غريب القران: 452، الصحاح 6: 2484 (لفا).
292

الشرط فيتنجز الأمر به، كما يقوله رحمه الله في الترتب بين الضدين، فتجب مقدماته، كما نقول بمثله في تلك المسألة، ونحكم بوجوب مقدمات الصلاة من الوضوء، وتطهير البدن، وتحصيل الساتر، وغير ذلك على من علم من نفسه عصيان الأمر بالإزالة.
ولا بد للسيد الأستاذ من الالتزام بوجوب هذه المقدمات المتقدمة، لأن المقام من مصاديق الواجب الذي علم بحصول شرطه فيما بعد، فتؤثر الإرادة فيها، ويجب بحكم العقل تحصيلها على مبناه الذي سبق بيانه.
ومما قررناه يظهر لك أن الحال في هذه المسألة كالحال في مسألة الترتب بين الضدين، بل الأمر فيها أوضح من تلك، وهي بالصحة أحق وأجدر، لأن الاغتراف الذي هو شرط الوضوء مقدم بحسب الزمان على أجزاء الواجب بخلاف صلاة المكلف بالإزالة (1).
ومن ذلك كله يظهر الجواب عن الاعتراض الثاني، أعني لزوم اجتماع الأمر والنهي، ويزيده توضيحا ما حققه أخوه العلامة - الجد - من أن المقدمة الوجودية إنما تكون واجبة إذا لم تكن مقدمة الوجوب أيضا، وأما إذا كانت مقدمة لهما معا فلا تجب بالاتفاق (2).
أقول: والوجه في ذلك ظاهر مما عرفت سابقا من معنى مقدمة الوجوب من أنه لا وجوب على تقدير عدم وجودها، فوجوب إيجادها بوجوب الواجب دور صريح، ومناقضة ظاهرة، ومستلزم لخروج الواجب المشروط عن كونه مشروطا وانقلابه إلى الواجب المطلق.
ومن الغريب خفاء هذا الواضح على مثل الأستاذ صاحب البدائع، حيث زعم أن سبب عدم وجوب المقدمة الوجوبية عدم وجود المقتضي للوجوب،

(1) أي المكلف بإزالة النجاسة عن المسجد.
(2) انظر: هداية المسترشدين: 198.
293

فإذا صارت مقدمة الوجود أيضا وجد المقتضي فتجب كسائر المقدمات، وجعل هذا الزعم مبنى الاعتراض على العلامة الجد فقال ما بعضه بلفظه:
«وفيه، أن عدم وجوب مقدمة الوجوب إنما هو لعدم المقتضي لوجوبها، ولو فرض لها مقتضي الوجوب غيريا أو نفسيا فلا مانع حينئذ لوجوب مقدمة الوجوب، وليس معنى عدم وجوب مقدمة الوجوب أن هناك ما يقتضي عدم وجوبها، حتى يعارض ما لو وجد لوجوبها شيء من المقتضيات، وفرق واضح بين عدم المقتضي ومقتضي العدم، والذي يمتاز به مقدمة الوجوب عن مقدمة الوجود هو الأول دون الثاني» (1) انتهى.
وفي تأملك في تعريف مقدمة الوجوب ما يغنيك عن إطالة الكلام في وجوه النظر فيه.
(الشرط المتأخر)
لا شك في وجوب تقدم العلة بجميع أجزائها وشرائطها على المعلول، وأنه لا يجوز تأخر شيء منها عنه، وقد وقعت عدة موارد يتوهم فيها تأخر الشرط عن المشروط كالإجازة اللاحقة للبيع الفضولي، والأغسال الليلية المعتبرة في صحة صوم المستحاضة، وغيرهما من المسائل المتفقة عليها والمختلفة فيها، ومنها المسألة السابقة.
وقد عرفت أن صاحب الفصول تخلص عن إشكال تأخر شرط البلوغ بالتعقب، وقد وعدتك بيان ذلك.
وإجمال القول فيه: أن الفعل قد تعتريه إضافة إلى شيء متقدم عليه أو متأخر عنه، وتلك الإضافة تحدث له عنوانا موجودا وصفة موجودة فعلا يوجبان الصلاح أو الفساد فيه، والحب أو البغض له.

(1) بدائع الأفكار: 324.
294

أما حدوث العناوين الفعلية للأشياء بها ففي غاية الظهور فإن القمر ليل التمام متصف فعلا بعنوان أنه بعد الهلال وقبل المحاق، كما هو متصف بالإبدار، وكذلك عروض الصلاح والفساد، والحب والبغض، فإذا علمت بقدوم الملك بعد أيام وأنه يعطي مستقبلية المال والجزيل، وينكل القاعدين عنه أشد تنكيل فلا شك أن الاستقبال الذي ليس إلا صفة منتزعة عن القدوم المتأخر فيه الصلاح فعلا، وفي تركه الفساد.
وإذا علمت أن رجلا يدفعك في مطمورة بعد سنة، وينقذك منها رجل آخر، تجد من نفسك حب هذا، ومن عقلك حسن الإحسان إليه، كما تجد بغض الدافع فيها.
وبالتأمل في هذه الأمثلة وأمثالها يتضح لديك أن الأثر للصفة الفعلية الموجودة بالإضافة إلى المعدوم لا للمعدوم حتى يلزم المحال من كون العدم معطيا للوجود، وهذا نظير العلة الغائية، فكون الشجر مما يثمر بعد سنين هو الذي يدعو إلى غرسه، ويدعو الفلاح في إيجاد مقدماته، لا نفس الثمر الذي لم يوجد بعد حتى يلزم المحال المذكور، وهذا مراد العلامة - العم - من أن الشرط هو التعقب ونحوه، لا ما فهمه بعض من حكم عليه بالفساد، وأورد عليه أبرد إيراد، فقال:
إن التعقب أمر اعتباري، فلا يكون منشأ للآثار.
(اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده)
الظاهر أن الخلاف في هذه المسألة واقع في كل من دلالة لفظ الأمر على النهي عنه، ومن الملازمة العقلية بين الأمر به وبين النهي عنه، على حذو ما سبق في المسألة السابقة.
والمراد من الاقتضاء ما يعم العينية واللزوم، كما أن المراد من الضد هنا مطلق المعاند فيشمل الترك المعبر عنه بالضد العام، لا خصوص الضد
295

اصطلاحا، وهو الأمر الوجودي الذي يمتنع وروده مع غيره على محل واحد امتناعا ذاتيا، وذلك ليكون العنوان جامعا للأقوال المنقولة في الكتب المفصلة.
وحيث إن المهم في هذه المسألة البحث عن تشخيص جزئي من جزئيات المسألة السابقة أعني مقدمية الضد فلا علينا إذا قصرنا الكلام عليها وجعلنا العنوان «مقدمية الضد فعلا وتركا لترك الضد وفعله» (1).
وقد اختلف أنظار أهل العلم فيها، فمن قائل بها مطلقا، ومنكر لها كذلك، ومفصل بين الفعل والترك يرى مقدمية الترك للفعل دون الفعل للترك، وآخر يرى التفصيل بين الضد الموجود، وبين غيره، فيخصها بالأول.
والذي يذهب إليه مشايخنا من هذه المذاهب هو منع المقدمية مطلقا، ودليله الوجدان، إذ من الواضح أن البياض مثلا لا يتوقف وجوده على عدم السواد، ولا عدمه على وجوده، بل كل منهما يوجد بوجود علته التامة، وينتفي بانتفائها من غير تأثير لأحدهما في الآخر وجودا وعدما، فإذا انتفى الأسود مثلا، فما بياضه إلا لوجود تمام علته، وتصرم علة ضده، أو مغلوبيتها عن علته.
ولو لا أن القول بالمقدمية هو المشهور بين المتقدمين، وإليه يذهب جمع من محققي المتأخرين كان لقائل أن يقول: إن الذاهب إلى القول بالمقدمية رأى التمانع بين الأضداد، وسمع أن عدم المانع من أجزاء العلة التامة فولد منهما المقدمية، وخفي عليه أن مجرد التمانع وعدم إمكان الاجتماع لا يقتضي بالتوقف الذي هو معنى المقدمية، وما يذكره علماء المعقول من شرطية عدم المانع فإنما يعنون بها المانع من تأثير المقتضي.
هذا، مضافا إلى ما يرد على القائل بالمقدمية من الدور الواضح (2) على

(1) معنى العبارة: مقدمية الضد فعلا لترك الضد الآخر وتركا لفعله. (مجد الدين).
(2) إذ عدم كل واحد من الضدين مقدمة لوجود الآخر، وبعبارة أخرى وجود كل منهما متوقف على عدم الآخر.
(مجد الدين).
296

ما هو مقرر في مفصلات كتب الفن بوجوه شتى، وتقريرات مختلفة، ولا أرى إطالة الكلام في مقام يغني فيه الوجدان عن البرهان.
والمهم بيان الثمرة الوحيدة التي ذكروها لهذه المسألة، بل وللسابقة عليها وهي بطلان الضد إذا كانت عبادة إن قلنا بالاقتضاء، لاجتماع الأمر والنهي فيها حينئذ، بل تبطل وإن قلنا بجواز اجتماعهما لاقتضاء النهي الفساد في العبادات، بل تبطل ولو قطع النظر عن النهي بإنكار المقدمية، أو إنكار وجوب المقدمة، وذلك لامتناع الأمر بالضدين، فتبطل لعدم الأمر بها.
وبهذا يظهر لك الضعف في عد ذلك ثمرة لهذه المسألة ولسابقتها، لأنه معضلة يلزم حلها على جميع التقادير، ويصعب الالتزام به إذ اللازم منه بطلان جميع العبادات الصادرة من المديون بفلس واحد لغريم مطالب، فلا يصح حجه، وصلاته، واعتكافه، وغير ذلك من العبادات التي تضاد الأداء، وقل من يسلم منه أو من نظائره، وهذا مخالف لضرورة الفقه، بل الدين، كما قال بعض الأساطين (1)، واقتصر في الجواب على قوله: «إن ذلك شبهة في مقابلة البديهة» وإن كان الإنصاف أن فساد الشبهة ليس في الوضوح بهذه المرتبة، كيف وقد ذهب جماعة من شيوخ المذهب وعلية (2) الفقه، القائلين بفورية القضاء (3) إلى بطلان غيره حتى الأداء إذا كان في سعة الوقت.
قال العلامة في القواعد: «من كان عليه دين، أو خمس، أو زكاة، أو شيء من الحقوق المالية لا تصح صلاته في سعة الوقت» (4) انتهى. ومثله أو ما يقارنه

(1) الشيخ جعفر الكبير كاشف الغطاء. (مجد الدين).
(2) بفتح الأول وكسر الثاني وتشديد الثالث أي أكابر الفقه وصاحب المقامات العالية. (مجد الدين).
(3) أي كيف يكون فساد الشبهة بهذه المثابة من الوضوح وقد ذهب جماعة من شيوخ المذهب أصحاب المراتب السامية في الفقه - القائلين بفورية قضاء الصلوات - إلى بطلان غير القضاء من العبادات حتى أدائها في سعة الوقت. (مجد الدين).
(4) قواعد الأحكام 1: 156.
297

كلام غيره (1).
إذا عرفت ذلك، فاعلم أن المنكر لوجوب المقدمة أو لمقدمية الضد في راحة من ناحية النهي، ولا يبقى عليه إلا تصحيح العبادة من ناحية الأمر وأما القائل بهما فلا بد له من علاج النهي أولا، وتكلف الأمر أو إقامة الدليل (2) على عدم لزومه ثانيا.
أما علاج النهي من جهة اجتماعه مع الأمر فالقائل بجوازهما في راحة عنه أيضا.
وأما بناء على الامتناع فقد يلتزم بجواز اجتماع الأمر النفسي مع الحرام الغيري، وقد اشتهر نقل ذلك عن العلامة - الجد - وقد أكثر المتأخرون (3) عنه من الاعتراض عليه، ولكن من تأمل كلامه اتضح لديه أنه لا يجوزه (4) مطلقا وإن اقتضاه إطلاق عنوان كلامه، بل يجوزه في التكليفين المترتبين.
وقد تنبه لهذا الإشكال الذي يتشدق (5) به المعترضون من لزوم التكليف بالمحال، وأجاب عنه بما أزاح عنه كل علة، ولم يبق للاعتراض مجالا، وهذا بعضه بلفظه:
«لا مانع من تعلق التكليف بالفعلين المتضادين على الوجه المذكور، ولا مجال لتوهم كونه من قبيل التكليف بالمحال، إذ تعلق الطلب بالمتضادين إنما يكون من قبيل التكليف بالمحال إذا كانا في مرتبة واحدة، بأن يكون الآمر مريدا

(1) كابنه فخر المحققين. (مجد الدين).
(2) كصاحب الكفاية حيث يقول بكفاية ملاك الأمر في ذلك. (مجد الدين).
(3) كالشيخ، وصاحب الكفاية، وغيرهما. (مجد الدين).
(4) يعني أن من يتأمل كلام الشيخ صاحب الهداية يتضح لديه أن الشيخ لا يجوز اجتماع الأمر والنهي مطلقا، سواء كان من قبيل اجتماع الأمر النفسي مع الحرام الغيري أو غيرها أي ولو كان أحدهما نفسيا والآخر غيريا، بل يقول به على نحو الترتب. (مجد الدين).
(5) التشدق: نوع من التكلم فيه الحدة والشدة من التكلم بحيث يكون فمه مملوءا. (مجد الدين).
298

لإيقاعهما معا نظرا إلى استحالة اجتماعهما في الوجود بالنسبة إلى الزمان المفروض.
وأما إذا كانا مطلوبين على سبيل الترتيب بأن يكون مطلوب الآمر أولا هو الإتيان بالأهم، ويكون الثاني مطلوبا له على فرض عصيان للأول وعدم إتيانه بالفعل، فلا مانع منه أصلا، إذ يكون تكليفه بالثاني حينئذ منوطا بعصيانه للأول، والبناء على تركه ولا يعقل هناك مانع من إناطة التكليف بالعصيان، فلا منافاة بين التكليفين نظرا إلى اختلافهما في الترتيب، وعدم اجتماعهما في مرتبة واحدة، ليكون من التكليف بالمحال، لوضوح عدم تحقق الثاني في مرتبة الأول، وتحقق الأول في مرتبة الثاني لا مانع منه بعد كون حصوله مترتبا على عصيان الأول» (1) انتهى المقصود - الآن - من كلامه.
وهذا مما لا ينبغي الريب فيه، بل يجب الإذعان به، بعد تسليم إمكان الترتب.
وتخلص عنه أخوه البارع (2) بما شيده من تخصيصه المقدمة الواجبة بالموصلة، إذ ترك الضد حينئذ لا يكون واجبا على تقدير عدم الإيصال ليكون فعله محرما، وهذا ظاهر لدى المتأمل الذكي، وقد فصله وأوضحه في كتابه، ومن أراد زيادة التوضيح له فعليه بمراجعته، وهذا حق، ومن حقه أن لا يقابل إلا بالقبول.
ولكن الفاضل المقرر (3) رحمه الله جرى على عادته من التحامل عليه، فأنكر ذلك حتى على المعنى المذكور، ودعاه التحامل إلى إمكان ادعاء ضرورة العقل بأن قضية إيجاب الشيء حرمة موانعه مطلقا، فلا يتجه التفصيل بين

(1) هداية المسترشدين: 243.
(2) صاحب الفصول. (مجد الدين).
(3) الشيخ أبو القاسم الكلانتري الطهراني تلميذ الشيخ الأنصاري (رحمه الله) ومقرر بحثه. (مجد الدين).
299

الموصلة وغيرها في خصوص الموانع وإن قلنا به في غيره من المقدمات، والفرق بين الموانع وغيرها يظهر بالتأمل في مواردهما عرفا (1) انتهى ملخصا.
وهذا ونظائره الكثيرة الواقعة في هذه التقريرات مما يريب الخبير بمقام الشيخ (2) في كون جميع ما فيها مأخوذا عنه، وكيف يظن بمثله (3) مثل هذا التفصيل (4) في حكم العقل الذي لا يقبل التخصيص، فضلا عن دعوى الضرورة عليه، ثم التمسك بالعرف في مسألة عقلية محضة، ولم يكتف بذلك حتى أخذ في التمنطق (5) على المشائين بتعداد ألفاظ منطقية من السلب والإيجاب والنقيض، ثم لم تكن النتيجة إلا تسليم أن نقيض الترك الخاص له فردان، وهذا كاف لما يرومه (6) صاحب الفصول وإن قال هذا الفاضل: إن ذلك لا يوجب فرقا فيما نحن بصدده (7).
وكيف لا يوجب الفرق مع أن أقصى ما يلزم هذا الفرد مقارنته للحرام، وظاهر أن حرمة الشيء لا تسري إلى ما يلازمه فضلا عما يقارنه، كما أوضحه في الكفاية (8)، فراجعها إن شئت
ففيها لعمري الكفاية.

(1) مطارح الانظار: 78.
(2) الشيخ مرتضى الأنصاري صاحب المتاجر والفرائد وغير هما. (مجد الدين).
(3) أي بمثل الشيخ.
(4) من المقرر لدى أهل العلم عدم إمكان التفصيل في حكم العقل، فالتفصيل بين المانع والمقتضي كما قاله المقرر مما لا ينبغي نسبته إلى مقام الشيخ، فالعقل الذي يحكم بأن قضية إيجاب الشيء حرمة موانعه مطلقا من غير فرق بين الموصلة وغيرها يحكم بأن قضية إيجاب الشيء إيجاب مقدماته من غير فرق بين الموصلة وغير الموصلة، فالتفكيك بين الموانع وغيرها من المقدمات مما لا وجه له. (مجد الدين).
(5) مثل عربي علمي. وغير خفي أن الحكماء كانوا على قسمين: إشراقيين ومشائين، والمشائين منهما هم أهل الاستدلال والمنطق، فالتمنطق عليهم يذهب إدراج الرياح. (مجد الدين).
(6) أي يقصده. (مجد الدين).
(7) مطارح الأنظار: 78.
(8) كفاية الأصول: 121.
300

وهذا الوقت الذي يصرفه هذا الفاضل على انتقاد كلام صاحب الفصول لو كان يصرفه على تحصيل مرامه لكان هو الأسلم لنا والأجدر به، والله العاصم.
ومن وجوه التخلص عن النهي ما تقدم نقله عن المعالم أعني عدم وجوب المقدمة حال عدم إرادة المكلف امتثال ذيها.
وقد عرفت أن الظاهر منه عدم وجوب غير الموصلة من المقدمات، ويحتمل أن يكون مراده أن المقدمة المقرونة بالصارف بقيد أنها معه ليست بمقدمة فعلية (1) للواجب، إذ لا يمكن التوصل بها إليه فعلا، وستعرف - إن شاء الله - أن قاعدة الترتب كافية لتصحيح الأمر، والتخلص عن النهي معا.
وأما الأمر بالضد، فقد يقال بإمكان تعلق الأمرين المطلقين بالضدين إذا لم يكونا مضيقين، وقد نسب ذلك إلى المحقق الثاني (2).
وقد يمنع عن ذلك، ويقال بأنه يمكن أن يتعلق بالضد المهم أمر مشروط بعصيان الأهم، فلا أمر بالمهم إذا امتثل أمر الأهم، لفقدان شرطه، ولكنه مأمور به على فرض عصيان الأمر المطلق المتعلق بالأهم، وهذا هو الترتب بين الأمرين المتعلقين بالمتزاحمين الذي ذهب إليه العلامة - الجد (3) - وأقام على إمكانه البرهان، وأوضحه السيد الأستاذ غاية الإيضاح (4)، وإليك بيانه على ما استفدناه مع زيادات نافعة، ويتوقف توضيحه على مقدمات:
أولها: أن الحكم في مقام الامتثال للعقل وحده، ومن حكمه إذا ورد من

(1) وإن كانت مقدمة شأنية. (مجد الدين).
(2) المحقق الكركي في جامع المقاصد. (مجد الدين).
(3) صاحب الهداية، وإليه ذهب أيضا الشيخ جعفر صاحب كشف الغطاء، وأقام عليه البرهان، فلو قال:
جدان. لكان أولى. (مجد الدين).
(4) وهذا غير الترتب بين الحكمين الذي يأتي بيانه في محله إن شاء الله. (منه رحمه الله).
301

المولى تكليفان وجوبيان، أو تحريميان، أو مختلفان لزم امتثالهما معا، والجمع (1) بين الغرضين إذا لم يكونا متزاحمين، وإتيان (2) أحدهما المعين إذا كان أهم من الآخر، والتخيير مع التساوي، وليس للآمر أن يأمر بتقديم المهم على الأهم، ولا أن يأمر بتعيين أحد المتساويين، ولا أن يصدر أمرا مولويا بعنوان التزاحم إلا (3) أن يكون إرشادا إلى حكم العقل، أو بيانا لأهم المتزاحمين.
ثانيها: لا يعقل تقييد الأمر بكل من الإطاعة والعصيان فيكون بمنزلة أن يقال: افعل إن كنت فاعلا، أو افعل إن كنت لا تفعل، إذ الأول يؤول إلى تحصيل الحاصل، والثاني إلى طلب المحال.
ولو شئت قلت: إن الأول طلب حصول الشيء على فرض حصوله، والثاني طلب وقوع الشيء على فرض عدم وقوعه، وإذا امتنع تقييد الأمر بهذين الأمرين امتنع إطلاقه بالنسبة إليهما أيضا، إذ الإطلاق والتقييد متلازمان إمكانا وامتناعا فكل ما صح أو امتنع التقييد به صح أو امتنع الإطلاق بالنسبة إليه، فلا يعقل أن يقال: افعل فعلت أو لم تفعل.
هذا، مع أن الإطاعة والعصيان متأخران رتبة عن الأمر، فلا يعقل اعتبارهما فيه على نحو الإطلاق والتقييد، فاستبان من ذلك أن مقتضى الأمر عدم وقوع العصيان، لا الإطاعة على فرض العصيان، وبعبارة أخرى: الأمر يقتضي الوجود وعدم الترك لا الوجود في صورة وقوع الترك.
ثالثها: التضاد بين الفعلين وتزاحمهما (4) لا يستلزم التضاد والتزاحم بين الأمرين المتعلق بهما، ولا بين مقدماتهما، إذ لا تضاد بين وجود المصلحة في بياض

(1) معطوف على امتثالهما، والعطف تفسيري. (مجد الدين).
(2) إذا كانا متزاحمين. (مجد الدين).
(3) الاستثناء منقطع لعدم كون الأمر مولويا في هاتين الصورتين. (مجد الدين).
(4) معطوف على التضاد. (مجد الدين).
302

ثوب وسواده معا، فإذا كان الملك يعطي لمن استقبله على فرس أدهم (1) دارا جديدة البناء، وعلى كميت (2) جارية حسناء، فلا شك في عدم التعاند بين الصلاحين، بل العلم - الذي عرفت أنه حقيقة الإرادة - حاصل بتمام الصلاح في الفعلين، وكمال الالتئام بينهما.
فاستبان من ذلك أن التزاحم بين الفعلين لا يستلزم التزاحم بين الأمرين، وأنه لا مانع من طلبهما، والإلزام بهما، والبعث عليهما، إلا إذا استلزم التكليف بما لا يطاق، ولا يكون ذلك إلا إذا كانت إطاعة أحدهما مستلزمة لعصيان الآخر، وإلزاما (3) بصرف القدرة التي لا تسع إلا لأحدهما عليهما معا.
رابعها: قد عرفت - في المباحث السابقة - أن مقدمة الواجب المشروط غير واجبة، بمعنى أنه لا يجب تحصيلها، إذا الوجوب على فرض وجودها فالبعث على الفعل لا يكون باعثا عليها مع العلم بعدم حصولها، وأما مع حصولها والعلم به فهو كالمطلق في وجوب تحصيل مقدماته الوجودية، وهذا معنى قولهم: إن الواجب المشروط مطلق عند حصول شرطه، لا أنه ينقلب إليه ويكون أحد مصاديقه.
ولهذا لو كان الشرط اختياريا استمراريا كان للمكلف ترك الشرط فالواجب مشروط به، فلو قال: أدم تلاوة القرآن إن كنت في المسجد. فللمكلف الخروج متى شاء، وترك التلاوة بعده، فالواجب المشروط شأنه سد جميع أبواب الترك إلا من ناحية ترك شرطه، بخلاف المطلق الذي مقتضاه سد أبوابه من جميع الجهات.

(1) الأدهم: الفرس الذي يشتد سواده. مجمع البحرين 6: 65 (دهم).
(2) الفرس الأحمر. مجمع البحرين 2: 217 (كمت).
(3) معطوف على التكليف، ويحتمل ضعيفا أن يكون معطوفا على (مستلزمة) لكن هذا خلاف التحقيق. (مجد الدين).
303

ثم إن الشرط إذا كان مأخوذا في الواجب على نحو المقارنة مع الفعل، فلا بد من إيجاده معه، وإلا لزم تفويت الواجب، وإذا كان الشرط تدريجيا كالنهار المشروط به وجوب الصوم يكون إطلاق الأمر تدريجيا مثله، ففي المثال يكون بوجود كل جزء من أجزاء النهار إطلاق أمر الإمساك فيه، ويتدرج الإطلاق بمرور أجزاء الوقت، حتى يستوعب النهار كله.
ومثله القدرة التي هي شرط في وجوبه إذ القدرة على إمساك جميع النهار ليست حاصلة أول النهار، بل هي حاصلة على كل جزء في زمان وجوده، فلا بد - إذن - من إطلاق الأمر على ما وصفناه، وإلا لم يجب الصوم، ولا ما كان من بابه أبدا.
وكان السيد الأستاذ يعبر عن هذا النحو من الإطلاق بالإطلاق التدريجي، فمع العلم بحصول القدرة إلى آخر زمان الفعل تجب المقدمات الوجودية له مطلقا، ويلزم الشروع في الفعل أول زمان وجوبه.
فقول الفاضل المقرر: «ولا يعقل الاشتغال بالواجب قبل تحقق الشرط، حيث إن تمام الشرط لا يمكن إلا بتمام الفعل كما في مثال الاغتراف، وكذلك في مثال الصلاة والإزالة» (1
) إلى آخره، خال عن التحصيل، وحكم بالامتناع على الواجبات التدريجية مطلقا، إذ لا فرق بين الشرط المحرم والسائغ من هذه الجهة، كما يتضح بالتأمل فيما أسلفناه، وفيما سيأتي إن شاء الله تعالى.
خامسها: يشترط في تصحيح الضد بقاعدة الترتب صلاحية الوقت للضد والعلم ببقاء المصلحة فيه والمقتضي له، وعدم تبدلها بمصلحة الأهم أو ذهابها به فلا يصحح الصوم المنذور في شهر رمضان، ولا الطهارة المائية في ضيق الوقت - على وجه - ويبتنى صحة الظهر آخر الوقت على القول بالاشتراك بين

(1) مطارح الأنظار: 59.
304

الفرضين في جميع الوقت وإن كان العصر أحق بآخر الوقت منه، بخلاف ما لو قيل باختصاصه بالعصر، وهذا إحدى ثمرات تلك المسألة، بل أجداها.
وجملة القول: أن هذه القاعدة مختصة بالمتزاحمين اللذين يعلم ببقاء مقدمات الطلب فيهما، وبعدم المانع إلا من ناحية عدم قدرة المكلف عليه إذا أتى بالمهم، فإن علم ذلك كما في إنقاذ الغريقين فذاك، وإلا فالعمومات والإطلاقات كافية في ذلك كما نبه عليه العلامة - الجد - فقال في أثناء كلام له ما هذا بعضه بلفظه:
«ما ذكرناه هو مقتضى إطلاق الأمرين بعد ملاحظة التقييد الثابت بحكم العقل، فإن إطلاق كل من الأمرين يقتضي بمطلوبية الفعل على سبيل الإطلاق، ولما لم يكن مطلوبية غير الأهم في مرتبة الأهم، لوضوح تعين الإتيان بالأهم وعدم اجتماعه معه في الوجود لزم تقييد الأمر المتعلق بغير الأهم على تقدير إتيانه بالأهم.
وأما القول بتقييد الطلب المتعلق به بمجرد معارضته بطلب الأهم مطلقا ولو كان بانيا على عصيانه وإخلاء الزمان عنه فمما لا داعي إليه، وليس في اللفظ ولا في العقل ما يدل على ذلك» (1) إلى آخره.
ولكن ينبغي التأمل في ذلك لما يقال: من أن الأمر لا يكون له إطلاق بالنسبة إلى عنوان المزاحمة المتأخرة عنه رتبة، فتأمل.
ولعل كلامه - طاب ثراه - ليس فيما حملناه عليه، بل في مقام إثبات وجود الأمر بالمهم، إذ الذي يثبت بهذه القاعدة إمكان الأمر به لا وقوعه.
ويمكن أن يقال: إن الإطلاقات كما تدل على تعلق الأمر بجميع الأفراد،

(1) هداية المسترشدين: 243 - 244.
305

تدل أيضا على وجود المقتضي لها لذلك، فإذا لم يمكن الاستدلال بالإطلاق على الأمر لهذه الشبهة يبقى دلالته على وجود المقتضي لسلامته عن المزاحمة فيه.
والمقام يحتاج إلى زيادة التأمل، ويهون الأمر حصول العلم في أكثر موارد التزاحم، بل في كلها إلا نادرا بوجود المقتضي في كل من المتزاحمين.
ونقول في بيان المقصود: إذا تزاحم أمران أحدهما أهم من الآخر فلا يمكن أن يتعلق أمران مطلقا بكل من المتزاحمين، ولكن يمكن أن يتعلق أمر مطلق بالأهم منهما، ويتعلق بالمهم أمر مشروط بعصيان الأمر الأول.
فلنا في المقام دعويان، وليس الوجه في الأولى منهما أنه يؤول إلى الأمر بالجمع بين الضدين كما سبق إلى كثير من الأنظار، وتداولته الألسن، لأن كل أمر لا يقتضي إلا وجود متعلقه فقط من غير اعتبار حيثية أخرى، ولا نظر إلى آمر آخر، كيف وعنوان الجمع متأخر رتبة عن الأمرين معا، فلا يعقل اعتبارهما فيه، بل الوجه فيه أن إطلاق الأمر يقضي بصرف القدرة على امتثاله وحفظها له ولو من قبل عصيان غيره، وسد جميع طرق عدم متعلقه ولو كان بإيجاد ضده، فاللازم من إطلاق الأمرين صرف القدرة التي لا تسع إلا أحدهما عليهما معا، وهذا هو التكليف بما لا يطاق المحال صدوره من الحكيم.
ولكن لا يلزم ذلك في صورة إطلاق الأمر بالأهم، وكون الأمر المتعلق بالمهم مشروطا بعصيان الأمر الآخر، لأنه مع امتثال الأهم لا تكليف بالمهم أصلا، لفقدان شرطه الذي هو عصيان الأهم، ومع فرض العصيان فالقدرة حاصلة على المهم ومدخرة لأجل صحة التكليف به.
وقصارى ما يلزم منه عدم قدرته عليه لو كان ممتثلا للأمر المطلق، ومثل هذا لا يمنع من الأمر، ولا يلزم منه التكليف بغير المقدور، وله نظائر كثيرة عرفية وشرعية يأتي بعضها مع مزيد بيان لذلك إن شاء الله.
وبالجملة، مزاحمة الأمرين لا يكون إلا لاقتضاء الأمر طرد جميع الأضداد
306

حتى متعلق الأمر الآخر، وسد جميع أبواب العدم على متعلقه والإلزام بعدم صرف القدرة على أي ضد كان له، والمنع من تفويت متعلقه ولو بإتيان غيره، إلى غير ذلك من التعبيرات المختلفة المنتهية إلى حقيقة واحدة وهي اقتضاؤه عدم الترك مطلقا، وهذا شأن الواجب المطلق.
ولو كان الأمر المتعلق بالمهم كذلك لزم جميع ذلك، ولكنه - كما عرفت - أمر مشروط بعصيان الأمر الآخر، ولا اقتضاء له مع وجوده أصلا، حتى أنه لو فرض محالا إمكان الجمع بين الضدين وأتى بالمتزاحمين لم يكن المهم مأمورا به، لفقدان شرطه الذي هو عصيان أمر الأهم، فإذن الأمر بالمهم لا يطرد إلا غير الأهم من الأضداد، ويقضي بسد جميع أبواب العدم إلا من ناحية إتيان الأهم.
ونقول توضيحا للمقصود، وتنقيحا للبحث في المثال المعروف في هذا الباب، وهو تزاحم الصلاة أول وقتها مع إزالة النجاسة عن المسجد: إن الأمر الفوري المطلق متعلق بالإزالة، والأمر المشروط بعصيان هذا الأمر المطلق متعلق بالصلاة لوجود المقتضي لها بالفرض كما مر في المقدمة الخامسة، ولا تضاد بين الأمرين في ذاتهما، ولا بين مقدماتهما بحكم المقدمة الثالثة، فعلى فرض عصيان الأمر بالأهم يتنجز الأمر بالصلاة لحصول شرطه، ولا يزاحمه الأمر بالإزالة لأنه لا إطلاق له بالنسبة إلى فرض العصيان بحكم المقدمة الثانية، فإذا علم المكلف من نفسه وقوع المعصية فقد علم بحصول شرط المهم، فتجب عليه مقدماته الوجودية ولو كانت مقدمة بحسب الزمان على العصيان على حذو نظائرها، فيجب عليه الوضوء وتحصيل الساتر.
وحيث إن العصيان يوجد تدريجا يكون إطلاق الأمر تدريجيا بحكم المقدمة الرابعة، وله في كل آن ترك العصيان، والخروج عن موضوع الأمر بالمهم لعدم اقتضائه تحصيل شرطه كما مر فيها أيضا، وهذا المقدار كاف في ما قصدناه من بيان المراد من هذه القاعدة وإقامة الدليل عليها.
307

وإن شئت زيادة عليه فانظر إلى ما نذكره في الجواب عن شبهات المنكرين لها، وحيث إن كلام الأستاذ في الكفاية قد بلغ في ذلك الغاية، وأتى مؤلفها بما قصرت عنه أفكار موافقيه رأيت الاكتفاء به وبيان ما يتجه عليه، وهذا لفظه:
«ما هو ملاك استحالة طلب الضدين في عرض واحد آت في طلبهما كذلك، فإنه وإن لم يكن في مرتبة طلب الأهم اجتماع طلبهما، إلا أنه كان في مرتبة الأمر بغيره اجتماعهما بداهة فعلية الأمر بالأهم في هذه المرتبة، وعدم سقوطه بعد بمجرد المعصية فيما بعد ما لم يعص، أو العزم عليها مع فعلية الأمر بغيره أيضا، لتحقق ما هو شرط فعليته فرضا» (1).
أقول: قد عرفت في المقدمة الثالثة أن طلب الضدين ليس من المستحيل الذاتي، وإنما المستحيل وقوعه من الحكيم ما لزم منه التكليف بغير المقدور، وآل إلى طلب المحال، فإن لزم منه ذلك امتنع.
ولو كان الفعلان متباعدين بحسب الزمان، كما لو أمره بالحج في شهره، وبالإطعام في شهر الصيام، وليس له من المال ما يفي بهما معا، وإن لم يلزم ذلك جاز ولو في زمان واحد.
وبالجملة اتحاد الزمانين وتعددهما لا مدخلية لهما في المحذور المذكور، وعلى ما تصورناه من ترتب الأمرين لا يلزم ذلك أصلا، إذ الأمران وإن كان يجمعهما زمان واحد ولكن لا تجمعهما رتبة واحدة، لأن أحدهما مشروط بعصيان الآخر، ومعناه عدم تحقق مؤداه، وعدم تأثيره، وعدم قابليته للتأثير، وذلك مرتبة متأخرة عن نفس الأمر، بل هي مرتبة انعزاله عن مقتضاه، وعدم صلاحيته للتأثير، وهذه المرتبة مرتبة الواجب المشروط، فكيف يكون في مرتبة الأمر الأول وهو متأخر

(1) كفاية الأصول: 134.
308

عنه تأخر المعلول عن علته؟ ولعل الوجه فيما أورده، توهم شمول إطلاق الأمر لحال العصيان، وإن كان ذلك فقد عرفت - بما لا موضع للمزيد عليه - أن الأمر لا يعقل شموله لهذه الحال.
وخلاصة القول: إنه لا تضاد بين الأمرين، بل التضاد بين الفعلين، والأمر على نحو الترتب لا يؤول إلى الجمع بينهما أصلا، إذ المفروض في وجود أحدهما عدم وجود الآخر وخلو المحل فأين المحال؟ وإن شئت زيادة الاتضاح فعليك بمقايسة الإرادة التشريعية بالتكوينية، فطال ما حاولت إيجاد أمر لمصلحة مهمة فاشتغلت بعدة من مقدماته، ثم تصورت إمكان عدم حصوله فرتبت في تلك الحال المقدمات الموصلة إلى ضده الذي دونه في المصلحة لئلا يفوتك الغرضان معا، وإذا تذكرت ما سبق في بابه من اتحاد الإرادتين بحسب الحقيقة، وأنه لا فرق بينهما سوى جعل إرادة الغير إحدى مقدمات الوجود في التشريعية فقط يتم لك القياس.
عاد كلامه: «لا يقال: نعم ولكنه بسوء اختيار المكلف حيث يعصي فيما بعد بالاختيار، فلولاه لما كان متوجها إليه إلا الطلب بالأهم، ولا برهان على امتناع الاجتماع إذا كان بسوء الاختيار.
فإنه يقال: استحالة طلب الضدين ليست إلا لأجل استحالة طلب المحال، واستحالة طلبه من الحكيم الملتفت إلى محاليته لا تختص بحال دون حال، وإلا لصح فيما علق على أمر اختياري في عرض واحد بلا حاجة في تصحيحه بالترتب مع أنه محال بلا ريب ولا إشكال» (1).
أقول: أما الاعتراض فهو كلام من يسلم اجتماع الأمرين، ويحاول

(1) كفاية الأصول: 134 - 135.
309

الخلاص عن مضيقته بكونه بالاختيار، ولات حين مناص، وقد عرفت أن في الترتب الذي قررناه لا اجتماع أصلا، فلا أمر بالمهم مع وجود الأهم، ولا بالأهم إذا وجب المهم.
وأما ما ذكره في الجواب من أن مناط الاستحالة هو طلب المحال فهو حق بلا ارتياب، ولكن أين المحال؟ وقد عرفت بواضح البيان أنه بمكان من الإمكان.
ثم إن الشرط في الأمر المهم - كما عرفت - هو العصيان المقارن، فما وقع في كلامه من احتمال أن الشرط المعصية المتأخرة أو العزم عليها، فقول لا يقول به المحققون من أهل هذا المذهب وستعرف قريبا - إن شاء الله - الوجه في تعبير بعضهم بالعزم على المعصية.
ومنه يظهر الجواب عن قوله: «وإلا لصح فيما علق على أمر اختياري في عرض واحد» فإنه يرد على من يسلم الاجتماع.
وببالي أنه رحمه الله كان يمثله بقول الآمر: إن صعدت إلى السطح فطر إلى السماء. وأنت تعلم بما بين الأمرين من الفرق، إذ الاختيار في الأمرين المترتبين باق للمكلف إلى آخر جزء من العبادة، وله في كل آن أن يشتغل بإتيان الأهم، ولا يكون الخطاب بالضد متوجها إليه أصلا، وأين هذا من هذا المثال الذي مقتضاه توجه الأمر المطلق الفعلي بالمحال بعد الصعود؟ وبالجملة الذي يظهر من كلامه في هذا الكتاب، وفيما علقه على رسائل الشيخ الأعظم، ومما سمعنا منه في مجلس الدرس أنه يرى الفرق بين الترتب وسائر أقسام التكليف بالمحال منحصرا في وجود المندوحة وعدمها فقط، ولذا قال بعد ذلك:
310

«إن قلت: فرق بين الاجتماع في عرض واحد وبين الاجتماع كذلك (1), فإن الطلب في كل منهما في الأول يطارد الآخر، بخلافه في الثاني، فإن الطلب بغير الأهم لا يطارد طلب الأهم، فإنه يكون على تقدير عدم الإتيان بالأهم، فلا يكاد يريد غيره على تقدير إتيانه وعدم عصيان أمره.
قلت: ليت شعري كيف لا يطارده (2) الأمر بغير الأهم، وهل يكون طرده له إلا من جهة فعليته ومضادة متعلقة للأهم؟ والمفروض فعليته ومضادة متعلقه له، وعدم إرادة غير الأهم على تقدير الإتيان به لا يوجب عدم طرده لطلبه مع تحققه على تقدير عدم الإتيان به وعصيان أمره، فيلزم اجتماعهما على هذا التقدير مع ما هما عليه من المطاردة من جهة المضادة بين المتعلقين، مع أنه يكفي الطرد من طرف الأمر بالأهم، فإنه على هذا الحال يكون طاردا لطلب الضد كما كان في غير هذا الحال فلا يكون له معه أصلا مجال» (3).
أقول: ما ذكره رحمه الله أقوى شبهات منكر الترتب، وأنفذ سهم (3) في كنانته (5)، وبالتأمل فيما عرفناك به تعلم أن كلا من الأمرين لا يطارد الآخر، أما أن المهم لا يطارد الأهم فلأنه مشروط بعصيان أمر الأهم الذي هو مرتبة سقوطه عن التأثير، ولا وجود لطلبه في هذه المرتبة، فضلا عن فعليته، كما أنه مع عدم العصيان لا وجود لأمر المهم، ولهذا لو فرض - محالا - وجودهما معا في الخارج لم يكن الواجب إلا الأهم لعدم وجود شرط الأمر بالمهم.
نعم كانت المطاردة تتم بينهما لو كان تحصيل شرطه واجبا، وهذا خلاف

(1) أي على نحو الترتب. (مجد الدين).
(2) الضمير يرجع إلى طلب الأهم وهو مفعول، والفاعل هو الأمر بغير الأهم والتقديم لأجل ضميرية المفعول متصلا. (مجد الدين).
(3) كفاية الأصول: 135.
(4) أي أقوى السهام أثرا ونفوذا. (مجد الدين).
(5) الكنانة: جعبة السهم، وبالفارسية (تركش) والضمير فيه راجع إلى منكر الترتب. (مجد الدين).
311

معنى المشروط.
وأما عدم طرد الأهم للمهم، فلما عرفت من عدم اقتضائه متعلقه على تقدير عدم وقوعه، ولا تكون المطاردة إلا من جهة اقتضاء الأمر الامتثال وبعثه إلى إتيان متعلقه، ولا اقتضاء ولا بعث في هذا التقدير، فإذن الأمران متباعدان بأقصى مراتب البعد معنى وإن اتحدا زمانا، ولا فرق فيما هو مناط الإمكان بين هذا الترتب وبين ترتب وجوب الكفارة على عصيان أمر الصوم، وما كان من بابه الذي يعترف هذا الأستاذ وموافقوه بإمكانه.
وبالجملة، ونوافقه فيما ذكره في مناط استحالة طلب الضدين وهو طلب المحال، ونجعل الحكم دائرا مداره، فنمنع من طلب الضدين ما يؤول إلى المحال ولو في زمانين، ونجوز ما لا يؤول إليه ولو في زمان واحد، وقد عرفت عدم لزومه على ما قلناه، فلا داعي إلى تطلب الحيلة (1) فيما وقع من طلب الضدين في العرفيات (2)، على أن ما ذكره لا يجدي في التخلص عن ذلك، وهو قوله:
«لا يخلو إما أن يكون الأمر بغير الأهم بعد التجاوز عن الأمر به وطلبه حقيقة، واما أن يكون الأمر به إرشادا إلى محبوبيته وبقائه على ما هو عليه من المصلحة والغرض لو لا المزاحمة، وأن الإتيان به يوجب استحقاق المثوبة فيذهب بها بعض ما استحقه من العقوبة» (3) انتهى.
وذلك لأن الوجدان في كثير من موارد التزاحم في العرفيات يشهد ببقاء طلب الأهم، وكيف يتجاوز عنه مع تمامية المقتضي ووجود المصلحة الملزمة، وعدم المانع سوى العلم بعدم إطاعة المأمور، وذلك لا يجدي لرفع اليد عنه، وإلا امتنع تكليف العصاة، ولا آية أجلى على بقاء الطلب من الحث على الفعل حال

(1) من قوله: «الحيلة - إلى قوله - العرفيات» عبارة الكفاية، وغير مخفي ما فيه من البراعة. (مجد الدين).
(2 و 3) كفاية الأصول: 135.
312

الاشتغال بالضد ومحبوبية تركه إن أتى بالأهم، والعقاب على تركه فلا تجدي الحيلة الأولى، والثانية مثلها، أو أقل جدوى لذلك بعينه منها.
هذا وينبغي التأمل في وجه ما ذكره من أن إتيان المهم يذهب ببعض ما استحقه من العقوبة على ترك الأهم، فهل ذلك لخصوصية يراها في المقام، أم هو بناء منه على مسألة تكفير مطلق المعاصي بمطلق الطاعات، أو الموازنة بينهما، كما هو ظاهر كلامه في حاشية رسالة البراءة، قال:
«يستحق بذلك مقدارا من الثواب فيقابل مقدارا مما استحقه من العقاب» (1).
فإن كانت الأولى فهي لا تناسب إلا المتزاحمين المشتركين في المصلحة، وأكثر موارد المسألة ليست من هذا القبيل كالمثال المشهور، وأين مصلحة الصلاة من مصلحة الإزالة الراجعة إلى المفسدة في بقاء النجاسة في المسجد؟ وإن كان الثاني فجميع العبادات تشارك الضد في قابلية التكفير ولو لم تكن مزاحمة للأهم كتلاوة القرآن ونحوها.
عاد كلامه: «ثم إنه لا أظن أن يلتزم القائل بالترتب بما هو لازمه من الاستحقاق في صورة مخالفة الأمرين لعقوبتين، ضرورة (2) قبح العقاب على ما لا يقدر عليه العبد، ولذا كان سيدنا الأستاذ - قدس سره - لا يلتزم به على ما هو ببالي، وكنا نورد به على الترتب وكان بصدد تصحيحه» (3).
أقول: الأمر بكل من الضدين عند القائل بالترتب أمر مولوي فعلي، ومن شأن هذا الأمر استحقاق العقاب على عصيانه عقلا، كما من شأنه الثواب

(1) حاشية فرائد الأصول للآخوند الخراساني (رحمه الله): 167.
(2) أي بداهة. (مجد الدين).
(3) كفاية الأصول: 135 - 136.
313

على امتثاله، فالتفكيك بين الملزوم ولازمه (1)، أو بين لازمين بينين لملزوم واحد لا يصدر من أحط أهل العلم درجة فكيف بهؤلاء الأعلام القائلين به.
ولو كان على يقين مما نقله عن سيده الأستاذ لكان هو الثقة الصدوق الذي لا يرتاب أحد في صحة نقله.
وأما إذا كان على شك منه فنحن قاطعون ببراءة عالم مثله عن مثله، بل لا بد للقائل بالترتب من الالتزام بعقوبات متعددة إذا ترتبت أوامر كذلك.
وما ذكره من قبح العقاب على ما لا يقدر عليه ففيه أن القدرة حاصلة على كل من الضدين، وإلا لامتنع أصل التكليف، وقد فرغنا عن إثبات إمكانه، وكلامه على فرض تسليمه.
أما القدرة على الأهم فحاصلة بالفرض، وأما على المهم فهي أيضا حاصلة على تقدير ترك الأهم، وهي كافية لتصحيح العقوبة كما كانت كافية لأصل التكليف، ولا دليل على لزوم القدرة أزيد من ذلك، بل يقطع بعدمه من نظر إلى نظائره الكثيرة الواقعة في العرف والشرع.
فلو كان رجل في فلاة عز فيها الماء، ومع عبده ماء في إناء فأمره بسقي فرسه فعصى ولم يسقه حتى هلك الفرس فعاقبه على مخالفته، ثم عطش ولده، فهل في أهل العرف من يمنعه من طلب الماء لولده؟ قائلا: إنه لو كان ممتثلا أمرك الأول لم يكن متمكنا من امتثال أمرك الثاني، ولو أمره وخالف حتى توفي الولد فهل فيهم من يمنع عن عقابه ويملي عليه كلام هذا الأستاذ «ضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر عليه العبد»؟ (2) كلا.
ولو كان لرجل فيها من الماء ما يكفيه للوضوء، فعصى ولم يتوضأ حتى

(1) يعني بالملزوم الأمر، وبلازمه استحقاق العقاب على عصيانه عقلا، ويعني أيضا بلا زمين بينين الثواب والعقاب، وبملزومهما الأمر. (مجد الدين).
(2) كفاية الأصول: 136.
314

انقضى الوقت، ثم صادف مسلما بلغ به العطش حد الهلاك فهل في أهل الشرع من يتوقف في وجوب حفظ نفسه؟ وفي صحة الأمر به؟ وجواز العقاب على تركه؟ ثم لو بقي على حفظ الماء وترك الوضوء شهرا كاملا فهل يشك في صحة عقابه على ترك جميع الصلوات الفائتة مع الطهارة المائية؟ مع أنه لم يكن متمكنا إلا من بعضها.
ومن هذا الباب ما لو وجب على رجل نفقة الأرقاب، فلم ينفق عليهم حتى اجتمع له من المال ما يستطيع به الحج، فلا شك في وجوب الحج عليه، لحصول القدرة الفعلية له وإن لم تكن حاصلة على تقدير امتثال أمر الإنفاق.
ومثله ما لو كان لضعف بدنه لا يتمكن من تحمل مشقة الصوم وتعب طريق الحج معا، ولا شك في سقوط الحج عنه لو صام الشهر، ولكنه لو عصى وبقيت القدرة على الحج فلا شك في وجوب الفرضين عليه، وفي صحة العقوبة على تركهما معا إلى غير ذلك من الأمثلة التي تجل لكثرتها عن التعداد.
وإذا كان الحكم كذلك في زمانين فليكن كذلك في زمان واحد، لعدم الفرق فيما هو المناط.
والسر فيه: أن المناط في صحة التكليف، والعقاب على العصيان، ليس القدرة على المجموع، بل على الجميع وهي حاصلة على كل واحد من الأفعال على تقدير ترك الغير.
ولهذا حكموا في عشرة متيممين صادفوا ماء لا يكفي إلا لطهور واحد منهم بأنه إذا سبق أحدهم إليه فتطهر بقي التسعة على تيممهم، ومع ترك الجميع انتقض تيمم الجميع، وما ذاك إلا لأن كل واحد منهم واجد للماء قادر عليه وإن لم تكن قدرة للمجموع، ولا شك في صحة عقاب الجميع مع الترك، مع أن مثل هذا القول يتجه عليه بعينه، فيقال: كيف يعاقب عشرة على ترك فعل لا يقدر عليه سوى الواحد؟ وفي الواجبات الكفائية نظائر كثيرة لذلك، مع حكمهم
315

بعصيان الجميع مع الترك.
واعلم أن الفاضل المقرر (1) رحمه الله زعم أنه يرد على هذه القاعدة - وسماها المقالة الفاسدة - أمران: أحدهما: تعدد العقاب الذي عرفت الكلام عليه.
وثانيهما: التزام صحة العمل فيما إذا تعلق النهي بنفس العمل والعبادة، ضرورة ممانعة غير الأهم عن فعل الأهم، ومن هنا كان تركه مقدمة له، والمانع من العبادة منهي عنه، فغير المهم بنفسه منهي عنه، ولقد تصدى لدفعه في التعليقة، وستعرف التحقيق فيه (2).
أقول: الظاهر أنه يريد به ما ذكره العلامة - الجد - من جواز اجتماع النهي الغيري مع الأمر النفسي، وقد مر الوجه فيه وبعض الكلام عليه.
ونقول أيضا: إنه على ما قررناه لا نهي أصلا حتى يتعلق بالعبادة ويحتاج إلى العلاج، لأن النهي غيري ناش عن الأمر بالفرض، وإذا ثبت بما مر في مقدمات هذه القاعدة عدم شمول إطلاق الأمر لصورة العصيان، فأين النهي المنبعث عنه؟ ولا بد أن ينتفي بانتفائه انتفاء المسبب بانتفاء سببه.
والظاهر أن هذا مراد العلامة - الجد - من كلامه المتقدم، وفي كلامه شواهد على ذلك وإن كان التعبير بالاجتماع لا يخلو عن مسامحة.
فاستبان من ذلك أن هذه القاعدة صالحة لدفع النهي وتصحيح الأمر معا، ولا حاجة معها إلى الوجوه المتقدمة لعلاج النهي.

(1) هو الشيخ الجليل أبو القاسم الطهراني الكلانتري صاحب التقريرات [المسمى بمطارح الأنظار]، تلميذ شيخنا الأنصاري ومقرر درسه. (مجد الدين).
(2) مطارح الأنظار: 59.
316

(تنبيهات) (1)
أولها:
أن الشرط في وجوب المهم هو العصيان المقارن، ولا يعقل اشتراطه بغيره كالعزم عليه، وذلك لأن التقرير المتقدم مبني على سقوط الأمر المطلق عن اقتضائه وسقوطه عن التأثير بوقوع خلاف مقتضاه، وهذا مختص بصورة وقوع العصيان، إذا العزم ونحوه لا يوجب سقوطه.
فما وقع في كلام المحققين كالعلامة - الجد - من التعبير عن الشرط بالعزم، فالظاهر أن الوجه فيه أن العزم كاشف عن تحقق الشرط في وقته فتؤثر الإرادة في بعث المكلف نحو إتيان المهم وإيجاد المقدمات اللازم حصولها قبل حصول الشرط على ما سلف بيانه.
ثانيها:
كما يمكن الترتب بين الأمرين كذلك يمكن بين النهي والأمر بأن يكون مأمورا بالفعل على فرض عصيان النهي (1)، كما ذكره جدي الفقيه (3) في كشف الغطاء، قال:
«وأي مانع يمنع المولى الحكيم أن يقول لعبده: لا تدخل الدار، وإن دخلت فاقعد في الزاوية الفلانية؟» (4) أو ما هذا معناه (5).
ويكفي في الجواب عن جميع ما أورد عليه مما تركنا التعرض له حذار الإطالة مراجعة الوجدان، فلو وقع حريق في دار وكان لصاحبها عقد ثمين في

(1) تنبيهات خمسة. (مجد الدين).
(2) ويمكن الترتب بين النهي والأمر بأن يكون منهيا عن الفعل على فرض عصيان الأمر، وكذلك يمكن الترتب بين النهيين، فإذن يتصور الترتب أقساما أربعة، وهذا المقام يحتاج إلى التوسعة. (مجد الدين)
(3) الشيخ جعفر النجفي، وقد ذكرنا جهة نسبة المصنف إليه في حواشينا السابقة. (مجد الدين).
(4) كشف الغطاء: 27 مضمونا.
(5) لما نقل تلك العبارة على ما هو بباله من غير يقين على مقاله ذكر هذا احتياطا. (مجد الدين).
317

زاوية منها، فإنه يمنع ولده من دخول الدار، ويؤثر هلاك العقد على أن تمس النار جسد ولده، ولكن لو علم بأنه يخالفه في الدخول فلا شك أنه يأمره بإخراج العقد، ولا يرضى بفوت مصلحة الفعل على تقدير وقوع مفسدة المنهي عنه.
وفيما تقدم في مسألة التوضؤ بالآنية المغصوبة، وما يأتي إن شاء الله في مسألة من توسط أرضا مغصوبة زيادة توضيح وبيان.
ثالثها:
كما يقع التزاحم بين الواجبات يقع أيضا بين المستحبات، بل لا يخلو كل مكلف في كل زمان من عدة متزاحمات منها مختلفة الأنواع والأصناف (1)، ولا شك في عدم إمكان تعلق الأوامر المطلقة بجميعها، لأن استحالة التكليف بالمحال لا يختص بالتكليف الإلزامي، وما ذكرناه من الترتب بين الواجبات يأتي بعينه في المستحبات بعد تخصيص لفظ الشرط (2) بالترك، فيقال: يتعلق الأمر المطلق بأهم المتزاحمات، وبكل مهم على تقدير ترك الأهم منها، وهكذا حتى يستوعب الجميع، وإذا تساوت عدة منها يكون الأمر فيها على التخيير على النمط السابق بيانه.
ولا مناص لمنكر الترتب عن تخصيص الأمر بأهم الجميع، والالتزام بعدم تعلقه بغيره، وأقصى ما تناله يده في تصحيح العبادات المهمة هو الاكتفاء فيه بالمحبوبية الذاتية، كما يقوله بعض الأساتيذ (3)، وهذا على علاته (4) المتقدمة في بحث أقسام الأمر، اللازم منه أن يمر على المكلف ستون وسنة وأكثر ولا يتعلق به أمر التطوع بالصوم والاعتكاف إذا كان له رحم تتوقف
صلته على المسافرة، بل

(1) وهذا من باب ذكر الخاص بعد العام نظير قوله تعالى: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى لأن الأجناس تنقسم إلى الأنواع، والأنواع تنقسم إلى الأصناف مثل الحيوان منقسم إلى الإنسان وغيره، والإنسان إلى الرومي والزنجي.
(مجد الدين).
(2) أي العصيان. (مجد الدين).
(3) صاحب الكفاية. (مجد الدين).
(4) العلات جمع للعلة التي بمعنى الداء. (مجد الدين).
318

الرواتب اليومية لا تكون مأمورا بها إلا في فروض نادرة، إذ الغالب مزاحمتها لقضاء حاجة مؤمن، أو صلة رحم ونحوها، على ما هو عليه من البعد.
رابعها:
كما يقع التزاحم بين تكليفين في زمان واحد يقع بينهما أيضا في زمانين، فلو كان مع المكلف من الماء ما يكفي لحفظ نفس واحدة من الهلاك، وحضرته نفس محترمة وعلم بأنه ستحضره أخرى بعد يوم، فهل يجب عليه إنقاذ الحاضرة ولو كانت الثانية أهم منها فيقدم ذمي اليوم على مسلم غد، أو يجري فيه على الأصل السابق فيترك حفظ الحاضرة إذا كانت الثانية أهم منها، ويتخير مع التساوي؟ وجهان.
وبادئ النظر يقتضي الأول نظرا إلى أن حفظها واجب، وجد موضوعه وتحقق شرطه فتحققت فعليته، والثاني لم يجب بعد حتى يزاحم الأول، ولكن يشكل ذلك بما مر بيانه (1) من عدم الفرق بين قسمي الواجب من هذه الجهة، وأن المشروط كالمطلق في وجوب تحصيل مقدماته إذا علم بحصول شرطه في وقته، ومن مقدماته حفظ القدرة لامتثاله فيتزاحمان، ويكون الحكم للعقل، وحكمه ما عرفت.
وهذا أقرب إلى قواعد الصناعة وإن لزم منه في فروع كثيرة ما يصعب الالتزام به، على أن الوجه الأول أيضا لا يسلم من أمثاله، وكيف يحكم الفقيه بتقديم حفظ بهيمة مثلا على حفظ مسلم فقيه علوي بمجرد تقدم الزمان، أو تحقق موضوع تلك قبل ذاك؟ والمسألة محتاجة إلى مزيد تأمل.
خامسها:
ذكرنا سابقا أن المنسوب إلى المحقق الثاني جواز تعلق الأمرين المطلقين بالضدين إذا لم يكونا مضيقين، وقد اختلفت الأنظار في توجيه ذلك، ولتحقيق مرام محقق مثله لا بد من نقل عبارة القواعد أولا، ثم نقل ما يتعلق

(1) في المقدمة الرابعة. (مجد الدين).
319

بالمقام مما ذكره في جامع المقاصد (1).
فنقول: قال في القواعد (2): «من كان عليه دين أو خمس أو زكاة أو شيء من الحقوق المالية لا تصح صلاته في سعة الوقت» (3) وقال المحقق المذكور في أثناء كلام له يعترض به عليه، ما لفظه:
«إن قيل: وجوب القضاء على الفور ينافي وجوب الصلاة في الوقت الموسع، لأنه حين وجوب الصلاة إذا تحقق وجوب القضاء على الفور يلزم تكليف ما لا يطاق وهو باطل، وإن لم يبق خرج الواجب عما ثبت له من صفة الوجوب الفوري.
قلنا: لا نسلم لزوم تكليف ما لا يطاق، إذ لا يمتنع أن يقول الشارع:
أوجبت عليك كلا من الأمرين، لكن أحدهما موسع والآخر مضيق، فإن قدمت المضيق فقد امتثلت وسلمت من الإثم، وإن قدمت الموسع فقد امتثلت وأثمت بالمخالفة في التقديم.
والحاصل أن الأمر يرجع إلى وجوب التقديم، وكونه غير شرط في الصحة والامتثال مع انتقاضه بتضيق الوقت، فإنه إن بقي الوجوب لزم ما سبق، وإن خرج لزم خروج الواجب عن صفة الوجوب، مع أنه لا دليل على الترجيح، إذ هما واجبان مضيقان قد تعارضا، فلا بد من خروج أحدهما عن صفة الوجوب لئلا يلزم المحذور، والدلائل تدل على خلافه، ومع تسليمه فلا دليل يقتضي خروج واحد بعينه من الصلاة في آخر الوقت وقضاء الحق المضيق، فالحكم بصحة الصلاة في آخر الوقت أيضا باطل لأنه يستلزم الترجيح بلا مرجح، ولانتقاضه بمناسك يوم النحر، فإن الترتيب فيها واجب، ولو خالف أجزأت عن

(1) وهو شرح للقواعد. (مجد الدين).
(2) وهو للعلامة الحلي. (مجد الدين).
(3) قواعد الأحكام 1: 156.
320

الواجب الذي في الذمة، وإنما تجزي إن كانت واجبة مع عدم الترتيب، لامتناع إجزاء غير الواجب عن الواجب، وإنما يعقل الوجوب على التقديرين، والتأثيم على تقدير واحد بخصوصه بناء على ما قدمناه، فلو كان وجوب شيء يقتضي إيجاب ما يتوقف عليه وإن كان مقابله واجبا لامتنع الإجزاء هنا وفي كل موضع أشبهه، وهذا من غوامض التحقيقات» (1) انتهى المقصود من كلامه قدس سره.
والعلامة صاحب البدائع حاول توضيحه، فأطال البيان، وحاصل ما يستفاد منه حمل كلامه على الترتب المشهور المتقدم بيانه. وقد يحمل على ما سبق ذكره أول البحث (2) من تجويز تعلق الأمرين المطلقين بالمتزاحمين إذا لم يكونا مضيقين، ويدعى أن العقل يجوز قول السيد لعبده: أريد منك كنس الدار مع تبين الفجر بلا تأخير، ورشها منه إلى زوال الشمس بأن يكون أول الفجر وقتا للفعلين معا ومختصا بأولها، إذ لا مانع إلا توهم لزوم التكليف بما لا يطاق وهو مفقود في المقام، لتمكن المكلف من امتثال الأمرين معا بتقديم هذا وتأخير ذاك.
وكلا الوجهين بعيدان من كلام هذا المحقق، وأولهما أبعدهما، إذ الترتب المشهور متوقف على مشروطية أحد الأمرين وإطلاق الآخر، وليس في مجموع الكلام المتقدم نقله عين للشرط ولا أثر، وأنا أحاشي هذا الأستاذ عن مثل هذا، وإنما هو من بعض أصحابه الذي تكلف تتميم الكتاب.
وأما الثاني فهو صحيح إن كان المراد صلاحية الوقت للفعلين، ووجود العلاقة اللازم وجودها بين الوقت والموقت فيهما معا، كما في وقت الظهرين والعشاءين على ما نقول به من اشتراك الوقت بينهما في جميع الوقتين وإن لزم

(1) جامع المقاصد 5: 13 - 14.
(2) بدائع الأفكار: 390.
321

تقديم الأوليين لقولهم عليهم السلام: «إذا زالت الشمس دخل الوقتان - أو وقت الصلاتين - إلا أن هذه قبل هذه» (1) إلى آخره.
وهذا قد يكون على نحو الشرطية إما مطلقا أو في خصوص حال التذكر كما في الصلاتين، وقد يكون عنوان التقدم واجبا نفسيا، بمعنى أن في التقدم مصلحة ملزمة، وبتأخيره تفويت تلك المصلحة.
والظاهر أن مناسك الحج الذي ذكرها نقضا من هذا القبيل، ولكن أين جميع ذلك من دفع الشبهة العقلية؟ ومقابله حكم العقل بامتناع التكليف بما لا يطاق، وتخصيصه الموسع بما بعد زمان المضيق، لأن البعث إليهما معا نفسيا بعث إلى المستحيل، وطلب لغير المقدور، ولا فرق في مناط حكم العقل بالامتناع بين طلب المحال في ساعة واحدة أو في جميع الساعات، فلو فرض أن السيد أمر هكذا، فالعقل يحكم بالتخصيص المذكور كي لا يلزم المحذور.
ومن الطريف أن صاحبنا العلامة أدام الله أيامه حاول تصحيح ذلك، فجعله مبنيا على أمرين:
أحدهما: أن لا يكون التخيير بين الأزمنة شرعيا.
وثانيهما: أن لا يقال باستلزام الأمر بالطبيعة السراية إلى الفرد، وحاول بعد ذلك تصحيح ذلك مطلقا، فقال:
«يمكن أن يقال: لا مانع من الأمر حتى على القول بالتخيير الشرعي أو على القول بسراية حكم الطبيعة إلى الأفراد، لأن المانع من التكليف بما لا يطاق ليس إلا اللغوية، وهي مسلمة فيما
إذا كان نفس الفعل غير مقدور كالطيران إلى السماء.
وإذا كان بنفسه مقدورا - كما في ما نحن فيه، غاية الأمر يجب بحكم

(1) الكافي 3: 276 / 5. الفقيه 1: 139 / 647، التهذيب 2: 26 / 73، الاستبصار 1: 260 / 934.
322

العقل امتثال أمر آخر من المولى - فلا يلزم اللغوية، إذ يكفي في ثمرة وجود الأمر أنه لو أراد المكلف عصيان الواجب المعين يقدر على إطاعة هذا الأمر، ومن ذلك يظهر أن قياس مقامنا بمثال الطيران إلى السماء ليس في محله» (1) انتهى.
ولا أدري متى كانت اللغوية مناطا لقبح التكليف بغير المقدور أو لامتناعه وعهدنا بالقدرة وهي بنفسها شرط في جواز التكليف، بل في تحقق الطلب، وأن الإرادة لا يعقل تعلقها بغير المقدور تشريعية كانت أم تكوينية، ولو أمكن إثبات كون اللغوية هي المناط لسهل بيان الترتب بلا احتياج إلى ما علمته من المقدمات.
وبالجملة لم يظهر لنا بعد محمل لهذا القول يليق بمقام قائله، فكأنه يرى في مسألة فورية القضاء وما كان من بابها وجود أوامر ثلاثة يتعلق اثنان منها بالواجبين، وثالث بعنوان التقديم، كما يدل عليه قوله في العبارة المتقدمة: «وإن قدمت الموسع فقد امتثلت وأثمت في المخالفة، والحاصل: أن الأمر يرجع إلى وجوب التقديم» (2) إلى آخره.
وعلى هذا فهو خارج عن حمى مسألتنا هذه التي لا مدخلية لغرض التقديم فيها أصلا، بل المناط فيه حكم العقل بالجمع بين الغرضين المتعلقين بالمتزاحمين، وحكمه بعدم إمكان البعث إلى المهم إذا استلزم عصيان الأهم، بل هو من باب مناسك الحج التي استشهد بها حيث علم من الدليل وجود مصلحة ملزمة في التقديم زيادة على المصلحة الموجودة في أصل الواجبين، وليس الإجزاء فيها إلا لفوت غرض التقديم، وعدم إمكان تداركه على ما سبق بيانه في بحث الإجزاء.
على أنه مع ذلك يصيبه نصيب من الإشكال، إذ المجال فيه واسع للسؤال

(1) درر الفوائد 1: 106 - 107.
(2) جامع المقاصد 5: 14.
323

عن الوجه في جواز أمر الشارع بالموسع مع تعلق بعثه الفعلي إلى التقديم الذي مرجعه إلى إتيان المضيق فورا، بل نهيه عن الموسع بناء على اقتضاء الأمر النهي عن ضده.
هذا، وأما ما ذكره في تضييق الوقت فالوجه فيه ظاهر مما مر في مقدمات الترتب من أن الحكم في مرحلة الامتثال للعقل وحده، وحكمه تقديم الأهم إن كان أحدهما أهم، وإلا فالتخيير، فلا يصح قوله، مع أنه لا دليل على الترجيح في الأول، ولا نقول بالترجيح في الثاني، ولا يمكنه القول به أيضا على مبناه، ولا بد له من الإذعان بما قلناه، إذ لا أمر بالتقديم في المتساويين قطعا.
هذا كله في بيان تصور الأمر بالضد إذا كان عبادة.
وقد يدعى عدم لزوم وجود الأمر في تصحيح العبادة، وأنه يكفي ملاكه، كما قال في الكفاية: «لا وجه لصحة العبادة مع مضادتها لما هو أهم منها إلا ملاك الأمر» (1) وقد سبق بعض النظائر له والكلام.
وهذا له وجه على ما قررناه من عدم توقف العبادة على وجود الأمر، بل يكون عبادة ولو مع النهي، ولكن كيف يقول به إذا جعل قصد الأمر مقوما لمعنى العبادة؟ فإنه لا مجال لتوهم الأمر إذا كانت مزاحمة له في تمام الوقت كما صرح به.
هذا آخر ما أردنا إيراده في مباحث الأوامر، ويتلوه القول في النواهي إن شاء الله، ولله الحمد والفضل، وعلى نبيه وآله الصلاة والسلام.

(1) كفاية الأصول: 136.
324

(القول في النواهي)
المباحث المتعلقة بالنهي منها ما يتعلق بحقيقته، ومنها ما يتعلق بالدال عليه، ولما كان شريك الأمر في كون كل منهما طلبا، إلا أن هذا طلب الترك، وذاك طلب الفعل، يظهر الحال في أكثر المباحث المتعلقة بالقسم الثاني - كالمباحث المتعلقة بمطلق الطلب - بما تقدم في مباحث الأمر.
1 - فإذن، النهي بمادته وصيغته موضوع لطلب ترك متعلقه ولو كان تركا، ومستعمل فيه وإن كان بدواع أخر غير الطلب.
ويحمل مجرده على عدم الرضا بالفعل (الحرمة) لا لوضع اللفظ له، ولا لخصوصية فيه من قرينة ونحوها، بل لتمام الحجة به وعدم صحة اعتذار المنهي إذا ارتكبه باحتمال كونه للكراهة.
ولذا يجري عمدة ما ذكروه في حمله على التحريم من ذم العقلاء على المخالفة، وحكمهم باستحقاق العقاب عليها في غير الألفاظ، كما تقدم.
2 - ويعتبر فيه كالأمر صدوره ممن تلزم إطاعته ولو ادعاء بجهة من الجهات من حيث إنه واجب الإطاعة، ولا يكفي مطلق العلو ولا الاستعلاء إن لم يرجع إلى ادعاء العلو، ولا ممن تجب إطاعته إذا لم يصدر من جهة وجوب الإطاعة، ولذا لا يصدق على نهي الملك لغير رعيته، والمولى لغير عبده، ولا على نهي من تجب طاعته إذا لم يصدر من تلك الجهة، ولذا قال صلى الله عليه وآله في جواب بريرة لما قالت: أتأمرني يا رسول الله؟: «لا، بل أنا شافع» (1).
واعتبر بعضهم فيه - كالأمر - العلو والاستعلاء معا، وخصه بكل منهما

(1) سنن الدار قطني 3: 294 / 183، صحيح البخاري 7: 62، سنن ابن ماجة 1: 671 / 75 20.
325

قوم، واكتفى آخرون بأحدهما، منهم الشيخ الإمام - الجد (1) - ولكنه شرط في العلو عدم ملاحظة خلافه باعتبار نفسه مساويا للمأمور أو أدنى منه، قال طاب ثراه وهذا لفظه:
«والذي يدل عليه ملاحظة العرف، أما صدقه مع الاستعلاء وإن خلا من العلو فلظهور صدق الأمر بحسب العرف على طلب الأدنى من الأعلى على سبيل الاستعلاء، ولذا قد يستقبح منه ذلك، ويقال له: ليس من شأنك أن تأمر من هو أعلى منك.
وأما الاكتفاء بالعلو الخالي عن ملاحظة الاستعلاء فلأن من الظاهر في العرف إطلاق الأمر على الصيغ الصادرة من الأمير إلى الرعية والسيد بالنسبة إلى العبد وإن كان المتكلم غافلا عن ملاحظة علوه حين الخطاب كما يتفق كثيرا.
ومما يشير إليه انحصار الطلب الصادر من المتكلم في الأمر والالتماس والدعاء، ومن البين عدم اندراج ذلك في الأخيرين فتعين اندراجه في الأول.
والحاصل: أنهم يعدون الخطاب الصادر من العالي أمرا إذا لم يخفض نفسه، وليس ذلك من جهة استظهار ملاحظة العلو، لظهور صدقه مع العلم بغفلته أو الشك في اعتباره بملاحظة خصوص المقام.
وقد يخلو المقام عن ملاحظة الاستعلاء قطعا، كما إذا رأى السيد أحدا وشك في كونه عبده أو رجلا آخر مساويا له أو أعلى، فطلب منه شيئا بصيغة الأمر، فإن الظاهر عده أمرا إذا كان عبده بحسب الواقع، ولذا لو عصى العبد مع علمه بكون الطالب مولاه عد في العرف عاصيا.
وأما عدم صدقه مع استخفاض العالي نفسه بجعلها مساوية مع المخاطب

(1) ذكره في بحث الأوامر، وحيث قد فاتنا تفصيل القول هناك تداركناه في هذا البحث، وظاهر عدم الفرق بين الأمر والنهي من هذه الجهات. (منه).
326

أو أدنى، فلظهور عده - إذن - ملتمسا أو داعيا في العرف، كما أنه يعد المساوي أو الداني مع استعلائه آمرا.
والحاصل: أن الطلب الحاصل بالأمر أو الالتماس أو الدعاء إنما ينقسم إلى ذلك بملاحظة علو الطالب أو مساواته أو دنوه بحسب الواقع أو ملاحظته على سبيل منع الخلو، والعرف شاهد عليه
» (1) انتهى ببعض اختصار.
أقول: لا شك في صدق الأمر مع الاستعلاء الخالي عن العلو، ولكنه لا يكون إلا بعد ادعاء العلو ولعله هو.
وما ذكره من غفلة المتكلم عن ملاحظة علوه حين الخطاب فلمانع أن يمنع إمكان صدور الأمر مع الغفلة التامة عن جهة صدوره كما في سائر الإنشاءات، فكما لا يمكن غفلة البائع أو المطلق عن كونه مالكا أو زوجا لا يمكن غفلة الآمر عن كونه مولى.
وكما لا يخلو المشتري عن الالتفات - ولو إجمالا - بأنه يشتري البضاعة لنفسه أو لغيره، لا يخلو الآمر من الالتفات إلى كونه آمرا أو شافعا.
نعم من الممكن الواقع كثيرا عدم الالتفات التفصيلي إلى جهة طلبه، ونظائره في الأفعال الاختيارية غير عزيزة، كالتنفس وقصد المكان البعيد طول الطريق.
ويتضح لك ذلك إذا فرضت نفسك في محفل وفيهم الأعلى منك، والمساوي لك، ومعك عبدك أو خادمك، فإنك لا توجه أمرك بإحضار نعلك إلا إلى العبد والخادم، وما ذاك إلا لالتفاتك الإجمالي إلى الجهة المذكورة.
وأما توجيه الأمر إلى من يشك في أنه عبده أو غيره فلا ينافي صدوره من الجهة التي اعتبرناها فيه، غايته ان يكون أمرا احتماليا، وكم له من نظير في

(1) هداية المسترشدين: 132.
327

ضروب الإنشاء، فإنك تخاطب الشيخ المرئي في الظلام إذا احتملت أن يكون إنسانا يفهم الكلام، والأعمي يلح في السؤال باحتمال وجود سامع يرجى منه النوال.
ويرشد إلى كونه امرا اعتذاره من استعلائه وتوجيهه الأمر إليه إذا انكشف له أنه غير عبده، ومن ذلك يظهر الوجه في عد العبد عاصيا إذا خالفه.
وأما انحصار الطلب في الأقسام الثلاثة فما هو إلا حصره فيها بحسب مراتب الطالب، لا بحسب الجهات التي يصدر منها الطلب، وقد يصدر ممن تجب طاعته لا من حيث وجوب الطاعة، ولذا لا يكون أمرا. وقد سمعت قوله صلى الله عليه وآله: «لا بل أنا شافع» (1).
وكما ينقسم بحسب المرتبة إلى الأقسام الثلاثة تنقسم الشفاعة إليها أيضا وإن (2) كان اللفظ منصرفا لدى الإطلاق إلى شفاعة الأعلى لغيره. ولو ثبت وجوب قبول شفاعة النبي فلا بد أن يكون لدليل آخر غير قوله تعالى:
وأطيعوا الرسول (3) ونحوه.
ومن هذا يظهر وجه النظر فيما قرره أخوه - العلامة - في خبر بريرة، وهذا لفظه: «فنفى الأمر وأثبت الشفاعة وهي للندب» (4).
وفيما ذكره الفاضل القمي من أن «دلالة الأمر على الاستعلاء يقتضي

(1) سنن الدار قطني 3: 294 / 183، صحيح البخاري 7: 62، سنن ابن ماجة 1: 671 / 2075.
(2) ولذا لا يطلق الشافع على من صلى الله عليه وآله صلى الله عليه وآله فهي كالأمر يختص بالعالي مع اشتراكها مع الدعاء بحسب الحقيقة.
ومنه يتضح الجواب عن استدلال المعتزلة على أن الشفاعة لا تكون في طلب زيادة الثواب، وإلا لزم أن نكون شفعاء للنبي صلى الله عليه وآله إذا صلينا عليه، وقد وقع في بحث الشفاعة من كتاب التجريد وبعض شروحه ما لا يخلو عن تأمل، فراجع. (منه).
(3) النساء: 59.
(4) الفصول الغروية: 63.
328

الإيجاب والإلزام، إذ لا معنى لإظهار العلو في المندوب» (1).
وهذا وأشباهه من الخلط بين الجهات التي ينقسم إليها الطلب من التقسيم باعتبار مرتبة الطالب، أو رتبة الطلب، أو الجهة التي يصدر منها الطلب، فتبصر.
وبالجملة، لا بد في صدق الأمر والنهي إلزاميين كانا أو غيره من صدورهما من جهة الإطاعة، نعم الظاهر لزوم حملهما عليها عند الإطلاق، لنظير ما سبق في وجه حملهما على الوجوب والحرمة، فراجع.
3 - ولا يدل على فور ولا تراخ ولا استمرار، بل يدل على طلب عدم الحدث الذي تعلقت الهيئة به.
نعم لما كان ترك الطبيعة لا يحصل إلا بترك جميع الأفراد في جميع الأزمان، لزمه الفور والاستمرار إلا أن تكون الطبيعة مقيدة بشيء فتتبعها الهيئة.
4 - وهو للكف عن الفعل، لا لطلب الكف عنه، كما ذهب إليه أكثر المتقدمين.
فإن أرادوا لزوم تعلق النهي به لتوهم أن العدم غير مقدور فلا يمكن تعلق التكليف به، كما يظهر من حجتهم المعروفة، فهو واضح الفساد، ضرورة أن العدم لو كان غير مقدور لم يكن الوجود أيضا مقدورا، لتساوي نسبة القدرة إلى طرفي الوجود والعدم، إذ القدرة على أحدهما اضطرار لا قدرة كما في الفصول (2).
وإن أرادوا عدم حصول الامتثال وما يترتب عليه من القرب والثواب ونحوهما، كما يظهر من دليلهم المنقول في غاية المأمول، فهو حسن إلا أنه غير مجد في المقام، إذ لا ملازمة بين ما يتعلق به التكليف وبين ما يحصل به الامتثال كما

(1) قوانين الأصول 1: 81.
(2) الفصول الغروية: 121.
329

في الأمر.
5 - بينا في بحث الأوامر أن الطبيعة الصرفة غير قابلة لتعلق الطلب بها، وأنه لا بد من اعتبار أحد الأمرين من الوجود والعدم وان الوجود الملحوظ قد يكون على نحو الأفرادي، وقد يكون على نحو العام المجموعي، وقد يكون على نحو صرف الوجود الذي يعبر عنه بناقض العدم وطارده، وأن الأخير هو المتيقن منه والمعول عليه عند الشك، ونقول بمثله في المقام، إذ العدم الملحوظ في النهي لا يخلو من أحد هذه الأقسام نحو لا تشرب الخمر، ولا تأخذ جميع الدراهم التي في الصرة، ولا تأكل الثوم يوم الجمعة.
وعلى هذا إذا شك في بقاء النهي بعد المخالفة فمقتضى أصالة البراءة عدمه، ولكن الغالب على النواهي هو الأول، إذ النهي يتبع المفسدة الموجبة له، والغالب فيها تكررها بتكرر الأفراد كتأكدها في المفاسد القابلة للشدة والضعف، والقلة والكثرة، والطول والقصر كضرب المؤمن وحبسه.
فلا بد في معرفة ذلك من الرجوع إلى الدليل، فإن وجد عموم أو إطلاق أو غيرهما فهو المتبع، وإلا فالأصل ما عرفت.
وفي ذوق الفقاهة ومناسبة الأحكام لموضوعاتها، وملاحظة الحكم الموجبة للنهي ما لا يدع موردا للأصل إلا النادر.
ولذا يحكم على من نذر ترك الخمر بالحرمة وإقامة الحد في جميع مرات التكرار، وبالحنث، والكفارة في أول المرات فقط، وهذا بناء على صدق الحنث على سائر المرات.
ولمانع أن يمنع ذلك، ويجعل الحنث كالقتل غير قابل للتكرار، وهو الظاهر إذ تعدد الحنث لا يكون إلا بتعدد المنذور، فلا حنث مع عدم شمول النذر، ولا شك مع الشمول، ومع الشك فالمرجع الأصل.
6 - ينقسم النهي إلى ما ينقسم إليه الأمر، فيكون نفسيا وغيريا، والأول
330

واضح، ومر ما يتعلق بالثاني في بحث الضد.
ويكون مطلقا ومشروطا، ومنجزا ومعلقا، نحو لا تهن زيدا، ولا تهنه إن زارك، ولا تكن معه في البلد يوم الجمعة.
ويكون عينيا وتعينيا وكفائيا وتخييريا على خلاف في إمكان الأخير، وقد يمثل له بحرمة الجمع بين الأختين، وفيه نظر إذ العنوان المأخوذ فيها أمر واحد وجودي وإن توقف الامتثال على ترك أحدهما. وتحقيق المقام غير مهم، والمثال غير عزيز.
وللثالث ما لو فرض وجود المفسدة في تزوج جميع أولادك، أو الصلاح في ترك أحدهم له.
7 - ثم إن النهي لا يستلزم المفسدة في المنهي عنه، كما هو الشائع على الألسنة وان كان الغالب فيه وجودها في متعلقة، إذ قد تكون المصلحة في النهي نفسه، وقد مر نظيره في الأوامر، وقد يكون لفوت المصلحة الملزمة إلا أن يقال: إنه حينئذ قسم من المفسدة.
8 - يعرف الحل في عدة من مسائل النهي مما مر في نظائرها في الأمر من غير احتياج للفطن الذكي إلى زيادة بيان كالنهي بعد الحظر، والنهي عن النهي، وبقاء الكراهة بعد نسخ الحرمة، ونسخه قبل وقت العمل.
وأما المسائل التي جرت العادة على التعرض لها في هذا الباب لكونها تختص بالنهي، أو أنها أنسب به من سائر الأبواب فعدة مسائل، أولها وأهمها:
جواز اجتماع الأمر والنهي في فرد واحد وعدمه (1)
والمراد من الجواز الجواز العقلي أعني الإمكان، وبالاجتماع اجتماعهما

(1) هذا هو العنوان المشهور الخالي عن القصور، وربما يحذف بعض ألفاظه ويكتفي بلفظ. «جواز اجتماع الأمر والنهي» اختصارا لوضوح المراد، وجريا على سيرة المصنفين في كل فن، فيقول المتكلم والأصولي، مسألة الجزء أو الأجزاء، فأوجب ذلك انتقاد غير واحد من أهل هذا العصر بأنه يوهم كون النزاع في أمر بديهي الامتناع.
وللخلاص من هذا الإشكال التافه جعل بعضهم النزاع صغرويا كباب المفاهيم.
وغيره غيره إلى عبارة طويلة مملة على خلاف ما يتوخاه العلماء من اختصار العناوين، ولو ذكر لفظ الفرد كفاه في الحذر عما زعمه اعتراضا.
وأوجب بعضهم لزوم ذكر تعدد الجهة في الفرد لزعمه أن تركه يوهم دخول المطلق الواحد، ولو فعل ذلك لعاد اعتراضه في ترك تقييد الجهتين التقييديتين لأنه يوهم دخول التعليليتين والمناط وغيرهما، ولم لم يسر اعتراضه هذا إلى غيرها من المسائل فيعترض بترك ذكر المقدمة الوجودية المقدورة في باب مقدمة الواجب، وهكذا في سائر مسائل العلوم، وكل ذلك ناش من الغفلة من أن العناوين إنما تؤخذ على نحو الإجمال. (منه).
331

بجميع خواصهما حتى التقرب وضده، والامتثال والمخالفة، واستحقاق الثواب والعقاب معا.
وما نقل عن القاضي من أن الفعل يسقط في الصلاة عندها لا بها، فلا يبعد أن يكون مراده التوصليات، وإن كان يبعده مورد كلامه وهو الصلاة.
والمراد من الأمر والنهي مطلق أقسامهما وإن كانا ظاهرين في النفسيين الأصليين العينيين التعينيين المطلقين على تفاصيل في بعضها تعرف المهم منها في مواقعها، بل يجري في غيرهما من الأحكام، أعني الكراهة والاستحباب وفي اجتماع كل حكم مع مثله، لأن محذور اجتماع الأمثال كاجتماع الأضداد، بل ويجري في مراتب كل منها مع أنفسها.
والحال في اجتماع واجبات ومحرمات كالحال في اجتماع واجب واحد وحرام كذلك. وكذلك في غيرهما، إذ لا فرق بين فرد ذي جهتين وبين فرد ذي جهات، فيتصور المسألة بصور كثيرة.
والمراد بالفرد كل موجود خارجي يكون مصداقا لطبيعتين إحداهما مأمور بها والأخرى منهي عنها.
332

وإن شئت قلت: الفرد الذي له جهتان تقييديتان يكون باعتبار إحداهما مأمورا به، وباعتبار الأخرى منهيا عنه، ويكون المكلف قادرا على امتثالهما معا، وأن لا يسري شيء من المصلحة والمفسدة من أحد الطلبين إلى الآخر، وأن يكون كلا منهما تاما في مرحلة التكليف.
فاستبان من ذلك خروج الواحد ذي جهة واحدة لأن التكليف به تكليف بالمحال، بل تكليف محال.
وكذلك (1) الجهتان إذا كانتا تعليليتين وإن تفارقت الجهتان، لأن تعدد العلة لا يقضي بتعدد المتعلق.
وكذلك كل شيئين متساويين أو متلازمين، لعدم التمكن من الامتثال وما كان بينهما عموم مطلق مع تعلق الأمر بالأخص أو عموما من وجه مع انحصار أفراد أحدهما في الآخر.
(اعتبار المندوحة)
واستبان أيضا اعتبار المندوحة في مورد النزاع، كما صرح به أكثرهم، واعتذر في الفصول عمن ترك التقييد به بأنه اتكل على وضوحه (2). وبه صرح الأستاذ في الفوائد (3)، ولكن عدل عنه في الكفاية، وقال ما حاصله:
إن المهم في المقام البحث عن كفاية تعدد الجهة في دفع المحال من اجتماع الضدين وعدمها، ولا يتفاوت في ذلك وجود المندوحة وعدمها، ولزوم

(1) هذا هو الاصطلاح الشائع هنا وفي كتب المعقول، وعليه جرى الشيخ الإمام وغيره.
وعن صاحب المناهج وغيره عكس ذلك وهو أن النزاع في الجهتين التعليليتين خارجتان عنه، والظاهر أن الاختلاف في مجرد اللفظ والتسمية، وإلا فالمعنى غير قابل للخلاف فيه، فإطالة بعض أساتيذنا في بيان ذلك مما لا يترتب عليه فائدة مهمة.
(منه).
(2) الفصول الغروية: 124.
(3) فوائد الأصول: 144.
333

التكليف بالمحال بدونها محذور آخر (1).
وأرى أن رأيه الأول المطابق لآراء القوم أصوب من هذا الذي تفرد به، لأن المفروض - كما علمت، ويدل عليه عنوان المسألة - وجود التكليفين وتنجزهما، وكون اختيار المكلف الفرد المجامع للحرام في مقام الامتثال من سوء اختياره، ومع عدم المندوحة لا تكليف حتى ينازع في حصول الامتثال به.
وبالجملة نزاع القوم في مقام الامتثال بعد فرض الأمر، ومع عدمها لا أمر إلا أن يغير عنوان المسألة، فشأنه حينئذ وذاك.
(اعتبار وجود المناط)
واستبان أيضا: أنه لا بد من وجود المناط في الحكمين معا في مورد الاجتماع، إذ الحكم ينتفي بانتفاء مناطه، فيتخلص الفرد للجهة الشاملة للمناط، وما أشبه المقام من هذه الجهة بباب التزاحم الذي عرفت القول فيه في مسألة الضد.
وحينئذ إن علم وجودهما فيهما ولو بدليل اجتهادي من عموم أو إطلاق فلا إشكال، وإلا فالمرجع الأصل وهو الاشتغال في جانب الأمر، والبراءة في جانب النهي، فتأمل.
واعترض عليه بعض أعلام العصر - فسح الله في عمره - بأن النزاع يجري حتى على قول الأشاعرة المنكرين لتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.
وفيه أن الملاك بالمعنى الذي يعني هاهنا ويعتبر في مورد النزاع أعم من المصلحة والمفسدة، وهو الذي يعبر عنه في المخلوق بالغرض، وفي مقام القدس

(1) كفاية الأصول: 153 - 154.
334

بما لا يستلزم الاستكمال المحال في أفعاله تعالى (1).
(جريان النزاع في العموم المطلق)
ويجري النزاع في العموم من وجه بالشرط المتقدم، وأما العموم المطلق، فقد صرح الفاضل القمي بخروجه عن محل النزاع وجعله الفارق بينه وبين مورد النزاع الآتي (اقتضاء النهي الفساد) وقال في الفصول ما نصه:
«لا فرق في موضع النزاع بين أن يكون بين الجهتين عموم من وجه، كالصلاة والغصب، وبين أن يكون بينهما عموم مطلق مع عموم المأمور به، كما لو أمره بالحركة ونهاه عن التداني إلى موضع مخصوص، فتحرك إليه، فإن الحركة والتداني طبيعتان متخالفتان، وقد أوجدهما في فرد واحد، والأولى منهما أعم.
وبعض المعاصرين خص موضع النزاع بالقسم الأول، وجعله فارقا بين هذا النزاع والنزاع الآتي في الفصل اللاحق، حيث يختص بالقسم الثاني، وقد سبقه إلى ذلك غيره.
وأنت خبير بأن قضية الأدلة الآتية في المقام، وإطلاق عناوين كثير منهم، عدم الفرق بين المقامين، وسيأتي تحقيق الفرق بين النزاعين» (2).
وقال في المسألة الآتية ما نصه أيضا: «اعلم أن الفرق بين المقام والمقام المتقدم، وهو أن الأمر والنهي هل يجتمعان في شيء واحد أو لا؟ أما في المعاملات فظاهر، وأما في العبادات فهو أن النزاع هناك فيما إذا تعلق الأمر والنهي

(1) الغرض بهذا المعنى هو الفارق بين الأفعال الاختيارية وغيرها ولا ينفك عنه حتى أفعال المجانين، إذ الفرق بين أفعالهم وبين أفعال العقلاء هو أن أغراضهم غير عقلائية، بخلاف أفعال العقلاء، فتذكر ما مر في بحث الإرادة من أن معناها العلم بالصلاح أو الأصلح فليكونا هما المراد في المقام أو ما يقاربهما.
(منه).
(2) الفصول الغوية 125.
335

بطبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة وإن كان بينهما عموم مطلق. وهنا فيما إذا اتحدتا حقيقة وتغايرتا بمجرد الإطلاق والتقييد بأن تعلق الأمر بالمطلق، والنهي بالمقيد.
وما ذكره بعض المعاصرين في بيان الفرق من أن النزاع هناك فيما إذا كان بين الموردين عموم من وجه، وهنا فيما إذا كان بينهما عموم مطلق. فغير مستقيم. وقد مر التنبيه عليه» (1).
وفي التقريرات ما بعضه: «إن ظاهر هذه الكلمات يعطي انحصار الفرق بين المسألتين في اختصاص إحداهما بمورد دون الأخرى، وليس كذلك، بل التحقيق أن المسؤول عنه في إحداهما غير مرتبط بالأخرى.
وتوضيحه: أن المسؤول عنه في هذه المسألة هو إمكان اجتماع الطلبين فيما هو الجامع لتلك الماهية المطلوب فعلها، والماهية المطلوب الترك من غير فرق في ذلك بين موارد الأمر والنهي، فإنه كما يصح السؤال عن هذه القضية فيما إذا كان بين المتعلقين عموم من وجه، فكذا يصح فيما إذا كان عموم مطلق، سواء كان من قبيل قولك: صل ولا تصل في الدار المغصوبة. أو لم يكن كذلك.
والمسؤول عنه في المسألة الآتية هو أن النهي المتعلق بشيء هل يستفاد منه أن ذلك الشيء مما لا يقع به الامتثال؟ حيث إن المستفاد من إطلاق الأمر حصول الامتثال بأي فرد كان، فالمطلوب فيها هو استعلام أن النهي المتعلق بفرد من أفراد المأمور به هل يقتضي رفع ذلك الترخيص الوضعي المستفاد من إطلاق الأمر، أو لا؟ ولا ريب أن هذه القضية كما يصح الاستفسار عنها فيما إذا كان بين المتعلقين إطلاق وتقييد، فكذلك يصح فيما إذا كان بينهما عموم من وجه كما إذا كان بينهما عموم مطلق.

(1) الفصول الغروية 140.
336

وبالجملة إن اختلاف المورد لا يصير وجها لاختلاف المسألتين، بل لا بد من اختلاف جهة الكلام، وعلى اختلافهما لا يحتاج إلى التجشم المذكور» (1).
وفي الكفاية بعد نقل عبارة الفصول في المسألة الآتية والتصريح بفساده:
«إن مجرد تعدد الموضوعات وتغايرها بحسب الذوات لا يوجب التمايز بين المسائل ما لم يكن هناك اختلاف الجهات، ومعه لا حاجة أصلا إلى تعددها، بل لا بد من عقد مسألتين مع وحدة الموضوع وتعدد الجهة المبحوث عنها، وعقد مسألة واحدة في صورة العكس كما لا يخفى» (2).
أقول: كلام الفصول ينحل إلى أمرين: أحدهما: شمول النزاع للعموم من وجه، وهذا أمر لم ينفرد به صاحبه، وقد نقله أخوه الإمام عن الفاضل الشيرازي وجمال المحققين، وجنح إليه بقوله: «والوجه العقلي الذي ذكروه جار فيه» (3). ولا أظن بأحد من أهل العلم إذا تأمل وأنصف أن لا يقول بمقاله.
وثانيهما: الفرق بين المسألتين بما أورده عليه بعينه، لكن بعبارة أجلى وأخصر، وكلامه الذي نقلوه ونصبوه هدفا لسهام الاعتراض صريح فيه، فانظر - رعاك الله - بطرف التأمل والإنصاف تجده قد نقل عن معاصره الفرق الموردي بين المسألتين، وبين عدم ارتضائه مرتين، وأرجى بيان الفرق المختار عنده إلى المسألة الآتية.
ثم بين فيها أن الفرق هو تعلق الأمر والنهي في مسألة الاجتماع بطبيعتين متغايرتين، وفي المسألة الأخرى بطبيعة واحدة.
وهل ترى وجها لإناطة البحث بذلك إلا تعدد الجهة؟ ألا يغني الفطن الذي لا يجمد على ظواهر الألفاظ عن التصريح بلفظ الجهة؟ ولا أدري مع ذلك

(1) مطارح النظار 128.
(2) كفاية الأصول 151.
(3) هداية المسترشدين: 327.
337

كيف استظهر المقرر كونه في مقام الفرق بين المسألتين عند تعرضه لكلام معاصره؟ وسرعان ما حكم صاحب الكفاية بالفساد قبل أن يتضح له المراد، وإن كان ثم مجال للاعتراض فليكن على البادئ المدعي (الفاضل القمي) لا على المعترض عليه.
وبالجملة كلام الفصول صريح في أن الفرق بين المسألتين بحسب الجهة لا بحسب المورد.
وبديع لعمري في صناعة العلم أن ينسب إلى عالم ما رده على غيره، ثم يرد بضاعته إليه في صورة الاعتراض عليه.
ثم إن ادعاه صاحب الكفاية في آخر كلامه أعني قوله: «لا بد من عقد مسألتين» إلى آخره (1). فلنا حق مطالبته بالدليل على ذلك، والسؤال عن البرهان الذي حجر على مصنفي العلوم خلاف مرسومه، وألزمهم بعقد مسألة واحدة مع تعدد المورد واتحاد الجهة، ولكن نؤجل تقاضيه إلى وقت آخر.
ثم إن ما وقع في كلام المقرر من قوله: «سواء كان من قبيل قولك: صل ولا تصل في الدار المغصوبة» إلى آخره (2). وظاهره جريان نزاع المقام حتى فيما لو كان أحد العنوانين مأخوذا في الآخر.
وهذا فاسد قطعا. ولعله من قصور تعبير المقرر الفاضل، وذلك لأن المطلق ليس عنوانا في قبال المقيد، ولا يعقل اقتضاء الإطلاق شيئا واقتضاء التقييد شيئا آخر، إذ المقيد هو تلك الطبيعة مع لحوق بعض الاعتبارات بها.
وقد نبه عليه صاحب الفصول في المسألة الآتية عند بيان أولوية الفساد

(1) كفاية الأصول: 151.
(2) مطارح الانظار 128.
338

فيها عن هذه المسألة بما بعضه بلفظه:
«لما كان تعلقهما في البحث السابق بطبيعتين متغايرتين فربما أمكن توهم جواز الاجتماع من حيث تغاير كل من المتعلقين في حد نفسه، وأما في المقام فإنما يتعلقان بطبيعة واحدة ذهنا وخارجا، ضرورة أن المطلق والمقيد متحدان ذاتا وإنما يتغايران بحسب الإطلاق والتقييد، فإن الماهية التي لا يلاحظ معها شيء هي عين تلك الماهية إذا أخذت ببعض الاعتبارات» (1).
(ابتناء المسألة على أن متعلق الأحكام الطبائع أو الأفراد)
قد يتوهم أن القائل بتعلق الحكم بالأفراد لا يمكنه القول بجواز الاجتماع لاتحاد المتعلقين، بخلاف القائل بتعلقها بالطبائع، ولذا يدرج بعضهم ذلك النزاع في هذه المسألة، وترى القائل بالمنع ينتصر للقول الثاني، ويجعله أساس حجته، ويزعم أنه لو ألزم خصمه بقبوله لتم له الفلج ويلح المجوز في رده، والاستدلال على القول الأول ظنا منه أن بإثباته يثبت مدعاه، ويتم له الظفر على مخالفه.
ولا يخفى أن هذا النزاع على طوله وقلة طائله لا محصل له، إلا أن الوجود اللازم اعتباره في متعلق الطلب هل هو وجود الفرد أو وجود الطبيعة؟ وبعبارة أخرى: إن الواجب على المكلف إيجاد هذا أو تركه؟ أو إيجاد هذه أو تركها؟ وأيا كان لا شك في وجود الجهتين حتى في الفرد.
فإن كان وجودهما كافيا لدفع التضاد أمكن القول بالجواز لأنه فرد لطبيعتين.
وإن شئت قلت: إن الفرد الخارجي ينحل إلى فردين موجودين بوجود

(1) الفصول الغروية 141.
339

واحد.
وإن لم يجد تعدد الجهتين فلا سبيل إلى القول بالجواز ولو كانت الطبيعة متعلقة الأحكام.
نعم لو أفرط القائل بتعلقها بالأفراد وجعل التشخصات اللازمة لوجود الطبيعة متعلقة للتكليف، فلا جرم يلزم اجتماع الضدين، ولا يجدي في دفعه تعدد الجهة ولكنه احتمال بعيد، بل مقطوع بعدمه، إذ المشخصات لمتعلق الإرادة التشريعية كالمشخصات لمتعلق الإرادة التكوينية لا يتعلق بها الغرض، بل لا تخطر ببال الآمر.
ولا يقاس ذلك بمقدمات المطلوب، إذ الفرق بين بين لوازم الوجود وبين أجزاء علته، وقد سبق بعض القول فيه في بحث مقدمة الواجب، وتعرف جلية الحل في مسألة متعلق الطلب عند بيان
دليل جواز الاجتماع الذي اعتمد عليه السيد الأستاذ طاب ثراه.
(ابتناء المسألة على مسألة أصالة الوجود أو الماهية)
شاع في زماننا نسبة ابتناء هذه المسألة على الخلاف في مسألة أصالة الوجود أو الماهية إلى صاحب الفصول، وأول من نسب ذلك إليه واعترض عليه صاحب الكفاية في كتابيه، فقال في الفوائد في أثناء كلام له:
«فظهر عدم ابتناء المسألة على القول بأصالة الوجود أو الماهية كما تخيله الفصول» (1) وفي الكفاية (2) ما يقرب منه.
ثم تبعه المعاصرون في النسبة والاعتراض، وحاصل اعتراضاتهم على اختلاف عباراتهم: أنه لا شك في ثبوت أمر في الخارج سواء كان مطابق الوجود بالذات

(1) فوائد الأصول: 151.
(2) كفاية الأصول: 159.
340

والماهية بالعرض، كما يقوله القائل بأصالة الوجود، أو العكس، كما يقوله القائل بأصالة الماهية، وحينئذ فإذا ثبت في الخارج أمر ذو جهتين، فإن كان تعدد الجهة موجبا لحله إلى جهتين فليكن كافيا في حله إلى موجودين، فيجوز الاجتماع، وإلا فلا مناص عن المنع بناء على كل من المذهبين.
وبالجملة مناط البحث كفاية تعدد الجهة في حل الثابت الخارجي - وجودا كان أو ماهية - إلى شيئين وعدمه، ولا يفرق في ذلك كون الوجود أصلا والماهية منتزعة عنه، أو كانت هي الأصل والوجود منتزعا عنها.
أقول: ما قرروه من الواضح الذي لا يخفى على أضعف محصل عرف معنى النزاع في تلك المسألة، ومغزى الخلاف فيها، فكيف يخفى على إمام شهدت فصول فصوله بأنه نسيج وحده في منقول العلم ومعقوله؟ وحاشا مثله عن غلط مثله.
وجلية الحال أنه لما اختار القول بالامتناع استدل عليه بوجهين وقال بعد الفراغ عن تقرير الدليل الأول ما نصه:
«واعلم أن هذا الدليل يبتني على أصلين: أحدهما: أن لا تمايز بين الجنس والفصل ولو أحقهما العرضية في الخارج كما هو المعروف، وأما لو قلنا بالتمايز فلا يتم الدليل.
الثاني: أن للوجود حقائق خارجية ينتزع منها هذا الأمر الاعتباري، كما هو مذهب أكثر الحكماء وبعض محققي المتكلمين. وأما إذا قلنا بأنه مجرد هذا الأمر الاعتباري ينتزعه العقل من الماهيات الخارجية ولا حقيقة له في الخارج أصلا، كما هو مذهب جماعة، فلا يتم الدليل أيضا، ولكن الأصل الأول مما لا يرتاب فيه أكثر المخالفين في المسألة إن لم يكن كلهم. وإنما المنازع فيه شاذ، ومع ذلك فهو من الأمور الجلية التي أقيم عليه البرهان في محله.
341

وأما الثاني فهو وإن كان عندنا من واضحات علم المعقول، لكن لا يساعد عليه أكثر المخالفين في المسألة إن لم يكن كلهم، فيبتني الاستدلال على تقدير ثبوته، ولنا أن نقرر الدليل بوجه لا يبتني على هذا الأصل» (1).
وأخذ بعد ذلك في بيان الدليل على هذا الوجه، وقرر بعده الدليل هذا بتقرير آخر على كل من الوجهين، وقال بعده:
«ولا يذهب عليك أنه يمكن إجراء الدليل على الوجه الأول باعتبار الإيجاد أيضا - وقال بعد بيانه - وكذا يمكن إجراؤه على الوجه الثاني باعتبار الجعل أيضا» (2) إلى آخره.
وبأول النظر تعلم أنه لم يجعل أصالة الوجود مبنى مسألة الاجتماع، بل أحد الدليلين بأحد تقريريه، وحكم بعده بإمكان إجرائه على القولين باعتبار الإيجاد أو الجعل.
نشدتك والإنصاف أين هذا مما قرنه به هذا الأستاذ ومتابعوه من بناء أصل المسألة عليها؟ اللهم غفرا.
ولو أنه كان قد كتب كتابا في إثبات الصانع وذكر فيه الف دليل عليه، وقال: إن الدليل السابع ببعض تقاديره يبتني على وجود الفلك التاسع. لقال المولعون بالاعتراض عليه: إن صاحب الفصول يقول بتوقف إثبات الصانع على وجود الفلك التاسع، والحمد لله الذي صرفه عن ذلك، فسلم عن الاعتراض، وسقط عنا الدفاع.
ثم إنه - كما علمت - جعل الدليل الأول مبتنيا على أصلين، هذا ثانيهما، ولا أدري ما السبب في تخصيصه لعنوان الاعتراض دون مسألة التمايز، فهلا قالوا: إن صاحب الفصول يرى ابتناء مسألة الاجتماع عليها أيضا.

(1) الفصول الغروية: 125 - 126.
(2) الفصول الغروية: 126.
342

(الأقوال في المسألة)
وبعد ما مهدناه نقول: إن الأقوال في المسألة ثلاثة: أولها: الامتناع مطلقا، وهو قول أكثر المحققين من المتقدمين والمتأخرين.
ثانيها: الجواز مطلقا، ذهب إليه السيد الأستاذ، ومنه شاع القول به بين المعاصرين.
وثالثها: الجواز عقلا والامتناع عرفا، نقلوه عن السيد الطباطبائي وجماعة واستضعفوه. وليس بذلك الضعف كما يأتي، ويمر عليك إن قدر الله وشاء ما يمكن أن يعد قولا رابعا.
وربما نذكر فيها أقوال اخر، كالتفصيل بين التعبدي والتوصلي، ونحوه مما يظهر ضعفه للمتأمل من غير احتياج إلى البيان، ولنقدم نقل أدلة المجوزين، لأن عمدة ما يعتمد عليه المانعون يذكر في طيها.
فنقول: تخلص المجوزون من محذور اجتماع الضدين من الحكمين وما يلزمهما بأحد أنحاء ثلاثة:
1 - منع كون الفرد الخارجي متعلقا للتكليف.
2 - تحليله إلى فردين.
3 - ادعاء الوقوع الذي هو فيما يقال أقوى أدلة الإمكان.
وربما عجز بعضهم (1) عن السلوك في إحدى هذه الطرق فسار إلى مخالفة الوجدان والبرهان وأهل العلم عامة من منع تضاد الأحكام أو تجويزه في خصوص المقام.
وينبغي تنزيه صفحات العلم من أمثال هذه الأوهام، أما النحو الأول

(1) بعض السادات المدرسين بإصفهان. (منه).
343

فأحسن تقريراته ما حققه السيد الأستاذ، وقد فاتني الحضور عليه في هذه المسألة وسماعه منه. ولكن صاحبنا العلامة وشريكنا في الحضور عليه قد أخذها من عين صافية وأداها بعبارة شافية، وليت أن أنقله (1) من كتابه بحروفه، فإنه أثبت في النقل وأقرب إلى ما أتوخاه من المحافظة على تحقيقاته قدس سره.
أقول: هذا أقصى ما يصل إليه الفكر الصائب والنظر الثاقب، ولكنه لا يجدي إلا في دفع محذور الاجتماع في مقام جعل التكليف، على صعوبة تقريره على القول بأن الشارع هو الله تعالى.
وأما في مقام الامتثال فالمحذور باق على حاله، إذ الفرد المأتي به إذا لم ينحل إلى موجودين يلزم أن يكون مقربا ومبعدا معا، وراجحا ومرجوحا، وذا مصلحة ومفسدة كذلك.
وأرى أن أنصف من نفسي، وأعترف بعدم وصول فهمي إلى حقيقة مراده طاب ثراه، وأرى - إلى أن يفتح الله سبحانه علي باب فهمه - أنه لا بد في إكماله إلى الحيلة في حل الفرد إلى فردين.
ونقول في بيانه بعد بيان مقدمة، وهي أن متعلق التكليف قد يكون من أفعال القلب، وقد يكون من أفعال الجوارح، وقد يكون موضوعه شخصيا كإكرام زيد، أو كليا كإكرام العلماء، وقد يكون فعلا ابتدائيا للمكلف وقد يكون توليديا، وقد يكون متعلقا له بعنوان كالتكلم، وقد يكون بانطباق عنوان آخر عليه كالغناء، وقد يكون مرتبطا بالغير كالضرب، وقد لا يكون كالقيام، هذا باعتبار كل تكليف مع متعلقه.
وأما باعتباره مع متعلق تكليف آخر، فتارة يكونان من مقولة واحدة كالجرح والقتل، وتارة يكونان من مقولتين كالصلاة والغصب، بناء على أنها من

(1) وبعد إعداد نسخة الطبع رأيت عدم الفائدة الكثيرة في نقلها لتداول نسخ الكتاب. (منه).
344

مقولة الفعل، والغصب من مقولة الأين، وقد يكونان موجودين بوجود واحد كالصلاة والغصب، أو بوجودين لكن بإيجاد واحد كإيقاد النار المأمور به، والتدخين المنهي عنه.
وبعد بيان هذه المقدمة التي لا يتوقف أصل البرهان عليها، وما أوردتها إلا لتوضيح ما يقع فيه النزاع، نقول:
إن الأفعال القلبية خارجة عن محل النزاع وإن أمكن دخولها فيه بتبديل الوجود الخارجي بالوجود الذهني كما في الفصول (1).
ومحل النزاع من هذه الأقسام كل فعل يكون فردا لطبيعتين ومحمولا لكل منهما بالحمل الشائع، أمر بإحداهما ونهي عن الأخرى وإن أمكن دخول غيره، كإتيان المأمور به في ضمن فرد مستلزم للمنهي عنه كالإيقاد والتدخين بناء على أن التكليف يتعلق بالإيجاد.
ونقول في بيان تحليل الفرد - بعد ما نذكرك ما أسلفناه من أن مفروض الكلام وجود كل من الطبيعتين بهويتهما فيه من غير نقص ولا سراية لإحداهما إلى الأخرى، ولا تعرض من الشارع لحال هذا الفرد بإطلاق أو تقييد -: إن الممتنع ما كان الاجتماع فيه على نحو التركيب الاتحادي كالجنس والفصل على المشهور بين المتأخرين دون التركيب الانضمامي، والمقام من قبيل الثاني، فلا محذور في اجتماع التكليفين فيه، فلا بد لنا من بيان كون التركيب انضماميا أولا، ثم بيان عدم المحذور فيه.
فنقول: إن الصلاة والغصب في المثال المعد لهذه المسألة هويتان مختلفتان من مقولتين مختلفتين، وكل منهما موجود بحقيقتها ومتفصلة بفصلها، فكما أن هذا الفعل الخارجي فرد للغصب بالحمل الشائع كذلك هو فرد للصلاة أيضا بذلك

(1) الفصول الغروية: 126.
345

الحمل أيضا، ولا يعقل اتحادهما، لأنه على فرضه إما أن يكون منفصلا بكلا الفصلين، أو بأحدهما، أو بفصل ثالث، ويلزم من الأول تفصل الجنس بفصلين عرضيين، وهو محال لما تقرر في محله، ومن الثاني الترجيح بلا مرجح، ومن الثالث وجود ثالث للمركب وهو محال أيضا، لما هو المقرر في فنه من تباين المقولات، وعدم كون المركب من بعضها مع بعض مقولة أخرى، وإلا لزم عدم انحصارها في عدد معين تسع أو غيره، فلا مناص عن الحكم بتعددها، غاية الأمر كونهما موجودين بوجود واحد.
ولا غضاضة لو قلت: ويوجدان بإيجاد واحد، وليس ببدع من الأمر، أليس الماتح بدلوين يوجد صعود إحداهما ونزول الأخرى بحركة واحدة أو بتحريك واحد؟ وموقد النار بالحطب الرطب يوجدها مع الدخان بإيقاد واحد، فلا فرق من هذه الجهة بين وجودهما بوجود واحد أو بوجودين.
والأستاذ في كتابيه وفي مجلس الدرس بنى عمدة مذهبه - أعني الامتناع - على أن متعلق الأحكام إنما هو الأفعال بهوياتها وحقائقها، لا بأسمائها وعناوينها المنتزعة عنها (1).
ولا أدري - وإن أطال في بيانه - ما الذي أراد من تعدد الأسماء، فإن أراد الألفاظ المترادفة أو ما كان من بابها فذلك أوضح من أن يحتاج إلى بيان، ولا يذهب عاقل إلى تعدد الشيء الواحد إذا سمي بأسماء متعددة.
ولا من العناوين (2)، فإن أراد عدم تعدد الذات باختلاف المبادئ المتصفة بها، والمشتقات الطارئة عليها، فهو واضح كسابقه، بداهة أن زيدا لا يختلف حقيقته وهويته بتعدد العناوين الطارئة عليه من العلم والمال والجمال، فالعالم حقيقة هو الجميل، والجميل حقيقة هو ذو مال.

(1) كفاية الأصول: 158، فوائد الأصول: 149.
(2) عطف على قوله: ولا أدري ما الذي أراد.
346

وإن أراد عدم اختلاف العوارض واتحادها في الوجود فهو الممنوع أشد المنع، إذ كل مشتق ينتزع من مبدئه القائم به، ومن المحال انتزاع القائم من العلم، والعلم من القيام أو اتحادهما في مورد الاجتماع وهما مختلفان حقيقة، بل كل من العناوين الطارئة على الذات موجود في الخارج متشخص بتشخصاته، غايته أن كل عنوان يكون مشخصا لغيره، فالصلاة مثلا قد تشخصت بكونها في المكان المغصوب، وكذلك الغصب قد تشخص بها كما تتشخص بغيرها من الأفعال.
وبالجملة الموجود في الخارج حقيقتان متمايزتان بحسب التشخص، وغايته أنهما موجودان بوجود واحد، والتركيب انضمامي لا اتحادي، إذ الجهتان تقييديتان لا تعليليتان.
فما حسبه محالا - أعني أن يكون لموجود واحد ماهيتان - هو الممكن، وما زعمه من الاتحاد هو المحال.
وبعد ذلك فلا مانع من الاجتماع بعد اختلاف المتعلق كما في سائر التركيبات الانضمامية، ولا فرق إلا أن كلا من المتعلقين صار مشخصا لمتعلق الآخر، وسبق أن المشخصات لا تتعلق بها الإرادة التشريعية كالتكوينية.
وأما الاستدلال على الجواز بالوقوع فهو دعوى اجتماعهما في حكم من توسط أرضا مغصوبة، وفي العبادات المكروهة، واجتماع الأمثال في تداخل الأسباب، ونحن بحول الله تعالى نلخص لك القول في هذه المسائل، ونقول:
(حكم من توسط أرضا مغصوبة)
وفرض المسألة فيه من باب المثال، وإلا فالكلام يجري في نظائره مما لا حصر له، كنزع الثوب المغصوب، وإخراج الآلة من عضو الأجنبية، ورد
347

المغصوب إلى مالكه، إلى غير ذلك كما في الفصول (1).
والعنوان الشامل للجميع كل حرام اشتغل به المكلف، وتوقف ترك باقية على ارتكاب بعضه.
نعم للمثال المذكور خصوصية، وهي كونها محلا للبحث عن صحة العبادة المتحدة مع حركة الخروج عنها، وستعرف القول فيه إن شاء الله.
ثم إن لفظ الغصب المأخوذ في العنوان يغني عن كون الدخول بالاختيار كما في الكفاية (2) وغيرها، إذ هو على وضوحه، مأخوذ في معناه العدوان، ولا عدوان إلا بسوء الاختيار.
(الأقوال في المسألة)
أولها: أنه مأمور بالخروج، ومنهي عنه، نقل عن القاضي (3)، واختاره الفاضل القمي، ونسبه إلى أكثر المتأخرين وإلى ظاهر الفقهاء (4)، والنسبة غير صحيحة.
والوجه فيها ما ذكره الشيخ على ما في تقريرات درسه: «قولهم بوجوب الحج على المستطيع وإن فاتته الاستطاعة الشرعية» (5) فتأمل.
وأولى من ذلك أن يكون قد توهمه من حكمهم بوجوب الصلاة فيه مع ضيق الوقت، مع حكمهم بالتحريم، ولم يمكنه الجمع بين الحكمين بغير ذلك، كما تمكن منه غيره.

(1) الفصول الغروية: 139.
(2) كفاية الأصول: 168.
(3) نسب هذا القول إلى أبي هاشم الجبائي كما في قوانين الأصول 1: 153، وكفاية الأصول: 168. فلاحظ.
(4) قوانين الأصول: 1: 153.
(5) مطارح الأنظار 153.
348

ثانيها: أنه منهي عنه فعلا، وليس مأمورا بالخروج، نقل عن صاحب الإشارات.
ثالثها: عكس ذلك وهو كونه مأمورا بالخروج من غير نهي مطلقا.
رابعها: أنه مأمور بالخروج مطلقا أو بقصد التخلص، وليس منهيا عنه حال كونه مأمورا به، لكنه عاص به بالنظر إلى النهي السابق، ذهب إليه صاحب الفصول، واحتمل أن يرجع إليه ما عزي إلى الفخر الرازي من القول بأنه مأمور بالخروج، وحكم المعصية جار عليه (1).
خامسها: أنه منهي بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار إليه، وعصيانه له، ولا يكاد يكون مأمورا به، اختاره في الكفاية، وتكرر في كلامه حكم العقل بلزومه إرشادا إلى أقل القبحين، وأخف المحذورين (2).
(تمحيص الأقوال)
أما القول الأول، فمن الواجب القطع بفساده إلا أن يكون القائل به ممن يجوز التكليف بالمحال، بل التكليف المحال، وإلا فلا فرق في مناط الاستحالة وحكم العقل بامتناعه، ولا يعقل الفرق في عدم القدرة بين أن يكون سلب القدرة بسوء اختياره أو بغيره، وكيف يجوز العاقل تكليف الأعمي بالاستهلاك، والمقعد بصعود الجبال إذا كان العمى والإقعاد بسوء اختيارهما؟ نعم يمكن العقاب على عدم حفظ القدرة إن سبق الأمر به، على تفصيل مذكور في محله.
وما يقال بأنه خطاب تسجيلي لتصحيح العقاب كما في خطاب العصاة - فمع أنه خارج عن محل البحث، لأن الكلام في الخطاب البعثي - واضح الفساد،

(1) الفصول الغروية: 138.
(2) كفاية الأصول: 168 و 171.
349

لأنه إن صح عقاب غير القادر فليكن بلا أمر، فما فائدة الأمر؟ وإن لم يجز فلا يكون الأمر مصححا للعقاب على غير مقدور.
وقياسه بأوامر العصاة غلط واضح، لأنها أوامر بعثية جدية وإرادة لوقوع الفعل، وإلا لما وجب عليهم الامتثال، إذ الواجب بحكم العقل إطاعة الأمر الجدي المطلوب به وقوع الفعل لا صورة الأمر، وقد مر في محله عدم إمكان تقييد الأمر بكل من الإطاعة والعصيان.
وأما الاستدلال عليه بقولهم: الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار. فمن عجيب الأمور، لأنه أجنبي عن المقام، وما هو إلا أمر تذكره العدلية في جواب المجبرة عن قولهم: إن الأفعال غير اختيارية، لأن الشيء ما لم يجب لم يوجد، وبعد وجوبه يخرج عن الاختيار. وأين ذلك من أن بعد اتصافه بالامتناع يصح التكليف به؟ وهذه العبارة الواردة في جواب شبهة ضعيفة في مسألة جزئية كلامية، لم يكفها الطفرة عن فنها إلى فن أصول الفقه حتى ارتقت، وجعلها أحد أعلام العصر (1) - بل عالمه - قاعدة كلية ذات مسائل وشروط، وأطال في بيان تلك الشروط.
ومغزى جميعها إلى الفرق بين متوسط الأرض المغصوبة، وبين تارك المسير إلى الحج في زمان استحالة وقوعه، ولأجل ذلك اختار تفصيلا طريقا في هذه المسألة، وهو اختيار قول الشيخ إن لم ترتبط بقاعدة الامتناع، واختيار قول صاحب الكفاية إن كانت داخلة فيها.
وأنت جد خبير بأنه لا داعي إلى هذه الإطالة من الكلام، بعد ما عرفت من أنها جواب شبهة غير مرتبطة بالمقام.

(1) هو الميرزا محمد حسين الغروي النائيني. انظر: فوائد الأصول - للكاظمي _ 2: 447، أجود التقريرات 1: 374.
350

وعلى تقدير عدم شمول القاعدة للمقام، فلا أدري لما ذا تعين لديه قول الشيخ، مع أنه يمكن بناء عليه اختيار قول صاحب الفصول.
ويظهر لك ذلك إذا أوضحنا مراده من قوله: «لكنه عاص بالنظر إلى النهي السابق» (1) وكل ذلك هين بالنسبة إلى قوله - دام فضله - بعد ذلك:
«فتبين بهذه الأدلة امتناع دخول المقام في قاعدة الامتناع، بل هو داخل في قاعدة أخرى وهي وجوب رد مال الغير إلى صاحبه، فكما أن رد بقية المغصوبات إلى ملاكها مما ثبت وجوبه عقلا وشرعا، فكذلك يكون الخروج في المقام أيضا، لأن الخروج محقق للتخلية التي بها يتحقق الرد في غير المنقولات.
ومنه يظهر أن ترك كلي الغصب للداخل في الدار الغصبية بمقدار زمان الدخول وإن لم يكن ممكنا إلا أن فردين منه - وهما: البقاء والمشي زائدا على مقدار الدخول - لا إشكال في حرمتهما لأنهما مستلزمان للغصب الزائد.
وأما الخروج فهو واجب بحكم العقل والشرع، لكونه ردا للمال إلى مالكه، فالاضطرار إلى كلي التصرف في مال الغير الذي يكون فرد منه واجبا، وفردان منه حرامين لا يوجب دخول المقام في قاعدة الامتناع» (2).
كل طرف الفكر مني بعد ما أعطيت حقه في كلام مثله عن وجه ارتباط وجوب رد مال الغير إلى قاعدة الامتناع أولا، وإلى أصل المسألة ثانيا، وكفايته لحل جميع فروعها ثالثا، لأن صريحه أن قاعدة الامتناع لو شملت المقام تكون مغنية عن قاعدة وجوب الرد، مع أن أقصاها إثبات العقاب لحال الخروج، أو وجود الأمر مع بقاء النهي، وأين ذلك من وجود الرد؟ وأيضا شمولها للمقام إنما يكون بعد فرض وجوب الرد، ولو لا وجوبه في الجملة

(1) الفصول الغروية: 138.
(2) انظر: أجود التقريرات 1: 378.
351

لانحل إعضال المسألة من أصلها، ولم يبق احتياج إلى قاعدة الامتناع وغيرها، فهل الموجب لتحير الأفكار واختلاف الأنظار إلا الجمع بين وجوب الرد وحرمة الغصب؟ وليست بقاعدة أخرى كما ذكره دام فضله.
ثم إن توسط الأرض المغصوبة - كما عرفت أول المسألة - إنما ذكر من باب المثال، وإلا فمن جزئياتها مسائل كثيرة لا تصلح بهذه القاعدة كالخروج عن مواضع التهمة ومواقع الهلكة وغير ذلك.
اللهم رحماك، فهل في نزع السهم من صدر المؤمن والآلة من عضو المومسة (1) أمانة ترد؟ فهب - أصلحك الله وأصلحنا - بوجوب رد المغصوب في المثال وأمثاله. فما تصنع بسائر الموارد؟ أترى أن تخترع لكل قاعدة؟ إذن يطول العناء، والله المستعان.
واعلم أن التخلص عن إشكال التخلص عن الغصب أسهل من سائر الموارد لأن نهي الشارع تابع لعدم رضا المالك، ولا شك في عدم بقائه في زمن الخروج، بل انقلابه إلى إرادته، ويتبعه الحكم الشرعي لا محالة، وهذا بخلاف الخروج، عن مواقع الهلكة والتهمة ونحوهما.
ثم إن من المكرر في كلام هذا العالم وكلام غيره، تحديد زمان الخروج بمقدار زمان الدخول، ولعله محمول على الغالب، وإلا فالمناط أقل زمان يمكن الخروج فيه، مساويا كان أو أقل أو أكثر كما لو سد الطريق القريب الذي دخل منه، أو وجد بعد الدخول طريقا أقرب. ولقد أحسن صاحب الفصول التعبير عنه في عبارته الآتية، فقال: «الزمن الذي لا يتمكن من الخروج فيما دونه» (2).
بل ليس المناط الزمان مطلقا، وقد تكون السرعة والبطء تختلفان في نظر

(1) امرأة مؤسس ومومسة فاجرة جهرا. لسان العرب 6: 224.
(2) الفصول الغروية: 138.
352

المالك، وربما يكون الطريق القريب أبغض لديه من البعيد، والمشي على سرعة أبغض منه على مهل، فالمناط مراعاة رضا المالك وما هو عنده أقل مبغوضية، وقد لا يرضى بالخروج عن ملكه إلى مدة طويلة لضرر يتوجه عليه، فيكون المكث حاله حال الخروج، فلا بد من ملاحظة ذلك، لما عرفت من كون الحكم الشرعي تابعا لرضاه، وهذا واضح، ما كنت أتعرض له لو لا احتمال نفعه في توضيح بعض الفروع الآتية، فليكن منك على بال.
(رجع إلى تمحيص سائر الأقوال)
أما القول الثاني وهو كونه منهيا عن الخروج غير مأمور به فجدير أن يلحق بسابقة في وضوح الفساد، وقد تعلق قائله بحجة ضعيفة، ذكرها في التقريرات مع جوابها (1)، فراجع إن شئت، ولا يضرك عدم المراجعة.
وأما القول الثالث وهو قول صاحب الفصول، وقد عرفت أنه مركب من أمرين، وهما: كونه مأمورا بالخروج فعلا، وعاصيا بالنظر إلى النهي السابق.
وهذا كلامه بلفظه: «والحق أنه مأمور بالخروج مطلقا أو بقصد التخلص، وليس منهيا عنه حال كونه مأمورا به، لكنه عاص بالنظر إلى النهي السابق» (2).
وغيره الفاضل المقرر إلى قوله: «إنه مأمور به، ولكنه معصية بالنظر إلى النهي السابق» (3).
وأرجو أن يكون ذلك من باب المسامحة سامحه الله، وأين قوله: «عاص بالنظر إلى النهي السابق» الذي أوضحه وبين مراده منه بقوله بأسطر قليلة:

(1) مطارح الأنظار: 155.
(2) الفصول الغروية: 138.
(3) مطارح الأنظار: 153.
353

«نعم يجري عليه حكم المعصية في تلك المدة على تقدير الخروج» (1) من قول المقرر: «مأمور به ولكنه معصية» إلى آخره؟.
ولو لا علمنا بتقاه وتورعه عن التعمد لتسارع الظن إلى أنه لم يغيره إلا ليكون توطئة للاعتراض الآتي، وهو عدم إمكان اجتماع الحكمين في زمان واحد.
وأين - أيها المنصف - كون الفعل جاريا عليه حكم المعصية من كونه معصية؟ ونحن - إن شاء الله وسهل - ننقل من كلامه الذي يتعلق بالمقام بألفاظه، ونثنيه بملخص اعتراضات المعترضين، ونثلثه بالنظر فيها والجواب عنها.
قال مستدلا على مختاره ما نصه: «لنا أن المكلف في الزمن الذي لا يتمكن من الخروج فيما دونه لا يتمكن من ترك الغصب مطلقا فلا يصح النهي عنه مطلقا، إذ التكليف بالمحال محال عندنا وإن كان ناشئا من قبل المكلف للقطع بكونه سفها.
نعم ربما يجوز أن يؤمر به حينئذ على وجه التعجيز والسخرية، لكنه خارج عن المتنازع فيه، فإذن لا بد من ارتفاع النهي عن الغصب في تلك المدة على بعض الوجوه، وليس إلا صورة الخروج، إذ لا قائل بغيره، ولدلالة العقل والنقل على أنه مأمور بالخروج، وهو يقتضي عدم النهي عنه، وإلا لعاد المحذور من التكليف المحال.
نعم، يجري عليه حكم المعصية في تلك المدة على تقدير الخروج بالنسبة إلى النهي السابق على وقوع السبب، أعني الدخول لتمكنه منه حينئذ.
وهذا حكم كلي يجري في جميع ذوات الأسباب التي لا تقارن حصولها حصول أسبابها كالقتل المستند إلى الإلقاء من الشاهق.
ومثله ترك الحج عند الإتيان بما يوجبه من ترك المسير، وغير ذلك، فإن

(1) الفصول الغروية: 138.
354

التحقيق في مثل ذلك أن التكليف بالفعل يرتفع عند ارتفاع تمكن المكلف منهما، ويبقى حكم المعصية من استحقاق الذم والعقاب جاريا عليه.
وكذا الكلام في الأمر فإن التكليف بالمأمور به يرتفع عند الإتيان بالسبب الموجب له، ويبقى حكم الامتثال والطاعة من استحقاق المدح والثواب جاريا عليه حال حصوله - إلى أن قال - احتج من قال بأنه مأمور بالخروج ولا معصية عليه بما ذكرناه من استحالة التكليف بالمحال.
وجوابه: أن ذلك إنما يقتضي عدم المعصية بنهي مقارن لا عدمها بنهي سابق كما بينا، فإن المكلف منهي قبل الدخول عن جميع أنحاء التصرف في ملك الغير بغير إذنه نهيا مطلقا، غاية الأمر أن النهي يرتفع عنه على بعض الوجوه بالنسبة إلى المدة التي لا يتمكن من الترك فيها، وذلك لا يوجب عدم كونه عاصيا.
لا يقال: لو صح ذلك لزم أن يكون الخروج طاعة وعصيانا، وهو محال، لأن الطاعة والعصيان أمران متنافيان بالضرورة، فيمتنع استنادهما إلى شيء واحد أو تواردهما على محل واحد.
لأنا نقول: إن أريد أن الطاعة والعصيان متنافيان من حيث نفسهما، فممنوع، لأن معناهما موافقة الطلب ومخالفته، ولا منافاة بينهما مع تعدد الطلب.
وإن أريد أنهما متنافيان من حيث ما أضيف إليه من الأمر والنهي، فممنوع أيضا، لأنهما إنما يتنافيان إذا اجتمعا في الزمان كما هو شأن التضاد، وقد بينا أن زمن الأمر غير زمن النهي.
وتوضيح المقام: أن ترك الغصب مراد من المكلف بجميع أنحائه التي يتمكن من تركه إرادة فعلية مشروطا بقاؤها ببقاء تمكنه منه، وحيث إنه قبل الدخول يتمكن من ترك الغصب بجميع أنحائه دخولا وخروجا، فترك الجميع مراد منه قبل دخوله، فإذا دخل فيه ارتفع تمكنه من تركه بجميع أنحائه مقدار ما
355

يتوقف التخلص عليه، وهو مقدار خروجه مثلا، فيمتنع بقاء إرادة تركه كذلك.
وقضية ذلك أن لا يكون بعض أنحاء تركه حينئذ مطلوبا، فيصح أن يتصف بالوجوب، لخلوه عن المنافي، والعقل والنقل قد تعاضدا على أن ليس ذلك إلا التصرف بالخروج، فيكون للخروج بالقياس إلى ما قبل الدخول وما بعده حكمان متضادان: أحدهما مطلق وهو النهي عن الخروج، والآخر مشروط بالدخول وهو الأمر به، وهما غير مجتمعين فيه، ليلزم الجمع بين الضدين، بل يتصف بكل في زمان، ويلحقه حكمهما من استحقاق العقاب والثواب باعتبار الحالين.
ولو كانت مبغوضية شيء في زمان مضادة لمطلوبيته في زمان آخر لامتنع البداء في حقنا مع وضوح جوازه، وإنما لا يترتب هنا أثر الأول لرفع البداء له، بخلاف المقام.
ولا يشكل بانتفاء الموصوف في الزمن السابق لوجوده في علم العالم ولو بوجهه الذي هو نفسه بوجه، ولو لا ذلك لامتنع تحقق الطلب إلا مع تحقق المطلوب في الخارج وهو محال» (1) انتهى المقصود نقله هنا من كلامه.
ولله دره من إمام، فلعمر العلم لقد سلك فيه أعدل محجة، وبينها بأوضح حجة، ولم يبق في قوس البيان منزعا، ولا للريب فيه موضعا، وأرى بادئ بدء أن أبثك ما أسره في هذا وأشباهه من المطالب، وأبوح لك بمذهبي - وللناس مذاهب - غير مكترث بعذل (2) عاذل، وإنكار جاهل.
ثم أعقبه بذكر اعتراضات المعترضين وانتقادها، وهو أن في ملاحظة الأشباه العرفية والرجوع إلى الفطرة السليمة قبل أن تتلاعب بها الشبهات

(1) الفصول الغروية: 138 - 139.
(2) العذل: الملامة. مجمع البحرين 5: 422 (عذل).
356

وتقع بين مختلفات الآراء والعبارات ما تنزع عن العثرة، ويقيه في مظان الزلة (1).
ولذلك أقول: لو نهيت عبدك عن السباحة مخافة الغرق عليه فخالف وبعد عن سيف (2) البحر حتى وصل قبته أتراك لا تأمره بالخروج وتطلب منه الرجوع، ويمنعك عنهما هذه العبارات الفارغة، فتقول: لا يمكنني الأمر به لأني نهيته عنها، مخالف باختياره، ولو لا مخالفته اختيارا لأمرته؟ ثم انظر إلى الأمر الذي توجهه إليه، هل هو إرشاد حكم العقل، وبيان لأقل المحذورين قائلا له: إني أقرر لك حكم العقل بأن حركتك نحو الشاطئ أهون من بقائك فيه أو بعدك عنه، وهو أمر يعرفه العبد، ولست بأعلم منه به، أم هو أمر مولوي يشتمل على أحسن الوعد على الفعل، وأشد الوعيد على الترك؟ وربما جعلت عفوك عن مخالفته أولا جزاء لإطاعته ثانيا، ومحوت تلك السيئة بهذه الحسنة.
ولا ترى فرقا في الأمر ومقدماته بين كون الدخول اختيارا أو اضطرارا.
ولو أخرجته بنفسك أو أخرجه غيره ألست معاقبا له على الدخول أولا، وعدم الخروج ثانيا؟ ولو حاكمك لدى قاضي الوجدان قائلا: إن المولى ليس له إلا أن يعاقبني على مخالفة النهي لا على ترك الخروج لأني خالفته في النهي اختيارا، وتلا صفحة من كفاية الأستاذ، أترى الوجدان يقبل ذلك منه، ويحكم له عليك؟ حاشا.

(1) وما أحسن ما قاله صاحب الفصول في بحث المفاهيم: «إن من يجعل تفاصيل فكره تابعة لمجملات وجدانه أقرب إلى الصواب ممن يتزاول التفصيل، ولا يلتفت إلى المجملات، أو يجعلها تابعة للتفاصيل» (منه).
وانظر الفصول الغروية: 148.
(2) سيف البحر بكسر السين: ساحل البحر. مجمع البحرين 74: 5 (سيف).
357

بل يرى أن تلك المفسدة التي أوجبت النهي أولا - وهي ترك حفظ النفس - انقلبت إلى المصلحة التي توجب الأمر، فحقيقة الطلب واحدة ظهرت بصورة النهي أولا، وبصورة الأمر ثانيا.
ثم إذا صح عندك عنوان الأمر فانظر إلى عقاب النهي، فلو كان مقدرا وموزعا على ساعات المكث في الماء، فهل ترى فرقا بين الدقائق التي بعد عن الشاطئ، والدقائق التي قرب فيها إليه؟ وهل كنت تنقص هذه من تلك مع اشتراكهما في المخالفة العمدية؟ فإذا صح حكم وجدانك في المقامين، وضممت إليه حكم العقل الصريح بعدم جواز اجتماع الأمر والنهي في زمان واحد، علمت أن ما قرره العم - طاب ثراه - أصح من بيض النعام وإن قال المقرر: «إنه كلام مختل النظام» (1) قال بعد نقل عبارة الفصول ببعض اختصار:
«أقول: أما ما ذكره في الاحتجاج على كون الخروج مأمورا به. مطابقا لما ذكرناه في الاحتجاج على المختار فهو كلام صحيح لا غبار عليه بجميع جزئياته، سيما منعه عن التكليف بالمحال مطلقا من دون تفصيل بين أن يكون المكلف هو السبب في الامتناع أو غيره كما تقتضيه قواعد العدلية» (2).
قلت: لكن بيان الفصول أقوى وأمتن، وحجته أوضح وأبين، إذ الفاضل المقرر لم يرد في الاحتجاج على قوله، أن التخلص عن الغصب واجب عقلا وشرعا، ولا شك أن الخروج تخلص عنه، بل لا سبيل إليه إلا بالخروج فيكون واجبا على وجه العينية وصاحب الفصول أفاد ما سمعت، وأين مجرى السيل من مطلع سهيل؟ قال: «وأما ما ذكره من جريان حكم النهي السابق على الخروج فيكون

(1 و 2) مطارح الأنظار: 155.
358

معصية بواسطة النهي فهو كلام مختل النظام» (1).
قلت: ستعرف أن نظام كلامه ما عليه مزيد، ويفوق حسنا على نظام الفريد.
وقوله: «فيكون معصية» فهو تلك الفرية ذكرها لدى تعداد الأقوال، وقد نبهناك عليه، وحاشا صاحب الفصول عن القول بكون أداء الواجب معصية فيقع في غلط يرتفع عنه صغار المحصلين، وإنما يقول بجريان حكم المعصية عليه، ولا بد لك من الإذعان بصحة مقاله إذا عرفناك معنى جريان حكم المعصية.
عاد كلامه: «أما أولا فلأن التصرف في مال الغير ليس من العناوين التي لا يتبدل حكمها بلحوق العناوين اللاحقة للأفعال، ضرورة اتصافه بالوجوب عند لحوق عنوان حفظ النفس مثلا بالتصرف المذكور، فيمكن أن يلحق بالتصرف عنوان يكون ذلك العنوان مناطا لاختلاف حكم التصرف المذكور، مثل كونه تخلصا عن الغصب على وجه الانحصار، ولا شك أن موضوع التخلص عن الغصب مما لا يختلف حكمه بعد الدخول وقبله وإن توقف وجود الخروج في الخارج على الدخول بواسطة ترتيب طبيعي بينهما، ومثل هذا التوقف الوجودي لا يعقل أن يكون منشأ لاختلاف حكم ذلك الموقوف، إذ الحكم تابع لعنوان ينتزع من ذات الفعل تارة بالذات، وأخرى بواسطة الاعتبارات عند وجوده في الخارج لكونه موردا للحسن والقبح، ولا مدخل للأمور التي يتوقف وجود العنوان عليها في ذلك، كما هو ظاهر لدى من له مسكة بالمطالب» (2).
هذه القطعة من كلامه تحوي بيان أمر واضح لا يحتاج إلى هذه الإطالة، وكان يكفيه أن يقول: إن التصرف في مال الغير يختلف حكمه باختلاف العناوين.
ومنها: التخلص، ولكنها لا تنفعه فيما يروم، ولا يضر صاحب الفصول،

(1 و 2) مطارح الأنظار: 155.
359

بل نفعه الفاضل المقرر من حيث قدر أنه يضره لأن تغير الحكم بتغير العنوان هو الذي ذهب به إلى سقوط النهي، وحدوث الأمر بالخروج، فصار الحرام واجبا بانطباق عنوان التخلص عليه.
وفي آخرها خلط بين قسمي الترتيب الطبيعي في الوجود، لأن منه ما لا يحتاج الذهن إلى تصور ما سبقه في الوجود، ومنه ما لا يتصور إلا بتصوره. وما ذكره إنما يتم في مثل البسر والرطب، والحصرم (1) والعنب، لا في مثل الربح والخسارة الذين لا يوجدان في الذهن إلا بعد فرض لتجارة، والخروج من القسم الثاني، إذ الترتيب الطبيعي موجود بينه وبين الدخول ذهنا وخارجا.
وهذا الخلط هو الذي ولد عدة أغلاط، وصار أساسا لعدة اعتراضات، وترتب عليه الخطأ في قول هذا الفاضل بعد هذه الجملة:
«وإذ قد عرفت ذلك، نقول: إن الحركات الواقعة في ملك الغير، تارة تكون معنونة بعنوان الغصب، وأخرى بعنوان التخلص عن الغصب، فعلى الأول يكون الأمر المعلوم المتصور عند الآمر هو الغصب فيلحقه الطلب على وجه النهي عنه، وعلى الثاني يكون المتصور عنده هو التخلص، فيلحقه طلبه على وجه الأمر به من غير مداخلة لأحد العنوانين في الآخر، فالغصب مبغوض دائما، والتخلص مطلوب من غير فرق بين قبل الدخول وبعده، فلو فرضنا لحوق حكم النهي به يلزم أن يكون موضوع التخلص طاعة ومعصية وهو محال» (2).
هذه الجملة أيضا كسابقتها في الوضوح، وعدم تضرر مقالة الفصول بها، لكن فيها مغالطة خفية يترتب عليها أغلاط جلية، وهي جعله فيها التخلص عنوانا في عرض الغصب، مع أن مرتبة الغصبية محفوظة حتى مع عنوان التخلص بل هو فرد منها، لكنه أقل قبحا، كما يقوله في كلامه الآتي نقله، أو غصب اضطر

(1) الحصرم: أول العنب ما دام حامضا. مجمع البحرين 6: 41 (حصرم).
(2) مطارح الأنظار: 155.
360

إليه، فما صنعه من المقابلة بينهما في أول كلامه وآخره لا يصح أبدا، وإنما يصح في مثل الأجنبية والزوجة، فالنظر إلى الأجنبية محرم، وجائز بعد صيرورتها زوجة، وعندها يرتفع موضوع الأجنبية، لا مثل المقام الذي عنوان الغصبية باق مع عنوان التخلص.
وقوله في آخرها: فالغصب مبغوض دائما، والتخلص من غير فرق قبل الدخول وبعده (1). فاسد جرى فساده إلى جميع ما اعترض على الفصول جريان السقم في البدن الصحيح، بل هو أساس اعتراضاته واعتراضات موافقيه، فلا بد لنا من هدمه من أصله وإن أدى إلى الإسهاب.
فنقول: إن وجوب التخلص متأخر رتبة بحسب الطلب والموضوع عن حرمة الغصب، فلا يعقل لحاظه مع الأول.
أما تأخره موضوعا فقد مر بيانه، وعلمت أن التخلص لا يعقل تصور عنوانه إلا بعد وقوع المحذور، فهو كعنوان العلاج المتأخر تصوره عن تصور الداء، وليس تأخره بمجرد الخارج كما سبق، بل متأخر ذهنا وخارجا.
وأما تأخره حكما، فلأنه مترتب على عصيان النهي بالدخول، ومرتبة عصيان الطلب متأخر عنه، ولا يعقل لحاظه معه، ولذا قالوا: إن الطلب بالنسبة إلى الإطاعة والعصيان لا إطلاق له ولا تقييد، لأنهما فرعا اللحاظ ولحاظ المتأخر طبعا محال. ذ
وهذا أساس شريف يبنى عليه مسائل مهمة كالجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية، وتصور الأمر بالمهم عند عصيان الأهم، وغيرهما، وقد أوضحنا ذلك فيما سلف من هذا الكتاب.
وعليه فالمولى عند نهيه عن الغصب لا يمكنه ملاحظة عصيانه الذي هو

(1) مطارح الأنظار: 155.
361

موضوع الأمر بالخروج وعنوانه، بل يكون طبيعة الغصب متعلقة للنهي حتى في صورة العصيان، لا بالإطلاق الاصطلاحي، بل على نحو شمول الحكم لصورة الشك فيه، وأشباه ذلك.
ثم باللحاظ الثانوي يمكنه فرض العصيان وجعله موضوعا لحكم آخر فيأمر بالخروج أمرا مشروطا بالعصيان.
وهذه المسألة مع مسألة الترتب رضيعا لبان، وماتحان من قليب واحد، فراجع ما حققناه فيها يتضح لك هذه.
وهذا هو الذي أراده الفصول بقوله: «فيكون للخروج بالقياس إلى ما قبل الدخول وما بعده حكمان متضادان أحدهما مطلق وهو النهي عن الخروج، والآخر مشروط بالدخول وهو الأمر به» (1) إلى آخره.
فقول الفاضل المقرر: «يلزم أن يكون موضوع التخلص طاعة ومعصية» (2).
فيه: أنه لا يلزم ذلك، بل اللازم منه أن يكون طاعة في زمان المعصية، وهذا ليس بمحال، وإنما المحال البعث على الضدين، وكون كل من النهي والأمر يقتضي مفاد هيئته، والمفروض في المقام سقوط النهي عن الاقتضاء بالعصيان.
ونظير هذا الإشكال ما أورد على الترتب بين الضدين، بأن الأهم مطلوب في مرتبة المهم فيعود محذور البعث على الضدين، والجواب عنه قريب مما ذكرناه هنا.
إن قلت: زمان تقاضي النهي الترك، والبعث إليه باق بالنسبة إلى مستقبل الزمان.
قلت: قد أورد بمثله على الترتب أيضا، وأجابك عنه السيد الأستاذ بما

(1) الفصول الغروية: 139.
(2) مطارح الأنظار: 155.
362

مر في تلك المسألة.
ويكفي للجواب هنا ما في الفصول من أن ترك جميع أفراد الغصب غير ممكن لوقوعه، والعقل والنقل يبينان زمن الخروج وقد مر بألفاظه فراجع.
وتخلف زمان باعثية النهي عن زمان المعصية غير عزيز، وظاهر من القاعدة التي ذكرها، والأمثلة التي مثل بها، فمن ترك المسير إلى الحج لا شك أن زمان سقوط النهي بمعنى عدم تأثيره في ذي القعدة مثلا، وزمان المعصية ذو الحجة، وهكذا، ولله تعبير الفصول عن هذا المعنى بقوله: «يجري عليه حكم المعصية» (1).
وأما قول المحقق الفاضل المقرر طاب ثراه: «وأما ما استند إليه في دفع ذلك من اختلاف الزمان، ففيه خبط ظاهر لا يليق بأهل النظر، فكيف بمن (2) هو بمنزلة ربهم» (3).
وإنما أقول: لو كان مراده هذا الذي فهمه من كلامه، وفهمه جميع من تعرض له، واعترض عليه فهو كما قال، وأنا أزيد عليه وأقول: لا يليق بصبيان الكتاب (4)، فكيف بمصنف مثل هذا الكتاب، لأنهم حملوا كلامه على أنه يقول في زمان التخلص هو حرام بالنهي السابق، وواجب بالأمر اللاحق فهو مأمور به، ومنهي عنه معا فيجب فعله وتركه، وجعلوه بمنزلة قول القائل: لا تهن زيدا في داري وأهنه حال خروجه. من غير أن يكون الأمر مقيدا للنهي ولا ناسخا له، وحاشاه وحاشا كل عالم، بل كل عاقل من هذا السخف.

(1) الفصول الغروية: 138.
(2) هذا هو التعبير الذي ينبغي من محقق مثله عن مثل هذا العلامة، لا ما تعود قلمه من لفظ بعض الأجلة لا غير، وما زالت الأشراف يهجا ويمدح. (منه)
(3) مطارح الانظار: 156 - 155.
(4) الكتاب: المكتب. الصحاح 208: 1 (كتب).
363

وأما الذي قصده فهو بمعزل عن هذا التفسير، وما أوردوه بمعزل عن مراده بل أراد أمرا واضح الصحة بعد البيان، فإنه بعد ما أوضح عدم اجتماع الضدين بقوله: «فيكون للخروج إلى ما قبل الدخول وما بعده حكمان - إلى قوله - باعتبار الحالين» (1) في كلامه السابق نقله، أراد بيان أمر ربما يخفى على بعض الأذهان، وهو تصور انقلاب الغصب المبغوض المحرم إلى المحبوب الواجب، وقد كان قبل انطباق عنوان الخروج مبغوضا وحراما ومشمولا للنهي، فبين جوابه بقوله: «ولو كانت مبغوضية شيء في زمان مضادة لمطلوبيته في زمان لامتنع البداء في حقنا مع وضوح جوازه» (2) وأوضحه بالبداء عندنا لا عنده تعالى فإنه على ما ذكر في محله: إبداء بعد الإخفاء، فإن أحدنا إذا عزم على التوطن في بلد طول عمره، ثم بدا له بعد سنة لظهور أمر خفي عليه فعزم على المسافرة.
وفي الإرادة التشريعية لو أمر ولده به، ثم بدا له لذلك، لا شك أن العزم الأول والإرادة الأولى كانا شاملين للزمان الذي بدا له فيه، وإلا لم يكن بداء، بل كان نسخا أو تقييدا.
فانظر رعاك الله، هل تجد فيه مغمزا أو مجالا لقول الفاضل المقرر:
«اختلاف الزمان إنما يجدي في دفع التناقض فيما إذا كانت القضية السالبة واقعة في أحدهما، والموجبة في الآخر، مثل قولك: زيد قائم أمس وليس بقائم في الغد.
وأما إذا كان الزمان على وجه لو اعتبر في الفعل، يصير عنوان الفعل مغايرا للعنوان الذي كان وجها للفعل وعنوانا له فلا يعقل أن يكون اختلاف الزمان في مثله رافعا للتناقض» (3).

(1 و 2) الفصول الغروية: 139.
(3) مطارح الأنظار: 156.
364

ثم أوضحه بما يكاد أن يكون تكرارا لاعتراضه الأول، وأراك قد علمت أن الفصول لم يرد باختلاف الزمانين الجواب عن التناقض الذي يحاولون إلزامه به، أعني اجتماع الضدين في الخروج، فإنه قد أجاب عنه أولا بكون النهي مطلقا، والأمر مشروطا، وإنما أراد به ما نبهناك عليه من إمكان كون شيء محكوما بحكمين في زمانين.
كما أجاب عن اعتراض ربما يورد عليه وهو انتفاء الموصوف في الزمن السابق، فقال: «لوجوده في علم العالم ولو بوجهه الذي هو نفسه بوجه» (1).
فهو كما قيل: إذا قال لم يترك مقالا لقائل، لا يرى ثلمة في كلامه إلا سدها، ولا بابا للاعتراض إلا أغلقه، فكل من هذه الجمل الثلاث جواب عن اعتراضات ثلاثة، والفاضل المقرر وموافقوه جعلوه جوابا للتناقض، فقال ما سمعت أولا.
وقال ثانيا: «فلأنا لو سلمنا أن اختلاف الزمان يجدي في دفع التناقض في المقام، إنه قد قرر في محله أن اختلاف نفس الزمان من دون أن يكون رجوعه إلى اختلاف عنوان الفعل لا يصلح لأن يكون وجها لتعلق النهي والأمر بشيء واحد شخصي» (2) إلى آخره.
على أن اختلاف العنوان حاصل، وهو التخلص الذي جعله في مذهبه عنوان الوجوب، ولعله أمر بالتأمل لأجله، فتأمل.
أما قوله ثالثا: «فلأن القول بإجداء اختلاف الزمان ينافي ما هو بصدده من إجراء حكم النهي السابق عليه، كيف وقد فرض اختصاص النهي بالزمان السابق» (3).

(1) الفصول الغروية: 139.
(2 و 3) مطارح الأنظار: 156.
365

لا أدري كيف ينافيه وقد كانت الحركات الخروجية مبغوضة محرمة قبل الدخول كالحركات الدخولية، وبعد حصول الشرط المحرم سقط النهي لمكان الضرورة، فكان زمان الخروج زمان معصية النهي، فيجري عليه حكمها، كما سبق بيانه، إذن فما قوله بعده: «فلو فرض أن شرب الخمر بالأمس كان حراما، لا وجه لإجراء حكمه في اليوم» (1).
سبحان الله، أين النهي الشامل لجميع الأزمنة، ثم رفع اليد في بعضها للضرورة من حرمة شرب الخمر بقيد الأمس؟ لا وزمام العلم، ما كنت أرضى لمثل هذا المحقق مثل هذا النقض مع هذا البعد الشاسع بين المقامين.
وهل سائل من هذا الفاضل أن مذهب الفصول لو كان اختصاص النهي بالزمان السابق فأين التناقض الذي يحاولون إلزامه به؟.
ولعمري صدور أمثال هذه الاعتراضات من هؤلاء الأماثل مما يوجب العجب.
وأعجب منه قوله بعد ذلك: «على أن استفادة الحكم المذكور من الدليل اللفظي الدال على حرمة الغصب لا يخلو عن إشكال، فإنه يدل بعمومه على تحريم جميع أفراد الغصب في مرتبة واحدة، وأما الترتيب المذكور فمما لا يعقل استفادته من الدليل المذكور» (2).
وكأنه كلام من لم ينظر عبارة الفصول، أو لم يطالعها بتمعن، لأنه قد أسلف الجواب عنه بقوله: «لا بد من ارتفاع النهي عن الغصب في تلك المدة، وليس إلا صورة الخروج لدلالة العقل والنقل على أنه مأمور بالخروج» (3).

(1 و 2) مطارح الأنظار: 156.
(2) الفصول الغروية: 138.
366

وقوله في التوضيح: «إذا دخل فيه ارتفع تمكنه من تركه بجميع أنحائه مقدار ما يتوقف التخلص عليه، فيمتنع بقاء إرادة تركه» (1) إلى غير ذلك.
فهل يريد هذا الفاضل أن يستفيد من دليل الغصب التكليف بالمحال وهو ترك جميع [افراد] (2) الغصب، أو يعينه في غير الخروج الذي دل العقل والنقل على وجوبه؟ وما ذا ترى أن تستفيد من دليل الغصب، وحكم العقل والنقل بوجوب الخروج إلا ما قاله الفصول، فراجع الفصول، وانظر إلى هذا الاعتراض، وسل الله العصمة.
وبهذه الوجوه استظهر سقوط هذا القول جدا، ولا شك في سقوط أحد القولين، ولكن بالله لا تسأل عن التعيين، وصيرفي العلم لا يخفى عليه الجيد من الزيف.
وجعل خاتمة اعتراضاته، قوله: «إن النهي عن التصرف في ملك الغير على وجه الإطلاق والأمر به مشروطا لا يخلو عن التناقض، فإن النهي على جميع التقادير ينافي الأمر على تقدير خاص» (3).
وهذا هو إشكاله الوحيد، ولا أدري ما الذي دعاه إلى التكرار، وجوابه علم مما قررناه من أول المسألة هنا.
وإذا وصل الأمر إلى مؤاخذة التهافت فلما ذا غفل أو تغافل عن الذي يلزمه في مذهبه؟ لأن وجوب الخروج إن كان مطلقا وجب الدخول من باب المقدمة، وإن كان مشروطا لم يجب قبل حصول شرطه، فالجمع بين حرمة الدخول ووجوب الخروج من الأول لا يخلو عن التنافي.

(1) الفصول الغروية: 139.
(2) الزيادة يقتضيها السياق.
(3) مطارح الأنظار: 157.
367

هذا، وفذلكة القول في هذا المذهب أن الغصب بجميع أفراده وجميع أزمانه مبغوض، منهي عنه، ومعاقب عليه في ضمن أي فرد وجد، وبعد الدخول يجب الخروج، ووجوبه مولوي نفسي كسائر الأوامر النفسية التي مصلحتها التخلص من المفسدة كالأمر بشرب الدواء المر بعد عروض الداء.
ولا فرق بين الغاصب لها والواقع قهرا فيها، فكلاهما مأموران بالخروج مع وجود المبغوضية الذاتية.
والفرق صحة عقاب الغاصب، لوقوع الغصب باختياره، وتمكنه من ترك الخروج بترك الدخول، وهذا مراد الفصول من جريان حكم النهي، وكون الخروج ظرفا لمعصيته، وموضوع الواجب هو الخروج، وهو مفهوم واضح كالدخول، فالإطالة في كونه مقدمة للواجب أو ملازما له ونحو ذلك من التطويلات المملة، فصاحب القول الحق في راحة منه، فالتعرض منه له ضرب من العبث.
وقد مر أول البحث أن صاحب الكفاية يوافق صاحب الفصول في كونه منهيا بالنهي السابق الساقط، ويخالفه في كونه مأمورا بالخروج، ولكن الظاهر أن مراده من جريان حكم النهي غير الذي يقوله الفصول، فليتأمل من شاء فإن وجده موافقا، وإلا فليعرف جوابه مما تقدم.
ومن الظريف في مذهب هذا الأستاذ الالتزام بخلو الخروج من الأحكام الخمسة، وكونه غير محكوم بأحدها على ما هو لازم مذهبه وصريح المنقول عنه، فيكون حال العاقل البالغ المختار حال الطفل أو المجنون في فعل اختياري.
هذا مما يحكم بفساده العقل والنقل، ودعوى الضرورة على خلافه غير بعيد، وقد صرح بعدم إمكانه في بعض فوائده، فقال: «بناء على مذهبنا من عدم خلو واقعة من الوقائع من حكم من الأحكام الخمسة».
واعلم أن من حسن صنيع الله إلى هذا العلامة وأخيه الشيخ الإمام، أنه
368

قلما عاب أحد عليهما مقالة إلا ووقع فيها أو فيما هو أشد منها، وقد سبق في هذا الكتاب شواهد على ذلك ويأتي إن شاء الله أمثالها.
وهذا المقام أحدها، فإن صاحب الكفاية بعد ما أورد على الفصول بلزوم اتصاف فعل واحد بعنوان واحد بالوجوب والحرمة، قال ما لفظه:
«ولا يرتفع غائلته باختلاف زمان التحريم والإيجاب قبل الدخول أو بعده مع اتحاد زمان الفعل المتعلق لهما وإنما المفيد اختلاف زمانه ولو مع اتحاد زمانهما، كما هو أوضح من أن يخفى» (1).
نعم لا يخفى على صاحب الفصول هذا الواضح - وهو أرفع مقاما من الجهل - بأن الفعل الواحد لا يمر عليه زمانان، ولكن قد عرفت بما لا مزيد عليه إنه يقول بسقوط النهي وارتفاع الحرمة التشريعية عن الخروج، وتمحضه للوجوب إلا إجراء حكم النهي الساقط السابق بالمعنى السابق.
ولكن هلم إلى ما في حاشية هذا الأستاذ على مكاسب الشيخ الأعظم من الالتزام بأن المال في البيع الفضولي بعد صدور البيع وقبل الإجازة محكوم بكونه ملك من انتقل عنه واقعا، وبعد الإجازة يكون محكوما بكونه ملكا في ذلك الزمان بعينه لمن انتقل إليه واقعا، ولا منافاة بين الحكمين أصلا، لتعدد زمان الحكمين وإن اتحد زمان المتعلق.
فهب - رعاك الله - أن في كلام صاحب الفصول كانت علة - وحاشاه منها - فنحن قد أزحناها بما لا مزيد عليه، ولكن ما ذكره هذا الأستاذ مما يعجز نطاسي (2) العلم عن إصلاحه، وكيف يصلح وصريحه كون الملك الواحد في الزمان الواحد - الواقع بين العقد والإجازة - لمالكين مستقلين.

(1) كفاية الأصول: 172.
(2) التنطس: دقة النظر في الأمور واستقصاء علمها. مجمع البحرين 4: 111 (نطس).
369

بناءان ساقطان
بنى بعض أساتيذنا صحة ما ذهب إليه الفصول على مسألة جواز الاجتماع نظرا إلى تعدد العنوان، فإنه منهي عنه قبل الدخول ومأمور به بعده لكن بعنوان التخلص.
وبنى صاحبنا العلامة صحته على كون الخروج مقدمة لترك الغصب الزائد، ولذا اختار مختاره على هذا التقدير، وقول صاحب الكفاية على تقدير عدم المقدمية (1).
وكلا البناءين ساقطان، أما الأول، فلأن من المقرر في مورد الكلام في الاجتماع أن يكون الفرد مصداقا لهويتين متباينتين داخلتين تحت مقولتين، موجودة كل واحدة منهما بمختصاتها كما مر تفصيله. وأين ذلك من هذه المسألة التي ليست إلا مقولة واحدة تشتمل إحداهما الأخرى؟ بل هي أحد أفرادها ومصاديقها، ولعله لا يريد كونها من جزئيات تلك المسألة، بل يريد إجراء مناط تعدد الجهة فيها.
وأيا كان، فلا يجدي ما سماه تعدد العنوان لأن ما ذكرناه من تأخر عنوان الخروج رتبة عن النهي إن صح - وقد صح إن شاء الله - صح ما ذهب إليه الفصول، ولو لم يجد تعدد العنوان في تلك المسألة، وإلا فلا يجدي هذا التعدد، ويظهر لك ذلك بإمعان النظر فيما قدمناه.
وما صده عن اختيار قول الفصول إلا زعمه منافاة انقلاب التكليف مع بقاء أثر الحكم، كما صرح به، وكأنه فهم من بقاء الأثر غير ما أراده صاحب الفصول، وإلا فهو أرفع مقاما من توهم منافاة صحة العقاب على النهي السابق

(1) درر الفوائد 1: 128.
370

مع الأمر اللاحق.
وأما الثاني فلما عرفت من أن الخروج واجب نفسي كسائر الواجبات النفسية، يثاب عليه مع الإطاعة، ويعاقب على عصيانه، وتفصيل جميع ذلك قد مر مفصلا، فلا أملك بالتكرار.
(حكم الصلاة حال الخروج)
قال في الفصول: «ثم على المذهب المختار هل تصح منه الصلاة المندوبة وما بحكمها موميا حال الخروج وما بحكمه؟ وجهان: من ارتفاع الحرج عن تصرفه في تلك المدة، ومن أنها
كانت مطلوبة العدم قبل الدخول، فلا تكون مطلوبة الوجود بعده، وإلا لزم أن تكون فاسدة بالنسبة إلى حال، وصحيحة بالنسبة إلى حال وهو محال، لأن الصحة والفساد وصفان متضادان يمتنع تعلقهما بمحل واحد ولو باعتبار زمانين، والمعتمد الأول.
والجواب عن الثاني أن تأثير النهي في البطلان ليس كتأثيره في استحقاق العقوبة مطلقا، بل مشروط ببقائه، ومع انتفائه ينتفي موجب البطلان، فيبقى موجب الصحة بلا معارض.
نعم قد يتطرق الإشكال إلى الصحة باعتبار توقفها على أمر يزيد على الخروج، ولتحقيق ذلك محل آخر» (1).
وقال الفاضل المقرر بعد ما تقدم نقله: «ثم إنه يظهر منه التردد في صحة صلاة النافلة حين الخروج حيث قال: وعلى المذهب المختار هل يصح منه الصلاة المندوبة وما بحكمها موميا حال الخروج؟ وجهان: من ارتفاع الحرج في تلك المدة، ومن أنها كانت مطلوبة العدم، ثم اختار الصحة.

(1) الفصول الغروية: 139.
371

وفيه أولا، لا وجه للقول بالصحة على مذاقه، فإن زمان الخروج زمان المعصية فعلا وإن كان زمان النهي سابقا، كما ستعرف» (1).
حقا أقول: لو لا علمي بأن هذه الجملة من كلام هذا الفاضل، ونقلي لها من كتابه، لتوهمت أنه كلام من لم ير كتاب الفصول في هذه المسألة، ولم يقرع صماخ سمعه مختار صاحبه.
ولو جرى - طاب ثراه - على عادته غالبا من نقل تمام كلامه لما بقي له محل لهذا الاعتراض، لأنه أوضح جوابه فيه بأتم بيان، بعد ما أعطى الاعتراض حقه من التوضيح، فراجع ما نقلناه من قوله: «تأثير النهي في البطلان» (2) تعرف صحة ما قلناه.
ولقد تكرر من أول البحث إلى هذه الغاية أن المنافي للأمر هو النهي في مرتبة بعثه وتقاضيه العدم، وبعد سقوطه عنها لا يبقى إلا المبغوضية الذاتية، وكثير من موارد الأوامر التشريعية - إن لم يكن أكثرها - من هذا النمط، أليس الرجل الغيور يأمر الطبيب بكشف بدن زوجته ومسه إذا توقف عليهما العلاج، والوالد البار بولده يأمر بضربه للتأديب؟ إلى غيرهما.
وبالجملة فمن أوضح الأشياء أن المبغوضية الذاتية لا تنافي المحبوبية التشريعية بل التكوينية، ولذا يقدم على تجرع مر الدواء لمصلحة الإبلال (3) من الداء.
وبالجملة النهي لا يقتضي الفساد بذاته بل باقتضائه الترك، فلو نهيت عبدك عن التردي من الجبل فتردى، وسقط النهي عن تأثيره لارتفاع التمكن، فهل تجد مانعا من أمره بأن يوجه يمينه نحو الشمال ويحرك شماله حال السقوط؟

(1) مطارح الأنظار: 157.
(2) الفصول الغروية: 139.
(3) أي: الشفاء. الصحاح 4: 1639، القاموس المحيط 3: 337 (بلل).
372

كما كان يمثل به السيد الأستاذ، فما الذي يمنع الشارع من أمر الغاصب بالصلاة وتطبيق حركاته الخروجية على حركتها؟ إذ لا فرق بين التعبديات والتوصليات إلا من جهة قصد القربة.
والداهية الدهياء قوله بعد اعتراضه الأول ما لفظه:
«وثانيا لا نعرف وجها لإفراد الصلاة المندوبة بالبحث بعد ما عرفت من أن المناط في الصحة والبطلان على النهي وعدمه، فلو قلنا بأن زمن الخروج مما لا يتعلق بالمكلف نهي، وليس أيضا زمن المعصية، فالصلاة صحيحة سواء كانت واجبة أو مندوبة» (1) إلى آخره.
ومتابعة الأستاذ له في فوائده، وقوله: «أما على القول بإجراء حكم المعصية عليه، سواء قلنا بكونه مأمورا به أم لا، فلا وجه للحكم بصحة صلاة الفريضة في سعة الوقت ولا النافلة - إلى أن قال - فانقدح بذلك ما في الفصول من التردد في صحة النافلة المشعر بجزمه بالصحة في الفريضة، حيث إنه لا وجه له على ما ذهب إليه للصحة في الفريضة، ولو كان له وجه فلا يكاد أن يكون معه وجه للفرق بين النافلة والفريضة، وهذه التفرقة إنما يتم إذا كان وجه الصحة إجماع أو دليل آخر» (2).
لا أدري كيف خفي الوجه الواضح في تخصيص النافلة بالصحة؟ مع أنه في أعلى مدارج الوضوح، وهو أن النافلة يختص بموجب الفتاوى والنصوص بجواز الإتيان بها راكبا وماشيا، ولا يشترط فيها الاستقرار، ولا القبلة، ونحوهما، فيمكن أن يؤتى بها في حال الخروج، بخلاف الفريضة التي لا يمكن الإتيان بها حال الخروج إلا في ضيق الوقت، الخارج عن محل الكلام.
ولقد زاد الأستاذ ضغثا على إبالة، وعجبا على عجب في قوله: مشعرا

(1) مطارح الأنظار: 157.
(2) فوائد الأصول: 162 - 163.
373

بالصحة في الفريضة.
وليت شعري ما هذا الإشعار وما سببه؟ فانظر كيف عكس الأمر، فجعل الصحة للفريضة، ثم التجأ إلى توجيهه بقيام الدليل من إجماع وغيره، مع أن الظاهر قيام الإجماع على عدم صحة إتيان الفريضة اختيارا على هذه الصفة.
(العبادات المكروهة)
هذه إحدى المسائل الصعبة، وما صعبت إلا لتفسير العبادة بما يعتبر فيها قصد الامتثال، المفسر بقصد الأمر الملازم للرجحان والمحبوبية، كما أوجب ذلك صعوبة تصور اعتبار قصد الأمر فيها.
وقد سبق منا - في بحث الأمر - عدم اعتباره في معنى العبادة فضلا عن اعتبار قصده، ولا الرجحان والمحبوبية.
وقلنا: إن العبادة من حيث ذاتها قابلة للأحكام الخمسة كسائر أفعال المكلفين، ولكن لا بد لنا من إعادة ما أسلفناه، وتفصيل ما أجملناه.
فنقول: العبادة من الأفعال القصدية كالتعظيم والتحقير، فكما لا يتحققان إلا بأمور ثلاثة: القصد، وكون الفعل مما يحصلان به طبعا أو جعلا، وتعيين من يعظم أو يحقر، فكذلك العبادة التي حقيقتها إظهار الخضوع والتعظيم والانقياد ونحوها من المعاني المتقاربة.
فالسجدة التي تكاد أن تكون عبادة طبيعية متى أوقعها المؤمن لله تعالى كانت عبادة له امر بها أم لا، كما أن الكافر إذا أوقعها لنده كانت عبادة للصنم من غير توقف على أمر آخر غير الأمور الثلاثة أمرا كان أو غيره.
ونقول بعد ذلك: إن العبادة قد تكون ذات مصلحة ملزمة أو غير ملزمة، وقد تكون فيها مفسدة كذلك، كالصلاة واجبة ومستحبة، وكصوم العيدين والأيام المكروهة.
374

وانظر إذا أردت توضيحه بالمثال إلى حال السوقة (1) مع الملوك، فإن المثول (2) بين أيديهم للخضوع والتعظيم قد يكون لازما لا يرضى الملك بتركه كأيام المواسم والأعياد، وقد يكون محبوبا من غير لزوم كسائر الأيام، وقد يكون مبغوضا لديه كما إذا كان الماثل في حال لا ينبغي حضوره لديه، أو كان الملك في حال لا يجب تعظيمه، بل يبغضه أشد البغض كما لو كان مختفيا من عدو يرصده، فلو عظمه أحد بالتعظيم المختص له عرفه العدو فقصده.
وإذا صح عند وجدانك أمثال هذا المثال وإن كان الله لا يضرب له الأمثال، فقس عليها الصلاة، فما هي إلا المثول بين يديه تعالى، كما يرشد إليه قولهم عليهم السلام: «الصلاة معراج المؤمن»
(3) تجب في الأوقات الخمسة، وتستحب في كثير من الأوقات، وتكره في الأوقات الثلاثة، وتقع من الطاهر دون الطامث، لكونها في حالة قذرة لا تصلح لها معها.
وإن شئت مثلها بالهدية، كما يشير إليه قولهم عليهم السلام: «الصلاة بمنزلة الهدية» (4) فكما أنها تتحقق بالأمور الثلاثة وهي قابلة للأحكام الخمسة، وتختلف باختلاف أحوال المهدي
وزمان الإهداء، فلتكن الصلاة كذلك.
وما الذي يمنع من القول بأن صلاة الحائض حرام شرعي لا تشريعي، وأن صلاتها وهي حائض كتركها لها وهي طاهر؟ وما الذي يدعو إلى تأويل ظواهر السنة وفتاوى الأصحاب بأن المراد منها المانعية وموانع الصلاة كثيرة؟ ولأمر ما خص الحيض بهذا التعبير؟ وأظنك لا تحتاج إلى زيادة توضيح، وعلمت أن الأمر يتعلق بالعبادة، لا أنها

(1) السوقة: الرعية. مجمع البحرين 5: 188 (سوق).
(2) أي: القيام منتصبا. مجمع البحرين 5: 471 (مثل).
(3) لم نعثر عليه في المصادر الحديثية.
(4) الكافي 3: 454 / 14، التهذيب 2: 267 / 1065 و 1066، الاستبصار 1: 278 / 1009 و 1010.
375

تكون عبادة بالأمر، وإذا أمكن عبادة محرمة كصوم العيدين، وصوم الوصال، وغيرهما من الصوم المحظور، فالأولى به العبادة المكروهة، فيقيد مطلقات العبادات بالدليل الدال على الحرمة أو الكراهة.
وليعلم أن للعبادات الواجبة والمستحبة سننا وآدابا من تروك وأفعال، وقد يظن أن النواهي الواردة من هذا القبيل تدل على كراهتها فتعد في عداد العبادات المكروهة.
وليس كذلك، إذ النهي فيها ليست عن العبادة لتكون مكروهة، بل نهي عنها في العبادة، وفرق واضح بين النهي عن الشيء وبين النهي عنه في الشيء.
فالنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس غير النهي عن التثاؤب (1) في الصلاة، إذ الأول تخصيص لعموم الأمر بالصلاة، والثاني اعتبار عدم الشيء في الفرد الداخل فيه، الشامل عموم الحكم له، فالصلاة في الأوقات الثلاثة ملحوظ بلحاظ الفردية، والنهي عنها مخصص للعموم الزماني الدال على رجحان طبيعة الصلاة، بخلاف النهي عن صلاة الحاقن (2) والحاقب (3) والحازق (4)، فإن العناوين الثلاثة لم تلحظ إلا بعنوان أنها حالات للمصلي.
وإذا شئت زيادة التوضيح فارجع إلى مثال الهدية السالف، فشتان بين ألطاف تهديها إلى بعض أخلائك وهي مطيبة بأزكى طيب، ومغطاة بأنظف منديل، ومحفوفة بصنوف الأزهار والرياحين، وبين ما تكون بالضد من ذلك.
ثم انظر الفرق بين الهديتين وموقعهما عند خليلك، مع أن الألطاف هي

(1) التناوب: فترة تعتري الشخص فيفتح عندها فاه. مجمع البحرين 2: 16 (ثأب).
(2) الذي به بول شديد واحتبسه. الصحاح 5: 2103، لسان العرب 13: 126، مجمع البحرين 2: 45 (حقب وحقن).
(3) الحاقب: الذي احتبس غائطه. مجمع البحرين 2: 45 (حقب).
(4) الحازق: الذي ضاق عليه حقه فحزق رجله أي: عصرها وضغطها. النهاية لابن الأثير 1: 378، مجمع البحرين 5: 15 (حزق).
376

تلك نوعا ومقدارا، ولكن انضمت إلى تلك بما رفع قدرها وشأنها، وإلى هذه ما خفض مقامها وشأنها.
وكذلك البعد بين صلاة متطيب في أحسن زي، وأشرف مكان، مع حضور القلب، وخشوع الجوارح، وبين صلاة متصف بأضداد هذه.
وبالجملة الصلاة في الحمام وفي معاطن الإبل مكروهة، بمعنى تقابل استحبابها في المساجد والمشاهد، وصوم ثاني شوال مكروه، بمعنى أنه منهي بذاته كحرمة صوم أوله، إلا أن ذلك نهي تحريم، والثاني نهي كراهة.
والفرق بين القسمين واضح في مقام الثبوت، وأما في مقام الإثبات، فقد يشكل الفرق، والمتبع حينئذ لسان الدليل، ومناسبة الحكم والموضوع.
ولو لا تكلف من حملها على الإرشاد، أو أقلية الثواب لشرح مراده، لكان ما قلناه قابلا لأن يكون شرحا له.
واعلم أن من الممكن أن يكون بعض الأفعال مكروهة حال الصلاة كراهة مستقلة، بمعنى أن تكون العبادة ظرفا لها من غير أن تمس العبادة أصلا، كما يتصور مثله في المستحب، كالدعاء لطلب الرزق في السجدة الأخيرة، ولطلب الولد في القنوت، إذ الظاهر أن ذلك لكون الدعاء فيهما أقرب إلى الإجابة، لا أن الصلاة تكتسب بهما مزية وفضيلة.
فاستبان مما ذكرناه أن العبادة التي تستحق إطلاق المكروه عليها ما كانت من قبيل الأول، ولا أشاحك في إطلاقه على غيرها، بل أكره لك مخالفة الاصطلاح إذا حفظت المعاني، ولم تغرك الألفاظ، ولا يصدك عن ذلك إلا الشغب (1) بمخالفة الإجماع، ومن لك بمحصله وأنت تعلم حال منقوله.
على أنه لو شئت قلت: إجماع الفقهاء على صحة هذه الصلاة مما لا معنى

(1) الشغب: تهيج الشر. مجمع البحرين 2: 91 (شغب).
377

له هنا، لأنها عندهم ما أسقط الإعادة والقضاء، ولا يتصور لها معنى في هذه العبادات، وقد منع المحققون جريان قاعدتي الفراغ والتجاوز ونحوهما في غير الواجبات لا لقصور في أدلتها، بل لعدم تصور معنى الصحة فيها، ولم يكترثوا بالعلم الإجمالي ببطلان إحدى الصلاتين من الفريضة والراتبة.
هذا، والقوم لما أعضلهم أمر هذه العبادات، لعدم تصورهم عبادة غير راجحة فضلا عن المرجوحة، التجئوا إلى التأويل، كما اعترف به في الكفاية، فقال:
«لا بد من التصرف والتأويل فيما وقع في الشريعة مما ظاهره الاجتماع بعد قيام الدليل على الامتناع، ضرورة أن الظهور لا يصادم البرهان» (1).
وتلك التأويلات كثيرة فاطلبها من مظانها، ونحن نقتصر على ما اعتمد عليه السيد الأستاذ، وهو تقسيمها إلى ثلاثة أقسام، كما صنعه الشيخ الأعظم (2) ومن قبله.
أولها: ما تعلق النهي بعنوان يكون بينه وبين العبادة عموما من وجه كالصلاة في موارد التهم بناء على أن يكون كراهتها من جهة النهي عن الكون فيها المجامع مع الصلاة.
وثانيها: ما تعلق النهي بتلك العبادة مع تقيدها بخصوصية، وهو على قسمين:
أحدهما: ما يكون للفرد المكروه بدل كالصلاة في الحمام.
وثانيهما: ما ليس له بدل كصوم يوم عاشوراء.
أما أول الأقسام، فملخص ما ذكره هو الالتزام بعدم فعلية الكراهة، وأن إطلاق الكراهة عليها نظير إطلاق الحلال على الشاة الموطوءة، بمعنى أن هذا

(1) كفاية الأصول: 161 - 162.
(2) انظر مطارح الأنظار: 135.
378

الفرد لو لا اتحاده مع الواجب كان مكروها، وذلك لأن الكراهة من جهة عدم منعها من الترك لا يصلح لتقييد أفراد الطبيعة المأمور بها بغير الفرد المجامع لها بخلاف الحرمة، لأنها من جهة منعها من الترك يلزم امتثال الأمر بغير الفرد المحرم بحكم العقل بالجمع بين الفرضين.
أقول: الظاهر أن أكثر المكروهات، بل كلها - إلا الشاذ منها - لا يختص بالعبادات الواجبة، وقد تقرر أن الأصل في كل نافلة أن يكون بحكم فريضتها، وإطلاق أدلتها شاملة لها، فيبقى الإشكال بحاله فيها.
وأما ثانيها، فالنهي راجع إلى نفس الخصوصية، ومن أورد عليه بأن خصوصية الكون في الحمام ليست مكروهة، بل قد تكون راجحة، فقد غفل عن مراده، إذ المراد كراهة الكون فيه حال الصلاة وهي بحالها من الرجحان من غير أن تمسها الكراهة، فقوله: لا تصل في الحمام. معناه لا تكن في الحمام حال الصلاة، وعلى هذا التفسير لا داعي إلى حمل النهي على الإرشاد، ولا إلى الالتزام بعدم وجود الكراهة الفعلية.
نعم يبقى للسؤال موقع عن السبب الذي دعا إلى هذا الإلغاز، فهلا قال بدل قوله: يكره الصلاة في الحمام: يكره الكون فيه حال الصلاة.
وأما ثالث الأقسام وهو ما تعلق النهي بها ولا بدل لها، وهو أصعب الأقسام على أصولهم.
وحاصل ما أفاده فيه: أن فعلها راجح لكونها عبادة، وتركها راجح أيضا لانطباق عنوان راجح عليه، ولكن رجحان الترك أشد فيزول وصف الاستحباب عنها، وتكون الكراهة فعلية.
ولكن لما كان مشتملا على الجهة الراجحة تكون عبادة، إذ لا يشترط في كون العمل عبادة وجود الأمر، بل يكفي تحقق الجهة.
ويشكل بأن العنوان الوجودي لا يمكن أن ينطبق عليه عنوان عدمي
379

لأن معنى الانطباق هو الاتحاد، والعدم ليس له وجود خارجي.
واختار هذا الوجه صاحب الكفاية (1)، بل تجاوزه في درسه إلى إمكان وجود المصلحة في الترك نفسه من غير حاجة إلى عنوان وجودي ينطبق عليه.
وهذا - كما ترى - مستلزم لاجتماع الراجحية والمرجوحية في كل من الفعل والترك، إذ رجحان أحد النقيضين يستلزم مرجوحية الآخر، وكذا العكس.
وقد تنبه لذلك، ودفعه بما لا يقوم بعبء الدفع، وحاصله: الفرق بين النهي التحريمي والتنزيهي، وبين الفرق بينهما بما هو أشد غموضا من الأول، ولعل ما تعرفه في كلام الفصول ما يرتق به هذا الفتق.
والسيد الأستاذ بعد ما أورد ما سمعت على الوجه السابق أبدى وجها آخر، وهو أن فعل الصوم راجح، وتركه مرجوح، وأرجح منه تحقق عنوان آخر لا يمكن أن يجتمع مع الصوم، فنهى الشارع عن الصوم الموصل إلى ذلك العنوان.
وعلى ذلك فالنهي إرشادي محض، إذ مجرد أرجحية الضد لا يوجب النهي عن الضد الآخر، بناء على عدم مقدمية الضد.
ولعل السر في التعبير بالنهي عن الصوم الراجح بدلا عن الأمر بذلك العنوان الأرجح عدم إمكان إظهار ذلك العنوان.
وهذا - رعاك الله - قصارى ما عندهم في التخلص عن هذه المضايق على تفاصيل يطول بنقلها الكلام، واحتمالات بعيدة غير سديدة، هذا أقربها وأسدها، والجميع راجع إلى إخراج لفظ الكراهة عن معناه، ومخالفة ظواهر الأدلة.
هذا صوم يوم عاشوراء الذي هو المثال المعروف لهذا القسم من مكروه العبادات كيف يمكن القول برجحانه، وجعل الأرجح ذلك العنوان المجهول

(1) كفاية الأصول: 163.
380

والسر المكتوم الذي لم يمكنهم عليهم السلام إظهاره؟ كما سمعت من السيد الأستاذ.
كيف وقد أظهروا ذلك السر، وأماطوا عنه الستر، وشددوا في الإنكار على من صامه تشديدا لا يليق إلا بمرتكب الكبائر، وأوعدوا وعيدا لا يستحقه إلا المقدم على أعظم الجرائر، فجعله الرضا عليه السلام «صوم ابن مرجانة» (1).
وجعل الصادق عليه السلام «حظ من صامه حظ ذلك الدعي» (2).
وقال عليه السلام في رواية أخرى: «فمن صامه، أو تبرك به حشره الله مع آل زياد ممسوخ القلب، مسخوطا عليه» (3).
أ ترى مع ذلك رجحانا لصوم هذا اليوم النحس؟ لا ومن استشهد فيه، إلا أن يكون الحشر مع آل زياد ممسوخ القلب مسخوطا عليه ثوابا يرغب فيه.
بل ولو لا خوف الإجماع - وما الإجماع مما يرهب في أمثال هذه المسائل - لقلنا: إن صومه حرام كحرمة صوم العيدين، ولو كان أشدية العقاب الموعود على الفعل دليلا على أشدية الحرمة لقلنا: الإثم فيه أعظم.
ومن تأمل رواية عبد الله بن سنان التي رواها الشيخ في مصباح المتهجد، وقول الصادق عليه السلام فيها: «صمه من غير تبييت، وأفطره من غير تشميت، ولا تجعله صوم يوم كملا، وليكن إفطارك بعد [صلاة] (4) العصر بساعة» (5) وضم إليه قول جده صلى الله عليه وآله في جوامع الكلم: «لا صيام لمن لم يبيت الصيام» (6) وضم إليه إجماع المسلمين على أن الصوم المشروع إفطاره غروب

(1) الكافي: 4: 146 / 5، التهذيب 4: 301 / 91، الاستبصار 2: 135 / 442.
(2) الكافي 4: 147 / 6، التهذيب 4: 301 - 302 / 912، الاستبصار 2: 135 / 443.
(3) الكافي: 4 147 / 7.
(4) الزيادة من المصدر.
(5) مصباح المتهجد: 724.
(6) عوالي اللآلي 3: 132 / 5.
381

الشمس علم أنه عليه السلام بين فساد هذا الصوم بأحلى عبارة في ذوق أهل الفضل، وسلك في أحسن مسالك الفصاحة وأنه من قبيل قول الشعبي لمن سأله عن الصلاة خلف الحائك: يجوز من غير وضوء.
ولو ادعي القطع على أنه لم ينطبق عليه عنوان آخر سوى العنوان المبين المعلوم، وهو التشبه بأعداء الله ونحوسته الحاصلة بوقوع الحادث العظيم فيه لكان في محله.
ولو حلف حالف على أن النهي متعلق به في الحقيقة - لا بالعرض والمجاز - نهيا مولويا لا إرشاديا لم يكن حانثا.
نعم لو لا انطباق هذا العنوان الذي لا ينفك عنه لكان كسائر الأيام، بل ولعله كان مستحبا.
وهذا أحسن جمع بين النهي الوارد عن صومه وبين أكثر الأخبار الواردة في فضله، فيقال: إنه كان مستحبا مؤكدا قبل يوم الطف، وبعده لزمه عنوان فساد لا يزول، ومفسدة لا تقوى لها ألف مصلحة.
وقد اعترفوا بمواظبة الأئمة على تركه، ونهيهم الشيعة عنه، وجعلوه من باب أرجحية الترك.
ولا يخفى أن الأرجحية لا توجب ترك المرجوح، ولا نهي الشيعة عن فعله، بل عهدناهم - والسلام على جميعهم - يأتون بصنوف العبادات راجحها ومرجوحها، ويأمرون شيعتهم بجميعها.
وببالي ورود النهي عن الترك الدائم للمرجوح بتعليل أن لكل عمل حقا، أو ما يقرب منه، يراجع.
ولو كانت الأرجحية توجب ترك الراجح والنهي عنه لوجب أن لا يقرأ من القرآن إلا سورة التوحيد، وينهى عن قراءة غيره، وعن إتيان الفرائض في غير المساجد بل وعن المساجد إلا المسجد الأعظم.
382

ومن المشهور أنهم عليهم السلام كثيرا ما يفعلون المرجوح المكروه لبيان الجواز، فهلا صاموا يوم عاشوراء مرة واحدة لبيان الراجح المستحب.
وبالجملة، أن ظني بفكرك الحر أنه لا يعدل عن الحق الأبلج (1) الذي عرفته، ولا يحتاج بعده إلا تصور عبادة مكروهة مأمور بها.
وإن أبيت إلا عن تصورها، فعليك بما حققه في الفصول، ولخصه الفاضل المقرر، فقال:
«ومحصله أن كراهة العبادة عبارة عن رجحان تركها بقصد القربة على وجه يكون القيد المذكور داخلا في المطلوب، ولا غائلة في ذلك لأن رجحان الفعل يقتضي مرجوحية الترك على وجه الإطلاق لأنه نقيضه.
وأما الترك المقيد بقصد القربة فلا ضرر في اتصافه بالرجحان مع القيد المذكور، كما أن الصوم راجح فعله، وتركه مقيدا بإجابة المؤمن أيضا راجح، ولا مناقضة بينهما، لاختلاف محلي الراجحية والمرجوحية.
وبالجملة فالصلاة [في الحمام] (2) فعلها راجح بقصد القربة، وتركها أيضا راجح بقصد القربة من دون مدافعة، وإنما التدافع بين رجحان الفعل ورجحان الترك».
هذا ملخص كلامه وإن أطال في بيان مرامه، ثم قال:
«وفيه أولا: أن ذلك مبني منه على أن تكون القربة من القيود اللاحقة للمأمور به، كأن يكون القيد المذكور من وجوه المطلوب، وقد تقدم في بحث المقدمة ما يوضح فساد هذا التوهم.
لا يقال: ما ذكره لا يبتنى على ذلك، بل يتم على تقدير كونه من لواحقه بعد طريان الأمر عليه أيضا.

(1) بلج الحق: إذا وضح وظهر، مجمع البحرين 2 278 (بلج).
(2) الزيادة من المصدر.
383

لأنا نقول: إن اختلاف الماهية بالقيد لا يعقل إلا أن يكون ذلك القيد من لواحقه، وإلا فكيف تختلف تلك الماهية بطريان القيد، وهو ظاهر.
وقد صرح أيضا في باب الأوامر أن إطلاق الأمر مما يمكن التمسك به عند الشك في التعبدية، فراجعه.
وثانيا: لو أغمضنا عن ذلك، وقلنا بأنه يصح أن تكون القربة قيدا للمأمور به، فنقول:
ما أفاده فاسد أيضا، حيث إن المحذور في التقرب بترك ما فعله مما يتقرب به، فإنه هو التناقض اللازم في المقام، ومن الواضح أن اتصاف طرفي النقيض بالتقرب أمر محال.
نعم يصح ذلك في القيود التي تكون من قبيل إجابة المؤمن، فالصوم من حيث كونه صوما مستحب فعله، وتركه من حيث إنه إجابة للمؤمن يمكن أن يكون مستحبا، فالتقرب به ليس تقربا بترك الصوم، بل بعنوان الإجابة المتحدة مع الترك، وبذلك يظهر بطلان المقايسة المذكورة» (1).
هذا الملخص لا يطابق ما لخصه منه تمام المطابقة، ولو كان بالنقص لهان أمره، ولكن زاد فيه قوله: «على وجه يكون القيد داخلا في المطلوب» وهذه الزيادة زادت الإشكال قوة على ضعفه بعد.
ولو لا كلال الخاطر وخشية سأم الناظر، لنقلت عبارة الفصول بتمامها، ونبهتك على مواضع الاختلاف بينها وبين هذا الملخص، وأنا أبتني عليه، وأقول:
إنه وإن عبر في أول كلامه بلفظ القيد، ولكن قد ذكرنا في بحث المقدمة الموصلة أن صاحب الفصول كثيرا ما يطلق مادة القيد وما يشتق منها، ولا يريد به المعنى المصطلح، بل يريد مطلق اعتبار الشيء ومدخليته بأي نحو كان من

(1) مطارح الأنظار: 134.
384

أنحاء الاعتبار، ولو تفحصت لوجدت ذلك في كلام غيره أيضا.
وقد فسر ذلك في بحث قصد الأمر، فقال: «المطلوب في الأمر المطلق حصول الفعل مجردا عن القيدين، أي من غير اعتبار شيء منهما» (1).
ولو لا ما قلناه لم يكن وجه لتفسير الواضح، فمؤاخذته على ذلك مؤاخذة على اللفظ ومشاحة فيه.
ثم ما ذكره من ابتناء ذلك على أن تكون القربة من القيود اللاحقة للمأمور به، فدعوى لا شاهد عليها، ولا أنه مذهب صاحب الفصول في مسألة اعتبار قصد القربة، ولا ابتناء لهذا الجواب على ذلك أصلا، بل هو مبني على انقسام متعلق الأمر إلى قسمين المستلزم لانقسام الترك إليهما أيضا، وهذا أمر واضح، إذ الأمر ينقسم إلى توصلي لا تعتبر فيه القربة، وتعبدي تعتبر فيه، ومهما كان وجه اعتباره يحصل الانقسام، فلا موقع لقوله: «لا يقال....».
وقد علم هذا الفاضل الموالي حيلة يحتالون بها على اعتبار قصد القربة بالأمر بالفعل أولا، والتبسه بالمقصود ثانيا، وتلك الحيلة جارية في المقام، وكافية فيه.
وبالجملة، اعتبار القربة في المطلوب الواقعي مما لا شك فيه، ولا ينازع فيه أحد وإن اختلفوا في وجه اعتباره، فالانقسام بحسب الواقع حاصل، وهذا يكفي صاحب الفصول أمكن اعتباره في الأمر أم لا.
ولله در فراسة العم، فقد علم أن كلامه لغموضه يخفى على أوائل الأنظار، فقال آخر البحث: «وعليك بإمعان النظر فيه، فإنه من الغموض بمكان» (2).
صدق - طاب ثراه - لو كان هذا الفاضل أجاب ملتمسه، وأمعن النظر لم

(1) الفصول الغروية: 69.
(2) الفصول الغروية: 133.
385

يكن يخفى على مثله في نبله وفضله، إن لازم ذلك - بعد الانقسام المذكور - ليس التناقض الذي توهمه، والترك المتقرب به ليس نقيضا للفعل المطلق، ولا بعد في أن يكون لكل من الفعل مع القربة وتركه كذلك، مصلحة تدعو الآمر إلى الأمر بهما، فيحصل التقرب بكل منهما.
على أن صاحب الفصول ممن يذهب إلى إمكان كون المصلحة في الأمر، وقد قال هذا الفاضل في خاتمة كلامه:
«نعم يصح ذلك في القيود التي تكون من قبيل الإجابة للمؤمن، فالصوم من حيث إنه صوم مستحب، وتركه من حيث إنه إجابة للمؤمن يمكن أن يكون مستحبا، فالتقرب به ليس تقربا بترك الصوم
(1)، بل بعنوان الإجابة المتحدة مع الترك، وبذلك يظهر بطلان المقايسة المذكورة» (2).
كلا، لم يظهر بطلان المقايسة بل ظهر أن هذا الفاضل بعد هذا النزاع، شديد نزع إلى قول الفصول، بل اعترف بمقالته بعد تغيير لفظ التقييد بالقربة إلى التقييد بعنوان الإجابة، وعلى هذا جرى في الوجه الذي جعله حاسما للإشكال في العبادات المكروهة التي لا بدل لها من جنسها، فقال:
«لا ضير في أن يكون طرفا النقض من شيء واحد ولو من حيث اندراجهما (3) تحت عنوان آخر ذي مصلحة مقتضية لهما (4)، كفعل الأكل المندرج تحت عنوان إجابة المؤمن [المستلزم]
(5) لترك المندرج تحت عنوان الصوم، وحيث إنه لا يسعنا الجمع بين المتناقضين، فلا محالة يصير التكليف بهما تكليفا على وجه التخيير بين الفعل

(1) تأمل فيه، إذ الجهة تعليلية، فهو بمنزلة قوله: أكرم زيدا لأنه عالم، ولا تكرمه لأنه فاسق.
(منه).
(2) مطارح الانظار: 134.
(3) في الأصل والمصدر: اندراجها. وما أثبتناه هو الصلح.
(4) في المصدر: للامر بهما.
(5) زيادة يقتضيها السياق.
386

بعنوانه والترك بعنوانه» (1).
ثم بعد تطويل وإسهاب، قال: «لعل وجه الأمر والنهي هو أن يكون الفعل والترك بداعي الأمر والنهي لحصول الامتثال، وليس المقيد في المقام هو القربة، كما زعمه بعض الأجلة، بل المقيد هو العنوان الخارج الملازم، والقربة إنما هي معتبرة فيه» (2).
نشدتك الله تعالى، إلا أن تقابل هذا الوجه الذي يرجى بقوله: لعل، أن يكون حاسما للإشكال، وبين كلام الفصول، فهل تجد فرقا يصلح للفارقية بينهما؟ إلا أنه غير لفظ التقييد بالقربة إلى التقييد بالعنوان لظنه عدم إمكان التقييد بها.
وقد عرفت أن عمدة جواب الفصول التي بنى أساس الجواب عليها، تقسيم كل من الفعل والترك إلى عبادي وغير عبادي، وبه تخلص عن التكليف بالنقيضين، وعرفت أن صاحب الفصول لا ينكر العنوان الذي صار سببا للحكم، بل لا بد له منه إن لم يكن الصلاح في نفس الطلب.
ثم راجع وجدانك، فهل يسعه إلا الاعتراف بأن هذا بضاعة الفصول ردت إليه بعد ما اعترض عليه؟ أليس قوله: «لعل وجه الأمر والنهي هو أن يكون الفعل والترك بداعي الامتثال» (3) هو بعينه مطلب الفصول؟ فلتكن القربة هي العنوان، أو تكون معتبرة في ذلك العنوان الذي ربما يجهل.
وقد علل نفسه - فيما أسقطناه من كلامه - بأنه لا حاجة إلى معرفته تفصيلا، فأي فرق يحصل في المقام؟ ولو سلمنا أن صاحب الفصول يجعل العنوان نفس القربة، وأغمضنا عما تقدم من
المنع وبيان سنده، فهذا الفاضل ينازعه في مسألة أخرى محلها باب

(1) مطارح الانظار: 137.
(2 و 3) مطارح الأنظار: 155.
387

الأوامر.
وأما الجواب، فهو ذلك الجواب، ولكن سلبه بزته (1) بعد ما أخلق ديباجته، لأن الفصول جعل متعلق كل من الطلبين غير متعلق الآخر، فصح جوابه حتى على القول بامتناع الاجتماع.
وأما هذا الفاضل وجهه بما لا يرضى به حتى القائل بالجواز، لأنه وجه الطلبين في أول كلامه إلى النقيضين - راجع أول كلامه المنقول - غايته كل بجهة، وفيه وفي أمثاله لا بد من وقوع الكسر والانكسار بين المصلحتين شأن كثير من الواجبات والمحرمات، إذ قلما تجد واجبا خاليا من جميع جهات الصلاح، أو محرما ليس فيه وجه للصلاح، وقد قال تعالى في المحرمين العظيمين: فيهما إثم كبير ومنافع للناس (2) فإذا اجتمع طلب الصوم مع طلب تركه لإجابة المؤمن فلا بد من فعلية أحدهما، وعدم فعلية الآخر، فإذا كانت مصلحة الإجابة هي الأشد، فلا يعقل تعلق الطلب الفعلي بالصوم.
وهذا أوضح من أن يخفى على مثل هذا الفاضل، ولكنه يراوغ (3) عن انقسام كل من متعلقي الطلبين إلى قسمين، كما حققه صاحب الفصول، ثم لا يجد بدا من الاعتراف به، كما هو مقتضى سائر كلامه.
(اجتماع الأسباب)
حكى الفاضل النراقي عن بعض مجوزي اجتماع الأمر والنهي الاستدلال بإجزاء غسل واحد عن الجنابة والجمعة، زعما منه أن ذلك من باب

(1) البزة بالكسر الهيئة. الصحاح 3: 865، مجمع البحرين 4: 8 (بزز).
(2) البقرة: 219.
(3) أي: يميل اليه في خفاء. مجمع البحرين 5: 10 (روغ).
388

اجتماع الواجب والمندوب، فيكون من باب اجتماع الحكمين (1).
وهذا من طريف الاستدلال، لأن لفظ الإجزاء الذي ورد في النص وفتاوى الفقهاء، وجعله هذا المستدل عنوان دليله، معناه: الاكتفاء الذي معناه عدم الاجتماع إذ لو كان الآخر - الكافي عنه - موجودا لم يكن ذلك اكتفاء، كما في سائر موارد إطلاق هذين اللفظين.
فالإجزاء في الغسل نظير إجزاء صلاة الفريضة عن تحية المسجد، حيث إن الغرض من تشريع صلاة التحية أن لا يخرج الداخل فيه إلا بصلاة، ويحصل هذا الغرض بالفريضة، ولا يبقى مقتض لصلاة التحية، لا أن الظهر - مثلا - وهي أربع ظهر، وتحية وهي ركعتان.
وكذلك الغسل فإن الغرض منه الطهارة عن الأوساخ الواقعية، والكون على الطهارة في أوقات وأمكنة خاصة، وبعد غسل الجنابة يحصل الغرض ولا يبقى محله.
نعم لعل له وجها على بعض الأقوال في تلك المسألة من لزوم نية الجمع ونحو ذلك، فإن المسألة ذات أقوال كثيرة.
وكان الأولى بهذا المستدل أن يستدل بالتعليل الوارد في الميت الجنب، من قولهم عليهم السلام: «يغسل غسلا واحدا يجزئ ذلك للجنابة ولغسل الميت لأنهما حرمتان اجتمعتا في حرمة واحدة» (2).
وعد بعضهم مطلق تداخل الأسباب من الاجتماع، واستدل بها على الجواز.
ولكي يتضح الحال في تداخل الأسباب يلزم النظر في أقسام المسببات،

(1) مناهج الأصول: الورقة: 30.
(2) الكافي 3: 154 / 1، الفقيه 1: 92 ذيل حديث 419، التهذيب 1: 432 / 1384، الاستبصار 1: 94 / 680.
389

وإذا تأملتها وجدت منها: ما لا يقبل التعدد، ولا الشدة والضعف، ومنها: ما يقبلهما معا، ومنها: ما يقبل الأول دون الثاني، ومنها: ما يقبل الثاني فقط كالقتل والضرب والنظر إلى الشيء وصبغ الثوب.
فالمسببات الشرعية إن كانت من قبيل الأول، فلا شك أن الأثر للسبب المتقدم، والأسباب اللاحقة لا أثر لها لعدم إمكان حصول الشيء الواحد مرتين.
وإذا كانت من قبيل الثاني، فمقتضى القاعدة تأثير الجميع كيفية وعددا، كما هو الحال في القسم الثالث بحسب التعدد، وفي الرابع بحسب الكيفية.
فإذا اجتمعت أسباب القتل فالأثر للسبب الأول، ولا تأثير للأسباب اللاحقة بمقتضى القاعدة، بخلاف التعزير بالسوط، فإنه يتعدد بتعدد الأسباب وتؤثر في الشدة لو فرض اختلاف أقسامه فيها.
ولا بد في الرابع من تأثير ذي الأثر الزائد ولو تأخر وجوده.
وعلى ذلك إذا تعددت أسباب غسل الجنابة، فالمؤثر الجنابة الأولى ولا تأثير لغيرها إلا إذا كانت ذات أثر زائد كنجاسة العرق في الحاصلة عن الحرام، فهو كأسباب النجاسة الخبثية لا يتعدد إلا إذا كان أحد أسبابها الولوغ مثلا.
ويمكن أن يكون كذلك مع الحدث الأصغر ولهذا يرتفع بالغسل إذا الرافع للشديد رافع للضعيف.
وهذه أمور محتملة في مقام الثبوت، وتعيين أحدها في مقام الإثبات وظيفة الدليل، ومع الشك فالمرجع البراءة إذ الشك في تأثير الزائد، كما أن الأصل الاشتغال بعد قيام الدليل على التأثير، والشك في ارتفاع الجميع بفعل واحد.
وهذا ما يعبر عنه بتداخل المسببات، والبحث عن ذلك خارج عن المقام، وتعرف تفصيله - إن شاء الله - في مسألة مفهوم الشرط، وقد جرت العادة على التعرض له هناك.
والفرض أن جميع ذلك بمعزل عما يرومه المستدل، ولو ثبت
390

التداخل في الأسباب أو المسببات في باب الأغسال لكان الوجه فيه ما عرفت.
وإنما يجديه لو ثبت بالدليل وجود ماهيتين في فرد واحد، إحداهما متعلقة الوجوب، والأخرى [متعلقة] الندب، وليس في باب الأغسال ما كان من هذا القبيل - فيما يحضرني الآن - إلا ما عرفت من اجتماع الجنابة وغسل الميت، فإن ظاهر الرواية اجتماع واجبين كما عرفت، وإن كان أمثال هذه الأمور مما يستدل به على اجتماع الحكمين فخير له التمسك بالنافلة المنذورة، فإن آثار كل من التكليفين بادية عليها من عدم جواز الترك وثبوت العقاب عليه، ومن بقاء آثار الاستحباب كعدم اشتراط السورة، وجواز إتيانها على الراحلة، فيكشف وجود أثر كل منهما على وجودهما.
وهذا أحد الوجوه المتصورة فيها، والكلام عليها وبيان المختار منها خارج عن المقام، وإن شئت التفصيل فعليك بما ذكرناه في مسألة نذر التطوع في وقت الفريضة من كتاب كبوات الجياد في ميدان نجاة العباد - أو - نجعة المرتاد في شرح نجاة العباد (1)، فإني - ولا أمدح نفسي - أوضحت فيه تلك المسألة المشكلة بما لم أسبق إليه.
وأما المانعون فلهم حجج قوية، راجع ما قرره الإمامان في الكتابين (2)، وغيرهما من المشايخ، فإن ثم ما ذكرناه من انضمامية التركيب ووجود الماهيتين معا في الخارج وإلا فلا مناص عن القول بالامتناع.

(1) مخطوط.
(2) الشيخ محمد حسين في الفصول والشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين.
391

(القول الثالث من أقوال الاجتماع)
وأما القول الثالث وهو الجواز عقلا والامتناع عرفا، فقد رموه بالضعف.
قال في الكفاية ما لفظه: «لا سبيل للعرف في الحكم بالجواز أو الامتناع إلا طريق العقل، فلا معنى لهذا التفصيل - إلى أن قال - وقد عرفت أن النزاع ليس في خصوص مدلول صيغة الأمر والنهي بل في الأعم فلا مجال لأن يتوهم أن العرف هو المحكم في تعيين المداليل» (1). ومثله أو ما يقاربه كلام غيره، ولا ثمرة في نقلها.
ولزعمهم أن هذا القول في غاية الضعف تبرعوا في التوجيه، فقد قال في الكفاية ما سمعت.
وقال الفاضل المقرر: «لعل الوجه فيه أنه جمع بين دليل المجوز من عدم اجتماع الضدين في محل واحد، وبين ما يظهر في العرف من فهم التعارض بين الأمر والنهي في مورد الاجتماع»
(2).
ثم أورد على هذا الوجه بكلام طويل، ومن ألفاظه في خلاله: «أن العرف لا حكومة له في قبال العقل، بل العرف مرتبة من مراتبه وطور من أطواره، ولا يعقل اختلاف حكمي العقل والعرف في موضوع واحد، مع أن العرف هم العقلاء» (3).
وعندي توجيه هذا التوجيه أصعب من توجيه أصل القول، والجمع بين هذا الإصرار على عدم إمكان الاختلاف بين العقل والعرف وبين ما هو المعلوم

(1) كفاية الأصول: 167.
(2) مطارح الأنظار: 150.
(3) مطارح الأنظار: 150 - 151.
392

من الاختلاف بينهما ليس بأمر هين.
أ ليس العقل يحكم بعدم إمكان انتقال العرض عن المعروض؟ وأهل العرف يحكمون بانتقال لون الحناء إلى الكف، وعدم وجود أجزائه فيه، ويحكم الفقهاء بحكمهم، فيقولون بطهارة الأجسام المصبوغة بالأصباغ النجسة. أليس الموضوع في أكثر موارد الاستصحاب مما يحكم العقل بعدم بقائه ويخالفه العرف؟ وكيف نفذ حكم العرف في البقاء وعدمه ولم ينفذ في الاجتماع وعدمه؟ وبالجملة مخالفة العقل والعرف في موارد لا تحصى كثرة ليس بالأمر الذي يخفى على مثله، ولعله - طاب ثراه - يريد أمرا وراء ما فهمنا من كلامه.
وقال بعض أهل العصر ما لفظه: «لعل الوجه فيه أن متعلق الأمر والنهي يكون متعددا بالنظر الدقيق العقلي، بناء على تعلقهما بالطبائع، حيث إنهما متعددان ذاتا، وفي مقام تعلق الأحكام ولو كانا موجودين بوجود واحد يكون واحدا بالنظر المسامحي العرفي في مقام صدورهما عن المكلف بلحاظ كونهما موجودين بوجود واحد».
ثم أورد على هذا الوجه - الذي لم يظهر لي معناه - بكلام طويل، إن تم فهو وارد على ما توهمه لا على صاحب هذا القول، إلى غير ذلك مما لا أملك بنقله.
ومرجع الجميع حمل عدم الجواز العرفي في كلامه على الإمكان، ومرجع الاعتراضات إلى أن الحكم بالإمكان وعدمه ليس من وظيفة العرف.
والظاهر أن الوجه اللائق بمثل قائله: أنه يريد عدم الجواز في مقام الامتثال بمعنى أن أهل العرف لا يرون إتيان المأمور به في ضمن الفرد المنهي عنه امتثالا للأمر.
وقد تكرر في كلامهم أن الحكم في مقام الامتثال للعرف، ولم يزل العلماء يستدلون بمثله في أمثال المقام، ويقولون: لو فعل كذا عد في العرف ممتثلا، أو لم يعد فيه، وإذا نازعهم خصمهم، فلا ينازع كنزاع هؤلاء، بل ينازع في الصغرى،
393

وهي عدم تسليم كونه في العرف كذلك.
فإذا حكم قوم ببطلان العبادة مع التكرار مستدلين بأنه يعد في العرف لاعبا بأمر المولى لا ممتثلا، فما ذا يكون حكمهم في محصنة نذرت أن تسر أحد أرحامها فمكنته من نفسها، فهل ترى أهل العرف يحكمون بأنها أدت فرضها وبرت نذرها، أو يزيدون على الحكم بعدم الوفاء، الحكم بأنها لاغية لاعبة مستخفة طنازة؟.
وبالجملة، لا أظن فقيها يقول بالامتثال في أمثال هذا المثال.
وهنا وجه آخر ليس بأبعد من سابقه وهو الجواز عقلا وعدم الجواز شرعا، بمعنى أن الشرط في صحة العبادات عدم الإتيان بها في الفرد المحرم، لقولهم عليهم السلام: «لا يطاع الله من حيث يعصى».
وقولهم عليهم السلام: «ما اجتمع الحرام والحلال إلا غلب الحرام الحلال» (1) ونحو ذلك مما عسى يظفر به المتتبع في مسألة لباس المصلي ومكانه، فإن تم هذا - ولا يتم بعمومه - تكون الصلاة في الثوب المغصوب كالصلاة في الحرير، وتكون أمثلة هذه المسألة في عداد مسألة النهي في العبادات.
(ثمرة النزاع في أصل مسألة الاجتماع)
إن كانت لهذه المسألة ثمرة مهمة، فهي الصلاة ونحوها في المكان واللباس المغصوبين ونحوهما إذا فرض اتحادها أو بعض أجزائها مع الغصب، فإنها تصح على القول بالجواز، وتبطل على القول بالمنع.
أما الصحة - على الأول - فواضح، لعدم الاجتماع الاتحادي بينها وبين الغصب، بل بما يشبه الاجتماع الموردي.

(1) عوالي اللآلي 3: 466 / 17، والحديث مروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
394

وأما البطلان - على الثاني - فلا ينبغي الريب فيه، لأن الشيء الواحد الذي لا يحلل إلى شيئين لا يمكن أن يكون مأمورا به ومنهيا عنه، حسنا وقبيحا، مقربا ومبعدا، طاعة ومعصية، إلى غير ذلك من ضروب التضاد والتناقض.
فإذن يجب بحكم العقل إتيان المأمور به في ضمن غير الفرد المحرم، لأن الإطاعة واجب عقلا، ولا إطاعة إلا بما عرفت، وهذا حكم للعقل في مرحلة الإطاعة والامتثال.
ولو سلمنا قول الأستاذ صاحب الكفاية: «إن الصلاة صحيحة وإن لم يكن مأمورا بها».
وقول غيره: «إن دائرة المطلوب أوسع من الطلب».
وتغيير بعض السادة من مشايخنا لفظ الامتثال بالأداء، وادعاء أنها أداء لا امتثال.
وأصلحنا بهذا وأمثاله بعض تلك المفاسد، لكن لا سبيل إلى إنكار حكم العقل بوجوب الإطاعة، ولا إلى جعل العصيان طاعة.
والغريب أن كثيرا من علية الفن جعلوا البطلان بناء على المنع من باب التعارض، وتقديم جانب النهي.
قالوا: «لا بد من رفع اليد من أحد الدليلين للتعارض، والرجوع إلى المرجحات الدلالية والتعبدية» واستندوا في تقديم جانب النهي تارة إلى قوة الدلالة، لأن دلالة النهي بالعموم ودلالة الأمر بالإطلاق. (عن الإشارات) تأمل ما معناه.
أو لأن النهي ناظر إلى جهة الترخيص الثابت في الأمر، فهو حاكم على الأمر. (عن الشيخ الأكبر) تأمل أيضا.
وتارة بأن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة، وببعض الروايات نحو
395

قوله عليه السلام: (إن اجتناب السيئات أولى من اكتساب الحسنات) (1) ونحو ذلك.
أقول: التعارض - كما تقرر في محله - تنافي مدلولي الدليلين على وجه التناقض أو التضاد.
ومعناه: أن يرد من الشارع دليلان، يثبت أحدهما حكما لموضوع، ويثبت الآخر ضده أو نقيضه، فيكون الحكم في مرحلة التكليف مرددا بين حكمين يعلم بعدم أحدهما، وهناك يكون الرجوع إلى المرجحات.
ومسألة الاجتماع مما لا قصور لها في مرحلة التكليف، إذ يعلم كل من الطلبين ولم يأل الشارع جهدا في بيانهما، وكلاهما حكم ثابت لموضوعه، وإنما الشك في مرحلة الامتثال المتأخرة عن الحكم، وأنه هل يمكن الإطاعة بما يقع به العصيان أم لا؟ ورفع الشك فيه من وظيفة العقل لا الشرع، بل ليس للشارع التصرف فيه إلا بالتصرف في الحكم، كما في باب المتزاحمين.
وحكم العقل بتعيين الأهم للامتثال، والتخيير مع التساوي، إذ ليس للشارع التصرف فيه إلا التصرف في حكمه بجعل المهم هو الأهم، أو جعل أحد المتساويين أهم من الآخر.
وبالجملة، باب تعارض الدليلين وحدة المناط في الواقع، والجهل بكون المناط مناط الأمر أم النهي، ولا شك في أن رفع مثل هذا الشك من وظيفة الشارع، وتطلبه من الدليل، وفي مسألة الاجتماع لا شك في وجود المناطين، وليس من وظيفة الشارع رفع الشك فيه حتى يرجع إلى الدليل.
فقاصد أربعة فراسخ يعلم ثبوت أحد التكليفين من الإتمام والقصر، وعدم الآخر، فيحق له التماس معرفته من الدليل، ورجوعه إلى أصول التعارض
(هامش)
(1) غرر الحكم 1: 75 / 1559.
(/ هامش)
396

والترجيح.
وأين هذا من المصلي في الأرض المغصوبة، العالم بتكليفين منجزين، الحاكم عقله بلزوم الجمع بين الغرضين، فإذا أراد الرجوع إلى الترجيح، فأي دليلي التكليفين ترى له أن يرجح؟ أدليل الصلاة وهو ضرورة الدين، أم حرمة الغصب وهو إجماع المسلمين؟.
ومن الطريف استدلال بعضهم بإطلاق دليل الأمر، مع أنه قد مر عليك في مواضع شتى، أنه لا يعقل الإطلاق ولا التقييد في المقام وأمثاله.
وأيضا لو كان للأمر إطلاق يشمل ما يؤتى في ضمن الحرام لكان معناه تخصص حرمة الغصب بغير صورة الامتثال، ولو كان مقيدا بغيره لكان حال هذه الصلاة حال الصلاة في الحرير ونحوه، وعلى الفرضين لم يكن من مسألتنا هذه في شيء.
وقد تنبه بعض أساتيذنا لبعض هذه المفاسد، ورام الخلاص عنها، فجعل المقام من باب التزاحم، فلم يبعد عن الخطأ، بل وقع فيه، إذ المفروض تمكن المكلف من الجمع بين الغرضين، فلا مزاحمة أصلا، وعليه فأصغر المحرمات يغلب أهم الواجبات.
نعم لو فقدت المندوحة، فالمقام من باب التزاحم، ولكن هذا خروج عن فرض المقام.
ويظهر من بعض كلماتهم أنهم يحاولون بذلك تصحيح صلاة جاهل الغصبية وناسيها.
وأنت خبير بأن مانعية النهي عن الامتثال لو كانت بحسب ذاتها فالصلاة باطلة منهما أيضا، وإن كانت بحسب فعليتها فلا مانع عن الصحة من غير فرق بين تغليب أحد الجانبين.
وأحسن وجه لتصحيح عبادتهما أن يقال: إن مع الجهل - بل مع النسيان - لا يتحقق موضوع الغصب، لأنه ليس مطلق التصرف في مال الغير بغير إذنه
397

غصبا، بل الغصب ما كان على سبيل القهر والعدوان لغة وشرعا، كما سيأتي توضيحه، فالدخول دار الغير مخافة السبع أو لإنقاذ نفس محترمة ليس بغصب لا أنه غصب جوزته الضرورة.
(النظر في المثالين المعروفين لهذه المسألة)
لهذه المسألة أمثلة كثيرة، والمعروف المذكور في كتب الفقه وأصوله:
الصلاة في المكان، واللباس المغصوبين.
قال في الفصول: «إذا قلنا بأن الكون جزء من الصلاة، لم نرد به كون المكلف أي وجوده كما قد يسبق إلى الوهم، فإنه ليس جزءا من الصلاة، ضرورة أن وجود الموضوع ليس جزءا من العرض القائم به ولا كونه في المكان، أعني تحيزه فيه، لأن مفهوم التحيز خارج عن مفهوم الصلاة، بل نريد به الأكوان التي يكون المصلي عليها من حركاته وسكناته كقيامه وركوعه وسجوده.
ولا ريب أن القيام في المكان المغصوب عين الغصب وجزء من الصلاة، وعلى حده بقية الأكوان، فتكون الصلاة في المكان المغصوب بجميع أجزائها الفعلية غصبا، لأنها عبارة عن حركات وسكنات (1) مخصوصة، هي غصب إذا وقعت في المكان المغصوب» (2).
وكتب الفقه وأصوله مشحونة بما ذكره طاب ثراه، وبالفروع التي تتفرع عليه.
وعندي في بطلان الصلاة من جهة الغصب نظر، لا بد أن أبدي وجهه

(1) إن كان للسكون جمع فليكن سكونات، ولعله جرى على المشهور، أو هو غلط من النساخ. (منه رحمه الله).
(2) الفصول الغروية 137.
398

لأرباب الأنظار وإن قابله بعضهم بالإنكار.
فأقول: إن هنا أمرين: غصب وتصرف فيه، أما الغصب فهو سلب سلطنة المالك ونحوه، وجعلها لنفسه أو مشاركته فيها، وهذا هو الذي دل العقل والنقل على حرمته، وجرى عنوان البحث في كتب الفقه عليه، كقولهم: «الغصب هو الاستقلال بإثبات اليد على مال الغير عدوانا وظلما» وعليه بنوا عدة فروع كالحكم بضمان العقار بمجرد الاستقلال به.
وهذا كما ترى من مقولة الملك، جدة كانت أو إضافة وهو غير التصرف لأنه من مقولة الفعل، فالتصرف في الغصب ليس عين الغصب، بل هو أمر متأخر عنه طبعا من مقولة أخرى، ولا ملازمة بينهما، إذ كثيرا ما يتحقق الغصب بدون التصرف فيه.
فلو كتب ظالم إلى قيم أموره في بلد آخر، بأن يمنع زيدا عن التصرف في داره بقصد الاستيلاء عليها، فهو غاصب من حين المنع وإن لم يتفق له التصرف فيها أو تأخر عنه سنة كاملة.
أو أجبر صاحب فرس على أن يربط فرسه في إصطبله فهو غاصب عاص ما دام سلطانه عليه وإن لم يركبه قط، إلى غير ذلك من النظائر.
وعليه، فإذا ثبت حرمة تصرف الغاصب في المغصوب، فلا بد أن تكون بدليل غير دليل حرمة الغصب، لما عرفت من أن الغصب أمر، والتصرف أمر آخر، وهما من مقولتين متباينتين، فالغاصب الثاوي في المغصوب عليه إثمان:
إثم الغصب وإثم التصرف فيه، بخلاف الغاصب غير المتصرف، فإن عليه إثم واحد فقط.
ولا يبعد القول به، بل الظاهر أنه لا بد منه، لما تراه من مسلميته عند الأصحاب، والظاهر دلالة عدة من الظواهر عليه، ولكن مبنى المثالين على حرمة أمر ثالث زيادة على الأمرين، وهي حرمة جميع التقلبات من الحركات
399

وأضدادها، وتبديل صورة إلى صورة، ووضع بوضع، من صعود إلى نزول ونزول إلى صعود وقعود إلى قيام، وقيام إلى قعود.
وبالجملة، تبديل كل صورة، ووضع، وإحداث، تغيير وحركة، فإسراج الفرس وإلجامه، ونزعهما عنه، وركوبه، والنزول عنه، محرمات اخر سوى أصل الغصب، وكلي التصرف وتحريك الثوب المسبب عن المشي حرام ثالث، ولازم ذلك الالتزام بأنواع شتى، وضروب مختلفة في غصب ساعة واحدة، بل بمحرمات لا نهاية لها كما لا يخفى على المتأمل وجهه.
وهذا مما لا يمكن الالتزام به، بل مدعي القطع بخلافه غير مجازف، وحاشا الفقيه أن يلتزم به إذا التفت إلى لوازمه.
قال في الجواهر بعد ما حكم بصحة صلاة المختار من المحبوس في المكان المغصوب، وبيان الوجه فيه، ما لفظه:
«ومن الغريب ما صدر من بعض متفقهة العصر، بل سمعته من بعض مشايخنا المعاصرين من أنه يجب على المحبوس الصلاة على الكيفية التي كان عليها أول الدخول إلى المكان المحبوس فيه إن قائما فقائم أو جالسا فجالس، بل لا يجوز له الانتقال إلى حالة أخرى في غير الصلاة أيضا لما فيه من الحركة التي هي تصرف في المال بغير إذن صاحبه، ولم يتفطن إلى أن البقاء على السكون الأول تصرف أيضا لا دليل على ترجيحه على ذلك التصرف، كما أنه لم يتفطن أنه عامل هذا المظلوم المحبوس قهرا بأشد ما عامله الظالم، بل حبسه حبسا ما حبسه أحد لأحد، اللهم إلا أن يكون يوم القيامة مثله.
وقد صرح بعض هؤلاء أنه ليس له حركة أجفان عيونه زائدا على ما يحتاج إليه، ولا حركة يده أو بعض أعضائه كذلك، بل ينبغي أن تخص الحاجة في التي تتوقف عليها حياته ونحوه مما ترجح على حرمة التصرف في مال الغير، وكل ذلك ناش عن عدم التأمل في أول الأمر، والأنفة من الرجوع بعد ذلك،
400

أعاذ الله الفقه عن أمثال هذه الخرافات» (1).
صدق رحمه الله في جميع ذلك، ولو زاد على التنديد والملام أضعاف ما فعل لكان في محله ولم يكن ملوما عليه، فإن الظالم لم يحجر عليه إلا الخروج، وهذا الفقيه حجر عليه ما لا تحصى من لوازم الحياة.
كلا إن الشرائع القاسية الوحشية لتأنف من ذلك، فكيف بالحنيفية الإسلامية، لعن الله الحجاج، فإنه على غشمه وظلمه لم يحبس أحدا مثل هذا الحبس.
وأقول بعد ذلك: إنه لا يعقل الفرق في الحكم بين الغاصب الظالم وبين هذا المظلوم، ولا بد أن يلزا في قرن (2)، فإما أن يطلق له ما أطلق لذلك المحبوس أو يمضي حكم هذا الفقيه، أو المتفقه كما قال.
والوجه فيه ظاهر، لأن تبديل الأوضاع إن كان حراما فلا بد أن لا يجوز إلا بمقدار الحاجة ولو من المحبوس ظلما لأن الضرورات تقدر بقدرها، وإن لم يكن حراما فلا حرج فيه على الغاصب أيضا.
ومن ذلك يظهر لك مواقع النظر في كلام الفصول وغيره، لأنا لو سلمنا كون الصلاة عبارة عن حركات وسكنات، فلا نسلم حرمتها لما عرفت.
ولا نسلم أيضا أن القيام في المكان المغصوب عين الغصب لأن الغصب - كما عرفت - مباين للأفعال، والمنطبق على التصرف فيه مطلق التحيز، وهو غير منطبق على شيء من أجزاء الصلاة، كما قرره في أول كلامه.
نعم يتم ما ذكره لو قلنا بحرمة تبديل الأكوان والأوضاع، وقد عرفت المنع عنه.
ثم إن صاحبنا العلامة - دام توفيقه - حاول تصحيح الصلاة بوجه آخر

(1) جواهر الكلام: 8: 300.
(2) اللز الشد. يقال: لزه شده والصقه. والقرن _ بالتحريك -: الحبل. لسان العرب 5: 405 و 13: 366.
401

فقال في حاشية كتابه:
«إنه يمكن أن يقال بصحة الصلاة في الدار المغصوبة، على تقدير القول بعدم الجواز أيضا، بأن لم يجعل الأكوان الخاصة بأنفسها أجزاء للصلاة، بل الأجزاء الأوضاع والهيئات الحاصلة منها، فالصلاة في الدار المغصوبة لا تكون من مورد الاجتماع» (1).
ولقد دقق النظر وأحسن، لو لا أن الصلاة عند العرف والمتشرعة جميعها من قبيل الأفعال باعتبار صدورها عن الفاعل، ومع ذلك ليست جميع أجزاء الصلاة من قبيل الوضع، فالتكبير والقراءة وواجب الذكر من مقولة الكيف، وهي إما عين الغصب، كما قالوه في سائر الأجزاء، ولا يبعد مساعدة العرف له، وإما مسببة عن الغصب كما في الفصول (2)، وإما كونها سببا له.
أما البطلان على الأول فواضح بلا حاجة إلى بيان.
وعلى الثاني فبما ذكره في الفصول من امتناع مطلوبية الفعل مع تحريم سببه.
وعلى الثالث فبما قرره أستاذ سيدنا الأستاذ في مسألة مقدمة الحرام من أن المقدمة المقدورة لترك الحرام إذا انحصرت في واحدة، فحرمة الفعل تقتضي حرمة تلك المقدمة، وعليه بنى الحكم ببطلان الوضوء وإن لم يكن المصب منحصرا في المغصوب، كما ذكره وذكرناه في بحث مقدمة الواجب.
هذا، وفي المقام فروع طريفة لو لا خشية الإطالة لذكرنا نموذجا منها، وحسب الطالب ما فصل منها في الفصول.
وقد تعدى قوم الحد في الحكم ببطلان الصلاة في موارد لا يحتمل فيها الاتحاد بينها وبين الغصب، حتى بلغ بعضهم فيه مرتبة الشطح.
منها: الحكم ببطلانها في الخيمة المغصوبة، بل المغصوب بعض أطنابها

(1) درر الفوائد 1: 148.
(2) الفصول الغروية: 137.
402

وأوتادها، بل وفي فيء الجدار المغصوب خلطا بين التصرف في الغصب وبين الانتفاع به حال الصلاة.
ومنعها بعضهم في الدار المبنية جدرانها باللبن المغصوبة، وصرح بعضهم:
ولو بلبنة واحدة، بل في البلد إذا كان في سوره آجرة مغصوبة.
فلو غصب غاصب شبرا من جبل (قاف) الذي يقال: إنه محيط بالدنيا لكان لازم هذا القائل بطلان الصلاة في كرة الأرض بأجمعها.
وإذا سألت هؤلاء عن المستند في هذه الفتاوى لأجابوك بأنها تعد تصرفا في العرف، ولطال ما أثقل كأهل العرف بأمثاله، والله العاصم.
(إجمال القول في مسألة دلالة النهي على الفساد)
هذا كله في النهي غير المأخوذ في موضوع الأمر، وأما المأخوذ فيه، نحو:
صل ولا تصل في الحرير، فقد عرفت أنه خارج عن مسألة الاجتماع، وهو مورد بحث دلالة النهي على الفساد، وهو الفرق بين المسألتين.
نعم، لو كان النهي نهي تحريم لكان لازمه الفساد، أما على الامتناع فظاهر، وكذلك على جواز الاجتماع لأن الذي جزء المجوز هو وجود الجهتين التقييديتين الذي ينحل الفرد بهما إلى موجودين، وليس المقيد شيئا غير المطلق، وهما متحدان، كما أوضحه في الفصول (1) بما لا يحتاج معه إلى زيادة إيضاح.
وما ذكره صاحبنا - دام توفيقه - من أنه من الممكن أن يكون العمل المشتمل على الخصوصية موجبا للقرب من حيث ذات الفعل وإن كان إيجاده في تلك الخصوصية مبغوضا (2). إلى آخر ما ذكره. فباب الإمكان المجرد لا يسد إلا

(1) راجع الفصول الغروية: 141.
(2) درر الفوائد 1: 156
403

على تعدد الواجب، والممكنات في عالمها كثيرة، وفي فتح هذا الباب سد لإثبات الشروط والموانع في أبواب الفقه، عباداتها ومعاملاتها.
نعم يستفاد ذلك في بعض المواضع من الأدلة الخاصة.
هذا حال النهي بحسب مدلوله وهو التحريم، وأما دلالته عليه، فقد مر غير مرة أن هيئة النهي لا تدل إلا على طلب الترك فقط، فلا دلالة لها بحسب الوضع على فساد، وغيره.
نعم لا يبعد دلالته عليه باللزوم بالمعنى الأخص، فتكون دلالة لفظية، ويؤيده فهم العرف، ولذا ترى الفقهاء يستدلون في أبواب الفقه على الفساد بالنهي، ولعل القائل بدلالته عليه شرعا ينظر بطرف خفي إلى هذه السيرة.
وتعجب المقرر الفاضل من صاحب الفصول، وتفرقته بين الوضع واللغة (1)، وهذا كلام الفصول بنصه:
«الحق أن النهي في العبادات يقتضي الفساد عقلا، ويلزمه وضعا عرفا ولغة - إلى أن قال - وأما في المعاملات فلا يقتضيه عقلا ولا وضعا مطلقا، ويقتضيه بحسب الإطلاق عرفا» (2) إلى آخر ما ذكره.
ما قاله مطابق لما عرفت من الدلالة اللفظية باللزوم بالمعنى الأخص مؤيدا بفهم العرف، وعدمها بحسب أصل الوضع. وأين هذا الذي نسبه إليه هذا الفاضل من التفرقة بين الوضع واللغة، وتعجب منه؟ هذا هو العجب.
وأعجب منه قوله في أثناء كلام له: «من غير فرق في ذلك بين أن الدال على التحريم هو صيغة النهي، أو أحد الألفاظ المساوية له في المعنى المذكور، كما

(1) انظر مطارح الأنظار: 163.
(2) الفصول الغروية: 140.
404

في قوله تعالى: حرمت عليكم أمهاتكم (1) خلافا لبعض الأجلة حيث خص الحكم بصيغة النهي، زعما منه أنه صريح في الدلالة على الفساد، وأن فرض الكلام فيما إذا استند التحريم إلى العقد، كأن يقال: يحرم عقد كذا، فتوجه النزاع المعروف إليه غير مسلم وأنت خبير بضعفه فلا حاجة إلى تطويل الكلام فيه» (2) انتهى بألفاظه، على ما فيه من التعقيد والإعضال.
ودونك كلام الفصول بنصه: «ثم قد يتخيل أن النزاع في المقام لا يختص بصيغة النهي، بل يجري فيها وفيما يجري مجراها كلفظ التحريم في قوله تعالى:
حرمت عليكم أمهاتكم (3) الآية، وذكر الصيغة في العنوان وارد على سبيل التمثيل، وضعفه ظاهر لأن المفهوم من إسناد التحريم إلى المذكورات تحريم وطئهن والاستمتاع بهن، وهو صريح في فساد العقد عليهن، لدلالته على نفي ترتب الآثار على عقدهن فلا يكون من مسألة الباب.
نعم لو استند التحريم إلى العقد فقيل: يحرم عقد كذا وكذا، كان من مسألة الباب، لكن دلالته على الفساد حينئذ غير واضحة. وتوجه النزاع المعروف إليه غير ظاهر» (4).
وبيان مراده - على وجه أرجو أن يكون فيه رضا لهذا الفاضل وسائر أهل الفضل - أن النهي الذي وقع الخلاف في دلالته على الفساد هو الذي يتعلق بعنوان عبادة أو معاملة مثلا من غير تصريح بالفساد، نحو: لا تتزوج أمة على حرة أو بنت أخ أو أخت على عمة وخالة، فالخلاف في أن النهي عن الشيء هل يستلزم عقلا أو وضعا أو عرفا الفساد أم لا؟ يخرج منه التصريح بالفساد قطعا.

(1) النساء: 23.
(2) مطارح الأنظار: 164.
(3) النساء: 23.
(4) الفصول الغروية: 140.
405

ثم إن التصريح بالفساد قد يكون بلفظه نحو: نكاح الشغار باطل. وقد يكون بما هو أبلغ وأفصح، أعني بنفي الآثار كقولك: من صلى بلا طهور أو على غير قبلة فليعد صلاته.
وصاحب الفصول وإن ذكر التخصيص بصيغة النهي في أول كلامه، فعاق ذلك هذا الفاضل عن التأمل في حقيقة مرامه، لكن أوضحه بقوله: «نعم لو استند التحريم إلى العقد فقيل: يحرم عقد كذا كان من مسألة الباب» (1).
فهل مع هذا التصريح يبقى موقع لتوهم الخصوصية في صيغة لا تفعل؟ أوليس ذلك مبينا لإجمال قوله: وفيما يجري مجراها (2)؟ وأن مراده عدم دخول الآية الشريفة وما جرى مجراها في مسائل الباب، لأنه من التصريح بالفساد بلسان نفي الآثار.
فإن كانت المؤاخذة على كلي الحكم، ودعوى أن مع التصريح بالفساد يجري فيه النزاع فهذا توهم يجل عنه هذا المحقق الفاضل ومن هو دونه.
وإن كانت على كون الآية منها ومنع كونها من باب التصريح بالفساد، فالحكم فيه ما ذكره المحققون في باب المجمل والمبين من أن تعلق التحريم بالأعيان يراد منه نفي الأثر المقصود منه كالأكل في المأكول، والشرب في المشروب، فنحو: يحرم الأرنب والخمر، صريح في حرمة أكل ذاك وشرب هذه.
وكذلك تحريم الأمهات وسائر من تضمنته الآية، المراد منها حرمة الاستمتاع والنكاح قطعا، وهو - كما قال - تصريح بالفساد بالتصريح بنفي الآثار.
نعم، نحو: يحرم عقد كذا، داخل في النزاع من هذه الجهة، لأن متعلقة

(1 و 2) الفصول الغروية: 140.
406

الفعل لا العين، فيأتي فيه القول بأن حرمة العقد هل يستلزم فساده أم لا؟ ولكن تردد صاحب الفصول في شمول النزاع من جهة أخرى، وهي عدم إحرازه الشرط الذي ذكره بعد سطر، وهو تعلقه بها لنفسها، وهذا واضح.
ومن عادة هذا المحقق المقرر، أنه متى سنح له اعتراض على الفصول، فإن وجد له صورة خلابة (1) جلاه للنظار في أزهى بيان وأطوله، وإن لم يجد له تلك الصورة ترك البيان، وادعى على المخاطب خبرته بالضعف، وجعل ذلك الادعاء عذرا لعدم البيان والتطويل، وعلى هذه الوتيرة جرى، فقال:
«وأنت خبير بضعفه، فلا حاجة إلى تطويل الكلام فيه» (2).
آخر مبحث النواهي، ويليه إن قدر الله مبحث المنطوق والمفهوم، والحمد لله وعلى نبيه الكريم وآله الكرام أفضل الصلاة والتسليم.
يقول المصنف كان الله له: يعلم القراء الكرام وقاهم الله صروف الأيام أن كثيرا من المصنفين في فنون العلوم يصدرون كتبهم بشكوى الزمان، ويلمحون إلى كساد صنعتهم، وعدم نفاق سلعتهم، وعمدة غرضهم الاعتذار عن خطأ يقع منهم فيها أو تقصير.
وإذا كان مما يقال به العثار، فأنا وحرمة العلم ورفيع مقام أهله أولى من أكثرهم بهذا الاعتذار، ولكني - والحمد لله على كل حال - لا أجد طريقا إلى التفصيل، ولا يطفي أوار (3) غيظي
الإجمال، ورأيت أن أسلك جادة ما سلكها أحد فيما أعلم، فأختم كتابي بتاريخ زمان التصنيف وبمكانه، ثم أعرفك بمن لا تجهله، ثم أدعك وما تعلم.

(1) خلابة: الخديعة باللسان بالقول اللطيف. مجمع البحرين 2: 52 وانظر الصحاح 1 / 122 (خلب).
(2) مطارح الأنظار: 164.
(3) أوار بالضم: حرارة النار والشمس والعطش. الصحاح 2: 583، القاموس المحيط 1: 366، مجمع البحرين 3: 211 (أور).
407

فأقول: فرغ منه مؤلفه في بلدة أصفهان، ثالث عشر صفر الخير سنة ألف وثلاثمائة ونيف وخمسين، وأنا أبو المجد محمد الرضا آل العلامة الثاني الشيخ محمد تقي صاحب (هداية المسترشدين).
408

باسمه تعالى وبحمده
(القول في المنطوق والمفهوم)
1 - ذكروا لكل منهما حدودا لا يخلو جميعها من الخلل، وقد اعترف به في الفصول، فقال بعد بسط القول في جملة منها:
«الوجه: أن تجعل الحدود لفظية تقريبية» (1) ومثله أو ما يقرب منه مقال غيره.
فإذا اكتفي بهذا، فلا حد أحسن ولا أوضح ولا أخصر من لفظي العنوانين، وإن شئت قلت: هما محدودان لا يحتاجان إلى حد، أو هما حدان ومحدودان معا، لأن الظاهر من المنطوق هو المعنى الذي يفهم من الألفاظ التي نطق بها المتكلم ودلت بأوضاعها عليه. والمفهوم - بقرينة المقابلة - هو المعنى الذي يفهم منها من غير أن يدل بأوضاعها عليه.
فقول القائل: إن جاءك زيد فأكرمه، تدل ألفاظه بأوضاعها على وجوب الجزاء عند حصول الشرط، بخلاف دلالته على عدم الوجوب عند عدمه فإنه معنى يفهم من الألفاظ وتدل عليه لكن لا بأوضاعها، وعليه فكل ما دل عليه بإحدى الدلالات الثلاث فهو من المنطوق، وما دل عليه بغيرها فهو من المفهوم.
فإذن، لك أن تقول: المنطوق ما دل عليه اللفظ المنطوق به، والمفهوم ما فهم منه ولم يدل عليه اللفظ بنفسه فيشمل قسمي المفهوم: الموافقة والمخالفة، سواء كان حكما غير مذكور أو حكما لغير مذكور.
ولا يرد عليه أكثر ما أورد على غيره، فدلالة اللفظ على وجود اللافظ

(1) الفصول الغروية: 146.
409

خارجة عن الحدين لعدم كونها لفظية.
ولهذا بعينه ليس منهما دلالته على الأمر بالمقدمة والنهي عن الضد. وتعرف - إن تأملت - عدم ورود سائر ما أوردوه على ما ذكرناه، وأنه لا حاجة إلى تلك التطويلات المملة، ولا إلى الأحجية بإتيان لفظ (المحل) المخل بالمقصود في الحد المشهور: ما دل عليه اللفظ في محل النطق، ولا إلى البحث عن لفظ (ما) الواقعة فيه.
وما ذكرناه فرقان بين الداخل والدخيل فيهما، فقد توسع في المنطوق حتى دخل فيه استفادة أقل الحمل من الآيتين (1) الكريمتين.
وأين من المنطوق استفادة حكم من آيتين متفرقتين غير ناظرة إحداهما إلى الأخرى؟ وهو حكم لا يهتدي إليه إلا الألمعي (2) الفطن بعد ضرب من الاجتهاد.
وكذلك استفادة علية الوقاع للكفارة في قوله عليه السلام: «كفر» بعد قول السائل: واقعت أهلي في نهار شهر رمضان (3)، فإنه ليس مما دل عليه اللفظ بأحد أقسامه الثلاثة، بل هو أمر استفيد من الخارج وهو أنه لو لم يكن علة له لاستبعد اقترانه به، إلى غير ذلك مما يظهر لك خروجه عن حد المنطوق بما أوضحناه من أن المناط فيه الدلالة اللفظية: المطابقة والتضمن والالتزام بالمعنى الأخص.
وتوسع في المفهوم حتى عد منه التعريض الذي هو من دواع الاستعمال كالتعجيز والتهكم، لا أنه مدلول اللفظ.

(1) الآيتان: وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [الأحقاف: 15] والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين [البقرة: 233] حيث إنه يستفاد منهما كون أقل الحمل ستة أشهر مع أنه غير مقصود في الآيتين لأن المقصود في الآية الأولى بيان تعب الأم في الحمل والفصال، وفي الآية الثانية بيان أكثر مدة الفصال.
(2) الألمعي: الذكي المتوقد. القاموس المحط 3: 82 الصحاح 3: 1281 مجمع البحرين 4: 388 (لمع).
(3) الحديث مروي عن الامامين الباقر والصادق عليها السلام.
راجع الكافي: 4: 102 / 2، الفقيه 2: 72 / 309، التهذيب 4: 206 / 595، الاستبصار 2: 81 / 245.
410

وعد منه ترك البيان في موضعه كجواز الجمع بين فاطميتين، ومفهوم الجمع، كما يفهم الندب أو الكراهة عند تعارض الأدلة، إلى أشياء من هذا النمط ولا قلامة ظفر، إذ المناط في المفهوم أن يدل اللفظ على قضية أخرى يوافقها في الإيجاب والسلب كما في مفهوم الموافقة، أو يخالفها فيهما كما في المخالفة (1)، لا كل ما علم منه ولو بألف عناية خارجية، فجواز الجمع بينهما إن استفيد فهو مستفاد من ترك الإتيان باللفظ لا من اللفظ، وفهم الندب أو الكراهة استفادة من دليلين متعارضين، لا أنه مدلول لأحد اللفظين.
ولك أن تجعل ذلك من باب الاصطلاح الذي لا مشاحة فيه، إذن يسع الخرق ولا يقف على حد.
2 - لا فرق في المنطوق بين الحقيقة والمجاز ضرورة إيجاد المعنى في مثل قولك: إذا مدحك شاعر فصله، وقولك: إذا مدحك فاقطع لسانه، أو احذر الأسد، مريدا تارة معناه الحقيقي، وتارة معناه المجازي من غير فرق بين أن تكون القرينة توقف صدق الكلام وصحته عليه، وبين أن تكون شهادة حال، أو ضميمة مقال، فتكون الدلالة في الأول اقتضائية وفي غيره إيمائية كما في الفصول (2)، ولا بين أن تكون القرينة لفظية أو عقلية، فيندرج الأول في المنطوق الصريح، والثاني في غيره كما عن القوانين (3).
وهذا واضح إذا عرفت حقيقة المجاز، راجع ما كتبناه في مسألتي الوضع والاستعمال ليظهر لك جلية الحال، وأنه لا فرق بينهما في مقام الإرادة الاستعمالية، ولا محل لما فصلاه.
3 - المفهوم من صفات الدلالة أو المدلول؟

(1) أي مفهوم المخالفة.
(2) الفصول الغروية: 147.
(3) قوانين الأصول 1: 168.
411

قالوا: إن المفهوم من صفات الدلالة أو المدلول، لا من صفات نفس القضية إلا أن يتصف بها بهذا الاعتبار بنحو من التسامح.
وقال صاحبنا طاب ثراه (1): «إن النزاع في المفاهيم راجع إلى الصغرى، وأن القضية الكذائية هل لها مفهوم أم لا» (2).
أقول: المراد من المفهوم ما يقابل المنطوق، فكما أن المنطوق هو القضية التي نطق بها، فالمفهوم - بحكم المقابلة - هي القضية التي لم ينطق بها، فإذا كان المنطوق وجوب إكرام (زيد) على تقدير المجيء فالمفهوم عدم وجوبه على تقدير عدمه.
وإنما الخلاف في حجيته وعدمها، وأنه هل يدل عليه اللفظ دلالة معتبرة أم لا؟ ولهذا ترى الغالب في تعبيراتهم أن مفهوم اللقب أو العدد حجة أم لا، أو هما ضعيفان، وإن كانوا قد يقولون: إن اللقب لا مفهوم له، تسامحا، فليتأمل في مرادهم من أنه من صفات الدلالة أو المدلول، وفي معنى قوله طاب ثراه: «إن النزاع صغروي» وكيف الجمع بين قوله هذا، وقوله قبله: «إن المفهوم هو القضية غير المذكورة» (3).
(أقسام المنطوق والمفهوم)
قسم الأول إلى صريح وغير صريح، والأخير إلى أقسام لا تجدها إلا صرف الاصطلاح.
والثاني إلى مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة، وهي دلالة الاقتضاء، ودلالة

(1) حيث إن المؤلف - رحمه الله - قد كتب بحث المفاهيم بعد وفاة الشيخ الحائري - رحمه الله - لذا نراه يعبر عنه بعبارة " طاب ثراه ".
(2 و 3) درر الفوائد 1: 159.
412

التنبيه، ودلالة الإشارة.
وذلك لأن الدلالة إما أن تكون مقصودة بحسب متعارف العرف أم لا وعلى الأول إما أن يتوقف صدق الكلام عليه عقلا وشرعا فهو دلالة الاقتضاء كما في حديث الرفع (1)، لأنه تتوقف صحته على تقدير المؤاخذة، وقولك: أعتق عبدك عني. فإنه تتوقف على تقدير الملك لتوقف صحته عليه شرعا.
أو لا يتوقف على ذلك، بل يكون مقترنا بما لولاه لبعد الاقتران كحديث الكفارة (2) - الذي مر ذكره - وهذا دليل الإيماء والتنبيه.
والثاني وهو ما لا تكون الدلالة مقصودة وهو دليل الإشارة كما في الآيتين السابقتين (3)، وغصه الشيخ الإمام بكلام طويل، والجميع حال بالخلل خال عن الفائدة، ولم نتعرض لهذا الإجمال إلا لوقوع هذه الألفاظ في عباراتهم.
وقد أبدع الجلال المحلى في جمع الجوامع، فجعل من دلالة الإشارة دلالة قوله تعالى: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم (4) على صحة صوم من أصبح جنبا للزومه جواز الرفث في الليل الصادق بآخر جزء منه.
فإن كان موافقا للمنطوق في الإيجاب أو السلب فهو الموافقة، ويسمى فحوى الخطاب ولحن الخطاب.
وقد يفرق بينهما بأنه إن كان ثبوت الحكم في المفهوم أولى من ثبوته في المنطوق سمي بالأول، وإن كان مساويا لثبوته له سمي بالثاني.
ولا إشكال في حجية الأول، وادعى الشيخ الإمام في (الهداية) الإجماع

(1) الكافي: 2 كتاب الإيمان والكفر، باب ما رفع عن الأمة، حديث 2، الفقيه 1: 36 / 4، الخصال 2: 417 / 9
(2) الكافي 4: 102 / 2، الفقيه 2: 72 / 309، التهذيب 4: 206 / 595، الاستبصار 2: 81 / 245.
(3) سبقتا في الهامش (1) من صفحة (410).
(4) البقرة: 187.
413

عليه (1).
وزعم بعضهم أنه من القياس، وهذا غلط من زاعمه لأن القياس إلحاق ما لا دليل عليه في الحكم بما يدل عليه الدليل، وقد جعله العاملون بالقياس أحد شرائطه، بل قال بعضهم: إن مع شمول الدليل لا يتحقق موضوع القياس.
وأين ذلك من هذا المفهوم؟ وهو ظهور لفظي هو أقوى من ظهوره في المنطوق بدرجات كما في آية التأفيف (2)، ونظائرها الكثيرة.
ولهذا يقول به من ينكر مطلق القياس حتى بالأولوية كالشريف المرتضى، وقد قال بعد إنكار حجية القياس بالأولوية، ما لفظه:
«فإن قلت: إذا أبطلت قياس الأولوية فكيف يمكنك استفادة تحريم الضرب وباقي أنواع الأذى من الآية».
«قلت: إن القرآن إنما أنزله الله تعالى بلغة العرب، وأجراه على مقتضى محاوراتهم واصطلاحاتهم».
وكل أحد يعلم من تتبع كلامهم أن فيه الدلالة اللغوية والعرفية والمطابقة والتضمن والالتزام، وحينئذ فمثل قوله تعالى: ولا تقل لهما أف (3) إذا صدر من آحاد العرب لا يكون الغرض منه إلا شمول جميع أنواع الأذى من الضرب وغيره، وناهيك شأن هذا الإمام الأقدام المقدم في علوم الدين.
واعلم أنه كثيرا ما يؤتى بالجملة توطئة لمفهوم الموافقة والمبالغة فيه، كما تقول: إن نقصت شعرة من رأس زيد أسقطت رأسك من بدنك، وعليه فاستفادة حرمة التأفيف من الآية محل تأمل، وكذلك في موارد كثيرة.

(1) هداية المسترشدين: 280.
(2 و 3) الإسراء: 23.
414

وكثير من الأخبار الواردة في النهي عن المحرمات من هذا القبيل، فينبغي التنبه له، وبهذا يجاب عن الاستبعادات الواردة في موارد كثيرة، ويخرج آية التأفيف (1) عن باب المفهوم.
وأما الثاني أعني مفهوم المخالفة فهو أقسام، أهمها:
مفهوم الشرط
اختلفوا في أن تعليق الأمر، بل مطلق الحكم على شرط هل يدل على انتفائه عند انتفاء الشرط أم لا؟ هذا هو الترجمة المعروفة والعنوان الرائج لهذه المسألة.
وفي التقريرات: «إن لفظ التعليق مشعر بالانتفاء عند الانتفاء، فلا يناسب أخذه في العنوان، وغيره إلى قوله: تقييد الحكم بواسطة (إن) وأخواتها (2)» (3) إلى آخره.
ولا أدري لما ذا صار لفظ التعليق مشعرا بالانتفاء عند الانتفاء دون لفظ التقييد؟ مع أنهما لفظان متقاربان في المعنى جدا، كما نبه عليه في الفصول (4)، بل لقائل أن يقول: إن التقييد أظهر من التعليق في ذلك.

(1) الإسراء: 23.
(2) مثل: إذا ولو.
(3) مطارح الأنظار: 169.
(4) الفصول الغروية: 147.
415

ثم قال: «وإن كان ذلك أولى مما قيل: هل مفهوم الشرط حجة أم لا، لظهوره في أن النزاع ليس في ثبوت الدلالة، مضافا إلى أن الشرط مما لا موقع له، أما على مصطلح الأصوليين فلعدم تأتي النزاع على تقديره، وأما على مصطلح النحاة فلأن الشرط - عندهم - عبارة عن المقدم في الجملة الشرطية، ولا يطلق على نفس الجملة عندهم» (1).
ولا أعلم مستند ما نقله عن النحاة، والمعهود عندهم - فيما أعلم - إطلاقه على نفس الجملة.
قال في الفصول، بعد تعداد معاني الشرط، ما لفظه:
«وقد يطلق ويراد به الجملة المصدرة بإحدى أدوات الشرط ك (إن) وأخواتها، وهذا هو المراد في المقام، وعليه جرى مصطلح علماء العربية» (2).
ومن الغريب تصريح المقرر بخلاف ما قرره، وذلك قوله بعد بضعة أسطر، ولفظه:
«وله في اصطلاح أرباب النحو معنى آخر، وهو الجملة الواقعة عقيب (إن) وأخواتها» (3).
وأما اعتراضه الأول، فلقائل أن يجيب عنه، فيقول: إن دعاه إلى جعل النزاع في الحجية كون الدلالة - ولو بمرتبة ضعيفة - مما لا ينكره المنكر في أكثر المفاهيم فكيف بمثل الشرط الذي يجعله المقرر منطوقا، وإنما الممنوع عنده وصوله إلى حد الظهور الذي يصلح للاعتماد عليه.

(1) مطارح الأنظار: 169.
(2) الفصول الغروية: 147.
(3) مطارح الأنظار: 170.
416

ثم إن النزاع يمكن تقريره على وجهين:
أولهما: أن يكون لفظيا بمعنى أن أدوات الشرط في لغة العرب أو فيها وفي سائر اللغات هل هي موضوعة للانتفاء عند الانتفاء، أو يستفاد منها بطريق غير الوضع، وأن الجملة المصدرة بها هل تنحل إلى جملتين يحكم على ثانيتهما بحكم مخالف للأولى أم لا؟ وثانيهما: أن نفس التعليق بأي لفظ، بل وبأي طريق إذا ثبت هل يقتضي ذلك أو لا يقتضي إلا وجود الجزاء إذا وجد المعلق عليه؟.
الذي يستفاد من أكثر ما يذكر في هذا المقام هو الأول، فترى مثبت المفهوم يستدل بقول اللغويين، وبمقررات النحاة، وبموارد الاستعمال، ويعتذر عن الموارد التي استعملت ولا مفهوم لها، كما أن منكره يستدل بها (1) إلى غير ذلك من الشواهد التي تطلع عليها إذا طلبتها.
والأولى أن يكون الثاني محلا للبحث على نسق سائر المفاهيم، فمفهوم الوصف لا مجال فيه لتوهم أن الصفة موضوعة للانتفاء عند الانتفاء، أو نحو ذلك.
وإنما مدعى المدعي للمفهوم أن تخصيص الصفة بالذكر له ظهور في ذلك فكذلك تعليق الحكم على أمر والاقتصار عليه.
ومنكر المفهوم يمنع الظهور، ويدعي عدم المنافاة بين ثبوت الجزاء بما علق عليه وبين ثبوته بغيره كما يظهر من استشهاد الشريف المرتضى على إنكار

(1) أي الموارد التي لا مفهوم لها.
417

المفهوم بقوله تعالى: واستشهدوا شهيدين من رجالكم (1) مقررا ذلك بأن تأثير الشرط إنما هو تعليق الحكم به، وليس يمنع أن يخلفه وينوب عنه شرط آخر يجري مجراه، ولا يخرج عن
كونه شرطا (2).
وبالجملة، إن ثبت مفهوم للشرط فليس لوضع (إن) وسائر حروف الشرط لذلك، بل يثبت من التعليق الذي دلت أداته عليه، فالأدوات تدل على التعليق، والتعليق يدل على المفهوم، ولا يختص فهم التعليق بها، بل يفهم بأي لفظ، وبأي دليل ثبت يجري فيه النزاع.
ولذا يجري في الظروف المبنية والأسماء المتضمنة لمعنى الشرط نحو:
(متى) و (كلما) وفي لفظ الشرط وما اشتق منه، كقولك: الشرط في إكرام (زيد) مجيئه، أو مشروط إكرامه به، وفيما ثبت من جهة قيام شاهد عليه، كما في قولك:
الذي يزورني فله درهم - راجع الهداية (3) - بل يثبت حيث لا لفظ كما في إشارة الأخرس.
إذا تقرر ذلك، نقول: إنه لا شك في ظهور التعليق في اختصاص الحكم إذا لم توجد نكتة صالحة لدفع اللغو والقبح عن كلام المتكلم، ولم يقم [دليل] قاطع ينافي الظاهر إذ التخصيص بالشرط لا بد له من باعث صالح يدعو إليه.
ألا ترى أنه من القبيح السمج: اقتل ولدي إن شرب الماء أو تنفس

(1) البقرة: 282.
(2) الذريعة إلى أصول الشريعة، القسم الأول: 406.
(3) هداية المسترشدين: 287.
418

بالهواء... أو قولك: إذا كان المسلم طويلا فلا تقتله، بخلاف قولك: أكرم زيدا إن أكرمك.
واحتمال وجود نكتة أخرى لا يضر بالظهور كما لا يضر احتمال وجود القرينة الصارفة بظهور اللفظ في المعنى الحقيقي فيدفع هنا بالأصل كما يدفع به هناك.
ثم إن التعليق يدل على الملازمة بين الشرط والجزاء بل هو معنى التعليق، فما في عدة من الكتب من أنه لا يدل إلا على الثبوت عند الثبوت ولو من باب المقارنة الاتفاقية، فاسد.
وللملازمة - كما تعلم - أقسام، والظاهر الغالب كونها من قبيل سببية الشرط للجزاء ما لم تكن قرينة على خلافها، وكون الشرط قابلا للسببية.
وبالغ جماعة فجعلوها ظاهرة في العلة التامة المنحصرة.
ويكفي في فساده القطع بأن من قال: إن أكرمك فأكرمه، وقال بعده: إن زارك فأكرمه. ليس لكلامه الثاني أدنى مخالفة لكلامه الأول.
وأيضا لا شك في صحة سؤال السامع، وقوله: إن لم يزرني ولم يكرمني، ولكن أمرني عالم بإكرامه، فهل أكرمه أم لا؟ إلى غير ذلك من الشواهد والنظائر (1).
والأمر في هذا المفهوم بين إفراط وتفريط، فمن غال فيه فأخرجه عن

(1) نعم ربما يكون في مقام الحصر. (منه قدس سره).
419

حد المفهوم، وجعله من أقسام المنطوق، ومن منكر له أصلا، والحق الوسط بين القولين وهو ما عرفناك.
هذا خلاصة ما ينبغي أن يقال في المقام، ويتحمله هذا الفن ويناسبه، ويغنيك عما في مطولات الكتب.
ولا يخفى عليك أن هذا المفهوم يختلف باختلاف الموارد اختلافا بينا، فإنه قد يقوى حتى يباري المنطوق، وربما أربي عليه، وربما يضعف حتى يفوقه مفهوم اللقب، فلا بد للفقيه من ملاحظة مناسبة الأحكام مع الموضوعات، وربما يستفاد من غيره من الأدلة وغير ذلك مما لا يخفى على ممارسي الفقه وأولي ذوقه، والله الهادي.
وقد استبان مما قررناه أمران:
أولهما: أن أدوات الشرط كثيرا ما تستعمل في غير التعليق، وبحث الأصولي إنما يقع بعد ثبوت استعمالها فيه.
وأما البحث عن الموارد التي لم تستعمل فيها والاعتذار عنها فليس من وظيفة فنه، بل هو فريضة علماء اللغة والبلاغة، فما تجده في مطولات الكتب من الإسهاب فيها فهو استطراد بأكثر ما يتحمله هذا الفن.
ثانيهما: أن استدلال منكري المفهوم بتلك الموارد مما لا وجه له بعد ما عرفت أن المحققين منهم لا ينكرون صحة الاستعمال في غير التعليق، ولا أن التعليق قد يكون لغرض آخر غير إفادة المفهوم، وإنما يقولون بظهور الجملة الشرطية في المفهوم مع عدم القرينة، وفقدان النكتة الصالحة للتعليق، غيره.
فاستقصاء المحدث الحر الآيات التي لا مفهوم للشرط فيها التي
420

بزعمه مائة وعشرين آية، وقوله: إن الآيات التي اعتبرت فيها مفهوم الشرط لا تبلغ ذلك (1)، وجعل ذلك دليلا على عدم حجيته (2)، فتعب يذهب إدراج الرياح (3).
(إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء)
فهو على قسمين:
فإن علم استقلال كل من الشروط في التأثير، وقابلية الجزاء للتعدد، فلا ينبغي الإشكال في تكرر الجزاء بتكرر الشرط نحو: الصوم في كفارة الإفطار والظهار.
كما لا إشكال في عدم التكرر إذا علم عدم قابليته له كالقتل (4)
وإن علم الاستقلال وجهل حال قابلية الجزاء للتعدد فهو مسألة تداخل الأسباب - المعروفة - وقد عرفت حكمها بحسب الأصول في مسألة اجتماع

(1) انظر الفوائد الطوسية: 291، للشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي (قدس سره).
(2) لا أدري كيف يستدل هذا المحدث بآيات المصحف الكريم - وهو لا يجوز الاستدلال بها إلا بعد ورود تفسيرها عن المعصومين عليهم السلام وقد عقد لذلك بابا في كتاب وسائل الشيعة - إلا أن يردف كل آية برواية (منه قدس سره).
وانظر وسائل الشيعة 18: 20، الباب 6 من أبواب صفات القاضي.
(3) مثل من الأمثال ذكره الميداني في مجمع الأمثال 1: 279 - 1466، وأصله: ذهب دمه درج الرياح، يضرب في الدم إذا كان هدرا لا طالب له.
(4) عنوان المسألة الأولى في (الكفاية) هكذا: «إذا تعدد الشرط مثل: إذا خفي الجدران فقصر» وفي المسألة الثانية: «إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فلا إشكال على الوجه الثالث».
وفي التقريرات عنوان الأولى [هكذا]: «لو تعدد الشرط فلا بد من الخروج عن الظاهر» والثانية:
«إذا تعددت الأسباب واتحد الجزاء» (منه قدس سره).
وانظر كفاية الأصول: 201 و 202، مطارح الأنظار: 174 - 175.
421

الأمر والنهي.
وأما بحسب الاستظهار من اللفظ، فالذي يظهر من الشيخ موافقة المشهور أعني عدم التداخل (1)، وحاصل ما أفاده: أن مقتضى أدلة السببية كون كل فرد من أفراد طبيعة السبب سببا مستقلا سواء تقدمه فرد آخر، أو قارنه، أم لا، فإذا اجتمعت الأسباب، فإن أثر كل منها أثره فذاك، وإلا لزم تقييد موضوع الشرط بعدم تقدم سبب آخر عليه أو مقارنته معه.
وأورد عليه صاحبنا - أيده الله - بما بعضه بلفظه:
«منع كون الشرط - أعني ما جعل تلو (إن) وأخواتها - علة تامة، بل إنما يستفاد منه أن الجزاء يوجد في ظرف وجود الشرط مع ارتباط بين الشرط والجزاء على الترتب سواء كان الشرط علة تامة للجزاء أم كان أحد أجزاء العلة التامة، فيكفي في صدق القضية الشرطية المتعددة جزاؤها حقيقة واحدة - تحقق تلك الحقيقة مرة واحدة».
ولا يخفى عدم توقف ما اختاره الشيخ على ظهور الشرط في العلية التامة، بل يتم بصرف الارتباط، فضلا عن العلية الناقصة، لأنه جعل مبنى كلامه على كون الأسباب الشرعية كالأسباب العادية والمؤثرات الخارجية، وأن المتعارف فيها أن كل طبيعة تكون في الخارج مؤثرة يؤثر كل فرد منها، وأن القضية الشرطية يفهم منها أمران:
أحدهما: العلة الفعلية، وثانيهما: ما ارتكز في أذهان العرف من كون كل وجود لهذا الشرط علة فعلية، وكذا في وجود سائر الشرائط إذا اجتمع بعضها مع بعض.

(1) مطارح الأنظار: 175.
422

فلا يكفي في جوابه مجرد كفاية صدق القضية الشرطية لأن المستدل لم يستند إلى صرف اقتضاء الشرط التعدد، بل أتمه بفهم العرف، وأن الأسباب الشرعية كالأسباب العادية، وإنكار كلا الأمرين خلاف الإنصاف.
ولا يفهم أحد من قول القائل: إن زرتني أكرمتك أو أتحفتك، إلا تعدد الجزاء بتكرر الشرط، ومثل هذا الظهور موجود في سائر القضايا الشرطية، نحو:
تجب الكفارة على من حلف كاذبا وحنث نذرا.
وبهذا يظهر أن ما ادعاه الشيخ لا يتوقف على سببية الشرط وإن جعلها مفروض كلامه، لأن هذا الظهور حاصل ولو كان الشرط لمطلق الارتباط، ومقتضاه حدوث الجزاء بحدوث كل فرد من أفراد الشرط.
وأما كون الأسباب الشرعية كسائر الأسباب فمما لا يستطاع إنكاره لأن وظيفة الشارع بيان سببية الشرط ومانعيته لا بيان مقتضياته، وعليه الجري في سائر أبواب الفقه، كما في كيفية التطهير والتنجيس وغيرهما.
هذا، والمسألة - كما تعلم - مما طال فيه الكلام، واتسع في ميدانها المجال لجياد أفكار العلماء، وملأت صفحات كثيرة من دفاتر الفقه وأصوله.
وأرى هذا الرد من البيان كافيا إذا أضفت إليه ما مر بك في مسألة الاجتماع.
والمهم في هذا الباب معرفة المسببات، وأنها من أي الأقسام، وبعدها يسهل الصعب ويتضح الطريق.
فإن من مواردها ما يعلم اختلاف حقائق مسبباتها كصوم الكفارة لإفطار الصوم والظهار والنذر وحنثه.
ومنها: ما يعلم اتحادها كالحدث المسبب عن النوم والبول.
وعدم التداخل في الأول واضح إلا أن يقوم - في بعض مواردها - الدليل على كفاية مسبب واحد، فيخرج حينئذ عن باب تداخل الأسباب، ويكون من
423

باب تداخل المسببات.
وواضح تداخلها في الثاني إذ الحدث معناه عدم الطهارة والعدم لا يتكرر، أو أمر وجودي، والشيء الواحد لا يوجد مرتين.
ومنها: ما يلتبس فيه الحال كحدث الحيض مع الجنابة، وحدث الجنابة مع حدث مس الميت.
ولعل فيها ما يتحد مع غيره ويختلف معه شدة وضعفا كما هو بعض الوجوه في الحدثين: الأكبر والأصغر.
وهذه الموارد لا يمكن درجها تحت قاعدة واحدة، وليس لها قانون كلي يعرف به أنه من أي الأقسام فيكون بيانه من وظيفة هذا العلم، فلا بد للفقيه من ملاحظة الأدلة ومناسبات الموارد.
وإذا تعدد الشرط واتحد الجزاء ولم يعلم استقلال الشروط وعدمه في التأثير، نحو: إذا خفي الأذان فقصر، وإذا خفيت الجدران فقصر، ففي التقريرات: إنه لا بد من الخروج عن الظاهر، وذلك بأحد أمور:
1 - تخصيص مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر.
2 - رفع اليد عن المفهوم فيهما.
3 - تقييد إطلاق الشرط في كل منهما بالآخر.
4 - إبقاء إحدى الجملتين منطوقا ومفهوما.
5 - إرادة القدر المشترك بين الشروط (1).
وجميع هذه الوجوه مبنية على ثبوت المفهوم لكل من الشروط، ولكن المفهوم في المثال وأمثاله ضعيف للغاية، بل لا مفهوم له، فهو نحو قولك: إذا نشزت الزوج فطلقها وإذا.. (2). أو شاخت فطلقها، ومن المعلوم أن المراد سببية

(1) مطارح الأنظار: 174 - 175.
(2) هنا في المخطوطة كلمة لم نتحصل لها معنى.
424

كل من الأمور الثلاثة للطلاق، ولا يخطر ببال أحد من أهل اللسان المفهوم فضلا عن معارضته مع المنطوق، فخفاء الجدران والأذان سببان للتقصير والإفطار على نحو ما سمعت.
وهنا نكتة طريفة وهي: أن السفر لما كان لا يتحقق مفهومه إلا بقصد مسافة بعيدة وبالبعد عن المكان الذي سافر عنه جعل الشارع حدا للمسافة المقصودة وهو الأربعة وجعل حدا للبعد عن المحل أو لصدق الخروج، ولم يجعله بالكم لاختلاف البلدان والأمكنة في صدق البعد، كما يظهر إن قايست بين مدينة عظيمة ذات توابع، وبين قرية مغفرة (1) مسورة، بل جعل معرفته بحاستي السمع والبصر الذين هما المعتبران عرفا في المقام وأمثاله.
والحاجة شديدة إلى جعلهما معا، ويكاد لا يغني أحدهما عن الآخر، إذ السفر كثيرا ما يكون في غير وقت الأذان، أو عن بلد لا يؤذن فيه، وكذلك قد يكون حاجز يمنع عن مشاهدة الجدران كالأكم (2) المعترضة في الطريق.
وأيضا قد يكون المسافر أصم فلا يجديه حد الأذان، أو أكمه (3) فلا ينفعه حد خفاء الجدران، ولازم ذلك كفاية كل من الأمرين على حذو حصول أحد الحدين للكر، وإحدى العلامات للبلوغ.
ومن الغريب عدول جماعة عن هذا الحق الأبلج (4) إلى تكلف احتمالات بعيدة لظنهم أن التحديد بأمرين مختلفين غير معقول، وصرح بعضهم بأن مآله إلى اجتماع النقيضين.
مع أنهم يرون تحديد الكر بالأمرين من الوزن والمساحة، بل الإشكال

(1) التخفير: التسوير. لسان العرب 4: 253 (خفر).
(2) أكم جمع، مفردها: أكمة _ محركة _: تل صغير. مجمع البحرين 6: 8 (أكم).
(3) الأكمه: الذي يولد أعمى. الصحاح 6: 2247 (كمه).
(4) يقال: الحق أبلج إذا تضح. الصحاح 1: 300 (بلج).
425

فيه أعظم لأن الاختلاف بينهما دائمي وهو أفحش بكثير من الاختلاف بين حدي الترخص.
وطريق الحل في المقامين واحد، وهو أن المحال كون الشيء بحسب الواقع محدودا بحدين مختلفين وهو الكثير أو الكر هناك، وكذلك الخروج عن سن الطفولة والخروج هنا (1)، ولكن جعل لمعرفتهما طريقين وأيهما حصل لغا الآخر.
وجعل العلامات المختلفة لأمر واحد شائع في العرف والشرع، ولا أدري ما الفرق بين المقام وبين علائم البلوغ على ما هي عليها من التفاوت الكثير الذي قد يفصل بينها سنون عديدة؟ وبالجملة لم يظهر لي وجه لتخصيص علامتي حد الترخص بهذا البحث دون أمثاله.
(مفهوم الوصف)
والمراد منه هنا كل أمر زائد على الذات قد أخذ في موضوع الحكم فهو أعم من الوصف عند النحويين.
وقد يقال بشموله جميع القيود المتعلقة بالكلام كالزمان والمكان ونحوهما.
ويدخل فيه ما يسمى بالوصف الضمني نحو قوله عليه السلام: (لئن يمتلئ بطن الرجل قيحا خير من أن يمتلئ شعرا) (2)
.

(1) أي الخروج عن البلد.
(2) صحيح البخاري 8: 45، صحيح مسلم 4: 1769 / 2257 - 2259، سنن أبي داود 4: 302 / 5009.
سنن الترمذي 5: 140 و 141 / 2851 و 2852، سنن ابن ماجة 2: 1236 و 1237 / 3759 و 3760،
سنن الدارمي 2: 297، مسند أحمد 1: 175 و 177 و 181 و 2: 39 و 288 و 331 و 391 و 478 و 480 و 3: 8 و 41.
426

والحال في حجية هذا المفهوم يظهر مما سبق في أول البحث من معنى المفهوم ووجه حجيته، ومما بيناه في مفهوم الشرط، إذ في الوصف لطيف إشارة إلى العلية.
وملخص القول فيه: أن التخصيص بأمر زائد على الذات لا بد فيه من الفائدة، ومع القطع بعدم شيء منها إلا النفي عن غير الموصوف، يوجب القطع به، ويكون اللفظ صريحا فيه، كما في قولك: صل خلف العادل، ولا تجالس الجاهل، ومع احتماله واحتمال غيره يكون ظاهرا فيه لأنه أظهر الفوائد وأشهرها وأكثرها، ومجرد احتمال غيره لا يضر بالظهور كما لا يضر احتمال القرينة المعاندة بأصالة الحقيقة.
والمفهوم بهذا المعنى وبهذا الوجه مما لا ينبغي أن يخفى على أحد، ومن أنكره في فن الأصول فلا شك أنه يعمل به في سائر أبواب الفقه، ويجري عليه في سائر محاوراته، بل ينكر على من تفوه بالوصف مع عدم الاختصاص به وعدم الفائدة، كما في المثالين المعروفين وهما:
إن الإنسان الأبيض لا يعلم الغيب، والإنسان الأسود إذا غمض عينيه لا يبصر.
ولما قيل لأبي عبيدة أو تلميذه أبو عبيد في قوله صلى الله عليه وآله: (لئن يمتلئ بطن الرجل قيحا خير من أن يمتلئ شعرا) (1): إن المراد من الشعر ما كان في هجاء رسول الله صلى الله عليه وآله.
قال: «لو كان ذلك المراد لم يكن لتعليق ذلك بالكثرة وامتلاء الجوف

(1) تقدمت الإشارة إلى مصادره في الصحفة 426 والهامش (2).
427

معنى فإن القليل منه ككثيره» (1).
وليس استدلالنا بفهمهما من حيث إنهما من أهل اللغة كما صنعه غيرنا فأورد عليهما بأنهما مجتهدان في ذلك، ولا يكون اجتهادهما حجة على غيرهما، ولو سلم كون ذلك نقلا عن أهل اللغة فهو من نقل الآحاد.
وهذا الاستدلال والجواب كما يقال في المثل: أساء سمعا فأساء إجابة (2)، لأنك قد عرفت من الذي قررناه أن المفهوم إنما ينافي من ناحية المعاني لا الألفاظ، والدال عليه نفس التخصيص لا اللفظ الدال عليه، ولهذا لا يختص بهذه اللغة المباركة، بل يجري في سائر اللغات، بل يفهم ولا لفظ كما في الإشارة إذا فهم منها التخصيص، بل من حيث إنهما من أهل العرف.
وكذلك فهم القاسم بن سلام (3) من قوله صلى الله عليه وآله: (لي (4) الواجد يحل عقوبته) (5) أن لي غير الواجد لا يحل عقوبته، ومن قوله صلى الله عليه وآله: (مطل الغني ظلم) (6) أن مطل المعدم ليس بظلم (7)، إلى غير ذلك مما لو استقصيناه ملأت أوراقا بل دفاتر.
وإن وجد المنكر للمفهوم سبيلا للمقال في استدلال مثبتيه بنحو: اشتر لي عبدا أسود. ونحوه، فقال: إن عدم شراء غير الأسود إنما هو لعدم شمول

(1) حكاه في الفصول الغروية: 152 وهداية المسترشدين: 298.
(2) راجع مجمع الأمثال للميداني 1: 330 / 1773.
(3) أبو عبيد القاسم بن سلام أحد أئمة اللغة والأدب، من تصانيفه: الأمثال السائرة، الناسخ والمنسوخ، فضائل القرآن. توفي سنة 224 بمكة. الفهرست لابن النديم: 78، معجم المؤلفين 8: 101 - 102.
(4) اللي: المطل. النهاية لابن الأثير 4: 280.
(5) صحيح البخاري 3: 155، سنن أبي داود 3: 313 / 3628، سنن النسائي 7: 316 - 317، سنن ابن ماجة 2: 811 / 2427، مسند أحمد 4: 222 و 388 و 389، مستدرك الحاكم 4: 102.
(6) صحيح البخاري 3: 155 و 123، صحيح مسلم 3: 1197 / 1564، موطأ مالك 2: 674 / 84.
(7) غريب الحديث - للهروي - 2: 173 - 175.
428

الوكالة [له] لا لدلالة العبارة [عليه] فلا تجده في مثل: توضأ بماء مطلق طاهر، ولا تصل في جلد حيوان لا يؤكل لحمه، وغير ذلك.
أو بعد هذا كله يبقى موضع لقول صاحب الكفاية عند استدلاله على النفي بعدم ثبوت الوضع، وعدم لزوم اللغوية بدونه لعدم انحصار الفائدة به، وعدم قرينة أخرى ملازمة له، وعليته فيما إذا استفيدت غير مقتضية له؟ (1). وجميع ذلك بمعزل عن القول بالمفهوم بالتقرير المتقدم.
ولا فرق فيما قررناه بين الوصف المعتمد على الموصوف وبين غيره ضرورة عدم الفرق مفادا بين قولك: لا تأتمن الخائن. وبين قولك: لا [تأتمن] الرجل الخائن، ولا شك أن السامع يفهم من قولك: أكرم العالم، ما يفهمه من قولك: أكرم الرجل العالم.
والسر فيه: أن الذات مأخوذة في المشتقات - إجمالا - على نحو لا ينافي بساطة المفهوم، كما سبق بيانه في موضعه.
ولا فرق بين المعتمد وغيره إلا ذكرها في الأول تفصيلا وفي الثاني إجمالا.
والعدول عن الذات المجردة إلى الموصوفة في جعلها موضوع الحكم هو الذي يوجب المفهوم مما نقل عن بعضهم من التفصيل، ضعيف جدا.
ومن الغريب تخصيص بعض أعاظم العصر موضع البحث بالوصف المعتمد، والحكم بأن التفصيل المذكور ليس تفصيلا في محل البحث، وإنما هو اختيار الدلالة على المفهوم فيه مطلقا.
ومما لم أقع على محصل منه قوله في بيانه:
«وإلا لكان الجوامد إذا تعلق بها حكم دالة على المفهوم أيضا لأنه لا فارق بينهما إلا في كون المبدأ في أحدهما جعليا وفي الآخر غير جعلي، وهذا لا

(1) كفاية الأصول 206.
429

يكون فارقا في الدلالة على المفهوم وعدمها.
بل يمكن أن يقال: إن كون المبدأ الجوهري مناط الحكم بحيث يرتفع عند عدمه أولى من المبدأ العرضي» (1) إلى آخره.
وقد عرفت أن الموجب للمفهوم هو العدول عن الذات المجردة إلى الذات المتصفة، وأن قولك: جئني بعالم، بدلا عن قولك: جئني برجل. لا بد فيه من نكتة، والمفهوم أظهرها عند فقدان غيره.
فما ذكره في النقض بالمبدأ الجوهري خارج عن محل البحث، بل لا يرتبط به أصلا.
ثم إن الشيخ الإمام ذكر عدة تفاصيل.
منها: التفصيل بين الأوقاف والنذور والأيمان ونحوها، فيعتبر مفهوم الوصف في أمثال تلك المقامات، وغير ذلك فلا يعتبر.
وقال: «إنه يظهر القول به من كلام الشيخ الشهيد الثاني حيث قال في مفهومي الشرط والوصف: إنه لا إشكال في دلالتهما في مثل ما ذكر، كما إذا قال:
أوقفت هذا على أولادي الفقراء. أو إن كانوا فقراء، ونحو ذلك».
ثم قال طاب ثراه: «ويرد عليه أن إثبات المفهوم في تلك الموارد إنما هو لاختصاص الإنشاء بالموصوف بالوصف المفروض، فينتفي في غيره، إذ ليس للكلام الإنشائي خارج يطابقه أو لا يطابقه، وإنما يوجد مدلوله بنفس هذا الإنشاء المخصوص، فإذا اختص مورده بالقيد المخصوص انتفى عن غيره، وهذا بخلاف تعليق الحكم الشرعي على الوصف لكونه أمرا واقعيا ثابتا في نفس الأمر والكلام مسوق لبيانه فيجري فيه الخلاف، فما ذكره من الأمثلة خارج عن محله.

(1) الميرزا محمد حسين الغروي النائيني. انظر: أجود التقريرات 1: 433 - 434.
430

ويشهد لذلك أنه لو قيد شيئا من ذلك بالألقاب قطعنا بانتفائه في غيرها كما لو وقف على زيد، أو على المسجد، أو أوصى لعمرو، أو وكله، أو باع داره، أو قيد سائر العقود والإيقاعات ببعض الألقاب إلى غير ذلك، فإنه لا يشك في انتفائها في غير مواردها، مع دعوى الوفاق على عدم حجية مفهوم اللقب.
ولو فرض القول بحجيته فدلالته ظنية، ودلالة الكلام على ما ذكر قطعية فلا ريب في خروجه عن المفاهيم.
ويدل على ذلك أنه لا يتصور المنافاة بين إيقاع المعاملة على الوجه المختص ببعض الأوصاف والألقاب وإيقاعها أيضا على الوجه الآخر ولو في زمان واحد، فلو دل على الانتفاء عند الانتفاء لزم فهم المنافاة بين العقدين، وفساده ظاهر للقطع بعدم تعقل المنافاة بين بيع الدار وبين بيع العقار، ولا بين بيع الدار الموصوفة ببعض الأوصاف وبين بيع الدار الأخرى.
وكذا الحال في الوقف والوكالة والوصية والنذر وسائر العقود والإيقاعات وغيرها فليس ذلك من المفهوم الذي هو على تقدير ثبوته من أضعف الدلالات بل من الوجه الذي ذكرناه كما لا يخفى، وقد مر التنبيه عليه في مفهوم الشرط» انتهى بتمامه ونصه.
وأراد بقوله: وقد مر التنبيه عليه، ما ذكره هناك بعد الجواب عن إشكال هو: أن الشرط إنما وقع بالنسبة إلى الإنشاء الحاصل بذلك الكلام، فأقصى ما تفيده الشرطية انتفاء ذلك بانتفائه، وأين ذلك من الدلالة على انتفاء الوجوب مطلقا مثلا؟ أقول: لا شك في جميع ما أفاده طاب ثراه، إذ على فرض تمامية الإنشاء الخاص وحصول المنشأ واستقرار الوصية والوقف وغيرهما لشخص معين أو لعنوان خاص لا يبقى محل للغير حتى يدل عليه المفهوم إذ الشيء الواحد لا يتعلق به وصيتان عرضيتان ولا يوقف مرتين ولا يكون لمالكين في وقت واحد وهكذا.
431

ولكن قد عرفت من تضاعيف ما سلف أن المثبت للمفهوم لا يرى تقييد الذات بشرط أو صفة أو غيرهما موجبا لظهوره في اختصاص الحكم بالذات المقيدة، وكونه تمام الموضوع للحكم.
ولا يرى تقييد اللفظ موجبا لتقييد المعنى، ولا اختصاص الإنشاء في اللفظ موجبا لتقييد الإنشاء واقعا، ويجعل التقييد بأحد هذه الأمور في مرتبة الاستعمال فقط.
ومنكر المفهوم يرى خلاف ذلك، ويرى تقييد اللفظ موجبا لتقييد المراد، ويدعي ظهوره في أن المذكور عام الموضوع، وهذا ظاهر إذا راجعت مجموع ما استدل به كل من الطائفتين.
ويحسبك ما قرره هذا الإمام بنفسه في مواضع متفرقة في هذا البحث وغيره، ولا يقول أحد - فيما أعلم - بوجود إنشاءين أحدهما للمفهوم والآخر للمنطوق، وتكون النتيجة حصول المنشأ بالإنشاء وعدم بقاء محل للآخر.
وعلى ذلك يكون النزاع في أن موضوع الحكم من الوقف وغيره بحسب الواقع هل نفي الذات المطلقة أو المقيدة؟ فعلى الأول يثبت الحكم في الوقف لمطلق الأولاد، ولا يوجب تقييده بالوصف والشرط تقييدا للوقف، وعلى الثاني يخرج غير الموصوفين.
ولا فرق في هذه الجهة بين المفاهيم الواردة في الأحكام الكلية والعرف، وبين غيرها، وما قولك: أعن الضعفاء وأغن الفقراء، إلا كقولك: وقفت الدار على أولادي الضعفاء أو الفقراء.
فعلى القول بالمفهوم في الوقف وأضرابه يجعل ذلك اعترافا من الواقف بالاختصاص، ويقضي به الحاكم إذا ترافع إليه غير المذكورين معهم بخلاف القول بعدمه، فلا يكون التخصيص اعترافا من الواقف، ولا حجة للمذكورين في الوقف.
432

فعلى هذا لا يرد شيء مما أورده على الشهيد رحمه الله ولا يبقى موضع للتأمل إلا في وجه الفرق بين المقامين، وهذا أمر آخر.
ولعل الوجه فيه أن في الأحكام الكلية وغيرها يمكن أن يقوم سبب آخر أو شرط كذلك مقام المذكور لحكم مماثل كقيام المجيء مقام الإكرام في قوليك:
أكرم زيدا إن أكرمك، و [أكرم زيدا] إن جاءك، بخلاف المقام لما ذكروه من عدم قابلية المحل.
أو الوجه أن في الأوقاف والوصايا ونحوهما توجد قرائن قطعية على أن الواقف والموصي في مقام بيان تمام الموضوع، ومعه لا يبقى موقع للشك.
ويكفي لدعوى الاتفاق أنه لو أنكر الواقف الاختصاص، أو ادعى غير المذكورين الإطلاق لا يسمع منهم ذلك سواء كان منكرا للمفهوم أو مثبتا له.
وبهذا تجد السبيل إلى حل الإشكال الذي ابتدأ به وتبعه فيه كل من تأخر عنه واختلفوا في تقريره، بل أوردوا على الشيخ الإمام ما لا يرد عليه، كما يأتيك إجمال القول فيه عند التعرض لكلام أخيه العلامة في المبحث الآتي، وتفصيله - إن قدر الله وشاء - عند التعرض للتنبيهات المتعلقة بالمفاهيم.
وفذلكة القول: إن هذا الإشكال إنما يتوجه على من يرى القول بالمفهوم من باب إنشاء آخر لموضوع آخر، ولا يتوجه على ما علمت من إنشاء واحد.
بقي شيء وهو أن جماعة شرطوا في مفهوم الوصف أن لا يكون الوصف واردا مورد الغالب كقوله تعالى: وربائبكم اللاتي في حجوركم (1) (2)

(1) النساء: 23.
(2) ها هنا جف قلمه الشريف في مبحث المفاهيم ولم يطبع هذا المبحث في الطبع الحجري لهذا الكتاب.
433

مباحث الأدلة العقلية
435

بسم الله الرحمن الرحيم
نبدأ بعد الحمد لله والصلاة على محمد وآله عليهم السلام، بكلام الشيخ الأعظم - طاب ثراه - تبركا وتأدبا، قال:
«اعلم أن المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي فإما يحصل له الشك فيه أو القطع أو الظن» (1)
وقال الشيخ الأستاذ - طاب ثراه - في الحاشية ما لفظه: «مراده من المكلف من وضع عليه القلم من البالغ العاقل، لا خصوص من تنجز عليه التكليف، وإلا لما صح جعله مقسما لما ذكر من الأقسام، إذ بينها من لم يكن عليه تكليف أو لم يتنجز عليه تكليف لو كان» (2).
أقول: ومع ذلك لا يسلم من الإشكال، إذ المراهق الشاك في البلوغ لا بد له من بناء عمله على أحد الأصول الآتية، كاستصحاب عدم البلوغ، أو بقاء الصغر، بل القاطع بعدم البلوغ إذا شك في ثبوت بعض التكاليف عليه،

(1) فرائد الأصول: 2.
(2) حاشية فرائد الأصول: 1.
437

كالاستيذان في العورات الثلاث (1)، على ما ذهب غير واحد إلى وجوبه عليه، وكالواجبات العقلية ومحرماتها من المعرفة وقتل النفس وغيرهما، ولا شك أنه مع الشك في شيء من ذلك لا بد له من إجراء أحد الأصول العملية، أو متابعة القطع أو الظن المعتبر إذا حصل أحدهما له من غير فرق بينه وبين البالغ أصلا، فالأولى أن يكون المقسم من كان معرضا للتكليف.
ثم المراد من المكلف ليس خصوص المجتهد كما توهم (2)، نظرا إلى توقف كثير من الأحكام الآتية على معرفة الأدلة التي لاحظ للمقلد منها، وعلى الفحص الذي تقصر يده عنه.
ويدفعه: أن حجية الخبر - مثلا - لا معنى لها إلا إتيان ما دل على وجوبه أو ترك ما دل على حرمته، وكذلك الاستصحاب، لا معنى لحجيته إلا الجري على طبق الحالة السابقة، ويتمكن منهما المقلد تمكن المجتهد، ولا فرق إلا عدم تمكن المقلد من الاستظهار منه بنفسه، وعدم قدرته على مباشرة الفحص عن الدليل الرافع للشك، فيقوم استظهار المجتهد مقام استظهاره، وفحصه مقام فحصه، وبعد ذلك يكون كل منهما عاملا بهذا الأحكام، عملهما بالأحكام الأولية.
ونظير ذلك ما لو قال الملك للرعية: اعملوا بقول الوزير، واعتمدوا عليه في أحكامي، وكان فيهم من لا يعرف لغة الوزير، فإذا ترجم العارف بلغته كلامه للجاهلين بها، فقد تساوى الجميع في معرفة قوله.
وإذا أمر بالفحص عن متاع في السوق، فإن للفحص طريقين: المباشرة بالنفس وإرسال الثقة لذلك، فإذا أخبر بعدم وجوده، كان المرسل متفحصا حقيقة، وكذلك المقلد مع المجتهد، يكون بمعرفته بالدليل عارفا وبفحصه متفحصا.

(1) إشارة إلى الآية 58 من سورة النور.
(2) ذهب اليه الميرزا محمد حسين الغروي النائيني. انظر: فوائد الأصول 3: 3.
438

وهذا هو الدليل الذي ينبغي الاعتماد عليه في أصل جواز التقليد، وفي الجواب عما يعترض عليه المنكرون له، إذ العمدة فيما ذكروه بناء العقلاء واستقرار سيرتهم على الرجوع في كل صنعة
إلى صالح أهلها، وما ذاك إلا لما عرفناك به من أنهم يعدون أنفسهم عالمين بعلم من يرجعون إليه، لا أنهم يتعبدون برأيه ويرونه حجة عليهم، فالمريض الذي يقدم على الدواء الذي يصفه الطبيب، لا يرى فرقا بين نفسه وبين طبيبه إلا أن الطبيب أراحه من التعب والعناء وكفاه مئونة طلب النافع من الدواء، ويكون اعتماده على تجارب طبيبه ومنقولاته، كاعتماد الطبيب على المتقدمين عليه من أهل فنه، فكذلك المقلد بالنسبة إلى الفقيه، والفقيه إلى الصالحين من أسلافه، ولا تجد بارعا في الفقه مهما بلغ فيه وبالغ في الاجتهاد إلا وهو يقلد غيره بهذا المعنى من التقليد في كثير من المقدمات، من مفسر، ومحدث، ولغوي، ونحوي.
وفي الشرع أحكام كثيرة متوقفة على الفحص، ولا أظن أحدا يفرق بين المباشرة بالنفس وغيرها.
وإذا تأملت لم تجد فرقا بينه فيها وبين الفحص اللازم في الأحكام، إلا احتياج الثاني إلى عدة من اقسامه، بخلاف الأول، وهذا معنى لا يسع المنكر للاجتهاد إنكاره إن أنصف، وأقصى ما عنده فيه تغيير اللفظ والمؤاخذة عليه، والتعبير عن المجتهد بالعالم، وعن التقليد بالرجوع إلى العالم، كما أن إثبات حجية الرأي ضرب من المحال، وفي مبحث الاجتهاد تفصيل الحال.
هذا، ولازم تخصيص الأصول بالمجتهد عدم جريان الأصول في الشبهة الموضوعية، إذ الشك المعتبر فيها شك المقلد قطعا، والفحص فيما يلزم فيه الفحص وظيفته، وموارد كثير منها هي الموضوعية، فيلزم خروجها عن الأدلة عليها أو اجتماع الاختصاص والاشتراك في كلام واحد.
439

وفي الحاشية: «إن القيد - يعني الالتفات - (1) على ما هو الأصل فيه يكون احترازيا لا توضيحيا، ذكر توطئة لذكر الأقسام» (2).
أقول: إن صح أن يسمى مثله احترازيا، فلا شك أنه ليس من قبيل القيدين المذكورين - الحكم والشرعي - وأمثالهما، بل هو من قبيل قولهم: الخطان الملتقيان إذا أحدثا زاوية، فإما أن تكون قائمة أو حادة أو منفرجة، فكما أن قيد إحداث الزاوية لم يؤت بها إلا لبيان توقف وجود الأقسام على وجودها، فكذلك الالتفات لم يذكر إلا لتوقف وجود الشك وصاحبيه عليه، ولبيان أن المكلف لا يكون معرضا للأقسام الثلاثة إلا إذا كان ملتفتا.
وفي الحاشية أيضا ما لفظه: «ومراده من الحكم الشرعي الثابت للعناوين الكلية للأفعال الذي من شأنه أن يؤخذ من الشارع لا ما كان لمصاديقها من مجرد تطبيقها عليها» (3).
أقول: الأقسام الثلاثة مشتركة بين الأحكام الكلية والجزئية، وأحكامها كذلك أيضا، وقد عقد الشيخ في كل من الأصول الثلاثة فصلا خاصا للشبهة الموضوعية، وذكر القول بل الأقوال في التفصيل بين الاستصحاب في الأحكام الكلية وبين غيرها في عداد الأقوال، ولازم هذا التخصيص أن يكون جميع ذلك من باب الاستطراد، ولا داعي إليه إلا المحافظة على ما ذكر في حد فن أصول الفقه، من أنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية (4)، وهذا على علاتها المذكورة في محلها لا يستلزم التخصيص، إذ يكفي في كونها من مسائل الفن وقوعها في طريق الاستنباط ببعض جهاتها وأفرادها، فيكون الحال فيها

(1) ما بين الشرطتين من المؤلف.
(2) حاشية فرائد الأصول: 1 - 2.
(3) حاشية فرائد الأصول: 2.
(4) انظر كفاية الأصول: 9.
440

كالحال في المبادئ اللغوية ومباحث الأمر والنهي، إذ البحث فيها يعم جميع الألفاظ وإن كان غرض الأصولي من تدوينها خصوص الواقع منها في ألفاظ الكتاب والسنة.
هذا، على أن كون هذه الرسائل في فن أصول الفقه خاصة غير مذكور فيها ولا بمنقول عن مصنفها، بل هو نمط جديد بديع إن لم يتم للشيخ فيه الاختراع (1) فقد تم له حسن الاتباع.
والمراد من الشك غير القطع والظن، فيشمل الوهم بالمعنى المصطلح عليه، أو المراد منه الذي لا ترجيح فيه لأحد الطرفين، ولم يذكر الوهم إلا لعدم تعلق أحكام مهمة به، ومن بيان حكم الظن يظهر الحال فيه.
441

(أحكام هذه الأقسام)
أما القاطع، فإنه يرجع إلى قطعه، فيعمل بمقتضاه على ما يأتي، وكذلك الظان إن دل دليل على حجية ظنه من عقل أو نقل، وإلا فمرجعه ومرجع الشاك إلى الأصول العملية، والمراد منها الوظائف المقررة شرعا أو عقلا للمتحير والشاك بعنوان أنه متحير شاك، فإن وجد وظيفة شرعية كالاستصحاب رجع إليها، وإلا فمرجعه الوظائف العقلية وهي بانحصار مواردها منحصرة في أربع، إذ الشك إما أن يكون في أصل التكليف، أو في المكلف به، وعلى الثاني إما يمكن الاحتياط أم لا، فالأول مجرى البراءة، والثاني الاحتياط، والثالث التخيير، على تفاصيل وأقوال تمر عليك في مواضعها إن شاء الله تعالى.
فالكلام أولا في القطع، وثانيا في الظن، وثالثا في الأصول الشرعية، ورابعا في الأصول العقلية، ومن الله التسديد، وتقريب هذا المدى البعيد.
443

(مباحث القطع)
أقسامه ينقسم إلى طريقي وموضوعي، والمراد بالأول ما يكون الحكم لمتعلقه (الواقع) بما هو واقع من غير مدخلية لعنوان كونه مقطوعا به.
وبالثاني ما يكون لهذا العنوان دخل في الحكم، إما بأن يكون الحكم له وحده من غير مدخلية للواقع فيكون تمام الموضوع، أو يكون له وللواقع معا فيكون جزءا للموضوع.
ولك أن تعبر عن الثلاثة بقولك: الطريقي المحض، وموضوعي كذلك، وطريقي موضوعي.
ثم إن اعتبار القطع في الموضوع قد يكون من حيث كونه صفة خاصة، وقد يكون من حيث كونه كاشفا معتبرا عن الواقع وحجة عليه.
وينقسم أيضا - وإن شئت قلت: ينقسم العلم - باعتبار متعلقه إلى تفصيلي، وإلى إجمالي، وهذا إجمال القول في الأقسام، ويمر عليك القول في كل منها إن شاء الله تعالى.
445

(القطع الطريقي المحض - حجيته)
لا ريب في حجية القطع بنفسه وعدم إمكان الردع عنه فيما للمقطوع به من الآثار الذاتية مطلقا، بمعنى ترتبها عليه من غير حاجة إلى جعل جاعل فلا يتوقف القاطع عن ترتيبها عليه إلى أن يضعها له واضع ولا يصغى في مخالفته إذا وزعه (1) وازع، فمن رأي حيوانا قطع بأنه أسد، وقطع معه بأنه يفترس الإنسان، فلا شك في حصول الخوف له، وارتعاد فرائصه منه، وتطلبه معقلا يلتجأ إليه يمنعه عنه، كل ذلك بمجرد حصول القطع له من غير حاجة له إلى من يجعل قطعه حجة عليه، بل ولا يعقل جعله حجة له، ولا يمكن ردعه عن ترتيب هذه الآثار إلا بإزالة قطعه عن أحد الأمرين.
وعليه فقس سائر الآثار النفسية من الحب، والبغض، والفرح، والحزن، فإن الإنسان بمجرد حصوله له يندفع إلى المحبوب، ويمتنع عن المبغوض، وتبرق أسرة (2) وجهه فرحا، ويضيق صدره ترحا (3)، كل ذلك من الواضحات التي يستدل بها لا عليها، وما بطلان الدور والتسلسل الذين يستدل بهما عليه أوضح بطلانا من بطلان احتياج القطع إلى جاعل يجعله بل الظن الذي هو دونه في الكشف لا يمكن جعله ولا الردع عنه بمقدار ما له من الكشف، ولا بد أن يترتب عليه آثاره الذاتية، فإذا كان العاقل يتجنب الضرر المظنون، ويأتي بما يظن النفع فيه، فبمجرد حصول الظن بأحدهما يمتنع عن ذاك، ويأتي بهذا من غير احتياج إلى

(1) ووعته: كففته. الصحاح 3: 1297 (وزع).
(2) أسرة جمع، واحدها سر أو سرر: الخطوط التي في الجبهة. الصحاح 2: 683، النهاية لابن الأثير 2: 359 (سرر).
(3) الترح ضد الفرح. الصحاح 1: 357 (ترح).
446

جعل جاعل، ولا إصغاء إلى ردع رادع، فإذا كان هذا حال الظن الناقص الكشف، فكيف يكون القطع الذي هو الكاشف التام.
هذا في الآثار الذاتية، وأما في مقام الإطاعة والعصيان، وترخيص الشارع في مخالفته بجعل أمارة أو نحوها في قباله، فقد يقال: إن الحال فيها كالحال في تلك الآثار، لأن من قطع على
مائع بأنه خمر، وعلم أن كل خمر محرمة، حصلت له صورة برهان بديهي الإنتاج، وهي: أن هذه خمر، وكل خمر يجب الاجتناب عنه، فهذا يجب الاجتناب عنه، فترخيص الشارع في شربه مع بقاء حكمه بحرمة جميع أفرادها مستلزم للتناقض.
أقول: لا يخلو هذا التناقض المدعى لزومه من أن يكون بحسب الواقع، أو عند الشارع، أو القاطع، أما الأولان فلا شك في عدم لزومه فيهما على نحو الكلية، وما أكثر القطع الذي لا يصادف الواقع ويعلم خطأه الشارع، فلا يصح الحكم على كلي القطع بعدم جواز الردع عنه من هذه الجهة، على أنه لا مانع عنه، حتى في صورة إصابة الواقع، كما ستعرف إن شاء الله.
وأما عند القاطع، فلا يلزم المحال عنده إلا إذا تعلق الردع عما قطع عليه وهو الحكم الواقعي، بأن يقال: كل خمر محرمة واقعا من غير تخصيص، وهذه الخمر حلال واقعا، ومثل هذا لا يجوز حتى في قبال الظن، بل الاحتمال أيضا، لأن امتناع الظن بالتناقض واحتماله كالقطع به، فلا يعقل أن يقال: إن هذا حلال ومظنون الحرمة أو محتملها (1)، وأما إذا كان مفاد الأمارة المعذورية في شربها، أو رفع تنجز حرمتها، ونحو ذلك من المذاهب الآتية في جعل الأحكام الظاهرية، وتصور جعل الأمارات، فلا تناقض أصلا، ولا دليل على الإمكان أقوى من الوقوع، وقد وقع ذلك في ترخيص الشارع في ارتكاب مشكوك الحرمة، بل

(1) أي: لا يعقل أن يقال: إن مظنون الحرمة أو محتملها حلال.
447

ومظنونها في موارد البراءة والبينة القائمة على حلية مظنون الحرمة، إذ الترخيص لا يختص بصورة عدم المصادفة مع الحرام، بل مشكوك الحرمة حلال مطلقا إذا كان مورد البراءة ومفاد الأمارة، فالتناقض المدعى وجوده موجود فيهما بأقسامه الثلاثة، إذ من المعلوم وجود محرمات كثيرة ونجاسات واقعية بين هذه المشكوكات التي تجري فيها قاعدتي البراءة والطهارة، ويعلم إجمالا بمخالفة الأمارة مع الواقع في كثير من المواقع، فكيف يجوز ذلك الشارع، أم كيف يصدق المكلف بحلية ما يظن بحرمته؟ ومن الواضح - جدا - أن التصديق باجتماع الضدين ولو على بعض التقادير محال، والحكم بأن هذا المائع وإن كان حراما فهو حلال تهافت.
وبالجملة فالإشكال مشترك، وطريق الحل واحد، وهو أن متعلق القطع والظن هو الحرمة الواقعية، والردع لا يكون عنها أبدا، بل الإذن يكون مؤمنا من عقابها أو رافعا لتنجزها ونحو ذلك من الوجوه الآتية، فقطع المكلف بأن هذه خمر يجب الاجتناب عنها، قطع بالحرمة الواقعية، ولم يردع عنه قط، ورفع التنجز أو العقاب لم يتعلق به القطع أبدا.
فاستبان من ذلك عدم الفرق بين القطع والظن من هذه الجهة، فليجز في القطع ما يجوز في غيره، وقد يفرق بينهما بوجوه:
أحدها: إن الترخيص في ارتكاب مقطوع الحرمة ترخيص في المعصية، إذ القطع علة تامة لتحقق عنوان المخالفة وهو قبيح عقلي لا يجوز كالظلم.
وفيه ان الترخيص في المعصية المحتملة بلا عذر ولا مؤمن قبيح أيضا، فضلا عن المظنونة، ومفروض الكلام جواز الترخيص في الحرام الواقعي، والفراغ عن جواب ابن قبة، فلا مانع من الإذن مع المصلحة، ولا معصية مع الإذن فلا ظلم، فيبقى السؤال عن الفرق بينهما على حاله.
448

ثانيها: إن القطع التفصيلي علة تامة لتنجز الحكم، فلا يجوز الترخيص في مخالفته، بخلاف غيره.
وهذا الفرق مبني على كون التنجز من الآثار الذاتية، وهذه دعوى ليست بينه ولا مبينة، بل ليست إلا مصادرة محضة.
ثم إن هذا المجيب يرى القطع الإجمالي من قبيل الاقتضاء للتنجز، ويصرح في مواضع من كلامه بجواز الترخيص في ارتكاب طرفي الشبهة المحصورة، ويرى التفصيل بين المخالفة القطعية وبين المخالفة الاحتمالية بجعل الأولى من قبيل العلة التامة، والثانية من قبيل الاقتضاء، ضعيفا جدا، مع أن العلم - كما يعلم وتعلم - لا يعقل الإجمال فيه، وإنما الإجمال في متعلقه، ولا شك إلا في تعيين الخمر المقطوع بها، وإلا فوجودها بينهما مقطوع به، فكيف جوز العقل للشرع قوله: اشرب الخمر المعلوم وجودها في هذين الإناءين؟ وحظر عليه قوله:
اشرب الخمر المعلومة في إناء واحد؟ وكيف صار التنجز للقطع علة تامة تارة، ومقتضيا تارة [أخرى]؟ فهل هذا إلا تحكم على العقل أو حيف منه في الحكم؟ ومنها: إن مرتبة الحكم الظاهري محفوظة مع الظن والشك لوجود الساتر على الواقع، فيكون بما هو مجهول الحكم حلالا، بخلاف القطع الذي هو الانكشاف التام الذي لا يدع مجالا للإذن، ولا موضوعا لحكم آخر.
أقول: أما عدم بقاء ساتر على الواقع مع القطع فواضح لا ساتر عليه، ولكن لا ينحصر جعل الحكم الظاهري في وجود الساتر، بل ليس الوجه في إمكان أخذ الجهل موضوعا إلا تأخر مرتبة هذا الحكم عن الواقع بسببه، وهذا موجود مع القطع أيضا، فكما أن الشيء بعنوان أنه مجهول الحكم متأخر عنه فكذلك متأخر بعنوان أنه مقطوع الحكم، وهذا واضح على أصل الترتب الذي هو الوجه في الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية، ويأتي بيانه إن شاء الله.
449

ولا فرق بين القطع وصاحبيه من هذه الجهة (1) قطعا، وحيث إن هذا الأصل غير مرضي عند هذا المجيب نبني الجواب على أصله، ونقول:
إن الذي استقر عليه رأيه أخيرا ان التعبد بطريق غير علمي إنما هو بجعل حجيته، والحجية المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفية، فلا يلزم اجتماع حكمين مثلين، أو ضدين، بل وعلى القول بأنه لا معنى لجعلها إلا جعل الأحكام وإن لزم اجتماع الحكمين إلا أنهما ليسا بمثلين ولا ضدين، على ما أوضحه في أول مبحث الظن من الكفاية (2)، فراجعه إن شئت.
ولا يخفى عليك - إن تأملت وأنصفت - أن جعل الحجية - على ما أفاده - لا يتوقف على وجود الساتر أصلا، ولا على كون الشيء مجهول الحكم، وإنه يجري في القطع بعينه، فكما يصح جعلها في قبال الظن إذا كان في التعبد به مصلحة غالبة على مفسدة التفويت، وتكون النتيجة صحة الاعتذار إذا أخطأ، وعدم التجري إذا خالف الواقع - وقد أوضحه فيما لم ننقله من كلامه - فليكن القطع كذلك، فوجود المصلحة الغالبة على المفسدة توجب جعل الحجية، والحجية توجب ما ذكره، وقصارى الفرق: ان القطع لا يحتاج إليها في صورة الإصابة، لكونه موجبا للتنجز لو لا المانع، ولا يمنع ذلك من الاحتياج إلى جعل الحجية.
وأما ما كان يقرره سابقا من تصور المراتب الأربعة للحكم (3)، وأن الأمارة إذا خالفت الواقع تكشف عن عدم فعلية الحكم في موردها، فالأمر أوضح، فليكشف عن عدم الفعلية هنا، كما كشفت عنها هناك.
فظهر من جميع ذلك أن الساتر على الواقع ليس هو الذي أوجب جواز جعل الطرق حتى يكون عدمه مانعا، إلا أن يجبر هذا الوجه بما سبق من دعوى

(1) وإن امتنع من جهات أخر، نحو لزومه نقض الغرض أو عدم القدرة على الامتثال. (منه).
(2) كفاية الأصول: 277.
(3) وانظر أيضا حاشية فرائد الأصول: 36.
450

أن تنجز القطع من آثاره الذاتية، أو بجعل هذا الوجه عبارة أخرى عنه، وأيا كان فما هو إلا مصادرة، أو دعوى من غير بينة.
فتحصل من جميع ذلك: أنه لا مانع من جعل الأمارات في قبال القطع إذا اقتضت المصلحة، ولا من التصرف في حجيته بالردع عن الحاصل عن سبب خاص أو لشخص كذلك، فينبغي أن يكون الكلام في حجية القطع الحاصل عن غير الكتاب والسنة - إن كان كلام فيه - وفي قطع القطاع، وعدم جواز حكم الحاكم بعلمه، ونحوها في مقام الإثبات لا الثبوت، وأن يطالب بالدليل على ما يدعيه، ولا يصعب إقامته في بعض الموارد، فإنك إذا عرفت من غلامك عدم معرفته بجيد المتاع، وغلبة خطئه على إصابته، وتسرعه في قطعه فلا بد لك من جعل قول من تثق به حجة عليه، وتخبره بأنك تقبل منه الرديء مكان الجيد إذا كان مؤدى قوله من غير أن تمس الواقع بشيء، أو تغالطه وتقول: لا أريد الجيد، بل أريد ما قال الثقة: إنه جيد، ومالك إن تركت العبد على قطعه إلا نقض غرضك وتضييع مالك.
وعلى هذا ينبغي أن يحمل قول العلامة - العم -: يشترط في حجية القطع عدم منع الشارع عنه. وتمثيله لذلك بما إذا قال المولى لعبده: لا تعتمد في معرفة أوامري على ما تقطع به من قبل عقلك أو يؤدي إليه حدسك، بل اقتصر على ما يصل إليك مني بطريق المشافهة والمراسلة (1)، وقد عده الشيخ من العجب، وقال: إن فساده يظهر مما سبق من أول المسألة إلى هنا (2).
وأقول: يحق العجب له، ويظهر فساده مما ذكره ومما لم يذكره لو كان صاحب الفصول يرى القطع محتاجا إلى الجعل أو قابلا للردع في آثاره الذاتية، وحاشاه من ذلك وهو القائل في جواب دليل المفصل في حجية حكم العقل بين

(1) الفصول الغروية: 343.
(2) فرائد الأصول: 14.
451

النظري والضروري ما نصه: «فإن حجية العلم والانكشاف ضرورية فطرية لا نظرية» (1).
نعم الإنصاف أن إلزام القاطع بالعمل بمؤدى الأمارة المخالفة لقطعه لا يخلو عن صعوبة، وإنما قصاراه أن يرى نفسه مخيرا بينهما لأنه يعلم عدم المؤاخذة، عمل بهذا أو بذاك إلا أن يجعل لها مدخلية في موضوع الحكم، وهو محتمل كلام الفصول.
(هل يمكن تعلق التكليف بالعمل بالقطع أم لا؟)
وبعبارة أخرى: هل يمكن إيجاب الإطاعة أم لا؟ قد يقال بامتناعه لوجوه:
منها: لزوم التسلسل، لأن الإطاعة حينئذ يكون موضوعا لإطاعة أخرى، وتلك أيضا كذلك، وهكذا إلى مالا نهاية له.
ويرد عليه: أن استحالة ذلك إن كان لاستلزامه صدور أوامر غير متناهية، ففيه ان الآمر لا يصدر منه إلا إنشاء أمر واحد بطبيعة الإطاعة، ولا مانع من انحلال الإنشاء إلى أفراد غير متناهية، كقولك: الحمد لله عدد ما في علم الله، وكقولك في الإخبار: العدد نصف مجموع حاشيتيه.
وإن كانت الاستحالة من جهة استحالة امتثال أوامر غير متناهية، ففيه:
أنه ينقطع جميعها بامتثال واحد أو مخالفة واحدة، وذلك لانتفاء جميعها بأحد الأمرين من الإطاعة والعصيان.
ومنها: أن الإطاعة لا معنى لها إلا إتيان الفعل بداعي الأمر المتعلق بموضوعها، وعلى تقدير وجوبها يلزم أحد الأمرين من كون الأمر داعيا إلى

(1) الفصول الغروية: 346.
452

نفسه، أو داعيا وباعثا إلى غير عنوان متعلقه، وكلاهما محال.
وفيه: أن القاصد لامتثال الأمر المتعلق بالإطاعة لا يأتي بالفعل لأجل الأمر المتعلق بنفسه، بل يأتي به لتحقق امتثال الأمر المتعلق بها بإتيانه، وغايته سقوط الأمر المتعلق بالفعل أيضا لانتفاء موضوعه، فالإتيان بالصلاة - مثلا - كما يكون امتثالا للأمر بها، يكون أيضا امتثالا للأمر بإطاعة أمرها، ويمتثل بإيجاد نفس متعلقه المتحد مصداقا مع متعلق الفعل.
ومنها: لزوم اللغو، إذ لا معنى للأمر إلا إيجاد الداعي إلى الفعل والبعث عليه وهو حاصل بالأمر الأول، فلا فائدة في الثاني.
وفيه - بعد أن محذور اللغوية لا يثبت المدعى وهو الاستحالة العقلية الذاتية - ان الأمر الثاني يوجب تأكد الداعي، لأن من الممكن أن لا ينبعث بأمر واحد وينبعث بأمرين، وربما يوطن نفسه على معصية واحدة دون معصيتين، بل ربما لا يؤثر الأمر الأول، فيستقل الثاني بالتأثير.
ويتضح ذلك إذا اختلفت الآثار وتباينت الأغراض، فلو فرض أن الصلاة لا تجدي إلا الثواب في الآخرة، وإطاعة أمرها يوجب سعة الرزق في الدنيا، وتركها يورث الفقر، وكثير من الناس يحبون العاجلة ويذورن الآخرة، فالنفع والضرر العاجلان يحركان نحو امتثال أمرها دون أمر متعلقها.
ومنها: أن من شأن الأمر المولوي أن يكون صالحا للتأثير المستقل في انبعاث المكلف نحو الفعل، بل لا معنى للأمر إلا إيجاد الأمر بنفسه الفعل بالعناية، وقد سبق توضيحه في بحث الأوامر، والأمر بالإطاعة لا يصلح لذلك، لأن المكلف إن كان ممن يؤثر فيه الأمر، فالأمر الأول كاف فيه وهو المؤثر في إيجاد الفعل، لا الأمر بالإطاعة لسبقه رتبة، وإلا فلا يؤثر فيه الأمر بالإطاعة استقلالا.
453

وظني أن هذا الوجه مأخوذ من السيد الأستاذ (1)، ومرضي لديه، ولا يخفى أنه راجع إلى الذي قبله، فيرد عليه ما تقدم، إذ من الممكن بل الواقع كثيرا، التفكيك في مقام الإطاعة بين التكاليف المتعددة، فيطيع بعضا ويعصي بعضا، وإلا لزم أن لا يوجد مصل لا يصوم، وصائم لا يحج، لا سيما مع اختلاف الآثار، وقد مر مثاله.
ولا أرى زيادة لهذا الوجه إلا ما أدرج فيه من شرط الاستقلال في التأثير، وتقدم الأمر بالفعل على الأمر بها (2) رتبة، والاستقلال حاصل مع اختلاف الدواعي إلى الامتثال، فمن لا يريد إلا النفع العاجل في المثال، فالأمر بالإطاعة هو المؤثر المستقل في إتيان الفعل من غير مدخل لأمر الصلاة فيه.
وتقدم الأمر بالفعل على الأمر بإطاعة أمره رتبة مما لا ينكر، ولكنه لا يوجب خلاف ما قلناه، أما من جهة المكلف فلما مر بعينه، وأما من جهة الآمر، فلأنه لا مانع من أن يتصور بعد الأمر عدم وقوع مقتضاه وعدم تأثيره فيه، فيأمر به بعنوان آخر كما في الأمر بالضدين على الترتب.
وأرى الأحسن من الجميع، أن يقال في بيان الاستحالة: إن من المقرر أن تعدد الأمر لا يكون إلا بتعدد المأمور به ولو حكما، وإلا كان الثاني تكرارا للأول وتأكيدا له وان اختلفا في اللفظ، وليس قول القائل: اعمل بقطعك - أو - أطع، إلا بعثا نحو الفعل وطلبا له بعينه، إذ لا معنى للعمل بالقطع ولا للإطاعة إلا إتيان الفعل، أعني متعلق الأمر الأول، فإذن الأمر بها ليس إلا تكرار للأمر به وتأكيدا له بعبارة لا تخالفه إلا في صرف المفهوم نحو: افعل ولا تترك، فليس غير الفعل عنوان آخر يتعلق به الطلب، ولو تعلق الأمر بالإطاعة لزم أن يكون الأمر محركا

(1) هو السيد محمد الفشاركي قدس سره.
(2) الضمير راجع إلى الإطاعة.
454

نحو نفسه، وهو واضح الفساد، والمقام يحتاج إلى تحرير تام، وعند الكلام على الأوامر الإرشادية تعرفه إن شاء الله.
(حكم القطع إذا أخطأ الواقع)
مخالفة القطع مع الواقع لا يخلو من أقسام أربعة: لأنه قد يأتي بغير الحرام باعتقاد أنه حرام، أو يأتي بغير المأمور به باعتقاد أنه مأمور به، أو يأتي بالحرام باعتقاد أنه حرام آخر، أو يأتي بالمأمور به باعتقاد أنه مأمور به ولكنه غيره.
والأول يسمى - عندهم - بالتجري، والثاني بالانقياد، وأما الثالث والرابع، فلم أجد أحدا تعرض لهما، ونحن نذكر ما عندنا في كل من هذه الأقسام إن شاء الله.
(التجري)
إذا قطع بحرمة شيء غير محرم، فارتكبه - ويسمى بالتجري - فهل يحكم عليه بقبح الفعل، واستحقاقه العقاب أم لا؟ وإجمال القول فيه: إنه لا شك في كشفه عن سوء سريرته، وعدم اكتراثه بنهي مولاه، كما أنه لا شك في عدم تغير الواقع عما هو عليه من عدم المفسدة بمجرد عروض القطع، وحدوث عنوان مقطوع الحرمة له.
ولا ينبغي الشك أيضا في أنه لا يعقل أن يكون بهذا العنوان موضوعا لنهي شرعي، إذ النهي من شأنه أن يكون وازعا عن متعلقه، والمتجري لا يرى نفسه إلا خارجا عن عنوان المتجري،
لمكان قطعه بخلافه، فلا يعقل تأثيره فيه وارتداعه به.
وأما استحقاقه العقاب، فلا مانع عنه، بل هو الظاهر، وذلك لأن الإقدام على المعصية وعدم المبالاة بنهي المولى ونحوهما من التعبيرات المختلفة المؤدية إلى
455

معنى واحد. وهو التجري - بالمعنى الجامع بين المعصية الواقعية، والتجري الاصطلاحي - هو موضوع حكم العقل باستحقاق العقاب، ولولاه لما حكم العقل به، ولا توجه اللوم والذم من العقلاء على مرتكب المعصية، إذا هي مع التجرد عن هذا العنوان لا يترتب عليها شيء سوى الآثار الذاتية، وتكون كالفعل المبغوض الواقع عن جهل واضطرار، فالموجب لجواز العقاب ليس إلا الإقدام على ما نهي عنه، لا وقوع المنهي عنه، فالتجري اصطلاحا وإن لم يكن عنوانا قابلا لأن يتعلق به النهي الشرعي، ويعد فاعله مرتكبا للحرام، ولكنه مشترك مع المعصية الواقعية في المناط الذي يحكم لأجله باستحقاق العقاب، وهو القبح الفاعلي - على ما يعبر عنه - وهذا عنوان لا ينفك عن التجري أصلا.
ومنه يظهر ضعف ما ذكره بعض الأعلام (1) - دام فضله - «من أن الذي أوقع المدعي لقبح الفعل في الشبهة، كون الفعل المذكور في بعض الأحيان متحدا مع بعض العناوين القبيحة كهتك احترام المولى، والاستخفاف بأمره، وأمثال ذلك مما لا شبهة في قبحه، وأنت خبير بأن اتحاد الفعل المتجري به مع تلك العناوين ليس دائما، لأنا نفرض الكلام فيمن أقدم على مقطوع الحرمة، لا مستخفا بأمر المولى، ولا جاحدا لمولويته، بل غلبت عليه شقوته، كإقدام فساق المسلمين على المعصية، ولا إشكال في أن نفس الفعل المتجرى به مع عدم اتحاده مع تلك العناوين لا قبح فيه أصلا» (2). انتهى بلفظه.
وقد علمت أن هذه العناوين مما لا ينفك عن التجري وعن المعصية الواقعية، وأنها هي المناط في استحقاق العاصي للعقاب كما أن العناوين المقابلة لها من احترام أمر المولى والانقياد له - بمعناه اللغوي - ونحوهما مما لا ينفك

(1) هو الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي قدس سره.
(2) درر الفوائد 2: 13 - 14.
456

عنها الانقياد الاصطلاحي والإطاعة الواقعية، ولولاه ما استحق ذلك عقابا، ولا هذا ثوابا، بل هما معنى الإطاعة والعصيان، والمناط في القرب والبعد، فالتجري مصداق لهذه العناوين ومحققها في الخارج، لا ملازم معها.
ومنه يظهر استحالة الفرض الذي فرضه، أعني المتجري غير المستخف، إلا أن يريد من هذه العناوين ما يزيد على الحاصل منها بنفس التجري، ولا يناسب ذلك إلا الرد على من أراد تكفير المتجري، لا الحكم عليه باستحقاق العقاب.
فتلخص أن التجري يشارك المعصية الواقعية فيما هو مناط القبح واستحقاق العقاب، ولا تزيد هي عليه إلا في ترتب المفسدة الذاتية والمبغوضية التكوينية عليها دونه، أعني القبح الفعلي، وقد عرفت بما لا زيادة عليه أن المناط في الاستحقاق هي الجهة الأولى لا الثانية، وان العقلاء لا يذمون العاصي إلا من جهة القبح الفاعلي لا الفعلي، وقد نبه الشيخ الأعظم على قبح التجري (1)، ولكن جعله من جهة كشفه عن سوء سريرة المتجري، وكونه في مقام الطغيان والمعصية.
ويتجه عليه أن التجري مصداق للاستحقاق ونحوه، وأنه هو بالحمل الشائع، وهو موضوع لحكم العقل بالقبح واستحقاق العقاب زيادة على ما يستحقه من الملام على سوء السريرة.
ويرشدك إليه حكم الوجدان بالفرق الواضح بين من علم سوء سريرته بإتيان ما يقطع بحرمته، وبين من علم منه ذلك بعلم الرمل مثلا، وبين حاله قبل الإتيان به وبين حاله بعده، والذم في الأول متوجه على خلقه، وفي الثاني على فعله، وشتان بين ذم الشخص وبين ذم الفعل.
فظهر أنه لا مناص للقائل باستحقاق العاصي العقاب عقلا عن القول

(1) انظر فرائد الأصول: 7.
457

به في التجري أيضا.
نعم من (1) أنكر حكم العقل به حتى في المعصية، وجعل المصحح للعقاب جعل الوعيد على الحرام، فهو في سعة منه، إذ الوعيد مجعول على شرب الخمر لا على الماء.
هذا، ولا يذهب عنك أن الذي يحكم به العقل هو استحقاق العقاب في الجملة، لا خصوص العقاب المقرر لما قطع به، فلا يلزمنا القول باستحقاق العقاب على التجري تعيين خصوص العقاب المقرر لشرب الخمر مثلا، فمن الممكن أن لا يعاقب عقاب شرب الخمر في الآخرة، كما لا يحد حد شربها في الدنيا، والعقل بمعزل عن تعيين نوع العقاب ومقداره في المعصية الواقعية، فضلا عن غيرها، وهو فيهما تابع للجعل، ولكن لا شك في كونه تابعا لها في الشدة والضعف، فالتجري على الزنا بالمرأة الخلية أشد من التجري بالقبلة، وأضعف من التجري على الزنا بالمحصنة.
(كلامان لصاحب الفصول، واعتراض الشيخ عليهما والدفاع عنهما)
يظهر من العلامة - العم - التفصيل في التجري بين القطع بحرمة شيء غير واجب واقعا، وبين القطع بحرمة واجب غير مشروط بقصد القربة، فرجح العقاب في الأول، ونفى البعد عن عدمه في الثاني مطلقا، أو في بعض الموارد نظرا إلى معارضة الجهة الواقعية للجهة الظاهرية، لأن قبح التجري ليس ذاتيا، بل هو بالوجوه والاعتبار (2).

(1) [وهو] الأستاذ صاحب تشريح الأصول رحمه الله. (منه).
(2) الفصول الغروية: 431.
458

وأورد عليه الشيخ - طاب ثراه - بما حاصله: منع عدم كون قبح التجري ذاتيا، بل هو ذاتي كالظلم، بل هو قسم منه، فيمتنع عروض الصفة المحسنة له، ومع تسليمه فلا شك في كونه مقتضيا له، فيبقى على قبحه ما لم يعرض له جهة محسنة وهي منتفية في المقام (1).
وقال أيضا: إن التجري إذا صادف المعصية الواقعية تداخل عقاباهما (2).
وأورد عليه: بأنه لا وجه للتداخل، مع كون التجري عنوانا مستقلا في استحقاق العقاب، لأنه إن أراد وحدة العقاب فهو ترجيح بلا مرجح، وإن أراد به عقابا زائدا على محض التجري فهذا ليس تداخلا، لأن كل فعل اجتمع فيه عنوانان من القبح يزيد عقابه على ما كان فيه أحدهما (3).
أقول: أما كلامه الأول فلو شئنا تفصيل القول فيه، لأفضى بنا إلى الإطالة، ويكفي أن نقول: إن الذي دعاه إلى هذا التفصيل هو الوجدان الحاكم بالفرق بين التجري بترك ما كان حراما في الواقع وبين التجري بغيره، كما يظهر من الأمثلة الثلاثة (4) التي ذكرها، وهذا ما جنح إليه الشيخ بنفسه، بل اعترف به، وقال قبل ما نقله عن (الفصول) بلا فصل، ما نصه:
«الظاهر أن العقل يحكم بتساويهما - من صادف قطعه الواقع ومن لم

(1) فرائد الأصول: 6.
(2) الفصول الغروية: 87.
(3) فرائد الأصول: 7.
(4) [الأمثلة الثلاثة هي]:
1 - لو اشتبه عليه مؤمن ورع عالم بكافر واجب القتل، فحسب أنه ذلك الكافر فتجرى ولم يقتله.
2 - لو جزم بوجوب قتل نبي أو وصي فتجرى ولم يقتله.
3 - أمر عبده بقتل عدوه فصادف ابنه، وزعمه ذلك العدو، فتجرى ولم يقتله. (منه). وانظر الفصول الغروية: 431 - 432.
459

يصادف (1) - في استحقاق المذمة من حيث شقاوة الفاعل وخبث سريرته مع المولى، لا في استحقاق المذمة على الفعل المقطوع بكونه معصية.
وربما يؤيد ذلك، أنا نجد من أنفسنا الفرق في مرتبة العقاب بين من صادف قطعه الواقع وبين من لم يصادف، إلا أن يقال: إن ذلك إنما هو في المبغوضات العقلائية، من حيث إن زيادة العقاب لأجل التشفي المستحيل في حق الحكيم تعالى» ثم أمر بالتأمل (2).
وذكر أصحابه الشارحون لكلامه في وجه التأمل: إنه لبقاء اختلاف مرتبة الذم مع قطع النظر عن جهة التشفي (3).
فإذا كان - طاب ثراه - يجد من نفسه الفرق المذكور، ولا يجزم بكونه لأجل التشفي، فلا يعقل أن يكون له وجه سوى مدخلية الفعل المتجرى به في قبح التجري وعقابه، وظاهر لدى كل
متأمل منصف أن ذلك يستلزم ما ذكره صاحب الفصول لزوما بينا، إذ يستحيل التساوي مع تفاوت ماله مدخلية فيه، فلا بد أن يتفاوت التجري باختلاف المتجرى به، ويتم ما نقلنا من كلامه وما حذفناه، كقوله:
«ويظهر أن التجري على الحرام في المكروهات الواقعية أشد منه في مباحاتها، وهو فيها أشد منه في مندوباتها، ويختلف باختلافها ضعفا وشدة كالمكروهات، ويمكن أن يراعى في الواجبات الواقعية ما هو الأقوى من جهاته وجهات التجري» (4).
وأما ما ذكره من كون قبح التجري ذاتيا (5)، فلا ينافي ذلك، لأن المراد

(1) ما بين الشرطتين من المصنف رحمه الله.
(2) فرائد الأصول: 5 - 6.
(3) منهم: الشيخ محمد حسن الآشتياني - قدس - سره - في بحر الفوائد: 22.
(4) الفصول الغروية: 432.
(5) يعني الشيخ الأنصاري قدس سره. انظر فرائد الأصول: 6.
460

ليس كون التجري على قسمين، فمنه قبيح، ومنه غير قبيح حتى يتوجه عليه أن التجري قبيح ذاتا، ولا أقل من كونه مقتضيا للقبح، بل المراد أن الفعل المتجرى به يجتمع فيه عنوانان: قبيح وهو التجري، وحسن وهو الصلاح الواقعي فيقع بينهما الكسر والانكسار على ما هو المطرد في سائر الموارد، وهذا هو مبنى اعتراضه على تعدد العقاب، فالتجري بما هو تجري قبيح ذاتا لم يتغير عما كان عليه، وإنما عرض للفعل عنوان آخر مزاحم لجهة التجري، فكان اللازم منه ما عرفت.
وأما تداخل العقابين، فلا شك أن من العناوين المبغوضة ما يكون مقدمة لما هو أشد مبغوضية وقبحا، فعلى تقدير ترتبه عليها لا يلاحظ إلا بلحاظ المقدمية المحضة، ولا يوصف إلا بالحرمة الغيرية، ويكون مبغوضيتها وعقابها مندكين فيه ويندمجان فيه اندماج الضعيف في الشديد، فلا يعدان إلا فعلا واحدا، بخلاف ما إذا لم يترتب عليها، فإنها تستقل حينئذ بنفسها، وتعد مبغوضا مستقلا يترتب عليها ما أعد لها من العقاب.
وهذا أمر وجداني له نظائر كثيرة في العرف والشرع، فمن زنى بامرأة لا يحكم عليه باللحاظ الأولي إلا بارتكاب كبيرة واحدة وإن سبقه مس العورة منها ونحوه، ولا يقام عليه إلا حد واحد، بخلاف ما إذا لم يترتب عليه، فإن المس وغيره من المقدمات واللوازم المحرمة يعاقب عليها ويعزر، ولا يجمع عليه - في صورة ترتب الفعل - بين الحد والتعزير.
ومثله: قتل المؤمن بالسيف، إذ لا معنى له إلا جرحه جرحا يفضي إلى إفاظة (1) نفسه، فمن ارتكب ذلك فلا يقتص منه إلا للنفس وإن أخذت منه الدية فلا يؤخذ منه إلا دية واحدة، ولا يتوب إلا عن ذنب واحد، ولا يترتب عليه أثر

(1) فاظت نفسه: خرجت روحه. الصحاح 3: 1176 (فيظ).
461

تعدد المعصية لو فرض وجود أثر له، وكذلك كل مرتبة من مراتب الجرح، بالنسبة إلى ما قبلها من الحارصة (1)، والدامية (2)، والجائفة (3)، إذ كل لاحقة منها لا توجد إلا بما قبلها، ولا يؤخذ من الثالثة ثلاث ديات، ولا من الثانية ديتان، ولا يبعد أن يكون العقاب الأخروي أيضا كذلك، وهكذا فليكن الحال في التجري، بل الأمر فيه أوضح، وحيث إن المعصية الواقعية لا يمكن وقوعها إلا بالتجري ولا ينفك عنه اكتفي في العقاب عليه بالعقاب عليها وإن كان العقاب أهون، لو فرض محالا إمكان الافتراق بينهما، كما أن الأمر كذلك لو أمكن الزنا بلا مس، والقتل بلا جرح.
وكلامه رحمه الله في (التنبيه الرابع) من تنبيهات بحث (مقدمة الواجب) كالصريح فيما بيناه، حيث عبر بعد المعصيتين معصية واحدة، فقال ما لفظه:
«التحقيق أن التجري على المعصية معصية أيضا لكنه إن صادفها تداخلا، وعدا معصية واحدة» (4).
فتراه لم يحكم بتداخل العقابين إلا لتداخل المعصيتين، وإن كانت المعصيتان معصية واحدة فلا بد أن يكون العقابان عقابا واحدا، وهذا المعنى الوجداني لا يمكن التعبير عنه بأحسن مما قال، ومن وجد أحسن منه فله الإذن في أن يعبر عنه إن شاء.
ومثل هذا موجود في الطاعات أيضا، فالصلاة مركبة من الأجزاء

(1) الحارصة: الشجة التي تشق الجلد قليلا. الصحاح 3: 1032 (حرص).
(2) الدامية: الشجة التي تدمي ولا تسيل. الصحاح 6: 2341 (دما).
(3) الجائفة: الطعنة التي تبلغ الجوف. الصحاح 4: 1339 (جوف).
(4) الفصول الغروية: 87.
462

[الواجبة] (1) من سجود وقراءة، وليست إلا إطاعة واحدة، فليكن الانقياد المقابل للتجري مثله وهذا مراد هذا الإمام وإن قال الشيخ طاب ثراه: «ولم يعلم معنى محصلا لهذا الكلام» (2).
ولكن هذا كله بناء على ما يذهب إليه من معارضة الجهة الواقعية مع الجهة الظاهرية - على ما عبر به (3) - ووجود ملاكين للعقاب، ولكنه خلاف ما حققناه من أن المناط في القبح والعقاب ليس إلا أمر واحد مشترك بين التجري والمعصية، أعني التجري اللغوي، ولا تزيد عليه إلا بالقبح الفعلي الذي لا يناط به قبح ولا ذم، وما قتل ولد المولى الحكيم بسيف عبده إلا كموته حتف أنفه إذا لم يكن بتجر منه وإقدام على قتله.
ولا يختص ما ذكرناه بالتجري المصطلح عليه، بل يشمل كل فعل وجد فيه عنوانان: الاجتراء والإقدام على المخالفة نحو الإتيان بمقدمات الحرام بقصد ترتبه عليها وإن لم يتمكن منه كما في (الفصول) (4) وقد حكموا بالحرمة على ما يشبه هذا الباب وإن لم يكن داخلا فيه، كالإقرار بالمعصية قبل التوبة لأنه إظهار للجرأة على الحرام، وعدم الاكتراث به.
وأما قصد المعصية وإن كان من أقسامه بحسب الواقع ولكن القصد ليس من الأفعال الخارجية التي هي الموضوعات لمعظم الأحكام الشرعية، بل هو فعل قلبي من شأنه تصحيح العقاب أو الثواب على الأفعال، فلا يلاحظ معها إلا لحاظا آليا يفني فيها فناء التجري والانقياد في المعصية والطاعة، ويستقل بنفسه

(1) ورد في الأصل: المستحبة. وما أثبتناه يقتضيه السياق.
(2) فرائد الأصول: 7.
(3 و 4) الفصول الغروية: 431.
463

إذا تجرد عنها، ويكون مشمولا لما ورد من أن «نية المؤمن خير من عمله» (1) إذا كان قصد الطاعة، ولأخبار (2) العفو إذا كان قصد المعصية، إما مطلقا أو على أحد وجوه التفصيل المفصلة في (الرسالة) (3) وغيرها.
والشيخ الأستاذ بعد ما حكم على التجري بما حكمنا عليه، جعل العقاب على القصد خاصة، لظنه أن العنوان الجامع بين التجري والمعصية لا يكون اختياريا، مصرحا بأن من شرب الماء باعتقاد الخمرية لم يصدر منه ما قصده، وما قصده لم يصدر منه.
ثم أورد على نفسه بأنه يلزم استحقاق العاصي أزيد من عقاب واحد، بل عقوبات على نفس الفعل والاختياري من المقدمات، ولا استحقاق في معصية واحدة إلا عقوبة واحدة.
وأجاب عنه بأن تعدد العقوبة يكون بتعدد إظهار العصيان، وليس في كل واحد من المعصية والتجري بمجرد القصد أو مع العمل إلا إظهار واحد وان اختلف ما به الإظهار طولا وقصرا، وقاسه بشرب قدح من الخمر، بحيث يعد شربا واحدا، مدعيا أنه كشرب جرعة منها (4).
أقول: لا يخفى على المتأمل عدم توقف البيان الذي اخترناه على كون الجامع بين التجري والمعصية اختياريا، ومع الغض عنه فمن الواضح أن شرب المائع بعنوانه فعل اختياري قصده الشارب وقد وقع ما قصده، ولهذا يترتب عليه آثاره، فيفطر به الصوم، ويبطل به الصلاة، ويحنث به النذر، وكذا في أمثال هذا المثال، كمن قتل مؤمنا باعتقاد أنه زيد فبان أنه عمرو، ونظر إلى أجنبية قاطعا

(1) أصول الكافي 2: 69 / 2.
(2) انظر الكافي 2: 313، باب من يهم بالحسنة أو السيئة.
(3) انظر فرائد الأصول: 7 - 8.
(4) حاشية فرائد الأصول: 13 و 15.
464

بأنها هند وظهر أنها أختها.
وما تداول عند الفقهاء واستدل به (ما وقع لم يقصد وما قصد لم يقع) فهو أجنبي عن المقام، وله موارد لا ترتبط به أصلا، وما كان مثل هذا يخفى على أستاذ مثله، ولعل وراء ما فهمنا من
كلامه أمر غفلنا عنه.
وحمل صاحبنا العلامة - أدام الله أيامه - هذا الكلام على محمل بعيد فقال ما بعضه بلفظه: «إن كل عنوان يكون ملتفتا إليه حال إيجاده، وكان بحيث يقدر على تركه يصير اختياريا وإن لم يكن موردا للغرض الأصلي، مثلا لو شرب الخمر - مع العلم بكونه خمرا - لا لأنه خمر، بل لأنه مائع بارد، يصح أن يعاقب عليه، لأنه شرب الخمر اختيارا وإن لم يكن كونه خمرا داعيا له، ومحركا له على الشرب لأنه يكفي في كون شرب الخمر اختياريا صلاحية كون الخمرية رادعا له، وكونه قادرا على تركه.
ونظير هذا محقق فيما نحن فيه بالنسبة إلى الجامع، فإن من شرب مائعا باعتقاد أنه خمر يعلم بأن هذا مصداق لشرب المائع ويقدر على تركه، فكيف يحكم بعدم كون شرب المائع اختياريا له؟ فإن خص العنوان الموجود اختيارا بما كان محطا للإرادة الأصلية للفاعل، فاللازم أن يحكم في المثال الذي ذكرنا بعدم كون شرب الخمر اختياريا لعدم تعلق الإرادة الأصلية بعنوان الخمر كما هو المفروض، ولا أظن أحدا يلتزم به، وإن اكتفى في كون العنوان اختياريا بمجرد كونه معلوما وملتفتا إليه حين الإيجاد بحيث يصلح لأن يكون رادعا له، فحكمه بعدم كون الجامع فيما نحن فيه - أعني شرب المائع - اختياريا لا وجه له» (1) انتهى.
ولا أرى في كلام الأستاذ عينا ولا أثرا لما حمله عليه، وأين قوله: ما وقع لم

(1) درر الفوائد 2: 12 - 13.
465

يقصد، من وقوع المقصود من غير أن يكون الداعي إليه عنوان الحرام؟ وأما ما أورده على نفسه من تعدد العقاب فهو في مسألة التجري ساقط من أصله، على أصله أعني عدم اختيارية الفعل الذي لأجله قصر العقاب على القصد، ومع الغض عنه فما ذكره في الجواب لا يقوم بعبء دفعه.
وقياسه بشرب الكأس من الخمر والجرعة منها، قياس مع الفارق، لأن القصد يباين الفعل بحسب الذات والمحل والرتبة، إذ القصد من قبيل الإرادة، وموطنه القلب، وهو متقدم على الفعل الذي هو حركة الأعضاء في الخارج تقدم العلة على المعلول، وأين هذا من الفعل الواحد المستمر؟ فكيف لا توجب هذه الفروق الظاهرة تعدد المظهر ويوجبه مجرد الفصل بين الجرعات؟ فلا مناص له إلا الالتزام بتعدد العقاب، أو جعله على أحدهما، أو الإذعان بمذهب صاحب الفصول من تداخل العقابين (1)، وهو أهون الثلاثة، على شدة إنكاره له.
ثم إن ما أرسله إرسال الأصول الموضوعة من مساواة شرب قدح من الخمر مع جرعة منها، ينبغي أن يكون المراد مساواتهما في عدم صدق التعدد، وما يترتب عليه من الآثار فقط، إذ المفسدة في الفرد الطويل أكثر فالنهي آكد، فالاستحقاق أشد، إذ غصب الدار ساعة واحدة لا يساوي غصبها سنة مستمرة، بل غصبها أضعاف الساعة متفرقا لا يساوي نصف السنة، وكذا الحال في التجري، وشتان بين مشتغل به طول النهار وبين مشغول به بعض ساعة منه، والوصل والفصل وإن أوجبا صدق الوحدة والتعدد عرفا فحاشا أن يوجبا اختلافا في حكم العقل، وإذن لا يبقى إلا التعبير في أحدهما بتعدد العقاب، وفي الآخر بأشديته، والمعاني لا تختلف باختلاف الألفاظ.
واعلم أن التجري لا يختص بالقطع التفصيلي، بل يجري حكمه في العلم

(1) انظر الفصول الغروية: 87.
466

الإجمالي، بل في الاحتمال فضلا عن الشك والظن.
والضابط: كل إقدام لا يؤمن فيه الوقوع في الحرام المنجز، فمن ارتكب أحد أطراف العلم الإجمالي يكون متجريا، مرددا أمره بحسب الواقع بين التجري الاصطلاحي والحرام الواقعي، وكذلك الحال في الإقدام مع الشك وصاحبيه في مورد يجب فيه الاحتياط، والحكم في الجميع ما سمعته، ولكنه يختلف شدة وضعفا مع اتحاد المتجرى به دائما، فالتجري مع الشك أقوى منه مع الاحتمال، وأضعف من الظن، ولكنه يختلف إذا قست المحرمات بعضها ببعض، فالتجري بالإقدام الاحتمالي على قتل المؤمن أشد من الإقدام الظني على قتل حيوان محترم، وهو بالإقدام مع الشك على وطء المحصنة أشد من الإقدام على وطء الحليلة الحائض ظنا، والوجه فيه ظاهر على نحو الكلية وإن كان الحكم في كثير من جزئيات الموارد لا يظهر إلا للضليع في الفن، الخبير بمصالح الأحكام، ومن لك بمثله كله؟
(الانقياد)
وقد عرفت أنه إتيان غير المأمور به مع القطع بأنه مأمور به، فهو عكس التجري، ويظهر الحكم في أقسامه مما سمعته، وقد دل السمع - موافقا لحكم العقل - على ترتب الثواب عليه، كما يظهر من بعض أخبار النية وغيره، بل ودل عليه بمعناه الأعم، كقوله تعالى: ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله (1) الآية، إلى غير ذلك مما ورد في ظواهر الكتاب والسنة في موارد مختلفة.
(القسمان الأخيران)
أما الأول منهما، أعني إتيان الحرام مع القطع بأنه حرام آخر، فله أقسام

(1) النساء: 100.
467

شتى، ويختلف باختلافها الحكم، لأن كلا من المعصية الواقعة والمتجري بها إما أن يكون مساويا مع الآخر أو مختلفا معه شدة وضعفا، وأيضا قد يترتب على أحدهما أو على كليهما أثر دنيوي من حد أو كفارة ونحوهما، وقد لا يترتب عليهما سوى العقاب الأخروي.
فإن تساويا فلا إشكال في ترتب العقاب المشترك واستحقاق المتجري له، فمن أكل لحما باعتقاد أنه لحم الخنزير، فبان أنه لحم الكلب، أو حنث النذر بزعمه فبان أنه خالف العهد، فقد أكل ذلك لحم حيوان نجس عامدا، فيعاقب عليه كما في صورة إصابة القطع، وهذا ترك واجبا يعلم أن عليه كفارة شهر رمضان - على أحد الأقوال - فيلزمه الكفارة، وهذا بحسب الواقع قسم من المعصية الواقعية، إذ هو إقدام على حرام قصده بعنوانه الجامع، ووقع ما قصده، ولا كلام فيه إلا ما سمعته عن الأستاذ - طاب ثراه - من عدم كون الجامع اختياريا (1)، وقد عرفت الكلام عليه مع بعض الأمثلة له.
وإن اختلفا، فلا شك في أن قبح التجري والذم عليه يتبعان ما زعمه القاطع لا الواقع، فارتكاب الصغيرة باعتقاد أنها كبيرة أشد تجريا من ارتكاب الكبيرة باعتقاد أنها صغيرة.
وأما الآثار الجعلية، فإن لم يكن العصيان ملحوظا فيها أصلا كالضمان فلا شك في أنه يتبع الواقع، فمن أتلف على حر عبده الذي لا يعرف قيمته أو أخطأ في قيمته، فهو يضمن قيمته الواقعية، وكذا إذا اعتقد في مائع أنه خمر لذمي فبان أنه خل لمسلم.
وإن كان ملحوظا فيها كأبواب الحدود والكفارات، كما لو وطئ زوجته الحائض في أول الحيض باعتقاد أنه الوسط أو العكس، فإن كان المأتي به الأقل

(1) انظر حاشية فرائد الأصول: 13.
468

فالظاهر عدم وجوب الأكثر عليه لعدم تحقق الذي جعله الشارع موضوعا لكفارة الأكثر، كما أن من الظاهر وجوب الأقل عليه، لأن الأقل المأخوذ بلا شرط داخل في الأكثر، وكذا يعزر من ارتكب من أجنبية ما يوجب التعزير معتقدا أنه ارتكب منها موجب الحد.
وإن كان المأتي به هو الأكثر، فإن كان التجري بغير القطع، وكان الإقدام مع احتماله فلا يبعد الحكم بترتب أثر الأكثر عليه، لأنه إقدام على المعصية الواقعية بلا مؤمن من تبعة التكليف، فيقتص ممن تعمد قتل إنسان يشك في أنه مسلم أو ذمي فبان أنه مسلم أو علم بإسلامه وشك في كونه ذكرا أو أنثى، بل لا يبعد أن يكون الحال كذلك في العقاب المعين، لأنه ارتكب كبيرة بلا
مؤمن عقلي أو شرعي إلا أن يقال: كما أنه يقبح العقاب على أصل التكليف بلا بيان يقبح كذلك مع عدم بيان أشدية العقاب، فإذا تردد الحرام بين الكبيرة والصغيرة فلا يجوز أن يعاقب عقاب الكبيرة بلا بيان أنها كبيرة، وللكلام تتمة تقف عليها إن شاء الله.
ومنه يظهر الإشكال في صورة القطع بأنه الأقل.
وإذا كان الأثران مختلفين في النوع، كما لو زنى بامرأة قاطعا بأنها ليست من محارمه، فبان أنها أخته، أو العكس فالمسألة في غاية الإشكال، إذ لا يمكن القول بأن حده الجلد لعدم صدور موجبه منه، ولا القول بأن حده القتل لعدم قصده لموجبه وعدم وقوعه باختياره، ولا أظن فقيها - بين سمع الأرض وبصرها - يلتزم بسقوط الحد عنه أصلا، أو يعين عليه حدا آخر خارجا عن الحدين.
وإن رام أحد نفي البعد عن الأول منهما نظرا إلى قاعدة درء الحد بالشبهة، فقد أخطأ المرمي، ولم يعرف مورد تلك القاعدة، وإن قال أحد بالثاني منهما فقد تقول على الدين، وقال فيه بغير علم ولا برهان.
وقد ذكرت - والشيء بالشيء يذكر - مسألة ألقاها خالي العلامة السيد
469

الصدر - طاب ثراه - على علماء النجف، فاختلف أقوالهم فيه، وهي أن رجلا صام قضاء يوم من شهر رمضان في يوم الشك من شعبان، وأفطر بعد الظهر، ثم ظهر أنه مستهل الشهر، لا يمكن أن يقال بوجوب كفارة إفطار القضاء عليه لعدم وقوعه في شهر رمضان، ولا بوجوب كفارة الأداء عليه، لعدم تنجز التكليف به عليه، ولا سبيل إلى الالتزام بعدم الكفارة عليه مطلقا لأنه مقدم على إفطار صوم يعلم بوجوب الكفارة على إفطاره.
وبالتأمل فيما ذكرنا في هذه الأقسام يظهر الحال في القسم الآخر وهو ما إذا كان الأثر مترتبا على أحد الأمرين من التجري والمعصية، كما لو سرق زاعما أنه من غير الحرز فبان أنه منه، والأوجه أنه من قبيل الأثرين المختلفين لأن لكل منهما أثرين مختلفين من التعزير والقطع، أو العكس في وجه، أو أفطر يوما بزعم أنه من شهر رمضان، فبان أنه صوم كفارة النوم عن صلاة العشاء.
هذا، ولا يخفى أن ما ذكرناه مع غض النظر عن الخصوصيات التي قد تستفاد من الدليل لبعض الأقسام المتقدمة أو أمثلتها كما لو قيل بأن العلم بالإحصان أو المحرمية مأخوذ في موضوع حكمي القتل والرجم، ونحو ذلك.
وقد استقرب أحد أصدقائنا من أعلام العصر - دام بقاؤه - أن الحد في المثالين هو الجلد، لأنه الحد العام المجعول للزنا، وإنما خرج منه الزنا بمعلومة الإحصان والمحرمية، ولا يكون من باب التمسك بالعام بالشبهة المصداقية.
وقد أصاب في ذلك ووجهه ظاهر، وإنما الإشكال أولا في استفادة كون الجلد هو الحد العام، وثانيا في استفادة كون العلم جزءا للموضوع في غيره.
وهنا قسم آخر يناسب هذه الأقسام وإن لم يكن من بابها، وهو أن يقدم على فعل يكون مصداقا لعنوانين أو أكثر من المحرمات ولا يعلم إلا بعضها، كما لو علم خمرية مائع ولم يعلم أنها مغصوبة من الذمي، وهي في آنية من الذهب.
قد يقال فيه: إن قيام الحجة على الحرمة - ولو في الجملة - كاف في
470

العقاب على الجميع، نظير ما مر في الإقدام على الحرام المردد بين الكبيرة والصغيرة.
والظاهر خلافه لأنه وإن كان بعنوان أنه خمر معلوما، ولكنه بعنوان أنه مغصوب، وأنه في آنية الذهب مشكوك، فيكون من هاتين الجهتين شبهة بدوية يجري فيها الأصل، ولا يكفي قيام الحجة على جهة في صحة العقاب على غيرها من الجهات.
ومما ذكرنا في التجري يظهر الحال في الانقياد، لأنه على العكس منه، وإن وجد فرق طفيف في بعض الجزئيات فالاعتماد فيه على فطانة المطالع.
وأقول، لا مفتخرا بل معتذرا: إني لم أجد أحدا تعرض لهذين القسمين، حتى أبني القول على أساسه وأستضيء بنبراسه، وفي مثله مظنة نبوة الفكر وكبوة القلم، فالرجاء ممن عثر على خطأ فيما ذكرته الصفح، ثم الإصلاح.
(القطع المأخوذ في الحكم)
لا يعقل أخذ القطع بالحكم في موضوع ذلك الحكم للزوم الدور، ولا في مثله أو ضده إذا كانا في رتبة واحدة، للزوم المحالين من اجتماع المثلين أو الضدين، وأما أخذه في مرتبة متأخرة فلا يلزم فيه شيء منهما، وقد مر بك إجماله، ويأتيك تفصيله إن شاء الله.
هذا، وقد عرفت أن اعتبار القطع قد يكون باعتبار أنه صفة نفسية كالحب والبغض، وقد يكون باعتبار أنه كاشف معتبر عن الواقع، وعلى كل منهما قد يعتبر على نحو كونه تمام الموضوع، وقد يعتبر على أنه جزء له، فالأقسام - على ما يقال - أربعة وإن كنت في ريب من إمكان بعضها، كالمأخوذ على نحو تمام الموضوع على وجه الطريقية، لأنه إذا لم يكن للمقطوع به دخل في الحكم فما معنى الطريق إليه؟ بل إمكان المأخوذ جزءا للموضوع من هذا القسم أيضا
471

لا يخلو من تأمل، إلا أن يكون المراد: أن الحكم للواقع فقط، لكن بقيد الانكشاف، كما كان يعبر السيد الأستاذ (2) طاب ثراه.
(ما تقوم الأمارات مقام القطع من هذه الأقسام)
أقصى ما تدل عليه أدلة اعتبار الطرق والأمارات تنزيل الكاشف الناقص منزلة الكاشف التام، أو تنزيل المنكشف بها منزلة المنكشف به، أو تدل على كونها طريقا تعبديا إلى واقع تعبدي، إلى غير ذلك من العبارات المؤدية إلى معنى واحد فهي - إذن - مقصورة على ملاحظة القطع باعتبار كشفه عن الواقع، فتقوم مقام الطريقي المحض، ولا تقوم مقام الموضوعي المحض الذي لم يلحظ فيه جهة الكشف أصلا، وتنزيل غيره منزلته وإن كان ممكنا، ولكنه يكون على نحو إعطاء حكم موضوع لموضوع آخر كقوله عليه السلام: (الطواف بالبيت صلاة) (2) وأين هذا من أدلة حجية الطرق التي لا مفاد لها إلا إثبات الحكم لمتعلقها لا لموضوع آخر؟ وأما الطريقي الموضوعي، أعني المأخوذ على جهة الكشف، فلا مانع من قيامها مقامه، على ما صرح به الشيخ (3)، وأورد عليه في (الحاشية) بأن ذلك يوجب الجمع بين اللحاظين: الآلي والاستقلالي (4)، وبينه في (الكفاية) بقوله:
«إن الدليل الدال على إلغاء احتمال الخلاف لا يكاد يكفي إلا بأحد التنزيلين حيث لا بد في كل تنزيل منهما من لحاظ المنزل والمنزل عليه، ولحاظهما في أحدهما آلي، وفي الآخر استقلالي، بداهة أن النظر في حجيته وتنزيله منزلة

(1) هو السيد محمد الفشاركي قدس سره.
(2) سنن الدارمي 2: 44، سنن البيهقي 5: 85 و 87، كنز العمال 5: 49 / 12002.
(3) فرائد الأصول: 4.
(4) حاشية فرائد الأصول: 7.
472

القطع في طريقيته في الحقيقة إلى الواقع ومؤدى الطريق، وفي كونه بمنزلته في دخله في الموضوع إلى أنفسهما» (1) انتهى.
وعلى مذهبه من عدم جواز إرادة معنيين من استعمال واحد (2)، لا يتوقف عدم الجواز على كون أحدهما استقلاليا والآخر آليا، بل يكفي لزوم تنزيلين وإن كانا من نوع واحد.
ثم أقول: بل يلزم تنزيل ثالث، وهو تنزيل القطع بالموضوع التعبدي منزلة القطع بالموضوع الواقعي، إذ لا شك في أن القطع يختلف باختلاف متعلقة والقطع المأخوذ موضوعا هو المتعلق بالخمر الواقعية - مثلا - لا التعبدية فلا بد من تنزيل آخر.
وربما يجاب عنه بأن دليل حجية الأمارة يثبت الواقع تعبدا، والجزء الآخر أعني الطريق المعتبر ثابت بالوجدان، فيكون الحال فيه كالحال في سائر الموارد التي تثبت فيها الموضوعات المركبة بعضها بالوجدان، وبعضها بالتعبد.
وهذا إن تم - على تأمل فيه - لا يفي إلا بالتخلص عن الإشكال الأول، ويكون بمعزل عن الإشكال الثاني، إذ كون هذا الطريق المعتبر متعلقا بنفس الموضوع المأخوذ في الحكم مما لا يثبته وجدان أو تعبد، وقد صعب أمر هذا الإشكال على القوم، وأعياهم أمره، حتى أن الأستاذ وإن ذكر في الحاشية (3) وجها لتوجيهه، ولكنه ظهر له ما فيه من الخلل، فرجع عنه في (الكفاية) وجزم بعدم إمكانه (4).
وإني أرى السبيل إلى حله واضحا بعد ما اتضح في محله من ثبوت جميع

(1) كفاية الأصول: 264.
(2) كفاية الأصول: 36.
(3) حاشية فرائد الأصول: 7 - 8.
(4) كفاية الأصول: 264.
473

لوازم الطرق وحجيتها حتى المثبتة منها، ولا ملازمة أجلى وأبين من الملازمة بين الطريق وبين كون مؤداه الواقع، بل لا معنى لجعل الطريق والتعبد به إلا ذلك.
نعم يشكل ذلك بادئ بدء في مثل الاستصحاب الذي ثبت في محله عدم ثبوت أصوله المثبتة.
ولكن لا يخفى أن من التنزيل الواحد ما ينحل إلى تنزيلات متعددة بمعنى أن عناوينه تختلف باعتبار ما يضاف إليه، كاستصحاب الزوجية بين زيد وهند، فإنه بإضافته إليه يكون زوجا، وبإضافته إليها تكون زوجة، وتكون أختها أخت الزوجة، وهكذا.
ولو شئت قلت: كما أن لوازم الماهيات في التكوينيات وإضافتها تكون مجعولة بجعل تلك الماهيات، فكذلك الأمر في التشريعيات، فتكون لوازمها التي لا تكاد تنفك عنها عقلا أو عرفا مجعولة ومنزلة بنفس جعلها وتنزيلها، ويأتي له مزيد بيان إن شاء الله في مبحث الاستصحاب.
474

(القطع - العلم - الإجمالي)
والكلام عليه يقع في مواضع:
أولها: في كفايته في تنجز التكليف وثبوته.
وثانيها: في كفايته في مقام الامتثال.
وثالثها: في لزوم الالتزام به، وعدم جواز المخالفة الالتزامية.
أما الأول، فقد عرفت أن العلم لا يعقل فيه الإجمال، وأن الإجمال لا يكون إلا في متعلقه، وعرفت أيضا أن العقل لا يفرق فيما للعلم من الآثار بين تعين متعلقه وإجماله، وأن الخمر المعلوم وجوده - مثلا - في أحد إناءين كالمعلوم وجوده في إناء واحد.
نعم لا بد من تفصيل القول في بيان شرائط تنجز التكليف به وما فيه من الأقوال وما يترتب عليه من الفروع، وتعرف إن شاء الله جميع ذلك في مبحث البراءة والاشتغال.
وأما الثاني، وهو كفايته في مقام الامتثال فينبغي القطع بها حتى في التعبديات ومع التمكن من العلم التفصيلي وإن استلزم التكرار، فضلا عن التوصليات، وعما لم يتمكن من العلم التفصيلي ولم يستلزم التكرار، وذلك لأن الأمر لا يقتضي إلا إتيان متعلقه بجميع أجزائه وشروطه، والمفروض إتيان المكلف به كذلك، والحكم في مقام الامتثال للعقل وحده، ولا فرق عنده بين إتيان فعل واحد يعلم بأنه مصداق المأمور به، وبين إتيانه بفعلين يعلم بأن أحدهما هو المصداق له، والعلم بالفراغ الذي يحكم به حاصل هنا حصوله في غيره.
وما دعا الشيخ الأعظم إلى إطالة الكلام فيه (1) - على وضوحه - إلا

(1) انظر فرائد الأصول: 14 وما بعدها.
475

ذهاب جماعة إلى عدم كفايته، وما دعا هؤلاء إلا اعتبارهم الوجه والتميز الذين ادعى بعض مشايخنا القطع بعدم اعتبارهما، وهو غير مجازف فيما ادعاه.
واحتمال كون التعيين دخيلا في الفرض فلا يمكن التمسك في نفيه (1) بإطلاق الدليل، فيه بعد الغض عن إمكان دعوى القطع أيضا على عدم اعتباره، ان أصالة البراءة جارية فيه، وكافية لدفعه، وقد سبق بيانه في مبحث المقدمة.
وقد يستدل على عدم كفايته تارة بدعوى الإجماع - الممنوع وجوده أولا، وحجيته ثانيا - وتارة بأن العقلاء لا يعدون ذلك إطاعة، بل لا يرونه إلا لعبا بأمر المولى.
وفيه: أن ذلك فرية على العقلاء، وحاشاهم من الفرق في حصول الامتثال بين من أتى بشيء واحد يعلم أنه المأمور به وبين من أتى بشيئين يعلم أنه أحدهما، وإن خطأه من جهة اللغوية، ولا يكون ذلك إلا مع الغرض العقلائي، وإلا فلا تخطئة ولا عتاب.
ومنه يظهر الجواب عن دعوى كون سيرتهم على خلافه، إذ هي مع وجود الغرض ممنوعة، ومع عدمه فهي مستندة إلى اللغوية لا إلى البطلان، ولو سلم أنه يعد لاعبا، فما هو إلا لعبا في طريق الامتثال لا في نفس الامتثال، ومثله لا ينافي حصول الإطاعة.
فاستبان من ذلك جواز الاحتياط مع التمكن من الظن التفصيلي المعتبر - الظن الخاص - وأنه هو الأولى والأحسن، كما أوضحه الشيخ الأعظم، ولكن ذكر أثناء كلامه لزوم تقديم المظنون على غيره (2)، وجرى هو وأصحابه على ذلك في رسائلهم العملية، فتراهم يحكمون بتقديم القصر على التمام أو العكس، حيث

(1) أي: نفي الاحتمال.
(2) فرائد الأصول: 16.
476

كان الفتوى على أحد الأمرين من القصر أو التمام ولم يظهر لي بعد وجه له.
وأقصى ما يقال: إن مع تقديم المظنون على المحتمل يعلم بوجود الأمر الواقعي، فيأتي به قاصدا امتثال الأمر المعلوم، بخلاف ما لو قدم غيره، وفيه ما لا يخفى.
وأما الثالث، وهو وجوب الالتزام وحرمة المخالفة الالتزامية، فالقائل بوجوب الالتزام بالحكم إن أراد وجوب الالتزام بالحكم الواقعي إجمالا والإذعان له بما هو عليه، فهذا أمر يجب الإذعان به، ولا يجوز إنكاره لأن لازم التدين بالشريعة التسليم لما فيها من الأحكام.
وإن أراد الالتزام بشخص الحكم الواقعي، فهو على إطلاقه تكليف بغير المقدور.
وإن أراد لزوم التدين بأحد الحكمين من الوجوب والتحريم على سبيل الخبرين المتعارضين، فهو أمر ممكن في نفسه، وقياس المقام بالخبرين، فاسد لعدم تنقيح المناط ووجود الفارق.
وبالجملة، لا دليل على لزوم الالتزام بأي معنى كان، بل لا مانع من الالتزام بحكم آخر في مورد الشك كالإباحة لدى دوران الأمر بين الوجوب والحرمة، إذ الالتزام بالحكم الواقعي لا ينافي الالتزام بغيره في مرحلة الظاهر، فلا تنافي بين الالتزامين، كما أنه لا منافاة بين الحكمين على ما ستعرف قريبا إن شاء الله.
واعلم أن الالتزام معنى يدركه الوجدان، ويضيق عنه نطاق البيان، وتختلف أسماؤه باختلاف الموارد، كعقد القلب على شيء، والبناء عليه، والانتحال له، ولعل منه التجزم الذي تقدم نقله عن السيد الأستاذ - طاب ثراه - ولم أجد لأحد من مشايخي - رحمهم الله - ولا لغيرهم بيانا شافيا له، إلا بيانا إجماليا من العلامة الوالد طاب ثراه.
477

وعهدي ببعض (1) مشايخي، وهو ينكره أصلا، ولا يراه إلا العزم على الأفعال الخارجية، وهو خلاف الوجدان، إذ الشاك المنتحل الذي يحكم الفقهاء بإسلامه غير المنافق الذي يوافق المسلمين في أفعالهم، والبناء على الثلاث والأربع لدى الشك في الركعات غير مجرد ترك الركعة الأخرى، أو الإتيان بها، على ما هو ظاهر جمع من الفقهاء، بل صرح به بعضهم على ما بالبال، وقد يبني الإنسان على أمر لا يترتب عليه شيء من أفعاله، والجحود القلبي معنى لا يستطاع جحوده، قال عز من قائل: بل جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم (2).
اللهم اجعل أنفسنا مذعنة بربوبيتك، وقلوبنا أوعية لمحبتك، وألسنتنا ناطقة بشكر نعمتك، وصل على محمد وآله خيرتك من خليقتك.
كمل ما أردنا إيراده في مباحث القطع قبيل الصبح من منتصف شهر صفر عام 1337 [الهجرية].
عبد الله الفقير إليه، أبو المجد محمد الرضا آل العلامة صاحب هداية المسترشدين.

(1) الأستاذ الفريد الشيخ فتح الله النمازي شيخ الشريعة، المعروف ب (شريعت) طاب ثراه. هامش الأصل.
(2) النمل: 14.
478

(في مباحث الظن)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة على محمد وآله.
لا شك أن الظن ليس كالقطع في كونه حجة ذاتية، فيتم به الحجة للمولى على العبد في مقام التكليف وللعبد على المولى في مرحلة الامتثال إلا أن يدل دليل على الاكتفاء به، فإذن لا شك في أن الأصل عدم حجيته.
وقال الشيخ في مقام تأسيس الأصل: التعبد بالظن الذي لم يدل دليل على التعبد به، حرام بالأدلة الأربعة، ثم ذكر الأدلة عليه وأطال الكلام فيه (1).
إن كان مراده من التعبد ما عرفت على بعد، فهو من الواضحات التي لا يحتاج إلى الدليل عليه، ولا إلى إطالة القول فيه.
وإن كان المراد منه التدين والالتزام ونحوهما، فعلى غموض في تصور التعبد بهذه المعاني - كما مر في آخر مباحث القطع - فهو خارج عن المهم في المقام، بل هو إلى مباحث الفروع أقرب، وبها ألصق.
والمهم بيان إمكان التعبد به أولا، بمعنى جعله حجة يترتب عليه ما يترتب على القطع في المقامين: التنجز والامتثال، ثم اتباعه بذكر ما هو حجة منه أو قيل بحجيته، ومن الله تعالى الاستعانة.

(1) فرائد الأصول: 30 وما بعدها.
479

(إمكان التعبد بالظن بل بغير العلم مطلقا)
وليعلم أولا أن الإمكان يطلق - على نحو الاشتراك المعنوي - على معان ثلاثة، ويقابل كلا منها الامتناع بذلك المعنى.
أولها: الإمكان الذاتي، وهو ما لا ينافي بذاته الوجود والعدم.
وثانيها: الإمكان الوقوعي، وهو ما لا يلزم من فرض وجوده محذور عقلي.
وثالثها: الاحتمالي، وهو المقابل للقطع بعدم الوجود، وتعرف المراد منها في المقام أثناء البحث إن شاء الله.
ولا يخفى أن هذا التقسيم للإمكان لا يطابق الذي ذكره علماء المعقول، والإمكان الاحتمالي ليس من أقسامه.
المشهور: إمكان التعبد بالظن، وعن الشيخ أبي جعفر بن قبة (1) استحالته (2).
واستدل المشهور على الإمكان بأنا نقطع بأنه لا يلزم من التعبد به محال.
وفي الرسالة ما لفظه: «وفي هذا التقرير نظر، إذ القطع بعدم لزوم المحال في الواقع موقوف على إحاطة العقول بجميع الجهات المحسنة والمقبحة، وعلمه بانتفائها، وهو غير حاصل فيما نحن فيه.
فالأولى أن يقرر هكذا: أنا لا نجد في عقولنا - بعد التأمل - ما يوجب الاستحالة، وهذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان» (3).

(1) هو محمد بن عبد الرحمن بن قبة - بالقاف المكسورة، والباء المنقطة تحتها نقطة، المفتوحة - الرازي أبو جعفر. متكلم عظيم القدر، حسن العقيدة قوي في الكلام، كان قديما من المعتزلة، وتبصر وانتقل، له كتاب الإنصاف في الإمامة.
رجال النجاشي: 375 رقم 1023، خلاصة العلامة: 143، القسم الأول، رقم 31.
(2) انظر فرائد الأصول: 24.
(3) فرائد الأصول: 24.
480

واعترض عليه في الحاشية، بأن ذلك يناسب الإمكان الاحتمالي، بخلاف الإمكان في قبال الامتناع، فإن الحكم به لا بد من البرهان، ولا يكفي مجرد عدم الاطلاع على ما يوجب الامتناع، وليس بمجرد ذلك طريقا يسلكه العقلاء في الحكم به بهذا المعنى، ولا بمعنى آخر إلا بمعنى الاحتمال، وأي عاقل يحكم بأحد طرفي الاحتمال بلا موجب ولا مرجح، وهل هو إلا تحكم وترجيح بلا مرجح؟ (1). انتهى.
وقد حمل هذا الأستاذ الإمكان على الوقوعي (2)، فأورد عليه ما أورد، وليس في كلامهم الذي سمعته ما يدل عليه، بل الظاهر منه الإمكان بمعنى الاحتمال لا الاحتمال الذي قال فيه قبل ما نقلناه عنه: «لا يحتاج إلى مئونة، بل يكفي فيه عدم الاطلاع على ما يوجب استحالته» (3).
بل الاحتمال الذي تثقل عليهم وطأته، وتعظم مئونته، فيسهر لياليهم، ويستوعب أيامهم النظر في حجة مدعي الامتناع وفي كل ما يصلح لها، وبعد ما يتضح لديهم عدم صلاحية جميع ذلك للامتناع، يبنون على الإمكان، كما قال الشيخ: «إنا لا نجد في عقولنا بعد التأمل ما يوجب الاستحالة» (4).
وهذه محجة سنها العقلاء، وجرى عليها العلماء، فترى العقلاء إذا قصدوا مسافة بعيدة أو بناء دار جديدة، نظروا أولا فيما اعتادوه من الموانع عنهما، فإذا جزموا بعدمها عزموا عليهما غير مكترثين باحتمال مانع لم يقرع أسماعهم، ولم تحط به أفكارهم، ولو بنوا على الاكتراث بمثل هذا الاحتمال لم ينتظم لهم أمر في معاش أو معاد.

(1 و 2 و 3) حاشية فرائد الأصول: 32.
(4) فرائد الأصول: 24.
481

وترى العلماء يلهجون في الاستدلال على ما يرومون بقولهم: لنا وجود المقتضي وعدم المانع، ولا يذكرون لبيان عدم المانع إلا بطلان ما يحتمل أن يكون مانعا، من غير أن يتكلفوا البرهان على انحصار المانع، ولا أن يكلفهم الخصم ذلك، ويقول: لعل هناك مانعا لا تعلمونه.
ومما ذكرنا يظهر ما في كلام صاحبنا العلامة أدام الله أيامه، وقد وافق هذا الأستاذ وقال: «إذ الترديد والشك في تحقق شيء حاصل لبعض وغير حاصل للآخر وهذا ليس أمرا قابلا للنزاع، فانحصر الأمر في الثاني»: (1) الإمكان الوقوعي.
والأمر كما قال - سلمه الله - لو كانت الأصول العلمية، والقواعد المنطقية تدع للأفكار حريتها فيحتمل من شاء ما شاء، ولكن مقررات العلوم لا تزال تغلق للاحتمالات أبوابا، وتفتح غيرها، وكيف لا يكون قابلا للنزاع والمنازعات العلمية بين علماء العلوم قائمة على ذلك، وعليه يدور رحى الخلاف بينهم، فلا يزال يحتمل أحدهم شيئا ويمنعه آخر.
وليس المراد من الإمكان الاحتمالي كل احتمال صدر من أي محتمل، بل المراد الاحتمال العلمي الذي يرتضيه نقيد العلم، ولا تبهرجه يد البرهان بعد الفحص الكافي والتأمل التام، ولذا خصه
رحمه الله بما بعد التأمل (2)، فهذا مراد الشيخ الأعظم، وهو موافق لما أراده الشيخ الرئيس من كلامه (3) المعروف.
وهذا كاف فيما يرومه في المقام من العمل بدليل التعبد به، من غير اضطرار إلى تأويله أو طرحه، وبه يثبت الإمكان الوقوعي، ولا يعقل بدونه العلم

(1) الشيخ عبد الكريم الحائري (قدس سره) في درر الفوائد 2: 23.
(2) انظر فرائد الأصول: 24.
(3) كل ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الامكان ما لم يذدك قائم البرهان. (منه).
482

به إلا بعد الإحاطة بجميع الجهات كما قال، وهذا غير حاصل في المقام قطعا، كما صرح به (1)، بل هو نادر في سائر أبواب العلوم.
ولكن هذا الأستاذ حمل الإمكان في المقام عليه، وادعى إمكان حصول القطع به، فقال:
«وليس بالبعيد دعوى القطع بالإمكان بهذا المعنى أو ما يقابله من الامتناع، وإحاطة العقل بتمام الجهات المحسنة والمقبحة لشيء، وسائر تواليه ولوازمه الفاسدة وغيرها من باب الاتفاق، بحيث يجزم بعدم جهة أخرى له، كما يظهر من مراجعة الوجدان، ومشاهدة حصول الجزم في المسائل المشكلة والمطالب المعضلة في الفلسفة وغيرها من سائر العلوم بالإمكان من القطع بعدم لزوم تال فاسد، أو عدم بطلان اللازم، أو بالامتناع من القطع بلزومه، وليست هذه المسألة بأعظم إشكالا وأخفى جهاتا منها، كما ستطلع عليها إن شاء الله بما هي عليها من الجهات والتوالي، فظهر بما ذكرنا أن دعوى المشهور ليست بمجازفة، وأن ما جعله أولى من الدعوى لا يجدي أصلا في الإمكان بالمعنى الذي وقع فيه النزاع، فضلا من أن يكون أولى» (2) انتهى بنصه.
منع على الشيخ أن يكون الحكم بالإمكان الوقوعي سبيلا يسلكه العقلاء، وأثبته سبيلا للعقل، وأنكر حكم العقلاء بأحد طرفي الاحتمال، وجعله تحكما، وترجيحا بلا مرجح، واعترف للعقل به.
ولا أدري كيف يجوز للعقل هذا التخرص، والجزم بعدم شيء بلا برهان عليه؟ ولو جاز له ذلك فليجز له الجزم بوجود الأشياء بلا دليل وبرهان، وفيه من الجناية على العلم ما تعلم، وما ذكره من أنه يظهر ذلك من مشاهدة حصوله في

(1) فرائد الأصول: 24.
(2) حاشية فرائد الأصول: 32 - 33.
483

المسائل المشكلة في الفلسفة وغيرها، فهو أعلم بما قال، ولا ترى العالم بكل فن، والمقدم في كل صنعة، يقدم على الحكم بكل من الامتناع والإمكان إلا بعد إقامة البرهان، فلا يحكم الرياضي بامتناع اجتماع منفرجتين في مثلث إلا بعد إثبات أن الزوايا الثلاث منه مساو لقائمتين، ولا بإمكان تنصيف خط إلا بعد تنصيف الزاوية بالبرهان، وهل رأيت عالم فن استدل لدى المناظرة بحصول القطع له بلا سبب سوى الاتفاق؟ وإن فعل، فهل ترى مناظره يقنع به ويفحمه ذلك؟ فظهر بما ذكرناه أن دعوى المشهور ليست بمجازفة، وأن ما ذكره الشيخ في معنى الإمكان (1) هو الذي وقع فيه النزاع، ولا يخفى.
استدل المانع (2) بوجهين:
أحدهما: أنه لو جاز التعبد بخبر الواحد في الإخبار عن النبي لجاز التعبد به في الإخبار عن الله، والتالي باطل إجماعا (3).
بيان الملازمة: أن حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز سواء، ولا يختلف الإخبار بواسطة المخبر عنه.
وأجيب (4) عنه بمنع بطلان التالي عقلا، لجواز إيجاب الشارع التعبد بخبر سلمان - مثلا - عن الله، غاية الأمر عدم الوقوع، لا عدم الإمكان.
أقول: إن أراد المستدل بالإخبار عن الله تعالى، الإخبار بلا واسطة النبي، فهذا خبر يقطع بكذبه، وهو خارج عن المبحث، إذ لا يقول أحد بحجيته، لأن الإخبار عنه تعالى يختص بالأنبياء على جميعهم السلام.

(1) انظر فرائد الأصول: 24.
(2) المانع هو أبو جعفر محمد بن عبد الرحمان بن قبة الرازي.
(3) حكى عنه هذا الوجه والوجه الثاني الآتي، الشيخ الأنصاري في فرائد الأصول: 24.
(4) المجيب هو الآخوند الخراساني في حاشية فرائد الأصول: 33.
484

وإن أراد الإخبار بواسطتهم، فلا بحث إلا فيه، إذ الأخبار التي نريد إثبات حجيتها، إخبار عنه تعالى بواسطة النبي صلى الله عليه وآله، وهل هي إلا ما رويناها عن الثقات المأمونين عن الأئمة المعصومين عن سيد المرسلين عن رب العالمين، وكل من روى شيئا منها يصح له أن يقول: قال الله، كما يجوز له أن يقول: قال رسول الله، وكما أن دليل التعبد يجعل قول زرارة قول الصادق عليه السلام يجعله قول الله أيضا، ويجوز ترك ذكر الواسطة كما يرسل الخبر عنه عليه السلام، ويرفع إليه، ولا غضاضة فيه بعد شهادة التأمل بأن كل من أفتى في مسألة بشيء أو أخبر بشيء من أصول الدين وفروعه، فهو مخبر عنه تعالى حقيقة.
وخلاصة القول: أن الإخبار عنه تعالى بلا واسطة لا يعقل فيه غير العلم، حتى يبحث في جواز التعبد به وعدمه، لأنه من النبي يعلم بصدقة، ومن غيره يقطع بكذبه، ومع الواسطة فهو جائز، بل واقع.
ومنه يظهر ما في الجواب السابق من الخلل، لأن التعبد بخبر سلمان عليه السلام عنه تعالى غير ممكن على الوجه الأول، إلا بتكلف، وواقعة أمثاله على الثاني، فما في الحاشية من منع الإجماع أولا، وحجيته ثانيا (1)، مما لا ينبغي.
ثانيهما (2): أن العمل بخبر الواحد موجب لتحريم الحلال وتحليل الحرام، إذ لا يؤمن أن يكون ما أخبر بحرمته حلالا، وبالعكس.
وهذا الوجه - كما في الرسالة (3) - جار في مطلق الظن، بل في مطلق الأمارة وإن لم يفد الظن.

(1) حاشية فرائد الأصول: 33.
(2) الثاني من الوجهين الذين استدل بهما المانع.
(3) انظر فرائد الأصول: 24.
485

ولا ينحصر المحذور في صورة عدم مصادفة الأمارة الواقع، إذ في صورة مصادفتها إياه يلزم اجتماع المثلين، وهو في الاستحالة كاجتماع الضدين.
ويلزم زيادة على ما قرره اجتماع المصلحة والمفسدة، واجتماع المحبوبية والمبغوضية، وتفويت المصلحة والإغراء بالمفسدة فيما إذا أدت الأمارة إلى ترك واجب أو إتيان محرم.
فمن المهم جدا تصور جعل الطرق والأمارات، بل الأصول الشرعية كالاستصحاب على وجه لا يلزم منه شيء من هذه المحاذير مع بقاء الواقع على ما هو عليه من الحكم، وعدم الجنوح إلى التصويب الباطل عند أصحابنا رضوان الله عليهم.
(الوجوه التي يجمع بها بين الأحكام الواقعية وبين مؤدى الأمارات)
ولا بد في الجمع بينهما من أحد أمور ثلاثة: إما الالتزام بعدم كون مؤدياتها أوامر حقيقة، أو كون موضوعاتها غير موضوعات الأحكام الواقعية، أو الاكتفاء بتعدد الجهة مع اتحاد موضوعاتهما، كما في مسألة اجتماع الأمر والنهي، ولا رابع لهذه الوجوه.
اما الأول، فالظاهر أنه هو المعتمد عليه عند أكثر القدماء، كما يظهر من الفروعات التي ذكروها لمسألة الإجزاء، وفي مسألة رجوع المفتي عن فتواه.
وتقريره على وجه يصح حتى في صورة انفتاح باب العلم، ولا يلزم منه تفويت الواقع بلا مصلحة موجبة له، أن يقال: إن انسداد باب العلم كما يكون عقليا، كذلك قد يكون شرعيا، بمعنى أنه وإن كان تحصيل الواقعيات ممكنا للمكلفين، ولكن الشارع الحكيم يرى في إلزامهم أو التزامهم به إضرارا بهم، ومفسدة لهم من الحرج الموجب لاختلال أمور معاشهم ومعادهم، فيجب بموجب الحكمة دفع هذا الالتزام، والاكتفاء بغيره.

(1) انظر فرائد الأصول: 25 - 26.
(2) انظر فرائد الأصول: 190.
486

ثم إذا رأى الشارع أن المكلف لو ترك ونفسه يعمل بكل ظن سنح له، ويكثر وقوعه في خلاف الواقع، ويرى الشارع في أنواع الظن ما هو أكثر مصادفة له، وأقل خطأ من غيره، فلا بد من
إرشاده إليه، وعليه لا يلزم اجتماع الضدين أو المثلين، لأنها ليست أحكاما مولوية.
وأما الإلقاء في المفسدة أو الحرمان من المصلحة، فليس بمحذور يؤبه به بعد دوران الأمر بينهما وبين الوقوعي في مفسدة أعظم، أو الحرمان من مصلحة كذلك، هكذا نقل عن السيد الأستاذ، وهو مأخوذ من كلام الشيخ في الرسالة (1)، وإليه يؤول القول بأن التعبد بها بجعل الحجية، ولا بد له من مزيد بيان، ونحن نعيد النظر فيه والكلام عليه بعد الفراغ عن بيان سائر الوجوه، إن شاء الله تعالى.
الوجه الثاني، فتقريره بقاعدة الترتب التي أوضح تبيانها وشيد أركانها السيد الأستاذ، وكلام الشيخ الأعظم في أول رسالة البراءة (2) لا يكاد ينطبق إلا عليها، ولا يتضح مراده إلا بها، ولا يمكن أن يؤتى في المقام بأحسن منها، فبيانها يبتني على مقدمات:
أولها: أن الأحكام لا تتعلق إلا بالموجودات الذهنية، لا بما هي موجودة فيه، بل بما هي حاكية عن الخارج، فالشيء ما لم يتصور في الذهن لا يتصف بحسن ولا قبح، ولا يتعلق به أمر ولا نهي، وقد تقدم بيان هذه المقدمة، والبرهان عليها في مبحث اجتماع الأمر والنهي على النمط الوافي والبيان الشافي، ولكن لا بد من بيانه هنا على وجه الاختصار، ترفقا بالقراء الكرام، ورفعا عنهم ثقل المراجعة.
فنقول: من المقرر في محله، أن الأغراض على أقسام ثلاثة: فمنها: ما
487

يكون محله الخارج، عروضا واتصافا، كالحرارة العارضة للجسم.
ومنها: ما يكون عروضه في الذهن، واتصاف المحل به في الخارج، كالأبوة، والفوقية، ونحوهما.
ومنها: ما يكون محله الذهن عروضا واتصافا، كالكلية العارضة للأجناس، ومن هذا القبيل عروض الطلب للماهيات، لأنه ليس من قبيل الأول، وإلا لزم أن يكون البعث والزجر على الفعل الحاصل، أو منعا عنه، وهو محال، ولا من قبيل الثاني، وإلا لزم أن لا يتصف المحل به أصلا، إذ لا اتصاف قبل الوجود في الخارج بالفرض، ولا طلب بعده لأن الطلب يسقط بوجود متعلقه، ولا رابع لهذه الأقسام، فتعين الثالث.
وعليه، فلا يعقل أن يكون الموجود الذهني من الطبائع بما هو موجود في الذهن متعلقا للطلب، لأنه إن كان المتعلق الموجود في ذهن الآمر، فالمكلف غير قادر على امتثاله، وإن كان الموجود في ذهن المكلف، فاللازم منه الاكتفاء به، وعدم لزوم اتحاد في الخارج، فتعين من جميع ذلك أن يكون متعلق الطلب الفرد الذهني، لا بما هو فرد ذهني، بل لكونه حاك عن الخارج، ومرآة للوجود السعي للطبائع على ما أوضحناه فيما سلف.
ثانيها: أن المفهوم المتصور في الذهن قد يكون مطلوبا على نحو الإطلاق، وقد يكون على نحو التقييد، والثاني قد يكون لعدم المقتضي في المقيد، وقد يكون لوجود المانع، فتقييد الرقبة - الواجب عتقها - بالإيمان قد يكون لعدم المقتضي لعتق الكافرة أصلا، وقد يكون لوجود مفسدة في عتق الكافرة، مع وجود المقتضي في المطلق، فيقيد المطلق من جهة مزاحمة المانع ووقوع الكسر والانكسار بينه وبين المقتضي، لا لعدم المقتضي.
ثالثها: أنه لا يتحقق الكسر والانكسار إلا بتصور المطلوب مع العنوان الذي يتحد معه في الوجود، ويخرجه عن المطلوبية الفعلية، فإذن لا بد من كون
488

العنوانين مما يمكن اجتماعهما في الذهن وتعقل أحدهما مع الآخر، ولو فرض عدم إمكان اجتماعهما في الذهن لم يمكن وقوع الكسر والانكسار بينهما، بل يكون العنوان المطلوب مطلوبا بلا تقييد، وكذلك العنوان المبغوض، إذ لا تقييد إلا مع تعقل المنافي واجتماعهما في الذهن، بل ولا إطلاق لأحدهما بالنسبة إلى الآخر، لأن ما لا يصح تقييده لا يصح إطلاقه، كما مر توضيحه في مسألة الضد، ونحوها.
رابعها: أن العناوين الناشئة عن الحكم، والتي تعرض الموضوعات بعد تحقق الحكم، لا يعقل أن تكون ملحوظة مع الحكم ومتصورة معه، لتأخرها عنه طبعا، فلا يكون للحكم بالنسبة إليها إطلاق ولا تقييد، وذلك كالإطاعة والعصيان، فإنه لا يعقل تقييده بأحدهما، كأن يقول: افعل بقيد أن تفعل، أو بقيد أن لا تفعل، ولا الإطلاق كأن يقول: افعل، فعلت أو لم تفعل، وهذا أيضا مما مر توضيحه مرارا.
ومن هذا القسم كون الحكم مشكوكا أو مظنونا ونحوهما، لأن الشك والظن في الحكم مما يعرض الموضوع بعد تحقق الحكم، فلا يمكن أخذهما فيه، فإذا أراد الشارع تحريم الخمر مثلا، فإنه يمكن أن يلاحظ الإطلاق بالنسبة إلى جميع أصنافها، أو يقيدها بما كانت متخذة من التمر أو العنب، ولا يمكن ملاحظة شيء من الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى كونها مشكوكة الحرمة، وليست هذه الجهة مما يتعقل مع الحكم ليقع بينهما الكسر والانكسار، وإذا اتضح هذا كله، نقول:
إن الحكم الواقعي وهو الحرمة - مثلا - موضوعه ذوات المحرمات من غير ملاحظة كونها مشكوكة الحرمة أو مظنونها، وموضوع الحكم الظاهري هو تلك الذوات مع ملاحظة كونها مشكوكة الحكم، ولو فرضنا تحقق جهة المحبوبية - مثلا - لها بهذا اللحاظ لا يقع بينهما وبين المفسدة الواقعية تزاحم أصلا، فتكون الحرمة حكم الموضوع بحسب الذات، والحلية، بل والاستحباب - مثلا - حكمه بلحاظ كونه مشكوك الحكم.
489

فإن قلت: العنوان المتأخر وإن لم يكن ملحوظا مع الذات ومتعقلا معها، ولكن الذات ملحوظة مع العنوان المتأخر، فيجتمع المحبوبية في الرتبة الثانية مع مبغوضية الذات.
قلنا: موضوع الحكم الواقعي هو الذات مع التجرد عن لحاظ الحكم، والحكم الظاهري موضوعه تلك مع لحاظ الحكم، ولا يمكن الجمع بين لحاظي التجرد والثبوت.
وأيضا موضوع الحكم الواقعي لم يكن مقسما لمشكوك الحكم ومعلومه، بخلاف موضوع الحكم الظاهري، فتصور موضوعي الحكمين معا يتوقف على تصور العنوان على نحو لا ينقسم إلى الأقسام، وعلى نحو ينقسم إليها، وهذا مستحيل بلحاظ واحد.
أقول: وهذا الاعتراض قريب من الذي اعترض على الترتب في مسألة الضد من أن المهم وإن لم يكن مطلوبا في مرتبة الأهم، ولكن الأهم مطلوب في مرتبة المهم، فيقع التضاد، ولا يجدي في دفعه الترتب.
والجواب في المقامين يظهر مما عرفناك مرارا من أن الحكم الأول لا إطلاق له ولا تقييد بالنسبة إلى العنوان المتأخر، فالحكمان لا يجتمعان أصلا فتفطن.
فإن قلت: إذا صح هذا فليصح جعل الحكم الظاهري في مقابل الواقع بعنوان كونه مقطوع الحكم أيضا، إذ كما أن مرتبة الشك متأخرة عن الحكم، كذلك مرتبة القطع به، فيلزم إمكان كون الخمر حراما بعنوان أنها خمر، وحلالا بعنوان أنها معلومة الحرمة.
ويمكن الجواب عنه بأن العلم موجب لتحقق عنوان الإطاعة والعصيان وهما علتان تامتان للحسن والقبح كعنوانه في الإحسان والظلم، فلا يجوز عقلا النهي عن الطاعة، والأمر بالمعصية، كما لا يجوز النهي عن الإحسان، والأمر بالعصيان، وهذا بخلاف الظن الذي لا يصل إلى هذه المرتبة، ويبقى بينه و
490

الواقع حجاب يمنع من تحقق عنوان الإطاعة والعصيان.
أقول: هكذا كان يجيب - طاب ثراه - عن هذا الاعتراض، وفي النفس منه شيء سبق بيانه في مبحث القطع، والذي يهون الخطب أن هذا المعترض لم يقم برهانا على بطلان اللازم واستحالته عقلا.
نعم يكون الحكم الواقعي حينئذ لغوا وعبثا، يمتنع صدوره عن الحكيم، لأن الحكم لا بد له من مورد يمكن امتثاله، وإذا جعل للمقطوع بحرمته - مثلا - حكم الحلية فصار حلالا فالمظنون وما قبله من المراتب يكون حلالا بالأولى، فيكون الحاصل أنه لا يريد ترك شرب شيء من أفراد الخمر، مع أن مقتضى الحكم الواقعي أنه يريد تركه ولو في الجملة، وهذا حق في الجملة، ولكنه غير الاستحالة الثانية التي يبني المعترض اعتراضه عليها.
وحيث إني نقلت كلام الشيخ الأستاذ في الترتب بين الضدين، ودققت - حسب جهدي - النظر فيه، رأيت أن أصنع في هذا الترتب مثله لما بينهما من الارتباط والاشتراك في شطر من الكلام.
فنقول: قال في الحاشية ما لفظه: «إن قلت: إنما يلزم لو كانت صلاة الجمعة بما هي صلاة الجمعة محكومة ومتصفة بذلك، ولم يكن ذلك بلازم من التعبد بالأمارة، بل اللازم إنما هو كون صلاة الجمعة الواجبة بعنوانها محرمة، بما أن الأمارة الكذائية قامت على حرمتها، ولا ضير في كونها بهذا العنوان الطارئ محرمة بعد ما كانت واجبة بما لها من العنوان الذي يتوقف عليه وعلى حكمه طرده، والحكم عليه، كيف وقد صحح بما كان من قبيل هذا الترتب طلب المتضادين، بل المتناقضين فعلا، بحيث يؤاخذ على الاثنين عند تركهما، وعلى مخالفة الأهم عند تركه وإتيانه بغيره، وليس في المقام إلا تنجز أحد الخطابين أبدا في البين».
وذكر بعده الجواب عن شبهة تفويت المصلحة، وعدم المزاحمة في جهات
491

المصالح والمفاسد على هذا المبنى - ولا يهمنا النظر فيه وإن كان له فيه مواقع - وقال بعده ما لفظه: «لا يكاد يجدي الترتب بين الحكمين إمكان الجمع بينهما بعد الاعتراف بأنهما متضادان، فإنه وإن كان موجبا لعدم الاجتماع بينهما في مرتبة المترتب عليه إلا أنه لا محيص [معه] (1) عن الاجتماع في مرتبة المترتب عليه، والتضاد إن كان بين الحكمين فهو مانع عن اجتماعهما مطلقا ولو في هذه المرتبة، كما أن طلب الضدين إن كان قبيحا لا يجدي الترتب بين الطلبين شيئا...».
«لا يقال: لم لا يجدي إن كان التقدير باختياره؟ كالعزم على عصيان الأهم في مسألة طلب الضدين».
«لأنا نقول: مضافا إلى [بداهة] (2) قبح طلب المحال ولو معلقا على أمر يكون بالاختيار، أنه إنما يكون التعليق مجديا ولو لم يكن في البين ترتب أصلا، لا الترتب، ولا يلتزم به الخصم كما لا يخفى، مع عدم التعليق هاهنا على الاختيار، فإن كلا من مساعدة الأمارة على الخلاف، والحكم عليها بالاعتبار يكون بلا اختيار من المكلف خصوصا فيما إذا لم يتمكن من الواقع».
«وفيما ذكرنا هاهنا كفاية في بطلان التصحيح بالترتب هاهنا، وفي مسألة الضد لمن تدبر، وقد بسطنا الكلام فيه فيما علقناه على مسألة أصل البراءة من الكتاب» (3).
أقول: سبقت الإشارة إلى أن قاعدة الترتب التي يصحح بها الأمر بالضدين غير التي يجمع بها بين الحكمين وإن جمع بينهما اسم الترتب، والشركة في بعض المقدمات، وقد أحسن في التعبير حيث قال:
«وقد صحح بما كان من قبيل هذا الترتب» (4) إلى آخره.

(1 و 2) الزيادة من المصدر.
(3) حاشية فرائد الأصول: 34 - 35.
(4) حاشية فرائد الأصول: 34.
492

ولم يقل بهذا الترتب، ولكن ما ذكره من تصحيح الأمر بالمتناقضين فلا أدري من المصحح، ولا كيف الطريق إليه، وأقصى ما يطمع فيه القائل بالترتب تصحيح مثل قوله: أزل (1)، وإن عصيت فصل.
وأما الأمر بالنقيضين، وما هما سوى الوجود والعدم، وتصحيح قوله:
افعل، وإن عصيت فلا تفعل، ونحوه، فلا يعقل صدوره من عاقل (2)، وينبغي التأمل في مراده منه.
ثم أقول: مبنى الترتب هنا على تأخر عنوان الشك في الحكم عن أصل الحكم، وقد جعله هذا الأستاذ عنوان أنه مما قامت عليه الأمارة، فان رجع إلى ما قررناه فذاك - ويأتي من كلامه ما هو كالصريح في خلافه - وإلا فليس من الترتب الذي نقول به في شيء، ويكون أكثر ما أفاده بمعزل عما نقول، ونحن على الحياد في نزاعه مع من قرر الترتب بهذا التقرير، وإن شاء دخلنا معه في منازعته، وشرعنا أسنة الألسن الحداد، وفوقنا سهام الانتقاد على من يزعم الفرق بين الموضوعين بالإطلاق والتقييد، ويرى أن الفساد في المقيد لا يؤول إلى الكسر والانكسار مع المصلحة في المطلق، والذي يذهب إليه أهل هذا المذهب لا يتوجه عليهم شيء مما ذكره ردا، ولا يحتاجون إلى ما دافع به عنهم انتصارا، لأن مقتضى المقدمات السابقة عدم اجتماع الحكمين في الوجود الذهني الذي هو محط الطلبين، لا في مرتبة واحدة ولا في مرتبتين، ولذلك بعينه لا يقع الكسر والانكسار بينهما في جهات الحب والبغض، إذ المفسدة التي تزاحم مصلحة الصلاة إنما هي ما كانت من قبيل إيقاعها في معاطن الإبل ومرابض الغنم مما يمكن أن يتصف بها في هذه الرتبة، لا مثل كونها مشكوك الحكم الواقعي الذي هو متأخر عنه في اللحاظ، ولا يعقل تصوره مع تصور موضوع الواقعي، فإذن يتعلق

(1) أي أزل النجاسة عن المسجد.
(2) ولعله يرى ذلك لازم القول بالترتب، مع القول باقتضاء الأمر النهي عن الضد، فليتأمل. (منه).
493

الطلب بصلاة الجمعة بما هي صلاة بلا مزاحم، وتكون على ما هي عليه من الصلاح والمحبوبية، وبعد تعلق الأمر بها يحدث عنوان كونها مشكوكة الحكم، فلا الحكم الظاهري يزاحم الحكم الواقعي، لحدوثه بعده ولا هو بمزاحم له، لأنه لم يكن متعقلا في رتبته ولا ملحوظا معه.
وما أورده على الترتب بمعنييه، فقد مر الجواب عما يخص الترتب بين الضدين في مسألة الضد، ويظهر الجواب عن الترتب المبحوث عنه في المقام بما قدمناه في المقدمات.
ونزيدك إيضاحا ونقول: إن موضوع الحكم الواقعي هو الذات بلا لحاظ الحكم، إذ لا يعقل لحاظه معها، لتأخره عنها طبعا، وموضوع الحكم الظاهري الذات مع لحاظ كونها مشكوك الحكم، ومن الواضح عدم إمكان الجمع بين لحاظ الشيء مجردا عن الحكم، وبين لحاظه معه.
ولو شئت قلت: الذات حال كونها موضوعا للحكم الواقعي ليست مقسما لمشكوك الحكم ومعلومه، وحال كونها موضوعا للحكم الظاهري يكون مقسما لهما، ولا يعقل تصور الشيء في لحاظ واحد على أن يكون منقسما إلى قسمين، وعلى أن لا يكون منقسما إليهما.
هذا وفيما ذكرنا هنا وهناك كفاية في تصحيح الترتب بقسميه، وما ذكره - طاب ثراه - من أنه بسط الكلام في الترتب في حاشية البراءة (1) فليس في النسخ المطبوعة الحاضرة عندي منها كلام فيه سوى الإحالة على ما ذكره هنا.
عاد كلامه: «وأما التزاحم في جهات الحسن والقبح فلا يتفاوت فيه بين كونها في عرض واحد أو كون ما فيه إحداهما من العنوان طارئا على ما فيه الأخرى من العنوان، ففيما يعرضه كالكذب الطارئ عليه الإنجاء - مثلا - يمنعه

(1) حاشية فرائد الأصول: 35.
494

عما يؤثره لو لا طروه لو كان ما فيه من الجهة غالبا، كما إذا لم يكن أحدهما طارئا على الآخر، كما في مسألة الاجتماع على القول بالامتناع، بل لا يخفى أن الأمر هاهنا كذلك ولو قلنا
بالجواز فيها، وكفاية تعدد الجهة والعنوان في تعدد متعلق الأمر والنهي، وما يتبعانه من المصلحة والمفسدة بما يستتبعانه، وذلك لعدم تعدد العنوان هاهنا كالصلاة والغصب - مثلا - بل عنوان واحد وهو صلاة الجمعة - مثلا - تعلق به الوجوب مطلقا، والحرمة مقيدة بكون الأمارة الكذائية قائمة على حرمتها، فيكون من قبيل النهي في العبادات لا من باب الاجتماع، فلا تغفل، فحينئذ لا يخلو إما أن تكون الجهة الطارئة غالبة، فلا تكون واجبة واقعا، فيلزم التصويب، أو تكون مغلوبة أو لا غالبة ولا مغلوبة، فلا تكون محرمة ظاهرا مطلقا، وهو خلف، ولا واجبة واقعا أيضا في الثاني.
ومن هنا ظهر أن المصلحة الفائتة عنه، والمفسدة الواقعة فيها، المؤثرتين للحكم الواقعي على تقدير بقائهما على ما هما عليه من التأثير غير متداركين بما حدث في البين من مصلحة السلوك»
(1) انتهى بنصه.
وجميع ما ذكره واضح وروده على الترتب، لكن بالتقرير الذي قرره، لأنه إذا كان موضوعا الحكمين واحدا لا فارق بينهما إلا الإطلاق والتقييد، وكان أحدهما طارئا على الآخر، فلا شك في تزاحم الجهات، وليس وراء ذلك إلا وقوع الكسر والانكسار، ولا ينتج ذلك إلا أحد المحالات الثلاثة التي ذكرها.
وأما على ما عرفناك به من تعدد الموضوع، فما أورده عليه بعيد عنه بمراحل، ويتضح ذلك لك إذا أمعنت النظر فيما أسلفناه، فلا ثمرة في تكراره.
وبعد ذلك ذكر - سقى الله ثراه - ما هو التحقيق عنده في الجواب، ومهد له مقدمة هي قوله: «فاعلم أن الحكم بعد ما لم يكن شيئا مذكورا يكون له مراتب

(1) حاشية فرائد الأصول: 35 - 36.
495

من الوجود:
أولها: أن يكون له شأنه من دون أن يكون بالفعل بموجود أصلا.
ثانيها: أن يكون له وجود إنشاء من دون أن يكون له بعث وزجر وترخيص فعلا.
ثالثها: أن يكون له ذلك مع كونه كذلك فعلا من دون أن يكون منجزا بحيث يعاقب عليه.
رابعها: أن يكون له ذلك مع تنجزه فعلا، وذلك لوضوح إمكان اجتماع المقتضي لإنشائه، وجعله مع وجود مانع أو فقد شرط، كما لا يبعد أن يكون كذلك قبل بعثته صلى الله عليه وآله وسلم واجتماع العلة التامة له مع وجود المانع من أن ينقدح في نفسه البعث أو الزجر، لعدم استعداد الأنام لذلك كما في صدر الإسلام بالنسبة إلى غالب الأحكام.
ولا يخفى أن التضاد بين الأحكام إنما هو فيما إذا صارت فعلية، ووصلت إلى المرتبة الثالثة، ولا تضاد بينها في المرتبة الأولى والثانية، بمعنى أنه لا يزاحم إنشاء الإيجاب لا حقا بإنشاء التحريم سابقا، أو في زمان واحد بسببين كالكتابة واللفظ أو الإشارة.
ومن هنا ظهر أن اجتماع إنشاء الإيجاب أو التحريم مرتين بلفظين متلاحقين ليس من اجتماع المثلين، وإنما يكون منه إذا اجتمع فردان من المرتبة الثالثة وما بعدها» (1) انتهى التمهيد.
ثم أخذ في بيان ما بناه على هذا الأساس من الجواب، ونحن نذكر ما عندنا في المبنى، وندع النظر فيما بناه عليه للقارئ الكريم، فليراجع الأصل إن شاء ذلك.

(1) حاشية فرائد الأصول: 36.
496

ونقول: أما أولى المراتب وهي مرتبة المقتضي، فظاهر أن المقتضي للشيء غير ذلك الشيء، فلا يكون الجوع مرتبة من الأكل، ولا السهر مرتبة من النوم، وقد كان يصرح في مجلس الدرس بأنه صرف اصطلاح منه، وعليه فلا مشاحة فيها، ولكن لا يرتجى في المقام نفع منها.
وكذلك أخراها فإنها أثر للحكم، واعتبار يلحقه بعد تماميته بحكم العقل، فكلتا المرتبتين ليستا في مرتبة الحكم، إذ مرتبة المقتضي مقدمة عليه تقدم العلة على المعلول، ومرتبة التنجز متأخرة عنه تأخر المعلول عن العلة.
فلم يبق - إذن - سوى المرتبتين المتوسطتين، وأولاهما هو ذلك الوجود الإنشائي الذي يوجد بنفس الأمر، وليس موطنه الذهن ولا الخارج، وليس مصداقا للطلب بالحمل الشائع، ويجتمع مع نقيضه كما صرح به، ويكون فاقدا لحقيقة الحكم وما به قوامه، وهذا نحو من الوجود لم نوفق إلى اليوم لمعرفته.
ومن لنا بتصور موجود خارج عن الوعاءين - الذهن والخارج - وتصور طلب ليس مصداقا لكلية بالحمل الشائع، وحكم بلا بعث ولا زجر، يجوز مخالفته حتى مع العلم، أم كيف السبيل إلى التصديق بكون اللفظ موجدا للشيء، وكيف نتوقع من اللفظ الموضوع شيئا سوى الكشف عن إرادة ما وضع له؟ وقد مر شطر من الكلام على ذلك في مسألة الوضع والاستعمال، وشطر منه في مبحث الأوامر.
فلم يبق إذن من الأربع إلا مرتبة الفعلية التي هي حقيقة الحكم، أعني البعث والزجر، وحينئذ يعود الحرب العوان بين الحكمين، ولا تنجلي بعد اجتماع الضدين إلا عن الكسر والانكسار بين الجهات.
ولعل لكل هذا أو لبعضه لم يذكر هذا الوجه في الكفاية، واقتصر فيها على جعل الحجية التي لا تؤول إلى شيء من هذه المراتب، ولا تبعد كثيرا من الوجه الأول من الوجوه السابقة، على كلام في معنى جعل الحجية ليس هذا
497

محله.
وأما الوجه الثالث، فتقريره: أنه يجوز اجتماع الحكمين في شيء واحد مع تعدد الجهة كما سبق في مسألة اجتماع الأمر والنهي، والأمر هنا كذلك، لأن النهي يتعلق بعنوان شرب الخمر - مثلا - والأمر بعنوان كونه مدلول الأمارة أو بعنوان تصديق العادل.
إن قيل: يشترط في تلك المسألة وجود المندوحة ولا مندوحة في المقام، لأن العمل بخبر العادل بوجوب شيء واجب ولو كان حراما في الواقع، بخلاف الصلاة في الدار المغصوبة التي لا تجب منها إلا صرف الوجود الصادق على الفرد المأتي به في المكان المغصوب والمأتي به في غيره.
يقال في الجواب: إن المندوحة لم تعتبر إلا لدفع محذور التكليف بما لا يطاق كما سبق بيانه، وهو غير لازم هنا، لعدم تنجز التكليف بالواقع، فلم يبق إلا محذور الاجتماع وهو مرتفع بتعدد الجهة.
ويضعف أصل الجواب بأن العادل إذا أخبر بوجوب شيء لا يخبر إلا عن حكمه الواقعي الأولي، فمعنى الأمر بتصديقه وجوب الإتيان به على أنه واجب واقعا، ولو كان محرما بحسب الواقع لزم اجتماع الحكمين من جهة واحدة لا من جهتين، كذا قيل.
ولي فيه نظر، ولا سيما إذا قلنا بالسببية في الأمارات، وأن فيها مصلحة أخرى غير تنجيز الواقع، وذلك لأن العادل وإن أخبر بعنوان أنه الواقع، ولكن الشارع لم يعتبره من هذه الجهة، بل بعنوان أنه مما أخبر به العادل، وهو من باب اعتباره من باب الموضوعية، والمعتبر الجهة من حيث ما اعتبره الشارع لا ما أخبر به العادل.
ولعل من هذا الباب أو ما يقرب منه ما لو حلف على أن يشرب ما أخبر العدل بحليته، فأخبر بحلية ما يقطع بحرمته، فإنه يجتمع فيه الجهتان، ويكون
498

مصداقا للإطاعة والعصيان.
ولعل إلى ما يشبه هذا يرجع محصل ما أفاده الشيخ الأعظم في تصور القسم الثالث من أقسام سببية الأمارة (1)، فراجعه متأملا منصفا.
ومما ذكرنا يظهر وجه النظر فيما أفاده الشيخ الأستاذ في كلامه السابق نقله من أنه من باب النهي في العبادات لا من باب الاجتماع (2) وذلك لأنه ليس من باب عنوان واحد تعلق به الوجوب - مثلا - مطلقا، والحرمة مقيدا، حتى يتم ما ذكره - طاب ثراه - بل من باب عنوانين مستقلين غير مقيد أحدهما بالآخر.
هذه هي الوجوه المذكورة في تصور التعبد بالأمارات مما ينبغي ذكرها، ولا يجوز إهمال أمرها، والمهم لدى من يطلب هذا الفن لأجل الغرض الذي وضع لأجله معرفة أن الأمارات الشرعية من أي قسم من الأقسام الممكنة، ولا يقنعه تكثير الاحتمالات، ولا ينفع غلبة تعداد التصورات، ولذلك نقول: إن التأمل في المقام يفضي إلى أمرين:
أولهما: أن وظيفة الشارع تشريع الأحكام، وبيان الحلال والحرام بالطرق المتعارفة لدى العقلاء، وأما جعل الطرق فليس من وظائفه التي لا يجوز له الإخلال بها، والشارع في تحصيل أغراضه الشرعية كسائر العقلاء في تحصيل مقاصدهم الدينية والدنيوية، ويتم له الحجة على العباد بما يتم للموالي على العبيد، وإذا نظرت إلى الأمارات الشرعية بطرف التأمل وجدت جلها بل كلها، هي الطرق التي يعتبرها العقلاء.
نعم ربما زاد بعضها شرطا، أو أبدى له مانعا، أو جعل له حدا لمصالح خارجية تقتضي ذلك، كاعتباره التكرار أربعا في الإقرار، والتعدد في الشهود في

(1) انظر فرائد الأصول: 27.
(2) حاشية فرائد الأصول: 35.
499

عدة أقسام من الحدود، وذلك لأن الظاهر من مقاصده أنه يرى التشديد في مجازاة الفواحش من الكبائر، فيجعل حدها القتل والرجم، ومع ذلك لا يجب (1) كثرة إقامته، ولهذا يحكم بسقوطه بالتوبة قبل الثبوت، ويدرئه بشبهات لا تدرأ بمثلها في غيره، ويحكم بعدم إرجاع المرجوم إلى الحفرة إذا كان ثبوت موجبه عليه بالإقرار، وليس هذا كله إسقاطا للطريق عن اعتباره، بل حكم بلزوم تعدد الطريق لمصالح اقتضت ذلك.
وبالجملة، لا يوجد طريق أو أمارة شرعية إلا وهي عرفية عقلائية، حتى القرعة - بناء على أنها أمارة - ليست سوى الاستشارة التي هي من أهم ما يعتمدون عليه في مجهولاتهم، وهم يعرفون كيفيتها إذا استشاروا المخلوقين، وحيث إن استشارة رب العالمين أمر لا تبلغه عقولهم بينها لهم الشارع بالكيفية المأثورة عنه.
هذا أهم الطرق الشرعية، أعني الخبر الواحد، والبحث عن حجية أهم مسائل هذا الباب، وسوف تمر بك من الأدلة عليها ضروب كثيرة، وليس فيها ما يدل على تعبد من الشارع بالمعنى الذي يدعيه بعضهم، بل جميعها إمضاء لطريقة العقلاء، وأمر بالسير على محجتها الواضحة، فآية النبأ (2) بمنطوقها نهي عن التسرع إلى إصابة قوم بلا حجة، وبمفهومها أمر بالعمل بما يخبر به العادل بلا تثبت وتبين، لا بعنوان التعبد منه تعالى، بل بالإرجاع إلى الفطرة، وبيان أن العاقل لا يقدم على إصابة قوم بلا حجة، كما لا يتوقف عنه معها، فيستفاد منها حجية خبر العادل دون الفاسق، وليس الإجماع المدعى في المقام إلا ضغثا من إجماع كافة العقلاء في جميع الأزمنة على العمل بخبر الثقة.
وقول عبد العزيز بن المهتدي له عليه السلام: أفيونس بن عبد الرحمن

(1) كذا في الأصل، والأنسب بالعبارة: لا يوجب.
(2) الحجرات: 6.
500

ثقة آخذ منه معالم ديني؟ (1) يدل على أن قبول قول الثقة كان أمرا مفروغا عنه عند الراوي، كما نبه عليه في الرسالة (2)، ولكنه ليست المفروغية لتعبد ونص من الشرع، بل لحكم الفطرة والعقل، وعلى هذا النموذج سائر الأدلة الموردة في هذا البحث، ويأتي التنبيه عليها في مواضعها، وللكلام بقية تسمعها إن شاء الله في بحث تعارض الأدلة، وبالجملة المتبع في هذه المسألة سيرة العقلاء.
ثانيهما: لم يسلك العقلاء سبيل التعبد الوعر فيما حكموا بحجيته، ولم يعرفوا قط معنى لسببية الأمارة، ولا لمدخلية سلوك الأمارة في مصلحة العمل وإن خالف الواقع، بل المعنى المعقول لديهم هو المعنى المستفاد من لفظ الحجة، أعني ثبوت آثار التكليف بوجودها، وعدم ترتبها مع عدم قيامها، فالمولى يعاقب عبده، والصديق يعاقب صديقه بترك حق له أقام الحجة عليه، ويعذره إذا تدلى بحجة على الترك، فإذا أخبرك الثقة بحمى صديقك وتركت عيادته، فإنك ترى من نفسك استحقاقها العتاب، كما ترى لها العذر في تركها إذا أخبرك بأنه أبل (3) من الداء.
هذا هو المحجة الواضحة التي سنتها الفطرة، وجرى عليها العقلاء كافة، وأمضاها الشارع، فتجدهم على اختلاف الأعصار والأمصار متفقين على ما وصفناه فيما لهم أو عليهم من الحقوق وإن اختلفوا في أغراضهم الشخصية إقداما وإحجاما، فبينا ترى الرجل المقدام يخاطر بنفسه وماله في مزاولة الأسفار ويقذف بهما في لهي أهوال القفار والبحار، لا يستصحب معه دينارا أودعه عنده صديقه، فضلا عن حمل عياله وأولاده معه، إلا مع قيام الحجة على سلامة

(1) رجال الكشي: 490 / 935.
(2) فرائد الأصول: 85.
(3) بل الرجل من مرضه وأبل: برئ. الصحاح 4: 1639 (بلل).
501

الطريق، ومع قيامها يرى نفسه معذورا وإن توي (1) المال وهلك العيال.
(الأصل عدم حجية الظن - ما خرج عن هذا الأصل)
لا شك أن الأصل عدم حجية كل ما شك في حجيته بالمعنى الذي عرفت، وأما بمعنى الالتزام والتعبد به - كما ذكره الشيخ (2)، وأطال القول فيه في مواضع شتى، واستدل على حرمته بالأدلة الأربعة - فعلى غموض في معناه - كما سبق في مبحث القطع - فهو أمر لا يهمنا الآن البحث عنه، فإنه بمباحث الفروع أشبه، وبها ألصق.
وما خرج عن هذا الأصل أو قيل بخروجه أمور.
أولها: ظواهر الألفاظ، لا بد في معرفة مراد المتكلم من إحراز كونه في مقام الإفهام، ولازم ذلك أن يقصد ظاهر كلامه الذي يفهمه المخاطب، ويجري على متعارف المحاورات الجارية بين أهل لغة التخاطب، فإذا خالف ذلك يكون ناقضا لغرضه، ونقض الغرض لا يقع من حكيم، بل ولا عاقل، فإذا خالفت الإرادة الاستعمالية الإرادة الجدية، وإن شئت قلت: قصد المعنى المجازي ونحوه من اللفظ، أو أراد من اللفظ المشترك غير الذي ينصرف إليه من المعاني، أو من المطلق بعض أفراده، أو غير ذلك مما يخالف متعارف المحاورات - فلا بد له من نصب القرينة على المراد الواقعي، فمع القطع بعدمها يقطع بالمراد، ومع احتمالها تدفع بالأصل، بمعنى عدم اعتناء العقلاء بالاحتمال، أعني أن الحجة تتم عندهم، ولا يرون مجرد الاحتمال قاطعا لها، ومانعا منها، وهذا معنى حجية الظواهر.
(خلاف المحقق القمي طاب ثراه)
ولا فرق في ذلك بين من قصد إفهامه وبين غيره بشهادة اتفاق العقلاء

(1) توي المال: ذهب فلم يرج. لسان العرب 14: 106 " توا ".
(2) راجع فرائد الأصول: 30 وما بعدها.
502

على الأخذ بالأقارير مطلقا، وبظواهر ألفاظ الوصايا، والأوقاف، ونحوها، فخلاف المحقق القمي في ذلك بجعله الأول من الظن الخاص، والثاني من الظن المطلق (1)، ضعيف جدا، كما أوضحه الشيخ، بل أعطاه من الكلام فوق ما يستحقه فراجع الرسالة (2).
وما دعا هذا المحقق إلى هذا التفصيل سوى الشغف بنفاق سوق الظن المطلق، وكساد الظن الخاص، ولولاه لما كان يخفى على فاضل مثله.
إن أصحاب النبي والأئمة عليهم السلام كانوا يعملون بما سمعه غيرهم عنهم، ويأخذون بظواهر ألفاظه أخذ سامعه، مع انفتاح باب العلم لهم بالرجوع إليهم، وعليه سيرة شيعتهم، بل عامة
الناس في الأخذ بظواهر الألفاظ في الأوقاف والوصايا، مع إمكان الرجوع إلى الواقف والموصي، وإذا اعترف رجل بدين عليه مخاطبا ولده، فاجتاز بهما من سمع ذلك منه، فهل ترى أحدا يتوقف عن قبول شهادته، لكونه غير مقصود بالخطاب، أو يقبل من المشهود عليه هذا الاعتذار؟ نعم، لو علم بناء الكلام على اصطلاح خاص، والاعتماد على قرائن خصوصية بين المتخاطبين لا يكون الظهور حجة.
(خلاف بعض (3) علمائنا المحدثين في حجية ظواهر الكتاب)
وعلى هذا الأصل بنى القول بمنع حجية ظواهر الكتاب الكريم جمع من المحدثين، وهذا وإن كانت جناية عظيمة، ولكن لم يتعمدها هؤلاء الأبرار، وما

(1) قوانين الأصول 1: 398 و 403 و 2: 101.
(2) فرائد الأصول: 40 وما بعدها.
(3) منهم: محمد بن الحسن الحر العاملي رحمه الله صاحب كتاب وسائل الشيعة.
503

أرادوا إلا الخير، فتجاوز الله عنا وعنهم، وجازاهم بحسن النية خيرا.
وقد قال إمام الشيعة بعد الأئمة، ورباني هذه الأمة الشيخ أبو عبد الله المفيد في شرح عقائد الشيخ الصدوق، ما لفظه:
«أصحابنا المتعلقين بالأخبار أصحاب سلامة، وبعد ذهن، وقلة فطنة يمرون على وجوههم فيما سمعوه من الأحاديث، ولا ينظرون في سندها، ولا يفرقون بين حقها وباطلها، ولا يفهمون ما يدخل عليهم في إثباتها، ولا يحصلون معاني ما يطلقون منها» (1).
صدق أجزل الله ثوابه، وجعل الجنة مثابة، ولو لا سلامة الذهن لما عمد هؤلاء إلى هذا المعجز العظيم الذي جعله المرسل به صلى الله عليه وآله أكبر آية على رسالته، وأعدل شاهد على صدقه في نبوته، فلم يتحد بسائر ما أوتي من الآيات الباهرات من حنين الجذع، وتسبيح الحصاة، بل تحدى به، وقال بتعليم الله تعالى له: فأتوا بعشر سور مثله مفتريات (2). فيجعلوه من قبيل الألغاز والمعميات، وما ذاك إلا لعدة روايات أكثر أسانيدها بين ضعيف وبين مرسل، ومتونها مقسم إلى مجمل ومؤول.
فو الكتاب المبين، ومن أنزل عليه صلى الله عليه وآله أجمعين - لو تجاوزت عدة هذه الأخبار عقد المئات، وسلمت أسانيدها ومتونها من العلات، ولم يكن فيها غير موثق وصحيح، لوجب أن يضرب بها وجه الجدار، ويمحى أثرها من كتب الآثار، كيف وليس فيها خبر يمكن الاعتماد عليه إلا وهو وارد في موارد أخرى، كما أوضحه الشيخ في الرسالة (3) فكفانا مئونة الإطالة.
ومهما شك الإنسان في شيء، فلا يشك في أنه صلى الله عليه وآله دعا

(1) تصحيح الاعتقاد المطبوع مع أوائل المقالات: 213.
(2) هود: 13.
(3) راجع فرائد الأصول: 35 وما بعدها.
504

فصحاء العرب من مصقعي (1) خطبائها، وفحول شعرائها إلى معارضة القرآن ولو بسورة واحدة، وبلغت دعوته البدو والحضر، وتصدى لها أهل الوبر والمدر، فنكصوا على أعقابهم خائبين، وظهر عجزهم للعالمين، وظل أفصحهم عند سماع هذا المعجز الأعظم كدمنة (2) أم أوفى لا تتكلم.
وما سمعوا قوله تعالى: سأتلوا عليكم منه ذكرا (3) إلا طفقوا يضحكون من قفا نبك من ذكرى (4).
أ فتراه صلى الله عليه وآله كان يتحدى بألفاظ لا يعرف المراد منها سواه؟ أو تراهم عجزوا عن معارضة ما لم يهتدوا إلى معناه؟ كلا، بل هو قرآن عربي مبين، نزل به الروح الأمين، على قلب سيد المرسلين، وما أرسله إلا بلسان قومه لينذرهم بين يدي عذاب شديد، ويدعوهم إلى صراط الله العزيز الحميد.
فهل كان الإنذار والدعاء وغيرهما من الأغراض الشريفة يترتب على صرف سماعهم الألفاظ؟ حاشا أن يحتمله أحد، أم كانوا يسألونه عن معنى كل كلمة؟ كلا، بل كانوا أول قراع اللفظ لأسماعهم يسبق المعنى إلى أذهانهم، فيخشع قلوبهم لذكره، وتقشعر جلودهم له، وتقف جوارحهم طوع نهيه وأمره، وهذا أوضح من أن يخفى على السذج البسطاء، فكيف على هؤلاء العلماء

(1) خطيب مصقع، أي: بليغ. الصحاح 3: 1244 (صقع).
(2) إشارة إلى قوله: أمن أم أوفى دمنة لم تكلم...... وهو أول إحدى المعلقات السبع لزهير، أحد الثلاثة المتفق على تقديمهم من الأوائل. (منه).
وانظر شرح المعلقات السبع - للزوزني -: 73.
(3) الكهف: 83.
(4) إشارة إلى مطلع معلقة امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل (منه).
وانظر شرح المعلقات السبع - للزوزني: 7.
505

الأذكياء، ولكن شغفهم بأحد الثقلين أوجب هذه الجناية على الثقل الآخر، وغفلوا عن أن صدق ذلك الثقل وفضله لم يعلم إلا بهذا الثقل، سامحهم الله.
لقد فتحوا بهذه الدعوى وبأخرى مثلها، أو أمر منها بابين لأهل الزيغ والإلحاد، فبينا نرى الكافر به يعترف بأن هذا الذي بين أيدينا هو القرآن المنزل، وأنه يكاد لشرف مقاصده أن يبلغ حد الإعجاز، يقول المؤمن به ما يقول..... ولا أدري ما ذا يكون جواب المسلمين لأهل الكتاب إذا قارعوا توراتهم وإنجيلهم بقرآنهم، وصالوا عليهم بما تضمنه من فنون العلوم والحكم، والإخبار عن أخبار سالف الأمم، فقالوا: إن كتابكم باعترافكم أحجية، فلا يقوم به حجة، أتراهم يقنعون بقولك: روي في معناه عدة روايات ذكرها السياري في تفسيره، أو صاحب تأويل الآيات؟ بلغنا أن بعضهم سئل عن مفردات آية التوحيد، ففسر جميعها، ثم سئل عن تفسير الآية، فقال: لا أعرف معنى قل هو الله أحد (1).
وهذا وأمثاله مما يجل عنه أكابر المحدثين الذين عرفنا فضلهم، ورفيع مقامهم، وإنما يصدر من الحشوية الذين جعلوا شعارهم الانقياد والتسليم لكل ما سمعوه وإن خالف البرهان، بل الوجدان، وهم الذين عناهم المفيد في كلامه السابق.
والظاهر أن هؤلاء الأكابر لا يبلغون في الجمود هذا الحد، وإنما غرضهم المنع عن استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب، أو تفسير المتشابهات، كما يؤذن به عنوان الباب من كتاب وسائل الشيعة، وهو «باب عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر القرآن إلا بعد معرفة تفسيرها من الأئمة عليهم

(1) الإخلاص: 1.
506

السلام» (1) فتأمل.
ومن الطريف أن هذا المحدث لم يقنع بما ادعاه في هذا الباب، حتى أتبعه بباب آخر، عنوانه «باب عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر كلام النبي صلى الله عليه وآله المروي من غير جهة الأئمة ما لم يعلم تفسيره منهم عليهم السلام» (2) واستدل على ذلك بعدة روايات أجنبية عن عنوان الباب.
ومن أطرفها: رواية «أنا مدينة العلم وعلي بابها» (3).
ولا أدري أيهما أعجب، المدعى أم الدليل؟ (رجع) فاستبان مما عرفت أن اللازم على المتخاطبين معرفة الظاهر من غيره.
(كيف تعرف الظواهر؟)
وأول ما يتوقف معرفتها عليه، وأهمه معرفة مواد اللغات من الأسماء والأفعال والحروف والهيئات، وأنها لأي معنى وضعت.
وقد ذكروا لذلك طرقا منها: نص الواضع، وهذا وإن كان من أجدى الطرق، بل هو الطريق الأصلي لمعرفة الوضع وغيرها طرق إليه، لما عرفت في مبحث الوضع من أن الإعلام متمم للوضع، ولا يكون إلا بنصه أو بما يقوم مقامه كالاستعمال مع القرينة، ولكن الشأن في الاهتداء إلى ما نص عليه، ولا يمكن ذلك إلا بأحد أمرين:
إما مزاولة كلماتهم، وتتبع مواقع اللفظ في منثور الكلام ومنظومه حتى يكون من أهل الخبرة باللغة، بل يعد أحد أهلها، وإما بالرجوع إلى أهل الخبرة

(1) الباب 13 من أبواب صفات القاضي.
(2) الوسائل، الباب 14 من أبواب صفات القاضي.
(3) الوسائل، الحديث 4 من الباب 14 من أبواب صفات القاضي.
507

بها، وأفضل الطريقين أولهما، ولكن قد ضعفت الهمم، وقلت حملة هذه اللغة التي شرف الله قدرها، وأناط الدنيا والدين بمعرفتها، وجعلها لسانه الذي كلم بها خلقه، فالمتعين لغالب الناس الرجوع إلى أئمة الفن الثقات الإثبات، فإنهم أهل الخبرة به، فقولهم حجة.
(حجية قول علماء الأدب، والجواب عن المناقشة فيها)
أما حجية قول أهل الخبرة في جميع العلوم والصنائع وغيرهما فأمر مجبول عليه فطرة الإنسان، وجرى عليه العقلاء كافة في جميع البلدان والأزمان، فلا ترى فيهم من يتوقف في ذلك، ولا منهم إلا من يحتج به فيما له، ويذعن لخصمه فيما عليه.
وهذه الفطرة السليمة هي السبب فيما نقله - طاب ثراه - في الرسالة من اتفاق العلماء، بل جميع العقلاء على الرجوع إليهم في استعلام اللغات، والاستشهاد بأقوالهم في مقام الاحتجاج، ولم ينكر ذلك أحد على أحد (1)، إلى آخره.
إذ من البعيد أن يكون هذا الإجماع مستندا إلى نص شرعي أو حكم تعبدي، وهب تكلف ادعاءه متكلف في اتفاق العلماء، فأين منه كافة العقلاء؟ ولا شك أنه لا خصوصية لأهل صناعة اللغة، بل هم كسائر أصحاب الصناعات الذين قال عنهم الفاضل السبزواري فيما حكاه من قوله:
«صحة المراجعة إلى أصحاب الصناعات، البارزين في صنعتهم، البارعين في فنهم، مما اتفق عليه العقلاء في كل عصر وزمان» (2).

(1 و 2) فرائد الأصول: 46.
508

نعم احتمل اعتبار شرائط الشهادة فيه، فقال: «المتيقن من هذا الاتفاق هو الرجوع إليهم مع اجتماع شرائط الشهادة من العدد، والعدالة، ونحو ذلك، لا مطلقا، ألا ترى أن أكثر علمائنا على اعتبار العدالة فيمن يرجع إليه من أهل الرجال، بل وبعضهم على اعتبار التعدد، والظاهر اتفاقهم على اشتراط التعدد والعدالة في أهل الخبرة في مسألة التقويم وغيرها» (1).
أقول: اعتبار العدالة ونحوها لا يناسب إلا الحجة التعبدية الشرعية، وحمل اتفاق العلماء على ذلك.
واحتمال وصول خبر إليهم من المعصومين في المقام مقطوع بعدمه، بل المقطوع به أن مراجعتهم أهل اللغة ليس سبيلها إلا سبيل سائر العقلاء في مراجعة المعتمد عليه في كل حرفة وصناعة.
ومن الظاهر أنه لا يشترط عندهم بعد إحراز الخبرة إلا الوثوق، ولا يعتبر عندهم الإسلام والإيمان، فضلا عن العدالة، بل يقدمون الكافر على المؤمن العادل إذا كان أكثر خبرة، وأنفذ بصيرة في صنعته، وترى العقلاء يطول بحثهم عن الطبيب الحاذق الموثوق بحذاقته، ولا ترى فيهم من يسأل عن مذهبه ومعتقده، فضلا عن حاله في فسقه وعدالته، واعتبر ذلك في سائر الموارد التي يحتاجون فيها إلى أهل الخبرة من معرفة الدراهم الجيدة من المزيفة، وتميز الأدوية النافعة من الضارة، فلا ترى من يتوقف عن الرجوع إلى الصيرفي أو الصيدلاني لكونه ذميا، فضلا عن كونه مسلما فاسقا.
واعتبار الإسلام فضلا عن العدالة ينافي ما عرفت من حكم الفطرة التي انقاد له العقلاء، وإنما يكون في الطرق التي تصرف فيها الشارع لحكم مر بعضها قريبا، ومن الواضح أن المقام ليس منها.

(1) فرائد الأصول: 46.
509

وما نقله عن أكثر العلماء فهو - قدس سره - أعرف بما قال، ونحن نراهم يعتمدون في معرفة أحوال الرجال على علي بن فضال الفطحي، والحافظ ابن عقدة الجارودي، ولا فسق أعظم من فساد الاعتقاد، بل الماهر في الفن ربما قدم قولهما على مثل الشيخ وابن الغضائري وهما من تعلم.
وأما اعتبار التعدد والعدالة في مسألة التقويم فإن صح اتفاقهم عليه فلا بد أن يكون اعتمادهم فيها على أنها من باب الشهادة، ويظهر ذلك من مراجعة كلام بعضهم، فإن كانت من ذلك الباب فالشهادة أمر قد تصرف فيه الشارع بتصرفات شتى مختلفة باختلاف الموارد، وأين ذلك من هذا المقام الذي يقطع بعدم تصرف من الشارع فيه إلا الإمضاء؟ وأطرف ما في هذا الباب منع كون أهل اللغة أهل الخبرة بها، ويقال لهذا المانع: هل هذه الصنعة ابتليت من بين سائر الصنائع بفقد أهل الخبرة بها، أو أن أهلها غير أهلها؟ فإن كان الأول اتجه السؤال عن الذنب التي أذنبت فعوقبت بين أخواتها وأضرابها بهذه العقوبة.
وإن كان الثاني ففي المحال الذي ينطوي عليه هذا الكلام غنى عن تكلف الجواب.
ولو جوز هذا المانع الرجوع إلى الصائغ في الصياغة، وإلى الحائك في الصباغة رجعنا فيها إلى من شاء واقترح، وكيف يعد الرازي والقرشي من أهل صناعة الطب، ولا يعد الخليل وأبو عمرو (1) بن العلاء من أهل صناعة اللغة؟ ثم إن أئمة هذا الفن هم الأئمة المقتدى بهم في علمي النحو والصرف

(1) الإمام المعروف، أحد السبع الذي اتفق الأصحاب على صحة قراءته، فكيف يؤتمن على كلام الله تعالى ولا يؤتمن على كلام العرب؟ (منه).
510

وغيرهما من العلوم العربية، فكيف صار كلامهم حجة في تلك العلوم دونها؟ وبأي وجه لا يصدق الخليل - وهو الوجه والعين - فيما ينقله في كتاب «العين» عما سمعه في اللغة من بادية الأعراب، ويصدق فيما ينقله عنه صاحب الكتاب من وجوه الإعراب هذا هو الحيف، إلا أن يمنع هذا المانع حجية أقوالهم في جميعها، فتكون هذه الطامة جناية على علوم العربية عامة.
ومنع الشيخ معرفة الحقيقة من المجاز بمجرد قول اللغوي، واستنتج منه عدم الانتفاع به في تشخيص الظواهر (1).
وتبعه في ذلك عدة ممن تأخر عنه، بل زادوا عليه عدم كون اللغوي من أهل الخبرة بمعرفة الأوضاع، فقال في الكفاية: «لا يكاد يحصل من قول اللغوي وثوق بالأوضاع، بل لا يكون اللغوي من أهل خبرة ذلك، بل إنما هو من أهل خبرة موارد الاستعمال، بداهة أن همه ضبط موارده، لا تعيين أن أيا منها كان اللفظ فيه حقيقة أو مجازا، وإلا لوضعوا لذلك علامة، وليس ذكره أولا علامة كون اللفظ حقيقة فيه للانتقاض بالمشترك» (2).
وتبعه في ذلك صاحبنا العلامة، وزاد عليه بقوله: «وأما كون المعنى الكذائي حقيقيا فلا يطلع عليه، وإن اطلع عليه بواسطة بعض الأمارات فليس من هذه الجهة من أهل الخبرة» (3) وكأن ما ادعاه مأخوذ من الحاشية، حيث قال:
«لا يختص بفن اللغة إلا خصوص ضبط المعاني المستعمل فيها دون كيفية الاستعمال فيها، بل يكون اللغوي وغيره فيها سواء، حيث يحتاج في تعيينها إلى إعمال علائم الحقيقة والمجاز، ومن المعلوم عدم اختصاصها به» (4).

(1) فرائد الأصول: 46.
(2) كفاية الأصول: 287.
(3) درر الأصول 2: 37.
(4) حاشية فرائد الأصول: 35.
511

ومحصل هذه الكلمات أمور ثلاثة:
الأول: أن علماء اللغة لا يعرفون المعاني الحقيقية من المجازية، إذ لا طريق لهم إليها.
الثاني: لا يعرف بمراجعة كتبهم الحقيقة من المجاز.
الثالث: معرفة الظواهر تتوقف على معرفة الحقائق من المجازات، ونحن نختصر لك القول في جميعها، ونقول:
طريق اطلاعهم على المعنى الموضوع له واضح، لا أرى سببا لخفائه على هؤلاء الأعلام إلا شدة وضوحه، لأنه بعينه الطريق الذي تعلموا، وتعلم جميع الناس من أهل جميع اللغات معاني الألفاظ الأصلية في زمن الطفولية، إذا الطفل لا يزال يسمع الألفاظ مستعملة في معاني يعرفها بالقرائن، وربما احتمل المجاز في استعمالين أو ثلاثة، فيحتاج إلى ما رسمه له الأستاذ من إعمال العلائم، ولكن بتكرر الاستعمال يزول ذلك الاحتمال، ويقطع بالوضع، كما يحتمل الخطأ والغلط في استعمال واستعمالين، ثم يزول ذلك بالتكرار، فيكون في غنى عن العلائم.
وإن كنت بعد في شك فيه، فراقب صغار أولادك، أو راجع نفسك إذا عاشرت غير أهل لسانك، وحاولت تعلم لغتهم، وربما سألت عن معنى اللفظ أهل تلك اللغة، وربما كفاك تكرر
الاستعمال مئونة السؤال.
وما حال أئمة اللغة مع فصحاء العرب إلا كهذا الحال، فهم - لله درهم - ضربوا آباط الإبل إلى منابت الشيخ والقيصوم (1)، وعاشروا ما ضغيهما زمنا طويلا، وتكرر على مسامعهم الألفاظ حتى حصل لهم القطع بمعانيها، وأصبحوا في غنى عما كلفهم هذا الأستاذ من إعمال العلائم استغناء الأطفال بتكرر سماعهم الألفاظ من آبائهم.

(1) نبتان طيبا الرائحة، والمراد من منابتهما بادية العرب، ومن ماضغيهما أهلها، يقال: أمضغ أعرابي للشيخ والقيصوم، ويراد منه أنه أعرابي محض. (منه).
512

ولا أدري من المراد من غير اللغوي في قوله: «بل يكون اللغوي وغيره سواء»؟ فليتأمل فيه.
ومن لم يحظ بالسماع منهم كالمتأخرين، فإن تتبع موارد الاستعمال يقوم لهم مقام السماع، وذلك ظاهر.
ونظيره موجود في سائر الصنائع، فإن الطبيب إذا عثر بخاصية في بعض النباتات، فربما احتمل أول مرة الاستعمال وثانية المقارنة الاتفاقية، وكونها مستندة إلى غيره من الأسباب المجهولة، ولكن بتكرر الاستعمال يزول ذلك الاحتمال، وبهذا عرفت خواص الأدوية، وعلمت منافعها ومضارها، وما ميز الترياق النافع من السم الناقع إلا التجارب.
وما ذكرناه من حال عالم اللغة كالتجربة، بل هو ضرب منها، وعلى التجربة يدور رحى كثير من الحرف والعلوم.
وأما علامة الفرق بين المعاني الحقيقية وبين المجازية، فإن عالم الفن في غنى عنه بما له من التدرب في الصناعة والخبرة بمجاري الكلام، فكثيرا ما ينظر إلى كلمة في كتب أئمة كتهذيب الأزهري وغيره، ويظهر له أصلها وتحولها عن معنى إلى معنى آخر وتطوراتها الطارئة عليها مدى الأجيال، وربما أبعد المرمي وتتبع أصلها في أخوات العربية من السريانية والعبرانية، ولا يعبأ بالعلامة الضعيفة التي ذكرها في الكفاية (1) ونقضها بالمشترك، وهو من عجيب النقض.
وأما غيره فيكفيه التصريح في مثل أساس البلاغة، فإن دأبه أن يقول بعد الفراغ عن ذكر المعاني الحقيقية: أن من المجاز كذا، أو التلويح بعبارات يعرف منها ذلك، راجع مفردات القرآن وغيره.
ثم على تسليم الأمرين معا، فإن معرفة الظواهر لا تتوقف على معرفة

(1) كفاية الأصول: 287.
513

الحقائق من المجازات، إذ من الواضح لدى أهل الفن أن هم الأئمة المصنفين في علم اللغة بيان الظاهر من كل كلمة في التراكيب المختلفة، وضبط المعاني الظاهرة منها باختلاف النسب والحروف وغيرهما، فتراهم يذكرون شام البرق، وشام السيف، ورف الطائر، ورف الظليم، ورف لونه، ورف زيدا، أو رف هندا، ويفسرون ذلك بقولهم: أبصره، وأغمده، وبسط جناحه، وأسرع في عدوه، وبرق وجهه، وأكرمه، وقبلها، ومثل ذلك الفرق بين عقلته وعقلت عنه، وشكرته وشكرت له، وبين المسهب في الكلام بفتح الهاء وكسرها، فلكل كلمة وقعت في كلام ظهور غير ظهوره في غيره، ومعرفة ذلك هي التي يحتاجها أهل العلم.
ومن العبث تطلب المعنى الأولي الذي وضع له اللفظ، ومن فضول البحث الاهتمام في معرفة ما بين هذه الألفاظ من نسبة المجاز أو الاشتراك.
فقول صاحب الكفاية: «بداهة أن همه ضبط موارده لا تعيين أن أيا منها كان اللفظ فيها حقيقة أو مجازا» (1) إن أراد من موارد الاستعمال غير ما ذكرناه، فظاهر لدى الخبير بالفن ما فيه، وإن أراد هذا الذي ذكرناه فهو حق، وبه يحصل المقصود من معرفة الظهور، وقد ظفر ببغيته من يتعاطى الفقه، وترك تعيين الحقيقة من المجاز لمن يتكلف ما لا يعنيه، ويطلب ما لا يجد، إذ لا ثمرة مهمة علمية فيه، لأنه إذا صح الظهور فقد ظهرت الحجة، واتضحت إلى المعاني المحجة، فليكن إن شاء حقيقة، وإن شاء مجازا.
وهنا أمر مهم لا بد من التنبيه له، وهو أن الظهور الذي عرفت حجيته هو الذي يفهمه أهل تلك اللغة من اللفظ، أو من زاولها، وقتلها خبرا، حتى عاد كأحدهم، بل كاد أن يعد منهم، فلا بد لمن يروم استنباط الأحكام من الكتاب والسنة من ممارسة هذه اللغة الشريفة، ومعرفة عوائد أهلها، ودرس أخلاقها

(1) كفاية الأصول: 287.
514

وطبائعها، والاطلاع على أيامها ومذاهبها في جاهليتها وإسلامها، وهذا مراد الشهيد الثاني من قوله: أبعد الناس عن الاجتهاد العجم، إذ من الواضح أنه - سقى الله ثراه - لا يريد العجم من حيث النسب، كيف ومعظم علوم العربية تؤثر عنهم، وأكثر علماء الدين منهم، بل يريد من له العربية تطبع لا طبيعة، وتكلف لا قريحة.
فليخف الله من هذا نعته، وليدع الفتوى في الحلال والحرام حتى يحصل له من الممارسة معرفة مجاري الكلام.
وكم وقع لعدة من الأعلام من التحريف الواضح، والخطأ الفاضح في تفسير الآيات والروايات مما يجب ستره، ولا يجوز نشره، ولو حاول استقصاءه أحد لملأ منه مجلدات ضخمة، ولكن لحوم العلماء مسمومة، وتتبع عثرات الكرام سجية مذمومة، وما أحوجنا إلى هذا النزر من البيان إلا أداء النصيحة إلى الإخوان (وقد يستفيد الظنة المتنصح) والله المستعان.
515

تصدير (1)
نجلب أنظار القراء الكرام وأفكار فضلاء الأنام إلى المسائل المهمة التي حواها هذا الجزء (2) من الكتاب، ومن أهمها توضيح ما نسب إلى إمامي الفن ومقدمي الصناعة - الجد الأعظم والعلامة العم - من تخصيص نتيجة دليل الانسداد بالظن بالطريق وإتمام ما قاما به من تشديد الحق وهدم الظن المطلق.
إنا وإن كرمت أوائلنا لسنا على الأحساب نتكلنبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثل ما فعلوا وأنا أعرضه على علماء البلاد، ويحلو في ذوقي منهم مر الانتقاد إن لم يخالطه عصبية أو عناد، فما سودت صفحات الدفاتر بأنقاس المحابر ولا شحذت ظبا الأقلام بأكف الأعلام إلا لتمحيص الحقائق الراهنة من السفاسف الواهنة، وأنا أعيذهم من انتقاد تثيره عواصف العصبية فتعشى العيون عن الحقائق العلمية، وأنا أخولهم هذا الحق على هذا الشرط، ولا أبرئ نفسي من الغلط والخبط، والعصمة لله، ومنه المعونة، وله الطول، وصلى الله على محمد وآله.
العبد أبو المجد محمد الرضا النجفي آل العلامة التقي عفى الله عنه وعن أسلافه الراشدين بمحمد وآله.
18 صفر 1346

(1) صدر المصنف - رحمه الله - مباحث تنبيهات دليل الانسداد بهذه الجمل.
(2) حسب تجزئة المصنف رحمه الله.
517

بسم الله وبحمده وبالصلاة على محمد وآله
تنبيهات دليل الانسداد
الأول: قال الشيخ - سقى الله مثواه - ما بعضه بلفظه: «وقد عرفت أن قضية المقدمات المذكورة وجوب الامتثال الظني للأحكام المجهولة، فاعلم أنه لا فرق في الامتثال الظني بين تحصيل الظن بالحكم الفرعي الواقعي، كأن يحصل من شهرة القدماء الظن بنجاسة العصير العنبي، وبين تحصيل الظن بالحكم الفرعي الظاهري كأن يحصل من أمارة الظن بحجية أمر لا يفيد الظن كالقرعة» (1).
وقال بعد بيان الوجه فيما اختاره من التعميم ما نصه: «وقد خالف في هذا التعميم فريقان:
أحدهما: من يرى أن مقدمات دليل الانسداد لا تثبت إلا اعتبار الظن وحجيته في كون الشيء طريقا شرعيا مبرئا للذمة في نظر الشارع، ولا تثبت اعتباره في نفس الحكم الفرعي، زعما منهم عدم نهوض المقدمات المذكورة لإثبات الظن في نفس الأحكام الفرعية إما مطلقا أو بعد العلم الإجمالي (2) بنصب الشارع طرقا للأحكام الفرعية.
الثاني: مقابل هذا، وهو من يرى أن المقدمات المذكورة لا تثبت إلا اعتبار

(1) فرائد الأصول: 128.
(2) يريد به الفرق بين قولي الإمامين، وأن العلامة - الجد - يقول به مطلقا، وصاحب الفصول يقول به بعد العلم الإجمالي، وتعرف الكلام عليه إن شاء الله. (منه).
519

الظن في نفس الأحكام الفرعية - إلى أن قال - أما الطائفة الأولى فقد ذكروا لذلك وجهين، أحدهما: وهو الذي اقتصر عليه بعضهم» وذكر شطرا من كلام صاحب الفصول الآتي نقله إن شاء الله، وبالغ في الرد عليه، ثم قال: «الوجه الثاني: ما ذكره بعض المحققين مع الوجه الأول، وبعض الوجوه الأخر» (1).
ونقل الوجه الأول (2) من الوجوه الثمانية التي استدل به العلامة - الجد - على بطلان الظن المطلق، أو دليل الانسداد بالتقرير المعروف، ولم يأل جهدا في تضعيفه، ومن ثم شاع بين المتأخرين عنه الوقيعة فيه، والاعتراض عليه حتى غدا هذا القول غرضا لسهام الإشكال، وتكسرت النصال على النصال، وما سبب ذلك إلا الغفلة عن أمر واضح أنبهك عليه لتعلم أن ما أورد عليه إن صح جميعه - ولا يصح - فهو بمعزل عن مغزى هذين الإمامين، بل يبعد عنه بعد المشرقين.
أغار قلم الشيخ - أقال الله عثرته - على العقدين المودعين في الكتابين، وأخرج هذين الفريدين من سلك النظام، ووضعهما بين فرائده في غير المناسب لهما من المقام.
وأنا - إذا وفق الله تعالى - أرجع كلا منهما إلى موضعه لتعلم أني لم أتحر إلا الحق وما سلكت سوى طريق السداد، ويظهر لك أن هذين الإمامين في واد، وهؤلاء المعترضون في واد.
وأبدأ بكلام الجد، وأثنيه بكلام أخيه العلامة، ثم أتبعهما بتوضيح مرادهما والدفاع عنهما بالجواب عن مهم ما أورد عليهما.
قال - طاب ثراه - في أوائل المطلب الخامس، ما نصه:

(1) فرائد الأصول: 129 - 135.
(2) راجع فرائد الأصول: 135.
520

«خامسها: في بيان أن الحجة في معرفة الأحكام الشرعية في زمن الغيبة وانسداد باب العلم بالأحكام الواقعية، هل هي ظن المجتهد مطلقا من أي طريق حصل - إلا ما قام الدليل على عدم جواز الأخذ به بخصوصه - من غير فرق بين الطرق المفيدة للظن، أو أن هناك طرقا مخصوصة هي الحجة دون غيرها، فيجب على المجتهد الأخذ بها دون ما عداها من الظنون الحاصلة من الطرق التي لم يقم على جواز الأخذ بها بخصوصها حجة؟ وهذه المسألة وإن لم تكن معنونة في كتب الأصول، ولا تعرض لبيانها أحد من علماء المعقول والمنقول، إلا أنه لا بد من بنائهم فيها على أحد الوجهين، واختيارهم لأحد المسلكين» (1).
وذكر بعد ذلك كيفية استعلام مذهبهم، واستظهر من كلام معظمهم البناء على الوجه الثاني (الظن الخاص) ونفى البعد عن دعوى الاتفاق عليه، وأتبع ذلك بذكر مطالب مهمة تسمع بعضها في المواضع المناسبة لها، واختار قيام الدليل القاطع على حجية الظنون الخاصة (الكتاب والسنة) واجتث أصل شجرة دليل الانسداد بإبطال أول مقدماته، أعني انسداد باب العلم، وأبان عن وجود الحجة القطعية على معظم الأحكام الشرعية، كما هو مفاد الوجه الثامن.
وبعد التنزل عنه، ذكر وجوها سبعة استدل بها على أن المتبع الحجة الظنية من الكتاب والسنة، ويمر عليك بيانه مفصلا إن شاء الله.
وقصدي الآن بيان أن هذا الإمام من ألد أعداء القول بالظن المطلق، وما همه إلا إبطال هذا الدليل المعروف بدليل الانسداد، فكيف جاز لهؤلاء الأعلام أن يجعلوا الدليل الذي أقامه على إبطال هذا الدليل، وهدمه من أصله بيانا لنتيجة دليل الانسداد، ويذكر في عداد من يقول بصحته، ويعد قوله أحد الأقوال في نتيجته، ونزيد هذا الواضح بيانا، ونقول:

(1) هداية المسترشدين: 385.
521

من المقرر الذي جرى عليه الاصطلاح، أن الظن المطلق هو ما تثبت حجيته بدليل الانسداد من غير أن تكون خصوصية فيه للخبر أو لغيره، ويقابله الظن الخاص، وهو ما تثبت حجيته بغيره، وكل من سلم دليل الانسداد، وقال بحجية الخبر وغيره من أجله، فهو قائل بالظن المطلق، وكل من رأي خصوصية لأحد الظنون، واستدل على حجيته بغيره، فهو قائل بالظن الخاص.
وعليه بنى الشيخ الأعظم - طاب ثراه - رسالته، فراجع كلامه في أوائل مسألة الظن (1)، وفي أول حجية خبر الواحد (2)، وفي مسألة حجية قول اللغوي (3)، وموارد أخرى، وصرح به العلامة - الجد - أيضا، فقال في أثناء بيان الوجه السادس ما لفظه:
«وليس يعني بالظن الخاص إلا ما يكون حجيته ثابتة بالخصوص» (4).
فكيف يكون القول بخصوص الكتاب والسنة قولا بالظن المطلق أم كيف يكون الدليل الذي يستدل به على بطلان دليل الانسداد بيانا لنتيجته؟ انقلبت القوس ركوة، وقضى ناموس التحول على إبطال دليل الانسداد أن يكون بيانا لنتيجته.
هذا، والعلامة - الجد - يوافق الشيخ ومتابعيه في عموم نتيجة هذا الدليل إن تمت المقدمات التي بنيت عليه، وقد ذكر هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرها بناء على الظن المطلق، وجعل التعميم أظهرها، فقال ما لفظه:
«ثم إنه يقوم في كل من القولين (الظن المطلق والخاص) وجهان، فيحتمل أن يراد من حجية الظن مطلقا كون الحجة بعد انسداد سبيل العلم

(1) فرائد الأصول: 30.
(2) فرائد الأصول: 66.
(3) فرائد الأصول: 34.
(4) هداية المسترشدين: 398.
522

بالواقع هو الظن بالواقع، فتكون حجية الأدلة عند القائل به منوطة بالظن بالواقع، بل لا تكون الحجة عنده - إذن - إلا نفس الظن، فمع عدم حصول الظن لمانع يمنع منه لا تنهض حجة وإن لم يكن المانع المفروض حجة، إذ منعه من حصول الظن إنما يتبع الوجدان دون الحجية، وقضية عدم الحجية عدم الاتكال على الظن المانع، ولا ربط له بالمنع من حصول الظن منه.
ويحتمل أن يراد به حجية ما يفيد الظن في نفسه سواء حصل به الظن بالحكم فعلا لانتفاء مانع يمنع من حصوله، أو لم يحصل لحصول مانع منه، والأول هو الذي يقتضيه ظاهر كلماتهم، وتعطيه أدلتهم.
وأما الثاني، فلا يفي به ما قرروه من الأدلة، كما ستعرف إن شاء الله.
ويمكن أن يقال بحجية الظن مطلقا، سواء تعلق بالواقع أو بالطريق الموصل إلى حكم الشارع، فلو قام دليل ظني على حجية أمر خاص، كظاهر الكتاب، قام حجة ولو لم يحصل منه الظن بالواقع لمانع منه، وكان الأظهر - بناء على القول المذكور - ذلك، فإنه إذا قام الظن مقام العلم قضى بحجية الظن المتعلق بالطريق أيضا، فإنه أيضا من جملة الأحكام الشرعية» (1) انتهى المقصود نقله من كلامه.
وإني وأيم الحق لا أدري ما الذي ينقم منه الناقمون، وبم يعترض عليه المعترضون، أليس قد بين الاحتمالات الثلاثة، أعني التعميم، والتخصيص بأحد الأمرين من الواقع والطريق، وبين لكل ما يمكن أن يستدل به، أو يورد عليه بما لم يسبقه سابق، ولا يلحق شأوه (2) لا حق؟ ألم يصرح بعد ارتضائه ما عزوه إليه من تخصيص الحجية بالظن الطريقي؟ ألم يستظهر التعميم الذي اختاره المعترضون عليه؟.

(1) هداية المسترشدين: 385 - 386.
(2) الشأو: الغاية والأمد. الصحاح 6: 2388 (شاءا).
523

وأما صاحب الفصول، فإنه وإن جعل الظن بالطريق نتيجة دليل الانسداد، ولكنه قرره بغير التقرير المعروف، وأخذ فيه ما لازمه التخصيص بالطريق، وصرح بعموم النتيجة، بناء على التقرير المعروف، ودونك شطرا من كلامه يتضح به ما قلناه، قال في أثناء تعداده الأدلة الدالة على حجية الخبر الواحد ما لفظه:
«الثامن: الدليل المعروف بدليل الانسداد، ويمكن تقريره بوجهين:
أولهما، وهو المعتمد، وإن لم يسبقني إليه أحد» (1) وأخذ في تقريره مقدمات أخرجه بها عن حريم الظن المطلق إلى حمى خصوص الخبر ونحوه، كما سيأتي إن شاء الله.
وبالجملة، فهذان الإمامان لم يستندا قط إلى هذه المقدمات، بل استدلا بدليل غير دليل الانسداد المعروف على مدعي غير الظن المطلق، وتعرضا بعد ذلك له على التقرير المعروف عند نقل دليل القائلين بمطلق الظن، وأجادا كل الإجادة في بيانه ثم في رده، فراجع.
فإذن، ما الوجه في قول الشيخ في كلامه المتقدم نقله: «زعما منهم عدم نهوض المقدمات المذكورة لإثبات الظن في نفس الأحكام الفرعية» (2)؟ وما ذا الوجه في عدهما مخالفين لنتيجة دليل الانسداد؟.
وظاهر أن صناعة العلم لا يجوز مثل هذا التعبير إلا في مقام يتحد فيه المدعى والدليل، كما لو استدل كل من المتشرع والفيلسوف بتغيير العالم على حدوثه، فيقال: إنهما مختلفان في النتيجة، إذ هي عند أحدهما زماني، وعند الآخر ذاتي، وأما مع الاختلاف في المدعى والدليل فحاشا ثم حاشا.

(1) الفصول الغروية: 277.
(2) فرائد الأصول: 129.
524

ومن العجيب أن العلامة - الجد - استدل على مطلب واحد - وهو حجية الظن الخاص - بالوجوه الثمانية أو السبعة (1)، ولكن قلم الشيخ - طاب ثراه - شتت شملها، وفرق بينها، وجعل السادس منها دليلا على الظن الخاص، وذكره في سياق الأدلة العقلية الدالة على حجية خصوص الخبر الواحد (2)، وجعل الوجه الأول نتيجة للدليل على الظن المطلق (3)، وأشار إلى الثاني منها، ولم يتعرض لسائرها.
وقد ظهر للمنصف المتأمل فيما قلناه أن الكلامين الذين نقلتهما عن هذين الإمامين دليلان مستقلان على حجية الخبر الواحد ونحوه، قد نسفا بهما صرح الظن المطلق، وهدما بهما أساس دليل الانسداد ومبناه، لا أنهما بينا مفاده ومقتضاه.
وأراني لو وقفت بالقلم على هذا الحد لكان كافيا للدفاع عن الإمامين - العم والجد - ولكن حيث إنهما أوردا الأفهام الصافية شرعة الحق، وحجرا عليها ورد شريعة الظن المطلق لزمنا التأسي بهما، والجواب عما اعترض به عليهما، ليعلم أنه:
إذا وردنا آجنا جهرناه ولا يطاق ورد ما منعناه ونقدم كلام العلامة - العم - تأسيا بالشيخ الأعظم، وليكون كالمدخل إلى فهم كلام العلامة - الجد - فنقول: قال صاحب الفصول في تقرير دليل الانسداد على الوجه المعتمد عليه عنده، ما لفظه:
«إنا كما نقطع بأنا مكلفون في زماننا هذا تكليفا فعليا بأحكام فرعية كثيرة

(1) راجع هداية المسترشدين: 391 - 400.
(2) فرائد الأصول: 105.
(3) فرائد الأصول: 135.
525

لا سبيل لنا بحكم العيان، وشهادة الوجدان إلى تحصيل كثير منها بالقطع، ولا بطريق معين يقطع من السمع بحكم الشارع بقيامه، أو قيام طريقه مقام القطع ولو عند تعذره، كذلك نقطع بأن الشارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طرقا مخصوصة، وكلفنا تكليفا فعليا بالرجوع إليها في معرفتها، ومرجع هذين القطعين عند التحقيق - إلى أمر واحد، وهو القطع بأنا مكلفون تكليفا فعليا بالعمل بمؤدى طرق مخصوصة، وحيث إنه لا سبيل لنا غالبا إلى تعيينها بالقطع، ولا بطريق يقطع من السمع بقيامه بالخصوص، أو قيام طريقه كذلك مقام القطع ولو بعد تعذره، فلا ريب أن الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنما هو الرجوع في تعيين تلك الطرق إلى الظن الفعلي الذي لا دليل على عدم حجيته، لأنه أقرب إلى العلم، وإلى إصابة الواقع مما عداه» (1).
وعلى هذه القطعة من كلامه اقتصر الشيخ في النقل، وأورد عليه بقوله:
«وفيه أولا، إمكان منع نصب الشارع طرقا خاصة للأحكام الواقعية، وافية بها، كيف؟ وإلا لكان وضوح تلك الطرق كالشمس في رابعة النهار، لتوفر الدواعي بين المسلمين على ضبطها، لاحتياج كل مكلف إلى معرفتها أكثر من حاجته إلى مسألة صلواته الخمس.
واحتمال اختفائها مع ذلك - لعروض دواعي الاختفاء، إذ ليس الحاجة إلى معرفة الطريق أكثر من الحاجة إلى معرفة المرجع بعد النبي - مدفوع بالفرق بينهما كما لا يخفى.
وكيف كان فيكفي في رد الاستدلال احتمال عدم نصب الطريق الخاص للأحكام وإرجاع امتثالها إلى ما يحكم به العقلاء، وجرى عليه ديدنهم في امتثال أحكام الملوك والموالي، إلى أن قال:

(1) الفصول الغروية: 277.
526

«وظهر مما ذكرنا اندفاع ما يقال من أن منع نصب الطريق لا يجامع القول ببقاء الأحكام الواقعية، إذ بقاء التكليف من دون نصب طريق إليها ظاهر البطلان».
«توضيح الاندفاع: أن التكليف إنما يقبح مع عدم ثبوت الطريق رأسا ولو بحكم العقل الحاكم بالعمل بالظن مع عدم الطريق الخاص [أو مع ثبوته وعدم رضاء الشارع بسلوكه، وإلا فلا يقبح التكليف مع عدم الطريق الخاص] (1) وحكم العقل بمطلق الظن ورضاء الشارع به، ولهذا اعترف [هذا] (2) المستدل بأن الشارع لم يجعل (3) طريقا خاصا يرجع إليه عند انسداد باب العلم في تعيين الطرق الشرعية مع بقاء التكليف بها» (4).
أقول: لما ذا تراه عدل عن العبارة المتداولة في أمثال المقام - أعني المنع - إلى إمكان المنع، أما أنا فأرى أنه - قدس سره - علم أن من الواضح الذي لا يرتاب فيه وجود الطريق المنصوب، فمنعه ورعه، وتحرجه عن منع يعلم خلافه إلى دعوى إمكانه، والإمكان باب واسع لا يغلق إلا على شريك الباري ونحوه، وصاحب الفصول لا يدعي الوجوب العقلي حتى ينافيه الإمكان، بل يدعي القطع بوجود الطريق وهو - طاب ثراه - يعلم أنه صادق في دعواه، وكلامه شاهد له، فراجع ما ذكره من الإجماع، والسيرة، وتواتر الأخبار على حجية خبر الواحد في الجملة (5).
وليس بمنفرد في دعواه، إذ يشاركه فيها عيون الطائفة الحقة، ووجوهها

(1) ما بين المعقوفين من المصدر.
(2) الزيادة من المصدر.
(3) في المصدر: لم ينصب.
(4) فرائد الأصول: 129 - 130.
(5) الفصول الغروية: 272 - 277.
527

من رواتها، وعلمائها، ومحدثيها، وفقهائها، وقد نقل الشيخ من كلامهم المقرون بدعوى الإجماع والقطع ما فيه مقنع وكفاية، فراجع (1).
ولعل الشيخ فهم من هذا الكلام ما صرح به بعض تلامذته أعني لزوم نصب طريق تعبدي غير ما جرى عليه سيرة العقلاء، كما ينبئ عنه تقييده الطريق بالخاص، واحتماله الإرجاع إلى الطرق التي جري عليها ديدن العقلاء في امتثال أحكام الملوك إلى آخره.
فإن كان ذلك، فلا يخفى على المتأمل في كلامه أنه لا عين ولا أثر فيه للطريق بهذا المعنى، وحسبه أن يكون هناك طرق عقلائية قد أمضاها الشارع، واكتفى بها في امتثال أوامره ونواهيه، وأمر بسلوكها، واعتمد في إطاعته عليها، ولا شك أن خبر الثقة الضابط من أظهر افرادها، وأوضح مصاديقها، وموافقة الطريق الشرعي لطريقة العقلاء مما يقويه ولا يوهنه، فأي داع يدعو الشارع إلى الطريق المخترع، وأي داع يدعو صاحب الفصول إلى تكلف إثباته؟ وأنت تعلم بأنه ذكر هذا الدليل على إثبات حجية الخبر الذي عرفت أنه أصح طرق العقلاء.
وما ذكره من أن تلك الطرق لو كانت لاشتهرت اشتهار الشمس في رابعة النهار، فقد حصلت ولله الحمد والمنة، ودلت الأدلة الواضحة على حجية الشريفين: الكتاب والسنة، وإن كان ثمة ريب فهو في حد السنة أو تعيين مصاديقها، كما ستعرف إن شاء الله.
وما ذكره خلال كلامه من احتمال إحالة الشارع العباد في طريق امتثال أحكامه إلى ما هو المتعارف بينهم في امتثال أحكامهم العرفية، إلى آخره (2).

(1) فرائد الأصول: 88.
(2) فرائد الأصول: 130.
528

فإن كان مع التمكن من الحجة عندهم كخبر الثقة، فاعتماد العقلاء على الظن ممنوع، فلو فرض أن أحدهم نصب طريقا لعبده في امتثال أوامره، وصرح له بأنه جعل خبر فلان حجة عليه، أتراه يعذره إذا ترك الأخذ به، واعتمد على ظنونه؟.
وأما مع عدم التمكن منه، فلا شك في جميع ما ذكره حتى فيما استعاذ منه هنا، وفي مواضع اخر، أعني تعين الامتثال بالاحتمال إذا فقدت الطرق الظنية.
والحاصل، أن جميع ما مر من كلامه، وشطرا مما يأتي منه يرد على صاحب الفصول لو أراد وجوب نصب الطريق غير العقلائي عقلا، ويصح ما ذكره في دفع ما يقال من أن منع نصب الطريق لا يجامع القول ببقاء التكليف، وأما مع كون المراد ما يعم الجعل والإمضاء، فلا سبيل إلى منع قبح التكليف، وحكم العقل بالعمل بالظن مع عدم الطريق الخاص لا يرفع وجوب نصب الطريق على الشارع.
ولقد حمل بعض تلامذة الشيخ نصب الطريق في كلام صاحب الفصول على غير ذلك، فأطنب بل أفرط في الاعتراض عليه.
وقد أنصف الأستاذ في الحاشية حيث لم ينكر كون المراد من الطرق الخاصة ما يعم ما نصبها من الطرق المتعارفة بين العقلاء إمضاء لسيرتهم ولو بعدم الردع عنه، قال: «ومعه لا مجال لعدم نصبها، ودعواه بينة، وإنكاره مكابرة» (1).
وما ذكره من اعتراف صاحب الفصول بما نقله عنه فلم يظهر لي ارتباطه بالمقام إلا بتكلف، فهل كان المتوقع منه أن يقول بلزوم نصب الطريق إلى تلك الطرق، فيلزمه لزوم نصبه إلى طريق الطريق وهكذا إلى ما لا نهاية له؟ عاد كلامه طاب ثراه: «وربما يستشهد للعلم الإجمالي بنصب الطريق

(1) حاشية فرائد الأصول: 87.
529

أن المعلوم من سيرة العلماء في استنباطهم هو اتفاقهم على طريق خاص وإن اختلفوا في تعيينه، وهو ممنوع.
أولا: بأن جماعة من أصحابنا كالسيد رحمه الله وبعض من تقدم عليه وتأخر عنه منعوا نصب الطريق الخاص، بل أحاله بعضهم.
وثانيا: لو أغمضنا عن مخالفة السيد وأتباعه، لكن مجرد قول كل من العلماء بحجية طريق خاص أدى إليه نظره لا يوجب العلم الإجمالي بأن بعض هذه الطرق منصوبة لجواز خطأ كل واحد منهم فيما أدى إليه نظره، واختلاف الفتاوى في الخصوصيات لا يكشف عن تحقق القدر المشترك، إلا إذا كان اختلافهم راجعا إلى التعيين على وجه ينبئ عن اتفاقهم على قدر مشترك نظير الأخبار المختلفة في الوقائع المختلفة، فإنها لا توجب تواتر القدر المشترك إلا إذا علم من أخبارهم كون الاختلاف راجعا إلى التعيين، وقد تحقق ذلك في باب التواتر الإجمالي والإجماع المركب» (1).
أقول: أما اعتراضه الأول فقد كفانا بنفسه - طاب ثراه - مئونة الجواب عنه بما سبق منه في تقرير السيرة والإجماع بوجوه عديدة، وبيان عدم قدح مخالفة السيد في انعقاده، واعتذاره عنه بأعذار شتى، وادعاؤه الإجماع حتى منه مع عدم التمكن من العلم أو مطلقا، فنحن نذكره بما ذكره، ونأمر الناظر بالرجوع إليه، فلعمر الحق إنه لم يبق في القوس منزعا، ولا للزيادة عليه موضعا، وكذا فيما ذكره ثانيا - وما ذكره إلا جدلا - لأن من المعلوم لدى من له أدنى تأمل بطريقتهم، وتتبع في كلماتهم أن خبر الثقة الثبت، الحاوي للشرائط، الخالي عن العلة والمعارض، متفق عليه عندهم، فترى أحدهم إذا استدل بخبر على حكم فرعي لا يرده خصمه إلا بضعف الراوي، أو جهالته، أو شذوذه وندرته، أو بوجود

(1) فرائد الأصول: 130.
530

المعارض له، أو بإعراض الأصحاب عنه، ونحو ذلك، ولا ترى أحدا من متقدميهم ومتأخريهم يسلم منه اجتماع الشرائط، وفقدان الموانع في خبر، ثم يخالفه فيه، ويفتي بخلافه، وإن كنت على شك منه - وحوشيت عنه - فما عليك لو راجعت كتب الأصحاب وتصفحتها بابا بعد باب، فلا ترى أن فعلت في المسائل الخلافية إلا الاتفاق على ما قلناه، ولا يكون سبب الاختلاف إلا الاختلاف في شرطية أمر في الحجية، أو حصول الشرط وعدمه، فمنهم من يكتفي بكون الراوي ثقة وإن كان فاسد المذهب، ويخالفه من يشترط فيه أن يكون إماميا، ويرى أحدهم ضعف محمد بن سنان فيطرح روايته، ويرى غيره خلاف ذلك فيعمل بها، وربما تعارضت الأخبار فاختلفت في جهات الترجيح الأنظار، إلى غير ذلك من الجهات الكثيرة التي ليس المقام مقام عدها واستقصائها.
وعلى هذا المنهج الواضح ترى نهج جميعهم في جميع كتب الفقه من عباداتها، ومعاملاتها، وحدودها، ودياتها، ولا نرى متسما بسمة العلم يسلم صحة الخبر الذي يستدل به خصمه، ويسلم خلوه عن العلة والمعارض، ثم يخالفه، ويذهب إلى غيره إلا أن يكون السيد أو أحد أتباعه، وقد سمعت من الشيخ الوجه في عدم قدح ذلك فيما نحن بصدده.
أو بعد هذا كله يبقى أدنى ريب في أن الخبر الصحيح الخالي عن العلة والمعارض بعنوان أنه خبر كذلك مسلم حجيته عندهم؟ وهل يحسن أن يقاس ذلك بما ذكره الشيخ في رد دعوى الإجماع حتى من السيد وأتباعه؟ وهو قوله:
«ألا ترى أنه لو اتفق جماعة - يعلم رضاء الإمام بعملهم - على النظر إلى امرأة، لكن يعلم أو يحتمل أن يكون وجه نظرهم كونها زوجة لبعضهم، وأما لآخر، وبنتا لثالث، وأم زوجة لرابع، وبنت زوجة لخامس» (1) أليس الفرق بين هذا المثال وبين

(1) فرائد الأصول: 101.
531

المقام أبين من فلق الصباح؟ عاد كلامه: «وربما يجعل تحقق الإجماع على المنع عن العمل بالقياس وشبهه ولو مع انسداد باب العلم كاشفا عن أن المرجع إنما هو طريق خاص.
وينتقض أولا بأنه مستلزم لكون المرجع في تعيين الطريق أيضا طريقا خاصا للإجماع على المنع عن العمل فيه بالقياس.
ويحل ثانيا بأن مرجع هذا إلى الإشكال الآتي في خروج القياس عن مقتضى دليل الانسداد، فيدفع بأحد الوجوه الآتية» (1).
أقول: يأتي آخر البحث - إن شاء الله - بيان أن المنع عن القياس وأضرابه من أقوى الأدلة على المذهب الحق من انحصار الامتثال في الطرق الشرعية، وبطلان الظن المطلق، ونقتصر هنا على نقل كلامه الذي صرح فيه باختياره هذا الذي تصدى لرده.
قال طاب ثراه في الجواب عن الدليل الأول من الأدلة التي ذكرها لحجية مطلق الظن من غير خصوصية للخبر ما نصه:
«استحقاق الثواب والعقاب إنما هو على تحقق الطاعة والمعصية اللتين لا تتحققان إلا بعد العلم بالوجوب والحرمة أو الظن المعتبر بهما، وأما الظن المشكوك الاعتبار فهو كالشك، بل هو هو بعد ملاحظة أن من الظنون ما أمر الشارع بإلغائه ويحتمل أن يكون المفروض منها» (2).
انتهى المقصود نقله من جوابه الذي ارتضاه، وصريحه: أن المنع عن بعض الظنون يجعل الظن المشكوك الاعتبار كالشك، بل يحوله إلى الشك، ويجعله هو هو بعينه لا يتحقق به طاعة ولا معصية، ولا يستحق به ثواب ولا

(1) فرائد الأصول: 130.
(2) فرائد الأصول: 108.
532

عقاب، فما ذا الذي نقمه من هذا القول وقد قال بمثله، وبلغ في المبالغة فيه إلى حد لم يصل إليه هذا القائل، حيث جعل الظن غير المعتبر شكا بالحمل الشائع.
هذا وأما الإجماع الذي ادعاه فيحق لنا أن نسأل عنه ونقول: هل هو محصل أو منقول؟ فما طريق تحصيله إن كان محصلا؟ ومن الناقل له إن كان منقولا؟ ومن الطريف جدا أن الإجماع على عدم جواز العمل بالقياس في نفس الأحكام الشرعية حال الانسداد مما ينكره مثل المحقق القمي (1)، ويجعله الشيخ أول الأجوبة عن إشكال خروج القياس (2)، مع تلك التصريحات الكثيرة من أئمة العلم - قديمهم وحديثهم - بإجماع الشيعة على بطلانه، وتركهم كتب مثل الإسكافي أحد السلف الذي عز في الخلف مثله، ومع تواتر النصوص الواردة في بطلانه، ثم يدعي الإجماع على عدم الجواز في تعيين الطريق به الذي لم يصرح به أحد، ولا جاء فيه خبر واحد، ولم يوجد إلا في صحيفة الاحتمال.
وليكن الأمر كما ذكره في حل الإشكال من أن مرجع هذا الإشكال في خروج القياس، فما الذي يمنع صاحب الفصول من دفعه بأحد تلك الوجوه؟ وإذا كان القائلون بالظن المطلق يمكنهم الجواب عن خروج القياس في نفس الأحكام الشرعية، على أن دليلهم بزعمهم عقلي لا يقبل التخصيص، أفلا يمكن القائل بالظن الخاص أن يأتي بمثله أو بأحسن منه؟ مع أن عمدة مقدمات دليله النقل، فيجيب عن هذا النقض تارة بالتزام الجواز وهو أهون بكثير من التزام الفاضل القمي من جوازه في نفس الأحكام أو يدعي عدم حصول الظن منه بعد ورود النهي عنه، وما المجازفة فيه بأشد منها في عدم حصول الظن منه في

(1) انظر قوانين الأصول 1: 449.
(2) فرائد الأصول: 157.
533

نفس الأحكام، وهكذا في عدة أخرى من تلك الوجوه.
عاد كلامه: «فإن قلت: ثبوت الطريق إجمالا مما لا مجال لإنكاره حتى على مذهب من يقول بالظن المطلق، فإن غاية الأمر أنه يجعل الظن المطلق طريقا عقليا رضي به الشارع فنصب الشارع الطريق بالمعنى الأعم من الجعل والتقرير معلوم.
قلت: هذه مغالطة» إلى آخره، ثم أخذ في بيان المغالطة بما أصاب به شاكلة الصواب، وأجاب عنها بأحسن جواب (1)، ونحن لم نرض بقول هذا القائل، فلا يهمنا الدفاع عنه.
عاد كلامه «وثانيا: سلمنا نصب الطريق لكن بقاء ذلك الطريق لنا غير معلوم، بيان ذلك: أن ما حكم بطريقيته لعله قسم من الأخبار ليس بأيدينا اليوم إلا قليل، كأن يكون الطريق المنصوب هو الخبر المفيد للاطمئنان الفعلي بالصدور الذي كان كثيرا في الزمان السابق لكثرة القرائن، ولا ريب في ندرة هذا القسم في هذا الزمان، أو خبر العادل، أو الثقة الثابت عدالته أو وثاقته بالقطع أو بالبينة الشرعية أو الشياع مع إفادته الظن الفعلي بالحكم، ويمكن دعوى ندرة هذا القسم في هذا الزمان، إذ غاية الأمر أن نجد الراوي في الكتب الرجالية محكي التعديل بوسائط عديدة من مثل الكشي أو النجاشي وغيرهما، ومن المعلوم أن مثل هذا لا يعد بينة شرعية، ولذا لا يعمل بمثلها في الحقوق، ودعوى حجية مثل ذلك بالإجماع ممنوعة، بل المسلم أن خبر المعدل بمثل هذا حجة بالاتفاق العملي، لكن قد عرفت سابقا عند تقرير الإجماع على حجية الخبر الواحد، أن مثل هذا الاتفاق العملي لا يجدي في الكشف عن قول الحجة، مع أن

(1) فرائد الأصول: 131.
534

مثل هذا الخبر في غاية القلة، خصوصا إذا انضم إليه إفادة الظن الفعلي» (1).
أقول: مبنى هذا الدليل على دعوى القطع بأنا مكلفون فعلا بالعمل بالتكاليف الشرعية الواقعية المدلول عليها بالحجج الشرعية، كما صرح به، وستعرف بيانه عند شرح قوله: ومرجع هذين القطعين عند التحقيق إلى أمر واحد (2).
فإن صح منه هذا الدعوى فلا يرد عليه عدم معلومية بقاء الطرق، ولا شطر من سائر الإيرادات الموردة عليه، وإلا فالأجدر السؤال عن مستند هذا القطع إن كان القاطع يسأل عنه، أو منع هذا القطع والاكتفاء به عن هذا التطويل.
ثم أقول: سرعان ما نسي قلم الشيخ ما زبره في أول الدليل الأول من الأدلة العقلية على حجية الخبر وهو: لا شك للمتتبع في أحوال الرواة - المذكورة في تراجمهم - في أن أكثر الأخبار، بل جلها إلا ما شذ وندر صادرة عن الأئمة عليهم السلام (3)
(4).

(1) فرائد الأصول: 131.
(2) الفصول الغروية: 277.
(3) فرائد الأصول: 102.
(4) إذ الوجدان يحكم بأنه كلما كثرت أطراف الشبهة ضعف الاحتمال في كل واحد واحد من الأطراف، فراجع نفسك فيما تستقذرها أو تحذرها إذا كان القذر أو المحذور بين إناءين، ثم فيما كان بين عشرة فبين ألف فبين مائة ألف، تجدها يحتمل وجوده في كل من الإناءين احتمالا متساويا، ويضعف في كل منها في المراتب المتتالية حتى ينتهي إلى الاطمئنان بالعدم فيه إذا انتهت إلى المرتبة الأخيرة، وهذا معنى:
إن صعب إثباته بالبرهان سهله الوجدان، وهذا من أحسن الوجوه في مسألة الفرق بين الشبهة المحصورة وغير المحصورة.
ولعل قوله عليه السلام: «أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم جميع ما في الأرض؟» [المحاسن: 495 - 597] ليس بحكم تعبدي، بل هو إرجاع للسائل إلى حكم فطرته ووجدانه على ما هو الغالب في الاستفهامات الواردة في موارد كثيرة من الكتاب والسنة. (منه).
535

وظاهر لدى من راجع وجدانه وقاس المقام إلى أمثاله أن مثل ذلك يوجب الاطمئنان بجميع الأخبار، لا سيما إذا عرفت عدة من ذلك الشاذ النادر بإعراض الأصحاب، أو مخالفتها لضرورة المذهب ونحوهما، وضعف الظن فيه بصنوف الموهنات، وتأيد الأكثر بالقرائن الكثيرة من تعاضد بعضه لبعض، وموافقته لأصول المذهب، وتكرره في الأصول، ووقوعه عند الطائفة موقع القبول، إلى غير ذلك من ضروب المؤيدات.
ثم إن دعوى عدم الشك فيما ذكر لا يجتمع مع هذا التضييق الشديد، أعني تخصيص الحجية بخبر العدل، أو الثقة الثابت عدالته ووثاقته بالقطع، أو الشياع والبينة، إذ الحجة المطلوبة في المقام هي الوافية بجميع الأحكام أو أكثرها، ونحن نعلم أن هذه الأخبار التي بأيدينا اليوم هي تلك الموجودة في الزمان السابق، ورواتها من عرف أكثرهم بالضد مما قال، كما هو واضح لدى المتضلع بعلم الرجال.
واحتمال أن في الصدر الأول كانت روايات كثيرة كافية رواتها غير هؤلاء الرواة المعروفين لم يصل إلينا رواياتهم ولا حالاتهم احتمال سوفسطائي، لا يحنث الإنسان إذا حلف على بطلانه بغموس الأيمان.
هذا وما ذكره أخيرا من منع حجية الاتفاق العملي، قد مر الكلام عليه فيما سبق.
عاد كلامه: «وثالثا: سلمنا نصب الطريق ووجوده في جملة ما بأيدينا من الطرق الظنية من أقسام الخبر، والإجماع المنقول، والشهرة، وظهور الإجماع والاستقراء والأولوية الظنية، إلا أن اللازم من ذلك هو الأخذ بما هو المتيقن [من هذه] (1) فإن وفي بغالب الأحكام اقتصر عليه، وإلا فالمتيقن من الباقي، مثلا:

(1) زيادة من المصدر.
536

الخبر الصحيح، والإجماع المنقول متيقن بالنسبة إلى الشهرة وما بعدها من الأمارات، إذ لم يقل أحد بحجية الشهرة وما بعدها دون الخبر الصحيح والإجماع المنقول، فلا معنى لتعيين الطريق بالظن بعد وجود القدر المتيقن، ووجوب الرجوع إلى المشكوك إلى أصالة حرمة العمل، نعم لو احتيج إلى العمل بإحدى أمارتين، واحتمل نصب كل منهما صح تعيينه بالظن بعد الإغماض عما سيجيء من الجواب» (1).
أقول: لا يخفى على من تأمل عبارة الفصول، أن مبنى كلامه على عدم وجود القدر المتيقن، وهذا صريحه من أوله إلى آخره مما نقله الشيخ ومما أسقطه منه، وكأنه - طاب ثراه - لم يعط التأمل فيها حقه، وإلا ما كان يخفى مثله على مثله، وأنا الضمين بأن لا يخالف صاحب الفصول مرسومه، ويجري على اقتراحه من الأخذ بالمتيقن لو وجد بمقدار الكفاية، ويرجع في غيره إلى الأصول العملية أو إلى أصالة حرمة العمل كما ذكره، وكأنه فرض وجود القدر المتيقن كما يؤيده قوله بعد ذلك: سلمنا عدم وجود القدر المتيقن (2)، ولكن لا يخفى أن جميع هذا التعب وتحمل العناء والنصب لعدم وجود القدر المتيقن بقدر الكفاية، وإلا لم يبق موضع لدليل الانسداد ولا لما يدخل في بابه.
عاد كلامه: «سلمنا عدم وجود القدر المتيقن، لكن اللازم من ذلك وجوب الاحتياط لأنه مقدم على العمل بالظن لما عرفت من تقديم الامتثال العلمي على الظن، اللهم إلا أن يدل دليل على عدم وجوبه، وهو مفقود في المقام» إلى آخره، ثم أخذ - طاب ثراه - في دفع ادعاء أن العمل بما ليس طريقا حرام (3)، ولا يهمنا

(1 و 2) فرائد الأصول: 131.
(3) فرائد الأصول: 131.
537

نقله، إذ لا كلام لنا الآن عليه.
أقول: إن كان الاحتياط في الطريق راجعا إلى الاحتياط في الفروع، كما قال بعضهم، فالدليل على بطلانه ذلك الدليل الدال على بطلانه في الفروع، وكذلك إذا كان مستلزما له كالموردين المذكورين في آخر كلام الشيخ.
وإن كان غيره فعلى غموض في معناه واختلاف شديد في تقريره، فلا أدري ما الذي يصد صاحب الفصول من ادعاه الدليل على بطلانه فيه مثل ما ادعوه فيها وهم - كما تعلم - لم يستندوا في
إبطال الاحتياط في الفروع إلى برهان قطعي، بل كان أقصى جهدهم دعوى الإجماع على عدم وجوبه، أو لزوم الحرج واختلال النظام في التزامه، وإذا استند إلى أحدها أو إلى جميعها في بطلان الاحتياط في الطريق فلا أدري إلى م يسند الشيخ منعه في قوله: «وهو في المقام ممنوع» (1)، ولو كان مجرد المنع كافيا فقد منع كلا من تلك الوجوه جماعة من متابعيه، بل لم يكتف بعضهم بمجرد المنع، بل أقام الدليل عليه بزعمه.
ومن الطريف قول بعض المحشين (2) من تلامذته وهو: «فقد الدليل على عدم وجوب الاحتياط في المقام ظاهر».
«أما الأول - يعني الإجماع - فظاهر، وأما الثاني والثالث - يريد لزوم الاختلال والحرج - فلأن الاحتياط في المقام يوجب التوسعة على المكلف لا الضيق عليه، ضرورة أن أكثر الأمارات ينفي التكليف ولا يثبته».
«اللهم إلا أن يقال: إن مقتضى الدليل هو وجوب العمل بما يوجب الإلزام على المكلف لا بالأعم منه ومما ينفيه، لكنه فاسد من جهة أن المستدل لم

(1) فرائد الأصول: 131 وفيه: مفقود في المقام.
(2) هو الميرزا محمد حسن الآشتياني رحمه الله.
538

يأخذه في عنوان مختاره، ولم يعتبره شرطا فيه» (1) انتهى، فتأمل فيه فإن فيه عجائب.
وبالجملة، ففي معنى الاحتياط في الطريق خفاء، وفي تقريره اختلاف، كما مر، ومن أجله تولدت اعتراضات جديدة على كلام الفصول، واستيفاء القول فيه يقف على حد الإطالة بالقلم، ولا يستفيد الناظر فيه سوى السأم، وفيما نذكره إن شاء الله في تفسير قوله: «ومرجع القطعين عند التحقيق إلى أمر واحد» ما يستأصل الشافه، ويأتي على جميع ما لفقوه.
عاد كلامه: «وخامسا: سلمنا العلم الإجمالي بوجود الطريق المجعول، وعدم المتيقن، وعدم وجوب الاحتياط، لكن نقول: إن ذلك لا يوجب تعيين العمل بالظن في مسألة تعيين الطريق فقط، بل هو مجوز له، كما يجوز العمل بالظن في المسألة الفرعية».
«وذلك لأن الطريق المعلوم نصبه إجمالا إن كان منصوبا حتى حال انفتاح باب العلم، فيكون هو في عرض الواقع مبرئا للذمة بشرط العلم به كالواقع المعلوم مثلا إذا فرضنا حجية الخبر مع الانفتاح تخير المكلف بين امتثال ما علم كونه حكما واقعيا بتحصيل العلم به، وبين امتثال مؤدى الطريق المجعول الذي علم جعله بمنزلة الواقع، فكل من الواقع ومؤدى الطريق مبرئ مع العلم به، فإذا انسد باب العلم التفصيلي بأحدهما تعين الآخر، وإذا انسد باب العلم التفصيلي بهما تعين العمل فيهما بالظن، فلا فرق بين الظن بالواقع والظن بمؤدى الطريق في كون كل واحد امتثالا ظنيا».
«وإن كان ذلك الطريق منصوبا عند انسداد باب العلم بالواقع، فنقول:
إن تقديمه حينئذ على العمل بالظن إنما هو مع العلم به وتميزه عن غيره، إذ

(1) بحر الفوائد 1: 209.
539

حينئذ يحكم العقل بعدم جواز العمل بمطلق الظن مع وجود هذا الطريق المعلوم، إذ فيه عدول عن الامتثال القطعي إلى الظني، وكذا مع العلم الإجمالي، بناء على أن الامتثال التفصيلي مقدم على الإجمالي، أو لأن الاحتياط يوجب الحرج المؤدي إلى الاختلال».
«أما مع انسداد باب العلم بهذا الطريق، وعدم تميزه عن غيره إلا بإعمال مطلق الظن، فالعقل لا يحكم بتقديم إحراز الطريق بمطلق الظن على إحراز الواقع بمطلق الظن».
«وكأن المستدل توهم أن مجرد نصب الطريق ولو مع عروض الاشتباه فيه موجب لصرف التكليف عن الواقع إلى العمل بمؤدى الطريق، كما ينبئ عنه قوله: وحاصل القطعين إلى أمر واحد وهو التكليف الفعلي بالعمل بمؤديات الطرق (1)، وسيأتي مزيد توضيح لاندفاع هذا التوهم إن شاء الله» (2).
أقول: بعد التأمل في جميع ما ذكره في الفصول هنا، وبمراجعة ما ذكره قبله من أدلة حجية خبر الواحد وغيره، لا يبقى ريب في أن صاحب الفصول يرى الطريق منصوبا حال الانفتاح أيضا.
وجميع ما أورده الشيخ حق لا مرية فيه، إلا قوله: «فلا فرق بين الظن بالواقع والظن بمؤدى الطريق» فإن فيه كلاما تعرفه عند التعرض لكلام أخيه العلامة الجد.
وكذا ما أورده على الفرض الأخير لا بحث فيه، إلا في قوله: «فالعقل لا يحكم بتقديم إحراز الطريق بمطلق الظن على إحراز الواقع بمطلق الظن» وتعرفه هناك أيضا.

(1) الفصول الغروية: 277.
(2) فرائد الأصول: 132.
540

ولكن قوله: «وكأن المستدل توهم أن مجرد نصب الطريق ولو مع عروض الاشتباه فيه موجب لصرف التكليف عن الواقع إلى العمل بمؤدى الطريق» يوهم الترديد في مراد الفصول، مع أن ذلك صريحه في عدة مواضع، بل هو الأصل الذي بنى دليله عليه، وهو الحق الذي لا معدل عنه لكن على وجه يسلم من هذه الاعتراضات المتوجه إليه من الشيخ وغيره، ونؤخر بيانه إلى أن يفي الشيخ بوعده، أعني مزيد التوضيح لاندفاع هذا التوهم، ونزيده توضيحا عند شرح كلام أخيه الجد، ونكتفي هنا بقولنا: إن هذا الذي سماه توهما قد جزم به في رسالة البراءة، وتخلص به عن الدليل العقلي المستدل به على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية، ودونك كلامه بنصه:
«والجواب أولا: منع تعلق تكليف غير القادر على تحصيل العلم، إلا بما أدى إليه الطرق غير العلمية المنصوبة له - وقد سمعت منه منع نصب الطريق (1) - فهو مكلف بالواقع بحسب تأدية هذه الطرق لا بالواقع من حيث هو، ولا مؤدى هذه الطرق من حيث هو حتى يلزم التصويب أو ما يشبهه، لأن ما ذكرناه هو المتحصل من ثبوت الأحكام الواقعية للعالم وغيره، وثبوت التكليف بالعمل بالطرق» (2) انتهى.
وهذا مذهب صاحب الفصول بعينه، وقد أحسن في بيانه، وتشييد أركانه، وقد برأه عن هجنة (3) التصويب وما يشبهه، وجعله المتحصل من ثبوت الأحكام الواقعية والعمل بالطرق العلمية، واحتمل هنا نظيره في مسألة عمل القاضي بالظن في الطريق، كما ستعرفه.

(1) ما بين الشرطتين من المصنف.
(2) فرائد الأصول: 213.
(3) الهجنة - بضم الهاء - في الكلام: العيب والقبح. القاموس المحيط 4: 279، المصباح المنير: 635 (هجن).
541

وظاهر أن جميع ما يورد على صرف التكليف عن الواقع إلى مؤديات الطرق من التصويب وشبهه يرد عليه بعينه.
عاد كلامه: «فإن قلت: نحن نرى أنه إذا عين الشارع طريقا للواقع عند انسداد باب العلم به، ثم انسد باب العلم بذلك الطريق، كان البناء على العمل بالظن في الطريق دون نفس الواقع، ألا ترى أن المقلد يعمل بالظن في تعيين المجتهد، لا في نفس الحكم الواقعي، والقاضي يعمل بالظن في تحصيل الطرق المنصوبة لقطع المرافعات، لا في تحصيل الحق الواقعي بين المتخاصمين.
قلت: فرق بين ما نحن فيه وبين المثالين، فإن الظنون الحاصلة للمقلد والقاضي في المثالين بالنسبة إلى الواقع أمور غير مضبوطة، كثير المخالفة للواقع، مع قيام الإجماع على عدم جواز العمل بها كالقياس، بخلاف ظنونهما المعمولة في تعيين الطريق، فإنها حاصلة من أمارات منضبطة، غالب المطابقة، لم يدل دليل بالخصوص على عدم جواز العمل به.
فالمثال المطابق لما نحن فيه، أن يكون الظنون المعمولة في تعيين الطريق بعينها هي المعمولة في تحصيل الواقع لا يوجد بينهما فرق من جهة العلم الإجمالي بكثرة مخالفة إحداهما للواقع، ولا من جهة منع الشارع عن إحداهما بالخصوص، كما أنا لو فرضنا أن الظنون المعمولة في نصب الطريق على العكس في المثالين كان المتعين العمل بالظن في نفس الواقع دون الطريق.
فما ذكرنا من العمل على الظن - سواء تعلق بالطريق أم بنفس الواقع - فإنما هو مع مساواتهما من جميع الجهات، فإنا لو فرضنا أن المقلد يقدر على إعمال نظير الظنون التي يعملها لتعيين
المجتهد في الأحكام الشرعية مع قدرة الفحص عما يعارضها على الوجه المعتبر في العمل بالظن لم يجب عليه العمل بالظن في تعيين المجتهد، بل وجب عليه العمل بظنه في تعيين الحكم الواقعي.
وكذا القاضي إذا شهد عنده عادل واحد بالحق لا يعمل به، وإذا أخبره
542

هذا العادل بعينه بطريق قطع هذه المخاصمة يأخذ به، فإنما هو لأجل قدرته على الاجتهاد في مسألة الطريق بإعمال الظنون، وبذل الجهد في المعارضات، ودفعها، بخلاف الظن بحقية أحد المتخاصمين، فإنه مما يصعب الاجتهاد، وبذل الوسع في فهم الحق من المتخاصمين لعدم انضباط الأمارات في الوقائع الشخصية، وعدم قدرة المجتهد على الإحاطة بها حتى يأخذ بالأخرى، وكما أن المقلد عاجز عن الاجتهاد في المسألة الكلية، كذلك القاضي عاجز عن الاجتهاد في الوقائع الشخصية فتأمل.
هذا، مع إمكان أن يقال: إن مسألة عمل القاضي بالظن في الطريق مغايرة لمسألتنا، من جهة أن الشارع لم يلاحظ الواقع في نصب الطرق، وأعرض عنه وجعل مدار قطع الخصومة على الطرق التعبدية مثل الإقرار، والبينة، واليمين، والنكول، والقرعة، وشبهها، بخلاف الطرق المنصوبة للمجتهد على الأحكام الواقعية، فإن الظاهر أن مبناها على الكشف الغالبي عن الواقع، ووجه تخصيصها من بين سائر الأمارات: كونها أغلب مطابقة، وكون غيرها غير غالب المطابقة، بل غالب المخالفة، كما ينبئ عنه ما ورد في العمل بالعقول في دين الله، «وأنه ليس شيء أبعد عن دين الله من عقول الرجال» و «أن ما يفسده أكثر مما يصلحه» و «أن الدين يمحق بالقياس» ونحو ذلك.
ولا ريب أن المقصود من نصب الطريق إذا كان غلبة الوصول إلى الواقع لخصوصية فيها من بين سائر الأمارات، ثم انسد باب العلم بذلك الطريق المنصوب، والتجأ إلى إعمال سائر الأمارات التي لم يعتبرها الشارع في نفس الحكم لوجود الأوفق منها بالواقع، فلا فرق بين إعمال هذه الأمارات في تعيين ذلك الطريق وبين إعمالها في نفس الحكم الواقعي، بل الظاهر أن إعمالها في نفس الواقع أولى لإحراز المصلحة الأولية التي هي أحق بالمراعاة عن مصلحة نصب الطريق، فإن غاية ما في نصب الطريق من المصلحة ما به يتدارك المفسدة المترتبة
543

على مخالفة الواقع اللازمة من العمل بذلك الطريق، لا إدراك المصلحة الواقعية، ولهذا اتفق العقل والنقل على ترجيح الاحتياط على تحصيل الواقع بالطريق المنصوب في غير العبادات مما لا يعتبر فيه نية الوجه اتفاقا، بل الحق ذلك فيها أيضا، كما مرت الإشارة إليه في إبطال وجوب الاحتياط» (1).
أقول: إن تم ما ادعاه من الفرق بين المقلد وبين ما نحن فيه - ولا يتم على إطلاقه، كما ستعرف - فإن الأمر في القضاء بالعكس، إذ لمعرفة المحق من المبطل في الدعاوي طرق منضبطة يجري عليها العقلاء من كل قوم وملة يفصلون بها بين الخصوم، ويصيبون الواقع غالبا، بل إلا نادرا.
وحينما ترى قاضي العرف إذا رفع إليه دعوى السرقة ينظر إلى حال المتداعيين، فإذا رأى المدعي صالحا مثريا لم يعهد منه قط ارتكاب مأثمة ولا ادعاء باطل، ورأى المدعى عليه خليعا (2)، صعلوكا (3)، حرفته الشحاذة (4)، وعادته السرقة، ماهرا في حرفته، جاريا طول عمره على عادته، قد قطعت للسرقة يده، وكم سود بالسياط جلده، ورآه جماعة واقفا ساعة التهمة على باب الدار، وآخرون متسلقا حائط الجار، فبعد الاستنطاق والاستخبار، واستقصاء الشواهد والآثار يحكم عليه بها، مصيبا في حكمه ترى قاضي الشرع لا يسعه مع ذلك كله بعد فقد البينة إلا تحليفه، مع علمه بأنه لا يتحرج من ألف يمين على فلس واحد.
ولعل الشيخ لهذا أمر بالتأمل، وعدل عنه إلى ما هو أبعد وأعجب، وهو احتمال أن الشارع لم يلاحظ الواقع في نصب الطرق، وأعرض عنه، وجعل مدار قطع الخصومة على الطرق التعبدية.

(1) فرائد الأصول: 132 - 134.
(2) الخليع: الشاطر الذي خلع الدين والحياء. تاج العروس 5: 321 " خلع ".
(3) الصعلوك: الفقير. القاموس المحيط 3: 320، الصحاح 4: 1595 " صعلك ".
(4) الشحذ: الإلحاح في السؤال. القاموس المحيط 1: 367 " شحذ ".
544

ولا أرى هذا الاحتمال إلا وقد صدر منه - طاب ثراه - على سبيل سلطان الجدل، وإلزام المناظر ولو بما يقطع بخلافه.
وكيف يحتمل مثله أن الشارع الذي عرف منه ذلك الاهتمام - الذي يجل عن الوصف - في حفظ أموال المسلمين، وصيانة أعراضهم، وحقن دمائهم يرفع ذلك الاهتمام بمجرد إقامة الدعوى من كاذب، فلا يبالي بضياع الأموال، ولا بهتك الأعراض، وإراقة الدماء إذا شهد على أحدها بشهادة الزور، أو صدر الحلف من حليف خمر وماخور (1)، ويكون عنده سواء في الأموال المالك والغاصب، وفي الفروج الزوج والعاهر، وفي الدماء دم المسلم والحربي لا يكون هذا أبدا.
ويبقى بعد ذلك موضع للسؤال عن معنى الإعراض عن الواقع على وجه لا يستلزم التصويب المحال، ويكون غير الذي يتصور في سائر الأحكام (2).
هذا، وأما ما ذكره من «أن الظنون المعمولة في تعيين طرق القضاء حاصلة من أمارات منضبطة غالب المطابقة» فالقضاء فيه موكول إلى الناظر بعد أن يتصفح بابا من أبوابه.
وأما ما ذكره في وجه عدم عمل المقلد بظنه في نفس الحكم الواقعي، فهو صحيح، ولكن لا على إطلاقه، إذ قد يكون اقتدار المقلد على تحصيل الظن بالواقع من نفس الطرق التي يحصله [بها]
(3) المجتهد أقوى من المجتهد، كالأحكام التي مبانيها مسائل لغوية أو نحوية، فلا شك أن المقلد اللغوي أو النحوي أشد اقتدارا، وأصوب ظنا ممن يزيد عليه في الفقه، ويقصر عنه في صناعته.

(1) الماخور: مجلس الفساق. الصحاح 2: 812 مخر ".
(2) ولهذا البحث تتمة تعرفها قريبا إن شاء الله. (منه).
(3) زيادة يقتضيها السياق.
545

ومناظرة الأصمعي مع أبي يوسف القاضي في معنى (لا تعقل العاقلة عمدا ولا عبدا) (1) وشهادته عليه بأن القاضي لم يفرق بين (عقلته) و (عقلت عنه) حتى فهمه، مذكورة كأمثالها الكثيرة في مواضعها.
هذا، وعمدة طريق المقلد غالبا في تحصيل الظن في تعيين المجتهد أحد أمرين: إما شهادة أهل الخبرة، وإما الشهرة، ولكن من له بخبير لا يميل في شهادته مع الهوى، وبشهرة لم يجلبها حطام الدنيا، وفي النظر في حال أبناء الزمان ما يغنيك عن البيان.
وأما قوله طاب ثراه: «فلا فرق في إعمال هذه الأمارات في تعيين الطرق وبين إعمالها في نفس الحكم الواقعي، بل إعمالها في نفس الواقع أولى» فستعرف ما فيه بما نبينه قريبا من مراد صاحب الفصول، ونوضحه من حقيقة هذا الدليل.
عاد كلامه: «فإن قلت: العمل بالظن في الطريق عمل بالظن في الامتثال الظاهري والواقعي، لأن الفرض إفادة الطريق للظن بالواقع، بخلاف غير ما ظن طريقيته، فإنه ظن بالواقع، وليس ظنا بتحقق الامتثال في الظاهر، بل الامتثال الظاهري مشكوك أو موهوم بحسب احتمال اعتبار ذلك الظن.
قلت: أولا إن هذا خروج عن الفرض، لأن مبنى الاستدلال المتقدم على وجوب العمل بالظن في الطريق وإن لم يكن الطريق مفيدا للظن به أصلا، نعم قد اتفق في الخارج أن الأمور التي يعلم بوجود الطريق فيها إجمالا مفيدة للظن شخصا أو نوعا لا أن مناط الاستدلال اتباع الظن بالطريق المفيد للظن بالواقع.
وثانيا: أن هذا يرجع إلى ترجيح بعض الأمارات الظنية على بعض باعتبار الظن باعتبار بعضها شرعا دون الآخر، بعد الاعتراف بأن مؤدى دليل الانسداد حجية الظن بالواقع لا بالطريق. وسيجئ الكلام في أن نتيجة دليل

(1) وردت هذه الجملة عن الشعبي. انظر: سنن الدار قطني 3: 178 / 277، وسنن البيهقي 8: 104.
546

الانسداد على تقدير إفادته اعتبار الظن بنفس الحكم كلية، بحيث لا يرجح بعض الظنون على بعض، أو مهملة بحيث يجب الترجيح بين الظنون، ثم التعميم بعد فقد المرجح والاستدلال المذكور مبني على إنكار ذلك كله، وأن دليل الانسداد جار في مسألة تعيين الطريق وهي المسألة الأصولية، لا في نفس الأحكام الواقعية الفرعية بناء منه (1) على «أن الأحكام الواقعية بعد نصب الطريق ليست مكلفا بها تكليفا فعليا إلا بشرط قيام الطرق عليها، فالمكلف به في الحقيقة مؤديات تلك الطرق لا الأحكام الواقعية من حيث هي» (2).
وقد عرفت مما ذكرنا أن نصب هذه الطرق ليست إلا لأجل كشفها الغالبي عن الواقع، ومطابقتها له، فإذا دار الأمر بين إعمال ظن في تعيينها أو في تعيين الواقع لم يكن رجحان للأول.
ثم إذا فرضنا أن نصبها ليس لمجرد الكشف، بل لأجل مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع، لكن ليس مفاد نصبها تقييد الواقع بها، واعتبار مساعدتها في إرادة الواقع، بل مؤدى وجوب العمل بها جعلها عين الواقع ولو بحكم الشارع، لا قيدا له.
والحاصل: أنه فرق بين أن يكون مرجع نصب هذه الطرق إلى قول الشارع: «لا أريد من الواقع إلا ما ساعد عليه ذلك الطريق» فينحصر التكليف الفعلي حينئذ في مؤديات الطريق، ولازمه إهمال ما لم يؤد إليه الطريق من الواقع، سواء انفتح باب العلم بالطريق أم انسد، وبين أن يكون التكليف الفعلي بالواقع باقيا على حاله إلا أن الشارع حكم بوجوب البناء على كون مؤدى الطريق هو ذلك الواقع فمؤدى هذه الطرق واقع جعلي، فإذا انسد طريق العلم إليه، ودار الأمر بين الظن بالواقع الحقيقي وبين الظن بما جعله الشارع واقعا فلا ترجيح،

(1) الضمير في (منه) عائد إلى الشيخ محمد حسين الإصفهاني صاحب الفصول الغروية.
(2) الفصول الغروية: 277 نقلا بالمعنى.
547

إذ الترجيح مبني على إغماض الشارع عن الواقع.
وبذلك ظهر ما في قول هذا المستدل (1) من أن التسوية بين الظن بالواقع والظن بالطريق إنما يحسن لو كان أداء التكليف المتعلق بكل من الفعل والطريق المقرر مستقلا لقيام الظن في كل من التكليفين حينئذ مقام العلم به، مع قطع النظر عن الآخر، وأما لو كان أحد التكليفين منوطا بالآخر مقيدا له، فمجرد حصول الظن بأحدهما دون حصول الظن بالآخر المقيد له لا يقتضي الحكم بالبراءة، وحصول البراءة في حصول العلم بأداء الواقع إنما هو لحصول الأمرين به نظرا إلى أداء الواقع، وكونه من الوجه المقرر لكون العلم طريقا إلى الواقع في العقل والشرع، فلو كان الظن بالواقع ظنا بالطريق جرى ذلك فيه أيضا، لكنه ليس كذلك، ولذا لا يحكم بالبراءة معه» انتهى (2).
أقول: ما ذكره في جواب هذا القائل من الخروج عن الفرض، والرجوع إلى ترجيح بعض الأمارات على بعض، فهو حق لا ريب فيه، ولكن قوله: «إن الاستدلال المذكور مبني على أن دليل الانسداد جار في مسألة تعيين الطرق» وما نسبه إلى صاحب الفصول من بنائه على أن الأحكام الواقعية بعد نصب الطرق ليست مكلفا بها تكليفا فعليا، إلى آخر كلامه، لا يظهر حقيقة الحال فيه إلا بعد بيان المراد من هذا الدليل، وتقريره على الوجه الذي أراده المستدل، ولا بد من نقل بعض ما حذفه الشيخ من كلامه لتوضيح مرامه، قال بعد المنقول منه بعدة أسطر، ما لفظه:
«واعلم أن العقل يستقل بكون العلم طريقا إلى إثبات الحكم المخالف للأصل، ولا يستقل بكون غيره طريقا إليه ولو مع تعذره، حيث لا يعلم ببقاء

(1) يعني بالمستدل: الشيخ محمد تقي الإصفهاني صاحب هداية المسترشدين.
(2) فرائد الأصول: 134 - 135، وانظر أيضا لقول (المستدل): هداية المسترشدين: 394.
548

التكليف معه، بل يستقل حينئذ بعدم كون غير العلم طريقا في الظاهر، وبسقوط التكليف ما لم يقم على حجية غير العلم قاطع سمعي أو واقعي [أو ظاهري] (1) معتبر مطلقا، أو عند انسداد باب العلم إلى الدليل مع حصوله... ثم إن [دل] (2) الدليل السمعي بأحد أنواعه على حجية طريق مطلقا كان في مرتبة العلم مطلقا، فيجوز التعويل عليه ولو مع إمكان تحصيل العلم في تلك الواقعة، وإن دل على حجيته عند تعذر العلم لم يجز التعويل عليه إلا عند تعذره، فيقدم عليه العمل بالعلم وبما دل الدليل السمعي على قيامه مقامه مطلقا مع تيسره، وأما إذا انتفى الجميع، وعلم ببقاء التكليف معه ثبت بحكم العقل وجوب العمل بالظن الذي لا دليل على عدم حجيته، ثم الأقرب إليه، وهذه مرتبة ثالثة متوقفة على تعذر المرتبتين المتقدمتين - إلى أن قال - فاتضح أن للطريق ثلاث مراتب لا يعول على اللاحقة منها إلا بعد تعذر السابقة» (3).
وكيف ينسب إليه مع هذا التصريح تقييد الأحكام الواقعية بالطرق أو صرفها إليها على نحو يوجب التصويب المحال أو المجمع على بطلانه، كما لا يزال يلهج به المعترضون؟.
ومن نظر في سائر ما أورده يجد مواضع أخرى شاهدة ببراءته عنه، ويكفي لها تنظير المقام بمسألة القضاء، قال في أثناء الرد على التقرير المشهور لدليل الانسداد وإبطال الظن المطلق ما لفظه:
«وبالجملة، فعلمنا بأنا مكلفون بالأحكام المقررة في الشريعة عند تعذر طريق العلم والطريق العلمي إليها لا يفتح لنا باب الظن إليها بعد علمنا بنصب طرق مخصوصة إليها.

(1 و 2) زيادة من المصدر.
(3) الفصول الغروية: 278.
549

ألا ترى أن علمنا بأنا مكلفون في المرافعات بإيصال كل حق إلى صاحبه لا يوجب في حقنا فتح باب الظن في تعيين الحقوق لعلمنا بأن الشارع كما كلفنا بذلك كذلك جعل لنا إليها طرقا مخصوصة، وكلفنا بالعمل بمقتضاها كاليد، والشهادة، واليمين، فإذا انسد علينا معرفة تلك الطرق أيضا لم نعمل بالظن في تعيين الحقوق، بل في تعيين الطرق المقررة لها» (1).
ولا بد لمنكري مقالته من أحد أمرين: إما مخالفة الإجماع وتجويز الرجوع في القضاء إلى مطلق الظن، أو بيان الفرق بينه وبين سائر الأحكام، ولو ضربوا عليه آباط الإبل مدة شهرين لم يعثروا على أثر منه أو عين.
وما ذكره الشيخ - طاب ثراه - أواخر كلامه - المتقدم نقله - من «أن الظاهر أن مبنى الطرق المنصوبة على الأحكام الواقعية على الكشف الواقعي، ووجه تخصيصها كونها أغلب مطابقة، وكون غيرها غير غالب المطابقة» إلى آخره (2)، فلا يصلح أن يكون فارقا بينهما، إذ السبب مشترك، ولا شك أن الوجه في تخصيص الطرق المقررة للقضاء أيضا هو ما ذكر بعينه، فلما ذا يرجع إلى مطلق الظن؟ وأما بيان المراد من هذا الدليل وتقريره: فتوضيحه أن المستدل استدل به على أن المرجع بعد فرض الانسداد الكتاب والسنة وما يلحق بهما، ويؤول إليهما، وبنى دليله على القطع ببقاء التكليف أولا، وبوجود الحجة عليها ثانيا، ثم جمع بين القطعين، فقال: «ومرجع هذين القطعين عند التحقيق إلى أمر واحد، وهو القطع بأنا مكلفون تكليفا فعليا بالعمل بمؤدى طرق مخصوصة» (3).
ومعناه أن فعلية التكاليف أو تنجيزها مشروطة بوجود الحجة، ولو

(1) الفصول الغروية: 281.
(2) فرائد الأصول: 133.
(3) الفصول الغروية: 277.
550

فرض أن هناك حكم واقعي لم ينصب الشارع إليه طريقا، أي لا يكون عليه حجة، لا يكون فعليا أو منجزا، ثم ادعى الإجماع على انحصار الحجة في مدارك مخصوصة، فقال في أثناء كلامه ما لفظه: «فإنا نقطع بأن الشارع لم يعتبر بعد الأدلة القطعية في حقنا أمارات اخر خارجة عن هذه الأمارات».
وقال بعده بقليل ما لفظه أيضا: «إنا لما راجعنا طريقة أصحابنا وجدناهم يعتمدون في فروع الأحكام على طرق ومدارك مخصوصة، مطبقين على نفي حجية ما عداها» إلى آخره (1).
وقال في أثناء الكلام على التقرير الثاني لدليل الانسداد ما نصه:
«الذي يظهر لنا من طريقة أصحابنا قديما وحديثا اقتصارهم على حجية الظنون المخصوصة، والتزامهم بأصالة عدم حجية ظن لا دليل على حجيته، فإنا لم نقطع من إطباقهم على ذلك بفساد حجية مطلق الظن فلا أقل من حصول ظن قوي لنا به» (2) إلى آخره.
وأيد ذلك بالنهي عن عدة من الأمارات، فقال: «إنا كما نجد على الأحكام أمارات نقطع بعدم اعتبار الشارع إياها طريقا إلى معرفة الأحكام مطلقا وإن أفادت الظن الفعلي بها كالقياس،
والاستحسان، والسيرة الظنية، والرؤيا، وظن وجود الدليل، والقرعة، وما أشبه ذلك مما لا حصر له، كذلك نجد عليها أمارات أخر نعلم بأن الشارع قد اعتبرها كلا أو بعضها طريقا إلى معرفة الأحكام وإن لم يستفد منها ظن فعلي بها ولو لمعارضة الأمارات السابقة» (3).
ثم ذكر العبارة المتقدمة قريبا، وقال بعده: «ومستند قطعنا في المقامين

(1) الفصول الغروية: 278.
(2) الفصول الغروية: 282.
(3) الفصول الغروية: 278.
551

الإجماع، مضافا في بعضها إلى مساعدة الأخبار والآيات، حتى أن القائلين بحجية مطلق الظن كبعض متأخري المتأخرين لا تراهم يتعدون في مقام العمل عن هذه الأمارات إلى غيرها» (1).
وادعى بعد ذلك أن تفاصيل تلك الأمارات المقطوع اعتبارها غير معلوم بالقطع، فالواجب علينا الرجوع إلى معرفتها بالظن، وأوضح ذلك في عدة مواضع من كلامه، ونقلها يوجب الإسهاب، ومن شاء فليراجع الكتاب.
ثم استنتج من جميع ذلك وجوب الرجوع في معرفة الأحكام الفعلية التي لا طريق إليها بالقطع إلى الطرق الظنية فقط، ولا شك في أنه بعد تسلم هذه المقدمات لا تكون النتيجة إلا ذلك.
وأكثر ما أورده الشيخ - طاب ثراه - ومن تأخر عنه بمعزل عنه وغير مرتبط به، وما سبب ذلك إلا ما نبهناك عليه أول الباب من أنهم جعلوا هذا الدليل الدال على بطلان الظن المطلق بيانا لنتيجة الدليل على الظن المطلق، مع أن هذا الدليل إن تأملته وجدته أجنبيا عن دليل الانسداد المعروف، ويكاد أن لا يجمعه معه إلا لفظ الانسداد فقط.
وأقول توضيحا له - وإن كنت أخالك في غنى عنه -: بعد ما عرفت أن هذا الدليل مركب من مقدمات:
أولها: بعد بقاء التكليف بالأحكام الواقعية، ووجود الحجة على تلك الأحكام.
ثانيها: انحصار الحجة في الكتاب والسنة وما يؤول إليهما.
ثالثها: عدم قطعية تفاصيلها بمعنى عدم إمكان تعيين الحجة منها إلا نادرا.

(1) الفصول الغروية: 278.
552

رابعها: حكم العقل بلزوم الرجوع إلى الظن في تعيينها.
خامسها: فعلية الأحكام التي تكون مؤدى تلك الطرق الظنية دون غيرها لو فرض وجوده.
ولا شك أن هذه المقدمات إن تمت فلا تكون النتيجة إلا ما ذهب إليه من حجية الظن بالطريق خاصة، بمعنى فعلية الأحكام التي تكون مؤدى تلك الطرق دون الأحكام المظنونة التي لا تكون كذلك.
والدليل على المقدمتين الأوليين هو ما مر نقله من كلامه من الإجماع، والسيرة القطعيتان.
وعلى الثالثة الضرورة، والوجدان، وقد أوضحه في مواضع عديدة وهي لوضوحها في غنية عن البيان.
وعلى الرابعة نظير ما ذكروه في تقريب دليل الانسداد من عدم جواز الرجوع إلى البراءة، وعدم وجوب الاحتياط، وترجيح الظن على غيره في مقام الامتثال، وتقريبه لا يخفى على المتأمل ولا سيما بعد الإحاطة بما مر في شرح كلام الشيخ الأعظم، وبعد مراجعة ما ذكره صاحب الفصول في التقريب الثاني لدليل الانسداد من إبطال الرجوع إلى البراءة وغيرها.
وعلى الخامسة، أن ذلك معنى حجية الظن، إذ الحجة من شأنها أن تكون منجزة للأحكام الواقعية في صورة المصادفة، وتكون عذرا في مخالفتها عند عدم المصادفة، حسب ما تقرر في موضعه، كما أن من شأن عدم الحجة عدم فعلية التكليف، وقبح العقاب على مخالفته، ولا شك أن هذه المقدمات إن تمت لا تنتج إلا حجية الظن بالطريق، لكونه ظنا بالحكم الفعلي دون مجرد الظن بالواقع، لأنه ليس ظنا بالفعلي من الأحكام، والعمدة منها المقدمتان الأوليان اللتان بهما امتاز هذا التقريب لدليل الانسداد عن التقريب الآخر له، وصار بهما في حرز حريز لا تناله يد الاعتراضات الموردة عليه.
553

ومن رام إحداث ثلمة في هذا البنيان الرفيع فلا سبيل له إلا المناقشة فيهما، فشأنه وذلك إن شاء ولكن بعد أن يعلم أنه يصادم حسه ويكابر نفسه، فقد علم كل من له أدنى إلمام بالعلم أن الشيعة - أعلى الله كلمتهم - ما زالوا من زمن أئمتهم عليهم السلام إلى اليوم يعملون بالروايات الواردة عن المعصومين في الجملة، ولا تجد أحدا يتمسك في شيء من أحكام الدين بمجرد الظن والتخمين.
أ تظن منتميا إلى هذا المذهب يصبح مفتيا بهدر دم مسلم أو إباحة.... محصنة، فإذا سئل عن مستنده في فتياه أسنده إلى ظن حصل له من الرؤيا؟ وذمام (1) العلم وحرمة الفضل لا يصدر هذا من متمسك بحبل أهل البيت أبدا، حتى من لاك (2) لسانه بمطلق الظن.
هذا أحد أعلام الفقه، وحامل عرش الظن المطلق، الفاضل القمي، إذا تصفحت كتابه «جامع الشتات» من أول الطهارة إلى آخر الديات لا تجد فيه استنادا إلى غير الكتاب والسنة وما يؤول إليهما قط، ولا ترى أقل اختلاف بينه وبين سائر أئمة المذهب في طريق الاستنباط.
ولقد أصاب صاحب الفصول حيث قال في أثناء كلامه: «حتى أن القائلين بحجية الظن المطلق كبعض متأخري المتأخرين، لا تراهم يتعدون في مقام العمل عن هذه الأمارات إلى غيرها وإن لم يستفد لهم ظن فعلي بمؤداها» (3).
صدق - والله - وبر، لا تجد غير مطعون في طريقته يترك آثار أهل البيت بغير طعن في أسانيدها، وإجمال في متونها، أو معارض لمؤدياتها.
ومن ذلك كله يظهر لك وجه النظر فيما كرره الشيخ الأعظم من المناقشة

(1) الذمام: الحرمة. القاموس المحيط 4: 117، الصحاح 5: 1926 " ذمم ".
(2) اللوك: إدارة الشيء في الفم ومضغه. مجمع البحرين 5: 287، القاموس المحيط 3: 328 " لوك ".
(3) الفصول الغروية: 278.
554

في الإجماع والسيرة المتقدمين، وأنهما لا يكشفان عن جهة العمل.
ولفظ تقييد الواقع بالطريق وإن وقع في كلام الفصول، ولكنه لا يريد به تقييد الواقع نفسه، بل يريد تقييد فعليته به، وليس ذلك ببدع من القول، ولا بمذهب قد تفرد به، بل هو أمر يقول به كل من يقول بالتخطئة، وبصحة جعل الأحكام الظاهرية، وهو لازم جعل الحجية، ولكن الشيخ حمل كلامه على التفسير الأول، فأورد في آخر كلامه ما أورد (1)، وجرى عليه غيره، فقال في الكفاية: «لو سلم أن قضيته لزوم التنزل إلى الظن، فتوهم أن الوظيفة حينئذ هو خصوص الظن بالطريق فاسد قطعا، وذلك لعدم كونه أقرب إلى العلم، وإصابة الواقع من الظن بكونه مؤدى طريق معتبر من دون الظن بحجية طريق أصلا ومن الظن بالواقع.
لا يقال: إنما لا يكون أقرب من الظن بالواقع إذا لم يصرف التكليف الفعلي عنه إلى مؤديات الطرق ولو على نحو التقييد، فإن الالتزام به بعيد إذ الصرف لو لم يكن تصويبا محالا فلا أقل من كونه مجمعا على بطلانه، ضرورة أن القطع بالواقع يجدي في الإجزاء بما هو واقع لا بما هو مؤدى طريق القطع.
ومن هنا انقدح أن التقييد أيضا غير سديد، مع أن الالتزام به غير مفيد، فإن الظن بالواقع فيما ابتلي به من التكاليف لا يكاد ينفك عن الظن بأنه مؤدى طريق معتبر، والظن بالطريق ما لم يظن
بإصابة الواقع غير مجد بناء على التقييد، لعدم استلزامه الظن بالواقع المقيد به دونه» (2) انتهى ما أردناه.
أقول: إن الذي قطع بفساده مقطوع بصحته بعد فرض تصرف الشارع في طرق الامتثال، وأمره باتباع بعض، ونهيه عن بعض، وحصره فعلية أحكامه

(1) من قوله: «ثم إذا فرضنا» إلى آخر العبارة [فرائد الأصول: 134] على أن في تعبيراتهم ما يوهم الثاني، وعليه فالخلف في كلامهم أظهر. (منه).
(2) كفاية الأصول: 318.
555

في مؤدى أمارات خاصة، ورفضه غيرها بعدت عن الواقع أو قربت إليه.
وأما قوله: «إذ الصرف لو لم يكن تصويبا محالا» إلى آخره، فلا أدري أين كان هذا الفرق والحذار من التصويب حين جمع بين الحكمين الواقعي والظاهري بما هو أدهى وأمر؟ وقوله: «ضرورة أن القطع بالواقع يجدي بما هو واقع لا بما هو مؤدى طريق القطع» لا شك فيه في مرتبة الواقع، كما أنه لا شك في أن تنجزه لا يكون إلا بالقطع أو ما يقوم مقامه، فالذي ادعى الضرورة على خلافه إن كان ما قلناه فهو أجدر بدعوى الضرورة وأحق بها، إذ التنجز لم يكن إلا بسببه، وإن كان غيره فلا تضرنا تلك الضرورة ولا تنفعه.
وأما قوله: «فإن الظن بالواقع لا ينفك عن الظن بأنه مؤدى طريق معتبر» فقد كرره آخر البحث، فقال: «مع ما قد عرفت من أنه عادة يلازم الظن بأنه مؤدى طريق وهو بلا شبهة يكفي ولو لم يكن هناك ظن بالطريق» (1) وكرره أيضا في حاشيته (2).
وهذا الكلام يصلح أن يكون دليلا على قلة فائدة هذا البحث، وأما أن يكون اعتراضا فلا، لأنه إذا استلزم الظن بالواقع الظن بالطريق فقد حصل ما هو الحجة عند صاحب الفصول، إذ لا يشترط عنده فيها حصول الظن بالطريق من طريق خاص، فيكفي الظن به من أي سبب حصل، إلا الحاصل من الطريق الممنوعة، بل حتى الحاصل منها على ما سبق القول فيه، وهذا على وضوحه مذكور في كلامه تصريحا وتلويحا في مواضع متعددة.
وكأن المعترض زعم أن الشرط فيها عنده تعين الطريق، فلا يكفي الظن

(1) كفاية الأصول: 321. نقلا بالمعنى.
(2) حاشية فرائد الأصول: 84.
556

به إجمالا، كما ربما يستظهر من بعض كلامه الآتي نقله، وأنت تعلم أنه لا أثر ولا عين لهذا الشرط في كلام صاحب الفصول، ولا داع له يدعو إليه، ولا يقتضيه حجته، وبحسبه أن يظن كونه مؤدى خبر معتبر وإن لم يعرفه على التعيين، فلو فرض أنه ورد في حكم فرعي خبران، يظن بحجية أحدهما دون الآخر، أو قطع من قول صادق - كالصدوق - بورود رواية مظنونة الاعتبار قد ترك نقلها، أيظن بمثل صاحب الفصول التوقف عن الحكم فيه على طبقها؟ هذا، ولهذا الأستاذ في حاشيته كلام طويل واعتراضات كثيرة على هذا القول، وقد جعله مرددا أمره بين أن يكون المراد صرف التكليف عن الواقع إلى المؤدى وبين إناطة التكاليف الواقعية بإصابة الطرق إليها، أو إناطة تنجزها بالإصابة، بأن يكون المنجز من التكاليف خصوص ما أصاب إليه طريق مما علم اعتباره إجمالا، وجعل ثاني الوجوه ظاهر الكلام (1) المنقول في الكتاب عن بعض الفحول، وثالثها مراد صاحب الفصول مدعيا أنه يظهر من ملاحظة كلامه بتمامه، ولم ينسب أولها إلى أحد، ولكن أطال القول في رده (2).
وحيث إنه جزم بمراد صاحب الفصول - ونحن معه، والصرف بالمعنى الأول لا يقول به أحد من أئمة هذا القول - صرفنا عنان القلم عن نقل ما اعترض عليه، على أن للنظر فيه مواضع، واقتصرنا من كلامه على ما يتعلق بما جعله مراد صاحب الفصول، وعزاه إلى بعض الفحول إيثارا للاختصار على

(1) ليس في النسخ الموجودة لدي كلاما منقولا بهذا العنوان، وأظن أن مراده قول الشيخ: «وبذلك ظهر ما في قول هذا المستدل» إلى آخره.
والظاهر أنه مسامحة لأنه كلام الشيخ في (الهداية) لا كلام صاحب الفصول. ثم إن الظاهر اتحاد مراد أصحاب هذا القول وإن عبروا تارة بالفعلية وأخرى بالتنجز، إذ الفرق بينهما بما ينافي المقصود اصطلاح حادث بعد زمانهم. (منه).
(2) انظر: حاشية فرائد الأصول: 84.
557

الإطالة، قال وهذا لفظه:
«وإن أريد إناطة فعلية التكاليف الواقعية بإصابة الطرق إليها بأن يكون الحكم الحقيقي، والبعث أو الزجر الفعلي هو خصوص ما أصاب إليه طريق معتبر، كما هو ظاهر الكلام المنقول في الكتاب عن بعض الفحول في ذيل ما يتعلق بكلام الفصول، أو أريد إناطة تنجزها بالإصابة بأن يكون المنجز من التكاليف هو خصوص ما أصاب إليه طريق مما علم اعتباره إجمالا، كما هو مراد الفصول على ما يظهر من مراجعة كلامه بتمامه، وحينئذ يجب التنزل مع التعذر إلى الظن في تعيين الطرق المعتبرة، فإن التكاليف الواقعية التي يكون فيها هي المكلف بها والمؤاخذ عليها، فلا يكون الظن بها بمجردها من دون الظن بكونها مؤديات الطرق مجديا، ففيه أيضا أنه لما كان العلم بكل من الواقع بمجرده ومؤدى الطريق المعتبر في صورة الانفتاح مجديا ومؤمنا كان الظن بكل يقوم مقام علمه في حال الانسداد، وليس ذلك في العلم لحصول الأمرين به نظرا إلى أداء الواقع وكونه من الوجه المقرر لكون العلم طريقا إلى الواقع في العقل والشرع، ولا يكون الظن بالواقع بمجرده كذلك أي ظنا بالأمرين، بخلاف الظن بالطريق، فلا يتنزل إلا إليه، لما عرفت من أن حصول البراءة فيه إنما هو لكونه علما بالمبرئ والمسقط وهو أداء الواقع، وأن طريقيته شرعا وعقلا ناشئة من كفايته لا بالعكس.
هذا، مع ما عرفت أيضا من أن الظن بالواقع في المسائل الابتلائية يكون غالبا مستلزما للظن بكونه مؤدى طريق معتبر، فيكون الظن بالواقع غالبا ظنا بالأمرين ولو لم يكن ظن بحجيته في البين فيصح التنزل إليه أيضا، ولا يتعين التنزل إلى الظن بالطريق، مع أن الظن به بمجرده لا يكون ظنا بالأمرين، فإنه غير مستلزم للظن بالواقع، ضرورة أن ما ظن اعتباره ربما لا يفيد الظن به، كما صرح به في الوجه الثاني في بيان الفرق بين المسلكين، اللهم إلا أن يكتفى بأنه
558

ظن بالأمرين إجمالا، حيث إنه يستلزم الظن بالإصابة في بعض موارده وهو كما ترى، حيث إن العقل لا يجوز التنزل عن الظن التفصيلي بالأمرين لو كان بمقدار الكفاية في البين إلى الظن بهما إجمالا، وإلا فليجوز التنزل إليه ولو كان أمر الإجمال والتفصيل على عكس ذلك، أي إلى الظن بالواقع إذا كان من أطراف ما ظن اعتباره، فتأمل.
والحاصل: أن مقدمة العلم الإجمالي بنصب طرق خاصة وإن سلم أنها تقتضي اختصاص التكليف الفعلي أو المنجز بمؤدياتها من الواقعيات، إلا أن قضية ذلك - على حسب لزوم التنزل في حال التعذر إلى الظن بما يجب العلم به بدونه - هو الرجوع إلى الظن بالواقعيات المؤدية إليها الطرق، لا الظن بالطريق وحده، ولا بالواقع كذلك لانفكاك الظن بكل عن الآخر، إلا أنه لا انفكاك عن طرف الظن بالواقع في غالب المسائل الابتلائية، بخلافه من طرف الطريق، كما لا يخفى.
هذا، مع أن اختصاص التكليف الفعلي أو المنجز بمؤدياتها حال التمكن من العلم بالطرق دون التمكن من العلم بالواقعيات لا يقتضي التنزل إلى الظن بالمؤديات وحده حال انسداد باب العلم بكليهما، بل كما كان العلم بكل منهما حال انفتاح بابه كافيا كان الظن به كذلك حال انسداده» (1).
أقول: ما جعله مفتتح اعتراضاته وخاتمتها من قياس الظن حال الانسداد بالعلم حال الانفتاح، لا مجال له إلا على تقرير دليل الانسداد بالتقرير المشهور، وأما على ما تفرد به صاحب الفصول فلا، وكيف يلزم بهذا القياس؟ بعد دعواه القطع بجعل الحجة، وانحصارها في الكتاب والسنة، وعدم فعلية غير مؤداهما من الأحكام، أو عدم تنجزها على ما استظهره من كلامه.

(1) حاشية فرائد الأصول: 84 - 85.
559

وعليه، فالظن بمجرد الواقع ظن بما لا يعلم فعليته أو تنجزه، ودعوى حكم العقل بتنجز التكاليف الواقعية بالظن في هذا الحال مصادرة ممنوعة.
ويظهر وجه المنع مما سبق من أول البحث إلى آخره، فراجع، ولا يهمنا الآن الكلام على قوله، وليس ذلك في العلم لحصول الأمرين به وإن كان يأتي في موضعه إن شاء الله.
وأما قوله: «هذا مع ما عرفت» إلى آخره، فهو ما كرره مرارا في (الحاشية) وفي (الكفاية) وقد عرفت الكلام عليه، وهو ظاهر فيما احتملناه في مراده من زعمه أن صاحب الفصول يشترط التعيين في الطريق، وإلا فكيف السبيل إلى رفع التهافت البين بين قوله: «الظن بالواقع ظن بالأمرين» وبين قوله بلا فصل:
«وإن لم يكن ظن بحجيته في البين».
وأما ما أطال فيه القول من عدم الملازمة بين الظن بالطريق وبين الظن بالواقع فما هو إلا الخروج عن مفروض البحث، أعني عدم فعلية غير مؤديات الطرق من الأحكام، ولا سيما على ما يذهب إليه هذا الأستاذ من أن الفعلية هي قوام الحكم وحقيقته، ومناط الطاعة والمعصية ولا يجب امتثاله قبل بلوغه هذه المرتبة حتى مع العلم به.
وبالجملة، مدار التكاليف اللازم امتثالها لدى صاحب الفصول على قيام الحجة وإصابتها الواقع، فلا فعلية - وإن شئت قلت: ولا تنجز - لغير مداليلها، ولا يهمه أمر الواقع أصلا.
فظهر أنه لا محصل لما حسبه حاصل كلامه من أن قضية مقدمة العلم الإجمالي بنصب طرق خاصة هو الرجوع إلى الظن بالواقعيات المؤدية إليها الطرق لا الظن بالطريق وحده ولا بالواقع كذلك.
وظهر أيضا أن انفكاك الظن بكل عن الآخر غير ضائر بصاحب الفصول، وعدم الانفكاك غالبا من طرف الظن بالواقع غير نافع للمعترض.
560

وأما قوله: «مع أن اختصاص التكليف الفعلي» إلى آخره فهو منه عود على بدء، وقد عرفت الجواب عنه.
ولله قوله: «ومرجع القطعين عند التحقيق إلى أمر واحد» (1) إلى آخره، فما أوجزه وأجمعه لما يفل (2) به حد الخصم، ويدحض حجته، فبحصره التكاليف الفعلية في مؤديات الطرق أخرج غيرها من الأحكام من طرفية العلم الإجمالي فكان جوابا إجماليا مختصرا عن تطويلاتهم في بيان أن مقتضاه الاحتياط في جميع المحتملات.
وبحصره الحجة في أمور مخصوصة أخرج غيرها من الطرق، ودفع وجوب الاحتياط في مؤدياتها، وبلزوم التنزل إلى العمل بما يظن حجيته، وحكم العقل القطعي بحجيته حال انسداد باب العلم إلى تعيينها بالقطع سد أبوابا للاعتراضات الاخر، فكانت النتيجة هو القطع بحجية الكتاب والسنة مقطوعهما ومظنونهما فقط، فتم له ما حاوله من حجية الظن الخاص الذي عليه عامة علماء الشيعة وخواصهم، سوى قليل من متأخري المتأخرين ذهبوا إلى حجية مطلق الظن قولا لا عملا، فانظر كيف قلب الدليل على القائل بالظن المطلق، وأبان صباح الحق من داجي ليل دليل الانسداد (هكذا هكذا وإلا فلا).
واعلم أن جميع ما مر من أول البحث إلى هنا وجميع الاعتراضات الموردة على كلام الفصول مما تعرضنا له أو أعرضنا عنه مبني على أن يكون المراد من الانسداد المأخوذ في تقريره هو الانسداد في غالب الأحكام، بمعنى ملاحظة الأحكام جملة، وإثبات انسداد باب العلم إلى أكثرها على ما هو مأخوذ في التقرير المعروف، وعليه يقع الاحتياج إلى إبطال الرجوع إلى البراءة وإلى الاحتياط، وتبنى الاعتراضات على هذا الكلام مما يكون مقتضى الأصول المقررة للعلم

(1) الفصول الغروية: 277.
(2) فلول السيف: كسور في حده. لسان العرب 11: 530 " فلل ".
561

الإجمالي وغيره، وقد جعلنا البحث على فرضه مجاراة وبيانا لصحة ما ذهب إليه على جميع التقادير، وإلا فهذا الدليل لا يتوقف على الانسداد المذكور، ولو لم يكن في الشرع سوى حكم واحد لا سبيل للقطع إليه لجرى فيه أيضا.
بيانه: أنه رحمه الله ان ذكر الأحكام الكثيرة في عنوان الدليل فليس ذكره إلا ببيان ما هو الواقع في الخارج الذي يهم البحث عنه، وإلا فالحال في الحكم الواحد كالحال في الأحكام الكثيرة، لأن بعد العلم بالتكليف وبالطريق المنصوب إليه، وفقد السبيل إلى تعيينه إلا بالظن، يحكم العقل بحجية ذلك الظن بمقتضى المقدمات السابقة، ولا يبقى محل للرجوع إلى الأصلين: البراءة والاحتياط لوجود الحجة المانعة عنهما، ولهذا لم يتعرض لإبطالهما بالخروج عن الدين ولزوم الحرج، وتعرض لهما في بيان التقرير المشهور، وما ذاك لاستغنائه عن إبطالهما وحاجة القوم إليه، وهذا مما يزيده بعدا على بعد عنهم، ويدعه في راحة مما أتعب غيره، وله مزيد توضيح تسمعه في شرح كلام أخيه - العلامة - إن شاء الله.
562

كلام العلامة الجد قدس سره، واعتراض الشيخ عليه
قال في الرسالة ما لفظه: «الوجه الثاني: ما ذكره بعض المحققين من المعاصرين مع الوجه الأول، وبعض الوجوه الأخر، قال: لا ريب في كوننا مكلفين بالأحكام الشرعية، ولم يسقط عنا التكليف بالأحكام الشرعية في الجملة، وأن الواجب علينا أولا هو تحصيل العلم بتفريغ الذمة في حكم المكلف بأن يقطع معه بحكمه بتفريغ ذمتنا عما كلفنا به، وسقوط التكليف عنا سواء حصل العلم منه بأداء الواقع أولا حسب ما مر تفصيل القول فيه، وحينئذ فنقول:
إن صح لنا تحصيل العلم بتفريغ الذمة في حكم الشارع فلا إشكال في وجوبه، وحصول البراءة، وإن انسد علينا سبيل العلم به كان الواجب علينا تحصيل الظن بالبراءة في حكمه إذ هو الأقرب إلى العلم به، فتعين الأخذ به عند التنزل من العلم في حكم العقل بعد انسداد سبيل العلم والقطع ببقاء التكليف، دون ما يحصل معه الظن بأداء الواقع، كما يدعيه القائل بأصالة حجية الظن وبينهما بون بعيد، إذ المعتبر في الوجه الأول هو الأخذ بما يظن كونه حجة بقيام دليل ظني على حجيته، سواء حصل منه الظن بالواقع أو لا.
وفي الوجه الثاني لا يلزم حصول الظن بالبراءة في حكم الشارع، إذ لا يستلزم مجرد الظن بالواقع الظن باكتفاء المكلف بذلك الظن في العمل، سيما بعد النهي عن اتباع الظن، فإذا تعين تحصيل ذلك بمقتضى العقل يلزم اعتبار أمر آخر يظن معه رضاء المكلف بالعمل به، وليس ذلك إلا الدليل الظني الدال على حجيته، فكل طريق قام ظن على حجيته عند الشارع يكون حجة دون ما لم يقم عليه» انتهى بألفاظه.
563

وأشار بقوله: «حسب ما مر تفصيل القول فيه» إلى ما ذكره سابقا في مقدمات هذا المطلب، حيث قال في المقدمة الرابعة من تلك المقدمات: «إن المناط في وجوب الأخذ بالعلم، وتحصيل اليقين من الدليل، هل هو اليقين بمصادفة الأحكام الواقعية الأولية إلا أن يقوم دليل على الاكتفاء بغيره أو أن الواجب أولا هو تحصيل اليقين بتحصيل الأحكام، وأداء الأعمال على وجه أراده الشارع في الظاهر، وحكم معه بتفريغ ذمتنا بملاحظة الطرق المقررة لمعرفتها بما جعلها وسيلة للوصول إليها، سواء علم بمطابقة الواقع أو ظن ذلك أو لم يحصل شيء منها؟ وجهان، الذي يقتضيه التحقيق: الثاني، فإنه القدر الذي يحكم العقل بوجوبه، ودلت الأدلة المتقدمة على اعتباره، ولو حصل العلم بها على الوجه المذكور لم يحكم العقل بوجوب تحصيل العلم بما في الواقع، ولم يقض شيء من الأدلة الشرعية بوجوب تحصيل شيء آخر وراء ذلك، بل الأدلة الشرعية قائمة على خلاف ذلك، إذ لم يبن الشريعة من أول الأمر على وجوب تحصيل كل من الأحكام الواقعية على سبيل القطع واليقين ولم يقع التكليف به حين انفتاح سبيل العلم بالواقع، وفي ملاحظة طريقة السلف من زمن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام كفاية في ذلك، إذ لم يوجب النبي صلى الله عليه وآله على جميع من في بلده من الرجال والنسوان السماع منه في تبليغ الأحكام، أو حصول التواتر لآحادهم بالنسبة إلى آحاد الأحكام، أو قيام القرينة القاطعة على عدم تعمد الكذب، أو الغلط في الفهم، أو في سماع اللفظ، بل لو سمعوه من الثقة اكتفوا به» انتهى.
ثم شرع في إبطال دعوى حصول العلم بقول الثقة مطلقا إلى أن قال:
«فتحصل مما قررناه أن العلم الذي هو مناط التكليف أولا هو العلم بالأحكام من الوجه المقرر لمعرفتها والوصول إليها، والواجب بالنسبة إلى العمل هو أداؤه على وجه يقطع معه بتفريغ الذمة في حكم الشرع سواء حصل العلم بأدائه على
564

طبق الواقع أو على طبق الطريق المقرر من الشارع وإن لم يعلم ولم يظن بمطابقتها للواقع.
وبعبارة أخرى لا بد من معرفة أداء المكلف به على وجه اليقين أو على وجه منته إلى اليقين من غير فرق بين الوجهين ولا ترتيب بينهما، ولو لم يظهر طريق مقرر من الشارع لمعرفتها تعين
الأخذ بالعلم الواقع على حسب إمكانه، إذ هو طريق إلى الواقع بحكم العقل من غير توقف لإيصاله إلى الواقع إلى بيان الشرع، بخلاف غيره من الطرق المقررة» انتهى كلامه رفع مقامه.
أقول: ما ذكره في مقدمات مطلبه من عدم الفرق بين علم المكلف بأداء الواقع على ما هو عليه وبين العلم بأدائه من الطريق المقرر مما لا إشكال فيه، نعم ما جزم به من أن المناط في تحصيل العلم أولا هو العلم بتفريغ الذمة دون أداء الواقع على ما هو عليه فيه: أن تفريغ الذمة عما اشتغلت به إما بفعل نفس ما أراده الشارع في ضمن الأوامر الواقعية، وإما بفعل ما حكم حكما جعليا بأنه نفس المراد وهو مضمون الطرق المجعولة، فتفريغ الذمة بهذا على مذهب المخطئة من حيث انه نفس المراد الواقعي بجعل الشارع، لا من حيث انه شيء مستقل في مقابل المراد الواقعي، فضلا عن أن يكون هو المناط في لزوم تحصيل العلم واليقين.
والحاصل: أن مضمون الأوامر الواقعية المتعلقة بافعال المكلفين مراد واقعي حقيقي، ومضمون الأوامر الظاهرية المتعلقة بالعمل بالطرق المقررة ذلك المراد الواقعي، لكن على سبيل الجعل لا الحقيقة، وقد اعترف المحقق المذكور حيث عبر عنه بأداء الواقع من الطريق المجعول، فأداء كل من الواقع الحقيقي والواقع الجعلي لا يكون بنفسه امتثالا وإطاعة لأمره المتعلق به ما لم يحصل العلم به.
نعم لو كان كل من الأمرين المتعلقين بالأداءين مما لا يعتبر في سقوطه
565

قصد الإطاعة والامتثال كان مجرد كل منهما مسقطا للأمرين من دون امتثال، وأما الامتثال للأمر بهما فلا يحصل إلا مع العلم.
ثم إن هذين الأمرين مع التمكن من امتثالهما يكون المكلف مخيرا في امتثال أيهما، بمعنى أن المكلف مخير بين تحصيل العلم بالواقع فيتعين عليه، وينتفي موضع الأمر الآخر، إذ المفروض كونه ظاهريا قد أخذ في موضوعه عدم العلم بالواقع، وبين ترك تحصيل الواقع وامتثال الأمر الظاهري، هذا مع التمكن من امتثالهما.
وأما لو تعذر عليه امتثال أحدهما تعين امتثال الآخر، كما لو عجز عن تحصيل العلم بالواقع، وتمكن من سلوك الطريق المقرر لكونه معلوما له، أو انعكس الأمر، بأن تمكن من العلم وانسد عليه باب سلوك الطريق المقرر لعدم العلم به، ولو عجز عنهما معا قام الظن بهما مقام العلم بهما بحكم العقل، فترجيح الظن بسلوك الطريق على الظن بسلوك الواقع لم يعلم وجهه، بل الظن بالواقع أولى في مقام الامتثال لما أشرنا إليه سابقا من حكم العقل والنقل بأولوية إحراز الواقع.
هذا في الطريق المجعول في عرض العلم بأن أذن في سلوكه مع التمكن من العلم.
وأما إذا نصبه بشرط العجز عن تحصيل العلم فهو أيضا كذلك ضرورة أن القائم مقام تحصيل العلم الموجب للإطاعة الواقعية عند تعذره هي الإطاعة الظاهرية المتوقفة على العلم بسلوك الطريق المجعول لا على مجرد سلوكه.
والحاصل: أن سلوك الطريق المجعول مطلقا أو عند تعذر العلم في مقابل العمل بالواقع، فكما أن العمل بالواقع مع قطع النظر عن العلم لا يوجب امتثالا، وإنما يوجب فراغ الذمة من المأمور به واقعا لو لم يؤخذ فيه تحققه على وجه الامتثال، فكذلك سلوك الطريق المجعول، فكل منهما موجب لبراءة الذمة
566

واقعا وإن لم يعلم بحصوله، بل ولو اعتقد عدم حصوله، وأما العلم بالفراغ المعتبر في الإطاعة فلا يتحقق في شيء منهما إلا بعد العلم أو الظن القائم مقامه، فالحكم بأن الظن بسلوك الطريق المجعول يوجب الظن بفراغ الذمة، بخلاف الظن بأداء الواقع فإنه لا يوجب الظن بفراغ الذمة إلا إذا ثبت حجية ذلك الظن، وإلا فربما يظن بأداء الواقع من طريق يعلم بعدم حجيته - تحكم صرف.
ومنشأ ما ذكره - قدس سره - تخيل أن نفس سلوك الطريق الشرعي المجعول في مقابل سلوك الطريق العقلي غير المجعول وهو العلم بالواقع الذي هو سبب تام لبراءة الذمة فيكون هو أيضا كذلك فيكون الظن بالسلوك ظنا بالبراءة، بخلاف الظن بالواقع لأن نفس أداء الواقع ليس سببا تاما للبراءة حتى يحصل من الظن به الظن بالبراءة، فقد قاس الطريق الشرعي بالطريق العقلي، وأنت خبير بأن الطريق الشرعي لا يتصف بالطريقية فعلا إلا بعد العلم تفصيلا، وإلا فسلوكه أعني مجرد تطبيق الأعمال عليه مع قطع النظر عن حكم الشارع، لغو صرف.
ولذلك أطلنا الكلام في أن سلوك الطريق المجعول في مقابل العمل بالواقع، لا في مقابلة العلم بالعمل بالواقع، ويلزم من ذلك كون كل من العلم والظن المتعلق بأحدهما في مقابل المتعلق بالآخر، فدعوى أن الظن بسلوك الطريق يستلزم الظن بالفراغ، بخلاف الظن بإتيان الواقع - فاسدة.
هذا كله مع ما علمت سابقا في رد الوجه الأول من إمكان منع جعل الشارع طريقا إلى الأحكام، وإنما اقتصر على الطرق المنجعلة عند العقلاء وهو العلم، ثم على الظن الاطمئناني» (1).
أقول: الوجه الذي حكم - طاب ثراه - باتحاده مع الوجه المتقدم نقله

(1) العبارات المنقولة من أول العنوان إلى هنا كلام الشيخ الأنصاري في فرائد الأصول: 135 - 137.
وانظر أيضا لما نقله عن بعض المحققين: هداية المسترشدين: 384 - 385 و 391.
567

عن الفصول هو الوجه الثاني من الوجوه الثمانية التي استدل بها على إثبات الظن الخاص، ولا بأس بنقله بنصه ليسهل على الناظر المقايسة بينهما، قال:
«الثاني: أنه كما قرر الشارع أحكاما واقعية كذا قرر طرقا للوصول إليها إما العلم بالواقع، أو مطلق الظن، أو غيرهما قبل انسداد باب العلم أو بعده، وحينئذ فإن كان سبيل العلم بذلك الطريق مفتوحا فالواجب الأخذ به والجري عليه، ولا يجوز الأخذ بغيره مما لا يقطع معه بالوصول إلى الواقع من غير خلاف بين الفريقين، وإذا انسد سبيل العلم به تعين الرجوع إلى الظن به، فيكون ما ظن أنه طريق مقرر من الشرع طريقا قطعيا حينئذ إلى الواقع، نظرا إلى القطع ببقاء التكليف بالرجوع إلى الطريق، وقطع العقل بقيام الظن حينئذ مقام العلم حسب ما عرفت ويأتي، فالحجة إذن ما ظن كونه حجة وطريقا للوصول إلى الأحكام، وذلك إنما يكون بقيام الأدلة الظنية على كونه كذلك، وليس ذلك إثباتا للظن بالظن حسب ما قد يتوهم، بل تنزلا من العلم بما جعله الشارع طريقا إلى ما يظن كونه كذلك بمقتضى حكم العقل حسب ما مرت الإشارة إلى نظيره في الوجه المتقدم» (1).
أقول: الوجهان مشتركان في المقدمتين الأوليين أعني وجود الطرق الشرعية إلى الأحكام الواقعية، ولكن هذا - كما يظهر مما تعرفه في بيان محل النزاع - اشتراك في المدعى لا الدليل، لأن المهم الذي يحاول كل منهما إثباته هو تعين العمل بالطرق الشرعية، أعني الظن الخاص، فتأمل.
وبالجملة، فالتوافق التام بين الوجهين موضع تأمل، وتحقيقه غير مهم، وعلى فرض الاتحاد فلا ريب أن تقرير الفصول أتم وأوضح، إذ تعين الرجوع إلى الظن بالطريق لا يتم إلا بما فيه من قوله: «وحاصل القطعين يرجع إلى أمر

(1) هداية المسترشدين: 393.
568

واحد» (1) ولا يمكن إخراج سائر التكاليف المحتمل وجودها في غير مؤديات الطرق إلا به.
ثم إن ظاهر التقرير حجية الظن بمطلق الطريق، وما وضعت هذه الوجوه إلا لرده، وإثبات تخصيص الحجة بالكتاب والسنة، كما صرح به في غيره من الوجوه فلا بد فيه من قول (الفصول): «وهذه أمارات محصورة» (2) فكان هذا الوجه ليس بحجة تامة، بل يتوقف على ما قرره - طاب ثراه - في سائر الوجوه، ولهذا أحال أهم أجزائها إلى ما تقدم من كتابه وما يأتي منه.
ثم إن حجة الإسلام الجد (3) - أعلى الله درجته - حكم في شرحه لكتاب والده، بأن هذا الوجه هو الذي اختاره عمه (4) معرضا بقوله: «وزعم أنه لم يسبقه إليه أحد» (5) ولم يلبث
حتى فرق بينهما بوجهين:
أحدهما: تخصيص (الفصول) بدعوى القطع بوجود الطرق المجعولة، واستظهر من والده عدم التفرقة بين الطرق المجعولة وغيرها، واستشهد عليه بعده العلم من الطرق المقررة.
وثانيهما: أن مراد والده من الطريق، الطريق الفعلي، ومراد عمه منه الطريق الواقعي، وفرق بينهما بوجوه (6) نذكر محصلها - إن شاء الله - عند التعرض لكلامه، وتبين عدم الفرق بينهما من هذه الجهة.

(1) الفصول الغروية: 277.
(2) الفصول الغروية: 278.
(3) هو الشيخ محمد باقر الإصفهاني المتوفى سنة 1301 ه، نجل الشيخ محمد تقى الإصفهاني صاحب الكتاب المعروف " هداية المسترشدين ".
له - رحمه الله - رسالة في حجية الظن الطريقي، وكتاب لب الأصول وغيرهما. فوائد الرضوية: 410.
(4) يقصد بالعم: الشيخ محمد حسين الأصبهاني صاحب " الفصول الغروية ".
(5) الفصول الغروية: 277.
(6) رسالة حجية المظنة: 33.
569

وأما الوجه الأول، فقد عرفت مفصلا مراد (الفصول) من الطريق المنصوب وأنه أعم من الجعل والتقرير ولو بعدم الردع، وكلام والده العلامة مبني عليه، بل لم يذكر هذه الوجوه إلا لإثباته، وتعرف قريبا الوجه في عده العلم من الطرق المقررة.
وقبل النظر فيما أفاده الشيخ الأعظم لا بد من التنبيه على أمور:
الأول: قد عرفت مما صدرنا به البحث من نقل كلام صاحب الهداية أن محل الخلاف أن الحجة بعد انسداد باب العلم بالأحكام الواقعية والطرق القطعية هل هي ظن المجتهد من أي طريق حصل، أو أن هناك طرقا مخصوصة، ويعبر عن الأول بالظن المطلق، وعن الثاني بالظن الخاص، وأن من لا يرى خصوصية لقسم من الظن أو الطرق المؤدية إليها، ويستدل عليه بدليل الانسداد المشهور فهو قائل بالأول، ومن يرى خصوصية لقسم منه أو لطريق إليها فهو قائل بالثاني.
وعرفت أيضا أن هذا الإمام وأخاه العلامة يذهبان إلى الثاني والحجة عندهما خصوص الكتاب والسنة وما يؤول إليهما، وهما من ألد خصوم الظن المطلق، وقد ذكر كل منهما الدليل المشهور، وبالغ في الرد عليه، وجميع ذلك قد اتضح مما تقدم، فلا حاجة بنا إلى تكراره، ويزيد وضوحا بما يأتي - إن شاء الله - ونذكرك هنا بما أسلفناه: أن عدهما من المخالفين في عموم نتيجة دليل الانسداد أمر سبق إليه قلم الشيخ - طاب ثراه - وتبعه فيه عامة من تأخر عنه، وأن من الواضح المصرح به في كلام صاحب الهداية والظاهر من كلام أخيه هو التعميم بناء على الظن المطلق.
الثاني: مختار هذا الإمام وجود الدليل القاطع على حجية الظنون الخاصة، والمدارك المخصوصة، كما صرح به في الوجه الأخير من الوجوه الثمانية، فقال: «وقد دل على أن هناك طريقا خاصا مقررا من صاحب الشريعة لاستنباط الأحكام الشرعية لا يجوز التعدي عنه في الحكم والإفتاء ما دام التمكن
570

حاصلا، وما ذكروه من اعتبار القطع في الأصول لا بد من حمله على إرادة هذه المسائل ونحوها من مسائل الأصول إن أرادوا بذلك ما يعم أصول الفقه، فكيف يلتزم بانسداد سبيل العلم فيها، والطريق عندنا هو الرجوع إلى الكتاب والسنة؟» (1).
ثم أخذ في بيان الدليل من تواتر الأخبار، وقيام السيرة، وغيرهما إلى أن قال:
«فظهر أن الظن الخاص الذي نقول بالعمل به، وجعله الشارع طريقا إلى معرفة أحكامه هو الظن الحاصل من الرجوع إلى الكتاب والسنة، ولا نقول بحجية ظن سوى ذلك» (2).
وقال في أثناء تقرير الوجه السادس ما لفظه:
«انعقاد الإجماع على وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة بالنسبة إلى زماننا هذا وما قبله من الأمور الواضحة الجلية، بل مما يكاد أن يلحق بالضروريات الأولية» إلى أن قال:
«ليس المقصود دعوى الإجماع على وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة باعتبار خصوصيتهما، بل المدعى قيام الإجماع بالخصوص على وجوب الرجوع إليهما، ليكون الظن الحاصل منهما حجة ثابتة بالخصوص، إذ لا حاجة - إذن - في إثبات حجيتهما إلى ملاحظة الدليل العقلي المذكور، بل هو ثابت بالإجماع القطعي، فيكون هو ظنا ثابتا بالدليل، وليس يعني بالظن الخاص إلا ما يكون حجيته ثابتة بالخصوص، لا ما يكون حجيته بحسب الواقع بملاحظة الخصوصية الحاصلة فيه لا من جهة عامة، وهو واضح لا خفاء فيه» (3) إلى غير ذلك مما

(1 و 2) هداية المسترشدين: 400.
(3) هداية المسترشدين: 398.
571

يصعب استقصاؤه، إذ ما من صفحة من صفحات كتابه إلا وفيه بيان ذلك تصريحا أو تلويحا.
ثم إنه - طاب ثراه - تنزل عن هذه الدعوى مجاملة مع القائل بمطلق الظن، وإتماما للحجة عليه، فذكر وجوها سبعة له أولها: هذا الذي تعرض الشيخ له لإثبات أن النوبة لا تنتهي إلى مطلق الظن، بل الواجب عقلا هو الرجوع إلى الكتاب والسنة، وتفريغ الذمة عن التكليف في حكم الشارع ظنا إذا فرض عدم إمكانه على سبيل القطع، وهذا أيضا مصرح في كلامه مرات يتجاوز حد العشرات.
منها: ما ذكره في أواخر هذا الدليل، ونصه: «فظهر بما قررناه أن اللازم أولا في حكم العقل هو تحصيل العلم بالتفريغ في حكم الشارع، وبعد انسداد سبيله يتنزل إلى الظن بالتفريغ في حكمه، لا مجرد الظن بالواقع، وقد عرفت عدم الملازمة بين الأمرين وحصول الانفكاك من الجانبين».
«نعم لو كان الحاصل بعد انسداد سبيل العلم بحصول التفريغ في حكمه أمورا مفيدة للظن بالواقع من غير أن يكون هناك دليل قطعي أو ظني على حجية شيء منها، وتساوت تلك الظنون في ذلك، كان الجميع حينئذ حجة في حكم العقل وإن لم يحصل من شيء منها ظن بالتفريغ أولا، وذلك لعدم إمكان تحصيل الظن بالتفريغ من شيء منها على ما هو المفروض، فينتقل الحال إلى مجرد تحصيل الظن بالواقع، ويحكم العقل - من جهة الجهل المذكور وتساوي الظنون في نظره بالنسبة إلى الحجية وعدمها، حيث لم يقم دليل على ترجيح بعضها على بعض - بحجية الجميع، والأخذ بأقواها عند التعارض من غير فرق بينها، فصار المحصل أن اللازم تحصيل العلم بالتفريغ في حكم الشارع كما مر القول فيه، وبعد انسداد سبيله يتعين تحصيل الظن بالتفريغ في حكمه، تنزلا من العلم به إلى الظن، فينزل الظن به منزلة العلم، وإذا انسد سبيله أيضا تعين الأخذ بمطلق ما يظن معه
572

بأداء الواقع حسب ما ذكر في المقام، فهناك مراتب متدرجة ودرجات مترتبة، ولا يتدرج إلى الوجه الثالث إلا بعد انسداد سبيل الأولين».
«والمختار عندنا حصول الدرجة الأولى، وعدم انسداد سبيل العلم بالتفريغ من أول الأمر كما سيأتي الإشارة إليه في الوجه الأخير، لكنا نقول: إنه بعد تسليم انسداد سبيله إنما يتنزل إلى الوجه الثاني دون الثالث، وإنما يتنزل إليه بعد انسداد سبيل الثاني أيضا وتساوي الظنون من كل وجه، وأنى لهم بإثبات ذلك، بل من البين خلافه، إذ لا أقل من قيام الأدلة الظنية على حجية ظنون مخصوصة كافية في استنباط الأحكام الشرعية، وهي كافية في وجوب الأخذ بها وعدم جواز الاتكال على غيرها نظرا إلى قيام الدليل القطعي المذكور، فليس ذلك من الاتكال على الظن في إثبات الظن ليدور كما ظن» (1).
فانظر إلى تصريحه بأن المختار عنده حصول الدرجة الأولى، وأن مختاره بعد تسليمه انسداد السبيل إليها هو التنزل إلى الثانية، ثم الثالثة، وليكن هذا الكلام على مرأى منك، فإنه نافع في مواضع كثيرة من المطالب الآتية.
وهذا هو الظن الخاص الذي يقول به، ويناضل عنه بحقه وحقيقته، ولا أدري كيف عزب ذلك عن قلم ولده الجد الإمام حجة الإسلام، فقال:
«إن مقتضى الوجوه السبعة: العمل بالظن المطلق في الجملة» (2).
وإن كان هذا قولا بالظن المطلق فما ذا يكون معنى الظن الخاص؟ ولعل لذلك رجع عنه، فقال: «أما القول بالظن المطلق في إثبات الطرق المخصوصة

(1) هداية المسترشدين: 392.
(2) رسالة حجية المظنة: 27.
573

فهو قول بالظن المخصوص» (1).
فاتضح لدى المنصف أن صاحبي (الهداية) و (الفصول) يذهبان إلى ما عليه سائر الفرقة الحقة من انحصار الحجة في الكتاب والسنة، وأنه يلزم الرجوع إليهما في معرفة الأحكام وإن لم يفيدا إلا الظن، وهذا الظن قد ثبت حجيته عندهما بالدليل العقلي المفيد للقطع، فلا ينتهي النوبة إلى الظن بالواقع أو بطريق غيرهما.
وبعبارة أخرى: المقدمة الأولى من مقدمات الدليل المشهور ممنوعة، فلا محل له عندهما أصلا، فهذا الدليل كالمتقدم عليه في عداد الأدلة العقلية الدالة على حجية الخبر بخصوصه، فكان الأجدر بالشيخ أن يذكرهما معها، كما صنعه بالوجه السادس من الوجوه الثمانية، لا أن يجعله نتيجة دليل الظن المطلق، وهو أعلم بما صنع.
الثالث: قد عرفت الاحتمالات الثلاثة بناء على الظن المطلق من اعتبار كل من الظن بالطريق أو الواقع فقط، واعتبارهما معا، وأن الشيخ - قدس سره - اختار الثالث، ونقل الثاني عن غير واحد من مشايخه المعاصرين، ونسب الأول إلى صاحبي (الهداية) و (الفصول) وقد اتضح لديك حال هذه النسبة، وأن صريح الأول وظاهر الثاني على الأول هو التعميم، فهو - إذن - مجرد احتمال أو قول لا يعرف قائله.
وعليه، فالظن المطلق مردد أمره بين احتمالين، وما نشأ تثليث الاحتمالات إلا من حمل كلام الإمامين على غير وجهه.
وأما على الظن الخاص فقد قال في (الهداية): «يحتمل أن يقال بحجية الظنون الخاصة ليكون الحجة نفس الظن الحاصل من الأدلة فيناط حجية

(1) رسالة حجية المظنة: 27.
574

الأدلة عنده بالوصف المذكور، إلا أنه لا يوافقه بعض كلماتهم».
«وأن يقال بحجية طرق خاصة وظنيات مخصوصة أفادت الظن بالواقع أو لم تفده، وهذا هو التحقيق في المقام، إذ ليست حجية الأدلة الشرعية منوطة بحصول الظن منها بالواقع، وإنما هي طرق مقررة لإفادة الواقع على نحو الطرق المقررة للموضوعات في إجراء الأحكام المقررة لها»
(1).
وصريحه اعتبار الظن بالطريق حصل منه الظن بالواقع أم لا.
وعليه ينبغي أن يحمل ما يوهم خلافه من كلامه، كقوله في أثناء تقرير الوجه الثامن: «فظهر أن الظن الخاص الذي نقول بالعمل به، وجعله الشارع طريقا إلى معرفة أحكامه هو الظن الحاصل من الرجوع إلى الكتاب والسنة ولا نقول بحجية ظن سوى ذلك» (2).
الرابع: الظن الخاص عند القائل به حجة شرعية تنجز الأحكام إذا صادف الواقع، وتكون عذرا إذا أخطأ به، ويجري الأصول العملية عند فقدانه، تقيد به المطلقات، ويخصص به العمومات، ويبين به المتشابهات.
وبالجملة، هو حجة قطعية، يترتب عليه حال الانسداد ما يترتب على العلم، وليس كالظن المطلق الذي يحاول إثباته بذلك الدليل المركب من مقدمات تافهة، لأن أقصى وسعه رفع وجوب الاحتياط الذي يحكم به العقل في موارد الظن بعدم التكليف، واكتفاء الشارع بالإطاعة الظنية لا يرفع به الاحتياط في المشكوكات، ولا يستطاع به تخصيص العمومات الثابتة بالظنون الخاصة، ومخالفة سائر الظواهر الموجودة فيها، كما فصله الشيخ في بيان المقدمة الثالثة (3).

(1) هداية المسترشدين: 386.
(2) هداية المسترشدين: 400.
(3) انظر: فرائد الأصول: 118 وما بعدها.
575

فهو - إذن - من هذه الجهة كالأصول العملية، إن بالغت قلت: إنه برزخ بينها وبين الدليل، وإن حاولت الصدق قلت: إنه أدون منها من عدة جهات لا يثبت به حجة، ولا يهتدى به إلى محجة، وأين هذا مما يحاوله الفقيه من التخصيص والتقييد للعمومات والإطلاقات، والحكم بمؤداها عند وجودها، والرجوع إلى الأصول لدى فقدانها؟ إلا أن يقرر النتيجة على وجه الكشف، فإنه على بعض وجوهه يهون به الخطب، لكنه دعوى فاسدة ما بنيت إلا على أصل فاسد، كما تعرفه في محله.
الخامس: تنحصر التكاليف الفعلية عندهما فيما كان مؤدى طرق مخصوصة، وقد عرفت أنها الكتاب والسنة وما يؤول إليهما، فلا تكليف فعلي منجز ليس بمؤدى طريق شرعي.
أما صاحب (الفصول) فقد مر من كلامه ومن شرحه ما فيه الكفاية.
وأما صاحب (الهداية) فكلامه طافح (1) به ما بين تصريح وتلويح، وقد قال في أواخر الوجه الثاني ما نقله الشيخ في خاتمة اعتراضاته على (الفصول) ويأتي ذكره ما هو صريح في أن أحد التكليفين - أي: الواقع والطريق - منوط بالآخر مقيد به.
وقال في أثناء تقريب دليل الانسداد على الوجه المعروف ما لفظه: «وإن أريد به عدم اقتضائه - يعني الاشتراك في التكليف - تعين تلك التكاليف علينا بحسب الواقع مع عدم إيصال الطريق المقرر في الظاهر للإيصال إليها فمسلم (2).
وقال في أثناء تقريب آخر لهذا الدليل ما نصه: «فالحاصل أنه لا تكليف بالأحكام الواقعية إلا بالطريق الموصل إليها، فيجدر القول بتكليفنا بالأحكام

(1) طفح الإناء: إذا امتلأ حتى يفيض. الصحاح 1: 387 " طفح ".
(2) هداية المسترشدين: 403.
576

الواقعية، لكن من الطريق المقرر عند صاحب الشريعة، سواء كان هو العلم أو غيره» (1) إلى غير ذلك مما أورده في مواضع شتى، بل يظهر من بعضه دعوى الضرورة عليه.
والوجه فيه: أنه لا شك في أن حكم العقل الامتثال العلمي مع التمكن منه من غير فرق بين إتيان الواقع الأصلي وبين إتيان الواقع المجعول، كما أوضحه - طاب ثراه - وبعد انسداد باب العلم إليهما فحكمه الامتثال الظني من غير فرق بين الظن بالطريق وبين الظن بالواقع، كما اختاره العلامة الجد، وتقدم نقله أول البحث، بل الثاني أحق بالاتباع كما تكرر في كلام الشيخ، بل كفاية الأول محل تأمل كما تكرر في كلام صاحبنا العلامة.
هذا إذا لم يتصرف الشارع في الطرق، وترك الحكم للعقل، وعليه يدور رحى دليل الانسداد المشهور.
وأما إذا عمد إلى أصناف الطرق المفيدة للظن فأمضى بعضا ورفض بعضا، فلا بد أن ينقسم إلى معلوم حجيته فيتبع، وإلى معلوم عدمها فيجتنب، ولا بد أن تنقسم الأحكام بها إلى فعلية وهي ما كانت مؤدى تلك الطرق المعتبرة، وإلى غير فعلية وهي ما لا تكون كذلك.
وأقوى شاهد عليه - وإن استضعفوه - الاتفاق على عدم حجية القياس وأشباهه، إذ من الواضح أنه لا يجتمع فعلية الحكم مع النهي عن العمل بالطريق على أنه دعوى بينة لا يحتاج إلى بينة، إذ لا معنى لجعل الطريق إلا جعل الحجة، ولا معنى للحجة إلا دوران الحكم مدارها، وبالعكس لا معنى النهي عن الطريق ورفض حجيته إلا عدم فعلية مؤدياتها.
ثم بعد فرض انسداد سبيل العلم - الذي هو الطريق العقلي الشرعي،

(1) هداية المسترشدين: 403.
577

كما سمعته من صاحب (الهداية) وسوف تسمع منا توضيحه - إلى الواقع والطريق المعتبر معا فلا بد أن تنقسم الطرق إلى مظنونة الاعتبار، وإلى ما ليست بمظنونة، فالأحكام إلى فعلية وإلى غيرها، ولا شك أن مجرد الظن بالواقع ليس ظنا بالحكم الفعلي، وبعبارة أخرى: ليس بحكم تقوم الحجة عليه، ولا بد من قيام الظن بها مقام العلم في تنجز الواقعيات بحكم العقل، كما
يظهر من المقدمات التي ذكرها - طاب ثراه (1) - فراجع نفسك ثم إنصافك فيما إذا حصل لك الظن بحرمة عصير التمر من قياسه بعصير الزبيب، وفيما إذا حصل من رواية زيد النرسي الذي ظننت صحة أصله: (حرمة عصير الزبيب) (2).
ألست ترى ظنك من القياس ظنا لا يمكن أن يحتج به الشارع عليك، بل يكون لك الحجة إذا شربته بنهيه عن القياس، وتنزيله بمنزلة العدم بخلاف الثاني، فإنه ظن بحجة شرعية ينزله العقل منزلة العلم، ويراه حجة قاطعة حال الانسداد.
وهذا المعنى هو الذي يعبر عنه - طاب ثراه - تارة بالفراغ بظاهر الشرع، وتارة بتفريغ الذمة عند الشارع، أو في حكم الشارع، وثالثة بحكم المكلف (3)، فانظر إلى الاعتراض الآتي من أن الحكم بالبراءة ليس من وظيفة الشارع، ما أسمجه وأبعده من مرام هذا الإمام، وإلى قولهم: إن التقييد بالطريق تصويب، فهل تراه بهذا المعنى إلا عين التخطئة التي يقول بها أهل الحق، وهل ترى بعد هذا البيان موقعا للتكليف الفعلي بالواقع حتى يعد طرفا للعلم الإجمالي أو يعد في مقابل الظن بالطريق فضلا عن أن يقدم عليه؟.

(1) انظر: هداية المسترشدين: 401.
(2) أصل زيد النرسي: 58، ومستدرك الوسائل 3: 135، الباب 2 من أبواب الأشربة المحرمة (الطبع الحجري) و 17: 38، الباب 2، الحديث 1 (الطبع الحديث).
(3) انظر هداية المسترشدين: 391.
578

ونقول في ختام هذه المقدمات ما يلزمك التنبه له وهو: أن أكثر الاعتراضات الموردة على كلام هذا الإمام - ولم أبعد عن الحق إن قلت: جميعها - ما نشأ إلا عن أمرين:
أحدهما: جعل مقدمات هذا الدليل عين مقدمات دليل الانسداد المشهور، وعده نتيجة له، ولقد كررنا حتى كدنا أن تمل القراء الكرام أن هذا دليل على بطلان ذلك الدليل لا أنه نتيجة له.
وثانيهما: الغفلة عن أصل المدعى الذي صدر كلامه ببيانه، وعن سائر الوجوه التي ذكرها لإثباته، فربما ترك توضيح أمر أو بيان مقدمة، لاعتماده على ما حققه في موضع آخر، وما كتاب (الهداية) عند أهل ملة العلم إلا قرآن هذا الفن، يفسر بعضه بعضا، ولو لا مخافة الشطح (1) في المقال لقلت: وأهل البيت أدرى بما فيه، وأعلم بظاهره وخافيه.
رجع - مدعى هذا الرجل العظيم وشقيقه انحصار الحجة في زمن غيبته عليه السلام في الثقلين، الذين أمرنا بالتمسك واستفادة الأحكام منهما، ونهينا من العدول عنهما، لا يقوم بغيرهما حجة، ولا يهتدى بغيرهما إلى المحجة، أما المدعى فهذا الحق الأبلج، وأما الدليل عليه فهو هذه الحجج أزاح بها عنه غياهب (2) الخفاء، وتركه أجلى من ابن ذكاء (3).
فلنعطف عنان القلم نحو شرح ما يلزم من كلامه، ثم النظر فيما أورد عليه، ونبدأ ببيان مراده من قوله: أولا، في قوله: «والواجب عليه أولا هو تحصيل

(1) الشطح: الخروج عن جادة الإعتدال.
(2) الغيهب: الظلمة. القاموس المحيط 1: 116.
(3) ذكاء - بالضم - اسم الشمس، ويقال للصبح: ابن ذكاء لأنه من ضوئها. لسان العرب 14: 287 (ذكا).
579

العلم بتفريغ الذمة عند المكلف» (1) فإنه أول اعتراض اعترضوه وكان بمنزلة الأصل الذي تفرعت منه سائر ما أوردوه.
فنقول: إنه - قدس سره - لم يرد به الترتيب بين تفريغ الذمة وأداء الواقع، ولا أن مؤدى الطريق أمر مستقل في قبال الواقع، كما فهمه الشيخ (2)، فبنى عليه جميع اعتراضاته، بل أراد أمرا واضحا لدى العقل مسلما عند الكل، وهو أن الذي يحكم به العقل تحصيل فراغ الذمة عند الشارع وهو الحاصل بإتيان الواقع الأصلي والواقع الجعلي.
وبعبارة أخرى: تحصيل العلم بإتيان الواقع أو بمؤدى الطريق من غير ترتيب بينهما بأن يكون اللازم أولا تحصيل العلم بالواقع الأولي، وبعده بالواقع الجعلي، بل المناط هو الجامع بينهما وهو تحصيل العلم بالفراغ عند الشارع كما عبر عنه وبما يضارعه، ولهذا أطال القول في جواز العمل بمؤديات الطرق مع التمكن من العلم بالواقع وبالعمل به، كما أشار إليه الشيخ، وقد صرح بمراده هذا في مواضع: منها أثناء كلامه على دليل الانسداد المشهور، فقال:
«الفراغ عند الشارع إما بإتيان الواقع أو ما هو بمنزلة الواقع» وذلك ظاهر من المقدمة التي نقلها الشيخ، حيث صرح بعدم الفرق بين الوجهين وعدم الترتيب بينهما، فلا حاجة إلى تتبع سائر ما وقع في كلامه من هذا النمط وتكلف نقله.
وجميع ما ذكره في المقدمة وفي بيان هذا الوجه هو الذي قرره الشيخ بعينه، وينبغي أن يعد أو في شرح لقوله أول العنوان: «وليس الواقع بما هو واقع مقصودا للمكلف إلا من حيث كون تحققه مبرئا للذمة».
فهل ترى - رعاك الله - فرقا بين المقالين إلا تعبير صاحب (الهداية) بلفظ

(1) هداية المسترشدين: 391.
(2) انظر: فرائد الأصول: 136.
580

«أولا» عن قول الشيخ: «من غير فرق»؟ وتفسيره عن الجامع بين الواقعين:
الأصلي والجعلي بلفظ المبرئ للذمة عند المكلف، فلأي سبب نحول المطلب المأخوذ منه إلى صورة الاعتراض عليه، وما دعاه - إلا توضيح بعد الواضح - سوى الرد على من توهم من القائلين بمطلق الظن من أن التكليف يتعلق أولا بالواقع وبعده بالطريق، وجعله توطئة لعدم تقدم الواقع على الطريق حال العلم حتى يلزم منه ما يحاوله الخصم من تقدم الظن بالواقع على الظن بالطريق.
ويشهد بذلك مواضع من كلامه، منها: ما بينه أثناء رد دليل الانسداد ورد قولهم: إن الطريق إلى الوصول إلى الأحكام هو العلم مع الإمكان، ولفظه:
«وإن أريد أن الطريق أولا هو العلم بالأحكام الواقعية فينتقل بعد انسداد سبيله مع العلم ببقاء التكليف إلى الأخذ بالظن بها - فهو ممنوع، بل القدر اللازم أولا ما عرفت من العلم بأداء التكليف شرعا كما مر تفصيل القول فيه. وكون الطريق المقرر أولا في الشريعة هو العلم بالأحكام الواقعية - ممنوع، وليس في الشرع ما يدل على لزوم تحصيل العلم بكل الأحكام الواقعية، بل الظاهر أنه مما لم يقع به التكليف مع انفتاح طريق العلم لما في إناطة التكليف به من الحرج التام بالنسبة إلى عامة الأنام، بل المقرر من الشارع طرق خاصة لأخذ الأحكام، كما قرر طرقا خاصة للحكم في الموضوعات التي أنيط بها الأحكام ونزلها منزلة العلم بها» (1).
وقال بعده بعدة أسطر: «ومحصل الكلام: أن الطرق أولا إلى الواقع هو ما قرره الشارع، وجعله طريقا إلى العلم بتفريغ الذمة لا نفس العلم بأداء الواقع، ولذا إذا علمنا ذلك صح البناء عليه قطعا ولو مع انفتاح باب العلم بالواقع، فعدم وجوب مراعاة القطع بالواقع إذا حصل القطع بتفريغ الذمة في ظاهر الشريعة

(1) هداية المسترشدين: 403 - 404.
581

أقوى شاهد على ما قلناه» (1) إلى غير ذلك مما لا داعي إلى استقصائه بعد وضوح الأمر.
فان كانت المؤاخذة على تعرضه لهذا الواقع، فقد عرفت العذر فيه، إذ هو أول ثلمة تسد، وباب يرد على وجه القائل بمطلق الظن.
وإن كانت على التعبير بهذا اللفظ، فإنه عبارة متعارفة في أمثال المقام، فيقال: إن الواجب أولا في الواجب التخييري هو الجامع بين الفردين ويراد به نفي الترتيب، ولقد أحسن كل الإحسان في بيانه بقوله بعد المنقول في الرسالة بعدة أسطر، ولفظه:
«والحاصل أن القدر اللازم أداء الفعل وحصول البراءة بحسب حكم الشارع وهو حاصل بكل من الوجهين، وتعين تحصيل العلم بالواقع مع فرض انتفاء العلم بالطريق المقرر أو انتفائه واقعا - ليس لكونه متعينا في نفسه، بل لحصول البراءة به على النحو الذي ذكرناه، وفرق بين بين كون الشيء مطلوبا بذاته وكون المطلوب حاصلا به، فهو إذن أحد الوجهين في تحصيل تفريغ الذمة»
(2).
وهذا وأشباهه الكثيرة من كلامه تفسير مراده من قوله: «أولا» وهو الذي يبتني عليه دليله المذكور، ولا أدري كيف جعل صاحب الحاشية ذلك منه اعترافا؟ فقال: «وقد اعترف به» (3
) أي بعدم الترتيب بينهما حال التمكن.
وعهدي بكلمة (الاعتراف) ومورد استعمالها غفلة المستدل، وذكره ما يضعف به مقال نفسه، ويعضد به حجة خصمه، وأما استعمالها في مورد دليله الذي يصول به ويبني عليه أصله فلم أسمعه إلا من هذا الأستاذ.

(1) هداية المسترشدين: 404.
(2) هداية المسترشدين: 391.
(3) الآخوند الشيخ محمد كاظم الخراساني في حاشية فرائد الأصول: 86.
582

وإن كان ثم توهم في القول بالترتيب، فليكن في قول المحشي (1): «لم ينهض برهان من عقل ونقل على أن الواجب علينا أولا هو العلم بحكم المولى بالفراغ، وما نقله الشيخ عن بعض المحققين - الجد - لا ينهض إلا على الاجتزاء والاكتفاء [به] وعدم لزوم الاقتصار على تحصيل العلم بالواقع» (2).
هذا، ولا أرى في كلام هذا الإمام أثرا لما استنبطه الشيخ من قوله دون الواقع، فقد اتضح غاية الوضوح ان مراده عدم تعين الواقع للامتثال، بل الواجب بحكم العقل إتيان أحد الأمرين من الواقع أو مؤدى الطريق، وإن شئت قلت: الواقع من طريق العلم أو من طريق الشرع، وهو الذي عبر عنه بالفراغ بحكم الشارع وبغيره.
فانظر ما أبعد وأبرد ما أورده عليه غير واحد (3) من أن الحكم بالبراءة ليس من وظيفة الشارع، وإنما الحكم فيه للعقل، وأنه لا يعقل للمولى حكم مولوي غير أحكامه الظاهرية والواقعية إلى غير ذلك مما أسدى وألحم على هذا المنوال، ويأتي تفصيل الحال.
رجع إلى النظر فيما أورده الشيخ طاب ثراه.
أطال - قدس سره - القول في أن تفريغ الذمة إما بإتيان ما أراده الشارع في ضمن الأوامر الواقعية، وإما بإتيان ما حكم حكما جعليا بأنه نفس المراد وهو مضمون الطرق المجعولة، لا أنه شيء مستقل في مقابل الواقع فضلا عن أن يكون هو المناط في لزوم تحصيل العلم إلى آخر ما مر نقله من الرسالة (4).
وأقول: لا أخال أنه يخفى عليك بعد ما أوضحناه لك من أن صاحب

(1) وجهه: التعبير بالاكتفاء والاجتزاء. (منه قدس سره).
(2) حاشية فرائد الأصول: 86.
(3) منهم: الآخوند الخراساني (ره) في كفاية الأصول: 320، وحاشية فرائد الأصول: 85 - 86.
(4) فرائد الأصول: 136.
583

(الهداية) ليس إلا بصدد إثبات أن كلا من الواقع ومؤدى الطريق القطعيين موجب لبراءة الذمة عند المكلف بمعنى خروجه عن عهدة التكليف وأمنه من العقاب من غير ترتيب بينهما، فإذا صح له ذلك واتضح لك بما قدمناه، فليكن المؤدى إن شاء عين الواقع وإن شاء فليكن أمرا مستقلا في قباله.
ومع ذلك فما قرره الشيخ مطابق لما قرره في (الهداية) وصرح به في مواضع:
منها: ما نقله الشيخ بنفسه، وسماه اعترافا، فقال: «وقد اعترف المحقق المذكور حيث عبر عنه بأداء الواقع من الطريق المجعول» (1).
ومنها: ما ذكره في أوائل الكلام على دليل الانسداد، وهو وإن لم يكن مورده مورد البحث ولكن يظهر منه ذلك، ودونك ما اقتطفناه منه، ولفظه:
«الحكم الظاهري التكليفي هو الحكم الواقعي في نظر المكلف وبحسب اعتقاده، وليس حكما آخر متعلقا بالمكلف - إلى أن قال - وذلك في الحقيقة طريق شرعي للحكم بكونه الواقع بالنسبة إلى ذلك المكلف» (2).
وقال: «فإن كان المظنون مطابقا للواقع فلا كلام، وإلا كان التكليف بالواقع ساقطا بحسب الواقع، وكان ذلك حكما ثانويا قائما مقام الأول بالنظر إلى الواقع أيضا وإن كان مكلفا به في الظاهر من حيث إنه الواقع» (3) إلى غير ذلك من تصريحاته بذلك، وتوضيحاته له مما لا داعي إلى استقصائه.
ويحق للقلم هنا أن يقف موقف مستعتب لا معنف ومستنصف لا منتصف، سائلا عن أنه كيف جاز للشيخ - أحسن الله إليه - أن يحول ما حققه هذا الإمام في صورة الاعتراض عليه، ويسمى تصريحه به اعترافا؟ وعلى ذلك كله فلم يظهر لنا إلى الآن موقع لهذه الجملة، ولا أن أي ركن

(1) فرائد الأصول: 136.
(2) هداية المسترشدين: 402.
(3) هداية المسترشدين: 403.
584

من أركان كلام الجد يهد به.
وكذا ما أتعب فيه نفسه المقدسة من التطويل في بيان أن أداء كل من الواقعين الأصلي والجعلي لا يكون امتثالا إلا بالعلم، وأن الإتيان بكل منهما في غير التعبديات مسقط للأمرين من دون امتثال
(1)، ولا لما بينه من أن الإطاعة الظاهرية تتوقف على العلم بسلوك الطريق المجعول لا على مجرد سلوكه، وأن العلم بالفراغ المعتبر في الإطاعة لا يتحقق في شيء منهما إلا بعد العلم أو الظن القائم مقامه (2).
ولا جعل نتيجة ذلك قوله: «فالحكم بأن الظن بسلوك الطريق المجعول يوجب الظن بفراغ الذمة بخلاف الظن بأداء الواقع، فإنه لا يوجب الظن بفراغ الذمة إلا إذا ثبتت حجية ذلك... تحكم صرف» (3).
وأنت تعلم أن هذا العلامة لم يفرق بين الظنين بما قرره الشيخ ليكون الفرق تحكما صرفا، بل فرق بينهما بأن الظن بالطريق المخصوص ظن بالحجة التي يدور عليها براءة الذمة، وفعلية الحكم دون الظن بالواقع الذي ليس من الأمرين في شيء.
وليس في كلامه أثر من ابتناء مذهبه على ما ذكره، بل صريحه - إن تأملته - الفرق بينهما بما عرفت من كون الظن بالطريق ظنا بالحجة دون الواقع.
وبالجملة، جميع ما ذكره - طاب ثراه - إلى قوله: «ولو عجز عنهما قام الظن بهما مقام العلم بحكم العقل» (4) فهو حق لا نقابله إلا بالقبول.
وأما هذه الجملة فنقبلها أيضا، بناء على مقدمات الانسداد والقول بالظن

(1) فرائد الأصول: 136.
(2 و 3 و 4) فرائد الأصول: 137.
585

المطلق، بل سمعت من هذا العلامة أنه هو الحق بناء عليه، وسمعت منا أن القول بخصوص الطريق لم نعرف له قائلا، والظاهر أنه لم يتجاوز حد الاحتمال الذي ذكره الجد.
بل المسألة ذات قولين - كما أوضحه أول عنوان البحث -: قول بحجية طرق خاصة وظنيات مخصوصة من الكتاب والسنة أفادت الظن بالواقع أو لم تفد، كما صرح به فيما مر نقله، وقول بحجية مطلق الظن سواء تعلق بالواقع أو بالطريق من أي صنف كان.
فلم يبعد كل البعد من عرفه الشيخ بأنه لا خبرة له، ولم يعرف من دليل الانسداد سوى ما تلقن من لسان بعض مشايخه، وظاهر عبارة كتاب (القوانين) حيث رد هذا القول بأنه مخالف لإجماع العلماء، زاعما أنهم بين من يعمم دليل الانسداد لجميع المسائل العلمية أصولية كانت أو فقهية، كصاحب (القوانين) وبين من يخصصه بالمسائل الفرعية، فالقول بعكس هذا خرق للإجماع المركب (1)، فإنه (2) وإن أخطأ في التمسك بالإجماع في مثل هذه المسألة، كما فصله الشيخ، ولكنه أصاب في كون المسألة ذات قولين، إذ القول الأول لم ينسب - فيما نعلم - إلا إلى صاحب (الهداية) وأخيه وعديله العلامة صاحب (المقابيس) وهم - كما أوضحناه - يقولون بالظن الخاص، فالقول بالظن المطلق يكون بين قول صاحب (القوانين) وبين ما نقله في الرسالة عن غير واحد من مشايخه المعاصرين.
وأما على تقريب الدليل لحجية الظن الخاص وبنائه على المقدمات التي ذكرها لهذا الدليل ولسائر الوجوه الستة فقد أسلفنا في الشبهات المتقدمة وقبلها

(1) فرائد الأصول: 138.
(2) الضمير راجع إلي الموصول في قوله: من عرفه الشيخ.
586

توضيحها وكان هو الجزم وقبل الرمي برأس السهم، ولكن لا ينبغي إغفاله هنا، فلنعد القول فيه وإن أفضى إلى بعض التكرار.
وأول ما يلزمنا توضيح المدعى، فطالما نشأت الاعتراضات من الغفلة عنه وأورد عليه بما لا مساس له به.
فنقول: الذي نذهب إليه حجية الظنون المخصوصة وما هي غير الحاصلة من الثقلين: الكتاب والسنة، ومع وجودها لا يجوز التمسك بغيرها، وتتقدم على الظن المطلق تقدم الدليل العلمي عليه، والأحكام الفعلية مقيدة بمساعدة الظنون الحاصلة منهما عليها، فلا علم بتكليف فعلي، بل ولا تكليف فعلي خارج عنها، وسند هذا المدعى والدليل عليه قد مر في الشبهات وفي شرح كلام (الفصول).
وعليه، فلا يبقى موقع للظن بالواقع أصلا، فضلا عن عدم ترجيح الظن بالطريق عليه أو ترجيحه على الظن بالطريق، وإنما موقع ذلك دليل الانسداد على تقريره الذي لم يؤخذ في مقدماته العلم بالطرق الشرعية، ولا انحصارها في أمور مخصوصة يناط بها التكاليف الفعلية.
ولقد تفرس صاحب (الهداية) أن هذا الاعتراض أول ما يتشدق به المعترضون، فجعله أول اعتراض أجاب عنه بعد ما أوضحه وأصلحه، وأجاب عنه بإطناب وإسهاب، ومن شاء الاطلاع عليه بتفصيله فعليه بالأصل، وإنما نقتطف منه فقرات لنا فيها شواهد على ما قلناه.
«فإن قلت: إن الظن بأداء الواقع يستلزم الظن بتفريغ الذمة لو لا قيام الدليل على خلافه كالقياس إذ أداء المكلف به واقعا يستلزم تفريغ الذمة بحسب الواقع قطعا، لقضاء الأمر بالإجزاء، والظن بالملزوم قاض بالظن باللازم، فكل ما يفيد الظن بالواقع يفيد الظن بتفريغ الذمة في حكم الشرع إذ ليس مقصود الشارع حقيقة إلا الواقع» إلى أن قال:
587

«قلت: قد عرفت أن الظن بما هو ظن ليس طريقا إلى الحكم بتفريغ الذمة، فمجرد الظن بالواقع ليس قاضيا بالظن بتفريغ الذمة في حكم الشرع مع قطع النظر عن قيام دليل على حجيته، ومن البين تساوي احتمال قيام الدليل وعدمه في نظر العقل فتساوي نسبة الحجية وعدمها إليه بدعوى الاستلزام فاسدة جدا، كيف ومن الواضح عدم استلزام الظن بالواقع الظن بحجية ذلك الظن ولا اقتضاءه».
«نعم إنما يستلزم الظن بالواقع الظن بتفريغ الذمة بالنظر إلى الواقع، لا في حكم المكلف الذي هو مناط الحجية، لما عرفت من وضوح كون الظن بالواقع شيئا والظن بحجية ذلك الظن شيئا آخر» (1) إلى آخره.
فتراه لم يغادر شيئا من تقرير هذا الاعتراض، ثم أجاب عنه بأصح جواب.
وتوضيحه وإن كان هذا البيان الناصع غير محتاج إليه: أنه لا بد في أداء التكليف والتخلص من ورطة العقاب على مخالفته من الحجة على امتثاله حجة يقبلها الشارع، ويصح الاعتذار بها عنده، ولا حجة إلا العلم الذي حكم بحجيتها العقل، وإمضاء الشرع بأحد الأمرين من إتيان أحد الواقعين من الأصلي والجعلي، ومع العجز تنتقل بحكم العقل إلى الظن بالحجة، وظاهر أن الظن بالواقع لا يستلزم الظن بالحجة لاختلاف متعلقيهما، وعدم الملازمة بينهما.
أما الأول فظاهر منقح بما قرره هنا من كون الظن بالواقع شيئا، والظن بالحجة شيئا آخر، وبما قرره قبل ذلك من أن الطريق إلى الحكم بالشيء شرعا غير الطريق إلى نفس ذلك الشيء.
وأما عدم الملازمة، فإن التفكيك بينهما واضح إمكانا ووقوعا، كما قرره فيما

(1) هداية المسترشدين: 391 - 392.
588

نقلنا من كلامه ومما حذفناه، وكيف يتوهم الملازمة بينهما مع أن النسبة عموم من وجه يفترقان ويجتمعان؟ حتى أنه يجتمع مع القطع بعدم الحجية فضلا عن الظن به أو الشك فيه.
وما سبب الخطأ في هذا القياس الذي ساقوه سياق البرهان - أعني أن الظن بكل من الأمرين يقوم مقام العلم به - إلا الغفلة عن أن الواجب بحكم العقل القطع بالحجة، وبعد عدم إمكانه ينتقل إلى الظن بها فقط، ولم يكن القطع بالواقع كافيا لخصوصية فيه، بل لكونه حجة شرعية عقلية، كما أوضحه - طاب ثراه - في مواضع من كلامه، ولا فرق في ذلك بين أن يكون مؤدى الطريق شيئا مستقلا في مقابل المراد الواقعي، وبين أن يكون نفس المراد بجعل الشارع، كما اختاره هنا، وأطنب في بيانه، وبالغ في رد الاحتمال الأول.
ولا أدري ما الذي دعا الشيخ إلى الإطالة في بيانه وجعله أساس اعتراضاته؟ وقد عرفت أن العلامة المستدل يوافقه في أن الحكم الظاهري هو الواقعي جعلا، وقد مر نقل كلامه قريبا، فكان يغني عن هذا التطويل التزامه باعترافه إن فرض له نفع فيه.
كما أنه لم يظهر لنا وجه الحاجة في أن الامتثال لا يكون إلا بالعلم أو بالظن القائم مقامه، مع أنه أمر واضح لا يخفى على أصاغر الطلبة، فضلا عن إمام مثله، وقد صرح به في مواضع من كلامه، وبنى عليه وجوب الاقتصار على الظن بالطريق، لكون الظن به قائما مقام العلم في الحجية بحكم العقل، فعلى م تحمل عبء إثبات أمرين واضحين لا نفع له فيه ويعترف مناظره به.
والأجدر بي أن أعود باللائمة على نفسي، وأتهمها في فهم كلام مثله، ولا عار إن قصرت باعي عن كلام إمام يأتم به صفوف العلماء، وإنما العار في عجز الأكفاء عن الأكفاء.
وأما ما جعله منشأ لكلام الجد من تخيل أن نفس سلوك الطريق الشرعي
589

في مقابل سلوك الطريق العقلي، وأنه قاس الطريق الشرعي بالطريق العقلي (1)، فلنا أن نطالبه بالمحل الذي استظهر هذا من كلامه، وقد علمت أن العلم عنده عقلي شرعي، وسمعت تصريحه به غير مرة، فأين القياس؟ وقد علمت أن القياس رأس مال منكري مقالته، حيث قاسوا الظن بالعلم في كفايته مطلقا تعلق بالواقع أم تعلق بالطريق.
وما ذكره من أن الطريق الشرعي لا يتصف بالطريقية إلا بعد العلم تفصيلا (2)، فإن أراد به التخصيص بالعلم فهو واضح الضعف، ومخالف لما صرح به قبيل ذلك من قوله: «أما العلم بالفراغ المعتبر في الإطاعة فلا يتحقق في شيء منهما إلا بعد العلم أو الظن القائم مقامه» (3) وإن أراد به غيره فهو حق.
ولكن المستدل يقول بقيام الظن مقامه بحكم العقل عند انسداد باب العلم، ولا يقول بما جعله لغوا صرفا، أعني مجرد تطبيق العمل على الطريق مع قطع النظر عن حكم الشارع.
ولا ينافي مذهبه كون سلوك الطريق المجعول في مقابل العمل بالواقع لا في مقابلة العلم بالعمل بالواقع لو سلم وسلم من الانتقاد.
ولا يلزم من ذلك كون كل من العلم والظن المتعلق بأحدهما في مقابل المتعلق بالآخر، لأن الظن بالطريق الواقعي قطع بالحجة الفعلية على حكم فعلي غالبا، بخلاف الظن بالواقع، فإنه ظن لم يثبت حجيته بحكم لا يعلم فعليته، فليست بفاسدة دعوى هذا الإمام، بل هو أصح من بيض النعام، ويظهر الوجه في جميع ذلك مما تقدم.
وأما ما ذكره في ختام اعتراضاته من إمكان منع جعل الشارع طريقا إلى

(1 و 2 3) فرائد الأصول: 137.
590

الأحكام (1)، فقد سبق الكلام عليه مفصلا عند شرح كلام (الفصول).
ولا يخفى أن ظاهر قوله هذا ابتناء هذا الدليل على العلم بنصب الطرق الشرعية وهو ينافي بظاهره ما سبق نقله عنه أول البحث من عدم ابتنائه عليه.
وقال في الحاشية: «لا يخفى أنه لما لم يكن مبنى الاستدلال بهذا الوجه - مثل الوجه الأول - على دعوى العلم بالنصب على الإجمال، بل يكفي فيه مجرد الاحتمال كان مجرد إمكان منع النصب غير مضر به أصلا» (2).
والأمر كما قال، بمعنى أن هذا الوجه يتم حتى مع عدم العلم بالنصب، ولا تخل (3) من ذلك أن المدعى أعم من العلم به ومن عدمه، لأن المقصود الذي حاول إثباته بهذا الوجه وسائر
الوجوه إثبات حجية الكتاب والسنة، وانحصار الطرق فيهما، كما سبق مرارا، وما كان أن يتحمل هذا التعب والنصب على إثبات حجية أمر لا يتجاوز وجوده حد الاحتمال.
وللمتأخرين عن الشيخ الأعظم اعتراضات كثيرة لو حاولنا نقلها بأجمعها لأصاب الناظر الملل، ولكنا نتحفك ببعضها ليكون نموذجا منها.
منها، ما لا يزال يلهج به المعترضون من أن الحكم ببراءة الذمة من وظائف العقل لا الشرع.
والشيخ الأستاذ بعد ما أورد القياس الذي ساقوه سياق البرهان، أعني قياس حال الانسداد بحال الانفتاح في قيام كل من الظن بالواقع والطريق مقام العلم به، أورد على نفسه بقوله:
«إن قلت: كيف والظن بالواقع ربما يجتمع مع الظن بالحكم بعدم الفراغ كما إذا ظن عدم اعتباره، بل مع القطع به كما إذا قطع به، وهذا بخلاف الظن

(1) فرائد الأصول: 137.
(2) حاشية فرائد الأصول: 90.
(3) من خال يخال بمعنى: لا تظن.
591

بالطريق، فإنه مستلزم للظن بالحكم بالفراغ ولو لم يظن اعتباره، بل قطع بعدمه» (1).
لم يظهر لنا المراد من قوله: «ولو لم يظن اعتباره» إلى آخره، ولو لا أنه أورده في مقام الاعتراض على العلامة الجد، لقلنا: إنه جملة أجنبية خارجة عما هو بصدده من الاعتراض عليه، لأنه قد اتضح غاية الوضوح أن هذا العلامة همه حصر الحجة في الطرق الشرعية المعتبرة عند الشارع إن أمكن إحراز اعتبارها بالعلم وإلا فبالظن، وعدم كون غيرها مبرئا للذمة هو أساس مذهبه، فإذن ما معنى الظن بالحكم بالفراغ مع الظن بعدم اعتبار الطريق، فضلا عن القطع بعدمه؟.
ثم أجاب عنه بجواب يشتمل على شقوق بعيدة عن مراد المستدل بأبعد من مناط العيوق، وقد صدنا عن نقله إحالة الناظر إلى حاشيته، وعن الجواب عنه وضوحه بما أسلفناه.
وقال في آخره: «فأين المجال لحكم المولى بالبراءة أو الاشتغال المستتبع لحكم العقل بهما؟ وليس الفراغ عن تبعة التكليف المنجز وعدمه، وصحة المؤاخذة على مخالفته وعدمها من الأمور الجعلية الشرعية، بل يدوران مدار وجود العلة التامة لاستحقاق العقوبة وعدمها الموجب للأمن منها، ومن المعلوم أن ذلك يكون بنظر العقل» (2).
وقال صاحبنا دام تسديده، ما لفظه: «إن ما أسسه من لزوم تحصيل العلم بالبراءة في حكم المكلف لا وجه له، لأنه ليس من وظيفة الآمر الحكم بالبراءة، وإنما يحكم به العقل» (3) إلى آخره.

(1) حاشية فرائد الأصول: 85.
(2) حاشية فرائد الأصول: 86.
(3) درر الفوائد 2: 77.
592

وعلى هذا النول (1) نسج غيرهما برود (2) الاعتراض، ولا حاجة بنا إلى نقل مقالهم.
ويا سبحان الله كيف جاز لهؤلاء الأعلام أن يعمدوا إلى كلام عميدهم الذي بهدايته يهتدى في حالك الظلام، فيحملوه على أمر واضح ضعفه، بين فساده؟.
أ حسبوا أن على مثله يخفى أن الأمر بجميع أقسامه يقتضي الإجزاء عقلا، بمعنى أن إتيان متعلقه موجب لسقوطه بحكم العقل؟.
أ بمثله يظن القول بأن المكلف إذا أتى بالمأمور به بشروطه وشطوره لا يبرأ ذمته إلا بخطاب شرعي مؤذن بأني قد أبرأت ذمتك؟.
وما الذي عدل بهم عن الحق الأبلج الذي أراده وأوضحه بضروب العبارات، من أن الواجب بحكم العقل تحصيل العلم بالامتثال الحاصل بأحد أمرين: الإتيان بالواقع الأصلي أو الواجب الجعلي؟ وما الثاني لدى الحقيقة إلا سلوك الطريق الذي يرضاه الشارع إليه، ويعذره إن أخطأ الواقع ولا يعاقب عليه، بل العلم أيضا طريق شرعي أيضا على ما سبق تصريحه به.
فمن الحيف عليه قول الأستاذ المتقدم ذكره في جواب ما أورده على نفسه بما لفظه: «لعله لأجل أن العلم عنده طريق شرعي أيضا، كما صرح به فيما نقله عنه في الكتاب» ما نصه: «لأنا نقول: - مضافا إلى أنه ما ادعاه هاهنا، ولا بنى عليه فيما صار بصدده في المقدمة، بل جعل العلم بمصادفة الأحكام الواقعية الأولية فيها مقابلا للعلم بأداء الأعمال على وجه أراده الشارع في الظاهر، وحكم معه بتفريغ الذمة بملاحظة الطرق المقررة لمعرفتها، وقد صرح بكون العلم طريقا

(1) النول: الخشب الذي يلف عليه الحائك الثوب. الصحاح 5: 1836 (نول).
(2) البرود جمع، واحدها برد. وهو: ثوب مخطط. القاموس المحيط 1: 286.
593

إلى الواقع بحكم العقل من غير توقف إلى بيان الشرع - إنه قد عرفت أن حجيته وطريقيته إنما تكون منتزعة عن كفايته في مقام الامتثال بحكم العقل بلا إشكال لا أن الكفاية به لأجل حجيته وطريقيته شرعا» (1).
إذا كان يعترف بتصريح الجد بطريقية العلم شرعا، فلا أراه ينضم منه سوى عدم تكراره هاهنا، كأن التكرار كان ضربة لازب عليه، وما حسبه منافيا لطريقية العلم عنده بجعله العلم بمصادفة الأحكام الواقعية للعلم بأدائه في الظاهر، فليس المراد منه حيث يذهب، وإنما المراد ما تكرر توضيحه من أول البحث إلى هذه النهاية، من أن الواجب تحصيل العلم بأحد الأمرين من الواقع الأصلي والواقع الجعلي، وهذا في غاية الوضوح لمن تأمل جميع كلامه.
وأيضا تصريحه بعدم توقف طريقية العلم على بيان الشرع لا ينافي طريقيته شرعا، لأنه - طاب ثراه - نفى توقف طريقيته عليه في مقابل غيره الذي لا يكون طريقا إلا بجعل الشارع وبيانه، ولم ينف إمضاء الشارع له، وكونه عنده كما عند العقل، وما هو ببدع من حكم العقل الذي ارتضاه الشرع.
ومنه يعلم أن ما ذكره من أن الاكتفاء به في الامتثال ليس لأجل حجيته شرعا لا إشكال فيه، ولكنه لا يتجه إلا على من يرى توقف حجية العلم على الجعل الشرعي، وأهبط أهل العلم درجة أرفع مقاما من هذا الوهم.
ومن العجب أن من لا أسميه من علماء العصر بلا علامة، زعم أن كل ما يزيد المنصف التأمل في هذا القول ولوازمه يزيد له التعجب ممن صار إليه مع كونهم من أفاضل الأعلام.
هذا مع اعترافه بأنه مشتبه المراد، ولا أدري كيف جاز له المبادرة إلى الإيراد وهو باعترافه لم يعرف المراد.

(1) حاشية فرائد الأصول: 86.
594

ونحن نعرفه وأصحابه بمراد العلامة الجد، وشقيقه، وعديله (الثلاثة المتناسبة) ونقول: إن هؤلاء الأعلام لم يأتوا ببدع من القول ولا ببدعة في الدين، بل جروا على سنة أسلافهم الصالحين من حصر الحجة في كتاب ربهم وسنة نبيهم وآثار أئمتهم، وتجنبوا مزالق الظن والتخمين، ولما فشا في زمانهم الكلام على هذا الدليل، البالغ حد الفساد، المعروف بدليل الانسداد، وكاد أن يتسع الخرق على الراقع، ويقوم ما لا يغني عن الحق شيئا مقام قول الشارع، فيفتح بهذا الانسداد أبواب البدع والأهواء، ويقول في الدين من شاء ما شاء، ويتعلق كل مبدع بأهدابه، ويدخل ما ليس من الدين فيه من بابه، قاموا في نصرة الحق أتم قيام، وأوضحوا لشيعة أهل البيت عليهم السلام أن التمسك بمطلق الظن في معرفة الأحكام إنما يتم على مذهب المخالفين المصوبة الذين يجعلون حكم الله تابعا لآراء المجتهدين، وما الكتاب والسنة عندهم إلا كسائر موجبات الظن، وأما الفرقة الناجية - أعلى الله كلمتها - الذاهبة إلى أن لله في كل واقعة حكما، والطريق إليه منحصر في الحجة الشرعية، لا تكليف بغير مؤدياتها ولا يحتج على العباد بغيرها، كما مر مفصلا في كلام (الفصول) وغيره، فلا شك أن الوظيفة لو فرض بعد انسداد باب العلم إلى معرفتها، هي تعيينها بالظن، والظن بها مقدم على الظن بالواقع، ومنزلتها منه منزلة الدليل من الأصل على ما بيناه من الدرجات - أعلى الله درجاتهما - في كلامهما المتقدم، فلا يعول على الظن بالواقع إلا مع عدم التمكن من الظن بها، بل لا يبعد القول بتقديم الطريق الموهوم على الواقع المظنون، والوجه فيه ظاهر للمتأمل.
نعم، بعد اليأس من الطريق يرجع إلى الظن به لو علم ببقاء التكليف، ولا يعلم.
ومن الغريب اعتراض هذا العالم، وغيره على صاحب (الفصول) من أن اللازم من مذهبه عدم الرجوع إلى الواقع مطلقا وما ذلك إلا الغفلة عن هذا
595

الشرط المصرح به في كلامه.
وفذلكة القول: أن الحجة منحصرة عند هؤلاء الأئمة بحكم ضرورة المذهب في الثقلين الشريفين وما يؤول إليهما، وصاحب (الهداية) يذهب إلى القطع بحجية خبر الثقة، ولعل غيره يزيد أو يقل في شروط حجية الخبر، وأيا كان، فمع عدم وجود المتيقن في الحجية بقدر الكفاية يرجع إلى مظنونها منهما على تفاصيل ليس هنا محل التعرض لها، وذلك الظن حجة شرعية قطعية حال الانسداد كالعلم بحكم العقل، كما أوضحه في (الهداية) وللكلام تتمة تعرفها في التنبيه الآتي عند دفع وهم غريب صدر من بعض المعاصرين، حيث زعم اتحاد هذا القول مع القول بإهمال نتيجة دليل الانسداد والترجيح بمظنون الحجية.
هذا مراد القوم، وهذه حجتهم، وإذا انجلى غبار الاشتباه عن مراهم فليعد النظر ليرى ما زعمه مشتبه المراد أوضح من فلق النهار.
596

(تفسير الجد حجة الإسلام لكلام والده الإمام طاب ثراهما)
انتهينا إليه والقلم قد تكهم (1) حده والفكر كبا زنده (2)، وقد مسنا من الكسل ما مس القراء الكرام من الملل، وقد صادف ذلك (أن طرقت ببكرها أم طبق) (3) فألهتنا عن الظن الخاص والمطلق، وكيف لا يصطلد الذهن، ولا يرى الطرف إلا عيونا باكية، وقلوبا دامية، ولقد دها المسلمين أمر عظيم، ورماهم الدهر بالمقعد المقيم، انتبزت الأكباد من الأجساد، نسأل الله العافية، وتمام النعمة، وكشف كل محنة وأزمة.
بنى كلامه - طاب ثراه - على أن القول بالظن المخصوص يتصور على وجهين، أحدهما القول بحجية مطلق الظن بالطريق الواقعي من أي طريق حصل إلا من الطريق الذي ثبت عنه المنع.
والآخر: أن يقال بحجية الظن بالطريق الفعلي الذي يكتفي المكلف به على ما هو عليه في حكم الشارع، وحكم بأن الثاني مختار والده، والمستفاد من عبارات الفقهاء حيث جرت عادتهم عن التعبير عن الفتوى بالأظهر والأقوى، ونحوهما، ونسب إلى عمه التصور الأول وقال: إنه بذلك فارق أخاه وليته اقتفى أثره.
ثم قال: «ويظهر الفرق بينهما من وجوه»:
«الأول: يجتمع الأول (4) مع القطع بالبراءة والظن بها والشك فيها، والظن

(1) تكهم، بمعنى: كل. لسان العرب 12: 529.
(2) كبا الزند فهو يكبو: إذا لم يقدح لسان العرب 15: 213.
(3) جزء من بيت رجز، ورد في لسان العرب 10: 214 " طبق " وأم طبق: الداهية.
(4) أي: الظن بالطريق على الوجه الأول يجتمع...
597

والقطع بعدمها لأن الطرق المفيدة له تنقسم إلى الأحكام الخمسة، ولهذا استثنى صاحب (الفصول) القسم الأخير بخلاف الثاني فإنه لا يتصور إلا على وجه واحد».
«الثاني: الطريق المظنون على الوجه الأول من قبيل الأدلة الاجتهادية ففي كل مسألة يوجد فيها بعض الطرق المظنونة يؤخذ به، ويرجع فيما عدا ذلك إلى الأصول العملية، بخلاف الوجه الثاني، فإنه يقتضي لزوم البناء على ما يظن بلزوم البناء عليه في تلك الحال من دليل أو أصل أو قاعدة».
«الثالث: الظن بالطريق على الأول يتوقف على مقدمات الدليل المعروف بالانسداد، الملحوظة بالنسبة إلى نوع الأحكام الشرعية، بخلاف الثاني، فإنه يأتي في مسألة واحدة» إلى آخره.
«الرابع: حجية الظن على الأول ليس مطلقا لخروج الظن الحاصل من القياس وشبهه بخلاف الثاني، فلا يأتي فيه الإشكال المعروف».
«الخامس: الظن بالطريق على الأول إنما يتعلق بالطريق المنصوب المجعول، كما صرح به في (الفصول) وعلى الثاني يتعلق بمطلق الطريق شرعيا كان أو عقليا أو عاديا» (1).
أقول: لم يظهر لي المراد من الطريق الفعلي الذي جعله أحد الوجهين، وبنى تفسير كلام والده عليه، وجعله الفارق بين المسلكين وسدد به النكير على عمه، فقال في جملة كلام له في شرح الوجه الثاني:
«إن صاحب (الفصول) أخطأ الطريق، فوقع في المضيق، وسلك مسلك القائلين بالظن المطلق، وخصه بمباحث الأصول من غير مخصص، ورجحه على الظن بالفروع من غير مرجح، وفتح على نفسه باب الاعتراض، وجعل نفسه

(1) رسالة حجية المظنة: 27 باختصار.
598

غرضا لسهام النقض والإبرام حتى طعن عليه من تأخر عنه بأكثر مما أوردوه على القول بالظن المطلق» (1) إلى آخر ما قال.
وبمراجعة ما قدمناه يظهر عدم الفرق بين الإمامين، إلا - ما لا يؤبه به - في الاختلاف الطفيف في التعبير، فكل منهما يقول بالظن الخاص، ووجوب الاقتصار على الثقلين الشريفين، وبانحصار الحجة فيهما وفيما يؤول إليهما، وأن الواجب بعد فرض عدم العلم بحجية شيء منهما يجب الرجوع إلى مظنون الحجية فيهما، ولا يجوز الإعراض عنهما والتمسك بغيرهما.
فخبر الثقة - مثلا - إن لم يكن مقطوع الحجية فهو مظنونها بلا شك، فاللازم عند الإمامين بحكم الدليلين لزوم الرجوع إليهما.
وكذا لو فرض وقوع الشك في وثاقة أحد الرواة، فلا بد عندهما من بذل الجهد من تحصيل الظن بوثاقته من أي طريق حصل، وبعده يكون حجة قطعية بحكم العقل، ولا حجية لطريق خارج عنهما ولو حصل الظن بالواقع منه، وعلى هذا يشهد جميع ما أورداه وما ذكرناه في شرح كلامهما.
وما ذكره - طاب ثراه - في الفرق الأول يتوقف التصديق به على فهم مراده من الطريق الفعلي، ولا يظهر لي الآن على ما أنا عليه من كلال الأنامل من ملازمة القلم وملال القلب من تصارع الهم فيه مع الهمم، إلا أن المراد هو الذي يبني عليه المجتهد بعد ملاحظة جميع الأدلة ومعارضاتها، وما يلزم المستنبط للأحكام مراعاتها، فيظن باكتفاء الشارع بها، وعلى هذا المعنى شواهد من كلامه فيما نقلناه أو حذفناه.
وهذا يطابق ما ذكره في الفرق الثاني، وإلا فما معنى قوله على الوجه الثاني: «لزوم البناء على ما يظن بلزوم البناء عليه من أصل أو دليل»؟.

(1) رسالة حجية المظنة: 37.
599

وإن صح الظن بأنه المراد فلا يخفى أنه مرتبة متأخرة عما يبحث عنه، بل هي بمنزلة النتيجة له، إذ البحث في الذي ينبغي أن يظن بلزوم البناء عليه، فالإمامان لا يجوزان البناء على غير الظن الخاص، وغيرهما يجوز البناء على غيره. والكل بعد ذلك متفقون على أن ما يبنى عليه مبرئ للذمة، وقد سمعت انتقاده على عمه تخصيصه الحجة بمباحث الأصول وترجيحه على الظن بالفروع، وعلى هذا يرتفع النزاع بين الفريقين، إذ كل منهما يرى ما يذهب إليه طريقا فعليا.
وما ذكره في الفرق الثالث فقد عرفت أن الأمر كذلك حتى عند صاحب (الفصول) وأن ما قرره جار حتى في حكم واحد من غير حاجة إلى ملاحظة سائر الأحكام، فراجع.
وما ذكره في الفرق الرابع فقد مر تفصيل القول فيه عند الجواب عن اعتراض الشيخ على (الفصول).
وكذلك ما ذكره في الفرق الخامس، فقد علمت هناك أن مراد صاحب (الفصول) من الطريق هو المرضي عند الشارع ولو على نحو الإمضاء وعدم الردع، ولا بد أن يكون كذلك عند والده الإمام، فلا يكفي العقلي والعادي عنده إذا لم يرجعا إلى الشرعي قطعا، ولهذا عد القطع طريقا شرعيا.
وبعد ذلك نبه على أمور ليوضح المقصود، وحيث إن سائر كلامه مبني على الفرق المذكور، ولم يظهر لي المراد منه، أرجأته إلى أن اختلس الفرص أثناء ما يجرعني الزمان من الغصص، فأوفيه من النظر حقه، وأمنحه من البيان ما استحقه.
وأنا أقطع الكلام الآن، معيدا لما التمسته من فضلاء الزمان، أعني الانتقاد الخالص من شوائب العناد، فمن انتقد علينا بالحق قبلناه وشكرناه، ومن رام الاعتراض بالباطل دفعناه.
600

إني لمن معشر صم مكاسرهم * إذا تناوح الحلفاء والعشر
لا نستلين لغير الحق نسأله * حتى يلين لضرس الماضغ الحجر
عبد الله الفقير إليه، أبو المجد محمد الرضا بن العلامة الشيخ محمد حسين بن حجة الإسلام الحاج الشيخ محمد باقر بن الإمام الشيخ محمد تقي صاحب (هداية المسترشدين) عفا الله عنه وعن أسلافه الصالحين، والحمد لله، والصلاة على محمد وآله أجمعين.
1346 هجرية.
601

(اعتذار)
بلغني أن بعض فضلاء العجم اطلع على أجزاء من هذا الكتاب فقرظه أبلغ تقريظ، وأثنى عليه أحسن الثناء، ولكنه انتقد عليه بعبارة فارسية محصلها: أن عبارته عريقة في العربية لا تشبه متعارف الكتب الأصولية.
لك العتبى أيها الفاضل، فلك علي يد لا أجحدها، ونعمة أشكرها، وذلك مني طبيعة لا تطبع، وجرى علي ما تعودته لا تكلف، وإني لم أتعود منذ نعومة الأظفار ومقتبل الشباب إلا هذا النمط من الكتابة.
وصعب على الإنسان ما لم يعود.
على أن هذا عند ذوي الآداب لا يحط من قدر الكتاب، بل يزينه ولا يشينه، ويغلي قدره ولا يرخصه.
وإذا محاسني التي أزهو بها صارت مثالب لي فما ذا أصنع وشتان بين هذا الفاضل وبين أحد علماء العراق وقد بلغني قوله فيه: هو أول كتاب في فن الأصول ملؤه دقائق عجمية بعبارات عربية.
14 جمادى الثانية 1346 هجرية.
603

رسالة
إماطة الغين عن استعمال العين في معنيين
605

بسم الله وبحمده، والصلاة على محمد وآله.
إماطة الغين عن استعمال العين في معنيين
أو
مناظرة فيها فكاهة... واستفتاء فيه دعابة
لما قادني النظر الصائب والفكر الحر الذي لا تشغله الخطابيات الواهنة عن الحقائق الراهنة إلى جواز إرادة أكثر من معنى من لفظ واحد.
عرضت ذلك على عدة من علية أهل العلم وزعمائه، قابلني بالقبول عدة من أعلامهم، أكتفي بذكر واحد منهم، لأنه كما قيل: (ألف ويدعى واحدا) أعني:
واحد الدهر وفريده، وعلامة الزمان ومفيده، صاحبي الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري بوأه الله من الجنان في خير مستقر، كما حلي عاطل جيد العلم بغالي الدرر، فإنه ذهب إلى ما ذهبت إليه بعد طول البحث في ذلك، بل بالغ وجعل اللفظ ظاهرا في جميع المعاني المحتملة.
وبقي عدة منهم على الرأي القديم، فقلنا لهم: ما الذي يصدكم عن القول بالجواز؟ والمقتضي - وهو الوضع - موجود، والمانع مفقود، وقد علمتم وعلمنا أن بضاعة اعتبار قيد الوحدة في الموضوع له، أو توقف الاستعمال على ترخيص الواضع ونحوهما مما لا تنفق في سوق العلم اليوم.
607

قالوا: تمنعنا الاستحالة العقلية، لأن الاستعمال ليس مجرد جعل العلامة، بل له مقام شامخ لا يقبل التشريك ومن حقه التوحيد.
قلنا: عرفونا بذلك المقام.
قالوا: الاستعمال إفناء اللفظ في المعنى، ولذا يسري قبحه وحسنه إليه.
قلنا: هذا الفناء هل هو على سبيل الحلول أو الاتحاد أو الاستحالة والانقلاب؟ ولعمر العلم أن هذا الفناء وقول اللفظ: أنا المعنى أشد خفاء من قول غلاة الصوفية: أنا... والظاهر أن هذا مأخوذ من شطح علماء المعقول، وجعلهم للشيء أنحاء من الوجود، منها: الوجود اللفظي. ولذا قلت في رسالة الوضع والاستعمال: إنه أخذ من كتب المعقول ووضع في غير موضعه من كتب الأصول.
وأنت جد بصير بأن هذا إن تم هناك وسلم من الإيراد، فهو في واد ونحن في واد.
وأما سراية القبح والحسن إلى اللفظ، وهو في الخفاء كسابقه أو أشد خفاء منه، إذ لا نعقل له قبحا إلا بما يرجع إلى نفسه من الغرابة والتعقيد ونحوهما.
ولعل السبب في هذا الوهم ما يرى من قبح تكلم أرباب المروات بالألفاظ الموضوعة للأشياء القبيحة، وقبح التلفظ بها عندهم. وليس ذلك إلا لقبح إحضار تلك المعاني في ذهن المخاطب وكونه مخالفا للآداب المرعية.
فالقبح للتلفظ لا للفظ كما خلط عليهم، ولذا يتوصلون إلى دفعه بذكر أحد لوازمه أو أسبابه ليكون المخاطب هو الذي يلتفت إليه ويسلم المتكلم من قبح التلفظ، فهو يفهمه شيئا ليفهم شيئا آخر ويلتفت من نفسه إليه.
ولما سأله عن جمع (المسواك) قال: ضد محاسنك، تراه ألقى إليه أحسن
608

عبارة لينتقل السامع بنفسه إلى اللفظ الذي فيه غضاضة.
ولما أراد القرآن الكريم بيان أن الرسل الكرام - على جميعهم ولا سيما على خاتمهم السلام - يشاركون سائر البشر في أخس اللوازم البشرية، ولم يكن يناسب التصريح به منه تعالى ولا سيما في حق الرسل الكرام عبر عنه بأكل الطعام وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام (1) في قول جمع من المفسرين.
ونرى للحاجة التي لا يقضيها غير صاحبها تفسيرات تنيف على العشرة والعشرين، وجميعها لوازم وكنايات، وعلى هذا فقس الحسن.
ولا تنس ما ذكرت لك أن الحسن والقبح للتلفظ لا للفظ، وإلا فاللفظ بنفسه لا يكون حسنا ولا قبيحا إلا إذا عاد لفظ (الشهد) حلوا و (الخل) حامضا.
ويكفي لإفحام هذا المتوهم أن هذا القبح موجود بعينه في الإشارة باليد ونحوها، وربما يكون أقبح وأفحش، مع أن الإشارة عندهم من باب العلامة للاستعمال.
قالوا: إن الاستعمال رمي للمعنى باللفظ.
قلنا: هذا أيضا لا يقصر في الخفاء عما سبق.. ولا ندري متى تحولت حروف (أباجاد) إلى قسي (2) نرمي بها جميع الموجودات من أسفل الأرضين إلى أعلى السماوات.
ولما بين ذلك الأستاذ (صاحب الكفاية) في مجلس الدرس قلت له: أترى أني إذا قلت لك: الحجر، رميتك به؟ فقال: نعم بالحمل الأولي. قلت: حاشا أن أتجاسر بذلك بجميع أنحاء الحمل. فأغرب الحاضرون ضحكا ولم ينبس ببنت شفة.

(1) الأنبياء: 8.
(2) جمع قوس.
609

قالوا: إن اللفظ في هذا الحال غير ملتفت إليه إلا باللحاظ الآلي، كالناظر في المرآة، والملحوظ بالاستقلال هو المعنى، ومن المعلوم أن النظر الاستقلالي باللفظ إلى المعنى بحيث يكون اللفظ فانيا ووجها له لا يكون نظرا استقلاليا به إلى معنى آخر.
ولهذا الوجه عبارات تهول أبا الهول المصري، وجميعها مبني على فناء اللفظ، والذنب له فلا غفر الله له، فقد أوقع جمعا كثيرا من أرباب الأفهام العالية في هذا الوهم.
وأجمله في (الكفاية) وقال: «وبالجملة لا يكاد يمكن في حال استعمال واحد لحاظه وجها لمعنيين وفانيا في الاثنين إلا أن يكون اللاحظ أحول العينين» (1).
قلنا: كل ذلك أمكن أم لم يمكن أجنبي عن الإفهام الذي وضعت لأجله الألفاظ، فإرادة إفهام المعنيين تتحقق في النفس كما يتحقق فيها إفهام معنى واحد، فيجعل اللفظ بعلاقة الوضع مع القرينة متى احتاج إليها ذريعة إلى الإفهام.
واللحاظ نعرفه في مواضعه، ولا نعرف ما أتى به هنا ولا الجمع بين الآلي والاستقلالي.
فاللفظ آلة لإحضار معنيين مستقلين في ذهن السامع، إن شئت سمه لحاظا وإن شئت فاختر له أي لفظ شئت، ونحن لا ترهبنا الألفاظ إذا سلمت لنا المعاني، والمستعمل ملتفت إلى المعاني إجمالا كما أن الناظر في المرآة ملتفت إليها إجمالا قطعا وإلا لم يكن يتكلم ذاك ولا ينظر هذا.
نعم الالتفات إجمالي لا تفصيلي، ولا بدع فكثير من الأفعال الاختيارية تناط بالالتفات الإجمالي. هذا التنفس الذي به حياة الإنسان لا بد له منه في

(1) كفاية الأصول: 36.
610

أقصر زمان يقع بالالتفات الإجمالي. وإن شئت قلت: لا يلتفت إلى التفاته.
وقاصد بلد بعيد ملتفت طول مسيره إجمالا إلى مقصده، وإلا لم يقع منه السير وإلا جمد في مكانه، مع أن أكثر السير لا يقع بالتفات تفصيلي، بل التفاته التفصيلي متوجه إلى أمور اخر من ارتياد المنزل والحل والارتحال.
وأما قوله: «إلا أن يكون اللحاظ أحول العينين» فقد قلت في الرسالة:
إنه يكفي أن لا يكون ذا عين واحدة وإذا كان ذا عينين يستعمل العين في معنيين (1).
ثم إن للكناية قسطا من شطح الاتحاد مع المعنى وكونها نحو وجود له فهل يحجر على الكاتب كما يحجر على اللافظ، فلا يكتب: نظرت إلى عينين:
ساطعة ودامعة، أم ينزعون عنها لباس الهوهوية أو الفنائية على تعبير بعض محشي (الكفاية) فتبقى علامة خالصة؟.
وللبحث بعد مجال متسع، وأرى أن لا أمل القراء الكرام بأكثر من هذا، واكتفي بما بينته في رسالة الوضع والاستعمال.
والذي دعاني إلى تجديد القول أن عالم العصر وعلامة الزمان والعلم المشار إليه في العلمين وغيرهما بالبنان، الراقي مدارج العلم أعلى المراقي، صاحبي الشيخ ضياء الدين العراقي - دام فضله - شرفني بنقل مقالتي في كتاب (المقالات) وقال ما نصه:
«ثم إن بعض أعاظم العصر بالغ في جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، واستشهد بأبيات وعبارات من القصص والحكايات على مدعاه وذلك ليس إلا من جهة خلط المبحث بجعل محطه صورة وحدة لحاظ المتعددات، أو بجعله الاستعمال من باب العلامة، وإلا فمع تنقيح مركز البحث كيف يغفل

(1) راجع ص 87 من هذا الكتاب.
611

عن شبهة اجتماع النظرين في لحاظ واحد؟» (1).
وهذا حكومة بيني وبين المانعين وأنا أقبلها وأرحب بها لأني لا أعني بالاستعمال سوى إفهام المخاطب، وأما ذلك المعنى المجهول فلا حياه الله ولا بياه ولا أنعم به عينا وإني أدعه لهم ولا يهمني أمره.
فكلامه - دام فضله - حكومة صورة وحكم لي واقعا، ولكن يبقى أمران:
أولهما: أن كثيرا من الوجوه المذكورة لامتناع الاستعمال جار في صورة جعل العلامة، نحو عدم صحة الحكم على اللفظ في حالة الاستعمال، أو أن المقصود هو المعنى فلا يلتفت المستعمل إلى اللفظ ونحوهما، وعليه يلزم أن يخرس المتكلمون ويمتنع منهم إفهام أغراضهم ويلتجئوا إلى الإشارات.
ثانيهما: أنه لم يذكر وجها لما استشهدت به من الأبيات في الرسالة، فهل يؤولهما إلى المسمى؟ ذلك التأويل البارد الفاسد، وقد بينت في الرسالة أن المسمى لا يخطر ببال المستعمل أصلا حتى يستعمل فيه اللفظ.
ثم إنه لا يحسن إلا ما إذا كان للمسمى دخل في الحكم كقولك: عبد الله أصدق من عبد المسيح، لا في الموارد التي لا دخل له فيه كسائر ما استشهدت به من الأبيات، أو كما قال من القصص والحكايات.
وقد التجأ العم العلامة في (الفصول) لما أعوزته الحيلة [إلى التأويل] (2) في مثل: (جاء الزيدان) والأمر فيه أهون من سائر الموارد لتقارب المعنيين، ولو لا مسارعة الناظر إلى الإنكار وعدم مساعدة المجال والحال لبسط المقال قلت: إن من باب الاستعمال في المعنيين أو المعاني كل تثنية وجمع مثل: جاء الرجلان وذهب الرجال.

(1) مقالات الأصول: 1: 48 - 49.
(2) الفصول الغروية: 56.
612

وأيضا نجد في كثير من تلك الأمثلة وأضعافها مما لم أذكرها في الرسالة حذار الإطالة مما لا يمكن فيها التأويل المذكور. فراجعها.
وأكتفي هنا بشاهد واحد مما لم أذكره فيها وهو قول القائل فيمن يسمى (يونس):
من بحر السريع:
ولست للأقمار مستوحشا لأن عندي قمري يونس فإن لفظ (الأقمار) يخدم معنى (يونس) اسما، ولفظ (مستوحشا) يخدم معناه فعلا ولا يعقل تأويل المسمى بين الاسم والفعل، أو يعترف بأن جميع ذلك من باب جعل العلامة لا من باب الاستعمال.
وكل منصف يعلم أن الحال فيها كالحال في سائر المحاورات في جميع اللغات فيكون كل كلام البشر من سلف منهم ومن غبر من باب ما وسموه بجعل العلامة، ويبقى الاستعمال الذي توهموه كعنقاء مغرب لفظا لا مصداق له.
وأختم الكلام بقولي: إني إذا أردت إخبار زيد بذهاب عمر ولا يمكنني إلا بطريق واحدة وهو ما عرفتك بها سمها إعلاما أو إفهاما أو جعلا للعلامة أو استعمالا، فأين ما ذكروه من القسمين؟ وأنا أجلي ما قلت في صورة الاستفتاء مداعبة وأقول:
إني حلفت أن أصلي على محمد وآله صلوات الله عليهم خمسين مرة على طريق الاستعمال بالمعنى الذي زعموه، وخمسين مرة على نحو جعل العلامة ولم أتمكن إلا من قسم واحد، ولأجل الخلاص من الحنث صليت ركعتين بعد ما قرأت الفاتحة والتوحيد مرتين وأعقبتهما بالمعوذتين لعلي أهتدي إلى القسمين فلم أوفق لذلك.
وأن علي بدنة إذا أخبرت زيدا بقيام عمرو على طريق الاستعمال، وعمرا
613

بذهاب زيد على طريق جعل العلامة، وأخبرت كلا منهما بذلك ولا أدري أيهما كان استعمالا وأيهما كان غيره.
فإن كان عند أحد هؤلاء ما يسهل علي الأمر ويضع عن عاتقي ثقل كفارة الحلف فعل مأجورا إن شاء الله، وله مني الشكر ومن الله تعالى الأجر.
العبد أبو المجد محمد الرضا النجفي آل العلامة الإمام الشيخ محمد تقي النجفي صاحب (هداية المسترشدين) في الليلة المسفر صباحها عن سابع عشري (1) شهر شعبان سنة 1359 قمرية هجرية في بلدة أصفهان، كتبه حامدا مصليا.
* * *

(1) أي: سابع عشرين.
614

مصادر الكتاب
أجود التقريرات.
المؤلف: السيد أبو القاسم الخوئي الغروي، نشر: كتاب فروشى مصطفوي - قم إيران -.
الأحكام في أصول الأحكام.
المؤلف: علي بن أبي علي بن محمد الآمدي، نشر: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان تاريخ النشر: 1405 ه‍ - 1985 م.
الاستبصار.
المؤلف: محمد بن الحسن الطوسي، نشر: دار الكتب الإسلامية - طهران - إيران - تاريخ النشر: 1390 ه‍.
إشارات الأصول.
المؤلف: الشيخ محمد إبراهيم الكلباسي، (حجري) طبع طهران 1245 ه‍.
الأشباه والنظائر للسيوطي.
المؤلف: جلال الدين بن عبد الرحمن السيوطي، نشر: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان تاريخ النشر: 1403 ه‍ - 1983 م.
أصل زيد النرسي (ضمن الأصول الستة عشر).
منشورات دار الشبستري للمطبوعات قم - إيران.
بحار الأنوار.
المؤلف: الشيخ محمد باقر المجلسي، نشر: مؤسسة الوفاء - بيروت - لبنان تاريخ النشر: 1403 ه‍ - 1983 م.
615

بحر الفوائد (حجري).
المؤلف: ميرزا محمد حسن الآشتياني - منشورات مكتبة آية الله المرعشي النجفي قم - إيران.
بدائع الأفكار.
المؤلف: ميرزا حبيب الله الرشتي، أفست مؤسسة آل البيت لإحياء التراث - قم - إيران.
تأسيس الشيعة.
المؤلف: السيد حسن الصدر، نشر: شركة النشر والطباعة العراقية المحدودة أفست:
منشورات الأعلمي - طهران.
تاج العروس.
المؤلف: مرتضى الزبيدي، نشر: دار مكتبة الحياة - لبنان - بيروت.
تصحيح الاعتقاد.
تأليف الشيخ أبي عبد الله المفيد محمد بن محمد بن النعمان، طبع تبريز 1371 ه‍.
تلخيص المفتاح بشرح المختصر للتفتازاني.
منشورات مكتبة العلامة - قم - إيران.
التهذيب.
المؤلف: محمد بن الحسن الطوسي، نشر: دار الكتب الإسلامية - طهران - إيران. تاريخ النشر: 1364 ه‍.
تهذيب التهذيب.
المؤلف: شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، نشر: دار الفكر - بيروت - لبنان.
تاريخ النشر: 1404 ه‍ - 1984 م.
التوحيد.
تأليف: محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (الشيخ الصدوق)، نشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.
جامع أحاديث الشيعة.
المؤلف: آقا حسين الطباطبائي البروجردي، نشر: المطبعة العلمية، قم - إيران. تاريخ النشر:
1399 ه‍.
616

جامع المقاصد.
المؤلف: الشيخ علي بن الحسين الكركي تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت - قم - إيران - تاريخ النشر 1408 ه‍.
جواهر الكلام.
المؤلف: الشيخ محمد حسن نجفي - نشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان - تاريخ النشر: 1981 م.
حاشية فرائد الأصول (حجري).
المؤلف: محمد كاظم الآخوند الخراساني، نشر: مكتبة بصيرتي - قم - إيران.
حقائق الإيمان.
المؤلف: زين الدين بن علي بن أحمد العاملي، نشر: مكتبة آية الله المرعشي النجفي إيران - قم. تاريخ النشر: 1409 ه‍.
حقائق التأويل في متشابه التنزيل.
المؤلف: الشريف الرضي، نشر: مؤسسة البعثة - قسم الدراسات الإسلامية - طهران - إيران تاريخ النشر: 1406 ه‍ ق.
الخصال:
المؤلف: محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (الشيخ الصدوق)، نشر: مؤسسة النشر الإسلامي، التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة. تاريخ النشر: 1403 ه‍.
خلاصة الرجال.
المؤلف: الحسن بن يوسف بن علي بن مطهر الحلي، نشر: مكتبة الرضي - إيران - قم.
درر الفوائد.
المؤلف: عبد الكريم الحائري اليزدي، نشر: مكتبة 22 بهمن.
ديوان السيد حيدر الحلي.
تحقيق علي الخاقاني - منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت - لبنان.
ديوان صفي الدين الحلي.
دار بيروت للطباعة والنشر - بيروت.
ديوان المتنبي - بشرح العكبري.
617

الذريعة إلى أصول الشيعة.
المؤلف: الشيخ آقا بزرگ الطهراني، نشر: دار الأضواء - بيروت لبنان - تاريخ النشر: 1403 هجري - 1983 ميلادي.
رجال الكشي.
المؤلف: محمد بن الحسن بن علي الطوسي، نشر: چاپخانه دانشگاه مشهد، تاريخ النشر:
1348 ه‍.
رجال النجاشي.
المؤلف: الشيخ أحمد بن علي بن العباس النجاشي، نشر: مكتبة الداوري - إيران - قم.
رسالة حجية المظنة.
المؤلف: الشيخ محمد باقر الأصفهاني (الطبع الحجري).
سنن ابن ماجة.
المؤلف: محمد بن يزيد القزويني (ابن ماجة)، نشر: دار الفكر.
سنن أبي داود.
المؤلف: سليمان ابن الأشعث السجستاني الأزدي (أبو داود)، نشر: دار الفكر - مصر، القاهرة.
سنن البيهقي.
المؤلف: أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، نشر: دار المعرفة - لبنان - بيروت.
سنن الدار قطني.
المؤلف: علي بن عمر الدار قطني، نشر: دار المحاسن - مصر القاهرة - تاريخ النشر: 1386 هجري - 1966 ميلادي.
سنن الدارمي.
المؤلف: عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام الدارمي، نشر: دار الفكر - مصر، القاهرة تاريخ النشر: 1398 ه‍ - 1978 م.
سنن النسائي.
المؤلف: جلال الدين السيوطي، نشر: دار الفكر - لبنان - بيروت - تاريخ النشر: 1348 هجري - 1930 ميلادي.
618

شرح الكافية.
المؤلف: محمد بن الحسن الرضي الأسترآبادي، نشر: المكتبة الرضوية لإحياء الآثار الجعفرية.
شرح المعلقات السبع - للزوزني.
الصحاح.
المؤلف: إسماعيل بن حماد الجوهري، نشر: دار العلم للملايين، سنة النشر: 1404 ه‍ - 1984 م.
صحيح البخاري.
المؤلف: محمد بن إسماعيل البخاري، نشر: دار إحياء التراث العربي.
صحيح الترمذي.
المؤلف: محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، نشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت لبنان -.
صحيح مسلم.
المؤلف: مسلم بن الحجاج، الناشر: دار الفكر بيروت - لبنان - تاريخ النشر: 1398 ه‍ - 1978 م.
العروة الوثقى:
المؤلف: السيد محمد كاظم اليزدي قده.
علل الشرائع.
المؤلف: محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (الشيخ الصدوق)، نشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت لبنان.
عوالي اللئالي.
المؤلف: محمد بن علي بن إبراهيم الأحسائي، (ابن أبي جمهور)، نشر: مطبعة سيد الشهداء قم - إيران تاريخ النشر: 1404 ه‍ - 1984 م.
العيون.
المؤلف: محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (الشيخ الصدوق)، نشر: انتشارات جهان - قم - إيران.
619

غرر الحكم.
المؤلف: عبد الواحد الآمدي، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت - لبنان.
غريب الحديث.
المؤلف: أبي عبيد قاسم بن سلام الهروي، نشر: دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان. تاريخ النشر: 1396 ه‍ - 1976 م.
فرائد الأصول.
المؤلف: مرتضى بن محمد أمين الأنصاري، نشر: مكتبة مصطفوي.
الفصول الغروية (حجري).
المؤلف: الشيخ محمد حسين بن عبد الرحيم الطهراني الحائري، نشر: دار إحياء العلوم الإسلامية قم - إيران تاريخ النشر: 1363 هش - 1404 ه‍ ق.
الفقيه.
المؤلف: محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (الشيخ الصدوق)، نشر: دار صعب - دار التعارف - بيروت لبنان، تاريخ النشر: 1401 ه‍ - 1981 م.
الفهرست.
المؤلف: محمد بن إسحاق النديم.
فوائد الأصول.
المؤلف: محمد علي الكاظمي الخراساني، نشر: مؤسسة النشر الإسلامي - قم - إيران تاريخ النشر: 1404 ه‍.
فوائد الأصول.
تأليف: المولى محمد كاظم الآخوند الخراساني، طبع مؤسسة الطبع والنشر (وزارة الإرشاد الإسلامي).
فوائد الرضوية (حجري).
المؤلف: الشيخ عباس القمي.
الفوائد الطوسية.
المؤلف: محمد بن الحسن الحر العاملي، نشر: المطبعة العلمية - قم - إيران.
620

القاموس المحيط.
المؤلف: مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، نشر: دار الفكر - بيروت، سنة النشر: 1403 ه‍ - 1983 م.
قواعد الأحكام (حجري).
المؤلف: العلامة الحلي، نشر: منشورات الرضي - قم - إيران.
قوانين الأصول.
المؤلف: المحقق أبو القاسم القمي نشر: المكتبة العلمية الإسلامية - طهران.
الكافي (أصول).
المؤلف: محمد بن يعقوب الكليني الرازي نشر: المكتبة الإسلامية، طهران - إيران، تاريخ النشر: 1388 ه‍.
الكافي (الفروع).
المؤلف: محمد بن يعقوب الكليني الرازي، نشر،: دار الكتب الإسلامية - طهران - إيران، تاريخ النشر: 1391 ه‍ ق - 1350 ه‍ ش.
كشاف اصطلاحات الفنون.
المؤلف: محمد أعلي بن علي التهانوي، نشر: كلكتة - 1862 م - أفست إيران 1967 م.
كشف الغطاء (حجري).
المؤلف: الشيخ جعفر - كاشف الغطاء - نشر: انتشارات مهدوي - أصفهان - إيران.
كفاية الأصول (حجري).
المؤلف: محمد كاظم الهروي النجفي (الآخوند الخراساني)، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث.
كنز العمال.
المؤلف: علاء الدين علي المتقي الهندي، نشر: مؤسسة الرسالة - بيروت - لبنان، تاريخ النشر: 1405 ه‍ - 1985 م.
لسان العرب.
المؤلف: أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري، نشر: نشر أدب الحوزة، قم - إيران، سنة النشر: 1405 ه‍ - 1363 ق.
621

مجد البيان في تفسير القرآن.
المؤلف: الشيخ محمد حسين الأصفهاني، نشر: مؤسسة البعثة - قسم الدراسات الإسلامية، تاريخ النشر: 1408 ه‍ ق - 1366 ه‍ ش.
مجمع الأمثال.
المؤلف: أحمد بن محمد الميداني، نشر: دار الفكر - بيروت لبنان - تاريخ النشر: 1392 ه‍ 1972 م، الطبعة الثالثة.
مجمع البحرين.
المؤلف: الشيخ فخر الدين الطريحي، نشر: انتشارات مرتضوي، سنة النشر: 1362 ه‍ ش.
المحاسن.
المؤلف: أحمد بن محمد بن خالد البرقي، نشر: دار الكتب الإسلامية - قم - إيران.
المختصر.
المؤلف: سعد الدين التفتازاني، منشورات مكتبة العلامة، قم - إيران.
مستدرك الحاكم.
المؤلف: محمد بن عبد الله النيسابوري، نشر: دار الفكر - لبنان - بيروت، تاريخ النشر:
1398 ه‍ - 1978 م.
مستدرك الوسائل (حجري).
المؤلف: الميرزا حسين النوري، نشر: مؤسسة إسماعيليان - قم - إيران، والطبع الحديث نشر مؤسسة آل البيت عليهم السلام.
المستصفى من علم الأصول.
المؤلف: محمد الغزالي، نشر: منشورات الشريف الرضوي - قم - إيران، تاريخ النشر:
1364 ه‍ ش.
مسند أحمد.
المؤلف: أحمد بن حنبل، نشر: دار الفكر - القاهرة - مصر.
مصباح المجتهد (حجري).
المؤلف: محمد بن الحسن بن علي الطوسي.
622

المصباح المنير.
المؤلف: أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي نشر: دار الهجرة - إيران - قم، تاريخ النشر:
1405 ه‍.
مطارح الأنظار (حجري).
تقريرات الشيخ الأنصاري، أفست مؤسسة آل البيت لإحياء التراث.
المطول.
المؤلف: سعد الدين التفتازاني، منشورات مكتبة الداوري - قم إيران.
معالم الدين.
المؤلف: الحسن بن زين الدين، نشر: مؤسسة النشر الإسلامي - قم إيران. تاريخ النشر:
1406 ه‍ ق - 1365 ه‍ ش.
معجم الأدباء.
المؤلف: أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي، نشر: دار الفكر بيروت - لبنان. تاريخ النشر: 1400 ه‍ - 1980 م.
مغني اللبيب.
المؤلف: جمال الدين بن هشام الأنصاري، نشر: مكتبة سيد الشهداء. سنة الطبع 1408 ه‍.
مفاتيح العلوم.
المؤلف: أبي عبد الله محمد بن أحمد الخوارزمي، نشر: فان فلوتن - ليدن 1895 م - أفست إيران.
المفردات في غريب القرآن.
المؤلف: الحسين بن محمد، نشر: كتاب فروشى مرتضوي. تاريخ النشر: 1362 ه‍.
مقالات الأصول.
المؤلف: الشيخ آقا ضياء العراقي، منشورات: مكتبة كتبي نجفي، قم - إيران.
مقامات الحريري.
المؤلف: قاسم بن علي الحريري، نشر: دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت - لبنان، تاريخ النشر: 1405 ه‍ - 1985 م.
623

موطأ مالك.
المؤلف: مالك بن أنس، نشر: دار إحياء التراث العربي.
النهاية لابن الأثير.
المؤلف: مجد الدين بن محمد الجزري ابن الأثير، نشر: مؤسسة إسماعيليان - قم إيران. تاريخ النشر: 1364 ه‍.
نهج البلاغة.
بشرح محمد عبده، نشر: المكتبة التجارية الكبرى.
هداية المسترشدين (حجري).
المؤلف: الشيخ محمد تقي الأصفهاني، نشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث.
وسائل الشيعة.
المؤلف: محمد بن الحسن الحر العاملي.
يتيمة الدهر.
المؤلف: أبي منصور عبد الملك بن إسماعيل الثعالبي النيسابوري، نشر: دار الفكر.
624