الكتاب: تفسير الآلوسي
المؤلف: الآلوسي
الجزء: ١
الوفاة: ١٢٧٠
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

سورة فاتحة الكتاب
اختلف فيها، فالأكثرون على أنها مكية بل من أوائل ما نزل من القرآن على قول وهو المروي عن علي وابن عباس وقتادة وأكثر الصحابة وعن مجاهد أنها مدنية وقد تفرد بذلك حتى عد هفوة منه، وقيل نزلت بمكة حين فرضت الصلاة وبالمدينة لما حولت القبلة ليعلم أنها في الصلاة كما كانت وقيل بعضها مكي وبعضها مدني ولا يخفى ضعفه، وقد لهج الناس بالاستدلال على مكيتها بآية الحجر (87) * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) * وهي مكية لنص العلماء والرواية عن ابن عباس ولها حكم مرفوع لا لأن ما قبلها وما بعدها في حق أهل مكة كما قيل لأنه مبني على أن المكي ما كان في حق أهل مكة والمشهور خلافه، والأقوى الاستدلال بالنقل عن الصحابة الذين شاهدوا الوحي والتنزيل لأن ذلك موقوف أولا على تفسير السبع المثاني بالفاتحة وهو وإن كان صحيحا ثابتا في الأحاديث إلا أنه قد صح أيضا عن ابن عباس وغيره تفسيرها بالسبع الطوال، وثانيا على امتناع الامتنان بالشيء قبل إيتائه مع أن الله تعالى قد امتن عليه صلى الله عليه وسلم بأمور قبل إيتائه إياها كقوله تعالى: * (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) * (الفتح: 1) فهو قبل الفتح بسنين والتعبير بالماضي تحقيق للوقوع وهذا وإن كان خلاف الظاهر لا سيما مع إيراد اللام وكلمة (قد) ووروده في معرض المنة والغالب فيها سبق الوقوع وعطف: * (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به) * (طه: 131) الآية إلا أنه قد خدش الدليل، لا يقال إن هذا وذلك لا يدلان إلا على أنها نزلت بمكة، وأما على نفي نزولها بالمدينة
33

أيضا فلا لأنا نقول: النفي هو الأصل وعلى مدعي الإثبات الإثبات وأنى به وما قالوا في الجواب عن الاعتراض بأن النزول ظهور من عالم الغيب إلى الشهادة والظهور بها لا يقبل التكرر فإن ظهور الظاهر ظاهر البطلان كتحصيل الحاصل من دعوى أنه كان في كل لفائدة أو أنه على حرف مرة وآخر لورود مالك وملك أو ببسملة تارة وتارة بدونها وبه تجمع المذاهب والروايات مصحح للوقوع لا موجب له كما لا يخفى، والسورة مهموزة وغير مهموزة بإبدال إن كانت من السور وهو البقية لأن بقية كل شيء بعضه وبدونه إن كانت من سور البناء وهي المنزلة أو سور المدينة لإحاطتها بآياتها، أو من التسور وهو العلو والارتفاع لارتفاعها بكونها كلام الله تعالى وتطلق على المنزلة الرفيعة كما في قول النابغة:
ألم تر أن الله أعطاك سورة * ترى كل ملك حولها يتذبذب
وحدها قرآن يشتمل على ذي فاتحة وخاتمة. وقيل طائفة أي قطعة مستقلة لتخرج آية الكرسي مترجمة توقيفا وقد ثبتت أسماء الجميع بالأحاديث والآثار فمن قال بكراهة أن يقال سورة كذا بل سورة يذكر فيها كذا بناء على ما روي عن أنس وابن عمر من النهي عن ذلك لا يعتد به إذ حديث أنس ضعيف أو موضوع وحديث ابن عمر موقوف عليه وإن روى عنه بسند صحيح. والفاتحة في الأصل صفة جعلت اسما لأول الشيء لكونه واسطة في فتح الكل والتاء للنقل أو المبالغة ولا اختصاص لها بزنة علامة أو مصدر أطلقت على الأول تسمية للمفعول بالمصدر إشعارا بأصالته كأنه نفس الفتح إذ تعلقه به أولا ثم بواسطته يتعلق بالمجموع لكونه جزءا منه، وكذا يقال في الخاتمة فإن بلوغ الآخر يعرض الآخر أولا والكل بواسطته وليس هذا كالأول لقلة فاعلة في المصادر إلا أنه أولى من كونه للآلة أو باعثا لأن هذه ملتبسة بالفعل ومقارنة له، والغالب أن لا تتصف الآلة ولا يقارن الباعث على أن الآلة هنا غير مناسبة لإيهام أن يكون البعض غير مقصود وجوزوا أن يكون للنسبة أي ذات فتح مع وجوه أخر مرجوحة. والكتاب: هو المجموع الشخصي وفتح الفاتحة بالقياس إليه لا إلى القدر المشترك بينه وبين أجزائه وهو متحقق في العلم أو اللوح أو بيت العزة فلا ضير في اشتهار السورة بهذا الاسم في الأوائل، والإضافة الأولى من إضافة الاسم إلى المسمى وهي مشهورة، والثانية بمعنى اللام كما في جزء الشيء لا بمعنى من كما في خاتم فضة لأن المضاف جزء لا جزئي قاله شيخ الإسلام وهو مذهب بعض في كل، وقال ابن كيسان والسيرافي وجمع إضافة الجزء على معنى (من) التبعيضية بل في " اللمع وشرحه " إن (من) المقدرة في الإضافة مطلقا كذلك من غير فرق بين الجزء والجزئي، وبعضهم جعل الإضافة في الجزئي بيانية مطلقا، وبعضهم خصها بالعموم والخصوص الوجهي كما في المثال وجعلها في المطلق كمدينة بغداد لامية والشهرة لا تساعده.
ولهذه السورة الكريمة أسماء أوصلها البعض إلى نيف وعشرين أحدها: فاتحة الكتاب لأنها مبدؤه على الترتيب المعهود لا لأنها يفتتح بها في التعليم وفي القراءة في الصلاة كما زعمه الإمام السيوطي ولا لأنها أول سورة نزلت كما قيل. أما الأول والثالث فلأن المبدئية من حيث التعليم أو النزول تستدعي مراعاة الترتيب في بقية أجزاء الكتاب من تينك الحيثيتين ولا ريب في أن الترتيب التعليمي والنزولي ليسا كالترتيب المعهود، وأما الثاني فلما عرفت
34

أن ليس المراد بالكتاب القدر المشترك الصادق على ما يقرأ في الصلاة حتى يعتبر في التسمية مبدئيتها له. وحكى المرسي أنها سميت بذلك لأنها أول سورة كتبت في اللوح ويحتاج إلى نقل وإن صححنا أن ترتيب القرآن الذي في مصاحفنا كما في اللوح فلربما كتب التالي ثم كتب المتلو وغلبة الظن أمر آخر. وثانيها: فاتحة القرآن لما قدمنا حذو القذة بالقذة وثالثها ورابعها: أم الكتاب وأم القرآن وحديث: " لا يقولن أحدكم أم الكتاب وليقل فاتحة الكتاب " لا أصل له بل قد ثبت في " الصحاح " تسميتها به كما لا يخفى على المتتبع، وسميت بذلك لأن الابتداء كتابة أو تلاوة أو نزولا على قول أو صلاة بها وما بعدها تال لها فهي كالأم التي يتكون الولد بعدها، ويقال أيضا للراية أم لتقدمها واتباع الجيش لها ومنه أم القرى أو لاشتمالها كما قال العلامة على مقاصد المعاني التي في القرآن من الثناء على الله تعالى بما هو أهله ومن التعبد بالأمر والنهي ومن الوعد والوعيد، أما الثناء فظاهر، وأما التعبد فإما من الحمد لله لأنه للتعليم فيقدر أمر يفيده والأمر الإيجابي يلزمه النهي عن الضد في الجملة ولا نرى فيه بأسا أو من * (اهدنا الصراط المستقيم) * إن أريد به ملة الإسلام أو من تقدير قولوا باسم الله ومن تأخير متعلقه، وإما من * (إياك نعبد) * فإنه إخبار عن تخصيصه بالعبادة وهي التحقق بالعبودية بارتسام ما أمر السيد أو نهى فيدل في الجملة على أنهم متعبدون، ولا يرد على المعتزلة عدم سبق أمر ونهي أصلا، ويجاب عندنا بعد تسليم العدم للأولية بأن رأس العبادة التوحيد وفي الصدر ما يرشد إليه لا سيما وقد سبق تكليفه صلى الله عليه وسلم بالتوحيد وتبليغ السورة وذلك يكفي، وأما الوعد
والوعيد فمن قوله تعالى: * (أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم) * أو من * (يوم الدين) * أي الجزاء، والمجزي أما ما يسر أو ما يضر وهما الثواب والعقاب وإنما كانت المقاصد هذه لأن بعثة الرسل وإنزال الكتب رحمة للعباد وإرشادا إلى ما يصلحهم معاشا ومعادا وذلك بمعرفة من يقدر على إيصال النعم إيجادا وإمدادا، ثم التوصل إليه بما يربط العتيد، ويجلب المزيد عملا واعتقادا والتنصل عما يفضي به إلى رجع المحصل ومنع المستحصل قلوبا وأجسادا والثناء فرع معرفة المثني عليه مع الاستحقاق وتدخل المعرفة بصفات الجلال والجمال، ومنها ما منه الإرسال والإنزال والتفاوت بين المطيع والمذنب فدخل الإيمان بالله تعالى وصفاته والنبوات والمعاد على الإجمال، والتعبد يتمكن به من التوصل والتنصل ويدخل فيه من وجه الإيمان بالنبوات وما يتعلق بها من الكتاب والملائكة إذ الأمر والنهي فرع ثبوت ذلك في الجملة، والوعد والوعيد يتضمنان الإيمان بالمعاد، ويبعثان على التعبد، والناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة والأكثرون بعثتهم الرغبة والرهبة، وأوسطهم الرجاء والخوف. والخواص - وقيل ما هم - الانس والهيبة فبالثلاثة تم الإرشاد إلى مصالح المعاش والمعاد ولا أحصر لك وجه الحصر بهذا فلمسلك الذهن اتساع ولك أن ترد الثلاثة إلى اثنين فتدرج الثناء في التعبد إذ لا حكم للعقل ولعله إنما جعله قسيما له تلميحا إلى أن شكر المنعم واجب عقلا مراعاة لمذهب الاعتزال ولم يبال البيضاوي بذلك فعبر بما عبر به من المقال. أو لاشتمالها على جمل معانيه من الحكم النظرية والأحكام العملية التي هي سلوك الصراط المستقيم والاطلاع على مراتب السعداء ومنازل الأشقياء، والأول
35

مستفاد من أول السورة إلى قوله: * (يوم الدين) * والثاني من قوله: * (إياك نعبد) * وما بعده وسلوك الصراط المستقيم من قوله: * (اهدنا) * الآية والاطلاع من قوله: * (أنعمت عليهم) * الخ وفيه وعد ووعيد فدخلا فيه والأمثال والقصص المقصود بها الاتعاظ وكذا الدعاء والثناء، وهذه جملة المعاني القرآنية إجمالا مطابقة والتزاما؛ وأبسط من هذا أن يقال إنها مشتملة على أربعة أنواع من العلوم التي هي مناط الدين.
الأول: علم الأصول ومعاقده معرفة الله تعالى وصفاته وإليها الإشارة بقوله: * (رب العالمين الرحمن الرحيم) * ومعرفة النبوات وهي المرادة بقوله تعالى: * (أنعمت عليهم) * والمعاد المومي إليه بقوله تعالى: * (مالك يوم الدين) *.
الثاني: علم الفروع ورأسه العبادات وهو المراد بقوله: * (إياك نعبد) * وهي بدنية ومالية وهما مفتقران إلى أمور المعاش من المعاملات والمناكحات ولا بد لها من الحكومات فتمهدت الفروع على الأصول.
الثالث: علم ما به يحصل الكمال وهو علم الأخلاق وأجله الوصول إلى الحضرة الصمدانية والسلوك لطريقة الاستقامة في منازل هاتيك الرتب العلية وإليه الإشارة بقوله: * (إياك نستعين إهدنا الصراط المستقيم) *.
الرابع: علم القصص والأخبار عن الأمم السالفة السعداء والأشقياء وما يتصل بها من الوعد والوعيد وهو المراد بقوله تعالى: * (أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) * وإذا انبسط ذهنك أتيت بأبسط من ذلك، وهذان الوجهان يستدعيان حمل الكتاب على المعاني أو تقديرها في التركيب الإضافي، والوجه الأول يقتضيه ومن هذا رجحه البعض وإن كان أدق وأحلى لا لأنه يشكل عليهما ما ورد من أن الفاتحة تعدل ثلثي القرآن إذ يزيله إذا ثبت أن الاجمال لا يساوي التفصيل فزيادة مبانيه منزلة ثلث آخر من الثواب قاله الشهاب ثم قال: ومن العجب ما قيل هنا من أن ذلك لاشتمالها على دلالة التضمن والالتزام وهما ثلثا الدلالات انتهى. وأنا أقول الأعجب من هذا توجيهه رحمه الله مع ما رواه الديلمي في " الفردوس " عن أبي الدرداء " فاتحة الكتاب تجزي ما لا يجزي شيء من القرآن ولو أن فاتحة الكتاب جعلت كفة الميزان وجعل القرآن في الكفة الأخرى لفضلت فاتحة الكتاب على القرآن سبع مرات " فإنه لا يتبادر منه إلا الفضل في الثواب فيعارض ظاهره ذلك الخبر على توجيهه وعلى توجيه صاحب القيل لا تعارض. نعم إنه بعيد ويمكن التوفيق بين الخبرين وبه يزول الإشكال بأن الأول كان أولا وتضاعف الثواب ثانيا ولا حجر على الرحمة الواسعة أو بأن اختلاف المقال لاختلاف الحال أو بأن ما يعدل الشيء كله يعدل ثلثيه أو بأن القرآن في أحد الخبرين أو فيهما بمعنى الصلاة مثله في قوله تعالى: * (وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا) * (الإسراء: 78) وذلك يختلف باختلاف مراتب الناس في قراءتهم وصلواتهم فليتدبر، وعلى العلات لا يقاسان بما قيل في وجه التسمية بذلك لأنها أفضل السور أو لأن حرمتها كحرمة القرآن كله أو لأن مفزع أهل الايمان إليها أو لأنها محكمة والمحكمات أم الكتاب ولا أعترض على البعض بعدم الاطراد لأن وجه التسمية لا يجب اطراده ولكني أفوض الأمر إليك وسلام الله تعالى عليك لا يقال: إذا كانت الفاتحة جامعة لمعاني الكتاب فلم سقط منها سبعة أحرف الثاء والجيم والخاء والزاي والشين والظاء والفاء؟ لأنا نقول لعل ذلك للإشارة إلى أن الكمال المعنوي لا يلزمه الكمال الصوري ولا ينقصه نقصانه إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وكانت سبعة موافقة لعدد الآي المشتمل على الكثير من الأسرار وكانت من الحروف الظلمانية التي لم توجد في المتشابه من أوائل السور ويجمعها بعد إسقاط المكرر - صراط على حق نمسكه - وهي النورانية المشتملة عليها بأسرها الفاتحة للإشارة إلى غلبة الجمال على الجلال المشعر بها تكرر ما يدل على الرحمة في الفاتحة وإنما لم يسقط السبعة الباقية من هذا النوع فتخلص النورانية ليعلم أن الأمر مشوب * (فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) * (الأعراف: 99) وفي قوله تعالى: * (نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذاب الأليم) * (الحجر: 49، 50) إشارة وأي إشارة إلى ذلك لمن تأمل حال الجملتين على أن في كون النورانية - وهي أربعة عشر حرفا - مذكورة
36

بتمامها والظلمانية مذكورة منها سبعة وإذا طوبقت الآحاد بالآحاد يحصل نوراني معه ظلماني ونوراني خالص إشارة إلى قسمي المؤمنين فمؤمن لم تشب نور إيمانه ظلمة معاصيه ومؤمن قد شابه ذلك، وفيه رمز إلى أنه لا منافاة بين الإيمان والمعصية فلا تطفىء ظلمتها نوره " ولا يزني الزاني وهومؤمن " محمول على الكمال وليس البحث لهذا وإذا لوحظ الساقط وهو الظلماني المحض المشير إلى الظالم المحض الساقط عن درجة الاعتبار والمذكور وهو النوراني المحض المشير إلى المؤمن المحض
والنوراني المشوب المشير إلى المؤمن المشوب يظهر سر التثليث في: * (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير) * (فاطر: 32) وإنما كان الساقط هذه السبعة بخصوصها من تلك الأربعة عشر ولم يعكس فيسقط المثبت ويثبت الساقط أو يسقط سبعة تؤخذ من هذا وهذا لسر علمه من علمه وجهله من جهله، نعم في كون الساقط معجما فقط إشارة إلى أن الغين في العين، والرين في البين، فلهذا وقع الحجاب، وحصل الارتياب، وهذا ما يلوح لأمثالنا من أسرار كتاب الله تعالى وأين هو ما يظهر للعارفين الغارفين من بحاره، المتضلعين من ماء زمزم أسراره.
ولمولانا العلامة فخر الدين الرازي في هذا المقام كلام ليس له في التحقيق أدنى إلمام حيث جعل سبب إسقاط هذه الحروف أنها مشعرة بالعذاب فالثاء تدل على الثبور والجيم أول حرف من جهنم والخاء يشعر بالخزي والزاي والشين من الزفير والشهيق، وأيضا الزاي تدل على الزقوم والشين تدل على الشقاء والظاء أول الظل في قوله تعالى: * (انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب) * (المرسلات: 30) وأيضا تدل على لظى والفاء على الفراق، ثم قال فإن قالوا: لا حرف من الحروف إلا وهو مذكور في اسم شيء يوجب نوعا من العذاب فلا يبقى لما ذكرتم فائدة فنقول: الفائدة فيه أنه قال في صفة جهنم: * (لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم) * ثم إنه تعالى أسقط سبعة من الحروف من هذه السورة وهي أوائل ألفاظ دالة على العذاب تنبيها على أن من قرأ هذه السورة وآمن بها وعرف حقائقها صار آمنا من الدركات السبع في جهنم انتهى، ولا يخفى ما فيه وجوابه لا ينفعه ولا يغنيه إذ لقائل أن يقول فلتسقط الذال والواو والنون والحاء والعين والميم والغين إذ الواو من الويل والذال من الذلة والنون من النار والحاء من الحميم والعين من العذاب والميم من المهاد والغين من الغواشي والآيات ظاهرة والكل في أهل النار وتكون الفائدة في إسقاطها كالفائدة في إسقاط تلك من غير فرق أصلا على أن في كلامه رحمه الله تعالى غير ذلك بل ومع تسليم سلامته مما قيل أو يقال لا أرتضيه للفخر وهو السيد الذي غدا سعد الملة وحجة الإسلام وناصرا أهله، وأما نسبته
37

لأمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه حين سأل قيصر الروم معاوية عن ذلك فلم يجب فسأل عليا فأجاب فلا أصل له وعلى تقدير التسليم فما مرام الأمير بالاكتفاء على هذا المقدار إلا التنبيه للسائل والمسؤول على ما لا يخفى عليك من الإسرار فافهم ذاك والله تعالى يتولى هذاك وخامسها وسادسها وسابعها: الكنز والوافية والكافية لما مر من اشتمالها على الجواهر المكنوزة فتفي وتكفي أو لأنها لا تنصف في الصلاة ولا يكفي فيها غيرها وثامنها الأساس: لأنها أصل القرآن وأول سورة فيه. وتاسعها وعاشرها والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر: سورة الحمد وسورة الشكر وسورة الدعاء وسورة تعليم المسألة وسورة السؤال لاشتمالها على ذلك، أما اشتمالها على الحمد فظاهر وكذا على الشكر لدى من أنعم الله تعالى عليه بالفهم ويمكن أن يكون الاسمان كأم القرآن وأم الكتاب.
وأما الاشتمال على الثالث فكالاشتمال على الأول بل أظهر، وأما تعليم المسألة فلأنها بدئت بالثناء قبله والخامس كالثالث وهما كذينك الثالث والرابع كما لا يخفى والرابع عشر والخامس عشر: سورة المناجاة وسورة التفويض لأن العبد يناجي ربه بقوله: * (إياك نعبد وإياك نستعين) * وبالثاني يحصل التفويض والسادس عشر والسابع عشر والثامن عشر: الرقية والشفاء والشافية والأحاديث الصحيحة مشعرة بذلك والتاسع عشر: سورة الصلاة لأنها واجبة أو فريضة فيها والاستحباب مذهب بعض المجتهدين ورواية عن البعض في النفل، قيل ومن أسمائها الصلاة لحديث: " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين " وأراد السورة والمجاز اللغوي لعلاقة الكلية والجزئية أو اللزوم حقيقة أو حكما كالمجاز في الحذف محتمل والعشرون: النور لظهورها بكثرة استعمالها أو لتنويرها القلوب لجلالة قدرها أو لأنها اشتملت عليه من المعاني عبارة عن النور بمعنى القرآن والحادي والعشرون: القرآن العظيم وهو ظاهر مما قدمناه والثاني والعشرون: السبع المثاني لأنها سبع آيات باتفاق وما رأينا مشاركا لها سوى * (أرأيت) * (الماعون: 1) والقول بأنها ثمان كالقول بأنها تسع شاذ لا يعبأ به أو وهم من الراوي إلا أن منهم من عد التسمية آية دون: * (أنعمت عليهم) * ومنهم من عكس والمدار الرواية فلا يوهن الثاني أن وزان الآية لا يناسب وزان فواصل السور على أن في سورة النصر ما هو من هذا الباب، وتثنى وتكرر في كل ركعة وصلاة ذات ركوع أو المراد المتعارف الأغلب من الصلاة فلا ترد الركعة الواحدة ولا صلاة الجنازة على أن في البتيراء اختلافا وصلاة الجنازة دعاء لا صلاة حقيقة وقيل وصفت بذلك لأنها تثنى بسورة أخرى أو لأنها نزلت مرتين أو لأنها على قسمين دعاء وثناء أو لأنها كلما قرأ العبد منها آية ثناه الله تعالى بالإخبار عن فعله كما في الحديث المشهور. وقيل غير ذلك، وهذه الأقوال مبنية على أن تكون المثاني من التثنية ويحتمل أن تكون من الثناء لما فيها من الثناء على الله تعالى أو لما ورد من الثناء على من يتلوها وأن تكون من الثنيا لأن الله تعالى استثناها لهذه الأمة، والحمد لله على هذه النعمة، ثم الحكمة في تسوير القرآن سورا كالكتب خلافا للزركشي أن يكون أنشط للقارىء وأبعث على التحصيل كالمسافر إذا قطع ميلا أو فرسخا نفس ذلك منه ونشط للمسير وإذا أخذ الحافظ السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله تعالى طائفة مستقلة فيعظم عنده وما حفظ، وأيضا الجنس إذا انطوى تحته أنواع وأصناف كان أحسن من أن يكون تحته باب واحد مع أن في ذلك تحقيق كون السورة بمجردها معجزة وآية من آيات الله تعالى والحكمة في كونها طوالا وقصارا أظهر من أن تخفى.
38

* (بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب الع‍المين * الرحم‍ان الرحيم * م‍الك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين) *.
بسم الله الرحمن الرحيم فيها أبحاث البحث الأول: اختلف العلماء فيها هل هي من خواص هذه الأمة أم لا؟ فنقل العلامة أبو بكر التونسي إجماع علماء كل ملة على أن الله تعالى افتتح كل كتاب بها وروى السيوطي فيما نقله عنه السرميني والعهدة عليه: بسم الله الرحمن الرحيم فاتحة كل كتاب، وذهب هذا الراوي إلى أن البسملة من الخصوصيات لما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يكتب باسمك اللهم إلى أن نزل * (بسم الله مجراها) * (هود: 41) فأمر بكتابة بسم الله حتى نزل: * (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن) * (الإسراء: 110) فأمر بكتابة بسم الله الرحمن إلى أن نزلت آية النمل فأمر بكتابة بسم الله الرحمن الرحيم، ولما اشتهر أن معاني الكتب
في القرآن ومعانيه في الفاتحة ومعانيها في البسملة ومعاني البسملة في الباء فلو كانت في الكتب القديمة لأمر من أول الأمر بكتابتها ولكانت معاني القرآن في كل كتاب واللازم منتف فكذا الملزوم، وفيه أن الأمر بذلك التفصيل لا يستلزم النفي لاحتمال نفي العلم إذ ذاك ولا ضير وأن المختص بالقرآن اللفظ العربي بهذا الترتيب والكتب السماوية بأسرها خلافا للغيطى غير عربية وما في القرآن منها مترجم فلربما لهذه الألفاظ مدخل في الاشتمال على جميع المعاني فلا تكون في غير القرآن كما توهمه السرميني وإن كان هناك بسملة على أن في أول الدليلين بظاهره دليلا على عدم الخصوصية البحث الثاني: وهو من أمهات المسائل حتى أفرده جمع بالتصنيف اختلف الناس في البسملة في غير النمل إذ هي فيها بعض آية بالاتفاق على عشرة أقوال الأول: إنها ليست آية من السور أصلا الثاني: أنها آية من جميعها غير براءة الثالث: أنها آية من الفاتحة دون غيرها الرابع: أنها بعض آية منها فقط الخامس: أنها آية فذة أنزلت لبيان رؤوس السور تيمنا للفصل بينها السادس: أنه يجوز جعلهاآية منها وغير آية لتكرر نزولها بالوصفين. السابع: أنها بعض آية من جميع السور الثامن: أنها آية من الفاتحة وجزء آية من السور التاسع: عكسه العاشر: أنها آيات فذة وإن أنزلت مرارا فابن عباس وابن المبارك وأهل مكة كابن كثير وأهل الكوفة كعاصم والكسائي وغيرهما سوى حمزة وغالب أصحاب الشافعي والإمامية على الثاني، وقال بعض الشافعية وحمزة ونسب للإمام أحمد بالثالث وأهل المدينة ومنهم مالك والشام ومنهم الأوزاعي والبصرة ومنهم أبو عمرو ويعقوب على الخامس وهو المشهور من مذهبنا وعلى المرء نصرة مذهبه والذب عنه وذلك بإقامة الحجج على إثباته وتوهين أدلة نفاته وكنت من قبل أعد السادة الشافعية لي غزية ولا أعد نفسي إلا منها، وقد ملكت فؤادي غرة أقوالهم كما ملكت فؤاد قيس ليلى العامرية فحيث لاحت لا متقدم ولا متأخر لي عنها:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى * فصادف قلبا خاليا فتمكنا
إلى أن كان ما كان فصرت مشغولا بأقوال السادة الحنفية وأقمت منها برياض شقائق النعمان واستولى علي من حبها ما جعلني أترنم بقول القائل:
محا حبها حب الألى كن قبلها * وحلت مكانا لم يكن حل من قبل
وقد أطال الفخر في هذا المقام المقال وأورد ست عشرة حجة لإثبات أنها آية من الفاتحة كما هو نص كلامه ولا عبرة بالترجمة فها أنا بتوفيق الله تعالى راده ولا فخر وناصر مذهبي بتأييد الله تعالى ومنه التأييد والنصر فأقول قال:
39

الحجة الأولى: روى الشافعي عن ابن جريج عن أبي مليكة عن أم سلمة أنها قالت: " قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب فعد بسم الله الرحمن الرحيم آية: * (الحمد لله رب العالمين) * آية: * (الرحمن الرحيم) * آية: * (مالك يوم الدين) * آية: * (إياك نعبد وإياك نستعين) * آية: * (اهدنا الصراط المستقيم) * آية: * (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) * آية " وهذا نص صريح. الحجة الثانية: روى سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن بسم الله الرحمن الرحيم ".
الحجة الثالثة: روى الثعلبي بإسناده عن أبي بردة عن أبيه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أخبرك بآية لم تنزل على أحد بعد سليمان بن داود غيري؟ فقلت بلى قال: بأي شيء تستفتح القرآن إذا افتتحت الصلاة؟ فقلت بسم الله الرحمن الرحيم قال: هي هي ". الحجة الرابعة: روى الثعلبي بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له كيف تقول: إذا قمت إلى الصلاة؟ قال: أقول الحمد لله رب العالمين قال: قل بسم الله الرحمن الرحيم " وروى أيضا بإسناده عن أم سلمة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين " وروى أيضا بإسناده عن علي كرم الله تعالى وجهه: " أنه كان إذا افتتح السورة في الصلاة يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم وكان يقول: من ترك قراءتها فقد نقص ". وروى أيضا بإسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) * (الحجر: 87) قال: فاتحة الكتاب فقيل لابن عباس فأين السابعة فقال: * (بسم الله الرحمن الرحيم) * وبإسناده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قرأتم أم القرآن فلا تدعوا بسم الله الرحمن الرحيم فإنها إحدى آياتها " وبإسناده أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " قال: يقول الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى: مجدني عبدي وإذا قال: الحمد لله رب العالمين قال الله حمدني عبدي وإذا قال: الرحمن الرحيم قال: أثنى علي عبدي فإذا قال: مالك يوم الدين قال الله تعالى: فوض إلي عبدي وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين قال الله تعالى: هذا بيني وبين عبدي وإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم قال الله تعالى: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ". وبإسناده أيضا عن أبي هريرة قال: " كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد والنبي يحدث أصحابه إذا دخل رجل يصلي فافتتح الصلاة وتعوذ ثم قال: الحمد لله رب العالمين فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال له يا رجل قطعت على نفسك الصلاة أما علمت أن بسم الله الرحمن الرحيم من الحمد فمن تركها فقد ترك آية منها ومن ترك آية منها فقد قطع عليه صلاته فإنه لا صلاة إلا بها فمن ترك آية منها فقد بطلت صلاته " وبإسناده عن طلحة بن عبيد الله قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ترك بسم الله الرحمن الرحيم فقد ترك آية من كتاب الله ".
الحجة الخامسة: قراءة بسم الله الرحمن الرحيم واجبة في أول الفاتحة وإذا كان كذلك وجب أن تكون آية منها بيان الأول: * (اقرأ باسم ربك) * (العلق: 1) ولا يجوز أن يقال الباء صلة لأن الأصل أن تكون لكل حرف من كلام الله تعالى فائدة وإذا كان الحرف مفيدا كان التقدير اقرأ مفتتحا باسم ربك وظاهر الأمر الوجوب ولم يثبت في غير القراءة للصلاة فوجب إثباته في القراءة فيها صونا للنص عن التعطيل.
الحجة السادسة: التسمية مكتوبة بخط القرآن وكل ما ليس من القرآن فإنه غير مكتوب بخط القرآن ألا ترى أنهم منعوا كتابة أسامي السور في المصحف ومنعوا من العلامات على الأعشار والأخماس
40

والغرض من ذلك كله أن يمنعوا أن يختلط بالقرآن ما ليس بقرآن فلو لم تكن التسمية من القرآن لما كتبوها بخط القرآن.
الحجة السابعة: أجمع المسلمون على أن ما بين الدفتين كلام الله تعالى والبسملة موجودة بينهما فوجب جعلها منه.
الحجة الثامنة: أطبق الأكثرون على أن الفاتحة سبع آيات إلا أن الشافعي قال: * (بسم الله الرحمن الرحيم) * آية وأبو حنيفة قال: إنها ليست آية * (لكن صراط الذين أنعمت عليهم) * آية، وسنبين أن قوله مرجوح ضعيف فحينئذ يبقى أن الآيات لا تكون سبعا إلا بجعل البسملة آية تامة منها. الحجة التاسعة: أن نقول قراءة التسمية قبل الفاتحة واجبة فوجب كونها آية منها، بيان الأول أن أبا حنيفة يسلم أن قراءتها أفضل وإذا كان كذلك فالظاهر أنه صلى الله عليه وسلم قرأها فوجب أن يجب علينا قراءتها لقوله تعالى: * (واتبعوه) * (الأعراف: 158) وإذا ثبت الوجوب ثبت أنها من السورة لأنه لا قائل بالفرق وقوله عليه الصلاة والسلام: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بسم الله فهو أبتر " وأعظم الأعمال بعد الإيمان الصلاة فقراءة الفاتحة بدون قراءتها توجب كون الصلاة عملا أبتر ولفظه يدل على غاية النقصان والخلل بدليل أنه ذكر ذما للكافر الشانىء فوجب أن يقال للصلاة الخالية عنها في غاية النقصان والخلل وكل من أقر بذلك قال بالفساد وهو يدل على أنها من الفاتحة.
الحجة العاشرة: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب: " ما أعظم آية في القرآن؟ قال: بسم الله الرحمن الرحيم " فصدقه النبي في قوله وجه الاستدلال أن هذا يدل على أن هذا المقدار آية تامة ومعلوم أنها ليست بتامة في النمل فلا بد أن تكون في غيرها وليس إلا الفاتحة.
الحجة الحادية عشرة: عن أنس أن معاوية قدم المدينة فصلى بالناس صلاة جهرية فقرأ أم القرآن ولم يقرأ البسملة فلما قضى صلاته ناداه المهاجرون والأنصار من كل ناحية أنسيت أين بسم الله الرحمن الرحيم حين استفتحت القرآن؟! فأعاد معاوية الصلاة وجهر بها.
الحجة الثانية عشرة: أن سائر الأنبياء كانوا عند الشروع في أعمال الخير يبتدءون باسم الله فقد قال نوح: * (بسم الله مجراها) * (هود: 41) وسليمان: * (بسم الله الرحمن الرحيم * ألا تعلوا علي) * (النمل: 30 - 31) فوجب أن يجب على رسولنا ذلك لقوله تعالى: * (فبهداهم اقتده) * (الأنعام: 90) وإذا ثبت ذلك في حقه صلى الله عليه وسلم ثبت أيضا في حقنا لقوله تعالى: * (فاتبعوه) * وإذا ثبت في حقنا ثبت أنها آية من سورة الفاتحة.
الحجة الثالثة عشرة: أنه تعالى قديم والغير محدث فوجب بحكم المناسبة العقلية أن يكون ذكره سابقا على ذكر غيره والسبق في الذكر لا يحصل إلا إذا كانت قراءة البسملة سابقة وإذا ثبت أن القول بوجوب هذا التقديم فما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن وإذا ثبت وجوب القراءة ثبت أنها آية من الفاتحة لأنه لا قائل بالفرق.
الحجة الرابعة عشرة: إنه لا شك أنها من القرآن في سورة النمل ثم إنا نراه مكررا بخط القرآن فوجب أن يكون من القرآن كما أنا لما رأينا قوله تعالى: * (ويل يومئذ للمكذبين) * (المراسلات: 15) * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * (الرحمن: 13) مكررا كذلك قلنا: إن الكل منه.
الحجة الخامسة عشرة: روى أنه عليه السلام كان يكتب " باسمك اللهم " الحديث وهو يدل على أن أجزاء هذه الكلمة كلها من القرآن مجموعها منه وهو مثبت فيه فوجب الجزم بأنه من القرآن إذ لو جاز إخراجه مع هذه الموجبات والشهرة لكان جواز إخراج سائر الآيات أولى وذلك يوجب الطعن في القرآن العظيم.
الحجة السادسة عشرة: قد بينا أنه ثبت بالتواتر أن الله تعالى كان ينزل هذه الكلمة على محمد صلى الله عليه وسلم وكان عليه السلام يأمر بكتابتها بخط المصحف فيه وبينا أن حاصل الخلاف في أنه هل تجب قراءته وهل يجوز للمحدث مسه؟ فنقول ثبوت هذه الأحكام أحوط فوجب المصير إليه لقوله صلى الله عليه وسلم: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " انتهى كلامه وليس بشيء لأن البعض منه مجاب عنه والبعض لا يقوم حجة علينا لأن الصحيح من مذهبنا أن بسم الله الرحمن الرحيم آية مستقلة وهي من القرآن وإن لم تكن من الفاتحة نفسها وقد أوجب الكثير منا قراءتها في الصلاة وذكر الزيلعي في " شرح الكنز " أن الأصح أنها واجبة، وذكر الزاهدي عن " المجتبى " أن الصحيح أنها
41

واجبة في كل ركعة تجب فيها القراءة وهي الرواية الصحيحة عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وقال ابن وهبان في " منظومته ":
ولو لم يبسمل ساهيا كل ركعة * فيسجد إذ إيجابها قال الأكثر
وفي " غنية " المتملي وهو الأحوط وبه أقول خلافا لقاضيخان وصاحب " الخلاصة " وغيرهم والحق أحق بالاتباع والقول عن بعض هذا أنه من طغيان القلم غاية الطغيان ونهاية في التعصب من غير إتقان ولنتكلم على ما ذكره هذا العلامة على التفصيل فنقول: أما ما ذكره في الحجة الأولى من حديث أم سلمة بالوجه الذي رواه مخالف لما في البيضاوي المخالف لما في الكتب الحديثية فيجاب عنه بأن أبا مليكة لم يثبت سماعه عن أم سلمة وبتقديره للمعاصرة يقال إن هذا اللفظ لم يوجد في المشهور ولعله نقل بالمعنى لبعض الروايات الآتية على حسب ما يلوح له فقد أخرج أبو عبيد وأحمد وأبو داود بلفظ: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته آية آية بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين " وابن الأنباري والبيهقي: " كان إذا قرأ قطع قراءته آية آية يقول: بسم الله الرحمن الرحيم ثم يقف ثم يقول: الحمد لله رب العالمين ثم يقف ثم يقول: الرحمن الرحيم ثم يقف ثم يقول: مالك يوم الدين " وابن خزيمة والحاكم بلفظ: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم فعدها آية الحمد لله رب العالمين اثنين الرحمن الرحيم ثلاث آيات مالك يوم الدين أربع آيات وقال: هكذا وإياك نعبد وإياك نستعين وجمع خمس أصابعه " والدارقطني بلفظ: " كان يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين إلى آخرها قطعها آية آية وعدها عد الأعراب وعد بسم الله الرحمن الرحيم ولم يعد * (عليهم) * " والرواية الأولى والثانية يمكن أن يقال: عنت بهما بيان كيفية قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم لسائر القرآن وذكرت بعضا منه على سبيل التمثيل ولم تستوعب وليس فيهما سوى إثبات أنها آية وهو مسلم لكن من القرآن وأما أنها من الفاتحة فلا، وكذا في الرواية الثالثة إثبات أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها في الصلاة ويعدها آية لوقوفه عليها وهو مسلمنا أيضا وهي الآية الأولى من القرآن والآية الثانية منه: * (الحمد لله رب العالمين) * وهكذا إلى
الخامسة وجمعت الأصابع وانقطع الكلام وأما الرواية الرابعة فليست نصا أيضا في أن البسملة آية من الفاتحة إذ يحتمل أن يكون المعنى كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في بعض الأوقات في الصلاة أو غيرها ولا دوام لا وضعا ولا استعمالا من كتاب الله تعالى: * (بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين) * إلى آخرها أي الآيات قطعها آية آية ولم يوصل بعضها ببعض وعدها عد الإعراب واحدة واحدة وعد بسم الله الرحمن الرحيم ولم يسقطها لوجوبها في الصلاة وللاعتناء بها في غيرها لما فيها من عظائم الأسرار ودقائق الأفكار، ومن هذا أوجب الكثير من علمائنا سجود السهو على من تركها وقد أزال صلى الله عليه وسلم بذلك ظن أنها ليست من القرآن لاستعمالها في أوائل الرسائل ومبادىء الشؤون ولم يعد * (صراط الذين أنعمت عليهم) * ولم يقف عليها بل وصل صلى الله عليه وسلم تلك المرة لبيان الجواز وعدم تخيل شيء ينافي كونها آية بل هناك ما يشعر به فإن تقارب الآي في الطول والقصر كتقارب الفقرات شيء مرغوب فيه وعدم التشابه في المقاطع لا يضر فأين أفواجا من الفتح فلزوم الرعاية غير لازم وكون الموصوف في آية والصفة في آية أخرى مسبوق بالمثل وسابق على الأمثال ومن أنعم الله تعالى عليه وعرف * (الذين أنعمت عليهم) * وجده تاما وعد توقفه على الشرط المفهوم من * (غير المغضوب) * كلاما ناقصا وعلى هذا لم يثبت في هذه
42

الرواية سوى أن البسملة آية من القرآن وهو مسلم عند الطرفين وأما إنها من الفاتحة فدونه خرط القتاد.
وأما ما ذكره في الحجة الثانية: من حديث أبي هريرة فقد أخرجه الطبراني وابن مردويه والبيهقي بلفظ: " الحمد لله رب العالمين سبع آيات بسم الله الرحمن الرحيم إحداهن وهي السبع المثاني والقرآن العظيم وهي أم القرآن وهي فاتحة الكتاب " وأخرجه الدارقطني بلفظ: " إذا قرأتم الحمد فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها " ومعنى الرواية الأولى الحمد لله رب العالمين إلى آخر الآيات سبع آيات، وبه قال الحنفيون، ولما لاحظ صلى الله عليه وسلم توهم السامعين من عدم التعرض للبسملة مع تلك الشبهة السالفة كونها ليست بآية من القرآن أزال هذا التوهم بوجه بليغ فقال: بسم الله الرحمن الرحيم إحداهن أي مثل إحداهن في كونها آية من القرآن ومعنى الثانية إذا أردتم قراءة الحمد إلى آخر ما يليه فاقرؤا قبله بسم الله الرحمن الرحيم إنها - أي الحمد - إلى الآخر أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني. وهذا كالتعليل أو الترغيب بقراءة الحمد لله رب العالمين إلى آخرها وقوله: وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها على حد ما ذكر في معنى الرواية الأولى وهو كالتعليل أو الترغيب أيضا في قراءة البسملة وما ذكرناه وإن كان فيه ارتكاب مجاز لكن دعانا إليه إجراء صدر الكلام على حقيقته وإن أجرى هذا على ظاهره فلا بد من ارتكاب المجاز في الصدر كما لا يخفى وهو ارتكاب خلاف الأصل قبل الحاجة إليه وأما ما ذكره في الحجة الثالثة: فليس سوى إثبات أن التسمية من القرآن كماأقر هو به ولسنا ممن نخالفه فيه وأما ما ذكره في الرابعة: فالحديث الأول والثاني والثالث والسادس مع ضعفه والثامن لا تدل على المقصود ونحن نقول بما تدل عليه، والرابع موقوف على ابن عباس ولا نسلم أن حكمه الرفع لجواز الاجتهاد وإن قلنا إن الصحيح أن الآية إنما تعلم بتوقيف من الشارع كمعرفة السورة مثلا ولذلك عدوا * (ألم) * (البقرة: 1) آية حيث وقعت ولم يعدوا * (ألمر) * (الرعد: 1) لأنا لم نقل إنها جزء آية واجتهد فجعلها آية بل قلنا إنها آية مستقلة من القرآن واجتهد وجعلها آية من الفاتحة أو نقول: إنه قال ذلك أيضا عن توقيف لكن على ظنه واجتهاده أنه توقيف، والخامس لي شك في صحته بهذا اللفظ ولعله باللفظ الذي خرجه به الدارقطني وقد سلف بتقريره وليس لي اعتماد على الفخر في الأحاديث وليس من حفاظها وأراه إذا نقل بالمعنى غير وليس عندي تفسير الثعلبي لأراه فإن النقل منه، والسابع لا تلوح عليه طلاوة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فصاحته وهو أفصح من نطق بالضاد بل من مارس الأحاديث جزم بوضع هذا ولعمري لو كان صحيحا لاكتفى به الشافعية أو لقدموه على سائر أدلتهم ويا ليته ذكر إسناده لنراه وأما الحجة الخامسة: ففيها أنا لا نسلم أن وجوبها في أول الفاتحة مستلزم لكونها آية منها واستدلاله في هذا المقام بقوله: * (اقرأ باسم ربك) * (العلق: 1) واه جدا من وجوه أظهر من الشمس فلا نتعب البنان ببيانها وأما الحجة السادسة: فهو أقوى ما يستدل به على كون البسملة من القرآن وأما على أنها من الفاتحة فلا، وتعرض نفاة كونها قرآنا للتكلم في هذا الدليل مما لا يرضاه الطبع السليم، والذهن المستقيم، والإنصاف نصف الدين، والانقياد للحق من أخلاق المؤمنين وأما الحجة السابعة: فلنا لا علينا كما لا يخفى وأما الحجة الثامنة: فدون إثبات مدارها - وهو توهين كلام مولانا أبي حنيفة رحمه الله تعالى - جبال راسيات - وأما الحجة التاسعة: فهي كالحجة الخامسة حذو القذة بالقذة واستدلاله بقوله صلى الله عليه وسلم: " كل أمر ذي بال " الخ ليس بشيء لأن الفاتحة جزء من الصلاة المفتتحة بالتكبير المقارن للنية الذي هو ركن منها فحيث لم تفتتح بالبسملة عدت بتراء فبطلت وكذا الركوع والسجود الذي أقرب ما يكون العبد فيه إلى ربه كل منهما أمر ذو بال فإذا لم يفتتح بالبسملة كان أبتر باطلا فحسن الظن بديانة العلامة وعلمه أنه كان يبسمل أول
43

صلاته وعند ركوعه وسجوده وسائر انتقالاته رحمة الله تعالى عليه وأما الحجة العاشرة: فلا تقوم علينا لأنا أعلمناك بمذهبنا وأما الحجة الحادية عشرة: فقصارى ما تدل عليه ظاهرا بعد تسليمها أن معاوية لما لم يقرأ البسملة وترك الواجب ولم يسجد للسهو أعاد الصلاة لتقع سليمة من الخلل ولهذا أمهلوه إلى أن فرغ ليروا أيجبر الخلل بسجود السهو أم لا واعتراضهم عليه بترك واجب يجبر بالسجود ليس أغرب من اعتراضهم عليه في تلك الصلاة أيضا بترك هيئة حيث روى الشافعي نفسه كما نقله الفخر نفسه أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ولم يكبر عند الخفض إلى الركوع والسجود فلما سلم ناداه المهاجرون والأنصار يا معاوية سرقت من الصلاة أين بسم الله الرحمن الرحيم وأين التكبير عند الركوع والسجود ثم إنه أعاد الصلاة مع التسمية والتكبير وهذا لا يضرنا، نعم يبقى الجهر والبحث عنه مخفي الآن وأما الحجة الثانية عشرة: ففيها كما تقدم أن الوجوب لا يستلزم الجزئية على أن قوله: إن سائر الأنبياء يبتدئون عند الشروع بأعمال الخير بذكر الله فوجب أن يجب على رسولنا ذلك الخ واستدل على الوجوب عليه إذ وجب عليهم عليهم السلام بقوله تعالى: * (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) * (الأنعام: 90) لا أدري ما أقول فيه سوى أنه جهل بالتفسير وعدم اطلاع على أخبار البشير النذير وأما الحجة الثالثة عشر: فلا تجديه نفعا في مقابلتنا أيضا وفيها ما في أخواتها وأما الحجج الباقية:
فككثير من الماضية لا تنفع في البحث معنا إلا بتسويد القرطاس وتضييع نفائس الأنفاس على أن بعض ما ذكره معارض بما أخرج مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى: حمدني عبدي وإذا قال: الرحمن الرحيم قال: أثنى علي عبدي وإذا قال: مالك يوم الدين قال الله تعالى: مجدني عبدي وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين قال الله تعالى: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال: إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " وهذا يدل على أن البسملة ليست من الفاتحة وأنها سبع بدونها حيث جعل الوسطى إياك نعبد وإياك نستعين والثلاث قبلها لله تعالى والثلاث بعدها للعبد وليس فيه نفي أنها من القرآن، ولا شك أن هذه الرواية أصح من رواية الثعلبي ولا أقدم ثعلبيا على مسلم، وكذا من رواية السجستاني ومتى خالف الراوي الثقة من هو أوثق منه بزيادة أو نقص فحديثه شاذ وليس هذا من باب النفي والإثبات كما ظنه من ليس له في هذا الفن رسوخ ولا ثبات وحمل النصف فيه على النصف في المعنى أو الصنف من عدم الإنصاف إذ ذاك مجاز ولا حاجة إليه ولا قرينة عليه وجعله حقيقة لكن باعتبار الدعاء والثناء يكذبه العد والقول بأن مدار الرواية العلاء وقد ضعفه ابن معين فهو على جلالة الرجل لا يسمن ولا يغني من جوع لأن الموثق كثير وتقديم الجرح على التعديل ليس بالمطلق بل إن لم يكثر المعدلون جدا وقد كثروا هنا وكون التقسيم لما يخص الفاتحة والبسملة مشتركة مع كونه خلاف الظاهر لا تقتضيه الحكمة إذ هي عند الخصم أشرف الأجزاء وكون المراد بعض قراءة الصلاة إذ الظاهر لا يمكن أن يراد لوجود الأعمال وضم السورة ويتحقق البعض بهذا البعض ليس بشيء إذ اللائق أن يكون البعض مستقلا بمبدأ ومقطع والثاني موجود والأول على قولنا وأيضا الفاتحة سورة كالكوثر والملك وقد نص صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة عنه بأن الأولى ثلاث آيات
44

والثانية ثلاثون ووقفهم عليها ولم يعد البسملة ولو عدها مستقلة لزاد العدد أو جزءا لورد، وعلى المثبت البيان وأنى هو، على أنه يرد على الثاني استلزامه للتحكم بدعوى الاستقلال في الفاتحة والبعضية في غيرها وقول الرازي هذا غير بعيد فالحمد لله رب العالمين آية تارة وجزء آية أخرى كما في: * (وآخر دعواهم) * (يونس: 10) الآية بعيد بل قياس باطل لوجود المقتضي للجزئية هناك وانتفائه هنا وأيضا نزل الكثير من السور بلا بسملة ثم ضمت بعد، وحديث الصحيح في بدء الوحي يبدي صحة ما قلنا وهذا يبعد كونها آية من السورة أو جزء آية وكونها لم تنزل بعد يبعد الثاني إن لم يبعد الأول وحديث إنها أول ما نزلت ليس بالقوي بل الثابت ويشكل عليه ما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يكتب باسمك اللهم الخ على أن الأولية إن سلمت وسلمت لا تضرنا، وبالجملة يكاد أن يكون اعتقاد عدم كون البسملة جزءا من سورة من الفطريات كما لا يخفى على من سلم له وجدانه فهي آية من القرآن مستقلة ولا ينبغي لمن وقف على الأحاديث أن يتوقف في قرآنيتها أو ينكر وجوب قراءتها ويقول بسنيتها فوالله لو ملئت لي الأرض ذهبا لا أذهب إلى هذا القول وإن أمكنني - والفضل لله تعالى - توجيهه كيف وكتب الأحاديث ملأى بما يدل على خلافه وهو الذي صح عندي عن الإمام والقول بأنه لم ينص بشيء ليس بشيء وكيف لا ينص إلى آخر عمره في مثل هذا الأمر الخطير الدائر عليه أمر الصلاة من صحتها أو استكمالها ويمكن أن يناط به بعض الأحكام الشرعية وأمور الديانات كالطلاق والحلف والتعليق وهو الإمام الأعظم والمجتهد الأقدم رضي الله تعالى عنه والإخفاء بها في الجهرية لا يدل على السنية فإن القوم بوجوبها لا ينافي إخفاءها اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فعن ابن عباس لم يجهر النبي صلى الله عليه وسلم بالبسملة حتى مات، وروى مسلم عن أنس: " صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع منهم أحدا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ولم يرد نفي القراءات بل سماعها للإخفاء بدليل ما صرح به عنه فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم " رواه أحمد والنسائي بإسناد على شرط الشيخين، وروى الطبراني بإسناد عنه: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسر ببسم الله الرحمن الرحيم وأبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضي الله تعالى عنهم " وروي عن عبد الله بن المغفل ولا نسلم ضعفه أنه قال: سمعني أبي وأنا أقول بسم الله الرحمن الرحيم فقال: أي بني إياك والحدث في الإسلام فقد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فابتدءوا القراءة بالحمد لله رب العالمين فإذا صليت فقل الحمد لله رب العالمين أي اجهر بها واخف البسملة وهو مذهب الثوري وابن المبارك وابن مسعود وابن الزبير وعمار بن ياسر والحسن بن أبي الحسين والشعبي والنخعي وقتادة وعمر بن عبد العزيز والأعمش والزهري ومجاهد وأحمد وغيرهم خلق كثير وأحاديث الجهر لم يصح منها سوى حديث ابن عباس الذي أخرجه الشافعي عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
45

يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وهو معارض بما تقدم عنه أو محمول على أنه كان يجهر بها أحيانا لبيان أنه تقرأ فيها كما جهر عمر رضي الله تعالى عنه بالثناء للتعليم وكما شرع الجهر بالتكبير للإعلام وحتى مات هناك قيد للمنفي لا للنفي فلا يتنافيان على أنه روي عن بعض الحفاظ ليس حديث صريح في الجهر إلا وفي إسناده مقال. وعن الدارقطني أنه صنف كتابا في الجهر فأقسم عليه بعض المالكية ليعرفه الصحيح فقال: لم يصح في الجهر حديث والقول بأن الرواية عن أنس ست متعارضة فتارة يروى عنه الجهر وأخرى الإخفاء للخوف من بني أمية المخالفين لعلي كرم الله وجهه إذ مذهبه الجهر لا يضرنا إذ يقدم عند التعارض الأقوى إسنادا وهو هنا ما يوافقنا إذ هو على شرط الشيخين، وتهمة الراوي المخالف بالكذب على أنس أهون عندي من تهمة أنس صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقدمي أصحابه.
ومن عجائب الرازي: كيف يبدي احتمال التهمة ويروي اعتراض أهل المدينة على سيد ملوك بني أمية بذلك اللفظ الشنيع والمحل الرفيع فهلا خافوا وسكتوا وصافوا، والأعجب من هذا أنه ذكر ست حجج لإثبات الجهر هي أخفى من العدم الأولى: أن البسملة من السورة فحكمها حكمها سرا وجهرا وكون البعض سريا والبعض جهريا مفقود ويرده ما علمته في الردود وبفرض تسليم أنها من السورة أي مانع من إسرار البعض والجهر بالبعض وقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم * (فاتبعوه) * ولعل السر فيه كالسر في الجهر والإخفاء في ركعات صلاة واحدة، أو يقال: إن حال المنزل عليه القرآن كان خلوة أولا وجلوة ثانيا فناسب حاله حاله بل إذا تأملت قوله
تعالى في الحديث القدسي الثابت عند أهل الله: " كنت كنزا مخفيا " الخ ظهر لك سر أعظم فرضي الله تعالى عن المجتهد الأقدم الثانية: أنها ثناء وتعظيم فوجب الإعلان بها لقوله تعالى: * (فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا) * (البقرة: 200) ويرده أن غالب مشتملات الصلاة كذلك أفيجهر بها؟.
الثالثة: أن الجهر بذكر الله يدل على الافتخار به وعدم المبالاة بمنكره وهو مستحسن عقلا فيكون كذلك شرعا ولا يخفى إلا ما فيه عيب ثم قال وهذه الحجة قوية في نفسي راسخة في عقلي لا تزول ألبتة بسبب كلمات المخالفين ويرده ما رد سابقه وقد يخفى الشريف:
ليس الخمول بعار * على امرىء ذي جلال
قليلة القدر تخفى * وتلك خير الليالي
ويا ليت شعري أكان تسبيحه الله تعالى في ركوعه وسجوده معيبا فيخفيه أو جيدا فيجهر به ويبديه ولا أظن بالرجل إلا خيرا فإن الحجة قوية في نفسه راسخة في عقله الرابعة: ما أخرجه الشافعي عن أنس: " أن معاوية صلى بأهل المدينة ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فاعترض عليه المهاجرون والأنصار فأعاد الحديث بمعناه ويرده معارضوه أو يقال لم يقرأ على ظاهره وعلموا ذلك ببعض القرائن وما راء كمن سمعا " الخامسة: ما روى البيهقي عن أبي هريرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم وهو المروي عن عمر وابنه وابن عباس وابن الزبير، وأما علي فقد تواتر عنه ومن اقتدى في دينه بعلى فقد اهتدى ويرده المعارض وبتقدير نفيه يقال: إن الجهر كان أحيانا لغرض وفي الأخبار التي ذكرناها ما يعارض أيضا نسبته إلى عمر وعلي وابن عباس وما زعم من تواتر نسبته إلى علي ممنوع عند أهل السنة، نعم ادعته الشيعة فذهبوا إلى الجهر في السرية والجهرية ولو عمل أحد بجميع ما يزعمون
46

تواتره عن الأمير كفر فليس إلا الإيمان ببعض والكفر ببعض وما ذكره من أن من اقتدى في دينه بعلي فقد اهتدى مسلم لكن إن سلم لنا خبر ما كان عليه علي رضي الله تعالى عنه ودونه مهامه فيح على أن الشائع عند أهل السنة تقديم ما عليه الشيخان وإذا اختلفا فما عليه الصديق حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم ترقى في التخصيص إليه فقال أولا: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " وثانيا: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي " وثالثا: " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " ورابعا: " إن لم تجديني فأتى أبا بكر " السادسة: أنها متعلقة بفعل مضمر نحو بإعانة بسم الله أشرعوا ولا شك أن استماع هذه الكلمة ينبه العقل على أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله وينبهه على أنه لا يتم شيء من الخيرات إلا إذا وقع الابتداء فيه بذكر الله تعالى وبإظهارها أمر بمعروف ويرده مع ركاكة هذا التقدير وعدم قائل به أن انفهام الأمر بالمعروف من هذه الجملة يحتاج إلى فكر لو صرف عشر معشاره في قوله تعالى: * (إياك نعبد وإياك نستعين) * لحصل ضعف أضعافه من دون غائلة كثيرة فيغني عنه ثم إنه رحمه الله تعالى ذكر كلاما لا ينفع إلا في تكثير السواد وإرهاب ضعفاء الطلبة بجيوش المداد.
البحث الثالث في معناها: فالباء إما للاستعانة أو المصاحبة أو الإلصاق أو الاستعلاء أو زائدة أو قسمية والأربعة الأخيرة ليست بشيء وإن استؤنس لبعض ببعض الآيات واختلف في الأرجح من الأولين فالذي يشعر به كلام البيضاوي أرجحية الأول وأيد بأن جعله للاستعانة يشعر بأن له زيادة مدخل في الفعل حتى كأنه لا يتأتى ولا يوجد بدون اسم الله تعالى ولا يخلو عن لطف وما يدل عليه كلام الزمخشري أرجحية الثاني وأيد بأن باء المصاحبة أكثر في الاستعمال من باء الاستعانة لا سيما في المعاني وما يجري مجراها من الأفعال وبأن التبرك باسم الله تعالى تأدب معه وتعظيم له بخلاف جعله للآلة فإنها مبتذلة غير مقصودة بذاتها وأن ابتداء المشركين بأسماء آلهتهم كان على وجه التبرك فينبغي أن يرد عليهم في ذلك، وأن الباء إذا حملت على المصاحبة كانت أدل على ملابسة جميع أجزاء الفعل لاسم الله تعالى منها إذا جعلت داخلة على الآلة ويناسبه ما روي في الحديث تسمية الله تعالى في قلب كل مسلم يسمي أو لم يسم وأن التبرك باسم الله تعالى معنى ظاهر يفهمه كل أحد ممن يبتدىء به والتأويل المذكور في كونه آلة لا يهتدي إليه إلا بنظر دقيق وإن كون اسم الله تعالى آلة للفعل ليس إلا باعتبار أنه يوصل إليه ببركته فقد رجع بالآخرة إلى معنى التبرك فلنقل به أولا وإن جعل اسمه تعالى آلة لقراءة الفاتحة لا يتأتى على مذهب من يقول: إن البسملة من السورة وأن قوله صلى الله عليه وسلم: " بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء " مما يستأنس به له وإن في الأول جعل الموجود حسا كالمعدوم وإن بسم الله موجود في القراءة فإذا جعلت الباء للاستعانة كان سبيله سبيل القلم فلا يكون مقروءا وهو مقروء وإن فيه الإيجاز والتوصل بتقليل اللفظ إلى تكثير المعنى لتقدير متبركا وهو لكونه حالا فيه بيان هيئة الفاعل وقد ثبت أن لا بد لكل فعل متقرب به إلى الله تعالى من إعانته جل شأنه فدل الحال على زائد وعندي: أن الاستعانة أولى بل يكاد أن تكون متعينة إذ فيها من الأدب والاستكانة وإظهار العبودية ما ليس في دعوى المصاحبة ولأن فيها تلميحا من أول وهلة إلى إسقاط الحول والقوة ونفي استقلال قدر العباد وتأثيرها وهو استفتاح لباب الرحمة وظفر بكنز لا حول ولا قوة إلا بالله ولأن هذا المعنى أمس بقوله تعالى * (وإياك نستعين) * ولأنه كالمتعين في قوله: * (اقرأ باسم ربك) * (العلق: 1) ليكون جوابا لقوله صلى الله عليه وسلم " لست بقارىء " على أتم وجه وأكمله وما ذكروه في تأييد المصاحبة كله مردود أما الأول: فلأن دون إثبات الأكثرية خرط القتاد وأما الثاني: فلأنه توهم نشأ من تمثيلهم في الآلة بالمحسوسات وليست كل استعانة بآلة ممتهنة ولا شك في صحة استعنت بالله وقد ورد في الشرع قال تعالى: * (استعينوا بالله واصبروا) * (الأعراف: 128) فهو إذن على أن جهة الابتذال مما لا تمر
47

ببال والقلب قد أحاط بجهاته جهة أخرى وأيضا في تخصيص الاستعانة بالآلة نظر لأنها قد تكون بها وبالقدرة ولو سلم فأي مانع من الإشارة بها هنا إلى أنه كما هو المقصود بالذات فهو المقصود بالعرض إذ لا حول ولا قوة إلا به.
وأما الثالث: فلأن المشركين إلى الاستعانة بآلهتهم أقرب إذ هم وسائطهم في التقرب إليه تعالى وهي أشبه بالآلة.
وأما الرابع: فلأن الآلة لا بد من وجودها في كل جزء إلى آخر الفعل وإلا لم يتم ولا نسلم اللزوم بين مصاحبة شيء لشيء وملابسته لجميع أجزائه وما ذكره من الحديث
فهو بالاستعانة أنسب لأنها مشعرة بتبري العبد من حوله وقوته وإثبات الحول والقوة لله تعالى وهذا من باب العقائد التي عقد عليها قلب كل مسلم يسمي أو لم يسم.
وأما الخامس: فلأنه إن أراد أن معنى المصاحبة التبرك فظاهر البطلان وقد رجع بخفي حنين وإن أراد أنه يفهم منها بالقرينة فندعيه نحن بها إذا قصد الآلية لتوقف الاعتداد الشرعي عليها وأما كون التبرك معنى ظاهرا لكل أحد فلا نسلم أنه من خصوص المصاحبة. وأما السادس: فلأن الانحصار فيه ممنوع. وأما السابع: فلأن ما يفتتح به الشيء لا مانع من كونه جزءا فالفاتحة مفتتح القرآن وجزؤه ولو سلم فجعلها مفتتحا بالنسبة إلى ما عداها قاله الشهاب ولا يضر الحنفي ما فيه. وأما الثامن: فلأن معنى الحديث أفعل كذا مستعينا باسم الله الذي لا يضرني مع ذكر اسمه مستعينا به شيء إذ من استعان بجنابه أعانه ومن لاذ ببابه حفظه وصانه، وإن استبعدت هذا ورددت ما قيل في الرد من أن المراد بالحديث الإخبار بأنه لا يضر مع ذكر اسمه شيء من مخلوق والمصاحبة تستدعي أمرا حاصلا عندها نحو جاءكم الرسول بالحق والقراءة لم تحصل بعد فتعذرت حقيقة المصاحبة بأن المصاحبة هنا ليست محسوسة وكونها إخبارا بنفي صحبة الضرر يفهم منه صحبة النفع والبركة وهي دفع الوسوسة عن القارىء مع جزيل الثواب فلا ضير أيضا لأنه مجرد استئناس ولا يوحشنا إذ ما نستأنس به كثير وأما التاسع: فلأن جعل الموجود كالمعدوم للجري لا على المقتضى من المحسنات والنكتة ههنا إن شبه اسم الله بناء على يقين المؤمن بما ورد من السنة والقطع بمقتضاها بالأمر المحسوس وهو حصول الكتب بالقلم وعدم حصوله بعدمه ثم أخرج مخرج الاستعارة التبعية لوقوعها في الحرف.
وأما العاشر: فلأنه لا يخفى حال التشبيه بالقلم وأما الحادي عشر: فلأنه لا نسلم أن التبرك معنى المصاحبة أو لازم معناه بل هو معلوم من أمر خارج هو أن مصاحبة اسمه سبحانه يوجد معها ذلك وهو جار في الاستعانة باسمه عز شأنه على أن في الاستعانة من اللطف ما لا يخفى ويمكن على بعد أن يكون عدم اختيار الزمخشري لها لنزغات الشيطان الاعتزالية من استقلال العبد بفعله فقد ذهب إليه هو وأصحابه وسيأتي إن شاء الله تعالى رده، وقد اختلف في متعلق الجار فذهب الإمام ابن جرير إلى تقديره أتلو لأن تاليه متلو وهكذا يضمر الخاص الفعلي كل فاعل فعلا يجعل التسمية مبدأ له وهو من المعاني القرآنية كنظائره للزومها في متعارف اللسان وبه يندفع كلام الصادقي وليس المقصود هنا متكلما مخصوصا فهو على حد ولو ترى فينوي كل بالضمير نفسه فلا يضر تقدمها على قراءة هذا القارىء بل على وجوده ويتأتى القول بجزئيتها من الكل أو الجزء بلا خفاء ولما خفي ذلك على البعض جعل المقدر فعل أمر متوجه إلى العباد ليتحد قائل الملفوظ والمقدر واختاره الفراء عن اختيار و [روي عن ابن عباس لأنه تعالى قدم
48

التسمية حثا للعباد على فعل ذلك وهو المناسب للتعليم وذهب النحويون إلى تقديره عاما نحو أبتدىء وأيد بوجوه:
منها: أن فعل الابتداء يصح تقديره في كل تسمية دون فعل القراءة وتقدير العام أولى ألا تراهم يقدرون متعلق الجار الواقع خبرا أو صفة أو حالا أو صلة بالكون والاستقرار حيثما وقع ويؤثرونه لعموم صحة تقديره.
ومنها: أنه مستقل بالغرض من التسمية وهو وقوعها مبتدأ فتقديره أوقع بالمحل، وأنت إذا قدرت اقرأ قدرت أبتدىء بالقراءة لأن الواقع في أثنائها قراءة أيضا والبسملة غير مشروعة فيه ومنها: ظهور فعل الابتداء في قوله صلى الله عليه وسلم: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أقطع "، وأما ظهور القراءة في قوله تعالى: * (اقرأ باسم ربك) * (العلق: 1) فلأن الأهم ثم هو القراءة غير منظور فيه إلى ابتدائها ولذا قدم الفعل ولا كذلك في التسمية.
وما ذهب إليه الإمام أمس وأخص بالمقصود وأتم شمولا فإنه يقتضي أن القراءة واقعة بكمالها مقرونة بالتسمية مستعانا باسم الله تعالى عليها كلها بخلاف تقدير أبتدىء إذ لا تعرض له لذلك، وما ذكر أولا من الاستشهاد بتقدير النحاة الكون والاستقرار فليس بجيد لأنهم فعلوه تمثيلا حيث لا يقصدون عاملا بعينه بل يريدون الكلام على العامل من حيث هو فهو كتمثيلهم بزيد وعمرو لا لخصوصيتهما بل ليقع الكلام على مثال فيكون أقرب إلى الفهم ولا يقال إذا أبهم الفاعل يقدر بهما على أن الابتداء هنا ليس أعم من القراءة لأن المراد به ابتداء القراءة وهو أخص من القراءة لصدقها على قراءة الأول والوسط والآخر، واختصاص ابتداء القراءة بالأول فليس هذا هو الكون والاستقرار الذي قدرهما النحاة فيما تقدم، ودعوى عموم أبتدىء باعتبار أنه منزل منزلة اللازم لكنه يعلم بقرينة المقام أن المبتدأ به هو القراءة أو باعتبار أصل العامل في الجميع لا يخفى فسادها فإنه إذا دل المقام على إرادته فما معنى تنزيله منزلة اللازم حينئذ وكونه باعتبار اللفظ والأصل لا يدفع السؤال في الحال فافهم وأما ما ذكر ثانيا: من أن فعل البداءة مستقل بالغرض فغير مسلم وقد قدمنا أن القراءة أمس وأشمل والوقوع في الابتداء بالبداية فعلا لا بإضمار الابتداء فمتى ابتدأ بالبسملة حصل له المقصود غير مفتقر إلى شيء كمن صلى فبدأ بتكبيرة الإحرام لا يحتاج في كونه بادئا إلى الإضمار لكنه مفتقر إلى بركتها وشمولها لجميع ما فعله، ومن هذا يظهر ما في باقي الكلام من الوهن وأما ما ذكر ثالثا: ففيه أن كون التسمية مبتدأ بها حاصل بالفعل لا بإضمار الفعل ولم يرد الحديث بأن كل أمر ذي بال لم يقل أو لم يضمر فيه أبدأ ببسم الله فهو كذا على أن المحافظة على موافقة لفظ الحديث إنما يليق أن يجعل نكتة في كلام المصنفين ومن ينخرط في سلكهم لا في كلام الله جل شأنه كما لا يخفى على من له طبع سليم، وأيضا البحث إنما هو في ترجيح تقدير الفعل العام كأبدأ أو أشرع وما شاكلهما لا في ترجيح خصوص اقرأ أعني فعلا مصدره القراءة على خصوص أبدأ أعني فعلا مصدره البداءة ففيما ذكر خروج عن قانون الأدب وموضع النزاع.
وذهب البعض إلى تقدير ابتدائي مثلا وفيه زيادة إضمار لوجوب إضمار الخبر حينئذ فيكون المضمر ثلاث كلمات ودلالة الإسمية على الثبوت معارضة بدلالة المضارع على الاستمرار التجددي المناسب للمقام إلا أنه تبقى المخالفة بين جملتي البسملة والحمد ولعل الأمر فيه سهل وجعل الشيخ الأكبر قدس سره هذا الجار خبر مبتدأ مضمر هو ابتداء العالم وظهوره لأن سبب وجوده الأسماء الإلهية وهي المسلطة عليه كجعله متعلقا بما بعده إذ لا يحمد الله تعالى إلا بأسمائه من باب الإشارة فلا ينظر فيه إلى الظاهر ولا يتقيد بالقواعد ولا أرى الاعتراض عليه من الإنصاف، وقد ذهب الكثير إلى أن تقدير المتعلق هنا مؤخرا أحرى لأن اسم الله تعالى مقدم على الفعل ذاتا فليقدم
على الفعل
49

ذكرا، وفيه إشارة إلى البرهان اللمي وهو أشرف من البرهان الأني، ولذا قال بعض العارفين ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله وتحنيك طفل الذهن بحلاوة هذا الاسم يعين على فطامه عن رضع ضرع السوي بدون وضع مرارة الحدوث، على أن بركة التبرك طافحة بالأهمية وإن قلنا بأن في التقديم قطع عرق الشركة ردا على من يدعيها ناسب مقام الرسالة وظهر سر تقديم الفعل في أول آية نزلت إذ المقام إذ ذاك مقام نبوة ولا رد ولا تبليغ فيها ولكل مقام مقال والبلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وقد اعتركت الأفهام هنا في توجيه القصر لظنه من ذكر الاختصاص حتى ادعاه بعضهم بأنواعه الثلاثة وأفرد البعض البعض، فمقتصر على قصر الإفراد، وقائل به وبالقلب، وفي القلب من كل شيء وعندي هنا يقدر مقدما، وبه قال الأكثرون وإن تقديره مؤخرا مؤخر عن ساحة التحقيق لأنه إما أن يقدر بعد الباء أو بعد اسم أو بعد اسم الله، أو بعد البعد، أما تقديره بعد الباء فلا يقوله من عرف الباء.
وأما بعد الاسم فلاستلزامه الفصل ولو تعقلا حيث أوجبوا الحذف هنا بين المتضايفين وأما بعد اسم الله فلاستلزامه الفصل كذلك بين الصفة والموصوف وأما بين الصفتين فيتسع الخرق، وأما بعد التمام فيظهر نقص دقيق لأن في الجملة تعليق الحكم بما يشعر بالعلية فكان الرحمن الرحيم علة للقراءة المقيدة باسم الله فإذا تأخر العامل المقيد المعلول وتقدمت علته أشعر بالانحصار ولا يظهر وجهه، وإذا قدرنا العامل مقدما كما هو الأصل أمنا من المحذور ويحصل اختصاص أيضا إذ كأنه قيل مثلا اقرأ مستعينا أو متبركا بسم الله الرحمن الرحيم لأنه الرحمن الرحيم، وانتفاء العلة يستلزم انتفاء المعلول في المقام الخطابي إذا لم تظهر علة أخرى فيفيد الاختصاص لا سيما عند القائل بمفهوم الصفة فيشعر بأن من لم يتصف بذلك خارج عن الدائرة والاقتصار هنا ليس كالاقتصار هناك والتخلص بتقدير التركيب مستعينا باسم الله لأنه الرحمن الرحيم اقرأ فيه ما لا يخفى على الطبع السليم، وفي تقديم الحادث تعقلا وحذفه ذكرا وعدم وجود شيء في الظاهر مستقلا سوى الاسم القديم رمز خفي إلى تقديم الأعيان الثابتة في العلم وإن لم يكن على وجود الله تعالى إذ له جل شأنه التقدم المطلق وعدم ظهور شيء سواه وكل شيء هالك إلا وجهه، وللإشارة إلى أنه لا ضرر في ذلك ارتكب، والتبرك كالوجوب يقتضي التقدم بالذكر مكسورا لا مضموما وها هو كما ترى ومن الأكابر من قال ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله تعالى فيه ولا حلول وقد عد أكمل من الأول والمراتب أربع وتحنيك الرحمة يغني عن كل در ويفطم طفل الذهن عن سدى جواري الفكر وكأن من قدر العامل مؤخرا رأى بسم الله مجراها، وباسمك ربي وضعت جنبي وأمثالهما فجرى مجراها والفرق ظاهر للناظر وهذا من نسائم الأسحار فيتقظ له ونم عن غيره.
والظرف مستقر عند بعض ولغو عند آخرين وقد اختلف في تفسيرهما، فقيل اللغو ما يكون عامله مذكورا، والمستقر ما يكون عامله محذوفا مطلقا وقيل المستقر ما يكون عامله عاما كالحصول والاستقرار وهو مقدر واللغو بخلافه، وقيل اللغو ما يكون عامله خارجا عن الظرف غير مفهوم منه سواء ذكر أو لا، والمستقر ما فهم منه معنى عامله المقدر الذي هو من الأفعال العامة وكل ذلك اصطلاح وحيث لا مشاحة فيه اختار الأول فيكون الظرف هنا مستقرا كيفما قدر العامل، وإنما كسرت الباء وحق الحروف المفردة أن تفتح لأنها مبنية والأصل في البناء لثقله وكونه مقابلا للإعراب الوجودي السكون لخفته وكونه عدميا إلا أنها من حيث كونها كلمات برأسها مظنة للابتداء وهو بالساكن متعذر أو متعسر كان حقها الفتح إذ هو أخو السكون في الخفة المطلوبة في كثير الدور على الألسنة لامتيازها من بين الحروف بلزوم الحرفية والجر وكل منهما يناسب الكسر، أما الحرفية فلأنها تقتضي عدم الحركة
50

والكسر لقلته إذ لا يوجد في الفعل ولا في غير المنصرف ولا في الحروف إلا نادرا يناسب العدم. وأما الجر فلموافقة حركة الباء أثرها ولا نقض بواو العطف اللازمة للحرفية ولا بكاف التشبيه اللازمة للجر لأن المجموع سبب الامتياز ولم يوجد في كل لكن يبقى النقض واو القسم وتائه ويجاب بأن عملها بالنيابة عن الباء التي هي الأصل في حروفه فكأن الجر ليس أثرا لهما وهذه علل نحوية مستخرجة بعد الوقوع لإبداء مناسبة فلا تتحمل مناقشة لضعفها كما قيل:
عهد الذي أهوى وميثاقه * أضعف من حجة نحوي
فلا نسهر جفن الفكر فيما لها وعليها، وقال بعضهم من باب الاشارة: كسرت الباء في البسملة تعليما للتوصل إلى الله تعالى والتعلق بأسمائه بكسر الجناب والخضوع وذل العبودية فلا يتوصل إلى نوع من أنواع المعرفة إلا بنوع من أنواع الذل والكسر كما أشار إلى ذلك سيدي عمر بن الفارض قدس الله تعالى سره الفائض بقوله:
ولو كنت لي من نقطة الباء خفضة * رفعت إلى ما لم تنله بحيلة
بحيث نرى أن لا ترى ما عددته * وأن الذي أعددته غير عدة
فإن الخفض يقابل الرفع فمن خفضه النظر إلى ذل العبودية، رفعه القدر إلى مشاهدة عز الربوبية، ولا ينال هذا الرفع بحيلة؛ بل هو بمحض الموهبة الإلهية الجليلة، ومن تنزل ليرتفع فتنزله معلول، وسعيه غير مقبول انتهى.
وهو أمر مخصوص بباء البسملة لا يمكن أن يجرى في باء الجر مطلقا كما لا يخف، وعندي في سر ذلك أن الباء هي المرتبة الثانية بالنسبة إلى الألف البسيطة المجردة المتقدمة على سائر المراتب فهي إشارة إلى الوجود الحق، والباء إما إشارة إلى صفاته التي أظهرتها نقطة الكون ولذلك لما قيل للعارف الشبلي أنت الشبلي؟ فقال أنا النقطة تحت الباء، وقال سيدي الشيخ الأكبر قدس سره:
الباء للعارف الشبلي معتبر * وفي نقيطتها للقلب مدكر
سر العبودية العلياء مازجها * لذاك ناب مناب الحق فاعتبروا
أليس يحذف من بسم حقيقته * لأنه بدل منه فذا وزر
والصفات إما جمالية أو جلالية، وللأولى السبق كما يشير إليه حديث " سبقت رحمتي غضبي " وباء الجر إشارة إليها لأنها الواسطة في الإضافة والإفاضة فناسبها الكسر وخفض الجناح ليتم الأمر ويظهر السر، وفي الابتداء بهاهنا تعجيل للبشارة ورمز إلى أن المدار هو الرحمة كما قال صلى الله عليه وسلم: " لن يدخل أحدكم الجنة عمله قيل حتى أنت يا رسول الله قال حتى أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته " وقد تدرج سبحانه وتعالى بإظهارها فرمز بالباء وأشار بالله وصرح أتم تصريح بالرحمن الرحيم، وأما إشارة إلى الحقيقة المحمدية والتعين الأول المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم: " أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر " وبواسطته حصلت الإفاضة كما يشير إليه " لولاك ما خلقت الأفلاك " ولكون الغالب عليه الصلاة والسلام صفة الرحمة لا سيما على مؤمني الأمة كما يشير إليه قوله تعالى: * (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) * (الأنبياء: 107) وقوله تعالى: * (بالمؤمنين رؤوف رحيم) * (التوبة: 128) ناسب ظهور الكسر فيما يشير إلى مرتبته وفي الابتداء به هنا رمز إلى صفة من أنزل عليه الكتاب والداعي إلى الله. وفي ذلك مع بيان صفة المدعو إليه بأنه الرحمن الرحيم تشويق تام وترغيب عظيم وقد تدرج أيضا جل شأنه في وصفه صلى الله عليه وسلم بذلك في القرآن إلى أن قال سبحانه: * (وإنك لعلى خلق عظيم) * (القلم: 4) واكتفى بالرمز لعدم ظهور الآثار بعد، وأول الغيث قطر ثم ينهمل، وما من سورة إلا افتتحها
51

الرب بالرمز إلى حاله صلى الله عليه وسلم تعظيما له وبشارة لمن ألقى السمع وهو شهيد. ولما كان الجلال في سورة براءة ظاهرا ترك الإشارة بالبسملة وأتى بباء مفتوحة لتغير الحال وإرخاء الستر على عرائس الجمال ولم يترك سبحانه وتعالى الرمز بالكلية إلى الحقيقة المحمدية ولا يسعنا الإفصاح بأكثر من هذا في هذا الباب خوفا من قال أرباب الحجاب وخلفه سر جليل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. والاسم عند البصريين من الأسماء العشرة التي بنيت أوائلها على السكون وهي ابن وابنة وابنم واسم واست واثنان واثنتان وامرؤ وامرأة وأيمن الله وأيم الله منه وإلا فأحد عشر إن اعتد بابنم فإذا نطقوا بها زادوا همزة لبشاعة الابتداء بالساكن غير المدات عندهم وفيها يمتنع والأمر ذوقي وهو مما حذف عجزه كيد وما عدا الثلاثة الأخيرة مما تقدم.
وأصله سمو حذفت الواو تخفيفا لكثرة الاستعمال ولتعاقب الحركات وسكن السين وحرك الميم واجتلبت ألف الوصل فوزنه أفع وتصريفه إلى أسماء وسمي وسميت دون أوسام ووسيم ووسمت يشهد له والجرح بالقلب لا يقبل، واشتقاقه من السمو كالعلو لأنه لدلالته على مسماه يعليه من حضيض الخفاء إلى ذروة الظهور والجلاء.
وقال الكوفيون هو من السمة لأنه علامة على مسماه وأصله وسم فحذفت الواو وعوضت عنها همزة الوصل وكفى الله المؤمنين القتال، فوزنه أعلى ويرد عليهم أن الهمزة لم تعهد داخلة على ما حذف صدره وزيادة الإعلال أقيس من عدم النظير وأيضا كونها عوضا يقتضي كونها مقصودة لذاتها ووصلا كونها مقصودة تبعا والعوض كجزء أصل دون الوصل فما هو إلا جمع بين الضب والنون فلذا قيل لا حذف ولا تعويض وإنما قلبت الواو همزة كاعاء وإشاح ثم كثر استعماله فجعلت همزته همزة وصل وقد تقطع للضرورة ورجح الأول لهاتيك الشهادة وفيه لغات أوصلها البعض إلى ثماني عشرة ونظمها فقال:
للاسم عشر لغات مع ثمانية * بنقل جدي شيخ الناس أكملها
سم سمات سما واسم وزد سمة * كذا سماء بتثليث لأولها
هذا وقد طال التشاجر في أن الاسم هل هو عين المسمى أو غيره؟ فالأشاعرة على الأول، والمعتزلة على الثاني وقد تحير نحارير الفضلاء في تحرير محل البحث على وجه يكون حريا بهذا التشاجر حتى قال مولانا الفخر في " التفسير الكبير ": ان هذا البحث يجري مجرى العبث وذكر وجها ادعى لطفه ودقته وقد كفانا الشهاب مؤنة رده وقد أراد السيد النحرير في " شرح المواقف " فلم يتم له، وللسهيلي في ذلك كلام ادعى أنه الحق
52

وصنف في رده ابن السيد رسالة مستقلة وادعى الشهاب أنه إلى الآن لم يتحرر وأنه لم ير مع سعة اطلاعه في هذه المسألة ما فيه ثلج الصدور ولا شفاء الغليل ولم يأت رحمه الله تعالى في حواشيه على البيضاوي من قبل نفسه بشيء يزيح الإشكال ويريح البال وهنا أنا من فضل الله تعالى ذاكر شيئا إذا قبل فهو غاية ما أتمناه وقد يوجد في الاسقاط ما لا يوجد في الاسقاط وإن رد فقد رد قبلي كلام ألوف كل منهم فرد يقابل بصفوف وابن اللبون إذا ما لز في قرن * لم يستطع صولة البزل القناعيس
فأقول: الاسم يطلق على نفس الذات والحقيقة والوجود والعين وهي عندهم أسماء مترادفة كما نقله الإمام أبو بكر بن فورك في كتابه الكبير في " الأسماء والصفات " والأستاذ أبو القاسم السهيلي في " شرح الارشاد " وهما ممن يعض عليه بالنواجذ، ومنه قوله تعالى: * (سبح اسم ربك) * (الأعلى: 1) إذ التسبيح في المعروف إنما يتوجه إلى الذات الأقدس وحمله على تنزيه اللفظ كحمله على المجاز والكناية مما لا يليق إذ بعد الثبوت لا يحتاج إليه ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ويؤيده قوله تعالى: * (ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها) * (يوسف: 40) حيث أطلق الأسماء وأراد الذوات لأن الكفار إنما عبدوا حقيقة ذوات الأصنام دون ألفاظها وإن استقام على بعد، وقال سيبوية وهو إمام الصناعة وشيخ الجماعة: والفعل أمثلة أحداثت من لفظ أحدث الأسماء ومن العلوم أن الألفاظ لا إحداث لها فليس المراد إلا الذوات وهو بهذا المعنى عين المسمى ولا ينافيه أخذ الاسم من السمو لأن سمو المعلوم في الحقيقة إنما هو بوجوده إن كان موجودا حيث ارتفع عن نقص العدم وبمعقوليته عن الالتباس بمعلوم آخر إن لم يكن ولو كنا نرى الموجودات كلها ونعلم المعلومات بأسرها لم نحتج إلى مسمياتها لكن لما صحت غيبتها عنا لمانع في أبصارنا وبصائرنا احتجنا إلى ما يدلنا عليها في التخاطب والاخبار عنها فمن الله تعالى بهذه الأوضاع لطفا بنا وحكمة حكيم عليم فلما سمت المعلومات بمعقوليتها عن الالتباس وبوجود ما كان موجودا منها عن العدم قيل لها أسماء، ولما دلت الألفاظ عليها قيل لها ذلك أيضا تسمية للشيء باسم ما هو دليل عليه ويطلق الاسم أيضا على الدال وهو قسمان، قديم وهو ما سمى الله تعالى به نفسه في كلامه القديم والقول فيه كالقول في كلامه الذي هو صفة له من أنه لا عين ولا غير، وحادث وهو ما سمى به تعالى شأنه في غير ذلك وهو غير، فالمعتزلة لا يثبتون إلا القسم الثاني من هذا الإطلاق لعدم ثبوت الأول عندهم ولنفيهم الكلام القديم، وأهل السنة لما رأوا أن نزاعهم لهم في القسم الأول
من الاطلاق الثاني يعود إلى النزاع من منشئه تركوه واكتفوا بالنزاع في المنشأ عنه حتى برهنوا فيه على مدعاهم ونوروا بالبينات القطيعة دعواهم وقد تقدم ذلك لك في المقدمات ونازعوهم في الاطلاق الأول وأثبتوه بظواهر الآيات ونقل الثقات وقالوا ضد قولهم أن الاسم عين المسمى فكأنه ترقى صورة من نفي الغيرية وإثبات لا ولا إلى القول بالعينية التي أنكروها ولعدم فهم المراد من ذلك اعترض بأنه لو كان الاسم هو المسمى لتكثر المسمى عند تكثر الأسماء وأيضا الأسماء تتبدل والمسمى لا يتبدل والاسم يطرأ بعد وجود المسمى والشيء لا يتقدم على نفسه ولا يتأخر فليس هو هو والكل غير وارد إلا على تقدير القول بالعينية بناء على القسم الثاني من الاطلاق الثاني وليس فليس، فاتضح من هذا أن قول المعتزلة بالغيرية ناشىء عن ضلالة في الاعتقاد، ومن يضلل الله فما له من هاد، والاسم في البسملة عند بعض بالمعنى الأول لأن الاستعانة بالألفاظ مجردها مما لا معنى لها وليس في التسعة والتسعين ما لفظه اسم فلا يحسن إلا أن يراد به الذات وأمر الإضافة هين وفيه انه فرق بين الاستعانة المتعدية بنفسها والاستعانة المتعدية بالباء المتعلقة بغير
53

ذوي العلم نحو * (استعينوا بالصبر والصلاة) * (البقرة: 45). وقال غير واحد سلمنا أن الاستعانة لا تكون إلا بالذات إلا أن التبرك لا يكون بها وقد قالوا به ولهذا أو للفرق بين اليمين والتيمن أو لئلا يختص التبرك باسم دون اسم أو ليكون أشد وفاقا لحديث الابتداء على ما قيل قال بسم الله ولم يقل بالله ولم تكتب همزة الوصل مع أن الأصل في كل كلمة أن ترسم باعتبار ما يتلفظ بها في الوقف وفي الابتداء بل حذفت تبعا لحذفها في التلفظ للكثرة وقيل لأنها دخلت للابتداء بالسين الساكنة فلما نابت الباء عنها سقطت في الخط بخلاف * (اقرأ باسم ربك) * (العلق: 1) إذ الباء لا تنوب منهابها فيه إذ يمكن حذفها مع بقاء المعنى فيقال - اقرأ اسم ربك - وظاهره أن الذي منع من الاسقاط في الآية إمكان حذف الباء فقط وهو مخالف لما ذكره الدماميني من أنه لا بد للحذف من أمرين عدم ذكر المتعلق وإضافة لفظ اسم للجلالة وكلاهما منتف في الآية وهل يشترط تمام البسملة فيه؟ فيه تردد وظاهر كلام " التسهيل " اشتراطه. وقيل لا حذف فيه والباء داخلة على اسم أحد اللغات السابقة ثم سكنت السين هربا من توالي كسرتين أو انتقاله من كسرة لضمة وهو مع غرابته بعيد، وعندي أن هذا رسم عثماني وهو مما لا يكاد يعرف السر فيه أرباب الرسوم والكثير من عللهم غير مطردة وبذلك اعتذر البعض عن عدم حذف ألف الله مع كثرة استعماله واستغنى به عن الجواب بشدة الامتزاج وبأنها عوض وبأنه يلزم الاجحاف لو حذفت أو الالتباس بقولنا لله مجرورا فالرأي إبداء سر ذوقي لذلك وقد حرره الشيخ الأكبر قدس سره في " الفتوحات " بما لا مزيد عليه ولست ممن يفهمه والقريب من الفهم أن الهمزة إنما حذفت في الخط ليكون اتصال السين بالباء المشير إلى ما تقدم أتم وتلقي الفيض أقوى * (ومن يطع الرسول فقد أطاع الله) * (النساء: 80) * (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة) * (فاطر: 45) وفيه إشارة من أول الأمر إلى عموم الرحمة وشمول البعثة لأن السين لما كان ساكنا وتوصل إلى النطق به بالألف أشبه حال المعدوم الذي ظهر بالله وحيث كان ذلك عاما إذ ما من معدوم يطلب الظهور إلا يكون ظهوره بالله سبحانه وتعالى أعطى ذلك الحكم لما قام مقامه واتصل اتصاله وأدى في اللفظ مؤداه فإن كان عبارة عن صفات الجمال ظهر عموم الرحمة * (ورحمتي وسعت كل شيء) * (الأعراف: 156) وإن كان عبارة عن الحقيقة المحمدية ظهر شمول البعثة * (ليكون للعالمين نذيرا) * (الفرقان: 1) بل والرحمة أيضا * (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) * (الأنبياء: 107) وتناسبت أجزاء البسملة إشارة وعبارة وإنما طولت الباء للإشارة إلى أن الظهور تام أو إلى أنها وإن انخفضت لكنها إذا اتصلت هذا الاتصال ارتفعت واستعلت، وفيه رمز إلى " أن من تواضع لله رفعه الله وأنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلى ". وقال الرسميون طولت لتدل على الألف المحذوفة ولتكون عوضا عنها وليكون افتتاح كتاب الله تعالى بحرف مفخم ولذا قال صلى الله عليه وسلم لمعاوية فيما روى " ألق الدواة وحرف القلم وانصب الباء وفرق السين ولا تعور الميم وحسن الله ومد الرحمن وجود الرحيم وضع قلمك على أذنك اليسرى فإنه أذكر لك " ولعل منه أخذ عمر بن عبد العزيز قوله لكاتبه طول الباء وأظهر السينات ودور الميم، ولبعضهم في التعليل ما ادعى أنه ليس من عمل الأفهام بل مبذولات الإلهام وهو في التحقيق من مبتذلات الأوهام وليس له في التحقيق أدنى إلمام على أن في تعليلهم السابق خفاء بالنظر إلى مشربهم أيضا فافهم ذلك كله و (الله) أصله الاعلالي إله كما في " الصحاح " أو الإله كما في " الكشاف " ولكل وجهة - فحذفت الهمزة اعتباطا على الأظهر وعوض عنها
54

الألف واللام ولذلك قيل يا الله بالقطع في الأكثر لتمحض الحرف للعوضية فيه احترازا عن اجتماع أداتي تعريف وأما في غيره فيجري الحرف على أصله، وذكر الرضى أن القطع لاجتماع شيئين لزوم الهمزة الكلمة إلا نادرا كما في لاهه الكبار وكونها بدل همزة إله، وقال السعد: قد يقال فيه أنه نوى الوقف على حرف النداء تفخيما للاسم الشريف واختلفوا في الفرق بين الاله والله فقال السيد السند: هما علم لذاته إلا أنه قبل الحذف قد يطلق على غيره تعالى وبعده لا يطلق على غيره سبحانه أصلا، وقال العلامة السعد: إن الإله اسم لمفهوم كلي هو المعبود بحق والله علم لذاته تعالى، وقال الرضى: هما قبل الادغام وبعده مختصان بذاته تعالى لا يطلقان على غيره أصلا إلا أنه قبل الإدغام من الأعلام الغالبة وبعده من الأعلام الخاصة، وادعى ابن مالك أن الله من الأعلام التي قارن وضعها أل وليس أصله الاله ثم قال ولو لم يرد على من قال ذلك إلا أنه ادعى ما لا دليل عليه لكان ذلك كافيا لأن الله والإله مختلفان لفظا ومعنى، أما لفظا فلأن أحدهما معتل العين، والثاني مهموز الفاء صحيح العين واللام فهما من مادتين، فردهما إلى أصل واحد تحكم من سوء التصريف وأما معنى: فلأن الله خاص به تعالى جاهلية وإسلاما والإله ليس كذلك لأنه اسم لكل معبود ومن قال أصله الإله لا يخلو حاله من أمرين لأنه إما أن يقول إن الهمزة حذفت ابتداء ثم أدغمت اللام أو يقول إنها نقلت حركتها إلى اللام قبلها وحذفت على القياس وهو باطل، أما الأول فلأنه ادعى حذف الفاء بلا سبب ولا مشابهة ذي سبب من ثلاثي فلا يقاس بيد لأن الآخر وكذا ما يتصل به محل التغيير ولا بعدة مصدر يعد لحمله على الفعل فحذف للتشاكل ولا برقة بمعنى ورق لشبهه بعدة وزنا وإعلالا ولولا أنه بمعناه لتعين إلحاقه بالثنائي المحذوف اللام كلثة، وأما ناس وأناس فمن نوس وأنس على أن الحمل عليه على تقدير تسليم الأخذ زيادة في الشذوذ وكثرة مخالفة الأصل بلا سبب يلجىء لذلك وأما الثاني: فلأنه يستلزم مخالفة الأصل من وجوه، أحدها نقل حركة بين كلمتين على سبيل اللزوم، ولا نظير له، والثاني نقل حركة همزة إلى مثل ما بعدها وهو يوجب اجتماع مثلين متحركين وهو أثقل من تحقيق الهمزة بعد ساكن،
الثالث من مخالفة الأصل تسكين المنقول إليه الحركة فيوجب كونه عملا كلا عمل وهو بمنزلة من نقل في بئس ولا يخفى ما فيه من القبح مع كونه في كلمة فما هو في كلمتين أمكن في الاستقباح وأحق بالاطراح؛ الرابع إدغام المنقول إليه فيما بعد الهمزة وهو بمعزل عن القياس لأن الهمزة المنقولة الحركة في تقدير الثبوت فادغام ما قبلها فيما بعدها كإدغام أحد المنفصلين، وقد اعتبر أبو عمرو في في الادغام الكبير الفصل بواجب الحذف نحو * (يبتغ غير) * (آل عمران: 85) فلم يدغم فاعتبار غير واجب الحذف أولى. ومن زعم أن أصله إله يقول: إن الألف واللام عوض من الهمزة ولو كان كذلك لم يحذفا في لاه أبوك أي لله أبوك إذ لا يحذف عوض ومعوض في حالة واحدة وقالوا لهى أبوك أيضا فحذفوا لام الجر والألف واللام وقدموا الهاء وسكنوها فصارت الألف ياء وعلم بذلك أن الألف كانت منقلبة لتحركها وانفتاح ما قبلها فلما وليت ساكنا عادت إلى أصلها وفتحتها فتحة بناء، وسبب البناء تضمن معنى التعريف عند أبي علي ومعنى حرف التعجب إذ لم يقع في غيره وإن لم يوضع له حرف
55

عندي وهو مع بنائه في موضع جر باللام المحذوفة واللام ومجرورها في موضع رفع خبر أبوك اه‍ ملخصا، قال ناظر الجيش: إنه لا مزيد عليه في الحسن، وأنا أقول لا بأس به لولا قوله إن الإله اسم لكل معبود فقد بالغ البلقيني في رده وادعى أنه لا يقع إلا على المعبود بالحق جل شأنه ومن أطلقه على غيره حكم الله بكفره وأرسل الرسل لدعائه وكان نظير إطلاق النصارى الله على عيسى على أن فيه ما يمكن الجواب عنه كما لا يخفى واشتقاقه من أله كعبد إلاهة كعبادة وألوهة كعبودة وألوهية كعبودية فإله صفة مشبهة بمعنى مألوه ككتاب بمعنى مكتوب وكونه مصدرا كما ذهب إليه المرزوقي وصاحب " المدارك " خلاف المشهور أو من أله كفرح إذا تحير لتحير العقول في كنه ذاته وصفاته وفيه أن الأصل في الاشتقاق أن يكون لمعنى قائم بالمشتق والحيرة قائمة بالخلق لا بالحق أو من ألهت إلى فلان إذا سكنت إليه * (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) * (الرعد: 28) أو من أله إذا فزع والله مفزوع إليه وهو يجير ولا يجار عليه أو من أله الفصيل إذا ولع بأمه والعباد مولعون بالتضرع إليه في الشدائد، وقيل هو من وله الواوي بمعنى تحير أيضا وأصله ولاه فقلبت الواو همزة لاستثقال الكسرة عليها فهو كإعاء وإشاح في وعاء ووشاح ويرده الجمع على آلهة دون أولهة وقلب الواو ألفا إذا لم تتحرك مخالف للقياس وتوهم أصالة الهمزة لعدم ولاه خلاف الظاهر ولعلك لا تعبأ بذلك هنا فالشأن عجيب، وزعم بعضهم أن أصله لاه مصدر لاه يليه أولاه يلوه ليها ولاها إذا ارتفع واحتجب وهو المحتجب بسرادقات الجلال والمرتفع عن إدراك الخيال وقد قرىء شاذا (وهو الذي في السماء لاه) وقول ميمون بن قيس الأعشى:
كحلفه من أبي رباح * يشهدها لاهه الكبار
ووجه قطع الهمزة في حال النداء حينئذ بعض ما تقدم من الوجوه، وقيل أصله الكناية لأنها للغائب وهو سبحانه الغائب عن أن تدركه الأبصار أو تحيط به الأفكار، وأيضا الهاء يخرج مع الأنفاس فهو المذكور وإن لم تشعر الحواس ومتى انقطع خروجه انقطعت الحياة وحل بالحي الممات فبه وباسمه قوام الأرواح والأبدان واستقامة كل متنفس من الحيوان فزيد عليها لام الملك ثم مد بها الصوت تعظيما ثم ألزم اللام واستأنس لهذا أن الاسم الكريم إذا حذفت منه الهمزة بقي لله * (ولله جنود السموات والأرض) * (الفتح: 4) وإذا تركت اللام بقي على صورة له له ما في السموات الأرض) * (النحل: 52) وإن تركت اللام الباقية بقي الهاء المضمومة من هو * (لا إله إلا هو) * (البقرة: 163) والواو زائدة بدليل سقوطها في هما وهم فالأصل هو إذ لا يبقى سواه وأنت إذا أمعنت النظر يظهر لك مناسبات أخر ولهذا مال كثير من الصوفية إلى هذا القول وهو إلى المشرب قريب، وزعم البلخي أنه ليس بعربي بل هو عبراني أو سرياني معرب لاها ومعناه ذو القدرة ولا دليل عليه فلا يصار إليه واستعمال اليهود والنصارى لا يقوم دليلا إذ احتمال توافق اللغات قائم مع أن قولهم تأله وأله يأباه على أن التصرف فيه كما قيل بحذف
56

المدة وإدخال أل عليه وجعله بهذه الصفة دليل على أنه لم يكن علما في غير العربية إذ اشترطوا في منع الصرف للعجمة كون الأعجمي علما في اللغة الأعجمية والتصرف مضعف لها. فهذا الزعم ساقط عن درجة الاعتبار لا يساعده عقل ولا نقل والذي عليه أكابر المعتبرين كالشافعي ومحمد بن الحسن والأشعري وغالب أصحابه والخطابي وإمام الحرمين والغزالي والفخر الرازي وأكثر الأصوليين والفقهاء، ونقل عن اختيار الخليل وسيبويه والمازني وابن كيسان أنه عربي وعلم من أصله لذاته تعالى المخصوصة أما أنه عربي فلا يكاد يحتاج إلى برهان وأما أنه علم كذلك فقد استدل عليه بوجوه. الأول أنه يوصف ولا يوصف به وقراءة * (صراط العزيز الحميد * الله) * (إبراهيم: 1، 2) بالجر محمولة على البيان وتجويز الزمخشري في سورة (فاطر) كون الاسم الكريم صفة اسم الإشارة من باب قياس العلم على الجوامد في وقوعها صفة لاسم الإشارة على خلاف القياس إذ المنظور فيها رفع الإبهام فقط وقد تفرد به، الثاني: أنه لا بد له من اسم يجري عليه صفاته فإن كل شيء تتوجه إليه الأذهان ويحتاج إلى التعبير عنه قد وضع له اسم توقيفي أو اصطلاحي فكيف يهمل خالق الأشياء ومبدعها ولم يوضع له اسم يجري عليه ما يعزى إليه ولا يصلح له مما يطلق عليه سواه وكونه اسم جنس معرف مما لا يليق لأنه غير خاص وضعا وكونه علما منقولا من الوصفية يستدعي أن لا يكون في الأصل ما تجري عليه الصفات وهو كما ترى الثالث: أنه لو كان وصفا لم تكن الكلمة توحيدا مثل لا إله إلا الرحمن إذ لا منع من الشركة وكذا لو كان اسم جنس والإجماع منعقد على إفادتها له دون الثاني والسر أنه لو كان صفة كان مدلوله المعنى لا الذات المعينة فلا يمنع من الشركة وإن اختص استعمالا بذاته تعالى بخلاف ما إذا كان علما فإن مدلوله حينئذ الذات المعينة وان تعقل بوجه كلي إذ كليته لا تستلزم كلية المعلوم وقد اعترفوا بعموم الوضع وخصوص الموضوع له وقد انحل بهذا عصام قربة من قال إنه لو كفى في التوحيد الاختصاص في الواقع فلا إله إلا الرحمن أيضا توحيد وإن لم يكف واقتضى ما يعين بحيث لا تجوز فيه الشركة لم يكن لا إله إلا الله كذلك إذ لا تنحصر ذاته تعالى لنا على وجه التشخص ولا حاجة إلى ما ذكره من الجواب أخطأ فيه أم أصاب ولا يرد * (قل هو الله أحد) * (الإخلاص: 1) معارضا فإنه لو دل على التوحيد لم يكن للوصف فائدة لما سيأتي إن شاء الله تعالى من تفسيره لعدم قبول التعدد بوجه وهو ليس من لوازم العلمية ولا يغير هذه الوجوه المسفرة ما قيل إنها لا تستلزم المدعى إذ الاختلاف إنما وقع بعد تسليم الاختصاص في كونه صفة فيكون كالرحمن أو اسما فيكون علما، وهذا القدر يكفي بعد ذلك في المقصود كما لا يخفى
على من لم يركب مطية الجحود، والإمام البيضاوي مع أن له اليد البيضاء في التحقيق لم يتبلج له صبح هذا القول وهو لا يحتاج إلى النظر الدقيق فاختار أنه وصف في أصله لكنه لما غلب عليه بحيث لا يستعمل في غيره وصار له كالعلم مثل الثريا والصعق أجرى مجراه في إجراء الوصف عليه وامتناع الوصف به وعدم تطرق احتمال الشركة إليه لأن ذاته من حيث هو بلا اعتبار أمر آخر حقيقي أو غيره غير معقول للبشر فلا يمكن أن يدل عليه بلفظ ولأنه لو دل على مجرد ذاته المخصوص لما أفاد ظاهر قوله تعالى: * (وهو الله في السموات) * (الأنعام: 3) معنى صحيحا ولأن معنى الاشتقاق كون أحد اللفظين مشاركا للآخر في المعنى والتركيب وهو حاصل بينه وبين الأصول المذكورة هذا كلامه، وقد أبطل فيه الأدلة الثلاث وحيث لم يلزم من إبطال الدليل إبطال
57

المدلول أبطله بوجهين ونظم في سلكهما ثالثا يدل على الوصفية وفيه أن الوجه الأول: قد اعترضه هو نفسه حيث قال في تعليقاته وفيه نظر إذ يكفي في وضع العلم تعقله بوجه يمتاز به عن غيره من غير أن يعتبر ما به الامتياز في المسمى فيمكن وضع العلم لمجرد الذات المعقولة في ضمن بعض الصفات وقد تقرر في الكلام أنه يمكن أن يخلق الله تعالى العلم بكنه ذاته في البشر ولأنه إنما يتمشى إذا لم يكن الواضع هو الله تعالى والتحقيق أن تصوير الموضوع له بوجه ما كاف في وضع العلم وكذا في فهم السامع عند استعماله انتهى، والمرء مؤاخذ بإقراره وهذا اكتفاء بأقل اللازم وإلا فالمحققون قد أبطلوا هذا الدليل بما لا مزيد عليه، وأما الثاني: ففيه إن لم نقل الآية من المتشابه أن العلم قد يلاحظ معه معنى به يصلح لتعلق الظرف كقولك أنت عندي حاتم وقوله:
أسد علي وفي الحروب نعامة * فتنحاء تنفر من صفير الصافر
فليلاحظ هنا المعبود بالحق لاشتهاره سبحانه بذلك في ضمن هذا الاسم المقدس على أنه يحتمل التعلق بيعلم في قوله تعالى: * (يعلم سركم) * (الأنعام: 3) الآية والجملة خبر ثان أو هي الخبر ولفظ الله بدل والظاهر أن قوله ظاهر لهذا.
وأما الثالث: ففيه أن المنكر لاشتقاقه لا يسلم التوافق في المعنى على أنه لا يستلزم الوصفية أيضا وكون المدعى ظني فيكفي فيه الحدس من مثل ذلك لا يجدي نفعا إذ لنا أن نقول مثله والمنشأ أتم والظن أقوى والوجوه التي ذكرت في الإبطال ترهقها ذلة لأنها كلها متوجهة تلقاء الغلبة وهي إن لم تكن تحقيقية ضعيفة بل تقديرية قوية لكنها على كل حال دون العلمية الأصلية قوة وشرفا فالعدول عن الأشرف في هذا الاسم الأقدس مما لا أسوغ الأقدام عليه ودون إثبات الداعي نفي الرقاد وخرط القتاد. وقد رأيت بعض ذلك فالذي أرتضيه لا عن تقليد أن هذا الاسم الأعظم موضوع للذات الجامعة لسائر الصفات وإلى ذلك يشير كلام ساداتنا النقشبندية بلغنا الله تعالى ببركاتهم كل أمنية في الوقوف القلبي وهو أن يلاحظ الذاكر في قلبه كلما كرر سكر هذا الاسم الأقدس ذاتيا بلا مثل، وحققه الشيخ الأكبر قدس سره في مواضع عديدة من كتبه، هذا وتفخيم اللام من هذا الاسم الكريم إذا انفتح ما قبله أو انضم طريقة معروفة عند القراء وقيل مطلقا، وحذف ألفه لغة حكاها ابن الصلاح، وفي " التيسير " إنها لغة ثابتة في الوقف دون الوصل والأفصح الإثبات حتى قال بعضهم: إن الحذف لحن تفسد به الصلاة ولا ينعقد به صريح اليمين ولا يرتكب إلا في الضرورة كقوله:
ألا لابارك الله في سهيل * إذا ما بارك الله في الرجال
وقد أطال الشيخ قدس سره الكلام في " الفتوحات " عن أسرار حروفه وأتى بالعجب العجاب، وفي ظهور الألف تارة وخفائها أخرى وسكون اللام أولا وتحركها ثانيا والختم باطنا بما به البدء ظاهرا واشتمال الكلمة على متحرك وساكن وصالح لأن يظهر بأحد الأمرين إشارات لا تخفى على العارفين فارجع إلى كتبهم فهم أعرف بالله تعالى منا، وسبحان من احتجب بنور العظمة حتى تحيرت الأفهام في اللفظ الدال عليه إذ انعكست له من تلك الأنوار أشعة بهرت أعين المستبصرين فلم يستطيعوا أن يمعنوا النظر فيه وإليه والقصور في القابل لا في الفاعل: توهمت قدما أن ليلى تبرقعت * وأن حجابا دونها يمنع اللثما
فلاحت فلا والله ما ثم حاجب * سوى أن طرفي كان عن حسنها أعمى
و * (الرحمن الرحيم) * المشهور أنهما صفتان مشبهتان بنيتا لافادة المبالغة وأنهما من رحم مكسور العين نقل إلى رحم
58

مضمومها بعد جعله لازما وهذا مطرد في باب المدح والذم وأن الرحمة في اللغة رقة القلب ولكونها من الكيفيات التابعة للمزاج المستحيل عليه سبحانه تؤخذ باعتبار غايتها إما على طريقة المجاز المرسل بذكر لفظ السبب وإرادة المسبب وإما على طريقة التمثيل بأن شبه حاله تاعلى بالقياس إلى المرحومين في إيصال الخير إليهم بحال الملك إذا رق لهم فأصابهم بمعروفه وإنعامه فاستعمل الكلام الموضوع للهيئة الثانية في الأولى من غير أن يتمحل في شيء من مفرداته وإما على طريقة الاستعارة المصرحة بأن يشبه الإحسان على ما اختاره القاضي أبو بكر أو إرادته على ما اختاره الأشعري بالرحمة بجامع ترتب الانتفاع على كل ويستعار له الرحمة ويشتق منها الرحمن الرحيم على حد - الحال ناطقة بكذا - وإما على طريقة الاستعارة المكنية التخييلية بأن يشبه معنى الضمير فيهما العائد إليه تعالى بملك رق قلبه على رعيته تشبيها مضمرا في النفس ويحذف المشبه به ويثبت له شيء من لوازمه وهو الرحمة، وقيل الرحمة في ذلك حقيقة شرعية وأن الرحمن أبلغ من الرحيم لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى فتؤخذ تارة باعتبار الكمية وأخرى باعتبار الكيفية فعلى الأول قيل يا رحمن الدنيا لأنه يعم المؤمن والكفار ورحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن وعلى الثاني قيل يارحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا لأن النعم الأخروية كلها جسام وأما النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة وأنه إنما قدم الرحمن والقياس يقتضي الترقي لتقدم رحمة الدنيا ولأنه صار كالعلم من حيث إنه لا يوصف به غيره لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها وذلك لا يصدق على غيره، وقول بني حنيفة في مسيلمة رحمن اليمامة وقول شاعرهم فيه: سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا * وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا
غلو في الكفر أو التقديم لأن الرحمن لما دل على جلائل النعم وأصولها ذكر الرحيم ليتناول ما خرج منها فيكون كالتتمة والرديف له أو للمحافظة على رؤوس الآي هذا وجميعه لا يخلو عن مقال ولا يسلم من رشق نبال أما أولا فلأن الصفة المشبهة لا تبنى إلا من لازم ولذا قال في " التسهيل ": إن ربا وملكا ورحمانا ليست منها لتعدي
أفعالها ولم يقل أحد بنقل ما تعدى منها لفعل المضموم العين والمسطور في المتون المعول عليها أن فعل المفتوح والمكسور إذا قصد به التعجب يحول إلى فعل المضموم كقضوا الرجل بمعنى ما أقضاه وحينئذ فيه اختلاف هل يعطى حكم نعم أو فعل التعجب كما فصلوه ثمة وإلحاقهم له بنعم كالصريح في عدم تصرفه وأنه لا يؤخذ منه صفة أصلا وكون رفيع الدرجات بمعنى رفيع درجاته لا رافع الدرجات لا يجدي نفعا وإنما فسروه بما ذكر لأن المراد درجات عزه وجبروته ليناسب المراد من قوله: * (ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده) * (غافر: 15) وهي بسطة ملكه وسعة ملكوته وتلك الدرجات ليست مرفوعة بفعل. ونقل ذلك عن الزمخشري في " الفائق " بعد تسليم أنه مذكور فيه معارض بما صرح به هو في غيره " كالمفصل " على أن قولهم رحمن الدنيا ورحيم الآخرة بالإضافة إلى المفعول كما نص عليه دون الفاعل يقتضي عدم اللزوم وإنهما ليسا بصفة مشبهة فالأصح أنهما من أبنية المبالغة الملحقة باسم الفاعل وأخدا من فعل متعد وذلك في الرحيم ظاهر وقد نص عليه سيبويه في قولهم رحيم فلانا وكذا الزجاج والصيغة تساعده وللاشتباه،
59

في الرحمن وعدم ذكر النحاة له في أبنية المبالغة قال الأعلم وابن مالك: أنه علم في الأصل لا صفة ولا علم بالغلبة التقديرية التي ادعاها الجل من العلماء، وأما ثانيا: فلأن نقل فعل المكسور إلى فعل المضموم لا يتوقف على جعله لازما أولا لأنه بمجرد النقل يصير كذلك وتحصيل المناسبة بين المنقول والمنقول إليه باللزوم لعدم الاكتفاء فيها بمطلق الفعلية مما لا يحفى ما فيه. وأما ثالثا: فلأن كون الرحمة في اللغة رقة القلب إنما هو فينا وهذا لا يستلزم ارتكاب التجوز عند إثباتها لله تعالى لأنها حينئذ صفة لائقة بكمال ذاته كسائر صفاته ومعاذ الله تعالى أن تقاس بصفات المخلوقين وأين التراب من رب الأرباب.
ولو أوجب كون الرحمة فينا رقة القلب ارتكاب المجاز في الرحمة الثابتة له تعالى لاستحالة اتصافه بما نتصف به فليوجب كون الحياة والعلم والإرادة والقدرة والكلام والسمع والبصر ما نعلمه منها فينا ارتكاب المجاز أيضا فيها إذا أثبتت لله تعالى وما سمعنا أحدا قال بذلك وما ندري ما الفرق بين هذه وتلك وكلها بمعانيها القائمة فينا يستحيل وصف الله تعالى بها فأما أن يقال بارتكاب المجاز فيها كلها إذا نسبت إليه عز شأنه أو بتركه كذلك وإثباتها له حقيقة بالمعنى اللائق بشأنه تعالى شأنه. والجهل بحقيقة تلك الحقيقة كالجهل بحقيقة ذاته مما لا يعود منه نقص إليه سبحانه بل ذلك من عزة كماله وكمال عزته والعجز عن درك الإدراك إدراك فالقول بالمجاز في بعض والحقيقة في آخر لا أراه في الحقيقة إلا تحكما بحتا بل قد نطق الإمام السكوني في كتابه " التمييز لما للزمخشري من الاعتزال في تفسير كتاب الله العزيز " بأن جعل الرحمة مجازا نزغة اعتزالية قد حفظ الله تعالى منها سلف المسلمين وأئمة الدين فإنهم أقروا ما ورد على ما ورد وأثبتوا لله تعالى ما أثبته له نبيه صلى الله عليه وسلم من غير تصرف فيه بكناية أو مجاز وقالوا لسنا أغير على الله من رسوله لكنهم نزهوا مولاهم عن مشابهة المحدثات، ثم فوضوا إليه سبحانه تعيين ما أراده هو أو نبيه من الصفات المتشابهات.
والأشعري إمام أهل السنة ذهب في النهاية إلى ما ذهبوا إليه. وعول في " الإبانة " على ما عولوا عليه فقد قال في أول كتاب " الإبانة " الذي هو آخر مصنفاته: أما بعد فإن كثيرا من الزائغين عن الحق من المعتزلة وأهل القدر مالت بهم أهواؤهم إلى التقليد لرؤسائهم ومن مضي من أسلافهم فتأولوا القرآن على آرائهم تأويلا لم ينزل الله به سلطانا ولا أوضح به برهانا ولا نقلوه عن رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم ولا عن السلف المتقدمين - وساق الكلام إلى أن قال - فإن قال لنا قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون. وديانتكم التي بها تدينون قيل له قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان عليه أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون. ولمن خالف قوله مجانبون لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله تعالى به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير معظم مفخم وعلى جميع أئمة المسلمين ثم سرد الكلام في بيان عقيدته مصرحا بإجراء ما ورد من الصفات على حالها بلا كيف غير متعرض لتأويل ولا ملتفت إلى قال وقيل. فما نقل عنه من تأويل صفة الرحمة إما غير ثابت أو مرجوع عنه والأعمال بالخواتيم. وكذا يقال في حق غيره من القائلين به من أهل السنة على أنه إذا سلم
60

الرأس كفى ومن ادعى ورود ذلك عن سلف المسلمين فليأت ببرهان مبين فما كل من قال يسمع ولا كل من ترأس يتبع:
أما الخيام فإنها كخيامهم * وأرى نساء الحي غير نسائهم
والعجب من علماء أعلام، ومحققين فخام كيف غفلوا عما قلناه، وناموا عما حققناه ولا أظنك في مرية منه وإن قل ناقلوه وكثر منكروه: و * (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله) * (البقرة: 249) وأما رابعا فلأن إجراء الاستعارة التمثيلية هنا مع أنه تكلف لا سيما على مذهب السيد السند قدس سره فيه ظاهرا نوع من سوء الأدب إذ لا يقال إن الله تعالى هيئة شبيهة بهيئة الملك ولم يرد إطلاق الحال عليه سبحانه وتعالى فهل هذا إلا تصرف في حق الله تعالى بما لم يأذن به الله، ومثل هذا أيضا مكني في المكنية وبلاغة القرآن غنية عن تكلف مثل ذلك؛ وأما خامسا فلأن وجه تشبيه الإحسان في احتمال الاستعارة المصرحة بالرحمة التي هي رقة القلب غير صريح لأنه لا ينتفع بها نفسها وإنما الانتفاع بآثارها وكم من رق قلبه على شخص حتى أرق له لم ينفعه بشيء ولا أعانه بحي ولا لي. أهم بأمر الحزم لا أستطيعه * وقد حيل بين العير والنزوان
ولا كذلك الانتفاع بالإحسان وأما الإرادة فهي إن قلنا بصحة إرادتها هنا لا تصح في وجه المجاز المرسل بالنظر إليه تعالى بل إنك إذا تأملت وأنصفت وجدت الرحمة إن تسببت الإحسان أو أرادته فإنما تسببه إذا كانت هي وهو صفتين لنا ومجرد السببية والمسببية في هذه الحالة لا يوجب كون الرحمة المنسوبة إليه عز شأنه مجازا مرسلا عن أحد الأمرين وبفرض وجود الرحمة بذلك المعنى فيه تعالى كيفما كان الفرض لانجزم بالسببية والمسببية أيضا وقياس الغائب على الشاهد مما لا ينبغي والفرق مثل
الصبح ظاهر والذهن مقيد عن دعوى الإطلاق لما لا يخفى عليك فتأمل في هذا المقام فقد غفل عنه أقوام بعد أقوام، وأما سادسا فلأن كون الرحمن أبلغ من الرحيم غير مسلم وإن قال الراغب: إن فعيلا لمن كثر منه الفعل وفعلان لمن كثر منه وتكرر حتى قيل الرحيم أبلغ لتأخره، وقول ابن المبارك الرحمن إذا سئل أعطى والرحيم إذا لم يسئل غضب وقيل هما سواء لظاهر الحديث الذي أخرجه الحاكم في " المستدرك " مرفوعا " رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما " وإليه ذهب الجويني وقرره بأن فعلان لمن تكرر منه الفعل وكثر وفعيل لمن ثبت منه الفعل ودام وفرق بعضهم بينهما بأن الرحمة دال على الصفة القائمة به تعالى والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم فكان الأول للوصف والثاني للصفة فالأول دال على أن الرحمة صفته والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته وإذا أردت فهم ذلك فتأمل قوله تعالى: * (وكان بالمؤمنين رحيما) * (الأحزاب: 43) * (إنه بهم رؤوف رحيم) * (التوبه: 117) ولم يجىء قط رحمن فإنه يستشعر منه إن رحمن هو الموصوف بالرحمة ورحيم هو الراحم برحمته وما ذكر من قولهم لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى قاعدة أغلبية أسسها ابن جني فلعلها لا تثبت مع بسم الله الرحمن الرحيم وقد نقضت بحذر فإنه أبلغ من حاذر مع زيادة حروفه، فإن أجيب بأنها أكثرية فيأمر حبا بالوفاق وإن أجيب بأن ما ذكر لا ينافي أن يقع في البناء إلا نقص زيادة معنى بسبب آخر كالالحاق بالأمور الجبلية مثل شره ونهم فجاز أن حاذرا أبلغ من حذر لدلالته على زيادة الحذر وإن لم يدل على ثبوته ولزومه فهو على ما فيه لا يصفو عن كدر لأنهم صرحوا بأنه قد كثر استعمال فعيل في الغرائز كشريف وكريم وفعلان في غيرها كغضبان وسكران فيقتضي أنه أبلغ ولو من وجه أو لا فسواء وإن أجيب بأن القاعدة فيما إذا كان اللفظان المتلاقيان في الاشتقاق متحدي النوع في المعنى كغرث وغرثان وصد وصديان ورحيم ورحمن لا كحذر وحاذر للاختلاف فإن أحدهما اسم فاعل والآخر صفة مشبهة فيقال قد صرح ابن الحاجب بأنه من أبنية المبالغة المعدودة من اسم الفاعل فهما متحدان نوعا أيضا فيحصل الانتقاض ألبتة ثم إنهم استشكلوا الأبلغية
61

بأن أصل المبالغة مما لا يمكن هنا لأنها عبارة عن أن تثبت للشيء أكثر مما له وذلك فيما يقبل الزيادة والنقص، وصفاته تعالى منزهة عن ذلك لاستلزامه التغير المستلزم للحدوث، وأجيب بأن المراد الأكثرية في التعلقات والمتعلقات لا في الصفة نفسها وهذا إذا كانت صفة ذات وإن كانت صفة فعل فلا إشكال على ما ذهب إليه الأشاعرة من القول بحدوثها. وأما على ما ذهب إليه ساداتنا الماتريدية القائلون بقدوم صفة التكوين فيجاب بما أجيب به عن الأول.
وأما سابعا فلأ قولهم فعلى الأول قيل يا رحمن الدنيا لأنه يعم المؤمن والكافر ورحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن إن أرادوا به أن أبلغية الرحمن ههنا باعتبار كثرة أفراد الرحمة في الدنيا لوجودها في المؤمن والكافر فلا يستقيم عليه، ورحيم الآخرة إذ النعم الأخروية غير متناهية وإن خصت المؤمن، وإن أرادوا أنها باعتبار كثرة أفراد المرحومين فلا يخفى أن كثرة أفرادهم إنما تؤثر في الأبلغية باعتبار اقتضائها كثرة أفراد الرحمة في الدنيا أيضا ومعلوم أن أفراد الرحمة في الآخرة أكثر منها بكثير بل لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي أصلا فهذا الوجه مخدوش على الحالين على أن في اختصاص رحمة الآخرة بالمؤمنين مقالا إذ قد ورد في الصحيح شفاعته صلى الله عليه وسلم لعامة الناس من هول الموقف: * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) * (الإسرار: 79) وروي تخفيف العذاب عن بعض الأشقياء في الآخرة وكون الكفار في الأول تبعا غير مقصودين كيف وهم بعد الموقف يلاقون ما هو أشد منه فليس ذلك رحمة في حقهم والتخفيف في الثاني على تقدير تحققه نزول من مرتبة من مراتب الغضب إلى مرتبة دونها فليس رحمة من كل الوجوه ليس بشيء أما أولا فلأن القصد تبعا وأصالة لا مدخل له وحبذا الولد من أين جاء، وأما ثانيا فلأن ملاقاتهم بعد لما هو أشد فلا يكون ذلك رحمة في حقهم يستدعي أن لا رحمة من الله تعالى لكافر في الدنيا كما قيل به لقوله تعالى: * (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين) * (آل عمران: 178) وقوله تعالى: (ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها) فيبطل حينئذ دعوى شمول الرحمة المؤمن والكافر في الدنيا إذ لا فرق بين ما يكون للكافر في الدنيا مما يتراءى أنه رحمة وما يكون له في الآخرة فوراء كل عذاب شديد، وأما ثالثا فلأن كون التخفيف ليس برحمة من كل الوجوه لا يضر وكل أهل النار يتمنى التخفيف: * (وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب) * (غافر: 49) وحنانيك بعض الشر أهون من بعض، وأما ثامنا فلأن قولهم وعلى الثاني قيل يا رحمن الدنيا والآخرة الخ فيه بعض شيء وهو أنه يصح أن يكون بالاعتبار الأول لأن نعم الدنيا والآخرة تزيد على نعم الآخرة نعم يجاب عنه بأنه يلزم حينئذ أن يكون ذكر رحيم الدنيا لغوا ولا يلزم ذلك على اعتبار الكيفية إذ المراد يا موليا لجسام النعم في الدارين ولما دونها في الدنيا. وأيضا مقصود القائل التوسل بكلا الاسمين المشتقين من الرحمة في مقام طلبها مشيرا إلى عموم الأول وخصوص الثاني ويحصل في ضمنه الاهتمام برحمته الدنيوية الواصلة إليه الباعثة لمزيد شكره إلا أنه يرد عليه كسابقه أن الأثر لا يعرف والمعروف المرفوع: " رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما " وكفاية كونه من كلام السلف ليس بشيء كما لا يخفى، وأما تاسعا فلأن السؤال عن تقديم الرحمن معترض بمقبول ومردود، وذكر ابن هشام أنه غير متجه لأن هذا خارج عن كلام العرب إذ لم يستعمل صفة ولامجردا من أل فهو بدل لا نعت والرحيم نعت له لا نعت لاسم الله سبحانه إذ لا يتقدم البدل على النعت ومما يوضح لك أن الرحمن غير صفة مجيئه كثيرا غير تابع نحو: * (الرحمن على العرش استوى) * (طه: 5) * (الرحمن * علم القرآن) * (الرحمن: 1، 2) * (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن) * (الإسرار: 110) * (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن) * (الفرقان: 60) وقال ابن خروف هو صفة غالبة ولم يقع تابعا إلا لله تعالى
62

في البسملة والحمدلة ولذا حكم عليه بغلبة الاسمية وقل استعماله منكرا ومضافا فوجب كونه بدلا لا صفة لكون لفظة الله أعرف المعارف، وقال غير واحد: إنهما ما ذكرا لإفادة الشمول والعموم كما تقول الكبير والصغير يعرفه ولو عكست صح وكان المعنى بحاله ومثله لا يلزم فيه الترتيب كما فصل في " المثل السائر ". وللعلماء في هذا الترتيب كلام كثير وادعى العلامة المدقق في " الكشف " أن التحقيق يقتضي أن يرد النظم على هذا الوجه ولا يجوز غيره لأن الله اسم للذات الإلهية باعتبار أن الكل منه وإليه وجودا ورتبة وماهية والرحمة اسم له باعتبار إفاضة الرحمة العامة أعني الوجود على الممكنات والرحيم اسم له باعتبار تخصيص كل ممكن بحصة من الرحمة
وهي الوجود الخاص وما يتبعه من وجود كمالاته فلو لم يورد كذلك لم يكن على النهج الواقع المحقق ذوقا وشهودا عقلا ووجودا، وأيضا لما كان المقصود تعليم وجه التيمن بأسمائه الحسنى وتقديمها عند كل ملم كان المناسب أن يبدأ من الأعلى فالأعلى إرشادا لمن يقتصر على واحد أن يقتصر على الأولى فالأولى وتقريرا في ذهن السامع لوجه التنزل أولا فأولا انتهى، ويؤيد بعضه بعض ما أسلفناه من الآثار والبعض الآخر في القلب منه شيء لأن تخصيص الرحمن بالوجود العام والرحيم بالكمالات تحكم غير مرضي وربما ينافي المأثور على أنه لا معنى لإفاضة الوجود على الكل إلا تخصيص كل ممكن بحصة منه وهل يوجد في الخارج من النوع إلا الحصص الإفرادية فتخصيص الإفاضة بالرحمن والتخصيص بالرحيم على ما يلوح بمعزل عن التحقيق والعجب ممن فاته ذلك، وأما عاشرا فلأن ما ذكروه في الجواب عن قول بني حنيفة بأنه غلو في الكفر فيكون الإطلاق غير صحيح لغة وشرعا فيه أنه إذا كان إطلاقه عليه تعالى شأنه مجازا كما زعموا وبالغلبة فكيف يقال إن استعماله في حقيقته وأصل معناه خطأ لغة. وقد ذهب السبكي إلى أن المخصوص به تعالى هو المعرف دون المنكر والمضاف لوروده لغيره ورد به على القول بأنه مجاز لا حقيقة له وأن صحة المجاز إنما تقتضي الوضع للحقيقة لا الاستعمال نعم هو في لسان الشرع يمنع إطلاقه على غيره مطلقا وإن جاز لغة كالصلاة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبذلك صرح العز بن عبد السلام. وقيل إن رحمانا في البيت مصدر لا صفة مشبهة والمراد لا زلت ذا رحمة وفيه ما لا يخفى وأفهم كلامه أن الرحيم يوصف به غيره تعالى وهو المعروف لكن أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن البصري أنه قال: الرحيم لا يستطيع الناس أن ينتحلوه ولعل مراده المعرف دون المنكر والمضاف فافهم، وأما الحادي عشر فلأن المحافظ على رؤوس الآي إنما تحسن - كما قال الزمخشري - بعد إيقاع المعاني على النهج الذي يقتضيه حسن النظم والتئامه فأما أن تهمل المعاني ويهتم للتحسين وحده فليس من قبيل البلاغة.
وقال الشيخ عبد القاهر: أصل الحسن في جميع المحسنات اللفظية أن تكون الألفاظ تابعة للمعاني فمجرد المحافظة على الرؤوس لا يصير نكتة للتقديم إلا بعد أن يثبت أن المعاني إذا أرسلت على سجيتها كانت تقتضي التقديم على أن المحافظة لا تجري في كل سورة بل فيها ما يقتضي خلاف هذا كسورة الرحمن، وأيضا هو مبني على أن الفاتحة أول نازل فروعي فيها ذلك ثم اطرد في غيرها وعلى أن البسملة آية من السورة ودون ذلك سور من حديد، وعندي من باب الإشارة أن تأخير الرحيم لأنه صفة محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: * (بالمؤمنين رءوف رحيم) * (التوبة: 128) وبه عليه السلام كمال الوجود وبالرحيم تمت البسملة وبتمامها تم العالم خلقا وإبداعا وكان
63

صلى الله عليه وسلم مبتدأ وجود العالم عقلا ونفسا فبه بدء الوجود باطنا وبه ختم ظاهرا في عالم التخطيط فقال " لا رسول بعدي " فالرحيم هو نبينا عليه الصلاة والسلام وبسم الله هو أبونا آدم عليه السلام وأعني في مقام ابتداء الأمر ونهايته وذلك أن آدم عليه السلام حامل الأسماء قال تعالى: * (وعلم آدم الأسماء كلها) * (البقرة: 31) ومحمد صلى الله عليه وسلم حامل معاني تلك الأسماء التي حملها آدم عليه السلام. لك ذات العلوم من عالم الغي‍ * - بومنها لآدم الأسماء
وهي الكلم قال صلى الله عليه وسلم: " أوتيت جوامع الكلم " ومن أثني على نفسه أمكن وأتم ممن أثنى عليه كيحيى وعيسى عليهما السلام ومن حصل له الذات فالأسماء تحت حكمه وليس كل من حصل إسما يكون المسمى محصلا عنده ولهذا فضلت الصحابة علينا رضوان الله تعالى عليهم فإنهم حصلوا الذات وحصلنا الأسماء، ولما راعينا الاسم مراعاتهم الذات ضوعف لنا الأجر فللعامل منا أجر خمسين ممن يعمل بعمل الصحابة لا من أعيانهم بل من أمثالهم والحسرة الغيبة التي لم تكن لهم فكان تضعيف على تضعيف فنحن الأخوان وهم الأصحاب وهو صلى الله عليه وسلم إلينا بالأشواق وما أفرحه بلقاء واحد منا وكيف لا يفرح وقد ورد عليه من كان بالأشواق إليه، وأيضا وجدنا بين الله والرحمن من المناسبة ما ليس بينه وبين الرحيم فلهذا قدم الرحمن على الرحيم بيان ذلك أما أولا فلاقتران الرحمن بالجلالة في قوله تعالى: * (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى) * (الإسرار: 110) وقد يشعر هذا الاقتران بجعلهما للذات ولذلك اختار من اختار البدل على النعت وجعلوه إشارة إلى مقام الجمع المرموز إليه بما صح عند القوم من طريق الكشف أن الله تعالى خلق آدم على صورته والرحيم ليس كذلك، وأما ثانيا فلأن في الله وفي الرحمن ألفين ألف الذات وألف العلم والأولى في كل خفية والثانية ظاهرة وإنما خفيت الأولى في الأول لرفع الالتباس في الخط بين الله والإله وفي الثاني على ما عليه أهل الله في رسمه وهو أحد الرسمين عند أهل الرسوم لدلالة الصفات عليهما دلالة ضرورية من حيث قيام الصفة بالموصوف فخفيت الذات وتجلت للعالم الصفات فلم يعرفوا من الإله غيرها والجهل هنا كمال وذلك حقيقة العبودية. زدني بفرط الحب فيك تحيرا * وارحم حشا بلظى هواك تسعرا
فالرحمن مشير إلى الذات وسائر الصفات فالألف الظاهرة واللام والراء إشارة إلى العلم والإرادة والقدرة والحاء والميم والنون إشارة إلى الكلام والسمع والبصر، وشرط هذه الصفات الحياة ولا يتحقق المشروط بدون الشرط فظهرت الصفات السبع بأسرها وخفيت الذات كما ترى وادعى بعض العارفين أن الألف الخفية هنا ظهرت من حيث الجزئية من هذا اللفظ في الشيطان بناء على أخذه من شطن وزيادة الألف فيه للإشارة إلى عموم الرحمة: * (الرحمن على العرش استوى) * (طه: 5) فللشيطان أيضا حصة منها ومنها وجوده وبقى سر لا يمكن كشفه ولا كذلك الرحيم إذ ليس فيه إلا ألف العلم ولما كان هذا الاسم مشيرا إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم باعتبار رتبته ظهرت فيه لكونه المرسل إلى الناس كافة فطلب التأييد فأعطيها فظهر بها، وأما ثالثا فقد طال النزاع في تحقيق لفظ الرحمن كما طال في تحقيق لفظ الله حتى توهم أنه ليس بعربي لنفور العرب منه فإنهم لما قيل لهم * (اعبدوا الله) * (النمل: 36) لم يقولوا وما الله ولما قيل لهم * (اسجدوا للرحمن) * قالوا * (وما الرحمن) * (الفرقان: 60) ولعل سبب ذلك توهمهم التعدد وأنهم خافوا أن يكون المعبود الذي يدلهم عليهم من جنسهم فأنكروه لذلك لا لأنه ليس بعربي، واختلف أيضا في الصرف وعدمه قال ابن الحاجب: النون والألف إذا كانا في اسم
64

فشرطه العلمية وفي صفة فانتفاء فعلانة وقيل وجود فعلي، ومن ثمة اختلف في رحمن دون سكران وندمان وبنو أسد يصرفون جميع فعلان لأنهم يقولون في كل مؤنث له
فعلانة اه‍ وقال في " التسهيل ": واختلف فيما لزم تذكيره كلحيان بمعنى كبير اللحية فمن منعه ألحقه بباب سكران لأنه أكثر ومن حذفه رأى أنه ضعف داعي منعه والأصل الصرف، واختار الزمخشري والشيخ الرضى وابن مالك واستظهره البيضاوي عدم الصرف إلحاقا له بما هو أغلب في بابه لأن الغالب في فعلان صفة فعلى حتى ذكر الإمام السيوطي أن ما مؤنثه فعلانة لم يجىء إلا أربعة عشر لفظا بل إن فعلان صفة من فعل بالكسر لم يجىء منه ما مؤنثه فعلانة أصلا إلا ما رواه المرزوقي من خشيان وخشيانة وإنما اقتضى الإلحاق أظهرية ذلك مع أن كون الأصل في الاسم الصرف يقتضي خلافه لأن رعاية ما هو الغالب في النوع أولى من رعاية الأصل، والحشر مع الجماعة عيد. ولما رأى السعد أن هذه المسألة مما تعارض فيها الأصل والغالب ولم يترجح عنده أحدهما مال إلى جواز الصرف وعدمه عملا بالأمرين والإعمال في الجملة أولى من الإهمال بالكلية وحيث لم يسمع هذا الاسم إلا مضافا أو معرفا بأل أو منادى وما ورد شاذا كما في البيت لا يصلح شاهدا لأحد الأمرين لاحتمال أن يكون ممنوعا وألفه للإطلاق عدلوا إلى الاستدلال واتسعت دائرة المقال والرحيم سليم من هذا فافهم ذاك والله يتولى هداك، وإنما جعل الله البسملة مبدأ كلامه لوجهين، أما الأول فلأنها إجمال ما بعدها وهي آية عظيمة ونعمة للعارف جسيمة لا نهاية لفوائدها ولا غاية لقيمة فرائدها والباحث عنها مع قصرها إذا أراد ذرة من علمها ودرة من عيلمها احتاج إلى باع طويل في العلوم واطلاع عريض في المنطوق والمفهوم، مثلا إذا أراد أن يبحث عن الباء من حيث إنها حرف جر بل عن سائر كلماتها من حيث الإعراب والبناء احتاج إلى علم النحو وإذا أراد أن يبحث عن أصول كلماتها كيف كانت وكيف آلت احتاج إلى علمي الصرف والاشتقاق وإن أراد أن يبحث عن نحو القصر بأقسامه وهل يوجد فيها شيء منه احتاج إلى علم المعاني وإن أراد أن يبحث عما فيها من الحقيقة والمجاز احتاج إلى علم البيان وإن أراد أن يبحث عما بين كلماتها من المحسنات اللفظية احتاج إلى علم البديع وإن أراد أن يبحث عنها من حيث إنها شعر أو نثر موزون أو غير موزون مثلا احتاج إلى علمي العروض والقوافي وإن أراد أن يعرف مدلولات الألفاظ لغة احتاج إلى مراجعة اللغة وإن أراد أن يعرف من أي الأقسام وضع هاتيك الألفاظ احتاج إلى علم الوضع وإن أراد معرفة ما في رسمها احتاج إلى علم الخط وإن أراد البحث عن كونها قضية ومن أي قسم من أقسامها أو غير قضية احتاج إلى علم المنطق وإن أراد أن يعرف أن كنه ما فيها من الأسماء هل يعلم أولا احتاج إلى علم الكلام وإن أراد معرفة حكم الابتداء بها وهل يختلف باختلاف المبدوء به احتاج إلى علم الفقه وإن أراد معرفة أن ما فيها ظاهر أو نص مثلا احتاج إلى علم الأصول وإن أراد معرفة تواترها احتاج إلى علم المصطلح وإن أراد معرفة أنها من أي مقولة من الأعراض احتاج إلى علم الحكمة وإن أراد معرفة طبائع حروفها احتاج إلى علم الحرف وإن أراد معرفة أنواع الرحمة المشار إليها بها احتاج إلى علم الأفلاك وعلم تشريح الأعضاء وخواص الأشياء وعلم المساحة وغير ذلك وإن أراد معرفة ما يمكن التخلق به مما تدل عليه الأسماء احتاج إلى علم الأخلاق وإن أراد معرفة ما خفي على أرباب الرسوم من الإشارات فليضرع إلى ربه وإن أراد أن يقف على جميع ما فيها من الأسرار فليعد غير المتناهي وكيف يطمع في ذلك وهي عنوان كلام الله تعالى المجيد وخال وجنة القرآن الذي لا يأتيه الباطل
65

من بين يدي ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد:
وعلى تفنن واصفيه بوصفه * يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف
وإن أردت أن تمتحن ذهنك في بعض أسرارها فتأمل سر افتتاحها واختتامها بحرفين شفويين ومع كل ألف صورية متصلة بأول الأول وآخر الآخر وتحت الأول دائرة غيبية ظهرت في صورة الثاني وسر ما وقع فيها من أنواع التثليث أما أولا ففي مخارج الحروف فإنها ثلاثة الشفة واللسان والحلق في الباء واللام والهاء. وأما ثانيا ففي المحذوف من حروفها فإنها ثلاثة أيضا ألف الاسم وألف الله وألف الرحمن. وأما ثالثا ففي المنطوق منها والمرسوم فإنه ثلاثة أنواع أيضا منطوق بها مرسوم كالباء ومنطوق به غير مرسوم كألف الرحمن ومرسوم غير منطوق به كاللام منه مثلا، وأما رابعا ففي المتحرك والساكن، فمتحرك لا يسكن كالباء وساكن لا يتحرك كالألف، وقابل لهما كميم الرحيم وقفا ووصلا، وأما خامسا ففي أنواع كلماتها الملفوظة والمقدرة فهي على رأي اسم وفعل وحرف، وأما سادسا ففي أنواع الجر الذي فيها فهو جر بحرف وبإضافة وبتبعية على المشهور، وأما سابعا ففي الأسماء الحسنى التي دبحتها فهي الله والرحمن والرحيم، وأما ثامنا ففي العاملية والمعمولية فكلمة عاملة غير معمولة ومعمولة غير عاملة وعاملة معمولة، وأما تاسعا ففي الاتصال والانفصال فمتصل بما بعده فقط وبما قبله فقط وبما بعده وقبله، وفي كل واحد من هذه الثلاثيات أسرار تحير الأفكار وتبهر أولي الأبصار وانظر لم اشتملت حروفها على الطبائع الأربع وتقدم في الظهور الهواء ولم كانت تسعة عشر، ولم أعتنق اللام الألف واتصلت الميم باللام والهاء بالراء والنون بها نطقا لا خطا ولم فتح ما قبل الألف حتى لم يتغير في موضع أصلا؟ وتفكر في سر تربيع الألفاظ وسكون السين وتحرك الميم ونقطتي الياء ونقطة النون والباء، والأمر وراء ما يظنه أرباب الرسوم ونهاية ما ذكروه البحث عن المدلولات وتوسيع دائرة المقال بإبداء الاحتمالات، وقد صرح السرميني بإبداء خمسة آلاف وثلثمائة ألف وأحد وتسعين ألفا وثلثمائة وستين احتمالا وزدت عليه من فضل الله تعالى حين سئلت عن ذلك بما يقرب أن يكون بمقدار ضرب هذا العدد بنفسه والدائرة أوسع إلا أن الواقع البعض، ولقد خلوت ليلة بليلي هذه الكلمة وأوقدت مصباح ذلي في مشكاة حضرتها المكرمة وفرشت لها سري وضممتها سحرا إلى سحري ونحري:
فكان ما كان مما لست أذكره * فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر
وأما الوجه الثاني: فلتعليم العباد إذا بدءوا بأمر كيف يبدءون به ولهذا قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو هريرة وأخرجه الحافظ عبد القادر الرهاوي: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر " والبال الحال والشأن فمعنى ذي بال شريف يحتفل به ويهتم كأنه شغل القلب وملكه حتى صار صاحبه، وقيل شبه الأمر العظيم بذي قلب على سبيل الاستعارة المكنية والتخييلية، وفي هذا الوصف فائدتان إحداهما رعاية تعظيم اسم الله تعالى لأن يبتدىء به في الأمور المعتد بها. والأخرى التيسير على الناس في محقرات الأمور كذا قالوه، وعندي أن الأظهر جعل الوصف للتعميم كما في قوله تعالى: * (ولا طائر يطير بجناحيه) * (الأنعام: 38) أي كل أمر يخطر
بالبال جليلا كان أو حقيرا لا يبدأ به الخ. وفي هذا غاية الإظهار لعظمة الله تعالى وحث على التبري عن الحول والقوة إلا بالله وإشارة إلى أن قدر العباد غير مستقلة في الأفعال فحمل تبنة كحمل جبل إن لم يعن الله الملك المتعال وقد أمر سبحانه وتعالى بالإكثار من ذكره فقال تعالى: * (فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا) * (البقرة: 200)
66

وحيث لم يجب ذلك كما هو معلوم يحصل للناس تيسير، وقد سن صلى الله عليه وسلم بعض الأشياء ونفى لحرج بنفي وجوبها وفي قوله عليه الصلاة والسلام: " ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله " وما روي: " أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام يا موسى سلني حتى ملح قدرك وشراك نعلك " ما يدفع عنك توهم عدم رعاية التعظيم في ذكره تعالى عند محقرات الأمور وأي فرق عند المنصف بين ذكره سبحانه عندها وطلبها منه. على أن العارف الجليل لا يقع بصره على شيء حقير: * (ما ترى في خلق الرحمن... من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور * ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير) * (الملك: 3، 4) نعم التسمية على الحرام والمكروه مما لا ينبغي بل هي حرام في الحرام لا كفر على الصحيح مكروهة في المكروه وقيل مكروهة فيهما إن لم يقصد استخفافا وإن قصده - والعياذ بالله تعالى - كفر مطلقا وهذا لا يضر فيما قلناه كما لا يخفى. وقد اضطرب الحديث هنا فوقع في بعض الروايات " لا يبدأ فيه بالحمد لله " وفي بعضها " بحمد الله " وفي البعض " أجذم " وفي أخرى " أقطع " وفي خبر " كل كلام " وفي أثر " يبدأ " وفي آخر " يفتتح " وفي موضع وضع الذكر بدل الحمد إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع حتى قيل إنه مضطرب سندا ومتنا ولولا أنه في فضائل الأعمال ما اغتفر فيه ذلك على أنه تقوى بالمتابعة معنى أيضا والشهرة في دفع التعارض بين الروايات تغني عن التعرض للاستيفاء، واستحسن فيه أن روايتي البسملة والحمدلة تعارضتا فسقط قيداهما كما في مسألة التسبيع في الغسلات عند الشافعي ورجع للمعنى الأعم وهو إطلاق الذكر المراد منه إظهار صفة الكمال وقيل إن المراد في كل رواية الابتداء بأحدهما أو بما يقوم مقامه ولو ذكرا آخر بقرينة تعبيره تارة بالبسملة وأخرى بالحمدلة وطورا بغيرهما ولا يرد على كل أنا نرى كثيرا من الأمور يبدأ فيه بما ورد في الحديث مع أنه لا يتم ونرى كثيرا منها بالعكس لأنا نقول المراد من الحديث ألا يكون معتبرا في الشرع فهو غير تام معنى وإن كان تاما حسا فباسم الله تعالى تتم معاني الأشياء ومن مشكاة بسم الله الرحمن الرحيم تشرق على صفحات الأكوان أنوار البهاء:
ولو جليت سرا على أكمه غدا * بصيرا ومن راووقها تسمع الصم
ولو أن ركبا يمموا ترب أرضها * وفي الركب ملسوع لما ضره السم
ولو رسم الراقي حروف اسمها على * جبين مصاب جن أبرأه الرسم
وفوق لواء الجيش لو رقم اسمها * لأسكر من تحت اللوا ذلك الرقم
ولما افتتح سبحانه وتعالى كتابة البسملة وهي نوع من الحمد ناسب أن يردفها بالحمد الكلي الجامع لجميع أفراده البالغ أقصى درجات الكمال فقال جل شأنه: * (الحمد لله رب العالمين) * وهو أول الفاتحة وآخر الدعوات الخاتمة كما قال تعالى: * (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) * (يونس: 10): كأن الحب دائرة بقلبي * فأوله وآخره سواء
وقد قيل للجنيد قدس سره ما النهاية؟ فقال الرجوع إلى البداية وفيه أسرار شتى، والحمد على المشهور هو الثناء باللسان على الجميل سواء تعلق بالفضائل أم بالفواضل، قالوا ولا بد لتحققه من خمسة أمور محمود به ومحمود عليه وحامد ومحمود وما يدل على اتصاف المحمود بصفة فالأول صفة تظهر اتصاف الشيء بها على وجه مخصوص ويجب كونه صفة كمال ولو ادعاء إذ المناط التعظيم ولا فرق عند الإمام الرازي قدس سره بين كونه ثبوتيا أو سلبيا متعديا أو غير متعد بل ولا بين كونه صادرا عن المحمود باختياره أو لا كما قرره العلامة الدواني وصدر الأفاضل في حواشي " التجريد "
67

" والمطالع " وجزم به المحقق الملا خسرو وادعى أنه الأشهر إلا أن العلامة في " شرح التهذيب " نقل عن البعض وجوب كونه اختياريا واختاره كما في المحمود عليه فكما لم يسمع الحمد على رشاقة القد وصباحة الخد لم يسمع الحمد بهما وعدم حمد اللؤلؤة كما يمكن كونه من جهة حال المحمود عليه يمكن كونه من جهة المحمود فجعله دليلا على أحدهما فقط تحكم، الثاني ما يقع الثناء بإزائه ويقابله بمعنى أن المثنى عليه لما اتصف به أظهر كماله ولولاه لم يتحقق ذلك فهو كالعلة الباعثة وقد يكون الشيء الواحد محمودا به وعليه معا كأن رأي من ينعم أو يصلي فأظهر اتصافه بذلك فهناك يتحقق الأمران لحيثيتين ويجب أن يكون كمالا على نحو ما سبق وظاهر كلام الجمهور أنه أعم من كونه فعلا صادرا من المحمود أو كيفية قائمة به ويفهم كلام الإمام اختيار الأول واشترط أن يكون حصوله من المحمود باختياره، واستشكل الحمد على صفاته تعالى الذاتية سواء جعلت عين ذاته أو زائدة عليها، وأجيب بأن الحمد عليها بتنزيلها منزلة الاختياري لكون ذاته كافية فيها أو بأن المراد بالفعل الاختياري المنسوب إلى الفاعل المختار سواء كان مختارا فيه أو لا. وقيل: إنها صادرة بالإختيار بمعنى إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل لا بمعنى صحة الفعل والترك أو بمعناه والصفات صادرة بالاختيار وسبقه عليها ذاتي فلا يلزم حدوثها، وقيل إنه بالنظر إلى حمد البشر فالمراد ما جنسه اختياري كما قيل في قيد اللسان وأورد على الأول مع ما فيه أنه إنما يحسن إذا كان المعتاد من الأفعال الاختيارية كون فاعلها مستقلا في إيجادها من غير احتياج إلى شيء آخر من آلة وغيرها ليظهر استقامة التنزيل وليس كذلك فإن العمل الاختياري يحتاج إلى العلم والقدرة والكثير إلى آلة وأسباب وعلى الثاني أنه خلاف المتبادر وعلى الثالث أن هذا المعنى ادعاه الحكماء حين قالوا بقدم العالم للإيجاب فلزمهم أن لا يكون لموجده إرادة وقالوا إن صدق الشرطية لا يقتضي وجود مقدمها ولا عدمه فمقدم الأولى بالنسبة إلى وجود العالم دائم الوقوع ومقدم الثانية دائم اللاوقوع ولهذا أطلق عليه الصانع وهو من له الإرادة وهو صرح ممرد من قوارير لأن ما بالإرادة يصح وجوده بالنظر إلى ذات الفاعل فإن أريد بالدوام الدوام مع صحة
وقوع النقيض فهو مخالف لما صرحوا به من إيجاب العالم بحيث لا يصح عدم وقوعه منه وإن أريد مع امتناع الوقوع فليس هناك من الإرادة إلا لفظها ومتعلقها لا محيص عن حدوثه والعالم عندهم قديم واختيار الشق الأول ثم القول بأن الصادر عن الموجب بالذات ليس واجبا كذلك بل ممكن بذاته والقدم زماني لا ذاتي وصحة وقوع النقيض لا يقتضي الوقوع إذا أحجم القلم عنه إنما يظهر في العالم ويبقى ما نحن فيه من الصفات ولا أقدم على إطلاق القول بإمكانها لاحتياجها للذات واستنادها إليها وعلى الرابع أن اتصاف الصفات بالصدور لو انشرحت لتوجيهه الصدور يبقى الإشكال في صفة القدرة ولا قدرة لدعوى صدورها بالاختيار وإلا لزم تقدم الشيء على نفسه فلا حسم وعلى الخامس أن هاتيك الصفات مقدسة عن أن تشرك مع صفة البشر في جنس وأين الأزلي من الزائل؟! على أنه ما فيه خلاف المنساق إلى الذهن ولكثرة المقال والقيل لم يشترط بعضهم في المحمود عليه أن يكون اختياريا لأنه الباعث على الحمد وأي مانع من أن لا يكون كذلك ومن ذلك: * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) * (الإسرا: 79) وعند الصباح يحمد القوم السري، وجاورته فما حمدت جواره: والصبر يحمد في المواطن كلها * إلا عليك فإنه مذموم
والحق الحقيق بالاتباع أن الحمد اللغوي لا يكون إلا على الأفعال الاختيارية والحمد على الصفات الذاتية إما لغوي راجع لما يترتب عليها من الآثار الاختيارية، أو عرفي ولا ضرر في تعلقه بها، وما ذكر من الأمثلة ونحوها فالحمد فيها مجاز عن الرضا، ويقال في الآية زيادة عليه أن محمودا حال من الضمير المنصوب أو نعت لمقاما والمعنى محمودا فيه
68

النبي لشفاعته أو الله تعالى لتفضله عليه بالإذن وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه. والثالث: وهو من يتحقق منه الحمد وشرطه أن يكون معظما بثنائه للمحمود ظاهرا وباطنا كما حققه الصدر نعم لا يلزم اعتقاد اتصاف المحمود بالجميل عند المحققين بل الشرط عدم اقترانه ثبوت تحقير فيدخل الوصف بما قطع بانتفائه ولا يناقضه كما قال الدواني توجيه الشريف اشتراط التعظيمين بأنه إذا عري عن مطابقة الاعتقاد لم يكن حمدا بل سخرية لأنه أراد بالاعتقاد لازمه وهو إنشاء التعظيم لا معناه الحقيقي فإن الحمد قد يكون إنشائيا ولا معنى لمطابقة الاعتقاد فيه لأن ما لا يتعلق به الاعتقاد لا يوصف حقيقة بمطابقته إذ المتبادر منها الاتحاد في الإيجاب والسلب أو ما يستلزمه أو يؤول إليه وذا لا يوجد إلا في القضايا ولذا لا تسمع أحدا يقول إن التصور يطابقه بل لو قال قائل إن مفهوم اضرب يطابق الاعتقاد ضرب عنه صفحا وربما نسب لما يكره وحمل المطابقة على هذا أقرب من التزام اتصاف التصورات بالمطابقة واللامطابقة إذ ليس فيه سوى الملزوم وإراد اللازم مع أن أهل العرف العام قد يطلقون الاعتقاد بهذا المعنى فيقولون فلان له اعتقاد في فلان ويريدون ما أردنا ولا بعد فيه لأن الناس يعدون الوصف بالجميل المعلوم الانتفاء إذا كان كذلك مدحا وحمدا كما في كثير من القصائد. وأما الجواب: بأن الواصف يعتقد الاتصاف وبأن المراد معان مجازية واتصاف المنعوت بها معتقد فيرده أن الأول خلاف البديهة والثاني خلاف الواقع والجواب عن الأول بأنه لو كان خلاف البديهة لم يقصد العقلاء إفادته ولم يكن اللفظ مستعملا في معناه الحقيقي وعن الثاني بأنه لو كان خلاف الواقع لما كان مستعملا في معناه المجازي فيلزم أن لا يكون ذلك الكلام حقيقة ولا مجازا كلام نشأ من ضيق الصدر إذ لا يلزم من عدم اعتقاد المدلول أن لا يكون الكلام مستعملا فيه فالأخبار الغير المعتقدة كقول السني الخفي حاله: العبد خالق لأفعاله مستعمل في حقيقته غير معتقد بل جميع الأكاذيب التي يعتمدها أهلها كذلك ثم إن المجيب حمل أن الأول خلاف البديهة على أن مضمون تلك الأخبار خلافها وفرع عليه أنه يلزم أن لا يقصد العقلاء إفادته ويرد عليه المنع فإن الأكاذيب التي يعتمدها العاقل قد تخالف البديهة مع قصد إفادتها لغرض ما كالتغليظ أو التنكيت أو الامتحان أو للتخيل كما في كثير من القضايا حتى قال بعض المحققين: لا يلزم أن يكون ذلك الكلام حقيقة ولا مجازا وفيه تأمل الرابع: المحمود وقد علمت ما يشترط فيه.
الخامس: وهو ذكر ما يدل على اتصاف المحمود بالمحمودية وقد اشتهر تقييده باللسان وأريد به جارحة النطق ولما كان الواقع كون آلة التكلم في الغالب هي تلك الجارحة خصوه بها فلو فقد إنسان لسانه فأثنى بحروفه الشفوية أو خلق النطق في بعض جوارحه فأثنى به - كما شوهد في مقطوع جميع اللسان - فهو حمد وقضية التقييد أن لا يكون الصادر عمن لا جارحة له حمدا وقد قال تعالى: * (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) * (الإسرار: 44) وأما حمد الله تعالى نفسه نفسه مثلا فذهب الأكثر إلى أنه إخبار باستحقاق الحمد وأمر به أو مقول على ألسنة العباد أو مجاز عن إظهار الصفات الكمالية الذي هو الغاية القصوى من الحمد ومال السيد إلى الأخير. وقال الدواني: كون الحمد في حقه سبحانه مجازا بعيد عن قاعدة أهل الحق من إثبات الكلام له حقيقة والقول مساوق للكلام فالأظهر أن الحصر في اللسان إضافي لمقابلة الجنان والأركان والمراد الأمر الذي مصدره اللسان غالبا أو هو قيد غالبي يسوغ الاستعمال فيه واللفظ قد يكون موضوعا في أصل اللغة لعام ويشتهر في بعض مخصوص بحيث يصير فيه حقيقة عرفية وسبب الاشتهار إما كثرة تداول ذلك الفرد كما في الدابة وإما عدم الاطلاع على فرد آخر فيستعمله أهل اللسان في ذلك الفرد حتى إذا استمر ولم يطلع على إطلاقه على فرد آخر ظن أنه موضوع لخصوصه كما في الميزان فإنه في الأصل موضوع لآلة الوزن، ثم من لم يطلع إلا على ما له لسان
69

وعمود ربما يجزم بأنه موضوع له فقط ولا يدري أن وراء ذلك موازين ومثل هذا يجري في كثير من الألفاظ والأمر في المشتقات لا يكاد يخفى على من له أدنى فطنة لظهوره بالرجوع إلى قاعدة الاشتقاق وفي غيرها ربما يشتبه على الجماهير وبذلك يفوت كثير من حقائق الكتاب والسنة فإن أكثرهما وارد على أصل اللغة وعلى ذلك فقس الحمد فإن حقيقته عندهم إظهار صفات الكمال، ولما كان الإظهار القولي أظهر أفراده وأشهرها عند العامة شاع استعمال لفظ الحمد فيه حتى صار كأنه مجاز في غيره مع أنه بحسب الأصل أعم بل الإظهار الفعلي أقوى وأتم فهو بهذا الاسم أليق وأولى كما هو شأن القول بالتشكيك وفرقوا بين الحمد والمدح بأمور.
أحدها: أن الحمد يختص بالثناء على الفعل الاختياري لذوي العلم، والمدح يكون في الاختياري وغيره ولذوي العلم وغيرهم كما يقال مدحت اللؤلؤة على صفائها. وثانيها وثالثها: أن الحمد يشترط صدوره عن علم لا ظن وأن تكون الصفات المحمودة صفات كمال والمدح قد يكون عن ظن وبصفة مستحسنة وإن كان فيها نقص ما.
رابعها: أن في المدح من التعظيم والفخامة ما ليس في المحد وهو أخص بالعقلاء والعظماء وأكثر إطلاقا على الله تعالى. وخامسها: أن الحمد إخبار عن محاسن الغير مع المحبة والإجلال، والمدح إخبار عن المحاسن ولذا كان الحمد إخبارا يتضمن إنشاء والمدح خبرا محضا. وسادسها: أن الحمد مأمور به مطلقا ففي الأثر: " من لم يحمد الناس لم يحمد الله " والمدح ليس كذلك: " أحثوا في وجوه المداحين التراب " ويشعر كلام الزمخشري في " الكشاف والفائق " بترادفهما ففي الأول أنهما أخوان وجعل فيه نقيض المدح أعني الذم نقيضا للحمد وفي الثاني الحمد المدح والوصف بالجميل فالمدح عنده مخصوص بالاختياري وتأول المدح بالجمال وصباحة الوجه واحتمال أن يراد من الأخوين ما يكون بنيهما اشتقاق كبير بأن يشتركا في الحروف الأصول من غير ترتيب كجبذ وجذب وأن الأدباء يجوزون التعريف بالأعم والنقيض هناك بالمعنى اللغوي ويجوز أن يكون شيء واحد نقيضا لشيئين بينهما عموم وخصوص بهذا المعنى لا ينفي ما قلناه بل إذا أنصفت تكاد تجزم بأن الزمخشري قائل بالترادف ولا تستفزك هذه الاحتمالات لأنها كسراب بقعية نعم هذا القول بعيد منه وهو شيخ العربية وفتاها فالحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن المدح يكون على غير الاختياري وكأنه لذلك لم يقل عز شأنه المدح لله كما قالوا إظهارا لأن الله تعالى فاعل مختار وفي ذلك من الترغيب والترهيب المناسبين لمقام البعثة والتبليغ ما لا يخفى. وأما الشكر: فهو أيضا مغاير للحمد إلا أن بعضهم خصه بالعمل والحمد بالقول، وبعض جعله على النعم الظاهرة، والآخر على النعم الباطنة وادعى آخرون اختصاصه بفعل اللسان كالحمد في المشهور إلا أنه على النعمة وإليه يشير كلام الراغب، والمعروف أنه ما كان في مقابلتها قولا باللسان وعملا وخدمة بالأركان واعتقادا ومحبة بالجنان، وقول الطيبي إن هذا عرف أهل الأصول فإنهم يقولون شكر المنعم واجب ويريدون منه وجوب العبادة وهي لا تتم إلا بهذه الثلاثة وإلا فالشكر اللغوي ليس إلا باللسان غير طيب فإن ظاهر الكتاب والسنة إطلاق الشكر على غير اللسان قال تعالى: * (اعملوا آل داود شكرا) * (سبأ: 13) وروى الطبراني عن النواس بن سمعان: " أن ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم الجدعاء سرقت فقال لئن ردها الله تعالى علي لأشكرن ربي فلما ردت قال الحمد لله فانتظروا هل يحدث صوما أو صلاة فظنوا أنه نسي فقالوا له: فقال: ألم
70

أقل الحمد لله؟! " فلو لم يفهموا رضي الله تعالى عنهم إطلاق الشكر على العمل لم ينتظروه، وزاد بعضهم في أقسام الشكر رابعا وهو شكر الله تعالى بالله فلا يشكره حق شكره إلا هو ذكره صاحب " التجريد " وأنشد: وشكري ذوي الإحسان بالقلب تارة * وبالقول أخرى ثم بالعمل الأثني
وشكري لربي لا بقلبي وطاعتي * ولا بلساني بل به شكرنا عنا
والذي أطبق عليه الناس التثليث وعلى كل حال بينه وبين الحمد عموم وخصوص من وجه والحمد أقوى شعبة لأن حقيقته إشاعة النعمة والكشف عنها كما أن كفرانها إخفاؤها وسترها وتلك بالقول أتم لأن الاعتقاد أمر خفي في نفسه وعمل الجوارح وإن كان ظاهرا إلا أنه يحتمل خلاف ما قصد به وكم فرق بين حمدت الله وشكرته ومجدته وعظمته وبين أفعال العبادة وهي كلها موافقة للعادة ولسان الحال أنطق من لسان المقال أمر ادعائي كما هو المعروف في أمثاله، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: " الحمد رأس الشكر ما شكر الله تعالى عبد لا يحمده " وهو وإن كان فيه انقطاع إلا أن له شاهدا يتقوى به وإن كان مثله فحيث كان النطق يجلي كل مشتبه وكان الحمد أظهر الأنواع وأشهرها حتى إذا فقد كان ما عداه بمنزلة العدم شبهه صلى الله عليه وسلم بالرأس الذي هو أظهر الأعضاء وأعلاها والأصل لها والعمدة في بقائها وكأنه لهذا أتى به الرب سبحانه ليكون الرأس للرئيس ويفتتح النفيس بالنفيس أو لأنه لو قال جل شأنه الشكر لله كان ثناء عليه تعالى بسبب إنعام وصل إلى ذلك القائل والحمد لله ليس كذلك فهو أعلى كعبا وأظهر عبودية ويمكن أن يقال إن الشكر على الإعطاء وهو متناه والحمد يكون على المنع وهو غير متناه فالابتداء بشكر دفع البلاء الذي لا نهاية له على جانب من الحسن لا نهاية له ودفع الضر أهم من جلب النفع فتقديمه أحرى، وأيضا مورد الحمد في المشهور خاص ومتعلقه عام والشكر بالعكس موردا ومتعلقا ففي إيراده دونه إشارة قدسية ونكتة على ذوي الكثرة خفية وإلى الله ترجع الأمور وكأنه لمراعاة هذه الإشارة لم يأت بالتسبيح مع أنه مقدم على التحميد إذ يقال سبحان الله والحمد لله على أن التسبيح داخل في التحميد دون العكس فإن الأول يدل على كونه سبحانه وتعالى مبرأ في ذاته وصفاته عن النقائص والثاني يشير إلى كونه محسنا إلى العباد ولا يكون محسنا إليهم إلا إذا كان عالما قادرا غنيا ليعلم مواقع الحاجات فيقدر على تحصيل ما يحتاجون إليه ولا يشغله حاجة نفسه عن حاجة غيره، وإن أبيت - ولا أظن - قلنا كل تسبيح حمد وليس كل حمد تسبيحا لأن التسبيح يكون بالصفات السلبية فحسب والحمد بها وبالثبوتية على ما سلف فهو أعم منه بذلك الاعتبار فافتتح به لأنه لجمعيته وشموله أوفق بحال القرآن وتقديم التسبيح هناك لغرض آخر ولكل مقام مقال والتعريف هنا للجنس ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أن الحمد ما هو مثله في قول لبيد يصف العير وأتنه:
وأرسلها العراك ولم يذدها * ولم يشفق على نفض الدخال
71

وعليه جمع منهم الزمخشري حتى قال والاستغراق الذي يتوهمه كثير من الناس وهم وقد صار هذا معترك الأفهام ومزدحم أفكار العلماء الأعلام، فقيل: إنه مبني على مسألة خلق الأعمال فإن أفعال العباد لما كانت مخلوقة لهم عند المعتزلة كانت المحامد عليها راجعة إليهم فلا يصح تخصيص المحامد كلها به تعالى ورد بأن اختصاص الجنس يستلزم اختصاص أفراده أيضا إذ لو وجد فرد منه لغيره ثبت الجنس له في ضمنه وصح هذا عندهم لأن الأفعال الحسنة التي يستحق بها الحمد إنما هي بإقدار الله تعالى وتمكينه فبهذا الاعتبار يرجع الأمر إليه كله وأما حمد غيره فاعتداد بأن النعمة جرت على يده، وقيل إنه جعل الجنس في المقام الخطابي منصرفا إلى الكامل كأنه كل الحقيقة ورد بأنه يجوز في الاستغراق أيضا بأن يجعل ما عدا محامده كالعدم فلا فرق بين اختصاص الجنس والاستغراق في منافاتهما ظاهرا لمذهبه ودفعهما بالعناية، وقيل مبناه على أن المصادر نائبة مناب الأفعال وهي لا تعدو دلالتها عن الحقيقة إلى الاستغراق ورد بأن ذلك لا ينافي قصد الاستغراق بمعونة القرائن، وقيل إنما اختاره بناء على أنه المتبادر الشائع لا سيما في المصادر وعند خفاء القرائن ورد بأن المحلى بلام الجنس في المقامات الخطابية يتبادر منه الاستغراق وهو الشائع هناك مطلقا وأي
مقام أولى بملاحظة الشمول والاستغراق من مقام تخصيص الحمد به سبحانه تعظيما، فقرينة الاستغراق كنار على علم فالحق أن سبب الاختيار هو أن اختصاص الجنس مستفاد من جوهر الكلام ومستلزم لاختصاص جميع الأفراد فلا حاجة في تأدية المقصود من إثبات الحمد له تعالى وانتفائه عن غيره إلى أن يلاحظ بمعونة الأمور الخارجية بل نقول على ما اختاره يكون اختصاص الأفراد بطريق برهاني فيكون أقوى من إثباته ابتداء وفيه أن فهم اختصاص الجنس من جوهر الكلام يدل على سرعته وهو معنى التبادر وقد رده، وأيضا إذا كان الاختصاص بطريق برهاني فلا شبهة في خفائه فأين النار وأين العلم؟! وقيل غير ذلك ولا يبعد أن يقال إن اختيار الزمخشري كون التعريف للجنس وكون القول بالاستغراق وهم لا يبعد أن يكون رعاية لنزغة اعتزالية وأن يكون لنكتة عربية لأنه جعل أصل المعنى نحمد الله حمدا وزعم أن * (إياك نعبد وإياك نستعين) * بيان لحمدهم كأنه قيل كيف تحمدوني فقيل إياك نعبد ثم سئل وأجاب فقيل في توجيه ذلك أنه لما كان معناه نحمد الله حمدا كان إخبارا عن ثبوت حمد غير معين من المتكلم له تعالى على أن المصدر للعدد فاتجه أن يقال كيف تحمدونه أي بينوا كيفية حمدكم فإنها غير معلومة فبين بقوله تعالى: * (إياك نعبد) * الخ أي نقول هذه الكلمات ونحمده بهذا الحمد فورد السؤال عن التعريف لأن المناسب للإبهام ثم البيان التنكير وأجاب أنه لتعريف الجنس من حيث وجوده في فرد غير معين ولذا بين؛ وقيل لما كان المعنى نحمد حمدا كان المصدر للتأكيد فيكون دالا على الحقيقة من غير دلالة على الفردية والسؤال المقدر عن كيفية صدور تلك
72

الحقيقة والجواب أنا نحمد حمدا مقارنا لفعل الجوارح وفعل القلب ولا نقتصر على مجرد القول ثم أورد بأنه يكفي لإفادة هذا المصدر المنكر فما فائدة التعريف؟ فأجاب بأنه تعريف للجنس للإشارة إلى الماهية المعلومة للمخاطب من حيث هي، وعلى هذين التوجيهين يكون اختياره الجنس ومنعه الاستغراق لرعاية مذهبه والاختصاص على الأول اختصاص الفرد وعلى الثاني اختصاص الجنس باعتبار الكمال ولا يخفى سقوط اعتراض السعد حينئذ بأن الاختصاصين متلازمان وكل منهما مخالف لمذهبه ظاهرا موافق له تأويلا فلا يكون رعاية المذهب موجبا لاختيار الجنس دون الاستغراق ولا يرد ما أورد السيد على الثاني من أنه كما يجوز الحمل على الجنس باعتبار الكمال على مذهبه يجوز الحمل على الاستغراق باعتبار تنزيل محامد غيره منزلة العدم لأن فيه تطويل المسافة والالتجاء إلى معونة المقام من غير حاجة، وقيل حاصل الجواب عن كيفية صدور تلك الحقيقة بتخصيص العبادة المشتملة على الحمد وغيره لأن انضمام غيره معه نوع بيان لكيفيته أي حال حمدنا أنا نجمعه بسائر عبادات الجوارح والاستعانة في المهمات ونخص مجموعها بك وتقدير السؤال والجواب بحاله وحينئذ لا يصح أن يكون الاختيار للرعاية لأن الاختصاصين متلازمان بل لأن الحمد مصدر ساد مسد الفعل وهو لا يدل إلا على الحقيقة فكذا ما ينوب منابه وإن كان معرفة ليصح بيانه بإياك نعبد والحمل على الاستغراق يبطل النيابة إذ يصير الكلام مسوقا لبيان العموم ولا يصح البيان، وهذا الاختيار مستفاد من جعل * (إياك نعبد) * بيانا لحمدهم ولعل الذي دعاه إليه ترك العاطف فظن أنه لذلك لا يكون إلا بيانا وهو من التعكيس لأن جعل الصدر متبوعا للعجز أولى من العكس فالمحققون المحقون على تعميم الحمد وأن الفصل لأن الكلام الأول جار على المدح للغائب بسبب استحقاقه كل الحمد والثاني جار على الحكاية عن نفس الحامد وبيان أحواله بين يدي الباطن الظاهر والأول الآخر فترك العطف للتفرقة بين الحالتين لا للبيان، ويدل على ذلك أن أحسن الالتفات أن يكون النقل من إحدى الصيغتين إلى الأخرى في سياق واحد لمعلوم واحد ولا بيان له على البيان على أن جعل * (إياك نعبد) * بيانا ربما يناقض ما ادعاه من أن الشكر بالقلب والجوارح واللسان والحمد بالأخير لأن العبادة تكون بها كلها فيلزم أن يكون الحمد كذلك وأيضا الذهاب إلى فسحة الالتفات والقول بأن قوله * (الحمد) * الخ وارد على الشكر اللساني و * (إياك نعبد) * مشعر بالشكر بالجوارح و * (إياك نستعين) * مؤذن بالشكر القلبي أولى من الفرار إلى مضيق القول بالبيان، وأيضا في تعقيب هذه الصفات للحمد إشعار بأن استحقاقه له لاتصافه بها وقد تقرر أن في اقتران الوصف المناسب بالحكم إشعارا بالعلية وههنا الصفات بأسرها تضمنت العموم فينبغي أن يكون العموم في الحمد أيضا لأن الشكر يقتضي المنعم والمنعم عليه والنعمة فالمنعم هو الله تعالى والاسم الأعظم جامع لمعاني الأسماء الحسنى ما علم منها وما لم يعلم والمنعم عليه العالمون وقد اشتمل على كل جنس مما سمي به وموجب النعم الرحمن الرحيم وقد استوعب ما استوعب فإذن لا يستدعي تخصيص الحكم بالبعض سوى التحكم أو التوهم، هذا وأنا لو خليت وطبعي لا أمنع أن تكون أل للحقيقة من حيث هي كما في قولهم الرجل خير من المرأة أو لها من حيث وجودها في فرد غير معين كما في أدخل السوق أو لها في جميع الأفراد وهو الاستغراق كما في: * (إن الإنسان لفي خسر) * (العصر: 2) والقول بأن هذا المقام آب عن الاستغراق لأن اختصاص حقيقة الحمد به تعالى أبلغ من اختصاص أفرادها جمعا وفرادى لاستلزام الأول الثاني وسلوك طريقة البرهان أقضى لحق البلاغة، وأيضا أصل الكلام نحمد الله تعالى حمدا وحمدنا بعض لا كل وفي اختصاص الجنس إشعار بأن حمد كل حامد لكل محمود حمد لله تعالى على الحقيقة لأنه إنما حمده على الصفات الكمالية المفاضة عليه من الفياض الحق جل وعلا فهو فعله على الحقيقة والحمد على الفعل الجميل والمعتزلي وإن قال بالاستقلال لا يمنع أن الإقدار والتمكين منه تعالى فيمكنه من هذا الوجه أن يعمم عند المقتضى له وقد صرح بهذا الزمخشري أول التغابن (1) فقال في قوله تعالى: * (له الملك وله الحمد) * قدم الظرفان ليدل بتقديمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله تعالى ثم قال وأما حمد غيره فاعتداد بأن نعمة الله تعالى جرت على يده وقد يقال أيضا على أصله إن الحمد المستغرق لا يجوز أن يختص بل الحمد الحقيقي الكامل الذي يقتضيه إجراء هذه الصفات فاللام للحقيقة ويراد أكمل أنواعها فهو من باب ذلك الكتاب وحاتم الجود لأنه الذي يحق أن يطلق عليه الحقيقة حتى كأنه كلها لا لأنها للاستغراق في المقام الخطابي وتنزيل غير ذلك منزلة العدم فإنه تطويل للمسافة مع قصرها كلام لا أقبله وإن جل قائله ويعرف الرجال بالحق لا الحق
73

بالرجال كيف ومن سنة الله تعالى التي لا تبديل لها إجراء الكلام على سبيل الخطابة وإن كان برهانيا فهي أكثر تأثيرا في النفوس وأنفع لعوام الناس كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى: * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) * فالتحرز عن الاستغراق احترازا عن المقام الخطابي ذهول عن مقرىء كلام الله تعالى، ثم لما كان المقام مقتضيا لدقائق النعم وروادفها لم يكن تنزيل الحمد الغير الكامل منزلة العدم من مقتضيات المقام وتصريح الزمخشري في التغابن بالتعميم ممنوع
للتفرقة بين استغراق أفراد الحمد الخارجية والذهنية الحقيقية والمجازية الكاملة وغير الكاملة وبين اختصاص حقيقة الحمد كما يشعر به قوله وذلك لأن الملك على الحقيقة له وكذلك الحمد فكما أنه لا ينفي الملك عن غيره مطلقا فكذلك لا ينفي الحمد عنه كذلك فإن من أصل المعتزلة أن نعمة الله تعالى جارية على يد العبد لكنه موجد لانعمامه فله حمد يليق بإيجاده ولله تعالى حمد يليق بتمكينه وإفاضته وهو الحمد الكامل المختص به عز شأنه لا ذاك وفي " الكشاف " ما يؤيد ما قلناه لمن أمعن النظر، وأما حديث إن اختصاص حقيقة الحمد أبلغ من اختصاص الأفراد لاستلزام الأول الثاني فيجاب عنه بأن اختصاص الأفراد الخارجية والذهنية كما قررنا مستلزم لاختصاص الحقيقة أيضا إذ لم يبق لها فرد غير مختص فأين توجد فالاستلزام متعاكس على أن حقيقة الحمد يصدق عليها الحمد فهي فرد من أفراده كما قال الدامغاني فإذا خصص جميع أفراد الحمد به اختص حقيقته أيضا وكون الأصل نحمد الله تعالى حمدا ليس بقاطع احتمال الاستغراق الآن فقد تغير الحال، وأنت إذا تأملت بعد يرتفع عنك سجاف الإشكال ولست أقول إن الحمد أينما وقع يفيد ذلك بل إذا دعا المقام إليه أجبناه ولهذا فرقوا بين هذا الحمد وحمد الإنعام إذ عموم الربوبية وشمول الرحمة واستمرار الملك هنا تقتضي استغراق الأفراد توفية لحق هذه السورة وحرصا على التئام نظمها بخلاف ما في تلك السورة فإن العمومات مفقودة فيها ومن الغريب: أن بعضهم جعلها للعهد، قال الفاكهي: سمعت شيخنا أبا العباس المرسي يقول: قلت لابن النحاس ما تقول في الألف واللام في الحمد أجنسية هي أم عهدية؟ فقال: يا سيدي قالوا إنها جنسية فقلت له الذي أقول: إنها عهدية وذلك أن الله تعالى لما علم عجز خلقه عن كنه حمده حمد نفسه بنفسه في أزله نيابة عن خلقه قبل أن نحمده فقال أشهدك أنها للعهد واستأنس له بما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: " اللهم لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " وأغرب من هذا ما ذهب إليه بعض ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم وليس بالغريب عندهم أن الحمد لله على حد الكبرياء لله و * (ألا له الخلق والأمر) * (الأعراف: 54) فهو الحامد والمحمود والجميع شؤونه ولهم كلام غير هذا والكل يسقى بماء واحد، وعن إمامنا الماتريدي روح الله تعالى روحه أنه جعل هذا حمدا من الله تعالى لنفسه قال وإنما حمد نفسه ليعلم الخلق ولا ضير في ذلك لأنه سبحانه هو المستحق لذاته والحقيق بما هنالك إذ لا عيب يمسه ولا آفة تحل به. ثم إن الحمد: فيما تواتر مرفوع وهو مبتدأ خبره * (لله) * وقرأ الحسن البصري وزيد بن علي (الحمد لله) باتباع الدال اللام وإبراهيم بن عبلة وأهل البادية بالعكس وجاز ذلك استعمالا مع أن الاتباع إنما يكون في كلمة واحدة لتنزيلهما لكثرة استعمالهما مقترنين منزلة الكلمة الواحدة، واختلف في الترجيح مع الإجماع على الشذوذ فقيل قراءة إبراهيم أسهل لأمرين أحدهما: أن اتباع الثاني للأول أيسر من العكس وإن ورد كما في مد وشد وأقبل وأدخل لأنه جار مجرى السبب والمسبب وينبغي أن يكون السبب أسبق رتبة من المسبب، وثانيهما: أن ضمة الدال إعراب وكسرة اللام بناء وحرمة الإعراب أقوى من حرمة البناء
74

المطرد غلبة الأقوى الأضعف وقيل إن قراءة الحسن أحسن لأن الأكثر جعل الثاني متبوعا لأن ما مضى فات ولأن جعل غير اللازم تابعا للازم أولى والاستقامة عين الكرامة وكأنه لتعارض الترجيح قال الزمخشري: وأشف القراءتين قراءة إبراهيم فعبر بأشف وهو من الأضداد، وقرأ هارون بن موسى (الحمد لله) بالنصب وعامة بني تميم وكثير من العرب ينصبون المصادر بالألف واللام وهو بفعل محذوف قدروه نحمد بنون الجماعة لأنه مقول على ألسنة العباد ومناسب لنعبد ونستعين لا بنون العظمة لعدم مناسبته لمقام العبادة المقتضي لغاية التذلل والخضوع ويجوز أن يكون من باب:
وإن حدثوا عنها فكلي مسامع * وكلي إذا حدثتهم ألسن تتلو
وحمل الغزالي قدس سره حديث " صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة " على ذلك وأرفع القراءات قراءة الرفع لدلالة الجملة الإسمية على الثبوت والدوام بقرينة المقام بخلاف الفعلية فإنها تدل على التجدد والحدوث وإن كان هناك ظرف فإن قدر متعلقه إسما فهو ظاهر وإلا فقد قيل الخبر الفعلي إنما يفيد الحدوث إذا كان مصرحا به على أنه قيل لا تقدير، وما ذكره النحاة لأمر صناعي اقتضاه كقولهم الظرفية اختصار الفعلية، وقيل إن الجملة الإسمية بمجردها لا تدل على ذلك بل مع انضمام العدول وإن أعجبك فالتزمه فقد قيل بالعدول هنا ولكن ليس هذا في كلام الشيخ عبد القاهر بل من تدبر كلامه في بحث الحال من " الدلائل " دفع بأقوى دليل الحال الذي عرض للناظرين، وقولهم المضارع يفيد الاستمرار أرادوا به الاستمرار التجددي في المستقبل لا في جميع الأزمنة فلا ينافي ما قلنا، واختار الجملة الإسمية ههنا إجابة لداعي المقام، وقد قال غير واحد إن أصل هذا المصدر النصب لأن المصادر أحداث متعلقة بمحالها فيقتضي أن تدل على نسبتها إليها والأصل في بيان النسبة في المتعلقات الأفعال فينبغي أن تلاحظ معها ويؤيد ذلك كثرة النصب في بعضها والتزامه في بعض آخر وقد تنزل منزلة أفعالها فتسد مسدها وتستوفي حقها لفظا ومعنى فيكون ذكرها معها كالشريعة المنسوخة يستنكرها المتدين بعقائد اللغة.
وبقي ههنا أمور: الأول اختلف في جملة الحمد هل هي إخبارية أم إنشائية فالذي عليه معظم العلماء أنها إخبارية كما يقتضيه الظاهر لما يلزم على الإنشاء من انتفاء الاتصاف بالجميل قبل حمد الحامد ضرورة أن الإنشاء يقارن معناه لفظه في الوجود واللازم باطل فالملزوم مثله ولا يرد أن القصد إحداث الحمد لا الإخبار بثبوته لأن الإخبار بثبوت جميع المحامد لله تعالى هو عين الحمد كما أن قولك الله واحد عين التوحيد، وألف العلامة البخاري في الانتصار لذلك ورد من زعم أنها إنشائية وأطال فيه واهتم برده ابن الهمام وذكر أن ما ذكر باطل لأن اللازم من المقارنة انتفاء انتفاء وصف الواصف لا الاتصاف إذ الحمد إظهار الصفات لا ثبوتها، وأيضا المخبر بالحمد
75

لا يقال له حامد إذ لا يصاغ لغة للمخبر عن غيره من متعلق إخباره اسم قطعا قلا يقال لقائل زيد له القيام قائم فلو كان الحمد إخبارا محضا لم يقل لقائل الحمد لله حامد وهو باطل نعم يتراءى لزوم أن يكون كل مخبر منشئا حيث كان واصفا للواقع ومظهرا له وهو توهم فإن الحمد مأخوذ فيه مع ذكر الواقع كونه على وجه التعظيم وهذا ليس جزء ماهية الخبر فاختلفت الحقيقتان فالجملة إنشائية لا محالة، وقال الملاخسرو هي وأمثالها إخبارية لغة ونقلها الشارع للإنشاء لمصلحة الأحكام واعترض على إنشائيتها بأن الاستغراق ينافيه ويستلزم كون الحامد منشئا لكل حمد ومن المحال إنشاء الحمد القائم بغيره، وأجيب بأنه لا منافاة ولا استلزام ويكفي كونه منشئا للإخبار بأن
كل حمد ثابت له ومحمود به والذي ارتضيه أنها إخبارية كما عليه المعظم ويد الله تعالى مع الجماعة والمراد الإخبار بأن الله تعالى مستحق الحمد كما قال سبحانه: * (له الحمد في الأولى والآخرة) * (القصص: 70) والمتكلم بها عن اعتقاد واصف ربه سبحانه بالجميل ومعظم له جل شأنه فيقال له حامد لذلك لا لمحض الإخبار بما فيه لفظ الحمد بل إذا غير الصيغة إلى ما ليس فيها ذلك اللفظ مما هو مشتمل على الوصف بالجميل بقصد التعظيم قيل له أيضا حامد فللحمد صيغ شتى وعبارات كثيرة حتى جعل منها الإقرار بالعجز عن الحمد، وقد نقل أن داود عليه السلام قال: يا رب كيف أشكرك والشكر من آلائك؟ فقال: يا داود لما علمت عجزك عن شكري فقد شكرتني، فما ذكره ابن الهمام أولا من أن المخبر بالحمد لا يقال له حامد إن أراد أن المخبر من حيث إنه مخبر لا يقال له ذلك فمسلم والدليل تام لكنا بمعزل عن هذه الدعوى وإن أراد أن المخبر مطلقا ولو قصد التعظيم لا يقال له ذلك فممنوع ولا تقريب في الدليل كما لا يخفى، وما ذكره ثانيا من قوله: نعم الخ يعلم دفعه من خبايا زوايا كلامنا وما ذكره الملاخسرو يرد عليه أن النقل في أمثال ما نحن فيه بلا ضرورة ممنوع ولا تظن من كلامي هذا أني أمنع أن يكون الحمد بحملة إنشائية رأسا معاذ الله ولكني أقول: إن الجملة هنا إخبارية وإن الحمد يصح بها بناء على ما ذكرناه والبحث بعد محتاج إلى تحرير ولعل الله تعالى يوفقه لنا في مظانه والظن بالله تعالى حسن.
الثاني: أنه شاع السؤال عن معنى كون حمد العباد لله تعالى مع أن حمدهم حادث وهو سبحانه القديم ولا يجوز قيام الحادث به وأجيب بأن المراد تعلق الحمد به تعالى ولا يلزم من التعلق القيام كتعلق العلم بالمعلومات فلا يتوجه الإشكال أصلا، وقيل إن الحمد مصدر بناء المجهول فيكون الثابت له عز شأنه هو المحمودية وصيغة المصدر تحتمل ذلك وغيره ولهذا جعل بعضهم في الحمد لله أوائل الكتب اثنين وأربعين احتمالا وقيل وهو من الغرابة بمكان أن اللام للتعليل أي الحمد ثابت لأجل الله تعالى الثالث: أنه أتى باسم الذات في الحمدلة لئلا يتوهم لو اقتصر على الصفة اختصاص استحقاقه الحمد بوصف دون وصف وذلك لأن اللام على ما قيل للاستحقاق فإذا قيل الحمد لله يفيد استحقاق الذات له وإذا علق بصفة أفاد استحقاق الذات الموصوفة بتلك الصفة له والاختصاص إفادة التعريف ولكون الاختصاص كذلك حكما باطلا في نفسه جعل متوهما لا لأن تعليق الحكم بالوصف يدل على العلية لا على الاختصاص لأنه
76

مستفاد من تعريف المسند إليه ومعنى الاستحقاق الذاتي ما لا يلاحظ معه خصوصية صفة حتى الجميع لا ما يكون الذات البحت مستحقا له فإن استحقاق الحمد ليس إلا على الجميل وسمي ذاتيا لملاحظة الذات فيه من غير اعتبار خصوصية صفة أو لدلالة اسم الذات عليه أو لأنه لما لم يكن مستندا إلى صفة من الصفات المخصوصة كان مسندا إلى الذات وقد قسم بعض ساداتنا قدس الله تعالى أسرارهم الحمد باعتبار صدوره إلى قسمين فمصدره باعتبار الفرق من محلين ومنبعه من عينين فإن وجد من الحق وصدر من الوجود المطلق فتارة يكون على الذات بانفرادها ووحدتها وغيبتها في عماء هويتها وتارة بكمال إطلاقها في وجودها وتارة بتنزلاتها إلى حظيرات شهودها وتارة بكمال أوصافها ونعوتها وتارة بكمال آثارها وأفعالها وتارة يثني على أوصافها من حيث الجملة وتارة من حيث التفصيل فيثني على العلم من حيث إحاطته بكل معلوم من حق وخلق وغيب وشهادة وملك وملكوت وبرزخ وجبروت واستقلاله بالوجود من غير مدة ولا مادة ولا معلم ولا مفيد وتقدسه عن النقص وتنزهه عما يخطر في الوهم وكذلك على سائر الصفات بما يليق بها ويجب لها، وإن وجد من الخلق والوجود المقيد فتارة يكون على ذات الحق وتارة على صفاته وتارة على أسمائه ومرة على أفعاله وطورا على أسراره وكرة على لطيف صنعه وخفي حكمته في أفعاله وآثاره وذلك بحسب مبلغ الناس في العلم ومنتهاهم في العقل والفهم * (وما قدروا الله حق قدره) * (الأنعام: 91) و * (لا يحيطون به علما) * (طه: 110) و * (سبحان ربك رب العزة عما يصفون) * (الصافات: 180) وإذا اعتبر الجمع كان الكل منه وإليه * (وأن إلى ربك المنتهى) * (النجم: 42) فلا حامد ولا محمود سواه.
أوري بسعدي والرباب وزينب * وأنت الذي يعني وأنت المؤمل
وهناك يرتفع كل إشكال وينقطع كل مقال وإنما قدم الحمد على الاسم الكريم لاقتضاء المقام مزيد اهتمام به لكونه بصدد صدور مدلوله فهو نصب العين وإن كان ذكر الله تعالى أهم في نفسه والأهمية تقتضي التقديم إلا أن المقتضى العارض بحسب المقام أقوى عند المتكلم وتأخير ما قدم هنا في نحو قوله تعالى: * (وله الحمد في السموات) * (الروم: 18) لغرض آخر سيأتيك مع أمور أخر في محله إن شاء الله تعالى، والرب في الأصل مصدر بمعنى التربية وهي تبليغ الشيء إلى كماله بحسب استعداده الأزلي شيئا فشيئا وكأنها من ربا الصغير كعلا إذا نشأ فعدي بالتضعيف ووصف به للمبالغة الحقيقية والصورية فالتجوز فيه إما عقلي من قبيل فإنما هي إقبال وإدبار أو لغوي كاسأل القرية وقيل هو صفة مشبهة. وفي " شرح التسهيل " أنه ممنوع والظاهر أنه من مبالغة اسم الفاعل أو هو اسم فاعل وأصله رأب فحذفت ألفه كما قالوا رجل بار وبر قاله أبو حيان، ويؤيده إضافته إلى المفعول وقد ذكروا أن الصفة المشبهة تضاف إلى الفاعل ويطلق أيضا على الخالق والسيد والملك والمنعم والمصلح والمعبود والصاحب إلا أن المشهور كونه بمعنى التربية فلهذا قال بعض المحققين: إنه حقيقة فيه لأن التبادر أمارتها وفي البواقي إما مجاز أو مشترك والأول أرجح لأن في جميعها يوجد معنى التربية ووجود العلاقة أمارة المجاز ولأن اللفظ إذا دار بين المجاز والاشتراك يحمل على المجاز كما تقرر في مبادىء اللغة وحمله الزمخشري هنا على معنى المالك ولعل ما اخترناه خير منه لأنه بعد تسليم أنه حقيقة في ذلك يؤدي إلى أن يكون * (مالك يوم الدين) * تكرارا لدخوله في * (رب العالمين) * وإن قلنا بالتخصيص بعد التعميم يحتاج إلى بيان نكتة إدراج الرحمن الرحيم بينهما ولا تظهر لهذا العبد على أن مختارنا أنسب بالمقام لأن التربية أجل النعم بالنسبة إلى المنعم عليه وأدل على كمال فعله تعالى وقدرته وحكمته، تدلك على ذلك الآثار وما فيها من الأسرار، واستطيب بعضهم ما اختاره الطيبي من وجوب حمل الرب على كلا مفهوميه والقدر المشترك المتصرف ألزم وسبيل أعمال المشترك في كلا مفهوميه إذا
77

اتفقا في أمر سبيل الكناية من أنها لا تنافي إرادة التصريح مع إرادة ما عبر عنه وإذا اختلف سبيل الحقيقة والمجاز وعلى كل حال لا يطلق لغة على غيره تعالى إطلاقا
مستفيضا إلا مقيدا بإضافة ونحوها مما يدل على ربوبية مخصوصة، وقول ابن حلزة في المنذر بن ماء السماء: وهو الرب والشهيد على يو * م الخيارين والبلاء بلاء
نادر، واستظهر الإمام السيوطي أن المراد نفي إطلاقه على غيره تعالى شرعا والشعر جاهلي وفي كلام الجوهري ما يؤيده، وقال الشهاب: لو كان بمعنى غير المالك جاز مع القرينة إطلاقه على غيره تعالى، وجوز بعضهم إطلاقه منكرا كما في قوله النابغة: نحث إلى النعمان حتى نناله * فدى لك من رب طريفي وتالدي
وكره بعضهم إطلاقه مقيدا بالإضافة إلى عاقل كرب العبد لإيهام الاشتراك، وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: " لا يقل أحدكم أطعم ربك وضىء ربك ولا يقل أحد ربي وليقل سيدي ومولاي " وأجابوا عن قول يوسف عليه السلام: * (ارجع إلى ربك) * (يوسف: 50) و * (إنه ربي) * (يوسف: 23) ونحوه بأنه مثل: * (وخروا له سجدا) * (يوسف: 100) مخصوص جوازه بزمانه و * (العالمين) * في المشهور جمع عالم واعترض بأنه يعم العقلاء وغيرهم وعالمون خاص بالعقلاء وأجيب بكونه جمعا له بعد تخصيصه بهم وهو في حكم الصفات كما سيعلم بتوفيقه تعالى من تعريفه أو نقول بالتغليب وقيل نزل من ليس له العلم لكونه دالا على معنى العلم منزلة من له العلم فجمع بالواو والنون كما في: * (أتينا طائعين) * (فصلت: 110) * (ورأيتهم لي ساجدين) * (يوسف: 4) وقيل هو اسم جمع على وزن السلامة ولا نظير له وفيه نظر لأن الاسم الدال على أكثر من اثنين إن كان موضوعا للآحاد المجتمعة دالا عليها دلالة تكرار الواحد بالعطف فهو الجمع وإن كان موضوعا للحقيقة ملغى فيه اعتبار الفردية فهو اسم الجنس الجمعي كتمر وتمرة وإن كان موضوعا لمجموع الآحاد فهو اسم جمع سواء كان له واحد كركب أو لا كرهط فانظر أي التعريفات صادقة عليه وفي الكشف لو قيل عالم وعالمون كعرفة وعرفات لم يبعد وفيه أنه أبعد بعيد لأنه قياس فيما يعرف بالسماع على أن للعالمين آحادا يسمى كل منها عالما فلا مرية في كونه جمعا له بخلاف عرفات فإنه ليس لها آحاد كل منها عرفة والعالم كالخاتم اسم لما يعلم به وغلب فيما يعلم به الخالق تعالى شأنه وهو كل ما سواه من الجواهر والأعراض ويطلق على مجموع الأجناس وهو الشائع كما يطلق على واحد منها فصاعدا فكأنه اسم للقدر المشترك وإلا يلزم الاشتراك أو الحقيقة والمجاز والأصل نفيهما، ولا يطلق على فرد منها فلا يقال عالم زيد كما يقال عالم الإنسان ولعله ليس إلا باعتبار الغلبة والاصطلاح وأما باعتبار الأصل فلا ريب في صحة الإطلاق قطعا لتحقق المصداق حتما فإنه كما يستدل على الله سبحانه وتعالى بمجموع ما سواه وبكل جنس من أجناسه يستدل عليه تعالى بكل جزء من أجزاء ذلك المجموع وبكل فرد من أفراد تلك الأجناس لتحقق الحاجة إلى المؤثر الواجب لذاته في الكل فإن كل ما ظهر في المظاهر مما عز وهان وحضر في هذه المحاضر كائنا ما كان لإمكانه وافتقاره دليل لائح على الصانع المجيد وسبيل واضح إلى عالم التوحيد: فيا عجبا كيف يعصي الال‍ * - ه أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية * تدل على أنه واحد
وإنما أتى الرب سبحانه بالجمع المعرف لأنه لو أفرد وعرف بلام الاستغراق لم يكن نصا فيه لاحتمال العهد بأن يكون إشارة إلى هذا العالم المحسوس لأن العالم وإن كان موضوعا للقدر المشترك إلا أنه شاع استعماله بمعنى
78

المجموع كالوجود في الوجود الخارجي وقد غلب استعماله في العرف بهذا المعنى في العالم المحسوس لإلف النفس بالمحسوسات فجمع ليفيد الشمول قطعا لأنه حينئذ لا يكون مستعملا في المجموع حتى يتبادر منه هذا العالم المحسوس فيكون مستعملا في كل جنس إذ لا ثالث فيكون المعنى رب كل جنس سمي بالعالم والتربية للأجناس إنما تتعلق باعتبار أفرادها فيفيد شمول آحاد الأجناس المخلوقة كلها نظرا إلى الحكم، وحديث أن استغراق المفرد أشمل على ما فيه أمر فرغ عنه ولا ضرر لنا منه كما لا يخفى على المتأمل، وبعضهم خص * (العالمين) * بذوي العلم من الملائكة والثقلين ورب أشرف الموجودات رب غيرهم قال الإمام الأسيوطي: وعليه هو مشتق من العلم وعلى القول بالعموم من العلامة، وفيه أن الكل في كل محتمل والتخصيص دعوى من غير دليل وقيل هم الجن والإنس لقوله تعالى: * (ليكون للعالمين نذيرا) * (الفرقان: 1) وقيل هم الإنس لقوله تعالى: * (أتأتون الذكران من العالمين) * (الشعراء: 165) وهو المنقول عن جعفر الصادق والمأخوذ من بحر أهل البيت ورب البيت أدرى. ولعل الوجه فيه الإشارة إلى أن الإنسان هو المقصود بالذات من التكليف بالحلال والحرام وإرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام ولأنه فذلكة جميع الموجودات ونسخة جميع الكائنات المنقولة من اللوح الرباني بالقلم الرحماني، ومن هذا الباب ما نسب لباب مدينة العلم كرم الله وجهه:
دواؤك فيك وما تبصر * وداؤك منك وما تشعر
وتزعم أنك جرم صغير * وفيك انطوى العالم الأكبر
ومن تأمل في ذاته وتفكر في صفاته ظهرت له عظمة باريه وآيات مبديه * (وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون) * (الذاربات: 20، 21) بل من عرف نفسه فقد عرف ربه والمناسب للمقام هنا العموم والعوالم كثيرة لا تحصيها الأرقام * (ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام) * (لقمان: 27) وروي في بعض الأخبار " أن الله تعالى خلق مائة ألف قنديل وعلقها بالعرش والسموات والأرض وما فيهن حتى الجنة والنار في قنديل واحد ولا يعلم ما في باقي القناديل إلا الله تعالى ". وقال كعب الأحبار: لا يحصي عدد العالمين إلا الله تعالى: * (ويخلق ما لا تعلمون) * (النحل: 8) * (وما يعلم جنود ربك إلا هو) * (المدثر: 31) وما من ذرة من ذرات العوالم إلا وهي في حيطة تربيته سبحانه بل ما من شيء مما أحاط به نطاق الإمكان والوجود من العلويات والسفليات والمجردات والماديات والروحانيات والجسمانيات إلا وهو في حد ذاته بحيث لو فرض انقطاع آثار التربية عنه آنا واحدا لما استقر له القرار ولا اطمأنت به الدار إلا في مطمورة العدم ومهاوي البوار لكن يفيض عليه من الجناب الأقدس تعالى شأنه وتقدس في كل زمان يمضي وكل آن يمر وينقضي من فنون الفيوض المتعلقة بذاته ووجوده وصفاته وكمالاته ما لا يحيط بذلك فلك التعبير ولا يعلمه إلا اللطيف الخبير ضرورة أنه كما لا يستحق شيء من الممكنات بذاته الوجود ابتداء لا يستحقه بقاء وإنما ذلك من جناب المبدأ الأول عز وعلا فكما لا يتصور وجوده ابتداء ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الأصلي لا يتصور بقاؤه على الوجود بعد تحققه بعلته ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الطارىء لما أن الدوام
من خصائص الوجود الواجبي، وظاهر أن ما يتوقف عليه وجوده من
79

الأمور الوجودية التي هي علله وشرائطه وإن كانت متناهية لوجوب تناهي ما دخل تحت الوجود لكن الأمور العدمية التي لها دخل في وجوده وهي المعبر عنها بارتفاع الموانع ليست كذلك إذ لا استحالة في أن يكون لشيء واحد موانع غير متناهية يتوقف وجوده أو بقاؤه على ارتفاعها أي بقائها على العدم مع إمكان وجودها في أنفسها، فإبقاء تلك الموانع التي لا تتناهى على العدم تربية لذلك الشيء من وجوه غير متناهية، وبالجملة آثار تربيته تعالى واضحة المنار ساطعة الأنوار فسبحانه من رب لا يضاهي ومنان لا يحصي كرمه ولا يتناهى ونحن في تيار بحر جوده سابحون وعن إقامة مراسم شكره قاصرون، وما أحسن قول بعض العارفين أنه تعالى يملك عبادا غيرك وأنت ليس لك رب سواه ثم إنك تتساهل في خدمته والقيام في وظائف طاعته كأن لك ربا بل أربابا غيره وهو سبحانه يعتني بترتبيك حتى كأنه لا عبد له سواك فسبحانه ما أتم تربيته وأعظم رحمته، وإنما كان الجمع بالواو والنون مع أنه في المشهور جمع قلة والظاهر مستدع لجمع الكثرة تنبيها على أن العوالم وإن كثرت قليلة بل أقل من القليل في جنب عظمة الله تعالى وكبريائه: * (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه) * (الزمر: 67) على أن جمع القلة كثيرا ما يوصله المقام إلى جمع الكثرة على أن بعض المحققين المحقين من أرباب العربية ذهب إلى أن الجمع المذكر السالم صالح للقلة والكثرة فاختر لنفسك ما يحلو. وقد أشار سبحانه وتعالى بقوله: * (رب العالمين) * إلى حضرة الربوبية التي هي مقام العارفين وهي اسم للمرتبة المقتضية للأسماء التي تطلب الموجودات فدخل تحتها العليم والسميع والبصير والقيوم والمريد والملك وما أشبه ذلك لأن كل واحد من هذه الأسماء والصفات يطلب ما يقع عليه فالعليم يقتضي معلوما والقادر مقدورا والمريد مرادا إلى غير ذلك والأسماء التي تحت اسم الرب هي الأسماء المشتركة بين الحق والخلق والأسماء المختصة بالخلق اختصاصا تأثيريا فمن القسم الأول: العليم مثلا فإن له وجهين وجه يختص بالجناب الإلهي ومنه يقال: يعلم نفسه ووجه ينظر إلى المخلوقات ومنه يقال: يعلم غيره ومن القسم الثاني: الخالق ونحوه من الأسماء الفعلية فله وجه واحد ومنه يقال: خالق للموجودات ولا يقال: خالق لنفسه، تعالى عن ذلك وهذا القسم من الأسماء تحت اسمه الملك ومنه يظهر الفرق بينه وبين الرب، وأما الفرق بين الرب والرحمن فهو أن الرحمن عندهم اسم لمرتبة اختصت بجميع الأوصاف العلية الإلهية سواء انفردت الذات به كالعظيم والفرد أو حصل الاشتراك أو الاختصاص بالخلق كالقسمين المتقدمين فهو أكثر شمولا من الرب ومن مرتبة الربوبية ينظر الرحمن إلى الموجودات وأما اسمه تعالى الله: فهو اسم لمرتبة ذاتية جامعة وفلك محيط بالحقائق وهو مشير إلى الألوهية التي هي أعلى المراتب وهي التي تعطي كل ذي حق حقه وتحتها الأحدية وتحتها الواحدية وتحتها الرحمانية وتحتها الربوبية وتحتها الملكية ولهذا كان اسمه الله أعلى الأسماء وأعلى من اسمه الأحد فالأحدية أخص مظاهر الذات لنفسها والألوهية أفضل مظاهر الذات لنفسها أو لغيرها ومن ثم منع أهل الله تعالى تجلي الأحدية ولم يمنعوا تجلي الألوهية لأن الأحدية ذات محض لا ظهور لصفة فيها فضلا عن أن يظهر فيها مخلوق فما هي إلا للقديم القائم بذاته. ومما قررنا يعلم سر كثرة افتتاح العبد دعاءه بيا رب يا رب مع أنه تعالى ما عين هذا الاسم الكريم في الدعاء ونفى ما سواه بل قال سبحانه: * (قل ادعو الله أو ادعوا الرحمن) * (الإسراء: 110) وقال: * (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) * (الأعراف: 180) وقال أرباب الظاهر: الداعي لا يطلب إلا ما يظنه صلاحا لحاله وتربية لنفسه فناسب أن يدعوه بهذا الاسم ونداء المربي في الشاهد بوصف التربية أقرب لدر ثدي الإجابة وأقوى لتحريك عرق الرحمة، وعند ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم يختلف الكلام باختلاف المقام فرقا وجمعا وعندي وهو قبس من أنوارهم أن الأرواح أول ما شنفت آذانها وعطرت
80

أردانها بسماع وصف الربوبية كما يشعر بذلك قوله تعالى: * (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسم ألست بربكم قالوا بلى) * (الأعراف: 172) فهم ينادونه سبحانه بأول اسم قررهم به فأقروا وأخذ به عليهم العهد فاستقاموا واستقروا فهو حبيبهم الأول ومفزعهم إذا أشكل الأمر وأعضل:
تركت هوى سعدي وليلي بمعزل * وعدت إلى مصحوب أول منزل
ونادتني الأهواء مهلا فهذه * منازل من تهوى رويدك فانزل
وقريب من هذا ما ذكره الشيخ الأكبر قدس سره الأنور مما حاصله أن الله تعالى لما أوجد الكلمة المعبر عنها بالروح الكلي إيجاد إبداع وأعماه عن رؤية نفسه فبقي لا يعرف من أين صدر ولا كيف صدر فحرك همته لطلب ما عنده ولا يدري أنه عنده: قد يرحل المرء لمطلوبه * والسبب المطلوب في الراحل
* (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) * (ق: 16) فأخذ في الرحلة بهمته فأشهده الحق ذاته فعلم ما أودع الله تعالى فيه من الأسرار والحكم وتحقق عنده حدوثه وعرف ذاته معرفة إحاطية فكانت تلك المعرفة غذاء معينا يتقوت به وتدوم حياته فقال له عند ذلك التجلي الأقدس ما أسمى عندك فقال أنت ربي فلم يعرفه إلا في حضرة الربوبية وتفرد القديم بالألوهية فإنه لا يعرفه إلا هو فقال له سبحانه أنت مربوبي وأنا ربك أعطيتك أسمائي وصفاتي ولا يحصل لك العلم إلا من حيث الوجود ولو أحطت علما بي لكنت أنت أنا ولكنت محاطا لك وأمدك بالأسرار الإلهية وأربيك بها فتجدها مجعولة فيك فتعرفها وقد حجبتك عن معرفة كيفية إمدادي لك بها إذ لا طاقة لك أن تحمل مشاهدتها إذ لو عرفتها لاتحدت الانية وأين المركب من البسيط ولا سبيل إلى قلب الحقائق إلى آخر ما قال، ويعلم منه إشارة سر افتتاح الأوصاف في الفاتحة برب العالمين، وفيه أيضا مناسبة لحال البعثة وإرساله صلى الله عليه وسلم إلى من أرسل إليه لأن ذلك أعظم تربية للعباد ورمز خفي إلى طلب الشفقة والرأفة بالخلق كيف كانوا لأن الله تعالى ربهم أجمعين. داريت أهلك في هواك وهم عدا * ولأجل عين ألف عين تكرم
وقد قرىء (رب العالمين) بالنصب ونسب ذلك إلى زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما، وقد اختلف في توجيهه فقيل نصب على القطع ويقدر العامل هنا أمدح للمقام أو أذكر لا أعني لأن ذلك إذا لم يكن المنعوت متعينا كما في شرح " العمدة " وضعف بالاتباع بعد القطع في النعت وأجيب بأن الرحمن بدل لا نعت وروى أنه قرىء بنصب (الرحمن الرحيم) فلا ضعف حينئذ وقيل بفعل مقدر دل عليه الحمد وليس على التوهم كما توهم أبو حيان فضعفه بزعمه أنه من خصائص العطف وقيل بالحمد المذكور
واعترض بأن فيه إعمال المصدر المحلى باللام وبأنه يلزم الفصل بين العامل والمعمول بالخبر الأجنبي وأجيب عن الأول بأن سيبويه وهو هو جوز إعمال المحلى مطلقا والظرف تكفيه رائحة الفعل نعم منعه الكوفيون مطلقا وجوزه على قبح الفارسي وبعض البصريين وفصل البعض بين ما تعاقب أل فيه الضمير فيجوز ومالا فلا، وعن الثاني بأن هذا الخبر كان معمولا لهذا المبتدأ في موضع المفعول كما تقول حمدا له فليس بأجنبي صرف على أن المبتدأ والخبر لاتحادهما معنى كشيء واحد فلا أجنبي.
وحكي عن بعض النحاة جواز الإعمال مطلقا وقيل بالنداء ولا يخفى ما فيه من اللبس والفصل والالتفات الذي لا يكاد لخلوه عما يأتي إن شاء الله تعالى يلتفت إليه وقيل رب فعل ماض وفيه أن أمره مضارع في البعد لما تقدم وأن الجملة لا تكون صفة والحالية غير حسنة الحال مع أنه قرىء بنصب ما بعد والمناسب المناسبة وأهون الأمور عندي أولها
81

بل يكاد يقطع الظاهر بالقطع، ثم إنه سبحانه وتعالى بعدما ذكر عموم تربيته صرح بعظيم رحمته فقال عز شأنه: * (الرحمن الرحيم) * وقد تقدم الكلام عليهما والجمهو على خفضهما، ونصبهما زيد وأبو العالية وابن السميقع وعيسى بن عمور، ورفعهما أبو رزين العقيلي والربيع بن خيثم وأبو عمران الجولي واستدل بعض ساداتنا بتكرارهما على أن البسملة ليست آية من الفاتحة وليس بالقوي لأن التكرار لفائدة، فذكرهما في البسملة تعليل للابتداء باسمه عز شأنه، وذكرهما هنا تعليل لاستحقاقه تعالى الحمد، وقال الإمام الرازي قدس سره في بيان حكمة التكرار التقدير كأنه قيل له اذكر أني إله ورب مرة واحد واذكر أني رحمن رحيم مرتين لتعلم أن العناية بالرحمة أكثر منها بسائر الأمور ثم لما بين الرحمة المضاعفة فكأنه قال لا تغتروا بذلك فإني مالك يوم الدين ونظيره قوله تعالى: * (غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب) * (غافر 3) انتهى، وفي القلب منه شيء فإن الألوهية مكررة أيضا كما ترى وعندي بمسلك صوفي أن ذكر الرحمن الرحيم تفصيل من وجه لما في رب العالمين من الإجمال وذلك أن التربية تنقسم ببعض الاعتبارات إلى قسمين، أحدهما التربية بغير واسطة كالكلمة لأنه لا يتصور في حقه واسطة ألبتة، وثانيهما التربية بواسطة كما فيمن دون الكلمة وهذا الثاني له قسمان أيضا، قسم ممزوج بألم كما في تربية العبد بأمور مؤلمة له شاقة عليه، وقسم لا مزج فيه كما في تربية كثير ممن شمله اللطف السبحاني: غافل والسعادة احتضنته * وهو عنها مستوحش نفار
فالرحمن يشير إلى التربية بالوسائط وغيرها في عالمه والرحيم يشير إلى التربية بلا واسطة في كلماته ورحمة الرحمن أيضا قد تمزج بالألم كشرب الدواء الكره الطعم والرائحة فإنه وإن كان رحمة بالمريض لكن فيه ما لا يلائم طبعه ورحمة الرحيم لا يمازجها شوب فهي محض النعم ولا توجد إلا عند أهل السعادات الكاملة. اللهم اجعلنا سعداء الدارين بحرمة سيد الثقلين صلى الله عليه وسلم
* (مالك يوم الدين) * قرأ مالك كفاعل مخفوضا عاصم والكسائي وخلف في اختياره ويعقوب وهي قراءة العشرة إلا طلحة والزبير وقراءة كثير من الصحابة، منهم أبي وابن مسعود ومعاذ وابن عباس، والتابعين منهم قتادة والأعمش، وقرأ (ملك) كفعل بالخفض أيضا باقي السبعة وزيد وأبو الدرداء وابن عمر والمسور وكثير من الصحابة والتابعين، وقرأ (ملك) على وزن سهل أبو هريرة وعاصم الجحدري ورواهما الجعفي وعبد الوارث عن أبي عمرو وهي لغة بكر بن وائل، وقرأ (ملكي) باشباع كثرة الكاف أحمد بن صالح عن ورش عن نافع، وقرأ (ملك) على وزن عجل أبو عثمان والشعبي وعطية، وقرأ أنس بن مالك وأبو نوفل عمرو بن مسلم البصري (ملك يوم الدين) بنصب الكاف من غير ألف، وقرأ كذلك إلا أنه رفع الكاف سعد بن أبي وقاص وعائشة، وقرأ (ملك) فعلا ماضيا أبو حنيفة على ما قيل وأبو حيوة وجبير بن مطعم وأبو عاصم عبيد بن عمير الليثي وينصبون اليوم وذكر ابن عطية أن هذه قراءة علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه والحسن ويحيى بن يعمر، وقرأ (مالك) بالنصب الأعمش أيضا وابن السميقع وعثمان بن أبي سليمان وعبد الملك قاضي الهند، وذكر ابن عطية أنها قراءة عمر بن عبد العزيز وأبي صالح السمان وروى ابن عاصم عن اليماني (مالكا) بالنصب والتنوين، وقرأ (مالك) برفع الكاف والتنوين. ورويت عن خلف وابن هشام وأبي عبيد وأبي حاتم فينصب اليوم، وقرأ (مالك يوم) بالرفع والإضافة أبو هريرة وأبو حيوة وعمر بن عبد العزيز بخلاف عنهم ونسبها صاحب " اللوامع " إلى ابن شداد العقيلي البصري وقرأ (مليك) كفعيل أبو هريرة
82

في رواية وأبو رجاء العطاردي، وقرأ (مالك) بالإمالة البليغة يحيى بن يعمر وأيوب السختياني (ويبين) بين قتيبة بن مهران عن الكسائي ولم يطلع على ذلك أبو علي الفارسي فقال لم يمل أحد وذكر أنه قرأ (ملاك) بالألف وتشديد اللام وكسر الكاف فهذه عدة قراءات ذكرتها لغرابة وقوع مثلها في كلمة واحدة بعضها راجعة إلى الملك وبعضها إلى المالك، قال بعض اللغويين: وهما راجعان إلى الملك وهو الشد والربط ومنه ملك العجين وأنشدوا قول قيس بن الحطيم:
ملكت بها كفى فأنهزت فتقها * يرى قائما من دونها ما وراءها
والمتواتر منها قراءة (مالك) و (ملك) فهما نيرا سواريها وقطبا فلك دراريها، واختلف في الأبلغ منهما قال الزمخشري: و (ملك) هو الاختيار لأنه قراءة أهل الحرمين ولقوله تعالى: * (لمن الملك) * (غافر: 16) ولقوله تعالى: * (ملك الناس) * (الناس: 2) ولأن الملك يعم والملك يخص ورجحه صاحب " الكشف " أيضا بأنه يلزم على قراءة (مالك) نوع تكرار لأن الرب بمعناه أيضا وبأنه تعالى وصف ذاته المتعالية بالملكية عند المبالغة في قوله * (مالك الملك) * (آل عمران: 26) بالضم دون المالكية.
واعترض ذلك كله، أما أولا: فلأن قراءة أهل الحرمين لا تدل على الرجحان لأنه لو سلم كون أوائلهم أعلم بالقرآن لا نسلم ذلك في عهد القراء المشهورين ألا ترى أن " صحيح البخاري " مقدم على " موطأ مالك " وهو عالم المدينة على أن القراءات المشهورة كلها متواترة وبعد التواتر المفيد للقطع لا يلتفت إلى أصول الرواة، وقول الشهاب: لا يخفى أن أهل الحرمين قديما وحديثا أعلم بالقرآن والأحكام فمن وراء المنع أيضا ودون إثباته التعب الكثير كما لا يخفى على من لم ترعه القعاقع.
وأما ثانيا: فلأن الاستدلال بقوله تعالى: * (لمن الملك اليوم) * (غافر: 16) يخدشه قوله: * (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا) * (الإنفطار: 19) فإنه سبحانه أراد باليوم يوم القيامة وهو يوم الدين ونفي المالكية عن غيره يقتضي إثباتها له إذ السياق لبيان عظمته تعالى والأمر آخر الآية واحد الأمور لا الأوامر وإن كثر استعماله فيه.
وأما ثالثا: فلأن ما في الناس مغاير لما هنا لأن (مالك الناس) لو كان هناك كما قرىء به شذوذا يتكرر مع رب الناس وأما هنا فلا تكرار لاختلاف المقام.
وأما رابعا: فلأن ما ادعاه من أن الملك بضم الميم يعم والملك بالكسر يخص خلاف الظاهر والظاهر أن بين المالك والملك عموما وخصوصا من وجه لغة عرفا فيوسف الصديق عليه السلام بناء على أنه مالك رقاب المصريين في القحط بمقتضى شرعهم ملك ومالك التاجر مالك غير ملك والسلطان على بلد لا ملك له فيها ملك غير مالك.
وأما خامسا: فبأن التكرار الذي زعمه صاحب " الكشف " قد كشف أمره على أنه مشترك الإلزام إذ الجوهري ذكر أن الرب كان يطلق على الملك.
أما سادسها: فلأن الدليل الأخير الذي ساقه لك أن تقلبه بأنه تعالى وصف ذاته بالمالكية دون الملكية وأيضا إضافة المالك إلى الملك تدل على أن المالك أبلغ من الملك لأن الملك بالضم قد جعل تحت حيطة المالكية فكأنه أحد مملوكاته كذا قالوه ولهم ما كسبوا وعليهم ما اكتسبوا، وعندي لا ثمرة للخلاف والقراءتان فرسا رهان ولا فرق بين المالك والملك صفتين لله تعالى كما قاله السمين ولا التفات إلى من قال إنهما كحاذر وحذر ومتى أردت ترجيح أحد الوصفين تعارضت لدي الأدلة وسدت على الباب الآثار وانقلب إلي بصر البصيرة خاسئا وهو حسير إلا أني اقرأ كالكسائي (مالك) لأحظى بزيادة عشر حسنات ولأن فيه إشارة واضحة إلى الفضل الكبير والرحمة الواسعة والطمع بالمالك من حيث إنه مالك فوق الطمع بالملك من حيث إنه ملك فأقصى ما يرجى من الملك أن ينجو الإنسان منه رأسا برأس ومن المالك يرجى ما هو فوق ذلك فالقراءة به
83

أرفق بالمذنبين مثلي وأنسب بما قبله وإضافته إلى يوم الدين بهذا المعنى ليكسر حرارته فإن سماع * (يوم الدين) * يقلقل أفئدة السامعين وبشبه ذلك من وجه قوله تعالى: * (عفا الله عنك لم أذنت لهم) * (التوبة: 43) والمدار على الرحمة لا سيما والأمر جدير والترغيب فيه أرغب على أنه لا يخلو الحال عن ترهيب وكأني بك تعارض هذه النكت وما علي فهذا الذي دعاني إليه حسن الظن.
واليوم: في العرف عبارة عما بين طلوع الشمس وغروبها من الزمان وفي الشرع عند أهل السنة ما عدا الأعمش عبارة عما بين طلوع الفجر الثاني وغروب الشمس ويطلق على مطلق الوقت. ويوم القيامة حقيقة شرعية في معناه المعروف وتركيبه غريب إذ فاء الكلمة فيه ياء وعينها واو ولم يأت من ذلك كما في البحر المحيط إلا يوم وتصاريفه. والدين: الجزاء ومنه الحديث المرسل عن أبي قلابة رضي الله تعالى عنه عنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم البر لا يبلى والإثم لا ينسى والديان لا يموت فكن كما شئت كما تدين تدان " وقيل فرق بينهما فإن الدين ما كان بقدر فعل المجازى والجزاء أعم. وقيل الدين اسم للجزاء المحبوب المقدر بقدر ما يقتضيه الحساب إذا كان ممن معه وقع الأمر المجزي به فلا يقال لمن جازى عن غيره أو أعطى كثيرا في مقابلة قليل دين ويقال جزاء والأرجح عندي أن الدين والجزاء بمعنى فيوم الدين هو يوم الجزاء ويؤيده قوله تعالى: * (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت) * (غافر: 17) و * (اليوم تجزون ما كنتم تعملون) * (الماثية: 28) وإضافة مالك إلى يوم على التوسع وقد قال النحاة الظرف إما متصرف وهو الذي لا يلزم الظرفية أو غير متصرف وهو مقابله والأول كيوم وليلة فلك أن تتوسع فيهما بأن ترفع أو تجر أو تنصب من غير أن تقدر فيه معنى (في) فيجرى مجرى المفعول للتساوي في عدم التقدير فإذا قلت سرت اليوم كان منصوبا انتصاب زيد في ضربت زيدا ويجري سرت مجرى ضربت في التعدي مجازا لأن السير لا يؤثر في اليوم تأثير الضرب في زيد ولا يخرج بذلك عن معنى الظرفية ولذا يتعدى إليه الفعل اللازم ولا يظهر في الاسم وإنما يظهر في الضمير كقوله: ويوما شهدناه سليما وعامرا * قليل سوى طعن النهار نوافله
وإذا توسع في الظرف فإن كان فعله غير متعد تعدى وإن كان متعديا إلى واحد تعدى إلى اثنين وإن كان متعديا إلى اثنين تعدى إلى ثلاثة وهو قليل ومنعه البعض وإن كان متعديا إلى ثلاثة لم يتعد إلى رابع في المشهور إذ لا نظير له. وحكى ابن السراج جوازه والتوسع هذا تجوز حكمي في النسبة الظرفية الواقعة بعد نسبة المفعول به الحقيقي فالمتعدي قبله باق على حاله حتى إذا لم يذكر مفعوله قدر أو نزل منزلة اللازم والجمع بين الحقيقة والمجاز في المجاز الحكمي ليس محل الخلاف ولذا قال الرضى: اتفقوا على أن معنى الظرف متوسعا فيه وغير متوسع فيه سواء والمعنى مالك الأمر كله في يوم الدين وهذا ثابت له سبحانه أزلا وأبدا لأنه إما من الصفات الذاتية المتفق على ثبوتها له سبحانه كذلك أو من الصفات الفعلية وهي عند الماتريدية مثلها بل قال الزركشي من الأشاعرة في إطلاق الخالق والرازق ونحوهما في حقه تعالى قبل وجود الخلق والرزق حقيقة وإن قلنا بحدوث صفات الأفعال أو المعنى ملك الأمور يوم الدين على حد * (ونادى أصحاب الجنة) * (الأعراف: 44) ففي الآية استعارة تبعية كما يفهمه كلامه العلامة البيضاوي في " تفسيره " وعلى التقديرين يصح وقوعه صفة للمعرفة لأن الإضافة حينئذ حقيقية ولا ينافي ذلك التوسع في الظرف لأنه مفعول من حيث المعنى لا من حيث الإعراب أي يتعلق المالك به تعلق المملوكية حتى لو كانت شرائط العمل حاصلة عمل فيه كما قاله الشريف وفيه تأمل والأولى باستمرار الاعتبار اعتبار الاستمرار والمستمر يصح أن تكون إضافته معنوية كما يصح أن لا تكون
84

كذلك والتعيين مفوض للمقام وذلك لاشتماله على الأزمنة الثلاث ولا يرد أن (يوم الدين) وما فيه ليس مستمرا في جميع الأزمنة فكيف يتصور كونه تعالى مالكا على الاستمرار لأنا نقول ليس عند ربك صباح ولا مساء وهو سبحانه ليس بزماني والأزل والأبد عنده نقطة واحدة والفرق بينهما بالاعتبار والتعبيرات المختلفة في كلامه عز شأنه بالنظر إلى حال المخاطب فالاستمرار بالنظر إليه تعالى متحقق بلا شبهة ومن هنا يستنبط جواب للسؤال المشهور بأن المالك لا يكون مالكا للشيء إلا إذا كان موجودا ويوم الدين غير موجود الآن، وأجاب غير واحد بأن يوم الدين لما كان محققا جعل كالقائم في الحال وأيضا من مات فقد قامت قيامته فكأن القيامة حاصلة في الحال فزال
السؤال، ولا يخفى أن السؤال باق على مذهب بعض المتكلمين القائلين بأن الزمان معدوم إذ يقال بعد أن تملك المعدوم محال إلا أن يقال يجعل الكلام كناية عن كونه مالكا للأمر كله لأن تلك الزمان كتلك المكان يستلزم تملك جميع ما فيه ولا يلزم في الكناية إمكان المعنى الحقيقي والاستلزام بمعنى الانتقال في الجملة لا بمعنى عدم الانفكاك فلا يرد المنع وأنت إذا قرأت (ملك) تسلم من هذا القيل والقال إن جعلته صفة مشبهة أو ألحقته بأسماء الأجناس الجامدة كسلطان وأما إذا جعلته صيغة مبالغة كحذر - وهو ملحق باسم الفاعل - فيرد عليك ما ورد علينا وأنا من فضل الله تعالى لا تحركني العواصف بل ذلك يزيدني في المالك حبا، وإنما قال * (مالك يوم الدين) * ولم يقل يوم القيامة مراعاة للفاصلة وترجيحا للعموم فإن الدين بمعنى الجزاء يشمل جميع أحوال القيامة من ابتداء النشور إلى السرمد الدائم بل يكاد يتناول النشأة الأولى بأسرها على أن يوم القيامة لا يفهم منه الجزاء مثل يوم الدين ولا يخلو اعتباره عن لطف، وأيضا للدين معان شاع استعماله فيها كالطاعة والشريعة فتذهب نفس السامع إلى كل مذهب سائغ وقد قال بكل من هذين المعنيين بعض والمعنى حينئذ على تقدير مضاف فعلى الأول يوم الجزاء الكائن للدين وعلى الثاني يوم الجزاء الثابت في الدين وإذا أريد بالطاعة في الأول الانقياد المطلق لظهوره ذلك اليوم ظاهرا وباطنا وجعل إضافة يوم للدين في الثاني لما بينهما من الملابسة باعتبار الجزاء لم يحتج إلى تقدير، وتخصيص اليوم بالإضافة مع أنه تعالى مالك وملك جميع الأشياء في كل الأوقات والأيام إما للتعظيم وإما لأن الملك والملك الحاصلين في الدنيا لبعض الناس بحسب الظاهر يزولان وينسلخ الخلق عنهما انسلاخا ظاهرا في الآخرة: * (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) * (مريم: 95) وينفرد سبحانه في ذلك اليوم بهما انفرادا لا خفاء فيه ولذلك قال سبحانه: * (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله) * (الإنفطار 19) * (ولمن الملك اليوم لله الواحد القهار) * (غافر: 16) وأيضا هنالك يجتمع الأولون والآخرون ويقوم الروح والملائكة صفا وتجتمع العبيد في صعيد واحد وتظهر صفة الجمال والجلال أتم ظهور فتعلم صفة المالكية والملكية للمجموع في آن واحد فوق ما علمت لكل فرد فرد أو جمع جمع على توالي الأزمان وإنما ختم سبحانه هذه الأوصاف بهذا الوصف إشارة إلى الإعادة كما افتتح بما يشير إلى الإبداء وفي إجرائها عليه تعالى تعليل لإثبات ما سبق وتمهيد لما لحق وفيه إيماء إلى أن الحمد ليس مجرد الحمد لله بل مع العلم بصفات الكمال ونعوت الجلال وهذه أمهاتها ولم تك تصلح إلا له ولم يك يصلح إلا لها وقد يقال في إجراء هذه الأوصاف بعد ذكر اسم الذات الجامع لصفات الكمال إشارة إلى أن الذي يحمده الناس ويعظمونه إنما يكون حمده وتعظيمه لأحد أمور أربعة، إما لكونه كاملا في ذاته وصفاته وإن لم يكن منه إحسان إليهم، وإما لكونه محسنا إليهم ومتفضلا عليهم، وإما لأنهم يرجون لطفه وإحسانه في الاستقبال، وإما لأنهم يخافون من كمال قدرته فهذه هي الجهات الموجبة للحمد والتعظيم فكأنه سبحانه يقول يا عبادي إن كنتم تحمدون وتعظمون للكمال الذاتي والصفاتي فاحمدوني فإني
85

أنا والله وإن كان للإحسان والتربية والإنعام فإني أنا رب العالمين وإن كان للرجاء والطمع في المستقبل فإني الرحمن الرحيم وإن كان للخوف فإني أنا مالك يوم الدين. ومن الناس من استدل كما قال الإمام على وجوب الشكر (...) قبل مجيء الشرع بأنه تعالى أثبت الحمد هنا لذاته ووصفه بكونه ربا للعالمين رحمانا رحيما بهم مالكا لعاقبة أمورهم في القيامة، وترتب الحكم على الوصف المناسب يدل على كون الحكم معللا به فدل ذلك على ثبوت الحمدلة قبل الشرع وبعده وهو على ما فيه دليل عليه لا له لأنه بيان من الله تعالى لايجابه فهو سمعي لا عقلي فالمستدل به كناطح صخرة، هذا وفي ذكر هذه الأسماء الخمسة أيضا لطائف فالإنسان بدن ونفس شيطانية ونفس سبعية ونفس بهيمية وجوهر ملكي عقلي فالتجلي باسمه تعالى الله للجوهر الملكي: * (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) * (الرعد: 28) وباسم الرب للنفس الشيطانية * (رب أعوذ بك من همزات الشياطين) * (المؤمنون: 97) وباسم الرحمن للنفس السبعية بناء على أنه مركب من لطف وقهر * (الملك يومئذ الحق للرحمن) * (الفرقان: 26) وباسم الرحيم للنفس البهيمية * (أحل لكم الطيبات) * (المائدة: 5) وبمالك يوم الدين للبدن الكثيف * (سنفرغ لكم أيها الثقلان) * (الرحمن: 31).
وآثار هذا التجلي طاعة الأبدان بالعبادة وطاعة النفس الشيطانية بطلب الاستعانة والسبعية بطلب الهداية والبهيمية بطلب الاستقامة، وتواضعت الروح القدسية فعرضت لطلب إيصالها إلى الأرواح العالية المطهرة وأيضا دعائم الإسلام خمس فالشهادة من أنوار تجلي الله والصلاة من أنوار تجلي الرب وإيتاء الزكاة من أنوار تجلي الرحمن وصيام رمضان من أنوار تجلي الرحيم والحج من أنوار تجلي مالك يوم الدين وكأنه لهذا طلبت الفاتحة في الصلاة التي هي العماد ولما بلغ الثناء الغاية القصوى قال سبحانه: * (إياك نعبد وإياك نستعين) * إيا في المشهور ضمير نصب منفصل واللواحق حروف زيدت لبيان الحال، وقيل أسماء أضيف هو إليها، وقيل الضمير هي تلك اللواحق وإيا دعامة، وقيل الضمير هو المجموع وقيل إيا مظهر مبهم مضاف إلى اللواحق وزعم أبو عبيدة اشتقاقه وهو جهل عجيب والبحث مستوفى في علم النحو، وقد جاء وياك بقلب الهمزة واوا ولا أدري أهو عن القراء أم عن العرب وقرأ عمرو بن فائد عن أبي (إياك) بكسر الهمزة وتخفيف الياء وعلى وأبو الفضل الرقاشي (أياك) بفتح الهمزة والتشديد وأبو السوار الغنوي (هياك) بإبدال الهمزة مكسورة ومفتوحة هاء والجمهور (إياك) بالكسر والتشديد، والعبادة أعلى مراتب الخضوع ولا يجوز شرعا ولا عقلا فعلها إلا لله تعالى لأنه المستحق لذلك لكونه موليا لأعظم النعم من الحياة والوجود وتوابعهما ولذلك يحرم السجود لغيره سبحانه لأن وضع أشرف الأعضاء على أهون الأشياء وهو التراب وموطىء الأقدام والنعال غاية الخضوع وقيل لا تستعمل إلا في الخضوع له سبحانه وما ورد من نحو قوله تعالى: * (إنكم وما تعبدون من دون الله) * (الأنبياء: 98) وارد على زعمهم تعريضا لهم ونداء على غباوتهم وتستعمل بمعنى الطاعة ومنه: * (أن لا تعبدوا الشيطان) * (يس: 60) وبمعنى الدعاء ومنه: * (إن الذين يستكبرون عن عبادتي) * (غافر: 60) وبمعنى التوحيد ومنه: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56) وكلها متقاربة المعنى وذكر بعض المحققين أن لها ثلاث درجات لأنه إما أن يعبد الله تعالى رغبة في ثوابه أو رهبة من عقابه ويختص باسم الزاهد حيث يعرض عن متابعة الدنيا وطيباتها طمعا فيما هو أدوم وأشرف وهذه مرتبة نازلة عند أهل الله تعالى وتسمى عبادة وإما أن يعبد الله تعالى تشرفا بعبادته أو لقبوله لتكاليفه أو بالانتساب
إليه وهذه مرتبة متوسطة وتسمى بالعبودية وإما أن يعبد الله تعالى لاستحقاقه الذاتي من غير نظر إلى نفسه بوجه من الوجوه ولا يتقضيه إلا الخضوع والذلة وهذه أعلى الدرجات وتسمى بالعبودة وإليه الإشارة بقول المصلي أصلي لله تعالى فإنه
86

لو قال أصلي لثوابه تعالى مثلا أو للتشرف بعبادته فسدت صلاته. والاستعانة طلب المعونة وياء فعله منقلبة عن واو وتمسكت الجبرية والقدرية بهذه الآية أما الجبرية فقالوا لو كان العبد مستقلا لما كان للاستعانة على الفعل فائدة وأما القدرية فقالوا السؤال إنما يحسن لو كان العبد متمكنا في أصل الفعل فيطلب الإعانة من الغير أما إذا لم يقدر عليه لم يكن للاستعانة فائدة وقد أشار ناصر الملة والدين البيضاوي بيض الله تعالى وجه حجته ببيان المعونة إلى أنه لا تمسك لواحد من الفريقين في ذلك حيث قال وهي إما ضرورية أو غيرها والضرورية ما لا يتأتى الفعل دونه كاقتدار الفاعل وتصوره وحصول آلة ومادة يفعل بها فيها وعند استجماعها يصح أن يوصف الرجل بالاستطاعة ويصح أن يكلف بالفعل وغير الضرورية تحصيل ما يتيسر به الفعل ويسهل كالراحلة في السفر للقادر على المشي أو يقرب الفاعل إلى الفعل ويحثه عليه وهذا القسم لا يتوقف عليه صحة التكليف انتهى.
وحاصله أن الاستعانة طلب ما يتمكن به العبد من الفعل أو يوجب اليسر عليه وشيء منهما لا يوجب الجبر ولا القدر وعندي أن الآية إن استدل بها على شيء من بحث خلق الأفعال فليستدل بها على أن للعباد قدرا مؤثرة بإذن الله تعالى لا بالاستقلال كما عقدت عليه خنصر عقيدتي لا أنهم ليس لهم قدرة أصلا بل جميع أفعالهم كحركة المرتعش كما يقوله الجبرية إذ الضرورية تكذبه ولا أن لهم قدرة غير مؤثرة أبدا كاليد المشلولة كما هو الشائع من مذهب الأشاعرة إذ هو في المآل كقول الجبرية وأي فرق بين قدرة لا أثر لها وبين عدم القدرة بالكلية إلا بما هو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ولا أن لهم قدرة مستقلة بالأفعال يفعلون بها ما شاؤا فالله تعالى يريد ما لا يفعله العبد ويفعل العبد ما لا يريده الله تعالى كما يقوله المعتزلة إذ يرد ذلك النصوص القواطع كما ستسمعه إن شاء الله تعالى، ووجه الاستدلال أن * (إياك نعبد) * مشير إلى صدور الفعل من العباد وذلك يستدعي قدرة يكون بها الإيجاد ومن لا قدرة له أو له قدرة لا مدخل لها في الإيجاد لا يقال له أوجد وصحة ذلك باعتبار الكسب كيفما فسر لا يرتضيه المنصف العاقل. وقوله * (وإياك نستعين) * يدل على نفي الاستقلال فيه وأنه بإذن الله تعالى وإعانته كما يشير إليه لا حول ولا قوة إلا بالله وهذا هو اللبن السائغ الذي يخرج من بين فرث ودم فلا جبر ولا تفويض فاحفظه وانتظر تتمته. ولو كان هذا موضع القول لاشتفى * فؤادي ولكن للمقال مواضع
وههنا أبحاث: الأول في سر تقديم الضمير على الفعلين وذكروا له وجوها الدلالة على الحصر والاختصاص كما يشعر به عدول البليغ عما هو الأصل من غير ضرورة ولذلك قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما معناه لا نعبد غيرك وهو حقيقي لا يستدعي رد خطأ المخاطب والمقصود منه التبرئة عن الشرك وتعريض بالمشركين وتقديم ما هو مقدم في الوجود فإنه تعالى مقدم على العابد والعبادة ذاتا فقم وضعا ليوافق الوضع الطبع. وتنبيه العابد من أول الأمر على أن المعبود هو الله تعالى الحق فلا يتكاسل في التعظيم ولا يلتفت يمينا وشمالا والاهتمام فإن ذكره تعالى أهم للمؤمنين في كل حال لا سيما حال العبادة لأنهامحل وساوس الشيطان من الغفلة والكسل والبطالة والتصريح من أول وهلة بأن العبادة له سبحانه فهو أبلغ في التوحيد وأبعد عن احتمال الشرك فإنه لو أخر فقبل أن يذكر المفعول يحتمل أن تكون العبادة لغيره تعالى. والإشارة إلى حال العارف وأنه ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولا وبالذات وإلى العبادة من حيث إنها وصلة إليه وراحلة تغد به عليه فيبقى مستغرقا في مشاهدة أنوار جلاله مستقرا في فردوس أنوار جماله وكم من فرق بين قوله تعالى للمحمديين: * (فاذكروني
87

أذكركم) * (البقرة: 152) وبين قوله للإسرائليين: * (اذكروا نعمتى التي أنعمت عليكم) * (البقره: 40) وبين ما حكى عن الحبيب من قوله: * (لا تحزن إن الله معنا) * (التوبه: 40) وبين ما حكاه عن الكليم من قوله: * (إن معي ربي سيهدين) * (الشعراء: 62). الثاني في سر قوله * (نعبد) * دون أعبد فقد قيل هو الإشارة إلى حال العبد كأنه يقول إلهي ما بلغت عبادتي إلى حيث أذكرها وحدها لأنها ممزوجة بالتقصير ولكن أخلطها بعبادة جميع العابدين وأذكر الكل بعبارة واحدة حتى لا يلزم تفريق الصفقة وقيل النكتة في العدول إلى الإفراد التحرز عن الوقوع في الكذب فإنا لم نزل خاضعين لأهل الدنيا متذللين لهم مستعينين في حوائجنا بمن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا حياتا ولا موتا ولا نشورا ويا ليت الفحل يهضم نفسه فكيف يقول أحدنا إياك أعبد وإياك أستعين بالافراد ويمكن في الجمع أن يقصد تغليب الأصفياء المتقين من الأولياء والمقربين وقيل لو قال إياك أعبد لكان ذلك بمعنى أنا العابد ولما قال * (إياك نعبد) * كان المعنى أني واحد من عبيدك وفرق بين الأمرين كما يرشدك إليه قوله تعالى حكاية عن الذبيح عليه السلام: * (ستجدني إن شاء الله من الصابرين) * (الصافات: 102) وقوله تعالى: حكاية عن موسى * (ستجدني إن شاء الله صابرا) * (الكهف: 69) فصبر الذبيح لتواضعه بعد نفسه واحدا من جمع ولم يصبر الكليم لإفراده نفسه مع أن كلا منهما عليهما السلام قال * (إن شاء الله) * وقيل الضمير في الفعلين للقاري ومن معه من الحفظة وحاضري الجماعة وقيل هو من باب: " صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ " على ما ذكره الغزالي قدس سره وقد تقدم، الثالث في سر تقديم فعل العبادة على فعل الاستعانة وله وجوه الأول أن العبادة أمانة كما قال تعالى: * (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان) * (الأحزاب: 72) فاهتم للأداء فقدم، الثاني أنه لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك تبجحا واعتدادا منه بما صدر عنه فعقبه بقوله: * (وإياك نستعين) * ليدل على أن العبادة مما لا تتم إلا بمعونة وتوفيق وإذن منه سبحانه، الثالث أن العبادة مما يتقرب بها العبد إلى الله تعالى والاستعانة ليست كذلك فالأول أهم، الرابع أنها وسيلة فتقدم على طلب الحاجة لأنه أدعى للإجابة. الخامس: أنها مطلوبة لله تعالى من العبادة، والاستعانة مطلوبهم منه سبحانه فتقديم العبد ما يريده مولاه منه أدل على صدق العبودية من تقديم ما يريده من مولاه، السادس: أن العبادة واجبة حتما لا مناص للعبادة عن الإتيان بها حتى جعلت كالعلة لخلق الإنس والجن فكانت أحق بالتقديم. السابع: أنها أشد مناسبة بذكر الجزاء والاستعانة أقوى التئاما بطلب الهداية، الثامن: أن مبدأ الإسلام التخصيص
بالعبادة والخلوص من الشرك والتخصيص بالاستعانة بعد الرسوخ، التاسع: أن في تأخير فعل الاستعانة توافق رءوس الآي، العاشر: أن أحدهما إذا كان مرتبطا بالآخر لم يختلف التقديم والتأخير كما يقال قضيت حقي فأحسنت إلي وأحسنت إلي فقضيت حقي. الحادي عشر: أن مقام السالكين ينتهي عند قوله * (إياك نعبد) * وبعده يطلب التمكين وذلك أن الحمد مبادي حركة المريد فإن نفس السالك إذا تزكت ومرآة قلبه إذا انجلت فلاحت فيها أنوار العناية الموجبة للولاية تجردت النفس الزكية للطلب فرأت آثار نعم الله تعالى عليها سابغة وألطافه غير متناهية فحمدت على ذلك وأخذت في الذكر فكشف لها الحجاب من وراء أستار العزة عن معنى * (رب العالمين) * فشاهدت ما سوى الله سبحانه على شرف الفناء مفتقرا إلى المبقى محتاجا إلى التربية فترقت لطلب الخلاص من وحشة الأدبار وظلمة السكون إلى الأغيار فهبت لها من نفحات جناب القدس نسائم ألطاف الرحمن الرحيم فعرجت للمعات بوارق الجلال من وراء سجاف الجمال إلى الملك الحقيقي فنادت بلسان الاضطرار في مقام * (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) * (غافر: 16) أسلمت نفسي إليك وأقبلت بكليتي عليك وهناك خاضت لجة الوصول وانتهت إلى مقام العين فحققت نسبة العبودية فقال * (إياك نعبد) * وهنا انتهاء مقام السالك
88

ألا يرى إلى سيد الخلق وحبيب الحق كيف عبر عن مقامه هذا بقوله: * (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا) * (الإسراء: 1) فطلب التمكين بقوله: * (وإياك نستعين إهدنا الصراط المستقيم) * واستعاذ عن التلوين بقوله: * (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) * فصعد مستكملا ورجع مكملا وكأنه لهذا سميت الصلاة معراج المؤمنين، البحث الرابع: في سر الالتفات من الغيبة إلى الخطاب وقد ازدحمت فيه أذهان العلماء بعد بيان نكتته العامة وهي التفنن في الكلام والعدول من أسلوب إلى آخر تطرية له وتنشيطا للسامع فقيل لما ذكر الحقيق بالحمد ووصف بصفات عظام تميز بها عن سائر الذوات وتعلق العلم بمعلوم معين خوطب بذلك ليكون أدل على الاختصاص والترقي من البرهان إلى العيان والانتقال من الغيبة إلى الشهود وكأن المعلوم صار عيانا والمعقول مشاهدا والغيب حضورا، وقيل لما شرح الله تعالى صدر عبده وأفاض على قلبه وقالبه نور الإيمان والإسلام من عنده ترقى بذريعة الحمد المستجلب لمزيد النعم إلى رتبة الإحسان وهو: " أن تعبد الله تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " وأيضا حقيقة العبادة انقياد النفس الأمارة لأحكام الله تعالى وصورته وقالبه الإسلام ومعناه وروحه الإيمان ونوره الإحسان وفي * (نعبد) * والالتفات تتم الأمور الثلاثة وأيضا لما تبين أنه ملك في الأزل ما في أحايين الأبد علم أن الشاهد والغائب والماضي والمستقبل بالنسبة إليه على حد سواء فلذلك عدل عن الغيبة إلى الخطاب ويحتمل أن يكون السر أن الكلام من أول السورة إلى هنا ثناء والثناء في الغيبة أولى ومن هنا إلى الآخر دعاء وهو في الحضور أولى والله تعالى حي كريم. وقيل إنه لما كان الحمد لا يتفاوت غيبة وحضورا بل هو مع ملاحظة الغيبة أدخل وأتم وكانت العبادة إنما يستحقها الحاضر الذي لا يغيب كما حكى سبحانه عن إبراهيم عليه السلام: * (فلما أفل قال لا أحب الآفلين) * (الأنعام: 76) لا جرم عبر سبحانه وتعالى عن الحمد بطريق الغيبة وعنها بطريق الخطاب إعطاء لكل منهما ما يليق من النسق المستطاب وأيضا من تشبه بقوم فهو منهم، فالعابد لما رام ذلك سلك مسلك القوم في الذكر ومزج عبادته بعبادتهم وتكلم بلسانهم وساق كلامه على طبق مساقهم عسى أن يصير محسوبا في عدادهم مندرجا في سياقهم:
إن لم تكونوا منهم فتشبهوا * إن التشبه بالكرام فلاح
وأيضا فيه إشارة إلى أن من لزم جادة الأدب والانكسار ورأى نفسه بعيدا عن ساحة القرب لكمال الاحتقار فهو حقيق أن تدركه رحمة إلهية وتلحقه عناية أزلية إلى حظائر القدس وتطلعه على سرائر الأنس فيصير واطئا على بساط الاقتراب فائزا بعز الحضور وسعادة الخطاب. وأيضا إنه لما لم يكن في الحمد مزيد كلفة بخلاف العبادة فإ خطبها عظيم ومن دأب المحب تحمل المشاق العظيمة في حضور المحبوب قرن سبحانه العبادة بما يشعر بحضوره ليأتي بها العابد خالية عن الكلال عارية عن الفتور والملال مقرونة بكمال النشاط موجبة لتمام الانبساط: حمامة جرعى حومة الجندل اسجعي * فأنت بمرأى من سعاد ومسمع
وأيضا إن الحمد ليس إلا إظهار صفات الكمال على الغير فما دام للأغيار وجود في نظر السالك فهو يواجههم بإظهار مزايا المحبوب عليهم ويخاطبهم بذكر مآثره الجميلة لديهم وأما إذا آل أمره بملازمة الأذكار إلى ارتفاع الحجب والأستار واضمحلال جميع الأغيار لم يبق في نظره سوى المعبود الحق والجمال المطلق وانتهى إلى مقام الجمع وصار في مقعد * (فأينما تولوا فثم وجه الله) * (البقرة: 115) فبالضرورة لا يصير توجيه الخطاب إلا إليه ولا يمكن إظهار السر إلا لديه فينعطف عنان لسانه إلى جنابه ويصير كلامه منحصرا في خطابه، وثم وراء الذوق معنى يدق عن مدارك أرباب العقول السليمة
89

وعندي وهو من نسائم الأسحار أن الله سبحانه بعد أن ذكر يوم الدين وهو يوم القيامة التفت إلى الخطاب للإشارة إلى أنه إذا قامت القيامة على ساق وكان إلى ربك يومئذ المساق هنالك يفوز المؤمن بلذة الحضور ويتبلج جبينه بأنوار الفرح والسرور ويخلو به الديان وليس بينه وبينه ترجمان ويكشف الحجاب وتدور بين الأحباب كؤس الخطاب، فتأمل في عظيم الرحمة كيف قرن سبحانه هذا الترهيب برحمتين فصرح قبل يوم الدين بما صرح ورمز بعد ذكره بما رمز ولن يغلب عسر يسرين. ومن باب الإشارة أن يوم الدين تلويح إلى مقام الفناء لأنه موت النفس عن شهواتها وخروجها عن جسد تعلقها بالأغيار والتفاتها ومن مات فقد قامت قيامته فعند ذلك يحصل البقاء في جنة الشهود ويتحقق الجمع في مقام صدق عند المليك المعبود وفوق هذا مقام آخر لا يفي بتقريره الكلام ولا تقدر على تحريره الأقلام بل لا يزيده البيان إلا خفاء ولا يكسبه التقريب إلا بعدا واعتلاء. ولو أن ثوبا حيك من نسج تسعة * وعشرين حرفا في علاه قصير
اللهم أغرقنا في بحار مشاهدتك ومن علينا بخندريس وحدتك حتى لا نحدث إلا عنك ولا نسمع إلا منك ولا نرى إلا إياك، هذا وقد ذكر الإمام السيوطي نقلا عن الشيخ بهاء الدين أنه قال اتفقوا على أن فيما نحن فيه التفاتا واحدا وفيه نظر لأن الزمخشري ومن تابعه على أن الالتفات خلاف الظاهر مطلقا فإن كان التقدير قولوا الحمد لله ففي الكلام المأمور به التفاتان، أحدهما في لفظ الجلالة وأصله الحمد لك لأنه تعالى حاضر، والثاني في * (إياك) * لمجيئه على خلاف أسلوب ما قبله وإن لم يقدر كان
في الحمد لله التفات من التكلم للغيبة لأنه تعالى حمد نفسه ولا يكون في * (إياك) * التفات لتقدير قولوا معها قطعا فأحد الأمرين لازم للزمخشري والسكاكي إما أن يكون في الآية التفاتان أو لا يكون التفات أصلا هذا إن قلنا برأي السكاكي كما يشعر به كلام الزمخشري في " الكشاف " لأنه جعل في الشعر الذي ذكره ثلاث التفاتات وإن قلنا برأي الجمهور ولم نقدر قولوا إياك نعبد فإن قدر قولوا قبل الحمد لله كان فيه التفات واحد وبطل قول الزمخشري إن في البيت ثلاث التفاتات انتهى. وهو كلام يغني النظر فيه عن شرح حاله فليفهم.
البحث الخامس: في سر تكرار * (إياك) * فقيل للتنصيص على طلب العون منه تعالى فإنه لو قال سبحانه: إياك نعبد ونستعين لاحتمل أن يكون إخبارا بطلب المعونة من غير أن يعين ممن يطلب وقيل إنه لو اقتصر على واحد ربما توهم أنه لا يتقرب إلى الله تعالى إلا بالجمع بينهما والواقع خلافه. وقيل إنه جمع بينهما للتأكيد كما يقال الدار بين زيد وبين عمرو وفيه أن التكرير إنما يكون تأكيدا إذا لم يكن معمولا لفعل ثان وإياك الثاني في الآية معمول لنستعين مفعول له فكيف يكون تأكيدا، وقيل إنه تعليم لنا في تجديد ذكره تعالى عند كل حاجة، وعندي أن التكرار للإشعار أن حيثية تعلق العبادة به تعالى غير حيثية تعلق طلب الاستعانة منه سبحانه ولو قال: إياك نعبد ونستعين لتوهم أن الحيثية واحدة والشأن ليس كذلك إذ لا بد في طلب الإعانة من توسط صفة ولا كذلك في العبادة فلاختلاف التعلق أعاد المفعول ليشير بها إليه. البحث السادس: في سر إطلاق الاستعانة فقيل ليتناول كل مستعان فيه فالحذف هنا مثله في قولهم فلان يعطي في الدلالة على العموم ورجح بلزوم الترجيح بلا مرجح في الحمل على البعض وأيضا قرينة التقييد خفية وبأنه المروي عن ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وبأن عموم المفعول متضمن لنفي الحول والقوة عن نفسه والانقطاع بالكلية إليه تعالى عمن سواه فهو أولى بمقام العبادة وإلى ترجيحه يشير صنيع العلامة البيضاوي، وقال صاحب " الكشاف ": الأحسن أن يراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة ويكون قوله تعالى: * (اهدنا) * بيانا للمطلوب من المعونة
90

كأنه قيل كيف أعينكم فقالوا اهدنا الصراط المستقيم وإنما كان أحسن لتلاؤم الكلام وأخذ بعضه بحجزة بعض انتهى، ووجه التخصيص حينئذ كمال احتياج العبادة إلى طلب الإعانة لكونها على خلاف مقتضى النفس. * (إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي) * (يوسف: 53) والقرينة مقارنة العبادة ولا خفاء في وضوحها وكون عموم المفعول متضمنا لما ذكر معارض بنكتة التخصيص والرواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لعلها لم تثبت كذا قيل، والإنصاف عندي أن الحمل على العموم أولى ليتوافق ألفاظ هذه السورة الكريمة في المعنى المطلوب منها ولأن التوسل بالعبادة إلى تحصيل مرام يستوعب جميع ما يصح أن يستعان فيه ليدخل فيه التوفيق دخولا أوليا أولى من مجرد التوفيق ويلائمه الصراط المستقيم فإنه أعم من العبادات والاعتقادات والأخلاق والسياسات والمعاملات والمناكحات وغير ذلك من الأمور الدينية والنجاة من شدائد القبر والبرزخ والحشر والصراط والميزان ومن عذاب النار والوصول إلى دار القرار والفوز بالدرجات العلى وكلها مفتقر إلى إعانة الله تعالى وفضله. وأيضا طرق الضلالات التي يستعاذ منها بغير المغضوب عليهم ولا الضالين لا نهاية لها وباستعانته يتخلص من مهالكها. وأيضا لا يخفى أن المراد بالعبادة في إياك نعبد هي وما يتعلق بها وما تتوقف عليه فإذا توافق الاستعانة في العموم. وأيضا قوله: * (أنعمت عليهم) * مطلق شامل كل إنعام، وأيضا لو كان المراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة يبقى حكم الاستعانة في غيرها غير معلوم في أم الكتاب ولا أظن أحدا يقول إنه يعلم من هذا التخصيص فلا أختار أنا إلا العموم وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عباس: " إذا استعنت فاستعن بالله " الحديث وهو ظاهر فيه ولعل ابن عباس من هنا قال به في الآية إذا قلنا بثبوت ذلك عنه وهو الظن الغالب فمن استعان بغيره في المهمات بل وفي غيرها فقد استسمن ذا ورم ونفخ في غير ضرم أفلا يستعان به وهو الغني الكبير أم كيف يطلب من غيره والكل إليه فقير؟ وإني لأرى أن طلب المحتاج من المحتاج سفه من رأيه وضلة من عقله فكم قد رأينا من أناس طلبوا العزة من غيره فذلوا وراموا الثروة من سواه فافتقروا وحاولوا الارتفاع فاتضعوا فلا مستعان إلا به ولا عون إلا منه:
إليك وإلا لا تشد الركائب * ومنك وإلا فالمؤمل خائب
وفيك وإلا فالغرام مضيع * وعنك وإلا فالمحدث كاذب
وقد قرأ عبيد بن عمير الليثي وزيد بن حبيش ويحيى بن وثاب والنخعي نعبد - بكسر النون - وهي لغة قيس وتميم وأسد وربيعة وهذيل وكذلك حكم حروف المضارعة في هذا الفعل وما أشبهه كنستعين مما لم ينضم ما بعدها فيه سوى الباء لاستثقال الكسرة عليها على أن بعضهم قال يجل بكسر ياء المضارعة من وجل وقرأ بعضهم يعلمون وقرأ الحسن وابن المتوكل وأبو محلف يعبد بالياء مبنيا للمفعول وهو غريب وعن بعض أهل مكة أنه قرأ نعبد بإسكان الدال وقرأ الجمهور نعبد - بفتح النون وضم الدال - وهي لغة أهل الحجاز وهي الفصحى * (إهدنا الصراط المستقيم) * الهداية دلالة بلطف لدلالة اشتقاقه ومادته عليه ولذا أطلق على المشيء برفق تهاد وسميت الهداية لطفا وقوله تعالى: * (فاهدوهم إلى صراط الجحيم) * وارد على الصحيح مورد التهكم على حد * (فبشرناهم بعذاب أليم) * ويقال هداه لكذا وإلى كذا فتعديه باللام وإلى إذا لم يكن فيه وهداه كذا بدونهما محتمل للحالين حتى لا يجوز في * (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) * لسبلنا أو إلى سبلنا إلا بإرادة الإرادة في جاهدوا أو إرادة تحصيل المراتب العلية في سبلنا ومن ثم جمعها وقد ورد من عمل بما علم ورثة الله تعالى علم ما لم يعلم وقد يقال المراد بيان الاستعمال الحقيقي وأما باب التجوز فواسع وهل يعتبر في الدلالة الإيصال أم لا
91

فيه اختلاف المتأخرين من أهل اللسان ففريق خصها بالدلالة الموصلة وآخرون بالدلالة على ما يوصل، وقليل قال إن تعدت إلى المفعول الثاني بنفسها كانت بمعنى الإيصال ولا تسند إلا إليه تعالى كما في الآية وإن تعدت باللام أو إلى كانت بمعنى إراءة الطريق فكما تسند إليه سبحانه تسند إلى القرآن كقوله تعالى: * (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) * وإلى النبي صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: * (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) * والكل من هذه الآراء غير خال عن خلل، أما الأول فيرد
عليه قوله تعالى: * (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) * والجواب بجواز وقوعهم في الضلال بالارتداد بعد الوصول إلى الحق لا يساعده ما في التفاسير والتواريخ فإنها ناطقة بأن الجم الغفير من قوم ثمود لم يتصفوا بالإيمان قطعا ومن آمن من قومه إلا قليل وقد بقوا على إيمانهم ولم يرتدوا على أن صاحب الذوق يدرك من نفس الآية خلاف الفرض كما لا يخفى. وأما الثاني فيرد عليه قوله تعالى لحبيبع صلى الله عليه وسلم: * (إنك لا تهدي من أحببت) * وما يقال إنه على حد قوله تعالى: * (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) * أو أن المعنى أنك لا تتمكن من إراءة الطريق لكل من أحببت بل إنما يمكنك إراءاته لمن أردنا لا يخلو عن تكلف، وأما الثالث فإن كلام أهل اللغة لا يساعده بل ينادي بما ينافيه وع ذلك فالقول بأن المتعدية لا تسند إلا إلى الله تعالى منتقض بقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: * (يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا) * وعن مؤمن آل فرعون * (يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد) * ولهذا الخلل قال طائفة بالاشتراك والبحث لغوي لا دخل للاعتزال فيه وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمته * (والصراط) * الطريق وأصله بالسين من السرط وهو اللقم ولذلك يسمى لقما كأن سالكه يبتلعه أو يبتلع سالكه ففي الأزهري أكلته المفازة إذا نهكته لسيره فيها وأكل المفازة إذا قطعها بسهولة قال أبو تمام: رعته الفيافي بعد ما كان حقبة * رعاها وماء المزن ينهل ساكبه
وبالسين على الأصل قرأ ابن كثير برواية قنبل ورويس اللؤلؤي عن يعقوب وقرأ الجمهور بالصاد وهي لغة قريش وقرأ حمزة باشمام الصاد زايا والزاي الخالصة لغة لعذرة وكعب والصاد عندي أفصح وأوسع وأهل الحجاز يؤنثون الصراط كالطريق والسبيل والزقاق والسوق وبنو تميم يذكرون هذا كله وتذكيره هو الأكثر ويجمع في الكثرة على صرط ككتاب وكتب وفي القلة قياسه أصرطة هذا إذا كان الصراط مذكرا وأما إذا أنث فقياسه أفعل نحو ذراع وأذرع و * (المستقيم) * المستوى الذي لا اعوجاج فيه واختلف في المراد منه فقيل الطريق الحق. وقيل ملة الإسلام. وقيل القرآن وردهما الرازي قدس سره بأن قوله تعالى: * (صراط الذين أنعمت عليم) * يدل على الصراط المستقيم وهم المتقدمون من الأمم وما كان لهم القرآن والإسلام وفيه ما لا يخفى والعجب كل العجب من هذا المولى أنه ذكر في أحد الوجوه المرضية عنده أن الصراط المستقيم هو الوسط بين طرفي الإفراط والتفريط في كل الأخلاق وفي كل الأعمال وأكد ذلك بقوله تعالى: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) * فياليت شعري ماذا يقول لو قيل له لم يكن هذا للمتقديمن من الأمم وتلونا عليه الآية التي ذكرها وسبحان من لا يرد عليه وقيل المراد به معرفة ما في كل شيء من كيفية دلالته على الذات والصفات وقيل المراد منه صراط الأولين في تحمل المشاق العظيمة لأجل مرضاة الله تعالى وقيل العبادة لقوله تعالى: * (وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم) * والقرآن يفسر بعضه بعضا وفيه نظر، وقيل هو الإعراض عن السوي والإقبال بالكلية على المولى وقال الشيخ الأكبر قدس سره: هو ثبوت التوحيد في الجمع والتفرقة ولهم أقوال غير ذلك قريبة وبعيدة، وعندي بعد الاطلاع على ما للعلماء وكل حزب بما لديهم فرحون أن الصراط المستقيم بتنوع إلى عام للناس وخاص بخواصهم والكل منهما صراط المنعم عليهم على اختلاف درجاتهم فالأول جسر بين العبد وبين الله
92

سبحانه ممدود على متن جهنم الكفر والفسق والجهل والبدع والأهواء وهو الاستقامة على ما ورد به الشرع الشريف القوم علما وعملا وخلقا وحالا وهو الذي يظهر في الآخرة على متن جهنم الجزاء ممثلا مصورا بالتمثيل الرباني والتصوير الإلهي على حسب ما عليه العبد اليوم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد دون ذلك فلا يلومن إلا نفسه وللتذكير بذلك الصراط لم يقل السبيل ولا الطريق وإن كان الكل واحدا، الثاني طريق الوصول إلى الله تعالى ومن شهد الخلق لا فعل لهم فقد فاز ومن شهدهم لا حياة لهم فقد جاز ومن شهدهم عين العدم فقد وصل وتم سفره إلى الله تعالى ثم يتجدد له السفر فيه سبحانه وهو غير متناه لأن نعوت جماله وجلاله غير متناهية ولا يزال العبد يرقى من بعضها إلى بعض كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: " إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة " وهناك يكون عز شأنه يده وسمعه وبصره فبه يبطش وبه يسمع وبه يبصر ووراء ذلك ما يحرم كشفه فمتى قال العامي اهدنا الصراط المستقيم أراد أرشدنا إلى الاستقامة على امتثال أوامرك واجتناب نواهيك ومتى قال ذلك أحد الخواص أراد ثبتنا على ما منحتنا به وهو المروي عن يعسوب المؤمنين كرم الله تعالى وجهه وأبي رضي الله تعالى عنه وذلك لأن طالب هداية الطريق المستقيم ليسلكه له في سلوكه مقامات وأحوال ولكل منها بداية ونهاية ولا يصل إلى النهاية ما لم يصحح البداية ولا ينتقل إلى مقام أو حال إلا بعد الرسوخ فيما تحته والثبات عليه فما دام هو في أثناء المقام أو الحال ولم يصل إلى نهاية يطلب الثبات على ما منح به ليرسخ له ذلك المقام ويصير ملكه فيرقى منه إلى ما فوقه وذلك هو الفضل الكبير والفوز العظيم، وللمحققين في معنى اهدنا وجوه دفعوا بها ما يوشك أن يسأل عنه من أن المؤمن مهتد فالدعاء طلب لتحصيل الحاصل. أحدها أن معناه ثبتنا على الدين كيلا تزلزلنا الشبه وفي القرآن * (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) * وفي الحديث: " اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك " وثانيها: أعطنا زيادة الهدى كما قال تعالى: * (والذين اهتدوا زادهم هدى) * وثالثها: أن الهداية الثواب كقوله تعالى: * (يهديهم ربهم بإيمانهم) * فالمعنى اهدنا طريق الجنة ثوابا لنا وأيد بقوله تعالى: * (الحمد لله الذي هدانا لهذا) * ورابعها: أن المراد دلنا على الحق في مستقبل عمرنا كما دللتنا عليه في ماضيه ولهم بعد أيضا كلمات متقاربة غير هذا ولعله يغنيك عن الكامل ما ذكره الفقير فتدبره ولا تغفل.
بقي الكلام في ربط هذه الجملة بما قبلها وقد قيل إن عندنا احتمالات أربعة لأن طلب المعونة إما في المهمات كلها أو في أداء العبادة والصراط المستقيم إما أن يؤخذ بمعنى خاص كملة الإسلام أو بمعنى عام كطريق الحق خلاف الباطل فعلى تقديري عموم الاستعانة والصراط وخصوصهما يكون اهدنا بيانا للمعونة المطلوبة كأنه قال كيف أعينكم في المهمات أو في العبادة فقالوا اهدنا طريق الحق في كل شيء أو ملة الإسلام فيكون الفصل لشبه كمال الاتصال وعلى تقدير عموم الاستعانة وخصوص الصراط يكون اهدنا إفرادا للمقصود الأعظم من جميع المهمات فيكون الفصل حينئذ لكمال الاتصال، وأما على تقدير خصوص الاستعانة وعموم الصراط فلا ارتباط، وما عندي غير خفي عليك إن أحطت خبرا بما قدمناه لديك. وقد قرأ الحسن والضحاك وزيد بن علي صراطا مستقيما دون تعريف وقرأ جعفر الصادق صراط المستقيم بالإضافة
والمتواتر ما تلوناه * (صراط الذين أنعمت عليهم) * بدل من الصراط الأول بدل الكل من الكل وهو الذي يسميه ابن مالك البدل الموافق أو المطابق تحاشيا من إطلاق الكل على الله تعالى في مثل صراط العزيز الحميد الله. وفائدة الإبدال تأكيد النسبة بناء على أن البدل في حكم تكرير العامل والإشعار بأن الصراط المستقيم بيانه وتفسيره صراط المسلمين فيكون ذلك شهادة لاستقامة صراطهم على أبلغ وجه وآكده، وقيل صفة له. ومن غريب المنقول أن الصراط الثاني غير الأول وكأنه نوى فيه حرف
93

العطف وفي تعيين ذلك اختلاف، فعن جعفر بن محمد هو العلم باا والفهم عنه وقيل موافقة الباطن للظاهر في إسباغ النعمة وقيل التزام الفرائض والسنن ولا يخفى أن هذا القول خروج عن الصراط المستقيم فلا نتعب جواد القلم فيه. وقرأ ابن مسعود وزيد بن علي صراط من أنعمت عليهم وهو المروي عن عمر وأهل البيت رضي الله تعالى عنهم. قال الشهاب: وفيه دليل على جواز إطلاق الأسماء المبهمة * (كمن) * على الله تعالى انتهى. وهو خبط ظاهر إذ الإضافة إلى المفعول لا الفاعل. والأنعام إيصال الإحسان إلى الغير من العقلاء كما قاله الراغب فلا يقال أنعم على فرسه ولذا قيل إن النعمة نفع الإنسان من دونه لغير عوض، واختلف في هؤلاء المنعم عليهم فقيل المؤمنون مطلقا وقيل الأنبياء وقيل أصحاب موسى وعيسى عليهما السلام قبل التحريف والنسخ. وقيل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما. وقيل الأولى ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالذين أنعمت عليهم الأنبياء والملائكة والشهداء والصديقون ومن أطاع الله تعالى وعبده وإليه يشير قوله تعالى: * (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) * فما في هاتيك الأقوال اقتصار على بعض الأفراد. ولم يقيد الأنعام ليعم * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * وقيل أنعم عليهم بخلقهم للسعادة. وقيل بأن نجاهم من الهلكة. وقيل بالهداية وفي بناء أنعمت للفاعل استعطاف فكأن الداعي يقول أطلب منك الهداية إذ سبق إنعامك فاجعل من إنعامك إجابة دعائنا وإعطاء سؤالنا وسبحانه ما أكرمه كيف يعلمنا الطلب ليجود على كل بما طلب:
لو لم ترد نيل ما نرجو ونطلبه * من فيض جودك ما علمتنا الطلبا
وحكى اللغويون في * (عليهم) * عشر لغات ضم الهاء وإسكان الميم وهي قراءة حمزة، وكسرها وإسكان الميم وهي قراءة الجمهور، وكسر الهاء والميم وياء بعدها وهي قراءة الحسن، قيل وعمر بن خالد وكذلك بغير ياء وهي قراءة عمر بن فائد، وكسر الهاء وضم الميم بواو بعدها وهي قراءة ابن كثير وقالون بخلاف عنه وضم الهاء والميم وواو بعدها وهي قراءة الأعرج ومسلم بن جندب وجماعة، وضمهما بغير واو ونسبت لابن هرمز وكسر الهاء وضم الميم بغير واو ونسبت للأعرج والخفاف عن أبي عمرو وضم الهاء وكسر الميم بياء بعدها وكذلك بغير ياء وقرىء بهما أيضا. وحاصلها ضم الهاء مع سكون الميم أو ضمها بإشباع أو دونه أو كسرها بإشباع أو دونه وكسر الهاء مع سكون الميم أو كسرها بإشباع أو دونه أو ضمها بإشباع أو دونه. وحجج كل في كتب العربية. * (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) * بدل من * (الذين) * بدل كل من كل. وقيل من ضمير * (عليهم) * ولا يخلو من الركاكة بحسب المعنى وأما أنه يلزم عليه خلو الصلة عن الضمير فلا لأن المبدل منه ليس في نية الطرح حقيقة والقول بأن * (غير) * في الأصل صفة بمعنى مغاير والبدل بالوصف ضعيف ضعيف لأنها غلبت عليها الاسمية ولذا لم تجر على موصوف في الأكثر. وعن سيبويه أنها صفة * (الذين) * مبينة أو مقيدة ولا يرد أن * (غير) * من الأسماء المتوغلة في الإبهام فلا تتعرف بالإضافة فلا توصف بها المعرفة بل ولا تبدل منها على المشهور لأنا نقول الموصوف هنا معنى كالنكرة فيصح أن يوصف بها وذلك لأن الموصول بعد اعتبار تعريفه بالصلة يكون كالمعرف باللام في استعمالاته فإذا استعمل في بعض ما اتصف بالصلة كان كالمعرف باللام للعهد الذهني فكما أن المعرف المذكور لكون التعريف فيه للجنس يكون معرفة بالنظر إلى مدلوله وفي حكم النكرة بالنظر إلى قرينة البعضية المبهمة ولذا يعامل به معاملتهما
94

كذلك الموصول المذكور بالنظر إلى التعيين الجنسي المستفاد من مفهوم الصلة معرفة وبالنظر إلى البعضية المستفادة من خارج كالنكرة فيعامل به معاملتهما أيضا فالذين أنعمت عليهم إذا لم يقصد به معهود كذلك إذ لا صحة لإرادة جنس المنعم عليهم من حيث هو إذ لا صراط له ولا غرض يتعلق بطلب صراط من أنعم عليهم على سبيل الاستغراق سواء أريد استغراق الأفراد والجماعات أو المجموع من حيث المجموع فالمطلوب صراط جماعة ممن أنعم عليهم بالنعم الأخروية أعني طائفة من المؤمنين لا بأعيانها فإن نظر إلى البعضية المبهمة المستفادة من إضافة الصراط إليهم كان كالنكرة وإن نظر إلى مفهومه الجنسي أعني المنعم عليهم كان معرفة قاله العلامة الساليكوتي وغيره ولا يخلو عن دغدغة أو يقال وهو المعول عليه عند من يعول عليه أن * (غير) * هنا معرفة لأن المحققين من علماء العربية قالوا إنها قد تتعرف بالإضافة وذلك إذا وقعت بين متضادين معرفتين نحو عليك بالحركة غير السكون، وقال ابن السري وغيره: إذا أضيفت * (غير) * إلى معرف له ضد واحد فقط تعرفت لانحصار الغيرية وهنا المنعم عليهم ضد لما بعده ولا يرد على هذا قوله تعالى: * (ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل) * (فاطر: 37) لجواز أن يكون * (صالحا) * حالا قدمت على صاحبها وهو غير الذي أو غير الذي بدلا من صالحا ولو قيل ضد الصالح الطالح والذي كانوا يعملون فرد من أفراده فليس بضد لم يبعد، وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه * (غير) * بالنصب وروي ذلك شاذا عن ابن كثير وهو حال من ضمير * (عليهم) * والعامل فيه * (أنعمت) * ويضعف أن يكون حالا من * (الذين) * لأنه مضاف إليه والصراط لا يصح بنفسه أن يعمل في الحال وقيل يجوز والعامل فيه معنى الإضافة، وجوز الأخفش أن يكون النصب على الاستثناء المنقطع أو المتصل إن فسر الإنعام بما يعم ومنعه الفراء لأنه حينئذ بمعنى سوى فلا يجوز أن يعطف عليه (بلا) لأنها نفي وجحد ولا يعطف الجحد إلا على مثله، وأجيب بزيادة لا مثلها في قوله تعالى: * (ما منعك ألا تسجد) * (الأعراف: 12) وفي قول الأخوص:
ويلحينني في اللهو أن لا أحبه * وللهو داع دائب غير غافل
واعترض بأنه لم تسمع زيادتها بعد واو العطف والكلام فيه، وحكى بعضهم عن الأخفش أن الاستثناء في معنى النفي فيجوز العطف عليه (بلا) حملا على المعنى فحينئذ
لا يرد ما ورد، وعند الخليل النصب بفعل محذوف أعني أعني وبه أقول لأن الاستثناء كما ترى والحالية تقتضي التنكير ولا يتحقق إلا بعدم تحقق التضاد أو يجعل * (غير) * بمعنى مغاير لتكون إضافته لفظية وكلاهما غير مرضي لما علمت وقال بعضهم في الآية حذف والتقدير غير صراط المغضوب عليهم وهو ممكن على هذه القراءة فيكون * (غير) * حينئذ إما صفة لقوله الصراط وهو ضعيف لتقدم البدل على الوصف إذا قلنا به والأصل العكس أو بدل أو صفة للبدل أو بدل منه أو حال من أحد الصراطين والصراط السوي عدم التقدير. والغضب أصله الشدة ومنه الغضبة الصخرة الصلبة الشديدة المركبة في الجبل والغضوب الحية الخبيثة والناقة العبوس وفسر تارة بحركة للنفس مبدؤها إرادة الانتقام كما في " شرح المفتاح " للسعد وتارة بإرادة الانتقام كما في " شرح الكشاف " له وأخرى بكيفية تعرض للنفس فيتبعها حركة الروح إلى خارج طلبا للانتقام كما في " شرح المقاصد ". ويقرب منه ما قيل تغير يحدث عند غليان دم القلب، وفي الحديث: " اتقوا الغضب فإنه جمرة تتوقد في قلب ابن آدم ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه " وفي " الكشاف " معنى غضب الله تعالى إرادة الانتقام من العصاة وإنزال العقوبة بهم وأن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على من تحت يده وأنا أقول كما قال سلف الأمة هو صفة لله تعالى لائقة بجلال ذاته لا أعلم حقيقتها ولا كيف هي والعجز عن درك الإدراك إدراك والكلام فيه كالكلام في الرحمة حذو القذة بالقذة فهما صفتان قديمتان له سبحانه وتعالى.
95

وحديث " سبقت رحمتي غضبي " محمول على الزيادة في الآثار أو تقدم ظهورها. وأصل الضلال الهلاك ومنه قوله تعالى: * (أئذا ضللنا في الأرض) * (السجده: 10) أي هلكنا وقوله تعالى: * (وأضل أعمالهم) * (محمد: 8) أي أهلكها والضلال في الدين الذهاب عن الحق، وقرأ أبو أيوب السختياني * (ولا الضألين) * بإبدال الألف همزة فرارا من التقاء الساكنين مع أنه في مثله جائز. وحكى أبو زيد دأبة وشأبة وعلى هذه اللغة قراءة عمرو بن عبيد: * (فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جأن) * (الرحمن: 39) قوله: والأرض أما سودها فتجللت * بياضا وأما بيضها فادهامت
وهل يقاس عليه أم لا؟ قولان وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وعبد الله بن الزبير أنهما كانا يقرآن (وغير الضالين) والمتواتر لا كما في الإمام وهو سيف خطيب أتى بها لتأكيد ما في * (غير) * من معنى النفي والكوفيون يجعلونها هنا بمعناها والمراد بالمغضوب عليهم اليهود وبالضالين النصارى وقد روى ذلك أحمد في " مسنده " وحسنه ابن حبان في " صحيحه " مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرجه ابن جرير عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم، وقال ابن أبي حاتم: لا أعلم فيه خلافا للمفسرين فمن زعم أن الحمل على ذلك ضعيف لأن منكري الصانع والمشركين أخبث دينا من اليهود والنصارى فكان الاحتراز منهم أولى بل الأولى أن يحمل المغضوب عليهم على كل من أخطأ في الأعمال الظاهرة وهم الفساق ويحمل الضالون على كل من أخطأ في الاعتقاد لأن اللفظ عام والتقييد خلاف الأصل فقد ضل ضلالا بعيدا إن كان قد بلغه ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا فقد تجاسر على تفسير كتاب الله تعالى مع الجهل بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وما قاله في منكري الصانع لا يعتد به لأن من لا دين له لا يعتد بذكره، والعجب من الإمام الرازي أنه نقل هذا ولم يتعقبه بشيء سوى أنه زاد في الشطرنج بغلا فقال ويحتمل أن يقال المغضوب عليهم هم الكفار والضالون هم المنافقون وعلله بما في أول البقرة من ذكر المؤمنين ثم الكفار ثم المنافقين فقاس ما هنا على ما هناك وهل بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين قول لقائل أو قياس لقائس هيهات هيات دون ذلك أهوال، واستدل بعضهم على أن المغضوب عليهم هم اليهود بقوله تعالى: * (من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير) * (المائدة: 60) وعلى أن الضالين النصارى بقوله تعالى: * (ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا) * (المائدة: 77) والأولى الاستدلال بالحديث لأن الغضب والضلال وردا جميعا في القرآن لجميع الكفار على العموم فقد قال تعالى: * (ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله) * (النحل: 106) وقال تعالى: * (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا) * (النساء: 167) ووردا لليهود والنصارى جميعا على الخصوص كما ذكره المستدل وإنما قدم سبحانه المغضوب عليهم على الضالين - مع أن الضلال في بادىء النظر سبب للغضب إذ يقال ضل فغضب عليه - لتقدم زمان المغضوب عليهم وهم اليهود على زمان الضالين وهم النصارى أو لأن الإنعام يقابل بالانتقام ولا يقابل بالضلال فبينهما تقابل معنوي بناء على أن الأول إيصال الخير إلى المنعم عليه والثاني إيصال الشر إلى المغضوب عليه أو لأن اليهود أشد في الكفر والعناد وأعظم في الخبث والفساد وأشد عداوة للذين آمنوا ولدا ضربت عليهم الذلة والمسكنة. وورد في الحديث: " من لم يكن عنده صدقة فليلعن اليهود " رواه السلفي والديلمي وابن عدي، والنصارى دون ذلك وأقرب للإسلام منهم ولذا وصفوا بالضلال لأن الضال قد يهتدي، ومما يدل على أن اليهود أسوأ حالا من النصارى أنهم كفروا بنبيين محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام والنصارى كفروا بنبي واحد وهو نبينا صلى الله عليه وسلم وفضائحهم وفظائعهم أكثر مما عند النصارى كما ستقرؤه وتراه إن شاء الله تعالى، وقول النصارى
96

بالتثليث ليس أفظع من قول اليهود * (إن الله فقير ونحن أغنياء) * (آل عمران: 181) وقولهم: * (يد الله مغلولة) * (المائدة: 64) وقولهم: * (عزير ابن الله) * (التوبة: 30) فمن زعم أن النصارى أسوأ حالا متوكئا على ما في دلائل الأسرار لم يعرف أسرار الدلائل وهي بعد العيوق عنه وليست المسألة من الفروع ليكتفي مثلنا فيها بالتقليد المحض لا سيما وفضل الله تعالى ليس بمقصور على البعض. وقال بعضهم: تأخير الضالين لموافقة رؤوس الآي ولا بأس بضمه إلى تلك الوجوه وإلا فالاقتصار عليه من ضيق العطن وإنما أسند النعمة إليه تعالى تقربا والمقصود طلب الهداية إلى صراط من ثبت إنعام الله تعالى عليه وتحقق، ولذلك أتى بالفعل ماضيا وانحرف عن ذلك عند ذكر الغضب إلى الغيبة تأدبا ولأن من طلب منه الهداية ونسب الإنعام إليه لا يناسب نسبة الغضب إليه لأنه مقام تلطف وترفق وتذلل لطلب الإحسان فلا يناسب مواجهته بوصف الانتقام.
وقد عد ابن الأثير في " كنز البلاغة " والتنوخي في " الأقصى القريب " بناء الفعل للمفعول بعد خطاب فاعله نوعا غريبا من الالتفات فإن كان الالتفات كما في استعمال الأدباء والمتقدمين بمعنى الافتنان فلا غبار عليه وإن كان بالمعنى المتعارف فلك أن تقول على رأي السكاكي الذي لا يشترط تعدد التعبير بل مخالفة مقتضى الظاهر أن
المخاطب إذا ترك خطابه وبنى ما أسند إليه للمفعول والمحذوف كالغائب فلا مانع من أن يسمى التفاتا فكما يجري في الانتقال من مقدر إلى محقق يجري في عكسه وهو معنى بديع كما قاله الشهاب. ويسن بعد الختام أن يقول القارىء: آمين فقد روى ابن أبي شيبة في " مصنفه " والبيهقي في " الدلائل " عن أبي ميسرة: " أن جبريل أقرأ النبي صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب فلما قال ولا الضالين قال له قل آمين " فقال آمين " ويقولها المأموم لقراءة إمامه فقد أخرج مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن أبي شيبة عن أبي موسى الأشعري قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قرأ - يعني الإمام - غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين يحبكم الله " وإخفاؤها مذهب ساداتنا الحنفية وهو مذهب أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه وعبد الله بن مسعود، وعند الشافعية يجهر بها. وعن الحسن لا يقولها الإمام لأنه الداعي. وعن أبي حنيفة في رواية غير مشهورة مثله والمشهور أنه يخفيها، وروى الإخفاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مغفل وأنس رضي الله تعالى عنهما كما في " الكشاف " ورواية الجمهور محمولة على التعليم والبحث فقهي، وهذا القدر يكفي فيه وليست من القرآن إجماعا ولذا سن الفصل بينها وبين السورة بسكتة لطيفة وما قيل إنها من السورة عند مجاهد فمما لا ينبغي أن يلتفت إليه إذ هو في غاية البطلان إذ لم يكتب في الإمام ولا في غيره من المصاحف أصلا حتى ذكر غير واحد أن من قال: إن آمين من القرآن كفر، وهي اسم فعل مبني على الفتح كأين لالتقاء الساكنين والبحث عن أسماء الأفعال مفروغ عنه في " كتب النحو " والصحيح أنها كلمة عربية ومعناها استجب وقيل موضوعة لما هو أعم منه ومن مرادفه ومن الغريب ما قيل إنه عجمي معرب همين لما أن فاعيل كقابيل ليس من أوزان العرب ورد بأنه يكون وزنا لا نظير له وله نظائر ولذا قيل إنه في الأصل مقصور ووزنه فعيل فأشبع، ومن العجيب ما قيل إنه اسم الله تعالى والقول في توجيهه أنه لما كان مشتملا على الضمير المستتر الراجع إليه تعالى قيل إنه من أسمائه أعجب منه وقد تمد ألفه وتقصر وإلى أصالة كل ذهب طائفة، وأما تشديد ميمه فذكر الواحدي أنه لغة فيه، وقيل إنه جمع آم بمعنى قاصد منصوب باجعلنا ونحوه مقدرا، وقيل إنه خطأ ولحن وحيث إنه ليس من القرآن بل دعاء ومعناه صحيح قال بعضهم: لا تفسد به الصلاة وإن كان لحنا، وفضل هذه السورة مما لا يخفى ويكفي في فضلها ما روي بأسانيد صحيحة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أبي بن كعب فقال: يا أبي وهو يصلي فالتفت أبي فلم يجبه فصلى أبي فخفف ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
97

السلام عليك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك؟ فقال: يا رسول الله إني كنت في الصلاة قال: أفلم تجد فيما أوحى الله إلي أن استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم؟ قال: بلى ولا أعود إن شاء الله تعالى قال تحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها؟ قال: نعم يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تقرأ في الصلاة فقرأ بأم القرآن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ما نزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها وإنها للسبع من المثاني - أو قال السبع المثاني - والقرآن العظيم الذي أعطيته " والأحاديث في ذلك كثيرة ولا بدع فهي أم الكتاب والحاوية من دقائق الأسرار العجب العجاب حتى إن بعض الربانيين استخرج منها الحوادث الكونية وأسماء الملوك الإسلامية وشرح أحوالهم وبيان مآلهم، وبالجملة هي كنز العرفان بل اللوح المحفوظ لما يلوح في عالم الإمكان. نسأل الله تعالى أن يمن علينا بإشراق أنوارها والاطلاع على مخزونات أسرارها إنه ولي التوفيق والهادي إلى معالم التحقيق.
سورة البقرة
هذا هو الاسم المشهور وفي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة وهو معارض لما روي من منع ذلك وتعين أن يقال السورة التي يذكر فيها البقرة وكذا في سور القرآن كله ومن ثمة أجاز الجمهور ذلك من غير كراهة ويمكن أن يوفق بأنه كان مكروها في بدء الإسلام لاستهزاء الكفار ثم بعد سطوع نوره نسخ النهي عنه فشاع من غير نكير وورد في الحديث بيانا لجوازه وقد تقدم بعض الكلام على هذا، وكان خالد بن معدان يسميها فسطاط القرآن وورد في حديث مرفوع في " مسند الفردوس " وذلك لعظمها ولما جمع فيها من الأحكام التي لم تذكر في غيرها حتى قال بعض الأشياخ: إن فيها ألف أمر وألف نهي وألف خبر قيل وفيها خمسة عشر مثلا ولهذا أقام ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ثماني سنين على تعلمها وورد في حديث " المستدرك " تسميتها سنام القرآن وسنام كل شيء أعلاه وكأنه لذلك أيضا، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أي القرآن أفضل فقالوا الله ورسوله أعلم قال سورة البقرة ثم قال وأيها أفضل؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال آية الكرسي " وهي مدنية وآياتها مائتان وسبع وثمانون على المشهور وقيل ست وثمانون وفيها آخر آية نزلت وهي قوله تعالى: * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) * (البقرة: 281) وقد نزلت في حجة الوداع يوم النحر ولا تخرج بذلك عن كونها مدنية كما لا يخفى، ووجه مناسبتها لسورة الفاتحة أن الفاتحة مشتملة على بيان الربوبية أولا والعبودية ثانيا وطلب الهداية في المقاصد الدينية والمطالب اليقينية ثالثا، وكذا سورة البقرة مشتملة على بيان معرفة الرب أولا كما في * (يؤمنون بالغيب) * (البقرة: 3) وأمثاله وعلى العبادات وما يتعلق بها ثانيا وعلى طلب ما يحتاج إليه في العاجل والآجل آخرا أيضا في آخر الفاتحة طلب الهداية وفي أول البقرة إيماء إلى ذلك بقوله: * (هدى للمتقين) * (البقرة: 2) ولما افتتح سبحانه الفاتحة بالأمر الظاهر وكان وراء كل ظاهر باطن افتتح هذه السورة بما بطن سره وخفي إلا على من شاء الله تعالى أمره فقال سبحانه وتعالى:
* (الم) *.
بسم الله الرحمن الرحيم آلم هي وسائر الألفاظ التي يتهجى بها كبا تا ثا أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة التي ركبت منها الكلمة لصدق حد الاسم المتفق عليه واعتوار خواصه المجمع عليها على كل منها، ويحكى عن الخليل أنه سأل أصحابه كيف تنطقون في الباء من ضرب والكاف من لك؟ فقالوا: باء كاف، فقال إنما جئتم بالاسم لا الحرف
98

وأنا أقول به كه. وما روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول: آلم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف " فالمراد به غير المصطلح إذ هو عرف جديد بل المعنى اللغوي وهو واحد حروف المباني فمعنى ألف حرف الخ مسمى ألف وهكذا ولعله صلى الله عليه وسلم سمى ذلك حرفا باسم مدلوله فهو معنى حقيقي له وما قيل إنه سماه حرفا مجازا لكونه اسم الحرف وإطلاق أحد المتلازمين على الآخر مجاز مشهور ليس بشيء فإن أريد من * (آلم) * مفتتح سورة الفيل يكون المراد أيضا منه مسماه وتكون الحسنات ثلاثين وفائدة النفي دفع توهم أن يكون المراد بالحرف فيمن قرأ حرفا الكلمة وإن أريد نحو ما هنا فالمراد نفسه ويكون عدد الحسنات حينئذ تسعين وفائدة الاستئناف دفع أن يراد بالحرف الجملة المستقلة كما في " الإبانة " لأبي نصر عن ابن عباس قال: آخر حرف عارض به جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم * (آلم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) * (البقرة: 1، 2) والمعنى لا أقول إن مجموع الأسماء الثلاثة حرف بل مسمى كل منها حرف وإنما لم يذكر تلك الحروف من حيث إنها أجزاء بأن يقابل ألف حرف ولام حرف تنبيها على أن المعتبر في عدد الحسنات الحروف المقروءة التي هي المسميات سواء كانت أجزاء لها أو لكلمات أخر لا من حيث إنها أجزاء لتلك الأسماء فيكون عدد الحسنات في نحو ضرب ثلاثين. والحاصل أن الحروف المذكورة من حيث إنها مسميات تلك الأسماء أجزاء لجميع الكلم مفردة بقراءتها ومن حيث إنها أجزاء تلك الأسماء لا تكون مفردة إلا عند قراءة تلك الأسماء والمعتبر في عدد الحسنات الاعتبار الأول دون الثاني ذكر ذلك بعض المحققين ثم إنهم راعوا في هذه التسمية لطيفة حيث جعلوا المسمى صدر كل اسم له كما قاله ابن جني وذلك ليكون تأديتها بالمسمى أول ما يقرع السمع ألا ترى أنك إذا قلت جيم فأول حروفه جيم وإذا قلت ألف فأول حروفه ألف التي نطقت بها همزة ولما لم يمكن للواضع أن يبتدىء بالألف التي هي مدة ساكنة دعمها باللام قبلها متحركة ليمكن الابتداء بها فقالوا لا كما - لا - كما يقوله المعلمون لام ألف فإنه خطأ وخص اللام بالدعامة لأنهم توصلوا إلى اللام بأختها في التعريف فكأنهم قصدوا ضربا من المعاوضة فالألف هي أول حرف المعجم صورة الهمزة في الحقيقة ويضاهي هذا في إيداع اللفظ دلالة على المعنى البسملة والحمدلة والحوقلة وتسمية النحاة نحتا وحكم أسماء الحروف سكون الإعجاز ما لم تكن معمولة وهل هي معربة أم مبنية أم لا ولا خلاف مبني على الاختلاف في تفسير المعرب والمبني فالخلاف لفظي وللناس فيما يعشقون مذاهب. والبحث مستوفى في " كتبنا النحوية ". وقد كثر الكلام في شأن أوائل السور والذي أطبق عليه الأكثر وهو مذهب سيبويه وغيره من المتقدمين أنها أسماء لها وسميت بها إشعارا بأنها كلمات معروفة التركيب فلو لم تكن وحيا من الله تعالى لم تتساقط مقدرتهم دون معارضتها وذلك كما سموا بلام والد حارثة بن لام الطائي وبصاد النحاس وبقاف الجبل، واستدل عليه بأنها لو لم تكن مفهمة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمل والتكلم بالزنجي مع العربي ولم يكن القرآن بأسره بيانا وهدى ولما أمكن التحدي به، وإن كانت مفهمة فإما أن يراد بها السور التي هي مستهلها على أنها ألقابها بناء على ذلك الإشعار أو غير ذلك والثاني باطل لأنه إما أن يكون المراد ما وضعت له في لغة العرب وظاهر أنه ليس كذلك أو غيره وهو باطل لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين
99

فلا يحمل على ما ليس في لغتهم وعورض بوجوه، الأول أنا نجد سورا كثيرة افتتحت بآلموحم والمقصود رفع الاشتباه، الثاني لو كانت أسماء لوردت ولاشتهرت بها والشهرة بخلافها كسورة البقرة وآل عمران، الثالث أن العرب لم تتجاوز ما سموا به مجموع اسمين كبعلبك ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء وأربعة وخمسة فالقول بأنها أسماء السور خروج عن لغتهم، الرابع أنه يؤدي إلى اتحاد الاسم والمسمى، الخامس أن هذه الألفاظ داخلة في السور وجزء الشيء متقدم على الشيء بالرتبة واسم الشيء متأخر عنه فيلزم أن يكون متقدما متأخرا معا وهو محال، وأجيب عن الأول بما يجاب عن الأعلام المشتركة من أنها ليست بوضع واحد، وعن الثاني بأنه ورد عنه صلى الله عليه وسلم: " يس قلب القرآن ومن قرأ حم حفظ إلى أن يصبح " وفي السنن: " أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في (ص) " وإذا ثبت في البعض ثبت في الجميع إذ لا فارق مع أن شهرة أحد العلمين لا يضر علمية الآخر فكم من مسمى لا يعرف اسمه إلا بعد التنقير لاشتهاره بغيره كأبي هريرة وذي اليدين وعدم اشتهار بعضها لكونه مشتركا فترك لاحتياجه إلى ضميمة كآلم هنا، وعن الثالث بأن التسمية بثلاثة أسماء مثلا إنما تمتنع إذا ركبت وجعلت اسما واحدا فأما إذا نثرت نثر أسماء الأعداد فلا لأنها من باب التسمية بما حقه أن يحكى. وقد وردت التسمية بثلاثة ألفاظ كشاب قرناها، وسر من رأى، ودارابجرد وسوى سيبويه بين التسمية بالجملة والبيت من الشعر وطائفة من أسماء حروف المعجم، وعن الرابع بأن هذه التسمية من تسمية مؤلف بمفرد والمفرد غير المؤلف فلا اتحاد ألا ترى أنهم جعلوا اسم الحرف مؤلفا منه ومن غيره كصاد فهما متغايران ذاتا وصفة، وعن الخامس بأن تأخر ما هو متقدم باعتبار آخر غير مستحيل والجزء مقدم من حيث ذاته مؤخر من حيث وصفه وهو الاسمية فلا محذور، وقال بعضهم: كونها أسماء الحروف المقطعة أقرب إلى التحقيق لظهوره وعدم التجوز فيه وسلامته مما يرد على غيره ولأنه الأمر المحقق وأوفق للطائف التنزيل لدلالته على الإعجاز قصدا ووقوع الاشتراك في الاعلام من واضع واحد فإنه يعود بالنقض على ما هو مقصود العلمية وكلام سيبويه وغيره ليس نصا فيها لاحتمال أنهم أرادوا أنها جارية مجراها، كما يقولون: قرأت بانت سعاد وقل هو الله أحد أي ما أوله ذلك فلما غلب جريانها على الألسنة صارت بمنزلة الأعلام الغالبة فذكرت في باب العلم وأثبتت لها أحكامه على أن ما ذكر في الاعتراض الثالث مما لا محيص عنه إذ عدم وجود التسمية بثلاثة أسماء وأربعة وخمسة في كلام العرب مما لا شك فيه وما نقل عن سيبويه مجرد قياس محتاج للإثبات كما ذكره السيد السند، هذا ووراء هذين القولين أقوال أخشى من نقلها الملال والذي يغلب على الظن أن تحقيق ذلك علم مستور وسر محجوب عجزت العلماء - كما قال ابن عباس - عن إدراكه وقصرت خيول الخيال عن لحاقه، ولهذا قال الصديق رضي الله تعالى عنه: لكل كتاب سر وسر القرآن أوائل السور، وقال الشعبي: سر الله تعالى فلا تطلبوه:
بين المحبين سر ليس يفشيه * قول ولا قلم للخلق يحكيه
فلا يعرفه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الأولياء الورثة فهم يعرفونه من تلك الحضرة وقد تنطق لهم الحروف عما فيها كما كانت تنطق لمن سبح بكفه الحصى
وكلمه الضب والظبي صلى الله عليه وسلم كما صح ذلك من رواية أجدادنا أهل البيت رضي الله تعالى عنهم بل متى جنى العبد ثمرة شجرة قرب النوافل علمها وغيرها بعلم الله تعالى الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وما ذكره المستدل سابقا من أنه لو لم تكن مفهمة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمل الخ فمهمل من القول وإن جل قائله لأنه إن أراد
إفهام جميع الناس فلا نسلم أنه موجود في العلمية وإن أراد إفهام
100

المخاطب بها وهو هنا الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مما لا يشك فيه مؤمن وإن أراد جملة من الناس فيها حيهلا إذ أرباب الذوق يعرفونها وهم كثيرون في المحمديين والحمد لله. نجوم سماء كلما انقض كوكب * بدا كوكب تأوي إليه كواكبه
وجهل أمثالنا بالمراد منها لا يضر فإن من الأفعال التي كلفنا بها ما لا نعرف وجه الحكمة فيه كرمي الجمرات والسعي بين الصفا والمروة والرمل والاضطباع والطاعة في مثله على كمال الانقياد ونهاية التسليم فلم لا يجوز أن يأمرنا من لا يسئل عما يفعل جل شأنه بما لم نقف على معناه من الأقوال ويكون المقصود من ذلك ظهور كمال الانقياد من المأمور للآمر ونهاية التسليم والامتثال للحكيم القادر. لو قال تيها قف على جمر الغضى * لوقفت ممتثلا ولم أتوقف
على أن فيه فائدة أخرى هي أن الإنسان إذا وقف على المعنى وأحاط به سقط وقعه عن القلب وإذا لم يقف على المقصود منه مع القطع بأن المتكلم به حكيم فإنه يبقى قلبه منقلبا إليه أبدا ومتلفتا نحوه سرمدا ومتفكرا فيه وطائرا إلى وكره بقدامى ذهنه وخوافيه وباب التكليف اشتغال السر بذكر المحبوب والتفكر فيه وفي كلامه فلا يبعد أن يعلم الله تعالى أن في بقاء العبد ملتفت الذهن مشتغل الخاطر بذلك أبدا مصلحة عظيمة ومنة منه عليه جسيمة ربما يرقى بواسطتها إلى حظائر القدس ومعالم الأنس وأول العشق خيال وهذا لا ينافي كون القرآن عربيا مبينا مثلا لأنه بالنسبة إلى من علمت.
وأما التحدي فليس بجميع أجزائه وكون أول السورة مما ينبغي أن يكون مما يتحدى به غير مسلم، ومن عجائب هذه الفواتح أنها نصف حروف المعجم على قول وهي موجودة في تسع وعشرين سورة عدد الحروف كلها على قول، واشتملت على أنصاف أصنافها من المهموسة والمجهورة والشديدة والمطبقة والمستعلية والمنخفضة وحروف القلقلة وقد تكلم الشيخ الأكبر قدس سره على سر عدد حروفها بالتكرار وعدد حروفها بغير تكرار وعلى جملتها في السور وعلى أن أفرادها في (ص) و (ق) و (ن) وتثنيتها في (يس) و (طه) وأخواتهما وجمعها من ثلاثة فصاعدا ولم بلغت خمس حروف ولم وصل بعضها وقطع بعض؟ فقال قدس سره في " فتوحاته " أعاد الله تعالى علينا من طيب نفحاته ما حصله: إعلم أن مبادىء السور المجهولة لا يعلم حقيقتها إلا أهل الصور المعقولة فجعلها تبارك وتعالى تسعا وعشرين سورة وهو كمال الصورة * (والقمر قدرناه منازل) * (يس: 39) والتاسع والعشرون القطب الذي به قوام الفلك وهو علة وجود وهو سورة آل عمران (1، 2) * (آلمالله) * ولولا ذلك ما ثبتت الثمانية والعشرون وجملتها على تكرار الحروف ثمانية وسبعون حرفا فالثمانية حقيقة البضع قال صلى الله عليه وسلم: " الإيمان بضع وسبعون " وهذه الحروق ثمانية وسبعون فلا يكمل عبد أسرار الإيمان حتى يعلم حقائق هذه الحروف في سورها كما أنه إذا علمها من غير تكرار علم تنبيه الله فيها على حقيقة الإيجاد وتفرد القديم سبحانه وتعالى بصفاته الأزلية فأرسلها في قرآنه أربعة عشر حرفا مفردة مبهمة فجعل الثمانية لمعرفة الذات والسبع الصفات منا وجعل الأربعة للطبائع المؤلفة فجاءت اثنتا عشرة موجودة وهذا هو الإنسان من هذا الفلك ومن فلك آخر متركب من أحد عشر ومن عشرة ومن تسعة ومن ثمانية حتى يصل إلى فلك الاثنين ولا يتحلل إلى الأحدية أبدا فإنها مما انفرد بها الحق سبحانه ثم إنه تعالى جعل أولها الألف في الخط والهمزة في اللفظ وآخرها النون، فالألف لوجود الذات على كمالها لأنها غير مفتقرة إلى حركة، والنون لوجود الشطر من العالم وهو عالم التركيب وذلك نصف الدائرة الظاهرة لنا من الفلك والنصف الآخر النون المعقولة عليها التي لو ظهرت للحس وانتقلت إلى عالم الروح لكانت دائرة محيطة ولكن أخفى هذه النون الروحانية التي بها كمال الوجود وجعلت نقطة النون المحسوسة دالة عليها
101

فالألف كاملة من جميع وجوهها والنون ناقصة فالشمس كاملة والقمر ناقص لأنه محو فصفة ضوئه معارة وهي الأمانة التي حملها وعلى قدر محوه وسراره إثباته وظهوره ثلاثة لثلاثة فثلاثة غروب القمر القلبي الإلهي في الحضرة الأحدية وثلاثة طلوع القمر القلبي الإلهي في الحضرة الربانية وما بينهما في الخروج والرجوع قدما بقدم لا يختل أبدا ثم جعل سبحانه وتعالى هذه الحروف على مراتب منها موصول ومنها مقطوع ومنها مفرد ومثنى ومجموع ثم نبه أن في كل وصل قطعا وليس في كل قطع وصل فكل وصل يدل على فصل وليس كل فصل يدل على وصل والوصل والفصل في الجمع وغير الجمع والفصل وحده في عين الفرق فما أفرده من هذا فاشارة إلى فناء رسم العبد أزلا أو ما أثبته فاشارة إلى وجود رسم العبودية حالا وما جمعه فاشارة إلى الأبد بالموارد التي لا تتناهى والإفراد للبحر الأزلي والجمع للبحر الأبدي والمثنى للبرزخ المحمدي الإنساني والألف فيما نحن فيه إشارة إلى التوحيد والميم إشارة إلى الملك الذي لا يبيد واللام بينهما واسطة ليكون بينهما رابطة، فانظر إلى السطر الذي يقع عليه الخط من اللام فتجد الألف إليه ينتهي أصلها وتجد الميم منه يبتدىء نشؤها ثم تنزل من أحسن تقويم وهو موضع السطر إلى أسفل سافلين منتهى تعريف الميم ونزول الألف إلى السطر مثل قوله: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا) وهو أول عالم التركيب لأنه سماء آدم عليه السلام ويليه فلك النار فلذلك نزل إلى أول السطر فإنه سبحانه وتعالى نزل من مقام الأحدية إلى مقام الخليفة نزول تقدس وتنزيه لا نزول تمثيل وتشبيه وكانت اللام واسطة وهي نائبة مناب المكون والكون فهي القدرة التي عنها وجد العالم فأشبهت الألف في النزول إلى أول السطر؛ ولما كانت ممتزجة من المكون والكون فإنه سبحانه وتعالى لا يتصف بالقدرة على نفسه وإنما هو قادر على خلقه فكان وجه القدرة مصروفا إلى الخلق فلا بد من تعلقها بهم. ولما كانت حقيقتها لا تتم بالوصول إلى السطر فتكون هي والألف على مرتبة واحدة طلبت بحقيقتها النزول تحت السطر أو عليه كما نزل الميم فنزلت إلى إيجاده ولم تتمكن أن تنزل على صورته فكان لا يوجد عنها إلا الميم فنزلت نصف دائرة حتى بلغت إلى السطر من غير الجهة التي نزلت منها فصارت نصف فلك محسوس تطلب نصف فلك معقول فكان منهما فلك دائر فكان العالم كله في ستة أيام أجناسا من أول يوم الأحد
إلى آخر يوم الجمعة وبقي يوم السبت للانتقال من مقام إلى مقام ومن حال إلى حال فصار آلم فلكا محيطا من ورائه علم الذات والصفات والأفعال والمفعولات فمن قرأها بهذه الحقيقة حضر بالكل للكل مع الكل إلى آخر ما قال، وذكر في كتاب " الاسرا إلى المقام الأسرى " ما يشير إلى دقائق أفكار وخفايا أسرار مبنية على أعداد الحروف وهي ثلاثة آلاف وخمسمائة واثنين وثلاثين وأول التفصيل من نوح إلى إشراق يوح ثم إلى آخر التركيب الذي نزل فيه الكلمة والروح فبعد عدده تضربه وتجمعه وتحط منه طرحا وتضعه يبدو لك تمام الشريعة حتى إلى انخرام الطبيعة، ومما يستأنس به لذلك ما رواه العز بن عبد السلام أن عليا رضي الله تعالى عنه استخرج وقعة معاوية من * (حم عسق) * (الشورى: 1، 2) واستخرج أبو الحكم عبد السلام بن برجان في تفسيره فتح بيت المقدس سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة من قوله تعالى: * (آلمغلبت الروم) * (الروم: 1، 2) وذكر الشيخ قدس سره كيفية استخراج ذلك بغير الطريق الذي ذكره وهو أن تأخذ عدد * (آلم) * بالجزم الصغير فيكون ثمانية وتجمعها إلى ثمانية البضع في الآية فتكون ستة عشر فتزيل الواحد الذي للألف للأس فتبقى خمسة عشر فتمسكها عندك ثم ترجع إلى العمل في ذلك بالجمل الكبير وهو الجزم فتضرب ثمانية البضع في أحد وسبعين واجعل ذلك كله سنين يخرج لك في الضرب خمسمائة وثمانية وستون سنة فتضيف إليها الخمسة عشر التي مسكتها عندك فتصير ثلاثة وثمانين وخمسمائة
102

سنة وهو زمان فتح بيت المقدس على قراءة (غلبت) بفتح الغين واللام و (سيغلبون) بضم الياء وفتح اللام انتهى وإذا علمت أن هذه الفواتح السر الأعظم والبحر الخضم والنور الأتم.
صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا * ونور ولا نار وروح ولا جسم
فاعلم: أن كل ما ذكر الناس فيها رشفة من بحار معانيها ومن ادعى قصرا فمن قصوره أو زعم أنه أتي بكثير فمن قلة نوره والعارف يقول باندماج جميع ما ذكروه في صدف فرائدها وامتزاج سائر ما سطروه في طمطام فوائدها فإن شئت فقل كما أنها مشتملة على هاتيك الأسرار يشير كل حرف منها إلى اسم من أسمائه تعالى وإن شئت فقل أتى بها هكذا لتكون كالايقاظ وقرع العصا لمن تحدى بالقرآن وإن شئت فقل جاءت كذلك ليكون مطلع ما يتلى عليهم مستقلا بضرب من الغرابة أنموذجا لما في الباقي من فنون الإعجاز فإن النطق بأنفس الحروف في تضاعيف الكلام وإن كان على طرف الثمام يتناوله الخواص والعوام لكن التلفظ بأسمائها إنما يتأتى ممن درس وخط وأما من لم يحم حول ذلك قط فأعز من بيض الأنوق وأبعد من مناط العيوق ولا سيما إذا كان على نمط عجيب وأسلوب غريب منبىء عن سر سري مبني على نهج عبقري بحيث يحار فيه أرباب العقول ويعجز عن إدراكه ألباب الفحول وإن شئت فقل فيها جلب لإصغاء الأذهان وإلجام كل من يلغو من الكفار عند نزول القرآن لأنهم إذا سمعوا ما لم يفهموه من هذا النمط العجيب تركوا اللغط وتوفرت دواعيهم النظر في الأمر المناسب بين حروف الهجاء التي جاءت مقطعة وبين ما يجاورها من الكلم رجاء أنه ربما جاء كلام يفسر ذلك المبهم ويوضح ذلك المشكل وفي ذلك رد شر كثير من عنادهم وعتوهم ولغوهم الذي كان إذ ذاك يظهر منهم وفي ذلك رحمة منه تعالى للمؤمنين ومنة للمستبصرين وإن شئت فقل إن بعض مركباتها بالمعنى الذي يفهمه أهل الله تعالى منها يصح إطلاقه عليه سبحانه فيجري ما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال يا كهيعص ويا حمعسق على ظاهره، وإن أبيت فقل المراد يا منزلهما وإن شئت فقل غير ذلك حدث عن البحر ولا حرج.
وعندي فيما نحن فيه لطائف وسبحان من لا تتناهى أسرار كلامه فقد أشار سبحانه بمفتتح الفاتحة حيث أتى به واضحا إلى اسمه الظاهر وبمبدأ سورة البقرة إلى اسمه الباطن فهو الأول والآخر والظاهر والباطن وأشار بتقديم الأول إلى أن الظاهر مقدم وبه عموم البعثة نحن نحكم بالظاهر والله تعالى يتولى السرائر، وأيضا في الأول إشارة إلى مقام الجمع وفي الثاني رمز إلى الفرق بعد الجمع وأيضا افتتاح هذه السورة بالمبهم ثم تعقيبه بالواضح فيه أتم مناسبة لقصة البقرة التي سميت السورة بها * (وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون) * (البقرة: 72) أيضا في الحروف رمز إلى ثلاثة أشياء فالألف إلى الشريعة واللام إلى الطريقة والميم إلى الحقيقة فهناك يكون العبد كالدائرة نهايتها عين بدايتها وهو مقام الفناء في الله تعالى بالكلية وأيضا الألف من أقصى الحلق واللام من طرف اللسان وهو وسط المخارج والميم من الشفة وهو آخرها فيشير بها إلى أن أول ذكر العبد ووسطه وآخره لا ينبغي إلا لله عز وجل، وأيضا في ذلك إشارة إلى سر التثليث فالألف مشير إلى الله تعالى واللام إلى جبريل والميم إلى محمد صلى الله عليه وسلم وقد قال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه في الألف ست صفات من صفات الله تعالى الابتداء والله تعالى هو الأول والاستواء والله تعالى هو العدل الذي لا يجور والانفراد والله تعالى هو الفرد وعدم الاتصال بحرف وهو سبحانه بائن عن خلقه وحاجة الحروف إليها مع عدم حاجتها وأنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني ومعناها الألفة وبالله تعالى الائتلاف، وبقيت أسرار وأي أسرار يغار عليها العارف الغيور
103

من الأغيار.
ومن الظرائف أن بعض الشيعة استأنس بهذه الحروف لخلافة الأمير علي كرم الله تعالى وجهه فإنه إذا حذف منها المكرر يبقى ما يمكن أن يخرج منه (صراط على حق نمسكه) ولك أيها السنى أن تستأنس بها لما أنت عليه فإنه بعد الحذف يبقى ما يمكن أن يخرج منه ما يكون خطابا للشيعي وتذكيرا له بما ورد في حق الأصحاب رضي الله تعالى عنهم أجمعين وهو (طرق سمعك النصيحة) وهذا مثل ما ذكروه حرفا بحرف وإن شئت قلت (صح طريقك مع السنة) ولعله أولى وألطف، وبالجملة عجائب هذه الفواتح لا تنفد ولا يحصرها العد. وكل يدعي وصلا لليلى * وليلى لا تقر لهم بذاكا
وقد اختلف الناس في إعرابها حسبما اختلفت أقوالهم فيها فإن جعلت أسماء للسور مثلا كان لها حظ من الإعراب رفعا ونصبا وجرا فالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف والنصب بتقدير فعل القسم أو فعل يناسب المقام وجاز النصب بتقدير فعل القسم فيما وقع بعده مجرور مع الواو نحو * (ق والقرآن) * (ق: 1) مع أنه يلزم المخالفة بين المتعاطفين في الإعراب إن جعلت الواو للعطف واجتماع قسمين على شيء واحد إن جعلت للقسم وهو مستكره كما قاله الخليل وسيبويه لأن
المعطوف عليه في محل يقع فيه المجرور فيكون العطف على المحل ويقدر الجواب من جنس ما بعد إن كانت للقسم أو لا حاجة للتقدير ويكتفي بجواب واحد إذ لا مانع من جعل أحد القسمين مؤكدا للآخر من غير عطف أو يقال هما لما كانا مؤكدين لشيء واحد وهو الجواب جاز ذلك ولا وجه وجيه للاستكراه وإن كان للضلالة أب فالتقليد أبوها والجر على إضمار حرف القسم وقول ابن هشام أنه وهم لأن ذلك مختص عند البصريين باسم الله سبحانه وبأنه لا جواب للقسم في سورة البقرة ونحوها ولا يصح جعل ما بعد جوابا وحذفت اللام كحذفها في قوله: ورب السموات العلى وبروجها * والأرض وما فيها المقدر كائن
لأن ذلك على قلته مخصوص باستطالة القسم وهم لا يخفى على الوليد إذ مذهبنا كوفي واتباع البصرى ليس بفرض وكثيرا ما يستغنى عن الجواب بما يدل عليه والمقسم عليه مضمون ما بعده وهو قرينة قريبة وبهذا صرح في " التسهيل وشروحه "، وحديث الاستطالة ليس بلازم بل هو الأغلب كما صرح به ابن مالك. ثم ما كان من هذه الفواتح مفردا كص أو موازنا له كحم بزنة قابيل يتأتى فيه الإعراب لفظا أو محلا بأن يسكن حكاية لحاله قبل ويقدر إعرابه وهو غير منصرف للعلمية والتأنيث وما خالفهما نحو كهيعص يحكى لا غير وجازت الحكاية في هذه الأسماء مع أنها مختصة بالأعلام التي نقلت من الجمل كتأبط شرا لرعاية صورها المنبئة عن نقلها إلى العلمية وفي الألفاظ التي وقعت أعلاما لأنفسها كضرب فعل ماض لحفظ المجانسة مع المسمى في الأشعار بأنها لم تنقل عن أصلها بالكلية لأنها لكثرة استعمالها معدودة موقوفة صارت هذه الحالة كأنها أصل فلما جعلت أعلاما جازت حكايتها على تكل الهيئة الراسخة تنبيها على أن فيها سمة من ملاحظة الأصل وهو الحروف المبسوطة والمقصود الايقاظ وقرع العصا فتجويز الحكاية مخصوص بهذه الأسماء أعلاما للسور وإلا فلم تجز الحكاية كذا في " الحواشي الشريفة الشريفية " وإطباق النحاة على أن المفردات تحكى بعد من وأي الاستفهاميتين وبدونهما كقولهم دعنا من تمرتان مخالف لدعوى الاختصاص التي حكاها كما لا يخفى وإن أبقيت على معانيها مسرودة على نمط التعديد لم تعرب لعدم المقتضى والعامل وكذا إذا جعلت أبعاضا على الصحيح أو مزيدة
104

للفصل مثلا نعم إن قدرت بالمؤلف من هذه الحروف كانت في حيز الرفع على ما مر وإن جعلت مقسما بها يكون كل كلمة منها منصوبا أو مجرورا على اللغتين في الله لافعلن وهل ذلك المجموع نحو * (آلم) * و * (حم) * (غافر: 1) أو للألف والحاء مثلا على طريق الرمان حلو حامض؟ خلاف والظاهر الأول وجوز بعضهم الرفع بالابتداء والخبر قسمي محذوفا وتصريح الرضى باختصاص ذلك فيما إذا كان المبتدأ صريحا في القسمية يجعله غير مرتضى، وجعل بعضهم النصب في البعض مخصوصا بما إذا لم يمنع مانع كما في * (ص والقرآن) * (ص: 1) فيتعين الجر للزوم المخالفة بين المتعاطفين واجتماع القسمين حينئذ وفيه ما تقدم فلا تغفل، وبقيت أقوال مبنية على أقوال لا أظنها تخفى عليك إن أحطت خبرا بما قدمناه لديك فتدبر، وفي كون هذه الفواتح آية خلاف فقال الكوفيون: * (آلم) * آية أينما وقعت وكذلك (آلمص) و (طسم) وأخواتهما و (طه) و (يس) و (حم) وأخواتها و (كهيعص) آية و (ح عسق) آيتان وأما (آلمر) وأخواتها الخمس فليست بآية وكذلك (طس) و (ص) و (ق) و (ن)، وقال البصريون: ليس شيء من ذلك آية وفي " المرشد " أن الفواتح في السور كلها آيات عند الكوفيين من غير تفرقة وليس بشيء كقول بعض * (آلم) * في آل عمران (1) ليست بآية.
* (ذالك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) *
جملة مستأنفة وابتداء كلام أو متعلقة بما قبلها وفيه احتمالات أطالوا فيها وكتاب الله تعالى يحمل على أحسن المحامل وأبعدها من التكلف وأسوغها في لسان العرب وذلك إشارة إلى الكتاب الموعود به صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: * (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) * (المزمل: 5) كما قال الواحدي أو على لسان موسى وعيسى عليهما السلام لقوله تعالى: * (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) * (البقرة: 89) الآية ويؤيده ما روى عن كعب " عليكم بالقرآن فإنه فهم العقل ونور الحكمة وينابيع العلم وأحدث الكتب بالله عهدا "، وقال في التوراة " يا محمد إني منزل عليك توراة حديثة تفتح بها أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا " كما قاله غير واحد أو إلى ما بين أيدينا والإشارة بذلك للتعظيم وتنزيل البعد الرتبي منزلة البعد الحقيقي كما في قوله تعالى: * (فذلكن الذي لمتنني فيه) * (يوسف: 32) كما اختاره في " المفتاح " أو لأنه لما نزل عن حضرة الربوبية وصار بحضرتنا بعد ومن أعطى غيره شيئا أو أوصله إليه أو لاحظ وصوله عبر عنه بذلك لأنه بانفصاله عنه بعيد أو في حكمه، وقد قيل: كل ما ليس في يديك بعيد.
ولما لم يتأت هذا المعنى في قوله تعالى: * (هذا كتاب أنزلناه) * (الأنعام: 92) لأنه إشارة إلى ما عنده سبحانه لم يأت بذلك مع بعد الدرجة وهذا الذكر حروف التهجي في الأول وهي تقطع بها الحروف وهو لا يكون إلا في حقنا وعدم ذكرها في الثاني فلذا اختلف المقامان وافترقت الإشارتان كما قاله السهيلي، وهو عند قوم تحقيق ويرشدك إلى ما فيه عندي نظر دقيق وأبعد بعضهم فوجه البعد بأن القرآن لفظ وهو من قبيل الأعراض السيالة الغير القارة فكل ما وجد منه اضمحل وتلاشى وصار منقضيا غائبا عن الحس وما هو كذلك في حكم البعيد، وقيل لأن صيغة البعيد والقريب قد يتعاقبان كقوله تعالى في قصة عيسى عليه السلام: * (ذلك نتلوه عليك) * (آل عمران: 58) ثم قال تعالى: * (إن هذا لهو القصص الحق) * (آل عمران: 62) وله نظائر في الكتاب الكريم ونقله الجرجاني عن طائفة وأنشدوا: أقول له والرمح يأطر متنه * تأمل خفافا إني أنا ذلكا
وليس بنص لاحتمال أن يكون المراد إنني أنا ذلك الذي كنت تحدث عنه وتسمع به، وقول الإمام الرازي: إن ذلك للبعيد عرفا لا وضعا فحمله هنا على مقتضى الوضع اللغوي لا العرفي مخالف لما نفهمه من كتب أرباب العربية وفوق كل ذي علم عليم والقول بأن الإشارة إلى التوراة والإنجيل - كما نقل عن عكرمة - إن كان قد ورد فيه حديث صحيح قبلناه وتكلفنا له وإلا ضربنا به الحائط وما كل احتمال يليق، وأغرب ما رأيناه في توجيه الإشارة أنها إلى الصراط
105

المستقيم في الفاتحة كأنهم لما سألوا الهداية لذلك قيل لهم ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب وهذا إن قبلته يتبين به وجه ارتباط سورة البقرة بسورة الحمد على
أتم وجه وتكون الإشارة إلى ما سبق ذكره والذي تنفتح له الآذنت أنه إشارة إلى القرآن ووجه البعد ما ذكره صاحب " المفتاح " ونور القريب يلوح عليه، والمعتبر في أسماء الإشارة هو الإشارة الحسية التي لا يتصور تعلقها إلا بمحسوس مشاهد فإن أشير بها إلى ما يستحيل إحساسه نحو * (ذلكم الله ربكم) * (غافر: 62) أو إلى محسوس غير مشاهد نحو * (تلك الجنة) * (مريم: 63) فلتصييره كالمشاهد وتنزيل الإشارة العقلية منزلة الحسية كما في الرضى فالإشارة هنا لا تخلو عن لطف، وقول بعضهم إن اسم الإشارة إذا كان معه صفة له لم يلزم أن يكون محسوسا - وهم محسوس - والكتاب كالكتب مصدر كتب ويطلق على المكتوب كاللباس بمعنى الملبوس والكتب - كما قال الراغب - ضم أديم إلى أديم بالخياطة، وفي المتعارف ضم الحروف بعضها إلى بعض والأصل في الكتابة النظم بالخط وقد يقال ذلك للمضموم بعضه إلى بعض باللفظ ولذا يستعار كل واحد للآخر ولذا سمي كتاب الله وإن لم يكن كتابا والكتاب هنا إما باق على المصدرية وسمي به المفعول للمبالغة أو هو بمعنى المفعول وأطلق على المنظوم عبارة قبل أن تنظم حروفه التي يتألف منها في الخط تسمية بما يؤل إليه مع المناسبة وقول الإمام - إن اشتقاق الكتاب من كتبت الشيء إذا جمعته وسميت الكتيبة لاجتماعها فسمي الكتاب كتابا لأنه كالكتيبة على عساكر الشبهات أو لأنه اجتمع فيه جميع العلوم أو لأن الله تعالى ألزم فيه التكاليف على الخلق - كلام ملفق لا يخفى ما فيه، ويطلق الكتاب كالقرآن على المجموع المنزل على النبي المرسل صلى الله عليه وسلم وعلى القدر الشائع بين الكل والجزء ولا يحتاج هنا إلى ما قيل في دفع المغالطة المعروفة بالجذر الأصم ولا أرى فيه بأسا إن احتجته واللام في الكتاب للحقيقة مثلها في أنت الرجل والمعنى ذلك هو الكتاب الكامل الحقيق بأن يخص به اسم الكتاب لغاية تفوقه على بقية الأفراد في حيازة كمالات الجنس حتى كأن ما عداه من الكتب السماوية خارج منه بالنسبة إليه، وقال ابن عصفور: كل لام وقعت بعد اسم الإشارة وأي في النداء وإذا الفجائية فهي للعهد الحضوري وقرىء (تنزيل الكتاب)، والريب الشك وأصله مصدر رابني الشيء إذا حصل فيك الريبة وهي قلق النفس ومنه ريب الزمان لنوائبه فهو مما نقل من القلق إلى ما هوشبيه به ويستعمل أيضا لما يختلج في القلب من أسباب الغيظ، وقول الإمام الرازي: إن هذين قد يرجعان إلى معنى الشك لأن ما يخاف من الحوادث محتمل فهو كالمشكوك وكذلك ما اختلج في القلب فإنه غير مستيقن مستيقن رده، فالمنون من الريب أو يشك فيه ويختلج في القلب من أسباب الغيظ على الكفار مثلا مما (لا ريب فيه) أو فيه ريب وفرق أبو زيد بين رابني وأرابني فيقال رابني من فلان أمر إذا كنت مستيقنا منه بالريب وإذا أسأت به الظن ولم تستيقن منه قلت أرابني وعليه قول بشار: أخوك الذي إن ربته قال إنما * أراب وإن عاتبته لان جانبه
وبعض فرق بين الريب والشك بأن الريب شك مع تهمة، وقال الراغب: الشك وقوف النفس بين شيئين متقابلين بحيث لا يترجح أحدهما على الآخر بأمارة، والمرية التردد في المتقابلين وطلب الأمارة من مرى الضرع أي مسحه للدر، والريب أن يتوهم في الشيء ثم ينكشف عما توهم فيه، وقال الجولي: يقال الشك لما استوى فيه الاعتقادان أو لم يستويا ولكن لم ينته أحدهما لدرجة الظهور الذي تنبني عليه الأمور والريب لما لم يبلغ درجة اليقين وإن ظهر نوع ظهور ولذا حسن هنا * (لا ريب فيه) * للإشارة إلى أنه لا يحصل فيه ريب فضلا عن شك ونفى سبحانه الريب فيه مع كثرة المرتابين - لا كثرهم الله تعالى - على معنى أنه في علو الشأن وسطوع البرهان بحيث لا يرتاب العاقل بعد النظر
106

في كونه وحيا من الله تعالى لا أن لا يرتاب فيه حتى لا يصح ويحتاج إلى تنزيل وجود الريب عن البعض منزلة العدم لوجود ما يزيله، وقيل إنه على الحذف كأنه قال لا سبب ريب فيه لأن الأسباب التي توجبه في الكلام التلبيس والتعقيد والتناقض والدعاوى العارية عن البرهان وكل ذلك منتف عن كتاب الله تعالى، وقيل معناه النهي وإن كان لفظه خبرا أي لا ترتابوا فيه على حد * (فلا رفث ولا فسوق) * (البقرة: 197) وقيل معناه لا ريب فيه للمتقين فالظرف صفة و * (للمتقين) * خبر و * (هدى) * حال من الضمير المجرور أي لا ريب كائنا فيه للمتقين حال كونه هاديا وهي حال لازمة فيفيد انتفاء الريب في جميع الأزمنة والأحوال ويكون التقييد كالدليل على انتفاء الريب و * (لا) * لنفي اتصاف الاسم بالخبر لا لنفي قيد الاسم فلا تتوجه إليه ليختل المعنى نعم هو قول قليل الجدوى مع أن الغالب في الظرف الذي بعد لا هذه كونه خبرا وإنما لم يقل سبحانه لا فيه ريب على حد * (لا فيها غول) * (الصافات: 47) لأن التقديم يشعر بما يبعد عن المراد وهو أن كتابا غيره فيه الريب كما قصد فيه الآية تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها فليس فيها ما في غيرها من العيب قاله الزمخشري، وبعضهم لم يفرق بين ليس في الدار رجل وليس رجل في الدار حتى أنكر أبو حيان إفادة تقديم الخبر هنا الحصر وهو مما لا يلتفت إليه، وقرأ سليم أبو الشعثاء (لا ريب فيه) بالرفع وهو لكونه نقيضا لريب فيه وهو محتمل لأن يكون إثباتا لفرد ونفيه يفيد انتفاءه فلا يوجب الاستغراق كما في القراءة المشهورة ولهذا جاز لا رجل في الدار بل رجلان دون لا رجل فيها بل رجلان فلا لعموم النفي لا لنفي العموم والواقف على * (فيه) * هو المشهور وعليه يكون الكتاب نفسه هدى وقد تكرر ذلك في التنزيل وعن نافع وعاصم الوقف على * (لا ريب) * ولا ريب في حذف الخبر، وذهب الزجاج إلى جعل * (لا ريب) * بمعنى حقا فالوقف عليه تام إلا أنه أيضا دون الأول، وقرأ ابن كثير (فيهي) بوصل الهاء ياء في اللفظ وكذلك كل هاء كناية قبلها ياء ساكنة فإن كان قبلها ساكن غير الياء وصلها بالواو ووافقه حفص في * (فيه مهانا) * (الفرقان: 69) و (ملاقيه) (الإنشقاق: 6) و (سأصليه) (المدثر: 26)، والباقون لا يشبعون وإذا تحرك ما قبل الهاء أشبعوه، وقرأ الزهري وابن جندب بضم الهاء من الكنايات في جميع القرآن على الأصل والهدى في الأصل مصدر هدى أو عوض عن المصدر وكل في كلام سيبويه ولم يجىء من المصادر بهذه الزنة إلا قليل كالتقى، والسرى، والبكى بالقصر في لغة ولقى كما قال الشاطبي وأنشد:
وقد زعموا حلما لقاك فلم أزد * بحمد الذي أعطاك حلما ولا عقلا
والمراد منه هنا اسم الفاعل بأحد الوجوه المعروفة في أمثاله وهو لفظ مؤنث عند ابن عطية ومذكر عند اللحياني وبنو أسد يؤنثون كما قال الفراء فهو كالهداية وقد تقدم معناها وفي " الكشاف " هي الدلالة الموصلة إلى البغية واستدل عليه بثلاثة وجوه، الأول: وقوع الضلال في مقابله كما في قوله تعالى: * (لعلى هدى أو في ضلال)
* (سبأ: 24) والضلال عبارة عن الخيبة وعدم الوصول إلى البغية فلو لم يعتبر الوصول في مفهوم الهدى لم يتقابلا لجواز الاجتماع بينهما، والثاني: أنه يقال مهدي في موضع المدح كمهتد ومن حصل الدلالة من غير الاهتداء لا يقال له ذلك فعلم أن الايصال معتبر في مفهومه، والثالث: أن اهتدى مطاوع هدى ولن يكون المطاوع في خلاف معنى أصله ألا ترى إلى نحو كسره فانكسر وفيه بحث أما أولا: فلأن المذكور في مقابلة الضلالة هو الهدى اللازم بمعنى الاهتداء مجازا أو اشتراكا وكلامنا في المتعدي ومقابلة الاضلال ولا استدلال به إذ ربما يفسر بالدلالة على ما لا يوصل ولا يجعله ضالا على أنه لو فسرت الهداية بمطلق الدلالة على منها من شأنه الإيصال أوصل أم لا، وفسر الضلال المقابل لها - وتقابل الإيجاب والسلب - بعدم تلك الدلالة المطلقة لزم منه عدم الوصول لأن سلب الدلالة المطلقة سلب للمقيدة إذ سلب الأعم يستلزم سلب الأخص فليس في هذا التقابل ما يرجح المدعي، وأما ثانيا: فلأنا لا نسلم أن الضلالة عبارة عن الخيبة
107

الخ بل هو العدول عن الطريق الموصل إلى البغية فيكون الهدى عبارة عن الدلالة على الطريق الموصل، نعم إن عدم الوصول إلى البغية لازم للضلالة ويجوز أن يكون اللازم أعم، وأما ثالثا: فلأنه لا يلزم من عدم إطلاق المهدي إلا على المهتدي أن يكون الوصول معتبرا في مفهوم الهدى لجواز غلبة المشتق في فرد من مفهوم المشتق منه، وأما رابعا: فلأنا لا نسلم أن اهتدى مطاوع هدى بل هو من قبيل أمره فأتمر من ترتب فعل يغاير الأول فإن معنى هداه فاهتدى دله على الطريق الموصل فسلكه بدليل أنه يقال هداه فلم يهتد على أن جمعا يعتد بهم قالوا: لا يلزم من وجود الفعل وجود مطاوعه مطلقا ففي المختار لا يجب أن يوافق المطاوع أصله ويجب في غيره ويؤيده قوله تعالى: * (وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) * (الإسراء: 59) مع قوله سبحانه: * (ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا) * (الإسراء: 60) فقد وجد التخويف بدون الخوف ولا يقال كسرته فما انكسر والفرق بينهما مفصل في " عروس الأفراح "، وأما خامسا: فلأن ما ذكره معارض بما فيه الهداية وليس فيه وصول إلى البغية وقد مر بعضه ولهذا اختلفوا هل هي حقيقة في الدلالة المطلقة مجاز في غيرها أو بالعكس أو هي مشتركة بينهما أو موضوعة لقدر مشترك؟ وإلى كل ذهب طائفة، وقيل والمذكور في كلام الأشاعرة أن المختار عندهم ما ذكر في " الكشاف " وعند المعتزلة ما ذكرناه والمشهور هو العكس - والتوفيق بأن كلام الأشاعرة في المعنى الشرعي والمشهور مبني على المعنى اللغوي أو العرفي - يخدشه اختيار صاحب " الكشاف " مع تصلبه في الاعتزال ما اختاره مع أن الظاهر في القرآن المعنى الشرعي فالأظهر للموفق عكس هذا التوفيق، والحق عند أهل الحق أن الهداية مشتركة بين المعنيين المذكورين وعدم الاهلاك وبه يندفع كثير من القال والقيل والمتقين جمع متق اسم فاعل من وقاه فاتقى ففاؤه واو لا تاء، والوقاية لغة الصيانة مطلقا وشرعا صيانة المرء نفسه عما يضر في الآخرة والمراتب متعددة لتعدد مراتب الضرر فأولاها: التوقي عن الشرك؛ والثانية: التجنب عن الكبائر - ومنها الاصرار على الصغائر - والثالثة: ما أشير إليه بما رواه الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم: " لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس " وفي هذه المرتبة يعتبر ترك الصغائر ولذا قيل: خل الذنوب كبيرها * وصغيرها فهو التقى
واصنع كماش فوق أر * ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة * إن الجبال من الحصى
وفي هذه المرتبة اختلفت عبارات الأكابر، فقيل: التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك، وقيل: التبري عن الحول والقوة، وقيل: التنزع عن كل ما يشغل السر عن الحق، وفي هذا الميدان تراكضت أرواح العاشقين وتفانت أشباح السالكين حتى قال قائلهم: ولو خطرت لي في سواك إرادة * على خاطري سهوا حكمت بردتي
وهداية الكتاب المبين شاملة لأرباب هذه المراتب أجمعين فإن أريد بكونه هدى للمتقين إرشاده إياهم إلى تحصيل المرتبة الأولى: فالمراد بهم المشارفون مجازا لاستحالة تحصيل الحاصل وإيثاره على العبارة المعربة عن ذلك للإيجاز، وتصدير السورة الكريمة بذكر أوليائه تعالى وتفخيم شأنهم واعتبار المشارفة بالنظر إلى زمان نسبة الهدى فلا ينافي حسن التعقيب ب * (الذين يؤمنون) * لأن ذلك كما قيل بالنظر إلى زمان إثبات تلك النسبة كما يقال قتل قتيلا دفن في موضع كذا وربما جعل التقدير هم الذين في جواب من المتقون؟ وحمل الكل على
108

المشارفة يأباه السوق وقد يقال المتقين مجاز بالمشارفة والصفة ترشيح بلا مشارفة ولا تجوز كما هو المعهود في أمثاله ونقول هو على حد نبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الشفيع يوم المحشر فلا إشكال وإن أريد به إرشاده إلى تحصيل إحدى المرتبتين الأخيرتين فإن عنى بالمتقين أصحاب المرتبة الأولى تعينت الحقيقة وإن عنى بهم أصحاب الطبقتين الأخيرتين تعين المجاز لأن الوصول إليهما إنما يتحقق بهدايته المرقية، وكذا الحال فيما بين المرتبة الثانية والثالثة فإن أريد بالهدى الإرشاد إلى تحصيل المرتبة الثالثة فإن عنى بالمتقين أصحاب المرتبة الثانية تعينت الحقيقة وإن عنى بهم أصحاب المرتبة الثالثة تعين المجاز، ولفظ الهداية حقيقة في جميع الصور وأما إن أريد بكونه هدى لهم تثبيتهم على ما هم عليه وإرشادهم إلى الزيادة فيه على أن يكون مفهومها داخلا في المعنى المستعمل فيه فهو مجاز محالة ولفظ (المتقين) حقيقة على كل حلالة كذا حققه مولانا مفتى الديار الرومية ومنه يعلم اندفاع ما قيل أن الهداية إن فسرت بالدلالة الموصلة يقتضي أن يكون (هدى للمتقين) دالا على تحصيل الحاصل كأنه قيل دلالة موصلة إلى المطلوب للواصلين إليه وإن فسرت بالدلالة على ما يوصل كان هناك محذورا آخر فإن المهتدي إلى مقصوده يكون دلالته على ما يوصله إليه لغوا، ووجه الاندفاع ظاهر لكن حقق بعض المحققين أن الأظهر أنه لا حاجة إلى التجوز هنا لأنه إذا قيل السلاح عصمة للمعتصم والمال غنى للغني على معنى سبب غناه وعصمته لم يلزم أن يكون السلاح والمال سبى عصمة وغنى حادثين غير ما هما فيه، فما نحن فيه غير محتاج للتأويل وليس من المجاز في شيء إذ المتقى مهتد بهذا الهدى حقيقة، وقد اختلف أهل العربية والأصول في الوصف المشتق هل هو حقيقة في الحال أو الاستقبال وهل المراد زمان النسبة أو التكلم من غير واسطة بينهما؟ والذي عليه المحققون أنه زمن النسبة، وقد ذهب السبكي والكرماني إلى أن من قتل قتيلا فله سلبه حقيقة وخطأ من قال أنه مجاز ولا يقال إنه لا مفاد
لإثبات القتل لمقتول به لأن قصد البليغبمعونة القرينة العقلية أن القتل المتصف به صادر عن هذا القاتل دون غيره فكأنه قيل لم يشاركه فيه غيره فسلبه له دون غيره، ومكن هنا جعل المعنى فيما نحن فيه لا هدى للمتقين إلا بكتاب اللهتعالى المتلألىء نور هدايته الساطع برهان دلالته وإذا علق حكم على اسم الإشارة الموصوف نحو عصرت هذا الخل مثلا فهناك تعليقان في الحقيقة تعليق الحكم السابق بذات المشار إليه وتعليق الإشارة والمعتبر زمان الإشارة لا زمان الحكم السابق فإذا صح إطلاق الخل على المشار إليه واتصافه بالخلية مثلا في زمان الإشارة - مع قطع النظر - عن الحكم السابق كان حقيقة وإلا فمجاز فافهم وتدبر.
ثم لا يقدح في كونه هدى ما فيه من المجمل والمتشابه لأنه لا يستلزم كونه هدى هدايته باعتبار كل جزء منه فيجوز أن يذكر فيه ما فيه ابتلاء لذوي الألباب من الفحول بما لا تصل إليه الإفهام والعقول أو لأن ذلك لا ينفك عن بيان المراد منه كما ذهب إليه الشافعية فهو بعد التبيين هدى وتوقف هدايته على شيء لا يضر فيها كما أنه على رأي متوقف على تقدم الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فقد نص الإمام على أنه كل ما يتوقف صحة كون القرآن حجة على صحته لا يكون القرآن هدي فيه كمعرفة ذات الله وصفاته ومعرفة النبوات لئلا يلزم الدور إلا أن يكون هدي في تأكيد ما في العقول والاعتداد به، وبعض صحح أن القرآن في نفسه مدى في كل شيء حتى معرفة الله تعالى لمن تأمل في أدلته العقلية وحججه اليقينية كما يشعر به ظاهر قوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدي للناس) ويكون الاقتصار على المتقين هنا بناء على تفسيرنا الهداية
109

مدحا لهم ليبين سبحانه أنهم الذين اهتدوا وانتفعوا به كما قال تعالى: * (إنما أنت منذر من يخشاها) * (النازعات: 45) مع عموم إنذاره صلى الله عليه وسلم وأما غيرهم فلا * (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا) * (الإسراء: 45) و * (لا يزيد الظالمين إلا خسارا) * (الإسراء: 82) وأما القول بأن التقدير - هدى للمتقين والكافرين - فحذف لدلالة المتقين على حد * (سرابيل تقيكم الحر) * (النحل: 81) فمما لا يلتفت إليه هذا ولا يخفى ما في هذه الجمل والآيات من التناسق ف * (آلم) * أشارت إلى ما أشارت و * (ذلك الكتاب) * قررت بعض إشارتها بأنه الكتاب الكامل الذي لا يحق غيره أن يسمى كتابا في جنسه أي باب التحدي والهداية و * (لا ريب فيه) * كالتأكيد لأحد الركنين و * (هدى للمتقين) * كالتأكيد للركن الآخر.
وخلاصته هو الحقيق بأن يتحدى به لكمال نظمه في باب البلاغة وكماله في نفسه وفيما هو المقصود منه، وقيل: بالحمل على الاستئناف كأنه سئل ما باله صار معجزا؟ فأجيب بأنه كامل بلغ أقصى الكمال لفظا ومعنى وهو معنى ذلك الكتاب ثم سئل عن مقتضى الاختصاص بكونه هو الكتاب الكامل فأجيب بأنه لا يحوم حوله ريب ثم لما طولب بالدليل على ذلك استدل بكونه * (هدى للمتقين) * لظهور اشتماله على المنافع الدينية والدنيوية والمصالح المعاشية والمعادية بحيث لا ينكره إلا من كابر نفسه وعاند عقله وحسه، وقد يقال الاعجاز مستلزم غاية الكمال وغاية كمال الكلام البليغ ببعده من الريب والشبه لظهور حقيته وذلك مقتض لهدايته وإرشاده فإن نظر إلى اتحاد المعاني بحسب المال كان الثاني مقررا للأول فلذا ترك العطف وإن نظر إلى أن الأول مقتض لما بعده للزومه بعد التأمل الصادق فالأول لاستلزامه ما يليه وكونه في قوته يجعله منزلا منه منزلة بدل الاشتمال لما بينهما من المناسبة والملازمة فوزانه وزان حسنها في أعجبتني الجارية حسنها وترك العطف حينئذ لشدة الاتصال بين هذه الجمل. وفيها أيضا من النكت الرائقة والمزايا الفائقة ما لا يخفى جلالة قدره - على من مر ما ذكرناه - على فكره.
* (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلواة ومما رزقن‍اهم ينفقون) *
صفة للمتقين قبل، فإن أريد بالتقوى أولى مراتبها فمخصصة أو ثانيتها فكاشفة أو ثالثتها فمادحة. وفي " شرح المفتاح الشريفي " إن حمل المتقي على معناه الشرعي - أعني الذي يفعل الواجبات ويترك السيآت - فإن كان المخاطب جاهلا بذلك المعنى كان الوصف كاشفا وإن كان عالما كان مادحا وإن حمل على ما يقرب من معناه اللغوي كان مخصصا، واستظهر كون الموصول مفصولا قصد الإخبار عنه بما بعده لا إثباته لما قبله وإن فهم ضمنا فهو وإن لم يجر عليه كالجاري وهذا كاف في الارتباط، والاستئناف إما نحوي أو بياني كأنه قيل ما بال المتقين خصوا بذلك الهدى، والوقف على المتقين تام على هذا الوجه حسن على الوجه الأول. والإيمان في اللغة التصديق أي إذعان حكم المخبر وقبوله وجعله صادقا وهو إفعال من الأمن كأن حقيقة آمن به آمنه التكذيب والمخالفة ويتعدى باللام كما في قوله تعالى: * (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون) * (الشعراء: 111) وبالباء كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " الإيمان أن تؤمن بالله " الحديث، قالوا: والأول باعتبار تضمينه معنى الإذعان والثاني باعتبار تضمينه معنى الاعتراف إشارة إلى أن التصديق لا يعتبر ما لم يقترن به الاعتراف وقد يطلق بمعنى الوثوق من حيث إن الواثق صار ذا أمن وهو فيه حقيقة عرفية أيضا كما في " الأساس " ويفهم مجازيته ظاهر كلام " الكشاف " وأما في الشرع فهو التصديق بما على مجيء النبي صلى الله عليه وسلم به ضرورة تفصيلا فيما علم تفصيلا وإجمالا فيما علم إجمالا وهذا مذهب جمهور المحققين لكنهم اختلفوا في أن مناط الأحكام الأخروية مجرد هذا المعنى أم مع الإقرار؟ فذهب الأشعري وأتباعه إلى أن مجرد هذا المعنى كاف لأنه المقصود والإقرار إنما هو ليعلم وجوده فإنه أمر باطن ويجري عليه الأحكام فمن صدق بقلبه وترك الإقرار مع تمكنه منه كان مؤمنا شرعا فيما بينه وبين الله تعالى ويكون مقره
110

الجنة لكن ذكر ابن الهمام أن أهل هذا القول اتفقوا على أنه يلزم أن يعتقد أنه متى طلب منه الإقرار أتى به فإن طولب ولم يقر فهو كفر عناد، وذهب إمامنا أبو حنيفة رحمه الله وغالب من تبعه إلى أن الإقرار وما في حكمه كإشارة الأخرس لا بد منه فالمصدق المذكور لا يكون مؤمنا إيمانا يترتب عليه الأحكام الأخروية كالمصلي مع الرياء فإنه لا تنفعه صلاته ولعل هذا لأنه تعالى ذم المعاندين أكثر مما ذم الجاهلين المقصرين وللمانع أن يجعل الذم للإنكار اللساني ولا شك أنه علامة التكذيب أو للإنكار القلبي الذي هو التكذيب، وحاصل ذلك منع حصول التصديق للمعاند فإنه ضد الإنكار وإنما الحاصل له المعرفة التي هي ضد النكارة والجهالة، وقد اتفقوا على أن تلك المعرفة خارجة عن التصديق اللغوي وهو المعتبر في الإيمان نعم اختلفوا في أنها هل هي داخلة في التصور أم في التصديق المنطقي فالعلامة الثاني على الأول وأنه
يجوز أن تكون الصورة الحاصلة من النسبة التامة الخبرية تصورا وأن التصديق المنطقي بعينه التصديق اللغوي ولذا فسره رئيسهم في الكتب الفارسية (بكر ويدن) وفي العربية بما يخالف التكذيب والإنكار وهذا بعينه المعنى اللغوي ويؤيده ما أورده السيد السند في " حاشية شرح التلخيص " أن المنطقي إنما يبين ما هو في العرف واللغة إلا أنه يرد أن المعنى المعبر عنه (بكر ويدن) أمر قطعي وقد نص عليه العلامة في " المقاصد " ولذا يكفي في باب الإيمان التصديق البالغ حد الجزم والإذعان مع أن التصديق المنطقي يعم الظني بالاتفاق فإنهم يقسمون العلم بالمعنى الأعم تقسيما حاصرا إلى التصور والتصديق توسلا به إلى بيان الحاجة إلى المنطق بجميع أجزائه التي منها القياس الجدلي المتألف من المشهورات والمسلمات ومنها القياس الخطابي المتألف من المقبولات والمظنونات، والشعري المتألف من المخيلات فلو لم يكن التصديق المنطقي عاما لم يثبت الاحتياج إلى هذه الأجزاء وهو ظاهر وصدر الشريعة على الأخير فإن الصورة الحاصلة من النسبة التامة الخبرية تصديق قطعا فإن كان حاصلا بالقصد والاختيار بحيث يستلزم الإذعان والقبول فهو تصديق لغوي وإن لم يكن كذلك كمن وقع بصره على شيء فعلم أنه جدار مثلا فهو معرفة يقينية وليس بتصديق لغوي فالتصديق اللغوي عنده أخص من المنطقي، وذهب الكرامية إلى أن الإيمان شرعا إقرار اللسان بالشهادتين لا غير، والخوارج والعلاف وعبد الجبار من المعتزلة إلى أن كل طاعة إيمان فرضا كانت أو نفلا، والجبائي وابنه وأكثر معتزلة البصرة إلى أنه الطاعات المفترضة دون النوافل منها، والقلانسي من أهل السنة والنجار من المعتزلة - وهو مذهب أكثر أهل الأثر - إلى أنه المعرفة بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان، قيل: وسر هذا الاختلاف، الاختلاف في أن المكلف هو الروح فقط أو البدن فقط أو مجموعهما؟ والحق أن منشأ كل مذهب دليل دعا صاحبه إلى السلوك فيه، وأوضح المذاهب أنه التصديق ولذا قال يعسوب المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه إن الإيمان معرفة والمعرفة تسليم والتسليم تصديق، ويؤيد هذا المذهب قوله تعالى: * (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان) * (المجادله: 22) وقوله تعالى: * (ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) * (الحجرات: 14) وقوله تعالى: * (وقلبه مطمئن بالإيمان) * (النحل: 106) وقوله صلى الله عليه وسلم: " اللهم ثبت قلبي على دينك " حيث نسبه فيها وفي نظائرها الغير المحصورة إلى القلب فدل ذلك على أنه فعل القلب وليس سوى التصديق إذ لم يبين في الشرع بمعنى آخر فلا نقل وإلا لكان الخطاب بالإيمان خطابا بما لا يفهم ولأنه خلاف الأصل فلا يصار إليه بلا دليل واحتمال أن يراد بالنصوص الإيمان اللغوي فهو الذي محله القلب لا الإيمان الشرعي فيجوز أن يكون الإقرار أو غيره جزءا من معناه يدفعه أن الإيمان من المنقولات الشرعية بحسب خصوص المتعلق ولذا بين صلى الله عليه وسلم متعلق دون معناه فقال: " أن تؤمن بالله وملائكته " الحديث
111

فهو في المعنى اللغوي مجاز في كلام الشارع والأصل في الإطلاق الحقيقة، وأيضا ورد في عطف الأعمال على الإيمان كقوله تعالى: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * (البقرة: 277) والجزء لا يعطف على كله * (وتنزل الملائكة والروح) * (القدر: 4) على أحد الوجهين بتأويل الخروج لاعتبار خطابي وتخصيصها بالنوافل بناء على خروجها خلاف الظاهر وكفى بالظاهر حجة، وأيضا جعل الإيمان شرط صحة الأعمال كقوله تعالى: * (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن) * طه: 112) مع القطع بأن المشروط لا يدخل في الشرط لامتناع اشتراط الشيء لنفسه إذ جزء الشرط شرط، وأيضا ورد إثبات الإيمان لمن ترك بعض الأعمال كما في قوله تعالى: * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) * (الحجرات: 9) مع أنه لا يتحقق للشيء بدون ركنه، وأيضا ما ذكرناه أقرب إلى الأصل إذ لا فرق بينهما إلا باعتبار خصوص المتعلق كما لا يخفى، وقد أورد الخصم وجوها في الالزام، الأول: أن الإيمان لو كان عبارة عن التصديق لما اختلف مع أن إيمان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يشبهه إيمان العوام بل ولا الخواص، الثاني: أن الفسوق يناقض الإيمان ولا يجامعه، بنص * (ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق) * (الحجرات: 7) ولو كان بمعنى التصديق لما امتنع مجامعته، الثالث: أن فعل الكبيرة مما ينافيه لقوله تعالى: * (وكان بالمؤمنين رحيما) * (الأحزاب: 43) مع قوله تعالى في المرتكب: * (ولا تأخذكم بهما رأفة) * (النور: 2) ولو كان بمعنى التصديق ما نافاه، الرابع: أن المؤمن غير مخزي لقوله تعالى: * (يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه) * (التحريم: 8) وقال سبحانه في قطاع الطريق: * (ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) * (المائدة: 33) فهم ليسوا بمؤمنين مع أنهم مصدقون. الخامس: مستطيع الحج إذا تركه من غير عذر كافر لقوله تعالى: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) * (آل عمران: 97) مع أنه مصدق، السادس: من لم يحكم بما أنزل الله مصدق مع أنه كافر بنص * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) * (المائدة: 44) السابع: أن الزاني كذلك بنص قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني وهو مؤمن " وكذا تارك الصلاة عمدا من غير عذر وأمثال ذلك، الثامن: أن المستخف بنبي مثلا مصدق مع أنه كافر بالإجماع. التاسع: أن فعل الواجبات هو الدين لقوله تعالى: * (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) * (البنيه: 5) والدين هو الإسلام لقوله تعالى: * (إن الدين عند الله الإسلام) * (آل عمران: 9) والإسلام هو الإيمان لأنه لو كان غير لما قبل من مبتغيه لقوله سبحانه: * (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) * (آل عمران: 85) العاشر: أنه لو كان هو التصديق لما صح وصف المكلف به حقيقة إلا وقت صدوره منه كما في سائر الأفعال مع أن النائم والغافل يوصفان به إجماعا مع أن التصديق غير باق فيهما، الحادي عشر: أنه يلزم أن يقال لمن صدق بآلهية غير الله سبحانه مؤمن وهو خلاف الاجماع، الثاني عشر: أن الله تعالى وصف بعض المؤمنين به عز وجل بكونه مشركا فقال: * (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) * (يوسف: 106) ولو كان هو التصديق لامتنع مجامعته للشرك، سلمنا أنه هو ولكن ما المانع أن يكون هو التصديق باللسان كما قاله الكرامية كيف وأهل اللغة لا يفهمون من التصديق غير التصديق باللسان؟ وأجيب عن الأول بأن التصديق الواحد وإن سلمنا عدم الزيادة والنقصان فيه من النبي والواحد منا إلا أنه لا يمتنع التفاوت بين الإيمانين بسبب تخلل الفعلة والقوة بين أعداد الإيمان المتجددة وقلة تخللها أو بسبب عروض الشبه والتشكيكات وعدم عروضها، وللنبي الأكمل الأكمل صلى الله عليه وسلم.
وللزنبور والبازي جميعا * لدى الطيران أجنحة وخفق
ولكن بين ما يصطاد باز * وما يصطاده الزنبور فرق
وعن الثاني بأن الآية ليس فيها ما يدل على أن الفسوق لا يجامع الإيمان فإنه لو قيل حبب إليكم العلم وكره إليكم
112

الفسوق لم يدل على المناقضة بين العلم والفسوق وكون الكفر مقابلا للايمان لم يستفد من الآية بل من خارج ولئن سلمنا دلالة الآية على ما ذكرتم إلا أن ذلك معارض بما يدل على عدمه كقوله تعالى: * (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) * (الأنعام: 82) فإنه يدل على مقارنة الظلم للايمان في بعض، وعن الثالث بأنا لا نسلم أن فعل الكبيرة مناف للايمان * (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) * (النور: 2) على معنى لا تحملنكم الشفقة على إسقاط حدود الله تعالى بعد وجوبها، وعن الرابع بأن ماذكر من الآيتين ليس فيه دلالة لأن آية نفي الخزي إنما دلت على نفيه في الآخرة عن المؤمنين مطلقا أو أصحابه صلى الله عليه وسلم وآية القاطع دالة على الخزي في الدنيا ولا يلزم من منافاة الخزي يوم القيامة للايمان منافاته للايمان في الدنيا، وعن الخامس بأنا لا نسلم كفر من ترك الحج من غير عذر * (ومن كفر) * (آل عمران: 97) ابتداء كلام أو المراد من لم يصدق بمناسك الحج وجحدها ولا يتصور مع ذلك التصديق، وعن السادس بأن معنى: * (من لم يحكم) * (المائدة: 44) الآية من لم يصدق أو من لم يحكم بشيء مما نزل الله أو المراد بذلك التوراة بقرينة السابق، وعن السابع بأنه يمكن أن يقال معنى: " لا يزني الزاني وهو مؤمن " أي آمن من عذاب الله أي إن زنى والعياذ بالله فليخف عذابه سبحانه وتعالى ولا يأمن مكره أو المراد لا يزني مستحلا لزناه وهو مؤمن أو لا يزني وهو على صفات المؤمن من اجتناب المحظورات، وهذا التأويل أولى من مخالفة الأوضاع اللغوية لكثرته دونها وكذا يقال في نظائر هذا، وعن الثامن بأنا لا ننكر مجامعة الكبائر للايمان عقلا غير أن الأمة مجمعة على إكفار المستخف فعلمنا انتفاء التصديق عند وجود الاستخفاف مثلا سمعا والجمع بين العمل بوضع اللغة وإجماع الأمة على الاكفار أولى من إبطال أحدهما، وعن التاسع بأن الآية قد فرقت بين الدين وفعل الواجبات للعطف وهو ظاهرا دليل المغايرة، سلمنا أن الدين فعل الواجبات وأن الدين هو الإسلام لكن لا نسلم أن الإسلام هو الإيمان وليس المراد بغير الإسلام في الآية ما هو مغاير له بحسب المفهوم وإلا يلزم أن لا تقبل الصلاة والزكاة مثلا بل المغاير له بحسب الصدق فحينئذ يحتمل أن يكون الإسلام أعم وهذا كما إذا قلت من يبتغ غير العلم الشرعي فقد سها فإنك لا تحكم بسهو من ابتغى الكلام، وظاهر أن ذم غير الأعم لا يستلزم ذم الأخص فإن قولك غير الحيوان مذموم لا يستلزم أن يكون الإنسان مذموما، وعن العاشر بأنه مشترك الالزام فما هو جوابكم فهو جوابنا على أنا نقول التصديق في حالة النوم والغفلة باق في القلب والذهول إنما هو عن حصوله والنوم ضد لإدراك الأشياء ابتداء لا أنه مناف لبقاء الإدراك الحاصل حالة اليقظة، سلمنا إلا أن الشارع جعل المحقق الذي لا يطرأ عليه ما يضاده في حكم الباقي حتى كان المؤمن اسما لمن آمن في الحال أو في الماضي ولم يطرأ عليه ما هو علامة التكذيب، وعن الحادي عشر بأن عدم تسمية من صدق بآلهية غير الله مؤمنا إنما هو لخصوصية متعلق الإيمان شرعا فتسميته مؤمنا يصح نظرا إلى الوضع اللغوي ولا يصح نظرا إلى الاستعمال الشرعي، وعن الثاني عشر بأن الإيمان ضد الشرك بالاجماع وما ذكروه لازم على كل مذهب ونحن نقول إن الإيمان هناك لغوي إذ في الشرعي يعتبر التصديق بجميع ما علم مجيئه به صلى الله عليه وسلم كما تقدم فالمشرك المصدق ببعض لا يكون مؤمنا إلا بحسب اللغة دون الشرع لإخلاله بالتوحيد والآية إشارة إليه. وقولهم أهل اللغة لا يفهمون الخ مجرد دعوى لا يساعدها البرهان نعم لا شك أن المقر باللسان وحده يسمى مؤمنا لغة لقيام دليل الإيمان الذي هو التصديق القلبي فيه كما يطلق الغضبان والفرحان على سبيل الحقيقة لقيام الدلائل الدالة عليها من الآثار اللازمة للغضب والفرح ويجري عليه أحكام الإيمان ظاهرا ولا نزاع في ذلك وإنما النزاع في كونه مؤمنا عند الله تعالى والنبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده كما كانوا يحكمون بإيمان من تكلم بالشهادتين كانوا يحكمون بكفر المنافق فدل على أنه لا يكفي في الإيمان فعل اللسان
113

وهذا مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان وكأنه لهذا اشترط الرقاشي والقطان مواطأة القلب مع المعرفة عنه الأول والتصديق المكتسب بالاختيار عند الثاني، وقال الكرامية: من أضمر الانكار وأظهر الإذعان وإن كان مؤمنا لغة وشرعا لتحقق اللفظ الدال الذي وضع لفظ الإيمان بإزائه إلا أنه يستحق ذلك الشخص الخلود في النار لعدم تحقق مدلول ذلك اللفظ الذي هو مقصود من اعتبار دلالته، هذا وبعد سبر الأقوال في هذا المقام لم يظهر لي بأس فيما ذهب إليه السلف الصالح وهو أن لفظ الإيمان موضوع للقدر المشترك بين التصديق وبين الأعمال فيكون إطلاقه على التصديق فقط وعلى مجموع التصديق والأعمال حقيقة كما أن المعتبر في الشجرة المعينة - بحسب العرف - القدر المشترك بين ساقها ومجموع ساقها مع الشعب والأوراق فلا يطلق الانعدام عليها ما بقي الساق فالتصديق بمنزلة أصل الشجرة والأعمال بمنزلة فروعها وأغصانها فما دام الأصل باقيا يكون الإيمان باقيا وقد ورد في الصحيح الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " وقريب من هذا قول من قال إن الأعمال آثار خارجة عن الإيمان مسببة له ويطلق عليها لفظ الإيمان مجازا ولا مخالفة بين القولين إلا بأن إطلاق اللفظ عليها حقيقة على الأول مجاز على الثاني وهو بحث لفظي والمتبادر من الإيمان ههنا التصديق كما لا يخفى.
والغيب مصدر أقيم مقام الوصف وهو غائب للمبالغة بجعله كأنه هو وجعله بمعنى المفعول يرده كما في " البحر " أن الغيب مصدر غاب وهو لازم لا يبنى منه اسم مفعول وجعله تفسيرا بالمعنى لأن الغائب يغيب بنفسه تكلف من غير داع أو فيعل خفف كقيل وميت - وفي " البحر " - لا ينبغي أن يدعى ذلك إلا فيما سمع مخففا ومثقلا، وفسره جمع هنا بما لا يقع تحت الحواس ولا تقتضيه بداهة العقل، فمنه ما لم ينصب عليه دليل وتفرد بعلمه اللطيف الخبير سبحانه وتعالى كعلم القدر مثلا، ومنه ما نصب عليه دليل كالحق تعالى وصفاته العلا فإنه غيب يعلمه من أعطاه الله تعالى نورا على حسب ذلك النور فلهذا تجد الناس متفاوتين فيه، وللأولياء نفعنا الله تعالى بهم الحظ الافر منه.
ومن هنا قيل: الغيب مشاهدة الكل بعين الحق فقد يمنح العبد قرب النوافل فيكون الحق سبحانه بصره الذي يبصر به وسمعه الذي يسمع به ويرقى من ذلك إلى قرب
الفرائض فيكون نورا فهناك يكون الغيب له شهودا والمفقود لدينا عنده موجودا ومع هذا لا أسوغ لمن وصل إلى ذلك المقام أن يقال فيه أنه يعلم الغيب * (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله) * (النحل: 65). وقل لقتيل الحب وفيت حقه
وللمدعي هيهات ما الكحل الكحل
واختلف الناس في المراد به هنا على أقوال شتى حتى زعمت الشيعة أنه القائم وقعدوا عن إقامة الحجة على ذلك والذي يميل إليه القلب أنه ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام وهو الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره لأن الإيمان المطلوب شرعا هو ذاك لا سيما وقد انضم إليه الوصفان بعده وكون ذلك مستلزما لإطلاق الغيب عليه سبحانه ضمنا والغيب والغائب ما يجوز عليه الحضور والغيبة مما لا يضر إذ ليس فيه إطلاقه عليه سبحانه بخصوصه فهذا ليس من قبيل التسمية على أنه لا نسلم أن الغيب لا يستعمل إلا فيما يجوز عليه الحضور وبعض أهل العلم فرق بين الغيب والغائب فيقولون الله تعالى غيب وليس بغائب ويعنون بالغائب ما لا يراك ولا تراه بالغيب ما لا تراه أنت، ولا يبعد أن يقال بالتغليب ليدخل إيمان الصحابة رضي الله تعالى عنهم به صلى الله عليه وسلم إذ ليس بغيب بالنسبة إليهم أو يقال الإيمان به عليه الصلاة والسلام راجع إلى الإيمان برسالته مثلا إذ لا معنى للإيمان
114

به نفسه معرى عن الحيثيات. ورسالته غيب نصب عليها الدليل كما نصب لنا وإن افترقنا بالخبر والمعاينة أو أنه من إسناد ما للبعض إلى الكل مجازا كبنو فلان قتلوا فلانا أو المراد أنهم يؤمنون بالغيب كما يؤمنون بالشهادة فاستوى عندهم المشاهد وغيره. واختار أبو مسلم الأصفهاني أن المراد أن هؤلاء المتقين يؤمنون بالغيب أي حال الغيبة عنكم كما يؤمنون حال الحضور لا كالمنافقين الذين * (.. إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن) * (البقرة: 14) فهو على حد قوله تعالى: * (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) * (يوسف: 52) ويحتمل أن يقال حال غيبة المؤمن به، ففي " سنن الدارمي " عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن الحرث بن قيس قال له عند الله نحتسب ما سبقتمونا إليه من رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن مسعود عند الله نحتسب إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم ولم تروه إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بينا لمن رآه والذي لا إله إلا هو ما من أحد أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ: * (آلم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) * إلى قوله: * (المفلحون) * (البقرة: 1 - 5) ولا يلزم من تفضيل إيمان على آخر من حيثية تفصيله عليه من سائر الحيثيات ولا تفصيل المتصف بأحدهما على المتصف بالآخر فإن الأفضلية تختلف بحسب الإضافات والاعتبارات وقد يوجد في المفضول ما ليس في الفاضل، ويا ليت ابن مسعود رضي الله تعالى عنه سكن لوعة الحرث بما ورد عنه صلى الله عليه وسلم مرفوعا " نعم قوم يكونون بعدكم يؤمنون بي ولم يروني " وما كان أغناه رضي الله تعالى عنه عما أجاب به إذ يخرج الصحابة رضي الله تعالى عنهم عن هذا العموم الذي في هذه الآية كما يشعر به قراءته لها مستشهدا بها، وبه قال بعض أهل العلم وأنا لا أميل إلى ذلك وقيل المراد بالغيب القلب أي يؤمنون بقلوبهم لا كمن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والباء على الأول للتعدية وعلى الثاني والثالث للمصاحبة وعلى الرابع للآلة وقرأ أبو جعفر وعاصم في رواية الأعشى عن أبي بكر بترك الهمزة من * (يؤمنون) * وكذا كل همزة ساكنة بل قد يتركان كثيرا من المتحركة مثل * (لا يؤاخذكم) * (البقرة: 225) و * (يؤيد بنصره) * (آل عمران: 13) وتفصيل مذهب أبي جعفر طويل وأماأبو عمرو فيترك كل همزة ساكنة إلا أن يكون سكونها علامة للجزم مثل * (يهيء لكم) * و * (نبئهم) * (الحجر: 51) و * (اقرأ كتابك) * (الإسراء: 14) فإنه لا يترك الهمزة فيها وروى عنه أيضا الهمزة في الساكنة وأما نافع فيترك كل همزة ساكنة ومتحركة إذا كانت فاء الفعل نحو * (يومنون) * و * (لا يواخذكم) * واختلفت قراءة الكسائي وحمزة ولكل مذهب يطول ذكره و * (يقيمون) * من الإقامة يقال أقمت الشيء إقامة إذا وفيت حقه قال تعالى: * (لستم عل شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل) * (المائدة: 68) أي توفوا حقهما بالعلم والعمل ومعنى * (يقيمون الصلاة) * يعدلون أركانها بأن يوقعوها مستجمعة للفرائض والواجبات أو لها مع الآداب والسنن من أقام العود إذا قومه أو يواظبون عليها ويداومون من قامت السوق إذا نفقت وأقمتها إذا جعلتها نافقة أو يتشمرون لأدائها بلا فترة عنها ولا توان من قولهم قام بالأمر وأقامه إذا جد فيه أو يؤدونها ويفعلونها وعبر عن ذلك بالإقامة لأن القيام بعض أركانها فهذه أربعة أوجه، وفي الكلام على الأولين منها استعارة تبعية وعلى الأخيرين مجاز مرسل، وبيان ذلك في الأول أن يشبه تعديل الأركان بتقويم العود بإزالة اعوجاجه فهو قويم تشبيها له بالقائم ثم استعير الإقامة من سوية الأجسام التي صارت حقيقة فيها لتسوية المعاني كتعديل أركان الصلاة على ما هو حقها، وقيل الإقامة بمعنى التسوية حقيقة في الأعيان والمعاني بل التقويم في المعاني كالدين والمذهب أكثر
115

فلا حاجة إلى الاستعارة ولا يخفى ما فيه فإن المجازية ما لا شبهة فيها دراية ورواية وذاك الاستعمال مجاز مشهور أوحقيقة عرفية، وفي الثاني: بأن نفاق السوق كانتصاب الشخص في حسن الحال والظهور التام فاستعمل القيام فيه والإقامة في إنفاقها ثم استعيرت منه للمداومة فإن كلا منهما يجعل متعلقه مرغوبا متنافسا فيه متوجها إليه وهذا معنى لطيف لا يقف عليه إلا الخواص إلا أن فيه تجوزا من المجاز وكأنه لهذا مال الطيبي إلى أن في هذا الوجه كناية تلويحية حيث عبر عن الدوام بالإقامة فإن إقامة الصلاة بالمعنى الأول مشعرة بكونها مرغوبا فيها وإضاعتها تدل على ابتذالها كالسوق إذا شوهدت قائمة دلت على نفاق سلعتها ونفاقها على توجه الرغبات إليها وهو يستدعي الاستدامة بخلافها إذا لم تكن قائمة، وفي الثالث: بأن القيام بالأمر يدل على الاعتناء بشأنه ويلزمه التشمر فأطلق القيام على لازمه، وقد يقال بأن قام بالأمر معناه جد فيه وخرج عن عهدته بلا تأخير ولا تقصير فكأنه قام بنفسه لذلك وأقامه أي رفعه على كاهله بجملته فحينئذ يصح أن يكون فيه استعارة تمثيلية أو مكنية أو تصريحية ويجوز أن يكون أيضا مجازا مرسلا لأن من قام لأمر على أقدام الإقدام ورفعه على كاهل الجد فقد بذل فيه جهده، وفي الرابع: بأن الأداء المراد به فعل الصلاة والقيد خارج عبر عنه بالإقامة بعلاقة اللزوم إذ يلزم من تأدية الصلاة وإيجادها كلها فعل القيام وهو الإقامة لأن فعل الشيء فعل لأجزائه أو العلاقة الجزئية لأن الإقامة جزء أو جزئي لمطلق الفعل ويجوز أن يكون هناك استعارة لمشابهة الأداء للإقامة في أن كلا منهما فعل متعلق بالصلاة.
وإلى ترجيح أول الأوجه مال جمع لأنه أظهر وأقرب إلى الحقيقة وأفيد وهو المروي عن ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عنه ولعل ذلك منه عن توقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو حمل لكلام الله سبحانه وتعالى على أحسن محامله حيث إنه المناسب لترتيب الهدى الكامل والفلاح التام الشامل وفيه المدح العظيم والثناء العميم ولا يبعد أن يقال باستلزامه لما في الأوجه الأخيرة وتعين الأخير كما قيل في حديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام " لا يضر في أرجحية الأول في الكلام القديم إذ يرد أنه لو أريد ذلك قيل يصلون والعدول عن الأخصر الأظهر بلا فائدة لا يتجه في كلام بليغ فضلا عن أبلغ الكلام ولكل مقام مقال فافهم.
والصلاة في الأصل عند بعض بمعنى الدعاء ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب وإن كان صائما فليصل " وهي عند أهل الشرع مستعملة في ذات الأركان لأنها دعاء بالألسنة الثلاثة الحال والفعل والمقال، والمشهور في أصول الفقه أن المعتزلة على أن هذه وأمثالها حقائق مخترعة شرعية لأنها منقولة عن معان لغوية والقاضي أبو بكر منا على أنها مجازات لغوية مشهورة لم تصر حقائق وجماهير الأصحاب على أنها حقائق شرعية عن معان لغوية. وقال أبو علي ورجحه السهيلي الصلاة من الصلوين لعرقين في الظهر لأن أول ما يشاهد من أحوالها تحريكهما للركوع واستحسنه ابن جني وسمى الداعي مصليا تشبيها له في تخشعه بالراكع الساجد. وقيل أخذت الصلاة من ذاك لأنها جاءت ثانية للإيمان فشبهت بالمصلى من الخيل للآتي مع صلوى السابق وأنكر الإمام الاشتقاق من الصلوين مستندا إلى أن الصلاة من أشهر الألفاظ فاشتقاقها من غير المشهور في غاية البعد وأكاد أوافقه وإن قيل إن عدم الاستشهار لا يقدح في النقل وقيل من صليت العصا إذا قومتها بالصلي، فالمصلي كأنه يسعى في تعديل ظاهره وباطنه مثل ما يحاول تعديل الخشبة بعرضها على النار وهي فعل
116

بفتح العين على المشهور وجوز بعضهم سكونها فتكون حركة العين منقولة من اللام وقد اتفقت المصاحف على رسم الواو مكان الألف في مشكوة ونجاة ومناة وصلاة وزكاة وحياة حيث كن موحدات مفردات محلات باللام وعلى رسم المضاف منها كصلاتى بالألف وحذفت من بعض المصاحب العثمانية، واتفقوا على رسم المجموع منها بالواو على اللفظ قال الجعبري: ووجه كتابة الواو الدلالة على أن أصلها المنقلبة عنه واو وهو اتباع للتفخيم وهذا معنى قول ابن قتيبة بعض العرب يميلون الألف إلى الواو ولم أختر التعليل به لعدم وقوعه في القرآن العظيم وكلام الفصحاء والمراد بالصلاة هنا الصلاة المفروضة وهي الصلوات الخمس كما قاله مقاتل أو الفرائض والنوافل كما قاله الجمهور والأول هو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وادعى الإمام أنه هو المراد لأنه الذي يقع عليه الفلاح لأنه صلى الله عليه وسلم لما بين للأعرابي صفة الصلاة المفروضة قال: " والله لا أزيد عليها ولا أنقص منها فقال عليه الصلاة والسلام أفلح الأعرابي إن صدق ".
والرزق بالفتح لغة الاعظاء لما ينتفع الحيوان به. وقيل إنه يعم غيره كالنبات وبالكسر اسم منه ومصدر أيضا على قول. وقيل أصل الرزق الحظ ويستعمل بمعنى المرزوق المنتفع به وبمعنى الملك وبمعنى الشكر عند أزد. واختلف المتكلمون في معناه شرعا فالمعول عليه عند الأشاعرة ما ساقه الله تعالى إلى الحيوان فانتفع به سواء كان حلالا أو حراما من المطعومات أو المشروبات أو الملبوسات أو غير ذلك والمشهور أنه اسم لما يسوقه الله تعالى إلى الحيوان ليتغذى به ويلزم على الأول أن تكون العواري رزقا لأنها مما ساقه الله تعالى للحيوان فانتفع به وفي جعلها رزقا بعد بحسب العرف كما لا يخفى، ويلزم أيضا أن يأكل شخص رزق غيره لأنه يجوز أن ينتفع به الآخر بالأكل إلا أن الآية توافقه إذ يجوز أن يكون انتفاع من جهة الانفاق على الغير بخلاف التعريف الثاني إذ ما يتغذى به لا يمكن إنفاقه إلا أن يقال إطلاق الرزق على المنفق مجاز لكونه بصدده والمعتزلة فسروه في المشهور تارة بما أعطاه الله تعالى عبده ومكنه من التصرف فيه وتارة بما أعطاه الله تعالى لقوامه وبقائه خاصة، وحيث إن الإضافة إلى الله تعالى معتبرة في معناه وأنه لا رازق إلا الله سبحانه وأن العبد يستحق الذم والعقاب على أكل الحرام وما يستند إلى الله تعالى عز وجل عندهم لا يكون قبيحا ولا مرتكبه مستحقا ذما وعقابا قالوا إن الرزق هو الحلال، والحرام ليس برزق وإلى ذلك ذهب الجصاص منا في كتاب " أحكام القرآن " وعندنا الكل منه وبه وإليه * (قل كل من عند الله) * (النساء: 78) ولا حول ولا قوة إلا بالله وإلى الله تصير الأمور والذم والعقاب لسوء مباشرة الأسباب بالاختيار نعم الأدب من خير رأس مال المؤمن فلا ينبغي أن ينسب إليه سبحانه إلا الأفضل فالأفضل كما قال إبراهيم عليه السلام: * (وإذا مرضت فهو يشفين) * (الشعراء: 80) وقال تعالى: * (أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم) * (الفاتحة: 7) فالحرام رزق في نفس الأمر لكنا نتأدب في نسبته إليه سبحانه والدليل على شمول الرزق له ما أخرجه ابن ماجه وأبو نعيم والديلمي من حديث صفوان بن أمية قال: " جاء عمرو بن قرة فقال: يا رسول الله إن الله قد كتب علي الشقوة فلا أراني أرزق إلا من دفي بكفي فأذن لي في الغنى من غير فاحشة فقال صلى الله عليه وسلم: لا إذن لك ولا كرامة ولا نعمة كذبت أي عدو الله لقد رزقك الله تعالى رزقا حلالا طيبا فاخترت ما حرم الله تعالى عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله " وحمله على المشاكلة كالقول بأنه يحتمل قوله عليه الصلاة والسلام " فاخترت " الخ كونه رزقا لمن أحل له فيسقط الاستدلال لقيام الاحتمال خلاف الظاهر جدا. ومثل هذا الاحتمال إن قدح في الاستدلال لا يبقى وجه الأرض دليل والطعن في السند لا يقبل من غير مستند وهو مناط الثريا كما لا يخفى والاستدلال على هذا المطلب كما فعل البيضاوي وغيره بأنه لو لم يكن الحرام رزقا لم يكن المتغذى
117

به طول عمره مرزوقا وليس كذلك لقوله تعالى: * (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) * (هود: 6) ليس بشيء لأن للمعتزلة أن لا يخصوا الرزق بالغذاء بل يكتفوا بمطلق الانتفاع دون الانتفاع بالفعل بل التمكن فيه فلا يتم الدليل إلا إذا فرض أن ذلك الشخص لم ينتفع من وقت وفاته إلى وقت موته بشيء انتفاعا محللا لا رضعة من ثدي ولا شربة من ماء مباح ولا نظرة إلى محبوب ولا وصلة إلى مطلوب بل ولا تمكن من ذلك أصلا والعادة تقضي بعدم وجوده ومادة النقض لا بد من تحققها على أنه لو قدر وجوده لقالوا إن ذلك ليس محرما بالنبة إليه * (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه) * (البقرة: 173) وأيضا لهم أن يعترضوا بمن
عاش يوما مثلا ثم مات قبل أن يتناول حلالا ولا حراما وما يكون جوابنا لهم يكون جوابهم لنا على أن الآية لم تدل على أن الله تعالى يوصل جميع ما ينتفع به كل أحد إليه فإن الواقع خلافه بل دلت على أنه سبحانه وتعالى يسوق الرزق ويمكن من الانتفاع به فإذا حصل الإعراض من الحلال إلى الحرام لم يقدح في تحقق رازقيته جل وعلا، وأيضا قد يقال: معنى الآية ما من دابة متصفة بالمرزوقية فلا تدخل مادة النقض ليضر خروجها كما لا يدخل السمك في قولهم كل دابة تذبح بالسكين أي كل دابة تتصف بالمذبوحية فالاتصاف أن هذا لا يصلح دليلا، والأحسن الاستدلال بالاجماع قبل ظهور المعتزلة على أن من أكل الحرام طول عمره مرزوق طول عمره ذلك الحرام والظواهر تشهد بانقسام الرزق إلى طيب وخبيث وهي تكفي في مثل هذه المسألة والأصل الذي بني عليه التخصيص قد تركه أهل السنة قاعا صفصفا.
والانفاق الانفاد يقال أنفقت الشيء وأنفدته بمعنى والهمزة للتعدية وأصل المادة تدل على الخروج والذهاب ومنه نافق والنافقاء ونفق وإنما قدم سبحانه وتعالى المعمول اعتناء بما خول الله تعالى العبد أو لأنه مقدم على الانفاق في الخارج ولتناسب الفواصل والمراد بالرزق هنا الحلال لأنه في معرض وصف المتقي ولا مدح أيضا في إنفاق الحرام قيل ولا يرد قول الفقهاء إذا اجتمع عند أحد مال لا يعرف صاحبه ينبغي أن يتصدق به فإذا وجد صاحبه دفع قيمته أو مثله إليه فهذا الانفاق مما يثاب عليه لأنه لما فعله بإذن الشارع استحق المدح لأنه لما لم يعرف صاحبه كان له التصرف فيه وانتقل بالضمان إلى ملكه وتبدلت الحرمة إلى ثمنه على أنه قد وقع الخلاف فيما لو عمل الخير بمال مغصوب عرف صاحبه كما قال ابن القيم في " بدائع الفوائد " فذهب ابن عقيل إلى أنه لا ثواب للغاصب فيه لأنه آثم ولا لرب المال لأنه لا نية له ولا ثواب بدونها وإنما يأخذ من حسنات الغاصب بقدر ماله. وقيل إنه نفع حصل بماله وتولد منه ومثله يثاب عليه كالولد الصالح يؤجر به وإن لم يقصده، ويفهم كلام البعض - وهو من الغرابة بمكان - أن الغاصب أيضا يؤجر إذا صرفها بخير وإن تعد واقتص من حسناته بسبب أخذه لأنه لو فسق به عوقب مرتين مرة على الغصب ومرة على الفسق فإذا عمل به خيرا ينبغي أن يثاب عليه فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ولا يرد على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم " لا يقبل الله صدقة من غلول " وقوله: " إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا " لأن مآل ما ذكر أن الثواب على نفس العدول من الصرف في المعصية إلى الصرف فيما هو طاعة في نفسه لا على نفس الصدقة مثلا بالمال الحرام من حيث إنه حرام والفرق دقيق لا يهتدى إليه إلا بتوفيق.
وقد اختلف في الانفاق ههنا فقيل - وهو الأولى - صرف المال في سبل الخيرات أو البذل من النعم الظاهرة والباطنة وعلم لا يقال به ككنز لا ينفق منه. وعن ابن عباس الزكاة، وعنه وعن ابن مسعود نفقة العيال، وعن الضحاك التطوع قبل فرض الزكاة أو النفقة في الجهاد. ولعل هذه الأقوال تمثيل للمنفق لا خلاف فيه، وبعضهم جعلها خلافا ورجح كونها الزكاة المفروضة باقترانها
118

بأختها الصلاة في عدة مواضع من القرآن ومن التبعضية حينئذ مما لا يسئل عن سرها إذ الزكاة المفروضة لا تكون بجميع المال وأماإذا كان المراد بالانفاق مطلقه الأعم مثلا ففائدة إدخالها الإشارة إلى أن إنفاق بعض المال يكفي في اتصاف المنفق بالهداية والفلاح ولا يتوقف على إنفاق جميع المال وقول مولانا البيضاوي تبعا للزمخشري: إنه للكف عن الاسراف المنهي عنه مخصوص بمن لم يصبر على الفاقة ويتجرع مرارة الإضافة وإلا فقد تصدق الصديق رضي الله تعالى عنه بجميع ماله ولم ينكره عليه صلى الله عليه وسلم لعلمه بصبره واطلاعه على ما وقر في صدره، و (من) ههنا لما قيل للحسن بن سهل لا خير في الإسراف قال لا إسراف في الخير، وقيل النكتة في إدخال (من) التبعضية هي أن الرزق أعم من الحلال والحرام فأدخلت إيذانا بأن الانفاق المعتد به ما يكون من الحلال وهو بعض من الرزق، و (ما) في الآية إما موصولة أو مصدرية أو موصوفة والأول أولى فالعائد محذوف، واستشكل بأنه إن قدر متصلا يلزم اتصال ضميرين متحدي الرتبة والانفصال في مثله واجب وإن قدر منفصلا امتنع حذفه إذ قد أوجبوا ذكر المنفصل معللين بأنه لم ينفصل إلا لغرض وإذا حذفت فاتت الدلالة عليه، وأجيب على اختيار كل. أما الأول: فبأنه لما اختلف الضميران جمعا وإفرادا جاز اتصالهما وإن اتحدا رتبة كقوله: لوجهك في الإحسان بسط وبهجة * أنا لهماه قفو أكرم والد
وأيضا لا يلزم من منع ذلك ملفوظا به منعه مقدرا لزوال القبح اللفظي، وأما الثاني: فبأن الذي يمنع حذفه ما كان منفصلا لغرض معنوي كالحصر لا مطلقا كما قال ابن هشام في " الجامع الصغير " وأشار إليه غير واحد وكتبت (من) متصلة بما محذوفة النون لأن الجار والمجرور كشيء واحد وقد حذفت النون لفظا فناسب حذفها في الخط قاله في " البحر " وجعل سبحانه صلات * (الذين) * أفعالا مضارعة ولم يجعل الموصول أل فيصله باسم الفاعل لأن المضارع فيما ذكره البعض مشعر بالتجدد والحدوث مع ما فيه هنا من الاستمرار التجددي وهذه الأوصاف متجددة في المتقين واسم الفاعل عندهم ليس كذلك، ورتبت هذا النحو من الترتيب لأن الأعمال إما قلبية وأعظمها اعتقاد حقيقة التوحيد والنبوة والمعاد إذ لولاه كانت الأعمال كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء أو قالبية وأصلها الصلاة لأنها الفارقة بين الكفر والإسلام وهي عمود الدين ومعراج الموحدين والأم التي يتشعب منها سائر الخيرات والمبرات ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " وجعلت قرة عيني في الصلاة " وقد أطلق الله تعالى عليها الإيمان كما قاله جمع من المفسرين في قوله تعالى: * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) * (البقرة: 143) أو مالية وهي الانفاق لوجه الله تعالى وهي التي إذا وجدت علم الثبات على الإيمان وهذه الثلاثة متفاوتة الرتب فرتب سبحانه وتعالى ذلك مقدما الأهم فالأهم والألزم فالألزم لأن الإيمان لازم للمكلف في كل آن والصلاة في أكثر الأوقات والنفقة في بعض الحالات فافهم ذاك والله يتولى هداك.
* (والذين يؤمنون بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك وبالأخرة هم يوقنون) *
عطف على الموصول الأول مفصولا وموصولا والمروي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم أنهم مؤمنو أهل الكتاب وحيث إن المتبادر من العطف أن الإيمان بكل من المنزلين على طريق الاستقلال اختص ذلك بهم لأن إيمان غيرهم بما أنزل من قبل إنما هو على طريق الاجمال والتبع للإيمان بالقرآن لا سيما في مقام المدح، وقد دلت الآيات والأحاديث على أن لأهل الكتاب أجرين بواسطة ذلك وبهذا غايروا من قبلهم وقيل التغاير باعتبار أن الإيمان الأول بالعقل وهذا بالنقل أو بأن ذاك
بالغيب وهذا بما عرفوه كما يعرفون أبناءهم فأولئك على هدى حينئذ إشارة إلى الطائفة الأولى لأن إيمانهم بمحض الهداية الربانية * (وأولئك هم المفلحون) * (البقرة: 5)
119

إشارة إلى الثانية لفوزهم بما كانوا ينتظرونه أو بأن أولئك من حيث المجموع كان فيهم شرك وهؤلاء لم يشركوا ولم ينكروا، وقيل التغاير بالعموم والخصوص مثله في قوله تعالى: * (تنزل الملائكة والروح) * (القدر: 4) والتخصيص هنا بعد التعميم للإشارة إلى الأفضلية من حيثية إنهم يعطون أجرهم مرتين وقد يوجد في المفضول ما ليس في الفاضل وفي ذلك ترغيب أهل الكتاب في الدخول في الإسلام، وقال بعضهم إن هؤلاء هم الأولون بأعيانهم وتوسيط العطف جار في الأسماء والصفات باعتبار تغاير المفهومات ويكون بالواو والفاء وثم باعتبار تعاقب الانتقال في الأحوال والجمع المستفاد من الواو هنا واقع بين معاني الصفات المفهومة من المتعاطفين والإيمان الذي مع أولهما إجمالي وعقلي ومع ثانيها تفصيلي ونقلي وإعادة الموصول للتنبيه على تغاير القبيلين وتباين السبيلين وقد يعطف على المتقين والموصول غير مفصول لما يلزم على الوصل الفصلي بأجنبي بين المبتدأ وخبره والمعطوف، والمعطوف عليه والتغاير بين المتعاطفين باعتبار أن المراد بالمعطوف عليه من آمن من العرب الذين ليسوا بأهل كتاب وبالمعطوف من آمن به صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب وقد رجح بعض المحققين احتمال أن يكون هؤلاء هم الأولون وتوسط الواو بين الصفات بأن الإيمان بالمنزلين مشترك بين المؤمنين قاطبة فلا وجه لتخصيصه بمؤمني أهل الكتاب والإفراد بالذكر لا يدل على أن الإيمان بكل بطريق الاستقلال فقد أفرد الكتب المنزلة من قبل في قوله تعالى: * (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم) * (البقرة: 136) ولم يقتض الإيمان بها على الانفراد وبأن أهل الكتاب لم يكونوا مؤمنين بجميع ما أنزل من قبل لأن اليهود لم يؤمنوا بالإنجيل ودينهم منسوخ به وبأن الصفات السابقة ثابتة لمن آمن من أهل الكتاب فالتخصيص بمن عداهم تحكم وجعل الكلام من قبيل عطف الخاص على العام لا يلائم المقام.
وأجيب أما أولا فبأن المتبادر من السياق الإيمان بالاستقلال لا سيما في مقام المدح وإليه يشير ما جاء أنهم يؤتون أجرهم مرتين والخطاب في الآية للمسلمين بأن يقولوا دفعة ولم يعد فيها الإيمان والمؤمن فلا ترد نقضا، وأما ثانيا فلأن إيمان أهل الكتاب بكل وحي إنما هو بالنظر إلى جميعهم فاليهود اشتمل إيمانهم على القرآن والتوراة، والنصارى اشتمل إيمانهم على الإنجيل أيضا ويكفي هذا في توجيه المروي عمن شاهدوا نزول الوحي ولا يرغب عنه إذا أمكن توجيهه وكون المفهوم المتبادر ثبوت الحكم لكل واحد إن سلم لا يرده ولا يرد أن اليهود الذين آمنوا على عهد نبينا صلى الله عليه وسلم لم يؤمنوا قبل ذلك بالتوراة وإلا لتنصروا لأن فيها نبوة عيسى كما فيها نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رقد ورد فيها - إن الله جاء من طور سيناء وظهر بساعير وعلن بفاران - وساعير بيت المقدس الذي ظهر فيه عيسى، وفاران جبال مكة التي كانت مظهر المصطفى صلى الله عليه وسلم لأنا نقول إنهم آمنوا بالتوراة وتأولوا ما دل منها على نبوة المسيح عليه السلام فبعض أنكر نبوته رأسا ورموه بما رموه - وحاشاه وهم الكثيرون - وبعض كالعنانية قالوا: إنه من أولياء الله تعالى المخلصين العارفين بأحكام التوراة وليس بنبي وهؤلاء قليلون مخالفون لسائر اليهود في السبت والأعياد ويقتصرون على أكل الطير والظباء والسمك والجراد وهذا الإيمان وإن لم يكن نافعا في النجاة من النار إلا أنه يقلل الشر بالنسبة إلى الكفر بالتوراة وإنكارها بالكلية مع الكفر بعيسى عليه السلام وربما يمدحون بالنظر إلى أصل الإيمان بها وإن ذموا بحيثية أخرى وكأنه لهذا يكتفى منهم بالجزية ولم يكونوا طعمة للسيوف مطلقا والقول بأنهم مدحوا بعد إيمانهم بالقرآن بالإيمان بالتوراة نظرا إلى أسلافهم الذين كانوا على عهد موسى عليه السلام فإنهم مؤمنون بها إيمانا صحيحا على وجهها كما أنهم ذموا بما صنع آباؤهم على عهده على ما ينطق به كثير من الآيات ليس بشيء إذ لا معنى لإيتائهم
120

أجرين حينئذ والفرق بين البابين واضح. ثم النسخ الذي ادعاه المرجح خلاف ما ذكره الشهرستاني وغيره من أن الإنجيل لم يبين أحكاما ولا استبطن حلالا وحراما ولكنه رموز وأمثال ومواعظ والأحكام محالة إلى التوراة وقد قال المسيح ما جئت لأبطل التوراة بل جئت لأكملها وهذا خلاف ما تقتضيه الظواهر وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه، وأما ثالثا فلأن ثبوت الصفات لمن آمن من أهل الكتاب لا يضرنا لأنها مذكورة في الأول صريحا وفي الثاني التزاما، وأما رابعا فلأنا لا نسلم أن ذلك العطف لا يلائم المقام فنكات عطف الخاص على العام لا تخفى كثرتها على ذوي الأفهام فدع ما مر وخذ ما حلا، وعندي بعد هذا كله أن الاعتراض ذكر والجواب أنثى لكن الرواية دعت إلى ذلك ولعل أهل مكة أدرى بشعابها وفوق كل ذي علم عليم على أن الدراية قد تساعده كما قيل بناء على أن إعادة الموصول وتوصيفه بالإيمان بالمنزلين مع اشتراكه بين جميع المؤمنين واشتمال الإيمان بما أنزل إليك على الإيمان بما أنزل من قبلك يستدعي أن يراد به من لهم نوع اختصاص بالصلة وهم مؤمنو أهل الكتاب حيث كانوا مطالبين بالإيمان بالقرآن خصوصا قال تعالى: * (وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم) * (البقرة: 41) مؤمنين بالكتب استقلالا في الجملة بخلاف سائر المؤمنين، ثم المتبادر من أهل الكتاب أهل التوراة والإنجيل وحمله على أهل الإنجيل خاصة وقد آمن منهم أربعون واثنان وثلاثون جاءوا مع جعفر من أرض الحبشة وثمانية من الشام لا تساعده رواية ولا دراية كما لا يخفى، والإنزال الإيصال والإبلاغ ولا يشترط أن يكون من أعلى خلافا لمن ادعاه نحو: * (فإذا نزل بساحتهم) * (الصافات: 177) أي وصل وحل وإنزال الكتب الإلهية قد مر في المقدمات ما يطلعك إلى معارجه، وذكر أن معنى إنزال القرآن أن جبريل سمع كلام الله تعالى كيف شاء الله تعالى فنزل به أو أظهره في اللوح كتابة فحفظه الملك وأداه بأي نوع كان من الأداء.
وذهب بعض السلف إلى أنه من المتشابه الذي نجزم به من غير بحث عن كيفيته. وقال الحكماء: إن نفوس الأنبياء عليهم السلام قدسية فتقوى على الاتصال بالملأ الأعلى فينتقش فيها من الصور ما ينتقل إلى القوة المتخيلة والحس المشترك فيرى كالمشاهد وهو الوحي وربما يعلو فيسمع كلاما منظوما ويشبه أن نزول الكتب من هذا. وعندي أن هذا قد يكون لأرباب النفوس القدسية والأرواح الإنسية إلا أن أمر النبوة وراء ذلك وأين الثريا من يد المتناول.
وفعلا الإنزال مبنيان للمفعول وقرأهما النخعي وأبو حيوة ويزد بن قطيب مبنيين للفاعل وقرىء شاذا (بما أنزل إليك) بتشديد اللام ووجه ذلك أنه أسكن لام (أنزل) ثم
حذف همزة إلى ونقل كسرتها إلى اللام فالتقى المثلان فأدغم. وضمير الفاعل قيل الله وقيل جبريل عليه السلام. وفي " البحر " أن فيه التفاتا لتقدم * (.. مما رزقناهم) * فخرج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة ولو جرى على الأول لجاء - بما أنزلنا إليك وما أنزلنا من قبلك - وأتى سبحانه بصلة (ما) الأولى فعلا ماضيا مع أن المراد بالمنزل جميعه لاقتضاء السياق، والسباق له من ترتب الهدى والفلاح الكاملين عليه ولوقوعه في مقابلة ما أنزل قبل ولاقتضاء * (يؤمنون) * المنبىء عن الاستمرار والجميع لم ينزل وقت تنزل الآية لأمرين: الأول إنه تغليب لما وجد نزوله على ما لا يوجد فهو من قبيل إطلاق الجزء على الكل والثاني تشبيه جميع المنزل بشيء نزل في تحقق الوقوع لأن بعضه نزل وبعضه سينزل قطعا فيصير إنزال مجموعه مشبها بإنزال ذلك الشيء الذي نزل فتستعار صيغة الماضي من إنزاله لإنزال المجموع، هذا ما حققه من يعقد عند ذكرهم الخناصر وفيه دغدغة كبرى. وأهون منه أن التعبير بالماضي هنا للمشاكلة لوقوع غير المتحقق في صحبة المتحقق، وأهون من ذلك كله أن المراد به حقيقة الماضي ويدل على الإيمان بالمستقبل بدلالة النص. وما قيل من أن الإيمان بما سينزل ليس بواجب إلا أن حمله على الجميع أكمل فلذا اقتصر عليه لا وجه له إذ لا شبهة في أنه يلزم المؤمن أن يؤمن بما
121

نزل وبأن كل ما سينزل حق وإن لم يجب تفصيله وتعيينه، وقد ذكر العلماء أن الإيمان إجمالا بالكتب المنزلة مطلقا فرض عين وتفصيلا بالقرآن المتعبد بتفاصيله فرض كفاية إذ لو كان فرض عين أدى إلى الحرج والمشقة والدين يسر لا عسر، وهذا مما لا شبهة فيه حتى قال الدواني: يجب على الكفاية تفصيل الدلائل الأصولية بحيث يتمكن معه من إزالة الشبه وإلزام المعاندين وإرشاد المسترشدين، وذكر الفقهاء أنه لا بد أن يكون في كل حد من مسافة القصر شخص متصف بهذه الصفة ويسمى المنصوب للذب ويحرم على الإمام إخلاؤها من ذلك كما يحرم إخلاؤها عن العالم بالأحكام التي يحتاج إليها العامة وقيل لا بد من شخص كذلك في كل إقليم وقيل يكفي وجوده في جميع البلاد المعمورة الإسلامية ولعل هذا التنزل لنزول الأمر وقلة علماء الدين في الدنيا بهذا العصر: أمست يبابا وأمسى أهلها احتملوا * أخنى عليها الذي أخنى على لبد
وإلى الله تعالى المشتكى وإليه الملتجى: إلى الله أشكو إن في القلب حاجة * تمر بها الأيام وهي كما هيا
والآخرة تأنيث الآخر اسم فاعل من أخر الثلاثي بمعنى تأخر وإن لم يستعمل كما أن الآخر - بفتح الخاء - اسم تفضيل منه وهي صفة في الأصل كما في - * (الدار الآخرة) * (البقرة: 94) و * (ينشىء النشأة الآخرة) * (العنكبوت؛ 20) - ثم غلبت كالدنيا. والوصف الغالب قد يوصف به دون الاسم الغالب فلا يقال قيد أدهم للزوم التكرار في المفهوم وهو وإن كان من الدهمة إلا أنه يستعمله من لا تخطر بباله أصلا فافهم. وقد تضاف الدار لها كقوله تعالى: * (ولدار الآخرة) * (يوسف: 109) أي دار الحياة الآخرة وقد يقابل بالأولى كقوله سبحانه وتعالى: * (له الحمد في الأولى والآخرة) * والمعنى هنا الدار الآخرة أو النشأة الآخرة والجمهور على تسكين لام التعريف وإقرار الهمزة التي تكون بعدها للقطع، وورش يحذف وينقل الحركة إلى اللام * (والإيقان) * التحقق للشيء كسكونه ووضوحه يقال يقن الماء إذا سكن وظهر ما تحته وهو واليقين بمعنى خلافا لمن وهم فيه. قال الجوهري: اليقين العلم وزوال الشك يقال منه يقنت بالكسر يقينا وأيقنت واستيقنت كلها بمعنى، وذهب الواحدي وجماعة إلى أنه ما يكون عن نظر واستدلال فلا يوصف به البديهي ولا علم الله تعالى. وذهب الإمام النسفي وبعض الأئمة إلى أنه العلم الذي لا يحتمل النقيض، وعدم وصف الحق سبحانه وتعالى به لعدم التوقيف، وذهب آخرون إلى أنه العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكا فيه سواء كان ضروريا أو استدلاليا، وذكر الراغب أن اليقين من صفة العلم فوق المعرفة والدراية وأخواتها يقال علم يقين ولا يقال معرفة يقين وهو سكون النفس مع ثبات الحكم، وفي الأحياء - والقلب إليه يميل - أن اليقين مشترك بين معنيين. الأول عدم الشك فيطلق على كل ما لا شك فيه سواء حصل بنظر أو حس أو غريزة عقل أو بتواتر أو دليل هذا لا يتفاوت. الثاني وهو ما صرح به الفقهاء والصوفية وكثير من العلماء وهو ما لا ينظر فيه إلى التجويز والشك بل إلى غلبته على القلب حتى يقال فلان ضعيف اليقين بالموت وقوي اليقين بإثبات الرزق فكل ما غلب على القلب واستولى عليه فهو يقين وتفاوت هذا ظاهر، وقرأ الجمهور: * (يوقنون) * بواو ساكنة بعد الياء وهي مبدلة منها لأنه من أيقن وقرأ النميري بهمزة ساكنة بدل الواو وشاع عندهم أن الواو إذا ضمت ضمة غير عارضة كما فصل في العربية يجوز إبدالها همزة كما قيل في وجوه جمع وجه أجوه فلعل الإبدال هنا لمجاورتها للمضموم فأعطيت حكمه وقد يؤخذ الجار بظلم الجار، وغاير سبحانه بين الإيمان بالمنزل والإيمان بالآخرة فل يقل - وبالآخرة هم يؤمنون - دفعا لكلفة التكرار أو لكثرة غرائب متعلقات الآخرة وما أعد فيها من الثواب
122

والعقاب وتفصيل أنواع التنعيم والتعذيب ونشأة أصحابهما على خلاف النشأة الدنيوية مع إثبات المعاد الجسماني كيفما كان إلى غير ذلك مما هو أغرب من الإيمان بالكتاب المنزل حتى أنكره كثير من الناس وخلا عن تفاصيله على ما عندنا التوراة والإنجيل فليس في الأول - على ما في شرح الطوالع - ذكر المعاد الجسماني وإنما ذكر في كتب حزقيل وشعياء والمذكور في الإنجيل إنما هو المعاد الروحاني فناسب أن يقرن هذا الأمر المهم الغريب الذي حارت عقول الكثيرين في إثباته وتهافتوا على إنكاره تهافت الفراش على النار بالإيقان وهو هو إظهارا لكمال المدح وإبداء لغاية الثناء، وتقديم المجرور للإشارة إلى أن إيقانهم مقصور على حقيقة الآخرة لا يتعداها إلى خلاف حقيقتها مما يزعمه اليهود مثلا حيث قالوا: * (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا) * * (ولا تمسنا النار إلا أياما معدودة) * وزعموا أنهم يتلذذون بالنسيم والأرواح إذ ليس ذلك من الآخرة في شيء وفي بناء يوقنوه على * (هم) * إشارة إلى أن اعتقاد مقابليهم في الآخرة جهل محض وتخييل فارغ وليسوا من اليقين في ظل ولا فيء.
* (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) *
* (أول‍ائك على هدى من ربهم) * الظاهر أنه جملة مرفوعة المحل على الخبرية فإن جعل الموصول الأول مفصولا على أكثر التقادير في الثاني ويتبعه فصله بحسب
الظاهر إذ لا يقطع المعطوف عليه دون المعطوف فالخبرية له وإن جعل موصولا وأريد بالثاني طائفة مما تقدمه وجعل هو مفصولا كان الإخبار عنه وذكر الخاص بعد العام كما يجوز أن يكون بطريق التشريك بينهما في الحكم السابق - أعني هدى للمتقين - يجوز أن يكون بطريق إفراده بالحكم عن العام وحينئذ تكون الجملة المركبة من الموصول الثاني وجملة الخبر معطوفة على جملة * (هدى للمتقين) * الموصوفين - بالذين يؤمنون بالغيب - والجملة الأولى وإن كانت مسوقة لمدح الكتاب والثانية لمدح الموصوفين بالإيمان بجميع الكتب إلا أن مدحهم ليس إلا باعتبار إيمانهم بذلك الكتاب فهما متناسبتان باعتبار إفادة مدحه وفائدة جعل المدح مقصودا بالذات ترغيب أمثالهم والتعريض على ما قيل بمن ليس على صفتهم والتخصيص المستفاد من المعطوف بالقياس إلى من لم يتصف بأوصافهم فلا ينافي ما استفيد من المعطوف عليه من ثبوت الهدى للمتقين مطلقا. نعم ليس هذا الوجه في البلاغة بمرتبة فصل الموصول الأول فهو أولى، وعليه تكون الجملة مشيرة إلى جواب سؤال إما عن الحكم أي إن المتقين هل يستحقون ما أثبت لهم من الاختصاص بالهدى أو عن السبب كأنه قيل ما سبب اختصاصهم أو عن مجموع الأمرين أي هل هم أحقاء بذلك وما السبب فيه حتى يكونوا كذلك؟ فأجيب بأن هؤلاء لأجل اتصافهم بالصفات المذكورة متمكنون على الهدى الكامل الذي منحهم إياه ربهم تعالى بكتابه. ومعلوم أن العلة مختصة بهم فيكونون مستحقين للاختصاص. فالجواب مشتمل على الحكم المطلوب مع تلخيص موجبه وضم نتيجة الهدى تقوية للمبالغة التي تضمنها تنكير هدى أو تحقيقا للحكم بالبرهان الآتي أيضا ولذا استغنى عن تأكيد النسبة أو الجملة الإسمية مؤكدة. وقد يقال إنه بين الجواب مرتبا عليه مسببيه أعني الهدى والفلاح لأن ذلك أوصل إلى معرفة السبب ولا حاجة حينئذ إلى التأكيد، والأمر على التقدير الثالث ظاهر وجعل الجملة مشيرة إلى الجواب على احتمال وصل الأول وفصل الثاني مما لا يخفى انفصاله عن ساحة القبول، وإذا وصل الأول وعطف الثاني تكون هذه الجملة مستأنفة استئنافا نحويا، والفصل لكمال الاتصال إذ هي كالنتيجة للصفات السابقة أو بيانيا والفصل لكونها كالمتصلة فكأن سائلا يقول ما للموصوفين بهذه الصفات اختصوا بالهدى؟ فأجيب بأن سبب اختصاصهم أنه سبحانه قدر في الأزل سعادتهم وهدايتهم فجبلتهم مطبوعة على الهداية والسعيد سعيد في بطن أمه لا سيما إذا انضم إليه الفلاح الأخروي الذي هو أعظم المطالب، أو يقال إن الجواب بشرح
123

ما انطوى عليه اسمهم إجمالا من نعوت الكمال وبيان ما تستدعيه من النتيجة أي الذين هذه شؤونهم أحقاء بما هو أعظم من ذلك. وهذا المسلك يسلك تارة بإعادة من استؤنف عنه الحديث - كأحسنت إلى زيد - زيد حقيق بالإحسان وأخرى بإعادة صفته - كأحسنت إلى زيد صديقك القديم - أهل لذلك وهذا أبلغ لما فيه من بيان الموجب للحكم وإيراد اسم الإشارة هنا بمنزلة إعادة الموصوف بصفاته المذكورة مع ما فيه من الإشعار بكمال تميزه بها وانتظامه لذاك في سلك الأمور المشاهدة مع الإيمان إلى بعد منزلته وعلو درجته، هذا وجعل أولئك وحده خبرا و * (على هدى) * حال بعيد كجعله بدلا من - الذين - والظرف خبرا. وإنما كتبوا واوا في * (أولئك) * للفرق بينه وبين إليك الجار والمجرور كما قيل، وقيل إنه لما كان مشارا به لجمع المذكر وكان مبنيا ومباينا للشائع من صيغ الجموع جبر في الجملة بكتابة حرف يكون في الجمع في بعض الآنات. ومن المشهور - ردوا السائل ولو بظلف محرق - وفي قوله سبحانه: * (على هدى) * استعارة تمثيلية تبعية حيث شبهت حال أولئك - وهي تمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه وتمسكهم به - بحال من اعتلى الشيء وركبه ثم استعير للحال التي هي المشبه المتروك كلمة الاستعلاء المستعملة في المشبه به وإلى ذلك ذهب السعد، وأنكر السيد اجتماع التمثيلية والتبعية لأن كونها تبعية يقتضي كون كل من الطرفين معنى مفردا لأن المعاني الحرفية مفردة وكونها تمثيلية يستدعي انتزاعهما من أمور متعددة وهو يستلزم تركبه. وأبدى قدس سره في الآية ثلاثة أوجه. الأول أنها استعارة تبعية مفردة بأن شبه تمسك المتقين بالهدى باستعلاء الراكب على مركوبه في التمكن والاستقرار فاستعير له الحرف الموضوع للاستعلاء. الثاني أن يشبه هيئة منتزعة من المتفي والهدى وتمسكه به بالهيئة المنتزعة من الراكب والمركوب واعتلائه عليه فيكون هناك استعارة تمثيلية تركب كل من طرفيها لكن لم يصرح من الألفاظ التي بإزاء المشبه به إلا بكلمة * (على) * فإن مدلولها هو العمدة في تلك الهيئة وما عداه تابع له ملاحظ في ضمن ألفاظ منوية وإن لم تقدر في نظم الكلام فليس في * (على) * استعارة أصلا بل هي على حالها قبل الاستعارة كما إذا صرح بتلك الألفاظ كلها. الثالث أن يشبه الهدى بالمركوب على طريق الاستعارة بالكناية وتجعل كلمة * (على) * قرينة لها على عكس الوجه الأول. وهذا الخلاف بين الشيخين في هذه المسألة مما سارت به الركبان وعقدت له المجالس وصنفت فيه الرسائل، وأول ما وقع بينهما في مجلس تيمور - وكان الحكم نعمان الخوارزمي المعتزلي - فحكم - والظاهر أنه لأمر ما - للسيد السند والعلماء إلى اليوم فريقان في ذلك ولا يزالون مختلفين فيه إلا أن الأكثر مع السعد. وأجابوا عن شبهة السيد بأن انتزاع شيء من أمور متعددة يكون على وجوه شتى فقد يكون من مجموع تلك الأمور كالوحدة الاعتبارية وقد يكون من أمر بالقياس إلى آخر كالإضافات وقد يكون بعضه من أمر وبعضه من آخر وعلى الأولين لا يقتضي تركيبه بل تعدد مأخذه فيجوز حينئذ أن يكون المدلول الحر في لكونه أمرا إضافيا كالاستعلاء حالة منتزعة من أمور متعددة فلجريانها في الحرف تكون تبعية ولكون كل من الطرفين حالة إضافية منتزعة من أمور متعددة تمثيلية، ولعل اختيار القوم في تعريف التمثلية لفظ الانتزاع دون التركيب يرشد المنصف إلى عدم اشتراط التركيب في طرفيه وإلا لكان الأظهر لفظ التركيب، وقد أشبعنا القول في ذلك وذكرنا ما له وما عليه في كتابنا - الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية - وفي هذا القدر هنا كفاية. وفي تنكير * (هدى) * إشارة إلى عظمته فلا يعرف حقيقته ومقداره إلا اللطيف الخبير وإنما ذكر الرب مع أن الهدى لا يكون إلا منه سبحانه تأكيدا لذلك بإسناده إليه جل شأنه، وفيه مناسبة واضحة إذ حيث كان ربهم ناسب أن يهيء لهم أسباب السعادتين ويمن عليهم بمصلحة الدارين وقد تكون
124

ثم صفة محذوفة أي * (على هدى) * أي هدى وحذف الصفة لفهم المعنى جائز. وقيل يحتمل أن يكون التنوين للأفراد أي على هدى واحد إذ لا هدى إلا هدى ما أنزل إليه صلى الله عليه وسلم لنسخه ما قبله. و * (من) * لابتداء الغاية أو للتبعيض على حذف مضاف أي من هدى ربهم، ومعنى كون ذلك منه سبحانه أنه هو الموفق لهم والمفيض عليهم من بحار لطفه وكرمه وإن توسطت هناك أسباب عادية ووسائط صورية على أن تلك الوسائط قد ترتفع من البين فيتبلج صبح العيان لذي عينين. وقد قرأ
ابن هرمز - من ربهم - بضم الهاء وكذلك سائر هاءات جمع المذكر والمؤنث على الأصل من غير أن يراعي فيها سبق كسر أو ياء وأدغم النون في الراء بلا غنة الجمهور وعليه العمل، وذهب كثير من أهل الأداء إلى الإدغام مع الغنة ورووه عن نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وعاصم وأبي جعفر ويعقوب، وأظهر النون أبو عون عن قالون، وأبو حاتم عن يعقوب، وهذه الأوجه جارية أيضا في النون والتنوين إذ لاقت لاما * (وأول‍ائك هم المفلحون) * الفلاح الفوز والظفر بإدراك البغية وأصله الشق والقطع ويشاركه في معنى الشق مشاركة في الفاء والعين نحو - فلى وفلق وفلذ - وفي تكرار اسم الإشارة إشارة إلى أن هؤلاء المتصفين بتلك الصفات يستحقون بذلك الاستقلال بالتمكن في الهدى والاستبداد بالفلاح والاختصاص بكل منهما ولولاه لربما فهم اختصاصهم بالمجموع فيوهم تحقق كل واحد منهما بالانفراد فيمن عداهم وإنما دخل العاطف بين الجملتين لكونهما واقعتين بين كمال الاتصال والانفصال لأنهما وإن تناسبا مختلفان مفهوما ووجودا فإن الهدى في الدنيا والفلاح في الآخرة وإثبات كل منهما مقصود في نفسه وبهذا فارقا قوله تعالى: * (أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) * فالثانية فيه مؤكدة للأولى إذ لا معنى للتشبيه إلا بالأنعام المبالغة في الغفلة فلا مجال للعطف بينهما و * (هم) * يحتمل أن يكون فضلا أو بدلا فيكون * (المفلحون) * خبرا عن أولئك أو مبتدأ - والمفلحون - خبره والجملة خبر * (.. أولئك) * وهذه الجملة لا تخلو عن إفادة الحصر كما لا يخفى. وقد ذكر غير واحد أن اللام في - المفلحون - حرف تعريف بناء على أن المراد الثبات على الفلاح فهو حينئذ مما غلبت عليه الإسمية أو الحق بالصفة المشبهة فهي إما للعهد الخارجي للدلالة على أن المتقين هم الذين بلغك أنهم مفلحون في العقبى وضمير الفصل إما للقصر - أو لمجرد تأكيد النسبة ولا استبعاد في جريان القصر قلبا أو تعيينا بل إفرادا أيضا أو للجنس - فتشير إلى ما يعرفه كل أحد من هذا المفهوم فإن أريد القصر كان الفصل لتأكيد النسبة ولتأكيد الاختصاص أيضا وإن أريد الاتحاد كان لمجرد تأكيد النسبة. وتشبث المعتزلة والخوارج بهذه الآية لخلود تارك الواجب في العذاب لأن قصر جنس الفلاح على الموصوفين يقتضي انتفاء الفلاح عن تارك الصلاة والزكاة فيكون مخلدا في العذاب وهذا أوهن من بيت العنكبوت فلا يصلح للاستدلال لأن الفلاح عدم الدخول أو لأن انتفاء كمال الفلاح كما يقتضيه السياق، والسباق لا يقتضي انتفاءه مطلقا ولا حاجة إلى حمل المتقين على المجتنبين للشرك ليدخل العاصي فيهم لأن الإشارة ليست إليهم فقط فلا يجدي نفعا ككون الصفة مادحة كما لا يخفى، وههنا سر دقيق وهو أنه سبحانه وتعالى حكى في مفتتح كتابه الكريم مدح العبد لباريه بسبب إحسانه إليه وترقى فيه ثم مدح الباري هنا عبده بسبب هدايته له وترقى فيه على أسلوب واحد فسبحانه من آله ماجدكم أسدى جميلا، وأعطى جزيلا، وشكر قليلا، فله الفضل بلا وعد، وله الحمد بلا حد.
* (إن الذين كفروا سوآء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) *.
* (إن الذين كفروا سواء عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) * كلام مستأنف يتميز به حال الكفرة
125

الغواة المردة العتاة سيق إثر بيان بديع أحوال أضدادهم المتصفين بنعوت الكمال الفائزين بمطالبهم في الحال والمآل، ولم يعطف على سابقه عطف القصة على القصة لأن المقصود من ذلك بيان اتصاف الكتاب بغاية الكمال في الهداية تقريرا لكونه يقينا لا مجال للشك فيه، ومن هذا ببيان اتصاف الكفار بالإصرار على الكفر والضلال بحيث لا يجدي فيهم الإنذار، والقول إنهما مسوقان لبيان حال الكتاب وأنه هدى لقوم وليس هدى لآخرين لا يجدي نفعا لأن عدم كونه هدى لهم مفهوم تبعا لا مقصود أصالة على أن الانتفاع به صفة كمال له يؤيد ما سبق من تفخيم شأنه وإعلاء مكانه بخلاف عدم الانتفاع. وقيل إن ترك العطف لكونه استئنافا آخر كأنه قيل ثانيا ما بال غيرهم لم يهتدوا به؟ فأجيب بأنهم لإعراضهم وزوال استعدادهم لم ينجع فيهم دعوة الكتاب إلى الإيمان وليس بشيء لأنه بعد ما تقرر أن تلك الأوصاف المختصة هي المقتضية لم يبق لهذا السؤال وجه، وأغرب من هذا تخيل أن الترك لغاية الاتصال زعما أن شرح تمرد الكفار يؤكد كون الكتاب كاملا في الهداية نعم يمكن على بعد أن يوجه السؤال بأن يقال: لو كان الكتاب كاملا لكان هدى للكفار أيضا فيجاب بأن عدم هدايته إياهم لتمردهم وتعنتهم لا لقصور في الكتاب. والنجم تستصغر الأبصار رؤيته * والذنب للطرف لا للنجم في الصغر
والعطف في قوله تعالى: * (إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم) * لاتحاد الجامع إذ الجملة الأولى مسوقة لبيان ثواب الأخيار، والثانية لذكر جزاء الأشرار مع ما فيهما من الترصيع والتقابل وقد عد التضاد وشبهه جامعا يقتضي العطف لأن الوهم ينزل المتضادين منزلة المتضايفين فيجتهد في الجمع بينهما في الذهن حتى قالوا إن الضد أقرب خطورا بالبال مع الضد من الأمثال. وصدرت الجملة بأن اعتناء بمضمونها وقد تصدر بها الأجوبة لأن السائل لكونه مترددا يناسبه التأكيد وتعريف الموصول إما للعهد والمراد من شافههم صلى الله عليه وسلم بالإنذار في عهده وهم مصرون على كفرهم أو للجنس كما في قوله تعالى: * (كمثل الذي ينعق بما لا يسمع) * وكقول الشاعر: ويسعى إذا ابني لهدم صالحي * وليس الذي يبني كمن شأنه الهدم
فهو حينئذ عام خصه العقل بغير المصري، والإخبار بما ذكر قرينة عليه أو المخصص عود ضمير خاص عليه من الخبر لا الخبر نفسه وقد ذكر الأصوليون ثلاثة أقوال فيما إذا عاد ضمير خاص على العام فقيل يخصصه وقيل لا وقيل بالوقف ومثلوه بقوله تعالى: * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) * فإن الضمير في بعولتهن للرجعيات فقط. وما ذكره بعض أجلة المفسرين أن المخصص هنا الخبر أورد عليه إن تعين المخبر عنه بمفهوم الخبر ينافي ما تقرر من أن المخبر عنه لا بد أن يكون متعينا عند المخاطب قبل ورود الخبر فلو توقف تعين المخبر عنه على الخبر لزم الدور. والكفر بالضم مقابل الإيمان وأصله المأخوذ منه الكفر - بالفتح - مصدر بمعنى الستر يقال كفر يكفر من باب قتل، وما في الصحاح من أنه من باب ضرب فالظاهر أنه غير صحيح وإن لم ينبه عليه في القاموس وشاع استعماله في ستر النعمة خاصة وفي مقابل الإيمان لأن فيه ستر الحق ونعم الفيض المطلق، وقد صعب على المتكلمين تعريف الكفر الشرعي الغير التبعي واختلفوا في تعريفه على حسب اختلافهم في تعريف الإيمان إلا أن الذي عول عليه الشافعية
126

رحمهم الله تعالى أنه إنكار ما علم مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم به مما اشتهر حتى عرفه الخواص والعوام فلا يكفر جاحد المجمع عليه على الإطلاق بل من جحد مجمعا عليه فيه نص وهو من الأمور الظاهرة التي يشترك في معرفتها سائر الناس كالصلاة وتحريم الخمر ومن جحد مجمعا عليه لا يعرفه إلا الخواص كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب فليس بكافر ومن جحد مجمعا عليه ظاهرا لا نص فيه ففي الحكم بتكفيره خلاف، وأما ساداتنا الحنفية رضي الله تعالى عنهم فلم يشترطوا في الإكفار سوى القطع بثبوت ذلك الأمر الذي تعلق به الإنكار لا بلوغ العلم به حد الضرورة هذا أمر عظيم وكأنه لذلك قال ابن الهمام: يجب حمله على ما إذا علم المنكر ثبوته قطعا لأن مناط التكفير التكذيب أو الاستخفاف ولا يرد على أخذ الإنكار في التعريف أن أهل الشرع حكموا على بعض الأفعال والأقوال بأنها كفر وليست إنكارا من فاعلها ظاهرا لأنهم صرحوا بأنها ليست كفرا وإنما هي دالة عليه فأقيم الدال مقام مدلوله حماية لحريم الدين وصيانة لشريعة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وليست بعض المنهيات التي تقتضيها الشهوة النفسانية كذلك فلا يبطل الطرد بغير الكفر من الفسق فليس شعار الكفار مثلا ليس في الحقيقة كفرا كما قاله مولانا الإمام الرازي وغيره إلا أنهم كفروا به لكونه علامة ظاهرة على أمر باطن وهو التكذيب لأن الظاهر أن من يصدق الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأتي به فحيث أتى به دل على عدم التصديق وهذا إذا لم تقم قرينة على ما ينافي تلك الدلالة ولهذا قال بعض المحققين: إن لبس شعار الكفرة سخرية بهم وهزلا ليس بكفر. وقال مولانا الشهاب وليس ببعيد إذا قامت القرينة وأنا أقول إذا قامت القرينة على غرض آخر غير السخرية والهزل لا كفر به أيضا كما يظنه بعض من ادعى العلم اليوم وليس منه في قبيل ولا دبير ولا في العير ولا النفير ثم الإنكار هنا بمعنى الجحود ولا يرد أن من تشكك أو كان خاليا عن التصديق والتكذيب ليس بمصدق ولا جاحد وأنه قول بالمنزلة بين المنزلتين وهو باطل عند أهل السنة لأنه يجوز أن يكون كفر الشاك والخالي لأن تركهما الإقرار مع السعة والأعمال بالكلية دليل كما قاله السالكوتي على التكذيب كما أن التلفظ بكلمة الشهادة دليل على التصديق وقيل هو ههنا من أنكرت الشيء جهلته فلا ورود أيضا، وفيه أن الإنكار بمعنى الجهل يقابل المعرفة فيلزم أن يكون العارف الغير المصدق كأحبار اليهود واسطة فالمحذور باق بحاله. وعرف في المواقف الكفر بأنه عدم تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض ما علم مجيئه به بالضرورة ولعله أيضا يقول بإقامة بعض الأفعال والأقوال مقام عدم التصديق واعترض على أخذ الضرورة بأن ما ثبت بالإجماع قد يخرج من الضروريات وكذا براءة عائشة رضي الله تعالى عنها ثبتت بالقرآن، وأدلته اللفظية غير موجبة للعلم فتخرج عن الضروريات أيضا.
وأجيب بأن خروج ما ثبت بالإجماع عن الضروريات ممنوع والدلالة اللفظية تفيد العلم بانضمام القرائن وهي موجودة في براءة عائشة رضي الله تعالى عنها ولقد عد أصحابنا رضي الله تعالى عنهم في باب الإكفار أشياء كثيرة لا أراها توجب إكفارا والإخراج عن الملة أمر لا يشبهه شيء فينبغي الاتئاد في هذا الباب مهما أمكن، وقول ابن الهمام: أرفق بالناس وفي أبكار الأفكار - في هذا البحث - ما يقضي منه العجب ولا أرغب في طول بلا طول وفضول بلا فضل. واستدل المعتزلة بهذه الآية ونحوها على حدوث كلامه سبحانه وتعالى لاستدعاء صدق الأخبار بمثل هذا الماضي سابقة المخبر عنه أعني النسبة بالزمان وكل مسبوق بالزمان حادث، وأجيب بأن سبق المخبر عنه يقتضي تعلق كلامه الأزلي بالمخبر عنه فاللازم سبق المخبر عنه على التعلق وحدوثه وهو لا يستلزم حدوث الكلام كما في علمه تعالى بوقوع الأشياء فإن له تعلقا حادثا مع عدم حدوثه أو يقال إن ذاته تعالى وصفاته
127

لما لم تكن زمانية يستوي إليها جميع الأزمنة استواء جميع الأمكنة فالأنواع كل منها حاضر عنده في مرتبته واختلاف التعبيرات بالنظر إلى المخاطب الزماني رعاية للحكمة في باب التفهيم، وقيل غير ذلك مما يطول ذكره، وقد ذكرنا في الفائدة الرابعة ما يفيدك ذكره هنا فتذكر و * (سواء) * اسم مصدر بمعنى الاستواء وهو لا يثنى ولا يجمع وقد استغنوا عن تثنيته بتثنية * (سي) * إلا شذوذا وكأنه في الأصل مصدر كما قاله الرضى ورفع على أنه خبران وما بعده مرتفع به على الفاعلية كأنه قيل إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه - أو خبر مبتدأ محذوف - تقديره الأمران سواء ثم بين الأمرين بقوله سبحانه: * (أأنذرتهم أم لم تنذرهم) * أو خبر لما بعده أي إنذارك وعدمه سيان وهو المشهور على ألسنة الطلبة في مثله. وأورد عليه أمور. الأول: إن الفعل لا يسند إليه. الثاني: إنه مبطل لصدارة الاستفهام. الثالث: إن الهمزة و * (أم) * موضوعان لأحد الأمرين وكل ما يدل على الاستواء لا يسند إلا إلى متعدد فلذا يقال استوى وجوده وعدمه ولا يقال أو عدمه. الرابع: إنه على تقدير كونه خبرا يلزم أن لا يصح تقديمه لالتباس المبتدأ بالفاعل. ويجاب أما عن الأول فبأنه من جنس الكلام المهجور فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى، والعرب تميل في مواضع من كلامهم مع المعاني ميلا بينا ومن ذلك - لا تأكل السمك وتشرب اللبن - أي لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن ولو أجرى على ظاهره لزم عطف الاسم المنصوب على الفعل بل المفرد على جملة لا محل لها. ودعوى البيضاوي - بيض الله تعالى غرة أحواله - أنه استعمل فيه اللفظ في جزء معناه وهو الحدث تجوزا فلذا صح الإخبار عنه كما يجوز الإخبار عما يراد به مجرد لفظه كضرب ماض مفتوح الباء على ما فيها لا تتأتى فيما إذا كان المعادلان - أو أحدهما بعد همزة التسوية - جملة اسمية كما في قوله تعالى: * (سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون) * ويدخل في الميل مع المعنى مع أنه لا يلزم عليه الخروج عن الحقيقة وقد نقل ابن جني عن أبي علي أنه قال: الجملة المركبة من المبتدأ والخبر تقع موقع الفعل المنصوب بأن إذا انتصب وانصرف القول به والرأي فيه إلى مذهب المصدر كقوله تعالى: * (هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء) * وكقوله سبحانه وتعالى: * (أعنده علم الغيب فهو يرى) * ألا ترى أن الفاء جواب الاستفهام وهي تصرف الفعل بعدها إلى الانتصاب بأن مضمرة والفعل المنصوب مصدر لا محالة حتى كأنه قال أعنده علم الغيب فرؤيته وهل بينكم شركة فاستواء، وأما عن الثاني والثالث فبأن الهمزة و * (أم) * انسلخا عن معنى الاستفهام عن أحد الأمرين ولما كانا مستويين في علم المستفهم جعلا مستويين في تعلق الحكم بكليهما، ولهذا قيل تجوز بهما عن معنى الواو العاطفة الدالة على اجتماع متعاطفيها في نسبة ما من غير ملاحظة تقدم أو تأخر، ثم إن مثل هذا المعنى وإن كان مرادا إلا أنه لا يلاحظ في عنوان الموضوع بعد السبك كما لا يلاحظ معنى العاطف فلا يقال في الترجمة هنا إلا الإنذار وعدمه سواء من غير نظر إلى التساوي حتى يقال إذا كان تقدير المبتدأ
المتساويان يلغو حمل سواء عليه فيدفع بما يدفع، وقد قال الإمام الآفسراي: إن أنذرتهم الخ. انتقل عن أن يكون المقصود أحدهما إلى أن يكون المراد كليهما وهذا معنى الاستواء الموجود فيه، وأما الحكم بالاستواء في عدم النفع فلم يحصل إلا من قوله: * (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) * وذكر أنه ظفر بمثله عن أبي علي الفارسي، وكلام المولى الفناري يحوم حول هذا الحمى، وذهب بعض المحققين إلى أنهما في الأصل للاستفهام عن أحد الأمرين وهما مستويان في علم المستفهم، وقد ذهب ذلك الاستواء هنا إذ سلخ عنهما الاستفهام وبقي الاستواء في العلم وهو معنى قول من قال الهمزة و * (أم) * مجردتان لمعنى الاستواء فيكون الحاصل فيما نحن فيه المتساويان في علمك مستويان في عدم
128

الجدوى وهذا على ما فيه تكلف مستغنى عنه بما ذكرناه ومثله ما ذكر العاملي من أن تمام معناهما الاستواء والاستفهام معا فجردا عن معنى الاستفهام وصارا لمجرد الاستواء ولتكرر الحكم بالاستواء بمعنى واحد يحصل التأكيد كأنه قيل سواء الإنذار وعدمه سواء وهو بعيد عن ساحة التحقيق كما لا يخفى ويوهم قولهم بالتجريد أن هناك مجازا مرسلا استعمل فيه الكل في جزئه، والتحقيق إنه إما استعارة أو مستعمل في لازم معناه ثم المشهور أنه لا يجوز العطف بعد سواء بأو إن كان هناك همزة التسوية حتى قال في " المغني ": إنه من لحن الفقهاء، وفي شرح الكتاب للسيرافي * (سواء) * إذا دخلت بعدها ألف الاستفهام لزمت * (أم) * كسواء على أقمت أم قعدت فإذا عطف بعدها أحد اسمين على آخر عطف بالواو لا غير نحو سواء عندي زيد وعمرو فإذا كان بعدها فعلان بغير استفهام عطف أحدهما على الآخر - بأو - كقولك سواء علي قمت أو قعدت فإن كان بعدها مصدران مثل سواء علي قيامك وقعودك فلك العطف بالواو وبأو. وإنما دخلت في الفعلين بغير استفهام لما في ذلك من معنى المجازاة، فتقدير المثال إن قمت أو قعدت فهما على سواء، والظاهر من هذا ببيان استعمالات العرب - لسواء - ولم يحك في شيء من ذلك شذوذا فقراءة ابن محيصن من طريق الزعفراني - سواء عليهم أنزرتهم أو لم تنذرهم - شاذة رواية فقط لا استعمالا كما يفهمه كلام ابن هشام فافهم هذا المقام فقد غلط فيه أقوام بعد أقوام. وأما عن الرابع فبأن النحاة قد صرحوا بتخصيص ذلك بالخبر الفعلي دون الصفة نحو زيد قام فلا يقدم لالتباس المبتدأ بالفاعل حينئذ فإذا لم يمتنع في صريح الصفة فعدم امتناعه هنا أولى على ما قيل، وإنما عدل سبحانه عن المصدر فلم يأت به على الأصل لوجهين، لفظي وهو حسن دخول الهمزة وأم لأنهما في الأصل للاستفهام وهو بالفعل أولى، ومعنوي وهو إيهام التجدد نظرا لظاهر الصيغة، وفيه إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم أحدث ذلك وأوجده فأدى الأمانة وبلغ الرسالة وإنما لم يؤمنوا لسبق الشقاء ودرك القضاء لا لتقصير منه وحاشاه فهو وإن أفاد اليأس فيه تسلية له صلى الله عليه وسلم. وعلى هنا باعتبار أصل معناه لأن الاستواء يتعدى بعلى كقوله تعالى: * (استوى على العرش) * وقيل بمعنى عند - ففي " المغني " - على تجرد للظرفية، وعلى ذلك أكثر المفسرين والقول بأنها هنا للمضرة كدعاء عليه ليس بشيء لأن * (سواء) * تستعمل مع على مطلقا فيقال - مودتي دائمة سواء على أزرت أم لم تزر - * (والإنذار) * التخويف مطلقا أو الإبلاغ وأكثر ما يستعمل في تخويف عذاب الله تعالى ويتعدى إلى اثنين كقوله تعالى: * (إنا أنذرناكم عذابا قريبا) * * (فقل أنذرتكم صاعقة) * فالمفعول الثاني هنا محذوف أي العذاب ظاهرا ومضمرا واستحسن أن لا يقدر ليعم، وفي البحر: الإنذار الإعلام مع التخويف في مدة تسع التحفظ من المخوف فإن لم تسع فهو إشعار وإخبار لا إنذار ولم يذكر سبحانه البشارة لأنها تفهم بطريق دلالة النص لأن الإنذار أوقع في القلب وأشد تأثيرا فإذا لم ينفع كانت البشارة بعدم النفع أولى. وقيل لا محل للبشارة هنا لأن الكافر ليس أهلا لها. وقوله عز من قائل: * (لا يؤمنون) * يحتمل أن تكون مفسرة لإجمال ما قبلها مما فيه الاستواء والكفر وعدم نفع الإنذار في الماضي بحسب الظاهر مسكوت فيه عن الاستمرار * (ولا يؤمنون) * دال عليه ومبين له فلا حاجة إلى القول بأن هذا بالنظر إلى مفهوم اللفظ مع قطع النظر عن أنه إخبار عن المصرين وهي حينئذ لا محل لها من الإعراب كما هو شأن الجمل المفسرة، وعند الشلوبين لها محل لأنها عطف بيان عنده ويحتمل أن تكون حالا مؤكدة لما قبلها وصاحب الحال ضمير عليهم أو أنذرتهم وليس هذا كزيد أبوك عطوفا لفقد ما يشترط في هذا النوع ههنا وأن
129

تكون بدلا، إما بدل اشتمال لاشتمال عدم نفع ما مر على عدم الإيمان، أو بدل كل لأنه عينه بحسب المآل أو خبرا بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف - أي هم لا يؤمنون - أو خبر إن والجملة قبلها اعتراض. وفي التسهيل: الاعتراضية هي المفيدة تقوية وهي هنا كالعلة للحكم لدلالتها على قسوة قلوبهم وعدم تأثرها بالإنذار وهو مقتض لعدم الإيمان؛ وحيث أن الموضوع دال على عدم الإيمان في الماضي والمحمول على استمراره في المستقبل اندفع توهم عدم الفائدة في الإخبار وجعل الجملة دعائية بعيد، وأبعد منه ما روي أن الوقف على - أم لم تنذر - والابتداء - بهم لا يؤمنون - على أنه مبتدأ وخبر بل ينبغي أن لا يلتفت إليه، وقرأ الجحدري: * (سواء) * بتخفيف الهمزة على لغة الحجاز فيجوز أنه أخلص الواو ويجوز أنه جعل الهمزة بين بين أي بين الهمزة والواو وعن الخليل أنه قرأ سوء عليهم بضم السين مع واو بعدها فهو عدول عن معنى المساواة إلى السب والقبح وعليه لا تعلق أعرابيا له بما بعده كما في البحر، وقرأ الكوفيون وابن ذكوان - وهي لغة بني تميم - أأنذرتهم بتحقيق الهمزتين وهو الأصل، وأهل الحجاز لا يرون الجمع بينهما طلبا للتخفيف فقرأ الحرميان وأبو عمرو وهشام بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية إلا أن أبا عمرو وقالون وإسماعيل بن جعفر عن نافع وهشام يدخلون بينهما ألفا وابن كثير لا يدخل. وروي تحقيقهما عن هشام مع إدخال ألف بينهما وهي قراءة ابن عباس وابن أبي إسحاق. وروي عن ورش كابن كثير وكقالون إبدال الهمزة الثانية ألفا فيلتقي ساكنان على غير حدهما عند البصريين، وزعم الزمخشري أن ذلك لحن وخروج عن كلام العرب من وجهين أحدهما: الجمع بين ساكنين على غير حدة الثاني: إن طريق تخفيف الهمزة المتحركة المفتوح ما قبلها هو بالتسهيل بين بين لا بالقلب ألفا لأنه طريق الهمزة الساكنة وما قالوه مذهب البصريين، والكوفيون أجازوا الجمع على غير الحد الذي أجازه البصريون، وهذه القراءة من قبيل الأعداء، ورواية المصريين عن ورش وأهل بغداد يروون التسهيل بين بين كما هو القياس فلا يكون الطعن فيها طعنا فيما هو من السبع المتواتر إلا أن المعتزلي أساء الأدب في التعبير، وقد احتج بهذه الآية وأمثالها من قال بوقوع التكليف بالممتنع لذاته بناء على أن يراد بالموصول ناس بأعيانهم، وحاصل الاستدلال أنه سبحانه وتعالى أخبر بأنهم لا يؤمنون وأمرهم بالإيمان وهو ممتنع إذ لو كان ممكنا لما لزم
من فرض وقوعه محال لكنه لازم إذ لو آمنوا انقلب خبره كذبا وشمل إيمانهم الإيمان بأنهم لا يؤمنون لكونه مما جاء به صلى الله عليه وسلم وإيمانهم بأنهم لا يؤمنون فرع اتصافهم بعدم الإيمان فيلزم اتصافهم بالإيمان وعدم الإيمان فيجتمع الضدان، وكلا الأمرين من انقلاب خبره تعالى كذبا واجتماع الضدين محال وما يستلزم المحال محال * (وأجيب) * بأن إيمانهم ليس من المتنازع فيه لأنه أمر ممكن في نفسه وبإخباره سبحانه وتعالى بعدم الإيمان لا يخرج من الإمكان، غايته أنه يصير ممتنعا بالغير واستلزام وقوعه الكذب أو اجتماع الضدين بالنظر إلى ذلك لأن إخباره تعالى بوقوع الشيء أو عدم وقوعه لا ينفي القدرة عليه ولا يخرجه من الإمكان الذاتي لامتناع الانقلاب وإنما ينفي عدم وقوعه أو وقوعه فيصير ممتنعا بالغير واللازم للممكن أن لا يلزم من فرض وقوعه نظرا إلى ذاته محال، وأما بالنظر إلى امتناعه بالغير فقد يستلزم الممتنع بالذات كاستلزام عدم المعلول الأول عدم الواجب. وقيل في بيان استحالة إيمانهم بأنهم لا يؤمنون أنه تكليف بالنقيضين لأن التصديق في الإخبار بأنهم لا يصدقونه في شيء يستلزم عدم تصديقهم في ذلك والتكليف بالشيء تكليف بلوازمه، وقوبل بالمنع لا سيما اللوازم العدمية.
وقيل لأن تصديقهم في أن لا يصدقوه يستلزم أن لا يصدقوه وما يستلزم وجوده عدمه محال، ورد بأنه يجوز أن يكون ذلك الاستلزام
130

لامتناعه بالغير كما فيما نحن فيه، وقيل لأن إذعان الشخص بخلاف ما يجد في نفسه محال. واعترض بأنه يجوز أن لا يخلق الله تعالى العلم بتصديقه فيصدقه في أن لا يصدقه نعم إنه خلاف العادة لكنه ليس من الممتنع بالذات كذا قيل، ولا يخلو المقام بعد عن شيء وأي شيء، والبحث طويل واستيفاؤه هنا كالتكليف بما لا يطاق وسيأتيك إن شاء الله تعالى على أتم وجه.
ثم فائدة الإندار بعد العلم بأنه لا يثمر استخراج سر ما سبق به العلم التابع للمعلوم من الطوع والآباء في المكلفين * (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) * فإن الله تعالى لو أدخل ابتداء كلا داره التي سبق العلم بأنه داره لكان شأن المعذب منهم ما وصف الله تعالى بقوله: * (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبه آياتك من قبل أن نذل ونخزي) * فأرسل رسلا مبشرين ومنذرين ليتخرج ما في استعدادهم من الطوع والآباء - فيهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة - فإن الذكرى تنفع المؤمنين - وتقوم به الحجة على الآخرين إذ بعد الذكرى وتبليغ الرسالة تتحرك الدواعي للطوع والآباء بحسب الاستعداد الأزلي فيترتب عليه الفعل أو الترك بالمشيئة السابقة التابعة للعلم التابع للمعلون الثابت الأزلي فيترتب عليه النفع والضر من الثواب والعقل وإنما قامت الحجة على الكافر لأن ما امتنع من الاتيان به بعد بلوغ الدعوة وظهور المعجزة من الإيمان. لو كان ممتنعا لذاته مطلقا لما وقع من أحد لكنه قد وقع فعلم أن عدم وقوعه منه كان عن إباء ناشىء من استعداده الأزلي باختياره السيء وإن كان إباؤه بخلق الله تعالى به فإن فعل الله تعالى تابع لمشيئته التابعة لعلمه التابع للمعلوم والمعلوم من حيث ثبوته الأزلي غير مجعول فتعلق العلم به على ما هو عليه في ثبوته الغير المجعول مما يقتضيه استعداده الأزلي في الإرادة تعلقت بتخصيص ما سبق العلم به من مقتضى استعداده الأزلي فأبرزته القدرة على طبق الإرادة قال تعالى: * (أعطي كل شيء خلقه) * فلهذا قال: * (قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين) * لكنه لم يشأ إذ لم يسبق به العلم لكونه كاشفا للمعلوم وما في استعداده الأزلي فالمعلوم المستعد للهداية في نفسه كشفه عما هو عليه من قبوله لها، والمستعد للغواية تعلق به على ما هو عليه من عدم قبوله لها فلم يشأ إلا ما سبق به العلم من مقتضيات الاستعداد فلم تبرز القدرة إلا ما شاء الله تعالى فصح أن لله الحجة البالغة سبحانه إذا نوزع لأن الله تعالى: * (قد أعطى كل شيء خلقه) * وما يقتضيه استعداده وما نقص منه شيئا ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " فمن وجد خيرا فليحمد الله " فإن الله متفضل بالإيجاد ولا واجب عليه ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه لأنه ما أبرز قدرته بجوده ورحمته مما اقتضته الحكمة من الأمر الذي لا خير فيه له إلا لكونه مقتضى استعداده فالحمد لله على كل حال ونعوذ به من أحوال أهل الزيغ والضلال، وإنما قال سبحانه: * (سواء عليهم) * ولم يقل عليك لأن الانذار وعدمه ليسا سواء لديه صلى الله عليه وسلم - لفضيلة الإنذار الواجب عليه - على تركه، وإذا أريد بالموصول ناس معينون على أنه تعريف عهدي كما مر كان فيه معجزة لأخباره بالغيب وهو موت أولئك على الكفر كما كان.
* (ختم الله علي قلوبهم وعلى سمعهم وعلى ابصرهم غشوة ولهم عذاب عظيم) *
* (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصرهم غشوة ولهم عذاب عظيم) * إشارة إلى برهان لمي للحكم السابق كما أن سواء عليهم الخ على تقدير كونه اعتراضا برهان إني، فالختم والتغشية مسببان عن نفس الكفر، واقتراف المعاصي سببان للاستمرار على عدم الإيمان أو لاستواء الأنذار وعدمه فالقطع لأنه سؤال عن سبب الحكم، والختم الوسم بطابع ونحوه والأ الحاصل، ويتجوز بذلك تارة في الاستيثاق من الشيء والمنع منه اعتبارا بما يحصل من المنع بالختم على الكتب والأبواب، وتارة في تحصيل أثر عن أثر اعتبارا بالنقش الحاصل، وتارة يعتبر معه بلوغ الآخر، ومنه ختمت القرآن والغشاوة - على ما عليه السبعة - بكسر الغين
131

المجمعة من غشاه إذا غطاه، قال أبو علي: ولم يسمع منه فعل إلا يائي فالواو مبدلة من الياء عنده أو يقال لعل له مادتين وفعالة عن الزجاج لما اشتمل على شيء كاللفافة ومنه أسماء الصناعات كالخياطة لاشتمالها على ما فيها وكذلك ما استولى على شيء كالخلافة، وعند الراغب: هي لما يفعل به الفعل كاللف في اللفافة فإن استعملت في غيره فعلى التشبيه، وبعضهم فرق بين ما فيه هاء التأنيث وبين ما ليس فيه، فالأول: اسم لما يفعل به الشيء كالآلة نحو حزام وإمام، والثاني: لما يشتمل على الشيء ويحيط به وحمل الظاهريون الختم والتغشية على حقيقتهما وفوضوا الكيفية إلى علم من لا كيفية له سبحانه، وروى عن مجاهد أنه قال: إذا أذنب العبد ضم من القلب هكذا - وضم الخنصر - ثم إذا أذنب ضم هكذا - وضم البنصر - وهكذا إلى الإبهام ثم قال: وهذا هو الختم والطبع والرين، وهو عندي غير معقول، والذي ذهب إليه المحققون أن الختم استعير من ضرب الخاتم على نحو الأواني لأحداث هيئة في القلب والسمع مانعة من نفوذ الحق إليهما كما يمنع نقش الخاتم - تلك الظروف - من نفوذ ما هو بصدد الانصباب فيها فيكون استعارة محسوس لمعقول بجامع عقلي وهو الاشتمال على منع القابل عما من شأنه أن يقبله ثم اشتق من الختم ختم، ففيه استعارة
تصريحية تبعية، وأما الغشاوة فقد استعيرت من معناها الأصلي لحالة في أبصارهم مقتضية لعدم اجتلائها الآيات والجامع ما ذكر؛ فهناك استعارة تصريحية أصلية أو تبعية إذا أولت الغشاوة بمشتق أو جعلت اسم آلة على مقيل، ويجوز أن يكون في الكلام استعارة تمثيلية بأن يقال شبهت حال قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم مع الهيئة الحادثة فيها المانعة من الاستنفاع بها بحال أشياء معدة للانتفاع بها في مصالح مهمة مع المنع من ذلك بالختم والتغطية ثم يستعار للمشبه اللفظ الدال على المشبه به فيكون كل واحد من طرفي التشبيه مركبا والجامع عدم الانتفاع بما أعد له بسبب عروض مانع يمكن فيه كالمانع الأصلي وهو أمر عقلي منتزع من تلك العدة ثم إن إسناد الختم إليه عز وجل باعتبار الخلق والذم والتشنيع الذي تشير إليه الآية باعتبار كون ذلك مسببا عما كسبه الكفار من المعاصي كما يدل عليه قوله تعالى: * (بل طبع الله عليهم بكفرهم) * وإلا أشكل التشنيع والذم على ما ليس فعلم كذا قاله مفسرو أهل السنة عن آخرهم فيما أعلم. والمعتزلة لما رأوا أن الآية يلزم منها أن يكون سبحانه مانعا عن قبول الحق وسماعه بالختم وهو قبيح يمتنع صدوره عنه تعالى على قاعدتهم التزموا للآية تأويلات ذكر الزمخشري جملة منها حتى قال: الشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر إلا أن الله سبحانه وتعالى لما كان هو الذي أقدره أو مكنه أسند الختم إليه كما يسند إلى السبب نحو - بني الأمير المدينة، وناقة حلوب - وأنا أقول: إن ماهيات الممكنات معلومة له سبحانه أزلا فهي متميزة في أنفسها تميزا ذاتيا غير مجعول لتوقف العلم بها على ذلك التميز وإن لها استعدادات ذاتية غير مجعولة أيضا مختلفة الاقتضاءات والعلم الإلهي متعلق بها كاشف لها على ما هي عليه في أنفسها من اختلاف استعداداتها التي هي من مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا هو واختلاف مقتضيات تلك الاستعدادات فإذا تعلق العلم
132

الإلهي بها على ما هي عليه مما يقتضيه استعدادها من اختيار أحد الطرفين الخير والشر تعلقت الإرادة الإلهية بهذا الذي اختاره العبد بمقتضى استعداده فيصير مراده بعد تعلق الإرادة الإلهية مرادا لله تعالى فاختياره الأزلي بمقتضى استعداده متبوع للعلم المتبوع للإرادة مراعاة للحكم وأن اختياره فيما لا يزال تابع للإرادة الأزلية المتعلقة باختياره لما اختاره، فالعباد منساقون إلى أن يفعلوا ما يصدر عنهم باختيارهم لا بالإكراه والجبر وليسوا جبورين في اختيارهم الأزلي لأنه سابق الرتبة على تعلق العلم السابق على تعلق الإرادة والجبر تابع للإرادة التابعة للعلم التابع للمعلوم الذي هو هنا اختيارهم الأزلي فيمتنع أن يكون تابعا لما هو متأخر عنه بمراتب، فما من شيء يبرزه الله تعالى بمقتضى الحكمة ويفيضه على الممكنات إلا وهو مطلوبها بلسان استعدادها وما حرمها سبحانه شيئا من ذلك كما يشير إليه قوله تعالى: * (أعطي كل شيء خلقه) * أي الثابت له في الأزل مما يقتضيه استعداده الغير المجعول، وإن كانت الصور الوجودية الحادثة مجعولة. وقوله تعالى: * (فألهمها فجورها وتقواها) * أي الثابتين لها في نفس الأمر والكل من حيث أنه خلقه حسن لكونه بارزا بمقتضى الحكمة من صانع مطلق لا حاكم عليه ولهذا قال عز شأنه: * (أحسن كل شيء خلقه) * و * (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) * أي من حيث أنه مضاف إليه ومفاض منه وإن تفاوت من جهة أخرى وافترق عند إضافة بعضه إلى بعض، فعلى هذا يكون الختم منه سبحانه وتعالى دليلا على سواء استعدادهم الثابت في علمه الأزلي الغير المجعول بل هذا الختم الذي هو من مقتضيات الاستعداد لم يكن من الله تعالى إلا إيجاده وإظهار يقينه طبق ما علمه فيهم أزلا حيث لا جعل * (وما ظلمهم الله) * تعالى في إظهاره إذ من صفاته سبحانه إفاضة الوجود على القوابل بحسب القابليات على ما تقتضيه الحكمة * (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) * حيث كانت مستعدة بذاتها لذلك فحينئذ يظهر أن إسناد الختم إليه تعالى باعتبار الإيجاد حقيقة ويحسن الذم لهم به من حيث دلالته على سوء الاستعداد وقبح ما انطوت عليه ذواتهم في ذلك الناد * (فالبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا) * وأما ما ذكره المفسرون من أن إسناد الختم إليه تعالى باعتبار الخلق فمسلم لا كلام لنا فيه، وأما إن الذم باعتبار كون ذلك مسببا عما كسبه الكفار الخ فنقول فيه: إن أرادوا بالكسب ما شاع عند الاشاعرة من مقارنة الفعل لقدرة العبد من غير تأثير لها فيه أصلا وإنما المؤثر هو ا تعالى فهو مع مخالفته لمعنى الكسب وكونه * (كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءا حتى إذا جاءه لم يجده شيئا) * لا يشفى عليلا ولا يروى غليلا إذ للخصم أن يقول أي معنى لذم العبد بشيء لا مدخل لقدرته فيه إلا كمدخل اليد الشلاء فيما فعلته الأيدي السليمة وحينئذ يتأتى ما قاله الصاحب بن عباد في هذا الباب: كيف يأمر الله تعالى العبد بالإيمان وقد منعه منه وينهاه عن الكفر وقد حمله عليه، وكيف يصرفه عن الإيمان ثم يقول: * (أتي يصرفون) * ويخلق فيهم الإفك ثم يقول: * (أني تؤفكون) * وأنشأ فيهم الكفر ثم يقول * (لم تكفرون) * وخلق فيهم لبس الحق بالباطل ثم يقول: * (لم نلبسون الحق بالباطل) * وصدهم عن السبيل ثم يقول: * (لم تصدون عن سبيل الله) * وحال بينهم وبين الإيمان ثم قال: * (وماذا عليهم لو آمنوا) * وذهب بهم عن الرشد ثم قال: * (وأين تذهبون) * وأضلهم عن الدين حتى أعرضوا ثم قال: * (فما لهم عن التذكرة معرضين) *؟!! فإن أجابوا بأن لله أن يفعل ما يشاء ولا يتعرض للاعتراض عليه المعترضون * (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) * قلنا لهم: هذه كلمة حق أريد بها باطل وروضة صدق ولكن ليس لكم منها حاصل لأن كونه تعالى لا يسأل عما يفعل ليس إلا لأنه حكيم لا يفعل ما عنه يسأل وإذا قلتم لا أثر للقدرة الحادثة في مقدورها كما لا أثر للعلم في معلومه فوجه مطالبة
133

العبد بأفعاله كوجه مطالبته بأن يثبت في نفسه ألوانا وإدراكات وهذا خروج عن حد الاعتدال إلى التزام الباطل والمحال، وفيه إبطال الشرائع العظام ورد ما ورد عن النبيين عليهم الصلاة والسلام. وإن أرادوا بالكسب فعل العبد استقلالا ما يريده هو وإن لم يرده الله تعالى فهذا مذهب المعتزلة وفيه الخروج عما درج عليه سلف الأمة واقتحام ورطات الضلال وسلوك مهامه الوبال.
مسا ولو قسمن على الغواني * لما أمهرن إلا بالطلاق
وإن أرادوا به تحصيل العبد بقدرته الحادثة حسب استعداده الأزلي المؤثرة لا مستقلا بل بإذن الله تعالى ما تعلقت به من الأفعال الاختيارية مشيئته التابعة لمشيئة الله تعالى على ما أشرنا إليه فنعمت الإرادة وحبذا السلوك في هذه الجادة، وسيأتي إن شاء الله تعالى بسطها وإقامة الأدلة على صحتها وإماطة الأذى عن طريقها إلا أن أشاعرتنا
اليوم لا يشعرون وأنهم ليحسبون أنهم يحسنون صنعا ولبئس ما كانوا يصنعون.
ما في الديار أخو وجد نطارحه * حديث نجد ولا خل نجاريه
وأما ما ذكره المعتزلة لا سيما علامتهم الزمخشري فليس أول عشواء خبطوها وفي مهواة من الأهواء أهبطوها ولكم نزلوا عن منصة الإيمان بالنص إلى حضيض تأويله ابتغاء الفتنة واستيفاء لما كتب عليهم من المحنة وطالما استوخموا من السنة المناهل العذاب ووردوا من حميم البدعة موارد العذاب، والشبهة التي تدندن هنا حول الحمى أن أفعال العباد لو كانت مخلوقة لله تعالى لما نعاها على عباده ولا عاقبهم بها ولا قامت حجة الله تعالى عليهم وهي أوهى من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت، وقد علمت جوابها مما قدمناه لك - وليكن على ذكر منك - على أنا نرجع فنقول إن أسندوا الملازمة - وكذلك يفعلون - إلى قاعدة التحسين والتقبيح، وقالوا: معاقبة الإنسان مثلا بفعل غيره قبيحة في الشاهد لا سيما إذا كانت من الفاعل فيلزم طرد ذلك غائبا، قيل: ويقبح في الشاهد أيضا أن يمكن الإنسان عبده من القبائح والفواحش بمرأى ومسمع ثم يعاقبه على ذلك مع القدرة على ردعه ورده من الأول عنها وأنتم تقولون إن القدرة التي بها يخلق العبد الفواحش لنفسه مخلوقة لله تعالى على علم منه عز وجل أن العبد يخلق بها لنفسه ذلك فهو بمثابة إعطاء سيف باتر لفاجر يعلم أنه يقطع به السبيل ويسبى به الحريم وذلك في الشاهد قبيح جزما * (فإن قالوا) * ثم حكمة استأثر ا تعالى بعلمها فرقت بين الغائب والشاهد فحسن من الغائب ذلك التمكين ولم يحسن في الشاهد * (قلنا على سبيل التنزل والموافقة لبعض الناس) * ما المانع أن تكون تلك الأفعال مخلوفة لله تعالى ويعاقب العبد عليها لمصلحة وحكمة استأثر بها كما فرغتم منه الآن حذو القذة بالقذة؟! على أن في كون الخاتم في الحقيقة هو الشيطان مما لا يقدم عليه حتى الشيطان ألا تسمعه كيق قال: * (فبعزتك لاغوينهم أجمعين) * فلا حول ولا قوة إلا بالله. وليكن هذا المقدار كافيا في هذا المقام ولشحرور القلم بعد إن شاء الله تعالى على كل بانة تغريد بأحسن مقام * (والقلوب) * - جمع قلب - وهو في الأصل مصدر سمي به الجسم الصنوبري المودع في التجويف الأيسر من الصدر وهو مشرق اللطيفة الإنسانية، ويطلق على نفس اللطيفة النورانية الربانية العالمة التي هي مهبط الأنوار الإلهية الصمدانية وبها يكون الإنسان إنسانا وبها يستعد لاكتساب الأوامر واجتناب الزواجر وهي خلاصة تولدت من الروح الروحاني ويعبر عنها الحكيم بالنفس الناطقة ولكونها هدف سهام القهر واللطف ومظهر الجمال والجلال ومنشأ البسط والقبض ومبدأ المحو والصحو ومنبع الأخلاق المرضية والأحوال الردية، وقلما تستقر على حال وتستمر على منوال - سميت قلبا - فهي متقلبة في أمره ومنقلبة
134

بقضاء الله وقدره. وفي الحديث " إن القلب كريشة بأرض فلاة تقلبها الرياح " وقد قال الشاعر:
قد سمي القلب قلبا من تقلبه * فأحذر على القلب من قلب وتحويل
وتسمية الجسم المعروف قلبا إذا أمعنت النظر ليس إلا لتقلب هاتيك اللطيفة المشرقة عليه لأنه العضو الرئيس الذي هو منشأ الحرارة الغريزية الممدة للجسد كله ويكنى بصلاحه وفساده عن صلاح هاتيك اللطيفة وفسادها لما بينهما من التعلق الذي لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى وكأنه هذا قال صلى الله عليه وسلم: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " وكثير من الناس ذهب إلى أن تلك المضغة هي محل العلم، وقيل: إنه في الدماغ وقيل إنه مشترك بينهما وبني ذلك على إثبات الحاوس الباطنة والكلام فيها مشهور. ومن راجع وجد أنه أدرك أن بين الدماغ والقلب رابطة معنوية ومراجة سرية لا ينكرها من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، لكن معرفة حقيقة ذلك متعززة كما هي متعذرة والإشارة إلى كنه ما هنلك على أرباب الحقائق وأصحاب الدقائق متعسرة، ومن عرف نفسه فقد عرف ربه، والعجز عن درك الإدراك إدراك. والسمع مصدر - سمع سمعا ومساعا - ويطلق على قوة مودعة في العصب المفروش أو المبطل في الأذن تدرك بها الأصوات ويعبر به تارة عن نفس الأذن وأخرى عن الفعل نحو * (إنهم عن السمع لمعزولون) *، والأبصار - جمع بصر - وهو في الأصل بمعنى إدراك العين وإحساسها ثم تجوز به عن القوة المودعة في ملتقى العصبتين المجوفتين الواصلتين من الدماغ إلى الحدقتين التي من شأنها إدراك الألوان والأشكال بتفصيل معروف في محله وعن العين التي هي محله، وشاع هذا حتى صار حقيقة في العرف لتبادره وهو المناسب للغشاوة لتعلقها بالأعيان ويناسب الختم ما يناسب الغشاوة، وإنما قدم سبحانه الختم على القلوب هنا لأن الآية تقرير لعدم الإيمان فناسب تقديم القلوب لأنها محل الإيمان والسمع - والأبصار طرق وآلات له - وهذا بخلاف قوله تعالى: * (وختم على سمعه وقلبه) * فإنه مسوق لعدم المبالاة بالمواعظ ولذا جاءت الفاصلة * (أفلا تذكرون) * فكان المناسب هناك تقديم السمع، وأعاد جل شأنه الجار لتكون أدلة على شدة الختم في الموضعين فإن ما يوضع في خزانة إذا ختمت خزانته وختمت داره كان أقوى المنع عنه وأظهر في الاستقلال لأن إعادة الجار تقتضي ملاحظة معنى الفعل المعدى به حتى كأنه ذكر مرتين، ولذا قالوا في مررت بزيد وعمرو: مرور واحد، وفي مررت بزيد وبعمرو: مروان، والعطف وإن كان في قوة الإعادة لكنه ليس ظاهرا مثلها في الإفادة لما فيه من الاحتمال. ووحد السمع مع أنه متعدد في الواقع ومقتضى الانتظام بالسباق. واللحاق أن يجري على نمطهما للاختصار والتفنن مع الإشارة إلى نكتة - هي أن مدركاته نوع واحد ومدركاتهما مختلفة - وكثيرا ما يعتبر البلغاء مثل ذلك، وقيل: إن وحدة اللفظ تدل على وحدة مسماه - وهو الحاسة - ووحدتها تدل على قلة مدركاتها في بادىء النظر فهناك دلالة التزام ويكفي مثل ما ذكر في اللزوم عرفا ومنه يتنبه لوجه جمع القلوب كثرة والأبصار قلة وإن كان ذلك هو المعروف في استعمال الفقهاء في جميعها على أن الاسماع قلما قرع السمع - ومنه قراءة ابن أبي عبلة في الشواذ - وعلى أسماعهم، واستشهد له بقوله:
135

* قالت ولم تقصد لقيل الخنا
* مهلا لقد أبلغت أسماعي
* والقول بأنه وحدة للأمن عن اللبس كما في قوله
* كلوا في بعض بطنكم تعفوا
* فان زمانكم زمن خميص
* ولأنه في الأصل مصدر والمصادر لا تجمع فروعي ذلك ليس بشيء لأن ما ذكر مصحح لا مرجح وأدنى من هذا عندي تقدير مضاف مثل وحواس سمعهم وقد اتفق القراء على الوقف على سمعهم وظاهره دليل على أنه لا تعلق له بما بعده فهو معطوف على * (على قلوبهم) * وهذا أولى من كونه هو وما عطف عليه خبرا مقدما لغشاوة أو عاملان فيه على التنازع وإن احتملته الآية لتعين نظيره في قوله تعالى * (وختم على سمعه وقلبه) * والقرآن يفسر بعضه بعضا ولأن السمع كالقلب يدرك ما يدركه من جميع الجهات فناسب أن يقرن معه بالختم الذي يمنع من جميعها وإن اختص وقوعه بجانب إلا أنه لا يتعين ولما كان إدراك البصر لا يكون عادة إلا بالمحاذاة والمقابلة جعل المانع ما يمنع منها وهو الغشاوة أنها في الغالب كذلك كغاشية السرج ومثل هذا يكفي في النكات ولا يضره ستره لجميع الجوانب كالازار وما في الكشف من أن الوجه أن الغشاوة مشهورة في أمراض العين فهي أنسب بالبصر من غير حاجة لما تكلفوه يكشف عن حاله النظر في المعنى اللغوي ممن لا غشاوة على بصره ولعل سبب تقديم السمع على البصر مشاركته للقلب في التصرف في الجهات الست مثله دون البصر ومن هنا قيل إنه أفضل منه والحق أن كلا من الحوا ضروري في موضعه ومن فقد حسا فقد علما وتفضيل البعض على البعض تطويل من غير طائل وقد قرئ بامالة أبصارهم ووجه الإمالة مع أن الصاد حرف مستعل وهو مناف لها لاقتضائها لتسفل الصوت مناسبة الكسرة واعتبرت على الراء دون غيرها لمناسبة الامالة الترقيق والمشهور عند أهل العربية أن ذلك لقوة الراء لئلا يقع التقرير فانه مضر في الأداء حتى سمعت من بعض الشافعية أن من كرر الراء في تكبيرة الاحرام لم تنعقد صلاته والعهدة على الراوي والجمهور على أن * (وعلى أبصارهم) * خبر مقدم لغشاوة والتقديم مصحح لجواز الابتداء بالنكرة مع أن فيه مطابقة الجملة قبله لأنه تقدم الجزء المحكوم به فيها وهذا كذلك ففي الآية جملتان خبريتان فعلية دالة على التجدد واسمية دالة على الثبوت حتى كأن الغشاوة جبلية فيهم وكون الجملتين دعائيتين ليس بشيء وفي تقديم الفعلية إشارة إلى أن ذلك قد وقع وفرغ منه ونصب المفضل وأبو حيوة وإسماعيل بن مسلم * (غشاوة) * وقيل إنه على حذف الجار وقال أبو حيان يحتمل أن يكون مصدرا من معنى ختم لأن معناه غشى وستر كأنه قيل تغشية على سبيل التأكيد فيكون حينئذ قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مختوما عليها مغشاة وقيل يحتمل أن يكون مفعول ختم والظروف أحوال أي ختم عشاوة كائنة على هذه الأمور لئلا يتصرف بها بالرفع والازالة وفي كل ما لا يخفى فقراءة الرفع أولى وقرئ أيضا بضم الغين ورفعه وبفتح الغين ونصبه وقرئ غشوة بكسر المعجمة مرفوعا وبفتحها مفوعا ومنصوبا وغشية بالفتح والرفع وغشاوة بفتح المهملة والرفع وجوز فيه الكسر والنصب من الغشا
136

بالفتح والقصر وهو الرؤية نهارا لا ليلا والمعنى أنهم يبصرون إبصار غفلة لا إبصار عبرة أو أنهم لا يرون آيات الله تعالى في ظلمات كفرهم ولو زالت أبصروها وقال الراغب العشا ظلمة تعرض للعين وعشى عن كذا عمى قال تعالى * (ومن يعش عن ذكر الرحمن) * فالمعنى حينئذ ظاهر والتنوين للاشارة إلى نوع من الأغطية غير ما يتعارفه الناس ويحتمل أن يكون للتعظيم أي غشاوة أي غشاوة وصرح بعضهم بحمله على النوعية والتعظيم معافى قوله تعالى * (فقد كذبت رسل) * واللام في * (لهم) * للاستحقاق كما في * (لهم في الدنيا خزي) * وفي المغني لام الاستحقاق هي الواقعة بين معنى وذات وهنا كذلك إلا أنه قدم الخبر استحسانا لأن المبتدأ أنكره موصوفه ولو أخر جاز ك * (وأجل مسمى عنده) * ويجوز كما قيل أن يكون تقديمه للتخصيص فلا يعذب عذابهم أحد ولا يوثق وثاقهم أحد وكون اللام للنفع واستعملت هنا للتهكم مما لا وجه له لانها إنما تقع له في مقابلة * (على) * في الدعاء وما يقاربه ولم يقل به أحد ممن يوثق به هنا ولا يقال عليهم العذاب والظاهر أن الجملة مساقة لبيان إصرارهم بأن مشاعرهم ختمت وإن الشقوة عليهم ختمت وهي معطوفة على ما قبلها وليست استئنافا ولا حالا وقال السالكوتي عطف على الذين كفروا والجامع أن ما سبق بيان حالهم وهذا بيان ما يستحقونه أو على خبر أن والجامع الشركة في المسند إليه مع تناسب مفهوم المسندين وجعل ذلك لدفع ما يتوهم من عدم استحقاقهم العذاب على كفرهم لأنه بختم الله تعالى وتغشيته ليس بوجيه كما لا يخفى والعذاب في الاصل الاستمرار ثم اتسع فيه مسمى به كل استمرار ألم واشتقوا منه فقالوا عذبته أي داومت عليه الألم قاله أبو حيان وعن الخليل وإليه مال كثير أن أصله المنع يقال عذب الفرس إذا امتنع عن العلف ومنه العذب لمنعه من العطش ثم توسع فأطلق على كل مؤلم شاق مطلقا وإن لم يكن مانعا ورادعا ولهذا كان أعم من النكال لانه ما كان رادعا كالعقاب وقيل العقاب ما يجازى به كما في الآخرة وشمل البيان عذاب الاطفال والبهائم وغيرهما وخص السجاوندي العذاب بايصال الالم إلى الحي مع الهوان فايلام الاطفال والبهائم ليس بعذاب عنده وقيل إن العذاب مأخوذ في الأصل من التعذيب ثم استعمل في الايلام مطلقا وأصل التعذيب على ما قيل إكثار الضرب بعذبة السوط وقال الراغب أصله من العذب فعذبته أزلت عذب حياته على بناء مرضته وقذيته والتنكير فيه للنوعية أي لهم في الآخرة نوع من العذاب غير متعارف في عذاب الدنيا وحمله على التعظيم يستدعي حمل ما يستفاد من الوصف على التأكيد ولا حاجة إليه والعظيم الكبير وقيل فوق الكبير لان الكبير يقابله الصغير والعظيم يقابله الحقير والحقير دون الصغير فالصغير والحقير خسيسان والحقير أخسهما والعظيم والكبيرر شريفان والعظيم أشرفهما فتوصيف العذاب به أكثر في التهويل من توصيفه بالكبير كما ذكره الكثير ممن شاع فضله إذ العادة جارية بأن الاخس يقابل بالأشرف والخسيس بالشريف فما يتوهم من أن نقيض الاخص أعم مما لا يلتفت إليه هنا نعم يشكل على دعوى أن العظيم فوق الكبير قوله عز شأنه في الحديث القدسي الكبرياء ردائي والعظمة إزاري حيث جعل سبحانه الكبرياء مقام الرداء والعظمة مقام الازار ومعلوم أن الرداء أرفع من الازار فيجب أن يكون صفة الكبر أرفع من العظمة ويقال إن الكبير هو الكبير في ذاته سواء استكبره غيره أم لا وأما العظمة فعبارة عن كونه بحيث يستعظمه غيره فالصفة الأولى على هذا ذاتية وأشرف من الثانية ويمكن أن يجاب على بعد بأن ما ذكروه خاص بما إذا استعمل الكبير والعظيم في غيره تعالى أو فيما إذا خلا الكلام عن قرينة تقتضي العكس أو يقال إنه سبحانه جعل العظمة وهي أشرف من الكبرياء إزارا لقلة العارفين به جل شأنه بهذا العنوان بالنظر إلى العارفين
137

بعنوان الكبرياء فلقلة أولئك كانت إزارا ولكثرة هؤلاء كانت رداءا وسبحان الكبير العظيم وذكر الراغب إن أصل عظم الرجل كبر عظمه ثم استعير لكل كبير وأجرى مجراه محسوسا كان أو معقولا معنى كان أو عينا والعظيم إذا استعمل في الأعيان فأصله أن يقال في الأجزاء المتصلة والكبير يقال في المنفصلة وقد يقال فيها أيضا عظيم وهو بمعنى كبير كجيش عظيم وعظم العذاب بالنسبة إلى عذاب دونه يتخلله فتور وبهذا التخلل يصح أن يتفاضل العذابان كسوادين أحدهما أشبع من الآخر وقد تخلل الآخر ما ليس بسواد وقد ذهب المسلمون إلى أنه يحسن من الله تعالى تعذيب الكفار وهذه الآية وأمثالها شواهد صدق على ذلك وقال بعضهم لا يحسن وذكروا دلائل عقلية مبنية على الحسن والقبح العقليين فقالوا التعذيب ضرر خال عن المنفعة لأنه سبحانه منزه عن أن ينتفع بشيء والعبد يتضرر به ولو سلم انتفاعه فالله تعالى قادر أن يوصل إليه النفع من غير عذاب والضرر الخالي عن النفع قبيح بديهة وأيضا أن الكافر لا يظهر منه إلا العصيان فتكليفه متى حصل ترتب عليه العذاب وما كان مستعقبا للضرر من غير نفع قبيح فإما أن يقال لا تكليف أو تكليف ولا عذاب وأيضا هو الخالق لداعية المعصية فيقبح أن يعاقب عليها وقالوا أيضا هب أنا سلمنا العقاب فمن أين القول بالدوام وأقسى الناس قلبا إذا أخذ من بالغ في الإساءة إليه وعذبه وبالغ فيه وواظب عليه لامه كل أحد وقيل له إما أن تقتله وتريحه وإما أن تعفو عنه فإذا قبح هذا من إنسان يلتذ بالإنتقام فالغني عن الكل كيف يليق به هذا الدوام وأيضا من تاب من الكفر ولو بعد حين تاب الله تعالى عليه أفترى أن هذا الكرم العظيم يذهب في الآخرة أو تسلب عقول أولئك المعذبين فلا يتوبون أو يحسن أن يقول في الدنيا * (ادعوني أستجب لكم) * وفي الآخرة لا يجيب دعاءهم إلا * (اخسؤوا فيها ولا تكلمون) *
بقي التمسك بالدلائل اللفظية وهي لا تفيد اليقين فلا تعارض الأدلة العقلية المفيدة له على أنا ندعي أن أخبار الوعيد في الكفار مشروطة بعدم العفو وإن لم يكن هذا الشرط مذكورا صريحا كما قال ذلك فيها من جوز العفو عن الفساق على أنه يحتمل أن تكون تلك الجمل دعائية أو أنها إخبارية لكن الإخبار عن استحقاق الوقوع لا عن الوقوع نفسه وهذا خلاصة ما ذكر في هذا الباب وبسط الإمام الرازي الكلام فيه ولم يتعقبه بما يشرح الفؤاد ويبرد الأكباد وتلك شنشنة أعرفها من أخزم ولعمري أنها شبه تمكنت في قلوب كثير من الناس فكانت لهم الخناس الوسواس فخلعوا ربقة التكليف وانحرفوا عن الدين الحنيف وهي عند المؤمنين المتمكنين كصرير باب أو كطنين ذباب فأقول * (وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب) * نفى العذاب مطلقا مما لم يقله أحد ممن يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر حتى أن المجوس لا يقولونه مع أنهم الذين بلغوا من الهذيان أقصاه فإن عقلاءهم والعقل بمراحل عنهم زعموا أن إبليس عليه اللعنة لم يزل في الظلمة بمعزل عن سلطان الله تعالى ثم لم يزل يزحف حتى رأى النور فوثب فصار في سلطان الله تعالى وأدخل معه الآفات والشرور فخلق الله تعالى هذا العالم شبكة له فوقع فيها فصار لا يمكنه الرجوع إلى سلطانه فبقي محبوسا يرمى بالآفات فمن أحياه الله تعالى أماته ومن أصحه أسقمه ومن أسره أحزمه وكل يوم ينقص سلطانه فإذا قامت القيامة وزالت قوته طرحه الله تعالى في الجو وحاسب أهل الأديان وجازاهم على طاعتهم للشيطان وعصيانهم له نعم المشهور عنهم أن الآلام الدنيوية قبيحة لذاتها ولا تحسن بوجه من الوجوه فهي صادرة عن الظلمة دون النور وبطلان مذهب هؤلاء أظهر من نار على علم ولئن سلمنا أن أحدا من الناس يقول ذلك فهو مردود وغالب الأدلة التي تذكر في هذا الباب مبني على الحسن والقبح العقليين وقد نفاهما أهل السنة والجماعة وأقاموا الأدلة على بطلانهما وشيوع ذلك
138

في كتب الكلام يجعل نقله هنا من لغو الكلام على أنا نقول أن لله تعالى صفتي لطف وقهر ومن الواجب في الحكمة أن يكون الملك لا سيما ملك الملوك كذلك إذ كل منهما من أوصاف الكمال ولا يقوم أحدهما مقام الآخر ومن منع ذلك فقد كابر وقد مدح في الشاهد ذلك كما قيل
* يداك يد خيرها يرتجى
* وأخرى لأعدائها غائظة
*
فلما نظر الله سبحانه إلى ما علمه من الماهيات الأزلية والأعيان الثابتة ورأى فيها من استعد للخير وطلبه بلسان استعداده ومن استعد للشر وطلبه كذلك أفاض على كل بمقتضى حكمته ما استعد له وأعطاه ما طلبه منه ثم كلفه ورغبه ورهبه إتماما للنعمة وإظهارا للحجة إذ لو عذبه وأظهر فيه صفة قهره قبل أن ينذره لربما قال * (لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى) * فالتعذيب وإن لم يكن فيه نفع له سبحانه بالمعنى المألوف لكنه من آثار القهر ووقوع فريق في طريق القهر ضروري في حكمته تعالى وكل ما تقتضيه حكمته تعالى وكماله حسن وإن شئت فقل إن صفتي اللطف والقهر من مستتبعات ذاته التي هي في غاية الكمال ولهما متعلقات في نفس الأمر مستعدة لهما في الأزل استعدادا غير مجعول وقد علم سبحانه في الأزل التعلقات والمتعلقات فظهرت طبق ما علم ولو لم تظهر كذلك لزم انقلاب الحقائق وهو محال فالإيمان والكفر في الحقيقة ليسا سببا حقيقيا وعلة تامة للتنعيم والتعذيب وإنما هما علامتان لهما دعت إليهما الحكمة والرحمة وهذا معنى ما ورد في الصحيح اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان أي في علم الله من أهل السعادة المستعدة لها ذاته فسييسر بمقتضى الرحمة لعمل أهل السعادة لأن شأنه تعالى الإفاضة على القوابل بحسب القابليات وأما من كان في الأزل والعلم القديم من أهل الشقاوة التي ثبتت لماهيته الغير المجعولة أزلا فسييسر بمقتضى القهر لعمل أهل الشقاوة وفي ذلك تظهر المنة وتتم الحجة ولا يرد قوله تعالى * (فلو شاء لهداكم أجمعين) * لأن نفي الهداية لنفي المشيئة ولا شك أن المشيئة تابعة للعلم والعلم تابع لثبوت المعلوم في نفس الأمر كما يشير إليه قوله تعالى في المستحيل الغير الثابت في نفسه * (أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض) * وحيث لا ثبوت للهداية في نفسها لا تعلق للعلم بها وحيث لا تعلق لا مشيئة فسبب نفي إيجاد الهداية نفي المشيئة وسبب نفي المشيئة تقرر عدم الهداية في نفسها فيئول الأمر إلى أن سبب نفي إيجاد الهداية انتفاؤها في نفس الأمر وعدم تقررها في العلم الأزلي * (ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم) * فإذا انتقش هذا على صحيفة خاطرك فنقول قولهم الضرر الخالي عن النفع قبيح بديهة ليس بشيء لأن ذلك الضرر من آثار القهر التابع للذات الأقدس ومتى خلا عن القهر كان عز شأنه عما يقوله الظالمون كالأقطع الذي ليس له إلا يد واحدة بل من أنصفه عقله
يعلم أن الخلو عن صفة القهر يخل بالربوبية ويسلب إزار العظمة ويحط شأن الملكية إذ لا يرهب منه حينئذ فيختل النظام وينحل نبذ هذا الإنتظام على أن هذه الشبهة تستدعي عدم إيلام الحيوان في هذه النشأة لا سيما البهائم والأطفال الذين لا ينالهم من هذه الآلام نفع بالكلية لا عاجلا ولا آجلا مع أنا نشاهد وقوع ذلك أكثر من نجوم السماء فما هو جوابهم عن هذه الآلام منه سبحانه في هذه النشأة مع أنه لا نفع له منها بوجه فهو جوابنا عن التعذيب في تلك النشأة وقولهم إن الكافر لا يظهر منه إلا العصيان فتكليفه متى حصل ترتب عليه العذاب الخ ففيه أن الكافر في علم الله تعالى حسب استعداده متعشق للنار تعشق الحديد للمغناطيس وإن نفر عنها نافر عن الجنة نفور الظلمة عن النور وإن تعشقها فهو إن كلف وإن لم يكلف لا بد وأن يعذب فيها ولكن التكليف لاستخراج ما في استعداده من الاباء لإظهار الحجة والكفر مجرد علامة * (وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) *
139

وقولهم هو سبحانه الخالق لداعية المعصية مسلم لكنه خلقها وأظهرها طبق ما دعا إليه الإستعداد الذاتي الذي لا دخل للقدرة إلا في إيجاده وأي قبح في إعطاء الشيء ما طلبه بلسان استعداده وإن أضر به ولا يلزم الله تعالى عقلا أن يترك مقتضى حكمته ويبطل شأن ربوبيته مع عدم تعلق علمه بخلاف ما اقتضاه ذلك الإستعداد وقولهم هب أنا سلمنا العقاب فمن أين الدوام الخ قلنا الدوام من خبث الذات وقبح الصفات الثابتين فيما لم يزل الظاهرين فيما لا يزال بالإباء بعد التكليف مع مراعاة الحكمة وهذا الخبث دائم فيهم ما دامت حكمة الله تعالى الذاتية وذواتهم كما يرشدك إلى ذلك قوله سبحانه * (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) * ويدوم المعلول ما دامت علته أو يقال العذاب وهو في الحقيقة البعد من الله لازم للكفر والملزوم لا ينفك من اللازم وأيضا الكفر مع ظهور البرهان في الأنفس والآفاق بمن لا تتناهى كبرياؤه ولا تنحصر عظمته أمر لا يحيط نطاق الفكر بقبحه وإن لم يتضرر به سبحانه لكن الغيرة الإلهية لا ترتضيه وإن أفاضته القدرة الأزلية حسب الإستعداد بمقتضى الحكمة ومثل ذلك يطلب عذابا أبديا وعقابا سرمديا وشبيه الشيء منجذب إليه ولا يقاس هذا بما ضربه من المثال إذ أين ذلة التراب من عزة رب الأرباب وليس مورد المسألتين منهلا واحدا وقولهم من تاب من الكفر ولو بعد حين تاب الله تعالى عليه أفترى أن هذا الكرم العظيم يذهب في الآخرة أو تسلب عقول أولئك المعذبين فلا يتوبون الخ ففيه أن من تاب من الكفر فقد أبدل القبيح بضده وأظهر سبحانه مقتضى ذاته وماهيته المعلومة له حسب علمه فهناك حينئذ كفر قبيح زائل وإيمان حسن ثابت وقد انضم إلى هذا الإيمان ندم على ذلك الكفر في دار ينفع فيها تدارك ما فات والندم على الهفوات فيصير الكفر بهذا الإيمان كأن لم يكن شيئا مذكورا إذ يقابل القبيح بالحسن ويبقى الندم وهو ركن التوبة مكسبا على أن ظهور الإيمان بعد الكفر دليل على نجابة الذات في نفسها وطهارتها في معلوميتها والأعمال بالخواتيم فلا بدع في مغفرة الله تعالى له جودا وكرما ورحمة الله تعالى وإن وسعت كل شيء ببعض اعتباراتها إلا أنها خصت المتقين باعتبار آخر كما يشير إليه قوله تعالى * (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون) * فهي كمعيته سبحانه الغير المكيفة ألا تسمع قوله تعالى مرة * (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم) * وتارة * (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) * وكرة * (إن الله معنا) * وطورا * (إن معي ربي) * ولا ينافي كون الرحمة أوسع دائرة من الغضب كما يرمز إليه * (الرحمن على العرش استوى) * أن الكفار المعذبين أكثر من المؤمنين المنعمين كما يقتضيه قوله تعالى * (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) * وكذا حديث البعث لأن هذه الكثرة بالنسبة إلى بني آدم وهم قليلون بالنسبة إلى الملائكة والحور والغلمان * (وما يعلم جنود ربك إلا هو) * * (ويخلق ما لا تعلمون) * فيكون أهل الرحمة أكثر من أهل الغضب على أن أهل النار مرحومون في عذابهم وما عند الله تعالى من كل شيء لا يتناهى وبعض الشر أهون من بعض وهم مختلفون في العذاب وبين عذاب كل طبقة وطبقة ما بين السماء والأرض وإن ظن كل من أهلها أنه أشد الناس عذابا لكن الكلام في الواقع بل منهم من هو ملتذ بعذابه من بعض الجهات ومنهم غير ذلك نعم فيهم من عذابه محض لا لذة لهم فيه ومع هذا يمقتون أنفسهم لعلمهم أنها هي التي استعدت لذلك ففاض عليها ما فاض من جانب المبدأ الفياض كما يشير إليه قوله تعالى * (لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم) * ومن غفل منهم عن ذلك نبهه إبليس عليه اللعنة كما حكى الله عنه بقوله * (فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) * ولا تنفعهم التوبة هناك كما تنفعهم هنا إذ قد اختلفت الداران وامتاز الفريقان وانتهى الأمد المضروب
140

لها بمقتضى الحكمة الإلهية وقد رأينا في الشاهد أن لنفع الدواء وقتا مخصوصا إذا تعداه ربما يؤثر ضررا ومن الكفار من يعرف أنه قد مضى الوقت وانقضى ذلك الزمان وأن التوبة إنما كانت في الدار الدنيا ولهذا * (قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت) * ولما كان هذا طلب عارف من وجه جاهل من وجه آخر قال الله تعالى في مقابلته * (كلا إنها كلمة هو قائلها) * ولم يغلظ عليه كما أغلظ على من قال * (ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون) * حيث صدر عن جهل محض فأجابهم بقوله * (اخسؤوا فيها ولا تكلمون) * فلما اختلف الطلب اختلف الجواب وليس كل دعاء يستجاب كما لا يخفى على أولي الألباب وقولهم بقي التمسك بالدلائل اللفظية وهي لا تفيد اليقين فلا تعارض الأدلة العقلية المفيدة له فيقال فيه إن أرادوا إن هذه الأدلة العقلية مفيدة لليقين فقد علمت حالها وأنها كسراب بقيعة وليتها أفادت ظنا وإن أرادوا مطلق الأدلة العقلية فهذه ليست منها على أن كون الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين إنما هو مذهب المعتزلة وجمهور الأشاعرة والحق أنها قد تفيد اليقين بقرائن مشاهدة أو متواترة تدل على انتفاء الإحتمالات ومن صدق القائل يعلم عدم المعارض العقلي فإنه إذا تعين المعنى وكان مرادا له فلو كان هناك معارض عقلي لزم كذبه نعم في إفادتها اليقين في العقليات نظر لأن كونها مفيدة لليقين مبني على أنه هل يحصل بمجردها والنظر فيها وكون قائلها صادقا الجزم بعدم المعارض العقلي وأنه هل للقرينة التي تشاهد أو تنقل تواترا مدخل في ذلك الجزم وحصول ذلك الجزم بمجردها ومدخلية القرينة فيه مما لا يمكن الجزم بأحد طرفيه الإثبات والنفي فلا جرم كانت إفادتها اليقين في العقليات محل نظر وتأمل فإن قلت إذا كان صدق القائل مجزوما به لزم منه الجزم قلت بعدم المعارض في العقليات كما لزم منه في الشرعيات وإلا احتمل كلامه الكذب فيهما فلا فرق بينهما
قلت: أجاب بعض المحققين بأن المراد بالشرعيات أمور يجزم العقل بإمكانها ثبوتا وانتفاء ولا طريق إليها، وبالعقليات ما ليس كذلك وحينئذ جاز أن يكون من الممتنعات
فلأجل هذا الاحتمال ربما لم يحصل الجزم بعدم المعارض العقلي للدليل النقلي في العقليات وإن حصل الجزم به في الشرعيات وذلك بخلاف الأدلة العقلية في العقليات فإنها بمجردها تفيد الجزم بعدم المعارض لأنها مركبة من مقدمات علم بالبديهة صحتها أو علم بالبديهة لزومها مما علم صحته بالبديهة، وحينئذ يستحيل أن يوجد ما يعارضها لأن أحكام البديهة لا تتعارض بحسب نفس الأمر أصلا.
هذا وقال الفاضل الرومي ههنا بحث مشهور وهو أن المعنى بعدم المعارض العقلي في الشرعيات صدق القائل وهو قائم في العقليات أيضا وما لا يحكم العقل بإمكانه ثبوتا أو انتفاء لا يلزم أن يكون من الممتنعات لجواز إمكانه الخافي من العقل فينبغي أن يحمل كل ما علم أن الشرع نطق به على هذا القسم لئلا يلزم كذبه وإبطال قطع العقل بصدقه فالحق أن النقلي يفيد القطع في العقليات أيضا ولا مخلص إلا بأن يقال المراد أن النظر في الأدلة نفسها والقرائن في الشرعيات يفيد الجزم بعدم المعارض لأجل إفادة الإرادة من القائل الصادق جزما. وفي العقليات إفادته الجزم بعدمه محل نظر بناء على أن إفادته الإرادة محتملة انتهى. وقد ذهب الشيخ الأكبر قدس سره إلى تقديم الدليل النقلي على العقلي فقال في الباب الثاني والسبعين والأربعمائة من " الفتوحات ": على السمع عولنا فكنا أولي النهى * ولا علم فيما لا يكون عن السمع
وقال قدس سره في الباب الثامن والخمسين والثلثمائة: كيف للعقل دليل والذي * قد بناه العقل بالكشف انهدم
فنجاة النفس في الشرع فلا * تك إنسانا رأى ثم حرم
141

واعتصم بالشرع في الكشف فقد * فاز بالخير عبيد قد عصم
اهمل الفكر فلا تحفل به * واتركنه مثل لحم في وضم
إن للفكر مقاما فاعتضد * به فيه تك شخصا قد رحم
كل علم يشهد الشرع له * هو علم فيه فلتعتصم
وإذا خالفه العقل فقل * طورك الزم ما لكم فيه قدم
ويؤيد هذا ما روي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن للعقل حدا ينتهي إليه كما أن للبصر حدا ينتهي إليه، وقال الإمام الغزالي: ولا تستبعد أيها المعتكف في عالم العقل أن يكون وراء العقل طور آخر يظهر فيه ما لا يظهر في العقل كما لا تستبعد أن يكون العقل طورا وراء التمييز والإحساس ينكشف فيه عوالم وعجائب يقصر عنها الاحساس والتمييز إلى آخر ما قال ففيما نحن فيه في القرآن والسنة المتواترة ما لا يحصى مما يدل على الخلود في النار، وفي العذاب دلالة واضحة لا خفاء فيها فتأويلها كلها بمجرد شبه أضعف من حبال القمر، والعدول عنها إلى القول بنفي العذاب أو الخلود فيه مما لا ينبغي لا سيما في مثل هذه الأوقات التي فيها الناس كما ترى، على أن هذه التأويلات في غاية السخافة إذ كيف يتصور حقيقة الدعاء من رب الأرض والسماء أم كيف يكون التعليق بعد النظر في قوله تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * (النساء: 48) أم كيف يقبل أن يكون الاخبار عن الاستحقاق دون الوقوع على ما فيه في مثل قوله تعالى: * (كلما خبت زدناهم سعيرا) * (الإسراء: 97) و * (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها) * (النساء: 56) سبحانك هذا بهتان عظيم.
وأما ما ينقل عن بعض السلف الصالح - وكذا عن حضرة مولانا الشيخ الأكبر ومن حذا حذوه من السادة الصوفية رضي الله تعالى عنهم - من القول بعدم الخلود فذلك مبني على مشرب آخر وتجل لم ينكشف لنا، والكثير منهم قد بنى كلامه على اصطلاحات ورموز وإشارات قد حال بيننا وبين فهمها العوائق الدنيوية والعلائق النفسانية، ولعل قول من قال بعدم الخلود ممن لم يسلك مسلك أهل السلوك مبني على عدم خلود طائفة من أهل النار وهم العصاة مما دون الكفر وإن وقع إطلاق الكفر عليهم حمل على معنى آخر كما حمل على رأي في قوله صلى الله عليه وسلم: " من ترك الصلاة فقد كفر "، على أن الشيخ قدس سره كم وكم صرح في كتبه بالخلود فقال في عقيدته الصغرى أول " الفتوحات ": والتأبيد لأهل النار في النار حق، وفي الباب الرابع والستين في بحث ذبح الموت ونداء المنادي يا أهل النار خلود ولا خروج ما نصه: ويغتم أهل النار أشد الغم لذلك ثم تغلق أبواب النار غلقا لا فتح بعده وتنطبق النار على أهلها ويدخل بعضهم في بعض ليعظم انضغاطهم فيها ويرجع أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها ويرى الناس والجن فيها مثل قطع اللحم في القدر التي تحتها النار العظيمة تغلي كغلي الحميم فتدور في الخلق علوا وسفلا * (كلما خبت زدناهم سعيرا) * (الإسراء: 97). وذكر الشيخ عبد الكريم الجيلي في كتابه المسمى ب " الإنسان الكبير "، وفي " شرح لباب الأسرار من الفتوحات ": أن مراد القوم بأن أهل النار يخرجون منها هم عصاة الموحدين لا الكفار، وقال: إياك أن تحمل كلام الشيح محيي الدين أو غيره من الصوفية في قولهم بانتهاء مدة أهل النار من العصاة على الكفار فإن ذلك كذب وخطأ وإذا احتمل الكلام وجها صحيحا وجب المصير إليه انتهى، نعم قال قدس سره في تفسير الفاتحة من " الفتوحات ": فإذا وقع الجدار وانهدم الصور وامتزجت الأنهار والتقى البحران وعدم البرزخ صار العذاب نعيما وجهنم جنة ولاعذاب ولا عقاب إلا نعيم وأمان بمشاهدة العيان الخ، وهذا وأمثاله محمول على معنى
142

صحيح يعرفه الذوق لا ينافي ما وردت به القواطع، وقصارى ما يخطر لأمثالنا فيه أنه محمول على مسكن عصاة هذه الأمة من النار، وفيه: يضع الجبار قدمه ويتجلى بصفة القهر على الناس فتقول قط قط ولا تطيق تجليه فتخمد ولا بعد أن تلحق بعد بالجنة وإياك أن تقول بظاهره مع ما أنت عليه وكلما وجدت مثل هذا لأحد من أهل الله تعالى فسلمه لهم بالمعنى الذي أرادوه مما لا تعلمه أنت ولا أنا لا بالمعنى الذي ينقدح في عقلك المشوب بالأوهام فالأمر والله وراء ذلك والأخذ بظواهر هذه العبارات النافية للخلود في العذاب وتأويل النصوص الدالة على الخلود في النار بأن يقال الخلود فيها يستلزم الخلود في العذاب لجواز التنعم فيها وانقلاب العذاب عذوبة مما يجر إلى نفي الأحكام الشرعية وتعطيل النبوات وفتح باب لا يسد. وإن سولت نفسك لك ذلك قلبنا البحث معك ولنأتينك بجنود من الأدلة لا قبل لها بها وما النصر إلا من عند الله وكان حقا علينا نصر المؤمنين، ولا يوقعنك في الوهم أن الخلود مستلزم لتناهي التجليات فالله تعالى هو الله وكل يوم هو في شأن فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين ولا
أظنك تجد هذا التحقيق من غيرنا والحمد لله رب العالمين.
* (ومن الناس من يقول ءامنا بالله وباليوم الأخر وما هم بمؤمنين) *
هذه الآية وما بعدها إلى آخر القصة معطوفة على قصة * (إن الذين كفروا) * (البقرة: 6) وكل من المتعاطفين مسوق لغرض إلا أن فيهما من النعي على أهل الضلال ما لا يخفى وقد سيقت هذه الآية إلى ثلاث عشر آية لنعي المنافقين الذين ستروا الكفر وأظهروا الإسلام فهم بحسب الظاهر أعظم جرما من سائر الكفار كما يشير إليه قوله تعالى: * (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) * (النساء: 145) والناس - أصله عند سيبويه والجمهور - أناس وهو جمع أو اسم جمع لإنسان، وقد حذفت فاؤه تخفيفا فوزنه فعال، ويشهد لأصله إنسان وإنس وأناسي ونقصه وإتمامه جائزان إذا نكر فإذا عرف بأل فالأكثر نقصه ومن عرف خص بالبلاء ويجوز إتمامه على قلة كما في قوله: إن المنايا يطلع‍ * - ن على الأناس الآمنينا
وهو مأخوذ من الأنس ضد الوحشة لأنسه بجنسه لأنه مدني بالطبع ومن هنا قيل: وما سمى الإنسان إلا لأنسه * ولا القلب إلا أنه يتقلب
أو من آنس أي أبصر قال تعالى: * (آنس من جانب الطور نارا) * (القصص: 29) وجاء بمعنى سمع وعلم، وسمي به لأنه ظاهر محسوس، وذهب السكاكي إلى أنه اسم تام وعينه واو من نوس إذا تحرك بدليل تصغيره على نويس فوزنه فعل.
وفي " الكشاف " أنه من المصغر الآتي على خلاف مكبره كأنيسيان ورويجل، وقيل: من نسي بالقلب لقوله تعالى في آدم عليه السلام: * (فنسي ولم نجد له عزما) * (طه: 115) وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فوزنه حينئذ (فلع) ولا يستعمل في الغالب إلا في بني آدم، وحكى ابن خالويه عن ناس من العرب: أناس من الجن، قال أبو حيان: وهو مجاز وإذا أخذ من نوس يكون صدق المفهوم على الجن ظاهرا لا سيما إذا قلنا إن النوس تذبذب الشيء في الهواء، وعن سلمة بن عاصم أنه جزم بأن كلا من ناس وأناس مادة مستقلة واللام فيه إما للجنس أو للعهد الخارجي فإن كان الأول فمن نكرة موصوفة وإن كان الثاني فهي موصولة مرادا بها عبد الله بن أبي وأشياعه، وجوز ابن هشام وجماعة أن تكون موصولة على تقدير الجنس وموصوفة على تقدير العهد لأن بعض الجنس قد يتعين بوجه ما وبعض المعينين قد يجهل باعتبار حال من أحواله كأهل محلة محصورين فيهم قاتل لم يعرف بعينه كونه قاتلا وإن عرف شخصه فلا وجه للتخصيص عند هؤلاء، وقيل إن التخصيص هو الأنسب لأن المعرف بلام الجنس لعدم التوقيت فيه قريب من النكرة وبعض النكرة نكرة فناسب من الموصوفة للطباق والأمر بخلافه في العهد، وعلى هذا الأسلوب
143

ورد قوله تعالى: * (من المؤمنين رجال) * (الأحزاب: 23) * (ومنهم الذين يؤذون النبي) * (التوبة: 61) لأنه أريد في الأول الجنس، وفي مرجع الضمير في الثاني طائفة معينة من المنافقين، ولما كان في الآية تفصيل معنوي لأنه سبحانه ذكر المؤمنين ثم الكافرين ثم عقب بالمنافقين فصار نظيرا للتفصيل اللفظي، وفي قوة تفصيل الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق - تضمن الأخبار عمن يقول بأنه من الناس - فائدة، ولك أن تحمله على معنى من يختفي من المنافقين معلوم لنا ولولا أن الستر من الكرم فضحته فيكون مفيدا أيضا وملوحا إلى تهديد ما، وقيل: المراد بكونه من الناس أنهم لا صفة لهم تميزهم سوى الصورة الإنسانية، أو المراد التنبيه على أن الصفات المذكورة تنافي الإنسانية فيتعجب منها أو مناط الفائدة الوجود أي إنهم موجودون فيما بينهم أو إنهم من الناس لا من الجن إذ لا نفاق فيهم، أو المراد بالناس المسلمون والمعنى أنهم يعدون مسلمين أو يعاملون معاملتهم فيما لهم وعليهم، ولا يخفى ما في بعض هذه الوجوه من الكلف والتكلف ولكل ساقطة لاقطة، واختار أبو حيان هنا أن تكون * (من) * موصلة مدعيا أنها إنما تكون موصوفة إذا وقعت في مكان يختص بالنكرة في الأكثر، وفي غير ذلك قليل حتى أن السكاكي على علو كعبه أنكره ولا يخفى ما فيه، ولا يرد على إرادة العهد أنه كيف يدخل المنافقون مطلقا في الكفرة المصرين المحكوم عليهم بالختم وإن * (ومن الناس) * الآية وقع عديلا لأن الذين كفروا بيانا للقسم الثالث المذبذب فلا يدخل فيه لأن المراد بالمنافقين المصممون منهم المختوم عليهم بالكفر كما يدل عليه * (صم بكم عمي فهم لا يرجعون) * (البقرة: 18) لا مطلق المنافقين ولأن اختصاصهم بخلط الخداع والاستهزاء مع الكفر لا ينافي دخولهم تحت الكفرة المصرين؛ وبهذا الاعتبار صاروا قسما ثالثا فالقسمة ثنائية بحسب الحقيقة ثلاثية بالاعتبار، وفي قوله تعالى: * (يقول آمنا) * مراعاة للفظ (من) ومعناها ولو راعى الأول فقط لقال آمنت أو الثاني فقط لقال يقولون ولما روعيا جميعا حسن مراعاة اللفظ أولا إذ هو في الخارج قبل المعنى والواحد قبل الجمع ولو عكس جاز، وزعم ابن عطية أنه لا يجوز الرجوع من جمع إلى توحيد ويرده قول الشاعر: لست ممن يكع أو يستكينو * ن إذا كافحته خيل الأعادي
واقتصر من متعلق الإيمان على الله واليوم الآخر مع أنهم كانوا يؤمنون بأفواههم بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لأنهما المقصود الأعظم من الإيمان إذ من آمن بالله تعالى على ما يليق بجلال ذاته آمن بكتبه ورسله وشرائعه، ومن علم أنه إليه المصير استعد لذلك بالأعمال الصالحة، وفي ذلك إشعار بدعوى حيازة الإيمان بطرفيه المبدأ والمعاد وما طريقه العقل والسمع ويتضمن ذلك الإيمان بالنبوة أو أن تخصيص ذلك بالذكر للايذان بأنهم يبطنون الكفر فيما ليسوا فيه منافقين في الجملة لأن القوم في المشهور كانوا يهودا وهم مخلصون في أصل الإيمان بالله واليوم الآخر على ظنهم، ومع ذلك كانوا ينافقون في كيفية الإيمان بهما ويرون المؤمنين أن إيمانهم بهما مثل إيمانهم فكيف فيما يقصدون به النفاق المحض وليسوا مؤمنين به أصلا كنبوة نبينا صلى الله عليه وسلم والقرآن أو أنهم قصدوا بتخصيص الإيمان بهما التعرض بعدم الإيمان بخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم وما بلغه ففي ذلك بيان لمزيد خبثهم، وهذا لو قصد حقيقته حينئذ لم يكن إيمانا لأنه لا بد من الإقرار بما جاء به صلى الله عليه وسلم فكيف وهو مخادعة وتلبيس؟! وقيل: إنه لما كان غرضهم المبالغة في خلوص إسلامهم بأنهم تركوا عقائدهم التي كانوا عليها في المبدأ والمعاد واعترفوا أنهم كانوا في ضلال خصوا إيمانهم بذلك لأنهم كانوا قائلين بسائر الأصول، وأما النبوة فليس في الإيمان بها اعتراف بذلك، وأيضا ترك
144

الراسخ في القلب مما عليه الإباء بترك الإيمان به صلى الله عليه وسلم من المسلمات فكأنهم لم يتعرضوا له للإشارة إلى أنه مما لا شبهة في أنهم معتقدون له بعد اعتقادهم
ما هو أشد منه عليهم - وحمل * (بالله وباليوم الآخر) * على القسم منهم على الإيمان - سمج بالله، وأسمج منه بمراتب حمله على القسم منه تعالى على عدم إيمانهم بتقدير ما آمنوا * (وما هم بمؤمنين) * فيجب أن يكون الباء صلة الإيمان وكررت مبالغة في الخديعة والتلبيس بإظهار أن إيمانهم تفصيلي مؤكد قوي.
واليوم الآخر يحتمل أن يراد به الوقت الدائم من الحشر بحيث لا يتناهى أو ما عينه الله تعالى منه إلى استقرار كل من المؤمنين والكافرين فيما أعد له، وسمي آخرا لأنه آخر الأوقات المحدودة والأشبه هو الأول لأن إطلاق اليوم شائع عليه في القرآن سواء كان حقيقة أو مجازا ولأن الإيمان به يتضمن الإيمان بالثاني لدخوله فيه من غير عكس، نعم المناسب للفظ اليوم لغة هو الثاني لمحدوديته وهو على كل تقدير مغاير لما عند الناس لأن اليوم عرفا من طلوع الشمس إلى غروبها وشرعا على الصحيح من طلوع الفجر الصادق إلى الغروب، واصطلاحا من نصف النهار إلى نصف النهار والأمر وراء ذلك، وسيأتي لذلك تتمة، وفي قوله سبحانه: * (وما هم بمؤمنين) * حيث قدم الفاعل وأولى حرف النفي رد لدعوى أولئك المنافقين على أبلغ وجه لأن انخراطهم في سلك المؤمنين من لوازم ثبوت الإيمان الحقيقي لهم وانتفاء اللازم أعدل شاهد على انتفاء الملزوم، وقد بولغ في نفي اللازم بالدلالة على دوامه المستلزم لانتفاء حدوث الملزوم مطلقا، وأكد ذلك النفي بالباء أيضا وهذا سبب العدول عن الرد بما آمنوا المطابق لصدر الكلام، وبعضهم يجري الكلام على التخصيص وأن الكفار لما رأوا أنفسهم أنهم مثل المؤمنين في الإيمان الحقيقي وادعوا موافقتهم قيل في جوابهم: * (وماهم بمؤمنين) * على قصر الإفراد والذوق يبعده، وإطلاق الوصف للإشارة إلى العموم وأنهم ليسوا من الإيمان في شيء، وقد يقيد بما قيد به سابقه لأنه واقع في جوابه إلا أن نفي المطلق يستلزم نفي المقيد فهو أبلغ وأوكد.
وفي هذه الآية دلالة على أن من لم يصدق بقلبه لا يكون مؤمنا، وأما على أن من أقر بلسانه وليس في قلبه ما يوافقه أو ينافيه ليس بمؤمن فلا لوجود المنافي في المنافق هنا لأنه من المختوم على قلبه أو لأن الله تعالى كذبه وليس إلا لعدم مطابقة التصديق القلبي للساني كذا قيل، ودقق بعضهم مدعيا أن من يجعل الإيمان الإقرار اللساني سواء يشترط الخلو عن الانكار والتكذيب أم لا يشترط أن يكون الإقرار بالشهادتين ولا يكفي عنده نحو آمنت بالله وباليوم الآخر لأن المدار على النطق بهما كما ورد في الصحيح حتى اشترط بعضهم لفظ اشهد، والاسم الخاص به تعالى واسم محمد صلى الله عليه وسلم فليس في الآية حينئذ دليل على إبطال مذهب الكرامية بوجه فليتدبر.
* (يخ‍ادعون الله والذين ءامنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون) *
أصل الخدع بفتح الخاء وكسرها الإخفاء والإيهام، وقيل: بالكسر اسم مصدر، ومنه المخدع للخزانة والأخدعان لعرقين خفيين في موضع المحجمة وخدع الضب إذا توارى واختفى ويستعمل في إظهار ما يوهم السلامة وإبطال ما يقتضي الإضرار بالغير أو التلخص منه كما قاله الإمام، وقال السيد: هو أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه وتصيبه به، وفي " الكشف " التحقيق أن الخدع صفة فعلية قائمة بالنفس عقيب استحضار مقدمات في الذهن متوصل بها توصلا
145

يستهجن شرعا أو عقلا أو عادة إلى استجرار منفعة من نيل معروف لنفسه أو إصابة مكروه لغيره مع خفائهما على الموجه نحوه القصد بحيث لا يتأتى ذلك النيل أو الإصابة بدونه أو لو تأتى لزم فوت غرض آخر حسب تصوره وعليه يكون الحرب خدعة مجازا ولا تخفى غرابته. والمخادعة مفاعلة، والمعروف فيها أن يفعل كل أحد بالآخر مثل ما يفعله به فيقتضي أن يصدر من كل واحد من الله ومن المؤمنين ومن المنافقين فعل يتعلق بالآخر، وظاهر هذا مشكل لأن الله سبحانه لا يخدع ولا يخدع، أما على التحقيق لأنه غني عن كل نيل وإصابة واستجرار منفعة لنفسه وهو أيضا متعال على التعمل واستحضار المقدمات ولأنه جل عن أن يحوم حول سرادقات جلاله نقص الانفعال وخفاء معلوم ما عليه، وأما على ما ذكره السيد فلأنه جل شأنه أجل من أن تخفى عليه خافية أو يصيبه مكروه فكيف يمكن للمنافقين أن يخدعوه ويوقعوا في علمه خلاف ما يريدون من المكروه ويصيبونه به مع أنهم لكونهم من أهل الكتاب عالمون باستحالة ذلك، والعاقل لا يقصد ما تحقق لديه امتناعه، وأما أنه لا يخدع فلأنه وإن جاز عندنا أن يوقع سبحانه في أوهام المنافقين خلاف ما يريده من المكاره ليغتروا ثم يصيبهم به لكن يمتنع أن ينسب إليه لما يوهمه من أنه إنما يكون عن عجز عن المكافحة وإظهار المكتوم لأنه المعهود منه في الإطلاق - كما في " الانتصاف " - ولذا زيد في تفسيره مع استشعار خوف أو استحياء من المجاهرة، وأما المؤمنون وإن جاز أن يخدعوا إلا أنه يبعد أن يقصدوا خدع المنافقين لأنه غير مستحسن بل مذموم مستهجن وهي أشبه شيء بالنفاق وهم في غنى عنه على أن الانخداع المتمدح به هو التخادع بمعنى إظهار التأثر دونه كرما كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: " المؤمن غر كريم " لا الانخداع الدال على البله، ولذا قالت عائشة في عمر رضي الله تعالى عنهما: كان أعقل من أن يخدع وأفضل من أن يخدع، ويجاب عن ذلك بأن صورة صنيعهم مع الله تعالى حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون، وصورة صنيع الله تعالى معهم حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عند أهل الدرك الأسفل، وصورة صنيع المؤمنين معهم حيث امتثلوا أمر الله تعالى فيهم فأجروا ذلك عليهم تشبه صورة المخادعة ففي الكلام إما استعارة تبعية في * (يخادعون) * وحده أو تمثيلية في الجملة وحيث إن ابتداء الفعل في باب المفاعلة من جانب الفاعل صريحا وكون المفعول آتيا بمثل فعله مدلول عليه من عرض الكلام حسن إيراد ذلك في معرض الذم لما أسند إليه الفعل صريحا وكون مقتضى المقام إيراد حالهم خاصة - كما قاله مولانا مفتي الديار الرومية - مما لا يخدش هذا الوجه الحسن أو يجاب - كما قيل - بأن المراد مخادعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوقع الفعل على غير ما يوقع عليه للملابسة بينهما وهي الخلافة فهناك مجاز عقلي في النسبة الإيقاعية وهذا ظاهر على رأي من يكتفي بالملابسة بين ما هو له وغير ما هو له، وأما على رأي من يعتبر ملابسة الفعل بغير ما هو له بأن يكون من معمولاته فلا، على أنه يبقى من الإشكال أن لا خدع من الرسول والمؤمنين ولا مجال لأن يكون الخدع من أحد الجانبين حقيقة ومن الآخر مجازا لاتحاد اللفظ وكأن المجيب إما قائل بجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز أو غير قائل بامتناع صدور الخدع من الرسول والمؤمنين حتى يتأتى لهم ما يريدون من إعلاء الدين ومصالح المسلمين. وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وأبو حيوة (يخدعون) والجواب عما يلزم هو الجواب فيما يلزم، وقد تأتي
146

فاعل بمعنى فعل كعافاني الله تعالى وعاقبت اللص فلا بعد في حمل قراءة الجمهور على ذلك ويكون إيثار صيغة المفاعلة لإفادة المبالغة في الكيفية فإن الفعل متى غولب
فيه بولغ به أو في الكمية كما في الممارسة والمزاولة فإنهم كانوا مداومين على الخدع و * (يخادعون) * إما بيان ليقول لا على وجه العطف إذ لا يجري عطف البيان في الجمل عند النحاة وإن أوهمه كلام أهل المعاني وإما استئناف بياني كأنه قيل لم يدعون الإيمان كاذبين وماذا نفعهم؟ فقيل يخادعون الخ، وهذا في المآل كالأول ولعل الأول أولى.
وجوز أبو حيان كون هذه الجملة بدلا من صلة من بدل اشتمال أو حالا من الضمير المستكن في يقول أي مخادعين، وأبو البقاء أن يكون حالا من الضمير المستتر في مؤمنين، ولعل النفي متوجه للمقارنة لا لنفس الحال - كما في ما جاءني زيد، وقد طلع الفجر - * (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) * (الأنفال: 33) على أنه قد تجعل الحال ونحوها في مثل ذلك قيدا للنفي لا للمنفي كما قرروه في - لم أبالغ - في اختصاره تقريبا، وجعل الجملة صفة للمؤمنين ممنوع لمكان النفي والقيد وليست حال الصفة كصفة الحال فلا عجب في تجويز إحداهما ومنع الأخرى كما توهمه أبو حيان في " بحره "، نعم التعجب من كون الجملة بيانا للتعجب من كونهم من الناس كما لا يخفى. ثم إن الغرض من مخادعة هؤلاء لمن خادعوه كالغرض من نفاقهم طبق النعل بالنعل فقد قصدوا تعظيمهم عند المؤمنين والتطلع على أسرارهم ليفشوها ورفع القتل عنهم أو ضرب الجزية عليهم والفوز بسهم من الغنائم ونحو ذلك وثمرة مخادعة من خادعوه إياهم إن كانت حكم إلهية ومصالح دينية ربما يؤدي تركها إلى مفاسد لا تحصى ومحاذير لا تستقصى، وقرأ الحرميان وأبو عمرو: * (وما يخادعون) *، وقرأ باقي السبعة: * (وما يخدعون) * وقرأ الجارود وأبو طالوت: * (وما يخدعون) * بضم الياء مبنيا للمفعول. وقرأ بعضهم: * (وما يخادعون) * بفتح الدال مبنيا للمفعول أيضا وقرأ قتادة والعجلي: * (وما يخدعون) * من خدع مضاعفا مبنيا للفاعل، وبعضهم بفتح الياء والخاء وتشديد الدال المكسورة وما عدا القراءتين الأوليين شاذة وعليهما نصب أنفسهم على المفعولية الصرفة أو مع الفاعلية معنى، وأما على قراءة بناء الفعل للمفعول فهو إما على إسقاط الجار أي في أنفسهم أو عن أنفسهم أو على التمييز على رأي الكوفيين أو التشبيه بالمفعول على زعم بعضهم أو على أنه مفعول بتضمين الفعل يتنقصون مثلا، ولا يشكل على قراءة (يخادعون) أنه كيف يصح حصر الخداع على أنفسهم، وذلك يقتضي نفيه عن الله تعالى والمؤمنين، وقد أثبت أولا، وإن المخادعة إنما تكون في الظاهر بين اثنين فكيف يخادع أحد نفسه لأنا نقول المراد أن دائرة الخداع راجعة إليهم وضررها عائد عليهم فالخداع هنا هو الخداع الأول والحصر باعتباره أن ضرره عائد إلى أنفسهم فتكون العبادة الدالة عليه مجازا أو كناية عن انحصار ضررها فيهم أو نجعل لفظ الخداع مجازا مرسلا عن ضرره في المرتبة الثانية، وكونه مجازا باعتبار الأول كما قاله السعد غير ظاهر. وقد يقال إنهم خدعوا أنفسهم لما غروها بذلك وخدعتهم حيث حدثتهم بالأماني الخالية، فالمراد بالخداع غير الأول. والمخادع والمخادع متغايران بالاعتبار فالخداع على هذا مجاز عن إيهام الباطل وتصويره بصورة الحق، وحمله على حقيقته بعيد وكون ذلك من التجريد كقوله:
لا خيل عندك تهديها ولا مال * فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
لا يرتضيه الذوق السليم كالقول بأن الكلام من باب المبالغة في امتناع خداعهم لله تعالى وللمؤمنين لأنه كما لا يخفى خداع المخادع لنفسه فيمتنع خداعه لها يمتنع خداع الله تعالى لعلمه والمؤمنون لاطلاعهم باعلامه تعالى أو الكناية عن أن مخالفتهم ومعاداتهم لله تعالى وأحبابه معاملة مع أنفسهم لأن الله تعالى والمؤمنين ينفعونهم كأنفسهم،
147

وبعضهم يجعل التعبير هنا بالمخادعة للمشاكلة مع كون كل من المشاكل والمشاكل مجازا وكل يعمل على شاكلته.
والنفس حقيقة الشيء وعينه ولا اختصاص لها بالأجسام لقوله تعالى: * (كتب على نفسه الرحمة) * (الأنعام: 12) * (ويحذركم الله نفسه) * (آل عمران: 28) وتطلق على الجوهر البخاري اللطيف الحال لقوة الحياة والحس والحركة الإرادية وسماها الحكيم الروح الحيوانية وأول عضو تحله القلب إذ هو أول ما يخلق على المشهور، ومنه تفيض إلى الدماغ والكبد وسائر الأعضاء ولا يلزم من ذلك أن يكون منبت الأعصاب إذ من الجائز أن يكون العضو المستفيد منبتا لآلة الاستفادة، وقيل: الدماغ لأنه المنبت ولم تقم دلالة قطعية على ذلك كما في " شرح القانون " للإمام الرازي وكثيرا ما تطلق على الجوهر المجرد المتعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف وهي الروح الأمرية المرادة في (من عرف نفسه فقد عرف ربه) وتسمى النفس الناطقة وبتنوع صفاتها تختلف أسماؤها وأحظى الأعضاء بإشراق أنوارها المعنوية القلب أيضا ولذلك الشرف قد يسمى نفسا، وبعضهم يسمي الرأي بها، والظاهر في الآية على ما قيل: المعنى الأول إذ المقصود بيان أن ضرر مخادعتهم راجع إليهم ولا يتخطاهم إلى غيرهم وليس بالمتعين كما لا يخفى، وتطلق على معان أخر ستسمعها مع تحقيق هذا المبحث إن شاء الله تعالى. وجملة * (وما يشعرون) * مستأنفة أو معطوفة على * (وما يخدعون إلا أنفسهم) * ومفعول * (يشعرون) * محذوف أي: وما يشعرون أنهم يخدعونها أو أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون أو إطلاع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على خداعهم وكذبهم كما روي ذلك عن ابن عباس أو هلاك أنفسهم وإيقاعها في الشقاء الأبدي بكفرهم ونفاقهم كما روي عن زيد، أو المراد لا يشعرون بشيء، ويحتمل كما في " البحر " أن يكون * (وما يشعرون) * جملة حالية أي: وما يخدعون إلا أنفسهم غير شاعرين بذلك ولو شعروا لما خادعوا، والشعور الادراك بالحواس الخمس الظاهرة ويكون بمعنى العلم، قال الراغب: شعرت كذا يستعمل بوجهين بأن يؤخذ من مس الشعر ويعبر به عن اللمس؛ ومنه استعمل المشاعر للحواس، فإذا قيل: فلان لا يشعر فذلك أبلغ في الذم من أنه لا يسمع ولا يبصر لأن حس اللمس أعم من حس السمع والبصر، وتارة يقول: شعرت كذا أي أدركت شيئا دقيقا من قولهم شعرته أي أصبت شعره نحو أذنته ورأسته وكان ذلك إشارة إلى قولهم فلان يشق الشعر إذا دق النظر؛ ومنه أخذ الشاعر لإدراك دقائق المعاني انتهى. والآية تحتمل نفي الشعور بمعنى العلم فمعنى * (لا يشعرون) * لا يعلمون وكثيرا ما ورد بهذا المعنى، وفي اللحاق نوع إشارة إليه، ويحتمل نفيه بمعنى الإدراك بالحواس فيجعل متعلق الفعل كالمحسوس الذي لا يخفى إلا على فاقد الحواس، ونفي ذلك نهاية الذم لأن من لا يشعر بالبديهي المحسوس مرتبته أدنى من مرتبة البهائم فهم كالأنعام بل هم أضل. ولعل هذا أولى لما فيه من التهكم بهم مع الدلالة على نفي العلم بالطريق الأولى، وهو أيضا أنسب بقوله تعالى: * (ختم الله
على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة) * (البقرة: 7) كما لا يخفى.
* (فى قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) *
المرض بفتح الراء كما قرأ الجمهور، وبسكونها كما قرأ الأصمعي عن أبي عمر وعلى ما ذهب إليه أهل اللغة حالة خارجة عن الطبع ضارة بالفعل، وعند الأطباء ما يقابل الصحة وهي الحالة التي تصدر عنها الأفعال سليمة، والمراد من الأفعال ما هو متعارف وهي إما طبيعية كالنمو أو حيوانية كالنفس أو نفسانية كجودة الفكر، فالحول والحدب مثلا مرض عندهم دون أهل اللغة وقد يطلق المرض لغة على أثره وهو الألم كما قاله جمع ممن يوثق بهم، وعلى الظلمة كما في قوله:
148

في ليلة مرضت من كل ناحية * فما يحس بها نجم ولا قمر
وعلى ضعف القلب وفتوره كما قاله غير واحد ويطلق مجازا على ما يعرض المرء مما يخل بكمال نفسه كالبغضاء والغفلة وسوء العقيدة والحسد وغير ذلك من موانع الكمالات المشابهة لاختلال البدن المانع عن الملاذ والمؤدية إلى الهلاك الروحاني الذي هو أعظم من الهلاك الجسماني، والمنقول عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة وسائر السلف الصالح حمل المرض في الآية على المعنى المجازي. ولا شك أن قلوب المنافقين كانت ملأى من تلك الخبائث التي منعتهم مما منعتهم وأوصلتهم إلى الدرك الأسفل من النار. ولا مانع عند بعضهم أن يحمل المرض أيضا على حقيقته الذي هو الظلمة * (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور) * (النور: 40) * (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات) * (البقرة: 257) وكذا على الألم فإن في قلوب أولئك ألما عظيما بواسطة شوكة الإسلام وانتظام أمورهم غاية الانتظام، فالآية على هذا محتملة للمعنيين ونصب القرينة المانعة في المجاز إنما يشترط في تعيينه دون احتماله فإذا تضمن نكتة ساوى الحقيقة فيمكن الحمل عليهما نظرا إلى الأصالة والنكتة إلا أنه يرد هنا أن الألم مطلقا ليس حقيقة المرض بل حقيقته الألم لسوى المزاج وهو مفقود في المنافقين والقول بأن حالهم التي هم عليها تفضي إليه في غاية الركاكة على أن قلوب أولئك لو كانت مريضة لكانت أجسامهم كذلك أو لكان الحمام عاجلهم ويشهد لذلك الحديث النبوي والقانون الطبي، أما الأول: فلقولهصلى الله عليه وسلم: " إن في الجسد مضغة " الحديث، وأما الثاني: فلأن الحكماء بعد أن بينوا تشريح القلب قالوا إذا حصلت فيه مادة غليظة فإن تمكنت منه ومن غلافه أو من أحدهما عاجلت المنية صاحبه وإن لم تتمكن تأخرت الحياة مدة يسيرة ولا سبيل إلى بقائها مع مرض القلب، فالأولى دراية ورواية حمله على المعنى المجازي - ومنه الجبن والخور - وقد داخل ذلك قلوب المنافقين حين شاهدوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ما شاهدوا. والتنوين للدلالة على أنه نوع غير ما يتعارفه الناس من الأمراض، ولم يجمع كما جمع القلوب لأن تعداد المحال يدل على تعداد الحال عقلا فاكتفى بجمعها عن جمعه. والجملة الأولى إما مستأنفة لبيان الموجب لخداعهم وما هم فيه من النفاق أو مقررة لما يفيده * (وما هم بمؤمنين) * (البقرة: 8) من استمرار عدم إيمانهم أو تعليل له كأنه قيل: ما بالهم لا يؤمنون؟ فقال: في قلوبهم مرض يمنعه أو مقررة لعدم الشعور وإن كان سبيل قوله: * (وما يشعرون) * سبيل الاعتراض على ما قيل وجملة * (فزادهم الله مرضا) * إما دعائية معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه والمعترضة قد تقرت بالفاء كما في قوله: واعلم فعلم المرء ينفعه * أن سوف يأتي كلما قدرا
كما صرح به في " التلويح " وغيره نقلا عن النحاة أو إخبارية معطوفة على الأولى وعطف الماضي على الاسمية لنكتة إن أريد في الأولى أن ذلك لم يزل غضا طريا إلى زمن الأخبار، وفي الثانية أن ذلك سبب لازدياد مرضهم المحقق إذ لولا تدنس فطرتهم لازدادوا بما من الله تعالى به على المؤمنين شفاء ولا يتكرر هذا مع قوله تعالى: * (يمدهم في طغيانهم) * (البقرة: 15) للفرق بين زيادة المرض وزيادة الطغيان على أنه لا مانع من زيادة التوكيد مع بعد المسافة، وأيضا الدعاء إن لم يكن جاريا على لسان العبد أو مرادا به مجرد السب والتنقيص يكون إيجابا منه سبحانه فيؤول إلى ما آل إليه الأخبار وزيادة الله تعالى مرضهم إما بتضعيف حسدهم بزيادة نعم الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أو ظلمة قلوبهم بتجدد كفرهم بما ينزله سبحانه شيئا فشيئا من الآيات والذكر الحكيم فهم في ظلمات بعضها فوق بعض أو بتكثير خوفهم ورعبهم المترتب عليه ترك مجاهرتهم بالكفر بسبب
149

إمداد الله تعالى الإسلام ورفع أعلامه على أعلام الإعزاز والاحترام، أو بإعظام الألم بزيادة الغموم وإيقاد نيران الهموم. والغم يخترم النفوس نحافة * ويشيب ناصية الصبي ويهرم
ويكون ذلك بتكاليف الله تعالى لهم المتجددة وفعلهم لها مع كفرهم بها وبتكليف النبي صلى الله عليه وسلم لهم ببعض الأمور وتخلفهم عنه الجالب لما يكرهونه من لومهم وسوء الظن بهم فيغتمون إن فعلوا وإن تركوا ونسبة الزيادة إلى الله تعالى حقيقة ولو فسرت بالطبع فإنه سبحانه الفاعل الحقيقي بالأسباب وبغيرها ولا يقبح منه شيء، وبعضهم جعل الإسناد مجازا في بعض الوجوه ولعله نزغة اعتزالية، وأغرب بعضهم فقال: الإسناد مجازي كيفما كان المرض، وحمل على أن المراد أنه ليس هنا من يزيدهم مرضا حقيقة على رأي الشيخ عبد القاهر في أنه لا يلزم في الإسناد المجازي أن يكون للفعل فاعل يكون الإسناد إليه حقيقة مثل. يزيدك وجهه حسنا * إذا ما زدته نظرا
فتدبر، وإنما عدى سبحانه الزيادة إليهم لا إلى القلوب فلم يقل فزادها إما ارتكابا لحذف المضاف - أي فزاد الله قلوبهم مرضا - أو إشارة إلى أن مرض القلب مرض لسائر الجسد أو رمزا إلى أن القلب هو النفس الناطقة ولولاها ما كان الإنسان إنسانا وإعادة مرض منكرا لكونه مغايرا للأول ضرورة أن المزيد يغاير المزيد عليه، وتوهم من زعم أنه من وضع المظهر موضع المضمر، والتنكير للتفخيم، والأليم فعيل من الألم بمعنى مفعل كالسميع بمعنى مسمع، وعلى ما ذهب إليه الزمخشري من ألم الثلاثي كوجيع من وجع، وإسناده إلى العذاب مجاز على حد جد جده، ولم يثبت عنده فعيل بمعنى مفعل وجعل بديع السموات من باب الصفة المشبهة أي بديعة سمواته، وسميع في قوله:
أمن ريحانة الداعي السميع * يؤرقني وأصحابي هجوع
بمعنى سامع - أي أمن ريحانة داع من قلبي سامع لدعاء داعيها - بدليل ما بعده فإن أكثر القلق والأرق إنما يكون من دواعي النفس وأفكارها فعلى هذا يكون تفسيره بمؤلم اسم فاعل بيان لحاصل المعنى، وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كل شيء في القرآن أليم فهو موجع، وقد جمع للمنافقين نوعان من العذاب، عظيم وأليم، وذلك للتخصيص بالذكر هنا والاندراج مع الكفار هناك؛ قيل: وهذه الجملة معترضة لبيان وعيد النفاق والخداع والباء إما للسببية أو للبدلية و (ما) إما مصدرية مؤولة بمصدر كان إن كان أو بمصدر متصيد من الخبر كالكذب وإما موصولة، واستظهره أبو البقاء بأن الضمير المقدر عائد على ما أورده في " البحر " بأنه لا يلزم أن يكون ثم مقدر بل من قرأ (يكذبون) بالتخفيف وهم الكوفيون فالفعل غير متعد ومن قرأ بالتشديد كنافع وابن كثير وأبي عمر فالمفعول محذوف لفهم المعنى والتقدير بكونهم يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، ويحتمل أن يكون المشدد في معنى المخفف للمبالغة في الكيف كما قالوا في بان الشيء وبين، وصدق وصدق وقد يكون التضعيف للزيادة في الكم كموتت الإبل ويحتمل أن يكون من كذب الوحش إذا جرى ووقف لينظر ما وراءه، وتلك حال المتحير وهي حال المنافق ففي الكلام حينئذ استعارة تبعية تمثيلية أو تبعية أو تمثيلية ويشهد لهذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: " مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة " والجار والمجرور صفة لعذاب لا لأليم كما قاله أبو البقاء لأن الأصل في الصفة أن لا توصف والكذب هو الإخبار عن الشيء النسبة أو الموضوع على خلاف
150

ما هو عليه في نفس الأمر عندنا، وفي الاعتقاد عند النظام، وفيهما عند الجاحظ، وكل مقصود محمود يمكن التواصل إليه بالصدق والكذب جميعا فالكذب فيه حرام لعدم الحاجة إليه فإن لم يمكن إلا بالكذب فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحا وواجب إن كان واجبا، وصرح في الحديث بجوازه في ثلاث مواطن، في الحرب، وإصلاح ذات البين، وكذب الرجل لامرأته ليرضيها ولا حصر ولهذا جاز تلقين الذين أقروا بالحدود الرجوع عن الإقرار فينبغي أن يقابل بين مفسدة الكذب والمفسدة المترتبة على الصدق فإن كانت المفسدة في الصدق أشد ضررا فله الكذب وإن كان عكسه أو شك حرم عليه، فما قاله الإمام البيضاوي عفا الله تعالى عنه من أن الكذب حرام كله يوشك أن يكون مما سها فيه. وفي الآية تحريض للمؤمنين على ما هم عليه من الصدق والتصديق فإن المؤمن إذا سمع ترتب العذاب على الكذب دون النفاق الذي هو هو تخيل في نفسه تغليظ اسم الكذب وتصور سماجته فانزجر عنه أعظم انزجار، وهذا ظاهر على قراءة التخفيف ويمكن في غيرها أيضا لأن نسبة الصادق إلى الكذب كذب، وكذا كثرته وإن تكلف في المعنى الأخير، وقيل: إنه مأخوذ من كذب المتعدي كأنه يكذب رأيه فيقف لينظر لكن لما كثر استعماله في هذا المعنى وكانت حالة المنافق شبيهة بهذا جاز أن يستعار منه لها أمكن على بعد بعيد ذلك التحريض، ولا يرد على تحريم الكذب في بعض وجوهه ما روي في حديث الشفاعة عن إبراهيم عليه السلام أنه يقول: " ليست لها إني كذبت ثلاث كذبات " وعنى كما في رواية أحمد * (إني سقيم) * (الصافات: 89) و * (بل فعله كبيرهم) * (الأنبياء: 63). وقوله للملك في جواب سؤاله عن امرأته سارة: هي أختي حين أراد غصبها، وكان من طريق السياسة التعرض لذات الأزواج دون غيرهن بدون رضاهن فإنها إن كانت من الكذب المحرم فأين العصمة وهو أبو الأنبياء؟! وإن لم تكن كذلك فقد أخبر يوم القيامة بخلاف الواقع وحاشاه حيث إن المفهوم من ذلك الكلام أني أذنبت فأستحي أن أشفع، وهي يستحي مما لا إثم فيه ولقوة هذه الشبهة قطع الرازي بكذب الرواية صيانة لساحة إبراهيم عليه السلام لأنا نقول إن ذلك من المعاريض، وفيها مندوحة عن الكذب، وقد صدرت من سيد أولي العصمة صلى الله عليه وسلم كقوله مما في حديث الهجرة، وتسميته كذبا على سبيل الاستعارة للاشتراك في الصورة فهي من المعاريض الصادقة كما ستراه بأحسن وجه إن شاء الله تعالى في موضعه لكنها لما كانت مبنية على لين العريكة مع الأعداء، ومثله ممن تكفل الله تعالى بحمايته يناسبه المبارزة - فلعدوله عن الأولى بمقامه - عد ذلك في ذلك المقام ذنبا وسماه كذبا لكونه على صور، وما وقع لنبينا عليه الصلاة والسلام من ذلك لم يقع في مثل هذا المقام حتى يستحي منه فلكل مقام مقال، على أنا نقول إنها لو كانت كذبا حقيقة لا ضرر فيها ولا استحياء منها، كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم: " ما منها كذبة إلا جادل بها عن دين الله تعالى فهي من الكذب المباح " لكن لما كان مقام الشفاعة هو المقام المحمود المخبوء للحبيب لا الخليل أظهر الاستحياء للدفع عنه بما يظن أنه مما يوجب ذلك وهو لا يوجبه. وفي ذلك من التواضع وإظهار العجز والدفع بالتي هي أحسن مما لا يخفى فكأنه قال: أنا لا آمن من العتاب على كذب مباح فكيف لي بالشفاعة لكم في هذا المقام فليحفظ، ثم إن الإتيان بالأفعال المضارعة في أخبار الأفعال الماضية الناقصة أمر مستفيض - كأصبح يقول كذا، وكادت تزيغ قلوب فريق منهم - ومعناه أنه في الماضي كان مستمرا متجددا بتعاقب الأمثال والمضي والاستقبال بالنسبة لزمان الحكم، وقد عد الاستمرار من معاني (كان) فلا إشكال في * (بما كانوا يكذبون) * حيث دلت (كان) على انتساب الكذب إليهم في الماضي ويكذبون على انتسابه في الحال والاستقبال
151

والزمان فيهما مختلف ودفعه بأن (كان) دالة على الاستمرار في جميع الأزمنة ويكذبون دل على الاستمرار التجددي الداخل في جميع الأزمنة على علاته يغني الله تعالى عنه. وأمال حمزة فزادهم في عشرة أفعال ووافقه ابن ذكوان في إمالة جاء وشاء وزاد هذه، وعنه خلاف في زاد غيرها، والإمالة لتميم والتفخيم للحجاز. وقد نظم أبو حيان تلك العشرة فقال: وعشرة أفعال تمال لحمزة * فجاء وشاء ضاق ران وكملا
بزاد وخاب طاب خاف معا وحا * ق زاغ سوى الأحزاب مع صادها فلا
* (وإذا قيل لهم لا تفسدوا فى الأرض قالوا إنما نحن مصلحون) *
اختلف في هذه الجملة فقيل معطوفة على (يكذبون) (البقرة: 10) لأنه أقرب وليفيد تسببه للعذاب أيضا وليؤذن أن صفة الفساد يحترز منها كما يحترز عن الكذب. ووجه إفادته لتسبب الفساد للعذاب أنه داخل في حيز صلة الموصول الواقع سببا إذ المعنى في قولهم: * (إنما نحن مصلحون) * إنكار لادعائهم أن ما نسب لهم منه صلاح وهو عناد وإصرار على الفساد والإصرار على ذلك فساد وإثم، وهذا الذي مال إليه الزمخشري - وهو مبني على عدم الاحتياج إلى ضمير في الجملة - يعود إلى
(ما) فإنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع وإلا يكون التقدير ولهم عذاب أليم بالذي كانوا إذا قيل لهم الخ وهو غير منتظم وكأن من يجعل (ما) مصدرية يجعل الوصل ب (كان) حيث لم يعهد وصلها بالجملة الشرطية نعم يرد أن قوله تعالى: * (إنما نحن مصلحون) * كذب فيؤول المعنى إلى استحقاق العذاب بالكذب وعطف التفسير مما يأباه الذوق والاستعمال ومن هنا قيل: بأن هذا العطف وجيه على قراءة (يكذبون) بالتشديد على أحد احتمالاته ليكون سببا للجمع بين ذمهم بالكذب والتكذيب. وقول مولانا مفتي الديار الرومية في الاعتراض: أن هذا النحو من التعليل حقه أن يكون بأوصاف ظاهرة العلية مسلمة الثبوت للموصوف غنية عن البيان لشهرة الاتصاف بها عند السامع أو لسبق الذكر صريحا أو استلزاما، ولا ريب في أن هذه الشرطية غير معلومة الانتساب بوجه حتى تستحق الانتظام في سلك التعليل لا يخفى ما فيه على من أمعن النظر، وقيل: معطوفة على يقول لسلامته مما في ذلك العطف من الدغدغة ولتكون الآيات حينئذ على نمط تعديد قبائحهم وإفادتها اتصافهم بكل من تلك الأوصاف استقلالا وقصدا ودلالتها على لحوق العذاب بسبب كذبهم الذي هو أدنى أحوالهم فما ظنك بسائرها؟ ولكون هذا الماضي لمكان إذا مستقبلا حسن العطف، وفيه أن مآل هذه الجملة الكذب كما أشير إليه فلا تغاير سابقها ولو سلم التغاير بالاعتبار وضم القيود فهي جزء الصلة أو الصفة وكلاهما يقتضي عدم الاستقلال، وأيضا كون ذلك الكذب أدنى أحوالهم لا يقبل عند من له أدنى عقل على أن تخلل البيان والاستئناف وإن لم يكن أجنبيا بين أجزاء الصلة أو الصفة لا يخلو عن استهجان فالذي أميل إليه وأعول دون هذين الأمرين عليه ما اختاره المدقق في " الكشف "، وقريب منه كلام أبي حيان في " البحر " أنها معطوفة على قوله: * (ومن الناس من يقول) * (البقرة: 8) لبيان حالهم في ادعاء الإيمان وكذبهم فيه أولا ثم بيان حالهم في انهماكهم في باطلهم ورؤية القبيح حسنا والفساد صلاحا ثانيا، ويجعل المعتمد بالعطف مجموع الأحوال وإن لزم فيه عطف الفعلية على الاسمية فهو أرجح بحسب السياق ونمط تعديد القبائح، وما قيل عليه إنه ليس مما يعتد به وإن توهم كونه أوفى بتأدية هذه المعاني وذلك لعدم دلالته على اندراج هذه الصفة وما بعدها في قصة المنافقين وبيان أحوالهم إذ لا يحسن حينئذ عود الضمائر
152

التي فيها إليهم - كما يشهد به سلامة الفطرة لمن له أدنى دربة بأساليب الكلام - كلام خارج عن دائرة الإنصاف كما يشهد به سلامة الفطرة من داء التعصب والاعتساف فإن عود الضمائر رابط للصفات بهم وسوق الكلام مناد عليه، وقد يأتي في القصة الواحدة جملة مستأنفة بغير عطف فإذا لم ينافه الاستئناف رأسا كيف ينافيه العطف على أوله المستأنف، والعطف إنما يقتضي مغايرة الأحوال لا مغايرة القصص وأصحابها. وما أخرجه ابن جرير عن سلمان رضي الله تعالى عنه من أن أهل هذه الآية لم يأتوا بعد - ليس المراد به أنها مخصوصة بقوم آخرين كما يشعر به الظاهر بل إنها لا تختص بمن كان من المنافقين وإن نزلت فيهم إذ خصوص السبب لا ينافي عموم النظم، ثم القائل للمنافقين في عصر النزول هذا القول إما النبي صلى الله عليه وسلم تبليغا عن الله سبحانه المخبر له بنفاقهم أو أنه عليه الصلاة والسلام بلغه عنهم ذلك ولم يقطع به فنصحهم فأجابوه بما أجابوه أو بعض المؤمنين الظانين بهم المتفرسين بنور الإيمان فيهم أو بعض من كانوا يلقون إليه الفساد فلا يقبله منهم لأمر ما فينقلب واعظا لهم قائلا: لا تفسدوا، والفساد التغير عن حالة الاعتدال والاستقامة ونقيضه الصلاح، والمعنى لا تفعلوا ما يؤدي إلى الفساد وهو هنا الكفر كما قاله ابن عباس أو المعاصي كما قاله أبو العالية أو النفاق الذي صافوا به الكفار فأطلعوهم على أسرار المؤمنين فإن كل ذلك يؤدي ولو بالوسائط إلى خراب الأرض وقلة الخير ونزع البركة وتعطل المنافع، وإذا كان القائل بعض من كانوا يلقون إليه الفساد فلا يقبله ممن شاركهم في الكفر يحمل الفساد على هيج الحروب والفتن الموجب لانتفاء الاستقامة ومشغولية الناس بعضهم ببعض فيهلك الحرث والنسل. ولعل النهي عن ذلك لخور أو تأمل في العاقبة وإراحة النفس عما ضرره أكبر من نفعه مما تميل إليه الحذاق. على أن في أذهان كثير من الكفار إذا ذاك توقع ما يغني عن القتال من وقوع مكروه بالمؤمنين * (ويأبى الله إلا أن يتم نوره) * (التوبة: 32)، ولا يخفى ما في هذا الوجه من التكلف، والمراد من الأرض جنسها أو المدينة المنورة، والحمل على جميع الأرض ليس بشيء إذ تعريف المفرد يفيد استيعاب الأفراد لا الأجزاء، اللهم إلا أن يعتبر كل بقعة أرضا، لكن يبقى أنه لا معنى للحمل على الاستغراق باعتبار تحقق الحكم في فرد واحد وليس ذكر الأرض لمجرد التأكيد بل في ذلك تنبيه على أن الفساد واقع في دار مملوكة لمنعم أسكنكم بها وخولكم بنعمها: وأقبح خلق الله من بات عاصيا * لمن بات في نعمائه يتقلب
وإنما للحصر كما جرى عليه بعض النحويين وأهل الأصول، واختار في " البحر " أن الحصر يفهم من السياق ولم تدل عليه وضعا، وجعل القول بكونها مركبة من (ما) النافية دخل عليها (أن) التي للإثبات فأفادت الحصر قولا ركيكا صادر عن غير عارف بالنحو. ومعنى * (إنما نحن مصلحون) * مقصورون على الإصلاح المحض الذي لم يشبه شيء من وجوه الفساد وقد بلغ في الوضوح بحيث لا ينبغي أن يرتاب فيه، والقصر إما قصر إفراد أو قلب وهذا إما ناشىء عن جهل مركب فاعتقدوا الفساد صلاحا فأصروا واستكبروا استكبارا:
يقضي على المرء في أيام محنته * حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن
وإما جار على عادتهم في الكذب وقولهم بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وقرأ هشام والكسائي * (قيل) * بإشمام الضم ليكون دالا على الواو المنقلبة، وقول: بإخلاص الضم وسكون الواو لغة لهذيل ولم يقرأ بها.
* (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) *
رد لدعواهم المحكية على أبلغ وجه حيث سلك فيه مسلك الاستئناف المؤدي إلى زيادة تمكن الحكم في ذهن السامع مع تأكيد الحكم وتحقيقه (بأن، وألا) بناء
153

على تركبها من همزة الاستفهام الإنكاري الذي هو نفي معنى و (لا) النافية فهو نفي نفي فيفيد الإثبات بطريق برهاني أبلغ من غيره ولإفادتها التحقيق كما قال ناصر الدين: لا يكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بما يتلقى به القسم (كان، واللام، وحرف النفي) والذي ارتضاه الكثير أنها بسيطة لا لأنها تدخل على أن المشددة و (لا) النافية لا تدخل عليها إذ قد يقال: انفسخ بعد التركيب حكمها الأصلي بل لأن الأصل البساطة، ودعوى لا يكاد الخ لا تكاد تسلم كيف وقد دخلت على رب وحبذا ويا النداء
في - ألا رب يوم صالح لك منهما - و - ألا حبذا هند وأرض بها هند - و - ألا يا قيس والضحاك سيرا - وضم إلى ذلك تعريف الخبر وتوسيط الفصل وأشار ب * (لا يشعرون) * على وجه إلى أن كونهم من المفسدين قد ظهر ظهور المحسوس بالمشاعر وإن لم يدركوه، وأتى سبحانه بالاستدراك هنا ولم يأت به بعد المخادعة لأن المخادعة هناك لم يتقدمها ما يتوهم منه الشعور توهما يقتضي تعقيبه بالرفع بخلاف ما هنا فإنهم لما نهوا عما تعاطوه من الفساد الذي لا يخفى على ذوي العقول فأجابوه بادعاء أنهم على خلافه، وأخبر سبحانه بفسادهم كانوا حقيقيين بالعلم به مع أنهم ليسوا كذلك فكان محلا للاستدراك، وما يقال: من أنه لا ذم على من أفسد ولم يعلم وإنما الذم على من أفسد عن علم، يدفعه أن المقصر في العلم مع التمكن منه مذموم بلا ريب بل ربما يقال إنه أسوأ حالا من غيره، وهذا كله على تقدير أن يكون مفعول * (لا يشعرون) * محذوفا مقدرا بأنهم مفسدون، ويحتمل أن يقدر أن وبال ذلك الفساد يرجع إليهم، أو أنا نعلم أنهم مفسدون ويكون * (ألا إنهم هم المفسدون) * لإفادة لازم فائدة الخبر بناء على أنهم عالمون بالخبر جاحدون له كما هو عادتهم المستمرة، ويبعد هذا إذا كان المنافقون أهل كتاب، ويحتمل أن لا ينوي محذوف وهو أبلغ في الذم. وفيه مزيد تسلية له صلى الله عليه وسلم إذ من كان من أهل الجهل لا ينبغي للعالم أن يكترث بمخالفته، وفي التأويلات - لعلم الهدى - إن هذه الآية حجة على المعتزلة في أن التكليف لا يتوجه بدون العلم بالمكلف به وأن الحجة لا تلزم بدون المعرفة فإن الله تعالى أخبر أن ما صنعوا من النفاق إفساد منهم مع عدم العلم فلو كان حقيقة العلم شرطا للتكليف ولا علم لهم به لم يكن صنيعهم إفسادا لأن الإفساد ارتكاب المنهي عنه فإذا لم يكن النهي قائما عليهم عن النفاق لم يكن فعلهم إفسادا فحيث كان إفسادا دل على أن التكليف يعتمد قيام آلة العلم والتمكن من المعرفة لا حقيقة المعرفة فيكون حجة عليهم. وهذه المسألة متفرعة على مسألة مقارنة القدرة للفعل وعدمها، وأنت تعلم أنه مع قيام الاحتمال يقعد على العجز الاستدلال.
* (وإذا قيل لهم ءامنوا كمآ ءامن الناس قالوا أنؤمن كمآ آمن السفهآء ألا إنهم هم السفهآء ول‍اكن لا يعلمون) *
* (وإذا قيل لهم ءامنوا كما ءامن الناس) * إشارة إلى التحلية بالحاء المهملة كما أن لا تفسدوا إشارة إلى التخلية بالخاء المعجمة ولذا قدم، وليس هنا ما يدل على أن الأعمال داخلة في كمال الإيمان أو في حقيقته كما قيل لأن اعتبار ترك الفساد لدلالته على التكذيب المنافي للإيمان وحذف المؤمن به لظهوره أو أريد افعلوا الإيمان والكاف في موضع نصب، وأكثر النحاة يجعلونها نعتا لمصدر محذوف أي إيمانا كما آمن الناس وسيبويه لا يجوز حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه في هذا الموضع ويجعلها منصوبة على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل ولم تجعل متعلقة بآمنوا والظرف لغو بناء على أن الكاف لا تكون كذلك و (ما) إما مصدرية أو كافة ولم تجعل موصولة لما فيه من التكلف، والمعنى على المصدرية آمنوا إيمانا مشابها لإيمان الناس، وعلى الكف حققوا إيمانكم كما تحقق إيمان الناس وذلك بأن يكون مقرونا بالإخلاص خالصا عن شوائب النفاق، والمراد من الناس الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين مطلقا كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهم نصب عين أولى الغين، وملتفت
154

خواطرهم لتأملهم منهم، وقد مر ذكرهم أيضا لدخولهم دخولا أوليا في الذين آمنوا فالعهد خارجي، أو خارجي ذكري، أو من آمن من أبناء جنسهم كعبد الله بن سلام كما قاله جماعة من وجوه الصحابة، أو المراد الكاملون في الإنسانية الذين يعد من عداهم في عداد البهائم في فقد التمييز بين الحق والباطل، فاللام إما للجنس أو للاستغراق.
واستدل بالآية على أن الإقرار باللسان إيمان وإلا لم يفد التقييد، وكونه للترغيب يأباه إيرادهم التشبيه في الجواب؛ والجواب عنه بعد إمكان معارضته بقوله تعالى: * (وما هم بمؤمنين) * (البقرة: 8) أنه لا خلاف في جواز إطلاق الإيمان على التصديق اللساني لكن من حيث إنه ترجمة عما في القلب أقيم مقامه إنما النزاع في كونه مسمى الإيمان في نفسه ووضع الشارع إياه له مع قطع النظر عما في الضمير على ما بين لك في محله، ولما طلب من المنافق الإيمان دل ذلك على قبول توبة الزنديق: فإن لا يكنها أو تكنه فإنه * أخوها غذته أمه بلبانها
نعم إن كان معروفا بالزندقة داعيا إليها ولم يتب قبل الأخذ قتل كالساحر ولم تقبل توبته كما أفتى به جمع من المحققين.
* (قالوا أنؤمن كما ءامن السفهآء) * أرادوا ألا يكون ذلك أصلا فالهمزة للإنكار الإبطالي وعنوا بالسفهاء إما أولئك الناس المتقدمين أو الجنس بأسره وأولئك الكرام والعقلاء الفخام داخلون فيه بزعمهم الفاسد دخولا أوليا، وأبعد من ذهب إلى أن اللام للصفة الغالبة كما في العيوق لأنه لم يغلب هذا الوصف على أناس مخصوصين إلا أن يدعي غلبته فيما بينهم قاتلهم الله أنى يؤفكون والسفه الخفة والتحرك والاضطراب، وشاع في نقصان العقل والرأي وإنما سفهوهم جهلا منهم حيث اشتغلوا بما لا يجدي في زعمهم ويحتمل أن يكون ذلك من باب التجلد حذرا من الشماتة إن فسر الناس بمن آمن منهم، واليهود قوم بهت، وقد استشكل هذه الآية كثير من العلماء بأنه إذا كان القائل المؤمنين كما هو الظاهر والمجيب المنافقين يلزم أن يكونوا مظهرين للكفر إذا لقوا المؤمنين فأين النفاق وهو المفهوم من السباق والسياق؟ وأجيب بأن هذا الجواب كان فيما بينهم وحكاه الله تعالى عنهم ورده عليهم، وليس الجواب ما يقال مواجهة فقط فقد استفاض من الخلف إطلاق لفظ الجواب على رد كلام السلف مع بعد العهد من غير نكير، وقيل: * (إذا) * هنا بمعنى لو تحقيقا لإبطانهم الكفر وأنهم على حال تقتضي أنهم لو قيل لهم كذا قالوا كذا كما قيل مثله في قوله وإذا ما لمته لمته وحدي، وقيل: إنه كان بحضرة المسلمين لكن مساررة بينهم وأظهره عالم السر والنجوى، وقيل: كان عند من لم يفش سرهم من المؤمنين لقرابة أو لمصلحة ما، وذكر مولانا مفتي الديار الرومية أن الحق الذي لا محيد عنه أن قولهم هذا وإن صدر بمحضر من الناصحين لا يقتضي كونهم من المجاهرين فإنه ضرب من الكفر أنيق وفن في النفاق عريق لأنه كلام محتمل للشر كما ذكره في تفسيره وللخير بأن يحمل على ادعاء الإيمان كإيمان الناس وإنكار ما اتهموا به من النفاق على معنى أنؤمن كما آمن السفهاء والمجانين الذين لا اعتداد بإيمانهم لو آمنوا ولا نؤمن كإيمان الناس حتى تأمرونا بذلك، وقد خاطبوا به الناصحين استهزاء بهم مرائين لإرادة المعنى الأخير وهم معولون على الأول، والشرع ينظر للظاهر وعند الله تعالى علم السرائر، ولهذا سكت المؤمنون ورد الله سبحانه عليهم ما كانوا يسرون، فالكلام كناية عن كمال إيمانهم ولكن في
قلب تلك الكناية نكاية فهو على مشاكلة قولهم: * (اسمع غير مسمع) * (النساء: 46) في احتمال الشر والخير ولذلك نهى عنه، وجعل رحمه الله تعالى قوله تعالى في الحكاية عنهم: * (إنما نحن مصلحون) * (البقرة: 11) من هذا القبيل أيضا، وإلى ذلك مال مولانا الشهاب الخفاجي وادعى أنه من بنات أفكاره، وعندي أنه ليس بشيء لأن * (أنؤمن) * لإنكار الفعل في الحال وقولهم: * (كما آمن السفهاء) * بصيغة الماضي صريح
155

في نسبتهم السفاهة إلى المؤمنين لإيمانهم فلا تورية ولا نفاق، ولعله لما رأى صيغة الماضي زاد في بيان المعنى لو آمنوا، ولا أدري من أين أتى به. ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر. فالأهون بعض هاتيك الوجوه، وقوله: إن إبراز ما صدر عن أحد المتحاورين في الخلاء في معرض ما جرى بينهما في مقام المحاورة مما لا عهد به في الكلام فضلا عما هو في منصب الإعجاز لا يخفي ما فيه على من اطلع على محاورات الناس قديما وحديثا والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
* (ألا إنهم هم السفهآء ول‍اكن لا يعلمون) * رد وأشنع تجهيل حسبما أشير إليه فيما سلف، وإنما قال سبحانه هنا: * (لا يعلمون) * وهناك * (لا يشعرون) * (البقرة: 12) لأن المثبت لهم هناك هو الإفساد وهو مما يدرك بأدنى تأمل ولا يحتاج إلى كثير فكر، فنفى عنهم ما يدرك بالمشاعر مبالغة في تجهيلهم، والمثبت هنا السفه والمصدر به الأمر بالإيمان وذلك مما يحتاج إلى نظر تام يفضي إلى الإيمان والتصديق ولم يقع منهم المأمور به فناسب ذلك نفي العلم عنهم، ولأن السفه خفة العقل والجهل بالأمور على ما قيل فيناسبه أتم مناسبة نفي العلم، وهذا مبني على ما هو الظاهر في المفعول وعلى غير الظاهر غير ظاهر فتدبر.
ثم اعلم أنه إذا التقت الهمزتان والأولى مضمومة والثانية مفتوحة من كلمتين نحو السفهاء، ألا ففي ذلك أوجه. تحقيق الهمزتين وبذلك قرأ الكوفيون وابن عامر وتحقيق الأولى وتخفيف الثانية بإبدالها واوا وبذلك قرأ الحرميان وأبو عمرو. وتسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو. وتحقيق الثانية وتسهيل الأولى وإبدال الثانية واوا، وأجاز قوم جعل الهمزتين بين بين ومنعه آخرون.
* (وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا وإذا خلوا إلى شي‍اطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون) *
* (وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا) * بيان لدأب المنافقين وأنهم إذا استقبلوا المؤمنين دفعوهم عن أنفسهم بقولهم آمنا استهزاء فلا يتوهم أنه مكرر مع أول القصة لأنه إبداء لخبثهم ومكرهم وكشف عن إفراطهم في الدعارة وادعاء أنهم مثل المؤمنين في الإيمان الحقيقي وأنهم أحاطوه من جانبيه على أنه لو لم يكن هذا لا ينبغي أن يتوهم تكرار أيضا لأن المعنى ومن الناس من يتفوه بالإيمان نفاقا للخداع وذلك التفوه عند لقاء المؤمنين وليس هذا من التكرار بشيء لما فيه من التقييد وزيادة البيان وأنهم ضموا إلى الخداع الاستهزاء، وأنهم لا يتفوهون بذلك إلا عند الحاجة، والقول بأن المراد ب * (آمنا) * أولا الإخبار عن إحداث الإيمان وهنا عن إحداث إخلاص الإيمان مما ارتضاه الإمام ولا أقتدي به وتأييده له بأن الإقرار اللساني كان معلوما منهم غير محتاج للبيان وإنما المشكوك الإخلاص القلبي فيجب إرادته يدفعه النظر من ذي ذوق فيما حررناه، واللقاء استقبال الشخص قريبا منه وهو أحد أربعة عشر مصدرا للقي، وقرأ أبو حنيفة وابن السميقع (لاقوا)، وجعله في " البحر " بمعنى الفعل المجرد، وحذف المفعول في (آمنا) قيل اكتفاء بالتقييد قبل * (بالله وباليوم الآخر) * (البقرة: 8) وقيل: المراد آمنا بما آمنتم به، وأبعد من قال أرادوا الإيمان بموسى عليه السلام دون غيره وحذفوا تورية منهم وإيهاما. هذا ولم يصح عندي في سبب نزول هذه الآية شيء، وأما ما ذكره الزمخشري والبيضاوي ومولانا مفتي الديار الرومية وغيرهم فهو من طريق السدي الصغير وهو كذاب، وتلك السلسلة سلسلة الكذب لا سلسلة الذهب، وآثار الوجه لائحة على ما ذكروه فلا يعول عليه ولا يلتفت بوجه إليه.
* (وإذا خلوا إلى شي‍اطينهم) * من خلوت به وإليه إذا انفردت معه أو من قولهم في المثل: اطلب الأمر وخلاك ذم أي عداك ومضى عنك ومنه * (قد خلت من قبلكم سنن) * آل عمران: 137) وعلى الثاني المفعول الأول ههنا محذوف لعدم تعلق الغرض به أي إذا خلوهم، وتعديته إلى المفعول الثاني ب * (إلى) * لما في المضي عن الشيء معنى الوصول إلى الآخر واحتمال أن يكون من خلوت به أي سخرت منه، فمعنى الآية إذا أنهوا السخرية معهم
156

وحدثوهم كما يقال أحمد إليك فلانا وأذمه إليك مما لا ينبغي أن يخرج عليه كلام رب العزة وإن ذكره الزمخشري والبيضاوي وغيرهما إذ لم يقع صريحا خلا بمعنى سخر في كلام من يوثق به، وقولهم: خلا فلان بعرض فلان يعبث به ليس بالصريح إذ يجوز أن يكون خلا على حقيقته أو بمعنى تمكن منه على ما قيل، والدال على السخرية يعبث به، وزعم النضر بن شميل أن * (إلى) * هنا بمعنى مع ولا دليل عليه كالقول بأنها بمعنى الباء على أن سيبويه والخليل لا يقولان بنيابة الحرف عن الحرف، نعم إن الخلوة كما في " التاج " تستعمل ب (إلى، والباء، ومع) بمعنى واحد ويفهم من كلام الراغب أن أصل معنى الخلو فراغ المكان والحيز عن شاغر وكذا الزمان وليس بمعنى المضي، وإذا أريد به ذلك كان مجازا وظاهر كلام غيره أنه حقيقة وضعيفان يغلبان قويا.
والمراد ب * (شياطينهم) * من كانوا يأمرونهم بالتكذيب من اليهود كما قاله ابن عباس أو كهنتهم كما قاله الضحاك وجماعة وسموا بذلك لتمردهم وتحسينهم القبيح وتقبيحهم الحسن أو لأن قرناءهم الشياطين إن فسروا بالكهنة وكان على عهده صلى الله عليه وسلم كثير منهم ككعب بن الأشرف من بني قريظة، وأبي بردة من بني أسلم، وعبد الدار في جهينة، وعوف بن عامر في بني أسد، وابن السوداء في الشام.
وحمله على شياطين الجن كما قاله الكلبي مما لا يختلج بقلبي، والشياطين جمع تكسير وإجراؤه مجرى الصحيح كما في بعض الشواذ تنزلت به الشياطون لغة غريبة جدا والمفرد شيطان وهو فيعال عند البصريين فنونه أصلية من شطن أي بعد لبعده عن امتثال الأمر ويدل عليه تشيطن وإلا لسقطت، واحتمال أخذه من الشيطان لا من أصله على أن المعنى فعل فعله خلاف الظاهر، وعند الكوفيين وزنه فعلان فنونه زائدة من شاط يشيط إذا هلك أو بطل أو احترق غضبا والأنثى شيطانة وأنشد في " البحر ": هي البازل الكوماء لا شيء غيرها * وشيطانة قد جن منها جفونها
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الشيطان كل متمرد من الجن والإنس والدواب.
* (قالوا إنا معكم) * أي معية معنوية وهي مساواتهم لهم في اعتقاد اليهودية وهو أم الخبائث، وأتى بالجملة الفعلية الدالة على الحدوث مع ترك التأكيد فيما ألقى على المؤمنين المنكرين لما هم عليه أو المتمردين، وبالجملة الثبوتية مع التأكيد فيما ألقى إلى شياطينهم الذين ليسوا كذلك لأنهم في الأول بصدد دعوى إحداث الإيمان ولم ينظروا هنا لإنكار أحد وتردده إيهاما منهم أنهم بمرتبة لا ينبغي أن يتردد في إيمانهم ليؤكدوا لعله أن يتم لهم مرامهم بذلك في زعمهم وفي الثاني بصدد إفادة الثبات دفعا لما يختلج بخواطر شياطينهم من مخالطة المؤمنين ومخاطبتهم بالإيمان، وقيل: إن التأكيد كما يكون لإزالة الإنكار والشك يكون لصدق الرغبة وتركه كما يكون لعدم ذلك يكون لعدم اعتناء المتكلم فللرغبة أكدوا ولعدمها تركوا، أو لأنهم لو قالوا إنا مؤمنون كان ادعاء لكمال الإيمان وثباته، وهو لا يروج عند المؤمنين مع ما هم عليه من الرزانة وحدة الذكاء ولا كذلك شياطينهم، وعندي أن الوجه هو الأول إذ يرد على الأخيرين قوله تعالى فيما حكى عنهم: * (نشهد إنك لرسول الله) * (المنافقون: 1) إلا أن يقال إنهم أظهروا الرغبة هناك وتبالهوا عن عدم الرواج لغرض ما من الأغراض والأحوال شتى، والعوارض كثيرة ولهذا قيل: إنهم للتقية والخداع، ودعوى أنهم مثل المؤمنين في الإيمان ليجروا عليهم أحكامهم ويعفوهم عن المحاربة أكدوا بالباء فيما تقدم حيث قالوا: * (بالله وباليوم الآخر) * (البقرة: 8). والقول بأن الفرق بين آية الشهادة وآية الإيمان هنا ظاهر لأنهم لو قالوا إنا لمؤمنون لكانوا ملتزمين أمرين، رسالته صلى الله عليه وسلم ووجوب إيمانهم به بخلاف آية الشهادة فإن فيها التزام الأول ولا يلزم من عدم الرغبة في أمرين عدمها في أحدهما ظاهر الركاكة للمنصفين كما لا يخفى، وقرأ
157

الجمهور * (معكم) * بتحريك العين وقرىء شاذا بسكونها وهي لغة ربيعة وغنم.
* (إنما نحن مستهزءون) * الاستهزاء الاستخفاف والسخرية، واستفعل بمعنى فعل تقول هزأت به واستهزأت بمعنى كاستعجب وعجب، وذكر حجة الإسلام الغزالي أن الاستهزاء الاستحقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول وبالإشارة والإيماء، وأرادوا مستخفون بالمؤمنين. وأصل هذه المادة الخفة يقال: ناقته تهزأ به أي تسرع وتخف وقول الرازي: إنه عبارة عن إظهار موافقة مع إبطال ما يجري مجرى السوء على طريق السخرية غير موافق للغة والعرف. والجملة إما استئناف فكأن الشياطين قالوا لهم لما قالوا: * (إنا معكم) * إن صح ذلك فما بالكم توافقون المؤمنين فأجابوا بذلك. أو بدل من إنا معكم؛ وهل هو بدل اشتمال، أو كل، أو بعض؟ خلاف، أما الأول: فلأن هذه الجملة تفيد ما تفيده الأولى وهو الثبات على اليهودية لأن المستهزىء بالشيء مصر على خلافه وزيادة وهو تعظيم الكفر المفيد لدفع شبهة المخالطة وتصلبهم في الكفر فيكون بدل اشتمال.
وأما الثاني: وبه قال السعد: فللتساوي من حيث الصدق ولا يقتضي التساوي من حيث المدلول، وأما الثالث فلأن كونهم معهم عام في المعية الشاملة للاستهزاء والسخرية وغير ذلك، أو تأكيد لما قبله بأن يقال إن مدعاهم بأنا معكم الثبات على الكفر وإنما نحن مستهزؤن لاستلزامه رد الإسلام ونفيه يكون مقررا للثبات عليه إذ رفع نقيض الشيء تأكيد لثباته لئلا يلزم ارتفاع النقيضين، أو يقال يلزم: * (إنا معكم) * إنا نوهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الإيمان فيكون الاستخفاف بهم وبدينهم تأكيدا باعتبار ذلك اللازم، وأولى الأوجه عند المحققين الاستئناف لولا ما ذكره الشيخ " في دلائل الإعجاز " من أن موضوع (إنما) أن تجىء لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحته فإنه يقتضي أن تقدير السؤال هنا أمر مرجوح ولعل الأمر فيه سهل، وقرىء * (مستهزءون) * بتخفيف الهمزة وبقلبها ياء مضمومة، ومنهم من يحذف الياء فتضم الزاي.
* (الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغينهم يعمهون) *
* (الله يستهزىء بهم) * حمل أهل الحديث وطائفة من أهل التأويل الاستهزاء منه تعالى على حقيقته وإن لم يكن المستهزىء من أسمائه سبحانه، وقالوا: إنه التحقير على وجه من شأنه أن من اطلع عليه يتعجب منه ويضحك ولا استحالة في وقوع ذلك منه عز شأنه ومنعه من قياس الغائب على الشاهد، وذهب أكثر الناس إلى أنه لا يوصف به جل وعلا حقيقة لما فيه من تقرير المستهزأ به على الجهل الذي فيه، ومقتضى الحكمة والرحمة أن يريه الصواب فإن كان عنده أنه ليس متصفا بالمستهزأ به فهو لعب لا يليق بكبريائه تعالى، فالآية على هذا مؤولة إما بأن يراد بالاستهزاء جزاؤه لما بين الفعل وجزائه من مشابهة في القدر وملابسة قوية ونوع سببية مع وجود المشاكلة المحسنة ههنا، ففي الكلام استعارة تبعية أو مجاز مرسل، وإما بأن يراد به إنزال الحقارة والهوان فهو مجاز عما هو بمنزلة الغاية له فيكون من إطلاق المسبب على السبب نظرا إلى التصور وبالعكس نظرا إلى الوجود، وإما بأن يجعل الله تعالى وتقدس كالمستهزىء بهم على سبيل الاستعارة المكنية وإثبات الاستهزاء له تخييلا، ورب شيء يصح تبعا ولا يصح قصدا وله سبحانه أن يطلق على ذاته المقدسة ما يشاء تفهيما للعباد، وقد يقال: إن الآية جارية على سبيل التمثيل والمراد يعاملهم سبحانه معاملة المستهزىء؛ أما في الدنيا بإجراء أحكام الإسلام واستدراجهم من حيث لا يعلمون، وأما في الآخرة بأن يفتح لأحدهم باب إلى الجنة فيقال: هلم هلم فيجىء بكربه وغمه فإذا جاء أغلق دونه، ثم يفتح له باب آخر فيقال: هلم هلم فيجىء بكربه وغمه فإذا أتاه أغلق دونه فما يزال كذلك حتى إن الرجل ليفتح له باب فيقال: هلم هلم فما يأتيه، وقد روي ذلك بسند مرسل جيد الإسناد في
158

المستهزئين بالناس، وأسند سبحانه الاستهزاء إليه مصدرا الجملة بذكره للتنبيه على أن الاستهزاء بالمنافقين هو الاستهزاء الأبلغ الذي لا اعتداد معه باستهزائهم لصدوره عمن يضمحل علمهم وقدرتهم في جانب علمه وقدرته وأنه تعالى كفى عباده المؤمنين وانتقم لهم وما أحوجهم إلى معارضة المنافقين تعظيما لشأنهم لأنهم ما استهزىء بهم إلا فيه ولا أحد أغير من الله سبحانه، وترك العطف لأنه الأصل وليس في الجملة السابقة ما يصح عطف هذا القول عليه إلا بتكلف وبعد، وقيل: ليكون إيراد الكلام على وجه يكون جوابا عن السؤال عن معاملة الله تعالى معهم في مقابلة معاملتهم هذه مع المؤمنين، وقولهم: * (إنما نحن مستهزءون) * إشعار بأن ما حكي من الشناعة
بحيث يقتضي ظهور غيرة الله تعالى ويسأل كل أحد عن كيفية انتقامه منهم، ويشعر كلام بعض المحققين أنه لو ورد هذا القول بالعطف ولو على محذوف مناسب للمقام كهم مستهزءون بالمؤمنين لأفاد أن ذلك في مقابلة استهزائهم فلا يفيد أن الله تعالى أغنى المؤمنين عن معارضتهم مطلقا وأنه تولى مجازاتهم مطلقا بل يوهم تخصيص التولي بهذه المجازاة، وأيضا لكون استهزاء الله تعالى بمكان بعيد من استهزائهم إلى حيث لا مناسبة بينهما يكون العطف كعطف أمرين غير متناسبين، وبعضهم رتب الفائدتين اللتين ذكرناهما في الإسناد إليه تعالى على الاستئناف مدعيا أنه لو عطف ولو بحسب التوهم على مقدر بأن يقال المؤمنون مستهزؤون بهم والله يستهزىء بهم لفاتت الفائدتان هذا، ولعل ما ذكرناه أسلم من القيل والقال وأبعد عن مظان الاستشكال فتدبر، وعدل سبحانه عن الله مستهزىء بهم المطابق لقولهم إلى قوله: * (الله يستهزىء بهم) * لإفادته التجدد الاستمراري وهو أبلغ من الاستمرار الثبوتي الذي تفيده الاسمية لأن البلاء إذا استمر قد يهون وتألفه النفس كما قيل: خلقت ألوفا ولو رجعت إلى الصبا * لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
وقد كانت نكايات الله تعالى فيهم ونزول الآيات في شأنهم أمرا متجددا مستمرا * (أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) * (التوبة: 126) * (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم) * (التوبة: 64) * (قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون) * (التوبة: 64) وهذا نوع من العذاب الأدنى * (ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون) * (الزمر: 26) وصرح بالمستهزأ به هنا ليكون الاستهزاء بهم نصا وإنما تركه المنافقون فيما حكى عنهم خوفا من وصوله للمؤمنين فأبقوا اللفظ محتملا ليكون لهم مجال في الذب إذا حوققوا فجعل الله تعالى كلمة الذين كفروا السفلى وكلمته هي العليا.
* (ويمدهم في طغينهم يعمهون) * معطوف على قوله سبحانه وتعالى: * (يستهزىء بهم) * كالبيان له على رأي، والمد من مد الجيش وأمده بمعنى أي ألحق به ما يقويه ويكثره، وقيل: مد زاد من الجنس وأمد زاد من غير الجنس، وقيل: مد في الشر وأمد في الخير عكس وعد وأوعد، وإذا استعمل أمد في الشر فلعله من باب * (فبشرهم بعذاب أليم) * (آل عمران: 21)، وقد ورد استعمال هذه المادة بمعنيين، أحدهما: ما ذكرنا، وثانيهما: الإمهال، ومنه مد العمر، والواقع هنا من الأول دون الثاني لوجهين، الأول: أنه روي عن ابن كثير من غير السبعة * (يمدهم) * بالضم من المزيد وهو لم يسمع في الثاني، والثاني: أنه متعد بنفسه والآخر متعد باللام والحذف والإيصال خلاف الأصل فلا يرتكب بغير داع، فمعنى * (يمدهم في طغيانهم) * يزيدهم ويقويهم فيه، وإلى ذلك ذهب البيضاوي وغيره، والحق أن الإمهال هنا محتمل وإليه ذهب الزجاج وابن كيسان والوجهان مخدوشان، فقد ورد عند من يعول عليه من أهل اللغة - كل منهما ثلاثيا ومزيدا ومعدى بنفسه وباللام وكلاهما من أصل واحد ومعناهما يرجع إلى الزيادة كما أو كيفا، وفي " الصحاح " مد الله في عمره ومده في غيه أمهله وطول له،
159

وروي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن مد الله تعالى في طغيانهم التمكين من العصيان. وعن ابن عباس الإملاء ونسبة المد إلى الله تعالى بأي معنى كان عند أهل الحق حقيقة إذ هو سبحانه وتعالى الموجد للأشياء المنفرد باختراعها على حسب ما اقتضته الحكمة ورفعت له أكفها الاستعدادات، ونسبته إلى غيره سبحانه وتعالى في قوله عز شأنه: * (وإخوانهم يمدونهم في الغي) * (الأعراف: 202) نسبة التوفي إلى الملك في قوله تعالى: * (يتوفاكم ملك الموت) * (السجدة: 11) مع قوله جل وعلا: * (الله يتوفى الأنفس) * (الزمر: 42) وذهبت المعتزلة أن الزيادة في الطغيان والتقوية فيه مما يستحيل نسبته إليه تعالى حقيقة وحملوا الآية على محامل أخر، وقد قدمنا ما يوهن مذهبهم فلنطوه هنا على ما فيه وال‍ طغيان بضم الطاء على المشهور، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما بكسرها وهما لغتان فيه، وقد سمعا في مصدر اللقاء، وقد أماله الكسائي، وأصله تجاوز المكان الذي وقفت فيه ومن أخل بما عين من المواقف الشرعية والمعارف العقلية فلم يرعها فقد طغى، ومنه طغى الماء أي تجاوز الحد المعروف فيه، وإضافته إليهم لأنه فعلهم الصادر منهم بقدرهم المؤثرة بإذن الله تعالى فالاختصاص المشعرة به الإضافة إنما هو بهذا الاعتبار لا باعتبار المحلية والاتصاف فإنه معلوم لا حاجة فيه إلى الإضافة ولا باعتبار الإيجاد استقلالا من غير توقف على إذن الفعال لما يريد فإنه اعتبار عليه غبار بل غبار ليس له اعتبار فلا تهولنك جعجعة الزمخشري وقعقعته، ويحتمل أن يكون الاختصاص للإشارة إلى أن طغيان غيرهم في جنبهم كلا شيء لادعاء اختصاصهم به وليس بالمنحرف عن سنن البلاغة.
وال‍ عمه التردد والتحير، ويستعمل في الرأي خاصة - والعمى فيه وفي البصر - فبينهما عموم وخصوص مطلق في الاستعمال وإن تغايرا في أصل الوضع، واختصر العمى بالبصر على ما قيل، وأصله الأصيل عدم الأمارات في الطريق التي تنصب لتدل من حجارة وتراب ونحوهما وهي المنار ويقال عمه يعمه كتعب يتعب عمها وعمهانا فهو عمه وعامه وعمهاء فمعنى يعمهون على هذا يترددون ويتحيرون، وإلى ذلك ذهب جمع من المفسرين، وقيل: العمه العمى عن الرشد، وقال ابن قتيبة: هو أن يكب رأسه فلا يبصر ما يأتي، فالمعنى يعمون عن رشدهم أو يكبون رؤوسهم فلا يبصرون وكأن هذا أقرب إلى الصواب لأن المنافقين لم يكونوا مترددين في الكفر بل كانوا مصرين عليه معتقدين أنه الحق وما سواه باطل إلا أن يقال التردد والتحير في أمر آخر لا في الكفر، وجملة * (يعمهون) * في موضع نصب على الحال إما من الضمير في * (يمدهم) * وإما من الضمير في * (طغيانهم) * لأنه مصدر مضاف إلى الفاعل، وفي * (طغيانهم) * يحتمل أن يكون متعلقا بيمدهم وأن يكون متعلقا بيعمهون وجاز على خلاف كون * (في طغيانهم) * و * (يعمهون) * حالين من الضمير في يمدهم.
* (أولئك الذين اشتروا الضللة بالهدى فما ربحت تجرتهم وما كانوا مهتدين) *
* (أولئك الذين اشتروا الضللة بالهدى) * إشارة إلى المنافقين الذين تقدم ذكرهم الجامعين للأوصاف الذميمة من دعوى الصلاح وهم المفسدون، ونسبة السفه للمؤمنين وهم السفهاء والاستهزاء وهم المستهزأ بهم ولبعد منزلتهم في الشر وسوء الحال أشار إليهم بما يدل على البعد، والكلام هنا يمكن أن يكون واقعا موقع * (أولئك على هدى من ربهم) * (البقرة: 5) فإن السامع بعد سماع ذكرهم وإجراء تلك الأوصاف عليهم كأنه يسأل من أين دخل على هؤلاء هذه الهيئات؟ فيجاب بأن أولئك
المستبعدين إنما جسروا عليها لأنهم اشتروا الضلالة بالهدى حتى خسرت صفقتهم وفقدوا الاهتداء للطريق المستقيم ووقعوا في تيه الحيرة والضلال، وقيل: هو فذلكة وإجمال لجميع ما تقدم من حقيقة حالم أو تعليل لاستحقاقهم الاستهزاء الأبلغ والمد في الطغيان أو مقرر لقوله تعالى: * (ويمدهم في طغيانهم يعمهون) * (البقرة: 15) وفيه حصر المسند على المسند إليه لكون تعريف الموصول للجنس بمنزلة تعريف اللام الجنسي وهو ادعائي باعتبار كمالهم في ذلك الاشتراء،
160

وإن كان الكفار الآخرون مشاركين لهم في ذلك لجمعهم هاتيك المساوىء الشنيعة والخلال الفظيعة، فبذلك الاعتبار صح تخصيصهم بذلك، والضلالة الجور عن القصد، والهدى التوجه إليه، ويطلقان على العدول عن الصواب في الدين والاستقامة عليه، والاشتراء كالشراء استبدال السلعة بالثمن أي أخذها به وبعضهم يجعله من الأضداد لأن المتبايعين تبايعا الثمن والمثمن فكل من العوضين مشترى من جانب مبيع من جانب، ويطلق مجازا على أخذ شيء بإعطاء ما في يده عينا كان كل منهما أو معنى، وهذا يستدعي بظاهره أن يكون ما يجري مجرى الثمن وهو الهدى حاصلا لهؤلاء قبل، ولا ريب أنهم بمعزل عنه فإما أن يقال إن الاشتراء مجاز عن الاختيار لأن المشتري للشيء مختار له فكأنه تعالى قال: اختاروا الضلالة على الهدى ولكون الاستبدال ملحوظا جىء بالباء على أنه قيل إن التوافق معنى لا يقتضي التوافق متعلقا، ولا يرد على هذا الحمل كونه مخلا بالترشيح الآتي كما زعمه مولانا مفتي الديار الرومية لأن الترشيح المذكور يكفي له وجود لفظ الاشتراء وإن كان المعنى المقصود غير مرشح كما هو العادة في أمثاله أو يقال ليس المراد بما في حيز الثمن نفس الهدى بل هو التمكن التام منه بتعاضد الأسباب وبأخذ المقدمات المستتبعة له بطريق الاستعارة كأنه نفس الهدى بجامع المشاركة في استتباع الجدوى، ولا مرية في أن ذلك كان حاصلا لأولئك المنافقين بما شاهدوه من الآيات الباهرة والمعجزات القاهرة والإرشاد العظيم والنصح والتعليم لكنهم نبذوا ذلك فوقعوا في مهاوي المهالك، أو يقال: المراد بالهدى الهدى الجبلي وقد كان حاصلا لهم حقيقة فإن كل مولود يولد على الفطرة وقول مولانا مفتي الديار الرومية: إن حمل الهدى على الفطرة الأصلية الحاصلة لكل أحد يأباه أن إضاعتها غير مختصة بهؤلاء، ولئن حملت على الإضاعة التامة الواصلة إلى حد الختم المختصة بهم فليس في إضاعتها فقط من الشناعة ما في إضاعتها مع ما يؤيدها من المؤيدات النقلية والعقلية على أن ذلك يفضي إلى كون ما فصل من أول السورة إلى هنا ضائعا كلام ناشىء عن الغفلة عن معنى الإشارة فإنها تقتضي ملاحظتهم بجميع ما مر من الصفات، والمعنى أن الموصوفين بالنفاق المذكور هم الذين ضيعوا الفطرة أشد تضييع بتهويد الآباء ثم بعد ما ظفروا بها أضاعوها بالنفاق مع تحريضهم على المحافظة والنصح شفاها ونحو ذلك مما لا يوجد في غيرهم كما يشير إليه التعريف، أو يقال: هذه ترجمة عن جناية أخرى من جناياتهم، والمراد بالهدى ما كانوا عليه من التصديق ببعثته صلى الله عليه وسلم وحقية دينه بما وجدوه عندهم في التوراة ولهذا كانوا يستفتحون به ويدعون بحرمته ويهددون الكفار بخروجه * (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين) * (البقرة: 89) وأما حمل الهدى على ما كان عندهم ظاهرا من التلفظ بالشهادة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والغزو فمما لا يرتضيه من هدي إلى سواء السبيل، وما ذكرناه من أن * (أولئك) * إشارة إلى المنافقين هو الذي ذهب إليه أكثر المفسرين والمروى عن مجاهد، وهو الذي يقتضيه النظم الكريم وبه أقول وروي عن قتادة أنهم أهل الكتاب مطلقا، وعن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم أنهم الكفار مطلقا، والكل عندي بعيد، ولعل مراد من قال ذلك أن الآية بظاهر مفهومها تصدق على من أرادوا لا أن الآية نزلت فيهم، وقرأ يحيى بن يعمر وابن إسحق: * (اشتروا الضلالة) * بالكسر لأنه الأصل في التقاء الساكنين، وأبو السماك * (اشتروا) * بالفتح اتباعا لما قبل، وأمال حمزة والكسائي * (الهدى) * وهي لغة بني تميم وعدم الإمالة لغة قريش.
* (فما ربحت تجرتهم وما كانوا مهتدين) * عطف على الصلة، وأتى بالفاء للإشارة إلى تعقب نفي الربح للشراء وأنه بنفس ما وقع الشراء تحقق عدم الربح، وزعم بعضهم أن الفاء دخلت لما في الكلام من معنى الجزاء لمكان
161

الموصول فهو على حد الذي يدخل الدار فله درهم وليس بشيء لأن الموصول هنا ليس بمبتدأ كما في المثال بل هو خبر عن * (أولئك) * وما بعد الفاء ليس بخبر بل هو معطوف على الصلة فهو صلة ولا يجوز أن يكون * (أولئك) * مبتدأ و * (الذين) * مبتدأ و * (فما ربحت تجارتهم) * خبر عن الثاني وهو وخبره خبر عن الأول لعدم الرابط في الجملة الثانية ولتحقق معنى الصلة، وإذا كانت الصلة ماضية معنى لم تدخل الفاء في خبر موصولها ولا أن يكون * (أولئك) * مبتدأ و * (الذين) * بدلا منه والجملة خبرا لأن الفاء إنما تدخل الخبر لعموم الموصول والمبدل من المخصوص مخصوص فالحق ما ذكرناه، ومعنى الآية عليه ليس غير كما في " البحر ". والتجارة التصرف في رأس المال طلبا للربح ولا يكاد يوجد تاء أصلية بعدها جيم إلا نتج وتجر ورتج وارتج، وأما تجاه ونحوه فأصلها الواو، والربح تحصيل الزيادة على رأس المال، وشاع في الفضل عليه، والمهتدي اسم فاعل من اهتدى مطاوع هدى ولا يكون افتعل المطاوع إلا من المتعدي، وأما قوله:
حتى إذا اشتال سهيل في السحر * كشعلة القابس ترمى بالشرر
فافتعل فيه بمعنى فعل تقول: شال يشول واشتال يشتال بمعنى، وفي الآية ترشيح لما سمعت من المجاز فيما قبلها، والمقصد الأصلي تصوير خسارهم بفوت الفوائد المترتبة على الهدى التي هي كالربح وإضاعة الهدى الذي هو كرأس المال بصورة خسارة التاجر الفائت للربح المضيع لرأس المال حتى كأنه هو على سبيل الاستعارة التمثيلية مبالغة في تخسيرهم ووقوعهم في أشنع الخسار الذي يتحاشى عنه أولو الأبصار، وإسناد الربح إلى التجارة - وهو لأربابها - مجاز للملابسة، وكنى في مقام الذم بنفي الربح عن الخسران لأن فوت الربح يستلزمه في الجملة ولا أقل من قدر ما يصرف من القوة، وفائدة الكناية التصريح بانتفاء مقصد التجارة مع حصول ضده بخلاف ما لو قيل خسرت تجارتهم فلا يتوهم إن نفى أحد الضدين إنما يوجب إثبات الآخر إذا لم يكن بينهما واسطة وهي موجودة هنا فإن التاجر قد لا يربح ولا يخسر، وقيل: إن ذلك إنما يكون إذا كان المحل قابلا للكل كما في التجارة الحقيقية أما إذا كان لا يقبل إلا اثنين منها فنفي أحدهما يكون إثباتا للآخر، والربح والخسران في الدين لا واسطة بينهما على أنه قد قامت القرينة هنا على الخسران لقوله تعالى: * (وما كانوا مهتدين) * وقد جعله غير واحد كناية عن إضاعة رأس المال فإن من لم يهتد
بطرق التجارة تكثر الآفات على أمواله، واختير طريق الكناية نكاية لهم بتجهيلهم وتسفيههم، ويحتمل على بعد أن يكون النفي هنا من باب قوله: على لا حب لا يهتدى بمناره، أي لا منار فيهتدى به فكأنه قال: لا تجارة ولا ربح، والظاهر أن * (وما كانوا مهتدين) * عطف على ما ربحت للقرب مع التناسب والتفرع باعتبار المعنى الكنائي، وبتقدير المتعلق لطرق الهداية يندفع توهم أن عدم الاهتداء قد فهم مما قبل فيكون تكرارا لما مضى وهو إما من باب التكميل والإحتراس كقوله: فسقى ديارك غير مفسدها * صوب الغمام وديمة تهمى
أو من باب التتميم كقوله: كأن عيون الوحش حول خبائنا * وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
وقال الشريف قدس سره: إن العطف على * (اشتروا الضلالة بالهدى) * أولى لأن عطفه على (ما ربحت) يوجب ترتبه على ما قبله بالفاء فيلزم تأخره عنه، والأمر بالعكس إلا أن يقال ترتيبه باعتبار الحكم والإخبار، وفيه أنه لو كان معطوفا على * (اشتروا) * كان الظاهر تقديمه لما في التأخير من الإيهام، وحينئذ يكون الأحسن ترك العطف احتياطا كما ذكر في نحو قوله:
162

وتظن سلمى أنني أبغي بها * بدلا أراها في الضلال تهيم
على أن بين معنى * (اشتروا) * الخ ومعنى * (وما كانوا) * الخ تقاربا يمنع حسن العطف كما لا يخفى على من لم يضع فطرته السليمة، وجوز أن تكون الجملة حالا، ولا يخفى سوء حاله على من حسن تمييزه. وقرأ ابن أبي عبلة (تجاراتهم) على الجمع ووجهه أن لكل واحد تجارة، ووجه الإفراد في قراءة الجمهور فهم المعنى مع الإشارة أن تجاراتهم وإن تعددت فهي من سوق واحدة وهم شركاء فيها.
* (مثلهم كمثل الذى استوقد نارا فلمآ أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلم‍ات لا يبصرون) *
* (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا) * جملة مقررة لجملة قصة المنافقين المسرودة إلى هنا فلذا لم تعطف على ما قبلها، ولما كان ذلك جاريا على ما فيه من استعارات وتجوزات مجرى الصفات الكاشفة عن حقيقة المنافقين وبيان أحوالهم عقبه ببيان تصوير تلك الحقيقة وإبرازها في صورة المشاهد بضرب المثل تتميما للبيان، فلضرب المثل شأن لا يخفى ونور لا يطفى يرفع الأستار عن وجوه الحقائق ويميط اللثام عن محيا الدقائق ويبرز المتخيل في معرض اليقين ويجعل الغائب كأنه شاهد، وربما تكون المعاني التي يراد تفهيمها معقولة صرفة، فالوهم ينازع العقل في إدراكها حتى يحجبها عن اللحوق بما في العقل فبضرب الأمثال تبرز في معرض المحسوس فيساعد الوهم العقل في إدراكها، وهناك تنجلي غياهب الأوهام ويرتفع شغب الخصام * (وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) * (الحشر: 21) وقيل: الأشبه أن تجعل موضحة لقوله تعالى: * (أولئك الذين اشتروا) * (البقرة: 16) الخ ولا بعد فيه؛ والحمل على الاستئناف بعيد لا سيما والأمثال تضرب للكشف والبيان، والمثل بفتحتين كالمثل بكسر فسكون والمثيل في الأصل النظر والشبيه، والتفرقة لا أرتضيها، وكأنه مأخوذ من المثول وهو الانتصاب ومنه الحديث: " من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار " ثم أطلق على الكلام البليغ الشائع الحسن المشتمل إما على تشبيه بلا شبيه، أو استعارة رائقة تمثيلية وغيرها، أو حكمة وموعظة نافعة، أو كناية بديعة، أو نظم من جوامع الكلم الموجز، ولا يشترط فيه أن يكون استعارة مركبة خلافا لمن وهم، بل لا يشترط أن يكون مجازا، وهذه أمثال العرب أفردت بالتآليف وكثرت فيها التصانيف وفيها الكثير مستعملا في معناه الحقيقي ولكونه فريدا في بابه، وقد قصد حكايته لم يجوزوا تغييره لفوات المقصود وتفسيره بالقول السائر الممثل مضربه بمورده يرد عليه أمثال القرآن لأن الله تعالى ابتدأها وليس لها مورد من قبل، اللهم إلا أن يقال إن هذا اصطلاح جديد أو أن الأغلب في المثل ذلك، ثم استعير لكل حال أو قصة أو صفة لها شأن وفيها غرابة. ومن ذلك: * (ولله المثل الأعلى) * (النحل: 60) و * (مثل الجنة التي وعد المتقون) * (الرعد: 35) وهو المراد هنا في المثل دون التمثيل المدلول عليه بالكاف. والمعنى حالهم العجيبة الشأن كحال من استوقد نارا الخ فيما سيكشف عن وجهه إن شاء الله تعالى، فالكاف حرف تشبيه متعلقة بمحذوف خبر عن المبتدأ، وزعم ابن عطية أنها اسم مثلها في قول الأعشى: أينتهون ولن ينهى ذوي شطط * كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
وهذا مذهب ابن الحسن، وليس بالحسن إلا في الضرورة والقول بالزيادة كما في قوله: فصيروا مثل: * (كعصف مأكول) * (الفيل: 5) زيادة في الجهل، والذي وضع موضع - الذين - إن كان ضمير * (بنورهم) * راجعا إليه وإلا فهو باق على ظاهره إذ لا ضير في تشبيه حال الجماعة بحال الواحد وجاز هنا وضع المفرد موضع الجمع، وقد منعه الجمهور فلم يجوزوا إقامة القائم مقام القائمين لأن هذا مخالف لغيره لخصوصية اقتضته فإنه إنما وضع ليتوصل به إلى وصف المعارف بالجمل فلما لم يقصد لذاته توسعوا فيه، ولأنه مع صلته كشيء واحد، وعلامة الجمع لا تقع حشوا فلذا لم
163

يلحقوها به ووضعوه لما يعم كمن وما، والذين - ليس جمعا له بل هو اسم وضع مزيدا فيه لزيادة المعنى، وقصد التصريح بها ولذا لم يعرف بالحروف كغيره على الأفصح، ولأن استطال بالصلة فاستحق التخفيف حتى بولغ فيه إلى أن اقتصر على اللام في نحو اسم الفاعل، قاله القاضي وغيره، ولا يخلو عن كدر لا سيما الوجه الأخير، وما روي عن بعض النحاة من جواز حذف نون - الذين - ليس بالمرضي عند المحققين، ولئن تنزل يلتزم عود ضمير الجمع إليه كما في قوله تعالى: * (وخضتم كالذي خاضوا) * (التوبة: 69) على وجه، وقول الشاعر: يا رب عيسى لا تبارك في أحد * في قائم منهم ولا فيمن قعدإلا الذي قاموا بأطراف المسد
وإفراد الضمير لم نسمعه ممن يوثق به ولعله لأن المحذوف كالملفوظ، فالوجه أن يقال إنه نظر إلى ما في - الذي - من معنى الجنسية العامة إذ لا شبهة في أنه لم يرد به - مستوقد - مخصوص ولا جميع أفراد المستوقدين والموصول كالمعرف باللام يجري فيه ما يجري فيه، واسم الجنس وإن كان لفظه مفردا قد يعامل معاملة الجمع ك‍ * (عاليهم ثياب سندس خضر) * (الإنسان: 21) وقولهم: الدينار الصفر، والدرهم البيض، أو يقال: إنه مقدر له موصوف مفرد اللفظ مجموع المعنى كالفوج
والفريق فيحسن النظام، ويلاحظ في ضمير - استوقد - لفظ الموصوف، وفي ضمير * (بنورهم) * معناه، و (استوقدوا) بمعنى أوقدوا، فقد حكى أبو زيد أوقد واستوقد بمعنى كأجاب واستجاب وبه قال الأخفش، وجعل الاستيقاد بمعنى طلب الوقود وهو سطوع النار كما فعل البيضاوي محوج إلى حذف، والمعنى حينئذ طلبوا نارا واستدعوها فأوقدوها * (فلما أضاءت) * لأن الإضاءة لا تتسبب عن الطلب وإنما تتسبب عن الإيقاد. والنار جوهر لطيف مضىء محرق، واشتقاقها من نار ينور نورا إذا نفر لأن فيها على ما تشاهد حركة واضطرابا لطلب المركز، وكونه من غلط الحس كأنه من غلط الحس، نعم أورد على التعريف أن الإضاءة لا تعتبر في حقيقتها وليست شاملة لما ثبت في " الكتب الحكمية " أن النار الأصلية حيث الأثير شفافة لا لون لها وكذا يقال في الإحراق، والجواب أن تخصيص الأسماء لأعيان الأشياء حسبما تدرك أو للمعاني الذهنية المأخوذة منها، وأما اعتبار لوازمها وذاتياتها فوظيفة من أراد الوقوف على حقائقها وذلك خارج عن وسع أكثر الناس، والناس يدركون من النار التي عندهم الإضاءة والإحراق ويجعلونهما أخص أوصافها، والتعريف للمتعارف وعدم الإحراق لمانع لا يضر على أن كون النار التي تحت الفلك هادية غير محرقة وإن زعمه بعض الناس أبطله الشيخ، واحتراق الشهب شهاب على من ينكر الإحراق، وأغرب من هذا نفي النار التي عند الأثير؛ وقريب منه القول بأنها ليست غير الهواء الحار جدا، وقرأ ابن السميقع (كمثل الذين) على الجمع وهي قراءة مشكلة جدا، وقصارى ما رأيناه في توجيهها أن إفراد الضمير على ما عهد في لسان العرب من التوهم كأنه نطق بمن - الذي - لها لفظا ومعنى كما جزم بالذي على توهم من الشرطية في قوله:
كذاك الذي يبغي على الناس ظالما * تصبه على رغم عواقب ما صنع
أو أنه اكتفى بالإفراد عن الجمع كما يكتفي بالمفرد الظاهر عنه فهو كقوله: وبالبدو منا أسرة يحفظونها * سراع إلى الداعي عظام كراكره
أي كراكرهم، أو أن الفاعل في استوقد عائد على اسم الفاعل المفهوم من الفعل كما في قوله تعالى: * (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات) * (يوسف: 35) على وجه، والعائد حينئذ محذوف على خلاف القياس أي لهم أولا: عائد في الجملة الأولى اكتفاء بالضمير من الثانية المعطوفة بالفاء، وفي القلب من كل شيء.
* (فلما أضآءت ما حوله ذهب الله بنورهم) * (لما) حرف وجود لوجود، أو وجوب لوجوب كما نص عليه سيبويه، أو ظرف بمعنى حين، أو إذ، والإضاءة جعل
164

الشيء مضيئا نيرا، أو الإشراق وفرط الإنارة. وأضاء يكون متعديا ولازما، فعلى الأول: (ما) موصولة أو موصوفة والظرف صلة أو صفة وهي المفعول والفاعل ضمير النار، وعلى الثاني: فما كذلك وهي الفاعل وأنث فعله لتأويله بمؤنث كالأمكنة والجهات أو الفاعل ضمير النار وما زائدة أو في محل نصب على الظرفية، ولا يجب التصريح بفي حينئذ كما توهم لأن الحق أن ما الموصولة أو الموصوفة إذا جعلت ظرفا فالمراد بها الأمكنة التي تحيط بالمستوقد وهي الجهات الست وهي مما ينصب على الظرفية قياسا مطردا فكذا ما عبر به عنها، وأولى الوجوه أن تكون (أضاءت) متعدية و (ما) موصولة إذ لا حاجة حينئذ إلى الحمل على المعنى، ولا ارتكاب ما قل استعماله لا سيما زيادة ما هنا حتى ذكروا أنها لم تسمع هنا، ولم يحفظ من كلام العرب جلست ما مجلسا حسنا ولا قمت ما يوم الجمعة. ويا ليت شعري من أين أخذ ذلك الزمخشري وكيف تبعه البيضاوي؟! وإذا جعل الفاعل ضمير النار والفعل لازم يكون الإسناد إلى السبب لأن النار لم توجد حول المستوقد ووجد ضوؤها فجعل إشراق ضوئها حوله بمنزلة إشراقها نفسها على ما قيل، وهو مبني على أن الظرف إذا تعلق بفعل قاصر له أثر متعد يشترط في تحقق النسبة الظرفية للأثر والمؤثر فلا بد في إشراق كذا في كذا من كون الإشراق والمشرق فيه، وهذا كما إذا تعلق الظرف بفعل قاصر - كقام زيد في الدار - فإن زيدا والقيام فيها ذاتا وتبعا - وإلى ذلك مال الزمخشري - ومن الناس من اكتفى بوجود الأثر فيه وإن لم يوجد المؤثر فيه بذاته كما في الأفعال المتعدية فأضاءت الشمس في الأرض حقيقة على هذا مجاز على الأول، وحول ظرف مكان ملازم للظرفية والإضافة - ويثنى ويجمع - فيقال حوليه وأحواله وحوال مثله فيثني على حوالي، ولم نظفر بجمعه فيما حولنا من الكتب اللغوية ولا تقل حواليه بكسر اللام كما في " الصحاح ". ولعل التثنية والجمع - مع ما يفهم من بعض الكتب أن حول وكذا حوال بمعنى الجوانب وهي مستغرقة - ليسا حقيقين، وقيل: باعتبار تقسيم الدائرة كما أشار إليه المولى عاصم أفندي في ترجمة " القاموس " بالرومية وفيه تأمل، وأصل هذا التركيب موضوع للطواف والإحاطة كالحول للسنة فإنه يدور من فصل أو يوم إلى مثله، ولما لزمه الانتقال والتغير استعمل فيه باعتباره كالاستحالة والحوالة وإن خفي في نحو الحول بمعنى القوة، وقيل: أصله تغير الشيء وانفصاله و (ذهب) الخ جواب (لما) والسببية ادعائية فإنه لما ترتب إذهاب النور على الإضاءة بلا مهلة جعل كأنه سبب له على أنه يكفي في الشرط مجرد التوقف نحو - إن كان لي مال حججت - والإذهاب متوقف على الإضاءة، والضمير في * (بنورهم) * للذي أو لموصوفه وجمعه لما تقدم. واختار النور على النار لأنه أعظم منافعها والمناسب للمقام سباقا ولحاقا، وقيل: الجملة متسأنفة جوابا عما بالهم شبهت حالهم بذلك، أو بدل من جملة التمثيل للبيان والضمير للمنافقين وجواب (لما) محذوف أي خمدت نارهم فبقوا متحيرين، ومثله * (فلما ذهبوا به) * (يوسف: 15) وحذفه للإيجاز وأمن الإلباس ولا يخفى ما فيه على من له أدنى إنصاف وإن ارتضاه الجم الغفير، ويجل عن مثل هذا الألغاز كلام الله تعالى اللطيف الخبير. وإسناد الفعل إليه تعالى حقيقة فهو سبحانه الفعال المطلق الذي بيده التصرف في الأمور كلها بواسطة وبغير بواسطة، ولا يعترض على الحكيم بشيء، وحمل النار على نار لا يرضى الله تعالى إيقادها إما مجازية كنار الفتنة والعداوة للإسلام أو حقيقية أوقدها الغواة للفساد أو الإفساد، فحينئذ يليق بالحكيم إطفاؤها وإلا يرتكب المجاز لم يدع إليه إلا اعتزال وإيقاد نار الغواية والإضلال، وعدي بالباء دون الهمزة لما في المثل السائر أن ذهب بالشيء يفهم منه أنه استصحبه وأمسكه عن الرجوع إلى الحالة الأولى ولا كذلك أذهبه فالباء والهمزة وإن اشتركا في معنى التعدية فلا يبعد أن ينظر صاحب المعاني إلى معنى الهمزة والباء الأصليين، أعني الإزالة
165

والمصاحبة والإلصاق. ففي الآية لطف لا ينكر كيف والفاعل هو الله تعالى القوي العزيز الذي لا راد لما أخذه ولا مرسل لما أمسكه. وذكر أبو العباس أن ذهبت بزيد يقتضي ذهاب المتكلم مع زيد دون أذهبته، ولعله يقول: إن ما في الآية مجاز عن شدة الأخذ بحيث لا يرد أو يجوز أن يكون الله تعالى وصف نفسه بالذهاب على معنى
يليق به كما وصف نفسه سبحانه بالمجىء في ظاهر قوله تعالى: * (وجاء ربك) * (الفجر: 22) والذي ذهب إليه سيبويه إلى أن الباء بمعنى الهمزة فكلاهما لمجرد التعدية عنده بلا فرق فلذا لا يجمع بينهما. والنور منشأ الضياء ومبدؤه كما يشير إليه استعمال العرب حيث أضافوا الضياء إليه كما قال ورقة بن نوفل: ويظهر في البلاد ضياء نور * وقال العباس رضي الله تعالى عنه: وأنت لما ظهرت أشرقت الأر * ض وضاءت بنورك الأفق
ولهذا أطلق عليه سبحانه النور دون الضياء، وأشار سبحانه إلى نفي الضياء الذي هو مقتضى الظاهر بنفي النور وإذهابه لأنه أصله وبنفي الأصل ينتفي الفرع، وهذا الذي ذكرنا هو الذي ارتضاه المحققون من أهل اللغة، ومنه يعلم وجه وصف الشريعة المحمدية بالنور في قوله تعالى: * (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) * (المائدة: 15) والشريعة الموسوية بالضياء في قوله تعالى: * (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين) * (الأنبياء: 48) وفي ذلك إشارة إلى مقام نبينا صلى الله عليه وسلم الجامع الفارق ومزيته على أخيه موسى عليه السلام الذي لم يأت إلا بالفرق ولفرق ما بين الحبيب والكليم:
وكل آي أتى الرسل الكرام بها * فإنما اتصلت من نوره بهم
وكذا وجه وصف الصلاة - الناهية عن الفحشاء والمنكر في حديث مسلم - بالنور والصبر بالضياء، ويعلم من هذا أنه أقوى من الضياء كذا قيل واعترض بأنه قد جاء وصف ما أوتيه نبينا صلى الله عليه وسلم بالضياء كما جاء وصف ما أوتيه موسى عليه السلام بالنور وإليه يشير كلام الشيخ الأكبر قدس سره في " الفتوحات " فتدبر، وذهب بعض الناس إلى أن الضياء أقوى من النور لقوله تعالى: * (جعل الشمس ضياء والقمر نورا) * (يونس: 5) وعلى هذا يكون التعبير ب * (ذهب الله بنورهم) * دون ذهب الله بضوئهم دفعا لاحتمال إذهاب ما في الضوء من الزيادة وبقاء ما يسمى نورا مع أن الغرض إزالة النور رأسا، وذكر بعضهم أن كلا من الضوء والنور يطلق على ما يطلق عليه الآخر فهما كالمترادفين والفرق إنما نشأ من الاستعمال أو الاصطلاح لا من أصل الوضع واللغة، ومن هنا قال الحكماء: إن الضوء ما يكون للشيء من ذاته، والنور ما يكون من غيره، واستعمل الضوء لما فيه حرارة حقيقة كالذي في الشمس، أو مجازا كالذي ذكر فيما أوتيه موسى عليه السلام مما فيه شدة ومزيد كلفة، ومنه " الصبر ضياء " ومعلوم أنه كاسمه، والنور لما ليس كذلك كالذي في القمر وفيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الشريعة السهلة السمحة البيضاء، ومنه " الصلاة نور " ولا شك أنها قرة العين وراحة القلب وإلى ذلك يشير: " وجعلت قرة عيني في الصلاة " " وأرحنا يا بلال " واستعمل النور لما يطرأ في الظلم كما ورد: " كان الناس في ظلمة فرش الله تعالى عليهم من نوره " وقول الشاعر: بتنا وعمر الليل في غلوائه * وله بنور البدر فرع أشمط
والضوء ليس كذلك إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع، والذي يميل القلب إليه أن الضياء يطلق على النور القوي
166

وعلى شعاع النور المنبسط فهو بالمعنى الأول أقوى وبالمعنى الثاني ولكل مقام مقال ولكل مرتبة عبارة ولا حجر على البليغ في اختيار أحد الأمرين في بعض المقامات لنكتة اعتبرها ومناسبة لاحظها، وآية الشمس لا تدل على أن الضياء أقوى من النور أينما وقع - فالله نور السموات والأرض ولله المثل الأعلى - وشاع إطلاق النور على الذوات المجردة دون الضوء ولعل ذلك لأن انسياق العرضية منه إلى الذهن أسرع من انسياقها من النور إليه فقد انتشر أنه عرض وكيفية مغايرة للون، والقول بأنه عبارة عن ظهور اللون - أو أنه أجسام صغار تنفصل من المضيء فتتصل بالمستضىء - مما بين بطلانه في " الكتب الحكمية " وإن قال بكل بعض من الحكماء، ثم التعبير بالنور هنا دون الضوء يحتمل أن يكون لسر غير ما انقدح في أذهان الناس وهو كونه أنسب بحال المنافقين الذين حرموا الانتفاع والإضاءة بما جاء من عند الله مما سماه سبحانه نورا في قوله تعالى: * (قد جاءكم من الله نور وكتاب) * (المائدة: 15) فكأن الله عز شأنه أمسك عنهم النور وحرمهم الانتفاع به، ولم يسمه سبحانه ضوءا لتتأتى هذه الإشارة - لو قال هنا ذهب الله بضوئهم - بل كساه من حلل أسمائه وأفاض عليه من أنوار آلائه فهو المظهر الأتم والرداء المعلم. هذا وإضافة النور إليهم لأدنى ملابسة لأنه للنار في الحقيقة لكن لما كانوا ينتفعون به صح إضافته إليهم، وقرأ ابن السميقع وابن أبي عبلة فلما أضاءت ثلاثيا وتخريجها يعلم مما تقدم، وقرأ اليماني أذهب الله نورهم وفيها تأييد لمذهب سيبويه.
* (وتركهم في ظلم‍ات لا يبصرون) * عطف على قوله تعالى: * (ذهب الله بنورهم) * وهو أوفى بتأدية المراد فيستفاد منه التقرير لانتفاء النور بالكلية تبعا لما فيه من ذكر الظلمة وجمعها وتنكيرها، وإيراد * (لا يبصرون) * وجعل الواو للحال بتقدير قد مع ما فيه يقتضي ثبوت الظلمة قبل ذهاب النور ومعه، وليس المعنى عليه - والترك - في المشهور طرح الشيء كترك العصا من يده أو تخليته محسوسا كان أو غيره وإن لم يكن في يده كترك وطنه ودينه، وقال الراغب: ترك الشيء رفضه قصدا واختيارا أو قهرا واضطرارا. ويفهم من " المصباح " أنه حقيقة في مفارقة المحسوسات ثم استعير في المعاني، وفي كون الفعل من النواسخ الناصبة للجزأين لتضمينه معنى صير أم لا خلاف - والكل هنا محتمل - فعلى الأول: (هم) مفعوله الأول، (وفي ظلمات) مفعوله الثاني، و * (لا يبصرون) * صفة لظلمات بتقدير فيها أو حال من الضمير المستتر، أو من (هم) ولا يجوز أن يكون في ظلمات حالا، و * (لا يبصرون) * مفعولا ثانيا لأن الأصل في الخبر أن لا يكون مؤكدا وإن جوزه بعضهم. وعلى الثاني: (هم) مفعوله، و * (في ظلمات لا يبصرون) * حالان مترادفان من المفعول أو متداخلان، فالأول: من المفعول والثاني: من الضمير فيه أو * (في ظلمات) * متعلق ب * (تركهم) * و * (لا يبصرون) * حال، والظلمة في المشهور عدم الضوء عما من شأنه أن يكون مستضيئا، فالتقابل بينهما وبين الضوء تقابل العدم والملكة، واعترض بأن الظلمة كيفية محسوسة ولا شيء من العدم كذلك وبأنها مجعولة كما يقتضيه قوله تعالى: * (وجعل الظلمات والنور) * (الأنعام: 1) والمجعول لا يكون إلا موجودا، وأجيب عن الأول بمنع الصغرى فإنا إذا غمضنا العين لا نشاهد شيئا ألبتة كذلك إذا فتحنا العين في الظلمة؛ وعن الثاني بالمنع أيضا فإن الجاعل كما يجعل الموجود يجعل العدم الخاص كالعمى والمنافي للمجعولية هو العدم الصرف، وقيل: كيفية مانعة من الأبصار فالتقابل تقابل التضاد، واعترض بأنه لو كانت كيفية لما اختلف حال من في الغار المظلم ومن هو في الخارج في الرؤية وعدمها إلا أن يقال المراد أنها كيفية مانعة من
إبصار ما فيها فيندفع الاعتراض عنه، وربما يرجح عليه بأنه قد يصدق على الظلمة الأصلية السابقة على وجود العالم دونه كما قيل، وقيل: التقابل بين النور والظلمة تقابل الإيجاب والسلب وجمع الظلمات إما لتعددها في الواقع سواء رجع ضمير الجمع إلى المستوقدين أو المنافقين أو لأنها في الحقيقة، وإن
167

كانت ظلمة واحدة لكنها لشدتها استعير لها صيغة الجمع مبالغة - كما قيل رب واحد يعدل ألفا - أو لأنه لما كان لكل واحد ظلمة تخصه جمعت بذلك الاعتبار كذا قالوا. ومن اللطائف أن الظلمة حيثما وقعت في القرآن وقعت مجموعة والنور حيثما وقع وقع مفردا، ولعل السبب هو أن الظلمة وإن قلت تستكثر والنور وإن كثر يستقل ما لم يضر، وأيضا كثيرا ما يشار بهما إلى نحو الكفر والإيمان والقليل من الكفر كثير والكثير من الإيمان قليل فلا ينبغي الركون إلى قليل من ذاك ولا الاكتفاء بكثير من هذا، وأيضا معدن الظلمة بهذا المعنى قلوب الكفار * (تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى) * (الحشر: 14) ومشرق النور بذلك المعنى قلوب المؤمنين وهي كقلب رجل واحد، وأيضا النور المفاض هو الوجود المضاف وهو واحد لا تعدد فيه كما يرشدك إليه قوله تعالى: * (الله نور السموات والأرض) * (النور: 35) وفي الظلمة لا يرى مثل هذا، وأيضا الظلمة يدور أصل معناها على المنع فلذا أخذت من قولهم - ما ظلمك أن تفعل كذا - أي ما منعك، وفي " مثلثات " ابن السيد الظلم بفتح الظاء شخص كل شيء يسد بصر الناظر يقال لقيته أول ذي ظلم أي أول شخص يسد بصري وزرته والليل ظلم أي مانع من الزيارة فكأنها سميت ظلمة لأنها تسد في المشهور وتمنع الرؤية، فباعتبار تعدد الموانع جمعت ولم يعتبر مثل هذا في أصل معنى النور فلم يجمع إلى غير ذلك وإنما نكرت ظلمات هنا ولم تضف إلى ضميرهم كما أضيف النور اختصارا للفظ واكتفاء بما دل عليه المعنى، والظرفية مجازية كيفما فسرت الظلمة على بعض الآراء، و * (لا يبصرون) * منزل منزلة اللازم لطرح المفعول نسيا منسيا، ولعدم القصد إلى مفعول دون مفعول فيفيد العموم، وقرأ الجمهور: * (في ظلمات) * بضم اللام، والحسن وأبو السماك بسكونها، وقوم بفتحها، والكل جمع ظلمة.
وزعم قوم أن (ظلمات) بالفتح جمع ظلم (جمع ظلمة) فهي جمع الجمع، والعدول إلى الفتح تخفيفا مع سماعه في أمثاله أسهل من ادعاء جمع الجمع إذ ليس بقياسي ولا دليل قطعي عليه، وقرأ اليماني في (ظلمة)، وفي الآية إشارة إلى تشبيه إجراء كلمة الشهادة على ألسنة من ذكر - والتحلي بحلية المؤمنين ونحو ذلك - مما يمنع من قتلهم ويعود عليهم بالنفع الدنيوي من نحو الأمن والمغانم، وعدم إخلاصهم لما أظهروه بالنفاق الضار في الدين بإيقاد نار مضيئة للانتفاع بها أطفأها الله تعالى فهبت عليهم الرياح والأمطار وصيرت موقدها في ظلمة وحسرة، ويحتمل أنهم لما وصفوا بأنهم * (اشتروا الضلالة بالهدى) * (البقرة: 16) عقب ذلك بهذا التمثيل لتشبيه هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد، والضلالة التي اشتروها وطبع الله تعالى بها على قلوبهم بذهاب الله تعالى بنورهم وتركه إياهم في الظلمات، والتفسير المأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما أخرجه ابن جرير عنه أن ذلك مثل للإيمان الذي أظهروه لاجتناء ثمراته بنار ساطعة الأنوار موقدة للانتفاع والاستبصار ولذهاب أثره وانطماس نوره بإهلاكهم وإفشاء حالهم بإطفاء الله تعالى إياها وإذهاب نورها، ويحتمل التشبيه وجوها أخر.
ومن البطون القرآنية التي ذكرها ساداتنا الصوفية نفعنا الله تعالى بهم أن الآية مثل من دخل طريقة الأولياء بالتقليد لا بالتحقيق فعمل عمل الظاهر وما وجد حلاوة الباطن فترك الأعمال بعد فقدان الأحوال، أو مثل من استوقد نيران الدعوى وليس عنده حقيقة المعنى فأضاءت ظواهره بالصيت والقبول فأفشى الله تعالى نفاقه بين الخلق حتى نبذوه في الآخر ولا يجد مناصا من الفضيحة يوم تبلى السرائر، وقال أبو الحسن الوراق: هذا مثل ضربه الله تعالى لمن لم يصحح أحوال الإرادة فارتقى من تلك الأحوال بالدعاوى إلى أحوال الأكابر فكان يضيء عليه أحوال إرادته لو صححها بملازمة آدابها فلما مزجها بالدعاوى أذهب الله تعالى عنه تلك الأنوار وبقي في ظلمات دعاويه لا يبصر طريق الخروج منها، نسأل الله تعالى العفو والعافية ونعوذ به من الحور بعد الكور.
* (صم بكم عمى فهم لا يرجعون) *
الأوصاف جموع كثرة على وزن
168

فعل وهو قياس في جمع فعلاء وأفعل الوصفين سواء تقابلا كأحمر وحمراء أم انفردا لمانع في الخلقة كغرل ورتق فإن كان الوصف مشتركا ولكن لم يستعملا على نظام أحمر وحمراء كرجل ألي، وامرأة عجزاء فالوزن فيه سماعي، والصمم داء في الأذن يمنع السمع، وقال الأطباء: هو أن يخلق الصماخ بدون تجويف يشتمل على الهواء الراكد الذي يسمع الصوت بتموجه فيه أو بتجويف لكن العصب لا يؤدي قوة الحس فإن أدى بكلفة سمي عندهم طرشا، وأصله من الصلابة أو السد، ومنه قولهم قناة صماء وصممت القارورة. والبكم الخرس وزنا ومعنى وهو داء في اللسان يمنع من الكلام وقيل: الأبكم هو الذي يولد أخرس، وقيل: الذي لا يفهم شيئا ولا يهتدي إلى الصواب فيكون إذ ذاك داء في الفؤاد لا في اللسان، والعمى عدم البصر عما من شأنه أن يكون بصيرا، وقيل: ظلمة في العين تمنع من إدراك المبصرات، ويطلق على عدم البصيرة مجازا عند بعض وحقيقة عند آخرين، وهي أخبار لمبتدأ محذوف هو ضمير المنافقين أو خبر واحد وتؤول إلى عدم قبولهم الحق وهم وإن كانوا سمعاء الآذان فصحاء الألسن بصراء الأعين إلا أنهم لما لم يصيخوا للحق وأبت أن تنطق بسائره ألسنتهم ولم يتلمحوا أدلة الهدى المنصوبة في الآفاق والأنفس وصفوا بما وصفوا به من الصمم والبكم والعمى على حد قوله: أعمى إذا ما جارتي برزت * حتى يواري جارتي الخدر
وأصم عما كان بينهما * أذني وما في سمعها وقر
وهذا من التشبيه البليغ عند المحققين لذكر الطرفين حكما، وذكرهما قصدا حكما أو حقيقة مانع عن الاستعارة عندهم، وذهب بعضهم إلى أنه استعارة، وآخرون إلى جواز الأمرين، وهذا أمر مفروغ عنه ليس لتقريره هنا كثير جدوى، غير أنهم ذكروا هنا بحثا وهو أنه لا نزاع أن التقدير: هم صم الخ لكن ليس المستعار له حينئذ مذكورا لأنه لبيان أحوال مشاعر المنافقين لا ذواتهم، ففي هذه الصفات استعارة تبعية مصرحة إلا أن يقال تشبيه ذوات المنافقين بذوات الأشخاص الصم متفرع على تشبيه
حالهم بالصمم، فالقصد إلى إثبات هذا الفرع أقوى وأبلغ، وكأن المشابهة بين الحالين تعدت إلى الذاتين فحملت الآية على هذا التشبيه برعاية المبالغة، أو يقال - ولعله أولى - إن هم المقدر راجع للمنافقين السابق حالهم وصفاتهم وتشهيرهم بها حتى صاروا مثلا فكأنه قيل هؤلاء المتصفون بما ترى صم على أن المستعار له ما تضمنه الضمير الذي جعل عبارة عن المتصفين بما مر، والمستعار ما تضمن الصم وأخويه من قوله: صم الخ فقد انكشف المغطى وليس هذا بالبعيد جدا، والآية فذلكة ما تقدم ونتيجته إذ قد علم من قوله سبحانه: * (لا يشعرون) * (البقرة: 12) و * (لا يبصرون) * (البقرة: 17) أنهم صم عمي، ومن كونهم يكذبون أنهم لا ينطقون بالحق فهم كالبكم ومن كونهم غير مهتدين أنهم لا يرجعون وقدم الصمم لأنه إذا كان خلقيا يستلزم البكم وأخر العمى لأنه كما قيل: شامل لعمى القلب الحاصل من طرق المبصرات والحواس الظاهرة، وهو بهذا المعنى متأخر لأنه معقول صرف ولو توسط - حل بين العصا ولحائها - ولو قدم - لأوهم تعلقه ب * (لا يبصرون) * - أو الترتيب على وفق حال الممثل له لأنه يسمع أولا دعوة الحق ثم يجيب ويعترف ثم يتأمل ويتبصر. ومثل هذه الجملة وردت تارة بالفاء كما في قوله تعالى: * (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة) * (الأعراف: 142) وأخرى بدونها كما في قوله تعالى: * (فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة) * (البقرة: 196) لأن استلزام ما قبلها وتضمنه لها بالقوة منزل منزلة المتحد معه فيترك العطف ومغايرتها له وترتبها عليه ترتب النتاج، والفرع على أصله يقتضي الاقتران بالفاء وهو الشائع المعروف، وبعض الناس يجعل الآية من تتمة التمثيل فلا يحتاج حينئذ إلى التجوز ويكفي فيه الفرض وإن
169

امتنع عادة كما في قوله: أعلام ياقوت نشر * ن على رماح من زبرجد
فيفرض هنا حصول الصمم والبكم والعمى لمن وقع في هاتيك الظلمة الشديدة المطبقة، وقيل: لا يبعد فقد الحواس ممن وقع في ظلمات مخوفة هائلة إذ ربما يؤدي ذلك إلى الموت فضلا عن ذلك، ويؤيد كونها تتمته قراءة ابن مسعود وحفصة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهم صما وبكما وعميا بالنصب فإن الأوصاف حينئذ تحتمل أن تكون مفعولا ثانيا لترك و (في ظلمات) (البقرة: 17) متعلقا به أو في موضع الحال و * (لا يبصرون) * (البقرة: 17) حالا أو منصوبة على الحال من مفعول تركهم متعديا لاثنين أو لواحد أو منصوبة بفعل محذوف أعني أعني، والقول بأنها منصوبة على الحال من ضمير * (لا يبصرون) * جهل بالحال، وقريب منه في الذم من نصب على الذم إذا ذاك إنما يحسن حيث يذكر الاسم السابق، وأما جعل هذه الجملة على القراءة المشهورة دعائية وفيها إشارة إلى ما يقع في الآخرة من قوله تعالى: * (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما) * (الإسراء: 97) فنسأل الله تعالى العفو والعافية من ارتكاب مثله ونعوذ به من عمى قائله وجهله، ومثله - بل أدهى وأمر - القول بأن جملة * (لا يرجعون) * كذلك ومتعلق - لا يرجعون - محذوف أي لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه أو عن الضلالة بعد أن اشتروها، وقد لا يقدر شيء ويترك على الإطلاق.
الوجهان الأولان مبنيان على أن وجه التشبيه في التمثيل مستنبط من * (أولئك الذين اشتروا) * (البقرة: 16) الخ والأخير على تقدير أن يكون من * (ذهب الله بنورهم) * (البقرة: پ 17) الخ بأن يراد به أنهم غب الإضاءة خبطوا في ظلمة وتورطوا في حيرة، فالمراد هنا أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا جامدين في مكاناتهم لا يبرحون ولا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون، وكيف يرجعون إلى حيث ابتدؤا منه، والأعمى لا ينظر طريقا وأبكم لا يسأل عنها وأصم لا يسمع صوتا من صوب مرجعه فيهتدي به والفاء للدلالة على أن اتصافهم بماتقدم سبب لتحيرهم واحتباسهم كيف ما كانوا.
ومن البطون: صم آذان أسماع أرواحهم عن أصوات الوصلة وحقائق إلهام القربة بكم عن تعريف علل بواطنهم عند أطباء القلوب عجبا عمي عن رؤية أنوار جمال الحق في سيماء أوليائه. وقال سيدي الجنيد قدس سره: صموا عن فهم ما سمعوا وأبكموا عن عبارة ما عرفوا وعموا عن البصيرة فيما إليه دعوا.
* (أو كصيب من السمآء فيه ظلم‍ات ورعد وبرق يجعلون أص‍ابعهم فىءاذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالك‍افرين) *
* (أو كصيب من السمآء) * شروع في تمثيل حالهم إثر تمثيل وبيان لكل دقيق منها وجليل فهم أئمة الكفر الذين تفننوا فيه وتفيؤا ظلال الضلال بعد أن طاروا إليه بقدامى النفاق وخوافيه فحقيق أن تضرب في بيداء بيان أحوالهم الوخيمة خيمة الأمثال وتمد أطناب الإطناب في شرح أفعالهم ليكون أفعى لهم ونكالا بعد نكال وكل كلام له حظ من البلاغة وقسط من الجزالة والبراعة لا بد أن يوفى فيه حق كل من مقامي الإطناب والإيجاز فماذا عسى أن يقال فيما بلغ الذروة العليا من البلاغة والبراعة والإعجاز؟ ولقد نعى سبحانه عليهم في هذا التمثيل تفاصيل جناياتهم العديمة المثيل وهو معطوف على * (الذي استوقد نارا) * (البقرة: 17) ويكون النظم كمثل ذوي صيب فيظهر مرجع ضمير الجمع فيما بعد وتحصل الملائمة للمعطوف عليه والمشبه. و (أو) عند ذوي التحقيق لأحد الأمرين ويتولد منه في الخبر الشك والإبهام والتفصيل على حسب اعتبارات المتكلم، وفي الإنشاء
170

الإباحة والتخيير كذلك، وحينئذ لا يلزم الاشتراك ولا الحقيقة والمجاز، وبعضهم يقول: إنها باعتبار الأصل موضوعة للتساوي في الشك، وحمل على أنه فرد من أفراد المعنى الحقيقي ثم اتسع فيها فجاءت للتساوي من غير شك كما - فيما نحن فيه - على رأي إذ المعنى مثل بأي القصتين شئت فهما سواء في التمثيل ولا بأس لو مثلت بهما جميعا وإن كان التشبيه الثاني أبلغ لدلالته على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته ولذا أخر ليتدرج من الأهون إلى الأهول، وزعم بعضهم أن * (أو) * هنا بمعنى الواو وما في الآيتين تمثيل واحد، وقيل: بمعنى بل، وقيل: للإبهام، والكل ليس بشيء، نعم اختار أبو حيان أنها للتفصيل وكأن من نظر إلى حالهم منهم من يشبهه بحال المستوقد؛ ومنهم من يشبهه بحال ذوي صيب مدعيا أن الإباحة وكذا التخيير لا يكونان إلا في الأمر أو ما في معناه انتهى. ولا يخفى على من نظر في معناه وحقق ما معناه أن ما نحن فيه داخل في الشق الثاني على أن دعوى الاختصاص مما لم يجمع عليه الخواص، فقد ذكر ابن مالك أن أكثر ورود (أو) للإباحة في التشبيه نحو * (فهي كالحجارة أو أشد قسوة) * (البقرة: 74) والتقدير نحو * (فكان قاب قوسين أو أدنى) * (النجم: 9) والصيب في المشهور المطر من صاب يصوب إذا
نزل وهو المروي هنا عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وقتادة وعطاء وغيرهم رضي الله تعالى عنهم، ويطلق على السحاب أيضا كما في قوله: حتى عفاها صيب ودقه * داني النواحي مسبل هاطل
ووزنه فيعل بكسر العين عند البصريين وهو من الأوزان المختصة بالمعتل العين إلا ما شذ من صيقل بكسر القاف علم لامرأة، والبغداديون يفتحون العين وهو قول تسد الأذن عنه، وقريب منه قول الكوفيين: إن أصله فعيل كطويل فقلب، وهل هو اسم جنس أو صفة بمعنى نازل أو منزل؟ قولان أشهرهما الأول، وأكثر نظائره في الوزن من الثاني، وقرىء (أو كصائب) وصيب أبلغ منه، والتنكير فيه للتنويع والتعظيم، والسماء كل ما علاك من سقف ونحوه والمعروفة عند خواص أهل الأرض والمرئية عند عوامهم، وأصلها الواو من السمو وهي مؤنثة وقد تذكر كما في قوله: فلو رفع السماء إليه قوما * لحقنا بالسماء مع السحاب
وتلحقها هاء التأنيث فتصح الواو حينئذ كما قاله أبو حيان لأنها بنيت عليها الكلمة فيقال سماوة وتجمع على سموات وأسمية وسمائي، والكل كما في " البحر " شاذ لأنها اسم جنس وقياسه أن لا يجمع، وجمعه بالألف والتاء خال عن شرط ما يجمع بهما قياسا، وجمعه على أفعلة ليس مما ينقاس في المؤنث، وعلى فعائل لا ينقاس في فعال. والمراد بالسماء هنا الأفق والتعريف للاستغراق لا للعهد الذهني كما ينساق لبعض الأذهان فيفيد أن الغمام آخذ بالآفاق كلها فيشعر بقوة المصيبة مع ما فيه من تمهيد الظلمة ولهذا القصد ذكرها، وعندي أن الذكر يحتمل أن يكون أيضا للتهويل والإشارة إلى أن ما يؤذيهم جاء من فوق رؤوسهم وذلك أبلغ في الإيذاء كما يشير إليه قوله تعالى: * (يصب من فوق رؤوسهم الحميم) * (الحج: 19) وكثيرا ما نجد أن المرء يعتني بحفظ رأسه أكثر مما يعتني بحفظ سائر أطرافه حتى أن المستطيع من الناس يتخذ طيلسانا لذلك، والعيان الوجدان أقوى شاهد على ما قلنا. و * (من) * لابتداء الغاية، وقيل: يحتمل أن تكون للتبعيض على حذف مضاف أي من أمطار السماء وليس بشيء، وزعم بعضهم أن الآية تبطل ما قيل: إن المطر من أبخرة متصاعدة من السفل وهو من أبخرة الجهل إذ ليس في الآية سوى أن المطر من هذه الجهة وهو غير مناف لما ذكر، كيف والمشاهدة تقضي به فقد حدثني من بلغ مبلغ التواتر أنهم شاهدوا وهم فوق الجبال الشامخة سحابا
171

يمطر أسفلهم وشاهدوا تارات أبخرة تتصاعد من نحو الجبال فتنعقد سحابا فيمطر، فإياك أن تلتفت لبرق كلام خلب ولا تظن أن ذلك علم فالجهل منه أصوب، ثم حمل الصيب هنا على السحاب وإن كان محتملا غير أنه بعيد بعد الغمام وكذا حمل السماء عليه.
* (فيه ظلم‍ات ورعد وبرق) * أي معه ذلك كما في قوله تعالى: * (ادخلوا في أمم) * (الأعراف: 38) وإذا حملت * (في) * على الظرفية كما هو الشائع في كلام المفسرين احتيج إلى حمل الملابسة التي تقتضيها الظرفية على مطلق الملابسة الشاملة للسببية والمجاورة وغيرهما ففيه بذلك المعنى ظلمات ثلاث ظلمة تكاثفه بتتابعه، وظلمة غمامه من ظلمة الليل التي يستشعرها الذوق من قوله تعالى: * (كلما أضاء لهم مشوا فيه) * (البقرة: 20) وكذا فيه رعد وبرق لأنهما في منشئه ومحل ينصب منه، وقيل: فيه - وهو كما قال الشهاب - وهم نشأ من عدم التدبر، وإن كان المراد بالصيب السحاب فأمر الظرفية أظهر، والظلمات حينئذ ظلمة السحمة والتطبيق مع ظلمة الليل، وجمع الظلمات على التقديرين مضيء، ولم يجمع الرعد والبرق وإن كانا قد جمعا في " لسان العرب "، وبه تزداد المبالغة وتحصل المطابقة مع الظلمات والصواعق لأنهما مصدران في الأصل، وإن أريد بهما العينان هنا كما هو الظاهر، والأصل في المصدر أن لا يجمع على أنه لو جمعا لدل ظاهرا على تعدد الأنواع كما في المعطوف عليه، وكل من الرعد والبرق نوع واحد. وذكر الشهاب مدعيا أنه مما لمعت به بوارق الهداية في ظلمات الخواطر نكتة سرية في إفرادهما هنا وهي أن الرعد كما ورد في الحديث وجرت به العادة يسوق السحاب من مكان لآخر فلو تعدد لم يكن السحاب مطبقا فتزول شدة ظلمته وكذا البرق لو كثر لمعانه لم تطبق الظلمة كما يشير إليه قوله تعالى: * (كلما أضاء لهم مشوا فيه) * (البقرة: 20) فافرادهما متعين هنا وعندي - وهو من أنوار العناية المشرقة على آفاق الأسرار - أن النور لما لم يجمع في آية من القرآن - لما تقدم - لم يجمع البرق إذ ليس هو البعيد عنه كما يرشدك إليه * (لكما أضاء لهم) * والرعد مصاحب له فانعكست أشعته عليه.
أو ما ترى الجلد الحقير مقبلا * بالثغر لما صار جار المصحف
وارتفاع ظلمات إما على الفاعلية للظرف المعتمد على الموصوف أو على الابتدائية والظرف خبره وجعل الظرف حالا من النكرة المخصصة وظلمات فاعله لا يخلو عن ظلمة البعد كما لا يخفى. وللناس في الرعد والبرق أقوال: والذي عول عليه أن الأول: صوت زجر الملك الموكل بالسحاب، والثاني: لمعان مخاريقه التي هي من نار. والذي اشتهر عند الحكماء أن الشمس إذا أشرقت على الأرض اليابسة حللت منها أجزاء نارية يخالطها أجزاء أرضية فيركب منهما دخان ويختلط بالبخار وهو الحادث بسبب الحرارة السماوية إذا أثرت في البلة ويتصاعدان معا إلى الطبقة الباردة وينعقد ثمة سحاب ويحتقن الدخان فيه ويطلب الصعود إن بقى على طبعه الحار والنزول إن ثقل وبرد وكيف كان يمزق السحاب بعنفه فيحدث منه الرعد، وقد تشتعل منه لشدة حركته ومحاكته - نار لامعة وهي البرق إن لطفت والصاعقة إن غلظت، وربما كان البرق سببا للرعد فإن الدخان المشتعل ينطفىء في السحاب فيسمع لانطفائه صوت كما إذا أطفأنا النار بين أيدينا، والرعد والبرق يكونان معا إلا أن البرق يرى في الحال لأن الأبصار لا يحتاج إلى المحاذاة من غير حجاب، والرعد يسمع بعد لأن السماع إنما يحصل بوصول تموج الهواء إلى القوة السامعة وذلك يستدعي زمانا كذا قالوه، وربما يختلج في ذهنك قرب هذا ولا تدري ماذا تصنع بما ورد عن حضرة من أسري به ليلا بلا رعد ولا برق على ظهر البراق وعرج إلى ذي المعارج حيث لا زمان ولا مكان فرجع وهو أعلم خلق الله على الإطلاق صلى الله عليه وسلم فأنا بحول من عز حوله وتوفيق من غمرني فضله أوفق بما يزيل الغين عن العين ويظهر سر جوامع الكلم التي أوتيها سيد الكونين صلى الله عليه وسلم.
172

فأقول: قد صح عند أساطين الحكمة والنبوة مما شاهدوه في أرصادهم الروحانية في خلواتهم ورياضاتهم وكذا عند سائر المتألهين الربانيين من حكماء الإسلام والفرس
وغيرهم أن لكل نوع جسماني من الأفلاك والكواكب والبسائط العنصرية ومركباتها ربا هو نور مجرد عن المادة قائم بنفسه مدبر له حافظ إياه وهو المنمي والغاذي والمولد في النبات والحيوان والإنسان لامتناع صدور هذه الأفعال المختلفة في النبات والحيوان عن قوة بسيطة لا شعور لها وفينا عن أنفسنا وإلا لكان لنا شعور بها، فجميع هذه الأفعال من الأرباب وإلى تلك الأرباب أشار صاحب الرسالة العظمى صلى الله عليه وسلم بقوله: " وإن لكل شيء ملكا " حتى قال: " إن كل قطرة من القطرات ينزل معها ملك " وقال: " أتاني ملك الجبال وملك البحار " وحكى أفلاطون عن نفسه أنه خلع الظلمات النفسانية والتعلقات البدنية وشاهدها، وذكر مولانا الشيخ صدر الدين القونوي قدس سره في " تفسيره الفاتحة " أنه ما ثم صورة إلا ولها روح، وأطال أهل الله تعالى الكلام في ذلك، فإذا علمت هذا فلا بعد في أن يقال: أراد صلى الله عليه وسلم بالملك الموكل بالسحاب في بيان الرعد هو هذا الرب المدبر الحافظ وبزجره تدبيره له حسب استعداده وقابليته، وأراد بصوت ذلك الزجر ما يحدث عند الشق بالأبخرة الذي يقتضيه ذلك التدبير، وأراد بالمخاريق - في بيان البرق وهي جمع مخراق وهو في الأصل ثوب يلف وتضرب به الصبيان بعضهم بعضا - الآلة التي يحصل بواسطتها الشق، ولا شك أنها كما قررنا من نار أشعلتها شدة الحركة والمحاكة فظهرت كما ترى، وحيث فتحنا لك هذا الباب قدرت على تأويل كثير مما ورد من هذا القبيل حتى قولهم: إن الرعد نطق الملك والبرق ضحكه، وإن كان بحسب الظاهر مما يضحك منه، ولم أر أحدا وفق فوفق وتحقق فحقق والله تعالى الموفق وهو حسبي ونعم الوكيل.
* (يجعلون أص‍ابعهم في ءاذانهم من الصواعق حذر الموت) * الضمائر عائدة على المحذوف المعلوم فيما قبل وكثيرا ما يلتفت إليه كما في قوله تعالى: * (وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون) * (الأعراف: 4). والجملة استئناف لا محل لها من الإعراب مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل عند بيان أحوالهم الهائلة فماذا يصنعون في تضاعيف تلك الشدة فقال: * (يجعلون) * الخ، وجوزوا وجوها أخر ككونها في محل جر صفة للمقدر وجوز فيها وفي * (يكاد) * (البقرة: 20) كونها صفة صيب بتأويل نحو - لا يطيقونه - أو في محل نصب على الحال من ضمير فيه، والعائد محذوف أو اللام نائبة عنه أي صواعقه، والجعل في الأصل الوضع. والأصابع جمع إصبع وفيه تسع لغات حاصلة من ضرب أحوال الهمزة الثلاث في أحوال الباء كذلك، وحكوا عاشرة وهي أصبوع بضمها مع واو وهي مؤنثة وكذا سائر أسمائها إلا الإبهام فبعض بني أسد يذكرها والتأنيث أجود. وفي الآية مبالغة في فرط دهشتهم وكمال حيرتهم كما في الفرائد من وجوه. أحدها: نسبة الجعل إلى كل الأصابع وهو منسوب إلى بعضها وهو الأنامل وثانيها: من حيث الإبهام في الأصابع والمعهود إدخال السبابة فكأنهم من فرط دهشتهم يدخلون أي أصبح كانت ولا يسلكون المسلك المعهود وثالثها: في ذكر الجعل موضع الإدخال فإن جعل شيء في شيء أدل على إحاطة الثاني بالأول من إدخاله فيه، وهل هذا من المجاز اللغوي لتسمية الكل باسم جزئه أو للتجوز في الجعل؟ أو هو من المجاز العقلي بأن ينسب الجعل للأصابع وهو للأنامل، فيه خلاف والمشهور هو الأول وعليه الجمهور. وابن مالك وجماعة على الأخير ظنا منهم أن المبالغة في الاحتراز عن استماع الصاعقة إنما يكون عليه ولم يكتفوا فيها بتبادر الذهن إلى أن الكل أدخل في الأذن قبل النظر للقرينة، وقيل: لا مجاز هنا أصلا لأن نسبة بعض الأفعال إلى ذي أجزاء تنقسم يكفي فيه تلبسه ببعض أجزائه كما يقال: دخلت البلد وجئت ليلة الخميس
173

ومسحت بالمنديل فإن ذلك حقيقة من أن الدخول والمجيء والمسح في بعض - البلد، والليلة، والمنديل - ولا يخفى أن كون مثل ذلك حقيقة ليس على إطلاقه، والفرق بينه وبين ما نحن فيه ظاهر. و * (من) * تعليلية تغني غناء اللام في المفعول له وتدخل على الباعث المتقدم والغرض المتأخر وهي متعلقة ب * (يجعلون) * وتعلقها بالموت بعيد - أي يجعلون - من أجل الصواعق وهي جمع صاعقة ولا شذوذ، والظاهر أنها في الأصل صفة من الصعق وهو الصراخ وتاؤها للتأنيث إن قدرت صفة لمؤنث أو للمبالغة إن لم تقدر - كراوية - أو للنقل من الوصفية إلى الاسمية - كحقيقة - وقيل: إنها مصدر كالعافية والعاقبة وهي اسم لكل هائل مسموع أو مشاهد، والمشهور أنها الرعد الشديد معه قطعة من نار لا تمر بشيء إلا أتت عليه، وقد يكون معه جرم حجرى أو حديدي، وسد الآذان إنما ينفع على المعنى الأول، وقد يراد المعنى الثاني ويكون في الكلام إشارة إلى مبالغة أخرى في فرط دهشتهم حيث يظنون ما لا ينفع نافعا، وقرأ الحسن (من الصواقع) وهي لغة بني تميم كما في قوله:
الم تر أن المجرمين أصابهم * صواقع لا بل هن فوق الصواقع
وليس من باب القلب على الأصح إذ علامته كون أحد البناءين فائقا للآخر ببعض وجوه التصريف والبناءان هنا مستويان في التصرف. و * (حذر الموت) * نصب على العلة ل‍ * (يجعلون) * وإن كان من الصواعق في المعنى مفعولا له كان هناك نوعان منصوب ومجرور، ولزوم العطف في مثله غير مسلم خلافا لمن زعمه ولا مانع من أن يكون علة له مع علته كما أن من الصواعق علة له نفسه، وورد مجيء المفعول له معرفة وإن كان قليلا كما في قوله: وأغفر عوراء الكريم ادخاره * وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
وجعله مفعولا مطلقا لمحذوف أي يحذرون حذر الموت - بعيد. وقرأ قتادة والضحاك وابن أبي ليلى (حذار) وهو كحذر شدة الخوف. والموت في المشهور زوال الحياة عما يتصف بها بالفعل وإطلاقه على العدم السابق في قوله سبحانه: * (وكنتم أمواتا فأحياكم) * (البقرة: 28) مجاز ولا يرد قوله تعالى: * (خلق الموت) * (الملك: 2) إذ لخلق فيه بمعنى التقدير وتعيين المقدار بوجه ما وهو مما يوصف به الموجود والمعدوم لأن العدم كالوجود له مدة ومقدار معين عنده تعالى، وقيل: المراد بخلق الموت إحداث أسبابه، وقيل: إنه العدم مطلقا وإن لم يكن مخلوقا إلا أن إعدام الملكات مخلوقة لما فيها من شائبة التحقق بمعنى أن استعداد الموضوع معتبر في مفهومها وهو أمر وجودي فيجوز أن يعتبر تعلق الخلق والإيجاد باعتبار ذلك، وصحح محققو أهل السنة أن الموت صفة وجودية خلقت ضدا للحياة، ولهذا يظهر كما في الحديث: " يوم تتجسد المعاني - كما قال أهل الله تعالى - بصورة كبش أملح " ويصير عدما محضا إذ يذبح بمدية الحياة التي لا ينتهي أمدها.
* (والله محيط بالك‍افرين) * أي: لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط المحيط فإحاطته تعالى بهم مجاز تشبيها لحال قدرته الكاملة التي لا يفوتها المقدور أصلا بإحاطة
المحيط بالمحاط بحيث لا يفوته فيكون في الإحاطة استعارة تبعية وإن شبه حاله تعالى - وله المثل الأعلى - معهم بحال المحيط مع المحاط بأن تشبه هيئة منتزعة من عدة أمور بمثلها كان هناك استعارة تمثيلية لا تصرف في مفرداتها إلا أنه صرح بالعمدة منها وقدر الباقي فافهم.
وجوز أبو علي في * (محيط) * أن يكون بمعنى مهلك كما في قوله تعالى: * (وأحاطت به خطيئته) * (البقرة: 81) أو عالم علم مجازاة كما في قوله تعالى: * (وأحاط بما لديهم) * (الجن: 28) وكل هذا من الظاهر، ولأهل الشهود كلام من ورائه محيط - والواو اعتراضية لا عاطفة ولا حالية والجملة معترضة بين جملتين من قصة واحدة وفيها تتميم للمقصود من التمثيل
174

بما تفيده من المبالغة لأن - الكافرين - وضع موضع الضمير وعبر به إشعارا باستحقاق ذوي الصيب ذلك العذاب لكفرهم فيكون الكلام على حد قوله تعالى: * (مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته) * (آل عمران: 117) فإن التشبيه بحرث قوم كذلك لا يخفى حسنه لأن الاهلاك عن سخط أشد وأبلغ وفيه تنبيه على أن ما صنعوه من سد الآذان بالأصابع لا يغني عنهم شيئا وقد أحاط بهم الهلاك ولا يدفع الحذر القدر وماذا يصنع مع القضاء تدبير البشر. وجعل الاعتراض من جملة أحوال المشبه على أن المراد (بالكافرين) المنافقون ولا محيص لهم عن عذاب الدارين ووسط بين أحوال المشبه به لإظهار كمال العناية بشأن المشبه والتنبيه على شدة الاتصال مما يأباه الذوق السليم.
* (يكاد البرق يخطف أبص‍ارهم كلمآ أضآء لهم مشوا فيه وإذآ أظلم عليهم قاموا ولو شآء الله لذهب بسمعهم وأبص‍ارهم إن الله على كل شىء قدير) *
* (يكاد البرق يخطف أبص‍ارهم) * استئناف آخر بياني كأنه قيل: فكيف حالهم مع ذلك البرق؟ فقال: * (يكاد) * الخ، وفي " البحر " يحتمل أن يكون في موضع جر لذوي المحذوفة فيما تقدم ويكاد مضارع كاد من أفعال المقاربة وتدل على قرب وقوع الخبر وأنه لم يقع والأول لوجود أسبابه والثاني لمانع أو فقد شرط على ما تقضي العادة به، والمشهور أنها إن نفيت أثبتت وإن أثبتت نفت وألغزوا بذلك، ولم يرتض هذا أبو حيان وصحح أنها كسائر الأفعال في أن نفيها نفي وإثباتها إثبات، واللام في البرق للعهد إشارة إلى ما تقدم نكرة، وقيل: إشارة إلى البرق الذي مع الصواعق أي برقها وهو كما ترى. وإسناد الخطف وهو في الأصل الأخذ بسرعة أو الاستلاب إليه من باب إسناد الاحراق إلى النار وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه قريبا. والشائع في خبر كاد أن يكون فعلا مضارعا غير مقترن بأن المصدرية الاستقبالية أما المضارع فلدلالته على الحال المناسب للقرب حتى كأنه لشدة قربه وقع وأما أنه غير مقترن بأن فلمنافاتها لما قصدوا ونحو - وأبت إلى فهم وما كدت آيبا، وكان الفقر أن يكون كفرا، وقد كاد - من طول البلى أن يمحصا - قليل. وقرأ مجاهد وعلي بن الحسين ويحيى بن وثاب * (يخطف) * بكسر الطاء والفتح أفصح. وعن ابن مسعود (يختطف) وعن الحسن (يخطف) بفتح الياء والخاء وأصله يختطف فأدغم التاء في الطاء. وعن عاصم وقتادة والحسن أيضا (يخطف) بفتح الياء وكسر الخاء والطاء المشددة. وعن الحسن أيضا والأعمش (يخطق) بكسر الثلاثة والتشديد. وعن زيد (يخطف) بضم الياء وفتح الخاء وكسر الطاء المشددة وهو تكثير مبالغة لا تعدية، وكسر الطاء في الماضي لغة قريش، وهي اللغة الجيدة.
* (كلمآ أضآء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا) * استئناف ثالث كأنه لما قيل إنهم مبتلون باستمرار تجدد خطف الأبصار فهم منه أنهم مشغولون بفعل ما يحتاج إلى الأبصار ساعة فساعة وإلا لغطوها كما سدوا الآذان، فسئل وقيل: ما يفعلون في حالتي وميض البرق وعدمه؟ فأجيب بأنهم حراص على المشي - كلما أضاء لهم اغتنموه ومشوا وإذا أظلم عليهم توقفوا مترصدين. و * (كلما) * في هذه الآية وأمثالها منصوبة على الظرفية وناصبها (ما) هو جواب معنى. و (ما) حرف مصدري أو اسم نكرة بمعنى وقت فالجملة بعدها صلة أو صفة وجعلت شرطا لما فيها من معناه وهي لتقدير ما بعدها بنكرة تفيد عموما بدليا ولهذا أفادت (كلما) التكرار كما صرح به الأصوليون وذهب إليه بعض النحاة واللغويين واستفادة التكرار من (إذا) وغيرها من أدوات الشرط من القرائن الخارجية على الصحيح، ومن ذلك قوله: إذا وجدت أوار الحب من كبدي * أقبلت نحو سقاء القوم أبترد
وزعم أبو حيان أن التكرار الذي ذكره الأصوليون وغيرهم في (كلما) إنما جاء من عموم كل لا من وضعها وهو مخالف للمنقول والمعقول، وقد استعلمت هنا في لازم معناها كناية أو مجازا وهو الحرص والمحبة لما دخلت عليه
175

ولذا قال مع الإضاءة (كلما) ومع الاظلام (إذا) وقول أبي حيان: إن التكرار متى فهم من (كلما) هنا لزم منه التكرار في (إذا) إذ الأمر دائر بين إضاءة البرق والاظلام ومتى وجد (ذا) فقد ذا فلزم من تكرار وجود (ذا) تكرار عدم ذا غفلة عما أرادوه من هذا المعنى الكنائي والمجازي. وأضاء إما متعد كما في قوله: أعد نظرا يا عبد قيس لعلما * أضاءت لك النار الحمار المقيدا
والمفعول محذوف أي: كلما أضاء لهم ممشى مشوا فيه وسلكوه، وإما لازم ويقدر حينئذ مضافان أي كلما لمع لهم مشوا في مطرح ضوئه ولا بد من التقدير إذا ليس المشيء في البرق بل في محله وموضع إشراق ضوئه وكون (في) للتعليل والمعنى مشوا لأجل الإضاءة فيه يتوقف فيه من له ذوق في العربية، ويؤيد اللزوم قراءة ابن أبي عبلة (ضاء) ثلاثيا، وفي مصحف ابن مسعود بدل (مشوا فيه) (مضوا فيه)، وللإشارة إلى ضعف قواهم لمزيد خوفهم ودهشتهم لم يأت سبحانه بما يدل على السرعة، ولما حذف مفعول أضاء وكانت النكرة أصلا أشار إلى أنهم لفرط الحيرة كانوا يخبطون خبط عشواء ويمشون كل ممشى، ومعنى * (أظلم عليهم) * اختفى عنهم، والمشهور استعمال أظلم لازما، وذكر الأزهري - وناهيك به - في " التهذيب " أن كل واحد من أوصاف الظلم يكون لازما ومتعديا، وعلى احتمال التعدي هنا ويؤيده قراءة زيد بن قطيب والضحاك (أظلم) بالبناء للمفعول مع اتفاق النحاة على أن المطرد بناء المجهول من المتعدي بنفسه يكون المفعول محذوفا أي إذا أظلم البرق بسبب خفائه معاينة الطريق قاموا أي وقفوا عن المشي ويتجوز به على الكساد ومنه قامت السوق، وفي ضده يقال: مشت الحال * (ولو شاء الله لذهب بسمعهم
وأبصارهم) * عطف على مجموع الجمل الاستئنافية ولم يجعلوها معطوفة على الأقرب ومن تتمته لخروجها عن التمثيل وعدم صلاحيتها للجواب، وعطف ما ليس بجواب على الجواب ليس بصواب وجوزه بعض المحققين إذ لا بأس بأن يزاد في الجواب ما يناسبه وإن لم يكن له دخل فيه بل قد يستحسن ذلك إذا اقتضاه المقام كما في * (وما تلك بيمينك يا موسى) * (طه: 17) الآية وكونها اعتراضية أو حالية من ضمير * (قاموا) * بتقدير المبتدأ أو معطوفة على الجملة الأولى مع تخلل الفواصل اللفظية، والمقدرة فضول عند ذوي الفضل، والقول بأنه أتى بها لتوبيخ المنافقين حيث لم ينتهوا لأن من قدر على إيجاد قصيف الرعد ووميضه وإعدامهما قادر على إذهاب سمعهم وأبصارهم أفلا يرجعون عن ضلالهم محل للتوبيخ إذ لا يصح عطف الممثل له على حال الممثل به، ومفعول شاء هنا محذوف وكثيرا ما يحذف مفعولها إذا وقعت في حيز الشرط ولم يكن مستغربا، والمعنى ولو أراد الله إذهاب سمعهم بقصيف الرعد وأبصارهم بوميض البرق لذهب، ولتقدم ما يدل على التقييد من * (يجعلون) * (البقرة: 19) و * (يكاد) * قوى دلالة السياق عليه وأخرجه من الغرابة، ولك أن لا تقيد ذلك المفعول وتقيد الجواب كما صنعه الزمخشري أو لا تقيد أصلا، ويكون المعنى لو أراد الله إذهاب هاتيك القوى أذهبها من غير سبب فلا يغنيهم ما صنعوه، والمشيئة عند المتكلمين كالإرادة سواء، وقيل: أصل المشيئة إيجاد الشيء وإصابته وإن استعمل عرفا في موضع الإرادة، وقرأ ابن أبي عبلة (لأذهب الله بأسماعهم) وهي محمولة على زيادة الباء لتأكيد التعدية أو على أن (أذهب) لازم بمعنى ذهب كما قيل بنحوه في * (تنبت بالدهن) * (المؤمنون: 20) * (ولا تلقوا بأيديكم) * (البقرة: 195) إذ الجمع بين أداتي تعدية لا يجوز، وبعضهم يقدر له مفعولا أي لأذهبهم فيهون الأمر وكلمة (لو) لتعليق حصول أمر ماض هو الجزاء بحصول أمر مفروض هو الشرط لما بينهما من
176

الدوران حقيقة أو ادعاء ومن قضية مفروضة الشرط دلالتها على انتفائه قطعا والمنازع فيه مكابر، وأما دلالتها على انتفاء الجزاء فقد قيل وقيل، والحق أنه إن كان ما بينهما من الدوران قد بني الحكم على اعتباره فهي دالة عليه بواسطة مدلولها ضرورة استلزام انتفاء العلة لانتفاء المعلول. أما في الدوران الكلي كالذي في قوله تعالى: شأنه * (ولو شاء لهداكم) * (النحل: 9) وقولك لوجئتني لأكرمتك فظاهر، ثم إنه قد يساق الكلام لتعليل انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط كما في المثالين، وهو الاستعمال الشائع في (لو) ولذا قيل: إنها لامتناع الثاني لامتناع الأول وقد يساق للاستدلال بانتفاء الثاني لكونه ظاهرا أو مسلما على انتفاء الأول لكونه بعكسه كما في قوله تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * (الأنبياء: 22) و * (لو كان خيرا ما سبقونا إليه) * (الأحقاف: 11) واللزوم في الأول: حقيقي وفي الثاني: ادعائي، وكذا انتفاء الملزومين وليس هذا بطريق السببية الخارجية بل بطريق الدلالة العقلية الراجعة إلى سببية العلم بانتفاء الثاني للعلم بانتفاء الأول. ومن لم يتنبه زعم أنه لانتفاء الأول لانتفاء الثاني. وأما في مادة الدوران الجزئي كما في قولك: لو طلعت الشمس لوجد الضوء فلأن الجزاء المنوط بالشرط ليس وجود أي ضوء بل وجود الضوء الخاص الناشىء من الطلوع ولا ريب في انتفائه بانتفائه هذا إذا بنى الحكم على اعتبار الدوران وإن بنى على عدمه فإما أن يعتبر تحقق مدار آخر له أو لا، فإن اعتبر فالدلالة تابعة لحال ذلك المدار فإن كان بينه وبين الانتفاء الأول منافاة تعين الدلالة كما إذا قلت: لو لم تطلع الشمس لوجد الضوء فإن وجود الضوء معلق في الحقيقة بسبب آخر هو المدار ووضع عدم الطلوع موضعه لكونه كاشفا عنه فكأنه قيل: لو لم تطلع الشمس لوجد الضوء بالقمر مثلا.
ولا ريب في أن هذا الجزاء منتف عند انتفاء الشرط لاستحالة الضوء القمري عند طلوع الشمس، وإن لم يكن بينهما منافاة تعين عدم الدلالة كحديث " لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لابنة أخي من الرضاعة " فإن المدار المعتبر في ضمن الشرط - أعني كونها ابنة الأخ - غير مناف لانتفائه الذي هو كونها ربيبته بل مجامع له، ومن ضرورته مجامعة أثريهما أعني الحرمة الناشئة من هذا، وهذا وإن لم يعتبر تحقق مدار آخر بل بني الحكم على اعتبار عدمه فلا دلالة لها على ذلك أصلا، ومساق الكلام حينئذ لبيان ثبوت الجزاء على كل حال بتعليقه بما ينافيه ليعلم ثبوته عند وقوع ما لا ينافيه بالأولى كما في قوله تعالى: * (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم) * (الإسرار: 100) فإن الجزاء قد نيط بما ينافيه إيذانا بأنه في نفسه بحيث يجب ثبوته مع فرض انتفاء سببه أو تحقق سبب انتفائه فكيف إذا لم يكن كذلك على طريقة (لو) الوصلية " ونعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه " إن حمل على تعليق عدم العصيان في ضمن عدم الخوف بمدار آخر كالحياء مما يجامع الخوف كان من قبيل حديث الربيبة، وإن حمل على بيان استحالة عصيانه مبالغة كان من هذا القبيل، والآية الكريمة واردة على الاستعمال الشائع مفيدة لفظاعة حالهم وهول ما دهمهم وأنه قد بلغ الأمر حيث لو تعلقت مشيئة الله تعالى بازالة قواهم لزالت لتحقق ما يقتضيه اقتضاء تاما. وقيل: كلمة (لو) فيها - لربط جزائها بشرطها مجردة عن الدلالة على انتفاء أحدهما لانتفاء الآخر - بمنزلة ان، ذكر جميع ذلك مولانا مفتى الديار الرومية وأظنه قد أصاب الغرض إلا أن كلام مولانا الساليكوتي يشعر باختيار أن (لو) موضوعة لمجرد تعليق حصول أمر في الماضي بحصول أمر آخر فيه من غير دلالة على انتفاء الأول أو الثاني أو على استمرار الجزاء
177

بل جميع هذه الأمور خارجة عن مفهومها مستفادة بمعونة القرآن كيلا يلزم القول بالاستراك أو الحقيقة والمجاز من غير ضرورة، وبه قال بعضهم، وما ذهب إليه ابن الحاجب من أنها للدلالة على انتفاء الأول لانتفاء الثاني من لوازم هذا المفهوم وكونه لازما لا يستلزم الإرادة في جميع الموارد فإن الدلالة غير الإرادة. وذكر أن ما قالوه من أنها لتعليق حصول أمر في الماضي بحصول أمر آخر فرضا مع القطع بانتفائه فيلزم لأجل انتفائه انتفاء ما علق به فيفيد أن انتفاء الثاني في الخارج إنما هو بسبب انتفاء الأول فيه مع توقفه على كون انتفاء الأول مأخوذا في مدخولها، وقد عرفت أنه يستلزم خلاف الأصل يرد عليه أن المستفاد من التعليق على أمر مفروض الحصول إبداء المانع من حصول المعلق في الماضي وأنه لم يخرج من العدم الأصلي إلى حد الوجود وبقي على حاله لارتباط وجوده بأمر معدوم، وأما أن انتفاءه سبب لانتفائه في الخارج فكلا كيف والشرط النحوي قد يكون مسببا مضافا للجزاء، نعم أن هذا مقتضى الشرط الاصطلاحي، وما استدل به العلامة التفتازاني على إفادتها السببية الخارجية من قول الحماسي: ولو طار ذو حافر قبلها * لطارت ولكنه لم يطر
لأن استثناء المقدم لا ينتج، ففيه أن اللازم مما ذكر أن لا تكون مستعملة للاستدلال بانتفاء الأول على انتفاء الثاني ولا يلزم منه أن لا تكون مستعملة لمجرد التعليق لإفادة
إبداء المانع مع قيام المقتضي كيف ولو كان معناها إفادة سببية الانتفاء للانتفاء كان الاستثناء تأكيدا وإعادة بخلاف ما إذا كان معناها مجرد التعليق فإنه يكون إفادة وتأسيسا، وهذا محصل ما قالوه ردا وقبولا. وزبدة ما ذكروه إجمالا وتفصيلا. ومعظم مفتى أهل العربية أفتوا بما قاله مفتي الديار الرومية، ولا أوجب عليك التقليد فالأقوال بين يديك فاختر منها ما تريد.
* (إن الله على كل شيء قدير) * كالتعليل للشرطية والتقرير لمضمونها الناطق بقدرته تعالى على إذهاب ما ذكر لأن القادر على الكل قادر على البعض والشيء لغة ما يصح أن يعلم ويخبر عنه كما نص عليه سيبويه، وهو شامل للمعدوم والموجود الواجب والممكن وتختلف إطلاقاته، ويعلم المراد منه بالقرائن فيطلق تارة، ويراد به جميع أفراده كقوله تعالى: * (والله بكل شيء عليم) * (البقرة: 282) بقرينة إحاطه العلم الإلهي بالواجب والممكن المعدوم والموجود والمحال الملحوظ بعنوان ما، ويطلق ويراد به الممكن مطلقا كما في الآية الكريمة بقرينة القدرة التي لا تتعلق إلا بالممكن، وقد يطلق ويراد به الممكن الخارجي الموجود في الذهن كما في قوله تعالى: * (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله) * (الكهف: 23، 24) بقرينة كونه متصورا مشيئا فعله غدا، وقد يطلق ويراد به الممكن المعدوم الثابت في نفس الأمر كما في قوله تعالى: * (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) * (النحل: 40) بقرينة إرادة التكوين التي تختص بالمعدوم، وقد يطلق ويراد به الموجود الخارجي كما في قوله تعالى: * (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا) * (مريم: 9) أي موجودا خارجيا لامتناع أن يراد نفي كونه شيئا بالمعنى اللغوي الأعم الشامل للمعدوم الثابت في نفس الأمر لأن كل مخلوق فهو في الأزل شيء أي معدوم ثابت في نفس الأمر وإطلاق الشيء عليه قد قرر، والأصل في الإطلاق الحقيقة ولا يعدل عنه إلا لصارف ولا صارف. وشيوع استعماله في الموجود لا ينتهض صارفا إذ ذاك إنما هو لكون تعلق الغرض في المحاورات بأحوال الموجودات أكثر لا لاختصاصه به لغة، وما ذكره مولانا البيضاوي من اختصاصه بالموجود - لأنه في الأصل مصدر شاء - أطلق بمعنى شاء تارة؛ وحينئذ يتناول الباري تعالى وبمعنى مشيء أخرى أي مشيء وجوده الخ ففيه مع ما فيه أنه يلزمه في قوله تعالى: * (والله بكل شيء عليم) * (البقرة: 82) استعمال المشترك في معنييه لأنه إذا كان بمعنى الشائي
178

لا يشمل نحو الجمادات عنده، وإذا كان بمعنى المشيء وجوده لا يشمل الواجب تعالى شأنه، وفي استعمال المشترك في معنييه خلاف ولا خلاف في الاستدلال بالآية على إحاطة علمه تعالى. وأما ما ذكر في " شرحي المواقف والمقاصد " فجعجعة ولا أرى طحنا، وقعقعة ولا أرى سلاحا تقنا، وقد كفانا مؤنة الإطالة في رده مولانا الكوراني قدس سره، والنزاع في هذا وإن كان لفظيا والبحث فيه من وطيفة أصحاب اللغة إلا أنه يبتني على النزاع في أن المعدوم الممكن ثابت أولا، وهذا بحث طالما تحيرت فيه أقوام وزلت فيه أقدام.
والحق الذي عليه العارفون الأول لأن المعدوم الممكن - أي ما يصدق عليه هذا المفهوم - يتصور ويراد بعضه دون بعض، وكل ما هو كذلك فهو متميز في نفسه من غير فرض الذهن، وكل ما هو كذلك فهو ثابت ومتقرر في خارج أذهاننا منفكا عن الوجود الخارجي فما هو إلا في نفس الأمر. والمراد به علم الحق تعالى باعتبار عدم مغايرته للذات الأقدس فإن لعلم الحق تعالى اعتبارين أحدهما: أنه ليس غيرا والثاني: أنه ليس عينا، ولا يقال بالاعتبار الأول العلم تابع للمعلوم لأن التبعية نسبة تقتضي متمايزين ولو اعتبارا، ولا تمايز عند عدم المغايرة، ويقال ذلك بالاعتبار الثاني للتمايز النسبي المصحح للتبعية، والمعلوم الذي يتبعه العلم هو ذات الحق تعالى بجميع شؤونه ونسبه واعتباراته. ومن هنا قالوا: علمه تعالى بالأشياء أزلا عين علمه بنفسه لأن كل شيء من نسب علمه بالاعتبار الأول فإذا علم الذات بجميع نسبها فقد علم كل شيء من عين علمه بنفسه، وحيث لم يكن الشريك من نسب العلم بالاعتبار الأول إذ لا ثبوت له في نفسه من غير فرض إذ الثابت كذلك هو أنه تعالى لا شريك له فلا يتعلق به العلم بالاعتبار الثاني ابتداء، ومتى كان تعلق العلم بالأشياء أزليا لم تكن أعداما صرفة إذ لا يصح حينئذ أن تكون طرفا إذ لا تمايز، فإذا لها تحقق بوجه ما، فهي أزلية بأزلية العلم، فلذا لم تكن الماهيات بذواتها مجعولة لأن الجعل تابع للإرادة التابعة للعلم التابع للمعلوم الثابت، فالثبوت متقدم على الجعل بمراتب فلا تكون من حيث الثبوت أثرا للجعل وإلا لدار، وإنما هي مجعولة في وجودها، لأن العالم حادث وكل حادث مجعول وليس الوجود حالا حتى لا تتعلق به القدرة، ويلزم أن لا يكون الباري تعالى موجودا للممكنات ولا قادرا عليها لأنه قد حقق أن الوجود بمعنى ما - بانضمامه إلى الماهيات الممكنة - يترتب عليها آثارها المختصة بها موجود، أما أولا: فلأن كل مفهوم مغاير للوجود فإنه إنما يكون موجودا بأمر ينضم إليه وهو الوجود، فهو موجود بنفسه لا بأمر زائد وإلا لتسلسل، وامتيازه عما عداه بأن وجوده ليس زائدا على ذاته. وأما ثانيا: فلأنه لو لم يكن موجودا لم يوجد شيء أصلا لأن الماهية الممكنة قبل انضمام الوجود متصفة بالعدم الخارجي فلو كان الوجود معدوما كان مثلها محتاجا لما تحتاجه فلا يترتب على الماهية بضمه آثارها لأنه على تقدير كونه معدوما ليس فيه بعد العدم إلا افتقاره إلى الوجود، وهذا بعينه متحقق في الماهية قبل الضم فلا يحدث لها بالضم وصف لم تكن عليه، فلو كان هذا الوجود المفتقر مفيدا لترتب الآثار لكانت الماهية مستغنية عن الوجود حال افتقارها إليه واللازم باطل لاستحالة اجتماع النقيضين فلا بد أن يكون الوجود موجودا بوجود هو نفسه وإلا لتسلسل أو انتهى إلى وجود موجود بنفسه، والأول: باطل، والثاني: قاض بالمطلوب. نعم الوجود بمعنى الموجودية حال لأنه صفة اعتبارية ليست بعرض ولا سلب، ومع هذا يتعلق به الجعل لكن لا ابتداء بل بضم حصة من الوجود الموجود إلى الماهية فيترتب على ذلك اتصاف الماهية بالموجودية وظاهر أنه لا يلزم من عدم تعلق القدرة بالوجود بمعنى الموجودية ابتداء أن لا تتعلق به بوجه آخر، وإذا تبين
179

أن الماهيات مجعولة في وجودها فلا بد أن يكون وجود كل شيء عين حقيقته، بمعنى أن ما صدق عليه حقيقة الشيء من الأمور الخارجية هو بعينه ما صدق عليه وجوده، وليس لهما هويتان متمايزتان في الخارج كالسواد والجسم إذ الوجود إن قام بالماهية معدومة لزم التناقض، وموجودة لزم وجودان مع الدور أو التسلسل، والقول بأن الوجود ينضم إلى الماهية من حيث هي لا تحقيق فيه، إذ تحقق في محله أن الماهية قبل عروض الوجود متصفة في نفس الأمر بالعدم قطعا لاستحالة خلوها عن النقيضين
فيه، غاية الأمر أنا إذا لم نعتبر معها العدم لا يمكن أن نحكم عليها بأنها معدومة، وعدم اعتبارنا العدم معها حين عروض الوجود لا يجعلها منفكة عنه في نفس الأمر وإنما يجعلها منفكة عنه باعتبارنا وضم الوجود أمر يحصل لها باعتبار نفس الأمر لا من حيث اعتبارنا، فخلوها عن العدم باعتبارنا لا يصحح اتصافها بالوجود من حيث هي هي في نفس الأمر سالما عن المحذور فإذا ليس هناك هويتان تقوم إحداهما بالأخرى بل عين الشخص في الخارج عين تعين الماهية فيه وهو عين الماهية فيه أيضا إذ ليس التعين أمرا وجوديا مغايرا بالذات للشخص منضما للماهية في الخارج ممتازا عنهما فيه مركبا منها ومن الفرد بل لا وجود في الخارج إلا للأشخاص، وهي عين تعيينات الماهية وعين الماهية في الخارج لاتحادهما فيه، وعلى هذا فلا شك في مقدورية الممكن إذ جعله بجعل حصته من الوجود المطلق الموجود في الخارج مقترنة بأعراض وهيآت يقتضيها استعداد حصته من الماهية النوعية فيكون شخصا، وإيجاد الشخص من الماهية - على الوجه المذكور - عين إيجاد الماهية لأنهما متحدان في الخارج جعلا ووجودا متمايزان في الذهن فقط، وهذا تحقيق قولهم: المجعول هو الوجود الخاص، ولا يستعد معدوم لعروضه إلا إذا كان له ثبوت في نفس الأمر إذ ما لا ثبوت له - وهو المنفي - لا اقتضاء فيه لعروض الوجود بوجه، وإلا لكان المحال ممكنا واللازم باطل، فالثبوت الأزلي لماهية الممكن هو المصحح لعروض إلامكان المصحح للمقدورية لا أنه المانع كما توهموه، هذا والبحث طويل والمطلب جليل. وقد أشبعنا الكلام عليه " الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية " على وجه رددنا فيه كلام المعترضين المخالفين لما تبعنا فيه ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم، وهذه نبذة يسيرة تنفعك في تفسير الآية الكريمة فاحفظها فلا أظنك تجدها في تفسير، وحيث كان الشيء عاما لغة واصطلاحا عند أهل الله تعالى، وإن ذهب إليه المعتزلة أيضا فلا بد في مثل ما نحن فيه من تخصيصه بدليل العقل بالممكن.
والقدرة عند الأشاعرة صفة ذاتية ذات إضافة تقتضي التمكن من الإيجاد والإعدام والإبقاء لا نفس التمكن لأنه أمر اعتباري ولا نفي العجز عنه تعالى لأنه من الصفات السلبية، ولعل من اختار ذلك اختاره تقليلا للصفات الذاتية، أو نفيا لها والقادر هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، ولكون المشيئة عندنا صفة مرجحة لأحد طرفي المقدور، وعند الحكماء العناية الأزلية ساغ لنا أن نعرفه بما ذكر دونهم خلافا لمن وهم فيه - والقدير - هو الفعال لما يشاء على قدر ما تقتضيه الحكمة، وقلما يوصف به غيره تعالى، والمقتدر إن استعمل فيه تعالى فمعناه القدير أو في البشر فمعناه المتكلف والمكتسب للقدرة، واشتقاق القدرة من القدر بمعنى التحديد والتعيين، وفي الآية دليل على أن الممكن الحادث حال بقائه مقدور لأنه شيء وكل شيء مقدور له تعالى، ومعنى كونه مقدورا أن الفاعل إن شاء أعدمه وإن شاء لم يعدمه واحتياج الممكن حال بقائه إلى المؤثر مما أجمع عليه من قال إن علة الحاجة هي الإمكان ضرورة أن الإمكان لازم له حال البقاء وأما من قال إن علة الحاجة الحدوث وحده أو مع الإمكان قال باستغنائه إذ لا حدوث حينئذ وتمسك في ذلك ببقاء البناء بعد فناء البناء، ولما رأى بعضهم شناعة ذلك قالوا: إن الجواهر لا تخلو عن الأعراض وهي لا تبقى زمانين فلا يتصور الاستغناء عن القادر سبحانه بحال، وهذا مما ذهب إليه الأشعري
180

ولما فيه من مكابرة الحس ظاهرا - أنكره أهل الظاهر، نعم يسلمه العارفون من أهل الشهود وناهيك بهم حتى إنهم زادوا على ذلك فقالوا: إن الجواهر لا تبقى زمانين أيضا والناس في لبس من خلق جديد، وأنا أسلم ما قالوا وأفوض أمري إلى الله الذي لا يتقيد بشأن وقد كان ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان، ثم المراد من هذا التمثيل تشبيه حال المنافقين في الشدة ولباس إيمانهم المبطن بالكفر المطرز بالخداع حذر القتل بحال ذوي مطر شديد فيه ما فيه يرقعون خروق آذانهم بأصابعهم حذر الهلاك إلى آخر ما علم من أوصافهم، ووجه الشبه وجدان ما ينفع ظاهره وفي باطنه بلاء عظيم، وقيل: شبه سبحانه المنافقين بأصحاب الصيب، وإيمانهم المشوب بصيب فيه ما تلى من حيث إنه وإن كان نافعا في نفسه لكنه لما وجد كذا عاد نفعه ضرا، ونفاقهم حذرا عن النكاية بجعل الأصابع في الآذان ممادها حذر الموت من حيث إنه لا يرد من القدر شيئا وتحيرهم لشدة ما عنى وجهلهم بما يأتون ويذرون بأنهم كلما صادفوا من البرق خفقة انتهزوها فرصة مع خوف أن يخطف أبصارهم فخطوا يسيرا ثم إذا خفي بقوا متقيدين لا حراك لهم، وقيل: جعل الإسلام الذي هو سبب المنافع في الدارين كالصيب الذي هو سبب المنفعة وما في الإسلام من الشدائد والحدود بمنزلة الظلمات والرعد وما فيه من الغنيمة والمنافع بمنزلة البرق فهم قد جعلوا أصابعهم في آذانهم من سماع شدائده وإذا لمع لهم برق غنيمة مشوا فيه وإذا أظلم عليهم بالشدائد قاموا متحيرين، وقيل غير ذلك، وما تقتضيه جزالة التنزيل وتستدعيه فخامة شأنه الجليل غير خفي عليك إذا لمعت بوارق العناية لديك.
ومن البطون تشبيه من ذكر في التشبيه الأول بذوي صيب فيكون قوله تعالى: * (كلما أضاء) * الخ إشارة إلى أنهم كلما وجدوا من طاعتهم حلاوة وعرضا عاجلا * (مشوا فيه) * وإذا حبس عليهم طريق الكرامات تركوا الطاعات، وقال الحسين: إذا أضاء لهم مرادهم من الدنيا في الدين أكثروا من تحصيله وإذا أظلم عليهم قاموا متحيرين.
* (ي‍اأيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) *
* (يأيها الناس اعبدوا ربكم) * لما بين سبحانه فرق المكلفين وقسمهم إلى مؤمنين وكفار ومذبذبين، وقال في الطائفة الأولى: * (الذين يؤمنون) * (البقرة: 3) وفي الثانية: * (سواء عليهم) * (البقرة: 6) وفي الثالثة: * (يخادعون الله) * (البقرة: 9) وشرح ما ترجع إليه أحوالهم دنيا وأخرى فقال سبحانه في الأولى: * (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) * (البقرة: 5) وفي الثانية: * (ختم الله على قلوبهم... ولهم عذاب عظيم) * (البقرة: 7) وفي الثالثة: * (في قلوبهم مرض... ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) * (البقرة: 10) أقبل عز شأنه عليهم بالخطاب على نهج الالتفات هزا لهم إلى الإصغاء وتوجيها لقلوبهم نحو التلقي وجبرا لما في العبادة من الكلفة بلذيذ المخاطبة ويكفي للنكتة الوجود في البعض، و (يا) حرف لا اسم فعل على الصحيح وضع لنداء البعيد، وقيل: لمطلق النداء أو مشتركة بين أقسامه، وعلى الأول ينادي بها القريب لتنزيله منزلة غيره إما لعلو مرتبة المنادي أو المنادى، وقد ينزل غفلة السامع وسوء فهمه منزلة بعده، وقد يكون ذلك للاعتناء بأمر المدعو له والحث عليه لأن نداء البعيد وتكليفه الحضور لأمر يقتضي الاعتناء والحث، فاستعمل في لازم معناه على أنه مجاز مرسل أو استعارة
تبعية في الحرف أو مكنية وتخييلية - وهو مع المنادى المنصوب لفظا أو تقديرا به لنيابته عن نحو ناديت الإنشائي أو بناديت اللازم الإضمار لظهور معناه مع قصد الإنشاء - كلام يحسن السكوت عليه كما يحسن في نحو (لا، ونعم) و (أي) لها معان شهيرة والواقعة في النداء نكرة موضوعة لبعض من كل، ثم تعرفت بالنداء وتوصل بها لنداء ما فيه - أل - لأن (يا) لا يدخل عليها في غير الله إلا شذوذا لتعذر الجمع بين حرفي التعريف فإنهما كمثلين وهما لا يجتمعان إلا فيما شذ من نحو: فلا والله لا يلفي لما بي * ولا للما بهم أبدا دواء
181

وأعطيت حكم المنادى وجعل المقصود بالنداء وصفا لها والتزم فيه هذه الحركة الخاصة المسماة بالضمة خلافا للمازني فإنه أجاز نصبه وليس له في ذلك سلف ولا خلف لمخالفته للمسموع وإنما التزم ذلك إشعارا بأنه المقصود بالنداء ولا ينافي هذا كون الوصف تابعا غير مقصود بالنسبة لمتبوعه لأن ذلك بحسب الوضع الأصلي حيث لم يطرأ عليه ما يجعله مقصودا في حد ذاته ككونه مفسرا لمبهم ومن هنا لم يشترطوا في هذا الوصف الاشتقاق مع أن النحويين - إلا النذر - كابن الحاجب اشترطوا ذلك في النعوت على ما بين في محله، و (ها) التنبيهية زائدة لازمة للتأكيد والتعويض عما تستحق من المضاف إليه أو ما في حكمه من التنوين كما في * (أيا ما تدعو) * (الإسراء: 110) وإن لم يستعمل هنا مضافا أصلا وكثر النداء في الكتاب المجيد على هذه الطريقة لما فيها من التأكيد الذي كثيرا ما يقتضيه المقام بتكرر الذكر والإيضاح بعد الإيهام والتأكيد بحرف التنبيه واجتماع التعريفين. هذا ما ذهب إليه الجمهور، وقطع الأخفش لضعف نظره بأن (أيا) الواقعة في النداء موصولة حذف صدر صلتها وجوبا لمناسبة التخفيف للمنادى وأيد بكثرة وقوعها في كلامهم موصولة، وندرة وقوعها موصوفة، واعتذر عن عدم نصبها حينئذ مع أنها مضارعة للمضاف بأنه إذا حذف صدر صلتها كان الأغلب فيها البناء على الضم، فحرف النداء على هذا يكون داخلا على مبنى على الضم ولم يغيره، وإن كان مضارعا للمضاف، ويؤيد الأول عدم الاحتياج إلى الحذف وصدق تعريف النعت والموافقة مع هذا وأنها لو كانت موصولة لجاز أن توصل بجملة فعلية أو ظرفية إلى غير ذلك مما يقطع المنصف معه بأرجحية مذهب الجمهور، نعم أورد عليه إشكال استصعبه بعض من سلف من علماء العربية وقال: إنه لا جواب له وهو أن ما ادعوا كونه تابعا معرف بالرفع وكل حركة إعرابية إنما تحدث بعامل ولا عامل بقتضي الرفع هناك لأن متبوعه مبني لفظا ومنصوب محلا فلا وجه لرفعه، وأقول: إن هذا من الأبحاث الواقعة بين أبي نزار وابن الشجري، وذلك أنه وقع سؤال عن ضمة هذا التابع فكتب أبو نزار أنها ضمة بناء وليست ضمة إعراب لأن ضمة الإعراب لا بد لها من عامل يوجبها ولا عامل هنا يوجب هذه الضمة، وكتب الشيخ منصور موهوب بن أحمد أنها ضمة إعراب ولا يجوز أن تكون ضمة بناء، ومن قال ذلك فقد غفل عن الصواب، وذلك لأن الواقع عليه النداء أي المبني على الضم لوقوعه موقع الحرف والاسم الواقع بعد وإن كان مقصودا بالنداء إلا أنه صفة أي فمحال أن يبنى أيضا لأنه مرفوع رفعا صحيحا، ولهذا أجاز فيه المازني النصب على الموضع كما يجوز في (يا) زيد الظريف. وعلة الرفع أنه لما استمر الضم في كل منادى معرفة أشبه ما أسند إليه الفعل فأجريت صفته على اللفظ فرفعت، وأجاب ابن الشجري بما أجاب به الشيخ وكتب أنها ضمة إعراب لأن ضمة المنادى المفرد لها باطرادها منزلة بين منزلتين فليست كضمة حيث لأنها غير مطردة لعدم اطراد العلة التي أوجبتها ولا كضمة زيد في نحو خرج زيد لأنها حدثت بعامل لفظي ولما اطردت الضمة في نحو يا زيد يا عمرو وكذلك اطردت في نحو يا رجل يا غلام إلى ما لا يحصى نزل الاطراد فيها منزلة العامل المعنوي الواقع للمبتدأ من حيث اطردت الرفعة في كل اسم ابتدىء به مجردا عن عامل لفظي وجيء له بخبر كعمرو ومنطلق، وزيد ذاهب - إلى غير ذلك فلما استمرت ضمة المنادى في معظم الأسماء كما استمرت الأسماء المعربة الضمة الحادثة عن الابتداء - شبهتها العرب بضمة المبتدأ فأتبعها ضمة الإعراب في صفة المنادى في نحو (يا زيد الطويل) وجمع بينهما أيضا أن الإطراد معنى كما أن الإبتداء كذلك، ومن شأن العرب أن تحمل الشيء على الشيء مع حصول أدنى مناسبة بينهما حتى إنهم قد حملوا أشياء على نقائضها، ألا ترى أنهم أتبعوا حركة الإعراب حركة البناء في قراءة من قرأ (الحمد لله) بضم اللام وكذلك أتبعوا حركة البناء
182

حركة الإعراب في نحو - يا زيد بن عمرو - في قول من فتح الدال من زيد انتهى ملخصا، وقد ذكر ذلك ابن الشجري في " أماليه " وأكثر في الحط على ابن نزار وبين ما وقع بينه وبينه مشافهة، ولولا مزيد الإطالة لذكرته بعجره وبجره، وأنت تعلم ما في ذلك كله من الوهن، ولهذا قال بعض المحققين: إن الحق أنها حركة اتباع ومناسبة لضمة المنادى - ككسر الميم من غلامي - وحينئذ يندفع الإشكال كما لا يخفى على ذوي الكمال.
بقي الكلام في اللام الداخلة على هذا النعت هل هي للتعريف أم لا؟ والذي عليه الجمهور وهو المشهور أنها للتعريف كما تقدمت الإشارة إليه، ولما سئل عن ذلك أبو نزار قال: إنها هناك ليست للتعريف لأن التعريف لا يكون إلا بين اثنين في ثالث واللام فيما نحن فيه داخلة في اسم المخاطب، ثم قال: والصحيح أنها دخلت بدلا من (يا)، و (أي) وإن كان منادى إلا أن نداءه لفظي، والمنادى على الحقيقة هو المقرون بأل ولما قصدوا تأكيد التنبيه وقدروا تكرير حرف النداء كرهوا التكرير فعوضوا عن حرف النداء ثانيا (ها) وثالثا (أل) وتعقبه ابن الشجري قائلا: إن هذا قول فاسد بل اللام هناك لتعريف الحضور كالتعريف في قولك جاء هذا الرجل مثلا ولكنها لما دخلت على اسم المخاطب صار الحكم للخطاب من حيث كان قولنا يا أيها الرجل معناه يا رجل، ولما كان الرجل هو المخاطب في المعنى غلب حكم الخطاب فاكتفى باثنين لأن أسماء الخطاب لا تفتقر في تعريفها إلى حضور ثالث، ألا ترى أن قولك خرجت يا هذا وانطلقت وأكرمتك لا حاجة به إلى ثالث؟ وليس كل وجوه التعريف يقتضي أن يكون بين إثنين في ثالث فإن ضمير المتكلم في (أنا خرجت) معرفة إجماعا ولا يتوقف تعريفه على حضور ثالث، وأيضا ما قص من حديث التعويض يستدعي بظاهره أن يكون أصل يا أيها الرجل مثلا: (يا أي يايا رجل) وأنهم عوضوا من (يا) الثانية (ها) ومن الثالثة الألف واللام، وأنت تعلم أن هذا مع مخالفته لقول الجماعة خلف من القول يمجه السمع وينكره الطبع فليفهم.
والناس: اسم جمع على ما حققه جمع، والجموع وأسماؤها المحلاة بأل للعموم حيث لا عهد خارجي كما يدل عليه وقوع الاستثناء والأصل فيه الاتصال هو يقتضي
الدخول يقينا ولا يتصور إلا بالعموم، ونحو ضربت زيدا إلا رأسه وصمت رمضان إلا عشره الأخير - عام تأويلا، وكذا التأكيد بما يفيد العموم إذا لو لم يكن هناك عموم كان التأكيد تأسيسا والاتفاق على خلافه، وشيوع استدلال الصحابة رضي الله تعالى عنهم بالعموم كما في حديث السقيفة وهم أئمة الهدى. ثم هذا الخطاب في نحو * (يا أيها الناس) * يسمى بالخطاب الشفاهي عند الأصوليين قالوا: وليس عاما لمن بعد الموجودين في زمن الوحي أو لمن بعد الحاضرين مهابط الوحي، والأول: هو الوجه وإنما يثبت حكمه لهم بدليل آخر من نص أو قياس أو إجماع، وأما بمجرد الصيغة فلا، وقالت الحنابلة: بل هو عام لمن بعدهم إلى يوم القيامة واستدل الأولون بأنا نعلم أنه لا يقال للمعدومين نحو * (يا أيها الناس) * قال العضد: وإنكاره مكابرة وبأنه امتنع خطاب الصبي والمجنون بنحوه وإذا لم نوجهه نحوهم مع وجودهم لقصورهم عن الخطاب فالمعدوم أجدر أن يمنع لأن تناوله أبعد، واستدل الآخرون بأنه لو لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم مخاطبا به لمن بعدهم لم يكن مرسلا إليهم واللازم منتف وبأنه لم يزل العلماء يحتجون على أهل الأعصار ممن بعد الصحابة بمثل ذلك، وهو إجماع على العموم لهم.
وأجيب: أما عن الأول فبأن الرسالة إنما تستدعي التبليغ في الجملة وهو لا يتوقف على المشافهة بل يكفي فيه حصوله للبعض شفاها وللبعض بنصب الدلائل والأمارات على أن حكمهم حكم الذين شافههم، وأما عن الثاني: فبأنه لا يتعين أن يكون ذلك لتناوله لهم بل قد يكون لأنهم علموا أن حكمه ثابت عليهم بدليل آخر قاله غير واحد.
وفي " شرح العلامة " الثاني " للشرح العضدي " أن القول بعموم الشفاهي وإن نسب إلى الحنابلة ليس ببعيد. وقال بعض
183

أجلة المحققين: إنه المشهور حتى قالوا إن الحق أن العموم معلوم بالضرورة من الدين المحمدي وهو الأقرب، وقول العضد: إن إنكاره مكابرة حق لو كان الخطاب للمعدومين خاصة، أما إذا كان للموجودين والمعدومين على طريق التغليب فلا، ومثله فصيح شائع وكل ما استدل به على خلافه ضعيف انتهى. وإلى العموم ذهب كثير من الشافعية على أنه عندهم عام بحاق لفظه ومنطوقه من غير احتياج إلى دليل آخر، وقد قيل: إنه من قبيل الخطاب العام الذي أجري على غير ظاهره كما في قوله: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته * وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
هذا وعلى كل حال ما روى عن ابن مسعود وعلقمة من أن كل شيء نزل فيه * (يا أيها الناس) * مكي و * (يا أيا الذين آمنوا) * مدني إن صح ولم يؤول لا يوجب تخصيص هذا العام بوجه بالكفار بل هم أيضا داخلون فيه ومأمورون بأداء العبادة كالاعتقاد، والأمر بالشيء أمر بما لا يتم إلا به وكون الإيمان أصل العبادات، ولو وجب بوجوبها انقلب الأصل تبعا مردود بأن الأصالة بحسب الصحة لا تنافي التبعية في الوجوب على أنه واجب استقلالا أيضا، والعجب كيف خفي على مشايخ سمرقند؟! وهذا ما ذهب إليه العراقيون والشافعية، ويؤيده ظواهر الآيات كقوله تعالى: * (وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكاة) * (فصلت: 6، 7) وقوله سبحانه: * (ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين) * (المدثر: 42 - 44) وذهب البخاريون إلى أنهم مكلفون في حق الاعتقاد فقط، وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه لم ينص ظاهرا على شيء في المسألة لكن في كلام صاحبه الثاني ما يدل عليها، ولعل ذلك من الإمام لأنه لا ثمرة للخلاف في الدنيا للاتفاق على أنهم ما داموا كفارا يمتنع منه الإقدام عليها ولا يؤمرون بها وإذا أسلموا لم يجب قضاؤها عليهم، وإنما ثمرته في الآخرة وهو أنهم يعذبون على تركها كما يعذبون على ترك الإيمان عند من قال بوجوبها عليهم، وعلى ترك الإيمان فقط عند من لم يقل، وهذا في غير العقوبات والمعاملات، أما هي فمتفق على خطابهم بها، والأمر بالعبادة هنا للطوائف الثلاث باعتبار أن المراد بها الشامل لإيجاد أصلها والزيادة والثبات - فاعبدوا - يدل على طلب في الحال لعبادة مستقلة وهي من الكفار ابتداء عبادة ومن بعض المؤمنين زيادة ومن آخرين مواظبة، وليس الابتداء والزيادة والمواظبة داخلا في المفهوم وضعا فلا محذور في شيء أصلا خلافا لمن توهمه فتكلف في دفعه وذكر سبحانه الرب ليشير إلى أن الموجب القريب للعبادة هي نعمة التربية، وإن كانت عبادة الكاملين لذاته تعالى من غير واسطة أصلا سوى أنه هو هو فسبحانه من إله ما أعظمه ومن رب ما أكرمه.
* (الذي خلقكم والذين من قبلكم) * الموصول صفة مادحة للرب، وفيها أيضا تعليل العبادة أو الربوبية على ما قل، فإن كان الخطاب في * (ربكم) * شاملا للفرق الثلاث فذاك وإن خص بالمشركين وأريد بالرب ما تعورف بينهم من إطلاقه على غيره تعالى احتمل أن تكون مقيدة إن حملت الإضافة على الجنس وموضحة إن حملت على العهد، ولا يبعد على هذا أن تكون مادحة لأن المطلق يتبادر منه رب الأرباب إلا إن جعلها للتقييد والتوضيح أظهر بناء على ما كانوا فيه وتعريضا بما كانوا عليه ولأنه الأصل فلا يترك إلا بدليل، والخلق الاختراع بلا مثال ويكون بمعنى التقدير وعلى الأول لا يتصف به سواه سبحانه، وعلى الثاني قد يتصف به غير ومنه * (فتبارك الله أحسن الخالقين) * (المؤمنون: 14) * (وإذ تخلق من الطين) * (المائدة: 110) وقول زهير: ولأنت تفري ما خلقت وبع‍ * - ض القوم يخلق ثم لا يفري
ومن العجب أن أبا عبد الله البصري أستاذ القاضي عبد الجبار قال: إطلاق الخالق عليه تعالى محال لأن التقدير
184

يستدعي الفكر والحسبان وهي مسألة خلافية بينه وبين الله تعالى القائل: * (هو الله الخالق البارىء) * (الحشر: 24) وبقول الله تعالى أقول، والموصول الثاني عطف على المنصوب في * (خلقكم) * و (قبل) ظرف زمان بكثرة ومكان بقلة ويتجوز بها عن التقدم بالشرف والرتبة، والخطاب إن شمل المؤمنين وغيرهم فالمراد بالذين قبلهم من تقدمهم في الوجود ومن هو موجود وهو أعلى منزلة منهم وفي هذا تذكير لكمال جلال الله تعالى وربوبيته وفيه من تأكيد أمر العبادة ما لا يخفى، وقدم سبحانه التنبي على خلقهم وإن كان متأخرا بالزمان لأن علم الإنسان بأحوال نفسه أظهر ولأنهم المواجهون بالأمر بالعبادة فتنبيههم أولا على أنفسهم آكد وأهم، وأتى بالخلق صلة والصلات لا بد من كونها معلومة الانتساب عند المخاطب، ولذا يعرف الموصول عنده بما فيها من العهد، واشترطت خبريتها إشارة إلى أنه ليس في المخاطبين من ينكر كون الخالق هو الله تعالى: * (ولئن سألتهم من خلقهم) * (الزخرف: 87) أو * (من خلق السموات والأرض ليقولن الله) * (الزمر: 38) وانفهام ذلك
من الوصف بناء على ما قالوا الإخبار بعد العلم بها أوصاف والأوصاف قبل العلم بها أخبار مما قاله بعض المحققين وإن كان هناك من لا يعلم أن الله تعالى خالقه وخالق من قبله احتيج إلى ادعاء التغليب أو تنزيل غير العالم منزلة العالم لوضوح البراهين فتخرج الجملة مخرج المعلوم على خلاف مقتضى الظاهر، وقرأ ابن السميقع (وخلق من قبلكم) وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والذين من قبلكم بفتح الميم، واستشكل لتوالي موصولين والصلة واحدة وخرجت على جعل (من) تأكيدا للذين فلا يحتاج إلى صلة نحو قوله: من النفر اللائي الذين إذا هم * تهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا
واعترض بأن الحرف لا يؤكد بدون إعادة ما اتصل به فالموصول أولى بذلك إذ يكاد أن يكون تأكيده كتأكيد بعض الاسم (فمن) حينئذ موصولة أو موصوفة وهي خبر مبتدأ مقدر وما بعدها صلة أو صفة وهي مع المقدر صلة الموصول الأول ويكون على أحد الاحتمالين نظير. فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
وتخريج البيت على نحو هذا، وقيل: * (من) * زائدة، وقد أجاز بعض النحاة زيادة الأسماء؛ والكسائي زيادة * (من) * الموصولة، و (جعل) من ذلك: وكفى بنا فضلا على من غيرنا * حب النبي محمد إيانا
وبعضهم استشكل القراءة المشهورة أيضا بأن الذين أعيان و * (من قبلكم) * ناقص ليس في الإخبار به عنها فائدة، فكذلك الوصل به إلا على تأويل وتأويل أن ظرف الزمان إذا وصف لفظا أو تقديرا مع القرينة صح الإخبار والوصل به تقول: نحن في يوم طيب، و (ما) هنا في تقدير: والذين كانوا من زمان قبل زمانكم، وقدر أبو البقاء: والذين خلقهم من قبل خلقكم فحذف الفعل الذي هو صلة وأقيم متعلقه مقامه فتدبر.
* (لعلكم تتقون) * (لعل) في المشهور موضوعة للترجي وهو الطمع في حصول أمر محبوب ممكن الوقوع والإشفاق وهو توقع مخوف ممكن، والظاهر التقابل فتكون مشتركة، وذكر الرضي أنها للترجي وهو ارتقاب شيء لا وثوق بحصوله فيدخل فيه الطمع والإشفاق، والذي يميل إليه القلب ما ذكره بعض المحققين أنها لإنشاء توقع أمر متردد بين الوقوع وعدمه مع رجحان الأول، إما محبوب فيسمى رجاء أو مكروه فيسمى إشفاقا وذلك قد يعتبر تحققه بالفعل إما من جهة المتكلم - وهو الشائع - لأن معاني الإنشاآت قائمة به. وإما من جهة المخاطب تنزيلا له منزلة المتكلم في التلبس التام بالكلام الجاري بينهما، ومنه * (لعله يتذكر أو يخشى) * (طه: 44) وقد يعتبر تحققه بالقوة بضرب من التجوز إيذانا بأن ذلك الأمر في نفسه مئنة للتوقع متصف بحيثية مصححة له من غير أن يعتبر هناك توقع بالفعل من متوقع أصلا. ففي الآية الكريمة - إن جعلت الجملة حالا
185

من مفعول * (خلقكم) * وما عطف عليه بطريق تغليب المخاطبين على الغائبين لأنهم المأمورون بالعبادة - امتنع حمل - لعل - على حقيقتها لا بالنظر إلى المتكلم لاستحالة الترجي على عالم الغيب والشهادة الفاعل لما يشاء، ولا بالنظر إلى المخاطبين لأنهم حين الخلق لم يكونوا عالمين فكيف يتصور الرجاء منهم؟! ولا يجوز جعلها حالا مقدرة لأن المقدر حال الخلق التقوى لا رجاؤها فلا بد أن يحمل على المعنى المجازي بأن يشبه طلب التقوى منهم بعد اجتماع أسبابه ودواعيه بالترجي في أن متعلق كل واحد منهما مخير بين أن يفعل وأن لا يفعل مع رجحان ما بجانب الفعل فيستعمل كلمة - لعل - الموضوع له فيه فيكون استعارة تبعية أو تشبه صورة منتزعة من حال خالقهم بالقياس إليهم بعد أن مكنهم على التقوى وتركها مع رجحانها منهم بحال المرتجى بالقياس إلى المرتجى منه القادر على المرتجى، وتركه مع رجحان وجوده فيكون استعارة تمثيلية إلا أنه ذكر من المشبه به ما هو العمدة فيه أعني كلمة - لعل - أو تشبه ذواتهم بمن يرجى منه التقوى فيثبت له بعض لوازمه أعني الرجاء فيكون استعارة بالكناية، وجعل المشبه إرادته تعالى في الاستعارة والتمثيل نزغة اعتزالية مؤسسة على القاعدة القائلة بجواز تخلف المراد عن إرادته تعالى شأنه وبعضهم قال بالترجي هنا إلا أنه ليس من المتكلم ولا من المخاطب بل من غيرهما كما في قوله تعالى: * (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك) * (هود: 12) لأنه لما ولد كل مولود على الفطرة كان بحيث أن تأمله متأمل توقع منه رجاء أن يكون متقيا وليس بالبعيد، وإن جعلت حالا من فاعل * (خلقكم) * امتنعت الحقيقة أيضا وتعينت بعض الوجوه، وإن جعلت حالا من ضمير * (اعبدوا) * جاز إبقاء الترجي على حقيقته مصروفا إلى المخاطبين - أي راجين التقوى - والمراد بها حينئذ منتهى درجات السالكين وهو طرح الهوى ونبذ السوى والفوز بالمحبوب الأعلى وفي ذلك غاية المبتغى والعروج فوق سدرة المنتهى. وقد شاع ذلك عند الأقصى والأدنى وبذلك يصح الترغيب ويندفع ما قيل إن اللائق بالبلاغة القرآنية أن يعتبر من أول الأمر غاية عبادتهم وما هو لذة لهم - أعني الثواب - لا ما يشق عليهم وهو التقوى وإن كان مفضيا إليه ووجه الدفع ظاهر، وما قاله المولى التفتازاني من أن تقييد العبادة بترجي التقوى ليس له كثير معنى إنما المناسب تقييدها بالتقوى أو اقترانها برجاء ثوابها يدفعه أن في الترجي تنبيها على أن العابد ينبغي أن لا يفتر في عبادته ويكون ذا خوف ورجاء، نعم قالوا: الحال قيد لعاملها وهو هنا الأمر، فإن قلنا: إنه أعم من الوجوب فلا إشكال، وإن قلنا: إنه حقيقة في الوجوب اقتضى وجوب الرجاء المقيد به العبادة المأمور بها ولعله ليس بواجب والقول بأنه يقتضي وجوب المقيد دون القيد فيه كلام في الأصول لا يخفى على ذويه. وما أورد من أنه يلزم على هذا الوجه التوسط بين العصا ولحائها، فإن * (الذي جعل لكم الأرض) * (البقرة: 22) موصول بربكم صفة له - يجاب عنه بأن القطع يهون الفصل وإن كان هناك اتصال معنوي، وإن جعل * (الذي جعل) * مبتدأ - خبره (لا تجعلوا) كاد يزول الإشكال ويرتفع المقال، ومع هذا لا شك في مرجوحية هذا الوجه وإن أشعر كلام مولانا البيضاوي بأرجحيته، ثم لا يبعد أن يقال: إن المعنى في الآية على التعليل إما لأن (لعل) تجيء بمعنى كي كما ذهب إليه ابن الأنباري وغيره واستشهدوا بقوله:
فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا * نكف ووثقتم لنا كل موثق
أو لأنها تجيء للأطماع فيكنى به بقرينة المقام عن تحقق ما بعدها على عادة الكبراء، ثم يتجوز به عن كل متحقق
186

كتحقق العلة سواء كان معه إطماع أم لا على ما قيل. ولا يرد أن تعليل الخلق وهو فعله تعالى مما لم يجوزه أكثر الأشاعرة حيث منعواعليل أفعاله سبحان بالأغراض لئلا
يلزم استكماله - عز شأنه - بالغير وهو محال لأنا نقول الحق الذي لا محيص عنه أن أفعاله تعالى معللة بمصالح العباد مع أنه سبحانه لا يجب عليه الأصلح، ومن أنكر تعليل بعض الأفعال - لا سيما الأحكام الشرعية كالحدود - فقد كاد أن ينكر النبوة كما قاله مولانا صدر الشريعة، والوقوف على ذلك في كل محل مما لا يلزم، على أن بعضهم يجعل الخلاف في المسألة لفظيا لأن العلة إن فسرت بما يتوقف عليه ويستكمل به الفاعل امتنع ذلك في حقه سبحانه، وإن فسرت بالحكمة المقتضية للفعل ظاهرا مع الغنى الذاتي فلا شبهة في وقوعها ولا ينكر ذلك إلا جهول أو معاند، وإنما لم يقل سبحانه في النظم تعبدون لأجل - اعبدوا - أو اتقوا لأجل تتقون ليتجاوب طرفاه مع اشتماله على صنعة بديعة من رد العجز على الصدر لأن التقوى قصارى أمر العابد فيكون الكلام أبعث على العبادة وأشد إلزاما كذا قيل، وفي القلب منه شيء، وسبب حذف مفعول * (تتقون) * مما لا يخفى، وابن عباس رضي الله تعالى عنه يقدره الشرك، والضحاك النار، وأظنك لا تقدر شيئا، ولما أمر سبحانه المكلفين بعبادة الرب الواجد لهم ووصفه بما وصفه، ومعلوم أن الصفة آلة لتمييز الموصوف عما عداه وأن تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلية أشعرت الآية أن طريق معرفته تعالى والعلم بوحدانيته واستحقاقه العبادة النظر في صنعه، ولما كان التربية والخلق اللذان نيط بهما العبادة سابقين على طلبها فهم أن العبد لا يستحق ثوابا حيث أنعم عليه قبل العبادة بما لا يحصى مما لا تفي الطاقة البشرية بشكره ولا تقاوم عبادته عشر عشره، واستدل بالآية من زعم أن التكليف بالمحال واقع حيث أمر سبحانه بعبادته من آمن به ومن كفر بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون وأنهم عن ضلالتهم لا يرجعون، وقد تقدم الكلام في ذلك فارجع إليه.
* (الذى جعل لكم الارض فراشا والسمآء بنآء وأنزل من السمآء مآء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) *
* (الذي جعل لكم الأرض فراشا والسمآء بنآء) * الموصول إما منصوب على أنه نعت * (ربكم) * (البقرة: 21) أو بدل منه أو مقطوع بتقدير أخص أو أمدح وكونه مفعول * (تتقون) * (البقرة: 21) - كما قاله أبو البقاء - إعراب غث ينزه القرآن عنه، وكونه نعت الأول يرد عليه أن النعت لا ينعت عند الجمهور إلا في مثل يا أيها الفارس ذو الجمة، وفيه أيضا غير مجمع عليه، وإما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره جملة * (فلا تجعلوا) * والفاء قد تدخل في خبر الموصول بالماضي كقوله تعالى: * (إن الذين فتنوا المؤمنين) * إلى قوله تعالى: * (فلهم عذاب جهنم) * (البروح: 10) والاسم الظاهر يقوم مقام الرابط عند الأخفش والإنشاء يقع خبرا بالتأويل المشهور، ومع هذا كله الأولى ترك ما أوجبه وأبرد من يخ قول من زعم أنه مبتدأ خبره * (رزقا لكم) * بتقدير يرزق، و * (جعل) * بمعنى صير والمنصوبان بعده مفعولاه، وقيل: بمعنى أوجد وانتصاب الثاني على الحالية أي أوجد الأرض حالة كونها مفترشة لكم فلا تحتاجون للسعي في جعلها كذلك، ومعنى تصييرها فراشا أي كالفراش في صحة القعود والنوم عليها أنه سبحانه جعل بعضها بارزا عن الماء مع أن مقتضى طبعها أن يكون الماء محيطا بأعلاها لثقلها وجعلها متوسطة بين الصلابة واللين ليتيسر التمكن عليها بلا مزيد كلفة، فالتصيير باعتبار أنه لما كانت قابلة لما عدا ذلك فكأنه نقلت منه، وإن صح ما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الأرض خلقت قبل خلق السماء غير مدحوة فدحيت بعد خلقها ومدت فأمر التصيير حينئذ ظاهر إلا أن كل الناس غير عالمين به، والصفة يجب أن تكون معلومة للمخاطب والذهاب إلى الطوفان، واعتبار التصيير بالقياس إليه من اضطراب أمواج الجهل ولا ينافي كرويتها كونها فراشا لأن الكرة إذا عظمت كان كل قطعة منها كالسطح في افتراشه كما لا يخفى. وعبر سبحانه هنا بجعل وفيما تقدم بخلق لاختلاف المقام أو تفننا في التعبير كما في قوله تعالى: * (خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور) * (الأنعام: 1) وتقديم المفعول الغير الصريح
187

لتعجيل المسرة ببيان كون ما يعقبه من منافع المخاطبين أو للتشويق إلى ما يأتي بعده لا سيما بعد الاشعار بمنفعته فيتمكن عند وروده فضل تمكن، أو لما في المؤخر وما عطف عليه من نوع طول فلو قدم لفات تجاوب الأطراف، واختار سبحانه لفظ السماء على السموات موافقة للفظ الأرض وليس في التصريح بتعددها هنا كثير نفع، ومع هذا يحتمل أن يراد بها مجموع السموات، وكل طبقة وجهة منها، والبناء في الأصل مصدر أطلق على المبني بيتا كان أو قبة أو خباء أو طرافا، ومنه بنى بأهله أو على أهله خلافا للحريري لأنهم كانوا إذا تزوجوا ضربوا خباء جديدا ليدخلوا على العروس فيه، والمراد بكون السماء بناء أنها كالقبة المضروبة أو أنها كالسقف للأرض، ويقال لسقف البيت بناء، وروى هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقدم سبحانه حال الأرض لما أن احتياجهم إليها وانتفاعهم بها أكثر وأظهر، أو لأنه تعالى لما ذكر خلقهم ناسب أن يعقبه بذكر أول ما يحتاجونه بعده وهو المستقر أو ليحصل العروج من الأدنى إلى الأعلى، أو لأن خلق الأرض متقدم على خلق السماء كما يدل عليه ظواهر كثير من الآيات أو لأن الأرض لكونها مسكن النبيين ومنها خلقوا أفضل من السماء، وفي ذلك خلاف مشهور، وقرأ يزيد الشامي (بساطا)، وطلحة (مهادا) وهي نظائر، وأدغم أبو عمرو لام (جعل) في لام (لكم).
* (وأنزل من السمآء فأخرج فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) * عطف على (جعل) و * (من) * الأولى للابتداء متعلقة بأنزل أو بمحذوف وقع حالا من المفعول وقدم عليه للتشويق على الأول مع ما فيه من مزيد الانتظام مع ما بعد، أو لأن السماء أصله ومبدؤه ولتتأتى الحالية على الثاني إذ لو قدم المفعول وهو نكرة صار الظرف صفة، وذكر في " البحر " أن * (من) * على هذا للتبعيض أي من مياه السماء وهو كما ترى. والمراد من السماء جهة العلو أو السحاب وإرادة الفلك المخصوص بناء على الظواهر غير بعيدة نظرا إلى قدرة الملك القادر جل جلاله وسمت عن مدارك العقل أفعاله، إلا أن الشائع أن الشمس إذا سامتت بعض البحار والبراري أثارت من البحار بخارا رطبا ومن البراري يابسا، فإذا صعد البخاري إلى طبقة الهواء الثالثة تكاثف فإن لم يكن البرد قويا اجتمع وتقاطر لثقله بالتكاثف، فالمجتمع سحاب والمتقاطر مطر، وإن كان قويا كان ثلجا وبردا، وقد لا ينعقد ويسمى ضبابا. وفي كل شيء له آية * تدل على أنه واحد
وعلى هذا يراد بالنزول من السماء نشوؤه من أسباب سماوية وتأثيرات أثيرية فهي مبدأ مجازي له، على أن من انجاب عن عين بصيرته سحاب الجهل رأى أن كل ما في هذا العالم السفلي نازل من عرش الإرادة وسماء القدرة حسبما تقتضيه الحكمة بواسطة أو بغير واسطة كما يشير إليه قوله تعالى: * (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه
وما ننزله إلا بقدر معلوم) * (الحجر: 21) بل من علم أن الله سبحانه في السماء - على المعنى الذي أراده وبالوصف الذي يليق به مع التنزيه اللائق بحلال ذاته تعالى - صح له أن يقول: إن ما في العالمين من تلك السماء، ونسبة نزوله إلى غيرها أحيانا لاعتبارات ظاهرة وهي راجعة إليه في الآخرة. الماء معروف، وعرفه بعضهم بأنه جوهر سيال به قوام الحيوان ووزنه فعل وألفه منقلبة عن واو همزته بدل من هاء كما يدل عليه مويه ومياه وأمواه وتنوينه للبعضية، وخصه سبحانه بالنزول من السماء في كثير من الآيات تنويها بشأنه لكثرة منفعته ومزيد بركته، و * (من) * الثانية إما للتبعيض إذ كم من ثمرة لم تخرج بعد، فرزقا حينئذ بالمعنى المصدري مفعول له لأخرج و * (لكم) * ظرف لغو مفعول به
188

لرزق أي أخرج شيئا * (من الثمرات) * أي بعضها لأجل أنه رزقكم. وجوز أن يكون بعض الثمرات مفعول (أخرج)، و (رزقا) بمعنى مرزوقا حالا من المفعول أو نصبا على المصدر لأخرج، وإما للتبيين فرزق بمعنى مرزوق مفعول لأخرج و * (لكم) * صفته، وقد كان * (من الثمرات) * صفته أيضا إلا أنه لما قدم صار حالا على القاعدة في أمثاله، وفي تقديم البيان على المبين خلاف، فجوزه الزمخشري والكثيرون، ومنعه صاحب " الدر المصون " وغيره، واحتمال جعلها ابتدائية بتقدير من ذكر الثمرات أو تفسير الثمرات بالبذر تعسف لا ثمرة فيه، وأل في (الثمرات) إما للجنس أو للاستغراق وجعلها له، (ومن) زائدة ليس بشيء لأن زيادة (من) في الإيجاب وقبل معرفة مما لم يقبل به إلا الأخفش، ويلزم من ذلك أيضا أن يكون جميع الثمرات التي أخرجت رزقا لنا، وكم شجرة أثمرت ما لا يمكن أن يكون رزقا وأتى بجمع القلة مع أن الموضع موضع الكثرة فكان المناسب لذلك من الثمار للإيماء إلى أن ما برز في رياض الوجود بفيض مياه الجود كالقليل بل أقل قليل بالنسبة لثمار الجنة، ولما ادخر في ممالك الغيب أو للإشارة إلى أن أجناسها من حيث إن بعضها يؤكل كله وبعضها ظاهره فقط وبعضها باطنه فقط، المشير ذلك إلى ما يشير قليلة لم تبلغ حد الكثرة، وما ذكر الإمام البيضاوي وغيره من أنه ساغ هذا الجمع هنا لأنه أراد بالثمرات جمع ثمرة أريد بها الكثرة كالثمار مثلها في قولك: أدركت ثمرة بستانك، وليست التاء للوحدة الحقيقية بل للوحدة الاعتبارية، ويؤيده قراءة ابن السميقع (من الثمرة) أو لأن الجموع يتعاور بعضها موقع بعض كقوله تعالى: * (كم تركوا من جنات) * (الدخان: 25) و * (ثلاثة قروء) * (البقرة: 228) أو لأنها لما كانت محلاة باللام خرجت عن حد القلة لا يخلو صفاؤه عن كدر كما يسفر عنه كلام الشهاب، وإذا قيل: بأن جمع السلامة المؤنث والمذكر موضوع للكثرة أو مشترك والمقام يخصصه بها اندفع السؤال وارتفع المقال إلا أن ذلك لم يذهب إليه من الناس إلا قليل، والباء من (به) للسببية، والمشهور عند الأشاعرة أنها سببية عادية في أمثال هذا الموضع فلا تأثير للماء عندهم أصلا في الإخراج بل ولا في غيره وإنما المؤثر هو الله تعالى عند الأسباب لابها لحديث الاستكمال بالغير، قالوا: ومن اعتقد أن الله تعالى أودع قوة الري في الماء مثلا فهو فاسق وفي كفره قولان، وجمع على كفره كمن قال: إنه مؤثر بنفسه فيجب عندهم أن يعتقد المكلف أن الري جاء من جانب المبدأ الفياض بلا واسطة وصادف مجيئه شرب الماء من غير أن يكون للماء دخل في ذلك بوجه من الوجوه سوى الموافقة الصورية، والفقير لا أقول بذلك ولكني أقول: إن الله سبحانه ربط الأسباب بمسبباتها شرعا وقدرا، وجعل الأسباب محل حكمته في أمره الديني الشرعي وأمره الكوني القدري ومحل ملكه وتصرفه، فإنكار الأسباب والقوى جحد للضروريات وقدح في العقول والفطر ومكابرة للحس وجحد للشرع والجزاء، فقد جعل الله تعالى شأنه مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، والثواب والعقاب والحدود والكفارات والأوامر والنواهي والحل والحرمة كل ذلك مرتبطا بالأسباب قائما بها بل العبد نفسه وصفاته وأفعاله سبب لما يصدر عنه، والقرآن مملوء من إثبات الأسباب، ولو تتبعنا ما يفيد ذلك من القرآن والسنة لزاد على عشرة آلاف موضع حقيقة لا مبالغة، ويالله تعالى العجب إذا كان الله خالق السبب والمسبب وهو الذي جعل هذا سببا لهذا، والأسباب والمسببات طوع مشيئته وقدرته منقادة، فأي قد يوجب
189

فلا تشبهوه بخلقه فافهم، ويحتمل أن تكون الفاء زائدة مشعرة بالسببية وجملة النهي بتأويل القول خبر عن الذي على جعله مبتدأ، وقيل: الجملة متعلقة بالذي، والفاء جزاء شرط محذوف، والمعنى هو الذي جعل لكم ما ذكر من النعم المتكاثرة، وإذا كان كذلك: فلا تجعلوا الخ، والجعل هنا بمعنى التصيير وهو كما يكون بالفعل نحو صيرت الحديد سيفا، ومنه ما تقدم على وجه يكون بالقول والعقد. والأنداد جمع ند كعدل أو أعدال أو نديد كيتيم وأيتام والند مثل الشيء الذي يضاده ويخالفه في أموره وينافره ويتباعد عنه وليس من الأضداد على الأصح، وأصله من ند ندودا إذا نفر، وقيل: الند المشارك في الجوهرية فقط، والشكل المشارك في القدر والمساحة، والشبه المشارك في الكيفية فقط، والمساوي في الكمية فقط، والمثل عام في جميع ذلك، وفي تسمية ما يعبده المشركون من دون الله أندادا والحال أنهم ما زعموا أنها تماثله في ذاته تعالى وصفاته ولا تخالفه في أفعاله. وأنما عبدوها لتقربهم إليه سبحانه زلفى إشارة إلى استعارة تهكمية حيث استعير النظير المصادر للمناسب المقرب كما استعير التبشير للإنذار والأسد للجبان، وإن أريد بالند النظير مطلقا لم يكن هناك تضاد وإنما هو من استعارة أحد المتشابهين للآخر، فإن المشركين جعلوا الأصنام بحسب أفعالهم وأحوالهم مماثلة له تعالى في العبادة، وهي خطة شنعاء وصفة حمقاء في ذكرها ما يستلزم تحميقهم والتهكم بهم، ولعل الأول أولى، وفي الإتيان بالجمع تشنيع عليهم حيث جعلوا * (أندادا) * لمن يستحيل أن يكون له ند واحد، ولله در موحد الفترة زيد بن عمر بن نفيل رضي الله تعالى عنه حيث يقول في ذلك:
أربا واحدا أم ألف رب * أدين إذا تقسمت الأمور
تركت اللات والعزى جميعا * كذلك يفعل الرجل البصير
* (وأنتم تعلمون) * حال من ضمير (لا تجعلوا) والمفعول مطروح أي: وحالكم أنكم من أهل العلم والمعرفة والنظر وإصابة الرأي فإذا تأملتم أدنى تأمل علمتم وجود صانع يجب توحيده في ذاته وصفاته لا يليق أن يعبد سواه، أو مقدر حسبما يقتضيه المقام ويسد مسد مفعولي العلم، أي: تعلمون أنه سبحانه لا يماثله شيء، أو أنها لا تماثله ولا تقدر على مثل ما يفعله، والحال على الوجه الأول للتوبيخ أو التقييد إذ العلم مناط التكليف ولا تكليف عند عدم الإهلية، وعلى الوجه الثاني للتوبيخ لا غير لأن
قيد الحكم تعليق العلم بالمفعول، ومناط التكليف العلم فقط والتوبيخ باعتبار أفراد المخاطبين بالنهي بناء على عموم الخطاب حسبما مر في الأمر فلا يستدعي تخصيص الخطاب بالكفرة على أنه لا بأس بالتخصيص بهم أمرا ونهيا بل قيل: إنه أولى للخلاص من التكلف وحسن الانتظام إذ لا محيص في ظاهر آية التحدي من تجريد الخطاب وتخصيصه بالكفرة مع ما فيه من رباء محل المؤمنين ورفع شأنهم عن حيز الانتظام في سلك الكفرة اللئام والإيذان بأنهم مستمرون على الطاعة والعبادة مستغنون في ذلك عن الأمر والنهي فتأمل.
وقد تضمنت هذه الآيات من بدائع الصنعة ودقائق الحكمة وظهور البراهين ما اقتضى أنه تعالى المنفرد بالإيجاد المستحق للعبادة دون غيره من الأنداد التي لا تخلق ولا ترزق وليس لها نفع ولا ضر * (ألا له الخلق والأمر) * (الأعراف: 54) ومن باب الإشارة أنه تعالى مثل البدن بالأرض، والنفس بالسماء، والعقل بالماء، وما أفاض على القوابل من الفضائل العلمية والعملية المحصلة بواسطة استعمال العقل والحس، وازدواج القوى النفسانية والبدنية بالثمرات المتولدة من ازدواج القوى السماوية الفاعلة والأرضية المنفعلة بإذن الفاعل المختار، وقد يقال: إنه تعالى لما امتن عليهم بأنه سبحانه خلقهم والذين من قبلهم ذكر ما يرشدهم إلى معرفة كيفية خلقهم فجعل الأرض التي هي فراش مثل الأم التي يفترشها الرجل، وهي أيضا تسمى فراشا، وشبه السماء التي علت على الأرض بالأب الذي يعلو على الأم ويغشاها، وضرب
191

الماء النازل من السماء مثلا للنطفة التي تنزل من صلب الأب وضرب ما يخرج من الأرض من الثمرات مثلا للولد الذي يخرج من الأم، كل ذلك ليؤنس عقولهم ويرشدها إلى معرفة كيفية التخليق ويعرفها أنه الخالق لهذا الولد والمخرج له من بطن أمه كما أنه الخالق للثمرات ومخرجها من بطون أشجارها ومخرج أشجارها من بطن الأرض، فإذا وضح ذلك لهم أفردوه بالألوهية وخصوه بالعبادة وحصلت لهم الهداية: تأمل في رياض الأرض وانظر * إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات * على أهدابها ذهب سبيك
على قضب الزبرجد شاهدات * بأن الله ليس له شريك
* (وإن كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهدآءكم من دون الله إن كنتم ص‍ادقين) *
* (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) * لما قرر سبحانه أمر توحيده بأحسن أسلوب عقبه بما يدل على تصديق رسوله صلى الله عليه وسلم، والتوحيد والتصديق توأمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، فالآية وإن سيقت لبيان الإعجاز إلا أن الغرض منه إثبات النبوة، وفي التعقيب إشارة إلى الرد على التعليمية الذين جعلوا معرفة الله تعالى مستفادة من معرفة الرسول، والحشوية القائلين بعدم حصول معرفته سبحانه إلا من القرآن والأخبار، والعطف إما على قوله تعالى: * (اعبدوا ربكم) * (البقرة: 21) وعلى * (فلا تجعلوا) * (البقرة: 22) وتوجيه الربط بأنه لما أوجب سبحانه وتعالى العبادة ونفي الشرك بإزاء تلك الآيات والانقياد لها لا يمكن بدون التصديق بأنها من عنده سبحانه - أرشدهم بما يوجب هذا العلم، ولذا لم يقل جل شأنه وإن كنتم في ريب من رسالة عبدنا غير وجيه إذ يصير عليه البرهان العقلي سميعا ولو أريد ذلك لكفى اعبدوا، ولاتشركوا من دون تفصيل الأدلة الأنفسية والآفاقية، والظاهر أن الخطاب هنا للكفار وهو المروي عن الحسن، وقيل لليهود لما أن سبب النزول كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم قالوا هذا الذي يأتينا به محمد صلى الله عليه وسلم لا يشبه الوحي * (وإنا لفي شك منه) * وقيل: هو على نحو الخطاب في * (اعبدوا) * (البقرة: 21) وكلمة * (إن) * إما للتوبيخ على الارتياب وتصوير أنه مما لا ينبغي أن يثبت إلا على سبيل الفرض لاشتمال المقام على ما يزيله، أو لتغليب من لا قطع بارتيابهم على من سواهم، أو لأن البعض لما كان مرتابا والبعض غير مرتاب جعل الجميع كأنه لا قطع بارتيابهم ولا بعدمه وجعلها بمعنى إذا كما ادعاه بعض المفسرين خلاف مذهب المحققين وإيراد كلمة كان لإبقاء معنى المضي فانها لتمحضها للزمان لا تقبلها إن إلى معنى الاستقبال كما ذهب إليه المبرد وموافقوه والجمهور على أنها كسائر الأفعال الماضية، وقدر بعضهم بينها وبين إن يكن، أو تبين مثلا ولا يميل إليه الفؤاد، وتنكير الريب للاشعار بأن حقه إن كان أن يكون ضعيفا قليلا لسطوع ما يدفعه وقوة ما يزيله، وجعله ظرفا بتنزيل المعاني منزلة الأجرام واستقرارهم فيه وإحاطته بهم لا ينافي اعتبار ضعفه وقلته لما أن ما يقتضيه ذلك هو دوام ملابستهم به لا قوته وكثرته، و (من) ابتدائية صفة * (ريب) * ولا يجوز أن تكون للتبعيض وحملها على السببية ربما يوهم كون المنزل محلا للريب وحاشاه، و (ما) موصولة كانت أو موصوفة عبارة عن الكتاب، وقيل: عن القدر المشترك بينه وبين أبعاضه. ومعنى كونهم في ريب منه ارتيابهم في كونه وحيا من الله تعالى شأنه، والتضعيف في * (نزلنا) * للنقل وهو المرادف للهمزة، ويؤيد ذلك قراءة زيد بن قطيب (أنزلنا) وليس التضعيف هنا دالا على نزوله منجما ليكون إيثاره على الإنزال لتذكير منشأ ارتيابهم فقد قالوا: * (لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) * (الفرقان: 32) وبناء التحدي عليه إرخاء للعنان كما ذهب إليه الكثير ممن يعقد عند
192

ذكرهم الخناصر لأن ذلك قول بدلالة التضعيف على التكثير وهو إنما يكون غالبا في الأفعال التي تكون قبل التضعيف متعدية نحو فتحت وقطعت، و (نزلنا) لم يكن معتديا قبل، وأيضا التضعيف الذي يراد به التكثير إنما يدل على كثرة وقوع الفعل وأما على أنه يجعل اللازم متعديا فلا، والفعل هنا كان لازما فكون التعدي مستفادا من التضعيف دليل على أنه للنقل لا للتكثير، وأيضا لو كان نزل مفيدا للتنجيم لاحتاج قوله تعالى: * (لولا نزل عليه القرآن) * (الفرقان: 25) * (ملكا رسولا) * الفرقان: 32) إلى تأويل، لمنافاة العجز الصدر، وكذا مثل * (ولا نزل عليه آية) * (الأنعام: 37) و * (لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا) * (الإسرار: 95) وقد قرىء بالوجهين في كثير مما لا يمكن فيه التنجيم والتكثير وجعل هذا غير التكثير المذكور في النحو وهو التدريج بمعنى الاتيان بالشيء قليلا قليلا كما ذكروه في تسللوا حيث فسروه بأنهم يتسللون قليلا قليلا قالوا: ونظيره تدرج وتدخل ونحوه رتبه أي أتى به رتبة رتبة ولم يوجد غير ذلك، فحينئذ تكون صيغة فعل بعد كونها للنقل دالة على هذا المعنى إما مجازا أو اشتراكا فلا يلزم اطراده بعيد لا سيما مع خفاء القرينة، وفي تعدي (نزل) بعلى إشارة إلى استعلاء المنزل على المنزل عليه وتمكنه
منه وأنه صار كاللابس له بخلاف إلى إذ لا دلالة لها على أكثر من الانتهاء والوصول. وفي ذكره صلى الله عليه وسلم بعنوان العبودية مع الإضافة إلى ضمير الجلالة تنبيه على عظم قدره واختصاصه به وانقياده لأوامره، وفي ذلك غاية التشريف والتنويه بقدره صلى الله عليه وسلم: لا تدعني إلا بيا عبدها * فإنه أشرف أسمائي
وقرىء (عبادنا) فيحتمل أنه أريد بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته لأن جدوى المنزل والهداية الحاصلة به لا تختص بل يشترك فيها المتبوع والتابع فجعل كأنه نزل عليهم، ويحتمل أنه أريد به النبيون الذين أنزل عليهم الوحي والرسول صلى الله عليه وسلم أول مقصود وأسبق داخل لأنه الذي طلب معاندوه بالتحدي في كتابه، وفيه إيذان بأن الارتياب فيه، ارتياب فيما أنزل من قبله لكونه مصدقا له ومهيمنا عليه، وبعضهم جعل الخطاب على هذا لمنكري النبوات الذين حكى الله تعالى عنهم بقوله: * (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء) * (الأنعام: 91) وفي الآية التفات من الغائب إلى ضمير المتكلم وإلا لقال سبحانه - مما نزل على عبده - لكنه عدل سبحانه إلى ذلك تفخيما للمنزل أو المنزل عليه لا سيما وقد أتى ب (نا) المشعرة بالتعظيم التام وتفخيم الأمر رعاية لرفعة شأنه عليه الصلاة والسلام، والفاء من * (فأتوا) * جوابية وأمر السببية ظاهر، والأمر من باب التعجيز وإلقام الحجر كما في قوله تعالى: * (فأت بها من المغرب) * (البقرة: 258) وهو من الإتيان بمعنى المجيء بسهولة كيفما كان، ويقال في الخير والشر والاعيان والاعراض، ثم صار بمعنى الفعل والتعاطي ك‍ * (لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى) * (التوبة: 54) وأصل * (فأتوا) * فأتيوا فأعل الإعلال المشهور، وأتى شذوذا حذف الفاء فقيل (ت وتوا) والتنوين في (سورة) للتنكير أي ائتوا بسورة ما وهي القطعة من القرآن التي أقلها ثلاث آيات، وفيه من التبكيت والتخجيل لهم في الارتياب ما لا يخفى.
و * (من مثله) * إما أن يكون ظرفا مستقرا صفة لسورة والضمير راجع إما ل (ما) التي هي عبارة عن المنزل أو للعبد وعلى الأول يحتمل أن تكون من للتبعيض أو للتبيين، والأخفش يجوز زيادتها في مثله، والمعنى بسورة مماثلة للقرآن في البلاغة والأسلوب المعجز وهذا على الأخيرين ظاهر، وأما على التبعيض فلأنه لم يرد بالمثل مثل محقق معين للقرآن بل ما يماثله فرضا كما قيل: في مثلك لا يجهل، ولا شك أن بعضيتها للمماثل الفرضي لازمة
193

لمماثلتها للقرآن فذكر اللازم وأريد الملزوم سلوكا لطريق الكناية مع ما في لفظ (من) التبعيضية الدالة على القلة من المبالغة المناسبة لمقام التحدي، وبهذا رجح بعضهم التبعيض على التبيين مع ما في التبيين من التصريح بما علم ضمنا حيث إن المماثلة للقرآن تفهم من التعبير بالسورة إلا أنه مؤيد بما يأتي، وعلى الثاني يتعين أن تكون (من) للإبتداء مثلها في * (إنه من سليمان) * (النمل: 30) ويمتنع التبعيض والتبيين والزيادة امتناع الابتداء في الوجه الأول، وإما أن تكون صلة * (فأتوا) *.
والشائع أنه يتعين حينئذ عود الضمنير للعبد لأن (من) لا تكون بيانية إذ لا مبهم، ولكونه مستقرا أبدا لا تتعلق بالأمر لغوا ولا تبعيضية وإلا لكان الفعل واقعا عليه حقيقة كما في - أخذت من الدراهم - ولا معنى لإتيان البعض بل المقصد الاتيان بالبعض، ولا مجال لتقدير الباء مع وجود (من) ولأنه يلزم أن يكون * (بسورة) * ضائعا فتعين أن تكون ابتدائية، وحينئذ يجب كون الضمير للعبد لا للمنزل، وجعل المتكلم مبدأ عرفا للاتيان بالكلام منه معنى حسن مقبول بخلاف جعل الكل مبدأ للاتيان ببعض منه فإنه لا يرتضيه ذو فطرة سليمة، وأيضا المعتبر في مبدأ الفعل هو المبدأ الفاعلي أو المادي، أو الغائي، أو جهة يتلبس بها وليس الكل بالنسبة إلى الجزء شيئا من ذلك، وعليه يكون اعتبار مماثلة المأتي به للقرآن في البلاغة مستفادا من لفظ السورة، ومساق الكلام بمعونة المقام. واعترض بأن معنى (من) لا ينحصر فيما ذكر فقد تجيء للبدل نحو * (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) * (التوبه: 38) * (لجعلنا منكم ملائكة) * (الزخرف: 60) وللمجاوزة كعذت منه، فعلى هذا لو علق * (من مثله) * ب * (فأتوا) * وحمل (من) على البدل أو المجاوزة و - مثل - على المقحم ورجع الضمير إلى * (ما أنزلنا) * على معنى: فأتوا بدل ذلك الكتاب العظيم شأنه، الواضح برهانه أو مجاوزين من هذا الكتاب مع فخامة أثره وجلالة قدره بسورة فذة - لكان أبلغ في التحدي وأظهر في الإعجاز، على أن عدم صحة شيء مما اعتبر في المبدأ ممنوع فإن الملابسة بين الكل والبعض أقوى منها بين المكان والمتمكن، فكما يجوز جعل المكان مبدأ الفعل المتمكن يجوز أن يجعل الكل مبدأ للإتيان بالبعض، ولعل من قال ذلك لم يطرق سمعه قول سيبويه: وبمنزلة المكان ما ليس بمكان ولا زمان نحو - قرأت من أول السورة إلى آخرها، وأعطيتك من درهم إلى دينار - وأيضا فالاتيان ببعض الشيء تفريقه منه، ولا يستراب أن الكل مبدأ تفريق البعض منه، ويمكن أن يقال وهو الذي اختاره مولانا الشهاب أن المراد من الآية التحدي وتعجيز بلغاء العرب المرتابين فيه عن الإتيان بما يضاهيه، فمقتضى المقام أن يقال لهم: معاشر الفصحاء المرتابين في أن القرآن من عند الله ائتوا بمقدار أقصر سورة من كلام البشر محلاة بطراز الإعجاز ونظمه، وما ذكر يدل على هذا إذا كان من مثله صفة سورة سواء كان الضمير لما أو للعبد لأن معناه ائتوا بمقدار سورة تماثله في البلاغة كائنة من كلام أحد، مثل هذا العبد في البشرية فهو معجز للبشر عن الإتيان بمثله أو ائتوا بمقدار سورة من كلام هو مثل هذا المنزل ومثل الشيء غيره فهو من كلام البشر أيضا، فإذا تعلق ورجع الضمير للعبد فمعناه أيضا ائتوا من مثل هذا العبد في البشرية بمقدار سورة تماثله فيفيد ما ذكرنا، ولو رجع على هذا لما كان معناه ائتوا من مثل هذا المنزل بسورة، ولا شك أن (من) ليست بيانية لأنها لا تكون لغوا ولا تبعيضية لأن المعنى ليس عليه فهي ابتدائية والمبدأ ليس فاعليا بل ماديا، فحينئذ المثل الذي السورة بعض منه لم يؤمر بالإتيان به، فلا يخلو من أن يدعى وجوده وهو خلاف الواقع وابتناؤه على الزعم أو الفرض تعسف بلا مقتضى أولا ولا يليق بالتنزيل، وكيف يأتون ببعض من شيء لا وجود له؟! والحق عندي أن رجوع الضمير إلى كل من العبد، و (ما) على تقديري اللغو والاستقرار
194

أمر ممكن، ودائرة التأويل واسعة والاستحسان مفوض إلى الذوق السليم، والذي يدركه ذوقي - ولا أزكى نفسي - أنه على تقدير التعلق يكون رجوع الضمير إلى العبد أحلى، والبحث في هذه الآية مشهور، وقد جرى فيه بين العضد والجار بردي ما أدى إلى تأليف الرسائل في الانتصار لكل. وقد وفقت للوقوف على كثير منها والحمد لله، ونقلت نبذة منها في " الأجوبة العراقية " ثم أولى الوجوه هنا على الإطلاق جعل الظرف صفة للسورة والضمير للمنزل و * (من) * بيانية، أما أولا: فلأنه الموافق لنظائره من آيات التحدي كقوله تعالى: * (فأتوا بسورة مثله) * لأن المماثلة فيها صفة للمأتى به، وأما ثانيا: فلأن الكلام في المنزل لا المنزل عليه وذكره إنما
وقع تبعا ولو عاد الضمير إليه ترك التصريح بمماثلة السورة وهو عمدة التحدي وإن فهم، وأما ثالثا: فلأن أمر الجم الغفير - لأن يأتوا من مثل ما أتى به واحد من جنسهم - أبلغ من أمرهم بأن يجدوا أحدا يأتي ما أتى به رجل آخر، وأما رابعا: فلأنه لو رجع الضمير للعبد لأوهم أن إعجازه لكونه ممن لم يدرس ولم يكتب لا أنه في نفسه معجز مع أن الواقع هذا، وبعضهم رجح رد الضمير إلى العبد صلى الله عليه وسلم باشتماله على معنى مستبدع مستجد وبأنه الكلام مسوق للمنزل عليه إذ التوحيد والتصديق بالنبوة توأمان، فالمقصود إثبات النبوة والحجة ذريعة فلا يلزم من الافتتاح بذكر - ما نزلنا - أن يكون الكلام مسوقا له وبأن التحدي على ذلك أبلغ، لأن المعنى اجتمعوا كلكم وانظروا هل يتيسر لكم الإتيان بسورة ممن لم يمارس الكتب ولم يدارس العلوم؟! وضم بنات أفكار بعضهم إلى بعض معارض بهذه الحجة بل هي أقوى في الإفحام إذ لا يبعد أن يعارضوه بما يصدر عن بعض علمائهم مما اشتمل على قصص الأمم الخالية المنقولة من الكتب الماضية وإن كان بينهما بون إذ الغريق يتشبث بالحشيش، وأما إذا تحدى بسورة من أمي كذا وكذا لم يبق للعوارض مجال، هذا ولا يخفى أنه صرح ممرد ونحاس مموه، وظاهر السياق يؤيد ما قلنا ويلائمه ظاهرا كما سنبينه بمنه تعالى،
قوله تعالى: * (وادعوا شهدآءكم من دون الله إن كنتم ص‍ادقين) *.
الدعاء النداء والاستعانة، ولعل الثاني مجاز أو كناية مبنية على النداء لأن الشخص إنما ينادى ليستعان به، ومنه * (أغير الله تدعون) * (الأنعام: 40) والشهداء جمع شهيد أو شاهد، والشهيد كما قال الراغب: كل من يعتد بحضوره ممن له الحل والعقد، ولذا سموا غيره مخلفا وجاء بمعنى الحاضر، والقائم بالشهادة والناصر والإمام أيضا. و * (دون) * ظرف مكان لا ينصرف ويستعمل (بمن) كثيرا وبالباء قليلا، وخصه في " البحر " بمن (دونها) ورفعه في قوله: ألم تريا أني حميت حقيقتي * وباشرت حد الموت والموت دونها
نادر لا يقاس عليه ومعناها أقرب مكان من الشيء فهو كعند إلا أنها تنبىء عن دنو كثير وانحطاط يسير، ومنه دونك اسم فعل لا تدوين الكتب خلافا للبيضاوي كما قيل لأنه من الديوان الدفتر ومحله، وهي فارسي معرب من قول كسرى إذ رأى سرعة الكتاب في كتابتهم وحسابهم ديوانه. وقد يقال لا بعد فيما ذكره البيضاوي وديوان مما اشتركت فيه اللغتان، وقد استعمل في انحطاط محسوس لا في ظرف كدون زيد في القامة ثم استعير للتفاوت في المراتب المعنوية تشبيها بالمراتب الحسية كدون عمرو شرفا ولشيوع ذلك اتسع في هذا المستعار فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد ولو من دون تفاوت وانحطاط، وهو بهذا المعنى قريب من غير فكأنه أداة استثناء، ومن الشائع دون بمعنى خسيس فيخرج عن الظرفية ويعرف بأل ويقطع عن الإضافة كما في قوله: إذا ما علا المرء راح العلا * ويقنع (بالدون) من كان دونا
ومافي " القاموس " من أنه يقال رجل من دون، ولا يقال دون مخالف للدراية والرواية، وليس عندي
195

وجه وجيه في توجيهه، والمشهور أنه ليس لهذا فعل، وقيل يقال: دان يدين منه واستعماله بمعنى فضلا وعليه حمل قول أبي تمام: الود للقربى ولكن عرفه * للأبعد الأوطان (دون) الأقرب
لم يسلمه أرباب التنقير نعم قالوا: يكون بمعنى وراء كأمام وبمعنى فوق ونقيضا له. و (من) لابتداء الغاية متعلقة بادعوا، ودون تستعمل بمعنى التجاوز في محل النصب على الحال، والمعنى ادعوا إلى المعارضة من يحضركم أو من ينصركم بزعمكم متجاوزين الله تعالى في الدعاء بأن لا تدعوه، والأمر للتعجيز والإرشاد أو ادعوا من دون الله من يقيم لكم الشهادة بأن ما أتيتم به مماثله فإنه لا يشهدون، ولا تدعوا الله تعالى للشهادة بأن تقولوا الله تعالى شاهد وعالم بأنه مثله فإن ذلك علامة العجز والانقطاع عن إقامة البينة والأمر حينئذ للتبكيت والشهيد على الأول بمعنى الحاضر، وعلى الثاني بمعنى الناصر، وعلى الثالث بمعنى القائم بالشهادة، قيل: ولا يجوز أن يكون بمعنى الإمام بأن يكون المراد بالشهداء الآلهة الباطلة لأن الأمر بدعاء الأصنام لا يكون إلا تهكما، ولو قيل: ادعوا الأصنام ولا تدعوا الله تعالى ولا تستظهروا به لانقلب الأمر من التهكم إلى الامتحان إذ لا دخل لإخراج الله تعالى عن الدعاء في التهكم، وفيه أن أي تهكم وتحميق أقوى من أن يقال لهم استعينوا بالجماد ولا تلتفتوا نحو رب العباد؟ ولا يجوز حينئذ أن تجعل دون بمعنى القدام إذ لا معنى لأن يقال ادعوها بين يدي الله تعالى أي في القيامة للاستظهار بها في المعارضة التي في الدنيا، وجوزوا أن تتعلق من ب * (شهداءكم) * وهي للابتداء أيضا، و * (دون) * بمعنى التجاوز في محل النصب على الحال والعامل فيه معنى الفعل المستفاد من إضافة الشهداء أعني الاتخاذ، والمعنى ادعوا الذين اتخذتموهم أولياء من دون الله تعالى، وزعمتم أنها تشهد لكم يوم القيامة، ويحتمل أن يكون * (دون) * بمعنى أمام حقيقة أو مستعارا من معناه الحقيقي الذي يناسبه أعني به أدنى مكان من الشيء وهو ظرف لغو معمول لشهداء ويكفيه رائحة الفعل فلا حاجة إلى الاعتماد ولا إلى تقدير ليشهدوا، و (من) للتبعيض كما قالوا في: * (من بين يديه ومن خلفه) * (الرعد: 11) لأن الفعل يقع في بعض الجهتين، وظاهر كلام الدماميني في " شرح التسهيل ": أنها زائدة، وهو مذهب ابن مالك، والجمهور على أنها ابتدائية، والمعنى ادعوا الذين يشهدون لكم بين يدي الله عز وجل على زعمكم، والأمر للتهكم، وفي التعبير عن الأصنام بالشهداء ترشيح له بتذكير ما اعتقدوه من أنها من الله تعالى بمكان، وأنها تنفعهم بشهادتهم كأنه قايل: هؤلاء عدتكم وملاذكم فادعوهم لهذه العظيمة النازلة بكم فلا عطر بعد عروس، وما وراء عبادان قرية - ولم تجعل * (دون) * بمعنى التجاوز لأنهم لا يزعمون شركته تعالى مع الأصنام في الشهادة فلا وجه للإخراج، وقيل يجوز أن تكون * (من) * للابتداء والظرف حال ويحذف من الكلام مضاف، والمعنى: ادعوا شهداءكم من فصحاء العرب وهم أولياء الأصنام متجاوزين في ذلك أولياء الله ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بمثله، والمقصود بالأمر حينئذ إرخاء العنان والاستدراج إلى غاية التبكيت كأنه قيل: تركنا إلزامكم بشهداء الحق إلى شهدائكم المعروفين بالذب عنكم فإنهم أيضا لا يشهدون لكم حذارا من اللائمة وأنفة من الشهادة ألبتة البطلان، كيف لا وأمر الإعجاز قد بلغ من الظهور إلى حيث لم يبق إلى إنكاره سبيل؟ وإخراج الله تعالى على بعض الوجوه لتأكيد تناول المستثنى منه بجميع ما عداه لا لبيان استبداده تعالى بالقدرة على ما كلفوه لإيهامه أنهم لو دعوه تعالى
لأجابهم إليه وعلى بعض للتصريح من أول الأمر ببراءتهم منه تعالى وكونهم في عروة المحادة والمشاقة له قاصرين استظهارهم على ما سواه، والالتفات إما لإدخال الروع وتربية المهابة أو للإيذان بكمال سخافة عقولهم حيث آثروا على عبادة من له الألوهية الجامعة عبادة من لا أحقر منه والصدق مطابقة الواقع والمذاهب فيه مشهورة، وجواب * (إن) * محذوف
196

لدلالة الاول عليه وليس هو جوابا لهما، وكذا متعلق الصدق أي: إن كنتم صادقين بزعمكم في أنه كلام البشر أوفي أنكم تقدرون على معارضته فأتوا، وادعوا فقد بلغ السيل الزبى، وهذا كالتكرير للتحديد والتأكيد له، ولذا ترك العطف وجعل المتعلق الارتياب لتقدمه مما لا ارتياب في تأخره لأن الارتياب من قبيل التصور الذي لا يجري فيه صدق ولا كذب، والقول بأن المراد: إن كنتم صادقين في احتمال أنه كذا مع ما فيه من التكلف لا يجدي نفعا لأن الاحتمال شك أيضا، ومن التكلف بمكان قول الشهاب: إن المراد من النظم الكريم الترقي في إلزام الحجة، وتوضيح المحجة، فالمعنى إن ارتبتم فأتوا بنظيره ليزول ريبكم ويظهر أنكم أصبتم فيما خطر على بالكم وحينئذ فإن صدقت مقالتكم في أنه مفتري فأظهروها ولا تخافوا هذا، ووجه ملائمة الآية لما قلناه في الآية السابقة أنه سبحانه وتعالى أمرهم بالاستعانة إما حقيقة أو تهكما بكل ما يعينهم بالإمداد في الإتيان في المثل أو بالشهادة على أن المأتي به مثل ولا شك أن ذلك إنما يلائم إذا كانوا مأمورين بالإتيان بالمثل بخلاف ما إذا كان المأمور واحدا منهم فإنهم باعثون له على الاتيان فالملائم حينئذ نسبة الشهداء إليه لأنهم شهداء له، وإن صح نسبته إليهم باعتبار مشاركتهم إياه في تلك الدعوى بالتحريك والحث والقول بأنهم مشاركون للمأتي منه في دعوى المماثلة ليس بشيء لأنه شهادة على المماثلة ثم ترجيح رجوع الضمير للمنزل يقتضي ترجيح كون الظرف صفة للسورة أيضا، وقد أورد ههنا أمور طويلة لا طائل تحتها.
* (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التى وقودها الناس والحجارة أعدت للك‍افرين) *
* (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة) * فذلكة لما تقدم فلذا أتى بالفاء أي إذا بذلتم في السعي غاية المجهود وجاوزتم في الحد كل حد معهود متشبثين بالذيول راكبين متن كل صعب وذلول وعجزتم عن الإتيان بمثله وما يداينه في أسلوبه وفضله ظهر أنه معجز والتصديق به لازم فآمنوا واتقوا النار، وأتى بأن والمقام لاذا لاستمرار العجز وهو سبحانه وتعالى اللطيف الخبير تهكما بهم كما يقول الواثق بالغلبة لخصمه إن غلبتك لم أبق عليك، وتحميقا لهم لشكهم في المتيقن الشديد الوضوح، ففي الآية استعارة تهكمية تبعية حرفية أو حقيقة وكناية كسائر ما جاء على خلاف مقتضى الظاهر، وقد يقال عبر بذلك نظرا لحال المخاطبين فإن العجز كان قبل التأمل كالمشكوك فيه لديهم لاتكالهم على فصاحتهم، و * (تفعلوا) * مجزوم بلم ولا تنازع بينها وبين * (إن) *، وإن تخيل، وقد صرح ابن هشام بأنه لا يكون بين الحروف لأنها لا دلالة لها على الحدث حتى تطلب المعمولات إلا أن ابن العلج أجازه استدلالا بهذه الآية، ورد بأن (إن) تطلب مثبتا، و (لم) منفيا، وشرط التنازع الاتحاد في المعنى فإن هنا داخلة على المجموع عاملة في محله كأنه قال: فإن تركتم الفعل، فيفيد الكلام استمرار عدم الاتيان المحقق في الماضي وبهذا ساغ اجتماعهما وإلا فبين مقتضاهما الاستقبال والمضي تناف، نعم قيل في ذلك إشكال لم يحرر دفعه بعد بما يشفي العليل: وهو أن المحل إن كان للفعل وحده لزم توارد عاملين في نحو إن لم يقمن وإن كان للجملة يرد أنهم لم يعدوها مما لها محل أو للمحل مع الفعل فلا نظير له فلعلهم يتصيدون فعلا مما بعدها ويجزمونه بها وهو كما ترى، وعبر سبحانه عن الفعل الخاص حيث كان الظاهر فإن لم تأتوا بسورة من مثله بالفعل المطلق العام ظاهرا لإيجاز القصر، وفيه إيذان بأن المقصود بالتكليف إيقاع نفس الفعل المأمور به لإظهار عجزهم عنه لا تحصيل المفعول ضرورة استحالته، وإن مناط الجواب في الشرطية أعني الأمر بالاتقاء هو عجزهم عن إيقاعه لافوت حصول المقصود، وقيل: أطلق الفعل وأريد به الإتيان مع ما يتعلق به على طريقة ذكر اللازم وإرادة الملزوم لما بينهما من التلازم المصحح للانتقال بمعونة قرائن الحال، أو على طريقة التعبير
197

عن الأسماء الظاهرة بالضمائر الراجعة إليها حذرا من التكرير، والظاهر أن فيما عبر به إيجازا وكناية وإيهام نفي الإتيان بالمثل وما يدانيه بل وغيره، وإن لم يكن مرادا (ولن) كلا في نفي المستقبل وإن فارقتها بالاختصاص بالمضارع، وعمل النصب إلا فيما شذ من الجزم بها في قوله: (لن) يخب الآن من رجالك ومن * حرك من دون بابك الحلقة
ولا تقتضي النفي على التأبيد وإن أفادت التأكيد والتشديد ولا طول مدة أو قلتها خلافا لبعضهم، وليس أصلها (لا أن) كما روي عن الخليل فحذفت الهمزة لكثرتها وسقطت الألف للساكنين وتغير الحكم وصار (لن) تضرب كلاما تاما دون أن ومصحوبها، وقيل به لقوله: يرجى المرء ما (لا أن) يلاقيه * ويعرض دون أقربه الخطوب
واحتمال زيادة أن يوهن الاحتجاج ولا لا كما عند الفراء فأبدلت ألفه نونا إذ لا داعي إلى ذلك وهو خلاف الأصل، والجملة اعتراض بين جزئي الشرطية ظاهرا مقرر لمضمون مقدمها ومؤكد لإيجاد العمل بتاليها وهذه معجزة باهرة حيث أخبر بالغيب الخاص علمه به سبحانه وقد وقع الأمر كذلك، كيف لا ولو عارضوه بشيء يدانيه لتناقله الرواة لتوفر الدواعي؟ وما أتى به نحو مسيلمة الكذاب مما تضحك منه الثكلى لما يقصد به المعارضة وإنما ادعاه وحيا. وقوله سبحانه: * (فاتقوا) * جواب للشرط على أن اتقاء النار كناية عن ظهور إعجازه المقتضي للتصديق والإيمان به أو عن الإيمان نفسه، وبهذا يندفع ما يتوهم من أن اتقاء النار لازم من غير توقف على هذا الشرط فما معنى التعليق، وأيضا الشرط سبب أو ملزوم للجزاء، وليس عدم الفعل سببا للاتقاء ولا ملزوما له فكيف وقع جزاء له، وبعضهم قدر لذلك جوابا، والتزمه جملة خبرية لأن الإنشائية لا تقع جزاء كما لا تقع خبرا إلا بتأويل، والزمخشري لا يوجب ذلك فيها لعدم الحمل المقتضي له، والوقود بالفتح كما قرأ به الجمهور ما يوقد به النار، وكذا كل ما كان على فعول اسم لما يفعل به في المشهور، وقد يكون مصدرا عند بعض، وحكوا ولوعا، وقبولا، ووضوءا، وطهورا،
ووزوعا، ولغوبا. وقرأ عبيد بن عمير (وقيدها) وعيسى بن عمير وغيرها * (وقودها) * بالضم. فإن كان اسما لما يوقد به كالمفتوح فذاك وإن كان مصدرا كما قيل في سائر ما كان على فعول فحمله على النار للمبالغة أو للتجوز فيه أو في التشبيه أو بتقدير مضاف أولا: كذو وقودها أو ثانيا: كاحتراق وهو نفسه خارجا غير مفهوما وذاك مصداق الحمل، وحكي أن من العرب من يجعل المفتوح مصدرا والمضموم اسما فينعكس الحال فيما نحن فيه. والحجارة كحجار جمع كثرة لحجر، وجمع القلة أحجار وجمع فعل بفتحتين على فعال شاذ، وابن مالك في " التسهيل " يقول: إنه اسم جمع لغلبة وزنه في المفردات وهو الظاهر، والمراد بها على ما صح عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم، ولمثل ذلك حكم الرفع حجارة الكبريت، وفيها من شدة الحر وكثرة الالتهاب وسرعة الإيقاد ومزيد الالتصاق بالأبدان، وإعداد أهل النار أن يكونواحطبا مع نتن ريح وكثرة دخان ووفور كثافة ما نعوذ بالله منه، وفي ذلك تهويل لشأن النار وتنفير عما يجر إليها بما هو معلوم في الشاهد، وإن كان الأمر وراء ذلك فالعالم وراء هذا العالم وعيلم قدرة الجبار سبحانه وتعالى يضمحل فيه هذا العيلم، وقيل: المراد بها الأصنام التي ينحتونها وقرنها بهم في الآخرة زيادة لتحسرهم حيث بدا لهم نقيض ما كانوا يتوقعون، وهناك يتم لهم نوعان من العذاب روحاني وجسماني، ويؤيد هذا قوله تعالى: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) * (الأنبياء: 98)
198

وحملها على الذهب والفضة لأنهما يسميان حجرا - كما في " القاموس " - دون هذين القولين، الأصح أولهما: عند المحدثين وثانيهما: عند الزمخشري؛ ويشير إليه كلام الشيخ الأكبر قدس سره. وأل فيها على كل ليست للعموم، وذهب بعض أهل العلم إلى أنها له، ويكون المعنى أن النار التي وعدوا بها صالحة لأن تحرق ما ألقي فيها من هذين الجنسين؛ فعبر عن صلاحيتها واستعدادها بالأمر المحقق، وذكر الناس والحجارة تعظيما لشأن جهنم وتنبيها على شدة وقودها ليقع ذلك في النفوس أعظم موقع ويحصل به من التخويف ما لا يحصل بغيره وليس المراد الحقيقة وهوخلاف الظاهر والمتبادر من الآيات، ويوشك أن يكون سوء ظن بالقدرة ولا يتوهم من الاقتصار على هذين الجنسين أن لا يكون في النار غيرهما بدليل ما ذكر في غير موضع من كون الجن والشياطين فيها أيضا، نعم قال سيدي الشيخ الأكبر قدس سره: أنهم لهبها وأولئك جمرها، وبدأ سبحانه بالناس لأنهم الذين يدركون الآلام أو لكونهم أكثر إيقادا من الجماد لما فيهم من الجلود واللحوم والشحوم ولأن في ذلك مزيد التخويف، وإنما عرف النار وجعل الجملة - صلة وأنها يجب أن تكون قصة معلومة لأن المنكر في سورة التحريم نزل أولا فسمعوه بصفته فلما نزل هذا بعد جاء معهودا فعرف وجعلت صفته صلة وكون الصفة كذلك الخطيب فيه هين لما أن المخاطب هناك المؤمنون، وظاهر أنهم سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن في كون سورة التحريم نزلت أولا مقالا فتأمل
* (أعدت للكفرين) * ابتداء كلام قطع عما قبله مع أن مقتضى الظاهر أن يعطف على الصلة السابقة اعتناء بشأنه بجعله مقصودا بالذات بالإفادة مبالغة في الوعيد، وجعله استئنافا بيانيا بأن يقدر لمن أعدت أو لم كان وقودها كذا وكذا، فمع عدم مساعدة عطف - بشر - الآتي على البناء للمفعول عليه لأنه لا يصلح للجواب إلا أن يقال المعطوف على الاستئناف لا يجب أن يكون استئنافا يأبى عنه الذوق، أما الأول: فلأن السياق لا يقتضيه، وأما الثاني: فلأن المقصد من الصلة التهويل، فالسؤال - بلم كان شأن النار كذا - مما لا معنى له، والجواب غير واف به وجعله حالا من النار باضمار قد والخبر من أجزاء الصلة لذي الحال لا من ضمير * (وقودها) * للجمود أو لوقوع الفصل بالخبر الأجبني حينئذ - ليس بشيء إذ لا يحسن التقييد بهذه الحال إلا أن يقال إنها لازمة بمنزلة الصفة فيفيد المعنى الذي تفيده الصلة، ولذا قيل: إنها صلة بعد صلة وتعدد الصلات كالصفات والاخبار كثير بعاطف وبدونه كما نص عليه الإمام المرزوقي وإن لم يظفر به السعد، أو معطوف بحذف الحرف كما صرح به ابن مالك وجعله صلة. و * (وقودها الناس) * إما معترضة للتأكيد أو حال مما لا ينبغي أن يخرج عليه التنزيل، ومعنى: * (أعدت) * هيئت، وقرأ عبد الله (اعتدت) من العتاد بمعنى العدة، وابن أبي عبلة (أعدها الله للكافرين) والمراد إما جنسهم والمخاطبون داخلون فيهم دخولا أوليا أو هم خاصة ووضع الظاهر موضع ضميرهم حينئذ لذمهم وتعليل الحكم بكفرهم وكون الإعداد للكافرين لا ينافي دخول غيرهم فيها على جهة التطفل فلا حاجة إلى القول بأن نار العصاة غير نار الكفار. ثم ما يتبادر من الآية الكريمة أن النار مخلوقة الآن والله تعالى أعلم بمكانها في واسع ملكه، وجعل المستقبل لتحققه ماضيا - كنفخ في الصور - والإعداد مثله في * (أعد الله لهم مغفرة وأجرا) * (الأحزاب: 35) كما يقول المعتزلة خلاف الظاهر، والذي ذهب أهل الكشف إليه أنها مخلوقة غير أنها لم تتم وهي الآن عندهم دار حرروها هواء محترق لا جمر لها ألبتة ومن فيها من الزبانية في رحمة منعمون يسبحون الله تعالى لا يفترون وتحدث فيها الآلام بحدوث أعمال الإنس والجن الذين يدخلونها، ولذا يختلف عذاب داخليها وحدها بعد الفراغ من الحساب ودخول
199

أهل الجنة الجنة من مقعر فك الثوابت إلى أسفل السافلين، فهذا كله يزاد إلى ما هو الآن. ولذا كان يقول عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: إذا رأى البحر يا بحر متى تعود نارا، وكان يكره الوضوء بمائه ويقول: التيمم أحب إلي منه وقال تعالى: * (وإذا البحار سجرت) * (التكوير: 6) أي أججت، وليس للكفار اليوم مكث فيها وإنما يعرضون عليها كما قال تعالى: * (بكرة وعشيا) * (مريم: 62) وهي ناران حسية مسلطة على ظاهر الجسم، والإحساس والحيوانية، ومعنوية وهي: * (التي تطلع على الأفئدة) * (الهمزة: 7) وبها يعذب الروح المدبر للهيكل الذي أمر فعصى، والمخالفة وهي عين الجهل بمن استكبر عليه أشد العذاب، وقد أطالوا الكلام في ذلك وأتوا بالعجب العجاب، وحقيق الأمر عندي لا يعلمها إلا الله تعالى ولا شيء أحسن من التسليم لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فكيفية ما في تلك النشأة الأخروية مما لا يمكن أن تعلم كما ينبغي لمن غرق في بحار العلائق الدنيوية - وماذا على إذا آمنت بما جاء مما أخبر به الصادق من الأمور السمعية مما لا يستحيل على ما جاء وفوضت الأمر إلى خالق الأرض والسماء أسأل الله تعالى أن يثبت قلوبنا على دينه.
* (وبشر الذين ءامنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذى رزقنا من قبل وأتوا به متشبها ولهم فيهآ
أزوج مطهرة وهم فيها خلدون) *
* (وبشر الذين ءامنوا وعملوا الص‍الح‍ات) * لما ذكر سبحانه وتعالى فيما تقدم الكفار وما يؤول إليه حالهم في الآخرة وكان في ذلك أبلغ التخويف والإنذار عقب بالمؤمنين وما لهم جريا على السنة الإلهية من شفع الترغيب بالترهيب والوعد بالوعيد لأن من الناس من لا يجديه التخويف ولا يجديه وينفعه اللطف، ومنهم عكس ذلك فكأن هذا وما بعده معطوف على سابقه عطف القصة على القصة، والتناسب بينهما باعتبار أنه بيان لحال الفريقين المتباينين وكشف عن الوصفين المتقابلين، وهل هو معطوف على * (وإن كنتم) * (البقرة: 23) إلى * (أعدت) * (البقرة: 24) أو على * (فإن لم تفعلوا) * (البقرة: 24) الآية قولان؟ اختار السيد أولهما، وادعى بعضهم أنه أقضى لحق البلاغة، وادعى لتلائم النظم لأن * (يا أيها الناس اعبدوا) * (البقرة: 21) خطاب عام يشمل الفريقين * (وإن كنتم) * الخ مختص بالمخالف ومضمونه الإنذار * (وبشر) * الخ مختص بالموافق ومضمونه البشارة كأنه تعالى أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو الناس إلى عبادته، ثم أمر أن ينذر من عاند ويبشر من صدق، والسعد اختار ثانيهما لأن السوق لبيان حال الكفار ووصف عقابهم. وقيل عطف على * (فاتقوا) * (البقرة: 24) وتغاير المخاطبين لا يضر ك‍ * (يوسف أعرض عن هذا واستغفري) * (يوسف: 29) وترتبه على الشرط بحكم العطف باعتبار أن - اتقوا - إنذار وتخويف للكفار * (وبشر) * تبشيرا للمؤمنين، وكل منهما مترتب على عدم المعارضة بعدم التحدي لأن عدم المعارضة يستلزم ظهور إعجازه وهو يستلزم استيجاب منكره العقاب، ومصدقه الثواب لأن الحجة تمت والدعوة كملت، واستيجابهما إياهما يقتضي الإنذار والتبشير، فترتب الجملة الثانية على الشرط ترتب الأولى عليه بلا فرق، وقد يقال إن الجزاء (فآمنوا) محذوفا والمذكور قائم مقامه؛ فالمعنى إن لم تأتوا بكذا فآمنوا * (وبشر الذين آمنوا) * أي فليوجد إيمان منهم وبشارة منك ووضع الظاهر موضع الضمير، وفيه حث لهم على الإيمان، ولعله أقل مؤنة. واختار صاحب " الإيضاح " عطفه على - أنذر - مقدرا بعد جملة * (أعدت) * وقيل: عطف على - قل - قبل * (وإن لم تفعلوا) * وتقديره قبل * (يا أيها الناس) * (البقرة: 21) يحوج إلى إجراء * (مما نزلنا على عبدنا) * (البقرة: 23) على طريقة كلام العظماء، أو تقدير قال الله بعد قل، والبشارة - بالكسر والضم - اسم من بشر بشرا وبشورا - وتفتح الباء - فتكون بمعنى الجمال، وفي الفعل لغتان، التشديد وهي العليا، والتخفيف وهي لغة أهل تهامة، وقرىء بهما في المضارع في مواضع والتكثير في المشدد بالنسبة إلى المفعول، فإن واحدا كان فعل فيه مغنيا عن فعل، وفسروها في المشهور، وصحح بالخبر السار الذي ليس عند المختبر علم به، واشترط بعضهم أن يكون صدقا، وعن سيبويه إنها خبر يؤثر في البشرة حزنا أو سرورا وكثر استعماله في الخير، وصححه في " البحر " * (فبشرهم بعذاب أليم) * (آل عمران: 21) ظاهر عليه، ومن باب التهكم
200

على الأول والمأمور بالتبشير البشير النذير صلى الله عليه وسلم، وقيل: كل من يتأتى منه ذلك كما في قوله صلى الله عليه وسلم " بشر المشائين إلى المساجد " الحديث ففيه رمز إلى أن الأمر لعظمته حقيق بأن يتولى التبشير به كل من يقدر عليه ويكون هناك مجاز إن كان الضمير موضوعا لجزئي بوضع كلي وإلا ففي الحقيقة والمجاز كلام في محله، ولم يخاطب المؤمنون كما خوطب الكفرة تفخيما لشأنهم وإيذانا تاما فإنهم أحقاء بأن يبشروا ويهنئوا بما أعد لهم، وقيل: تغيير للأسلوب لتخييل كمال التباين بين حال الفريقين، وعندي أنه سبحانه لما كسى رسوله صلى الله عليه وسلم حلة عبوديته في قوله: * (مما نزلنا على عبدنا) * (البقرة: 23) ناسب أن يطرزها بطراز التكليف بما يزيد حب أحبابه له فيزدادوا إيمانا إلى إيمانهم، وفي ذلك من اللطف به صلى الله عليه وسلم وبهم ما لا يخفى.
وقرأ زيد بن علي (وبشر) مبنيا للمفعول وهو معطوف على * (أعدت) * (البقرة: 24) كما اشتهر، وقيل: إنه خبر معنى الأمر فتوافق القراءتان معنى وعطفا، وتعليق التبشير بالموصول للإشعار بأنه معلل بما في حيز الصلة من الإيمان والعمل الصالح لكن لا لذاتهما بل بجعل الشارع ومقتضى وعده، وجعل صلته فعلا مفيدا للحدوث بعد إيراد الكفار بصيغة الفاعل لحث المخاطبين بالاتقاء على إحداث الإيمان وتحذيرهم من الاستمرار على الكفر، ثم لا يخفى أن كون مناط البشارة مجموع الأمرين لا يقتضي انتفاء البشارة عند انتفائه فلا يلزم من ذلك أن لا يدخل بالإيمان المجرد الجنة كما هو رأي المعتزلة على أن مفهوم المخالفة ظني لا يعارض النصوص الدالة على أن الجنة جزاء مجرد الإيمان، ومتعلق * (آمنوا) * مما لا يخفى، وقدره بعضهم هنا بأنه منزل من عند الله عز وجل، و (الصالحات) جمع صالحة وهي في الأصل مؤنث الصالح اسم فاعل من صلح صلوحا وصلاحا خلاف فسدت، ثم غلبت على ما سوغه الشرع وحسنه، وأجريت مجرى الأسماء الجامدة في عدم جريها على الموصوف وغيره، وتأنيثها على تقدير الخلة وللغلبة ترك، ولم تجعل التاء للنقل لعدم صيرورتها اسما و - أل - فيها للجنس لكن لا من حيث تحققه في الأفراد إذ ليس ذلك في وسع المكلف ولو أريد التوزيع يلزم كفاية عمل واحد بل في البعض الذي يبقى مع إرادته معناه الأصلي الجنسية مع الجمعية وهو الثلاثة أو الاثنان، والمخصص حال المؤمن فما يستطيع من الأعمال الصالحة بعد حصول شرائطه هو المراد، فالمؤمن الذي لم يعمل أصلا أو عمل عملا واحدا غير داخل في الآية، ومعرفة كونه مبشرا من مواقع أخر، وبعضهم جعل فيها شائبة التوزيع بأن يعمل كل ما يجب من الصالحات إن وجب قليلا كان أو كثيرا، وأدخل من أسلم ومات قبل أن يجب عليه شيء أو وجب شيء واحد، وليس هذا توزيعا في المشهور - كركب القوم دوابهم - إذ قد يطلق أيضا على مقابلة أشياء بأشياء أخذ كل منها ما يخصه سواء الواحد الواحد كالمثال أو الجمع الواحد كدخل الرجال مساجد محلاتهم أو العكس كلبس القوم ثيابهم ومنه * (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم) * (المائدة: 6) والسيد يسمي هذا شائبة التوزيع.
* (أن لهم جن‍ات تجري من تحتها الأنه‍ار) * أراد سبحانه: * (بأن لهم) * الخ لتعدي البشارة بالباء فحذف لاطراد حذف الجار مع - أن، وأن - بغير عوض لطولهما بالصلة، ومع غيرهما فيه خلاف مشهور، وفي المحل بعد الحذف قولان، النصب بنزع الخافض كما هو المعروف في أمثاله، والجر لأن الجار بعد الحذف قد يبقى أثره ولام الجر للاستحقاق وكيفيته مستفادة من خارج ولا استحقاق بالذات فهو بمقتضى وعد الشارع الذي لا يخلفه فضلا وكرما لكن بشرط الموت على الإيمان،
والجنة في الأصل المرة من الجن بالفتح مصدر جنه إذا ستره، ومدار التركيب على الستر ثم سمي بها البستان الذي سترت أشجاره أرضه أو كل أرض فيها شجر ونخل
201

فإن كرم ففردوس، وأطلقت على الأشجار نفسها ووردت في شعر الأعشى بمعنى النخل خاصة ثم نقلت وصارت حقيقة شرعية في دار الثواب إذ فيها من النعيم " مالا، ولا " مما هو مغيب الآن عنا، وجمعت جمع قلة في المشهور لقلتها عددا كقلة أنواع العبادات ولكن في كل واحدة منها مراتب شتى ودرجات متفاوتة على حسب تفاوت الأعمال والعمال، وما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها سبع لم يقف على ثبوته الحفاظ، وتنوينها إما للتنويع أو للتعظيم، وتقديم الخبر لقرب مرجع الضمير وهو أسر للسامع، والشائع التقديم إذا كان الاسم نكرة ك‍ * (إن لنا لأجرا) * (الأعراف: 113) وتحت ظرف مكان لا يتصرف فيه بغير (من) كما نص عليه أبو الحسن، والضمير للجنات فإن أريد الأشجار فذاك مع ما فيه قريب في الجملة وإن أريد الأرض قيل - من تحت أشجارها - أو عاد عليها باعتبار الأشجار استخداما ونحوه، وقيل: إن تحت بمعنى جانب كداري تحت دار فلان وضعف كالقول - من تحت أوامر أهلها - وقيل: منازلها، وإن أريد مجموع الأرض والأشجار فاعتبار التحتية - كما قيل - بالنظر إلى الجزء الظاهر المصحح لإطلاق الجنة على الكل والوارد في الأثر الصحيح عن مسروق إن أنهار الجنة تجري في غير أخدود، وهذا في أرض حصباؤها الدر والياقوت أبلغ في النزهة وأحلى في المنظر وأبهج للنفس: وتحدث الماء الزلال مع الحصى * فجرى النسيم عليه يسمع ما جرى
والأنهار جمع نهر - بفتح الهاء وسكونها - والفتح أفصح، وأصله الشق، والتركيب للسعة ولو معنوية - كنهر السائل - بناء على أنه الزجر البليغ فأطلق على ما دون البحر وفوق الجدول، وهل هو نفس مجرى الماء أو الماء في المجرى المتسع؟ قولان: أشهرهما الأول، وعليه فالمراد مياهها أو ماؤها، وتأنيث * (تجري) * رعاية للمضاف إليه أو للفظ الجمع، وفي الكلام مجاز في النقص أو في الطرف (أولا، ولا) والإسناد مجازي، و - أل - للعهد الذهني قيل: أو الخارجي لتقدم ذكر الأنهار في قوله تعالى: * (فيها أنهار من ماء) * (محمد: 15) الآية فإنها مكية على الأصح، وذي مدنية نزلت بعدها، واستبعده السيد والسعد، وقيل: عوض عن المضاف إليه - أي أنهارها - وهو مذهب كوفي، وحملها على الاستغراق على معنى يجري تحت الأشجار جميع أنهار الجنة فهو وصف لدار الثواب بأن أشجارها على شواطىء الأنهار وأنهارها تحت ظلال الأشجار أبرد من الثلج، ولا يخفى الكلام على جمع القلة.
* (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) * صفة ثانية لجنات أخرت عن الأولى لأن جريان الأنهار من تحتها وصف لها باعتبار ذاتها، وهذا باعتبار سكانها أو خبر مبتدأ محذوف أي هم والقرينة ذكره في السابقة واللاحقة، وكون الكلام مسوقا لبيان أحوال المؤمنين، وفائدة حذف هذا المبتدأ تحقق التناسب بين الجمل الثلاثة صورة لأسميتها، ومعنى لكونها جواب سؤال كأنه قيل: ما حالهم في تلك الجنات؟ - فأجيب بأن لهم فيها ثمارا لذيذة عجيبة وأزواجا نظيفة * (وهم فيها خالدون) * وتقدير المبتدأ هو أو هي - للشأن أو القصة - ليس بشيء بناء على أنه لا يجوز حذف هذا الضمير، وإذا لم تدخله النواسخ لا بد أن يكون مفسره جملة اسمية، نعم جاز تقدير هي للجنات والجملة خبر إلا أن التناسب أنسب أو جملة مستأنفة - كأنه لما وصف الجنات بما ذكر وقع في الذهن أن ثمارها كثمار جنات الدنيا أولا فبين حالها * (ولهم فيها أزواج) * زيادة في الجواب ولو قدر السؤال نحو ألهم في الجنات لذات كما في هذه الدار أم أتم وأزيد؟ - كان أصح وأوضح،
202

وأجاز أبو البقاء كونها حالا من * (الذين) * أو من * (جنات) * لوصفها وهي حينئذ حال مقدرة والأصل في الحال المصاحبة، والقول بأنها صفة مقطوعة دعوى موصولة بالجهل بشرط القطع وهو علم السامع باتصاف المنعوت بذلك النعت وإلا لاحتاج إليه ولا قطع مع الحاجة، و * (كلما) * نصب على الظرفية ب * (قالوا) *، و * (رزقا) * مفعول ثان لرزقوا كرزقه مالا أي أعطاه، وليس مفعولا مطلقا مؤكدا لعامله لأنه بمعنى المرزوق أعرف، والتأسيس خير من التأكيد مع اقتضاء ظاهر ما بعده له، وتنكيره للتنويع أو للتعظيم أي نوعا لذيذا غير ما تعرفونه، و (من) الأولى والثانية للابتداء قصد بهما مجرد كون المجرور بهما موضعا انفصل عنه الشيء، ولذا لا يحسن في مقابلتها نحو - إلى وهما - ظرفان مستقران واقعان حالا على التداخل، وصاحب الأولى: * (رزقا) * والثانية: ضميره المستكن في الحال، والمعنى كل حين رزقوا - مرزوقا - مبتدأ من الجنات مبتدأ من ثمرة، والشائع كونهما لغوا، والرزق قد ابتدأ من الجنات، والرزق من الجنات قد ابتدأ من ثمرة وجعل بمنزلة أن تقول: أعطاني فلان، فيقتل: من أين؟ فتقول: من بستانه، فيقول: من أي ثمرة؟ فتقول: من الرمان، وتحريره أن * (رزقوا) * جعل مطلقا مبتدأ من الجنات ثم جعل مقيدا بالابتداء من ذلك مبتدأ من ثمرة، وعلى القولين لا يرد أنهم منعوا تعلق حرفي جر متحدي اللفظ والمعنى بعامل واحد والآية تخالفه، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأن ذاك إذا تعلقا به من جهة واحدة ابتداء من غير تبعية. وما نحن فيه ليس كذلك للإطلاق والتقييد والمراد من الثمرة على هذا النوع - كالتفاح والرمان - لا الفرد لأن ابتداء الرزق من البستان من فرد يقتضي أن يكون المرزوق قطعة من لا جميعه وهو ركيك جدا، ويحتمل أن تكون الثانية مبينة للمرزوق والظرف الأول لغو والثاني مستقر خلافا لمن وهم فيه وقع حالا من النكرة لتقدمه عليها ولتقدمها تقديرا جاز تقديم المبين على المبهم، والثمرة يجوز حملها على النوع وعلى الجنأة الواحدة ولم يلتفت المحققون إلى جعل الثانية تبعيضية في موقع المفعول، و * (رزقا) * مصدر مؤكد أو في موقع الحال من * (رزقا) * لبعده مع أن الأصل التبيين والابتداء فلا يعدل عنهما إلا لداع على أن مدلول التبعيضية أن يكون ما قبلها أو ما بعدها جزأ لمجرورها لا جزئيا فتأتي الركاكة ههنا، وجمع سبحانه بين * (منها) * و * (من ثمرة) * ولم يقل - من ثمرها - بدل ذلك لأن تعلق * (منها) * يفيد أن سكانها لا تحتاج لغيرها لأن فيها كل ما تشتهي الأنفس، وتعلق * (من ثمرة) * يفيد أن المراد بيان المأكول على وجه يشمل جميع الثمرات دون بقية اللذات المعلومة من السابق واللاحق، وهذا إشارة إلى نوع ما رزقوا ويكفي إحساس أفراده وهذا كقولك مشيرا إلى نهر جار هذا الماء لا ينقطع أو إلى شخصه، والإخبار عنه ب (الذي) الخ على جعله عينه مبالغة أو تقدير مثل الذي رزقناه من قبل أي في الدنيا، والحكمة في التشابه أن النفس تميل إلى ما يستطاب وتطلب زيادته.
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره * هو المسك ما كررته يتضوع
وهذا مختلف بحسب الأحوال والمقامات، أو لتبيين المزية وكنه النعمة فيما رزقوه هناك إذ لو كان جنسا لم يعهد ظن أنه لا يكون إلا كذلك أو في الجنة، والتشابه في الصورة إما مع الاختلاف في الطعم - كما روي عن الحسن: " إن أحدهم يؤتي بالصحفة فيأكل منها ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيقول ذلك؟ فيقول الملك: كل فاللون واحد والطعم مختلف " أو مع التشابه في الطعم أيضا كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفس محمد بيده إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي واصلة إلى فيه حتى يبدل الله تعالى مكانها مثلها " فلعلهم إذا رأوها على الهيئة الأولى قالوا ذلك، والداعي لهم لهذا القول فرط استغرابهم وتبجحهم بما وجدوا من التفاوت العظيم.
203

والمشهور أن كون المراد بالقبلية في الدنيا أولى مما يقدم في الآخرة لأن (كلما) تفيد العموم ولا يتصور قولهم ذلك في أول ما قدم إليهم، وقيل: كون المراد بها في الآخرة أولى لئلا يلزم انحصار ثمار الجنة في الأنواع الموجودة في الدنيا مع أن فيها ما علمت وما لم تعلم، على أن فيه توفية بمعنى حديث تشابه ثمار الجنة وموافقته لمتشابها بعد فإنه في رزق الجنة أظهر، وإعادة الضمير إلى المرزوق في الدارين تكلف وستسمعه بمنه تعالى، وفي الآية محمل آخر يميل إليه القلب بأن يكون ما رزقوه قبل هو الطاعات والمعارف التي يستلذها أصحاب الفطرة والعقول السليمة، وهذا جزاء مشابه لها فيما ذكر من اللذة كالجزاء الذي في ضده في قوله تعالى: * (ذوقوا ما كنتم تعملون) * (العنكبوت: 55) أي جزاءه فالذي رزقناه مجاز مرسل عن جزائه بإطلاق اسم المسبب على السبب ولا يضر في ذلك أن الجنة وما فيها من فنون الكرامات من الجزاء كما لا يخفى أو هو استعارة بتشبيه الثمار والفواكه بالطاعات والمعارف فيما ذكر، وقيل: أرض الجنة قيعان يظهر فيها أعمال الدنيا كما يشير إليه بعض الآثار فثمرة النعيم ما غرسوه في الدنيا فتدبر * (وأتوا به متش‍ابها) * تذييل للكلام السابق وتأكيد له بما يشتمل على معناه لا محل له من الإعراب، ويحتمل الاستئناف والحالية بتقدير (قد) وهو شائع، وحذف الفاعل للعلم به وهو ظاهرا الخدم والولدان كما يشير إليه قراءة هارون والعتكي (وأتوا) على الفاعل وفيها إضمار لدلالة المعنى عليه، وقد أظهر ذلك في قوله تعالى: * (يطوف عليهم ولدان مخلدون) * إلى قوله سبحانه: * (وفاكهة مما يتخيرون) * (الواقعة: 17 - 20) والضمير المجرور إما على تقدير أن يراد - من قبل - في الدنيا فراجع إلى المفهوم الواحد الذي تضمنه اللفظان: * (هذا) * - و - * (الذي رزقنا من قبل) * وهو المرزوق في الدارين - أي أوتوا بمرزق الدارين متشابها بعضه بالبعض - ويسمى هذا الطريق بالكناية الإيمائية ولو رجع إلى الملفوظ لقيل بهما، وعبر عما بعضه ماض وبعضه مستقبل بالماضي لتحقق وقوعه، وفي " الكشف " أن المراد من المرزوق في الدنيا والآخرة الجنس الصالح التناول لكل منهما لا المقيد بهما، وإما على تقدير أن يراد في الجنة فراجع إلى الرزق أي أوتوا بالمرزوق في الجنة متشابه الأفراد. قال أبو حيان: والظاهر هذا لأن مرزوقهم في الآخرة هو المحدث عنه والمشبه بالذي رزقوه من قبل ولأن هذه الجملة إنما جاءت محدثا بها عن الجنة وأحوالها وكونه يخبر عن المرزوق في الدنيا والآخرة أنه متشابه ليس من حديث الجنة إلا بتكلف، ولا يعكر على دعوى متشابه ما في الدارين ما أخرجه البيهقي وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: " ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلا الأسماء " لأنه لا يشترط فيه أن يكون من جميع الوجوه وهو حاصل في الصورة التي هي مناط الاسم وإن لم يكن في المقدار والطعم، وتحريره أن إطلاق الأسماء عليها لكونها على الاستعارة يقتضي الاشتراك فيما هو مناطها وهو الصورة، وبذلك يتحقق التشابه بينهما فالمستثنى في الأثر الأسماء وما هو مناطها بدلالة العقل * (ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خ‍الدون) * صفة ثالثة ورابعة للجنات وأوردت الأوليتان بالجملة الفعلية لإفادة التجدد، وهاتان بالإسمية لإفادة الدوام، وترك العاطف في البعض مع إيراده في البعض قيل: للتنبيه على جواز الأمرين في الصفات، واختص كل بما اختص به لمناسبة لا تخفى، وذهب أبو البقاء إلى أن هاتين الجملتين مستأنفتان، وجوز أن تكون الثانية حالا من ضمير الجمع في: (لهم) والعامل فيها معنى الاستقرار والأزواج جمع قلة وجمع الكثرة زوجة كعود وعودة ولم يكثر استعماله في الكلام، قيل: ولهذا استغنى عنه بجمع القلة توسعا، وقد ورد في الآثار ما يدل على كثرة الأزواج في الجنة من الحور وغيرهن، ويقال: الزوج للذكر والأنثى، ويكون لأحد المزدوجين ولهما معا، ويقال: للأنثى زوجة في لغة تميم وكثير من قيس، والمراد هنا بالأزواج النساء اللاتي تختص بالرجل لا يشركه فيها غيره، وليس في المفهوم اعتبار التوالد الذي هو مدار بقاء
204

النوع حتى لا يصح إطلاقه على أزواج الجنة لخلودهم فيها واستغنائهم عن الأولاد، على أن بعضهم صحح التوالد فيها وروى آثارا في ذلك لكن على وجه يليق بذلك المقام، وذكر بعضهم أن الأولاد روحانيون والله قادر على ما يشاء. ومعنى كونها مطهرة أن الله سبحانه نزههن عن كل ما يشينهن، فإن كن من الحور كما روي عن عبد الله فمعنى التطهر خلقهن على الطهارة لم يعلق بهن دنس ذاتي ولا خارجي، وإن كن من بني آدم كما روي عن الحسن: " من عجائزكم الرمص الغمص يصرن شواب " فالمراد إذهاب كل شين عنهن من العيوب الذاتية وغيرها. والتطهير كما قال الراغب يقال في الأجسام والأخلاق والأفعال جميعا، فيكون عاما هنا بقرينة مقام المدح لا مطلقا منصرفا إلى الكامل، وكمال التطهير إنما يحصل بالقسمين كما قيل، فإن المعهود من إرادة الكامل إرادة أعلى أفراده لا الجميع، وقرأ زيد بن علي (مطهرات) بناء على طهرن لا طهرت كما في الأولى ولعلها أولى استعمالا، وإن كان الكل فصيحا لأنهم قالوا: جمع ما لا يعقل إما أن يكون جمع قلة أو كثرة، فإن كان جمع كثرة فمجىء الضمير على حد ضمير الواحدة أولى من مجيئه على حد ضمير الغائبات، وإن كان جمع قلة فالعكس، وكذلك إذا كان ضميرا عائدا على جمع العاقلات الأولى فيه النون دون التاء ك‍ * (بلغن أجلهن) * (البقرة: 234) و * (يرضعن أولادهن) * (البقرة: 233) ولم يفرقوا في هذا بين جمع القلة والكثرة، ومجىء هذه الصفة مبينة للمفعول، ولم تأت طاهرة وصف من طهر بالفتح على الأفصح، أو طهر بالضم، وعلى الأول قياس، وعلى الثاني شاذ للتفخيم لأنه أفهم أن لها مطهرا وليس سوى الله تعالى، وكيف يصف الواصفون من طهره الرب سبحانه؟! وقرأ عبيد بن عمير: * (مطهرة) * وأصله متطهرة فأدغم، ولما ذكر سبحانه وتعالى مسكن المؤمنين ومطعمهم ومنكحهم؛ وكانت هذه الملاذ لا تبلغ درجة الكمال مع خوف الزوال ولذلك قيل:
أشد الغم عندي في سرور * تيقن عنه صاحبه انتقالا
أعقب ذلك بما يزيل ما ينغص إنعامه من ذكر الخلود في دار الكرامة، والخلود عند المعتزلة البقاء الدائم الذي لا ينقطع، وعندنا البقاء الطويل انقطع أو لم ينقطع، واستعماله في المكث الدائم من حيث إنه مكث طويل لا من حيث خصوصه حقيقة وهو المراد هنا، وقد شهدت له الآيات والسنن، والجهمية يزعمون أن الجنة وأهلها يفنيان وكذا النار وأصحابها، والذي دعاهم إلى هذا أنه تعالى وصف نفسه بأنه الأول والآخر، والأولية تقدمه على جميع المخلوقات، والآخرية تأخره ولا يكون إلا بفناء السوي، ولو بقيت الجنة وأهلها كان فيه تشبيه لمن لا شبيه له سبحانه وهو محال، ولأنه إن لم يعلم أنفاس أهل الجنة كان جاهلا تعالى عن ذلك، وإن علم لزم الانتهاء وهو بعد الفناء، ولنا النصوص الدالة على التأبيد والعقل معها لأنها دار سلام وقدس لا خوف ولا حزن. والمرء لا يهنأ بعيش يخاف زواله بل قيل: البؤس خير من نعيم زائل، والكفر جريمة خالصة فجزاؤها عقوبة خالصة لا يشوبها نقص، ومعنى: (الأول والآخر) ليس كما في الشاهد بل بمعنى لا ابتداء ولا انتهاء له في ذاته من غير استناد لغيره فهو الواجب القدم المستحيل العدم، والخلق ليسوا كذلك، فأين الشبه والعلم لا يتناهى فيتعلق بما لا يتناهى، وما أنفاس أهل الجنة إلا كمراتب الأعداد؟! أفيقال: إن الله سبحانه لا يعلمها أو يقال إنها متناهية، تبا للجهمية ما أجهلهم، وأجهل منهم من قال إن الأبدان مؤلفة من الأجزاء المتضادة في الكيفية معرضة للاستحالات المؤدية إلى الانحلال والانفكاك فكيف يمكن التأبيد، وذلك لأن مدار هذا على قياس هاتيك النشأة على هذه النشأة، وهيهات هيهات كيف يقاس ذلك العالم الكامل على عالم الكون والفساد؟! على أنه إذا ثبت كونه تعالى قادرا مختارا ولا فاعل في الوجود إلا هو فلم لا يجوز أن يعيد الأبدان بحيث لا تتحلل، أو إن تحللت فلم لا يجوز أن يخلق بدل
205

ما تحلل دائما أبدا؟ وسبحان القادر الحكيم الذي لا يعجزه شيء.
* (إن الله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين ءامنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذآ أراد الله بهاذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا ا الفاسقين) *
* (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة) * قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره: نزلت في اليهود لما ضرب الله تعالى الأمثال في كتابه بالعنكبوت والذباب وغير ذلك مما يستحقر قالوا: إن الله تعالى أعز وأعظم من أن يضرب الأمثال بمثل هذه المحقرات فرد الله تعالى عليهم بهذه الآية. ووجه ربطها بما تقدم على هذا وكان المناسب عليه أن توضع في سورة العنكبوت مثلا أنها جواب عن شبهة تورد على إقامة الحجة على حقية القرآن بأنه معجز فهي من الريب الذي هو في غاية الاضمحلال فكان ذكرها هنا أنسب، وقال مجاهد وغيره: نزلت في المنافقين قالوا - لما ضرب الله سبحانه المثل بالمستوقد والصيب - الله تعالى أعلى وأعظم من أن يضرب الأمثال بمثل هذه الأشياء التي لا بال لها فرد الله تعالى عليهم ووجه الربط عليه ظاهر فإنها للذب عن التمثيلات السابقة على أحسن وجه وأبلغه، وقيل: إنها متصلة بقوله تعالى: * (فلا تجعلوا لله أندادا) * (البقرة: 22) أي: لا يستحي أن يضرب مثلا لهذه الأنداد، وقيل: هذا مثل ضرب للدنيا وأهلها فإن البعوضة تحيا ما جاعت وإذا شبعت ماتت، كذلك أهل الدنيا إذا امتلؤا منها هلكوا، أو مثل لأعمال العباد وأنه لا يمتنع أن يذكر منها ما قل أو كثر ليجازى عليه ثوابا وعقابا، وعلى هذين القولين لا ارتباط للآية بما قبلها بل هي ابتداء كلام، وهذا وإن جاز لا أقول به إذ المناسب بكل آية أن ترتبط بما قبلها وفي الآية إشارة إلى حسن التمثيل كيف والله سبحانه مع عظمته وبالغ حكمته لم يتركه ولم يستح منه: وما انفكت الأمثال في الناس سائرة
والحياء كما قال الراغب انقباض النفس عن القبائح، وهو مركب من جبن وعفة، وليس هو الخجل بل ذاك حيرة النفس لفرط الحياء فهما متغايران وإن تلازما، وقال بعضهم: الخجل لا يكون إلا بعد صدور أمر زائد لا يريده القائم به بخلاف الحياء فإنه قد يكون مما لم يقع فيترك لأجله، وما في " القاموس " خجل استحي تسامح، وهو مشتق من الحياة لأنه يؤثر في القوة المختصة بالحيوان وهي قوة الحس والحركة، والآية تشعر بصحة نسبة الحياء إليه تعالى لأنه في العرف لا يسلب الحياء إلا عمن هو شأنه، على أن النفي داخل على كلام فيه قيد فيرجع إلى القيد فيفيد ثبوت أصل الفعل أو إمكانه لا أقل، وأما في الأحاديث فقد صرح بالنسبة - وللناس في ذلك مذهبان - فبعض يقول بالتأويل إذ الانقباض النفساني مما لا يحوم حول حظائر قدسه سبحانه، فالمراد بالحياء عنده الترك اللازم للانقباض، وجوز جعل ما هنا بخصوصه من باب المقابلة لما وقع في كلام الكفرة بناء على ما روي أنهم قالوا: ما يستحي رب محمد أن يضرب الأمثال بالذباب والعنكبوت، وبعض - وأنا والحمد لله منهم - لا يقول بالتأويل بل يمر هذا وأمثاله مما جاء عنه سبحانه في الآيات والأحاديث على ما جاءت ويكل علمها بعد التنزيه عما في الشاهد إلى عالم الغيب والشهادة، وقرأ الجمهور (يستحيي) بياءين والماضي استحيا، وجاء استفعل هنا للإغناء عن الثلاثي المجرد كاستأثر، وقرأ ابن كثير في رواية وقليلون بياء واحدة وهي لغة بني تميم، وهل المحذوف اللام فالوزن يستفع، أو العين فالوزن يستفل؟ قولان: أشهرهما الثاني، وهذا الفعل مما يكون متعديا بنفسه وبالحرف فيقال: استحييته واستحيت منه، والآية تحتملهما. والضرب إيقاع شيء على شيء، وضرب المثل من ضرب الدراهم وهو ذكر شيء يظهر أثره في غيره، فمعنى يضرب هنا يذكر، وقيل: يبين، وقيل: يضع من * (ضربت عليهم الذلة) * (البقرة: 61) و (ما) اسم بمعنى شيء يوصف به النكرة لمزيد الإبهام ويسد طرق التقييد، وقد يفيد التحقير أيضا - كأعطه شيئا ما - والتعظيم - كلأمر ما جدع قصير أنفسه - والتنويع - كاضربه ضربا ما - وقد تجعل سيف خطيب، والقرآن أجل من أن يلغى فيه شيء، وبعوضة إما صفة - لما - أو بدل منها أو عطف بيان إن قيل بجوازه في النكرات أو بدل من * (مثلا) * أو عطف بيان له إن قيل ما زائدة، أو مفعول
206

و * (مثلا) * حال وهي المقصودة، أو منصوب على نزع الخافض أي: ما من بعوضة فما فوقها كما نقل عن الفراء. والفاء بمعنى إلى، أو مفعول ثان؛ أو أول بناء على تضمن الضرب معنى الجعل، ولا يرد على إرادة العموم أن مثال المعنى على المشهور أن الله لا يترك أي مثل كان فيقتضي أن جميع الأمثال مضروبة في
كلامه فأين هي لأن المنفي ليس مطلق الترك بل الترك لأجل الاستحياء؟ فالمعنى لا يترك مثلا ما استحياء وإن تركه لأمر آخر أراده، وقرأ ابن أبي عبلة وجماعة: (بعوضة) بالرفع والشائع على أنه خبر، واختلفوا فيما يكون عنه خبرا؛ فقيل: مبتدأ محذوف أي هي أو هو بعوضة، والجملة صلة (ما) على جعلها موصولة، وهو تخريج كوفي لحذف صدر الصلة من غير طول، وقيل: (ما) بناء على أنها استفهامية مبتدأ، واختار في " البحر " أن تكون (ما) صلة أو صفة وهي (بعوضة) جملة كالتفسير لما انطوى عليه الكلام، وقيل: * (بعوضة) * مبتدأ، و * (ما) * نافية والخبر محذوف أي متروكة لدلالة * (لا يستحي) * عليه.
والبعوضة واحد البعوض، وهو طائر معروف، وفيه من دقيق الصنع وعجيب الإبداع ما يعجز الإنسان أن يحيط بوصفه ولا ينكر ذلك إلا نمرود. وهو في الأصل صفة على فعول كالقطوع، ولذا سمي في لغة هذيل خموش فغلبت، واشتقاقه من البعض بمعنى القطع * (فما فوقها) * الفاء عاطفة ترتيبية، و * (ما) * عطف على * (بعوضة) * أو * (ما) * إن جعل اسما والتفصيل وما فيه غير خفي. والمراد بالفوقية إما الزيادة في حجم الممثل به فهو ترق من الصغير للكبير وبه قال ابن عباس أو الزيادة في المعنى الذي وقع التمثيل فيه وهو الصغر والحقارة فهو تنزل من الحقير للأحقر، وهذان الوجهان على القراءة المشهورة وأما على قراءة الرفع فقد قالوا: إن جعلت * (ما) * موصولة ففيه الوجهان، وإن جعلت استفهامية تعين الأول لأن العظم مبتدأ من البعوضة إذ ذاك، وقيل: أراد: ما فوقها وما دونها فاكتفى بأحد الشيئين عن الآخر على حد * (سرابيل تقيكم الحر) * (النحل: 81) فافهم.
* (فأما الذين ءامنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم) * تفصيل لما أشار إليه قوله تعالى: * (إن الله لا يستحي) * الخ من أنه وقع فيه ارتياب بين التحقيق والارتياب، أو لما يترتب على ضرب المثل من الحكم إثر تحقيق حقية صدوره عنه سبحانه، والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما يشير إليه ما قبلها، وكأنه قيل كما قيل فيضربه * (فأما الذين) * الخ، وتقديم بيان حال المؤمنين لشرفه، وأما على ما عليه المحققون حرف متضمنة لمعنى الشرط ولذا لزمتها الفاء غالبا، وتفيد مع هذا تأكيد ما دخلت عليه من الحكم؛ وتكون لتفصيل مجمل تقدمها صريحا، أو دلالة، أو لم يتقدم لكنه حاضر في الذهن ولو تقديرا، ولما كان هذا خلاف الظاهر في كثير من موارد استعمالها جعله الرضى والمرتضى من المحققين أغلبيا، وفسر سيبويه - أما زيد فذاهب - بمهما يكن من شيء فزيد ذاهب وليس المراد به أنها مرادفة لذلك الاسم، والفعل إذ لا نظير له، بل المراد أنها لما أفادت التأكيد وتحتم الوقوع في المستقبل كان مآل المعنى ذلك، ولما أشعرت بالشرطية قدر شرط يدل على تحتم الوقوع وهو وجود شيء ما في الدنيا إذ لا تخلو عنه فما علق عليه محقق، وحيث كان المعنى ما ذكر سيبويه. ومهما مبتدأ والاسمية لازمة له، ويكن فعل شرط والفاء لازمة تليه غالبا، وقامت - أما ذلك المقام - لزمها الفاء ولصوق الاسم إقامة لللازم مقام الملزوم وإبقاء لأثره في الجملة وكان الأصل دخول الفاء على الجملة فيما ذكر لأنها الجزاء لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوا الخبر وعوضوا المبتدأ عن الشرط لفظا، وقد يقدم على الفاء - كما في الرضى - من أجزاء الجزاء المفعول به والظرف والحال إلى غير ذلك مما عدوه على ما فيه، وفي تصدير الجملتين بها من الإحماد والذم ما لا يخفى. والمراد بالموصول فريق المؤمنين المعهودين كما أن المراد بالموصول الآتي فريق الكفرة الطاغين لا من يؤمن بضرب المثل ومن يكفر به لاختلال المعنى، والضمير في * (أنه) * للمثل وهو أقرب،
207

أو لضربه المفهوم من أن يضرب، وقيل: لترك الاستحياء المنقدح مما مر، وقيل: للقرآن، والحق خلاف الباطل، وهو في الأصل مصدر حق يحق من بابي ضرب وقتل إذا وجب أو ثبت، وقال الراغب: أصله المطابقة والموافقة، ويكون بمعنى الموجد بحسب الحكمة والموجد على وفقها والاعتقاد المطابق للواقع، وقيل: إنه الحكم المطابق، ويطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتماله على ذلك، ولم يفرق في المشهور بينه وبين الصدق إلا أنه شاع في العقد المطابق، والصدق في القول كذلك، وقد يفرق بينها بأن المطابقة تعتبر في الحق من جانب الواقع وفي الصدق من جانب الحكم، وتعريفه هنا إما للقصر الادعائي كما يقال - هذا هو الحق - أو لدعوى الاتحاد ويكون المحكوم عليه مسلم الاتصاف، و * (من ربهم) * إما خبر بعد خبر أو حال من ضمير الحق، و * (من) * لابتداء الغاية المجازية، والتعرض لعنوان الربوبية للإشارة إلى أنهم يعترفون بحقية القرآن وبما أنعم الله تعالى به عليهم من النعم التي من أجلها نزول هذا الكتاب وهو المناسب لقوله سبحانه: * (نزلنا على عبدنا) * (البقرة: 23) وأما الكفرة المنكرون لجلاله المتخذون غيره من الأرباب فالله عز اسمه هو المناسب لحالهم * (ويحذركم الله نفسه) * (آل عمران: 28) وقيل: في ذلك - مع الإضافة إلى الضمير - تشريف وإيذان بأن ضرب المثل تربية لهم وإرشاد إلى ما يوصلهم إلى كمالهم اللائق بهم، والجملة سادة مسد مفعولي - يعلمون - عند الجمهور، ومسد الأول والثاني محذوف عند الأخفش أي * (فيعلمون) * حقيته ثابتة.
* (وأما الذين كفروا فيقولون ماذآ أراد الله بهذا مثلا) * لم يقل سبحانه وأما الذين كفروا فلا يعلمون ليقابل سابقه لما في هذا من المبالغة في ذمهم والتنبيه بأحسن وجه على كمال جهلهم لأن الاستفهام إما لعدم العلم أو للإنكار وكل منهما يدل على الجهل دلالة واضحة. ومن قال للمسك أين الشذا * يكذبه ريحه الطيب
قيل: ولم يقل سبحانه هناك - وأما الذين آمنوا فيقولون - الخ إشارة إلى أن المؤمنين اكتفوا بالخضوع والطاعة من غير حاجة إلى التكلم والكافرون لخبثهم وعنادهم لا يطيقون الأسرار لأنه كإخفاء الجمر في الحلفاء، وقيل: إن - يقولون - لا يدل صريحا على العلم وهو المقصود والكافرون منهم الجاهل والمعاند * (فيقولون) * الخ أشمل وأجمع، و * (ماذا) * لها ستة أوجه في استعمالهم. الأول: أن تكون (ما) استفهامية في موضع رفع بالابتداء، و (ذا) بمعنى الذي خبره، وأخبر عن المعرفة بالنكرة هنا بناء على مذهب سيبويه في جوازه في أسماء الاستفهام. وغيره يجعل النكرة خبرا عن الموصول. الثاني: أن تكون (ماذا) كلها استفهاما مفعولا لأراد وهذان الوجهان فصيحان اعتبرهما سائر المفسرين والمعربين في الآية، والاستفهام يحتمل الاستغراب والاستبعاد والاستهزاء * (ظلمات بعضها فوق بعض) * (النور: 40)، الثالث: أن يجعل (ما) استفهامية، و (ذا) صلة لا إشارة ولا موصولة، الرابع: أن يجعلا معا موصولا كقوله: دعى (ماذا) علمت سأتقيه. الخامس: أن يجعلا نكرة موصوفة، وقد جوز في المثال، السادس: أن تكون (ما) استفهامية، و (ذا) اسم إشارة خبر له. والإرادة كما قاله الراغب: منقولة من
راد يرود إذا سعى في طلب شيء وهي في الأصل قوة مركبة من شهوة وخاطر وأمل، وجعل اسما لنزوغ النفس إلى الشيء مع الحكم فيه بأنه ينبغي أن يفعل أو لا يفعل، ثم يستعمل مرة في المبدأ وهو نزوغ النفس إلى الشيء وتارة في المنتهى وهو الحكم فيه بأنه ينبغي الخ، وإرادة المعنى من اللفظ مجرد القصد وهو استعمال آخر ولسنا بصدده، وبين الإرادة والشهوة عموم من وجه لأنها قد تتعلق بنفسها بخلاف الشهوة فإنها إنما تتعلق باللذات، والإنسان قد يريد الدواء البشع ولا يشتهيه ويشتهي اللذيذ ولا يريده إذا علم فيه هلاكه وقد يشتهي ويريد. وللمتكلمين أهل الحق وغيرهم في تفسيرها مذاهب، فالكلبي والنجار وغيرهما على
208

أن إرادته سبحانه لأفعاله أنه يفعلها عالما بها وبما فيها من المصلحة، ولأفعال غيره أنه أمر بها وطلبها، فالمعاصي إذا ليست بإرادته جل شأنه، ونحو ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وارد عليهم؛ والجاحظ وبعض المعتزلة والحكماء على أن إرادته تعالى شأنه علمه بجميع الموجودات من الأزل إلى الأبد وبأنه كيف ينبغي أن يكون نظام الوجود حتى يكون على الوجه الأكمل، ويكفيه صدوره عنه حتى يكون الموجود على وفق المعلوم على أحسن النظام من غير قصد وطلب شوقي، ويسمون هذا العلم عناية؛ وذهب الكرامية وأبو علي وأبو هاشم إلى أنها صفة زائدة على العلم إلا أنها حادثة قائمة بذاته عز شأنه عند الكرامية، وموجودة لا في محل عند الأبوين، والمذهب الحق أنها ذاتية قديمة وجودية زائدة على العلم ومغايرة له وللقدرة، مخصصة لأحد طرفي المقدور بالوقوع، وكونها نفس الترجيح الذي هو من صفات الأفعال كما قال البيضاوي عفا الله تعالى عنه لم يذهب إليه أحد. وفي كلمة (هذا) استحقار للمشار إليه مثلها في: * (أهذا الذي بعث الله رسولا) * (الفرقان: 41) وقد تكون للتعظيم بحسب اقتضاء المقام، و * (مثلا) * نصب على التمييز عن نسبة الاستغراب ونحوه إلى المشار إليه. وقد ذكر الرضى والعهدة عليه أن الضمير واسم الإشارة إذا كانا مبهمين يجىء التمييز عنهما والعامل هما لتماميهما بنفسهما حيث يمتنع إضافتهما، وإذا كانا معلومين فالتمييز عن النسبة، ويحتمل أن يكون حالا من اسم الله تعالى أو من (هذا) أي ممثلا أو ممثلا به أو بضربه.
* (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا) * جملتان جاريتان مجرى البيان، والتفسير للجملتين المصدرتين بأما إذ يشتملان على أن كلا الفريقين موصوف بالكثرة وعلى أن العلم بكونه حقا من الهدى الذي يزداد به المؤمنون نورا إلى نورهم، والجهل بموقعه من الضلالة التي يزداد بها الجهال خبطا في ظلمتهم، وهاتان يزيدان ما تضمنتاه وضوحا أو أنهما جواب لدفع ما يزعمونه من عدم الفائدة في ضرب الأمثال بالمحقرات ببيان أنه مشتمل على حكمة جليلة وغاية جميلة هي كونه وسيلة إلى هداية المستعدين للهداية وإضلال المنهمكين في الغواية، وصرح بعضهم بأنهما جواب لماذا ووضع الفعلان موضع المصدر للإشعار بالاستمرار التجددي والمضارع يستعمل له كثيرا، ففي التعبير به هنا إشارة إلى أن الإضلال والهداية لا يزالان يتجددان ما تجدد الزمان، قيل: ووضعهما موضع الفعل الواقع في الاستفهام مبالغة في الدلالة على تحققهما فإن أرادتهما دون وقوعهما بالفعل وتجافيا عن نظم الإضلال مع الهداية في سلك الإرادة لإيهامه تساويهما في التعلق وليس كذلك، فإن المراد بالذات من ضرب المثل هو التذكير والاهتداء كما يشير إليه قوله تعالى: * (وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) * (الحشر: 21) وأما الإضلال فعارض مترتب على سوء الاختيار، وقدم في النظم الإضلال على الهداية مع سبق الرحمة على الغضب، وتقدمها بالرتبة والشرف لأن قولهم ناشىء من الضلال مع أن كون ما في القرآن سببا له أحوج للبيان لأن سببيته للهدى في غاية الظهور، فالاهتمام ببيانه أولى، ووصف كل من القبيلتين بالكثرة بالنظر إلى أنفسهم وإلا فالمهتدون قليلون بالنسبة إلى أهل الضلال وبعيد حمل كثرة المهتدين على الكثرة المعنوية بجعل كثرة الخصائص اللطيفة بمنزلة كثرة الذوات الشريفة كما قيل: ولم أر أمثال الرجال تفاوتت * لدى المجد حتى عد ألف بواحد
لا سيما وقد ذكر معها الكثرة الحقيقية، هذا وجوز بعضهم أن يكون قوله تعالى: * (يضل به كثيرا) * الخ في موضع الصفة لمثل فهو من كلام الكفار، ولعله من باب المماشاة مع المؤمنين إذ هم ليسوا بمعترفين بأن هذا المثل يضل الله به كثيرا ويهدي به كثيرا وأغرب من هذا تجويز ابن عطية أن يكون * (يضل به كثيرا) * من كلام
209

الكفار وما بعده من كلام الله تعالى وهو إلباس في التركيب وعدول عن الظاهر من غير دليل، وإسناد الإضلال إليه تعالى حقيقي وقد تقدم وجهه فلا التفات إلى ما في " الكشاف " لأنه نزغة اعتزالية، والضمير في * (به) * للمثل أو لضربه في الموضعين، وقيل: في الأول للتكذيب، وفي الثاني للتصديق ودل على ذلك قوة الكلام، ولا يخفى ضعفه، وقرأ زيد بن علي: * (يضل) * هنا وفيما يأتي و * (يهدي) * بالبناء للمفعول وابن أبي عبلة في الثلاثة بالبناء للفاعل، ورفعا للفاسقين خفضهم الله تعالى * (وما يضل به إلا الف‍اسقين) * تذييل أو اعتراض في آخر الكلام بناء على قول من جوزه، وقيل: حال، ومنع الساليكوتي عطفه على ما قبله قائلا لأنه لا يصح كونه جوابا وبيانا، وأجازه بعضهم تكملة للجواب وزيادة تعيين لمن أريد إضلالهم ببيان صفاتهم القبيحة المستتبعة له وإشارة إلى أن ذلك ليس إضلالا ابتدائيا بل هو تثبيت على ما كانوا عليه من فنون الضلال وزيادة فيه، و (الفاسقين) جمع فاسق من الفسق، وهو شرعا خروج العقلاء عن الطاعة فيشمل الكفر ودونه من الكبيرة والصغيرة. واختص في العرف والاستعمال بارتكاب الكبيرة فلا يطلق على ارتكاب الآخرين إلا نادرا بقرينة، وهو من قولهم: فسق الرطب إذا خرج من قشره، قال ابن الأعرابي: ولم يسمع الفسق وصفا للإنسان في كلام العرب، ولعله أراد في كلام الجاهلية كما صرح به ابن الأنباري، وإلا فقد قال رؤبة، وهو شاعر إسلامي يستدل بكلامه: يذهبن في نجد وغور أغائرا * (فواسقا) عن قصدها جوائرا
على أنه يمكن أن يقال: لم يخرج الفسق في البيت عن الوضع لأنه وضعا خروج الإجرام وبروز الأجسام من غير العقلاء وما فيه خروج الإبل وهي لا تعقل. والمراد بالفاسقين هنا الخارجون عن حدود الإيمان وتخصيص الإضلال بهم مرتبا على صفة الفسق وما أجرى عليهم من القبائح للإيذان بأن ذلك هو الذي أعدهم للإضلال وأدى بهم إلى الضلال فإن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم على الباطل صرفت وجوه أنظارهم عن التدبر والتأمل حتى رسخت جهالتهم وازدادت ضلالتهم فأنكروا وقالوا ما قالوا، ونصب * (الفاسقين) * على أنه مفعول * (يضل) * أو على الاستثناء والمفعول محذوف أي أحدا، ولا تفريغ كما في قوله: نجا سالم والنفس منه بشدة *
ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا
ومنع ذلك أبو البقاء ولعله محجوج بالبيت.
* (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميث‍اقه ويقطعون مآ أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الارض أول‍ائك هم الخ‍اسرون) *
* (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميث‍اقه) * يحتمل النصب والرفع، والأول إما على الاتباع أو القطع أي أذم والثاني إما على الثاني من احتمالي الأول أو على الابتداء، والخبر جملة * (أولئك هم الخاسرون) * وعلى هذا تكون الجملة كأنها كلام مستأنف لا تعلق لها إلا على بعد. والنقض فسخ التركيب، وأصله يكون في الحبل ونقيضه الإبرام وفي الحائط ونحوه، ونقيضه البناء. وشاع استعمال النقض في إبطال العهد كما قال الزمخشري من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين، وهذا من أسرار البلاغة ولطائفها أن يسكتوا عن ذكر الشيء المستعار ثم يرمزوا بذكر شيء من روادفه فينبهوا بتلك الرمزة على مكانه نحو قولك: عالم يغترف منه الناس، وشجاع يفترس أقرانه.
والحاصل أن في الآية استعارة بالكناية، والنقض استعارة تحقيقية تصريحية حيث شبه إبطال العهد بإبطال
210

تأليف الجسم، وأطلق اسم المشبه به على المشبه لكنها إنما جازت وحسنت بعد اعتبار تشبيه العهد بالحبل، فبهذا الاعتبار صارت قرينة على استعارة الحبل للعهد، ومن هنا يظهر أن الاستعارة المكنية قد توجد بدون التخييلية وأن قرينتها قد تكون تحقيقية، وتحقيق البحث يطلب من محله، والعهد الموثق، وعهد إليه في كذا إذا أوصاه ووثقه عليه، واستعهد منه إذا اشترط عليه، واستوثق منه. والمراد بالعهد ههنا إما العهد المأخوذ بالعقل وهو الحجة القائمة على عباده تعالى الدالة على وجوده ووحدته وصدق رسله صلى الله عليه وسلم، وفي نقضها لهم ما لا يخفى من الذم لأنهم نقضوا ما أبرمه الله تعالى من الأدلة التي كررها عليهم في الأنفس والآفاق وبعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأنزل الكتب مؤكدا لها، والناقضون على هذا جميع الكفار. وأما المأخوذ من جهة الرسل على الأمم بأنهم إذا بعث إليهم رسول مصدق بالمعجزات صدقوه واتبعوه ولم يكتموا أمره. وذكره في الكتب المتقدمة ولم يخالفوا حكمه. والناقضون حينئذ أهل الكتاب والمنافقون منهم حيث نبذوا كل ذلك وراء ظهورهم وبدلوا تبديلا، والنقض على هذا عند بعضهم أشنع منه على الأول، وعكس بعض ولكل وجهة وقيل: الأمانة التي حملها الإنسان بعد إباء السموات والأرض عن أن يحملنها، وقيل: هو ما أخذ على بني إسرائيل من أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، إلى غير ذلك من الأقوال وهي مبنية على الاختلاف في سبب النزول والظاهر العموم. و * (من) * للابتداء وكون المجرور بها موضعا انفصل عنه الشيء وخرج، وتدل على أن النقض حصل عقيب توثق العهد من غير فصل، وفيه إرشاد إلى عدم اكتراثهم بالعهد فأثر ما استوثق الله تعالى منهم نقضوه وقيل: صلة وهو بعيد، والميثاق مفعال وهو في الصفات كثير كمنحار ويكون مصدرا عند أبي البقاء والزمخشري كميعاد بمعنى الوعد، وأنكره جماعة وقالوا: هو اسم في موضع المصدر كما في قوله: أكفرا بعد رد الموت عني * وبعد (عطاءك) المائة الرتاعا
ويكون اسم آلة كمحراث ولم يشع هذا وليس بالبعيد، والمراد به ما وثق الله تعالى به عهده من الآيات والكتب، أو ما وثقوه به من القبول والالتزام، والضمير للعهد لأنه المحدث عنه. ويجوز عوده إلى الله تعالى ولم يجوزه الساليكوتي لأن المعنى لا يتم بدون اعتبار العهد فهو أهم من ذكر الفاعل، ولأن الرجوع إلى المضاف خلاف الأصل، وأفهم كلام أبي البقاء أن الميثاق هنا مصدر بمعنى التوثقة، وفي الضمير الاحتمالان فإن عاد إلى اسم الله تعالى كان المصدر مضافا إلى الفاعل، وإن إلى العهد كان مضافا إلى المفعول. وحديث الرجوع إلى المضاف خصه بعض المحققين في غير الإضافة اللفظية، وأما فيها فمطرد كثير، وما نحن فيه كذلك لأنه مصدر أو مؤل بمشتق فيكون كقولك أعجبني ضرب زيد وهو قائم، والوجه أنها في نية الانفصال.
* (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) * * (ما) * المقطوعة موصولة، أو نكرة موصوفة عند أبي البقاء، وفي المراد بها أقوال: الأول: رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعوه بالتكذيب والعصيان قاله الحسن وفيه استعمال (ما) لمن يعقل بل سيد العقلاء بل العقل والثاني: القول فإنه تعالى أمر أن يوصل بالعمل فلم يصلوه ولم يعملوا، وظاهر أنها نزلت في المنافقين الثالث: التصديق بالأنبياء أمروا بوصله فقطعوه بتكذيب بعض وتصديق بعض الرابع: الرحم والقرابة قاله قتادة، وظاهره أنه أراد كفار قريش وأشباههم الخامس: الأمر الشامل لما ذكر مما يوجب قطعه قطع الوصلة بين الله تعالى وبين العبد المقصودة بالذات من كل وصل وفصل، ولعل هذا هو الأوجه لأن فيه حمل اللفظ على مدلوله
211

من العموم ولا دليل واضح على الخصوص. ورجح بعضهم ما قبله بأن الظاهر أن هذا توصيف للفاسقين بأنهم يضيعون حق الخلق بعد وصفهم بتضييع حق الحق سبحانه، وتضييع حقه بنقض عهده وحق خلقه بتقطيع أرحامهم وليس بالقوي. والأمر القول الطالب للفعل مع علو عند المعتزلة أو استعلاء عند أبي الحسين، ويفسدهما ظاهر قوله تعالى حكاية عن فرعون: * (ماذا تأمرون) * (الأعراف: 110) ويطلق على التكلم بالصيغة وعلى نفسها، وفي موجبها خلاف، وهذا هو الأمر الطلبي. وقد نقل إلى الأمر الذي يصدر عن الشخص لأنه يصدر عن داعية تشبه الأمر فكأنه مأمور به أو لأنه من شأنه أن يؤمر به كما سمي الخطب والحال العظيمة شأنا. وهو مصدر في الأصل بمعنى القصد وسمي به ذلك لأن من شأنه أن يقصد. وذهب الفقهاء إلى أن الأمر مشترك بين القول والفعل لأنه يطلق عليه مثل * (وما أمر فرعون برشيد) * (هود: 97). و * (أن يوصل) * يحتمل النصب والخفض على أنه بدل من * (ما) * أو من ضميره، والثاني: أولى للقرب ولأن قطع ما أمر الله تعالى بوصله أبلغ من قطع وصل ما أمر الله تعالى به نفسه، واحتمال الرفع بتقدير هو أو النصب بالبدلية من محل المجرور أو بنزع الخافض أو أنه مفعول لأجله أي لأن أو كراهية أن ليس بشيء كما لا يخفى.
* (ويفسدون في الأرض أولئك هم الخ‍اسرون) * إفسادهم باستدعائهم إلى الكفر والترغيب فيه وحمل الناس عليه أو بإخافتهم السبل وقطعهم الطرق على من يريد الهجرة
إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أو بأنهم يرتكبون كل معية يتعدى ضررها ويطير في الآفاق شررها ولعل هذا أولى. وذكر في (الأرض) إشارة إلى أن المراد فساد يتعدى دون ما يقف عليهم. و * (أولئك) * إشارة إلى * (الفاسقين) * باعتبار ما فصل من صفاتهم القبيحة، وفيه رمز إلى أنهم في المرتبة البعيدة من الذم وحصر الخاسرين عليهم باعتبار كمالهم في الخسران حيث أهملوا العقل عن النظر ولم يقنصوا المعرفة المفيدة للحياة الأبدية والمسرة السرمدية، واشتروا النقض بالوفاء، والفساد بالصلاح، والقطيعة بالصلة، والثواب بالعقاب فضاع منهم الطلبتان رأس المال والربح وحصل لهم الضرر الجسيم وهذا هو الخسران العظيم. وفي الآية ترشيح للاستعارة المقدرة التي تتضمنها الآيات السابقة فافهم.
* (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحي‍اكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) *
* (كيف تكفرون بالله) * التفات إلى خطاب أولئك بعد أن عدد قبائحهم المستدعية لمزيد سخطه تعالى عليهم والإنكار إذا وجه إلى المخاطب كان أبلغ من توجيهه إلى الغائب وأردع له لجواز أن لا يصله. و * (كيف) * اسم إما ظرف وعزي إلى سيبويه فمحلها نصب دائما، أو غير ظرف وعزي إلا الأخفش فمحلها رفع مع المبتدأ، ونصب مع غيره، وادعى ابن مالك أن أحدا لم يقل بظرفيتها إذ ليست زمانا ولا مكانا لكن لكونها تفسر بقولك على أي حال أطلق اسم الظرف عليها مجازا، واستحسنه ابن هشام ودخول الجر عليها شاذ. وأكثر ما تستعمل استفهاما والشرط بها قليل والجزم غير مسموع، وأجازه قياسا - الكوفيون وقطرب، والبدل منها أو الجواب إذا كانت مع فعل مستغن منصوب ومع ما لا يستغني مرفوع إن كان مبتدأ ومنصوب إن كان ناسخا. وزعم ابن موهب أنها تأتي عاطفة وليس بشيء، وهي هنا للاستخبار منضما إليه الإنكار والتعجيب لكفرهم بإنكار الحال الذي له مزيد اختصاص بها وهي العلم بالصانع والجهل به، ألا يرى أنه ينقسم باعتبارهما فيقال: كافر معاند وكافر جاهل؟ فالمعنى أفي حال العلم تكفرون أم في حال الجهل وأنتم عالمون بهذه القصة؟ وهو يستلزم العلم
212

بصانع موصوف بصفات منزه عن النقصان، وهو صارف قوي عن الكفر، وصدور الفعل عن القادر مع الصارف القوي مظنة تعجيب وتوبيخ، وفيه إيذان بأن كفرهم عن عناد وهو أبلغ في الذم. وفيه من المبالغة أيضا ما ليس في (أتكفرون) لأن الإنكار الذي هو نفي قد توجه للحال التي لا تنفك، ويلزم من نفيها نفي صاحبها بطريق البرهان، وإن شئت عممت الحال. وإنكار أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها مع أن كل موجود يجب أن يكون وجوده على حال من الأحوال يستدعي إنكار وجود الكفر بذلك الطريق، ولا يرد أن الاستخبار محال على اللطيف الخبير عز شأنه لأنه إما أن يكون بمعنى طلب الخبر فلا نسلم المحالية إذ قد يكون لتنبيه المخاطب وتوبيخه ولا يقتضي جهل المستخبر ولا يلزم من ضم الإنكار والتعجيب إليه وهما من المعاني المجازية للاستفهام الجمع بين الحقيقة والمجاز إن كان الاستخبار حقيقة للصيغة، وبين معنيين مجازيين إن كان مجازا لأن الانفهام بطريق الاستتباع واللزوم لا من حاق الوسط، أو أنه تجوز على تجوز لشهرة الاستفهام في معنى الاستخبار حتى كأنه حقيقة فيه، وإما أن يكون بمعنى الاستفهام فنقول: لا قدح في صدوره ممن يعلم المستفهم عنه لأنه كما في " الاتقان " طلب الفهم. أما فهم المستفهم وهو محال عليه تعالى أو وقوع فهمه ممن لا يفهم كائنا من كان ولا استحالة فيه منه تعالى، وكذا لا استحالة في وقوع التعجيب منه تعالى بل قالوا: إذا ورد التعجب من الله جل وعلا لم يلزم محذور إذ يصرف إلى المخاطب أو يراد غايته أو يرجع إلى مذهب السلف، وأتى سبحانه بتكفرون ولم يأت بالماضي وإن كان الكفر قد وقع منهم لأن الذي أنكر الدوام والمضارع هو المشعر به ولئلا يكون في الكلام توبيخ لمن وقع منه الكفر ممن آمن كأكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم. * (وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) * ما قبل * (ثم) * حال من ضمير * (تكفرون) * بتقدير قد لا محالة خلافا لمن وهم فيه. والمعنى: كيف تكفرون وقد خلقكم، فعبر عن الخلق بذلك، ولما كان مركوزا في الطباع ومخلوقا في العقول أن لا خالق إلى الله كانت حالا تقتضي أن لا تجامع الكفر، والجمل بعد مستأنفة لا تعلق لها بالحال ولذا غايرت ما قبلها بالحرف والصيغة، ولك أن تجعل جميع الجمل مندرجة في الحال وهو في الحقيقة العلم بالقصة كأنه قيل: كيف تكفرون وأنتم عالمون بهذه القصة وبأولها وآخرها، فلا يضر اشتمالها على ماض ومستقبل، وكلاهما لا يصح أن يقع حالا، ورجح هذا جمع محققون، والحياة قوة تتبع الاعتدال النوعي ويفيض منها سائر القوى، وقيل: القوة الحساسة والعضو المفلوج حي وإلا لتسارع إليه الفساد، وعدم الاحساس بالفعل لا يدل على عدم القوة لجواز فقدان الأثر لمانع. وكأنهم أرادوا من ذلك قوة اللمس لأن مغايرة الحياة لما عداه من الحواس ظاهرة فإنها مختصة بعضو دون عضو، وأنها مفقودة في بعض أنواع الحيوانات، وأنه يلزم تعدد الحياة بالنوع في شخص واحد إن قيل بكون الحياة كل واحد منها. وتركبها في الخارج إن أريد مجموعها، وتطلق مجازا على القوة النامية لأنها من طلائعها ومقدماتها، وعلى ما يخص الإنسان من الفضائل كالعقل والعلم والإيمان من حيث إنها كمالها وغايتها، والموت مقابل لها في كل مرتبة والكل في كتاب الله تعالى وحياته سبحانه وتعالى صحة اتصافه جل شأنه بالعلم والقدرة أو معنى قائم بذاته تعالى يقتضي ذلك، وأين التراب من رب الأرباب. ثم إن للناس في المراد بما في الآية الكريمة أقوالا شتى، والمروى عن ابن عباس، وابن مسعود،
213

ومجاهد رضي الله تعالى عنهم أن المراد بالموت الأول العدم السابق، والاحياء الأول الخلق والموت الثاني المعهود في الدار الدنيا، والحياة الثانية البعث للقيامة، واختاره بعض المحققين وادعى أن قوله تعالى: * (وكنتم أمواتا) * وإسناده آخر الاماتة إليه تعالى مما يقويه، واختار آخرون أن كونهم أمواتا هو من وقت استقرارهم نطفا في الأرحام إلى تمام الأطوار بعدها، وأن الحياة الأولى نفخ الروح بعد تلك الأطوار، والاماتة هي المعهودة والاحياء بعدها هو البعث يوم ينفخ في الصور ولعله أقرب من الأول، وإطلاق الأموات على تلك الأجسام مجاز إن فسر الموت بعدم الحياة عمن اتصف به، وحقيقة إن فسر بعدم الحياة عما من شأنه، قاله الساليكوتي، ويفهم كلام بعضهم: أنه على معنى كالأموات على التفسير الثاني وإن فسر بعدم الحياة مطلقا كان حقيقة وهو المشهور وأبعد الأقوال عندي حمل الموت الأول على المعهود بعد انقضاء الأجل، والإحياء الأول على ما يكون للمسألة في القبر فيكون قد وضع الماضي موضع المستقبل لتحقق الوقوع، ثم لا دليل في الآية على المختار
لنفي عذاب القبر إذ نهاية ما فيها عدم ذكر الإحياء المصحح له، ونحن لا نستدل لها بذلك الوجه عليه ولنا والحمد لله تعالى في ذلك المطلب أدلة شتى، وكذا لا دليل للمجسمة القائلين بأنه تعالى في مكان في * (وإليه ترجعون) * لأن المراد بالرجوع إليه الجمع في المحشر حيث لا يتولى الحكم سواه والأمر يومئذ لله، ووراء هذا من المقال مالا يخفى على العارفين، وفي قوله تعالى: * (ترجعون) * على البناء للمفعول دون يرجعكم المناسب للسياق مراعاة لتناسب رؤوس الآي مع وجود التناسب المعنوي للسباق، ولهذا قيل إن قراءة الجمهور أفصح من قراءة يعقوب ومجاهد، وجماعة * (ترجعون) * مبنيا للفاعل، ولا يرد أن الآية إذا كانت خطابا للكفار - ومعنى العلم ملاحظ فيها - امتنع خطابهم بما بعد - ثم وثم - من الفعلين لأنهم لا يعلمون ذلك لأن تمكنهم من العلم لوضوح الأدلة آفاقية وأنفسية - وسطوع أنوارها عقلية ونقلية - منزل منزل العلم في إزاحة العذر، وبهذا يندفع أيضا ما قيل: هم شاكون في نسبة ما تقدم إليه تعالى فكيف يتأتى ذلك الخطاب به، ويحتمل كما قيل: أن يكون الخطاب في الآية للمؤمن والكافر فإنه سبحانه لما بين دلائل التوحيد أيضا من قوله سبحانه: * (يا أيها الناس) * إلى * (فلا تجعلوا) * (البقرة: 21، 22) ودلائل النبوة من * (وإن كنتم) * إلى * (إن كنتم) * (البقرة: 23) وأوعد ب * (فان لم تفعلوا ولن تفعلوا) * (البقرة: 24) الآية، ووعد ب * (وبشر الذين آمنوا) * (البقرة: 25) الخ أكد ذلك بأن عدد عليهم النعم العامة من قوله: * (وكنتم أمواتا) * إلى * (هم فيها خالدون) * (البقرة: 28 - 39) والخاصة من * (يا بني إسرائيل) * إلى * (ما ننسخ) * (البقرة: 40 - 106) واستقبح صدور الكفر مع تلك النعم منهم توبيخا للكافر وتقريرا للمؤمن وعد الإماتة نعمة لأنها وصلة إلى الحياة الأبدية واجتماع المحب بالحبيب، وقد يقال: إن المعدود عليهم كذلك هو المعنى المنتزع من القصة بأسرها.
ومن الاشارة قول ابن عطاء * (وكنتم أمواتا) * بالظاهر * (فأحياكم) * بمكاشفة الأسرار * (ثم يميتكم) * عن أوصاف العبودية * (ثم يحييكم) * بأوصاف الربوبية، وقال فارس: * (وكنتم أمواتا) * بشواهدكم * (فأحياكم) * بشواهده * (ثم يميتكم) * عن شاهدكم * (ثم يحييكم) * بقيام الحق * (ثم إليه ترجعون) * عن جميع ما لكم فتكونون له.
* (هو الذى خلق لكم ما فى الارض جميعا ثم استوى إلى السمآء فسواهن سبع سم‍اوات وهو بكل شىء عليم) *.
* (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) * معطوف على قوله تعالى: * (وكنتم) * وترك الحرف إما لكونه كالنتيجة له أو للتنبيه على الاستقلال في إفادة ما أفاده، وذكر أنه بيان نعمة أخرى مترتبة على الأولى، وأريد بترتبها أن الانتفاع بها يتوقف عليها فإن النعمة إنما تسمى نعمة من حيث الانتفاع بها، و * (هو) * لغير المتكلم والمخاطب،
214

وفيه لغات: تخفيف الواو مفتوحة؛ وحذفها في الشعر، وتشديدها لهمدان، وتسكينها لأسد وقيس، و * (هو) * عند أهل الله تعالى اسم من أسمائه تعالى ينبىء عن كنه حقيقته المخصوصة المبرأة عن جميع جهات الكثرة، و * (هو) * اسم مركب من حرفين الهاء والواو، والهاء أصل، والواو زائدة بدليل سقوطها في التثنية والجمع فليس في الحقيقة إلا حرف واحد دال على الواحد الفرد الذي لا موجود سواه وكل شيء هالك إلا وجهه، ولمزيد ما فيه من الأسرار اتخذه الأجلة مدارا لذكرهم وسراجا لسرهم، وهو جار مع الأنفاس، ومسماه غائب عن الحدس والقياس، وفي * (جعل) * الضمير مبتدأ والموصول خبرا من الدلالة على الجلالة ما لا يخفى، وتقديم الظرف على المفعول الصريح لتعجيل المسرة واللام للتعليل والانتفاع أي: خلق لأجلكم جميع ما في الأرض لتنتفعوا به في أمور دنياكم بالذات أو بالواسطة وفي أمور دينكم بالاستدلال والاعتبار. واستدل كثير من أهل النسة الحنفية والشافعية بالآية على إباحة الأشياء النافعة قبل ورود الشرع، وعليه أكثر المعتزلة، واختاره الإمام في " المحصول "، والبيضاوي في " المنهاج ".
واعترض بأن اللام تجيء لغير النفع ك‍ * (إن أسأتم فلها) * (الإسراء: 7) وأجيب بأنها مجاز لاتفاق أئمة اللغة على أنها للملك ومعناه الاختصاص النافع، وبأن المراد النفع بالاستدلال، وأجيب بأن التخصيص خلاف الظاهر مع أن ذلك حاصل لكل مكلف من نفسه فيحمل على غيره، وذهب قوم إلى أن الأصل في الأشياء قبل الحظر، وقال قوم بالوقف لتتعارض الأدلة عندهم، واستدلت الإباحية بالآية على مدعاهم قائلين إنها تدل على أن ما في الأرض جميعا خلق للكل فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلا، ويرده أنها تدل على أن الكل للكل، ولا ينافي اختصاص البعض بالبعض لموجب، فهناك شبه التوزيع، والتعيين يستفاد من دليل منفصل، ولا يلزم اختصاص كل شخص بشيء واحد كما ظنه الساليكوتي، و * (ما) * تعم جميع ما في الأرض لأنفسها إذ لا يكون الشيء ظرفا لنفسه إلا أن يراد بها جهة السفل كما يراد بالسماء جهة العلو ويكفي في التحدر العرش المحيط، أو تجعل الجهة اعتبارية، نعم قيل: تعم كل جزء من أجزاء الأرض فإنه من جملة ضروراتها ما فيها ضرورة وجود الجزء في الكل والمغايرة اعتبارية والقول: بأن الكلام على تقدير معطوف أي خلق ما في الأرض والأرض لا أرضي به، وبعضهم لم يتكلف شيئا من ذلك، واستغنى بتقدم الامتنان بالأرض في قوله تعالى: * (جعل لكم الأرض فراشا) * (البقرة: 22) و * (جميعا) * حال مؤكدة من كلمة * (ما) * ولا دلالة لها كما ذكره البعض على الاجتماع الزماني وهذا بخلاف معا، وجعله حالا من ضمير * (لكم) * يضعفه السياق لأنه لتعداد النعم دون المنعم عليه مع أن مقام الامتنان يناسبه المبالغة في كثرة النعم، ولاعتبار المبالغة لم يجعلوه حالا من الأرض أيضا.
* (ثم استوىإلى السماء) * أي علا إليها وارتفع من غير تكييف ولا تمثيل ولا تحديد قاله الربيع أو قصد إليها بإرادته قصدا سويا بلا صارف يلويه ولا عاطف يثنيه من قولهم: استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصدا مستويا من غير أن يلوي على شيء قاله الفراء وقيل: استولى وملك كما في قوله: فلما (علونا واستوينا عليهم) * تركناهم صرعى لنسر وكاسر
وهو خلاف الظاهر لاقتضائه كون * (إلى) * بمعنى على، وأيضا الاستيلاء مؤخر عن وجود المستولي عليه فيحتاج إلى القول بأن المراد استولى على إيجاد السماء
فلا يقتضي تقدم الوجود، ولا يخفى ما فيه. والمراد بالسماء الاجرام العلوية أو جهة العلو. وثم قيل: للتراخي في الوقت، وقيل: لتفاوت ما بين الخلقين، وفضل خلق السماء على خلق الأرض، والناس مختلفون في خلق السماء وما فيها، والأرض وما فيها باعتبار التقدم والتأخر لتعارض الظواهر في ذلك، فذهب بعض إلى تقدم خلق السموات لقوله تعالى: * (أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها *
215

والأرض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها) * (النازعات: 27 - 32) وذهب آخرون إلى تقدم خلق الأرض لقوله تعالى: * (أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين) * إلى قوله سبحانه: * (وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين * ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها) * (فصلت: 9 - 12) وجمع بعضهم فقال: إن * (أخرج منها ماءها) * بدل أو عطف بيان لدحاها أي بسطها مبين للمراد منه فيكون تأخرها ليس بمعنى تأخر ذاتها بل بمعنى تأخر خلق ما فيها وتكميله وترتيبه بل خلق التمتع والانتفاع به فإن البعدية كما تكون باعتبار نفس الشيء تكون باعتبار جزئه الأخير. وقيده المذكور كما لو قلت: بعثت إليك رسولا ثم كنت بعثت فلانا لينظر ما يبلغه فبعث الثاني، وإن تقدم لكن ما بعث لأجله متأخر فجعل نفسه متأخرا. وما رواه الحاكم والبيهقي بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في التوفيق بين الآيتين يشير إلى هذا، ولا يعارضه ما رواه ابن جرير وغيره وصححوه عنه أيضا - " إن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن خلق السموات والأرض فقال: خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد والإثنين، وخلق الجبال وما فيهن من المنافع يوم الثلاثاء، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب، فهذه أربعة فقال تعالى: * (أئنكم لتكفرون) * إلى * (سواء للسائلين) * (فصلت: 9 - 10) وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة " - لجواز أن يحمل على أنه خلق مادة ذلك وأصوله إذ لا يتصور المدائن والعمران والخراب قبل، فعطفه عليه قرينة لذلك، واستشكال الإمام الرازي تأخر التدحية عن خلق السماء بأن الأرض جسم عظيم فامتنع انفكاك خلقها عن التدحية فإذا كانت التدحية متأخرة كان خلقها أيضا متأخرا مبني كما قيل: على الغفلة لأن من يقول بتأخر دحوها عن خلقها لا يقول بعظمها ابتداء بل يقول: إنها في أول الخلق كانت كهيئة الفهر ثم دحيت، فيتحقق الانفكاك ويصح تأخر دحوها عن خلقها، وقوله قدس سره: إن خلق الأشياء في الأرض - لا يمكن إلا إذا كانت مدحوة - لا يخفى دفعه بناء على أن المراد بذلك خلق المواد والأصول لا خلق الأشياء فيها كما هو اليوم. وقال بعض المحققين: اختلف المفسرون في أن خلق السماء مقدم على خلق الأرض أو مؤخر؟ نقل الإمام الواحدي عن مقاتل الأول - واختاره المحققون - ولم يختلفوا في أن جميع ما في الأرض مما ترى مؤخر عن خلق السموات السبع بل اتفقوا عليه، فحينئذ يجعل الخلق في الآية الكريمة بمعنى التقدير لا الإيجاد أو مبعناه ويقدر الإرادة - ويكون المعنى أراد خلق ما في الأرض جميعا - لكم على حد * (إذا قمتم إلى الصلاة) * (المائدة: 6) و * (إذا قرأت القرآن) * (الإسراء: 45) ولا يخالفه * (والأرض بعد ذلك دحاها) * (النازعات: 30) فإن المتقدم على خلق السماء إنما هو تقدير الأرض وجميع ما فيها، أو إرادة إيجادها والمتأخر عن خلق السماء إيجاد الأرض وجميع ما فيها فلا إشكال، وأما قوله سبحانه وتعالى: * (خلق الأرض في يومين) * فعلى تقدير الإرادة، والمعنى أراد خلق الأرض، وكذا * (وجعل فيها رواسي) * ينبغي أن يكون بمعنى أراد أن يجعل، ويؤيد ذلك قوله تعالى: * (فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) * فإن الظاهر أن المراد ائتيا في الوجود، ولو كانت الأرض موجودة سابقة لما صح هذا فكأنه سبحانه قال: أئنكم لتكفرون بالذي أراد إيجاد الأرض وما فيها من الرواسي والأقوات في أربعة أيام ثم قصد إلى السماء فتعلقت إرادته بإيجاد السماء والأرض فأطاعا بأمر التكوين فأوجد سبع سموات في يومين وأوجد الأرض وما فيها في أربعة أيام.
بقي ههنا: بيان النكتة في تغيير الأسلوب حيث قدم في الظاهر هاهنا وفي * (حم) * السجدة خلق الأرض وما فيها
216

على خلق السموات وعكس في النازعات ولعل ذلك لأن المقام في الأولين مقام الامتنان فمقتضاه تقديم ما هو نعمة نظرا إلى المخاطبين فكأنه قال سبحانه وتعالى: هو الذي دبر أمركم قبل خلق السماء قم خلق السماء، والمقام في الثالثة مقام بيان كمال القدرة فمقتضاه تقديم ما هو أدل على كمالها، هذا والذي يفهم من بعض عبارات القوم قدس الله تعالى أسرارهم أن المحدد - ويقال له سماء أيضا - مخلوق قبل الأرض وما فيها، وأن الأرض نفسها خلقت بعد، ثم بعد خلقها خلقت السموات السبع، ثم بعد السبع خلق ما في الأرض من معادن ونبات، ثم ظهر عالم الحيوان، ثم عالم الإنسان، فمعنى * (خلق لكم ما في الأرض) * حينئذ قدره أو أراد إيجاده أو أوجد مواذه، ومعنى * (وجعل فيها رواسي) * الخ في الآية الأخرى على نحو هذا، وخلق الأرض فيها على ظاهره ولا يأباه قوله سبحانه: * (فقال لها وللأرض ائتيا) * الخ لجواز حمله على معنى ائتيا بما خلقت فيكما من التأثير والتأثر وإبراز ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة والكائنات المتنوعة، أو إتيان السماء حدوثها وإتيان الأرض أن تصير مدحوة أو ليأت كل منكما الأخرى في حدوث ما أريد توليده منكما، وبعد هذا كله لا يخلو البحث من صعوبة، ولا زال الناس يستصعبونه من عهد الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلى الآن، ولنا فيه إن شاء الله تعالى عودة بعد عودة، ونسأل الله تعالى التوفيق.
* (فسويهن سبع سمماوات) * الضمير للسماء إن فسرت بالأجرام، وجاز أن يرجع إليها بناء على أنها جمع أو مؤلة به، وإلا فمبهم يفسره ما بعده على حد - نعم رجلا - وفيه من التفخيم والتشويق والتمكين في النفس ما لا يخفى، وفي نصب * (سبع) * خمسة أوجه: البدل من المبهم، أو العائد إلى السماء، أو مفعول به أي سوى منهن، أو حال مقدرة، أو تمييز، أو مفعول ثان لسوى بناء على أنها بمعنى صير - ولم يثبت - والبدلية أرجع لعدم الاشتقاق وبعدها الحالية - كما في " البحر " - وأريد بسواهن أتمهن وقومهن وخلقهن ابتداء مصونات عن العوج والفطور لا أنه سبحانه وتعالى سواهن بعد أن لم يكن كذلك فهو على حد قولهم: ضيق فم البئر ووسع الدار، وفي مقارنة التسوية والاستواء حسن لا يخفى لا يقال إن أرباب الأرصاد أثبتوا تسعة أفلاك، وهل هي إلا سموات؟ لأنا نقول هم شاكون إلى الآن في النقصان
والزيادة فإن ما وجدوه من الحركات يمكن ضبطها بثمانية وسبعة بل بواحد، وبعضهم أثبتوا بين فلك الثوابت والأطلس كرة لضبط الميل الكلي، وقال بعض محققيهم: لم يتبين لي إلى الآن أن كرة الثوابت كرة واحدة أو كرات منطوية بعضها على بعض، وأطال الإمام الرازي الكلام في ذلك وأجاد، على أنه إن صح ما شاع فليس في الآية ما يدل على نفي الزوائد بناء على ما اختاره الإمام من أن مفهوم العدد ليس بحجة، وكلام البيضاوي في " تفسيره " يشير إليه خلافا لما في " منهاجه " الموافق لما عليه الإمام الشافعي ونقله عنه الغزالي في " المنخول "، وذكر الساليكوتي أن الحق أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد - والخلاف في ذلك مشهور - وإذا قلنا بكروية العرش والكرسي لم يبق كلام.
* (وهو بكل شيء عليم) * تذييل مقرر لما قبله من خلق السموات والأرض وما فيها على هذا النمط العجيب والأسلوب الغريب * (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور * ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير) * (الملك: 3، 4) وفي * (عليم) * من المبالغة ما ليس في عالم وليس ذلك راجعا إلى نفس الصفة لأن علمه تعالى واحد لا تكثر فيه لكن لما تعلق بالكلي والجزئي والموجود والمعدوم والمتناهي وغير المتناهي وصف نفسه سبحانه بما دل على المبالغة - والشيء - هنا عام باق على عمومه لا تخصيص فيه بوجه خلافا لمن ضل عن سواء السبيل، والجار والمجرور متعلق بعليم وإنما تعدى بالباء مع أنه من علم وهو متعد بنفسه، والتقوية تكون باللام لأن أمثلة المبالغة
217

كما قالوا: خالفت أفعالها لأنها أشبهت أفعل التفضيل لما فيها من الدلالة على الزيادة فأعطيت حكمه في التعدية وهو أنه إن كان فعله متعديا فإن أفهم علما أو جهلا تعدى بالباء كأعلم به وأجهل به، وعليم به وجهول به - وأعلم من يضل على التأويل وإلا تعدى باللام - كاضرب لزيد و * (فعال لما يريد) * (هود: 107) وإلا تعدى بما يتعدى به فعله - كاصبر على النار، وصبور على كذا - ولعل ذلك أغلبي إذ يقال رحيم به فافهم.
* (وإذ قال ربك للملئكة إني جاعل فى الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إنيأعلم ما لا تعلمون) *.
* (وإذ قال ربك للمل‍ائكة إني جاعل في الأرض خليفة) * لما امتن سبحانه على من تقدم بما تقدم أتبع ذلك بنعمة عامة وكرامة تامة والإحسان إلى الأصل إحسان إلى الفرع والولد سر أبيه و (إذ) ظرف زمان للماضي مبني لشبهه بالحرف وضعا وافتقارا ويكون ما بعدها جملة فعلية أو اسمية، ويستفاد الزمان منها بأن يكون ثاني جزأيها فعلا أو يكون مضمونها مشهورا بالوقوع في الزمان المعين، وإذا دخلت على المضارع قلبته إلى الماضي، وهي ملازمة للظرفية إلا أن يضاف إليها زمان، وفي وقوعها مفعولا به أو حرف تعليل أو مفاجاة أو ظرف مكان أو زائدة خلاف، وفي " البحر " إنها لا تقع، وإذا استفيد شيء من ذلك فمن المقام، واختلف المعربون فيها هنا فقيل: زائدة وبمعنى قد، وفي موضع رفع أي ابتداء خلقكم إذ وفي موضع نصب بمقدر - أي ابتداء خلقكم أو أحياكم إذ - ويعتبر وقتا ممتدا لا حين القول، ويقال: بعدها ومعمول - لخلقكم - المتقدم والواو زائدة والفصل بما يكاد أن يكون سورة، ومتعلق - باذكر - ويكفي في صحة الظرفية ظرفية المفعول - كرميت الصيد في الحرم - وهذه عدة أقوال بعضها غير صحيح والبعض فيه تكلف، فاللائق أن تجعل منصوبة - بقالوا - الآتي وبينهما تناسب ظاهر والجملة بما فيها عطف على ما قبلها عطف القصة على القصة كذا قيل، وأنت تعلم أن المشهور القول الأخير ولعله الأولى فتدبر، ولا يخفي لطف الرب هنا مضافا إلى ضميره صلى الله عليه وسلم بطريق الخطاب وكان في تنويعه والخروج من عامه إلى خاصه رمزا إلى أن المقبل عليه بالخطاب له الحظ الأعظم والقسم الأوفر من الجملة المخبر بها فهو صلى الله عليه وسلم على الحقيقة الخليفة الأعظم في الخليقة والإمام المقدم في الأرض والسموات العلى، ولولاه ما خلق آدم بل ولا ولا ولله تعالى در سيدي ابن الفارض حيث يقول عن لسان الحقيقة المحمدية: وإني وإن كنت ابن آدم صورة * فلي فيه معنى شاهد بأبوتي
واللام الجارة للتبليغ، والملائكة جمع ملئك على وزن شمائل وشمأل وهو مقلوب مالك صفة مشبهة عند الكسائي، وهو مختار الجمهور من الألوكة وهي الرسالة، فهم رسل إلى الناس وكالرسل إليهم، وقيل: لا قلب فابن كيسان إلى أنه فعال من الملك بزيادة الهمزة لأنه مالك ما جعله الله تعالى إليه أو لقوته فإن (م ل ك) يدور مع القوة والشدة يقال: ملكت العجين شددت عجنه، وهو اشتقاق بعيد، وفعال قليل، وأبو عبيدة إلى أنه مفعل من لاك إذا أرسل مصدر ميمي بمعنى المفعول؛ أو اسم مكان على المبالغة، وهو اشتقاق بعيد أيضا، ولم يشتهر لاك، وكثر في الاستعمال الكني إليه - أي كن لي رسولا - ولم يجىء سوى هذه الصيغة فاعتبره مهموز العين، وإن أصله ألاكني، وبعض جعله أجوف من لاك يلوك، والتاء لتأنيث الجمع، وقيل: للمبالغة ولم يجعل لتأنيث اللفظ كالظلمة لاعتبارهم التأنيث المعنوي في كل جمع حيث قالوا: كل جمع مؤنث بتأويل الجماعة وقد ورد بعير تاء في قوله: أبا خالد صلت عليك الملائك
واختلف الناس في حقيقتها بعد اتفاقهم على أنها موجودة سمعا أو عقلا، فذهب أكثر المسلمين إلى أنها أجسام نورانية، وقيل: هوائية قادرة على التشكل والظهور بأشكال مختلفة بإذن الله تعالى، وقالت النصارى: إنها الأنفس الناطقة المفارقة لأبدانها الصافية الخيرة، والخبيثة عندهم شياطين، وقال عبدة الأوثان: إنها هذه الكواكب السعد منها ملائكة الرحمة، والنحس ملائكة العذاب. والفلاسفة يقولون: إنها جواهر مجردة مخالفة للنفوس
218

الناطقة في الحقيقة، وصرح بعضهم بأنها العقول العشرة والنفوس الفلكية التي تحرك الأفلاك، وهي عندنا منقسمة إلى قسمين. قسم شأنهم الاستغراق في معرفة الحق والتنزه عن الاشتغال بغيره * (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) * (الأنبياء: 20)، وهم العليون والملائكة المقربون. وقسم يدبر الأمر من السماء إلى الأرض على ما سبق به القضاء وجرى به القلم * (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) * (التحريم: 6) وهم * (المدبرات أمرا) * (النازعات: 5) فمنهم سماوية ومنهم أرضية، ولا يعلم عددهم إلى الله. وفي الخبر " أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع " وهم مختلفون في الهيآت متفاوتون في العظم، لا يراهم على ما هم عليه إلا أرباب النفوس القدسية. وقد يظهرون بأبدان يشترك في رؤيتها الخاص والعام وهم على ما هم عليه، حتي قيل: إن
جبريل عليه السلام في وقت ظهوره في صورة دحية الكلبي بين يدي المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يفارق سدرة المنتهى، ومثله يقع للكمل من الأولياء، وهذا ما وراء طور العقل - وأنا به من المؤمنين - وقد ذكر أهل الله قدس الله تعالى أسرارهم أن أول مظهر للحق جل شأنه العما، ولما انصبغ بالنور فتح فيه صور الملائكة المهيمين الذين هم فوق عالم الأجساد الطبيعية ولا عرش ولا مخلوق تقدمهم. فلما أوجدهم تجلى لهم باسمه الجميل فهاموا في جلال جماله، فهم لا يفيقون، فلما شاء أن يخلق عالم التدوين والتسطير عين واحدا من هؤلاء - وهو أول ملك ظهر عن ملائكة ذلك النور - سماه العقل والقلم، وتجلى في مجلى التعليم الوهبي بما يريد إيجاده من خلقه لا إلى غاية، فقبل بذاته علم ما يكون، وما للحق من الأسماء الإلهية الطالبة صدور هذا العالم الخلقي، فاشتق من هذا العقل ما سماه اللوح، وأمر القلم أن يتدلى إليه ويودع فيه ما يكون إلى يوم القيامة لا غير. فجعل لهذا العلم ثلثمائة وستين سنا من كونه قلما، ومن كونه عقلا ثلثمائة وستين تجليا أو رقيقة كل سن أو رقيقة تفترق من ثلثمائة وستين صنفا من العلوم الإجمالية فيفصلها في اللوح، وأول علم حصل فيه علم الطبيعة فكانت دون النفس، وهذا كله في عالم النور الخالص، ثم أوجد سبحانه الظلمة المحضة التي هي في مقابلة هذا النور بمنزلة العدم المطلق المقابل للوجود المطلق فأفاض عليها النور إفاضة ذاتية بمساعدة الطبيعة، فلأم شعثها ذلك النور فظهر العرش، فاستوى عليه اسم الرحمن بالاسم الظاهر فهو أول ما ظهر من عالم الخلق، وخلق من ذلك النور الممتزج الملائكة الحافين، وليس لهم شغل إلا كونهم - حافين من حول العرش يسبحون بحمد - ثم أوجد الكرسي في جوف هذا العرش، وجعل فيه ملائكة من جنس طبيعته، فكل فلك أصل لما خلق فيه من عماره، كالعناصر فيما خلق فيها من عمارها، وقسم في هذا الكرسي الكلمة إلى خبر وحكم، وهما القدمان اللتان تدلتا له من العرش كما ورد في الخبر. ثم خلق في جوف الكرسي الأفلاك فلكا في جوف فلك، وخلق في كل فلك عالما منه يعمرونه، وزينها بالكواكب * (وأوحى في كل سماء أمرها) * (فصلت: 12) إلى أن خلق صور المولدات، وتجلى لكل صنف منها بحسب ما هي عليه، فتكون من ذلك أرواح الصور وأمرها بتدبيرها وجعلها غير منقسمة بل ذاتا واحدة، وميز بعضها عن بعض فتميزت وكان تمييزها بحسب قبول الصور من ذلك التجلي، وهذه الصور في الحقيقة كالمظاهر لتلك الأرواح، ثم أحدث سبحانه الصور الجسدية الخيالية بتجل آخر، وجعل لكل من الأرواح والصور غذاء يناسبه، ولا يزال الحق سبحانه يخلق من أنفاس العالم ملائكة ما داموا متنفسين، وسبحان من يقول للشيء كن فيكون.
إذا علمت ذلك فاعلم أنهم اختلفوا في الملائكة المقول لهم، فقيل: كلهم لعموم اللفظ وعدم المخصص، فشمل المهيمين وغيرهم، وقيل: ملائكة الأرض بقرينة أن الكلام في خلافة الأرض، وقيل: إبليس ومن كان معه في محاربة الجن
219

الذين أسكنوا الأرض دهرا طويلا ففسدوا فبعث الله تعالى عليهم جندا من الملائكة يقال لهم الجن أيضا وهم خزان الجنة - اشتق لهم اسم منها - فطردوهم إلى شعوب الجبال والجزائر. والذي عليه السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم، أنهم ما عدا العالمين ممن كان مودعا شيئا من أسماء الله تعالى وصفاته، وأن العالمين غير داخلين في الخطاب ولا مأمورين بالسجود لاستغراقهم وعدم شعورهم بسوى الذات، وقوله تعالى: * (أستكبرت أم كنت من العالين) * (ص: 75) يشير إلى ذلك عندهم، وجعلوا من أولئك الملك المسمى بالروح وبالقلم الأعلى وبالعقل الأول وهو المرآة لذاته تعالى، فلا يظهر بذاته إلا في هذا الملك، وظهوره في جميع المخلوقات إنما هو بصفاته فهو قطب العالم الدنيوي والأخروي وقطب أهل الجنة والنار وأهل الكثيب والأعراف، وما من شيء إلا ولهذا الملك فيه وجه يدور ذلك المخلوق على وجهه فهو قطبه، وهو قد كان عالما بخلق آدم ورتبته، فإنه الذي سطر في اللوح ما كان وما يكون، واللوح قد علم علم ذوق ما خطه القلم فيه، وقد ظهر هذا الملك بكماله في الحقيقة المحمدية كما يشير إليه قوله تعالى: * (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) * (الشورى: 52) ولهذا كان صلى الله عليه وسلم أفضل خلق الله تعالى على الإطلاق، بل هو الخليفة على الحقيقة في السبع الطباق، وليس هذا بالبعيد فليفهم.
وجاعل اسم فاعل من الجعل بمعنى التصيير فيتعدى لاثنين، والأول: هنا خليفة، والثاني: * (في الأرض) * أو بمعنى الخلق فيتعدى لواحد، ف * (في الأرض) * متعلق بخليفة، وقدم للتشويق وعمل الوصف لأنه بمعنى الاستقبال ومعتمد على مسند إليه، ورجح في " البحر " كونه بمعنى الخلق لما في المقابل، ويلزم - على كونه بمعنى التصيير - ذكر خليفة أو تقديره فيه. والمراد من الأرض إما كلها وهو الظاهر، وبه قال الجمهور، أو أرض مكة، وروي هذا مرفوعا والظاهر أنه لم يصح، وإلا لم يعدل عنه، وخص سبحانه الأرض لأنها من عالم التغيير والاستحالات، فيظهر بحكم الخلافة فيها حكم جميع الأسماء الإلهية التي طلب الحق ظهوره بها بخلاف العالم الأعلى؛ والخليفة من يخلف غيره وينوب عنه، والهاء للمبالغة، ولهذا يطلق على المذكر، والمشهور أن المراد به آدم عليه السلام وهو الموافق للرواية ولإفراد اللفط ولما في السياق، ونسبة سفك الدم والفساد إليه حينئذ بطريق التسبب أو المراد - بمن يفسد - الخ من فيه قوة ذلك، ومعنى كونه خليفة أنه خليفة الله تعالى في أرضه، وكذا كل نبي استخلفهم في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم لا لحاجة به تعالى، ولكن لقصور المستخلف عليه لما أنه في غاية الكدورة والظلمة الجسمانية، وذاته تعالى في غاية التقدس، والمناسبة شرط في قبول الفيض على ما جرت به العادة الإلهية فلا بد من متوسط ذي جهتي تجرد وتعلق ليستفيض من جهة ويفيض بأخرى. وقيل: هو وذريته عليه السلام، ويؤيده ظاهر قول الملائكة، فإلزامهم حينئذ بإظهار فضل آدم عليهم لكونه الأصل المستتبع من عداه، وهذا كما يستغني بذكر أبي القبيلة عنهم، إلا أن ذكر الأب بالعلم وما هنا بالوصف، ومعنى كونهم خلفاء أنهم يخلفون من قبلهم من الجن بني الجان أو من إبليس ومن معه من الملائكة المبعوثين لحرب أولئك على ما نطقت به الآثار، أو أنه يخلف بعضهم بعضا، وعند أهل الله تعالى المراد بالخليفة آدم وهو عليه السلام خليفة الله تعالى وأبو الخلفاء والمجلي له سبحانه وتعالى، والجامع لصفتي جماله وجلاله، ولهذا جمعت له اليدان وكلتاهما يمين، وليس في الموجودات من وسع الحق سواه، ومن هنا قال الخليفة الأعظم صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى خلق آدم على صورته أو - على - صورة الرحمن " وبه جمعت الأضداد وكملت النشأة وظهر الحق، ولم تزل تلك الخلافة في الإنسان الكامل إلى قيام الساعة وساعة القيام، بل متى فارق هذا
220

الإنسان العالم مات العالم لأنه الروح الذي به قوامه، فهو العماد المعنوي للسماء، والدار الدنيا جارحة من جوارح جسد العالم الذي الإنسان روحه. ولما كان هذا الاسم الجامع قابل الحضرتين بذاته صحت له الخلافة وتدبير العالم والله سبحانه الفعال لما يريد، ولا فاعل على الحقيقة سواه وفي المقام ضيق، والمنكرون كثيرون ولا مستعان إلا بالله عز وجل. وفائدة قوله تعالى هذا للملائكة تعليم المشاورة لأن هذه المعاملة تشبهها أو تعظيم شأن المجعول وإظهار فضله ويحتمل أنه سبحانه أراد بذلك تعريف آدم عليه السلام لهم ليعرفوا قدره لأنه باطن عن الصورة الكونية بما عنده من الصورة الإلهية وما يعرفه لبطونه من الملأ الأعلى إلا اللوح والقلم، وكان هذا القول على ما ذكره الشيخ الأكبر قدس سره في دولة السنبلة بعد مضي سبعة عشر ألف سنة من عمر الدنيا ومن عمر الآخرة التي لا نهاية له في الدوام ثمانية آلاف سنة، ومن عمر العالم الطبيعي المقيد بالزمان المحصور بالمكان إحدى وسبعون ألف سنة من السنين المعروفة الحاصلة أيامها من دورة الفلك الأول وهو يوم وخمسا يوم من أيام ذي المعارج ولله تعالى الأمر من قبل ومن بعد، وقرأ زيد بن علي (خليقة) بالقاف والمعنى واضح.
* (قالوآ أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء) * استكشاف عن الحكمة الخفية وعما يزيل الشبهة وليس استفهاما عن نفس الجعل والاستخلاف لأنهم قد علموه قبل، فالمسؤول عنه هو الجعل ولكن لا باعتبار ذاته بل باعتبار حكمته ومزيل شبهته، أو تعجب من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد فيها، أو يستخلف مكان أهل الفساد مثلهم أو مكان أهل الطاعة أهل المعصية، وقيل استفهام محض حذف فيه المعادل - أي: أتجعل فيها من يفسد أم تجعل من لا يفسد - وجعله بعضهم من الجملة الحالية - أي: أتجعل فيها - كذا - ونحن نسبح بحمدك أم نتغير - واختار ذلك شيخنا علاء الدين الموصلي روح الله تعالى روحه، والأدب يسكتني عنه، وعلى كل تقدير ليست الهمزة للإنكار كما زعمته الحشوية مستدلين بالآية على عدم عصمة الملائكة لاعتراضهم على الله تعالى وطعنهم في بني آدم، ومن العجيب أن مولانا الشعراني - وهو من أكابر أهل السنة بل من مشايخ أهل الله تعالى - نقل عن شيخه الخواص أنه خص العصمة بملائكة السماء معللا له بأنهم عقول مجردة بلا منازع ولا شهوة، وقال: إن الملائكة الأرضية غير معصومين ولذلك وقع إبليس فيما وقع إذ كان من ملائكة الأرض الساكنين بجبل الياقوت بالمشرق عند خط الاستواء فعليه لا يبعد الاعتراض ممن كان في الأرض والعياذ بالله تعالى، ويستأنس له بما ورد في بعض الأخبار أن القائلين كانوا عشرة آلاف نزلت عليهم نار فأحرقتهم، وعندي أن ذلك غير صحيح، وقيل: إن القائل إبليس وقد كان إذ ذاك معدودا في عداد الملائكة ويكون نسبة القول إليهم على حد - بنو فلان قتلوا فلانا - والقاتل واحد منهم، والوجه ما قررنا وتكرار الظرف للدلالة على الإفراط في الفساد ولم يكرره بعد للاكتفاء مع ما في التكرار مما لا يخفى. والسفك الصب والإراقة ولا يستعمل إلا في الدم أو فيه وفي الدمع والعطف من عطف الخاص على العام للإشارة إلى عظم هذه المعصية لأنه بها تتلاشى الهياكل الجسمانية، والدماء جمع دم لامه ياء أو واو وقصره وتضعيفه مسموعان، وأصله فعل أو فعل، والمراد بها المحرمة بقرينة المقام، وقيل: الاستغراق فيتضمن جميع أنواعها من المحظور وغيره والمقصود عدم تمييزه بينها، وقرأ ابن أبي عبلة يسفك بضم الفاء، ويسفك من أسفك وبالتضعيف من سفك، وقرأ ابن هرمز بنصب الكاف وخرج على النصب في جواب الاستفهام، وقرىء على البناء للمجهول، والراجع إلى من حينئذ سواء جعل موصولا أو موصوفا
221

محذوف - أي فيهم - وحكم الملائكة بالإفساد والسفك على الإنسان بناء على بعض هاتيك الوجوه ليس من ادعاء علم الغيب أو الحكم بالظن والتخمين ولكن بإخبار من الله تعالى ولم يقص علينا فيما حكي عنهم اكتفاء بدلالة الجواب عليه للإيجاز كما هو عادة القرآن، ويؤيد ذلك ما روي في بعض الآثار أنه لما قال الله تعالى ذلك قالوا: وما يكون من ذلك الخليفة؟ قال: تكون له ذرية يفسدون في الأرض ويقتل بعضهم بعضا فعند ذلك قالوا: ربنا * (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) * وقيل: عرفوا ذلك من اللوح ويبعده عدم علم الجواب، ويحتاج الجواب إلى تكلف، وقيل: عرفوه استنباطا عما ركز في عقولهم من عدم عصمة غيرهم المفضي إلى العلم بصدور المعصية عمن عداهم المفضي إلى التنازع والتشاجر إذ من لا يرحم نفسه لا يرحم غيره، وذلك يفضي إلى الفساد وسفك الدماء، وقيل: قياسا لأحد الثقلين على الآخر بجامع اشتراكهما في عدم العصمة ولا يخفى ما في القولين، ويحتمل أنهم علموا ذلك من تسميته خليفة لأن الخلافة تقتضي الإصلاح وقهر المستخلف عليه وهو يستلزم أن يصدر منه فساد إما في ذاته بمقتضى الشهوة أو في غيره من السفك أو لأنها مجلي الجلال كما أنها مجلي الجمال، ولكل آثار، والإفساد والسفك من آثار الجلال وسكتوا عن آثار الجمال إذ لا غرابة فيها وهم على كل تقدير ما قدروا الله تعالى حق قدره ولا يخل ذلك بهم ففوق كل ذي علم عليم.
* (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) * حال من ضمير الفاعل في * (أتجعل) * وفيها تقرير لجهة الإشكال، والمعنى تستخلف من ذكر ونحن المعصومون وليس المقصود إلا الاستفسار عن المرجح لا العجب والتفاخر حتى يضر بعصمتهم كما زعمت الحشوية، ولزوم الضمير، وترك الواو في الجملة الاسمية إذا وقعت حالا مؤكدة غير مسلم كما في " شرح التسهيل " وصيغة المضارع للاستمرار، وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للاختصاص. ومن الغريب جعل الجملة استفهامية حذف منها الأداة، وكذا المعادل والتسبيح في الأصل مطلق التبعيد، والمراد به تبعيد الله تعالى عن السوء وهو متعد بنفسه ويعدى باللام إشعارا بأن إيقاع الفعل لأجل الله تعالى وخالصا لوجهه سبحانه فالمفعول المقدر ههنا يمكن أن يكون باللام على وفق قرينه، وأن يكون بدونه كما هو أصله، و * (بحمدك) * في موضع الحال والباء لاستدامة الصحبة والمعية، وإضافة الحمد إما إلى الفاعل والمراد لازمه مجازا من التوفيق والهداية، أو إلى المفعول أي متلبسين بحمدنا لك على ما وفقتنا لتسبيحك، وفي ذلك نفي ما يوهمه الإسناد من العجب، وقيل: المراد به تسبيح خاص وهو - سبحان ذي الملك والملكوت سبحانه ذي العظمة والجبروت سبحان الحي الذي لا يموت - ويعرف هذا بتسبيح الملائكة، أو - سبحان الله وبحمده - وفي حديث عن عبادة بن الصامت عن أبي ذر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الكلام أفضل؟ قال: ما اصطفى الله تعالى لملائكته أو لعباده سبحان الله وبحمده " أي وبحمده نسبح، والتقديس في المشهور كالتسبيح معنى، واحتاجوا لدفع التكرار إلى أن أحدهما باعتبار الطاعات والآخر باعتبار الاعتقادات، وقيل: التسبيح تنزيهه تعالى عما لا يليق به، والتقديس تنزيهه في ذاته عما لا يراه لائقا بنفسه فهو أبلغ ويشهد له أنه حيث جمع
بينهما آخر نحو - سبوح قدوس - ويحتمل أن يكون بمعنى التطهير، والمراد نسبحك ونطهر أنفسنا من الأدناس أو أفعالنا من المعاصي فلا نفعل فعلهم من الإفساد والسفك أو نطهر قلوبنا عن الالتفات إلى غيرك، ولام * (لك) * إما للعلة متعلق - بنقدس - والحمل على التنازع مما فيه تنازع أو معدية للفعل كما في - سجدت لله تعالى - أو للبيان كما في - سفها لك - فمتعلقها حينئذ خبر مبتدأ محذوف أو زائدة والمفعول هو المجرور، ثم الظاهر أن قائل هذه الجملة هو قائل الجملة الأولى، وأغرب الشيخ
222

صفي الدين الخزرجي في كتابه " فك الأزرار " فجعل القائل مختلفا، وبين ذلك بأن الملائكة كانوا حين ورود الخطاب عليهم مجملين وكان إبليس مندرجا في جملتهم فورد الجواب منهم مجملا، فلما انفصل إبليس عن جملتهم بإبائه انفصل الجواب إلى نوعين، فنوع الاعتراض منه، ونوع التسبيح والتقديس ممن عداه، فانقسم الجواب إلى قسمين كانقسام الجنس إلى جنسين، وناسب كل جواب من ظهر عنه، فالكلام شبيه بقوله تعالى: * (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا) * (البقرة: 135) وهو تأويل لا تفسير.
* (قال إني أعلم ما لا تعلمون) * أي أعلم من الحكم في ذلك ما أنتم بمعزل عنه، وقيل: أراد بذلك علمه بمعصية إبليس وطاعة آدم، وقيل: بأنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء وصالحون، وقيل: الأحسن أن يفسر هذا المبهم بما أخبر به تعالى عنه بقوله سبحانه: * (إني أعلم غيب السموات والأرض) * (البقرة: 33) ويفهم من كلام القوم قدس الله تعالى أسرارهم، أن المراد من الآية بيان الحكمة في الخلافة على أدق وجه وأكمله، فكأنه قال جل شأنه - أريد الظهور بأسمائي وصفاتي ولم يكمل ذلك بخلقكم - فإني أعلم ما لا تعلمونه لقصور استعدادكم ونقصان قابليتكم، فلا تصلحون لظهور جميع الأسماء والصفات فيكم، فلا تتم بكم معرفتي ولا يظهر عليكم كنزي، فلا بد من إظهار من تم استعداده، وكملت قابليته ليكون مجلي لي ومرآة لأسمائي وصفاتي ومظهرا للمتقابلات في، ومظهرا لما خفي عندي، وبي يسمع وبي يبصر وبي وبي، وبعد ذاك يرق الزجاج والخمر، وإلى الله عز شأنه يرجع الأمر. و * (أعلم) * فعل مضارع، واحتمال أنه أفعل تفضيل مما لا ينبغي أن يخرج عليه كتاب الله سبحانه كما لا يخفى.
* (وعلم ءادم الأسمآء كلها ثم عرضهم على المل‍ائكة فقال أنبئونى بأسمآء ه‍اؤلاء إن كنتم ص‍ادقين) *
* (وعلم ءادم الأسماء كلها) * عطف على * (قال) * (البقرة: 30)، وفيه تحقيق لمضمون ما تقدم، وظاهر الابتداء بحكاية التعليم يدل على أن ما مر من المقاولة إنما جرت بعد خلقه عليه السلام بمحضر منه بأن قيل إثر نفخ الروح فيه: إن جاعل إياه خليفة، فقيل ما قيل، وقيل: إنه معطوف على محذوف، أي فخلق وعلم، أو فخلقه وسواه ونفخ فيه الروح وعلم، أو فجعل في الأرض خليفة وعلم، وإبراز اسمه عليه السلام للتنصيص عليه والتنويه بذكره. وآدم صرح الجواليقي وكثيرون أنه عربي ووزنه أفعل من الأدمة بضم فسكون السمرة وياما أحيلاها في بعض، وفسرها أناس بالبياض أو الأدمة - بفتحتين - الأسوة والقدوة أو من أديم الأرض ما ظهر منها. وقد أخرج أحمد والترمذي وصححه غير واحد، أنه تعالى قبض قبضة من جميع الأرض سهلها وحزنها، فخلق منها آدم، فلذلك تأتي بنوه أخيافا، أو من الأدم أو الأدمة، الموافقة والألفة، وأصله أأدم - بهمزتين - فأبدلت الثانية ألفا لسكونها بعد فتحة، ومنع صرفه للعلمية ووزن الفعل، وقيل: أعجمي ووزنه فاعل بفتح العين ويكثر هذا في الأسماء كشالخ وآزر ويشهد له جمعه على أوادم بالواو لا - أآدم - بالهمزة، وكذا تصغيره على - أويدم - لا - أؤيدم - واعتذر عنه الجوهري بأنه ليس للهمزة أصل في البناء معروف، فجعل الغالب عليها - الواو - ولم يسلموه له، وحينئذ لا يجري الاشتقاق فيه لأنه من تلك اللغة لا نعلمه ومن غيرها لا يصح، والتوافق بين اللغات بعيد، وإن ذكر فيه فذاك للإشارة إلى أنه بعد التعريب ملحق بكلامهم، وهو اشتقاق تقديري اعتبروه لمعرفة الوزن والزائد فيه من غيره، ومن أجراه فيه حقيقة كمن جمع بين الضب والنون، ولعل هذا أقرب إلى الصواب. والأسماء جمع اسم وهو باعتبار الاشتقاق ما يكون علامة للشيء ودليلا يرفعه إلى الذهن من الألفاظ الموضوعة بجميع اللغات والصفات والأفعال، واستعمل عرفا في الموضوع
223

لمعنى مفردا كان أو مركبا مخبرا عنه أو خبرا أو رابطة بينهما، وكلا المعنيين محتمل. والعلم بالألفاظ المفردة والمركبة تركيبا خبريا أو إنشائيا يستلزم العلم بالمعاني التصورية والتصديقية. وإرادة المعنى المصطلح مما لا يصلح لحدوثه بعد القرآن. وقال الإمام: المراد بالأسماء صفات الأشياء ونعوتها وخواصها، لأنها علامات دالة على ماهياتها، فجاز أن يعبر عنه بالأسماء، وفيه كما قال الشهاب نظر إذ لم يعهد إطلاق الاسم على مثله حتى يفسر به النظم، وقيل: المراد بها أسماء ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وعزي إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: اللغات، وقيل: أسماء الملائكة، وقيل: أسماء النجوم، وقال الحكيم الترمذي: أسماؤه تعالى، وقيل وقيل وقيل. والحق عندي ما عليه أهل الله تعالى، وهو الذي يقتضيه منصب الخلافة الذي علمت، وهو أنها أسماء الأشياء علوية أو سفلية جوهرية أو عرضية، ويقال لها أسماء الله تعالى عندهم باعتبار دلالتها عليه، وظهوره فيها غير متقيد بها. ولهذا قالوا: إن أسماء الله تعالى غير متناهية، إذ ما من شيء يبرز للوجود من خبايا الجود، إلا وهو اسم من أسمائه تعالى وشأن من شؤونه عز شأنه، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن. ومن هنا قال قدس سره: إن الوجود وإن تعدد ظاهرا * وحياتكم ما فيه إلا أنتم
لكن للفرق مقام وللجمع مقام ولكل مقام مقال، ولولا المراتب لتعطلت الأسماء والصفات، وتعليمها له عليه السلام على هذا ظهور الحق جل وعلا فيه منزها عن الحلول والاتحاد والتشبيه بجميع أسمائه وصفاته المتقابلة حسب استعداده الجامع بحيث علم وجه الحق في تلك الأشياء، وعلم ما انطوت عليه وفهم ما أشارت إليه، فلم يخف عليه منها خافية ولم يبق من أسرارها باقية، فيالله هذا الجرم الصغير كيف حوى هذا العلم الغزير. واختلف الرسميون بينهم في كيفية التعليم بعد أن فسر بأنه فعل يترتب عليه العلم غالبا، وبعد حصول ما يتوقف عليه من جهة المتعلم كاستعداده لقبول الفيض وتلقيه من جهة المعلم لا تخلف. فقيل: بأن خلق فيه - عليه السلام بموجب استعداده - علما ضروريا تفصيليا بتلك الأسماء وبمدلولاتها وبدلالتها ووجه دلالتها، وقيل: بأن خلقه من أجزاء مختلفة وقوى متباينة مستعدا لإدراك أنواع المدركات، وألهمه
معرفة ذوات الأشياء وأسمائها وخواصها ومعارفها وأصول العلم وقوانين الصناعات وتفاصيل آلاتها وكيفيات استعمالاتها فيكون ما مر من المقاولة قبل خلقه عليه السلام، والقول: بأن التعليم على ظاهره - وكان بواسطة ملك غير داخل في عموم الخطاب ب * (أنبؤوني) * - مما لا أرتضيه، اللهم إلا إن صح خبر في ذلك، ومع هذا أقول: للخبر محمل غير ما يتبادر مما لا يخفى على من له ذوق، وقيل: غير ذلك. ثم إن هذا التعليم لا يقتضي تقدم لغة اصطلاحية كما زعمه أبو هاشم واحتج عليه بوجوه ردت في " التفسير الكبير "، إذ لو افتقر لتسلسل الأمر أو دار، والإمام الأشعري يستدل بهذه الآية على أن الواضع للغات كلها هو الله تعالى ابتداء ويجوز حدوث بعض الأوضاع من البشر كما يضع الرجل علم ابنه. والمعتزلة يقولون: الواضع من البشر آدم أو غيره ويسمى مذهب الاصطلاح. وقيل: وضع الله تعالى بعضها ووضع الباقي البشر وهو مذهب التوزيع وبه قال الأستاذ، والمسألة مفصلة بأدلتها وما لها وما عليها في أصول الفقه. وقرأ اليماني: * (وعلم) * مبنيا للمفعول، وفي " البحر " أن التضعيف للتعدية وهي به سماعية، وقيل: قياسية، والحريري في شرح لمحته " يزعم أن علم المتعدي لاثنين يتعدى به إلى ثلاثة، وقد وهم في ذلك.
* (ثم عرضهم على المل‍ائكة) * أي المسميات المفهومة من الكلام وتذكير الضمير على بعض الوجوه لتغليب ما اشتملت عليه من العقلاء، وللتعظيم بتنزيلها منزلتهم في رأي على البعض الآخر. وقيل: الضمير للأسماء باعتبار أنها المسميات مجازا على طريق الاستخدام. ومن قال: الاسم عين المسمى قال: الأسماء هي المسميات
224

والضمير لها بلا تكلف - وإليه ذهب مكي والمهدوي ويرد عليه أن * (أنبئوني بأسماء هؤلاء) * يدل على أن العرض للسؤال عن أسماء المعروضات لا عن نفسها وإلا لقيل: أنبؤوني بهؤلاء، فلا بد أن يكون المعروض غير المسؤول عنه فلا يكون نفس الأسماء، ومعنى عرض المسميات تصويرها لقلوب الملائكة، أو إظهارها لهم كالذر، أو إخبارهم بما سيوجده من العقلاء وغيرهم إجمالا، وسؤالهم عما لا بد لهم منه من العلوم والصنائع التي بها نظام معاشهم ومعادهم إجمالا أيضا، وإلا فالتفصيل لا يمكن علمه لغير اللطيف الخبير، فكأنه سبحانه قال: سأوجد كذا وكذا فأخبروني بما لهم وما عليهم، وما أسماء تلك الأنواع من قولهم: عرضت أمري على فلان فقال لي كذا، فلا يرد أن المسميات عند بعض أعيان ومعان، وكيف تعرض المعاني كالسرور والحزن والجهل والعلم، وعندي أن عرض المسميات عليهم يحتمل أن يكون عبارة عن اطلاعهم على الصور العلمية والأعيان الثابتة التي قد يطلع عليها في هذه النشأة بعض عباد الله تعالى المجردين، أو إظهار ذلك لهم في عالم تتجسد فيه المعاني وهذا غير ممتنع على الله تعالى بل إن المعاني الآن متشكلة في عالم الملكوت بحيث يراها من يراها، ومن أحاط خبرا بعالم المثال لم يستبعد ذلك، وقيل: إنهم شهدوا تلك المسميات في آدم عليه السلام، وهو المراد بعرضها:
وتزعم أنك جرم صغير * وفيك انطوى العالم الأكبر
وقرأ أبي: * (ثم عرضها) * وعبد الله: * (عرضهن) * والمعنى عرض مسمياتها أو مسمياتهن، وقيل: لا تقدير.
* (فقال أنبئوني بأسمآء ه‍اؤلآء) * تعجيز لهم وليس من التكليف بما لا يطاق - على ما وهم - وفيه إشارة إلى أن أمر الخلافة والتصرف والتدبير وإقامة المعدلة بغير وقوف على مراتب الاستعدادات ومقادير الحقوق مما لا يكاد يمكن، فكيف يروم الخلافة من لا يعرف ذلك، أو من لا يعرف الألفاظ أنفسها؟! هيهات ذلك أبعد من العيوق وأعز من بيض الأنوق وعندي أن المراد إظهار عجزهم وقصور استعدادهم عن رتبة الخلافة الجامعة للظاهر والباطن بأمرهم بالإنباء بتلك الأسماء على الوجه الذي أريد منها، والعاجز عن نفس الإنباء أعجز عن التحلي المطلوب في ذلك المنصب المحبوب: كيف الوصول إلى سعاد ودونها * قلل الجبال ودونهن حتوف
الرجل حافية ومالي مركب * والكف صفر والطريق مخوف
والإنباء في الأصل مطلق الإخبار وهو الظاهر هنا ويطلق على الإخبار بما فيه فائدة عظيمة ويحصل به علم أو غلبة ظن، وقال بعضهم: إنه إخبار فيه إعلام، ولذلك يجري مجرى كل منهما، واختاره هنا على ما قيل للإيذان برفعة شأن الأسماء وعظم خطرها؛ وهذا مبني، على أن النبأ إنما يطلق على الخبر الخطير والأمر العظيم، وفي استعمال ثم فيما تقدم والفاء هنا ما لا يخفى من الاعتناء بشأن آدم عليه السلام وعدمه في شأنهم.
وقرأ الأعمش: * (أنبئوني) * بغير همز * (إن كنتم ص‍ادقين) * أي فيما اختلج في خواطركم من أني لا أخلق خلقا إلا أنتم أعلم منه وأفضل وهذا هو التفسير المأثور فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الملائكة قالوا: لن يخلق الله تعالى خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم، وفي الكلام دلالة عليه، فإن * (ونحن نسبح) * الخ يدل على أفضليتهم، وتنزيه الله تعالى وتقديسه أو تقديسهم أنفسهم يدل على كمال العلم أيضا. وقيل: إن المعنى * (إن كنتم صادقين) * في زعمكم أنكم أحق بالاستخلاف أو في أن استخلافهم لا يليق فأثبتوه ببيان ما فيكم من الشرائط السابقة وليس هذا من المعصية في شيء لأنه شبهة اختلجت، وسألوا عما يزيحها وليس باختياري، ولا يرد
225

أن الصدق والكذب إنما يتعلق بالخبر وهم استخبروا ولم يخبروا لأنا نقول: هما يتطرقان إلى الإنشاءات بالقصد الثاني، ومن حيث ما يلزم مدلولها، وإن لم يتطرقا إليها بالقصد الأول ومن حيث منطوقها، وجواب * (إن) * في مثل هذا الموضع محذوف عند سيبويه وجمهور البصريين يدل عليه السابق، وهو هنا * (أنبئوني) * وعند الكوفيين وأبي زيد والمبرد أن الجواب هو المتقدم، وهذا هو النقل الصحيح عمن ذكر في المسألة، ووهم البعض فعكس الأمر، ومن زعم أن * (إن) * هنا بمعنى إذا الظرفية فلا تحتاج إلى جواب فقد وهم، وكأنه لما رأى عصمة الملائكة وظن من الآية ما يخل بها، ولم يجد لها محملا مع إبقاء * (إن) * على ظاهرها افتقر إلى ذلك، والحمد لله تعالى على ما أغنانا من فضله ولم يحوجنا إلى هذا ولا إلى القول بأن الغرض من الشرطية التوكيد لما نبههم عليه من القصور والعجز، فحاصل المعنى حينئذ أخبروني ولا تقولوا إلا حقا كما قال الإمام.
* (قالوا سبح‍انك لا علم لنآ إلا ما علمتنآ إنك أنت العليم الحكيم) *
* (قالوا سبح‍انك لا علم لنا إلا ما علمتنا) * استئناف واقع موقع الجواب كأنه قيل: فماذا؟ قالوا إذا ذاك: هل خرجوا عن عهدة ما كلفوه أولا؟ فقيل: * (قالوا) *: الخ. وذكر غير واحد أن الجمل المفتتحة بالقول إذا كانت مرتبا بعضها على بعض في المعنى فالأفصح أن لا يؤتى فيها بحرف اكتفاء بالترتيب المعنوي، وقد جاء في سورة الشعراء من ذلك كثير، بل القرآن مملوء منه، وسبحان قيل: إنه مصدر، وفعله سبح مخففا بمعنى نزه، ولا يكاد يستعمل إلا مضافا، إما للمفعول أو الفاعل منصوبا بإضمار فعل وجوبا، وقوله: سبحانه ثم سبحانا نعوذ به * وقبلنا سبح الجودي والجمد
شاذ كقوله: سبحانك اللهم ذا السبحان
ومجئيه منادى مما زعمه الكسائي ولا حجة له وذهب جماعة إلى أنه علم للتسبيح بمعنى التنزيه لا مصدر سبح بمعنى قال: سبحان الله لئلا يلزم الدور ولأن مدلول ذلك لفظ ومدلول هذا معنى واستدل على ذلك بقوله: قد قلت لما جاءني فخره * سبحان من علقمة الفاخر
إذ لولا أنه علم لوجب صرفه لأن الألف والنون في غير الصفات إنما تمنع مع العلمية، وأجيب بأن سبحان فيه على حذف المضاف إليه أي سبحان الله وهو مراد للعلم به، وأبقى المضاف على حاله مراعاة لأغلب أحواله وهو التجرد عن التنوين وقيل: (من) زائدة والإضافة لما بعدها على التهكم والاستهزاء به، ومن الغريب قول بعض: إن معنى * (سبحانك) * تنزيه لك بعد تنزيه، كما قالوا في لبيك إجابة بعد إجابة، ويلزم على هذا ظاهرا أن يكون مثنى ومفرده سبحا وأن لا يكون منصوبا بل مرفوع وأنه لم تسقط النون للإضافة وإنما التزم فتحها، ويا سبحان الله تعالى لمن يقول ذلك، والغرض من هذا الجواب الاعتراف بالعجز عن أمر الخلافة، والقصور عن معرفة الأسماء على أبلغ وجه كأنهم قالوا: لا علم لنا إلا ما علمتنا ولم تعلمنا الأسماء فكيف نعلمها؟ وفيه إشعار بأن سؤالهم لم يكن إلا استفسارا، إذ لا علم لهم إلا من طريق التعليم، ومن جملته علمهم بحكمة الاستخلاف مما تقدم فهو بطريق التعليم أيضا فالسؤال المترتب هو عليم سؤال مستفسر لا معترض وثناء عليه تعالى بما أفاض عليهم مع غاية التواضع ومراعاة الأدب وترك الدعوى، ولهذا كله لم يقولوا لا علم لنا بالأسماء مع أنه كان مقتضى الظاهر ذلك، ومن زعم عدم العصمة جعل هذا توبة، والإنصاف أنه يشبهها ولكن
226

لا عن ذنب مخل بالعصمة بل عن ترك أولى بالنسبة إلى علو شأنهم ورفعة مقامهم إذ اللائق بحالهم على العلات أن يتركوا الاستفسار ويقفوا مترصدين لأن يظهر حقيقة الحال. و (ما) عند الجمهور موصولة حذف عائدها وهي إما في موضع رفع على البدل أو نصب على الاستثناء. وحكى ابن عطية عن الزهراوي أنها في موضع نصب ب * (علمتنا) * ويتكلف لتوجيهه بأن الاستثناء منقطع، ف * (إلا) * بمعنى لكن. و * (ما) * شرطية والجواب محذوف كأنهم نفوا أولا سائر العلوم ثم استدركوا أنه في المستقبل أي شيء علمهم علموه ويكون ذلك أبلغ في ترك الدعوى كما لا يخفى.
* (إنك أنت العليم الحكيم) * تذييل يؤكد مضمون الجملة السابقة، ولما نفوا العلم عن أنفسهم أثبتوه لله تعالى على أكمل أوصافه وأردفوه بالوصف بالحكمة لما تبين لهم ما تبين وأصل الحكمة المنع ومنه حكمة الدابة لأنها تمنعها عن الاعوجاج، وتقال للعلم لأنه يمنع عن ارتكاب الباطل، ولإتقان الفعل لمنعه عن طرق الفساد والاعتراض وهو المراد ههنا لئلا يلزم التكرار، فمعنى الحكيم ذو الحكمة، وقيل: المحكم لمبدعاته، قال في " البحر ": وهو على الأول صفة ذات، وعلى الثاني صفة فعل، والمشهور أنه إن أريد به العليم كان من صفات الذات أو الفاعل لما لا اعتراض عليه كان من صفات الفعل فافهم.
وقدم سبحانه الوصف بالعلم على الوصف بالحكمة لمناسبة ما تقدم من * (أنبؤني) * و * (لا علم لنا) * ولأن الحكمة لا تبعد عن العلم وليكون آخر مقالتهم مخالفا لما يتوهم من أولها، و * (أنت) * يحتمل أن يكون فصلا لا محل له على المشهور يفيد تأكيد الحكم، والقصر المستفاد من تعريف المسند، وقيل: هو تأكيد لتقرير المسند إليه، ويسوغ في التابع ما لا يسوغ في المتبوع، وقيل: مبتدأ خبره ما بعده، والحكيم إما خبر بعد خبر أو نعت له وحذف متعلقهما لإفادة العموم، وقد خصهما بعض فقال: العليم بما أمرت ونهيت الحكيم فيما قضيت وقدرت والعموم أولى.
* (قال ياءادم أنبئهم بأسمآئهم فلمآ أنبأهم بأسمآئهم قال ألم أقل لكم إنيأعلم غيب السم‍اوات والارض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) *
* (قال يا ءادم أنبئهم بأسمائهم) * نادى سبحانه آدم باسمه العلم كما هو عادته جل شأنه مع أنبيائه ما عدا نبينا صلى الله عليه وسلم حيث ناداه ب * (يا أيها النبي) * (الأنفال: 64) و * (يا أيها الرسول) * (المائدة: 41) لعلو مقامه ورفعة شأنه إذ هو الخليفة الأعظم، والسر في إيجاد آدم. ولم يقل سبحانه أنبئني كما وقع في أمر الملائكة مع حصول المراد معه أيضا، وهو ظهور فضل آدم إبانة لما بين الرتبتين من التفاوت، وإنباء للملائكة بأن علمه عليه السلام واضح لا يحتاج إلى ما يجري مجرى الامتحان وأنه حقيق أن يعلم غيره أو لتكون له عليه السلام منة التعليم كاملة حيث أقيم مقام المفيد وأقيموا مقام المستفيدين منه، أو لئلا تستولي عليه الهيبة فإن إنباء العالم ليس كإنباء غيره. والمراد بالإنباء هنا الإعلام لا مجرد الإخبار كما تقدم.
وفيه دليل لمن قال: إن علوم الملائكة وكمالاتهم تقبل الزيادة، ومنع قوم ذلك في الطبقة العليا منهم، وحمل عليه * (وما منا إلا له مقام معلوم) * (الصافات: 164) وأفهم كلام البعض منع حصول العلم المرقي لهم فلعل ما يحصل علم قال: لا حال والفرق ظاهر لمن له ذوق، وقرأ ابن عباس: * (أنبئهم) * بالهمز وكسر الهاء وأنبيهم بقلب الهمزة ياء، وقرأ الحسن: أنبهم كأعطهم، والمراد بالأسماء ما عجزوا عن علمها واعترفوا بالقصور عن بلوغ مرتبتها، والضمير عائد على المعروضين على ما تقدم.
* (فلما أنبأهم بأسمائهم) * عطف على جملة محذوفة والتقدير فانبأهم بها فلما أنبأهم الخ، وحذفت لفهم المعنى، وإظهار الأسماء في موقع الإضمار لإظهار كمال العناية بشأنها مع الإشارة إلى أنه عليه السلام أنبأهم بها على وجه التفصيل دون الإجمال. وعلمهم بصدقه من القرائن الموجبة له والأمر أظهر من أن يخفى، ولا يبعد إن
عرفهم سبحانه الدليل على ذلك واحتمال أن يكون لكل صنف منهم لغة أو معرفة بشيء ثم حضر جميعهم
227

فعرف كل صنف إصابته في تلك اللغة أو ذلك الشيء بعيد.
* (قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) * جواب ل‍ * (ما) * وتقرير لما مر من الجواب الإجمالي واستحضار له على وجه أبسط من ذلك وأشرح. ولا يخفى ما في الآية من الإيجاز، إذ كان الظاهر أعلم غيب السموات والأرض وشهادتهما وأعلم ما كنتم تبدون وما كنتم تكتمون وما ستبدون وتكتمون، إلا أنه سبحانه اقتصر على غيب السموات والأرض لأنه يعلم منه شهادتهما بالأولى، واقتصر من الماضي على المكتوم لأنه يعلم منه البادي كذلك وعلى المبدأ من المستقبل لأنه قبل الوقوع خفي، فلا فرق بينه وبين غيره من خفياته وتغيير الأسلوب حيث لم يقل: وتكتمون لعله لإفادة استمرار الكتمان فالمعنى أعلم ما تبدون قبل أن تبدوه وأعلم ما تستمرون على كتمانه، وذكر الساليكوتي أن كلمة كان صلة غير مفيدة لشيء إلا محض التأكيد المناسب للكتمان، ثم الظاهر من الآية العموم ومع ذلك * (ما لا تعلمون) * أعم مفهوما لشموله غيب الغيب الشامل لذات الله تعالى وصفاته وخصها قوم فمن قائل: غيب السموات أكل آدم وحواء من الشجرة، وغيب الأرض قتل قابيل هابيل. ومن قائل: الأول: ما قضاه من أمور خلقه والثاني: ما فعلوه فيها بعد القضاء، ومن قائل: الأول: ما غاب عن المقربين مما استأثر به تعالى من أسرار الملكوت الأعلى والثاني: ما غاب عن أصفيائه من أسرار الملك الأدنى وأمور الآخرة، والأولى وما أبدوه قبل قولهم: * (أتجعل فيها) * (البقرة: 30) وما كتموه، قولهم: لن يخلق الله تعالى أكرم عليه منا، وقيل: ما أظهروه بعد من الامتثال. وقيل: ما أسره إبليس من الكبر، وإسناد الكتم إلى الجميع حينئذ من باب بنو فلان قتلوا فلانا والقاتل واحد منهم ومعنى الكتم على كل حال عدم إظهار ما في النفس لأحد ممن كان في الجمع، وليس المراد أنهم كتموا الله تعالى شيئا بزعمهم فإن ذلك لا يكون حتى من إبليس وأبدى سبحانه العامل في * (ما تبدون) * الخ اهتماما بالإخبار بذلك المرهب لهم والظاهر عطفه على الأول فهو داخل معه تحت ذلك القول، ويحتمل أن يكون عطفا على جملة * (ألم أقل) * فلا يدخل حينئذ تحته.
* (وإذ قلنا للمل‍ائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الك‍افرين) *
* (وإذ قلنا للمل‍ائكة اسجدوا لآدم) * الظرف متعلق بمقدر دل عليه الكلام كانقادوا وأطاعوا والعطف من عطف القصة على القصة وفي كل تعداد النعمة مع أن الأول تحقيق للفضل وهذا اعتراف به ولا يصح عطف الظرف على الظرف بناءا على اللائق الذي قدمناه لاختلاف الوقتين، وجوز على أن نصب السابق بمقدر، والسجود في الأصل تذلل مع انخفاض بانحناء وغيره، وفي الشرع وضع الجبهة على قصد العبادة وفي المعنى المأمور به هنا خلاف فقيل: المعنى الشرعي، والمسجود له في الحقيقة هو الله تعالى وآدم إما قبلة أو سبب واعترض بأن لو كان كذلك ما امتنع إبليس، وبأنه لا يدل على تفضيله عليه السلام عليهم. وقوله تعالى: * (أرأيتك هذا الذي كرمت علي) * (الإسراء: 62) يدل عليه ألا ترى أن الكعبة ليست بأكرم ممن سجد إليها وأجيب بالتباس الأمر على إبليس، وبأن التكريم يجعله جهة لهذه العبادة دونهم، ولا يخفى ما فيه من الدلالة على عظمة الشأن كما في جعل الكعبة قبلة من بين سائر الأماكن ومن الناس من جوز كون المسجود له آدم عليه السلام حقيقة مدعيا أن السجود للمخلوق إنما منع في شرعنا وفيه أن السجود الشرعي عبادة، وعبادة غيره سبحانه شرك محرم في جميع الأديان والأزمان ولا أراها حلت في عصر من الأعصار. وقيل: المعنى اللغوي ولم يكن فيه وضع
228

الجباه بل كان مجرد تذلل وانقياد، فاللام إما باقية على ظاهرها، وإما بمعنى إلى مثلها في قول حسان رضي الله عنه: أليس أول من صلى لقبلتكم * وأعرف الناس بالقرآن والسنن
أو للسببية، مثلها في قوله تعالى: * (أقم الصلاة لدلوك الشمس) * (الإسراء: 78) وحكمة الأمر بالسجود إظهار الاعتراف بفضله عليه السلام، والاعتذار عما قالوا فيه مع الإشارة إلى أن حق الأستاذ على من علمه حق عظيم، وغير سبحانه الأسلوب حيث قال أولا: * (وإذ قال ربك) * (البقرة: 30) وهنا * (وإذا قلنا) * بضمير العظمة لأن في الأول خلق آدم واستخلافه، فناسب ذكر الربوبية مضافا إلى أحب خلفائه إليه وهنا المقام مقام إبراد أمر يناسب العظمة وأيضا في السجود تعظيم، فلما أمر بفعله لغيره أشار إلى كبريائه الغنية عن التعظيم. وقرأ أبو جعفر بضم تاء * (الملائكة) * اتباعا لضم الجيم، وهي لغة أزدشنوأة وهي لغة غريبة عربية وليست بخطأ كما ظن الفارسي فقد روي أن امرأة رأت بناتها مع رجل، فقالت: - أفي السوأ تنتنه تريد أفي السوأة أنتنه.
* (فسجدوا إلا إبليس) * الفاء لإفادة مسارعتهم في الامتثال وعدم تثبطهم فيه، وإبليس اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، ووزنه فعليل قاله الزجاج. وقال أبو عبيدة وغيره: إنه عربي مشتق من الإبلاس وهو الإبعاد من الخير أو اليأس من رحمة الله تعالى، ووزنه على هذا مفعيل، ومنعه من الصرف حينئذ لكونه لا نظير له في الأسماء؛ واعترض بأن ذلك لم يعد من موانع الصرف مع أن له نظائر كإحليل وإكليل وفيه نظر، وقيل: لأنه شبيه بالأسماء الأعجمية إذ لم يسم به أحد من العرب، وليس بشيء، واختلف الناس فيه هل هو من الملائكة أم من الجن؟ فذهب إلى الثاني جماعة مستدلين بقوله تعالى: * (إلا إبليس كان من الجن) * (الكهف: 50) وبأن الملائكة لا يستكبرون وهو قد استكبر، وبأن الملائكة كما روي مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها خلقوا من النور وخلق الجن من مارج من نار وهو قد خلق مما خلق الجن كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عنه: * (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) * (ص: 76) وعد تركه السجود إباءا واستكبارا حينئذ إما لأنه كان ناشئا بين الملائكة مغمورا بالألوف منهم فغلبوا عليه وتناوله الأمر ولم يمتثل، أو لأن الجن أيضا كانوا مأمورين مع الملائكة، لكنه استغنى بذكرهم لمزيد شرفهم عن ذكر الجن، أو لأنه عليه اللعنة كان مأمورا صريحا لا ضمنا كما يشير إليه ظاهر قوله تعالى: * (إذ أمرتك) * (الأعراف: 12) وضمير * (فسجدوا) * راجع للمأمورين بالسجود. وذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين إلى الأول مستدلين بظاهر الاستثناء وتصحيحه بما ذكر تكلف لأنه وإن كان واحدا منهم لكن كان
رئيسهم ورأسهم كما نطقت به الآثار فلم يكن مغمورا بينهم، ولأن صرف الضمير إلى مطلق المأمورين مع أنه في غاية البعد لم يثبت، إذ لم ينقل أن الجن سجدوا لآدم سوى إبليس، وكونه مأمورا صريحا الآية غير صريحة فيه ودون إثباته خرط القتاد واقتضاء ما ذكر من الآية كونه من جنس الجن ممنوع لجواز أن يراد كونه منهم فعلا، وقوله تعالى: * (ففسق) * كالبيان له، ويجوز أيضا أن يكون * (كان) * بمعنى صار كما روي أنه مسخ بسبب هذه المعصية فصار جنيا كما مسخ اليهود فصاروا قردة وخنازير سلمنا لكن لا منافاة بين كونه جنا وكونه ملكا، فإن الجن كما يطلق على ما يقابل الملك يقال على نوع منه على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكانوا خزنة الجنة أو صاغة حليهم. وقيل: صنف من الملائكة لا تراهم الملائكة مثلنا، أو أنه يقال للملائكة جن أيضا كما قاله ابن إسحاق لاجتنانهم واستتارهم عن أعين الناس، وبذلك
229

فسر بعضهم قوله تعالى: * (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) * (الصافات: 158) وورد مثله في كلام العرب، فقد قال الأعشى في سيدنا سليمان عليه السلام: وسخر من جن الملائك تسعة * قياما لديه يعملون بلا أجر
وكون الملائكة لا يستكبرون وهو قد استكبر لا يضر، إما لأن من الملائكة من ليس بمعصوم وإن كان الغالب فيهم العصمة على العكس منا وفي " عقيدة أبي المعين النسفي " ما يؤيد ذلك، وإما لأن إبليس سلبه الله تعالى الصفات الملكية وألبسه ثياب الصفات الشيطانية فعصى عند ذلك والملك ما دام ملكا لا يعصي. ومن ذا الذي يامي لا يتغير
وكونه مخلوقا من نار وهم مخلوقون من نور غير ضار أيضا ولا قادح في ملكيته لأن النار والنور متحدا المادة بالجنس واختلافهما بالعوارض، على أن ما في أثر عائشة رضي الله تعالى عنها من خلق الملائكة من النور جار مجرى الغالب وإلا خالفه كثير من ظواهر الآثار إذ فيها أن الله تعالى خلق ملائكة من نار وملائكة من ثلج وملائكة من هذا وهذه، وورد أن تحت العرش نهرا إذا اغتسل فيه جبريل عليه السلام وانتفض يخلق من كل قطرة منه ملك، وأفهم كلام البعض أنه يحتمل أن ضربا من الملائكة لا يخالف الشياطين بالذات وإنما يخالفهم بالعوارض والصفات كالبررة والفسقة من الإنس والجن يشملهما وكان إبليس من هذا الصنف، فعده ما شئت من ملك وجن وشيطان، وبذلك يحصل الجمع بين الأقوال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
ثم المشهور أن الاستثناء متصل إن كان من الملائكة، ومنقطع إن لم يكن منهم، وقد علمت تكلفهم لاتصاله مع قولهم بالثاني، وقد شاع عند النحاة والأصوليين أن المنقطع هو المستثنى من غير جنسه، والمتصل هو المستثنى من جنسه، قال القرافي في " العقد المنظوم ": وهو غلط فيهما، فإن قوله تعالى: * (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة) * (النساء: 29) و * (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) * (الدخان: 56) و * (ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) * (النساء: 92) الاستثناء فيه منقطع مع أن المستثنى من جنس ما قبله فيبطل الحدان، والحق أن المتصل ما حكم فيه على جنس ما حكمت عليه أولا بنقيض ما حكمت به ولا بد من هذين القيدين فمتى انخرم أحدهما فهو منقطع بأن كان غير الجنس سواء حكم عليه بنقيضه أو لا نحو رأيت القوم إلا فرسا، فالمنقطع نوعان، والمتصل نوع واحد، ويكون المنقطع كنقيض المتصل، فإن نقيض المركب بعدم أجزائه، فقوله تعالى: * (لا يذوقون) * الخ منقطع بسبب الحكم بغير النقيض، لأن نقيضه ذاقوه فيها وليس كذلك وكذلك * (إلا أن تكون تجارة) * لأنها لا تؤكل بالباطل بل بحق وكذلك * (إلا خطأ) * لأنه ليس له القتل مطلقا وإلا لكان مباحا فتنوع المنقطع حينئذ إلى ثلاثة، الحكم على الجنس بغير النقيض، والحكم على غيره به أو بغيره، والمتصل نوع واحد فهذا هو الضابط وقيل: العبرة بالاتصال والانفصال الدخول في الحكم وعدمه لا في حقيقة اللفظ وعدمه، فتأمل ترشد.
وأفهم كلام القوم نفعنا الله تعالى بهم أن جميع المخلوقات علويها وسفليها سعيدها وشقيها مخلوق من الحقيقة المحمدية صلى الله عليه وسلم كما يشير إليه قول النابلسي قدس سره دافعا ما يرد على الظاهر: طه النبي تكونت من نوره * كل الخليقة ثم لو ترك القطا
وفي الآثار ما يؤيد ذلك، إلا أن الملائكة العلويين خلقوا منه عليه الصلاة والسلام من حيث الجمال، وإبليس من حيث الجلال، ويؤل هذا بالآخرة إلى أن إبليس مظهر جلال الله سبحانه وتعالى، ولهذا كان منه ما كان ولم يجزع ولم يندم ولم يطلب المغفرة لعلمه أن الله تعالى يفعل ما يريده وأن ما يريده سبحانه هو الذي
230

تقتضيه الحقائق، فلا سبيل إلى تغييرها وتبديلها، واستشعر ذلك من ندائه بإبليس ولم يكن اسمه من قبل بل كان اسمه عزازيل أو الحرث، وكنيته أبا مرة ووراء ذلك ما لم يمكن كشفه والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل
وفي قوله تعالى: * (أبى واستكبر وكان من الك‍افرين) * نوع إشارة إلى بعض ما ذكر، والجملة استئناف جواب لمن قال ما فعل، وقيل: إن الفعلين الأولين في موضع نصب على الحال أي آبيا مستكبرا * (وكان من الكافرين) * مستأنف أو في موضع الحال، وقيل: الجمل الثلاث تذييل بعد تذييل، والاباء الامتناع مع الأنفة والتمكن من الفعل، ولهذا كان قولك أبي زيد الظلم أبلغ من لم يظلم ولافادة الفعل النفي صح بعده الاستثناء المفرغ ك‍ * (يأبى الله إلا أن يتم نوره) * (التوبة: 32) وقوله: أبى الله إلا عدله ووفاءه * فلا النكر معروف ولا العرف ضائع
والفعل منه أبى بالفتح، وعليه لا يكون يأبى قياسيا. وقد سمع أبى كرضي فالمضارع حينئذ قياسي والمفعول هنا محذوف أي السجود، والاستكبار التكبر وهو مما جاء فيه استفعل بمعنى تفعل، وقيل: التكبر أن يرى الشخص نفسه أكبر من غيره وهو مذموم وإن كان أكبر في الواقع، والاستكبار طلب ذلك بالتشبع، وقدم الإباء عليه وإن كان متأخرا عنه في الرتبة لأنه من الأحوال الظاهرة بخلاف الاستكبار فإنه نفساني. أو لأن المقصود الإخبار عنه بأنه خالف حاله حال الملائكة فناسب أن يبدأ أولا بتأكيد ما حكم به عليه في الاستثناء أو بإنشاء الإخبار عنه بالمخالفة فبدأ بذلك على أبلغ وجه (وكان) على بابها والمعنى كان في علم الله تعالى من الكافرين أو كان من القوم
الكافرين الذين كانوا في الأرض قبل خلق آدم، وقيل: بمعنى صار وهو مما أثبته بعض النحاة قال ابن فورك: وترده الأصول ولأنه كان الظاهر حينئذ فكان بالفاء ثم إن كفره ليس لترك الواجب كما زعم الخوارج متمسكين بهذه الآية لأنه لا يوجب ذلك في ملتنا على ما دلت عليه القواطع، وإيجابه قبل ذلك غير مقطوع به بل باستقباحه أمر الله تعالى بالسجود لمن يعتقد أنه خير منه وأفضل كما يدل عليه الإباء والاستكبار وقال أبو العالية: معنى * (من الكافرين) * من العاصين ثم الظاهر أن كفره كان عن جهل بأن استرد سبحانه منه ما أعاره من العلم الذين كان مرتديا به حين كان طاووس الملائكة وأظافير القضاء إذا حكت أدمت، وقسى القدر إذا رمت أصمت - وكان سراح الوصل أزهر بيننا * فهبت به ريح من البين فانطفي
وقيل: عن عناد حمله عليه حب الرياسة والإعجاب بما أوتي من النفاسة ولم يدر المسكين أنه لو امتثل ارتفع قدره وسما بين الملأ الأسمى فنحره ولكن: إذا لم يكن عون من الله للفتى * فأول ما يجني عليه اجتهاده
وكم أرقت هذه القصة جفونا، وأراقت من العيون عيونا فإن إبليس كان مدة في دلال طاعته يختال في رداء مرافقته ثم صار إلى ما ترى وجرى ما به القلم جرى: وكنا وليلى في صعود من الهوى * فلما توافينا ثبت وزلت
ومن هنا قال الشافعية والأشعرية وبقولهم أقول في هذه المسألة: إن العبرة بالإيمان الذي يوافي العبد عليه ويأتي متصفا به في آخر حياته وأول منازل آخرته، ولذا يصح أنا مؤمن إن شاء الله تعالى بالشك، ولكن ليس في الإيمان الناجز بل في الإيمان الحقيقي المعتبر عند الموت وختم الأعمال، وقد صح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه كما أورده الزرقاني أن من تمام إيمان العبد أن يستثنى إذ عواقب المؤمنين مغيبة عندهم وهو القاهر فوق
231

عباده وفي الصحيح عن جابر " كان صلى الله عليه وسلم يكثر من قوله يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك " وخبر " من قال أنا مؤمن إن شاء الله تعالى فليس له من الإسلام نصيب " موضوع باتفاق المحدثين، وأنا مؤمن بغيره إن شاء الله تعالى، هذا واعلم أن الذي تقتضيه هذه الآية الكريمة، وكذا التي في الاعراف، وبني إسرائيل، والكهف وطه أن سجود الملائكة ترتب على الأمر التنجيزي الوارد بعد خلقه ونفخ الروح فيه، وهو الذي يشهد له النقل والعقل إلا أن ما في الحجر (28 - 30) من قوله تعالى: * (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون) * وكذا ما في ص تستدعي ظاهرا ترتبه على ما فيها من الأمر التعليقي من غير أن يتوسط بينهما شيء غير الخلق وتوابعه، وبه قال بعضهم. وحمل ما في تلك الآيات من الأمر على حكاية الأمر التعليقي بعد تحقق المعلق به إجمالا فإنه حينئذ يكون في حكم التنجيز، و * (ثم) * في آية الأعراف للتراخي الرتبي أو التراخي في الأخبار، أو يقال: إن الأمر التعليقي لما كان قبل تحقق المعلق به بمنزلة العدم في عدم إيجاب المأمور به جعل كأنه إنما حدث بعد تحققه، فحكى على صورة التنجيز، ولما رأى بعضهم أن هذا مؤد إلى أن ما جرى في شأن الخلافة وما قالوا وما سمعوا إنما جرى بعد السجود المسبوق بمعرفة جلالة قدره عليه السلام، وخروج إبليس من البين باللعن، وبعد مشاهدتهم لكل ذلك وهو خرق لقضية النقل بل خرق في العقل اضطر إلى القول بأن السجود كان مرتين، وهيهات لا يصلح العطار ما أفسد الدهر، فالحق الحقيق مادلت عليه هاتيك الآيات، وما استدل به المخالف لا ينتهض دليلا لأن الشرط إن كان قيدا للجزاء كان معناه على تقدير صدق إذا سويته أطلب بناء على أن الشرط قيد للطلب على ما صرح به العلامة التفتازاني من أن معنى قولنا: إن جاءك زيد فأكرمه، أي على تقدير صدق إن جاءك زيد أطلب منك إكرامه، وإن كان الحكم بين الشرط والجزاء فالجزاء الطلبي لا بد من تأويله بالخبر أي يستحق أن يقال في حقه أكرمه، وعلى التقديرين كان مدلول * (فقعوا له ساجدين) * (الحجر: 29) طلبا استقلاليا لا حاليا فلا يلزم تحقق الأمر بالسجود قبل التسوية، نعم لو كان الشرط قيدا للمطلوب لا للطلب يكون المعنى الطلب في الحال للسجود وقت التسوية فيفيد تقدم الأمر على التسوية، وقول مولانا الرازي قدس سره: إن الآية كما تدل على تقدم الأمر بالسجود على التسوية تفيد أن التعليم والانباء كان بعد السجود لأنها تدل على أن آدم عليه السلام كما صار حيا صار مسجودا للملائكة لأن الفاء في * (فقعوا) * للتعقيب لا يخفى ما فيه لأن الفاء للسببية لا للعطف، وهو لا يقتضي التعقيب كما في قوله تعالى: * (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا) * (الجمعه: 9)، وقوله سبحانه: * (فتلقى آدم من ربه كلمات) * (البقرة: 37)، ومن الناس من حمل نفخ الروح في الآية على التعليم لما اشتهر أن العلم حياة والجهل موت، وأنت في غنى عنه، والله الموفق.
* (وقلنا ياءادم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا ه‍اذه الشجرة فتكونا من الظ‍المين) *
* (وقلنا ي‍ائادم اسكن أنت وزوجك الجنة) * عطف على * (إذا قلنا) * (البقرة: 34) بتقدير إذ أو بدونه أو على قلنا والزمان ممتد واسع للقولين، وتصدير الكلام بالنداء لتنبيه المأمور لما يلقى إليه من الأمر وتحريكه لما يخاطب به إذ هو من الأمور التي ينبغي أن يتوجه إليها، و (أسكن) أمر من السكنى بمعنى اتخاذ المسكن لا من السكون ترك الحركة إذ ينافيه ظاهرا * (حيث شئتما) * وذكر متعلقه بدون في وليس بمكان مبهم و * (أنت) * توكيد للمستكن في * (أسكن) *، والمقصود منه بالذات صحة العطف إذ لولاه لزم العطف على الضمير المتصل بلا فصل وهو ممتنع في الفصيح على الصحيح، وإفادة تقرير المتبوع مقصودة تبعا، وصح العطف مع أن المعطوف لا يباشره فعل الأمر لأنه وقع تابعا، ويغتفر فيه ما لا يغتفر في المتبوع، وقيل: هناك تغليبان تغليب المخاطب على الغائب والمذكر على المؤنث، ولكون
232

التغليب مجازا ومعنى السكون والأمر موجودا فيهما حقيقة خفي الأمر، فأما أن يلتزم أن التغليب قد يكون مجازا غير لغوي بأن يكون التجوز في الإسناد، أو يقال إنه لغوي لأن صيغة الأمر هنا للمخاطب وقد استعملت في الأعم، وللتخلص عن ذلك قيل: إنه معطوف بتقدير فليسكن، وفيه أنه حينئذ يكون من عطف الجملة على الجملة فلا وجه للتأكيد، والأمر يحتمل أن يكون للإباحة - كاصطادوا - وأن يكون للوجوب كما أن النهي فيما بعد للتحريم، وإيثاره على اسكنا للتنبيه على أنه عليه السلام المقصد بالحكم في جميع الأوامر وهي تبع له كما أنها في الخلقة كذلك، ولهذا قال بعض المحققين: لا يصح إيراد زوجك بدون العطف بأن يكون منصوبا على أنه مفعول
معه، والجنة في المشهور دار الثواب للمؤمنين يوم القيامة لأنها المتبادرة عند الاطلاق ولسبق ذكرها في السورة، وفي ظواهر الآثار ما يدل عليه، ومنها ما في الصحيح من محاجة آدم وموسى عليهما السلام فهي إذن في السماء حيث شاء الله تعالى منها، وذهب المعتزلة وأبو مسلم الأصفهاني وأناس إلى أنها جنة أخرى خلقها الله تعالى امتحانا لآدم عليه السلام وكانت بستانا في الأرض بين فارس وكرمان، وقيل: بأرض عدن، وقيل: بفلسطين كورة بالشام ولم تكن الجنة المعروفة، وحملوا الهبوط على الانتقال من بقعة إلى بقعة كما في * (اهبطوا مصرا) * (البقرة: 61) أو على ظاهره، ويجوز أن تكون في مكان مرتفع قالوا: لأنه لا نزاع في أنه تعالى خلق آدم في الأرض ولم يذكر في القصة أنه نقله إلى السماء ولو كان نقله إليها لكان أولى بالذكر ولأنه سبحانه قال في شأن تلك الجنة وأهلها * (لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما * إلا قليلا سلاما سلاما) * (الواقعة: 25، 26) و * (لا لغو فيها ولا تأثيم) * (الطور: 23) * (وما هم منها بمخرجين) * (الحجر: 48) وقد لغا إبليس فيها وكذب وأخرج منها آدم وحواء مع إدخالهما فيها على وجه السكنى لا كإدخال النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج. ولأن جنة الخلد دار للنعيم وراحة وليست بدار تكليف، وقد كلف آدم أن لا يأكل من الشجرة ولان إبليس كان من الكافرين وقد دخلها للوسوسة ولو كانت دار الخلد ما دخلها ولا كاد لأن الأكابر صرحوا بأنه لوجىء بالكافر إلى باب الجنة لتمزق ولم يدخلها لأنه ظلمة وهي نور ودخوله مستترا في الجنة على ما فيه لا يفيد، ولأنها محل تطهير فكيف يحسن أن يقع فيها العصيان والمخالفة ويحل بها غير المطهرين ولأن أول حمل حواء كان في الجنة على ما في بعض الآثار ولم يرد أن ذلك الطعام اللطيف يتولد منه نطفة هذا الجسد الكثيف، والتزام الجواب عن ذلك كله لا يخلو عن تكلف، والتزام ما لا يلزم وما في حيز المحاجة يمكن حمله على هذه الجنة وكون حملها على ما ذكر يجري مجرى الملاعبة بالدين والمراغمة لإجماع المسلمين غير مسلم، وقيل: كانت في السماء وليست دار الثواب بل هي جنة الخلد، وقيل: كانت غيرهما ويرد ذلك أنه لم يصح أن في السماء بساتين غير بساتين الجنة المعروفة، واحتمال أنها خلقت إذ ذاك ثم اضمحلت مما لا يقدم عليه منصف، وقيل: الكل ممكن والله تعالى على ما يشاء قدير والأدلة متعارضة، فالأحوط والأسلم هو الكف عن تعيينها والقطع به، وإليه مال صاحب " التأويلات "، والذي ذهب إليه بعض سادتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم أنها في الأرض عند جبل الياقوت تحت خط الاستواء ويسمونها جنة البرزخ وهي الآن موجودة وإن العارفين يدخلونها اليوم بأرواحهم لا بأجسامهم ولو قالوا: إنها جنة المأوى ظهرت حيث شاء الله تعالى وكيف شاء كما ظهرت لنبينا صلى الله عليه وسلم على ما ورد في الصحيح في عرض حائط المسجد لم يبعد على مشربهم ولو أن قائلا قال بهذا لقلت به لكن للتفرد في مثل هذه المطالب آفات. وكما اختلف في هذه الجنة اختلف في وقت خلق زوجه عليه السلام، فذكر السدي عن ابن مسعود وابن عباس وناس من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن الله تعالى لما أخرج إبليس من الجنة وأسكنها آدم بقي فيها وحده وما كان معه من يستأنس به قألقى الله تعالى عليه النوم ثم أخذ ضلعا من جانبه الأيسر ووضع مكانه لحما وخلق حواء منه فلما استيقظ وجدها
233

عند رأسه قاعدة فسألها من أنت؟ قالت: امرأة قال ولم خلقت؟ قالت: لتسكن إلي فقالت الملائكة تجربة لعلمه: من هذه؟ قال: امرأة قالوا: لم سميت امرأة؟ قال: لأنها خلقت من المراء فقالوا: ما اسمها؟ قال: حواء قالوا: لم سميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من شيء حي. وقال كثيرون ولعلي أقول بقولهم إنها خلقت قبل الدخول ودخلا معا، وظاهر الآية الكريمة يشير إليه وإلا توجه الأمر إلى معدوم وإن كان في علمه تعالى موجودا، وأيضا في تقديم (زوجك) على (الجنة) نوع إشارة إليه وفي المثل، الرفيق قبل الطريق. وأيضا هي مسكن القلب، والجنة مسكن البدن، ومن الحكمة تقديم الأول على الثاني، وأثر السدي - على ما فيه مما لا يخفى عليك - معارض بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: بعث الله جندا من الملائكة فحملوا آدم وحواء على سرير من ذهب كما تحمل الملوك ولباسهما النور حتى أدخلوهما الجنة فإنه كما ترى يدب على خلقها قبل دخول الجنة.
* (وكلا منها رغدا حيث شئتما) * الضمير المجرور للجنة على حذف مضاف أي من مطاعمها من ثمار وغيرها فلم يحظر عليهما شيئا إلا ما سيأتي، وأصل كلا أأكلا بهمزتين الأولى للوصل، والثانية فاء الكلمة فحذفت الثانية لاجتماع المثلين حذف شذوذ وأتبعت بالأولى لفوات الغرض، وقيل: حذفا معا لكثرة الاستعمال والرغد بفتح الغين وقرأ النخعي بسكونها الهني الذي لا عناء فيه أو الواسع، يقال: رغد عيش القوم، ورغد بكسر الغين وضمها كنوا في رزق واسع كثير، وأرغد القوم أخصبوا وصاروا في رغد من العيش، ونصبه على أنه نعت لمصدر محذوف، أي أكلا رغدا. وقال ابن كيسان: إنه حال بتأويل راغدين مرفهين، و (حيث) ظرف مكان مبهم لازم للظرفيه، وإعرابها لغة بني فقعس ولا تكون ظرف زمان خلافا للأخفش، ولا يجزم بها دون (ما) خلافا للفراء، ولا تضاف للمفرد خلافا للكسائي؛ ولا يقال: زيد حيث عمرو خلافا للكوفيين ويعتقب على آخرها الحركات الثلاث مع الياء والواو والألف ويقال: حايث على قلة وهي هنا متعلقة بكلا، والمراد بها العموم لقرينة المقام وعدم المرجح أي أي مكان من الجنة شئتما وأباح لهما الأكل كذلك إزاحة للعذر في التناول مما حظر، ولم تجعل متعلقة ب * (أسكن) *، لأن عموم الأمكنة مستفاد من جعل الجنة مفعولا به له، مع أن التكريم في الأكل من كل ما يريد منها لا في عدم تعيين السكنى ولأن قوله تعالى في آية أخرى: * (وكلا من حيث شئتما) * يستدعي ما ذكرنا، وكذا قوله سبحانه:
* (ولا تقربا ه‍اذه الشجرة فتكونا من الظ‍المين) * ظاهر هذا النهي التحريم، والمنهي عنه الأكل من الشجرة، إلا أنه سبحانه نهى عن قربانها مبالغة، ولهذا جعل جل شأنه العصيان المرتب على الأكل مرتبا عليه، وعدل عن فتأثما إلى التعبير بالظلم الذي يطلق على الكبائر، ولم يكتف بأن يقول: ظالمين، بل قال: * (من الظالمين) * بناء على ما ذكروا أن قولك: زيد من العالمين، أبلغ من زيد عالم لجعله غريقا في العلم إبا عن جد، وإن قلنا بأن (تكونا) دالة على الدوام ازدادت المبالغة، ومن الناس من قال: لا تقرب بفتح الراء نهي عن التلبس بالشيء وبضمها بمعنى لا تدن منه، وقال الجوهري: قرب بالضم يقرب قربادنا وقربته بالكسر قربانا دونت منه. والتاء في (الشجرة) للوحدة الشخصية وهو اللائق بمقام الازاحة وجاز أن يراد النوع، وعلى التقديرين اللام للجنس كما في " الكشف " ووقع خلاف في هذه الشجرة،
فقيل: الحنطة، وقيل: النخلة، وقيل: شجرة الكافور ونسب إلى علي كرم الله تعالى وجهه وقيل: التين، وقيل: الحنظل، وقيل: شجرة المحبة، وقيل: شجرة الطبيعة والهوى وقيل، وقيل.... والأولى: عدم القطع والتعيين كما أن الله تعالى لم يعينها
234

باسمها في الآية ولا أرى ثمرة في تعيين هذه الشجرة ويقال: فيها شجرة بكسر الشين وشيرة بإبدال الجيم ياءا مفتوحة مع فتح الشين وكسرها وبكل قرأ بعض، وعن أبي عمرو أنه كره شيرة قائلا: إن برابر مكة وسودانها يقرؤون بها ولا يخفى ما فيه، والشجر ماله ساق أو كل ما تفرع له أغصان وعيدان، أو أعم من ذلك لقوله تعالى: * (شجرة من يقطين) * (الصافات: 146) وقوله تعالى: * (فتكونا) * إما مجزوم بحذف النون معطوفا على * (تقربا) * فيكون منهيا عنه وكان على أصل معناها، أو منصوب على أنه جواب للنهي كقوله سبحانه: * (ولا تطغوا فيه فيحل) * (طه: 81) والنصب باضمار (أن) عند البصريين وبالفاء نفسها عند الجرمى، وبالخلاف عند الكوفيين و (كان) حينئذ بمعنى صار، وأيا ما كان من تفهم سببية ما تقدم لكونها (من الظالمين) أي الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب المعصية أو نقصوا حظوظهم بمباشرة ما يخل بالكرامة والنعيم أو تعدوا حدود الله تعالى، ولعل القربان المنهي عنه الذي يكون سببا للظلم المخل بالعصمة هو ما لا يكون مصحوبا بعذر كالنسيان هنا مثلا المشار إليه بقوله تعالى: * (فنسى ولم نجد له عزما) * (طه: 115) فلا يستدعي حمل النهي على التحريم، والظلم المقول بالتشكيك على ارتكاب المعصية عدم عصمة آدم عليه السلام بالأكل المقرون بالنسيان وإن ترتب عليه ما ترتب نظرا إلى أن حسنات الأبرار سيآت المقربين وللسيد أن يخاطب عبده بما شاء، نعم لو كان ذلك غير مقرون بعذر كان ارتكابه حينئذ مخلا ودون إثبات هذا خرط القتاد فإذا لا دليل في هذه القصة على عدم العصمة، ولا حاجة إلى القول إن ما وقع كان قبل النبوة لا بعدها كما يدعيه المعتزلة القائلون بأن ظهوره مع علمه بالأسماء معجزة على نبوته إذ ذاك. وصدور الذنب قبلها جائز عند أكثر الأصحاب وهو قول أبي هذيل وأبي علي من المعتزلة ولا إلى حمل النهي على التنزيه والظلم على نقص الحظ مثلا والتزمه غير واحد وقرىء * (تقربا) * بكسر التاء وهي لغة الحجازيين، وقرأ ابن محيض * (هذي) * بالياء.
* (فأزلهما الشيط‍ان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم فى الأرض مستقر ومت‍اع إلى حين) *
* (فأزلهما الشيط‍ان عنها) * أي حملهما على الزلة بسببها، وتحقيقه أصدر زلتهما عنها وعن هذه مثلها في قوله تعالى: * (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة) * (التوبه: 114) والضمير على هذا للشجرة، وقيل: أزلهما أن أذهبهما، ويعضده قراءة حمزة فأزالهما وهما متقاربان في المعنى غير أن أزل يقتضي عثرة مع الزوال والضمير حينئذ للجنة وعوده إلى الشجرة بتجوز، أو تقدير مضاف أي محلها أو إلى الطاعة المفهومة من الكلام بعيد، وإزلاله عليه اللعنة إياهما عليهما السلام كان بكذبه عليهما ومقاسمته على ما قص الله تعالى في كتابه، وفي كيفية توسله إلى ذلك أقوال، فقيل: دخل الجنة ابتلاء لآدم وحواء، وقيل: قام عند الباب فناداهما، وأفسد حالهما، وقيل: تمثل بصورة دابة فدخل ولم يعرفه الخزنة، وقيل: أرسل بعض أتباعه إليهما. وقيل: بينما هما يتفرجان في الجنة إذ راعهما طاووس تجلى لهما على سور الجنة فدنت حواء منه وتبعها آدم فوسوس لهما من وراء الجدار، وقيل: توسل بحية تسورت الجنة ومشهور حكاية الحية وهذان الأخيران يشير أولهما: عند ساداتنا الصوفية إلى توسله من قبل الشهوة خارج الجنة، وثانيهما: إلى توسله بالغضب، وتسور جدار الجنة عندهم إشارة إلى أن الغضب أقرب إلى الأفق الروحاني والحيز القلبي من الشهوة، وقيل: توسله إلى ما توسل إليه إذ ذاك مثل توسله اليوم إلى إذلال من شاء الله تعالى وإضلاله، ولا نعرف من ذلك إلا الهواجس والخواطر التي تفضي إلى ما تفضي، ولا جزم عند كثير من دخول الشيطان في القلب بل لا يعقلونه، ولهذا قالوا: خبر " إن الشيطان يجرى من بني آدم مجرى الدم " محمول على الكناية عن مزيد سلطانه عليهم وانقيادهم له، وكأني بك تختار هذا القول، وقال أبو منصور: ليس لنا البحث عن كيفية ذلك، ولا نقطع القول بلا دليل، وهذا من الانصاف بمكان، وقرأ ابن مسعود
235

رضي الله تعالى عنه * (فوسوس لهما الشيطان عنها) * والضمير في هذه القراءة للشجرة لا غير، وعوده إلى الجنة بتضمين الأذهاب ونحو بعيد * (فأخرجهما مما كانا فيه) * أي من النعيم والكرامة أو من الجنة. والأول: جار على تقدير رجوع ضمير * (عنها) * إلى الشجرة أو الجنة والثاني: مخصوص بالتقدير الأول لئلا يسقط الكلام. وقيل: أخرجهما من لباسهما الذي * (كانا فيه) * لأنهما لما أكلا تهافت عنهما، وفي الكلام من التفخيم ما لا يخفى * (وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو) * الهبوط النزول، وعين المضارع تكسر وتضم، وقال المفضل: هو الخروج من البلد، والدخول فيها من الأضداد ويقال في انحطاط المنزلة والبعض في الأصل مصدر بمعنى القطع ويطلق على الجزء، وهو ككل ملازم للإضافة لفظا أو نية ولا تدخل عليه اللام، ويعود عليه الضمير مفردا ومجموعا إذا أريد به جمع والعدو من العداوة مجاوزة الحد أو التباعد أو الظلم، ويطلق على الواحد المذكر ومن عداه بلفظ واحد، وقد يقال: أعداء وعدوة والخطاب لآدم وحواء، لقوله تعالى: * (قال اهبطا منها جميعا) * (طه: 123) والقصة واحدة، وجمع الضمير لتنزيلهما منزلة البشر كلهم، ولما كان في الأمر بالهبوط انحطاط رتبة المأمور لم يفتتحه بالنداء كما افتتح الأمر بالسكنى واختار الفراء أن المخاطب هما وذريتهما وفيه خطاب المعدوم، والمأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وكثير من السلف أنه هما وإبليس واعترض بخروجه قبلهما، وأجيب بأن الإخبار عما قال لهم مفرقا على أنه لا مانع من المعية وقيل: هم والحية، واعترض بعدم تكليفها، وأجيب بأن الأمر تكويني، والجملة الاسمية منصوبة المحل على الحال المقدرة، والحكم باعتبار الذرية وإذا دخل إبليس والحية كان الأمر أظهر، ولا يرد أنه كيف يقيد الأمر بالتعادي وهو منهى عنه لأنا نقول: بصرف توجه النظر عن القيد كون العداوة طبيعية والأمور الطبيعية غير مكلف بها وإن كلف فبالنظر إلى أسبابها، وإذا جعل الأمر تكوينيا زال الإشكال إلا أن فيه بعدا وبعضهم يجعل الجملة مستأنفة على تقدير السؤال فرارا عن هذا السؤال مع ما في الاكتفاء بالضمير دون الواو في الجملة الاسمية الحالية من المقال، حتى ذهب الفراء إلى شذوذه، وإن كان التحقيق ما ذكره بعض المحققين أن الجملة الحالية لا تخلو من أن تكون من سبب ذي الحال أو أجنبية فإن كانت من سببه
لزمها العائد والواو كجاء زيد، وأبوه منطلق إلا ما شذ من نحو كلمته فوه إلى في وإن أجنبية لزمتها الواو نائبة عن العائد، وقد يجمع بينهما كقدم بشر وعمرو قادم إليه وقد جاءت بلا ولا كقوله: ثم انتصبنا جبال الصغد معرضة * عن اليسار وعن أيماننا جدد
وقد تكون صفة ذي الحال ك‍ * (توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون) * (البقرة: 83) وهذه يجوز فيها الوجهان باطراد، وما نحن فيه من هذا القبيل فتدبر.
وإفراد العدو إما للنظر إلى لفظ البعض، وإما لأن وزانه وزان المصدر كالقبول، وبه تعلق ما قبله واللام كما في " البحر " مقوية، وقرأ أبو حيوة * (اهبطوا) * بضم الباء وهو لغة فيه، وبهذا الأمر نسخ الأمر والنهي السابقان.
* (ولكم في الأرض مستقر ومت‍اع إلى حين) * أراد بالأرض محل الاهباط، وليس المراد شخصه الذي هو لآدم عليه السلام موضع بجبل سرنديب ولحواء موضع بجدة، ولابليس موضع بالابلة، ولصاحبته موضع بنصيبين أو أصبهان أو سجستان والمستقر اسم مكان أو مصدر ميمي، ويحتمل على بعد كونه اسم مفعول بمعنى ما استقر ملككم عليه وتصرفكم فيه وأبعد منه احتمال كونه اسم زمان؛
236

وهو مبتدأ خبره * (لكم) * وفيه متعلق بما تعلق به والمتاع البلغة، مأخوذ من متع النهار إذا ارتفع ويطلق على الانتفاع الممتد وقته ولا يختص بالحقير - والحين مقدار من الزمان قصيرا أو طويلا والمراد هنا إلى وقت الموت وهو القيامة الصغرى وقيل: إلى يوم القيامة الكبرى، وعليه تجعل السكنى في القبر تمتعا في الأرض، أويجعل الخطاب شاملا لابليس - ويراد الكل المجموعي - والجار متعلق بمتاع، قيل: أو به، وبمستقر على التنازع - أو بمقدار صفة لمتاع وهذه الجملة كالتي قبلها استئنافا وحالبة.
* (فتلقى ءادم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) *
* (فتلقى آدم من ربه كلمات) * المراد بتلقى الكلمات استقبالها بالأخذ والقبول والعمل بها، فهو مستعار من استقبال الناس بعض الأحبة - إذا قدم بعد طول الغيبة - لأنهم لا يدعون شيئا من الإكرام إلا فعلوه، وإكرام الكلمات الواردة من الحضرة الأخذ والقبول والعمل بها، وفي التعبير - بالتلقي - إيماء إلى أن آدم عليه السلام كان في ذلك الوقت في مقام البعد و * (من ربه) * حال من * (كلمات) * مقدم عليها، وقيل: متعلق ب * (تلقى) * وهي من تلقاه منه بمعنى تلقنه، ولولا خلوه عما في الأول من اللطافة لتلقيناه بالقبول، وقرأ ابن كثير بنصب * (آدم) * ورفع * (كلمات) * على معنى - استقبلته - فكأنها مكرمة له لكونها سبب العفو عنه، وقد يجعل الاستقبال مجازا عن البلوغ بعلاقة السببية، والمروي في المشهور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن هذه الكلمات هي * (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا) * (الأعراف: 23) الآية، وعن ابن مسعود أنها: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، لا إله إلا أنت، ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. وقيل: رأى مكتوبا على ساق العرش، محمد رسول الله فتشفع به، وإذا أطلقت الكلمة على عيسى عليه السلام، فلتطلق الكلمات على الروح الأعظم، والحبيب الأكرم صلى الله عليه وسلم، فما عيسى، بل وما موسى، بل وما.. وما.. إلا بعض من ظهور أنواره، وزهرة من رياض أنواره، وروي غير ذلك
* (فتاب عليه إنه هو التوب الرحيم) * التوبة أصلها الرجوع وإذا أسندت إلى العبد كانت - كما في الإحياء - عبارة عن مجموع أمور ثلاثة - علم - وهو معرفة ضرر الذنب، وكونه حجابا عن كل محبوب، وحال يثمره ذلك العلم، وهو تألم القلب بسبب فوات المحبوب، ونسميه ندما. وعمل يثمره الحال - وهو الترك والتدارك - والعزم على عدم العود، وكثيرا ما تطلق على الندم وحده لكونه لازما للعلم مستلزما للعمل. وفي الحديث " الندم توبة " وطريق تحصيلها تكميل الإيمان بأحوال الآخرة وضرر المعاصي فيها، وإذا أسندت إليه سبحانه كانت عبارة عن قبول التوبة والعفو عن الذنب ونحوه، أو التوفيق لها والتيسير لأسبابها بما يظهر للتائبين من آياته، ويطلعهم عليه من تخويفاته، حتى يستشعروا الخوف فيرجعوا إليه، وترجع في الآخرة إلى معنى التفضل والعطف، ولهذا عديت - بعلى - وأتى سبحانه بالفاء لأن تلقي الكلمات عين التوبة، أو مستلزم لها، ولا شك أن القبول مترتب عليه، فهي إذا لمجرد السببية، وقد يقال: إن التوبة لما دام عليها صح التعقيب - باعتبار آخرها إذ لا فاصل حينئذ - وعلى كل تقدير لا ينافي هذا ما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنهما بكيا مائتي سنة على ما فاتهما، ولم يقل جل شأنه - فتاب عليهما - لأن النساء تبع يغني عنهن ذكر المتبوع، ولذا طوى ذكرهن في كثير من الكتاب والسنة، وفي الجملة الاسمية ما يقوي رجاء المذنبين، ويجبر كسر قلوب الخاطئين حيث افتتحها بأن وأتي بضمير الفصل وعرف المسند وأتى به من صيغ المبالغة إشارة إلى قبول التوبة كلما تاب العبد، ويحتمل أن ذلك لكثرة من يتوب عليهم، وجمع بين وصفي كونه توابا وكونه رحيما
237

إشارة إلى مزيد الفضل، وقدم التواب لظهور مناسبته لما قبله، وقيل في ذكر الرحيم بعده إشارة إلى أن قبول التوبة ليس على سبيل الوجوب - كما زعمت المعتزلة - بل على سبيل الترحم والتفضل، وأنه الذي سبقت رحمته غضبه، فيرحم عبده في عين غضبه - كما جعل هبوط آدم سبب ارتفاعه، وبعده سبب قربه - فسبحانه من تواب ما أكرمه، ومن رحيم ما أعظمه، وإذا فسر التواب بالرجاع إلى المغفرة - كان الكلام تذييلا - لقوله تعالى: * (فتاب عليه) * أو بالذي يكثر الإعانة على التوبة - كان تذييلا - لقوله تعالى: * (فتلقى آدم) * الخ، وقرأ نوفل * (أنه) * بفتح الهمزة على تقدير - لأنه -.
* (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *
* (قلنا اهبطوا منها جميعا) * كرر للتأكيد، فالفصل لكمال الاتصال - والفاء - في * (فتلقى) * (البقرة: 37) للاعتراض، إذ لا يجوز تقدم المعطوف عبى التأكيد، وفائدته الإشارة إلى مزيد الاهتمام بشأن التوبة وأنه يجب المبادرة إليها - ولا يمهل - فإنه ذنب آخر مع ما في ذلك من إظهار الرغبة بصلاح حاله عليه السلام وفراغ باله، وإزالة ما عسى يتشبث به الملائكة عليهم السلام، وقد فضل عليهم وأمروا بالسجود له، أو كرر ليتعلق عليه معنى آخر غير الأول، إذ ذكر إهباطهم أولا:
للتعادي وعدم الخلود، والأمر فيه تكويني. وثانيا: ليهتدي من يهتدي، ويضل من يضل، والأمر فيه تكليفي، ويسمى هذا الأسلوب في البديع - الترديد - فالفصل حينئذ للانقطاع لتباين الغرضين، وقيل: إن إنزال القصص للاعتبار بأحوال السابقين، ففي تكرير الأمر تنبيه على أن الخوف الحاصل من تصور إهباط آدم عليه السلام المقترن بأحد هذين الأمرين من التعادي والتكليف كاف لمن له حزم، وخلا عن عذر أن تعوقه عن مخالفة حكمه تعالى، فكيف المخالفة الحاصلة من تصور الإهباط المقترن بهما؟؟ فلو لم يعد الأمر لعطف * (فإما يأتينكم) * على الأول: فلا يفهم إلا إهباط مترتب عليه جميع هذه الأمور، ويحتمل - على بعد - أن تكون فائدة التكرار التنبيه على أنه تعالى هو الذي أراد ذلك، ولولا إرادته لما كان ما كان؛ ولذلك أسند الإهباط إلى نفسه مجردا عن التعليق بالسبب بعد إسناد إخراجهما إلى الشيطان، فهو قريب من قوله عز شأنه: * (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) * (الأنفال: 17) وقال الجبائي: إن الأول: من الجنة إلى السماء. والثاني: منها إلى الأرض، ويضعفه ذكر * (ولكم في الأرض مستقر) * (البقرة: 36) عقيب الأول و * (جميعا) * حال من فاعل * (اهبطوا) * أي مجتمعين، سواء كان في زمان واحد أو لا، وقد يفهم الاتحاد في الزمان من سياق الكلام، كما قيل به في * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) * (الحجر: 30) وأبعد ابن عطية فجعله تأكيدا لمصدر محذوف أي هبوطا جميعا
* (فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *. لا يدخل في الخطاب غير المكلف، وأدرج الكثيرون إبليس لأنه مخاطب بالإيمان - والفار - لترتيب ما بعدها على الهبوط المفهوم من الأمر و (إما) مركبة من إن الشرطية و (ما) الزائدة للتأكيد، وكثر تأكيد الفعل بعدها بالنون، ولم يجب كما يدل عليه قول سيبويه: إن شئت لم تقحم النون، كما أنك إن شئت لم تجيء بما وقد ورد ذلك في قوله: يا صاح أما تجدني غير ذي جدة * فما التخلي عن الخلان من شيمي
وقوله: إما أقمت وإما كنت مرتحلا * فالله يحفظ ما تبقي وما تذر
وحمل ذلك من قال بالوجوب على الضرورة وهو مما لا ضرورة إليه، والقول بأنه يلزم حينئذ مزية التابع - الذي هو حرف الشرط على المتبوع وهو الفعل - يدفعه أن التابع ومؤكده تابع فلا مزية، أو أن (ما) لتأكيد الفعل
238

في أوله كما أن النون إذا كانت تأكيدا له في آخره وجيء بحرف الشك إذ لا قطع بالوقوع فإنه تعالى لا يجب عليه شيء بل إن شاء هدى وإن شاء ترك، وقيل: بالقطع واستعمال (إن) في مقامه لا يخلو عن نكتة كتنزيل العالم منزلة غيره بعدم جريه على موجب العلم، ويحسنه سبق ما سيق وقوعه من آدم، وقيل: إن زيادة (ما) والتوكيد بالثقيلة لا يتقاعد في إفادة القطع عن إذا، نعم لا ينظر فيه إلى الزمان بل إلى أنه محقق الوقوع أبهم وقته، وأنت تعلم أن ما اخترناه أسلم وأبعد عن التلكف مما ذكر - وإن جل قائله فتدبر - و * (مني) * متعلق بما قبله، وفيه شبه الالتفات - كما في " البحر " - وأتي بالضمير الخاص هنا للرمز إلى أن اللائق - بمن - هدى التوحيد الصرف وعدم الالتفات إلى الكثرة، ونكر - الهدى - لأن المقصود هو المطلق ولم يسبق فيه عهد فيعرف، وفي المراد به هنا أقوال، فقيل الكتب المنزلة، وقيل: الرسل، وقيل: محمد صلى الله عليه وسلم. ولعل المراد هديه الذي جاء به نوابه عليهم الصلاة والسلام، والفاء في * (فمن) * للربط و (ما) بعد جملة شرطية وقعت جوابا للشرط الأول على حد - إن جئتني فإن قدرت أحسنت إليك - وقال السجاوندي: جوابه محذوف أي فاتبعوه، واختار أبو حيان كون (من) هذه موصولة لما في المقابل من الموصول، ودخلت الفاء في خبرها لتضمنها معنى الشرط، ووضع المظهر موضع المضمر في هداي إشارة للعلية لأن الهدى بالنظر إلى ذاته واجب الاتباع، وبالنظر إلى أنه أضيف إليه تعالى إضافة تشريف أحرى وأحق أن يتبع، وقيل: لم يأت به ضميرا لأنه أعم من الأول لشموله لما يحصل بالاستدلال والعقل، ولم يقل الهدى لئلا تتبادر العينية أيضا لأن النكرة في الغالب إذا أعيدت معرفة كانت عين الأول مع ما في الإضافة إلى نفسه تعالى من التعظيم ما لا يكون لو أتى به معرفا باللام، والخوف الفزع في المستقبل، والحزن ضد السرور مأخوذ من الحزن - وهو ما غلظ من الأرض - فكأنه ما غلط من الهم، ولا يكون إلا في الأمر الماضي على المشهور، ويؤل حينئذ نحو * (إني ليحزنني أن تذهبوا به) * (يوسف: 13) بعلم ذلك الواقع، وقيل: إنه والخوف كلاهما في المستقبل لكن الخوف استشعارهم لفقد مطلوب، والحزن استشعار غم لفوت محبوب، وجعل هنا نفي الخوف كناية عن نفي العقاب، ونفي الحزن كناية عن نفي الثواب وهي أبلغ من الصريح وآكد لأنها كدعوى الشيء ببينة، والمعنى - لا خوف عليهم - فضلا عن أن يحل بهم مكروه، ولا هم يفوت عنهم محبوب فيحزنوا عليه، فالمنفي عن الأولياء خوف حلول المكروه والحزن في الآخرة، وفيه إشارة إلى أنه يدخلهم الجنة التي هي دار السرور والأمن لا خوف فيها ولا حزن، وحينئذ يظهر التقابل بين الصنفين في الآيتين. وقال بعض الكبراء: خوف المكروه منفي عنهم مطلقا. وأما خوف الجلال ففي غاية الكمال والمخلصون على خطر عظيم، وقيل: المعنى - لا خوف عليهم - من الضلال في الدنيا، ولا حزن من الشقاوة في العقبى، وقدم انتفاء الخوف لأن انتفاء الخوف فيما هو آت أكثر من انتفاء الحزن على ما فات. ولهذا صدر بالنكرة التي هي أدخل في النفي، وقدم الضمير إشارة إلى اختصاصهم بانتفاء الحزن وأن غيرهم يحزن. والمراد بيان دوام الانتفاء لا بيان انتفاء الدوام كما يتوهم من كون الخبر في الجملة الثانية مضارعا لما تقرر في محله أن النفي وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام، وذكر بعض الناس أن العدول عن لا خوف لهم أو عندهم إلى - لا خوف عليهم - للإشارة إلى أنهم قد بلغت حالهم إلى حيث لا ينبغي أن يخاف أحد عليهم. وفي " البحر " أنه سبحانه كنى بعليهم عن الاستيلاء والإحاطة إشارة إلى أن الخوف لا ينتفي بالكلية ألا ترى انصراف النفي على كونية الخوف عليهم، ولا يلزم من نفي كونية استيلاء الخوف انتفاؤه في كل حال، فلا دليل في الآية
239

على نفي أهوال القيامة وخوفها عن المطيعين، وأنت تعلم أن فيما أشرنا إليه كناية غنية عن مثله وكذا عما قيل إن نفس الاستيلاء للتعريض بالكفار، والإشارة إلى أن الخوف مستول عليهم. هذا وقرأ الأعرج * (هداي) * بسكون الياء، وفيه الجمع بين ساكنين وذلك من إجراء الوصل مجرى الوقف. وقرأ الجحدري وغيره * (هدى) * بقلب الألف ياء وإدغامها في الياء على لغة هذيل. وقرأ الزهري وغيره * (فلا خوف) * بالفتح، وابن محيصن باختلاف عنه بالرفع من غير تنوين، وكأنه حذف
لنية الإضافة، أو لكثرة الاستعمال، أو لملاحظة اللام في الاسم - على ما في " البحر " - ليحصل التعادل في كون لا دخلت على المعرفة في كلا الجملتين هو على قراءة الجمهور مبتدأ، و * (عليهم) * خبره أو أن * (لا) * عاملة عمل ليس كما قال ابن عطية والأول أولى.
* (والذين كفروا وكذبوا بآي‍اتنآ أول‍ائك أصح‍ابالنار هم فيها خ‍الدون) *
عطف على * (فمن تبع) * (البقرة: 38) قسيم له كأنه قال: ومن لم يتبعه، وإنما أوثر عليه ما ذكر تعظيما لحال الضلالة وإظهارا لكمال قبحها أو لأن من لم يتبع شامل لمن لم تبلغه الدعوة ولم يكن من المكلفين فعدل عن ذلك لإخراجهم، ولأنه شامل للفاسق بناء على أن المراد بالمتابعة المتابعة الكاملة ليترتب عليه عدم الخوف والحزن فلو قال سبحانه ذلك لزم منه خلوده في النار ولما قال ما قال لم يلزم ذلك بل خرج الفاسق من الصنفين، ويعلم بالفحوى أن عليه خوفا وحزنا على قدر عدم المتابعة - ولو جعل قوله تعالى: * (فلا خوف عليهم) * (البقرة: 38) حينئذ لنفي استمرار الخوف والحزن، وأريد بمتابعة الهدى الإيمان به تعالى - كان داخلا في * (فمن تبع هداي) * إلا أن أولياء كتاب الله تعالى لا يرضون ذلك ولا يقبلون - وأو لئك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون - وإيراد الموصول بصيغة الجمع للإشارة إلى كثرة الكفرة، والمتبادر من الكفر الكفر بالله تعالى، ويحتمل أن يكون كفروا وكذبوا متوجهين إلى الجار والمجرور فيراد بالكفر بالآيات إنكارها بالقلب، وبالتكذيب إنكارها باللسان. والآية في الأصل: العلامة الظاهرة بالقياس إلى ذي العلامة، ومنه آية القرآن لأنها علامة لانقطاع الكلام الذي بعدها والذي قبلها، أو لأنها علامة على معناها وأحكامها، وقيل: سميت آية لأن الآية تطلق على الجماعة أيضا، كما قال أبو عمرو يقال: خرج القوم بآيتهم أي بجماعتهم، وهي جماعة من القرآن وطائفة من الحروف، وذكر بعضهم أنها سميت بذلك لأنها عجب يتعجب من إعجازه، كما يقال: فلان آية من الآيات، وفي أصلها ووزنها أقوال: فمذهب سيبويه والخليل أن أصلها أيية - بفتحات - قبلت الياء الأولى ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها على خلاف القياس - كغاية وراية - إذ المطرد عند اجتماع حرفي علة إعلال الآخر لأنه محل التغيير، ومذهب الكسائي أن أصلها آيية - كفاعلة - وكان القياس أن تدغم كدابة، إلا أنه ترك ذلك تخفيفا فخذفوا عينها، ومذهب الفراء أن وزنها فعلة - بسكون العين - من تأي القوم إذا اجتمعوا، وقالوا في الجمع: آياء كأفعال، فظهرت الياء، والهمزة الأخيرة بدل ياء والألف الثانية بدل من همزة هي فاء الكلمة، ولو كان عينها واوا لقالوا في الجمع: آواء، ثم إنهم قلبوا الياء الساكنة ألفا على غير القياس لعدم تحركها وانفتاح ما قبلها. ومذهب الكوفيين أن وزنها - أيية - كنبقة فأعلت وهو في الشذوذ كالأول، وقيل: وزنها فعلة بضم العين، وقيل: أصلها أياة فقدمت اللام وأخرت العين - وهو ضعيف - وكل الأقوال فيها لا تخلو عن شذوذ، ولا بدع فهي آية، والمراد بالآيات هنا الكتب المنزلة أو الأنبياء، أو القرآن، أو الدوال عليه سبحانه من كتبه ومصنوعاته، وينزل المعقول منزلة الملفوظ ليتأتى التكذيب، وأتى سبحانه بنون العظمة لتربية المهابة وإدخال الروعة، وأضاف تعالى الآيات إليها لإظهار كمال قبح التكذيب
240

بها، وأشار ب * (أولئك) * إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة للإشعار بتميز * (أولئك) * بذلك الوصف تميزا مصححا للإشارة الحسية مع الإيذان ببعد منزلتهم فيه وهو مبتدأ خبره أصحابه وهو جمع صاحب، وجمع فاعل على أفعال شاذ كما في " البحر "، ومعنى الصحبة الاقتران بالشيء، والغالب في العرب أن تطلق على الملازمة، وهذه الجملة خبر عن الذين، ويحتمل أن يكون اسم الإشارة بدلا منه أو عطف بيان، والأصحاب خبره، والجملة الاسمية بعد في حيز النصب على الحالية لورود التصريح في قوله تعالى: * (أولئك أصحاب النار خالدين فيها) * (التغابن: 10) وجوز كونها حالا من النار لاشتمالها على ضميرها، والعامل معنى الإضافة أو اللام المقدرة، أو في حيز الرفع على أنها خبر آخر - لأولئك - على رأي من يرى ذلك، قال أبو حيان: ويحتمل أن تكون مفسرة لما أبهم في * (أصحاب النار) * مبينة أن هذه الصحبة لا يراد منها مطلق الاقتران بل الخلود، فلا يكون لهذا إذ ذاك محل من الإعراب، والخلود هنا الدوام على ما انعقد عليه الإجماع، ومن البديع ما ذكره بعضهم أن في الآيتين نوعا منه، يقال له الاحتباك، ويا حبذاه لولاه الكناية المغنية عما هناك.
* (ي‍ابنىإسراءيل اذكروا نعمتي التىأنعمت عليكم وأوفوا بعهدىأوف بعهدكم وإي‍اى فارهبون) *
* (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) * خطاب لطائفة خاصة من الكفرة المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم بعد الخطاب العام، وإقامة دلائل التوحيد والنبوة والمعاد والتذكير بصنوف الانعام، وجعله سبحانه بعد قصة آدم، لأن هؤلاء بعد ما أوتوا من البيان الواضح والدليل اللائح، وأمروا ونهوا وحرضوا على اتباع - النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم - ظهر منهم ضد ذلك، فخرجوا عن جنة الإيمان الرفيعة، وهبطوا إلى أرض الطبيعة، وتعرضت لهم الكلمات - إلا أنهم لم يتلقوها بالقبول - ففات منهم ما فات، وأقبل عليهم بالنداء ليحركهم لسماع ما يرد من الأوامر والنواهي. و (بني) جمع ابن شبيه بجمع التكسير لتغير مفرده، ولذا ألحق في فعله تاء التأنيث - كقالت بنو عامر - وهو مختص بالأولاد الذكور، وإذا أضيف عم في العرف - الذكور والإناث - فيكون بمعنى الأولاد - وهو المراد هنا - وذكر الساليكوتي أنه حقيقة في الأبناء الصلبية - كما بين في الأصول - واستعماله في العام مجاز، وهو محذوف اللام، وفي كونها - ياء أو واوا - خلاف، فذهب إلى الأول ابن درستويه وجعله من البناء، لأن الابن فرع الأب ومبني عليه، ولهذا ينسب المصنوع إلى صانعه، فيقال للقصيدة مثلا: بنت الفكر، وقد أطلق في شريعة من قبلنا على بعض المخلوقين - أبناء الله تعالى - بهذا المعنى، لكن لما تصور من هذا الجهلة الأغبياء - معنى الولادة - حظر ذلك حتى صار التفوه به كفرا، وذهب إلى الثاني الأخفش، وأيده بأنهم قالوا: البنوة، وبأن حذف - الواو - أكثر، وقد حذفت في - أب وأخ - وبه قال الجوهري ولعل الأول أصح، ولا دلالة في البنوة لأنهم قالوا أيضا: الفتوة، ولا خلاف في أنها من ذوات - الياء - وأمر الأكثرية سهل، وعلى التقديرين في وزن - ابن - هل هو فعل أو فعل؟ خلاف؛ و (إسرائيل) اسم أعجمي، وقد ذكروا أنه مركب من - إيل - اسم من أسمائه تعالى، و (إسرا) وهو العبد، أو الصفوة أو الإنسان أو المهاجر - وهو لقب سيدنا يعقوب عليه السلام - وللعرب فيه تصرفات، فقد قالوا: إسرائيل بهمزة بعد الألف وياء بعدها - وبه قرأ الجمهور - وإسراييل - بياءين بعد الألف - وبه قرأ أبو جعفر وغيره - وإسرائل -
بهمزة ولام، وهو مروي عن ورش - وإسرأل - بهمزة مفتوحة ومكسورة بعد الراء، ولام - وإسرأل - بألف ممالة - بعدها لام خفيفة - وبها ولا إمالة - وهي رواية عن نافع - وقراءة الحسن وغيره و (إسرائين)
241

بنون بدل اللام، كما في قوله: تقول أهل السوء لما جينا * هذا ورب البيت (إسرائينا)
وأضاف سبحانه هؤلاء المخاطبين إلى هذا اللقب - تأكيدا لتحريكهم إلى طاعته - فإن في إسرائيل ما ليس في اسم الكريم - يعقوب - وقولك: يا ابن الصالح أطع الله تعالى، أحث للمأمور من قولك: يا ابن زيد - مثلا - أطع، لأن الطبائع تميل إلى اقتفاء أثر الآباء - وإن لم يكن محمودا - فكيف إذا كان؟ ويستعمل مثل هذا في مقام الترغيب والترهيب - بناء على أن الحسنة في نفسها حسنة - وهي من بيت النبوة أحسن - والسيئة في نفسها سيئة - وهي من بيت النبوة أسوأ، و * (اذكروا) * أمر الذكر - بكسر الذال وضمها - بمعنى واحد، ويكونان باللسان والجنان، وقال الكسائي: هو بالكسر - للسان - وبالضم - للقلب - وضد الأول الصمت، وضد الثاني النسيان.
وعلى العموم: فإما أن يكون مشتركا بينهما، أو موضوعا لعنى عام شامل لهما والظاهر هو الأول، والمقصود من الأمر بذلك - الشكر على النعمة والقيامة بحقوقها - لا مجرد الأخطار بالجنان، أو التفوه باللسان، وإضافة النعمة إلى ضميره تعالى لتشريفها، وإيجاب تخصيص شكرها به سبحانه، وقد قال بعض المحققين: إنها تفيد الاستغراق - إذ لا عهد - ولمناسبته بمقام الدعوة إلى الإيمان، فهي شاملة للنعم العامة والخاصة بالمخاطبين، وفائدة التقييد بكونها عليهم أنا - من هذه الحيثية أدعى للشكر - فإن الإنسان حسود غيور، وقال قتادة: أريد بها ما أنعم به على آبائهم - مما قصه سبحانه في كتابه - وعليهم من فنون النعمة التي أجلها - إدراك زمن أشرف الأنبياء - وجعلهم من جملة أمة الدعوة له، ويحتاج تصحيح الخطاب حينئذ إلى اعتبار التغليب، أو جعل نعم الآباء نعمهم، فلا جمع بين الحقيقة والمجاز - كما وهم - ويجوز في الياء من * (نعمتي) * الإسكان والفتح، والقراء السبعة متفقون على الفتح، و * (أنعمت) * صلة * (التي) * والعائذ محذوف، والتقدير - أنعمتها - وقرىء - ادكروا - بالدال المهملة المشددة على وزن افتعلوا.
* (وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم) * يقال: أوفى ووفى - مخففا ومشددا - بمعنى، وقال ابن قتيبة: يقال: أوفيت بالعهد ووفيت به، وأوفيت الكيل لا غير، وجاء - أوفى - بمعنى ارتفع كقوله: ربما (أوفيت) في علم * ترفعن ثوبي شمالات
والعهد يضاف إلى كل ممن يتولى أحد طرفيه، والظاهر هنا أن الأول: مضاف إلى الفاعل، والثاني: إلى المفعول، فإنه تعالى أمرهم بالإيمان والعمل وعهد إليهم بما نصب من الحجج العقلية والنقلية الآمرة بذلك، ووعدهم بحسن الثواب على حسناتهم والمعنى: أوفوا بعهدي بالإيمان والطاعة أوف بعهدكم بحسن الإثابة، ولتوسط الأمر صح طلب الوفاء منهم. واندفع ما قال العلامة التفتازاني على ما فيه أنه لا معنى لوفاء غير الفاعل بالعهد، وقيل: - وهو المفهوم من كلام قتادة ومجاهد أن كليهما مضاف إلى المفعول والمعنى - أوفوا بما عاهدتموني من الإيمان والتزام الطاعة أوف بما عاهدتكم من حسن الإثابة، وتفصيل العهدين قوله تعالى: * (ولقد (أخذ الله) ميثاق بني إسرائيل) * إلى قوله سبحانه: * (ولأدخلنكم) * (المائدة: 12) الخ، ويحوج هذا إلى اعتبار أن عهد الآباء عهد الأبناء لتناسبهم في الدين، وإلا فالمخاطبون ب * (أوفوا) * ما عوهدوا بالعهد المذكور في الآية، وقيل: إن فسر - الإيفاء - باتمام العهد تكون الإضافة إلى المفعول في الموضعين، وإن فسر بمراعاته تكون الإضافة الأولى للفاعل والثانية للمفعول
242

وفيه تأمل، ولا يخفى أن للوفاء عرضا عريضا، فأول المراتب الظاهرة منا الاتيان بكلمتي الشهادة، ومنه تعالى حقن الدماء والمال وآخرها منا الفناء حتى عن الفناء، ومنه تعالى التحلية بأنوار الصفات والأسماء - فما روي من الآثار على اختلاف أسانيدها صحة وضعفا في بيان الوفاء بالعهدين فبالنظر إلى المراتب المتوسطة، وهي لعمري كثيرة - ولك أن تقول: أول: المراتب منا توحيد الأفعال، وأوسطها: توحيد الصفات. وآخرها: توحيد الذات، ومنه تعالى ما يفيضه على السالك في كل مرتبة مما تقتضيه تلك المرتبة من المعارف والأخلاق، وقرأ الزهري * (أوف) * بالتشديد، فإن كان موافقا للمجرد فذاك؛ وإن أريد به التكثير - والقلب إليه يميل - فهو إشارة إلى عظيم كرمه وإحسانه، ومزيد امتنانه، حيث أخبر وهو الصادق، أنه يعطي الكثير في مقابلة القليل، وهو صرح بذلك في قوله سبحانه: * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) * (الأنعام: 160) وانجزام الفعل لوقوعه في جواب الأمر والجزم إما به نفسه أو بشرط مقدر، وهو اختيار الفارسي ونص سيبويه.
* (وإياي فارهبون) * الرهبة الخوف مطلقا، وقيل: مع تحرز، وبه فارق الاتقاء، لأنه مع حزم ولهذا كان الأول: للعامة، والثاني: للأئمة، والأشبه بمواقع الاستعمال أن الاتقاء التحفظ عن المخوف، وأن يجعل نفسه في وقاية منه، والرهبة نفس الخوف، وفي الأمر بها وعيد بالغ، وليس ذلك للتهديد والتهويل كما في * (اعملوا ما شئتم) * (فصلت: 40) كما وهم لأن هذا مطلوب وذاك غير مطلوب كما لا يخفى و (إياي) ضمير منفصل منصوب المحل بمحذوف يفسره المذكور، والفاء عند بعضهم جزائية زحلقت من الجزاء المحذوف إلى مفسره ليكون دليلا على تقدير الشرط، ويحتمل أن تكون مفسرة للفاء الجزائية المحذوفة مع الجزاء، ومن أطلق الجزائية عليها فقد توسع، ولا يجوز أن تكون عاطفة لئلا يجتمع عاطفان، واختار صاحب " المفتاح " أنها للعطف على الفعل المحذوف، فإن أريد التعقيب الزماني أفادت طلب استمرار الرهبة في جميع الأزمنة بلا تخلل فاصل وإن أريد الرتبي كان مفادها طلب الترقي من رهبة إلى رهبة أعلى ولا يقدح في ذلك اجتماعها مع واو العطف مثلا لأنها لعطف المحذوف على ما قبله وهذه الفاء لعطف المذكور على المحذوف وكون (فارهبون) مفسرا للمحذوف لا يقتضي اتحاده به من جميع الوجوه وأن لا يفيد معنى سوى التفسير حتى لا يصح جعلها عاطفة، واستحسن هذا بعض المتأخرين لاشتماله على معنى بديع خلت عنه الجزائية، وقال بعضهم كالمتوسط في المسألة: إنها عاطفة بحسب الأصل، وبعد الحذف زحلقت وجعلت جزائية وعلى كل تقدير فالآية الكريمة آكد في إفادة التخصيص من * (إياك نعبد) * (الفاتحة: 5) وعد
من وجوه التأكيد تقديم الضمير المنفصل وتأخير المتصل والفاء الموجبة معطوفا عليه ومعطوفا أحدهما مظهر والآخر مضمر تقديره إياي ارهبوا * (فارهبون) * وما في ذلك من تكرير الرهبة وما فيه من معنى الشرط بدلالة الفاء والمعنى إن كنتم متصفين بالرهبة فخصوني بالرهبة، وحذف متعلق الرهبة للعموم أي ارهبوني في جميع ما تأتون وتذرون، وقيل: ارهبون في نقض العهد؛ ولعل التخصيص به مستفاد من ذكر الأمر بالرهبة معه ثم الخوف خوفان: خوف العقاب وهو نصيب أهل الظاهر، وخوف إجلال وهو نصيب أهل القلوب. وما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - أن المعنى ارهبون أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره - ظاهر في قسم أهل الظاهر وهو المناسب بحال هؤلاء المخاطبين - الذين * (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) * (الروم: 7) وحذفت ياء الضمير من ارهبون لأنها فاصلة، وقرأ ابن أبي إسحق بالياء على الأصل.
* (وءامنوا بمآ أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآي‍اتي ثمنا قليلا وإي‍اى فاتقون) *
* (وءامنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم) * عطف على ما قبله، وظاهره أنه
243

أمر لبني إسرائيل، وقيل: نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه علماء اليهود ورؤسائهم فهو أمر لهم، وأفرد سبحانه الإيمان بعد اندراجه في * (أوفوا بعهدي) * (البقرة: 40) بمجموع الأمر به والحث عليه المستفاد من قوله تعالى: * (مصدقا لما معكم) * للإشارة إلى أنه المقصود، والعمدة للوفاء بالعهود، و (ما) موصولة، و * (أنزلت) * صلته والعائد محذوف أي أنزلته ومصدقا حال إما من الموصول أو من ضميره المحذوف. واللام في * (لما) * مقوية، والمراد (بما أنزلت) القرآن وفي التعبير عنه بذلك تعظيم لشأنه والمراد بما معكم التوراة والتعبير عنها بذلك للإيذان بعلمهم بتصديقه لها فإن المعية مئنة لتكرار المراجعة إليها والوقوف على تضاعيفها المؤدي إلى العلم بكونه مصدقا لها، ومعنى تصديقه لها أنه نازل حسبما نعت فيها، أو مطابق لها في أصل الدين والملة أو لما لم ينسخ كالقصص والمواعظ وبعض المحرمات - كالكذب والزنا والربا - أو لجميع ما فيها والمخالفة في بعض جزئيات الأحكام التي هي للأمراض القلبية كالأدوية الطبية للأمراض البدنية المختلفة بحسب الأزمان والأشخاص ليست بمخالفة في الحقيقة بل هي موافقة لها من حيث إن كلا منها حق في عصره متضمن للحكمة التي يدور عليها فلك التشريع، وليس في التوراة ما يدل على أبدية أحكامها المنسوخة حتى يخالفها ما ينسخها بل إن نطقها بصحة القرآن الناسخ لها نطق بنسخها وانتهاء وقتها الذي شرعت للمصلحة فيه وليس هذا من البداء في شيء كما يتوهمون، فإذن المخالفة في تلك الأحكام المنسوخة إنما هو اختلاف العصر حتى لو تأخر نزول المتقدم لنزل على وفق المتقدم، ولو تقدم نزول المتأخر لوافق المتقدم، وإلى ذلك يشير ما أخرجه الإمام أحمد وغيره عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال حين قرأ بين يديه عمر رضي الله تعالى عنه شيئا من التوراة: " لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي " وفي رواية الدرامي " والذي نفس محمد بيده لو بدا لكم موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل ولو كان حيا وأدرك نبوتي لاتبعني " وتقييد المنزل بكونه - مصدقا لما معهم - لتأكيد وجوب الامتثال فإن إيمانهم بما معهم يقتضي الإيمان بما يصدقه قطعا، ومن الناس من فسر المنزل بالكتاب - والرسول صلى الله عليه وسلم - وما معهم بالتوراة والإنجيل، وليس فيه كثير بعد إلا أن البعيد من وجه جعل - مصدقا - حالا من الضمير المرفوع والأبعد جعل (ما) مصدرية، ومصدقا حال من - ما - الثانية، وأبعد منه جعله حالا من المصدر المقدر.
* (ولا تكونوا أول كافر به) * أي لا تسارعوا إلى الكفر به فإن وظيفتكم أن تكون أول من آمن به لما أنكم تعرفون حقيقة الأمر وحقيته وقد كنتم من قبل تقولون إنا نكون أول من يتبعه فلا تضعوا موضع ما يتوقع فيكم، ويجب منكم ما يبعد صدوره عنكم ويحرم عليكم من كونكم أول كافر به. و (أول) في المشهور أفعل لقولهم: هذا أول منك ولا فعل له لأن فاءه وعينه واو. وقد دل الاستقراء على انتفاء الفعل لما هو كذلك وإن وجد فنادر. وما في " الشافية " من أنه من وول بيان للفعل المقدر. وقيل: أصله - أوأل - من وأل وأولا إذا لجأ ثم خفف بإبدال الهمزة واوا ثم الإدغام وهو تخفيف غير قياسي، والمناسبة الاشتقاقية أن الأول الحقيقي - أعني ذاته تعالى - ملجأ للكل، وإن قلنا وأل بمعنى تبادر فالمناسبة أن التبادر سبب الأولية، وقيل: أوأل من آل بمعنى رجع، والمناسبة الاشتقاقية على قياس ما ذكر سابقا، وإنما لم يجمع على أواول لاستثقالهم اجتماع الواوين بينهما ألف الجمع، وقال الدريدي: هو فوعل فقلبت الواو الأولى همزة، وأدغمت واو فوعل في عين الفعل، ويبطله ظاهرا منع الصرف وهو خبر عن ضمير الجمع، ولا بد هنا عند الجمهور من تأويل المفضل عليه بجعله مفردا للفظ جمع المعنى أي: أول فريق مثلا أو تأويل المفضل أي لا يكن كل واحد منكم، والمراد عموم السلب
244

كما في * (لا تطع كل حلاف) * (القلم: 10) وبعض الناس - لا يوجب في مثل هذا - المطابقة بين النكرة التي أضيف إليها أفعل التفضيل وما جرى هو عليه بل يجوز الوجهان عنده كما في قوله: وإذا هم طعموا فالأم طاعم * وإذا هم جاعوا فشر جياع
ومن أوجب أول البيت كالآية ونهيهم عن التقدم في الكفر به مع أن مشركي العرب أقدم منهم لما أن المراد التعريض - فأول - الكافرين غيرهم أو ولا تكونوا أول كافر من أهل الكتاب، والخطاب للموجودين في زمانه صلى الله عليه وسلم بل للعلماء منهم، وقد يقال الضمير راجع إلى ما معكم والمراد من - لا تكونوا أول كافر - بما معكم - لا تكونوا أول كافر - ممن كفر بما معه - ومشركو مكة - وإن سبقوهم في الكفر بما يصدق القرآن حيث سبقوا بالكفر به وهو مستلزم لذلك لكن ليسوا ممن كفر بما معه، والفرق بين لزوم الكفر والتزامه غير بين إلا أنه يخدش هذا الوجه، إن هذا واقع في مقابلة * (آمنوا بما أنزلت) * فيقتضي اتحاد متعلق الكفر والإيمان، وقيل يقدر في الكلام مثل، وقيل: ويقدر - ولا تكونوا أول كافر - وآخره. وقيل: * (أول) * زائدة، والكل بعيد، وبحمل التعريض على سبيل الكناية يظهر وجه التقييد بالأولية، وقيل: إنها مشاكلة لقولهم: إنا نكون أول من يتبعه، وقد يقال: إنها بمعنى السبق، وعدم التخلف فافهم.
* (ولا تشتروا بئاي‍اتي ثمنا قليلا) * الاشتراء مجاز عن الاستبدال لاختصاصه بالأعيان إما باستعمال المقيد في المطلق - كالمرسن في الأنف - أو تشبيه الاستبدال
المذكور في كونه مرغوبا فيه بالاشتراء الحقيقي، والكلام على الحذف - أي لا تستبدلوا بالإيمان بآياتي، والاتباع لها - حظوظ الدنيا الفانية القليلة المسترذلة بالنسبة إلى حظوظ الآخرة وما أعد الله تعالى للمؤمنين من النعيم العظيم الأبدي، والتعبير عن ذلك - بالثمن - مع كونه مشتري لا مشتري به للدلالة على كونه كالثمن في الاسترذال والامتهان، ففيه تقريع وتجهيل قوى حيث إنهم قلبوا القضية وجعلوا المقصود آلة والآلة مقصودة وإغراب لطيف حيث جعل المشتري ثمنا بإطلاق الثمن عليه، ثم جعل الثمن مشترى بإيقاعه بدلا لما جعله ثمنا بإدخال الباء عليه فإن قيل: الاشتراء بمعنى الاستبدال بالإيمان بالآيات إنما يصح إذا كانوا مؤمنين بها ثم تركوا ذلك للحظوظ الدنيوية وهم بمعزل عن الإيمان، أجيب بأن مبنى ذلك على أن الإيمان بالتوراة الذي يزعمونه إيمان بالآيات كما أن الكفر بالآيات كفر بالتوراة فيتحقق الاستبدال، ومن الناس من جعل الآيات كناية عن الأوامر والنواهي التي وقفوا عليها في أمر النبي صلى الله عليه وسلم من التوراة والكتب الإلهية أو ما علموه من نعته الجليل وخلقه العظيم عليه الصلاة والسلام، وقد كانوا يأخذون كل عام شيئا معلوما من زروع أتباعهم وضروعهم ونقودهم فخافوا إن بينوا ذلك لهم وتابعوه صلى الله عليه وسلم أن يفوتهم ذلك فضلوا وأضلوا، وقيل: كان سلوكهم يدرون عليهم الأموال ليكتموا ويحرفوا، وقيل: غير ذلك، وقد استدل بعض أهل العلم بالآية على منع جواز أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله تعالى والعلم، وروي في ذلك أيضا أحاديث لا تصح، وقد صح أنهم قالوا: " يا رسول الله أنأخذ على التعليم أجرا؟ فقال: إن خير ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله تعالى " وقد تظافرت أقوال العلماء على جواز ذلك وإن نقل عن بعضهم الكراهة، ولا دليل في الآية على ما ادعاه هذا الذاهب كما لا يخفى والمسألة مبينة في الفروع.
* (وإي‍اى فاتقون) * بالإيمان واتباع الحق والإعراض عن الاشتراء بآيات الله تعالى الثمن القليل والعرض الزائل، وإنما ذكر في الآية الأولى * (فارهبون) * (البقرة: 40) وهنا * (فاتقون) * لأن الرهبة دون التقوى فحيثما خاطب الكافة عالمهم ومقلدهم وحثهم على ذكر النعمة التي يشتركون فيها أمرهم بالرهبة التي تورث التقوى ويقع فيها الاشتراك،
245

ولذا قيل الخشية ملاك الأمر كله، وحيثما أراد بالخطاب فيما بعد - العلماء منهم، وحثهم على الإيمان ومراعاة الآيات - أمرهم بالتقوى التي أولها ترك المحظورات وآخرها التبري مما سوى غاية الغايات، وليس وراء عبادان قرية.
* (ولا تلبسوا الحق بالب‍اطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون) *
* (ولا تلبسوا الحق با الباطل) * هذا النهي مع ما بعده معطوف على مجموع الآية التي قبله وهي قوله تعالى: * (وآمنوا) * (البقرة: 41) الخ، وهذا كما قالوا في قوله تعالى: * (هو الأول والآخر والظاهر والباطن) * (الحديد: 3) إن مجموع الوصفين الأخيرين بعد اعتبار التعاطف معطوف على مجموع الأولين كذلك، ويجوز العطف على جملة واحدة من الجمل السابقة إلا أن المناسبة على الأول أشد واللاءمة أتم. واللبس بفتح اللام الخلط، وفعله لبس من باب ضرب ويكون بمعنى الاشتباه إما بالاشتراك أو الحقيقة والمجاز: والباء إما للتعدية أو للاستعانة واللام في - الحق والباطل - للعهد أي لا تخلطوا الحق المنزل في التوراة بالباطل الذي اخترعتموه وكتبتموه أولا تجعلوا ذلك ملتبسا مشتبها غير واضح لا يدركه الناس بسبب الباطل وذكره، ولعل الأول أرجح لأنه أظهر وأكثر لا لأن جعل وجود الباطل سببا للالتباس الحق ليس أولى من العكس لما أنه لما كان المذموم هو التباس الحق بالباطل - وإن لزمه العكس وكان هذا طارئا على ذلك - استحق الأولوية التي نفيت.
* (وتكتموا الحق) * مجزوم بالعطف على * (تلبسوا) * فالنهي عن كل واحد من الفعلين، وجوزوا أن يكون منصوبا على إضمار - أن - وهو عند البصريين عطف على مصدر متوهم. وروى الجرمي إن النصب بنفس الواو - وهي عندهم بمعنى مع - وتسمى واو الجمع وواو الصرف لأنها مصروف بها الفعل عن العطف، والمراد لا يكن منكم لبس الحق على من سمعه وكتمان الحق وإخفاؤه عمن لم يسمعه، والقصد أن ينعى عليهم سوء فعلهم الذي هو الجمع بين أمرين كل منهما مستقل بالقبح، ووجوب الانتهاء وطريق واسع إلى الإضلال والإغواء، وحيث كان التلبيس بالنسبة إلى من سمع، والكتمان إلى من لم يسمع اندفع السؤال بأن النهي عن الجمع بين شيئين إنما يتحقق إذا أمكن افتراقهما في الجملة وليس - لبس الحق بالباطل مع كتمان الحق كذلك - ضرورة أن لبس الحق بالباطل كتمان له، وكرر الحق إما لأن المراد بالأخير ليس عين الأول بل هو نعت النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وإما لزيادة تقبيح المنهي عنه إذ في التصريح باسم الحق ما ليس في ضميره، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (وتكتمون) وخرجت على أن الجملة في موضع الحال - أي وأنتم تكتمون، أو كاتمين - وفي جواز اقتران الحال المصدرة بالمضارع بالواو قولان، وليس للمانع دليل يعتمد عليه، وهذه الحال عند بعض المحققين لازمة والتقييد لإفادة التعليل كما في - لا تضرب زيدا وهو أخوك - وعليه يكون المراد بكتمان الحق ما يلزم من لبس الحق بالباطل لا إخفائه عمن لا يسمع، وجوز أن تكون معطوفة على جملة النهي على مذهب من يرى جواز ذلك - وهو سيبويه وجماعة - ولا يشترط التناسب في عطف الجمل.
* (وأنتم تعلمون) * جملة حالية ومفعول * (تعلمون) * محذوف اقتصارا - أي وأنتم من ذوي العلم - ولا يناسب من كان عالما أن يتصف بالحال الذي أنتم عليه، ولا يبعد أن يكون الحذف للاختصار - أي وأنتم تعلمون أنكم لابسون كاتمون - أو تعلمون صفته صلى الله عليه وسلم أو البعث والجزاء، والمقصود من تقييد النهي بالعلم زيادة تقبيح حالهم لأن الإقدام على هاتيك الأشياء القبيحة مع العلم بما ذكر أفحش من الإقدام عليها مع الجهل - وليس من يعلم كمن لا يعلم - وجوز ابن عطية أن تكون هذه الجملة معطوفة وإن كانت ثبوتية على ما قبلها من جملة النهي، وإن لم تكن مناسبة في الإخبار، وهي عنده شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر النبي
246

صلى الله عليه وسلم وليست شاهدة بالعلم على الإطلاق إذ هم بمراحل عنه، واستدل بالآية على أن العالم بالحق يجب عليه إظهاره ويحرم عليه كتمانه بالشروط المعروفة لدى العلماء.
* (وأقيموا الصلواة وآتوا الزكواة واركعوا مع الراكعين) *
* (وأقيموا الصلوة وءاتوا الزكواة) * المراد بهما - سواء كانت اللام للعهد أو للجنس - صلاة المسلمين وزكاتهم لأن غيرهما مما نسخه القرآن ملتحق بالعدم، والزكاة في الأصل النماء والطهارة، ونقلت شرعا لإخراج معروف، فإن نقلت من الأول فلأنها تزيد بركة المال وتفيد النفس فضيلة الكرم، أو لأنها تكون في المال النامي وإن نقلت من الثاني فلأنها تطهر المال من الخبث والنفس من البخل. واستدل بالآية حيث كانت خطابا لليهود من قال: إن الكفار مخاطبون بالفروع واحتمال أن يكون الأمر فيها بقبول الصلاة المعروفة والزكاة والإيمان بهما، أو أن يكون أمرا للمسلمين - كما قاله الشيخ أبو منصور - خلاف الظاهر فلا ينافي الاستدلال بالظاهر، وقدم الأمر بالصلاة لشمول وجوبها ولما فيها من الإخلاص والتضرع للحضرة، وهي أفضل العبادات البدنية وقرنها بالزكاة لأنها أفضل العبادات المالية، ثم من قال: لا يجوز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب قال: إنما جاء هذا بعد أن بين صلى الله عليه وسلم أركان ذلك وشرائطه، ومن قال بجوازه قال بجواز أن يكون الأمر لقصد أن يوطن السامع نفسه - كما يقول السيد لعبده إني أريد أن آمرك بشيء فلا بد أن تفعله -
* (واركعوا مع الراكعين) * أي صلوا مع المصلين وعبر بالركوع عن الصلاة احترازا عن صلاة اليهود فإنها لا ركوع فيها وإنما قيد ذلك بكونه مع الراكعين لأن اليهود كانوا يصلون وحدانا فأمروا بالصلاة جماعة لما فيها من الفوائد ما فيها، واستدل به بعضهم على جوبها. ومن لم يقل به حمل الأمر على الندب أو المعية على الموافقة وإن لم يكونوا معهم، وقيل: - الركوع - الخضوع والانقياد لما يلزمهم من الشرع قال الأضبط السعدي: لا تذل الفقير علك أن * (تركع) يوما والدهر قد رفعه
ولعل الأمر به حينئذ بعد الأمر بالزكاة لما أنها مظنة ترفع فأمروا بالخضوع لينتهوا عن ذلك إلا أن الأصل في إطلاق الشرع المعاني الشرعية: وفي المراد بالراكعين قولان: فقيل: النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقيل: الجنس وهو الظاهر.
ومن باب الإشارة: في قوله تعالى: * (ولا تلبسوا الحق) * الخ أي لا تقطعوا على أنفسكم طريق الوصول إلى الحق بالباطل الذي هو تعلق القلب بالسوي - فإن أصدق كلمة قالها شاعر - كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل
* (وتكتموا الحق) * بالتفاتكم إلى غيره سبحانه * (وأنتم تعلمون) * (البقرة: 42) أنه ليس لغيره وجود حقيقي، أو لا تخلطوا صفاته تعالى الثابتة الحقة بالباطل الذي هو صفات نفوسكم، ولا تكتموها بحجاب صفات النفس وأنتم تعلمون من علم توحيد الأفعال أن مصدر الفعل هو الصفة فكما لم تسندوا الفعل إلى غيره لا تثبتوا صفته لغيره * (وأقيموا الصلاة) * بمراقبة القلوب * (وآتوا الزكاة) * أي بالغوا في تزكية النفس عن الصفات الذميمة لتحصل لكم التحلية بعد التخلية، أو أدوا زكاة الهمم فإن لها زكاة كزكاة النعم بل إن لكل شيء زكاة كما قيل: كل شيء له (زكاة) * و - زكاة - الجمال رحمة مثلي
* (واركعوا) * أي اخضعوا لما يفعل بكم المحبوب، فالخضوع علامة الرضا الذي هو ميراث تجلي الصفات العلى، وحاصله ارضوا بقضائي عند مطالعة صفاتي فإن لي أحبابا لسان حال كل منهم يقول: وتعذيبكم عذب لدي وجوركم * علي بما يقضي الهوى لكم عدل
ثم إنه تعالى لما أمرهم بفعل الخير شكرا لما خصهم به من النعم حرضهم على ذلك من مأخذ آخر [بم بقوله سبحانه:
* (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكت‍ابأفلا تعقلون) *
247

* (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) * والهمزة فيه للتقرير مع توبيخ وتعجيب. و - البر - سعة المعروف والخير ومنه البر، والبرية للسعة، ويتناول كل خير، والنسيان - ما في البحر - السهو الحادث بعد العلم. والمراد به هنا الترك لأن أحدا لا ينسى نفسه بل يحرمها ويتركها كما يترك الشيء المنسي مبالغة في عدم المبالاة والغفلة فيما ينبغي أن يفعله، وقد نزلت هذه الآية - على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - في أحبار المدينة كانوا يأمرون سرا من نصحوه باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ولا يتبعونه وقيل: إنهم كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدقون. فالمراد بالبر هنا إما الإيمان أو الإحسان، وتركه بعضهم على ظاهره متناولا كل خير على ما قال السدي: إنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله تعالى وينهونهم عن معصيته وهم كانوا يتركون الطاعة ويقدمون على المعصية، والتوبيخ ليس على أمر الناس بالبر نفسه بل لمقارنته بالنسيان المذكور.
* (وأنتم تتلون الكت‍اب) * أي التوراة، والجملة حال من فاعل * (أتأمرون) *، والمراد التبكيت وزيادة التقبيح * (أفلا تعقلون) * أصل هذا الكلام ونحوه عند الجمهور كان بتقديم حرف العطف على الهمزة لكن لما كان للهمزة صدر الكلام قدمت على حرف العطف، وبعضهم ذهب إلى أنه لا تقديم ولا تأخير ويقدر بين الهمزة وحرف العطف ما يصح العطف عليه، و - العقل - في الأصل المنع والإمساك، ومنه - عقال البعير - سمي به النور الروحاني الذي به تدرك النفوس العلوم الضرورية والنظرية لأنه يحبس عن تعاطي ما يقبح ويعقل على ما يحسن، والفعل يحتمل أن يكون مطلقا أجري مجرى اللازم، ويحتمل أن يكون متعديا مقدرا لمفعول، والمعنى - أفلا عقل لكم يمنعكم عما تعلمون سوء خاتمته ووخامة عاقبته - أو أفلا تعقلون قبح صنيعكم شرعا لمخالفة ما تتلونه في التوراة، وعقلا لكونه جمعا بين المتنافيين، فإن المقصود من الأمر بالبر الإحسان والامتثال، والزجر عن المعصية، ونسيانهم أنفسهم ينافي كل هذه الأغراض، ولا نزاع في كون قبح الجمع بين ذلك عقلا بمعنى كونه باطلا فعلى هذا لا حجة للمعتزلة في الآية على القبح العقلي الذي يزعمونه بل قد ادعى بعض المحققين أنها دليل على خلاف ما ذهبوا إليه لأنه سبحانه رتب التوبيخ على ما صدر منهم بعد تلاوة الكتاب وكذا لا حجة فيها لمن زعم أنه ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لأن التوبيخ على جمع الأمرين بالنظر للثاني فقط لا منع الفاسق عن الوعظ فإن النهي عن المنكر لازم ولو لمرتكبه فإن ترك النهي ذنب وارتكابه ذنب آخر، وإخلاله بأحدهما لا يلزم منه الإخلال بالآخر، ثم إن هذا التوبيخ والتقريع - وإن كان خطابا لبني إسرائيل - إلا أنه عام - من حيث المعنى - لكل واعظ يأمر ولا يأتمر، ويزجر ولا ينزجر، ينادي الناس البدار البدار،
ويرضى لنفسه التخلف والبوار، ويدعو الخلق إلى الحق، وينفر عنه، ويطالب العوام بالحقائق؛ ولا يشم ريحها منه. وهذا هو الذي يبدأ بعذابه قبل عبدة الأوثان، ويعظم ما يلقى لوفور تقصيره يوم لا حاكم إلا الملك الديان.
وعن محمد بن واسع قال: بلغني أن أناسا من أهل الجنة اطلعوا على ناس من أهل النار فقالوا لهم: قد كنتم تأمروننا بأشياء عملناها فدخلنا الجنة، قالوا: كنا نأمركم بها، ونخالف إلى غيرها. هذا ومن الناس من جعل هذا الخطاب للمؤمنين، وحمل الكتاب على القرآن، فيكون ذلك من تلوين الخطاب - كما في - * (يوسف أعرض عن هذا واستغفري) * (يوسف: 29) والظاهر يبعده.
* (واستعينوا بالصبر والصلواة وإنها لكبيرة إلا على الخ‍اشعين) *
* (واستعينوا بالصبر والصلواة) * لما أمرهم سبحانه بتارك الضلال والإضلال والتزام الشرائع، وكان ذلك شاقا عليهم - لما فيه من فوات محبوبهم وذهاب مطلوبهم - عالج مرضهم بهذا الخطاب، والصبر حبس النفس على ما تكره، وقدمه على الصلاة - لأنها لا تكمل إلا به - أو لمناسبته لحال المخاطبين،
248

أو لأن تأثيره - كما قيل - في إزالة ما لا ينبغي، وتأثير الصلاة في حصول ما ينبغي، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح - واللام - فيه للجنس، ويجوز أن يراد بالصبر نوع منه - وهو الصوم - بقرينة ذكره مع الصلاة، - والاستعانة بالصبر - على المعنى الأول: لما يلزمه من انتظار الفرج والنجح - توكلا على من لا يخيب المتوكلين عليه - ولذا قيل: الصبر مفتاح الفرج، وبه على المعنى الثاني: لما فيه من كسر الشهوة وتصفية النفس الموجبين للانقطاع إلى الله تعالى - الموجب لإجابة الدعاء - وأما الاستعانة بالصلاة فلما فيها من أنواع العبادة، ما يقرب إلى الله تعالى قربا يقتضي الفوز بالمطلوب والعروج إلى المحبوب، وناهيك من عبادة تكرر في اليوم والليلة خمس مرات يناجي فيها العبد علام الغيوب، ويغسل بها العاصي درن العيوب، وقد روى حذيفة أنه صلى الله عليه وسلم إذا حزنه أمر صلى، وروى أحمد أنه إذا حزنه أمر فزع إلى الصلاة، وحمل الصلاة على الدعاء في الآية وكذا في الحديث لا يخلو عن بعد، وأبعد منه كون المراد بالصبر الصبر على الصلاة. * (وإنها لكبيرة إلا على الخ‍اشعين) * الضمير للصلاة - كما يقتضيه الظاهر، وتخصيصها - برد الضمير إليها - لعظم شأنها واستجماعها ضروبا من الصبر، ومعنى - كبرها - ثقلها وصعوبتها على من يفعلها، على حد قوله تعالى: * (كبر على المشركين ما تدعوهم إليه) * (الشورى: 13) والاستثناء مفرغ أي: كبيرة على كل أحد إلا على الخاشعين وهم المتواضعون المستكينون، وأصل - الخشوع - الاخبات، ومنه الخشعة - بفتحات - الرمل المتطامن، وإنما لم تثقل عليهم، لأنهم عارفون بما يحصل لهم فيها متوقعون ما ادخر من ثوابها فتهون عليهم، ولذلك قيل: من عرف ما يطلب، هان عليه ما يبذل، ومن أيقن بالخلف، جاد بالعطية، وجوز رجوع الضمير إلى - الاستعانة - على حد * (إعدلوا هو أقرب للتقوى) * (المائدة: 8) ورجح بالشمول، وما يقال: إن الاستعانة ليست بكبيرة لا طائل تحته، فإن الاستعانة بالصلاة أخص من فعل الصلاة لأنها أداؤها - على وجه الاستعانة بها على الحوائج - أو على سائر الطاعات لاستجرارها ذلك، وقيل: يجوز أن يكون من أسلوب * (والله ورسوله أحق أن يرضوه) * (التوبة: 62) وقوله: إن شرخ الشباب والشعر الأس‍ * - ود ما لم يعاص كان جنونا
والتأنيث مثله في قوله تعالى على رأي: * (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها) * (التوبة: 34) أو المراد كل خصلة منها، وقيل: الضمير راجع إلى المذكورات المأمور بها والمنهي عنها، ومشقتها عليهم ظاهرة، وهو أقرب مما قاله الأخفش من رجوعه إلى إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم، والبعيد بل الأبعد عوده إلى الكعبة المفهومة من ذكر الصلاة.
* (الذين يظنون أنهم مل‍اقوا ربهم وأنهم إليه راجعون) *
الظن في الأصل الحسبان - واللقاء - وصول أحد الجسمين إلى الآخر بحيث يماسه، والمراد من ملاقاة الرب سبحانه، إما ملاقاة ثوابه أو الرؤية عند من يجوزها، وكل منهما مظنون متوقع لأنه وإن علم الخاشع أنه لا بد من ثواب للعمل الصالح، وتحقق أن المؤمن يرى ربه يوم المآب - لكن من أين يعلم ما يختم به عمله - ففي وصف أولئك بالظن إشارة إلى خوفهم، وعدم أمنهم مكر ربهم * (فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) * (الأعراف: 99) وفي تعقيب الخاشعين به حينئذ لطف لا يخفى، إلا أن عطف * (... أنهم إليه راجعون) * على ما قبله يمنع حمل الظن على ما ذكر - لأن الرجوع إليه تعالى - المفسر بالنشور - أو المصير إلى الجزاء مطلقا، مما لا يكفي فيه الظن والتوقع - بل يجب القطع به - اللهم إلا أن يقدر له عامل - أي ويعلمون - أو يقال: إن الظن متعلق بالمجموع من حيث هو مجموع، وهو كذلك
249

غير مقطوع به - وإن كان أحد جزئيه مقطوعا - أن يقال: إن الرجوع إلى الرب هنا المصير إلى جزائه الخاص، أعني الثواب بدار السلام، والحلول بجواره جل شأنه - والكل خلاف الظاهر - ولهذا اختير تفسير الظن باليقين مجازا، ومعنى التوقع والانتظار في ضمنه، ولقاء الله تعالى بمعنى الحشر إليه، والرجوع بمعنى المجازات - ثوابا أو عقابا - فكأنه عز شأنه قال: يعلمون أنهم يحشرون إليهم فيجازيهم متوقعين لذلك، وكأن النكتبة في استعمال الظن المبالغة في إيهام أن من ظن ذلك لا يشق عليه ما تقدم - فكيف من تيقنه - والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بعلية الربوبية - والمالكية للحكم - وجعل خبر (أن) في الموضعين اسما للدلالة على تحقق اللقاء والرجوع وتقررهما عنده، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (يعلمون) وهي تؤيد هذا التفسير.
ومن باب الإشارة: * (أتأمرون الناس بالبر) * الذي هو الفعل الجميل الموجب لصفاء القلب وزكاء النفس ولا تفعلون ما ترتقون به من مقام تجلي الأفعال إلى تجلي الصفات * (وأنتم تتلون كتاب) * فطرتكم الذي يأمركم بالدين السالك بكم سبيل التوحيد * (أفلا تعقلون) * (البقرة: 44) فتقيدون مطلقات صفاتكم الذميمة بعقال ما أفيض عليكم من الأنوار القديمة، واطلبوا المدد والعون ممن له القدرة الحقيقية بالصبر على ما يفعل بكم، لكي تصلوا إلى مقام الرضا والصلاة التي هي المراقبة
وحضور القلب لتلقي تجليات الرب، وإن المراقبة لشاقة - إلا على - المنكسرة قلوبهم، اللينة أفئدتهم لقبول أنوار التجليات اللطيفة، واستيلاء سطواتها القهرية، فهم الذين يتيقنون أنهم بحضرة ربهم * (وأنهم إليه راجعون) * (البقرة: 46) بفناء صفاتهم ومحوها في صفاته؛ فلا يجدون في الدار إلا شؤون الملك اللطيف القهار.
* (ي‍ابنى إسراءيل اذكروا نعمتى التىأنعمت عليكم وأنى فضلتكم على الع‍المين) *
* (يابني إسراءيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) * كرر التذكير للتأكيد والإيذان بكمال غفلتهم عن القيام بحقوق النعمة، وليربط ما بعده من الوعد الشديد به لتتم الدعوة بالترغيب والترهيب، فكأنه قال سبحانه: إن لم تطيعوني لأجل سوابق نعمتي، فأطيعوني للخوف من لواحق عقابي، ولتذكير التفضيل الذي هو أجل النعم، فإنه لذلك يستحق أن يتعلق به التذكير بخصوصه مع التنبيه على أجليته بتكرير النعمة التي هي فرد من أفرادها.
* (وأني فضلتكم على الع‍المين) * عطف على * (نعمتي) * من عطف الخاص على العام، وهو مما انفردت به - الواو - كما في " البحر "، ويسمى هذا النحو من العطف - بالتجريد - كأنه جرد المعطوف من الجملة، وأفرد بالذكر اعتناءا به، والكلام على حذف مضاف - أي فضلت آباءكم - وهم الذين كانوا قبل التغيير، أو باعتبار أن نعمة الآباء نعمة عليهم، قال الزجاج: والدليل على ذلك قوله تعالى: * (وإذ نجيناكم) * (البقرة: 49) الخ، والمخاطبون لم يروا فرعون ولا آله، ولكنه تعالى أذكرهم أنه لم يزل منعما عليهم، والمراد بالعالمين سائر الموجودين في وقت التفضيل، وتفضيلهم بما منحهم من النعم المشار إليها بقوله تعالى: * (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا) * (المائدة: 20) فلا يلزم من الآية تفضيلهم على النبي صلى الله عليه وسلم ولا على أمته، الذين هم خير أمة أخرجت للناس وكذا لا يصح الاستدلال بها على أفضلية البشر على الملائكة من جميع الوجوه - ولو صح ذلك - يلزم تفضيل عوامهم على خواص الملائكة، ولا قائل به.
ومن اللطائف أن الله سبحانه وتعالى أشهد بني إسرائيل فضل أنفسهم فقال: * (وأني فضلتكم) * الخ، وأشهد المسلمين فضل نفسه فقال: * (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) * (يونس: 58) فشتان من مشهوده فضل ربه، ومن مشهوده فضل نفسه فالأول: يقتضي الفناء والثاني: يقتضي الإعجاب، والحمد لله الذي فضلنا على كثير
250

ممن خلق تفضيلا.
* (واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شف‍اعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون) *
* (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا) * اليوم الوقت، وانتصابه إما على الظرف والمتقى محذوف - أي واتقوا العذاب يوما - وإما مفعول به - واتقاؤه - بمعنى - اتقاء ما فيه - إما مجازا يجعل الظرف عبارة عن المظروف أو كناية عنه للزومه له، وإلا - فالاتقاء - من نفس - اليوم - مما لا يمكن، لأنه آت لا محالة، ولا بد أن يراه أهل الجنة والنار جميعا، والممكن المقدور - اتقاء - ما فيه بالعمل الصالح، و * (تجزي) * من جزى بمعنى قضى، وهو متعد بنفسه لمفعوله الأول، وبعن للثاني - وقد ينزل منزلة اللازم للمبالغة - والمعنى لا تقضي يوم القيامة نفس عن نفس شيئا مما وجب عليها، ولا تنوب عنها، ولا تحتمل مما أصابها، أو لا تقضي عنها شيئا من الجزاء، فنصب * (شيئا) * إما على أنه - مفعول به - أو على أنه - مفعول مطلق - قائم مقام المصدر، أي جزاء ما. وقرأ أبو السماك: * (ولا تجزىء) * من أجزأ عنه إذا أغنى، فهو لازم، و * (شيئا) * مفعول مطلق لا غير، والمعنى لا تغني نفس عن نفس شيئا من الإغناء - ولا تجديها نفعا - وتنكير الأسماء للتعميم في الشفيع والمشفوع، وما فيه الشفاعة، وفيه من التهويل والإيذان بانقطاع المطامع ما لا يخفى، كما يشير إليه قوله تعالى: * (يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه) * (عبس: 34 - 37) والجملة في المشهور صفة يوم والرابط محذوف، أي: لا تجزي فيه ولم يجوز الكسائي حذف المجرور إذا لم يتعين، فلا تقول: رأيت رجلا أرغب، وأنت تريد أرغب فيه، ومذهبه في هذا التدريج، وهو أن يحذف حرف الجر أولا حتى يتصل الضمير بالفعل - فيصير منصوبا - فيصح حذفه كما في قوله: فما أدري أغيرهم تناء * وطول العهد أو مال أصابوا
يريد أصابوه، وقد يجوز - على رأي الكوفيين - أن لا تكون الجملة صفة، بل مضاف إليها (يوم) محذوف - لدلالة ما قبله عليه - فلا تحتاج إلى ضمير، ويكون ذلك المحذوف - بدلا من المذكور - ومن ذلك ما حكاه الكسائي - أطعمونا لحما سمينا، شاة ذبحوها - بجر شاة - على تقدير - لحم شاة - وحكى الفراء مثل ذلك، ومنه قوله: رحم الله أعظما دفنوها * بسجستان طلحة الطلحات
في رواية من خفض طلحة، والبصريون لا يجوزون حذف المضاف، وترك المضاف إليه على خفضه، ويقولون بشذوذ ما ورد من ذلك، وقرأ أبو سرار: (لا تجزي نسمة عن نسمة) وهي بمعنى النفس.
* (ولا يقبل منها شف‍اعة ولا يؤخذ منها عدل) * الشفاعة - كما في " البحر " - ضم غيره إلى وسيلته - وهي من الشفع ضد الوتر - لأن الشفيع ينضم إلى الطالب في تحصيل ما يطلب - فيصير شفعا بعد أن كان فردا - والعدل الفدية، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وروي عنه أيضا - البدل - أي رجل مكان رجل، وأصل العدل - بفتح العين - ما يساوي الشيء - قيمة وقدرا - وإن لم يكن من جنسه - وبكسرها - المساوى في الجنس والجرم، ومن العرب من يكسر - العين - من معنى الفدية، وذكر الواحدي أن (عدل) الشيء - بالفتح والكسر - مثله، وأنشد قول كعب بن مالك: صبرنا لا نرى لله عدلا * على ما نابنا متوكلينا
وقال ثعلب: العدل الكفيل والرشوة - ولم يؤثر في الآية - والضميران المجروران - بمن - إما راجعان إلى النفس
251

الثانية لأنها أقرب مذكور ولموافقته لقوله تعالى: * (ولا هم ينصرون) * ولأنه المتبادر من قوله: * (ولا يؤخذ منها عدل) * ومعنى عدم قبول الشفاعة حينئذ أنها إن
جاءت بشفاعة شفيع لم تقبل منها وإما إلى الأولى لأنها المحدث عنها، والثانية فضلة ولأن المتبادر من نفي قبول الشفاعة أنها لو شفعت لم تقبل شفاعتها، وحينئذ معنى عدم - أخذ العدل - من الأولى أنه لو أعطى عدلا من الثانية لم يؤخذ، وكأن في الآية على هذا نوعا من الترقي ارتكب هنا وإن لم يرتكب في مقام آخر كأنه قيل: إن النفس الأولى لا تقدر على استخلاص صاحبتها من قضاء الواجبات وتدارك التبعات لأنها مشغولة عنها بشأنها، ثم إن قدرت على نفي ما كان بشفاعة لا يقبل منها، وإن زادت عليه بأن ضمت الفداء فلا يؤخذ منها، وإن حاولت الخلاص بالقهر والغلبة - وأنى لها ذلك - فلا تتمكن منه، واختار الكواشي جعل الضمير الأول للنفس الأولى، والثانية للثانية على اللف والنشر لما فيه من إجراء الجملتين على المعنى الظاهر منهما، ويهون أمر التفكيك الاتضاح، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو - ولا تقبل - بالتاء، وسفيان * (يقبل) * بفتح الياء، ونصب شفاعة على البناء للفاعل، وفيه التفات من ضمير المتكلم في * (نعمتي) * (البقرة: 47) الخ إلى ضمير الغائب وبناؤه للمفعول أبلغ.
* (ولا هم ينصرون) * النصر في الأصل المعونة، ومنه أرض منصورة ممدودة بالمطر، والمراد به هنا ما يكون بدفع الضرر - أي ولاهم يمنعون من عذاب الله عز وجل - والضمير راجع إما إلى ما دلت عليه النفس الثانية المنكرة الواقعة في سياق النفي من النفوس الكثيرة فيكون من قبيل ما تقدم ذكره معنى بدلالة لفظ آخر، وإما إلى النفس المنكرة من حيث كونها لعمومها بالنفي في معنى الكثرة كما قيل في قوله تعالى: * (فما منكم من أحد عنه حاجزين) * (الحاقة: 47) وأتى به مذكرا لتأويل النفوس بالعباد والأناسي، وفيه تنبيه على أن تلك النفوس عبيد مقهورون مذللون تحت سلطانه تعالى، وأنهم ناس كسائر الناس في هذا الأمر، وعوده إلى النفسين بناء على أن التثنية جمع ليس بشيء، وجعل النفي - منسحبا على جملة اسمية للتقوى، ورفع * (هم) * على الابتداء والجملة بعده خبره، وجعله مفعولا لما لم يسم فاعله والفعل بعده مفسر فتوافق الجمل - لا أوافق على اختياره - وإن ذهب إليه بعض الأجلة - وتمسك المعتزلة بعموم الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر - وكون الخطاب للكفار والآية نازلة فيهم - لا يدفع العموم المستفاد من اللفظ، وأجيب بالتخصيص من وجهين، الأول: بحسب المكان والزمان فإن مواقف القيامة ومقدار زمانها فيها سعة وطول، ولعل هذه الحالة في ابتداء وقوعها وشدته ثم يأذن بالشفاعة، وقد قيل: مثل ذلك في الجمع بين قوله تعالى: * (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) * (المؤمنون: 101) وقوله تعالى: * (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) * (الطور: 25) وكون مقام الوعيد يأبى عنه غير مسلم، والثاني: بحسب الأشخاص إذ لا بد لهم من التخصيص في غير العصاة لمزيد الدرجات فليس العام باقيا على عمومه عندهم وإلا اقتضى نفي زيادة المنافع وهم لا يقولون به، ونحن نخصص في العصاة بالأحاديث الصحيحة البالغة حد التواتر، وحيث فتح باب التخصيص نقول أيضا: ذلك النفي مخصص بما قبل الإذن، لقوله تعالى: * (لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن) * (سبأ: 23) وهو تخصيص له دليل، وتخصيصهم لا يظهر له دليل على أن الشفاعة بزيادة المنافع يكاد أن لا تكون شفاعة وإلا لكنا شفعاء الرسول صلى الله عليه وسلم عند الصلاة عليه مع أن الإجماع وقع منا ومنهم على أنه هو الشفيع، وأيضا في قوله تعالى: * (واستغفر لذنبك وللمؤمنين) * (محمد: 19) ما يشير إلى الشفاعة التي ندعيها - ويحث على التخصيص الذي نذهب إليه - رزقنا الله تعالى الشفاعة وحشرنا في زمرة أهل السنة والجماعة، ولما قدم سبحانه ذكر نعمه إجمالا أراد أن يفصل ليكون أبلغ في التذكير وأعظم في الحجة فقال:
* (وإذ نجين‍اكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبنآءكم ويستحيون نسآءكم وفى ذالكم بلاء من ربكم عظيم) *
* (وإذ نجيناكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب) * وهو على الشائع عطف على * (نعمتي) * (البقرة: 47) بتقدير: اذكروا
252

كيلا يلزم الفصل بين المعطوفين بأجنبي وهو اتقوا وقد تقدم قبل ما ينفعك هنا، وقرىء - (أنجيناكم)، و (أنجيتكم) - ونسبت الأول للنخعي، والآل قيل: بمعنى الأهل وإن ألفه بدل عن هاء، وإن تصغيره أهيل، وبعضهم ذهب إلى أن ألفه بدل من همزة ساكنة وتلك الهمزة بدل من هاء، وقيل: ليس بمعنى الأهل لأن الأهل القرابة والآل من يؤول إليك في قرابة أو رأي أو مذهب، فألفه بدل من واو، ولذلك قال يونس في تصغيره: أويل، ونقله الكسائي نصا عن العرب، وروي عن أبي عمر - غلام ثغلب - إن الأهل القرابة كان لها تابع أولا، والآل القرابة بتابعها فهو أخص من الأهل، وقد خصوه أيضا بالإضافة إلى أولي الخطر فلا يضاف إلى غير العقلاء ولا إلى من لا خطر له منهم، فلا يقال - آل الكوفة، ولا - آل الحجام - وزاد بعضهم اشتراط التذكير فلا يقال - آل فاطمة - ولعل كل ذلك أكثري وإلا فقد ورد على خلاف ذلك - كآل أعوج - اسم فرس، وآل المدينة، وآل نعم، وآل الصليب، وآلك - ويستعمل غير مضاف - كهم خير آل - ويجمع - كأهل - فيقال آلون: وفرعون لقب لمن ملك العمالقة - ككسرى لملك الفرس، وقيصر لملك الروم، وخاقان لملك الترك، وتبع لملك اليمن، والنجاشي لملك الحبشة - وقال السهيلي: هو اسم لكل من ملك القبط ومصر، وهو غير منصرف للعلمية والعجمة، وقد اشتق منه باعتبار ما يلزمه فقيل: تفر عن الرجل إذا تجبر وعتا، واسم فرعون هذا الوليد بن مصعب - قاله ابن إسحاق، وأكثر المفسرين - وقيل: أبوه مصعب بن ريان حكاه ابن جرير، قيل: قنطوس حكاه مقاتل، وذكر وهب بن منبه أن أهل الكتابين قالوا: إن اسمه قابوس، وكنيته أبو مرة وكان من القبط، وقيل: من بني عمليق أو عملاق بن لاوز بن ارم بن سام بن نوح عليه السلام، وهم أمم تفرقوا في البلاد، وروي أنه من أهل اصطخر ورد إلى مصر فصار بها ملكا، وقيل: كان عطارا بأصفهان ركبته الديون فدخل مصر وآل أمره إلى ما آل - وحكاية البطيخ شهيرة - وقد نقلها مولانا مفتي الديار الرومية في " تفسيره "، والصحيح أنه غير فرعون يوسف عليه السلام، وكان اسمه - على المشهور - الريان بن الوليد، وقد آمن بيوسف ومات في حياته وهو من أجداد فرعون المذكور على قول، ويؤيد الغيرية أن بين دخول يوسف ودخول موسى عليهما السلام أكثر من أربعمائة سنة، والمراد بآل فرعون هنا أهل مصر أو أهل بيته خاصة أو أتباعه على دينه، وبأنجيناكم أنجينا آباءكم، وكذا نظائره فلا حجة فيها لتناسخي، وهذا في كلام العرب شائع كقوله حسان: ونحن قتلناكم ببدر فأصبحت * عساكركم في الهالكين (تجول)
و (يسومونكم) من السوم، وأصله الذهاب للطلب، ويستعمل للذهاب وحده تارة، ومنه السائمة، وللطلب أخرى، ومنه السوم في البيع، ويقال: سامه كلفه العمل الشاق، و - السوء - مصدر ساء يسوء، ويراد به السيء، ويستعمل في كل ما يقبح - كأعوذ بالله تعالى من سوء الخلق و (سوء العذاب) أفظعه وأشده بالنسبة إلى سائره، وهو منصوب على المفعولية ليسومونكم بإسقاط حرف الجر أو بدونه، والجملة يحتمل أن تكون مستأنفة، وهي حكاية حال ماضية، ويحتمل أن تكون في موضع الحال من ضمير * (نجيناكم) * أو * (من آل فرعون) *، وهو الأقرب، والمعنى يولونكم أو يكلفونكم الأعمال الشاقة، والأمور الفظيعة أو يرسلونكم إليها ويصرفونكم فيها أو يبغونكم سوء العذاب المفسر بما بعده، وقد حكي أن فرعون جعل بني إسرائيل خدما وخولا، وصنفهم في الأعمال - فصنف يبنون، وصنف يحرثون، وصنف يخدمون - ومن لم يكن منهم في عمل وضع عليه الجزية يؤديها كل يوم، ومن غربت عليه الشمس قبل أن يؤديها غلت يده إلى عنقه شهرا، وجعل النساء يغزلن الكتان، وينسجن.
* (يذبحون أبناءكم) * جملة حالية أو استئنافية كأنه قيل: ما الذي ساموهم إياه، فقال:
253

* (يذبحون) * الخ، ويجوز أن تخرج على إبدال الفعل من الفعل كما في قوله تعالى: * (يلق أثاما * يضاعف له العذاب) * (الفرقان: 68، 69)، وقيل: بالعطف وحذف حرفه لآية إبراهيم، والمحققون على الفرق، وحملوا * (سوء العذاب) * فيها على التكاليف الشاقة غير الذبح، وعطف للتغاير، واعتبر هناك لا هنا على رأيهم لسبق * (وذكرهم بأيام الله) * إبراهيم: 5)، وهو يقتضي التعداد، وليس هنا ما يقتضيه، والأبناء الأطفال الذكور، وقيل: إنهم الرجال هذا وسموا أبناء باعتبار ما كانوا قبل، وفي بعض الأخبار أنه قتل أربعين ألف صبي، وحكي أنه كان يقتل الرجال الذين يخاف منهم الخروج والتجمع لإفساد أمره، والمشهور حمل الأبناء على الأول، وهو المناسب المتبادر، وفي سبب ذلك أقوال وحكايات مختلفة ومعظمها يدل على أن فرعون خاف من ذهاب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل ففعل ما فعل * (وكان أمر الله قدرا مقدورا) * (الأحزاب: 38) وقرأ الزهري وابن محيصن: * (يذبحون) * مخففا، وعبد الله: * (يقتلون) * مشددا * (ويستحيون نساءكم) * عطف على * (يذبحون) * أي يستبقون بناتكم ويتركونهن حيات، وقيل: يفتشون في حيائهن ينظرون هل بهن حمل - والحياء الفرج - لأنه يستحى من كشفه، والنساء جمع المرأة، وفي " البحر " إنه جمع تكسير لنسوة على وزن فعلة جمع قلة، وزعم ابن السراج أنه اسم جمع، وعلى القولين لم يلفظ له بواحد من لفظه، وهي في الأصل البالغات دون الصغائر، فهي على الوجه الأول مجاز باعتبار الأول للإشارة إلى أن استبقاءهم كان لأجل أن يصرن نساء لخدمتهم، وعلى الثاني فيه تغليب البالغات على الصغائر، وعلى الثالث حقيقة، وقدم الذبح لأنه أصعب الأمور وأشقها عند الناس وإن كان ذلك الاستحياء أعظم من القتل لدى الغيور.
* (وفي ذالكم بلاء من ربكم عظيم) * إشارة إلى التذبيح والاستحياء، أو إلى الإنجاء، وجمع الضمير للمخاطبين، ويجوز أن يشار بذلكم إلى الجملة وأصل البلاء الاختبار، وإذا نسب إليه تعالى يراد منه ما يجري مجراه مع العباد على المشهور، وهو تارة يكون بالمسار ليشكروا، وتارة بالمضار ليصبروا، وتارة بهما ليرغبوا ويرهبوا - فإن حملت الإشارة على المعنى الأول: - فالمراد بالبلاء المحنة، وإن على الثاني: فالمراد به النعمة، وإن على الثالث: فالمراد به القدر المشترك كالامتحان الشائع بينهما، ويرجح الأول: التبادر، والثاني: أنه في معرض الامتنان، والثالث: لطف جمع الترغيب والترهيب؛ ومعنى * (من ربكم) * من جهته تعالى إما بتسليطهم عليكم أو ببعث موسى عليه السلام وتوفيقه لتخليصكم أو بهما جميعا، و (عظيم) صفة (بلاء) وتنكيرهما للتفخيم، والعظم بالنسبة للمخاطب، والسامع لا بالنسبة إليه تعالى لأنه العظيم الذي لا يستعظم شيئا.
ومن باب الإشارة: والتأويل: وإذ نجيناكم من قوى فرعون النفس الأمارة المحجوبة بأنانيتها، والنظر إلى نفسها المستعلية على إهلاك الوجود، ومصر مدينة البدن المستعبدة، وهي وقواها من الوهم، والخيال، والغضب، والشهوة القوى الروحانية التي هي أبناء صفوة الله تعالى يعقوب الروح، والقوى الطبيعية البدنية من الحواس الظاهرة والقوى النباتية أولئك يكلفونكم المتاعب الصعبة، والأعمال الشاقة من جمع المال، والحرص وترتيب الأقوات والملابس وغير ذلك، ويستعبدونكم بالتفكر فيها والاهتمام بها لتحصل لكم لذة هي في الحقيقة عذاب وذلة لأنها تمنعكم عن مشاهدة الأنوار، والتمتع بدار القرار * (يذبحون أبناءكم) * التي هي القوى الروحانية من القوى النظرية التي هي العين اليمنى للقلب، والعملية التي هي العين اليسرى له، والفهم الذي هو سمعه، والسر الذي هو قلبه * (ويستحيون) * قواكم الطبيعية ليستخدموها ويمنعوها عن أفعالها اللائقة بها. وفي ذلك - الإنجاء - نعمة عظيمة من ربكم المرقي لكم من مقام إلى مقام ومشهد إلى مشهد حتى تصلوا إليه وتحطوا رحالكم بين يديه، أو في مجموع ذلك امتحان لكم وظهور آثار الأسماء
254

المختلفة عليكم فاشكروا واصبروا فالكل منه وكل ما فعل المحبوب محبوب.
* (وإذ فرقنا بكم البحر فأنجين‍اكم وأغرقنا ءال فرعون وأنتم تنظرون) *
* (وإذ فرقنا بكم البحر) * عطف على ما قبل، و - الفرق - الفصل بين الشيئين، وتعديته إلى البحر بتضمين معنى الشق، أي فلقناه وفصلنا بين بعضه وبعض لأجلكم، وبسبب إنجائكم. والباء للسببية الباعثة بمنزلة اللام - إذا قلنا بتعليل أفعاله تعالى - وللسببية الشبيهة بها في الترتيب على الفعل، وكونه مقصودا منه - إن لم نقل به - وإنما قال سبحانه: * (بكم) * دون لكم، لأن العرب - على ما نقله الدامغاني - تقول: غضبت لزيد - إذا غضبت من أجله وهو حي - وغضبت بزيد - إذا غضبت من أجله وهو ميت - ففيه تلويح إلى أن الفرق كان من أجل أسلاف المخاطبين، ويحتمل أن تكون للاستعانة على معنى - بسلوككم - ويكون هناك استعارة تبعية بأن يشبه سلوكهم بالآلة في كونه واسطة في حصول الفرق من الله تعالى، ويستعمل الباء. وقول الإمام الرازي قدس سره: - إنهم كانوا يسلكون، ويتفرق الماء عند سلوكهم،
فكأنه فرق بهم - يرد عليه أن تفرق الماء كان سابقا على سلوكهم على ما تدل عليه القصة، وقوله تعالى: * (أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم) * (الشعراء: 63) وما قيل: إن الآلة هي العصا - كما تفهمه الآية - غير مسلم. والمفهوم كونها آلة الضرب - لا الفرق - ولو سلم يجوز كون المجموع آلة، على أن آلية السلوك على التجوز، وقد يقال: إن الباء للملابسة، والجار والمجرور ظرف مستقر واقع موقع الحال من الفاعل، وملابسته تعالى معهم حين الفرق ملابسة عقلية، وهو كونه ناصرا وحافظا لهم، وهي ما أشار إليه موسى عليه السلام بقوله تعالى: * (كلا إن معي ربي سيهدين) * (الشعراء: 62) ومن الناس من جعله حالا من البحر مقدما - وليس بشيء - لأن الفرق مقدم على ملابستهم البحر اللهم إلا على التوسع، واختلفوا في هذا البحر فقيل: القلزم - وكان بين طرفيه أربعة فراسخ - وقيل: النيل، والعرب تسمي الماء الملح والعذب بحرا - إذا كثر، ومنه: * (مرج البحرين يلتقيان) * (الرحمن: 19) وأصله السعة، وقيل: الشق، ومن الأول: البحرة البلدة، ومن الثاني: البحيرة التي شقت أذنها، وفي كيفية الانفلاق قولان: فالمشهور كونه خطيا، وفي بعض الآثار ما يقتضي كونه قوسيا، إذ فيه أن الخروج من الجانب الذي دخلوا منه، واحتمال الرجوع في طريق الدخول يكاد يكون باطلا لأن الأعداء في أثرهم، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ما يتعلق بهذا المبحث.
* (فأنجين‍اكم وأغرقنا ءال فرعون) * في الكلام حذف يدل عليه المعنى والتقدير: وإذا فرقنا بكم البحر وتبعكم فرعون وجنوده في تقحمه فأنجيناكم أي من الغرق، أو من إدراك فرعون وآله لكم، أو مما تكرهون، وكنى سبحانه بآل فرعون عن فرعون وآله كما يقال: بني هاشم؛ وقوله تعالى: * (ولقد كرمنا بني آدم) * (الإسراء: 70) يعني هذا الجنس الشامل لآدم، أو اقتصر على ذكر الآل لأنهم إذا عذبوا بالإغراق كان مبدأ العناد ورأس الضلال أولى بذلك، وقد ذكر تعالى غرق فرعون في آيات أخر من كتابه كقوله سبحانه: * (فأغرقناه ومن معه جميعا) * (الإسراء: 103) * (فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم) * (القصص: 40) وحمل الآل - على الشخص حيث إنه ثبت لغة كما في " الصحاح " - ركيك غير مناسب للمقام، وإنما المناسب له التعميم، وناسب نجاتهم - بإلقائهم في البحر وخروجهم منه سالمين - نجاة نبيهم موسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام من الذبح بإلقائه وهو طفل في البحر وخروجه منه سالما، ولكل أمة نصيب من نبيها وناسب هلاك فرعون - وقومه بالغرق - هلاك بني إسرائيل على أيديهم بالذبح لأن الذبح فيه تعجيل الموت بإنهار الدم، والغرق فيه فيه إبطاء الموت ولا دم خارج وكان ما به الحياة وهو الماء كما يشير إليه قوله تعالى: * (وجعلنا من الماء كل
255

شيء حي) * (الأنبياء: 30) سببا لإعدامهم من الوجود، وفيه إشارة إلى تقنيطهم وانعكاس آمالهم كما قيل: إلى الماء يسعى من يغص بلقمة * (إلى أين) يسعى من يغص بماء
ولما كان الغرق من أعسر الموتات وأعظمها شدة - ولهذا كان الغريق المسلم شهيدا - جعله الله تعالى نكالا لمن ادعى الربوبية وقال: * (أنا ربكم الأعلى) * (النازعلات: 24) وعلى قدر الذنب يكون العقاب. ويناسب دعوى الربوبية والاعتلاء انحطاط المدعي وتغييبه في قعر الماء، ولك أن تقول لما افتخر فرعون بالماء كما يشير إليه قوله تعالى حكاية عنه: * (أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي) * (الزخرف: 51) جعل الله تعالى هلاكه بالماء، وللتابع حظ وافر من المتبوع - وكان ذلك الغرق والإنجاء، والإغراق يوم عاشوراء - والكلام فيه مشهور.
* (وأنتم تنظرون) * جملة حالية وفيها تجوز أي وآباؤكم ينظرون، والمفعول محذوف أي جميع ما مر فإن أريد الأحكام فالنظر بمعنى العلم - وعليه ابن عباس رضي الله تعالى عنه - وإن نفس الأفعال من الغرق والإنجاء. والإغراق فهو بمعنى المشاهدة - وعليه الجمهور - والحال على هذا من الفاعل وهو معمول بجميع الأفعال السابقة على التنازع، وفائدته: تقرير النعمة عليهم كأنه قيل: وأنتم لا تشكون فيها، وجوز أن يقدر المفعول خاصا أي غرقهم، وإطباق البحر عليهم فالحال متعلق بالقريب، وهو * (أغرقنا) * وفائدته: تتميم النعمة فإن هلاك العدو نعمة؛ ومشاهدته نعمة أخرى، وفي " قصص الكسائي " أن بني إسرائيل حين عبروا البحر وقفوا ينظرون إلى البحر وجنود فرعون، ويتأملون كيف يفعلون، أو انفلاق البحر فيكون الحال متعلقا بالأصل في الذكر، وهو * (فرقنا) * وفائدته: إحضار النعمة ليتعجبوا من عظم شأنها، ويتعرفوا إعجازها، أو ذلك الآل الغريق فالحال من مفعول * (أغرقنا) * متعلق به والفائدة: تحقيق الإغراق وتثبيته، وقيل: المراد ينظر بعضكم بعضا وأنتم سائرون في البحر، وذلك أنه نقل أن بعض قوم موسى قالوا له: أي أصحابنا؟ فقال: سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم. قالوا: لا نرضى حتى نراهم فأوحى الله تعالى أن قل بعصاك هكذا فقال بها على الحيطان فصار بها كوى فتراأوا وسمعوا كلام بعضهم بعضا فالحال متعلق بفرقنا وفائدته: تتميم النعمة فإن كونهم مستأنسين يرى بعضهم - حال بعض آخر - نعمة أخرى، وبعض الناس يجعل الفعل على هذا الوجه منزلا منزلة اللازم وليس بالبعيد، نعم البعيد جعل النظر هنا مجازا عن القرب أي وأنتم بالقرب منهم أي بحال لو نظرتم إليهم لرأيتموهم كقولهم - أنت مني بمرأى ومسمع - أي قريب مني بحيث أراك وأسمعك، وكذا جعله بمعنى الاعتبار أي وأنتم تعتبرون بمصرعهم وتتعظون بمواقع النقمة التي أرسلت عليهم. هذا وقد حكوا في كيفية خروج بني إسرائيل وتعنتهم وهم في البحر، وفي كيفية خروج فرعون بجنوده، وفي مقدار الطائفتين حكايات مطولة جدا لم يدل القرآن ولا الحديث الصحيح عليها والله تعالى أعلم بشأنها.
والإشارة: في الآية أن البحر هو الدنيا وماءه شهواتها ولذاتها، وموسى هو القلب، وقومه صفات القلب، وفرعون هو النفس الأمارة، وقومه صفات النفس، وهم أعداء موسى، وقومه يطلبونهم ليقتلوهم، وهم سائرون إلى الله تعالى، والعدو من خلفهم، وبحر الدنيا أمامهم، ولا بد لهم في السير إلى الله تعالى من عبوره ولو يخوضونه بلا ضرب عصا لا إله إلا الله بيد موسى - القلب فإن له يدا بيضاء في هذا الشأن - لغرقوا كما غرق فرعون وقومه، ولو كانت هذه العصا في يد فرعون النفس لم ينفلق فكما أن يد موسى القلب شرط في الانفلاق كذلك عصا الذكر شرط فيه، فإذا حصل الشرطان، وضرب موسى بعصا الذكر مرة بعد أخرى ينفلق بإذن الله
بحر الدنيا بالنفي وينشبك ماء الشهوات يمينا وشمالا، ويرسل الله تعالى ريح العناية، وشمس الهداية على قعر ذلك البحر فيصير يابسا من ماء الشهوات فيخرج موسى وقومه بعناية التوحيد
256

إلى ساحل النجاة * (وأن إلى ربك المنتهى) * (النجم: 42) ويقال لفرعون وقومه إذا غرقوا وأدخلوا نارا: ألا بعدا للقوم الظالمين.
* (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظ‍المون) *
* (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة) * لما جاوز بنو إسرائيل البحر سألوا موسى عليه السلام أن يأتيهم بكتاب من عند الله فوعده سبحانه أن يعطيه التوراة وقبل موسى ذلك، وضرب له ميقاتا ذا القعدة وعشر ذي الحجة أو ذا الحجة وعشر المحرم فالمفاعلة على بابها، وهي من طرف فعل، ومن آخر قبوله مثل - عالجت المريض - وإنكار جواز ذلك لا يسمع مع وروده في كلام العرب وتصريح الأئمة به وارتضائهم له، ويجوز أن يكون * (واعدنا) * من باب الموافاة وليس من الوعد في شيء وإنما هو من قولك موعدك يوم كذا وموضع كذا، ويحتمل أن يكون بمعنى وعدنا وبه قرأ أبو عمرو، أو يقدر الملاقاة، أو يقال بالتفكيك إلى فعلين فيقدر الوحي في أحدهما؛ والمجىء في الآخر ولا محذور في شيء كما حققه الدامغاني، وقول أبي عبيدة: المواعدة لا تكون إلا من البشر غير مسلم، وقول أبي حاتم: أكثر ما تكون من المخلوقين المتكافئين على تقدير تسليمه لا يضرنا، و (أربعين) مفعول به بحذف المضاف بأدنى ملابسة أي إعطاء أربعين أي عند انقضائها، أو في العشر الأخير منها، أو في كلها، أو في أولها على اختلاف الروايات، أو ظرف مستقر وقع صفة لمفعول محذوف - لواعدنا - أي واعدنا موسى أمرا كائنا في أربعين، وقيل: مفعول مطلق أي واعدنا موسى مواعدة أربعين ليلة.
ومن الناس من ذهب إلى أن الأولى أن لا يقدر مفعول لأن المقصود بيان من وعد لا ما وعد - وينصب الأربعين على الإجراء مجرى المفعول به توسعا، وفيه مبالغة بجعل ميقات الوعد موعودا وجعل الأربعين ظرفا لواعدنا على حد جاء زيد يوم الخميس - ليس بشيء كما لا يخفى، و (موسى) اسم أعجمي لا ينصرف للعلمية والعجمة، ويقال: هو مركب من (مو) وهو الماء (وشى) وهو الشجر وغير إلى (سى) بالمهملة وكأن من سماه به أراد ماء البحر والتابوت الذي قذف فيه - وخاض بعضهم في وزنه - فعن سيبويه إن وزنه مفعل وقيل: إنه فعل وهو مشتق من ماس يميس فأبدلت الياء واوا لضم ما قبلها كما قالوا طوبى، وهي من ذوات الياء لأنها من طاب يطيب، ويبعده أن الإجماع على صرفه نكرة ولو كان فعل لم ينصرف لأن ألف التأنيث وحدها تمنع الصرف في المعرفة والنكرة على أن زيادة الميم أولا أكثر من زيادة الألف آخرا، وعبر سبحانه وتعالى عن ذلك الوقت بالليالي دون الأيام لأن افتتاح الميقات كان من الليل، والليالي غرر شهور العرب لأنها وضعت على سير القمر، والهلال إنما يهل بالليل، أو لأن الظلمة أقدم من الضوء بدليل * (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار) * (يس: 37) أو إشارة إلى مواصلة الصوم ليلا ونهارا ولو كان التفسير باليوم أمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل فلما نص على الليالي فهم من قوة الكلام أنه واصل أربعين ليلة بأيامها، والقول بأن ذكر الليلة - كان للإشعار بأن وعد موسى عليه السلام كان بقيام الليل - ليس بشيء لأن المروي أن المأمور به كان الصيام لا القيام، وقد يقال من طريق الإشارة: إن ذكر الليلة للرمز إلى أن هذه المواعدة كانت بعد تمام السير إلى الله تعالى ومجاوزة بحر العوائق والعلائق، وهناك يكون السير في الله تعالى الذي لا تدرك حقيقته، ولا تعلم هويته، ولا يرى في بيداء جبروته إلا الدهشة والحيرة، وهذا السير متفاوت باعتبار الأشخاص والأزمان ولي مع الله تعالى وقت يشير إلى ذلك.
* (ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون) * الاتخاذ يجيء بمعنى ابتداء صنعة فيتعدى لواحد نحو - اتخذت سيفا - أي صنعته. وبمعنى اتخاذ وصف فيجري مجرى الجعل ويتعدى
257

لاثنين نحو - اتخذت زيدا صديقا - والأمران محتملان في الآية، والمفعول الثاني على الاحتمال الثاني محذوف لشناعته أي: اتخذتم العجل الذي صنعه السامري إلها، والذم فيه ظاهر لأنهم كلهم عبدوه إلا هارون مع اثني عشر ألفا، أو إلا هارون والسبعين الذين كانوا مع موسى عليه السلام، وعلى الاحتمال الأول لا حاجة إلى المفعول الثاني ويؤيده عدم التصريح به في موضع من آيات هذه القصة، والذم حينئذ لما ترتب على الاتخاذ من العبادة أو على نفس الاتخاذ لذلك، والعرب تذم أو تمدح القبيلة بما صدر عن بعضها، والعجل ولد البقرة الصغير وجعله الصوفية إشارة إلى عجل النفس الناقصة وشهواتها وكون ما اتخذوه عجلا ظاهر في أنه صار لحما ودما فيكون عجلا حقيقة ويكون نسبة الخوار إليه فيما يأتي حقيقة أيضا وهو الذي ذهب إليه الحسن، وقيل: أراد سبحانه بالعجل ما يشبهه في الصورة والشكل. ونسبة الخوار إليه مجاز وهو الذي ذهب إليه الجمهور، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على ذلك.
ومن الغريب أن هذا إنما سمي عجلا لأنهم عجلوا به قبل قدوم موسى فاتخذوه إلها، أو لقصر مدته حيث إن موسى عليه السلام بعد الرجوع من الميقات حرقه ونسفه في اليم نسفا، والضمير في بعده راجع إلى موسى، أي: بعد ما رأيتم منه من التوحيد والتنزيه والحمل عليه والكف عما ينافيه، وذكر الظرف للإيذان بمزيد شناعة فعلهم، ولا يقتضي أن يكون موسى متخذا إلها - كما وهم - لأن مفهوم الكلام أن يكون الاتخاذ - بعد - موسى ومن أين يفهم اتخاذ موسى سيما في هذا المقام؟ ويجوز أن يكون في الكلام حذف، وأقرب ما يحذف مصدر يدل عليه * (واعدنا) * أي من بعد مواعدته؛ وقيل: المحذوف الذهاب المدلول عليه - بالمواعدة - لأنها تقتضيه. والجملة الاسمية في موضع الحال، ومتعلق الظلم الإشراك، ووضع العبادة في غير موضعها، وقيل: الكف عن الاعتراض على ما فعل السامري وعدم الإنكار عليه - وفائدة التقييد بالحال - الإشعار بكون الاتخاذ - ظلما - بزعمهم أيضا لو راجعوا عقولهم بأدنى تأمل، وقيل: الجملة غير حال بل مجرد إخبار أن سجيتهم الظلم وإنما راج فعل السامري عندهم لغاية حمقهم وتسلط الشيطان عليهم - كما يدل على ذلك سائر أفعالهم - واتخاذ السامري لهم العجل دون سائر الحيوانات، قيل: لأنهم مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم على صور البقر فقالوا: * (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) * (الأعراف: 138) فهجس في نفس السامري أن فتنتهم من هذه الجهة، فاتخذ لهم
ذلك. وقيل: إنه كان هو من قوم يعبدون البقر - وكان منافقا - فاتخذ عجلا من جنس ما يعبده.
* (ثم عفونا عنكم من بعد ذالك لعلكم تشكرون) *
(ثم) لتفاوت ما بين فعلهم القبيح، ولطفه تعالى في شأنهم، فلا يكون * (من بعد ذلك) * تكرارا. و (عفا) بمعنى درس يتعدى ولا يتعدى - كعفت الدار، وعفاها الريح - والمراد بالعفو هنا - محو الجريمة بالتوبة - وذلك موضوع موضع (ذلكم) والإشارة - للاتخاذ - كما هو الظاهر، وإيثارها لكمال العناية بتمييزه - كأنه يجعل ظلمهم مشاهدا لهم - وصيغة البعيد مع قربه لتعظيمه ليتوسل بذلك إلى جلالة قدر العفو والمراد بالترجي ما علمت، والمشهور هنا كونه مجازا عن طلب الشكر على العفو ومن قدر الإرادة من أهل السنة - أراد مطلق الطلب - وليس ذلك من الاعتزال، إذ لا نزاع في أن الله تعالى قد يطلب من العباد ما لا يقع والشكر عند الجنيد هو العجز عن الشكر، وعند الشبلي - التواضع تحت رؤية المنة - وقال ذو النون: الشكر لمن فوقك بالطاعة، ولنظيرك بالمكافآت، ولمن دونك بالإحسان.
* (وإذ ءاتينا موسى الكت‍ابوالفرقان لعلكم تهتدون) *
(الكتاب) التوراة - بإجماع المفسرين -
258

وفي الفرقان أقوال: الأول: إنه هو التوراة أيضا، والعطف من قبيل عطف الصفات للإشارة إلى استقلال كل منها، فإن التوراة لها صفتان يقالان بالتشكيك، كونها كتابا جامعا لما لم يجمعه منزل سوى القرآن، وكونها (فرقانا) أي حجة تفرق بين الحق والباطل - قاله الزجاج - ويؤيد هذا قوله تعالى: * (ولقد آتينا موسى وهرون الفرقان وضياءا وذكرا) * (الأنبياء: 48) الثاني: أنه الشرع الفارق بين الحلال والحرام، فالعطف مثله في: * (تنزل الملائكة والروح) * (القدر: 4) قاله ابن بحر. الثالث: أنه المعجزات الفارقة بين الحق والباطل - من العصا واليد وغيرهما - قاله مجاهد.
الرابع: إنه النصر الذي فرق بين العدو والولي، وكان آية لموسى عليه السلام، ومنه قيل ليوم بدر: يوم الفرقان، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: إنه القرآن، ومعنى إتيانه لموسى عليه السلام نزول ذكره له حتى آمن به، حكاه ابن الأنباري - وهو بعيد - وأبعد منه، ما حكي عن الفراء وقطرب - أنه القرآن - والكلام على حذف مفعول - أي ومحمدا الفرقان - وناسب ذكر الاهتداء إثر ذكر إتيان موسى، الكتاب والفرقان لأنهما يترتب عليهما ذلك لمن ألقى السمع وهو شهيد.
* (وإذ قال موسى لقومه ي‍اقوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذالكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم) *
* (وإذ قال موسى لقومه ي‍اقوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل) * نعمة أخروية في حق المقتولين من بني إسرائيل حيث نالوا درجة الشهداء، كما أن العفو نعمة دنيوية في حق الباقين، وإنما فصل بينهما بقوله: وإذ آتينا) * (البقرة: 53) الخ؛ لأن المقصود تعداد النعم - فلو اتصلا لصارا نعمة واحدة - وقيل: هذه الآية وما بعدها منقطعة عما تقدم من التذكير بالنعم - وليس بشيء - واللام في * (لقومه) * للتبليغ، وفائدة ذكره التنبيه على أن خطاب موسى لقومه كان مشافهة لا بتوسط من يتلقى منه - كالخطابات المذكورة سابقا لبني إسرائيل - والقوم اسم جمع لا واحد له من لفظه، وإنما واحده امرىء - وقياسه أن لا يجمع - وشذ جمعه على - أقاويم - والمشهور اختصاصه بالرجال لقوله تعالى: * (لا يسخر قوم من قوم) * مع قوله: * (ولا نساء من نساء) * (الحجرات: 11) وقال زهير: فما أدري وسوف أخال أدري * أ (قوم) آل حصن أم (نساء)
وقيل: لا اختصاص له بهم، بل يطلق على النساء أيضا لقوله تعالى: * (إنا أرسلنا نوحا إلى قومه) * (نوح: 1) والأول أصوب، واندراج النساء على سبيل الاستتباع، والتغليب والمجاز خير من الاشتراك، وسمي الرجال قوما لأنهم يقومون بما لا يقوم به النساء، وفي إقبال موسى عليهم بالنداء، ونداؤه لهم بيا قوم إيذان بالتحنن عليهم وأنه منهم وهم منه، وهز لهم لقبولهم الأمر بالتوبة بعد تقريعهم بأنهم ظلموا أنفسهم والباء في * (باتخاذكم) * سببية وفي - الاتخاذ - هنا الاحتمالان السابقان هناك.
* (فتوبوا إلى بارئكم) * الفاء للسببية - لأن الظلم سبب للتوبة - وقد عطفت ما بعدها على * (إنكم ظلمتم) * والتوافق في الخبرية والإنشائية إنما يشترط في العطف - بالواو - وتشعر عبارات بعض الناس أنها للسببية دون العطف، والتحقيق أنها لهما معا، والبارىء هو الذي خلق الخلق بريا - من التفاوت - وعدم تناسب الأعضاء وتلائم الأجزاء بأن تكون إحدى اليدين في غاية الصغر والرقة، والأخرى بخلافه؛ ومتميزا بعضه عن بعض بالخواص والإشكال والحسن والقبح - فهو أخص من الخالق - وأصل التركيب لخلوص الشيء وانفصاله عن غيره إما على سبيل التفصي - كبرء المريض - أو الإنشاء - كبرأ الله تعالى آدم - أي خلقه ابتداء متميزا عن لوث الطين، وفي ذكره في هذا المقام تقريع بما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم بلطف حكمته حتى عرضوا أنفسهم لسخط الله تعالى ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم،
259

وينثر ما نظم من صورهم وأشكالهم حين لم يشكروا النعمة في ذلك وغمطوها بعبادة من لا يقدر على شيء منها - وهو مثل في الغباوة والبلادة - وقرأ أبو عمرو: * (بارئكم) * بالاختلاس، وروي عنه - السكون - أيضا وهو من إجراء المتصل من كلمتين مجرى المنفصل من كلمة، وللناس في تخريجه وجوه لا تخلو عن شذوذ. * (فاقتلوآ أنفسكم) * الفاء للتعقيب، والمتبادر من القتل القتل المعروف من إزهاق الروح - وعليه جمع من المفسرين - والفعل معطوف على سابقه، فإن كانت توبتهم هو القتل إما في حقهم خاصة، أو توبة المرتد مطلقا في شريعة موسى عليه السلام، فالمراد بقوله تعالى: * (فتوبوا) * اعزموا على التوبة - ليصح العطف - وإن كانت هي الندم والقتل من متمماتها - كالخروج عن المظالم في شريعتنا - فهو على معناه ولا إشكال، وقد يقال: إن التوبة جعلت لهؤلاء عين القتل ولا حاجة إلى تأويل توبوا باعزموا، بل تجعل - الفاء - للتفسير - كما تجعل الواو له - وقد قيل به في قوله تعالى: * (فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم) * (الأعراف: 136) وظاهر الأمر
أنهم مأمورون بأن يباشر كل قتل نفسه، وفي بعض الآثار أنهم أمروا أن يقتل بعضهم بعضا، فمعنى * (فاقتلوا أنفسكم) * حينئذ، ليقتل بعضكم بعضا، كما في قوله تعالى: * (ولا تقتلوا أنفسكم) * (النساء: 29) * (ولا تلمزوا أنفسكم) * (الحجرات: 11) والمؤمنون كنفس واحدة، وروي أنه أمر من لم يعبد العجل أن يقتل من عبده، والمعنى عليه استسلموا أنفسكم للقتل، وسمى الاستسلام للقتل قتلا على سبيل المجاز، والقاتل إما غير معين، أو الذين اعتزلوا مع هارون عليه السلام، والذين كانوا مع موسى عليه السلام، وفي كيفية القتل أخبار لا نطيل بذكرها، وجملة القتلى سبعون ألفا، وبتمامها نزلت التوبة وسقطت الشفار من أيديهم، وأنكر القاضي عبد الجبار أن يكون الله تعالى أمر بني إسرائيل - بقتل أنفسهم - وقال: لا يجوز ذلك عقلا - إذ الأمر لمصلحة المكلف - وليس بعد القتل حال تكليف ليكون فيه مصلحة، ولم يدر هذا القاضي بأن لنفوسنا خالقا - بأمره نستبقيها؛ وبأمره نفنيها - وأن لها بعد هذه الحياة التي هي لعب ولهو، حياة سرمدية وبهجة أبدية، وأن الدار الآخرة لهي الحيوان، وأن قتلها بأمره يوصلها إلى حياة خير منها، ومن علم أن الإنسان في هذه الدنيا - كمجاهد أقيم في ثغر يحرسه، ووال في بلد يسوسه - وأنه مهما استرد فلا فرق بين أن يأمره الملك بخروجه بنفسه، أو يأمر غيره بإخراجه - وهذا واضح لمن تصور حالتي الدنيا والآخرة، وعرف قدر الحياتين والميتتين فيهما، ومن الناس من جوز ذلك - إلا أنه استبعد وقوعه - فقال: معنى * (فاقتلوا أنفسكم) * ذللوا، ومن ذلك قوله: إن التي عاطيتني فرددتها * (قتلت قتلت) فهاتها لم (تقتل)
ولولا أن الروايات على خلاف ذلك لقلت به تفسيرا. ونقل عن قتادة أنه قرأ: (فأقيلوا أنفسكم) والمعنى أن أنفسكم قد تورطت في عذاب الله تعالى بهذا الفعل العظيم الذي تعاطيتموه، وقد هلكت - فأقيلوها - بالتوبة والتزام الطاعة، وأزيلوا آثار تلك المعاصي بإظهار الطاعات.
* (ذالكم خير لكم عند بارئكم) * جملة معترضة للتحريض على التوبة أو معللة، والإشارة إلى المصدر المفهوم مما تقدم، و * (خير) * أفعل تفضيل حذفت همزته، ونطقوا بها في الشعر. قال الراجز:
بلا خير الناس وابن الأخير
وقد تأتي - ولا تفضيل - والمعنى: أن ذلكم خير لكم من العصيان والإصرار على الذنب - أو خير من ثمرة العصيان، وهو الهلاك الدائم، والكلام - على حد العسل - أحلى من الخل أو خير من الخيور كائن لكم.
260

والعندية هنا مجاز، وكرر البارىء بلفظ الظاهر اعتناء بالحث على التسليم له في كل حال، وتلقى ما يرد من قبله بالقبول والامتثال فإنه كما رأى الإنشاء راجحا فأنشأ رأي الإعدام راجحا، فأمر به وهو العليم الحكيم.
* (فتاب عليكم) * جواب شرط محذوف بتقدير - قد - إن كان من كلام موسى عليه السلام لهم، تقديره إن فعلتم ما أمرتم به فقد تاب عليكم ومعطوف على محذوف - إن كان خطابا من الله تعالى لهم، كأنه قال: ففعلتم ما أمرتم فتاب عليكم بارئكم وفيه التفات لتقدم التعبير عنهم في كلام موسى عليه السلام بلفظ القوم وهو من قبيل الغيبة، أو من التكلم إلى الغيبة في * (فتاب) * حيث لم يقل: فتبنا، ورجح العطف لسلامته من حذف الأداة والشرط وإبقاء الجواب، وفي ثبوت ذلك عن العرب مقال، وظاهر الآية كونها إخبارا عن المأمورين بالقتل الممتثلين ذلك. وقال ابن عطية: جعل الله تعالى - القتل - لمن - قتل - شهادة وتاب عن الباقين وعفا عنهم، فمعنى * (علكيم) * عنده، على باقيكم.
* (إنه هو التواب الرحيم) * تذييل لقوله تعالى: * (فتوبوا) * فإن - التوبة بالقتل - لما كانت شاقة على النفس هونها سبحانه بأنه هو الذي يوفق إليها ويسهلها ويبالغ في الإنعام على من أتى بها، أو تذييل لقوله تعالى: * (فتاب عليكم) * وتفسر التوبة منه تعالى حينئذ بالقبول لتوبة المذنبين - والتأكيد لسبق الملوح - أو للاعتناء بمضمون الجملة، والضمير المنصوب إن كان ضمير الشأن - فالضمير المرفوع مبتدأ - وهو الأنسب لدلالته على كمال الإعتناء بمضمون الجملة، وإن كان راجعا إلى البارىء سبحان فالضمير المرفوع إما فصل أو مبتدأ، هذا وحظ العارف من هذه القصة أن يعرف أن هواه بمنزلة عجل بني إسرائيل - فلا يتخذه إلها - * (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) * (الجاثية: 23) وأن الله سبحانه قد خلق نفسه في أصل الفطرة مستعدة لقبول فيض الله تعالى والدين القويم، ومتهيئة لسلوك المنهج المستقيم، والترقي إلى جناب القدس وحضرة الأنس، وهذا هو الكتاب الذي أوتيه موسى القلب، والفرقان الذي يهتدى بنوره في ليالي السلوك إلى حضرة الرب، فمتى أخلدت النفس إلى الأرض واتبعت هواها، وآثرت شهواتها على مولاها، أمرت بقتلها بكسر شهواتها وقلع مشتهياتها ليصح لها البقاء بعد الفناء، والصحو بعد المحو، وليست التوبة الحقيقية سوى محو البشرية بإثبات الألوهية، وهذا هو الجهاد الأكبر والموت الأحمر. ليس من مات فاستراح بميت * إنما الميت ميت الأحياء
وهذا صعب لا يتيسر إلا لخواص الحق ورجال الصدق، وإليه الإشارة بموتوا قبل أن تموتوا. وقيل أول قدم في العبودية إتلاف النفس وقتلها بترك الشهوات، وقطعها عن الملاذ، فكيف الوصول إلى شيء من منازل الصديقين ومعارج المقربين - هيهات هيهات - ذاك بمعزل عنا، ومناط الثريا منا: تعالوا نقم مأتما للهموم * فإن الحزين يواسي الحزينا
* (وإذ قلتم ي‍اموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الص‍اعقة وأنتم تنظرون) *
* (وإذ قلتم ي‍اموسى لن نؤمن لك) * القائل هم السبعون الذين اختارهم موسى عليه السلام لميقات التوراة، قيل: قالوه بعد الرجوع، وقتل عبدة العجل، وتحريق عجلهم، ويفهم من بعض الآثار أن القائل أهل الميقات الثاني الذي ضربه الله تعالى للاعتذار عن عبدة العجل - وكانوا سبعين أيضا، وقيل القائل عشرة آلاف من قومه، وقيل: الضمير لسائر بني إسرائيل - إلا من عصمه الله تعالى - وسيأتي إن شاء الله تعالى في الأعراف ما ينفعك هنا - واللام - من * (لك) * إما - لام الأجل - أو للتعدية بتضمين معنى الإقرار على أن موسى مقر له
261

والمقر به محذوف، وهو أن الله تعالى أعطاه التوراة، أو أن الله تعالى كلمه فأمره ونهاه، وقد كان هؤلاء مؤمنين - من قبل - بموسى عليه السلام، إلا أنهم نفوا هذا الإيمان المعين والإقرار الخاص. وقيل: أرادوا نفي الكمال أي لا يكمل إيماننا لك، كما قيل في قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه " والقول إنهم لم يكونوا مؤمنين أصلا لم نره لأحد من أئمة التفسير.
* (حتى نرى الله جهرة) * * (حتى) * هنا حرف غاية، والجهرة في الأصل مصدر جهرت بالقراءة - إذا رفعت صوتك بها - واستعيرت للمعاينة بجامع الظهور التام. وقال الراغب: - الجهر - يقال لظهور الشيء بإفراط حاسة البصر أو حاسة السمع أما البصر فنحو رأيته جهارا وأما السمع فنحو * (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) * وانتصابها - على أنها مصدر - مؤكد مزيل لاحتمال أن تكون الرؤية مناما أو علما بالقلب، وقيل: على أنها حال على تقدير ذوي - جهرة - أو مجاهرين، فعلى الأول - الجهرة - من صفات الرؤية، وعلى الثاني من صفات الرائين، وثم قول ثالث، وهو أن تكون راجعة لمعنى القول أو القائلين - فيكون المعنى - وإذ قلتم كذا قولا جهرة أو جاهرين بذلك القول مكترثين ولا مبالين، وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبي عبيدة، وقرأ سهل بن شعيب وغيره جهرة بفتح الهاء، وهي إما مصدر - كالغلبة - ومعناها معنى المسكنة وإعرابها إعرابها أو جمع - جاهر - أو كفاسق وفسقة، وانتصابها على الحال.
* (فأخذتكم الص‍اعقة) * أي استولت عليكم وأحاطت بكم، وأصل - الأخذ - القبض باليد، والصاعقة هنا نار من السماء أحرقتهم أو جند سماوي سمعوا حسهم فماتوا، أو صيحة سماوية خروا لها صعقين ميتين يوما وليلة، واختلف في موسى هل أصابه ما أصابهم؟ والصحيح - لا - وأنه صعق ولم يمت لظاهر ثم أفاق في حقه، و * (ثم بعثناكم) * الخ في حقهم، وقرأ عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما (الصعقة).
* (وأنتم تنظرون) * جملة حالية ومتعلق النظر ما حل بهم من الصاعقة أو أثرها الباقي في أجسامهم بعد البعث، أو إحياء كل منهم - كما وقع في قصة العزيز، قالوا: أحيا عضوا بعد عضو: والمعنى: وأنتم تعلمون أنها تأخذكم، أو وأنتم يقابل بعضكم بعضا، قال في " البحر ": ولو ذهب ذاهب إلى أن المعنى: وأنتم تنظرون إجابة السؤال في حصول الرؤية لكم كان وجها من قولهم: نظرت الرجل - أي انتظرته - كما قال: فإنكما إن (تنظراني) ساعة * من الدهر تنفعني لدى أم جندب
لكن هذا الوجه غير منقول فلا أجسر على القول به، وإن كان اللفظ يحتمله.
* (ثم بعثنكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون) *
* (ثم بعثناكم من بعد موتكم) * بسبب الصاعقة، وكان ذلك بدعاء موسى عليه السلام ومناشدته ربه بعد أن أفاق، ففي بعض الآثار أنهم لما ماتوا لم يزل موسى يناشد ربه في إحيائهم ويقول: يا رب إن بني إسرائيل يقولون قتلت خيارنا حتى أحياهم الله تعالى جميعا رجلا بعد رجل ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحييون، والموت هنا ظاهر في مفارقة الروح الجسد، وقيد البعث به لأنه قد يكون عن نوم كما هو في شأن أصحاب الكهف، وقد يكون بمعنى إرسال الشخص - وهو في القرآن كثير - ومن الناس من قال: كان هذا الموت غشيانا وهمودا لا موتا حقيقة كما في قوله تعالى: * (ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت) * (إبراهيم: 17) ومنهم من حمل الموت على الجهل مجازا كما في قوله تعالى: * (أو من كان ميتا فأحييناه) * (الأنعام: 122). وقد شاع ذلك نثرا ونظما، ومنه قوله:
262

أخو (العلم حي) خالد بعد موته * وأوصاله تحت التراب رميم
وذو (الجهل ميت) وهو ماش على الثرى * يظن من الأحياء وهو عديم
ومعنى البعث على هذا التعليم أي ثم علمناكم بعد جهلكم.
* (لعلكم تشكرون) * أي نعمة الله تعالى عليكم بالإحياء بعد الموت أو نعمته سبحانه بعدما كفرتموها إذ رأيتم بأس الله تعالى في رميكم بالصاعقة وإذاقتكم الموت وتكليف من أعيد بعد الموت مما ذهب إليه جماعة لئلا يخلو بالغ عاقل من تعبد في هذه الدار بعد بعثة المرسلين، ومن جعل البعث بعد الموت مجازا عن التعليم بعد الجهل جعل متعلق الشكر ذلك، وفي بعض الآثار أنه لما أحياهم الله تعالى سألوا أن يبعثهم أنبياء ففعل، فمتعلق الشكر حينئذ على ما قيل: هذا البعث وهو بعيد، وأبعد منه جعل متعلقه إنزال التوراة التي فيها ذكر توبته عليهم وتفصيل شرائعهم بعد أن لم يكن لهم شرائع.
وقد استدل المعتزلة وطوائف من المبتدعة بهذه الآية على استحالة رؤية الباري سبحانه وتعالى لأنها لو كانت ممكنة لما أخذتهم الصاعقة بطلبها، والجواب أن أخذ الصاعقة لهم ليس لمجرد الطلب ولكن لما انضم إليه من التعنت وفرط العناد كما يدل عليه مساق الكلام حيث علقوا الإيمان بها، ويجوز أيضا أن يكون ذلك الأخذ لكفرهم بإعطاء الله تعالى التوراة لموسى عليه السلام وكلامه إياه أو نبوته لا لطلبهم، وقد يقال: إنهم لما لم يكونوا متأهلين لرؤية الحق في هذه النشأة كان طلبهم لها ظلما فعوقبوا بما عوقبوا، وليس في ذلك دليل على امتناعها مطلقا في الدنيا والآخرة، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق هذه المسألة بوجه لا غبار عليه.
* (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيب‍ات ما رزقن‍اكم وما ظلمونا ول‍اكن كانوا أنفسهم يظلمون) *
* (وظللنا عليكم الغمام) * عطف على * (بعثناكم) * (البقرة: 56) وقيل: على * (قلتم) * (البقرة: 55) والأول أظهر للقرب والاشتراك في المسند إليه مع التناسب في المسندين في كون كل منهما نعمة بخلاف * (قلتم) * فإنه تمهيد لها، وإفادته تأخير التظليل والإنزال عن واقعة طلبهم الرؤية، وعلى التقديرين لا بد لترك كلمة * (إذ) * (البقرة: 55) ههنا من نكتة، ولعلها الاكتفاء بالدلالة العقلية على كون كل منهما نعمة مستقلة مع التحرز عن تكرارها في * (ظللنا) * و * (أنزلنا) * والغمام اسم جنس كحامة وحمام وهو السحاب، وقيل: ما ابيض منه، وقال مجاهد: هو أبرد من السحاب وأرق، وسمي غماما لأنه يغم وجه السماء ويستره ومنه الغم والغمم، وهل كان غماما حقيقة أو شيئا يشبههه وسمي به؟ قولان، والمشهور الأول وهو مفعول * (ظللنا) * على إسقاط حرف الجر كما تقول: ظللت على فلان
بالرداء أو بلا إسقاط، والمعنى جعلنا الغمام علكيم ظلة، والظاهر أن الخطاب لجميعهم فقد روي أنهم لما أمروا بقتال الجبارين وامتنعوا وقالوا: * (اذهب أنت وربك فقاتلا) * (المائدة: 24) ابتلاهم الله تعالى بالتيه بين الشام ومصر أربعين سنة وشكوا حر الشمس فلطف الله تعالى بهم بإظلال الغمام - وإنزال المن والسلوى - وقيل: لما خرجوا من البحر وقعوا بأرض بيضاء عفراء ليس فيها ماء ولا ظل فشكوا الحر فوقوا به، وقيل: الذين ظللوا بالغمام بعض بني إسرائيل وكان الله تعالى قد أجرى العادة فيهم أن من عبد ثلاثين سنة لا يحدث فيها ذنبا أظلته الغمامة وكان فيهم جماعة يسمون أصحاب غمائم فامتن الله تعالى لكونهم فيهم من له هذه الكرامة الظاهرة والنعمة الباهرة.
* (وأنزلنا عليكم المن والسلوى) * المن اسم جنس لا واحد له من لفظه والمشهور أنه الترنجبين وهو شيء يشبه الصمغ حلو مع شيء من الحموضة كان ينزل عليهم كالطل من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس في كل يوم إلا يوم السبت وكان كل شخص مأمورا بأن يأخذ قدر صاع كل يوم أو ما يكفيه يوما وليلة ولا يدخر إلا يوم الجمعة فإن ادخار حصة السبت كان مباحا فيه. وعن وهب أنه الخبز الرقاق، وقيل: المراد به جميع ما من الله تعالى
263

به عليهم في التيه وجاءهم عفوا بلا تعب، وإليه ذهب الزجاج ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: " الكمأة من المن الذي من الله تعالى به على بني إسرائيل " والسلوى اسم جنس أيضا واحدها سلواة كما قاله الخليل. وليست الألف فيها للتأنيث وإلا لما أنثت بالهاء في قوله. كما انتفض السلوات من بلل القطر
وقال: الكسائي: السلوى واحدة وجمعها سلاوي، وعند الأخفش الجمع والواحد بلفظ واحد، وقيل: جمع لا واحد له من لفظه وهو طائر يشبه السماني أو هو السماني بعينها وكانت تأتيهم من جهة السماء بكرة وعشيا أو متى أحبوا فيختارون منها السمين ويتركون منها الهزيل، وقيل: إن ريح الجنوب تسوقها إليهم فيختارون منها حاجتهم ويذهب الباقي، وفي رواية كانت تنزل عليهم مطبوخة ومشوية - وسبحان من يقول للشيء كن فيكون - وذكر السدوسي أن السلوى هو العسل بلغة كنانة ويؤيده؛ قول الهذلي: وقاسمتها بالله جهرا لأنتم * ألذ من (السلوى) إذا ما نشورها
وقول ابن عطية - إنه غلط - غلط، واشتقاقها من السلوة لأنها لطيبها تسلي عن غيرها وعطفها على بعض وجوه المن من عطف الخاص على العام اعتناء بشأنه.
* (كلوا من طيب‍ات ما رزقن‍اكم) * أمر إباحة على إرادة القول أي وقلنا أو قائلين، و - الطيبات - المستلذات وذكرها للمنة عليهم أو الحلالات فهو للنهي عن الإدخار، و * (من) * للتبعيض، وأبعد من جعلها للجنس أو للبدل، ومثله من زعم أن هذا على حذف مضاف أي من عوض طيبات قائلا إن الله سبحانه عوضهم عن جميع مآكلهم المستلذة من قبل - بالمن والسلوى - فكانا بدلا من الطيبات، و * (ما) * موصولة والعائد محذوف - أي رزقناكموه - أو مصدرية والمصدر بمعنى المفعول، واستنبط بعضهم من الآية أنه لا يكفي وضع المالك الطعام بين يدي الإنسان في إباحة الأكل بل لا يجوز التصرف فيه إلا بإذن المالك وهو أحد أقوال في المسألة.
* (وما ظلمونا) * عطف على محذوف أي فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر أو فظلموا بأن كفروا هذه النعم وما ظلمونا بذلك، ويجوز - كما في " البحر " - أن لا يقدر محذوف لأنه قد صدر منهم ارتكاب قبائح من اتخاذ العجل إلها، وسؤال رؤيته تعالى ظلما وغير ذلك فجاء قوله تعالى: * (وما ظلمونا) * بجملة منفية تدل على أن ما وقع منهم من تلك القبائح لم يصل إلينا منها نقص ولا ضرر، وفي هذا دليل على أنه ليس من شرط نفي الشيء عن الشيء إمكان وقوعه لأن ظلم الإنسان لله تعالى لا يمكن وقوعه ألبتة.
* (ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون) * بالكفران أو بما فعلوا إذ لا يتخطاهم ضرره، وتقديم المفعول للدلالة على القصر الذي يقتضيه النفي السابق، وفيه ضرب تهكم بهم، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على تماديهم في الظلم واستمرارهم عليه، وفي ذكر (أنفسهم) بجمع القلة تحقير لهم وتقليل، والنفس العاصية أقل من كل قليل.
* (وإذ قلنا ادخلوا ه‍اذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خط‍اي‍اكم وسنزيد المحسنين) *
* (وإذ قلنا ادخلوا ه‍اذه القرية) * منصوبة على الظرفية عند سيبويه، والمفعولية عند الأخفش، والظاهر أن الأمر بالدخول على لسان موسى عليه السلام كالأوامر السابقة واللاحقة - والقرية - بفتح القاف - والكسر لغة أهل اليمن - المدينة من قريت إذا جمعت سميت بذلك لأنها تجمع الناس على طريقة المساكنة، وقيل: إن قلوا قيل لها: قرية، وإن كثروا قيل لها مدينة، وأنهى بعضهم حد القلة إلى ثلاثة، والجمع القرى على غير قياس، وقياس أمثاله فعال كظبية وظباء وفي المراد بها هنا خلاف جم
264

والمشهور عن ابن عباس وابن مسعود وقتادة والسدي، والربيع، وغيرهم - وإليه ذهب الجمهور - أنها بيت المقدس، وقد كان هذا الأمر بعد التيه والتحير وهو أمر إباحة يدل عليه عطف * (فكلوا) * الخ وهو غير الأمر المذكور بقوله تعالى: * (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين) * (المائدة: 21) لأنه كان قبل ذلك وهو أمر تكليف كما يدل عليه عطف النهي، ومنهم من زعم اتحادهما، وجعل هذا الأمر أيضا للتكليف. وحمل تبديل الأمر على عدم امتثاله بناء على أنه لم يدخلوا القدس في حياة موسى عليه السلام، ومنهم من ادعى اختلافهما لكنه زعم أن ما هنا كان بعد التيه على لسان يوشع لا على لسان موسى عليهما السلام لأنه وأخاه هرون ماتا في التيه وفتح يوشع مع بني إسرائيل أرض الشام بعد موته عليه السلام بثلاثة أشهر، ومنهم من قال الأمر في التيه بالدخول بعد الخروج عنه ولا يخفى ما في كل، فالأظهر ما ذكرنا. وقد روي أن موسى عليه السلام سار بعد الخروج من التيه بمن بقي من بني إسرائيل إلى أريحاء - وهي بأرض القدس - وكان يوشع بن نون على مقدمته ففتحها وأقام بها ما شاء الله تعالى ثم قبض، وكأنهم أمروا بعد الفتح بالدخول على وجه الإقامة والسكنى كما يشير إليه قوله تعالى: * (فكلوا) * الخ، وقوله تعالى في الأعراف (161) * (اسكنوا هذه القرية) * ويؤكد كونه بعد الفتح الإشارة بلفظ القريب، والقول - بأنها نزلت
منزلة القريب ترويجا للأمر - بعيد، ولا ينافي هذا ما مر من أنه مات في التيه لأن المراد به المفازة لا التيه مصدر تاه يتيه تيها بالكسر والفتح وتيهانا إذا ذهب متحيرا فليفهم. * (فكلوا منها حيث شئتم رغدا) * أي واسعا هنيئا ونصبه على المصدرية أو الحالية من ضمير المخاطبين، وفي الكلام إشارة إلى حل جميع مواضعها لهم، أو الإذن بنقل حاصلها إلى أي موضع شاءوا مع دلالة (رغدا) على أنهم مرخصون بالأكل منها - واسعا - وليس عليهم القناعة لسد الجوعة، ويحتمل أن يكون وعدا لهم بكثرة المحصولات وعدم الغلاء، وأخر هذه المنصوب هنا مع تقديمه في آية آدم عليه السلام قبل لمناسبة الفاصلة في قوله تعالى: * (وادخلوا الباب سجدا) * والخلاف في نصب (الباب) في نصب * (هذه القرية) * والمراد بها على المشهور أحد أبواب بيت القدس، وتدعى الآن باب حطة قاله ابن عباس، وقيل: الباب الثامن من أبوابه، ويدعي الآن باب التوبة - وعليه مجاهد - وزعم بعضهم أنها باب القبة التي كانت لموسى وهرون عليهما السلام يتعبدان فيها، وجعلت قبلة لبني إسرائيل في التيه، وفي وصفها أمور غريبة في القصص لا يعلمها إلا الله تعالى. و (سجدا) حال من ضمير * (ادخلوا) * والمراد خضعا متواضعين لأن اللائق بحال المذنب التائب والمطيع الموافق الخشوع والمسكنة، ويجوز حمل السجود على المعنى الشرعي، والحال مقارنة أو مقدرة، ويؤيد الثاني ما روي عن وهب في معنى الآية - إذا دخلتموه فاسجدوا شكرا لله أي على ما أنعم عليكم حيث أخرجكم من التيه ونصركم على من كنتم منه تخافون وأعادكم إلى ما تحبون - وقول الزمخشري - أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكرا لله تعالى وتواضعا - لم نقف على ما يدل عليه من كتاب وسنة، وفسر ابن عباس السجود هنا بالركوع، وبعضهم بالتطامن والانحناء قالوا: وأمروا بذلك لأن الباب كان صغيرا ضيقا يحتاج الداخل فيه إلى انحناء، وفي الصحيح عن أبي هريرة أنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل لبني إسرائيل: * (ادخلوا الباب سجدا) * فدخلوا يزحفون على أستاهمم ".
* (وقولوا حطة) * أي مسالتنا، أو شأنك يا ربنا أن تحط عنا ذنوبنا، وهي فعلة من - الحط - كالجلسة، وذكر أبان أنها بمعنى التوبة وأنشد: فاز (بالحطة) التي جعل الل‍ * - ه بها ذنب عبده مغفورا
265

والحق أن تفسيرها بذلك تفسير باللازم، ومن البعيد قول أبي مسلم: إن المعنى أمرنا - حطة - أي أن نحط في هذه القرية ونقيم بها لعدم ظهور تعلق الغفران به وترتب التبديل عليه إلا أن يقال كانوا مأمورين بهذا القول عند الحط في القرية لمجرد التعبد، وحين لم يعرفوا وجه الحكمة بدلوه، وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب بمعنى حط عنا ذنوبنا (حطة) أو نسألك ذلك، ويجوز أن يكون النصب على المفعولية - لقولوا - أي قولوا هذه الكلمة بعينها - وهو المروي عن ابن عباس - ومفعول القول عند أهل اللغة يكون مفردا إذا أريد به لفظه ولا عبرة بما في " البحر " من المنع إلا أنه يبعد هذا إن هذه اللفظة عربية وهم ما كانوا يتكلمون بها، ولأن الظاهر أنهم أمروا أن يقولوا قولا دالا على التوبة والندم حتى لو قالوا اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك لكان المقصود حاصلا ولا تتوقف التوبة على ذكر لفظة بعينها، ولهذا قيل: الأوجه في كونها مفعولا - لقولوا - أن يراد قولوا أمرا حاطا لذنوبكم من الاستغفار، وحينئذ يزول عن هذا الوجه الغبار، ثم هذه اللفظة على جميع التقادير عربية معلومة الاشتقاق، والمعنى وهو الظاهر المسموع، وقال الأصم: هي من ألفاظ أهل الكتاب لا نعرف معناها في العربية. وذكر عكرمة إن معناها لا إله إلا الله وهو من الغرابة بمكان.
* (نغفر لكم خط‍اي‍اكم) * بدخولكم الباب سجدا وقولكم حطة. والخطايا أصلها خطايىء بياء بعد ألف ثم همزة فأبدلت الياء - عند سيبويه - الزائدة همزة لوقوعها بعد الألف واجتمعت همزتان وأبدلت الثانية ياء ثم قلبت ألفا، وكانت الهمزة بين ألفين فأبدلت ياء، وعند الخليل قدمت الهمزة على الياء ثم فعل بها ما ذكر، وقرأ نافع * (يغفر) * - بالياء - وابن عامر - بالتاء - على البناء للمجهول، والباقون - بالنون - والبناء للمعلوم - وهو الجاري على نظام ما قبله وما بعده - ولم يقرأ أحد من السبعة إلا بلفظ * (خطاياكم) * وأمالها الكسائي، وقرأ الجحدري وقتادة * (تغفر) * بضم التاء، وأفرد - الخطيئة - وقرأ الجمهور بإظهار - الراء - من * (يغفر) * عند - اللام - وأدغمها قوم، قالوا: وهو ضعيف.
* (وسنزيد المحسنين) * معطوف على جملة * (قولوا حطة) * وذكر أنه عطف على الجواب، ولم ينجزم لأن - السين - تمنع الجزاء عن قبول الجزم، وفي إبرازه في تلك الصورة دون تردد دليل على أن المحسن يفعل ذلك ألبتة، وفي الكلام صفة الجمع مع التفريق، فإن * (قولوا حطة) * جمع، و * (نغفر لكم) * و * (سنزيد) * تفريق، والمفعول محذوف، أي ثوابا.
* (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السمآء بما كانوا يفسقون) *
* (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم) * أي بدل الذين ظلموا بالقول الذي قيل لهم قولا غيره * (فبدل) * يتعدى لمفعولين أحدهما: بنفسه والآخر: بالياء، ويدخل على المتروك - فالذم متوجه - وجوز أبو البقاء أن يكون - بدل - محمولا على المعنى، أي: فقال الذين ظلموا قولا الخ، والقول بأن (غير) منصوب بنزع الخافض، كأنه قيل: فغيروا قولا بغيره غير مرضي من القول، وصرح سبحانه - بالمغايرة - مع استحالة تحقق - التبديل - بدونها تحقيقا لمخالفتهم وتنصيصا على - المغايرة - من كمل وجه؛ وظاهر الآية انقسام من هناك إلى - ظالمين - وغير - ظالمين - وأن - الظالمين - هم - الذين بدلوا - وإن كان - المبدل - الكل كان وضع ذلك من وضع الظاهر موضع الضمير - للإشعار بالعلة - واختلف في - القول الذي بدلوه - ففي الصحيحن أنهم قالوا: حبة في شعيرة، وروى الحاكم * (حنطة) * بدل * (حطة) * وفي " المعالم " إنهم قالوا بلسانهم - حطة سمقاثا - أي حنطة حمراء، قالوا ذلك استهزاء منهم بما قيل لهم، والروايات في ذلك كثيرة، وإذا صحت يحمل اختلاف الألفاظ على اختلاف القائلين، والقول بأنه لم يكن منهم - تبديل - ومعنى - فبدلوا لم يفعلوا ما أمروا به، لا أنهم أتوا ببدل له - غير مسلم - وإن قاله أبو مسلم - وظاهر الآية، والأحاديث تكذبه.
266

* (فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون) * وضع المظهر موضع الضمير مبالغة في تقبيح أمرهم، وإشعارا بكون ظلمهم وإضرارهم أنفسهم
بترك ما يوجب نجاتها، أو وضعهم غير المأمور به موضعا سببا لإنزال - الرجز - وهو العذاب - وتكسر راؤه وتضم - والضم لغة بني الصعدات - وبه قرأ ابن محيصن - والمراد به هنا - كما روى عن ابن عباس - ظلمة وموت، يروى أنه مات منهم في ساعة أربعة وعشرون ألفا، وقال وهب: طاعون غدوا به أربعين ليلة ثم ماتوا بعد ذلك، وقال ابن جبير: ثلج هلك به منهم سبعون ألفا - فإن فسر بالثلج - كان كونه * (من السماء) * ظاهرا - وإن بغيره - فهو إشارة إلى الجهة التي يكون منها القضاء أو مبالغة في علوه بالقهر والاستيلاء، وذكر بعض المحققين أن الجار والمجرور ظرف مستقر وقع صفة لرجزا و * (بما كانوا يفسقون) * متعلق به لنيابته عن العامل علة له، وكلمة (ما) مصدرية، والمعنى: أنزلنا على الذين ظلموا لظلمهم عذابا مقدرا بسبب كونهم مستمرين على - الفسق - في الزمان الماضي، وهذا أولى من جعل الجار والمجرور ظرفا لغوا متعلقا بأنزلنا لظهوره على سائر الأقوال، ولئلا يحتاج في تعليل - الانزال بالفسق - بعد التعليل المستفاد من التعليق بالظلم إلى القول بأن الفسق - عين - الظلم - وكرر للتأكيد، أو أن - الظلم أعم - والفسق - لا بد أن يكون من الكبائر، فبعد وصفهم - بالظلم - وصفوا - بالفسق - للإيذان بكونه من الكبائر، فإن الأول: بضاعة العاجز. والثاني: لا يدفع ركاكة التعليل، وما قيل: إنه تعليل - للظلم - فيكون إنزال العذاب مسببا عن - الظلم - المسبب عن - الفسق - ليس بشيء،، إذ - ظلمهم - المذكور سابقا، الذي هو سبب الإنزال لا يحتاج إلى العلة، وقد احتج بعض الناس بقوله تعالى: * (فبدل) * الخ؛ وترتب العذاب على التبديل، على أن ما ورد به التوقيف من الأقوال لا يجوز تغييره ولا تبديله بلفظ آخر، وقال قول: يجوز ذلك إذا كانت الكلمة الثانية تسد الأولى، وعلى هذا جرى الخلاف - كما في البحر - في قراءة القرآن بالمعنى ورواية الحديث به، وجرى في تكبيرة الإحرام، وفي تجويز النكاح بلفظ الهبة والبيع والتمليك، والبحث مفصل في محله هذا. وقد ذكر مولانا الإمام الرازي رحمه الله تعالى أن هذه الآية ذكرت في الأعراف مع مخالفة من وجوه لنكات. الأول: قال هنا: * (وإذ قلنا) * (البقرة: 58) لما قدم ذكر النعم؛ فلا بد من ذكر المنعم، وهناك * (وإذ قيل) * (الأعراف: 161) إذ لا إبهام بعد تقديم التصريح به. الثاني: قال هنا: * (ادخلوا) * وهناك * (اسكنوا) * لأن الدخول مقدم، ولذا قدم وضعا المقدم طبعا. الثالث: قال هنا: * (خطاياكم) * - بجمع الكثرة - لما أضاف ذلك القول إلى نفسه، واللائق بجوده غفران الذنوب الكثيرة، وهناك * (خطيئاتكم) * - بجمع القلة - إذ لم يصرح بالفاعل. الرابع: قال هنا: * (رغدا) * دون هناك لإسناد الفعل إلى نفسه هنا، فناسب ذكر الإنعام الأعظم وعدم الإسناد هناك.
الخامس: قال هنا: * (ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة) * وهناك بالعكس، لأن - الواو - لمطلق الجمع، وأيضا المخاطبون يحتمل أن يكون بعضهم مذنبين، والبعض الآخر ما كانوا كذلك، فالمذنب لا بد وأن يكون اشتغاله بحط الذنب مقدما على اشتغاله بالعبادة، فلا جرم كان تكليف هؤلاء أن يقولوا: (حطة) ثم - يدخلوا - وأما الذي لا يكون مذنبا، فالأولى به أن يشتغل أولا: بالعبادة ثم يذكر التوبة. ثانيا: للهضم وإزالة العجب فهؤلاء يجب أن - يدخلوا ثم يقولوا - فلما احتمل كون أولئك المخاطبين منقسمين إلى ذين القسمين، لا جرم
267

ذكر حكم كل واحد منهما في سورة أخرى. السادس: قال هنا: * (وسنزيد) * - بالواو - وهناك بدونه، إذ جعل هنا - المغفرة - مع الزيادة جزاءا واحدا لمجموع الفعلين، وأما هناك فالمغفرة جزاء قول (حطة) والزيادة جزاء الدخول فترك (الواو) يفيد توزع كل من الجزاءين على كل من الشرطين. السابع: قال هناك: * (الذين ظلموا منهم) * (الأعراف: 162) وهنا لم يذكر (منهم) لأن أول القصة هناك مبني على التخصيص ب * (من) * حيث قال: * (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق) * (الأعراف: 159) فخص في آخر الكلام ليطابق أوله؛ ولما لم يذكر في الآيات التي قبل * (فبدل) * هنا تمييزا وتخصيصا لم يذكر في آخر القصة ذلك. الثامن: قال هنا: * (فأنزلنا) * وهناك * (فأرسلنا) * (الأعراف: 162) لأن الإنزال يفيد حدوثه في أول الأمر، والإرسال يفيد تسليطه عليهم واستئصاله لهم، وذلك يكون بالآخرة. التاسع: قال هنا: * (فكلوا) * (البقرة: 58) - بالفاء - وهناك - بالواو - لما مر في * (وكلا منها رغدا) * (البقرة: 35) وهو أن كل فعل عطف عليه شيء - وكان الفعل بمنزلة الشرط، وذلك الشيء بمنزلة الجزاء - عطف الثاني على الأول - بالفاء - دون - الواو - فلما تعلق الأكل بالدخول قيل في سورة البقرة: * (فكلوا) * ولما لم يتعلق - الأكل بالسكون - في الأعراف (161) قيل: * (وكلوا) *. العاشر: قال هنا: * (يفسقون) * وهناك * (يظلمون) * (الأعراف: 162) لأنه لما بين هنا كون الفسق ظلما اكتفى بلفظ - الظلم - هناك انتهى. ولا يخفى ما في هذه الأجوبة من النظر، أما في الأول والثاني والثامن والعاشر فلأنها إنما تصح إذا كانت سورة البقرة متقدمة على سورة الأعراف نزولا - كما أنها متقدمة عليها ترتيبا - وليس كذلك، فإن سورة البقرة كلها مدنية، وسورة الأعراف كلها مكية إلا ثمان آيات من قوله تعالى: * (واسألهم عن القرية) * إلى قوله تعالى: * (وإذ نتقنا الجبل) * (الأعراف: 163 - 171) وقوله تعالى: * (اسكنوا هذه القرية) * (الأعراف: 161) داخل في الآيات المكية، فحينئذ لا تصح الأجوبة المذكورة. وأما ما ذكر في التاسع فيرد عليه منع عدم تعلق - الأكل بالسكون - لأنهم إذا سكنوا القرية، تتسبب سكناهم - للأكل - منها كما ذكر الزمخشري، فقد جمعوا في الوجود بين سكناها والأكل منها، فحينئذ لا فرق بين * (كلوا) * و * (فكلوا) * فلا يتم الجواب، وأما الثالث فلأنه تعالى - وإن قال في الأعراف (161) * (وإذ قيل) * - لكنه قال في السورتين: * (نغفر لكم) * (البقرة: 58، الأعراف: 161) وأضاف - الغفران - إلى نفسه، فبحكم تلك اللياقة ينبغي أن يذكر في السورتين - جمع الكثرة - بل لا شك أن رعاية * (نغفر لكم) * أولى من رعاية * (وإذ قيل لهم) * لتعلق - الغفران بالخطايا - كما لا يخفى على العارف بالمزايا. وأما الرابع فلأنه تعالى - وإن لم يسند الفعل إلى نفسه تعالى - لكنه مسند إليه في نفس الأمر، فينبغي أن يذكر الإنعام الأعظم في السورتين. وأما الخامس فلأن القصة واحدة، وكون بعضهم مذنبين وبعضهم غير مذنبين محقق - فعلى مقتضى ما ذكر - ينبغي أن يذكر * (وقولوا حطة) * مقدما في السورتين. وأما السادس فلأن القصة واحدة، وأن - الواو - لمطلق الجمع، وقوله تعالى: * (نغفر) * في مقابلة * (قولوا) * سواء قدم أو أخر، وقوله تعالى: * (وسنزيد) * (البقرة: 58) في مقابلة * (وادخلوا) * (الأعراف: 161) سواء ذكر - الواو
- أو ترك، وأما السابع فلأنه تعالى قد ذكر هنا قبل * (فبدل) * (البقرة: 58) ما يدل على التخصيص والتمييز، حيث قال سبحانه: * (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم) * (الأعراف: 160) الخ بكافات الخطاب وصيغته - فاللائق حينئذ - أن يذكر لفظ (منهم) أيضا، والجواب الصحيح عن جميع هذه السؤالات وما حكاها - ما ذكره الزمخشري - من أنه لا بأس باختلاف العبارتين إذا لم يكن هناك تناقض، ولا تناقض بين قوله تعالى: * (اسكنوا هذه القرية) * (الأعراف: 161) وقوله: * (وكلوا) * (الأعراف: 161) لأنهم إذا سكنوا القرية فتسبب سكناهم للأكل منها، فقد جمعوا في الوجود بين سكناها والأكل منها، وسواء قدموا (الحطة) على - دخول الباب - أو أخروها، فهم جامعون في الإيجاد بينهما، وترك ذكر - الرغد - لا يناقض
268

إثباته، وقوله تعالى: * (نغفر لكم خطاياكم سنزيد المحسنين) * (الأعراف: 161) موعد بشيئين - بالغفران والزيادة، وطرح - الواو - لا يخل لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل: ماذا بعد الغفران؟ فقيل له: * (سنزيد المحسنين) * وكذلك زيادة * (منهم) * زيادة بيان و * (فأرسلنا) * (الأعراف: 162) و * (أنزلنا) * (البقرة: 57، الأعراف: 160) و * (يظلمون) * (البقرة: 57، الأعراف: 162) و * (يفسقون) * (البقرة: 59) من دار واحد، انتهى.
وبالجملة التفنن في التعبير لم يزل دأب البلغاء، وفيه من الدلالة على رفعة شأن المتكلم ما لا يخفى، والقرآن الكريم مملوء من ذلك، ومن رام بيان سر لكل ما وقع فيه منه فقد رام ما لا سبيل إليه إلا بالكشف الصحيح والعلم اللدني، والله يؤتي فضله من يشاء، وسبحان من لا يحيط بأسرار كتابه إلا هو.
ومن باب الإشارة في الآيات: * (وإذ قلتم) * لموسى القلب * (لن نؤمن) * الإيمان الحقيقي حتى نصل إلى مقام المشاهدة والعيان - * (فأخذتكم) * صاعقة الموت - الذي هو الفناء في التجلي الذاتي - وأنتم تراقبون أو تشاهدون - * (ثم بعثناكم) * بالحياة الحقيقية والبقاء بعد الفناء لكي تشكروا نعمة التوحيد والوصول بالسلوك في الله عز وجل، - * (وظللنا عليكم) * غمام تجلي الصفات - لكونها حجب الذات المحرقة سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره. * (وأنزلنا عليكم) * من الأحوال والمقامات الذوقية الجامعة بين الحلاوة وإذهاب رذائل أخلاق النفس، كالتوكل والرضا وسلوى الحكم والمعارف والعلوم الحقيقية التي يحشرها عليكم ريح الرحمة، والنفحات الإلهية في تيه الصفات عند سلوككم فيها، فتسلون بذلك (السلوى) وتنسون من لذائذ الدنيا كل ما يشتهى * (كلوا) * أي تناولوا وتلقوا هذه الطيبات التي رزقتموها حسب استعدادكم، وأعطيتموها على ما وعد لكم * (وما ظلمونا) * أي ما نقصوا حقوقنا وصفاتنا باحتجابهم بصفات أنفسهم، ولكن كانوا ناقصين حقوق أنفسهم بحرمانها وخسرانها، وهذا هو الخسران المبين. * (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية) * أي المحل المقدس الذي هو مقام المشاهدة * (وادخلوا الباب) * الذي هو الرضا بالقضاء، فهو باب الله تعالى الأعظم * (سجدا) * منحنين خاضعين لما يرد عليكم من التجليات، واطلبوا أن يحط الله تعالى عنكم ذنوب صفاتكم وأخلاقكم وأفعالكم، فإن فعلتم ذلك * (نغفر لكم خطاياكم) * " فمن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا. ومن تقرب إلي ذراعا، تقربت إليه باعا. ومن أتاني يمشي أتيته هرولة " * (وسنزيد المحسنين) * أي المشاهدين " ما لا عين رأيت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر " وهل ذلك إلا الكشف التام عن الذات الأقدس. * (فبدل الذين ظلموا) * أنفسهم وأضاعوها ووضعوها في غير موضعها اللائق بها * (قولا غير الذي قيل لهم) * ابتغاءا للحظوظ الفانية والشهوات الدنية. * (فأنزلنا) * (البقرة: 54 - 59) على الظالمين خاصة، عذابا وظلمة وضيقا في سجن الطبيعة، وإسرا في وثاق التمني، وقيد الهوى، وحرمانا، وذلا بمحبة الماديات السفلية، والإعراض عن هاتيك التجليات العلية، وذلك من جهة قهر سماء الروح، ومنع اللطف والروح عنهم بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة القلب الذي لا يأمر إلا بالهدى - كما ورد في الأثر - " إستفت قلبك وإن أفتاك المفتون " إلى طاعة النفس الأمارة بالسوء. وهذا هو البلاء العظيم، والخطب الجسيم. من كان يرغب في السلامة فليكن * أبدا من الحدق المراض عياذه
لا تخدعنك بالفتور فإنه * نظر يضر بقلبك استلذاذه
إياك من طمع المنى فعزيزه * كذليله، وغنيه شحاذه
* (وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا فى الارض مفسدين) *
* (وإذ استسقى موسى لقومه) * تذكير لنعمة عظيمة كفروا بها - وكان ذلك في التيه لما عطشوا - ففي
269

بعض الآثار أنهم قالوا فيه: من لنا بحر الشمس - فظلل عليهم الغمام - وقالوا: من لنا بالطعام - فأنزل الله تعالى عليهم المن والسلوى - وقالوا: من لنا بالماء - فأمر موسى بضرب الحجر - وتغير الترتيب لقصد إبراز كل من الأمور المعدود في معرض أمر مستقل واجب التذكير والتذكر، ولو روعي الترتيب الوقوعي لفهم أن الكل أمر واحد - أمر بذكره - والاستسقاء - طلب - السقيا - عند عدم الماء أو قلته. قيل: ومفعول - استسقى - محذوف أي - ربه - أو - ماء - وقد تعدى هذا الفعل في الفصيح إلى - المستسقى - منه تارة - وإلى - المستسقي أخرى - كما في قوله تعالى: * (وإذ استسقاه قومه) * (الأعراف: 160) وقوله: وأبيض - يستسقي - الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وتعديته إليهما مثل أن تقول: - استسقى زيد ربه الماء - لم نجدها في شيء من كلام العرب - واللام - متعلقة بالفعل، وهي سببية أي لأجل قومه.
* (فقلنا اضرب بعصاك الحجر) * أي فأجبناه * (فقلنا) * الخ - والعصا - مؤنث والألف منقلبة عن - واو - بدليل عصوان وعصوته - أي ضربته بالعصا - ويجمع على أفعل شذوذا وعلى فعول قياسا، فيقال: أعصى وعصى، وتتبع حركة - العين - حركة - الصاد - و (الحجر) هو هذا الجسم المعروف، وجمعه أحجار وحجار، وقالوا: حجارة، واشتقوا منه فقالوا: استحجر الطين، والاشتقاق من الأعيان قليل جدا. والمراد بهذه (العصا) المسؤول عنها في قوله تعالى: * (وما
تلك بيمينك يا موسى) * (طه: 17) والمشهور أنها من آس الجنة - طولها عشرة أذرع طول موسى عليه السلام - لها شعبتان تتقدان في الظلمة، توارثها صاغر عن كابر حتى وصلت إلى شعيب ومنه إلى موسى عليهما السلام؛ وقيل: رفعها له ملك في طريق مدين، وفي المراد من (الحجر) خلاف، فقال الحسن: لم يكن حجرا معينا، بل أي حجر ضربه انفجر منه الماء، وهذا أبلغ في الإعجاز وأبين في القدرة، وقال وهب: كان يقرع لهم أقرب حجر فتنفجر، وعلى هذا - اللام - فيه للجنس، وقيل: للعهد، وهو حجر معين حمله معه من الطور مكعب له أربعة أوجه ينبع من كل وجه ثلاثة أعين، لكل سبط عين تسيل في جدول إلى السبط الذي أمرت أن تسقيهم، وكانوا ستمائة ألف ما عدا دوابهم، وسعة المعسكر إثنا عشر ميلا، وقيل: حجر كان عند آدم وصل مع العصا إلى شعيب فدفع إلى موسى، وقيل: هو الحجر الذي فر بثوبه، والقصة معروفة. وقيل: حجر أخذ من قعر البحر خفيف يشبه رأس الآدمي كان يضعه في مخلاته، فإذا احتاج للماء ضربه. والروايات في ذلك كثيرة، وظاهر أكثرها التعارض، ولا ينبني على تعيين هذا الحجر أمر ديني، وإلا سلم تفويض علمه إلى الله تعالى. * (فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا) * عطف على مقدر، أي فضرب فانفلق، ويدل على هذا المحذوف وجود الانفجار، ولو كان ينفجر دون ضرب لما كان للأمر فائدة، وبعضهم يسمي هذه - الفاء - الفصيحة ويقدر شرطا أي فإن ضربت فقد انفجرت وفي " المغني ": إن هذا التقدير يقتضي تقدم الانفجار على الضرب، إلا أن يقال: المراد فقد حكمنا بترتب الانفجار على ضربك، وقال بعض المتأخرين: لا حذف، بل - الفاء - للعطف وإن مقدرة بعد - الفاء - كما هو القياس، بعد الأمر عند قصد السببية، والتركيب من قبيل - زرني فأكرمك - أي (اضرب بعصاك الحجر) فإن انفجرت فليكن منك الضرب فالانفجار - ولا يخفى ما في كل
270

حتى قال مولانا مفتي الديار الرومية في الأول: إنه غير لائق بجلالة شأن النظم الكريم. - والثاني: أدهى وأمر - والانفجار انصداع شيء من شيء، ومنه الفجر والفجور، وجاء هنا * (انفجرت) * وفي الأعراف (160) * (فانبجست) * فقيل: هما سواء. وقيل: بينهما فرق وهو أن الانبجاس أول خروج الماء، والانفجار اتساعه وكثرته، أو الانبجاس خروجه من الصلب، والآخر خروجه من اللين، والظاهر استعمالهما بمعنى واحد - وعلى فرض المغايرة - لا تعارض لاختلاف الأحوال، و (من) لابتداء الغاية، والضمير عائد على - الحجر المضروب - وعوده إلى الضرب، و (من) سببية مما لا ينبغي الإقدام عليه، والتاء في إثنتا للتأنيث ويقال: ثنتا إلا أن التاء فيها على ما في " البحر " للإلحاق، وهذا نظير أنبت، ونبت ولامها محذوفة، وهي ياء لأنها من ثنيت، وقرأ مجاهد وجماعة - ورواه السعدي عن أبي عمرو - عشرة بكسر الشين وهي لغة بني تميم، وقرأ الفضل الأنصاري بفتحها قال ابن عطية: وهي لغة ضعيفة، ونص بعضها النحاة على الشذوذ، ويفهم من بعض المتأخرين إن هذه اللغات في المركب لا في عشرة وحدها، وعبارات القوم لا تساعده، و - العين - منبع الماء وجمع على أعين شذوذا وعيون قياسا، وقالوا في أشراف الناس: أعيان، وجاء ذلك في الباصرة قليلا كما في قوله: أعيانا لها ومآقيا
وهو منصوب على التمييز، وإفراده في مثل هذا الموضع لازم، وأجاز الفراء أن يكون جمعا، وكان هذا العدد دون غيره لكونهم كانوا اثني عشر سبطا وكان بينهم تضاغن وتنافس فأجرى الله تعالى لكل سبط عينا يردها لا يشركه فيها أحد من السبط الآخر دفعا لإثارة الشحناء، ويشير إلى حكمة الانقسام، قوله تعالى: * (قد علم كل أناس مشربهم) * وهي جملة مستأنفة مفهمة على أن كل سبط منهم قد صار له مشرب يعرفه فلا يتعدى لمشرب غيره، و (أناس) جمع لا واحد له من لفظه، وما ذكر من شذوذ إثبات همزته إنما هو مع الألف واللام، وأما بدونها فشائع صحيح، و (علم) هنا متعدية لواحد أجريت مجرى عرف - ووجد ذلك بكثرة - و - المشرب - إما اسم مكان أي محل الشرب، أو مصدر ميمي بمعنى الشرب، وحمله بعضهم على المشروب وهو الماء، وحمله على المكان أولى عند أبي حيان، وإضافة المشرب إليهم لأنه لما تخصص كل مشرب بمن تخصص به صار كأنه ملك لهم وأعاد الضمير في مشربهم على معنى * (كل) * ولا يجوز أن يعود على لفظها لأن - كلا - متى أضيف إلى نكرة وجب مراعاة المعنى كما في قوله تعالى: * (يوم ندعو كل أناس بإمامهم) * (الإسرار: 71) وقوله:
وكل أناس سوف تدخل بينهم * دويهية تصفر منها الأنامل
ونص على المشرب تنبيها على المنفعة العظيمة التي هي سبب الحياة وإن كان سرد الكلام يقتضي - قد علم كل أناس عينهم - وفي الكلام حذف أي منها لأن * (قد علم) * صفة - لاثنتا عشرة عينا - فلا بد من رابط، وإنما وصفها به لأنه معجزة أخرى حيث يحدث مع حدوث الماء جداول يتميز بها مشرب كل من مشرب آخر، ويحتمل أن تكون الجملة حالية لا صفة لقوله تعالى: * (اثنتا عشرة) * لئلا يحتاج إلى تقدير العائد وليفيد مقارنة العلم بالمشارب للانفجار، والمشرب حينئذ العين
* (كلوا واشربوا من رزق الله) * على إرادة القول، وبدأ بالأكل لأن قوام الجسد به، والاحتياج إلى الشرب حاصل عنه، و (من) لابتداء الغاية، ويحتمل أن تكون للتبعيض، وفي ذكر الرزق مضافا تعظيم للمنة، وإشارة إلى حصول ذلك لهم من غير تعب ولا تكلف، وفي هذا التفات إذ تقدم * (فقلنا اضرب) * ولو جرى على نظم واحد لقال من رزقنا، ولو جعل الإضمار قبل * (كلوا) * مسندا إلى موسى - أي وقال موسى: كلوا واشربوا - لا يكون فيه ذلك، و - الرزق - هنا بمعنى المرزوق وهو الطعام المتقدم من المن والسلوى، والمشروب من ماء
271

العيون، وقيل: المراد به الماء وحده لأنه يشرب ويؤكل مما ينبت منه ويضعفه أنه لم يكن أكلهم في التيه من زروع ذلك الماء كما يشير إليه قوله تعالى: * (يخرج لنا مما تنبت الأرض) * (البقرة: 61) و * (لن نصبر على طعام واحد) * (البقرة: 61) ويلزم عليه أيضا الجمع بين الحقيقة والمجاز إذ يؤول إلى - كلوا واشربوا - من الماء، ويكون نسبة الشرب إليه بإرادة ذاته، والأكل بإرادة ما هو سبب عنه، أو القول بحذف متعلق أحد الفعلين أي كلوا من رزق الله واشربوا من رزق الله، وقول بعض المتأخرين إن رزق الله - عبارة عن الماء، وفي الآية إشارة إلى إعجاز آخر وهو أن هذا الماء كما يروي العطشان يشبع الجوعان فهو طعام وشراب - بعيد غاية البعد، وأقرب منه أن لا يكون * (كلوا واشربوا) * بتقدير القول من تتمة ما يحكى عنهم بل يجعل أمرا مرتبا على ذكرهم ما وقع وقت الاستسقاء على وجه الشكر
والتذكير بقدرة الله تعالى فهو أمر المخاطبين بهذه الحكاية بأكلهم وشربهم مما يرزقهم الله تعالى، وعدم الإفساد بإضلال الخلق، وجمع عرض الدنيا ويكون فصله عما سبق لأنه بيان للشكر المأمور أو نتيجة للمذكور
واحتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الرزق هو الحلال لأن أقل درجات هذا الأمر أن يكون للإباحة فاقتضى أن يكون الرزق مباحا فلو وجد رزق حرام لكان الرزق مباحا وحراما، وأنه غير جائز، والجواب أن الرزق هنا ليس بعام إذا أريد المن والسلوى والماء المنفجر من الحجر، ولا يلزم من حلية معين ما من أنواع الرزق حلية جميع الرزق وعلى تسليم العموم يلتزم التبعيض
* (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) * لما أمروا بالأكل والشرب من رزق الله تعالى ولم يقيد ذلك عليهم بزمان ولا مكان ولا مقدار كان ذلك إنعاما وإحسانا جزيلا إليهم، واستدعى ذلك التبسط في المأكل والمشرب نهاهم عما يمكن أن ينشأ عن ذلك وهو الفساد حتى لا يقابلوا تلك النعم بالكفران، و - العثي - عند بعض المحققين مجاوزة الحد مطلقا فسادا كان أولا فهو كالاعتداء، ثم غلب في الفساد، و (مفسدين) على هذا حال غير مؤكدة وهو الأصل فيها كما يدل عليه تعريفها، وذكر أبو البقاء أن - العثي - الفساد والحال مؤكدة، وفيه أن مجىء الحال المؤكدة بعد الفعلية خلاف مذهب الجمهور. وذهب الزمخشري أن معناه أشد الفساد والمعنى لا تتمادوا في الفساد حال إفسادكم، والمقصد النهي عما كانوا عليه من التمادي في الفساد وهو من أسلوب * (لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) * (آل عمران: 130) وإلا فالفساد أيضا منكر منهي عنه، وفيه أنه تكلف مستغنى عنه بما ذكرنا، والمراد من (الأرض) عند الجمهور أرض التيه. ويجوز أن يريدها وغيرها مما قدروا أن يصلوا إليها فينالها فسادهم، وجوز أن يريد الأرضين كلها، و (أل) لاستغراق الجنس، ويكون فسادهم فيها من جهة أن كثرة العصيان والإصرار على المخالفات والبطر يؤذن بانقطاع الغيث وقحط البلاد ونزع البركات، وذلك انتقام يعم الأرضين، هذا ثم إن ظاهر القرآن لا يدل على تكرر هذا الاستسقاء ولا الضرب ولا الانفجار فيحتمل أن يكون ذلك متكررا، ويحتمل أن يكون ذلك مرة واحدة والواحدة هي المتحققة. والحكايات في هذا الأمر كثيرة وأكثرها لا صحة له، وقد أنكر بعض الطبيعيين هذه الواقعة وقال: كيف يعقل خروج الماء العظيم الكثير من الحجر الصغير، وهذا المنكر مع أنه لم يتصور قدرة الله تعالى في تغيير الطبائع والاستحالات فقد ترك النظر على طريقتهم إذ قد تقرر عندهم أن حجر المغناطيس يجذب الحديد والحجر الحلاق يحلق الشعر والحجر الباغض للخل ينفر منه، وذلك كله من أسرار الطبيعة وإذا لم يكن مثل ذلك منكرا عندهم فليس يمتنع أن يخلق في حجر آخر قوة جذب الماء من تحت الأرض، ويكون خلق تلك القوة عند ضرب العصا أو عند أمر موسى عليه السلام على ما ورد أنه كان بعد ذلك يأمره، فينفجر ولا ينافيه انفصاله عن الأرض كما وهم، ويحتمل أيضا أن يقلب الله تعالى - بواسطة قوة أودعها في الحجر - الهواء
272

ماء بإزالة اليبوسة عن أجزائه وخلق الرطوبة فيها. والله تعالى على كل شيء قدير، وحظ العارف من الآية أن يعرف الروح الإنسانية وصفاتها في عالم القلب بمثابة موسى وقومه وهو مستسق ربه لإروائها بماء الحكمة والمعرفة وهو مأمور بضرب عصا - لا إله إلا الله - ولها شعبتان من النفي والإثبات تتقدان نورا عند استيلاء ظلمات النفس، وقد حملت من حضرة العزة على حجر القلب الذي هو كالحجارة أو أشد قسوة * (فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا) * من مياه الحكمة لأن كلمة - لا إله إلا الله - اثنتا عشرة حرفا فانفجر من كل حرف عين قد علم كل سبط من أسباط صفات الإنسان. وهي اثنا عشر سبطا من الحواس الظاهرة والباطنة، واثنان من القلب والنفس، ولكل واحد منهم مشرب من عين جرت من حرف من حروف الكلمة، و (قد علم) مشربه ومشرب كل واحد حيث ساقه رائده وقاده قائده فمن مشرب عذب فرات. ومشرب ملح أجاج، والنفوس ترد مناهل التقى والطاعات. والأرواح تشرب من زلال الكشوف والمشاهدات، والأسرار تروى من عيون الحقائق بكأس تجلي الصفات عن ساقي * (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) * (الإنسان: 21) للاضمحلال في حقيقة الذات * (كلوا واشربوا من رزق الله) * بأمره ورضاه * (ولا تعثوا) * في هذا القالب * (مفسدين) * بترك الأمر واختيار الوزر وبيع الدين بالدنيا وإيثار الأولى على العقبى وتقديمهما على المولى.
* (وإذ قلتم ي‍اموسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثآئها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذى هو أدنى بالذى هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وبآءوا بغضب من الله ذالك بأنهم كانوا يكفرون بآي‍ات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذالك بما عصوا وكانوا يعتدون) *
* (وإذ قلتم ي‍اموسى لن نصبر على طعام واحد) * الظاهر أنه داخل في تعداد النعم وتفصيلها وهو إجابة سؤالهم بقوله تعالى: * (اهبطوا) * الخ مع استحقاقهم كمال السخط لأنهم كفروا نعمة إنزال الطعام اللذيذ عليهم وهم في التيه من غير كد وتعب حيث سألوا ب * (لن نصبر) * فإنه يدل على كراهيتهم إياه إذ الصبر حبس النفس في المضيق، ولذا أنكر عليه بقوله تعالى: * (أتستبدلون) * الخ، فالآية في الأسلوب مثل قوله تعالى: * (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك) * (البقرة: 55) الخ، حيث عاندوا بعد سماع الكلام وأهلكوا، ثم أفاض عليهم نعمة الحياة، قال مولانا الساليكوتي: ومن هذا ظهر ضعف ما قال الإمام الرازي - لو كان سؤالهم معصية لما أجابهم، لأن الإجابة إلى المعصية معصية - وهي غير جائزة على الأنبياء - وإن قوله تعالى: * (كلوا واشربوا) * (البقرة: 60) أمر إباحة لا إيجاب، فلا يكون سؤالهم غير ذلك الطعام معصية، ووصف الطعام بواحد وإن كانا طعامين (المن والسلوى) اللذين رزقوهما في التيه، إما باعتبار كونه على نهج واحد كما يقال: طعام مائدة الأمير واحد - ولو كان ألوانا شتى - بمعنى أنه لا يتبدل ولا يختلف بحسب الأوقات، أو باعتبار كونه ضربا واحدا لأن المن والسلوى من طعام أهل التلذذ والسرف، وكأن القوم كانوا فلاحة فما أرادوا إلا ما ألفوه، وقيل: إنهم كانوا يطبخونهما معا فيصير طعاما واحدا، والقول بأن هذا القول كان قبل نزول السلوى نازل من القول، وأهون منه القول بأنهم أرادوا بالطعام الواحد السلوى لأن المن كان شرابا، أو شيئا يتحلون به، فلم يعدوه طعاما آخر، وإلا نزل القول بأنه عبر بالواحد عن الاثنين كما عبر بالاثنين عن الواحد في نحو * (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) * (الرحمن: 22) وإنما يخرج من أحدهما - وهو الملح دون العذب -
* (فادع لنا ربك) * أي سله لأجلنا - بدعائك إياه - بأن يخرج لنا كذا وكذا - والفاء - لسببية عدم الصبر للدعاء، ولغة بني عامر * (فادع) * - بكسر العين - جعلوا - دعا من ذوات الياء - كرمى، وإنما سألوا من موسى أن يدعو لهم، لأن دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أقرب للإجابة من دعاء غيرهم، على أن دعاء الغير للغير مطلقا أقرب إليها - فما ظنك بدعاء الأنبياء لأممهم؟ - ولهذا قال صلى الله عليه وسلم
273

لعمر رضي الله تعالى عنه: " أشركنا في دعائك " وفي الأثر: " ادعوني بألسنة لم تعصوني فيها " وحملت على ألسنة الغير، والتعرض لعنوان الربوبية لتمهيد مبادىء الإجابة، وقالوا: (ربك) ولم يقولوا: ربنا، لأن في ذلك من الاختصاص به ما ليس فيهم من مناجاته وتكليمه وإيتائه التوراة، فكأنهم قالوا: ادع لنا المحسن إليك بما لم يحسن به إلينا، فكما أحسن إليك من قبل نرجو أن يحسن إليك في إجابة دعائك.
* (يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها) * المراد - بالإخراج - المعنى المجازي اللازم للمعنى الحقيقي، وهو الإظهار بطريق الإيجاد - لا بطريق إزالة الخفاء - والحمل على المعنى الحقيق يقتضي مخرجا عنه، وما يصلح له ههنا هو (الأرض) وبتقديره يصير الكلام سخيفا، و * (يخرج) * مجزوم لأنه جواب الأمر، وجزمه - بلام الطلب - محذوفة لا يجوز عند البصريين، و (من) الأولى تبعيضية أي مأكولا بعض ما (تنبت) وادعى الأخفش زيادتها - وليس بشيء - و (ما) موصولة والعائد محذوف، أي تنبته، وجعلها مصدرية لم يجوزه أبو البقاء - لأن المقدر جوهر - ونسبة - الإنبات - إلى (الأرض) مجاز من باب النسبة إلى القابل. وقد أودع الله تعالى في الطبقة الطينية من الأرض - أو فيها - قوة قابلة لذلك، وكون القوة القابلة مودعة في الحب دون التراب ربما يفضي إلى القول بقدم الحب بالنوع، و (من) الثانية بيانية، فالظرف مستقر واقع موقع الحال، أي كائنا من (بقلها). وقال أبو حيان: تبعيضية واقعة موقع البدل من كلمة (ما) فالظرف لغو متعلق ب (يخرج) وعلى التقديرين - كما قال الساليكوتي -: يفيد أن المطلوب إخراج بعض هؤلاء، ولو جعل بيانا لما أفاده (من) التبعيضية - كما قاله المولى عصام الدين - لخلا الكلام عن الإفادة المذكورة، وأوهم أن المطلوب إخراج جميع هؤلاء لعدم العهد - والبقل - جنس يندرج فيه النبات الرطب مما يأكله الناس والأنعام، والمراد به هنا أطاييب البقول التي يأكلها الناس - والقثاء - هو هذا المعروف، وقال الخليل: هو الخيار، وقرأ يحيى بن وثاب وغيره - بضم القاف - وهو لغة - والفوم - الحنطة - وعليه أكثر الناس - حتى قال الزجاج: لا خلاف عند أهل اللغة أن - الفوم - الحنطة، وسائر الحبوب التي تختبز يلحقها اسم - الفوم - وقال الكسائي وجماعة: هو الثوم، وقد أبدلت - ثاؤه فاء - كما في - جدث وجدف - وهو بالبصل والعدس أوفق - وبه قرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه - ونفس شيخنا - عليه الرحمة - إليه تميل، والقول بأنه الخبز يبعده الإنبات من (الأرض) وذكره مع البقل وغيره. وما في " المعالم " عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن - الفوم - الخبز يمكن توجيهه بأن معناه إنه يقال عليه، ووجه ترتيب النظم أنه ذكر أولا ما هو جامع للحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة - وهو البقل - إذ منه ما هو بارد رطب - كالهندبا - ومنه ما هو حار يابس - كالكرفس والسذاب - ومنه ما هو حار وفيه رطوبة، كالنعناع وثانيا: ما هو بارد رطب - وهو القثاء - وثالثا: ما هو حار يابس - وهو الثوم - ورابعا: ما هو بارد يابس - وهو العدس - وخامسا: ما هو حار رطب - وهو البصل - وإذا طبخ صار باردا رطبا عند بعضهم، أو يقال: إنه ذكر أولا ما يؤكل من غير علاج نار، وذكر بعده ما يعالج به مع ما ينبغي فيه ذلك ويقبله.
* (قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير) * استئناف وقع جوابا عن سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال لهم؟ فقيل قال: * (أتستبدلون) * الخ، والقائل إما الله تعالى على لسان موسى عليه السلام، ويرجحه كون المقام مقام تعداد النعم، أو موسى نفسه - وهو الأنسب بسياق النظم - والاستفهام للإنكار، والاستبدال الاعتياض.
274

فإن قلت كونهم لا يصبرون على طعام واحد أفهم طلب ضم ذلك إليه - لا استبداله به - أجيب بأن قولهم: * (لن نصبر) * يدل على كراهتهم ذلك الطعام؛ وعدم الشكر على النعمة دليل الزوال، فكأنهم طلبوا زوالها ومجيء غيرها، وقيل: إنهم طلبوا ذلك، وخطابهم بهذا إشارة إلى أنه تعالى إذا أعطاهم ما سألوا منع عنهم المن والسلوى فلا يجتمعان، وقيل: الاستبدال في المعدة - وهو كما ترى - وقرأ أبي: - أتبدلون - وهو مجاز، لأن التبديل ليس لهم - إنما ذلك إلى الله تعالى - لكنهم لما كانوا يحصل التبديل بسؤالهم جعلوا مبدلين، وكان المعنى أتسألون تبديل الذي الخ، و * (الذي) * مفعول * (تستبدلون) * وهو الحاصل؛ و * (الذي) * دخلت عليه الباء هو الزائل، وهو * (أدنى) * صلة * (الذي) * وهو هنا واجب الإثبات - عند البصريين - إذ لا طول، و * (أدنى) * إما من الدنو أو مقلوب من الدون، وهو على الثاني ظاهر، وعلى الأول مجاز استعير فيه الدنو بمعنى القرب المكاني للخسة كما استعير البعد للشرف، فقيل: بعيد المحل بعيد الهمة، ويحتمل أن يكون مهموزا من الدناءة، وأبدلت فيه - الهمزة ألفا - ويؤيده قراءة زهير والكسائي * (أدنأ) * بالهمزة، وأريد بالذي هو خير المن والسلوى ومعنى خيرية هذا المأكول بالنسبة إلى ذلك غلاء قيمته وطيب لذته، والنفع الجليل في تناوله، وعدم الكلفة في تحصيله، وخلوه عن الشبهة في حله
* (إهبطوا مصرا) * جملة محكية بالقول كالأولى، وإنما لم يعطف إحداهما على الأخرى في المحكي لأن الأولى خبر معنى، وهذه ليست كذلك، ولكونها كالمبينة لها فإن الإهباط طريق الاستبدال، هذا إذا جعل الجملتان من كلام الله تعالى أو كلام موسى، وإن جعل إحداهما من موسى والأخرى من الله تعالى، فوجه الفصل ظاهر، والوقف على (خير) كاف على الأول: وتام على الثاني: والهبوط يجوز أن يكون مكانيا بأن يكون التيه أرفع من المصر، وأن يكون رتبيا، وهو الأنسب بالمقام، وقرىء * (اهبطوا) * بضم الهمزة والباء - والمصر - البلد العظيم وأصله الحد والحاجز بين الشيئين، قال: وجاعل الشمس (مصرا) لا خفاء به * بين النهار وبين الليل قد فصلا
وإطلاقه على البلد لأنه ممصور أي محدود، وأخذه من مصرت الشاة أمصرها - إذا حلبت كل شيء في ضرعها - بعيد، وحكي عن أشهب أنه قال: قال لي مالك: هي مصر قريتك مسكن فرعون - فهو إذا علم - وأسماء المواضع قد تعتبر من حيث المكانية فتذكر، وقد تعتبر من حيث الأرضية فتؤنث، فهو - إن جعل علما - فإما
باعتبار كونه بلدة، فالصرف مع العلمية، والتأنيث لسكون الوسط، وإما باعتبار كونه - بلدا - فالصرف على بابه، إذ الفرعية الواحدة لا تكفي في منعه، ويؤيد ما قاله الإمام مالك رضي الله تعالى عنه: أنه في مصحف ابن مسعود (مصر) بلا - ألف بعد الراء - ويبعده أن الظاهر من التنوين التنكير، وأن قوله تعالى: * (ادخلوا الأرض المقدسة) * (المائدة: 21) يعني الشام التي كتب الله تعالى لكم للوجوب - كما يدل عليه عطف النهي - وذلك يقتضي المنع من دخول أرض أخرى، وأن يكون الأمر بالهبوط مقصورا على بلاد التيه - وهو ما بين بيت المقدس إلى قنسرين - ومن الناس من جعل (مصر) معرب - مصرائيم - كإسرائيل اسم لأحد أولاد نوح عليه السلام - وهو أول من اختطها - فسميت باسمه، وإنما جاز الصرف حينئذ لعدم الاعتداد بالعجمة لوجود التعريب والتصرف فيه فافهم وتدبر.
* (فإن لكم ما سألتم) * تعليل للأمر بالهبوط، وفي " البحر " أنها جواب للأمر - وكما يجاب بالفعل يجاب بالجملة - وفي ذلك محذوفان فإن ما يربط الجملة بما قبلها، والضمير العائد على * (ما) * والتقدير: فإن لكم فيها ما سألتموه
275

، والتعبير عن الأشياء المسؤولة ب (ما) للاستهجان بذكرها، وقرأ النخعي ويحيى: * (سألتم) * بكسر السين. * (وضربت عليهم الذلة والمسكنة) * أي جعل ذلك محيطا بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه، أو ألصق بهم من ضرب الطين على الحائط ففي الكلام استعارة بالكناية حيث شبه ذلك بالقبة أو بالطين، و (ضربت) استعارة تبعية تحقيقية لمعنى الإحاطة والشمول أو اللزوم واللصوق بهم، وعلى الوجهين فالكلام كناية عن كونهم أذلاء متصاغرين، وذلك بما ضرب عليهم من الجزية التي يؤدونها عن يد وهم صاغرون، وبما ألزموه من إظهار الزي ليعلم أنهم يهود ولا يلتبسوا بالمسلمين وبما طبعوا عليه من فقر النفس وشحها فلا ترى ملة من الملل أحرص منهم، وبما تعودوا عليه من إظهار سوء الحال مخافة أن تضاعف عليهم الجزية إلى غير ذلك مما تراه في اليهود اليوم، وهذا الضرب مجازاة لهم على كفران تلك النعمة، وبهذا ارتبطت الآية بما قبلها، وإنما أورد ضمير الغائب للإشارة إلى أن ذلك راجع إلى جميع اليهود، وشامل للمخاطبين، بقوله تعالى: * (فإن لكم ما سألتم) * ولمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة فليس من قبيل الالتفات على ما وهم
* (وباءوا بغضب من الله) * أي نزلوا وتمكنوا بما حل بهم من البلاء والنقم في الدنيا، أو بما تحقق لهم من العذاب في العقبى؛ أو بما كتب عليهم من المكاره فيهما - أو رجعوا بغضب - أي صار عليهم، ولذا لم يحتج إلى اعتبار المرجوع إليه، أو صاروا أحقاء به، أو استحقوا العذاب بسببه - وهو بعيد - وأصل - البواء - بالفتح والضم مساواة الأجزاء ثم استعمل في كل مساواة فيقال: هو بواء فلان أي كفؤه، ومنه بؤ - لشسع نعل كليب - وحديث: " فليتبوأ مقعده من النار " وفي وصف الغضب بكونه من الله تعالى تعظيم لشأنه بعد تعظيم وتفخيم بعد تفخيم.
* (ذلك بأنهم كانوا يكفرون باي‍ات الله ويقتلون النبيين بغير الحق) * أشار بذلك إلى ما سبق من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب العظيم، وإنما بعده لبعد بعضه حتى لو كان إشارة إلى البوء لم يكن على لفظ البعيد، أو للإشارة إلى أنهم أدركتهم هذه الأمور مع بعدهم عنها لكونهم أهل الكتاب، أو للإيماء إلى بعدها في الفظاعة، والباء للسببية وهي داخلة على المصدر المؤل ولم يعبر به، وعبر بما عبر تنبيها على تجدد الكفر والقتل منهم حينا بعد حين واستمرارهم عليهما فيما مضى، أو لاستحضار قبيح صنعهم، و (الآيات) إما المعجزات مطلقا أو التسع التي أتى بها موسى عليه السلام، أو ما جاء به من التسع وغيرها، أو آيات الكتب المتلوة مطلقا، أو التوراة أو آيات منها كالآيات التي فيها صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أو التي فيها الرجم أو القرآن، وفي إضافة الآيات إلى اسمه تعالى زيادة تشنيع عليهم، وبدأ سبحانه بكفرهم بآياته لأنه أعظم كل عظيم، وأردفه بقتلهم النبيين لأنه كالمنشأ له، وأتى بالنبيين الظاهر في القلة دون الأنبياء الظاهر في الكثرة إذ الفرق بين الجمعين إذا كانا نكرتين وأما إذا دخلت عليهما (أل) فيتساويان - كما في " البحر " - فلا يرد أنهم قتلوا ثلثمائة نبي في أول النهار، وأقاموا سوقهم في آخره، وقيد القتل بغير الحق مع أن قتل الأنبياء لا يكون إلا كذلك للإيذان بأن ذلك بغير الحق عندهم إذ لم يكن أحد معتقدا حقية قتل أحد منهم عليهم السلام، وإنما حملهم عليه حب الدنيا، واتباع الهوى والغلو في العصيان، والاعتداء فاللام في الحق على هذا للعهد، وقيل: الأظهر أنها للجنس، والمراد بغير حق أصلا إذ لام الجنس المبهم كالنكرة، ويؤيده ما في آل عمران (21) * (بغير حق) * فيفيد أنه لم يكن حقا باعتقادهم أيضا، ويمكن أن يكون فائدة التقييد إظهار معايب صنيعهم فإنه قتل النبي ثم جماعة منهم ثم كونه بغير الحق، وهذا أوفق بما هو الظاهر من كون المنهي القتل بغير الحق في نفس الأمر
276

سواء كان حقا عند القاتل أو لا إلا أن الاقتصار على القتل بغير الحق عندهم أنسب للتعريض بما هم فيه على ما قيل، والقول: بأنه يمكن أن يقال - لو لم يقيد بغير الحق لأفاد أن من خواص النبوة أنه لو قتل أحدا بغير حق لا يقتص، ففائدة التقييد أن يكون النظم مفيدا لما هو الحكم الشرعي - بعيد كما لا يخفى، قال بعض المتأخرين: هذا كله إذا كان الغير بمعنى النفي - أي بلا حق، أما إذا كان بمعناه - أي بسبب أمر مغاير للحق أي الباطل - فالتقييد مفيد لأن قتلهم النبيين بسبب الباطل وحمايته، وقريب من هذا ما قاله القفال من إنهم كانوا يقولون: إنهم كاذبون وأن معجزاتهم تمويهات ويقتلونهم بهذا السبب، وبأنهم يريدون إبطال ما هم عليه من الحق بزعمهم، ولعل ذلك غالب أحوالهم وإلا فشعياء، ويحيى وزكريا عليهم السلام لم يقتلوا لذلك، وإنما قتل شعياء لأن ملكا من بني إسرائيل لما مات مرج أمر بني إسرائيل، وتنافسوا الملك، وقتل بعضهم بعضا فنهاهم عليه السلام فبغوا عليه وقتلوه، ويحيى عليه السلام إنما قتل لقصة تلك الامرأة لعنها الله تعالى، وكذلك زكريا لأنه لما قتل ابنه انطلق هاربا فأرسل الملك في طلبه غضبا لما حصل لامرأته من قتل ابنه فوجد في جوف شجرة ففلقوا الشجرة معه فلقتين طولا بمنشار، ثم الظاهر أن الجار والمجرور مما تنازع فيه الكفر والقتل، وفي " البحر " أنه متعلق بما عنده، وزعم بعض الملحدين - أن بين هذه الآية - وما أشبهها، وقوله تعالى: * (إنا لننصر رسلنا) * (غافر: 51) تناقضا - وأجيب بأن المقتولين من الأنبياء والموعود بنصرهم الرسل ورد بأن قوله تعالى: * (أفكلما جاءكم رسول) * إلى قوله سبحانه: * (فريقا كذبتم ففريقا تقتلون) * (البقرة: 87) يدل على أن المقتول رسل أيضا، وأجاب بعضهم بأن المراد النصرة بغلبة الحجة أو الأخذ بالثأر كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن
الله تعالى قدر أن يقتل بكل نبي سبعين ألفا، وبكل خليفة خمسا وثلاثين ألفا ولا يخفى ما فيه، فالأحسن أن المراد بالرسل المأمورون بالقتال - كما أجاب به بعض المحققين - لأن أمرهم بالقتال وعدم عصمتهم لا يليق بحكمة العزيز الحكيم، وقرأ علي رضي الله تعالى عنه: (يقتلون) بالتشديد، والحسن في رواية عنه (وتقتلون) بالتاء فيكون ذلك من الالتفات، وقرأ نافع بهمز النبيين وكذا النبي والنبوة، واستشكل بما روي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: " يا نبىء الله بالهمزة فقال: لست بنبىء الله - يعني مهموزا - ولكن نبي الله " بغير همزة فأنكر عليه ذلك. ولهذا منع بعضهم من إطلاقه عليه عليه الصلاة والسلام على أنه استشكل أيضا جمع النبي على نبيين وهو فعيل بمعنى مفعول، وقد صرحوا بأنه لا يجمع جمع مذكر سالم وأجيب عن الأول بأن أبا زيد حكى نبأت من الأرض إذا خرجت منها فمنع لوهم أن معناه يا طريد الله تعالى فنهاه عن ذلك لإيهامه، ولا يلزم من صحة استعمال الله تعالى له في حق نبيه صلى الله عليه وسلم - الذي برأه من كل نقص - جوازه من البشر، وقيل: إن النهي كان خاصا في صدر الإسلام حيث دسائس اليهود كانت فاشية وهذا كما نهى عن قول: * (راعنا) * إلى قول: * (انظرنا) * (البقرة: 104) انتبه أيها المخرج وعن الثاني بأنه ليس بمتفق عليه إذ قيل: إنه بمعنى فاعل ولو سلم فقد خرج عن معناه الأصل، ولم يلاحظ فيه هذا إذ يطلقه عليه من لا يعرف ذلك، فصح جمعه باعتبار المعنى الغالب عليه فتدبر.
* (ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) * إشارة إلى الكفر والقتل الواقعين سببا لما تقدم، وجازت الإشارة بالمفرد إلى متعدد للتأويل بالمذكور، ونحوه مما هو مفرد لفظا متعدد معنى، وقد يجري مثل ذلك في الضمير حملا عليه، والباء للسببية، وما بعدها سبب للسبب، والمعنى: إن الذي حملهم على الكفر بآيات الله تعالى، وقتلهم الأنبياء إنما هو تقدم عصيانهم واعتدائهم ومجاوزتهم الحدود، والذنب يجر الذنب، وأكد الأول لأنه مظنة الاستبعاد بخلاف مطلق العصيان، وقيل: الباء بمعنى مع؛ وقيل: الإشارة بذلك إلى ما أشير إليه بالأول، وترك العاطف للدلالة
277

على أن كل واحد منهما مستقل في استحقاق الضرب فكيف إذا اجتمعا. وضعف هذا الوجه بأن التكرار خلاف الأصل مع فوات معنى لطيف حصل بالأول وسابقه بأنه لا يظهر حينئذ - لإيراد كلمة ذلك - فائدة إذ الظاهر * (بما عصوا) * الخ ويفوت أيضا ما يفوت، وحظ العارف من هذه الآيات الاعتبار بحال هؤلاء الذين لم يرضوا بالقضاء ولم يشكروا على النعماء ولم يصبروا على البلواء كيف ضرب عليهم ذل الطغيان قبل وجود الأكوان، وقهرهم بلطمة المسكنة في بيداء الخذلان وألبس قلوبهم حب الدنيا وأهبطهم من الدرجة العليا.
ومن باب الإشارة: الطعام الواحد هو الغذاء الروحاني من الحكمة والمعرفة، وما تنبته الأرض هو الشهوات الخبيثة واللذات الخسيسة والتفكهات الباردة الناشئة من أرض النفوس المبتذلة في مصر البدن الموجبة للذلة لمن ذاقها والمسكنة لمن لاكها والهلاك لمن ابتلعها، وسبب طلب ذلك الاحتجاب عن آيات الله تعالى وتجلياته وتسويد القلوب بدرن الذنوب، وقطع وريدها بقطع واردها، والذي يجر إلى هذا الغفلة عن المحبوب، والاعتياض بالأغيار عن ذلك المطلوب نسأل الله تعالى لنا ولكم العافية.
* (إن الذين ءامنوا والذين هادوا والنص‍ارى والص‍ابئين من ءامن بالله واليوم الاخر وعمل ص‍الحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *
* (إن الذين ءامنوا) * لما انجر الكلام إلى ذكر وعيد أهل الكتاب قرن به ما يتضمن الوعد جريا على عادته سبحانه من ذكر الترغيب والترهيب وبهذا يتضح وجه توسيط هذه الآية وما قبلها بين تعداد النعم، وفي المراد ب * (الذين آمنوا) * هنا أقوال، والمروي عن سفيان الثوري أنهم المؤمنون بألسنتهم، وهم المنافقون بدليل انتظامهم في سلك الكفرة والتعبير عنهم بذلك دون عنوان النفاق للتصريح بأن تلك المرتبة وإن عبر عنها بالإيمان لا تجديهم نفعا ولا تنقذهم من ورطة الكفر قطعا، وعن السدي أنهم الحنيفيون ممن لم يلحق الرسول صلى الله عليه وسلم - كزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة وورقة بن نوفل - ومن لحقه - كأبي ذر وبحيرى - ووفد النجاشي الذين كانوا ينتظرون البعثة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم المؤمنون بعيسى قبل أن يبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، وروى السدي عن أشياخه أنهم المؤمنون بموسى إلى أن جاء عيسى عليهما السلام فآمنوا به، وقيل: إنهم أصحاب سلمان الذين قص حديثهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: " هم في النار " فأظلمت الأرض عليه كما روى مجاهد عنه فنزلت عند ذلك الآية إلى: * (يحزنون) * قال سلمان: فكأنما كشف عني جبل، وقيل: إنهم المتدينون بدين محمد صلى الله عليه وسلم مخلصين أو منافقين - واختاره القاضي - وكأن سبب الاختلاف قوله تعالى فيما بعد: * (من آمن) * الخ فإن ذلك يقتضي أن يكون المراد من أحدهما غير المراد من الآخر وأقل الأقوال مؤنة أولها: * (والذين هادوا) * أي تهودوا يقال: هاد وتهود إذا دخل في اليهودية، و - يهود - إما عربي من هاد إذا تاب سموا بذلك لما تابوا من عبادة العجل، ووجه التخصيص كون توبتهم أشق الأعمال كما مر، وإما معرب يهوذا بذال معجمة وألف مقصورة كأنهم سموا بأكبر أولاد يعقوب عليه السلام، وقرىء * (هادوا) * بفتح الدال أي مال بعضهم إلى بعض
* (والنص‍ارى) * جمع نصران بمعنى نصراني، وورد ذلك في كلام العرب وإن أنكره البعض كقوله: تراه إذا دار العشي محنفا * ويضحي لديه وهو (نصران) شامس
ويقال في المؤنث نصران كندمان وندمانة - قال سيبويه - وأنشد: كما سجدت نصرانة لم تحنف
والياء في نصراني عنده للمبالغة كما يقال للأحمر أحمري إشارة إلى أنه عريق في وصفه، وقيل: إنها للفرق بين الواحد والجمع كزنج وزنجي، وروم ورومي، وقيل: النصارى جمع نصرى كمهرى ومهارى حذفت إحدى ياءيه وقلبت الكسرة فتحة للتخفيف فقلبت الياء ألفا وإلى ذلك ذهب الخليل، وهو اسم لأصحاب عيسى عليه السلام، وسموا بذلك لأنهم
278

نصروه، أو لنصر بعضهم لبعض، وقيل: إن عيسى عليه السلام ولد في بيت لحم بالقدس ثم سارت به أمه إلى مصر ولما بلغ اثني عشر سنة عادت به إلى الشام
وأقامت بقرية ناصرة، وقيل: نصرايا، وقيل: نصرى، وقيل: نصرانة، وقيل: نصران - وعليه الجوهري - فسمي من معه باسمها، أو أخذلهم اسم منها
(والصبئين) هم قوم مدار مذاهبهم على التعصب للروحانيين واتخاذهم وسائط ولما لم يتيسر لهم التقرب إليها بأعيانها والتلقي منها بذواتها فزعت جماعة منهم إلى هياكلها، فصابئة الروم مفزعها السيارات، وصابئة الهند مفزعها الثوابت، وجماعة نزلوا عن الهياكل إلى الأشخاص التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عن أحد شيئا. فالفرقة الأولى: هم عبدة الكواكب، والثانية: هم عبدة الأصنام وكل من هاتين الفرقتين أصناف شتى مختلفون في الاعتقادات والتعبدات، والإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يقول: إنهم ليسوا بعبدة أوثان وإنما يعظمون النجوم كما تعظم الكعبة، وقيل: هم قوم موحدون يعتقدون تأثير النجوم ويقرون ببعض الأنبياء كيحيى عليه السلام، وقيل: إنهم يقرون بالله تعالى ويقرءون الزبور ويعبدون الملائكة ويصلون إلى الكعبة، وقيل: إلى مهب الجنوب، وقد أخذوا من كل دين شيئا، وفي جواز مناكحتهم وأكل ذبائحهم كلام للفقهاء يطلب في محله، واختلف في اللفظ فقيل غير عربي، وقيل عربي من صبأ - بالهمز - إذا خرج أو من صبا معتلا بمعنى مال لخروجهم عن الدين الحق وميلهم إلى الباطل، وقرأ نافع وحده بالياء وذلك إما على الأصل أو الإبدال للتخفيف.
* (من ءامن بالله الآخر وعمل ص‍الحا) * أي أحدث من هذه الطوائف إيمانا بالله تعالى وصفاته وأفعاله والنبوات، وبالنشأة الثانية على الوجه اللائق، وأتى - بعمل صالح - حسبما يقتضيه الإيمان بما ذكر، وهذا مبني على أول الأقوال، والقائلون بآخرها منهم من فسر الآية بمن اتصف من أولئك بالإيمان الخالص بالمبدأ والمعاد على الإطلاق سواء كان ذلك بطريق الثبات، والدوام عليه كإيمان المخلصين، أو بطريق إحداثه، وإنشائه كإيمان من عداهم من المنافقين، وسائر الطوائف، وفائدة التعميم للمخلصين مزيد ترغيب الباقين في الإيمان ببيان أن تأخرهم في الاتصاف به غير مخل بكونهم أسوة لأولئك الأقدمين، ومنهم من فسرها بمن كان منهم في دينه قبل أن ينسخ مصدقا بقلبه بالمبدأ والمعاد عاملا بمقتضى شرعه، فيعم الحكم المخلصين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمنافقين الذين تابوا، واليهود والنصارى الذين ماتوا قبل التحريف والنسخ والصابئين الذين ماتوا زمن استقامة أمرهم إن قيل: إن لهم دينا، وكذا يعم اليهود والصابئين الذين آمنوا بعيسى عليه السلام وماتوا في زمنه، وكذا من آمن من هؤلاء الفرق بمحمد صلى الله عليه وسلم. وفائدة ذكر (الذين آمنوا) على هذا مع أن الوعيد السابق كان في اليهود لتسكين حمية اليهود بتسوية المؤمنين بهم في أن كون كل في دينه قبل النسخ: يوجب الأجر وبعده: يوجب الحرمان، كما أن ذكر الصابئين للتنبيه على أنهم مع كونهم أبين المذكورين ضلالا يتاب عليهم إذا صح منهم الإيمان والعمل الصالح، فغيرهم بالطريق الأولى وانفهام قبل النسخ من * (وعمل صالحا) * إذ لا صلاح في العمل بعده، وهذا هو الموافق لسبب النزول لا سيما على رواية أن سلمان رضي الله تعالى عنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم حسن حال الرهبان الذين صحبهم، فقال: " ماتوا وهم في النار " فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقال عليه الصلاة والسلام: " من مات على دين عيسى عليه السلام قبل أن يسمع بي فهو على خير، ومن سمع ولم يؤمن بي فقد هلك ".
والمناسب لعموم اللفظ وعدم صرفه إلى تخصيص الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى بالكفرة منهم
279

وتخصيص * (من آمن) * الخ بالدخول في ملة الإسلام، إلا أنه يرد عليه أنه مستلزم أن يكون للصائبين دين، وقد ذكر غير واحد أنه ليس لهم دين تجوز رعايته في وقت من الأوقات ففي " الملل والنحل " أن الصبوة في مقابلة الحنيفية، ولميل هؤلاء عن سنن الحق وزيغهم عن نهج الأنبياء قيل لهم: الصابئة، ولو سلم أنه كان لهم دين سماوي ثم خرجوا عنه، فمن مضى من أهل ذلك الدين قبل خروجهم منه ليسوا من الصابئين فكيف يمكن إرجاع الضمير الرابط بين اسم (إن) وخبرها إليهم - على القول المشهور - وارتكاب إرجاعه إلى المجموع من حيث هو مجموع قصدا إلى إدراج الفريق المذكور فيهم ضرورة أن من كان من أهل الكتاب عاملا بمقتضى شرعه قبل نسخه من مجموع أولئك الطوائف بحكم اشتماله على اليهود والنصارى وإن لم يكن من الصابئين مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عنه؟! على أن فيه بعد ما لا يخفى فتدبر. و (من) مبتدأ، وجوزوا فيها أن تكون موصولة والخبر جملة قوله تعالى: * (فلهم أجرهم عند ربهم) * ودخلت - الفاء - لتضمن المبتدأ معنى الشرط كما في قوله تعالى: * (إن الذين فتنوا) * (البروج: 10) الآية، وأن تكون شرطية - وفي خبرها خلاف - هل الشرط، أو الجزاء، أو هما؟ وجملة * (من آمن) * الخ خبر * (إن) * فإن كانت * (من) * موصولة - وهو الشائع هنا - احتيج إلى تقدير - منهم - عائدا، وإن كانت شرطية لم يحتج إلى تقديره - إذ العموم يغني عنه - كأنه قيل: هؤلاء وغيرهم إذا آمنوا * (فلهم) * الخ على ما قالوا في قوله تعالى: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا) * (الكهف: 30) وجوز بعضهم أن تكون * (من) * بدلا من اسم * (إن) * وخبرها * (فلهم أجرهم) * واختار أبو حيان أنها بدل من المعاطيف التي بعد اسم * (إن) * فيصح إذ ذاك المعنى، وكأنه قيل: إن الذين آمنوا من غير الأصناف الثلاثة، ومن آمن من الأصناف الثلاثة (فلهم) الخ. وقد حملت الضمائر الثلاثة باعتبار معنى الموصول، كما أن إفراد ما في الصلة باعتبار لفظه، وفي " البحر " إن هذين الحملين لا يتمان إلا بإعراب * (من) * مبتدأ، وأما على إعرابها بدلا فليس فيها إلا حمل على اللفظ فقط فافهم.
ثم المراد من - الأجر - الثواب الذي وعدوه على الإيمان والعمل الصالح، فإضافته إليهم واختصاصه بهم بمجرد الوعد لا بالاستيجاب - كما زعمه الزمخشري رعاية للاعتزال - لكن تسميته - أجرا - لعدم التخلف، ويؤيد ذلك قوله تعالى: * (عند ربهم) * المشير إلى أنه لا يضيع لأنه عند لطيف حفيظ، وهو متعلق بما تعلق به * (لهم) *، ويحتمل أن يكون حالا من * (أجرهم) *.
* (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * عطف على جملة * (فلهم أجرهم) * وقد تقدم الكلام على مثلها في آخر قصة آدم عليه السلام فأغنى عن الإعادة هنا.
* (وإذ أخذنا ميث‍اقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا مآ ءاتين‍اكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون) *
* (وإذ أخذنا ميث‍اقكم) * تذكير بنعمة أخرى، لأنه سبحانه إنما فعل ذلك لمصلحتهم، والظاهر من الميثاق هنا العهد، ولم يقل: مواثيقكم، لأن ما أخذ على كل واحد
منهم أخذ على غيره - فكان ميثاقا واحدا - ولعله كان بالانقياد لموسى عليه السلام، واختلف في أنه متى كان؟ فقيل: قبل رفع الطور؛ ثم لما نقضوه رفع فوقهم لظاهر قوله تعالى: * (ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم) * (النساء: 154) الخ، وقيل: كان معه * (ورفعنا فوقكم الطور) * - الواو - للعطف؛ وقيل: للحال، والطور قيل: جبل من الجبال، وهو سرياني معرب، وقيل: الجبل المعين. وعن أبي حاتم عن ابن عباس أن موسى عليه السلام لما جاءهم بالتوراة وما فيها من التكاليف الشاقة كبرت عليهم وأبوا قبولها فأمر جبريل بقلع الطور فظلله فوقهم حتى قبلوا؛ وكان على قدر عسكرهم - فرسخا في فرسخ - ورفع فوقهم قدر قامة الرجل، واستشكل بأن هذا يجري مجرى الإلجاء
280

إلى الإيمان فينافي التكليف، وأجاب الإمام بأنه لا إلجاء لأن الأكثر فيه خوف السقوط عليهم، فإذا استمر في مكانه مدة - وقد شاهدوا السموات مرفوعة بلا عماد - جاز أن يزول عنهم الخوف فيزول الإلجاء ويبقى التكليف، وقال العلامة: كأنه حصل لهم بعد هذا الإلجاء قبول اختياري، أو كان يكفي في الأمم السالفة مثل هذا الإيمان - وفيه كما قال الساليكوتي - إن الكلام في أنه كيف يصح التكليف ب * (خذوا) * الخ مع القسر، وقد تقرر أن مبناه على الاختيار - فالحق أنه إكراه - لأنه حمل الغير على أن يفعل ما لا يرضاه - لو خلي ونفسه - فيكون معدما للرضا لا للاختيار إذ الفعل يصدر باختياره كما فصل في الأصول، وهذا كالمحاربة مع الكفار، وأما قوله: * (لا إكراه في الدين) * (البقرة: 256) وقوله سبحانه: * (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) * (يونس: 99) فقد كان قبل الأمر بالقتال ثم نسخ به.
* (خذوا ما ءاتيناكم بقوة) * هو على إضمار القول أي قلنا أو قائلين خذوا وقال بعض الكوفيين: لا يحتاج إلى إضماره لأن أخذ الميثاق قول، والمعنى: وإذ أخذنا ميثاقكم بأن تأخذوا ما آتيناكم، - وليس بشيء - والمراد هنا - بالقوة - الجد والاجتهاد - كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ويؤول إلى عدم التكاسل والتغافل، فحينئذ لا تصلح الآية دليلا لمن ادعى أن الاستطاعة قبل الفعل إذ لا يقال: خذ هذا بقوة، إلا والقوة حاصلة فيه لأن القوة بهذا المعنى لا تنكر صحة تقدمها على الفعل. * (واذكروا ما فيه) * أي ادرسوه واخفظوه ولا تنسوه، أو تدبروا معناه، أو اعلموا بما فيه من الأحكام، فالذكر يحتاج أن يراد به الذكر اللساني والقلبي والأعم منهما وما يكون كاللازم لهما، والمقصود منهما أعني العمل * (لعلكم تتقون) * قد تقدم الكلام على الترجي في كلامه تعالى، وقد ذكر ههنا أن كلما - لعل - متعلقة - بخذوا، واذكروا - إما مجاز يؤول معناه بعد الاستعارة إلى تعليل ذي الغاية بغايته أو حقيقة لرجاء المخاطب؛ والمعنى: خذوا واذكروا راجين أن تكونوا متقين ويرجح المعنى المجازي أنه لا معنى لرجائهم فيما يشق عليهم أعنى التقوى، اللهم إلا باعتبار تكلف أنهم سمعوا مناقب المتقين ودرجاتهم فلذا كانوا راجين للانخراط في سلكهم، وجوز المعتزلة كونها متعلقة - بقلنا - المقدر وأولوا الترجي بالإرادة أي: قلنا و - اذكروا - إرادة أن تتقوا، وهو مبني على أصلهم الفاسد من أن إرادة الله تعالى لأفعال العباد غير موجبة للصدور لكونها عبارة عن العلم بالمصلحة، وجوز العلامة تعلقها إذا أول الترجي بالإرادة - بخذوا - أيضا على أن يكون قيدا للطلب لا للمطلوب، وجوز الشهاب أن يتعلق بالقول على تأويله بالطلب والتخلف فيه جائز، وفيه أن القول المذكور وهو * (خذوا ما آتيناكم) * بعينه طلب التقوى فلا يصح أن يقال - خذوا ما آتيناكم - طالبا منكم التقوى إلا بنوع تكلف فافهم.
* (ثم توليتم من بعد ذالك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخ‍اسرين) *
* (ثم توليتم من بعد ذلك) * أي أعرضتم عن الوفاء بالميثاق بعد أخذه وخالفتم، وأصل التولي الإعراض المحسوس ثم استعمل في الإعراض المعنوي كعدم القبول، ويفهم من الآية أنهم امتثلوا الأمر ثم تركوه.
* (فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخ‍اسرين) * الفضل التوفيق للتوبة والرحمة قبولها، أو الفضل والرحمة بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإدراكهم لمدته، فالخطاب على الأول جار على سنن الخطابات السابقة مجازا باعتبار الأسلاف وعلى الثاني جار على الحقيقة، والخسران ذهاب رأس المال أو نقصه، والمراد لكنتم مغبونين هالكين بالانهماك في المعاصي، أو بالخبط في مهاوي الضلال عند الفترة، وكلمة - لولا - إما بسيطة أو مركبة من لو الامتناعية
281

وتقدم الكلام عليها، وحرف النفي - والاسم الواقع بعدها عند سيبويه - مبتدأ خبره محذوف وجوبا لدلالة الحال عليه وسد الجواب مسده، والتقدير - ولولا فضل الله ورحمته - حاصلان، ولا يجوز أن يكون الجواب خبرا لكونه في الأغلب خاليا عن العائد إلى المبتدأ، وعند الكوفيين فاعل فعل محذوف أي لولا ثبت فضل الله تعالى الخ، و * (لكنتم) * جواب - لولا - ويكثر دخول اللام على الجواب إذا كان موجبا، وقيل: إنه لازم إلا في الضرورة كقوله: لولال الحياء ولولا الدين (عبتكم) * ببعض ما فيكما إذ عبتما عورى
وجاء في كلامهم بعد اللام قد، كقوله: لولا الأمير ولولا خوف طاعته * (لقد) شربت وما أحلى من العسل
وقد جاء أيضا حذف اللام وإبقاء قد نحو - لولا زيد قد أكرمتك - ولم يجيء في القرآن مثبتا إلا باللام إلا فيما زعم بعضهم أن قوله تعالى: * (وهم بها) * (يوسف: 24) جواب لولا قدم عليها.
هذا ومن باب الإشارة والتأويل في الآية: * (وإذ أخذنا ميثاقكم) * المأخوذ بدلائل العقل بتوحيد الأفعال - والصفات * (ورفعنا فوقكم طور) * - الدماغ للتمكن من فهم المعاني وقبولها، أو أشار سبحانه - بالطور - إلى موسى القلب، وبرفعه إلى علوه واستيلائه في جو الإرشاد وقلنا * (خذوا) * أي اقبلوا * (ما آتيناكم) * (البقرة: 63) من كتاب العقل الفرقاني بجد، وعوا ما فيه من الحكم والمعارف والعلوم والشرائع لكي تتقوا الشرك والجهل والفسق ثم أعرضتم باقبالكم إلى الجهة السفلية بعد ذلك فلولا حكمة الله تعالى بامهاله وحكمه بافضاله لعاجلتكم العقوبة ولحل بكم عظيم المصيبة. إلى الله يدعى بالبراهين من أبى * فإن لم يجب بادته بيض الصوارم
* (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم فى السبت فقلنا لهم كونوا قردة خ‍اسئين) *
* (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت) * اللام واقعة في جواب قسم مقدر، و - علم - عنا كعرف فلذلك تعدت إلى واحد، وظاهر هذا أنهم علموا أعيان المعتدين، وقدر بعضهم مضافا أي اعتداء الذين، وقيل: أحكامهم، و * (منكم) * في موضع الحال، و (السبت) اسم لليوم المعروف وهو مأخوذ من السبت الذي هو القطع لأنه سبت فيه خلق كل شيء وعمله، وقيل: من السبوت وهو الراحة والدعة. والمراد به هنا اليوم والكلام على حذف مضاف أي في حكم السبت لأن الاعتداء والتجاوز لم يقع في اليوم بل وقع في حكمه بناء على ما حكي أن موسى عليه السلام أراد أن يجعل يوما خالصا للطاعة وهو يوم الجمعة فخالفوه وقالوا: نجعله يوم السبت لأن الله تعالى لم يخلق فيه شيئا فأوحى الله تعالى إليه أن دعهم وما اختاروا ثم امتحنهم فيه فأمرهم بترك العمل وحرم عليهم فيه صيد الحيتان فلما كان زمن داود عليه السلام - اعتدوا - وذلك أنهم كانوا يسكنون قرية على الساحل يقال لها أيلة. وإذا كان يوم السبت لم يبق حوت في البحر إلا حظر هناك وأخرج خرطومه وإذا مضى تفرقت فحفروا حياضا وأشرعوا إليها الجداول وكانت الحيتان تدخلها يوم السبت بالموج فلا تقدر على الخروج لبعد العمق وقلة الماء فيصطادونها يوم الأحد، وروي أنهم فعلوا ذلك زمانا فلم ينزل عليهم عقوبة فاستبشروا وقالوا: قد أحل لنا العمل في السبت فاصطادوا فيه علانية وباعوا في الأسواق، وعلى هذا يصح جعل اليوم ظرفا للاعتداء، ولا يحتاج إلى تقدير مضاف، وقيل: المراد بالسبت هنا مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت وليس بمعنى اليوم فحينئذ لا حاجة إلى تقدير مضاف إذ يؤول المعنى إلى أنهم اعتدوا في التعظيم وهتكوا الحرمة الواجبة عليهم. وقد ذكر بعضهم أن تسمية العرب للأيام بهذه الأسماء المشهورة حدثت بعد عيسى عليه السلام وأن أسماءها قبل غير ذلك وهي التي في قوله:
282

أؤمل أن أعيش وأن يومي * بأول أو بأهون أو جبار
أو التالي دبار فإن أفته * فمونس أو عروبة أو شبار
واستدل بهذه الآية على تحريم الحيل في الأمور التي لم تشرع كالربا - وإلى ذلك ذهب الإمام مالك - فلا تجوز عنده بحال، قال الكواشي: وجوزها أكثرهم ما لم يكن فيها إبطال حق أو إحقاق باطل، وأجابوا عن التمسك بالآية بأنها ليست حيلة وإنما هي عين المنهي عنه لأنهم إنما نهوا عن أخذها ولا يخفى ما في هذا الجواب، وتحقيقه في " كتب الفقه ".
* (فقلنا لهم كونوا قردة خ‍اسئين) * القردة جمع قرد وهو معروف ويجمع فعل الاسم قياسا على فعول، وقليلا على فعلة، و - الخسو - الصغار والذلة ويكون متعديا ولازما، ومنه قولهم للكلب: اخسأ وقيل: الخسوء والخساء مصدر خسأ الكلب بعد، وبعضهم ذكر الطرد عند تفسير الخسوء كالابعاد؛ فقيل: هو لاستيفاء معناه لا لبيان المراد، وإلا لكان الخاسىء بمعنى الطارد، والتحقيق أنه معتبر في المفهوم إلا أنه بالمعنى المبني للمفعول، وكذلك الابعاد فالخاسىء الصاغر المبعد المطرود، وظاهر القرآن أنهم مسخوا قردة على الحقيقة، وعلى ذلك جمهور المفسرين - وهو الصحيح - وذكر غير واحد منهم أنهم بعد أن مسخوا لم يأكلوا ولم يشربوا ولم يتناسلوا ولم يعيشوا أكثر من ثلاثة أيام، وزعم مقاتل أنهم عاشوا سبعة أيام وماتوا في اليوم الثامن، واختار أبو بكر بن العربي أنهم عاشوا - وأن القردة الموجودين اليوم من نسلهم - ويرده ما رواه مسلم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمن سأله عن القردة والخنازير أهي مما مسخ؟ " إن الله تعالى لم يهلك قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك " وروى ابن جرير عن مجاهد " أنه ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم فلا تقبل وعظا ولا تعي زجرا " فيكون المقصود من الآية تشبيههم بالقردة كقوله: إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى * فكن (حجرا) من يابس الصخر جلمدا
و * (كونوا) * على الأول: ليس بأمر حقيقة، لأن صيرورتهم ما ذكر ليس فيه تكسب لهم لأنهم ليسوا قادرين على قلب أعيانهم، بل المراد منه سرعة التكوين وأنهم صاروا كذلك كما أراد من غير امتناع ولا لبث.
وعلى الثاني: يكون الأمر مجازا عن التخلية والترك والخذلان - كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " اصنع ما شئت " وقد قرره العلامة في تفسير قوله تعالى: * (ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا) * (العنكبوت: 66) والمنصوبان خبران للفعل الناقص، ويجوز أن يكون (خاسئين) حالا من الاسم، ويجوز أن يكون صفة لقردة والمراد وصفهم يالصغار عند الله تعالى دفعا لتوهم أن يجعل مسخهم وتعجيل عذابهم في الدنيا لدفع ذنوبهم ورفع درجاتهم.
واعترض أنه لو كان صفة لها لوجب أن يقول: خاسئة لامتناع الجمع - بالواو - والنون في غير ذوي العلم، وأجيب بأن ذلك على تشبيههم بالعقلاء كما في * (ساجدين) * (الأعراف: 120) أو باعتبار أنهم كانوا عقلاء، أو بأن المسخ إنما كان بتبدل الصورة فقط، وحقيقتهم سالمة على ما روي أن الواحد منهم كان يأتيه الشخص من أقاربه الذين نهوهم، فيقول له: ألم أنهك؟ فيقول: بلى ثم تسيل دموعه على خده - ولم يتعرض في الآية بمسخ شيء منهم خنازير - وروى عن قتادة أن الشباب صاروا قردة والشيوخ صاروا - خنازير - وما نجا إلا الذين نهوا، وهلك سائرهم، وقرىء * (قردة) * - بفتح القاف وكسر الراء - و * (خاسين) * بغير همز.
* (فجعلن‍اها نك‍الا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين) *
* (فجلن‍اها نك‍الا) * أي كينونتهم
283

وصيرورتهم قردة أو المسخة أو العقوبة، أو الآية المدلول عليها بقوله تعالى: * (ولقد علمتم) * (البقرة: 65) وقيل: الضمير للقرية، وقيل: للحيتان - والنكال - واحد - الأنكال - وهي القيود - ونكل به - فعل به ما يعتبر به غيره، فيمتنع عن مثله * (لما بين يديها وما خلفها) * أي لمعاصريهم ومن خلفهم - وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وغيره - وروي عنه أيضا (لما) بحضرتها من القرى - أي أهلها وما تباعد هنها - أو للآتين والماضين - وهو المختار عند جماعة - فكل من ظرفي المكان مستعار للزمان، و (ما) أقيمت مقام - من - إما تحقيرا لهم في مقام العظمة والكبرياء - أو لاعتبار الوصف - فإن ما يعبر بها عن العقلاء
تعظيما - إذا أريد الوصف - كقوله: " سبحان ما سخركن " وصحح كونها نكالا للماضين أنها ذكرت في زبر الأولين - فاعتبروا بها - وصحت - الفاء - لأن جعل ذلك (نكالا) للفريقين إنما يتحقق بعد القول والمسخ، أو لأن - الفاء - إنما تدل على ترتب جعل العقوبة (نكالا) على القول وتسببه عنه - سواء كان على نفسه أو على الاخبار به - فلا ينافي حصول الاعتبار قبل وقوع هذه الواقعة بسبب سماع هذه القصة، وقيل: - اللام - لام الأجل و (ما) على حقيقتها - والنكال - بمعنى العقوبة لا - العبرة - والمراد بما * (بين يديها) * ما تقدم من سائر الذنوب قبل أخذ السمك، وب * (ما خلفها) * ما بعدها، والقول بأن المراد جعلنا المسخ عقوبة لأجل ذنوبهم المتقدمة على المسخة والمتأخرة عنها يستدعي بقاءهم مكلفين بعد المسخ ولا يظهر ذلك إلا على قول مجاهد، وحمل الذنوب التي بعد المسخة - على السيآت الباقية آثارها - ليس بشيء كما لا يخفى، وقول أبي العالية - إن المراد ب * (ما بين يديها) * ما مضى من الذنوب، وب * (ما خلفها) * من يأتي بعد، والمعنى فجعلناها عقوبة لما مضى من ذنوبهم؛ وعبرة لمن بعدهم - منحط من القول جدا لمزيد ما فيه من تفكيك النظم والتكلف.
* (وموعظة للمتقين) * الموعظة ما يذكر مما يلين القلب - ثوابا كان أو عقابا - والمراد بالمتقين ما يعم كل متق من كل أمة - وإليه ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - وقيل: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: منهم، ويحتمل أنهم اتعظوا بذلك وخافوا عن ارتكاب خلاف ما أمروا به، ويحتمل أنهم وعظ بعضهم بعضا بهذه الواقعة، وحظ العارف من هذه القصة أن يعرف أن الله سبحانه وتعالى خلق الناس لعبادته وجعلهم بحيث لو أهملوا وتركوا وخلوا بينهم وبين طباعهم لتوغلوا وانهمكوا في اللذات الجسمانية والغواشي الظلمانية لضروراتهم لهم واعتيادهم من الطفولية عليها. والنفس كالطفل إن تهمله شب على * حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فوضع الله تعالى العبادات، وفرض عليهم تكرارها في الأوقات المعينة ليزول عنهم بها درن الطباع المتراكم في أوقات الغفلات وظلمة الشواغل العارضة في أزمنة ارتكاب الشهوات، وجعل يوما من أيام الأسبوع مخصوصا للاجتماع على العبادة وإزالة وحشة التفرقة ودفع ظلمة الاشتغال بالأمور الدنيوية، فوضع السبت لليهود لأن عالم الحس الذي إليه دعوة اليهود هو آخر العوالم والسبت آخر الأسبوع، والأحد للنصارى لأن عالم العقل الذي إليه دعوتهم أول العوالم، ويوم الأحد أول الأسبوع، والجمعة للمسلمين لأنه يوم الجمع، - والختم - فهو أوفق بهم وأليق بحالهم - فمن لم يراع هذه الأوضاع والمراقبات أصلا - زال نور استعداده، وطفىء مصباح فؤاده، ومسخ كما مسخ أصحاب السبت، ومن غلب عليه وصف من أوصاف الحيوانات ورسخ فيه بحيث أزال استعداده، وتمكن في طباعه، وصار صورة ذاتية له كالماء الذي منبعه معدن الكبريت مثلا أطلق عليه اسم
284

ذلك الحيوان حتى كأن صار طباعه طباعه، ونفسه نفسه، فليجهد المرء على حفظ إنسانيته، وتدبير صحته بشراب الأدوية الشرعية والمعاجين الحكمية، وليحث نفسه بالمواعظ الوعدية والوعيدية. هي النفس إن تهمل تلازم خساسة * وإن تنبعث نحو الفضائل تلهج
* (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من االجاهلين) *
* (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) * بيان نوع من مساويهم من غير تعديد النعم وصح العطف لأن ذكر النعم سابقا كان مستملا على ذكر المساوي أيضا من المخالفة للأنبياء والتكذيب لهم وغير ذلك، وقد يقال: هو على نمط ما تقدم، لأن الذبح نعمة دنيوية لرفعة التشاجر بين الفريقين، وأخروية لكونه معجزة لموسى عليه السلام. وكأن مولانا الإمام الرازي خفي عليه ذلك فقال: إنه تعالى لما عدد وجوه إنعامه عليهم أولا ختم ذلك بشرح بعض ما وجه إليهم من التشديدات، وجعل النوع الثاني ما أشارت إليه هذه الآية - وليس بالبعيد -.
وأول القصة: قوله تعالى: * (وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها) * (البقرة: 72) الخ، وكان الظاهر أن يقال - قال موسى إذ قتل قتيل تنوزع في قاتله - إن الله يأمر بذبح بقرة هي كذا وكذا، وأن يضرب ببعضها ذلك القتيل ويخبر بقاتله فيكون كيت وكيت إلا أنه فك بعضها وقدم لاستقلاله بنوع من مساويهم التي قصد نعيها عليهم، وهو الاستهزاء بالأمر والاستقصاء في السؤال، وترك المصارعة إلى الامتثال، ولو أجرى على النظم لكانت قصة واحدة، ولذهبت تثنية التقريع، وقد وقع في النظم من فك التركيب والترتيب ما يضاهيه في بعض القصص، وهو من المقلوب المقبول لتضمنه نكتا وفوائد، وقيل: إنه يجوز أن يكون ترتيب نزولها على موسى عليه السلام على حسب تلاوتها بأن يأمرهم الله تعالى - بذبح البقرة - ثم يقع القتل فيؤمروا بضرب بعضها - لكن المشهور خلافه - والقصة أنه عمد إخوان من بني إسرائيل إلى ابن عم لهما - أخي أبيهما - فقتلاه ليرثا ماله وطرحاه على باب محلهم ثم جاءا يطلبان بدمه فأمر الله تعالى بذلح بقرة وضربه ببعضها ليحيا، ويخبر بقاتله، وقيل: كان القاتل أخا القتيل، وقيل: ابن أخيه ولا وارث له غيره فلما طال عليه عمره قتله ليرثه، وقيل: إنه كان - تحت رجل يقال له عاميل - بنت عم لا مثل لها في بني إسرائيل في الحسن والجمال فقتله ذو قرابة له لينكحها فكان ما كان، وقرأ الجمهور (يأمركم) بضم الراء، وعن أبي عمرو السكون والاختلاس - وإبدال الهمزة ألفا، و * (أن تذبحوا) * من موضع المفعول الثاني ليأمر، وهو على إسقاط حرف الجر - أي بأن تذبحوا.
* (قالوا أتتخذنا هزوا) * استئناف وقع جوابا عما ينساق إليه الكلام كأنه قيل: فماذا صنعوا هل سارعوا إلى الإمتثال أم لا؟ فأجيب بذلك، والاتخاذ كالتصيير، والجعل يتعدى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، و * (هزوا) * مفعوله الثاني ولكونه مصدرا لا يصلح أن يكون مفعولا ثانيا لأنه خبر المبتدأ في الحقيقة وهو اسم ذات هنا فيقدر مضاف - كمكان، أو أهل - أو يجعل بمعنى المهزوء به كقوله تعالى: * (أحل لكم صيد البحر) * (المائدة: 96) أي مصيده أو يجعل الذات نفس المعنى مبالغة كرجل عدل، وقد قالوا ذلك إما بعد أن أمرهم موسى عليه السلام بذبح بقرة دون ذكر الإحياء بضربها، وإما بعد أن أمرهم وذكر لهم استبعادا لما قاله واستخفافا به كما يدل عليه الاستفهام إذ المعنى أتسخر بنا فإن جوابك لا يطابق سؤالنا ولا يليق، وأين ما نحن فيه مما أنت آمر به، ولا يأبى ذلك انقيادهم له لأنه بعد العلم بأنه جد وعزيمة، ومن هنا قال بعضهم: إن إجابتهم نبيهم - حين أخبرهم عن أمر الله تعالى بأن يذبحوا بقرة بذلك - دليل على سوء اعتقادهم بنبيهم وتكذيبهم له
285

إذ لو علموا أن ذلك إخبار صحيح عن الله تعالى لما استفهموا هذا الاستفهام، ولا كانوا أجابوا هذا الجواب، فهم قد كفروا بموسى عليه السلام. ومن الناس من قال: كانوا مؤمنين مصدقين ولكن جرى هذا على نحو ما هم عليه من غلظ الطبع والجفاء والمعصية، والعذر لهم أنهم لما طلبوا من موسى عليه السلام تعيين القاتل فقال ما قال ورأوا ما بين السؤال والجواب توهموا أنه عليه السلام داعبهم، أو ظنوا أن ذلك يجري مجرى الاستهزاء، فأجابوا بما أجابوا، وقيل: استفهموا على سبيل الاسترشاد - لا على وجه الانكار والعناد - وقرأ عاصم وابن محيصن * (يتخذنا) * - بالياء - على أن الضمير لله تعالى. وقرأ حمزة وإسمعيل عن نافع * (هزأ) * بالإسكان، وحفص عن عاصم - بالضم وقلب الهمزة واوا -، والباقون - بالضم والهمزة - والكل لغات فيه.
* (قال أعوذ بالله أن أكون من الج‍اهلين) * أي من أن أعد في عدادهم، و - الجهل - كما قال الراغب - له معان، عدم العلم، واعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه، وفعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل - سواء اعتقد فيه اعتقادا صحيحا أو فاسدا - وهذا الأخير هو المراد هنا، وقد نفاه عليه السلام عن نفسه قصدا إلى نفي ملزومه الذي رمي به - وهو الاستهزاء على طريق الكناية - وأخرج ذلك في صورة الاستعارة استفظاعا له، إذ - الهزء - في مقام الإرشاد كاد يكون كفرا وما يجري مجراه، ووقوعه في مقام الاحتقار والتهكم مثل: * (فبشرهم بعذاب أليم) * (آل عمران: 21) سائغ شائع - وفرق بين المقامين - وذكر بعضهم أن الاستعاذة بالله تعالى من ذلك من باب الأدب والتواضع معه سبحانه كما في قوله تعالى: * (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين) * (المؤمنون: 97) لأن الأنبياء معصومون عن مثل ذلك، والأول أولى - وهو المعروف من إيراد الاستعاذة في أثناء الكلام - والفرق بين - الهزء والمزح - ظاهر فلا ينافي وقوعه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أحيانا كما لا يخفى.
* (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هى قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذالك فافعلوا ما تؤمرون) *
* (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) * أي سل لأجلنا ربك - الذي عودك ما عودك - يظهر لنا ما حالها وصفتها، فالسؤال في الحقيقة عن الصفة، لأن الماهية ومسمى الاسم معلومان - ولا ثالث لهما - لتستعمل * (ما) * فيه، أما إذا أريد بقرة معينة فظاهر لأنه استفسار لبيان المجمل - وإلا فلمكان التعجب - وتوهم أن مثل هذه البقرة لا تكون إلا معينة، والجواب على الأول: بيان. وعلى الثاني: نسخ وتشديد، وهكذا الحال فيما سيأتي من السؤال والجواب. وكان مقتضى الظاهر على الأول: أي لأنها للسؤال عن المميز وصفا كان أو ذاتيا.
وعلى الثاني: كيف؟ لأنها موضوعة للسؤال عن الحال، و * (ما) * وإن سئل بها عن الوصف لكنه على سبيل الندور، وهو إما مجاز أو اشتراك - كما صرح به في " المفتاح " - والغالب السؤال بها عن الجنس، فإن أجريت هنا على الاستعمال الغالب نزل مجعول الصفة لكونه على صفة لم يوجد عليها جنسه - وهو إحياء الميت بضرب بعضه - منزلة مجهول الحقيقة فيكون سؤالا عن الجنس تنزيلا، وعن الصفة حقيقة. وإن أجريت على النادر لم يحتج إلى التنزيل المذكور، والقول إنه يمكن أن يجعل * (ما هي) * على حذف مضاف - أي ما حالها؟ - فيكون سؤالا عن نوع حال تفرع عليه هذه الخاصية - على بعده - خال عن اللطافة اللائقة بشأن الكتاب العزيز. و * (ما) * استفهامية خبر مقدم لهي والجملة في موضع نصب بيبين لأنه معلق عنها، وجاز فيه ذلك لشبهه بأفعال القلوب، والمعنى: يبين لنا جواب هذا السؤال. * (قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر) * الفارض اسم للمسنة التي انقطعت ولادتها من الكبر، والفعل - فرضت - بفتح الراء وضمها - ويقال لكل ما قدم
286

وطال أمره فارض ومنه قوله: يا رب ذي ضعن على (فارض) * له قروء كقروء الحائض
وكأن المسنة سميت - فارضا - لأنها - فرضت - سنها أي قطعتها وبلغت آخرها، و - البكر اسم للصغيرة، وزاد بعضهم - التي لم تلد من الصغر - وقال ابن قتيبة: هي التي ولدت ولدا واحدا، والبكر من النساء التي لم يمسها الرجال، وقيل: هي التي لم تحمل، والبكر من الأولاد الأول، ومن الحاجات الأولى - والبكر - بفتح الباء - الفتي من الإبل، والأنثى - بكرة - وأصله من التقدم في الزمان، ومنه - البكرة والباكورة - والاسمان صفة بقرة ولم يؤت - بالتاء - لأنهما اسمان لما ذكر، واعترضت * (لا) * بين الصفة والموصوف وكررت لوجوب تكريرها مع الخبر والنعت والحال إلا في الضرورة خلافا للمبرد وابن كيسان كقوله: قهرت العدا (لا مستعينا) بعصبة * ولكن بأنواع الخدائع والمكر
ومن جعل ذلك من الوصف بالجمل فقدر مبتدأ أي لا هي فارض ولا بكر فقد أبعد، إذ الأصل الوصف بالمفرد، والأصل أيضا أن لا حذف، وذكر (يقول) للإشارة إلى أنه من عند الله تعالى لا من عند نفسه.
* (عوان بين ذلك) * أي متوسطة السن، وقيل: هي التي ولدت بطنا أو بطنين، وقيل: مرة بعد مرة ويجمع على فعل كقوله: طوال مثل أعناق الهوادي * نواعم بين أبكار (وعون)
ويجوز ضم عين الكلمة في الشعر، وفائدة هذا بعد * (لا فارض ولا بكر) * نفي أن تكون عجلا أو جنينا، وأراد من ذلك ما ذكر من الوصفين السابقين وبهذا صح الإفراد وإضافة (بين) إليه فإنه لا يضاف إلا إلى متعدد وكون الكلام مما حذف منه المعطوف لدلالة المعنى عليه والتقدير عوان بين ذلك وهذا أي - الفارض والبكر - فيكون نظير قوله: فما كان بين الخير لو جاء سالما * أبو حجر (إلا ليال) قلائل
حيث أراد بين الخير وباعثه تكلف مستغنى عنه بما ذكر. واختار السجاوندي أن المراد في وسط زمان الصلاح للعوان واعتداله تقول: سافرت إلى الروم وطفت بين ذلك، فالمشار إليه عوان وارتضاه بعض المحققين مدعيا أو أولى لئلا يفوت معنى بين ذلك لأن أهل اللغة قالوا: بقرة عوان (لا فارض ولا بكر) وعلى الشائع ربما يحتاج
الأمر إلى تجريد كما لا يخفى، ثم إن عود الضمائر المذكورة في السؤال والجواب وإجراء تلك الصفات على بقرة يدل على أن المراد بها معينة لأن الأول: يدل على أن الكلام في البقرة المأمور بذبحها، والثاني: يفيد أن المقصد تعيينها وإزالة إبهامها بتلك الصفات كما هو شأن الصفة لا أنها تكاليف متغايرة بخلاف ما إذا ذكر تلك الصفات بدون الإجراء، وقيل: (إنها لا فارض ولا بكر) فإنه يحتمل أن يكون المقصود منه تبديل الحكم السابق، والقول: - بأنهم لما تعجبوا من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيا ظنوها معينة خارجة عما عليه الجنس فسألوا عن حالها وصفتها فوقعت الضمائر لمعينة باعتقادهم فعينت تشديدا عليهم وإن لم يكن المراد منها أول الأمر معينة - ليس بشيء لأنه حينئذ لم تكن الضمائر عائدة إلى ما أمروا بذبحها بل ما اعتقدوها، والظاهر خلافه واللازم على هذا تأخير البيان عن وقت الخطاب وليس بممتنع والممتنع تأخيره عن وقت الحاجة إلا عند من يجوز
287

التكليف بالمحال وليس بلازم إذ لا دليل على أن الأمر هنا للفور حتى يتوهم ذلك ومن الناس من أنكروا ذلك وادعوا أن المراد بها بقرة من نوع البقر بلا تعيين وكان يحصل الامتثال لو ذبحوا أي بقرة كانت إلا أنها انقلبت مخصوصة بسؤالهم - وإليه ذهب جماعة من أهل التفسير - وتمسكوا بظاهر اللفظ فإنه مطلق فيترك على إطلاقه مع ما أخرجه ابن جرير بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما موقوفا لو ذبحوا أي بقرة أرادوا لأجزأتهم ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله تعالى عليهم، وأخرجه سعيد بن منصور في " سننه " عن عكرمة مرفوعا مرسلا وبأنه لو كانت معينة لما عنفهم على التمادي وزجرهم عن المراجعة إلى السؤال، واللازم حينئذ النسخ قبل الفعل بناءا على مذهب من يقول الزيادة على الكتاب نسخ كجماهير الحنفية القائلين بأن الأمر المطلق يتضمن التخيير وهو حكم شرعي والتقييد يرفعه وهو جائز بل واقع كما في حديث فرض الصلاة ليلة المعراج، والممتنع النسخ قبل التمكن من الاعتقاد بالاتفاق لأنه بداء وقبل التمكن من الفعل عند المعتزلة وليس بلازم - على ما قيل - على أنه قيل: يمكن أن يقال: ليس ذلك بنسخ لأن البقرة المطلقة متناولة للبقرة المخصوصة وذبح البقرة المخصوصة ذبح للبقرة مطلقا فهو امتثال للأمر الأولي فلا يكون نسخا، واعترض على كون التخيير حكما شرعيا الخ بالمنع مستندا بأن الأمر المطلق إنما يدل على إيجاب ماهية من حيث هي بلا شرط لكن لما تتحقق إلا في ضمن فرد معين جاء التخيير عقلا من غير دلالة النص عليه وإيجاب الشيء لا يقتضي إيجاب مقدمته العقلية إذ المراد بالوجوب الوجوب الشرعي، ومن الجائز أن يعاقب المكلف على ترك ما يشمله مقدمة عقلية ولا يعاقب على ترك المقدمة، ونسب هذا الاعتراض لمولانا القاضي في منهياته - وفيه تأمل - وذكر بعض المحققين أن تحقيق هذا المقام أنه إن كان المراد بالبقرة المأمور بذبحها مطلق البقرة أي بقرة كانت فالنسخ جائز لأن شرط النسخ التمكن من الاعتقاد وهو حاصل بلا ريب، وإن كان البقرة المعينة فلا يجوز النسخ لعدم التمكن من الاعتقاد حينئذ لأنه إنما حصل بعد الاستفسار فاختلاف العلماء في جواز النسخ وعدمه في هذا المقام من باب النزاع اللفظي فتدبر.
* (فافعلوا ما تؤمرون) * أي من ذبح البقرة ولا تكرروا السؤال ولا تتعنتوا، وهذه الجملة يحتمل أن تكون من قول الله تعالى لهم، ويحتمل أن تكون من قول موسى عليه السلام حرضهم على امتثال ما أمروا به شفقة منه عليهم، و * (ما) * موصولة والعائد محذوف أي ما تؤمرونه بمعنى ما تؤمرون به، وقد شاع حذف الجار في هذا الفعل حتى لحق بالمتعدي إلى مفعولين فالمحذوف من أول الأمر هو المنصوب، وأجاز بعضهم أن تكون * (ما) * مصدرية أي - فافعلوا أمركم - ويكون المصدر بمعنى المفعول كما في قوله تعالى: * (والله خلقكم وما تعملون) * (الصافات: 96) على أحد الوجهين، وفيه بعد لأن ذلك في الحاصل بالسبك قليل وإنما كثر في صيغة المصدر.
* (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفرآء فاقع لونها تسر الن‍اظرين) *
إسناد البيان في كل مرة إلى الله عز وجل لإظهار كمال المساعدة في إجابة مسؤولهم وصيغة الاستقبال لاستخضار الصورة - والفقوع - أشد ما يكون من الصفرة وأبلغه والموصف به للتأكيد - كأمس الدابر - وكذا في قولهم أبيض ناصع، وأسود حالك، وأحمر قان، وأخضر ناضر، و (لونها) مرفوع بفاقع ولم يكتف بقوله صفراء فاقعة لأنه أراد تأكيد نسبة الصفرة فحكم عليها أنها صفراء ثم حكم على اللون أنه شديد الصفرة فابتدأ أولا بوصف البقرة بالصفرة ثم أكد ذلك بوصف اللون بها فكأنه قال: هي صفراء ولونها شديد الصفرة، وعن الحسن سوداء
288

شديدة السواد ولا يخفى أنه خلاف الظاهر لأن الصفرة - وإن استعملها العرب بهذا المعنى - نادرا كما أطلقوا الأسود على الأخضر لكنه في الإبل خاصة على ما قيل في قوله تعالى: * (جمالات صفر) * (المراسلات: 33) لأن سواد الإبل تشوبه صفرة وتأكيده بالفقوع ينافيه لأنه من وصف الصفرة في المشهور، نعم ذكر في " اللمع " أنه يقال: أصفر فاقع، وأحمر فاقع، ويقال: في الألوان كلها فاقع وناصع إذا أخلصت فعليه لا يرد ما ذكر، ومن الناس من قال: إن الصفرة - استعيرت هنا للسواد، وكذا فاقع لشديد السواد وهو ترشيح ويجعل سواده من جهة البريق واللمعان - وليس بشيء، وجوز بعضهم أن يكون (لونها) مبتدأ وخبره إما (فاقع) أو الجملة بعده، والتأنيث على أحد معنيين، أحدهما: لكونه أضيف إلى مؤنث كما قالوا: ذهبت بعض أصابعه؛ والثاني: أنه يراد به المؤنث إذ هو الصفرة فكأنه قال: صفرتها تسر الناظرين ولا يخفى بعد ذلك. و - السرور - أصله لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه أو رؤية أمر معجب رائق، وأما نفسه فانشراح مستبطن فيه - وبين السرور، والحبور، والفرح - تقارب لكن السرور هو الخالص المنكتم سمي بذلك اعتبارا بالاسرار، والحبور ما يرى حبره - أي أثره - في ظاهر البشرة وهما يستعملان في المحمود. وأما الفرح فما يحصل بطرا وأشرا ولذلك كثيرا ما يذم كما قال تعالى: * (إن الله لا يحب الفرحين) * (القصص: 76) والمراد به هنا عند بعض الإعجاب مجازا للزومه له غالبا، والجملة صفة البقرة أي تعجب الناظرين إليها. وجمهور المفسرين يشيرون إلى أن الصفرة من الألوان السارة ولهذا كان علي كرم الله تعالى وجهه يرغب في النعال الصفر ويقول من لبس نعلا أصفر قل همه، ونهى ابن الزبير ويحيى بن أبي كثير عن لباس النعال السود لأنها تغم، وقرىء - يسر - بالياء فيحتمل أن يكون (لونها) مبتدأ - ويسر - خبره ويكون (فاقع) صفة تابعة لصفراء على حد قوله: وإني لأسقي الشرف (صفراء فاقعا) * كأن ذكى
المسك فيها يفتق
إلا أنه قليل حتى قيل: بابه الشعر، ويحتمل أن يكون لونها فاعلا بفاقع و - يسر - إخبار مستأنف.
* (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هى إن البقر تش‍ابه علينا وإنآ إن شآء الله لمهتدون) *
* (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) * إعادة للسؤال عن الحال والصفة لا لرد الجواب الأول - بأنه غير مطابق وأن السؤال باق على حاله - بل لطلب الكشف الزائد على ما حصل وإظهار أنه لم يحصل البيان التام.
* (إن البقر تش‍ابه علينا) * تعليل لقوله تعالى: * (ادع) * كما في قوله تعالى: * (صل عليهم إن صلاتك سكن لهم) * (التوبة: 103) وهو اعتذار لتكرير السؤال أي إن البقر الموصوف بما ذكر كثير فاشتبه علينا، والتشابه مشهور في البقر، وفي الحديث: " فتن كوجوه البقر " أي يشبه بعضها بعضا، وقرأ يحيى وعكرمة - والباقران الباقر - وهو اسم لجماعة البقر، والبقر اسم جنس جمعي يفرق بينه وبين واحده بالتاء ومثله يجوز تذكيره وتأنيثه - ك‍ * (نخل منقعر) * (القمر: 20) * (والنخل باسقات) * - (ق: 10) وجمعه أباقر، ويقال فيه: بيقور وجمع بواقر، وفي " البحر " إنما سمي هذا الحيوان بذلك لأنه يبقر الأرض أي يشقها للحرث، وقرأ الحسن * (تشابه) * بضم الهاء جعله مضارعا محذوف التار وماضيه (تشابه) وفيه ضمير يعود على البقر على أنه مؤنث، والأعرج كذلك إلا أنه شدد الشين، والأصل - تتشابه - فأدغم، وقرىء تشبه - بتشديد الشين - على صيغة المؤنث من المضارع المعلوم، ويشبه بالياء والتشديد على صيغة المضارع المعلوم أيضا، وابن مسعود - يشابه - بالياء والتشديد جمعله مضارعا من تفاعل لكنه أذغم التاء في الشين، وقرىء مشتبه ومتشبه ويتشابه - والأعمش - متشابه، ومتشابهة - وقرىء - تشابهت - بالتخفيف، وفي مصحف أبي بالتشديد، واستشكل بأن التاء لا تدغم إلا في المضارع، وليس في زنة الأفعال فعل ماض على تفاعل بتشديد الفاء ووجه بأن أصله -
289

إن البقرة تشابهت - فالتاء الأولى من البقرة؛ والثانية من الفعل فلما اجتمع مثلان أدغم نحو - الشجرة تمايلت - إلا أن جعل التشابه في بقرة ركيك، والأهون القول بعدم ثبوت هذه القراءة فإن دون تصحيحها على وجه وجيه خرط القتاد، ويشكل أيضا - تشابه - من غير تأنيث لأنه كان يجب ثبوت علامته إلا أن يقال: إنه على حد قوله: ولا أرض أبقل إبقالها
وابن كيسان يجوزه في السعة.
* (وإنا إن شاء الله لمهتدون) * أي إلى عين البقرة المأمور بذبحها، أو لما خفي من أمر القاتل، أو إلى الحكمة التي من أجلها أمرنا، وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس - مرفوعا معضلا - وسعيد عن عكرمة - مرفوعا مرسلا - وابن أبي حاتم عن أبي هريرة - مرفوعا موصولا - أنهصلى الله عليه وسلم قال: " لو لم يستثنوا لما تبينت لهم آخر الابد " واحتج بالآية على أن الحوادث بارادة الله تعالى حيث علق فيما حكاه وجود الاهتداء الذي هو من جملة الحوادث بتعلق المشيئة وهي نفس الإرادة وما قصه الله تعالى في كتابه من غير نكير فهو حجة على ما عرف في محله، وهذا مبني على القول بترادف المشيئة والإرادة، وفيه خلاف وأن كون ما ذكر بالإرادة مستلزم لكون جميع الحوادث بها - وفيه نظر - واحتج أيضا بها على أن الأمر قد ينفك عن الإرادة وليس هو الإرادة كما يقوله المعتزلة لأنه تعالى لما أمرهم بالذبح فقد أراد اهتداءهم في هذه الواقعة فلا يكون لقوله: إن شاء الله الدال على الشك وعدم تحقق الاهتداء فائدة بخلاف ما إذا قلنا: إنه تعالى قد يأمر بما لا يريد، والقول بأنه يجوز أن يكون أولئك معتقدين على خلاف الواقع للانفكاك، أو يكون مبنيا على ترددهم في كون الأمر منه تعالى يدفعه التقرير إلا أنه يرد أن الاحتجاج إنما يتم لو كان معنى * (لمهتدون) * الاهتداء إلى المراد بالأمر أما لو كان المراد إن شاء الله اهتداءنا في أمر ما لكنا مهتدين فلا إلا أنه خلاف الظاهر كالقول بأن اللازم أن يكون المؤمور به وهو الذبح مرادا ولا يلزمه الاهتداء إذ يجوز أن يكون لتلك الإرادة حكمة أخرى بل هذا أبعد بعيد، والمعتزلة والكرامية يحتجون بالآية على حدوث إرادته تعالى بناء على أنها والمشيئة سواء لأن كلمة (إن) دالة على حصول الشرط في الاستقبال وقد تعلق الاهتداء الحادث بها، ويجاب بأن التعليق باعتبار التعلق فاللازم حدوث التعلق ولا يلزمه حدوث نفس الصفة وتوسط الشرط بين اسم (إن) وخبرها لتتوافق رؤوس الآي، وجاء خبر (إن) اسما لأنه أدل على الثبوت وعلى أن الهداية حاصلة لهم وللاعتناء بذلك أكد الكلام.
* (قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الارض ولا تسقى الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الا‍ان جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون) *
* (قال إنه يقول إنها بقرة لاذلول) * صفة * (بقرة) * وهو من الوصف بالمفرد، ومن قال: هو من الوصف بالجملة، وأن التقدير لا هي ذلول فقد أبعد عن الصواب، و * (لا) * بمعنى غير، وهو اسم على ما صرح به السخاوي وغيره لكن لكونها في صورة الحرف ظهر إعرابها فيما بعدها، ويحتمل أن تكون حرفا - كالا - التي بمعنى غير في مثل قوله تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * (الأنبياء: 22) و - الذلول - الريض الذي زالت صعوبته يقال: دابة ذلول بينة الذي بالكسر، ورجل ذلول بين الذل بالضم.
* (تثير الأرض ولا تسقي الحرث) * * (لا) * صلة لازمة لوجوب التكرار في هذه الصورة وهي مفيدة للتصريح بعموم النفي إذ بدونها يحتمل أن يكون لنفى الاجتماع، ولذا تسمى المذكرة و - الإثارة - قلب الأرض للزراعة من أثرته إذا هيجته، والحرث الأرض المهيأة للزرع أو هي شق الأرض ليبذر فيها، ويطلق على ما حرث وزرع، وعلى نفس الزرع أيضا، والفعلان صفتا ذلول والصفة يجوز وصفها على ما ارتضاه بعض النحاة وصرح به السمين والفعل الأول داخل في حيز النفي والمقصود نفي إثارتها الأرض - أي لا تثير الأرض - فتذل فهو من باب:
290

على لا حب لا يتهدي بمناره
ففيه نفي للأصل والفرع معا، وانتفاء الملزوم بانتفاء اللازم، قال الحسن: كانت هذه البقرة وحشية ولهذا وصفت بأنها * (لا تثير الأرض) * الخ، وذهب قوم إلى أن تثير مثبت لفظا ومعنى؛ وأنه أثبت للبقرة أنها تثير الأرض وتحرثها ونفى عنها سقي الحرث، ورد بأن ما كان يحرث لا ينتفي عنه كونه ذلولا، وقال بعض: المراد إنها تثير الأرض بغير الحرث بطرا ومرحا، ومن عادة البقر إذا بطرت تضرب بقرونها وأظلافها فتثير تراب الأرض فيكون هذا من تمام قوله: * (لا ذلول) * لأن وصفها بالمرح والبطر دليل على ذلك - وليس عندي بالبعيد - وذهب بعضهم كما في الكواشي إلى أن جملة * (تثير) * في محل نصب على الحال، قال ابن عطية: ولا يجوز ذلك لأنها من نكرة، واعترض بأنه إن أراد بالنكرة بقرة فقد وصفت، والحال من النكرة الموصوفة جائزة جوازا حسنا وإن أراد بها * (لا ذلول) * فمذهب سيبويه جواز مجيء الحال من النكرة وإن لم توصف، وقد صرح بذلك في مواضع من كتابه اللهم إلا أن يقال: إنه تبع الجمهور في ذلك - وهم على المنع - وجعل الجملة حالا من الضمير المستكن في ذلول أي: لا ذلول في حال إثارتها ليس بشيء، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: * (لا ذلول) * بالفتح فلا للتبرئة، والخبر محذوف أي هناك، والمراد مكان وجدت هي فيه، والجملة صفة ذلول، وهو نفي لأن توصف بالذل، ويقال: هي ذلول بطريق الكناية لأنه لو كان في مكان البقرة لكانت موصوفة به ضرورة اقتضاء الصفة للموصوف، فلما لم يكن في مكانها لم تكن موصوفة به، فهذا كقولهم محل - فلان - مظنة الجود والكرم، وهذا أولى مما قيل: إن * (تثير) * خبر * (لا) * والجملة معترضة بين الصفة والموصوف لأنه أبلغ كما لا يخفى، وبعضهم خرج القراءة على البناء نظرا إلى صورة * (لا) * كما - في كنت بلا مال - بالفتح، وليس بشيء لأن ذلك مقصور على مورد السماع، وليس بقياسي على ما يشعر به كلام الرضى وقرىء * (تسقي) * بضم حرف المضارعة من أسقى بمعنى سقى، وبعض فرق بينهما بأن سقى لنفسه، وأسقى لغيره كماشيته وأرضه.
* (مسلمة لاشية فيها) * أي سلمها الله تعالى من العيوب قاله ابن عباس، أو أعفاها أهلها من سائر أنواع الاستعمال قاله الحسن، أو مطهرة من الحرام لا غضب فيها ولا سرقة قاله عطاء، أو أخلص لونها من الشيات قاله مجاهد، والأولى: ما ذهب إليه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لأن المطلق ينصرف إلى الكامل ولكونه تأسيسا، وعلى آخر الأقوال يكون * (لا شية فيها) * أي لا لون فيها يخالف لونها تأكيدا والتضعيف هنا للنقل والتعدية، ووهم غير واحد فزعم أنه للمبالغة، و - الشية - مصدر وشيت الثوب أشيه وشيا إذا زينته بخطوط مختلفة الألوان فحذف فاؤه - كعدة وزنة - ومنه الواشي للنمام، قيل: ولا يقال له: واش حتى يغير كلامه ويزينه، ويقال: ثور أشيه، وفرس أبلق، وكبش أخرج، وتيس أبرق، وغراب أبقع - كل ذلك بمعنى البلقة - وفي " البحر " ليس الأشيه في قولهم: ثور أشيه للذي فيه بلق مأخوذا من الشيه لاختلاف المادتين، و - شية - اسم * (لا) * و * (فيها) * خبره.
* (قالوا ال‍ائن جئت بالحق) * أي أظهرت حقيقة ما أمرنا به فالحق هنا بمعنى الحقيقة، وقيل: بمعنى الأمر المقضي أو اللازم؛ وقيل: بمعنى القول المطابق للواقع ولم يريدوا أن ما سبق لم يكن حقا بل أرادوا أنه لم يظهر الحق به كمال الظهور فلم يجىء بالحق بل أومأ إليه فعلى هذه الأقوال لم يكفروا بهذا القول، وأجراه قتادة على ظاهره وجعله - متضمنا أن ما جئت به من قبل - كان باطلا فقال: إنهم كفروا بهذا القول، والأولى عدم الإكفار. و (الآن)
291

ظرف زمان لازم البناء على الفتح ولا يجوز تجريده من - أل - واستعماله على خلافه لحن، وهي تقتضي الحال وتخلص المضارع له غالبا، وقد جاءت حيث لا يمكن أن تكون له نحو * (فالآن باشروهن) * (البقرة: 187) إذا الأمر نص في الاستقبال، وادعى بعضهم إعرابها لقوله: كأنهما ملآن لم يتغيرا
يريد من الآن فجره وهو يحتمل البناء على الكسر، و (أل) فيها للحضور عند بعض، وزائدة عند آخرين، وبنيت لتضمنها معنى الإشارة، أو لتضمنها معنى - أل - التعريفية - كسحر - وقرىء (آلآن) بالمد على الاستفهام التقريري إشارة إلى استبطائه وانتظارهم له.
وقرأ نافع بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وعنه روايتان حذف واو * (قالوا) * وإثباتها فذبحوها أي فطلبوا هذه البقرة الجامعة للأوصاف السابقة وحصلوها * (فذبحوها) * فالفاء فصيحة عاطفة على محذوف إذ لا يترتب الذبح على مجرد الأمر بالذبح، وبيان صفتها وحذف لدلالة الذبح عليه؛ وتحصيلها كان باشترائها من الشاب البار بأبويه كما تظافرت عليه أقوال أكثر المفسرين والقصة مشهورة، وقيل: - كانت وحشية فأخذوها، وقيل: لم تكن من بقر الدنيا بل أنزلها الله تعالى من السماء - وهو قول هابط إلى تخوم الأرض، قيل: ووجه الحكمة في جعل البقرة آلة دون غيرها من البهائم أنهم كانوا يعبدون البقر والعجاجيل وحبب ذلك في قلوبهم، لقوله تعالى: * (وأشربوا في قلوبهم العجل) * (البقرة: 93) ثم بعد ما تابوا أراد الله تعالى أن يمتحنهم بذبح ما حبب إليهم ليكون حقيقة لتوبتهم، وقيل: - ولعله ألطف وأولى - إن الحكمة في هذا الأمر إظهار توبيخهم في عبادة العجل بأنكم كيف عبدتم ما هو في صورة البقرة مع أن الطبع لا يقبل أن يخلق الله تعالى فيه خاصية يحيا به ميت بمعجزة نبي؟! وكيف قبلتم قول السامري إنه إلهكم وها أنتم لا تقبلون قول الله سبحانه: إنه يحيا بضرب لحمة منه الميت سبحان الله تعالى! هذا الخرق العظيم
* (وما كادوا يفعلون) * كنى على الذبح بالفعل أي - وما كادوا يذبحون - واحتمال أن يكون المراد: وما كادوا يفعلون ما أمروا به بعد الذبح من ضرب بعضها على الميت بعيد، و - كاد - موضوعة لدنو الخبر حصولا ولا يكون خبرها في المشهور إلا مضارعا دالا على الحال لتأكيد القرب، واختلف فيها فقيل: هي في الإثبات نفي وفي النفي إثبات، فمعنى - كاد زيد يخرج - قارب ولم يخرج وهو فاسد لأن معناها مقاربة الخروج، وأما عدمه فأمر عقلي خارج عن المدلول ولو صح ما قاله لكان قارب ونحوه كذلك ولم يقل به أحد، وقيل: هي في الإثبات إثبات وفي النفي الماضي إثبات وفي المستقبل على قياس الأفعال. وتمسك القائل بهذه الآية لأنه لو كان معنى * (وما كادوا) * هنا نفيا للفعل عنهم لناقض قوله تعالى: * (فذبحوها) * حيث دل على ثبوت الفعل لهم والحق أنها في الإثبات والنفي كسائر الأفعال، فمثبتها لإثبات القرب، ومنفيها لنفيه، والنفي والإثبات في الآية محمولان على اختلاف الوقتين أو الاعتبارين فلا تناقض إذ من شرطه اتحاد الزمان والاعتبار، والمعنى أنهم ما
قاربوا ذبحها حتى انقطعت تعللاتهم فذبحوا كالملجأ أو فذبحوها ائتمارا وما كادوا من الذبح خوفا من الفضيحة أو استثقالا لغلو ثمنها حيث روى أنهم اشتروها بملء جلدها ذهبا، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير؛ واستشكل القول باختلاف الوقتين بأن الجملة حال من فاعل * (ذبحوها) * فيجب مقارنة مضمونها لمضمون العامل، والجواب بأنهم صرحوا بأنه قد يقيد بالماضي فإن كان مثبتا قرب - بقد - لتقربه من الحال وإن كان منفيا - كما هنا - لم يقرن بها لأن الأصل استمرار النفي فيفيد المقاربة لا يجدي نفعا لأن عدم مقاربة الفعل لا يتصور مقارنتها له، ولهذا عول بعض المتأخرين في الجواب على أن * (وما كادوا يفعلون) * كناية عن تعسر الفعل وثقله عليهم وهو مستمر باق، وقد صرح في " شرح التسهيل "
292

أنه قد يقول القائل - لم يكد زيد يفعل - ومراده أنه فعل بعسر لا بسهولة وهو خلافا الظاهر الذي وضع له اللفظ فافهم.
* (وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون) *
* (وإذ قتلتم نفسا) * أي شخصا أو ذا نفس، ونسبة القتل إلى المخاطبين لوجوده فيهم على طريقة العرب في نسبة الأشياء إلى القبيلة إذا وجد من بعضها ما يذم به أو يمدح، وقول بعضهم: - إنه لا يحسن إسناد فعل أو قول صدر عن البعض إلى الكل إلا إذا صدر عنه بمظاهرتهم أو رضا منهم - غير مسلم، نعم لا بد لإسناده إلى الكل من نكتة ما، ولعلها هنا الإشارة إلى أن الكل بحيث لا يبعد صدور القتل منهم لمزيد حرصهم وكثرة طمعهم وعظم جرأتهم: فهم كأصابع الكفين طبعا * وكل منهم طمع جسور
وقيل: إن القاتل جمع وهم ورثة المقتول، وقد روي أنهم اجتمعوا على قتله؛ ولهذا نسب القتل إلى الجمع
* (فادارءتم فيها) * أصله تدارأتم من الدرء وهو الدفع فاجتمعت التاء والدال مع تقارب مخرجيهما وأريد الإدغام فقلبت التاء دالا وسكنت للإدغام فاجتلبت همزة الوصل للتوصل إلى الإبتداء بها، وهذا مطرد في كل فعل على تفاعل أو تفعل فاؤه - تاء أو طاء، أو ظاء، أو صاد، أو ضاد - والتدارؤ هنا إما مجاز عن الاختلاف والاختصام، أو كناية عنه إذ المتخاصمان يدفع كل منهما الآخر، أو مستعمل في حقيقته أعني التدافع بأن طرح قتلها كل عن نفسه إلى صاحبه فكل منهما من حيث إنه مطروح عليه يدفع الآخر من حيث إنه طارح، وقيل: إن طرح القتل في نفسه نفس دفع الصاحب - وكل من الطارحين دافع فتطارحهما - تدافع، وقيل: إن كلا منهما يدفع الآخر عن البراءة إلى التهمة فإذا قال أحدهما: أنا بريء وأنت متهم يقول الآخر: بل أنت المتهم وأنا البريء، ولا يخفى أن ما ذكر على كل ما فيه بالمجاز أليق، ولهذا عد ذلك أبو حيان من المجاز، والضمير في * (فيها) * عائد على النفس، وقيل: على القتلة المفهومة من الفعل، وقيل: على التهمة الدال عليها معنى الكلام، وقرأ أبو حيوة * (فتدارأتم) * على الأصل، وقيل: قرأ هو وأبو السوار - فادرأتم - بغير ألف قبل الراء، وإن طائفة أخرى قرءوا - فتدارأتم -.
* (والله مخرج ما كنتم تكتمون) * أي مظهر لا محالة ما كنتم تكتمونه من أمر القتيل، والقاتل كما يشير إليه بناء الجملة الاسمية وبناء اسم الفاعل على المبتدأ المفيد لتأكيد الحكم وتقويه - وذلك بطريق التفضل عندنا - والوجوب عند المعتزلة وتقدير المتعلق خاصا هو ما عليه الجمهور، وقيل: يجوز أن يكون عاما في القتيل وغيره، ويكون القتيل من جملة أفراده، وفيه نظر إذ ليس كل ما كتموه عن الناس أظهره الله تعالى، وأعمل * (مخرج) * لأنه مستقبل بالنسبة للحكم الذي قبله، وهو التدارؤ - ومضيه الآن - لا يضر والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار. وفي " البحر " - إن كان - للدلالة على تقدم الكتمان.
* (فقلنا اضربوه ببعضها كذالك يحى الله الموتى ويريكم آي‍اته لعلكم تعقلون) *
* (فقلنا اضربوه ببعضها) * عطف على قوله تعالى: * (فادارأتم) * وما بينهما اعتراض يفيد أن كتمان القاتل لا ينفعه، وقيل: حال أي والحال أنكم تعلمون ذلك. والهاء في * (اضربوه) * عائد على النفس بناء على تذكيرها إذ فيها التأنيث - وهو الأشهر - والتذكير، أو على تأويل الشخص أو القتيل، أو على أن الكلام على حذف مضاف أي ذا نفس، وبعد الحذف أقيم المضاف إليه مقامه، وقيل: الأظهر أن التذكير لتذكير المعنى، وإذا كان اللفظ مذكرا والمعنى مؤنثا أو بالعكس فوجهان، وذكر هذا الضمير - مع سبق التأنيث - تفننا أو تمييزا بين هذا الضمير والضمير الذي بعده توضيحا، والظاهر أن المراد بالبعض أي بعض كان إذ لا فائدة في تعينه
293

- ولم يرد به نقل صحيح - واختلف بم ضربوه فقيل: بلسانها أو بأصغريها أو بفخذها اليمنى أو بذنبها أو بالغضروف أو بالعظم الذي يليه أو بالبضعة التي بين الكتفين أو بالعجب أو بعظم من عظامها، ونقل أن الضرب كان على جيد القتيل، وذلك قبل دفنه، ومن قال: إنهم مكثوا في تطلبها أربعين سنة أو أنهم أمروا بطلبها ولم تكن في صلب ولا رحم قال: إن الضرب على القبر بعد الدفن، والأظهر أنه المباشر بالضرب لا القبر، وفي بعض الآثار أنه قام وأوداجه تشخب دما؛ فقال: قتلني ابن أخي، وفي رواية فلان وفلان لابني عمه ثم سقط ميتا فأخذا وقتلا وما ورث قاتل بعد ذلك، وفي بعض القصص أن القاتل حلف بالله تعالى ما قتلته فكذب بالحق بعد معاينته قال الماوردي: وإنما كان الضرب بميت لا حياة فيه لئلا يلتبس على ذي شبهة أن الحياة إنما انقلبت إليه مما ضرب به فلازالة الشبهة وتأكد الحجة كان ذلك
* (كذلك يحي الله الموتى) * جملة اعتراضية تفيد تحقق المشبه وتيقنه بتشبيه الموعود بالموجود، والمماثلة في مطلق الإحياء، وفي الكلام حذف دلت عليه الجملة أي فضربوه فحيي، والتكلم من الله تعالى مع من حضر وقت الحياة - والكاف - خطاب لكل من يصح أن يخاطب ويسمع هذا الكلام لأن أمر الإحياء عظيم يقتضي الاعتناء بشأنه أن يخاطب به كل من يصح منه الاستماع فيدخل فيه أولئك دخولا أوليا، ويدل على ذلك قوله تعالى: * (ويريكم) * الخ ولا بد على هذا من تقدير القول أي قلنا أو وقلنا لهم كذلك ليرتبط الكلام بما قبله، وقيل: حرف الخطاب مصروف إليهم، وكان الظاهر كذلكم على وفق ما بعده إلا أنه أفرده بإرادة كل واحد أو بتأويل فريق ونحوه قصدا للتخفيف، ويحتمل أن يكون التكلم مع من حضر نزول الآية، وعليه لا تقدير إذ ينتظم بدونه بل ربما يخرج معه من الانتظام، وأبعد الماوردي فجعله خطابا من موسى نفسه عليه السلام
* (ويريكم ءاياته) * مستأنف أو معطوف على ما قبله، والظاهر أن الآيات جمع في اللفظ والمعنى، والمراد بها الدلائل الدالة على أن الله تعالى على كل شيء قدير، ويجوز أن يراد بها هذا الإحياء، والتعبير عنه بالجمع لاشتماله على أمور بديعة من ترتب الحياة على الضرب بعضو ميت، وإخبار الميت بقاتله وما يلابسه من الأمور الخارقة للعادات، وفي " المنتخب " أن التعبير عن الآية الواحدة بالآيات لأنها تدل على وجود الصانع القادر على كل المقدورات العالم بكل المعلومات المختار في الإيجاد والإبداع، وعلى صدق موسى عليه السلام، وعلى براءة ساحة من لم يكن قاتلا، وعلى تعين تلك التهمة على من باشر القتل
* (لعلكم تعقلون) * أي لكي تعقلوا الحياة بعد الموت والبعث والحشر فإن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء الأنفس كلها لعدم الاختصاص * (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) * (لقمان: 28) أو لكي يكمل عقلكم أو لعلكم تمتنعون من عصيانه وتعملون على قضية عقولكم، وقد ذكر المفسرون أحكاما فقهية انتزعوها واستدلوا عليها من قصة هذا القتيل ولا يظهر ذلك من الآية ولا أرى لذكر ذلك طائلا سوى الطول هذا.
ومن باب الإشارة: إن البقرة هي النفس الحيوانية حين زال عنها شره الصبا ولم يلحقها ضعف الكبر وكانت معجبة رائقة النظر لا تثير أرض الاستعداد بالأعمال الصالحة ولا تسقي حرث المعارف والحكم التي فيها بالقوة بمياه التوجه إلى حضرة القدس والسير إلى رياض الأنس، وقد سلمت لترعى أزهار الشهوات ولم تقيد بقيود الآداب والطاعات فلم يرسخ فيها مذهب واعتقاد، ولم يظهر عليها ما أودع فيها من أنواع الاستعداد، وذبحها قمع هواها ومنعها عن
294

أفعالها الخاصة بها بشفرة سكين الرياضة فمن أراد أن يحيا قلبه حياة طيبة ويتحلى بالمعارف الإلهية والعلوم الحقيقية وينكشف له حال الملك والملكوت وتظهر له أسرار الاهوت والجبروت ويرتفع ما بين عقله ووهمه من التدارؤ والنزاع الحاصل بسبب الألف للمحسوسات فليذبحها وليوصل أثره إلى قلبه الميت فهناك يخرج المكتوم وتفيض بحار العلوم وهذا الذبح هو الجهاد الأكبر والموت الأحمر وعقباه الحياة الحقيقية والسعادة الأبدية. ومن لم يمت في حبه لم يعش به * ودون اجتناء النحل ما جنت النحل
وقد أشير بالشيخ والعجوز والطفل والشاب المقتول على ما في بعض الآثار في هذه القصة إلى الروح والطبيعة الجسمانية والعقل والقلب وتطبيق سائر ما في القصة بعد هذا إليك هذا وسلام الله تعالى عليك.
* (ثم قست قلوبكم من بعد ذالك فهى ك الحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنه‍ار وإن منها لما يشقق فيخرج منه المآء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغ‍افل عما تعملون) *
* (ثم قست قلوبكم) * القسوة في الأصل اليبس والصلابة وقد شبهت هنا حال قلوبهم وهي نبوها عن الاعتبار بحال قسوة الحجارة في أنها لا يجري فيها لطف العمل ففي * (قست) * استعارة تبعية أو تمثيلية، و * (ثم) * لاستبعاد القسوة بعد مشاهدة ما يزيلها، وقيل: إنها للتراخي في الزمان لأنهم قست قلوبهم بعد مدة حين قالوا إن الميت كذب عليهم أو أنه عبارة عن قسوة عقبهم، والضمير في * (قلوبكم) * لورثة القتيل عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعند أبي العالية وغيره لبني إسرائيل * (من بعد ذالك) * أي إحياء القتيل، وقيل: كلامه، وقيل: ما سبق من الآيات التي علموها - كمسخهم قردة وخنازير، ورفع الجبل، وانبجاس الماء، والإحياء - وإلى ذلك ذهب الزجاج، وعليه تكون * (ثم قست) * الخ عطفا على مضمون جميع القصص السابقة والآيات المذكورة، وعلى سابقه تكون عطفا على قصة * (وإذ قتلتم) * (البقرة: 72) * (فهي كالحجارة) * أي في القسوة وعدم التأثر والجمع لجمع القلوب وللإشارة إلى أنها متفاوتة في القسوة كما أن الحجارة متفاوتة في الصلابة - والكاف - للتشبيه وهي حرف عند سيبويه وجمهور النحويين. والأخفش يدعى اسميتها وهي متعلقة هنا بمحذوف أي كائنة كالحجارة خلافا لابن عصفور إذ زعم أن كاف التشبيه لا تتعلق بشيء * (أو أشد قسوة) * أي من الحجارة فهي كالحديد مثلا أو كشيء لا يتأثر أصلا ولو وهما، و * (أو) * لتخيير المبالغ ويكون في التشبيه كما يكون بعد الأمر، أو للتنويع أي بعض كالحجارة وبعض أشد أو للترديد بمعنى تجويز الأمرين مع قطع النظر عن الغير على ما قيل، أو بمعنى بل ويحتاج إلى تقدير مبتدأ إذا قلنا باختصاص ذلك بالجمل، أو بمعنى الواو أو للشك وهو لاستحالته عليه تعالى يصرف إلى الغير والعلامة لا يرتضي ذلك لما أنه يؤدي إلى تجويز أن يكون معاني الحروف بالقياس إلى السامع، وفيه إخراج للألفاظ عن أوضاعها فإنها إنما وضعت ليعبر بها المتكلم عما في ضميره، والحق جواز اعتبار السامع في معاني الألفاظ عند امتناع جريها على الأصل بالنظر إلى المتكلم فلا بأس بأن يسلك ب * (أو) * في الشك مسلك لعل في الترجي الواقع في كلامه تعالى فتلك جادة مسلوكة لأهل السنة. وقد مرت الإشارة إلى ذلك فتذكر، و * (أشد) * عطف على * (كالحجارة) * من قبيل عطف المفرد على المفرد كما تقول: زيد على سفر أو مقيم، وقدر بعضهم أو هي أشد فيصير من عطف الجمل، ومن الناس من يقدر مضافا محذوفا أي مثل ما هو أشد، ويجعله معطوفا على الكاف إن كان اسما أو مجموع الجار والمجرور إذا كان حرفا، ثم لما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه فأعرب بإعرابه، ولا يخفى أن اعتبار التشبيه في جانب المعطوف بدون عطفه على المجرور بالكاف مستبعد جدا، وقرأ الأعمش * (أو أشد) * مجرورا بالفتحة لكونه غير منصرف
295

للوصف ووزن الفعل وهو عطف على الحجارة واعتبار التشبيه حينئذ ظاهر وإنما لم يقل سبحانه وتعالى - أقسى - مع أن فعل القسوة مما يصاغ منه أفعل وهو أخصر ووارد في الفصيح كقوله: كل خمصانة أرق من الخم‍ * - ر بقلب (أقسى) من الجلمود
لما في أشد المبالغة لأنه يدل على الزيادة بجوهره وهيئته بخلاف أقسى فإن دلالته بالهيئة فقط، وفيه دلالة على اشتداد القسوتين ولو كان أقسى لكان دالا على اشتراك القلوب والحجارة في القسوة، واشتمال القلوب على زيادة القسوة لا في شدة القسوة وليس هذا مثل قولك زيد أشد إكراما من عمرو حيث ذكروا أن ليس معناه إلا أنهما مشتركان في الإكرام وإكرام زيد زيد على إكرام عمرو لا أنهما مشتركان في شدة الإكرام، وشدة إكرام زيد زائدة على شدة إكرام عمرو للفرق بين ما بني للتوصل وما بني لغيره وما نحن فيه من الثاني وإن كان الأول أكثر. والاعتراض - بأن أشد محمول على القلوب دون القسوة - ليس بشيء لأنه محمول عليها بحسب المعنى لكونها
تمييزا محولا عن الفاعل أو منقولا عن المبتدأ كما في " البحر "، ويمكن أن يقال: إن الله تعالى أبرز القساوة في معرض العيوب الظاهرة تنبيها على أنها من العيوب بل العيب كل العيب ما صد عن عالم الغيب * (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) * (الحج: 46).
* (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنه‍ار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله) * تذييل لبيان تفضيل قلوبهم على الحجارة أو اعتراض بين قوله تعالى: * (ثم قست قلوبكم) * وبين الحال عنها وهو * (وما الله بغافل) * لبيان سبب ذلك فإنه لغرابته يحتاج إلى بيان السبب كما في قوله: فلا هجره يبدو وفي اليأس راحة * ولا وصفه يصفو لنا (فنكارمه)
وجعله جملة حالية مشعرة بالتعليل يأباه الذوق إذ لا معنى للتقييد، وكونه بيانا وتقريرا من جهة المعنى لما تقدم - مع كونه بحسب اللفظ معطوفا على جملة - هي كالحجارة أو أشد - كما قاله العلامة - مما لا يظهر وجهه لأنه إذا كان بيانا في المعنى كيف يصح عطفه ويترك جعله بيانا، والمعنى إن الحجارة تتأثر وتنفعل، وقلوب هؤلاء لا تتأثروا لا تنفعل عن أمر الله تعالى أصلا، وقد ترقى سبحانه في بيان التفضيل كأنه بين أولا تفضيل قلوبهم في القساوة على الحجارة التي تتأثر تأثرا يترتب عليه منفعة عظيمة من تفجر الأنهار، ثم على الحجارة التي تتأثر تأثرا ضعيفا يترتب عليه منفعة قليلة من خروج الماء، ثم على الحجارة التي تتأثر من غير منفعة فكأنه قال سبحانه: - قلوب هؤلاء أشد قسوة من الحجارة لأنها لا تتأثر بحيث يترتب عليه المنفعة العظيمة بل الحقيرة بل لا تتأثر أصلا ومما ذكر يظهر نكتة ذكر تفجر الأنهار وخروج الماء، وترك فائدة الهبوط، وذكر غير واحد أن الآية واردة على نهج التتميم دون الترقي - كالرحمن الرحيم - إذ لو أريد الترقي لقيل - وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يتفجر منه الأنهار - وفائدته استيعاب جميع الانفعالات التي على خلاف طبيعة هذا الجوهر، وهو أبلغ من الترقي، ويكون * (وإن منها) * الأخير تتميما للتتميم، ولا يخفى أنه يرد عليه منع إفادته لاستيعاب جميع الانفعالات وخلوه عن لطافة ما ذكرناه، و - التفجر - التفتح بسعة وكثرة كما يدل عليه جوهر الكلمة وبناء التفعل، والمراد من الأنهار الماء الكثير الذي يجري في الأنهار، والكلام إما على حذف المضاف، أو ذكر المحل وإرادة الحال أو الإسناد مجازي، قال بعض المحققين: وحملها على المعنى الحقيقي وهم إذ التفتح لا يمكن إسناده إلى الأنهار اللهم إلا بتضمين معنى الحصول بأن يقال: يتفجر ويحصل منه الأنهار على أن تفجير الحجارة بحيث تصير
296

نهرا غير معتاد فضلا عن كونها أنهارا، والتشقق التصدع بطول أو بعرض، والخشية الخوف، واختلف في المراد منها فذهب قوم - وهو المروي عن مجاهد وغيره - أنها هنا حقيقة، وهي مضافة إلى الاسم الكريم من إضافة المصدر إلى مفعوله - أي من خشية الحجارة الله - ويجوز أن يخلق الله تعالى العقل والحياة في الحجر، واعتدال المزاج والبنية ليسا شرطا في ذلك خلافا للمعتزلة، وظواهر الآيات ناطقة بذلك، وفي " الصحيح " " إني لأعرف حجرا كان يسلم علي قبل أن أبعث " وأنه صلى الله عليه وسلم بعد مبعثه ما مر بحجر ولا مدر إلا سلم عليه، وورد في - الحجر الأسود - أنه يشهد لمن استلمه، وحديث تسبيح الحصى بكفه الشريف صلى الله عليه وسلم مشهور، وقيل: هي حقيقة، والإضافة هي الإضافة إلا أن الفاعل محذوف هو العباد، والمعنى: أن من الحجارة ما ينزل بعضه عن بعض عند الزلزال من خشية عباد الله تعالى إياه؛ وتحقيقه أنه لما كان المقصود منها خشية الله تعالى صارت تلك الخشية كالعلة المؤثرة في ذلك الهبوط فيؤل المعنى أنه يهبط من أجل أن يحصل خشية العباد الله تعالى.
وذهب أبو مسلم إلى أن الخشية حقيقة، وأن الضمير في * (منها لما يهبط) * عائد على القلوب، والمعنى أن من القلوب قلوبا تطمئن وتسكن وترجع إلى الله تعالى، وهي قلوب المخلصين، فكنى عن ذلك بالهبوط، وقيل: إنها حقيقة إلا أن إضافتها من إضافة المصدر إلى الفاعل، والمراد بالحجر البرد، وبخشيته تعالى إخافته عباده بإنزاله وهذا القول أبرد من الثلج وما قبله أكثف من الحجر وما قبلهما بين بين وقال قوم: إن الخشية مجاز عن الانقياد لأمر الله تعالى إطلاقا لاسم الملزوم على اللازم، ولا ينبغي أن تحمل على حقيقتها، أما على القول بأن اعتدال المزاج والبنية شرط وما ورد مما يقتضي خلافه محمول على أن الله تعالى قرن ملائكته بتلك الجمادات، ومنها هاتيك الأفعال ونحو " هذا جبل يحبنا ونحبه " على حذف مضاف أي يحبنا أهله ونحب أهله فظاهر.
وأما على القول بعدم الاشتراط فلأن الهبوط والخشية على تقدير خلق العقل والحياة لا يصح أن يكون بيانا لكون الحجارة في نفسها أقل قسوة - وهو المناسب للمقام - والاعتراض بأن قلوبهم إنما تمتنع عن الانقياد لأمر التكليف بطريق القصد والاختيار ولا تمتنع عما يراد بها على طريق القسر والإلجاء كما في الحجارة وعلى هذا لا يتم ما ذكر، فالأولى الحمل على الحقيقة أجيب عنه بأن المراد أن قلوبهم أقسى من الحجارة لقبولها التأثر الذي يليق بها وخلقت لأجله بخلاف قلوبهم فإنها تنبو عن التأثر الذي يليق بها وخلقت له، والجواب بأن ما رأوه من الآيات مما يقسر القلب ويلجؤه فلما لم تتأثر قلوبهم عن القاسرات الكثيرة ويتأثر الحجر من قاسر واحد تكون قلوبهم أشد قسوة لا يخلو عن نظر لأنه إن أريد بذلك المبالغة في الدلالة على الصدق فلا ينفع، وإن أريد به حقيقة الإلجاء فممنوع، وإلا لما تخلف عنها التأثر ولما استحق من آمن بعد رؤيتها الثواب لكونه إيمانا اضطراريا - ولم يقل به أحد - ثم الظاهر على هذا تعلق خشية الله بالأفعال الثلاثة السابقة وقرىء * (وإن) * على أنها المخففة من الثقيلة ويلزمها - اللام - الفارقة بينها وبين النافية، والفراء يقول: إنها النافية - واللام - بمعنى إلا وزعم الكسائي أن * (إن) * إن وليها اسم كانت المخففة، وإن فعل كانت النافية، وقطرب إنها إن وليها فعل كانت بمعنى - قد - وقرأ مالك بن دينار * (ينفجر) * مضارع انفجر والأعمش * (يتشقق) * و * (يهبط) * - بالضم -. * (وما الله عما تعملون) * وعيد على ما ذكر كأنه قيل: إن الله تعالى لبالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم حافظ لأعمالهم محص لها، فهو مجازيهم بها في الدنيا والآخرة، وقرأ ابن كثير * (يعملون) * - بالياء التحتانية - ضما إلى
297

ما بعده من قوله سبحانه: * (أن يؤمنوا) * و * (يسمعون) * (البقرة: 75) وفريق منهم، وقرأ الباقون - بالتاء الفوقانية - لمناسبة * (وإذ قتلتم.. فأدارأتم) *
(البقرة: 72) وتكتمون الخ وقيل: ضما إلى قوله تعالى: * (أفتطمعون) * (البقرة: 75) بأن يكون الخطاب فيه للمؤمنين وعدلهم، ويبعده أنه لا وجه لذكر وعد المؤمنين تذييلا لبيان قبائح اليهود.
* (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كل‍ام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون) *
* (أفتطمعون) * الاستفهام للاستبعاد أو للإنكار التوبيخي، والجملة قيل: معطوفة على قوله تعالى: * (ثم قست) * (البقرة: 74) أو على مقدر بين - الهمزة والفاء - عند غير سيبويه، أي تحسبون أن قلوبكم صالحة للإيمان فتطمعون - والطمع - تعلق النفس بإدراك مطلوب تعلقا قويا - وهو أشد من الرجاء لا يحدث إلا عن قوة رغبة وشدة إرادة - والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: والمؤمنين - أو للمؤمنين - قاله أبو العالية وقتادة، أو للأنصار - قاله النقاش - والمروي عن ابن عباس ومقاتل أنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، والجمع للتعظيم
* (أن يؤمنوا لكم) * أي يصدقوا مستجيبين لكم، فالإيمان بالمعنى اللغوي والتعدية - باللام - للتضمين كما في قوله تعالى: * (فآمن له لوط) * (العنكبوت: 26) أو يؤمنوا لأجل دعوتكم لهم فالفعل - منزل منزلة اللازم - والمراد بالإيمان المعنى الشرعي - واللام لام الأجل - وعلى التقديرين * (أن يؤمنوا) * معمول ل‍ تطمعون على إسقاط حروف الجر وهو في موضع نصب عند سيبويه، وجر عند الخليل والكسائي، وضمير الغيبة لليهود المعاصرين له صلى الله عليه وسلم لأنهم المطموع في إيمانهم، وقيل: المراد جنس اليهود ليصح جعل طائفة منهم مطموع الإيمان وطائفة محرفين وفيه ما لا يخفى.
* (وقد كان فريق منهم) * أي طائفة من أسلافهم وهم الأحبار * (يسمعون كلام الله ثم يحرفونه) * أي يسمعون التوراة ويؤولونها تأويلا فاسدا حسب أغراضهم، وإلى ذلك ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والجمهور على أن تحريفها بتبديل كلام من تلقائهم - كما فعلوا ذلك في نعته صلى الله عليه وسلم - فإنه روي أن من صفاته فيها أنه أبيض ربعة فغيروه بأسمر طويل وغيروا آية الرجم بالتسخيم وتسويد الوجه - كما في البخاري - وقيل: المراد بكلام الله تعالى ما سمعوه على الطور، فيكون المراد من الفريق طائفة من أولئك السبعين، وقد روى الكلبي أنهم سألوا موسى عليه السلام أن يسمعهم كلامه تعالى، فقال لهم: اغتسلوا والبسوا الثياب النظيفة ففعلوا فأسمعهم الله تعالى كلامه، ثم قالوا: سمعنا يقول في آخره: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شئتم فلا تفعلوا. والتحريف على هذا الزيادة. ثم لا يخفى أن فيما افتروا شاهدا على فساده حيث علقوا الأمر بالاستطاعة والنهي بالمشيئة - وهما لا يتقابلان - وكأنهم أرادوا بالأمر غير الموجب على معنى افعلوا إن شئتم وإن شئتم فلا تفعلوا كذا أفاده العلامة ومقصوده بيان منشأ تحريفهم الفاسد، فلا ينافي كون عدم التقابل شاهدا على فساده، ومقتضى هذه الرواية أن هؤلاء سمعوا كلامه تعالى بلا واسطة كما سمعه موسى عليه السلام، والمصحح أنهم لم يسمعوا بغير واسطة، وأن ذلك مخصوص به عليه السلام، وقيل: المراد به الوحي المنزل على نبينا صلى الله عليه وسلم، كان جماعة من اليهود يسمعونه فيحرفونه قصدا أن يدخلوا في الدين ما ليس منه، ويحصل التضاد في أحكامه * (ويأبى الله إلا أن يتم نوره) * (التوبة: 32) وقرأ الأعمش * (كلم الله) *.
* (من بعد ما عقلوه) * أي ضبطوه وفهموه - ولم يشتبه عليهم صحته - و * (ما) * مصدرية أي من بعد عقلهم إياه، والضمير في * (عقلوه) * عائد على كلام الله، وقيل: * (ما) * موصولة والضمير عائد عليها وهو بعيد.
* (وهم يعلمون) * متعلق العلم محذوف، أي إنهم مبطلون كاذبون، أو ما في تحريفه من العقاب، وفي
298

ذلك كمال مذمتهم، وبهذا التقرير يندفع توهم تكرار ما ذكر - بعد ما عقلوه - وحاصل الآية استبعاد الطمع في أن يقع من هؤلاء السفلة إيمان، وقد كان أحبارهم ومقدموهم على هذه الحالة الشنعاء، ولا شك أن هؤلاء أسوأ خلقا وأقل تمييزا من أسلافهم أو استبعادا لطمع في إيمان هؤلاء الكفرة المحرفين، وأسلافهم الذين كانوا زمن نبيهم فعلوا ذلك فلهم فيه سابقة، وبهذا يندفع ما عسى أن يختلج في الصدر من أنه كيف يلزم من إقدام بعضهم على التحريف حصول اليأس من إيمان باقيهم.
* (وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحآجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون) *
* (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) * جملة مستأنفة سيقت إثر بيان ما صدر عن أسلافهم لبيان ما صدر عنهم بالذات من الشنائع المؤيسة عن إيمانهم من نفاق بعض وعتاب آخرين عليهم، ويحتمل أن تكون معطوفة على * (وقد كان فريق منهم) * (البقرة: 75) الخ، وقيل: معطوف على * (يسمعون) * (البقرة: 75) وقيل: على قوله تعالى: * (وإذ قتلتم نفسا) * (البقرة: 72) عطف القصة على القصة وضمير * (لقوا) * لليهود على طبق * (أن يؤمنوا لكم) * (البقرة: 75) وضمير * (قالوا) * للاقين لكن لا يتصدى الكل للقول حقيقة، بل بمباشرة منافقيهم وسكوت الباقين، فهو إسناد ما للبعض للكل - ومثله أكثر من أن يحصى - وهذا أدخل، كما قال مولانا - مفتي الديار الرومية - في تقبيح حال الساكتين أولا: العاتبين ثانيا لما فيه من الدلالة على نفاقهم واختلاف أحوالهم وتناقض آرائهم من إسناد القول إلى المباشرين خاصة بتقدير المضاف، أي قال منافقوهم - كما فعله البعض - وقيل: الضمير الأول لمنافقي اليهود كالثاني ليتحد فاعل الشرط والجزاء مراعاة لحق النظم ويؤيده ما روي عن ابن عباس والحسن وقتادة في تفسير * (وإذا لقوا) * يعني منافقي اليهود المؤمنين الخلص قالوا: إلا أن السباق واللحاق - كما رأيت وسترى - يبعدان ذلك، وقرأ ابن السميقع * (لاقوا) *.
* (وإذا خلا بعضهم إلى بعض) * أي إذا انفرد بعض المذكورين - وهم الساكتون منهم - بعد فراغهم عن الاشتغال بالمؤمنين متوجهين منضمين إلى بعض آخر منهم وهم من نافق، وهذا كالنص على اشتراك الساكتين في لقاء المؤمنين، إذ - الخلو - إنما يكون بعد الاشتغال، ولأن عتابهم معلق بمحض - الخلو - ولولا إنهم حاضرون عند المقاولة لوجب أن يجعل سماعهم من تمام الشرط، ولأن فيه زيادة تشنيع لهم على ما أوتوا من السكوت ثم العتاب * (قالوا) * أي أولئك البعض الخالي موبخين
لمنافقيهم على ما صنعوا بحضرتهم.
* (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) * أي تخبرون المؤمنين بما بينه الله تعالى لكم خاصة من نعت نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أو من أخذ العهود على أنبيائكم بتصديقه صلى الله عليه وسلم ونصرته، والتعبير عند - بالفتح - للإيذان بأنه سر مكتوم وباب مغلق، وفي الآية إشارة إلى أنهم لم يكتفوا بقولهم: * (آمنا) * بل عللوه بما ذكر، وإنما لم يصرح به تعويلا على شهادة التوبيخ، ومن الناس من جوز كون هذا التوبيخ من جهة المنافقين لأعقابهم وبقاياهم الذين لم ينافقوا، وحينئذ يكون البعض الذي هو فاعل خلا عبارة عن المنافقين، وفيه وضع المظهر موضع المضمر تكثيرا للمعنى - والاستفهام إنكار - ونهي عن التحديث في الزمان المستقبل وليس بشيء - وإن جل قائله - اللهم إلا أن يكون فيه رواية صحيحة، ودون ذلك خرط القتاد.
* (ليحاجوكم به) * متعلق بالتحديث دون الفتح خلافا لمن تكلف له، والمراد تأكيد النكير وتشديد التوبيخ، فإن التحديث - وإن كان منكرا في نفسه - لكنه لهذا الغرض مما لا يكاد يصدر عن العاقل، والمفاعلة هنا غير مرادة، والمراد ليحتجوا به عليكم، إلا أنه إنما أتى بها للمبالغة، وذكر ابن تمجيد أنه لو ذهب أحد
299

إلى المشاركة بين المحتج والمحتج عليه بأن يكون من جانب احتجاج ومن جانب آخر سماع لكان له وجه - كما في بايعت زيدا - وقد تقدم ما ينفعك هنا فتذكر. - والكلام - هذه - لام كي - والنصب بأن مضمرة بعدها أو بها، وهي مفيدة للتعليل - ولعله هنا مجاز - لأن المحدثين لم يحوموا حول ذلك الغرض، لكن فعلهم ذلك - لما كان مستتبعا له ألبتة - جعلوا كأنهم فاعلون له إظهارا لكمال سخافة عقولهم وركاكة آرائهم، وضمير * (به) * راجع إلى * (بما فتح الله) * على ما يقتضيه الظاهر
* (عند ربكم) * أي في كتابه وحكمه - وهو عند عصابة - بدل من * (به) *، ومعنى كونه بدلا منه أن عامله الذي هو نائب عنه بدل منه إما بدل الكل إن قدر صيغة اسم الفاعل أو بدل اشتمال إن قدر مصدرا، وفائدته بيان جهة الاحتجاج بما فتح الله تعالى، فإن الاحتجاج به يتصور على وجوه شتى، كأنه قيل: ليحاجوكم به بكونه في كتابه، أي يقولوا: إنه مذكور في كتابه الذي آمنتم به، وبما ذكر يظهر وجه الجمع بين قوله تعالى: * (به) * أي (بما فتح الله عليكم) وقوله تعالى: * (عند ربكم) * واندفع ما قيل لا يصح جعله بدلا لوجوب اتحاد البدل والمبدل منه في الإعراب، وههنا ليس كذلك لكون الثاني ظرفا والأول مفعولا به بالواسطة، وقيل: المعنى بما عند ربكم فيكون الظرف حالا من ضمير * (به) * وفائدته التصريح بكون الاحتجاج بأمر ثابت عنده تعالى وإن كان ذلك مستفادا من كونه بما فتح الله تعالى، وقيل: عند ذكر ربكم، فالكلام على حذف مضاف، والمراد من الذكر الكتاب وجعل المحاجة بما فتح الله تعالى باعتبار أنه في الكتاب محاجة عنده توسعا وهذه الأقوال مبنية على أن المراد بالمحاجة في الدنيا وهو ظاهر لأنها دار المحاجة والتأويل في قوله تعالى: * (عند ربكم) * وقيل: عند ربكم على ظاهره - والمحاجة يوم القيامة - واعترض بأن الإخفاء لا يدفع هذه المحاجة لأنه إما لأجل أن لا يطلع المؤمنون على ما يحتجون به - وهو حاصل لهم بالوحي - أو ليكون للمحتج عليهم طريق إلى الإنكار، وذا لا يمكن عنده تعالى يوم القيامة ولا يظن بأهل الكتاب أنهم يعتقدون أن إخفاء ما في الكتاب في الدنيا يدفع المحاجة بكونه فيه في العقبى لأنه اعتقاد منهم بأنه تعالى لا يعلم ما أنزل في كتابه وهم برآء منه، والقول بأن المراد: ليحاجوكم يوم القيامة وعند المسائل، فيكون زائدا في ظهور فضيحتكم وتوبيخكم على رؤس الأشهاد في الموقف العظيم، فكان القوم يعتقدون أن ظهور ذلك في الدنيا يزيد ذلك في الآخرة للفرق بين من اعترف وكتم، وبين من ثبت على الإنكار، أو بأن المحاجة بأنكم بلغتم وخالفتم - تندفع بالإخفاء - يرد عليه أن الإخفاء حينئذ إنما يدفع الاحتجاج بإقرارهم - لا بما فتح الله عليهم على أن المدفوع في الوجه الأول زيادة التوبيخ والفضيحة - لا المحاجة - وقيل: * (عند ربكم) * بتقدير - من عند ربكم - وهو معمول لقوله تعالى: * (بما فتح الله عليكم) * وهو مما لا ينبغي أن يرتكب في فصيح الكلام، وجوز الدامغاني أن يكون * (عند) * للزلفى أي: ليحاجوكم به متقربين إلى الله تعالى - وهو بعيد أيضا - كقول بعض المتأخرين: إنه يمكن أن تجعل المحاجة به عند الرب عبارة عن المباهلة في تحقق ما يحدثونه، وعليه تكون المحاجة على مقتضى المفاعلة - وعندي - أن رجوع ضمير به لما فتح الله من حيث إنه محدث * (به) * وجعل القيد هو المقصود، أو للتحديث المفهوم من * (أتحدثونهم) * وحمل * (عند ربكم) * على يوم القيامة، والتزام أن الإخفاء يدفع هذا الاحتجاج ليس بالبعيد - إلا أن أحدا لم يصرح به - ولعله أولى من بعض الوجوه فتدبر
* (أفلا تعقلون) * عطف إما على * (أتحدثونهم) * - والفاء - لإفادة ترتب عدم عقلهم على تحديثهم، وإما على مقدر أي ألا تتأملون فلا تعقلون، والجملة مؤكدة لإنكار التحديث، وهو من تمام
300

كلام اللائمين، ومفعوله إما ما ذكر أولا، أو لا: مفعول له - وهو أبلغ - وقيل: هو خطاب من الله تعالى للمؤمنين متصل بقوله تعالى: * (أفتطمعون) * (البقرة: 75) والمعنى: أفلا تعقلون حال هؤلاء اليهود وأن لا مطمع في إيمانهم، وهم على هذه الصفات الذميمة والأخلاق القبيحة [بم ويبعده قوله تعالى:
* (أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) *
* (أولا يعلمون) * فإنه تجهيل لهم منه تعالى فيما حكى عنهم فيكون توسيط خطاب المؤمنين في أثنائه من قبيص الفصل بين الشجرة ولحائها على أن في تخصيص الخطاب بالمؤمنين تعسفا ما، وفي تعميمه للنبي صلى الله عليه وسلم سوء أدب - كما لا يخفى - والاستفهام فيه للإنكار مع التقريع لأن أهل الكتاب كانوا عالمين بإحاطة علمه تعالى والمقصود بيان شناعة فعلهم بأنهم يفعلون ما ذكر مع علمهم.
* (أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) * وفيه إشارة إلى أن الآتي بالمعصية مع العلم بكونها معصية أعظم وزرا - والواو - للعطف على مقدر ينساق إليه الذهن - والضمير للموبخين - أي أيلومونهم على التحديث المذكور مخافة المحاجة ولا يعلمون ما ذكر، وقيل: الضمير للمنافقين فقط، أولهم وللموبخين، أو لآبائهم المحرفين، والظاهر حمل ما في الموضعين على العموم ويدخل فيه الكفر الذي أسروه، والإيمان الذي أعلنوه، واقتصر بعض المفسرين عليهما، وقيل: العداوة والصداقة، وقيل:
صفته صلى الله عليه وسلم التي في التوراة المنزلة والصفة التي أظهروها افتراء على الله تعالى؛ وقدم سبحانه الإسرار على الإعلان، إما لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شيء يعلن إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمر في القلب يتعلق به الإسرار غالبا، فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية، وإما للإيذان بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه من أول الأمر، وإما للمبالغة في بيان شمول علمه المحيط بجميع الأشياء كان علمه بما يسرون أقدم منه بما يعلنونه مع كونهما - في الحقيقة - على السوية، فإن علمه تعالى ليس بطريق حصول الصورة، بل وجود كل شيء في نفسه علم بالنسبة إليه تعالى، وفي هذا المعنى لا يختلف الحال بين الأشياء البارزة ولا الكامنة، وعكس الأمر في قوله تعالى: * (إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * (البقرة: 284) لأن الأصل فيما تتعلق المحاسبة به هو الأمور البادية دون الخافية، وقرأ ابن محيصن: * (أولا تعلمون) * - بالتاء - فيحتمل أن يكون ذلك خطابا للمؤمنين أو خطابا لهم، ثم إنه تعالى أعرض عن خطابهم وأعاد الضمير إلى الغيبة إهمالا لهم، ويكون ذلك من باب الالتفات.
* (ومنهم أميون لا يعلمون الكت‍ابإلا أمانى وإن هم إلا يظنون) *
* (ومنهم أميون لا يعلمون الكت‍اب) * مستأنفة مسوقة لبيان قبائح جهلة اليهود أثر بيان شنائع الطوائف السالفة، وقيل: عطف على * (قد كان فريق منهم) * (البقرة: 75) وعليه الجمع، وقيل: على * (وإذا لقوا) * (البقرة: 76) واختار بعض المتأخرين أنه وهذا الذي عطف عليه اعتراض وقع في البين لبيان أصناف اليهود استطرادا لأولئك المحرفين، والأميون جمع - أمي - وهو - كما في " المغرب " - من لا يكتب ولا يقرأ منسوب إلى أمة العرب الذين كانوا لا يكتبون ولا يقرءون، أو إلى الأم بمعنى أنه كما ولدته أمه، أو إلى أم القرى لأن أهلها لا يكتبون غالبا، والمراد أنهم جهلة، و (الكتاب) التوراة - كما يقتضيه سباق النظم وسياقه - فاللام - فيه إما للعهد أو أنه من الأعلام الغالبة، وجعله مصدر كتب كتابا - واللام - للجنس بعيد، وقرأ ابن أبي عبلة: * (أميون) * بالتخفيف.
* (إلا أماني) * جمع - أمنية - وأصلها - أمنونة، أفعولة وهو في الأصل ما يقدره الإنسان في نفسه من - منى - إذا قدر، ولذلك تطلق على الكذب وعلى ما يتمنى وما يقرأ، والمروى عن ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهم أن - الأماني - هنا - الأكاذيب - أي إلا أكاذيب أخذوها تقليدا من شياطينهم المحرفين، وقيل: إلا ما هم عليه من أمانيهم أن الله تعالى يعفو عنهم ويرحمهم، ولا يؤاخذهم بخطاياهم
301

وأن آبائهم الأنبياء يشفعون لهم، وقيل إلا مواعيد مجردة سمعوها من أحبارهم من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا، وأن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة - واختاره أبو مسلم - والاستثناء على ذلك منقطع لأن ما هم عليه من الأباطيل، أو سمعوه من الأكاذيب ليس من الكتاب، وقيل: إلا ما يقرؤن قراءة عادية عن معرفة المعنى وتدبره، فالاستثناء حينئذ متصل بحسب الظاهر، وقيل: منقطع أيضا إذ ليس ما يتلى من جنس علم الكتاب، واعترض هذا الوجه بأنه لا يناسب تفسير الآتي بما في " المغرب "، وأجيب بأن معناه أنه لا يقرأ من الكتاب ولا يعلم الخط؛ وإما على سبيل الأخذ من الغير فكثيرا ما يقرؤن من غير علم بالمعاني، ولا بصور الحروف، وفيه تكلف إذ لا يقال للحافظ الأعمى: إنه أمي، نعم إذا فسر الأمي بمن لا يحسن الكتابة والقراءة على ما ذهب إليه جمع لا ينافي أن يكتب ويقرأ في الجملة واستدل على ذلك بما روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم صلح الحديبية أخذ الكتاب - وليس يحسن الكتب - فكتب: " هذا ما قضى عليه محمد بن عبد الله " الخ، ومن فسر الأمي بما تقدم أول الحديث بأن كتب فيه بمعنى أمر بالكتابة، وأطال بعض شراح الحديث الكلام في هذا المقام - وليس هذا محله. وقرأ أبو جعفر والأعرج وابن جماز عن نافع، وهارون عن أبي عمرو * (أماني) * بالتخفيف.
* (وإن هم إلا يظنون) * الاستثناء مفرغ والمستثنى محذوف أقيمت صفته مقامه، أي ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن من غير أن يصلوا إلى مرتبة العلم - فأنى يرجى منهم الإيمان المؤسس على قواعد اليقين - وقد يطلق الظن على ما يقابل العلم اليقيني عن دليل قاطع سواء قطع بغير دليل، أو بدليل غير صحيح، أو لم يقطع، فلا ينافي نسبة الظن إليهم إن كانوا جازمين.
* (فويل للذين يكتبون الكت‍اببأيديهم ثم يقولون ه‍اذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) *
* (فويل للذين يكتبون الكت‍اببأيديهم) * - الويل - مصدر لا فعل له من لفظه، وما ذكر من قولهم: وال مصنوع - كما في " البحر " - ومثله ويح وويب وويس وويه وعول، ولا يثنى ولا يجمع ويقال: ويلة ويجمع على ويلات وإذا أضيف فالأحسن فيه النصب - ولا يجوز غيره عند بعض - وإذا أفردته اختير - الرفع - ومعناه الفضيحة والحسرة وقال الخليل: شدة الشر؛ وابن المفضل - الحزن - وغيرها - الهلكة - وقال الأصمعي: هي كلمة تفجع وقد تكون ترحما ومنه - ويل أمه مسعر حرب - وورد من طرق صححها الحفاظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الويل واد في جهنم يهوي به الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره " وفي بعض الروايات: " إنه جبل فيها " وإطلاقه على ذلك إما حقيقة شرعية، وإما مجاز لغوي من إطلاق لفظ الحال على المحل ولا يمكن أن يكون حقيقة لغوية لأن العرب تكلمت به في نظمها ونثرها قبل أن يجىء القرآن ولم تطلقه على ذلك وعلى كل حال هو هنا مبتدأ خبره * (للذين) * فإن كان علما لما في الخبر فظاهر، وإلا فالذي سوغ الابتداء به كونه دعاء، وقد حول عن المصدر المنصوب للدلالة على الدوام والثبات، ومثله يجوز فيه ذلك لأنه غير مخبر عنه، وقيل: لتخصص النكرة فيه بالداعي كما تخصص سلام في - سلام عليك - بالمسلم فإن المعنى - سلامي عليك - وكذلك المعنى ههنا - دعائي عليهم بالهلك ثابت لهم - والكتابة معروفة. وذكر الأيدي تأكيدا لدفع توهم المجاز، ويقال: أول من كتب بالقلم إدريس، وقيل: آدم عليهما السلام، والمراد بالكتاب المحرف، وقد روي أنهم كتبوا في التوراة ما يدل على خلاف صورة النبي صلى الله عليه وسلم وبثوها في سفهائهم وفي العرب وأخفوا تلك النسخ التي كانت عندهم بغير تبديل وصاروا إذا سئلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: ما هذا هو الموصوف عندنا في التوراة ويخرجون التوراة المبدلة ويقرؤنها ويقولون: هذه التوراة التي أنزلت من عند الله، ويحتمل أن يكون
302

المراد به ما كتبوه من التأويلات الزائغة وروجوه على العامة، وقد قال بعض العلماء: ما انفك كتاب منزل من السماء من تضمن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ولكن بإشارة لا يعرفها إلا العالمون، ولو كان متجليا للعوام لما عوتب علماؤهم في كتمانه، ثم ازداد ذلك غموضا بنقله من لسان إلى لسان، وقد وجد في التوراة ألفاظ إذا اعتبرتها وجدتها دالة على صحة نبوته عليه الصلاة والسلام بتعريض هو عند الراسخين جلي، وعند العامة خفي، فعمد إلى ذلك أحبار من اليهود فأولوه، وكتبوا تأويلاتهم المحرفة بأيديهم.
* (ثم يقولون هذا من عند الله) * إعظاما لشأنه وتمكينا له في قلوب أتباعهم الأميين، و * (ثم) * للتراخي الرتبي، فإن نسبة المحرفة والتأويل الزائغ إلى الله سبحانه صريحا أشد شناعة من نفس التحريف والتأويل، والإشارة إما إلى الجميع، أو إلى الخصوص. * (ليشتروا به ثمنا قليلا) * أي ليحصلوا - بما أشاروا إليه - غرضا من أغراض الدنيا الدنيئة، وهو - وإن جل - أقل قليل بالنسبة إلى ما استوجبوه من العذاب الدائم، وحرموه من الثواب المقيم، وهو علة للقول - كما في " البحر " - ولا أرى في الآية دليلا على المنع من أخذ الأجرة على كتابة المصاحف، ولا على كراهية بيعها، والأعمش تأول الآية واستدل بها على الكراهة - وطرف المنصف أعمى عن ذلك - نعم ذهب إلى الكراهة جمع منهم: ابن عمر رضي الله تعالى عنهما - وبه قال بعض الأئمة -: لكن لا أظنهم يستدلون بهذه الآية، وتمام البحث في محله.
* (فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) * - الفاء - لتفصيل ما أجمل في قوله تعالى: * (فويل للذين يكتبون) * الخ، حيث يدل على ثبوت الويل للموصوفين بما ذكر لأجل اتصافهم به بناء على التعليق بالوصف من غير دلالة على أن ثبوته لأجل مجموع ما ذكر أو لا - بل كل واحد - فبين ذلك بقوله: * (ويل لهم) * الخ مع ما فيه من التنصيص بالعلة، ولا يخفى ما في هذا الإجمال والتفصيل من المبالغة في الوعيد والزجر والتهويل.
و (من) تعليلية متعلقة بويل أو بالاستقرار في الخبر، و (ما) قيل: موصولة اسمية، والعائد محذوف، أي: كتبته وقيل: مصدرية والأول: أدخل في الزجر عن تعاطي المحرف والثاني: في الزجر عن التحريف و (ما) الثانية مثلها، ورجح بعضهم المصدرية في الموضعين - لفظا ومعنى - لعدم تقدير العائد، ولأن مكسوب العبد حقيقة فعله الذي يعاقب عليه ويثاب، وذكر بعض المحققين أن التحقيق أن العبد كما يعاقب على نفس فعله، يعاقب على أثر فعله، لإفضائه إلى حرام آخر - وهو هنا يفضي إلى إضلال الغير وأكل الحرام - وغاير بين الآيتين بأنه بين في الأولى: استحقاقهم العقاب بنفس الفعل وفي الثانية: استحقاقهم له بأثره، ولذا جاء - بالفاء - ولا يخفى أنه كلام خال عن التحقيق - كما لا يخفى على أرباب التدقيق - ومما ذكرنا ظهر فائدة ذكر - الويل - ثلاث مرات، وقيل: فائدته أن اليهود جنوا ثلاث جنايات. تغيير صفة النبي صلى الله عليه وسلم، والافتراء على الله تعالى، وأخذ الرشوة. فهددوا بكل جناية - بالويل - وكأنه جعل محط الفائدة في قوله تعالى: * (فويل للذين) * إلى آخر المعطوف كما في خبر " لا يؤمن الرجل قوما فيخص نفسه بالدعاء " وهو - على بعده - لا يظهر عليه وجه إيراد - الفاء - في الثاني، ثم الظاهر أن مفعول الكسب خاص - وهو ما دل عليه سياق الآية - وقيل: المراد ب * (ما يكسبون) * جميع الأعمال السيئة ليشمل القول - ولا يخفى بعده - وعدم التعرض للقول لما أنه من مبادىء ترويج (ما كتبت أيديهم) والآية نزلت في أحبار اليهود الذين خافوا أن تذهب رياستهم بإبقاء صفة النبي صلى الله عليه وسلم على حالها فغيروها، وقيل: خاف ملوكهم على ملكهم - إذا آمن الناس - فرشوهم فحرفوا،
303

والقول بأنها نزلت في الذين لم يؤمنوا بنبي ولم يتبعوا كتابا، بل كتبوا بأيديهم كتابا وحللوا فيه ما اختاروا، وحرموا ما اختاروا، وقالوا: هذا من عند الله غير مرضي، كالقول بأنها نزلت في عبد الله بن سرح كاتب النبي صلى الله عليه وسلم كان يغير القرآن فارتد.
* (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون) *
* (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) * جملة حالية معطوفة على قوله تعالى: * (وقد كان فريق منهم) * (البقرة: 75) عند فريق منهم، وعند آخرين على * (وإذ قتلتم) * (البقرة: 72) عطف قصة على قصة، واختار بعض المحققين أنها اعتراض لرد ما قالوا حين أوعدوا - على ما تقدم - بالوليل - بل جميع الجمل عنده من قوله تعالى: * (أفتطمعون) * إلى قوله تعالى: * (وإذ أخذنا ميثاق) * (البقرة: 75 - 83) الخ، ذكر استطرادا بين القصتين المعطوفتين، فالضمير في * (قالوا) * عائد على * (للذين يكتبون الكتاب) * (البقرة: 79) - والمس - اتصال أحد الشيئين بآخر - على وجه الإحساس والإصابة - وذكر الراغب أنه كاللمس، لكن اللمس قد يقال لطلب الشيء - وإن لم يوجد - كقوله: وألمسه فلا أجده
والمراد من النار نار الآخرة، ومن المعدودة المحصورة القليلة، وكنى - بالمعدودة - عن القليلة لما أن الأعراب لعدم علمهم بالحساب وقوانينه تصور القليل متيسر العدد والكثير متعسره، فقالوا: شيء معدود - أي قليل - وغير معدود - أي كثير - والقول بأن - القلة - تستفاد من أن الزمان - إذا كثر - لا يعد بالأيام، بل بالشهور والسنة والقرن يشكل بقوله تعالى: * (كتب عليكم الصيام) * إلى * (أياما معدودات) * (البقرة: 183، 184) وبقوله سبحانه: * (إذ واعدنا موسى أربعين ليلة) * (البقرة: 51) وروي عنهم أنهم يعذبون أربعين يوما عدد عبادتهم العجل؛ ثم ينادى أخرجوا كل مختون من بني إسرائيل، وفي رواية أنهم يعذبون سبعة أيام لكل ألف سنة من أيام الدنيا يوم، وهي سبعة آلاف سنة. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنهم زعموا أنهم وجدوا مكتوبا في التوراة إن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم، وأنهم يقطعون في كل يوم مسيرة سنة فيكملونها، وقد قالوا ذلك حين دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وسمعه المسلمون فنزلت هذه الآية.
* (قل أتخذتم عند الله عهدا) * تبكيت لهم وتوبيخ - والعهد - مجاز عن خبره تعالى، أو وعده بعدم مساس النار لهم سوى - الأيام المعدودة - وسمي ذلك عهدا لأنه
أوكد من العهود المؤكدة بالقسم والنذر، وفسره قتادة هنا بالوعد مستشهدا بقوله تعالى: * (ومنهم من عاهد الله) * إلى قوله سبحانه: * (بما أخلفوا الله ما وعدوه) * (التوبة: 75 - 77).
واعترض: بأنه لا وجه للتخصيص، فإن * (لن تمسنا) * الخ فرع الوعد والوعيد لأن مساس النار وعيد، وأجيب بأنه إنما لم يتعرض للوعيد، لأن المقصود بالاستفهام الوعد - لا الوعيد - فإنه ثابت في حقهم. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معنى الآية هل قلتم لا إله إلا الله، وآمنتم وأطعتم فتستدلون بذلك وتعلمون خروجكم من النار؟ ويؤول إلى هل أسلفتم عند الله أعمالا توجب ما تدعون؟ والمعنى الأول أظهر. وقرأ ابن كثير وحفص بإظهار - الذال - والباقون بإدغامه، وحذفت من اتخذ - همزة الوصل - لوقوعها في الدرج.
* (فلن يخلف الله عهده) * جواب شرط مقدر، أي إن اتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف وقدره العلامة إن كنتم اتخذتم - إذ ليس المعنى على الاستقبال - وهو مبني على أن حرف الشرط لا يغير معنى - كان - وفيه خلاف معروف فإن قلت: لا يصح جعل * (فلن يخلف الله) * جزاء لامتناع السببية والترتب لكون * (لن) * لمحض الاستقبال قلت: ذلك ليس بلازم في - الفاء الفصيحة - كقوله: قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا * ثم القفول فقد جئنا خراسانا
304

- ولو سلم - فقد ترتب على اتخاذ العهد الحكم بأنه لا يخلف العهد فيما يستقبل من الزمان فقط، كما في قوله تعالى: * (وما بكم من نعمة فمن الله) * (النحل: 53) كذا أفاده العلامة، والجواب الأول: مبني على أن - الفاء الفصيحة - لا تنافي تقدير الشرط، وأنها تفيد كون مدخولها سببا عن المحذوف سواء ترتب عليه أو تأخر لتوقفه على أمر آخر بدليل أن قوله: فقد جئنا خراسانا
علم عندهم في - الفصيحة - مع كونه بتقدير الشرط وعدم الترتب - كما في " شرح المفتاح " الشريفي - ومبنى الثاني: على أن المراد حكمهم لا حكمه تعالى حين النزول، ولخفاء ذلك قال المولى عصام: - الأظهر - أنه دليل الجزاء وضع موضعه، أي إن كنتم اتخذتم عند الله عهدا فقد نجوتم لأنه لن يخلف الله عهده فافهم.
ومن الناس من لا يقدر محذوفا ويجعل - الفاء - سببية ليكون اتخاذ العهد مترتبا عليه عدم إخلاف الله تعالى عهده ويكون المنكر حينئذ المجموع فتفطن.
وهذه الجملة - كما قال ابن عطية - اعتراضية بين * (اتخذتم) * والمعادل فلا موضع لها من الإعراب، وإظهار الاسم الجليل للإشعار بعلة الحكم فإن عدم الاختلاف من قضية الألوهية والعهد مضاف إلى ضميره تعالى لذلك أيضا، أو لأن المراد به جميع عهوده لعمومه بالإضافة، فيدخل العهد المعهود مع التجافي عن التصريح بتحقق مضمون كلامهم، وإن كان معلقا على الاتخاذ المعلق بحبال العدم واستدل بالآية من ذهب إلى نفي الخلف في الوعد والوعيد بحمل العهد على الخبر الشامل لهما، وادعى بعضهم أن العهد ظاهر في الوعد بل حقيقة عرفية فيه فلا دليل فيها على نفي الخلف في الوعيد.
* (أم تقولون على الله ما لا تعلمون) * * (أم) * يحتمل أن تكون متصلة للمعادلة بين شيئين بمعنى أي هذين واقع اتخاذكم العهد - أم قولكم على الله ما لا تعلمون - وخرج ذلك مخرج المتردد في تعيينه على سبيل التقرير لأولئك المخاطبين لعلم المستفهم - وهو النبي صلى الله عليه وسلم - بوقوع أحدهما، وهو قولهم بما لا يعلمون على التعيين فلا يكون الاستفهام على حقيقته، ويعلم من هذا أن الواقع بعد * (أم) * المتصلة قد يكون جملة لأن التسوية قد تكون بين الحكمين - وبهذا صرح ابن الحاجب في " الإيضاح "، ويحتمل أن تكون منقطعة بمعنى - بل - والتقدير بل أتقولون، ومعنى بل فيها الإضراب والانتقال من التوبيخ بالإنكار على الاتخاذ إلى ما تفيد همزتها من التوبيخ على القول، وظاهر كلام صاحب " المفتاح " تعين الانقطاع حيث جعل علامة المنقطعة كون ما بعدها جملة، وإنما علق التوبيخ بإسنادهم إليه سبحانه وتعالى ما لا يعلمون وقوعه مع أن ما أسندوه إليه تعالى من قبيل ما يعلمون عدم وقوعه المبالغة في التوبيخ، فإن التوبيخ على الأدنى يستلزم التوبيخ على الأعلى بطريق الأولى، وقولهم المحكي - وإن لم يكن صريحا بالافتراء عليه جل شأنه - لكنه مستلزم له لأن ذلك الجزم لا يكون إلا بإسناد سببه إليه تعالى.
* (بلى من كسب سيئة وأح‍اطت به خطي - اته فأول‍ائك أصح‍ابالنار هم فيها خ‍الدون) *
جواب عن قولهم المحكي وإبطال له على وجه أعم شامل لهم ولسائر الكفرة، كأنه قال: بل تمسكم وغيركم دهرا طويلا وزمانا مديدا - لا كما تزعمون - ويكون ثبوت الكلية كالبرهان على إبطال ذلك بجعله كبرى لصغرى سهلة الحصول فبلى داخلة على ما ذكر بعدها وإيجاز الاختصار أبلغ من إيجاز الحذف، وزعم بعضهم أنها داخلة على محذوف وأن المعنى على تمسكم أياما معدودة - وليس بشيء - وهي حرف جواب - كجير ونعم - إلا أنها لا تقع جوابا إلا لنفي متقدم سواء دخله استفهام أم لا، فتكون إيجابا له، وهي بسيطة. وقيل: أصلها - بل - فزيدت عليها - الألف - والكسب جلب النفع - والسيئة - الفاحشة الموجبة للنار، قاله السدي، وعليه تفسير من فسرها بالكبيرة
305

لأنها التي توجب النار - أي يستحق فاعلها النار إن لم يغفر له - وذهب كثير من السلف إلى أنها هنا - الكفر - وتعليق - الكسب بالسيئة - على طريقة التهكم، وقيل: إنهم بتحصيل السيئة استجلبوا نفعا قليلا فانيا، فبهذا الاعتبار أوقع عليه الكسب، والمراد - بالإحاطة - الاستيلاء والشمول وعموم الظاهر والباطن - والخطيئة - السيئة، وغلبت فيما يقصد بالعرض أي لا يكون مقصودا في نفسه بل يكون القصد إلى شيء آخر، لكن تولد منه ذلك الفعل كمن رمى صيدا فأصاب إنسانا، وشرب مسكرا فجنى جناية، قال بعض المحققين: ولذلك أضاف الإحاطة إليها إشارة إلى أن السيئات باعتبار وصف الإحاطة داخلة تحت القصد بالعرض لأنها بسبب نسيان التوبة، ولكونها راسخة فيه متمكنة حال الإحاطة أضافها إليه بخلاف حال الكسب فإنها متعلق القصد بالذات وغير حاصلة فيه فضلا عن الرسوخ؛ فلذا أضاف الكسب إلى سيئة ونكرها، وإضافة الأصحاب إلى النار على معنى الملازمة لأن الصحبة وإن شملت القليل والكثير لكنها في العرف تخص بالكثرة والملازمة، ولذا قالوا: لو حلف من لاقى زيدا أنه لم يصحبه لم يحنث، والمراد - بالخلود - الدوام، ولا حجة في الآية على خلود صاحب الكبيرة لأن الإحاطة إنما تصح في شأن الكافر لأن غيره إن لم
يكن له سوى تصديق قلبه وإقرار لسانه فلم تحط خطيئته به لكون قلبه ولسانه منزها عن الخطيئة، وهذا لا يتوقف على كون التصديق والإقرار حسنتين، بل على أن لا يكونا سيئتين فلا يرد البحث بأن الخصم يجعل العمل شرطا لكونهما حسنتين كما يجعل الاعتقاد شرطا لكون الأعمال حسنات فلا يتم عنده أن الإحاطة إنما تصح في شأن الكافر، ولا يحتاج إلى الدفع بأن المقصود أنه لا حجة له في الآية، وهذا يتم بمجرد كون الإحاطة ممنوعة في غير الكافر، فلو ثبت أن العمل داخل في الإيمان صارت الآية حجة - ودون إثباته خرط القتاد - ثم إن نفي الحجية بحمل الإحاطة على ما ذكر إنما يحتاج إليه إذا كانت السيئة والخطيئة بمعنى واحد - وهو مطلق الفاحشة - أما إذا فسرت السيئة بالكفر أو - الخطيئة - به حسبما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبي هريرة رضي الله تعالى عنه وابن جرير عن أبي وائل ومجاهد وقتادة وعطاء والربيع، فنفي الحجية أظهر من نار على علم.
ومن الناس من نفاها بحمل - الخلود - على أصل الوضع وهو اللبث الطويل - وليس بشيء - لأن فيه تهوين الخطب في مقام التهويل مع عدم ملائمته حمل الخلود في الجنة على الدوام؛ وكذا لا حجة في قوله تعالى: * (وقالوا لن تمسنا النار) * (البقرة: 80) الخ بناء على ما زعمه الجبائي حيث قال: دلت الآية على أنه تعالى ما وعد موسى ولا سائر الأنبياء بعده بإخراج أهل الكبائر والمعاصي من النار بعد التعذيب، وإلا لما أنكر على اليهود بقوله تعالى: * (قل اتخذتم) * (البقرة: 80) الخ وقد ثبت أنه تعالى أوعد العصاة بالعذاب زجرا لهم عن المعاصي فقد ثبت أن يكون عذابهم دائما وإذا ثبت في سائر الأمم وجب ثبوته في هذه الأمة إذ الوعيد لا يجوز أن يختلف في الأمم إذا كان قدر المعصية واحدا لأن ما أنكر الله عليهم جزمهم بقلة العذاب لانقطاعه مطلقا - على أن ذلك في حق الكفار لا العصاة كما لا يخفى - و * (من) * تحتمل أن تكون شرطية، وتحتمل أن تكون موصولة، والمسوغات لجواز دخول - الفاء - في الخبر إذا كان المبتدأ موصولا موجودة، ويحسن الموصولية مجىء الموصول في قسيمه وإيراد اسم الإشارة المنبىء عن استحضار المشار إليه بما له من الأوصاف للإشعار بعليتها لصاحبية النار وما فيه من معنى البعد للتنبيه على بعد منزلتهم في الكفر والخطايا، وإنما أشير إليهم بعنوان الجمعية مراعاة لجانب المعنى في كلمة * (من) * بعد مراعاة جانب اللفظ في الضمائر الثلاثة لما أن ذلك هو المناسب لما أسند إليهم في تينك الحالتين، فإن كسب السيئة وإحاطة الخطيئة به في حالة الإفراد - وصاحبية النار في حالة الاجتماع -
306

قاله بعض المحققين - ولا يخلو عن حسن - وقرأ نافع: * (خطيآته) * وبعض * (خطياه) * و * (خطيته) * و * (خطياته) * بالقلب والإدغام، واستحسنوا قراءة الجمع بأن الإحاطة لا تكون بشيء واحد، ووجهت قراءة الإفراد بأن - الخطيئة - وإن كانت مفردة لكنها لإضافتها متعددة، مع أن الشيء الواحد قد يحيط كالحلقة فلا تغفل.
* (والذين ءامنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحب الجنة هم فيها خالدون) *
لما ذكر سبحانه أهل النار وما أعد لهم من الهلاك أتبع ذلك بذكر أهل الإيمان وما أعد لهم من الخلود في الجنان، وقد جرت عادته جل شأنه على أن يشفع وعده بوعيده مراعاة لما تقتضيه الحكمة في إرشاد العباد من الترغيب تارة والترهيب أخرى، وقيل: إن في الجمع تربية الوعيد بذكر ما فات أهله من الثواب، وتربية الوعد بذكر ما نجا منه أهله من العقاب، وعطف العمل على الإيمان بدل على خروجه عن مسماه - إذ لا يعطف الجزء على الكل - ولا يدل على عدم اشتراطه به حتى يدل على أن صاحب الكبيرة غير خارج عن الإيمان، وتكون الآية حجة على الوعيدية - كما قاله المولى عصام - فإن قلت: للمخالف أن يقول: العطف للتشريف لكون العمل أشق وأحمز من التصديق وأفضل الأعمال أحمزها، أجيب بأن الإيمان أشرف من العمل لكونه أساس جميع الحسنات إذ الأعمال ساقطة عن درجة الاعتبار عند عدمه ويخطر في البال إنه يمكن أن يكون لذكر العمل الصالح هنا مع الإيمان نكتة، وهو أن يكون الإيمان في مقابلة السيئة المفسرة بالكفر - عند بعض - والعمل الصالح في مقابلة الخطيئة المفسرة بما عداه والمراد من (الذين آمنوا) أمة محمد صلى الله عليه وسلم ومؤمنو الأمم قبلهم، قاله ابن عباس وغيره - وهو الظاهر - وقال ابن زيد: المراد بهم النبي صلى الله عليه وسلم وأمته خاصة وذكر - الفاء - فيما سبق وتركها هنا إما لأن الوعيد من الكريم مظنة الخلف دون الوعد فكان الأول حريا بالتأكيد دون الثاني، وإما للإشارة إلى سبق الرحمة فإن النحاة قالوا: من دخل داري فأكرمه - يقتضي إكرام كل داخل لكن على خطر أن لا يكرم - وبدون - الفاء - يقتضي إكرامه ألبتة، وإما للإشارة إلى أن خلودهم في النار بسبب أفعالهم السيئة وعصيانهم وخلودهم في الجنة بمحض لطفه تعالى وكرمه، وإلا فالإيمان والعمل الصالح لا يفي بشكر ما حصل للعبد من النعم العاجلة - وإلى كل ذهب بعض - والقول بأن ترك - الفاء - هنا لمزيد الرغبة في ذكر ما لهم ليس بشيء.
* (وإذ أخذنا ميث‍اق بنىإسرءيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذى القربى واليت‍امى والمس‍اكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلواة وءاتوا الزكواة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون) *
* (وإذ أخذنا ميث‍اق بني إسرائيل) * شروع في تعداد بعض آخر من قبائح أسلاف اليهود مما ينادي باستبعاد إيمان أخلافهم، وقيل: إنه نوع آخر من النعم التي خصهم الله تعالى بها، وذلك لأن التكليف بهذه الأشياء موصل إلى أعظم النعم - وهو الجنة - والموصل إلى النعمة نعمة، وهذا - الميثاق - ما أخذ عليهم على لسان موسى وغيره من أنبيائهم عليهم السلام، أو ميثاق أخذ عليهم في التوراة، وقول مكي: إنه ميثاق أخذه الله تعالى عليهم وهم في أصلاب آبائهم كالذر لا يظهرهم وجهه هنا.
* (لا تعبدون إلا الله) * على إرادة القول أي قلنا أو قائلين ليرتبط بما قبله وهو إخبار في معنى النهي كقوله تعالى: * (لا يضار كاتب ولا شهيد) * (البقرة: 282) وكما تقول: تذهب إلى فلان وتقول له كيت وكيت، وإلى ذلك ذهب الفراء، ويرجحه أنه أبلغ من صريح النهي لما فيه من إيهام أن المنهي كأنه سارع إلى ذلك فوقع منه حتى أخبر عنه بالحال أو الماضي أي ينبغي أن يكون كذلك فلا يرد أن حال المخبر عنه على خلافه وأنه قرأ ابن مسعود * (لا تعبدوا) * على النهي وأن * (قولوا) * عطف عليه فيحصل التناسب المعنوي بينهما في كونهما إنشاء، وإن كان يجوز عطف الإنشاء على الإخبار فيما له محل من الإعراب، وقيل: تقديره أن لا تعبدوا،
فلما حذف الناصب ارتفع الفعل، ولا يجب الرفع بعد الحذف في مثل ذلك خلافا لبعضهم - وإلى هذا ذهب الأخفش - ونظيره من نثر العرب
307

مره يحفرها ومن نظمها:
ألا أيها الزاجري احضر الوغى * وإن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
ويؤيد هذا قراءة * (أن لا تعبدوا) * ويضعفه أن (أن) لا تحذف قياسا في مواضع ليس هذا منها؛ فلا ينبغي تخريج الآية عليه، وعلى تخريجها عليه فهو مصدر مؤول بدل من الميثاق أو مفعول به بحذف حرف الجر أي بأن لا أو على أن لا، وقيل: إنه جواب قسم دل عليه الكلام، أي حلفناهم لا تعبدون، أو جواب الميثاق نفسه لأن له حكم القسم، وعليه يخلو الكلام عما مر في وجه رجحان الأول، وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو عمرو، وعاصم، ويعقوب، - بالتاء - حكاية لما خوطبوا به والباقون - بالياء - لأنهم غيب، وفي الآية حينئذ التفاتان في - لفظ الجلالة - و (يعبدون).
* (وبالوالدين إحسانا) * متعلق بمضمر تقديره وتحسنون، أو أحسنوا، والجملة معطوفة على (تعبدون) وجوز تعلقه ب (إحسانا) وهو يتعدى بالباء، وإلى ك‍ * (أحسن بي إذ أخرجني من السجن) * (يوسف: 100) * (وأحسن كما أحسن الله إليك) * (القصص: 77) ومنع تقدم معمول المصدر عليه مطلقا ممنوع، ومن المعربين من قدر استوصوا فبالوالدين متعلق به و (إحسانا) مفعوله، ومنهم من قدر ووصيناهم فإحسانا مفعول لأجله، والوالدان تثنية والد لأنه يطلق على الأب والأم أو تغليب بناء على أنه لا يقال إلا للأب كما ذهب إليه الحلبي، وقد دلت الآية على الحث ببر الوالدين وإكرامهما، والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة، وناهيك احتفالا بهما أن الله عز اسمه قرن ذلك بعبادته. * (وذي القربى واليتامى والمساكين) * عطف على (الوالدين) والقربى مصدر كالرجعى - والألف - فيه للتأنيث وهي قرابة الرحم والصلب. واليتامى وزنه فعالى - وألفه - للتأنيث، وهو جمع يتيم كنديم وندامى، ولا ينقاس، ويجمع على أيتام. واليتم أصل معناه الانفراد، ومنه: الدرة اليتيمة، وقال ثعلب: الغفلة، وسمي اليتيم يتيما لأنه يتغافل عن بره، وقال أبو عمرو: الإبطاء لإبطاء البر عنه، وهو في الآدميين من قبل الآباء - ولا يتم بعد بلوغ - وفي البهائم من قبل الأمهات، وفي الطيور من جهتهما. وحكى الماوردي أنه يقال في الآدميين لمن فقدت أمه أيضا - والأول هو المعروف - والمساكين جمع مسكين على وزن مفعيل مشتق من السكون، كأن الحاجة أسكنته - فالميم - زائدة كمحضر من الحضور، وروي تمسكن فلان - والأصح تسكن أي صار مسكينا - والفرق بينه وبين الفقير معروف - وسيأتي إن شاء الله تعالى - وقد جاء هذا الترتيب اعتناء بالأوكد فالأوكد، فبدأ بالوالدين إذ لا يخفى تقدمهما على كل أحد في الإحسان إليهما، ثم بذي القربى لأن صلة الأرحام مؤكدة، ولمشاركة الوالدين في القرابة وكونهما منشأ لها وقد ورد في الأثر " إن الله تعالى خاطب الرحم فقال: أنت الرحم وأنا الرحمن أصل من وصلك وأقطع من قطعك "، ثم باليتامى لأنهم لا قدرة لهم تامة على الاكتساب، وقد جاء: " أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين " وأشار صلى الله عليه وسلم إلى السبابة والوسطى وتأخرت درجة المساكين لأن المسكين يمكنه أن يتعهد نفسه بالاستخدام ويصلح معيشته مهما أمكن بخلاف اليتيم - فإنه لصغره لا ينتفع به - ويحتاج إلى من ينفعه وأفرد (ذي القربى) - كما في " البحر " - لأنه أريد به الجنس، ولأن إضافته إلى المصدر يندرج فيه كل ذي قرابة، وكأن فيه إشارة إلى أن ذوي القربى - وإن كثروا - كشيء واحد لا ينبغي أن يضجر من الإحسان إليهم.
* (وقولوا للناس حسنا) * أي قولا حسنا - سماه به للمبالغة - وقيل: هو لغة في الحسن كالبخل والبخل والرشد والرشد، والعرب والعرب، والمراد قولوا لهم القول الطيب وجاوبوهم بأحسن ما يحبون - قاله أبو العالية - وقال سفيان الثوري: مروهم بالمعروف وانهوهم
308

عن المنكر، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: قولوا لهم لا إله إلا الله مروهم بها، وقال ابن جريج: أعلموهم بما في كتابكم من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقول أبي العالية في المرتبة العالية - والظاهر أن هذا الأمر من جملة الميثاق المأخوذ على بني إسرائيل: ومن قال: إن المخاطب به الأمة وهو محكم أو منسوخ بآية السيف أو إن الناس مخصوص بصالحي المؤمنين إذ لا يكون القول الحسن مع الكفار والفساق لأنا أمرنا بلعنهم وذمهم ومحاربتهم - فقد أبعد - وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب * (حسنا) * - بفتحتين - وعطاء وعيسى - بضمتين - وهي لغة الحجاز وأبو طلحة بن مصرف * (حسنى) * على وزن فعلى، واختلف في وجهه فقيل: هو مصدر كرجعى، واعترضه أبو حيان بأنه غير مقيس ولم يسمع فيه، وقيل: هو صفة كحبلى أي مقالة أو كلمة حسنى وفي الوصف بها وجهان أحدهما: أن تكون باقية على أنها للتفضيل واستعمالها بغير الألف واللام والإضافة للمعرفة نادر وقد جاء ذلك في الشعر كقوله:
وإن دعوت إلى جلى ومكرمة * يوما كرام سراة الناس فادعينا
وثانيهما: أن تجرد عن التفضيل فتكون بمعنى - حسنة - كما قالوا ذلك في: (يوسف أحسن إخوته) وقرأ الجحدري: * (إحسانا) * على أنه مصدر أحسن الذي همزته للصيرورة كما تقول: أعشبت الأرض إعشابا أي صارت ذا عشب فهو حينئذ نعت لمصدر محذوف أي قولا ذا حسن.
* (وأقيموا الصلواة وءاتوا الزكاة) * أراد سبحانه بهما ما فرض عليهم في ملتهم لأنه حكاية لما وقع في زمان موسى عليه السلام وكانت زكاة أموالهم - كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قربانا تهبط إليها نار فتحملها - وكان ذلك علامة القبول - وما لا تفعل النار به كذلك كان غير متقبل، والقول بأن المراد بهما هذه الصلاة وهذه الزكاة المفروضتان علينا، والخطاب لمن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من أبناء اليهود لا غير، والأمر بهما كناية عن الأمر بالإسلام، أو للإيذان بأن الكفار مخاطبون بالفروع أيضا ليس بشيء كما لا يخفى.
* (ثم توليتم) * أي أعرضتم عن الميثاق ورفضتموه. و * (ثم) * للاستبعاد أو لحقيقة التراخي فيكون توبيخا لهم بالارتداد بعد الانقياد مدة مديدة وهو أشنع من العصيان من الأول، وقد ذكر بعض المحققين أنه إذا جعل ناصب الظرف خطابا له صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فهذا التفات إلى خطاب بني إسرائيل جميعا بتغليب
أخلافهم على أسلافهم لجريان ذكرهم كلهم حينئذ على نهج الغيبة، فإن الخطابات السابقة للأسلاف محكية بالقول المقدر قبل لا تعبدون كأنهم استحضروا عند ذكر جناياتهم فنعيت عليهم - وإن جعل خطابا لليهود المعاصرين - فهذا تعميم للخطاب بتنزيل الأسلاف منزلة الأخلاف كما أنه تعميم للتولي بتنزيل الأخلاف منزلة الأسلاف للتشديد في التوبيخ، وقيل: الالتفات إنما يجىء على قراءة * (لا يعبدون) * بالغيبة، وأما على قراءة الخطاب - فلا التفات - ومن الناس من جعل هذا الخطاب خاصا بالحاضرين في زمنه عليه الصلاة والسلام وما تقدم خاصا بمن تقدم، وجعل الالتفات على القراءتين لكنه بالمعنى الغير المصطلح عليه أن كون الالتفات بين خطابين لاختلافهما لم يقل به أهل المعاني - لكنه وقع مثله في كلام بعض الأدباء - وما ذكرناه من التغليب أولى وأحرى خلافا لمن التفت عنه.
* (إلا قليلا منكم) * وهم من الأسلاف من أقام اليهودية على وجهها قبل النسخ، ومن الأخلاف من أسلم كعبد الله بن سلام وأضرابه فالقلة في عدد الأشخاص، وقول ابن عطية: إنه يحتمل أن تكون في الإيمان أي لم
309

يبق حين عصوا وكفر آخرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا إيمان قليل إذ لا ينفعهم لا يقدم عليه إلا القليل ممن لم يعط فهما في الألفاظ العربية، وروي عن أبي عمرو وغيره رفع قليل والكثير المشهور في أمثال ذلك النصب لأن ما قبله موجب، واختلفوا في تخريج الرفق فقيل: إن المرفوع تأكيد للضمير أو بدل منه، وجاز لأن (توليتم) في معنى النفي أي لم يفوا، وقد خرج غير واحد قوله صلى الله عليه وسلم: فيما صح على الصحيح: " العالمون هلكى إلا العالمون، والعالمون هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر " وقول الشاعر:
وبالصريمة منهم منزل خلق * عاف تغير إلا النوء والوتد
على ذلك، وقول أبي حيان إنه ليس بشيء إذ ما من إثبات إلا ويمكن تأويله بنفي فيلزم جواز قام القوم إلا زيد بالرفع على التأويل والإبدال - ولم يجوزه النحويون - ليس بشيء كما لا يخفى، وقيل: إن (إلا) صفة بمعنى غير ظهر إعرابها فيما بعدها، وقد عقد سيبويه لذلك بابا في " كتابه " فقال: هذا باب ما يكون فيه إلا وما بعدها وصفا بمنزلة غير ومثل، وذكر من أمثلة هذا الباب لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا و * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * (الأنبياء: 22) وقوله: أينخت فألقت بلدة فوق بلدة * قليل بها الأصوات إلا بغامها
وخرج جمع جميع ما سلف على هذا، وفيه أن ذلك فيما نحن فيه لا يستقيم إلا على مذهب ابن عصفور حيث ذهب إلى أن الوصف ب (إلا) يخالف الوصف بغيرها من حيث إنه يوصف بها النكرة والمعرفة، والظاهر والمضمر وأما على مذهب غيره - وهو ابن شاهين - بالنسبة إليه من أنه لا يوصف بها إلا إذا كان الموصوف نكرة أو معرفة - بلام الجنس - فلا، والمبرد يشترط في الوصف بها صلاحية البدل في موضعه؛ وقيل: إنه مبتدأ خبره محذوف أي لم يقولوا - ولا يرد عليه شيء مما تقدم - إلا أن فيه كلاما سنذكره إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى: * (إلا إبليس لم يكن من الساجدين) * (الأعراف: 11).
* (وانتم معرضون) * جملة معترضة أي وأنتم قوم عادتكم الإعراض والتولي عن المواثيق، ويؤخذ كونه عادتهم من الاسمية الدالة على الثبوت، وقيل: حال مؤكدة - والتولي والإعراض شيء واحد - ويجوز فصل الحال المؤكدة - بالواو - عند المحققين وفرق بعضهم بين التولي والإعراض بأن الأول قد يكون لحاجة تدعو إلى الانصراف مع ثبوت العقد والإعراض هو الانصراف عن الشيء بالقلب. وقيل: إن التولي أن يرجع عوده إلى بدئه، والإعراض أن يترك المنهج ويأخذ في عرض الطريق والمتولي أقرب أمرا من المعرض لأنه متى عزم سهل عليه العود إلى سلوك المنهج والمعرض حيث ترك المنهج وأخذ في عرض الطريق يحتاج إلى طلب منهجه فيعسر عليه العود إليه.
ومن الناس من جوز أن يكون (معرضون) على ظاهره، والجملة حال مقيدة أي لم يتول القليل وأنتم معرضون عنهم ساخطون لهم فيكون في ذلك مزيد توبيخ لهم ومدحا للقليل - فهو بعيد - كالقول بأنها مقيدة ومتعلق التولي والإعراض مختلف أي توليتم على المضي في الميثاق وأعرضتم عن اتباع هذا النبي صلى الله عليه وسلم.
* (وإذ أخذنا ميث‍اقكم لا تسفكون دمآءكم ولا تخرجون أنفسكم من دي‍اركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون) *
* (وإذ أخذنا ميث‍اقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دي‍اركم) * على نحو ما سبق في * (لا تعبدون) * (البقرة: 83) والمراد أن لا يتعرض بعضكم بعضا بالقتل والإجلاء وجعل قتل الرجل غيره قتل نفسه لاتصاله نسبا أو دينا، أو لأنه يوجبه قصاصا، ففي الآية مجاز، إما في ضمير - كم - حيث عبر به عمن يتصل به أو في * (تسفكون) * حيث أريد به ما هو سبب السفك. وقيل: معناه لا ترتكبوا ما يبيح سفك دمائكم وإخراجكم من دياركم، أو لا تفعلون ما يرديكم ويصرفكم عن لذات الحياة الأبدية فإنه القتل في الحقيقة ولا تقترفوا ما تمنعون به
310

عن الجنة التي هي داركم، وليس النفي في الحقيقة جلاء الأوطان بل البعد من رياض الجنان ولعل ما يسعده سياق النظم الكريم هو الأول. والدماء جمع دم معروف وهو محذوف - اللام - وهي - ياء - عند بعض لقوله: جرى الدميان بالخبر اليقين
- وواو - عند آخرين لقولهم دموان ووزنه فعل أو فعل، وقد سمع مقصورا وكذا مشددا، وقرأ طلحة وشعيب * (تسفكون) * - بضم الفاء - وأبو نهيك - بضم التاء وفتح السين وكسر الفاء مشددة - وابن أبي إسحق كذلك إلا أنه سكن السين وخفف الفاء * (ثم أقررتم) * أي بالميثاق واعترفتم بلزومه خلفا بعد سلف فالإقرار ضد الجحد ويتعدى - بالباء - قيل ويحتمل أنه بمعنى إبقاء الشيء على حاله من غير اعتراف به - وليس بشيء - إذ لا يلائمه حينئذ
* (وأنتم تشهدون) * حال مؤكدة رافعة احتمال أن يكون الإقرار ذكر أمر آخر لكنه يقتضيه، ولا يجوز العطف لكمال الاتصال ولا الاعتراض إذ ليس المعنى وأنتم عادتكم الشهادة بل المعنى على التقييد وقيل: وأنتم أيها الموجودون تشهدون على إقرار أسلافكم فيكون إسناد الإقرار إليهم جازا، وضعف بأن يكون حينئذ استبعاد القتل
والإجلاء منهم مع أن أخذ الميثاق والإقرار كان من أسلافهم لاتصالهم بهم نسبا ودينا بخلاف ما إذا اعتبر نسبة الإقرار إليهم على الحقيقة فإنه يكون بسبب إقرارهم وشهادتهم - وهو أبلغ في بيان قبيح صنيعهم - وادعى بعضهم أن الأظهر: أن المراد أقررتم حال كونكم شاهدين على إقراركم بأن شهد كل أحد على إقرار غيره كما هو طريق الشهادة ولا يخفي انحطاظ المبالغة حينئذ.
* (ثم أنتم ه‍اؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من دي‍ارهم تظ‍اهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أس‍ارى تف‍ادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكت‍ابوتكفرون ببعض فما جزآء من يفعل ذالك منكم إلا خزى في الحيواة الدنيا ويوم القي‍امة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغ‍افل عما تعملون) *
* (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم) * نزلت - كما في " البحر " - في بني قينقاع وبني قريظة وبني النضير من اليهود، كان بنو قينقاع أعداء بني قريظة، وكانت الأوس حلفاء بني قينقاع، والخزرج حلفاء بني قريظة، والنضير والأوس والخزرج إخوان؛ وبنو قريظة والنضير إخوان - ثم افترقوا - فصارت بنو النضير حلفاء الخزرج، وبنو قريظة حلفاء الأوس، فكانوا يقتتلون ويقع منهم ما قص الله تعالى فعيرهم الله تعالى بذلك. و * (ثم) * للاستبعاد في الوقوع - لا للتراخي في الزمان - لأنه الواقع في نفس الأمر - كما قيل به - و (أنتم) مبتدأ، وهؤلاء خبره على معنى أنتم بعد ذلك المذكور من الميثاق والإقرار والشهادة هؤلاء الناقضون، كقولك: أنت: ذلك الرجل الذي فعل كذا، وكان مقتضى الظاهر، ثم أنتم بعد ذلك التوكيد في الميثاق نقضتم العهد فتقتلون أنفسكم الخ أي صفتكم الآن غير الصفة التي كنتم عليها، لكن أدخل (هؤلاء) وأوقع خبرا ليفيد أن الذي تغير هو الذات نفسها نعيا عليهم لشدة وكادت الميثاق ثم تساهلهم فيه وتغيير الذات فهم من وضع اسم الإشارة الموضوع للذات موضع الصفة لا من جعل ذات واحد في خطاب واحد مخاطبا وغائبا، وإلا لفهم ذلك من نحو * (بل أنتم قوم تجهلون) * (النمل: 55) أيضا. وصح الحمل مع اعتبار التغير لأنه ادعائي - وفي الحقيقة واحد - وعدوا حضورا مشاهدين باعتبار تعلق العلم بما أسند إليهم من الأفعال المذكورة سابقا وغيبا باعتبار عدم تعلق العلم بهم لما سيحكى عنهم من الأفعال بعد، لا لأن المعاصي توجب الغيبة عن غير الحضور إذ المناسب حينئذ الغيبة في (تقتلون) و (تخرجون) قاله الساليكوتي، و (تقتلون) إما حال والعامل فيه معنى الإشارة أو بيان كأنه لما قيل: * (ثم أنتم هؤلاء) * قالوا كيف نحن
311

فجيء ب * (تقتلون) * تفسيرا له، ويحتمل أن تجعل مفسرة لها من غير تقدير سؤال، وذهب ابن كيسان وغيره إلى أن * (أنتم) * مبتدأ و * (تقتلون) * الخبر و * (هؤلاء) * تخصيص للمخاطبين لما نبهوا على الحال التي هم عليها مقيمون فيكون إذ ذاك منصوبا بأعنى وفيه أن النحاة نصوا على أن التخصيص لا يكون بأسماء الإشارة ولا بالنكرة والمستقر من لسان العرب أنه يكون يأيتها كاللهم اغفر لنا أيتها العصابة وبالمعرف - باللام - كنحن العرب أقرى الناس للضيف - أو الإضافة كنحن معاشر الأنبياء لا نورث - وقد يكون بالعلم - كبنا تميما نكشف الضبابا.
وأكثر ما يأتي بعد ضمير متكلم - وقد يجيء بعد ضمير المخاطب - كبك الله نرجو الفضل، وقيل: (هؤلاء) تأكيد لغوي (لأنتم) فهو إما بدل منه أو عطف بيان عليه وجعله من التأكيد اللفظي بالمرادف توهم، والكلام على هذا خال عن تلك النكتة، وقيل: هؤلاء بمعنى الذين والجملة صلته والمجموع هو الخبر، وهذا مبني على مذهب الكوفيين حيث جوزوا كون جميع أسماء الإشارة موصولة سواء كانت بعد (ما) أولا والبصريون يخصونه إذا وقعت بعد (ما) الاستفهامية - وهو المصحح - على أن الكلام يصير حينئذ من قبيل: أنا الذي سمتني أمي حيدرة
وهو ضعيف - كما قاله الشهاب - وقرأ الحسن * (تقتلون) * على التكثير وفي " تفسير المهدوي " أنها قراءة أبي نهيك
* (وتخرجون فريقا منكم من ديارهم) * عطف على ما قبله وضمير ديارهم للفريق وإيثار الغيبة مع جواز دياركم كما في الأول للاحتراز عن توهم كون المراد إخراجهم من ديار المخاطبين من حيث ديارهم لا ديار المخرجين * (ت‍اظهرون عليهم بالاثم والعدون) * حال من فاعل * (تخرجون) * أو من مفعوله قيل: أو من كليهما لأنه لاشتماله على ضميرهما يبين هيئتهما، والمعنى على الأول تخرجون متظاهرين عليهم وعلى الثاني تخرجون فريقا متظاهرا عليهم، وعلى الثالث تخرجون واقعا التظاهر منهم عليهم و - التظاهر - التعاون وأصله من - الظهر - كأن المتعاونين يسند كل واحد منهما ظهره إلى صاحبه و (الاثم) الفعل الذي يستحق عليه صاحبه الذم واللوم، وقيل: ما تنفر منه النفس ولا يطمئن إليه القلب، وفي الحديث: " الاثم ما حاك في صدرك " وهو متعلق بتظاهرون حال من فاعله أي متلبسين بالإثم، وكونه هنا مجازا عما يوجبه من إطلاق المسبب على سببه كما سميت الخمر إثما في قوله: شربت (الاثم) حتى ضل عقلي * كذال (الاثم) تذهب بالعقول
مما لا يدعو إليه داع، والعدوان تجاوز الحد في الظلم، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي * (تظاهرون) * بتخفيف الظاء وأصله - بتاءين - حذفت ثانيتهما عند أبي حيان وأولاهما عند هاشم وقرأ باقي السبعة بالتشديد على ادغام - التاء في الظاء - وأبو حيوة * (تظاهرون) * - بضم التاء وكسر الهاء - ومجاهد وقتادة باختلاف عنهما * (تظهرون) * - بفتح التاء والظاء والهاء مشددتين دون ألف - ورويت عن أبي عمرو أيضا وبعضهم تتظاهرون على الأصل.
* (وإن يأتوكم أسرى تف‍ادوهم) * أي تخرجوهم من الأسر باعطاء الفداء، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وابن عامر (تفدوهم) وعليه حمل بعض قراءة الباقين إذ لا مفاعلة، وفرق جمع بين فادى وفدى بأن معنى الأول: بادل أسيرا بأسير والثاني: جمع الفداء ويعكر عليه قول العباس رضي الله تعالى عنه فاديت نفسي وفاديت عقيلا إذ من المعلوم إنه ما بادل أسيرا بأسير، وقيل: (تفادوهم) بالعنف و (تفدوهم) بالصلح؛ وقيل: (تفادوهم) تطلبوا الفدية من الأسير الذي في أيديكم من أعدائكم ومنه قوله:
قفي فادي أسيرك إن قومي * وقومك لا أرى لهم احتفالا
312

وقال أبو علي: معناه لغة تطلقونهم بعد أن تأخذوا منهم شيئا، وأراه هنا كسابقه في غاية البعد، والقول بأن - معنى الآية وإن يأتوكم أسارى في أيدي الشياطين تتصدون
لانقاذهم بالإرشاد والوعظ من تضييعكم أنفسكم إلى البطون - أقرب كما لا يخفى، و - الأسارى - قيل: جمع أسير بمعنى مأسور وكأنهم حملوا أسيرا على كسلان فجمعوه جمعه كما حملوا كسلان عليه فقالوا كسلى كذا قال سيبويه، ووجه الشبه أن الأسير محبوس عن كثير من تصرفه للأسر والكسلان محبوس عن ذلك لعادته، وقيل: إنه مجموع كذا ابتداء من غير حمل كما قالوا في قديم قدامى، وسمع بفتح الهمزة وليست بالعالية خلافا لبعضهم حيث زعم أن الفتح هو الأصل والضم ليزداد قوة، وقيل: جمع أسرى - وبه قرأ حمزة - وهو جمع أسير كجريح وجرحى فيكون أسارى جمع الجمع قاله المفضل، وقال أبو عمرو: الأسرى من في اليد، والأسارى من في الوثاق - ولا أرى فرقا - بل المأخوذون على سبيل القهر والغلبة مطلقا أسرى وأسارى.
* (وهو محرم عليكم إخراجهم) * حال من فاعل * (تخرجون فريقا منكم) * أو مفعوله بعد اعتبار التقييد بالحال السابقة، وقوله تعالى: * (وإن يأتوكم) * اعتراض بينهما لا معطوف على * (تظاهرون) * لأن الاتيان لم يكن مقارنا للإخراج وقيد الإخراج بهذه الحال لإفادة أنه لم يكن عن استحقاق ومعصية موجبة له، وتخصيصه بالتقييد دون القتل للإهتمام بشأنه لكونه أشد منه * (والفتنة أشد من القتل) * (البقرة: 191) وقيل: لا بل لكونه أقل خطرا بالنسبة إلى القتل فكان مظنة التساهل، ولأن مساق الكلام لذمهم وتوبيخهم على جناياتهم وتناقض أفعالهم وذلك مختص بصورة الإخراج إذ لم ينقل عنهم تدارك القتلى بشيء من دية أو قصاص وهو السر في تخصيص التظاهر فيما سبق، وقيل: النكتة في إعادة تحريم الإخراج وقد أفاده - لا تخرجون أنفسكم - بأبلغ وجه، وفي تخصيص تحريم الإخراج بالإعادة دون القتل أنهم امتثلوا حكما في باب المخرج وهو الفداء وخالفوا حكما وهو الإخراج فجمع مع الفداء حرمة الإخراج ليتصل به * (أفتؤمنون) * الخ أشد اتصال ويتضح كفرهم بالبعض وإيمانهم بالبعض كمال اتضاح حيث وقع في حق شخص واحد، والضمير للشأن والجملة بعده خبره. وقيل: خبره (محرم) و (إخراجهم) نائب فاعل وهو مذهب الكوفيين وتبعهم المهدوي، وإنما ارتكبوه لأن الخبر المتحمل ضميرا مرفوعا لا يجوز تقديمه على المبتدأ فلا يجيزون قائم زيد على أن يكون قائم خبرا مقدما، والبصريون يجوزون ذلك ولا يجيزون هذا الوجه لأن ضمير الشأن لا يخبر عنه عندهم إلا بجملة مصرح بجزأيها، وقيل: إنه ضمير مبهم مبتدأ أيضا و (محرم) خبره و (إخراجهم) بدل منه مفسر له، وهذا بناء على جواز إبدال الظاهر من الضمير الذي لم يسبق ما يعود إليه، ومنهم من منعه وأجازه الكسائي، وقيل: راجع إلى الإخراج المفهوم من (تخرجون) و (إخراجهم) عطف بيان له أو بدل منه أو من ضمير محرم، وضعف بأنه بعد عوده إلى الإخراج لا وجه لإبداله منه. ومن الغريب ما نقل عن الكوفيين أنه يحتمل أن يكون هو ضمير فصل، وقد تقدم مع الخبر والتقدير - وإخراجهم هو محرم عليكم - فلما قدم خبر المبتدأ عليه قدم هو معه ولا يجوزه البصريون - لأن وقوع الفصل بين معرفة ونكرة لا تقارب المعرفة - لا يجوز عندهم وتوسطه بين المبتدأ والخبر أو بين ما هما أصله شرط عندهم أيضا، ولابن عطية في هذا الضمير كلام يجب إضماره * (أفتؤمنون ببعض الكت‍ابوتكفرون ببعض) * عطم على * (تقتلون) * أو على محذوف أي أتفعلون ما ذكر فتؤمنون الخ والاستفهام للتهديد والتوبيخ على التفريق بين أحكام الله تعالى إذ العهد كان بثلاثة أشياء ترك القتل وترك الإخراج ومفاداة الأسارى فقتلوا وأخرجوا على خلاف العهد وفدوا بمقتضاه، وقيل: المواثيق أربعة فزيد ترك المظاهرة، وقد أخرج ابن جرير عن أبي العالية أن عبد الله بن سلام مر على رأس
313

الجالوت بالكوفة وهو يفادى من النساء ما لم يقع عليه العرب ولا يفادى من وقع عليه العرب فقال له عبد الله بن سلام: أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن فادوهن كلهن، وروى محيي السنة عن السدي أن الله تعالى أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضا ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام من ثمنه فأعتقوه، ولعل كفرهم بما ارتكبوا لاعتقادهم عدم الحرمة مع دلالة صريح التوراة عليها لكن ما في " الكشاف " من أنه قيل لهم: كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم؟ فقالوا: أمرنا بالفداء وحرم علينا القتال لكنا نستحي من حلفائنا يدل على أنهم لا ينكرون حرمة القتال فاطلاق الكفر حينئذ على فعل ما حرم إما لأنه كان في شرعهم كفرا أو أنه للتغليظ كما أطلق على ترك الصلاة ونحوه ذلك في شرعنا، والقول بأن المعنى أتستعملون البعض وتتركون البعض فالكلام محمول على المجاز بهذا الاعتبار لا اعتبار به كالقول بأن المراد بالبعض المؤمن به نبوة موسى عليه السلام، والبعض الآخر نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم.
* (فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحيواة الدنيا) * الإشارة إلى الكفر ببعض الكتاب والإيمان ببعض، أو إلى ما فعلوه من القتل والاجلاء مع مفاداة - الأسارى - والجزاء المقابلة؛ ويطلق في الخير والشر. - والخزي - الهوان، والماضي - خزي - بالكسر، وقال ابن السكيت: معنى - خزي - وقع في بلية - وخزي - الرجل - خزاية - إذا استحى وهو - خزيان - وقوم - خزايا - وامرأة - خزيا - والمراد به هنا الفضيحة والعقوبة أو ضرب الجزية غابر الدهر أو غلبة العدو أو قتل قريظة وإجلاء النضير من منازلهم إلى أريحاء وأذرعات.
وقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كان عادة بني قريظة القتل وعادة بني النضير الإخراج فلما غلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلى بني النضير وقتل رجال قريظة وأسر نساءهم وأطفالهم وتنكير - الخزي - للإيذان بفظاعة شأنه وأنه بلغ مبلغا لا يكنه كنهه، ومن هنا لم يخصه بعضهم ببعض الوجوه، وادعى أن الأظهر ذلك وجعل الإشارة إلى الكفر ببعض الكتاب والإيمان ببعض أي بعض كان ولذلك أفردها، وحينئذ يتناول الكفرة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونظيره من يفعل جميع ذلك، و (الدنيا) مأخوذة من دنا يدنو وياؤها منقلبة عن - واو - ولا يحذف منها - الألف واللام - إلا قليلا، وخصه أبو حيان في الشعر، و (ما) نافية و (من) إن جعلت موصولة فلا محل ليفعل من الإعراب، وإن جعلت موصوفة فمحله الجر على أنه صفتها، و (منكم) حال من فاعل - يفعل -. و (إلا خزي) استثناء مفرغ وقع خبرا للمبتدأ ولا يجوز النصب في مثل ذلك على المشهور. ونقل عن يونس إجازته في الخبر بعد (إلا) كائنا ما كان، وقال بعضهم: إن كان (ما) بعد إلا هو الأول في المعنى أو منزل منزلته لم يجز فيه إلا الرفع عند الجمهور، وأجاز الكوفيون النصب فيما كان الثاني فيه منزلا منزلة الأول، وإن كان وصفا أجاز فيه الفراء النصب - ومنعه البصريون - وحكى عنهم أنهم لا يجوزون النصب في غير المصادر إلا أن يعرف المعنى فيضمر ناصب حينئذ وتحقيقه في محله.
* (ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب) * أي يصيرون إليه فلا يلزم كينونتهم قبل ذلك في أشد العذاب، وقد يراد بالرد الرجوع إلى ما كانوا فيه كما في قوله تعالى: * (فرددناه إلى أمه) * (القصص: 13) وكأنهم كانوا في الدنيا، أو في القبور في أشد العذاب أيضا فردوا إليه، والمراد به الخلود في النار وأشديته من حيث إنه لا انقضاء له، أو المراد أشد
314

جميع أنواع العذاب ولكن بالنسبة إلى عذاب من لم يفعل هذا العصيان لأن عصيانهم أشد من عصيان هؤلاء وجزاء سيئة سيئة مثلها ويدل على ما قررناه قوله تعالى: * (من يفعل ذلك منكم) * فلا يرد ما أورده الإمام الرازي أنه كيف يكون عذاب اليهود أشد من الدهرية المنكرين للصانع ولا يفيد ما قيل لأنهم كفروا بعد معرفتهم إنه كتاب الله تعالى وإقرارهم وشهادتهم إذ الكافر الموحد كيف يقال إنه أشد عذابا من المشرك؟! أو النافي للصانع وإن كان كفره عن علم ومعرفة، وضمير (يردون) راجع إلى (من) وأوثر صيغة الجمع نظرا إلى معناها بعد ما أوثر الإفراد نظرا إلى لفظها لما أن الرد إنما يكون بالاجتماع وغير السبك حيث لم يقل مثلا - وأشد العذاب يوم القيامة - للايذان بكمال التنافي بين جزاءي النشأتين، وتقديم - اليوم - على ذكر ما يقع فيه لتهويل الخطب وتفظيع الحال من أول الأمر، وقرأ الحسن وابن هرمز باختلاف عنهما، وعاصم في رواية المفضل - تردون - على الخطاب، والجمهور على الغيبة، ووجه ذلك أن (يردون) راجع إلى من يفعل فمن قرأ بصيغة الغيبة نظر إلى صيغة (من) ومن قرأ بصيغة الخطاب نظر إلى دخوله في (منكم) لا أن الضمير حينئذ راجع إلى (كم) كما وهم
* (وما الله بغفال عما تعملون) * اعتراض وتذييل لتأكيد الوعيد المستفاد مما قبله أي - إنه بالمرصاد لا يغفل عما تعملون من القبائح - التي من جملتها هذا المنكر؛ والمخاطب به من كان مخاطبا بالآية قبل، وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن بني إسرائيل قد مضوا وأنتم تعنون بهذا يا أمة محمد وبما يجري مجراه، وقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر - يعملون - بالياء على أن الضمير لمن والباقون بالتاء من فوق.
* (أول‍ائك الذين اشتروا الحيواة الدنيا بالاخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون) *
* (أول‍ئك الذين اشتروا الحيواة الدنيا بالآخرة) * أي آثروا الحياة الدنا واستبدلوها بالآخرة وأعرضوا عنها مع تمكنهم من تحصيلها * (فلا يخفف عنهم العذاب) * الموعودون به يوم القيامة أو مطلق (العذاب) دنيويا كان أو أخرويا.
* (ولا هم ينصرون) * بدفع الخزي إلى آخر الدنيا أو بدفع الجزية في الدنيا، والتعذيب في العقبى، وعلى الاحتمال الأول في الأمرين يستفاد نفي دفع العذاب من نفي تخفيفه بأبلغ وجه وآكده، ورجحه بعضهم بأن المقام على الثاني يستدعي تقديم نفي الدفع على نفي التخفيف، وتقديم المسند إليه لرعاية الفاصلة والتقوى لا للحصر إذ ليس المقام مقامه، ولذا لم يقل فلا عنهم يخفف العذاب، والجملة معطوفة على الصلة. ويجوز أن يوصل الموصول بصلتين مختلفتين زمانا، وجوز أن يكون (أولئك) مبتدأ و (الذين) خبره، وهذه الجملة خبر بعد خبر، والفاء لما أن الموصول إذا كانت صلته فعلا كان فيها معنى الشرط، وفيه أن معنى الشرطية لا يسري إلى المبتدأ الواقعة خبرا عنه، وجوز أيضا أن يكون (أولئك) مبتدأ و (الذين) مبتدأ ثان، وهذه الجملة خبر الثاني، والمجموع خبر الأول، ولا يحتاج إلى رابط لأن الذين هم أولئك، ولا يخفى ما فيه هذا
ومن باب الإشارة في هذه الآيات * (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم) * بميلكم إلى هوى النفس وطباعها ومتاركتكم حياتكم الحقيقية لأجل تحصيل لذاتكم الدنية ومآربكم الدنيوية * (ولا تخرجون) * ذواتكم من مقاركم الروحانية، ورياضتكم القدسية * (ثم أقررتم) * بقبولكم لذلك * (وأنتم تشهدون) * (البقرة: 84) عليه باستعداداتكم الأولية وعقولكم الفطرية * (ثم أنتم هؤلاء) * الساقطون عن الفطرة المحتجبون عن نور الاستعداد * (تقتلون أنفسكم) * وتهلكونها بغوايتكم ومتابعتكم الهوى * (وتخرجون فريقا منكم) * من أوطانهم القديمة باغوائهم وإضلالهم وتحريضهم على ارتكاب المعاصي تتعاونون عليهم بارتكاب الفواحش
315

ليروكم فيتبعوكم فيها وبالزامكم إياهم رذائل القوتين البهيمية والسبعية وتحريضكم لهم عليها * (وإن يأتوكم أسارى) * في قيد ما ارتكبوه ووثاق شين ما فعلوه قد أخذتهم الندامة وعيرتهم عقولهم وعقول أبناء جنسهم بما لحقهم من العار والشنار تفادوهم بكلمات الحكمة والموعظة الدالة على أن اللذات المستعلية هي العقلية والروحية وأن اتباع النفس مذموم رديء فيتعظوا بذلك ويتخلصوا من هاتيك القيود سويعة * (أفتؤمنون) * ببعض كتاب العقل والشرع قولا وإقرارا * (وتكفرون ببعض) * فعلا وعملا فلا تنتهون عما نهاكم عنه * (فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا) * ذلة وافتضاح في الحياة الدنيا ويوم مفارقة الروح البدن * (تردون إلى أشد العذاب) * وهو تعذيبهم بالهيآت المظلمة الراسخة في نفوسهم واحترافهم بنيرانها * (وما الله بغافل) * (البقرة: 85) عن أفعالكم أحصاها وضبطها في أنفسكم وكتبها عليكم.
* (ولقد ءاتينا موسى الكت‍ابوقفينا من بعده بالرسل وءاتينا عيسى ابن مريم البين‍ات وأيدن‍اه بروح القدس أفكلما جآءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون) *
* (ولقد ءاتينا موسى الكت‍اب) * شروع في بيان بعض آخر من جناياتهم، وتصديره بالجملة القسمية لإظهار كمال الاعتناء به، و - الايتاء - الاعطاء، و (الكتاب) التوراة في قول الجمهور وهو مفعول ثان - لآتينا - وعند السهيلي مفعول أول، والمراد باتيانها له إنزالها عليه. وقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن التوراة نزلت جملة واحدة فأمر الله تعالى موسى عليه السلام بحملها فلم يطق فبعث بكل حرف منها ملكا فلم يطيقوا حملها فخففها الله تعالى لموسى عليه السلام فحملها، وقيل: يحتمل أن يكون - آتينا - الخ افهمناه ما انطوى عليه من الحدود والأحكام والأنباء والقصص وغير ذلك مما فيه، والكلام على حذف مضاف أي علم - الكتاب - أو فهمه وليس بالظاهر
* (وقفينا من بعده بالرسل) * يقال - قفاه - إذا اتبعه - وقفاه - به إذا أتبعه إياه من - القفا - وأصل هذه الياء واو لأنها متى وقعت رابعة أبدلت كما تقول عريت من
العرو أي أرسلناهم على أثره كقوله تعالى: * (ثم أرسلنا رسلنا تترى) * (المؤمنون: 44) وكانوا إلى زمن عيسى عليه السلام أربعة آلاف، وقيل: سبعين ألفا وكلهم على شريعته عليه السلام منهم يوشع وشمويل وشمعون. وداود وسليمان وشعياء وارمياء وعزيز وحزقيل والياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم عليهم الصلاة والسلام، وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر - بالرسل - بتسكين السين، وهو لغة أهل الحجاز والتحريك لغة تميم
* (وءاتينا عيسى ابن مريم البين‍ات) * أي الحجج الواضحة الدالة على نبوته فتشمل كل معجزة - أوتيها - عليه السلام وهو الظاهر، وقيل: الانجيل، وعيسى أصله بالعبرانية أيشوع بهمزة ممالة بين بين، أو مكسورة - ومعناه السيد - وقيل: المبارك فعرب، والنسبة إليه عيسي وعيسوي وجمعه عيسون بفتح السين - وقد تضم - وأفرده عن الرسل عليه السلام لتميزه عنهم لكونه من أولي العزم وصاحب كتاب، وقيل: لأنه ليس متبعا لشريعة موسى عليه السلام حيث نسخ كثيرا من شريعته، وأضافه إلى أمه ردا على اليهود إذ زعموا أن له أبا، ومريم بالعبرية الخادم وسميت أم عيسى به لأن أمها نذرتها لخذمة بيت المقدس، وقيل: العابدة، وبالعربية من النساء من تحب محادثة الرجال فهي كالزير من الرجال، وهو الذي يحب محادثة النساء، قيل: ولا يناسب مريم أن يكون عربيا لأنها كانت برية عن محبة محادثة الرجال اللهم إلا أن يقال سميت بذلك تمليحا كما يسمى الأسود كافورا، وقال بعض المحققين: لا مانع من تسميتها بذلك بناء على أن شأن من تخدم من النساء ذلك، وفي " القاموس " هي التي تحب محادثة الرجال ولا تفجر - وعليه لا بأس بالتسمية كما ذكره المولى عصام - والأولى عندي أن التسمية وقعت بالعبري لا بالعربي بل يكاد يتعين ذلك كما لا يخفى على المنصف؛ وعن الأزهري المريم المرأة التي لا تحب مجالسة الرجال وكأنه قيل لها ذلك تشبيها لها بمريم البتول ووزنه عربيا مفعلا لا فعيلا
316

لأنه لم يثبت في الأبينة على المشهور، وأثبته الصاغاني في " الذيل "، وقال: إنه مما فات سيبويه، ومنه عثير للغبار، وضهيد - بالمهملة والمعجمة - للصلب واسم موضع، ومدين على القول بأصالة ميمه، وضهيا بالقصر وهي المرأة التي لا تحيض أو لا ثدي لها من المضاهاة كأنها أطلق عليها ذلك بمشابهتها الرجل؛ وابن جني يقول: إن ضهيد وعثير مصنوعان فلا دلالة فيهما على إثبات فعيل، وذكر الساليكوتي أن عثير بمعنى الغبار - بكسر العين - وإذا كان مفعلا فهو أيضا على خلاف القياس إذ القياس إعلاله بنقل حركة الياء إلى الراء وقبلها ألفا نحو مباع لكنه شذ كما شذ مدين، ومزيد، وإذا كان من رام يريم إذا فارق وبرح فالقياس كسريائه أيضا
* (وأيدن‍اه بروح القدس) * أي قويناه بجبريل عليه السلام وإطلاق روح القدس عليه شائع فقد قال سبحانه: * (قل نزله روح القدس) * (النحل: 102) وقال صلى الله عليه وسلم لحسان رضي الله تعالى عنه: " اهجهم وروح القدس معك " ومرة قال له: " وجبريل معك " وقال حسان: وجبريل وروح القدس فينا * (وروح القدس) ليس له كفاء
و (قدس) الطهارة والبركة، أو - التقديس - ومعناه التطهير. والإضافة من إضافة الموصوف إلى الصفة للمبالغة في الاختصاص، وهي معنوية بمعنى - اللام - فإذا أضيف العلم كذلك يكون مؤلا بواحد من المسمين به. وقال مجاهد والربيع: (القدس) من أسماء الله تعالى - كالقدوس - وزعم بعضهم أن إطلاق الروح على جبريل مجاز لأنه الريح المتردد في مخارق الإنسان - ومعلوم أن جبريل ليس كذلك - لكنه أطلق عليه سبيل التشبيه من حيث إن - الروح - سبب الحياة الجسمانية، وجبريل سبب الحياة المعنوية بالعلوم، وكأن هذا الزعم نشأ من كثافة روح الزاعم وعدم تغذيها بشيء من العلوم، وخص عيسى عليه السلام بذكر التأييد بروح القدس لأنه تعالى خصه به من وقت صباه إلى حال كبره، كما قال تعالى: * (إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا) * (المائدة: 110) ولأنه حفظه حتى لم يدن منه الشيطان، ولأنه بالغ إثنا عشر ألف يهودي لقتله، فدخل عيسى بيتا فرفعه عليه السلام مكانا عليا. وقيل: - الروح - هنا اسم الله تعالى الأعظم الذي كان يحيي به الموتى - وروي ذلك كالأول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - وقال ابن زيد: الإنجيل - كما جاء في شأن القرآن - قوله تعالى: * (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) * (الشورى: 52) وذلك لأنه سبب للحياة الأبدية والتحلي بالعلوم والمعارف التي هي حياة القلوب وانتظام المعاش الذي هو سبب الحياة الدنيوية، وقيل: روح عيسى عليه السلام نفسه، ووصفها به لطهارته عن مس الشيطان، أو لكرامته عليه تعالى - ولذلك أضافها إلى نفسه - أو لأنه لم يضمه الأصلاب ولا أرحام الطوامث، بل حصل من نفخ جبريل عليه السلام في درع أمه فدخلت النفخة في جوفها. وقرأ ابن كثير (القدس) - بسكون الدال - حيث وقع، وأبو حيوة (القدوس) بواو.
* (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوىأنفسكم استكبرتم) * مسبب عن قوله تعالى: * (ولقد آتينا) * بحيث لا يتم الكلام السابق بدونه كالشرط بدون الجزاء، وقد أدخلت - الهمزة - بين السبب والمسبب للتوبيخ على تعقيبهم ذلك بهذا، والتعجيب من شأنهم على معنى) ولقد آتينا موسى الكتاب وأنعمنا عليكم بكذا وكذا لتشكروا بالتلقي بالقبول - فعكستم بأن كذبتم - ويحتمل أن يكون ابتداء كلام - والفاء - للعطف على مقدر كأنه قيل: أفعلتم ما فعلتم - فكلما جاءكم - ثم المقدر يجوز أن يكون عبارة عما وقع بعد - الفاء - فيكون العطف للتفسير، وأن يكون غيره مثل * (أكفرتم النعمة واتبعتم الهوى) * فيكون لحقيقة التعقيب، وضعف هذا الاحتمال بما ذكره الرضى
317

أنه لو كان كذلك لجاز وقوع - الهمزة - في الكلام قبل أن يتقدمه ما كان معطوفا عليه - ولم تجيء إلا مبنية على كلام متقدم، وفي كون الهمزة الداخلة على جملة معطوفة - بالواو، أو الفاء، أو ثم - في محلها الأصلي، أو مقدمة من تأخير حيث إن محلها بعد العاطف خلاف مشهور بين أهل العربية، وبعض المحققين يحملها في بعض المواضع - على هذا - وفي البعض - على ذلك - بحسب مقتضى المقام ومساق الكلام - والقلب يميل إليه - قيل: ولا يلزم بطلان صدارة - الهمزة - إذ لم يتقدمها شيء من الكلام الذي دخلت هي عليه، وتعلق معناها بمضمونه غاية الأمر أنها توسطت بين كلامين لإفادة إنكار جمع الثاني مع الأول، أو لوقوعه بعده متراخيا أو غير متراخ، وهذا مراد من قال: إنها مقحمة مزيدة لتقرير معنى الإنكار أو التقرير، أي مقحمة على المعطوف مزيدة بعد اعتبار عطفه، ولم يرد أنها صلة و (تهوى) من - هوي - بالكسر إذا أحب، ومصدره - هوى - بالقصر، وأما - هوى - بالفتح فبمعنى سقط، ومصدره - هوى - بالضم وأصله فعول فأعل. وقال المرزوقي: - هوى - انقض انقضاض النجم والطائر، والأصمعي يقول: هوت العقاب إذا انقضت لغير الصيد، وأهوت إذا انقضت للصيد، وحكى بعضهم أنه يقال: هوى يهوي
هويا - بفتح الهاء - إذا كان القصد من أعلى إلى أسفل، وهوى يهوي هويا بالضم إذا كان من أسفل إلى أعلى - وما ذكرناه أولا هو المشهور - والهوى - يكون في الحق وغيره، وإذا أضيف إلى النفس فالمراد به الثاني في الأكثر، ومنه هذه الآية. وعبر عن المحبة بذلك للإيذان بأن مدار الرد والقبول عندهم هو المخالفة لأهواء أنفسهم والموافقة لها لا شيء آخر، ومتعلق (استكبرتم) محذوف أي عن الإيمان بما جاء به مثلا، واستفعل هنا بمعنى تفعل.
* (ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون) * الظاهر أنه عطف على * (استكبرتم) * والفاء للسببية إن كان التكذيب والقتل مرتبين على الاستكبار، وللتفصيل إن كانا نوعين منه، وجوز الراغب أن يكون عطفا على * (وأيدناه) * ويكون * (أفكلما) * مع ما بعده فصلا بينهما على سبيل الإنكار، وقدم * (فريقا) * في الموضعين للاهتمام وتشويق السامع إلى ما فعلوا بهم لا للقصر، وثم محذوف أي: فريقا منهم، وبدأ بالتكذيب لأنه أول ما يفعلونه من الشر ولأنه المشترك بين المكذب والمقتول، ونسب القتل إليهم مع أن القاتل آباؤهم لرضاهم به ولحوق مذمته بهم، وعبر بالمضارع حكاية للحال الماضية واستحضارا لصورتها لفظاعتها واستعظامها، أو مشاكلة للأفعال المضارعة الواقعة في الفواصل فيما قبل، أو للدلالة على أنكم الآن فيه فإنكم حول قتل محمد صلى الله عليه وسلم ولولا أني أعصمه لقتلتموه ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة، فالمضارع للحال ولا ينافيه قتل البعض. والمراد من القتل مباشرة الأسباب الموجبة لزوال الحياة سواء ترتب عليه أولا، وقيل: لا حاجة إلى التعميم لأنه صلى الله عليه وسلم قتل حقيقة بالسم الذي ناولوه على ما وقع في الصحيح بلفظ " وهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم " وفيه أنه لم يتحقق منهم القتل زمان نزول الآية بل مباشرة الأسباب فلا بد من التعميم.
* (وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون) *
* (وقالوا قلوبنا غلف) * عطف على * (استكبرتم) * (البقرة: 87) أو على * (كذبتم) * (البقرة: 87) فتكون تفسيرا للاستكبار، وعلى التقديرين فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة إعراضا عن مخاطبتهم وإبعادا لهم عن الحضور، والقائلون هم الموجودون في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، و - الغلف - جمع أغلف كأحمر وحمر وهو الذي لا يفقه، قيل: وأصله ذو الغلفة الذي لم يختن، أو جمع غلاف ويجمع على غلف بضمتين أيضا. وبه قرأ ابن عباس وغيره، وأرادوا على الأول قلوبنا مغشاة بأغشية خلقية مانعة عن نفوذ ما جئت به فيها، وهذا كقولهم: * (قلوبنا في أكنة مما
318

تدعونا إليه) * (فصلت: 5) قصدوا به إقناط النبي صلى الله عليه وسلم عن الإجابة وقطع طمعه عنهم بالكلية، وقيل: مغشاة بعلوم من التوراة نحفظها أن يصل إليها ما تأتي به، أو بسلامة من الفطرة كذلك، وعلى الثاني أنها أوعية العلم فلو كان ما تقوله حقا وصدقا لوعته - قاله ابن عباس وقتادة والسدي - أو مملوءة علما فلا تسع بعد شيئا فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره، روي ذلك عن ابن عباس أيضا، وقيل: أرادوا أنها أوعية العلم فكيف يحل لنا اتباع الأمي ولا يخفى بعده.
* (بل لعنهم الله بكفرهم) * رد لما قالوه، وتكذيب لهم فيما زعموه، والمعنى أنها خلقت على فطرة التمكن من النظر الصحيح الموصل إلى الحق لكن الله تعالى أبعدهم، وأبطل استعدادهم الخلقي للنظر الصحيح بسبب اعتقاداتهم الفاسدة وجهالاتهم الباطلة الراسخة في قلوبهم، أو أنها لم تأب قبول ما تقوله لعدم كونه حقا وصدقا بل لأنه سبحانه طردهم وخذلهم بكفرهم فأصمهم وأعمى أبصارهم أو أن الله تعالى أقصاهم عن رحمته فأنى لهم ادعاء العلم الذي هو أجل آثارها، ويعلم من هذه الوجوه كيفية الرد على ما قيل قبل من الوجوه * (فقليلا ما يؤمنون) * الفاء لسببية اللعن لعدم الإيمان، و - قليلا - نصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي إيمانا قليلا، وهو إيمانهم ببعض الكتاب و (ما) مزيدة لتأكيد معنى القلة لا نافية لأن ما في حيزها لا يتقدمها ولأنه وإن كان بمعنى - لا يؤمنون قليلا فضلا عن الكثير - لكن ربما يتوهم لا سيما مع التقديم أنهم لا يؤمنون قليلا بل كثيرا، ولا مصدرية لاقتضائها رفع القليل بأن يكون خبرا، والمصدر المعرف بالإضافة مبتدأ، والتقدير فإيمانهم قليل، وجوز بعضهم - كونها نافية بناء على مذهب الكوفيين من جواز تقدم ما في حيزها عليها ولم يبال بالتوهم وآخرون كونها مصدرية، والمصدر فاعل * (قليلا) * وكانوا مقدرة في نظم الكلام فتكون على طرز * (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) * (الذريات: 17) - ولا يخفى ما فيه من التكلف، وجوز أيضا انتصاب قليلا على الحال إما من ضمير الإيمان أو من فاعل * (يؤمنون) * والتقدير فيؤمنونه أي الإيمان في حال قلته، وهو المروي عن سيبويه أو فيؤمنون حال كونهم جمعا قليلا أي المؤمن منهم قليل، وهو المروي عن ابن عباس وطلحة وقتادة، ولذا جوز كونه نعتا للزمان أي زمانا قليلا وهو زمان الاستفتاح أو بلوغ الروح التراقي، أو ما قالوا: * (آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره) * (آل عمران: 72) وأولى الوجوه أولها، والظاهر أن المراد بالإيمان المعنى اللغوي، والقلة مقابل الكثرة، وقال الزمخشري: يجوز أن تكون بمعنى العدم، وكأنه أخذه من كلام الواقدي لا قليلا ولا كثيرا؛ واعترضه في " البحر " بأن القلة بمعنى النفي، وإن صحت لكن في غير هذا التركيب لأن قليلا انتصب بالفعل المثبت، فصار نظير قمت قليلا أي قياما قليلا، ولا يذهب ذاهب إلى أنك إذا أتيت بفعل مثبت، وجعلت قليلا صفة لمصدره يكون المعنى في المثبت الواقع على صفة أو هيئة انتفاء ذلك المثبت رأسا، وعدم وقوعه بالكلية، وإنما الذي نقل النحويون أنه قد يراد بالقلة النفي المحض في قولهم - أقل رجل يقول ذلك، وقلما يقوم زيد - فحملها هنا على ذلك ليس بصحيح، وليت شعري أي معنى لقولنا يؤمنون إيمانا معدوما، وما نقل الكسائي عن العرب أنهم يقولون: مررنا بأرض قليلا ما تنبت ويريدون لا تنبت شيئا فإنما ذلك لأن قليلا حال من الأرض، وإن كان نكرة، و (ما) مصدرية والتقدير قليلا إنباتها فلا مانع فيه من حمل القلة على العدم - وأين ما نحن فيه - من ذاك اللهم إلا على بعض الوجوه المرجوحة لكن الزمخشري غير قائل به، ويمكن أن يقال: إن ذلك على طريق الكناية فإن قلة الشيء تستتبع عدمه في أكثر الأوقات لا على أن لفظ القلة مستعمل بمعنى العدم فإنه هنا قول بارد جدا ولو أوقد عليه الواقدي ألف سنة.
* (ولما جآءهم كت‍ابمن عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جآءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الك‍افرين) *
319

* (ولما جاءهم كت‍ابمن عند الله) * وهو القرآن وتنكيره للتعظيم ووصفه بما عنده للتشريف والإيذان بأنه جدير بأن يقبل ما فيه ويتبع لأنه من خالقهم وإلههم الناظر في
مصالحهم، والجملة عطف على * (قالوا قلوبنا غلف) * (البقرة: 88) أي وكذبوا لما جاءهم الخ * (مصدق لما معهم) * من كتابهم أن نازل حسبما نعت أو مطابق له، و (مصدق) صفة ثانية لكتاب وقدمت الأولى عليها لأن الوصف بكينونته من عنده تعالى آكد ووصفه بالتصديق ناشىء عنها وجعله مصدقا لكتابهم لا مصدقا به إشارة إلى أنه بمنزلة الواقع ونفس الأمر لكتابهم لكونه مشتملا على الإخبار عنه محتاجا في صدقه إليه؛ وإلى أنه باعجازه مستغن عن تصديق الغير، وفي مصحف أبي * (مصدقا) * بالنصب، وبه قرأ ابن أبي عبلة، وهو حينئذ حال من الضمير المستقر في الظرف، أو من كتاب لتخصيصه بالوصف المقرب له من المعرفة، واحتمال أن الظرف لغو متعلق بجاء بعيد - فلا يضر - على أن سيبويه جوز مجيء الحال من النكرة بلا شرط
* (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) * نزلت في بني قريظة والنضير كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه - قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة - والمعنى يطلبون من الله تعالى أن ينصرهم به على المشركين، كما روى السدي أنهم كانوا إذا اشتد الحرب بينهم وبين المشركين أخرجوا التوراة ووضعوا أيديهم على موضع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: اللهم إنا نسألك بحق نبيك الذي وعدتنا أن تبعثه في آخر الزمان أن تنصرنا اليوم على عدونا فينصرون - فالسين - للطلب - والفتح - متضمن معنى النصر بواسطة (على) أو يفتحون عليهم من قولهم: فتح عليه إذا علمه ووقفه كما في قوله تعالى: * (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) * (البقرة: 76) أي يعرفون المشركين أن نبيا يبعث منهم وقد قرب زمانه - فالسين - زائدة للمبالغة، كأنهم فتحوا بعد طلبه من أنفسهم - والشيء بعد الطلب أبلغ - وهو من باب التجريد، جردوا من أنفسهم أشخاصا وسألوهم الفتح كقولهم: استعجل كأنه طلب العجلة من نفسه، ويؤول المعنى إلى يا نفس عرفي المشركين أن نبيا يبعث منهم، وقيل: (يستفتحون) بمعنى يستخبرون عنه صلى الله عليه وسلم، هل ولد مولود صفته كذا وكذا؟ نقله الراغب وغيره، وما قيل: إنه لا يتعدى بعلى لا يسمع بمجرد التشهي.
* (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) * كنى عن الكتاب المتقدم بما عرفوا لأن معرفة من أنزل عليه معرفة له، والاستفتاح به استفتاح به، وإيراد الموصول دون الاكتفاء بالإضمار لبيان كمال مكابرتهم، ويحتمل أن يراد به النبي صلى الله عليه وسلم وما قد يعبر بها عن صفات من يعقل، وبعضهم فسره بالحق إشارة إلى وجه التعبير عنه عليه الصلاة والسلام بما وهو أن المراد به الحق - لا خصوصية ذاته المطهرة - وعرفانهم ذلك حصل بدلالة المعجزات والموافقة لما نعت في كتابهم - فإنه كالصريح عند الراسخين - فلا يرد أن نعت الرسول في التوراة إن كان مذكورا على التعيين فكيف ينكرونه فإنه مذكور بالتواتر - وإلا فلا عرفان للاشتباه - على أن الإيراد في غاية السقوط، لأن الآية مساقة على حد قوله تعالى: * (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) * (النمل: 14) أي جحدوه مع علمهم به - وهذا أبلغ في ذمهم - و * (كفروا) * جواب لما الأولى ولما الثانية تكرير لها لطول العهد كما في قوله تعالى: * (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب) * (آل عمران: 188) وإلى ذلك ذهب المبرد، وقال الفراء: لماالثانية مع جوابها جواب الأولى كقوله تعالى: * (فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي) * (البقرة: 38) الخ، وعلى الوجهين يكون قوله سبحانه: * (وكانوا من قبل) * جملة حالية بتقدير - قد - مقررة، واختار الزجاج والأخفش أن جواب الأولى
320

محذوف - أي كذبوا به مثلا - وعليه يكون * (وكانوا من قبل) * الخ مع ما عطف عليه من قوله تعالى: * (فلما جاءهم) * من الشرط، والجزاء جملة معطوفة على لما جاءهم بعد تمامها، تدل الأولى على معاملتهم مع الكتاب المصدق، والثانية مع الرسول المستفتح به، وارتضاه بعض المحققين - لما - في الأول من لزوم التأكيد - والتأسيس أولى منه - واستعمال الفاء للتراخي الرتبي فإن مرتبة المؤكد بعد مرتبة المؤكد، و - لما - في الثاني من دخول الفاء في جواب (لما) مع أنه ماض وهو قليل جدا حتى لم يجوزه البصريون ولو جوز وقوعها زائدة (فلما) لا تجاب بمثلها لا يقال - لما جاء زيد،، لما قعد عمرو أكرمتك - بل هو كما ترى تركيب معقود في لسانهم مع خلو الوجهين عن فائدة عظيمة وهو بيان سوء معاملتهم مع الرسول واستلزامهما جعل و (كانوا) حالا، واختار أبو البقاء إن (كفروا) جواب - لما - الأولى، والثانية ولا حذف لأن مقتضاهما واحد وليس بشيء كجعل * (فلعنة الله على الك‍افرين) *.
جوابا للأولى وما بينهما اعتراض واللام في الكافرين للعهد أي عليهم ووضع المظهر موضع المضمر للإشعار بأن حلول اللعنة عليهم بسبب كفرهم كما أن الفاء للإيذان بترتبها عليه، وجوز كونها للجنس ويدخلون فيه دخولا أوليا، واعترض بأن دلالة العام متساوية فليس فيها شيء أول ولا أسبق من شيء، والجواب أن المراد دخولا قصديا لأن الكلام سيق بالأصالة فيهم ويكون ذلك من الكناية الإيمائية ويصار إليها إذا كان الموصوف مبالغا في ذلك الوصف ومنهمكا فيه حتى إذا ذكر خطر ذلك الوصف بالبال كقولهم لمن يقتني رذيلة ويصر عليها - أنا إذا نظرتك خطر ببالي سبابك وسباب كل من هو من أبناء جنسك - فاليهود لما بالغوا في الكفر والعناد وكتمان أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ونعى الله تعالى عليهم ذلك صار الكفر كأنه صفة غير مفارقة لذكرهم وكان هذا الكلام لازما لذكرهم ورديفه وأنهم أولى الناس دخولا فيه لكونهم تسببوا استجلاب هذا القول في غيرهم وجعل السكاكي من هذا القبيل قوله:
إذا الله لم يسق إلا الكراما * فيسقي وجوه بني حنبل
فإنه في إفادة كرم بني حنبل كما ترى لا خفاء فيه.
* (بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بمآ أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشآء من عباده فبآءو بغضب على غضب وللك‍افرين عذاب مهين) *
* (بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله) * أي باعوا، فالأنفس بمنزلة المثمن، والكفر بمنزلة الثمن لأن أنفسهم الخبيثة لا تشترى بل تباع وهو على الاستعارة أي إنهم اختاروا الكفر على الإيمان وبذلوا أنفسهم فيه، وقيل: هو بمعناه المشهور لأن المكلف إذا خاف على نفسه من العقاب أتى بأعمال يظن أنها تخلصه
فكأنه اشترى نفسه بها فهؤلاء اليهود لما اعتقدوا فيما أتوا به أنه يخلصهم من العقاب ظنوا أنهم اشتروا أنفسهم وخلصوها فذمهم الله تعالى عليه، واعترض بأنه كيف يدعي أنهم ظنوا ذلك مع قوله تعالى: * (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) * (البقرة: 89) فإذا علموا مخالفة الحق كيف يظنون نجاتهم بما فعلوا وإرادة العقاب الدنيوي كترك الرياسة غير صحيح لأنه لا يشتري به الأنفس. ويمكن الجواب بأن المراد أنهم ظنوا على ما هو ظاهر حالهم من التصلب في اليهودية والخوف فيما يأتون ويذرون وادعاء الحقية فيه فلا ينافي عدم ظنهم في الواقع على ما تدل عليه الآية، والمراد بما أنزل الله الكتاب المصدق، وفي تبديل المجىء بالإنزال المشعر بأنه من العالم العلوي مع الإسناد إليه تعالى إيذان بعلو شأنه وعظمه الموجب للإيمان به، وقيل: يحتمل أن يراد به التوراة والإنجيل وأن يراد الجميع، والكفر ببعضها كفر بكلها، واختلف في (ما) الواقعة بعد بئس ألها محل من الإعراب أم لا؟ فذهب الفراء إلى أنها لا محل لها وأنها مع بئس شيء واحد كحبذا، وذهب
321

الجمهور إلى أن لها محلا، واختلف أهو نصب أم رفع؟ فذهب الأخفش إلى الأول على أنها تمييز، والجملة بعدها في موضع نصب على الصفة، وفاعل بئس مضمر مفسر بها، والتقدير بئس هو شيئا اشتروا به، و * (أن يكفروا) * هو المخصوص بالذم والتعبير بصيغة المضارع لإفادة الاستمرار على الكفر فإنه الموجب للعذاب المهين، ويحتمل على هذا الوجه أن يكون المخصوص محذوفا، و (اشتروا) صفة له، والتقدير بئس شيء اشتروا به، و * (أن يكفروا) * بدل من المحذوف أو خبر مبتدأ محذوف، وذهب الكسائي إلى النصب على التمييز أيضا إلا أنه قدر بعدها (ما) أخرى موصولة هي المخصوص بالذم، و (اشتروا) صلتها، والتقدير بئس شيئا الذي اشتروا، وذهب سيبويه إلى الثاني على أنها فاعل (بئس) وهي معرفة تامة، والمخصوص محذوف أي: شيء اشتروا، وعزي هذا إلى الكسائي أيضا، وقيل: موصولة وهو أحد قولي الفارسي، وعزاه ابن عطية إلى سيبويه وهو وهم، ونقل المهدوي عن الكسائي أن (ما) مصدرية والمتحصل فاعل (بئس) واعترض بأن (بئس) لا تدخل على اسم معين يتعرف بالإضافة إلى الضمير، ولك على هذا التقدير أن لا تجعل ذلك فاعلا بل تجعله المخصوص والفاعل مضمر والتمييز محذوف لفهم المعنى، والتقدير - بئس اشتراء اشتراؤهم - فلا يلزم الاعتراض، نعم يرد عود ضمير به على (ما) والمصدرية لا يعود عليها الضمير لأنها حرف عند غير الأخفش فافهم.
* (بغيا أن ينزل الله) * - البغي - في الأصل الظلم والفساد من قولهم - بغى - الجرح فسد قاله الأصمعي، وقيل: أصله الطلب، وتختلف أنواعه ففي طلب زوال النعمة حسد، والتجاوز على الغير ظلم، والزنا فجور، والمراد به هنا بمعونة المقام طلب ما ليس لهم فيؤل إلى الحسد، وإلى ذلك ذهب قتادة وأبو العالية والسدي، وقيل: الظلم وانتصابه على أنه مفعول له ليكفرون فيفيد أن كفرهم كان لمجرد العناد الذي هو نتيجة الحسد لا للجهل وهو أبلغ في الذم لأن الجاهل قد يعذر، وذهب الزمخشري إلى أنه علة (اشتروا) ورد بأنه يستلزم الفصل بالأجنبي وهو المخصوص بالذم وهو وإن لم يكن أجنبيا بالنسبة إلى فعل الذم وفاعله لكن لا خفاء في أنه أجنبي بالنسبة إلى الفعل الذي وصف به تمييز الفاعل، والقول بأن المعنى - على ذم ما باعوا به أنفسهم حسدا وهو الكفر لا على ذم ما باعوا به أنفسهم وهو الكفر حسدا - تحكم، نعم قد يقال: إنما يلزم الفصل بأجنبي إذا كان المخصوص مبتدأ خبره بئسما أما لو كان خبر مبتدأ محذوف - وهو المختار - فلا لأن الجملة حينئذ جواب للسؤال عن فاعل (بئس) فيكون الفصل بين المعلول وعلته بما هو بيان للمعلول ولا امتناع فيه، وجعله بعضهم علة ل‍ (اشتروا) محذوفا فرارا من الفصل، ومنهم من أعربه حالا ومفعولا مطلقا لمقدر أي بغوا بغيا، و * (أن ينزل) * إما مفعول من أجله للبغي أي حسدا لأجل تنزيل الله، وإما على إسقاط الخافض المتعلق بالبغي أي حسدا على أن ينزل والقول بأنه في موضع خفض على أنه بدل اشتمال من (ما) في قوله: * (بما أنزل الله) * بعيد جدا، وربما يقرب منه ما قيل: إنه في موضع المفعول الثاني، والبغي بمعنى طلب الشخص ما ليس له يتعدى إليه بنفسه تارة، وباللام أخرى، والمفعول الأول ههنا أعني محمدا عليه الصلاة والسلام محذوف لتعينه؛ وللدلالة على أن الحسد مذموم في نفسه كائنا ما كان المحسود - كما لا يخفى - وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب * (ينزل) * بالتخفيف.
* (من فضله) * أراد به الوحي، و (من) لابتداء الغاية صفة لموصوف محذوف أي شيئا كائنا من فضله وجوز أبو البقاء أن تكون زائدة على مذهب الأخفش * (على من يشاء من عباده) * أي على من يختاره للرسالة، وفي " البحر " أن المراد به محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم حسدوه لما لم يكن منهم، وكان من العرب ومن ولد إسماعيل - ولم يكن من ولده نبي سواه عليه الصلاة والسلام
322

وإضافة - العباد - إلى ضميره تعالى للتشريف، و * (من) * إما موصولة أو موصوفة.
* (فباءوا بغضب على غضب) * تفريع على ما تقدم، أي فرجعوا متلبسين بغضب كائن على غضب مستحقين له حسبما اقترفوا من الكفر والحسد. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الغضب الأول: لعبادة العجل والثاني: لكفرهم به صلى الله عليه وسلم، وقال قتادة: الأول: كفرهم بالإنجيل والثاني: كفرهم بالقرآن، وقيل: هما الكفر بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، أو قولهم: * (عزير ابن الله) * (التوبة: 30) و * (يد الله مغلولة) * (المائدة: 64) وغير ذلك من أنواع كفرهم، وكفرهم الأخير بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا يخفى أن - فاء العطف - يقتضي صيرورتهم أحقاء بترادف الغضب لأجل ما تقدم، وقولهم: * (عزير ابن الله) * مثلا غير مذكور فيما سبق، ويحتمل أن يراد بقوله سبحانه: * (بغضب على غضب) * الترادف والتكاثر لا غضبان فقط، وفيه إيذان بتشديد الحال عليهم جدا كما في قوله:
ولو كان رمحا واحدا لاتقيته * ولكنه رمح (وثان وثالث)
ومن الناس من زعم أن - الفاء فصيحة - والمعنى فإذا كفروا وحسدوا على ما ذكر باءوا الخ، وليس بشيء.
* (وللك‍افرين عذاب مهين) * - اللام - في الكافرين للعهد، والإظهار في موضع الإضمار للإيذان بعلية كفرهم لما حاق بهم؛ ويحتمل أن تكون للعموم فيدخل
المعهودون فيه على طرز ما مر. و - المهين - المذل، وأصله مهون فأعل، وإسناده إلى العذاب مجاز من الإسناد إلى السبب - والوصف به للتقييد - والاختصاص الذي يفهمه تقديم الخبر بالنسبة إليه، فغير الكافرين إذا عذب فإنما يعذب للتطهير - لا للإهانة والإذلال - ولذا لم يوصف عذاب غيرهم به في القرآن فلا تمسك للخوارج بأنه خص العذاب بالكافرين فيكون الفاسق كافرا لأنه معذب ولا للمرجئة أيضا.
* (وإذا قيل لهم ءامنوا بمآ أنزل الله قالوا نؤمن بمآ أنزل علينا ويكفرون بما ورآءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبيآء الله من قبل إن كنتم مؤمنين) *
* (وإذا قيل لهم) * ظرف لقالوا والجملة عطف على * (قالوا قلوبنا غلف) * (البقرة: 88) ولا غرض يتعلق بالقائل، فلذا بني الفعل لما لم يسم فاعله، والظاهر أنه من جانب المؤمنين.
* (آمنوا بما أنزل الله) * الجمهور على أنه القرآن، وقيل: سائر ما أنزل من الكتب الإلهية إجراء لما على العموم ومع هذا: جل الغرض الأمر بالإيمان بالقرآن لكن سلك مسلك التعميم منه إشعارا بتحتم الامتثال من حيث مشاركته لما آمنوا به فيما في حيز الصلة وموافقته له في المضمون، وتنبيها على أن الإيمان بما عداه من غير إيمان به ليس إيمانا بما أنزل الله.
* (قالوا نؤمن بما أنزل علينا) * أي نستمر على الإيمان بالتوراة وما في حكمها مما أنزل لتقرير حكمها، وحذف الفاعل للعلم به إذ من المعلوم أنه لا ينزل الكتب إلا هو سبحانه، ولجريان ذكره في الخطاب ومرادهم بضمير المتكلم إما أنبياء بني إسرائيل - وهو الظاهر - وفيه إيماء إلى أن عدم إيمانهم بالقرآن كان بغيا وحسدا على نزوله على من ليس منهم - وإما أنفسهم - ومعنى الإنزال عليهم تكليفهم بما في المنزل من الأحكام، وذموا على هذه المقالة لما فيها من التعريض بشأن القرآن - ودسائس اليهود مشهورة - أو لأنهم تأولوا الأمر المطلق العام ونزلوه على خاص هو الإيمان بما أنزل عليهم كما هو ديدنهم في تأويل الكتاب بغير المراد منه.
* (ويكفرون بما ورآءه) * عطف على * (قالوا) *؛ والتعبير بالمضارع لحكاية الحال استغرابا للكفر بالشيء بعد العلم بحقيته أو للتنبيه على أن كفرهم مستمر إلى زمن الإخبار، وقيل: استئناف - وعليه ابن الأنباري - ويجوز أن يكون حالا إما على مذهب من يجوز وقوع المضارع المثبت حالا مع الواو، وإما على تقدير مبتدأ أي وهم
323

يكفرون، والتقييد بالحال حينئذ لإفادة بيان شناعة حالهم بأنهم متناقضوا في إيمانهم لأن كفرهم بما وراءه حال الإيمان بالتوراة يستلزم عدم الإيمان به - وهذا أدخل في رد مقالتهم - ولهذا اختار هذا الوجه بعض الوجوه، - ووراء - في الأصل مصدر لاشتقاق المواراة والتواري منه، والمزيد فرع المجرد إلا أنه لم يستعمل فعله المجرد أصلا ثم جعل ظرف مكان ويضاف إلى الفاعل فيراد به المفعول وإلى المفعول فيراد به الفاعل أعني الساتر، ولصدقه على الضدين - الخلف، والأمام - عد من الأضداد وليس موضوعا لهما، وفي " الموازنة " للأموي تصريح بأنه ليس منها وإنما هو من المواراة والاستتار فما استتر عنك فهو وراء - خلفا كان أو قداما - إذا لم تره فأما إذا رأيته فلا يكون وراءك. والمراد هنا بما بعده قاله قتادة - أو بما سواه - وبه فسر * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * (النساء: 24) وأريد به القرآن كما عليه الجمهور. وقال الواحدي: هو والإنجيل، واحتمال أن يراد بما وراءه باطن معاني ما أنزل عليهم التي هي وراء ألفاظها، وفيه إشعار بأن إيمانهم بظاهر اللفظ ليس بشيء إلا أن يراد بذلك الباطن القرآن ولا يخفى بعده.
* (وهو الحق) * الضمير عائد لما وراءه حال منه، وقيل: من فاعل (يكفرون) والجملة الحالية المقترنة بالواو لا يلزم أن يعود منها ضمير إلى ذي الحال - كجاء زيد والشمس طالعة - وعلى فرض اللزوم ينزل وجود الضمير فيما هو من تتمتها منزلة وجوده فيها، والمعنى وهم مقارنون لحقيته أي عالمون بها وهو أبلغ في الذم من كفرهم بما هو حق في نفسه، والأول أولى لظهوره ولا تفوت تلك الأبلغية عليه أيضا إذ تعريف الحق للإشارة إلى أن المحكوم عليه مسلم الاتصاف به معروفه من قبيل - والدك العبد - فيفيد أن كفرهم به كان لمجرد العناد، وقيل: التعريف لزيادة التوبيخ والتجهيل بمعنى أنه خاصة الحق الذي يقارن تصديق كتابهم ولولا الحال أعني (مصدقا) لم يستقم الحصر لأنه في مقابلة كتابهم وهو حق أيضا، وفيه أنه لا يستقيم ولو لوحظ الحال بناء على تخصيص ذي الضمير بالقرآن لأن الإنجيل حق مصدق للتوراة أيضا، نعم لو أريد بالحق الثابت المقابل للمنسوخ لاستقام الحصر مطلقا إلا أنه بعيد.
* (مصدقا لما معهم) * حال مؤكدة لأن كتب الله تعالى يصدق بعضها بعضا، فالتصديق لازم لا ينتقل، وقد قررت مضمون الخبر لأنها كالاستدلال عليه، ولهذا تضمنت رد قولهم: * (نؤمن بما أنزل علينا) * حيث إن من لم يصدق بما وافق التوراة لم يصدق بها، واحتمال أن يراد مما معهم التوراة والإنجيل كما في " البحر " لأنهما أنزلا على بني إسرائيل وكلاهما غير مخالف للقرآن مخالف لما يقتضيه الذوق سباقا وسياقا. * (قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل) * أمر للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك تبكيتا لهم حيث قتلوا الأنبياء مع ادعاء الإيمان بالتوراة وهي لا تسوغه، ويحتمل أن يكون أمرا لمن يريد جدالهم كائنا من كان. والفاء جواب شرط مقدر أي: إن كنتم مؤمنين * (فلم) * الخ، و (ما) استفهامية حذفت ألفها لأجل - لام - الجر ويقف البزي في مثل ذلك بالهاء وغيره بغير هاء، وإيراد صيغة المضارع مع الظرف الدال على المضي للدلالة على استمرارهم على القتل في الأزمنة الماضية، وقيل: لحكاية تلك الحال، والمراد بالقتل معناه الحقيقي وإسناده إلى الأخلاف المعاصرين له صلى الله عليه وسلم مع أن صدوره من الأسلاف مجاز للملابسة بين الفاعل الحقيقي وما أسند إليه، وهذا كما يقال لأهل قبيلة - أنتم قتلتم زيدا - إذا كان القاتل آباءهم، وقيل: القتل مجاز عن الرضا أو العزم عليه، ولا يخفى أن الاعتراض على الوجه الأول أقوى تبكيتا منه على الآخرين فتدبر، وفي إضافة (أنبياء) إلى الاسم الكريم تشريف عظيم وإيذان بأنه كان ينبغي لمن جاء من عند الله تعالى أن يعظم وينصر لا أن يقتل.
* (إن كنتم مؤمنين) *
324

تكرير للاعتراض لتأكيد الإلزام وتشديد التهويل أي: إن كنتم مؤمنين فلم تقتلونهم وقد حذف من كل واحدة من الشرطيتين ما حذف ثقة بما أثبت في الأخرى على طريق الاحتباك، وقيل: إن المذكور قبل جواب لهذا الشرط بناء على جواز تقديمه وهو رأي الكوفيين وأبي زيد، واختاره في " البحر "، وقال الزجاج: (إن) هنا نافية ولا يخفى بعده.
* (ولقد جآءكم موسى بالبين‍ات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظ‍المون) *
* (ولقد جاءكم موسى بالبين‍ات) * داخل تحت الأمر فهو من تمام التبكيت والتوبيخ وكذا ما يأتي بعد لا تكرير لما قص من قبل، والمراد بالبينات الدلائل الدالة على صدقه عليه السلام في دعوته والمعجزات المؤيدة لنبوته كالعصا واليد، وانفلاق البحر مثلا؛ وقيل: الأظهر أن يراد بها الدلائل الدالة على الوحدانية فإنه أدخل في التقريع بما بعد، وعندي الحمل على العموم بحيث يشمل ذلك أيضا أولى وأظهر.
* (ثم اتخذتم العجل) * أي الذي صنعه لكم السامري من حليكم إلها * (من بعده) * أي بعد مجىء موسى عليه السلام بها ومن عد التوراة وانفجار الماء منها لم يرد الجميع بل الجنس لأن ذلك كان بعد قصة العجل وكلمة (ثم) على هذا للاستبعاد لئلا يلغو القيد. وقد يقال: الضمير لمتقدم معنى وهو الذهاب إلى الطور فكلمة (ثم) على حقيقتها، وعد ما ذكرنا من البينات حينئذ ظاهر، ويشير هذا العطف على أنهم فعلوا ذلك بعد مهلة من النظر في الآيات وذلك أعظم ذنبا وأكثر شناعة لحالهم، والتزم بعضهم - رجوع الضمير إلى البينات بحذف المضاف أي من بعد تدبر الآيات ليظهر ذلك، وعود الضمير إلى العجل، والمراد بعد وجوده أي عبدتم الحادث الذي حدث بمحضركم ليكون فيه التوبيخ العظيم - لا يخفى ما فيه من البعد العظيم المستغنى عنه بما أشرنا إليه.
* (وأنتم ظ‍المون) * أي واضعون الشيء في غير محله اللائق به أو مخلون بآيات الله تعالى، والجملة حال مؤكدة للتوبيخ والتهديد وهي جارية مجرى القرينة على إرادة العبادة من الاتخاذ، وفيها تعريض بأنهم صرفوا العبادة عن موضعها الأصلي إلى غير موضعها وإيهام المبالغة من حيث إن إطلاق الظلم يشعر بأن عبادة العجل كل الظلم وأن من ارتكبها لم يترك شيئا من الظلم. واختار بعضهم كونها اعتراضا لتأكيد الجملة بتمامها دون تعرض لبيان الهيئة الذي تقتضيه الحالية أي وأنتم قوم عادتكم الظلم واستمر منكم، ومنه عبادة العجل، والذي دعاه إلى ذلك زعم أنه يلزم على الحالية أن يكون تكرارا محضا فإن عبادة العجل لا تكون إلا ظلما بخلافه على هذا فإنه يكون بيانا لرذيلة لهم تقتضي ذلك، وفيه غفلة عما ذكرنا، وإذا حمل الاتخاذ على الحقيقة نحو - اتخذت خاتما - تكون الحالية أولى بلا شبهة لأن الاتخاذ لا يتعين كونه ظلما إلا إذا قيد بعبادته كما لا يخفى.
* (وإذ أخذنا ميث‍اقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا مآ ءاتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا فى قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيم‍انكم إن كنتم مؤمنين) *
* (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما ءاتين‍اكم بقوة) * أي قلنا لهم خذوا ما أمرتكم به في التوراة بجد وعدم فتور * (واسمعوا) * - أي سماع تقبل وطاعة إذ لا فائدة في الأمر بالمطلق بعد الأمر بالأخذ بقوة بخلافه على تقدير التقييد فإنه يؤكده ويقرره لاقتضائه كمال إبائهم عن قبول ما آتاهم إياه ولذا رفع الجبل عليهم، وكثيرا ما يراد من السماع القبول ومن ذلك سمع الله لمن حمده وقوله: دعوت الله حتى خفت أن لا * يكون الله (يسمع) ما أقول
* (قالوا سمعنا وعصينا) * أي سمعنا قولك: (خذوا واسمعوا) وعصينا أمرك فلا نأخذ ولا نسمع سماع الطاعة، وليس هذا جوابا ل‍ (اسمعوا) باعتبار تضمنه أمرين لأنه يبقى (خذوا) بلا جواب، وذهب الجم إلى ذلك وأوردوا هنا سؤالا وجوابا، حاصل الأول أن السماع في الأمر إن كان على ظاهره فقولهم سمعنا طاعة وعصينا مناقض
325

وإن كان القبول فإن كان في الجواب كذلك كذب وتناقض وإلا لم يكن له تعلق بالسؤال، وزبدة الجواب أن السماع هناك مقيد والأمر مشتمل على أمرين سماع قوله وقبوله بالعمل فقالوا: نمتثل أحدهما دون الآخر، ومرجعه إلى القول بالموجب، ونظيره * (يقولون هو أذن قل أذن خير لكم) * (التوبة: 61) وقيل: المعنى قالوا بلسان القال سمعنا وبلسان الحال عصينا، أو سمعنا أحكاما قبل وعصينا فنخاف أن نعصي بعد سماع قولك هذا، وقيل: (سمعنا) جواب (اسمعوا) و (عصينا) جواب (خذوا) وقال أبو منصور: إن قولهم (عصينا) ليس على أثر قولهم: (سمعنا) بل بعد زمان كما في قوله تعالى: * (ثم توليتم) * (البقرة: 64) فلا حاجة إلى الدفع بما ذكر، وأنت تعلم أنه لا حاجة إلى جميع ذلك بعدما سمعت كما لا يخفى.
* (وأشربوا في قلوبهم العجل) * عطف على * (قالوا) * أو مستأنف أو حال بتقدير قد أو بدونه. والعامل (قالوا) و - الإشراب - مخالطة المائع الجامد، وتوسع فيه حتى صار في اللونين، ومنه بياض مشرب بحمرة، والكلام على حذف مضاف أي حب العجل، وجوز أن يكون العجل مجازا عن صورته فلا يحتاج إلى الحذف، وذكر - القلوب - لبيان مكان الإشراب، وذكر المحل المتعين يفيد مبالغة في الإثبات؛ والمعنى داخلهم حب العجل ورسخ في قلوبهم صورته لفرط شغفهم به كما داخل الصبغ الثوب وأنشدوا: إذا ما القلب (أشرب) حب شيء * فلا تأمل له عنه انصرافا
وقيل: - أشربوا - من أشربت البعير إذا شددت في عنقه حبلا كأن العجل شد في قلوبهم لشغفهم به؛ وقيل: من الشراب ومن عادتهم أنهم إذا عبروا عن مخامرة حب أو بغض استعاروا له اسم الشراب إذ هو أبلغ منساغ في البدن، ولذا قال الأطباء: الماء مطية الأغذية والأدوية ومركبها الذي تسافر به إلى أقطار البدن، وقال الشاعر: تغلغل حيث لم يبلغ (شراب) * ولا حزن ولم يبلغ سرور
وقيل: من الشرب حقيقة، وذلك أن السدي نقل أن موسى عليه السلام برد العجل بالمبرد ورماه في الماء وقال لهم: اشربوا فشربوا جميعهم فمن كان يحب العجل
خرجت برادته على شفتيه، ولا يخفى أن قوله تعالى: * (في قلوبهم) * يبعد هذا القول جدا على أن ما قص الله تعالى لنا في كتابه عما فعل موسى عليه السلام بالعجل يبعد ظاهر هذه الرواية أيضا، وبناء - أشربوا - للمفعول يدل على أن ذلك فعل بهم ولا فاعل سواه تعالى. وقالت المعتزلة: هو على حد قول القائل - أنسيت كذا - ولم يرد أن غيره فعل ذلك به وإنما المراد نسيت وأن الفاعل من زين ذلك عندهم ودعاهم إليه كالسامري.
* (بكفرهم) * أي بسبب كفرهم لأنهم كانوا مجسمة يجوزون أن يكون جسم من الأجسام إلها أو حلولية يجوزون حلوله فيه تعالى عن ذلك علوا كبيرا، ولم يروا جسما أعجب منه فتمكن في قلوبهم ما سول لهم، وثعبان العصا كان لا يبقى زمانا ممتدا ولا يبعد من أولئك أن يعتقدوا عجلا صنعوه على هيئة البهائم إلها وإن شاهدوا ما شاهدوا من موسى عليه السلام لما ترى من عبدة الأصنام الذين كان أكثرهم أعقل من كثير من بني إسرائيل، وقيل: الباء بمعنى مع أي مصحوبا بكفرهم فيكون ذلك كفرا على كفر.
* (قل بئسما يأمركم به إيم‍انكم) * أي بما أنزل عليكم من التوراة حسبما تدعون، وإسناد الأمر إلى الإيمان وإضافته إلى ضميرهم للتهكم كما في قوله تعالى: * (أصلاتك تأمرك) * (هود: 87) والمخصوص بالذم محذوف - أي قتل الأنبياء - وكذا وكذا، وجوز أن يكون المخصوص مخصوصا بقولهم: عصينا أمرك، وأراه على القرب بعيدا.
* (إن كنتم مؤمنين) * قدح في دعواهم الإيمان بالتوراة وإبطال لها، وجواب الشرط ما فهم من قوله تعالى:
326

* (فلم تقتلون) * إلى آخر الآيات المذكورة في رد دعواهم الإيمان، أو الجملة الإنشائية السابقة - إما بتأويل أو بلا تأويل - وتقرير ذلك: إن كنتم مؤمنين ما رخص لكم إيمانكم بالقبائح التي فعلكم، بل منع عنها فتناقضتم في دعواكم له فتكون باطلا، أو: إن كنتم مؤمنين بها فبئسما أمركم به إيمانكم بها أو فقد أمركم إيمانكم بالباطل، لكن الإيمان بها لا يأمر به فإذن لستم بمؤمنين، والملازمة بين الشرط والجزاء على الأول: بالنظر إلى نفس الأمر، وإبطال الدعوى بلزوم التناقض وعلى الثاني: تكون الملازمة بالنظر إلى حالهم من تعاطي القبائح مع ادعائهم الإيمان، والمؤمن من شأنه أن لا يتعاطى إلا ما يرخصه إيمانه، وإبطال التالي بالنظر إلى نفس الأمر، - واستظهر بعضهم في هذا - ونظائره كون الجزاء معرفة السابق أي: إن كنتم مؤمنين تعرفون أنه بئس المأمور به، وقيل: (إن) نافية، وقيل: للتشكيك - وإليه يشير كلام " الكشاف " - وفيه أن المقصد إبطال دعوتهم بإبراز إيمانهم القطعي العدم منزلة ما لا قطع بعدمه للتبكيت والإلزام - لا للتشكيك - على أنه لم يعهد استعمال (إن) لتشكيك السامع - كما نص عليه بعض المحققين - وقرأ الحسن ومسلم بن جندب - بهو إيمانكم - بضم الهاء ووصلها بواو -.
* (قل إن كانت لكم الدار الاخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم ص‍ادقين) *
* (قل إن كانت لكم الدار الآخرة) * رد لدعوى أخرى لهم بعد رد دعوى - الإيمان بما أنزل عليهم - ولاختلاف الغرض لم يعطف أحدهما على الآخر مع ظهور المناسبة المصححة للذكر، والآية نزلت - فيما حكاه ابن الجوزي - عندما قالت اليهود: إن الله تعالى لم يخلق الجنة إلا لإسرائيل وبنيه. وقال أبو العالية والربيع: سبب نزولها قولهم: * (لن يدخل الجنة) * (البقرة: 111) الخ و * (نحن أبناء الله) * (المائدة: 18) الخ و * (لن تمسنا النار) * (البقرة: 80) الخ، وروي مثله عن قتادة. والضمير في * (قل) * إما للنبي صلى الله عليه وسلم أو لمن يبغي إقامة الحجة عليهم، والمراد من (الدار الآخرة) الجنة - وهو الشائع - واستحسن في " البحر " تقدير مضاف أي: نعيم الدار الآخرة.
* (عند الله) * أي في حكمه، وقيل: المراد - بالعندية - المكانة والمرتبة والشرف، وحملها - على عندية المكان - كما قيل به - احتمالا - بعيد * (خالصة من دون الناس) * أي مخصوصة بكم كما تزعمون - والخالص - الذي لا يشوبه شيء، أو ما زال عنه شوبه، ونصب (خالصة) على الحال من الدار الذي هو اسم (كان) و (لكم) خبرها قدم للاهتمام - أو لإفادة الحصر - وما بعده للتأكيد، هذا إن جوز مجىء الحال من اسم (كان) وهو الأصح، ومن لم يجوز بناء على أنه ليس بفاعل جعلها حالا من الضمير المستكن في الخبر، وقيل: (خالصة) هو الخبر و (لكم) ظرف لغو لكان أو لخالصة ولا يخفى بعده - فإنه تقييد للحكم قبل مجيئه - ولا وجه لتقديم متعلق الخبر على الاسم مع لزوم توسط الظرف بين الاسم والخبر، وأبعد المهدوي وابن عطية أيضا فجعلا (خالصة) حالا و (عند الله) هو الخبر، مع أن الكلام لا يستقل به وحده. و (دون) هنا للاختصاص وقطع الشركة، يقال: هذا لي دونك، وأنت تريد لا حق لك فيه معي ولا نصيب، وهو متعلق بخالصة والمراد بالناس الجنس وهو الظاهر، وقيل: المراد بهم النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وقيل: النبي صلى الله عليه وسلم وحده - قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - قالوا: ويطلق الناس ويراد به الرجل الواحد، ولعله لا يكون إلا مجازا بتنزيل الواحد منزلة الجماعة.
* (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) * في أن الجنة خالصة لكم، فإن من أيقن أنه من أهل الجنة اختار أن ينتقل إلى دار القرار، وأحب أن يخلص من المقام في دار الأكدار، كما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان يطوف بين الصفين في غلالة، فقال له الحسن:
327

ما هذا بزي المحاربين، فقال: يا بني - لا يبالي أبوك سقط على الموت، أم سقط عليه الموت - وكان عبد الله بن رواحة ينشد وهو يقاتل الروم: يا حبذا الجنة واقترابها * طيبة وبارد شرابهاوالروم روم قد دنا عذابها
وقال عمار بصفين: غدا نلقي الأحبة محمدا وصحبه
وروي عن حذيفة أنه كان يتمنى الموت، فلما احتضر قال: حبيب جاء على فاقة. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه لما بلغه قتل من قتل ببئر معونة قال: " يا ليتني غودرت معهم في لحف الجبل " ويعلم من ذلك أن تمني الموت لأجل الاشتياق إلى دار النعيم ولقاء الكريم غير منهي عنه، إنما المنهي عنه تمنيه لأجل ضر أصابه - فإنه أثر
الجزع وعدم الرضا بالقضاء - وفي الخبر: " لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، وإن كان ولا بد فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وأمتني ما كانت الوفاة خيرا لي " والمراد - بالتمني - قول الشخص: ليت كذا، وليت من أعمال القلب أو الاشتهاء بالقلب ومحبة الحصول مع القول، فمعنى الآية سلوا الموت باللسان - قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو اشتهوه بقلوبكم وسلوه بألسنتكم - قاله قوم - وعلى التقديرين - الأمر بالتمني حقيقة، واحتمال أن يكون المراد - تعرضوا للموت ولا تحترزوا عنه كالمتمني فحاربوا من يخالفكم ولا تكونوا من أهل الجزية والصغار، أو كونوا على وجه يكون المتمنون للموت المشتهون للجنة عليه من العمل الصالح - مما لا تساعده الآثار، فقد أخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما موقوفا: " لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه " وأخرج البيهقي عنه مرفوعا " لا يقولها رجل منهم إلا غص بريقه " والبخاري مرفوعا عنه أيضا: " لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا " وقرأ ابن أبي إسحاق: * (فتمنوا الموت) * - بكسر الواو - وحكى الحسن بن إبراهيم عن أبي عمرو - فتحها - وروي عنه أيضا اختلاس ضمتها.
* (ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظ‍المين) *
* (ولن يتمنوه أبدا) * الظاهر أنه جملة مستأنفة معترضة غير داخلة تحت الأمر سيقت من جهته تعالى لبيان ما يكون منهم من الإحجام الدال على كذبهم في دعواهم، والمراد لن يتمنوه ما عاشوا، وهذا خاص بالمعاصرين له صلى الله عليه وسلم على ما روي عن نافع رضي الله تعالى عنه قال: خاصمنا يهودي وقال: إن في كتابكم * (فتمنوا الموت) * الخ، فأنا أتمنى الموت، فمالي لا أموت، فسمع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فغضب، فدخل بيته وسل سيفه وخرج، فلما رآه اليهودي فر منه، وقال ابن عمر: أما والله لو أدركته لضربت عنقه، توهم هذا الكلب اللعين الجاهل أن هذا لكل يهودي أو لليهود في كل وقت لا إنما هو لأولئك الذين كانوا يعاندون ويجحدون نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن عرفوا، وكانت المحاجة معهم باللسان دون السيف. ويؤيد هذا ما أخرج ابن جرير عن ابن عباس موقوفا: " لو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على وجه الأرض يهودي إلا مات " وهذه الجملة إخبار بالغيب ومعجزة له صلى الله عليه وسلم، وفيها دليل على اعترافهم بنبوته صلى الله عليه وسلم لأنهم لو لم يتيقنوا ذلك ما امتنعوا من التمني، وقيل: لا دليل، بل الامتناع كان بصرف الصرفة كما قيل في عدم معارضة القرآن، والقول بأنه كيف يكون ذلك معجزة مع أنه لا يمكن أن يعلم أنه لم يتمن أحد، والتمني أمر قلبي لا يطلع عليه، مجاب عنه بأنا لا نسلم أن المراد بالتمني هنا الأمر القلبي، بل هو أن يقول: ليت كذا ونحوه كما مر آنفا، ولو سلم أنه أمر قلبي فهذا مذكور على طريق المحاجة وإظهار المعجزة فلا يدفع إلا بالإظهار والتلفظ كما إذا قال رجل لامرأته: أنت طالق إن شئت أو أحببت، فإنه يعلق بالإخبار لا بالإضمار، فحيث ثبت عدم تلفظهم بالإخبار، وبأنه لو وقع لنقل واشتهر لتوفر الدواعي إلى نقله لأنه أمر عظيم يدور عليه أمر
328

عظيم يدور عليه أمر النبوة، فإنه بتقدير عدمه يظهر صدقه، وبتقدير حصوله يبطل القول بنبوته ثبت كونه معجزة أيده بها ربه، ومن حمل التمني على المجاز لا يرد عنده هذا السؤال، ولا يحتاج إلى هذا الجواب، وقد علمت ما فيه. وذهب جمهور المفسرين إلى عموم حكم الآية لجميع اليهود في جميع الأعصار، ولست ممن يقول بذلك وإن ارتضاه الجم الغفير، وقالوا: إنه المشهور الموافق لظاهر النظم الكريم، اللهم إلا أن يكون ذلك بالنسبة إلى جميع اليهود المعتقدين نبوته صلى الله عليه وسلم الجاحدين لها في جميع الأعصار - لا بالنسبة إلى اليهود مطلقا في جميعها - ومع هذا لي فيه نظر بعد.
* (بما قدمت أيديهم) * أي بسبب ما عملوا من المعاصي الموجبة للنار كالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وقتل الأنبياء، و (ما) موصولة، والعائد محذوف أو مصدرية ولا حذف، واليد كناية عن نفس الشخص، ويكنى بها عن القدرة أيضا لما أنها من بين جوارح الإنسان مناط عامة صنائعه ومدار أكثر منافعه، ولا يجعل الإسناد مجازيا؛ واليد على حقيقتها فيكون المعنى بما قدموا بأيديهم كتحريف التوراة ليشمل ما قدموا بسائر الأعضاء، وهو أبلغ في الذم.
* (والله عليم بالظ‍المين) * تذييل للتهديد والتنبيه على أنهم ظالمون في ادعاء ما ليس لهم ونفيه عن غيرهم، والمراد - بالعلم - إما ظاهر معناه، أو أنه كنى به عن المجازاة، - وأل - إما للعهد وإيثار الإظهار على الإضمار للذم، وإما للجنس فيدخل المعهودون فيه على طرز ما تقدم.
* (ولتجدنهم أحرص الناس على حيواة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون) *
* (ولتجدنهم أحرص الناس على حيواة) * الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، و - تجد - من وجد بعقله بمعنى علم المتعدية إلى مفعولين، والضمير مفعول أول، و (أحرص) مفعول ثان، واحتمال أنها من وجد بمعنى لقي وأصاب فتتعدى إلى واحد، و (أحرص) حال لا يتأتى على مذهب من يقول إن إضافة أفعل محضة كما سيأتي، والضمير عائد على اليهود الذين أخبر عنهم بأنهم لا يتمنون الموت، وقيل: على جميعهم، وقيل: على علماء بني إسرائيل و - أل - في الناس للجنس، وهو الظاهر، وقيل: للعهد، والمراد جماعة عرفوا بغلبة الحرص عليهم، وتنكير (حياة) لأنه أريد بها فرد نوعي، وهي الحياة المتطاولة، فالتنوين للتعظيم، ويجوز أن يكون للتحقير فإن الحياة الحقيقية هي الأخروية و * (إن الدار الآخرة لهي الحيوان) * (العنكبوت: 64) ويجوز أن يكون التنكير للإبهام، بل قيل: إن الأوجه أي على حياة مبهمة غير معلومة المقدار، ومنه يعلم حرصهم على الحياة المتطاولة من باب الأولى وجوز أبو حيان أن يكون الكلام على حذف مضاف أو صفة أي طول حياة أو حياة طويلة، وأنت تعلم أنه لا يحتاج إلى ذلك، والجملة إما حال من فاعل (قل) - وعليه الزجاج - وإما معترضة لتأكيد عدم تمنيهم الموت، وقرأ أبي (على الحياة) بالألف واللام. * (ومن الذين أشركوا) * هم المجوس ووصفوا بالإشراك لأنهم يقولون بالنور والظلمة وكانت تحيتهم إذا عطس العاطس عش ألف سنة، وقيل: مشركو العرب الذين عبدوا الأصنام وهذا من الحمل على المعنى كأنه قال: أحرص من الناس ومن الذين الخ. بناء على ما ذهب إليه ابن السراج وعبد القاهر والجزولي وأبو علي من أن إضافة أفعل المضاف إذا أريد الزيادة على ما أضيف إليه لفظية لأن المعنى على إثبات (من) الابتدائية، والجار والمجرور في محل نصب مفعوله، وسيبويه يجعلها معنوية بتقدير اللام، والمرد بالناس على هذا التقدير ما عدا اليهود لما تقرر أن المجرور - بمن - مفضول عليه بجميع أجزائه أو الأعم ولا
يلزم تفضيل الشيء على نفسه لأن أفعل ذو جهتين ثبوت أصل المعنى والزيادة فكونه من جملتهم بالجهة الأولى دون الثانية وجىء - بمن - في الثانية لأن من شرط أفعل المراد به الزيادة على المضاف إليه أن يضاف إلى ما هو بعضه لأنه موضوع لأن يكون جزءا من جملة معينة بعده مجتمعة منه ومن أمثاله، ولا شك أن اليهود غير داخلين في الذين أشركوا فإن الشائع في القرآن ذكرهما
329

متقابلين، ويجوز أن يكون ذلك من باب الحذف أي - وأحرص من الذين - وهو قول مقاتل؛ ووجه الآية على مذهب سيبويه، وعلى التقديرين ذكر - المشركين - تخصيص بعد التعميم على الوجه الظاهر في - اللام - لإفادة المبالغة في حرصهم والزيادة في توبيخهم وتقريعهم حيث كانوا مع كونهم أهل كتاب يرجون ثوابا ويخافون عقابا، أحرص ممن لا يرجو ذلك، ولا يؤمن بعث ولا يعرف إلا الحياة العاجلة، وإنما كان حرصهم أبلغ لعلمهم بأنهم صائرون إلى العذاب، ومن توقع شرا كان أنفر الناس عنه، وأحرصهم على أسباب التباعد منه. ومن الناس من جوز كون (من الذين) صفة لمحذوف معطوف على الضمير المنصوب في * (لتجدنهم) * والكلام على التقديم والتأخير، أي: لتجدنهم وطائفة من - الذين أشركوا أحرص الناس - ولا أظن يقدم على مثل ذلك في كتاب الله تعالى من له أدنى ذوق، لأنه - وإن كان معنى صحيحا في نفسه - إلا أن التركيب ينبو عنه، والفصاحة تأباه، ولا ضرورة تدعو إليه لا سيما على قول من يخص التقديم والتأخير بالضرورة، نعم يحتمل أن يكون هناك محذوف - هو مبتدأ - والمذكور صفته، أو المذكور خبر مبتدأ محذوف صفته.
* (يود أحدهم) * وحذف موصوف الجملة فيما إذا كان بعضا من سابقه المجرور بمن أو - في - جائز في السعة، وفي غيره مختص بالضرورة نحو: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
وحينئذ يراد بالذين أشركوا اليهود لأنهم قالوا عزير ابن الله ووضع المظهر موضع المضمر نعيا عليهم بالشرك، وجوز بعضهم أن يراد بذلك الجنس، ويراد بمن يود أحدهم اليهود، والمراد كل واحد منهم - وهو بعيد - وجملة * (يود) * الخ، على الوجهين الأولين مستأنفة، كأنه قيل: ما شدة حرصهم، وقيل: حال من (الذين) أو من ضمير (أشركوا) أو من الضمير المنصوب في * (لتجدنهم) *. * (لو يعمر ألف سنة) * جواب * (لو) * محذوف - أي لسر بذلك - وكذا مفعول * (يود) * أي طول الحياة، وحذف لدلالة * (لو يعمر) * عليه كما حذف الجواب لدلالة * (يود) * عليه، وهذا هو الجاري على قواعد البصريين في مثل هذا المكان، وذهب بعض الكوفيين - في مثل ذلك - إلى أن * (لو) * مصدرية بمعنى - أن - فلا يكون لها جواب، وينسبك منها مصدر هو مفعول * (يود) * كأنه قال: يود أحدهم تعمير ألف سنة، وقيل: * (لو) * بمعنى ليت ولا يحتاج إلى جواب والجملة محكية بيود في موضع المفعول، وهو - وإن لم يكن قولا ولا في معناه - لكنه فعل قلبي يصدر عنه الأقوال فعومل معاملتها، وكان أصله - لو أعمر - إلا أنه أورد بلفظ الغيبة لأجل مناسبة * (يود) * فإنه غائب، كما يقال: حلف ليفعلن - مقام لأفعلن - وهذا بخلاف ما لو أتى بصريح القول، فإنه لا يجوز قال: ليفعلن، وإذا قلنا: إن (لو) التي للتمني مصدرية لا يحتاج إلى اعتبار الحكاية، وابن مالك رضي الله تعالى عنه يقول: إن (لو) في أمثال ذلك مصدرية لا غير، لكنها أشبهت - ليت - في الإشعار بالتمني، وليست حرفا موضوعا له - كليت - ونحو لو تأتيني فتحدثني - بالنصب - أصله وددت لو تأتيني الخ، فحذف فعل التمني لدلالة (لو) عليه، وقيل: هي (لو) الشرطية أشربت معنى التمني، ومعنى * (ألف سنة) * الكثرة ليشمل من (يود) أن لا يموت أبدا، ويحتمل أن يراد ألف سنة حقيقة - والألف - العدد المعلوم من الألفة، إذ هو مؤلف من أنواع الأعداد بناء على متعارف الناس، وإن كان الصحيح أن العدد مركب من الوحدات التي تحته - لا الأعداد - وأصل (سنة) سنوة، لقولهم: سنوات، وقيل: سنهة - كجبهة - لقولهم: سانهته، وتسنهت النخلة إذا أتت عليها السنون، وسمع أيضا في الجمع سنهات.
* (وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر) * * (ما) * حجازية أو تميمية، وهو ضمير عائد إلى * (أحدهم) * اسمها - أو مبتدأ - و * (بمزحزحه) * خبرها أو خبره - والباء - زائدة، و * (أن يعمر) *
330

فاعل (مزحزحه) والمعنى - ما أحدهم يزحزحه من العذاب تعميره - وفيه إشارة إلى ثبوت من - يزحزحه التعمير - وهو (من آمن وعمل صالحا) ولا يجوز عند المحققين أن يكون الضمير المرفوع للشأن لأن مفسره جملة، ولا تدخل - الباء في خبر * (ما) * وليس إلا إذا كان مفردا عند غير الفراء، وأجاز ذلك أبو علي، وهو ميل منه إلى مذهب الكوفيين من أن مفسر ضمير الشأن يجوز أن يكون غير جملة إذا انتظم إسنادا معنويا نحو ما هو بقائم زيد؛ نعم جوزوا أن يكون لما دل عليه * (يعمر) * و * (أن يعمر) * بدل منه، أي: ما تعميره بمزحزحه من العذاب واعترض بأن فيه ضعفا للفصل بين البدل والمبدل منه، وللإبدال من غير حاجة إليه، وأجاب بعض المحققين أنه لما كان لفظ - التعمير - غير مذكور، بل ضميره حسن الإبدال؛ ولو كان التعمير مذكورا بلفظه لكان الثاني تأكيدا - لا بدلا - ولكونه في الحقيقة تكريرا يفيد فائدته من تقرير المحكوم عليه اعتناء بشأن الحكم بناء على شدة حرصه على التعمير - ووداده إياه - جاز الفصل بينه وبين المبدل منه بالخبر، كما في التأكيد في قوله تعالى: * (وهم بالآخرة هم كافرون) * (هود: 19) وقيل: هو ضمير مبهم يفسره البدل فهو راجع إليه لا إلى شيء متقدم مفهوم من الفعل، والتفسير بعد الإبهام ليكون أوقع في نفس السامع، ويستقر في ذهنه كونه محكوما عليه بذلك الحكم والفصل بالظرف بينه وبين مفسره جائز - كما يفهمه كلام الرضي في بحث أفعال المدح والذم - واحتمال أن يكون (هو) ضمير فصل قدم مع الخبر بعيد - والزحزحة - التبعيد، وهو مضاعف من زح يزح زحا، ككبكب من كب - وفيه مبالغة - لكنها متوجهة إلى النفي على حد ما قيل: * (وما ربك بظلام للعبيد) * (فصلت: 46) فيؤول - إلى أنه لا يؤثر في إزالة العذاب أقل تأثير - التعمير، وصح ذلك مع أن التعمير يفيد رفع العذاب مدة البقاء، لأن الإمهال بحسب الزمان وإن حصل، لكنهم لاقترافهم المعاصي بالتعمير زاد عليهم من حيث الشدة فلم يؤثر في إزالته أدنى تأثير بل زاد فيه حيث استوجبوا بمقابلة (أيام معدودة) عذاب الأبد.
* (والله بصير بما يعملون) * أي عالم بخفيات أعمالهم - فهو مجازيهم لا محالة - وحمل - البصر - على - العلم - هنا وإن كان بمعنى الرؤية صفة لله تعالى أيضا لأن بعض الأعمال لا يصح أن يرى - على ما ذهب إليه بعض المحققين - وفي هذه الجملة من التهديد والوعيد ما هو ظاهر، و (ما) إما موصولة أو مصدرية، وأتى بصيغة المضارع لتواخي الفواصل، وقرأ الحسن وقتادة والأعرج ويعقوب * (تعملون) * - بالتاء - على سبيل الالتفات.
* (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين) *
* (قل من كان عدوا لجبريل) * أخرج ابن أبي شيبة في " مسنده "، وابن جرير. وابن أبي حاتم عن الشعبي، أنه دخل عمر رضي الله تعالى عنه مدارس اليهود يوما فسألهم عن جبريل فقالوا: ذاك عدونا، يطلع محمدا على أسرارنا، وأنه صاحب كل خسف وعذاب، وميكائيل صاحب الخصب والسلام فقال: ما منزلتهما من الله تعالى؟ قالوا: جبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره - وبينهما عداوة - فقال: لئن كانا كما تقولون فليسا بعدوين، ولأنتم أكفر من الحمير، ومن كان عدوا لأحدهما فهو عدو لله. ثم رجع عمر فوجد جبريل قد سبقه بالوحي، فقال صلى الله عليه وسلم: " لقد وافقك ربك يا عمر " قال عمر: لقد رأيتني بعد ذلك أصلب من الحجر، وقيل: نزلت في عبد الله بن صوريا - كان يهوديا من أحبار فدك - سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن ينزل عليه فقال: " جبريل " فقال: ذاك عدونا عادانا مرارا، وأشدها أنه أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخربه بخت نصر، فبعثنا من يقتله فرآه ببابل، فدفع عنه جبريل وقال: إن كان ربكم أمره بهلاككم فلا يسلطكم عليه، وإلا فبم تقتلونه؟ وصدقه الرجل المبعوث ورجع إلينا، وكبر بختنصر وقوي
331

وغزانا، وخرب بيت المقدس، روى ذلك بعض الحفاظ، وقال العراقي: لم أقف له على سند، فلعل الأول أقوى منه - وإن أوهم صنيع بعضهم العكس - و (جبريل) علم ملك كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن، وهو اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، وأبعد من ذهب إلى أنه مشتق من جبروت الله وجعله مركبا تركيب مزج من مضاف ومضاف إليه، فمنعه من الصرف للعلمية، والتركيب ليس بشيء لأن ما يركب هذا التركيب يجوز فيه البناء والإضافة ومنع الصرف، فكونه لم يسمع فيه الإضافة أو البناء دليل على أنه ليس من تركيب المزج، وقد تصرفت فيه العرب على عادتها في تغيير الأسماء الأعجمية حتى بلغت فيه إلى ثلاث عشرة لغة، أفصحها وأشهرها (جبريل) كقنديل، وهي قراءة أبي عمرو. ونافع. وابن عامر. وحفص عن عاصم. وهي لغة الحجاز، قال ورقة بن نوفل: (وجبريل) يأتيه وميكال معهما * من الله وحي يشرح الصدر منزل
الثانية: كذلك إلا أنها - بفتح الجيم - وهي قراءة ابن كثير والحسن وابن محيصن قال الفراء: لا أحبها لأنه ليس في الكلام فعليل - وليس بشيء - لأن الأعجمي إذ عربوه قد يلحقونه بأوزانهم - كلجام - وقد لا يحلقونه بها - كإبريسم - وجبريل من هذا القبيل، مع أنه سمع - سموأل - لطائر، الثالث: جبرئيل كسلسبيل، وبها قرأ حمزة والكسائي وحماد عن أبي بكر عن عاصم، وهي لغة قيس وتميم وكثير من أهل نجد، وحكاها الفراء، واختارها الزجاج، وقال: هي أجود اللغات، وقال حسان: شهدنا فما يلقى لنا من كتيبة * مدى الدهر إلا (جبرئيل) أمامها
الرابعة: كذلك إلا أنها بدون - ياء بعد الهمزة - وهي رواية يحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم، وتروى عن يحيى بن يعمر الخامسة: كذلك إلا أن - اللام مشددة - وهي قراءة أبان عن عاصم، ويحيى بن يعمر أيضا السادسة: (جبرائل) - بألف وهمزة بعدها مكسورة بدون ياء - وبها قرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعكرمة السابعة: مثلها مع زيادة - ياء بعد الهمزة - الثامنة: (جبراييل) بياءين بعد الألف، وبها قرأ الأعمش وابن يعمر، ورواها الكسائي عن عاصم التاسعة: (جبرال) العاشرة: (جبريل) - بالياء والقصر - وهي قراءة طلحة بن مصرف الحادية عشرة: (جبرين) - بفتح الجيم والنون - الثانية عشرة: كذلك إلا أنها - بكسر الجيم - وهي لغة أسد الثالثة عشر: (جبراين) قال أبو جعفر النحاس: جمع (جبريل) جمع تكسير على - جبارين - على اللغة العالية، واشتهر أن معناه عبد الله، على أن - جبر - هو الله تعالى - وإيل - هو العبد، وقيل: عكسه، ورده بعضهم بأن المعهود في الكلام العجمي تقديم المضاف إليه على المضاف، وفيه تأمل.
* (فإنه نزله على قلبك) * جواب الشرط إما نيابة أو حقيقة والمعنى من عاداه منهم فقد خلع ربقة الإنصاف أو كفر بما معه من الكتاب بمعاداته إياه لنزوله عليك بالوحي لأنه نزل كتابا مصدقا للكتب المتقدمة، أو فالسبب في عداوته أنه نزل عليك، وليس المبتدأ على هذا الأخير محذوفا، و - أنه نزله - خبره حتى يرد أن الموضع للمفتوحة بل أن - الفاء - داخلة على السبب، ووقع جزاءا باعتبار الإعلام والإخبار بسببيته لما قبله فيؤول المعنى إلى من عاداه فأعلمكم بأن سبب عداوته كذا فهو كقولك: إن عاداك فلان فقد آذيته أي فأخبرك بأن سبب عداوتك أنك آذيته، وقيل: الجزاء محذوف بحيث لا يكون المذكور نائبا وعنه يقدر مؤخرا عنه ويكون هو تعليلا وبيانا لسبب العداوة والمعنى من عاداه - لأنه نزله على قلبك - فليمت غيظا، أو فهو عدو لي وأنا عدوه
332

والقرينة على حذف الثاني الجملة المعترضة المذكورة بعده في وعيدهم، واحتمل أن يكون * (من كان عدوا) * الخ استفهاما للاستبعاد، أو التهديد ويكون فإنه تعليل العداوة وتقييدا لها أو تعليل الأمر بالقول مما لا ينبغي أن يرتكب في القرآن العظيم، والضمير الأول البارز لجبريل، والثاني: للقرآن كما يشير إليه الأحوال لأنها كلها من صفات القرآن ظاهرا، وقيل: الأول لله تعالى والثاني لجبريل أي - فإن الله نزل جبريل بالقرآن على قلبك - وفي كل من الوجهين إضمار يعود على ما يدل عليه السياق، وفي ذلك من فخامة الشأن ما لا يخفى، ولم يقل سبحانه عليك كما في قوله تعالى: * (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) * (طه: 2) بل قال: * (على قلبك) * لأنه القابل الأول للوحي إن أريد به الروح، ومحل الفهم والحفظ إن أريد به العضو بناء على نفي الحواس الباطنة، وقيل: كنى بالقلب عن الجملة الإنسانية كما يكنى ببعض الشيء عن كله، وقيل: معنى نزله على قلبك جعل * (قلبك) * متصفا بأخلاق القرآن ومتأدبا بآدابه كما في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: " كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويغضب لغضبه " وكان الظاهر أن يقول على قلبي لأن القائل رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنه حكى ما قال الله تعالى له وجعل القائل كأنه
الله تعالى لأنه سفير محض.
* (بإذن الله) * أي بأمره أو بعلمه وتمكينه إياه من هذه المنزلة أو باختياره، أو بتيسيره وتسهيله، وأصل معنى - الإذن - في الشيء الإعلام بإجازته والرخصة فيه فالمعاني المذكورة كلها مجازية، والعلاقة ظاهرة، " والمنتخب " كما في المنتخب - المعنى الأول، والمعتزلة - لما لم يقولوا بالكلام النفسي وإسناد الإذن إليه تعالى باعتبار الكلام اللفظي يحتاج إلى تكلف - اقتصر الزمخشري على الوجه الأخير، والقول: إن الإذن بمعنى الأمر إن أريد بالتنزيل معناه الظاهر، وبمعنى التيسير إن أريد به التحفظ والتفهيم مما لا وجه له.
* (مصدقا لما بين يديه) * من الكتب الإلهية التي معظمها التوراة وانتصاب * (مصدقا) * على الحال من الضمير المنصوب في * (نزله) * إن كان عائدا للقرآن وإن كان لجبريل فيحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون حالا من المحذوف لفهم المعنى كما أشرنا إليه، والثاني: أن يكون حالا من جبريل، والهاء إما للقرآن أو لجبريل فإنه مصدق أيضا لما بين يديه من الرسل والكتب.
* (وهدى وبشرى للمؤمنين) * معطوفان على * (مصدقا) * فهما حالان مثله، والتأويل غير خفي، وخص المؤمنين - بالذكر لأنه على غيرهم عمي، وقد دلت الآية على تعظيم جبريل والتنويه بقدره حيث جعله الواسطة بينه تعالى وبين أشرف خلقه، والمنزل بالكتاب الجامع للأوصاف المذكورة، ودلت على ذم اليهود حيث أبغضوا من كان بهذه المنزلة العظيمة الرفيعة عند الله تعالى، قيل: وتعلقت الباطنية بهذه الآية وقالوا: إن القرآن إلهام والحروف عبارة الرسول صلى الله عليه وسلم، ورد عليهم بأنه معجزة ظاهرة وباطنة وإن الله تعالى سماه قرآنا وكتابا وعربيا، وإن جبريل نزل به والملهم لا يحتاج إليه.
* (من كان عدوا لله وملا - ئكته ورسله وجبريل وميك‍ال فإن الله عدو للك‍افرين) *
- العدو - للشخص ضد الصديق يستوي فيه المذكر والمؤنث والتثنية والجمع، وقد يؤنث ويثنى ويجمع، وهو الذي يريد إنزال المضار به، وهذا المعنى لا يصح إلا فينا دونه تعالى فعداوة الله هنا مجاز إما عن مخالفته تعالى وعدم القيام بطاعته لما أن ذلك لازم للعداوة، وإما عن عداوة أوليائه، وأما عداوتهم لجبريل والرسل عليهم السلام فصحيحة لأن الإضرار جار عليهم، غاية ما في الباب أن عداوتهم لا تؤثر لعجزهم عن الأمور المؤثرة فيهم، وصدر الكلام على الاحتمال الأخير بذكره لتفخيم شأن أولئك الأولياء حيث جعل عداوتهم عداوته تعالى، وأفرد الملكان بالذكر تشريفا
333

لهما وتفضيلا كأنهما من جنس آخر تنزيلا للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات كقوله: فإن تفق الأنام وأنت منهم * فإن (المسك) بعض دم الغزال
وقيل: لأن اليهود ذكروهما ونزلت الآية بسببهما، وقيل: للتنبيه على أن معاداة الواحد والكل سواء في الكفر واستجلاب العداوة من الله تعالى، وإن من عادى أحدهم فكأنما عادى الجميع لأن الموجب لمحبتهم وعداوتهم على الحقيقة واحد وإن اختلف بحسب التوهم والاعتقاد، ولهذا أحب اليهود ميكائيل وأبغضوا جبريل، واستدل بعضهم بتقديم جبريل على ميكائيل على أنه أفضل منه وهو المشهور، واستدلوا عليه أيضا بأنه ينزل بالوحي والعلم وهو مادة الأرواح، وميكائيل بالخصب والإمطار وهي مادة الأبدان، وغذاء الأرواح أفضل من غذاء الأشباح، واعترض بأن التقديم في الذكر لا يدل على التفضيل إذ يحتمل أن يكون ذلك للترقي أو لنكتة أخرى كما قدمت الملائكة على الرسل وليسوا أفضل منهم عندنا، وكذا نزوله بالوحي ليس قطعيا بالأفضلية إذ قد يوجد في المفضول ما ليس في الفاضل فلا بد في التفضيل من نص جلي واضح، وأنا أقول بالأفضلية وليس عندي أقوى دليلا عليها من مزيد صحبته لحبيب الحق بالاتفاق وسيد الخلق على الإطلاق صلى الله عليه وسلم وكثرة نصرته وحبه له ولأمته، ولا أرى شيئا يقابل ذلك وقد أثنى الله تعالى عليه عليه السلام بما لم يثن به على ميكائيل بل ولا على إسرافيل وعزرائيل وسائر الملائكة أجمعين، وأخرج الطبراني - لكن بسند ضعيف - عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم بأفضل الملائكة جبرائيل " وأخرج أبو الشيخ عن موسى بن عائشة قال: " بلغني أن جبريل إمام أهل السماء " و (من) شرطية والجواب، قيل: محذوف وتقديره فهو كافر مجزى بأشد العذاب، وقيل: فإن الله الخ على نمط ما علمت، وأتى باسم الله ظاهرا ولم يقل فإنه عدو دفعا لانفهام غير المقصود أو التعظيم، والتفخيم والعرب إذا فخمت شيئا كررته بالاسم الذي تقدم له، ومنه * (لينصرنه الله إن الله) * (الحج: 60) وقوله: لا أرى الموت يسبق الموت شيء
وأل في الكافرين للعهد وإيثار الاسمية للدلالة على التحقيق والثبات، ووضع المظهر موضع المضمر للإيذان بأن عداوة المذكورين كفر وأن ذلك بين لا يحتاج إلى الإخبار به وأن مدار عداوته تعالى لهم وسخطه المستوجب لأشد العقوبة والعذاب هو كفرهم المذكور، وقيل: يحتمل أنه تعالى عدل عن الضمير لعلمه أن بعضهم يؤمن فلا ينبغي أن يطلق عليه عداوة الله تعالى للمآل - وهو احتمال أبعد من العيوق - ويحتمل أن تكون - أل للجنس كما تقدم، ومن الناس من روى أن عمر رضي الله تعالى عنه نطق بهذه الآية مجاوبا لبعض اليهود في قوله: ذاك عدونا يعني جبريل فنزلت على لسان عمر وهو خبر ضعيف كما نص عليه ابن عطية، والكلام في منع صرف ميكائيل كالكلام في جبريل، واشتهر أن معناه عبيد الله وقيل: عبد الله، وفيه لغات، الأولى: ميكال كمفعال، وبها قرأ أبو عمرو وحفص وهي لغة الحجاز، الثانية: كذلك إلا أن بعد الألف همزة، وقرأ بها نافع وابن شنبوذ لقنبل، الثالثة: كذلك إلا أنه بياء بعد الهمزة، وبها قرأ حمزة والكسائي وابن عامر وأبو بكر وغير ابن شنبوذ لقنبل والبزي، الرابعة: ميكئيل كميكفيل، وبها قرأ ابن محيصن. الخامسة: كذلك إلا أنه لا ياء بعد الهمزة وقرىء بها، السادسة: ميكائيل بياءين بعد الألف أولهما مكسورة، وبها قرأ الأعمش.
ولساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم في هذين الملكين - بل وفي أخويهما إسرافيل وعزرائيل عليهما السلام أيضا - كلام مبسوط، والمشهور أن جبرائيل هو العقل الفعال، وميكائيل هو روح الفلك السادس وعقله المفيض للنفس النباتية الكلية الموكلة بأرزاق الخلائق، وإسرافيل هو روح الفلك الرابع وعقله المفيض للنفس الحيوانية
الكلية الموكلة بالحيوانات، وعزرائيل هو روح الفلك السابع الموكل بالأرواح الإنسانية كلها بعضها بالوسائط التي هي
334

أعوانه وبعضها بنفسه والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
* (ولقد أنزلنآ إليك ءاي‍ات بين‍ات وما يكفر بهآ إلا الف‍اسقون) *
نزلت بسبب ابن صوريا كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل عليك من آيات فنتبعك، وجعلت عطفا على قوله تعالى: * (قل من كان عدوا) * (البقرة: 97) الخ عطف القصة على القصة * (وما يكفر) * عطف على جواب القسم فإنه كما يصدر باللام يصدر بحرف النفي، و (الآيات) القرآن والمعجزات والإخبار عما خفي وأخفي في الكتب السابقة أو الشرائع والفرائض، أو مجموع ما تقدم كله والظاهر الإطلاق، و (الفاسقون) المتمردون في الكفر الخارجون عن الحدود فإن من ليس على تلك الصفات من الكفرة لا يجترىء على الكفر بمثل هاتيك البينات، قال الحسن: إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي وقع على أعظم أفراد ذلك النوع من كفر أو غيره فإذا قيل: هو فاسق في الشرب فمعناه هو أكثر ارتكابا له وإذا قيل: هو فاسق في الزنا يكون معناه هو أشد ارتكابا له، وأصله من فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، واللام إما للعهد لأن سياق الآيات يدل على أن ذلك لليهود، وإما للجنس وهم داخلون كما مر غير مرة.
* (أوكلما ع‍اهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون) *
* (أو كلما ع‍اهدوا عهدا) * نزلت في مالك بن الصيف قال: والله ما أخذ علينا عهد في كتابنا أن نؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا ميثاق، وقيل: في اليهود عاهدوا إن خرج لنؤمنن به ولنكونن معه على مشركي العرب فلما بعث كفروا به، وقال عطاء: في اليهود عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعهود فنقضوها كفعل قريظة والنضير، والهمزة للإنكار بمعنى ما كان ينبغي، وفيه إعظام ما يقدمون عليه من تكرر عهودهم ونقضها حتى صار سجية لهم وعادة، وفي ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم وإشارة إلى أنه ينبغي أن لا يكترث بأمرهم وأن لا يصعب عليه مخالفتهم، والواو للعطف على محذوف أي أكفروا بالآيات وكلما عاهدوا، وهو من عطف الفعلية على الفعلية لأن * (كلما) * ظرف * (نبذه) * والقرينة على ذلك المحذوف قوله تعالى: * (وما يكفر بها) * (البقرة: 99) الخ، وبعضهم يقدر المعطوف مأخوذا من الكلام السابق ويقول بتوسط الهمزة بين المعطوف والمعطوف عليه لغرض يتعلق بالمعطوف خاصة، والتقدير عنده نقضوا هذا العهد وذلك العهد * (أو كلما عاهدوا) * وفيه مع ارتكاب ما لا ضرورة تدعو إليه أن الجمل المذكورة بقربه ليس فيها ذكر نقض العهد، وقال الأخفش: هي زائدة، والكسائي هي - أو - الساكنة حركت واوها بالفتح وهي بمعنى بل ولا يخفى ضعف القولين، نعم قرأ ابن السماك العدوي وغيره (أو) بالإسكان وحينئذ لا بأس بأن يقال: إنها إضرابية بناء على رأي الكوفيين وأنشدوا: بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى * وصورتها (أو) أنت في العين أملح
والعطف - على هذا - على صلة الموصول الذي هو - اللام - في (الفاسقون) ميلا إلى جانب المعنى وإن كان فيه مسخ - اللام - الموصولة، كأنه قيل: إلا الذين فسقوا بل كلما عاهدوا والقرينة على ذلك * (بل أكثرهم) * الخ، وفيه ترق إلى الأغلظ فالأغلظ، ولك أن لا تميل مع المعنى بل تعطف على الصلة - وأل - تدخل على الفعل بالتبعية في السعة كثيرا كقوله تعالى: * (إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا) * (الحديد: 18) لاغتفارهم في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل.
ومن الناس من جوز هذا العطف باحتماليه على القراءة الأولى أيضا - ولم يحتج إلى ذلك المحذوف - وقرأ الحسن وأبو رجاء * (عوهدوا) * وانتصاب (عهدا) على أنه مصدر على غير الصدر أي - معاهدة - ويؤيده أنه قرىء * (عهدوا) * أو على أنه مفعول به بتضمين (عاهدوا) معنى أعطوا.
* (نبذه فريق منهم) * أي نقضه وترك العمل به، وأصل - النبذ -
335

طرح ما لا يعتد به - كالنعل البالية - لكنه غلب فيما من شأنه أن ينسى لعدم الاعتداد به، ونسبة - النبذ - إلى - العهد - مجاز - والنبذ - حقيقة إنما هو في المتجسدات نحو * (فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم) * (القصص: 40) - والفريق - اسم جنس لا واحد له يقع على القليل والكثير، وإنما قال: (فريق) لأن منهم من لم ينبذه. وقرأ عبد الله * (نقضه) * قال في " البحر ": وهي قراءة تخالف سواد المصحف - فالأولى حملها على التفسير - وليس بالقوي إذ لا يظهر للتفسير دون ذكر المفسر خلال القراءة وجه.
* (بل أكثرهم لا يؤمنون) * يحتمل أن يراد - بالأكثر النابذون - وأن يراد من عداهم فعلى الأول: يكون ذلك ردا لما يتوهم أن - الفريق - هم الأقلون بناء على أن المتبادر منه القليل وعلى الثاني: رد لما يتوهم أن من لم ينبذ جهارا يؤمنون به سرا، والعطف على التقديرين من عطف الجمل، ويحتمل أن يكون من عطف المفردات بأن يكون أكثرهم معطوفا على * (فريق) * وجملة * (لا يؤمنون) * حال من * (أكثرهم) * والعامل فيها * (نبذه) *.
* (ولما جآءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكت‍ابكت‍ابالله ورآء ظهورهم كأنهم لا يعلمون) *
* (ولما جاءهم رسول) * ظرف لنبذ والجملة عطف على سابقتها داخلة تحت الإنكار، والضمير لبني إسرائيل لا لعلمائهم فقط، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم، والتكثير للتفخيم، وقيل: عيسى عليه السلام، وجعله مصدرا بمعنى الرسالة كما في قوله: لقد كذب الواشون ما بحت عندهم * بليلى ولا أرسلتهم برسول
خلاف الظاهر * (من عند الله) * متعلق ب (جاء) أو بمحذوف وقع صفة للرسول لإفادة مزيد تعظيمه إذ قدر الرسول على قدر المرسل * (مصدق لما معهم) * أي من التوراة من حيث إنه صلى الله عليه وسلم جاء على الوصف الذي ذكر فيها، أو أخبر بأنها كلام الله تعالى المنزل على نبيه موسى عليه السلام، أو صدق ما فيها من قواعد التوحيد وأصول الدين، وإخبار الأمم والمواعظ والحكم، أو أظهر ما سألوه عنه من غوامضها، وحمل بعضهم (ما) على العموم لتشمل جميع الكتب الإلهية التي
نزلت قبل، وقرأ ابن أبي عبلة: * (مصدقا) * بالنصب على الحال من النكرة الموصوفة.
* (نبذ فريق من الذين أوتوا الكت‍اب) * أي التوراة وهم اليهود الذين كانوا في عهده صلى الله عليه وسلم لا الذين كانوا في عهد سليمان عليه السلام - كما توهمه بعضهم من اللحاق - لأن - النبذ - عند مجىء النبي صلى الله عليه وسلم لا يتصور منهم، وإفراد هذا - النبذ - بالذكر مع اندراجه في قوله تعالى: * (أو كلما عاهدوا) * (البقرة: 100) الخ، لأنه معظم جناياتهم، ولأنه تمهيد لما يأتي بعد. والمراد - بالإيتاء - إما إيتاء علمها فالموصول عبارة عن علمائهم، وإما مجرد إنزالها عليهم فهو عبارة عن الكل، ولم يقل: فريق منهم إيذانا بكمال التنافي بين ما ثبت لهم في حيز الصلة وبين ما صدر عنه من النبذ.
* (كتاب الله) * مفعول * (نبذ) * والمراد به التوراة لما روي عن السدي أنه قال: لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة فاتفقت التوراة والفرقان فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فلم توافق القرآن، فهذا قوله تعالى: * (ولما جاءهم رسول) * الخ، ويؤيده أن النبذ يقتضي سابقة الأخذ في الجملة - وهو متحقق بالنسبة إليها - وأن المعرفة إذا أعيدت معرفة كان الثاني عين الأول، وأن مذمتهم في أنهم نبذوا الكتاب الذي أوتوه واعترفوا بحقيته أشد فإنه يفيد أنه كان مجرد مكابرة وعناد، ومعنى نبذهم لها اطراح أحكامها، أو ما فيها من صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: القرآن، وأيده أبو حيان بأن الكلام مع الرسول فيصير المعنى أنه يصدق ما بأيديهم من التوراة، وهم بالعكس
336

يكذبون ما جاء به من القرآن ويتركونه ولا يؤمنون به بعدما لزمهم تلقيه بالقبول، وقيل: الإنجيل - وليس بشيء - وأضاف الكتاب إلى الاسم الكريم تعظيما له وتهويلا لما اجترءوا عليه من الكفر به.
* (ورآء ظهورهم) * جمع - ظهر - وهو معروف، ويجمع أيضا على - ظهران - وقد شبه تركهم كتاب الله تعالى وإعراضهم عنه بحالة شيء يرمى به وراء الظهر، والجامع عدم الالتفات وقلة المبالاة، ثم استعمل ههنا ما كان مستعملا هناك - وهو النبذ وراء الظهر - والعرب كثيرا ما تستعمل ذلك في هذا المعنى، ومنه قوله: تميم بن مر لا تكونن حاجتي * بظهر - ولا يعيى عليك جوابها
ويقولون أيضا: جعل هذا الأمر دبر أذنه ويريدون ما تقدم.
* (كأنهم لا يعلمون) * جملة حالية، أي نبذوه مشبهين بمن لا يعلم أنه كتاب الله تعالى أولا يعلمه أصلا أو لا يعلمونه على وجه الإتقان، ولا يعرفون ما فيه من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، وهذا على تقدير أن يراد الأحبار، وفيه إيذان بأن علمهم به رصين لكنهم يتجاهلون؛ وفي الوجهين الأولين زيادة مبالغة في إعراضهم عما في التوراة من دلائل النبوة، ومن فسر كتاب الله تعالى بالقرآن جعل متعلق العلم أنه كتاب الله أي كأنهم لا يعلمون أن القرآن كتاب الله تعالى مع ثبوت ذلك عندهم وتحققه لديهم، وفيه إشارة إلى أنهم نبذوه لا عن شبهة ولكن بغيا وحسدا، وجعل المتعلق - أنه نبي صادق - بعيد، وقد دل الآيتان قوله تعالى: * (أو كلما عاهدوا) * (البقرة: 100) الخ، وقوله تعالى: * (ولما جاءهم) * الخ بناء على احتمال أن يكون الأكثر غير النابذين، على أن جل اليهود أربع فرق، ففرقة آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها كمؤمني أهل الكتاب، وهم الأقلون المشار إليهم ب * (بل أكثرهم لا يؤمنون) * (البقرة: 100) وفرقة جاهروا بنبذ العهود وتعدي الحدود، وهم المعنيون بقوله تعالى: * (نبذ فريق منهم) * وفرقة لم يجاهروا، ولكن نبذوا لجهلهم - وهم الأكثرون - وفرقة تمسكوا بها ظاهرا ونبذوها سرا؛ وهم المتجاهلون.
* (واتبعوا ما تتلوا الشي‍اطين على ملك سليم‍ان وما كفر سليم‍ان ول‍اكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ومآ أنزل على الملكين ببابل ه‍اروت وم‍اروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضآرين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له فى الاخرة من خل‍اق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون) *
* (واتبعوا ما تتلوا الشي‍اطين) * عطف على * (نبذ) * (البقرة: 101) والضمير لفريق من الذين أوتوا الكتاب - على ما تقدم عن السدي، وقيل: عطف على مجموع ما قبله عطف القصة على - القصة، والضمير للذين تقدموا من اليهود، أو الذين كانوا في زمن سليمان عليه السلام، أو الذين كانوا في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم، أو ما يتناول الكل لأن ذاك غير ظاهر إذ يقتضي الدخول في حيز ل‍ (ما) واتباعهم هذا ليس مترتبا على مجىء الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيه أن ما علمت من قول السدي يفتح باب الظهور، اللهم إلا أن يكون المبني غيره، وقيل: عطف على * (أشربوا) * (البقرة: 93) وهو في غاية البعد، بل لا يقدم عليه من جرع جرعة من الإنصاف، والمراد - بالاتباع - التوغل والإقبال على الشيء بالكلية، وقيل: الاقتداء، و * (ما) * موصولة و * (تتلوا) * صلتها، ومعناه تتبع أو تقرأ - وهو حكاية حال ماضية، والأصل - تلت - وقول الكوفيين إن المعنى: ما كانت تتلوا محمول على ذلك - لا أن كان هناك مقدرة - والمتبادر من الشياطين مردة الجن وهو قول الأكثرين، وقيل: المراد بهم شياطين الإنس، وهو قول المتكلمين من المعتزلة. وقرأ الحسن والضحاك (الشياطون) على حد ما رواه الأصمعي عن العرب - بستان فلان حوله بساتون - وهو من الشذوذ بمكان حتى قيل: إنه لحن.
* (على ملك سليم‍ان) * متعلق ب * (تتلوا) * وفي الكلام مضاف محذوف أي عهد ملكه وزمانه، أو الملك مجاز عن العهد، وعلى التقديرين * (على) * بمعنى - في - كما أن - في - بمعنى على في قوله تعالى: * (لأصلبنكم في جذوع النخل) * (طه: 71) وقد صرح في " التسهيل " بمجيئها للظرفية ومثل له بهذه الآية لأن الملك
337

وكذا العهد لا يصلح كونه مقروءا عليه، ومن الأصحاب من أنكر مجىء - على - بمعنى - في - وجعل هذا من تضمين تتلو معنى تتقول، أو الملك عبارة عن الكرسي لأنه كان من آلات ملكه، فالكلام على حد قرأت على المنبر، والمراد بما يتلونه السحر، فقد أخرج سفيان بن عيينة وابن جرير والحاكم، وصححه عن ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما قال: " إن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء، فإذا سمع أحدهم بكلمة كذب عليها ألف كذبة، فأشربتها قلوب الناس واتخذوها دوادوين فأطلع الله تعالى على ذلك سليمان بن داود فأخذها وقذفها تحت الكرسي فلما مات سليمان قام شيطان بالطريق فقال: ألا أدلكم على كنز سليمان الذي لا كنز لأحد مثل كنزه الممنع؟ قالوا: نعم فأخرجوه فإذا هو سحر فتناسختها الأمم فأنزل الله تعالى عذر سليمان فيما قالوا من السحر " وقيل: روي أن سليمان كان قد دفن كثيرا من العلوم التي خصه الله تعالى بها تحت سرير ملكه خوفا على أنه إذا هلك الظاهر منها يبقى ذلك المدفون فلما مضت مدة على ذلك توصل قوم من المنافقين إلى أن كتبوا في خلال ذلك أشياء من السحر تناسب تلك الأشياء من بعض الوجوه ثم بعد موته واطلاع الناس على تلك الكتب أو هموهم أنها من علم سليمان، ولا يخفى ضعف هذه الرواية، وسليمان - كما في " البحر " - اسم أعجمي، وامتنع من الصرف للعلمية والعجمة، ونظيره من الأعجمية في أن آخره ألف ونون - هامان وماهان وشامان - وليس امتناعه من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون كعثمان لأن زيادتهما موقوفة على الاشتقاق والتصريف، وهما لا يدخلان الأسماء الأعجمية وكثير من الناس اليوم على خلافه.
* (وما كفر سليم‍ان) * اعتراض لتبرئة سليمان عليه السلام عما نسبوه إليه، فقد أخرج ابن جرير عن شهر بن حوشب قال: قال اليهود: انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل يذكر سليمان مع الأنبياء، وإنما كان ساحرا يركب الريح، وعبر سبحانه عن السحر بالكفر بطريق الكناية رعاية لمناسبة * (لكن) * الاستدراكية في قوله تعالى * (ول‍اكن الشي‍اطين كفروا يعلمون الناس السحر) * فإن (كفروا) معها مستعمل في معناه الحقيقي وجملة (يعلمون) حال من الضمير، وقيل: من الشياطين، ورد بأن (لكن) لا تعمل في الحال، وأجيب بأن فيها رائحة الفعل وقيل: بدل من (كفروا)، وقيل: استئناف والضمير - للشياطين - أو - للذين اتبعوا - والسحر في الأصل مصدر سحر يسحر بفتح العين فيهما إذا أبدى ما يدق ويخفى وهو من المصادر الشاذة، ويستعمل بما لطف وخفي سببه، والمراد به أمر غريب يشبه الخارق - وليس به - إذ يجري فيه التعلم ويستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان بارتكاب القبائح، قولا كالرقى التي فيها ألفاظ الشرك ومدح الشيطان وتسخيره، وعملا كعبادة الكواكب؛ والتزام الجناية وسائر الفسوق، واعتقادا كاستحسان ما يوجب التقرب إليه ومحبته إياه وذلك لا يستتب إلا بمن يناسبه في الشرارة وخبث النفس فإن التناسب شرط التضام والتعاون فكما أن الملائكة لا تعاون إلا أخيار الناس المشبهين بهم في المواظبة على العبادة والتقرب إلى الله تعالى بالقول والفعل كذلك الشياطين لا تعاون إلا الأشرار المشبهين بهم في الخباثة والنجاسة قولا وفعلا واعتقادا، وبهذا يتميز الساحر عن النبي والولي، فلا يرد ما قال المعتزلة: من أنه لو أمكن للإنسان من جهة الشيطان ظهور الخوارق والإخبار عن المغيبات لاشتبه طريق النبوة بطريق السحر، وأما ما يتعجب منه - كما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات المركبة على النسبة الهندسية تارة، وعلى صيرورة الخلاء ملاء أخرى، وبمعونة الأدوية كالنارنجيات أو يريه صاحب خفة اليد - فتسميته سحرا على التجوز وهو مذموم أيضا
338

عند البعض، وصرح النووي في " الروضة " بحرمته، وفسره الجمهور بأنه خارق للعادة يظهر من نفس شريرة بمباشرة أعمال مخصوصة والجمهور على أن له حقيقة وأنه قد يبلغ الساحر إلى حيط يطير في الهواء ويمشي على الماء ويقتل النفس ويقلب الإنسان حمارا، والفاعل الحقيقي في كل ذلك هو الله تعالى ولم تجر سنته بتمكين الساحر من فلق البحر وإحياء الموتى وإنطاق العجماء وغير ذلك من آيات الرسل عليهم السلام، والمعتزلة وأبو جعفر الاستراباذي من أصحابنا على أنه لا حقيقة له وإنما هو تخييل، وأكفر المعتزلة من قال ببلوغ الساحر إلى حيث ما ذكرنا زعما منهم أن بذلك انسداد طريق النبوة وليس كما زعموا على ما لا يخفى، ومن المحققين من فرق بين السحر والمعجزة باقتران المعجزة بالتحدي بخلافه فإنه لا يمكن ظهوره على يد مدعي نبوة كاذبا كما جرت به عادة الله تعالى المستمرة صونا لهذا المنصب الجليل عن أن يتسور حماه الكذابون. وقد شاع أن العمل به كفر حتى قال العلامة التفتازاني: لا يروى خلاف في ذلك، وعده نوعا من الكبائر مغاير الإشراك لا ينافي ذلك لأن الكفر أعم والإشراك نوع منه وفيه بحث: أما أولا: فلأن الشيخ أبا منصور ذهب إلى أن القول بأن السحر كفر على الإطلاق خطأ بل يجب البحث عن حقيقته فإن كان في ذلك رد ما لزم من شرط الإيمان فهو كفر وإلا فلا، ولعل ما ذهب إليه العلامة مبني على التفسير أولا فإنه عليه مما لا يمتري في كفر فاعله، وأما ثانيا: فلأن المراد من الإشراك فيما عدا الكبائر مطلق الكفر وإلا تخرج أنواع الكفر منها، ثم السحر الذي هو كفر يقتل عليه الذكور لا الإناث وما ليس بكفر، وفيه إهلاك النفس ففيه حكم قطاع الطريق ويستوي فيه الذكور والإناث وتقبل توبته إذا تاب، ومن قال لا تقبل فقد غلط فإن سحرة موسى قبلت توبتهم كذا في " المدارك "، ولعله إلى الأصول أقرب، والمشهور عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أن الساحر يقتل مطلقا إذا علم أنه ساحر ولا يقبل قوله: أترك السحر وأتوب عنه فإن أقر بأني كنت أسحر مدة وقد تركت منذ زمان قبل منه ولم يقتل؛ واحتج بما روي أن جارية لحفصة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها سحرتها فأخذوها فاعترفت بذلك فأمرت عبد الرحمن بن زيد فقتلها، وإنكار عثمان رضي الله تعالى عنه إنما كان لقتلها بغير إذنه. وبما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: اقتلوا كل ساحر وساحرة فقتلوا ثلاث سواحر، والشافعية نظروا في هذا الاحتجاج واعترضوا على القول بالقتل مطلقا بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقتل اليهودي الذي سحره، فالمؤمن مثله لقوله عليه السلام: " لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين " وتحقيقه في الفروع، واختلف في تعليمه وتعلمه فقيل: كفر لهذه الآية إذ فيها ترتيب الحكم على الوصف المناسب وهو مشعر بالعلية، وأجيب بأنا لا نسلم أن فيها ذلك لأن المعنى أنهم كفروا وهم مع ذلك يعلمون السحر، وقيل: إنهما حرامان - وبه قطع الجمهور - وقيل: مكروهان - وإليه ذهب البعض - وقيل: مباحان، والتعليم المساق للذم هنا محمول على التعليم للإغواء والإضلال، وإليه مال الإمام الرازي قائلا: اتفق المحققون على أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور لأن العلم لذاته شريف لعموم قوله تعالى: * (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) * (الزمر: 9) ولو لم يعلم السحر لما أمكن الفرق بينه وبين (المعجزة) والعلم بكون المعجز معجزا واجب وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجبا وما يكون واجبا كيف يكون حراما وقبيحا. ونقل بعضهم وجوب تعلمه على المفتي حتى يعلم ما يقتل به وما لا يقتل به، فيفتي به في وجوب القصاص انتهى. والحق عندي الحرمة تبعا للجمهور إلا لداع شرعي، وفيما قاله رحمه الله تعالى نظر.
أما أولا: فلأنا لا ندعي أنه قبيح لذاته، وإنما قبحه باعتبار ما يترتب عليه، فتحريمه
339

من باب سد الذرائع - وكم من أمر حرم لذلك - وفي الحديث: " من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه ". وأما ثانيا: فلأن توقف الفرق بينه وبين المعجزة على العلم به ممنوع، ألا ترى أن أكثر العلماء أو كلهم - إلا النادر - عرفوا الفرق بينهما ولم يعرفوا علم السحر - وكفى فارقا بينهما ما تقدم، ولو كان تعلمه واجبا لذلك لرأيت أعلم الناس به الصدر الأول مع أنهم لم ينقل عنهم شيء من ذلك، أفتراهم أخلوا بهذا الواجب وأتى به هذا القائل، أو أنه أخل به كما أخلوا وأما ثالثا: فلأن ما نقل عن بعضهم غير صحيح، لأن إفتاء المفتي بوجوب القود أو عدمه لا يستلزم معرفته علم السحر لأن صورة إفتائه - على ما ذكره العلامة ابن حجر - إن شهد عدلان عرفا السحر وتابا منه أنه يقتل غالبا قتل الساحر وإلا فلا - هذا وقد أطلق بعض العلماء السحر على المشي بين الناس بالنميمة لأن فيها قلب الصديق عدوا والعدو صديقا، كما أطلق على حسن التوسل باللفظ الرائق العذب لما فيه من الاستمالة، ويسمى سحرا حلالا، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " إن من البيان لسحرا " والقول بأنه مخرج مخرج الذم للفصاحة والبلاغة بعيد - وإن ذهب إليه عامر الشعبي راوي الحديث - وظاهر قوله تعالى: * (يعلمون) * الخ أنهم يفهمونهم إياه بالإقراء والتعليم، وقيل: يدلونهم على تلك الكتب، فأطلق على تلك الدلالة تعليما إطلاقا للسبب على المسبب، وقيل: المعنى يوقرون في قلوبهم أنها حق تضر وتنفع، وأن سليمان عليه السلام إنما تم له ما تم بذلك - والإطلاق عليه هو الإطلاق - وقيل: * (يعلمون) * بمعنى يعلمون من الإعلام وهو الإخبار، أي يخبرونهم بما أو بمن يتعلمون به أو منه (السحر) وقرأ نافع وعاصم وابن كثير وأبو عمرو * (لكن) * بالتشديد وابن عامر وحمزة والكسائي - بالتخفيف وارتفاع ما بعدها بالابتداء والخبر - وهل يجوز إعمالها إذا خففت؟ فيه خلاف، والجمع على المنع - وهو الصحيح - وعن يونس والأخفش الجواز، والصحيح إنها بسيطة ومنهم: من زعم أنها مركبة من (لا) النافية - وكاف الخطاب - (وأن) المؤكدة المحذوفة الهمزة للاستثقال، وهو إلى الفساد أقرب.
* (وما أنزل على الملكين) * المراد: الجنس، وهو عطف على * (السحر) * وهما واحد إلا أنه نزل تغاير المفهوم منزلة تغاير الذات كما في قوله: إلى الملك القرم وابن الهمام
البيت، وفائدة العطف التنصيص بأنهم - يعلمون - ما هو جامع بين كونه سحرا وبين كونه منزلا على الملكين للابتلاء، فيفيد ذمهم بارتكابهم النهي بوجهين، وقد يراد بالموصول المعهود - وهو نوع آخر أقوى - فيكون من عطف الخاص على العام إشارة إلى كماله، وقال مجاهد: هو دون السحر وهو - ما يفرق به بين المرء وزوجه - لا غير والمشهور الأول، وجوز العطف على * (ما تتلوا) * فكأنه قيل: اتبعوا السحر المدون في الكتب وغيره، وهذان الملكان أنزلا لتعليم السحر ابتلاء من الله تعالى للناس، فمن تعلم وعمل به كفر، ومن تعلم وتوقى عمله ثبت على الإيمان، ولله تعالى أن يمتحن عباده بما شاء كما امتحن قوم طالوت بالنهر، وتمييزا بينه وبين المعجزة حيث أنه كثر في ذلك الزمان، وأظهر السحرة أمورا غريبة وقع الشك بها في النبوة، فبعث الله تعالى الملكين لتعليم أبواب السحر حتى يزيلا الشبه ويميطا الأذى عن الطريق، قيل: كان ذلك في زمن إدريس عليه السلام، وأما ما روي أن الملائكة تعجبت من بني آدم في مخالفتهم ما أمر الله تعالى به، وقالوا له تعالى: لو كنا مكانهم ما عصيناك، فقال: اختاروا ملكين منكم، فاختاروهما، فهبطا إلى الأرض ومثلا بشرين، وألق الله تعالى عليهما الشبق، وحكما بين الناس، فافتتنا بأمرأة يقال لها زهرة، فطلباها وامتنعت إلا أن يعبدا صنما، أو يشربا خمرا، أو يقتلا
340

نفسا ففعلا ثم تعلمت منهما ما صعدت به إلى السماء، فصعدت ومسخت هذا - النجم - وأرادا العروج فلم يمكنهما فخيرا بين عذاب الدنيا والآخرة - فاختارا عذاب الدنيا - فهما الآن يعذبان فيها، إلى غير ذلك من الآثار التي بلغت طرقها نيفا وعشرين، فقد أنكره جماعة منهم القاضي عياض، وذكر أن ما ذكره أهل الأخبار ونقله المفسرون في قصة هاروت وماروت لم يرد منه شيء - لا سقيم ولا صحيح - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وليس هو شيئا يؤخذ بالقياس - وذكر في " البحر " أن جميع ذلك لا يصح منه شيء، ولم يصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلعن الزهرة، ولا ابن عمر رضي الله تعالى عنهما خلافا لمن رواه، وقال الإمام الرازي بعد أن ذكر الرواية في ذلك إن هذه الرواية فاسدة مردودة غير مقبولة، ونص الشهاب (العراقي) على أن من اعتقد في هاروت وماروت أنهما ملكان يعذبان على خطيئتهما مع الزهرة فهو كافر بالله تعالى العظيم، فإن الملائكة معصومون * (لا يعصون اللهما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) * (التحريم: 6) * (لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون) * (الأنبياء: 19) * (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) * (الأنبياء: 20) والزهرة كانت يوم خلق الله تعالى السموات والأرض، والقول بأنها تمثلت لهما فكان ما كان وردت إلى مكانها غير معقول ولا مقبول. واعترض الإمام السيوطي على من أنكر القصة بأن الإمام أحمد وابن حبان والبيهقي وغيرهم رووها مرفوعة وموقوفة على علي وابن عباس وابن عمر وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم بأسانيد عديدة صحيحة يكاد الواقف عليها يقطع بصحتها لكثرتها وقوة مخرجيها، وذهب بعض المحققين أن ما روي مروي حكاية لما قاله اليهود - وهو باطل في نفسه - وبطلانه في نفسه لا ينافي صحة الرواية، ولا يرد ما قاله الإمام السيوطي عليه، إنما يرد على المنكرين بالكلية، ولعل ذلك من باب الرموز والإشارات، فيراد من الملكين العقل النظري والعقل العملي اللذان هما من عالم القدس، ومن المرأة المسماة بالزهرة - النفس الناطقة - ومن تعرضهما لها تعليمهما لها ما يسعدها، ومن حملها إياهما على المعاصي تحريضها إياهما بحكم الطبيعة المزاجية إلى الميل إلى السفليات المدنسة لجوهريهما، ومن صعودها إلى السماء بما تعلمت منهما عروجها إلى الملأ الأعلى ومخالطتها مع القدسيين بسبب انتصاحها لنصحهما، ومن بقائهما معذبين بقاؤهما مشغولين بتدبير الجسد وحرمانهما عن العروح إلى سماء الحضرة، لأن طائر العقل لا يحوم حول حماها. ومن الأكابر من قال في حل هذا الرمز: إن الروح والعقل للذين هما من عالم المجردات قد نزلا من سماء التجرد إلى أرض التعلق، فعشقا البدن الذي هو كالزهرة في غاية الحسن والجمال لتوقف كمالهما عليه، فاكتسبا بتوسطه المعاصي والشرك وتحصيل اللذات الحسية الدنية، ثم صعد إلى السماء بأن وصل بحسن تدبيرهما إلى الكمال اللائق به، ثم مسخ بأن
انقطع التعلق وتفرقت العناصر، وهما بقيا معذبين بعذاب الحرمان عن الاتصال بعالم القدس متألمين بالآلام الروحانية منكوسي الحال حيث غلب التعلق على التجرد وانعكس القرب بالبعد، وقيل: المقصود من ذلك الإشارة إلى أن من كان ملكا إن اتبع الشهوة هبط عن درجة الملائكة إلى درجة البهيمة، ومن كان امرأة ذات شهوة إذا كسرت شهوتها، وغلبت عليها صعدت إلى درج الملك واتصلت إلى سماء المنازل والمراتب، وكتب بعضهم لحله.
مل وأيم الله نفسي نفسي * وطال في مكث حياتي حبسي
أصبح في مضاجعي وأمسي * أمسي كيومي وكيومي أمسي
يا حبذا يوم نزولي رمسي * مبدأ سعدي وانتهاء نحسي
وكل جنس لاحق بالجنس * من جوهر يرقى بدار الأنس
341

وعرض يبقى بدار الحس
هذا ومن قال: بصحة هذه القصة في نفس الأمر وحملها على ظاهرها فقد ركب شططا وقال غلطا، وفتح بابا من السحر يضحك الموتى، ويبكي الأحياء، وينكس راية الإسلام، ويرفع رؤوس الكفرة الطغام كما لا يخفى ذلك على المنصفين من العلماء المحققين، وقرأ ابن عباس والحسن وأبو الأسود والضحاك (الملكين) بكسر اللام، وحمل بعضهم قراءة الفتح على ذلك فقال هما رجلان إلا أنهما سميا ملكين باعتبار صلاحهما، ويؤيده ما قيل: إنهما داود وسليمان، ويرده قول الحسن: إنهما علجان كانا ببابل العراق، وبعضهم يقول إنهما من الملائة ظهرا في صورة الملوك - وفيه حمل الكسر على الفتح على عكس ما تقدم و - الإنزال - إما على ظاهره أو بمعنى القذف في قلوبهما
* (ببابل) * الباء بمعنى في وهي متعلقة - بأنزل - أو بمحذوف وقع حالا من (الملكين) أو من الضمير في (أنزل) وهي كما قال ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما: بلد في سواد الكوفة، وقيل: بابل العراق، وقال قتادة: هي من نصيبين إلى رأس العين، وقيل: جبل دماوند، وقيل: بلد بالمغرب - والمشهور اليوم الثاني - وعند البعض هو الأول، قيل وسميت بابل لتبلبل الألسنة فيها عند سقوط صرح نمرود، وأخرجه الدينوري في " المجالسة ". وابن عساكر من طريق نعيم بن سالم - وهو متهم - عن أنس بن مالك قال: لما حشر الله تعالى الخلائق إلى بابل بعث إليهم ريحا شرقية وغربية وقبلية وبحرية فجمعتهم إلى بابل فاجتمعوا يومئذ ينظرون لما حشروا له إذ نادى مناد من جعل المغرب عن يمينه والمشرق عن يساره واقتصد إلى البيت الحرام بوجهه فله كلام أهل السماء فقام يعرب بن قحطان فقيل له: يا يعرب بن قحطان بن هود أنت هو فكان أول من تكلم بالعربية فلم يزل المنادي ينادي من فعل كذا وكذا فله كذا وكذا حتى افترقوا على اثنين وسبعين لسانا وانقطع الصوت وتبلبلت الألسن فسميت بابل وكان اللسان يومئذ بابليا، وعندي في القولين تردد بل عدم قبول، والذي أميل إليه أن بابل اسم أعجمي كما نص عليه أبو حيان لا عربي كما يشير إليه كلام الأخفش، وأنه في الأصل اسم للنهر الكبير في بعض اللغات الأعجمية القديمة وقد أطلق على تلك الأرض لقرب الفرات منها، ولعل ذلك من قبيل تسمية بغداد دار السلام بناء عى أن السلام اسم لدجلة، وقد رأيت لذلك تفصيلا لا أدريه اليوم في أي كتاب، وأظنه قريبا مما ذكرته فليحفظ، ومنه بعضهم الصلاة بأرض بابل احتجاجا بما أخرج أبو داود وابن أبي حاتم والبيهقي في " سننه " على علي كرم الله تعالى وجهه أن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة، وقال الخطابي: في إسناد هذا الحديث مقال، ولا أعلم أحدا من العلماء حرم الصلاة بها، ويشبه إن ثبت الحديث أن يكون نهاه عن أن يتخذها وطنا ومقاما فإذا أقام بها كانت صلاته فيها وهذا من باب التعليق في علم البيان، أو لعل النهي له خاصة ألا ترى قال: نهاني، ومثله حديث آخر " نهاني أقرأ ساجدا أو راكعا ولا أقول نهاكم "، وكان ذلك إنذارا منه بما لقي من المحنة في تلك الناحية
* (ه‍اروت وم‍اروت) * عطف بيان - للملكين - وهما اسمان أعجميان لهما منعا من الصرف للعلمية والعجمة وقيل: عربيان من الهرت والمرت بمعنى الكسر؛ وكان اسمهما قبل عزا وعزايا فلما قارفا الذنب سميا بذلك؛ ويشكل عليه منعهما من الصرف، وليس إلا العلمية، وتكلف له بعضهم بأنه يحتمل أن يقال: إنهما معدولان من الهارت والمارت، وانحصار العدل في الأوزان المحفوظة غير مسلم وهو كما ترى، وقرأ الحسن والزهري برفعهما على أن التقدير هما هاروت وماروت، ومما يقضي منه العجب ما قاله الإمام القرطبي: " إن هاروت وماروت
342

بدل من الشياطين على قراءة التشديد، و * (ما) * في * (وما أنزل) * نافية، والمراد من الملكين جبرائيل وميكائيل لأن اليهود زعموا أن الله تعالى أنزلهما بالسحر، وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: (وما كفر سليمان وما أنزل على الملكين ولكن الشياطين هاروت وماروت كفروا يعلمون الناس السحر ببابل) وعليه فالبدل إما بدل بعض من كل، ونص عليهما بالذكر لتمردهما، ولكونهما رأسا في التعليم، أو بدل كل من كل إما بناء على أن الجمع يطلق على الإثنين أو على أنهما عبارتان عن قبيلتين من الشياطين لم يكن غيرهما بهذه الصفة، وأعجب من قوله هذا قوله: وهذا أولى ما حملت عليه الآية من التأويل وأصح ما قيل فيها، ولا تلتفت إلى ما سواه. ولا يخفى لدي كل منصف أنه لا ينبغي لمؤمن حمل كلام الله تعالى - وهو في أعلى مراتب البلاغة والفصاحة - على ما هو أدنى من ذلك وما هو إلا مسخ لكتاب الله تعالى عز شأنه وإهباط له عن شأواه ومفاسد قلة البضاعة لا تحصى، وقيل إنهما بدل من الناس أي: يعلمون الناس خصوصا هاروت وماروت والنفي هو النفي.
* (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) * أي ما يعلم الملكان أحدا حتى ينصحاه ويقولا له إنما نحن ابتلاء من الله عز وجل فمن تعلم منا وعمل به كفر ومن تعلم وتوقى ثبت على الإيمان فلا تكفر باعتقاده وجواز العمل به، وقيل: فلا تتعلم معتقدا إنه حق حتى تكفر، وهو مبني - على رأي الاعتزال - من أن السحر تمويه وتخييل، ومن اعتقد حقيقته يكفر، و * (من) * مزيدة في المفعول به لإفادة تأكيد الاستغراق، وإفراد - الفتنة - مع تعدد المخبر عنه لكونها مصدرا، والحمل
مواطأة للمبالغة، والقصر لبيان أنه ليس لهما فيما يتعاطيانه شأن سواها لينصرف الناس عن تعلمه، و * (حتى) * للغاية وقيل: بمعنى إلا، والجملة في محل النصب على الحالية من ضمير * (يعلمون) * والظاهر أن القول مرة واحدة والقول: بأنه ثلاث أو سبع أو تسع لا ثبت له، واختلف في كيفية تلقي ذلك العلم منهما فقال مجاهد إنهما لا يصل إليهما أحد من الناس وإنما يختلف إليهما شيطانان في كل سنة اختلافة واحدة فيتعلمان منهما، وقيل وهو الظاهر: إنهما كان يباشران التعليم بأنفسهما في وقت من الأوقات، والأقرب أنهما ليسا إذ ذاك على الصورة الملكية، وأما ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في " سننه " عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: قدمت علي امرأة من أهل دومة الجندل تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلمبعد موته تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به قالت: كان لي زوج غاب عني فدخلت على عجوز فشكوت إليها فقالت: إن فعلت ما آمرك اجعله يأتيك فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين فركبت أحدهما وركبت الآخر فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل، فإذا أنا برجلين معلقين بأرجلهما، فقالا: ما جاء بك؟ فقلت أتعلم السحر، فقالا: إنما نحن فتنة فلا تكفري وراجعي، فأبيت وقلت: لا، قالا: فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي به، إلى أن قالت: فذهبت فبلت فيه، فرأيت فارسا مقنعا بحديد خرج مني حتى ذهب إلى السماء وغاب عني حتى ما أراه، فجئتهما وذكرت لهما فقالا: صدقت، ذلك إيمانك خرج منك، اذهبي فلن تريدي شيئا إلا كان - الخبر بطوله - فهو ونظائره - مما ذكره المفسرون من القصص في هذا الباب - مما لا يعول عليه ذوو الألباب، والإقدام على تكذيب مثل هذه الامرأة الدوجندية أولى من اتهام العقل في قبول هذه الحكاية التي لم يصح فيها شيء عن رسول رب البرية صلى الله عليه وسلم، ويا ليت كتب الإسلام لم تشتمل على هذه الخرافات التي لا يصدقها العاقل ولو كانت أضغاث أحلام، واستدل بالآية من جوز تعلم السحر، ووجهه أن فيها دلالة على وقوع التعليم من الملائكة مع عصمتهم، والتعلم مطاوع له، بل هما متحدان بالذات مختلفان بالاعتبار كالإيجاب
343

والوجوب، ولا يخفى أنه لا دليل فيها على الجواز مطلقا لأن ذلك التعليم كان للابتلاء والتمييز كما قدمنا، وقد ذكر القائلون بالتحريم: إن تعلم السحر إذا فرض فشوه في صقع، وأريد تبيين فساده لهم ليرجعوا إلى الحق غير حرام كما لا يحرم تعلم الفلسفة للمنصوب للذب عن الدين برد الشبه - وإن كان أغلب أحواله التحريم - وهذا لا ينافي إطلاق القول به، ومن قال: إن هاروت وماروت من الشياطين قال: إن معنى الآية ما يعلمان السحر أحدا حتى ينصحاه ويقولا إنا مفتونان باعتقاد جوازه والعمل به فلا تكن مثلنا في ذلك فتكفر، وحينئذ لا استدلال أصلا، وما ذكرنا أن القول على سبيل النصح في هذا الوجه هو الظاهر، وحكى المهدوي أنه على سبيل الاستهزاء لا النصيحة وهو الأنسب بحال الشياطين، وقرأ طلحة بن مصرف (يعلمان) بالتخفيف من الإعلام وعليها حمل بعضهم قراءة التشديد، وقرأ أبي باظهار الفاعل
* (فيتعلمون منهما) * عطف على الجملة المنفية لأنها في قوة المثبتة كأنه قال: يعلمانهم بعد ذلك القول فيتعلمون، وليس عطفا على المنفي بدون هذا الاعتبار كما توهمه أبو علي من كلام الزجاج، وعطفه بعضهم على * (يعلمان) * محذوفا، وبعضهم على (يأتون) كذلك، والضمير المرفوع لما دل عليه (أحد) وهو الناس أو - لأحد - حملا له على المعنى كما في قوله تعالى: * (فما منكم من أحد عنه حاجزين) * (الحاقه: 47) وحكى المهدوي جواز العطف على * (يعلمون الناس) * فمرجع الضمير حينئذ ظاهر، وقيل: في الكلام مبتدأ محذوف أي فهم يتعلمون فتكون جملة ابتدائية معطوفة على ما قبلها من عطف الاسمية على الفعلية - ونسب ذلك إلى سيبويه - وليس بالجيد، وضمير (منهما) عائد على (الملكين)، ومن الناس من جعله عائدا إلى السحر والكفر أو الفتنة والسحر، وعطف (يتعلمون) على (يعلمون) وحمل (ما يعلمان) على النفي، و * (حتى يقولا) * على التأكيد له أي لا يعلمان السحر لأحد بل ينهيانه حتى يقولا الخ فهو كقولك: ما أمرته بكذا حتى قلت له إن فعلت نالك كذا وكذا، وجعل - ما أنزل - أيضا نفيا معطوفا على - ما كفر - وهو كما ترى
* (ما يفرقون به بين المرء وزوجه) * أي الذي أو شيئا يفرقون به وهو السحر المزيل بطريق السببية الألفة والمحبة بين الزوجين الموقع للبغضاء والشحناء الموجبتين للتفرق بينهما؛ وقيل: المراد: ما يفرق لكونه كفرا لأنه إذا تعلم كفر فبانت زوجته أو إذا تعلم عمل فتراه الناس فيعتقدون أنه حق فيكفرون فتبين أزواجهم، و - المرء - الرجل، والأفصح فتح الميم مطلقا، وحكي الضم مطلقا، وحكي الاتباع لحركة الإعراب، ومؤنثة المرأة، وقد جاء جمعه بالواو والنون فقالوا: المرؤن، والزوج امرأة الرجل، وقيل: المراد به هنا القريب والأخ الملائم، ومنه * (من كل زوج بهيج) * (الحج: 5) و * (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم) * (الصافات: 22) وقرأ الحسن والزهري وقتادة المر بغير همز مخففا، وابن أبي اسحق - المرء - بضم الميم مع الهز، والأشهب بالكسر والهمز، ورويت عن الحسن، وقرأ الزهري أيضا - المر - بالفتح وإسقالط الهمزة وتشديد الراء * (وما هم بضآرين به من أحد) * الضمير للسحرة الذين عاد إليهم ضمير * (فيتعلمون) * وقيل: لليهود الذين عاد إليهم ضمير * (واتبعوا) * وقيل - للشياطين - وضمير (به) عائد لما، و * (من) * زائدة لاستغراق النفي كأنه قيل: وما يضرون به أحدا، وقرأ الأعمش - بضاري - محذوف النون، وخرج على أنها حذفت تخفيفا وإن كان اسم الفاعل ليس صلة - لأل - فقد نص ابن مالك على عدم الاشتراط لقوله: ولسنا إذا تأتون سلمى بمدعي * لكم غير أنا أن نسالم نسالم
وقولهم: قطاقطا بيضك ثنتا وبيضي مائتا، وقيل: إنها حذفت للإضافة إلى محذوف مقدر لفظا على حد قوله: يا تيم تيم عدي في أحد الوجوه، وقيل: للإضافة إلى (أحد) على جعل الجار جزأ منه والفصل بالظرف
344

مسموع كما في قوله: هما أخوا في الحرب من لا أخاله * وإن خاف يوما كبوة فدعاهما
واختار ذلك الزمخشري، وفيه أن جعل الجار جزءا من المجرور ليس بشيء لأنه مؤثر فيه، وجزء الشيء لا يؤثر فيه، وأيضا الفصل بين المتضايفين بالظرف وإن سمع من ضرائر الشعر كما صرح به أبو حيان ولظن تعين هذا مخرجا قال ابن جني: إن هذه القراءة أبعد الشواذ
* (إلا باذن الله) * استثناء مفرغ من الأحوال والباء متعلقة بمحذوف وقع حالا من ضمير - ضارين - أو من مفعوله المعتمد على النفي أو الضمير المجرور في * (به
) * أو المصدر المفهوم من الوصف، والمراد من الاذن هنا التخلية بين المسحور وضرر السحر - قاله الحسن - وفيه دليل على أن فيه ضررا مودعا إذا شاء الله تعالى حال بينه وبينه، وإذا شاء خلاه وما أودعه فيه، وهذا مذهب السلف في سائر الأسباب والمسببات، وقيل: الإذن بمعنى الأمر ويتجوز به عن التكوين بعلاقة ترتب الوجود على كل منهما في الجملة، والقرينة عدم كون القبائح مأمورا بها ففيه نفي كون الأسباب مؤثرة بنفسها بل يجعله إياها أسبابا إما عادية أو حقيقية، وقيل: إنه هنا بمعنى العلم، وليس فيه إشارة إلى نفي التأثير بالذات كالوجهين الأولين. * (ويتعلمون ما يضرهم) * لأنهم يقصدون به العمل قصدا جازما وقصد المعصية كذلك معصية أو لأن العلم يدعو إلى العمل ويجر إليه لا سيما عمل الشر الذي هو هوى النفس، فصيغة المضارع للحال على الأول وللاستقبال على الثاني * (ولا ينفعهم) * عطف على ما قبله للإيذان بأنه شر بحت وضرر محض لا كبعض المضار المشوبة بنفع وضرر لأنهم لا يقصدون به التخلص عن الاغترار بأكاذيب السحرة ولا إماطة الأذى عن الطريق حتى يكون فيه نفع في الجملة، وفي الاتيان ب (لا) إشارة إلى أنه غير نافع في الدارين لأنه لا تعلق له بانتظام المعاش ولا المعاد وفي الحكم بأنه ضار غير نافع تحذير بليغ - لمن ألقى السمع وهو شهيد - عن تعاطيه وتحريض على التحرز عنه، وجوز بعضهم أن يكون * (لا ينفعهم) * على إضمار هو فيكون في موضع رفع وتكون الواو للحال ولا يخفى ضعفه
* (ولقد علموا) * متعلق بقوله تعالى: * (ولما جاءهم) * (البقرة: 101) الخ، وقصة السحر مستطردة في البين فالضمير لأولئك اليهود، وقيل: الضمير لليهود الذين كانوا على عهد سليمان عليه السلام، وقيل: للملكين لأنهما كانا يقولان: * (فلا تكفر) * وأتى بضمير الجمع على قول من يرى ذلك * (لمن اشترياه) * أي استبدل ما تتلوا الشياطين بكتاب الله، واللام للابتداء وتدخل على المبتدأ، وعلى المضارع ودخولها على الماضي مع قد كثير وبدونه ممتنع، وعلى خبر المبتدأ إذا تقدم عليه، وعلى معمول الخبر إذا وقع موقع المبتدأ؛ والكوفيون يجعلونها في الجميع جواب القسم المقدر وليس في الوجود عندهم لام ابتداء كما يشير إليه كلام الرضى، وقد علقت هنا - علم - عن العمل سواء كانت متعدية لمفعول أو مفعولين - فمن - موصولة مبتدأ و (اشتراه) صلتها وقوله تعالى:
* (ما له في الاخرة من خل‍اق) * جملة ابتدائية خبرها، و - من - مزيدة في المبتدأ، و * (في الآخرة) * متعلق بما تعلق به الخبر أو حال من الضمير فيه أو من مرجعه، و - الخلاق - النصيب - قاله مجاهد - أو القوام - قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما، أو القدر - قاله قتادة - ومنه قوله:
فمالك بيت لدى الشامخات * ومالك في غالب من (خلاق)
345

قال الزجاج: وأكثر ما يستعمل في الخير، ويكون للشر على قلة، وذهب أبو البقاء تبعا للفراء إلى أن اللام موطئة للقسم، و (من) شرطية مبتدأ و (اشتراه) خبرها وماله) الخ جواب القسم، وجواب الشرط محذوف دل هو عليه لأنه إذا اجتمع قسم وشرط يجاب سابقهما غالبا، وفيه ما فيه لأنه نقل عن الزجاج رد من قال بشرطية (من) هنا بأنه ليس موضع شرط، ووجهه أبو حيان بأن الفعل ماض لفظا ومعنى، لأن الاشتراء قد وقع فجعله شرطا لا يصح لأن فعل الشرط إذا كان ماضيا لفظا فلا بد أن يكون مستقبلا معنى، وقد ذكر الرضى في - لزيد قائم - أن الأولى كون اللام فيه لام الابتداء مفيدة للتأكيد ولا يقدر القسم كما فعله الكوفية لأن الأصل عدم التقدير، والتأكيد المطلوب من القسم حاصل من اللام، والقول بأن اللام تأكيد للأولى أو زائدة مما لا يكاد يصح، أما الأول: فلأن بناء الكلمة إذا كان على حرف واحد لا يكرر وحده بل مع عماده إلا في ضرورة الشعر على ما ارتضاه الرضى، وأما الثاني: فلأن المعهود زيادة اللام الجارة وهي مكسورة في الاسم الظاهر.
* (ولبئس ما شروا به أنفسهم) * اللام فيه لام ابتداء أيضا، والمشهور أنها جواب القسم، والجملة معطوفة على القسمية الأولى، و (ما) نكرة مميزة للضمير المبهم في - بئس - والمخصوص بالذم محذوف، و (شروا) يحتمل المعنيين والظاهر هو الظاهر - أي والله لبئس شيئا شروا به حظوظ أنفسهم - أي باعوها أو شروها في زعمهم ذلك الشراء، وفي " البحر " بئسما باعوا أنفسهم السحر أو الكفر * (لو كانوا يعلمون) * أي مذمومية الشراء المذكور لامتنعوا عنه، ولا تنافي بين إثبات العلم لهم أولا ونفيه عنهم ثانيا إما لأن المثبت لهم هو العقل الغريزي والمنفي عنهم هو الكسب الذي هو من جملة التكليف، أو لأن الأول: هو العلم بالجملة والثاني: هو العلم بالتفصيل، فقد يعلم الإنسان مثلا قبح الشيء ثم لا يعلم أن فعله قبيح فكأنهم علموا أن شراء النفس بالسحر مذموم لكن لم يتكفروا في أن ما يفعلونه هو من جملة ذلك القبيح أو لأنهم علموا العقاب ولم يعلموا حقيقته وشدته، وإما لأن الكلام مخرج على تنزيل العالم بالشيء منزلة الجاهل ووجود الشيء منزلة عدمه لعدم ثمرته أنهم لم يعملوا بعلمهم، أو على تنزيل العالم بفائدة الخبر ولازمها منزلة الجاهل بناء على أن قوله تعالى: * (لو كانوا يعلمون) * معناه لو كان لهم علم بذلك الشراء لامتنعوا منه أي ليس لهم علم فلا يمتنعون، وهذا هو الخبر الملقى إليهم، واعتراض العلامة بأن هذا الخبر لو فرض كونه ملقى إليهم فلا معنى لكونهم عالمين بمضمونه كيف وقد تحقق في * (ولقد علموا) * نقيضه وهو أن لهم علما به وبعد اللتيا والتي لا معنى لتنزيلهم منزلة الجاهل بأن ليس لهم علم بأن من اشتراه - ماله في الآخرة من خلاق - بل إن كان فلا بد أن ينزلوا منزلة الجاهل بأن لهم علما بذلك يجاب عنه: أما أولا: فبأن الخطاب صريحا للرسول صلى الله عليه وسلم وتعريضا لهم ولذا أكد، وأما ثانيا: فبأن المستفاد من * (ولقد علموا) * ثبوت العلم لهم حقيقة والمستفاد من الخبر الملقى لهم نفي العلم عنهم تنزيلا ولا منافاة بينهما، وأما ثالثا: فبأن العالم إذا عمل بخلاف علمه كان عالما بأنه بمنزلة الجاهل في عدم ترتب ثمرة علمه، ومقتضى هذا العلم أن يمتنع عن ذلك العمل ففيما نحن فيه كانوا عالمين فيه بأن ليس لهم علم وأنهم بمنزلة الجاهل في ذلك الشراء، ومقتضى هذا العلم أن يمتنعوا عنه وإذا لم يمتنعوا كانوا بمنزلة الجاهل في عدم جريهم على مقتضى هذا العلم فألقى الخبر إليهم بأن ليس لهم علم مع علمهم به كذا قيل، ولا يخفى ما فيه من شدة التكلف، وأجاب بعضهم عما يتراءى من التنافي بأن مفعول * (يعلمون) * ما دل عليه ل‍ * (بئسما شروا) * الخ أعنى مذمومية الشراء، ومفعول * (علموا) * أنه لا نصيب لهم
346

في الآخرة، والعلم بأنه لا نصيب لهم في الآخرة لا ينافي نفي العلم بمذمومية الشراء بأن يعتقدوا إباحته - فلا حاجة حينئذ إلى جميع ما سبق - وفيه أن العلم بكون
الشراء المذكور موجبا للحرمان في الآخرة بدون العلم بكونه مذموما غاية المذمومية - مما لا يكاد يعقل عند أرباب العقول - والقول بأن مفعول * (علموا) * محذوف، أي لقد علموا أنه يضرهم ولا ينفعهم، و * (لمن اشتراه) * مرتبط بأول القصة، وضمير (لبئسما شروا) (لمن اشتراه) ركيك جدا، و (بئسما) يشتري، ودفع التنافي بأنه أثبت أولا: العلم بسوء ما شروه بالكتاب بحسب الآخرة، ثم ذم بالسوء مطلقا في الدين والدنيا، لأن بئس للذم العام، فالمنفى - العلم بالسوء المطلق - يعني: لو كانوا يعلمون ضرره في الدين والدنيا لامتنعوا، إنما غرهم توهم النفع العاجل، أو بأن المثبت أولا العلم بأن ما شروه ما لهم في الآخرة نصيب منه، لا أنهم شروا أنفسهم به وأخرجوها من أيديهم بالكلية، بل كانوا يظنون أن آباءهم الأنبياء يشفعونهم في الآخرة والعلم المنفي هو هذا العلم لا يخفى ما فيه. أما أولا: فلأن عموم الذم في (بئس) وإن قيل به لكنه بالنسبة إلى إفراد الفاعل في نفسها من دون تعرض للأزمنة والأمكنة - والتزام ذلك لا يخلو عن كدر - وأما ثانيا: فلأن تخصيص النصيب - بمنه - مع كونه نكرة مقرونة ب (من) في سياق النفي المساق للتهويل مما لا يدعو إليه إلا ضيق العطن، والجواب - بإرجاع ضمير (علموا) (للناس) أو (الشياطين) و (اشتروا) لليهود - ارتكاب للتفكيك من غير ضرورة تدعو إليه، ولا قرينة واضحة تدل عليه، وبعد كل حساب - الأولى عندي في الجواب - كون الكلام مخرجا على التنزيل، ولا ريب في كثرة وجود ذلك في الكتاب الجليل، والأجوبة التي ذكرت من قبل - مع جريان الكلام فيها على مقتضى الظاهر - لا تخلو في الباطن عن شيء فتدبر.
* (ولو أنهم ءامنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون) *
* (ولو أنهم ءامنوا) * أي بالرسول، أو بما أنزل إليه من الآيات، أو بالتوراة * (واتقوا) * أي المعاصي التي حيكت عنهم * (لمثوبة من عند الله خير) * جواب * (لو) * الشرطية، وأصله - لأثيبوا مثوبة من عند الله خيرا مما شروا به أنفسهم - فحذف الفعل، وغير السبك إلى ما ترى ليتوسل بذلك مع معونة المقام إلى الإشارة إلى ثبات المثوبة، وثبات نسبة الخيرية إليها مع الجزم بخيريتها لأن الجملة إذا أفادت ثبات المثوبة كان الحكم بمنزلة التعليق بالمشتق، كأنه قيل: لمثوبة دائمة خير لدوامها وثباتها، وحذف المفضل عليه إجلالا للمفضل من أن ينسب إليه، ولم يقل لمثوبة الله، مع أنه أخصر ليشعر التنكير بالتقليل، فيفيد أن شيئا قليلا من ثواب الله تعالى في الآخرة الدائمة خير من ثواب كثير من الدنيا الفانية، فكيف وثواب الله تعالى كثير دائم، وفيه من الترغيب والترهيب المناسبين للمقام ما لا يخفى، وببيان الأصل انحل إشكالان (لفظي) وهو أن جواب * (لو) * إنما يكون فعلية ماضوية (ومعنوي) وهو أن خيرية - المثوبة - ثابتة لا تعلق لها بإيمانهم وعدمه، ولهذين الاشكالين قال الأخفش واختاره جمع لسلامته من وقوع الجملة الابتدائية في الظاهر جوابا ل‍ (لو) ولم يعهد ذلك في لسان العرب - كما في " البحر " - أن - اللام - جواب قسم محذوف والتقدير - ولو أنهم آمنوا واتقوا لكان خيرا لهم ولمثوبة عند الله خير - وبعضهم التزم التمني - ولكن من جهة العباد لا من جهته تعالى - خلافا لمن اعتزل دفعا لهما إذ لا جواب لها حينئذ، ويكون الكلام مستأنفا، كأنه لما تمنى لهم ذلك قيل: ما هذا التحسر والتمني؟ فأجيب بأن هؤلاء المبتذلين حرموا ما شيء قليل منه خير من الدنيا وما فيها، وفي ذلك تحريض وحث على الإيمان، وذهب أبو حيان إلى أن (خير) هنا للتفضيل لا للأفضلية على حد فخيركما لشركما فداء
والمثوبة مفعلة - بضم العين - من الثواب، فنقلت
347

- الضمة - إلى ما قبلها، فهو مصدر ميمي، وقيل: مفعولة وأصلها (مثووبة) فنقلت - ضمة الواو - إلى ما قبلها، وحذفت لالتقاء الساكنين، فهي من المصادر التي جاءت على مفعولة كمصدوقة - كما نقله الواحدي - ويقال: * (مثوبة) * - بسكون الثاء وفتح الواو - وكان من حقها أن تعل، فيقال: مثابة - كمقامة - إلا أنهم صححوها كما صححوا في الأعلام مكوزة وبها قرأ قتادة وأبو السماك؛ والمراد بها الجزاء والأجر، وسمي بذلك لأن المحسن يثوب إليه، والقول بأن المراد بها الرجعة إليه تعالى بعيد * (لو كانوا يعلمون) * المفعول محذوف بقرينة السابق، أي إن ثواب الله تعالى خير وكلمة (لو) إما للشرط، والجزاء محذوف أي: آمنوا وإما للتمني ولا حذف، ونفي العلم على التقديرين بنفي ثمرته الذي هو العمل، أو لترك التدبر،
هذا ومن باب الإشارة في الآيات * (واتبعوا) * أي اليهود وهي القوى الرواحينة * (ما تتلوا الشياطين) * وهم من الإنس المتمردون الأشرار، ومن الجن الأوهام والتخيلات المحجوبة عن نور الروح المتمردة عن طاعة القلب العاصية لأمر العقل والشرع، والنفوس الأرضية المظلمة القوية على عهد * (ملك سليمان) * الروح الذي هو خليفة الله تعالى في أرضه * (وما كفر سليمان) * بملاحظة السوى واتباع الهوى، وإسناد التأثير إلى الأغيار * (ولكن الشياطين كفروا) * وستروا مؤثرية الله تعالى وظهوره الذي محا ظلمة العدم. * (يعلمون الناس السحر) * والشبه الصادة عن السير والسلوك إلى ملك الملوك * (وما أنزل على الملكين) * وهما العقل النظري والعقل العملي النازلان من سماء القدس إلى أرض الطبيعة المنكوسان في بئرها لتوجههما إليها باستجذاب النفس إياهما * (ببابل) * الصدر المعذبان بضيق المكان بين أبخرة حب الجاه، ومواد الغضب؛ وأدخنة نيران الشهوات المبتليان بأنواع المتخيلات، والموهومات الباطلة من الحيل والشعوذة والطلسمات والنيرنجات * (وما يعلمان من أحد حتى يقولا) * له * (إنما نحن) * امتحان وابتلاء من الله تعالى * (فلا تكفر) * وذلك لقوة النورية وبقية الملكوتية فيهما، فإن العقل دائما ينبه صاحبه - إذا صحا عن سكرته وهب من نومته - عن الكفر والاحتجاب * (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين) * القلب والنفس، أو بين الروح والنفس بتكدير القلب * (ويتعلمون ما يضرهم) * بزيادة الاحتجاب وغلبة هوى النفس * (ولا ينفعهم) * كسائر العلوم في رفع الحجاب وتخلية النفس وتزكيتها * (ولقد علموا لمن اشتراه ماله) * في مقام الفناء والرجوع إلى الحق سبحانه من نصيب لإقباله على العالم السفلي وبعده عن العالم العلوي بتكدر جوهر قلبه، وانهماكه برؤية الأغيار * (ولو أنهم آمنوا) * برؤية الأفعال من الله تعالى واتقوا الشرك باثبات ما سواه لأثيبوا بمثوبه * (من عند الله) * تعالى دائمة، ولرجوا إليه، وذلك * (خير لهم لو كانوا) * من ذوي العلم والعرفان والبصيرة والإيقان.
* (يأيها الذين ءامنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللك‍افرين عذاب أليم) *
* (ي‍اأيها الذين ءامنوا لا تقولوا راعنا) * الرعي حفظ الغير لمصلحته سواء كان الغير عاقلا أو لا، وسبب نزول الآية - كما أخرج أبو نعيم في " الدلائل " عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه - أن اليهود كانوا يقولون ذلك سرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سب قبيح بلسانهم، فلما سمعوا أصحابه عليه الصلاة والسلام يقولون: أعلنوا بها، فكانوا يقولون ذلك ويضحكون فيما بينهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وروي أن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه سمعها منهم، فقال: يا أعداء الله عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه، قالوا: أولستم تقولونها؟ فنزلت الآية ونهي المؤمنون سدا للباب، وقطعا للألسنة وإبعادا عن المشابهة. وأخرج عبيد وابن جرير والنحاس عن عطاء قال: كانت (راعنا) لغة الأنصار في الجاهلية فنهاهم الله تعالى عنها في الإسلام، ولعل المراد أنهم يكثرونها في كلامهم
348

واستعملها اليهود سبا فنهوا عنها، وأما دعوى أنها لغة مختصة بهم فغير ظاهر لأنها محفوظة في لغة جميع العرب منذ كانوا، وقيل: ومعنى هذه الكلمة عند اليهود لعنهم الله تعالى اسمع - لا سمعت - وقيل: أرادوا نسبته صلى الله عليه وسلم وحاشاه إلى الرعن، فجعلوه مشتقا من الرعونة وهي الجهل والحمق، وكانوا إذا أرادوا أن يحمقوا إنسانا قالوا: راعنا، أي يا أحمق - فالألف حينئذ لمد الصوت - وحرف النداء محذوف - وقد ذكر الفراء أن أصل يا زيد يا زيدا - بالألف - ليكون المنادى بين صوتين، ثم اكتفى بيا ونوى الألف، ويحتمل أنهم أرادوا به المصدر، أي - رعنت رعونة - أو أرادوا صرت راعنا وإسقاط - التنوين - على اعتبار الوقف، وقد قرأ الحسن وابن أبي ليلى وأبو حيوة وابن محيصن - بالتنوين - وجعله الكثير صفة لمصدر محذوف، أي قولا: راعنا وصيغة فاعل حينئذ للنسبة - كلابن وتامر -، ووصف القول به للمبالغة كما يقال: كلمة حمقاء، وقرأ عبد الله وأبي * (راعونا) * على إسناد الفعل لضمير الجمع للتوقير - كما أثبته الفارسي - وذكر أن في مصحف عبد الله (ارعونا) وذهب بعض العلماء أن سبب النهي أن لفظ المفاعلة يقتضي الاشتراك في الغالب - فيكون المعنى عليه - ليقع منك رعي لنا ومنا رعى لك، وهو مخل بتعظيمه صلى الله عليه وسلم، ولا يخفى بعده عن سبب النزول بمراحل
* (وقولوا انظرنا) * أي انتظرنا وتأن علينا، أو انظر إلينا، ليكون ذلك أقوى في الإفهام والتعريف، وكان الأصل أن يتعدى الفعل بالى، لكنه توسع فيه فتعدى بنفسه على حد قوله: ظاهرات الجمال والحسن ينظر * ن كما ينظر (الأراك.. الظباء)
وقيل: هو من نظر البصيرة، والمراد به التفكر والتدبر فيما يصلح حال المنظور في أمره والمعنى تفكر في أمرنا وخير الأمور عندي أوسطها إلا أنه ينبغي أن يقيد نظر العين بالمقترن بتدبير الحال لتقوم هذه الكلمة مقام الأولى خالية من التدليس، وبدأ بالنهي لأنه من باب التروك فهو أسهل ثم أتى بالأمر بعده الذي هو أشق لحصول الاستئناس قبل بالنهي، وقرأ أبي والأعمش (أنظرنا) بقطع الهمزة وكسر الظاء من الإنظار ومعناه أمهلنا حتى نتلقى عنك ونحفظ ما نسمعه منك، وهذه القراءة تشهد للمعنى الأول على قراءة الجمهور إلا أنها على شذوذها لا تأبى ما اخترناه
* (واسمعوا) * أي ما أمرتكم به ونهيتكم عنه بجد حتى لا تعودوا إلى ما نهيتكم عنه ولا تتركوا ما أمرتكم به، أو هو أمر بحسن الاستماع بأن يكون باحضار القلب وتفريغه عن الشواغل حتى لا يحتاج إلى طلب صريح المراعاة ففيه تنبيه على التقصير في السماع حتى ارتكبوا ما تسبب للمحذور، والمراد سماع القبول والطاعة فيكون تعريضا لليهود حيث قالوا: * (سمعنا وعصينا) * (البقرة: 93) وإذا كان المراد سماع هذا الأمر والنهي يكون تأكيدا لما تقدم
* (وللكفرين عذاب أليم) * اللام للعهد فالمراد بالكافرين اليهود الذين قالوا ما قالوا تهاونا بالرسول صلى الله عليه وسلم المعلوم مما سبق السياق ووضع المظهر موضع المضمر إيذانا بأن التهاون برسول الله صلى الله عليه وسلم كفر يوجب أليم العذاب، وفيه من تأكيد النهي ما فيه، وجعلها للجنس - فيدخل اليهود كما اختاره أبو حيان - ليس بظاهر على ما قيل: لأن الكلام مع المؤمنين فلا يصلح هذا أن يكون تذييلا.
* (ما يود الذين كفروا من أهل الكتب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشآء والله ذو الفضل العظيم) *
* (ما يود الذين كفروا من أهل الكتابولا المشركين) * الود محبة الشيء وتمني كونه، ويذكر ويراد كل واحد منهما قصدا والآخر تبعا، والفارق كون مفعوله جملة إذا استعمل في التمني ومفردا إذا استعمل في المحبة فتقول على الأول: وددت لو تفعل كذا، وعلى الثاني: وددت الرجل، ونفيه كناية عن الكراهة وأتي ب (ما) للإشارة
349

إلى أن أولئك متلبسون بها و * (من) * للتبيين، وقيل: للتبعيض وفي إيقاع الكفر صلة للموصول وبيانه بما بين وإقامة المظهر موضع المضمر إشعار بأن كتابهم يدعوهم إلى متابعة الحق إلا أن كفرهم يمنعهم وإن الكفر شر كله لأنه الذي يورث الحسد ويحمل صاحبه على أن يبغض الخير ولا يحبه كما أن الإيمان خير كله لأنه يحمل صاحبه على تفويض الأمور كلها إلى الله تعالى، و (لا) صلة لتأكيد النفي وزيدت (له) هنا دون قوله: * (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين) * (البنية: 1) لما أن مبنى النفي الحسد، واليهود بهذا الداء أشهر لا سيما وقد تقدم ما يفيد ابتلاءهم به فلم يلزم من نفي ودادتهم هذه نفي ودادة المشركين لها ولم يكن ذلك في * (لم يكن) * وسبب نزول الآية أن المسلمين قالوا لحلفائهم من اليهود: آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فقالوا: وددنا لو كان خيرا مما نحن عليه فنتبعه فأكذبهم الله تعالى بذلك، وقيل: نزلت تكذيبا لجمع من اليهود يظهرون مودة المؤمنين ويزعمون أنهم يودون لهم الخير وفصلت عما قبل، وإن اشتركا في بيان قبائح اليهود مع الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لاختلاف الغرضين فإن الأول لتأديب المؤمنين وهذا لتكذيب أولئك الكافرين، ولأجل هذا الاختلاف فصل السابق عن سابقه، ومما ذكرنا يعلم وجه تعلق الآية بما قبلها، والقول بأن ذلك من حيث إن القول المنهي عنه كثيرا ما كان يقع عند تنزيل الوحي المعبر عنه بالخير فيها فكأنه أشير إلى أن سبب تحريفهم له - إلى ما حكي عنهم لوضوعه في أثناء حصول ما يكرهونه من تنزيل الخير - مساق على سبيل الترجي وأظنه إلى التمني أقرب، وقرىء * (ولا المشركون
) * بالرفع عطفا على (الذين كفروا)
* (أن ينزل عليكم) * في موضع النصب على أنه مفعول * (يود) * وبناء الفعل للمفعول للثقة بتعيين الفاعل وللتصريح به فيما بعد، وذكر التنزيل دون الإنزال رعاية للمناسبة بما هو الواقع من تنزيل الخيرات على التعاقب وتجددها لا سيما إذا أريد * (من خير) * في قوله تعالى: * (من خير) * الوحي وهو قائم مقام الفاعل، و (من) صلة وزيادة خير، والنفي الأول منسحب عليها، ولذا ساغت زيادتها عند الجمهور ولا حاجة إلى ما قيل: إن التقدير يود أن لا ينزل خير، وذهب قوم إلى أنه للتبعيض وعليه يكون عليكم قائما ذلك المقام، والمراد من الخير إما الوحي أو القرآن أو النصرة أو ما اختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم من المزايا أو عام في أنواع الخير كلها لأن المذكورين لا يودون تنزيل جميع ذلك على المؤمنين عداوة وحسدا وخوفا من فوات الدراسة وزوال الرياسة، وأظهر الأقوال كما في " البحر " الأخير ولا يأباه ما سيأتي لما سيأتي. * (من ربكم) * في موضع الصفة للخير، و (من) ابتدائية والتعرض لعنوان الربوبية للاشعار بعلية التنزيل والإضافة إلى ضمير المخاطبين لتشريفهم * (والله يختص برحمته من يشاء) * جملة ابتدائية سيقت لتقرير ما سبق من تنزيل الخير والتنبيه على حكمته وإرغام الكارهين له، والمراد من الرحمة ذلك الخير إلا أنه عبر عنه بها اعتناء به وتعظيما لشأنه؛ ومعنى اختصاص ذلك على القول الأول ظاهر ولذا اختاره من اختاره، وعلى الأخير انفراد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بمجموعه وعدم شركة أولئك الكارهين فيه وعروهم عن ترتب آثاره، وقيل: المراد من الآية دفع الاعتراض الذي يشير إليه الحسد بأن من له أن يخص لا يعترض عليه إذا عم، وفي إقامة لفظ - الله - مقام ضمير (ربكم) تنبيه على أن تخصيص بعض الناس بالخير دون بعض يلائم الألوهية كما أن إنزال الخير على العموم يناسب الربوبية، والباء داخلة على المقصور أي يؤتي رحمته، و (من) مفعول، وقيل: الفعل لازم، و (من) فاعل وعلى التقديرين العائد
محذوف * (والله ذو الفضل العظيم) *. تذييل لما سبق
350

وفيه تذكير للكارهين الحاسدين بما ينبغي أن يكون مانعا لهم لأن المعنى على أنه سبحانه المتفضل بأنواع التفضلات على سائر عباده فلا ينبغي لأحد أن يحسد أحدا، ويود عدم إصابة خير له، والكل غريق في بحار فضله الواسع الغزير كذا قيل: وإذا جعل الفضل عاما؛ وقيل: بإدخال النبوة فيه دخولا أوليا لأن الكلام فيها على أحد الأقوال: كان هناك إشعار بأن النبوة من الفضل لا كما يقوله الحكماء من أنها بتصفية الباطن، وأن حرمان بعض عباده ليس لضيق فضله بل لمشيئته وما عرف فيه من حكمته، وتصدير هذه الجملة بالاسم الكريم لمناسبة العظيم.
* (ما ننسخ من ءاية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) *
* (ما ننسخ من ءاية أو ننسها) * نزلت لما قال المشركون أو اليهود: ألا ترون إلى محمد صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا، ما هذا القرآن إلا كلام محمد عليه الصلاة والسلام يقوله من تلقاء نفسه، وهو كلام يناقض بعضه بعضا - والنسخ - في اللغة إزالة الصورة - أو ما في حكمها - عن الشيء، وإثبات مثل ذلك في غيره سواء كان في الاعراض أو في الأعيان - ومن استعماله في المجموع التناسخ - وقد استعمل لكل واحد منهما مجازا - وهو أولى من الاشتراك - ولذا رغب فيه الراغب، فمن الأول نسخت الريح الأثر أي أزالته، ومن الثاني نسخت الكتاب إذا أثبت ما فيه في موضع آخر، ونسخ الآية - على ما ارتضاه بعض الأصوليين - بيان انتهاء التعبد بقراءتها كآية: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما نكالا من الله والله عزيز حكيم) أو الحكم المستفاد منها كآية: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج) * (البقرة: 240) أو بهما جميعا كآية (عشر رضعات معلومات يحرمن) وفيه رفع التأبيد المستفاد من إطلاقها، ولذا عرفه بعضهم برفع الحكم الشرعي، فهو بيان بالنسبة إلى الشارع، ورفع بالنسبة إلينا، وخرج بقيد التعبد الغاية، فإنها بيان لانتهاء مدة نفس الحكم - لا للتعبد به - واختص التعريف بالأحكام إذ لا تعبد في الأخبار أنفسها، وإنساؤها إذهابها عن القلوب بأن لا تبقى في الحفظ - وقد وقع هذا - فإن بعض الصحابة أراد قراءة بعض ما حفظه فلم يجده في صدره، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " نسخ البارحة من الصدور " وروى مسلم عن أبي موسى: " إنا كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة، فأنسيتها غير أني حفظت منها (لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا وما يملأ جوف ابن آدم إلا التراب) وكنا نقرأ بسورة نشبهها بإحدى المبسحات فأنسيتها، غير أني حفظت منها: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولوا ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة) وهل يكون ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان لغيره أو لا؟ فيه خلاف، والذاهبون إلى الأول استدلوا بقوله تعالى: * (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله) * (الأعلى: 6، 7) وهو مذهب الحسن، واستدل الذاهبون إلى الثاني بقوله تعالى: * (ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك) * (الأسراء: 86) فإنه يدل على أنه لا يشاء أن يذهب بما أوحي إليه صلى الله عليه وسلم - وهذا قول الزجاج - وليس بالقوي لجواز حمل (الذي) على ما لا يجوز عليه ذلك من أنواع الوحي، وقال أبو علي: المراد لم نذهب بالجميع، وعلى التقديرين لا ينافي الاستثناء، وسبحان من لا ينسى، وفسر بعضهم - النسخ - بإزالة الحكم سواء ثبت اللفظ أو لا - والإنساء - بإزالة اللفظ ثبت حكمه أو لا، وفسر بعض آخر الأول: بالإذهاب إلى بدل للحكم السابق والثاني: بالإذهاب لا إلى بدل، وأورد على كلا الوجهين أن تخصيص - النسخ - بهذا المعنى مخالف للغة والاصطلاح، وأن - الإنساء حقيقة في الإذهاب عن القلوب، والحمل على المجاز - بدون تعذر الحقيقة - تعسف، ولعل ما يتمسك به لصحة هذين التفسيرين من الرواية عن بعض الأكابر لم يثبت، و (ما) شرطية جازمة ل‍ (ننسخ) منتصبة به على المفعولية، ولا تنافي بين كونها عاملة
351

ومعمولة لاختلاف الجهة، فبتضمنها الشرط عاملة، وبكونها اسما معمولة - ويقدر لنفسها جازم - وإلا لزم توارد العاملين على معمول واحد، وتدل على جواز وقوع ما بعدها، إذ الأصل فيها أن تدخل على الأمور المحتملة، واتفقت أهل الشرائع على جواز النسخ ووقوعه؛ وخالفت اليهود غير العيسوية في جوازه وقالوا: يمتنع عقلا، وأبو مسلم الأصفهاني في وقوعه فقال: إنه وإن جاز عقلا لكنه لم يقع - وتحقيق ذلك في الأصول، و * (من آية) * في موصع النصب على التمييز والمميز * (ما)
* أي: أي شيء ننسخ من آية واحتمال زيادة (من) وجعل (آية) حالا - ليس بشيء - كاحتمال كون (ما) مصدرية شرطية و (آية) مفعولا به أي أي نسخ ننسخ آية بل هذا الاحتمال أدعى وأمر - كما لا يخفى - والضمير المنصوب عائد إلى آية على حد - عندي درهم ونصفه - لأن المنسوخ غير المنسي، وتخصيص - الآية - بالذكر باعتبار الغالب، وإلا فالحكم غير مختص بها، بل جار فيما دونها أيضا على ما قيل. وقرأ طائفة وابن عامر من السبعة * (ننسخ) * من باب الأفعال - والهمزة - كما قال أبو علي: للوجدان على صفة نحو أحمدته - أي وجدته محمودا - فالمعنى ما نجده منسوخا وليس نجده كذلك إلا بأن ننسخه، فتتفق القراءتان في المعنى - وإن اختلفا في اللفظ - وجوز ابن عطية كون - الهمزة - للتعدية، فالفعل حينئذ متعد إلى مفعولين، والتقدير: ما ننسخك من آية أي ما نبيح لك نسخه، كأنه لما نسخها الله تعالى أباح لنبيه صلى الله عليه وسلم تركها بذلك النسخ فسمي تلك الإباحة إنساخا وجعل بعضهم - الإنساخ - عبارة عن الأمر بالنسخ والمأمور هو النبي صلى الله عليه وسلم، أو جبرائيل عليه السلام، واحتمال أن يكون من نسخ الكتاب، أي ما نكتب وننزل من اللوح المحفوظ، أو ما نؤخر فيه ونترك فلا ننزله، والضميران الآتيان بعد عائدان على ما عاد إليه ضمير * (ننسها) * ناشيء عن الذهول عن قاعدة أن اسم الشرط لا بد في جوابه من عائد عليه وقرأ عمر وابن عباس والنخعي وأبو عمرو، وابن كثير * (ننسأها) * - بفتح نون المضارعة والسين وسكون الهمزة - وطائفة كذلك إلا أنه - بالألف من غير همز - ولم يحذفها للجازم لأن أصلها - الهمزة - من - نسأ - بمعنى أخر، والمعنى في المشهور نؤخرها في اللوح المحفوظ فلا ننزلها أو نبعدها عن الذهن بحيث لا يتذكر معناها ولا لفظها، وهو معنى ننسها فتتحد القراءتان، وقيل: ولعله ألطف: إن المعنى نؤخر إنزالها، وهو في شأن الناسخة حيث أخر ذلك مدة بقاء المنسوخة فالمأتية حينئذ عبارة عن المنسوخة كما أنه حين النسخ عبارة عن الناسخة فمعنى الآية عليه أن رفع المنسوخة بإنزال الناسخة وتأخير الناسخة بإنزال المنسوخة كل منهما يتضمن المصلحة في وقته، وقرأ الضحاك وأبو الرجاء * (ننسها) * على صيغة المعلوم للمتكلم مع الغير من التنسية، والمفعول الأول محذوف يقال: أنسانيه الله تعالى ونسانيه تنسية بمعنى أي ننس أحدا إياها، وقرى الحسن وابن يعمر (تنسها) بفتح التاء من النسيان؛ ونسبت إلى سعد بن أبي وقاص، وفرقة كذلك إلا أنهم همزوا، وأبو حيوة كذلك إلا أنه ضم التاء على أنه من الإنساء، وقرأ معبد مثله، ولم يهمز، وقرأ أبي - (ننسك) - بضم النون الأولى وكسر السين من غير همز وبكاف الخطاب. وفي مصحف سالم مولى أبي حذيفة - (ننسكها) - بإظهار المفعولين؛ وقرأ الأعمش (ما ننسك من آية أو ننسخها نجيء بمثلها) ومناسبة الآية لما قبلها أن فيه ما هو من قبيل النسخ حيث أقر الصحابة رضي الله تعالى عنهم مدة على قول راعنا واقراره صلى الله عليه وسلم على الشيء منزل منزلة الأمر به والإذن فيه، ثم إنهم نهوا عن ذلك فكان مظنة لما يحاكي ما حكي في سبب النزول، أو لأنه تعالى لما ذكر أنه ذو الفضل العظيم كاد ترفع الطغام رءوسها وتقول: إن من الفضل عدم النسخ
352

لأن النفوس إدا داومت على شيء سهل عليها فأتى سبحانه بما ينكس رءوسهم ويكسر ناموسهم ويشير إلى أن النسخ من جملة فضله العظيم وجوده العميم، أو لأنه تعالى لما أشار إلى حقية الوحي ورد كلام الكارهين له رأسا عقبه بما يبين سر النسخ الذي هو فرد من أفراد تنزيل الوحي وإبطال مقالة الطاعنين فيه فليتدبر.
* (نأت بخير منها أو مثلهآ) * أي بشيء هو خير للعباد منها أو مثلها حكما كان ذلك أو عدمه، وحيا متلوا أو غيره، والخيرية أعم من أن تكون في النفع فقط أو في الثواب فقط أو في كليهما، والمثلية خاصة بالثواب على ما أشار إليه بعض المحققين، وفصله بأن الناسخ إذا كان ناسخا للحكم سواء كان ناسخا للتلاوة أو لا بد أن يكون مشتملا على مصلحة خلا عنها الحكم السابق لما أن الأحكام إنما تنوعت للمصالح، وتبدلها منوط بتبدلها بحسب الأوقات فيكون الناسخ خيرا منه في النفع سواء كان خيرا منه في الثواب أو مثلا له أو لا ثواب فيه أصلا كما إذا كان الناسخ مشتملا على الإباحة أو عدم الحكم وإذا كان ناسخا للتلاوة فقط لا يتصور الخيرية في النفع لعدم تبدل الحكم السابق والمصلحة فهو إما خير منه في الثواب أو مثل له، وكذا الحال في الإنساء فإن المنسي إذا كان مشتملا على حكم يكون المأتي به خيرا في النفع سواء كان النفع لخلوه عن الحكم مطلقا أو لخلوه عن ذلك الحكم واشتماله على حكم يتضمن مصلحة خلا عنها الحكم المنسي مع جواز خيريته في الثواب ومماثلته أيام خلوه عنه، وإذا لم يكن مشتملا على حكم فالمأتي به بعده إما خير في الثواب أو مثل له، والحاصل أن المماثلة في النفع لا تتصور لأنه على تقدير تبدل الحكم تتبدل المصلحة فيكون خيرا منه، وعلى تقدير عدم تبدله المصلحة الأولى باقية على حالها انتهى. ثم لا يخفى أن ما تقدم من التعميم مبني على جواز النسخ بلا بدل وجواز نسخ الكتاب بالسنة - وهو المذهب المنصور - ومن الناس من منع ذلك ومنع النسخ ببدل أثقل أيضا، واحتج بظاهر الآية، أما على الأول: فلأنه لا يتصور كون المأتي به خيرا أو مثلا إلا في بدل، وأما على الثاني: فلأن الناسخ هو المأتي به بدلا وهو خير أو مثل، ويكون الآتي به هو الله تعالى، والسنة ليست خيرا ولا مثل القرآن ولا مما أتى به سبحانه وتعالى، وأما على الثالث: فلأن الأثقل ليس بخير من الأخف ولا مثلا له، ورد ذلك - أما الأول والثالث - فلأنا لا نسلم أن كون المأتي به خيرا أو مثلا لا يتصور إلا في بدل وأن الأثقل لا يكون خيرا من الأخف إذ الأحكام إنما شرعت والآيات إنما نزلت لمصالح العباد وتكميل نفوسهم فضلا منه تعالى ورحمة وذلك يختلف باختلاف الأعصار والأشخاص كالدواء الذي تعالج به الأدواء فإن النافع في عصر قد يضر في غيره والمزيل علة شخص قد يزيل علة سواه فأذن قد يكون عدم الحكم أو الأثقل أصلح في انتظام المعاش وأنظم في إصلاح المعاد والله تعالى لطيف حكيم، ولا يرد أن المتبادر من * (نأت بخير منها) * بآية خير منها وإن عدم الحكم ليس بمأتي به لما أن الخلاف في جواز النسخ بلا بدل ليس في إتيان اللفظ بدل الآية الأولى بل في الحكم كما لا يخفى على من راجع الأصول - وأما الثاني - فلأنا لا نسلم حصر الناسخ بما ذكر إذ يجوز أن يعرف النسخ بغير المأتي به فإن مضمون الآية ليس إلا أن نسخ الآية يستلزم الاتيان بما هو خير منها أو مثل لها، ولا يلزم منه أن يكون ذلك هو الناسخ فيجوز أن يكون أمرا مغايرا يحصل بعد حصول النسخ وإذا جاز ذلك فيجوز أن يكون الناسخ سنة والمأتي به الذي هو خير أو مثل آية أخرى، وأيضا السنة مما أتى به الله سبحانه لقوله تعالى: * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) * (النجم: 3، 4) وليس المراد بالخيرية والمماثلة في اللفظ حتى لا تكون السنة كذلك بل في النفع والثواب فيجوز أن يكون ما اشتملت عليه السنة خيرا في ذلك، واحتجت المعتزلة بالآية على حدوث القرآن فإن التغير المستفاد
353

من النسخ، والتفاوت المستفاد من الخرية في وقت دون آخر من روادف الحدث وتوابعه فلا يتحقق بدونه، وأجيب بأن التغير والتفاوت من عوارض ما يتعلق به الكلام النفسي القديم وهي الأفعال في الأمر والنهي والنسب الخبرية في الخبر وذلك يستدعيهما في تعلقاته دون ذاته؛ وأجاب الإمام الرازي بأن الموصوف بهما الكلام اللفظي، والقديم عندنا الكلام النفسي، واعترض بأنه مخالف لما اتفقت عليه آراء الأشاعرة من أن الحكم قديم والنسخ لا يجري إلا في الأحكام، وقرأ أبو عمرو - نات - بقلب الهمزة ألفا.
* (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) * الاستفهام قيل: للتقرير وقيل: للإنكار، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وأريد بطريق الكناية هو وأمته المسلمون وإنما أفرده لأنه صلى الله عليه وسلم أعلمهم ومبدأ علمهم، ولإفادة المبالغة مع الاختصار، وقيل: لكل واقف عليه على حد " بشر المشائين " وقيل: لمنكري النسخ، والمراد الاستشهاد بعلم المخاطب بما ذكر على قدرته تعالى على النسخ وعلى الإتيان بما هو خير أو مماثل لأن ذلك من جملة الأشياء المقهورة تحت قدرته سبحانه فمن علم شمول قدرته عز وجل على جميع الأشياء علم قدرته على ذلك قطعا، والالتفات بوضع الاسم الجليل موضع الضمير لتربية المهابة، ولأنه الاسم العلم الجامع لسائر الصفات، ففي ضمنه صفة القدرة فهو أبلغ في نسبة القدرة إليه من ضمير المتكلم المعظم، وكذا الحال في قوله عز شأنه:
* (ألم تعلم أن الله له ملك السم‍اوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير) *
* (ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض) * أي قد علمت أيها المخاطب أن الله تعالى له السلطان القاهر، والاستيلاء الباهر، المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي - إيجادا وإعداما، وأمرا ونهيا - حسبما تقتضيه مشيئته، لا معارض لأمره، ولا معقب لحكمه، فمن هذا شأنه كيف يخرج عن قدرته شيء من الأشياء؟! فيكون الكلام على هذا كالدليل لما قبله في إفادة البيان، فيكون منزلا منزلة عطف البيان من متبوعه في إفادة الإيضاح، فلذا ترك العطف وجوز أن يكون تكريرا للأول وإعادة للاستشهاد على ما ذكر، وإنما لم تعطف * (أن) * مع ما في حيزها على ما سبق من مثلها روما لزيادة التأكيد وإشعارا باستقلال العلم بكل منهما وكفاية في الوقوف على ما هو المقصود، وخص السموات والأرض - بالملك - لأنهما من أعظم المخلوقات الظاهرة، ولأن كل مخلوق لا يخلو عن أن يكون في إحدى هاتين الجهتين فكان في الاستيلاء عليهما إشارة إلى الاستيلاء على ما اشتملا عليه، وبدأ سبحانه بالتقرير على وصف القدرة لأنه منشئا لوصف الاستيلاء والسلطان، ولم يقل جل شأنه: إن لله ملك الخ قصدا إلى تقوي الحكم بتكرير الإسناد.
* (وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير) * عطف على الجملة الواقعة خبرا ل‍ (أن) داخل معها حيث دخلت، وفيه إشارة إلى تناول الخطاب فيما قبل للأمة أيضا، و * (من) * الثانية صلة فلا تتعلق بشيء، و * (من) * الأولى: لابتداء الغاية وهي متعلقة بمحذوف وقع حالا من مدخول * (من) * الثانية: - وهو في الأصل صفة له - فلما قدم انتصب على الحالية وفي " البحر " أنها متعلقة بما تعلق به * (لكم) * وهو في موضع الخبر؛ ويجوز في: (ما) أن تكون تميمية وأن تكون حجازية على رأي من يجيز تقدم خبرها إذا كان ظرفا أو مجرورا - والولي - المالك، و - النصير - المعين، والفرق بينهما أن المالك قد لا يقدر على النصرة أو قد يقدر ولا يفعل، والمعين قد يكون مالكا وقد لا يكون - بل يكون أجنبيا - والمراد من الآية الاستشهاد على تعلق إرادته تعالى بما ذكر من الإتيان بما هو خير من المنسوخ أو بمثله، فإن مجرد قدرته تعالى على ذلك لا يستدعي حصوله ألبتة، وإنما الذي يستدعيه كونه تعالى مع ذلك وليا نصيرا لهم، فمن علم أنه تعالى وليه ونصيره لا ولي ولا نصير له سواه يعلم قطعا أنه لا يفعل به إلا ما هو خير له فيفوض أمره إليه تعالى، ولا يخطر بباله ريبة في أمر النسخ وغيره أصلا.
* (أم تريدون أن تس‍الوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيم‍ان فقد ضل سوآء السبيل) *
354

* (أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) * جوز في * (أم) * هذه أن تكون متصلة، وأن تكون منقطعة، فإن قدر (تعلمون) قبل * (تريدون) * بناء على دلالة السباق وهو * (ألم تعلم) * (البقرة: 106) والسياق وهو الاقتراح فإنه لا يكون إلا عند التعنت - والعلم - بخلافه كانت متصلة، كأنه قيل: أي الأمرين من عدم العلم بما تقدم، أو العلم مع الاقتراح واقع، والاستفهام حينئذ للإنكار بمعنى لا ينبغي أن يكون شيء منهما، وإن لم يقدر كانت منقطعة للإضراب عن عدم علمهم بالسابق إلى الاستفهام عن اقتراحهم كاقتراح اليهود إنكارا عليهم بأنه لا ينبغي أن يقع أيضا وقطع بعضهم بالقطع بناء على دخول الرسول صلى الله عليه وسلم في الخطاب أو لا، وعدم دخوله فيه هنا لأنه مقترح عليه لا مقترح - وذلك مخل بالاتصال - وأجيب بأنه غير مخل به لحصوله بالنسبة إلى المقصد، وإرادة الرسول صلى الله عليه وسلم في الأول كانت لمجرد التصوير والانتقال لما قدمنا أنها بطريق الكناية، والمراد - على التقديرين - توصيته المسلمين بالثقة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وترك الاقتراح بعد رد طعن المشركين أو اليهود في - النسخ - فكأنه قيل: لا تكونوا فيما أنزل إليكم من القرآن مثل اليهود في ترك الثقة بالآيات البينة واقتراح غيرها فتضلوا وتكفروا بعد الإيمان، وفي هذه التوصية كمال المبالغة والبلاغة حتى كأنهم بصدد الإرادة فنهوا عنها - فضلا عن السؤال - يعني من شأن العاقل أن لا يتصدى لإرادة ذلك، ولم يقل سبحانه: كما سأل أمة موسى عليه السلام أو اليهود للإشارة إلى أن من سأل ذلك يستحق أن يصان اللسان عن ذكره - ولا يقتضي سابقية وقوع الاقتراح منهم - ولا يتوقف مضمون الآية عليه إذ التوصية لا تقتضي سابقية الوقوع، كيف وهو كفر - كما يدل عليه ما بعد - ولا يكاد يقع من المؤمن، ومما ذكرنا يظهر وجه ذكر هذه الآية بعد قوله تعالى: * (ما ننسخ) * (البقرة: 106) فإن المقصد من كل منهما تثبيتهم على الآيات وتوصيتهم بالثقة بها، وأما بيانه بأنه لعلهم كانوا يطلبون منه عليه الصلاة والسلام بيان تفاصيل الحكم الداعية إلى النسخ فلذا أردفت آية النسخ بذلك فأراه إلى التمني أقرب، وقد ذكر بعض المفسرين أنهم اقترحوا على الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر أن يجعل لهم ذات أنواط كما كان للمشركين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: * (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) * (الأعراف: 138) والذي نفسي بيده لتركبن سنن من قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة إن كان فيهم من أتى أمه يكون
فيكم، فلا أدري أتعبدون العجل أم لا؟ " وهو مع الحاجة إليه يستدعي أن المخاطب في الآيات هم المؤمنون، والسباق والسياق والتذييل تشهد له، وعليه يترجح الاتصال - لما نقل عن الرضى - أن الفعليتين إذا اشتركتا في الفاعل نحو أقمت أم قعدت؟ - فأم - متصلة؛ وزعم قوم أن المخاطب بها اليهود، وأن الآية نزلت فيهم حين سألوا أن ينزل عليهم كتاب من السماء جملة - كما نزلت التوراة على موسى عليه السلام - وخاطبهم بذلك بعد رد طعنهم تشديدا لهم، وحينئذ يكون المضارع الآتي بمعنى الماضي، إلا أنه عبر به عنه إحضارا للصورة الشنيعة، واختار هذا الإمام الرازي وقال: إنه الأصح لأن هذه سورة من أول قوله تعالى: * (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي) * (البقرة: 40) حكاية عن اليهود ومحاجة معهم، ولأنه جرى ذكرهم وما جرى ذكر غيرهم، ولأن المؤمن بالرسول لا يكاد يسأل ما يكون متبدلا به الكفر بالإيمان ولا يخفى ما فيه، وكأنه رحمه الله تعالى نسي قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا) * (البقرة: 104) وقيل: إن المخاطب أهل مكة، وهو قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد روي عنه أن الآية نزلت في عبد الله بن أمية ورهط من قريش قالوا: يا محمد، اجعل لنا الصفا ذهبا ووسع لنا أرض مكة، وفجر لنا الأنهار خلالها تفجيرا ونؤمن لك. وحكي في سبب النزول غير
355

ذلك، ولا مانع - كما في " البحر " - من جعل الكل أسبابا، وعلى الخلاف في المخاطبين يجيء الكلام في (رسولكم) فإن كان المؤمنين فالإضافة على ما في نفس الأمر وما أقروا به من رسالته صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا غيرهم فهي على ما في نفس الأمر دون الإقرار، و (ما) مصدرية، والمشهور أن المجرور نعت لمصدر محذوف - أي سؤالا كما - ورأى سيبويه أنه في موضع نصب على الحال، والتقدير عنده أن تسألوه أي السؤال (كما) وأجاز الحوفي أن تكون (ما) موصولة في موضع المفعول به لتسألوا أي كالأشياء التي سألها موسى عليه السلام قبل وهو الأنسب لأن الإنكار عليهم إنما هو لفساد المقترحات، وكونها في العاقبة وبالا عليهم - وفيه نظر - لأن المشبه * (أن تسألوا) * وهو مصدر، فالظاهر أن المشبه به كذلك، وقبح السؤال إنما هو لقبح المسؤول عنه، بل قد يكون السؤال نفسه قبيحا في بعض الحالات مع أن المصدرية لا تحتاج إلى تقدير رابط - فهو أولى - و * (من قبل) * متعلق بسئل وجيء به للتأكيد. وقرأ الحسن وأبو السمال (سيل) - بسين مكسورة وياء - وأبو جعفر والزهري، - باشمام السين الضم وياء - وبعضهم بتسهيل - الهمزة - بين بين - وضم السين -.
* (ومن يتبدل الكفر بالايم‍ان فقد ضل سوآء السبيل) * جملة مستقلة مشتملة على حكم كلي أخرجت مخرج المثل جيء بها لتأكيد النهي عن الاقتراح المفهوم من قوله: * (أم تريدون) * الخ معطوفة عليه، فهي تذييل له باعتبار أن المقترحين الشاكين من جملة - الضالين الطريق المستقين المتبدلين - و (سواء) بمعنى وسط أو مستوى، والإضافة من باب إضافة الوصف إلى الموصوف لقصد المبالغة في بيان قوة الاتصاف كأنه نفس - السواء - على منهاج حصول الصورة في الصورة الحاصلة - والفاء - رابطة وما بعدها لا يصح أن يكون جزاء الشرط لأن ضلال الطريق المستقيم متقدم على - الاستبدال - والارتداد لا يترتب عليه، ولأن الجزاء إذا كان ماضيا مع (قد) كان باقيا على مضيه لأن (قد) للتحقيق، وما تأكد ورسخ لا ينقلب، ولا يترتب الماضي على المستقبل، ولأن كون الشرط مضارعا والجزاء ماضيا صورة ضعيف لم يأت في الكتاب العزيز - على ما صرح به الرضي وغيره - فلا بد من التقدير بأن يقال: ومن يتبدل الكفر بالإيمان فالسبب فيه أنه تركه، ويؤل المعنى إلى أن ضلال الطريق المستقيم - وهو الكفر الصريح في الآيات - سبب للتبديل والارتداد، وفسر بعضهم - التبدل - المذكور بترك الثقة بالآيات باعتبار كونه لازما له فيكون كناية عنه، وحاصل الآية حينئذ ومن يترك الثقة بالآيات البينة المنزلة بحسب المصالح التي من جملتها الآيات الناسخة التي هي خير محض، وحق بحت واقترح غيرها فقد عدل وجار من حيث لا يدري عن الطريق المستقيم الموصل إلى معالم الحق والهدى، وتاه في تيه الهوى، وتردى في مهاوي الردى، واختار ما في النظم الكريم إيذانا من أول الأمر على أبلغ وجه بأن ذلك كفر وارتداد، ولعل ما أشرنا إليه أولى كما لا يخفى على المتدبر، وقرىء * (ومن يبدل) * من - أبدل - وإدغام - الدال في الضاد - والإظهار قراءتان مشهورتان.
* (ود كثير من أهل الكت‍ابلو يردونكم من بعد إيم‍انكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتى الله بأمره إن الله على كل شىء قدير) *
* (ود كثير من أهل الكت‍اب) * وهم طائفة من أحبار اليهود قالوا للمسلمين بعد وقعة أحد: ألم تروا إلى ما أصابكم، ولو كنتم على الحق لما هزمتم، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم، رواه الواحدي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه. وروي أن فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس ونفرا من اليهود قالوا ذلك لحذيفة رضي الله تعالى عنه من حديث طويل، ذكر الحافظ ابن حجر أنه لم يوجد في شيء من كتب الحديث.
* (لو يردونكم) * حكاية لودادتهم، وقد تقدم الكلام على (لو) هذه فأغنى عن الإعادة * (من بعد إيم‍انكم كفارا) * أي مرتدين، وهو حال من ضمير
356

المخاطبين يفيد مقارنة الكفر بالرد فيؤذن بأن الكفر يحصل بمجرد الارتداد مع قطع النظر إلى ما يرد إليه، ولذا لم يقل - لو يردونكم - إلى الكفر، وجوز أن يكون حالا من فاعل (ود) واختار بعضهم أنه مفعول ثان - ليردونكم - على تضمين الرد معنى التصيير إذ منهم من لم يكفر حتى يرد إليه فحيتاج إلى التغليب كما في * (لتعودن في ملتنا) * (الأعراف: 88) على أن في ذلك يكون الكفر المفروض بطريق القسر وهو أدخل في الشناعة، وفي قوله تعالى: * (من بعد) * مع أن الظاهر - عن - لأن الرد يستعمل بها تنصيص بحصول الإيمان لهم، وقيل: أورد متوسطا لإظهار كمال فظاعة ما أرادوه وغاية بعده عن الوقوع إما لزيادة قبحه الصاد للعاقل عن مباشرته، وإما لممانعة الإيمان له كأنه قيل: من بعده إيمانكم الراسخ، وفيه من تثبيت المؤمنين ما لا يخفي.
* (حسدا) * علة - لود - لا - ليردونكم - لأنهم يودون ارتدادهم مطلقا لا ارتدادهم المعلل بالحسد، وجوزوا أن يكون مصدرا منصوبا على الحال أي حاسدين ولم يجمع لأنه مصدر، وفيه ضعف لأن جعل المصدر حالا - كما قال أبو حيان - لا ينقاس. وقيل: يجوز أن يكون منصوبا على المصدر والعامل فيه محذوف يدل عليه
المعنى أي حسدوكم حسدا وهو كما ترى.
* (من عند أنفسهم) * متعلق بمحذوف وقع صفة إما للحسد أي حسدا كائنا من أصل نفوسهم فكأنه ذاتي لها، وفيه إشارة إلى أن بلغ مبلغا متناهيا، وهذا يؤكد أمر التنوين إذا جعل للتكثير أو التعظيم، وإما للوداد المفهوم من (ود) أي ودادا كائنا من عند أنفسهم وتشهيهم لا من قبل التدبر والميل إلى الحق، وجعله ظرفا لغوا معمولا - لود - أو (حسدا) كما نقل عن مكي يبعده أنهما لا يستعملان بكلمة (من) كما قاله ابن الشجري.
* (من بعد ما تبين لهم الحق) * بالنعوت المذكورة في التوراة والمعجزات وهذا كالدليل على تخصيص الكثير بالأحبار لأن التبين بذلك إنما كان لهم لا للجهال، ولعل من قال: إن الودادة من عوامهم أيضا لئلا يبطل دينهم الذي ورثوه وتبطل رياسة أحبارهم الذين اعتقدوهم واتخذوهم رؤساء، فالمراد من الكثير جميعهم من كفارهم ومنافقيهم ويكون ذكره لإخراج من آمن منهم سرا وعلانية يدعي أن التبين حصل للجميع أيضا إلا أن أسبابه مختلفة متفاوتة وهذا هو الذي يغلب على الظن فإن من شاهد هاتيك المعجزات الباهرة والآيات الزاهرة يبعد منه كيفما كان عدم تبين الحق ومعرفة مطالع الصدق إلا أن الحظوظ النفسانية والشهوات الدنية والتسويلات الشيطانية حجبت من حجبت عن الإيمان وقيدت من قيدت في الخذلان.
* (فاعفوا واصفحوا) * العفو ترك عقوبة المذنب، والصفح ترك التثريب والتأنيب وهو أبلغ من العفو إذ قد يعفو الإنسان ولا يصفح، ولعله مأخوذ من تولية صفحة الوجه إعراضا أو من تصفحت الورقة إذا تجاوزت عما فيها. وآثر العفو على الصبر على أذاهم إيذانا بتمكين المؤمنين ترهيبا للكافرين.
* (حتى يأتي الله بأمره) * هو واحد الأوامر؛ والمراد به الأمر بالقتال بقوله سبحانه: * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) * إلى * (وهم صاغرون) * (التوبة: 29) أو الأمر بقتل قريظة وإجلاء بني النضير، وقيل: واحد الأمور، والمراد به القيامة أو المجازاة يومها أو قوة الرسالة وكثرة الأمة، ومن الناس من فسر الصفح بالاعراض عنهم وترك مخالطتهم وجعل غاية العفو إتيان آية القتال وغاية الإعراض إتيان الله تعالى أمره، وفسره بإسلام من أسلم منهم - كما قاله الكلبي - وليس بشيء لأنه يستلزم أن يحمل الأمر على واحد الأوامر وواحد الأمور، وهو عند المحققين جمع بين الحقيقة والمجاز، وعن قتادة والسدي، وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن الآية منسوخة بآية السيف، واستشكل
357

ذلك بأن النسخ لكونه بيانا لمدة الانتهاء بالنسبة إلى الشارع ودفعا للتأبيد الظاهري من الإطلاق بالنسبة إلينا يقتضي أن يكون الحكم المنسوخ خاليا عن التوقيت والتأبيد فإنه لو كان مؤقتا كان الناسخ بيانا له بالنسبة إلينا أيضا ولو كان مؤبدا كان بدءا لا بيانا بالنسبة إلى الشارع والأمر ههنا مؤقت بالغاية وكونها غير معلومة يقتضي أن تكون آية القتال بيانا لإجماله وبذلك تبين ضعف ما أجاب به الإمام الرازي وتبعه فيه كثيرون من أن الغاية التي يتعلق بها الأمر إذا كانت لا تعلم إلا شرعا لم يخرج الوارد من أن يكون ناسخا ويحل محل * (فاعفوا واصفحوا) * إلى أن أنسخه لكم فليس هذا مثل قوله تعالى: * (ثم أتموا الصيام إلى الليل) * (البقرة: 187) وأما تأييد الطيبي له بحكم التوراة والإنجيل لأنه ذكر فيهما انتهاء مدة الحكم بهما بإرسال النبي الأمي بنحو قوله تعالى: * (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل) * (الأعراف: 157) وكان ظهوره صلى الله عليه وسلم نسخا فيرد عليه ما في " التلويح " من أن الواقع فيهما البشارة بشرع النبي صلى الله عليه وسلم، وإيجاب الرجوع إليه وذلك لا يقتضي توقيت الأحكام لاحتمال أن يكون الرجوع إليه باعتبار كونه مفسرا أو مقررا أو مبدلا للبعض دون البعض فمن أين يلزم التوقيت بل هي مطلقة يفهم منها التأبيد فتبديلها يكون نسخا؛ وأجيب عن الاستشكال بأنه لا يبعد أن يقال: إن القائلين بالنسخ أرادوا به البيان مجازا أو يقال: لعلهم فسروا الغاية باماتتهم أو بقيام الساعة، والتأبيد إنما ينافي إطلاق الحكم إذا كان غاية للوجوب، وأما إذا كان غاية للواجب فلا، ويجري فيه النسخ عند الجمهور قاله مولانا الساليكوتي إلا أن الظاهر لا يساعده فتدبر.
* (إن الله على كل شيء قدير) * تذييل مؤكد لما فيهم من سابقه، وفيه إشعار بالانتقام من الكفار ووعد للمؤمنين بالنصرة والتمكين، ويحتمل على بعد أن يكون ذكرا لموجب قبول أمره بالعفو والصفح وتهديدا لمن يخالف أمره.
* (وأقيموا الصلواة وءاتوا الزكواة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير) *
* (وأقيموا الصلواة وءاتوا الزكواة) * عطف على * (فاعفوا) * (البقرة: 109) كأنه سبحانه أمرهم بالمخالقة والالتجاء إليه تعالى بالعبادة البدنية والمالية لأنها تدفع عنهم ما يكروهون، وقول الطبري: إنهم أمروا هنا بالصلاة والزكاة ليحبط ما تقدم من ميلهم إلى قول اليهود * (راعنا) * (البقرة: 104) منحط عن درجة الاعتبار.
* (وما تقدموا لأنفسكم من خير) * أي أي خير كان، وفي ذلك توكيد للأمر بالعفو والصفح، والصلاة والزكاة، وترغيب إليه، واللام نفعية، وتخصيص الخير بالصلاة، والصدقة خلاف الظاهر، وقرىء (تقدموا) من قدم من السفر، وأقدمه غيره جعله قادما، وهي قريب من الأولى لا من الإقدام ضد الإحجام.
* (تجدوه عند الله) * أي تجدوا ثوابه لديه سبحانه فالكلام على حذف مضاف، وقيل: الظاهر أن المراد تجدوه في علم الله تعالى، والله تعالى عالم به إلا أنه بالغ في كمال علمه فجعل ثبوته في علمه بمنزلة ثبوت نفسه عنده وقد أكد تلك المبالغة بقوله سبحانه: * (إن الله بما تعملون بصير) * حيث جعل جميع ما يعملون مبصرا له تعالى فعبر عن علمه تعالى بالبصر مع أن قليلا مما يعملون من المبصرات، وكأنه لهذا فسر الزمخشري البصير بالعالم، وأما قول العلامة إنه إشارة إلى نفي الصفات، وأنه ليس معنى السمع والبصر في حقه تعالى إلا تعلق ذاته بالمعلومات ففيه أن التفسير لا يفيد إلا أن المراد من البصير ههنا العالم ولا دلالة على كونه نفس الذات أو زائدا عليه ولا على أن ليس معنى السمع والبصر في حقه تعالى سوى التعلق المذكور، وقرىء (يعملون) بالياء والضمير
358

حينئذ كناية عن كثير، أو عن أهل الكتاب فيكون تذييلا لقوله تعالى: * (فاعفوا) * (البقرة: 109) الخ مؤكدا لمضمون الغاية، والمناسب أن يكون وعيدا لأولئك ليكون تسلية، وتوطينا للمؤمنين بالعفو والصفح، وإزالة لاستبطاء إتيان الأمر، وجوز أن يكون كناية عن المؤمنين المخاطبين بالخطابات المتقدمة، والكلام وعيد للمؤمنين، ويستفاد من الالتفات الواقع من صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة؛ وهو النكتة الخاصة بهذا الالتفات ولا يخفى أنه كلام لا ينبغي أن يلتفت إليه.
* (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نص‍ارى تلك أمانيهم قل هاتوا بره‍انكم إن كنتم ص‍ادقين) *
* (وقالوا لن يدخل التجنة إلا من كان هودا أو نص‍ارى) * عطف على * (ود) * (البقرة: 109) وما بينهما أعني * (فاعفوا واصفحوا) * (البقرة: 109) إما اعتراض بالفاء أو عطف على * (ود) * أيضا، وعطف الإنشاء على الأخبار فيما لا محل له من الإعراب بما سوى الواو جائز، والضمير - لأهل الكتاب - لا - لكثير منهم - كما يتبادر من العطف، والمراد بهم اليهود والنصارى جميعا، وكأن أصل الكلام - قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى - فلف بين هذين المقولين، وجعلا مقولا واحدا اختصارا وثقة بفهم السامع أن ليس المقصد أن كل واحد من الفريقين يقول هذا القول المردد، وللعلم بتضليل كل واحد منهما صاحبه بل المقصد تقسيم القول المذكور بالنسبة إليهم فكلمه (أو) كما في " مغني اللبيب " للتفصيل والتقسيم لا للترديد فلا غبار - وهود - جمع هائد كعوذ جمع عائذ، وقيل: مصدر يستوي فيه الواحد وغير، وقيل: إنه مخفف يهود بحذف الياء وهو ضعيف، وعلى القول بالجمعية يكون اسم (كان) مفردا عائدا على (من) باعتبار لفظها، وجمع الخبر باعتبار معناها، وهو كثير في الكلام خلافا لمن منعه، ومنه قوله: وأيقظ من كان منكم نياما
وقرأ أبي (يهوديا أو نصرانيا) فحمل الخبر والاسم معا على اللفظ.
* (تلك أمانيهم) * الأماني جمع أمنية وهي ما يتمنى - كالأضحوكة والأعجوبة - والجملة معترضة بين قولهم ذلك؛ وطلب الدليل على صحة دعواهم و * (تلك) * إشارة إلى * (لن يدخل الجنة) * الخ، وجمع الخبر مع أن ما أشير إليه أمنية واحدة ليدل على تردد الأمنية في نفوسهم وتكررها فيها، وقيل: إشعارا بأنها بلغت كل مبلغ لأن الجمع يفيد زيادة الآحاد فيستعمل لمطلق الزيادة وهذا من بديع المجاز ونفائس البيان؛ وقيل: لا حاجة إلى هذا كله بل الجمع لأن (تلك) محتوية على أمان - أن لا يدخل الجنة إلا اليهود، وأن لا يدخل الجنة إلا النصارى - وحرمان المسلمين منها، وأيضا فقائله متعدد وهو باعتبار كل قائل أمنية وباعتبار الجميع أمان كثيرة، ومن الناس من جعلها إشارة إلى أن - لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، وأن يردوهم كفارا، وأن لا يدخل الجنة غيرهم - وعليه يكون أمانيهم تغليبا لأن الأولين من قبيل المتمنيات حقيقة؛ والثالث دعوى باطلة، وجوز أيضا أن تكون إشارة إلى ما في الآية على حذف المضاف أي أمثال تلك الأمنية أمانيهم فإن جعل الأماني بمعنى الأكاذيب، فإطلاق الأمنية على دعواهم على سبيل الحقيقة، وإن جعل بمعنى المتمنيات فعلى الاستعارة تشبيها بالمتمني في الاستحالة، ولا يخفى ما في الوجهين من البعد لا سيما أولهما لأن كل جملة ذكر فيها - ودهم - لشيء قد انفصلت وكملت واستقلت في النزول فيبعد جدا أن يشار إليها.
* (قل هاتوا بره‍انكم) * أي على ما ادعيتموه من اختصاصكم بدخول الجنة فهو متصل معنى بقوله تعالى: * (قالوا لن يدخل) * الخ على أنه جواب له لا غير، و * (هاتوا) * بمعنى أحضروا والهاء أصلية لا بدل من همزة - آتوا - ولا للتنبيه وهي فعل أمر خلافا لمن زعم أنها اسم فعل أو صوت بمنزلة - ها - وفي مجيء الماضي والمضارع والمصدر من هذه المادة خلاف؛ وأثبت أبو حيان - هاتي يهاتي مهاتاة - والبرهان الدليل على صحة الدعوى، قيل: هو مأخوذ من البره
359

وهو القطع فتكون النون زائدة، وقيل: من البرهنة وهو البيان فتكون النون أصلية لفقدان فعلن ووجود فعلل ويبنى على هذا الاشتقاق الخلاف في - برهان - إذا سمي به هل ينصرف أولا؟
* (إن كنتم ص‍ادقين) * جواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله ومتعلق الصدق دعواهم السابق لا - الإيمان - ولا - الأماني - كما قيل، وأفهم التعليق أنه لا بد من البرهان للصادق ليثبت دعواه، وعلل بأن كل قول لا دليل عليه غير ثابت عند الخصم فلا يعتد به، ولذا قيل: من ادعى شيئا بلا شاهد لا بد أن تبطل دعواه، وليس في الآية دليل على منع التقليد فإن دليل المقلد دليله كما لا يخفى، وتفسير الصدق هنا بالصلاح مما لا يدعو إليه سوى فساد الذهن.
* (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *
* (بلى) * رد لقولهم الذي زعموه وإثبات لما تضمنه من نفي دخول غيرهم الجنة. والقول بأنه رد لما أشار إليه * (قل هاتوا برهانكم) * (البقرة: 111) من نفي أن يكون لهم برهان مما لا وجه له ولا برهان عليه * (من أسلم وجهه لله) * أي انقاد لما قضى الله تعالى وقدر، أو أخلص له نفسه أو قصده فلم يشرك به تعالى غيره، أو لم يقصد سواه فالوجه إما مستعار للذات وتخصيصه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء ومعدن الحواس وإما مجاز عن القصد لأن القاصد للشيء مواجه له * (وهو محسن) * حال من ضمير * (أسلم) * أي والحال إنه محسن في جميع أعماله، وإذا أريد بما تقدم الشرك يؤول المعنى إلى: (آمن وعمل الصالحات) وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان بقوله: " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " * (فله أجره) * أي الذي وعد له على ذلك لا الذي يستوجبه كما قاله الزمخشري رعاية لمذهب الاعتزال، والتعبير عما وعد بالأجر إيذانا بقوة ارتباطه بالعمل * (عند ربه) * حال من أجره والعامل فيه معنى الاستقرار، والعندية للتشريف، والمراد عدم الضياع والنقصان، وأتى - بالرب - مضافا إلى ضمير * (من أسلم) * إظهارا لمزيد اللطف به وتقريرا لمضمون الجملة، والجملة جواب * (من) * إن كانت شرطية وخبرها إن كانت موصولة والفاء فيها لتضمنها معنى الشرط، وعلى التقديرين يكون الرد ب (- لى) وحده وما بعده كلام مستأنف كأنه قيل: إذا بطل ما زعموه فما الحق في ذلك، وجوز أن تكون (من) موصولة فاعل ليدخلها محذوفا، و (بلى) مع ما بعدها رد لقولهم، ويكون * (فله أجره) * معطوفا على ذلك المحذوف عطف الاسمية على الفعلية لأن المراد بالأولى التجدد، وبالثانية الثبوت، وقد نص السكاكي بأن الجملتين إذا اختلفتا تجددا وثبوتا يراعى جانت المعنى
فيتعاطفان * (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * تقدم مثله والجمع في الضمائر الثلاثة باعتبار معنى (من) كما أن الإفراد في الضمائر الأول باعتبار اللفظ، ويجوز في مثل هذا العكس إلا أن الأفصح أن يبدأ بالحمل على اللفظ ثم بالحمل على المعنى لتقدم اللفظ عليه في الإفهام.
* (وقالت اليهود ليست النص‍ارى على شىء وقالت النص‍ارى ليست اليهود على شىء وهم يتلون الكت‍ابكذالك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القي‍امة فيما كانوا فيه يختلفون) *
* (وقالت اليهود ليست النص‍ارى على شيء وقالت النص‍ارى ليست اليهود على شيء) * المراد يهود المدينة ووفد نصارى نجران تماروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسابوا وأنكرت اليهود الإنجيل ونبوة عيسى عليه السلام وأنكر النصارى التوراة ونبوة موسى عليه السلام فأل في الموضعين للعهد وقيل: المراد عامة اليهود وعامة النصارى وهو من الإخبار عن الأمم السالفة، وفيه تقريع لمن بحضرته صلى الله عليه وسلم وتسلية له عليه الصلاة والسلام إذ كذبوا بالرسل والكتب قبله فأل في الموضعين للجنس، والأول: هو المروي في أسباب النزول، وعليه يحتمل أن يكون القائل كل واحد من آحاد الطائفتين وهو الظاهر، ويحتمل أن يكون
360

المراد بذلك رجلين رجل من اليهود يقال له نافع بن حرملة ورجل من نصارى نجران ونسبة ذلك للجميع حيث وقع من بعضهم وهي طريقة معروفة عند العرب في نظمها ونثرها وهذا بيان لتضليل كل فريق صاحبه بخصوصه إثر بيان تضليله كل من عداه على وجه العموم، و * (على شيء) * خبر ليس، وهو عند بعض من باب حذف الصفة أي شيء بعتد به في الدين لأنه من المعلوم أن كلا منهما على شيء، والأولى عدم اعتبار الحذف، وفي ذلك مبالغة عظيمة لأن الشيء - كما يشير إليه كلام سيبويه - ما يصح أن يعلم ويخبر عنه فإذا نفى مطلقا كان ذلك مبالغة في عدم الاعتداد بما هم عليه وصار كقولهم - أقل من لا شيء - * (وهم يتلون الكت‍اب) * حال من الفريقين بجعلهما فاعل فعل واحد لئلا يلزم إعمال عاملين في معمول واحد أي قالوا ذلك وهم عالمون بما في كتبهم الناطقة بخلاف ما يقولون، وفي ذلك توبيخ لهم وإرشاد للمؤمنين إلى أن من كان عالما بالقرآن لا ينبغي أن يقول خلاف ما تضمنه، والمراد من الكتاب الجنس فيصدق على التوراة والإنجيل، وقيل: المراد به التوراة لأن النصارى تمتثلها أيضا.
* (كذلك قال الذين لا يعلمون) * وهم مشركو العرب في قول الجمهور، وقيل: مشركو قريش، وقيل: هم أمم كانوا قبل اليهود والنصارى، وأما القول بأنهم اليهود وأعيد قولهم مثل قول النصارى ونفى عنهم العلم حيث لم ينتفعوا به فالظاهر أنه قول: * (الذين لا يعلمون) * والكاف من * (كذلك) * في موضع نصب على أنه نعت لمصدر محذوف منصوب ب (قال) مقدم عليه أي قولا مثل قول اليهود والنصارى * (قال الذين لا يعلمون) * ويكون * (مثل قولهم) * على هذا منصوبا ب * (يعلمون) * والقول بمعنى الاعتقاد، أو بقال على أنه مفعول به أو بدل من محل الكاف، وقيل: * (كذلك) * مفعول به و * (مثل) * مفعول مطلق، والمقصود تشبيه المقول بالمقول في المؤدي والمحصول، وتشبيه القول بالقول في الصدور عن مجرد التشهي والهوى والعصبية، وجوزوا أن تكون الكاف في موضع رفع بالابتداء والجملة بعده خبره والعائد محذوف أي قاله، و * (مثل) * صفة مصدر محذوف، أو مفعول * (يعلمون) * ولا يجوز أن يكون مفعول (قال) لأنه قد استوفى مفعوله، واعترض هذا بأن حذف العائد - على المبتدأ الذي لو قدر خلو الفعل عن الضمير لنصبه - مما خصه الكثير بالضرورة ومثلوا له بقوله: وخالد يحمد ساداتنا * بالحق (لا تحمد) بالباطل
وقيل: عليه وعلى ما قبله أن استعمال الكاف اسما وإن جوزه الأخفش إلا أن جماعة خصوه بضرورة الشعر مع أنه قد يؤل ما ورد منه فيه على أنه لا يخفى ما في توجيه التشبيهين دفعا لتوهم اللغوية من التكلف والخروج عن الظاهر، ولعل الأولى أن يجعل * (مثل قولهم) * إعادة لقوله تعالى: * (كذلك) * للتأكيد والتقرير كما في قوله تعالى: * (جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه) * (يوسف: 75) وبه قال بعض المحققين، وقد يقال: إن كذلك ليست للتشبيه هنا بل لإفادة أن هذا الأمر عظيم مقرر، وقد نقل الوزير عاصم بن أيوب في شرح قول زهير: (كذلك) خيمهم ولكل قوم * إذا مستهم الضراء خيم
عن الإمام الجرجاني إن * (كذلك) * تأتي للتثبيت إما لخبر مقدم وإما لخبر متأخر وهي نقيض كلا لأن كلا تنفي وكذلك تثبت ومثله * (كذلك نسلكه في قلوب المجرمين) * (الحجر: 12) وفي " شرح المفتاح " الشريفي إنه ليس المقصود من التشبيهات هي المعاني الوضعية فقط إذ تشبيهات البلغاء قلما تخلو من مجازات وكنايات فنقول: إنا رأيناهم يستعملون كذا وكذا للاستمرار تارة نحو عدل زيد في قضية فلان كذا وهكذا أي عدل مستمر، وقال الحماسي:
361

(هكذا) يذهب الزمان ويفنى ال‍ * - علم فيه ويدرس الأثر
نص عليه التبريزي في " شرح الحماسة " وله شواهد كثيرة، وقال في شرح قول أبي تمام: كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر
إنه للتهويل والتعظيم وهو في صدر القصيدة لم يسبق ما يشبه به، وسيأتي لذلك تتمة إن شاء الله تعالى، وإنما جعل قول أولئك مشبها به لأنه أقبح إذ الباطل من العالم أقبح منه من الجاهل، وبعضهم يجعل التشبيه على حد * (إنما البيع مثل الربا) * (البقرة: 275) وفيه من المبالغة والتوبيخ على التشبه بالجهال ما لا يخفى وإنما وبخوا، وقد صدقوا إذ كلا الدينين بعد النسخ ليس بشيء لأنهم لم يقصدوا ذلك وإما قصد كل فريق إبطال دين الآخر من أصله والكفر بنبيه وكتابه على أنه لا يصح الحكم بأن كلا الدينين بعد النسخ ليس بشيء يعتد به لأن المتبادر منه أن لا يكون كذلك في حد ذاته وما لا ينسخ منهما حق واجب القبول والعمل فيكون شيئا معتدا به في حد ذاته وإن يكن شيئا بالنسبة إليهم لأنه لا انتفاع بما لم ينسخ مع الكفر بالناسخ.
* (فالله يحكم بينهم يوم القي‍امة فيما كانوا فيه يختلفون) * أي بين اليهود والنصارى لا بين الطوائف الثلاثة لأن مساق النظم لبيان حال تينك الطائفتين والتعرض لمقالة غيرهم لإظهار كمال بطلان مقالهم والحكم الفصل والقضاء وهو يستدعي جارين فيقال: حكم القاضي في هذه الحادثة بكذا، وقد حذف هنا أحدهما اختصارا وتفخيما لشأنه
أي بما يقسم لكل فريق ما يليق به من العذاب، والمتبادر من الحكم بين فريقين أن يحكم لأحدهما بحق دون الآخر فكأن استعماله بما ذكر مجاز، وقال الحسن: المراد بالحكم بين هذين الفريقين تكذيبهم وإدخالهم النار وفي ذلك تشريك في حكم واحد وهو بعيد عن حقيقة الحكم، و * (يوم) * متعلق ب * (يحكم) * وكذا ما بعده ولا ضير لاختلاف المعنى، وفيه متعلق ب * (يختلفون) * لا ب * (كانوا) * وقدم عليه للمحافظة على رؤوس الآي.
ومن باب الإشارة في الآيات: * (ما ننسخ من آية) * (البقرة: 106) أي ما نزيل من صفاتك شيئا عن ديوان قلبك أو نخفيه بإشراق أنوارنا عليه إلا ونرقم فيه من صفاتنا التي لا تظن قابليتك لما يشاركها في الاسم والتي تظن وجود ما لا يشاركها فيك * (ألم تعلم أن الله له ملك) * (البقرة: 107) عالم الأرواح وأرض الأجساد وهو المتصرف فيهما بيد قدرته بل العوالم على اختلافها ظاهر شؤون ذاته ومظهر أسمائه وصفاته فلم يبق شيء غيره ينصركم ويليكم * (أم تريدون أن تسألوا) * رسول العقل من اللذات الدنية والشهوات الدنيوية * (كما سئل موسى) * القلب * (من قبل ومن يتبدل) * (البقرة: 108) الظلمة بالنور فقد ضل الطريق المستقيم وقالت اليهود لن يدخل الجنة المعهودة عندهم وهي جنة الظاهر وعالم الملك التي هي جنة الأفعال وجنة النفس * (إلا من كان هودا) * وقالت النصارى لن يدخل الجنة المعهودة عندهم وهي جنة الباطن وعالم الملكوت التي هي جنة الصفات وجنة القلب إلا من كان نصرانيا، ولهذا قال عيسى عليه السلام: لن يلج ملكوت السموات من لم يولد مرتين * (تلك أمانيهم) * أي غاية مطالبهم التي وقفوا على حدها واحتجبوا بها عما فوقها * (قل هاتوا) * دليلكم الدال على نفي دخول غيركم * (إن كنتم صادقين) * (البقرة: 111) في دعواكم بل الدليل دل على نقيض مدعاكم فإن * (من أسلم وجهه) * وخلص ذاته من جميع لوازمها وعوارضها لله تعالى بالتوحيد الذاتي عند المحو الكلي وهو مستقيم في أحواله بالبقاء بعد الفناء مشاهد ربه في أعماله راجع من الشهود الذاتي إلى مقام الإحسان الصفاتي الذي هو المشاهدة للوجود الحقاني * (فله أجره عند ربه) * (البقرة: 112) أي ما ذكرتم من الجنة وأصفى لاختصاصه بمقام العندية التي حجبتم عنها ولهم زيادة على ذلك هي عدم خوفهم من احتجاب الذات وعدم حزنهم على ما فاتهم من جنة الأفعال والصفات التي حجبتم بالوقوف عندها * (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء) * لاحتجابهم بالباطن عن الظاهر * (وقالت النصارى ليست
362

اليهود على شيء) * لاحتجابهم عن الباطن بالظاهر * (وهم يتلون الكتاب) * وفيه ما يرشدهم إلى رفع الحجاب ورؤية حقية كل مذهب في مرتبته * (كذلك قال الذين لا يعلمون) * المراتب * (مثل قولهم) * فخطأ كل فرقة منهم الفرقة الأخرى ولم يميزوا بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية ولم يعرفوا وجه الحق في كل مرتبة من مراتب الوجود * (فالله) * تعالى الجامع لجميع الصفات على اختلاف مراتبها وتفاوت درجاتها * (يحكم بينهم) * بالحق في اختلافاتهم * (يوم) * قيام * (القيامة) * (البقرة: 113) الكبرى وظهور الوحدة الذاتية وتجلي الرب بصور المعتقدات حتى ينكرونه فلا يسجد له إلا من لم يقيده سبحانه حتى بقيد الإطلاق.
* (ومن أظلم ممن منع مس‍اجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى فى خرابهآ أول‍ائك ما كان لهم أن يدخلوهآ إلا خآئفين لهم فى الدنيا خزى ولهم فى الاخرة عذاب عظيم) *
* (ومن أظلم ممن منع مس‍اجد الله) * نزلت في طيطوس بن إسيانوس الرومي وأصحابه وذلك أنهم غزوا بني إسرائيل فقتلوا مقاتليهم وسبوا ذراريهم وحرقوا التوراة وخربوا بيت المقدس وقذفوا فيه الجيف وذبحوا فيه الخنازير وبقي خرابا إلى أن بناه المسلمون في أيام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في مشركي العرب منعوا المسلمين من ذكر الله تعالى في المسجد الحرام، وعلى الأول: تكون الآية معطوفة على قوله تعالى: * (وقالت النصارى) * (البقرة: 113) عطف قصة على قصة تقريرا لقبائحهم، وعلى الثاني: تكون اعتراضا بأكثر من جملة بين المعطوف أعني * (قالوا اتخذوا) * (البقرة: 116) والمعطوف عليه أعني * (قالت اليهود) * (البقرة: 113) لبيان حال المشركين الذين جرى ذكرهم بيانا لكمال شناعة أهل الكتاب فإن المشركين الذين يضاهونهم إذا كانوا أظلم الكفرة، وظاهر الآية العموم في كل مانع وفي كل مسجد وخصوص السبب لا يمنعه، و * (أظلم) * أفعل تفضيل خبر عن (من) ولا يراد بالاستفهام حقيقته وإنما هو بمعنى النفي فيؤول إلى الخبر أي لا أحد أظلم من ذلك واستشكل بأن هذا التركيب قد تقرر في القرآن ك‍ * (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها) * (السجدة: 22) * (أظلم ممن افترى على الله كذبا) * (الأنعام: 144) * (فمن أظلم ممن كذب بآيات الله) * (الأنعام: 157) إلى غير ذلك فإذا كان المعنى على هذا لزم التناقض، وأجيب بالتخصيص إما بما يفهم من نفس الصلات أو بالنسبة إلى من جاء بعد من ذلك النوع ويؤول معناه إلى السبق في المانعية أو الافترائية مثلا، واعترض بأن ذلك بعد عن مدلول الكلام ووضعه العربي وعجمة في اللسان يتبعها استعجام المعنى، فالأولى أن يجاب بأن ذلك لا يدل على نفي التسوية في الأظلمية وقصارى ما يفهم من الآيات أظلمية أولئك المذكورين فيها ممن عداهم كما أنك إذا قلت لا أحد أفقه من زيد وعمرو وخالد لا يدل على أكثر من نفي أن يكون أحد أفقه منهم، وإما أنه يدل على أن أحدهم أفقه من الآخر فلا، ولا يرد أن من منع مساجد الله مثلا ولا يفتر على الله كذبا أقل ظلما ممن جمع بينهما فلا يكون مساويا في الأظلمية لأن هذه الآيات إنما هي في الكفار وهم متساوون فيها إذ الكفر شيء واحد لا يمكن فيه الزيادة بالنسبة لأفراد من اتصف به وإنما تمكن بالنسبة لهم ولعصاة المؤمنين بجامع ما اشتركوا فيه من المخالفة قاله أبو حيان، ولا يخفى ما فيه. وقد قال غير واحد إن قولك: من أظلم ممن فعل كذا إنكار لأن يكون أحد أظلم منه أو مساويا له وإن لم يكن سبك التركيب متعرضا لإنكار المساواة ونفيها إلا أن العرف الفاشي والاستعمال المطرد يشهد له فإنه إذا قيل من أكرم من فلان أو لا أفضل من فلان فالمراد به حتما أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل فلعل الأولى الرجوع إلى أحد الجوابين مع ملاحظة الحيثية وإن جعلت ذلك الكلام مخرجا مخرج المبالغة في التهديد والزجر مع قطع النظر عن نفي المساواة أو الزيادة في نفس الأمر كما قيل به محكما العرف أيضا زال الإشكال وارتفع القيل والقال فتدبر
* (أن يذكر فيها اسمه) * مفعول ثان لمنع أو مفعول من أجله بمعنى
363

منعها كراهية أن يذكر أو بدل اشتمال من (مساجد) والمفعول الثاني إذن مقدر أي عمارتها أو العبادة فيها أو نحوه أو الناس مساجد الله تعالى أو لا تقدير؛ والفعل متعد
لواحد وكنى بذكر اسم الله تعالى عما يوقع في المساجد من الصلوات والتقربات إلى الله تعالى بالأفعال القلبية والقالبية المأذون بفعلها فيها.
* (وسعى في خرابها) * أي هدمها وتعطيلها، وقال الواحدي: إنه عطف تفسير لأن عمارتها بالعبادة فيها * (أول‍ائك) * الظالمون المانعون الساعون في خرابها. * (ما كان لهم أن يدخلوهآ إلا خائفين) * - اللام - في * (لهم) * إما للاختصاص - على وجه اللياقة - كما في الجل للفرس، والمراد من - الخوف - الخوف من الله تعالى، وإما للاستحقاق كما في - الجنة للمؤمن - والمراد من - الخوف - الخوف من المؤمنين، وإما لمجرد الارتباط بالحصول، أي: ما كان لهم في علم الله تعالى وقضائه أن يدخلوها فيما سيجىء إلا خائفين والجملة على الأول: مستأنفة جواب لسؤال نشأ من قوله تعالى: * (وسعى في خرابها) * كأنه قيل: فما اللائق بهم؟ والمراد من - الظلم - حينئذ وضع الشيء في غير موضعه. وعلى الثاني: جواب سؤال ناشىء من قوله سبحانه: * (من أظلم ممن منع) * كأنه قيل: فما كان حقهم؟ والمراد من - الظلم - التصرف في حق الغير وعلى الثالث: اعتراض بين كلامين متصلين معنى، وفيه وعد المؤمنين بالنصرة وتخليص - المساجد - عن الكفار - وللاهتمام بذلك وسطه - وقد أنجز الله تعالى وعده والحمد لله؛ فقد روي أنه لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا متنكرا مسارقة، وقال قتادة: لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلا انتهك ضربا، وأبلغ إليه في العقوبة، ولا نقض باستيلاء الأقرع، وبقاء بيت المقدس في أيدي النصارى أكثر من مائة سنة إلى أن استخلصه الملك صلاح الدين لأن الإنجاز يستدعي تحقيقه في وقت ما، ولا دلالة فيه على التكرار، وقيل: النفي بمعنى النهي - ومعناه على طريق الكناية - النهي عن التخلية والتمكين من دخولهم المساجد، وذلك يستلزم - أن لا يدخلوها إلا خائفين - من المؤمنين، فذكر اللازم وأريد الملزوم، ولا يخفى أن النهي عن التخلية والتمكين المذكور في وقت قوة الكفار ومنعهم المساجد لا فائدة فيه سوى الإشعار بوعد المؤمنين بالنصرة والاستخلاص منهم، فالحمل عليه من أول الأمر أولى، واختلف الأئمة في دخول الكفار المسجد، فجوزه الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه مطلقا للآية - فإنها تفيد دخولهم بخشية وخشوع - ولأن وفد ثقيف قدموا عليه عليه الصلاة والسلام فأنزلهم المسجد، ولقوله صلى الله عليه وسلم: " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل الكعبة فهو آمن " والنهي محمول على التنزيه أو الدخول للحرم بقصد الحج، ومنعه مالك رضي الله تعالى عنه مطلقا لقوله تعالى: * (إنما المشركون نجس) * (التوبة: 28) والمساجد يجب تطهيرها عن النجاسات، ولذا يمنع الجنب عن الدخول - وجوزه لحاجة - وفرق الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه بين المسجد الحرام وغيره وقال: الحديث منسوخ بالآية، وقرأ عبد الله * (إلا خيفا) * وهو مثل صيم
* (لهم في الدنيا خزي) * أي عظيم بقتل أبطالهم وأقيالهم، وكسر أصنامهم، وتسفيه أحلامهم، وإخراجهم من جزيرة العرب التي هي دار قرارهم، ومسقط رؤوسهم، أو بضرب الجزية على أهل الذمة منهم * (ولهم في الآخرة عذاب عظيم) * وهو عذاب النار لما أن سببه أيضا، وهو ما حكى من ظلمهم - كذلك في العظم - وتقديم الظرف في الموضعين للتشويق لما يذكر بعده.
ومن باب الإشارة في الآية: ومن أبخس حظا وأنقص حقا ممن منع مواضع السجود لله تعالى وهي القلوب
364

التي يعرف فيها فيسجد له بالفناء الذاتي أن يذكر فيها اسمه الخاص الذي هو الاسم الأعظم، إذ لا يتجلى بهذا الاسم إلا في القلب - وهو التجلي بالذات مع جميع الصفات - أو اسمه المخصوص بكل واحد منها، أي الكمال اللائق باستعداده المقتضي له وسعى في خرابها بتكديرها بالتعصبات وغلبة الهوى، ومنع أهلها بتهييج الفتن اللازمة لتجاذب قوى النفس، ودواعي الشيطان والوهم أولئك ما كان لهم أن يدخلوها ويصلوا إليها إلا خائفين منكسرين لظهور تجلي الحق فيها لهم في الدنيا خزي وافتضاح وذلة بظهور بطلان ما هم عليه ولهم في الآخرة عذاب عظيم وهو احتجابهم عن الحق سبحانه.
* (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم) *
* (ولله المشرق والمغرب) * أي الناحيتان المعلومتان المجاورتان لنقطة تطلع منها الشمس وتغرب، وكنى بمالكيتهما عن مالكية كل الأرض، وقال بعضهم: إذا كانت الأرض كروية يكون كل مشرق بالنسبة مغربا بالنسبة - والأرض كلها كذلك - فلا حاجة إلى التزام الكناية، وفيه بعد * (فأينما تولوا) * أي ففي أي مكان فعلتم التولية شطر القبلة، وقرأ الحسن * (تولوا) * على الغيبة * (فثم وجه الله) * أي فهناك جهته سبحانه التي أمرتم بها، فإذا مكان - التولية - لا يختص بمسجد دون مسجد ولا مكان دون آخر * (فأينما) * ظرف لازم الظرفية متضمن لمعنى الشرط وليس مفعولا ل‍ * (تولوا) * - والتولية - بمعنى الصرف منزل منزلة اللازم، و (ثم) اسم إشارة للمكان البعيد خاصة - مبني على الفتح - ولا يتصرف فيه بغير - من - وقد وهم من أعربه مفعولا به في قوله تعالى: * (وإذا رأيت ثم رأيت نعيما) * (الإنسان: 20) وهو خبر مقدم، وما بعده مبتدأ مؤخر، والجملة جواب الشرط - والوجه - الجهة - كالوزن والزنة - واختصاص الإضافة باعتبار كونها مأمورا بها، وفيها رضاه سبحانه، وإلى هذا ذهب الحسن ومقاتل ومجاهد وقتادة وقيل: الوجه بمعنى الذات مثله في قوله تعالى: * (كل شيء هالك إلا وجهه) * (القصص: 88) إلا أنه جعل هنا كناية عن علمه واطلاعه بما يفعل هناك، وقال أبو منصور: بمعنى الجاه، ويؤل إلى الجلال والعظمة، والجملة - على هذا - اعتراض لتسلية قلوب المؤمنين بحل الذكر والصلاة في جميع الأرض - لا في المساجد خاصة - وفي الحديث الصحيح: " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " ولعل غيره عليه الصلاة والسلام لم تبح له الصلاة في غير البيع والكنائس، وصلاة عيسى عليه السلام - في أسفاره - في غيرها كانت عن ضرورة - فلا حاجة إلى القول باختصاص المجموع - وجوز أن تكون (أينما) مفعول * (تولوا) * بمعنى الجهة، فقد شاع في الاستعمال (أينما) توجهوا، بمعنى أي جهة توجهوا - بناء على ما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما - أن الآية نزلت في صلاة المسافر والتطوع على الراحلة، وعلى ما روي عن جابر أنها نزلت في قوم عميت عليهم - القبلة - في غزوة كنت فيها معهم، فصلوا إلى الجنوب والشمال، فلما أصبحوا تبين خطؤهم، ويحتمل - على هاتين الروايتين - أن تكون (أينما) كما في الوجه الأول أيضا، ويكون المعنى في أي مكان فعلتم أي - تولية - لأن حذف المفعول به يفيد العموم، واقتصر عليه بعضهم مدعيا أن ما تقدم لم يقل به أحد من أهل العربية، ومن الناس من قال: الآية
توطئة لنسخ القبلة، وتنزيه للمعبود أن يكون في حيز وجهة، وإلا لكانت أحق بالاستقبال، وهي محمولة على العموم غير مختصة بحال السفر أو حال التحري، والمراد ب (أينما) أي جهة، وبالوجه الذات ووجه الارتباط حينئذ أنه لما جرى ذكر - المساجد - سابقا أورد بعدها تقريبا حكم - القبلة - على سبيل الاعتراض، وادعى بعضهم أن هذا أصح الأقوال، وفيه تأمل
* (إن الله واسع) * أي محيط بالأشياء ملكا أو رحمة، فلهذا - وسع - عليكم - القبلة - ولم يضيق عليكم * (عليم) * بمصالح العباد وأعمالهم
365

في الأماكن، والجملة على الأول: تذييل لمجموع * (ولله المشرق والمغرب) * الخ وعلى الثاني: تذييل لقوله سبحانه: * (فأينما تولوا) * الخ، ومن الغريب جعل ذلك تهديدا - لمن منع مساجد الله - وجعل الخطاب المتقدم لهم أيضا، فيؤول المعنى إلى أنه لا مهرب من الله تعالى لمن طغى، ولا مفر لمن بغى، لأن فلك سلطانه حدد الجهات، وسلطان علمه أحاط بالأفلاك الدائرات: أين المفر ولا مفر لهارب * وله البسيطان الثرى والماء
ومن باب الإشارة: أن المشرق عبارة عن عالم النور والظهور وهو جنة النصارى وقبلتهم بالحقيقة باطنه، والمغرب عالم الأسرار والخفاء وهو جنة اليهود وقبلتهم بالحقيقة باطنه، أو المشرق عبارة عن إشراقه سبحانه على القلوب بظهور أنواره فيها والتجلي لها بصفة جماله حالة الشهود، والمغرب عبارة عن الغروب بتستره واحتجابه واختفائه بصفة جلاله حالة البقاء بعد الفناء ولله تعالى كل ذلك فأي جهة يتوجه المرء من الظاهر والباطن (فثم وجه الله) المتحلي بجميع الصفات المتجلي بما شاء منزها عن الجهات وقد قال قائل القوم: وما الوجه إلا واحد غير أنه * إذا أنت عددت المرايا تعدد
* (إن الله واسع) * لا يخرج شيء عن إحاطته * (عليم) * فلا يخفى عليه شيء من أحوال خليقته ومظاهر صفته.
* (وقالوا اتخذ الله ولدا سبح‍انه بل له ما في السم‍اوات والارض كل له ق‍انتون) *
* (وقالوا اتخذ الله ولدا) * نزلت في اليهود حيث - قالوا عزيز ابن الله - وفي نصارى نجران حين قالوا المسيح ابن الله وفي مشركي العرب حيث قالوا - الملائكة بنات الله - فالضمير لما سبق ذكره من النصارى واليهود والمشركين الذين لا يعلمون، وعطفه على * (قالت اليهود) * (البقرة: 113) وقال أبو البقاء على * (وقالوا لن يدخل الجنة) * (البقرة: 111): وجوز أن يكون عطفا على * (منع) * (البقرة: 114) أو على مفهوم - من أظلم - دون لفظه للاختلاف إنشائية وخبرية، والتقدير ظلموا ظلما شديدا بالمنع، وقالوا: وإن جعل من عطف القصة على القصة لم يحتج إلى تأويل، والاستئناف حينئذ بياني كأنه قيل بعدما عدد من قبائحهم هل انقطع خيط إسهابهم في الافتراء على الله تعالى أم امتد؟ فقيل: بل امتد فإنهم قالوا ما هو أشنع وأفظع، و - الاتخاذ - إما بمعنى الصنع والعمل فلا يتعدى إلا إلى واحد، وإما بمعنى التصيير، والمفعول الأول محذوف أي صير بعض مخلوقاته ولدا، وقرأ ابن عباس وابن عامر وغيرهما (قالوا) بغير واو على الاستئناف أو ملحوظا فيه معنى العطف، واكتفى بالضمير، والربط به عن الواو كما في " البحر " * (سبح‍انه) * تنزيه وتبرئة له تعالى عما قالوا: بأبلغ صيغة ومتعلق - سبحان - محذوف كما ترى لدلالة الكلام عليه. * (بل له ما في السم‍اوات والأرض) * إبطال لما زعموه وإضراب عما تقتضيه مقالتهم الباطلة من التشبيه بالمحدثات في التناسل والتوالد، والحاجة إلى الولد في القيام بما يحتاج الوالد إليه، وسرعة الفناء لأنه لازم للتركيب اللازم للحاجة، وكل محقق قريب سريع، ولإن الحكمة في التوالد هو أن يبقى النوع محفوظا بتوارد الأمثال فيما لا سبيل إلى بقاء الشخص بعينه مدة بقاء الدهر، وكل ذلك يمتنع على الله تعالى فإنه الأبدي الدائم والغنى المطلق المنزع عن مشابهة المخلوقات، واللام في * (له) * قيل للملك، وقيل: إنها كالتي في قولك لزيد - ضرب - تفيد نسبة الأثر إلى المؤثر، وقيل: للاختصاص بأي وجه كان، وهو الأظهر، والمعنى ليس الأمر كما افتروا بل هو خالق جميع الموجودات التي من جملتها ما زعموه ولدا، والخالق لكل موجود لا حاجة له إلى الولد إذ هو يوجد ما يشاء منزها عن الاحتياج إلى التوالد
* (كل له ق‍انتون) * أي كل ما فيهما كائنا ما كان جميعا
366

منقادون له لا يستعصي شيء منهم على مشيئته وتكوينه إيجادا وإعداما وتغيرا من حال إلى حال، وهذا يستلزم الحدوث والإمكان المنافي للوجوب الذاتي فكل من كان متصفا بهذه الصفة لا يكون والدا لأن من حق الولد أن يشارك والده في الجنس لكونه بعضا منه، وإن لم يماثله، وكان الظاهر كلمة من مع * (قانتون) * كيلا يلزم اعتبار التغليب فيه، ويكون موافقا لسوق الكلام فإن الكلام في العزير والمسيح والملائكة وهم عقلاء إلا أنه جاء بكلمة (ما) المختصة بغير أولي العلم كما قاله بعضهم محتجا بقصة الزبعري مخالفا لما عليه الرضى من أنها في الغالب لما لا يعلم، ولما عليه الأكثرون من عمومها كما في " التلويح "، واعتبر التغليب في * (قانتون) * إشارة إلى أن هؤلاء الذين جعلوهم ولد الله تعالى سبحانه وتعالى في جنب عظمته جمادات مستوية الأقدام معها في عدم الصلاحية لاتخاذ الولد، وقيل: أتى بما في الأول لأنه إشارة إلى مقام الألوهية، والعقلاء فيه بمنزلة الجمادات، وبجمع العقلاء في الثاني لأنه إشارة إلى مقام العبودية، والجمادات فيه بمنزلة العقلاء.
ويحتمل أن يقدر المضاف إليه كل ما جعلوه ولدا لدلالة المقول لا عاما لدلالة مبطله، ويراد بالقنوت الانقياد لأمر التكليف كما أنه على العموم الانقياد لأمر التكوين، وحينئذ لا تغلب في * (قانتون) * وتكون الجملة إلزاما بأن ما زعموه ولدا مطيع لله تعالى مقر بعبوديته بعد إقامة الحجة عليهم بما سبق، وترك العطف للتنبيه على استقلال كل منهما في الدلالة على الفساد واختلافهما في كون أحدهما حجة والآخر إلزاما، وعلى الأول يكون الأخير مقررا لما قبله، وذكر الجصاص أن في هذه الآية دلالة على أن ملك الإنسان لا يبقى على ولده لأنه نفى الولد باثبات الملك باعتبار أن اللام له فمتى ملك ولده عتق عليه، وقد حكم صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك في الوالد إذا ملكه ولده؛ ولا يخفى أن هذا بعيد عما قصد بالآية لا سيما إذا كان الأظهر الاختصاص كما علمت.
* (بديع السم‍اوات والارض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) *
* (بديع السم‍اوات والأرض) * أي مبدعهما فهو فعيل من أفعل وكان الأصمعي ينكر فعيلا بمعنى مفعل، وقال ابن بري: قد جاء كثيرا نحو مسخن وسخين ومقعد وقعيد وموصى ووصي ومحكم وحكيم ومبرم وبريم ومونق وأنيق في أخوات له، ومن ذلك السميع في بيت عمرو بن معدي كرب السابق. والاستشهاد بناءا على الظاهر المتبادر على ما هو الأليق بمباحث العربية فلا يرد ما قيل في البيت لأنه على خلافه كما لا يخفى على المنصف، وقيل: هو من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها للتخفيف أي بديع سمواته. وأنت تعلم أنه قد تقرر أن الصفة إذا أضيفت إلى الفاعل يكون فيها ضمير يعود إلى الموصوف فلا تصح الإضافة إلا إذا صح اتصاف الموصوف بها نحو - حسن الوجه - حيث يصح اتصاف الرجل بالحسن لحسن وجهه بخلاف حسن الجارية وإنما صح زيد كثير الاخوان لاتصافه بأنه متقو بهم، وفيما نحن فيه - وإن امتنع اتصافه بالصفة المذكورة - لكن يصح اتصافه بما دلت عليه وهو كونه مبدعا لهما. وهذا يقتضي أن يكون الأولى بقاء المبدع على ظاهره وهو الذي عليه أساطين أهل اللغة، والإبداع اختراع الشيء لا عن مادة ولا في زمان، ويستعمل ذلك في إيجاده تعالى للمبادي - كما قاله الراغب وهو غير الصنع إذ هو تركيب الصورة بالعنصر؛ ويستعمل في إيجاد الأجسام وغير التكوين فإنه ما يكون بتغير وفي زمان غالبا وإذا أريد من السموات والأرض جميع ما سواه تعالى من المبدعات والمصنوعات والمكونات لاحتوائها على عالم الملك والملكوت فبعد اعتبار التغليب يصح إطلاق كل من الثلاثة إلا أن لفظ الإبداع أليق لأنه يدل على كمال قدرته تعالى، والقول بتعين حمل الإبداع على التكوين من مادة أو أجزاء لأن إيجاد السموات من شيء كما يشير إليه قوله تعالى: * (ثم استوى إلى السماء
367

وهي دخان) * (فصلت: 11) ناشىء من الغفلة عما ذكرنا، والآية حجة أخرى لإبطال تلك المقالة الشنعاء، وتقريرها أنه تعالى مبدع لكل ما سواه فاعل على الإطلاق، ولا شيء من الوالد كذلك ضرورة انفعاله بانفصال مادة الولد عنه فالله تعالى ليس بوالد، وقرأ المنصور * (بديع) * بالنصب على المدح، وقرىء بالجر على أنه بدل من الضمير في * (له) * على رأي من يجوز ذلك * (وإذا قضى أمرا) * أي أراد شيئا بقرينة قوله تعالى: * (إنما أمره إذا أراد شيئا) * (يس: 82) وجاء القضاء على وجوه ترجع كلها إلى إتمام الشيء قولا أو فعلا وإطلاقه على الإرادة مجاز من استعمال اللفظ المسبب في السبب فإن الإيجاد الذي هو إتمام الشيء مسبب عن تعلق الإرادة لأنه يوجبه، وساوى ابن السيد بينه وبين القدر، والمشهور التفرقة بينهما بجعل القدر تقديرا لأمور قبل أن تقع، والقضاء إنفاذ ذلك القدر وخروجه من العدم إلى حد الفعل، وصحح ذلك الجمهور لأنه قد جاء في الحديث " أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بكهف مائل للسقوط فأسرع المشي حتى جاوزه فقيل: له أتفر من قضاء الله تعالى؟ فقال: أفر من قضائه تعالى إلى قدره " ففرق صلى الله عليه وسلم بين القضاء والقدر.
* (فإنما يقول له كن فيكون) * الظاهر أن الفعلين من - كان - التامة لعدم ذكر الخبر مع أنها الأصل أي احدث فيحدث، وهي تدلك على معنى الناقصة لأن الوجود المطلق أعم من وجوده في نفسه أو في غيره والأمر محمول على حقيقته كما ذهب إليه محققو ساداتنا الحنفية والله تعالى قد أجرى سنته في تكوين الأشياء أن يكونها بهذه الكلمة وإن لم يمتنع تكوينها بغيرها، والمراد الكلام الأزلي لأنه يستحيل قيام اللفظ المرتب بذاته تعالى ولأنه حادث فيحتاج إلى خطاب آخر فيتسلسل وتأخره عن الإرادة وتقدمه على وجود الكون باعتبار التعلق، ولما لم يشتمل خطاب التكوين على الفهم واشتمل على أعظم الفوائد جاز تعلقه بالمعدوم، وذهب المعتزلة وكثير من أهل السنة إلى أنه ليس المراد به حقيقة الأمر والامتثال، وإنما هو تمثيل لحصول ما تعلق به الإرادة بلا مهلة بطاعة المأمور المطيع بلا توقف فهناك استعارة تمثيلية حيث شبهت هيأة حصول المراد بعد تعلق الإرادة بلا مهلة، وامتناع بطاعة المأمور المطيع عقيب أمر المطاع بلا توقف وإباء تصويرا لحال الغائب بصورة الشاهد ثم استعمل الكلام الموضوع للمشبه في المشبه به من غير اعتبار استعارة في مفرداته وكان أصل الكلام إذا قضى أمرا فيحصل عقيبه دفعة فكأنما يقول له كان فيكون ثم حذف المشبه، واستعمل المشبه به مقامه، وبعضهم يجعل في الكلام استعارة تحقيقية تصريحية مبنية على تشبيه حال بقال، ولعل الذي دعى هؤلاء إلى العدول عن الظاهر زعم امتناعه لوجوه ذكرها بعض أئمتهم الأول: أن قوله تعالى: * (كن) * إما أن يكون قديما أو محدثا لا جائز أن يكون قديما لتأخر النون ولتقدم الكاف، والمسبوق محدث لا محالة، وكذا المتقدم عليه بزمان مقدر أيضا، ولأن * (إذا) * للاستقبال فالقضاء محدث و * (كن) * مرتب عليه بفاء التعقيب، والمتأخر عن المحدث محدث، ولا جائز أن يكون محدثا وإلا لدار أو تسلسل، الثاني: إما أن يخاطب المخلوق بكن قبل دخوله في الوجود، وخطاب المعدوم سفه، وإما بعد دخوله ولا فائدة فيه. الثالث: المخلوق قد يكون جمادا وتكليفه لا يليق بالحكمة الرابع: إذا فرضنا القادر المريد منفكا عن قوله * (كن) * فإن تمكن من الإيجاد فلا حاجة إليها وإن لم يتمكن فلا يكون القادر قادرا على الفعل إلا عند تكلمه ب * (كن) * فيلزم عجزه بالنظر إلى ذاته. الخامس: أنا نعلم بالضرورة أنه لا تأثير لهذه الكلمة إذا تكلمنا بها فكذا إذا تكلم بها غيرنا.
368

السادس: المؤثر إما مجموع الكاف والنون ولا وجود لهما مجموعين أو أحدهما وهو خلاف المفروض انتهى.
وأنت إذا تأملت ما ذكرنا ظهر لك اندفاع جميع هذه الوجوه، ويا عجبا لمن يقول بالكلام النفسي ويجعل هذا دالا عليه كيف تروعه هذه القعاقع أم كيف تغره هذه الفقاقع؟! نعم لو ذهب ذاهب إلى هذا القول لما فيه من مزيد إثبات العظمة لله تعالى ما ليس في الأول لا لأن الأول باطل في نفسه كان حريا بالقبول - ولعلي أقول به - والآية مسوقة لبيان كيفية الإبداع ومعطوفة على قوله تعالى: * (بديع السموات والأرض) * مشتملة على تقرير معنى الإبداع وفيها تلويح بحجة أخرى لإبطال ذلك الهذيان بأن اتخاذ الولد من الوالد إنما يكون بعد قصده بأطوار ومهلة لما أن ذلك لا يمكن إلا بعد انفصال مادته عنه وصيرورته حيوانا، وفعله تعالى بعد إرادته أو تعلق قوله مستغن عن المهلة فلا يكون اتخاذ الولد فعله تعالى، وكأن السبب في هذه الضلالة أنه ورد إطلاق الأب على الله تعالى في الشرائع المتقدمة باعتبار أنه السبب الأول وكثر هذا الإطلاق في إنجيل يوحنا ثم ظنت الجهلة أن المراد به معنى الولادة فاعتقدوا ذلك تقليدا وكفروا، ولم يجوز العلماء اليوم إطلاق ذلك عليه تعالى مجازا، قطعا لمادة الفساد، وقرأ ابن عامر * (فيكون) * بالنصب، وقد أشكلت على النحاة حتى تجرأ أحمد بن موسى فحكم بخطئها وهو سوء أدب بل من أقبح الخطأ ووجهها أن تكون حينئذ
جواب الأمر حملا على صورة اللفظ وإن كان معناه الخبر إذ ليس معناه تعليق مدلول مدخول الفاء بمدلول صيغة الأمر الذي يقتضيه سببية ما قبل الفاء لما بعدها اللازمة لجواب الأمر بالفاء إذ لا معنى لقولنا ليكن منك كون فكون، وقيل: الداعي إلى الحمل على اللفظ أن الأمر ليس حقيقيا فلا ينصب جوابه وإن من شرط ذلك أن ينعقد منهما شرط وجزاء نحو - ائتني فأكرمك - إذ تقديره إن تأتني أكرمك، وهنا لا يصح أن - يكن يكن - وإلا لزم كون الشيء سببا لنفسه، وأجيب بأن المراد إن يكن في علم الله تعالى وإرادته يكن في الخارج فهو على حد " من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله " وبأن كون الأمر غير الحقيقي لا ينصب في جوابه ممنوع فإن كان بلفظ فظاهر ولكنه مجاز عن سرعة التكوين وإن لم يعتبر فهو مجاز عن إرادة سرعته فيؤول إلى إن يراد سرعة وجود شيء يوجد في الحال فلا محذور للتغاير الظاهر ولا يخفى ما فيه، ووجه الرفع الاستئناف أي فهو يكون وهو مذهب سيبويه، وذهب الزجاج إلى عطفه على * (يقول) * وعلى التقديرين لا يكون * (يكون) * داخلا في المقول ومن تتمته ليوجه العدول عن الخطاب بأنه من باب الالتفات تحقيرا لشأن الأمر في سهولة تكونه ووجهه به غير واحد على تقدير الدخول.
* (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينآ ءاية كذالك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تش‍ابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون) *
* (وقال الذين لا يعلمون) * عطف على قوله تعالى: * (وقالوا اتخذ الله) * (البقرة: 116) ووجه الارتباط أن الأول: كان قدحا في التوحيد وهذا قدح في النبوة، والمراد من الموصول جهلة المشركين، وقد روي ذلك عن قتادة والسدي والحسن وجماعة، وعليه أكثر المفسرين ويدل عليه قوله تعالى: * (لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا) * (الإسرار: 90) وقالوا: * (فليأتنا بآية كما أرسل الأولون) * (الأنبياء: 5) وقالوا: * (لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا) * (الفرقان: 21) وقيل: المراد به اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رافع بن خزيمة من اليهود قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت رسولا من عند الله تعالى فقل لله يكلمنا حتى نسمع كلامه فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقوله تعالى: * (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك) * (النساء: 153) وقال مجاهد: المراد به النصارى ورجحه الطبري بأنهم المذكورون في الآية، وهو كما ترى، ونفي العلم على الأول عنهم على حقيقته لأنهم لم يكن لهم كتاب ولا هم أتباع نبوة
369

، وعلى الأخيرين لتجاهلهم أو لعدم علمهم بمقتضاه
* (لولا يكلمنا الله) * أي هلا يكلمنا بأنك رسوله إما بالذات كما يكلم الملائكة أو بإنزال الوحي إلينا، وهو استكبار منهم بعد أنفسهم الخبيثة كالملائكة والأنبياء المقدسين عليهم الصلاة والسلام * (أو تأتينآ ءاية) * أي حجة على صدقك وهو جحود منهم قاتلهم الله تعالى لما آتاهم من الآيات البينات، والحجج الباهرات التي تخر لها صم الجبال، وقيل: المراد إتيان آية مقترحة، وفيه أن تخصيص النكرة خلاف الظاهر * (كذلك قال الذين من قبلهم) * جواب لشبهتهم يعني أنهم يسألون عن تعنت واستكبار مثل الأمم السابقة والسائل المتعنت لا يستحق إجابة مسألته * (مثل قولهم) * هذا الباطل الشنيع * (فقالوا أرنا الله جهرة) * (النساء: 153) * (هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة) * (المائدة: 112) * (اجعل لنا إلها) * (الأعراف: 138) وقد تقدم الكلام على هذين التشبيهين، ولبعضهم هنا زيادة على ما مر احتمال تعلق * (كذلك) * ب * (تأتينا) * وحينئذ يكون الوقف عليه لا على * (آية) * أو جعل * (مثل قولهم) * متعلقا ب * (تشابهت) * وحينئذ يكون الوقف على * (من قبلهم) * وأنت تعلم أنه لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى الكريم على مثل هذه الاحتمالات الباردة
* (تش‍ابهت قلوبهم) * أي قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى والعناد، وقيل: في التعنت والاقتراح، والجملة مقررة لما قبلها، وقرأ أبو حيوة وابن أبي إسحق بتشديد الشين قال أبو عمرو الداني: وذلك غير جائز لأنه فعل ماض والتاآن المزيدتان إنما يجيئان في المضارع فيدغم أما الماضي فلا، وفي غرائب التفسير أنهم أجمعوا على خطئه، ووجه ذلك الراغب بأنه حمل الماضي على المضارع فزيد فيه ما يزاد فيه ولا يخفى أنه بهذا القدر لا يندفع الإشكال، وقال ابن سهمي في الشواذ: إن العرب قد تزيد على أول تفعل في الماضي تاء فتقول تتفعل وأنشد. تتقطعت بي دونك الأسباب
وهو قول غير مرضي ولا مقبول فالصواب عدم صحة نسبة نسبة هذه القراءة إلى هذين الإمامين وقد أشرنا إلى نحو ذلك فيما تقدم * (قد بينا الأي‍ات) * أي نزلناها بينة بأن جعلناها كذلك في أنفسها فهو على حد سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل * (لقوم يوقنون) * أي يعلمون الحقائق علما ذا وثاقة لا يعتريهم شبهة ولا عناد وهؤلاء ليسوا كذلك فلهذا تعنتوا واستكبروا وقالوا ما قالوا، والجملة على هذا معللة لقوله تعالى: * (كذلك قال الذين من قبلهم) * كما صرح به بعض المحققين، ويحتمل أن يراد من الإتيان طلب الحق واليقين. و - الآية - رد لطلبهم الآية وفي تعريف الآيات وجمعها وإيراد التبيين مكان الاتيان الذي طلبوه ما لا يخفى من الجزالة، والمعنى أنهم اقترحوا آية فذة ونحن قد بينا الآيات العظام لقوم يطلبون الحق واليقين وإنما لم يتعرض سبحانه لرد قولهم * (لولا يكلمنا الله) * إيذانا بأنه منهم أشبه شيء بكلام الأحمق وجواب الأحمق السكوت.
* (إنا أرسلن‍اك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تس‍ال عن أصح‍ابالجحيم) *
* (إنآ أرسلن‍ااك بالحق) * أي متلبسا مؤيدا به فالظرف مستقر، وقيل: لغو متعلق بأرسلنا أو بما بعده، وفسر الحق بالقرآن أو بالاسلام وبقاؤه على عمومه أولى * (بشيرا ونذيرا) * حالان من الكاف، وقيل: من الحق والآية اعتراض لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه كان يهتم ويضيق صدره لإصرارهم على الكفر والمراد: إنا أرسلناك لأن تبشر من أطاع وتنذر من عصى لا لتجبر على الإيمان فما عليك إن أصروا أو كابروا؟ والتأكيد لإقامة غير المنكر مقام المنكر بما لاح عليه من أمارة الإنكار والقصر إفرادي.
* (ولا تسئل عن أصح‍ابالجحيم) * تذييل معطوف على ما قبله، أو اعتراض أو حال أي أرسلناك غير - مسؤول عن أصحاب الجحيم - ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلغت
ما أرسلت به وألزمت الحجة عليهم؟!،
370

وقرأ أبي و (ما) بدل و * (لا) * وابن مسعود (ولن) بدل (ذلك) وقرأ نافع، ويعقوب - لا تسأل - على صيغة النهي إيذانا بكمال شدة عقوبة الكفار وتهويلا لها كما تقول كيف حال فلان وقد وقع في مكروه فيقال لك لا تسأل عنه أي أنه لغاية فظاعة ما حل به لا يقدر المخبر على إجرائه على لسانه أو لا يستطيع السامع أن يسمعه، والجملة على هذا اعتراض أو عطف على مقدر أي فبلغ، والنهي مجازي، ومن الناس من جعله حقيقة، والمقصود منه بالذات نهيه صلى الله عليه وسلم عن السؤال عن حال أبويه على ما روي - أنه عليه الصلاة والسلام سأل جبريل عن قبريهما فدله عليهما فذهب فدعا لهما وتمنى أن يعرف حالهما في الآخرة وقال: ليت شعري ما فعل أبواي؟ فنزلت - ولا يخفى بعد هذه الرواية لأنه صلى الله عليه وسلم - كما في " المنتخب " - عالم بما آل إليه أمرهما، وذكر الشيخ ولي الدين العراقي أنه لم يقف عليها، وقال الإمام السيوطي: لم يرد في هذا إلا أثر معضل ضعيف الإسناد فلا يعول عليه، والذي يقطع به أن الآية في كفار أهل الكتاب كالآيات السابقة عليها والتالية لها لا في أبويه صلى الله عليه وسلم، ولتعارض الأحاديث في هذا الباب وضعفها، قال السخاوي: الذي ندين الله تعالى به الكف عنهما وعن الخوض في أحوالهما. والذي أدين الله تعالى به أنا أنهما ماتا موحدين في زمن الكفر، وعليه يحمل كلام الإمام - أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إن صح بل أكاد أقول: إنهما أفضل من علي القاري وأضرابه. و - الجحيم - النار بعينه إذا شب وقودها ويقال: جحمت النار تحجم جحما إذا اضطربت.
* (ولن ترضى عنك اليهود ولا النص‍ارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهوآءهم بعد الذي جآءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير) *
* (ولن ترضى عنك اليهود ولا النص‍ارى حتى تتبع ملتهم) * بيان لكمال شدة شكيمتي هاتين الطائفتين إثر بيان ما يعمهما، والمشركين مما تقدم ولا بين المعطوفين لتأكيد النفي وللإشعار بأن رضا كل منهما مباين لرضا الأخرى، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه من المبالغة في إقناطه صلى الله عليه وسلم من إسلامهم ما لا غاية وراءه فإنهم حيث لم يرضوا عنه عليه الصلاة والسلام، ولو خلاهم يفعلون ما يفعلون بل أملوا ما لا يكاد يدخل دائرة الإمكان، وهو الاتباع لملتهم التي جاء بنسخها فكيف يتصور اتباعهم لملته صلى الله عليه وسلم، واحتيج لهذه المبالغة لمزيد حرصه صلى الله عليه وسلم على إيمانهم على ما روي أنه كان يلاطف كل فريق رجاء أن يسلموا فنزلت، والملة في الأصل اسم من أمللت الكتاب بمعنى أمليته كما قال الراغب، ومنه طريق ملول - أي مسلوك معلوم - كما نقله الأزهري ثم نقلت إلى أصول الشرائع باعتبار أنها يمليها النبي صلى الله عليه وسلم ولا يختلف الأنبياء عليهم السلام فيها، وقد تطلق الباطل كالكفر ملة واحدة، ولا تضاف إليه سبحانه فلا يقال ملة الله، ولا إلى آحاد الأمة، والدين يرادفها صدقا لكنه باعتبار قبول المأمورين لأنه في الأصل الطاعة والانقياد ولاتحاد ما صدقهما قال تعالى: * (دينا قيما ملة إبراهيم) * (الأنغام: 161) وقد يطلق الدين على الفروع تجوزا، ويضاف إلى الله تعالى وإلى الآحاد وإلى طوائف مخصوصة نظرا إلى الأصل على أن تغاير الاعتبار كاف في صحة الإضافة، ويقع على الباطل أيضا، وأما الشريعة فهي المورد في الأصل، وجعلت اسما للأحكام الجزئية المتعلقة بالمعاش والمعاد سواء كانت منصوصة من الشارع أو لا لكنها راجعة إليه والنسخ والتبديل يقع فيها، وتطلق على الأصول الكلية تجوزا قاله بعض المحققين. ووحدت الملة وإن كان لهم ملتان للإيجاز أو لأنهما يجمعهما الكفر، وهو ملة واحدة، ثم إن هذا ليس ابتداء كلام منه تعالى بعدم رضاهم بل هو حكاية لمعنى كلام قالوه بطريق التكلم ليطابقه قوله سبحانه.
* (قل إن هدى هو الهدى) * فإنه على طريقة الجواب لمقالتهم ولعلهم ما قالوا ذلك إلا لزعمهم أن دينهم
371

حق وغير باطل فأجيبوا بالقصر القلبي - أي دين الله تعالى هو الحق ودينكم هو الباطل، وهدى الله تعالى الذي هو الإسلام هو الهدى وما يدعون إليه ليس بهدى بل هوى - على أبلغ وجه لإضافة الهدي إليه تعالى وتأكيده بأن وإعادة الهدى في الخبر على حد شعري شعري، وجعله نفس الهدى المصدري وتوسيط ضمير الفصل وتعريف الخبر، ويحتمل أنهم قالوا ذلك فيما بينهم، والأمر بهذا القول لهم لا يجب أن يكون جوابا لعين تلك العبارة بل جواب ورد لما يستلزم مضمونها أو يلزمه من الدعوة إلى اليهودية أو النصرانية وأن الاهتداء فيهما، وقيل: يصح أن يكون لاقناطهم عما يتمنونه ويطمعونه وليس بجواب:
* (ولئن اتبعت أهوآءهم) * أي آراءهم الزائغة المنحرفة عن الحق الصادرة عنهم بتبعية شهوات أنفسهم وهي التي عبر عنها فيما قبل - بالملة - وكان الظاهر - ولئن اتبعتها - إلا أنه غير النظم ووضع الظاهر موضع المضمر من غير لفظه إيذانا بأنهم غيروا ما شرعه الله سبحانه تغييرا أخرجوه به عن موضوعه، وفي صيغة الجمع إشارة إلى كثرة الاختلاف بينهم وأن بعضهم يكفر بعضا. * (بعد الذي جآءك من العلم) * أي المعلوم وهو الوحي أو الدين لأنه الذي يتصف بالمجيء دون العلم نفسه ولك أن تفسر المجيء بالحصول فيجري العلم على ظاهره
* (مالك من الله من ولي ولاع نصير) * جواب للقسم الدال عليه السلام الموطئة ولو أجيب به الشرط هنا لوجبت الفاء، وقيل: إنه جواب له ويحتاج إلى تقدير القسم مؤخرا عن الشرط وتأويل الجملة الإسمية بالفعلية الاستقبالية أي ما يكون لك وهو تعسف إذ لم يقل أحد من النحاة بتقدير القسم مؤخرا مع اللام الموطئة، وتأويل الاسمية بالفعلية لا دليل عليه، وقيل: إنه جواب لكلا الأمرين القسم الدال عليه اللام وإن الشرطية لأحدهما لفظا وللآخر معنى وهو كما ترى، والخطاب أيضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتقييد الشرط بما قيد للدلالة على أن متابعة أهوائهم محال لأنه خلاف ما علم صحته فلو فرض وقوعه كما يفرض المحال لم يكن له ولي ولا نصير يدفع عنه العذاب، وفيه أيضا من المبالغة في الإقناط ما لا يخفى، وقيل: الخطاب هناك وهنا وإن كان ظاهرا للنبي صلى الله عليه وسلم إلا أن المقصود منه أمته، وأنت تعلم مما ذكرنا أنه لا يحتاج إلى التزام ذلك.
* (الذين آتين‍اهم الكت‍ابيتلونه حق تلاوته أول‍ائك يؤمنون به ومن يكفر به فأول‍ائك هم الخ‍اسرون) *
* (الذين ءاتينهم الكت‍اب) * اعتراض لبيان حال مؤمني أهل الكتاب بعد ذكر أحوال كفرتهم ولم يعطف تنبيها على كمال التباين بين الفريقين والآية نازلة فيهم وهم
المقصودون منها سواء أريد بالموصول الجنس أو العهد على ماقيل إنهم الأربعون الذين قدموا من الحبشة مع جعفر بن أبي طالب اثنان وثلاثون منهم من اليمن وثمانية من علماء الشام
* (يتلونه حق تلاوته) * أي يقرءونه حق قراءته وهي قراءة تأخذ بمجامع القلب فيراعى فيها ضبط اللفظ والتأمل في المعنى وحق الأمر والنهي، والجملة حال مقدرة أي آتيناهم الكتاب مقدرا تلاوتهم لأنهم لم يكونوا تالين وقت الإيتاء وهذه الحال مخصصة لأنه ليس كل من أوتيه يتلوه، و * (حق) * منصوب على المصدرية لإضافته إلى المصدر، وجوز أن يكون وصفا لمصدر محذوف وأن يكون حالا أي محقين والخبر قوله تعالى: * (أول‍ائك يؤمنون به) * ويحتمل أن يكون يتلونه خبرا لا حالا، * (أولئك) * الخ خبرا بعد خبر أو جملة مستأنفة، وعلى أول الاحتمالين يكون الموصول للجنس، وعلى ثانيهما يكون للعهد أي مؤمنو أهل الكتاب، وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للحصر والتعريض، والضمير للكتاب أي - أولئك يؤمنون بكتابهم - دون المحرفين فإنهم غير مؤمنين به، ومن هنا يظهر فائدة الاخبار على الوجه الأخير، ولك أن تقول محط الفائدة ما يلزم الإيمان به
372

من الربح بقرينة ما يأتي، ومن الناس من حمل الموصول على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإليه ذهب عكرمة وقتادة، فالمراد من (الكتاب) حينئذ القرآن، ومنهم من حمله على الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، وإليه ذهب ابن كيسان، فالمراد من الكتاب حينئذ الجنس ليشمل الكتب المتفرقة، ومنهم من قال بما قلنا إلا أنه جوز عود ضمير * (به) * إلى * (الهدى) * (البقرة: 120) أو إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى الله تعالى، وعلى التقديرين يكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة أو من التكلم إليها ولا يخفى ما في بعض هذه الوجوه من البعد البعيد.
* (ومن يكفر به) * أي الكتاب بسبب التحريف والكفر بما يصدقه، واحتمالات نظير هذا الضمير مقولة فيه أيضا. * (فأول‍ائك هم الخ‍اسرون) * من جهة أنهم اشتروا الكفر بالإيمان، وقيل: بتجارتهم التي كانوا يعملونها بأخذ الرشا على التحريف.
* (ي‍ابنىإسراءيل اذكروا نعمتى التىأنعمت عليكم وأنى فضلتكم على الع‍المين) *
* (واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شف‍اعة ولا هم ينصرون) * (123)
تكرير لتذكير بني إسرائيل وإعادة لتحذيرهم للمبالغة في النصح، وللإيذان بأن ذلك فذلكة القصة والمقصود منها - وقد تفنن في التعبير فجاءت الشفاعة أولا: بلفظ القبول متقدمة على - العدل - وهنا: - النفع - متأخرة عنه، ولعله - كما قيل - إشارة إلى انتفاء أصل الشيء وانتفاء ما يترتب عليه، وأعطي المقدم وجودا تقدمه ذكرا، والمتأخر وجودا تأخره ذكرا، وقيل: إن ما سبق كان للأمر بالقيام بحقوق النعم السابقة، وما هنا لتذكير - نعمة بها فضلهم على العالمين - وهي نعمة الإيمان ببني زمانهم، وانقيادهم لأحكامه ليغتنموها ويؤمنوا ويكونوا من الفاضلين - لا المفضولين - وليتقوا بمتابعته عن أهوال القيامة وخوفها - كما اتقوا بمتابعة موسى عليه السلام.
* (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلم‍ات فأتمهن قال إنى ج‍اعلك للناس إماما قال ومن ذريتى قال لا ينال عهدي الظ‍المين) *
* (وإذ ابتلى إبرااهم ربه بكلم‍ات) * في متعلق * (إذ) * احتمالات تقدمت الإشارة إليها في نظير الآية، واختار أبو حيان تعلقها ب * (قال) * الآتي، وبعضهم بمضمر مؤخر، أي كان كيت وكيت والمشهور: تعلقها بمضمر مقدم تقديره - اذكر - أو - اذكروا - وقت كذا، والجملة حينئذ معطوفة على ما قبلها عطف القصة على القصة، والجامع الاتحاد في المقصد؛ فإن المقصد من - تذكيرهم وتخويفهم - تحريضهم على قبول دينه صلى الله عليه وسلم، واتباع الحق، وترك التعصب، وحب الرياسة، كذلك المقصد من قصة إبراهيم عليه السلام وشرح أحواله، الدعوة على ملة الإسلام؛ وترك التعصب في الدين، وذلك لأنه إذا علم أنه نال - الإمامة - بالانقياد لحكمه تعالى وأنه لم يستجب دعاءه في الظالمين وأن الكعبة كانت مطافا ومعبدا في وقته مأمورا هو بتطهيره، وأنه كان يحج البيت داعيا مبتهلا - كما هو في دين النبي صلى الله عليه وسلم - وأن نبينا عليه الصلاة والسلام من دعوته، وأنه دعا في حق نفسه وذريته بملة الإسلام، كان الواجب على من يعترف بفضله وأنه من أولاده، ويزعم اتباع ملته؛ ويباهي بأنه من ساكن حرمه وحامي بيته، أن يكون حاله مثل ذلك، وذهب عصام الملة والدين إلى جواز العطف على * (نعمتي) * (البقرة: 122) أي: اذكروا وقت - ابتلاء إبراهيم - فإن فيه ما ينفعكم ويرد اعتقادكم الفاسد أن آباءكم شفعاؤكم يوم القيامة، لأنه لم يقبل دعاء إبراهيم في - الظلمة - ويدفع عنكم حب الرياسة المانع عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه يعلم منه أنه لا ينال الرياسة الظالمين واعترض بأنه خروج عن طريق البلاغة مع لزوم تخصيص الخطاب بأهل الكتاب وتخلل * (اتقوا) * (البقرة: 123) بين المعطوفين - والابتلاء - في الأصل الاختبار - كما قدمنا -
373

والمراد به هنا التكليف، أو المعاملة معاملة الاختبار مجازا، إذ حقيقة الاختبار محالة عليه تعالى - لكونه عالم السر والخفيات - و (إبراهيم) علم أعجمي، قيل: معناه قبل النقل - أب رحيم - وهو مفعول مقدم لإضافة فاعله إلى ضميره، والتعرض لعنوان الربوبية تشريف له عليه السلام، وإيذان بأن ذلك - الابتلاء - تربية له وترشيح لأمر خطير، و - الكلمات - جمع - كلمة - وأصل معناها - اللفظ المفرد - وتستعمل في الجمل المفيدة، وتطلق على معاني ذلك - لما بين اللفظ والمعنى من شدة الاتصال - واختلف فيها، فقال طاوس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنها العشرة التي من الفطرة، المضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، وإعفاء اللحية، والفرق، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وحلق العانة. والاستطابة، والختان، وقال عكرمة رواية عنه أيضا: لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه كله إلا إبراهيم، ابتلاه الله تعالى بثلاثين خصلة من خصال الإسلام، عشر منها في سورة براءة (112) * (التائبون) * الخ، وعشر في الأحزاب (35) * (إن المسلمين والمسلمات) * الخ، وعشر في المؤمنين و * (سأل سائل) * إلى * (والذين هم على صلاتهم يحافظون) * (المعارج: 1 - 34) وفي رواية الحاكم في " مستدركه " أنها ثلاثون، وعد السور الثلاثة الأول ولم يعد السورة الأخيرة، فالذي في براءة التوبة والعبادة والحمد والسياحة والركوع والسجود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحفظ
لحدود الله تعالى، والإيمان المستفاد من * (وبشر المؤمنين) * (الأحزاب: 47) أو من * (إن الله اشترى من المؤمنين) * (التوبة: 111) في الأحزاب، الإسلام والإيمان والقنوت والصدق والصبر والخشوع والتصدق والصيام والحفظ للفروج، والذكر والذي في المؤمنين: الإيمان والخشوع والإعراض عن اللغو والزكاة والحفظ للفروج - إلا على الأزواج أو الإماء ثلاثة - والرعاية للعهد، والأمانة اثنين، والمحافظة على الصلاة، وهذا مبني على أن لزوم التكرار في بعض الخصال بعد جمع العشرات المذكورة، كالإيمان والحفظ للفروج لا ينافي كونها ثلاثين تعدادا - إنما ينافي تغايرها ذاتا - ومن هنا عدت التسمية مائة وثلاث عشرة آية عند الشافعية باعتبار تكررها في كل سورة، وما في رواية عكرمة مبني على اعتبار التغاير بالذات وإسقاط المكررات، وعده العاشرة البشارة للمؤمنين في براءة، وجعل الدوام على الصلاة والمحافظة عليها واحدا * (والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم) * (المعارج: 24، 25) غير - الفاعلين للزكاة - لشموله صدقة التطوع وصلة الأقارب، وما روي أنها أربعون وبينت بما في السور الأربع مبني على الاعتبار الأول أيضا - فلا إشكال - وقيل: ابتلاه الله تعالى بسبعة أشياء: بالكوكب، والقمرين، والختان على الكبر، والنار، وذبح الولد، والهجرة من كوثى إلى الشام، وروي ذلك عن الحسن، وقيل: هي ما تضمنته الآيات بعد من الإمامة، وتطهير البيت، ورفع قواعده، والإسلام، (وقيل، وقيل...) إلى ثلاثة عشر قولا، وقرأ ابن عامر وابن الزبير وغيرهما (إبراهام) وأبو بكرة (إبراهم) - بكسر الهاء وحذف الياء - وقرأ ابن عباس، وأبو الشعثاء، وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنهم برفع (إبراهيم) ونصب (ربه) - فالابتلاء - بمعنى الاختبار حقيقة لصحته من العبد، والمراد: دعا ربه بكلمات مثل * (رب أرني كيف تحيى الموتى) * (البقرة: 26) و * (اجعل هذا البلد آمنا) * (ابراهيم: 35) ليرى هل يجيبه؟ ولا حاجة إلى الحمل على المجاز. وأما ما قيل: إنه - وإن صح من العبد - لا يصح - أو لا يحسن تعليقه بالرب - فوجهه غير ظاهر سوى ذكر لفظ - الابتلاء - ويجوز أن يكون ذلك في مقام الإنس، ومقام الخلة غير خفي
* (فأتمهن) * الضمير المنصوب - للكلمات - لا غير، والمرفوع المستكن يحتمل أن يعود - لإبراهيم - وأن يعود - لربه - على كل من قرائتي - الرفع والنصب - فهناك أربعة احتمالات الأول: عوده على * (إبراهيم) * منصوبا، ومعنى: * (أتمهن) * حينئذ أتى بهن على الوجه الأتم وأداهن
374

كما يليق. الثاني: عوده على * (ربه) * مرفوعا، والمعنى حينئذ يسر له العمل بهن وقواه على - إتمامهن - أو أتم له أجورهن، أو أدامهن سنة فيه وفي عقبه إلى يوم الدين. الثالث: عوده على إبراهيم مرفوعا - والمعنى عليه - أتم * (إبراهيم) * الكلمات المدعو بها بأن راعى شروط الإجابة فيها، ولم يأت بعدها بما يضيعها. الرابع: عوده إلى * (ربه) * منصوبا - والمعنى عليه - فأعطى سبحانه إبراهيم جميع ما دعاه، وأظهر الاحتمالات الأول والرابع، إذ التمدح غير ظاهر في الثاني - مع ما فيه من حذف المضاف على أحد محتملاته - والاستعمال المألوف غير متبع في الثالث، ولأن الفعل الواقع في مقابلة الاختبار يجب أن يكون فعل المختبر اسم مفعول.
* (قال إني جاعلك للناس إماما) * استئناف بياني إن أضمر ناصب * (إذ) * كأنه قيل: فماذا كان بعد؟ فأجيب بذلك، أو بيان - لابتلى - بناء على رأي من جعل - الكلمات - عبارة عما ذكر أثره وبعضهم يجعل ذلك من بيان الكلي بجزئي من جزئياته - وإذا نصبت * (إذ) * ب * (قال) * كما ذهب إليه أبو حيان -: يكون المجموع جملة معطوفة على ما قبلها على الوجه الذي مر تفصيله، وقيل: مستطردة أو معترضة، ليقع قوله تعالى: * (أم كنتم شهداء) * (البقرة: 133) إن جعل خطابا لليهود موقعه، ويلائم قوله سبحانه: * (وقالوا كونوا هودا أو نصارى) * (البقرة: 135) و (جاهل) من - جعل - بمعنى صير المتعدي إلى مفعولين، و * (للناس) * إما متعلق ب (- جاعل) أي لأجلهم، وإما في موضع الحال لأنه نعت نكرة تقدمت أي إماما كائنا لهم - والإمام - اسم للقدوة الذي يؤتم به. ومنه قيل لخيط البناء: إمام، وهو مفرد على فعال، وجعله بعضهم اسم آلة لأن فعالا من صيغها - كالإزار - واعترض بأن - الإمام - ما يؤتم به، والإزار ما يؤتزر به - فهما مفعولان - ومفعول الفعل ليس بآلة لأنها الواسطة بين الفاعل والمفعول في وصول أثره إليه، ولو كان المفعول آلة لكان الفاعل كذلك - وليس فليس - ويكون جمع - آم - اسم فاعل من - أم يؤم - كجائع وجياع، وقائم وقيام، وهو بحسب المفهوم وإن كان شاملا للنبي والخليفة وإمام الصلاة، بل كل من يقتدي به في شيء ولو باطلا كما يشير إليه قوله تعالى: * (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) * (القصص: 41) إلا أن المراد به ههنا النبي المقتدى به، فإن من عداه لكونه مأموم النبي ليست إمامته كإمامته، وهذه الإمامة إما مؤبدة - كما هو مقتضى تعريف الناس - وصيغة اسم الفاعل الدال على الاستمرار ولا يضر مجيء الأنبياء بعده لأنه لم يبعث نبي إلا وكان من ذريته ومأمورا باتباعه في الجملة لا في جميع الأحكام لعدم اتفاق الشرائع التي بعده في الكل، فتكون إمامته باقية بإمامة أولاده التي هي أبعاضه على التناوب، وإما مؤقتة بناء على أن ما نسخ - ولو بعضه - لا يقال له مؤبد وإلا لكانت إمامة كل نبي مؤبدة ولم يشع ذلك، فالمراد من (الناس) حينئذ أمته الذين اتبعوه، ولك أن تلتزم القول بتأبيد إمامة كل نبي - ولكن في عقائد التوحيد - وهي لم تنسخ بل لا تنسخ أصلا كما يشير إليه قوله تعالى؛ * (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) * (الأنعام: 90) وعدم الشيوع غير مسلم، ولئن سلم لا يضر، والامتنان على إبراهيم عليه السلام بذلك دون غيره لخصوصية اقتضت ذلك لا تكاد تخفى فتدبر. ثم لا يخفى أن ظاهر الآية يشير إلى أن الابتلاء كان قبل النبوة لأنه تعالى جعل القيام بتلك الكلمات سببا لجعله إماما، وقيل: إنه كان بعدها لأنه يقتضي سابقة الوحي، وأجيب بأن مطلق الوحي لا يستلزم البعثة إلى الخلق وأنت تعلم أن ذبح الولد والهجرة والنار إن كانت من - الكلمات - يشكل الأمر لأن هذه كانت بعد النبوة بلا شبهة، وكذا الختان أيضا بناء على ما روي أنه عليه الصلاة والسلام حين ختن نفسه كان عمره مائة وعشرين فحينئذ يحتاج إلى أن يكون - إتمام الكلمات - سبب الإمامة باعتبار عمومها للناس واستجابة دعائه في حق بعض ذريته، ونقل الرازي عن القاضي أنه على هذا يكون المراد من قوله تعالى: * (فأتمهن) * أنه سبحانه وتعالى علم من حاله أنه
375

يتمهن ويقوم بهن بعد النبوة فلا جرم أعطاه خلعة الإمامة والنبوة ولا يخفى أن الفاء يأبى عن الحمل على هذا المعنى.
* (قال) * استئناف بياني والضمير لإبراهيم عليه السلام * (ومن ذريتي) * عطف على الكاف يقال سأكرمك فتقول وزيدا وجعله على معنى: ماذا يكون من ذريتي بعيد. وذهب أبو حيان إلى أنه متعلق بمحذوف أي - اجعل من ذريتي - إماما لأنه عليه السلام فهم من * (إني جاعلك) * الاختصاص به، واختاره بعضهم واعترضوا على ما تقدم بأن الجار والمجرور لا يصلح مضافا إليه فكيف يعطف عليه وبأن العطف على الضمير كيف يصح بدون إعادة الجار وبأنه كيف يكون المعطوف مقول قائل آخر، ودفع الأولون بأن الإضافة اللفظية في تقدير الانفصال * (ومن ذريتي) * في معنى: بعض ذريتي فكأنه قال: وجاعل بعض ذريتي وهو صحيح على أن العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار وإن أباه أكثر النحاة إلا أن المحققين من علماء العربية وأئمة الدين على جوازه حتى قال صاحب " العباب ": إنه وارد في القراآت السبعة المتواترة فمن رد ذلك فقد رد على النبي صلى الله عليه وسلم، ودفع الثالث: بأنه من قبيل عطف التلقين فهو خبر في معنى الطلب وكأن أصله: واجعل بعض ذريتي كما قدره المعترض لكنه عدل عنه إلى المنزل لما فيه من البلاغة من حيث جعله من تتمة كلام المتكلم كأنه مستحق مثل المعطوف عليه وجعل نفسه كالنائب عن المتكلم والعدول من صيغة الأمر للمبالغة في الثبوت ومراعات الأدب في التفادي عن صورة الأمر وفيه من الاختصار الواقع موقعه ما يروق كل ناظر؛ ونظير هذا العطف ما روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " اللهم ارحم المحلقين قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: اللهم ارحم المحلقين قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: والمقصرين ".
وقد ذكر الأصوليون أن التلقين ورد بالواو وغيرها من الحروف وأنه وقع في الاستثناء كما في الحديث: " إن الله تعالى حرم شجر الحرم قالوا إلا الإذخر يا رسول الله " واعترض أيضا بأن العطف المذكور يستدعي أن تكون إمامة - ذريته - عامة لجميع الناس عموم إمامته عليه السلام على ماقيل، وليس كذلك؛ وأجيب بأنه يكفي في العطف الاشتراك في أصل المعنى، وقيل: يكفي قبولها في حق نبينا عليه الصلاة والسلام - والذرية - نسل الرجل وأصلها الأولاد الصغار ثم عمت الكبار والصغار الواحد وغيره، وقيل: إنها تشمل الآباء لقوله تعالى: * (أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون) * (يس: 41) يعني نوحا وأبناءه والصحيح خلافه، وفيها ثلاث لغات - ضم الذال وفتحها وكسرها - وبها قرىء وهي إما فعولة من ذروت أو ذريت والأصل ذرووة أو ذروية فاجتمع في الأول واوان زائدة وأصلية فقلبت الأصلية ياء فصارت كالثانية فاجتمعت ياء وواء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الباء فصارت ذرية أو فعلية منهما والأصل في الأول - ذريوية - فقلبت الواو ياء لما سبق فصارت - ذريية - كالثانية فأدغمت الياء في مثلها فصارت ذرية، أو فعلية من الذرء بمعنى الخلق والأصل ذرئية فقلبت الهمزة ياء وأدغمت، أو فعيلة من الذر بمعنى التفريق والأصل ذريرة قلبت الراء الأخيرة ياء هربا من ثقل التكرير كما قالوا في تظننت تظنيت، وفي تقضضت تقضيت، أو فعولة منه والأصل ذرورة فقلبت الراء الأخيرة ياء فجاء الإدغام أو فعلية منه على صيغة النسبة قالوا: وهو الأظهر لكثرة مجئيها كحرية ودرية، وعدم احتياجها إلى الإعلال وإنما ضمت ذاله لأن الأبنية قد تغير في النسبة خاصة كما قالوا في النسبة إلى الدهر: دهري. * (قال) * استئناف بياني أيضا؛ والضمير لله عز اسمه
* (لا ينال عهدي الظ‍المين) * إجابة لما
376

راعى الأدب في طلبه من جعل بعض ذريته نبيا كما جعل مع تعيين جنس البعض الذي أبهم في دعائه عليه السلام بأبلغ وجه وآكده حيث نفى الحكم عن أحد الضدين مع الإشعار إلى دليل نفيه عنه ليكون دليلا على الثبوت للآخر فالمتبادر من العهد الإمامة، وليست هي هنا إلا النبوة، وعبر عنها * (به) * للإشارة إلى أنها أمانة الله تعالى وعهده الذي لا يقوم به إلا من شاء الله تعالى من عباده، وآثر النيل على الجعل إيماء إلى أن إمامة الأنبياء من ذريته عليهم السلام ليست بجعل مستقبل بل هي حاصلة في ضمن إمامته تنال كلا منهم في وقته المقدر له، ولا يعود من ذلك نقص في رتبة نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم لأنه جار مجرى التغليب على أن مثل ذلك لو كان يحط من قدرها لما خوطب صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: * (أن اتبع ملة إبراهيم) * (النحل: 123) والمتبادر من - الظلم - الكفر لأنه الفرد الكامل من أفراده، ويؤيده قوله تعالى: * (والكافرون هم الظالمون) * (البقرة: 254) فليس في الآية دلالة على عصمة الأنبياء عليهم السلام من الكبائر قبل البعثة ولا على أن الفاسق لا يصلح للخلافة، نعم فيها قطع إطماع الكفرة الذين كانوا يتمنون النبوة، وسد أبواب آمالهم الفارغة عن نيلها، واستدل بها بعض الشيعة على نفي إمامة الصديق وصاحبيه رضي الله تعالى عنهم حيث إنهم عاشوا مدة مديدة على الشرك و * (إن الشرك لظلم عظيم) * (لقمان: 13) والظالم بنص الآية لا تناله الإمامة، وأجيب بأن غاية ما يلزم أن الظالم في حالة الظلم لا تناله، والإمامة إنما نالتهم رضي الله تعالى عنهم في وقت كمال إيمانهم وغاية عدالتهم، واعترض بأن * (من) * تبعيضية فسؤال إبراهيم عليه السلام الإمامة إما للبعض العادل من ذريته مدة عمره أو الظالم حال الإمامة سواء كان عادلا في باق العمر أم لا، أو العادل في البعض الظالم في البعض الآخر أو الأعم، فعلى الأول: يلزم عدم مطابقة الجواب، وعلى الثاني: جهل الخليل، وحاشاه وعلى الثالث: المطلوب، وحياه، وعلى الرابع: إما المطلوب أو الفساد وأنت خبير بأن مبنى الاستدلال حمل العهد على الأعم من النبوة والإمامة التي يدعونها - ودون إثباته خرط القتاد - وتصريح البعض كالجصاص لا يبنى عليه إلزام الكل، وعلى تقدير التنزل يجاب بأنا نختار أن سؤال الإمامة بالمعنى الأعم للبعض المبهم من غير إحضار الاتصاف بالعدالة والظلم حال السؤال، والآية إجابة لدعائه مع زيادة على ما أشرنا إليه، وكذا إذا اختير الشق الأول بل الزيادة عليه زيادة، ويمكن الجواب باختيار الشق الثالث أيضا بأن نقول: هو على قسمين، أحدهما: من يكون ظالما قبل الإمامة ومتصفا بالعدالة وقتها اتصافا مطلقا بأن صار تائبا من المظالم السابقة فيكون حال الإمامة متصفا بالعدالة المطلقة، والثاني من يكون ظالما قبل الإمامة ومحترزا عن الظلم حالها لكن غير متصف بالعدالة المطلقة لعدم التوبة، ويجوز أن يكون السؤال شاملا لهذا القسم ولا بأس به إذا أمن الرعية من الفساد الذي هو المطلوب يحصل به؛ فالجواب بنفي حصول الإمامة لهذا القسم، والشيخان وعثمان رضي الله تعالى عنهم ليسوا منه بل هم في أعلى مراتب القسم الأول متصفون بالتوبة الصادقة، والعدالة المطلقة، والإيمان الراسخ، والإمام لا بد أن يكون وقت الإمامة كذلك، ومن كفر أو ظلم ثم تاب وأصلح لا يصح أن يطلق عليه أنه كافر أو ظالم في
لغة وعرف وشرع إذ قد تقرر في الأصول أن المشتق فيما قام به المبدأ في الحال حقيقة، وفي غيره مجاز، ولا يكون المجاز أيضا مطردا بل حيث يكون متعارفا وإلا لجاز صبي لشيخ ونائم لمستيقظ، وغني لفقير، وجائع لشبعان، وحي لميت وبالعكس، وأيضا لو اطرد ذلك يلزم من حلف لا يسلم على كافر فسلم على إنسان مؤمن في الحال إلا أنه كان كافرا قبل بسنين متطاولة أن يحنث ولا قائل به، هذا ومن أصحابنا من جعل الآية دليلا على عصمة الأنبياء عن الكبائر قبل البعثة وأن الفاسق لا يصح للخلافة، ومبنى ذلك حمل العهد على الإمامة وجعلها شاملة للنبوة والخلافة، وحمل الظالم على من ارتكب معصية مسقطة للعدالة
377

بناء على أن الظلم خلاف العدل، ووجه الاستدلال حينئذ أن الآية دلت على أن نيل الإمامة لا يجامع الظلم السابق فإذا تحقق النيل كما في الأنبياء علم عدم اتصافهم حال النيل بالظلم السابق وذلك إما بأن لا يصدر منهم ما يوجب ذلك أو بزواله بعد حصوله بالتوبة ولا قائل بالثاني إذ الخلاف إنما هو في أن صدور الكبيرة هل يجوز قبل البعثة أم لا؟ فيتعين الثاني وهو العصمة، أو المراد بها ههنا عدم صدور الذنب لا الملكة وكذا إذا تحقق الاتصاف بالظلم كما في الفاسق على عدم حصول الإمامة بعد ما دام اتصافه بذلك واستفادة عدم صلاحية الفاسق للإمامة على ما قررنا من منطوق الآية وجعلها من دلالة النص أو القياس المحوج إلى القول بالمساواة ولا أقل، أو التزام جامع وهما مناط العيوق إنما يدعو إليه حمل الإمامة على النبوة، وقد علمت أن المبنى الحمل على الأعم وكان الظاهر أن الظلم الطارىء والفسق العارض يمنع عن الإمامة بقاءا كما منع عنها ابتداءا لأن المنافاة بين الوصفين متحققة في كل آن - وبه قال بعض السلف - إلا أن الجمهور على خلافه مدعين أن المنافاة في الابتداء لا تقتضي المنافاة في البقاء لأن الدفع أسهل من الرفع، واستشهدوا له بأنه لو قال لامرأة مجهولة النسب يولد مثلها لمثله: هذه بنتي لم يجز له نكاحها ولو قال لزوجته الموصوفة بذلك لم يرتفع النكاح لكن إن أصر عليه يفرق القاضي بينهما وهذا الذين قالوه إنما يسلم فيما إذا لم يصل الظلم إلى حد الكفر أما إذا وصل إليه فإنه ينافي الإمامة بقاءا أيضا بلا ريب وينعزل به الخليفة قطعا، ومن الناس من استدل بالآية على أن الظالم إذا عوهد لم يلزم الوفاء بعهده وأيد ذلك بما روي عن الحسن أنه قال: إن الله تعالى لم يجعل للظالم عهدا وهو كما ترى، وقرأ أبو الرجاء، وقتادة، والأعمش (الظالمون) بالرفع على أن (عهدي) مفعول مقدم على الفاعل اهتماما ورعاية للفواصل.
* (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنآ إلى إبراهيم وإسم‍اعيل أن طهرا بيتى للطآئفين والع‍اكفين والركع السجود) *
* (وإذ جعلنا البيت) * عطف على * (وإذ ابتلى) * (البقرة: 124) والبيت من الأعلام الغالبة للكعبة كالنجم للثريا * (مثابة للناس) * أي مجمعا لهم قاله الخليل وقتادة - أو معاذا وملجأ - قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو مرجعا يثوب إليه أعيان الزوار أو أمثالهم - قاله مجاهد وجبير - أو مرجعا يحق أن يرجع ويلجأ إليه قاله بعض المحققين - أو موضع ثواب يثابون بحجه واعتماره - قال عطاء - وحكاه الماوردي عن بعض أهل اللغة والتاء فيه وتركه لغتان كما في مقام ومقامة وهي لتأنيث البقعة - وهو قول الفراء. والزجاج - وقال الأخفش: إن - التاء فيه للمبالغة كما في نسابة وعلامة، وأصله مثوبة على وزن مفعلة مصدر ميمي، أو ظرف مكان، واللام في الناس للجنس وهو الظاهر وجوز حمله على العهد أو الاستغراق العرفي، وقرأ الأعمش، وطلحة (مثابات) على الجمع لأنه مثابة كل واحد من الناس لا يختص به أحد منهم * (سواء العاكف فيه والباد) * (الحج: 25) فهو وإن كان واحدا بالذات إلا أنه متعدد باعتبار الإضافات، وقيل: إن الجمع بتنزيل تعدد الرجوع منزلة تعدد المحل أو باعتبار أن كل جزء منه مثابة، واختار بعضهم ذلك زعما منه أن الأول يقتضي أن يصح التعبير عن غلام جماعة بالمملوكين ولم يعرف، وفيه أنه قياس مع الفارق إذ له إضافة المملوكية إلى كلهم لا إلى كل واحد منهم * (وأمنا) * عطف على * (مثابة) * وهو مصدر وصف به للمبالغة، والمراد موضع أمن إما لسكانه من الخطف؛ أو لحجاجه من العذاب حيث إن الحج يزيل ويمحو ما قبله غير حقوق العباد والحقوق المالية كالكفارة على الصحيح، أو للجاني الملتجيء إليه من القتل - وهو مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه - إذ عنده لا يستوفى قصاص النفس في الحرم لكن يضيق على الجاني ولا يكلم ولا يطعم ولا يعامل حتى يخرج فيقتل، وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه من وجب عليه الحد والتجأ إليه يأمر الإمام بالتضييق عليه بما يؤدي إلى خروجه فإذا خرج أقيم عليه الحد في الحل فإن لم يخرج جاز قتله فيه،
378

وعند الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه لا يستوفى من الملتجىء قصاص مطلقا ولو قصاص الأطراف حتى يخرج ومن الناس من جعل - (أمنا) - مفعولا ثانيا لمحذوف على معنى الأمر أي - واجعلوه أمنا - كما جعلناه مثابة وهو بعيد عن ظاهر النظم، ولم يذكر للناس هنا كما ذكر من قبل، اكتفاء به أو إشارة إلى العموم أي أنه أمن لكل شيء كائنا ما كان حتى الطير والوحش إلا الخمس الفواسق فإنها خصت من ذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه أمن الناس دخولا أوليا
* (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) * عطف على جعلنا أو حال من فاعله على إرادة القول أي وقلنا أو قائلين لهم اتخذوا والمأمور به الناس كما هو الظاهر أو إبراهيم عليه السلام وأولاده كما قيل، أو عطف على اذكر المقدر عاملا ل‍ * (إذ) *، أو معطوف على مضمر تقديره ثوبوا إليه * (واتخذوا) * وهو معترض باعتبار نيابته عن ذلك بين (جعلنا) و (عهدنا) ولم يعتبر الاعتراض من دون عطف مع أنه لا يحتاج إليه ليكون الارتباط مع الجملة السابقة أظهر، والخطاب على هذين الوجهين لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وهو صلى الله عليه وسلم رأس المخاطبين. و * (من) * إما للتبعيض أو بمعنى - في - أو زائدة - على مذهب الأخفش - والأظهر الأول، وقال القفال: هي مثل اتخذت من فلان صديقا وأعطاني الله تعالى من فلان أخا صالحا، دخلت لبيان المتخذ الموهوب وتمييزه، و - المقام - مفعل من القيام يراد به المكان أي مكان قيامه وهو الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم عليه السلام حين ضعف من رفع الحجارة التي كان ولده إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت، وفيه أثر قدميه قاله ابن عباس، وجابر، وقتادة، وغيرهم، وأخرجه البخاري - وهو قول جمهور المفسرين - وروي عن الحسن أنه الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل عليه السلام تحت إحدى رجليه وهو راكب فغسلت أحد شقي رأسه ثم رفعته من تحتها وقد غاصت فيه ووضعته تحت رجله الأخرى فغسلت شقه الآخر وغاصت رجله
الأخرى فيه أيضا، أو الموضع الذي كان فيه الحجر حين قام عليه ودعا الناس إلى الحج ورفع بناء البيت، وهو موضعه اليوم - فالمقام - في أحد المعنيين حقيقة لغوية وفي الآخر مجاز متعارف ويجوز حمل اللفظ على كل منهما - كذا قالوا - إلا أنه استشكل تعيين الموضع بما هو الموضع بما هو الموضع اليوم لما في " فتح الباري " من أنه كان المقام أي الحجر من عهد إبراهيم عليه السلام لزيق البيت إلى أن أخره عمر رضي الله تعالى عنه إلى المكان الذي هو فيه الآن أخرجه عبد الرزاق بسند قوي، وأخرج ابن مردويه بسند ضعيف عن مجاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي حوله، فإن هذا يدل على تغاير الموضعين سواء كان المحول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عمر رضي الله تعالى عنه، وأيضا كيف يمكن رفع البناء حين القيام عليه حال كونه في موضعه اليوم؟! وهو بعيد من الحجر الأسود بسبعة وعشرين ذراعا، وأيضا المشهور أن دعوة الناس إلى الحج كانت فوق أبي قبيس فإنه صعده بعد الفراغ من عمارة البيت ونادى أيها الناس حجوا بيت ربكم فإن لم يكن الحجر معه حينئذ أشكل القول بأنه قام عليه ودعا وإن كان معه وكان الوقوف عليه فوق الجبل - كما يشير إليه كلام روضة الأحباب، وبه يحصل الجمع - أشكل التعيين بماهو اليوم وغاية التوجيه أن يقال لا شك أنه عليه السلام كان يحول الحجر حين البناء من موضع إلى موضع ويقوم عليه فلم يكن له موضع معين، وكذا حين الدعوة لم يكن عند البيت بل فوق أبي قبيس فلا بد من صرف عباراتهم عن ظاهرها بأن يقال الموضع الذي كان الحجر في أثناء زمان قيامه عليه واشتغاله بالدعوة، أو رفع البناء لا حالة القيام عليه، ووقع في بعض الكتب أن هذا المقام الذي فيه الحجر الآن كان بيت إبراهيم عليه السلام، وكان ينقل هذا الحجر بعد الفراغ من العمل إليه، وأن الحجر
379

بعد إبراهيم كان موضوعا في جوف الكعبة، ولعل هذا هو الوجه في تخصيص هذا الموضع بالتحويل، وما وقع في " الفتح " من أنه كان المقام من عهد إبراهيم لزيق البيت معناه بعد إتمام العمارة فلا ينافي أن يكون في أثنائها في الموضع الذي فيه اليوم - كذا ذكره بعض المحققين فليفهم - وسبب النزول ما أخرجه أبو نعيم من حديث ابن عمر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا عمر هذا مقام إبراهيم فقال عمر: أفلا نتخذه مصلى فقال: لم أومر بذلك فلم تغب الشمس حتى نزلت هذه الآية " والأمر فيها للاستحباب إذ المتبادر من - المصلى - موضع الصلاة مطلقا، وقيل: المراد به الأمر بركعتي الطواف لما أخرجه مسلم عن جابر: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين، وقرأ الآية " فالأمر للوجوب على بعض الأقوال، ولا يخفى ضعفه لأن فيه التقييد بصلاة مخصوصة من غير دليل وقراءته عليه الصلاة والسلام الآية حين أداء الركعتين لا يقتضي تخصيصه بهما، وذهب النخعي ومجاهد إلى أن المراد من مقام إبراهيم الحرم كله، وابن عباس وعطاء إلى أنه مواقف الحج كلها، والشعبي إلى أنه عرفة ومزدلفة والجمار، ومعنى - اتخاذها مصلى - أن يدعى فيها ويتقرب إلى الله تعالى عندها، والذي عليه الجمهور، هو ما قدمناه أولا، وهو الموافق لظاهر اللفظ ولعرف الناس اليوم وظواهر الأخبار تؤيده، وقرأ نافع وابن عامر * (واتخذوا) * بفتح الخاء على أنه فعل ماض، وهو يحنئذ معطوف على * (جعلنا) * أي - واتخذ الناس - من مكان إبراهيم الذي عرف به وأسكن ذريته عنده - وهو الكعبة قبلة يصلون إليها. فالمقام مجاز عن ذلك المحل وكذا - المصلى - بمعنى القبلة مجاز عن المحل الذي يتوجه إليه في الصلابة بعلاقة القرب والمجاورة
* (وعهدنآ إلى إبرااهم وإسماعيل) * أي وصينا أو أمرنا أو أوحينا أو قلنا، والذي عليه المحققون أن العهد إذا تعدى ب (إلى) يكون بمعنى التوصية، ويتجوز به عن الأمر، وإسمعيل علم أعجمي قيل: معناه بالعربية مطيع الله، وحكي أن إبراهيم عليه السلام كان يدعو أن يرزقه الله تعالى ولدا، ويقول: - اسمع إيل - أي استجب دعائي يا الله فلما رزقه الله تعالى ذلك سماه بتلك الجملة، وأراه في غاية البعد وللعرب فيه لغتان اللام والنون * (أن طهرا بيتي) * أي بأن طهرا على أن * (أن) * مصدرية وصلت بفعل الأمر بيانا للموصى المأمور به، وسيبويه وأبو علي جوزا كون صلة الحروف المصدرية أمرا أو نهيا والجمهور منعوا ذلك مستدلين بأنه إذا سبك منه مصدر فات معنى الأمر، وبأنه يجب في الموصول الإسمي كون صلته خبرية. والموصول الحرفي مثله، وقدروا هنا - قلنا - ليكون مدخول الحرف المصدري خبرا، ويرد عليهم أولا أن كونه مع الفعل بتأويل المصدر لا يستدعي اتحاد معناهما ضرورة عدم دلالة المصدر على الزمان مع دلالة الفعل عليه وثانيا: أن وجوب كون الصلة خبرية في الموصول الأسمى إنما هو للتوصل إلى وصف المعارف بالجمل وهي لا توصف بها إلا إذا كانت خبرية، وأما الموصول الحرفي فليس كذلك، وثالثا: أن تقدير - قلنا - يفضي إلى أن يكون المأمور به القول، وليس كذلك، وجوز أن تكون * (أن) * هذه مفسرة لتقدم ما يتضمن معنى القول دون حروفه، وهو العهد، ويحتاج حينئذ إلى تقدير المفعول إذ يشترط مع تقدم ما ذكر كون مدخولها مفسرا لمفعول مقدر أو ملفوظ أي قلنا لهما شيئا هو: أن طهرا والمراد من التطهير التنظيف من كل ما لا يليق فيدخل فيه الأوثان والأنجاس وجميع الخبائث وما يمنع منه شرعا كالحائض؛ وخص مجاهد، وابن عطاء، ومقاتل، وابن جبير التطهير بإزالة الأوثان، وذكروا أن البيت كان عامرا على عهد نوح عليه السلام وأنه كان فيه أصنام على أشكال صالحيهم، وأنه طال
380

العهد فعبدت من دون الله تعالى فأمر الله تعالى بتطهيره منها، وقيل: المراد بخراه ونظفاه وخلقاه وارفعا عنه الفرث والدم الذي كان يطرح فيه، وقيل: أخلصاه لمن ذكر بحيث لا يغشاه غيرهم فالتطهير عبارة عن لازمه، ونقل عن السدي أن المراد به البناء والتأسيس على الطهارة والتوحيد وهو بعيد، وتوجيه الأمر هنا إلى إبراهيم وإسمعيل لا ينافي ما في سورة الحج من تخصيصه بإبراهيم عليه السلام فإن ذلك واقع قبل بناء البيت كما يفصح عنه قوله تعالى: * (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) * (الحج: 26) وكان إسمعيل حينئذ بمعزل من مثابة الخطاب، وظاهر أن هذا بعد بلوغه مبلغ الأمر والنهي، وتمام البناء بمباشرته كما ينبىء عنه إيراده إثر حكاية جعله مثابة وإضافة البيت إلى ضمير الجلالة للتشريف ك‍ * (ناقة الله) * (الأعراف: 73) لا أنه مكان له تعالى عن ذلك علوا كبيرا
* (للطآئفين) * أي لأجلهم فاللام تعليلية وإن فسر التطهير بلازمه كانت صلة له، و - الطائف - اسم فاعل من طاف به إذا دار حوله، والظاهر أن المراد كل من يطوف من حاضر أو باد - وإليه ذهب عطاء وغيره - وقال ابن جبير: المراد الغرباء الوافدون مكة حجاجا وزوارا. * (والع‍اكفين) * وهم أهل البلد الحرام المقيمون عند ابن جبير، وقال عطاء: هم الجالسون من غير طواف من بلدي وغريب، وقال مجاهد: المجاورون له من الغرباء، وقيل: هم المعتكفون فيه * (والركع السجود)
* وهم المصلون جمع راكع وساجد، وخص الركوع والسجود بالذكر من جميع أحوال المصلي لأنهما أقرب أحواله إليه تعالى وهما الركنان الأعظمان وكثيرا ما يكنى عن الصلاة بهما ولذا ترك العطف بينهما ولم يعبر بالمصلين مع اختصاره إيذانا بأن المعتبر صلاة ذات ركوع وسجود لا صلاة اليهود. وقدم الركوع لتقدمه في الزمان وجمعا جمع تكسير لتغير هيأة المفرد مع مقابلتهما ما قبلهما من جمعي السلامة وفي ذلك تنويع في الفصاحة، وخالف بين وزني تكسيرهما للتنويع مع المخالفة في الهيآت وكان آخرهما على فعول لأجل كونه فاصلة والفواصل قبل وبعد آخرها حرف قبله حرف مد ولين.
* (وإذ قال إبراهيم رب اجعل ه‍اذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من ءامن منهم بالله واليوم الاخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير) *
* (وإذ قال إبراهيم رب اجعل ه‍اذا بلدا ءامنا) * الإشارة إلى الوادي المذكور بقوله تعالى: * (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم) * (إبراهيم: 37) أي اجعل هذا المكان القفر بلدا الخ فالمدعو به البلدية مع الأمن، وهذا بخلاف ما في سورة إبراهيم (35) * (رب اجعل هذا البلد آمنا) * ولعل السؤال متكرر، وما في تلك السورة كان بعد، والأمن المسؤول فيها إما هو الأول وأعاد سؤاله دون البلدية رغبة في استمراره لأنه المقصد الأصلي، أو لأن المعتاد في البلدية الاستمرار بعد التحقق بخلافه. وإما غيره بأن يكون المسؤول أولا: مجرد الأمن المصحح للسكنى، وثانيا: الأمن المعهود، ولك أن تجعل * (هذا البلد) * في تلك السورة إشارة إلى أمر مقدر في الذهن كما يدل عليه * (ربنا إني أسكنت) * (إبراهيم: 37) الخ فتطابق الدعوتان حينئذ؛ وإن جعلت الإشارة هنا إلى البلد تكون الدعوة بعد صيرورته بلدا والمطلوب كونه آمنا على طبق ما في السورة من غير تكلف إلا أنه يفيد المبالغة أي بلدا كاملا في الأمن كأنه قيل: اجعله بلدا معلوم الاتصاف بالأمن مشهورا به كقولك كان هذا اليوم يوما حارا، والوصف بآمن إما على معنى النسب أي ذا أمن على حد ما قيل: * (في عيشة راضية) * (القارعة: 7) وإما على الاتساع والإسناد المجازي، والأصل آمنا أهله فأسند * (ما) * للحال للمحل لأن الأمن والخوف من صفات ذوي الإدراك، وهل الدعاء بأن يجعله آمنا من الجبابرة والمتغلبين، أو من أن يعود حرمه حلالا، أو من أن يخلو من أهله أو من الخسف والقذف، أو من القحط والجذب، أو من دخول الدجال، أو من دخول أصحاب الفيل؟؟ أقوال، والواقع يرد بعضها فإن الجبابرة دخلته وقتلوا فيه - كعمرو بن لحي الجرهمي، والحجاج الثقفي والقرامطة وغيرهم - وكون البعض لم يدخله للتخريب بل كان
381

غرضه شيئا آخر لا يجدي نفعا كالقول بأنه ما آذى أهله جبار إلا قصمه الله تعالى ففي المثل: إذا مت عطشانا فلا نزل القطر
وكان النداء بلفظ الرب مضافا لما في ذلك من التلطف بالسؤال والنداء بالوصف الدال على قبول السائل، وإجابة ضراعته، وقد أشرنا من قبل إلى ما ينفعك هنا فتذكر.
* (وارزق أهله من الثمرات) * أي من أنواعها بأن تجعل قريبا منه قرى يحصل فيها ذلك أو تجىء إليه من الأقطار الشاسعة - قد حصل كلاهما - حتى إنه يجتمع فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد روي أن الله سبحانه لما دعا إبراهيم أمر جبريل فاقتلع بقعة من فلسطين، وقيل: من الأردن وطاف بها حول البيت سبعا فوضعها حيث وضعها رزقا للحرم وهي الأرض المعروفة اليوم بالطائف وسميت به لذلك الطواف، وهذا على تقدير صحته غير بعيد عن قدرة الملك القادر جل جلاله؛ وإن أبيت إبقاءه على ظاهره فباب التأويل واسع، وجمع القلة إظهارا للقناعة، وقد أشرنا إلى أنه كثيرا ما يقوم مقام جمع الكثرة، و * (من) * للتبعيض، وقيل: لبيان الجنس.
* (من ءامن منهم بالله واليوم الأخر) * بدل من * (أهله) * بدل البعض وهو مخصص لما دل عليه المبدل منه واقتصر في متعلق الإيمان بذكر المبدأ والمعاد لتضمن الإيمان بهما الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به * (قال) * أي الله تعالى. * (ومن كفر) * عطف على * (من آمن) * أي - وارزق من كفر أيضا - فالطلب بمعنى الخبر على عكس * (ومن ذريتي) * (البقرة: 124) وفائدة العدول تعليم تعميم دعاء الرزق وأن لا يحجر في طلب اللطف وكأن إبراهيم عليه السلام قاس الرزق على الإمامة فنبهه سبحانه على أن الرزق رحمة دنيوية لا تخص المؤمن بخلاف الإمامة أو أنه عليه السلام لما سمع * (لا ينال) * (البقرة: 124) الخ احترز من الدعاء لمن ليس مرضيا عنده تعالى فأرشده إلى كرمه الشامل، وبما ذكرنا اندفع ما في " البحر " من أن هذا العطف لا يصح لأنه يقتضي التشريك في العامل فيصير: قال إبراهيم وارزق فينافيه ما بعد، ولك أن تجعل العطف على محذوف أي - أرزق من آمن ومن كفر - بلفظ الخبر ومن لا يقول بالعطف التلقيني يوجب ذلك ويجوز أن تكون * (من) * مبتدأ شرطية أو موصولة وقوله تعالى: * (فأمتعه قليلا) * على الأول: معطوف على * (كفر) * وعلى الثاني: خبر للمبتدأ - والفاء - لتضمن المبتدأ معنى الشرط ولا حاجة إلى تقدير - أنا - لأن ابن الحاجب نص على أن المضارع في الجزاء يصح اقترانه بالفاء إلا أن يكون استحسانا، وإلى عدم التقدير ذهب المبرد، ومذهب سيبويه وجوب التقدير وأيد بأن المضارع صالح للجزاء بنفسه فلولا أنه خبر مبتدأ لم يدخل عليه الفاء، ثم الكفر وإن لم يكن سببا للتمتع المطلق لكنه يصلح سببا لتقليله وكونه موصولا بعذاب النار - وقليلا - صفة لمحذوف أي متاعا أو زمانا قليلا وقرأ ابن عامر * (فأمتعه) * مخففا على الخبر، وكذا قرأ يحيى بن وثاب إلا أنه كسر الهمزة، وقرأ أبي - فنمتعه - بالنون وابن عباس ومجاهد * (فأمتعه) * على صيغة الأمر، وعلى هذه القراءة يتعين أن يكون الضمير في * (قال) * عائدا إلى إبراهيم وحسن إعادة * (قال) * طول الكلام وأنه انتقل من الدعاء لقوم إلى الدعاء على آخرين فكأنه أخذ في كلام آخر وكونه عائدا إليه تعالى - أي: قال الله فأمتعه يا قادر يا رازق خطابا لنفسه على طريق التجريد - بعيد جدا لا ينبغي أن يلتفت إليه.
* (ثم أضطره إلى عذاب النار) * الاضطرار ضد الاختيار وهو حقيقة في كون الفعل صادرا من الشخص من غير تعلق إرادته به كمن ألقى من السطح مثلا مجاز في كون الفعل باختياره لكن بحيث لا يملك الامتناع عنه بأن عرض له عارض يقسره على اختياره كمن أكل الميتة حال المخمصة وبكلا المعنيين قال بعض، ويؤيد الأول
382

قوله تعالى: * (يوم يدعون إلى نار جهنم دعا) * (الطور: 13) و * (يسحبون في النار على وجوههم) * (القمر: 48) و * (فيؤخذبالنواصي والأقدام) *) الرحمان: 41) ويؤيد الثاني قوله تعالى: * (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤها فتحت أبوابها) * (الزمر: 71) * (وإن منكم إلا واردها) * (مريم: 71) الآية و * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون) * (الأنبياء: 98) والتحقيق أن أحوال الكفار يوم القيامة عند إدخالهم النار شتى وبذلك يحصل الجمع بين الآيات وإن الاضطرار مجاز عن كون العذاب واقعا به وقوعا محققا حتى كأنه مربوط به، قيل: إن هذا الاضطرار في الدنيا وهو مجاز أيضا كأنه شبه حال الكافر الذي أدر الله تعالى عليه النعمة التي استدناه بها قليلا إلى ما يهلكه بحال من لا يملك الامتناع مما اضطر إليه فاستعمل في المشبه ما استعمل في المشبه به وهو كلام حسن لولا أنه يستدعي ظاهرا حمل (ثم) على التراخي الرتبي وهو خلاف الظاهر، وقرأ ابن عامر - إضطره - بكسر الهمزة، ويزيد بن أبي حبيب - اضطره - بضم الطاء وأبي - نضطره - بالنون، وابن عباس ومجاهد على صيغة الأمر، وابن محيصن - أطره - بإدغام الضاد في الطاء خبرا - قال الزمخشري - وهي لغة مرذولة لأن حروف ضم شفر يدغم فيها ما يجاورها دون العكس، وفيه أن هذه الحروف ادغمت في غيرها فأدغم أبو عمرو الراء في اللام في (نغفر لكم) والضاد في الشين في - * (لبعض شأنهم) * - (النور: 62) والشين في السين في * (العرش سبيلا) * (الإسراد: 42) والكسائي الفاء في الباء في * (نخسف بهم) * (سبأ: 9) ونقل سيبويه عن العرب أنهم قالوا - مضطجع ومطجع - إلا أن عدم الإدغام أكثر، وأصل اضطر على هذا على ما قيل: اضتر فأبدلت التاء طاءا، ثم وقع الإدغام * (وبئس المصير) * المخصوص بالذم محذوف لفهم المعنى أي - وبئس المصير النار - إن كان المصير اسم مكان وإن كان مصدرا على من أجاز ذلك فالتقدير وبئست الصيرورة صيرورته إلى العذاب.
* (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسم‍اعيل ربنا تقبل منآ إنك أنت السميع العليم) *
* (وإذ يرفع إبراهم) * عطف على * (وإذ قال إبراهيم) * (البقرة: 126) وإذ للمضي وآثر صيغة المضارع مع أن القصة ماضية استحضارا لهذا الأمر ليقتدي الناس به في إتيان الطاعات الشاقة مع الابتهال في قبولها وليعلموا عظمة البيت المبني فيعظموه * (القواعد من البيت) * القواعد جمع قاعدة وهي الأساس كما قاله أبو عبيدة صفة صارت بالغلبة من قبيل الأسماء الجامدة بحيث لا يذكر لها موصوف ولا يقدر من القعود بمعنى الثبات، ولعله مجاز من المقابل للقيام، ومنه قعدك الله تعالى في الدعاء بمعنى أدامك الله تعالى وثبتك، ورفع القواعد على هذا المعنى مجاز عن البناء عليها إذ الظاهر من رفع الشيء جعله عاليا مرتفعا، والأساس لا يرتفع بل يبقى بحاله لكن لما كانت هيأته قبل البناء عليه الانخفاض ولما بني عليه انتقل إلى هيأة الارتفاع بمعنى أنه حصل له مع ما بني عليه تلك الهيأة صار البناء عليه سببا للحصول كالرفع فاستعمل الرفع في البناء عليه واشتق من ذلك * (يرفع) * بمعنى يبني عليها، وقيل: القواعد ساقات البناء وكل ساق قاعدة لما فوقه، فالمراد برفعها على هذا بناؤها نفسها، ووجه الجمع عليه ظاهر وعلى الأول لأنها مربعة ولكل حائط أساس، وضعف هذا القول بأن فيه صرف لفظ القواعد عن معناه المتبادر وليس هو كصرف الرفع في الأول، وقيل: الرفع بمعنى الرفعة والشرف، والقواعد بمعناه الحقيقي السابق فهو استعارة تمثيلية - وفيه بعد - إذ لا يظهر حينئذ فائدة لذكر القواعد. و * (من) * ابتدائية متعلقة ب * (يرفع) * أو حال من * (القواعد) * ولم يقل قواعد البيت لما في الإبهام والتبيين من الاعتناء الدال على التفخيم ما لا يخفى.
* (وإسماعيل) * عطف على * (إبراهيم) *، وفي تأخيره عن المفعول المتأخر عنه رتبة إشارة إلى أن مدخليته في رفع البناء، والعمل دون مدخلية إبراهيم عليه السلام، وقد ورد أنه كان يناوله الحجارة، وقيل: كانا يبنيان في طرفين أو على التناوب، وأبعد بعضهم فزعم أن إسمعيل مبتدأ وخبره محذوف أي يقول: ربنا، وهذا ميل
383

إلى القول بأن إبراهيم عليه السلام هو المتفرد بالبناء ولا مدخلية لإسمعيل فيه أصلا بناء على ما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان إذ ذاك طفلا صغيرا، والصحيح أن الأثر غير صحيح، هذا وقد ذكر أهل الأخبار في ماهية هذا البيت وقدمه وحدوثه، ومن أي شيء كان باباه، وكم مرة حجه آدم، ومن أي شيء بناه إبراهيم، ومن ساعده على بنائه، ومن أين أتى بالحجر الأسود؟؟؟ أشياء لم يتضمنها القرآن العظيم، ولا الحديث الصحيح، وبعضها يناقض بعضا، وذلك على عادتهم في نقل ما دب ودرج، ومن مشهور ذلك أن الكعبة أنزلت من السماء في زمان آدم، ولها بابان إلى المشرق والمغرب فحج آدم من أرض الهند واستقبلته الملائكة أربعين فرسخا فطاف بالبيت ودخله ثم رفعت في زمن طوفان نوح عليه السلام إلى السماء ثم أنزلت مرة أخرى في زمن إبراهيم فزارها ورفع قواعدها وجعل بابيها بابا واحدا ثم تمخض أبو قبيس فانشق عن الحجر الأسود، وكان ياقوتة بيضاء من يواقيت الجنة نزل بها جبريل فخبئت في زمان الطوفان إلى زمن إبراهيم فوضعه إبراهيم مكانه ثم اسود بملامسة النساء الحيض، وهذا الخبر وأمثاله إن صح - عند أهل الله تعالى - إشارات ورموز لمن ألقى السمع وهو شهيد فنزولها في زمن آدم عليه السلام إشارة إلى ظهور عالم المبدأ والمعاد ومعرفة عالم النور وعالم الظلمة في زمانه دون عالم التوحيد، وقصده زيارتها من أرض الهند إشارة إلى توجهه بالتكوين، والاعتدال من عالم الطبيعة الجسمانية المظلمة إلى مقام القلب، واستقبال الملائكة إشارة إلى تعلق القوى النباتية والحيوانية بالبدن وظهور آثارها فيه قبل آثار القلب في الأربعين التي تكونت فيها بنيته وتخمرت طينته أو توجهه بالسير والسلوك من عالم النفس الظلماني إلى مقام القلب، واستقبال الملائكة تلقى القوى النفسانية والبدنية إياه بقبول الآداب والأخلاق الجميلة، والملكات الفاضلة، والتمرن والتنقل في المقامات قبل وصوله إلى مقام القلب، وطوافه بالبيت إشارة إلى وصوله إلى مقام القلب وسلوكه فيه مع التلوين، ودخوله إشارة إلى تمكينه واستقامته فيه، ورفعه في زمن الطوفان إلى السماء إشارة إلى احتجاب الناس بغلبة الهوى وطوفان الجهل في زمن نوح عن مقام القلب، وبقاؤه في السماء إشارة إلى البيت المعمور الذي هو قلب العالم ونزوله مرة أخرى في زمان إبراهيم إشارة إلى اهتداء الناس في زمانه إلى مقام القلب بهدايته، ورفع إبراهيم قواعده وجعله ذا باب واحد إشارة إلى ترقي القلب إلى مقام التوحيد إذ هو أول من أظهر التوحيد الذاتي المشار إليه بقوله تعالى حكاية عنه: * (وجهت
وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين) * (الأنعام: 79) والحجر الأسود إشارة إلى الروح التي هي أمر الله عز شأنه ويمينه، وموضع سره، وتمخض أبي قبيس وانشقاقه عنه إشارة إلى ظهوره بالرياضة وتحرك آلات البدن باستعمالها في التفكر والتعبد في طلب ظهوره، ولهذا قيل: خبئت أي احتجبت بالبدن، واسوداده بملامسة الحيض إشارة إلى تكدره بغلبة القوى النفسانية على القلب، واستيلائها عليه، وتسويدها الوجه النوراني الذي يلي الروح منه: ولو ترك القطا ليلا لناما
* (ربنا تقبل منآ) * أي: يقولان ربنا وبه قرأ أبي والجملة حال من فاعل * (يرفع) * وقيل: معطوفة على ما قبله بجعل القول متعلقا ل‍ * (إذ) * والتقبل مجاز عن الإثابة والرضا لأن كل عمل يقبله الله تعالى فهو يثيب صاحبه ويرضاه منه، وفي سؤال الثواب على العمل دليل على أن ترتبه عليه ليس واجبا، وإلا لم يطلب، وفي اختيار صيغة التفعل اعتراف بالقصور لما فيه من الإشعار بالتكلف في القبول، وإن كان التقبل والقبول بالنسبة إليه تعالى على السواء إذ لا يمكن تعقل التكلف في شأنه عز شأنه، ويمكن أن يكون المراد من التقبل الرضا فقط دون الإثابة لأن غاية ما يقصده المخلصون من الخدم
384

لوقوع أفعالهم موضع القبول والرضا عند المخدوم، وليس الثواب مما يخطر لهم ببال، ولعل هذا هو الأنسب بحال الخليل وابنه إسمعيل عليهما السلام.
* (إنك أنت السميع العليم) * تعليل لاستدعاء التقبل، والمراد السميع لدعائنا، والعليم بنياتنا، وبذلك يصح الحصر المستفاد من تعريف المسندين ويفيد نفي السمعة والرياء في الدعاء والعمل الذي هو شرط القبول، وتأكيد الجملة لإظهار كمال قوة يقينهما بمضمونها وتقديم صفة السمع، وإن كان سؤال التقبل متأخرا عن العمل للمجاورة ولأنها ليست مثل العلم شمولا.
* (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنآ أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينآ إنك أنت التواب الرحيم) *
* (ربنا واجعلنا مسلمين لك) * أي منقادين قائمين بشرائع الإسلام أو مخلصين موحدين لك - فمسلمين - إما من استسلم إذا انقاد أو من أسلم وجهه إذا أخلص نفسه أو قصده ولكل من المعنيين عرض عريض، فالمراد طلب الزيادة فيهما أو الثبات عليهما، والأول أولى نظرا إلى منصبهما وإن كان الثاني أولى بالنظر إلى أنه أتم في إظهار الانقطاع إليه جل جلاله. وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنه * (مسلمين) * بصيغة الجمع على أن المراد أنفسهما والموجود من أهلهما كهاجر وهذا أولى من جعل لفظ الجمع مرادا به التثنية، وقد قيل به هنا، * (ومن ذريتنآ) * عطف على الضمير المنصوب في * (اجعلنا) * وهو في محل المفعول الأول و * (أمة مسلمة لك) * في موضع المفعول الثاني معطوف على * (مسلمين لك) * ولو اعتبر حذف الجعل فلا بد أن يحمل على معنى التصيير لا الإيجاد لأنه وإن صح من جهة المعنى إلا أن الأول لا يدل عليه وإنما خصا - الذرية - بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة كما قال الله تعالى: * (قوا أنفسكم وأهليكم نارا) * (التحريم: 6) ولأنهم أولاد الأنبياء وبصلاحهم صلاح كل الناس فكان الاهتمام بصلاحهم أكثر، وخصا البعض لما علما من قوله سبحانه: * (ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه) * (الصافات: 113) أو من قوله عز شأنه: * (لا ينال عهدي الظالمين) * (البقرة: 124) باعتبار السياق إن في - ذريتهما - ظلمة وأن الحكمة الإلهية تستدعي الانقسام إذ لولاه ما دارت أفلاك الأسماء ولا كان ما كان من أملاك السماء، والمراد من الأمة الجماعة أو الجيل، وخصها بعضهم بأمة محمد صلى الله عليه وسلم وحمل التنكير على التنويع، واستدل على ذلك بقوله تعالى: * (وابعث) * الخ ولا يخفى أنه صرف للفظ عن ظاهره واستدلال بما لا يدل، وجوز أبو البقاء أن يكون (أمة) المفعول الأول * (ومن ذريتنا) * حال لأنه نعت نكرة تقدم عليها - ومسلمة - المفعول الثاني وكان الأصل - واجعل أمة من ذريتنا مسلمة لك - فالواو داخلة في الأصل على (أمة) وقد فصل بينهما بالجار والمجرور، و (من) عند بعضهم على هذا بيانية على حد * (وعد الله الذين آمنوا منكم) * (النور: 55) ونظر فيه أبو حيان بأن أبا علي وغيره منعوا أن يفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف والفصل بالحال أبعد من الفصل بالظرف، وجعلوا ما ورد من ذلك ضرورة وبأن كون (من) للتبيين مما يأباه الأصحاب ويتأولون ما فهم ذلك من ظاهره؛ ولا يخفى أن المسألة خلافية وما ذكره مذهب البعض وهو لا يقوم حجة على البعض الآخر. * (وأرنا مناسكنا) * قال قتادة: معالم الحج، وقال عطاء وجريج: مواضع الذبح، وقيل: أعمالنا التي نعملها إذا حججنا فالمنسك بفتح السين والكسر شاذ إما مصدر أو مكان وأصل النسك بضمتين غاية العبادة وشاع في الحج لما فيه من الكلفة غالبا والبعد عن العادة، * (وأرنا) * من رأى البصرية ولهمزة الأفعال تعدت إلى مفعولين أو من رأى القلبية بمعنى عرف لا علم، وإلا لتعدت إلى ثلاثة، وأنكر ابن الحاجب وتبعه أبو حيان ثبوت رأى بمعنى عرف، وذكره الزمخشري في " المفصل " والراغب
385

في " مفرداته " وهما من الثقات فلا عبرة بإنكارهما، وقرأ ابن مسعود (وأرهم مناسكهم) بإعادة الضمير إلى الذرية، وقرأ ابن كثير ويعقوب - وأرنا - بسكون الراء وقد شبه فيه المنفصل بالمتصل فعومل معاملة (فخذ) في إسكانه للتخفيف، وقد استعملته العرب كذلك ومنه قوله: أرنا إداوة عبد الله نملؤها * من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا
وقول الزمخشري: إن هذه القراءة قد استرذلت لأن الكسرة منقولة من الهمزة الساقطة دليل عليها فإسقاطها إجحاف مما لا ينبغي لأن القراءة من المتواترات ومثلها أيضا موجود في كلام العرب العرباء * (وتب علينآ) * أي وفقنا للتوبة أو اقبلها منا والتوبة تختلف باختلاف التائبين فتوبة سائر المسلمين الندم والعزم على عدم العود ورد المظالم إذا أمكن، ونية الرد إذا لم يمكن، وتوبة الخواص الرجوع عن المكروهات من خواطر السوء، والفتور في الأعمال، والإتيان بالعبادة على غير وجه الكمال، وتوبة خواص الخواص لرفع الدرجات، والترقي في المقامات، فإن كان إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام طلبا التوبة لأنفسهما خاصة، فالمراد بها ما هو من توبة القسم الأخير، وإن كان الضمير شاملا لهما وللذرية كان الدعاء بها منصرفا لمن هو من أهلها ممن يصح صدور الذنب المخل بمرتبة النبوة منه، وإن قيل: إن الطلب للذرية فقط وارتكب التجوز في النسبة إجراءا للولد مجرى النفس بعلاقة البعضية ليكون أقرب إلى الإجابة، أو في الطرف حيث عبر عن الفرع باسم الأصل، أو قيل: بحذف
المضاف - أي على عصاتنا - زال الإشكال كما إذا قلنا: إن ذلك عما فرط منهما من الصغائر سهوا، والقول بأنهما لم يقصدا الطلب حقيقة، وإنما ذكرا ذلك للتشريع وتعليم الناس إن تلك المواضع مواضع التنصل، وطلب التوبة من الذنوب بعيد جدا، وجعل الطلب للتثبيت لا أراه هنا يجدي نفعا - كما لا يخفى - وقرأ عبد الله * (وتب عليهم) * بضمير جمع الغيبة أيضا * (إنك أنت التواب الرحيم) * تعليل للدعاء ومزيد استدعاء للإجابة، وتقديم التوبة للمجاورة، وتأخير الرحمة لعمومها ولكونها أنسب بالفواصل.
* (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آي‍اتك ويعلمهم الكت‍ابوالحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم) *
* (ربنا وابعث فيهم) * أي ارسل في - الأمة المسلمة - وقيل: في - الذرية - وعود الضمير إلى أهل مكة بعيد * (رسولا منهم) * أي من أنفسهم، ووصفه بذلك ليكون أشفق عليهم، ويكونوا أعز به وأشرف، وأقرب للإجابة، لأنهم يعرفون منشأه وصدقه وأمانته، ولم يبعث من ذرية كليهما سوى محمد صلى الله عليه وسلم، وجميع أنبياء بني إسرائيل من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام - لا من ذريتهما - فهو المجاب به دعوتهما، كما روى الإمام أحمد وشارح السنة عن العرباض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سأخبركم بأول أمري، أنا دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني " وأراد صلى الله عليه وسلم إثر دعوته، أو مدعوه، أو عين دعوته - على المبالغة - ولما كان إسمعيل عليه السلام شريكا في الدعوة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوة إسمعيل أيضا إلا أنه خص إبراهيم لشرافته وكونه أصلا في الدعاء، ووهم من قال: إن الاقتصار في الحديث على إبراهيم يدل على أن المجاب من الدعوتين كان دعوة إبراهيم دون إسمعيل عليهما الصلاة والسلام. وقرأ أبي * (وابعث فيهم في آخرهم رسولا) * وهذا يؤيد أن المراد به نبينا صلى الله عليه وسلم، وفي الأثر أنه لما دعي إبراهيم قيل له: قد استجيب لك، وهو يكون في آخر الزمان.
* (يتلوا عليهم ءاي‍اتك) * أي يقرأ عليهم ما توحى إليه من العلامات الدالة على التوحيد والنبوة وغيرهما،
386

وقيل: خبر من مضى ومن يأتي إلى يوم القيامة، والجملة صفة (رسولا) وقيل: في موضع الحال منه.
* (ويعلمهم الكت‍اب) * بأن يفهمهم ألفاظه ويبين لهم كيفية أدائه، ويوقفهم على حقائقه وأسراره.
والظاهر: أن مقصودهما من هذه الدعوة أن يكون - الرسول - صاحب كتاب يخرجهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، وقد أجاب سبحانه هذه الدعوة بالقرآن، وكونه بخصوصه كان مدعوا به غير بين ولا مبين.
و الحكمة أي وضع الأشياء مواضعها، أو ما يزيل من القلوب وهج حب الدنيا، أو الفقه في الدين، أو السنة المبينة - للكتاب - أو - الكتاب - نفسه، وكرر للتأكيد اعتناء بشأنه، وقد يقال: المراد بها حقائق الكتاب ودقائقه وسائر ما أودع فيه، ويكون - تعليم الكتاب - عبارة عن تفهيم ألفاظه، وبيان كيفية أدائه، وتعليم الحكمة الإيقاف على ما أودع فيه، وفسرها بعضهم بما تكمل به النفوس من المعارف والأحكام؛ فتشمل الحكمة النظرية والعملية، قالوا: وبينها وبين ما في (الكتاب) عموم من وجه لاشتمال القرآن على القصص والمواعيد، وكون بعض الأمور الذي يفيد كمال النفس - علما وعملا - غير مذكور في (الكتاب) وأنت تعلم أن هذا القول بعد سماع قوله تعالى: * (ما فرطنا في الكتاب من شيء) * (الأنعام: 38) وقوله سبحانه تعالى: * (تبيانا لكل شيء) * (النحل: 89) مما لا ينبغي الإقدام عليه، اللهم إلا أن تكون هذه النسبة بين ما في (الكتاب) الذي في الدعوة مع قطع النظر عما أجيبت به وبين الحكمة فتدبر.
* (ويزكيهم) * أي يطهرهم من أرجاس الشرك وأنجاس الشك وقاذورات المعاصي - وهو إشارة إلى التخلية كما أن التعليم إشارة إلى التحلية - ولعل تقديم الثاني على الأول لشرافته - والقول بأن المراد يأخذ منهم الزكاة التي هي سبب لطهرتهم أو يشهد لهم - بالتزكية والعدالة - بعيد * (إنك أنت العزيز الحكيم) * أي الغالب المحكم لما يريد، فلك أن تخصص واحدا منهم بالرسالة الجامعة لهذه الصفات بإرادته من غير مخصص، وحمل (العزيز) هنا على من لا مثل له - كما قاله ابن عباس - أو المنتقم - كما قاله الكلبي - و (الحكيم) على العالم - كما قيل - لا يخلو عن بعد.
* (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفين‍اه في الدنيا وإنه فى الاخرة لمن الص‍الحين) *
* (ومن يرغب عن ملة إبراهيم) * إنكار واستبعاد لأن يكون في العقلاء - من يرغب عن ملته - وهي الحق الواضح غاية الوضوح، أي لا يرغب عن ذلك أحد * (إلا من سفه نفسه) * أي جعلها مهانة ذليلة. وأصل - السفه - الخفة، ومنه زمام سفيه - أي خفيف - وسفه - بالكسر - كما قال المبرد وثعلب: متعد بنفسه، و * (نفسه) * مفعول به، وأما (سفه) بالضم فلازم، ويشهد له ما جاء في الحديث: " الكبر أن تسفه الحق وتغمط الناس " وقيل: إنه لازم أيضا، وتعدى إلى المفعول لتضمنه معنى ما يتعدى إليه، أي جهل نفسه لخفة عقله وعدم تفكره، وهو قول الزجاج، أو أهلكها، وهو قول أبي عبيدة؛ وقيل: إن النصب بنزع الخافض - أي في نفسه - فلا ينافي اللزوم - وهو قول لبعض البصريين - وقيل: على التمييز كما في قول نابغة الذبياني: ونأخذ بعده بذناب عيش * أجب الظهر ليس له سنام
وقيل: على التشبيه بالمفعول به، واعترض الجميع أبو حيان قائلا: إن التضمين والنصب بنزع الخافض لا ينقاسان، وإن التشبيه بالمفعول به مخصوص عند الجمهور بالصفة - كما قيل به في البيت - وأن البصريين منعوا مجىء التمييز معرفة، فالحق الذي لا ينبغي أن يتعدى القول بالتعدي. و (من) إما موصولة أو موصوفة في محل الرفع على المختار بدلا من الضمير في * (يرغب) * لأنه استثناء من غير موجب، وسبب نزول الآية ما روي أن عبد الله
387

بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام؛ فقال لهما: قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة: إني باعث من ولد إسمعيل نبيا اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى ورشد، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبي مهاجر، فنزلت * (ولقد اصطفين‍اه في الدنيا) * (البقرة: 130) أي اخترناه بالرسالة بتلك الملة،
واجتبيناه من بين سائر الخلق، وأصله اتخاذ صفوة الشيء أي خالصه.
* (وإنه في الآخرة لمن الص‍الحين) * أي المشهود لهم بالثبات على الاستقامة والخير والصلاح، والجملة معطوفة على ما قبلها، وذلك من حيث المعنى دليل مبين لكون - الراغب عن ملة إبراهيم سفيها - إذ الاصطفاء والعز في الدنيا غاية المطالب الدنيوية - والصلاح - جامع للكمالات الأخروية ولا مقصد للإنسان الغير - السفيه - سوى خير الدارين، وأما من حيث اللفظ فيحتمل أن يكون حالا مقررة لجهة الإنكار - واللام لام الابتداء - أي أيرغب عن ملته ومعه ما يوجب عكس ذلك، وهو الظاهر لفظا لعدم الاحتياج إلى تقدير القسم - وارتضاه الرضي - ويحتمل أن يكون عطفا على ما قبله، أو اعتراضا بين المعطوفين - واللام - جواب القسم المقدر وهو الظاهر معنى لأن الأصل في الجمل الاستقلال ولإفادة زيادة التأكيد المطلوب في المقام والإشعار بأن المدعي لا يحتاج إلى البيان، والمقصود مدحه عليه السلام وإيراد الجملة الأولى: ماضوية لمضيها من وقت الإخبار، والثانية: اسمية لعدم تقييدها بالزمان لأن انتظامه في زمرة صالحي أهل الآخرة أمر مستمر في الدارين لا أنه يحدث في الآخرة، والتأكيد بأن واللام لما أن الأمور الأخروية خفية عند المخاطبين فحاجتها إلى التأكيد أشد من الأمور التي تشاهد آثارها، وكلمة (في) متعلقة ب (الصالحين) على أن - أل - فيه للتعريف لا موصولة ليلزم تقديم بعض الصلة عليها على أنه قد يغتفر في الظرف ما لا يغتفر في غيره، أو بمحذوف أي صالح أو أعني، وجعله متعلقا ب (اصطفيناه) وفي الآية تقديم وتأخير، أو بمحذوف حالا من المستكن في الوصف بعيد.
* (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب الع‍المين) *
ظرف - لاصطفيناه - والمتوسط المعطوف ليس بأجنبي لأنه لتقدير المتعلق المعطوف تأكيده لأن اصطفاءه في الدنيا إنما هو للرسالة وما يتعلق بصلاح الآخرة فلا حاجة إلى أن يجعل اعتراضا أو حالا مقدرة كما قيل به، أو تعليل له، أو منصوب ب (اذكر) كأنه قيل: اذكر ذلك الوقت لتفق على أنه المصطفى الصالح وأنه ما نال ما نال إلا بالمبادرة والانقياد إلى ما أمر به وإخلاص سره حين دعاه ربه، وجوز جعله ظرفا ل‍ * (قال) * وليس الأمر وما في جوابه على حقيقتهما بل هو تمثيل، والمعنى أخطر بباله الدلائل المؤيدة إلى المعرفة، واستدل بها وأذعن بمدلولاتها إلا أنه سبحانه وتعالى عبر عن ذلك بالقولين تصويرا لسرعة الانتقال بسرعة الإجابة فهو إشارة إلى استدلاله عليه السلام بالكوكب والشمس والقمر واطلاعه على أمارات الحدوث على ما يشير إليه كلام الحسن وابن عباس من أن ذلك قبل النبوة وقبل البلوغ، ومن ذهب إلى أنه بعد النبوة قال: المراد الأمر بالطاعة والإذعان لجزئيات الأحكام والاستقامة والثبات على التوحيد على حد * (فاعلم أنه لا إله إلا الله) * (محمد: 19) ولا يمكن الحمل على الحقيقة أعني إحداث الإسلام والإيمان لأن الأنبياء معصومون عن الكفر قبل النبوة وبعدها ولأنه لا يتصور الوحي والاستنباء قبل الإسلام نعم إذا حمل الإسلام على العمل بالجوارح لا على معنى الإيمان أمكن الحمل على الحقيقة - كما قيل به - وفي الالتفات مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إليه عليه السلام إظهار لمزيد اللطف به والاعتناء بتربيته، وإضافة الرب في الجواب إلى * (العالمين) * للإيذان بكمال قوة إسلامه حيث أتقن حين النظر شمول ربوبيته تعالى للعالمين قاطبة لا لنفسه فقط كما هو المأمور به ظاهرا.
* (ووصى بهآ إبراهيم بنيه ويعقوب ي‍ابنى إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) *
388

* (ووصى إبراهيم بنيه) * مدح له عليه السلام بتكميله غيره إثر مدحه بكماله في نفسه، وفيه توكيد لوجود الرغبة في ملته، والتوصية التقدم إلى الغير بفعل فيه صلاح وقربة سواء كان حالة الاحتضار أولا وسواء كان ذلك التقدم بالقول أو الدلالة وإن كان الشائع في العرف استعمالها في القول المخصوص حالة الاحتضار وأصلها الوصل من قولهم أرض واصية أي متصلة النبات، ويقال: وصاه إذا وصله، وفصاه إذا فصله كأن الموصي يصل فعله بفعل الوصي، والضمير في * (بها) * إما للملة أو لقوله * (أسلمت) * (البقرة: 131) على تأويل الكلمة أو الجملة، ويرجح الأول كون المرجع مذكورا صريحا وكذا ترك المضمر إلى المظهر، وعطف (يعقوب) عليه فإن ذلك يدل على أنه شروع في كلام آخر لبيان تواصي الأنبياء باستمساك الدين الحق الجامع لجميع أحكام الأصول والفروع ليتوارثوا الملة القويمة والشرع المستقيم نسلا بعد نسل، وذكر يعقوب الدين في توصيته لبنيه - وهو والملة - أخوان ولو كان الضمير للثاني لكان الإسلام بدله، ويؤيد الثاني كون الموصى به مطابقا في اللفظ ل‍ * (أسلمت) * (البقرة: 131) وقرب المعطوف عليه لأنه حينئذ يكون معطوفا على * (قال أسلمت) * أي ما اكتفى بالامتثال بل ضم توصية بنيه بالإسلام بخلاف التقدير الأول فإنه معطوف على - * (من يرغب) * - (البقرة: 130) لأنه كما أشرنا إليه في معنى النفي، وخص البنين لأنه عليهم أشفق وهم بقبول وصيته أجدر ولأن النفع بهم أكثر، وقرأ نافع وابن عامر (أوصى) ولا دلالة فيها على التكثير كالأولى الدالة عليه لصيغة التفعيل.
* (ويعقوب) * عطف على (إبراهيم)، ورفعه على الابتداء وحذف الخبر أي - يعقوب - كذلك، والجملة معطوفة على الجملة الفعلية، وجعله فاعلا - لوصى - مضمرا بعيد، وقرىء بالنصب فيكون عطفا على * (بنيه) * والمراد بهم أبناء الصلب وهو عليه الصلاة والسلام كان نافلة، وإنما سمي يعقوب لأنه وعيصا - كانا توأمين - فتقدم عيص، وخرج يعقوب على أثره آخذا بعقبه كذا روي عن ابن عباس ولا أظن صحته.
* (ي‍ابني) * على إضمار القول عند البصريين، ويقدر بصيغة الإفراد على تقدير نصب يعقوب أي قال، أو قائلا. وبصيغة التثنية على تقدير الرفع؛ ووقوع الجملة بعد القول مشروط بأن يكون المقصود مجرد الحكاية، والكلام المحكي مشترك بين إبراهيم ويعقوب، وإن كان المخاطبون في الحالين متغايرين، وذهب الكوفيون إلى عدم الإضمار لأن التوصية لاشتمالها على معنى القول بل هي القول المخصوص كان حكمها حكمه. فيجوز وقوع الجملة في حيز مفعولها، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: (أن يا بني) ولا حاجة حينئذ إلى تقدير القول عند البصريين بل لا يجوز ذلك عندهم على ما يشير إليه كلام بعض المحققين، وبنو إبراهيم على ما في " الإتقان " اثنا عشر وهم: إسمعيل وإسحق ومدين وزمزان وسرح ونقش ونقشان وأميم وكيسان وسورج ولوطان ونافس وبنو يعقوب أيضا كذلك وهم: يوسف وروبيل
وشمعون ولاوى ويهوذا وداني وتفتاني وكاد واسبر وإيساجر ورايكون وبنيامين.
* (إن الله اصطفى لكم الدين) * أي جعل لكم الدين الذي هو صفوة الأديان بأن شرعه لكم ووفقكم للأخذ به، والمراد به دين الإسلام الذي به الإخلاص لله تعالى والانقياد له، وليس المراد ما يتراءى من أن الله تعالى جعله صفوة الأديان لكم لأن هذا الدين صفوة في نفسه لا اختصاص له بأحد، وليس عند الله تعالى غيره، ومن هنا يعلم أن الإسلام يطلق على غير ديننا لكن العرف خصصه به، وزعم بعضهم عدم الإطلاق وألف في ذلك رسالة تكلف بها غاية التكلف.
* (فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) * نهي عن الاتصاف بخلاف حال الإسلام وقت الموت، والمفهوم
389

من الآية ظاهرا النهي عن الموت على خلاف تلك الحال، وليس بمقصود لأنه غير مقدور وإنما المقدور قيده فيعود النهي إليه كما سمعت لما أن الامتناع عن الاتصاف بتلك الحال يستتبع الامتناع عن الموت في تلك الحال فأما أن يقال استعمل اللفظ الموضوع للأول في الثاني فيكون مجازا، أو يقال استعمل اللفظ في معناه لينتقل منه إلى ملزومه فيكون كناية، وقال الفاضل اليمني: إن هذا كناية بنفي الذات عن نفي الحال على عكس ما قيل في قوله تعالى: * (كيف تكفرون بالله) * (البقرة: 28) من أنه كناية بنفي الحال عن نفي الذات، وفيه أن نفي الذات إنما يصير كناية عن نفي جميع الصفات لا عن صفة معينة فافهم، والمراد من الأمر الذي يشير إليه ذلك النهي الثبات على الإسلام لأنه اللازم له، والمقصود من التوصية، ولأن أصل الإسلام كان حاصلا لهم، وإنما أدخل حرف النفي على الفعل مع أنه ليس منهيا عنه للدلالة على أن موتهم لا على الإسلام موت لا خير فيه، وأن حقه أن لا يحل بهم وأنه يجب أن يحذروه غاية الحذر، وذكر بعضهم أن الإسلام المأمور به هنا ما يكون بالقلب دون العمل بالجوارح لأن ذلك مما لا يكاد يمكن عند الموت ولهذا ورد في الحديث: " اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتفوه على الإيمان " ولا يخفى ما فيه.
* (أم كنتم شهدآء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدى قالوا نعبد إل‍اهك وإل‍اه آبآئك إبراهيم وإسم‍اعيل وإسح‍اق إل‍اها واحدا ونحن له مسلمون) *
* (أم كنتم شهدآء إذ حضر يعقوب الموت) * الخطاب لجنس اليهود أو الموجودين في زمانه صلى الله عليه وسلم على ما يشير إليه سبب النزول فقد ذكر الواحدي أن الآية نزلت في اليهودي حين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ألست تعلم أن يعقوب لما مات أوصى بنيه باليهودية؟ و * (أم) * إما منقطعة بمعنى بل، وهمزة الإنكار، ومعنى بل الإضراب عن الكلام الأول وهو بيان التوصية إلى توبيخ اليهود على ادعائهم اليهودية على يعقوب وأبنائه، وفائدته الانتقال من جملة إلى أخرى أهم منها أي ما كنتم حاضرين حين احتضاره عليه الصلاة والسلام وسؤاله بنيه عن الدين فلم تدعون ما تدعون؟! ولك أن تجعل الاستفهام للتقرير أي كانت أوائلكم حاضرين حين وصى بنيه عليه الصلاة والسلام بالإسلام والتوحيد وأنتم عالمون بذلك فما لكم تدعون عليه خلاف ما تعلمون؟! فيكون قد نزل علمهم بشهادة أوائلهم منزلة الشهادة فخوطبوا بما خوطبوا، وإما متصلة وفي الكلام حذف - والتقدير أكنتم غائبين أم كنتم شاهدين - وليس الاستفهام على هذا على حقيقته للعلم بتحقق الأول وانتفاء الثاني بل هو للإلزام والتبكيت أي أي الأمرين كان فمدعاكم؟ باطل، أما على الأول: فلأنه رجم بالغيب، وأما على الثاني: فلأنه خلاف المشهور، واعترض أبو حيان على هذا الوجه بأنا لا نعلم أحدا أجاز حذف الجملة المعطوف عليها في (أم) المتصلة وإنما سمع حذف (أم) مع المعطوف لأن الثواني تحتمل ما لا تحتمل الأوائل، وقيل: الخطاب للمؤمنين ومعنى بل الإضراب عن الكلام الأول والأخذ فيما هو الأهم وهو التحريض على اتباعه صلى الله عليه وسلم بإثبات بعض معجزاته وهو الإخبار عن أحوال الأنبياء السابقين من غير سماع من أحد ولا قراءة من كتاب كأنه تعالى بعد ذكر ما تقدم التفت إلى مؤمني الأمة أما شهدتم ما جرى وأما علمتم ذلك بالوحي وإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم فعليكم باتباعه إلا أنه اكتفى بذكر مقاولة يعقوب وبنيه ليعلم عدم حضورهم حين توصية إبراهيم عليه الصلاة والسلام بطريق الأولى، ولا يخفى أن هذا القائل لم يعتبر سبب النزول ولعله لما فيه من الضعف حتى قال الإمام السيوطي: لم أقف عليه، و - الشهداء - جمع شهيد أو شاهد بمعنى حاضر، وحضر من باب قعد، وقرىء * (حضر) * بالكسر ومضارعه أيضا - يحضر - بالضم وهي لغة شاذة، وقيل: إنها على التداخل.
* (إذ قال لبنيه) * بدل من * (إذ حضر) * بدل اشتمال وكلاهما مقصودان كما هو المقرر في إبدال الجمل إلا أن في البدل زيادة بيان ليست في المبدل منه ولو تعلقت إذ هنا ب * (قالوا) * لم ينتظم الكلام.
390

* (ما تعبدون من بعدي) * أي أي شيء تعبدونه بعد موتي ف * (ما) * في محل رفع والعائد محذوف وكونه في محل نصب على المفعولية مفوت للتقوى المناسب للمقام؛ ويسأل بها عن كل شيء فإذا عرف خص العقلاء ب (من) إذا سئل عن تعينه فيجاب بما يفيده، وإذا سأل عن وصفه قيل (ما) زيد أكاتب أم شاعر، وفي السؤال عن حالهم بعد موته دليل على أن الغرض حثهم على ما كانوا عليه حال حياته من التوحيد والإسلام، وأخذ الميثاق منهم عليه فليس الاستفهام حقيقيا وكان هذا بعد أن دخل عليه السلام مصر ورأى فيها من يعبد النار فخاف على ولده فحثهم على ما حثهم. * (قالوا نعبد إلهك وإل‍اه ءابائك إبراهيم وإسم‍اعيل وإسح‍اق) * استئناف وقع جوابا لسؤال نشأ عن حكاية السؤال وفي إضافة الإله إلى المتعدد إشارة إلى الاتفاق على وجوده وألوهيته وقدم إسمعيل في الذكر على إسحق لكونه أسن منه وعده من آباء يعقوب مع أنه عمه تغليا للأكثر على الأقل، أو لأنه شبه العم بالأب لانخراطهما في سلك واحد وهو الأخوة فأطلق عليه لفظه، ويؤيده ما أخرجه الشيخان " عم الرجل صنو أبيه " وحينئذ يكون المراد - بآبائك - ما يطلق عليه اللفظ كيلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، والآية على حد ما أخرجه ابن أبي شيبة وغيره من قوله عليه الصلاة والسلام: " احفظوني في العباس فإنه بقية آبائي " وقرأ الحسن (أبيك) وهو إما مفرد وإسمعيل وإسحق عطف نسق عليه وإبراهيم وحده عطف بيان، أو جمع وسقطت نونه للإضافة كما في قوله: فلما (تبين) أصواتنا * بكين وفديننا بالأبينا
* (إل‍اها واحدا) * بدل من * (إله آبائك) * والنكرة تبدل من المعرفة بشرط أن توصف كما قوله تعالى: * (بالناصية * ناصية كاذبة) * (العلق: 15، 16)
والبصريون لا يشترطون فيها ذلك، وفائدة الإبدال دفع توهم التعدد الناشىء من ذكر الإله مرتين، أو نصب على المدح أو الحال الموطئة كما في " البحر "
* (ونحن له مسلمون) * أي مذعنون مقرون بالعبودية، وقيل: خاضعون منقادون مستسلمون لنهيه وأمره قولا وعقدا، وقيل: داخلون في الإسلام ثابتون عليه، والجملة حال من الفاعل، أو المفعول، أو منهما لوجود ضميريهما، أو اعتراضية محققة لمضمون ما سبق في آخر الكلام - بلا كلام - وقال أبو حيان: الأبلغ أن تكون معطوفة على * (نعبد) * فيكونوا قد أجابوا بشيئين وهو من باب الجواب المربي عن السؤال.
* (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تس‍الون عما كانوا يعملون) *
* (تلك أمة قد خلت) * الإشارة إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأولاده، و - الأمة - أتت بمعان، والمراد بها هنا الجماعة من أم بمعنى قصد، وسميت كل جماعة يجمعهم أمر ما إما دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان بذلك لأنهم يؤم بعضهم بعضا ويقصده، و - الخلو - المضي وأصله الانفراد.
* (لها ما كسبت ولكم ما كسبتم) * استئناف أو بدل من قوله تعالى: * (خلت) * لأنها بمعنى لا تشاركونهم وهي كغير الوافية وهذه وافية بتمام المراد، أو الأولى صفة أخرى - لأمة - أو حال من ضمير * (خلت) * والثانية جملة مبتدأة، إذ لا رابط فيها ولا مقارنة في الزمان، وفي الكلام مضاف محذوف بقرينة المقام، أي لكل أجر عمله، وتقديم المسند لقصر المسند إليه على المسند، والمعنى أن انتسابكم إليهم لا يوجب انتفاعكم بأعمالهم، وإنما تنتفعون بموافقتهم واتباعهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: " يا معشر قريش، إن أولى الناس بالنبي المتقون، فكونوا بسبيل من ذلك، فانظروا أن لا يلقاني الناس يحملون الأعمال، وتلقوني بالدنيا فأصد عنكم بوجهي " ولك أن تحمل الجملة الأولى: على معنى - لها ما كسبته - لا يتخطاها إلى غيرها، والثانية: على معنى
391

ولكم ما كسبتموه - لا ما كسبه غيرهم - فيختلف القصران المقام ذلك.
* (ولا تسئلون عما كانوا يعملون) * إن أجري - السؤال - على ظاهره فالجملة مقررة لمضمون ما قبلها وإن أريد به مسببه - أعني الجزاء - فهو تذييل لتتميم ما قبله، والجملة مستأنفة أو معترضة، والمراد تخييب المخاطبين وقطع أطماعهم من الانتفاع بحسنات من مضى منهم، وإنما أطلق - العمل - لإثبات الحكم بالطريق البرهاني في ضمن قضية كلية، وحمل الزمخشري الآية على معنى - لا تؤاخذون بسيئاتهم كما لا تثابون بحسناتهم - واعترض بأنه مما لا يليق بشأن التنزيل، كيف لا وهم منزعون عن كسب السيئات فمن أين يتصور تحميلها على غيرهم حتى يتصدى لبيان انتفائه، وأنت تعلم أنه إذا كان المقصود سوق ذلك بطريق كلي برهاني لا يتوهم ما ذكر.
هذا ومن الغريب حمل الإشارة على كل من إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وأن المعنى كل واحد منهم أمة أي بمنزلتها في الشرف والبهاء قد خلت أي مضت، ولستم مأمورين بمتابعتهم لها ما كسبت وهو ما أمرها الله تعالى به ولكم ما كسبتم مما يأمركم به سبحانه وتعالى، ولا ينفعكم مكتسبهم لأنه ليس مقبولا منكم لأنه ليس في حقكم، إنما ينفعكم ما يجب عليكم كسبه ولا تسألون عما كانوا يعملون هل عملتم به؟ وإنما تسألون عما كان يعمل نبيكم الذي أمرتم بمتابعته، فإن أعماله ما هو كسبكم المسؤول عنه، فدعوا أن هذا ما أمر به إبراهيم أو غيره، وتمسكوا بما أمر به نبيكم، واعتبروا إضافة العمل إليه دونهم، ولا يخفى أنه لو كانت هذه الآيات كلام هذا المفسر لأمكن حملها على هذا التفسير الذي لا فرع ولا أصل له، لكنها كلام رب العالمين الذي يجل عن الحمل على مثل ذلك.
ومن باب الإشارة والتأويل في الآيات السابقة إلى هنا: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات) أي بمراتب الروحانيات كالقلب والسر والروح والخفاء والوحدة والأحوال والمقامات التي يعبر بها على تلك المراتب كالتسليم والتوكل والرضا وعلومها * (فأتمهن) * بالسلوك إلى الله تعالى وفي الله تعالى حتى الفناء فيه * (قال إني جاعلك للناس إماما) * بالبقاء بعد الفناء، والرجوع إلى الخلق من الحق، تؤمهم وتهديهم سلوك سبيلي، ويقتدون بك فيهتدون * (قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) * (البقرة: 124) فلا يكونون خلفائي مع ظلمهم وظلمتهم برؤية الأغيار ومجاوزة الحدود * (وإذ جعلنا) * بيت القلب مرجعا للناس، ومحل أمن وسلامة لهم إذا وصلوا إليه وسكنوا فيه من شر غوائل صفات النفس، وفتك قتال القوى الطبيعية وإفسادها، وتخييل شياطين الوهم والخيال وإغوائهم. * (واتخذوا من مقام إبراهيم) * الذي هو مقام الروح والخلة موطنا للصلاة الحقيقية التي هي المشاهدة والخلة الذوقية * (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل) * (البقرة: 125) أمرناهما بتطهير بيت القلب من قاذورات أحاديث النفس، ونجاسات وساوس الشيطان، وأرجاس دواعي الهوى، وأدناس صفات القوى للسالكين المشتاقين الذين يدورون حول القلب في سيرهم، والواصلين إلى مقامه بالتكول الذي هو توحيد الأفعال، والخاضعين الذين بلغوا إلى مقام تجلي الصفات وكمال مرتبة الرضا، الغائبين في الوحدة، الفانين فيها * (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا) * الصدر الذي هو حريم القلب * (بلدا آمنا) * من استيلاء صفات النفس، واغتيال العدو اللعين، وتخطف جن القوى البدنية * (وارزق أهله) * من ثمرات معارف الروح من وحد الله تعالى منهم وعلم المعاد إليه، قال: ومن احتجب أيضا من الذين يسكنون الصدر ولا يجاوزون حده بالترقي إلى مقام
392

العين لاحتجابهم بالعلم الذي وعاؤه الصدر * (فأمتعه قليلا) * من المعاني العقلية والمعلومات الكلية النازلة إليهم من عالم الروح على حسب استعدادهم * (ثم أضطره إلى عذاب) * نار الحرمان والحجاب * (وبئس المصير) * (البقرة: 126) مصيرهم لتعذيبهم بنقصانهم وعدم تكميل نشأتهم * (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت) * على الكيفية التي ذكرناها قبل * (وإسمعيل) * كذلك قائلين * (ربنا تقبل منا) * مجاهداتنا ومساعينا في السلوك إليك بامداد التوفيق * (إنك أنت السميع) * لهواجس خواظرنا فيه * (العليم) * (البقرة: 127) بنياتنا وأسرارتا * (ربنا واجعلنا مسلمين لك) * لاتكلنا إلى أن أنفسنا * (ومن ذريتنا) * المنتمين إلينا * (أمة مسلمة لك وأرنا) * طرق الوصول إلى نفي ما سواك * (وتب علينا) * فيك عن أنفسنا وفنائنا * (إنك أنت التواب) * الموفق للرجوع إليك * (الرحيم) * (البقرة: 128) بمن عول دون السوى عليك * (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم) * وهو الحقيقة المحمدية * (يتلو عليهم آياتك) * الدالة عليك * (ويعلمهم) * كتاب العقل
الجامع لصفاتك * (والحكمة) * الدالة على نفي غيرك * (ويزكيهم) * ويطهرهم عن دنس الشرك * (إنك أنت العزيز) * (البقرة: 129) الغالب، فأنى يظهر سواك المحكم لما ظهرت فيه فلا يرى إلا إياك * (ومن يرغب عن ملة إبراهيم) * وهي التوحيد الصرف، إلا من احتجب عن نور العقل بالكلية، وبقي في ظلمة نفسه * (ولقد اصطفيناه) * (البقرة: 130) فكان من المحبوبين المرادين بالسابقة الأزلية في عالم الملك، وأنه في عالم الملكوت من أهل الاستقامة، الصالح لتدبير النظام وتكميل النوع * (إذ قال له ربه أسلم) * أي وحد وأسلم لله تعالى ذاتك * (قال أسلمت لرب العالمين) * (البقرة: 131) وفنيت فيه * (ووصى) * بكلمة التوحيد * (إبراهيم بنيه) * السالكين على يده وكذلك يعقوب * (يا بني إن الله اصطفى لكم) * دينه الذي لا دين غيره عنده * (فلا تموتن) * (البقرة: 132) بالموت الطبيعي وموت الجهل، بل كونوا ميتين بأنفسكم، أحياء بالله أبدا، فيدرككم موت البدن على هذه الحالة * (تلك أمة قد خلت) * فلا تكونوا مقيدين بالتقليد البحت لهم، فليس لأحد إلا ما كسب من العلم والعمل والاعتقاد والسيرة، فكونوا على بصيرة في أمركم، واطلبوا ما طلبوا لتنالوا ما نالوا * (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) * (العنكبوت: 69) ومن دق باب الكريم ولج ولج.
* (وقالوا كونوا هودا أو نص‍ارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) *
* (وقالوا كونوا هودا أو نص‍ارى تهتدوا) * الضمير الغائب لأهل الكتاب، والجملة عطف على ما قبلها عطف القصة على القصة، والمراد منها رد دعوتهم إلى دينهم الباطل إثر رد ادعائهم اليهودية على يعقوب عليه السلام، و * (أو) * لتنويع المقال - لا للتخيير - بدليل أن كل واحد من الفريقين يكفر الآخر، أي: قال اليهود للمؤمنين كونوا هودا وقالت النصارى لهم كونوا نصارى و * (تهتدوا) * جواب الأمر، أي إن كنتم كذلك تهتدوا. روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في رؤوس يهود المدينة، كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهوذا وأبي ياسر بن أحطب وفي نصارى أهل نجران، وذلك أنهم خاصموا المسلمين في الدين كل فرقة تزعم أنها أحق بدين الله من غيرها، فقالت اليهود: نبينا موسى أفضل الأنبياء، وكتابنا التوراة أفضل الكتب، وديننا أفضل الأديان، وكفرت بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن، وقالت النصارى: نبينا عيسى أفضل الأنبياء، وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب، وديننا أفضل الأديان، وكفرت بمحمد والقرآن، وقال كل واحد من الفريقين للمؤمنين كونوا على ديننا، فلا دين إلا ذلك في رواية ابن إسحق وابن جرير وغيرهما عنه أن عبد الله بن صوريا الأعور قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما الهدى إلا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد تهتد، وقالت النصارى: مثل ذلك فأنزل الله تعالى فيهم الآية * (قل) * خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي قل لأولئك القائلين على سبيل الرد عليهم،
393

وتبيين ما هو الحق لديهم وإرشادهم إليه.
* (بل ملة إبرااهيم) * أي لا نكون كما تقولون، بل نكون ملة إبراهيم أي أهل - ملته - أو بل نتبع ملة إبراهيم. والأول: يقتضيه رعاية جانب لفظ ما تقدم - وإن احتاج إلى حذف المضاف والثاني: يقتضيه الميل إلى جانب المعنى إذ يؤل الأول إلى اتبعوا ملة اليهود أو النصارى مع عدم الاحتياج إلى التقدير، وجوز أن يكون المعنى بل اتبعوا أنتم ملته، أو كونوا أهل ملته، وقيل: الأظهر بل نؤتي ملة إبراهيم - ولم يظهر لي وجهه - وقرىء * (بل ملة) * بالرفع، أي بل ملتنا أو أمرنا ملته أو نحن ملته أي أهلها، وقيل: بل الهداية أو تهدي ملة إبراهيم وهو كما ترى * (حنيفا) * أي مستقيما أو مائلا عن الباطل إلى الحق ويوصف به المتدين والدين، وهو حال إما من المضاف بتأويل الدين أو تشبيها له بفعيل بمعنى مفعول كما قوله تعالى: * (إن رحمة الله قريب من المحسنين) * (الأعراق: 56) وهذا على قراءة النصب وتقدير (نتبع) ظاهر، وإما على تقدير تكون عليها فلأن ملة فاعل الفعل المستفاد من الإضافة أي تكون ملة ثبتت لإبراهيم، وعلى قراءة الرفع تكون الحال مؤكدة لوقوعها بعد جملة اسمية جزآها جامدان معرفتان مقررة لمضمونها لاشتهار ملته عليه الصلاة والسلام بذلك فالنظم على حد - أنا حاتم جوادا - أو من المضاف إليه بناءا على ما ارتضوه من أنه يجوز مجيء الحال منه في ثلاث صور: إذا كان المضاف مشتقا عاملا، أو جزءا، أو بمنزلة الجزء في صحة حذفه كما هنا فإنه يصح - اتبعوا إبراهيم - بمعنى اتبعوا ملته، وقيل: إن الذي سوغ وقوع الحال من المضاف إليه كونه مفعولا لمعنى الفعل المستفاد من الإضافة أو اللام - وإليه يشير كلام أبي البقاء - ولعله أولى لاطراده في التقدير الأول، وقيل: هو منصوب بتقدير أعني * (وما كان من المشركين) * عطف على (حنيفا) على طبق * (حنفاء لله غير مشركين به) * (الحج: 31) فهو حال من المضاف إليه لا من المضاف إلا أن يقدر - وما كان دين المشركين - وهو تكلف، والمقصود التعريض بأهل الكتاب والعرب الذين يدعون اتباعه ويدينون بشرائع مخصوصة به من حج البيت والختان وغيرهما فإن في كل طائفة منهم شركاء فاليهود قالوا - عزيز ابن الله - والنصارى - المسيح ابن الله - والعرب عبدوا الأصنام وقالوا الملائكة بنات الله.
* (قولوا ءامنا بالله ومآ أنزل إلينا ومآ أنزل إلى إبراهيم وإسم‍اعيل وإسح‍اق ويعقوب والأسباط ومآ أوتى موسى وعيسى ومآ أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) *
* (قولوا ءامنا بالله) * خطاب للمؤمنين لا للكافرين - كما قيل - لما فيه من الكلف والتكلف وبيان للاتباع المأمور به فهو بمنزلة بدل البعض من قوله سبحانه: * (بل ملة إبراهيم) * (البقرة: 135) لأن الاتباع يشمل الاعتقاد والعمل وهذا بيان الاعتقاد أو بدل الاشتمال لما فيه من التفصيل الذي ليس في الأول، وقيل: استئناف كأنهم سألوا كيف الاتباع؟ فأجيبوا بذلك وأمر أولا: بصيغة الإفراد، وثانيا: بصيغة الجمع إشارة إلى أنه يكفي في الجواب قول الرسول صلى الله عليه وسلم من جانب كل المؤمنين بخلاف الاتباع فإنه لا بد فيه من قول كل واحد لأنه شرط الإيمان أو شطره قاله بعض المحققين، والقول بأنه بمنزلة البيان والتأكيد للقول الأول - ولذا ترك العطف - لا يخلو عن شيء وقدم الإيمان بالله سبحانه لأنه أول الواجبات ولأنه بتقدم معرفته تصح معرفة النبوات والشرعيات.
* (وما أنزل إلينا) * أي القرآن وهو وإن كان في الترتيب النزولي مؤخرا عن غيره لكنه في الترتيب الإيماني مقدم عليه لأنه سبب الإيمان بغيره لكونه مصدقا له ولذا قدمه.
* (وما أنزل إلى إبرااهيم وإسم‍اعيل وإسح‍اق ويعقوب والأسباط) * يعني الصحف وهي وإن نزلت على إبراهيم عليه الصلاة والسلام لكن لما كان ما عطف عليه متعبدين بتفاصيلها داخلين تحت أحكامها صح نسبة
394

نزولها إليهم أيضا كما صحح تعبدنا بتفاصيل القرآن ودخولنا تحت أحكامه نسبة نزوله إلينا، والأسباط جمع سبط كأحمال وحمل وهم أولاد إسرائيل، وقيل: هم في أولاد إسحق كالقبائل في أولاد إسماعيل مأخوذ من السبط وهو شجرة كثيرة الأغصان فكأنهم سموا بذلك لكثرتهم، وقيل: من السبوطة وهي الاسترسال، وقيل: إنه مقلوب البسط، وقيل: للحسنين سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم لانتشار ذريتهم ثم قيل لكل ابن بنت: سبط، وكذا قيل له: حفيد أيضا، واختلف الناس في الأسباط أولاد يعقوب هل كانوا كلهم أنبياء أم لا؟ والذي صح عندي الثاني وهو المروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه - وإليه ذهب الإمام السيوطي - وألف فيه لأن ما وقع منهم مع يوسف عليه الصلاة والسلام ينافي النبوة قطعا وكونه قبل البلوغ غير مسلم لأن فيه أفعالا لا يقدر عليها إلا البالغون، وعلى تقدير التسليم لا يجدي نفعا على ما هو القول الصحيح في شأن الأنبياء وكم كبيرة تضمن ذلك الفعل وليس في القرآن ما يدل على نبوتهم، والآية قد علمت ما ذكرنا فيها فاحفظ ذلك هديت.
* (وما أوتي موسى وعيسى) * أي التوراة والإنجيل، ولكون أهل الكتاب زادوا ونقصوا وحرفوا فيهما وادعوا أنهما أنزلا كذلك، والمؤمنون ينكرونه اهتم بشأنهما فأفردهما بالذكر وبين طريق الإيمان بهما ولم يدرجهما في الموصول السابق، ولأن أمرهما أيضا بالنسبة إلى موسى وعيسى أنهما منزلان عليهما حقيقة، لا باعتبار التعبد فقط كما في المنزل على إسحق ويعقوب والأسباط ولم يعد الموصول لذلك في عيسى لعدم مخالفة شريعته لشريعة موسى إلا في النزر، ولذلك الاهتمام عبر - بالايتاء - دون - الانزال - لأنه أبلغ لكونه المقصود منه، ولما فيه من الدلالة على الإعطاء الذي فيه شبه التمليك والتفويض، ولهذا يقال: أنزلت الدلو في البئر، ولا تقول: آتيتها إياها، ولك أن تقول: المراد بالموصول هنا ما هو أعم من التوراة والإنجيل وسائر المعجزات الظاهرة بأيدي هذين النبيين الجليلين حسبما فصل في التنزيل الجليل، وإيثار - الإيتاء - لهذا التعميم، وتخصيص النبيين بالذكر لما أن الكلام مع - اليهود والنصارى -.
* (ومآ أوتي النبيون) * وهي الكتب التي خصت من خصته منهم، أو ما يشمل ذلك والمعجزات، وهو تعميم بعد التخصيص كيلا يخرج من الإيمان أحد من الأنبياء * (من ربهم) * متعلق ب * (أوتي) * قبله؛ والضمير - للنبيين - خاصة، وقيل: لموسى وعيسى أيضا، ويكون * (ما أوتي) * تكريرا للأولى، والجار متعلقا بها، وهو - على التقديرين - ظرف لغو، وجوز أن يكون في موضع الحال من العائد المحذوف، واحتمال أن يكون * (ما) * مبتدأ والجار خبره بعيد * (لا نفرق بين أحد منهم) * أي كما فرق أهل الكتاب، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض - بل نؤمن بهم جميعا - وإنما اعتبر عدم التفريق بينهم، مع أن الكلام فيما أوتوه لاستلزام ذلك - عدم التفريق - فيه بين - ما أوتوه - و * (أحد) * أصله - وحد - بمعنى - واحد - وحيث وقع في سياق النفي عم واستوى فيه - الواحد والكثير - وصح إرادة كل منهما - وقد أريد به هنا الجماعة - ولهذا ساغ أن يضاف إليه (بين) ويفيد عموم الجماعات - كذا قاله بعض المحققين - وهو مخالف لما هو المشهور عند أرباب العربية من أن الموضوع في النفي العام أو المستعمل مع كل في الإثبات - همزته - أصلية بخلاف ما استعمل في الإثبات بدون كل فإن - همزته - منقلبة عن - واو - ومن هنا قال العلامة التفتازاني: إن (أحد) في معنى الجماعة بحسب الوضع لأنه اسم لمن يصلح أن يخاطب يستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع، ويشترط أن يكون استعماله مع
395

كلمة - كل - أو مع النفي، نص على ذلك أبو علي وغيره من أئمة العربية، وهذا غير - الأحد - الذي هو أول العدد في قوله تعالى: * (قل هو الله أحد) * (الإخلاص: 1) وليس كونه في معنى الجماعة من جهة كونه نكرة في سياق النفي - على ما سبق - إلى كثير من الأوهام، ألا ترى أنه لا يستقيم لا نفرق بين رسول من الرسل إلا بتقدير عطف أي رسول ورسول، و * (لستن كأحد من النساء) * (الأحزاب: 32) ليس في معنى - كامرأة منهن - انتهى. وأنت - بعد التأمل - تعلم أن ما ذكره العلامة لا يرد على ذلك البعض، وإنما ترد عليه المخالفة في الأصالة وعدمها فقط - ولعل الأمر فيها سهل - على أن دعوى عدم تلك الاستقامة إلا بذلك التقدير غير مجمع عليه، فقد ذكر في " الانتصاف " أن النكرة الواقعة في سياق النفي تفيد العموم لفظا عموما شموليا حتى ينزل المفرد فيها منزلة الجمع في تناوله - الآحاد - مطابقة، لا كما ظنه بعض الأصوليين من أن مدلولها بطريق المطابقة في النفي كمدلولها في الإثبات، وجعل هذا التعدد والعموم وضعا هو المسوغ لدخول (بين) عليها هنا، ومن الناس من جوز كون (أحد) في الآية بمعنى واحد، وعمومه بدلى، وصحة دخول (بين) عليه باعتبار معطوف قد حذف لظهوره * (بين أحد منهم) * وغيره، وفيه من الدلالة على تحقق التفريق بين كل فرد فرد منهم، وبين من عداه كائنا من كان ما ليس في أن يقال: (لا نفرق) بينهم، - ولا يخفى ما فيه - والجملة حال من الضمير في * (آمنا) * * (ونحن له مسلمون) * أي خاضعون لله تعالى بالطاعة، مذعنون بالعبودية، وقيل: منقادون لأمره ونهيه، ومن جعل الضمير المجرور لما تقدم ذكره من الأنبياء فقد أبعد، والجملة حال أخرى، أو عطف على * (آمنا) *.
* (فإن ءامنوا بمثل مآ ءامنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم فى شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم) *
* (فان ءامنوا بمثل ما ءامنتم به فقد اهتدوا) * متعلق بقوله سبحانه: * (قولوا آمنا) * (البقرة: 136) الخ، أو بقوله عز شأنه: * (بل ملة إبراهيم) * (البقرة: 135) الخ، و - إن - لمجرد الفرض والكلام من باب الاستدراج وإرخاء العنان مع الخصم حيث يراد تبكيته، وهو مما تتراكض فيه خيول المناظرين - فلا بأس بحمل كلام الله تعالى عليه - يعني نحن لا نقول: إننا على الحق وأنتم على الباطل، ولكن إن حصلتم شيئا مساويا لما نحن عليه مما يجب الإيمان أو التدين به فقد اهتديتم
ومقصودنا هدايتكم كيفما كانت، والخصم إذا نظر بعين الإنصاف في هذا الكلام وتفكر فيه علم أن الحق ما عليه المسلمون لا غير، إذ لا مثل لما آمنوا به، وهو ذاته تعالى وكتبه المنزلة على أنبيائه - ولا دين كدينهم؛ ف * (آمنوا) * متعدية - بالباء - و - مثل - على ظاهرها، وقيل: * (آمنوا) * جار مجرى اللازم - والباء - إما للاستعانة والآلة والمعنى إن دخلوا في الإيمان بواسطة شهادة مثل شهادتكم قولا واعتقادا * (فقد اهتدوا) * أو فإن تحروا - الإيمان - بطريق يهدي إلى الحق مثل طريقكم، فإن وحدة المقصد لا تأبى تعدد الطرق، كما قيل: الطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق، والمقام مقام تعيين الدين الحق لا مقام تعيين شخص الطريق الموصول إليه ليأتي هذا التوجيه، وإما زائدة للتأكيد؛ و * (ما) * مصدرية؛ وضمير * (به) * لله، أو لقوله سبحانه: * (آمنا بالله) * (البقرة: 136) الخ بتأويل المذكور، أو للقرآن، أو لمحمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: فإن آمنوا بما ذكر مثل إيمانكم به، وإما للملابسة، أي فآمنوا متلبسين بمثل ما آمنتم متلبسين به، أو فإن آمنوا إيمانا متلبسا بمثل ما آمنتم إيمانا متلبسا به من الاذعان والاخلاص وعدم التفريق بين الأنبياء عليهم السلام، وقيل: المثل مقحم كما في قوله تعالى: * (وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله) * (الأحقاف: 10) أي عليه، ويشهد له قراءة أبي * (بالذي آمنتم به) * وقراءة ابن عباس * (بما آمنتم به) * وكان رضي الله تعالى عنه يقول: اقرءوا ذلك فليس لله تعالى مثل، ولعل ذلك محمول على التفسير لا على أنه أنكر القراءة
396

المتواترة - وخفي عليه معناها - ومن الناس من قال: يمكن الاستغناء عن جميع ذلك بأن يقال: فإن آمن اليهود بمثل ما آمنتم كمؤمنيهم قبل التحريف، فإنهم آمنوا بمثل ما آمن المؤمنون، فإن فيما أوتي به النبيون في زمن محمد صلى الله عليه وسلم ما أنزل إليه - ولم يكن ذلك قله - إلا أن هذا التوجيه يقتضي إبقاء صيغة الماضي على معناها كما في قولهم: إن أكرمتني فقد أكرمتك، فتأمل انتهى. وأنت تعلم أن المؤمن به لا يتصور فيه التعدد وإبقاء الكلام على ظاهره، والاستغناء عن جميع ما ذكر يستدعي وجود ذلك التعدد المحال، فماذا عسى ينفع هذا سوى تكثير القيل والقال، وتوسيع دائرة النزاع والجدال فتدبر.
* (وإن تولوا) * أي أعرضوا عن الإيمان المأمور به، أو عن قولكم في جواب قولهم. * (فانما هم في شقاق) * أي مخالفة لله تعالى - قاله ابن عباس - أو منازعة ومحاربة - قاله ابن زيد - أو عداوة - قاله الحسن - واختلف في اشتقاق - الشقاق - فقيل: من الشق أي الجانب، وقيل: من المشقة، وقيل: مأخوذ من قولهم: شق العصا إذا أظهر العداوة - والتنوين للتفخيم - والجملة جواب الشرط إما على أن المراد مشاقتهم الحادثة بعد توليهم عن الإيمان، وأوثرت الاسمية للدلالة على ثباتهم واستقرارهم على ذلك، وإما بتأويل فاعلموا.
* (فسيكفيكهم الله) * تسلية له صلى الله عليه وسلم وتفريح للمؤمنين بوعد النصر والغلبة وضمان التأييد والإعزاز على أبلغ وجه للسين الدالة على تحقق الوقوع ألبتة، أو للتذييل الآتي حيث أن السين في المشهور لا تدل على أكثر من التنفيس عقب ذكر ما يؤدي إلى الجدال والقتال، والمراد سيكفيك كيدهم وشقاقهم لأن الكفاية لا تتعلق بالأعيان بل بالأفعال، وتلوين الخطاب بتجريده للنبي صلى الله عليه وسلم مع أنه سبحانه أنجز وعده الكريم بما هو كفاية للكل من قتل بني قريظة وسبيهم وإجلاء بني النضير لما أنه صلى الله عليه وسلم الأصل والعمدة في ذلك وهو سلك حبات أفئدة المؤمنين ومطمح نظر كيد الكافرين، وللإيذان بأن القيام بأمور الحروب وتحمل المشاق ومقاساة الشدائد في مناهضة الأعداء من وظائف الرؤساء فنعمته تعالى في الكفاية والنصرة في حقه أتم وأكمل * (وهو السميع العليم) * تذييل لما سبق الوعد وتأكيد له أي: هو السميع لما تدعو به العليم بما في نيتك من إظهار دينه فيستجيب لك ويوصلك إلى مرادك أو وعيد للكفرة بمعنى - يسمع - ما يبدون - ويعلم - ما يخفون مما لا خير فيه وهو معاقبهم عليه، وفيه أيضا تأكيد الوعد السابق فإن وعيد الكفرة وعد للمؤمنين.
* (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له ع‍ابدون) *
* (صبغة الله) * الصبغة بالكسر فعلة من - صبغ - كالجلسة من جلس وهي الحالة التي يقع عليها - الصبغ - عبر بها عن التطهير بالإيمان بما ذكر على الوجه الذي فصل لأنه ظهر أثره عليهم ظهور - الصبغ - على - المصبوغ - وتداخل في قلوبهم تداخله فيه وصار حلية لهم فهناك استعارة تحقيقية تصريحية والقرينة الإضافة والجامع ما ذكر، وقيل: للمشاكلة التقديرية فإن النصارى كانوا - يصبغون - أولادهم بماء أصفر يسمونه المعمودية يزعمون أنه الماء الذي ولد فيه عيسى عليه الصلاة والسلام ويعتقدون أنه تطهير للمولود كالختان لغيرهم، وقيل: هو ماء يقدس بما يتلى من الإنجيل ثم تغسل به الحاملات، ويرد على هذا الوجه أن الكلام عام لليهود غير مختص بالنصارى اللهم إلا أن يعتبر أن ذلك الفعل كائن فيما بينهم في الجملة ونصبها على أنها مصدر مؤكد لقوله تعالى: * (آمنا) * (البقرة: 136) وهي من المصادر المؤكدة لأنفسها فلا ينافي كونها للنوع والعامل فيها - صبغنا - كأنه قيل - صبغنا الله صبغته - وقدر المصدر مضافا إلى الفاعل لتحقق
397

شرط وجوب حذف عامله من كونه مؤكدا لمضمون الجملة إذ لو قدر منكرا لكان مؤكدا لمضمون أحد جزئيه أعني الفعل فقط نحو ضربت ضربا، وقيل: إنها منصوبة بفعل الإغراء أي ألزموا - صبغة الله - لا عليكم وإلا لوجب ذكره - كما قيل - وإليه ذهب الواحدي، ولا يجب حينئذ إضمار العامل لأنه مختص في الإغراء بصورتي التكرار أو العطف كالعهد العهد وكالأهل والولد، وذهب الأخفش والزجاج والكسائي وغيرهم إلى أنها بدل من * (ملة إبراهيم) * (البقرة: 135)
* (ومن أحسن من الله صبغة) * مبتدأ وخبر، والاستفهام للإنكار، وقوله تعالى: * (صبغة) * تمييز منقول من المبتدأ نحو - زيد أحسن من عمرو وجها - والتقدير - ومن صبغته أحسن من صبغة الله تعالى - كما يقدر وجه زيد أحسن من وجه عمرو، والتفضيل جار بين الصبغتين لا بين فاعليهما أي لا صبغة أحسن من صبغته تعالى على معنى أنه أحسن من كل صبغة وحيث كان مدار التفضيل على تعميم - الحسن - للحقيقي والفرضي المبني على زعم الكفرة لم يلزم أن يكون في (صبغة) غيره تعالى حسن في الجملة، والجملة معترضة مقررة لما في صبغة الله تعالى من التبجح والابتهاج أو جارية مجرى التعليل للإغراء
* (ونحن له عابدون) * أي موحدون أو مطيعون متبعون ملة إبراهيم أو خاضعون مستكنون في اتباع تلك الملة، وتقديم الجار لإفادة اختصاص العبادة له تعالى، وتقديم
المسند إليه لإفادة قصر ذلك الاختصاص عليهم، وعدم تجاوزه إلى أهل الكتاب فيكون تعريضا لهم بالشرك أو عدم الانقياد له تعالى باتباع ملة إبراهيم، والجملة عطف على * (آمنا) * (البقرة: 136) وذلك يقتضي دخولة صبغة الله في مفعول * (قولوا) * (البقرة: 136) لئلا يلزم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالأجنبي، وإيثار الجملة الاسمية للاشعار بالدوام، ولمن نصب * (صبغة) * على الإغراء أو البدل أن يضمر (قولوا) قبل هذه الجملة معطوفا على الزموا على تقدير الإغراء، وإضمار القول سائغ شائع، والقرينة - السياق - لأن ما قبله مقول المؤمنين وأن يضمر اتبعوا في * (بل ملة إبراهيم) * (البقرة: 135) لانتبع ويكون * (قولوا آمنا) * بدلا من * (اتبعوا) * بدل البعض لأن الإيمان داخل في اتباع ملة إبراهيم فلا يلزم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، ولا بين البدل والمبدل منه بالأجنبي وما قيل: إنه يلزم الفصل ببدل الفعل بين المفعول، والمبدل منه ففيه أن * (قولوا) * ليس بدلا من الفعل فقط بل الجملة بدل من الجملة فلا محذور، وأما القول - بأنه يمكن أن تجعل هذه الجملة حالا من لفظة الله في قوله سبحانه: * (ومن أحسن من الله صبغة) * (البقرة: 138) أي صبغته بتطهير القلب أو الإرشاد أو حفظ الفطرة أحسن الاصباغ حال إخلاص العبادة له - فليس بشيء كما لا يخفى.
* (قل أتحآجوننا فى الله وهو ربنا وربكم ولنآ أعم‍النا ولكم أعم‍الكم ونحن له مخلصون) *
* (قل أتحآجوننا) * تجريد الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم لما أن المأمور به من الوظائف الخاصة به عليه الصلاة والسلام، والهمزة للإنكار، وقرأ زيد والحسن وغيرهما بادغام النون أي تجادلونا.
* (في الله) * أي في دينه وتدعون أن دينه الحق اليهودية والنصرانية وتبنون دخول الجنة والاهتداء عليهما، وقيل: المراد في شأن الله تعالى واصطفائه نبيا من العرب دونكم بناءا على أن الخطاب لأهل الكتاب وسوق النظم يقتضي أن تفسر المحاجة بما يختص بهم، والمحاجة في الدين ليست كذلك والقرينة على التقييد قوله سبحانه قبل: * (وما أنزل إلينا) * (البقرة: 136) وبعد * (ومن أظلم ممن كتم شهادة) * (البقرة: 140) حيث إنه تعريض بكتمان أهل الكتاب شهادة الله سبحانه بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وما روي في سبب النزول أن أهل الكتاب قالوا الأنبياء كلهم منها فلو كنت نبيا لكنت منا فنزلت، ولا يخفى عليك أن المحاجة في الدين على ما ذكرنا مختصة بهم على أن ظاهر السوق يقتضي ذمهم بما صار دينا لهم وشنشنة فيهم حتى عرفوا فيه، ومشركو العرب وإن حاجوا في الدين
398

أيضا لكنهم لم يصلوا فيه إلى رتبة أهل الكتاب لما أنهم أميون عارون عن سائر العلوم جاهلون بوظائف البحث بالكلية نظرا إلى أولئك القائمين على ساق الجدال وإن القرينتين السابقة واللاحقة على التقييد في غاية الخفاء وأن ما روي في سبب النزول ليس مذكورا في شيء من كتب الحديث ولا التفاسير المعتبرة كما نص على ذلك الإمام السيوطي وكفى به حجة في هذا الشأن.
* (وهو ربنا وربكم) * جملة حالية أي أتجادلوننا والحال أنه لا وجه للمجادلة أصلا لأنه تعالى مالك أمرنا وأمركم * (ولنا أعم‍النا ولكم أعم‍الكم) * عطف على ما قبله أي لنا جزاء أعمالنا الحسنة الموافقة لأمره ولكم جزاء أعمالكم السيئة المخالفة لحكمه * (ونحن له مخلصون) * في تلك الأعمال لا نبتغي بها إلا وجهه فأنى لكم المحاجة ودعوى حقيقة ما أنتم عليه والقطع بدخول الجنة بسببه ودعوة الناس إليه. والجملة حالية كالتي قبلها، وذهب بعض المحققين أن هذه الجملة كجملتي * (ونحن له مسلمون) * (البقرة: 133) * (ونحن له عابدون) * (البقرة: 138) اعتراض وتذييل للكلام الذي عقب به مقول على ألسنة العباد بتعليم الله تعالى لا عطف، وتحريره أن * (ونحن له مسلمون) * مناسب - لآمنا - أي نؤمن بالله وبما أنزل على الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم ونستسلم له وننقاد لأوامره ونواهيه وقوله تعالى: * (ونحن له عابدون) * ملائم لقوله تعالى: * (صبغة الله) * (البقرة: 138) لأنها بمعنى دين الله فالمصدر كالفذلكة لما سبق، وهذه الآية موافقة لما قبلها، ولعل الذوق السليم لا يأباه، وأما القول بأن معنى * (وهو ربنا) * الخ أنه لا اختصاص له تعالى بقوم دون قوم فيصيب برحمته من يشاء فلا يبعد أن يكرمنا بأعمالنا كما أكرمكم بأعمالكم كأنه ألزمهم على كل مذهب يفتحونه إفحاما وتبكيتا فإن كرامة النبوة إما تفضل من الله تعالى فالكل فيه سواء، وإما إفاضة حق على المستحقين لها بالمواظبة على الطاعة والتحلي بالإخلاص فكما أن لكم أعمالا ربما يعتبرها الله تعالى في إعطائها فلنا أيضا أعمال ونحن له مخلصون بها لا أنتم، فمع بنائه على ما علمت ركاكته غير ملائم لسباق النظم الكريم وسياقه بل غير صحيح في نفسه كما أفتى به مولانا مفتي الديار الرومية لما أن المراد بالأعمال من الطرفين ما أشير إليه من الأعمال الصالحة والسيئة ولا ريب أن أمر الصلاح والسوء يدور على موافقة الدين المبني على البعثة ومخالفته فكيف يتصور اعتبار تلك الأعمال في استحقاق النبوة واستعدادها المتقدم على البعثة بمراتب هذا؟! وقد اختلف الناس في الإخلاص، فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سألت جبريل عن الإخلاص ما هو؟ فقال: سألت رب العزة عنه فقال: سر من أسراري استودعته قلب من أحببته من عبادي " وقال سعيد بن جبير: الإخلاص أن لا تشرك في دينه ولا تراء أحدا في عمله، وقال الفضيل: ترك العمل من أجل الناس رياءا والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله تعالى منهما، وقال حذيفة المرعشي: أن تستوي أفعال العبد في الباطن والظاهر، وقال أبو يعقوب: المكفوف أن يكتم العبد حسناته كما يكتم سيآته، وقال سهل: هو الإفلاس، ومعناه احتقار العمل وهو معنى قول رويم - ارتفاع عملك عن الرؤية - قيل: ومقابل الإخلاص الرياء، وذكر سليمان الداراني ثلاث علامات له: الكسل عند العبادة في الوحدة والنشاط في الكثرة وحب الثناء على العمل.
* (أم تقولون إن إبراهيم وإسم‍اعيل وإسح‍اق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل ءأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شه‍ادة عنده من الله وما الله بغ‍افل عما تعملون) *
* (أم تقولون إن إبرااهيم وإسم‍اعيل وإسح‍اق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نص‍ارى) * * (أم) * إما متصلة معادلة للهمزة في * (أتحاجوننا) * (البقرة: 139) داخلة ي حيز الأمر والمراد بالاستفهام إنكارهما معا بمعنى كل من الأمرين منكر ينبغي أن لا يكون إقامة الحجة وتنوير البرهان على حقية ما أنتم عليه، والحال ما
ذكر والتشبث بذيل التقليد والافتراء
399

على الأنبياء عليهم السلام، وفائدة هذا الأسلوب مع أن العلم حاصل بثبوت الأمرين الإشارة إلى أن أحدهما كاف في الذم فكيف إذا اجتمعا كما تقول لمن أخطأ تدبيرا ومقالا: أتدبيرك أم تقريرك، وبهذا يندفع ما قاله أبو حيان من أن الاتصال يستدعي وقوع إحدى الجملتين والسؤال عن تعيين إحداهما وليس الأمر كذلك إذ وقعتا معا، وإما منقطعة مقدرة ببل والهمزة دالة على الإضراب والانتقال من التوبيخ على المحاجة إلى التوبيخ على الافتراء على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقرأ غير ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص * (أم يقولون) * - بالياء - ويتعين كون * (أم) * حينئذ منقطعة لما فيها من الاضراب من الخطاب إلى الغيبة ولا يحسن في المتصلة أن يختلف الخطاب من مخاطب إلى غيره كما يحسن في المنقطعة ويكون الكلام استئنافا غير داخل تحت الأمر بل وارد منه تعالى توبيخا لهم وإنكارا عليهم، وحكى أبو جعفر الطبري عن بعض النحاة جواز الاتصال لأنك إذا قلت - أتقوم يا زيد أم يقوم عمرو - صح الاتصال، واعترض عليه ابن عطية بأن المثال غير جيد لأن القائل فيه واحد والمخاطب واحد والقول في الآية من اثنين والمخاطب اثنان غير أن يتجه معادلة * (أم) * للهمزة على الحكم المعنوي كان معنى * (قل أتحاجوننا) * أي يحاجون يا محمد أم يقولون، ولا يخفى أن القول بالانقطاع إن لم يكن متعينا فلا أقل من أنه أولى.
* (قل أنتم أعلم أم الله) * أي لستم أعلم بحال إبراهيم عليه السلام في باب الدين بل الله تعالى أعلم بذلك وقد أخبر سبحانه بنفي اليهودية والنصرانية عنه، واحتج على انتفائهما عنه بقوله: * (وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده) * () وهؤلاء المعطوفون عليه أتباعه في الدين وفاقا فحالهم حاله فلم تدعون له ولهم. ما نفى الله تعالى؟ فما ذلك إلاجهل غال ولجاج محض * (ومن أظلم) * إنكار لأن يكون أحد أظلم * (ممن كتم شه‍ادة) * ثابتة.
* (عنده) * واصلة * (من الله) * إليه وهي شهادته تعالى لإبراهيم عليه السلام بالحنيفية والبراءة عن اليهودية والنصرانية حسبما تلى آنفا، وجيء بالوصفين لتعليل الإنكار وتأكيده فإن ثبوت - الشهادة عنده - وكونها من جانب جناب العلي الأعلى عز شأنه من أقوى الدواعي إلى إقامتها وأشد الزواجر عن كتمانها، وتقديم الأول مع أنه متأخر في الوجود لمراعاة طريق الترقي والمعنى لا أحد أظلم من أهل الكتاب - حيث كتموا هذه الشهادة وأثبتوا نقيضها بما ذكر من الافتراء - والجملة تذييل يقرر ما أنكر عليهم من ادعاء اليهودية والنصرانية وتعليق الأظلمية بمطلق الكتمان للإيماء إلى أن مرتبة من يردها ويشهد بخلافها في الظلم خارجة عن دائرة البيان، أو لا أحد - أظلم منا لو كتمنا هذه - الشهادة - ولم نقمها في مقام المحاجة، والجملة حينئذ تذييل مقرر ما أوقع في قوله تعالى: * (أأنتم أعلم أم الله) * (البقرة: 140) من أنهم شاهدون بما شهد الله تعالى به مصدوقونه بما أعلمهم، وجعلها على هذا من تتمة * (قولوا آمنا) * (البقرة: 136) لأنه في معنى إظهار الشهادة. وعلى الأول من تتمة * (قل أتحاجوننا) * (البقرة: 139) لأنه في معنى كتمانها ظاهر التعسف، ولا يخفى أن في الآية تعريضا بغاية أظلمية أهل الكتاب على نحو ما أشير إليه، وفي إطلاق الشهادة - مع أن المراد بها ما تقدم من الشهادة المعينة - تعريض بكتمانهم شهادة الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل، وفي " ري الظمآن " أن - من - صلة * (أظلم) * والكلام على التقديم والتأخير كأنه قيل: ومن أظلم من الله ممن كتم شهادة حصلت عنده كقولك ومن أظلم من زيد من جملة الكاتمين للشهادة، والمعنى لو كان إبراهيم وبنوه يهودا أو نصارى ثم إن الله تعالى كتم هذه الشهادة لم يكن أحد ممن يكتم الشهادة أظلم منه لكن لما استحال ذلك مع عدله وتنزيهه عما لا يليق علمنا أن الأمر ليس كذلك، وقيل: إن (من) صلة (كتم)
400

والكلام على حذف مضاف - أي كتم من عباد الله شهادة عنده - ومعناه أنه تعالى ذمهم على منع أن يوصلوا إلى عباد الله تعالى، ويؤدوا إليهم شهادة الحق، ولا يخفى ما في هذين الوجهين من التكلف والتعسف وانحطاط المعنى فلينزه كتاب الله تعالى العظيم عنه، على أنك لو نظرت بعين الانصاف رأيت الوجه الثاني من الأولين لا يخلو عن بعد لأن الآية إنما تقدمها الإنكار لما نسب إلى إبراهيم عليه السلام، ومن ذكر معه فالذي يليق أن يكون الكلام مع أهل الكتاب لا مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه لأنهم مقرون بما أخبر الله تعالى به وعالمون بذلك فلا يفرض في حقهم كتمانه والتذييل الذي ادعى فيه خلاف الظاهر أيضا.
* (وما الله بغ‍افل عما تعملون) * وعيد وتهديد لأهل الكتاب أي إن الله تعالى لا يترك أمركم سدى بل هو محصل لأعمالكم محيط بجميع ما تأتون وتذرون فيعاقبكم بذلك أشد عقاب، ويدخل في ذلك كتمانهم لشهادته تعالى وافتراؤهم على أنبيائه عليهم السلام، وقرىء - (عما يعملون) - بصيغة الغيبة فالضمير إما لمن كتم باعتبار المعنى أو لأهل الكتاب.
* (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تس‍الون عما كانوا يعملون) *
تكرير لما تقدم للمبالغة في التحذير عما استحكم في الطباع من الافتخار بالآباء والاتكال عليهم كما يقال: اتق الله اتق الله، أو تأكيد وتقرير للوعيد يعني أن الله تعالى يجازيكم على أعمالكم ولا تنفعكم آباؤكم ولا تسألون يوم القيامة عن أعمالهم بل عن أعمال أنفسكم، وقيل: الخطاب فيما سبق لأهل الكتاب، وفي هذه الآية لنا تحذيرا عن الاقتداء بهم، وقيل: المراد بالأمة في الأول: الأنبياء وفي الثاني أسلاف اليهود لأن القوم لما قالوا في إبراهيم وبنيه إنهم كانوا ما كانوا - فكأنهم قالوا - إنهم على مثل طريقة أسلافنا فصار سلفهم في حكم المذكورين فجاز أن يعنوا بالآية، ولا يخفى ما في ذلك من التعسف الظاهر.
* (سيقول السفهآء من الناس ما ول‍اهم عن قبلتهم التى كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدى من يشآء إلى صراط مستقيم) *
401