الكتاب: تفسير الآلوسي
المؤلف: الآلوسي
الجزء: ٩
الوفاة: ١٢٧٠
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

* (قال الملا الذين استكبروا من قومه لنخرجنك ي‍اشعيب والذين ءامنوا معك من قريتنآ أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا ك‍ارهين) *.
* (قال الملا الذين استكبروا من قومه) * استئناف مبني على سؤال ينساق إليه المقال كأنه قيل له: فماذا قالوا له عليه السلام بعدما سمعوا منه هذه المواعظ؟ فقيل: قال أشراف قومه المستكبرون متطاولين عليه عليه السلام غير مكتفين بمجرد الاستعصاء بل بالغين من العتو مبلغا عظيما * (لنخرجنك يا شعيب والذين ءامنوا معك من قريتنا) * بغضا لكم ودفعا لفتنتكم المترتبة على المساكنة والجوار، والتأكيد القسمي للمبالغة والاعتناء بالحكم و * (معك) * متعلق بالإخراج لا بالايمان، ونسبة الإخراج إليه عليه السلام أولا وإلى المؤمنين ثانيا للتنبيه على أصالته عليه السلام في ذلك وتبعيتهم له فيه، وتوسيط النداء باسمه العلي بين المعطوفين لزيادة التقرير والتهديد الناشئة عن غاية الوقاحة والطغيان، وقوله تعالى: * (أو لتعودن في ملتنا) * عطف على جواب القسم أي والله ليكونن أحد الأمرين البتة الإخراج أو العود على أن المقصد الأهم هو العود وإنما ذكر الأول لمجرد القسر والإلجاء كما يفصح عنه عدم تعرضه عليه السلام بجواب الإخراج، والمتبادر من العود الرجوع إلى الحالة الأولى وهذا مما لا يمكن في حق شعيب عليه السلام لأن الأنبياء عليهم السلام معصومون عما دون الكفر بمراتب. نعم هو ممكن في حق من آمن به فإسناده إليه عليه السلام من باب التغليب، قيل: وقد غلب عليه المؤمنون هنا كما غلب هو عليهم في الخطاب فيكون في الآية حينئذ تغليبان، وقال غير واحد: أن تعود بمعنى تصير كما أثبته بعض النحاة واللغويين فلا يستدعي العود إلى حالة سابقة وعلى ذلك قوله: فإن لم تك الأيام تحسن مرة * إلى فقد عادت لهن ذنوب
فكأنهم قالوا: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوامعك من قريتنا أو لتصيرن مثلنا فحينئذ لا إشكال ولا تغليب، وكذا يقال فيما بعد وهو حسن ولا يأباه * (إذ نجانا الله منها) * (الأعراف: 89) لاحتمال أن يقال بالتغليب فيه أو يقال إن التنجية لا يلزم أن تكون بعد الوقوع في المكروه، ألا ترى إلى قوله سبحانه: * (فأنجيناه وأهله) * [الأعراف: 83 وأمثاله.
وقال ابن المنير على احتمال تسليم استعمال العود بمعنى الجروع إلى أمر سابق يجاب بأنه على نهج قوله تعالى: * (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات) * (البقرة: 257) فإن الإخراج يستدعي دخولا سابقا فيما وقع الإخراج منه، وهو غير متحقق في المؤمن والكافر الأصليين، لكن لما كان الايمان والكفر من الأفعال الاختيارية التي خلق الله تعالى العبد ميسرا لكل واحد منهما متمكنا منه لو أراده عبر عن تمكن المؤمن من الكفر، ثم عدوله عنه إلى الايمان اختيارا بالإخراج من الظلمات إلى النور توفيقا من الله تعالى له ولطفا به وبالعكس في حق الكافر، ويأتي نظير ذلك في قوله
2

تعالى: * (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) * (البقرة: 16) وهذا من المجاز المعبر فيه عن السبب بالمسبب. وفائدة اختياره في هذه المواضع تحقيق التمكن والاختيار لإقامة حجة الله تعالى على عباده.
وقيل: إن هذا القول كان جاريا على ظنهم أنه عليه السلام كان في ملتهم لسكوته قبل البعثة عن الانكار عليهم أو أنه صدر عن رؤسائهم تلبيسا على الناس وإيهاما لأنه كان على دينهم، وما صدر عنه عليه السلام في أثناء المحاورة وقع على طريق المشاكلة، وذكر الشهاب احتمالا آخر في الجواب وهو أن الظاهر أن العود هو المقابل للخروج إلى ما خرج منه وهو القرية، والجار والمجرور في موضع الحال أي ليكن منكم الخروج من قريتنا أو العود إليها كائنين في ملتنا فينحل الإشكال من غير حاجة إلى ما تقدم، ولا يخفى بعده. وإنما لم يقولوا أو لنعيدنكم على طريقة ما قبله لما أن مرادهم أن يعودوا بصورة الطواعية حذر الإخراج عن الوطن باختيار أهون الشرين لا إعادتهم بسائر وجوه الإكراه والتعذيب، ومن الناس من زعم أن تعودن لا يصلح أن يكون جوابا للقسم لأنه ليس فعل المقسم، وجعل ما أشرنا إليه أولى في بيان المعنى مخلصا من ذلك وهو باطل لأنه يقتضي أن القسم لا يكون على فعل الغير ولم يقل أحد به، وقد شاع نحو والله ليضربن زيد من غير نكير وعدي العود بفي إيماء إلى أن الملة لهم بمنزلة الوعاء المحيط بهم * (قال) * استئناف كنظائر أي قال شعيب عليه السلام ردا لمقالتهم الباطلة وتكذيبا لهم في أيمانهم الفاجرة: * (أو لو كنا ك‍ارهين) * على أن الهمزة لإنكار الوقوع ونفيه، والواو للعطف على محذوف، وقد يقال: لها في مثل هذا الموضع واو الحال أيضا و * (لو) * هي التي يؤتى بها لبيان ما يفيده الكلام السابق بالذات أو بالواسطة من الحكم الموجب أو المنفي على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له على الإجمال بادخالها على أبعدها منه وأشدها منافاة له ليظهر بثبوته أو انتفائه معه ثبوته أو انتفاؤه مع ما عداه من الأحوال بطريق الألوية، والكلام ههنا في تقدير أنعود فيها لو لم نكن كارهين ولو كنا كارهين غير مبالين بالإكراه، فالجملة في موضع الحال من ضمير الفعل المقدر والمآل أنعود فيها حال عدم الكراهة وحال الكراهة إنكارا لما تفيده كلمتهم الشنيعة بإطلاقها من العود على أي حالة غير أنه اكتفى بذكر الحالة التي هي أشد الأحوال منافاة للعود وأكثرها بعدا منه تنبيها على أنها هي الواقعة في نفس الأمر وثقة بإغنائها عن ذكر الأولى إغناءا واضحا لأن العود الذي تعلق به الإنكار حين تحقق مع الكراهة على ما يوجبه كلامهم فلأن يتحقق مع عدمها أولى، وهذا بعض مما ذكره شيخ الإسلام في هذا المقام، وقد أطنب فيه الكلام وأتى بالنقض والإبرام فأرجع إليه، وقد جوز أن يكون الاستفهام باقيا على حاله، وجعل بعضهم الهمزة بمعنى كيف، ووجه التعجيب إلى العود أي كيف نعود فيها ونحن كارهون لها وتقدير فعل العودة لقوة دلالة الكلام عليه أولى من تقدير فعل الإعادة كما فعل الزمخشري، وفي " التيسير " تقدير فعل الإخراج أي تخرجوننا من غير ذنب ونحن كارهون لمفارقة الأوطان، وقد وجه بأن العود مفروغ عنه لا يتصور من عاقل فلا يكون إلا الإخراج، ولا يخفى ضعف هذا التقدير.
وذكر أبو البقاء أن * (لو) * هنا بمعنى أن لأنها للمستقبل، وجوز أن تكون على أصلها وما أشار إليه شيخ الإسلام في هذا المقام أبعد مغزى فليتأمل.
* (قد افترينا على الله كذبا إن عدنا فى ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنآ أن نعود فيهآ إلا أن يشآء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الف‍اتحين) *.
* (قد افترينا على الله كذبا) * عظيما لا يقادر قدره.
3

* (إن عدنا في ملتكم) * التي هي الشرك وزعمنا كما زعمتم أن لله سبحانه ندا تعالى عن ذلك علوا كبير.
* (بعد إذ نجينا الله منها) * وعلمنا بطلانها وأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي إن عدنا في ملتكم فقد افترينا، واستشكل ذلك بأن الظاهر فيما إذا كان الجواب مثل ما ذكر أن يتعلق ظهوره والعلم به بالشرط نحو * (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) * (يوسف: 77) و * (إلا تنصروه فقد نصر الله) * (التوبة: 40) وإن أكرمتني اليوم فقد أكرمتك أمس، والمقصود هنا تقييد نفس الافتراء بالعود، ولفظ قد وصيغة الماضي يمنعانه، والجواب ما أشار إليه الزمخشري من أنه من باب الإخراج لا على مقتضى الظاهر وإيثار قد والماضي الدالين على التأكيد إما لأنه جواب قسم مقدر أو لأنه تعجيب على معنى ما أكذبنا أن عدنا الخ. ووجه التعجيب أن المرتد أبلغ في الافتراء من الكافر لأن الكافر مفتر على الله تعالى الكذب حيث يزعم أن لله سبحانه ندا ولا ندله والمرتد مثله في ذلك وزائد عليه حيث يزعم أنه قد تبين له ما خفي عليه من التمييز بين الحق والباطل والحمل على التعجب على ما في " الكشف " أولى لأن حذف اللام ضعيف، وجوز أبو حيان تبعا لابن عطية أن يكون الفعل المذكور قسما كما يقال برئت من الله تعالى إن فعلت كذا وكقول مالك بن الأشتر النخعي: أبقيت وفري وانحرفت عن العلا * ولقيت أضيافي بوجه عبوس
إن لم أشن على ابن هند غارة * لم تخل يوما من ذهاب نفوس
وهذا نوع من أنواع البديع وقد ذكره غير واحد من أصحاب البديعيات، ومثله عز الدين الموصلي بقوله: برئت من سلفي والشم من هممي * إن لم أدن بتقى مبرورة القسم
والباعونية بقولها: لامكنتني المعالي من سيادتها * إن لم أكن لهم من جملة الخدم
* (وما يكون لنا) * أي ما يصح لنا وما يقع فكيون تامة، وقد يأتي ذلك بمعنى ما ينبغي وما يليق.
* (أن نعود فيها) * في حال من الأحوال أو وقت من الأوقات * (إلا أن يشاء الله ربنا) * أي إلا حال أو وقت مشيئة الله لعودنا، والتعرض لعنوان الربوبية للتصريح بأنه المالك الذي لا يسأل عما يفعل.
* (وسع ربنا كل شيء علما) * فهو سبحانه يعلم كل حكمة ومصلحة ومشيئته على موجب الحكمة فكل ما يقع مشتمل عليها، وهذا إشارة إلى عدم الأمن من مكر الله سبحانه فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الكافرين، وفيه من الانقطاع إلى الله تعالى ما لا يخفى، ويؤكد ذلك قوله تعالى: * (على الله توكلنا) * فإن التوكل عليه سبحانه إظهار العجز والاعتماد عليه جل شأنه، وأظهار الاسم الجليل للمبالغة، وتقديم المعمول لإفادة الحصر. وفي الآية دلالة على أن لله تعالى أن يشاء الكفر.
وادعى شيخ الإسلام أن المراد استحالة وقوع ذلك كأنه قيل: وما كان لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله تعالى العود وهيهات ذلك، ولا يكاد يكون كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الربوبية، وقولهم: * (بعد إذ نجانا الله) * فإن تنجيته تعالى إياهم منها من دلائل عدم مشيئته سبحانه لعودهم فيها، وفرع على قوله تعالى: * (وسع) * الخ بعد أن فسره بما فسره محالية مشيئته العود لكن لطفا وهو وجه في الآية، ولعل ما ذهبت إليه فيها أولى، ولا يرد على تقدير العود مفعولا للمشيئة أنه ليس لذلك سعة العلم بعد حينئذ كبير معنى، بل كان المناسب ذكر شمول
4

الإرادة وأن الحوادث كلها بمشيئة الله تعالى لما لا يخفى، ولا يحتاج إلى القول بأن ذلك منه عليه السلام رد لدعوى الحصر باحتمال قسم ثالث، والزمخشري بني تفسيره على عقيدته الفاسدة من وجوب رعاية الصلاح والأصلح وأن الله تعالى لا يمكن أن يشار الكفر بوجه لخروجه عن الحكمة، واستدل بقوله سبحانه: * (وسع) * الخ، ورده ابن المنير بأن موقع ماذكر الاعتراف بالقصور عن علم العاقبة والاطلاع على الأمور الغائبة. ونظير ذلك قوله إبراهيم عليه السلام: * (ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما) * (الأنعام: 8) فإنه عليه السلام لما رد الأمر إلى المشيئة وهي مغيبة مجد الله تعالى بالانفراد بعلم الغائبات انتهى، وإلى كون المراد من الاستثناء التأبيد ذهب جعفر بن الحرث والزجاج أيضا وجعلوا ذلك كقول الشاعر: إذا شاب الغراب أتيت أهلي * وصار القار كاللبن الحليب
وأنت خبير بأن ذلك مخالف للنصوص النقلية والعقلية وللعبارة والإشارة، وقال الجبائي. والقاضي: المراد بالملة الشريعة وفيها ما لا يرجع إلى الاعتقاد، ويجوز أن يتعبد الله تعالى عباده به ومفعول المشيئة العود إلى ذلك أي ليس لنا أن نعود إلى ملتكم إلا أن يشاء الله تعالى عودنا بأن يتعبدنا بها وينقلنا إليها وينسخ ما نحن فيه من الشريعة، وقيل: المراد إلا أن يشاء الله تعالى أن يمكنكم من إكراهنا ويخلي بينكم وبينه فنعود إلى أظهار ملتكم مكرهين، وقوى بسبق * (أو لو كنا كارهين) *.
وقيل: إن الهاء في قوله سبحانه * (فيها) * يعود إلى القرية لا الملة فيكون المعنى أنا سنخرج من قريتكم ولا نعود فيها إلا أن يشاء الله بما ينجزه لنا من الوعد في الإظهار عليكم والظفر بكم فنعود فيها؛ وقيل: إن التقدير إلا أن يشاء الله أن يردكم إلى الحق فنكون جميعا على ملة واحدة، ولا يخفى أن كل ذلك مما يضحك الثكلى، وبالجملة الآية ظاهرة فيما ذهب إليه أهل السنة وسبحانه من سد باب الرشد عن المعتزلة.
* (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق) * إعراض عن مفاوضتهم أثر ما ظهر من عتوهم وعنادهم وإقبال على الله تعالى بالدعاء والفتح بمعنى الحكم والقضاء لغة لحمير أو لمراد. والفتاح عندهم القاضي والفتاحة بالضم الحكومة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال: الفتح القضاء لغة يمانية. وأخرج البيهقي وجماعة عن ابن عباس قال: ما كنت أدري ما قوله * (ربنا افتح) * حتى سمعت ابنة ذي يزن وقد جرى بيني وبينها كلام فقالت أفاتحك تريد أقاضيك و * (بيننا) * منصوب على الظرفية والتقييد بالحق لإظهار النصفة، وجوز أن يكون مجازا عن البيان والإظهار وإليه ذهب الزجاج، ومنه فتح المشكل لبيانه وحله تشبيها له بفتح الباب وإزالة الإغلاق حتى يوصل إلى ما خلفها وبيننا على ما قيل مفعولب به بتقدير ما
بيننا * (وأنت خير الف‍اتحين) * أي الحاكمين لخلو حكمك عن الجور والحيف أو المظهرين لمزيد علمك وسعة قدرتك والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله.
وقال الملا الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخ‍اسرون) *.
* (وقال الملأ الذين كفروا من قومه) * عطف على * (قال الملأ) * الخ والمراد من هؤلاء الملأ يحتمل أن يكون أولئك المستكبرين وتغيير الصلة لما أن مناط قولهم السابق هو الاستكبار ويكون هذا حكاية لإضلالهم بعد حكاية ضلالهم على ما قيل، ويحتمل أن يكون غيرهم ودونهم في الرتبة شأنهم الوساطة بينهم وبين العامة والقيامة بأمورهم حسبما يراه المستكبرون، أي قالوا لأهل ملتهم تنفيرا لهم وتثبيطا عن الايمان بعد أن شاهدوا صلابة شعيب عليه السلام ومن معه من المؤمنين فيه وخافوا أن يفارقوهم * (لئن اتبعتم شعيبا) *
5

ودخلتم في ملته وفارقتم ملة آبائكم * (إنكم إذا لخ‍اسرون) * أي مغبونون لاستبدالكم الضلالة بالهدى ولفوات ما يحصل لكم بالبخص والتطفيف فالخسران على الأول استعارة وعلى الثاني حقيقة وإلى تفسير الخاسرين بالمغبونين ذهب ابن عباس، وعن عطاء تفسيره بالجاهلين، وعن الضحاك تفسيره بالفجرة؛ وإذا حرف جواب وجزاء معترض كما قال غير واحد بين اسم إن وخبرها. وقيل: هي إذا الظرفية الاستقبالية وحذفت الجملة المضاف إليها وعوض عنها التنوين، ورده أبو حيان بأنه لم يقله أحد من النحاة، والجملة جواب للقسم الذي وطأته اللام بدليل عدم الاقتراب بالفاء وسادة مسد جواب الشرط وليست جوابا لهما معا كما يوهمه كلام بعضهم لأنه كما قيل مع مخالفته للقواعد النحوية يلزم فيه أن يكون جملة واحدة لها محل من الإعراب ولا محل لها وإن جاز باعتبارين.
* (فأخذتهم الرجفة فأصبحوا فى دارهم ج‍اثمين) *.
* (فأخذتهم الرجفة) * أي الزلزلة كما قال الكلبي وفي سورة هود * (وأخذت الذين ظلموا الصيحة) * (هود: 94) أي صيحة جبريل عليه السلام، ولعلها كانت من مبادي الرجفة فأسند إهلاكهم إلى السبب القريب تارة وإلى البعيد أخرى، وقال بعضهم: إن القصة غير واحدة فإن شعيبا عليه السلام بعث إلى أمتين أهل مدين وأهل الأيكة فأهلكت أحدهما بالرجفة والأخرى بالصيحة، وفيه أنه إنما يتم لو لم يكن هلاك أهل مدين بالصيحة، والمروي عن قتادة أنهم الذين أهلكوا بها وأن أهل الأيكة أهلكوا بالظلة.
وجاء في بعض الآثار أن أهل مدين أهلكوا بالظلة والرجفة، فقد روى عن ابن عباس وغيره في هذه الآية إن الله تعالى فتح عليه بابا من جهنم فأرسل عليهم حرا شديدا فأخذ بأنفاسهم ولم ينفعهم ظل ولا ماء فكانوا يدخلون الأسراب فيجدونها أشد حرا من الظاهر فخرجوا إلى البرية فبعث الله تعالى سحابة فيها ريح طيبة فأظلتهم فوجدوا لها بردا فنادى بعضهم بعضا حتى اجتمعوا تحتها رجالهم ونساؤهم وصبياهم فألهبها عليهم نارا ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي وصاروا رمادا. ويشكل على هلاكهم جميعا نساء ورجالا ما نقل عن عبد الله البجلي قال: كان أبو جاد وهو زو حطى وكلمن وسعفص وقرشت ملوك مدين وكان ملكهم في زمن شعيب عليه السلام كلمن فلما هلك يوم الظلة رثته ابنته بقولها: كلمن قد هد ركني * هكله وسط المحله
سيد القوم أتاه الح‍ * - تف نار تحت ظله
جعلت نار عليهم * دارهم كالمضمحله
اللهم إلا أن يقال: إنها كانت مؤمنة فنجت، وقد يقال: إن هذا الخبر مما ليس له سند يعول عليه.
* (فأصبحوا في دارهم ج‍اثمين) * تقدم نظيره.
* (الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخ‍اسرين) *.
* (الذين كذبوا شعيبا) * استئناف لبيان ابتلائهم بشؤم قولهم: * (لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا) * والموصول مبتدأ خبره قوله تعالى: * (كأن لم يغنوا فيها) * أي لم يقيموا في دارهم، وقال قتادة: المعنى كأن لم يعيشوا فيها مستغنين، وذكر غير واحد أنه يقال: غنى بالمكان يغني غني وغنيانا إذا أقام به دهرا طويلا، وقيده بعضهم بالإقامة في عيش رغد، وقال ابن الأنباري كغيره: إنه من الغنى ضد الفقر كما في قول حاتم: غنينا زماما بالتصعلك والغنى * فكلا سقاناه بكأسهما الدهر
فما زادنا بغيا على ذي قرابة * غنانا ولا أزري بأحسابنا الفقر
6

وعلى هذا تفسير قتادة، ورد الراغب غنى بمعنى أقام إلى هذا المعنى فقال: غنى بالمكان طال مقامه فيه مستغنيا به عن غيره، وقول بعضهم في بيان الآية: إنهم استؤصلوا بالمرة بيان لحاصل المعنى، وفي بناء الخبر على الموصول إيماء إلى أن علة الحكم هي الصلة فكأنه قيل: الذي كذبوا شعيبا هلكوا لتكذيبهم إياه هلاك الأبد، ويشعر ذلك هنا بأن مصدقيه عليه السلام نجوا نجاة الأبد، وهذا مراد من قال بالاختصاص في الآية، وقيل: إنه مبني على أن مثل هذا التركيب كما يفيد التقوى قد يفيد الاختصاص نحو * (الله يبسط الرزق) * (الرعد: 26) والقرينة عليه هنا أنه سبحانه ذكر فيما سبق المؤمنين والكافرين ولم يذكر هنا الإهلاك المكذبين، ويرجع حاصل المعنى بالآخرة إلى أنهم عوقبوا بتوعدهم السابق بالإخراج وصاروا هم المخرجين من القرية إخراجا لا دخول بعده دون شعيب عليه السلام ومن معه، وقوله تعالى: * (الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين) * استئناف آخر لبيان ابتلائهم بعقوبة قولهم الأخير، واستفادة الحصر هنا أوشح من استفادته فيما تقدم، أي الذين كذبوه عليه السلام عوقبوا بقولهم * (لئن اتبعتهم شعيبا إنكم إذا لخاسرون) * فصاروا هم الخاسرين للدنيا والدين لتكذيبهم لا المتبعون له عليه السلام المصدقون إياه عليه السلام، وبهذا القصر اكتفى عن التصريح بالانجاء كما وقع في سورة هود من قوله تعالى: * (ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه) * (هود: 94) الخ،
وفي " الكشاف " أن في هذا الاستئناف وتكرير الموصول والصلة مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم وتسفيه لرأيهم واستهزاء بنصحهم بقومهم واستعظام لما جرى عليهم. وأنت تعلم أن في استفادة ذلك كله من نفس هذه الآية خفاء، والظاهر أن مجموع الاسئنافين مؤذن به. وبين الطيبي ذلك بأنه تعالى لما رتب العقاب بأخذ الرجفة وتكرهم هامدين لا حراك بهم على التكذيب والعناد اتجه لسائل أن يسأل إلى ماذا صار مآل أمرهم بعد الجثوم؟ فقيل: * (الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها) * أي إنهم استؤصلوا وتلاشت جسومهم كأن لم يقيموا فيها. ثم سأل أخصص الدمار بهم أم تعدى إلى غيرهم؟ فقيل: * (الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين) * أي اختص بهم الدمار فجعلت الصلة الأولى ذريعة إلى تحقيق الخبر كقوله: أن التي ضربت بيتا مهاجرة * بكوفة الجند غالبت ودها غول
وكذلك بولغ في الإخبار عن دمار القوم وجيء بتقوى الحكم والتخصيص وجعلت الصلة الثانية علة لوجود الخبر، وجاء تسفيه الرأي من الرد عليهم بعين ما تلفظوا به في نصح قومهم، والاستهزاء من الإشارة إلى أن ماجعلوه نصيحة صار فضيحة وانعكس الحال الذي زعموه؛ ويستفاد عظم الخسران من تعريف الخبر بلام الجنس. وأما استعظام ما جرى فمن قوله سبحانه: * (كأن لم) * الخ وكذا من مجموع الكلام، ولايخفى أن القول بالاستئناف البياني في الجملتين وجعل الصلة الأولى ذريعة إلى تحقيق الخبر ليس بشيء، وقد ذكر غير واحد أن هذا الاستئناف من غير عطف جار على عادة العرب في مثل هذا المقام فإن عادتهم الاستئناف كذلك في الذم والتوبيخ فيقولون: أخوك الذين نهب مالنا أخوك الذي هتك سترنا أخوك الذي ظلمنا، وجوز أبو البقاء أن يكون الموصول الثاني بدلا من الضمير في * (يغنوا) * وأن يكون في محل نصب بإضمار أعني، وأن يكون الأول مبتدأ والخبر * (الذين كذبوا شعيبا كانوا) * و * (كأن لم يغنوا) * حال من ضمير * (كذبوا) * وأن يكون الأول صفة للذين كفروا أو بدلا منه وعلى الوجهين يكون * (كأن لم) * الخ حالا، وما اخترناه هو الأولى كما هو ظاهر فليتدبر.
[بم وقوله سبحانه:
* (فتولى عنهم وقال ياقوم لقد أبلغتكم رس‍ال‍ات ربى ونصحت لكم فكيف ءاسى على قوم ك‍افرين) *.
* (فتولى عنهم وقال ي‍اقوم لقد أبلغتكم رس‍ال‍ات ربي ونصحت لكم) * تقدم الكلام على
7

نظيره، بيد أن هذا القول يحتمل أن يكون تأنيبا وتوبيخا لهم وقوله سبحانه: * (فكيف ءاسى على قوم ك‍افرين) * إنكار لمضمونه، أي لقد أعذرت لكم في الإبلاغ والنصحية والتحذير مما حل بكم فلم تسمعوا قولي ولم تصدقوني * (فكيف آسى) * أي لا آسي عليكم لأنكم لستم أحقاء بالأسى وهو الحزن كما في " الصحاح والقاموس " أو شدة الحزن كما في " الكشاف " ومجمع البيان، ويحتمل أن يكون تأسفا بهم لشدة خزنه عليهم، وقوله سبحانه: * (فكيف) * الخ إنكار على نفسه لذلك، وفيه تجريد والتفات على ما قيل حيث جرد عليه السلام من نفسه شخصا وأنكر عليه حزنه على قوم لا يستحقونه والتفت على الخطاب إلى التكلم، وذكر بعض المحققين أن الظاهر أنه ليس من الالتفات والتجريد في شيء فإن قال يقتضي صيغة التكلم وهي تنافي التجريد، وإنما هو نوع من البديع يسمى الرجوع وهو العود على الكلام السابق بالنقض لأنه إذا كان قد أبلغتكم تأسفا ينافي ما بعده فكأنه بدا له ورجع عن التأسف منكرا لفعله الأول، وقد جاء ذلك كثيرا في كلامهم ومن ذلك قول زهير: قف بالديار التي لم تعفها القدم * بلى وغيرها الأرواح والديم
والنكتة فيه الإشعار بالتوله والذهول من شدة الحيرة لعظم الأمر بحيث لا يفرق بين ما هو كالمتناقض من الكلام وغيره، وابن حجة لا يفرق بين هذا النوع ونوع السلب والايجاب وكأن منشأ ذلك اعتماد في النوع الأخير على تعريف أبي هلال العسكري له ولو اعتمد على تعريف إمام الصناعة ابن أبي الأصبع لما اشتبه عليه الفرق، وعلى الاحتمالين في قوله سبحانه: * (على قوم) * الخ إقامة الظاهر مقام الضمير للإشعار بعدم استحقاقهم التأسف عليهم لكفرهم، وقرأ يحيى بن وثاب * (فكيف أيسي) * بكسر الهمزة وقلب الألف ياء على لغة من يكسر حرف الضارعة كقوله: قعيدك أن لا تسمعيني ملامة * ولا تنكىء جرح الفؤاد فييجعا
وإمالة الألف الثانية، هذا ثم إن شعيبا عليه السلام بعد هلاك من أرسل إليهم نزل مع المؤمنين به بمكة حتى ماتوا هناك وقبورهم على ما روى عن وهب بنمنبه في غربي الكعبة بين دار الندوة وباب سهم. وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما قبر إسماعيل وقبر شعيب عليهما السلام أما قبر إسماعيل ففي الحجر وأما قبر شعيب فمقابل الحجر الأسود، وروى عنه أيضا أنه عليه السلام كان يقرأ الكتب التي كان الله تعالى أنزلها على إبراهيم عليه السلام، ومن الغريب ما نقل الشهاب أن شعيبا إثنان وأن صهر موسى عليهما الصلاة والسلام من قبيلة من العرب تسمى عنزة وعنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان وبينه وبين من تقدم دهر طويل فتبصر والله تعالى أعلم.
* (ومآ أرسلنا فى قرية من نبى إلا أخذنا أهلها بالبأسآء والضرآء لعلهم يضرعون) *.
* (وما أرسلنا في قرية من نبي) * إشارة إجمالية إلى بيان أحوال سائر الأمم المذكورة تفصيلا، وفيه تخويف لقريش وتحذير، ومن سيف خطيب جيء بها لتأكيد النفي، وفي الكلام حذف صفة نبي أي كذب أو كذبه أهلها * (إلا أخذنا أهلها) * استثناء مفرغ من أعم الأحوال * (وأخذنا) * في موضع نصب على الحال من فاعل * (أرسلنا) * وفي الرضى أن الماضي الواقع حالا إلا إذا كان بعد إلا فاكتفاؤه بالضمير من دون الواو، وقد كثر نحو ما لقيته إلا أكرمني لأن دخول إلا في الأغلب الأكثر على الاسم فهو بتأويل الأمكر ما لي فصار كالمضارع المثبت وما في هذه الآية من هذا القبيل، وقد يجيء مع الواو وقد نحو ما لقيته إلا وقد أكرمني، ومع الواو وحدها
8

نحو ما لقيته إلا أكرمني لأن الواو مع إلا تدخل في خبر المبتدأ فكيف بالحال ولم يسمع فيه قد من دون الواو، وقال المرادي في " شرح الألفية " إن الحال المصدرة بالماضي المثبت إذا كان تاليا لئلا يلزمها الضمير والخلو من الواو ويمتنع دخول قد وقوله
متى يأت هذا الموت لم تلف حاجة * لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
نادر، وقد نصر على ذلك الأشموني وغيره أيضا، والظاهر أن امتناع قد بعد إلا فيما ذكر إذا كان الماضي حالا لا مطلقا، وإلا فقد ذكر الشهاب أن الفعل الماضي لا يقع بعد إلا إلا بأحد شرطين إما تقدم فعل كما هنا. وإما مع قد نحو ما زيد إلا قد قام، ولا يجوز ما زيد إلا ضرب، ويعلم مما ذكرنا أن ما وقع في غالب نسخ تفسير مولانا شيخ الإسلام من أن الفعل الماضي لا يقع بعد إلا إلا بأحد شرطين إما تقدير قد كما في هذه الآية أو مقارنة قد كما في قولك: ما زيد إلا قد قام ليس على ما ينبغي بل هو غلط ظاهر كما لا يخفى، والمعنى فيما نحن فيه وما أرسلنا في قرية من القرى المهلكة نبيا من الأنبياء عليهم السلام في حال من الأحوال الإحال كوننا آخذين أهلها * (بالبأساء) * أي بالبؤس والفقر * (والضراء) * بالضر والمرض، وبذلك فسرهما ابن مسعود وهو معنى قول من قال: البأساء في المال والضراء في النفس وليس المراد أن ابتداء الإرسال مقارن للأخذ المذكور بل إنه مستتبع له غير منفك عنه * (لعلهم يضرعون) * أي كي يتضرعوا ويخضعوا ويتوبوا من ذنبهم وينقادوا لأمر الله تعالى.
* (ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس ءاباءنا الضرآء والسرآء فأخذن‍اهم بغتة وهم لا يشعرون) *.
* (قم بدلنا) * عطف على أخذنا داخل في حكمه * (مكان السيئة) * التي أصابتهم لما تقدم * (الحسنة) * وهي السعة والسلامة، ونصب * (مكان) * كما قيل على الظرفية و * (بدل) * متضمن معنى أعطى الناصب لمفعولين وهما هنا الضمير المحذوف والحسنة أي أعطيناهم الحسنة في مكان السيئة، ومعنى كونها في مكانها أنها بدل منها. وقال بعض المحققين: الأظهر أن مكان مفعول به لبدلنا لا ظرف، والمعنى بدلنا مكان الحال السيئة الحال الحسنة فالحسنة هي المأخوذة الحاصلة في مكان السيئة المتروكة والمتروك هو الذي تصحبه الباء في نحو بدلت زيدا بعمرو * (حتى عفوا) * أي كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم، وبذلك فسره ابن عباس وغيره من عفا النبات وعفا الشحم والوبر إذا كثرت، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " أحفوا الشوارب واعفوا اللحى " وقول الحطيئة: بمستأسد القريان عاف نباته * تساقطني والرحل من صوت هدهد
وقوله: ولكنا نعض السيف منها * بأسوق عافيات الشحم كوم
وتفسير أبي مسلم له بالإعراض عن الشكر ليس بيانا للمعنى اللغوي كما لا يخفى، * (وحتى) * هذه الداخلة على الماضي ابتدائية لا غائية عند الجمهور، ولا محل للجملة بعدها كما نقل ذلك الجلال السيوطي في " شرح جمع الجوامع " له عن بعض مشايخه، وأما زعم ابن مالك أنها جارة غائية وأن مضمرة بعدها على تأويل المصدر فغلطه فيه أبو حيان وتبعه ابن هشام فقال: لا أعرف له في ذلك سلفا، وفيه تكلف إضمار من غير ضرورة، ولا يشكل عليه ولا على من يقول؛ إن معنى الغاية لازم لحتى ولو كانت ابتدائية أن الماضي لمضيه لا يصلح أن يكون غاية لماقبل لتأخر الغاية عن ذي الغاية لأن الفعل وإن كان ماضيا لكنه بالنسبة إلى ما صار غاية له مستقبل فافهم.
9

* (وقالوا) * غير واقفين على أن ما أصابهم من الأمرين ابتلاء منه سبحانه * (قد مس ءاباءنا) * كما مسنا.
* (الضراء والسراء) * وما ذلك إلا من عادة الدهر يعاقب في الناس بين الضراء والسراء ويداولهما بنيهم من غير أن يكون هناك داعية إليهما أو تبعة تترتب عليهما وليس هذا كقول القائل: ثمانية عمت بأسبابها الورى * فكل امرىء لا بد يلقى الثمانية
سرور وحزن واجتماع وفرقة * وعسر ويسر ثم سقم وعافية
كما لا يخفى، ولعل تأخير السراء للإشعار بأنها تعقب الضراء فلا ضير فيها * (فأخذناهم) * عطف على مجموع عفوا وقالوا أو على قالوا لأنه المسبب عنه أي فأخذناهم إثر ذلك * (بغتة) * أي فجأة.
* (وهم لا يشعرون) * بشيء من ذلك ولا يخطرون ببالهم شيئا من المكاره، والجملة حال مؤكدة لمعنى البغتة، وهذا أشد أنواع الأخذ كما قيل: وأنكأ شيء يفجؤك البغت، وقيل: المراد بعدم الشعور عدم تصديقهم بإخبار الرسل عليهم السلام بذلك لا خلو أذهانهم عنه ولا عن وقته لقوله تعالى: * (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون) * (الأنعام: 131) ولا يخفى مافيه من الغفلة عن معنى الغفلة وعن محل الجملة.
* (ولو أن أهل القرى ءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم برك‍ات من السمآء والارض ول‍اكن كذبوا فأخذن‍اهم بما كانوا يكسبون) *.
* (ولو أن أهل القرى) * أي القرى المهلكة المدلول عليها بقوله سبحانه: * (في قرية) * فاللام للعهد الذكرى والقرية وإن كانت مفردة لكنها في سياق النفي فتساوي الجمع، وجوز أن تكون اللام للعهد الخارجي إشارة إلى مكة وما حولها. وتعقب ذلك بأنه غير ظاهر من السياق، ووجه بأنه تعالى لما أخبر عن القرى الهالكة بتكذيب الرسل وأنهم لو آمنوا سلموا وغنموا انتقل إلى انذار أهل مكة وما حولها مما وقع بالأمم والقرى السابقة.
وجوز في " الكشاف " أن تكون للجنس، والظاهر أن المراد حينئذ ما يتناول القرى المرسل إلى أهلها من المذكورة وغيرها لا ما لا يتناول قرى أرسل إليها نبي وأخذ أهلها بما أخذ وغيرها كما قيل لإباء ظاهر ما في حين الاستدراك الآتي * (ءامنوا) * أي بما أنزل على أنبيائهم * (واتقوا) * أي ما حرم الله تعالى عليهم كما قال قتادة ويدخل في ذلك ما أرادوه من كلمتهم السابقة.
* (لفتحنا عليهم برك‍ات من السماء والأرض) * أي ليسرنا عليهم الخير من كل جانب، وقيل: المراد بالبركات السماوية المطر وبالبركات الأرضية النبات، وأيا ما كان ففي فتحنا استعارة تبعية. ووجه الشبه بين لمستعار منه والمستعار له الذي أشرنا إليه سهولة التناول، ويجوز أن يكون هناك مجاز مرسل والعلاقة اللزوم ويمكن أن يتكلف لتحصيل الاستعارة التمثيلية، وفي الآية على ما قيل إشكال وهو أنه يفهم بحسب الظاهر منها أنه لم يفتح عليهم بركات من السماء والأرض، وفي الأنعام * (فلما
نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء) * (الأنعام: 44) وهو يدل على أنه فتح عليهم بركات من السماء والأرض؛ وهو معنى قوله سبحانه: * (أبواب كل شيء) * وهو يدل على أنه فتح عليهم بركات من السماء والأرض؛ وهو معنى قوله سبحانه: * (أبواب كل شيء) * لأن المراد منها الخصب والرخاء والصحة والعافية المقابلة أخذناهم بالبأساء والضراء، وحمل فتح البركات على إدامته أو زيادته عدول عن الظاهر وغير ملائم لتفسيرهم الفتح بتيسير الخير ولا المطر والنبات. وأجاب عنه الخيالي بأنه ينبغي أن يارد بالبركات غير الحسنة أو يراد آمنوا من أول الأمر فنجوا من البأساء والضراء كما هو الظاهر، والمراد
10

في سورة الأنعام بالفئج ما أريد بالحسنة ههنا فلا يتوهم الأشكال انتهى. وأنت خبير بأن أرادة آمنوا من أول الأمر إلى آخره غير ظاهرة بل الظاهر أنهم لو أنهم آمنوا بعد أن ابتلوا ليسرنا عليهم ما يسرنا مكان ما أصابهم من فنون العقوبات التي بعضها من السماء كأمطار الحجارة وبعضها من الأرض كالرجفة وبهذا ينحل الإشكال لأن آية الأنعام لا تدل على نه فتح لهم هذا الفتح كما هو ظاهر لتاليها، وما ذكر من أن المراد بالفتح هناك ما أريد بالحسنة ههنا إن كان المراد به أن الفتح هناك واقع موقع إعطاء الحسنة بدل السيئة هنا حيث كان ذكر كل منهما بعد ذكر الأخذ بالبأساء والضراء وبعده الأخذ بغتة فربما يكون له وجه لكنه وحده لا يجدي نفعا، وإن كان المراد به أن مدلول ذلك العام المراد به التكثير هومدلول الحسنة فلا يخفى ما فيه فتدبر، وقيل: المراد بالبركات السماوية والأرضية الأشياء التي تحمد عواقبها ويسعد في الدارين صاحبها وقد جاءت البركة بمعنى السعادة في كلامهم فتحمل هنا على الكامل من ذلك الجنس ولا يفتح ذلك إلا للمؤمن بخلاف نحو المطر والنبات والصحة والعافية فإنه يفتح له وللكافر أيضا استدراجا ومكرا، ويتعين هذا الحمل على ما قيل إذا أريد من القرى ما يتناول قرى أرسل إليها نبي وأخذ أهلها بما أخذ وغيرها، وقيل: البركات السماوية إجابة الدعاء والأرضية قضاء الحوائج فليفهم.
وقرأ ابن عامر * (لفتحنا) * بالتشديد * (ول‍اكن كذبوا) * أي ولكن لم يؤمنوا ولم يتقوا، وقد اكتفى بذكر الأول لاستلزامه الثاني وللإشارة إلى أنه أعظم الأمرين * (فأخذن‍اهم بما كانوا يكسبون) * من أنواع الكفر والمعاصي التي من جملتها قولهم السابق، والظاهر أن هذا الأخذ والمتقدم في قوله سبحانه: * (فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون) * (الأعراف: 95) واحد وليس عبارة عن الجدب والقحط كما قيل: لأنهما قد زالا بتبديل الحسنة مكان السيئة، وحمل أحد الأخذين على الأخذ الأخروي والآخر على الدنيوي بعيد، ومن ذهب إلى حمل أل على الجنس على الوجه الأخير فيه يلزمه أن يحمل كذبوا فأخذناهم على وقوع التكذيب والأخذ فيما بينهم ولا يخفى بعده.
* (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بي‍اتا وهم نآئمون) *.
* (أفأمن أهل القرى) * الهمزة لانكار الواقع واستقباحه، وقيل: لانكار الوقوع ونفيه، وتعقب بأن * (فلا يأمن مكر الله) * (الأعراف: 99) الخ يأباه، والفاء للتعقيب مع السبب، والمراد بأهل القرى قيل: أهل القرى المذكورة على وضع المظهر موضع المضمر للإيذان بأن مدار التوبيخ أمن كل طائفة ما أتاهم من البأس لا أمن مجموع الأمم، وقيل: المراد بهم أهل مكة وما حواليها ممن بعث إليه نبيناصلى الله عليه وسلم وهو الأولى عندي وإلى ذلك ذهب محيي السنة، والعطف على القولين على * (فأخذناهم بغتة) * (الأعراف: 95) لا على محذوف ويقدر بما يناسب المقام كما وقع نحو ذلك في القرآن كثيرا، وأمر صدارة الاستفهام سهل، وقوله سبحانه: * (ولو أن أهل القرى آمنوا) * (الأعراف: 96) الخ اعتراض توسط بينهما للمسارعة إلى بيان أن الأخذ المذكور مما كسبته أيديهم نظرا للأول ولأنه يؤيد ما ذكر من أن الأخذ بغتة ترتب على الإيمان والتقوى، ولو عكس لانعكس الأمر نظرا للثاني، ولو جعلت اللام فيما تقدم للجنس أكد هذا الاعتراض المعطوف والمعطوف عليها وشملهما شمولا سواء على ما في الكشف ولم يجعل العطف على فإخذناهم الأقرب لأنه لم يسق لبيان القرى وقصة هلاكها قصدا كالذي قبله فكان العطف عليه دونه أنسب وهذا إذا أريد بالقرى القرى المدلول عليها بما سبق، وأما إذا أريد بها
11

مكة وما حولها فوجه ذلك أظهر لأن منشأ الانكار ما أصاب الأمم السالفة لا ما أصاب أهل مكة ومن حولها من القحط وضيق الحال، وربما يقال: إذا كان المراد بأهل القرى في الموضعين أهل مكة وما حولها يكون العطف على الأقرب أنسب، والمعنى أبعد ذلك الأخذ لمن استكبر وتعزز وخالف الرسل عليهم السلام وشيوعه والعلم به يأمن أهل القرى المشاركون لهم في ذلك * (أن يأتيهم بأسنا) * أي عذابنا * (بي‍اتا) * أي وقت بيات وهو مراد من قال ليلا، وهو مصدر بات ونصبه على الظرفية بتقدير مضاف، ويجوز أن يكون حالا من المفعول أي بائتين، وجوز أن يكون مصدر بيت ونصبع على أنه مفعول مطلق ليأتيهم من غير لفظه أي تبيبتا أو حال من الفاعل بمعنى مبيتا بالكسر أو من المفعول بمعنى مبيتين بالفتح، واختار غير واحد الظرفية ليناسب ما سيأتي * (وهم نائمون) * حال من ضميرهم البارز أو المستتر في بياتا لتأويله بالصفة كما سمعت وهو حال متداخلة حينئذ
* (أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون) *.
* (أو أمن أهل القرى) * انكار بعد انكار للمبالغة في التوبيخ والتشديد، ولم يقصد الترتيب بينهما فلذا لم يؤت بالفاء.
وقرأ نافع. وابن كثير. وابن عامر. * (أو) * بسكون الواو وهي لأحد الشيئين والمراد الترديد بين أن يأتيهم العذاب بياتا وما دل عليه قوله سبحانه: * (أن يأتيهم باسناضحى) * أي ضحوة النهار وهو في الأصل ارتفاع الشمس أو شروقها وقت ارتفاعها ثم استعمل للوقت الواقع فيه ذلك وهو أحد ساعات النهار عندهم وهي الذرور والبزوغ والضحى والغزالة والهاجرة والزوال والدلوك والعصر والأصيل والصنوت والحدور والغروب وبعضهم يسميها البكور والشروق والأشراق والراد والضحى والمنوع والهاجرة والأصيل والعصر والطفل والحدود والغروب، ويكون كما قال الشهاب متصرفا إن لم يرد به وقت من يوم بعينه وغير متصرف ان أريد به ضحوة يوم معين فيلزم النصب على الطرفية وهو مقصور فإن فتح مد، وقد عدوا لفظ الضحى مما يذكر ويؤنث. دوهم يلعبون) * أي يلهون من فرط الغفلة وهو مجاز مرسل في
ذلك، ويحتمل أن يكون هناك استعارة أي يشتغلون بما لا نفع فيه كأنهم يلعبون.
* (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخ‍اسرون) *.
أفأمنوا مكر الله) * تكرير لمجموع الانكارين السابقين جمعا بين التفريق قصدا إلى زيادة التحذير والإنذار، وذكر جمع من جلة المحققين أنه لو جعل تكريرا له ولما سلف من غرة أهل القرى السابقة أيضا على معنى أن الكل نتيجة الأمن من مكر الله تعالى لجاز إلا أنه لما جعل تهديدا للموجودين كان الأنسب التخصيص، وفيه تأمل. والمكر في الأصل الخذاع ويطلق على الستر يقال: مكر الليل أي ستر بظلمته ما هو فيه، وإذا نسب إليه سبحانه فالمراد به استدراجه العبد العاصي حتى يهلكه في غفلته تشبيها لذلك بالخداع، وتجوز هذه النسبة إليه سبحانه من غير مشاكلة خلافا لبعضهم، وهو هنا إتيان البأس في الوقتين والحالين المذكورين، وهل كان تبديل مكان السيئة الحسنة المذكور قبل مكرا واستدراجا أو ملاطفة ومراوحة؟ فيه خلاف والكل محتمل * (فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخ‍اسرون) * أي الذين خسروا أنفسهم فاضاعوا فطرة الله التي فطر الناس عليها والاستعداد القريب المستفاد من النظر في الآيات والفاء هنا متعلق كما قال القطب الرازي وغيره بمقدر كأنه قبل فلما آمنوا خسروا فلا يأمن الخ. وقال أبو البقاء إنها للتنبيه على تعقيب العذاب أمن مكر الله تعالى، وقد يقال: إنها لتعليل ما يفهمه الكلام من ذم الأمن
12

واستقباحه أو يقال إنها فصيحة، ويقدر ما يستفاد من الكلام شرطا أي إذا كان الأمن في غاية القبح فلا يرتكبه إلا من خسر نفسه، واستدلت الحنفية بالآية على أن الأمن من مكر الله تعالى وهو كما في جميع الجوامع الاسترسال في المعاصي إتكالا على عفو الله تعالى كفر، ومثله اليأس من رحمة الله تعالى لقوله تعالى: * (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) * (يوسف: 87) وذهبت الشافعية إلى أنهما من الكبائر لتصريح ابن مسعود رضي الله تعالى عنه بذلك وروى ابن أبي حاتم. والبزار عن ابن عباس أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سئل ما الكبائر؟ فقال: الشرك بالله تعالى واليأس من روح الله والامن من مكر الله وهذا أكبر الكبائر قالوا: وما ورد من أن ذلك كفر محمول على التغليظ وآية لا ييأس الخ كقوله تعالى: * (الزانية لا ينكحها إلا زان) * (النور: 3) و * (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله) * (المجادلة: 22) في قول. وقال بعض المحققين: إن كان في الأمن اعتقاد أن الله تعالى لا يقدر على الانتقام منه وكذا إذا كان في اليأس اعتقاد عدم القدرة على الرحمة والاحسان أو نحو ذلك فذلك مما لا ريب في أنه كفر وإن خلا عن نحو هذا الاعتقاد ولم يكن فيه تهاون وعدم مبالاة بالله تعالى فذلك كبيرة وهو كالمحاكمة بين القولين.
* (أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلهآ أن لو نشآء أصبن‍اهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون) *.
* (أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها) * أي يخلفون من خلا قبلهم من الأمم، والمراد بهم كما روي عن السدى المشركون وفسروا بأهل مكة ومن حولها، وعليه لا يبعد أن يكون في الآية إقامة الظاهر مقام الضمير إذا كان المراد بأهل القرى سابقا أهل مكة وما حولها، وتعدية فعل الهداية باللام لأنها كما روي عن ابن عباس. ومجاهد بمعنى التبيين وهو على ما قيل: إما بطريق المجاز أو التضمين أو لتنزيله منزلة اللازم كأنه قيل: أغفلوا ولم يفعل الهداية لهم * (أن لو نشاء أصبن‍اهم بذنوبهم) * أي بجزاء ذنوبهم كما أصبنا من قبلهم، وإذا ضمن اصبنا معنى أهلكنا لا يحتاج إلى تقدير مضاف. وأن مخففة من الثقيلة وسمها ضمير شأن مقدر وخبره الجملة الشرطية والمصدر المؤول فاعل * (يهد) * ومفعوله على احتمال التضمين محذوف أي أو لم يتبين لهم مآل أمرهم أو نحو ذلك. وجوز أن يكون الفاعل ضمير الله تعالى وأن يكون ضميرا عائدا على ما يفهم مما قبل، أي أو لم يهد لهم ما جرى على الأمم السابقة. وقرأ عبد الرحمن السلمي. وقتادة، وروي عن مجاهد. ويعقوب * (نهد) * بالنون فالمصدر حينئذ مفعول، ومن الناس من خص اعتبار التضمين أو المجاز بهذه القراءة واعتبار التنزيل منزلة اللازم بقراءة الياء، وفيه بحث، وقوله تعالى: * (ونطبع على قلوبهم) * جملة معترضة تذييلية أي ونحن من شأننا وسنتنا أن نطبع على قلب من لم نرد منه الأيمان حتى لا يتعظ بأحوال من قبله ولا يلتفت إلى الأدلة، ومن أراد من أهل القرى فيما تقدم أهل مكة جعله تأكيدا لما نعى عليهم من الغرة والأمن والخسران أي ونحن نطبع على قلوبهم فلذلك اقتفوا آثار من قبلهم ولم يعتبروا بالآيات وأمنوا من البيات لمستخلفيهم حذو النعل بالنعل. وجوز عطفه على مقدر دل عليه قوله تعالى: * (أو لم يهد) * وعطفه عليه أيضا وهو وإن كان إنشاء إلا أن المقصود منه الأخبار بغفلتهم وعدم اهتدائهم أي لا يهتدون أو يغفلون عن الهداية أو عن التأمل والتفكر ونطبع الخ.
وجوز أن يكون عطفا على يرثون، واعترض بأنه صلة والمعطوف على الصلة صلة ففيه الفصل بين أبعاض
13

الصلة بأجنبي وهو * (أن لو نشاء) * سواء كانت فاعلا أو مفعولا، ونقل أبو حيان عن الأنباري أنه قال: يجوز أن يكون معطوفا على * (أصبنا) * إذا كان بمعنى نصيب فوضع الماضي موضع المستقبل عند وضوح معنى الاستقبال كما في قوله تعالى: * (تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك) * (الفرقان: 10) أي إن يشأ، يدل عليه * (ويجعل لك قصورا) * (الفرقان: 10) فجعل لو شرطية بمعنى إن ولم يجعلها التي هي لما كان سيقع لوقوع غيره وجعل أصبنا بمعنى نصيب، وقد يرتكب التأويل في جانب المعطوف فيؤول * (نطبع) * بطبعنا، ورد الزمخشري هذا العطف بأنه لا يساعد عليه المعنى لأن القوم كانوا مطبوعا على قلوبهم موصوفين بصفة من قبلهم من اقتراف الذنوب والإصابة بها وذلك يؤدي إلى خلوهم عن هذه الصفة وأن الله تعالى لو شاء لاتصفوا بها، وتعقبه ابن المنير بأنه لا يلزم أن يكون المخاطبون موصوفين بالطبع ولا بد وهم وإن كانوا كفارا ومقترفين للذنوب فليس الطبع من لوازم الاقتراف البتة إذ هو التمادي على الكفر والإصرار والغلو في التصميم حتى يكون الموصوف به مأيوسا من قبوله للحق ولا يلزم أن يكون كل كافر بهذه المثابة بلى إن الكافر يهدد لتماديه على الكفر بأن يطبع الله تعالى على قلبه فلا يؤمن أبدا وهو مقتضى العطف على * (أصبنا) * فتكون الآية قد هددتهم بأمرين الإصابة بذنوبهم والطبع على قلوبهم والثاني أشد من الأول وهو أيضا نوع من الإصابة بالذنوب والعقوبة عليها ولكنه أنكى أنواع العذاب وأبلغ صنوف العقاب، وكثيرا ما يعاقب الله تعالى على الذنب بالإيقاع في ذنب أكبر منه، وعلى الكفر بزيادة التصميم
عليه والغلو فيه كما قال سبحانه: * (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) * (التوبة: 125) كما زادت المؤمنين إيمانا إلى إيمانهم وهذا النوع من الثواب والعقاب مناسب لما كان سببا فيه وجزاء عليه فثواب الإيمان إيمان وثواب الكفر كفر، وإنما الزمخشري يحاذر من هذا الوجه دخول الطبع في مشيئة الله تعالى وذلك عنده محال لأنه بزعمه فبيح والله سبحانه عنه متعال، وفي التقريب نحو ذلك فإنه نظر فيما ذكره الزمخشري بأن المذكور كونهم مذنبين دون الطبع وأيضا جاز أن يراد لو شئنا زدنا في طبعهم أو لأمناه، والحق كما قال غير واحد من المحققين أن منعه من هذا العطف ليس بناء على أنه لا يوافق رأيه فقط بل لأن النظم لا يقتضيه فإن قوله سبحانه * (فهم لا يسمعون) * أي سماع تفهم واعتبار يدل على أنهم مطبوع على قلوبهم لأن المراد استمرار هذه الحال لا أنه داخل في حكم المشيئة لأن عدم السماع كان حاصلا ولو كان كذلك لوجب أن يكون منفيا، وأيضا التحقيق لا يناسب الغرض، و * (كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين) * ظاهر الدلالة على أن الوارثين والموروثين كل من أهل الطبع وكذا قوله سبحانه: * (فما كانوا ليؤمنوا) * يدل على أن حالهم منافية للإيمان وأنه لا يجىء منه البتة وأيضا إدامة الطبع أو زيادته لا يصلح عقوبة للكافرين بل قد يكون عقوبة ذنب المؤمن كما ورد في الصحيح وما يورد من الدغدغة على هذا مما لا يلتفت إليه.
* (تلك القرى نقص عليك من أنبآئها ولقد جآءتهم رسلهم بالبين‍ات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الك‍افرين) *.
* (تلك القرى نقص عليك من أنبائها) * جملة مستأنفة جارية مجرى الفذلكة مما قبلها منبئة عن غاية غواية الأمم المذكورة وتلك إشارة إلى قرى الأمم المحكية من قوم نوح وعاد وثمود وأضرابهم، واللام للعهد وجوز أن تكون للجنس، وهو مبتدأ والقرى صفته والجملة بعده خبر.
وجوز الزمخشري أن تكون تلك مبتدأ، والقرى خبر، والجملة خبر بعد خبر على رأي من يرى جواز كون الخبر الثاني جملة، وأن تكون الجملة حالا، وإفادة الكلام بالتقييد بها، واعترضه في التقريب بأنه جعل شرط الإفادة التقييد بالحال وعلى تقدير كون ذلك خبرا بعد خبر ينتفي الشرط إلا أن يريد تلك القرى
14

المعلومة حالها أو صفتها على أن اللام للعهد لكنه يوجب الاستغناء عن اشتراط إفادته بالحال انتهى، وفيه أن حديث الاستغناء ممنوع فإن المعنى كما في الكشف على التقديرين مختلف لأنه إذا جعل حالا يكون المقصود تقييده بالحال كما ذكره الزجاج في نحو هذا زيد قائما إذا جعل قيدا للخبر إن الكلام إنما يكون مع من يعلم أنه زيد والاجاء الإحالة لأنه يكون زيد قائما كان أولا، وإذا جعل خبرا بعد خبر * (فتلك القرى) * على أسلوب ذلك الكتاب على أحد الوجوه * (ونقص) * خبر ثانب تفخيما على تفخيم حيث نبه على أن لها قصصا وأحوالا أخرى مطوية.
وقال الطيبي: إن الحال لما كانت فضلة كان الاشكال قائما في عدم إفادة الخبر فأجيب بأنها ليست فضلة من كل وجه وأما الخبر فلا عجب من كونه كالجزء من الأول كما في قولك هذا حلو حامض، وهذا بمنزلته، وفيه أن عد ما نحن فيه من ذلك القبيل حامض ومستغنى عنه بالحلو، ومثله بل أدهى وأمر الجواب بأنه لما اشترك الحلوان في ذات المبتدأ كفى إفادة أحدهما وصيغة المضارع للإيذان بعدم انقضاء القصة بعد و * (من) * للتبعيض أي بعض أخبارها التي فيها عظة وتذكير، وتصدير الكلام بذكر القرى وإضافة الأنباء أي الأخبار العظيمة الشأن إليها مع أن المقصود أنباء أهلها وبيان أحوالهم حسبما يؤذن به قوله سبحانه: * (ولقد جاءتهم رسلهم بالبينت) * لما ذكره سيخ الإسلام من أن حكاية هلاكهم بالمرة على وجه الاستئصال بحيث يشمل أماكنهم أيضا بالخسف بها والرجفة وبقائها خاوية معطلة أهول وأفظع، والباء في قوله تعالى: * (بالبينات) * متعلقة أما بالفعل المذكور على أنها للتعدية، وإما بمحذوف وقع حالا من فاعله أي متلبسين بالبينات على معنى أن رسول كل أمة من الأمم المهلكة الخاص بهم جاءهم بالمعجزات البينة الجمة لا أن كل رسول جاء ببينة واحدة، وما ذكروه من أن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد لا يقتضي كما قال المولى المدقق أبو القاسم السمرقندي في تعليقاته على المطول أن يلزم في كل مقابلة مقارنة الواحد للواحد لأن انقسام الآحاد على الآحاد كما يجوز أن يكون على السواء يجوز أن يكون على التفاوت، مثلا إذا قيل: باع القوم دوابهم يفهم أن كلا منهم باع ماله من دابة، ويجوز أن تتعدد دابة البعض، ولهذا قبل في قوله سبحانه: * (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم) * (المائدة: 6) إن غسل يدي كل شخص ثابت بالكتاب والمقام هنا يقتضي ما ذكرناه فإن الجملة مستأنفة مبينة لكمال عتوهم وعنادهم، وقول عز شأنه: * (فما كانوا ليؤمنوا) * بيان لاستمرار عدم إيمانهم في الزمان الماضي لا لعدم استمرار إيمانهم، ونظير ذلك * (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * (البقرة: 62)، وترتيب حالهم هذه على مجيء الرسل بالبينات بالفاء لما أن الاستمرار على فعل بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه يعد بحسب العنوان فعلا جديدا وصنعا حادثا كما في وعظته فلم ينزجر ودعوته فلم يجب، واللام لتأكيد النفي أي فما صح وما استقام لقوم من أولئك الأقوام في وقت من الأوقات ليؤمنوا بل كان ذلك ممتنعا منهم إلى أن لقوا ما لقوا لغاية عتوهم وشدة شكيمتهم في الكفر والطغيان ثم إن كان المحكى آخر حال كل قوم منهم فالمراد بعدم إيمانهم هو إصرارهم على ذلك بعد اللتيا والتي وبما أشير إليه بقوله تعالى: * (بما كذبوا من قبل) * تكذيبهم من لدن مجيء الرسل عليهم السلام إلى وقت الإصرار والعناد، وهذا معنى كلام الزجاج فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية تلك المعجزات بما كذبوا قبل رؤيتها، يعني أول ما جاؤوهم فاجأوهم بالتكذيب فأتوا بالمعجزات فأصروا على التكذيب وإلى هذا ذهب الحسن أيضا، وإنما لم
15

يجعل ذلك مقصودا بالذات كالأول بل جعل صلة للموصول المحذوف عائده أي الذي كذبوه إيذانا بأنه بين في نفسه، وإنما المحتاج إلى البيان عدم إيمانهم بعد تواتر البينات الباهرة وتظاهر المعجزات الظاهرة التي كانت تضطرهم إلى القبول لو كانوا من ذوي العقول، والموصول الذي تعلق به الإيمان والتكذيب إيجابا وسلبا عبارة عن جميع الشرائع التي جاء بها كل رسول أصولها وفروعها وإن كان المحكى جميع أحوال كل قوم منهم فالمراد على ما قيل بما ذكر أولا كفرهم المستمر من حين مجيء الرسل عليهم السلام إلى آخر أمرهم وبما أشير إليه آخرا تكذيبهم قبل مجيئهم فلا بد من جعل الموصول عبارة عن أصول الشرائع التي لا تقبل التبدل والتغير واجتمعت الرسل قاطبة عليها ودعوا الأمم إليها كلمة التوحيد ولوازمها ومعنى تكذيبهم بها قبل مجيء الرسل أنهم كانوا يسمعونها من بقايا من قبلهم فيكذبونها لا أن العقل يرشد إليها ويحكم
بها ويخالفونه ثم كانت حالهم بعد مجيء الرسل إليهم كحالهم قبل كأن لم يبعث إليهم أحد وتخصيص التكذيب وعدم الإيمان بما ذكر من الأصول لظهور حال الباقي بدلالة النص فإنهم حين لم يؤمنوا بما اجتمعت عليه كافة الرسل فلأن لا يؤمنوا بما تفرد به بعضهم أولى، وعدم جعل هذا التكذيب مقصودا بالذات لما أنه ليس مدار العذاب بل مداره التكذيب بعد البعثة كما يفصح عنه قوله تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * (الإسراء: 15) وإنما ذكر ما وقع قبلها بيانا لعراقتهم في الكفر والتكذيب، وقيل: المراد بما أشير إليه آخرا تكذيبهم الذي أسروه يوم الميثاق، وروي ذلك عن أبي بن كعب. والربيع. والسدى. ومقاتل. واختاره الطبري.
وأخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم وغيرهما عن مجاهد أن الآية على حد قوله تعالى: * (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) * (الأنعام: 28) فالمعنى ما كانوا لو أهلكناهم ثم أحييناهم ليؤمنوا بما كذبوا قبل إهلاكهم، وعلى هذا فالمراد بالموصول جميع الشرائع أصولها وفروعها وفيه من المبالغة في إصرارهم وعتوهم ما لا يخفى إلا أنه في غاية الخفاء، وأيا ما كان فالضمائر الثلاثة متوافقة في المرجع، وقيل ضمير * (كذبوا) * راجع إلى أسلافهم، والمعنى فما كان الأبناء ليؤمنوا بما كذب به الآباء، ولا يخفى ما فيه من التعسف، وذهب الأخفش إلى أن الباء سببية وما مصدرية والمعنى عليه كما قيل: فما كانوا ليؤمنوا الآن أي عند مجيء الرسل لما سبق منهم من التكذيب الذي ألفوه وتمرنوا عليه قبل مجيئهم أو لم يؤمنوا قط واستمروا على تكذيبهم لما حصل منهم من التكذيب حين مجيء الرسل.
* (كذلك) * أي مثل ذلك الطبع الشديد المحكم * (يطبع الله على قلوب الك‍افرين) * أي قلوبهم فوضع المظهر موضع المضمر ليدل على أن الطبع بسبب الكفر وإلى هذا يشير كلام الزجاج وصرح به بعضهم، ويجوز ولعله الأولى أن يراد بالكفافرين ما يشمل المذكورين وغيرهم وفي ذلك من تحذير السامعين ما لا يخفى، وإظهار الاسم الجليل بطريق الالتفات لتربية المهابة وإدخال الروعة.
* (وما وجدنا لاكثرهم من عهد وإن وجدنآ أكثرهم لف‍اسقين) *.
* (وما وجدنا لأكثرهم) * أي أكثر الأمم المذكورين، ووجد متعدية لواحد واللام متعلقة بها كما في قولك: ما وجدت لزيد مالا أي ما صادفت له مالا ولا لقيته أو بمحذوف كما قال أبو البقاء وقع حالا من قوله تعالى: * (من عهد) * لأنه في الأصل صفة للنكرة فلما قدمت عليها انتصبت حالا ومن مزيدة للاستغراق وجوز أن تكون وجد علمية والأول أظهر، والكلام على تقدير مضاف أي ما وجدنا وفاء عهد كائن لأكثرهم فإنهم نقضوا ما عاهدوا عليه الله تعالى عند مساس البأساء والضراء قائلين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين، وإلى هذا ذهب قتادة وتخصيص
16

هذا الشأن بأكثرهم ليس لأن بعضهم كانوا يوفون بالعهد بل لأن بعضهم كانوا لا يعهدون ولا يوفون، وقيل: المراد بالعهد ما وقع يوم أخد الميثاق، وروي ذلك عن أبي بن كعب. وأبي العالية، وقيل: المراد به ما عهد الله تعالى إليهم من الإيمان والتقوى بنصب الدلائل والحجج وإنزال الآيات، وفسره ابن مسعود بالإيمان كما في قوله تعالى: * (اتخذ عند الرحمن عهدا) * (مريم: 78)، وقيل: هو بمعنى البقاء أي ما وجدنا لهم بقاء على فطرتهم، والمراد بالأكثر في الكل الكل، وذهب كثير من الناس إلى أن ضمير أكثرهم للناس وهو معلوم لشهرته، والجملة إلى فاسقين اعتراض لأنه لا اختصاص له بما قبله لكن لعمومه يؤكده. وعلى الأول تتميم على ما نص عليه الطيبي وغيره * (وإن وجدنا أكثرهم) * (الأعراف: 102) أي أكثر الأمم أو أكثر الناس أي علمناهم كقولك: وجدت زيدا فاضلا وبين وجد هذه ووجد السابق على المعنى الأول فيه الجناس التام المماثل و * (إن) * مخففة من الثقيلة وضمير الشأن محذوف ولا عمل لها فيه لأنها ملغاة على المشهور، وتعين تفسير وجد بعلم الناصبة للمبتدأ والخبر لدخولها عليهما، فقد صرح الجمهور أنها لا تدخل إلا على المبتدأ أو على الأفعال الناسخة وخالف في ذلك الأخفش فلا يرى ذلك.
وجوز دخولها على غيرهما، وذهب الكوفيون إلى أن إن نافية، واللام في قوله سبحانه: * (لف‍اسقين) * اللام الفارقة وعند الكوفيين أن إن نافية واللام بمعنى إلا أي ما وجدنا أكثرهم الا خارجين عن الطاعة ويدخل في ذلك نقض العهد، وذكر الطيبي أنه إذا فسر الفاسقون بالناكثين يكون في الآية الطرد والعكس، وهو أن يؤتي بكلامين يقرر الأول بمنطوقه مفهوم الثاني وبالعكس، وهو كقوله تعالى: * (ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم) * إلى قوله سبحانه: * (ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن) * (النور: 58) فمنطوق الأمر بالاستئذان في الأوقات الثلاثة خاصة مقرر لمفهوم رفع الجناح فيما عداها وبالعكس، وكذا قوله تعالى: * (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) * (التحريم: 6) وهذا النوع من الأطناب يقابله في الإيجاز نوع الاحتباك.
* (ثم بعثنا من بعدهم موسى بااي‍اتنآ إلى فرعون وملإيه فظلموا بها فانظر كيف كان ع‍اقبة المفسدين) *.
* (ثم بعثنا من بعدهم موسى) * أي أرسلناه عليه السلام بعد الرسل أو بعد الأمم والأول متقدم في قوله سبحانه: * (ولقد جاءتهم رسلهم) * (الأعراف: 101) والثاني مدلول عليه وتلك القرى) * (الكهف: 59) والاحتمال الأول أولى، والتصريح بالبعدية مع ثم الدالة عليها قيل للتنصيص على أنها للتراخي الزماني فإنها كثيرا ما تسعمل في غيره، وقيل: للإيذان بأن بعثه عليه السلام جرى على سنن السنة الإلهية من ارسال الرسل تترى، و * (من) * لابتداء الغاية، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، وقوله سبحانه: * (بئاي‍اتنا) * متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعول بعثنا أو صفة لمصدره أي بعثناه عليه السلام ملتبسا بها أو بعثناه بعثا ملتبسا بها وأريد بها الآيات التسع المفصلة * (إلى فرعون) * هو علم شخص ثم صار لقبا لكل من ملك مصر من العمالقة، كما أن كسرى لقب من ملك فارس، وقيصر لقب من ملك الروم، والنجاشي لقب من ملك الحبشة، وتبع لقب من ملك اليمن، وقيل: إنه من أول الأمر لقب لمن ذكر، واسمه الوليد بن مصعب بن الريان، وقيل: قابوس وكنيته أبو العباس، وقيل: أبو مرة، وقيل: أبو الوليد، وعن جماعة أن قابوسا والوليد اسمان لشخصين أحدهما فرعون موسى والآخر فرعون يوسف عليهما السلام، وعن النقاش. وتاج القراء أن فرعون موسى هو والد الخضر عليه السلام، وقيل: ابنه وذلك من الغرابة بمكان، ويلقب به كل عات ويقال فيه فرعون كزنبور، وحكى ابن خالويه عن
17

الفراء ضم فائه وفتح عينه وهي لغة نادرة، ويقال فيه: فريع كزبير وعليه قول أمية بن الصلت:
حي داود بن عاد وموسى * وفريع بنيانه بالثقال
وقيل: هو فيه ضرورة شعر ومنع من الصرف لأنه أعجمي، وحكى أبو الخطاب بن دحية في مروج البحرين عن أبي النصر القشيري في التيسير أنه بلغة القبط اسم للتمساح، والقول بأنه لم ينصرف لأنه لا سمي له كابليس عند من أخذخ من أبلس ليس بشيء، وقيل: هو وأضرا به السابقة أعلام أشخاص وليست من علم الجنس لجمعها على فراعنة وقياصرة وأكاسرة، وعلم الجنس لا يجمع فلا بد من القول بوضع خاص لكل من تطلق عليه. وتعقب بأنه ليس بشيء لأن الذي غره قول الرضى إن علم الجنس لا يجمع لأنه كالنكرة شامل للقليل والكثير لوضعه للماهية فلا حاجة لجمعه، وقد صرح النحاة بخلافه وممن ذكر جمعه السهيلي في الروض الأنف فكأن مراد الرضى أنه لا يطرد جمعه وما ذكره تعسف نحن في غنى عنه * (وملائه) * أي أشراف قومه وتخصيصهم بالذكر مع عموم بعثته عليه السلام لقومه كافة لاصالتهم في تدبير الأمور واتباع غيرهم لهم في الورود والصدور * (فظلموا بها) * أي بالآيات، وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه وهو يتعدى بنفسه لا بالباء إلا أنه لما كان هو والكفر من واد واحد عدى تعديته أو هو بمعنى الكفر مجازا أو تضمينا أو هو مضمن معنى التكذيب أي ظلموا كافرين بها أو مكذبين بها، وقول بعضهم: إن المعنى كفروا بها مكان الإيمان الذي هو من حقها لوضوحها ظاهر في التضمين كأنه قيل كفروا بها واضعين الكفر في غير موضعه حيث كان اللائق بهم الإيمان.
وقيل: الباء للسببية ومفعول ظلموا محذوف أي ظلموا الناس بصدهم عن الإيمان أو أنفسهم كما قال الحسن. والجبائي بسببها، والمراد به الاستمرار على الكفر بها إلى أن لقوا من العذاب ما لقوا.
* (فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) * أي آخر أمرهم، ووضع المفسدين موضع ضميرهم للإيذان بأن الظلم مستلزم للافساد، والفاء لأنه كما أن ظلمهم بالآيات مستتبع لتلك العاقبة الهائلة كذلك حكايته مستتبع للأمر بالنظر إليها، والخطاب إما للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى منه النظر، و * (كيف) * كما قال أبو البقاء وغيره خبر كان قدم على اسمها لاقتضائه الصدارة، والجملة في حيز النصب باسقاط الخافض كما، قيل: أي فانظر بعين عقلك إلى كيفية ما فعلنا بهم.
* (وقال موسى يافرعون إنى رسول من رب الع‍المين) *.
* (وقال موسى) * كلام مبتدأ مسوق لتفصيل ما أجمل فيما قبله.
ي‍افرعون إني رسول) * أي إليكم كما يشعر به قد جئتكم أو إليك كما يشعر به فأرسل * (من رب الع‍االمين) * أي سيدهم ومالك أمرهم.
* (حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معى بنىإسراءيل) *.
* (حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق) * جواب لتكذيبه عليه السلام المدلول عليه بقوله سبحانه: * (فظلموا بها) * (الأعراف: 103)، وحقيق صفة رسول أو خبر بعد خبر.
وقيل: خبر مبتدأ محذوف أي أنا حقيق وهو بمعنى جدير و * (على) * بمعنى الباء كما قال الفراء أو بمعنى حريص و * (على) * على ظاهرها، قال أبو عبيدة: أو بمعنى واجب، واستشكل بأن قول الحق هو الواجب على موسى عليه السلام لا العكس والكلام ظاهر فيه، وأجيب بأن أصله حقيق على بتشديد الياء كما في قراءة نافع. ومجاهد * (أن لا أقول) * الخ فقلب لأمن الالتباس كما في قول خراش بن زهير: كذبتم وبيت الله حتى تعالجوا * قوادم حرب لا تلين ولا تمرى
18

وتلحق خيل لا هوادة بينها * وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر
وضعف بأن القلب سواء كان قلب الألفاظ بالتقديم والتأخير كخرق الثوب المسمار أم قلب المعنى فقط كما هنا إنما يفصح إذا تضمن نكتة كما في البيت، وهي في الإشارة إلى كثرة الطعن حتى شقيت الرماح بهم لتكسرها بسبب ذلك، وقد أفصح عن هذا المتنبي بقوله: والسيف يشقى كما تشقى الضلوع به * وللسيوف كما للناس آجال
وبأن بين الواجب ومن يجب عليه ملازمة فعبر عن لزومه للواجب بوجوبه على الواجب كم استفاض العكس، وليس هو من الكناية الإيمائية كقول البحتري: أو ما رأيت الجود ألقى رحله * في أل طلحة ثم لم يتحول
وقول ابن هانىء: فما جازه جود ولا حل دونه * ولكن يسير الجود حيث يسير
بل هو تجوز فيه مبالغة حسنة، وبأن ذلك من الإغراق في الوصف بالصدق بأن يكون قد جعل قول الحق بمنزلة رجل يجب عليه شيء ثم جعل نفسه أي قابليته لقول الحق وقيامه به بمنزلة الواجب على قول الحق فيكون استعارة مكنية وتخييلية، والمعنى أنا واجب على الحق أن يسعى في أن أكون قائله والناطق به فكيف يتصور مني الكذب، واعترضه القطب الرازي وغيره بأنه إنما يتم لو كان هو حقيقا على قول الحق وليس كذلك بل على قوله الحق، وجعل قوله الحق بحيث يجب عليه أن يسعى في أن يكون قائله لا معنى له.
وأجيب بأن مبني ذلك على أن المصدر المؤول لا بد من إضافته إلى ما كان مرفوعا به وليس بمسلم فإنه قد يقطع النظر عن ذلك.
وقد صرح بعض النحاة بأن قد يكون نكرة نحو * (وما كان هذا القرآن أن يفتري) * (يونس: 37) أي افتراء، وههنا قد قطع النظر فيه عن الفاعل إذ المعنى حقيق على قول الحق وهو محصل مجموع الكلام فلا إشكال، وذكر ابن مقسم في توجيه الآية على قراءة الجمهور وادعى أنه الأولى أن * (على أن لا أقول) * متعلق برسول إن قلنا بجواز إعمال الصفة إذا وصفت وإن لم نقل به وهو المشهور فهو متعلق بفعل يدل عليه أي أرسلت على أن لا أقول الخ، والأولى عندي كون علي بمعنى
الباء، ويؤيده قراءة أبي بأن لا أقول.
وقرأ عبد الله * (أن لا أقول) * بتقدير الجار وهو على أو الباء، وقد تقدم يقدر على بياء مشددة، وقوله سبحانه: * (قد جئتكم ببينة من ربكم) * استئناف مقرر لما قبله، ولم يكن هذا وما بعده من جواب فرعون إثر ما ذكر ههنا بل بعدما جرى بينهما من المحاورات التي قصها الله تعالى في غير ما موضع، وقد طوى ذكرها هنا للإيجاز و * (من) * متعلقة إما بجئتكم على أنها لابتداء الغاية مجازا وإما بمحذوف وقع صفة لبينة مفيدة لفخامتها الإضافية مؤكدة لخامتها الذاتية المستفادة من التنوين التفخيمي كما مر غير مرة، وإضافة اسم الرب إلى ضمير المخاطبين بعد إضافته فيما قبل إلى العالمين لتأكيد وجوب الايمان بها، وذكر الاسم الجليل الجامع في بيان كونه جديرا بقول الحق عليه سبحانه تهويلا لأمر الافتراء عليه تعالى شأنه مع الإشارة إلى التعليل بما ليس وراءه غاية * (فأرسل معى بني إسرائيل) * أي خلهم حتى يذهبوا معي إلى الأرض المقدسة التي
19

هي وطن آبائهم، وكان عدو الله تعالى والقبط قد استبعدوهم بعد إنقراض الأسباط يستعملونهم ويكلفونهم الأفاعيل الشاقة كالبناء وحمل الماء فانقدهم الله تعالى بموسى عليه السلام، وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف عليه السلام مصر واليوم الذي دخل فيه موسى عليه السلام على ما روى عن وهب أربعمائة سنة، واستعمال الإرسال بما أشير إليه على ما يظهر من كلام الراغب حقيقة، وقيل: إنه استعارة من إرسال الطير من القفص تمثيلية أو تبعية، ولا يخفى أنه ساقط عن وكر القبول، والفاء لترتيب الإرسال أو الأمر به على ما قبله من رسالته عليه السلام ومجيئه بالبينة.
* (قال إن كنت جئت بااية فأت بهآ إن كنت من الص‍ادقين) *.
* (قال) * استئناف بياني كأنه قيل: فما قال فرعون؟ فقيل: قال:
* (إن كنت جئت بآية) * من عند من أرسلك كما تدعيه * (فات بها) * أي فأحضرها عندي ليثبت بها صدقك في دعواك، فالمغايرة بين الشرط والجزاء مما لا غبار عليه، ولعل الأمر غني عن التزام ذلك لحصوله بما لا أظنه يخفي عليك * (إن كنت من الص‍ادقين) * في دعواك فإن كونك من جملة لمعروفين بالصدق يقتضي إظهار الآية لا محالة.
* (فألقى عصاه فإذا هى ثعبان مبين) *.
* (فألقى عصاه) * وكانت كما روى ابن المنذر. وابن أبي حاتم من عوسج. وروى عن علي كرم الله تعالى وجهه أنها كانت من لوز.
وأخرج عبد بن حميد. وأبو الشيخ عن قتادة أنه قال: ذكر لنا أنها عصا آدم عليه السلام أعطاها لموسى ملك حين توجه إلى مدين فكانت تضيء له بالليل ويضرب بها الأرض بالنهار فيخرج له رزقه ويهش بها على غنمه، والمشهور أنها كانت من آس الجنة وكانت لآدم عليه السلام ثم وصلت إلى شعيب فأعطاه إياها، وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن اسمها مأشا * (فإذا هي ثعبان) * أي حية ضخمة طويلة. وعن الفراء أن الثعبان هو الذكر العظيم من الحيات. وقال آخرون: إنه الحية مطلقا.
وفي " مجمع البيان " أنه مشتق من ثعب الماء إذا انفجر، فكأنه سمي بذلك لأنه يجري كعنق الماء إذا انفجر * (مبين) * أي ظاهر أمره لا يشك في كونه ثعبانا؛ فهو إشارة إلى أن الصيرورة حقيقية لا تخييلية، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على كمال سرعة الانقلاب وثبات وصف الثعبانية فيها كأنها في الأصل كذلك، وروى عن ابن عباس. والسدي أنه عليه السلام لما ألقاها صارت حية صفراء شعراء فاغرة فاها بين لحييا ثمانون ذراعا وارتفعت من الأرض بقدر ميل وقامت على ذنبها واضعة لحيها الأسفل في الأرض ولحيها الأعلى على سور القصر وتوجهت نحو فرعون لتأخذه فوثب عن سريره هاربا وأحدث، وفي بعض الروايات أنه أحدث في ذلك اليوم أربعمائة مرة، وفي أخرى أنه استمر معه داء البطن حتى غرق، وقيل: إنها أخذت قبة فرعون بين أنيابها وأنها حملت على الناس فانهزموا مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفا، فصاح فرعون يا موسى أنشدك بالذي أرسلك أن تأخذها وأنا أومن بك وأرسل معك بني إسرائيل، فأخذها فعادت عصا كما كانت، وعن معمر أنها كانت في العظم كالمدينة، وقيل: كان طولها ثمانين ذراعا، وعن وهب بن منبه أن بين لحييها اثني عشر ذراعا، وعلى جميع الروايات لا تعارض بين ماهنا وقوله سبحانه: * (كأنها جان) * (النمل: 10) بناء على أن الجان هي الحية الصغيرة لما قالوا: إن القصة غير واحدة، أو أن المقصود من ذلك تشبيها في خفة الحركة بالجان لا بيان جثتها، أو لما قيل: إنها انقلبت جانا وصارت ثعبانا فحكيت الحالتان في آيتين، وسيأتي إن شاء الله تعالى
20

تحقيق ذلك. والآية من أقوى أدلة جواز انقلاب الشيء عن حقيقته كالنحاس إلى الذهب، إذ لو كان ذلك تخييلا لبطل الإعجاز، ولم يكن لذكر مبين معنى مبين، وارتكاب غير الظاهر غير ظاهر، ويدل لذلك أيضا أنه لا مانع في القدرة من توجه الأمر التكويني إلى ما ذكر وتخصيص الإرادة له، والقول بأن قلب الحقائق محالوالقدرة لا تتعلق به فلا يكون النحاس ذهبا رصاص مموه، والحق جواز الانقلاب إما بمعنى أنه تعالى يخلق بدل النحاس ذهبا على ما هو رأي المحققين، أو بأن يسلب عن أجزاء النحاس الوصفي الذي صار به نحاسا ويخلقفيه الوصف الذي يصير به ذهبا على ما هو رأي بعض المتكلمين من تجانس الجواهر واستوائها في قبول الصفات، والمحال إنما هو انقلابه ذهبا مع كونه نحاسا لامتناع كون الشيء في الزمن الواحد نحاسا وذهبا، وعلى أحد هذين الاعتبارين توكأ أئمة التفسير في أمر العصا.
* (ونزع يده فإذا هى بيضآء للن‍اظرين) *.
* (ونزع يده) * أي أخرجها من جيبه لقوله تعالى: * (أدخل يدك في جيبك) * (النمل: 12) أو من تحت أبطه لقوله سبحانه: * (واضمم يدك إلى جناحك) * (طه: 22) والجمع بينهما ممكن في زمان واحد، وكانت اليد اليمنى كما صرح به في بعض الآثار * (فإذا هي بيضاء للناظرين) * أي بيضاء بياضا نورانيا خارجا عن
العادة يجتمع عليه النظار. فقد روى أنه أضاء له ما بين السماء السماء والأرض، وجاء في رواية أنه أرى فرعون يده، وقال عليه السلام: ما هذه؟ فقال: يدك. ثم أدخلها جيبه وعليه مدرعه صوف ونزعها فإذا هي بيضاء بياضا نورانيا غلب شعاعه شعاع الشمس، وقيل: المعنى بيضاء لأجل النظار لا أنها بيضاء في أصل خلقتها لأنه عليه السلام كان آدم شديد الأدمة، فقد أخرج البخاري عن ابن عمر قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما موسى فآدم جثيم سبط كأنه من رجال الزط " وعنى عليه الصلاة والسلام بالزنط جنسا من السودان والهنود، ونص البعض على أن ذلك البياض إنما كان في الكف وإطلاق اليد عليها حقيقة.
وفي " القاموس " الكيد الكف أو من أطراف الأصابع إلى الكف، وأصلها يدي بدليل جمعها على أيدي ولم ترد اليد عند الإضافة لما تقرر في محله، وجاء في كلامهم يد بالتشديد وهو لغة فيه.
* (قال الملا من قوم فرعون إن ه‍اذا لس‍احر عليم) *.
* (قال الملاء من قوم فرعون) * أي الأشراف منهم وهم أهل مشورته ورؤساء دولته.
* (إن هذا لس‍احر عليم) * أي مبالغ في علم السحر ماهر فيه.
* (يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون) *.
* (يريد أن يخرجكم من أرضكم) * أي من أرض مصر * (فماذا تأمرون) * أي تشيرون في أمره كما فسره بذلك ابن عباس، فهو من الأمر بمعنى المشاورة، يقال: آمرته فآمرني أي شاورته فأشار على، وقيل من الأمر المعهود، و * (ماذا) * في محل نصب على أنه مفعول لتأمرون بحذف الجار، أي بأي شيء تأمرون، وقيل: * (ما) * خبر مقدم و * (ذا) * اسم موصول مبتدأ مؤخر، أي ما الذي تأمرون به.
* (قالوا أرجه وأخاه وأرسل فى المدآئن ح‍اشرين) *.
أي أخر أمرهما وأصدرهما عنك ولا تعجل في أمرهما حتى ترى رأيك فيهما، وقيل: احبسهما، واعترض بأنه لم يثبت منه الحبس.
وأجيب بأن الأمر به لا يوجب وقوعه؛ وقيل عليه أيضا: إنه لم يكن قادرا على الحبس بعد أن رأى ما رأى، وقوله: * (لأجعلنك من المسجونين) * (الشعراء: 29) في الشعراء كان قبل هذا، وأجيب بأن القائلين لعلهم لم يعلموا ذلك منه، وقال أبو منصور: الأمر بالتأخير دل على أنه تقدم منه أمر آخر وهو الهم بقتله، فقالوا: أخره ليتبين حاله للناس، وليس بلازم كما لا يخف؛ وأصل أرجه أرجئه بهمزة ساكنة وهاء مضمونة دون واو ثم
21

حذفت الهمزة وسكنت الهاء لتشبيه المنفصل بالمتصل، وجعل جه وكابل في إسكان وسطه، وبذلك قرأ أبو عمرو. وأبو بكر. ويعقوب على أنه من أرجات، وكذلك قراءة ابن كثير. وهشام. وابن عامر * (أرجئهو) * بهمزة ساكنة وهاء متصلة بواو الاشباع.
وقرأ نافع في رواية ورش. وإسماعيل. والكسائي * (أرجهي) * بهاء مكسورة بعدها ياء من أرجيت، وفي رواية قالون * (أن أرجه) * بحذف الياء للاكتفاء عنها بالكسرة، وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان * (أرجئه) * بالهمزة وكسر الهاء، وقد ذكر بعضهم أن ضم الهاء وكسرها والهمز وعدمه لغتان مشهورتان، وهل هما ماذتان أو الياء بدل من الهمزة كتوضأت وتوضيت؟ قولان، وطعن في القراءة على رواية ابن ذكوان، فقال الحوفي: إنها ليست بجيدة، وقال الفارسي: إن ضم الهاء مع الهمزة لا يجوز غيره وكسرها غلط لأن الهاء لا تكسر إلا بعد ياء ساكنة أو كسرة، وأجيب كما قال الشهاب عنه بوجهين: أحدهما: أن الهمزة ساكنة والحرف الساكن حاجز غير حصين فكأن الهاء وليت الجيم المكسورة فلذا كسرت، والثاني: أن الهمزة عرضة للتغيير كثيرا بالحذف وإبدالها ياء إذا سكنت بعد كسرة فكأنها وليست ياء ساكنة فلذا كسرت. وأورد على ذلك أو شامة أن الهمزة تعد حاجزا وأن الهمزة لو كانت ياء كان المختار الضم نظرا لأصلها وليس بشيء بعد أن قالوا: إن القراءة متواترة وما ذكر لغة ثابتة عن العرب، هذا واستشكل الجمع بين ما هنا وما في الشعراء فإن فيها * (قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم، يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون) * (الشعراء: 34، 35) وهو صريح في أن * (إن هذا لساحر) * إلى * (فماذا تأمرون) * كلام فرعون وما هنا صريح في نسبة قول ذلك للملا والقصة واحدة فكيف يختلف القائل في الموضعين وهل هذا إلا منافاة؟ وأجيب بأنه لا منافاة لاحتمالين. الأول: أن هذا الكلام قاله فرعون والملأ من قومه فهو كوقع الحافر على الحافر فنقل في الشعراء كلامه وهنا كلامهم، والثاني: أن هذا الكلام قاله فرعون ابتداء ثم قاله الملأ إما بطريق الحكاية لأولادهم وغيرهم وإما بطريق التبليغ لسائر الناس فما في الشعراء كلام فرعون ابتداء وما هنا كلام الملا نقلا عنه.
واختار الزمخشري أن ما هنا هو قول الملأ نقلا عن فرعون بطريق التبليغ لا غير لأن القوم لما سمعوه خاطبوا فرعون بقولهم: أرجه الخ، ولو كان ذلك كلام الملأ ابتداء لكان المطابق أن يجيبوهم بارجئوا، ولا سبيل إلى أنه كان نقلا بطريق الحكاية لأنه حينئذ لم يكن مؤامرة ومشاورة مع القوم فلم يتجه جوابهم أصلا، فتعين أن يكون بطريق التبليغ فلذا خاطبوه بالجواب. بقي أن يقال هذا الجواب بالتأخير في الشعراء كلام الملأ لفرعون وههنا كلام سائر القوم. لكن لا منافاة لجواز تطابق الجوابين. وقول شيخ الإسلام: إن كون ذلك جواب العامة يأباه أن الخطاب لفرعون وأن المشاورة ليست من وظائفهم ليس بشيء، لأن الأمر العظيم الذي تصيب تبعته أهل البلد يشاور فيه الملك الحازم عوامهم وخواصهم، وقد يجمعهم لذلك ويقول لهم: ماذا ترون فهذا أمر لا يصيبني وحدي ورب رأي حسن عند من لم يظن به على أن في ذلك جمعا لقلوبهم عليه وعلى الاحتفال بشأنه، وقد شاهدنا أن الحوادث العظام يلتفت فيها إلى العوام، وأمر موسى عليه السلام كان من أعظم الحوادث عند فرعون بعد أن شاهد منه ما شاهد ثك أنهم اختلفوا في قوله تعالى: * (فماذا تأمرون) * (الأعراف: 110) فقيل: إنه من تتمة كلام الملأ، واستظهره غير واحد لأنه مسوق مع كلامهم من غير فاصل، فالأنسب أن يكون من بقية كلامهم، وقال الفراء. والجبائي: إن كلام الملا قد تم عند قوله سبحانه: * (يريد
22

أن يخرجكم من أرضكم) * ثم قال فرعون: فماذا تأمرون قالوا: أرجه، وحينئذ يحتمل كما قال القطب أن يكون كلام الملأ مع فرعون وخطاب الجمع في يخرجكم إما لتفخيم شأنه أو لاعتباره مع خدمه وأعوانه. ويحتمل أن يكون مع قوم فرعون والمشاورة منه. ثم قال: وإنما التزموا هذا التعسف ليكون مطابقا لما في الشعراء في أن قوله: * (ماذا تأمرون) * من كلام فرعون وقوله: * (أرجه وأخاه) * كلام الملأ. لكن ما ارتفعت المخالفة بالمرة لأن قوله: * (إن هذا لساحر عليم، يريد أن يخرجكم) * (الأعراف: 109، 110) كلام فرعون للملأ. وفي هذه السورة على ما وجهوه كلام الملأ لفرعون، ولعلهم يحملونه على أنه قال لهم مرة وقالوه له أخرى انتهى. ويمكن أن يقال: إن الملأ لما رأوا من موسى عليه السلام ما رأوا قال بعضهم لبعض: إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تشيرون وما تستحسنون في أمره؟ ولما رآهم فرعون أنهم مهتمون من ذلك قال لهم تنشيطا لهم وتصويبا لما هم عليه قبل أن يجيب بعضهم بعضا بما عنده مثل ماقالوه فيما بينهم فالتفتوا إليه وقالوا: أرجه وأخاه، فحكى سبحانه هنا مشاورة بعضهم لبعض وعرض ما عندهم على فرعون أول وهلة قبل ذكره فيما بينهم، وحكى في " الشعراء " كلامه لهم ومشاورته إياهم التي هي طبق مشاورة بعضهم بعضا المحكية هنا وجوابهم له بعد تلك المشاورة، وعلى هذا لا يدخل العوام في الشورى، ويكون ههنا أبلغ في ذم الملأ فليتدبر والله تعالى أعلم بأسرار كلامه * (وأرسل في المدائن) * أي البلاد جمع مدينة، وهي من مدن بالمكان كنصر إذا أقام به، ولكون الياء زائدة كما قال غير واحد تقلب همزة في الجمع، وأريد بها مطلق المدائن، وقيل: مدائن صعيد مصر * (ح‍اشرين) * أي رجالا يجمعون السحرة، وفسره بعضهم بالشرط وهم أعوان الولاة لأنهم يجعلون لهم علامة، ويقال للواحد شرطي بسكون الراء نسبة للشرطة، وحكى في " القاموس " فتحها أيضا، وفي الأساس أنه خطأ لأنه نسبة إلى الشرط الذي هو جمع، ونصب الوصف على أنه صفة لمحذوف ومفعوله محذوف أيضا كما أشير إليه، وقد نص على ذلك الأجهوري.
* (يأتوك بكل س‍احر عليم) *.
* (يأتوك بكل ساحر عليم) * أي ماهر في السحر والفعل مجزوم في جواب الطلب.
وقرأ حمزة. والكسائي * (سحار) * وجاء فيه الامالة وعدمها وهو صيغة مبالغة؛ وفسره بعضهم بأنه الذي يديم السحر والساحر من أن يكون قد سحر في وقت دون وقت، وقيل: الساحر: هو المبتدىء في صناعة السحر والسحار هو المنتهى الذي يتعلن منه ذلك.
وجآء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغ‍البين) *.
* (وجاء السحرة فرعون) * بعدما أرسل إليهم الحاشرين وإنما لم يصرح به للإيذان بمسارعة فرعون بالإرسال ومبادرة الحاشرين والسحرة إلى الامتثال.
واختلف في عدتهم. فعن كعب أنهم إثنا عشر ألفا، وعن ابن إسحق خمسة عشر ألفا، وعن أبي ثمامة سبعة عشر ألفا، وفي رواية تسعة عشر ألفا؛ وعن السدي بضعة وثلاثون ألفا، وعن أبي بزة أنهم سبعون ألفا، وعن محمد بن كعب ثمانون ألفا. وأخرج أبو الشيخ عن ابن جرير قال: السحرة ثلثمائة من قومه وثلمائة من العريش ويشكون في ثلثمائة من الاسكندرية.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم كانوا سبعين ساحرا وقد أخذوا السحر من رجلين مجوسيين من أهل نينوى مدينة يونس عليه السلام، وروى نحو ذلك عن الكلبي، والظاهر عدم صحته لأن المجوسية
23

ظهرت زمن زرادشت على المشهور، وهو إنما جاء بعد موسى عليه السلام، واسم رئيسهم كما قال مقاتل: شمعون وقال ابن جريج: هو يوحنا، وقال ابن الجوزي نقلا عن علماء السير: أن رؤساءهم سابور وعازور وحطحط ومصفى * (قالوا) * استئناف بياني ولذا لم يعطف كأنه قيل: فماذا قالوا له عند مجيئهم إياه؟ فقيل: قالوا الخ، وهذا أولى مما قيل إنه حال من فاعل جاءوا أي جاءوا قائلين * (إن لنا لأجرا) * أي عوضا وجزاء عظيما.
* (إن كنا نحن الغالبين) * والمقصود من الإخبار إيجاب الأجر واشتراطه كأنهم قالوا: بشرط أن تجعل لنا أجرا إن غلبنا، ويحتمل أن يكون الكلام على حذف أداة الاستفهام وهو مطرد، ويؤيد ذلك أنه قرأ ابن عامر وغيره * (أئن) * بإثبات الهمزة وتوافق القراءتين أولى من تخالفهما؛ ومن هنا رجح الواحدي هذا الاحتمال، وذكر الشرط لمجرد تعيين مناط ثبوت الأجر لا لترددهم في الغلبة، وقيل: له، وتوسيط الضمير وتحلية الخبر باللام للقصر، أي كنا نحن الغالبين لاموسى عليه السلام.
* (قال نعم وإنكم لمن المقربين) *.
* (قال نعم) * إن لكم لأجرا.
* (وإنكم لمن المقربين) * عطف على مقدر هو عين الكلام السابق الدال عليه حرف الإيجاب، ويسمى مثل هذا عطف التلقين، ومن قال إنه معطوف على السابق أراد ما ذكرنا، والمعنى إن لكن لأجرا وإنكم مع ذلك لمن المقربين، أي إني لا أقتصر لكم على العطاء وحده وأن لكم معه ما هو أعظم منه وهو التقريب والتعظيم لأن من أعطى شيئا إنما يتهنأ به ويغتبط إذا نال معه الكرامة والرفعة، وفي ذلك من المبالغة في الترغيب والتحريض ما لا يخفى، وروى عن الكلبي أنه قال لهم: تكونون أول من يدخل مجلسي وآخر من يخرج عنه.
* (قالوا ياموسى إمآ أن تلقى وإمآ أن نكون نحن الملقين) *.
* (قالوا) * استئناف كنظيره السابق * (يموسىإما أن تلقى) * ما تلقى أو لا * (وإما أن نكون نحن الملقين) * لما نلقى أو لا أو الفاعلين للإلقاء أو لا خيروه عليه السلام بالبدء بالإلقاء مراعاة للأدب ولذلك كما قيل من الله تعالى عليهم بما من، أو إظهارا للجلادة وأنه لا يختلف عليهم الحال بالتقديم والتأخير، ولكن كانت رغبتهم في التقديم كما ينبى عنه تغييرهم للنظر بتعريف الخبر وتوسيط ضمير الفصل وتوكيد الضمير المستتر، والظاهر أنه وقع في المحكى كذلك بما يرادفه، وقول الجلال
السيوطي: إن الضمير المنفصل إما أن يكون فصلا أو تأكيدا ولا يمكن الجمع بينهما لأنه على الأول لا محل له من الإعراب وعلى الثاني له محل كالمؤكد وهم كما لا يخفى. وفرق الطيبي بين كون الضمير فصلا وبين كونه توكيدا بأن التوكيد يرفع التجوز عن المسند إليه فيلزم التخصيص من تعريف الخبر، أي نحن نلقى البتة لا غيرنا، والفصل يخصص الإلقاء بهم لتخصيص المسند إليه فيعرى عن التوكيد، وتحقيق ذلك يطلب من محله.
* (قال ألقوا فلمآ ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجآءو بسحر عظيم) *.
* (قال) * أي موسى عليه السلام وثوقا بشأنه وتحقيرا لهم وعدم مبالاة بهم * (ألقوا) * أنتم ما تلقون أو لا، وبما ذكرنا يعلم جواب ما يقال: إن إلقاءهم معارضة للمعجزة بالسحر وهي كفر والأمر به مثله فكيف أمرهم وهو هو؟ وحاصل الجواب أنه عليه السلام علم أنهم لا بد وأن يفعلوا ذلك، وإنما وقع التخيير في التقديم والتأخير كما صرح به في قوله سبحانه في آية أخرى: * (أول من ألقى) * فجوز لهم التقديم لا لإباحة فعلهم بل لتحقيرهم، وليس هناك دلالة على الرضا بتلك المعارضة، وقد يقال أيضا: إنه عليه السلام إنما أذن لهم ليبطل سحرهم فهو إبطال للكفرة بالآخرة وتحقيق لمعجزته عليه السلام، وعلى هذا
24

يحمل ما جاء في بعض الآثار من أنهم لما قالوا ما قالوا سمع موسى عليه السلام مناديا يقول؛ بل ألقوا أنتم يا أولياء الله تعالى فأوجس في نفسه خيفة من ذلك حتى أمر عليه السلام، وسيجيء إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك * (فلما ألقوا) * ما القوا وكانمع كل واحد منهم حبل وعصا * (سحروا أعين الناس) * بأن خيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه، ولذا لم يقل سبحانه سحروا الناس فالآية على حد قوله جل شأنه: * (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) * (طه: 66) * (واسترهبوهم) * أي أرهبوهم إرهابا شديدا كأنهم طلبوا إرهابهم * (وجاءوا بسحر عظيم) * في بابه، يروى أنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا فإذا حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا.
وفي بعض الآثار أن الأرض كان سعتها ميلا في ميل وقد امتلأت من الحيات والأفاعي، ويقال: إنهم طلوا تلك الحبال بالزئبق ولونوها وجعلوا داخل العصى زئبقا أيضا وألقوها على الأرض فلما أثر حر الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض حتى تخيل للناس أنها حيات. واستدل بالآية من قال كالمعتزلة إن السحر لا حقيقة له وإنما هو مجرد تخييل، وفيه أنهم إن أرادوا أن ما وقع في القصة من السحر كان كذلك فمسلم والآية تدل عليه وإن أرادوا أن كل سحر تخييل فممنوع والآية لا تدل عليه، والذي ذهب إليه جمهور أهل السنة أن السحر أقسام وأن منه ما لا حقيقة له ومنه ما له حقيقة كما يشهد بذلك سحر اللعين لبيد بن الأعصم اليهودي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسحر يهود خيبر ابن عمر رضي الله تعالى عنهما حين ذهب ليخرص تمرهم.
وذكروا أنه قد يصل السحر إلى حد المشيء على الماء والطيران في الهواء ونحو ذلك، وترتب ذلك عليه كترتب الشبع على الأكل والري على الشرب والإحراق على النار، والفاعل الحقيقي في كل ذلك هو الله تعالى. نعم قال القرطبي: أجمع المسلمون على أنه ليس من السحر ما يفعل الله تعالى عنده إنزال الجراد والقمر والضفادع وفلق الحجر وقلب العصا وإحياء الموتى وانطاق العجماء وأمثال ذلك من آيات الرسل عليهم الصلاة والسلام. ومن أنكر حقيقته استدل بلزوم الالتباس بالمعجزة، وتعقب بأن الفرق مثل الصبح ظاهر.
* (وأوحينآ إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هى تلقف ما يأفكون) *.
* (وأوحينا إلى موسى) * بواسطة الملك كما هو الظاهر * (أن ألقى عصاك) * التي علمت من أمرها ما علمت و * (أن) * تفسيرية لتقدم ما فيه معنى القول دون حروفه، وجوز أن تكون مصدرية فالمصدر مفعول الإيماء، والفاء في قوله سبحانه:
* (فإذا تلقف ما يأفكون) * فصيحة أي فألقاها فصارت حية فإذا هي الخ، وإنما حذف للإيذان بمسارعة موسى عليه السلام إلى الإلقاء وبغاية سرعة الانقلاب كأن لقفها لما يأفكون قد حصل متصلا بالأمر بالإلقاء، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة الغريبة، واللقف كاللقفان التناول بسرعة، وفسره الحسن هنا بالسرط والبلع، والإفك صرف الشيء وقلبه عن الوجه المعتاد ويطلق على الكذب وبذلك فسره ابن عباس. ومجاهد لكونه مقلوبا عن وجهه واشتهر ذلك فهي حتى صار حقيقة، و * (ما) * موصولة أو موصوفة والعائد محذوف أي ما يأفكونه ويكذبونه أو مصدرية وهي مع الفعل بمعنى المفعول أي المأفوك لأنه المتلقف، وقرأ الجمهور * (تلقف) * بالتشديد وحذف إحدى التاءين.
* (فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون) *.
* (فوقع) * أي ظهر وتبين كما قال الحسن. ومجاهد. والفراء * (الحق) * وهو أمر موسى عليه السلام، وفسر بعضهم وقع بثبت على أنه قد استعير الوقع للثبوت والحصول أو للثبات والدوام لأنه في مقابل
25

بطل والباطل زائل، وفائدة الاستعارة كما قيل: الدلالة على التأثير لأن الوقع يستعمل في الأجسام، وقيل: المراد من وقع الحق صيرورة العصاحية في الحقيقة وليس بشيء * (وبطل ما كانوا يعملون) * أي ظهر بطلان ما كانوا مستمرين على عمله * (فغلبوا) * أي فرعون وقومه.
* (فغلبوا هنالك وانقلبوا ص‍اغرين) *.
* (فغلبوا) * أي فرعون وقومه * (هنالك) * أي في ذلك المجمع العظيم * (وانقلبوا صاغرين) * أي صاروا أذلاء أو رجعوا إلى المدينة كذلك فالانقلاب إما مجاز عن الصيرورة والمناسبة ظاهرة أو بمعنى الرجوع فصاغرين حال ورجح الأول بقوله [بم سبحانه:
* (وألقى السحرة س‍اجدين) *.
* (وألقي السحرة س‍اجدين) * لأن ذلك كان بمحضر من فرعون قطعا، وجوز رجوع ضمير غلبوا وانقلبوا على الاحتمال الأول إلى السحرة أيضا، وتعقب بأنهم لا ذلة لهم؛ والحمل على الخوف من فرعون أو على ما قبل الإيمان لا يخفى ما فيه، والمراد من * (ألقى السحرة) * الخ أنهم خروا ساجدين، وعبر بذلك دونه تنبيها على أن الحق بهرهم واضطرهم إلى السجود بحيث لم يبق لهم تمالك فكأن أحدا دفعهم وألقاهم أو أن الله تعالى ألهمهم ذلك وحملهم عليه فالملقى هو الله تعالى بالهامه لهم حتى ينكسر فرعون بالذين أراد بهم كسر موسى عليه السلام وينقلب الأمر عليه، ويحتمل أن يكون الكلام جاريا مجرى التمثيل مبالغة في سرعة خرورهم وشدته وإليه يشير كلام الأخفش، وجوزأن يكون التعبير بذلك مشاكلة لما معه من الإلقاء إلا أنه دون ما تقدم، يروى أن الاجتماع القوم كان بالإسكندرية وأنه بلغ ذنب الحية من وراء البحر وأنها فتحت فاها ثمانين ذراعا فابتلعت متا صنعوا واحدا بعد واحد وقصدت الناس ففزعوا ووقع الزحام فمات منهم لذلك خمسة وعشرون ألفا ثم أخذها موسى عليه السلام فعادت في يده عصا كما كانت وأعدم الله تعالى بقدرته تلك الأجرام العظام، ويحتمل أنه سبحانه فرقها أجزاء لطيفة فلما رأى السحرة ذلك عرفوا أنه من أمر السماء وليس من السحر في شيء فعند ذلك خروا سجدا، والمتبادر من السجود حقيقته ولا يبعد أنهم كانوا عالمين بكيفيته، وقيل: إن موسى وهرون عليهما السلام سجدا شكرا لله تعالى على ظهور الحق فاقتدوا بهما وسجدوا معهما، وحمل السجود على الخضوع أي أنهم خضعوا لما رأوا ما رأوا خلاف الظاهر الذي نطقت به الآثار من غير داع إلى ارتكابه.
* (قالوا ءامنا برب الع‍المين) *.
* (قالوا) * استئناف.
وجوز أبو البقاء كونه حالا من ضمير انقلبوا وليس بشيء، وقيل: هو حال من السحرة أو من ضميرهم المستتر في ساجدين أي أنهم ألقوا ساجدين حال كونهم قائلين * (ءامنا برب الع‍المين) * أي مالك أمرهم والمتصرف فيهم.
* (رب موسى وه‍ارون) *.
* (رب موسى وه‍ارون) * بدل مما قبل وإنما أبدلوا لئلا يتوهم أنهم أرادوا فرعون ولم يقتصروا على موسى عليه السلام إذ ربما يبقى للتوهم رائحة لأنه كان ربي موسى عليه السلام في صغره، ولذا قدم هرون في محل آخر لأنه أدخل في دفع التوهم أو لأجل الفاصلة أو لأنه أكبر سنا منه، وقدم موسى هنا لشرفه أو للفاصلة، وأما كون الفواصل في كلام الله تعالى لا في كلامهم فقد قيل: إنه لا يضر، وروى أنهم لما قالوا: آمنا برب العالمين قال فرعون: أنا رب العالمين فقالوا ردا عليه: رب موسى وهرون، وإضافة الرب إليهما كإضافته إلى العالمين، وقيل: إن تلك الإضافة على معنى الاعتقاد أن الرب الذي يعتقد ربوبيته موسى وهرون ويكون عدم صدقه على فرعون بزعمه أيضا ظاهرا جدا إلا أن ذلك خلاف الظاهر من الإضافة، ويعلم مما قدمنا سر
26

تقديم السجود على هذا القول.
وقال الخازن في ذلك: إن الله تعالى لما قذف في قلوبهم الإيمان خروا سجدا لله تعالى على ما هداهم إليه وألهمهم من الإيمان ثم أظهروا بذلك إيمانهم، وقيل: إنهم بادروا إلى السجود تعظيما لشأنه تعالى لما رأوا من عظيم قدرته ثم إنهم أظهروا الإيمان، ومن جعل الجملة حالا قال بالمقارنة فافهم، وأول من بادر بالإيمان كما وري عن ابن إسحق الرؤساء الأربعة الذيت ذكرهم ابن الجوزي ثم اتبعتهم السحرة جميعا.
* (قال فرعون ءامنتم به قبل أن ءاذن لكم إن ه‍اذا لمكر مكرتموه فى المدينة لتخرجوا منهآ أهلها فسوف تعلمون) *.
* (قال فرعون) * منكرا على السحرة موبخا لهم على ما فعلوه * (ءامنتم به) * أي برب موسى وهرون أو بالله تعالى لدلالة ذلك عليه أو بموسى عليه السلام قيل لقوله تعالى في آية أخرى: * (آمنتم له) * (طه: 71) فإن الضمير فيها له عليه السلام لقوله سبحانه: * (إنه لكبيركم) * الخ، والمقصود من الجملة الخبرية التوبيخ لأن الخبر إذا لم يقصد به فائدته ولا لازمها تولد منه بحسب المقام ما يناسبه، وهنا لما خاطبهم الجبار بما فعلوا مخبرا لهم بذلك مع ظهور عدم قصد إفادة أحد الأمرين والمقام هو المقام أفاد التوبيخ والتقريع، ويجوز أن تقدر فيه الهمزة بناء على اطراد ذلكوالاستفهام للانكار بمعنى أنه لا ينبغي ذلك، ويؤيد ذلك قراءة حمزة. والكسائي. وأبي بكر عن عاصم. وروح عن يعقوب * (أآمنتم) * بهمزتين محققتين وتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين بين مما قرىء به أيضا.
* (قبل أن آذن لكم) * أي قبل أن آملاكم أنا بذلك وهو على حد قوله تعالى: * (لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي) * (الكهف: 109) لا أن الاذن منه في ذلك وأصل آذن أأذن بهمزتين الأولى للتكلم، والثانية من صلب الكلمة قلبت الفا لوقوعها ساكنة بعده مة * (إن هذا) * الصنيع * (لمكر مكرتموه) * لحليلة احتلتموها أنتم وموسى وليس مما اقتضى الحال صدوره عنكم لقوة الدليل وظهور المعجزة، وهذا تمويه منه على القبط يريهم أنهم ما غلبوا ولا انقطعت حجتهم، قيل: وكذا قوله: * (قبل أن آذن لكم) * (الأعراف: 123) * (في المدينة) * أي في مصر قبل أن تخرجوا إلى الميعاد.
أخرج ابن جرير. وأبو الشيخ عن ابن مسعود وناس من الصحابة قال: التقى موسى عليه السلام وأمير السحرة فقال له موسى: أرأيتك أن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به حق فقال الساحر: لآتين غدا بسحر لا يغلبه سحر فوالله لئن غلبتني لأمنن بك ولأشهدن أنك حق وفرعون ينظر إليهم وهو الذي نشأ عنه هذا القول * (لتخرجوا منها أهلها) * أي القبط وتخلص لكم ولبني إسرائيل * (فسف تعلمون) * عاقبة ما فعلتم، وهذا وعيد ساقه بطريق الإجمال للتهويل ثم عقبه بالتفصيل [بم فقال:
* (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لاصلبنكم أجمعين) *.
* (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف) * أي من كل جانب عضوا مغايرا للآخر كاليد من جانب والرجل منآخر، والجار في موضع الحال أي مختلفة، والقول بأن (
من) تعليلية متعلقة بالفعل أي لأجل خلافكم بعيد * (ثم لأصلبنكم أجمعين) * تفضيحا لكم وتنكيلا لأمثالكم، والتصليب مأخوذ من الصلب وهو الشد على خشبة أو غيرها وشاع في تعليق الشخص بنحو حبل في عنقه ليموت وهو المتعارف اليوم، ورأيت في بعض الكتب أن الصلب الذي عناه الجبار هو شد الشخص من تحت الإبطين وتعليقه حتى يهلك، وهوكقطع الأيدي والأرحجل أول من سنه فرعون على ما أخرجه ابن المنذر وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما، وشرعه الله تعالى لقطاع الطريق تعظيما لجرمهم، ولهذا
27

سماه سبحانه محاربة لله ولرسوله.
* (قالوا إنآ إلى ربنا منقلبون) *.
* (قالوا) * استئناف بياني * (إنا إلى ربنا منقلبون) * أي إلى رحمته سبحانه وثوابه عائدون إن فعلت بنا ذلك فيا حبذاه.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن السحرة حين خروا سجدا رأوا منازلهم تبنى لهم، وأخرج عن الأوزاعي أنهم رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها، ويحتمل أنهم أرادوا إنا ولا بد ميتون فلا ضير فيما تتوعدنا به والأجل محتوم لا يتأخر عن وقته: ومن لم يمت بالسيف مات بغيره * تعددت الأسباب والموت واحد
ويحتمل أيضا أن المعنى إنا جميعا ننقلب إلى الله تعالى فيحكم بيننا: إلى ديان يوم الدين نمضي * وعند الله تجتمع الخصوم
وضمير الجمع على الأول للسحرة فقط، وعلى الثالث لهم ولفرعون، وعلى الثاني يحتمل الأمرين.
* (وما تنقم منآ إلا أن ءامنا بااي‍ات ربنا لما جآءتنا ربنآ أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين) *.
* (وما تنقم) * أي ما تكره، وجاء في الماضي نقم ونقم على وزن ضرب وعلم * (منا) * معشر من آمن:
* (إلا أن آمنا بئاي‍ات ربنا لما جاءتنا) * وذلك أصل المفاخر وأعظم المحاسن، والاستثناء مفرغ، والمصدر في موضع المفعول به، والكلام على حد قوله: ولا عيب فيهم غير أن ضيوفهم * تعاب بنسيان الأحبة والوطن
وقيل: إن * (تنقم) * مضارب نقم بمعنى عاقب، يقال: نقم نقما وتنقاما وانتقم إذا عاقبه، وإلى هذا يشير ما روى عن عطاء، وعليه فيكون * (أن آمنا) * في موضع المفعول له، والمراد على التقديرين حسن طمع فرعون في نجع تهديده إياهم، ويحتمل أن يكون على الثاني تحقيقا لما أشاروا إليه أولا من الرحمة والثواب. ثم أعرضوا عن خاطبته وفزعوا والتجأوا إليه سبحانه وقالوا: * (ربنا أفرغ علينا صبرا) * أي أفض علينا صبرا يغمرنا كما يفرغ الماء، أو صب علينا ما يطهرنا من الآثام وهو الصبر على وعيد فرعون، * (فأفرغ) * على الأول استعارة تبعية تصريحية و * (صبرا) * قرينتها، والمراد هب لنا صبرا تاما كثيرا، وعلى الثاني كيون * (صبرا) * استعارة أصلية مكنية و * (أفرغ) * تخييلية، وقيل: الكلام على الأول كالكلام على الثاني إلا أن الجامع هناك الغمر وههنا التطهير، وليس بذاك وأن جل قائله * (وتوفنا مسلمين) * أي ثابتين على ما رزقتنا من الإسلام غير مفتونين من الوعيد. عن ابن عباس. والكلبي. والسدي أنه فعل بهم ما أوعدهم به، وقيل: لم يقدر عليه لقوله تعالى: * (فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون) * (القصص: 35).
وأجاب الأولون عن ذلك بأن المراد الغلبة بالحجة أو في عاقبة الأمر ونهايته وهذا لا ينافي قتل البعض.
* (وقال الملا من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا فى الارض ويذرك وءالهتك قال سنقتل أبنآءهم ونستحيى نسآءهم وإنا فوقهم ق‍اهرون) *.
* (وقال الملأ من قوم فرعون) * مخاطبين له بعدما شاهدوا من أمر موسى عليه السلام ما شاهدوا. * (أتذر موسى) * أي أتتركه * (وقومه ليفسدوا في الأرض) * أي في أرض مصر.
والمراد بالإفساد ما يشمل الديني والدنيوي، ومفعول الفعل محذوف للتعميم أو أنه منزل منزلة اللازم أو يقدر يفسدوا الناس بدعوتهم إلى دينهم والخروج عليك. أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: لما آمنت السحرة أتبع موسى عليه السلام ستمائة ألف من بني إسرائيل * (ويذرك) * عطف على يفسدوا المنصوب بأن،
28

أو منصوب على جواب الاستفهام كما ينصب بعد الفاء، وعلى ذلك قول الحطيئة: ألم أك جارك ويكون بيني * وبينكم المودة والأخاء
والمعنى كيف يكون الجمع بين تركك موسى عليه السلام وقومه مفسدين في الأرض وتركهم إياك الخ أي لا يمكن وقوع ذلك. وقرأ الحسن. ونعيم بن ميسرة بالرفع على أنه عطف على (تذر) أو استئناف أو حال بحذف المبتدأ، أي وهو يذرك لأن الجملة المضارعية لا تقترن بالواو على الفصيح، والجملة على تقدير الاستئناف معترضة مؤكدة لمعنى ما سبق، أي تذره وعادته وتركك، ولا بد من تقدير هو على ما قال الطيبي كما في احتمال الحال ليدل على الدوام، وعلى تقدير الحالية تكون مقررة لجهة الإشكال. وعن الأشهب أنه قرأ بسكون الراء، وخرج ذلك ابن جنى على أنه تركت الضمة للتخفيف كما في قراءة أبي عمرو * (يأمركم) * بإسكان الراء استقلالا للضمة عند توالي الحركات، واختاره أبو البقاء، وقيل: إنه عطف على ما تقدم بحسب المعنى، ويقال له في غير القرآن عطف التوهم، كأنه، قيل: يفسدوا ويذرك كقوله تعالى: * (فأصدق وأكن من الصالحين) * (المنافقين: 10) * (وءالهتك) * أي معبوداتك. يروى أنه كان يعبد الكواكب فهي آلهته وكان يعتقد أنها المربية للعالم السفلى مطلقا وهو رب النوع الإنساني، وعن السدي أن فرعون كان قد اتخذ لقومه أصناما وأمرهم بأن يعبدوها تقربا إليه، ولذلك قال: * (أنا ربكم الأعلى) * (النازعات: 24) وقيل: إنه كانت له بقرة يعبدها وكان إذا رأى بقرة حسنة أمر قومه بعبادتها، ولذلك أخرج السامري لبني إسرائيل عجلا وهو رواية ضعيفة عن ابن عباس، وقال سليمان التيمي: بلغني أنه كان يجعل في عنقه شيئا يعبده، وأمر الجمع عليه يحتاج إلى عناية وقرأ ابن مسعود. والضحاك. ومجاهد. والشعبي و * (إلهتك) * كعبادتك لفظا ومعنى فهو مصدر.
وأخرج غير واحد عن ابن باس أنه كان ينكر قراءة الجمع بالجمع ويقرأ بالمصدر ويقول: إن فرعون كان يعبد ولا يعبد، ألا ترى قوله: * (ما علمت لكم من إله غيري) * (القصص: 38) ومن هنا قال بعضهم: الأقرب أنه كان دهريا منكرا للصانع، وقيل: الآلهة اسم للشمس وكان يعبدها؛ وأنشد أبو علي: وأعجلنا الآلهة أن تؤبا
* (قال) * مجيبا لهم * (سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم) * كما كنا نفعل بهم ذلك من قبل ليعلم أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبة، ولا يتوهم أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يده.
وقرأ ابن كثير. ونافع (سنقتل) بالتخفيف والتضعيف كما في موتت الإبل.
* (وأنا فوقهم ق‍اهرون) * أي غالبون كما كنا لم يتغير حالنا وهم مقهورون تحت أيدينا، وكان فرعون قد انقطع طمعه عن قتل موسى عليه السلام فلم يعد الملأ بقتله لما رأى من علو أمره وعظم شأنه وكأنه لذلك لم يعد بقتل قومه أيضا، والظاهر على ما قيل: إن هذا من فرعون بيان لأنهم لا يقدرون على أن يفسدوا في الأرض وإيذان بعدم المبالاة بهم وأن أمرهم فيما بعد كأمرهم فيما قبل وأن قتلهم عبث لا ثمرة فيه، وذكر الطيبي أنه من الأسلوب الحكيم وإن صدر من الأحمق، وأن الجملة الاسمية كالتذليل لما قبلها فافهم.
* (قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشآء من عباده والع‍اقبة للمتقين) *.
* (قال موسى لقومه) * تسلية لهم حين تضجروا مما سمعوا بأسلوب حكيم * (استعينوا بالله واصبروا) * على ما سمعتم من الأقاويل الباطلة * (إن الأرض لله) * أي أرض مصر أو الأرض مطلقا وهي داخلة فيها دخولا أوليا
29

* (يورثها من يشاء من عباده والع‍اقبة للمتقين) * الذين أنتم منهم، وحاصله أنه ليس الأمر كما قال فرعون: * (إنا فوقهم قاهرون) * (الأعراف: 127) فإن القهر والغلبة لمن صبر واستعان بالله ولمن وعده الله تعالى توريث الأرض وأنا ذلكم الموعود الذي وعدكم الله تعالى النصرة به وقهر الأعداء وتوريث أرضهم، وقوله: * (والعاقبة) * الخ تقرير لما سبق.
وقرأ أبي. وابن مسعود * (والعاقبة) * بالنصب عطفا على اسم أن.
* (قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم فى الارض فينظر كيف تعملون) *.
* (قالوا) * أي قوم موسى له عليه السلام * (أوذينا) * من جهة فرعون * (من قبل أن تأتينا) * بالرسالة يعنون بذلك قتل الجبار أولادهم قبل مولده. وبعده إذ قيل له: يولد لبني إسرائيل غلام يسلبك ملكك ويكون هلاكك على يديه * (ومن بعدما جئتنا) * أي رسولا يعنون به ما توعدهم به من إعادة قتل الأبناء وسائر ما كان يفعل بهم لعداوة موسى عليه السلام من فنون الجور والعذاب، وقيل: إن نفس ذلك الإيعاد إيذاء، وقيل: جعل إيعاده بمنزلة فعله لكونه جبارا.
وقيل: أرادوا الإيذاء بقتل الأبناء قبل مولد موسى عليه السلام وبعد مولده، وقيل: المراد ما كانوا يستعبدون به ويمتهنون فيه من أنواع الخدم والمهن، وتعقب بأن ذلك ليس مما يلحقهم بواسطة موسى عليه السلام فليس لذكره كثير ملاءمة بالمقام، والظاهر أنه لا فرق بين الاتيان والمجيء وإن الجمع بينهما للتفنن والبعد عن التكرار اللفظي فإن الطباع مجبولة على معاداة المعادات، ولذلك جيء بأن المصدرية أولا وبما أختها ثانيا.
وذكر الجلال اليوطي في الفرق بينهما أن الإتيان يستعمل في المعاني والأزمان والمجيء في الجواهر والأعيان وهو غير ظاهر هنا إلا أن يتكلف، ونقل عن الراغب في الفرق بينهما أن الاتيان هو المجيء بسهولة فهو أخص من مطلق المجيء وهو كسابقه هنا أيضا، وهذا منهم جار مجري التحزن لعدم الاكتفاء بما كنى لهمعليه السلام لفرط ما عراهم وفظاعة ما اعتراهم، والمقام يقتضي الإطناب فإن شأن الحزين الشاكي إطالة الكلام رجاء أن يطفىء بذلك بعض الأوام، وقيل: هو استبطاء منهم لما وعدهم عليه السلام أن النجاة والطفر والأول أولى فقوله تعالى: * (قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم) * الذي فعل بكم ما فعل وتوعدكم بما توعد. * (ويستخلفكم) * أي يجعلكم خلفاء * (في الأرض) * أي أرض مصر تريح بما كنى عنه وتوكيد للتسلية على إبلغ وجه، وفيه إدماج معنى من عادي أولياء الله تعالى فقد بارزه بالمحاربة وحق له الدمار والخسار. وعسى في مثله قطع في إنجاز الموعود والفوز بالمطلوب، ونص غير واحد على التعبير به للجري على سنن الكرماء.
وقيل: تأدبا مع الله تعالى وإن كان الأمر مجزوما به بوحي وإعلام منه سبحانه وتعالى، وقيل: إن ذلك لعدم الجزم منه عليه السلام بأنهم المستخلفون بأعيانهم أو أولادهم، فقد روى أن مصر إنما فتحت في زمن داود عليه السلام.
وتعقب بأنه لا يساعده قوله تعالى: * (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها) * (الأعراف: 137) فإن المتبادر استخلاف المستضعفين أنفسهم لا استخلاف أولادهم، والمجاز خلاف الأصل. نعم المشهور أن بني إسرائيل بعد أن خرجوا مع موسى عليه السلام من مصر لم يرجعوا إليها في حياته، وفي قوله سبحانه: * (فينظر) * أي يرى أو يعلم * (كيف تعملون) * أحسنا أم قبيحا فيجازيكم حسبما يظهر منكم من الأعمال إرشاد لهم
30

إلى الشكر وتحذير لهم عن الوقوع في مهاوي الكفر، وقيل: فيه إشارة إلى ما وقع منهم بعد ذلك.
* (ولقد أخذنآ ءال فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون) *.
* (ولقد أخذنا ءال فرعون بالسنين) * شروع في تفصيل مبادي الهلاك الموعود به وإيذان بأنهم لم يمهلوا حتى تحولوا من حال إلى حال إلى أن حل بهم عذاب الاستئصال، وتصديق الجملة بالقسم لإظهار الاعتناء بمضمونها، والمراد بآل فرعون أتباعه من القبط، وإضافة الآل إليه وهو لا يضاف إلا إلى الإشراف لما فيه من الشرف الدنيوي الظاهر وإن كان في نفس الأمر خسيسا، وعن الخطيب أن المراد فرعون وإله، والسنسن جمع سنة والمراد بها عام القحط وقد غلبت في ذلك حتى
صارت كالعلم له لكثرة ما يذكر ويؤرخ به ولا كذلك العام الخصب، ولامها واو أو هاء، وقد اشتقوا منها فقالوا: أسنت القوم إذا قحطوا، وقلوبا اللام تاء ليفرقوا بين ذلك وقولهم أسنى القوم إذا لبثوا في موضع سنة، قال المازني: وهو شاذ لا يقاس عليه، وقال الفراء: توهموا أن الهاء أصلية إذ وجدوها أصلية فقلبوها تاء وجاء أصابتنا سنية حمراء أي جدب شديد فالتصغير للتعظيم وإجراء الجمع مجرى سائر الجموع السالمة المعربة بالحروف هو اللغة المشهورة واللغة الأخرى إجراء الإعراب على النون لكن مع الياء خاصة فيسلك فيه مسلك حين في الإعراب بالحركات الثلاث مع التوين عند بني عامر وبنو تميم لا ينونون تخفيفا وحينئذ لا تحذف النون للإضافة وعلى ذلك جاء قول الشاعر: دعاني من نجد فإن سنينه * لعبن بنا شيبا وشيبننا مردا
ومنه صلى الله عليه وسلم " اللهم اجعلها عليهم سنينا كسنين يوسف عليه السلام " وهو على اللغة المشهورة * (ونقص من الثمرات) * بكثرة عاهات الثمار وخروج اليسير منها حتى لا تحمل النخلة كما روى عن رجاء بن حيوة إلا بسرة واحدة وكان الحقط على ما أخرج عبد بن حمبد وغيره عن قتادة في باديتهم وأهل ماشيتهم والنقص في أمصارهم وقراهم، وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما أخذ الله تعالى آل فرعون بالسنين يبس كل شيء لهم وذهبت مواشيهم حتى يبس نيل مصر فاجتمعوا إلى فرعون وقالوا له: إن كنت كما تزعم فائتنا في نيل مصر بماء فقال: غدوة يصبحكم الماء فلما خرجوا من عنده قال أي شيء صنعت؟ أنا لا أقدر على ذلك فغدا يكذبونني، فلما كان جوف الليل قال واغتسل ولبس مدرعة صوف ثم خرج حافيا حتى أتى النيل فقام في بطنه فقال: اللهم إنك تعلم أني أعلم أنك تقدر على أن تملأ نيل مصر ماء فاملأه ماء فما علم إلا بخرير الماء يقبل فخرج وأقبل النيل مترعا بالماء لما أراد الله تعالى بهم من الهلكة، وهذا إن صح يدل على أن الرجل لم يكن دهريا نافيا للصانع كما يقال البعض * (لعلهم يذكرون) * أي لكي يتعظوا فيتركوا ما هم عليه أو لكي يذكروا الله تعالى فيتضرعوا له ويلتجئوا إليه رغبة فيما عنده، وقيل: لكي يتذكروا أن فرعون لو كان إلها لدفع ذلك الضر.
وعن الزجاج أنهم إنما أخذوا بالضراء لأن أحوال الشدة ترقق القلوب وترغب فيما عند الله تعالى ألا ترى قوله تعالى: * (وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض) * (فصلت: 56).
* (فإذا جآءتهم الحسنة قالوا لنا ه‍اذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ول‍اكن أكثرهم لا يعلمون) *.
* (فإذا جاءتهم الحسنة) * الخ بيان لعدم تذكرهم وتماديهم في الغي، والمراد بالحسنة كما يفهمه ظاهر كلام البعض الخصب والرخاء، وفسرها مجاهد بالرخاء والعافية وبعضهم بأعم من ذلك أي إذا جاءهم يستحسنونه * (قالوا لنا هذه) * أي إنا مستحقوها بيمن الذات * (وإن تصبهم سيئة) * أي ضيقة
31

وجدب أو جدب ومرض أو عقوبة وبلاء * (يطيروا بموسى ومن معه) * أي يتشاءموا بهم ويقولوا: ما أصابنا ذلك إلا بشؤمهم، وأصل إطلاق التطير على التشاؤم على ما قال الأزهري إن العرب كانت تزجر الطير فتتشاءم بالبارح وتتيمم بالسانح. وفي المثل من إلى بالسانح بعد البارح، قال أبو عبيد: سأل يونس رؤبة وأنا شاهد عن السانح والبارح فقال: السانح ما ولاك ميامنه والبارح ما ولاك مياسره، وقيل: البارح ما يأتي من جهة الشمال والسانح ما يأتي من جهة اليمين وأنشدوا: زجرت لها طير الشمال فإن يكن * هواك الذي تهوى يصبك اجتنابها
ثم إنهم سموا الشؤم طيرا وطائرا والتساؤم تطيرا، وقد يطلقون الطائر على الحظ والنصيب خيرا أو شرا حتى قيل: إن أصل التطير تفريق الما لوتطييره بين القوم فيطير لكل أحد نصيبه من خير أو شر ثم غلب في الشر. وفي الآية إغراق في وصفهم بالغباوة والقساوة فإن الشدائد ترقق القلوب وتذلل العرائك وتزيل التماسك لا سيما بعد مشاهدة الآيات وقد كانوا بحيث لم يؤثر فيهم شيء منها بل ازدادوا عتوا وعنادا، وتعريف الحسنة وذكرها بأداة التحقيق كما قال غير واحد لكثرة وقوعها وتعلق الإرادة بإحداثها بالذات لأن العناية الإلهية اقتضت سبق الرحمة وعموم النعمة قبل حصول الأعمال، وتنكير السيئة وذكرها بأداة الشك لندورها وعدم تعلق الإرادة بإحداثها إلا بالتبع فإن النقمة بمقتضى تلك العناية إنما تستحق بالأعمال.
والزمخشري بين الحسنة بالخصب والرخاء ثم قال في تعليل ما ذكر: لأن جنس الحسنة وقوعه كالواجب لكثرته واتساعه وأما السيئة فلا تقع إلا في الندرة ولا يقع إلا شيء منها. وقال " صاحب الكشف ": ذلك إشارة إلى أن التعريف للعهد الخارجي التقريري بدليل أنه ذكر في مقابلة قوله سبحانه: * (ولقد أخذ آل فرعون بالسنين) * (الأعراف: 130) وقوله: لأن الجنس الخ أي جنس الخصب والرخاء وفيه مبالغة أي إنه لكثرة الوقوع كأن الجنس كله واجب الوقوع، ولهذا لا يزال يتكاثر حتى يستغرق الجنس. وقوله: وإما السيئة الخ في مقابلة ذلك دليل بين على إرادة هذا المعنى فلا تخالف بين كلاميه ولم يرد بالجنس العهد الذهني وهذا مراد صاحب المفتاح وبه يندفع ما توهمه صاحب الإيضاح انتهى. وفيه تعريض بشيخه الطيبي حيث حمل الجنس على العهد الذهني وقال ما قال والبحث طويل الذيل فليطلب من شروح المفتاح وشرح التلخيص للعلامة الثاني وحواشيه، وقوله سبحانه وتعالى: * (ألا إنما طائرهم عند الله) * استنئاف مسوق من قبله تعالى لرد مقالتهم الباطلة وتحقيق للحق في ذلك وتصديره بكلمة التنبيه لإبراز كمال العناية بمضمونه أي ليس شؤمهم إلا عند الله أي من قبله وحكمه كما قال ابن عباس، وقال الزجاج: المعنى ليس الشؤم الذي يلحقهم إلا الذي وعدوا به من العقاب عنده لا ما ينالهم في الدنيا، وقال الحسن: المعنى إلا إن ما تشاءموا محفوظ عليهم حتى يجازيهم الله تعالى به يوم القيامة، وفسر بعضهم الطائر هنا بالحظ أي إنماحظهم وما طار إليهم من القضاء والقدر بسبب شؤمهم عند الله، وقرأ الحسن * (إنما طيرهم) * وهو اسم جمع طائر على الصحيح لأنه على أوزان المفردان، وقال الأخفش هو جمع له، وروى عن قطرب أن الطير يكون واحدا وجمعا وكذا الطائر، وأنشد ابن الأعرابي: كأنه تهتان يوم ماطر * على رؤوس كرؤوس الطائر
* (ول‍اكن أكثرهم لا يعلمون) * ذلك فيقولون ما يقولون، وإسناد عدم العلم إلى أكثرهم للإشعار بأن
32

بعضهم يعلم ولكن لا يعمل بمقتضى علمه.
* (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خآصة واعلموا أن الله شديد العقاب) *.
* (وقالوا) * شروع في بيان بعض آخر مما أخذوا به من فنون العذاب التي هي في أنفسها آيات بينات وعدم إرعوائهم عما هم عليه من الكفر والعناد أي قالوا بعد ما رأوا ما رأوا من العصا والسنين ونقص الثمرات * (مهما تأتينا به) * كلمة مهما مما اختلف فيها فقيل هي كلمة برأسها موضوعة لزيادة التعميم. وقيل: هي مركبة من مه اسم فعل للكف إما باق على معناه أو مجرد عنه وما الشرطية. وقال الخليل: أصلها ما ما على أن الأولى شرطية والثانية إبهامية متصلة بها لزيادة التعميم فقلبت ألف ما الأولى هاء فرارا من بشاعة التكرار، وأسلم الأقوال كما قال غير واحد القول بالبساطة. وفي حاشية التسهيل لابن هشام ينبغي لمن قال بالبساطة أن يكتب مهما بالياء ولمن قال أصلها ماما أن يكتبها بالألف، وفي " الشرح " وكذا إذا قيل أصلها مه ما. وتعقب ذلك الشمني بأن القائلين بالأصلين المذكورين متفقون على أن مهما أصل آخر فما ينبغي في كتب آخرها على القول الأولى ينبغي على القول الثاني، وفيه نظر.
وهي اسم شرط لا حرف على الصحيح، ومحلها الرفع هنا على الابتداء وخبرها إما الشرط أو الجزاء أو هما على الخلاف أو النصب على أنها مفعول به لفعل يفسره ما بعد أي أي شيء تحضره لدينا تأتنا به، ومن الناس من جوز مجيئها في محل نصب على الظرفية، وشدد الزمخشري الإنكار عليه في " الكشاف "، وذكر ابن المنير أنه غير القائل بظرفيتها كلام الخليل أو شبهها بمتى ما، وخالف ابن مالك في ذلك وقال: إنه مسموع عن العرب كقوله: وإنك مهما تعط بطنك سؤهل * وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
ويوافقه كما قال الشهاب استعمال المنطقيين لها بمعنى كلما وجعلها سور الكلية فإنها تفيد العموم كما صرحوا به وليس من مخترعاتهم كما توهم، وأنت تعلم أن كونها هنا ظرفا مما لا ينبغي الإقدام عليه بوجه لإباء قوله تعالى: * (من ءاية) * عنه لأنه بيان لمهما وليس بزمان، وتسميتهم إياها آية من باب المجاراة لموسى عليه السلام والاستهزاء بها مع الإشعار بأن هذا العنوان لا يؤثر فيهم وألا فهم ينكرون كونها آية في نفس الأمر ويزعمون أنها سحر كما ينبىء عنه قولهم * (لتسحرنا بها) * والضميران المجروران راجعان إلى مهما، وتذكير الأول لرعاية جانب اللفظ لإبهامه، وتأنيث الثاني للمحافظة على جانب المعنى لأنه إنما رجع إليه بعدما بين بآية، وادعى ابن هشام أن الأولى عود الضمير الثاني إلى آية، ولعله راعى القرب والذاهب إلى الأول راعى أن * (آية) * مسوقة للبيان فالأولى رجوع الضمير على المفسر المقصود بالذات وإن كان المآل واحدا أي لتسحر بتلك الآية أعيننا وتشبه علينا * (فما نحن لك بمؤمنين) * أي بمصدقين لك ومؤمنين بنبوتك أصلا.
* (فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ءاي‍ات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين) *.
* (فأرسلنا عليهم) * عقوبة لجرائمهم لا سيما قولهم هذا * (الطوفان) * أي ما طاف بهم وغشى أماكنهم وحروثهم من مطر أو سيل فهو اسن جنس من الطواف، وقيل: إنه في الأصل مصدر كنقصان، وهو اسم لكل شيء حادث يحيط بالجهات ويعم كالماء الكثير والقتل الذريع والموت الجار، فوقد اشتهر في طوفان الماء وجاء تفسيره هنا بذلك في عدة روايات عن ابن عباس، وجاء عن عطاء. وماهد تفسيره بالموت، وأخرج ذلك ابن جرير وغيره عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا، وعن وهب بن منبه أنه الطاعون بلغة اليمن وعن أبي قلابة أنه الجدري، وهم أول
33

من عذبوا به، وهذا القولان ينجران إلى الخبر المرفوع * (والجراد) * هو المعروف واحده جرادة سمي لجرده ما على الأرض، وهو جنود الله تعالى يسلطه على من يشاء من عباده، وأخرج أبو داود. وابن ماجه. والطبراني وغيرهم عن أبي زهير النميري مرفوعا النهي عن مقاتلته معلللا بما ذكر، وذكر البيهقي أن ذلك إن صح مراد به إذا لم يتعرض لإفساد المزارع فإذا تعرض له جاز دفعه بما يقع به الدفع من القتال والقتل أو أريد بها لإشارة إلى تعذر مقاومته بذلك، وأخرج أبو داود ومن معه عن سليمان قال: " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجراد فقال أكثر جنود الله تعالى لا آكله ولا أحرمه " وزعم أنه مخلوق من ذنوب ابن آدم مؤول * (والقمل) * بضم القاف وتشديد الميم قيل: هو الدبي وهو الصغار من الجراد ولا يسمى جرادا إلا بعد نبات أجنحته، وروى ذلك عن ابن عباس. ومجاهد. وقتادة والسدي، وقيل هو القدران جمع القراد المعروف، وقيل: صغار الذر، وعن حبيب بن أبي ثابت أنها الجعلان، وعن ابن زيد قال: زعم بعض الناس أنها البراغيث، وعن سعيد بن جبير أنها السوس وهي الدابة التي تكون في الحنطة وغيرها، ويسمى قملا بفتح فسكون وبذلك قرأ الحسن * (والضفادع) * جمع ضفدع كزبرج. وجعفر. وجندب ودرهم وهذا أقل أو مردود الدابة المائية المعروفة * (والدم) * معروف وتشديد داله لغة.
وروى أن موسى عليه السلام لما رأى من فرعون وقومه العناد والإصرار دعا وقال: يا رب إن فرعون علا في الأرض وإن قومه قد نقضوا العهد رب فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة ولقومي عظة ولمن بعدهم آية وعبرة فأرسل الله تعالى عليهم المطر ثمانية أيام في ظلمة شديدة لم يستطع أحد لها أن يخرج من بيته فدخل الماء بيوتهم حتى قاموا فيه إلى تراقيهم ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منه قطرة وكانت مشتبكة في بيوتهم وفاض الماء على أرضهم وركد فمنعهم من الحرث والتصرف ودام ذلك الماء عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك يشكف عنا ذلك ونحن نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم فنبث من العشب والكلأ ما لم يعهد مثله قبله، فقالوا: ما كان هذا الماء إلا نعمة علينا فلم يؤمنوا. فبعث الله تعالى عليهم الجراد فأكل زروعهم وثمارهم وأبوابهم وسقوفهم وثيابهم وأمتعتهم حتى أكل مسامير الحديد التي في الأبواب ولم يصب بني إسرائيل من ذلك شيء، فعجوا وضجوا إلى موسى عليه السلام، وقالوا له كما قالوا أولا فخرج عليه السلام إلى الصحراء فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجع إلى النواحي التي جاء منها، وقيل: جاءت ريح فألقته في البحر فلم يؤمنوا، فسلط الله تعالى عليهم القمل فأكل ما أبقى الجراد وكان يدخل بين ثوب أحدهم وجلده فيمصه وإذا أراد أن يأكل طعاما امتلأ قملا، وقال ابن المسيب: ابتلوا بالسوس فكان الرجل منهم يخرج بعشرة أجربة
إلى الرحى فلا يرد إلا بثلاث أقفزة منها وأخذ حواجبهم وأشفار عيونهم وسائر شعورهم وفعل في جلودهم ما يفعله الجدري ومنعهم النوم والقرار ففزعوا إلى موسى عليه السلام فرفع عنهم، فقالوا: قد تحققنا الآن أنك ساحر، فأرسل الله تعالى عليهم الضفادع فامتلأت بيوتهم وأفنيتهم وأمتعتهم وآنيتهم منها فلا يكشف أحد إنا إلا وجدها فيه، وكان الرجل يجلس
34

في الضفادع فتبلغ إلى حلقه فإذا أراد أن يتكلم يشب الضفدع فيدخل في فيه؛ وكانت تشب في قدورهم فتفسد عليهم طعامهم وتطفىء نيرانهم، وإذا اضطجع أحدهم ركبته حتى تكون عليه ركاما فلا يستطيع أن ينقلب وإذا أراد أن يأكل سبقته إلى فيه ولا يعجن عجينا إلا امتلأ منها ففزعوا إليه عليه السلام وتضرعوا فأخذ عليهم العهود والمواثيق ودعا فكشف الله تعالى عنهم ذلك فنقضوا العهد، فأرسل الله تعالى عليهم الدم فسال النيل عليهم دما عبيطا وصارت مياههم دماء فكان فرعون يجمع بين القبطي والإسرائيلي في إناء واحد فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء وما يلي القبطي دما ويقومان إلى الجرة فيها الماء فيخرج للقبطي دم وللإسرائيلي ماء حتى إن المرأة من آل فرعون تأتي المرأة من بني إسرائيل فتقول لها استقيني ماء فتصب لها من قربتها فيصير في الإناء دما حتى كانت تقول: اجعليه في فيك ثم مجيه في في فتفعل ذلك فيصير دما.
وقال ابن ابن أسلم: إن الدم الذي سلط عليهم كان الرعاف * (آيات) * حال من الأشياء المتقدمة.
* (مفصلات) * مبينات لا يشك عاقل أنها آيات إلهية لا سحر كما يزعمون، أو مميزا بعضها من بعض منفصلة بالزمان لامتحان أحوالهم وكان بين كل اثنين منها شهر وكان امتداد كل واحدة منها شهرا كما أخرج ذلك ابن المنذر عن ابن عباس، وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: كانت الآيات التسع في تسع سنين في كل سنة آية، وأخرج أحمد في الزهد وغيره عن نوف الشامي قال: مكث موسى عليه السلام في آل فرعون بعدما غلب السحرة عشرين سنة يريهم الآيات الجراد والقمل الخ فأبوا أن يسلموا.
وفي رواية أبي الشيخ عن ابن عباس أنه مكث عليه السلام بعد أن غلب أربعين سنة يريهم ما ذكر، ورأيت في مسامرات الشيخ ابن العربي قدس سره أن موسى عليه السلام مكث ينذر آل فرعون ستة عشر شهرا إلى أن أغرقوا فأدخلوا نارا ولم ينتفعوا بما رأوا من الآيات * (فاستكبروا) * عن الإيمان بها.
* (وكانوا قوما مجرمين) * جملة معترضة مقررة لمضمون ما قبلها.
* (ولما وقع عليهم الرجز قالوا ياموسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بنىإسراءيل) *.
* (ولما وقع عليهم الرجز) * أي العذاب المذكور على التفصيل كما روي عن الحسن. وقتادة. ومجاهد؛ و * (لما) * لا تنافي التفصيل والتكرير كما لا يخفى.
وعن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه أصابهم ثلج أحمر لم يروه قبل فهلك منهم كثير، وعن ابن جبير أنه الطاعون، وقد ورد إطلاقه عليه في حديث أسامة بن زيد المرفوع " وهو الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم فإذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه " وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أمر موسى عليه السلام بني إسرائيل فقال: ليذبح كل منكم كبشا ثم ليخضب كفه في دمه ثم ليضرب على بابه ففعلوا، فقال القبط لهم: لم تجعلوا هذا الدم على أبوابكم؟ قالوا: إن الله تعالى يريد أن يرسل عليكم عذابا فنسلم وتهلكون، قال القبط: فما يعرفكم الله تعالى إلا بهذه العلامة؟ قالوا: هكذا أمرنا نبينا، فأصبحوا وقد طعن من قوم فرعون سبعون ألفا فأمسوا وهم لا يتدافنون، والمعنى على الأول أنهم كلما وقع عليهم عقوبة من العقوبات المذكورة.
* (قالوا يا موسى) * في كل مرة على القول بأن المراد بالرجز غير ما تقدم أنه لما وقع عليهم الثلج المهلك أو الطاعون الجارف قالوا * (ادع لاك بما عهد عندكأي بعهده سبحانه عندك وهو النبوة كما قال أبو مسلم * (فما) * مصدرية،
35

وسميت النبوة عهدا كما قال العلامة الثاني: لأن الله تعالى عهد إكرام الأنبياء عليهم السلام بها وعهدوا إليه تحمل أعبائها، أو لأن لها حقوقا تحفظ كما تحفظ العهود، أو لأنها بمنزلة عهد ومنشور منه جل وعلا أو بالذي عهد إليك أن تدعوه به فيجيبك كما أجابك في آياتك، * (فما) * موصولة والجار والمجرور صلة - لأدع - أو حال من الضمير فيه، يعني ادع الله تعالى متوسلا بما عهد عندك، ويحتمل أن تكون الباء للقسم الاستعطافي كما يقال: بحياتك افعل كذا، فالمراد استعطافه عليه السلام لأن يدعو، وأن تكون للقسم الحقيقي وجوابه * (لئن كشفت عنا الرجز) * الذي وقع علينا * (لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل) * أي أقسمنا بعهد الله تعالى عندك * (لئن كشفت) * الخ، وخلاصة ما ذكروه في الباء هنا أنها إما للإلصاق أو للسببية أو للقسم بقسميه.
* (فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون) *.
* (فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه) * أي إلى حد من الزمان هم واصلون إليه ولا بد فمعذبون فيه أو مهلكون، وهو وقت الغرق كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو الموت كما روي عن الحسن، والمراد أنجيناهم من العذاب إلى ذلك الوقت، ومن هنا صح تعلق الغاية بالكشف، ولا حاجة إلى جعل الجار والمجرور متعلقا بمحذوف وقع حالا من الرجز خلافا لزاعمه. وقيل: المراد بالأجل ما عينوه لإيمانهم * (إذا هم ينكثون) * أي ينقضون العهد، وأصل النكث فل طاقات الصوف المغزول ليغزل ثانيا فاستعير لنقض العهد بعد إبرامه، وجواب * (لما) * فعل مقدر يؤذن به إذا الفجائية لا الجملة المقترنة بها، وإن قيل به فتساهل، أي فلما كشفنا عنهم ذلك فاجأوا بالنكث من غير توقف وتأمل كذا قيل، وعليه فكلا الاسمين أعني لما وإذا معمول لذلك الفعل على أن الأول ظرفه، والثاني مفعوله قاله العلامة، والداعي لذلك المحافظة على ما ذهبوا إليه من أن ما يلي كلمة لما من الفعلين يجب أن يكون ماضيا لفظا أو معنى، إلا أن مقتضى ما ذكروا من أن إذ وإذا
المفاجأة في موضع المفعول به للفعل المتضمنين هما إياه أن يكون التقدير فاجأوا زمان النكث أو مكانه.
وقد يقال أيضا: تقدير الفعل تكلف مستغنى عنه إذ قد صرحوا بأن لما تجاب بإذا المفاجأة الداخلة على الجملة الاسمية، نعم هم يذكرون ما يوهم التقدير وليس به بل هو بيان حاصل المعنى وتفسير له فتدبر.
* (فانتقمنا منهم فأغرقن‍اهم في اليم بأنهم كذبوا بااي‍اتنا وكانوا عنها غ‍افلين) *.
* (فانتقمنا منهم) * أي فأردنا الانتقام منهم، وأول بذلك ليتفرع عليه قوله سبحانه: * (فأغرقناهم) * وإلا فالإغراق عين الانتقام فلا يصح تفريعه عليه.
وجوز أن تكون الفاء تفسيرية وقد أثبتها البعض كما في قوله تعالى: * (ونادى نوح ربه فقال رب) * (هود: 45) الخ وحينئذ لا حاجة إلى التأويل * (في اليم) * أي البحر كما روي عن ابن عباس. والسدي رضي الله تعالى عنهم، ويقع على ما كان ملحا زعافا وعلى النهر الكبير العذب الماء ولا يكسر ولا يجمع جمع السلامة، وقال الليث: هو البحر الذي لا يدرك قعره، وقيل: هو لجة البحر وهو عربي في المشهور. وقال ابن قتيبة: إنه سرياني واصله كما قيل إلى ما ترى والقول بأنه اسم للبحر الذي غرق فيه فرعون غريق في يم الضعف * (بأنهم كذبوا بآياتنا) * تعليل للإغراق يعني أن سبب الإغراق وما استوجبوا به ذلك العقاب هو التكذيب بالآيات العظام وهو الذي اقتضى تعلق إرادة الله تعالى به تعلقا تنجيزيا وهذا لا ينافي تفريع الإرادة على النكث لأن التكذيب هو
36

العلة الأخيرة والسبب القريب ولا مانع من تعدد الأسباب وترتب بعضها على بعض قاله الشهاب ونور الحق ساطع منه، وقال شيخ الإسلام: الفاء وإن دلت على ترتب الإغراق على ما قبله من النكث لكنه صرح بالتعليل إيذانا بأن مدار جميع ذلك تكذيب آيات الله تعالى وما عطف عليه ليكون ذلك مزجرة للسامعين عن تكذيب الآيات الظاهرة على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى، وفيه مناقشة لا تخفى.
* (وكانوا عنها غافلين) * الضمير المجرور للآيات، والغفلة مجاز عن عدم الذكر والمبالاة أي بسبب تكذيبهم بالآيات وعدم مبالاتهم بها وتفكرهم فيها بحيث صاروا كالغافلين عنها بالكلية وإلا فالمكذب بأمر لا يكون غافلا عنه للتنافي بين الأمرين، وفي ذلك إشارة إلى أن من شاهد مثلها لا ينبغي له أن يكذب بها مع علمه بها، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الضمير للنقمة وأريد بها الغرق كما يدل عليه ما قبله، وعليه فيجوز أن تكون الجملة حالية بتقدير قد، ولا مجاز في الغفلة حينئذ والأول أولى كما لا يخفى.
* (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مش‍ارق الارض ومغ‍اربها التى باركنا فيها وتمت كلمت ربك الحسنى على بنىإسرءيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون) *.
* (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون) * بالاستعباد وذبح الأبناء، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرار الاستضعاف وتجدده، والمراد بهم بنو إسرائيل، وذكروا بهذا العنوان إظهار الكمال اللطف بهم وعظم الإحسان إليهم حيث رفعوا من حضيض المذلة إلى أوج العزة، ولعل فيه إشارة إلى إن الله سبحانه عند القلوب المنكسرة. ونصب القوم على أنه مفعول أول لأورثنا والمفعول الثاني قوله سبحانه:
* (مش‍ارق الأرض ومغاربها) * أي جميع جهاتها ونواحيها، والمراد بها على ما روي عن الحسن. وقتادة. وزيد بن أسلم أرض الشام، وذكر محي السنة البغوي أنها أرض الشام ومصر، وفي رواية أنها أرض مصر التي كانت بأيدي المستضعفين، وإلى ذلك ذهب الجبائي، ورواه أبو الشيخ عن الليث بن سعد، أي أورثنا المستضعفين أرض مستضعفيهم وملكهم، ومعنى توريثهم إياها على القول بأنهم لم يدخلوها بعد أن خرجوا منها مع موسى عليه السلام إدخالها تحت ملكهم وعدم وجود مانع لهم عن التصرف فيها أو تمكين أولادهم فيها وذلك في زمن داود وسليمان عليهما السلام، ولا يخفى أنه خلاف المتبادر كما مرت الإشارة إليه. على أن أرض مصر بعد أن فتحت في زمن داود عليه السلام لم يكن لبني إسرائيل تمكن فيها واستقرار وإنما كان ملك وتصرف وكان التمكن في الأرض المقدسة، والسوق على ما قيل يقتضي ذكر ما تمكنوا فيه لا ما ملكوه، وأقول قد يقال: المراد بالأرض هنا وفيما تقدم من قوله سبحانه: * (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض) * (الأعراف: 129) الأرض المقدسة التي طلب موسى عليه السلام من فرعون بني إسرائيل ليذهب بهم إليها فإنها موطن آبائهم فيكون موسى عليه السلام قد وعدهم هلاك عدوهم المانع لهم من الذهاب إليها وجعل الله تعالى إياهم خلفاء فيها بعد آبائهم وأسلافهم أو بعد من هي في يده إذ ذاك من العمالقة ثم أخبر سبحانه هنا أن الوعد قد نجز وقد أهلكنا أعداء أولئك الموعودين وأورثناهم الأرض التي منعوهم عنها ومكناهم فيها وفي حصول بغية موسى عليه السلام وما ألطف توريث الأبناء مساكن الآباء * (التي باركنا فيها) * بالخصب وسعة الأرزاق أو بذلك وبكونها مساكن الأنبياء عليهم السلام والصالحين وذلك ظاهر على تقدير أن يراد بمشارق الأرض ومغاربها الشام ونواحيها. فقد أخرج ابن أبي شيبة عن أبي أيوب الأنصاري قال ليهاجرن الرعد والبرق والبركات إلى الشام.
37

وأخرج ابن عساكر عن ضمرة بن ربيعةقال: سمعت أنه لم يبعث نبي إلا من الشام فإن لم يكن منها أبى به إليها، وأخرج أحمد عن عبد الله بن خوالة الأزدي أنه قال: " يا رسول الله خر لي بلدا أكون فيه قال عليك بالشام فإنه خيرة الله تعالى من أرضه يجتبي إليه خيرته من عباده "، وأخرج ابن عساكر عن واثلة بن الأسقع قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عليكم بالشام فإنها صفوة بلاد الله تعالى يسكنها خيرته من عباده "، وأخرج الحاكم وصححه عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: " يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه مؤمن إلا لحق بالشام " وجاء من حديث أحمد. والترمذي. والطبراني. وابن حبان. والحاكم أيضا وصححه عن زيد بن ثابت. أنه صلى الله عليه وسلم قال: طوبى للشام فقيل له: ولم؟ قال: " إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها " والأحاديث في فضل الشام كثيرة وقد جمعها غير واحد إلا أن في الكثير منها مقالا وسبب الوضع كان قويا، وهو اسم لأحد الأقاليم العرفية، وفي " القاموس " أنها بلاد عن مشأمة القبلة وسميت بذلك لأن قوما من بني
كنعان تشاءموا إليها أي تياسروا أو سمى بسام بن نوح فإنه بالشين بالسريانية أو لأن أرضها شامات بيض وحمر وسود وعلى هذا لا تهمز.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي الأغبش وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عما بورك من الشام أين مبلغ حده؟ فقال: أول حدوده عريش مصر والحد الآخر طرف الثنية والحد الآخر الفرات والحد الآخر جعل فيه قبر هود النبي عليه السلام، وليس المراد بها ما هو متعارف الناس اليوم أعني دمشق نعم هي داخلة فيها، وقد تكلمنا على حدودها بأبسط من هذا في حواشينا على " شرح مختصر السمرقندية " لابن عصام، وقد ولع الناس في دمشق مدحا وذما فقال بعضهم: تجنب دمشق ولا تأتها * وإن شاقك الجامع الجامع
فسوق الفسوق بها نافق * وفجر الفجور بها طالع
وقال آخر: دمشق غدت جنة للورى * زها وصفا العيش في ظلها
وفيها لدى النفس ما تشتهي * ولا عيب فيها سوى أهلها
وقال آخر فالشام ولعله عنى متعارف الناس: قيل لي ما يقول في الشام حبر * شام من بارق الهنا ما شامه
قلت ماذا أقول في وصف أرض * هي في وجنة المحاسن شامه
وأنا أقول إذا صح الحديث فهو مذهبي ونعوذ بالله تعالى من اتباع الهوى، والموصول صفة المشارق والمغارب، وقيل: صفة الأرض وضعفه أبو البقاء بأن فيه العطف على الموصوف قبل الصفة وهو نظير قولك: قام أم هند وأبوها العاقلة، وجوز أن يكون المفعول الثاني لأورثنا أي الأرض التي فعلى هذا يكون نصب المشارق وما عطف عليه بيستضعفون على معنى يستضعفون فيها وأن يكون المشارق منصوبة بيستضعفون والتي صفة كما في الوجه الأول والمفعول الثاني لأورثنا محذوف أي الأرض أو الملك، ولا يخفى بعده وأن المتبادر هو الأول.
* (وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرآءيل) * أي مضت عليهم واستمرت من قولهم: مضى على الأمر إذا استمر، والمراد من الكلمة وعده تعالى لهم بالنصر والتمكين على لسان نبيهم عليه السلام وهو قوله السابق * (عسى ربكم أن يهلك عدوكم) * (الأعراف: 129) الخ، وذهب غير واحد إلى أنه الوعد الذي يؤذن به قوله سبحانه: * (ونريد أن نمن
38

على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) * (القصص: 5)، وقيل: المراد بها علمه تعالى الأزلي، والمعنى مضى واستمر عليهم ما كان مقدرا من إهلاك عدوهم وتوريهم الأرض، و * (الحسنى) * تأنيث الأحسن صفة للكلمة ووصفت بذلك لما فيها من الوعد بما يحبون ويستحسنون، وعن الحسن أنه أريد بالكلمة عدته سبحانه وتعالى لهم بالجنة ولا يخفى أنه يأباه السابق والسياق، والتفت من التكلم إلى الخطاب في قوله سبحانه: * (ربك) * على ما قال الطيبي لأن ما قبله من القصص كان غير معلوم له صلى الله عليه وسلم. وأما كون جل شأنه منجزا لما وعد ومجريا لما قضى وقدر فهو معلوم له عليه الصلاة والسلام، وذكر في " الكشف " أنه ادمج في هذا الالتفات أنه ستتم كلمة ربك في شأنك أيضا. وقرأ عاصم في رواية * (كلمات) * بالجمع لأنها مواعيد، والوصف بالحسنى لتأويله بالجماعة، وقد ذكروا أنه يجوز وصف كل جمع بمفرد مؤنث إلا أن الشائع في مثله التأنيث بالتاء؛ وقد يؤنث بالألف كما في قوله سبحانه: * (مآرب أخرى) * (طه: 18) * (بما صبروا) * أي بسبب صبرهم على الشدائد التي كابدوها من فرعون وقومه وحسبك بهذا حاثا على الصبر ودالا على أن من قابل البلاء بالجزع وكله الله تعالى إليه ومن قابله بالصبر ضمن الله تعالى له الفرج.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن الحسن قال: لو أن الناس إذا ابتلوا من قبل سلطانهم بشيء صبروا ودعوا الله تعالى لم يلبثوا أن يرفع الله تعالى ذلك عنهم ولكنهم يفزعون إلى السيف فيوكلون إليه ثم تلي هذه الآية، وفي رواية أخرى عنه قال: ما أوتيت بنو إسرائيل ما أوتيت إلا بصبرهم وما فزعت هذه الأمة إلى السيف قط فجاءت بخير. وأقول قد شاهدنا الناس سنة الألف والمائتين والثمان والأربعين قد فزعوا إلى السيف فما أغناهم شيئا ولا تم لهم مراد ولا حمد منهم أمر، بل وقعوا في حرة رحيله، ووادي خدبات، وأم حبوكر، ورموا لعمر الله بثالثة الأثافي، وقص من جناح عزهم القدامى والخوافي ولم يعلموا أن عيش المضر حلوه مر مقر وأن الفرج إنما يصطاد بشباك الصبر. وما أحسن قول الحسن: عجبت ممن خف كيف خف
وقد سمع قوله سبحانه: وتلا الآية، ويعلم منها أن التحزن لا ينافي الصبر لأن الله سبحانه وصف بني إسرائيل به مع قولهم السابق لموسى عليه السلام * (أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا) * (الأعراف: 129) * (ودمرنا) * أي خربنا وأهلكنا * (ما كان يصنع فرعون وقومه) * في أرض مصر من العمارات والقصور أي دمرنا الذي كان هو ويصنعه فرعون على أن * (ما) * موصولة واسم كان ضمير راجع إليها وجملة يصنع فرعون من الفعل والفاعل خبر كان والجملة صلة الموصول والعائد إليه محذوف، وجوز أن يكون فرعون اسم كان ويصنع خبر مقدم والجملة الكونية صلة ما والعائد محذوف أيضا. وتعقبه أبو البقاء بأن يصنع يصلح أن يعمل في فرعون فلا يقدر تأخيره كما لا يقدر تأخير الفعل في قولك: قام زيد وفيه غفلة عن الفرق بين المثال وما نحن فيه وهو مثل الصبح ظاهر وقيل: * (ما) * مصدرية وكان سيف خطيب والتقدير ما يصنع فرعون الخ، وقيل: كان كما ذكر وما موصولة اسمية والعائد محذوف والتقدير ودمرنا الذي يصنعه فرعون الخ أي صنعه، والعدول إلى صيغة المضارع على هذين القولين لاستحضار الصورة * (وما كانوا يعرشون) * من الجنات أو ما كانوا يرفعونه من البنيان كصرح هامان، وإلى الأول يشير كلام الحسن وإلى الثاني كلام مجاهد.
وقرأ ابن عامر. وأبو بكر هنا وفي النحل * (يعرشون) * بضم الراء والباقون بالكسر وهما لغتان فصيحتان والكسر
39

على ما ذكر اليزيدي. وأبو عبيدة أفصح، وقرىء في الشواذ * (يغرسون) * من غرس الأشجار. وفي " الكشاف " أنها تصحيف وليس به. هذا ومن باب الإشارة في الآيات: ما وجدته لبعض أرباب التأويل من العارفين أن العصا إشارة إلى نفسه التي يتوكأ عليها أي يعتمد في الحركات والأفعال الحيوانية ويهش بها على غنم القوة البهيمية السليمة ورق الملكات الفاضلة والعادات الحميدة من شجرة الفكر وكانت لتقدسها مقنادة لأوامره مرتدعة عن أفعالها الحيوانية إلا بإذنه كالعصا وإذا أرسلها عند الاحتجاج على الخصوم صارت كالثعبان تلقف ما يأفكون من الأكاذيب ويظهرون من حبال الشبهات وعصا المغالطات فيغلبهم ويقهرهم. وأن نزع اليد إشارة إلى إظهار القدرة الباهرة الساطعة منها أنوار الحق. وجعل بعضهم فرعون إشارة إلى النفس الأمارة وقومه إشارة إلى صفاتها وكذا السحرة وموسى إشارة إلى الروح وقومه بنو إسرائيل العقل والقلب والسر وعلى هذا القياس. وأول النيسابوري الطوفان بالعلم الكثير والجراد بالواردات والقمل بالإلهامات والضفادع بالخواطر والدم بأصناف المجاهدات والرياضات وهو كما ترى.
وقد ذكر غير واحد أن السحر كان غالبا في زمن موسى عليه السلام فلهذا كانت معجزته ما كانت، والطب ما كان غالبا في زمن عيسى عليه السلام فلهذا كانت معجزته من جنس الطب؛ والفصاحة كانت غالبا في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم والتفاخر بها أشهر من (قفا نبك) فلهذا كانت معجزته القرآن، وإنما كانت معجزة كل نبي من جنس ما غلب على زمانه ليكون ذلك أدعى إلى إجابة دعواه.
* (وج‍اوزنا ببنىإسرءيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا ياموسى اجعل لنآ إل‍اها كما لهم ءالهة قال إنكم قوم تجهلون) *.
* (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر) * شروع بعد انتهاء قصة فرعون في قصة بني إسرائيل وشرح ما أحدثوه بعد أن من الله تعالى عليهم بما من واراهم من الآيات ما أراهم تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما رآه من اليهود بالمدينة فإنهم جروا معه على دأب أسلافهم مع أخيه موسى عليه السلام وإيقاظا للمؤمنين أن لا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم ومراقبة نعم الله تعالى عليهم فإن بني إسرائيل وقعوا فيما وقعا لغفلتهم عما من الله تعالى به عليهم، وجاوز بمعنى جاز وقرىء * (جوزنا) * بالتشديد وهو أيضا بمعنى جاز فعدى بالباء أي قطعنا البحر بهم، والمراد بالبحر بحر القلزم.
وفي " مجمع البيان " أنه نيل مصر وهو كما في " البحر " خطأ، وعن الكلبي أن موسى عليه السلام عبر بهم يوم عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه فصاموه شكرا لله تعالى * (فأتوا) * أي مروا بعد المجاوزة.
* (على قوم) * قال قتادة: كانوا من لخم اسم قبيلة ينسبون كما صححه ابن عبد البر إلى لخم بن عدي بن عمرو بن سبا، وقيل: كانوا من العمالقة الكنعانيين الذين أمر موسى عليه السلام بقتالهم.
* (يعكفون على أصنام لهم) * أي يواظبون على عبادتها ويلازمونها، وكانت كما أخرج ابن المنذر. وغيره عن ابن جريج تماثيل بقر من نحاس، وهو أول شأن العجل، وقيل: كانت من حجارة، وقيل: كان بقرا حقيقة وقرأ حمزة. والكسائي * (يعكفون) * بكسر الكاف * (قالوا) * عندما شاهدوا ذلك * (يا موسى اجعل لنا إلها) * مثالا نعبده * (كما لهم ءالهة) * الكاف متعلقة بمحذوف وقع صفة لإلها و * (ما) * موصولة و * (لهم) * صلتها و * (آلهة) * بدل من الضمير المستتر فيه، والتقدير اجعل لنا إلها كائنا كالذي استقر هو لهم.
وجوز أبو البقاء أن تكون ما كافة للكاف، ولذا وقع بعدها الجملة الإسمية وأن تكون مصدرية،
40

ولهم متعلق بفعل أي كما ثبت لهم * (قال إنكم قوم تجهلون) * تعجب عليه السلام من قولهم هذا بعدما شاهدوه من الآية الكبرى والبينة العظمى فوصفهم بالجهل على أتم وجه حيث لم يذكر له متعلقا ومفعولا لتنزيله منزلة اللازم أو لأن حذفه يدل على عمومه أي تجهلون كل شيء فدخل فيه الجهل بالربوبية بالطريق الأولى، وأكد ذلك بأن، وتوسيط قوم وجعل ما هو المقصود بالأخبار وصفا له ليكون كما قال العلامة كالمتحقق المعلوم وهذه كما ذكر الشهاب نكتة سرية في الخبر الموطىء لادعاء أن الخبر لظهور أمره وقيام الدليل عليه كأنه معلوم متحقق فيفيد تأكيده وتقريره ولولاه لم يكن لتوسيط الموصوف وجه من البلاغة.
* (إن ه‍اؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون) *.
* (إن هؤلاء) * أي القوم الذين يعكفون على هذه الأصنام * (متبر) * أي مدمر مهلك كما قال ابن عباس * (ما هم فيه) * من الدين يعني يدمر الله تعالى دينهم الذي هم عليه على يدي ويهلك أصنامهم ويجعلها فتاتا * (وباطل) * أي مضمحل بالكلية، وهو أبلغ من حمله على خلاف الحق * (ما كانوا يعملون) * أي ما استمروا على عمله من عبادتها وإن قصدوا بذلك التقرب إلى الله تعالى وأن المراد أن ذلك لا ينفعهم أصلاف، وحمل * (ما كانوا يعملون) * على الأصنام لأنها معمولة لهم خلاف الظاهر جدا، والجملة تعليل لإثبات الجهل المؤكد للقوم، وفي إيقاع اسم ازشارة كما في " الكشف " أن اسم الإشارة بعد إفادة الإحضار وأكمل التمييز يفيد أنهم أحقاء بما أخبر عنه به بواسطة ما تقدم من العكوف، والتقديم يؤذن بأن حال ما هم فيه ليست غير التبار وحال عملهم ليست إلا البطلان فهم لا يعدونهما فهما لهم ضربة لازب.
وجوز أبو البقاء أن يكون * (ما هم فيه) * فاعل متبر لاعتماده على المسند إليه وهو في نفسه مسا ولاحتمال أن يكون ما هم فيه مبتدأ ومتبر خبر له أو ارجح منه إلا أن المقام كما قال القطب وغيره اقتضى ذلك فليفهم.
* (قال أغير الله أبغيكم إل‍اها وهو فضلكم على الع‍المين) *.
* (قال أغير الله أبغيكم إلها) * قيل: هذا هو الجواب وما تقدم مقدمة وتمهيد له، ولعله لذلك أعيد لفظ له: وقال شيخ الإسلام: هو شروع فبيان شؤون الله تعالى
الموجبة لتخصيص العبادة به سبحانه بعد بيان أن ما طلبوا عبادته مما لا يمكن طلبه أصلا لكونه هالكا باطلا أصلا ولذلك وسط بينهما قال مع كون كل منهما كلام موسى عليه السلام، وقال الشهاب: أعيط لفظ قال مع اتحاد ما بين القائلين لأن هذا دليل خطابي بتفضيلهم على العالمين، ولم يستدل بالتمانع العقلي لأنهم عوام انتهى، وفي إقامة برهان التمانع على الوثنية القائلين إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى والمجيبين إذا سئلوا من خلق السموات والأرض بخلقهن الله خفاء، والظاهر إقامته على التنويه كما لا يخفى، والاستفهام للإنكار وانتصار * (غير) * على أنه مفعول أبغيكم وهو على الحذف والإيصال، والأصل أبغى لكم، وعلى ذلك يخرج كلام الجوهري وإن كان ظاهره أن الفعل متعد لمفعولين والهاء تمييز، وجوز أبو البقاء أن يكون مفعولا به لأبغي وغير صفة له قدمت فصارت حالا، وأيا ما كان فالمقصود هنا اختصاص الإنكار بغيره تعالى دون إنكار الاختصاص، والمعنى أغير المستحق للعبادة أطلب لكم معبودا * (وهو فضلكم على العالمين) * أي عالمي زمانكم أو جميع العالمين، وعليه يكون المراد تفضيلهم بتلك الآيات لا مطلقا حتى يلزم تفضيلهم على
41

أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأما الأنبياء والملائكة عليهم السلام فلا يدخلون في المفضل عليهم بوجه بل هم خارجون عن ذلك بقرينة عقلية، والجملة حالية مقررة لوجه الإنكار، أي والحال أنه تعالى خص التفضيل بكم فأعطاكم نعما لم يعطها غيركم، وفيه تنبيه على ما صنعوا من سوء المعاملة والمقابلة حيث قابلوا التفضل بالتفضيل والاختصاص بأن قصدوا أن يشركوا به أخس مخلوقاته؛ وهذا الاختصاص مأخوذ من معنى الكلام وإلا فليس فيه ما يفيد ذلك، وتقديم الضمير على الخبر لا يفيده وإن كان اختصاصا آخر على ما قيل، أي هو المخصوص بأنه فضلكم على من سواكم، وجوز أبو البقاء كون الجملة مستأنفة.
* (وإذ أنجين‍اكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبنآءكم ويستحيون نسآءكم وفي ذالكم بلاء من ربكم عظيم) *.
* (وإذ أنجين‍اكم من ءال فرعون) * بإهلاكهم وتخليصكم منهم، وإذ إما مفعول به لاذكروا محذوفا بناء على القول بأنها تخرج عن الظرفية أي اذكروا ذلك الوقت ويكون ذلك كناية عن ذكر ما فيه وإما ظرف لمفعول اذكروا المحذوف أي اذكروا صنيعنا معكم في ذلك الوقت، وهو تذكير من جهته تعالى بنعمته العظيمة وقرىء * (نجيناكم) * من التنجية، وقرأ ابن عامر * (أنجاكم) * فيكون من مقول موسى عليه السلام، وقال بعضهم: إنه على قراءة الجمهور أيضا كذلك على أن ضمير أنجنا لموسى وأخيه عليهما السلام أولهما ولمن معهما أوله وحده عليه السلام مشيرا بالتعظيم إلى تعظيم أمر الإنجاء وهو خلاف الظاهر، وقيل: إنه من كلام الله تعالى تتميما لكلام موسى عليه السلام كما في قوله تعالى: * (فأخرجنا به أزواجا) * (طه: 53) بعد قوله سبحانه: * (الذي جعلكم لكم الأرض مهدا) * (طه: 53) وهو كالتفسير لقوله سبحانه: * (وهو فضلكم) *.
وقوله تعالى: * (يسومونكم العذاب) * أي يولونكم ذلك ويكلفونكم إياه إما استئناف بياني، كأنه قيل: ما فعل بهم أو مم أنجوا؟ فأجيب بما ذكر، وإما حال من ضمير المخاطبين أو من آل فرعون أو منهما معا لاشتماله على ضميرهما. وقوله عز اسمه: * (يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم) * بدل من يسومونكم مبين له، ويحتمل الاستئناف أيضا * (وفي ذالكم) * الإنجاء أو سوء العذاب * (بلاء) * نعمة أو محنة، وقيل: المراد به ما يشملهما * (من ربكم) * أي مالك أموركم * (عظيم) * لا يقادر قدره. وفي الآية التفات على بعض ما تقدم، ثم إن هذا الطلب لم يكن كما قال محيي السنة البغوي عن شك منهم بوحدانية الله تعالى وإنما كان غرضهم إلها يعظمونه ويتقربون بتعظيمه إلى الله تعالى وظنوا أن ذلك لا يضر بالديانة وكان ذلك لشدة جهلهم كما أذنت به الآيات، وقيل: إن غرضهم عبادة الصنم حقيقة فيكون ذلك ردة منهم، وأيا ما كان فالقائل بعضهم لا كلهم، وقد اتفق في هذه الأمة نحو ذلك فقد أخرج الترمذي وغيره عن أبي واقد الليثي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة حنين فمر بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم ويعكفون حولها يقال لها ذات أنواط فقالوا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سبحان الله " وفي رواية " الله أكبر " هذا كما قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام اجعل لنا إلها كما لهم آلهة والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم " وأخرج الطبراني وغيره من طريق كثير بن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جده " قال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح ونحن ألف ونيف ففتح الله تعالى مكة وحنينا حتى إذا كنا بين حنين والطائف في أرض فيها سدرة عظيمة كان يناط بها السلاح فسميت ذات أنواط فكانت تعبد من دون الله فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم صرف
42

عنها في يوم صائف إلى ظل هو أدنى منها فقال له رجل: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها السنن قلتم - والذي نفس محمد بيده - كما قالت بنو إسرائيل اجعل لنا إلها كما لهم آلهة " وفي هذا الخبر تصريح بأن القائل رجل واحد، ولعل ذلك كان عن جهل يعذر به ولا كون به كافرا وإلا لأمره صلى الله عليه وسلم بتجديد الإسلام ولم ينقل ذلك فيما وقفت عليه، والناس اليوم قد اتخذوا من قبيل ذات الأنواط شيئا كثيرا لا يحيط به نطاق الحصر، والآمر بالمعروف أعز من بيض الأنوق والامتثال بفرض الأمر منوط بالعيوق والأمر لله الواحد القهار.
* (وواعدنا موسى ثل‍اثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميق‍ات ربه أربعين ليلة وقال موسى لاخيه ه‍ارون اخلفنى فى قومى وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) *.
* (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة) * روي أن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل وهم بمصر إن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب فيه بيان ما يأتون وما يذرون فلما هلك فرعون سأل موسى عليه السلام ربه الكتاب فأمره أن يصوم ثلاثين وهو شهر ذي القعدة فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فمه فتسوك فقالت الملائكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة.
وأخرج الديلمي عن ابن عباس يرفعه لما أتى موسى عليه السلام ربه عز وجل وأراد أن يكلمه بعد الثلاثين وقد صام ليلهن ونهارهن كره أن يكلم ربه سبحانه وريح فمه ريح فم الصائم فتناول من نبات الأرض فمضغه فقال له ربه: لم أفطرت؟ وهو أعلم بالذي كان قال: أي رب كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح، قال: أو ما
علمت يا موسى أن ريح فم الصائم عندي أطيب من ريح المسك؟ ارجع فصم عشرة أيام ثم ائتني ففعل موسى عليه السلام الذي أمره ربه وذلك أمره ربه وذلك قوله سبحانه: * (وأتممن‍اها بعشر) * والتعبير عنها بالليالي كما قيل لأنها غرر الشهور.
وقيل: إنه عليه السلام أمره الله تعالى أن يصوم ثلاثين يوما وأن يعمل فيها بما يقر به من الله تعالى ثم أنزلت عليه التوراة وكلم فيها، وقد أجمل ذكر الأربعين في البقرة وفصل هنا، * (وواعدنا) * بمعنى وعدنا، وبذلك قرأ أبو عمرو. ويعقوب، ويجوز أن تكون الصيغة على بابها بناء على تنزيل قبول موسى عليه السلام منزلة الوعد، وقد تقدم تحقيقة. و * (ثلاثين) * كما قال أبو البقاء مفعول ثان لواعدنا بحذق المضاف أي إتمام ثلاثين ليلة أو اتيانها * (فتم ميق‍ات ربه أربعين ليلة) * من قبيل الفذلكة لما تقدم، وكأن النكتة في ذلك أن اتمام الثلاثين بعشر يحتمل المعنى المتبادر وهو ضم عشرة إلى ثلاثين لتصير بذلك أربعين، ويحتمل أنها كانت عشرين فتمت بعشرة ثلاثين كما يقال أتممت العشرة بدرهمين على معنى أنها لولا الدرهمان لم تصر عشرة فلدفع توهم الاحتمال الثاني جيء بذلك، وقيل: إن الإتمام بعشر مطلق يحتمل أن يكون تعيينها بتعيين الله تعالى أو بإرادة موسى عليه السلام فجيء بما ذكر ليفيد أن المراد الأول، وقيل: جيء به رمزا إلى أنه لم يقع في تلك العشر ما يوجب الجبر، والميقات بمعنى الوقت، وفرق جمع بينهما بأن الوقت مطلق والميقات وقت قدر فيه عمل من الأعمال ومنه مواقيت الحج، ونصب * (أربعين) * قيل: على الحالية أي بالغا أربعين، ورده أبو حيان بأنه على هذا يكون معمولا للحال المحذوف لا حالا، وأجيب بأن النحويين يطلقون الحكم الذي للعامل لمعموله القائم مقامه فيقولون في زيد في الدار إن الجار والمجرور خبر مع أن الخبر إنما هو متعلقة. وتعقب بأن الذي ذكره النحاة في الظرف دون غيره فالأحسن أنه حال بتقدير معدودا، وفيه أن دعوى تخصيص الذكر في الظرف خلاف الواقع كما لا يخفى على المتتبع، وأن ما زعمه أحسن مما تقدم يرد عليه ما يرد عليه، وقيل: إنه تمييز، وقيل: إنه مفعول به بتضمين
43

* (تم) * معنى بلغ، وقيل: إن تم من الأفعال الناقصة وهذا خبره وهو خبر غريب، وقيل: إنه منصوب على الظرفية. وأورد عليه أنه كيف تكون الأربعين ظرفا للتمام والتمام إنما هو بآخرها إلا أن يتجوز فيه.
* (وقال موسى) * حين توجه إلى المناجاة حسبما أمر به * (لأخيه ه‍ارون) * اسم أعجمي عبراني لم يقع في كلام العرب بطريق الاصالة، ويكتب بدون الف، وهو هنا بفتح النون على أنه مجرور بدلا من أخيه أو بيانا له، أو منصوب مفعولا به لمقدر أعني أعني وقرىء شاذا بالضم على أنه خبر مبتدأ محذوف هو هو أو منادي حذف منه حرف النداء أي يا هرون * (اخلفني) * أي كن خليفتي * (في قومي) * وراقبهم فيما يأتون وما يذرون، واستخلافه عليه السلام لأخيه مع أنه عليه السلام كان نبيا مرسلا مثله قيل: لأن الرياسة كانت له دونه، واجتماع الرياسة مع الرسالة والنبوة ليس أمرا لازما كما يرشد إلى ذلك سبر قصص أنبياء بني اسرائيل، وذكر الشيخ الأكبر قدس سره في فتوحاته أن هارون ذكر له أن نبي بحكم الأصالة ورسول بحكم التبعية فلعل هذا الاستخلاف من آثار تلك التبعية، وقيل: إن هذا كما يقول أحد المأمورين بمصلحة للآخر إذا أراد الذهاب لأمر: كن عوضا عني على معنى أبذل غاية وسعك ونهاية جهدك بحيث يكون فعلك فعل شخصين * (وأصلح) * ما يحتاج إلى الاصلاح من أمور دينهم، أو كن مصلحا على أنه منزل منزلة اللازم من غير تقدير مفعول.
وعن ابن عباس أنه يريد الرفق بهم والإحسان إليهم، وقيل: المراد احملهم على الطاعة والصلاح * (ولا تتبع سبيل المفسدين) * أي ولا تتبع سبيل من سلك الافساد بدعوة وبدونها، وهذا من باب التوكيد كما لا يخفى.
* (ولما جآء موسى لميق‍اتنا وكلمه ربه قال رب أرنىأنظر إليك قال لن ترانى ول‍اكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف ترانى فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلمآ أفاق قال سبح‍انك تبت إليك وأنا أول المؤمنين) *.
* (ولما جاء موسى لميقاتنا) * أي لوقتنا الذي وقتناه أي لتمام الأربعين، واللام للاختصاص كما في قوله سبحانه: * (لدلوك الشمس) * وهي بمعنى عند عند بعض النحويين * (وكلمه ربه) * من غير واسطة بحرف وصوت ومع هذا لا يشبه كلام املخلوقين ولا محذور في ذلك كما أوضحناه في الفائدة الرابعة، وإلى ما ذكر ذهب السلف الصالح، وقد أخرج البزار. وابن أبي حاتم. وأبو نعيم في الحلية. والبيهقي في الأسماء والصفات عن جابر قال: قال " رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما كلم الله تعالى موسى يوم الطهور كملة بغير الكلام الذي كلمه يوم ناداه فقال له موسى: يا رب أهذا كلامك الذي كلتني به؟ قال يا موسى: أنا كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها وأقوى من ذلك فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا: يا موسى صف لنا كلام الرحمن، فقال: لا تستطيعونه ألم تروا إلى صوت الصواعق الذي يقبل في أحلى حلاوة سمعتوه فذاك قريب منه وليس به ".
وأخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم. والحاكم وصححه عن أبي الحويرث عبد الرحمن بن معاوية قال: " إنما كلم الله تعالى موسى بقدر ما يطيق من كلامه ولو تكلم بكلامه كله لم يطقه شيء " وأخرج جماعة عن كعب قال: " لما كلم الله تعالى موسى كلمه بالألسنة كلها فجعل يقول: يا رب لا أفهم حتى كلمه آخر الألسنة بلسان بمثل صوته " الخبر، وأخرجوا عن ابن كعب القرظي أنه قال: قيل لموسى عليه السلام ما شبهت كلام ربك مما خلق؟ فقال عليه السلام: بالرعد الساكن، وأخرج الديلمي عن أبي هريرة مرفوعا لما خرج أخي موسى إلى مناجاة ربه كلمه ألف كلمة ومائتي كلمة فأول ما كلمه بالبربرية، ونقل عن الأشعري أن موسى
44

عليه السلام إنما سمع الكلام النفسي القائم بذات الله تعالى ولم يكن ما سمعه مختصا بجهة من الجهات، وجمله على السماع بالفعل مشكل مع الأخبار الدالة على خلافه؛ والظاهر أن ذلك إن صح نقله فهو قول رجع عنه إلى مذهب السلف الذي أبان عن اعتقاده له في الإبانة * (قال رب أرني) * أي ذاتك أو نفسك فالمفعول الثاني محذوف لأنه معلوم، ولم يصرح به تأدبا * (أنظر إليك) * مجزوم في جواب الدعاء، واستشكل بأن الرؤية مسببة عن النظر متأخرة عنه كما يريك ذلك النظر إلى قولهم:
نظرت إليه فرأيته، ووجهه أن النظر تقليب الحدقة نحو الشيء التماسا لرؤيته والرؤية الإدراك بالباصرة بعد التلقيب وحينئذ كيف يجعل النظر جوابا لطلب الرؤية مسببا عنه وهو عكس القضية.
وأجيب بأن المراد بالاراءة ليس إيجاد الرؤية بل التمكن منها مطلقا أو بالتجلي والظهور وهو مقدم على النظر وسبب له، ففي الكلام ذكر الملزوم وإرادة اللازم أي مكنى من رؤيتك أو تجل لي فانظر إليك وأراك * (قال) * استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال رب العزة حين قال موسى عليه السلام ذلك، فقيل: قال: * (لن تراني) * أي لا قابلية لك لرؤيتي وأنت على ما أنت عليه، وهو نفي للإراءة المطلوبة على أتم وجه * (ولكن انظر إلى الجبل) * إستدراك لبيان أنه عليه السلام لا يطيق الرؤية، والمراد من الجبل طور سيناء كما ورد في غير ما خبر، وفي تفسير الخازن وغيره أن اسمه زبير بزاي مفتوحة وباء موحدة مكسورة وراء مهملة بوزن أمير * (فان استقر مكانه) * ولم يفتته التجلي * (فسوف تراني) * إذا تجليت لك * (فلما تجلى ربه للجبل) * أي ظهر له على الوجه اللائق بجنابه تعالى بعد جعله مدركا لذلك * (جعله دكا) * أي مدكوكا متفتتا، والدك والدق أخوان كالشك والشق. وقال سيخنا الكوراني: إن الجبل مندرج في الأشياء التي تسبح بحمد الله بنص * (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) * (الإسراء: 44) المحمول على ظاهره عند التحقيق المستلزم لكونه حيا مدركا حياة وإدراكا لائقين بعالمه ونشأته، وقيل: هذا مثل لظهور اقتداره سبحانه وتعلق إرادته بما فعل بالجبل لا أن ثم تجليا وهو نظير ما قرر في قوله تعالى: * (أن يقول له كن فيكون) * من أن المراد أن ما قضاه سبحانه وأراد كونه يدخل تحت الوجود من غير توقف لا أن ثمة قولا. وتعقبه صاحب الفوائد بأن هذا المعنى غير مفهوم من الآية لأن تجلي مطاوع جليته أي أظهرته يقال: جليته فتجلى أي أظهرته فظهر ولا يقدر تجلي اقتداره لأنه خلاف الأصل، على أن هذا الحمل بعيد عن المقصود بمراحل. وأخرج أحمد. وعبد بن حميد. والترمذي والحاكم وصححاه. والبيهقي وغيرهم من طرق عن أنس بن مالك " أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية * (فلما تجلى ربه) * الخ قال هكذا وأشار باصبعيه ووضع طرف إبهامه على أنملة الخنصر - وفي لفظ - على المفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل " وعن ابن عباس أنه قال ما تجلى منه سبحانه للجبل إلا قدر الخنصر فجعله ترابا، وهذا كما لا يخفى من المتشابهات التي يسلك فيها طريق التسليم وهو أسلم وأحكم أو التأويل بما يليق بجلال ذاته تعالى. وقرأ حمزة. والكسائي * (دكاء) * بالمد أي أرضا مستوية، ومنه قولهم ناقة دكاء للتي لم يرتفع سنامها. وقرأ يحيى بن وثاب * (دكا) * بضم الدال والتنوين جمع دكاء كحمر وحمراء أي قطعا دكا فهو صفة جمع، وفي شرح التسهيل لأبي حيات أنه أجرى مجرى الأسماء فاجرى على المذكر * (وخر موسى) * أي سقط من
45

هول ما رأى، وفرق بعضهم بين السقوط والخرور بأن الأول مطلق والثاني سقوط له صوت كالخرير * (صعقا) * أي صاعقا وصائحا من الصعقة، والمراد أنه سقط مغشيا عليه عند ابن عباس. والحسن رضي الله تعالى عنهم. وميتا عند قتادة.
روي أنه بقي كذلك مقدار جمعة، وعن ابن عباس أنه عليه السلام أخذته الغشية عشية يوم الخميس يوم عرفة إلى عشية يوم الجمعة، ونقل بعض القصاصين أن الملائكة كانت تمر عليه حينئذ فيلكزونه بارجلهم ويقولون يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة وهو كلام ساقط لا يعول عليه بوجه، فإن الملائكة عليهم السلام مما يجب تبرئتهم من إهانة الكليم بالوكز بالرجل والغضب في الخطاب * (فلما أفاق) * بأن عاد إلى ما كان عليه قبل وذلك بعود الروح إليه على ما قال قتادة أو بعود الفهم والحس على ما قال غيره، والمشهور أن الإفاقة رجوع العقل والفهم إلى الإنسان بعد ذهابهما عنه بسبب من الأسباب، ولا يقال للميت إذا عادت إليه روحه أفاق وإنما يقال ذلك للمغشى عليه ولهذا اختار الأكثرون ما قاله الحبر * (قال) * تعظيما لأمر الله سبحانه * (سبحانك) * أي تنزيها لك من مشابهة خلقك في شيء، أو من أن يثبت أحد لرؤيتك على ما كان عليه قبلها، أو من أن أسألك شيئا بغير اذن منك * (تبت إليك) * من الاقدام على السؤال بغير أذن، وقيل: من رؤية وجودي والميل مع ارادتي * (وأنا أول المؤمنين) * بعظمتك وجلالك أو بأنه لا يراك أحد في هذه النشأة فيثبت على ما قيل، وأراد كما قال الكوراني أنه أول المؤمنين بذلك عن ذوق مسبوق بعين اليقين في نظره، وقبل: أراد أول المؤمنين بأنه لا يجوز السؤال بغير إذن منك.
واستدل أهل السنة المجوزون لرؤيته سبحانه بهذه الآية على جوازها في الجملة، واستدل بها المعتزلة النفاة على خلاف ذلك وقامت الحرب بينهما على ساق، وخلاصة الكلام في ذلك أن أهل السنة قالوا: إن الآية تدل على إمكان الرؤية من وجهين. الأول أن موسى عليه السلام سألها بقوله: * (رب أرني) * (الأعراف: 143) الخ، ولو كانت مستحيلة فإن كان موسى عليه السلام عالما بالاستحالة فالعاقل فضلا عن النبي مطلقا فضلا عمن هو من أولي العزم لا يسأل المحال ولا يطلبه، وإن لم يكن عالما بذلك لزم أن يكون آحاد المعتزلة ومن حصل طرفا من علومهم أعلم بالله تعالى وما يجوز عليه وما لا يجوز من النبي الصفى، والقول بذلك غاية الجهل والرعونة، وحيث بطل القول بالاستحالة تعين القول بالجواز، والثاني أن فيها تعليق الرؤية على استقرار الجبل وهو ممكن في نفسه وما علق على الممكن ممكن. واعترض الخصوم الوجه الأول بوجوه. الأول أنا لا نسلم أن موسى عليه السلام سأل الرؤية وإنما سأل العلم الضروري به تعالى إلا أنه عبر عنه بالرؤسة مجازا لما بينهما من التلازم، والتعبير بأحد المتلازمين عن الآخر شائع في كلامهم، وإلى هذا ذهب أبو الهذيل بن العلاف وتابعه عليه الجبائي وأكثر البصريين. الثاني أنا سلمنا أنه لم يسأل العلم بل سأل الرؤية حقيقة لكنا نقول: إنه سأل رؤية علم من أعلام الساعة بطريق حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه فمعنى * (أرني أنظر إليك) * (الأعراف: 143) أرني أنظر إلى علم من أعلامك الدالة على الساعة، وإلى هذا ذهب الكعبي والبغداديون، الثالث أنا سلمنا أنه سأل رؤية الله تعالى نفسه حقيقة ولكن لم يكن ذلك لنفسه عليه السلام بل لدفع قومه القائلين * (أرنا الله جهرة) * (النساء: 153) وإنما أضاف
46

الرؤية إليه دونهم ليكون منعه أبلغ في دفعهم وردعهم عما سألوه تنبيها بالأعلى على الأدنى، وإلى هذا ذهب الجاحظ ومتبعوه، الرابع أنا سلمنا أنه سأل لنفسه لكن لا نسلم أن ذلك ينافي العلم بالإحالة إذ المقصود من سؤالها إنما هو أن يعلم الإحالة بطريق سمعي مضاف إلى ما عنده من الدليل العقلي لقصد التأكيد، وذلك جائز كما يدل عليه
طلب إبراهيم عليه السلام إراءة كيفية إحياء الموتى، وقوله: * (ولكن ليطمئن قلبي) * (البقرة: 260) وإلى ذلك ذهب أبو بكر الأصم، الخامس أنا سلمنا أن سؤال الرؤية ينافي العلم بالإحالة لكنا نلتزم القول بعدم العلم وهو غير قادح في نبوته عليه السلام فإن النبوة لا تتوقف على العلم بجميع العقائد الحقة أو جميع ما يجوز عليه تعالى وما لا يجوز بل ما يتوقف عليه الغرض من البعثة والدعوة إلى الله تعالى وهو وحدانيته وتكليف عباده بالأوامر والنواهي تحريضا لهم على النعم المقيم، وليس امتناع الرؤية من هذا القبيل، ويؤيد ذلك أنه سأل وقوع الرؤية في الدنيا وهي غير واقعة عندنا وعندكم، ونسب هذا القول إلى الحسن منا وهو غريب منه.
السادس أنا سلمنا العلم بالإحالة لكن لا نسلم امتناع السؤال وإنما يمتنع أن لو كان محرما في شرعه لم لا يجوز أن لا يكون محرما؟، السابع أنا سلمنا الحرمة لكن لا نسلم أن ذلك كبيرة لم لا يجوز أن يكون صغيرة وهي غير ممتنعة على الأنبياء عليهم السلام؟.
وتكلموا على الوجه الثاني من وجهين: الأول أنا لا نسلم أنه علق الرؤية على أمر ممكن لأن التعليق لم يكن على استقرار الجبل حال سكونه وإلا لوجدت الرؤية ضرورة وجود الشرط لأن الجبل حال سكونه كان مستقرا بل على استقراره حال حركته وهو محال لذاته، والثاني أنا وإن سلمنا أن استقرار الجبل ممكن لكن لا نسلم أن المعلق بالممكن ممكن فإنه يصح أن يقال: إن انعدم المعلوم انعدم العلة، والعلة قد تكون ممتنعة العدم مع إمكان المعلول في نفسه كالصفات بالنسبة إلى الذات عند المتكلمين، والعقل الأول بالنسبة إليه تعالى عند الحكماء، فيجوز أن تكون الرؤية الممتنعة متعلقة بالاستقرار الممكن، والسر في جواز ذلك أن الارتباط بين المعلق والمعلق عليه إنما هو بحسب الوقوع بمعنى أنه إن وقع عدم المعلول وقع عدم العلة، والممكن الذاتي قد يكون ممتنع الوقوع كالممتنع الذاتي فيجوز التعليق بينهما وليس الارتباط بينهما بحسب الإمكان حتى يلزم من إمكان المعلق عليه إمكان المعلق، ثم إنا وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه من الوجهين على جواز الرؤية فهو معارض بما يدل على عدم الجواز فإن * (لن) * في الآية لتأبيد النفي وتأكيده وأيضا قول موسى عليه السلام: (تبت إليك) دليل كونه مخطئا في سؤاله ولو كانت الرؤية جائزة لما كان مخطئا، والزمخشري عامله الله تعالى بعدله زعم أن الآية أبلغ دليل على عدم إمكان الرؤية، وذكر في كشافه ما ذكر وقال: ثم أعجب من المتسمين بالإسلام المسمين بأهل السنة والجماعة كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهبا ولا يغرنك تسترهم بالبلكفة فإنه من منصوبات أشياخهم، والقول ما قال بعض العدلية فيهم: وجماعة سموا هواهم سنة * لجماعة حمر لعمري موكفه
قد شبهوه بخلقه وتخوفوا * شنع الورى فتستروا بالبلكفه
وأجيب عن قولهم: إنه عليه السلام إنما سأل العلم الضروري بأنه لو كانت الرؤية بمعنى العلم الضروري لكان النظر المذكور بعد أيضا بمعناه وليس كذلك، فإن النظر الموصول بإلى نص في الرؤية لا يحتمل سواه فلا يترك للاحتمال. وفي شرح المواقف أن طلب العلم الضروري لمن يخاطبه ويناجيه غير معقول، وأورد عليه
47

أن المراد هو العلم بهويته الخاصة، والخطاب لا يقتضي إلا العلم بوجه كمن يخاطبنا من وراء الجدار، والمراد بالعلم بالهوية الخاصة انكشاف هويته تعالى على وجه جزئي بحيث لا يمكن عند العقل صدقه على كثيرين كما في المرئى بحاسة البصر، ولا شك في كونه ممكنا في حقه تعالى لأنه قادر على أن يخلق في البعد علما ضروريا بهويته الخاصة على الوجه الجزئي بدون استعمال الباصرة كما يخلق بعده، وفي عدم لزومه الخطاب فإنه إنما يقتضي العلم بالمخاطب بأمور كلية يمكن صدقها على كثيرين عند العقل وإن كانت في الخارج منحصرة في شخص واحد فهو من قبيل التعقل، وبهذا التحرير يعلم رصانة الإيراد ودفع ما أورد عليه، ويظهر منه ركاكة ما قاله الآمدي. من أن حمل الرؤية على العلم يلزم منه أن يكون موسى عليه السلام غير عالم بربه لئلا يلزم تحصيل الحاصل، ونسبة ذلك إلى الكليم من أعظم الجهالات لأنا نقول العلم بالهوية الخاصة على ما ذكرنا ليس من ضروريات النبوة ولا المكالمة كما لا يخفى. نعم يأبى هذا الحمل التعدية كما علمت ويبعده الجواب بلن تراني ولكن انظر الخ كما هو ظاهر وإن تكلف له الزمخشري بما تمجه الاسماع.
وقيل: إنه لو ساغ هذا التأويل لساغ مثله في * (أرنا الله جهرة) * (النساء: 153) لتساوي الدلالة وهو ممتنع بالإجماع وجهرة لا يزيد على كون النظر موصولا بإلى. وأجيب عن قولهم: إنما سأله أن يريه علما من أعلام الساعة بأنه لا يستقيم لثلاثة أوجه.
أحدها: أنه خلاف الظاهر من غير دليل. ثانيها: أنه أجيب بلن تراني وهو إن كان محمولا على نفي ما وقع السؤال عنه من رؤية بعض الآيات فهو خلف فإنه قد أراه سبحانه أعظم الآيات وهو تدكدك الجبل، وإن كان محمولا على نفي الرؤية لزمن أن لا يكون الجواب مطابقا للسؤال. ثالثها: أن قوله سبحانه: * (فإن استقر مكانه فسوف تراني) * (الأعراف: 143) إن كان محمولا على رؤية الآية فهو محال لأن الآية ليست في استقرار الجبل بل في تدكدكه، وإن كان محمولا على الرؤية لا يكون مرتبطا بالسؤال، فإذن لا ينبغي حمل ما في الآية على رؤية الآية، وعن قولهم: إن الرؤية وقعت لدفع قومه بأن ذلك خلاف الظاهر من غير دليل، وكون الدليل أخد الصعقة ليس بشيء. وأيضا كان يجب عليه السلام أن يبادر إلى ردعهم وزجرهم عن طلب ما لا يليق بجلال الله تعالى كما قال: * (إنكم قوم تجهلون) * (الأعراف: 138) عند قولهم: * (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) * (الأعراف: 138) وقولهم: إن المقصود ضم الدليل السمعي إلى العقلي ليس بشيء إذ ذلك كان يمكن بطلب إظهار الدليل السمعي له من غير أن يطلب الرؤية مع إحالتها، وقصته تقدم الكلام فيها، وما ذكروه في الوجه الخامس ظاهر رده من تقرير الوجه الأول من الوجهين اللذين ذكرهما أهل السنة، وحاصله أنه يلزمهم أن يكون الكليم عليه السلام دون آحاد المعتزلة علما ودون من حصل طرفا من الكلام في معرفة ما يجوز عليه تعالى وما لا يجوز، وهذه كلمة حمقاء وطريقة عوجاء لا يسلكها أحد من العقلاء، فإن كون الأنبياء عليهم السلام أعلم ممن عداهم بذاته تعالى وصفاته العلا مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان، وكون الرؤية في الدنيا غير واقعة عند الفريقين إن أريد به أنها غير ممكنة الوقوع فهو أول المسألة وإن أريد أنها ممكنة لكنها لا تقع لأحد فلا نسلم أنه أجمع على ذلك الفريقان، أما المعتزلة فلأنهم لا يقولون بإمكانها، وأما أهل السنة فلأن كثيرا منهم ذهب إلى أنها وقعت لنبينا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، وهو
قول ابن عباس. وأنس وغيرهما، وقول عائشة رضي الله تعالى عنها: من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله سبحانه الفرية مدفوع أو مؤول بأن المراد من زعم أن
48

محمدا صلى الله عليه وسلم في نوره الذي هو نوره أعني النور الشعشعاني الذي يذهب بالأبصار، وهو المسار إليه في حديث " لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره " فقد أعظم الفرية، ومن هذا يعلم ما في احتمال إرادة عدم الوقوع مع قطع النظر عن الإمكان وعدمه. وقولهم: إنه يجوز أن لا يكون ذلك الطلب محرما في شرعه فلا يمتنع يرد عليه أن دليل الحرمة ظاهر، فإن طلب المحال لو لم يكن حراما في شرعه عليه السلام لما بلغ في التشنيع على قومه حين طلبوا ما طلبوا على أنا لو سلمنا أنه ليس بحرام يقال: إنه لا فائدة فيه وما كان كذلك فمنصب النبوة منزه عنه، ومن هذا يعلم ما في قولهم الأخير.
وأجيب عن قولهم: إن المعلق عليه هو استقرار الجبل حال حركته بأنهم إن أرادوا أن الشرط هو الاستقرار حال وجود الحركة مع الحركة فهو زيادة اضمار وترك لظاهر اللفظ من غير دليل فلا يصح، وإن أرادوا أن الشرط هو الاستقرار في الحالة التي وجدت فيها الحركة بدلا عن الحركة فلا يخفى جوازه، فكيف يدعى أنه محال لذاته؟، وبعضهم قال في الرد: إن المعلق عليه استقرار الجبل بعد النظر بدليل الفاء، وحين تعلقت إرادة الله تعالى بعدم استقراه عقيب النظر استحال استقراره وإن كان بالغير فعدل عن القول بالمحال بالذات إلى القول بالمحال بالغير لأن الغرض يتم به أيضا، وتعقبه السالكوتي وغيره بأنه ليس بشيء لأن استقرار الجبل حين تعلق إرادته تعالى بعدم استقراره أيضا ممكن بأن يقع بدله الاستقرار إنما المحال استقراره مع تعلق إرادته سبحانه بعدم الاستقرار، ولبعض فضلاء الروم ههنا كلام نقله الشهاب لا تغرنك قعقعته فإن الظواهر لا تترك لمجرد الاحتمال المرجوح، وأجيب عن قولهم لا نسلن أن المعلق بالممكن ممكن الخ بأن المراد بالممكن المعلق عليه الممكن الصرف والخالي عن الامتناع مطلقا، ولا شك أن إمكان المعلول فيما امتنع عدم علته ليس كذلك بل التعليق بينهما إنما هو بحسب الامتناع بالغير فإن استلزام عدم الصفات وعدم العقل الأول عدم الواجب من حيث إن وجود كل منهما واجب وعدمه ممتنع بوجود الواجب، وأما بالنظر إلى ذاته مع قطع النظر عن الأمور الخارجة فلا استلزام بخلاف استقرار الجبل فإنه ممكن صرف غير ممتنع لا بالذات ولا بالعرض كما لا يخفى، على أن بعضهم نظر في صحة المثال لغة وإن كان فيه ما فيه، وما قيل: إنه ليس المقصود في الآية بيان جواز الرؤية وعدم جوازها إذ هو غير مسؤول عنه بل المقصود إنما هو بيان عدم وقوعها وعدم الشرط مكتفل بذلك كلام لا طائل تحته، إذ الجواز وعدم الجواز من مستتبعات التعليق بإجماع جهابذة الفريقين، وما ذكروه في المعارضة من أن * (لن) * تفيد تأبيد النفي غير مسلم، ولو سلم فيحتمل أن ذلك بالنسبة إلى الدنيا كما في قوله تعالى: * (ولن يتمنوه أبدا) * فإن إفادة التأبيد فيه أظهر، وقد حملوه على ذلك أيضا لأنهم يتمنونه في الآخرة للتخلص من العقوبة، ومما يهدي إلى هذا أن الرؤية المطلوبة إنما هي الرؤية في الدنيا وحق الجواب أن يطابق السؤال، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن أن نفي الرؤية مقيد لا مطلق فليتبع بيانه عليه الصلاة والسلام، فقد أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول. وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال: " تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية * (رب أرني) * الخ فقال: قال الله تعالى يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده ولا رطب إلا تفرق وإنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم ولا تبلى أجسادهم " وهذا ظاهر في أن مطلوب موسى عليه السلام كان الرؤية في الدنيا مع بقائه على حالته
49

التي هو عليها حين السؤال من غير أن يعقبها صعق لأن قوله عز وجل: إنه لن يراني حي الخ لا ينفي إلا الرؤية في الدنيا مع الحياة لا الرؤية مطلقا، فمعنى * (لن تراني) * في الآية لن تراني وأنت باق على هذه الحالة لا لن تراني في الدنيا مطلقا فضلا عن أن يكون المعنى لن تراني مطلقا لا في الآخرة. نعم إن هذا الحديث مخصص بما صح مرفوعا وموقوفا أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة الإسراء مع عدم الصعق، ولعل الحكمة في اختصاصه صلى الله عليه وسلم بذلك أن نشأته عليه الصلاة والسلام أكمل نشأة وأعدلها صورة ومعنى لجامعيته صلى الله عليه وسلم للحقائق على وجه الاعتدال وهي فيه متجاذبة ومقتضى ذلك الثبات بإذن الله تعالى ومع ذلك فلم يقع له التجلي إلا في دار البقاء فاجتمع مقتضى الموطن مع مقتضى كمال اعتدال النشأة، وقد يقال أيضا على سبيل التنزل: لو سلمنا دلالة لن على التأبيد مطلقا لكان غاية ذلك انتفاء وقوع الرؤية ولا يلزم منه انتفاء الجواز، والمعتزلة يزعمون ذلك وقولهم: قوله عليه السلام * (تبت إليك) * يدل على كونه مخطئا ليس بشيء لأن التوبة قد تطلق بمعنى الرجوع وأن لم يتقدمها ذنب، وعلى هذا فلا يبعد أن يكون المراد من تبث إليك أي رجعت إليك عن طلب الرؤية.
وذكر ابن المنير أن تسبيح موسى عليه السلام لما تبين له من أن العلم قد سبق بعدم وقوع الرؤية في الدنيا والله تعالى مقدس عن وقوع خلاف معلومه، وأما التوبة في حق الأنبياء عليهم السلام فلا يلزم أن تكون عن ذنب لأن منزلتهم العلية تصان عن كل ما يحط عن مرتبة الكمال، وكان عليه عليه السلام نظرا إلى علو شأنه أن يتوقف في سؤال الرؤية على الاذن فحيث سأل من غير إذن كان تاركا الأولى بالنسبة إليه، وقد ورد " حسنات الابرار سيئات المقربين "، وذكر الإمام الرازي نحو ذكل. وقال الآمدي: إن التوبة وان كانت تستعدي سابقية الذنب إلا أنه ليس هناك ما يدل قطعا على أن الذنب في سؤاله بل جاز أن تكون التوبة عما تقدم قبل السؤال مما يعده هو عليه السلام ذنبا والداعي لذلك ما رأى من الأهوال العظيمة من تدكدك الجبل على ما هو عادة المؤمنين الصلحاء من تجديد التوبة عما سلف إذا رأوا آية وأمرا مهولا، وذكر أن قوله عليه السلام: * (وأنا أول المؤمنين) * ليس المراد منه ابتداء الإيمان في تلك الحالة بل المراد به إضافة الأولية إليه لا إلى الإيمان، ولعل المراد من ذلك الإخبار الاستعطاف لقبول توبته عليه السلام عما هو ذنب عنده، وأراد بالمؤمنين قومه على ما روي عن مجاهد، وما يشير إليه كلام الزمخشري من أن الآية أبلغ دليل على عدم إمكان الرؤية لا يخفى ما فيه على من أحاط خبرا بما ذكرناه، ومن المحققين من استند في دلالة الآية على إمكانها بغير ما تقدم أيضا، وهو أنه تعالى أحال انتفاء الرؤية على عجز الرائي وضعفه عنها حيث قال له: * (لن تراني) * ولو كانت رؤيته تعالى غير جائزة لكان الجواب لست بمرئي، ألا ترى لو قال: أرني أنظر إلى صورتك ومكانك لم يحسن في الجواب أن يقال لن ترى صورتي ولا مكاني بل الحسن لست بذي صورة ولا مكان. وقال بعضهم بعد أن بين كون الآية دليلا
على أن الرؤية جائزة في الجملة ببعض ما تقدم: ولذلك رده سبحانه بقوله: * (لن تراني) * دون لن أرى ولن أريك ولن تنظر إلى تنبيها على أنه عليه السلامقاصر عن رؤيته تعالى لتوقفها على معد في الرائي ولم يوجد فيه بعد، وذلك لأن لن أرى يدل على امتناع الرؤية مطلقا ولن أريك يقتضي أن المانع من جهته تعالى، وليس في لن تنظر تنبيه على المقصود لأن النظر
50

لا يتوقف على معد وإنما المتوقف عليه الرؤية والإدراك، وعلل النيسابوري عدم كون الجواب لن تنظر إلى المناسب لأنظر إليك بأن موسى عليه السلام لم يطلب النظر المطلق وإنما طلب النظر الذي معه الإدراك بدليل أرني. وانتصر بعضهم للمعتزلة بأن لهم أن يقولوا: إن طلب الإراءة متضمن لطلب رفع الموانع من الرؤية وإيجاد ما تتوقف هي عليه لأن معنى ذلك مكنى من الرؤية والتمكين إنما يتم بما ذكر من الرفع والإيجاد، وكان الظاهر في رد هذا الطلب لن أمكنك من رؤيتي لكن عدل عنه إلى لن تراني إشارة إلى استحالة الرؤية وعدم وقوعها بوجه من الوجوه، كأنه قيل: إن رؤيتك لي أمر محال في نفسه وتمكيني إنما يكون من الممكن، ولو لم يكن المراد ذلك بل كان المراد أنك لا قابلية لك لرؤيتي لكان لموسى عليه السلام أن يقول يا رب أنا أعلم عدم القابلية لكني سألتك التمكين وهو متضمن لسؤال إيجادها لأنها مما تتوقف الرؤية عليه، فعلى هذا لا يكون الجواب مفيدا لموسى عليه السلام ولا مقنعا له بخلافه على الأول، فيكون حينئذ هو المتعين. فإن قيل: القابلية وعدم القابلية من توابع الاستعداد وعدم الاستعداد وهما غير مجعولين، قلنا: هذا على ما فيه من الكلام العريض والنزاع الطويل مستلزم لمطلوبنا من امتناع الرؤية كما لا يخفى على من له أدنى استعداد لفهم الحقائق.
وأجيب بأن طلب التمكين من شيء إنما يتضمن طلب رفع الموانع التي في جانب المطلوب منه فقط على ما هو الظاهر لا مطلقا بحيث يشمل ما كان في جانب المطلوب منه وما كان في جانب الطالب، ويرشد إلى ذلك أن قولك: لم يمكني زيد من قتل عمرو مثلا ظاهر في أنه حال بينك وبين قتله مع تهيئك له وارتفاع الموانع التي من قبلك عنه، فكأن موسى عليه السلام لما كلمه ربه هاج به الشوق إلى الرؤية كما قال الحسن: لأن دو الله إبليس غاص في الأرض حتى خرج من بين قدميه فوسوس إليه إن مكلمك شيطان فعند ذلك سألها كما قال السدي: وأعوذ بالله من اعتقاده فذهل عن نفسه وما فيها من الموانع فلم يخطر بباله إلا طلب رفع الموانع عنها من قبل الرب سبحانه فنبهه جل شأنه بقوله: * (لن تراني) * على وجود المانع فيه عن الرؤية وهو الضعف عن تحملها وأراه ضعف من هو أقوى منه عن ذلك بدك الجبل عند تجليه له، ففائدة الاستدراك على هذا أن يتحقق عنده عليه السلام أنه أضعف من أن يقوم لتجلي الرؤية، وهو على ما هو عليه، ويمكن أن تكون التوبة منه عليه السلام بعد أن أفاق من هذه الغفلة، وحينئذ لا شك أن الجواب ب * (لن تراني) * الخ مفيد مقنع.
هذا وذكر بعض المحققين أن حاصل الكلام في هذا المقام أن موسى عليه السلام كان عالما بإمكان الرؤية ووقوعها في الدنيا لمن شاء الله تعالى من عباده عقلا؛ والشروط التي تذكر لها ليست شروطا عقلية وإنما هي شروط عادية ولم يكن عالما بعدم الوقوع مع عدم تغير الحال حتى سمع ذلك من الرب المتعال، وليس في عدم العلم بما ذكر نقص في مرتبته عليه السلام لأنه من الأمور الموقوفة على السمع، والجهل بالأمور السمعية لا يعد نقصا، فقد صح أن أعلم الخلق على الإطلاق نبينا صلى الله عليه وسلم سئل عن أشياء فقال: سأسأل جبريل عليه السلام، وأن جبريل عليه السلام سئل فقال: سأسأل رب العزة، وقد قالت الملائكة: * (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا) * (البقرة: 32) وأن الآية لا تصلح دليلا على امتناع الرؤية على ما يقوله المعتزلة بل دلالتها على إمكانها في الجملة أظهر وأظهر، بل هي ظاهرة في ذلك دون ما يقوله الخصوم، وما رواه
51

أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في تفسير * (لن تراني) *: إنه لا يكون ذلك أبدا لا حجة لهم فيه لأنه غير واف بمطلوبهم، مع أن التأبيد فيه بالنسبة إلى عدم تغير الحال كما يدل عليه الخبر المروي عنه سابقا، وكذا ما رواه عنه أبو الشيخ إذ فيه: يا موسى إنه لا يراني أحد فيحيا قال موسى: رب إن أراك ثم أموت أحب إلي من أن لا أراك ثم أحيا، وما ذكره الزمخشري عن الأشياخ أنهم قالوا: إنه تعالى يرى بلا كيف هو المشهور.
ونقل المناوي أن الكمال بن الهمام سئل عما رواه الدارقطني وغيره عن أنس من قوله صلى الله عليه وسلم: " رأيت ربي في أحسن صورة " بناء على حمل الرؤية على الرؤية في اليقظة فأجاب بأن هذا حجاب الصورة انتهى، وهو التجلي الصوري الشائع عند الصوفية، ومنه عندهم تجلي الله تعالى في الشجرة لموسى عليه السلام، وتجليه جل وعلا للخلق يوم يكشف عن ساق، وهو سبحانه وإن تجلى بالصورة لكنه غير متقيد بها والله من ورائهم محيط، والرؤية التي طلبها موسى عليه السلام غير هذه الرؤية، وذكر بعضهم أن موسى كان يرى الله تعالى إلا أنه لم يعلم أن ما رآه هو - هو - وعلى هذا الطرز يحمل ما جاء في بعض الروايات المطعون بها، رأيت ربي في صورة شاب، وفي بعضها زيادة له نعلان من ذهب، ومن الناس من حمل الرؤية في رواية الدارقطني على الرؤية المنامية، وظاهر كلام السيوطي أن الكيفية فيها لا تضر وهو الذي سمعته من المشايخ قدس الله تعالى أسرارهم، والمسألة خلافية، وإذا صح ما قاله المشايخ وأفهمه كلام السيوطي فأنا ولله تعالى الحمد قد رأيت ربي مناما ثلاث مرات وكانت المرة الثالثة في السنة السادسة والأربعين والمائتين والألف بعد الهجرة، رأيته جل شأنه وله من النور ما له متوجها جهة المشرق فكلمني بكلمات أنسيتها حين استيقظت، ورأيت مرة في منام طويل كأني في الجنة بين يديه تعالى وبيني وبينه ستر حبيك بلؤلؤ مختلف ألوانه فأمر سبحانه أن يذهب بي إلى مقام عيسى عليه السلام ثم إلى مقام محمد صلى الله عليه وسلم فذهب بي إليهما فرأيت ما رأيت ولله تعالى الفضل والمنة.
ومنهم من حمل الصورة على ما به التميز والمراد بها ذاته تعالى المخصوصة المنزهة عن مماثلة ما عداه من الأشياء البالغة إلى أقصى مراتب الكمال، وما ذكره من البيتين لبعض العدلية فهو في ذلك عثيثة تقرم جلدا أملسا والقول ما قاله تاج الدين السبكي فيهم: عجبا لقوم ظالمين تلقبوا * بالعدل ما فيهم لعمري معرفة
قد جاءهم من حيث لا يدرونه * تعطيل ذات الله مع نفي الصفة
وتلقبوا عدلية قلنا نعم * عدلوا بربهم فحسبهم سفه
وقال ابن المنير: وجماعة كفروا برؤية ربهم * هذا ووعد الله ما لن يخلفه
وتلقبوا عدلية قلنا أجل * عدلوا بربهم فحسبوهم سفه
وتنعتوا الناجين كلا إنهم * إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه
وبعد هذا كله نقول: إن الناس قد اختلفوا في أن موسى عليه السلام هل رأى ربه بعد هذا الطلب أم لا، فذهب أكثر الجماعة إلى أنه عليه السلام لم يره لا قبل الصعق ولا بعد.
وقال الشيخ الأكبر قدس سره: إنه رآه بعد الصعق وكان الصعق موتا، وذكر قدس سره أنه سأل موسى عن ذلك فأجابه بما ذكر، والآية عندي
52

غير ظاهر في ذلك، وإلى الرؤية بعد الصعق ذهب القطب الرازي في تقرير كلام للزمخشري، إلا أن ذلك على احتمال أن تفسر بالانكشاف التام الذي لا يحصل إلا إلا إذا كانت النفس فانية مقطوعة النظر عن وجودها فضلا عن وجود الغير فإنه قال: إن موسى عليه السلام لما طلب هذه المرتبة من الانكشاف وعبر عن نفسه (بأنا) دل على أن نظره كان باقيا على نفسهوهي لا تكون كذلك إلا متعلقة بالعلائق الجسمانية مشوبة بالشوائب المادية لا جرم منع عنه هذه المرتبة وأشير إلى أن منعها إنما كان لأجل بقاء أنا وأنت في قوله: أرني ولن تراني، ثم لما لم يرد حرمانه عن حصول هذه المرتبة مع استعداده وتأهله لها علم طريق المعرفة بقوله سبحانه: * (ولكن انظر إلى الجبل) * (الأعراف: 143) فإن الجبل مع عدم تعلقه لما لم يطق نظرة من نظرات التجلي فموسى عليه السلام مع تعلقه كيف يطيق ذلك فلما أدرك الرمز خر صعقا مغشيا عليه متجردا عن العلائق فانيا عن نفسه فحصل له المطلوب فلما أفاق علم أن طلبه الرؤية في تلك الحالة التي كان عليها كان سوء أدب فتاب عنه.
وذهب الشيخ إبراهيم الكوراني إلى أنه عليه السلام رأى ربه سبحانه حقيقة قبل الصعق فصعق لذلك كما دك الجبل للتجلي، وأيده بما أخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تجلى الله تعالى لموسى عليه السلام كان يبصر دبب النملة على الصفا في الليلة الظلماء من مسيرة عشرة فراسخ، وبما أخرجه عن أبي معشر أنه قال: مكث موسى عليه السلام أربعين ليلة لا ينظر إليه أحد إلا مات من نور رب العالمين " وجمع بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى أعطى موسى الكلام وأعطاني الرؤية وفضلني بالمقام المحمود والحوض المورود " بأن الرؤية التي أعطاها لنبينا صلى الله عليه وسلم هي الرؤية مع الثبات والبقاء من غير صعق كما أن الكلام الذي أعطاه موسى كذلك بخلاف رؤية موسى عليه السلام فإنها لم تجمع له مع البقاء. وعلى هذا فمعنى قوله عليه الصلاة والسلام في حديث الدجال " إنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت هو أن أحدا لا يراه في الدنيا مع البقاء ولا يجمع له في الدنيا بينهما، وفسر الآية بما لا يخلو عن خفاء. والذاهبون إلى عدم الرؤية مطلقا يجيبون عما ذكره من حديث أبي هريرة وخبر أبي معشر بأن الثاني ليس فيه أكثر من إثبات سطوع نور الله تعالى على وجه موسى عليه السلام وليس في ذلك إثبات الرؤية لجواز أن يشرق نور منه تعالى على وجهه عليه السلام من غير رؤية فإنه لا تلازم بني الرؤية وأشراق النور وبأن الأول ليس نصا في ثبوت الرؤية المطلوبة له عليه السلام لأنها كما قال غير واحد عبارة عن التجلي الذاتي ولله تعالى تجليات شتى غير ذلك فلعل التجلي الذي أشار إليه الحديث على تقدير صحة واحد منها، وقد يقطع بذلك فإنه سبحانه تجلى عليه عليه السلام بكلامه واصطفائه وقربه منه على الوجه الخاص اللائق به تعالى، ولا يبعد أن يكون هذا سببا لذلك الإبصار، وهذا أولى مما قيل: إن اللام في لموسى للتعليل ومتعلق تجلي محذوف أي لما تجلى الله تعالى للجبل لأجل إرشاد موسى كان عليه السلام يبصر بسبب أشراق بعض أنوار تعالى عليه حين التجلي للجبل ما يبصر.
تضوع مسكا بطن نعمان إذ مشت * به زينب في نسوة خفرات
فالحق الذي لا ينبغي المحيص عنه أن موسى عليه السلام لم يحصل له ما سأل في هذا الميقات، والذي أقطع به أنه نال مقام قرب النوافل والفرائض الذي يذكره الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم بالمعنى الذي يذكرونه كيفما
53

كان، وحاشا لله من أن أفضل أحدا من أولياء هذه الأمة وأن كانوا هم - هم - على أحد من أنبياء بني إسرائيل فضلا عن رسلهم مطلقا فضلا عن أولي العزم منهم وقد ذكر بعض العارفين من باب الإشارة في هذه الآيات: أن الله تعالى واعد موسى عليه السلام ثلاثين ليلة للتخلص من حجاب الأفعال والصفات والذات كل عشرة للتخلص من حجاب، واختيرت العشرة لأنها عدد كامل كما تقدم الكلام عليه عند قوله سبحانه: * (تلك عشرة كاملة) * (البقرة: 196)، لكن بقيت منه بقية ما خلص عنها، واستعمال السواك في الثلاثين الذي نطقت به بعض الآثار إشارة إلى ذلك فضم إلى الثلاثين عشرة أخرى للتخلص من تلك البقية، وجاء أنه عليه السلام أمر بأن يتقرب إليه سبحانه بما يتقرب به في ثلاثين، وأنزلت عليه التوراة في العشرة التي ضمت إليها لتكمل أربعين، وهو إشارة إلى أنه بلغ الشهوذ الذاتي التام في الثلاثين بالسلوك إلى الله تعالى ولم يبق منه شيء بل فنى بالكلية وفي العشرة الرابعة كان سلوكه في الله تعالى حتى رزق البقاء بعد الفناء بالإفاقة، قالوا: وعلى هذا ينبغي أن يكون سؤال الرؤية في الثلاثين والإفاقة بعدها، وكان التكليم في مقام تجلي الصفات وكان السؤال عن إفراط شوق منه عليه السلام إلى شهود الذات في مقام فناء الصفات مع وجود البقية، و * (لن تراني) * إشارة إلى استحالة الإثنينية وبقاء الأنية في مقام المشاهدة، وهذا معنى قول من قال: رأيت ربي بعين ربي، وقوله سبحانه: * (ولكن انظر إلى الجبل) * إشارة إلى جبل الوجود، أي انظر إلى جبل وجودك * (فإن استقر مكانه فسوف تراني) * وهو من باب التعليق بالمحال عنده * (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا) * أي متلاشيا لا وجود له * (وخر موسى) * عن درجة الوجود * (صعقا) * أي فانيا * (فلما أفاق) * بالوجود الموهوب الحقاني * (قال سبحانك) * أن تكون مرئيا لغيرك * (تبت إليك) * عن ذنب البقية، أو رجعت إليك بحسب العلم والمشاهدة إذ ليس في الوجود سواك * (وأنا أول المؤمنين) *
بحسب الرتبة، أي أنا في الصف الأول من صفوف مراتب الأرواح الذي هو مقام أهل الوحدة، وقد يقال: إن موسى إشارة إلى موسى الروح ارتاض أربعين ليلة لتظهر منه ينابيع الحكمة وقال لأخيه هرون القلب * (اخلفني في قومي) * من الأوصاف البشرية * (وأصلح) * ذات بينهم على وفق الشريعة وقانون الطريقة * (ولا تتبع سبيل المفسدين) * (الأعراف: 142) من القوى الطبيعية، ولما حصل الروح على بساط القرب بعد هاتيك الرياضة وتتابعت عليه في روضات الأنس كاسات المحبة غرد بلبل لسانه في قفص فم وجوده فقال: * (رب أرني أنظر إليك) * فقال له: هيهات ذاك وأين الثريا من يد المتناول؟ أنت بعد في بعد الإثنينية وحجاب جبل الأنانية فإن أردت ذلك فخل نفسك وائتني. وجانب جناب الولص هيهات لم يكن * وها أنت حي أن تكن صادقا مت
هو الحب إن لم تقض لم تقض مأربا * من الحب فاختر ذاك أو خل خلتي
فهان عليه الفناء في جانب رؤية المحبوب ولم يعز لديه كل شيء إذ رأى عزة المطلوب ونادى: فقلت لها: روحي لديك وقبضها * إليك ومن لي أن تكون بقبضتي
وما أنا بالشاني الوفاة على الهوى * وشأني الوفا تابي سواه سجيتي
فبذل وجوده وأعطى موجوده فتجلى ربه لجبل أنانيته ثم من عليه برؤيته وكان ما كان وأشرقت الأرض
54

بنور ربها وطفىء المصباح إذ طلع الصباح وصدح هزار الأنس في رياض القدس بنغم. ولقد خلوت مع الحبيبة وبيننا * سر أرق من النسيم إذا سرى
وأباح طرفي نظرة أملتها * فغدوت معروفا وكنت منكرا
فدهشت بين جماله وجلاله * وغدا لسان الحال عني مخبرا
هذا والكلام في الرؤية طويل، وقد تكفل علم الكلام بتحقيق ذلك على الوجه الأكمل، والذي علينا إنما هو كشف القناع عما يتعلق بالآية، والذي نظنه أنا قد أدينا الواجب، ويكفي من القلادة ما أحاط بالجيد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
* (قال ياموسى إنى اصطفيتك على الناس برس‍ال‍اتي وبكل‍امي فخذ مآ ءاتيتك وكن من الش‍اكرين) *.
* (قال يا موسى) * استئناف مسوق لتسليته عليه السلام من عدم الإجابة إلى سؤاله على ما اقتضته الحكمة كأنه قيل: إن منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم العظام ما أعطيتك فاغتنمه وثابر على شكره * (إني اصطفيتك) * أي اخترتك وهو افتعال من الصفوة بمعنى الخيار والتأكد للاعتناء بشأن الخبر * (على الناس) * الموجودين في زمانك وهذا كما فضل قومه على عالمي زمانهم في قوله سبحانه: * (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين) * (البقرة: 47) * (برسالاتي) * أي بأسفار التوراة. وقرأ أهل الحجاز. وروح برسالتي * (وبكلامي) * أي بتكليمي إياك بغير واسطة. أو الكلام على حذف مضاف أي بإسماع كلامي والمراد فضلتك بمجموع هذين الأمرين فلا يرد هارون عليه السلام لأنه لم يكن كليما على أن رسالته كانت تبعية أيضا وكان مأمورا باتباع موسى عليه السلام وكذلك لا يرد السبعون الذين كانوا معه عليه السلام في هذا الميقات في قول لأنهم وإن سمعوا الخطاب إلا أنهم ليس لهم من الرسالة شيء على أن المقصود بالتكليم الموجه إليه الخطاب هو موسى موسى عليه السلام دونهم وبتخصيص الناس بماعلمت خرج النبي صلى الله عليه وسلم فلا يرد أن مجموع الرسالة والتكليم بغير واسطة وجد له عليه الصلاة والسلام أيضا على الصحيح، على علي إنا لو قلنا بأن التكليم بغير واسطة مخصوص به عليه السلام من بين الأنبياء صلى الله عليه وسلم لا يلزم منه تفضيله من كل الوجوه على غيره كنبينا عليه الصلاة والسلام فقد يوجد في الفاضل ما لا يوجد في الأفضل وإنما كان الكلام بلا واسطة سببا للشرف بناء على العرف الظاهر وقد قالوا شتان بين من اتخذه الملك لنفسه حبيبا وقربه إليه بلطفه تقريبا وبين من ضرب له الحجاب والحجاب وحال بينه وبين المقصود بواب ونواب، على أن من ذاق طعم المحبة ولو بطرف اللسان يعلم مافي تكليم المحبوب بغير واسطة من اللطف العظيم والبر الجسيم، وكلامه جل شأنه لموسى عليه السلام في ذلك الميقات كثير على ما دلت عليه الآثار، وقد سبق لك ما يدل على كميته من حديث أبي هريرة. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، والبيهقي من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تعالى شأنه ناجى موسى عليه السلام بمائة ألف وأربعين ألف كلمة في ثلاثة أيام فلما سمع كلام الآدميين مقتهم لما وقع في مسامعه من كلام الرب عز وجل فكان فيما ناجاه أن قال: يا موسى إنه لم يتصنع المتصنعون بمثل الزهد في الدنيا ولم يتقرب إلى المتقربون بمثل الورع عما حرمت عليهم ولم يتعبد المتعبدون بمثل البكاء من خشيتي فقال موسى: يا رب وإله البرية كلها ويا مالك يوم الدين ويا ذا الجلال والإكرام ماذا أعددت لهم وماذا جزيتهم؟
55

قال: أما الزاهدون في الدنيا فإني أبيحهم جنتي حتى يتبوأوا فيها حيث شاءوا وأما الورعون عما حرمت عليهم فإذا كان يوم القيامة لم يبق عبد إلا ناقشته الحساب وفتشت عما في يديه إلا الورعون فإنى أجلهم وأكرمهم وأدخلهم الجنة بغير حساب، وأما الباكون من خشيتي فأولئك لهم الرفيق الأعلى لا يشاركهم فيه أحد ".
وأخرج آدم بن أبي إياس في كتاب العلم عن ابن مسعود قال: لما قرب الله تعالى موسى نجيا أبصر في ظل العرض رجلا فغبطه بمكانه فسأله عنه فلم يخبره باسمه وأخبره بعلمه فقال له: هذا رجل كان لا يحسد الناس على ما أتاهم الله تعالى من فضله، برا بالوالدين، لا يمشي بالنميمة ثم قال الله تعالى: يا موسى ما جئت تطلب؟ قال: جئت أطلب الهدي يا رب. قال: قد وجدت يا موسى. فقال: رب اغفر لي ما مضى من ذنوبي وما غبر وما بين ذلك وما أنت أعلم به مني وأعوذ بك من وسوسة نفسي وسوء عملي فقيل له: قد كفيت يا موسى. قال: يا رب أي العمل أحب إليك أن أعمله؟ قال: اذكرني يا موسى. قال رب: أي عبادك أتقى؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني. قال رب: أي عبادك أغنى؟ قال: الذي يقنع بما يؤتى. قال رب: أي عبادك أفضل؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال: رب أي عبادك أعلم؟ قال: الذي يطلب علم الناس إلى علمه لعله يسمع كلمة تدله على هدي أو ترده عن ردي. قال: رب أي عبادك أحب إليك عملا؟ قال: الذي لا يكذب لسانه، ولا يزني فرجه، ولا يفجر قلبه. قال: رب ثم أي على أثر هذا؟ قال: قلب مؤمن في خلق حسن. قال رب: أي عبادك أبغض إليك؟ قال: قلب كافر في خلق
سيء. قال: رب ثم أي على أثر هذا؟ قال: جيفة بالليل بطال بالنهار، وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات. وأبو يعلى. وابن حبان. والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال موسى: يا رب علمني شيئا أذكرك به وأدعوك به؟ قال: قل يا موسى لا إله إلا الله. قال: يا رب كل عبادك يقول هذا. قال: قل لا إله إلا الله. قال: لا إله إلا أنت يا رب. إنما أريد شيئا تخصني به. قال: يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله.
وأخرج الحيكم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة قال: لما ارتقى موسى طور سينا رأى الجبار في أصبعه خاتما فقال له: هل مكتوب عليه شيء من أسمائي أو كلامي؟ قال: لا. قال فاكتب عليه لكل أجل كتاب.
وأخرج ابن أبي حاتم عن العلاء بن كثير قال: إن الله تعالى قال: يا موسى أتدري لم كلمتك؟ قال: لا يا رب قال: لأني لم أخلق خلقا تواضع لي تواضعك. وللقصاص أخبار كثيرة موضوعة في أسئلة موسى عليه السلام ربه وأجوبته جل شأنه له لا ينبغي لمسلم التصديق بها * (فخذ ما ءاتيتك) * أي أعطيتك من شرف الاصطفاء * (وكن من الش‍اكرين) * أي معدودا في عدادهم بأن يكون لك مساهمة كاملة فيهم، وحاصله كن بليغ الشكر فإن ما أنعمت به عليك من أجل النعم. أخرج ابن أبي شيبة عن كعب أنه قال قال موسى عليه السلام: يا رب دلني على عمل إذا عملته كان شكرا لك فيما اصطنعت إلي، قال: يا موسى قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. قال: فكان موسى أراد من العمل ما هو أنهك لجسمه مما أمر به فقال له: يا موسى لو أن السموات البسع الخبر وهو في معنى ما في خبر أبي سعيد.
* (وكتبنا له فى الالواح من كل شىء موعظة وتفصيلا لكل شىء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأوريكم دار الف‍اسقين) *.
* (وكتبنا له في الألواح من كل شيء) * يحتاجون إليه من الحلال والحرام والمحاسن والقبائح على ما قال الرازي وغيره، وما أخرجه الطبراني. والبيهقي في الدلائل عن محمد بن يزيد الثقفي قال: اصطحب قيس بن
56

خرشة وكعب الأحبار حتى إذا بلغا صفين وقف كعب ثم نظر ساعة ثم قال: ليهراقن بهذه البقعة من دماء المسلمين شيء لا يهراق ببقعة من الأرض مثله فقال قيل: ما يدريك فإن هذا من الغيب الذي استأثر الله تعالى به؟ فقال كعب: ما من الأرض شبر إلا مكتوب في التوراة التي أنزل الله تعالى على موسى ما يكون عليه وما يخرج منه إلى يوم القيامة ظاهر في أن كل شيء أعم مما ذكر، ولعل ذكر ذلك من باب الرمز كما ندعيه في القرآن * (موعظة وتفصيلا لكل شيء) * بدل من الجار والمجرور، أي كتبنا له كل شيء من المواعظ وتفصيل الأحكام، وإلى هذا ذهب غير واحد من المعربين، وهو مشعر بأن * (من) * مزيدة لا تبعيضية، وفي زيادتها في الإثبات كلام، قيل: ولم تجعل إبتدائية حالا من موعظة وموعظة مفعول به لأنه ليس له كبير معنى، ولم تجعل موعظة مفعول له وإن استوفى شرائطه لأن الظاهر عطف تفصيلا عن موعظة، وظاهر أنه لا معنى لقولك كتبنا له من كل شيء لتفصيل كل شيء، وأما جعله عطفا على محل الجار والمجرور فبعيد من جهة اللفظ والمعنى.
والطيبي اختار هذا العطف وأن * (من) * تبعيضية وموعظة وحدها بدل، والمعنى كتبنا بعض كل شيء في الألواح من نحو السور والآيات وغيرهما موعظة وكتبنا فيها تفصيل كل شيء يحتاجون إليه من الحلال والحرا ونحو ذلك، وفي ذلك اختصاص الإجمال والتفصيل بالموعظة للإيذان بأن الاهتمام بهذا أشد والعناية بها أتم، ولكونها كذلك كثر مدح النبي صلى الله عليه وسلم بالبشير النذير، وإشعار بأن الموعظة مما يجب أن يرجع إليه في كل أمر يذكر به، ألا يرى إلى أن أكثر الفواصل التنزيلية والردود على هذا النمط نحو * (أفلا تتقون - أفلا تتذكرون) * وإلى سورة الرحمن كيف أعيد فيها ما أعيد وذلك ليستأنف السامع به ادكارا واتعاظا ويجدد تنبيها واستيقاظا، وأنت تعلم أن البعد الذي أشرنا إليه باق على حاله، وقوله سبحانه: * (لكل شيء) * إما متعلق بما عنده أو بمحذوف كما قال السمين وقع صفة له، واختلف في عدد الألواح وفي جوهرها ومقدارها وكاتبها فقيل كانت عشرة ألواح، وقيل: سبعة، وقيل: لو حين، قال الزجاج: ويجوز أن يقال في اللغة للوحين ألواح وأنها كانت من زمرد أخضر، أمر الرب تعالى جبريل عليه السلام فجاء بها من عدم، وروى ذلك عن مجاهد، وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريرج قال: أخبرت أن الألواح كانت من زبرجد، وعن سعيد بن جبير قال: كانوا يقولون إنها كانت من ياقوتة وأنا أقول: إنها كانت من زمرد، وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الألواح التي أنزلت على موسى كانت من سدر الجنة كان طول اللوح اثني عشر ذراعا " وعن الحسن أنها كانت من خشب نزلت من السماء، وأن طول كل عشرة أذرع، وقيل: أمر الله تعالى موسى عليه السلام بقطعها من صخرة صماء لينها له فقطعها بيده وسقفها بأصابعه ولا يخفى أن أمثال هذا يحتاج إلى النقل الصحيح وإلا فالسكوت أولى إذ ليس في الآية ما يدل عليه، والمختار عندي أنها من خشب السدر إن صح السند إلى سلسلة الذهب، والمشهور عن ابن جريج أن كاتبها جبريل عليه السلام كتبها بالقلم الذي كتب به الذكر، والمروي عن علي كرم الله تعالى وجهه. ومجاهد. وعطاء. وعكرمة. وخلق كثير أن الله تعالى كتبها بيده وجاء أنها كتبت وموسى عليه السلام يسمع صريف الأقلام التي كتبت بها وهو المأثور عن الأمير كرم الله تعالى وجهه. وجاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: خلق الله تعالى آدم بيده وخلق جنة عدن بيده وكتب التوراة بيده، ثم
57

قال لأشياء كوني فكانت، وأخرج عبد بن حميد عن وردان بن خالد قال: خلق الله تعالى آدم بيده وخلق جبريل بيده وخلق القلم بيده وخلق عرشه بيده وكتب الكتاب الذي عنده لا يطلع عليه غيره بيده وكتب التوراة بيده وهذا كله من قبيل المتشابه، وفي بعض الآثار أنها كتبت قبل الميقات وأنزلت على ما قيل وهي سبعون وقر بعير يقرأ الجزء منه في سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر موسى. ويوشع وعزير. وعيسى عليهم السلام. ومما كتب فيها كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وذكر أمته وما ادخر لهم عنده وما يسر عليهم في دينهم وما وسع عليهم فيما أحل لهم حتى إنه جاء أن موسى عليه السلام عجب من الخير الذي أعطاه الله
تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته وتمنى أن يكون منهم.
وأخرج ابن مردويه. وأبو نعيم في الحلية وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كان فيما أعطى الله تعالى موسى في الأرواح يا موسى لا تشرك بي شيئا فقد حق القول مني لتلفحن وجوه المشركين النار، وأشكر لي ولوالديك أقك المتألف وأنسئك في عمرك وأحيك حياة طيبة وأقلبك إلى خير منها، ولا تقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق فتضيق عليه الأرض برحبها والسماء بأقطارها وتبوء بسخطي والنار، ولا تخلف باسمي كاذبا ولا آثما فإني لا أطهر ولا أزكى من لم ينزهني ويعظم أسمائي، ولا تحسد الناس على ما أعطيتهم من فضلي ولا تنفس عليه نعمتي ورزقي فإن الحاسد عدو نعمتى راد لقضائي ساخط لقسمتي التي أقسم بين عبادي ومن يكون كذلك فلست منه وليس مني، ولا تشهد بما لم يع سمعك ويحفظ عقلك ويعقد قلبك فإني واقف أهل الشهادات على شهاداتهم يوم القيامة ثم سائلهم عنها سؤالا حثيثا، ولا تزن ولا تسرق، ولا تزن بحلية جارك فأحجب عنك وجهي وتغلق عنك أبواب السماء، وأحب للناس ما تحب لنفسك، ولا تذبحن لغيري فإني لا أقبل من القربان إلا ما ذكر عليه اسمي وكان خالصا لوجهي، وتفرغ لي يوم البست وفرغ لي نفسك وجميع أهل بيتك ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى جعل السبت لموسى عليه السلام عيدا، واختار لنا الجمعة فجعلها عيدا " * (فخذها بقوة) * أي بجد وحزم قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والجملة على إضمار القول عطفا على كتبنا وحذف القول كثير مطرد، والداعي لهذا التقدير كما قال العلامة الثاني رعاية المناسبة لكتبنا له لأنه جاء على الغيبة، ولو كان بدله كتبنا لك لم يحتج إلى تقدير، وأما حديث عطف الإنشاء على الأخبار فلا ضير فيه لأنه يجوز إذا كان بالفاء.
وقيل: هو بدل من قوله سبحانه: * (فخذ ما آتيتك) * (الأعراف: 144) وضعف بأن فيه الفصل بأجنبي وهو جملة كتبنا المعطوفة على جملة * (قال) * وهو تفكيك للنظم والضمير المنصوب للألواح أو لكل شيء فإنه بمعنى الأشياء والعموم لا يكفي في عود ضمير الجماعة بدون تأويله بالجمع، وجوز عوده للتوراة بقرينة السياق، والقائل بالبدلية جعله عادا إلى الرسالات؛ والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من الفاعل أي ملتبسا بقوة، وجوز أن يكون حالا من المفعول أي ملتبسة بقوة براهينها، والأول أوضح، وأن يكون صفة مفعول مطلق أي أخذا بقوة.
* (وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) * أي أحسنها فالباء زائدة كما في قوله: سود المحاجر لا يقر أن بالسور
ويحتمل أن تكون بالباء أصلية وهو الظاهر، وحينئذ فهي إما متعلقة بيأخذوا بتضمينه معنى يعملوا أو هو من الأخذ بمعنى السيرة، ومنه أخذ أخذهم أي سار سيرتهم وتخلق
58

بخلائقهم كما نقول وإما متعلقة بمحذوف وقع حالا ومفعول يأخذوا محذوف أي أنفسهم كما قيل، والظاهر أنه مجزوم في جواب الأمر فيحتاج إلى تأويل لأنه لا يلزم من أمرهم أخذهم، أي إن تأمرهم ويوفقهم الله تعالى يأخذوا، وقيل: بتقدير لام الأمر فيه بناء على جواز ذلك بعد أمر من القول أو ما هو بمعناه كما هنا، وإضافة أفعل التفضيل هنا عند غير واحد كإضافته في زيد أحسن الناس وهي على المشهور محضة على معنى اللام، وقيل: إنها لفظية ويوهم صنيع بعضهم أنها على معنى في وليس به؛ والمعنى بأحسن الأجزاء التي فيها، ومعنى أحسنيتها اشتمالها على الأحسن كالصبر فإنه أحسن بالإضافة إلى الانتصار، أي مرهم يأخذوا بذلك على طريق الندب والحث على الأفضل كقوله تعالى: * (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم) * (الزمر: 55) أو المعنى بأحسن أحكامها والمراد به الواجبات فإنها أحسن من المندوبات والمباحات أو حي والمندوبات على ما قيل فإنها أحسن من المباحات. وقيل: إن الأحسن بمعنى البالغ في الحسن مطلقا لا بالإضافة وهو المأمور به ومقابله المنهي عنه، وإلى هذا يشير كلام الزجاج حيث قال: أمروا بالخير ونهوا عن الشر وعرفوا ما لهم وما عليهم فقيل: * (وأمر قومك) * الخ فافعل نظيره في قولهم: الصيف أحر من الشتاء فإنه بمعنى الصيف في حره أبلغ من الشتاء في برده إذ تفضيل حرارة الصيف على حرارة الشتاء غير مرادة بلا شبهة ويقال هنا: المأمور به أبلغ في الحسن من المنهي عنه في القبح. وتفصيل ما في المقام على ما ذكره الدماميني في تعليقه على المصابيح ونقله عنه الشهاب أن لأفعل أربع حالات. إحداها: وهي الحالة الأصلية أن يدل على ثلاثة أمور: الأول: اتصاف من هو له بالحدث الذي اشتق منه وبهذا كان وصفا، الثاني: مشاركة مصحوبة في تلك الصفة، الثالث: مزية موصوفة على مصحوبة فيها، وبكل من هذين الأمرين فارق غيره من الصفات، وثانيتها: أن يخلع عنه ما امتاز به من الصفات ويتجرد للمعنى الوصفي، وثالثتها: أن تبقى عليه معانيه الثلاثة ولكن يخلع عنه قد المعنى الثاني ويخلفه قيد آخر، وذلك أن المعنى الثاني وهو الاشتراك كان مقدا بتلك الصفة التي هي المعنى الأول فيصير مقيدا بالزيادة التي هي المعنى الثالث، ألا ترى أن المعنى في قولهم العسل أحلى من الخل أن للعسل حلاوة وأن تلك الحلاوة ذات زيادة وأن زيادة حلاوة العسل أكثر من زيادة حموضة الخل، وقد قال ذلك ابن هشام في حواشي التسهيل وهو بديع جدا، ورابعتها: أن يخلع عنه المعنى الثاني وهو المشاركة وقيد المعنى الثالث وهو كون الزيادة على مصاحبه فيكون للدلالة على الاتصاف بالحدث وعلى زيادة مطلقة لا مقيدة وذلك في نحو يوسف أحسن إخوته انتهى. وعدم اشتراك المأمور به والمنهي عنه في الحسن المراد مما لا شبهة فيه وإن كان الحسن مطلقا كما في " البحر " مشتركا فإن المأمور به أحسن من حيث الامتثال وترتب الثواب عليه والمنهي عنه حسن باعتبار الملاذ والشهوة. وقال قطرب كما نقله عنه محيي السنة: المعنى يأخذوا بحسنها وكلها حسن، وهو ظاهر في حمل أفعل على الحالة الثانية، وقيل: المعنى يأخذوا بها وأحسن صلة وليس له من القبول عائد. وقال الجبائي: المراد يأخذوا بالناسخ دون المنسوخ، وقيل: الأخذ بالأحسن هو أن تحمل الكلمة المحتملة لمعنيين أو لمعان على أشبه محتملاتها بالحق وأقربها للصواب، ولا ينبغي أن يحمل الأخذ على الشروع كما في قولك أخذ زيد يتكلم أي شرع في الكلام، والأحسن على العقائد فيكون المراد أمرهم ليشرعوا بالتحلي بالعقائد الحقة وهي لكونها أصول الدين وموقوفة عليها صحة الأعمال أحسن من غيرها من الفروع وهو متضمن لأمرهم بجميع ما فيها كما لا يخفى فإن أخذ
59

بالمعنى المعنى من أفعال الشروع ليس هذا استعمالها المعهود في كلامهم على أن فيه بعد ما فيه، ومثل هذا كون ضمير أحسنها عائدا إلى قوة على معنى مرهم يأخذوها بأحسن قوة وعزيمة فكون أمرا منه سبحانه أن يأمرهم بأخذها كما أمره به ربه سبحانه إلا أنه تعالى اكتفى في أمره عن ذكر الأحسن بما أشار إليه التنوين فإن ذلك خلاف المأثور المنساق إلى الفهم مع أنا لم نجد في كلامهم أحسن قوة ومفعول يأخذوا عليه محذوف كما في بعض الاحتمالات السابقة غير أنه فرق ظاهر بين ما هنا وما هناك.
* (سأريكم دار الفاسقين) * توكيد لأمر القوم بالأخذ بالأحسن وبعث عليه على نهج الوعيد والترهيب بناء على ما روي عن قتادة. وعطية العوفي من أن المراد بدار الفاسقين دار فرعون وقومه بمصر ورأى بصرية، وجوز أن تكون علمية والمفعول الثالث محذوف أي سأريكم إياها خاوية على عروشها لتعتبروا وتجدوا ولا تهاونوا في امتثال الأمر ولا تعملوا أعمال أهلها ليحل بكم ما حل بهم، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، وحسن موقعه قصد المبالغة في الحث وفي وضع الإراءة موضع الاعتبار إقامة السبب مقام المسبب مبالغة أيضا كقوله تعالى: * (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين) * (النمل: 69) وفي وضع دار الفاسقين موضع أرض مصر الإشعار بالعلية والتنبيه على أن يحترزوا ولا يستنوا بسنتهم من الفسق، والسين للاستقبال لأن ذلك قبل الرجوع إلى مصر كما في " الكشف ".
وقال الكلبي: المراد بدار الفاسقين منازل عاد وثمود والقرون الذين هلكوا، وعن الحسن. وعطاء أن المراد بها جهنم، وأيا ما كان فالكلام على النهج الأول أيضا، ويجوز أن يكون على نهج الوعد والترغيب بناء على ما روي عن قتادة أيضا من أن المراد بدار الفاسقين أرض الجبابرة والعمالقة بالشام فإنها مما أبيح لبني إسرائيل وكتب لهم حسبما ينطق به قوله عز وجل: * (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم) * (المائدة: 21) ومعنى الإراءة الإدخال بطريق الإيراث، ويؤيده قراءة بعضهم * (سأورثكم) *، وجوز على هذا أن يراد بالدار مصر، وفي الكلام على هذه القراءة وإرادة أرض مصر من الدار تغليب لأن المعنى سأورثك وقومك أرض مصر، ولا يصح ذلك عليها إذا أريد من الدار أرض الجبابرة بناء على أن موسى عليه السلام لم يدخلها وإنما دخلها يوشع مع القوم بعد وفاته عليه السلام، ويصح بناء على القول بأن موسى عليه السلام دخلها ويوشع على مقدمته، وجوز اعتبار التغليب على القراءة المشهورة أيضا، وقرأ الحسن * (سأوريكم) * بضم الهمزة وواو ساكنة وراء خفيفة مكسورة وهي لغة فاشية في الحجاز، والمعنى سأبين لكم ذلك وأنوره على أنه من أوريت الزند، واختار ابن جني في تخريج هذه القراءة ولعله الأظهر أنها على الإشباع كقوله: من حيثما سلكوا أدنو فأنظور
* (سأصرف عن ءاي‍اتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل ءاية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغى يتخذوه سبيلا ذالك بأنهم كذبوا بااي‍اتنا وكانوا عنها غ‍افلين) *.
* (سأصرف عن ءاي‍اتي الذين يتكبرون في الأرض) * استئناف مسوق على ما قال شيخ الإسلام لتحذيرهم عن التكبر الموجب لعدم التفكر في الآيات التي كتبت في ألواح التوراة المتضمنة للمواعظ والأحكام أو ما يعمها وغيرها من الآيات التكوينية التي من جملتها ما وعدوا إراءته من دار الفاسقين، ومعنى صرفهم عنها منعهم بالطبع على قلوبهم فلا يكادون يتفكرون فها ولا يعتبرون بها لإصرارهم على ما هم عليه من التكبر والتجبر كقوله سبحانه: * (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) * (الصف: 5) أي سأطبع على قلوب الذين يعدون أنفسهم كبراء ويرون أن لهم ارتفاعا فالعالم السفلي ومزية على الخلق فلا ينتفعون بآياتي ولا يغتنمون مغانم آثارها فلا تسلكوا مسلكهم فتكونوا
60

أمثالهم، وقيل: هو جواب سؤال مقدر ناشىء من الوعد بإدخال أرض الجبابرة والعمالقة على أن المراد بالآيات ما تلي آنفا ونظائره وبالصرف عنها إزالة المتكبرين عن مقام معارضتها وممانعتها لوقوع أخبارها وظهور أحكامها وآثارها بإهلاكهم على يد موسى أو يوشع عليهما السلام، كأنه قيل: كيف ترى دارهم وهم فيها؟ فقيل لهم: سأهلكهم، وإنما عدل إلى الصرف ليزدادوا ثقة بالآيات واطمئنانا بها؛ وعلى هذين القولين يكون الكلام مع موسى عليه السلام، والآية متعلقة إما بقوله سبحانه: * (سأريكم) * وإما بما تقدمه على الوجه الذي أشير إليه آنفا، وجوز الطيبي كونها متصلة بقوله تعالى: * (وأمر) * الخ على معنى الأمر كذلك؛ وأما الإرادة فإني سأصرف عن الأخذ بآياتي أهل الطبع والشقاوة، وقيل: الكلام مع كافري مكة والآية متصلة بقوله عز شأنه: * (أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها) * (الأعراف: 100) الآية، وإيراد قصة موسى عليه السلام وفرعون للاعتبار أي سأصرف المتكبرين عن إبطال الآيات وإن اجتهدوا كما فعل فرعون فعاد عليه فعله بعكس ما أراد، وقيل: إن الآية على تقدير كون الكلام مع قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتراض في خلاف ما سيق للاعتبار ومن حق من ساق قصة له أن ينبه على مكانه كلما وجد فرصة التمكن منه، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لإظهار الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع أن في المؤخر نوع طول يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الجليل، واحتج بالآية بعض أصحابنا على أن الله تعالى قد يمنع عن الإيمان ويصد عنه وهو ظاهر على تقرير أن يراد بالصرف المنع عن الإيمان وليس بمتعين كما علمت، وقد خاض المعتزلة في تأويلها فأولوها بوجوه ذكرها الطبرسي * (بغير الحق) * إما صلة للتكبر على معنى يتكبرون ويتعززون بما ليس بحق وهو دينهم الباطل وظلمهم المفرط أو متعلق بمحذوف هو حال من فاعله أي يتكبرون ملتبسين بغير الحق ومآله يتكبرون غير محقين لأن التكبر بحق ليس إلا لله تعالى كما في الحديث القدسي الذي أخرجه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه " الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني في واحد منهما قذفته في النار ".
وقيل: المراد أنهم يتكبرون على من لا يتكبر كالأنباء عليهم السلام لأنه الذي يكون بغير حق، وأما التكبر على المتكبر فهو بحق لما في الأثر التكبر على المتكبر صدقة، وأنت تعلم أن هذا صورة تكبر لا تكبر حقيقة فلعل مراد هذا القائل: إن التقييد بما ذكر لإظهار أنهم يتكبرون حقيقة.
* (وإن يروا كل ءاية لا يؤمنوا بها) * عطف على يتكبرون داخل معه في حكم الصلة، والمراد بالآية إما المنزلة فالمراد برؤيتها مشاهدتها والإحساس بها بسماعها أو ما يعمها وغيرها من المعجزات، فالمراد برؤيتها مطلق المشاهدة المنتظمة للسماع والإبصار، وفسر بعضهم الآيات فيما تقدم بالمنصوبة في الآفاق والأنفس، والآية هنا
بالمنزلة أو المعجزة لئلا يتوهم الدور على ما قيل فليفهم، وجوز أن يكون عطفا على سأصرف للتعليل على منوال قوله سبحانه: * (ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله) * (النمل: 15) على رأي صاحب المفتاح، وأيا ما كان فالمراد عموم النفي لا نفي العموم أي كفروا بكل أية آية * (وإن يروا سبيل الرشد) * أي طريق الهدى والسداد * (لا يتخذوه سبيلا) * أي لا يتوجهون إليه ولا يسلكونه أصلا لاستيلاء الشيطنة عليهم.
وقرأ حمزة. والكسائي * (الرشد) * بفتحتين، وقرىء * (الرشاد) * وثلاثها لغات كالسقم والسقم والسقام، وفرق
61

أبو عمرو كما قال الجبائي بين الرشد والرشد بأن الرشد بالضم الصلاح في الأمر والرشد بالفتح الاستقامة في الدين، والمشهور عدم الفرق * (وإن يروا سبيل الغي) * أي طريق الضلال * (يتخذوه سبيلا) * أي يختارونه لأنفسهم مسلكا مستمرا لا يكادون يعدلون عنه لموافقته لأهوائهم وإفضائه بهم إلى شهواتهم * (ذالك) * أي المذكور من التكبر وعدم الإيمان بشيء من الآيات وإعراضهم عن سبيل الهدى وإقبالهم التام إلى سبيل الضلال حاصل * (بأنهم) * أي بسبب أنهم * (كذبوا بآي‍اتنا) * الدالة على بطلان ما اتصفوا به من القبائح وعلى حقية أضدادها * (وكانوا عنها غ‍افلين) * غير معتدين بها فلا يتفكرون فيها وإلا لما فعلوا ما فعلوا من الأباطيل، وجوز غير واحد أن يكون ذلك إشارة إلى الصرف، وما فيه من البحث يدفع بأدنى عناية كما لا يخفى على من مدت إليه العناية أسبابها، وأيا ما كان فاسم الإشارة مبتدأ والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا عنه كما أشرنا إليه.
وقيل: محل اسم الإشارة النصب على المصدر أي سأصرفهم ذلك الصرف بسبب تكذيبهم بآياتنا وغفلتهم عنها، ولا مانع من كون العامل أصرف المقدم لأن الفاصل ليس بأجنبي.
* (والذين كذبوا بااي‍اتنا ولقآء الاخرة حبطت أعم‍الهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون) *.
* (والذين كذبوا بآي‍اتنا ولقاء الآخرة) * أي لقائهم الدار الآخرة على أنه من إضافة المصدر إلى المفعول وحذف الفاعل أو لقائهم ما وعده الله تعالى في الآخرة من الجزاء على أن الإضافة إلى الظرف على التوسع. والمفعول مقدر كالفاعل ومحل الموصول في الاحتمالين الرفع على الابتداء، وقوله تعالى: * (حبطت أعمالهم) * خبره أي ظهر بطلان أعمالهم التي كانوا عملوها من صلة الأرحام وإغاثة الملهوفين بعدما كانت مرجوة النفع على تقدير إيمانهم بها، وحاصله أنهم لا ينتفعون بأعمالهم وإلا فهي أعراض لا تحبط حقيقة * (هل يجزون) * أي لا يجزون يوم القيامة.
* (إلا ما كانوا يعملون) * أي إلا جزاء ما استمروا على عمله من الكفر والمعاصي وتقدير هذا المضاف لظهور أن المجزي ليس نفس العمل، وقيل: إن أعمالهم تظهر في صور ما يجزون به فلا حاجة إلى التقدير، وهذه الجملة مستأنفة، وقيل: هي الخبر والجملة السابقة في موضع الحال بإضمار قد، واحتجت الأشاعرة على ما قيل بهذه الآية على فساد قول أبي هاشم أن تارك الواجب يستحق العقاب وإن لم يصدر عنه فعل الضد لأنها دلت على أنه لا جزاء إلا على عمل وترك الواجب ليس به.
وأجاب أبو هاشم بأني لا أسمي ذلك العقاب جزاء، ورد بأن الجزاء ما يجزي أي يكفي في المنع عن المنهي عنه والحث على المأمور به والعقاب على ترك الواجب كاف في الزجر عن ذلك الترك فكان جزاء.
* (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظ‍المين) *.
* (واتخذ قوم موسى من بعده) * أي من بعد ذهابه إلى الجبل مناجاة ربه سبحانه * (من حليهم) * جمع حلي كثدي وثدي وهو ما يتخذ للزينة ويتحلى به من الذهب والفضة، والجار والمجرور متعلق باتخذ كمن بعده من قبله ولا ضير في ذلك لاختلاف معنى الجارين فإن الأول للابتداء والثاني للتبعيض، وقيل: للابتداء أيضا، وتعلقه بالفعل بعد تعلق الأول به واعتباره معه، وقيل: الجار الثاني متعلق بمحذوف وقع حالا مما بعده إذ لو تأخر لكان صفة له، وإضافة الحلي إلى ضمير القوم لأدنى ملابسة لأنها كانت للقبط فاستعاروها منهم قبيل الغرق فبقيت في أيديهم
62

وقيل: إنها على ما يتبادر منها بناء على أن القوم ملكوها بعد أن ألقاها البحر على الساحل بعد غرق القبط أو بعد أن استعاروها منهم وهلكوا. قال الإمام: روي أنه تعالى لما أراد إغراق فرعون وقومه لعلمه أنه لا يؤمن أحد منهم أمر موسى عليه السلام بني إسرائيل أن يستعيروا حلي القبط ليخرجوا خلفهم لأجل المال أو لتبقى أموالهم في أيديهم.
واستشكل ذلك بكونه أمرا بأخذ مال الغير بغير حق، وإنما يكون غنيمة بعد الهلاك مع أن الغنائم لم تكن حلالا لهم لقوله صلى الله عليه وسلم: " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي أحلت لي الغنائم " الحديث على أن ما نقل عن القوم في سورة طه من قولهم: * (حملنا أوزارا من زينة القوم) * يقتضي عدم الحل أيضا.
وأجيب بأن ذلك أن تقول: إنهم لما استعبدوهم بغير حق واستخدموهم وأخذوا أموالهم وقتلوا أولادهم ملكهم الله تعالى أرضهم وما فيها، فالأرض لله تعالى يورثها من يشاء من عباده، وكان ذلك بوحي من الله تعالى لا على طريق الغنيمة، ويكون ذلك على خلاف القياس وكم في الشرائع مثله، والقول المحكي سيأتي إن شاء الله تعالى ما فيه، وهذه الجملة كما قال الطيبي عطف على قوله سبحانه: * (وواعدنا موسى) * (البقرة: 51) عطف قصة على قصة.
وقرأ حمزة. والكسائي * (حليهم) * بكسر الحاء اتباعا لكسر اللام كدلي وبعض * (حليهم) * على الأفراد وقوله سبحانه: * (عجلا) * مفعول اتخذ بمعنى صاغ وعمل، أخر عن المجرور لما مر آنفا، وقيل: إن اتخذ متعد إلى اثنين وهو بمعنى صير والمفعول الثاني محذوف أي إلها، والعجل ولد البقر خاصة وهذا كما يقال لولد الناقة حوار ولولد الفرس مهر ولولد الحمار جحش ولولد الشاة حمل ولولد العنز جدي ولولد الأسد شبل ولولد الفيل دغفل ولولد الكلب جرو ولولد الظبي خشف ولولد الأروية غفر ولولد الضبع فرعل ولولد الدب ديسم ولولد الخنزير خنوص ولولد الحية حربش ولولد النعام رأل ولولد الدجاجة فروج ولولد الفأر درص ولولد الضب حسل
إلى غير ذلك، والمراد هنا ما هو على صورة العجل. وقوله تعالى: * (جسدا) * بدل من عجلا أو عطف بيان أو نعت له بتأويل متجسدا، وفسر ببدن ذي لحم ودم، قال الراغب: الجسد كالجسم لكنه أخص منه، وقيل: إنه يقال لغير الإنسان من خلق الأرض ونحوه، ويقال أيضا لما له لون والجسم لما لا يبين له لون كالهواء، ومن هنا على ما قيل قيل للزعفران الجساد ولما أشبع صبغه من الثياب مجسد، وجاء المجسد أيضا بمعنى الأحمر، وبعض فسر الجسد به هنا فقال: أي أحمر من ذهب * (له خوار) * هو صوت البقر خاصة كالثغار للغنم واليعار للمعز والنبيب للتيس والنباح للكلب والزئير للأسد والعواء والوعوعة للذئب والضباح للثعلب والقباع للخنزير والمؤاء للهرة، والنهيق والسحيل للحمار والصهيل والضبح والقنع والحنحمة للفرس والرغاء للناقة والصني للفيل والبتغم للظبي والضعيب للأرنب والعرار للظليم والصرصرة للبازي والعقعقة للصقر والصفير للنسر والهدير للحمام والسجع للقمري والسقسقة للعصفور والنعيق والنعيب للغراب والصقاء والزقاء للديك والقوقاء والنقيقة للدجاجة والفحيح للحية والنقيق للضفدع والصبىء للعقرب والفأرة والصرير للجراد إلى غير ذلك.
وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ * (جؤار) * بجيم مضمومة وهمزة، وهو الصوت الشديد، ومثله الصياح
63

والصراخ. والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا مقدما وخوار مبتدأ، والجملة في موضع النعت لعجلا.
روي أن السامري لما صاغ العجل ألقى في فمه من تراب أثر فرس جبريل عليه السلام فصار حيا، وذكر بعضهم في سر ذلك أن جبريل عليه السلام لكونه الروح الأعظم سرت قوة منه إلى ذلك التراب أثرت ذلك الأثر بإذن الله تعالى لأمر يريده عز وجل، ولا يلزم من ذلك أن يحيا ما يطؤه بنفسه عليه السلام لأن الأمر مربوط بالإذن وهو إنما يكون بحسب الحكم التي لا يعلمها إلا الحكيم الخبير فتدبر. وإلى القول بالحياة ذهب كثير من المفسرين، وأيد بأن الخوار إنما يكون للبقر لا لصورته، وبأن ما سيأتي إن شاء الله تعالى في سورة طه كالصريح فيما دل عليه الخبر. وقال جمع من مفسري المعتزلة: إن العجل كان بلا روح وكان السامري قد صاغه مجوفا ووضع في جوفه أنابيب على شكل مخصوص وجعله في مهب الريح فكانت تدخل في تلك الأنابيب فيسمع لها صوت يشبه خوار العجل ولذلك سمي خوارا. وما في طه سيأتي إن شاء تعالى الكلام فيه. واختلف في هذا الخوار فقيل: كان مرة واحدة، وقيل: كان مرات كثيرة، وكانوا كلما خار سجدوا له وإذا سكت رفعوا رؤوسهم. وعن السدي أنه كان يخور ويمشي. وعن وهب نفي الحركة، والآية ساكتة عن إثباتها، وليس في الأخبار ما يعول عليه فالتوقف عن إثبات المشي أولى، وليست هذه المسألة من المهمات، وإنما نسب الاتخاذ إلى قوم موسى عليه السلام وهو فعل السامري لأنهم رضوا به وكثيرا ما ينسب الفعل إلى قوم مع وقوعه من واحد منهم فيقال: قتل بنو فلان قتيلا والقاتل واحد منهم، وقيل: لأن المراد اتخاذهم إياه إلها، فالمعنى صيروه إلها وعبدوه، وحينئذ لا تجوز في الكلام لأن العبادة له وقعت منهم جميعا.
قال الحسن: كلهم عبدوا العجل إلا هارون عليه السلام، واستثنى آخرون غيره معه، وعلى القول الأول قيل: لا بد من تقدير فعبدوه ليكون ذلك مصب الإنكار لأن حرمة التصوير حدثت في شرعنا على المشهور ولأن المقصود إنكار عبادته * (ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا) * تقريع لهم وتشنيع على فرط ضلالهم وإخلالهم بالنظر، أي ألم يروا أنه لا يقدر على ما يقدر عليه آحاد البشر من الكلام وإرشاد السبيل بوجه من الوجوه فكيف عدلوه بخالق الأجسام والقوى والقدر، وجعله بعضهم تعريضا بالإله الحق وكلامه الذي لا ينفد وهدايته الواضحة التي لا تجحد، وقيل: إنه تعريض بالله تعالى وبكلامه مع موسى عليه السلام وهدايته لقومه * (اتخذوه) * تكرار لجميع ما سلف من الاتخاذ على الوجه المخصوص المشتمل على الذم، وهو من باب الكناية على أسلوب:
أن يرى مبصر ويسمع واع
أي أقدموا على ما أقدموا عليه من الأمر المنكر.
* (وكانوا ظالمين) * اعتراض تذييلي أي إن دأبهم قبل ذلك الظلم ووضع الأشياء في غير موضعها فليس ببدع منهم هذا المنكر العظيم، وكرر الفعل ليبني عليه ذلك، وقيل: الجملة في موضع الحال أي اتخذوه في هذه الحالة المستمرة لهم.
* (ولما سقط فىأيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخ‍اسرين) *.
* (ولما سقط في أيديهم) * أي ندموا كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وجعله غير واحد كناية عن شدة الندم وغايته لأن النادم إذا اشتد ندمه عض يده غما فتصير يده مسقوطا فيها، وأصله سقط فوه أو عضه في يده أي وقع ثم حذف الفاعل وبنى الفعل للمفعول به فصار سقط في يده كقولك: مر بزيد، وقرأ ابن السميقع سقط بالبناء للفاعل على الأصل، واليد على ما ذكر حقيقة، وقال الزجاج: معناه سقط الندم في أنفسهم وجعل
64

القطب ذلك من باب الاستعارة التمثيلية حيث شبه حال الندم في النفس بحال الشيء في اليد في التحقيق والظهور ثم عبر عنه بالسقوط في اليد ولا لطف للاستعارة التصريحية فيه، وقال الواحدي: إنه يقال لما يحصل وإن لم يكن في اليد وقع في يده وحصل في يده مكروه فيشبه ما يحصل في النفس وفي القلب بما يرى بالعين، وخصت اليد لأن مباشرة الأمور بها كقوله تعالى: * (ذلك بما قدمت يداك) * (الحج: 10) أو لأن الندم يظهر أثره بعد حصوله في القلب في اليد لعضها والضرب بها على أختها ونحو ذلك فقد قال سبحانه في النادم: * (فأصبح يقلب كفيه) * (الكهف: 42) * (ويوم يعض الظالم) * (الفرقان: 27)، وقيل: من عادة النادم أن يطأطىء رأسه ويضع ذقنه على يده بحيث لو أزالها سقط على وجهه فكأن اليد مسقوط فيها، و * (في) * بمعنى على، وقيل: هو من السقاط وهو كثرة الخطأ، وقيل: من السقيط وهو ما يغشى الأرض بالغدوات شبه الثلج لا ثبات له، فهو مثل لمن خسر في عاقبته ولم يحصل على طائل من سعيه، وعد بعضهم سقط من الأفعال التي لا تتصرف كنعم وبئس.
وقرأ ابن أبي عبلة * (اسقط) * على أنه رباعي مجهول وهي لغة نقلها الفراء. والزجاج، وذكر بعضهم أن هذا التركيب لم يسمع قبل نزول القرآن، ولم تعرفه العرب
، ولم يوجد في أشعارهم وكلامهم فلذا خفي على الكثير وأخطأوا في استعماله كأبي حاتم. وأبي نواس، وهو العالم النحرير ولم يعلموا ذلك ولو علموه لسقط في أيديهم * (ورأوا أنهم قد ضلوا) * أي تبينوا ضلالهم باتخاذ العجل وعبادته كأنهم قد أبصروه بعيونهم قيل: وتقديم ذكر ندمهم على هذه الرؤية مع كونه متأخرا عنها للمسارعة إلى بيانه والإشعار بغاية سرعته كأنه سابق على الرؤية.
وقال القطب في بيان تأخير تبين الضلال عن الندم مع كونه سابقا عليه: إن الانتقال من الجزم بالشيء إلى تبين الجزم بالنقيض لا يكون دفعيا في الأغلب بل إلى الشك ثم الظن بالنقيض ثم الجزم به ثم تبينه، والقوم كانوا جازمين بأن ما هم عليه صواب والندم عليه ربما وقع لهم في حال الشك فيه فقد تأخر تبين الضلال عنه انتهى، فافهم ولا تغفل * (قالوا لئن لم يرحمنا ربنا) * بإنزال التوبة المكفرة * (ويغفر لنا) * بالتجاوز عن خطيئتنا، وتقديم الرحمة على المغفرة مع أن التخلية حقها أن تقدم على التحلية قيل: إما للمسارعة إلى ما هو المقصود الأصلي وإما لأن المراد بالرحمة مطلق إرادة الخير بهم وهو مبدأ لإنزال التوبة المكفرة لذنوبهم، واللام في * (لئن) * موطئة للقسم أي والله لئن الخ، وفي قوله سبحانه: * (لنكونن من الخاسرين) * لجواب القسم كما هو المشهور.
وقرأ حمزة. والكسائي * (ترحمنا وتغفر لنا) * بالتاء الفوقية و * (ربنا) * بالنصب على النداء؛ وما حكى عنهم من الندامة والرؤية والقول كان بعد رجوع موسى عليه السلام من الميقات كما ينطق به ما سيأتي إن شاء الله تعالى في طه، وقدم ليتصل ما قالوه بما فعلوه.
* (ولما رجع موسى إلى قومه غضب‍ان أسفا قال بئسما خلفتمونى من بعدىأعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفونى وكادوا يقتلوننى فلا تشمت بى الأعدآء ولا تجعلنى مع القوم الظ‍المين) *.
* (ولما رجع موسى إلى قومه غضبان) * مما حدث منهم * (أسفا) * أي شديد الغضب كما قال أبو الدرداء. ومحمد القرظي. وعطاء. والزجاج. أو حزينا على ما روي عن ابن عباس. والحسن. وقتادة رضي الله تعالى عنهم، وقال أبو مسلم: الغضب والأسف بمعنى والتكرير للتأكيد.
65

وقال الواحدي: هما متقاربان فإذا جاءك ما تكره ممن هو دونك غضبت وإذا جاءك ممن هو فوقك حزنت، فعلى هذا كان موسى عليه السلام غضبان على قومه باتخاذهم العجل حزينا لأن الله تعالى فتنهم، وقد أخبره سبحانه بذلك قبل رجوعه، ونصب الوصفين على أنهما حالان مترادفان أو متداخلان بأن يكون الثاني حالا من الضمير المستتر في الأول، وجوز أبو البقاء أن يكون بدلا من الحال الأولى وهو بدل كل لا بعض كما توهم.
* (قال بئسما خلفتموني من بعدي) * خطاب إما لعبدة العجل وإما لهارون عليه السلام ومن معه من المؤمنين أي بئسما ما فعلتم بعد غيبتي حيث عبدتم العجل بعدما رأيتم مني من توحيد الله تعالى ونفى الشركاء عنه سبحانه وإخلاص العبادة له جل جلاله، أو بئسما قمتم مقامي حيث لم تراعوا عهدي ولم تكفوا العبدة عما فعلوا بعد ما رأيتم مني من حملهم على التوحيد وكفهم عما طمحت نحوه أبصارهم من عبادة البقر حين قالوا اجعل لنا إلها كما لهم آلهة.
وجوز أن يكون على الخطاب للفريقين على أن المراد بالخلافة الخلافة فيما يعم الأمرين اللذين أشير إليهما ولا تكرار في ذكر * (من بعدي) * بعد * (خلفتموني) * لأن المراد من بعد ولايتي وقيامي بما كنت أقوم إذ بعديته على الحقيقة إنما تكون على ما قيل بعد فراقه الدنيا، وقيل: إن * (من بعدي) * تأكيد من باب رأيته بعيني وفائدته تصوير نيابة المستخلف ومزاولة سيرته كما أن هنالك تصوير الرؤية وما يتصل بها، و * (ما) * نكرة موصوفة مفسرة لفاعل بئس المستكن فيه والمخصوص بالذم محذوف أي بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم، والذم فيما إذا كان الخطاب لهارون عليه السلام ومن معه من المؤمنين ليس للخلافة نفسها بل لعدم الجري على مقتضاها، وأما إذا كان للسامري وأشياعه فالأمر ظاهر * (أعجلتم أمر ربكم) * أي أعجلتم عما أمركم به ربكم وهو انتظار موسى عليه السلام حال كونهم حافظين لعهده وما وصاهم به فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره ولم أرجع إليكم فحدثتم أنفسكم بموتي فغيرتم. روي أن السامري قال لهم حين أخرج لهم العجل، وقال: إن هذا إلهكم وإله موسى إن موسى لن يرجع وإنه قد مات. وروي أنهم عدوا عشرين يوما بلياليها فجعلوها أربعين ثم أحدثوا ما أحدثوا. والمعروف تعدي * (عجل) * بعن لا بنفسه فيقال: عجل عن الأمر إذا تركه غير تام ونقيضه تم عليه وأعجله عنه غيره وضمنوه هنا معنى السبق وهو كناية عن الترك فتعدى تعديته ولم يضمن ابتداء معنى الترك لخفاء المناسبة بينهما وعدم حسنها. وذهب يعقوب إلى أن السبق معنى حقيقي له من غير تضمين، والأمر واحد الأوامر. وعن الحسن أن المعنى أعجلتم وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين فالأمر عليه واحد الأمور والمراد بهذه الأربعين على ما ذكره الطيبي غير الأربعين التي أشار الله تعالى إليها بقوله سبحانه: * (فتم ميقات ربه أربعين ليلة) * (الأعراف: 142) وسيأتي تتمة الكلام في ذلك قريبا إن شاء الله تعالى.
* (وألقى الألواح) * أي وضعها على الأرض كالطارح لها ليأخذ برأس أخيه مما عراه من فرط الغيرة الدينية وكان عليه السلام شديد الغضب لله سبحانه. فقد أخرج أبو الشيخ عن زيد بن أسلم أنه عليه السلام كان إذا غضب اشتعلت قلنسوته نارا. وقال القاضي ناصر الدين: أي طرحها من شدة الغضب وفرط الضجرة حمية للدين، ثم نقل أنه انكسر بعضها حين ألقاها، واعترض عليه أفضل المتأخرين شيخ مشايخنا صبغة الله أفندي الحيدري بأن الحمية للدين إنما تقتضي احترام كتاب الله تعالى وحمايته أن يلحق به نقص أو هوان بحيث
66

تنكسر ألواحه ثم قال: والصواب أن يقال: إنه عليه السلام لفرط حميته الدينية وشدة غضبه لله تعالى لم يتمالك ولم يتماسك أن وقعت الألواح من يده بدون اختيار فنزل ترك التحفظ منزلة الإلقاء الاختياري فعبر به تغليظا عليه عليه السلام فإن حسنات الأبرار سيآت المقربين انتهى.
وتعقبه العلامة صالح أفندي الموصلي عليه الرحمة بأنه لا يخفى أن هذا الإيراد إنما نشأ من جعل قول القاضي حمية للدين مفعولا له لطرحها وهو غير صحيح، فقد صرح في أوائل تفسيره لسورة طه بأن الفعل الواحد لا يتعدى لعلتين وإنما هو مفعول له لشدة الغضب وفرط الضجرة على سبيل التنازع، والتوجيه الذي ذكر للآية هو ما
أراده القاضي وتفسيره الإلقاء بالطرح لا ينافي ذلك على ما لا يخفى ا ه‍، وأقول أنت تعلم أن كون هذا التوجيه هو ما أراده القاضي غير بين ولا مبين على أن حديث كون التعبير بالإلقاء تغليظا عليه عليه السلام منحط عن درجة القبول جدا إذ ليس في السباق ولا في السياق ما يقضي بكون المقام عتاب موسى عليه السلام ليفتي بهذا التغليظ نظرا إلى مقامه صلى الله عليه وسلم بل المقام ظاهر في الحط على قومه كما لا يخفى على من له أدنى حظ من رفيع النظر، والذي يراه هذا الفقير ما أشرنا إليه أولا. وحاصله أن موسى عليه السلام لما رأى من قومه ما رأى غضب غضبا شديدا حمية للدين وغيرة من الشرك برب العالمين فعجل في وضع الألواح لتفرغ يده فيأخذ برأس أخيه فعبر عن ذلك الوضع بالإلقاء تفظيعا لفعل قومه حيث كانت معاينته سببا لذلك وداعيا إليه مع ما فيه من الإشارة إلى شدة غيرته وفرط حميته وليس في ذلك ما يتوهم منه نوع إهانة لكتاب الله تعالى بوجه من الوجوه، وانكسار بعض الألواح حصل من فعل مأذون فيه ولم يكن غرض موسى عليه السلام ولا مر بباله ولا ظن ترتبه على ما فعل، وليس هناك إلا العجلة في الوضع الناشئة من الغيرة لله تعالى، ولعل ذلك من باب * (وعجلت إليك رب لترضى) * (طه: 84) واختلفت الروايات في مقدار ما تكسر ورفع، وبعضهم أنكر ذلك حيث أن ظاهر القرآن خلافه. نعم أخرج أحمد وغيره. وعبد بن حميد. والبزار. وابن أبي حاتم. وابن حبان. والطبراني وغيرهم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يرحم الله تعالى موسى ليس المعاين كالمخبر أخبره ربه تبارك وتعالى أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح فتكسر منها ما تكسر " فتأمل ولا تغفل، وما روي عن ابن عباس أن موسى عليه السلام لما ألقى الألواح رفع منها ستة أسباع وبقي سبع، وكذا ما روي عن غيره نحوه مناف لما روي فيما تقدم من أن التوراة نزلت سبعين وقرا يقرأ الجزء منهفي سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر. موسى. ويوشع. وعزير. وعيسى عليهم السلام. وكذا لما يذكر بعد من قوله تعالى: * (أخذ الألواح) * فإن الظاهر منه العهد. والجواب بأن الرفع لما فيها من الخط دون الألواح خلاف الظاهر والله تعالى أعلم بحقيقة الحال * (وأخذ برأس أخيه) * أي بشعر رأس هارون عليه السلام لأنه الذي يؤخذ ويمسك عادة ولا ينافي أخذه بلحيته كما وقع في سورة طه أو أدخل فيه تغليبا * (يجره إليه) * ظنا منه عليه السلام أنه قصر في كفهم ولم يتمالك لشدة غضبه وفرط غيظه أن فعل ذلك وكان هارون أكبر من موسى عليهما السلام بثلاث سنين إلا أن موسى أكبر منه مرتبة وله الرسالة والرياسة استقلالا وكان هارون وزيرا له وكان عليه السلام حمولا لينا جدا ولم يقصد موسى بهذا الأخذ إهانته والاستخفاف به بل اللوم الفعلي على التقصير المظنون بحكم الرياسة وفرط الحمية، والقول بأنه عليه السلام إنما أخذ رأس أخيه ليساره ويستكشف منه كيفية الواقعة مما يأباه
67

الذوق كما لا يخفى على ذويه، ومثله القول بأنه إنما كان لتسكين هارون لما رأى به من الجزع والقلق، وقال أبو علي الجبائي: إن موسى عليه السلام أجرى أخاه مجرى نفسه فصنع به ما يصنع الإنسان به عند شدة الغضب، وقال الشيخ المفيد من الشيعة: إن ذلك للتألم من ضلال قومه وإعلامهم على أبلغ وجه عظم ما فعلوه لينزجروا عن مثله ولا يخفى أن الأمر على هذا من قبيل:
غيري جنى وأنا المعاقب فيكم * فكأنني سبابة المتندم
ولعل ما أشرنا إليه هو الأولى. وجملة * (يجره) * في موضع الحال من ضمير موسى أو من رأس أو من أخيه لأن المضاف جزء منه وهو أحد ما يجوز فيه ذلك، وضعفه أبو البقاء * (قال) * أي هارون مخاطبا لموسى عليه السلام إزاحة لظنه * (ابن أم) * بحذف حرف النداء لضيق المقام وتخصيص الأم بالمذكر مع كونهما شقيقين على الأصح للترقييق، وقيل: لأنها قامت بتربيته وقاست في تخليصه المخاوف والشدائد، وقيل: إن هارون عليه السلام كانت آثار الجمال والرحمة فيه ظاهرة كما ينبىء عنه قوله تعالى: * (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا) * (مريم: 53) وكان مورده ومصدره ذلك، ولذا كان يلهج بذكر ما يدل على الرحمة، ألا ترى كيف تلطق بالقوم لما قدموا على ما قدموا فقال: يا قوم * (إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن) * (طه: 90) ومن هنا ذكر الأم ونسب إليها لأن الرحمة فيها أتم ولولاها ما قدرت على تربية الولد وتحمل المشاق فيها وهو منزع صوفي كما لا يخفى، واختلف في اسم أمهما عليهما السلام فقيل: محيانة بنت يصهر بن لاوى، وقيل: يوحانذ، وقيل: يارخا، وقيل: يازخت، وقيل: غير ذلك، ومن الناس من زعم أن لاسمها رضي الله تعالى عنها خاصية في فتح الأقفال وله رياضة مخصوصة عند أرباب الطلاسم والحروف وما هي إلا رهبانية ابتدعوها ما أنزل الله تعالى بها من كتاب.
وقرأ ابن عامر. وحمزة. والكسائي. وأبو بكر عن عاصم هنا وفي طه * (ابن أم) * بالكسر وأصله ابن أمي فحذفت الياء اكتفاء بالكسرة تخفيفا كالمنادى المضاف إلى الياء.
وقرأ الباقون بالفتح زيادة في التخفيف أو تشبيها بخمسة عشر * (إن القوم) * الذين فعلوا ما فعلوا * (استضعفوني) * أي استذلوني وقهروني ولم يبالوا بي لقلة أنصاري * (وكادوا يقتلونني) * وقاربوا قتلي حين نهيتهم عن ذلك؛ والمراد أني بذلت وسعي في كفهم ولم آل جهدا في منعهم * (فلا تشمت بي الأعداء) * أي فلا تفعل ما يشمتون بي لأجله فإنهم لا يعلمون سر فعلك، والشماتة سرور العدو بما يصيب المرء من مكروه.
وقرىء * (فلا تشمت بي الأعداء) * بفتح حرف المصارعة وضم الميم ورفع الأعداء - حطهم الله تعالى - وهو كناية عن ذلك المعنى أيضا على حد لا أرينك ههنا. والمراد من الأعداء القوم المذكورون إلا أنه أقيم الظاهر مقام ضميرهم ولا يخفى سره * (ولا تجعلني مع القوم الظللمين) * أي لا تجعلني معدودا في عدادهم ولا تسلك بي سلوكك بهم في المعاتبة، أو لا تعتقدني واحدا من الظالمين مع براءتي منهم ومن ظلمهم، فالجعل مثله في قوله تعالى: * (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا) * (الزخرف: 19).
* (قال رب اغفر لى ولأخى وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين) *.
* (قال) * استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية الاعتذار كأنه قيل فماذا قال موسى عليه السلام عند اعتذار أخيه؟ فقيل: قال * (رب اغفر لي) * ما فعلت بأخي قبل جلية الحال وحسنات الأبرار سيئات المقربين * (ولأخي) * إن كان اتصف بما يعد ذنبا
68

بالنسبة إليه في أمر أولئك الظالمين، وفي هذا الضم ترضية له عليه السلام ورفع للشماتة عنه، والقول بأنه عليه السلام استغفر لنفسه ليرضي أخاه ويظهر للشامتين رضاه لئلا تتم شماتتهم به ولأخيه للإيذان بأنه محتاج إلى الاستغفار حيث كان يجب عليه أن يقاتلهم لي فيه توقف ولا يخفى وجهه. * (وأدخلنا) * جميعا..
* (في رحمتك) * الواسعة بمزيد الأنعام علينا، وهذا ما يقتضيه المقابلة بالمغفرة، والعدول عن ارحمنا إلى ما ذكر * (وأنت أرحم الراحمين) * فلا غرو في انتظامنا في سلك رحمتك الواسعة في الدنيا والآخرة، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله، وادعى بعضهم أن فيه إشارة إلى أنه سبحانه استجاب دعاءه وفيه خفاء.
* (إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة فى الحيواة الدنيا وكذالك نجزى المفترين) *.
* (إن الذين اتخذوا العجل) * أي بقوا على اتخاذه واستمروا عليه كالسامري وأشياعه كما يفصح عنه كون الموصول الثاني عبارة عن التائبين فإن ذلك صريح في أن الموصول الأول عبارة عن المصرين * (سينالهم) * أي سيلحقهم ويصيبهم في الآخرة جزاء ذلك * (غضب) * عظيم لا يقادر قدره مستتبع لفنون العقوبات لعظم جريمتهم وقبح جريرتهم * (من ربهم) * أي مالكهم، والجار والمجرور متعلق بينالهم، أو بمحذوف وقع نعتا لغضب مؤكدا لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي كائن من ربهم * (وذلة) * عظيمة * (في الحياة الدنيا) * وهي على ما أقول: الذلة التي عرتهم عند تحريق إلههم ونسفه في أليم نسفا مع عدم القدرة على دفع ذلك عنه، وقيل: هي ذلة الاغتراب التي تضرب بها الأمثال والمسكنة المنتظمة لهم ولأولادهم جميعا، والذلة التي اختص بها السامري من الانفراد عن الناس والابتلاء بلا مساس، وروي أن بقاياهم اليوم يقولون ذلك وإذا مس أحدهم أحد غيرهم حما جميعا في الوقت، ولعل ما ذكرناه أولى والرواية لم نر لها أثرا، وإيراد ما نالهم بالسين للتغليب، وقيل: وإليه يشير كلام أبي العالية المراد بهم التائبون، وبالغضب ما أمروا به من قتل أنفسهم، وبالذلة إسلامهم أنفسهم لذلك واعترافهم بالضلال، واعتذر عن السين بأن ذلك حكاية عما أخبر الله تعالى به موسى عليه السلام حين أخبره بافتتان قومه واتخاذهم العجل فإنه قال له: * (سينالهم غضب) * الخ فيكون سابقا على الغضب، وجعل الكلام جواب سؤال مقدر وذلك أنه تعالى لما بين أن القوم ندموا على عبادتهم العجل بقوله سبحانه: * (ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا) * (الأعراف: 149) والندم توبة ولذلك عقبوه بقولهم: لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا وذكر عتاب موسى لأخيه عليهما السلام ثم استغفاره اتجه لسائل أن يقول: يا رب إلى ماذا يصير أمر القوم وتوبتهم واستغفار نبي الله تعالى وهل قبل الله تعالى توبتهم؟ فأجاب * (إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب) * أي نقم قبل توبة موسى وأخيه وغفر لهما خاصة وكان من تمام توبة القوم أن الله سبحانه أمرهم بقتل أنفسهم فسلموها للقتل، فوضع الذين اتخذوا العجل موضع القوم إشعارا بالعلية. وتعقب بأن سياق النظم الكريم وكذا سباقه ناب عن ذلك نبوا ظاهرا كيف لا وقوله تعالى: * (وكذلك نجزى المفترين) * ينادي على خلافه فإنهم شهداء تائبون فكيف يمكن وصفهم بعد ذلك بالافتراء وأيضا ليس يجزي الله تعالى كل المفترين بهذا الجزاء الذي ظاهره قهر وباطنه لطف ورحمة إلا أن يقال: يكفي في صحة التشبيه وجود وجه الشبه في الجملة ولا بد من التزام ذلك على الوجه الذي ذكرناه أيضا؛ وما ذكر في
69

تحرير السؤال والجواب مما تمجه أسماع ذوي الألباب.
وقال عطية العوفي: المراد سينال أولاد الذين عبدوا العجل وهم الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأريد بالغضب والذلة ما أصاب بني النضير وقريظة من القتل والجلاء، أو ما أصابهم من ذلك ومن ضرب الجزية عليهم، وفي الكلام على هذا حذف مضاف وهو الأولاد، ويحتمل أن لا يكون هناك وهو من تعيير الأبناء بما فعل الآباء، ومثله في القرآن كثير. وقيل: المراد بالموصول المتخذون حقيقة وبالضمير في ينالهم أخلافهم وبالغضب الغضب الأخروي وبالذلة الجزية التي وضعها الإسلام عليهم أو الأعم منها ليشمل ما ضربه بختنصر عليهم. وتعقب ذلك أيضا بأنه لا ريب في أن توسيط حال هؤلاء في تضاعيف بيان حال المتخذين من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه، والمراد بالمفترين المفترون على الله تعالى، وافتراء أولئك عليه سبحانه قول السامري في العجل هذا إلهكم وإله موسى ورضاهم به ولا أعظم من هذه الفرية ولعله لم يفتر مثلها أحد قبلهم ولا بعدهم. وعن سفيان بن عيينة أنه قال: كل صاحب بدعة ذليل وتلا هذه الآية.
* (والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وءامنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم) *.
* (والذين عملوا السيئات) * أي سيئة كانت لعموم المغفرة ولأنه لا داعي للتخصيص * (ثم تابوا) * عنها * (من بعدها) * أي من بعد عملها وهو تصريح بما تقتضيه ثم * (وءامنوا) * أي واشتغلوا بالإيمان وما هو مقتضاه وبه وتمامه من الأعمال الصالحة ولم يصروا على ما فعلوا كالطائفة الأولى، وهو عطف على تابوا، ويحتمل أن يكون حالا بتقدير قد، وإيا ما كان فهو على ما قيل: من ذكر الخاص بعدم العام للاعتناء به لأن التوبة عن الكفر هي الإيمان فلا يقال: التوبة بعد الإيمان كيف جاءت قبله. وقيل: حيث كان المراد بالإيمان ما تدخل فيه الأعمال يكون بعد التوبة. وقيل: المراد به هنا التصديق بأن الله تعالى يغفر للتائب أي ثم تابوا وصدقوا بأن الله تعالى يغفر لمن تاب * (إن ربك من بعدها) * أي من بعد التوبة المقرونة بما لا تقبل بدونه وهو الإيمان، ولم يجعل الضمير للسيئات لأنه كما قال بعض المحققين لا حاجة له بعد قوله سبحانه: * (ثم تابوا من بعدها) * لا لأنه يحتاج إلى حذف مضاف ومعطوف من عملها والتوبة عنها لأنه لا معنى لكونه بعدها إلا ذلك * (لغفور) * لذنوبهم وإن عظمت وكثرت * (رحيم) * مبالغ في إفاضة فنون الرحمة عليهم، والموصول مبتدأ وجملة * (إن ربك) * الخ خبر والعائد محذوف، والتقدير - عند أبي البقاء - لغفور لهم رحيم بهم، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة لضميره عليه الصلاة والسلام للتشريف، وقيل: الخطاب للتائب، ولا يخفى لطف ذلك أيضا، وفي الآية إعلام بأن الذنوب وإن جلت وعظمت فإن عفو الله تعالى وكرمه أعظم وأجل، وما ألطف قول أبي نواس غفر الله تعالى له: يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة *
فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن * فبمن يلوذ ويستجير المجرم
ومما ينسب للإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي * جعلت الرجا ربي لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته * بعفوك ربي كان عفوك أعظما
70

ويعجبني قول بعضهم: وما أولى هذا المذنب به: أنا مذنب أنا مخطىء أنا عاصي * هو غافر هو راحم هو عافي
قابلتهن ثلاثة بثلاثة * وستغلبن أوصافه أوصافي
* (ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الالواح وفى نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون) *.
* (ولما سكت عن موسى الغضب) * شروع في بيان بقية الحكاية أثر ما بين تحزب القوم إلى مصر وتائب، والإشارة ما لكل منهما إجمالا، أي ولما سكت عنه الغضب باعتذار أخيه وتوبة القوم، وهذا صريح في أن ما حكى عنهم من الندم وما بتفرع عليه كان بعد مجىء موسى عليه السلام، وقيل: المراد ولما كسرت سورة غضبه عليه السلام وقل غيظه باعتذار أخيه فقط لا أنه زال غضبه بالكلية لأن توبة القوم ما كانت خالصة بعد، وأصل السكوت قطع الكلام، وفي الكلام استعارة مكنية حيث شبه الغضب بشخص ناه آمر وأثبت له السكوت على طريق التخييل، وقال السكاكي: إن فيه استعارة تبعية حيث شبه سكون الغضب وذهاب حدته بسكون الآمر الناهي والغضب قرينتها، وقيل: الغضب استعارة بالكناية عن الشخص الناطق والسكوت استعارة تصريحية لسكون هيجانه وغليانه فيكون في الكلام مكنية قرينتها تصريحية لا تخييلية، وإيا ما كان ففي الكلام مبالغة وبلاغة لا يخفى علو شأنهما، وقال الزجاج: مصدر سكت الغضب السكتة ومصدر سكت الرجل السكوت وهو يقتضي أن يكون سكت الغضب فعلا على حدة؛ وقيل ونسب إلى عكرمة: إن هذا من القلب وتقديره ولما سكت موسى عن الغضب، ولا يخفى أن السكوت كان أجمل بهذا القائل إذ لا وجه لما ذكره.
وقرأ معاوية بن قرة * (سكن) * والمعنى على ذلك ظاهر إلا أنه على قراءة الجمهور أعلى كعبا عند كل ذي طبع سليم وذوق صحيح، وقرىء * (سكت) * بالبناء لما لم يسم فاعله والتشديد للتعدية و * (أسكت) * بالبناء لذلك أيضا على أن المسكت هو الله تعالى أو أخوه أو التائبون * (أخذ الألواح) * التي ألقاها * (وفي نسختها) * أي فيما نسخ فيها وكتب، ففعلة بمعنى مفعول كالخطبة، والنسخ الكتابة، والإضافة بيانية أو بمعنى في، وإلى هذا ذهب الجبائي وأبو مسلم وغيرهما، وقيل: معنى منسوخة ما نسخ فيها من اللوح المحفوظ، وقيل: النسخ هنا بمعنى النقل، والمعنى فيما نقل من الألواح المنكسرة. وروي عن ابن عباس. وعمرو بن دينار أن موسى عليه السلام لما ألقى الألواح فتكسر منها ما تكسر صام أربعين يوما فرد عليه ما ذهب في لوحين وفيهما ما في الأول بعينه فكأنه نسخ من الأول * (هدى) * أي بيان للحق عظيم * (ورحمة) * جليلة بالإرشاد إلى ما فيه الخير والصلاح * (للذين هم لربهم يرهبون) * أي يخافون أشد الخوف، واللام الأولى متعلقة بمحذوف وقع صفة لما قبله أو هي لام الرجل أي هدى ورحمة لأجلهم، والثانية لتقوية عمل الفعل المؤخر كما في قوله سبحانه: * (إن كنتم للرؤيا تعبرون) * (يوسف: 43) أو هي لام العلة والمفعول محذوف أي يرهبون المعاصي لأجل ربهم لا للرياء والسمعة، واحتمال تعلقها بمحذوف أي يخشون لربهم كما ذهب إليه أبو البقاء بعيد.
* (واختار موسى قومه سبعين رجلا لميق‍اتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإي‍اى أتهلكنا بما فعل السفهآء منآ إن هى إلا فتنتك تضل بها من تشآء وتهدى من تشآء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغ‍افرين) *.
* (واختار موسى قومه) * تتمة لشرح أحوال بني إسرائيل، وقال البعض: إنه شروع في بيان كيفية استدعاء التوبة وكيفية وقوعها * (واختار) * يتعدى إلى اثنين ثانيهما مجرور بمن وقد حذفت هنا وأوصل الفعل والأصل من قومه، ونحوه قول الفرزدق:
71

منا الذي اختير الرجال سماحة * وجودا إذا هب الرياح الزعازع
وقوله الآخر: فقلت له: اخترها قلوصا سمينة * ونابا علا بامثل نابك في الحيا
وقوله سبحانه: * (سبعين رجلا) * مفعول أول لاختار على المختار وأخر عن الثاني لما مر مرارا، وقيل: بدل بعض من كل، ومنعه الأكثرون بناءا على أن المبدل منه في نية الطرح والاختيار لا بد له من مختار ومختار منه وبالطرح يسقط الثاني، وجوزه أبو البقاء على ضعف ويكون التقدير سبعين منهم، وقيل: هو عطف بيان * (لميقاتنا) * ذهب أبو علي. وأبو مسلم وغيرهما من مفسري السنة والشيعة إلى أنه الميقات الأول وهو الميقات الكلامي قالوا: إنه عليه السلام اختار لذلك من اثني عشر سبطا من كل سبط ستة حتى تتاموا اثنين وسبعين فقال عليه السلام: ليتخلف منكم رجلان فتشاحوا فقال: لمن قعد منكم مثل أجر من خرج فقعد كالب ويوشع، وروي أنه لم يصب إلا ستين شيخا فأوحى الله تعالى أن يختار من الشبان عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخا، وقيل: كانوا أبناء ما عدا العشرين ولم يتجاوزوا الأربعين فذهب عنهم الجهل والصبا فأمرهم موسى عليه السلام أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم ثم خرج بهم إلى طور سيناء فلما دنا من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله ودنا موسى ودخل فيه، وقال للقوم: ادنوا فدنوا حتى إذا دخلوا الغمام وقعوا سجدا فسمعوه وهو سبحانه يكلم موسى يأمره وينهاه افعل ولا تفعل ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه فطلبوا الرؤية فوعظهم وكان ما كان، وذهب آخرون وهو المروى عن الحسن إلى أنه غير الميقات الأول قالوا: إن الله سبحانه أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في أناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل فاختار من اختاره فلما أتوا الطور قالوا ما قالوا، وروي ذلك عن السدي، وعن ابن إسحاق أنه عليه السلام إنما اختارهم ليتوبوا إلى الله تعالى ويسألوه التوبة على من تركوا وراءهم من قومهم. ورجح ذلك الطيبي مدعيا أن الأول خلاف نظم الآيات وأقوال المفسرين
. أما الأول فلما قال الإمام: إنه تعالى ذكر قصة ميقات الكلام وطلب الرؤية ثم أتبعها بقصة العجل وما يتصل بها فظاهر الحال أن تكون هذه القصة مغايرة للمتقدمة إذ لا يليق بالفصاحة ذكر بعض القصة ثم النقل إلى أخرى ثم الرجوع إلى الأولى وإنه اضطراب يصان عنه كلامه تعالى، وأيضا ذكر بعض القصة ثم النقل إلى أخرى ثم الرجوع إلى الأولى وإنه اضطراب يصان عنه كلامه تعالى، وأيضا ذكر في الأولى خرور موسى عليه السلام صعقا، وفي الثانية قوله بعد أخذ الرجفة: * (لو شئت أهلكتهم) *، وأيضا لو كانت الرجفة بسبب طلب الرؤية لقيل: أتهلكنا بما قال السفهاء وضم إليه الطيبي أنه تعالى حيث ذكر صاعقتهم لم يذكر صعق موسى عليه السلام وبالعكس فدل على التغاير، وأما الثاني فلما نقل عن السدي مما ذكرناه آنفا، وتعقب ما ذكر في الترجيح أولا صاحب الكشف بأن الإنصاف أن المجموع قصة واحدة في شأن ما من على بني إسرائيل بعد إنجائهم من تحقيق وعد إيتاء الكتاب وضرب ميقاته وعبادة العجل وطلب الرؤية كان في تلك الأيام، وفي ذلك الشأن فالبعض مربوط بالبعض بقي إيثار هذا الأسلوب وهو بين لأن الأول في شأن الامتنان عليهم وتفضيلهم كيف وقد عطف * (واعدنا) * على * (أنجيناكم) * وقد بين أنه تبيين للتفضيل، وتعقيب حديث الرؤية مستطرد للفرق بين الطلبين عندنا وليلقمهم الحجر عند المعتزلي. والثاني في شأن جنايتهم بعد ذلك الإحسان البالغ باتخاذ العجل والملاحة والافتراق من لوازم النظم، وتعقب ما ذكر فيه ثانيا بأن قول السدي وحده لا يصلح ردا كيف وهذا يخالف ما نقله محيي السنة في قوله سبحانه:
72

* (لو شئت أهلكتهم) * إنهم كانوا له وزراء مطيعين فاشتد عليه عليه السلام فقدهم فرحمهم وخاف عليهم الفوت وأين * (لن نؤمن لك) * من الطاعة وحسن الاستئزار قال: ثم الظاهر من قوله تعالى: * (فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل) * (النساء: 153) إن اتخاذ العجل متأخر عن مقالتهم تلك خلاف ما نقل عن السدي والحمل على تراخي الرتبة لا بد له من سند كيف ولا ينافي التراخي الزماني فلا بد من دليل يخصه به، هذا وقد اعترف المفسرون في سورة طه بأنه اختار سبعين لميقات الكلام ذكروه في قوله تعالى: * (وما أعجلك عن قومك يا موسى) * (طه: 83) وما اعتذر عنه الطيبي بأن اختيار السبعين كان مرتين وليس في النقل أنهم كانوا معه عند المكالمة وطلب الرؤية فظاهر للمنصف سقوطه انتهى.
وذكر القطب في توهين ما نقل عن السدي بأن الخروج للاعتذار إن كان بعد قتل أنفسهم ونزول التوبة فلا معنى للاعتذار، وإن كان قبل قتلهم فالعجب من اعتذار ثمرته قتل الأنفس، ثم قال: ولا ريب أن قصة واحدة تتكرر في القرآن يذكر في سورة بعضها، وفي أخرى بعض أخر وليس ذلك إلا لتكرار اعتبار المعتبرين بشيء من تلك القصة فإذا جاز ذكر قصة في سور متعددة في كل سورة شيء منها فلم لا يجوز ذلك في مواضع من سورة واحدة لتكرر الاعتبار ا ه‍، وهو ظاهر في ترجيح ما ذهب إليه الأولون، وأنا أقول: إن القول بأن هذا الميقات هو الميقات الأول ليس بعاطل من القول وبه قال جمع كما أشرنا إليه، وكلامنا في البقرة ظاهر فيه إلا أن الإنصاف أن ظاهر النظم هنا يقتضي أنه غيره وما ذكره صاحب الكشف لا يقتضي أنه ظاهر في خلافه، وإلى القول بالغيرية ذهب جل من المفسرين. فقد أخرج عبد بن حميد من طريق أبي سعد عن مجاهد أن موسى عليه السلام خرج بالسبعين من قومه يدعون الله تعالى ويسألونه أن يكشف عنهم البلاء فلم يستجب لهم فعلم موسى أنهم أصابوا من المعصية ما أصاب قومهم، قال أبو سعد: فحدثني محمد بن كعب القرظي أنه لم يستجب لهم من أجل أنهم لم ينهوهم عن المنكر ولم يأمروهم بالمعروف.
وأخرج عبد بن حميد عن الفضل بن عيسى بن أخي الرقاشي أن بني إسرائيل قالوا ذات يوم لموسى عليه السلام ألست ابن عمنا ومنا وتزعم أنك كلمت رب العزة؟ فإنا * (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) * (البقرة: 55) فلما أبوا إلا ذلك أوحى الله تعالى إلى موسى أن اختر من قومك سبعين رجلا فاختار سبعين خيرة ثم قال لهم: اخرجوا فلما برزوا جاءهم ما لا قبل لهم به الخبر. وهو ظاهر في أن هذا الميقات ليس هو الأول. نعم إنه مخالف لما روي عن السدي لكنهما متفقان على القول بالغيرية ويوافق السدي في ذلك الحسن أيضا فليس هو متفردا بذلك كما ظنه صاحب الكشف، وما ذكره من مخالفة كلام السدي لما نقله محيي السنة في حيز المنع، وقوله: فإنا لن نؤمن لك الخ يظهر جوابه مما ذكرناه في البقرة عند هذه الآية من الاحتمالات، والقول بأن الاختيار كان مرتين غير بعيد وبه قال بعضهم، وما ذكره القطب من الترديد في الخروج للاعتذار ظاهر بعض الروايات عن السدي يقتض تعين الشق الأول منه. فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال: انطلق موسى إلى ربه فكلمه فلما كلمه قال: * (ما أعجلك عن قومك يا موسى) * (طه: 83) فأجابه موسى بما أجابه فقال سبحانه: * (فإنا قد فتنا قومك) * (طه: 85) الآية فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا فأبى الله تعالى أن يقبل توبتهم إلا بالحال التي كرهوا ففعلوا ثم أن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون من عبادة العجل فوعدهم موعدا فاختار موسى سبعين
73

رجلا الخ وهو كما ترى ظاهر فيما قلناه، والقول بأنه لا معنى للاعتذار بعد قل أنفسهم ونزول التوبة أجيب عنه بأن المعنى يحتمل أن يكون طلبا لزيادة الرضى واستنزال مزيد الرحمة، ويحتمل أن يكونوا أمروا بذلك تأكيدا للإيذان بعظم الجناية وزيادة فيه وإشارة إلى أنه بلغ مبلغا في السوء لا يكفي في العفو عنه قتل الأنفس بل لا بد فيه مع ذلك الاعتذار، ويمكن أن يقال إنه كان قبل قتلهم أنفسهم: والسر في أنهم أمروا به أن يعلموا أيضا عظم الجناية على أتم وجه بعدم قبوله والله تعالى أعلم * (فلما أخذتهم الرجفة) * أي الصاعقة أو رجفة الجبل فصعقوا منها والكثير على أنهم ماتوا جميعا ثم أحياهم الله تعالى، وقيل: غشي عليهم ثم أفاقوا وذلك لأنهم قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة على ما في بعض الروايات أو ليتحقق عند القائلين ذلك من قومهم مزيد عظمته سبحانه على ما في البعض الآخر منها، أو لمجرد التأديب على ما في خبر القرظي، والظاهر أن قولهم: لن نؤمن الخ صدر منهم في ذلك المكان لا بعد الرجوع كما قيل: ونقلناه في البقرة وحينئذ يبعد على ما قيل القول بأن هذا الميقات هو الميقات الأول لأن فيه طلب موسى عليه السلام الرؤية بعد كلام الله تعالى له من غير فصل على ما هو الظاهر فكون هذا الطلب بعده، وبعيد أن يطلبوا ذلك بعد أن رأوا ما وقع لموسى عليه السلام. وما أخرجه ابن أبي الدنيا: وابن جرير وغيرهما عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: لما حضر أجل هارون أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن انطلق أنت وهارون وابنه إلى غار في الجبل فإنا قابضو روحه فانطلقوا جميعا فدخلوا الغار فإذا سرير فاضطجع عليه موسى ثم قام عنه فقال: ما
أحسن هذا المكان يا هارون فاضطجع عليه هارون فقبض روحه فرجع موسى وابن أخه إلى بني إسرائيل حزينين فقالوا له: أين هارون: قال مات؟ قالوا: بل قتلته كنت تعلم إنا نحبه فقال لهم: ويلكم أقتل أخي وقد سألته الله تعالى وزيرا ولو أني أردت قتله أكان ابنه يدعني. قالوا بلى: قتلته حسدا، قال: فاختاروا سبعين رجلا فانطلق بهم فمرض رجلان في الطريق فخط عليهما خطا فانطلق هو وابن هارون. وبنو إسرائيل حتى انتهوا إلى هارون فقال: يا هارون من فتلك؟ قال: لم يقتلني أحد ولكني مت قالوا: ما تعصى يا موسى ادع لنا ربك يجعلنا أنبياء فأخذتهم الرجفة فصعقوا وصعق الرجلان اللذان خلفوا وقام موسى عليه السلام يدعو ربه فأحياهم الله تعالى فرجعوا إلى قومهم أنبياء لا يكاد يصح فيما أرى لتظافر الآثار بخلافه وإباء ظواهر الآيات عنه.
* (قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل) * عرض للعفو السابق لاستجلاب العفو اللاحق يعني أنك قدرت على إهلاكهم قبل ذلك بحمل فرعون على إهلاكهم وبإغراقهم في البحر وغيرهما فترحمت عليهم ولم تهلكهم فارحمهم الآن كما رحمتهم من قبل جريا على مقتضى كرمك وإنما قال: * (وإي‍اي) * تسليما منه وتواضعا، وقيل: أراد بقوله: * (من قبل) * حين فرطوا في النهي عن عبادة العجل وما فارقوا عبدته حين شاهدوا إصرارهم عليها أي لو شئت إهلاكهم بذنوبهم إذ ذاك وإياي أيضا حين طلبت منك الرؤية، وقيل: حين قتل القبطي لأهلكتنا، وقيل: هو تمن منه عليه السلام للإهلاك جميعا بسبب محبته أن لا يرى ما يرى من مخالفتهم له مثلا أو بسبب آخر وفيه دغدغة * (أتهلكنا بما فعل السفهاء منا) * من العناد وسوء الأدب أو من عبادة العجل، والهمزة إما لإنكار وقوع الإهلاك ثقة بلطف الله عز وجل كما قال ابن الأنباري أو
74

للاستعطاف كما قال المبرد أي لا تهلكنا، وإيا ما كان فهو من مقول موسى عليه السلام كالذب قبله، وقول بعضهم: كان ذلك قاله بعضهم غير ظاهر ولا داعي إليه، والقول بأن الداعي ما فيه من التضجر الذي لا يليق بمقام النبوة لا يخفى ما فيه، ولعل مراد القائل بذلك أن هذا القول من موسى عليه السلام يشبه قول أحد السبعين فكأنه قاله على لسانهم لأنهم الذين أصيبوا بما أصيبوا به دوه فافهم * (إن هي إلا فتنتك) * استئناف مقرر لما قبله واعتذار عما وقع منهم وإن نافية وهي للفتنة المعلومة للسياق أي ما الفتنة إلا فتنتك أي محنتك وابتلاؤك حيث أسمعتهم كلامك فطمعوا في رؤيتك واتبعوا القياس في غير محله أو أوجدت في العجل خوارا فزاغوا به.
أخرج ابن أبي حاتم عن راشد بن سعد أن الله تعالى لما قال لموسى عليه السلام: إن قومك اتخذوا عجلا جسدا له خوار قال: يا رب فمن جعل فيه الروح؟ قال: أنا قال: فأنت أضببتهم يا رب قال: يا رأس النبيين يا أبا الحكماء إني رأيت ذلك في قلوبهم فيسرته لهم، ولعل هذا اشارة إلى الاستعداد الأزلي الغير المجعول. وقيل: الضمير راجع على الرجفة أي ما هي إلا تشديدك التعبد والتكلف علينا بالصبر على ما أنزلته بنا، وروي هذا عن الربيع. وابن جبير. وأبي العالية، وقيل: الضمير لمسألة الإراءة وإن لم تذكر.
* (تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء) * استئناف مبين لحكم الفتنة، وقيل: حال من المضاف إليه أو المضاف أي تضل بسببها من تشاء إضلاله بالتجاوز عن الحد أو باتباع المخايل أو بنحو ذلك وتهدي من تشاء هداه فيقوى بها إيمانه، وقيل: المعنى تصيب بهذه الرجفة من تشاء وتصرفها عمن تشاء، وقيل: تضل بترك الصبر على فتنتك وترك الرضا بها من تشاء عن نيل ثوابك ودخول جنتك وتهدي بالرضا لها والصبر عليها من تشاء وهو كما ترى * (أنت ولينا) * أي أنت القائم بأمورنا الدنيوية والأخروية لا غيرك * (فاغفر لنا) * ما يترتب عليه مؤاخذتك * (وارحمنا) * بإفاضة آثار الرحمة الدنيوية والأخروية علينا، والفاء لترتيب الدعاء على ما قبله من الولاية لأن من شأن من يلى الأمور ويقوم بها دفع الضر وجلب النفع، وقدم طلب المغفرة على طلب الرحمة لأن التخلية أهم من التحلية، وسؤال المغفرة لنفسه عليه السلام في ضمن سؤالها لمن سألها له مما لا ضير فيه وإن لم يصدر منه نحو ما صدر منه كما لا يخفى، والقول بأن إقدامه عليه السلام على أن يقول: * (إن هي إلا فتنتك) * جرأة عظيمة فطلب من الله تعالى غفرانها والتجاوز عنها مما يأباه السوق عند أرباب الذوق، ولا أظن أن الله تعالى عد ذلك ذنبا منه ليستغفره عنه، وفي ندائه السابق ما يؤيد ذلك. * (وأنت خير الغفارين) * إذا كل غافر سواك إنما يغفر لغرض نفساني كحب الثناء ودفع الضرر وأنت تغفر لا لطلب عوض ولا غرض بل لمحض الفضل والكرم، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبل، وتخصيص المغفرة بالذكر لأنها الأهم.
وفسر بعضهم ما ذكر بغفران السيئة وتبديلها بالحسنة ليكون تذييلا لأغفر وارحم معا.
* (واكتب لنا فى ه‍اذه الدنيا حسنة وفي الاخرة إنا هدنآ إليك قال عذابىأصيب به من أشآء ورحمتى وسعت كل شىء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكواة والذين هم بااي‍اتنا يؤمنون) *.
* (واكتب لنا) * أي أثبت واقسم لنا * (في هذه الدنيا) * التي عرانا فيها ما عرانا * (حسنة) * حياة طيبة وتوفيقا للطاعة.
وقيل: ثناءا جميلا وليس بجميل، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد اقبل وفادتنا وردنا بالمغفرة والرحمة * (وفي الآخرة) * أي واكتب لنا أيضا في الآخرة حسنة وهي المثوبة الحسنى والجنة.
قيل: إن هذا كالتأكيد لقوله: اغفر وارحم * (إنا هدنا إليك) * أي تبنا إليك من هاد يهود إذا رجع
75

وتاب كما قال: إني امرىء مما جنيت هائد
ومن كلام بعضهم: يا راكب الذنب هدهد * واسجد كأنك هدهد
وقيل: معناه مال، وقرأ بن علي رضي الله تعالى عنهما * (هدنا) * بكسر الهاء من هاد يهيد إذا حرك، وأخرج ابن المنذر. وغيره عن أبي وجرة السعدي أنه أنكر الضم وقال: والله لا أعلمه في كلام أحد من العرب وإنما هو هدنا بالكسر أي ملنا وهو محجوج بالتواتر، وجوز على هذه القراءة أن يكون الفعل مبنيا للفاعل والمفعول
بمعنى حركنا أنفسنا أو حركنا غيرنا، وكذا على قراءة الجماعة، والبناء للمفعول عليها على لغة من يقول: عود المريض، ولا بأس بذلك إذا كان الهود بمعنى الميل سوى أن تلك لغة ضعيفة، وممن جوز الأمرين على القراءتين الزمخشري. وتعقبه السمين بأنه متى حصل الالتباس وجوب أن يأتي بحركة تزيله فيقال: عقت إذا عاقك غيرك بالكسر فقط أو الاشمام إلا أن سيبويه جوز في نحو قيل الأوجه الثلاثة من غير احتراز، والجملة تعليل لطلب المغفرة والرحمة، وتصديرها بحرف التحقيق لاظهار كمال النشاط والرغبة في مضمونها * (قال) * استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال الله تعالى له بعد دعائه؟ فقيل: قال: * (عذابي أصيب به من أشاء) * أي شأني أصيب بعذابي من أشاء تعذيبه من غير دخل لغيري فيه. وقرأ الحسن. وعمرو الأسود * (من أساء) * بالسين المهملة ونسبت إلى زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وأنكر بعضهم صحتها * (ورحمتي وسعت كل شيء) * أي شأنها أنها واسعة تبلغ كل شيء ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في الدنيا بنعمتي، وفي نسبة الإصابة إلى العذاب بصيغة المضارع ونسبة السعة إلى الرحمة بصيغة الماضي إيذان بأن الرحمة مقتضي الذات وأما العذاب فمقتضى معاصي العباد، والمشيئة معتبرة في جانب الرحمة أيضا، وعدم التصريح بها قيل: تعظيما لأمر الرحمة، وقيل: للاشعار بغاية الظهور، ألا ترى إلى قوله تعالى: * (فسأكتبها) * فإنه متفرع على اعتبار المشيئة كما لا يخفى، كأنه قيل: فإذا كان الأمر كذلك أي كما ذكر من إصابة عذابي وسعة رحمتي لكل من أشاء فسأثبتها إثباتا خاصا * (للذين يتقون) * أي الكفر والمعاصي أما ابتداءا أو بعد الملابسة * (ويؤتون الزك‍اوة) * المفروضة عليهم في أموالهم وقيل المعنى يطيعون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والظاهر خلافه، وتخصيص إيتاء الزكاة بالذكر مع اقتضاء التقوى له للتعريض بقوم موسى عليه السلام لأن كان شاقا عليهم لمزيد حبهم للدنيا، ولعل الصلاة إنما لم تذكر مع انافتها على سائر العبادات وكونها عماد الدين اكتفار منها بالاتقاء الذي هو عبارة عن فعل الواجبات بأسرها وترك المنهيات عن آخرها * (والذين هم بآياتنا) * كلها كما يفيده الجمع المضاف * (يؤمنون) * إيمانا مستمرا من غير اخلال بشيء منها، وتكرير الموصول مع أن المراد به عين ما أريد بالموصول الأول دون أن يقال ويؤمنون بآياتنا عطفا على ما قبله كما سلك في سابقه قيل: لما أشير إليه من القصر بتقديم الجار والمجرور أي هم بجميع آياتنا يؤمنون لا ببعضها دون بعض، وفيه تعرض بمن آمن ببعض وكفر ببعض كقوم موسى عليه السلام.
واختلف في توجيه هذا الجواب فقال شيخ الإسلام: لعل الله تعالى حين جعل توبة عبدة العجل بقتلهم أنفسهم وكان الكلام الذي أطمع السبعين في الرؤية في ذلك ضمن موسى عليه السلام دعاءه التخفيف والتيسير
76

حيث قال: * (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة) * أي خصلة حسنة عارية عن المشقة والشدة فإن في القتل من العذاب الشديد ما لا يخفى فأجابه سبحانه بأن عذابي أصيب به من أشاء وقومك ممن تناولته مشيئتي ولذلك جعلت توبتهم مشوبة بالعذاب الدنيوي ورحمتي وسعت كل شيء وقد نال قومك نصيب منها في ضمن العذاب الدنيوي وسأكتب الرحمة خالصة غير مشوبة بالعذاب الدنيوي كما دعوت لمن صفتهم كيت وكيت لا لقومك لأنهم ليسوا كذلك فيكفيهم ما قدر لهم من الرحمة وإن كانت مقارنة العذاب، وعلى هذا فموسى عليه السلام لم يستجب له سؤاله في قومه ومن الله تعالى بما سأله على من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وفي بعض الآثار أنه عليه السلام لما أجيب بما ذكر قال: أتيتك يا رب بوفد من بني إسرائيل فكانت وفادتنا لغيرنا. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما دعا موسى ربه سبحانه فجعل دعاءه لمن آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام واتبعه، وفي رواية أخرى رواها جمع عنه سأل موسى ربه مسألة فاعطاها محمدا صلى الله عليه وسلم وتلا الآية، لكن لا يخفى أن ما قرره هذا الشيخ بعيد. وقال صاحب الكشف في ذلك: كأنه لما سأل موسى عليه السلام لنفسه ولقومه خير الدارين أجيب بأن عذابي لغير التائبين ان شئت ورحمتي الدنيوية تعم التائب وغيره وأما الجمع بين الرحمتين فهو للمستعدين فإن تاب من دعوت لهم وثبتوا كأعقابهم نالتهم الرحمة الخاصة الجامعة وأثر فيهم دعاؤك وإن داوموا على ما هم فيه بعدوا عن القبول، والغرض ترغيبهم على الثبات على التوبة والعمل الصالح وتحذيرهم عن المعاودة عما فرط منهم مع التخلص إلى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم والحث على اتباعه أحسن تخلص وحث يحير الألباب ويبدي للمتأمل فيه العجب العجاب، وإلى بعض هذا يشير كلام الزمخشري.
وقال العلامة الطيبي في توجيهه: إن هذا الجواب وارد على الأسلوب الحكيم، وقوله سبحانه: * (عذابي) * الخ كالتمهيد للجواب، والجواب * (فسأكتبها) * الخ، وذلك أن موسى عليه السلام طلب الغفران والرحمة والحسنة في الدارين لنفسه ولأمته خاصة بقوله: * (واكتب لنا) * وعلله بقوله: * (أنا هدنا إليك) * فأجابه الرب سبحانه بأن تقييدك المطلق ليس من الحكمة فإن عذابي من شأنه أنه تابع لمشيئتي فأمتك لو تعرضوا لما اقتضت الحكمة تعذيب من باشره لا ينفعهم دعاؤك لهم وإن رحمتي من شأنها أن تعم في الدنيا الخلق صالحهم وطالحهم مؤمنهم وكافرهم فالحسنة الدنيوية عامة فلا تختص بأمتك فتخصيصها تحجير للواسع وأما الحسنة الأخروية فهي للموصوفين بكذا وكذا، وجعل * (فسأكتبها) * كالقول بالموجب لأنه عليه السلام طلب ما طلب وجعل العلة ما جعل فضم الله تعالى ما ضم، يعني أن الذي يوجب اختصاص الحسنتين معا هذه الصفات المتعددة لا التوبة المجردة، ثم ذكر أن ترتيب هذا على ما قبله بالفاء على منوال قوله تعالى جوابا عن قول إبراهيم عليه السلام: * (ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) * (البقرة: 124) وأيد هذا التقرير بما روي عن الحسن. وقتادة وسعت رحمته في الدنيا البر والفاجر وهي يوم القيامة للمتقين خاصة ا ه‍ ما أريد منه، وما ذكره من حديث التحجر في القلب منه شيء فإن الظاهر أن ما في دعاء موسى عليه السلام ليس منه وإنما التحجر في مثل ما أخرجه أحمد. وأبو داود عن جندب عن عبد الله البجلي قال: " جاء اعرابي فأناخ راحلته ثم عقلها وصلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نادى اللهم ارحمني ومحمدا ولا تشرك في رحمتنا أحدا فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: لقد حظرت رحمة واسعة إن الله خلق مائة رحمة فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنها وانسها وبهائمها وعنده تسعة وتسعون ". وأنا أقول:
77

قد يقال: إن موسى عليه السلام إنما طلب على أبلغ وجه المغفرة والرحمة الدنيوية والأخروية له ولقومه وتعليل ذلك بالتوبة مما لا شك في صحته، ولا يفهم من كلامه
عليه السلام أنه طلب للقوم كيف كانوا وفي أي حالة وجدوا وعلى أي طريقة سلكوا فإن ذلك مما لا يكاد يقع ممن له أدنى معرفة بربه فضلا عن مثله عليه السلام، وإنما هذا الطلب لهم من حيث إنهم تائبون راجعون إليه عز شأنه، ولا يبعد أن يقال باستجابة دعائه بذلك بل هي أمر مقطوع به بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم؛ وكيف يشك في أنه غفر له ورحم وأوتي خير الدارين وهو - هو - وأما بالنسبة إلى قومه فالظاهر أن التائب منهم أوتي خير الآخرة لأن هذه التوبة إن كانت هي التوبة بالقتل فقد جاء عن الزهري أن الله تعالى أوحي إلى موسى بعد أن كان ما كان ما يحزنك؟ أما من قتل منكم فحي يرزق عندي وأما من بقي فقد قبلت توبته فسر بذلك موسى وبنو اسرائيل، وإن كانت غيرها فمن المعلوم أن التوبة تقبل بمقتضى الوعد المحتوم، وخير من قبلت توبته في الآخرة كثير، وأما خير الدنيا فقد نطقت الآيات بأن القوم غرقي فيه، ويكفي في ذلك قوله تعالى: * (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين) * (البقرة: 47).
وحينئذ فيمكم أن يقال في توجيه الجواب: أنه سبحانه لما رأى من موسى عليه السلام شدة القلق والاضطراب ولهذا بالغ في الدعاء خشية من طول غضبه تعالى على من يشفق عليه من ذلك سكن جل شأنه روعته وأجاب طلبته بأسلوب عجيب، وطريق بديع غريب فقال سبحانه له: * (عذابي) * أي الذي تخشى أن تصيب بعض نباله التي أرميها بيد جلالي عن قسى إرادتي من دعوت له أصيب به من أشاء فلا يتعين قومك الذين تخشى عليهم ما تخشى لأن يكون غرضا له بعد أن تابوا من الذنب وتركوا فعله * (ورحمتى وسعت كل شيء) * إنسانا كان أو غيره مطيعا كان أو غيره فما من شيء إلا وهو داخل فيها سابح في تيارها أو سايح في فيافيها بل ما من معذب إلا ويرشح عليه ما يرشح منها ولا أقل من أني لم أعذبه بأشد مما هو فيه مع قدرتي عليه فطب نفسا وقرعينا فدخول قومك في رحمة وسعت كل شيء ولم تضق عن شيء أمر لا شك فيه ولا شبهة تعتريه كيف وقد هادوا إلى ووفدوا على أفتري أني أضيق الواسع عليهم وأوجه نبال الخيبة إليهم وأردهم بخفى حنين فيرحع كل منهم صفر الكفين؟ لا أراني أفعل بل إني سأرحمهم وأذخب عنهم ما أهمهم وأكتب الحظ الأوفر من رحمتي لأخلافهم الذين يأتون آخر الزمان ويتصفون بما يرضيني ويقومون بأعباء ما يراد منهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله سبحانه: * (فسأكتبها للذين يتقون) * الخ، ولعل تقديم وصف العذاب دون وصف الرحمة ليفرغ ذهنه عليه السلام مما يخاف منه مع أن في عكس هذا الترتيب ما يوجب انتشار النظم الكريم؛ ووصف أخلاقهم بما وصفوا به لاستنهاض همهم إلى الاتصاف بما يمكن اتصافهم به منه أو إلى الثبات عليه، ولم يصرح في الجواب بحصول السؤال بأن يقال: قد أوتيت سؤلك يا موسى مثلا اختيارا لما هو أبلغ فيه، وهذا الذي ذكرناه وإن كان لا يخلو عن شيء إلا أنه أولى من كثير مما وقفنا عليه من كلام المفسرين وقد تقدم بعضه، وأقول بعد هذا كله: خير الاحتمالات ما تشهد له الآثار وإذا صح الحديث فهو مذهبي فتأمل. والسين في * (سأكتبها) * يحتمل أن تكون للتأكيد، ويحتمل أن تكون للاستقبال كما لا يخفي وجهه على ذوي الكمال.
* (الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينه‍اهم عن المنكر ويحل لهم الطيب‍ات ويحرم عليهم الخب‍ائث ويضع عنهم إصرهم والاغل‍ال التى كانت عليهم فالذين ءامنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذىأنزل معه أول‍ائك هم المفلحون) *.
* (الذين يتبعون الرسول) * الذي أرسله الله تعالى لتبليغ الأحكام * (النبي) *
78

أي الذي أنبأ الخلق عن الله تعالى فالأول تعتبر فيه الإضافة إلى الله تعالى والثاني تعتبر فيه الإضافة إلى الخلق، وقدم الأول عليه لشرف وتقدم إرسال الله تعالى له على تبليغه، وإلى هذا ذهب بعضهم، وجعلوا إشارة إلى أن الرسول والنبي هنا مراد بهما معناهما اللغوي لاجرائهما على ذات واحدة كما أنهما كذلك في قوله تعالى: * (وكان رسولا نبينا) * (مريم: 54)، وفسر في الكشاف الرسول بالذي يوحى إليه كتاب والنبي بالذي له معجزة، ويشير إلى الفرق بين الرسول والنبي بأن الرسول من له كتاب خاص والنبي أعم. وتعقبه في الكشف بأن أكثر الرسل لم يكونوا أصحاب كتاب مستقل كاسمعيل. ولوط. والياس عليهم السلام وكم وكم ثم قال: والتحقيق أن النبي هو الذي ينبىء عن ذاته تعالى وصفاته وما لا تستقل العقول بدرايته ابتداء بلا واسطة بشر، والرسول هو المأمور مع ذلك باصلاح النوع، فالنبوة نظر فيها إلى الأنبار عن الله تعالى والرسالة إلى المبعوث إليهم، والثناي وإن كان أخص وجودا إلا أنهما مفهومان مفترقان ولهذا لم يكن رسولا نبيا مثل انسان هيوان ا ه‍.
وفيه مخالفة بينة لما ذكر أولا، ولا حجر في الاعتبار. نعم ما ذكروه مدفوع بأن الفرق المذكور مع تغاير المفهومين على كل حال من عرف الشرع والاستعمال، واما في الوضع والحقيقة اللغوية فهما عامان. وقد ورد في القرآن بالاستعمالين فلا تعارض بينهما.
ولا يرد أن ذكر النبي العام بعد الخاص لا يفيد والمعروف في مثل ذلك العكس، ولا يخفى أن المراد بهذا الرسول النبي نبينا صلى الله عليه وسلم * (الأمي) * أي الذي لا يكتب ولا يقرأ، وهو على ما قال الزجاج نسبة إلى أمة العرب لأن الغالب عليهم ذلك. وروى الشيخان وغيرهما عن ابن عمر قال: " قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب " أو إلى أم القرى لأن أهلها كانوا كذلك، ونسب ذلك إلى الباقر رضي الله تعالى عنه أو إلى أمه كأنه على الحالة التي ولدته امه عليها، ووصف عليه الصلاة والسلام بذلك تنبيها على أن كمال علمه مع حاله احدى معجزاته صلى الله عليه وسلم فهو بالنسبة إليه - بأبي هو وأمي - عليه الصلاة والسلام صفة مدح، وأما بالنسبة إلى غيره فلا، وذلك كصفة التكبير فإنها صفة مدح لله عز وجل وصفة ذم لغيره.
واختلف في أنه عليه الصلاة والسلام هل صدر عنه الكتابة في وقت أم لا؟ فقيل: نعم صدرت عنه عام الحديبية فكتب الصلح وهي معجزة أيضا له صلى الله عليه وسلم وظاهر الحديث يقتضيه، وقيل: لم يصدر عنه أصلا وإنما أسندت إليه في الحديث مجازا. وجاء عن بعض أهل البيت رضي الله تعالى عنهم أنه صلى الله عليه وسلم كان تنطق له الحروف المكتوبة إذا نظر فيها، ولم أر لذلك سندا يعول عليه، وهو صلى الله عليه وسلم فوق ذلك. نعم أخرج أبو الشيخ من طريق مجاهد قال حدثني عون بن عبد الله بن عتبة عن أبيه قال: " ما مات النبي صلى الله عليه وسلم حتى قرأ وكتب فذكرت هذا الحديث للشعبي فقال: صدق سمعت أصحابنا يقولون ذلك " وقيل: الأمي نسبة إلى الأم بفتح الهمزة بمعنى القصد لأنه المقصود وضم الهمزة من تغيير النسب، ويؤيده قراءة يعقوب * (الأمي) * بالفتح وإن احتملت أن تكون من تغيير النسب
أيضا، والموصول في محل جر بدل من الموصول الأول، هو أما بدل كل على أن المراد منه هؤلاء المعهودين أو بعض على أنه عام ويقدر حينئذ منهم، وجوز أن يكون نعتا له، ويحتمل أن يكون في محل نصب على القطع وإضمار ناصب له، وأن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وقيل: على أنه مبتدأ خبره جملة * (يأمرهم) * أو * (أولئك هم المفلحون) *
79

وكلاهما خلاف المتبادر من النظم * (الذي يجدونه مكتوبا) * باسمه ونعوته الشريفة بحيث لا يشكون أنه هو، ولذلك عدل عن أن يقال: يجدون اسمه أو وصفه مكتوبا * (عندهم) * ظرف لمكتوبا الواقع حالا أو ليجدون، وذكر لزيادة التقرير وأن شأنه عليه الصلاة والسلام حاضرة عندهم لا يغيب عنهم أصلا * (في التوراة والإنجيل) * اللذين يعتمد بهما بنو اسرائيل سابقا ولاحقا، وكأنه لهذا المعنى اقتصر عليهما وإلا فهو صلى الله عليه وسلم مكتوب في الزبور أيضا، أخرج ابن سعد. والدارمي في مسنده. والبيهقي في الدلائل. وابن عساكر عن عبد الله بن سلام قال: " صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة ولكن يعفو ويصفح ولن يقيضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء حتى يقولوا لا آله إلا الله ويفتح أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا "، ومثله من رواية البخاري وغيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وجاء من حديث أخرجه ابن سعد. وابن عساكر من طريقذ موسى بن يعقوب الربعي عن سهل مولى خيثمة قال: " قرأت في الإنجيل محمد صلى الله عليه وسلم أنه لا قصير ولا طويل أبيض ذو ضفيرتين بين كتفيه خاتم لا يقبل الصدقة وبركب الحمار. والبعير ويحلب الشاة ويلبس قميصا مرقوعا ومن فعل ذلك فقد برىء من الكبر وهو يفعل ذلك وهو من ذرية إسماعيل اسمه أحمد ".
وجاء من خبر أخرجه البيهقي في الدلائل عن وهب بن منبه قال: " إن الله تعالى أوحى في الزبور يا داود إنه سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد لا أغضب عليه أبدا ولا يعصيني أبدا وقد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأمته مرحومة أعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء وافترضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل حتى يأتوني يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء وذلك أني افترضت عليهم أن يتطهروا إلى كل صلاة كما افترضت على الأنبياء قبلهم وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم وأمرتهم بالحج كما أمرت الأنبياء قبلهم وأمرتهم باجلهاد كما أمرت الرسل قبلهم يا داود إني فضلت محمدا وأمته على الأمم كلهم، أعطيتهم ست خصال لم أعطها غيرهم من الأمم، لا أؤاخذهم بالخطأ والنسيان وكل ذنب ركبوه على غير عمد إذا استغفروني منه غفرته وما قدموا لآخرتهم من شيء طيبة به أنفسهم عجلته لهم اضعافا مضاعفة ولهم عندي أضعاف مضاعفة وأفضل من ذلك، وأعطيتهم على المصائب إذا صبروا وقالوا: * (إنا لله وإنا إليه راجعون) * (البقرة: 156) الصلاة والرحمة والهدى إلى جنات النعيم، فإن دعوني استجبت لهم فإما أن يروه عاجلا وإما أن أصرف عنهم سوءا وإما أن أدخره لهم في الآخرة، يا داود من لقيني من أمة محمد يشهد أن لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي صادقا بها فهو معي في جنتي وكرامتي ومن لقيني وقد كذب محمدا وكذب بما جاء به واستهزأ بكتابي صببت عليه من قبره العذاب صبا وضربت الملائكة وجهه ودبره عند منشره في قبره ثم أدخله في الدرك الأسفل من النار " إلى غير ذلك من الأخبار الناطقة بأنه صلى الله عليه وسلم مكتوب في الكتب الإلهية. والظرفان متعلقان بيجدونه أو بمكتوبا. وذكر الإنجيل قبل نزوله من قبيل ما نحن فيه من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم قبل مجيئهما.
* (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر) * كلام مستأنف، وهو على ما قيل متضمن لتفصيل بعض أحكام
80

الرحمة التي وعد فيما سبق بكتبها إجمالا إذا ما أشارت إليه المتعاطفات من آثار الرحمة والواسعة، وجوز كونه في محل نصب على أنه حال مقدرة من مفعول يجدونه أو من النبي أو من المستكن في مكتوبا، وقيل: هو مفسر لمكتوبا أي لما كتب، والمراد بالمعروف قيل الإيمان، وقيل: ما عرف في الشريعة، والمراد بالمنكر ضد ذلك * (ويحل لهم الطيب‍ات ويحرم عليهم الخب‍ائث) * فسر الأول بالأشياء التي يستطيبها الطبع كالشحوم، والثاني بالأشياء التي يستخبثها كالدم، فتكون الآية دالة على أن الأصل في كل ما تستطيبه النفس وستلذه الطبع الحل وفي كل ما تستخبثه النفس ويكرهه الطبع الحرمة إلا لدليل منفصل، وفسر بعضهم الطيب بما طاب في حكم الشرع والخبيث بما خبث فيه كالربا والرشوة. وتعقب بأن الكلام حينئذ يحل ما يحكم بحله ويحرم ما يحكم بحرمته ولا فائدة فيه. وردوه بأنه يفيد فائدة وأي فائدة لأن معناه أن الحل والحرمة بحكم الشرع لا بالعقل والرأي، وجوز بعضهم كون الخبيث بمعنى ما يستخبث طبعا أو ما خبث شرعا وقال كالدم أو الربا ومثل للطيب بالشحم وجعل ذلك مبينا على اقتضاء التحليل سبق التحريم والشحم كان محرما عند بني اسرائيل، وعلى اقتضاء التحريم سبق التحليل وجعل الدم وأخيه مما حرم على هذا لأن الأصل في الأشياء الحل، ولا يرد * (أحل الله البيع وحرم الربا) * (البقرة: 27) لأنه لرد قولهم * (إنما البيع مثل الربا) * (البقرة: 275) أو لأن المراد ابقاؤه على حله لمقابلته بتحريم الربا، ودفع بهذا ما توهم من عدم الفائدة * (ويضع عنهم إصرهم والأغل‍ال التي كانت عليهم) * أي يخفف عنهم ما كلفوه من التكاليف الشاقة كقطع موضع النجاسة من الثواب أو منه ومن البدن، واحراق الغنائم، وتحريم السبت، وقطع الأعضاء الخاطئة، وتعين القصاص في العمد والخطأ من غير شرع الدية فإنه وان لم يكن مأمورا به في الألواح إلا أنه شرع بعد تشديدا عليهم على ما قيل، وأصل الأصر الثقل الذي يأصر صاحبه عن الحراك، والاغلال جمع غل بضم الغين وهي في الأصل كما قال ابن الأثير الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه ويقال لها جامعة أيضا، ولعل غير الحديد إذا جمع به يد إلى عنق يقال له ذلك أيضا، والمراد منهما هنا ما علمت وهو المأثور عن كثير من السلف، ولا يخفى ما في الآية من الاستعارة. وجوز أن يكون هناك تمثيل، وعن عطاء كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلي لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها على السارية يحبس نفسه على العبادة وعلى هذا فالاغلال يمكن أن يراد حقيقته، وقرأ ابن عامر * (آصارهم) * على الجمع وقرأ * (أصرهم) * بالفتح على المصدر وبالضم على الجمع أيضا * (فالذين ءامنوا به) * أي صدقوا
برسالته ونبوته * (وعزروه) * أي عظموه ووقروه كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عتهما، وقال الراغب: التعزير النصرة مع التعظيم، والتعزير الذي هو دون الحد يرجع إليه لأنه تأديب والتأذيب نصرة لأن أخلاق السوء أعداء ولذا قال في الحديث: " انصر أخاك ظالما أو مظلوما فقيل كيف أنصره ظالما؟ فقال عليه الصلاة والسلام: تكفه عن الظلم " وأصلح عند غير وأحد المنع والمراد منعوه حتى لا يقوى عليه عدو، وقرىء * (عزروه) * بالتخفيف * (ونصروه) * على أعدائه في الدين وعطف هذا على ما قبله ظاهر على ما روي عن الحبر وكذا على ما قاله الجمع إذ الأول عليه من قبيل درء المفاسد وهذا من قبيل جلب المصالح، ومن فسر الأول بالتعظيم مع التقوية أخذا من كلام الراغب قال هنا نصروه لي
81

أي قصدوا بنصره وجه الله تعالى واعلاء كلمته فلا تكرار خلافا لمن توهمه * (واتبعوا النور الذي أنزل معه) * وهو القرآن وعبر عنه بالنور لظهوره في نفسه باعجازه وإظهاره لغيره من الأحكام وصدق الدعوى فهو أشبه شيء بالنور الظاهر بنفسه والمظهر لغيره بل هو نور على نور، والظرف اما متعلق بانزل والكلام على حذف مضاف أي مع نبوته أو ارساله عليه السلام لأنه لم ينزل معهم وإنما نزل مع جبريل عليه السلام. نعم استنباؤه أو ارساله كان مصحوبا بالقرآن مشفوعا به وإما متعلق باتبعوا على معنى شاركوه في اتباعه وحينئذ لم يحتج إلى تقدير، وقد يعلق به على معنى اتبعوا القرآن مع اتباعهم النبي صلى الله عليه وسلم إشارة إلى العمل بالكتاب والسنة، وجوز أن يكون في موضع الحال من ضمير اتبعوا أي اتبعوا أي اتبعوا النور مصاحبين له في اتباعه وحاصله ما ذكر في الاحتمال الثاني، وأن يكون حالا مقدرة من نائب فاعل أنزل. وفي مجمع البيان أن مع بمعنى على وهو متعلق بأنزل ولم يشتهر وروي ذلك، وقال بعضهم: هن هنا مرادفة لعند وهو أحد معانيها المشهورة إلا أنه لا يخفى بعده وإن قيل حاصل المعنى حينئذ أنزل عليه * (أولائك) * أي المنعوتون بتلك النعوت الجليلة * (هم المفلحون) * أي هم الفائزون يا لمطلوب لا المتصفون بأضداد صفاتهم، وفي الإشارة إشارة إلى علية تلك الصفات للحكم، وكاف البعد للايذان ببعد المنزلة وعلو الدرجة في الفضل والشرف، والمراد من الموصول المخبر عنه بهذه الجملة عند ابن عباس رضي الله تعالى عنه اليهود الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: ما يعمهم وغيرهم من أمته عليه الصلاة والسلام المتصفين بعنوان الصلة إلى يوم القيامة والاتصاف بذلك لا يتوقف على إدراكه صلى الله عليه وسلم كما لا يخفى وهو الأولى عندي.
وادعى بعضهم أن المراد من الموصول في قوله تعالى: * (فسأكتبها للذين يتقون) * (الأعراف: 156) المعنى الأعم أيضا وجعله ابن الخازن قول جمهور المفسرين، وفيه ما فيه ومما يقضي منه العجب كون المراد منه اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام، والجملة متفرعة على ما تقدم من نعوته صلى الله عليه وسلم الجليلة الشان، وقيل: على كتب الرحمة لمن مر، وذكر شيخ الإسلام أنها تعليم لكيفية اتباعه عليه السلام وبيان علو رتبة متبعيه واغتنامهم مغانم الرحمة الواسعة في الدارين ءثر بيان نعوته الجليلة والإشارة إلى إرشاده عليه الصلاة والسلام إياهم بما في ضمن * (يأمرهم) * الخ، وجعل الحصر المدلول عليه بقوله سبحانه: * (أولئك هم المفلحون) * بالنسبة إلى غيرهم من الأمم ثم قال: فيدخل فيهم قوم موسى عليه السلام دخولا أوليا حيث لم ينجوا عما في توبتهم من المشقة الهائلة، وهو مبني على ما سلكه في تفسير الآيات من أول الأمر ولا يصفو عن كدر
* (قل ياأيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعا الذى له ملك السم‍اوات والارض لاإل‍اه إلا هو يحى ويميت فاامنوا بالله ورسوله النبى الأمى الذى يؤمن بالله وكلم‍اته واتبعوه لعلكم تهتدون) *
* (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) * لما حكى ما في الكتابين من نعوته صلى الله عليه وسلم وشرف من يتبعه على ما عرفت، أمر عليه الصلاة والسلام بأن يصدع بما فيه تبكيت لليهود الذين حرموا اتباعه وتنبيه لسائر الناس على افتراء من زعم منهم أنه صلى الله عليه وسلم مرسل إلى العرب خاصة، وقيل: إنه أمر له عليه الصلاة والسلام ببيان أن سعادة الدارين المشار إليهما فيما تقدم غير مختصة بمن اتبعه من أهل الكتابين بل شاملة لكل من يتبعه كائنا من كان وذلك ببيان عموم رسالته صلى الله عليه وسلم وهي عامة للثقلين كما نطقت به النصوص حتى صرحوا بكفر منكره وما هنا لا يأبى ذلك، والمفهوم
82

فيه غير معتبر عند القائل به لفقد شرطه وهو ظاهر * (الذي له ملك السم‍اوات والأرض) * في موضع نصب باضمار أعني أو نحوه أو رفع على إضمار هو.
وجوز أن يكون في موضع جر على أنه صفة للاسم الجليل أو بدل منه، واستبعد ذلك أبو البقاء لما فيه من الفصل بينهما، وأجيب بأنه مما ليس بأجنبي وفي حكم ما لا يكون فيه فصل ورجح الأول بالفخامة إذ يكون عليه جملة مستقلة مؤذنة بأن المذكور علم في ذلك أي اذكر من لا يخفى شأنه عند الموافق والمخالف، وقيل: هو مبتدأ خبره * (لا إلاه إلا هو) * وهو على الوجوه الأول بيان لما قبله وجعله الزمخشري مع ذلك بدلا من الصلة وقد نص على جواز هذا النحو سيبويه وذكر العلامة أن سوق كلامه يشعر بأنه بدل اشتمال، ووجه البيان أن من ملك العالم علويه وسفليه هو الإله فبينهما تلازم يصحح جعل الثاني مبينا للأول وليس المراد بالبيان الإثبات بالدليل حتى يقال الظاهر العكس لأن الدليل على تفرده سبحانه بالألوهية ملكه للعالم بأسره مع أنه يصح أن يجعل دليلا عليه أيضا فيقال الدليل على أنه جل شأنه المالك المتصرف في ذلك انحصار الألوهية فيه إذ لو كان إنه غيره لكان له ذلك، واعترض أبو حيان القول بالبدلية بأن إبدال الجمل من الجمل غير المشتركة في عامل لا يعرف، وتعقب بأن أهل المعاني ذكروه وتعريف التابع بكل ثان أعرب بإعراب سابقه ليس بكلي، وقوله سبحانه: * (يحيى ويميت) * لزيادة تقرير إلهيته سبحانه، وقيل: لزيادة اختصاصه تعالى بذلك وله وجه وجيه والفاء في قوله عز شأنه: * (فأمنوا بالله ورسوله) * لتفريع الأمر على ما تقرر من رسالته صلى الله عليه وسلم وإيراد نفسه الكريمة عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة على طريق الالتفات إلى الغيبة للمبالغة في إيجاب الامتثال ووصف الرسول بقوله تعالى: * (النبي الأمي) * لمدحه ولزيادة تقرير أمره وتحقيق أنه المكتوب في الكتابين * (الذي يؤمن بالله وكلماته) * ما أنزل عليه وعلى سائر الرسل عليهم السلام من كتبه ووحيه، وقرىء * (وكلمته) * على أرادة الجنس أو القرآن أو عيسى عليه السلام كما روى ذلك عن مجاهد تعريضا لليهود وتنبيها على أن من لم يؤمن به عليه السلام لم يعتبر إيمانه، والاتيان بهذا
الوصف تحمل أهل الكتابين على الامتثال بما أمروا به والتصريح بالايمان بالله تعالى للتبيه على أن الأيمان به سبحانه لا ينفك عن الايمان بكلماته ولا يتحقق إلا به ولا يخفى ما في ههذ الآية من إظهار النصفة والتفادي عن العصبية للنفس وجعلوا ذلك نكتة للالتفات وإجراء هاتيك الصفات * (واتبعوه) * أي في كل ما يأتي وما يذر من أمور الدين.
* (لعلكم تهتدون) * علة للفعلين أو حال من فاعليهما أي رجاء لاهتدائكم إلى المطلوب أو زاجين له، وفي تعليقه بهما إيذان بأن من صدقة ولم يتبعه بالتزام شرعه فهو بعد في مهامه الضلال.
* (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) *.
* (ومن قوم موسى) * يعني بني إسرائيل * (أمة) * جماعة عظيمة * (يهدون) * الناس * (بالحق) * أي محقين على أن الباء للملابسة، والجار والمجرور في موضع الحال أو بكلمة الحق على أن الباء للآلة والجار لغو * (وبه) * أي بالحق * (يعدلون) * في الأحكام الجارية فيما بينهم، وصيغة المضارع في الفعلين للإيذان بالاستمرار التجديدي، واختلف في المراد منهم فقيل أناس كانوا كذلك على عهد موسى صلى الله عليه وسلم والكلام مسوق لدفع ما عسى يوهمه تخصيص
83

كتب الرحمة والتقوى والايمان بالآيات بمتبعي رسول الله صلى الله عليه وسلم من حرمان أسلاف قوم موسى عليه السلام في كل خير وبيان إن كلهم ليسوا كما حكيت أحوالهم بل منهم الموصوفون بكيت وكيت، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية.
واختار هذا شيخ الإسلام ولا يبعد عندي أن يكون ذلك بيانا لقسم آخر من القوم مقابل لما ذكره موسى عليه السلام في قوله: * (أتهلكنا بمافعل السفهاء منا) * (الأعراف: 551) فيه تنيص على أن من القوم من لم يفعل، وقيل: أناس وجدوا على عهد نبينا صلى الله عليه وسلم موصوفون بذلك كعبد الله بن سلام وأضرابه ورجحه الطيبي بأنه أقرب الوجوه، وذلك أنه تعالى لما أجاب عن دعاء موسى عليه السلام بقوله تعالى: * (فسأكتبها) * إلى قوله سبحانه: * (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي) * (الأعراف: 156، 157) الخ ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما فيه تبكيت لليهود وتنبيه على افترائهم فيما يزعمونه في شأنه عليه السلام مع إظهار النصفة وذلك بقوله تعالى: * (قل يا أيها الناس) * (الأعراف: 158) الخ وقوله سبحانه: * (فآمنوا) * الخ عقب ذلك بقوله عز شأنه: * (ومن قوم موسى) * (الأعراف: 159) الخ، والمعنى أن بعض هؤلاء الذين حكينا عنهم ما حكينا آمنوا وأنصفوا من أنفسهم يهدون الناس إلى أنه عليه الصلاة والسلام الرسول الموعود ويقولون لهم: هذا الرسول النبي الأمي الذي نجده مكتوبا عندنا في التوراة والإنجيل ويعدلون في الحكم ولا يجورون ولكن أكثرهم ما أنصفوا ولبسوا الحق بالباطل وكتموه وجاروا في الأحكام فيكون ذكر هذه الفرقة تعريضا بالأكثر.
واعترض بأن الذين آمنوا من قوم موسى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا قليلين ولفظ أمته يدل على الكثرة، وأيضا إن هؤلاء قد مر ذكرهم فيما سلف، وأجيب بأن لفظ الأمة قد يطلق على القليل لا سيما إذا كان له شأن بل قد يطلق على الواحد إذا كان كذلك كما في قوله تعالى: * (إن إبراهيم كان أمة) * (النحل: 120) وبأن ذكرهم هنا لما أشير إليه من النكتة لا يأبى ذكرهم فيما سلف لغير تلك النكتة وتكرار الشيء الواحد لاحتلاف الأغراض سنة مشهورة في الكتاب على أنه قد قيل: إنهم فيما تقدم قد وصفوا بما هو ظاهر في أنهم مهتدون وهنا قد وصفوا بما هو ظاهر في أنهم هادون فيحصل من الذكرين أنهم موصوفون بالوصفين. نعم يبقى الكلام في نكتة الفصل ولعلها لا تخفى على المتدبر، وقيل هم قوم من بني إسرائيل وجدوا بين موسى ونبينا محمد عليهما الصلاة والسلام وهم الآن موجودون أيضا، فقد أخرج ابن جرير وغيره عن ابن جريج أنه قال: بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطا تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله أن يفرق بينهم وبينهم ففتح الله تعالى لهم نفقا في الأرض فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين فهم هنالك حنفاء يستقبلون قبلتنا، وإليهم الإشارة كما قال ابن عباس بقوله تعالى: * (وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جيئنا بكم لفيفا) * (الإسراء: 104) وفسر وعد الآخرة بنزول عيسى عليه السلام وقال: إنهم ساروا في السرب سنة ونصفا.
وذكر مقاتل كما روى أبو الشيخ أن الله تعالى أجرى معهم نهر أو جعل لهم مصباحا من نور بين أيديهم وأن أرضهم التي خرجوا إليها تجتمع فيها الهوام والبهائم والسباع مختلطين وأن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم ليلة المعراج ومعه جبريل عليه السلام فآمنوا به وعلمهم الصلاة، وعن الكلبي. والضحاك. والربيع أنه عليه الصلاة والسلام علمهم الزكاة وعشر سور من القرآن نزلت بمكة وأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت وأقرؤه سلام موسى عليه السلام فرد النبي عليه الصلاة والسلام اللاسم، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال بينكم وبينهم نهر من رمل
84

يجري، وضعف هذه الحكمة ابن الخازن وأنا لا أراها شيئا ولا أظنك تجد لها سندا يعول عليهم ولو ابتغيت نفقا في الأرض أو سلما في السماء.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: * (قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) * دون رؤيتي على ما يقوله نفاة الرؤية * (فخذ ما آتيتك) * بالتمكين * (وكن من الشاكرين) * (الأعراف: 144) بالاستقامة في القيام بحق العبودية التي لا مقام أعلا منها لا تدعني إلا بيا عبدها.
فإنه أشرف أسمائي، بالشكر تزداد النعم كما نطق بذلك الكتاب * (وكتابنا له في الألواح) * أي أظهرنا نقوش استعداده في ألواح تفاصيل وجوده من الروح والقلب العقل والفكر والخيال فظهر فيها * (من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة) * أي بعزم لتكون من ذويه * (وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) * أي أكثرها نفعا وهي العزائم * (سأريكم دار الفاسقين) * (الأعراف: 145) أي عاقبة الذين لا يأخذون بذلك * (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق) * (الأعراف: 146) هم الذين في مقام النفس فيكون تكبرهم حجابا لهم عن آيات الله تعالى وأما المتكبرون بالحق وهم الذي فنيت صفاتهم وظهرت عليهم صفات مولاهم
فليسوا بمحجوبين ولا يعد تكبرهم مذموما لأنه ليس تكبرهم حقيقة وإنما حظهم منه كونهم مظهرا له * (والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة) * (الأعراف: 147) حيث حجبوا بصفاتهم وأفعالهم حبطت أعمالهم فلا تقربهم شيئا * (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا) * صنعه لهم السامري وكان من قوم يعبدون العجل أو ممن رآهم فوقع في قلبه لسوء استعداده حبه وأضمر عبادته واختار صياغته من حليهم ليكون ميلهم إليه أتم لأن قلب الإنسان يميل حيث ماله سيما إذا كان ذهبا أو فضة، وكثير من الناس اليوم عبيد الدرهم والدينار وهما العجل المعنوي لهم وإن لم يسجدوا له وأكثر الأقوال أن ذلك العجل صار ذا لحم ودم وإليه الإشارة بقوله سبحانه: * (جسدا له خوار) * (الأعراف: 148) وفي كلام الشيخ الأكبر قدس سره أنه صار ذا روح بواسطة التراب الذي وطئه الروح الأمين ولم يصرح بكونه ذا لحم ودم * (وألقى الألواح) * أي ذهل من شدة الغضب عنها وتجافي عن حكم ما فيها ونسيان ما يستحسن من الحلم مثلا عند الغضب مما يجده كل أحد من نفسه * (وأخذ برأس أخيه) * يجره إليه ظنا أنه قصر في كفهم.
* (قال ابن أم) * (الأعراف: 150) ناداه بذلك لغلبة الرحمة عليه، وتأويل ذلك في الأنفس على ما قاله بعض المؤولين أن سامري الهوي بعد توجه موسى عليه السلام الروح لميقات مكالمة الحق اتخذ من حلى زينة الدنيا ورعونات البشرية التي استعارها بنو إسرائيل صفات القلب من قبط صفات النفس معبودا يتعجلون إليه له خوار يدعون الخلق به إلى نفسه * (ألم يروا أنه لا يكلمهم) * بما ينفعهم ولا يهديهم سبيلا إلى الحق * (اتخذوه وكانوا ظالمين) * (الأعراف: 148) حيث عدلوا عن عبادة الحق إلى عبادة غيره في نظرهم * (ولما سقط في أيديهم) * أي ندموا عند جروع موسى الروح * (قالوا لئن لم يرحمنا ربنا) * بجذبات العناية * (ويغفر لنا) * بأن يستر صفاتنا بصفاته سبحاته وتعالى: * (لنكونن من الخاسرين) * (الأعراف: 149) رأس مال هذه النشأة وهو الاستعداد * (ولما رجع موسى إلى قومه) * وهم الأوصاف الإنسانية * (غضبان) * مما عبدت صفات القلب عجل الدنيا * (أسفا) * على ما فات لها من عبادة الحق * (قال بئسما خلفتموني من بعدي) * حيث لم تسيروا سيري * (عجلتم أمر ربكم) * بالرجوع إلى الفاني من غير أمره تعالى * (وألقى الألواح) * أي ما لاح له من اللوائح الربانية عند استيلاء الغضب الطبيعي * (وأخذ برأس أخيه) * وهو القلب يجره إليه قسرا، * (قال ابن أم) * ناداه بذلك مع أنه
85

أخوه من أبيه وهو عالم الأمر وأمه وهو عالم الخلق لأنهما في عالم الخلق * (إن القوم) * أي أوصاف البشرية * (استضعفوني) * عند غيبتك * (وكادوا يقتلونني) * يزيلون مني حياة استعدادي بالكلية * (فلا تشمت بي الأعداء) * (الأعراف: 150) وهم - وهم -، وهذا ما يقتضيه مقام الفرق، قال: رب اغفر لي ولأخي استر صفاتنا وأدخلنا في رحمتك بإفاضة الصفات الحقة علينا * (وأنت أرحم الراحمين) * [الأعراف: 151 لأن كل رحمة فهو شعاع نور رحمتك * (إن الذين اتخذوا العجل) * أي عجل الدنيا إلها * (سينالهم غضب من ربهم) * وهو عذاب الحجاب وذلة في الحياة الدنيا باستعباد هذا الفاني المدني لهم * (وكذلك نجزي المفترين) * (الأعراف: 152) الذين يفترون على الله تعالى فيثبتون وجودا لما سواه، * (والذين عملوا السيئآت ثم تابوا) * (الأعراف: 153) رجعوا إليه سبحانه وتعالى بمجاهدة نفوسهم وإفنائها إن ربك من بعدها لغفور فيستر صفاتهم رحيم فيفيض عليهم من صفاته ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح الربانية، وفي نسختها هدى إرشاد إلى الحق * (ورحمة للذين هم لربهم يرهبون) * (الأعراف: 154) يخافون لحسن استعدادهم، ويقال في قوله سبحانه وتعالى: * (واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا) * إن موسى عليه السلام اختار سبعين رجلا من أشراف قومه ونجباءهم أهل الاستعداد والصفاء والإرادة والطلب والسلوك فلما أخذتهم الرجفة أي رجفة البدن التي هي من مبادي صعقة الفناء عند طريان بوارق الأنوار وظهوره طوالع تجليات الصفات من اقشعرار الجسد وارتعاده وكثيرا ما تعرض هذه الحركة للسالكين عند الذكر أو سماع القرآن أو ما يتأثرون به حتى تكاد تتفرق أعضاؤهم، وقد شاهدنا ذلك في الخالدين من أهل الطريقة النقشبندية، وربما يعتريهم في صلاتهم صياح معه فمنهم من يستأنف صلاته لذلك ومنهم من لا يستأنف، وقد كثر الإنكار عليهم وسمعت بعض المنكرين يقولون: إن كانت هذه الحالة مع الشعور والعقل فهني سوء أدب ومبطلة للصلاة قطعا وإن كانت مع عدم شعور وزوال عقل فهي ناقضة للوضوء ونراهم لا يتوضؤون، وأجيب بأنها غير اختيارية مع وجود العقل والشعور، وهي كالعطاس والسعال ومن هنا لا ينتقض الوضوء بل ولا تبطل الصلاة، وقد نص بعض الشافعية أن المصلي لو غلبه الضحك في الصلاة لا تبطل صلاته ويعذر بذلك فلا يبعد أن يلحق ما يحصل من آثار التجليات الغير الاختيارية بما ذكر ولا يلزم من كونه غير اختياري كونه صادرا من غير شعور فإن حركة المرتعش غير اختيارية مع الشعور بها، وهو ظاهر فلا معنى للإنكار. نعم كان حضرة مولانا الشيخ خالد قدس سره يأمر من يعتريه ذلك من المريدين بالوضوء واستئناف الصلاة سدا لباب الإنكار، والحق أن ما يعتري هذه الطائفة غير ناقض الوضوء لعدم زوال العقل معه لكنه مبطل للصلاة لما فيه من الصياح الذي يظهر به حرفان مع أمور تأباها الصلاة ولا عذر لمن يعتريه ذلك إلا إذا ابتلى به بحيث لم يخل زمن من الوقت يسع الصلاة بدونه فإنه يعذر حينئذ ولا قضاء عليه إذا ذهب مه ذلك الحال كمن به حكة لا يصبر معها على عدم الحك. وقد نص الجد عليه الرحمة في حواشيه على شرح الحضرمية للعلامة ابن حجر في صورة ابتلى بسعال مزمن على نحو ذلك، ثم قال: فرع لو ابتلى بذلك وعلم من عادته أن الحمام يسكنه عنه مدة تسع الصلاة وجب عليه دخوله حيث وجد أجرة الحمام فاضلة عما يعتبر في الفطرة وإن فاتته الجماعة وفضيلة أول الوقت انتهى. نعم ذكر عليه رحمة الله تعالى في الفعل الكثير المبطل للصلاة وهو ثلاثة أفعال أنه لو ابتلى بحركة اضطرارية نشأ عنها عمل كثير فمعذور، وقال أيضا: إنه لا يضر الصوت الغير المشتمل على النطق بحرفين متواليين من أنف
86

أو فم وإن اقترنت به همهمة شفتي الأخرس ولو لغير حاجة وإن فهم الفطن كلاما أو قصد محاكاة بعضهم أصوات الحيوانات وإن لم يقصد التلاعب وإلا بطلت، وينبغى التحري في هؤلاء القوم فإن حالهم في ذلك متفاوت لكن أكثر ما شاهدناه على الطراز الذي ذكرناه، وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من الكتب الفقهية. قال موسى: * (رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي) * (الأعراف: 551) وذلك من شدة غلبته الشوق، و * (لو) * هذه للتمني، أتهلكنا بعذاب الحجاب والحرمان بما فعل
السفهاء من عبادة العجل إن هي إلا فتنتك لا مدخل فيها لغيرك، وهذا مقتضى مقام تجلي الأفعال، فاغفر لنا ذنوب صفاتنا وذواتنا كما غفرت ذنوب أفعالنا، وارحمنا بإفاضة أنوار شهودك ورفع حجاب الآنية بوجودك، واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وهي حسنة الاستقامة بالبقاء بعد الفناء، وفي الآخرة حسنة المشاهدة، والكلام في بقية الكلام لا يخفى على من له أدنى ذوق. خلا أن بعضهم أول العذاب في قوله سبحانه وتعالى: * (عذابي أصيب به من أشاء) * (الأعراف: 156) بعذاب الشوق المخصوص الذي يصيب أهل العناية من الخواص وهو الرحمة التي لا يكتنه كنهها ولا يقدر قدرها وإنها لأعز من الكبريت الأحمر، وأهل الظاهر يرونه بعيدا والقوم يقولون نراه قريبا، وقالوا: الأمي نسبة إلى الأم لكن على حد أحمري، وقيل: للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأنه أم الموجودات وأصل المكنونات، واختير هذا اللفظ لما فيه من الإشارة إلى الرحمة والشفقة وهو الذي جاء رحمة للعالمين وإنه عليه الصلاة والسلام لأشفق على الخلق من الأم بولدها إذ له صلى الله عليه وسلم الحظ الأوفر من التخلق بأخلاق الله تعالى وهو سبحانه أرحم الراحمين، وذكروا أن أتباعه من حيث النبوة الخواص ومن الأمية خواص الخواص ومن حيث الرسالة هؤلاء المذكورون كلهم والعوام نسأل الله تعالى أن يوفقنا لاتباعه صلى الله عليه وسلم في سائر شؤونه.
* (وقطعن‍اهم اثنتى عشرة أسباطا أمما وأوحينآ إلى موسى إذ استسق‍اه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغم‍ام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيب‍ات ما رزقن‍اكم وما ظلمونا ول‍اكن كانوا أنفسهم يظلمون) *.
* (وقطعناهم) * أي قوم موسى عليه السلام لا الأمة المذكورة كما يوهمه القرب * (وقطع) * يقرأ مشددا ومخففا والأول هو المتواتر ويتعدى لواحد وقد يضمن معنى صير فيتعدى لاثنين فقوله تعالى: * (اثنتي عشرة) * حال أو مفعول ثان، أي فرقناهم معدودين بهذا العدد أو صيرناهم اثنتي عشرة أمة يتميز بعضها عن بعض، وقوله سبحانه وتعالى: * (أسب‍اطا) * كما قال ابن الحاجب في " شرح المفصل " بدل من العدد لا تمييز له وإلا لكانوا ستة وثلاثين، وعليه فالتمييز محذوف أي فرقة أو نحوه، قال الحوفي: إن صفة التمييز أقيمت مقامه والأصل فرقة اسباطا، وجوز أن يكون تمييزا لأن مفرد تأويلا، فقد ذكروا أن السبط مفردا ولد الولد أو ولد البنت أو الولد أو القطعة من الشيء أقوال ذكرها ابن الأثير، ثم استعمل في كل جماعة من بني إسرائيل كالقبيلة في العرب، ولعله تسمية لهم باسم أصلهم كتميم، وقد يطلق على كل قبيلة منهم أسباط أيضا كما غلب الأنصار على جمع مخوص فهو حينئذ بمعنى الحي والقبيلة فلهذا وقع موقع المفرد في التمييز وهذا كما ثنى الجمع في قول أبي النجم يصف رمكة تعودت الحرب: تبقلت في أول التبقل * بين رماحي مالك ونهشل
وتأنيث اثنتي مع أن المعدود مذكر وما قبل الثلاثة يجري على أصل التأنيث والتذكير لتأويل ذلك بمؤنث وهو ظاهر مما قررنا، وقرأ الأعمل وغيره * (عشرة) * بكسر الشين وروى عنه فتحها أيضا والكسر لغة تميم والسكون لغة الحجاز، وقوله سبحانه: * (أمما) * بدل بعد بدل من اثنتي عشرة لا من أسباط على تقدير أن
87

يكون بدلا لأنه لا يبدل من البدل، وجوز كونه بدلا منه إذا لم يكن بدلا ونعتا إن كان كذلك أو لم يكن * (وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه) * حين استولى عليه العطش في التيه * (أن اضرب بعصاك الحجر) * تفسير لفعل الإيحاء * (فأن) * بمعنى أي، وجوز أبو البقاء كونها مصدرية * (فانبجست) * أي انفجرت كمات قال ابن عباس وزعم الطبرسي أن الانبجاس خروج الماء بقلة والانفجار خروجه بكثرة، والتعبير بهذا تارة وبالأخرى أخرى باعتبار أول الخروج وما انتهى إليه والعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي فضرب فانبجست وحذف المعطوف عليه لعدم الالباسا وللإشارة إلى سرعة الامتقال حتى كأن الإيحاء وضربه أمر واحد وأن الانبجاس بأمر الله تعالى حتى كأن فعل موسى عليه السلام لا دخل فيه.
وذكر بعض المحققين أن هذه الفاء على ما قرر فصيحة وبعضهم يقدر شرطا في الكلام فإذا ضربت فقد انبجست * (منه اثنتا عشرة عينا) * وهو غير لائق بالنظم الجليل * (قد علم كل أناس) * أي سبط، والتعبير عنهم بذلك للإيذان بكثرة كل واحد من الأسباط، وأنا إما جمع أو اسم جمع، وذكر السعد أن أهل اللغة يسمون اسم الجمع جمعا، و * (علم) * بمعنى عرف الناصب مفعولا واحدا أي قد عرف * (مشربهم) * أي عينهم الخاصة بهم، ووجه الجمع ظاهر * (وظللنا عليهم الغمام) * أي جعلنا ذلك بحيث يلقى عليهم ظله ليقيهم من حر الشمس وكان يسير يسيرهم ويسكن بإقامتهم * (وأنزلنا عليهم المن والسلوى) * أي الترنجبين والسماني فكان الواحد منهم يأخذ ما يكفيه من ذلك * (كلوا) * أي قلنا أو قائلين لهم كلوا.
* (من طيبات ما رزقناكم) * أي مستلذاته، و * (ما) * موصولة كانت أو موصوفة عبارة عن المن والسلوى * (وما ظلمونا) * عطف على محذوف للإيجاز والإشعار بأنه أمر محقق غني عن التصريح أي فظلموا بأن كفروا بهذه النعم الجليلة وما ظلمونا بذلك * (ول‍اكن كانوا أنفسهم يظلمون) * بالكفر إذ لا يتخطاهم ضرره، وتقديم المفعول لإفادة القصر الذي يقتضيه النفي السابق، وفي الكلام من التهكم والإشارة إلى تماديهم على ما هم فيه ما لا يخفى.
* (وإذ قيل لهم اسكنوا ه‍اذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئ‍اتكم سنزيد المحسنين) *.
* (وإذ قيل لهم) * معمول لا ذكر، وإيراد الفعل هنا مبنيا للمفعول جريا على سنن الكبرياء مع الإيذان بأن الفاعل غني عن التصريح أي اذكر لهم وقت قولنا لأسلافهم * (اسكنوا ه‍اذه القرية) * القريبة منكم وهي بيت المقدس أو أريجاء، والنصب مبني على المفعولية كسكنت الدار على الظرفية اتساعا والتعبير بالسكنى هنا للإيذان بأن المأمور به في البقرة الدخول بقصد الإقامة أي أقيموا في هذه القرية * (وكلوا منها) * أي مطاعمها وثمارها أو منها نفسها على أن من تبعيضية أو ابتدائية * (حيث شئتم) * أي من نواحيها من غير أن يزاحمكم أحد؛ وجيء بالواو هنا وبالفاء في البقرة لأنه قيل هناك ادخلوا ذكر التعقيب معه وهنا اسكنوا والسكنى أمر ممتد والأكر معه لا بعده، وقيل: إن إذا تفرع المسبب عن السبب اجتمعا في الوجود فيصح الاتيان بالواو والفاء، وفيه أن هذا إنما يدل على صحة العبارتين وليس السؤال عن ذلك، وذكر * (رغدا) * هناك لأن الأكل في أول الدخول يكون ألذ وبعد السكنى واعتباره لا يكون كذلك
88

وقيل: إنه اكتفى بالتعبير باسكنوا عن ذكره لأن الأكل المستمر من غير مزاحم لا يكون إلا رغدا واسعا، وإلى الأول ذهب صاحب اللباب، ويرد على القولين أنه ذكر * (رغدا) * مع الأمر بالسكنى في قصة آدم عليه السلام، ولعل الأمر في ذلك سهل * (وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا) * مر الكلام فيه في البقرة غير أن ما فيها عكس ما هنا في التقديم والتأخير ولا ضير في ذلك لأن المأمور به هو الجمع بين الأمرين من غير اعتبار الترتيب بينهما، وقال القطب: فائدة الاختلاف التنبيه على حسن تقديم كل من المذكورين على الآخر لأنه لما كان المقصود منهما تعظيم الله تعالى وإظهار الخشوع والخشوع لم يتفاوت الحال في التقديم والتأخير * (نغفر لكم خطيآتكم) * جزم في جواب الأمر. وقرأ نافع. وابن عامر. ويعقوب * (تغفر) * بالتاء والبناء للمفعول و * (خيآتكم) * بالرفع والجمع غير ابن عامر فإنه وحد، وقرأ أبو عمرو * (خطاياكم) * كما في صورة (البقرة:)، وبين القطب فائدة الاختلاف بين ما هناك وبين ما هنا على القراءة المشهورة بأنها الإشارة إلى أن هذه الذنوب سواء كانت قليلة أو كثيرة فهي مغفور بعد الاتيان بالمأمور به، وطرح الواو هنا من قوله سبحانه وتعالى: * (سنزيد المحسنين) * إشارة إلى أن هذه الزيادة تفضل محض ليس في مقابلة ما أمروا به كما قيل.
والمراد أن امتثالهم جازاه الله تعالى بالغفران وزاد عليه وتلك الزيادة فضل محض منه تعالى فقد يدخل في الجزاء صورة لترتبه على فعلهم وقد يخرج عنه لأن زيادة على ما استحقوه، ولذا قرن بالسين الدالة على أنه وعد وتفضل، ومفعول نزيد محذوف أي ثوابا وزيادة منهم في قوله تعالى شأنه:
* (فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذى قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السمآء بما كانوا يظلمون) *.
* (فبدل الذين ظلموا منهم) * لزيادة البيان أي بدل الذي ظلموا من هؤلاء بما أمروا به من التوبة والاستغفار حيث أعرضوا عنه ووضعوا موضعه * (قولا) * آخر مما لا يخير فيه * (غير الذي قيل لهم) * وأمروا بقوله و * (غير) * نعت للقول وصرح بالمغايرة مع دلالة التبديل عليها تحقيقا للمخالفة وتنصيصا على المغايرة من كل وجه * (فأرسلنا عليهم) * إثر ما فعلوا ما فعلوا من غير تأخير * (رجزا من السماء) * عذابا كائنا منها وهو الطاعون في رواية.
* (بما كانوا يظلمون) * أي بسبب ظلمهم المستمر السابق واللاحق، وهذا بمعنى ما في البقرة لأن ضمير عليهم للذين ظلموا والإرسال من فوق إنزال، والتصريح بهذا التعليل لما أن الحكم هنا مرتب على المضمر دون الموصول بالظلم كما في البقرة، وأما التعليل بالفسق بعد الإشعار بعلية الظلم هناك فللإيذان بأن ذلك فسق وخروج عن الطاعة وغلو في الظلم وأن تعذيبهم بجميع ما ارتكبوا من القبائح كما قيل وقال القطب في وجه المغايرة: إن الإرسال مشعر بالكثرة بخلاف الإنزال فكأنه أنزل العذاب القليل ثم جعل كثيرا وإن الفائدة في ذكر الظلم والفسق في الموضعين الدلالة على حصولهما فيهم معا، وقد تقدم لك في وجوه المغايرة بين آية البقرة وهذه الآية ما ينفعك تذكره فتذكر.
* (وسئلهم عن القرية التى كانت حاضرة البحر إذ يعدون فى السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذالك نبلوهم بما كانوا يفسقون) *.
* (واسألهم) * عطف على اذكر المشار إليه فيما تقدم آنفا، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وضمير الغيبة لمن بحضرته عليه الصلاة والسلام من نسل اليهود أي واسأل اليهود المعاصرين لك سؤال تقريع وتقرير بتقدم تجاوزهم لحدود الله تعالى، والمراد إعلامهم بذلك لأنهم كانوا يخفونه، وفي الإطلاع عليه مع كونه عليه الصلاة والسلام ليس
89

ممن مارس كتبهم أو تعلمه من علمائهم ما يقضي بأن ذلك عن وحي فيكون معجزة شاهدة عليهم * (عن القرية) * أي عن خبرها وحالها وما وقع بأهلها من ثالثة الأثافي، والمراد بالسؤال عن ذلك بما يعم السؤال عن النفس وعن الأهل أو الكلام على تقدير مضاف، والمراد عن حال أهل القرية، وجوز التجوز فيها، وهي عند ابن عباس وابن جبير - إيلة - قرية بين مدين والطور.
وعن ابن شهاب هي طبرية، وقيل: مدين وهي رواية عن الحبر، وعن ابن زيد أنها مقتا بين مدين وعينونا * (التي كانت حاضرة البحر) * أي قريبة منه مشرفة على شاطئه * (إذ يعدون في السبت) * أي يظلمون ويتجاوزون حدود الله تعالى بالصيد يوم البست أو بتعظيمه، وإذ بدل من المسؤول عنه بدل اشتمال أو ظرف للمضاف المصدر، قيل: واحتمال كونه ظرفا لكانت أو حاضرة ليس بشيء إذ لا فائدة بتقييد الركون أو الحضور بوقت العدوان وضمير يعدون للأهل المقدر أو المعلوم من الكلام، وقيل: إلى القرية على سبيل الاستخدام، وقرىء * (يعدون) * بمعنى يعتدون أدغمت التاء في الدار ونقلت حركتها إلى العين * (ويعدون) * من الإعداد حيث كانوا يعدون آلات الصيد يوم السبت وهم منهيون عن الاشتغال فيه بغير العبادة * (إذ تأتيهم حيت‍انهم) * ظرف ليعدون أو بدل بعد بدل، وإلى الأول ذهب أكثر المعربين، وهو الأولى لأن السؤال عن عدوانهم أبلغ في التقريع، وحيتان جمع حوت أبدلت الواو ياءا لسكونها وانكسار ما قبلها كنون ونينات لفظا ومعنى وإضافتها إليهم باعتبار أن المراد الحيتان الكائنة في تلك الناحية التي هم فيها، وقيل: للإشعار باختصاصها بهم لاستقلالها بما لا يكاد يوجد في سائر أفراد الجنس من الخواص الخارقة للعادة، ولا يخفى بعده * (يوم سبتهم) * ظرف لتأتيهم أي تأتيهم يوم تعظيمهم لأمر السب، وهو مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت بترك العمل والتفرغ للعبادة فيه، وقيل: اسم لليوم والإضافة لاختصاصهم بأحكام فيه، ويؤيد الأول قراءة عمرو بن عبد العزيز * (يوم اسباتهم) *، وكذا التفي الآتي * (شرعا) * أي ظاهرة على وجه الماء كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قريبة من الساحل، وهو جمع شارع من شرع عليه إذا دنا وأشرف، وفي الشرع معنى الإظهار والتبيين، وقيل: حيتان شرع رافعة رؤسها كأنه جعل ذلك إضهارا وتبيينا، وقيل: المعنى متتابعة ونسب إلى الضحاك، والظاهر أنها ظاهرة وهو نصب على الحال من الحيتان * (ويوم لا يسبتون) * أي لا يراعون أمر السب وهو على حد قوله: على لا حب لا يهتدي بمناره
إذ المقصود انتفاء السبت والمراعاة.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه * (لا يسبتون) * بضم حرف المضارعة من أسبت إذا دخل في السبت كاصبح إذا دخل في الصباح، وعن الحسن أنه قرأ لا يسبتون على البناء للمفعول بمعنى لا يدخلون في السبت ولا يؤمرون فيه بما أمروا به يوم السبت، وقرىء * (لا يسبتون) * بضم الباء والظرف متعلق بقوله سبحانه: * (لا تأتيهم) * أي لا تأتيهم يوم لا يسبتون كما كانت تأتيهم يوم السبت حذرا من صيدهم لاعتيادها أحوالهم وأن ذلك لمحض تقدير العزيز العليم، وتغيير البسك حيث قدم الظرف على الفعل ولم يعكس لما أن الإتيان يوم سبتهم مظنة كما قيل: لأن يقال فماذا حالها يوم لا يسبتون؟ فقيل: يوم لا يسبتون لا تأتيهم * (كذالك نبلوهم) * أي نعاملهم معاملة المختبرين لهم ليظهر منهم ما يظهر فنؤاخذهم به، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية لاستحشار صورتها والتعجيب
90

منها، والإشارة إما إلى الابتلاء السابق أو إلى الابتلاء المذكور بعد كما مر غير مرة؛ وقيل: الإشارة إلى الاتيان يوم السبت وهي متصلة بما قبل أي لا تأتيهم كذلك الاتيان يوم السبت، والكاف في موضع نصب على الحال عند الطبرسي، وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة لمصدر مقدر أي إتيانا كائنا كذلك، وجملة نبلوهم استئناف مبني على السؤال عن حكم اختلاف حال الحيتان بالاتيان تارة وعدمه أخرى * (بما كانوا يفسقون) * أي بسبب فسقهم المستمر في كل ما يأتون ويذرون، وهو متعلق بماعنده، وتعلق إذ يعدون بنبلوهم وبما يبعدون على معنى نبلوهم وقت العدوان بالفسق مما لا ينبغي تخريج كتاب الله تعالى الجليل عليه.
* (وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون) *.
* (وإذ قالت) * عطف على إذ يعدون مسوق لبيان تماديهم في العدوان وعدم انزجارهم عنه بعد العظات والإنذارات. قال العلامتان الطيبي والتفتازاني: ولا يجوز أن يكون معطوفا على إذ تأتيهم وإن كان أقرب لفظا لأنه إما بدل أو ظرف فيلزم أن يدخل هؤلاء القائلون في حكم أهل العدوان وليس كذلك، وهذا على ما قيل على تقدير الظرفية ظاهر، وأما على تقدير الإبدال فلأن البدل أقرب إلى الاستقلال، واستظهر في بيان وجه ذلك ان زمان القول بعد زمان العدوان ومغاير له واعتبار كونه ممتدا كسنة مثلا يقع فيه ذلك كله تكلف من غير مقتض، والقول بأن العطف على ذاك يشعر أو يوهم أن القائلين من العادين في السبت لا من مطلق أهل القرية فيه ما فيه * (أمة منهم) * أي جماعة من صلحائهم الذين لم يألوا جهدا في عظتهم حين يئسوا من احتمال القبول لآخرين لم يقلعوا عن التذكير رجاء النفع والتأثير * (لم تعظون قوما الله مهلكهم) * أي مستأصلهم بالكلية ومطهر وجه الأرض منهم * (أو معذبهم عذابا شديدا) * دون الاستئصال بالمرة، وقيل مهلكهم في الدنيا أو معذبهم في الآخرة لعدم إقلاعهم عما هم عليه من الفسق والترديد لمنع الخلو على هذا، وإيثار صيغة اسم الفاعل في الشقين للدلالة على تحقق كل من الاهلاك والتعذيب وتقررهما البتة كأنهما واقعان، وإنما قالوا ذلك مبالغة في أن الوعظ لا ينجع فيهم إذ المقصود لا تعظوا أو أتعظون فعدل عنه إلى السؤال عن السبب لاستغرابه لأن الأمر العجيب لا يدري سببه أو سؤالا عن حكمة الوعظ ونفعه، وقيل: إن هذا تقاول وقع بين الصلحاء الواعظين كأنه قال بعضهم لبعض: لم نشتغل بما لا يفيد، ويحتمل على كلا القولين أن ذلك صدر من القائل بمحضر من القوم فيكون متضمنا لحثهم على الاتعاظ فإن بت القول بهلاكهم أو عذابهم مما يلقي في قلوبهم الخوف والخشية، وقيل قائلو ذلك المعتدون في السبت قالوا: تهكما بالناصحين المخوفين لهم بالهلاك والعذاب، وفيه بعد كما ستقف عليه قريبا إن شاء الله تعالى * (قالوا) * أي المقول لهم ذلك * (معذرة إلى ربكم) * أي نعظهم معذرة إليه تعالى على أنه مفعول له وهو الأنسب بظاهر قولهم: لم تعظون أو نعتذر معذرة على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف، وقيل: هو مفعول به للقول وهو وإن كان مفردا في معنى الجملة لأنه الكلام الذي يعتقذر به. والمعذرة في الأصل بمعنى العذر وهو التنصل من الذنب، وقال الأزهري: إنه بمعنى الاعتذار، وعداه بإلى لتضمنه معنى الانهاء والإبلاغ، وفي إضافة الرب إلى ضمير المخاطبين نوع تعريض بالسائلين، وهذا الجواب على القولين الأولين ظاهر وعلى الأخير قيل إنه من تلقى السائل بغير ما يترقب فهو من الأسلوب الحكيم، وقرأ من عدا حفص. والمفضل * (معذرة) * بالرفع على أنه خبر مبتدأ
91

محذوف أي موعظتنا معذرة إليه تعالى حتى لا ننسب إلى نوع تفريط في النهي عن المنكر * (ولعلهم يتقون) * عطف على معذرة أي ورجاء أن يتقوا بعض التقاة فإن اليأس المحقق لا يحصل إلا بالهلاك، قال شيخ الإسلام: وهذا صريح في أن القائلين لم تعظون الخ ليسوا من الفرقة الهالكة وإلا لوجب الخطاب ا ه‍.
وقد يوجه ذلك على ذلك القول بأنه التفات أو مشاكلة لتعبيرهم عن أنفسهم في السؤال بقوم وإما لجعله باعتبار غير الطائفة القائلين إلا أن كل ذلك خلاف الظاهر.
* (فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون) *.
* (فلما نسوا ما ذكروا به) * أي تركوا ما ذكرهم به صلحاؤهم ترك الناسي للشيء وأعرضوا عنه إعراضا كليا، فما موصولة وجوز أن تكون مصدرية، وهو خلاف الظاهر.
والنسيان مجاز عن الترك، واستظهر أنه استعارة حيث شبه الترك بالنسيان بجامع عدم المبالاة، وجوز أن يكون مجازا مرسلا لعلاقة السببية، ولم يحمل على ظاهره كما قال بعضهم المحققين لأنه غير واقع ولأنه لا يؤاخذ بالنسيان ولأن الترك عن عمد هو الذي يترتب عليه انجاء الناهين في قوله سبحانه وتعالى:
* (أنجينا الذين ينهون عن السوء) * إذ لم يمتثلوا أمرهم بخلاف ما لو نسوه فإنه كان يلزمهم تذكيرهم وظاهر الآية ترتب الانجاء على النسيان وهو في الحقيقة مرتب على النسيان والتذكير، وما في حيز الشرط مشير إليهما فكأنه قيل: فلما ذكر المذكرون ولم يتذكر المعتدون وأعرضوا عما ذكروا به أنجينا الأولين وأخذنا الآخرين، وعنوان النهي عن السوء شامل للذين قالوا لم تعظون الخ وللمقول لهم ذلك، أما شموله للمقول لهم فواضح وأما شموله للقائلين فلأنهم نهوا أيضا إلا أنهم رأوا عدم النفع فكفوا وذلك لا يضرهم فقد نصوا على أنه إذا علم الناهي حال المنهى وأن النهي لا يؤثر فيه سقط عنه النهي وربما وجب الترك على ما قال الزمخشري لدخوله في باب العبث، ألا ترى أنك لو ذهبت إلى المكاسين القاعدين على الطريق لأخذ أموال الفقراء وغيرهم بغير حق لتعظهم وتكفهم عما هم عليه كان ذلك عبثا منك ولم يكن إلا سببا للتلهي بك، ولم يعرض أولئك كما أعرض هؤلاء لعدم بلوغهم في اليأس كما بلغ إخوانهم أو لفرط حرصهم وجدهم في أمرهم كما وصف الله تعالى رسوله صلى الله عليه
وسلم بقوله تعالى: * (فلعلك باخع نفسك على آثارهم) *. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لا أدري ما فعلت الفرقة الساكتة وعنى بهم القائلين ومنشأ قوله هذا كما نطقت به بعض الروايات أنه سمع قوله سبحانه: * (أنجينا الذين ينهون عن السوء) * وقوله جل وعلا: * (وأخذنا الذين ظلموا) * أي بالاعتداء ومخالفة الأمر ولم يغص رضي الله تعالى عنه مع أنه الغواص فقال له عكرمة: جعلني الله فداك ألا تراهم كيف أنكروا وكرهوا ما القوم عليه وقالوا ما قالوا وإن لم يقل الله سبحانه أنجيتهم لم يقل أهلكتهم فأعجبه قوله وأمر له ببردين وقال: نجت الساكتة، ونسب الطبرسي إليه رضي الله تعالى عنه قولين آخرين في الساكتة أحدهما القول بالتوقف وثانيهما القول بالهلاك وبه قال ابن زيد، وروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه فالمأخوذ حينئذ الساكتون والظالمون * (بعذاب بئيس) * أي شديد وفسره الحبر بما لا رحمة فيه ويرجع إلى ما ذكر، وهو فعيل إما وصف أو مصدر كالنكير وصف به مبالغة، والأكثرون على كونه وصفا من بؤس يبؤس بأسا إذا اشتد.
92

وقال الراغب: البؤس والبأس والبأساء الشدة والمكروه إلا أن البؤس في الفقرة والحرب أكثر والبأس والبأساء في النكاية، وقرأ أبو بكر * (بيئس) * على فيعل كضيغم وهو من الأوزان التي تكون في الصفات والأسماء، والياء إذا زيدت في المصدر هكذا تصيره اسما أو صفة كصقل وصيقل وعينه مفتوحة في الصحيح مكسورة في المعتل كسيد، ومن هنا قيل في قراءة عاصم في رواية عنه * (بيئس) * بكسر الهمزة إنها ضعيفة رواية ودراية ويخففها أن المهموز أخو المعتل، وقرأ ابن عامر * (بئس) * بكسر الباء وسكون الهمزة على أن أصله بئس بباء مفتوحة وهمزة مكسورة كحذر فسكن للتخفيف كما قالوا في كبد كبد وفي كلمة كلمة، وقرأ نافع * (بيس) * على قلب الهمزة ياء كما قلبت في ذيب لسكونها وانكسار ما قبلها، وقيل: إن هاتين القراءتين مخرجتان على أن أصل الكلمة بئس التي هي فعل دم جعلت اسما كما في قيل وقال، والمعنى بعذاب مذموم مكروه، وقرىء * (بيس) * كريس وكيس على قلب الهمزة ياء ثم ادغامها في الياء، وقيل: على أنه من البؤس بالواو وأصله بيوس كميوت فأعل اعلاله و * (بيس) * على التخفيف كهين و * (بائس) * بزنة اسم الفاعل أي ذو بأس وشدة، وقرىء غير ذلك، وأوصل بعضهم ما فيه من القراءات إلى ست وعشرين، وتنكير العذاب للتفخيم والتهويل * (بما كانوا يفسقون) * متعلق بأخذنا كالباء الأولى ولا ضير فيه لاختلافهما معنى أي أخذناهم بما ذكر من العذاب بسبب فسقهم المستمر، ولا مانع من أن يكون ذلك سببا للأخذ كما كان سببا للابتداء وكذا لا مانع من تعليله بما ذكر بعد تعليله بالظلم الذي في حيز الصلة لأن ذلك ظلم أيضا، ولم يكتف بالأولى لما لا يخفى.
* (فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خ‍اسئين) *.
* (فلما عتوا) * أي تكبروا * (عن ما نهوا عنه) * أي عن ترك ذلك ففي الكلام تقدير مضاف إذ التكبر والأباء عن المنهى عنه لا يذم * (قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) * صاغرين أذلاء مبعدين عن كل خير والأمر تكويني لا تكليفي لأنه ليس في وسعهم حتى يكلفوا به، وهذا كقوله تعالى: * (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) * (النحل: 40) في أنه يحتمل أن يكون هناك قول وأن يكون الغرض مجرد التمثيل، والظاهر أن الله تعالى أوقع بهم نكالا في الدنيا غير المسخ فلم يقلعوا عما كانوا عليه فمسخهم قردة.
وجوز أن يكون المراد بالعذاب البئيس هو المسخ وتكون هذه الآية تفصيلا لما قبلها. روي عن ابن عباس أن اليهود إنما افترض عليهم اليوم الذي افترض عليكم وهو يوم الجمعة فخالفوا إلى يوم السبت واختاروه فحرم عليهم الصيد فيه وابتلوا به فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعا بيضا سمانا حتى لا يرى الماء من كثرتها فمكثوا ما شاء الله تعالى لا يصيدون ثم أتاهم الشيطان فقال: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا الحياض والشبكات فكانوا يسوقون الحيتان إليها فيه ثم يأخذونها يوم الأحد، وفي رواية أن رجلا منهم أخذ حوتا فحزمه بخيط ثم ضرب له وتدا في الساحل وربطه فيه وتركه في الماء فلما كان الغد جاء فأخذخ وأكله فلاموه على ذلك فلما لم يأته العذاب أخذ في السبت القابل حوتين وفعل ما فعل ولم يصبه شيء فلما رأوا أن العذاب لا يعاجلهم تجاسروا فأخذوا وملحوا وباعوا وكانوا نحوا من اثنى عشر ألفا أو من سبعين ألفا فصار أهل القرية أثلاثا كما قص الله تعالى فقال المسلمون للمعتدين نحن لا نساكنكم فقسموا القرية بجدار للمسلمين باب وللمعتدين باب وكانت القصة في زمن داود عليه السلام فلعنهم فأصبح المسلمون ذات يوم ولم يخرج من المعتدين أحد فقالوا: إن لهؤلاء لشأنا لعل الخمر غلبتهم فعلوا على الجدار فإذا القوم قردة ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت القردة أنسابها من الانس ولم تعرف الإنس انسابهم منها فجعلت تأتي إلى نسيبها فتشم
93

ثيابه وتبكي فيقول: ألم ننهكم فتقول القردة برأسها نعم ثم ماتوا بعد ثلاث. وعن قتادة أن الشبان صاروا قردة والشيوخ خنازير، وعن مجاهد أنه مسخت قلوبهم فلم يوفقوا لفعهم الحق. وأخرج ابن جرير وغيره عن الحسن قال: كان حوتا حرمه الله عليهم في يوم وأحله لهم فيما سوى ذلك فكان يأتيهم في اليوم الذي حرمه الله تعالى عليهم كأنه المخاض ما يمتنع من أحد فجعلوا يهمون ويمسكون وقلما رأيت أحدا أكثر الاهتمام بالذنب إلا واقعة حتى أخذوه فأكلوا والله أوخم أكله أكلها قوم أثقلها خزيا في الدنيا وأطولها عذابا في الآخرة وايم الله تعالى ما حوت أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله تعالى من قتل رجل مؤمن وللمؤمن أعظم حرمة عند الله سبحانه من حوت ولكن الله عز وجل جعل موعد قوم الساعة والساعة أدهى وأمر.
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة أنه كان على شاطىء البحر الذي هم عنده ضمان من حجارة مستقبلان الماء يقال لأحدهما لقيم وللآخرة لقمانة فأوحى الله تعالى إلى السمك إن حج يوم السبت إلى الصنمين وأوحى إلى أهل القرية إني قد أمرت السمك أن يحجوا إلى الصنمين يوم السبت فلا تتعرضوه فيه فإذا ذهب اليوم فشأنكم به فصيدوه فابتلى القوم ووقع منهم ما مسخوا به قردة وفي القلب من صحة هذا الأثر شيء ولعله لا صحة له كما لا يخفى على من يعرف معنى الحج من المصلين، ويشبه هذين الصنمين عين حق لأن قرب جزيرة الحديثة من العراق وهي قريبة من شاطىء الفرات السمك يزورها في أيام مخصوصة من السنة حتى يخيل أنه لم يبق في بطن الفرات حوت إلا قذف إليها فيصيد أهل ذلك الصقع منه ما شاء الله تعالى وينقلونه إلى الجزائر والقرى القريبة منهم كألوس وحبة وعانات وهيت ثم ينقطع فلا ترى سمكة
في العين بعد تلك الأيام إلى مثلها من قابل وسبحان الفعال لما يريد، واستدل بعض أهل العلم بقصة هؤلاء المعتدين على حرمة الحيل في الدين، وأيد ذلك بما أخرجه ابن بطة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل ".
* (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القي‍امة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم) *.
* (واذ تأذن ربك) * منصوب بمضمر معطوف على قوله سبحانه: * (واسئلهم) * (الأعراف: 163) وتأذن تفعل من الاذن وهو بمعنى آذن أي أعلم والتفعل يجيء بمعنى الافعال كالتوعد والايعاد، وإلى هذا يؤول ما روي عن ابن عباس من أن المعنى قال ربك، وفسره، بعضهم بعزم وهو كناية عنه أو مجاز لأن العازم على الأمر يشاور نفسه في الفعل والترك ثم يجزم فهو يطلب من النفس الاذن فيه، وفي الكشف لو جعل بمعنى الاستئذان دون الايذان كأنه يطلب الاذن من نفسه لكان وجها، وحيث جعل بمعنى عزم وكان العازم جازما فسر عزم بجزم وقضى فافاد التأكيد فلذا أجرى مجرى القسم، وأجيب بما يجاب به وهو هنا * (ليبعثن) * وجاء عزمت عليك لتفعلن، ولا يرد على هذا أنه مقتضى لجواز نسبة العزم إليه تعالى وقد صرح بمنع ذلك لأن المنع مدفوع فقد ورد عزمة من عزمات الله تعالى * (عليهم) * أي اليهود لا المعتدين الذين مسخوا قردة إذ لم يبقوا كما علمت، ويحتمل عود الضمير عليهم بناء على ما روي عن الحسن. والمراد حينئذ هم وأخلافهم، وعوده إلى اليهود والنصارى ليس بشيء وإن روي عن مجاهد، والجار متعلق بيبعثن على معنى يسلط عليهم البتة * (إلى يوم القيامة) * أي إلى انتهاء الدنيا وهو متعلق بيبعث، وقيل: بتأذن وليس
94

بالوجه ولا يصح كما لا يخفى تعلقه بالصلة في قوله سبحانه: * (من يسومهم) * يذيقهم ويوليهم * (سوء العذاب) * كالادلال. وضرب الجزية. وعدم وجود منعة لهم. وجعلهم تحت الأيدي وغير ذلك من فنون العذابد وثد بعث الله تعالى عليهم بعد سليمان عليه الصلاة والسلام بخت نصر فخرب ديارهم وقتل مقاتلتهم وسبى نساءهم وذراريهم وضرب الجزية على من بقي منهم وكانوا يؤدونها إلى المجوس حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم ففعل ما فعل ثم ضرب الجزية عليهم فلا تزال مضروبة إلى آخر الدهر.
ولا ينافي ذلك رفعها عند نزول عيسى عليه الصلاة والسلام لأن ذلك الوقت ملحق بالآخرة لقربه منها أو لأن معنى رفعه عليه السلام إياها عنهم أنه لا يقبل منهم إلا الإسلام ويخيرهم بينه وبين السيف فالقوم حينئذ إما مسلمون أو طعمة لسيوفهم فلا اسكال، وما يحصل لهم زمن الدجال مع كونه ذلافي نفسه غمامة صيف على أنهم ليسوا يهود حين التبعية * (إن ربك لسريع العقاب) * لما شاء سبحانه أن يعاقبه في الدنيا ومنهم هؤلاء، وقيل: في الآخرة، وقيل: فيهما وإنه لغفور رحيم) * لمن تاب وآمن.
* (وقطعن‍اهم في الارض أمما منهم الص‍الحون ومنهم دون ذالك وبلون‍اهم بالحسن‍ات والسيئات لعلهم يرجعون) *.
* (وقطعناهم) * أي فرقنا بني اسرائيل أو صيرناهم * (في الأرض) * وجعلنا كل فرقة منهم في قطر من أقطارها بحيث لا يكاد يخلو قطر منهم تكملة لأدبارهم حتى لا يكون لهم شوكة وهذا من مغيبات القرآن كالذي تضمنته الآية قبل، وقوله سبحانه: * (أمما) * إما مفعول ثان لقطعنا وإما حال من مفعوله * (منهم الصالحون) * وهم كما قال الطبري من آمن بالله تعالى ورسوله وثبت على دينه قبل بعث عيسى عليه الصلاة والسلام وقيل هم الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ونسب ذلك إلى ابن عباس. ومجاهد، وقيل: هم الذين وراء الصين وهو عندي وراء الصين، والجار متعلق بمحذوف خبر مقدم والصالحون مبتدأ، وجوز أن يكون فاعلا للظرف والجملة في موضع النصب صفة لأمم على الاحتمالين، وجوز أن تكون في موضع الحال وهي بدل من أمم على الاحتمال الثاني وأن تكون صفة موصوف مقدر هو البدل على الأول أي قوما منهم الصالحون * (ومنهم دون ذلك) * أي منحطون عن أولئك الصالحين غير بالغين منزلتهم في الصلاح وهم الذين امتثلوا بعض الأوامر وخالفوا بعضا مع كونهم مؤمنين، وقيل: هم الكفرة منهم بناء على أن المراد بالصلاح الإيمان، وقيل: المراد بهم ما يشمل الكفرة والفسقة، والجار متعلق بمحذوف خبر مقدم و * (دون) * على ما ذكره الطبرسي مبتدأ إلا أنه بقي مفتوحا لتمكنه في الظرفية مع إضافته إلى المبنى، ومثله على قول أبي الحسن * (بينكم) * في قوله سبحانه: * (لقد تقطع بينكم) * (الأنعام: 94) أو المبتدأ محذوف والظرف صفته أي ومنهم أناس أو فرقة دون ذلك، ومن المشهور عند النحاة أن الموصوف بظرف أو جملة يطرد حذفه إذا كان بعض اسم مجرور بمن أو في مقدم عليه كما في منا أقام ومنا ظعن، ومحط الفائدة الانقسام إلى أن هؤلاء منقسمون إلى قسمين، ومن الناس من تكلف في مثل هذا التركيب لجعل الظرف الأول صفة مبتدأة محذوف، وجعل الظرف الثاني خبرا لما ظنه داعيا لذلك، وليس بشيء، والإشارة للصالحين، وقد ذكروا أن اسم الإشارة المفرد قد يستعمل للمثنى والمجموع وقد مرت الإشارة إليه، وقيل: أشير به إلى الصلاح كما يقتضيه ظاهر الأفراد ويقدر حينئذ مضاف وهو أهل مثلا * (وبلوناهم بالحسنات) * الخصب والعافية * (والسيئات) * الجدب والشدة * (لعلهم يرجعون) * أي يتوبون عما كانوا عليه مما نهوا عنه.
* (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكت‍ابيأخذون عرض ه‍اذا الادنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكت‍ابأن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الاخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون) *.
* (فخلف من بعدهم) * أي المذكورين، وقيل:
95

الصالحين * (خلف) * أي بدل سوء مصدر نعت به ولذلك يقع على الواحد والجمع، وقيل: هو اسم جمع وهو مراد من قال: إنه جمع وهو شائع في الشر، ومنه سكت ألفا ونطق خلفا والخلف بفتح اللام في الخير وادعى بعضهم الوضع لذلك، وقيل: هما بمعنى وهو من يخلف غيره صالحا كان أو طالحا، ومن مجيء الساكن في المدح قول حسان: لنا القدم الأولى إليك وخلفنا * لأولنا في طاعة الله تابع
ومن مجيء المتحرك في الذم قول لبيد: ذهب الذين يعاش في أكنافهم * وبقيت في خلف كجلد الأجرب
وعن البصريين أنه يجوز التحريك والسكون في الردى وأما الجيد فبالتحريك فقط ووافقهم أهل اللغة إلا القراء وأبا عبيدة واشتقاقه إما من الخلافة أو من الخلوف وهو الفساد والتغير ومنه خلوف فم الصائم، وقال أبو حاتم: الخلف بالسكون الأولاد الواحد والجمع فيه سواء والخلف بالفتح البدل ولدا كان أو غريبا؛ والأكثرون على أن المراد بهؤلاء الخلف الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحينئذ لا يصح تفسير الصالحين بمن آمن به عليه الصلاة والسلام، والظاهر أنهم من اليهود وعن مجاهد أنهم النصارى وليس بذاك * (ورثوا الكت‍اب) * أي التوراة والوراثة مجاز عن كونها في أيديهم وكونهم واقفين على ما فيها بعد أسلافهم.
وقرأ الحسن * (ورثوا) * بالضم والتشديد مبنيا لما لم يسم فاعله والجملة على القراءتين في موضع الصفة لخلف وقوله سبحانه: * (يأخذون عرض هذا الأدنى) * استئناف مسوق لبيان ما يصنعون باكلتاب بعد وراثتهم إياه. وقال أبو البقاء. حال من الضمير في ورثوا واستظهره بعضهم ويكفي مقارنته لبعض زمان الوراثة لامتداده، والغرض ما لا ثبات له ومنه استعار المتكلمون العرض لمقابل الجوهر. وفي النهاية العرض بالفتح متاع الدنيا وحطامها، وقال أبو عبيدة: هو غير النقدين من متاعها وبالسكون المال والقيم، و * (الأدنى) * صفة لمحذوف أي الشيء الأدنى والمراد به الدنيا وهو من الدنو للقرب بالنسبة إلى الآخرة، وكونها من الدناءة خلاف الظاهر وان كان ذلك ظاهرا فيها لأنه مهموز، والمراد بهذا العرض ما يؤخذونه من الرشا في الحكومات وعلى تحريف الكلام * (ويقولون سيغفر لنا) * ولا يؤاخذنا الله تعالى بذلك ويتجاوز عنا، والجملة عطف على ما قبلها واحتمال الحالية يحتاج إلى تقدير مبتدأ من غير حاجة ظاهرة والفعل مسند إلى الجار والمجرور؛ وجوز أن يكون مسندا إلى ضمير يأخذون: * (وان يأتهم عرض مثله يأخذوه) * في موضع الحال قيل من ضمير يقولون، والقول بمعنى الاعتقاد أي يرجون المغفرة وهم مصرون على الذنب عائدون إلى مثله غير تائبين عنه، وقيل: من ضمير لنا والمعنى على ذلك والأول أظهر، والقول بأن تقييد القول بذلك لا يستلزم تقييد المغفرة به والمطلوب الثاني والثاني مكتفل به لا يخلو عن نظر.
واختار الحلبي والسفاقسي أن الجملة مستأنفة لا لأن الجملة الشرطية لا تقع حالا إذ وقوعها مما لا شك في صحته بل لأن في القول بالحالية نزغة اعتزالية ولا يخفى أن الأمر وإن كان كذلك إلا أن الحالية أبلغ لأن رجاءهم المغفرة في حال يضادها أوفق بالانكار عليهم فافهم * (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب) * أي الميثاق المذكور
96

في التوراة فالإضافة على معنى في، ويجوز أن تكون اختصاصية على معنى اللام ويؤول المعنى إلى ما ذكر، وال في الكتاب للعهد، وقوله سبحانه: * (أن لا يقولوا على الله إلا الحق) * عطف بيان للميثاق، وقيل: بدل منه، وقيل: إنه مفعول لأجله، وقيل: إنه متعلق بميثاق بتقدير حرف الجر أي بأن لا يقولونا، وجوز في * (أن) * أن تكون مصدرية وأن تكون مفسرة لميثاق لأنه بمعنى القول، وفي * (لا) * أن تكون ناهية وأن تكون نافية واعتبار كل مع ما يصح معه مفوض إلى ذهنك، والمراد من الآية توبيخ أولئك الورثة على بتهم القول بالمغفرة مع إصرارهم على ما هم عليه. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم وبخوا على إيجابهم على الله تعالى غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون إليها ولا يتوبون منها، وجاء البت من السين فإنها للتأكيد كما نص عليه المحققون، وقد عرض الزمخشري عامله الله تعالى بعدله في تفسير هذه الآية بأهل السنة، وزعم أن مذهبهم هو مذهب اليهود بعينه حيث جوزوا غفران الذنب من غير توبة، ونقل عن التوراة من ارتكب ذنبا عظيما فإنه لا يغفر له إلا بالتوبة، وأنت تعلم أن اليهود أكدوا القول بالغفران وأهل السنة لا يجزمون في المطيع بالغفران فضلا عن العاصي بما هو حق الله تعالى فضلا عمن عصاه سبحانه فيما هو من حقوق العباد فالموجبون على الله تعالى وإن كان بالنسبة إلى التائب أقرب إليهم فهل ما ادعاه إلا من قبيل ما جاء في المثل - رمتني بدائها وانسلت - وما نقله عن التوراة إن كان استنباطا من الآية فلا تدل على ما في الكشف إلا على تحريفهم ما في التوراة من نعت النبي صلى الله عليه وسلم وآية الرجم ونحو ذلك من تسهيلا تهم على الخاصة وتخفيفاتهم على العامة يأخدون الرشا بذلك والتقول على الله عظيمة وإن كان قد قرأ التوراة التي لم تحرف وأنها هي تعين الحمل على الشرك بقواطع من كتاب الله تعالى الكريم أو يكون ذلك لهم وهذا لهذه الأمة المرحومة خاصة، وقد سلم هو نحوا منه في قوله سبحانه: * (يغفر لكم من ذنوبكم) * (إبراهيم: 10) وقد أطبق أهل السنة على ذم المتمني على الله، ورووا عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله سبحانه "، ومن هنا قيل: إن القوم ذمو بأكلهم أموال الناسبالباطل وإتباع أنفسهم هواها وتمنيهم على الله سبحانه ووبخوا على افترائهم على الله في الأحكام التي غيروها وأخذوا عرض هذا الأدنى على تغييرها فكأنه قيل: الم يؤخذ عليهم الميثاق المذكور في كتابهم أن لا يقولوا على الله تعالى في وقت من الأوقات إلا الحق الذي تضمنه الكتاب فلم حكموا بخلافه وقالوا: هو من عند الله وما هو من عند الله ليشتروا به ثمنا فليلا؟ وفيه مع مخالفته لما روي عن الحبر مخالفة للظاهر. وقرأ الجحدري * (أن لا تقولوا) * بالخطاب على الالتفات * (ودرسوا ما فيه) * أي قرأوه فهم ذاكرون لذلك، وهو عطف على * (ألم يؤخذ) * من حيث المعنى وإن اختلفا خبرا وانشاءا إذ المعنى أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا الخ، وجوز كونه عطفا على * (لم يؤخذ) * والاستفهام التقريري داخل عليهما وهو خلاف الظاهر أو على ورثوا وتكون جملة * (ألم يؤخذ) * معترضة وما قبلها حالية أو يكون المجموع اعتراضا كما قيل ولا مانع منه خلا ان الطبرسي نقل عن بعضهم تفسير درسوا على هذا الوجه من العطف بتركوا وضيعوا وفيه بعد.
وقيل: إن الجملة في موضع الحال من ضمير يقولوا باضمار قد أي أخذ عليهم الميثاق بأن لا يقولوا على الله إلا الحق الذي تضمنه كتابهم في حال دراستهم ما فيه وتذكرهم له وهو كما ترى. وقرأ السلمي * (ادارسوا) * بتشديد الدال وألف بعدها وأصله تدارسوا فادغمت التاء في الدال واجتلبت لها همزة الوصل.
97

* (واالدار الأخرة خير للذين يتقون) * الله تعالى ويخافون عقابه فلا يفعلون ما فعل * (أفلا تعقلون) * فتعلموا ذلك ولا تستبدلوا الأدنى المؤدي إلى العذاب بالنعيم المقيم، وهو خطاب لأولئك المأخوذ عليهم الميثاق الآخذين لعرض هذا الأدنى؛ وفي الالتفات تشديد للتوبيخ، وقيل: هو خطاب للمؤمنين ولا التفات فيه.
وقرأ جمع بالياء على الغيبة وبالتاء وقرأ نافع. وابن عامر. وابن ذكوان. وأبو جعفر. وسهل. ويعقوب. وحفص. وهذه الآية ظاهرة في التوبيخ على الأخذ، وجعل بعضهم قوله سبحانه: * (ألم يؤخذ عليهم) * الخ توبيخا على ذلك القول ففي الآية ما هو من قبيل ما فيه اللف والنشر.
* (والذين يمسكون بالكت‍ابوأقاموا الصلواة إنا لا نضيع أجر المصلحين) *.
* (والذين يمسكون بالكت‍اب) * أي يتمسكون به في أمور دينهم يقال: مسك بالشيء وتمسك به بمعنى، قال مجاهد. وابن زيد: هم الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه تمسكوا بالكتاب الذي جاء به موسى عليه السلام فلم يحرفوه ولم يكتموه ولم يتخذوه مأكلة وقال عطاء: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم والمراد من الكتاب القرآن الجليل الشأن، وقرأ أبو بكر. وحما * (يمسكون) * التخفيف من الإمساك، وابن مسعود * (استمسكوا) *، وأبي * (مسكوا) * وفي ذلك موافقة لقوله تعالى: * (وأقاموا الصلوة) * ولعل التغيير في المشهور للدلالة على أن التمسك أمر مستمر في جميع الأزمنة بخلاف الإقامة فإنها مختصة بالأوقات المخصوصة، وتخصيصها بالذكر من بين سائر العبادات مع دخولها بالتمسك بالكتاب لانافتها عليها لأنها عماد الدين، ومحل الموصول إما الجر عطفا على الذين يتقون، وقوله تعالى: * (أفلا تعقلون) * اعتراض مقرر لما قبله، والاعتراض قد يقرن بالفاء كقوله: فاعلم فعلم المرء ينفعه * أن سوف يأتي كل ما قدرا
وإما الرفع على الابتداء والخبر قوله سبحانه: * (إنا لا نضيع أجر المصلحين) * والرابط إما الضمير المحذوف كما هو رأي جمهور البصريين أي أجر المصلحين منهم وإما الألف واللام كما هو رأي الكوفيين فإنها كالعوض عن الضمير فكأنه قيل مصلحيهم، وأما العموم في المصلحين فإنه على المشهور من الروابط ومنه نعم الرجل زيد على أحد الأوجه أو وضع الظاهر موضع المضمر بناء على أن الأصل لا نضيع أجرهم إلا أنه غير لما ذكر تنبيها على أن الصلاح كالمانع من التضييع لأن التعليق بالمشتق يفيد علية مأخذ الاشتقاق فكأنه قيل: لا نضيع أجرهم لصلاحهم.
وقيل: الخبر محذوف والتقدير والذين يمسكون بالكتاب مأجورون أو مثابون، وقوله سبحانه: * (إنا لا نضيع) * الخ حينئذ اعتراض مقرر لما قبله
* (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا مآ ءاتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون) *
* (وإذ نتقنا الجبل فوقهم) * عطف على ما قبل بتقدير اذكر والنتق الرفع كما روي عن ابن عباس. وإليه ذهب ابن الأعرابي، وعن أبي مسلم أنه الجذب، ومنه نتقت الغرب من البئر، وعن أبي عبيدة أنه القلع وما روي عن الحبر أوفق بقوله سبحانه: * (ورفعنا فوقهم الطور) * (النساء: 154) وعلى القولين الأخيرين يضمن معنى الرفع ليتطابق الآيتان، والمراد بالجبل الطور أو جبل غيره وكان فرسخا في فرسخ كمعسكر القوم فأمر الله تعالى جبريل عليه السلام لما توقفوا عن أخذ التوراة وقبولها إذ جاءتهم جملة مشتملة على ما يستثقلونه فقلعه من أصله ورفعه عليهم * (كأنه ظلة) * أي غمامة أو سقيفة؛ وفسرت بذلك مع أنها كل ما علا وأظل لأجل حرف التشبيه إذ لولاه لم يكن لدخوله وجه و * (فوق) * ظرف لنتقنا أو حال
98

من الجبل مخصصة على ما قيل للرفع ببعض جهات العلو، والجملة الاسمية بعد في موضع الحال أيضا أي مشابها ذلك * (وظنوا) * أي تيقنوا * (أنه واقع بهم) * أي ساقط عليهم إن لم يقبلوا يوعدون بذلك بهذا الشرط والصادق لا يتخلف ما أخبر به لكن لما لم يكن المفعول واقعا لعدم شرطه أشبه المظنون الذي قد يتخلف فلهذاسمي ذلك ظنا.
وقيل: تيقنوا ذلك لأن الجبل لا يثبت في الجو، واعترض بأن عدم ثبوته فيه لا يقتضي التيقن لأنه على جري العادة وأما على خرقها فالثابت الثبوت والواقع عدم الوقوع ويكون ذلك كرفعه فوقهم ووقوفه هناك حتى كان ما كان منهم، والحق أن المتيقن لهم الوقوع إن لم يقبلوا لكونه المعلق عليه، ففي الأثر أن بني إسرائيل أبوا أن يقبلوا التوراة فرفع الجبل فوقهم، وقيل: إن قبلتم وإلا ليقعن عليكم فوقع كل منهم ساجدا على حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقا من سقوطه فلذلك لا ترى يهوديا يسجد إلا على حاجبه الأيسر ويقولون: هي السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة وامتثلوا ما أمروا به ولا يقدح في ذلك احتمال الثبوت على خرق العادة كما لا يقدح فيه عدم الوقوع إذا قبلوا، ألا ترى إلى أنه يتيقن احتراق ما وقع في النار مع إمكان عدمه كما في قصة الخليل عليه الصلاة والسلام، وذهب الرماني. والجبائي إلى أن الظن على بابه، والمراد قوي في نفوسهم أنه واقع، واختاره بعض المحققين، والجملة مستأنفة، وجوز أن تكون معطوفة على نتقنا أو حالا بتقدير قد كما قال أبو البقاء * (خذوا) * أي وقلنا خذوا أو قائلين خذوا * (ما ءاتيناكم) * من الكتاب * (بقوة) * أي بجد وعزم على تحمل مشاقه، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من الواو، والمراد خذوا ذلك مجدين * (واذكروا ما فيه) * أي اعملوا به ولا تتركوه كالمنسي وهو كناية عن ذلك أو مجاز.
وقرأ ابن مسعود * (وتذكروا) * وقرىء واذكروا بمعنى وتذكروا * (لعلكم تتقون) * بذلك قبائح الأعمال ورذائل الأخلاق أو راجين أن تنتظموا في سلك المتقين.
وجوز أن يراد بما آتيناكم الآية العظيمة أعني نتق الجبل أي خذوا ذلك إن كنتم تطيقونه كقوله تعالى * (إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا) * (الرحمان: 33) واذكروا ما فيه من القدرة الباهرة والإنذار، وعلى هذا فالمراد من نتق الجبل إظهار العجز لا غير، والكلام نظير قولك لمن يدعي الصرعة والقوة بعد ما غلبته: خذه مني، وحاصله إن كنتم تطلبون آية قاهرة وتقترحونها فخذوا ما آتيناكم إن كنتم تطيقونه، ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر والآثار على خلافه.
* (وإذ أخذ ربك من بنىءادم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنآ أن تقولوا يوم القي‍امة إنا كنا عن ه‍اذا غ‍افلين) *.
* (وإذ أخذ ربك) * منصوب بمضمر على طرز ما سلف في نظائره وهو معطوف على ما قبل مسوق لإلزام اليهود بمقتضى الميثاق العام فإن منهم من أشرك فقال: عزير بن الله عز اسمه بعد إلزامهم بالميثاق المخصوص بهم والاحتجاج عليهم بالحجج السمعية والعقلية ومنعهم عن التقليد، وبعضهم جوز أن يكون تذييلا تعميما بعد التخصيص وإظهارا لتمادي هؤلاء اليهود في الغي ومنعهم عن التقليد، وبعضهم جوز أن يكون تذييلا تعميما بعد التخصيص وإظهارا لتمادي هؤلاء اليهود في الغي بعد أخذ
الميثاق الخاص المدلول عليه بقوله سبحانه: * (وإذ نتقنا الجبل) * (الأعراف: 171) لقوله جل وعلا: * (وإذا أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الصور) * (البقرة: 63)، وعليه فلا عطف وهو أظهر من التذييل نظرا إلى ظاهر اللفظ وأولى منه إذا خص العام بالمشركين كما قيل، وقد يقال: إن الآية مسوقة لبيان أخذ ميثاق سابق من جميع الخلق مؤمنهم
99

وكافرهم قبل هذه النشأة بما هو أهم الأمور والأصل الأصيل لجميع التكليفات على وجه خال مما يشبه الإكراه متضمن لإلزام المشركين المعاصرين له صلى الله عليه وسلم ورفع احتجاجهم ما كانوا بعد الإشارة إلى أخذ ميثاق من قوم مخصوصين في هذه النشأة على وجه هو أشبه الأشياء بالإكراه بما الظاهر فيه أنه من الأعمال لأن القوم إذ ذاك كانوا مقرين بالربوبية بل بها وبرسالة موسى عليه السلام فلم يكن حاجة إلى نتق الجبل فوقهم لذلك ولو قال قائل: إن ذكر ذلك خلال الآيات المتعلقة باليهود من باب الاستطراد والمناسبة فيه ظاهرة لم يبعد لكن الأول وهو الذي جرى عليه أكثر متأخري المفسرين أي واذكر لهم أو للناس إذ أخذ ربك * (من بني ءادم) * المراد بهم الذين ولد لهم مؤمنين كانوا أو كفارا نسلا بعد نسل سوى من لم يولد له بسبب من الأسباب وتخصيصهم بأسلاف اليهود الذي أشركوا بالله تعالى حيث قالوا ما قالوا مما لا يكاد يلتفت إليه.
وإيثار الأخذ على الإخراج للإيذان بشأن المأخوذ إذ ذاك لما فيه من الأنباء عن الاجتباء والاصطفاء وهو السبب في إسناده في اسم الرب بطريق الالتفات مع ما فيه من التمهيد للاستفهام الآتي، وإضافته إلى ضميره عليه الصلاة والسلام للتشريف، وقيل: إن إيثار الأخذ على الإخراج لمناسبة ما تضمنته الآية من الميثاق فإن الذي يناسبه هو الأخذ دون الإخراج، والتعبير بالرب لما أن ذلك الأخذ باعتبار ما يتبعه من آثار الربوبية، واستأنس بعضهم بمغايرة أسلوب هذا الكلام بما فيه من الالتفات لما قبله من قوله سبحانه وتعالى: * (وإذ نتقنا) * ولما بعده من قوله تعالى: * (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا) * (الأعراف: 175) لكونه استطراديا، وقوله تعالى: * (من ظهورهم) * بدل من بني آدم بدل البعض من الكل بتكرير الجار كما في قوله سبحانه وتعالى: * (للذين استضعفوا لمن آمن) * (الأعراف: 75) وقيل: بدل اشتمال وإليه ذهب أبو البقا، ء وبينه بعضهم بأن بدل الاشتمال ما يكون بينه وبين المبدل منه ملابسة بحيث توجب النسبة إلى المتبوع النبسة إلى التابع إجمالا نحو أعجبني زيد علمه فإنه يعلم ابتداء أن زيدا معجب باعتبار صفاته لا باعتبار ذاته وتتضمن نسبة الأعجاب إليه نسبته إلى صفة من صفاته إجمالا، ونسبة الأخذ الذي هو بمعنى الإخراج هنا إلى بنء آدم نسبة إلى ظهورهم إجمالا لأنه يعمل ابتداء أن بني آدم ليسوا مأخوذين باعتبار ذواتهم بل باعتبار أجسادهم وأعضائهم وتتضمن نسبة الأخذ إليهم نسبته إلى أعضائهم إجمالا، وادعى أن القول به أولى من القول ببدل البعض لأن النسبة إلى المبدل منه الكل تكون تامة وتحصل بها الفائدة بدون ذكر البدل نحو أكلت الرغيف نصفه فإن النبسة تامة لو لم يذكر النصف ولا شك أن النسبة هنا ليست تامة بدون ذكر البدل. وأيضا أن الظهور ليس بعض بني آدم حقيقة بل بعض أعضائهم ولا يخفى ما في ذلك من النظر. و * (من) * في الموضعين ابتدائية، وفيه مزيد تقرير لابتنائه على البيان بعد الإبهام والتفصيل غب الإجمال، قيل: وتنبيه على أن الميثاق قد أخذ منهم وهم في أصلاب الآباء ولم يستودعوا في أرحام الأمهات وقوله تعالى: * (ذريتهم) * مفعول * (أخذ) * أخر عن المفعول بواسطة الجار لاشتماله على ضمير راجع إليه فيلزم بالتقديم رجوع الضمير إلى متأخر لفظا ورتبة وهو لا يجوز إلا في مواضع ليس هذا منها ولمراعاة أصالته ومنشئيته ولمامر غير مرة من التشويق إلى المؤخر. وقرأ نافع وأبو عمرو. وابن عامر. ويعقوب * (ذرياتهم) * والمراد أولادهم على العموم، ومن خص بني آدم بأسلاف اليهود على ما مر خص هذا بأخلافهم وفيه ما فيه، والإشكال المشهور وهو أن كل الناس يصدق عليه بنو آدم وذريته فيتحد المخرج والمخرج منه مدفوع بظهور أن المراد إخراج
100

الفروع من الأصول حسب ترتب الولاد ولا يتوقف التخلص عنه على القول بذلك التخصيص.
* (وأشهدهم على أنفسهم) * أي أشهد كل واحد من أولئك الذرية المأخوذين من ظهور آبائهم على أنفسهم لا على غيرهم تقريرا لهم بربوبيته سبحانه وتعالى التامة قائلا لهم: * (ألست بربكم) * أي مالك أمركم ومربيكم على الإطلاق من غير أن يكون لأحد مدخل في شأن من شؤنكم * (قالوا) * في جوابه سبحانه وتعالى * (بلى شهدنا) * أي على أنفسنا بأنك ربنا لا رب لنا غيرك والمراد اقررنا بذلك، وجاء أن القاضي شريح قال لمقر عنده شهد عليك ابن أخت خالتك، ومن هنا قال الجلال السيوطي: إن هذه الآية أصل في الإقرار و * (بلى) * حرف جواب وألفها أصلية عند الجمهور، وقال جمع: الأصل بل والألف زائدة وبعض أولئك يقول: إنها لتأنيث الكلمة كالتاء في ثمت وربت لأنها أميلت ولو لم تكن للتأنيث لكانت زائدة لمجرد التكثير كالف قبعثري وتلك لا تمال، وتختص بالنفي فلا تقع إلا في جوابه فتفيد إبطاله سواء كان مجردا أو مقرونا بالاستفهام حقيقيا كان أو تقريريا، وقد أجروا النفي مع التقرير مجرى النفي المجرد في رده ببلى كما في هذه الآية، ولذلك قال ابن عباس وغيره لو قالوا نعم لكفروا. ووجهه أن نعم تصديق للمختبر بنفي أو إيجاب، ولذلك قال جماعة من الفقاء: لو قال أليس لي عليك ألف؟ فقال: بلى لزمته؛ ونعم لا. وقال آخرون: تلزمه فيهما وجروا فيه على مقتضى العرف لا اللغة.
ونازع السهيلي وجماعة في المحكى عن الحبر وغيره متمسكين بأن الاستفهام التقريري موجب ولذلك امتنع سيبويه من جعل * (أم) * متصلة على ما قيل في قوله تعالى: * (أفلا تبصرون) * (القصص: 72) * (أم أنا خير من) * (الزخرف: 52) فإنها لا تقع بعد الإيجاب وإذا ثبت أنه إجياب فنعم بعد الإيجاب تصديق له، قال ابن هشام: ويشكل عليهم أن بلى لا يجاب بها الإيجاب وذلك متفق عليه و * (بلى قد جاءتك آياتي) * (الزمر: 59) متقدم فيه ما يدل على النفي لكن وقع في الحديث ما يقتضي أنها يجاب بها الاستفهام المجرد ففي " صحيح البخاري " أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: " أترضون أن تكونوا رفع أهل الجنة؟ قالوا: بلى " وفي " صحيح مسلم " أنه صلى الله عليه وسلم قال: " أنت الذي لقيتني بمكة فقال له المجيب: بلى " وليس لهؤلاء أن يحتجوا بذلك لأنه قليل فلا يتخرج عليه التنزيل انتهى. وأجاب البدر الدماميني بأنه لا إشكال في الحقيقة فإن هؤلاء راعوا صورة النفي المنطوق به فيجاب ببلى حيث يراد إبطال النفي الواقع بعد الهمزة وجوزوا الجواب بنعم
على أنه تصديق لمضمون الكلام جميعه الهمزة ومدخولها وهو إيجاب كما سلف ودعواه الاتفاق مناقش فيها أما إن أراد الإيجاب المجرد من النفي بالمرة فقد حكى الرضى الخلاف فيه، وذكر أن بعضهم أجاز استعمالها بعده تمسكا بقوله: وقد بعدت بالوصل بيني وبينها * بلى إن من زار القبور ليبعدا
وإن أراد ما هو الأعم حتى يشمل التقرير المصاحب للنفي فالخلاف فيه موجود مشهور ذكره هو في حرف النون انتهى، ولا يخفى أن البيت شاذ كما صرح به الرضى، والمذكور في بحث النون أن جماعة من المتقدمين والمتأخرين منهم الشلوبين قالوا: إنه إذا كان قبل النفي استفهام فإن كان على حقيقته فجوابه كجواب النفي المجرد وإن كان مرادا به التقرير فالأكثر أن يجاب بما يجاب به النفي رعيا للفظه، ويجوز عند أمن اللبس أن يجاب بما يجاب به الإيجاب رعيا لمعناه وعلى ذلك قول الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم نعم وقد قال لهم: ألستم ترون لهم ذلك وقول جحدر:
101

أليس الليل يجمع أم عمرو * وإيانا فداك بنا تداني
نعم وأرى الهلال كما تراه * ويعلوها النهار كما علاني
وعلى ذلك جرى كلام سيبويه، وقال ابن عصفور: أجرت العرب التقرير في الجواب مجرى النفي المحض وإن كان إيجابا في المعنى فإذا قيل: ألم أعطك درهما قيل في تصديقه: نعم وفي تكذيبه بلى، وذلك لأن المقرر قد يوافقك فيما تدعيه وقد يخالفك فإذا قال: نعم لم يعلم هل أراد نعم لم تعطني على اللفظ أو نعم أعطيتني على المعنى فلذلك أجابوه على اللفظ ولم يلتفتوا إلى المعنى. وأما نعم في بيت جحدر فجواب لغير مذكور وهو ما قدره اعتقاده من أن الليل يجمعه وأم عمرو وجاز ذلك لأمن اللبس لعلمه أن كل أحد يعلم أن الليل يجمعه مع أن عمرو، أو هو جواب لقوله: وأرى الهلال قدم عليه وأما قول الأنصار: فجاز لأمن الليس لأنه قد علم أنهم يريدون نعم يعرف لهم ذلك، وعلى هذا يحمل استعماله سيبويه لها بعد التقرير انتهى.
والأحسن أن تكون نعم في البيت جوابا لقوله: فذاك بنا تداني، ثم قال ابن هشام: ويتحرر على هذا أنه لو أجيب * (ألست بربكم) * بنعم لم يكف في الإقرار لأنه سبحانه وتعالى أوجب في الإقرار بما يتعلق بالربوبية ما لا يحتمل غير المعنى المراد من المقر، ولهذا لا يدخل في الإسلام بقوله لا إله إلا الله برفع إله لاحتماله لنفي الوحدة، ولعل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إنما قال: إنهم لو قالوا: نعم لم يكن إقرارا وافيا، وجوز الشلوبين أن يكون مراده رضي الله تعالى عنه أنهم لو قالوا نعم جوابا للملفوظ على ما هو الأفصح لكان كفرا إذ لأصل تطابق السؤال والجواب لفظا، وفيه نظر لأن التكفير لا يكون بالاحتمال، والكلام عند جمع تمثيل لخلقه تعالى الخلق جميعا في مبدأ الفطرة مستعدين للاستدلال بالأدلة الآفاقية والأنفسية المؤدية إلى التوحيد كما نطق به قوله صلى الله عليه وسلم: " كل مولود يولد على الفطرة " الحديث مبني على تشبيه الهيئة المنتزعة من تعريضه سبحانه وتعالى إياهم لمعرفة ربوبيته ووحدانيته بعد تمكينهم منها بما ركز فيهم من العقول والبصائر ونصب لهم في الآفاق والأنفس من الدلائل تمكينا تاما ومن تمكنهم منها تمكنا كاملا وتعرضهم لها تعرضا قويا بهيئة منتزعة من حمله تعالى إياهم على الاعتراف بها بطريق الأمر ومن مسارعتهم إلى ذلك من غير تلعثم أصلا من غير أن يكون هناك أخذ وإشهاد وسؤال وجواب، ونظير ذلك في قول ما في قوله سبحانه وتعالى: * (فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) * ومن ذلك سائر ما يحكى عن الحيوان والجماد كقوله: شكا إلى جملي طول السري * مهللا رويدا فكلانا مبتلي
وقوله: امتلأ الحوض وقال قطني * مهلا رويدا قد ملأت بطني
وجعلوا قوله سبحانه وتعالى: * (أن تقولوا) * من تلوين الخطاب وصرفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاصريه من اليهود تشديدا في الإلزام أو إليهم إلى متقدميهم بطريق التغليب وهو مفعول له لما قبله من الأخذ والإشهاد أو لمقدر يدل عليه ذلك، والمعنى على ما يقول البصريون: فعلنا مافعلنا كراهة أن تقولوا وعلى ما يقول الكوفوين: لئلا تقولوا * (يوم القي‍امة) * عند ظهور الأمر وإحاطة العذاب بمن أشرك * (إنا كنا عن هذا) * أي وحدنية الربوبية * (غ‍افلين) * لم ننبه عليه، وإنما لم يسعهم هذا الاعتذار
102

حينئذ على ما قيل لأنهم نبوا بنصب الأدلة وجعلوا متهيئين تهيأ تاما لتحقيق الحق وإنكار ذلك مكابرة فكيف يمكنهم أن يقولوا ذلك.
* (أو تقولوا إنمآ أشرك ءاباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) *.
* (أو تقولوا) * في ذلك اليوم * (إنما أشرك أباؤنا من قبل) * أي إن آباءنا هم اخترعوا الإشراك وهم سنوه من قبل زماننا * (وكنا) * نحن * (ذرية من بعدهم) * لا نهتدي إلى سبيل التوحيد * (أفتهلكنا) * أي أتؤاخذنا فتهلكنا اليوم بالعذاب * (بما فعل المبطلون) * من آبائنا المضلين لا نراك تفعل. و * (أو) * لمنع الخلو دون الجمع، وفعل القول عطف على نظيره. وقرأهما أبو عمرو بالياء على الغيبة لأن صدر الكلام عليها، ووجه قراءة الخطاب ما علمت. وقال البعض: إن ذاك لقول الرب تعالى ربكم وإنما وإنما لم يسع القوم هذا القول ون ما ذكر من استعدادهم يضيق عليهم المسالك إليه إذ التقليد عند قيام الدلائل والقدرة على الاستدلال بها مما لا مساغ إليه أصلا. هذا والذي عليه المحدثون والصوفية قاطبة أن الله تعالى أخذ من العباد بأسرهم ميثاقا قاليا قبل أن يظهروا بهذه البنية المخصوصة وأن الإخراج من الظهور كان قبل أيضا.
فقد أخرج أحمد. والنسائي. وابن جرير. وابن مردويه. والحاكم وصححه. والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تعالى أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان يوم عرفة فاخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنشرها بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا ".
أخرج مالك في الموطى. وأحمد. وعبد بن حميد. والبخاري في التاريخ. وأبو داود. والترمذي وحسنه. والنسائي. وابن جرير وخلق كثير عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه سئل عن هذه الآية * (وإذ أخذ ربك) * (الأعراف: 172) الخ فقال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل
عنها فقال: إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال الرجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال: إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله الله الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله الله تعالى النار " والبيضاوي حمل الآية في تفسيره على التمثيل وكذا في شرحه للمصابيح وذكر فيه أن ظاهر حديث عمر رضي الله تعالى عنه لا يساعد ذلك ولا ظاهر الآية لأنه سبحانه وتعالى لو أراد أن يذكر أنه استخرج الذرية من صلب آدم دفعة واحدة لا على توليد بعضهم من بعض على مر الزمان لقال: وإذ أخذ ربك من ظهر آدم ذريته، والتوفيق بينهما أن يقال: المراد من بني آدم في الآية وأولاده وكأنه صار اسما للنوع كالإنسان والبشر، والمراد بالإخراج توليد بعضهم من بعض على مر الزمان واقتصر في الحديث على ذكر آدم اكتفاء بذكر الأصل عن ذكر الفرع، وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث " مسح ظهر آدم " يحتمل أن يكون الماسح الملك الموكل على تصوير الأجنة وتخليقها وجمع موادها وأسند إلى الله تعالى لأنه الآمر كما أسند التوفي إليه قوله تعالى: * (يتوفى الأنفس حين موتها) * (الزمر: 42) والمتوفي لها هو الملك لقوله تعالى: * (تتوفاهم الملائكة) * (النحل: 28) ويحتمل أن يكون الماسح هو الله تعالى ويكون المسح من باب التمثيل، وقيل: هو من المساحة بمعنى التقدير كأنه قال: قدر ما فظهره من الذرية انتهى كلامه. وقال بعضهم: ليس المعنى في الحديث أنه تعالى أخرج الكل من ظهر آدم عليه السلام بالذات بل أخرج من ظهره أبناءه الصلبية ومن ظهورهم
103

أبناءهم الصلبية وهكذا إلى آخر السلسلة لكن لما كان المظهر الأصلي ظهره عليه الصلاة والسلام وكان مساق الحديث بيان حال الفريقين إجمالا من غير أن يتعلق بذكر الوسائط غرض علمي نسب إخراج الكل إليه، وأما الآية الكريمة فحيث كانت مسوقة للاحتجاج على الكفرة المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان عدم إفادة الاعتذار بإسناد الإشراك إلى آبائهم اقتضى الحال نسبة إخراج كل واحد منهم إلى ظهر أبيه من غير تعرض لإخراج الأبناء الصلبية لآدم عليه السلام من ظهره قطعا، وعدم بيان الميثاق في الخبر العمري ليس بيانا لعدمه ولا مستلزما له اه‍. وأنت تعلم أن التأويل الذي ذكره البيضاوي يأبى عنه كل الآباء حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأن ما ذكره البعض من أن مساق الحديث بيان حال الفريقين إجمالا يأباه ظهور عدم كون السؤال عن حالهما ليساق الحديث لبيانه فإن الظاهر أن الصحابي إنما سأله عليه الصلاة والسلام عما أشكل عليه من معنى الآية أن الاشهاد هل هو حقيقة أم على الاستعارة؟ فلما أجابه صلى الله عليه وسلم بما عرف منه ما أراده سكت لأنه كان بليغا ولو أشكل عليه من جهة أخرى لكان الواجب بيان تلك الجهة وكذا فهم الفاروق رضي الله تعالى عنه.
ومن هنا يعلم أن قول الإمام أن ظاهر الآية يدل على إخراج الذرية من ظهر بني آدم، وليس فيها ما يدل على أنهم أخرجوا من صلب آدم ولا ما يدل على نفيه إلا أن الخبر دل عليه فيثبت خروجهم من آدم بالحديث ومن بنيه بالآية لا يطابق سياق الحديث كما لا يخفى، وقال الشيخ شهاب الدين التوربشتي: إنما جد كثير من أهل العلم في الهرب عن القول في معنى الآية بما يقتضيه ظاهر خبر الحبر لمكان قول سبحانه: * (إن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) * (الأعراف: 172) فقالوا: إن كان هذا الإقرار عن اضطرار حيث كوشفوا بحقيقة الأمر وشاهدوه عين اليقين فلهم ذلك اليوم أن يقولوا: شهدنا يومئذ فلما زال عنا علم الضرورة ووكلنا إلى آرائنا كان منا من أصاب ومنا من أخطأ وإن كان عن استدلال ولكنهم عصموا عنده من الخطأ فلهم أيضا أن يقولوا: أيدنا يوم الإقرار بتوفيق وعصمه وحرمناهما من بعد ولو امددنا بهما أبدا لكانت شهادتنا في كل حين كشهادتنا في اليوم الأول فيتعين حينئذ أن يراد بالميثاق ما ركب الله تعالى فيهم من العقول وآتاهم من البصائر لأنها هي الحجة البالغة والمانعة عن قولهم إنا كنا الخ لأن الله تعالى جعل الإقرار والتمكن من معرفة ربوبيته ووحدانيته سبحانه حجة عليهم في الإشراك كما جعل بعث الرسول حجة عليهم في الايمان بما أخبر عنه من الغيوب انتهى.
وحاصله أنه لو لم تؤول الآية بما ذكر يلزم أن لا يكون محجوجين يوم القيامة، وقد أجيب عنه باختبار كل من الشقين ورفع محذوره. أما الأول: فبأن يقال: إذا قالوا شهدنا يومئذ فلما زال علم الضرورة ووكلنا إلى آرائنا كان كذا أيها الكذابون متى وكلتم إلى إرائكم ألم نرسل رسلنا تترى ليوقظكم عن سنة الغفلة؟ وأما الثاني: فبأن يقال: إن هذا مشترك الالزام فإنه إذا قيل لهم: ألم نمنحكم العقول والبصائر: فلهم أن يقولوا؟ فإذا حرمنا اللطف والتوفيق فأي منفعة لنا في العقل والبصيرة؟ وذكر محيى السنة في جواب أنه كيف تلزم الحجة ولا أحد يذكر ذلك الميثاق أن الله تعالى قد أوضح الدلائل على وحدانيته وصدق رسله فيما أخبروا به فمن أنكره كان معاندا ناقضا للعهد ولزمته الحجة ونسيانه وعدم حفظه لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر الصادق، ولا يخفى ما فيخ، ولهذا أجاب بعضهم بأن قوله تعالى: * (أن تقولوا) * الخ ليس مفعولا له لقوله تعالى: * (وأشهدهم) * وما يتفرع عليه من قولهم
104

* (بلى شهدنا) * حتى يجب كون ذلك الإشهاد والشهادة محفوظا لهم في إلزامهم بل لفعل مضمر ينسحب عليه الكلام، والمعنى فعلنا ما فعلنا من الأمر بذكر الميثاق وبيانه كراهة أن تقولوا أو لئلا تقولوا أيها الكفرة يوم القيامة إنا كنا غافلين عن ذلك الميثاق لم ننبه عليه في دار التكليف وإلا لعملنا بموجبه، هذا على قراءة الجمهور، أما على القراءة الأخرى فهو مفعول له لنفس الأمر المضمر العامل في * (إذ أخذ) * والمعنى اذكر لهم الميثاق المأخوذ منهم فيما مضى لئلا يعتذروا يوم القيامة بالغفلة عنه أو بتقليد الآباء، ثم قال: هذا على تقدير كون شهدنا من كلام الذرية وهو الظاهر فإما على تقدير كونه من كلام الله تعالى فهو العامل في * (أن تقولوا) * ولا محذور أصلا والمعنى شهدنا قولكم هذا لئلا تقولوا يوم القيامة الخ لأنا نردكم ونكذبكم حينئذ انتهى.
ولا يخفى أن ما ذكره أولا من تعلق * (أن) * وما بعدها بفعل مضمر ينسحب عليه الكلام أو بنفس الفعل المضمر العامل في * (إذ) * وضاح في دفع السؤال الذي أشرنا إليه، وإنه لعمري في غاية الحسن إلا أن الظاهر تعلقه بالاشهاد وما يتفرع عليه، وأرى الجواب مع عدم العدول عنه لا يخلو عن العدول عنه، ويؤيد ماذكره ثانيا من كون * (شهدنا) * من كلام الله تعالى وكونه العامل ما أخرجه ابن عبد البر في التمهيد من طريق السدي عن أبي مالك. وعن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما. وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وناس من الصحابة أنهم قالوا في الآية: لما أخرج الله تعالى آدم من الجنة قبل تهبيطه من السماء مسح صفح ظهره اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتى ومصح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر فقال: ادخلوا النار ولا أبالي فذلك قوله تعالى: * (أصحاب اليمين) * (الواقعة: 27) و * (أصحاب الشمال) * (الواقعة: 41) ثم أخذ منهم الميثاق فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. فأعطاه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية فقال: هو والملائكة * (شهدنا أن تقولوا يوم القيامة) * الحديث، وفيه مخالفة لما روى عن الحبر أولا من أن الأخذ كان بنعمان إذ هو ظاهر في كون ذلك بعد الهبوط وهذا ظاهر في كونه كان قبل، وفي بعض الأخبار مايقتضي أنه كان إذ كان عرضه سبحانه على الماء، فقد أخرج عبد بن حميد. والحكيم الترمذي في نوادر الأصول. والطبراني. وأبو الشيخ في العظمة. وابن مردويه عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خلق الله تعالى الخلق وقضى القضية وأخذ ميثاق النبيين وعرشه على الماء فأخذ أهل اليمين بيمينه وأخذ أهل الشمال بيده الأخرى وكلتا يدي الرحمن يمين فقال: يا أصحاب اليمين فاستجابوا له فقالوا له: لبيك ربنا وسعديك قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. قال: يا أصحاب الشمال فاستجابوا له فقالوا له لبيك ربنا وسعديك قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى " فخلط بعضهم ببعض الخبر، وذكر بعضهم أنه كان بالهند حيث هبط آدم عليه السلام، وآخرون أنه كان في موضع الكعبة وأن الذرية المخرجة من ظهر آدم عليه السلام كالذر أحاطت به، وجعل المحل الذي شغلته إذ ذاك حرما، وليس لهذا سند يعول عليه، والتوفيق بين هذه الروايات مشكل إلا أن يقال بتعدد أخذ الميثاق، وإليه ذهب السادة السوفية قدس الله تعالى أسرارهم، لكن يشعر كلامهم باختلاف النوع، فقد قال بعضهم: رأيت من يستحضر قبل ميثاق * (ألست) * ستة مواطن أخرى ميثاقية فذكرت ذلك لشيخنا رضي الله تعالى عنه فقال: إن قصد القائل بالحضرات الستة التي عرفها قبل ميثاق * (ألست) * الكليات فمسلم، وأما إن أراد جملة الحضرات الميثاقية التي قبل * (ألست) *
105

فهي أكثر من ذلك، ويعلم من هذا ما في قولهم: لا أحد يذكر ذلك الميثاق على وجه السلب الكلي من المنع، وقد روى عن ذي النون أيضا وقد سئل عن ذلك هل تذكره أنه قال: كأنه الآن في أذني. وقال بعضهم مستقربا له: إن هذا الميثاق بالأمس كان وأشار فيه أيضا إلى مواثيق أخر كانت قبل، ويمكن أن يقال مرادهم من تلك السالبة لا أحد من المشركين يذكر ذلك الميثاق لا لا أحد مطلقا.
وذكر قطب الحق والدين العلامة الشيرازي في التوفيق بين الآية والخبر العمري كلاما ارتضاه الفحول وتلقوه بالقبول وحاصله: أن جواب النبي صلى الله عليه وسلم إذ سئل عن الآية من قبيل أسلوب الحكيم وذلك أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن بيان الميثاق الحالي فأجاب ببيان الميثاق المقالي على ألطف وجه.
وبيانه أنسبحانه كان له ميثاقان مع بني آدم. أحدهما: تهتدي إليه العقول من نصب الأدلة الباعثة على الاعتراف الحالي. وثانيهما: المقالي الذي لا يهتدي إليه العقل بل يتوقف على توقيف واقف على أحوال العباد من الأزل إلى الأبد كالأنبياء عليهم السلام فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلم الأمة ويخبرهم عن أن وراء الميثاق الذي يهتدون إليه بعقولهم ميثاقا آخر أزليا فقال ما قال من مسح ظهر آدم عليه السلام في الأزل وإخراج الذرية ليعرف منه أن هذا النسل الذي يخرج في لا يزال من أصلاب بني آدم هو الذر الذي أخرج في الأزل من صلب آدم وأخذ منه الميثاق المقالي الأزلي كما أخذ منهم في لا يزال بالتدريج حين أخرجوا الميثاق الحالي اللايزالي اه‍ وهو حسن كما قالوا، لكن ينبغي أن يحمل الأزل فيه ولا يزال على المجاز لأن خروج النسل محدود بيوم القيامة وعلى القول بعدم انقطاعه بعده هو خاص بالسعداء على وجه خاص كما علم في محله والأمر حادث لا أزلى وإلا لزم خرق إجماع المسلمين والتدافع بين الآية وكان الله تعالى ولم يكن معه شيء، ونقل عن الخلخالي أنه شمر عن ساقه في دفع ذلك فقال: المخاطبون هم الصور العلمية القديمة التي هي ماهيات الأشياء وحقائقها ويسمونها الأعيان الثاتبة وليست تلك الصور موجودة في الخارج فلا يتعلق بها بحسب ذلك الثبوت جعل بل هي في ذواتهاغير محتاجة إلى ما يجعلها تلك الصور وهي صادرة عنه تعالى بالفيض الأقدس وقد صرحوا بأنها شؤنات واعتبارات للذات الاحدى وجوابهم بقولهم: بلى إنماهو بألسنة استعداداتهم الأزلية لا بالألسنة التي هي بعد تحققها في الخارج انتهى. وهو مبني على الفرق بين البثوت والوجود وفيه نزاع طويل لكنا ممن يقول به والله لا يستحي من الحق، ومن هنا انقدح لبعض الأفاضل وجه آخر في التوفيق بين الآية والحديث وهو أن المراد بالذرية المستخرجة من صلب آدم عليه السلام وبنيه هو الصور العلمية والأعيان الثابتة وأن المراد باستخراجها هو تجلي الذات الإحدي وظهوره فيها وأن نسبة الإخراج إلى ظهورهم باعتباره أن تلك الصور إذا وجدت ففي الأعيان كانت عينهم وأن تلك المقاوملة حالية استعدادية أزلية لا قالية لا يزالية حادثة وهذا هو المراد بما نقل الشيخ العارف أبو عبد الرحمن السلمي في الحقائق عن بنان حيث قال: أوجدهم لديه في كون الأزل ثم دعاهم فأجابهم سراعا وعرفهم نفسه حين لم يكونوا في الصورة الإنسية ثم أخرجهم بمشيئته خلقا وأودعهم في صلب آدم فقال سبحانه: * (وإذ أخذ ربك) * (الأعراف: 172) الخ فأخبر أنه خاطبهم وهم غير موجودين إلا بوجوده لهم إذا كانوا واجدين للحق في غير وجودهم لأنفسهم وكان الحق بالحق في ذلك موجودا ثم أنشد السلمي لبعضهم:
106

لو يسمعون كما سمعت كلامها * خروا لعزة ركعا وسجودا
انتهى.
ولا يخفى أن هذا التوفيق بعيد بمراحل عن ذوق أرباب الظاهر لمخالفته لظواهر الأخبار والمتبادر من الآثار، وما نقل عن بنان فيه وهو أول كلامه انتخبهم للولاية واستخلصهم للكرامة، وجعل لهم فسوحا في غوامض غيب الملكوت وبعده ما ذكر، وشموله لسائر الخلق سعيدهم وشقيهم لا يخلو عن بعد، وذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن الله تعالى أبدع المبدعات وتجلى بلسان الأحدية في الربوبية فقال: ألست بربكم؟ والمخاطب في غاية الصغاء فقالوا: بلى. فكان كمثل الصدا فإنهم أجابوه به فإن الوجود المحدث خيال منصوب وهذا الإشهاد كان إشهاد رحمة لأنه سبحانه ما قال لهم وحدي إبقاء عليهم لما علم أنهم يشركون به تعالى عن ذلك علوا كبيرا بما فيهم من
الحظ الطبيعي وبما فيهم من قبول الاقتدار الإلهي وما يعلمه إلا قليل؛ وأنت تعلم أن محققي المفسرين اعتبروا الوحدانية في الإشهاد وكذا في الشهادة كما مرت الإشارة إليه ونطقت الآثار به، ومن ذلك ما أخرجه عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند. والبيهقي. وابن عساكر. وجماعة عن أبي بن كعب أنه قال في الآية: جمعهم جميعا فجعلهم أرواحا في صورهم ثم استنطقهم فتكلموا ثم أخذ عليهم العهد والميثاق وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى. قال: فإني أشهد عليكم السموات السبع وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة إنا لم نعلم بهذا اعلموا أنه لا إله غيري ولا رب غيري ولا تشركوا بي شيئا إني سأرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتبي قالوا: شهدنا بأنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك ولا إله لنا غيرك فأقروا ورفع عليهم آدم ينظر إليهم فرأى الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك فقال: يا رب لولا سويت بين عبادك قال: إني أحببت أن أشكر. وبهذا يندفع ما يقال: إن إقرار الذراري بربوبيته سبحانه لا ينافي الشرك لأن المشركين قائلون بربوبيته سبحانه كما يدل عليه قوله تعالى: * (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولون الله) * (الزخرف: 87) والمعتزلة ينكرون أخذ الميثاق القالي المشار إليه في الأخبار ويقولون: إنها من جملة الآحاد فلا يلزمنا أن نترك لها ظاهر الكتاب وطعنوا في صحتها بمقدمات عقلية مبنية على قواعد فلسفية على ما هو دأبهم في أمثال هذه المطالب، قالوا أولا: إن أخذ الميثاق لا يمكن إلا من العاقل فوجب أن يتذكر الإنسان في هذا العالم ذلك الميثاق إذ لا يجوز للعاقل أن ينسى مثل هذه الواقعة العظيمة نسيا كليا فحيث نسي كذلك دل على عدم وقوعها، وبنحو هذا الدليل بطل التناسخ. وأجيب بأن العلم إنما هو بخلق الله تعالى فجاز أن لا يخلقه لحكمة علمها، ودليل بطلان التناسخ ليس منحصرا بما ذكر، فقد استدلوا أيضا على بطلانه بلزوم أن يكون للبدن نفسان كما بينه الإمام في المباحث الشرقية وأن يكون عدد الهالكين مساويا لعدد الكائنين والطوفات العامة تأبى هذا التساوي، على أنه يمكن أن يجاب بالفرق بين التناسخ وبين ما نحن فيه، وذلك أنا إذا كنا في أبدان أخرى وبقينا فيها سنين امتنع في مجرى العادة نسيان أحوالها، وأما أخذ الميثاق فإنما حصل في أسرع زمان فلم يبعد حصول النسيان فيه. وبعضهم أجاب بأن النسيان وعدم التذكر هنا لبعد الزمان. واعترض بأن أهل الآخرة يعرفون كثيرا من أحوال الدينا كما نطقت بذلك الآيات والأخبار اللهم إلا أن يقال: إن ذلك خصوصية الدار، وقالوا ثانيا: إن تلك الذرية المأخوذة من ظهر آدم عليه السلام لا بد أن يكون لكل واحد منها قدر من البنية حتى يحصل فيه العلم والفهم فمجموعها لا تحويه عرصة الدنيا فيمتنع حصوله في ظهر آدم ليؤخذ ثم يرد، وأجيب بأنه مبني على كون الحياة
107

مشروطة بالبنية المخصوصة كما هو مذهب الخصوم، والبرهان قائم على بطلانه كما تقرر في الكلام، فجوز أن يخلق الله تعالى الحياة في جوهر فرد، وتلك الذرية المخرجة كانت كالذر وهو قريب من الجوهر، وكون المجموع لا تحويه عرصة الدنيا غير مسلم، وإن كان الأخذ في السماء قبل هبوط آدم عليه السلام فالدائرة واسعة، وإن كان إذ كان العرش على الماء فالدائرة أوسع، ولا مانع إذا كان في الأرض أن يكون اجتماع الذر متراكما بينها وبين السماء وإنه لفضاء عظيم وإن صغرت قاعدته، وإن اعتبر أن الإنسان عبارة عن النفس الناطقة وأنها جوهر غير متحيز ولا حال فيه لم يحتج إلى الفضاء إلا أن فيه ما فه، وقالوا ثالثا: إنه لا فائدة فأخذ الميثاق لأنهم لا يصيرون بسببه مستحقين للثواب والعقاب على أنهم أدون حالا من الأطفال والطفل لا يتوجه عليه التكليف فكيف يتوجه على الذر. وأجيب: بأن فائدة الأخذ غير منحصرة في الاستحقاق المذكور بل يجوز أن تكون إظهار كمال القدرة لمن حضر من الملائكة أو إقامة الحجة يوم القيامة كما يقتضيه قول البعض في الآية، وكونهم إذ ذاك أدون حالا من الأطفال في حز البطلان كما لا يخفى على من هو أدون حالا من الأطفال، وقالوا رابعا: إنه سبحانه وتعالى قال: * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) * (المؤمنون: 12) وقال جل وعلا: * (فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماء دافق) * (الطارق: 5، 6) وكون أولئك الذر أناسى ينافي كون الإنسان مخلوقا مما ذكر.
وأجيب بأن الإنسان في هذه النشأة مخلوق من ذلك ولا يلزم منه أن يكون في تلك النشأة كذلك على أن الله تعالى لا يعجزه شيء، وبالجملة ينبغي للمؤمن أن يصدق بذلك الأخذ فقد نطقت به الأخبار الصادرة من منبع الرسالة، ولا يلتفت إلى قول من قال: إنها متروكة العمل لكونها من الآحاد فإن ذلك يؤدي إلى سد باب كبير من الفتوحات الغيبية ويحرم قائله من عظيم المنح الإلهية. وقد روى البيهقي في المدخل عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال: الذين لقيناهم كلهم يثبتون خبر واحد عن واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم ويجعلونه سنة حمد من تبعها وعيب من خالفها، وقال: من خالف هذا المذهب كان عندنا مفارقا لسبيل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل العلم بعدهم وكان من أهل الجهالة، وفي " جامع الأصول " عن رزين عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لأعرفن الرجل منكم يأتيه الأمر من أمري أنا أمرت به أو نهيت عنه وهو متكىء في أريكته فيقول: ما ندري ما هذا عندنا كتاب الله تعالى وليس هذا فيه " الحديث، ولا ينبغي البحث عن كيفية ذلك فإنه من العلوم المسكوت عنها المحتاجة إلى كشف الغطاء وفيض العطاء.
ومن ذلك ما أخرجه الجندي في فضائل مكة. وأبو الحسن القطان. والحاكم. والبيهقي في شعب الإيمان وضعفه عن أبي سعيد الخدري قال: حججنا مع عمر رضي الله تعالى عنه فلما دخل الطواف استقبل الحجر فقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك ثم قبله فقال له علي كرم الله تعالى وجهه: يا أمير المؤمنين إنه يضر وينفع قال: بم؟ قال: بكتاب الله عز وجل قال: وأين ذلك من كتاب الله تعالى قال: قال الله تعالى: * (وإذ أخذ ربك) * (الأعراف: 172) الآية إلى قوله سبحانه: * (بلى) * وذلك أن الله عز شأنه خلق آدم عليه السلام ومسح على ظهره فأخرج ذريته فقررهم بأنه الرب وأنهم العبيد وأخذ عهودهم ومواثيقهم وكتب ذلك في رق وكان لهذا الحجر عينان ولسان فقال له: افتح فاك ففتح فاه فألقمه ذلك الرق فقال: اشهد لمن وافاك بالموافاة يوم القيامة وأني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
108

" يؤتي يوم القيامة بالحجر الأسود وله لسان ذلق ليشهد لمن يستلمه بالتوحيد " فهو يا أمير المؤمنين يضر وينفع. فقال عمر رضي الله تعالى عنه أعوذ بالله تعالى أن أعيش
في قوم لست فيهم يا أبا الحسن.
قيل: ومن هنا يعلم قوله صلى الله عليه وسلم: " الحجر يمين الله تعالى في أرضه " والكلام في ذلك شهر، هذا ومن الناس من ذكر أن الناس بعد أن قالوا: بلى منهم من سجد سجدتين ومنهم من لم يسجد أصلا ومنهم من سجد مع الأولين السجدة الأولى ولم يسجد الثانية ومنهم من عكس، فالصنف الأول هم الذين يعيشون مؤمنين ويموتون كذلك، والثاني هم الذين يعيشون كفارا ويموتون كذلك. والثالث هم الذين يعيشون مؤمنين ويموتون كفارا، والرابع هم الذين يعيشون كفارا ويموتون مؤمنين انتهى. وهو كلام لم يشهد له كتاب ولا سنة فلا عول عليه، ومثله القول بأن بعضا من القائلين بلى قد مكر منهم إذ ذاك حيث أظهر لهم إبليس في ذلك الجمع وظنوا أنه القائل: ألست بربكم؟ فعنوه بالجواب وأولئك هم الأشقياء، وبعضا تجلى لهم الرب سبحانه فعرفوه وأجابوه وأولئك هم السعداء، وهذا عندي من البطلان بمكان؛ والذي ينبغي اعتقاده أنهم كلهم وجهوا الجواب لرب الأرباب. نعم ذهب البعض إلى أن البعض أجاب كرها واستدلوا له ببعض الآثار السالفة، وذهب أهل هذا القول إلى أن أطفال المشركين في النار، ومن قال: إنهم في الجنة ذهب إلى أنهم أقروا عند أخذ الميثاق اختيارا فيدخلون الجنة بذلك الإقرار والله سبحانه أرحم الراحمين وإسناد القول في الآية على بعض الأقوال إلى ضمير الجمع إنما هو باعتبار وقوعه من البعض فإن وقوعه من الكل باطل بداهة، ومثل هذا واقع في الآيات كثيرا
* (وكذالك نفصل الآي‍ات ولعلهم يرجعون) *
* (وكذلك نفصل الآيات) * أي ذلك التفصيل البليغ المستتبع للمنافع الجليلة نفصلها لا غير ذلك.
* (ولعلهم يرجعون) * عما هم عليه من الإصرار على الباطل نفعل التفصيل المذكور، وقيل: المعنى ولعلهم يرجعون إلى الميثاق الأول فيذكرونه ويعملون بمقتضاه نفعل ذلك، وأيا ما كان فالواو ابتدائية كالتي قبلها، وجوز أن تكون عاطفة على مقدر أي ليقفوا على ما فيها من المرغبات والزواجر، أو ليظهر الحق ولعلهم يرجعون، وقيل: إنها سيف خطيب.
هذا ومن باب الإشارة: قالوا: * (واسألهم عن القرية) * أي عن أهل قرية الجسد وهم الروح والقلب والنفس الأمارة وتوابعها * (التي كانت حاضرة البحر) * أي مشرفة على شاطىء بحر البشرية * (إذ يعدون في السبت) * يتجاوزون حدود الله تعالى يوم يحرم عليهم تناول بعض الملاذ النفسانية والعادي من أولئك الأهل إنما هو النفس الأمارة فإنها في مواسم الطاعات والكف عن الشهوات كشهر رمضان مثلا حريصة على تناول ما نهيت عنه والمرء حريص على ما منع * (إذ تأتيهم حيتانهم) * وهي الأمور التي نهوا عن تناولها * (يوم سبتهم) * الذي أمروا بتعظيمه شرعا قريبة المأخذ * (ويوم لا يسبتون لا تأتيهم) * بأن لا يتهيأ لهم ما يريدونه * (كذلك نبلوهم) * نعاملهم معاملة من يختبرهم * (بما كانوا يفسقون) * (الأعراف: 163) أي بسبب فسقهم المستمر طبعا. قال بعضهم: ما كان ما قص الله تعالى إلا كحال الإسلاميين من أهل زماننا في اجتماع أنواع الحظوظ النفسانية من المطاعم والمشارب والملاهي والمناكح ظاهرة في الأسواق والمحافل في الأيام المعظمة كالأعياد والأوقات المباركة كأوقات زيارة مشاهد الصالحين المعلومة المشهورة بين الناس * (وإذ قالت أمة منهم) * وهي القلب وأتباعه للأمة الواعظة وهي الروح وأتباعها * (لم تعظون قوما) * وهم النفس الأمارة وقواها * (الله مهلكهم أو معذبهم عذابا
109

شديدا) * على * (قالوا معذرة) * (الأعراف: 164) إلى ربكم أي نعظهم معذرة إليه تعالى وذلك أنا خلقنا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكرة فنريد أن نقضي ما علينا ليظهر أنا ما تغيرنا عن أوصافنا ولعلهم يتقون لأنهم قابلون لذلك بحسب الفطرة فلا نيأس من تقواهم * (فلما نسوا ما ذكروا به) * لغلبة الشقوة عليهم * (أنجينا الذين ينهون عن السوء) * وهم الروح والقلب واتباعهما فإنهم كلهم نهوا عن ذلك إلا أن بعضهم مل وبعضهم لم يمل * (وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس) * أي شديد وهو عذاب حرمان قبول الفيض * (بما كانوا يفسقون) * أي بسبب تماديهم على الخروج عن الطاعة * (فلما عتوا عن ما نهوا عنه) * أي أبوا أن يتركوا ذلك * (قلنا لهم كونوا قدرة خاسئين) * (الأعراف: 166) أي جعلنا طباعهم كطباعهم وذلك فوق حرمان قبول الفيض * (وإذ تأذن ربك) * أي اقسم * (ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة) * أي قيامتهم * (من يسومهم) * وهو التجلي الجلالي * (سوء العذاب) * (الأعراف: 167) وهو عذاب القهر وذل اتباع الشهوات * (وقطعناهم) * أي فرقنا بني إسرائيل الروح * (في الأرض) * أي أرض البدن * (أمما) * جماعات * (منهم الصالحون) * أي الكاملون في الصلاح كالعقل * (ومنهم دون ذلك) * فيه كالقلب ومن جعل القلب أكمل من العقل عكس الأمر * (وبلوناهم بالحسنات والسيئات) * تجليات الجمال والجلال * (لعلهم يرجعون) * (الأعراف: 168) بالفناء إلينا * (فخلف من بعدهم خلف) * وهي النفس وقواها * (ورثوا الكتاب) * وهو ما ألهم الله تعالى العقل والقلب * (يأخذون عرض هذا الأدنى) * وهي الشهوات الدنية واللذات الفانية ويجعلون ما ورثوه ذريعة إلى أخذ ذلك * (ويقولون سيغفر لنا) * ولا بد لأنا واصلون كاملون وهذا حال كثير من متصوفة زماننا فإنهم يتهافتون على الشهوات تهافت الفراش على النار ويقولون: إن ذلك لا يضرنا لأنا واصلون.
وحكي عن بعضهم أنه يأكل الحرام الصرف ويقول: إن النفي والإثبات يدفع ضرره وهو خطأ فاحش وضلال بين أعاذنا الله تعالى وإياكم من ذلك. وأعظم منه اعتقاد حل أكل مثل الميتة من غير عذر شرعي لأحدهم ويقول: كل منا بحر والبحر لا ينجس ولا يدري هذا الضال أن من يعتقد ذلك أنجس من الكلب والخنزير. ومنهم يحكي عن بعض الكاملين المكملين من أهل الله تعالى ما يؤيد به دعواه وهو كذب لا أصل له وحاشا ذلك الكامل مما نسب إليه حاشا * (وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه) * أي إنهم مصرون على هذا الفعل القبيح * (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب) * الوارد فيما ألهمه الله تعالى العقل والقلب * (أن لا يقولوا على الله إلا الحق) * فكيف عدلوا عنه * (ودرسوا ما فيه) * مما فيه رشادهم * (والدار الآخرة) * (الأعراف: 169) المشتملة على اللذات الروحانية خير للذن يتقون عرض هذا الأدنى * (والذين يمسكون بالكتاب) * أي يتمسكون بما ألهمه الله تعالى العقل والقلب من الحكم والمعارف * (وأقاموا الصلاة) * ولم يألوا جهدا في الطاعة * (إنا لا نضيع أجر
المصلحين) * منهم وأجرهم متفاوت حسب تفاوت الصلاح حتى إنه ليصل إلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر * (وإذ نتقنا الجبل فوقهم) * وهو جبل الأمر الرباني والقهر الإلهي * (كأنه ظلة) * غمامة عظيمة * (وظنوا أنه واقع بهم) * إن لم يقبلوا أحكام الله سبحانه * (خذوا ما آتيناكم بقوة) * بجد وعزيمة * (واذكروا ما فيه) * من الأسرار * (لعلكم تتقون) * (الأعراف: 171) تنتظمون في سلك المتقين على اختلاف مراتب تقواهم.
والكلام على قوله سبحانه: * (وإذ أخذ) * ربك الخ من هذا الباب يغني عنه ما ذكرناه خلال تفسيره من كلام أهل الله تعالى قدس الله تعالى أسرارهم خلا أنه ذكر بعضهم أن أول ذرة أجابت ببلى ذرة النبي صلى الله عليه وسلم وكذا
110

هي أول مجيب من الأرض لما خاطب الله سبحانه السموات والأرض بقوله جل وعلا: * (ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) * (فصلت: 11) وكانت من تربة الكعبة وهي أول ما خلق من الأرض ومنا دحيت كما جاء عن ابن عباس رض الله تعالى عنهما، وكان يقتضي ذلك أن يكون مدفنه صلى الله عليه وسلم بمكة حيث كانت تربته الشريفة منها، وقد رووا أن المرء يدفن حيث كانت تربته، ولكن قيل: إن الماء لما تموج رمى الزبد إلى النواحي فوقعت درة ذرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يحاذي مدفنه الكريم بالمدينة، ويستفاد من هذا الكلام أنه عليه الصلاة والسلام هو الأصل في التكوين والكائنات تبع له صلى الله عليه وسلم قل: ولكون ذرته أم الخليقة سمي أميا، وذكر بعضهم أن الباء لكونه أول حرف فتحت الذرة به فمها حين تكلمت لم تزل الأطفال في هذه النشأة ينطقون به في أول أمرهم ولا بدع فكل مولود يولد على الفطرة، قيل: ولعظم ما أودع الله سبحانه وتعالى في الباء من الأسرار افتتح الله تعالى به كتابه بل افتتح كل سورة به لتقدم البسملة المفتتحة به على كل سورة ما عدا التوبة وافتتاحها ببراءة وأول هذه اللفظة الباء أيضا، ولكون الهمزة وتسمى ألفا أول حرف قرع أسماعهم في ذلك المشهد كان أول الحروف لكنه لم يظهر في البسملة لسر أشرنا إليه أول الكتاب والله تعالى الهادي إلى صوب الصواب.
* (واتل عليهم نبأ الذىءاتين‍اه ءاي‍اتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيط‍ان فكان من الغاوين) *.
* (واتل عليهم) * تعطف على المضمر العامل في * (إذ أخذ) * وارد على نمط الأنباء عن الحور بعد الكور، أي واقرأ على اليهود أو على قومك كما في الخازن * (نبأ الذي ءاتين‍اه ءاي‍اتنا) * أي خبره الذي له شأن وخطر، وهو كما روى ابن مردويه وغيره من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بلعم بن باعوراء وفي لفظ بلعام بن باعر وكان من الكنعانيين، وفي رواية عنه. وعن أبي طلحة أنه من بني إسرائل، وأخرج ابن عساكر عن ابن شهاب أنه أمية بن أبي الصلت.
وأخرج أبو الشخ عن الحبر أنه رجل من بني إسرائيل له زوجة تدعى البسوس، وفي رواية أخرى أخرجها ابن أبي حاتم عنه أنه النعمان بن صيفي الراهب، وكونه إسرائيليا أنسب بالمقام كما لا يخفى، والأشهر أنه بلعام أو بلعم وكان قد أوتي علما ببعض كتب الله تعالى، ودون ذلك في الشهرة أنه أمية وكان قد قرأ بعض الكتب * (فانسلخ منها) * أي من تلك الآيات انسلاخ الجلد من الشاة، والمراد أنه خرج منها بالكلية بأن كفر بها ونبذها وراء ظهره، وحقيقة السلخ كشط الجلد وإزالته بالكلية عن المسلوخ عنه، ويقال لكل شيء فارق شيئا على أتم وجه انسلخ منه، وف التعبير به ما لا يخفى من المبالغة، واستأنس بعضهم بهذه الآية لأن العلم لا ينزع من الرجال حيث قال سبحانه وتعالى: * (فانسلخ منها) * ولم يقل عز شأنه فانسلخت منه * (فأتبعه الشيط‍ان) * أي لحقه وأدركه كما قال الراغب بعد أن لم يكن مدركا له لسبقه بالإيمان والطاعة، وقال الجوهري يقال: أتبعت القوم إذا سبقوك فلحقتهم وكأن المعنى جعلتهم تابعين لي بعد ما كنت تابعا لهم، وفيه حينئذ مبالغة في اللحوق إذ جعل كأنه إمام للشيطان والشيطان يتبعه وهو من الذم بمكان، ونظيره في ذلك قوله: وكان فتى من جند إبليس فارتقى * به الحال حتى صار إبليس من جنده
وصرح بعضهم بأن معناه استتبعه أي جعله تابعا له، وهو على ما قيل متعد لمفعولين حذف ثانيهما أي أتبعه خطواته. وقرىء * (فاتبعه) * من الافتعال * (فكان من الغاوين) * فصار من زمرة الضالين الراسخين في الغواية بعد أن كان مهتديا، وكيفية ذلك على القول بأنه بلعام أن موسى عليه السلام لما قصد
111

حرب الجبارين أتى قوم بلعام إليه وكان عنده اسم الله تعالى الأعظم فقالوا له: إن موسى عليه الصلاة والسلام رجل حديد وإن معه جنودا كثيرة وإنه قد جاء ليخرجنا من أرضنا فادع الله تعالى أن يرده عنا، فقال: ويلكم نبي الله تعالى ومعه الملائكة والمؤمنون فكيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله تعالى ما أعلم وإني إن فعلت ذهبت دنياي وآخرتي فألحوا عليه، فقال: حتى أوامر ربي فأتى في المنام وقيل له: لا تفعل فأخبر قومه فأهدوا له هدية فقبلها ولم يزالوا يتضرعون إليه حتى فتنوه فجعل يدعو على موسى عليه الصلاة والسلام وقومه إلا أن الله تعالى جعل يصرف لسانه إلى الدعاء على قومه نفسه، فقالوا له: يا بلعام أتدري ما تصنع إنك تدعو علينا، فقال: هذا أمر قد غلب الله تعالى عليه فاندلع لسانه ووقع على صدره، فقال: يا قوم قد ذهبت مني الدنيا والآخرة ولم يبق إلا المكر والحيلة جملوا النساء وأرسلوهن وأمروهن أن لا يمنعن أنفسهن فإن القوم سفر وإن الله سبحانه وتعالى يبغض الزنا وإن هم وقعوا فيه هلكوا ففعلوا ذلك فافتتن زمرى بن شلوم رأس سبط شمعون بن يعقون بامرأة منهن تسمى كستى بنت صور فنهاه موسى عليه السلام عن الفاحشة فأبى وأدخلها قبته وزنا بها فوقع فيهم الطاعون حتى هلك منهم سبعون ألفا ولم يرتفع حتى قتلهما فنحاص بن العيزار بن هارون وكان غائبا أول الأمر.
وعن مقاتل أن ملك البلقاء قال له: ادع الله تعالى على موسى عليه السلام، فقال: إنه من أهل ديني ولا أدعو عليه فنصب له خشبة ليصلبه عليها فدعا بالاسم الأعظم أن لا يدخل الله تعالى موسى عليه السلام المدينة فاستجيب له ووقع بنو إسرائيل في التيه، فقال موسى: يا رب بأي ذنب هذا؟ فقال سبحانه وتعالى: بدعاء بلعام، فقال: رب كما سمعت دعاؤه علي فاسمع دعائي عليه فدعا الله جل شأنه أن ينزع عنه الاسم الأعظم والإيمان فنزع الله تعالى عنه المعرفة وسلخه منها فخرجت من صدره كحمامة بيضاء. ورد هذا بأن التيه كان روحا وراحة لموسى عليه السلام وإنما عذب به بنو إسرائيل وقد كان ذلك بدعائه عليه السلام، على أن في الدعاء بسلب الإيمان مقالاف، وأنا أعجب لم لم يدع هذا الشقي بالاسم الأعظم الذي كان يعلمه على ملك البلقاء ليخلص من شره؟ ودعا على موسى عليه السلام ما هي إلا جهالة سوداء،
وجاء في كلام أبي المعتمر أنه كان قد أوتي النبوة، ويرده أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يجوز عليهم الكفر عند أحد من العقلاء وكأن مراده من النبوة ما أوتيه من الآات، وذلك كقوله صلى الله عليه وسلم: " من حفظ القرآن فقد طوى النبوة بين جنبيه ".
وأخرج ابن المنذر عن مالك بن دينار أنه كان من علماء بني إسرائيل وكان موسى عليه السلام يقدمه في الشدائد ويكرهه وينعم عليه فبعثه إلى ملك مدين دعوهم إلى الله تعالى وكان مجاب الدعوة فترك دين موسى عليه السلام واتبع دين الملك، وهذه الرواية عندي أولى مما تقدم بالقبول، وأما على القول بأنه أمية فهو أنه كان قد قرأ الكتب القديمة وعلم أن الله تعالى مرسل رسولا فرجا أن يكون هو ذلك الرسول، فاتفق أن خرج إلى البحرين وتنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام هناك ثماني سنين ثم قدم فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة من أصحابه فدعاه إلى الإسلام، وقرأ عليه سورة يس حتى إذا فرغ منها وثب أمية يجر رجليه فتبعته قريش تقول: ما تقول يا أمية؟ فقال: أشهد أنه على الحق قالوا: فهل نتبعه؟ قال: حتى أنظر في أمره فخرج إلى الشام وقدم بعد وقعة بدر يريد أن يسلم فلما أخبر بها ترك الإسلام وقال: لو كان نبيا ما قتل ذوي قرابته فذهب إلى الطائف
112

ومات به فأتت أخته الفارعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن وفاته فذكرت له أنه أنشد عند موته:
كل عيش وإن تطاول دهرا * صائر مرة إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي * في قلال الجبال أرعى الوعولا
إن يوم الحساب يوم عظيم * شاب فيه الصغير وما ثقيلا
ثم قال لها عليه الصلاة والسلام: أنشديني من شعر أخيك فأنشدته: لك الحمد والنعماء والفضل ربنا * ولا شيء أعلى منك جدا وأمجد
مليك على عرض السماء مهيمن * لعزته تعنو الوجوه وتسجد
من قصدة طويلة أتت على آخرها، ثم أنشدته قصيدته التي يقول فييها: وقف الناس للحساب جميعا * فشقي معذب وسعيد
والتي فيها: عند ذي العرش يعرضون عله * يعلم الجهر والسرار الخفيا
يوم يأتي الرحمن وهو رحيم * إنه كان وعده مأتيا
رب إن تعف فالمعافاة ظني * أو تعاقب فلم تعاقب بريا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أخاك آمن شعره وكفر قلبه، وأنزل الله تعالى الآية. وأما على القول بأنه النعمان فهو أنه كان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح فقدم المدينة فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا الذي جئت به؟ فقال عليه الصلاة والسلام: الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام. قال: فأنا عليها. فقال عليه الصلاة والسلام: لست عليها ولكنك أدخلت فيها ما ليس منها. فقال: أمات الله تعالى الكاذب منا طريدا وحيدا، ثم خرج إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا السلاح، ثم أتى قيصر وطلب منه جندا ليخرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة فمات بالشام طريدا وحيدا.
وأما على القول بأنه زوج البسوس، فقد أخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه رجل أعطى ثلاث دعوات مستجابات، وكانت له امرأة تدعى البسوس له منها ولد فقالت: اجعل لي منها واحدة. قال: فما الذي تريدين؟ قالت: ادع الله تعالى أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل فدعا الله تعالى فجعلها أجمل امرأة فيهم، فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه وأرادت شيئا آخر فدعا الله تعالى أن يجعلها كلبة فصارت كلبة فذهبت دعوتان، فجاء بنوها فقالوا: ليس بنا على هذا قرار قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها فادع الله تعالى أن يردها إلى الحال التي كانت عليها فدعا فعادت كما كانت فذهبت الدعوات الثلاث فيها، ومن هنا يقال: أشأم من البسوس، وفي الخازن أن البسوس اسم لذلك الرجل، وليس بشيء، وهذه الرواية لا يساعد عليها نظم القرآن الكريم كما لا يخفى، والذي نعرفه أن البسوس التي يضرب بها المثل هي بنت منقذ التميمية خالة جساس بن مرة بن ذهل الشيباني قاتل كليب، وفي قصتها طول وقد ذكرها الميداني وغيره.
113

وعن الحسن. وابن كيسان أن المراد بهذا الذي أوتي الآيات فانسلخ منها منافقو أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ولم يؤمنوا به صلى الله عليه وسلم إيمانا صحيحا، ويبعد ذلك إفراد الموصول وعن قتادة أن هذا مثل لمن عرض عليه الهدى واستعد له فأعرض عنه وأبى أن يقبله، وفيه بعد ومخالفة للروايات المشهورة، وأوهن الأقوال عندي قول أبي مسلم: إن المراد به فرعون والمراد بالآيات الحجج والمعجزات الدالة على صدق موسى عليه السلام، وكأنه قيل: واتل عليهم نبأ فرعون إذ آتيناه الحجج الدالة على صدق موسى عليه السلام فلم يقبلها.
* (ولو شئنا لرفعن‍اه بها ول‍اكنه أخلد إلى الارض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذالك مثل القوم الذين كذبوا بثاي‍اتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) *.
* (ولو شئنا لرفعن‍اه بها) * كلام مستأنف مسوق لبيان ما ذكر من الانسلاخ وما يتبعه، وضمير * (رفعناه) * للذي وضمير * (بها) * للآيات، والباء سببية، ومفعول المشيئة محذوف هو مضمون الجزاء كما هو القاعدة المستمرة، أي لو شئنا رفعه لرفعناه إلى منازل الأبرار بسبب تلك الآيات والعمل بما فيها؛ وقيل: الضمير المنصوب للكفر المفهوم من الكلام السابق، أي لو شئنا لأزلنا الكفر بالآيات، فالرفع من قولهم: رفع الظلم عنا وهو خلاف الظاهر جدا وإن روي عن مجاهد، ومثله بل أبعد وأبعد ما نقل عن البلخي. والزجاج من إرجاع ضمير بها للمعصية.
* (ول‍اكنه أخلد إلى الأرض) * أي ركن إلى الدنيا ومال إليها، وبذلك فسره السدي. وابن جبير، وأصل الإخلاد اللزوم للمكان من الخلود، ولما في ذلك من الميل
فسر به، وتفسير الأرض بالدنيا لأنها حاوة لملاذها وما يطلب منها.
وقال الراغب: المعنى ركن إلى الأرض ظانا أنه مخلد فيها، وفسر غير واحد الأرض بالسفالة * (واتبع هوياه) * في إيثار الدنيا وأعرض عن مقتضى تلك الآيات الجليلة، وفي تعليق الرفع بالمشيئة ثم الاستدراك عنه بفعل العبد تنبيه كما قال ناصر الدين: على أن المشيئة سبب لفعله المؤدى إلى رفعه وأن عدمه دليل عدمها دلالة انتفاء المسبب على انتفاء سببه، وأن السبب الحقيقي هو المشيئة؛ وأن ما نشاهده من الأسباب وسائط معتبرة فحصول المسبب من حيث إن المشيئة تعلقت به كذلك، وكان من حقه كما قال أن يقول: ولكنه أعرض عنها، فأوقع موقعه ما ذكر مبالغة لأنه كناية عنه والكناية أبلغ من التصريح، وتنبيها على ما حمله عليه وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وما ألطف نسبة إتيان الآيات والرفع إليه تعالى ونسبة الانسلاخ والإخلاد إلى العبد مع أن الكل من الله تعالى إذ فه من تعليم العباد حسن الأدب ما فيه، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك. والزمخشري لما رأى أن ظاهر الآية مخالف لمذهبه دال على وقوع الكائنات بمشيئة الله تعالى أخلد إلى التأويل، فجعل المشيئة مجازا عن سببها وهو لزوم العمل بالآات بقرينة الاستدراك بما هو فعل العبد المقابل للزوم الآيات وهو الإخلاد إلى الأرض، أي ولو لزمها لرفعناه وهو من قبيل نزع الخف قبل الوصول إلى الماء والمصير إلى المجاز قبل أوانه لجواز أن يكون * (لو شئنا) * باقيا على حقيقته و * (أخلد إلى الأرض) * مجازا عن سببه الذي هو عدم مشيئة الرفع بل الإخلاد، ولم عتمد على عكازته لفوت المقابلة حينئذ، وفي " الكشف " أن حمل المشيئة على ما هي مسببة عنه في زعمه ليس أولى من حمل الإخلاد على ما هو مسبب عنه في زعمنا كيف وقوله سبحانه وتعالى: * (ولو شئنا) * استدراك لقوله: * (فانسلخ منها) * على أن الإخلاد هو الميل، والإرادة والميل ونحوهما من المعاني ليست من أفعال العباد بالاتفاق نعم الجزم المقارن من فعل القلب فعل القلب عندهم، ثم قوله سبحانه وتعالى: * (من يهد الله) * وقوله تعالى: * (ولقد ذرأنا) *
114

يؤكدان ما عليه أهل السنة أبلغ تأكيد ولكن الزمخشري لا يعبأ بذلك * (فمثله كمثل الكلب) * وهو الحيوان المعروف وجمعه أكلب وكلاب وكلابات كما قال ابن سيده وكليب كعبيد وهو قليل ويجمع أكلب على أكالب؛ وبه يضرب المثل في الخساسة لأنه يأكل العذرة ويرجع في قيئه والجيفة أحب إليه من اللحم الغريض نعم هو أحسن من الرجل السوء، ومما ينسب إلى الشافعي رضي الله تعالى عنه: ليت الكلاب لنا كانت مجاورة * وليتنا ما نرى ممن نرى أحدا
إن الكلاب لتهدأ في مرابضها * والناس ليس بهاد شرهم أبدا
وفي شعب الإيمان للبيهقي عن الفقيه منصور أنه كان نشد لنفسه: الكلب أحسن عشرة * وهو النهاية في الخساسة
ممن ينازع في الريا * سة قبل أوقات الرياسة
والمثل بمعنى الصفة كما قال غير واحد فصفته كصفة الكلب، وقيل المراد أنه كالكلب في الخسة * (إن تحمل عليه) * أي شددت عليه وطردته * (يلهث أو تتركه) * على حاله * (يلهث) * أي أنه دائم اللهث على كل حال، واللهث ادلاع اللسان بالنفس الشديد وذلك طبع في الكلب لا يقدر على نغص الهواء المتسخن وجلب الهواء البارد بسهولة لضعف قلبه وانقطاع فؤاده بخلاف سائر الحيوانات فإنها لا تحتاج إلى النفس الشديد ولا يلحقها الكرب والمضايقة إلا عند التعب والإعياء، وإيثار الجملة الاسمية على الفعلية بأن يقال: فصار مثله كمثل الخ للإيذان بدوام اتصافه بتلك الحالة الخسيسة وكمال استمراره عليها، والخطاب في فعلي الشرط لكل أحد ممن له حظ من الخطاب فإنه أدخل في إشاعة فظاعة حاله، والجملتان الشرطيتان قيل لا محل لهما من الإعراب لأنهما تفصيل لما أجمل في المثل وتفسير لما أبهم فيه ببيان وجه الشبه على منهاج قوله تعالى: * (خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) * (آل عمران: 59) أثر قوله سبحانه وتعالى: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم) * (آل عمران: 509) وقيل: إنهما فمحل النصب على الحالية من الكلب بناء على تحولهما إلى معنى التسوية كما تحول الاستفهام إلى ذلك في قوله تعالى: * (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) * (البقرة: 6) كأنه قيل لاهثا في الحالين، والجملة الشرطة كما قدمنا تقع حالا مطلقا، وقال صاحب الضوء: إنها لا تكاد تقع كذلك بتمامها بل إذا أريد وقوعها حالا جعلت خبرا عن ذي الحال نحو جاءني زيد وهو أن تسأله يعطك فتجعل جملة اسمية مع الواو لأن الشرط لصدارته لا يكاد يرتبط بما قبله إلا أن يكون هناك فضل قوة. نعم جوز إذا أخرجتها عن حقيقتها سواء عطف عليها النقيض وحينئذ يجب ترك الواو كما فيما نحن فيه أو لم يعطف وحينئذ يجب الواو لئلا يحصل الالتباس بالشرط الحقيقي نحو آتيك وإن لم تأتني، والتشبيه قيل من تشبيه المفرد بالمفرد، وقيل وعليه كثير من المحققين أنه تشبيه للهيئة المنتزعة مما عراه بعد الانسلاخ من سوء الحال واضطرام القلب ودوام القلق والاضطراب وعدم الاستراحة بحال من الأحوال بالهيئة المنتزعة مما ذكر فحال الكلب، وجاء وقد أشرنا إليه سابقا أن بلعام لما دعا على موسى عليه السلام خرج لسانه فتدلى على صدره وجعل يلهث كالكلب إلى أن هلك فوجه الشبه إما عقلي أو حسي * (ذلك) * إشارة إلى وصف الكلب أو المنسلخ من الآيات وما فيه من الإيذان بالبعد لما مر غير مرة.
115

* (مثل القوم الذين كذبوا بآيتنا) * يريد كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أهل مكة كانوا يتمنون هاديا يهديهم وداعيا يدعوهم إلى طاعة الله تعالى ثم لما جاءهم من لا يشكون في صدقه وأمانته كذبوه وأعرضوا عن الآيات ولم يؤمنوا بها أو اليهود كما قال غير واحد حيث قرأوا نعت النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة وذكر القرآن المعجز وما فيه فصدقوه وبشروا الناس باقتراب مبعثه وكانوا يستفتحون به فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فانسلخوا من حكم التوراة أو الأعم من هؤلاء وهؤلاء من كل من اتصف بهذا العنوان كما في الخازن وبه أقول، ويدخل اليهود في ذلك دخولا أوليا * (فاقصص القصص) * القصص مصدر سمي به المفعول كالسلب، واللام فيه للعهد، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي إذا تحقق أن المثل المذكور مثل هؤلاء المكذبين فاقصص ذلك عليهم * (لعلهم يتفكرون) * فينزجرون عما هم عليه من الكفر والضلال، والجملة في موضع الحال من ضمير المخاطب أو في موضع المفعول له أي فاقصص راجيا لتفكرهم أو رجاءا لتفكرهم.
* (سآء مثلا القوم الذين كذبوا بااي‍اتنا وأنفسهم كانوا يظلمون) *.
* (ساء مثلا) * استئناف مسوق لبيان كمال قبح المكذبين بعد البيان السابق، وساء بمعنى بئس وفاعلها مضمر ومثلا تمييز مفسر له، ويستغني بتذكير التمييز وجمعه وغيرهما عن فعل ذلك بالضمير، وأصلها التعدي لواحد، والمخصوص بالذم قوله سبحانه وتعالى: * (القوم الذين كذبوا بأي‍اتنا) * وحيث وجب صدق الفاعل والتمييز والمخصوص على شيء واحد والمثل مغاير للقوم لزم تقدير محذوف من المخصوص وهو الظاهر أو التمييز أي ساء مثلا مثل القوم أو ساء أهل مثل القوم.
وفي الحواشي الشهابية أنه قرىء بإضافة * (مثل) * بفتحتين و * (مثل) * بكسر فسكون للقوم ورفعه فساء للتعجب وتقديرها على فعل بالضم كقضو الرجل و * (مثل القوم) * فاعل أي ما أسوأهم، والموصول في محل جر صفة للقوم أو هي بمعنى بئس * (ومثل) * فاعل والموصول هو المخصوص في محل رفع بتقدير مضاف أي مثل الذين الخ.
وقدر أبو حيان في هذه القراءة تمييزا، ورده السمين بأنه لا يحتاج إلى التمييز إذا كان الفاعل ظاهرا حتى جعلوا الجمع بينهما ضرورة، وفيه ثلاثة مذاهب المنع مطلقا والجواز كذلك والتفصيل فإن كان مغايرا جاز نحو نعم الرجل شجاعا زيد وإلا امتنع، وبعضهم يجعل المخصوص محذوفا وفي كونه ما هو خلاف وإعادة القوم موصوفا بالموصول مع كفاية الضمير بأن يقال ساء مثلا مثلهم للإيذان بأن مدار السوء ما في حيز الصلة وليربط قوله سبحانه وتعالى: * (وأنفسهم كانوا يظلمون) * به فإنه إما معطوف على كذبوا داخل معه في حكم الصلة بمعنى جمعوا بين أمرين قبيحين التكذيب وظلمهم أنفسهم خاصة أو منقطع عنه بمعنى وما ظلموا إلا أنفسهم فإن وبالها لا يتخطاها، وأيا ما كان ففي ذلك لمح إلى أن تكذيبهم بالآيات متضمن للظلم بها وأن ذلك أيضا معتبر في القصر المستفاد من التقديم، وصرح الطيبي والقطب وغيرهما أن الجملة على تقدير الانقطاع تذييل وتأكيد للجملة التي قبلها، ويشعر كلام بعضهم أن تقديم المفعول على الوجه الأول لرعاية الفاصلة وعلى الوجه الثاني للإشارة إلى التخصيص وأن سبب ظلمهم أنفسهم هو التكذيب، وفيه خفاء كما لا يخفى، هذا ثم أن هذه الآيات مما تري علماء السوء بثالثة الأثافي، وقد ذكر مولانا الطيبي طيب الله ثراه أن من تفكر في هذا المثل وسائر الأمثال المضروبة في التنزيل في حق المشركين والأصنام من بيت العنكبوت والذباب تحقق
116

له أن علماء السوء أسوأ وأقبح من ذلك فما أنعاه من مثل عليهم وما هم فييه من التهالك في الدنيا مالها وجاهها والركون إلى لذاتها وشهواتها من متابعة النفس الأمارة وإرخاء زمامها في مرامها عافانا الله تعالى والمسلمين من ذلك.
ونقل عن مولانا شيخ الإسلام شهاب الدين السهروردي أنه كتب إلى الإمام فخر الدين الرازي تغمدهما الله تعالى برضوانه من تعين في الزمان لنشر العلم عظمت نعمة الله تعالى عليه فينبغي للمتيقظين الحذاق من أرباب الديانات أن يمدوه بالدعاء الصالح ليصفي الله تعالى مورد علمه بحقائق التقوى ومصدره من شوائب الهوى إذ قطرة من الهوى تكدر بحرا من العلم ونوازع الهوى المركوز في النفوس المستصحبة إياه من محتدها من العالم السفلي إذا شابت العلم حطته من أوجه وإذا صفت مصادر العلم وموارده من الهوى أمدته كلمات الله تعالى التي ينفد البحر دون نفادها ويبقى العلم على كمال قوته، وهذه رتبة الراسخين في العلم لا المترسمين به وهم ورثة الأنبياء عليهم السلام كر عملهم على علمهم وتناوب العلم والعمل فيهم حتى صفت أعمالهم ولطفت وصارت مسامرات سرية ومحاورات روحية وتشكلت الأعمال بالعلوم لكان لطافتها وتشكلت العلوم بالأعمال لقوة فعلها وسرايتها إلى الاستعدادات، وفي اتباع الهوى إخلاد إلى الأرض قال تعالى: * (ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه) * (الأعراف: 176) فتطهير نور الفكرة عن رذائل التخيلات والارتهان بالموهومات التي أورثت العقول الصغار والمداهنة للنفوس القاصرة هو من شأن البالغين من الرجال فتصحب نفوسهم الطاهرة الملأ الأعلى فتسرح في ميادين القدس، فالنزاهة النزاهة من محنة حطام الدنيا والفرار الفرار من استحلاء نظر الخلق وعقائدهم فتلك مصارع الأدوان، وطالب الرفيق الأعلى مكلم محدث، والتعريفات الإلهية واردة عليه لمكان علمه بصورة الابتلاء واستئصاله شأفة الابتلاء بصدق الالتجاء وكثرة ولوجه في حريم القرب الإلهي وانغماسه مع الأنفاس في بحار عين اليقين وغسله نفث دلائل البرهان بنور العيان فالبرهان للأفكار لا للأسرار إلى آخر ما قال، ويا لها من موعظة حكيم ونصيحة حميم نسأل الله تعالى أن يهدينا لما أشارت إليه.
* (من يهد الله فهو المهتدى ومن يضلل فأول‍ائك هم الخ‍اسرون) *.
* (من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأول‍ائك هم الخ‍اسرون) * تذييل وتأكيد لما تضمنته القصة السابقة على ما يشير إليه كلام بعضهم. وقال آخر: إنه تعالى لما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقص على أولئك الضالين قصص أخيهم ليتفكروا ويتركوا ما هم عليه عقب ذلك بتحقيق أن الهداية والضلالة من جهته سبحانه وتعالى وإنما العظة والتذكير من قبيل الوسائط العادية في حصول الاهتداء لكونها دواعي إلى صرف المكلف اختياره نحو تحصيله حسبما نيط به خلق الله تعالى إياه، والمراد بهذه الهداية ما يوجب الاهتداء قطعا لا لأن حقيقتها الدلالة الموصلة إلى البغية كما يوهمه كلام بعض الأصحاب بل لأنها الفرد الكامل من حقيقة الهداية التي هي الدلالة إلى ما يوصل لإسنادها إلى الله تعالى وتفريع الاهتداء عليها ومقابلتها بالضلال وما معه ولا يخفى أن الهداية بهذا المعنى يلزمها الاهتداء فيكون الإخبار باهتداء من هداه الله تعالى على ما قيل على حد الإخبار في - شعري شعري - وهو يفيد تعظيم شأن الاهتداء وأنه في نفسه كمال جسيم ونفع عظيم وأنه كاف في نيل كل شرف في الأولى والعقبى.
واختار بعض المحققين أنه ليس المقصود مجرد الإخبار بما ذكر ليتوهم عدم الإفادة بحسب الظاهر ويصار إلى توجيهه بذلك بل هو قصر الاهتداء على من هداه الله تعالى حسبما يقضي به تعريف الخبر، فالمعنى من يخلق
117

فيه الاهتداء فهو المهتدي لا غير كائنا من كان ولا يخلو عن حسن إلا أنه قد يقال: إن الأول أوفق بالمقابل، وإفراد المهتدي لا غير كائنا من كان ولا يخلو عن حسن إلا أنه قد يقال: إن الأول أوفق بالمقابل، وإفراد المهتدي رعاية للفظ * (من) *، وجمع الخاسرين رعاية لمعناها للإيذان بأن الحق واحد وطرق الضلال متشعبة، وفي
الآية تصريح بأن الهدى والضلال من الله تعالى فسبحان من أضل المعتزلة.
* (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم ءاذان لا يسمعون بهآ أول‍ائك ك الأنع‍ام بل هم أضل أول‍ائك هم الغ‍افلون) *.
* (ولقد ذرأنا) * كلام مستأنف مقرر لمضمون ما قبله بطريق التذييل، والذرأ بالهمزة الخلق وبذلك فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره أي والله تعالى لقد خلقنا * (لجهنم كثيرا من الجن والانس) * وهم المصرون على الكفر في علمه سبحانه وتعالى، واللام للعاقبة عند الكثير كما في قوله تعالى: * (ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك) * (يونس: 178) وقول الشاعر: له ملك ينادي كل يوم * لدوا للموت وابنوا للخراب
وفي " الكشاف " أنهم جعلوا لإغراقهم في الكفر وشدة شكائمهم فيه وأنه لا يتأتى منهم إلا أفعال أهل النار مخلوقين للنار دلالة على توغلهم في الموجبات وتمكنهم فيما يؤهلهم لدخولها، وأشار إلى أن ذلك تذييل لقصة اليهود بعد ما عد من قبائحهم تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قيل: إنهم من الذين لا ينجع فيهم الإنذار فدعهم واشتغل بأمر نفسك ومن هو على دينك في لزوم التوحيد، والآية على ما قال من باب الكناية الإيمائية عند القطب قدس سره ويفهم كلامه أن الذي دعا الزمخشري إلى ذلك لزوم كون الكفر مرادا لله تعالى إذا أريد الظاهر وهو خلاف مذهبه، وأنت تعلم أن الكثير من أهل السنة تأولوا الآية بحمل اللام على ما علمت لقوله تعالى: * (وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدوا) * (الذاريات: 56) فإن تعليل الخلق بالعباد يأبى تعليله بجهنم ودخولها، نعم ذهب ابن عطية منا إلى الحمل على الظاهر وكون اللام للتعليل، وادعى أناس أن التأويل مخالف للأحاديث الواردة في الباب كبعض الأحاديث السابقة في آية أخذ الميثاق، وما أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن قتادة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله تعالى خلق آدم عليه السلام ثم أخذ الخلق من ظهره فقال هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي قال قائل: فعلى ماذا العمل؟ قال: على موافقة القدر " وما أخرجه محيي السنة عن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها قالت: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم جنازة صبي من صبيان الأنصار فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم طوبى له عصفور من عصافير الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وما يدريك إن الله تعالى خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم " إلى غير ذلك.
وإلى هذا ذهب الطيبي وأيده بما أيده وادعى أن فائدة القسم التنبيه على قلع شبه من عسى أن يتصدى لتأويل الآية وتحريف النص القاطع، ونقل عن الإمام أن الآية حجة لصحة مذهب أهل السنة في مسألة خلق الأعمال إرادة الكائنات لأنه سبحانه وتعالى صرح بأنه جل وعلا خلق كثيرا من الجن والإنس لجهنم ولا مزيد لبيان الله تعالى، ولا يخفى أن الحمل على الظاهر مخالف لظاهر الآية التي ذكرناها، وفي الكتاب الكريم كثير مما يوافقها على أن التعليل الحقيقي لأفعاله تعالى يمنع عنه في المشهور الإمام الأشعري وأصحابه.
وقال بعض الجلة: المراد بالكثير الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة ولكن لا بطريق الجبر من غير أن يكون من قبلهم ما يؤدي إلى ذلك بل لعلمه سبحانه وتعالى بأنهم لا يصرفون اختيارهم نحو الحق
118

أبدا بل يصرون على الباطل من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم من الآيات والنذر، فبهذا الاعتبار جعل خلقهم مغيا بجهنم كما أن جمع الفريقين باعتبار استعدادهم الكامل الفطري للعبادة وتمكنهم التام منها جعل خلقهم مغيا بها كما نطق به قوله سبحانه وتعالى: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56) انتهى، وعندي أنه لا محيص من التأويل في هذا المقام فتدبر ولا تغفل، ثم إن الجار الأول متعلق بما عنده وتقديمه على المفعول الصريح لما في توابعه من نوع طول يؤدي توسيطه بما بينهما وتأخيرهم عنهما إلى الإخلال بجزالة النظم الجليل، والجار الثاني متعلق بمحذوف وقع صفة لكثير، وتقديم الجن لأنهم أعرف من الإنس في الاتصاف بما ذكر من الصفات وأكثر عددا وأقدم خلقا ولا يشكل أنهم خلقوا من النار فلا يشق عليهم دخولها ولا يضرهم شيئا لأنا نقول في دفع ذلك على علاته خلقهم من النار بمعنى أن الغالب عليهم الجزء الناري لا يأبى تضررهم بها فإن الإنس خلقوا من الطين ويتضررون به، ويوضح ذلك أن حقيقة النار لم تبق فيهم على ما هي عليه قبل خلقهم منها كما أن حقيقة الطين لم تبق في الإنس على ما هي عليه قبل خلقهم منها على أن المخلوق من نار هو البدن والمعذب هو الروح وليست مخلوقة منها وعذاب الروح في قالب ناري معقول كعذابها في قالب طيني، وقوله تعالى: * (لهم قلوب) * في محل النصب على أنه صفة أخرى لكثير، وقوله سبحانه وتعالى: * (لا يفقهون بها) * في محل الرفع على أنه صفة لقلوب مبينة لكونها غير معهودة مخالفة لسائر أفراد الجنس فاقدة لما ينبغي أن يكون أو هي مؤكدة لما يفيده تنكيرها وإبهامها من كونها كذلك، وأريد بالقلب اللطيفة الإنسانية، وبالفقه الفهم وهو المعنى اللغوي له، يقال: فقه بالكسر أي فهم وفقه بالضم إذا صار فقيها أي فهما أو عالما بالفقه بالمعنى العرفي المبين في كتب الأصول، والفعل هنا متعد إلا أنه حذف مفعوله للتعميم أي لهم قلوب ليس من شأنها أن يفهموا بها شيئا مما شأنه أن يفهم فيدخل فيه ما يليق بالمقام من الحق ودلائله دخولا أوليا، وكذا الكلام في قوله جل وعلا: * (ولهم أعين لا يبصرون بها) * فيقال: المراد لا يبصرون بها شيئا من المبصرات فيندرج فيه الشواهد التكوينية الدالة على الحق اندراجا أوليا، وكذا يقال في قوله تبارك وتعالى: * (ولهم آذان لا يسمعون بها) * حيث يراد لا يسمعون بها شيئا من المسموعات فيتناول الآيات التنزيلية على طرز ما سلف، وأمر الوصفية في الأخيرين مثله في الأول، والمراد بالإبصار والسماع المنفيين ما يختص بالعقلاء من الإدراك على ما هو وظيفة الثقلين لا ما يتناول مجرد الإحساس بالشبح والصوت كما هو وظيفة الإنعام، وجاء في كلامهم نحو فلان لا يسمع الخنا أي لا يعتني به ولا يصرف سمعه إليه ولا يقبله، ومن ذلك قول الشاعر:
وعوراء الكلام صممت عنها * وإني لو أشاء لها سميع
وفي إعادة الخبر في الجملتين المعطوفتين مع انتظام الكلام بدون ذلك بأن يقال: وأعين لا يبصرون بها وآذان لا يسمعون بها ما لا يخفى من تقرير سوء حالهم، وكذا في إثبات المشاعر الثلاثة لهم ثم وصف كل بما وصف به دون سلبها عنهم ابتداء بأن يقال: ليس لهم قلوب يفقهون بها ولا أعين يبصرون بها ولا آذان يسمعون بها ما لا يخفى على ما قيل من الشهادة بكمال رسوخهم في الجهل والغواية، وتفسير الآية على هذا الوجه
119

واعتبار حذف المفعول لما ذكرنا من الأفعال الثلاثة هو الذي اختاره بعض المحققين لما فه من الإفصاح بكنه حالهم على ما ىشار إليه، واختار بعضهم التخصيص أي لا يفقهون الحق ودلائله ولا يبصرون ما خلق الله تعالى إبصار اعتبار ولا يسمعون الآيات والمواعظ سماع تأمل وتفكر، وأيا ما كان فالمراد أنهم لم يصرفوا ما خلق لهم لما خلق له فكأنهم خلقوا كذلك، ولو أريدت الحقيقة لم يتوجه الذم ولم تقم الحجة؛ ومن ادعاها قال: إن ذلك بسبب إفاضة الحكيم حسب الاستعداد الأزلي الغير المجعول فالذم بذلك لادلالته على سوء الاستعداد لأنه كالأثر له، وبالجملة لا تقوم الآية دللا للجبر الصرف ولو ضم إليها ما قبل، والجبر المتوسط مما قال به أهل الحق وهو لبن خالص أخرج من بين فرث ودم، وحاصله عند بعض المشايخ أن العبد مختار مجبور باختاره، ولعل كلام حجة الإسلام الغزال حث قال من كلام طول: فإن قلت: إني أجد في نفسي أني إن شئت الفعل فعلت وإن شئت الترك تركت فكون فعلي حاصلا بي ولا بغيري، أجبنا وقلنا: هب إنك وجدت من نفسك ذلك إلا أنا نقول: وهل تجد من نفسك إنك إن شئت أن تشاء شئت وإن شئت أن لا تشأ لم تشأ؟ ما أظنك تقول ذلك وإلا لذهب الأمر فيه إلى ما لا ينهاية له فلا مشيئتك بك ولا حصول فعلك بعد حصول مشيئتك بك وإنما أنت مضطر في صورة مختار انتهى. يرجع إلى ما ذكرنا، وقد استوفينا الكلام في هذا البحث في كتابنا الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية وهو لعمري من مشكلات المباحث التي سأل عنها الإيرانون.
* (أول‍ائك) * أي الموصوفن بالأوصاف المذكورة * (كالأنع‍ام) * أي في انتفاء الشعور على الوجه المذكور، وقيل في أن مشاعرهم متوجهة إلى أسباب التعيش مقصورة عليها وكأن وجه الشبه مدرك مما قبل فتكون الجملة كالتأكيد له فلذا فصلت عنه * (بل هم أضل) * من الأنعام لأنها تدرك ما من شأنها أن تدركه من المنافع والمضار فتجهد في جلبها وسلبها غاية ما يمكنها وهؤلاء ليسوا كذلك حيث لم يميزوا بين المنافع والمضار بل يعكسون الأمر فيتركون النعيم ويقدمون على العذاب الأليم، وقيل: لأنها إذا زجرت انزجرت وإذا أرشدت إلى طريق اهتدت وهؤلاء لا يهتدون إلى شيء من الخيرات. وقيل: لأنها لم تعط قدرة على تحصيل الفضائل وهؤلاء أعطوا ولم ينتفعوا بما أعطوا، ولأنها وإن لم تكن مطيعة لم تكن عاصية وهؤلاء عصاة فهم أسوأ حالا منها. وقال بعضهم: لأنها تعرف صاحبها وتذكره وتطيعه وهؤلاء لا يعرفون ربهم ولا يذكرونه ولا يطيعونه، وبالجملة كون هؤلاء أضل مما لا شك فيه ووجوه ذلك كثيرة ولا تنافي بين الخبرين كما لا يخفى.
* (أول‍ائك) * أي المنعوتون بما ذكر من مثلية الأنعام والشرية منها * (هم الغ‍افلون) * أي الكاملون في الغفلة عما فيه صلاحهم. وقال عطاء: عما أعد الله تعالى لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب، وجعل بعضهم هذه الجملة كالبان للجملة قبلها فلذا فصلت عنها.
* (ولله الأسمآء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون فىأسم‍ائه سيجزون ما كانوا يعملون) *.
* (ولله الأسماء الحسنى) * قل: تنبيه للمؤمنين على كيفية ذكره تعالى وكيفية المعاملة مع المخلين بذلك الغافلين عنه سبحانه وتعالى وعما يليق بشأنه عز شأنه إثر بيان غفلتهم التامة وضلالتهم الطامة، وسيأتي إن شاء الله تعالى وجه آخر لذكر ذلك. والمراد بالأسماء كما قال حجة الإسلام الغزالي وغيره الألفاظ المصوغة الدالة على المعاني المختلفة، والحسنى تأنيث الأحسن أفعل تفضيل، ومعنى ذلك أنها أحسن الأسماء وأجلها لأنبائها عن أحسن المعاني وأشرفها،
120

وقيل: المراد بالأسماء الصفات ويكون من قولهم طار اسمه في البلاد أي صييته ونعته، والجمهور على الأول لقوله عز اسمه: * (فادعوه بها) * لأنه إما من الدعوة بمعنى التسمية كقولهم: دعوته زيدا أو بزيد أي سميته أو من الدعاء بمعنى النداء كقولهم: دعوت زيدا أي ناديته، وعلى التقديرين إنما يلائم ظاهر المعنى الأول على ما قيل.
* (وذروا الذين يلحدون في اسم‍ائه) * أي يميلون وينحرفون فيها عن الحق إلى الباطل يقال: ألحد إذا مال عن القصد والاستقامة، ومنه لحد القبر لكونه في جانبه بخلاف الضريح فإنه في وسطه، وقرأ حمزة هنا وفي فصلت * (يلحدون) * بالفتح من الثلاثي والمعنى واحد، وروى أبو عبيدة عن الأحمر أن ألحد بمعنى مارى وجادل، ولحد بمعنى مال وانحرف، واختار الواحدي قراءة الجمهور قال: ولا يكاد يسمع لأحد بمعنى ملحد، والإلحاد في أسمائه سبحانه أن يسمى بما لا توقيف فيه أو بما يوهم معنى فاسدا كما في قول أهل البدو يا أبا المكارم، يا أبيض الوجه يا سخي ونحو ذلك، فالمراد بالترك المأمور به الاجتناب عن ذلك، وبأسمائه ما أطلقوه عليه تعالى وسموه به على زعمهم لا أسماؤه تعالى حقيقة، وعلى ذلك يحمل ترك الإضمار بأن يقال: يلحدون بها، وما قيل: إنه أريد بالأسماء التسميات فلذا ترك الإضمار ليس بشيء، ومن فسر الإلحاد في الأسماء بما ذكر ذهب إلى أن أسماء الله تعالى توقيفية يراعي فيها الكتاب والسنة والإجماع فكل اسم ورد في هذه الأصول جاز أطلاقه عليه جل شأنه وما لم يرد فيها لا يجوز إطلاقه وإن صح معناه، وبهذا صرح أبو القاسم القشيري في مفاتيح الحجج ومصابيح النهج، وفي أبكار الأفكار للآمدي ليس مأخذ جواز تسميات الأسماء الحسنى دليلا عقليا ولا قياسا لفظيا وإلا لكان تسمية الرب تعالى فقيها عاقلا مع صحة معاني هذه التسميات في حقه وهي العلم والفقه أولى من تسميته سبحانه وتعالى بكثير مما يشكل ظاهره بل مأخذ ذلك إنما هو الإطلاق والإذن من الشارع فكل ما ورد الإذن به منه جوزناه وما ورد المنع منه منعناه وما لم يوجد فيه إطلاق ولا منع فقد قال بعض أصحابنا بالمنع منه وليس القول بالمنع مع عدم وروده أولى من القول بالجواز مع عدم وروده إذ المنع والجواز حكمان، وليس إثبات أحدهما مع عدم الدليل أولى من الآخر بل الحق في ذلك هو الوقف وهو أنا لا نحكم بجواز ولا منع والمتبع في ذلك كله الظواهر الشرعية كما هو المتبع في سائر الأحكام وهو أن يكون ظاهرا في دلالته وفي صحته ولا يشترط فيه القطع كما ذهب إليه بعض الأصحاب لكون المنع والجواز من الأحكام الشرعية، والتفرقة بين حكم وحكم في
اشتراط القطع في أحدهما دون الآخر تحكم لا دليل عليه انتهى، وأنت تعلم أن المشهور التفرقة بين الأحكام الأصولية الاعتقادية والأحكام الفرعية العملية كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى قريبا، وخلاصة الكلام في هذا المقام أن علماء الإسلام اتفقوا على جواز إطلاق الأسماء والصفات على الباري تعالى إذا ورد بها الإذن من الشارع وعلى امتناعه إذا ورد المنع عنه، واختلفوا حيث لا إذن ولا منع في جواز إطلاق ما كان سبحانه وتعالى متصفا بمعناه ولم يكن من الأسماء الأعلام الموضوعة في سائر اللغات إذ ليس جواز إطلاقها عله تعالى محل نزاع لأحد، ولم يكن إطلاقه موهما نقصا بل كان مشعرا بالمدح فمنعه جمهور أهل الحق مطلقا للخطر، وجوزه المعتزلة مطلقا، ومال إليه القاض أبو بكر لشيوع إطلاق نحو خدا وتكرى من غير نكير فكان إجماعا، ورد بأن الإجماع كاف في الإذن الشرعي إذا ثبت.
121

واعترضه أيضا أمام الحرمين بأنه قول بالقياس وهو حجة في العمليات والأسماء والصفات من العمليات، وروى بعضهم عنه التوقف، وذكر في " شرح المواقف " أن القاضي أبا بكر ذهب إلى أن كل لفظ دل على معنى ثابت لله تعالى جاز إطلاقه عليه إذا لم يكن موهما لما لا يليق بذاته تعالى، ثم قال: وقد يقال: لا بد مع نفي ذلك الإيهام من الإشعار بالتعظيم حتى يصح الإطلاق بلا توقف وجعل مذهب المعتزلة غير مذهبه والمشهور ما ذكرناه.
وفصل الغزالي قدس سره فجوز إطلاق الصفة وهو ما دل على معنى زائد على الذات ومنع إطلاق الاسم وهو ما يدل على نفس الذات محتجا بإباحة الصدق واستحبابه والصفة لتضمنها النسبة الخبرية راجعة إليه وهي لا تتوقف إلا على تحقق معناها بخلاف الاسم فإنه لا يتضمن النسبة الخبرية وأنه ليس إلا للأبوين أو من يجري مجراهما. وأجيب بأن ذلك حيث لا مانع من استعمال اللفظ الدال على تلك النسبة والخطر قائم، وأين التراب من رب الأرباب؟.
واختار جمع من المتأخرين مذهب الجمهور قالوا: فيطلق ما سمع على الوجه الذي سمع ولا يتجاوز ذلك إلا فالتعرف والتنكر سواء أوهم كالصبور والشكور والجبار والرحيم أو لم يوهم كالقادر والعالم، والمراد بالسمعي ما ورد به كتاب أو سنة صحيحة أو إجماع لأنه غير خارج عنهما في التحقيق بخلاف الضعيفة والقياس أيضا إن قلنا: إن المسألة من العلميات أما إن قلنا: إنها من العمليات فالسنة الضعيفة كالحسنة إلا الواهية جدا، والقياس كالإجماع، وأطلق بعضهم المنع في القياس وهو الظاهر لاحتمال إيهام أحد المترادفين دون الآخر.
وجعل بعضهم من الثابت بالقياس المترادفات من لغة أو لغات، وليس بذاك، ومن الثابت بالإجماع الصانع والموجود والواجب والقديم، قيل: والعلة، وقيل: الصانع والقديم مسموعان كالحنان والمنان، ونص بعض المحققين على أنه يمنع إطلاق غير المضاف إذا كان مرادفا للمضاف المسموع قياسا كما يمنع إطلاق ما ورد على وجه المشاكلة والمجاز، وأنه لا يكفي ورود الفعل والمصدر ونحوهما في صحة إطلاق الوصف فلا يطلق الحارث والزارع والرامي والمستهزىء والمنزل والماكر عليه سبحانه وتعالى وإن جاءت آيات تشعر بذلك.
هذا ومن الناس من قال: إن الألفاظ الدالة على الصفات ثلاثة أقسام: الأول ما يدل على صفات واجبة وهو أصناف: منها ما يصح إطلاقه مفردا لا مضافا نحو الموجود والأزلي والقديم وغيرها، ومنها ما يصح إطلاقه مفردا ومضافا إلى ما لا هجنة فيه نحو الملك والمولى والرب والخالق. ومنها ما يصح مضافا غير مفرد نحو يا منشىء الرفات ومقيل العثرات، والثان ما يدل على صفات ممتنعة نحو اليد والوجه والنزول والمجىء فلا يصح إطلاقه البتة، وإن ورد به السمع كان التأويل من اللوازم. والثالث ما لا يدل على صفات واجبة ولا ممتنعة بل يدل على معان ثابتة نحو المكر والخداع وأمثالهما فلا يصح إطلاقه إلا إذا ورد التوقيف، ولا يقال: يا مكار يا خداع البتة وإن كان مذكورا ما يدل عله كقوله تعالى: * (ومكروا ومكر الله) * (آل عمران: 54) انتهى، ولا يخفى ما فيه. وذكر الطيبي أن الحق الاعتماد في الإطلاق على الإطلاق على التوقيف، وأن كل ما أذن الشارع أن يدعي به الله عز وجل سواء كان مشتقا أو غير مشتق فهو اسم، وكل ما نسب إليه سبحانه وتعالى من غير ذلك الوجه سواء كان مؤولا أو غير مؤول فهو وصف؛ وجعل الحي وصفا والكريم اسما وادعى أنه يقال يا كريم ولا يقال يا حي مع ورود اللفظين فيه سبحانه وتعالى فيما أخرجه أبو داود. والترمذي من
122

حديث سلمان رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الله تعالى حي كريم يستحي إذا رفع العبد يده أن يردها صفرا حتى يضع فيها خيرا "، وذكر أن التعريف في الأسماء للعهد وأنه لا بد من المعهود لأنه سبحانه وتعالى أمر بالدعاء بها ونهى عن الدعاء بغيرها وأوعد على ذلك. وروى الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: " إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما من حفظها دخل الجنة " وفي رواية أحصاها، وفي أخرى " إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا " وأوتي فيه بالفذلكة والتأكيد لئلا يزاد على ما ورد. وجاءت معدودة في بعض الروايات بقوله عليه الصلاة والسلام " هو الله لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق الباريء المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباحث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدىء المعيد المحيي المميت الحي القيوم الواجد الماجد الواحد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالي المتعال البر التواب المنتقم العفو الرؤوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور ".
ونقل عن أهل البيت رضي الله تعالى عنهم غير ذلك وأخذوها من القرآن؛ وجاء أيضا عندنا ما يخالف هذه الرواية في بعض الأسماء.
وذكر غير واحد من العلماء أن هذه الأسماء منها ما يرجع إلى صفة فعلية ومنها ما يرجع إلى صفة نفسية ومنها ما يرجع إلى صفة سلبية. ومنها ما اختلف في رجوعه إلى شيء مما ذكر وعدم رجوعه وهو الله والحق أنه اسم للذات وهو الذي إليه يرجع الأمر كله، ومن هنا ذهب الجل إلى أنه الاسم الأعظم، وتنقسم قسمة أخرى إلى ما
لا يجوز إطلاقه على غيره سبحانه وتعالى كالله والرحمن وما يجوز كالرحيم والكريم وإلى ما يباح ذكره وحده كأكثرها وإلى ما لا يباح ذكره كذلك كالمميت والضار فإنه لا يقال: يا مميت يا ضار بل يقال: يا محيي يا مميت ويا نافع يا ضار، والذي أراه أنه لا حصر لأسمائه عزت أسمائه في التسعة والتسعين، ويدل على ذلك ما أخرجه البيهقي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أصابه هم أو حزت فليقل: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي في يدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وذهاب همي وجلاء حزني " الحديث، وهو صريح في عدم الحصر لمكان أو وأو.
وحكى محيي الدين النووي اتفاق العلماء على ذلك وأن المقصود من الحديث الإخبار بأن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة وهو لا ينافي أن له تعالى أسماء غيرها غير موصوفة بذلك. ونقل أبو بكر بن العربي عن بعضهم أن له سبحانه وتعالى ألف اسم ثم قال: وهذا قليل وهو كما قال. وعن بعضهم أنها أربعة آلاف، وعن بعض الصوفية أنها لا تكاد تحصى، والمختار عندي عدم توقف إطلاق الأسماء المشتقة الراجعة إلى نوع من الصفات النفسية والفعلية وكذا الصفات السلبية عليه تعالى على التوقيف الخاص بل يصح الإطلاق بدونه لكن بعد التحري التام وبذل الوسع فيما هو نص في التعظيم والتحفظ إلى الغاية عما يوهم أدنى أدنى نقص
123

معاذ الله تعالى في حقه سبحانه لأنا مأذونون بتعظيم الله تبارك وتعالى بالأقوال والأفعال ولم يحد لنا حد فيه؛ فمتى كان في الإطلاق تعظيم له عز وجل كان مأذونا به، والتكليف منوط بالوسع * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * فبعد بذل الوسع في التعظيم يرتفع الحرج.
وحديث الخطر الذي يذكرونه يستدعي أن لا يصح إلا إطلاق ما ثبت تواترا إطلاقه عليه جل وعلا أو اجتمعت الأمة على إطلاقه لأن الثبوت فيما عدا ذلك ظني والخطر فيه يقيني، والأسماء المتقدمة آنفا لم يوجد في كثير من الروايات ذكرها وهي مشهورة من حديث الترمذي، وقد قال: إنه حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح ولا نعرفه إلا من حديثه وهو ثقة عند أهل الحديث، وأنت تعلم أن هذا القدر لا يثبت به اليقين بل ولا بمثله ومثله، على أن عد بعض أهل البيت كما في الدر المنثور للتسعة والتسعين وكذا غيرهم كما لا يخفى على المتتبع يخالف هذا العد، وسند ذلك الخبر وإن لم يكن في المتانة كسند هذا إلا أنه لا أقل يورث الشبهة اللهم إلا أن يقال: حصل الإجماع على ما في حديث الترمذي دون ما في حديث غيره المخال له لكن لم أقف على من حكى ذلك.
ثم إن هذه الأسماء المذكورة مما ذكرنا لا مانع من الدعاء بها ومن إجرائها اخبارا عنه سبحانه وتعالى أو أوصافا له جل وعز وكلها حسنى، وتسميتها بذلك من جهة أنها بالمعنى المراد منها بالنسبة إليه تعالى مختصة به جل وعلا اختصاص الاسم ولا تطلق على غيره بالمعنى المراد مها حال إطلاقها على الله تعالى وإنما تطلق على الغير بمعنى آخر ليس بينه وبين ذلك المعنى إلا كما بين السواد والبياض فإن بينهما غاية البعد الذي لا يتصور أن يكون بعد فوقه لكنهما متشاركان في العرضية واللونية والمدركية بالبصر وأمور أخر سوى ذلك، وبهذا لا يعد البياض مماثلا للسواد أو بالعكس لأن المماثلة عبارة عن المشاركة في النوع والماهية وهي مفقودة هنا وكذا هي مفقودة بين العلم مثلا الذي يوصف الله تعالى به والعلم الذي يوصف غيره سبحانه وتعالى به ولا يعلم حقيقة ذلك وماهيته إلا الله تعالى كما لا يعرف حقيقة الله تعالى إلا الله تعالى في الدنيا والآخرة. نعم لو قال قائل: لا أعرف إلا الله تعالى صدق ولكن من جهة أخرى، ونهاية معرفة العارفين العجز عن المعرفة، ومعرفتهم بالحقيقة أنهم لا يعرفونه فإذا انكشف لهم ذلك فقد عرفوا وبغلوا المنتهى الذي يمكن في حق الخلق من معرفته سبحانه وتعالى.
وهذا الذي أشار إليه الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه حيث قال: العجز عن درك الإدراك إدراك بل هو الذي عناه سيد البشر صلى الله عليه وسلم بقوله: " لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " فإنه عليه الصلاة والسلام أراد إني لا أحيط بمحامدك وصفات إلهيتك وإنما أنت المحيط به وحدك لا أني أعرف منك ما لا أستطيع التعبير عنه بلساني، وتفاوت درجات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والملائكة والأولياء في المعرفة إنما هو بالوقوف على عجائب آياته في ملكوت السموات والأرض وخلق الأرواح والأجساد وحينئذ يتفاوتون في معرفة الأسماء والصفات، ومعرفة أن زيدا عالما مثلا ليست كمعرفة تفاصيل علومه كما لا يخفى، ولا يرد على ما ذكرنا من الاختصاص أنه يأباه تقسيمهم أسماءه تعالى إلى مختص كالرحمن وغير مختص كالرحيم لأن مرادهم بالمختص ما اعتبر في مفهومه المطابقي ما يمنع من الإطلاق على الغير، وقد نص البيضاوي على أن معنى الرحمن المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها وذلك لا يصدق على غير تعالى فلذا لا يوصف به، وبغير المختص ما لم يعتبر في مفهومه ذلك بل اعتبر فيه معنى عام فيطلق لذلك على الله تعالى وعلى غيره، لكن حال إطلاقه عليه تعالى يراد الفرد الكامل من ذلك المفهوم الذي لا يليق
124

ولا يمكن أن يثبت إلا لله عز وجل، وقد يقال: لا فرق بين الأسماء المشتقة التي يوجد في الغير مبدأ اشتقاقها في الجملة من حيث أن اعتبار ذلك الوجود يقتضي عدم الاختصاص، واعتبار الوجود على أتم وجه وأكمله يقتضي لاختصاص من غير تفرقة بين اسم واسم إلا أنا حكمنا بالاختصاص في بعض وبعدمه في آخر لأمر آخر كالاستعمال وعدم الاستعمال وأذن الشارع وعدم إذنه فلا يأبى ما قلناه أيضا نعم اعتبا رالاختصاص بالله تعالى في الأسماء المذكورة في الآية لا يتأتى فيها بناء على أن تقديم الخبر يفيد الاختصاص أيضا فيكون المعنى لله لا لغيره الأسماء التي تختص به تعالى ولا تطلق على غيره، ويؤذل إلى أن الأسماء المختصة به سبحانه وتعالى مختصة به جل وعلا وهو مما لا فائدة فيه، وحينئذ لا بد إما من حمل الأسماء على الصفات كما قال البعض، ومعنى الحسنى الكاملة من كل وجه أي لله تعالى لا لغيره الصفات الكاملة لأن صفات غيره سبحانه وتعالى كيفما كانت ناقصة لا أقل من أن العدم محيط بطرفيها، ومعنى فادعوه بها الخ سموه بما يشتق منها أو نادوه بذلك وذروا الذين يميلون عن الحق في صفاته فيسمون بها غير أو يدعون معتقدين الشركة ودعوهم وإلحادهم، وإما من ارتكاب ضرب من التجوز، وما ذكره الطيبي من أن التعريف في الأسماء للعهد إلى آخر ما قاله مما لا أظنك في مرية من ركاكته فتأمل.
وجوز أن يراد بالإلحاد العدول عن تسميته تعالى ببعض أسمائه الكريمة كما قالوا: وما الرحمن؟ إنا لا نعرف إلا رحمن اليمامة، وعليه فالمراد بالترك الاجتناب كما أريد أولا بالأسماء أسماؤه تعالى حقيقة، فالمعنى سموه تعالى بجميع أسمائه واجتنبوا إخراج بعضها من البين، وأن يراد به إطلاقها على الأصنام واشتقاق أسمائها منها كاللات من الله تعالى والعزى من العزيز، فالمراد من الأسماء أسماؤه تعالى حقيقة، والإطهار في موضع الإضمار مع التجريد عن الوصف في الكل للإيذان بأن إلحادهم في نفس الأسماء من غير اعتبار الوصف. والمراد بالترك الإعراض وعدم المبالاة بما فعلوا ترقبا لنزول العقوبة فيهم عن قريب كما يشير إليه قوله تعالى: * (سيجزون ما كانوا يعملون) * فإنه استئناف وقع جوابا عن سؤال مقدر كأنه قيل: لم لا نبالي؟ فقيل: لأنه سينزل بهم عقوبة وتشتفون عن قريب، والمعنى على الأمر بالاجتناب اجتنبوا إلحادهم كيلا يصيبكم ما يصيبهم فإنه سينزل بهم عقوبة ذلك.
* (وممن خلقنآ أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) *.
* (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) * قيل بيان إجمالي لحال من عدا المذكورين من الثقلين الموصوفين بما ذكر من الضلال على أتم وجه، وهو عند جمع من المحققين على ما ظهر للعلامة الطيبي عطف على جملة * (ولقد ذرأنا) * وقوله سبحانه وتعالى: * (يهدون) * الخ إذا أخذ بجملته وزبدته كان كالمقابل لقوله تعالى: * (لهم قلوب) * إلى * (هم الغافلون) * (الأعراف: 179) وكلتا الآيتين كالنشر لقوله عز شأنه: * (من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون) * (الأعراف: 178) وهو كالتذييل لحديث الذي أوتي آيات الله تعالى والأسماء العظام فانسلخ منها وقوله تعالى: * (ولله الأسماء الحسنى) * (الأعراف: 180) اعتراض لمناسبة حديث الأسماء حديث أسماء الله تعالى العظام التي أوتيها ذلك المنسلخ كما في بعض الروايات وقد تعلق بقوله عز شأنه: * (أولئك هم الغافلون) * (الأعراف: 179) باعتبار أنه كالتنبيه على أن الموجب لدخول جهنم هو الغفلة عن ذكر الله تعالى وعن أسمائه الحسنى، وأرباب الذوق والمشاهدة يجدون ذلك من أرواحهم لأن القلب إذا غفل عن ذكر الله تبارك وتعالى وأقبل على الدنيا وشهواتها وقع في نار الحرص ولا يزال يهوى من ظلمة إلى ظلمة حتى ينتهي إلى درجات الحرمان، وبخلاف ذلك إذا انفتح على
125

القلب باب الذكر فإنه يقع في جنة القناعة ولا يزال يترقى من نور إلى نور حتى ينتهي إلى أعلا درجات الإحسان، * (ومن) * أما نكرة موصوفة أو بمعنى الذي، والمراد بعض من خلقنا أو بعض ممن خلقنا طائفة جليلة كثيرة يهدون الناس ملتبسين بالحق أو يهدونهم بكلمة الحق ويدلونهم على الاستقامة وبالحق يحكمون في الحكومات الجارية فيما بينهم ولا يجورون فيها. أخرج ابن جرير وغيره عن ابن جريج أنه قال: ذكر لنا " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هذه أمتي ". وأخرج عن قتادة أنه قال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قرأ هذه الآية: " هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ".
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من أمتي قوما على الحق حتى ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام ". وروى الشيخان عن معاوية والمغيرة بن شعبة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله تعالى لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تعلى وهم على ذلك ".
واستدل الجبائي بالآية على صحة الإجماع في كل عصر سواء في ذلك عصر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله تعالى عنهم وغيره إذ لو اختص لم يكن لذكره فائدة لأنه معلوم، وعلى أنه لا يخلو عصر عن مجتهد إلى قيام الساعة لأن المجتهدين هم أرباب الإجماع، قيل: وهو مخالف لما روى من أنه لا تقوم الساعة إلا على أشرار الخلق، ولا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله، وأجيب بأن ذلك الزمان ملحق بيوم القيامة لمعانقته له، والمراد عدم خلو العصر عن مجتهد فيما عداه، وقيل: المراد من الخبرين الإشارة إلى غلبة الشر فلا ينافي وجود النزر من أهل ذلك العنوان، والواحد منهم كاف وهو حينئذ الأمة، والاقتصار على نعتهم بهداية الناس للإيذان بأن اهتداءهم في أنفسهم أمر محقق غني عن التصريح.
* (والذين كذبوا بااي‍اتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) *.
* (والذين كذبوا بئاي‍اتنا) * ولم تنفعهم هداية الهادين كأهل مكة وغيرهم، واقتصر بعضهم على الأولين والعموم أولى، وإضافة الآيات إلى ضمير العظمة لتشريفها واستعظام الإقدام على تكذيبها، والموصول في محل الرفع على أنه مبتدأ خبره جملة * (سنستدرجهم) * أي سنستدنيهم البتة إلى الهلاك شيئا فشيئا، وجوز أن يكون في محل النصب بفعل محذوف يفسره المذكور، والاستدراج استفعال من الدرجة بمعنى النقل درجة بعد درجة من سفل إلى علو فيكون استصعادا أو بالعكس فيكون استنزالا وقد استعمله الأعشى في قوله: فلو كنت في جب ثمانين قامة * ورقيت أسباب السماء بسلم
ليستدرجنك القول حتى تهره * وتعلم أني عنكم غير مفحم
في مطلق معناه، وقال بعضهم: هو استفعال من درجة إما بمعنى صعد ثم اتسع فيه فاستعمل في كل نقل تدريجي سواء كان بطريق الصعود أو الهبوط أو الاستقامة، وإما بمعنى مشى مشيا ضعيفا ومنه درج الصبي وإما بمعنى طوى ومنه أدرج الكتاب ثم استعير لطلب كل نقل تدريجي من حال إلى حال من الأحوال الملائمة للمنتقل الموافقة لهواه، واستدراجه تعالى إياهم بإدرار النعم عليهم مع إنهماكهم في الغي، ولذا قيل: إذا رأيت الله تعالى أنعم على عبد وهو مقيم على معصيته فاعلم أنه مستدرج، وهذا يمكن حمله على الاستصعاد باعتبار نظرهم وزعمهم أن متواترة النعم إثرة من الله تعالى وهو الظاهر، وعلى الاستنزال باعتبار الحقيقة فإن الجبلة الإنسانية في أصل الفطرة سليمة متهيئة لقبول الحق لقضية كل مولود يولد على الفطرة فهو في بقاع التمكن على الهدي والدين
126

فإذا أخلد إلى الأرض واتبع الشهوات وارتكب المعاصي والسيآت ينزل درجة درجة إلى أن يصير أسفل السافلين، وأيا ما كان فليس المطلوب إلا تدرجهم في مدراج
المعاصي إلى أن يحق عليهم كلمة العذاب الأخروي أو الدنيوي على ما قيل على أفظع حال وأشنعها وإدرار النعم وسيلة إلى ذلك * (من حيث لا يعلمون) * أنه كذلك بل يحسبون أنه إثرة من الله تعالى، وقيل: لا يعلمون ما يراد بهم، والجار والمجرور متعلق بمضمر وقد صفة لمصدر الفعل المذكور أي سنستدرجهم استدراجا كائنا من حيث لا يعلمون.
* (وأملى لهم إن كيدى متين) *.
* (وأملي لهم) * أي مهلهم والواو للعطف وما بعده معطوف على سنستدرجهم غير داخل في حكم السين لما أن الإمهال ليس من الأمور التدريجية كالاستدراج الحاصل في نفسه شيئا فشيئا بل هو مما يحصل دفعة والحاصل بطريق التدريج آثاره وأحكامه ليس إلا، ويلوح بذلك تغيير التعبير بتوحيد الضمير مع ما فيه من الافتنان المنبىء عن مزيد الاعتناء بمضمون الكلام لابتنائه على تجديد القصة والعزيمة، وجعله غير واحد داخلا في حكمها، ولا يخفى التوحيد حينئذ، وقيل: إنه كلام مستأنف أي وأنا أملي لهم، والخروج من ذلك الضمير إلى ضمير المتكلم المفرد شبيه الالتفات واستظهر أنه من التلوين.
وما قيل: إن هذا للإشعار بأن الإمهال بمحض التقدير الإلهي وذاك للإشارة إلى أن الاستدراك بتوسط المدبرات ليس بشيء لمكان * (ولا تحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خير لأنفسهم) * (آل عمران: 178) * (إن كيدي متين) * تقرير للوعيد وتأكيد له، والمتين من المتانة بمعنى الشدة والقوة، ومنه المتن للظهر أو اللحم الغليظ في جانبي الصلب، وفسر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الكيد بالمكر. وفسره بعضهم بالاستدراك والإملاء مع نتيجتهما، وتسميته كيدا لما أن ظاهره لطف وباطنه قهر، وبعضهم بنفس الأخذ فقط فتسميته حينئذ بذلك قيل: لكون مقدماته كذلك، وقيل: لنزوله بهم من حيث لا يشعرون، وإياما كان فالمعنى إن كيدي قوي لا يدافع بقوة ولا بحيلة، والآية حجة لأهل السنة في مسألة القضاء والقدر. وادعى بعض المفسرين أنها نزلت في المستهزئين من قريش أمهلهم الله تعالى ثم أخذهم في يوم بدر، ثم إنه سبحانه وتعالى لما بالغ في تهديد الملحدين المعرضين الغافلين عن آياته والايمان برسوله عليه الصلاة والسلام عقب ذلك على ما قيل بالجواب عن شبهتهم وإنكار عدم تفكرهم [بم فقال عز من قائل:
* (أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين) *.
* (أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة) * فالهمزة للإنكار والتوبيخ، والواو للعطف على مقدر يستدعيه السياق والسباق، والخلاف في مثل هذا التركيب مشهور وقد تقدمت الإشارة إليه.
و * (ما) * قال أبو البقاء: تحتمل أن تكون استفهامية إنكارية في محل الرفع بالابتداء والخبر * (بصاحبهم) * وأن تكون نافية اسمها * (جنة) * وخبرها * (بصاحبهم) *. وجوز أن تكون موصولة، وفيه بعد. والجنة مصدر كالجلسة بمعنى الجنون، وليس المراد به الجن كما في قوله تعالى: * (من الجنة والناس) * (هود: 119) لأنه يحتاج إلى تقدير مضاف أي مس جنة أو تخبطها، والتنكير للتقليل والتحقير، والتفكر التأمل وإعمال الخاطر في الأمر، وهو من أفعال القلوب فحكمه حكمها في أمر التعليق، ومحل الجملة على الوجهين النصب على نزع الخافض، ومحل الموصول نصب على ذلك في الوجه الأخير، أي أكذبوا ولم يتفكروا في أي شيء من جنون ما كائن بصاحبهم الذي هو أعظم الهادين للحق وعليه أنزلت الآيات، أو في أنه ليس بصاحبهم شيء من جنة حتى يؤديهم التفكر في ذلك إلى الوقوف
127

على صدقه وصحة نبوته فيؤمنوا به وبما أنزل عليه من الآيات أو في الذي بصاحبهم من جنة بزعمهم ليعلموا أن ذلك ليس من الجنة في شيء فيؤمنوا، واختار الطبرسي أن الكلام قد تم عند قوله تعالى: * (أو لم يتفكروا) * أي أكذبوا ولم يتفكروا في أقواله وأفعاله أو أولم يفعلوا التفكر، ثم ابتدىء فقيل: أي شيء بصاحبهم من جنة ما على طريقة الإنكار والتعجيب والتبكيت، أو قيل: ليس بصاحبهم شيء منها. والمراد بصاحبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والتعبير عنه عليه الصلاة والسلام بذلك لتأكيد النكير وتشديده لأن الصحبة مما يطلعهم على نزاهته صلى الله عليه وسلم عن شائبة مما ذكر، والتعرض لنفس الجنون عنه عليه الصلاة والسلام مع وضوح استحالة ثبوته له لما أن التكلم بما هو خارق لا يصدر إلا عمن به مس من الجنة كيفما اتفق من غير أن يكون له أصل أو همن له تأييد إلهي يخبر به عن الغيوب، وإذا ليس به عليه الصلاة واللاسم شيء من الأول تعين الثاني. وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قام على الصفا فدعا قريشا فخذا فخذا يا بني فلان يحذرهم بأس الله تعالى ووقائعه إلى الصباح حتى قال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون بات يهوت حتى أصبح فانزل الله تعالى الآية، وعليه فالتصريح بنفي الجنون للرد على عظيمتهم الشنعاء عند من له أدنى عقل، والعبير بصاحبهم وارد على مشاكلة كلامهم مع ما فيه من النكتة السالفة. وذكر بعضهم في سبب النزول أنهم كانوا إذا رأوا ما يعرض له صلى الله عليه وسلم من برحاء الوحي قالوا: جن فنزلت * (إن هو إلا نذير مبين) * تقرير لما قبله وتكذيب لهم فيما يزعمونه حيث تبين فيخ حقيقة حاله صلى الله عليه وسلم أي ما هو عليه الصلاة والسلام إلا مبالغ في الإنذار مظهر له غاية الإظهار، ثم لما كان أمر النبوة مفرعا على التوحيد ذكر سبحانه ما يدل عليه [بم فقال جل شأنه:
* (أولم ينظروا فى ملكوت السم‍اوات والارض وما خلق الله من شىء وأن عسىاأن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون) *.
* (أو لم ينظروا في ملكوت السم‍اوات والأرض) * فهو مسوق للإنكار والتوبيخ بإخلالهم بالتأمل بالآيات التكوينية إثر مانعي عليهم مانعي، والهمزة هنا كالهمزة فيما قبل، والواو للعطف على مقدر كما تقدم أو على الجملة المنفية بلم، والملكوت الملك العظيم، أي أكذبوا أو لم يتفكروا فيما ذكر ولم ينظروا نظر تأمل واستدلال فيما يدل على كمال قدرة الصانع ووحدة المبدع وعظيم شأن المالك ليظهر لهم صحة ما يدعوهم إليه ذاك الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وكأن التعبير بالنظر هنا دون التفكر الذي عبر به فيما قبل للإشارة إلى أن الدليل هنا أوضح منه فيما تقدم. وقوله سبحانه وتعالى: * (وما خلق الله من شيء) * يحتمل أن يكون عطفا على ملكوت
وتخصيصه بالسموات والأرض لكما لظهور عظم الملك فيهما، وأن يكون عطفا على المضاف هو إليه فيكون منسحبا على الجميع، والتعميم لاشتراك الكل في عظم الملك في الحقيقة، و * (من شيء) * بيان * (لما) *، وفي ذلك تنبيه على أن الدلالة على التوحيد غير مقصورة على السموات والأرض بل كل ذرة من ذرات العالم دليل على توحيده: وفي كل شيء له آية * تدل على أنه واحد
وهذا أمر متفق عليه عند العقلاء. نعم منهم من جعل وجه الدلالة الحدوث وهو الذي عليه معظم المتكلمين، ومنهم من جعل وجهها الإمكان وهو الذي عليه الفلاسفة واختاره بعض المتكلمين، ورجح الأول قطب عصره الشيخ خالد المجددي قدس سره في تعليقاته على حواشي عبد الحكيم على الخيالي فارجع إليها، وقوله تعالى:
128

* (وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم) * عطف على ملكوت فهو معمول لينظروا لكن لا يعتبر فيه بالنظر إليه أنه للاستدلال بناء على ما قالوا: إن قيد المعطوف عليه لا يلزم ملاحظته في المعطوف، وقد تقدم الكلام في ذلك، وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وخبرها عسى مع فاعلها الذي هو * (أن يكون) *، وخبر ضمير الشأن لا يشترط فيه الخبرية ولا يحتاج إلى التأويل كما نص عليه المحققون فلا معنى للمناقشة في ذلك، واسم يكون أيضا ضمير الشأن والخبر * (قد اقترب أجلهم) *، ولم يجعلوا هذا من باب التنازع لأن تنازع كان وخبرها مما لم يعهد لا لأن ذلك خلاف الأصل لما فيه من الإضمار قبل الذكر لأن ذلك لازم على جعل الاسم ضمير الشأن ولا ضير في كل، وأمر التكرار فيما ذكرنا سهل فلا يرتكب له خلاف المعهود خلافا للقطب الرازي، وجوز أبو البقاء أن تكون مصدرية، وتعقب بأنها لا توصل إلا بالفعل المتصرف وعسى ليست كذلك، والمعنى أو لم ينظروا في اقتراب آجالهم وتوقع حلولها فيسارعوا إلى طلب الحق والتوجه إلى ما ينجيهم قبل مغافصة الموت ومفاجأته ونزول العذاب، فالمراد بأجلهم أجل موتهم، وجوز أن يكون عبارة عن الساعة، والإضافة إلى ضميرهم لملابستهم لها من جهة إنكارهم إياها وبحثهم عنها، وقوله جل وعلا: * (فبأي حديث بعده يؤمنون) * قطع لاحتمال إيمانهم رأسا ونفي له بالكلية بعد إلزام الحجة والإرشاد إلى النظر، والباء متعلقة بيؤمنون، وضمير بعده للقرآن على ما ذهب إليه غالب المفسرين وهو معلوم من السياق، والحديث بمعنى الكلام فلا دليل في الآية لمن يزعم حدوث القرآن، وقيل: ولئن سلمنا كونه دليلا يراد من القرآن الألفاظ وهي محدثة على المشور، والمعنى إذا لم يؤمنوا بالقرآن وهو النهاية في البيان فبأي كلام يؤمنون بعده، وقيل: الضمير للآيات على حذف المضاف المفهوم من كذبوا، والتذكير باعتبار كونها قرآنا أو بتأويلها بالمذكور أو إجراء الضمير مجرى اسم الإشارة.
والمعنى أكذبوا بالآيات ولم يتفكروا فيما يوجب تصديقها من أحواله عليه الصلاة والسلام وأحوال المصنوعات فبأي حديث بعد تكذيبها يؤمنون، وفيه بعد، وقيل: إنه يعود على الرسول صلى الله عليه وسلم بتقدير مضاف أيضا أي بعد حديثه يؤمنون وهو أصدق الناس، وقيل: المراد بعد هذا الحديث، وقيل: بعد الأجل أي كيف يؤمنون بعد انقضاء أجلهم؟، وجعل الزمخشري ذلك مرتبطا بقوله تعالى: * (وأن عسى) * الخ ارتباط التسبب عنه، والضمير للقرآن كأنه قيل: لعل أجلهم قد اقترب فما بالهم لا يبادرون الإيمان بالقرآن قبل الموت وماذا ينظرون بعد وضوح الحق وبأي حديث أحق منه يريدون أن يئمنوا، وتقدير ما قدر عند " صاحب الكشف " ليس لأنه لا بد من تقديره ليستقيم الكلام بل للتنبيه على معنى الاستبطاء الذي في ضمن أي، وأنه ليس بعد هذا البيان الواضح أمر ينتظر [بم وقوله عز شأنه:
* (من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم فى طغي‍انهم يعمهون) *.
* (من يضلل الله فلا هادي له) * استئناف مقرر لما قبله مبني على الطبع على قلوبهم، والمراد استمرا رالنفي لا نفي الاستمرار، وقوله سبحانه وتعالى: * (ويذرهم في طغيانهم) * بالياء والرفع على الاستئناف أي وهو يذرهم، وقرأ غير واحد بنون العظمة على طريقة الالتفات أي ونحن نذرهم، وقرأ حمزة. والكسائي بالياء والجزم عطفا على محل الجملة الاسمية الواقعة جواب الشرط كأنه قيل: من يضلل الله لا يهده أحد ويذرهم، ويحتمل أن يكون ذلك تسكينا للتخفيف كما قرىء يشعركم وينصركم، وقد روى الجزم مع النون عن
129

نافع. وأبي عمرو في الشواذ، وتخريجه على أحد الاحتمالين، وقوله تبارك وتعالى: * (يعمهون) * حال من مفعول يذرهم، والعمه التردد في الضلال والتحير أو أن لا يعرف حجة، وإفراد الضمير في حيز النفي رعاية للفظ * (من) * وجمعه في حيز الإثبات رعاية لمعناها للتنصيص على شمول النفي والإثبات للكل كما قيل هذا.
ومن باب الإشارة في الآيات: * (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) * (الأعراف: 175) إشارة إلى من ابتلى بالحور بعد الكور بأن سلك حتى ظهر له ما ظهر ثم رجع من الطريق لسوء استعداده وغلبة الشقاوة والعياذ بالله تعالى عليه، وفي التعبير بانسلخ ما لا يخفى * (ولو شئنا رفعناه بها) * إلى حظيرة القدس * (ولكنه أخذ إلى الأرض) * أي مال إلى أرض الطبية السفلية * (واتبع هواه) * في إيثار السوى * (فمثله كمثل الكلب) * في أخس أحواله * (إن تحمل عليه) * بالزجر * (يلهث) * يدلع لسانه مع التنفس الشديد * (أو تتركه يلهث) * (الأعراف: 176) أيضا. والمراد أنه يلهث دائما وكأنه إشارة إلى أن هذا المنسلخ لا يزال يطلق لسانه في أهل الكمال سواء زجر عن ذلك أو لم يزجر * (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس) * وهم مظاهر القهر * (لهم قلوب لا يفقهون بها) * الأسرار * (ولهم أعين لا يبصرون بها) * الحجج الكونية * (ولهم آذان لا يسمعون بها) * الآيات التنزيلية فهم صم بكم عمي * (أولئك كالأنعام) * ليس لهم هم إلا الأكل والشرب * (بل هم أضل) * (الأعراف: 179) منها لأنهم لا ينزجرون إذا زجروا ولا يهتدون إذا أرشدوا.
ومما يستبعد من طريق العقل ما نقله الإمام الشعراني عن شيخه علي الخواص قدس سره أن البهائم مكلفون محتجا بقوله تعالى: * (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) * (الأنعام: 38) مع قوله تعالى: * (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) * (فاطر: 24) وبما ورد عنه صلى الله عليه وسلم: " إنه ليؤخذ للشاة الجماء من الشاة القرناء " وهذا وإن كان في الشاة لكن لا قائل بالفرق، ونقل عنه القول بأن كل ما في الوجود من حيوان ونبات وجماد حي دراك، ثم قال:
فقلت له فهل تشبيه الحق تعالى من ضل من عباده بالأنعام بيان لنقص الأنعام عن الإنسان أم لكمالها في العلم بالله تعالى؟ فقال رضي الله تعالى عنه: لا أعلم، ولكني سمعت بعضهم يقول: ليس تشبيههم بالأنعام نقصا وإنما هو لبيان كمال مرتبتها في العلم بالله عز وجل حتى حارت فيه فالتشبيه في الحقيقة واقع في الحيرة لا في المحار فيه فلا أشد حيرة من العلماء بالله تعالى، فأعلى ما يصل إليه العلماء في العلم بربهم سبحانه وتعالى مبتدأ البهائم الذي لم تنتقل عن أصله وإن كانت منتقلة في شؤونه بتنقل الشؤون الإلهية لأنها لا تثبت على حال، ولذلك كان من وصفهم سبحانه وتعالى من هؤلاء القوم أضل سبيلا من الأنعام لأنهم يريدون الخروج من الحيرة من طريق فكرهم ونظرهم ولا يمكن لهم ذلك، والبهائم علمت ذلك ووقفت عنده ولم تطل الخروج عنه لشدة علمها بالله تعالى، وذكر أنها ما سميت بهائم إلا لأن أمرا قد أبهم على غالب الخلق فلم يعرفوه كما عرفه أهل الكشف انتهى.
وهو كلام يورث المؤمن به حسدا للبهائم نفعنا الله تعالى بها وأعاذنا من الحسد * (ولله الأسماء الحسنى) * التي يدبر كل أر باسم منها * (فادعوه بها) * (الأعراف: 180) حسب المراتب وأعلاها الدعاء بلسان الفعل وهو التحلي بمعانيها بقدر ما يتصور في حق العبد وذلك حظ المقربين منها، وذكر حجة الإسلام الغزالي قدس سره أن حظوظهم من معاني أسمائه تعالى ثلاثة: الأول: معرفتها على سبيل المكاشفة والمشاهدة حتى يتضح لهم حقائقها بالبرهان الذي لا يجوز فيه الخطأ وينكشف لهم اتصاف الله تعالى بها انكشافا يجري في الوضوح والبيان مجرى اليقين الحاصل للإنسان بصفاته الباطنة التي يدركها بمشاهدة باطنه لا بإحساس ظاهره، وكم بين هذا وبين الاعتقاد المأخوذ من الآباء والمعلمين
130

تقليدا، والتصميم عليه وإن كان مقرونا بأدلة جدلية كلامية.
الثاني استعظامهم ما يكشف لهم من صفات الجلال والكمال على وجه ينبعث منه شوقهم إلى الاتصاف بما يمكنهم من تلك الصفات ليقربوا بها من الحق قربا بالصفة لا بالمكان فيأخذوا من الاتصاف بها شبها بالملائكة المقرنين عند الله تعالى، والخلو من هذا الشوق لا يكون إلا لأحد أمرين إما لضعف المعرفة، وإما لكون القلب ممتلئا بشوق آخر مستغرقا به. والثالث السعي في اكتساب الممكن من تلك الصفات والتخلق بها والتحلي بمحاسنها، وبذلك يصير العبد ربانيا رفيقا للملأ الأعلى من الملائكة شبيها بهم، وحينئذ لا يؤثر القرب والبعد في إدراكه بل لا يقتصر إدراكه على ما يتصور فيه ذلك ويكون مقدسا عن الشهوة والغضب فلا تكون أفعاله بمقتضاهما بل الداعي إليها حينئذ طلب التقرب إلى الله تعالى ولا يلزم من هذا إثبات المماثلة بين الله سبحانه وتعالى وبين العبد، وقد قال جل وعلا: * (ليس كمثله شيء) * (الشورى: 11) لأن المماثلة هي المشاركة في النوع والماهية لا مطلق المشاركة فالفرس الكيس وإن كان بالغا في الكياسة ما بلغ لا يكون مماثلا للإنسان لمخالفته له بالنوع وإن شابهه بالكياسة التي هي عارضة خارجة عن المقومات للإنسانية؛ وأنت تعلم بأدنى التفات أنه لا يتصور الشركة بين الله تعالى الحي العليم المريد القادر المتكلم السميع البصير وبين العبد المتصف بالحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر إلا في إطلاق الاسم لا غير، والكلام في خبر " لا زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل " الخ يستدعي الخوض في بحر لا ساحل له فخذ ما أتيناك * (وذروا الذين يلحدون في أسمائه) * يطلبون معانيها من غيره سبحانه وتعالى ويضيفونها إليه وهؤلاء مما ذرأهم سبحانه وتعالى لجهنم * (سيجزون ما كانوا يعملون) * (الأعراف: 180) من الالحاد * (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) * (الأعراف: 181) وهم المرشدون الكاملون * (والذين كذبوا بآياتنا) * كالمنكرين على هؤلاء الأمة * (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) * (الأعراف: 182) أنا سنستدرجهم * (وأملي لهم) * أمهلهم * (إن كيدي) * أخذي * (متين) * (الأعراف: 183) شديد، وقد جرت عادة الله تعالى في المنكرين على أوليائه أن يأخذهم أشد أخذ وقد شاهدنا ذلك كثيرا نعوذ بالله تعالى من مكره، * (أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خاق الله من شيء) * وهي الآيات التكوينية، وقد تقدم معنى الملكوت وهو في مصطلح الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم عبارة عن عالم الغيب المختص بالأرواح والنفوس وفسروا الملك بعالم الشهادة من المحسوسات الطبيعية كالعرش والكرسي وغيرهما وكل جسم يتركب من الاستقصاآت * (من يضلل الله فلا هادي له) * إذ لا هادي سواه سبحانه:
إلى الماء يسعى من يغص بلقمة * إلى أين يسعى من يغص بماء
* (ويذرهم في طغيانهم يعمهون) * (الأعراف: 186) يترددون لأن استعدادهم يقتضي ذلك، والله تعالى الموفق، ثم لما تقدم ذكر اقتراب أجلهم عقبه سبحانه بذكر سؤالهم عن الساعة فقال تعالى: * (يسئلونك عن الساعة) * وقيل هو استئناف مسوق لبيان بعض طغيانهم وضلالهم، والساعة في الأصل اسم لمقدار قليل من الزمان غير معين، وهي عند المنجمين جزء من أربعة وعشرين جزءا من الليل والنهار، وتنقسم إلى معوجة ومستوية، وتطلق في عرف الشرع على يوم موت الخلق وعلى يوم قيام الناس لرس العالمين، وفسروها بيوم القيامة، ولعل المراد منه أحد ذينك اليومين وإن كان المشهور فيه اليوم الآخر، والظاهر أن المسؤول عنه اليوم الأول، وإليه ذهب الزجاج، والساعة في ذلك من الأسماء الغالبة، ووجه إطلاقها عليه وكذا على وقت القيام ظاهر
131

إن أريد زمان الموت أو زمان القيام بدون ملاحظة الامتداد لظهور أنه قدر يسير في نفسه، وإن أريد الزمان الممتد فاطلاقها عليه إما لمجيئه بغتة كما قيل، أو لأنه يدهش من يأتيهم فيقل عندهم أو يقلل ما قبله، أو لأنه على طوله قدر يسير عند الله تعالى، أو لسرعة حسابه، وجوز أن يكون تسميته بذلك من باب التسمية بالضد تمليحا كما يسمى الأسود كافورا، والسائل عن ذلك أناس من اليهود، فقد أخرج ابن اسحق وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قال: حمل بن أبي قشير. وسمول بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيا كما تقول فإنا نعلم متى هي؟ وكان ذلك امتحانا منهم مع علمهم أنه تعالى قد استأثر بعلمها فأنزل الله تعالى الآية. وذهب بعض إلى أن السائل قريش، فقد أخرج عبد بن حميد. وابن جرير عن قتادة أن قريشا قالوا: يا محمد أسر إلينا متى الساعة لما بيننا وبينك من القرابة؟ فنزلت. [بم وقوله سبحانه:
* (يس‍الونك عن الساعة أيان مرس‍اها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتهآ إلا هو ثقلت فى السم‍اوات والارض لا تأتيكم إلا بغتة يس‍الونك كأنك حفى عنها قل إنما علمها عند الله ول‍اكن أكثر الناس لا يعلمون) *.
* (أيان مرس‍اها) * بفتح همزة أيان. وقرأ السلمي بكسرها وهو لغة فيها، وهي ظرف زمان متضمن لمعنى الاستفهام ويليها المبتدأ أو الفعل المضارع دون الماضي بخلاف متى حيث يليها كلاهما، والتحقيق أنها بسيطة مرتجلة، وقيل: اشتقاقها من أي وهي فعلان منه لأن معناه أي وقت، وأي فعل، وأي من أويت بمعنى رجعت لأن باب طويت وشويت أضعاف باب حييت ووعيت ولقربه منه معنى لأن البعض آو إلى الكل ومستند إليه. وأصله على هذا أوي فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء فصار أيا وإنما لم تجعل أيان فعلالا من أين لأنها ظرف زمان وأين ظرف مكان، ومن الناس من زعم أن أصلها أي أوان أو أي آن وليس بشيء.
وتعقب في الكشف حديث الاشتقاق من أي بأنه مخالف لما ذكره الزمخشري في سورة النمل ولو سمي به لكان فعالا من آن يئين ولا تصرف، ثم قال: والوجه ما ذكره هناك لأن الاشتقاق في غير المتصرفة لا وجه له. ثم إنه ليس اشتقاقه من أي أو لي من اشتقاقه من الأين بمعنى الحينونة لأن أيان زمان وكأنه غره الاستفهام وليس بشيء لأنه بالتضمين كما في متى ونحوه؛ وكذلك اشتقاق أي من أويت لا وجه له إلا أن الأظهر أنه يجوز الصرف وعدمه كما في حمار قبان ا ه‍.
وأجيب بأن ما ذكر أمر قدروه للامتحان وليعلم حكمها إذا سمي بها فلا ينافي ما ذكره الزمخشري وكذا لا ينافي التحقيق فتأمل، وأيا ما كان فهي في محل الرفع على أنها خبر مقدم ومرساها مبتدأ مؤخر؛ وهو مصدر ميمي من أرساه إذا أثبته وأقره أي متى إثباتها وتقريرها، ولا يكاد يستعمل الإرساء إلا في الشيء الثقيل كما في قوله تعالى: * (والجبال أرساها) * ومنه مرساة السفن، ونسبته هنا إلى الساعة باعتبار تشبيه المعاني بالأجسام.
وجوز بعضهم أن يكون اسم زمان، ولا يرد عليه أنه يلزم أن يكون للزمان زمان، وفي جوازه خلاف الفلاسفة لأنه يؤول بمتى وقوع ذلك، والجملة قيل في محل النصب على المفعولية به لقول محذوف وقع حالا من ضمير يسألونك أي يسألونك قائلين أيان مرساها، وقيل في محل الجر على البدلية عن الساعة.
والتحقيق عند بعض جلة المحققين أن محلها النصب بنزع الخافض لأنها بدل من الجار والمجرور لا من الجرور فقط، وفي تعليق السؤال بنفس الساعة أولا وبوقت وقوعها ثانيا تنبيه على أن المقصد الأصلي من السؤال نفسها باعتبار حلولها في وقتها المعين باعتبار كونه محلا لها، وما في الجواب أعني قوله سبحانه: * (قل إنما عامها عند ربي) * مخرج على ذلك أيضا أي إن علمها بالاعتبار المذكور عنده سبحانه لا غير فلا حاجة
132

إلى أن يقال: إنما علم وقت إرسائها عنده عز وجل، وبعضهم حيث غفل عن النكتة المشار إليها حمل النظم الجليل على حذف المضاف، وإليه يشير كلام أبي البقاء، ومعنى كون ذلك عنده عز وجل خاصة أنه استأثر به حيث لم يخبر أحدا به من ملك مقرب أو نبي مرسل، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم قيل للإيذان بأن توفيقه عليه الصلاة والسلام للجواب على الوجه المذكور من باب التربية والإرشاد وهو أولى مما سنشير إليه إن شاء الله تعالى، وقوله سبحانه: * (لا يجليها لوقتها إلا هو) * بيان لاستمرار خفائها إلى حين قيامها واقناط كلي عن إظهار أمرها بطريق الأخبار، والتجلية الكشف والإظهار، واللام لام التوقيت واختلف فيها فقيل هي بمعنى في، وقال ابن جني: بمعنى عند، وقال الرضى: هي اللام المفيدة للاختصاص، وهو على ثلاثة أضرب أما أن يحتص الفعل بالزمان لوقوعه فيهوإلا فحسب القرينة، وفسرها هنا غير واحد بفي.
والمعنى لا يكشف عنها ولا يظهر للناس أمرها الذي تسألون عنه إلا الرب سبحانه بالذات من غير أن يشعر به أحد من المخلوقين فيتوسط في إظهاره لهم لكن لا بأن لا يخبرهم بوقتها كما هو المسؤول بل بأن يقيمها فيعلموها على أتم وجه، والجار والمجرور متعلق بالتجلية وهو قيد لها بعد ورود الاستثناء كأنه قيل: لا يجليها إلا هو في وقتها إلا أنه قدم للتنبيه من أول الأمر على أن تجليها ليس بطريق الأخبار بوقتها بل باظهار عينها في وقتها الذي يسألون عنه، وقوله تعالى: * (ثقلت في السم‍اوت والأرض) * استئناف كما قبله مقرر لما سبق، والمراد كبرت وعظمت على أهلهما حيث لم يعلموا وقت وقوعها. وعن السدى أن من خفي عليه علم شيء كان ثقيلا عليه، وعن قتادة أن المعنى عظمت على أهل السموات والأرض حيث يشفقون منها ويخافون شدائدها، وفي رواية أخرى عنه أن المراد ثقل علمها عليهم فلا يعلمونها، ويرجع إلى ما ذكر أولا، وقيل: المعنى ثقلت عنذ الوقوع على نفس السموات حتى انشقت وانتثرت تجومها وكورت شمسها وعلى نفس الأرض حتى سيرت جبالها وسجرت بحارها وكان ما كان فيها، وإلى ذلك يشير ما روي عن ابن جريج وعليه فلا يحتاج إلى تقدير مضاف، وكلمة في على سائر الأوجه استعارة منبهة على تمكن الفهل كما لا يخفى * (لا تأتيكم إلا بغتة) * أي إلا فجأة على حين غفلة، أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقومن الساعة وقد نشر رجلان ثوبهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها " * (يسئلونك كأنك حفي عنها) * أي عالم بها كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما أخرجه عنه ابن المنذر وغيره * (فحفي) * فعيل من حفي عن الشيء إذا بحث عن تعرف حاله، وذكر بعضهم أن الحفاوة في الأصل الاستقصاء في الأمر للاعتناء به قال الأعشى: فإن تسألوا عني فيا رب سائل
حفي عن الأعشى به حيث أصعدا
ومنه احفاء الشارب، وتطلق أيضا على البر واللطف كما قال تعالى: * (إنه كان بي حفيا) * (مريم: 47)، والمعنى المراد هنا متفرع على المعنى الأول لأن من بحث عن شيء وسأل منه استحكم علمه به فاريد به لازم معناه مجازا أو كناية
133

وعدى الوصف بعن اعتبارا لأصل معناه وهو السؤال والبحث، وقيل: لأنه ضمن معنى الكشف ولولا ذلك لعدي بالباء، وجوز أبو البقاء أن تكون عن بمعنى الباء،
وروي عن الحبر. وابن مسعود أنهما قرآ بها.
والجملة التشبيهية في محل نصب على أنها حال من مفعول يسألونك أي مشبها حالك عندهم بحال من هو حفي، وقيل: إن عنها متعلق بيسألونك، والجملة التشبيهية معترضة وصلة * (حفي) * محذوفة أي بها أو بهم بناء على ما قيل: إن حفي من الحفاوة بمعنى الشفقة فإن قريشا قالوا له عليه الصلاة والسلام: إن بيننا وبينك قرابة فقل لنا متى الساعة؟ وروى ذلك عن قتادة وترجمات القرآن أيضا، والمعنى عليهم أنهم يظنون أن عندك علمها لكن تكتمه فلشفقتك عليهم طلبوا منك أن تخصهم به وتعلق * (عن) * على هذا الوجه بمحذوف كتخبرهم وتكشف لهم عنها بعيد، وقيل: هو من حفي بالشيء إذا فرح به، وروي ذلك عن مجاهد. والضحاك وغيرهما، والمعنى كأنك فرح بالسؤال عنها تحبه، و * (عن) * على هذا متعلقة - بحفى - كما قيل: لتضمنه معنى السؤال، والكلام على ما قال شيخ الإسلام استئناف مسوق لبيان خطئهم في توجيه السؤال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بناء على زعمهم أنه عليه الصلاة والسلام عالم بالمسؤول عنه أو أن العلم بذلك من مقتضيات الرسالة أثر بيان خطئهم في أصل السؤال باعلام بيان المسؤول عنه، وفي الانتصاف في تويجه تكرير يسألونك أن المعهود في أمثال ذلك أن الكلام إذا بني على مقصد وعرض في أثنائه عارض فأريد الرجوع لتتمة المقصد الأول وقد بعد عهده طرى ذكره لتتصل النهاية بالبداية، وهنا لما ابتدأ الكلام بقوله سبحانه: * (يسألونك عن الساعة أيان مرساها) * ثم اعترض ذكر الجواب بقل إلى بغتة أريد تتمة سؤالهم عنها بوجه من الإنكار عليهم وهو المضمن في قوله سبحانه: * (كأنك حفي عنها) * وهو شديد التعلق بالسؤال وقد بعد عهده فطرى ذكره ليليه تمامه، ولا تراه أبدا يطري إلا بنوع من الإجمال، ومن ثم لم يذكر المسؤول عنه وهو الساعة اكتفاء بما تقدم، ثم لما كرر جل وعلا السئال لهذه الفائدة كرر الجواب أيضا مجملا فقال عز من قائل: * (قل إنما علمها عند الله) * ومنه يعلم وجه ذكر الاسم الجليل هنا، وذكر المحقق الأول أنه عليه الصلاة والسلام أمر باعادة الجواب الأول تأكيدا للحكم وتقريرا له واسعارا بعلته على الطريق البرهانية بإيراد اسم الذات المنبىء عن استتباعها لصفات الكمال التي من جملتها العلم وتمهيدا للتعريض بجهلهم بقوله تعالى: * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * وزعم الجبائي أن السؤال الأول كان عن وقت قيام الساعة وهذا السؤال كان عن كيفيتها وتفصيل ما فيها من الشدائد والأحوال قيل: ولذلك خص جوابه باسم الذات إذ هو أعظم الأسماء مهابة، وإلى ذلك ذهب النيسابوري ونقل عن الإمام وغيره، ولا أرى لهم مسندا في ذلك، ومفعول العلم على ما يشير إليه كلام بعضهم محذوف أي لا يعلمون ما ذكر من اختصاص علمها به تعالى فبعضهم ينكرها رأسا فلا يسأل عنها إلا متلاعبا، وبعضهم يعلم أنها واقعة البتة ويزعم أنك واقف على وقت وقوعها فيسأل جهلا، وبعضهم يزعم أن العلم بذلك من مقتضيات الرسالة فيتخذ السؤال ذريعة إلى القدح فيها، والواقف على جلية الحال ويسأل امتحانا ملحق بالجاهلين لعدم عمله بعلمه هذا، وإنما أخفي سبحانه أمر الساعة لاقتضاء الحكم التشريعية ذلك فإنه أدعي إلى الطاعة وأزجر عن المعصية كما أن إخفاء الأجل الخاص للإنسان كذلك، ولو قيل بأن الحكمة التكوينية تقتضي ذلك أيضا لم يبعد، وظاهر الآيات أنه عليه الصلاة والسلام لم يعلم وقت قيامها. نعم علم عليه الصلاة والسلام قربها على الإجمال وأخبر صلى الله عليه وسلم به. فقد أخرج الترمذي وصححه
134

عن أنس مرفوعا " بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى "، وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعا أيضا " إنما أجلكم فيمن مضى قبلكم من الأمم من صلاة العصر إلى غروب الشمس " وجاء في غير ما أثر أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة وأنه عليه الصلاة والسلام بعث في أواخر الألف السادسة ومعظم الملة في الألف السابعة.
وأخرج الجلال السيوطي عدة أحاديث في أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة وذكر أن مدة هذه الأمة تزيد على ألف سنة ولا تبلغ الزيادة عليها خمسمائة سنة، واستدل على ذلك بأخبار وآثار ذكرها في رسالته المسماة - بالكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف - وسمي بعضهم لذلك هذه الألف الثانية بالمخضرمة لأن نصفها دنيا ونصفها الآخر أخرى، وإذا لم يظهر المهدي على رأس المائة التي نحن فيها بنهدم جميع ما بناه كما لا يخفى على من راجعه، وكأني بك تراه منهدماف، ونقل السفاريني عن الفلاسفة أنهم زعموا أن تدبير العالم الذي نحن فيه للسنبلة فإذا تم دورها وقع الفساد والدثور في العالم فإذا عاد الأمر إلى الميزان تجتمع المواد ويقدر النشور عودا، وقال البكري: إن سلطان الحمل عندهم اثنا عشر ألف سنة وسلطان الثور دونه بألف وهكذا ينقص ألف ألف إلى الحوت فيكون سلطانه ألف سنة ومجموع ذلك ثمانية وسبعون ألف سنة فإذا كملت انقضى عالم الكون والفساد، ونقل ذلك عن عرمس وادعى أنه قال: إنه لم يكن في حكم الحمل والثور والجوزاء على الأرض حيوان فلما كان حكم السرطان تكونت دواب الماء وهو أم الأرض ولما كان حكم الاسد تكونت الدواب ذوات الأربع ولما كان حكم السنبلة تولد الإنسانان الأولان آدم نوس وحوا نوس؛ وزعم بعضهم أن مدة العالم مقدار قطع الكواكب الثابتة لدرج الفلك، والكوكب منها يقطع البرج بزعمه في ثلاثة آلاف سنة فذلك ست وثلاثون ألف سنة انتهى.
ولا يخفى على من اطلع على كتب الأرصاد والزيجات أن الادوار عندهم ثلاثة أكبر وأوسط وأصغر ويسمونها التسييرات، وهي على السوية في جميع البروج فالدور الأكبر ما يكون فيه قطع كل درجة بمائة سنة والأوسط ما يكون فيه قطع كل درجة بعشر سنين والأصغر ما يكون فيه قطع كل درجة بسنة، وعدنهم دور أعظم ويسمونه أيضا التسيير الأعظم وهو ما يكون فيه قطع كل درجة بألف سنة والتسيير اليوم في الميزان وقد مضى منه أربع درجات وست وخمسون دقيقة وإحدى وثلاثون ثانية واثنتا عشرة ثالثة، وإذا اعتبرت مدة ذلك من نقطة رأس الحمل إلى هنا بلغت مائة ألف سنة وأربعا وثمانين ألف سنة وتسعمائة وثلاثا وأربعين سنة، وأن مدة حركة الثواب على ما نقل عن بطليموس في كل برج ألفان ومائة واثنتان وستون سنة وثمانية أشهر وستة عشر يوما وتسع عشرة ساعة، وإذا ضرب ذلك في اثني عشر عدة البروح خرج مدة قطعها الفلك كله وهو أقل مما ذكره بكثير، ولعل المراد بدور البرج ما أريد بسلطانه من حكم تأثيره والتأثر العادي على ما يفهم من بعض كتب القوم بحكم الأصالة للبرج وهو الذي يفيض على الكوكب النازل فيه، وكل ذلك مما لم ينزل الله تعالى به سلطانا، والحق الذي لا ينبغي المحيص عنه القول بحدوث العالم حدوثا زمانيا ولا يعلم أوله إلا الله تعالى، وكذلك عمر الدنيا وأول النشأة الإنسانية ومدة بقائها في هذا العالم وقدر زمان لبثها في البرزخ كل ذلك لا يعلمه ءلا الله تعالى، وجيمع
ما ورد في هذا الباب أمور ظنية لا سند يعول عليه لأكثرها، ووراء هذا أقوال لأهل الصين وغيرهم هي أدهى وأمر مما تقدم، وبالجملة الباقي من عمر الدنيا عند من يقول بفنائها أقل قليل بالنسبة إلى الماضي من ذلك والله تعالى أعلم بحقيقة ما هنالك.
* (قل لا أملك لنفسى نفعا ولا ضرا إلا ما شآء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسنى السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون) *.
لا أملك لأجل نفسي جلب نفع ما ولا دفع ضرر ما.
135

والجار والمجرور كما قال أبو البقاء إما متعلق بأملك أو بمحذوف وقع حالا من نفعا. والمراد لا أملك ذلك في وقت من الأوقات * (إلا ما شاء الله) * أي إلا وقت مشيئته سبحانه بأن يمكنني من ذلك فإنني حينئذ أملكه بمشيئته، فالاستثناء متصل وفيه دليل كما قال الشيخ إبراهيم الكوراني على أن قدرة العبد مؤثرة بإذن الله تعالى ومشيئته، وقيل: الاستثناء منقطع أي لكن ما شاء الله تعالى من ذلك كائن، وفيه على هذا من اظهار العجز ما لا يخفى، والكلام مسوق لإثبات عجزه عن العلم بالساعة على أتم وجه، وإعادة الأمر لاظهار العناية بشأن الجواب والتنبيه على استقلاله ومغايرته للأول * (ولو كنت أعلم الغيب) * أي الذي من جملته ما بين الأشياء من المناسبات المصححة عادة للسببية والمسببية ومن المباينات المستتبعة للمدافعة والممانعة * (لاستكثرت من الخير) * أي لحصلت كثيرا من الخير الذي نيط بترتيب الأسباب ورفع الموانع * (وما مسن السوء) * أي السوء الذي يمكن التفصي عنه بالتوقي عن موجباته والمدافعة بموانعه وإن كان منه ما لا مدفع له وكأن عدم مس السوء من توابع استكثار الخير في الجملة، ولذا لم يسلك في الجملة الثانية نحو مسلك الجملة الأولى، والاستلزام في الشرطية لا يلزم أن يكون عقليا وكليا بل يكفي أن يكون عاديا في البعض. وقد حكم غير واحد أنه في الآية من العادي، وبذلك دفع الشهاب ما قيل: إن العلم بالشيء لا يلزم منه القدرة عليه ومنشؤه الغفلة عن المراد.
وحمل الخير والسوء على ما ذكر هو الذي ذهب إليه جلة المحققين. وفسر بعض الأول بالربح في التجارة والفوز بالخصب. والثاني بضد ذلك بناء على ما روي عن الكلبي أن أهل مكة قالوا، يا محمد ألا تخبرنا بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فنشتري فنربح، وبالأرض التي تريد أن تجدب فنرتحل منها إلى ما قد أخصب فنزلت.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير الأول بالربح في التجارة والثاني بالفقرة، وقيل: الأول الجواب عن السؤال والثاني التكذيب، وقيل: الأول الاشتغال بدعوة من سبقت له السعادة، والثاني النصب الحاصل من دعوة من حقت عليه كلمة العذاب.
وقيل: ونسب إلى مجاهد. وابن جريج المراد من الغيب الموت، ومن الخير الاكثار من الأعمال الصالحة، ومن السوء ما لم يكن كذلك، وقيل: غير ذلك، والكل كما ترى ومنها ما لا ينبغي أن يخرج عليه التنزيل، وقدم ذكر الخير على ذكر السوء لمناسبة ما قبل حيث قدم فيه ذكر النفع على ذكر الضر وسلك في ذكرهما هناك كذلك مسلك الترقي على ما قيل: فإن دفع المضار أهم من جلب المنافع، وذكر النيسابوري أن أكثر ما جاء في القرآن إذ يؤتي بالضر والنفع معا تقديم لفظ الضر على النفع وهو الأصل لأن العابد إنما يعبد معبوده خوفا من عقابه أولا ثم يعبده طمعا في ثوابه ثانيا كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: * (يدعون ربهم خوفا وطمعا) * (السجدة: 16) وحيث تقدم النفع على الضر كان ذلك لسبق لفظ تضمن معني نفع كما في هذه السورة حيث تقدم آنفا لفظ الهداية على الضلال في قوله تعالى: * (من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل) * (الأعراف: 178) الخ وفي الرعد تقدم ذكر الطوع في قوله سبحانه: * (طوعا وكرها) * (آل عمران: 83) وهو نفع، وفي الفرقان تقدم العذب في قوله جل وعلا: * (هذا عذاب فرات) * (الفرقان: 53) وهو نفع، وفي سبأ تقدم البسط في قوله تبارك اسمه: * (ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) * (سبأ: 36) وليقس على هذا غيره، وابن جريح يفسر النفع هنا بالهدى والضر بالضلال، وبه تقوى نكتة التقديم التي اعتبرها هذا الفاضل فيما نحن فيه كما لا يخفى.
واستشكلت هذه الآية مع ما صح أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بالمغيبات الجمة وكان الأمر كما أخبر، وعد
136

ذلك من أعظم معجزاته عليه الصلاة والسلام، واختلف في الجواب فقيل: المفهوم من الآية نفي علمه عليه الصلاة والسلام إذ ذاك بالغيب المفيد لجلب المنافع ودفع المضار التي لا علاقة بينها وبين الأحكام والشرائع وما يعلمه صلى الله عليه وسلم من الغيوب ليس من ذلك النوع وعدم العلم به مما لا يطعن في منصبه الجليل عليه الصلاة والسلام.
وقد أخرج مسلم عن أنس. وعائشة رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون فقال: عليه الصلاة والسلام: " لو لم تفعلوا لصلح فلم يفعلوا فخرج شيصا فمر بهم صلى الله عليه وسلم فقال: ما لقحتم؟ قالوا: قلت كذا وكذا قال: " أنتم أعلم بأمر دنياكم " وفي رواية أخرى له أنه عليه الصلاة والسلام قال حين ذكر له أنه صار شيصا: " إن كان شيء من أمر دنياكم فشأنكم، وإن كان من أمر دينكم فإلى " وقد عد عدم علمه صلى الله عليه وسلم بأمر الدنيا كمالا في منصبه إذ الدنيا بأسرها لا شيء عند ربه.
وقيل: المراد نفي استمرار علمه عليه الصلاة والسلام الغيب، ومجيء * (كان) * للاستمرار شائع، ويلاحظ الاستمرار أيضا في الاستكثار وعدم المس. وقيل: المراد بالغيب وقت قيام الساعة لأن السؤال عنه وهو عليه الصلاة والسلام لم يعلمه ولم يخبر به أصلا، وحينئذ يفسر الخير والسوء بما يلائم ذلك كتعليم السائلين وعدم الطعن في أمر الرسالة من الكافرين، وقيل: أل في الغيب للاستغراق وهو صلى الله عليه وسلم لم يعلم كل غيب فان من الغيب ما تفرد الله تعالى به كمعرفة كنه ذاته تبارك وتعالى وكمعرفة وقت قيام الساعة على ما تدل عليه الآية.
وفي لباب التأويل للخازن في الجواب عن ذلك أنه يحتمل أن يكون هذا القول منه عليه الصلاة والسلام على سبيل التواضع والأدب، والمعنى لا أعلم الغيب ألا أن يطلعني الله تعالى عليه ويقدره لي، ويحتمل أن يكون قال ذلك قبل أن يطلعه الله تعالى على الغيب فلما اطلعه أخبر به، أو يكون خرج هذا الكلام مخرج الجواب عن سؤالهم ثم
بعد ذلك أظهره الله تعالى على أشياء من المغيبات ليكون ذلك معجزة له ودلالة على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم انتهى، وفيه تأمل؛ وكلام بعض المحققين يشير إلى ترجيح الأول.
ومعنى قوله سبحانه: * (إن أبا إلا نذير وبشير) * على ذلك ما أنا إلا عبد مرسل للإنذار والبشارة وشأني حيازة ما يتعلق بهما من العلوم لا الوقوف على الغيوب التي لا علاقة بينها وبينهما وقد كشفت من أمر الساعة ما يتعلق به الانذار من مجيئها لا محالة واقترابها وأما تعيين وقتها فليس مما يستدعيه الإنذار بل هو مما يقدح فيه لما مر من أن إبهامه ادعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية، وتقديم النذير لأن المقام مقام انذار * (يقوم يؤمنون) * أي يصدقون بما جئت به، والجار اما متعلق بالوصفين جميعا والمؤمنون ينتفعون بالإنذار كما ينتفعون بالتبشير واما متعلق بالأخير ومتعلق الأول محذوف أي نذير للكافرين، وحذف ليطهر اللسان منهم.
وأراد بعضهم من الكافرين المستمرين على الكفر ومن مقابلهم الذين يؤمنون في أي وقت كان وحينئذ في الآية ترغيب للكفرة في أحداث الإيمان وتحذير عن الاصرار على الكفر والطغيان.
* (هو الذى خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلمآ أثقلت دعوا الله ربهما لئن ءاتيتنا ص‍الحا لنكونن من الش‍اكرين) *.
* (هو الذي خلقكم) * استئناف لبيان ما يقتضي التوحيد الذي هو المقصد الأعظم، وإيقاع الموصول خبرا لتفخيم شأن المبتدأ أي هو سبحانه ذلك العظيم الشأن الذي خلقكم جميعا وحده من غير أن يكون لغيره مدخل في ذلك أصلا * (من نفس واحدة) * وهو آدم عليه السلام على ما نص عليه الجمهور * (وجعل منها
137

أي من جنسها كما في قوله سبحانه: * (جعل لكم من أنفسكم أزواجا) * (الشورى: 11) فمن ابتدائية والمشهور أنها تبعيضية أي من جسدها لما يروى أنه سبحانه خلق حواء من ضلع آدم عليه السلام اليسرى، والكيفية مجهولة لنا ولا يعجز الله تعالى شيء، والفعل معطوف على صلة الموصول داخل في حكمها ولا ضير في تقدم مضمونه على مضمون الأول وجودا لما أن الواو لا تستدعي الترتيب فيه، وهو إما بمعنى صير فقوله سبحانه: * (زوجها) * مفعوله الأول والثاني هو الظرف المقدم واما بمعني انشأ والظرف متعلق به قدم على المفعول الصريح لما مر مرارا أو بمحذوف وقع حالا من المفعول * (ليسكن اليها) * علة غائية للجعل أي ليستأنس بها ويطمئن إليها، والضمير المستكن للنفس، وكان الظاهر التأنيث لأن النفس من المؤنثات السماعية ولذا أنثت صفتها إلا أنه ذكر باعتبار أن المراد منها آدم ولو أنث على الظاهر لتوهم نسبة السكون إلى الأنثى والمقصود خلافه، وذكر الزمخشري أن التذكير أحسن طباقا للمعنى وبينه في الكشف بأنه لما كان السكون مفسرا بالميل وهو متناول للميل الشهواني الذي هو مقدمة التغشي لا سيما وقد أكد بالفاء في قوله تعالى: * (فلمصا تغش‍اها) * والتغشي منسوب إلى الذكر لا محالة كان الطباق في نسبته أيضا إليه وإن كان من الجانبين، وفيه إيماء إلى أن تكثير النوع علة المؤانسة كما أن الوحدة علة الوحشة، وأيضا لما جعل المخلوق أولا الأصل كان المناسب أن يكون جعل الزوج لسكونه بعد الاستيحاش لا العكس فإنه غير ملائم لفظا ومعنى، لكن ذكر ابن الشحنة أن النفس إذا أريد به الإنسان بعينه فمذكر وإن كان لفظه مؤنث، وجاء ثلاثة أنفس على معنى ثلاثة أشخاص وإذا أريد بها الروح فهي مؤنثة لا غير وتصغيرها نفيسة فليفهم. والضمير المنصوب من تغشاها للزوج وهو بمعنى الزوجة مؤنث، والتغشي كناية عن الجماع أي فلما جامعها * (حملت حملا خفيفا) * أي محمولا خفيفا وهو الجنين عند كونه نطفة أو علقة أو مضغة فإنه لا ثقل فيه بالنسبة إلى ما بعد ذلك من الأطوار، فنصب حملا على أنه مفعول به وهو بفتح الحاء ما كان في بطن أو على شجر وبالكسر خلافه. وقد حكى في كل منهما الكسر والفتح. وجوز أن يكون هنا مصدرا منصوبا على أنه مفعول مطلق، وأن يراد بالخفة عدم التأذي أي حملت حملا خف عليها ولم تلق منه ما تلقي بعض الحوامل من حملهن من الكرب والأذية * (فمرت به) * أي استمرت به كما قرأ به ابن عباس. والضحاك. والمراد بقيت به كما كانت قبل حيث قامت وقعدت وأخذت وتركت وهو معنى لا غبار فيه. والقول بأنه من القلب أي فاستمر بها حملها من القلب عند النقاد، وقرأ أبو العالية وغيره * (مرت) * بالتخفيف فقيل: إنه مخفف مرت كما يقال: ظلت في ظللت، وقيل: هو من المرية أي الشك أي شكت في أمر حملها.
وقرأ ابن عمر والجحدري * (فمارت) * من ماريمور إذا جاء وذهب فهي بمعنى قراءة الجمهور أو هي من المرية كقراءة أبي العالية ووزنه فاعلت وحذفت لامه للساكنين * (فلما اثقلت) * أي صارت ذات ثقل بكبر الحمل في بطنها فالهمزة فيه للصيرورة كقولهم أتمر وألبن أي صار ذا تمر ولبن، وقيل: إنها للدخول في زمان الفعل أي دخلت في زمان الثقل كاصبح دخل في الصباح والأول أظهر، والمتبادر من الثقل معناه الحقيقي، والتقابل بينه وبين المعنى الأول للخفة ظاهر، وقد يراد به الكرب ليقابل الخفة بالمعنى الثاني لكن المتبادر في الموضعين المعنى الحقيق، وقرىء * (اثقلت) * بالبناء للمفعول والهمزة للتعدية أي أثقلها حملها * (دعوا الله) * أي آدم وحواء عليهما السلام
138

لما خافا عاقبة الأمر فاهتما به وتضرعا إليه عز وجل * (ربهما) * أي مالك أمرهما الحقيق بأن يخص به الدعاء.
وفي هذا إشارة إلى أنهما قد صدرا به دعاءهما وهو المعنود منهما في الدعاء، ومتعلق الدعاء محذوف لإيذان الجملة القسمية به، أي دعواه تعالى أن يؤتيهما صالحا وعدا بمقابلته الشكر على سبيل التوكيد القسمي وقالا أو قائلين * (لئن ءاتينا صالحا) * أي نسلا من جنسنا سويا، وقيل: ولدا سليما من فساد الخلقة كنقص بعض الأعضاء ونحو ذلك وعليه جماعة. وعن الحسن غلاما ذكرا وهو خلاف الظاهر * (لنكونن) * نحن أو نحن ونسلنا * (من الشاكرين) * الراسخين في الشكر لك على إيتائك. وقيل: على نعمائك التي من جملتها هذه النعمة.
وجوز أن يكون ضمير آتيتنا لهما ولكل من يتناسل من ذريتهما وليس بذلك.
* (فلمآ ءات‍اهما ص‍الحا جعلا له شركآء فيمآ ءات‍اهما فتع‍الى الله عما يشركون) *.
* (فلما ءات‍اهما صالحا) * وهو ما سألاه أصالة من النسل أو ما طلباه أصالة واستتباعا من الولد وولد الولد ما تناسلوا * (جعلا) * أي النسل الصالح السوي، وثنى الضمير باعتبار أن ذلك النسل صنفان ذكر وأنثى وقد جاء أن حواء كانت تلد في كل بطن كذلك * (له) * أي لله سبحانه وتعالى * (شركاء) * من الأصنام والأوصان * (فيما ءات‍اهما) * من الأولاد حيث أضافوا ذلك إليهم، والتعبير * (بما) * لأن هذه الإضافة عند الولادة والأولاد إذ ذاك ملحقون بما لا يعقل.
وقيل: المراد بالموصول ما يعم سائر النعم فإن المشركين ينسبون ذلك إلى آلهتهم، ووجه العدول عن الإضمار حيث لم يقل شركاء فيه على الوجهين ظاهر، وإسناد الجعل للنسل على حد بنو تميم قتلوا فلانا * (فتعالى الله عما يشركون) * تنزيه فيه معنى التعجب، والفاء لترتيبه على ما فصل من قدرته سبحانه عز وجل وآثار نعمته الزاجرة عن الشرك الداعية إلى التوحيد، وضمير الجمع لأولئك النسل الذين جعلوا لله شركاء وفيه تغليب المذكر على المؤنث وإيذان بعظم شركهم، والمراد بذلك إما التسمية أو مطلق الإشراك، و * (ما) * إما مصدرية أي عن إشراكهم أو موصولة أو موصوفة أي عما يشركون به تعالى، وهذه الآية عندي من المشكلات؛ وللعلماء فيها كلام طويل ونزاع عريض وما ذكرناه هو الذي يشير إليه كلام الجبائي وهو مما لا بأس به بعد إغضاء العين عن مخالفته للمرويات سوى تثنية الضمير تارة وجمعه أخرى مع كون المرجع مفردا لفظا ولم نجد ذلك في الفصيح.
واختار غير واحد أن في جعلا وآتاهما بعد مضافا محذوفا وضمير التثنية فيهما لآدم وحواء على طرز ما قيل أي جعل أولادهما فيما آتى أولادهما من الأولاد وإنما قدروه في موضعين ولم يكتفوا بتقديره في الأول وإعادة الضمير من الثاني على المقدر أولا لأن الحذف لم تقم عليه قرينة ظاهرة فهو كالمعدوم فلا يحسن عود الضمير عليه، والمراد بالشرك فيما آتى الأولاد تسمية كل واحد من أولادهم بنحو عبد العزي وعبد شمس.
واعترض أولا: بأن ما ذكر من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه إنما يصار إليه فيما يكون للفعل ملابسة ما بالمضاف إليه أيضا بسرايته إليه حقيقة أو حكما ويتضمن نسبته إليه صورة مزية يقتضيها المقام كما في قوله تعالى: * (وإذ أنجيناكم من آل فرعون) * (الأعراف: 141) الآية فإن الانجاء منهم مع أن تعلقه حقيقة ليس إلا بأسلاف اليهود وقد نسب إلى أخلافهم بحكم سرايته إليهم توفية لمقام الامتنان حقه وكذا يقال في نظائره وهنا ليس كذلك إذ لا ريب في أن آدم وحواء عليهما السلام بريئان من سراية الجعل المذكور إليهما بوجه من الوجوه فلا وجه لإسناده إليهما صورة، وثانيا: بأن إشاركهم بإضافة أولادهم بالعبودية إلى أصنامهم من لازم اتخاذ تلك الأصنام آلهة ومتفرع
139

له لا أمر حدث عنهم لم يكن قبل فينبغي أن يكون التوبيخ على هذا دون ذلك، وثالثا: بأن إشراك أولادهما لم يكن حين آتاهما الله تعالى صالحا بل بعده بأزمنة متطاولة، ورابعا: بأن إجراء جعلا على غير ما أجري عليه الأول والتعقيب بالفاء يوجب اختلال النظم الكريم.
وأجيب عن الأول: بأن وجه ذلك الإسناد الإيذان بتركهما الأولى حيث أقدما على نظم أولادهما في سلك أنفسهما والتزما شكرهم في ضمن شكرهما وأقسما على ذلك قبل تعرف أحوالهم ببيان أن إخلالهم بالشكر الذي وعداه وعدا مؤكدا باليمين بمنزلة إخلالهما بالذات في استيجاب الحنث والخلق مع ما فيه من الإشعار بتضاعف جنايتهم أنهم يجعلهم المذكور أوقعوهما في ورطة الحنث والخلف وجعلوهما كأنهما باشراه بالذات فجمعوا بين الجناية مع الله تعالى والجناية عليهما السلام، وعن الثاني: بأن المقام يقتضي التوبيخ على هذا لأن لما ذكر ما أنعم سبحانه وتعالى به عليهم من الخلق من نفس واحدة وتناسلهم وبخهم على جهلهم وإضافتهم تلك النعم إلى غير معطيها وإسنادها إلى من لا قدرة له على شيء ولم يذكر أولا أمرا من أمور الألوهية قصدا حتى يوبخوا على اتخاذ الآلهة، وعن الثالث: بأن كلمة لما ليست للزمان المتضايق بل الممتد فلا يلزم أن يقع الشرط والجزاء في يوم واحد أو شهر أو سنة بل يختلف ذلك باختلاف الأمور كما يقال: لماظهر الإسلام طهرت البلاد من الكفر والإلحاد، وعن الرابع: بما حرره " صاحب الكشف " في اختيار هذا القول وإيثاره على القول بأن الشرك راجع لآدم وحواء عليهما السلام وليس المتعارف بل ما نقل من تسمية الولد عبد الحرث وهو أن الظاهر أن قوله تعالى: * (هو الذي خلقكم من نفس واحدة) * خطاب لأهل مكة وأنه بعدماختمت قصة اليهود بما ختمت تسلية وتشجيعا للنبي صلى الله عليه وسلم وحملا له على التثبت والصبر اقتداء بإخوته من أولى العزم عليه وعليهم الصلاة والسلام لا سيما مصطفاه وكليمه موسى عليه السلام فإن ما قاساه من بني إسرائيل كان شديد الشبه بما كان يقاسيه صلى الله عليه وسلم من قريش وذيلت بما يقتضي العطف على المعنى الذي سيق له الكلام أولا أعني قوله سبحانه وتعالى: * (ومما خلقنا أمة يهدون بالحق) * (الأعراف: 180) وقع التخلص إلى ذلك أهل مكة في حاق موقعه فقيل: * (والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم) * (الأعراف: 181) وذكر سؤالهم عما لا يعنيهم فلما أريد بيان أن ذلك مما لا يهمكم وإنما المهم إزالة ما أنتم عليه منغمسون فيه من أوضار الشرك والآثام مهد له هو الذي خلقكم مضمنا معنى الامتنان والمالكية المقتضيين للتوحيد والعبودية ثم قيل: * (فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء) * (الأعراف: 190) أي جعلتم يا أولادهما ولقد كان لكم في أبويكم أسوة حسنة في قولهما: * (لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين) * (الأعراف: 189) وكأن المعنى والله تعالى أعلم فلما آتاهما صالحا ووفيا بما وعدا به ربهما من القيام بموجب الشكر خالفتم أنتم يا أولادهما فأشركتم وكفرتم النعمة، وفي هذا الالتفات ثم إضافة فعلهم إلى الأبوين على عكس ما جعل من خلق الأب وتصويره في معرض الامتنان متعلقا بهم إيماء إلى غاية كفرانهم وتماديهم في الغي، وعليه ينطبق قوله سبحانه: * (فتعالى الله عما يشركون) * (الأعراف: 190) ثم قال: فظهر أن ءجراء جعلا لچه على غير ما أجحري عليه الأول، والتعقيب بالفاء لا يوجب اختلال النظم بل يوجب التئامه اه‍، والانصاف أن الأسئلة قوية والآية على هذا الوجه من قبيل اللغز، وعن الحسن. وقتادة أن ضمير جعلا وآتاهما يعود على النفس وزوجها من ولد آدم لا إلى آدم وحواء عليهما السلام، وهو قول الأصم قال: ويكون المعنى في قوله سبحانه
140

وتعالى: * (خلقكم من نفس واحدة) * خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وخلق لكل نفس زوجا من جنسها فلما تغشى كل نفس زوجها حملت حملا خفيفا وهو ماء الفحل فلما أثقلت بمصير ذلك الماء لحما ودما وعظما دعا الرجل والمرأة ربهما لئن آتيتنا صالحا أي ذكرا سويا لنكونن من الشاكرين وكانت عادتهم أن يئدوا البنات فلما آتاهما أي فلما أعطى الله تعالى الأب والأم ما سألاه جعلا له شركاء فسميا عبد اللات وعبد العزى وغير ذلك ثم رجعت الكناية في قوله سبحانه وتعالى: * (فتعالى الله عما يشركون) * (الأعراف: 190) إلى الجميع ولا تعلق للآية بآدم وحواء عليهما السلام أصلا، ولا يخفى أن المتبادر من صدرها آدم وحواء ولا يكاد يفهم غيرهما رأسا نعم اختار ابن المنير ما مآله هذا في الانتصاف وادعى أنه أقرب وأسلم مما تقدم وهو أن يكون المراد جنسي الذكر والأنثى ولا يقصد معين من ذلك ثم قال: وكأن المعنى والله تعالى أعلم هو الذي خلقكم جنسا واحدا وجعل أزواجكم منكم أيضا لتسكنوا إليهن فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر الجنس الذي هو الأنثى جرى من هذين الجنسين كيت وكيت، وإنما نسب هذه المقالة إلى الجنسو إن كان فيهم الموحدون لأن المشركين منهم فجاز أن يضاف الكلام إلى الجنس على طريقة قتل بنو تميم فلانا وإنما قتلهم بعضهم، ومثله قوله تعالى: * (ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا) * (مريم: 66) و * (قتل الإنسان ما أكفره) * (عبس: 17) إلى غير ذلك وتعقب بأن فيه إجراء جميع ألفاظ الآية على الأوجه البعيدة.
وعن أبي مسلم أن صدر الآية ادم وحواء كما هو الظاهر إلا أن حديثهما ما تضمنه قوله سبحانه وتعالى: * (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها) * (الأعراف: 189) وانقطع الحديث ثم خص المشركين من أولاد آدم بالذكر، ويجوز أن يذكر العموم ثم يخص البعض بالذكر، وهو كما ترى. وقيل: يجوز أن يكون ضمير جعلا لآدم وحواء كماهو الظاهر والكلام خارج مخرج الاستفهام الإنكاري والكناية في * (فتعالى) * الخ للمشكرين، وذلك أنهم كانوا يقولون: إن آدم عليه السلام كان يعبد الأصنام ويشرك كما نشرك فرد عليهم بذلك ونظير هذا أن ينعم رجل على آخر بوجوه كثيرة من الإنعام ثم يقال لذلك المنعم: إن الذي أنعمت عليه يقصد إيذاءك وإيصال الشر إليك فيقول: فعلت في حقه كذا وكذا وأحسنت إليه بكذا وكذا ثم إنه يقابلني بالشر والإساءة ومراده أنه بريء من ذلك ومنفي عنه. وقيل: يحتمل أن يكون الخطاب في * (خلقكم) * لقريش وهم آل قصي فإنهم خلقوا من نفسي قصي وكان له زوج من جنسه عربية قريشية وطلبا من الله تعالى الولد فأعطاهما أربعة بنين فسمياهم عبد مناف وعبد شمس وعبد العزى وعبد الدار يعني بها دار الندوة ويكون الضمير في * (يشركون) * لهما ولأعقابهما المقتدين بهما وأيد ذلك بقوله في قصة أم معبد: فيا لقصي ما زوى الله عنكم * به من فخار لا يباري وسودد
واستبعد ذلك في " الكشف " بأن المخاطبني لم يخلقوا من نفس قصي لا كلهم ولا كلهم وإنما هو مجمع قريش وبأن القول بأن زوجه قرشية خطأ لأنها إنما كانت بنت سيد مكة من خزاعة وقريش إذ ذاك متفرقون ليسوا في مكة، وأيضا من أين العلم إنهما وعدا عند الحمل أن يكونا شاكرين لله تبارك وتعالى ولا كفران أشد من الكفر الذي كانا فيه. وما مثل من فسر بذلك إلا كمن عمر قصرا فهدم مصرا، وأما البيت فإنما خص فيه بنو قصي بالذكر لأنهم ألصق برسول الله صلى الله عليه وسلم أو لأنه لما كان سيدهم وأميرهم شمل ذكره الكل شمول فرعون لقومه ومعلوم أن الكل ليسوا من نسل فرعون اه‍. وأجيب عن قوله: من أين العلم الخ بأنه من
141

إعلام الله تعالى إن كان ذلك هو معنى النظم، ومنه يعلم أن كون زوجته غير قرية في حيز المنعم. نعم في كون قصي هو أحد أجداد النبي صلى الله عليه وسلم كان مشركا مخالفة لما ذهب إليه جمع من أن أجداده عليه الصلاة والسلام كلهم غير مشركين، وقيل: إن ضمير له للولد، والمعنى أنهما طلبا من الله تعالى أمثالا للولد الصالح الذي أتاهما، وقيل: هو لإبليس، والمعنى جعلا لإبليس، والمعنى جعلا لإبليس شركاء في اسمه حيث سميا ولدهما بعبد الحرث، وكلا القولين ردهما الآمدي في أبكار الأفكار، وهما لعمري أوهن من بيت العنكبوت لكني ذكرتهما استيفاء للأقوال، وذهب جماعة من السلف كابن عباس. ومجاه. وسعيد بن المسيب وغيرهم إلى أن ضمير * (جعلا) * يعود آدم وحواء عليهما السلام، والمراد بالشرك بالنسبة إليهما غير المتبادر بل ما أشرنا إليه آنفا إلى أن قوله سحبانه وتعالى: * (فتعالى الله عما يشركون) * تخلص إلى قصة العرب وإشراكهم الأصنام فهو كما قال السدي من الموصول لفظا المفصول معنى، ويوضح ذلك كما قيل تغيير الضمير إلى الجمع بعد التقنية ولو كانت القصة واحدة لقيل يشركان، وكذلك الضمائر بعد، وأيد ذلك بما أخرجه أحمد. والترمذي وحسنه. والحاكم وصححه عن سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال لها: سميه عبد الحرث فإنه يعيش فسمته بذلك فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره وأراد بالحرث نفسه فإنه كان يسمى به بين الملائكة " ولا يعد هذا شركا بالحقيقة على ما قال القطب لأن أسماء الأعلام لا تفيد مفهوماتها اللغوية لكن أطلق عليه الشك تغليظا وإيذانا بأن ما عليه أولئك السائلون عما لا يعنيهم أمر عظيم لا يكاد يحيط بفظاعته عبارة.
وفي لباب التأويل أن إضافة عبد إلى الحرث على معنى أنه كان سببا لسلامته وقد يطلق اسم العبد على ما لا يراد به المملوك كقوله: وأني لعبد الضيف ما دام ثاويا
ولعل نسبة الجعل إليهما مع أن الحديث ناطق بأن الجاعل حواء لا هي وآدم لكونه عليه السلام أقرها على ذلك، وجاء في بعض الروايات التصريح بأنهما سمياه بذلك. وتعقب هذا القول بعض المدققين بأن الحديث لا يصلح تأييدا له لأنه لم يرد مفسرا للآية ولا إنكار لصدور ذلك منهما عليهما السلام فإنه ليس بشرك. نعم كان الأولى بهما التنزه عن ذلك إنما المنكر حمل الآية على ذلك مع ما فيه من العدول عن الظاهر لا سيما على قراءة الأكثرين * (شركاء) * بلفظ الجمع؛ ومن حمل * (فتعالى) * الخ على أنه ابتداء كلام وهو راجع إلى المشركين من الكفار، والفاء فصيحة، وكونه منقولا عن السلف معارض بأن غيره منقول أيضا عن جمع منهم انتهى. وقد يقال: أخرج ابن جرير عن الحبر أن الآية نزلت في تسمية آدم وحواء ولديهما بعبد الحرث، ومثل ذلك لا يكاد يقال من قبل الرأي، وهو ظاهر في كون الخبر تفسيرا للآية، وارتكاب خلاف الظاهر في تفيرها مما لا مخلص عنه كما لا يخفى على المنف.
ووجه جمع الشركاء زيادة في التغليظ لأن من جوز الشرك جوز الشركاء فلما جعلا شريكا فكأنهما جعلا شركاء، وحمل * (فتعالى الله) * الخ على الابتداء مما يستدعيه
السابق والسياق وبه صرح كثير من أساطين ازسلام والذاهبون إلى غير هذا الوجه نزر قليل بالنسبة إلى الذاهبين إليه وهم دونهم أيضا في العلم والفضل وشتان ما بين دندنة النحل وألحان معبد، ومن هنا قال العلامة الطيبي: إن هذا القول أحسن الأقوال بل لا قول غيره ولا معمول إلا عليه لأنه مقتبس من مشكاة النبوة وحضرة الرسالة صلى الله عليه وسلم، وأنت قد علمت مني أنه إذا
142

صح الحديث فهو مذهبي وأراه قد صح ولذلك أحجم كميت قلمي عن الجري في ميدان التأويل كما جرى غيره والله تعالى الموفق للصواب. وقرأ نافع. وأبو بكر * (شركا) * بصيغة المصدر أي شركة أو ذوي شركة وهم الشركاء.
* (أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون) *.
* (أيشركون) * به تعالى * (ما لا يخلق شيئا) * أي ما لا يقدر على أن يخلق شيئا من الأشياء أصلا ومن حق المعبود أن يكون خالقا لعابده لا محالة وعنى * (بما) * الأصنام، وإرجاع الضمير إليها مفردا لرعاية لفظها كما أن إرجاع ضمير الجمع إليهما من قوله سبحانه وتعالى: * (وهم يخلقون) * لرعاية معناها وإيراد ضمير العقلاء مع أن الأصنام مما لا يعقل إنما هو بحسب اعتقادهم فيها وإجرائهم لها مجرى العقلاء وتسميتهم لها آلهة.
والجملة عطف على * (لا يخلق) *، والجمع بين الأمرين لإبانة كمال منافاة حال ما أشركوه لما اعتقدوه فيه وإظهار غاية جهلهم، وعدم التعرض للخالق للإيذان بتعينه والاستغناء عن ذكره تعالى
* (ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون) *.
* (ولا يستطيعون) * أي الأصنام * (لهم) * أي للمشركين الذين عبدوهم * (نصرا) * أي نصرا ما إذا أحزنهم أمرهم وخطب ملم * (ولا أنفسهم ينصرون) * إذا اعتراهم حادثة من الحوادث أي لا يدفعونها عن أنفسهم، وإيراد النصر للمشاكلة وهو مجاز في لازم معناه وهذا لتأكيد العجز والاحتياج المنافيين لاستحقاق الألوهية، ووصفوا فيما تقدم بالمخلوقية لكونهم أهلا لها ولم يوصفوا هنا بالمنصورية لأنهم ليسوا أهلا لها. [بم وقوله سبحانه وتعالى:
* (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سوآء عليكم أدعوتموهم أم أنتم ص‍امتون) *.
* (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم) * بيان لعجزهم عما هو أدنى من النصر المنفي عنهم وأيسر وهو مجرد الدلالة على البغية والإرشاد إلى طريق حصولها من غير أن تحصل للطالب. والخطاب للمشركين بطريق الالتفات بدلالة ما بعد، وفيه إيذان بمزيد الاعتناء بأمر التوبيخ والتبكيت، أي وإن تدعوا الأصنام أيها المشركون إلى أن يرشدوكم إلى ما تاحصلون به المطالب أو تنجون به عن المكاره لا يتبعوكم إلى مرادكم ولا يجيبوكم ولا يقدرون على ذلك. وقرأ نافع * (يتبعوكم) * بالتخفيف وقوله تعالى:
* (سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم ص‍امتون) * استئناف مقر لمضمون ما قبله ومبين لكيفية عدم الاتباع، أي مستو عليكم في عدم الإفادة دعاؤكم لهم وسكوتكم فإنه لا يتغير حالكم في الحالين كما لا يتغير حالهم بحكم الجمادية، وكان الظاهر الإتيان بالفعل فيما بعد * (أم) * لأن ما في حيز همزة التسوية مؤول بالمصدر، لكنه عدل عن ذلك للإيذان بأن إحداث العدوة مقابل باستمرار الصمات، وفيه من المبالغة ما لا يخفى، وقيل: إن الاسمية بمعنى الفعلية وإنما عدل عنها لأنها رأس فاصلة وفيه أنه لو قيل تصمتون تم المراد.
وقيل: أن ضمير * (تدعوا) * للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أو له عليه الصلاة والسلام وجمع للتعظيم، وضمير المفعولين للمشركين، والمراد بالهدي دين الحق أي إن تدعوا المشركين إلى الإسلام لا يتبعوكم أي لم يحصلوا ذلك منكم ولم يتصفوا به، وتعقب بأنه مما لا يسعده سباق النظم الكريم وسياقه أصلا على أنه لو كان كذلك لقيل عليهم مكان عليكم كما في قوله تعالى: * (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) * (:) فإن استواء الدعاء وعدمه إنما هو بالنسبة للمشركين لا بالنسبة إلى الداعين فإنهم فائزون بفضل الدعوة، ولعل رواية ذلك عن الحسن غير ثابتة، والطبرسي حاطب ليل.
* (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم ص‍ادقين) *.
* (إن الذين تدعون) * تقريري لما قبله من عدم اتباعهم لهم، والدعاء اما بمعنى العبادة تسمية لها بجزئها، أو بمعنى التسمية كدعوته زيدا ومفعولاه محذوفان أي إن الذين تعبدونهم
143

* (من دون الله) * أو تسمونهم آلهة من دونه سبحانه وتعالى: * (عباد أمثالكم) * أي مماثلة لكم من حيث أنها مملوكة لله تعالى مسخرة لأمره عاجزة عن النفع والضر كما قال الأخفش، وتشبيها بهم في ذلك مع كون عجزها عنهما أظهر وأقوى من عجزهم إنما هو لاعترافهم بعجز أنفسهم وزعمهم قدرتها عليهما إذ هو الذي يدعوهم إلى عبادتها والاستعانة بها، وقيل: يحتمل أنهم لما نحتوا الأصنام بصور الأناسي قال سبحانه لهم: إن قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء أمثالكم فلا يستحقون عبادتكم كما لا يستحق بعضكم عبادة بعض فتكون المثلية في الحيوانية والعقل على الفرض والتقدير لكونهم بصورة الأحياء العقلاء، وقرأ سعيد بن جبير * (إن الذين تدعون) * بتخفيف إن ونب عبادا أمثالكم، وخرجها ابن جني على أن إن نافية عملت عمل ما الحجازية وهو مذهب الكسائي وبعض الكوفيين. واعترض أولا: بأنه لم يثبت مثل ذلك، وثانيا: بأنه يقتضي نفي كونهم عبادا أمثالهم، والقراءة المشهورة تثبته فتتناقض القراءتان، وأجيب عن الأول: بأن القائل به يقول: إنه ثابت في كلام العرب كقوله: أن هو مستوليا على أحد * إلا على أضعف المجانين
وعن الثاني: أنه لا تناقض لأن المشهورة تثبت المثلية من بعض الوجوه وهذه تنفيها من كل الوجوه أو من وجه آخر فإن الأصنام جمادات مثلا والداعين ليسوا بها، وقيل
: إنها إن المخففة من المثقلة وإنها على لغة من نصب بها الجزئين كقوله: إذا اسود جنح الليل فلتأت ولتكن * خطاك خفافا أن حراسنا أسدا
في رأي ولا يخفى، أن إعمال المخففة ونصب جزئيهما كلاهما قليل ضعيف، ومن هنا قيل: إنها مهملة وخبر المبتدأ محذوف وهو الناصب لعبادا و * (أمثالكم) * على القراءتين نعت لعباد عليهما أيضا، وقرىء * (أن) * بالتشديد و * (عبادا) * بالنصب على أنه حال من العائد المحذوف و * (أمثالكم) * بالرفع على أنه خبر أن، وقرىء به مرفوعا في قراءة التخفيف ونصب * (عباد) * وخرج ذلك على الحالية والخبرية أيضا * (فادعوهم فليستجيبوا لكم) * تحقيق لمضمون ما قبله بتعجيزهم وتبكيتهم أي دافعوهم في رفع ضر أو جلب نفع * (إن كنتم ص‍ادقين) * في زعمكم أنهم قادرون على ما أنتم عاجزون عنه [بم وقوله تعالى:
* (ألهم أرجل يمشون بهآ أم لهم أيد يبطشون بهآ أم لهم أعين يبصرون بهآ أم لهم ءاذان يسمعون بها قل ادعوا شركآءكم ثم كيدون فلا تنظرون) *.
* (ألهم أرجل يمشون بها) * الخ تبكيت إثر تبكيت مؤكد لما يفيده الأمر التعجيزي من عدم الاستجابة ببيان فقدان آلاتها بالكلية، وقيل: إنه على الاحتمال الأول في المماثلة كر على المثلية بالنقض لأنهم أدون منهم، وعبادة الشخص من هو مثله لا تليق فكيف من هو دونه، وعلى الاحتمال الثاني فيها عود على الفرض المبني عليه بالمثلية بالإبطال، وعلى قراءة التخفيف وإرادة النفي تقرير لنفي المماثلة بإثبات القصور والنقصان، ووجه الإنكار إلى كل واحد من تلك الآلات الأربع على حدة تكريرا للتبكيت وتثنية للتقريع وإشعارا بأن انتفاء كل واحد منها بحيالها كاف في الدلالة على استحالة الاستجابة وليس المراد أن من لم يكن له هذه لا يستحق الألوهية وإنما يستحقها من كانت له ليلزم أما نفي استحقاق الله تبارك وتعالى لها أو إثبات ذلك له كما ذهب إليه بعض المجسمة واستدل بالآية عليه بل مجرد إثبات العجز، ومن ذلك يعلم نفي الاستحقاق، ووصفه الأرجل بالمشي بها للإيذان بأن مدار الإنكار هو الوصف وإنما وجه إلى الأرجل لا إلى الوصف بأن يقال: أيمشون بأرجلهم لتحقيق أنها حيث لم يظهر منها ما يظهر من سائر الأرجل فهي ليست بأرجل في الحقيقة، وكذا
144

الكلام فيما بعد من الجوارح الثلاثة الباقية، وكلمة * (أم) * في قوله تعالى: * (أم لهم أيد يبطشون بها) * منقطعة وما فيها من الهمزة لما مر من التبكيت، وبل للإضراب المفيد للانتقال من فن منه بعد تمامه إلى آخر منه مما تقدم، والبطش الأخذ بقوة.
وقرأ أبو جعفر * (يبطشون) * بضم الطاء وهو لغة فيه، والمعنى بل ألهم أيد يأخذون بها ما يريدون أو يدفعون بها عنكم، وتأخير هذا عمله قبله كما قال شيخ الإسلام لما أن المشي حالهم في أنفسهم والبطش حالهم بالنسبة إلى الغير، وأما تقديم ذلك على قوله تعالى: * (أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم ءاذان يسمعون بها) * مع أن الكل سواء في أنها من أحوالهم بالنسبة إلى الغير فلمراعاة المقابلة بين الأيدي والأرجل ولأن انتفاء المشي والبطش أظهر والتبكيت به أقوى، وأما تقديم الأعين على الآذان فلأنا أشهر منها وأظهر عينا وأثرا، وكون الإبصار بالعين والسماع بالأذان جار على الظاهر المتعارف. واستدل بالآية من قال: إن الله تعالى أودع في بعض الأشياء قوة بها تؤثر إذا أذن الله تعالى لها خلافا لمن قال: إن التأثير عندها لا بها. وزعم أن ذلك القول قريب إلى الكفر وليس كما زعم بل هو الحق الحقيق بالقبول * (قل ادعوا شركاءكم) * أمر له صلى الله عليه وسلم بأن يناصبهم المحاجة ويكرر عليهم التبكيت بعد أن بين شركاءهم لا يقدرون على شيء أصلا، أي أدعوا شركاءكم واستعينوا بهم على * (ثم كيدون) * جميعا أنتم وشركاؤكم وبالغوا في ترتيب ما تقدرون عليه من مبادي المكر والكيد * (فلا تنظرون) * فلا تمهلوني ساعة بعد ترتيب مقدمات الكيد فإني لا أبالي بكم أصلا، وياء المتكلم في الفعلين مما لا يثبتوها خطأ، وقرأ أبو عمرو بإثبات ياء كيدون وصلا وحذفها وقفا، وهشام بإثباتها في الحالين والباقون بحذفها فيهما. وفي هود * (فكيدوني جميعا) * (هود: 55) بإثبات الياء مطلقا عند الجميع، وأما ياء * (فلا تنظرون) * فقد قال الأجوهري: إنهم حذفوها لا غير.
* (إن وليى الله الذى نزل الكت‍ابوهو يتولى الص‍الحين) *.
* (إن وليي الله الذي نزل الكت‍اب) * تعليل لعدم المبالاة المنفهم من السوق انفهاما جليا، وأل في الكتاب للعهد والمراد منه القرآن، ووصفه سبحانه بتنزيل الكتاب للإشعار بدليل الولاية، وكأنه وضع نزل الكتاب موضع أرسلني رسولا ولا شك أن الإرسال يقتضي الولاية والنصرة، وقيل: إن في ذلك إشارة إلى علة أخرى لعدم المبالاة كأنه قيل: لا أبالي بكم وبشركائكم لأن وليي هو الله تعالى الذي نزل الكتاب الناطق بأنه وليي وناصري وبأن شركاءكم لا يستطيعون نصر أنفسهم فضلا عن نصركم، وقوله سبحانه وتعالى: * (وهو يتولى الص‍الحين) * تذييل مقرر لمضمون ما قبله، أي ومن عادته جل شأنه أن ينصر الصالحين من عباده ولا يخذلهم وقال الطيبي: إنما خص اسم الذات بتنزيل الكتاب وجعلت الآية تعليلا للدلالة على تفخيم أمر المنزل وأنه الفارق بين الحق والباطل وأنه المجلي لظلمات الشرك والمفحم لألسن أرباب البيان والمعجز الباقي في كل أوان وهو النور المبين والحبل المتين وبه أصلح الله تعالى شؤون رسوله صلى الله عليه وسلم حيث كمل به خلقه وأقام به أوده وأفسد به الأباطيل المعطلة، ومن ثم جيء بقوله سبحانه وتعالى: * (وهو) * الخ كالتذييل والتقرير لما سبق والتعريض بمن فقد الصلاح بالخذلان والمحق، والمعنى إن وليي الذي نزل الكتاب المشهور الذي تعرفون حقيقته ومثله
145

يتولى الصالحين وبخذل غيرهم، ولا يخفى أن ما ذكر أولا في أمر الوصفية أنسب بالمقام وأمر التذييل مما لا مرية فيه، وهذه الآية مماجربت المداومة عليها للحفظ من الأعداء وكانت ورد الوالد عليه الرحمة في الأسحار وقد أمره بذلك بعض الأكابر في المنام، والجمهور على تشديد الياء الأولى من * (ولي) * وفتح الثانية ويقرأ بحذفها في اللفظ لسكونها وسكون ما بعدها، وبفتح الأولى ولا ياء بعدها وحذف الثانية من اللفظ تخفيفا.
* (والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون) *.
* (والذين تدعون من دونه) * أي تعبدونهم أو تدعونهم من دونه سبحانه وتعالى للاستعانة بهم على حسبما أمرتكم به * (لا يستطيعون نصركم) * في أمر من الأمور
ويدخل في ذلك الأمر المذكور دخولا أوليا، وجوز الاقتصار عليه * (ولا أنفسهم ينصرون) * إذا أصيبوا بحادثة.
* (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) *.
* (وإن تدعوهم إلى الهدى) * أي إلى أن يهدوكم إلى ما تحصلون به مقاصدكم مطلقا أو في خصوص الكيد المعهود * (لا يسمعوا) * أي دعاءكم فضلا عن المساعدة والإمداد، وهذا أبلغ من نفي الاتباع، وحمل السماع على القبول كما في سمع الله لمن حمده كما زعمه بعضهم ليس بشيء، وقوله سبحانه وتعالى: * (وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) * بيان لعجزهم عن الإبصار بعد بيان عجزهم عن السمع، وبهذا على ما قيل تم التعليل لعدم المبالاة فلا تكرار أصلا، وقال الواحدي: إن ما مر للفرق بين من تجوز عبادته وغيره، وهذا جواب ورد لتخويفهم له صلى الله عليه وسلم بآلهتهم، والرؤية بصرية، وجملة ينظرون في موضع الحال من المفعول الراجع للأصنام، والجملة الاسمية حال من فاعل ينظرون، والخطاب لكل واحد من المشركين، والمعنى وترى الأصنام رأي العين يشبهون الناظر إليك ويخيل لك أنهم يبصرون لما أنهم صنع لهم أعين مركبة بالجواهر المتلألئة وصورت بصورة من قلب حدقته إلى الشيء ينظر إليه والحال أنهم غير قادرين على الإبصار، وتوجيه الخطاب إلى كل واحد من المشركين دون الكل من حيث هو كل كالخطابات السابقة للإيذان بأن رؤية الأصنام على الهيئة المذكورة لا يتسنى للكل معا بل لكل من يواجهها.
وذهب غير واحد إلى أن الخطاب في * (تراهم) * لكل واقف عليه، وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم، وضمير الغيبة على حاله أو للمشركين على أن التعليل قد تم عند قوله تعالى: * (لا يسمعوا) * أي وترى المشركين ناظرين إليك والحال أنهم لا يبصرونك كما أنت عليه أو لا يبصرون الحجة كما قال السدي، ومجاهد. ونقل عن الحسن أن الخطاب في * (وإن تدعوهم) * للمؤمنين على أن التعليل قد تم عند قوله سبحانه وتعالى: * (ينصرون) * أي وإن تدعوا أيها المؤمنون المشركين إلى الإسلام لا يلتفتوا إليكم ولا يقبلوا منكم، وعلى هذا يحسن تفسير السماع بالقبول، وجعل * (وتراهم) * خطابا لسيد المخاطبين بطريق التجريد، وفي الكلام تنبيه على أن ما فيه عليه الصلاة والسلام من شواهد النبوة ودلائل الرسالة من الجلاء بحيث لا يكاد يخفى على الناظرين.
وجوز بعضهم أن تكون الرؤية علمية وما كان في موضع المفعول الثاني والأول أولى.
* (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الج‍اهلين) *.
* (خذ العفو) * أي ما عفا وسهل وتيسر من أخلاق الناس، وإلى هذا ذهب ابن عمر. وابن الزبير. وعائشة. ومجاهد رضي الله تعالى عنهم وغيرهم، وأخرجه ابن أبي الدنيا عن إبراهيم بن آدم مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأخذ مجاز عن القبول والرضا، أي ارض من الناس بما تيسر من أعمالهم وما أتى منهم وتسهل من غير كلفة ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم حتى لا ينفروا، ومن ذلك قوله:
146

خذي العفو مني تستديم مودتي * ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
وجوز أن يراد بالعفو ظاهره أي خذ العفو عن المذنبين والمراد اعف عنهم، وفيه استعارة مكنية إذ شبه العفو بأمر محسوس طلب فيؤخذ، وإلى هذا ذهب جمع من السلف، ويشهد له ما أخرجه ابن جرير. وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال: لما أنزل الله تعالى * (خذ العفو) * إلى آخره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا جبريل؟ قال: لا أدري حتى أسأل العالم فذهب ثم رجع فقال: إن الله تعالى أمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك.
وأخرج ابن مردويه عن جابر نحو ذلك، ولعل زبدة الحديث مفسرة لزبدة الآية وإلا فالتطبيق مشكل كما لا يخفى. وتكلف القطب لتطبيق ألفاظه على ألفاظها وفيه خفاء. وعن ابن عباس المراد بالعفو ما عفى من أموال الناس، أي خذ أي شيء أتوك به وكان هذا قبل فرض الزكاة، وقيل: العفو ما فضل عن النفقة من المال وبذلك فسره الجوهري وإليه ذهب السدي. فقد أخرج أبو الشيخ عنه أنه قال: نزلت هذه الآية فكان الرجل يمسك من ماله ما يكفيه ويتصدق بالفضل فنسخها الله تعالى بالزكاة * (وأمر بالعرف) * أي بالمعروف المستحسن من الأفعال فإن ذلك أقرب إلى قبول الناس من غير نكير، وفي لباب التأويل أن المراد وأمر بكل ما أمرك الله تعالى به وعرفته بالوحي. وقال عطاء: المراد بالعرف كلمة لا إله إلا الله وهو تخصيص من غير داع * (وأعرض عن الجاهلين) * أي ولا تكافىء السفهاء بمثل سفههم ولا تمارهم واحلم عليهم وأغض بما يسوؤك منهم. وعن السدي أن هذا أمر بالكف عن القتال ثم نسخ بآيته، ولا ضرورة إلى دعوى النسخ في الآية كما لا يخفى على المتدبر، وقد ذكر غير واحد أنه ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية.
وزبدتها كما قالوا تحرى حسن المعاشرة مع الناس وتوخى بذل المجهود في الإحسان إليهم والمداراة منهم والإغضاء عن مساوئهم وجعلوا نحو ذلك زبدة الخبر إلا أن القرآن مادته عامة ومادته خاصة؛ وقد علم كل أناس مشربهم، ولا يخفى حسن موقع هذا الأمر بعد ما عد من أباطيل المشركين وقبائحهم ما لا يطاق حمله، وإذا قل: بأن الجاهلين موضوع موضع ضمير أولئك المشركين حيث أن الكلام فيهم تسجيلا عليهم بعدم الإرعواء وإقناطا كليا منهم التأمت أطراف الكلام غاية الالتئام، هذا وعن ابن زد أنه لما نزل قوله تعالى: * (وأعرض عن الجاهلين) * قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يا رب والغضب؟ فنزل قوله سبحانه وتعالى:
* (وإما ينزغنك من الشيط‍ان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم) *.
* (وإما ينزغنك من الشيط‍ان نزغ) * النزغ والنسغ والنخس بمعنى وهو إدخال الإبرة أو طرف العصا أو ما يشبه ذلك في الجلد، وعن ابن زيد أنه يقال: نزغت ما بن القوم إذا أفسدت ما بينهم، وقال الزجاج: هو أدنى حركة تكون، ومن الشيطان وسوسته، والمعنى الأول هو المشهور، وإطلاقه على وسوسة الشيطان مجاز حيث شبه وسوسته إغراء للناس على المعاصي وإزعاجا بغرز السائق ما يسوقه، وإسناد الفعل إلى المصدر مجازي كما في جد جده، وقيل: النزغ بمعنى النازغ فالتجوز في الطرف، والأول أبلغ وأولى، أي إما يحملنك من جهة الشيطان وسوسة ما على خلاف ما أمرت به من اعتراء غضب أو نحوه * (فاستعذ بالله) * فاستجربه والتجىء
إليه سبحانه وتعالى في دفعه عنك * (إنه سميع) * سمع على أكمل وجه استعاذتك قولا * (عليم) * يعلم كذلك تضرعك
147

إليه قلبا في ضمن القول أو بدونه فيعصمك من شره، أو سمع أي مجيب دعاءك بالاستعاذة عليم بما فيه صلاح أمرك فيحملك عليه، أو سميع بأقوال من آذاك عليم بأفعاله فيجازيه عليها، والآية على ما نص عليه بعض المحققين من باب * (لئن أشركت ليحبطن عملك) * (الزمر: 65) فلا حجة فيها لمن زعم عدم عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من وسوسة الشيطان وارتكاب المعاصي. وفي " صحيح مسلم " عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة قالوا: وإياك يا رسول الله قال: وإياي إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير "، وقال آخرون: إن نزغ الشيطان بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم مجاز عن اعتراء الغضب المقلق للنفس، وفي الآية حينئذ زيادة تنفير عن الغضب وفرط تحذير عن العمل بموجبه، ولذا كرر صلى الله عليه وسلم النهي عنه كما جاء في الحديث، وفي الأمر بالاستعاذة بالله تعالى تهويل لذلك وتنبيه على أنه من الغوائل التي لا يتخلص من مضرتها إلا بالالتجاء إلى حرم عصمته عز وجل.
* (إن الذين اتقوا إذا مسهم ط‍ائف من الشيط‍ان تذكروا فإذا هم مبصرون) *.
* (إن الذين اتقوا) * استئناف مقرر لما قبله من الأمر ببيان أن الاستعاذة سنة مسلوكة للمتقين والإخلال بها شنشنة الغاوين، أي إن الذين اتصفوا بتقوى الله تعالى * (إذا مسهم ط‍ئف من الشيطان) * أي لمة منه كما روي عن ابن عباس، وتنوينه للتحقير، والمراد وسوسة ما، وهو اسم فاعل من طاف بالشيء إذا دار حوله، وجعل الوسوسة طائفا للإيذان بأنها وإن مست لا تؤثر فهم فكأنها طافت حولهم ولم تصل إليهم.
وجوز أن يكون من طاف طيف الخيال إذا ألم في المنام فالمراد به الخاطر. وذهب غير واحد إلى أن المراد بالطائف الغضب. وقرأ ابن كثير. وأبو عمرو. والكسائي. ويعقوب (طيف) على أنه مصدر أو تخفيف من طيف من الواوي أو اليائي كهين ولين. والمراد بالشيطان الجنس لا إبليس فقط ولذا جمع ضميره فيما سيأتي * (تذكروا) * أي ما أمر الله تعالى به ونهى عنه، أو الاستعاذة به تعالى والالتجاء إليه سبحانه وتعالى، أو عداوة الشيطان وكده * (فأذاهم) * بسبب ذلك التذكر * (مبصرون) * مواقع الخطأ ومناهج الرشد فيحترزون عما يخالف أمر الله تعالى وينجون عما لا يرضيه سبحانه وتعالى، والظاهر أن المراد من الموصول من اتصف بعنوان الصلة مطلقا، وقال بعض المحققين: إن الخطاب في قوله سبحانه وتعالى: * (وإما ينزغنك) * الخ أما أن يكون مختصا برسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو الظاهر فالمناسب أن يراد بالمتقين المرسلون من أولي العزم، أو يكون عاما على طريقة " بشر المشائين إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة "، أو خاصا يراد به العام نحو * (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) * (الطلاق: 1) فالمتقون حينئذ الصالحون من عباد الله تعالى انتهى. ولا يخفى أن الملازمة في الشرطية الأولى في حيز المنع والعموم هو المتبادر على كل حال، وزعم بعضهم أن المراد بالمتقين المنسوب إليهم المس غير الأنبياء عليهم السلام، وجعل الخطاب فيما سبق خاصا بالسيد الأعظم صلى الله عليه وسلم وادعى أن النزغ أول الوسوسة والمس لا يكون إلا بعد التمكن، ثم قال: ولذا فصل الله سبحانه وتعالى بين النبي عليه الصلاة والسلام وغيره من سائر المتقين فعبر في حقه عليه الصلاة والسلام بالنزغ وفي حقهم بالمس، وقد يقال: إن اهتمام الشيطان في الوسوسة للكامل أكمل من اهتمامه في الوسوسة لمن دونه فلذا عبر أولا بالنزغ وثانيا بالمس.
* (وإخوانهم يمدونهم فى الغى ثم لا يقصرون) *.
* (وإخوانهم) * أي إخوان الشياطن الذين لم يتقوا وذلك معنى الإخوة بينهم، وهو مبتدأ
148

وقوله سبحانه وتعالى: * (يمدونهم في الغي) * خبره، والضمير المرفوع للشياطين والمنصوب للمبتدأ، أي تعاونهم الشياطين في الضلال وذلك بأن يزينوه لهم ويحملوهم عليه، والخبر على هذا جار على غير من هو له وفي أنه هل يجب إبراز الضمير أولا يجب في مثل ذلك خلاف بين أهل القريتين كالصفة المختلف فيها بينهم، وقيل: إن الضمير الأول للإخوان والثاني للشياطين، والمعنى وإخوان الشياطين يمدون الشياطين بالاتباع والامتثال، وعلى هذا يكون الخبر جاريا على من هو له، والجار والمجرور متعلق بما عنده، وجوز أن يكون في موضع الحال من الفاعل أو من المفعول. وقرأ نافع * (يمدونهم) * بضم الياء وكسر الميم من الإمداد والجمهور على فتح الياء وضم الميم. قال أبو علي في الحجة بعد نقل ذكر ذلك: وعامة ما جاء في التنزيل مما يحمد ويستحب أمددت على أفعلت كقوله تعالى: * (إنما نمدهم به من مال وبنين) * (المؤمنون: 55) * (وأمددناهم بفاكهة) * (الطور: 22) و * (أتمدونني بمال) * (النمل: 36) وما كان بخلافه على مددت قال تعالى: * (ويمدهم في طغيانهم يعمهون) * وهكذا يتكلمون بما يدل على أن الوجه فتح الياء كما ذهب إليه الأكثر، ووجه قراءة نافع أنه مثل * (فبشرهم بعذاب أليم) * (آل عمران: 21) * (فسنيسره للعسرى) * (الليل: 10) وقرأ الجحدري (يمادونهم) * من باب المفاعلة وهي هنا مجازية كأنهم كان الشاطين يعينونهم بالإغراء وتهوين المعاصي عليهم وهؤلاء يعينون الشياطين بالاتباع والامتثال * (ثم لا يقصرون) * أي لا يمسكون ولا يكفون عن إغوائهم حتى يردوهم بالكلية فهو من أقصر إذا أقلع وأمسك كما في قوله: سما لك شوق بعد ما كان أقصرا
وجوز أن يكون الضمير للإخوان. وروي ذلك عن ابن عباس. والسدي وإليه ذهب الجبائي، أي ثم لا يكف هؤلاء عن الغي ولا يقصرون كالمتقين، وجوز أيضا أن يراد بالإخوان الشياطين وضمير الجمع المضاف إليه أولا والمفعول ثانيا والفاعل ثالثا يعود إلى الجاهلين في قوله سبحانه وتعالى: * (وأعرض عن الجاهلين) * أي وإخوان الجاهلين وهم الشياطين يمدون الجاهلين في الغي ثم لا يقصر الجاهلون عن ذلك، والخبر على هذا أيضا جار على ما هو له كما في بعض الأوجه السابقة والأول أولى رعاية للمقابلة. وقرأ عيسى بن عمر * (يقصرون) * بفتح الياء وضم الصاد من قصر وهو مجاز عن الإمساك أيضا.
* (وإذا لم تأتهم بااية قالوا لولا اجتبيتها قل إنمآ أتبع ما يوحى إلى من ربى ه‍اذا بصآئر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) *.
* (وإذا لم تأتهم بآية) * من القرآن عند تراخي الوحي كما روي عن مجاهد. وقتادة. والزجاج، أو بآية مقترحة كما روي عن ابن عباس. والجبائي. وأبي مسلم * (قالوا لولا اجتبيتها) * أي هلا جمعتها ولفقتها من عند نفسك افتراء، أو هلا أخذتها من الله تعالى بطلب منه، وهو تهكم منهم لعنهم الله تعالى، ومما ذكرنا علم أن لاجتبى معنيين جمع وأخذ ويختلف المراد حسب الاختلاف في تفسير الآية، وعن علي بن عيسى أن الاجتباء في الأصل الاستخراج ومنه جباية الخراج، وقيل: أصله الجمع من جبيت الماء في الحوض جمعته، ومنه قيل للحوض جابية لجمعه الماء، وإلى هذا ذهب الراغب، وف " الدر المصون " جبى الشيء جمعه مختارا ولذا غلب اجتبيته بمعنى اخترته.
وقال الفراء يقال اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك وكذا اخترعته عند أبي عبيدة، وقال ابن زيد: هذه الأحرف تقولها العرب للكلام يبتديه الرجل لم يكن أعده قبل ذلك في نفسه، ومن جعل الأصل شيئا لا ينكر الاستعمال في الآخر مجازا كما لا يخفى * (قل) * ردا عليهم * (إنما اتبع ما يوحى إلي من ربي) * من غير أن يكون لي دخل ما في ذلك أصلا على معنى تخصيص حاله عليه الصلاة والسلام باتباع ما يوحى إليه بتوجيه القصر إلى نفس الفعل بالنسبة إلى مقابله الذي كلفوه إياه عليه الصلاة والسلام لا على معنى تخصيص اتباعه صلى الله عليه وسلم بما يوحى إليه
149

بتوجيه القصر بالقياس إلى مفعول آخر كما هو الشائع في موارد الاستعمال كأنه قل: ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلي منه تعالى دون الاختلاف والاقتراح، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى * (هذا) * إشارة إلى القرآن الجليل المدلول عليه بما يوحى إلي * (بصائر من ربكم) * أي بمنزلة البصائر للقلوب بها تبصر الحق وتدرك الصواب، أو حجج بينة وبراهين نيرة تغني عن غيرها فالكلام خارج مخرج التشبيه البليغ، وقد حققت ما فيه على الوجه الأتم في الطراز المذهب، أو فيه مجاز مرسل حيث أطلق المسبب على السبب، وجوز أن تكون البصائر مستعارة لإرشاد القرآن الخلق إلى إدراك الحقائق، وهذا مبتدأ وبصائر خبره، وجمع خبر المفرد لاشتماله على آيات وسور جعل كل منها بصيرة، و * (من) * متعلقة بمحذوف وقع صفة لبصائر مفيدة لفخامتها أي بصائر كائنة منه تعالى، والتعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لتأكيد وجوب الإيمان بها، وقوله سبحانه وتعالى: * (وهدى ورحمة) * عطف على بصائر، وتنوينهما للتفخيم، وتقديم الظرف عليهما وتعقبهما بقوله تعالى: * (لقوم يؤمنون) * كما قال شيخ الإسلام للإيذان بأن كون القرآن بصائر متحقق بالنسبة إلى الكل وبه تقوم الحجة على الجميع، وأما كونه البعض من أن الثلاثة للمؤمنين، فقد قال النيسابوري في التفسير: إن البصائر لأصحاب عين اليقن والهدى لأرباب علم اليقين والرحمة لغيرهم من الصالحين المقلدين على أتم وجه والجميع لقوم يؤمنون، وذكر نحو ذلك الخازن وادعى أنه من اللطائف وهو خلاف الظاهر بل لا يكاد يسلم، وهذه الجملة على ما يظهر من تمام القول المأمور به.
واحتج بالآية من لم يجوز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم وفيه نظر.
* (وإذا قرىء القرءان فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) *.
* (وإذا قرىء القرءان فاستمعوا له وأنصتوا) * إرشاد إلى طريق الفوز بما أشير إليه من المنافع الجليلة التي ينطوي عليها القرآن، والاستماع معروف؛ واللام يجوز أن تكون أجلية وأن تكون بمعنى إلى وأن تكون صلة، أي فاستمعوه، والإنصات السكوت يقال: نصت ينصت وأنصت وانتصت إذا سكت والاسم النصتة بالضم، ويقال كما قال الأزهري: أنصته وأنصت له إذا سكت له واستمع لحديثه، وجاء أنصته إذا أسكته، والعطف للاهتمام بأمر القرآن، وعلل الأمر بقوله سبحانه وتعالى: * (لعلكم ترحمون) * أي لكي تفوزوا بالرحمة التي هي أقصى ثمراته، والآية دليل لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه في أن المأموم لا يقرأ في سرية ولا جهرية لأنها تقتضي وجوب الاستماع عند قراءة القرآن في الصلاة وغيرها؛ وقد قام الدليل في غيرها على جواز الاستماع وتركه فبقي فيها على حاله في الإنصات للجهر وكذا في الإخفاء لعلمنا بأنه قرأ، ويؤيد ذلك أخبار جمة، فقد أخرج عبد بن حميد. وابن أبي حاتم. والبيهقي في سننه عن مجاهد قال: قرأ رجل من الأنصار خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة فنزلت وإذا قرىء القرآن الخ.
وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن مسعود أنه صلى بأصحابه فسمع أناسا يقرؤون خلفه فلما انصرف قال: أما آن لكم أن تفهموا أما آن لكم أن تعقلوا * (وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وانصتوا) * كما أمركم الله تعالى.
150

وأخرج ابن أبي شيبة عن زيد بن ثابت قال: لا قراءة خلف الإمام. وأخرج أيضا عن أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا ".
وأخرج أيضا عن جابر " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان له إمام فقراءته له قراءة " وهذا الحديث إذا صح وجب أن يخص عموم قوله تعالى: * (فاقرؤوا ما تيسر) * (المزمل: 20) وقوله صلى الله عليه وسلم: " لا صلاة إلا بقراءة " على طريقة الخصم مطلقا فيخرج المقتدى وعلى طريقتنا أيضا لأن ذلك العموم قد خص منه البعض وهو المدرك في الركوع إجماعا فجاز التخصيص بعده بالمقتدى بالحديث المذكور، وكذا يحمل قوله عليه الصلاة والسلام للمسىء صلاته: " فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " على غير حالة الاقتداء جمعا بين الأدلة، بل قد يقال: إن القراءة ثابتة من المقتدى شرعا فإن قراءة الإمام قراءة له فلو قرأ لكان له قراءتان في صلاة واحدة وهو غير مشروع. بق الكلام في تصحيح الخبر، وقد روي من طرق عديدة مرفوعا عن جابر رضيي الله تعالى عنه عنه عليه الصلاة والسلام وقد ضعف. واعترف المضعفون لرفعه كالدارقطني. والبيهقي. وابن عدي بأن الصحيح أنه مرسل لأن الحفاظ كالسفيانين. وأبي الأحوص. وشعبة. وإسرائيل.
وشريك. وجرير. وأبي الزبير. وعبد بن حميد وخلق آخرين رووه عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم فأرسلوه، وقد أرسله مرة أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، وحينئذ لنا أن نقول المرسل حجة عند أكثر أهل العلم فيكفينا فيما رجع إلى العمل على رأينا وعلى طريق الإلزام أيضا بإقامة الدليل على حجية المرسل أيضا، وعلى تقدر التنزل عن حجيته فقد رفعه الإمام بسند صحيح.
وروى محمد بن الحسن في موطئه قال: أنبأنا أبو حنيفة حدثنا أبو الحسن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من صلى خلف إمام فإن قراءة الإمام له قراءة " وقولهم: إن الحفاظ الذن عدوهم لم يرفعوه غير صحيح. فقد قال أحمد بن منيع في مسنده: أخبرنا إسحاق الأزرق حدثنا سفيان. وشريك عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة ".
ثم قال وحدثنا جرير عن موسى عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم - فذكره ولم يذكر جابرا - ورواه عبد بن حميد قال: حدثنا أبو نعيم حدثنا الحسن بن صالح عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره، وإسناد حديث جابر الأول على شرط الشيخين والثاني على شرط مسلم، فهؤلاء سفيان. وشريك. وجرير. وأبو الزبير رفعوه بالطرق الصحيحة فبطل عدهم فيمن لم يرفعه، ولو تفرد الثقة وجب قبوله لأن الرفع زيادة وزيادة الثقة مقبولة فكيف ولم ينفرد، والثقة قد يسند الحديث تارة ويرسله أخرى. وأخرجه ابن عدي عن الإمام رضي الله تعالى عنه في ترجمته وذكر فيها قصة وبها أخرجه أبو عبد الله الحاكم قال: حدثنا أبو محمد بن بكر بن محمد بن حمدان الصيرفي حدثنا عبد الصمد بن الفضل البلخي حدثنا مكي بن إبراهيم عن أبي حنيفة عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد بن الهاد عن جابر بن عبد الله " إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ورجل خلفه قرأ فجعل رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينهاه عن القراءة في الصلاة فلما انصرف أقبل عليه الرجل قال: أتنهاني عن القراءة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعا حتى ذكرا ذلك للنبي صلى الله
151

عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: " من صلى خلف إمام فإن قراءة الإمام له قراءة. وفي رواية لأبي حنيفة " إن ذلك كان في الظهر أو العصر " وهي أن رجلا قرأ خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر أو العصر فأومأ إليه رجل فنهاه فلما انصرف قال: أتنهاني الحدث. نعم إن جابرا روى منه محل الحكم فقط تارة والمجموع تارة ويتضمن رد القراءة خلف الإمام لأنه خرج تأييدا لنهي ذلك الصحابي عنها مطلقا في السرية والجهرية خصوصا في رواية أبي حنيفة أن القصة كانت في السرية لا إباحة فعلها وتركها فيعارض ما روي في بعض روايات حديث " مالي أنازع في القرآن " أنه قال: إنه لا بد ففي الفاتحة، وكذا ما رواه أبو داود. والترمذي عن عبادة بن الصامت قال: كنا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ قال: لعلكم تقرؤون خلف إمامكم، قلنا: نعم هذا، قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لا يقرأ بها؛ ويقدم لتقدم المنع على الإطلاق عند التعارض ولقوة السند فإن حديث المنع أصح فبطل رد المتعصبين، وتضعيف بعضهم لمثل الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه مع تضييقه في الرواية إلى الغاية حتى أنه شرط التذكر لجوازها بعد علم الراوي أن ذلك المروي خطه، ولم يشترط الحفاظ هذا ولم يوافقه صاحباه على أن الخبر قد عضد بروايات كثيرة عن جابر غير هذه وإن ضعفت وبمذاهب الصحابة أيضا كابن عباس. وابن عمر. وزيد بن ثابت. وابن مسعود.
وأخرج محمد عن داود بن قيس بن عجلان أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: ليت في فم الذي يقرأ خلف الإمام حجرا، وروي مثل ذلك عن سعد بن أبي وقاص، وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه إلا أن فيه مقالا أنه قال: من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة، وقال الشعبي: أدركت سبعين بدريا كلهم يمنعون المقتد عن القراءة خلف الإمام، وقد ادعى بعض أصحابنا إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم على ذلك، ولعل مراده بذلك إجماع كثير من كبارهم، وإلا ففيه نظر، وكون مراده الإجماع السكوتي ليس بشيء أيضا، وذهب قوم إلى أن المأموم يقرأ إذا أسر الإمام القراءة ولا يقرأ إذا جهر وهو قول عروة بن الزبير. والقاسم بن محمد. والزهري. ومالك. وابن المبارك. وأحمد. وإسحاق، وروي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه وحجتهم فما قيل: إن الآية تدل على الأمر بالاستماع لقراءة القرآن والسنة تدل على وجوب القراءة خلف الإمام فحملنا مدلول الآيية على صلاة الجهر ومدلول السنة على صلاة السر جمعا بين الدلائل، وقال آخرون: إنما قرأ في السرية لأنه لا يقال له مستمع، واعترض بأنه وإن سلمنا أنه لا يقال له ذلك لكن لا نسلم أنه لا يقال له منصت مع علمه بالقراءة وبأنا لا نسلم دلالة السنة على وجوب القراءة خلف الإمام ودون إثبات ذلك خرط القتاد، على أن الجزم العمل بأقوى الدليلين، وليس مقتضى أقواهما إلا المنع، ومن هنا ضعف ما يروى عن محمد بن الحسن رحمه الله تعالى أنه يستحسن قراءة الفاتحة على سبيل الاحتياط مخالفا لما ذهب إليه الإمام. وأبو يوسف من كراهة القراءة لما في ذلك من الوعيد، والحق أن قوله كقولهما، فقد قال في كتاب " الآثار " بعدما أسند إلى علقمة بن قيس: إنه ما قرأ قط فيما يجهر به ولا فيما لا يجهر به، وبه نأخذ فلا نرى القراءة خلف الإمام في شيء من الصلاة يجهر فيه أو لا يجهر فيه، ولا ينبغي أن يقرأ خلفه في شيء منها، وذكر في موطئه نحو ذلك، وقال السرخسي تفسد صلاة القارىء خلف الإمام في قول عدة من
152

الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومنهم فيما قيل سعد بن أبي وقاص، وفي رواية المزني عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه يقرأ في الجهرية والسرية، وفي رواية البويطي أنه يقرأ في السرية أم القرآن ويضم السورة في الأوليين ويقرأ في الجهرية أم القرآن فقط، والمشهور عند الشافعية أنه لا سورة للمأموم الذي يسمع الإمام في جهرية بل يستمع فإن بعد بأن لم سمع أو سمع صوتا لا يميز حروفه أو كانت سرية قرأ في الأصح، وسبب النزول لم يكن القراءة في الصلاة بل أمر آخر. فقد روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت، وحاصلها النهي عن التكلم لا عن القراءة، ومن الناس من فسر القرآن بالخطبة، والأمر بالاستماع إما للوجوب أو الندب، وعندنا الإنصات في الخطبة فرض على تفصيل في المسألة، وأخرج غير واحد عن مجاهد رضي الله تعالى عنه أن الآية في الصلاة والخطبة يوم الجمعة، وفي كلام أصحابنا ما يدل على وجوب الاستماع في الجهر بالقرآن مطلقا.
قال في الخلاصة: رجل يكتب الفقه وبجنبه رجل يقرأ القرآن فلا يمكنه استماع القرآن فالإثم على القارىء، وعلى هذا لو قرأ على السطح في الليل جهرا والناس نيام يأثم، وهذا صريح في إطلاق الوجوب، وعلل ذلك بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، و * (إذا) * هنا للكلية وغالب الشرطات القرآنية المؤداة بها كلية، هذا والمراد من الاستماع في الآية المعنى المتبادر منه، وقال الزجاج: المراد منه القبول والإجابة، وهو بهذا المعنى مجاز كما نص عليه في الأساس، ومنه سمع الله تعالى لمن حمده وسمع الأمير كلام فلان، ورجح ذلك العلامة الطيبي قال: وهذا أوفق لتأليف النظم الكريم سابقا ولاحقا وأجمع للمعاني والأقوال فإنه تعالى لما ذكر تعريضا أن المشركين إنما استهزأوا بالقرآن ونبذوه وراءهم ظهريا لأنهم فقدوا البصائر وعدموا الهداية والرحمة وأن حالهم على خلاف المؤمنين أمر المؤمنين بما هو أزيد من مجرد الاستماع وهو قبوله والعمل بما فيه والتمسك به وأن لا يجاوزه مرتبا للحكم على تلك الأوصاف، ولذلك قيل: إذا قرىء القرآن وضعا للمظهر موضع المضمر لمزيد الدلالة على العلية، يعني إذا ظهر أيها المؤمنون إنكم لستم مثل هؤلاء المعاندين فعليكم بهذا الكتاب الجامع لصفات الكمال الهادي إلى الصراط المستقيم الموصل إلى مقام الرحمة والزلفى فاستمعوه وبالغوا في الأخذ منه والعمل بما فيه ليحصل المطلوب ولعلكم ترحمون، ويدخل في هذا وجوب الإنصات في الصلاة بطريق الأولى لأنها مقام المناجاة والاستماع من المتكلم، وعلى هذا الإنصات عند تلاوة الرسول صلى الله عليه وسلم ه‍، ويعلم منه أن الخطاب في الآية للمؤمنين بل هو نص في ذلك.
وقال بعضهم: إن الخطاب فيها للكفار، وذلك أن كون القرآن بصائر وهدى ورحمة لا يظهر إلا بشرط مخصوص وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا قرأ عليهم القرآن عند نزوله استمعوا له وأنصتوا ليقفوا على معانيه ومزاياه فيعترفوا بإعجازه ويستغنوا بذلك عن طلب سائر المعجزات، وأيد هذا بقوله سبحانه وتعالى: في آخر الآية * (لعلكم ترحمون) * بناء على أن ذلك للترجي وإنما يناسب حال الكفار لا حال المؤمنين الذين حصل لهم الرحمة جزما في قوله تعالى: * (ورحمة لقوم يؤمنون) * (الأعراف: 203). وأجيب بأن هذه الرحمة المرجوة غير تلك الرحمة، ولئن سلم كونها إياها فالإطماع من الكريم واجب فلم يبق فرق، وفي بناء الفعل للمفعول إشارة إلى أن مدار الأمر القراءة من أي قارىء كان. وفي الآية من الدلالة على تعظيم شأن القرآن ما لا يخفى. ومن
153

هنا قال بعض الأصحاب: يستحب لمريد قراءته خارج الصلاة أن يلبس أحسن ثيابه ويتعمم ويستقبل القبلة تعظيما له، ومثله في ذلك العلم، ولو قرأ مضطجعا فلا بأس إذ هو نوع من الذكر. وقد مدح سبحانه ذاكريه قياما وقعودا وعلى جنوبهم وضم رجليه عند القراءة ولا يمدها لأنه سوء أدب ولو قرأ ماشيا أو عند النسج ونحوه من الأعمال فإن كان القلب حاضرا غير مشتغل لم يكره وإلا كره، ولا يقرأ وهو مكشوف العورة أو كان بحضرته من هو كذلك. وإن كانت زوجته، وكره بعضهم القراءة في الحمام والطريق. قال النووي: ومذهبنا لا تكره فيهما، وتكره في الحش وبيت الرحى وهي تدور عند الشعبي وهو مقتضى مذهبنا، والكلام في آداب القراءة وما ينبغي للقارىء طويل. وفي الإتقان قدر له قدر من ذلك فإن كان عندك فارجع إليه.
والجملة على ما يدل عليه كلامهم يحتمل أن تكون من القول المأمور به ويحتمل أن تكون استئنافا من جهته تعالى، قيل: وعلى الأول [بم فقوله سبحانه وتعالى:
* (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والاصال ولا تكن من الغ‍افلين) *.
* (واذكر ربك في نفسك) * عطف على قل، وعلى الثاني فيه تجريد الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عام لكل ذكر فإن الإخفاء أدخل في الإخلاص وأقرب من القبول، وفي بعض الأخبار يقول الله تعالى: * (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه) * وقال الإمام: المراد بالذكر في نفسه أن يكون عارفا بمعان الإذكار الت قولها بلسانه مستحضرا لصفات الكمال والعز والعظمة والجلال، وذلك لأن الذكر باللسان عاريا عن الذكر بالقلب كأنه عديم الفائدة، بل ذكر جمع أن الذكر اللساني الساذج لا ثواب فيه أصلا، ومن أتى بالكلمة الطيبة غير ملاحظ معناها أو جاهلا به لا عد مؤمنا عند الله تعالى، وقيل: الخطاب لمستمع القرآن والذكر القرآن، والمراد أمر المأموم بالقراءة سرا بعد فراغ الإمام عن قراءته وفيه بعد ولو التزم قول الإمام، وقوله سبحانه وتعالى: * (تضرعا وخيفة) * في موضع الحال بتأويل اسم الفاعل أي متضرعا وخائفا، أو بتقدير مضاف أي ذا تضرع وخيفة، وكونه مفعولا لأجله غير مناسب. وجوز بعضهم كون ذلك مصدرا لفعل من غر المذكور وليس بشيء، وأصل خيفة خوفة، ودون في قوله تعالى: * (ودون الجهر من القول) * صفة لمعمول حال محذوفة أي ومتكلما كلاما دون الجهر لأن دون لا تتصرف على المشهور؛ والعطف على تضرعا، وقيل: لا حاجة إلى ما ذكر والعطف على حاله، والمراد اذكره متضرعا ومقتصدا. وقيل: إن العطف على قوله تعالى: * (في نفسك) * لكن على معنى اذكره ذكرا في نفسك وذكرا بلسانك دون الجهر، والمراد بالجهر رفع الصوت المفرط وبما دونه نوع آخر من الجهر. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هو أن يسمع نفسه وقال الإمام: المراد أن يقع الذكر متوسطا بين الجهر والمخافتة كما قال تعالى: * (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) * (الإسراء: 110) ويشعر كلام ابن زد أن المراد بالجهر مقابل الذكر في النفس، والآية عنده خطاب للمأموم المأمور بالإنصات أي اذكر ربك أيها المنصت في نفسك ولا تجهر بالذكر * (بالغدو) * جمع غدوة كما في " القاموس "، وفي " الصحاح " الغدو نقيض الرواح وقد غدا يغدو غدوا. وقوله تعالى: * (بالغدو) * أي بالغدوات جمع غدوة وهي ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس، فعبر بالفعل عن الوقت كما يقال: أتيتك طلوع الشمس أي وقت طلوعها، وهو نص في أن الغدو مصدر لا جمع، وعليه فقد يقدر معه مضاف مجموع أي أوقات الغدو ليطابق قوله سبحانه وتعالى: * (والآصال) * وهو كما قال الأزهري جمع أصل، وأصل جمع أصيل - أعني ما
154

بين العصر إلى غروب الشمس - فهو جمع الجمع وليس للقلة وليس جمعا لأصيل لأن فعيلا لا يجمع على أفعال، وقل: إنه جمع له لأنه قد يجمع عليه كيمين وأيمان، وقيل: إنه جمع لأصل مفردا كعنق ويجمع على أصلان أيضا، والجار متعلق باذكر، وخص هذان الوقتان بالذكر قيل لأن الغدوة عندها ينقلب الحيوان من النوم الذي هو كالموت إلى اليقظة التي هي كالحياة، والعالم يتحول من الظلمة التي هي طبعة عدمية إلى النور الذي هو طبيعة وجودة، وفي الأصل الأمر بالعكس، أو لأنهما وقتا
فراغ فيكون الذكر فيهما ألصق بالقلب، وقيل: لأنهما وقتان يتعاقب فيهما الملائكة على ابن آدم، وقيل: ليس المراد التخصيص بل دوام الذكر واتصاله أي اذكر كل وقت.
وقرأ أبو مجاز لاحق بن حميد السدوسي * (والإيصال) *، وهو مصدر آصل إذ ادخل في الأصيل وهو مطابق لغدو بناء على القول بإفراده ومصدريته فتذكر * (ولا تكم من الغ‍افلين) * عن ذكر الله تعالى.
* (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون) *.
* (إن الذين عند ربك) * وهم ملائكة الملأ الأعلى، فالمراد من العندية القرب من الله تعالى بالزلفى والرضا لا المكانية لتنزه الله تعالى عن ذلك، وقيل: المراد عند عرش ربك * (لا يستكبرون عن عبادته) * بل يؤدونها حسبما أمروا به * (ويسبحونه) * أي ينزعونه عما لا يليق بحضرة كبريائه على أبلغ وجه * (وله يسجدون) * أي ويخصونه بغاية العبودية والتذلل لا يشركون به غيره جل شأنه، وهو تعريض بمن عداهم من المكلفين كما يدل عليه تقديم * (له) * وجازات يؤخذ من مجموع الكلام كما آثره العلامة الطيبي لأنه تعليل للسابق على معنى ائتوا بالعبادة على وجه الاخلاص كما أمرتم فإن لم تأتوا بها كذلك فإنا مغنون عنكم وعن عبادتكم ان لنا عبادا مكرمين من شأنهم كذا وكذا فالتقديم على هذا للفاصلة، ولما في الآية من التعريض شرع السجود عند هذه الآية ارغاما لمن أبى ممن عرض به. قيل: وقد جاء الأمر بالسجدة لآية أمر فيها بالسجود امتثالا للأمر، أو حكي فيها استنكاف الكفرة عنه مخالفة لهم، أو حكى فيها سجود نحو الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تأسيا بهم، وهذا من القسم الثاني باعتبار التعريض أو من القسم الأخير باعتبار التصريح، وكان صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده لذلك كما روي ابن أبي شيبة عن ابن عمر " اللهم لك سجد سوادي وبك آمن فؤادي اللهم ارزقني علما ينفعني وعملا يرفعني " وأخرج أحمد. وأبو داود. والترمذي وصححه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجود القرآن بالليل مرارا " سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته فتبارك الله أحسن الخالقين " وجاء عنها أيضا " ما من مسلم سجد لله تعالى سجدة إلا رفعه الله تعالى بها درجة أو حط عنه بها خطيئة أو جمعهما له كلتيهما " وأخرج مسلم. وابن ماجه. والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا قرأ ابن ردم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار، واستدل بالآية على أن إخفاء الذكر أفضل، ويوافق ذلك ما أخرجه أحمد من قوله صلى الله عليه وسلم: " خير الذكر الخفي " وهي ناعية على جهلة زماننا من المتصوفة ما يفعلونه مما يستقبح شرعا وعقلا وعرفا فإنا لله وإنا إليه راجعون.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: * (هو الذي خلقكم من نفس واحدة) * وهي الروح * (وجعل منها زوجها
155

وهي القلب * (ليسكن إليها) * أي ليميل إليها ويطمئن فكانت الروح تشم من القلب نسائم نفحان الألطاف * (فلما تغشاها) * أي جعامعها وهو إشارة إلى النكاح الروحاني والصوفية يقولون: إنه سائر في جميع الموجودات ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت * (حملت حملا خفيفا) * في البداية بظهور أدنى أثر من آثار الصفات البشرية في القلب الروحاني * (فلما أثقلت) * كبرت وكثرت آثار الصفات * (دعوا الله ربهما) * لأنهما خافا من تبدل الصفات الروحانية النورانية بالصفات النفسانية الظلمانية * (لئن آتيتنا صالحا) * للعبودية * (لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحاف) * بحسب الفطرة من القوى * (جعلا له شركاء فيما آتاهما) * (الأعراف: 189، 190) أي جعل أولادهما لله تعالى شركاء فيما آتي أولادهما فمنهم عبد البطن ومنهم عبد الخميصة ومنهم من عبد الردهم والدينار * (إن الذين تدعون من دون الله) * كائنا ما كان * (عباد أمثالكم) * في العجز وعدم التأثير * (فادعوهم) * إلى أي أمر كان * (فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين) * (الأعراف: 194) في نسبة التأثير إليهم * (ألهم أرجل يمشون بها) * استفهام على سبيل الإنكار أي ليس لهم أرجل يمشون بها بل بالله عز وجل إذ هو الذي يمشيهم وكذا يقال فيها بعد * (قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون) * (الأعراف: 195) إن استطعتم * (إن ولي الله) * حافظي ومتولي أمري * (الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين) * (الأعراف: 196) أي من قام به في حال الاستقامة * (وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) * الحق ولا حقيقتك لأنهم عمي القلوب في الحقيقة، والضمير للكفار * (خذو العفو) * أي السهل الذي يتيسر لهم ولا تكلفهم ما يشق عليهم * (وأمر بالعرف) * أي بالوجه الجميل، * (وأعرض عم الجاهلين) * (الأعراف: 199) فلا تكافئهم بجهلهم. عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية قيل وذلك لقوة دلالتها على التوحيد فإن من شاهد مالك النواصي وتصرفه في عباده وكونهم فيما يأتون ويطرون به سبحانه وتعالى لا بأنفسهم لا يشاقهم ولا يداقهم في تكاليفهم ولا يغضب في الأمر والنهي ولا يتشدد ويحلم عنهم، * (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله) * (الأعراف: 200) بالشهود والحضور فإنك ترى حينئذ أن لا فعل لغيره سبحانه، وهذا إشارة إلى ما يعتري الإنسان أحيانامن الغضب وإيماء إلى علاجه بالاستعاذة قال بعضهم: إن الغضب إنما يهيج بالإنسان إذا استقبح من المغضوب عليه عملا من الأعمال ثم اعتقد في نفسه كونه قادرا وفي المغضوب عليه كونه عاجزا، وإذا انكشف له نور من عالم العقل عرف أن المغضوب عليه إنما أقدم على ذلك العمل لأن الله تعالى خلق فيه داعية وقد سبقت عليه الكلمة الازلية فلا سبيل له إلى تركه وحينئذ يتغير غضبه. وقد ورد من عرف سر الله تعالى في القدر هانت عليه المصائب، الاستعاذة بالله تعالى في المعنى طلب الالتجاء إليه باستكشاف ذلك النور، * (إن الذين اتقوا) * الشرك * (إذا مسهم طائف من الشيطان) * لمة منه بنسبة الفعل إلى غيره سبحانه وتعالى: * (تذكروا) * مقام التوحيد ومشاهدة الأفعال من الله تعالى: * (فإذا هم مبصرون) * (الأعراف: 201) فعالية الله تعالى لا شيطان ولا فاعل غيره سبحانه في نظرهم * (واخوانهم أي اخوان الشياطين من المحجوبين * (يمدونهم) * الشياطين في الغي وهو نسبة الفعل إلى سوى * (ثم لا يقصرون) * (الأعراف: 102) عن العناد والمراء والجدل، و * (قالوا لولا اجتبيتها) * أي جمعتها من تلقاء نفسك * (قل إنما أتبع ما يوحي إلى من ربي) * (الأعراف: 203) لأني قائم به لا بنفسي * (وإذا
قرىء القرآن فاستمعوا له) * أي للقرآن بآذانكم الظاهرة * (ونصتوا) * بحواسكم الباطنة، وجوز أن يكون ضمير له للرب سبحانه، أي إذا قرىء القرآن فاستمعوا للرس جل شأنه فإنه المتكلم والمخاطب لكم به * (لعلكم ترجموت) * (الأعراف: 204) بالسمع الحقيقي أو برحمة تجلي المتكلم في كلامه بصفاته وأفعاله * (واذكر ربك في نفسك) * بأن تتحلى بما يمكن التحلي به من صفات الله تعالى، وقيل: هو على حد * (لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة) *
156

* (تضرعا وخيفة) * حسب اختلاف المقام * (ودون الجهر) * أي دون أن يظهر ذلك منك بل تكون ذاكرا به له * (بالغدو) * أي وقت ظهور نور الروح * (والآصال) * أي وقت غلبات صفات النفس * (ولا تكن) * في وقت من الأوقات * (من الغافلين) * (الأعراف: 205) عن شهود الحدة الذاتية، وقال بعض الأكابر: إن قوله سبحانه: * (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة) * إشارة إلى أعلى المراتب وهو حصة الواصلين المشاهدين، وقوله سبحانه وتعالى: * (ودون الجهر) * إشارة إلى المرتبة الوسطى وهي نصيب السائرين إلى مقام المشاهدة، وقوله جل شأنه: * (ولا تكن من الغافلين) * إيماء إلى مرتبة النازلين من السالكين، وفي ذكر الخوف اشعارء باستشعار هيبة الجلال كما قال:
أشتاقه فإذا بدا * أطرقت من اجلاله
لا خيفة بل هيبة * وصيانة لجمالة
وذكروا أن حال المتدي والسالك منوطة برأي الشيخ فإنه الطبيب لأمراض القلوب فهو أعرف بالعلاج، فقد يرى له رفع الصوت بالذكر علاجا حيث توقف قطع الخواطر وحديث النفس عليه، وفي عوارف المعارف للسهر وردي قدس سره لا يزال العبد يردد هذه الكلمة وسهلت على اللسان تشربها القلب ويصير الذكر حينئذ ذكر الذات، وهذا الذكر هو المشاهدة والمكاشفة والمعاينة، وذاك هو المقصد الأقصى من الخلوة، وقد يحصل ما ذكر بتلاوة القرآن أيضا إذا أكثر التلاوة واجتهد في مواطأة القلب مع اللسان حتى تجري التلاوة على اللسان وتقوم مقام حديث النفس فيدخل على العبد سهولة في التلاوة والصلاة ا ه‍.
ونقل عنه أيضا ما حاصله أن بنية العبد تحكي مدينة جامعة، وأعضاؤه وجوارحة بمثابة سكان المدينة، والعبد في إقباله على الذكر كمؤذن صعد منارة على باب المدينة يقصد اسماع أهل المدينة الأذان، فالذكر المحقق يقصد إيقاظ قلبه وانباء أجزائه وأبعاضه بذكر لسانه فهو يقول ببعضه ويسمع بكله إلى أن تنتقل الكلمة من اللسان إلى القلب فيتنور بها ويظفر بجدوى الأحوال ثم ينعكس نور القلب على القالب فيتزين بمحاسن الأعمال ا ه‍.
* (إن الذين عند ربك) * وهم الفانون الباقون به سبحانه وتعالى أرباب الاستقامة * (لا يستكبرون عن عبادته) * لعدم احتجابهم بالانانية * (ويسبحونه) * بنفيها * (وله يسجدون) * (الأعراف: 206) بالفناء التام وطمس البقية والله تعالى هو الباقي ليس في الوجود سواه.
سورة الأنفال
مدنية كما روي عن زيد بن ثابت. وعبد الله بن الزبير، وجاء ذلك في رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير انه سئل الحبر عنها فقال: تلك سورة بدر، وفي رواية أخرى انه قال: نزلت في بدر، وقيل: هي مدينة إلا قوله سبحانه وتعالى: * (وإذ يمكر بك الذين كفروا) * (الأنفال: 30) الآية فانها نزلت بمكة على ما قاله مقاتل، ورد به صح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ان هذه الآية بعينها نزلت بالمدينة، وجمع بعضهم بين القولين بما لا يخلو عن نظر. واستثنى آخرون قوله تعالى: * (يا أيها النبي حسبك الله) * (الأنفال: 64) الآية وصححه ابن العربي وغيره، ويؤيده ما أخرجه البزار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت لما أسلم
157

عمر رضي الله تعالى عنه وهي في الشامي سبه وسبعون آية، وفي البصرى والحجازي ست وسبعون. وفي الكوفي خمس وسبعون. ووجه مناسبتها لسورة الأعراف أن فيها * (وأمر بالعرف) * وفي هذه كثير من أفراد المأمور به. وفي تلك ذكر قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم وفي هذه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ما جرى بينه وبين قومه، وقد فصل سبحانه وتعالى في تلك قصص آل فرعون وأضرابهم وما حل بهم وأجمل في هذه ذلك فقال سبحانه وتعالى: * (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم ان الله قوي شديد العقاب) * (الأنفال: 52) وأشار هناك إلى سوء زعم الكفرة في القرآن بقوله تعالى: * (وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها) * (الأعراف: 203) وصرح سبحانه وتعالى بذلك هنا بقوله جل وعلا: دوإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين) * (الأنفال: 31) وبين جل شأنه فيما تقدم إن القرآن هدى ورحمة لقوم يؤمنون وأردف سبحانه وتعالى ذلك بالأمر بالاستماع له والأمر بذكره تعالى وهنا بين جل وعلا حال المؤمنين عند تلاوته وحالهم إذا ذكر الله تبارك اسمه بقوله عز من قائل: * (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون) * (الأنفال: 2) إلى غير ذلك من المناسبات، والظاهر أن وضعها هنا توقيفي وكذا وضع براءة بعدها وهما من هذه الحيثية كسائر السور وإلى ذلك ذهب غير واحد كما مر في المقدمات.
وذكر الجلال السيوطي أن ذكر هذه السورة هنا ليس بتوقيف من الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة رضي الله تعالى عنهم كما هو المرجح في سائر السور بل باجتهاد من عثمان رضي الله تعالى عنه، وقد كان يظهر في بادىء الرأي أن المناسب إيلاء الأعراف بيونس وهود لاشتراك كل في اشتمالها على قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأنها مكية النزول خصوصا أن الحديث ورد في فضل السبع الطول وعدوا السابعة يونس وكانت تسمى بذلك كما أخرجه البيهقي في الدلائل ففي فصلها من الأعراف بسورتين فصل للنظير من سائر نظائره هذا مع قصر سورة الأنفال بالنسبة إلى الأعراف وبراءة، وقد استشكل ذلك قديما حبر الأمة رضي الله تعالى عنه فقال لعثمان رضي الله تعالى عنه: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا البسملة بينهما ووضعتموهما في
السبع الطول؟ ثم ذكر جواب عثمان رضي الله تعالى عنه، وقد أسلفنا الخبر بطوله سؤالا وجوابا، ثم قال: وأقول: يتم مقصد عثمان رضي الله تعالى عنه في ذلك بأمور فتح الله تعالى بها. الأول انه جعل الأنفال قبل براءة مع قصرها لكونها مشتملة على البسملة فقدمها لتكون كقطعة منها ومفتتحها وتكون براءة لخلوها من البسملة كتتمتها وبقيتها.
ولهذا قال جماعة من السلف: إنهما سورة واحدة. الثاني انه وضع براءة هنا لمناسبة الطول فانه ليس بعد الست السابقة سورة أطول منها وذلك كاف في المناسبة. الثالث أنه خلل بالسورتين أثناء السبع الطول المعلوم ترتيبها في العصر الأول للإشارة إلى أن ذلك أمر صادر لا عن توقيف وإلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يبين كلتيهما فوضعا هنا كالوضع المستعار بخلاف ما لو وضعا بعد السبع الطول فإنه كان يوهم أن ذلك محلهما بتوقيف ولا يتوهم هذا على هذا الوضع للعلم بترتب السبع.
158

فانظر إلى هذه الدقيقة التي فتح الله تعالى بها ولا يغوص عليها الأغواص. الرابع أنه لو أخرهما وقدم يونس وأتي بعد براءة بهود كما في مصحف أبي بمراعاة مناسبة السبع وإيلاء بعضها بعضا لفات مع ما أشرنا إليه أمر آخر آكد في المناسبة فإن الأولى بسورة يونس أن يؤتي بالسور الخمسة التي بعدها لما اشتركت فيه من المناسبات من القصص والافتتاح * (بالر) * وبذكر الكتاب ومن كونها مكيات ومن تناسب ما عدا الحجر في المقدار ومن التسمية باسم نبي والرعد اسم ملك وهو مناسب لأسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهذه عدة مناسبات للاتصال بين يونس وما بعدها وهي آكد من هذا الوجه الواحد في تقديم يونس بعد الاعراف، ولبعض هذه الأمور قدمت سورة الحجر على النحل مع كونها أقصر منها، ولو أخرت براءة عن هذه السور الست لبعدت المناسبة جدا لطولها بعد عدة سور أقصر منها بخلاف وضع سورة النحل بعد الحجر فإنها ليست كبراءة في الطول.
ويشهد لمراعاة الفواتح في مناسبة الوضع ما ذكرناه من تقديم الحجر على النحل لمناسبة * (الر) * قبلها، وما تقدم من تقديم آل عمران على النساء وإن كانت أقصر منها لمناسبتها البقرة في الافتتاح * (بالم) * وتوالي الطواسين والحواميم وتوالى العنكبوت والروم ولقمان والسجدة لافتتاح كل * (بالم) *، ولهذا قدمت السجدة على الأحزاب التي هي أطول منها، هذا ما فتح الله تعالى به على، ثم ذكر أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قدم في مصحفه البقرة والنساء وآل عمران والأعراف والأنعام والمائدة ويونس راعي السبع الطول فقدم الأصول منها فالأطول ثم ثنى بالمئين فقدم براءة ثم النحل ثم هود ثم يوسف ثم الكهف وهكذا الأطول فالأطول وجعل الأنفال بعد النور.
ووجه المناسبة أن كلا مدنية ومشتملة على أحكام وأن في النور * (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض) * (النور: 55) الآية. وفي الأنفال: * (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض) * (الأنفال: 26) الخ. ولا يخفى ما بين الآيتين من المناسبة فإن الأولى مشتملة على والعد بما حصل وذكر به في الثانية فتأمل ا ه‍.
وأقول: قد من الله تعالى على هذا العبد الحقير بما لم يمن به على هذا المولى الجليل والحمد لله تعالى على ذلك حيث أوقفني سبحانه على وجه مناسبة هذه السورة لما قبلها وهو لم يبين ذلك. ثم ما ذكره من عدم التوقيف في هذا الوضع في غاية البعد كما يفهم مما قدمناه في المقدمات، وسؤال الحبر وجواب عثمان رضي الله تعالى عنهما ليسا نصا في ذلك، وما ذكره عليه الرحمة في أول الأمور التي فتح الله تعالى بها عليه غير ملائم بظاهر ظاهر سؤال الحبر رضي الله تعالى عنه حيث أفاد أن اسقاط البسملة من براءة اجتهادي أيضا ويستفاد مما ذكره خلافه، وما ادعاه من أن يونس سابعة السبع الطول ليس أمرا مجمعا عليه بل هو قول مجاهد. وابن جبير. ورواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفي رواية عند الحاكم أنها اكلهف، وذهب جماعة كما قال في اتقانه: إلى أن السبع الطول أولها البقرة وآخرها براءة، واقتصر ابن الأثير في النهاية على هذا، وعن بعضهم أن السابعة الأنفال وبراءة بناء على القول بأنهما سورة واحدة، وقد ذكر ذلك الفيروزابادي في قاموسه، وما ذكره في الأمر الثاني يغني عنه ما علل به عثمان رضي الله تعالى عنه. فقد أخرج النحاس في ناسخه عنه أنه قال: كانت الأنفال وبراءة يدعيان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم القرينتين فلذلك جعلتهما في السبع الطول، وما ذكره من مراعاة الفواتح في المناسبة غير مطرد فإن الجن والكافرون والاخلاص مفتتحات بقل مع الفصل بعدة سور بين الأولى والثانية والفصل بسورتين بين الثانية والثالثة، وبعد هذا كله لا يخلو ما ذكره عن نظر كما لا يخفى على المتأمل فتأمل.
159

* (بسم الله االرحمن الرحيم يسئلونك عن الأنفال) * جمع نفل بالفتح وهو الزيادة ولذا قيل للتطوع نافلة وكذا لولد الولد، ثم صار حقيقة في العطية ومنه قول لبيد: ان تقوى ربنا خير نفل * وباذن الله ريثي وعجل
لأنها لكونها تبرعا غير لازم كأنها زيادة ويسمى به الغنيمة أيضا وما يشترطه الإمام للغازي زيادة على سهمه لرأي يراه سواء كان لشخص معين أو لغير معين كمن قتل قتيلا فله سلبه، وجعلوا من ذلك ما يزيده الإمام لمن صدر منه أثر محمود في الحرب كبراز وحسن إقدام وغيرهما، واطلاقه على الغنيمة باعتبار أنها منحة من الله تعالى من غير وجوب، وقال الإمام عليه الرحمة. لأن المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم التي لم تحل لهم، ووجه التسمية لا يلزم اطراده، وفي الخبر أن المغانم كانت محرمة على الأمم فتفلها الله تعالى هذه الأمة، وقيل: لأنها زيادة على ما شرع الجهاد له وهو إعلاء كلمة الله تعالى وحماية حوزة الإسلام فإن اعتبر كون ذلك مظفورا به سمي غنيمة، ومن الناس من فرق بين الغنيمة والنفل بالعموم والخصوص، فقيل: الغنيمة ما حصل مستغنما سواء كان ببعث أولا باستحقاق أولا قبل الظفر أو بعده، والنفل ما قبل الظفر أو ما كان بغير قتال وهو الفيء؛ وقيل: ما يفضل عن القسمة ثم إن السؤال كما قال الطيبي ونقل عن الفارسي إما لاستدعاء معرفة أو يؤدي إليها وإما لاستدعاء جدا أو ما يؤدي إليه، وجواب الأول باللسان وينوب عنه اليد بالكتابة أو الإشارة ويتعدى بنفسه وبعن والباء، وجواب الثاني باليد وينوب عنها اللسان موعدا
وردا ويتعدى بنفسه أو بمن وقد يتعدى لمفعولين كأعطى واختار، وقد يكون الثاني جملة استفهامية نحو * (سل بني اسرائيل كما آتيناهم) * والمراد بالأنفال هنا الغنائم كما روي عن ابن عباس. ومجاهد. وقتادة والضحاك. وابن زيد. وطائفة من الصحابة وغيرهم، وبالسؤال السؤال لاستدعاء المعرفة كما اختاره جمع من المفسرين لتعديه بعن والأصل عدم ارتكاب التأويل، ويؤيد ذلك ما أخرجه أحمد. وابن حبان. والحاكم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه وهو سبب النزول أن المسلمين اختلفوا في غنائم بدر وفي قسمتها فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تقسم ولمن الحكم فيها أهو للمهاجرين أم للأنصار أم لهم جميعا؟ فنزلت هذه الآية.
وقال بعضهم: إن السؤال استعطاء. والمراد بالنفل ما شرط للغازي زائدا على سهمه، وسبب النزول غير ما ذكر. فقد أخرج عبد الرزاق في المصنف. وعبد بن حميد. وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل قتيلا فله كذا ومن جاء بأسير فله كذا فجاء أبو اليسر بن عمر والأنصاري بأسيرين فقال: يا رسول الله إنك قد وعدتنا. فقام سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله إنك إن أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء وإنه لم يمنعنا من هذه زهادة في الأجر ولا جبن عن العدو وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك أن يأتوك من ورائك فتشاجروا فنزل القرآن، وادعوا زيادة * (عن) * واستدلوا لذلك بقراءة ابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص. وعلي بن الحسين. وزيد. ومحمد الباقر. وجعفر الصادق. وطلحة بن مصرف * (يسألونك الأنفال) * وتعقب بأن هذه القراءة من باب الحذف والايصال وليست دعوى زيادة * (عن) * في القراءة المتواترة لسقوطها في القراءة الأخرى أولى من دعوى تقديرها في تلك القراءة لثبوتها في القراءة المتواترة بل قد ادعى بعض أنه ينبغي حمل قراءة اسقاط * (عن) * على ارادتها لأن حذف الحرف وهو مراد معنى أسهل من زيادته للتأكيد، على أنه يبعد
160

القول بالزيادة هنا الجواب بقوله تعالى: * (قل الأنفال لله والرسول) * فإنه المراد به اختصاص أمرها وحكمها بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فيقسمها النبي عليه الصلاة والسلام كما يأمره الله تعالى من غير أن يدخل فيه رأي أحد، فإن مبنى ذلك القول القول بأن السؤال استعطاء ولو كان كذلك لما كان هذا جوابا له فإن اختصاص حكم ما شرط لهم بالله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم لا ينافي إعطاءه إياهم بل يحققه لأنهم إنما يسألونه بموجب شرط الرسول عليه الصلاة والسلام الصادر عنه باذن الله تعالى لا بحكم سبق أيديهم إليه أو نحو ذلك مما يخل بالاختصاص المذكور.
وحمل الجواب على معنى أن الأنفال بذلك المعنى مختصة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا حق فيها للمنفل كائنا من كان لا سبيل إليه قطعا ضرورة ثبوت الاستحقاق بالتنفيل، وإدعاء أن ثبوته بدليل متأمر التزم لتكرر النسخ من غير علم بالناسخ الأخير، ولا مساغ للمصير إلى ما ذهب إليه مجاهد. وعكرمة. والسدى من أن الأنفال كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ليس لأحد فيها شيء بهذه الآية فنسخت بقوله تعالى: * (فأن لله خمسه وللرسول) * لما أن المراد بالأنفال فيما قالوا هو المعنى الأول حسبما نطق به قوله تعالى: * (واعلموا إنما غنمتم من شيء) * (الأنفال: 41) الآي، على أن الحق أنه لا نسخ حينئذ حسبما قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، بل بين هنا إجمالا أن الأمر مفوض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشرح فيما بعد مصارفها وكيفية قسمتها، وإدعاء اقتصار الاختصاص بالرسول صلى الله عليه وسلم على الأنفال المشروطة يوم بدر بجعل اللام للعهد مع بقاء استحقاق المنفل في سائر الأنفال المشروطة يأباه مقام بيان الأحكام كما ينبىء عنه إظهار الأنفال في مقام الاضمار، على أن الجواب عن سؤال الموعود ببيان كونه له عليه الصلاة والسلام خاصة مما يليق بشأنه الكريم أصلا.
وقد روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: قتل أخي عمير يوم بدر فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه فاعجبني فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن الله قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف فقال عليه الصلاة والسلام: ليس هذا لي ولا لك اطرحه في القبض فطرحته وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي فما جاوزت إلا قليلا حتى نزلت سورة الأنفال فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا سعد إنك سألتني السيف وليس لي وقد صار لي فاذهب فخذه، وهذا كما ترى يقتضي عدم وقوع التنفيل يومئذ وإلا لكان سؤال السيف من سعد بموجب شرطه عليه الصلاة والسلام ووعده لا بطريق الهبة المبتدأة وحمل ذلك من سعد على مراعاة الأدب مع كون سؤاله بموجب الشرط يرده رده صلى الله عليه وسلم قبل النزول وتعليله بقوله: ليس هذا لي لاستحالة أن يعد صلى الله عليه وسلم بما لا يقدر على إنجازه واعطائه عليه الصلاة والسلام بعد النزول وترتيبه على قوله وقد صار لي ضرورة إن مناط صيرورته له صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: * (الأنفال لله والرسول) * والفرض إنه المانع من اعطاء المسؤول، ومما هو نص في الباب قوله تعالى: * (فاتقوا الله) * فإنه لو كان السؤال طلبا للمشروط لما كان فيه محذور يجب اتقاؤه قاله شيخ الإسلام عليه الرحمة، وحاصله إنكار وقوع التنفيل حينئذ، وعدم صحة حمل السؤال على الاستعطاء والأنفال على المعنى الثاني من معنييها، وأنا أقول: قد جاء خبر التنفيل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من الطريق الذي ذكرناه ومن طريق آخر أيضا، فقد أخرج ابن أبي شيبة. وأبو داود. والنسائي. وابن جرير. وابن المنذر. وابن حبان.
161

وأبو الشيخ. والبيهقي في الدلائل. والحاكم وصححه عنه رضي الله تعالى عنه قال: " لما كان يوم بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم: من قتل قتيلا فله كذا وكذا ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا فاما المشيخة فثبتوا تحت الرايات وأما الشبان فتسارعوا إلى القتل والغنائم فقالت المشيخة للشبان: أشركونا معكم فانا كنا لكم ردءا ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: * (يسألونك عن الأنفال) * الآية فقسم الغنائم بينهم بالسوية " ويشير إلى وقوعه أيضا ما أخرجه أحمد. وعبد بن حميد. وابن جرير. وأبو الشيخ. وابن مردويه. والحاكم. والبيهقي في السنن عن أبي إمامة قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال: فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل فساءت فيه أخلاقنا فانتزعه الله تعالى من أيدينا وجعله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقسمه عليه الصلاة والسلام بين المسلمين عن بواء، ولعل في الباب غير هذه الروايات فكان على الشيخ حيث أنكر وقوع التنفيل أن يطعن فيها بضعف ونحوه ليتم له الغرض.
وما ذكره من حديث سعد بن أبي وقاص فقد أخرجه أحمد. وابن أبي شيبة عنه وهو مع انه وقع فيه سعيد بن العاصي والمحفوظ كما قال: أبو عبيد العاصي بن سعيد مضطرب المتن، فقد أخرج عبد بن حميد. والنحاس. وأبو الشيخ. وابن مردويه عن سعد انه قال: " أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة عظيمة فإذا فيها سيف فأخذته فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: نفلني هذا السيف فأنا من علمت فقال: رده من حيت أخذته فرجعت به حتى إذا أردت أن ألقيه في القبض لامتني نفسي فرجعت إليه عليه الصلاة والسلام فقلت: أعطنيه فشد لي صوته وقال رده من حيث أخذته فانزل الله تعالى: * (يسألونك عن الأنفال) * ".
فإن هذه الرواية ظاهرة في أن السيف لم يكن سلبا كما هو ظاهر الرواية الأولى بل أن سعدا رضي الله تعالى عنه وجده في الغنيمة وطلبه نفلا على سهمه الشائع فيها. وأخرج النحاس في ناسخه عن سعيد بن جبير أن سعدا ورجلا من الأنصار خرجا يتنفلان فوجدا سيفا ملقى فخرا عليه جميعا فقال سعد: هو لي وقال الأنصاري: هو لي لا أسلمه حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتياه فقصا عليه القصة فقال عليه الصلاة والسلام: ليس لك يا سعد ولا للأنصاري ولكنه لي فنزلت * (يسألونك عن الأنفال) * الآية، ومخالفة هذه الرواية للروايتين السابقتين المختلفتين كما علمت في غاية الظهور فلا يكاد يعول على إحداهما إلا بإثبات أنها الأصح، ولم نقف على أنهم نصوا على تصحيح الرواية التي ذكرها الشيخ فضلا عن النص على الأصحية.
نعم أخرج أحمد. وأبو داود. والترمذي. وصححه والنسائي وابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. وابن مردويه. والحاكم وصححه. والبيهقي في السنن عن سعد المذكور رضي الله تعالى عنه قال: " قلت يا رسول قد شفاني الله تعالى اليوم من المشركين فهب لي هذا السيف قال: إن هذا السيف لا لك ولا لي ضعه فوضعته ثم رجعت فقلت: عسى يعطي هذا السيف اليوم من لا يبلي بلائي إذا رجل يدعوني من ورائي فقلت: قد أنزل في شيء قال عليه الصلاة والسلام: كنت سألتني هذا السيف وليس هو لي وإني قد وهب لي فهو لك وأنزل الله تعالى هذه الآية: * (يسألونك عن الأنفال) * " الخ، فهذه الرواية وإن نص فيها على التصحيح إلا أنه ليست طاهرة في أن السيف كان سلبا له من عمير كما هو نص الرواية الأولى، وإن قلنا: إن هذه الرواية وإن لم تكن موافقة للأولى حذو القذة بالقذة لكنها ليست مخالفة لها، وزيادة الثقة مقبولة سواء كانت في الأول أم في الآخر أم في الوسط،
162

فلا بد من القول بالنسخ كما هو إحدى الروايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما أنها ظاهرة في كون الأنفال صارت ملكا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لأحد فيها حق أصلا إلا أن يجود عليه عليه الصلاة والسلام كما يجوز من سائر أمواله، والمولى المذكور ذهب إلى القول بعدم النسخ ولم يعلم أن هذا الخبر الذي استند إليه في إنكار وقوع التنفيل يعكر عليه، وإدعاء أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: فيه " وقد صار لي " أنه صار حكمه لي لكن عبر بذلك مشاكلة لما في الآية يرده ما في الرواية الأخرى المنصوص على حصتها من الترمذي. والحاكم " وإني قد وهب لي "، وحمل ذلك أيضا على مثل ما حمل عليه الأول مما لا يكاد يقدم عليه عارف بكلام العرب لا سيما كلام أفصح من نطق بالضاد صلى الله عليه وسلم، وما ذكره قدس سره من أن قوله تعالى: * (قل الأنفال) * الخ لا يكون جوابا لسؤال الاستعطاء فإن اختصاص حكم ما شرط لهم بالرسول عليه الصلاة والسلام لا ينافي الإعطاء بل يحققه، وقد يجاب عنه بالتزام الحمل الذي ادعى أن لا سبيل إليه قطعا ويقال بالنسخ، وهو من نسخ السنة قبل تقررها بالكتاب، وأن المنسوخ إنما هو ذلك التنفيل، والتنفيل الذي يقول به العلماء اليوم هو أن يقول الإمام من قتل قتيلا فله سلبه أو يقول للسرية جعلت لكم الربع بعد الخمس أي بعدما يرفع الخمس اللفقراء، وقد يكون بغير ذلك كالدراهم والدنانير. وذكر في " السير الكبير " أنه لو قال: ما أصبتم فهو لكم ولم يقل بعد الخمس لم يجز لأن فيه إبطال الخمس الثابت بالنص، وبعين ذلك يبطل ما لو قال: من أصاب شيئا فهو له لاتحاد اللازم فيهما بل هو أولى بالبطلان، وبه أيضا ينتفي ما قالوا: لو نفل بجميع المأخوذ جاز إذا رأى مصلحة، وفيه زيادة إيحاش الباقين وإيقاع الفتنة. وذكر السادة الشافعية أن الأصح أن النفل يكون من خمس الخمس المرصد للمصالح أن نفل مما سيغنم في هذا القتال لأنه المأثور عندهم كما جاء عن ابن المسيب.
ويحتمل أن التنفيل المنسوخ الواقع يوم بدر عن القائل به لم يكن كهذا الذي ذكرناه عن أئمتنا وكذا عن الشافعية الثابت عندهم بالأدلة المذكورة في كتب الفريقين، والأخبار التي وقفنا عليها في ذلك التنفيل غير ظاهرة في اتحاده مع هذا التنفيل.
وحينئذ فما نسخ لم يثبت وإنما ثبت غيره، وربما يقال: على فرض تسليم أن ما ثبت هو ما نسخ أن دليل ثبوته هو قوله تعالى: * (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال) * (الأنفال: 65) فإن في ذلك من التحريض ما لا يخفى، ودعوى أن حمل أل في الأنفال على العهد يأباه المقام في حيز المنع، ومما يستأنس به للعهد أنه يقال لسورة الأنفال سورة بدر فلا بدع أن يراد من الأنفال أنفال بدر، وإنباء الإظهار في مقام الاضمار على ما ادعاه في غاية الخفاء، وكون الجواب عن سؤال الموعود ببيان اختصاصه به عليه الصلاة والسلام مما لا يليق بشأنه الكريم أصلا مما لا يكاد يسلم، كيف والحكم إلهي والنبي صلى الله عليه وسلم مأمور بالإبلاغ، وقد يقال: حاصل الجواب يا قوم إن ما وعدتكم به بإذن الله تعالى قد ملكنيه سبحانه وتعالى دونكم وهو أعلم بالحكم فيما فعل أولا وآخرا فاتقوا الله من سوء الظن أو عدم الرضا بذلك. ومن هنا يعلم حسن الأمر بالتقوى بعد ذلك الجواب وبطلان ما ادعاه المولى المدقق من أن هذا الأمر نص في الباب، وقد يقال أيضا: لا مانع من أن يحمل السؤال على الاستعلام، والاختصاص على اختصاص الحكم مع كون المراد بالأنفال المعنى الثاني، والمعنى يسألونك عن حال ما وعدتهم إياه هل يستحقونه وإن حرم غيرهم ممن كان ردأ وملجأ حيث إنك وعدتهم وأطلقت لهم
163

الأمر قل إن ذلك الموعود قد نسخ استحقاقكم له بالوعد المأذون فيه من قبل وفوض أمره إلى ولم يحجر علي بإعطائه لكم دون غيركم بل رخصت أن أساوي أصحابكم الذين كانوا ردأ لكم معكم لئلا يرجع أحد من أهل بدر فخفى حنين ويستوحشوا من ذلك وتفسد ذات البين، فاتقوا الله تعالى من الاستقلال بما أخذتموه أو إخفاء شيء منه بناء على أنكم كنتم موعدين به * (وأصلحوا ذات بينكم) * بالرد والمواساة فيما حل بأيديكم * (وأطيعوا الله ورسوله) * في كل ما يأمر به وينهى عنه في ذلك مصالح
لا تعلمونها وإنما يعلمها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتقرير السؤال والجواب على هذا الأسلوب وإن لم يكن ظاهرا إلا أنه ليس بالبعيد جدا، ثم ما ذكره قدس سره من أن حديث النسخ الواقع في كلام مجاهد، وعكرمة. والسدي إنما هو للأنفال بالمعنى الأول لدلالة الناسخ على ذلك مسلم، لكن جاء في آخر رواية النحاس عن ابن جبير السابقة في قصة سعد وصاحبه الأنصاري رضي الله تعالى عنهما ما يوهم كون النسخ للآية مع حمل الأنفال على غير ذلك المعنى وليس كذلك، هذا ثم إني أعود فأقول: إن هذا التكلف الذي تكلفناه إنما هو لصيانة الروايات الناطقة بكون سبب النزول ما استند إليه القائل بأن الأنفال بالمعنى الثاني عن الإلغاء قبل الوقوف على ضعفها، ومجرد ما ذكره المولى قدس سره لا يدل على ذلك، ألا تراهم كيف يعدلون عن ظواهر الآيات إذا صح حديث يقتضي ذلك، وإلا فأنا لا أنكر أن كون حمل الأنفال على المعنى الأول والذهاب إلى أن الآية غير منسوخة والسؤال للاستعلام أقل مؤنة من غيره فتأمل ذاك والله سبحانه وتعالى يتولى هداك، والمراد بقوله تعالى: * (فاتقوا الله) * الخ على هذا أنه إذا كان أمر الغنائم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم فاتقوه سبحانه وتعالى واجتنبوا ما أنتم فيه من المشاجرة فيها والاختلاف الموجب لشق العصا وسخطه تعالى، أو فاتقوه في كل ما تأتون وتذرون فيدخل ما هم فيه دخولا أوليا، وأصلحوا ما بينكم من الأحوال بترك الغلول ونحوه، وعن السدي بعدم التساب.
وعن عطاء كان الإصلاح بينهم " أن دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اقسموا غنائمكم بالعدل: فقالوا: قد أكلنا وأنفقنا. فقال عليه الصلاة والسلام: ليرد بعضكم على بعض " و * (ذات) * كماقيل بمعنى صاحبة صفة لمفعول محذوف. و * (بين) * أما بمعنى الفراق أو الوصل أو ظفر أي أحوالا ذات افتراقكم أو ذات وصلكم أو ذات الكمال المتصل بكم. وقال الزجاج وغيره: إن * (ذات) * هنا بمنزلة حقيقة الشيء ونفسه كما بنه ابن عطية وعليه استعمال المتكلمين، ولما كانت الأحوال ملابسة للبين أضيفت إليه كما تقول: اسقني ذا إنائك أي ما فيه جعل كؤنه صاحبه، وذكر الاسم الجليل في الأمرين لتربية المهابة وتعليل الحكم.
وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم مع الله تعالى أولا وآخرا لتعظيم شأنه وإظهار شرفه والإيذان بأن طاعته عليه الصلاة والسلام طاعة الله تعالى، وقال غير واحد: إن الجمع بين الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أولا لأن اختصاص الله تعالى بالأمر والرسول صلى الله عليه وسلم بالامتثال، وتوسيط الأمر بإطلاح ذات البين بين الأمر بالتقوى والأمر بالطاعة لإظهار كمال العناية بالإصلاح بحسب المقام وليندرج الأمر به بعينه تحت الأمر بالطاعة.
وقرأ ابن محيصن * (يسألونك علنفال) * بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وإدغام نون عن فيها ولا اعتداد بالحركة العارضة * (إن كنتم مؤمين) * متعلق بالأوامر الثلاثة، والجواب محذوف ثقة بدلالة المذكورة عليه أو هو الجواب على الخلاف المشهور، وأيا ما كان فالمراد بيان ترتب ما ذكر عليه لا التشكيك في إيمانهم، وهو
164

يكفي في التعليق بالشرط، والمراد بالايمان التصديق، ولا خفاء في اقتضائه ما ذكر على معنى أنه من شأنه ذلك لا أنه لازم له حقيقة. وقد يراد بالايمان الايمان الكامل والأعمال شرط فيه أو شطر؛ فالمعنى إن كنتم كاملي الايمان فإن كمال الايمان يدور على تلك الخصال الثلاثة الاتقاء والإصلاح وإطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويؤيد إرادة الكمال [بم قوله سبحانه وتعالى:
* (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم ءاي‍اته زادتهم إيم‍انا وعلى ربهم يتوكلون) *.
* (إنما المؤمنون) * الخ إذا المراد به قطعا الكاملون في الايمان وإلا لم يصح الحصر، وهو حينئذ جار على ما هو الأصل المشهور في النكرة إذا أعيدت معرفة، وعلى الوجه الأول لا يكون هذا عين النكرة السابقة، ويلتزم القول بأن القاعدة أغلبية كما قد صرحوا به في غير ما موضع، أي إنما المؤمنون الكاملون في الايمان المخلصون فيه * (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) * أي فزعت استعظاما لشأنه الجليل وتهيبا منه جل وعلا والاطمئنان المذكور في قوله سبحانه وتعالى: * (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) * (الرعد: 28) لا ينافي الوجل والخوف لأنه عبارة عن ثلج الفؤاد وشرح الصدر بنور المعرفة والتوحيد وهو يجامع الخوف، وإلى هذا ذهب ابن الخازن، ووفق بعضهم بين الآيتين بأن الذكر في إحداهما ذكر رحمة وفي الأخرى ذكر عقوبة فلا منافاة بينهما. وأخرج البيهقي وجماعة عن السدي أنه قال في الآية: هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية فيقال له: اتق الله تعالى فيجل قلبه، وحمل الوجل فيها على الخوف منه تعالى كلما ذكر أبلغ في المدح من حمله على الخوف وقت الهم بمعصية أو إرادة ظلم. وهذا الوجل في قلب المؤمن كضرمة السعفة كما جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها.
وأخرج ابن جرير وغيره عن أم الدرداء أن الدعاء عند ذلك مستجاب، وعلامته حصول القشعريرة. وقرىء * (وجلت) * بفتح الجيم ومضارعه يجل، وأما وجل بالكسر فمضارعه يوجل وجاء ييجل وياجل وهي لغات أربع حكاها سيبويه، وقرأ عبد الله * (فرقت) * أي خافت * (وإذا تليت عليهم ءاياته) * أي القرآن كما روى عن ابن عباس * (زادتهم إيمانا) * أي تصديقا كما هو المتبادر فإن تظاهر الأدلة وتعاضد الحجج مما لا ريب في كونه موجبا لذلك، وهذا أحد أدلة من ذهب إلى أن الإيمان يقبل الزيادة والنقص، وهو مذهب الجم الغفير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين وبه أقوال لكثرة الظواهر الدالة على ذلك من الكتاب والسنة من غير معارض لها عقلا، بل قد احتج عليه بعضهم بالعقل أيضا؛ وذلك أنه لو لم تتفاوت حقيقة الإيمان لكان إيمان آحاد الأمة بل المنهمكين في الفسق والمعاصي مساويا لإيمان الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام، واللازم باطل فكذا الملزوم، وقال محيي الدين النووي في معرض بيان ذلك: إن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى يكون في بعض الأحيان أعظم يقينا وإخلاصا منه في بعضها، فكذلك التصديق والمعرفة بحسب ظواهر البراهين وكثرتها، وأجابوا عما اعترض به عليه من أنه متى قبل ذلك كان شكا وهو خروج عن حقيقته بأن مراتب اليقين متفاوتة إلى علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين مع أنه لا شك معها، وذهب الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وكثير من المتكلمين إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، واختاره أمام الحرمين محتجين بأنه اسم للتصديق البالغ حد الجزم والإذعان وذلك لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان،
فالمصدق إذا أتى بالطاعات أو ارتكب المعاصي فتصديقه بحاله لم يتغير أصلا، وإنما يتفاوت إذا كان اسما للطاعات المتفاوتة قلة وكثرة
165

على ما ذهب إليه القلانسي وجماعة من السلف، وبما رواه الفقيه أبو الليث السمرقندي في تفسيره عن محمد بن الفضل. وأبي القاسم الساباذي عن فارس بن مردويه عن محمد بن الفضل بن العابد عن يحيى بن عيسى عن أبي مطيع عن حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله الايمان يزيد وينقص؟ فقال: لا. الايمان مكمل في القلب زيادته ونقصانه كفر ".
وأجابوا عما تمسك به الأولون من الآيات والأحاديث بأن الزيادة بحسب الدوام والثبات وكثرة الزمان والساعات. وإيضاحه ما قاله إمام الحرمين: أن النبي صلى الله عليه وسلم يفضل من عداه باستمرار تصديقه وعصمة الله تعالى إياه من مخامرة الشكوك والتصديق عرض لا يبقى بشخصه زمانين بل بتجدد أمثاله فتقع للنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره متوالية فيثبت له صلى الله عليه وسلم أعداد من الايمان لا يثبت لغيره إلا بعضها فيكون إيمانه أكثر. واعترض هذا بأن حصول المثل بعد انعدام الشيء لا يكون زيادة فيه ودفع بأن المراد زيادة إعداد حصلت وعدم البقاء لا ينافي ذلك، وأجابوا أيضا بأن المراد الزيادة بحسب زيادة ما يؤمن به، والصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا آمنوا في الجملة وكانت الشرعية غير تامة والأحكام تتنزل شيئا فشيئا فكانوا يؤمنون بكل ما يتجدد منها ولا شك في تفاوت إيمان الناس بملاحظة التفاصيل كثرة وقلة ولا يختص ذلك بعصر النبوة لإمكان الإطلاع عليها في غيره من العصور وبأن المراد زيادة ثمرته وإشراق نوره في القلب فإن نوره يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، ولا يخفى أن الحجة الأولى يعلم جوابها مما ذكرناه أولا، وأما الحجة الثانية التي ذكرها أبو الليث فمما لا يعول عليها عند الحفاظ أصلا لأن رجال السند إلى أبي مطيع كلهم مجهولون لا يعرفون في شيء من كتب التواريخ المشهورة، وأما أبو مطيع وهو الحكم بن عبد الله بن مسلمة البلخي فقد ضعفه أحمد بن حنبل. ويحيى بن معين. وعمرو بن علي الفلاس. والبخاري. وأبو داود. والنسائي. وحاتم الرازي. وأبو حاتم محمد بن حبان البستي. والعقيلي. وابن عدي. والدارقطني وغيرهم.
وأما أبو المهمز وقد تصحف على الكتاب؛ واسمه يزيد بن سفيان فقد ضعفه أيضا غير واحد وتركه شعبة بن الحجاج، وقال النسائي: متروك، وقد اتهمه شعبة بالوضع حيث قال: لو أعطوه فلسين لحدثهم سبعين حديثا، ومن مارس الأحاديث النبوية لا يشك في أن ذلك اللفظ ليس منها في شيء، وما ذكره إمام الحرمين على ما فيه مبني على تجدد الأعراض وعدم بقائها زمانين، والمسألة خلافية، ودون إثبات ذلك خرط القتاد.
وما أجابوا به أولا: من أن زيادة الايمان بحسب زيادة المؤمن به مع كونه خلاف الظاهر ولا داعي إليه عند المنصف لا يكاد يتأتى في قوله تعالى: * (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا) * (آل عمران: 173) وقوله تعالى: * (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم) * (الفتح: 4) إذ ليس هناك زيادة مشروع يحصل الايمان به ليقال: إن زيادة الايمان بحسب زيادة المؤمن به، وحال الجواب الثاني: لا يخفى عليك.
وذهب جماعة منهم الإمام الرازي وإمام الحرمين في قول إلى أن الخلاف في زيادة الايمان ونقصانه وعدمهما لفظي وهو فرع تفسير الايمان، فمن فسره بالتصديق قال: إنه لا يزيد ولا ينقص، ومن فسره بالأعمال مع التصديق قال: إنه يزيد وينقص، وعلى هذا قول البخاري: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن الايمان قول وعمل ويزيد وينقص، وهو المعنى بما
166

روى عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: " قلنا يا رسول الله إن الايمان يزيد وينقص قال: نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار ".
واعترض على هذا بأن عدم قبول الايمان الزيادة والنقص على تقدير كون الطاعات داخلة في مسماه أولى وأحق من عدم قبوله ذلك إذا كان مسماه التصديق وحده، أما أولا: فلأنه لا مرتبة فوق كل الأعمال لتكون زيادة ولا إيمان دونه ليكون نقصا، وأما ثانيا: فلأن أحدا لا يستكمل الايمان حينئذ والزيادة على ما لم يكمل بعد محال. وأجيب بأن هذا إنما يتوجه على المعتزلة والخوارج القائلين بانتفاء الايمان بانتفاء شيء من الأعمال ونحن إنما نقول: إنها شرط كمال فيه واللازم عند الانتفاء انتفاء الكمال وهو غير قادح في أصل الايمان والحق أن الخلاف حقيقي وأن التصديق يقبل التفاوت بحسب مراتب فما المانع من تفاوته قوة وضعفا كما في التصديق بطلوع الشمس والصديق بحدوث العالم وقلة وكثرة كما في التصديق الإجمالي والتصديق التفصيلي المتعلق بالكثير وما على إذا خالفت في بعض المسائل مذهب الإمام الأعظم أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه للأدلة التي لا تكاد تحصى فالحق أحق بالاتباع والتقليد في مثل هذه المسائل من سنن العوام.
نعم أخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس أنه فسر الايمان في هذه الآية بالخشية وعبر عنها بذلك بناء على أنها من آثاره وهو خلاف الظاهر أيضا، وكأن المعنى عليه أن المؤمنين الكاملين هم الذين إذا ذكر الله من غير أن يذكر هناك ما يوجب الفزع من صفاته وأفعاله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياتهم المتضمنة ذلك زادتهم وجلا على وجل * (وعلى ربهم يتوكلون) * أي يفوضون أمورهم كلها إلى مالكهم ومدبرهم خاصة لا إلى أحد سواه كما يدل عليه تقديم المتعلق على عامله والجملة معطوفة على الصلة.
وجوز أبو البقاء كونها حالا من ضمير المفعول وكونها استئنافية. [بم وقوله سبحانه وتعالى:
* (الذين يقيمون الصلواة ومما رزقن‍اهم ينفقون) *.
* (الذين يقيمون الصلواة ومما رزقن‍اهم ينفقون) * مرفوع على أنه نعت للموصول الأول أو بدل منه أو بيان له أو منصوب على القطع المنبىء عن المدح، وقد مدحهم سبحانه وتعالى أولا بمكارم الأعمال القلبية من الخشية والإخلاص والتوكيل وهذا مدح لهم بمحاسن الأعمال القالبية من الصلاة والصدقة.
* (أول‍ائك هم المؤمنون حقا لهم درج‍ات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم) *.
* (أولائك) * أي المتصفون بما ذكر من الفات الحميدة من حيث إنهم كذلك * (هم المؤمنون حقا) * لأنهم حقوا إيمانهم بأن ضموا إليه ما فضل من أفاضل الأعمال.
وأخرج الطبراني عن الحرث بن مالك الأنصاري أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: " كيف أصبحت يا حارث قال: أصبحت مؤمنا حقا فقال صلى الله عليه وسلم: انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ فقال: عزفت نفسي عن الدنيا فاسهرت ليلي وأظمأت نهاري وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وكأني أنظر إلى أهل النار يتصارخون فيها قال عليه الصلاة والسلام: يا حارث عرفت فالزم ثلاثا " ونصب * (حقا) * على أنه صفة مصدر محذوف فالعامل فيه المؤمنون أي إيمانا حقا أو هو مؤكد لمضمون الجملة فالعامل فيه حق مقدر، وقيل: إنه يجوز أن يكون مؤكدا لمضمون الجملة التي بعده فهو ابتداء كلام، وهو مع أنه خلاف الظاهر إنما يتجه على القول بجواز تقديم المصدر المؤكد لمضمون الجملة عليها والظاهر منعه كالتأكيد، واستدل بعضهم بالآية على أنه لا يجوز أن يصف أحد نفسه بكونه مؤمنا حقا لأنه سبحانه وتعالى: إنما وصف بذلك أقواما
167

على أوصاف مخصوصة وكل أحد لا يتحقق وجود تلك الأوصاف فيه بل يلزمه أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله تعالى.
وقرر بعضهم وجه الاستدلال بما يشير إليه ما روى عن الثوري أنه قال: من زعم أنه مؤمن بالله تعالى حقا ثم لم يشهد أنه من أهل الجنة فقد آمن بنصف الآية ولم يؤمن بالنصف الآخر، وهذا ظاهر في أن مذهبه الاستثناء، وهو كما قال الإمام مذهب ابن مسعود وتبعه جمع عظيم من الصحابة والتابعين، وبه قال الشافعي ونسب إلى مالك وأحمد، ومنعه الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه؛ وروى عنه أنه قال لقتادة: لم تستثني في إيمانك؟ قال: اتباعا لإبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: * (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) * (الشعراء: 82) فقال له: هلا اقتديت به في قوله بلى حين قيل له أو لم تؤمن؟ فانقطع قتادة؛ قال الرازي كان لقتادة أن يجيب أبا حنيفة عليهما الرحمة ويقول: قول إبراهيم عليه السلام * (ولكن ليطمئن قلبي) * بعد قوله بلى طلب لمزيد الطمأنينة وذلك يدل على جواز الاستثناء.
وفي " الكشف " أن الحق أن من جوز الاستثناء إنما جوز إذا سئل عن الايمان مطلقا أما إذا قيل: هل أنت مؤمن بالقدر مثلا فقال: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى لا يجوز لا لأن التبرك لا معنى له بل للإبهام فيما ليس له فائدة، وأما في الأول فلما كان الإطلاق يدل على الكمال وهو الايمان المنتفع به في الآخرة علق بالمشيئة تفاؤلا وتيمنا، وذلك لأن الكلمة خرجت عن موضوعها الأصلي إلى المعنى الذي ذكر في عرف الاستعمال تراهم يستعملونها في كل ما لهم اهتمام بحصوله شائعا بين العرب والعجم فلا وجه لقول من قال: إن معنى التبرك أنا أشك في إيماني تبركا وذلك لأن المشيئة عنده غير مشكوكة عنده بل هو تعليق بما لا بدمنه نظرا إلى أنه السبب الأصلي وأنه تفويض من العبد إلى الله تعالى ومن فوض كفي لا نظرا إلى أن المشيئة غيب غير معلوم فيكون شكا في الايمان، وقد جاء " من شك في إيمانه فقد كفر " وما أحسن ما نقل عن الحسن أن رجلا سأله أمؤمن أنت؟ فقال: الايمان إمامان فإن كنت تسألني عن الايمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن وإن كنت تسألني عن قوله تعالى * (إنما المؤمنون) * (الأنفال: 2) الخ فوالله لا أدري أمنهم أنا أم لا؟ وهذا ونحوه ما يجعل الخلاف لفظيا، وقد صرح بذلك جمع من المحققين عليهم الرحمة.
* (لهم درج‍ات عند ربهم) * أي كرامة وعلو مكانة على أن يراد بالدرجات العلو المعنوي وقد يراد بها العلو الحسي، وفي الخبر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: " في الجنة مائة درجة لو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن لوسعتهم " وعن الربيع بن أنس " سبعون درجة ما بين كل درجتين حضر الفرس المضمر سبعين سنة " ووجه الجمع على الوجهين ظاهر، والتنوين للتفخيم والظرف، إما متعلق بمحذوف وقع صفة لها مؤكدة لما أفاده التنوين أو بما تعلق به الخبر أعني لهم من الاستقرار.
وجوز أبو البقاء أن يكون العامل فيه * (درجات) * لأن المراد بها الأجور، وفي إضافته إلى الرب المضاف إلى ضميرهم مزيد تشريف لهم ولطف بهم وإيذان بأن ما وعدهم متيقن الثبوت مأمون الفوات، والجملة جوز أن تكون خبرا ثانيا لأولئك وأن تكون مبتدأة مبنية على سؤال نشأ من تعدد مناقبهم كأنه قيل: ما لهم بمقابلة هذه الخصال؟ فقيل: لهم درجات * (ومغفرة) * عظيمة لما فرط منهم * (ورزق كريم) * وهو ما أعط لهم من نعيم الجنة. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد القرظي قال: إذا سمعت الله تعالى يقول رزق كريم فهو الجنة. والكرم كما نقل الواحدي اسم جامع لكل ما يحمد ويستحسن في بابه فلعل وصف الرزق به هنا حقيقة.
168

وقال بعض المحققين: معنى كون الرزق كريما أن رازقه كريم، ومن هنا وصفوه بالكثرة وعدم الانقطاع إذ من عادة الكريم أن يجزل العطاء ولا يقعه فكيف بأكرم الأكرمين تبارك وتعالى، وجعله نفسه كريما على الإسناد المجازي للمبالغة، ولم يذكروا لتوسيط المغفرة، والظاهر كما قيل تقديمها هنا نكتة، وربما يقال في وجه ذكر هذه الأشياء الثلاثة على هذا الوجه أن الدرجات في مقابلة الأوصاف الثلاثة أعني الوجل والإخلاص والتوكل، ويستأنس له بالجمع والمغفرة في مقابلة إقامة الصلاة ويستأنس له بما ورد في غير ما خبر أن الصلوات مكفرات لما بينها من الخطايا وأنها تنقى الشخص من الذنوب كما ينقى الماء من الدنس، والرزق الكريم بمقابلة الانفاق، والمناسبة في ذلك ظاهرة، وإلى هذا يشير كلام أبي حيان أو يقال: قدم سبحانه الدرجات لأنها بمحض الفضل، وذكر بعدها المغفرة لأنها أهم عندهم من الرزق مع اشتراكهما في كونهما في مقابلة شيء، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن ابن زيد أنه قال في الآية: المغفرة بترك الذنوب والرزق الكريم بالأعمال الصالحة فتدبر والله تعالى أعلم بأسرار كلامه.
* (كمآ أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكرهون) *.
* (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق) * أي إخراجا متلبسا به فالباء للملابسة، وقيل: هي سببية أي بسبب الحق الذي وجب عليك وهو الجهاد.
والمراد بالبيت مسكنه صلى الله عليه وسلم أو بالمدينة أو المدينة نفسها لأنها مثواه عليه الصلاة والسلام، وزعم بعضهم أن المراد به مكة وليس بذاك، وإضافة الإخراج
إلى الرب سبحانه وتعالى إشارة إلى أنه كان بوحي منه عز وجل، ولا يخفى لطف ذكر الرب وإضافته إلى ضميره صلى الله عليه وسلم، والكاف يستدعي مشبها وهو غير مصرح به في الآية وفيه خفاء، ومن هنا اختلفوا في بيانه وكذا في إعرابه على وجوه فاختار بعضهم أنه خبر مبتدأ محذوف هو المشبه أي حالهم هذه في كراهة ما وقع في أمر الأنفال كحال إخراجك من بيتك في كراهتهم له، وإلى هذا يشير كلام الفراء حيث قال: الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه صلى الله عليه وسلم من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال وكراهتهم لما وقع فيها مع أنه أولى بحالهم أو أنه صفة مصدر الفعل المقدر في لله وللرسول أي الأنفال ثبتت لله تعالى وللرسول عليه الصلاة والسلام مع كراهتهم ثباتا كثبات إخراجك وضعف هذا ابن الشجري، وادعى أن الوجه هو الأولى لتباعد ما بين ذلك الفعل وهذا بعشر جمل، وأيضا جعله في حيزقل ليس بحسن في الانتظام، وقال أبو حيان: إنه ليس فيه كبر معنى ولا يظهر للتشبيه فيه وجه، وأيضا لم يعهد مثل هذا المصدر، وادعى العلامة الطيبي أن هذا الوجه أدق التأما من الأول والتشبيه فيه أكثر تفصيلا لأنه حينئذ من تتمة الجملة السابقة داخل في حيز المقول مع مراعاة الالتفات وأطال الكلام في بيان ذلك واعتذر عن الفصل بأن الفاصل جار مجرى الاعتراض ولا أراه سالما من الاعتراض، وقيل: تقديره وأصلحوا ذات بينكم كما أخرجك وقد التفت من خطاب جماعة إلى خطاب واحد، وقيل: المراد وأطيعوا الله والرسول كما أخرجك إخراجا لا مرية فيه، وقيل: التقدير يتوكلون توكلا كما أخرجك، وقيل: إنهم لكارهون كراهة ثابتة كإخراجك، وقيل: هو صفة لحقا أي أولئك هم المؤمنون حقا مثل ما أخرجك، وقيل: صفة لمصدر * (يجادلون) * أي يجادلونك جدا لا كإخراجك ونسب ذلك إلى الكسائي، وقيل: الكاف بمعنى إذا أي واذكر إذ أخرجك وهو مع بعده لم يثبت. وقيل: الكاف للقسم ولم يثبت أيضا وإن
169

نقل عن أبي عبيد وجعل * (يجادلونك) * الجواب مع خلوه عن اللام والتأكيد و * (ما) * حينئذ موصولة أي والذي أخرجك، وقيل: إنها بمعنى على وما موصولة أيضا أي امض على الذي أخرجك ربك له من بيتك فإنه حق ولا يخفى ما فيه، وقيل: هي مبتدأ خبره مقدر وهو ركيك جدا، وقيل: في محل رفع خبر مبتدأ محذوف أي وعده حق كما أخرجك، وقيل: تقديره قسمتك حق كإخراجك، وقيل: ذلك خير لكم كإخراجك، وقيل: تقديره إخراجك من مكة لحكم كإخراجك هذا، وقيل: هو متعلق باضربوا وهو كما تقول لعبدك ربيتك افعل كذا. وقال أبو حيان: خطر لي في المنام أن هنا محذوفا وهو نصرك والكاف فيها معنى التعليل أي لأجل أن خرجت لا عزاز دين الله تعالى نصرك وأمدك بالملائكة، ودل على هذا المحذوف قوله سبحانه بعد: * (إذ تستغيثون ربكم) * (الأنفال: 9) الآيات، ولو قيل: إن هذا مرتبط بقوله سبحانه: * (رزق كريم) * على معنى رزق حسن كحسن إخراجك من بيتك لم يكن بأبعد من كثير من هذه الوجوه * (وإن فريقا من المؤمنين لكارهون) * للخروج أما لعدم الاستعداد للقتال أو للميل للغنيمة أو للنفرة الطبيعية عنه، وهذا مما لا يدخل تحت القدرة والاختيار فلا يرد أنه لا يليق بمنصب الصحابة رضي الله تعالى عنهم، واللجملة في موضع الحال وهي حال مقدرة لأن الكراهة وقعت بعد الخروج كما ستراه إن شاء الله تعالى، أو يعتبر ذلك ممتدا، والقصة على ما رواه جماعة وقد تداخلت رواياتهم أن عير قريش أقبلت من الشام وفيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكبا منهم أبو سفيان. وعمرو بن العاص. ومخرمة بن نوفل فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقيها لكثرة المال وقلة الرجال فلما خرجوا بلغ الخبر أهل مكة فنادى أبو جهل فرق الكفر النجاء النجاء على كل صعب وذلول عيركم أموالكم إن أصابها محمد لم تفلحوا بعدها أبدا، وقد رأيت عاتكة بنت عبد المطلب في المنام أن راكبا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث فأرى الناس قد اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة فصرخ مثلها ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ مثلها ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوى حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار من دورها إلا ودخل فيها فلقة فحدثت بها أخاها العباس فحدث بها الوليد بن عتبة وكان صديقا له فحدث بها أباه عتبة ففشا الحديث وبلغ أبا جعل فقال للعباس: يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم فأنكر عليه الرؤية. ثم أنه خرج بجميع مكة ومضى بهم إلى بدر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي دقران فنزل عليه جبريل عليه اللاسم بالوعد بإحدى الطائفتين إما: العير وإما قريش فاستشار أصحابه فقال بعضهم: هلا ذكرت لنا القتال حتى نتأهب له إنا خرجنا للعير فقال: إن العير مضت على ساحل البحر وهذا أبوجهل قد أقبل فقالوا: يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو فغضب عليه الصلاة والسلام فقام أبو بكر. وعمر رضي الله تعالى عنهما فأحسنا الكلام في اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله تعالى فنحن معك حيث أحببت لا نقول كما بنو إسرائيل لموسى * (اذهب أنت وربك فقاتلا ههنا قاعدون) * ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا أنا معكما مقاتلون فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أشيروا على أيها الناس - وهو يريد الأنصار - لأنهم كانوا عدوهم وقد شرطوا حين بايعوه بالعقبة أنهم براء من ذمامه حتى يصل إلى ديارهم فتخوف أن لا يروا نصرته إلا على عدوهم
170

بالمدينة فقام سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنهما فقال: يا رسول الله إيانا تريد؟ قال: أجل. قال: قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا إن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ولا نكره أن تلقى بنا عدونا وإنا لنصبر عند الحرب صدق عند اللقاء، ولعل الله تعالى يريك منا ما يقر به عينيك فسر بنا على بركات الله تعالى فنشطه قوله ثم قال عليه الصلاة والسلام: سيروا على بركة الله تعالى فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم اه‍، وبهذا تبين أن بعض المؤمنين كانوا كارهين وبعضهم لم يكونوا كذلك وهم الأكثر كما تشير إليه الآية، وجاء في بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من بدر قيل له: عليك بالعير فليس دونها شيء فناداه العباس وهو في وثاقه لا يصلح فقال له: لم؟ فقال: لأن الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك.
* (يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون) *.
* (يجادلونك في الحق) * الذي هو تلقي النفير المعلي للدين لإيثارهم عليه تلقي العير، والجملة إما مستأنفة أو حال ثانية، وجوز أن تكون حالا من الضمير في * (لكارهون) *، وقوله سبحانه: * (بعد ما تبين) * متعلق بيجادلون، و * (ما) * مصدرية، وضمير تبين للحق أي يجادلون بعد تبين الحق لهم بإعلامك أنهم ينصرون ويقولون: ما كان خروجنا إلا للعير وهلا ذكرت لنا القتال حتى نستعد له ونتأهب * (كأنما يساقون إلى الموت) * أي مشبهين بالذين يساقون بالعنف والصغار إلى القتل، فالجملة في محل نصب على الحالية من ضمير لكارهون، وجوز أن تكون صفة مصدر لكارهون بتقدير مضاف أي لكارهون كراهة ككراهة من سيق للموت * (وهم ينظرون) * حال من ضمير يساقون وقد شاهدوا أسبابه وعلاماته، وفي قوله سبحانه وتعالى: * (كأنما) * الخ إيماء إلى أن مجادلتهم كان لفرط فزعهم ورعبهم لأنهم كانوا ثلثمائة وتسعة عشر رجلا في قول فيهم فارسان المقداد بن الأسود. والزبير بن العوام، وعن علي كرم الله تعالى وجهه ما كان منا فارس يوم بدر إلا المقداد وكان المشركون ألفا قد استعدوا للقتال.
* (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلم‍اته ويقطع دابر الك‍افرين) *.
* (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين) * كلام مستأنف مسوق لبيان جميل صنع الله تعالى بالمؤمنين مع ما بهم من الجزع وقلة الحزم، فإذ نصب على المفعولية بمضمر إن كانت متصرفة أو ظرف لمفعول ذلك الفعل، وهو خطاب للمؤمنين بطريق التلوين والالتفات و * (إحدى) * مفعول ثاني ليعد وهو يتعدى إلى المفعول الثاني بنفسه وبالباء، أي اذكروا وقت أو الحادث وقت وعد الله تعالى إياكم إحدى الطائفتين.
وقرىء * (يعدكم) * بسكون الدال تخفيفا، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها، وقوله سبحانه وتعالى: * (أنها لكم) * بدل اشتمال من إحدى مبين لكيفية الوعد، أي يعدكم أن إحدى الطائفتن كائنة لكم مختصة بكم تتسلطون عليها تسلط الملاك وتتصرفون فيها كيفما شئتم * (وتودون) * عطف على يعدكم داخل معه حيث دخل أي تحبون * (أن غير ذات الشوكة تكون لكم) * من الطائفتين، وذات الشوكة هي النفير ورئيسهم أبو جهل، وغيرها العير ورئيسهم أبو سفيان، والتعبير عنهم بهذا العنوان للتنبيه على سبب ودادتهم لملاقاتهم وموجب كراهتهم ونفرتهم عن موافاة النفير، والشوكة في الأصل واحدة الشوك المعروف ثم استعيرت للشدة والحدة وتطلق على السلاح أيضا؛ وفسرها بعضهم به هنا * (ويريد الله أن يحق الحق) * أي يظهر
171

كونه حقا * (بكلماته) * الموحى بها في هذه القصة أو أوامره للملائكة بالإمداد أو بما قضى من أسر الكفار وقتلهم وطرحهم في قليب بدر، وقرىء * (بكلمته) * بالإفراد لجعل المتعدد كالشيء الواحد أو على أن المراد بها كلمة كن التي هي عند الكثير عبارة عن القضاء والتكوين * (ويقطع دابر الك‍افرين) * أي آخرهم والمراد يهلكهم جملة من أصلهم لأنه لا يفني الآخر إلا بعد فناء الأول، ومنه سمي الهلاك دبارا. والمعنى أنتم تردون سفساف الأمور والله عز وجل يريد معاليها وما رجع إلى علو كلمة الحق وسمو رتبة الدن وشتان بين المرادين، وكأنه للإشارة إلى ذلك عبر أولا بالودادة وثانيا بالإرادة [بم وقوله تعالى:
* (ليحق الحق ويبطل الب‍اطل ولو كره المجرمون) *.
* (ليحق الحق ويبطل الب‍اطل) * جملة مستأنفة سيقت لبيان الحكمة الداعية اختيار ذات الشوكة ونصرهم عليها مع إرادتهم لغيرها، واللام متعلقة بفعل مقدر مؤخر عنها، أي لهذه الحكمة الباهرة فعل ما فعل لا لشيء آخر، وليس فيه مع ما تقدم تكرار إذ الأول لبيان تفاوت ما بين الإرادتين وهذا لبيان الحكمة الداعية إلى ما ذكر.
وأشار الزمخشري إلى أن هذا نظير قولك: أردت أن تفعل الباطل وأردت أن أفعل الحق ففعلت ما أردته لكذا لا لمقتضى إرادتك وليس نظير قولك: أردت أن تفعل الباطل وأردت أن أفعل الحق ففعلت ما أردته لكذا لا لمقتضى إرادتك وليس نظير قولك: أردت أن أكرم زيدا لإكرامه ليكون فيه ما يكون، ومعنى إبطال الباطل على طرز ما أشرنا إليه في إحقاق الحق * (ولو كره المجرمون) * ذلك أعني إحقاق الحق وإبطال الباطل، والمراد بهم المشركون لا من كره الذهاب إلى النفير لأنه جرم منهم كما قيل.
* (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من المل‍ائكة مردفين) *.
* (إذ تستغيثون ربكم) * بدل من * (إذ يعدكم) * وإن كان زمان الوعد غير زمان الاستغاثة لأنه بتأويل أن الوعد والاستغاثة وقعا في زمن واسع كما قال الطيب‍، قل: وهو يحتمل بدل الكل إن جعلا متسعين وبدل البعض إن جعل الأول متسعا والثاني معيارا، وجوز أن يكون متعلقا بقوله سبحانه: * (ليحق) *. واعترض بأنه مستقبل لنصبه بأن، * (وإذ) * للزمان الماضي فكيف يعمل بها. وأجيب بأن ذلك مبني على ما ذهب إليه بعض النحاة كابن مالك من أن * (إذ) * قد تكون بمعنى إذا للمستقبل كما في قوله تعالى: * (فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم) * (غافر: 70، 71).
وقد يجعل من التعبير عن المستقبل بالماضي لتحققه. وقال بعض المحققين في الجواب: إن كون الإحقاق مستقبلا إنما هو بالنسبة إلى زمان ما هو غاية له من الفعل المقدر لا بالنسبة إلى زمان الاستغاثة حتى لا يعمل فيه بل هما في وقت واحد، وإنما عبر عن زمانها بإذ نظرا إلى زمن النزول، وصيغة الاستقبال في * (تستغيثون) * لحكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها العجيبة، وقيل: هو متعلق بمضمر مستأنف أي اذكروا، وقيل: * (بتودون) * وليس بشيء، والاستغاثة كما قال غير واحد: طلب الغوث وهو التخليص من الشدة والنقمة والعون، وهو متعد بنفسه ولم يقع في القرآن الكريم إلا كذلك، وقد يتعدى بالحرف كقوله: حتى استغاث بماء لا رشاد له * من الأباطح في حافاته البرك
وكذا استعمله سيبويه وزعم أنه خطأ خطأ، والظاهر أن المستغيث هم المؤمنون، قيل: إنهم لما علموا أن لا محيص من القتال أخذوا يقولون: أي رب انصرنا على عدوك أغثنا يا غياث المستغيثين، وقال الزهري: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وظاهر بعض الأخبار يدل على أنه الرسول عليه الصلاة والسلام
. فقد أخرج أحمد. ومسلم. وأبو داود. والترمذي وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى
172

عنهما قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلثمائة وبضعة عشر رجلا ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يده وجعل يهتف بربه اللهم انجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه فأتاه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فنزلت الآية في ذلك، وعليه فالجمع للتعظيم * (فاستجاب لكم) * أي فأجاب دعاءكم عقيب استغاثتكم إياه سبحانه على أتم وجه * (أني ممدكم) * أي بأني فحذف الجار، وفي كون المنسبك بعد الحذف منصوبا أو مجرورا خلاف. وقرأ أبو عمر بالكسر على تقدير القول أو إجراء استجاب مجرى قال لأن الاستجابة من جنس القول، والتأكيد للاعتناء بشأن الخبر، وحمله على تنزيل غير المنكر بمنزلة المنكر بمنزلة المنكر عندي، والمراد بممدكم معينكم وناصركم * (بألف من الملائكة مردفين) * أي وراء كل ملك ملك كما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وردف وأردف بمعنى كتبع وأتبع في قول.
وعن الزجاج أن بينهما فرقا فردفت الرجل بمعنى ركبت خلفه وأردفته بمعنى أركبته خلفي، وقال بعضهم: ردفت وأردفت إذا فعلت ذلك فإذا فعلته بغيرك فأردفت لا غير، وجاء أردف بمعنى اتبع مشددا وهو يتعدى لواحد وبمعنى أتبع مخففا وهو يتعدى لاثنين على ما هو المشهور، وبكل فسر هنا، وقدروا المفعول والمفعولين حسبما يصح به المعنى ويقتضيه، وجعلوا الاحتمالات خمسة، احتمالان على المعنى الأول. أحدهما أن يكون الموصوف جملة الملائكة والمفعول المقدر المؤمنين، والمعنى متبعا بعضهم بعضا آخر منهم كرسلهم عليهم السلام، وثلاثة احتمالات على المعنى الثاني. الأول: أن يكون الموصوف كل الملائكة والمفعولان بعضهم بعضا على معنى أنهم جعلوا بعضهم يتبع بعضا. الثاني: كذلك إلا أن المفعول الأول بعضهم والثاني المؤمنين على معنى أنهم اتبعوا بعضهم المؤمنين فجعلوا بعضا منهم خلفهم. والثالث: كذلك أيضا إلا أن المفعولين أنفسهم والمؤمنين على معنى أنهم أتبعوا أنفسهم وجملتهم المؤمنين فجعلوا أنفسهم خلفهم.
وقرأ نافع. ويعقوب * (مردفين) * بفتح الدال، وفيه احتمالان أن يكون بمعنى متبعين بالتشديد أي اتبعهم غيرهم، وأن يكون بمعنى متبعين بالتخفيف أي جعلوا أنفسهم تابعة لغيرهم، وأريد بالغير في الاحتمالين المؤمنون، فتكون الملائكة على الأول مقدمة الجيش وعلى الثاني ساقتهم، وقد يقال: المراد بالغير آخرون من الملائكة، وفي الآثار ما يؤيده، أخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: " نزل جبريل عليه السلام في ألف من الملائكة عن ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر رضي الله تعالى عنه ونزل ميكائيل عليه السلام في ألف من الملائكة عن ميسرة النبي صلى الله عليه وسلم وأنا فيها " لكن في " الكشاف " بدل الألف في الموضعن خمسمائة، وقرىء * (مردفين) * بكسر الراء وضمها، وأصله على هذه القراءة مرتدفين بمعنى مترادفين فأبدلت التاء دالا لقرب مخرجهما وأدغمت في مثلها فالتقى الساكنان فحركت الراء بالكسر على الأصل، أو لاتباع الدال أو بالضم لاتباع الميم، وعن الزجاج أنه يجوز في الراء الفتح أيضا للتخفيف أو لنقل حركة التاء وهي
173

القراءة التي حكاها الخليل عن بعض المكيين، وذكر أبو البقاء أنه قرىء بكسر الميم والراء، ونقل عن بعضهم أن مردفا بفتح الراء وتشديد الدال من ردف بتضعيف العين أو أن التشديد بدل من الهمزة كأفرحته وفرحته.
ومن الناس من فسر الارتداف بركوب الشخص خلف الآخر وأنكره أبو عبيدة وأيده بعضهم، وعن السدي أنه قرىء * (بآلاف) * على الجمع فيوافق ما وقع في سورة أخرى * (بثلاثة آلاف) * (آل عمران: 124) و * (بخمسة آلاف) * (آل عمران: 125) قيل: ووجه التوفيق بينه وبين المشهور أن المراد بالألف الذين كانوا على المقدمة أو الساقة أو وجوههم أو من قاتل منهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي أنه قال: كان ألف مردفين وثلاثة آلف منزلين وهو جمع ليس بالجيد.
وأخرج ابن جرير. وعبد بن حميد عن قتادة أنهم أمدوا أولا بألف ثم بثلاثة آلاف ثم أكملهم الله تعالى خمسة آلاف، وأنت تعلم أن ظاهر ما روي عن الحبر يقتضي أن ما في الآية ألفان في الحقيقة، وصرح بعضهم أن ما فيها بيان إجمالي لما في تلك السورة بناء على أن معنى مردفين جاعلين غيرهم من الملائكة رديفا لأنفسهم، وهو ظاهر في أن المراد بالألف الرؤساء المستتبعون لغيرهم، والأكثرون على أن الملائكة قاتلت يوم بدر، وفي الأخبار ما يدل عليه، وذكروا أنها لم تقاتل يوم الأحزاب ويوم حنين، وتفصيل ذلك في السير، وقد تقدم بعض الكلام فيما يتعلق بهذا المقام فتذكر.
* (وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم) *.
* (وما جعله الله) * كلام مستأنف لبيان أن المؤثر الحقيقي هو الله تعالى ليثق به المؤمنون ولا يقنطوا من النصر عند فقدان أسبابه، والجعل متعد إلى واحد وهو الضمير العائد إلى المصدر المنسبك في * (أني ممدكم) * على قراءة الفتح والمصدر المفهوم من ذلك على الكسر، واعتبار القول ورجوع الضمير إليه ليس بمعتبر من القول، أي وما جعل إمدادكم بهم لشيء من الأشياء * (إلا بشرى) * أي بشارة لكم بأنكم تنصرون * (ولتطمئن به) * أي بالإمداد * (قلوبكمم) * وتسكن إليه نفوسكم وتزول عنكم الوسوسة ونصب * (بشرى) * على أنه مفعول له ولتطمئن معطوف عليه، وأظهرت اللام لفقد شرط النصب، وقيل: للإشارة إلى أصالته في العلية وأهميته في نفسه كما قيل في قوله سبحانه: * (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة) * (النحل: 8).
وقيل: إن الجعل متعد إلى اثنين ثانيهما * (بشرى) * على أنه استثناء من أعم المفاعيل، واللام متعلقة بمحذوف مؤخر أي وما جعله الله تعالى شيئا من الأشياء إلا بشارة لكم ولتطمئن به قلوبكم فعل ما فعل لا لشيء آخر والأول هو الظاهر، وفي الآية إشعار بأن الملائكة لم يباشروا قتالا وهو مذهب لبعضهم، ويشعر ظاهرها بأن
النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بذلك الإمداد وفي الإخبار ما يؤيده، بل جاء في غير ما خبر أن الصحابة بأوا الملائكة عليهم السلام.
وروي عن أبي أسيد وكان قد شهد بدرا أنه قال بعد ما ذهب بصره: لو كنت معكم اليوم ببدر ومعي بصرى لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة * (وما النصر إلا من عند الله) * أي وما النصر بالملائكة وغيرهم من الأسباب إلا كائن من عنده عز وجل، فالمنصور هو من نصره الله سبحانه والأسباب ليست بمستقلة، أو المعنى لا تحسبوا النصر من الملائكة عليهم السلام فإن الناصر هو الله تعالى لكم وللملائكة، وعليه فلا دخل للملائكة في النصر أصلا، وجعل بعضهم القصر على الأول إفرادي وعلى الثاني قلبي * (إن الله عزيز) * لا يغالب في حكمه ولا ينازع في قضيته * (حكيم) * يفعل كل ما يفعل حسبما تقتضيه الحكمة الباهرة، والجملة تعليل لما قبلها وفيها إشعار بأن النصر الواقع على الوجه المذكور من مقتضيات الحكم البالغة.
174

* (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السمآء مآء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيط‍ان وليربط على قلوبكم ويثبت به الاقدام) *.
* (إذ يغشيكم النعاس) * أي يجعله غاشيا عليكم ومحيطا بكم. والنعاس أول النوم قبل أن يثقل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن النعاس في الرأس والنوم في القلب ولعل مراده الثقل والخفة وإلا فلا معنى له، والفعل نعس كمنع والوصف ناعس ونعسان قليل. و * (إذ يغشيكم) * بدل ثان من * (إذ يعدكم) * (الأنفال: 70) على القول بجواز تعدد البدل، وفيه إظهار نعمة أخرى فإن الخوف أطار كراهم من أوكاره فلما طامن الله تعالى قلوبهم رفرف بجناحه عليها فنعسوا، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية أو هو منصوب باذكروا.
وجوز تعلقه بالنصر، وضعف بأن فيه إعمال المصدر المعرف بأل وفيه خلاف الكوفيين، والفصل بين المصدر ومعموله، وعمل ما قبل إلا فيما بعدها من غير أن يكون ذلك المعمول مستثنى أو مستثنى منه أو صفة له، والجمهور لا يجوزون ذلك خلافا للكسائي والأخفش، وتعلقه بما في عند الله من معنى الفعل وقل عليه: إذ يلزم تقييد استقرار النصر من الله تعالى بهذا الوقت ولا تقييد له به، وأجاب الحلبي بأن المراد به نصر خاص فلا محذور في تقييده وبالجعل، وفيه الفصل وعمل ما قبل إلا فيما ليس أحد الثلاثة وبما دل عليه * (عزيز حكيم) * (الأنفال: 10) وفيه لزوم التقييد ولا تقييد، وأجيب بما أجيب، والأنصاف بعد الاحتمالات الأربع. وقرأ نافع * (يغشيكم) * بالتخفيف من الإغشاء بمعنى التغشية والفاعل في القراءتين هو الله تعالى.
وقرأ ابن كثير. وأبو عمرو * (يغشاكم) * على إسناد الفعل إلى النعاس. وقوله سبحانه وتعالى: * (أمنة منه) * نصب على أنه مفعول له وهو مصدر بمعنى الأمن كالمنعة وإن كان قد يكون جمعا وصفة بمعنى آمنين كما ذكره الراغب، واستشكل بأن شرط النصب الذي هو اتحاد فاعله وفاعل الفعل العامل فيه مفقود إذ فاعله هم الصحابة الآمنون رضي الله تعالى عنهم وفاعل الآخر هو الله على القراءتين الأوليين والنعاس على الأخرى.
وأجيب بأنه مفعول له باعتبار المعنى الكنائي فإن يغشاكم النعاس يلزمه تنعسون ويغشيكم بمعناه فيتحد الفاعلان إذ فاعل كل حينئذ الصحابة، وقال بعض المدققين: إنه على القراءتين الأوليين يجوز أن يكون منصوبا على العلية لفعل مترتب على الفعل المذكور أي يغشيكم النعاس فتنعسون أمنا أو على أنه مصدر لفعل آخر كذلك أي فتأمنون أمنا، وعلى القراءة الأخيرة منصوب على العلية بيغشاكم باعتبار المعنى فإنه في حكم تنعسون أو على أنه مصدر لفعل مترتب عليه كما علمت، وما تقدم أقل انتشارا. وجوز أن يراد بالأمنة الإيمان بمعناه اللغوي وهو جعل الغير آمنا فيكون مصدر آمنه، وهو على بعده إنما يتمشى في القراءتين الأوليين لأن فاعل التغشة والأمان هو الله تعالى، وأما على القراءة الأخرى فلا ويحتاج إلى ما مر، ومن الناس من جوز فيها أن يجعل الأمن فعل النعاس على الإسناد المجازي لكونه من ملابسات أصحاب الأمن، والإسناد في ذلك مقدر وليس المراد به النسبة التي بين الفعل والمفعول له أي يغشاكم النعاس لأمنه، أو على تشبيه حاله بحال إنسان شأنه الأمن والخوف وأنه حصل له من الله تعالى الأمان من الكفار في مثل ذلك الوقت المخوف فلذلك غشاكم وأنامكم فيكون الكلام تمثيلا وتخييلا للمقصود بإبراز المعقول في صورة المحسوس. والقطب جعل في الكلام استعارة بالكناية حيث ذكر أنه شبه النعاس بشخص من شأنه أن يأتيهم لكنه لا يأتيهم في وقت الخوف وإذا من أتاهم، ثم ذكر النعاس وأراد ذلك الشخص، والقرينة ذكر الأمنة لأنها من لوازم المشبه به، وقد وصف الزمخشري النوم بنحو ذلك في قوله:
175

يهاب النوم أن يغشى عيونا * تهابك فهو نفار شرود
وما يقال: إن مثل هذا إنما يليق بالشعر لا بالقرآن الكريم فغير مسلم، وذكر ابن المنير في توجيه اتحاد الفاعل على القراءتين أن لقائل أن يقول: فاعل تغشية النعاس إياهم هو الله تعالى وهو فاعل الأمنة أيضا لأنه خالقها فحينئذ يتحد فاعل الفعل والعلة فيرتفع السؤال ويزول الإشكال على قواعد أهل السنة التي تقتض نسبة أفعال الخلق إلى الله تعالى على أنه خالقها ومبدعها وتعقبه بأن للمورد أن يقول: المعتبر الفاعل اللغوي وهو المتصف بالفعل وهو هنا ليس إلا العبد إذ لا يقال لله سبحانه وتعالى آمن وإن كان هو الخالق وحينئذ يحتاج إلى الجواب بما سلف والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لأمنة، أي أمنة كائنة منه تعالى لكم، ولعل مغايرة ما هنا لما في سورة آل عمران لاختلاف المقام فقد قالوا: إن ذلك المقام اقتضى الاهتمام بشأن الأمن ولذلك قدمه سبحانه وتعالى وبسط الكلام فيه كما لا يخفى على من تأمل في السياق والسباق بخلافه هنا لأنه في مقام تعداد النعم فلذا جىء بالقصة مختصرة للرمز وقرىء * (أمنة) * بالسكون وهو لغة فيه.
* (وينزل عليكم من السماء ماء) * عطف على * (يغشيكم) * وكان هذا قبل النعاس كما روي عن مجاهد وتقديم الجار والمجرور على المفعول به للاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر كما مر غير مرة، وتقديم عليكم لما أن بيان كون التنزيل عليهم أهم من بيان كونه من السماء: وقرأ ابن كثير. وسهل. ويعقوب. وأبو عمر * (وينزل) * بالتخفيف من الإنزال وقرأ الشعبي ما * (ليطهركم به) * أي من الحدث الأصغر والأكبر ووجهها كما قال ابن جني أن * (ما) * موصولة واللام متعلقة بمحذوف وقع صلة لها أي وينزل عليكم الذي ثبت لتطهيركم، ونظير هذه اللام اللام في قولك: أعطيت الثوب الذي لدفع البرد وهي في قراءة الجماعة نظير اللام في
قولك: زرتك لتكرمني ومرجع القراءتين واحد والمشهورة أفصح بالمراد وانظر لم لا يجوز أن تخرج هذه القراءة على ما سمع من قولهم اسقني ما بالقصر، وقد حكي ذلك في " القاموس " وأرى أن العدول عن ذلك إن جاز كالتيمم مع وجود الماء.
* (ويذهب عنكم رجز الشيطان) * أي وسوسته وتخويفه إياكم من العطش. أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ من طريق ابن جريج عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المشركين غلبوا المسلمين في أول أمرهم على الماء فظمىء المسلمون وصلوا مجنبين محدثين وكانت بينهم رمال فألقى الشيطان في قلوبهم الحزن وقال: أتزعمون أن فيكم نبيا وأنكم أولياء الله تعالى وتصلون مجنبين محدثين؟ فأنزل الله تعالى من السماء ماء فسال عليهم الوادي فشربوا وتطهروا وثبتت أقدامهم وذهبت وسوسة الشيطان، وفسر بعضهم الرجز هنا بالجنابة مع اعتبار كون التطهير منها واعترض بلزوم التكرار ودفع بأن الجملة الثانية تعليل للأولى والمعنى طهركم من الجنابة لأنها كانت من رجز الشيطان وتخييله. وقرىء * (رجس) * وهو بمعنى الرجز * (وليربط على قلوبكم) * أي يقويها بالثقة بلطف الله تعالى فيما بعد بمشاهدة طلائعه، وأصل الربط الشد ويقال لمن صبر على الشيء: ربط نفسه عليه.
قال الواحدي: ويشبه أن تكون * (على) * صلة أي وليربط قلوبكم. وقيل الأصل ذلك إلا أنه أتى بعلى قصدا للاستعلاء. وفيه إيماء إلى أن قلوبهم قد امتلأت من ذلك حتى كأنه علا عليها، وفي ذلك إن إفادة التمكن ما لا يخفى * (ويثبت به الأقدام) * ولا تسوخ في الرمل فالضمير للماء كالأول.
176

وجوز أن يكون للربط، والمراد بتثبيت الأقدام كما قال أبو عبيدة جعلهم صابرين غير فارين ولا متزلزلين.
* (إذ يوحى ربك إلى المل‍ائكة أني معكم فثبتوا الذين ءامنوا سألقى في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعن‍اق واضربوا منهم كل بنان) *.
* (إذ يوحى ربك إلى الملائكة) * متعلق بمضمر مستأنف أي اذكر خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق التجريد حسبما ينطق به الكاف، وقيل: منصوب بيثبت ويتعين حينئذ عود الضمير المجرور في به إلى الربط ليكون المعنى ونثبت الأقدام بتقوية قلوبكم وقت الإيحاء إلى الملائكة والأمر بتثبيتهم إياكم وهو وقت القتال، ولا يصح أن يعود إلى الماء لتقدم زمانه على زمان ذلك، وقال بعضهم: يجوز ذلك لأن التثبيت بالمطر باق إلى زمانه أو يعتبر الزمان متسعا قد وقع جميع المذكور فيه وفائدة التقييد التذكير بنعمة أخرى والإيماء إلى اقتران تثبيت الأقدام بتثبيت القلوب المأمور به الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، أو الرمز إلى أن التقوية وقعت على أتم وجه، وقيل: هو بدل ثالث من * (إذ يعدكم) * (الأنفال: 7) ويبعده تخصيص الخطاب بسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام. واختار بعض المحققين الأول مدعيا أن في الثاني تقييد التثبيت بوقت مبهم وليس فيه مزيد فائدة. وفي الثالث إباء التخصيص عنه مع أن المأمور به ليس من الوظائف العامة للكل كسائر أخواته ولا يستطيعه غيره عليه الصلاة والسلام لأن الوحي المذكور قبل ظهوره بالوحي المذكور، ولا يخفى على المتأمل أن ما ذكر لا يقتضي تعين الأول نعم يقتضي أولويته.
والمراد بالملائكة الملائكة الذين وقع بهم الإمداد، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة، والمعنى إذ أوحى * (أني معكم) * أي معينكم على تثبيت المؤمنين، ولا يمكن حمله على إزالة الخوف كما في قوله سبحانه وتعالى: * (لا تحزن إن الله معنا) * لأن الملائكة لا يخافون من الكفرة أصلا، وما تشعر به كلمة مع من متبوعية الملائكة لا يضر في مثل هذه المقامات، وهو نظير * (إن الله مع الصابرين) * ونحوه، والمنسبك مفعول يوحي، وقرىء إني بالكسر على تقدير القول أي قائلا إني معكم، أو إجراء الوحي مجراه لكونه متضمنا معناه، والفاء في قوله سبحانه: * (فثبتوا الذين ءامنوا) * لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والمراد بالتثبيت الحمل على الثبات في موطن الحرب والحد في مقاساة شدائد القتال قالا أو حالا، وكان ذلك هنا في قول بظهورهم لهم في صورة بشرية يعرفونها ووعدهم إياهم النصر على أعدائهم، فقد أخرج البيهقي في الدلائل أن الملك كان يأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه فيقول: أبشروا فإنهم ليسوا بشيء والله معكم كروا عليهم، وجاء في رواية كان الملك يتشبه بالرجل فيأتي ويقول: إني سمعت المشركين يقولون: والله لئن حملوا علينا لنكشفن ويمشي بين الصفين ويقول: أبشروا فإن الله تعالى ناصركم.
وقال الزجاج: كان بأشياء يلقونها في قلوبهم تصح بها عزائمهم ويتأكد جدهم، وللملك قوة إلقاء الخير في القلب ويقال له الهام كما أن للشيطان قوة إلقاء الشر ويقال له وسوسة؛ وقيل: كان ذلك بمجرد تكثير السواد.
وعن الحسن أنه كان بمحاربه أعدائهم وذهب إلى ذلك جماعة وجعلوا قوله تعالى: * (سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب) * تفسيرا لقوله تعالى: * (إني معكم) * كأنه قيل: أني معكم في إعانتهم بإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، والرعب بضم فسكون وقد يقال بضمتين وبه قرأ ابن عامر والكسائي الخوف وانزعاج النفس بتوقع المكروه، وأصله التقطيع من قولهم: رعبت السنام ترعيبا إذا قطعته مستطيلا كأن الخوف يقطع الفؤاد أو يقطع السرور بضده، وجاء
177

رعب السيل الوادي إذا ملأه كأن السيل قطع السلوك فيه أو لأنه انقطع إليه من كل الجهات، وجعلوا قوله سبحانه وتعالى: * (فاضربوا) * الخ تفسيرا لقوله تبارك وتعالى: * (فثبتوا) * مبين لكيفية التثبيت. وقد أخرج عبد بن حميد. وابن مردويه عن أبي داود المازني قال: بينا أنا أتبع رجلا من المشركين يوم بدر فأهويت بسيفي إليه فوقع رأسه قبل أن يصل سيفي إليه فعرفت أنه قد قتله غيري. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بينما رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وقائلا يقول: أقدم حيزوم فخر المشرك مستلقيا فنظر إليه فإذا هو قد حطم وشق وجهه فجاء فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة.
وجوز بعضهم أن يكون التثبيت بما يلقون إليهم من وعد النصر وما يتقوى به قلوبهم في الجملة، وقوله سبحانه وتعالى: * (سألقي) * (الأنفال: 12) الخ جملة استئنافية جارية مجرى التعليل لإفادة التثبيت لأنه مصدقه ومبينه لإعانته إياهم على التثبيت، وقوله سبحانه وتعالى: * (فاضربوا) * الخ جملة مستعقبة للتثبيت بمعنى لا
تقتصروا على تثبيتهم وأمدوهم بالقتال عقيبه من غير تراخ، وكأن المعنى أني معكم فيما آمركم به فثبتوا واضربوا. وجىء بالفاء للنكتة المذكورة، ووسط * (سألقء) * تصديقا للتثبيت وتمهيدا للأمر بعده، وعلى الاحتمالين تكون الآية دليلا لمن قال: إن الملائكة قاتلت يوم بدر، وقال آخرون: التثبت بغير المقاتلة، وقوله عز وجل: * (سألقي) * تلقين منه تعالى للملائكة على إضمار القول على أنه تفسير للتثبيت أو استئناف بياني، والخطاب في * (فاضربوا) * للمؤمنين صادرا من الملائكة حكاه الله تعالى لنا، وجوز أن يكون ذلك الكلام من جملة الملقن داخلا تحت القول، كأنه قيل: قولوا لهم قولي * (سألقي) * الخ، أو كأنه قيل: كيف نثبتهم؟ فقيل: قولوا لهم قولي * (سألقي) * الخ، ولا يخفى أن هذا القول أضعف الأقوال معنى ولفظا. وأما القول بأن * (فاضربوا) * الخ خطاب منه تعالى للمؤمنين بالذات على طريق التلوين فمبناه توهم وروده قبل القتال، وأنى ذلك؟ والسورة الكريمة إنما نزلت بعد تمام الواقعة، وبالجملة الآية ظاهرة فيما يدعيه الجماعة من وقوع القتال من الملائكة * (فوق الأعناق) * أي الرؤوس كما روي عن عطاء. وعكرمة، وكونها فوق الأعناق ظاهر. وأما المذابح كما قال البعض فإنها في أعالي الأعناق و * (فوق) * باقية على ظرفيتها لأنها لا تتصرف؛ وقيل: إنها مفعول به وهي بمعنى الأعلى إذا كانت بمعنى الرأس، وقيل: هي هنا بمعنى على والمفعول محذوف أي فاضربوهم على الأعناق، وقيل: زائدة أي فاضربوا الأعناق * (واضربوا منهم كل بنان) *.
قال ابن الأنباري: البنان أطراف الأصابع من اليدين والرجلين والواحدة بنانة وخصها بعضهم باليد.
وقال الراغب: هي الأصابع وسميت بذلك لأن بها إصلاح الأحوال التي بها يمكن للإنسان أن يبن أي يقيم من أبن بالمكان وبن إذا أقام، ولذلك خص في قوله سبحانه وتعالى: * (بلى قادرين على أن نسوي بنانه) *
وما نحن فيه لأجل أنهم بها يقاتلون ويدافعون، والظاهر أنها حقيقة في ذلك، وبعضهم يقول: إنها مجاز فيه من تسمية الكل باسم الجزء.
وقيل: المراد بها هنا مطلق الأطراف لوقوعها في مقابلة الأعناق والمقاتل. والمراد اضربوهم كيفما اتفق من المقاتل وغيرها وآثره في " الكشاف ". وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها لجسد كله في لغة هذيل، ويقال فيها بنام بالميم وتكرير الأمر بالضرب لمزيد التشديد والاعتناء بأمره و * (منهم) * متعلق به أو بمحذوف
178

وقع حالا من * (كل بنان) * وضعف كونه حالا من بنان بأن فيه تقديم حال المضاف إليه على المضاف.
* (ذلك بأنهم شآقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب) *.
* (ذالك) * إشارة إلى الضرب والأمر به أو إلى جميع ما مر، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من ذكر قبل من الملائكة والمؤمنين على البدل أو لكل أحد ممن يليق بالخطاب. وجوز أن يكون خطابا للجمع، والكاف تفرد مع تعدد من خوطب بها، وليست كالضمير على ما صرحوا به، ومحل الاسم الرفع على الابتداء وخبره قوله سبحانه وتعالى: * (بأنهم شاقوا الله ورسوله) * وقال أبو البقاء: إن ذلك خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك وليس الأمر ذلك، والباء للسببية والمشاقة العداوة سميت بذلك أخذا من شق العصا وهي المخالفة أو لأن كلا من المتعاديين يكون في شق غير شق الآخر كما أن العداوة سميت عداوة لأن كلا منهما في عدوة أي جانب وكما أن المخاصمة من الخصم بمعنى الجانب أيضا، والمراد بها هنا المخالفة أي ذلك ثابت لهم أو واقع عليهم بسبب مخالفتهم لمن لا ينبغي لهم مخالفته بوجه من الوجوه * (ومن يشاقق الله ورسوله) * أي يخالف أمر الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام؛ والإظهار في مقام الإضمار لتربية المهابة وإظهار كمال شناعة ما اجترأوا عليه والإشعار بعلية الحكم، وبئس خطيب القوم أنت اقتضاه الجمع على وجه لا يبين منه الفرق ممن هو في ربقة التكليف؛ وأين هذا من ذاك لو وقع ممن لا حجر عليه وإنما لم يدغم المثلان لأن الثاني ساكن في الأصل والحركة لالتقاء الساكنين فلا يعتد بها، وقوله تعالى: * (فإن الله شديد العقاب) * إما نفس الجزاء قد حذف منه العائد عند من يلتزمه ولا يكتفي بالفاء في الربط أي شديد العقاب له، أو تعليل للجزاء المحذوف أي عاقبه الله تعالى فإن الله شديد العقاب، وأيا ما كان فالشرطية بيان للسببية السابقة بطريقة برهاني، كأنه قيل: ذلك العقاب الشديد بسبب المشاقة لله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام وكل من يشاقق الله ورسوله كائنا من كان فله بسبب ذلك عقاب شديد فأذن لهم بسبب مشاقة الله ورسوله عقاب شديد، وقيل: هو ويد بما أعد لهم في الآخرة بعد ما حاق بهم في الدنيا، قال بعض المحققين: ويرده قوله سبحانه وتعالى:
* (ذالكم فذوقوه وأن للك‍افرين عذاب النار) *.
* (ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار) * فإنه مع كونه هو المسوق للوعيد بما ذكر ناطق بكون المراد بالعقاب المذكور ما أصابهم عاجلا سواء جعل * (ذلكم) * إشارة إلى نفس العقاب أو إلى ما تفيده الشرطية من ثبوته لهم، أما على الأول: فلأن الأظهر أن محلة النصب بمضمر يستدعيه * (فذوقوه) * والواو في * (وأن للكافرين) * الخ بمعنى مع، فالمعنى باشروا ذلكم العقاب الذي أصابكم فذوقوه عاجلا مع أن لكم عذاب النار آجلا، فوقع الظاهر موضع الضمير لتوبيخهم بالكفر وتعليل الحكم به، وأما على الثاني: فلأن الأقرب أن محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وقوله سبحانه وتعالى: و * (أن) * الخ معطوف عليه، والمعنى حكم الله تعالى ذلكم أي ثبوت هذا العقاب لكم عاجلا وثبوت عذاب النار آجلا، وقوله تعالى: * (فذوقوه) * اعتراض وسط بين المعطوفين للتهديد، والضمير على الأول لنفس المشار إليه وعلى الثاني لما في ضمنه اه‍.
واعترض على الاحتمال الأول بأن الكلام عليه من باب الاشتغال وهو إنما يصح لو جوز ناصحة الابتداء في * (ذلكم) * وظاهر أنه لا يجوز لأن مابعد الفاء لا يكون خبرا إلا إذا كان المبتدأ موصولا أو نكرة موصوفة. ورد بأنه ليس متفقا عليه فإن الأخفش جوزه مطلقا، وتقديره باشروا مما استحسنه أبو البقاء وغيره قالوا: لتكون
الفاء عاطفة لا زائدة أو جزائية كما في نحو زيدا فاضربه على كلام فيه، وبعضهم يقدر
179

عليكم اسم فعل. واعترضه أبو حيان بأن أسماء الأفعال لا تضمر. واعتذر عن ذلك الحلبي بأن من قدر لعله نحا نحو الكوفيين فإنهم يجرون اسم الفعل مجرى الفعل مطلقا ولذلك يعملونه متأخرا نحو * (كتاب الله عليكم) *، وما أشار إليه كلامه من أن قوله سبحانه وتعالى: * (وأن للكافرين) * الخ منصوب على أنه مفعول معه على التقدير الأول لا يخلو عن شيء، فإن في نصب المصدر المؤول على أنه مفعول معه نظرا. ومن هنا اختار بضعهم العطف على ذلكم كما في التقدير الثاني، وآخرون اختاروا عطفه على قوله تعالى: * (أني معكم) * داخل معه تحت الإيحاء أو على المصدر في قوله سبحانه وتعالى: * (بأنهم شاقوا الله ورسوله) * (الأنفال: 13) ولايخفى أن العطف على * (ذلكم) * يستدعي أن يكون المعنى باشروا أو عليكم أو ذوقوا أن للكافرين عذاب النار وهو ما يأباه الذوق، ولذا قال العلامة الثاني: إنه لا معنى له، والعطفان الآخران لا أدري أبهما أمر من الآخر، ولذلك ذهب بعض المحققين إلى اختيار كون المصدر خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف، وقيل: هو منصوب باعلموا ولعل أهون الوجوه في الآية الوجه الأخير.
والانصاف أنها ظاهرة في كون المراد بالعقاب ما أصابهم عاجلا، والخطاب فيها مع الكفرة على طريق الالتفات من الغيبة في * (شاقوا) * إليه، ولا يشترط في الخطاب المعتبر في الالتفات أن يكون بالاسم كما هو المشهور بل يكون بنحو ذلك أيضا بشرط أن يكون خطابا لمن وقع الغائب عبارة عنه كذا قيل وفيه كلام، وقرأ الحسن * (وإن للكافرين) * بالكسر، وعليه فالجملة تذييلية واللام للجنس والواو للاستئناف.
* (ي‍اأيها الذين ءامنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار) *.
* (يا أيها الذين ءامنوا) * خطاب للمؤمنين بحكم كلي جار فيما سيقع من الوقائع والحروب جيء به في تضاعيف القصة إظهارا للاعتناء به وحثا على المحافظة عليه * (إذا لقيتم الذين كفروا زحفا) * الزحف كما قال الراغب انبعاث مع جر الرجل كانبعاث الصبي قبل أن يمشي والبعير المعيي والعسكر إذا كثر فتعثر انبعاثه، وقال غير واحد: هو الدبيب يقال: زحف الصبي إذا دب على استه قليلا قليلا ثم سمي به الجيش الدهم المتوجه إلى العدو لأنه لكثرته وتكاثفه يرى كأنه يزحف لأن الكل يرى كجسم واحد متصل فتحس حركته بالقياس في غاية البطء وإن كانت في نفس الأمر في غاية السرعة كما قال سبحانه وتعالى: * (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرمر السحاب) * (النمل: 88) وقال قائلهم: وأر عن مثل الطود تحسب أنه * وقوف لجاج والركاب تهملج
ويجمع على زحوف لأنه خرج عن المصدرية، ونصبه إما على أنه حال من مفعول (لقيتم) أي زاحفين نحوكم أو على أنه مصدر مؤكد لفعل مضمر هو الحال منه أي يزحفون زحفا وجوز كونه حالا من فاعله أو منه ومن مفعوله معا، واعترض بأنه يأباه قوله تعالى: * (فلا تولهم الأدبار) * إذ لا معنى لتقييد النهي عن الإدبار بتوجههم السابق إلى العدو وبكثرتهم بل توجه العدو إليهم وكثرتهم هو الداعي إلى الإدبار عادة والمحوج إلى النهي، وحمله على الإشعار بما سيكون منهم يوم حنين حين تولوا وهم اثنا عشر ألفا بعيد انتهى.
وأجيب بأن المراد بالزحف ليس إلا المشي للقتال من دون اعتبار كثرة أو قلة وسمي المشي لذلك به لأن الغالب عند ملاقاة الطائفتين مشي إحداهما نحو الأخرى مشيا رويدا والمعنى إذا لقيتم الكفار ماشين لقتالهم متوجهين لمحاربتهم أو ماشيا كل واحد منكم إلى صاحبه فلا تدبروا، وتقييد النهي بذلك لإيضاح المراد بالملاقاة ولتفظيع أمر الادبار لما أنه مناف لتلك الحال، كأنه قيل حيث أقبلتم فلا تدبروا وفيه تأمل؛ والمراد من تولية
180

الادبار الانهزام فإن المنهزم يولى ظهره من انهزم منه، وعدل عن لفظ الظهور إلى الادبار تقبيحا للانهزام وتنفيرا عنه. وقد يقال: الآية على حد * (ولا تقربوا الزنى) * (الإسراء: 32) والمعنى على تقدير الحالية من المفعول كما هو الظاهر واعتبار الكثرة في الزحف وكونها بالنسبة إليهم يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم أعداءكم الكفرة للقتال وهم جمع جم وأنتم عدد نزر فلا تولوهم أدباركم فضلا عن الفرار بل قابلوهم وقاتلوهم مع قلتكم فضلا عن أن تدانوهم في العدد أو تساووهم.
* (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد بآء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) *.
* (ومن يولهم يومئذ) * أي يوم اللقاء ووقته * (دبره) * فضلا عن الفرار.
وقرأ الحسن بسكون الباء * (إلاص متحرفا لقتال) * أي تاركا موقفه إلى موقف أصلح للقتال منه، أو متوجها إلى قتال طائفة أخرى أهم من هؤلاء، أو مستطردا يريد الكر كما روى عن ابن جبير رضي الله تعالى عنه. ومن كلامهم. نفر ثم نكر * والحرب كر وفر
وقد يصير ذلك من خدع الحرب ومكايدها، وجاء " الحرب خدعة " وأصل التحرف على ما في مجمع البيان الزوال عن جهة الاستواء إلى جهة الحرف، ومنه الاحتراف وهو أن يقصد جهة من الأسباب طالبا فيها رزقه * (أو متحيزا إلى فئة) * أي منحازا إلى جماعة أخرى من المؤمنين ومنضما إليهم وملحقا بهم ليقاتل معهم العدو، والفئة القطعة من الناس، ويقال: فأوت رأسه بالسيف إذا قطعته وما ألطف التعبير بالفئة هنا، واعتبر بعضهم كون الفئة قريبة للمتحيز ليستعين بهم، وكأنه مبني على المتعارف وكم يعتبر ذلك آخرون اعتبار للمفهوم اللغوي. ويؤيده ما أخرجه أحمد. وابن ماجه. وأبو داود. والترمذي وحسنه. والبخاري في الأدب المفرد واللفظ له عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كنا في غزاة فحاص الناس حيصة قلنا: كيف نلقى النبي صلى الله عليه وسلم وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر فخرج فقال: من القوم؟ فقلنا: نحن الفارون فقال: لا بل أنتم العكارون فقبلنا يده فقال عليه الصلاة والسلام: أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين ثم قرأ * (إلا متحرفا لقتال أو متحيز إلى فئة) * والعكارون الكرارون إلى الحرب والعطافون نحوها.
وبما روى أنه انهزم رجل من القادسية فأتى المدينة إلى عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا أمير المؤمنين هلكت فررت من الزحف فقال عمر رضي الله تعالى عنه: أنا
فئتك، وبعضهم يحمل قوله عليه الصلاة والسلام: " أنتم العكارون " على تسليتهم وتطييب قلوبهم، وحمل الكلام كله في الخبرين على ذلك بعيد. نعم إن ظاهرهما يستدعي أن لا يكاد يوجد فار من الزحف، ووزن - متحيز - متفيعل لا متفعل وإلا لكان متحوز لأنه من حاز يحوز وإلى هذا ذهب الزمخشري ومن تبعه، وتعقب بأن الإمام المرزوقي ذكر أن تدير تفعل مع أنه واوي نظر إلى شيوع ديار، وعليه فيجوز أن يكون تحيز تفعل نظرا إلى شيوخ الحيز بالياء، فلهذا لم يجيء تدور وتحوز، وذكر ابن جني أن ما قاله هذا الإمام هو الحق وأنهم قد يعدون المنقلبون كالأصلي ويجرون عليه أحكامه كثيرا، لكن في دعواه نفي تحوز نظر، فإن أهل اللغة قالوا: تحوز وتحيز كما يدل عليه ما في القاموس، وقال ابن قتيبة: تحوز تفعل وتحيز تفيعل، وهذه المادة في كلامهم تتضمن العدول من جهة إلى أخرى من الحيز بفتح الحاء وتشديد الياء، وقد وهم فيه من وهم، وهو فناء الدار ومرافقها، ثم قيل لكل ناحية فالمستقر في موضعه كالجبل لا يقال له متحيز وقد يطلق عندهم على ما يحيط به حيز موجود، والمتكلمون يريدون به الأعم وهو كل ما أشير إليه فالعالم كله متحيز
181

ونصب الوصفين على الحالية وإلا ليست عاملة ولا واسطة في العمل وهو معنى قولهم: لغو وكانت كذلك لأنه استثناء مفرغ من أعم الأحوال ولولا التفريغ لكانت عاملة أو واسطة في العمل على الخلاف المشهور وشرط الاستثناء المفرغ أن يكون في النفي أو صحة عموم المستثنى منه نحو قرأت إلا يوم كذا ومنه ما نحن فيه ويصح أن يكون من الأول باعتبار أن يولي بمعنى لا يقبل على القتال، ونظير ذلك ما قالوا في قوله عليه الصلاة والسلام " العالم هلكى إلا العالمون " الحديث.
وجوز أن يكون على الاستثناء من المولين، أي من يولهم دبره إلا رجلا منهم متحرفا فالقتال أو متحيزا * (فقد باء) * أي رجع * (بغضب) * عظيم لا يقادر قدره، وحاصله المولون إلا المتحرفين والمتحيزين لهم ما ذكر * (من الله) * صفة غضب مؤكدة لفخامته أي بغضب كائن منه تعالى شأنه * (ومأواه جهنم) * أي بدل ما أراد بفراره أن يأوي إليه من مأوى ينجيه من القتل * (وبئس المصير) * جهنم ولا يخفى ما في إيقاع البوء في موقع جواب الشرط الذي هو التولية مقرونا بذكر المأوى والمصير من الجزالة التي لا مزيد عليها، وفي الآية دلالة على تحريم الفرار من الزحف على غير المتحرف أو المتحيز، وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله تعالى والسحر وقتل النفس الت يحرم الله تعالى إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف " وجاء عده في الكبائر في غير ما حديث قالوا: وهذا إذا لم يكن العدو أكثر من الضعف لقوله تعالى: * (الآن خف الله عنكم) * الآية أما إذا كان أكثر فيجوز الفرار فالآية ليست باقية على عمومها وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم.
وأخرج الشافعي. وابن أبي شيبة: عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال من فر من ثلاثة فلم يفرو من فر من اثنين فقد فر، وسمي هذا التخصيص نسخا وهو المروي عن أبي رباح. وعن محمد بن الحسن أن المسلمين إذا كانوا اثني عشر ألفاف لم يجز الفرار، والظاهر أنه لا يجوز أصلا لأنهم لا يغلبون عن قلة كما في الحديث، وروى عن عمر. وأبي سعيد الخدري. وأبي نضرة. والحسن رضي الله تعالى عنهما وهي رواية عن الحبر أيضا أن الحكم مخصوص بأهل بدر، وقال آخرون: إن ذلك مخصوص بما ذكر وبجيش فيه النبي صلى الله عليه وسلم وعللوا ذلك بأن وقعة بدر أول جهاد وقع في الإسلام ولذا تهيبوه ولو لم يثبتوا فيه لزم مفاسد عظيمة ولا ينافيه أنه لم يكن لهم فئة ينحازون إليها لأن النظم لا يوجب وجودها وأما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم معهم فلأن الله تعالى ناصهر، وأنت تعلم أنه كان في المدينة خلق كثير من الأنصار لم يخرجوا لأنهم لم يعلموا بالنفير وظنوها العير فقط وأن النبي صلى الله عليه وسلم حيث أن لله تعالى ناصره كان فئة لهم، وقال: بعضهم إن الإشارة بيومئذ إلى يوم بدر لا تكاد تصح لأنه في سياق الشرط وهو مستقبل فالآية وإن كانت نزلت يوم بدر قبل انقضاء القتال فذلك اليوم فرد من أفراد يوم اللقاء فيكون عاما فيه لا خاصا به وإن نزلت بعده فلا يدخل يوم بدر فيه بل يكون ذلك استئناف حكم بده * (ويومئذ) * إشارة إلى يوم اللقاء ودفع بأن مراد أولئك القائلين إنها نزلت يوم بدر وقد قامت قرينة على تخصيصها ولا بعد فيه اه‍، وعندي أن السورة إنما نزلت بعد تمام القتال ولا دليل على نزول هذه الآية قبله والتخصيص المذكور مما لا يقوم دليل على سياق ويد الله مع الجماعة والله تعالى أعلم.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: * (يسألونك عن الأنفال) * إذ لم يرتفع عنهم إذ ذاك حجاب الأفعال
182

* (قل الأنفال لله والرسول) * أي حكمها مختص بالله تعالى حقيقة وبالرسول مظهرية * (فاتقوا الله) * بالاجتناب عن رؤية الأفعال برؤية فعل الله تعالى * (وأصلحوا ذات بينكم) * بمحو صفات نفوسكم التي هي منشأ صدوركم ما يوجب التنازع والتخالف * (وأطيعوا الله ورسوله) * بفنائها ليتيسر لكم قبول الأمر بالإرادة القلبية الصادقة * (إن كنتم مؤمنين) * (الأنفال: 1) الايمان الحقيقي * (إنما المؤمنون) * كذلك * (الذين إذا ذكر الله) * بملاحظة عظمته تعالى وكبريائه وسائر صفاته وهو ذكر القلب وذكره سبحانه وتعالى بالأفعال ذكر النفس * (وجلت قلوبهم) * أي خافت لإشراق أنوار تجليات تلك الصفات عليها * (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا) * بالترقي من مقام العلم إلى العين.
وقد جاء أن الله تعالى تجلى لعباده في كلامه لو يعلمون * (وعلى ربهم يتوكلون) * (الأنفال: 2) إذ لا يرون فعلا لغيره تعالى، وذكر بعض أهل العلم أنه سبحانه وتعالى نبه أولا: بقوله عز قائلا: * (وجلت قلوبهم) * على بدء حال المريد لأن قلبه لم يقو على تحمل التجليات في المبدأ فيحصل له الوجه كضرمة السعفة ويقشعر لذلك جلده وترتعد فرائصه، وأما المنتهى فقلما يعرض له ذلك لما أنه قد قوى قلبه على تحمل التجليات وألفها فلا يتزلزل لها ولا يتغير، وعلى هذا حمل السهر وردى قدس سره ما روى عن الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه أنه رأى رجلا يبكي عند قراءة القرآن فقال: هكذا كنا حتى قست القلوب حيث أراد حتى قويت القلوب إذ أدمنت سماع القرآن وألفت أنواره فما تستغربه حتى تتغير، ونبه ثانيا: سبحانه وتعالى بقوله جل وعلا: * (زادتهم إيمانا) * على أخذ المريد في السلوك والتجلي وعروجه في الأحوال، وثالثا: بقوله عز شأنه * (وعلى ربهم يتوكلون) * على صعوده في الدرجات والمقامات، وفي تقديم المعمول إيذان بالتبري عن الحول والقوة
والتفويض الكامل وقطع النظر عما سواه تعالى، وفي صيغة المضارع تلويح إلى استيعاب مراتب التوكل كلها، وهو كما قال العارف أبو إسماعيل الأنصاري أن يفوق الأمر كله إلى مالكه ويعول على وكالته، وهو من أصعب المنازل، وهو دليل العبودية التي هي تاج الفخر عند الأحرار، والظاهر أن الخوف الذي هو خوف الجلال والعظمة يتصف به الكاملون أيضاف ولا يزول عنهم أصلا وهذا بخلاف خوف العقاب فإنه يزول، وإلى ذلك الإشارة بما شاع في الأثر " نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه " * (الذين يقيمون الصلاة) * أي صلاة الحضور القلبي وهي المعراج المعنوي إلى مقام القرب * (ومما رزقناهم) * من العلوم التي حصلت لهم بالسير * (ينفقون) * (الأنفال: 3) * (أولئك هم المؤمنون حقا) * لأنهم الذي ظهرت فيهم الصفات الحقة وغدوا مرايا لها ومن هنا قيل: المؤمن مرآة المؤمن * (لهم درجات عند ربهم) * من مراتب الصفات وروضات جنات القلب * (ومغفرة) * لذنوب الأفعال * (ورزق كريم) * (الأنفال: 4) من ثمرات أشعار التجليات الصفاتية، وقا لبعض العارفين: المغفرة إزالة الظلمات الحاصلة من الاشتغال بغير الله تعالى والرزق الكريم الأنوار الحاصلة بسبب الاستغراق في معرفته ومحبته وهو قريب مما ذكرنا * (كما أخرجوك ربك من بيتك) * متلبسا * (بالحق وإن فريقا من المؤمنين) * وهم المحتجبون برؤية الأفعال * (لكارهون) * (الأنفال: 5) أي حالهم في تلك الحال كحالهم في هذه الحال * (يجادلونك في الحق بعد ما تبين) * لك أولهم بالمعجزات * (إذ تستغيثون ربكم) * بالبراءة عن الحول والقوة والانسلاخ عن ملابس الأفعال والصفات النفسية * (فاستجاب لكم) * عند ذلك * (أني ممدكم) * من عالم الملكوت لمشابهة قلوبكم إياه حينئذ * (بألف من الملائكة) * أي القوى السماوية وروحانياتها * (مردفين) * (الأنفال: 9) لملائكة أخرى وهو إجمال ما في آل عمران * (وما جعله الله) * أي ما جعل الله تعالى الإمداد
183

* (إلا بشرى) * أي بشارة لكم بالنصر * (ولتطمئن به قلوبكم) * لما فيها من اتصالها بما يناسبها * (وما النصر إلا من عند الله) * والأسباب في الحقيقة ملغاة * (إن الله عزيز) * قوي على النصر من غير سبب * (حكيم) * (الأنفال: 10) يفعله على مقتضى الحكمة وقد اقتضت فعله على الوجه المذكور * (إذ يغشيكم النعاس) * وهو هدو القوى البدنية والصفات النفسانية بنزول السكينة * (أمنة منه) * أي أمنا من عنده سبحانه وتعالى * (وينزل عليكم من السماء) * أي سماء الروح * (ماء) * وهو ماء علم اليقين * (ليطهركم به) * عن حدث هواجش الوهم وجنابة حديث النفس * (ويذهب عنكم رجز الشيطان) * وسوسته وتخويفه * (وليربط على قلوبكم) * أي يقويها بقوة اليقين ويسكن جأشكم * (ويثبت به الأقدام) * (الأنفال: 11) إذ الشجاعة وثبات الأقدام في المخاوف من ثمرات قوة اليقين * (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم) * أي يمد الملكوت بالجبروت * (فثبتوا الذين آمنوا سألقى في قلوب الذين كفروا الرعب) * لانقطاع المدد عنهم واستيلاء قتام الوهم عليهم * (فاضربوا فوق) * لئلا يرفعوا رأسا * (واضربوا منهم كل بنان) * (الأنفال: 12) لئلا يقدروا على المدافعة، وبعضهم جعل الإشارة في الآيات نفسية والخطاب فيها حسبما يليق له الخطاب من المرشد والسالك مثلا، ولكل مقام مقال، وفي تأويل النيسابوري نبذة من ذلك فارجع إليه إن أردته وما ذكرناه يكفي لغرضنا وهو عدم إخلاء كتابنا من كلمات القوم ولا نتقيد بآفاقية أو أنفسية والله تعالى الموفق للرشاد، ثم إنه تعالى عاد كلامه إلى بيان بقية أحكام الواقعة وأوالها وتقرير ما سبق [بم حيث قال سبحانه:
* (فلم تقتلوهم ول‍اكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ول‍اكن الله رمى وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم) *.
* (فلم تقتلوهم) * الخطاب للمؤمنين، والفاء قيل واقعة في جواب شرط مقدر يستدعيه ما مر من ذكر إمداده تعالى وأمر بالتثبيت وغير ذلك، كأنه قيل: إذا كان الأمر كذلك فلم تقتلوهم أنتم بقوتكم وقدرتكم * (ولكن الله قتلهم) * بنصركم وتسليطكم عليهم وإلقاء الرعب في قلوبهم. وجوز أن يكون التقدير إذا علمتم ذلك فلم تقتلوهم على معنى فاعلموا أو فاخبركم أنكم لم تقتلوهم، وقيل: التقدير إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم لما روى أنهم لما انصرفوا من المعركة غالبين غانمين أقبلوا يتفاخرون يقولون: قتلت وأسرت وفعلت وتركت فنزلت. وقال أبو حيان: ليست هذه الفاء جواب شرط محذوف كما زعموا وإنما هي للربط بين الجمل لأنه قال سبحانه: * (فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان) * وكان امتثال ما أمر به سببا للقتل فقيل فلم تقتلوهم أي لستم مستبدين بالقتل لأن الأقدار عليه والخلق له إنما هو لله تعالى، قال السفاقسي: وهذا أولى من دعوى الحذف. وقال ابن هشام: إن الجواب المنفي لا تدخل عليه الفاء.
ومن هنا مع كون الكلام على نفي الفاعل دون الفعل كما قيل ذهب الزمخشري إلى اسمية الجملة حيث قدر المبتدأ أي فأنتم لم تقتلوهم، وجعل بعضهم المذكور علة الجزاء أقيمت مقامه وقال: إن الأصل إن افتخرتم بقتلهم فلا تفتخروا به لأنكم لم تقتلوهم ونظائره كثيرة، ولعل كلام أبي حيان كما قال السفاقسي أولى، والخطاب في قوله سبحانه: * (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) * خطاب لنبيه عليه الصلاة والسلام بطريق التلوين وهو إشارة إلى رميه صلى الله عليه وسلم بالحصى. يوم بدر وما كان منه. فقد روى أنه عليه الصلاة والسلام قال: لما طلعت قريش من العقنقل: هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها اللهم إني أسألك ما وعدتني فأتاه جبريل عليه السلام فقال له: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فلما التقى الجمعان قال لعلي كرم الله تعالى وجهه: أعطني قبضة من حصباء الوادي فرمى بها وجوههم فقال: شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه
184

فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم وجاء من عدة طرق ذكرها الحافظ ابن حجر أن هذا الرمي كان يوم بدر، وزعم الطيبي أنه لم يكن إلا يوم حنين وأن أئمة الحديث لم يذكر أحد منهم أنه كان يوم بدر وهو كما قال الحافظ السيوطي ناشيء من قلة الاطلاع فإنه عليه الرحمة لم يبلغ درجة الحفاظ ومنتهى نظره الكتب الست ومسند أحمد ومسند الدارمي وإلا فقد ذكر المحدثون أن الرمي قد وقع في اليومين فنفى وقوعه في يوم بدر مما لا ينبغي، وذكر ما في حنين في هذه القصة من غير قرينة بعيد جدا، وما ذكره في تقريب ذلك ليس بشيء كما لا يخفى على من راجعه وأنصف. ويرد نحو هذا على ما روى عن الزهري. وسعيد بن المسيب من أن الآية إشارة إلى رميه عليه الصلاة والسلام يوم أحد فإن اللعين أبي بن خلف قصده عليه الصلاة والسلام فاعترض رجال من المسلمين له ليقتلوه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" استأخروا فاستأخروا فأخذ عليه الصلاة والسلام حربته بيده فرماه بها فكسر ضلعا من أضلاعه، وفي رواية خدش ترقوته فرجع إلى أصحابه ثقيلا وهو يقول: قتلني محمد فطفقوا يقولون: لا بأس عليك فقال: والله لو كانت بالناس لقتلتهم فجعل يخور حتى مات ببعض الطريق.
وما أخرج ابن جرير عن عبد الرحمن بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ابن أبي الحقيق وذلك في خيبر دعا بقوس فأتى بقوس طويلة فقال عليه الصلاة والسلام: جيئوني بقوس غيرها فجاءوه بقوس كبداء فرمي صلى الله عليه وسلم الحصن فأقبل السهم يهوي حتى قتل ابن أبي الحقيق في فراشه فأنزل الله تعالى الآية، والحق المعول عليه هو الأول، وتجريد الفعل عن المفعول به لما أن المقصود بيان حال الرمي نفيا وإثباتا إذ هو الذي ظهر منه ما ظهر وهو المنشأ لتغير المرمي به في نفسه وتكثره إلى حيث أصاب عيني كل واحد من أولئك الجم الغفير شيء من ذلك، والمنعنى على ما قيل: وما فعلت أنت يا محمد تلك الرمية المستتبعة لتلك الآثار العظيمة حقيقة حين فعلتها صورة ولكن الله تعالى فعلها أي خلقها حين باشرتها على أكمل وجه حيث أوصل بها الحصباء إلى أعينهم جميعا، واستدل بالآية على أن أفعال العباد بخلقه تعالى وإنما لهم كسبها ومباشرتها قال الإمام: أثبت سبحانه كونه صلى الله عليه وسلم راميا ونفي كونه راميا فوجب حمله على أنه عليه الصلاة والسلام رمى كسبا والله تعالى رمى خلقا، وقال ابن المنير: إن علامة المجاز أن يصدق نفيه حيث يصدق ثبوته ألاتراك تقول للبليد حمار ثم تقول ليس بحمار فلما أثبت سبحانه الفعل للخلق ونفاه عنهم دل على أن نفيه على الحقيقة وثبوته على المجاز بلا شبهة، فالآية تكفح بل تلفح وجوه القدرية بالرد، فإن قلت: إن أهل المعاني جعلوا ذلك من تنزيل الشيء منزلة عدمه وفسروه بما رميت حقيقة إذ رميت صورة والرومي الصوري موجود والحقيقي لم يوجد فلا تنزيل * (أجيب) * (البقرة: 186) بأن الثوري مع وجود الحقيقي كالعدم وما هو إلا كنور الشمع مع شعشعة الشمس ولذا أتى بنفيه مطلقا كإبثاته، وما ذكروه بيان لتصحيح المعنى في نفس الأمر وهو لا ينافي النكتة المبنية على الظاهر، ولذا قال في " شرح المفتاح " النفي والإثبات واردان على شيء واحد باعتبارين فالمنفي هو الرمي باعتبار الحقيقة كما أن المثبت هو الرمي باعتبار الصورة، والمشهور حمل الرمي في حيز الاستدراك على الكامل وهو الرمي المؤثر ذلك التأثير العظيم، واعترض المطلق ينصرف
185

إلى الفرد الكامل لتبادره منه وأما ما جرى على خلاف العادة وخرج عن طوق البشر فلا يتبادر حتى ينصرف إليه بل ذلك ليس من افراده وأجيب بأنا لا ندعي إلا الفرد الكامل من ذاك المطلق حسبما تقتضيه القاعدة، وكون ذلك الفرد جاريا على خلاف العادة وخارجا عن طوق البشر إنما جاء من خارج، ووصف الرمي بما ذكر بيان لكماله، ولا يستدعي ذلك أن لا يكون من أفراد المطلق ومن ادعاه فقد كابر. واعترض على التفسير الأول بأنه مشعر بتفسير * (رمى) * في حيز الاستدراك بخلق الرمي وتفسير * (رميت) * في حيز النفي بخلقت الرمي، فحاصل المعنى حينئذ وما خلقت الرمي إذ صدر عنك صورة ولكن الله سبحانه خلقه، ويلزم منه صحة أن يقال مثلا: ما قمت إذ قمت ولكن الله سبحانه قام على معنى ما خلقت القيام إذ صدر عنك صورة ولكن الله تبارك وتعالى خلقه ولا أظنك في مرية من عدم صحة ذلك وأجيب بأن القياس يقتضي صحة ذلك إلا أن مدار الأمر على التوقيف. واعترض على ما يستدعيه كلام ابن المنير من أن المعنى وما رميت حقيق إذ رميت مجازا ولكن الله تعالى رمى حقيقة بأن نفى الرمي حقيقة حين إثباته مجازا من أجل البديهيات فأي فائدة في الإخبار بذلك، قيل: ومثل ذلك يرد على كلام الإمام لأن كسب العبد للفعل عندهم على المشهور عبارة عن محلية العبد للفعل من غير تأثير لقدرته في إيجاده ويؤول ذلك إلى مباشرته له من غير خلق، فيكون المعنى وما خلقت الرمي إذ باشرت ولم تخلق وهو كما ترى وهو كما ترى، وبالجملة كلام أكثر أهل الحق في تفسير الآية والاستدلال بها وكذا بالآية قبلها على مذهبهم لا يخلو عن مناقشة ما، ولعل الجواب عنها متيسر لأهله.
وقال بعض المحققين: إنه أثبت له صلى الله عليه وسلم الرمي لصدوره عنه عليه الصلاة والسلام ونفي عنه لأن أثره ليس في طاقة البشر، ولذا عد ذلك معجزة حتى كأنه صلى الله عليه وسلم لا مدخل له فيه، فمبنى الكلام على المبالغة ولا يلزم منه عدم مطابقته للواقع لأن معناه الحقيقي غير مقصود، ولا يصح أن تخرج الآية على الخلق والمباشرة لأن جميع أفعال العباد بمباشرتهم وخلق الله تعالى فلا يكون للتخصيص بهذا الرمي معنى وله وجه وإن قيل عليه ما قيل وأنا أقول: إن للعبد قدرة خلقها الله تعالى له مؤثرة بإذنه فما شاء الله سبحانه كان وما لم يشأ لم يكن لا أنه لا قدرة له أصلا كما يقول الجبرية، ولا أن له قدرة غير مؤثرة كماهو المشهور من مذهب الأشاعرة، ولا أن له قدرة مؤثرة بها يفعل ما لا يشاء الله تعالى فعله كما يقول المعتزلة، وأدلة ذلك قد بسطت في محلها وألفت فيها رسائل تلقم المخالف حجرا، وليس إثبات صحة هذا القول وكذا القول المشهور عند الأشاعرة عند من يراه موقوفا على الاستدلال بهذه الآية حتى إذا لم تقم الآية دليلا يبقى المطلب بلا دليل. فإذا كان الأمر كذلك فأنا لا أرى بأسا في أن يكون الرمي المثبت له صلى الله عليه وسلم هو الرمي المخصوص الذي ترتب عليه ما ترتب مما أبهر العقول وحير الألباب، وإثبات ذلك عليه الصلاة والسلام حقيقة على معنى أنه فعله بقدرة أعطيت له صلى الله عليه وسلم مؤثرة بإذن الله تعالى إلا أنه لما كان ما ذكر خارجا عن العادة إذ المعروف في القدر الموهوبة للبشر أن لا تؤثر مثل هذا الأثر نفى ذلك عنه وأثبت لله سبحانه مبالغة، كأنه قيل: إن ذلك الرمي وإن صدر منك حقيقة بالقدرة المؤثرة بإذن الله سبحانه لكنه لعظم أمره وعدم مشابهته لأفعال البشر كأنه لم يصدر منك بل صدر من الله جل شأنه بلا واسطة، وكذا يجوز أن يكون المعنى وما رميت بالرعب إذ رميت بالحصباء ولكن الله تعالى رمى بالرعب، فالرمي المنفي أولا والمثبت أخيرا غير
186

المثبت في الأثناء وعلى الوجهين يظهر بأدنى تأمل وجه تخالف أسلوبي الآيتين حيث لم يقل: وما رميت ولكن الله رمى ليكون على أسلوب فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ولا فلم تقتلوهم إذ قتلتموهم ولكن الله قتلهم ليكون على أسلوب * (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) * (الأنفال: 17) ولا يظهر لي نكتة في هذا التخالف على الوجوه التي ذكرها المعظم، وكونها الإشارة إلى أن الرمي لم يكن في تلك الوقعة كالقتل بل كان في حنين دونه على ما فيه مخالف لما صح من أن كلا الأمرين كان في تلك الوقعة كما علمت فتأمل فلمسلك الذهن اتساع: وقرىء * (ولكن الله) * بالتخفيف ورفع الاسم الجليل في المحلين * (وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا) * أي ليعظيهم
سبحانه من عنده إعطاء جميلا غير مشوب بالشدائد والمكاره على أن البلاء بمعنى العطاء كما في قول زهير: جزى الله بالإحساب ما فعلا بكم * فأبلاهما خير البلاء الذي يبلى
واختار بعضهم تفسيره بالإبلاء في الحرب بدليل ما بعده يقال: أبلى بلاء حسنا أي قاتل قتالا شديدا وصبر صبرا عظيما، سمي به ذلك الفعل لأنه ما يخبر به المرء فتظهر جلادته وحسن أثره، واللام إما للتعليل متعلق بمحذوف متأخر فالواو إعتراضية أي وللإحسان إليهم بالنصر والغنيمة فعل ما فعل لا لشيء آخر غير ذلك مما لا يجديهم نفعا، وإما برمي فالواو للعطف على علة محذوفة أي ولكن الله رمي ليمحق الكافرين وليبلي الخ. وقوله تعالى: * (إن الله سميع) * أي لدعائهم واستغائتهم أو لكل مسموع ويدخل فيها ما ذكر * (عليم) * أي بنياتهم وأحوالهم الداعية للإجابة أو لكل معلوم ويدخل فيه ما ذكر أيضا تعليل للحكم * (ذلكم) * إشارة إلى البلاء الحسن، ومحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف [بم وقوله سبحانه وتعالى:
* (ذالكم وأن الله موهن كيد الك‍افرين) *.
معطوف عليه أي المقصد إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين وإبطال حيلهم، وقيل: المشار إليه القتل أو الرمي والمبتدأ الأمر أي الأمر ذلكم أي القتل أو الرمي فيكون قوله تعالى: * (وأن الله) * الخ من قبيل عطف البيان، وقيل: المشار إليه الجميع بتأويل ما ذكر. وجوز جعل اسم الاشارة مبتدأ محذوف الخبر وجعله منصوباف بفعل مقدر.
وقرأ ابن كثير. ونافع. وأبو بكر * (موهن) * بالتشديد ونصب كيد. وقرأ حفص عن عاصم بالتخفيف والاضافة وقرأ الباقون بالتخفيف والنصب.
* (إن تستفتحوا فقد جآءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغنى عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين) *.
* (إن تستفتحوا) * خطاب للمشركين على سبيل التهكم فقد روي أنهم حين أرادوا الخروج تعلقوا باستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين وأهدي الفئتين وأكرم الحزبين.
وفي رواية أن أبا جهل قال حين التقى الجمعان: اللهم ربنا ديننا القديم ودين محمد الحديث فأي الدينين كان أحب إليك وأرضى عنك فانصر أهله اليوم. والأول مروي عن الكلبي. والسدى، والمعنى إن تستنصروا لأعلى الجندين وأهداهما * (فقد جاءكم الفتح) * حيث نصر أعلاهما وأهداهما وقد زعمتم أنكم الأعلى والأهدى فالتهكم في المجيء أو فقد جاءكم الهلاك والذلة فالتهكم في نفس الفتح حيث وضع موضع ما يقاله * (وإن تنتهوا) * عن حراب الرسول عليه الصلاة والسلام ومعاداته * (فهو) * أي الانتهاء * (خير لكم) * من الحراب الذي ذقتم بسببه ما ذقتم من القتل والأسر، ومبنى اعتبار أصل الخيرية في المفضل عليه هو التهكم * (وإن تعودوا) * أي إلى حرابه عليه الصلاة والسلام * (نعد) * لما شاهدتموه من الفتح * (ولن تغنى) * أي لن تدفع
187

* (عنكم فئتكم) * جماعتكم التي تجمعونها وتستغيثون بها * (شيئا) * من الاغناء أو المضار * (ولو كثرت) * تلك الفئة وقرىء * (ولن يغني) * بالياء التحتانية لأن تأنيث الفئة غير حقيقي وللفصل ونصب شيئاف على أنه مفعول مطلق أو مفعول به، وجملة ولو كثرت في الموضع الحال * (وأن الله مع المئمنين) * أي ولأن الله تعالى معين المؤمنين كان ذلك أو والأمر أن الله سبحانه معهم، وقرأ الأكثر * (وإن) * بالكسر على الاستئناف، قيل: وهي أوجه من قراءة الفتح لأن الجملة حينئذ تذييل، كأنه قيل: القصد اعلاء أمر المؤمنين وتوهين كيد الكافرين وكيت وكيت، وإن سنة الله تعالى جارية في نصر المؤمنين وخذلان الكافرين، وهذا وإن أمكن اجراؤه على قراءة الفتح لكن قراءة الكسر نص فيه، ويؤيدها قراءة ابن مسعود * (والله مع المؤمنين) *، وروي عن عطاء. وأبي بن كعب، وإليه ذهب أبو علي الجبائي أن الخطاب للمؤمنين، والمعنى إن تستنصروا فقد جاءكم النصر وإن تنتهوا عن التكاسل والرغبة عما يرغب فيه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو خير لكم من كل شيء لما أنه مدار لسعادة الدارين وإن تعودوا إليه نعد عليكم بالانكار وتهييج العدو ولن تغني عنكم حينئذ كثرتكم إذ لم يكن الله تعالى معكم بالنصر والأمر ان الله سبحانه مع الكاملين في الإيمان، ويفهم كلام بعضهم أن الخطاب في * (تستفتحوا) * و * (جاءكم) * للمؤمنين، وفيما بعده للمشركين ولا يخفى أنه خلاف الظاهر جدا، وأيد كون الخطاب في الجميع للمؤمنين [بم بقوله تعالى:
* (ياأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون) *.
* (يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا) * أي تتولوا، وقرىء بتشديد التاء * (عنه) * أي عن الرسول وأعيد الضمير إليه عليه الصلاة والسلام ون المقصود طاعته صلى الله عليه وسلم، وذكر طاعة الله تعالى توطئة لطاعته وهي مستلزمة لطاعة الله تعالى لأنه مبلغ عنه فكان الراجع إليه كالراجع إلى الله تعالى ورسوله وقيل: الضمير للجهاد، وقيل: للأمر الذي دل عليه الطاعة؛ والتولي مجاز، وقوله تعالى: * (وأنتم تسمعون) * جملة حالة واردة لتأكيد وجوب الانتهاء عن التولي مطلقا لا لتقييد النهي عنه بحال السماع: أي لا تتولوا عنه والحال أنكم تسمعون القرآن الناطق بوجوب طاعته والمواعظ الزاجرة عن مخالفته سماع تفهم واذعان، وقد يراد بالسماع التصديق، وقد يبقى الكلام على ظاهره من غير ارتكاب تجوز أصلا، وقوله سبحانه
* (ولا تكونوا ك الذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون) *.
* (ولا تكونوا) * تقريرا لما قبله أي لا تكونوا بمخالفة الأمر والنهي * (كالذين قالوا سمعنا) * كالكفرة والمنافقين الذين يدعون السماع * (وهم لا يسمعون) * أي سماعا ينتفعون به لأنهم لا يصدقون ما سمعوه ولا يفهمونه حق فهمه والجملة في موضع الحال من ضمير قالوا: والمنفى سماع خاص لكنه أتي به مطلقا للاشارة إلى أنهم نزلوا منزلة من لم يسمع أصلا بجعل سماعهم كالعدم.
* (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) *.
* (إن شر الدواب) * استئناف مسوق لبيان كمال سوء حال المشبه بهم مبالغة في التحذير وتقريرا للنهي أثر تقرير، والدواب جمع دابة، والمراد بها إما المعنى اللغوي أو العرفي أي أن شر من يدب على الأرض أو شر البهائم * (عند الله) * أي في حكمه وقضائه * (الصم) * الذين لا يسمعون الحق * (البكم) * الذين لا ينطقون به، والجمع على المعني، ووصفوا بذلك لأن ما خلق له الحاستان سماع الحق والنطق به وحيث لم يوجد فيهم شيء من ذلك صاروا كأنهم فاقدون لهما رأسا.
188

وتقديم الصم على البكم لما أن صممهم متقدم على بكمهم فإن السكوت عن النطق بالحق من فروع عدم سماعهم له كما أن النطق به من فروع سماعه، وقيل: التقديم لأن وصفهم بالصمم أهم نظرا إلى السابق واللاحق، ثم وصفوا بعدم التعقل في قوله تعالى: * (الذين لا يعقلون) * تحقيقا لكمال سوء حالهم فإن الأصم الابكم إذا كان له عقل ربما يفهم بعض الأمور ويفهمه غيره ويهتدي إلى بعض مطالبه. أما إذا كان فاقدا للعقل أيضا فقد بلغ الغاية في الشرية وسوء الحال، وبذلك يظهر كونهم شر الدواب حيث أبطلوا ما به يمتازون عنها.
* (ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون) *.
* (ولو علم الله فيهم) * أي في هؤلاء الصم البكم * (خيرا) * أي شيئا من جنس الخير الذي من جملته صرف قواهم إلى تحري الحق واتباع الهدى * (لأسمعهم) * سماع تدبر وتفهم ولوقفوا على الحق وآمنوا بالرسول عليه الصلاة والسلام وأطاعوه * (ولو أسمعهم) * سماع تفهم وتدبر وقد علم أن لا خير فيهم * (لتولوا) * ولو ينتفعوا به وارتدوا بعد التصدق والقبول * (وهم معرضون) * لعنادهم، والجملة حال مؤكدة مع اقترانها بالواو، ومما ذكر يعلم الجواب عما قيل: إن الآية قياس اقتراني من شرطيتين ونتيجته غير صحيحة لما أنه أشير فيه أولا إلى منع القصد إلى القياس لفقد الكلية الكبرى، وثانيا إلى منع فساد النتيجة إذ اللازم لو علم الله تعالى فيهم خيرا في وقت لتولوا بعده قاله بعض المحققين، وفي المغنى والجواب من ثلاثة أوجه اثنان يرجعان إلى منع كون المذكور قياسا وذلك لاختلاف الوسط. أحدهما أن التقدير لأسمعهم سماعا نافعا ولو أسمعهم سماعا غير نافع لتولوا. والثاني أن يقدر ولو أسمعهم على تقدير علم عدم الخير فيهم كما أشير إليه. والثالث إلى منع استحالة النتيجة بتقدير كونه قياسا متحد الوسط، إذ التقدير ولو علم الله تعالى فيهم خيرا في وقت ما لتولوا بعد ذلك، ولا يخفى ضعف الجواب الأول لأنه لا قرينة على تقييد لو أسمعهم بالسماع الغير النافع ولأنه يحقق فيهم الاسماع الغير النافع إلا أن يقيد بالاسماع بعد نزول هذه الآية، وكذا ضعف الثالث لأن علمه تعالى بالخير ولو في وقت لا يستلزم التولي بل عدمه. وأما الجواب الثاني فهو قوي لأن الشرطية الأولى قرينة على تقييد الاسماع في الشرطية الثانية بتقدير علم عدم الخير فيهم، وذكر بعضهم في الجواب أن الشرطيتين مهملتان وكبرى الشكل الأول يجب أن تكون كلية ولو سلم فإنما ينتجان أي اللزومية لو كانتا لزوميتين وهو ممنوع ولو سلم فاستحالة النتيجة ممنوعة، أي لا نسلم استحالة الحكم باللزوم بين المقدم والتالي وإن كان الطرفان محالين لأن علم الله تعالى فيهم خيرا محال والمحال جاز أن يستلزم المحال وإن لم يوجد بينهما علاقة عقلية على ما هو التحقيق من عدم اشتراط العلاقة في استلزام المحال للمحال.
واعترض على أصل السؤال بأن لفظ * (لو) * لم يستعمل في فصيح الكلام في القياس الاقتراني وإنما يستعمل في القياس الاستثنائي المستثنى فيه نقيض التالي لأنها لامتناع الشي لامتناع غيره، ولهذا لا يصح باستثناء نقيض التالي، وعلى الجواب بأن فيه تسليم كون ما ذكر قياساف ومنع كونه منتجا لانتفاء شرائط الإنتاج وكيف يصح اعتقاد وقوع قياس في كلام الحكيم تعالى أهملت فيه شرائط الإنتاج وإن لم يكن مراده تعالى قياسيته وذكر أن الحق أن قوله سبحانه: * (لو علم الله فيهم خيرا) * وارد على قاعدة اللغة يعني أن سبب عدم الإسماع عدم العلم بالخير فيهم ثم ابتدأ قوله تعالى: * (ولو أسمعهم لتولوا) * كلاما آخر على طريقة - لو لم يخف الله
189

تعالى لم يعصه - وحاصل ذلك أنه كلام منقطع عما قبله والمقصود منه تقرير قولهم في جميع الأزمنة حيث ادعى لزومه لما هو مناف له ليفيد ثبوته على تقدير الشرط وعدمه، فمعنى الآية حينئذ أنه انتفى الإسماع لانتفاء علم الخير وأنهم ثابتون على التولي ففي الشرطية الأولى اللزوم في نفس الأمر وفي الثانية إدعائي فلا يكون على هيئة القياس.
وقال العلامة الثاني: يجوز أن يكون التولي منفيا بسبب انتفاء الإسماع كما هو مقتضى أصل * (لو) * لأن التولي بمعنى الاعراض عن الشيء كما هو أصل معناه لا بمعنى مطلق التكذيب والأنكار، فعلى تقدير عدم إسماعهم ذلك الشيء لم يتحقق التولي والاعراض لأن الاعراض عن الشيء فرع تحققه ولم يلزم من هذا تحقق الانقياد له لأن الانقياد للشيء وعدم الانقياد له ليسا على طرفي النقيض بل العدول والتحصيل لجواز ارتفاعهما بعدم ذلك الشيء وحاصله كما قيل: إنه إذا كان التولي بمعنى الاعراض يجوز أن يكون * (لو) * بمعناه المشهور، ويكون المقصود الأخبار بأن انتفاء الثاني في الخارج لانتفاء الأول فيه كالشرطية الأولى ولا ينتظم منهما القياس إذ ليس المقصود منهما بيان استلزام الأول للثاني في نفس الأمر ليستدل بل اعتبار السببية واللزوم بينهما ليعلم السببية بين الانتفائين المعلومين في الخارج، وما يقال: من أن انتفاء التولي خير وقد ذكر أن لا خير فيهم مجاب عنه بأن لا نسلم ان انتفاء التولي بسبب انتفاء الاسماع خير لأنه يجوز أن يكون ذلك بسبب عدم الأهلية للاسماع وهو داء عضال وشر عظيم، وإنما يكون خيرا لو كانوا من أهله بأن أسمعوا شيئا ثم انقادوا له ولم يعرضوا وهذا كما يقال: لاخير في فلان لو كانت به قوة لقتل المسلمين، فإن عدم قتل المسلمين بناء على عدم القوة والقدرة ليس خيرا فيه وإن كان خيرا له ا ه‍.
ورده الشريف قدس سره بما تعقبه السالكوتي عليه الرحمة. نعم قال مولانا محمد أمين بن صدر الدين: إن حمل التولي ههنا على معنى الاعراض غير ممكن لمكان قوله سبحانه: * (وهم معرضون) * وأوجب أن يحمل اما على لازم معناه وهو عدم الانتفاء لأنه يلزم الاعراض أو على ملزومه وهو الارتداد لأنه يلزمه الاعراض فليفهم، وعن الجبائي أنهم كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أحي لنا قصيا فإنه كان شيخا مباركا حتى يشهد لك ونؤمن بك، فالمعنى ولو أسمعهم كلام قصى الخ،
وقيل: هم بنو عبد الدار بن قصى لم يسلم منهم إلا مصعب بن عمير. وسويد بن حرملة كانوا يقولون: نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد لا نسمعه ولا نجيبه قاتلهم الله تعالى فقتلوا جميعا بأحد وكانوا أصحاب اللواء، وعن ابن جريج أنهم المنافقون وعن الحسن أنهم أهل الكتاب، والجملة الاسمية في موضع الحال من ضمير * (تولوا) *، وجوز أن تكون اعتراضا تذييلا أي وهم قوم عادتهم الاعراض.
* (يأيها الذين ءامنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون) *.
* (يا أيها الذين ءامنوا) * تكرير النداء مع وصفهم بنعت الإيمان لتنشيطهم إلى الإقبال على الامتثال بما يرد بعده من الأوامر وتنبيههم على أن فيهم ما يوجب ذلك * (استجيبوا لله وللرسول) * بحسن الطاعة * (إذا دعاكم) * أي الرسول إذ هو المباشر لدعوة الله تعالى مع ما أشرنا إليه آنفا * (لما يحييكم) * أي لما يورثكم الحياة الأبدية في النعيم الدائم من العقائد والأعمال أو من الجهاد الذي أعزكم الله تعالى به بعد الذل وقواكم به بعد الضعف ومنعكم به من عدوكم بعد القهر كما روي ذلك عن عروة بن الزبير، وإطلاق ما ذكر على العقائد والأعمال وكذا على الجهاد اما استعارة أو مجاز مرسل باطلاق السبب على المسبب، وقال القتبي: المراد به الشهادة وهو مجاز أيضا، وقال قتادة: القرآن، وقال أبو مسلم: الجنة، وقال غير واحد: هو العلوم الدينية التي هي مناط الحياة الأبدية كما أن الجهل مدار الموت الحقيقي، وهو استعارة مشهورة ذكرها الادباء
190

وعلماء المعاني. وللزمخشري: ل
ا تعجبن لجهول حلته * فذاك ميت وثوبه كفن
واستدل بالآية على وجوب إجابته صلى الله عليه وسلم إذا نادى أحدا وهو في الصلاة، وعن الشافعي أن ذلك لا يبطلها لأنها أيضا إجابة، وحكى الروياني أنها لا تجب وتبطل الصلاة بها، وقيل: إنه يقطع الصلاة إذا كان الدعاء لأمر يفوت بالتأخير كما إذا رأى أعمى وصل إلى بئر ولو لم يحذره لهلك، وأيد القول بالوجوب بما أخرجه الترمذي. والنسائي عن أبي هريرة " أنه صلى الله عليه وسلم مر علي أبي بن كعب وهو يصلي فدعاه فعجل في صلاته ثم جاء فقال: ما منعك من إجابتي؟ قال: كنت أصلي. قال: ألم تخبر فيما أوحي * (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) * قال: بلى ولا أعود إن شاء الله تعالى، ثم إنه صلى الله عليه وسلم قال له: لأعلمنك سورة أعظم سورة في القرآن * (الحمد لله رب العالمين) * هي السبع المثاني "، وأنت تعلم أنه لا دلالة فيه على أن إجابته صلى الله عليه وسلم لا تقطع الصلاة، وقال بعضهم: إن ذلك الدعاء كان لأمر مهم لا يحتمل التأخير وللمصلي أن يقطع الصلاة لمثله، وفيه نظر * (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) * عطف على استجيبوا، وأصل الحول كما قال الراغب تغير الشيء وانفصاله عن غيره، وباعتبار التغير قيل حال الشيء يحول وباعتبار الانفصال قيل حال بينهما كذا، وهذا غير متصور في حق الله تعالى فهو مجاز عن غاية القرب من العبد لأن من فصل بين شيئين كان أقرب إلى كل منهما من الآخر لاتصاله بهما وانفصال أحدهما عن الآخر، وظاهر كلام كثير أن الكلام من باب الاستعارة التمثيلية، ويجوز أن يكون هناك استعارة تبعية، فمعنى يحول يقرب، ولا بعد في أن يكون من باب المجاز المرسل المركب لاستعماله في لازم معناه وهو القرب، بل ادعى أنه الأنسب، وإرادة هذا المعنى هو المروى عن الحسن. وقتادة، فالآية نظير قوله سبحانه: * (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) *.
وفيها تنبيه على أنه تعالى مطلع من مكنونات القلوب على ما قد يغفل عنه أصحابها، وجوز أن يكون المراد من ذلك الحث على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها، فمعنى يحول بينه وبين قلبه يميته فيفوته الفرصة التي هو واجدها وهو التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله ورده سليما كما يريده الله تعالى، فكأنه سبحانه بعد أن أمرهم بإجابة الرسول عليه الصلاة والسلام أشار لهم إلى اغتنام الفرصة من إخلاص القلوب للطاعة وشبه الموت بالحيلولة بين المرء وقلبه الذي به يعقل في عدم التمكن من علم ما ينفعه علمه، وإلى هذا ذهب الجبائي.
وقال غير واحد: إنه استعارة تمثيلية لتمكنه تعالى من قلوب العباد فيصرفها كيف يشاء بما لا يقدر عليه صاحبها فيفسخ عزائمه ويغير مقاصده ويلهمه رشده ويزيغ عن الصراط السوي قلبه ويبدله بالأمن خوفا وبالذكر نسيانا، وذلك كمن حال بين شخص ومتاعه فإنه القادر على التصرف فيه دونه وهذا كما في حديث شهر بن حوشب عن أم سلمة وقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إكثاره الدعاء بيا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقال لها: يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله تعالى فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ، ويؤيد هذا التفسير ما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقال عليه الصلاة والسلام: يحول بين المؤمن والكفر ويحول بين الكافر والهدى.
ولعل ذلك منه عليه الصلاة والسلام إقتصار على الأمرين اللذين هما أعظم مدار للسعادة والشقاوة وإلا
191

فهذا من فروع التمكن الذي أشرنا إليه ولا يختص أمره بما ذكر، وقد حال سبحانه بين العدلية وبين اعتقاد هذا فعدلوا عن سواء السبيل، وبين بعض الأفاضل ربط الآيات على ذلك بأنه تعالى لما نص بقوله عز من قائل: * (لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم) * (الأنفال: 23) الخ، على أن الإسماع لا ينفع فيهم تسجيلا على أولئك الصم البكم من على المؤمنين بما منحهم من الإيمان ويسر لهم من الطاعة، كأنه قيل: إنكم لستم مثل أولئك المطبوعين على قلوبهم فإنهم إنما امتنعوا عن الطاعة لأنهم ما خلقوا إلا للكفر فما تيسر لهم الاستجابة، وكل ميسر لما خلق له، فأنتم لما منحتم الإيمان ووفقتم للطاعة فاستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما فيه حياتكم من مجاهدة الكفار وطلب الحياة الأبدية واغتنموا تلك الفرصة واعلموا أن الله تعالى قد يحول بين المرء وقلبه بأن يحول بينه وبين الإيمان وبينه وبين الطاعة ثم يجازيه في الآخرة بالنار، وتلخيصه أوليتكم النعمة فاشكروها ولا تكفروها لئلا أزيلها عنكم ا ه‍.
ولا يخفى ما فيه من التكليف، وقيل: إن القوم لما دعوا إلى القتال والجهاد وكانوا في غاية الضعف والقلة خافت قلوبهم وضاقت صدورهم فقيل لهم: قاتلوا في سبيل الله تعالى إذا دعيتم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه فيبدل الأمن خوفا والجبن جرأة. وقرىء * (بين المر) * بتشديد الراء على حذف الهمزة ونقل حركتها إليها وإجراء الوصل مجرى الوقف * (وأنه) * أي الله عز وجل أو الشأن * (إليه تحشرون) * لا إلى غيره فيجازيكم بحسب مراتب أعمالكم التي لم يخف عليه شيء منها فسارعوا إلى طاعته وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالغوا في الاستجابة، وقيل: المعنى إنه تحشرون إليه تعالى دون غيره فيجازيكم فلا تألوا جهدا في انتهاز الفرصة، أو المعنى أنه المتصرف في قلوكبم في الدنيا ولا مهرب لكم عنه في الآخرة فسلموا الأمر إليه عز شأنه ولا تحدثوا أنفسكم بمخالفته.
وزعم بعضهم أنه سبحانه لما أشار في صدر الآية إلى أن السعيد من أسعده والشقي من أشله وأن القلوب بيده يقلبهما كيفما يشاء ويخلق فيها الدواعي والعقائد حسبما يريد ختمها بما يفيد أن الحشر إليه ليعلم أنه مع كون العباد مجبورين خلقوا مثابين معاقبين إما للجنة وإما للناس لا يتركون مهملين معطلين، وأنت تعلم أن الآية لا دلالة فيها على الجبر بالمعنى المشهور وليس فيها عند من أنصف بعد التأمل أكثر من انتهاء الأمور بالآخرة إليه عز شأنه.
* (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خآصة واعلموا أن الله شديد العقاب) *.
* (واتقوا فتنة لا تيبن الذين ظلموا منكم خاصة) * أي لا تختص إصابتها لمن يباشر الظلم منكم بل تعمه وغيره والمراد بالفتنة الذنب وفسر بنحو إقرار المنكر والمداهنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وافتراق الكلمة وظهور البدع والتكاسل في الجهاد حسبما يقتضيه المعنى، والمصيب على هذا هو الأثر كالشآمة والوبال، وحينئذ إما أن يقدر أو يتجوز في إصابته، وجوز أن يراد به العذاب فلا حاجة إلى التقدير أو التجوز فيما ذكر لأن إصابته بنفسه، وكذا لا حاجة إلى ارتكاب تقدير في جانب الأمر ولا التزام استخدام و * (لا) * نافية، والجملة المنفية قيل جواب الأمر على معنى إن أصابتكم لا تصيب الظالمين منكم، واعترض بأن جواب الأمر إنما يقدر فعله من جنس الأمر المظهر لا من جنس الجواب ولو قدر ذلك وفاء بالقاعدة فسد المعنى، إذ يكون إن تتقوا الفتنة تعمكم إصابتها ولا تختص بالظالمين منكم وهوكما ترى، وأجيب بأن أصل الكلام واتقوا فتنة لا تصيبنكم فإن أصابتكم لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة بل عمتكم فأقيم جواب الشرط الثاني مقام جواب الشرط الثاني مقام جواب الشرط المقدر في جواب الأمر لتسببه منه، وسمي جواب الأمر لأن المعاملة معه لفظا.
192

وفيه أن من البين أن عموم الإصابة ليس مسببا عن عدم الإصابة ولا عن الأمر وظاهر التعبير يقتضيه، وقال بعض المحققين: إن ذلك على رأي الكوفيين من تقدير ما سناسب الكلام وعدم التزام كون المقدر من جنس الملفوظ نفيا أو إثباتا فيقدرون في نحو لا تدن من الأسد يأكك الإثبات أي إن تدن يأكلك وفي نحو اتقوا فتنة النفي أي إن لم تتقوا تصبكم واعترض عليه بأن ذلك القائل لم يقدر لا هذا ولا ذاك وإنما قدر ما يستقيم به المعني من غير نظر إلى مضمون الأمر أو نقيضه، وأجيب بأن مراده أن التقدير إن لم تتقوا تصبكم وإن أصابتكم لا تختص بالظالمين فأقيم جواب الشرط الثاني مقام جواب الشرط المقدر الذي هو نقيض الأمر لتسببه عنه، وما أورد على هذا من أنه لا حاجة إلى اعتبار الواسطة حينئذ إذ يكفي أن يقال: إن لم تتقوا لا تصب الظالمين خاصة فمع كونه مناقشة لفظية مدفوع بأدنى تأمل لأن عدم اختصاص إصابة الفتنة بالظالمين كما يكون بعموم الإصابة لهم ولغيرهم كذلك يكون بعدم أصابتها لهم رأسا فلا بد من اعتبار الواسطة قطعا.
وقال بعض المتأخرين: مراد من قدر آن أصابتكم، إن لم تتقوا على مذهب من يرى تقدير النفي، لكنه عبر عنه بأصابت لتلازمها فلا يرد حديث الواسطة، نعم قيل: إن جواب الشرط متردد فلا يليق تأكيده بالنون إذ التأكيد يقتضي دفع التردد، وأجيب بأنه هنا طلبي معنى فيؤكد كما يؤكد الطلبي وهو لا ينافيه التردد في وقوعه لأنه لا تردد في طلبه على أنه قيل: إنه وإن كان مترددا في نفسه لكونه معلقا بما هو متردد وهو الشرط لكنه ليس بمتردد بحسب الشرط، وعلى تقدير وقوعه فيليق به التأكيد بذلك الاعتبار، وأنت تعلم أن ابن جني رجح أن المنفي - بلا - يؤكد في السعة لشبهه بالنهي كما في قوله سبحانه: * (ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان) * (النمل: 18).
وقال ناصر الدين: إن هذا الجواب لما تضمن معنى النه يساغ توكيده، ووجه أن النفي إذا كان مطلوبا كان في معنى النهي وفي حكمه فيجوز فيه التأكيد كالنهي الصريح، ولا خفاء في أن عدم كونهم بحيث تصيبهم الفتنة مطلوب كما أن عدم كونهم يحطمهم سليمان وجنوده كذلك، وجوز أن تكون الجملة المنفية في موضع النصب صفة لفتنة، واعترض بأن فيه شذوذا ون النون لا تدخل المنفي في غير القسم، وقد يجاب بأنك قد عرفت أن ابن جني وكذا بعض النحاة جوز ذلك، وقد ارتضاع ابن مالك في التسهيل، نعم ما ذكر كلام الجمهور.
وقال أبو البقاء وغيره: يحتامل أن تكون * (لا) * ناهية والجملة في موضع الفة أيضا لكن على إرادة القول كقوله: حتى إذا جن الظلام واختلط * جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط
لأن المشهور أن الجملة الإنشائية نهيا كانت أو غيرها لا تقع صفة ونحوها إلا بتقدير القول، وقد صرحوا بأن قولك: مررت برجل أضربه بتقدير مقول فيه أضربه، وليس المقصود بالمقولية الحكاية بل استحقاقه لذلك حتى كأنه مقول فيه، ومن الناس من جوز الوصف بذلك باعتبار تأويله بمطلوب ضربه فلا يتعين تقدير القول، وأن تكون الجملة جواب قسم محذوف أي والله لا تيبن الظالمين خاصة بل تعم، وحينئذ يظهر أمر التأكيد، وأيد ذلك بقراءة علي كرم الله تعالى وجهه. وزيد بن ثابت. وأبي. وابن مسعود. والباقر. والربيع. وأبو العالية * (تلصيبن) * فإن الظاهر فيها القسمية، وقيل: إن الأصل - لا - إلا أن الألف حذفت تخفيفا كما قالوا: أم والله، وقال بعضهم:
193

أن * (لا) * في القراءة المتواترة هي اللام والألف تولدت من إشباع الفتحة كما في قوله:
فأنت من العواتك حين ترمي * ومن ذم الرجال بمنتزاح
وكلا القولين لا يعول عليه، ويحتمل أن تكون نهيا مستأنفا لتقرير الأمر وتأكيده، وهو من باب الكناية لأن الفتنة لا تنهى عن الإصابة إذ لا يتصور الامتثال منها بحال، والمعنى حينئذ لا تتعرضوا للظلم فتصيبكم الفتنة خاصة و * (من) * على تقدير كون * (لا) * ناهية سواء جعلت الجملة صفة أو مؤكدة للأمر بيانية لا تبعيضية لأنها لو اعتبرت كذلك لكان النهي عن التعرض للظلم مخصوصا بالظالمين منهم دون غيرهم فغير الظالم لا يكون منهيا عن التعرض له بمنطوق الآية وذلك شيء لا يراد. وأما على الوجوه الأخر من كون * (لا) * نافية لا ناهية سواء كان قوله سبحانه وتعالى: * (لا تصيبن) * صفة لفتنة كما هو الظاهر أو جواب الأمر أو جواب قسم فهي تبعيضية قطعا، إذ الآية على هذه التقادير جميعا مخبرة بأن إصابة الفتنة لا تخص بالظالمين بل تعم غيرهم أيضا، فلو بين الذين ظلموا بالمخاطبين لأفهمت أن الأصحاب رضي الله تعالى عنهم كلهم ظالموا وحاشاهم، ثم لا يخفى أن الخطاب إذا كان عاما لأمة وفسرت الفتنة بإثرار المنكر لا يجيء الإشكال على عموم الإصابة بقوله سبحانه: * (ولا تزل وازرة وزر أخرى) * (الأنعام: 164) لأنه كما يجب على مرتكب الذنب الانتهاء عنه يجب على الباقين رفعه وإذا لم يفعلوا كانوا آثمين فيصيبهم ما يصيبهم لأثمهم.
ويدل للوجوب ما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أمر الله تعالى المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيهمهم الله تعالى بعذاب يصيب الظالم وغير الظالم، وأخرج الترمذي. وأبو داود عن قيس بن حازم عن أبي بكر رضي الله عنه قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يده أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب " وروى الترمذي أيضا عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهاهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله تعالى قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. ومن ذهب إلى أن الخطاب خاص فسر الفتنة بافتراق الكلمة، وجعل ذلك إشارة إلى ما حدث بين أصحاب بدر يوم الجمل.
وممن ذهب إلى أنهم المعنيون السدي وغيره، وأخرج غير واحد عن الزبير قال: قرآنا هذه الآية زماما وما نرى أنا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها، وقد أخرج نهيهم عن ذلك على أبلغ وجه وأقيم الظالمون مقام ضميرهم تنبيا على أن تعرض الفتنة وهي افتراق الكلمة من أشد الظلم لا سيما هؤلاء الأجلاء، ثم فسر بضميرهم دلالة على الاختصا صوأكد بخاصة وكثيرا ما يشدد الأمر على الخاصة * (واعلموا أن الله شديد العقاب) * لم خالف أمره وكذا من أقر من انتهك محارمه * (واذكروا إذ أنتم قليل) * أي في العدد، والجملة الاسمية للإيذان باستمرار ما كانوا فيه من القلة وما يتبعها [بم وقوله سبحانه:
* (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون فى الارض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون) *.
* (مستضعفون) * خبر ثان وجوز أن يكون صفة لقليل، وقوله تعالى: * (في الأرض) * أي في أرض مكة تحت أيدي كفار قريش والخطاب للمهاجرين، أو تحت أيدي فارس والروم والخطاب للعرب كافة مسلمهم وكافرهم على ما نقل عن وهب. واعترض بأنه بعيد لا يناسب المقام مع أن فارس لم تحكم على جميع العرب، وقوله تعالى: * (تخافون أن يتخطفكم الناس) * خبر ثالث أو ثفة ثانية لقليل وصف بالجملة بعدما وصف بغيرها، وجوز أبو البقاء أن تكون حالا من المستكن في مستضعفون
194

والمراد بالناس على الأول: وهو الأظهر أما كفار قريش أو كفار العرب كما قال عكرمة لقربهم منهم وشدة عداوتهم لهم، وعلى الثاني: فارس والروم.
وأخرج الديلمي وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قيل: يا رسول الله ومن الناس؟ قال: أهل فارس، والتخطف كالخطف الأخذ بسرعة، وفسر هنا بالاستلاب أي واذكروا حالكم وقت قلتكم وذلتكم وهوانكم على الناس وخوفكم من اختطافكم، أو اذكروا ذلك الوقت * (فآواكم) * أي إلى المدينة أو جعل لكم مأوى تتحصنون به من أعدائكم * (وأيدكم بنصره) * بمظاهرة الأنصار أو بإمداد الملائكة يوم بدر أو بأن قوى شوكتكم إذ بعث منكم من تضطرب قلوب أعدائكم من اسمه * (ورزقكم من الطيبات) * من الغنائم ولم تطب إلا لهذه الأمة، وقيل: هي عامة في جميع ما أعطاهم من الأطعمة اللذيذة؛ والأول أنسب بالمقام والامتنان به هنا أظهر. والثاني متعين عند من يجعل الخطاب للعرب * (لعلكم تشكرون) * هذه النعم الجليلة.
* (يأيها الذين ءامنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أم‍ان‍اتكم وأنتم تعلمون) *.
* (يا أيها الذين ءامنوا لا تخونوا الله والرسول) * أصل الخون النقص كما أن أصل الوفاء الإتمام، واستعماله في ضد الأمانة لتضمنه إياه فإن الخائن ينقص المخون شيئا مما خانه فيه، اعتبر الراغب في الخيانة أن تكون سرا، والمراد بها هنا عدم العمل بما أمر الله تعالى به ورسوله عليه الصلاة والسلام. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن خيانة الله سبحانه بترك فرائضه والرسول صلى الله عليه وسلم بترك سنته وارتكاب معصيته.
وقيل: المراد النهي عن الخيانة بأن يضمروا خلاف ما يظهرون أو يغلوا في الغنائم. وأخرج أبو الشيخ عن يزيد بن أبي حبيب رضي الله تعالى عنه أن المراد بها الإخلال بالسلاح في المغازي. وذكر الزهر. والكلبي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر هود قرظة إحدى وعشرين ليلة - وفي رواية البيهقي - خمسا وعشرين. فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح. كما صالح إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم بأذرعات من أرض الشام فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأبوا وقالوا: أرسل لنا أبا لبابة ورفاعة بن عبد المنذر. وكان مناصحا لهم لأن ماله وولده وعياله كان عندهم. فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم فقالوا: يا أبا لبابة ما ترى أننزل على حكم سعد بن معاذ فأشار بيده إلى حلقه يعني أنه الذبح فلا تفعلوا. قال أبو لبابة: والله ما زالت قدماي عن مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام ثم انطلق على وجهه ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشد نفسه على سارية من سواري المسجد وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله تعالى علي، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره قال
: أما لو جاءني لاستغفرت له أما إذا فعل ما فعل فإني لا أطلقه حتى توب الله تعالى عليه فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه ثم تاب الله تعالى عليه فقيل له: يا أبا لبابة قد تيب عليك. فقال: والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني فجاءه عله الصلاة والسلام فحله بيده ثم قال أبو لبابة: إن تمام توبتي أن أهجر دار قوم التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي. فقال صلى الله عليه وسلم: يجزيك الثلث أن تصدق به ونزلت فيه هذه الآية " وقال السدي: كانوا يسمعون الشيء من
195

رسول الله صلى الله عليه وسلم فيفشونه حتى يبلغ المشركين فنهو عن ذلك، وأخرج أبو الشيخ وغيره عن جابر بن عبد الله أن أبا سفيان خرج من مكة فأتى جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان إن محمدا صلى الله عليه وسلم مريدكم فخذوا حذركم فنزلت * (وتخونوا أماناتكم) * عطف على المجزوم أولا والمراد النهي عن خيانة الله تعالى والرسول وخيانة بعضهم بعضا، والكلام عند بعض على حذف مضاف أي أصحاب أماناتكم، ويجوز أن تجعل الأمانة نفسها مخونة، وجوز أبو البقاء أن يكون الفعل منصوبا بإضمار أن بعد الواو في جواب النهي كما في قوله: لا تنه عن خلق وتأتي مثله * عار عليك إذا فعلت عظيم
والمعنى لا تجمعوا بين الخيانتين والأول أولى لأن فيه النهي عن كل واحد على حدته بخلاف هذا فإنه نهى عن الجمع بينهما ولا يلزمه النهي عن كل واحد على حدته، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير الأمانات بالأعمال التي ائتمن الله تعالى عليها عباده، وقرأ مجاهد * (أمانتكم) * بالتوحيد وهي رواية عن أبي عمرو ولا منافاة بينها وبين القراءة الأخرى * (وأنتم تعلمون) * أي تبعة ذلك ووباله أو أنكم تخونون أو وأنتم علماء تميزون الحسن من القبيح، فالفعل إما متعد له مفعول مقدر بقرينة المقام أو منزل منزلة اللازم، قيل: ولس المراد بذلك التقييد على كل حال.
* (واعلموا أنمآ أموالكم وأول‍ادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم) *.
* (واعلموا انما أمولكم وأول‍ادكم فتنة) * لأنها سبب الوقوع في الاسم والعقاب، أو محنة من الله عز وجل يختبركم بها فلا يحملنكم حبها على الخيانة كأبي لبابة، ولعل الفتنة في المال أكثر منها في الولد ولذا قدمت الأموال على الأولاد، ولا يخفى ما في الأخبار من المبالغة.
وجاء عن ابن مسعود ما منكم من أحد إلا وهو مشتمل على فتنة لأن الله سبحانه يقول: * (واعلموا أنما أموالكم) * الخ فمن استعاذ منكم فليستعذ بالله تعالى من مضلات الفتن؛ ومثله عن علي كرم الله تعالى وجهه * (وان الله عنده أيجر عظيم) * لمن مال إليه سبحانه وآثر رضاه عليهما وراعى حدوده فيهما فأنيطوا هممكم بما يؤديكم إليه.
* (ي‍اأيها الذين ءامنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم) *.
* (يا أيها الذين ءامنوا إن تتقوا الله) * في كل ما تأتون وما تذرون * (يجعل لكم) * بسبب ذلك الاتقاء * (فرقانا) * أي هداية ونورا في قلوبكم تفرقون به بين الحق والباطل كما روي عن ابن جريج وابن زيد، أو نصرا يفرق بين المحق والمبطل بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين كما قال الفراء، أو نجاة في الدارن كما هو ظاهر كلام السدي، أو مخرجا من الشبهات كما جاء عن مقاتل، أو ظهورا يشهر أمركم وينشر صتكم كما يشعر به كلام محمد بن إسحاق - من بت أفعل كذا حتى سطع الفرقان - أي الصبح، وكل المعان ترجع إلى الفرق بن أمرن، وجوز بعض المحققين الجمع بينهما * (ويكفر عنكم سيئاتكم) * أي يسترها في الدنيا * (ويغفر لكم) * بالتجاوز عنها في الأخرى فلا تكرار، وقد يقال: مفعول يغفر الذنوب وتفسر بالكبائر وتفسر السيئات بالصغائر، أو يقال: المراد ما تقدم وما تأخر لأن الآية فأهل بدر وقد غفر لهم.
ففي الخبر لعل الله تعالى اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم * (والله ذو الفضل العظيم) * تعليل لما قبله وتنبيه على أن ما وعد لهم على التقوى تفضل منه سبحانه وإحسان وأنها بمعزل عن أن توجب عليه جل شأنه
196

شيئا، قيل: ومن عظيم فضله تعالى أنه يتفضل من غير واسطة وبدون التماس عوض ولا كذلك غيره سبحانه، ثم أنه عز وجل لما ذكر من ذكر نعمته [بم بقوله تعالى:
* (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الم‍اكرين) *.
* (واذكروا إذ أنتم قليل) * الخ ذكر نبيه عليه الصلاة والسلام النعمة الخاصة به بقوله عز من قائل: * (وإذ يمكر بك الذين كفروا) * فهو متعلق بمحذوف وقع مفعولا لفعل محذوف معطوف على ما تقدم أو منصوب بالفعل المضمر المعطوف على ذلك، أي واذكر نعمته تعالى عليك إذ أو اذكر وقت مكرهم بك * (ليثبتوك) * بالوثاق ويعضده قراءة ابن عباس * (ليقيدوك) * وإليه ذهب الحسن. ومجاهد. وقتادة. أو بالإثخان بالجرح من قولهم: ضربه حتى أثبته لا حراك به ولا براح، وهو المروى عن أبان. وأبي حاتم. والجبائي، وأنشد: فقلت ويحكم ما في صحيفتكم * قالوا الخليفة أمسى مثبتا وجعا
أو بالحبس في بيت كما روي عن عطاء. والسدي. وكل الأقوال ترجع إلى أصل واحد وهو جعله صلى الله عليه وسلم ثابتا في مكانه أعم من أن يكون ذلك بالربط أو الحبس أو الإثخان بالجراح حتى لا يقدر على الحركة، ولا يردان الإثخان إن كان بدون قتل فلا ذكر له فما اشتهر من القصة وإن كان بالقتل يتكرر مع قوله تعالى: * (أو يقتلوك) * لأنا نختار الأول، ولا يلزم أن يذكر في القصة لأنه قد يكون رأي من لا يعتد برأيه فلم يذكروا المراد على ما تقتضيه أو يقتلوك بسيوفهم * (أو يخرجوك) * أي من مكة، وذلك على ما ذكر ابن إسحاق أن قريشا لما رأت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كانت له شيعة وأصحاب من غيرهم من غير بلدهم ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم عرفوا أنهم قد نزلوا دارا وأصابوا منهم منعة فحذروا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم فاجتمعوا في
دار الندوة وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها يتشاورون فيها ما يصنعون في أمره عليه الصلاة والسلام فلما اجتمعوا كما قال ابن عباس لذلك واتعدوا أن يدخلوا الدار ليتشاوروا فيها غدوا في اليوم الذي اتعدوا فيه وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة فاعترضهم إبليس عليه اللعنة في هيئة شيخ جليل عليه بدلة فوقف على باب الدار فلما رأوه واقفا على بابها قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا قالوا: أجل فادخل فدخل معهم وقد اجتمع أشراف قريش فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما رأيتم وإنا والله ما نأمنه قال: فتشاوروا ثم قال قائل منهم: احبسوه في الحديد واغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله زهيرا والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه ما أصابهم. فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا برأي والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتموه دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينزعوه من أيديكم ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم ما هذا لكم برأي فانظروا في غيره فتشاوروا ثم قال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا فإذا خرج عنا فوالله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا والفتنا كما كانت. قال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به؟ والله لو فعلتم
197

ذلك ما أمنت أن يحل على ح من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يبايعوه عليه ثم يسير بهم إليكم فيطؤكم بهم في بلادكم فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد، دبروا فيه رأيا غيره. قال فقال أبو جهل: والله إن لي فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد. قالوا وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسيطا فينا ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما ثم يعمدون إليه فيضربونه بها ضربة رجل واحد فيقتلونه فنستريح منه فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه فيي القبائل جميعا فرضوا منها بالعقل فعقلناه لهم. قال فقال: الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل هو هذا الرأي لا أرى غيره فتفرقوا على ذلك، فأتى جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم قال لعلي كرم الله تعالى وجهه نم على فراشي وتسبح بردي هذا الحضرم الأخضر فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك إذا نام، وأذن له عليه الصلاة والسلام في الهجرة فخرج مع صاحبه أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلى الغار، وأنشد علي كرم الله تعالى وجهه مشيرا لما من الله تعالى به عليه: وقيت بنفسي خير من وطىء الحصى * ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر
رسول اله خاف أن يمكروا به * فنجاه ذو الطول الإله من المكر
وبات رسول الله فالغار آمنا * وقد صار في حفظ الإله وفي ستر
وبت أراعهم وما تهمونني * وقد وطنت نفسي على القتل والأسر
* (ويمكرون ويمكر الله) * أي يرد مكرهم ويجعل وخامته عليهم أو يجازيهم عله أو يعاملهم معاملة الماكرن وذلك بأن أخرجهم إلى بدر وقلل المسلمين في أعينهم حتى حملوا عليهم فلقوا منهم ما يشيب منه الوليد، ففي الكلام استعارة تبعية أو مجاز مرسل أو استعارة تمثيلية، وقد يكتفي بالمشاكلة الصرفة * (والله خير الماكرين) * إذ لا يعتد بمكرهم عند مكره سبحانه.
قال بعض المحققين: إطلاق هذا المركب الإضافي عليه تعالى إن كان باعتبار أن مكره جل شأنه أنفذ وأبلغ تأثيرا فالإضافة للتفضيل لأن لمكر الغير أيضا نفوذا وتأثيرا في الجملة، وهذا معنى أصل فعل الخير فتحصل المشاركة فيه، وإذا كان باعتبار أنه سبحانه لا ينزل إلا الحق ولا يصيب إلا بما يستوجبه الممكور به فلا شركة لمكر الغير فيه فالإضافة حينئذ للاختصاص كما في - أعد لابن مروان - لانتفاء المشاركة.
وقيل: هو من قبيل - الصيف أحر من الشتاء - بمعنى أن مكره تعالى في خريته أبلغ من مكر الغير في شريته.
وادعى غير واحد أن المكر لا يطلق عليه سبحانه دون مشاكلة لأنه حيلة يجلب بها مضرة إلى الغير وذلك مما لا يجوز في حقه سبحانه.
واعترض بوروده من دون مشاكلة في قوله تعالى: * (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) *.
وأجيب بأن المشاكلة فيما ذكر تقديرية وهي كافية في الغرض، وفيه نظر، فقد جاء عن علي كرم الله تعالى وجهه " من وسع عليه في دنياه ولم يعلم أنه مكر به فهو مخدوع في عقله " والمشاكلة التقديرية فيه بعيدة جدا
198

بل لا يكاد يدعيها منصف.
* (وإذا تتلى عليهم ءاياتنا قالوا قد سمعنا لو نشآء لقلنا مثل ه‍اذآ إن ه‍اذآ إلا أس‍اطير الأولين) *.
* (وإذا تتلى عليهم ءاياتنا) * التي لو أنزلناها على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله * (قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا) * قائله النضر بن الحرث من بن عبد الدار على ما عليه جمهور المفسرن وكان ختلف إلى أرض فارس والحرة فيسمع أخبارهم عن رستم. واسفنديار وكبار العجم وكان يمر باليهود والنصارى فيسمع منهم التوراة والإنجيل، وإسناد القول إلى ضمير الجمع من إسناد فعل البعض إلى الكل لما أن اللعين كان رئيسهم وقاضيهم الذي يقولون بقوله ويعملون برأيه.
وقيل: قاله الذين ائتمروا في أمره عليه الصلاة والسلام في دار الندوة، وأيا ما كان فهو غاية المكابرة ونهاية العناد، إذ لو استطاعوا شيئا من ذلك فما منعهم من المشيئة؟ وقد تحداهم عليه الصلاة والسلام وقرعهم بالعجز عشر سنين ثم قارعهم بالسيف فلم يعارضوا بما سواه من أنفتهم واستنكافهم أن يغلبوا لا سيما في ميدان البيان فإنهم كانوا فرسانه المالكين لأزمته الحائزين قصب السبق به.
واشتهر أنهم علقوا القصائد السبعة المشهورة على باب الكعبة متحدين بها، لكن تعقب أن ذلك مما لا أصل له وإن اشتهر، وزعم بعضهم أن هذا القول كان منهم قبل أن ينقطع طمعهم عن القدرة على الإتيان بمثله، وليس بشيء * (إن هذا إلا أساطير الأولين) * جمع أسطورة على ما قاله المبرد كأحدوثة وأحاديث ومعناه ما سطر وكتب. وفي " القاموس " الأساطير الأحاديث لا نظام لها جمع اسطار وإسطير وأسطور وبالهاء في الكل. وأصل السطر الصف من الشيء كالكتاب والشجر وغيره وجمعه أسطر وسطور وأسطار وجمع الجمع أساطير ويحرك في الكل، وقال بعضهم: إن جمع سطر بالسكون أسطر وسطور وجمع سطر أسطار وأساطر، وهو مخالف لما في " القاموس "، والكلام على التشبيه، وأرادوا ما هذا إلا كقصص الأولين وحكاياتهم التي سطروها وليس كلام الله تعالى، وكأنه بيان لوجه قدرتهم على قول مثله لو شاؤوا.
* (وإذ قالوا اللهم إن كان ه‍اذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السمآء أو ائتنا بعذاب أليم) *.
* (وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم) * قائل هذا النضر أضا على ما روي عن مجاهد. وسعيد بن جبر، وجاء في رواية أنه لما قال أولا ما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ويلك إنه كلام الله تعالى فقال ذلك. وأخرج البخاري. والبيهقي في الدلائل عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنهما أنه أبو جهل بن هشام. وأخرج ابن جرير عن زيد بن رومان. ومحمد بن قيس أن قريشا قال بعضها لبعض أكرم الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم من بيننا اللهم إن كان هذا هو الحق الخ وهو أبلغ في الجحود من القول الأول لأنهم عدوا حقيته محالا فلذا علقوا عليها طلب العذاب الذي لا يطلبه عاقل ولو كانت ممكنة لفروا من تعليقه عليها، وما يقال: إن أن للخلو عن الجزم فكيف استعملت في صورة الجزم؟ أجاب عنه القطب بأنها لعدم الجزم بوقوع الشرط ومتى جزم بعدم وقوعه عدم الجزم بوقوعه، وهذا كقوله تعالى: * (وإن كنتم في ريب) * وفيه بحث ذكره العلامة الثاني. واللام في * (الحق) * قيل للعهد، ومعنى العهد فيه أنه الحق الذي ادعاه النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنه كلام الله تعالى المنزل عليه عليه الصلاة والسلام على النمط المخصوص * (ومن عندك) * إن سلم دلالته عليه فهو للتأكيد وحينئذ فالمعلق به كونه حقا بالوجه الذي
199

يدعيه النبي صلى الله عليه وسلم لا الحق مطلقا لتجويزهم أن كون مطابقا للواقع غير منزل * (كأساطير الأولين) * وفي " الكشاف " أن قولهم: هو الحق تهكم بمن يقول على سبيل التخصيص والتعيين، هذا هو الحق، وزعم بعضهم أن هذا قول بأن اللام للجنس وأشار إلى أن الأولى حملها على العهد الخارجي على معنى الحق المعهود المنزل من عند الله تعالى هذا لا أساطر الأولين فالتركيب مفيد لتخصيص المسند إليه بالمسند على آكد وجه، وحمل كلام البيضاوي على ذلك وطعن في مسلك الكشاف بعدم ثبوت قائل أولا على وجه التخصيص يتهكم به، ولا يخفى ما فيه من المنع والتعسف * (وأمطر) * استعارة أو مجاز لأنزل، وقد تقدم الكلام في المطر والإمطار، وقوله سبحانه: * (من السماء) * صفة حجارة وذكره للإشارة إلى أن المراد بها السجيل والحجارة المسومة للعذاب، يروى أنها حجارة من طين طبخت بنار جهنم مكتوب فيها أسماء القوم، وجوز أن يكون الجار متعلقا بالفعل قبله، والمراد بالعذاب الأليم غير إمطار الحجارة بقرينة المقابلة، ويصح أن يكون من عطف العام على الخاص، وتعلق * (من عندك) * بمحذوف قيل: هو حال مما عنده أو صفة له، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما. والأعمش * (الحق) * بالرفع على أن هو مبتدأ لا فصل، وقول الطبرسي: إنه لم يقرأ بذلك ليس بذاك، ولا أرى فرقا بين القراءتين من جهة المراد بالتعريف خلافا لمن زعمه.
* (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) *.
* (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) * جواب لكلمتهم الشنعاء وبيان لما كان الموجب لإمهالهم وعدم إجابة دعائهم الذي قصدوا به ما قصدوا، واللام هي التي تسمى لام الجحود ولام النفي لاختصاصها بمنف كان الماضية لفظا أو معنى، وهي إما زائدة أو غر زائدة والخبر محذوف، أي ما كان الله مريدا لتعذيبهم؛ وأيا ما كان فالمراد تأكيد النفي أما على زيادتها فظاهر وأما على عدم زيادتها وجعل الخبر ما علمت فلان نفي إرادة الفعل أبلغ من نفيه، وقيل: في وجه إفادة اللام تأكيد النفي هنا أنها هي التي في قولهم: أنت لهذه الخطة أي مناسب لها وهي تليق بك، ونفي اللياقة أبلغ من نفي أصل الفعل ولا يخلو عن حسن وإن قيل: إنه تكلف لا حاجة إليه بعد ما بينه النحاة في وجه ذلك، وحمل غير واحد العذاب على عذاب الاستئصال، واعترض بأنه لا دليل على هذا التقييد مع أنه لا يلائمه المقام؛ وأجب بمنع عدم الملاءمة، بل من أمعن النظر في كلامهم رآه مشعرا بطلب ذلك، والدليل على التقييد أنه وقع عليهم العذاب والنبي صلى الله عليه وسلم فيهم كالقحط فعلم أن المراد به عذاب الاستئصال والقرينة علييه تأكيد النفي الذي يصرفه إلى أعظمه، فالمراد من الآية الإخبار بأن تعذيبهم عذاب استئصال، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم خارج عن عادته تعالى غير مستقيم في حكمه وقضائه، والمراد بالاستغفار في قوله سبحانه: * (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) * أما استغفار من بقي بينهم من المؤمنين المستضعفين حين هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وروي هذا عن الضحاك واختاره الجبائي، وقال الطيبي: إنه أبلغ لدلالته على استغفار الغير مما يدفع به العذاب عن أمثال هؤلاء الكفرة، وإسناد الاستغفار إلى ضمير الجميع لوقوعه فيما بينهم ولجعل ما صدر عن البعض كما قيل بمنزلة الصادر عن الكل فليس هناك تفكيك للضمائر كما يوهمه كلام ابن عطية.
وأما دعاء الكفرة بالمغفرة وقولهم غفرانك فيكون مجرد طلب المغفرة منه تعالى مانعا من عذابه جحل شأنه ولو من الكفرة، وروى هذا عن يزيد بن رومان. ومحمد بن قيس قالا: إن قريشا لما قالوا ما قالوا ندموا حين أمسوا فقالوا: غفرانك اللهم، وأما التوبة والرجوع عن جميع ما هم عليه من الكفر وغيره على معنى لو استغفروا لم يعذبوا كقوله تعالى: * (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) * (هود: 117) وروى هذا عن السدي. وقتادة.
200

وابن زيد، وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كل من الأقوال الثلاثة، وأيا ما كان فالجملة الاسمية في موضع الحال إلا أن القيد مثبت على الوجهين الأولين
منفي على الوجه الأخير، ومبني الاختلاف في ذلك ما نقل عن السلف من الاختلاف في تفسيره، والقاعدة المقررة بين القوم في القيد الواقع بعد الفعل المنفي، وحاصلها على ما قيل: إن القيد في الكلام المنفي قد يكون لتقييد النفي وقد يكون لنفي التقييد بمعنى انتفاء كل من الفعل والقيد أو القيد فقط أو الفعل فقط، وقيل: إن الدال على انتفاء الاستغفار هنا على الوجه الأخير القرينة والمقام لا نفس الكلام وإلا لكان معنى * (وما كان الله ليعذبهم وأنت فهيم) * نفي كونه فيهم لأن أمر الحالية مشترك بين الجملتين، وأطال الكلام في نفي تساوي الجملتين سؤالا وجوابا، ثم تكلف للتفرقة بما تكلف، واعترض عليه بما اعترض، والظاهر عندي عدم الفرق في احتمال كل من حيث أنه كلام فيه قيد توجه النفي إلى القيد.
ومن هنا قال بعضهم: إن المعنى الأولى لو كنت فيهم لم يعذبوا كما قيل في معنى الثانية: لو استغفروا لم يعذبوا، ويكون ذلك إشارة إلى أنهم عذبوا بما وقع لهم في بدر لأنهم أخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم من مكة ولم يبق فيهم فيها إلا أن هذا خلاف الظاهر ولا يظهر عليه كون الآية جوابا لكلمتهم الشنعاء، وعن ابن عباس أن المراد بهذا الاستغفار استغفار من يؤيد منهم بعد، أي وما كان الله معذبهم وفيهم من سبق له من الله تعالى العناية أنه يؤمن ويستغفر كصفوان بن أمية. وعكرمة بن أبي جهل. وسهل بن عمرو. وأضاربهم، وعن مجاهد أن المراد به استغفار من في أصلابهم ممن علم الله تعالى أنه يؤمن، أي ماكان الله معذبهم وفي أصلابهم من يستغفر وهو كما ترى، ويظهر لي من تأكيد النفي في الجملة الأولى وعدم تأكيده في الجملة الثانية أن كون النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ادعى حكمة لعدم التعذيب من الاستغفار، وحمل بعضهم التعذيب المنفي في الجملة الثانية بناء على الوجه الأخير على ما عدا تعذيب الاستئصال، وحمل الأول: على التعذيب الدنيوي والثاني: على الأخروي ليس بشيء.
* (وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أوليآءه إن أوليآؤه إلا المتقون ول‍اكن أكثرهم لا يعلمون) *.
* (وما لهم ألا يعذبهم الله) * أي أي شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم أي لا حظ لهم في ذلك وهم معذبون لا محالة إذا زال المانع وكيف لا يعذبون * (وهم يصدون عن المسجد الحرام) * (الأنفال: 34) أي وحالهم الصد عن ذلك حقيقة كما فعلوا عام الحديبية وحكما كما فعلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى ألجأوهم للهجرة، ولما كانت الآيتان يتراءى منهما التناقض زادوا في التفسير إذا زال ليزول كما ذكرنا، وأنت تعلم أنه إذا حمل التعذيب في كل على تعذيب الاستئصال احتيج إلى القول بوقوعه بعد زوال المانع وهو خلاف الواقع، وقال بعضهم في دفع ذلك: إن التعذيب فيما مر تعذيب الاستئصال وهنا التعذيب بقتل بعضهم، ونقل الشهاب عن الحسن والعهدة عليه أن هذه نسخت ما قبلها، والظاهر أنه أراد النفيين السابقين، والذي في " الدر المنثور " أنه وكذا عكرمة والسدي قالوا: إن قوله سبحانه: * (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) * (الأنفال: 33) منسوخ بهذه الآية، وأياما كان يرد عليه أنه لا نسخ فيالإخبار إلا إذا تضمنت حكما شرعيا، وفي تضمن المنسوخ هنا ذلك خفاء، وقال محمد بن إسحق: أن الآية الأولى متصلة بما قبلها على أنها حكاية عن المشركين فإنهم كانوا يقولون: إن الله تعالى لا يعذبنا ونحن نستغفر ولا يعذب سبحانه أمة ونبيها معها فقص الله تعالى ذلك على نبيه صلى الله عليه وسلم مع قولهم
201

الآخر فكأنه قيل: وإذ قالوا اللهم الخ وقالوا أيضا: كيت وكيت ثم رد عليهم بقوله سبحانه: * (ومالهم ألا يعذبهم الله) * على معنى أنهم يعذبون وإن كنت بين أظهرهم وإن كانوا يستغفرون، وفيه أن وقوع ذلك القول منهم في غاية البعد مع أن الظاهر حينئذ أن يقال: ليعذبنا ومعذبنا ونحن نستغفر ليكون على طرز قولهم السابق، وأيضا الأخبار الكثيرة تأبى ذلك، فقد أخرج أبو الشيخ. والحاكم وصححه. والبيهقي في شعيب الايمان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان فيكم إمامان مضى أحدهما وبقي الآخر وتلا * (وما كان الله ليعذبهم) * (الأنفال: 33) الخ.
وجاء مثل ذلك عن ابن عباس. وأبي موسى الأشعري، وأخرج أبو داود. والترمذي في الشمال. والنسائي. عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: " انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عليه الصلاة والسلام فلم يكد يركع ثم ركع فلم يكد يرفع ثم رفع فلم يكد يسجد ثم سجد فلم يكد يرفع ثم رفع فلم يكد يسجد ثم سجد فلم يكد يرفع ثم رفع وفعل في الركعة الأخرى مثل ذلك ثم نفخ في آخر سجوده ثم قال: رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم؟ رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون؟ ونحن نستغفرك ففرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته وقد انحصت الشمس " وذهب الجبائي إلى أن المنفي فيما مر عذاب الدنيا وهذا العذاب عذاب الآخرة أي أنه يعذبهم في الآخرة لا محالة وهو خلاف سياق الآية، * (وما) * على ما عليه الجمهور وهو الظاهر استفهامية، وقيل: إنها نافية أي ليس ينفي عنهم العذاب مع تلبسهم بالصد عن المسجد الحرام * (وما كانوا أولياءه) * أي وما كانوا مستحقين ولاية المسجد الحرام مع شركهم، والجملة في موضع الحال من ضمير يصدون مبينة لكمال قبح ما صنعوا من الصدفان مباشرتهم للصد عنه مع عدم استحقاقهم لولاية أمره في غاية القبح، وهذا رد لما كانوا يقولون: نحن ولاة البيت والحرم فنصد من نشاء وندخل من نشاء * (إن أولياؤه) * أي ما أولياء المسجد الحرام * (إلا المتقون) * من الشرك الذي لا يعبدون فيه غيره تعالى، والمراد بهم المسلمون وهذه المرتبة الأولى من التقوى، وما أشرنا إليه من رجوع الضميرين إلى المسجد هو المتبادر المروي عن أبي جعفر. والحسن، وقيل: هما راجعان إليه تعالى، وعليه فلا حاجة إلى اعتبار الاستحقاق فيما تقدم آنفا إذ لم تثبت لهم ولاية الله تعالى أصلا بخلاف ولاية المسجد فإنهم كانوا متولين له وقت النزول فاحتيج إلى التأويل بنفي الاستحقاق، ويفسر المتقون حينئذ بما هو أخص من المسلمين لأن ولاية الله تعالى لا يكفي فيها الإسلام بل لا بد فيها أيضا من المرتبة الثانية من التقوى وإن وجدت المرتبة الثالثة منها فالولاية ولاية كبرى، وهذا ما نعرفه من نصوص الشرعية المطهرة والمحجة البيضاء التي ليلها كنهارها، وغالب الجهلة اليوم على أن الولي هو المجنون ويعبرون عنه بالمجذوب، صدقوا ولكن عن الهدى، وكلما أطبق جنونه وكثر هذيانه واستقذرت النفوس السليمة أحواله كانت ولايته أكمل وتصرف في ملك الله تعالى أتم، وبعضهم يطلق الولي عليه وعلى من ترك الأحكام الشرعية ومرق من الدين المحمدي وتكلم بكلمات القوم وتزيا بزيهم، وليس منهم في عير ولا نفير،
وزعم أن من أجهد نفسه في العبادة محجوبا ومن تمسك بالشريعة مغبونا، وإن هناك باطن يخالف الظاهر إذا هو عرف انحل القيد ورفع التكليف وكملت النفس: وألقت عصاها واستقر بها النوى * كما قرعينا بالأياب المسافر
ويسمون هذا المرشد، صدقوا ولكن إلى النار، والشيخ صدقوا ولكن النجدي، والعارف صدقوا ولكن
202

بسباسب الضلال، والموحد صدقوا ولكن للكفر والايمان، وقد ذكر مونا حجة الإسلام الغزالي هذا النوع من الكفرة الفجرة وقال: إن قتل واحد منهم أفضل عند الله تعالى من قتل مائة كافر، وكذا تكلم فيهم الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات بنحو ذلك. إلى الماء يسعى من يغص بلقمة * إلى أين يسعى من يغص بماء
والزمخشري جعل المتقون أخص من المسلمين على الوجه الأول أيضا وهو أبلغ في نفي الولاية عن المذكورين أي لا يصلح لأن يلي أمر المسجد من ليس بمسلم وإنما يستأهل ولايته من كان برا تقيا فكيف بالكفرة عبدة الأوثان * (ول‍اكن أكثرهم لا يعلمون) * أن لا ولاية لهم عليه، وكأنه نبه سبحانه بذكر الأكثر على أن منهم من يعلم ذلك ولكن يجحده عنادا، وقد يراد بالأكثر الكل لأن له حكمه في كثير من الأحكام كما أن الأقل قد لا يعتبر فينزل منزلة العدم.
* (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكآء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) *.
* (وما كان صلاتهم عند البيت) * أي المسجد الحرام الذي صدوا المسلمين عنه، والتعبير عنه بالبيت للاختصار مع الإشارة إلى أنه بيت الله تعالى فينبغي أن يعظم بالعبادة وهم لم يفعلوا * (إلا مكاءا) * أي صفيرا، وهو فعال بضم أوله كسائر أسماء الأصوات فإنها تجيء على فعال إلا ما شذ كالنداء من مكا يمكو إذا صفر، وقرىء بالقصر كبكا * (وتصدية) * أي تصفيقا، وهو ضرب اليد باليد بحيث يسمع له صوت، ووزنه تفعلة من الصد كما قال أبو عبيدة فحول إحدى الدالين ياء كما في تقضي البازي لتقضضه، ومن ذلك قوله تعالى: * (إذا قومك منه يصدون) * (الزخرف: 57) أي يضجون لمزيد تعجبهم، وأنكر عليه، وقيل: هو من الصدأ وهو ما يسمع من رجع الصوت عند جبل ونحوه، والمراد بالصلاة إما الدعاء أو أفعال أخر كانوا يفعلونها ويسمونها صلاة، وحمل المكاء والتصدية عليها على ما يشير إليه كلام الراغب بتأويل ذلك بأنها لا فائدة فيها ولا معنى لها كصفير الطيور وتصفيق اللعب. وقد يقال: المراد أنهم وضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة التي تليق أن تقع عند البيت على حد. تحية بينهم ضرب وجيع
يروى أنهم كانوا إذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي يخلطون عليه بالصفير والتصفيق ويرون أنهم يصلون أيضا.
وروى أنهم كانوا يطوفون عراة الرجال والنساء مشبكين بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون. وقال بعض القائلين: إن التصدية بمعنى الصد، والمراد صدهم عن القراءة أو عن الدين أو الصد بمعنى الضجة كما نقل عن ابن يعيش في قوله تعالى: * (إذا قومك منه يصدون) * (الزخرف: 57) والمأثور عن ابن عباس وجمع من السلف ما ذكرناه. نعم روى عن ابن جبير: تفسير التصدية بصد الناس عن المسجد الحرام، وفيه بعد، وأبعد من ذلك تفسير عكرمة لها بالطواف على الشمال بل لا يكاد يسلم، والجملة معطوفة إما على * (وهم يصدون) * فتكون لتقرير استحقاقهم للعذاب ببيان أنهم صدوا ولم يقوموا مقام من صدوه في تعظيم البيت، أو على * (وما كانوا أولياءه) * فتكون تقريرا لعدم استحقاقهم لولايته. وقرأ الأعمش. * (صلاتهم) * بالنصب وهي رواية عن عاصم. وأبان، وهو حينئذ خبر كان ومكاء بالرفع اسمها، وفي ذلك الإخبار عن النكرة بالمعرفة وهو من القلب عند السكاكي، وقال ابن جني: لا قلب ثم قال: لسنا ندفع أن جعل اسم كان نكرة وخبرها معرفة قبيح وإنما جاءت منه أبيات شاذة لكن من وراء ذلك ما أذكره، وهو أن نكرة الجنس تفيد مفاد معرفته. ألا تراك تقول: خرجت فإذا أسد بالباب، فتجد معناه فإذا الأسد ولا فرق بينهما. وذلك أنك في الموضعين لا تريد أسدا واحدا معينا
203

وإنما تريد واحد من هذا الجنس، وإذا كان كذلك جاز هنا النصب والرفع جوازا قريبا كأنه قيل: وما كان صلاتهم إلا هذا الجنس من الفعل ولا يكون مثل قولك: كان قائم أخاك، لأنه ليس في قائم معنى الجنسية. وأيضا فإنه يجوز مع النفي ما لا يجوز مع الإيجاب. ألا تراك تقول: ما كان إنسان خيرا منك ولا تجيز كان إنسان خيرا منك، وتمام الكلام عليه في موضعه * (فذوقوا العذاب) * يعني القتل والأسر يوم بدر كما روى عن الحسن. والضحاك، وقيل: عذاب الآخرة، وقيل: العذاب المعهود في قوله سبحانه: * (أو ائتنا بعذاب) * ولا تعيين، والباء في قوله تعالى: * (بما كنتم تكفرون) * للسببية، والفاء على تقدير أن لا يراد من العذاب عذاب الآخرة للتعقيب، وعلى تقدير أن يراد ذلك للسببية كالباء وأمر اجتماعهما ظاهر، والمتبادر من الكفر ما يرجع إلى الاعتقاد، وقد يراد به ما يشمل الاعتقاد والعمل كما يراد من الإيمان في العرف ذلك أيضا.
* (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون) *.
* (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله) * نزلت على ما روى عن الكلبي. والضحاك. ومقاتل. في المطعمين يوم بدر وكانوا اثنى عشر رجلا. أبو جهل. وعتبة. وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس. وبنية. ومنية ابنا الحجاج. وأبو البحتري بن هشام والنضر بن الحرث. وحكيم بن حزام. وأبي بن خلف. وزمعة بن الأسود والحرث بن عامر بن نوفل. والعباس بن عبد المطلب وكلهم من قريش، وكان كل يوم يطعم كل واحد عشر جزر وكانت النوبة يوم الهزيمة للعباس، وروى ابن إسحاق أنها نزلت في أصحاب العير.
وذلك أنه لما أصيبت قريش يوم بدر ورجعوا إلى مكة مشى صفوان بن أمية. وعكرمة بن أبي جهل في رجال من قريش أصيب آباؤهم وإخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل رجالكم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأرنا بمن أصيب منا ففعلوا، وعن سعيد بن جبير. ومجاهد أنها نزلت في أبي سفيان استأجر ليوم أحد ألفين من الأحابيش ليقاتل بهم النبي صلى الله عليه وسلم سوى من استجاشهم من
العرب وأنفق عليهم أربعين أوقية من الذهب وكانت الأوقية يومئذ اثنين وأربعين مثقالا من الذهب، وفيهم يقول كعب بن مالك من قصيدة طويلة أجاب بها هبيرة بن أبي وهب: فجئنا إلى موج من البحر وسطهم * أحابيش منهم حاسر ومقنع
ثلاثة آلاف ونحن عصابة * ثلاث مئين إن كثرنا فأربع
وسبيل الله طريقه، والمراد به دينه واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، واللام في * (ليصدوا) * لام الصيرورة ويصح أن تكون للتعليل لأن غرضهم الصد عن السبيل بحسب الواقع وإن لم يكن كذلك في اعتقادهم، وكأن هذا بيان لعبادتهم المالية بعد عبادتهم البدنية، والموصول اسم إن وخبرها على ما قال العلامة الطيبي في قوله تعالى: * (فسينفقونها) * وينفقون إما حال أو بدل من كفروا أو عطف بيان، واقترن الخبر بالفاء لتضمن المبتدأ الموصول مع صلته معنى الشرط كما في قوله تعالى: * (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم) * (البروج: 10) فهو جزاء بحسب المعنى، وفي تكرير الإنفاق في الشرط والجزاء الدلالة على كمال سوء الانفاق كما في قوله تعالى: * (إنك من تدخل النار فقد أخزيته) * (آل عمران: 192) وقولهم: من أدرك الضمان فقد أدرك المرعى، والكلام مشعر بالتوبيخ على الانفاق والإنكار عليه، قيل: وإلى هذا يرجع قول بعضهم إن مساق ما تقدم
204

لبيان غرض الانفاق ومساق هذا لبيان عاقبته وأنه لم يقع بعد فليس ذلك من التكرار المحظور، وقيل: في دفعه أيضا: المراد من الأول: الإنفاق في بدر. * (وينفقون) * لحكاية الحال الماضية، وهو خبر إن، ومن الثاني: الإنفاق في أحد، والاستقبال على حاله، والجملة عطف على الخبر لكن لما كان إنفاق الطائفة الأولى سببا لإنفاق الثانية، أتى بالفاء لابتنائه عليه، وذهب القطب إلى هذا الإعراب أيضا على تقدير دفع التكرار باختلاف الغرضين، وذكر أن الحاصل أنا لو حملنا * (ينفقون) * على الحال فلا بد من تغاير الإنفاقين وإن حملناه على الاستقبال اتحدا، كأنه قيل: إن الذين كفروا يريدون أن ينفقون أموالهم فسينفقونها، وحمل المنفق في الأول على البعض وفي الثاني على الكل لا أراه كما ترى، وقوله سبحانه: * (ثم تكون عليهم حسرة) * عطف على ما قبله، والتراخي زماني، والحسرة الندم والتأسف، وفعله حسر كفرح أي ثم تكون عليهم ندما وتأسفا لفواتها من غير حصول المطلوب، وهذا في بدر ظاهر. وأما في أحد فلأن المقصود لهم لم ينتج بعد ذلك فكان كالفائت، وضمير تكون للأموال على معنى تكون عاقبتها عليهم حسرة، فالكلام على تقدير مضافين أو ارتكاب تجوز في الإسناد.
وقال العلامة الثاني: إنه من قبيل الاستعارة في المركب حيث شبه كون عاقبة إنفاقهم حسرة بكون ذات الأموال كذلك وأطلق المشبه به على المشبه وفيه خفاء، ومن الناس من قال: إن إطلاق الحسرة بطريق التجوز على الانفاق مبالغة فافهم * (ثم يغلبون) * أي في مواطن أخر بعد ذلك * (والذين كفروا) * أي الذي أصروا على الكفر من هؤلاء ولم يسلموا * (إلى جهنم يحشرون) * أي يساقون لا إلى غيرها.
* (ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله فى جهنم أول‍ائك هم الخ‍اسرون) *.
* (ليميز الله الخبيث من الطيب) * أي الكافر من المؤمن أو الفساد من الصلاح، واللام على الوجهين متعلقة بيحشرون وقد يراد من الخبيث ما أنفقه المشركون لعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم و * (من الطيب) * ما أنفقه المسلمون لنصرته عليه الصلاة والسلام، فاللام متعلقة بتكون عليهم حسرة دون يحشرون، إذ لا معنى لتعليل حشرهم بتمييز المال الخبيث من الطيب، ولم تتعلق بتكون على الوجهين الأولين إذ لا معنى لتعليل كون أموالهم عليهم حسرة بتمييز الكفار من المؤمنين أو الفساد من الصلاح. وقرأ حمزة. والكسائي. ويعقوب (ليميز) من التمييز وهو أبلغ من الميز لزيادة حروفه. وجاء من هذا ميزته فتميز ومن الأول مزته فانماز. وقرء شاذا * (وآمتازوا اليوم أيها المجرمون) * (يس: 59).
* (ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا) * أي يضم بعضه إلى بعض ويجمعه من قولهم: سحاب مركوم ويوصف به الرمل والجيش أيضا، والمراد بالخبيث إما الكافر فيكون المراد بذلك فرط ازدحامهم في الحشر، وإما الفساد فالمراد أنه سبحانه يضم كل صنف بعضه إلى بعض * (فيجعله في جهنم) * كله، وجعل الفساد فيها بجعل أصحابه فيها، وأما المال المنفق في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم وجعله في جهنم لتكوى به جباههم وجنوبهم.
وقد يراد به هنا ما يعم الكافر وذلك المال على معنى أنه يضم إلى الكافر الخبيث ما له الخبيث ليزيد به عذابه ويضم إلى حسرة الدنيا حسرة الآخرة * (أول‍ائك) * إشارة إلى الخبيث، والجمع لأنه مقدر بالفريق الخبيث أو إلى المنفقين الذين بقوا على الكفر فوجه الجمع ظاهر، وما فيه من معنى البعد على الوجهين للإيذان ببعد درجتهم في الخبث.
205

* (هم الخاسرون) * أي الكاملون في الخسران لأنهم خسروا أنفسهم وأموالهم.
* (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الاولين) *.
* (قل للذين كفروا أي المعهودين وهم أبو سفيان وأصحابه، واللام عند جمع للتعليل أي قل لأجلهم * (إن ينتهوا) * عما هم فيه من معاداة الرسول صلى الله عليه وسلم بالدخول في الإسلام * (يغفر لهم ما قد سلف) * منهم من الذنوب التي من جملتها المعاداة والانفاق في الضلال، وقال أبو حيان: الظاهر أن اللام للتبليغ وأنه عليه الصلاة والسلام أمر أن يقول هذا المعنى الذي تضمنته ألفاظ هذه الجملة المحكية بالقول سواء قاله بهذه العبارة أم غيرها، وهذا الخلاف إنما هو على قراءة الجماعة وأما على قراءة ابن مسعود * (إن تنتهوا يغفر لكم) * بالخطاب فلا خلاف في أنها للتبليغ على معنى خاطبهم بذلك، وقرىء * (نغفر لهم) * على أن الضمير لله عز وجل * (وإن يعودوا) * إلى قتاله صلى الله عليه وسلم أو إلى المعاداة على معنى إن داوموا عليها * (فقد مضت سنت الأولين) * أي عادة الله تعالى الجارية في الذين تحزبوا على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من نصر المؤمنين عليهم وخذلانهم وتدميرهم. وأضيفت السنة إليهم لما بينهما من الملابسة الظاهرة، ونظير ذلك قوله
سبحانه: * (سنة من قدر أرسلنا) * (الإسراء: 77) فأضاف السنة إلى المرسلين مع أنها سنته تعالى لقوله سبحانه: * (ولا تجد لسنة الله تحويلا) * (فاطر: 43) باعتبار جريانها على أيديهم، ويدخل في الأولين الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر، وبعضهم فسره بذلك ولعل الأول أولى لعمومه ولأن السنة تقتضي التكرر في العرف وإن قالوا: العادة تثبت بمرة، والجملة على ما في البحر دليل الجواب، والتقدير أن يعودوا انتقمنا منه أو نصرنا المؤمنين عليهم فقد مضت سنة الأولين، وذهب غير واحد إلى أن المراد بالذين كفروا الكفار مطلقا، والآية حث على الايمان وترغيب فيه، والمعنى أن الكفار أن انتهوا عن الكفر وأسلموا غفر لهم ما سلف منهم من الكفر والمعاصي وخرجوا منها كما تنسل الشعرة من العجين وإن عادوا إلى الكفر بالارتداد فقد رجع التسليط والقهر عليهم، واستدل بالآية على أن الإسلام يجب ما قبله، وأن الكافر إذا أسلم لا يخاطب بقضاء ما فاته من صلاة أو زكاة أو صوم أو إتلاف مال أو نفس، وأجرى المالكية ذلك كله في المرتد إذا تاب لعموم الآية، واستدل بها على إسقاط ما على الذمي من جزية وجبت عليه قبل إسلامه، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن وهب عن مالك قال: لا يؤاخذ الكافر بشيء صنعه في كفره إذا أسلم وذلك لأن الله تعالى قال: * (أن ينتهوا) * الخ.
وقال بعض: إن الحربي إذا أسلم لم تبق عليه تبعة أصلا وأما الذمي فلا يلزمه قضاء حقوق الله تعالى وتلزمه حقوق العباد، ونسب إلى الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أن مذهبه في المرتد كمذهب المالكية في أنه إذا رجع إلى الإسلام لم تبق عليه تبعة وهو كالريح في أن من عصى طول العمر ثم ارتد ثم أسلم لم يبق عليه ذنب.
ونسب بعضهم قول ذلك إليه رضي الله تعالى عنه صريحا وادعى أنه احتج عليه بالآية وأنه في غاية الضعف إذ المراد بالكفر المشار إليه في الآية هو الكفر الإصلي وبما سلف ما مضى في حال الكفر، وتعقب ذلك بأن أبا حنيفة ومالكا أبقيا الآية على عمومها لحديث " الإسلام يعدم ما كا قبله " وإنهما قالا: إن المرتد يلزمه حقوق الآدميين دون حقوق الله تعالى كما في كتاب أحكام القرآن لابن عبد الحق، وخالفهما الشافعي رضي الله تعالى عنه وقال: يلزمه جميع الحقوق، وأنا أقول ما ذكره ذلك البعض عن أبي حنيفة في العاصي المذكور في غاية الغرابة، وفي كتب الأصحاب ما يخالفه، ففي الخانية إذا كان المرتد قضاء صلوات أو صيامات تركها
206

في الإسلام ثم أسلم قال شمس الأئمة الحلواني: عليه قضاء ما ترك في الإسلام لأن ترك الصلاة والصيام معصية تبقى بعد الردة. نعم ذكر قاضيخان فيها ما يدل على أن بعض الأشياء يسقط عن هذا المرتد إذا عاد إلى الإسلام وأطال الكلام في المرتد ولا بأس بنقل شيء مما له تعلق في هذا المبحث إذ لا يخلو عن فائدة، وذلك أنه قال: مسلم أصاب مالا أو شيئا يجب به القصاص أو حد قذف ثم ارتد أو أصاب ذلك، وهو مرتد في دار الإسلام ثم لحق بدار الحرب وحارب المسلمين زماما ثم جاء مسلما فهو مأخوذ بجميع ذلك ولو أصاب ذلك بعد ما لحق بدار الحرب مرتدا وأسلم فذلك كله موضوع عنه، وما أصاب المسلم من حدود الله تعالى كالزنا والسرقة وقطع الطريق ثم ارتد أو أصاب ذلك بعد الردة ثم لحق بدار الحرب ثم جاء مسلما فكل ذلك يكون موضوعا عنه إلا أنه يضمن المال في السرقة، وإذا أصاب دما في الطريق كان عليه القصاص، وما أصاب في قطع الطريق من القتل خطأ ففيه الدية على عاقلته إن أصابه قبل الردة وفي ماله أصابه بعدها، وإن وجب على المسلم حد الشرب ثم ارتد ثم أسلم قبل اللحوق بدار الحرب فإنه لا يؤاخذ بذلك لأن الكفر بمنع وجوب الحد ابتداء فإذا اعترض منع البقاء وإن أصاب المرتد ذلك وهو محبوس لا يؤاخذ بحد الخمر والسكر ويؤاخذ بما سوى ذلك من حدود الله تعالى، ويتمكن الإمام من إقامة هذا الحد إذا كان في يده فإن لم يكن في يده حين أصاب ذلك ثم أسلم قبل اللحوق بدار الحرب فهو موضوع عنه أيضا انتهى، ومنه يعلم أن قولهم المرتد يلزمه حقوق العباد دون حقوق الله تعالى ليس على إطلاقه وتمام الكلام في الفروع، وأنت تعلم أن الوجه في الآية هو المطابق لمقتضى المقام وأن المتبادر من الكفر الكفر الأصلي. و " الإسلام يهدم ما كان قبله " بعض من حديث أخرجه مسلم عن عمرو بن العاص قال: " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك لأبايعك فبسط يمينه الشريفة قال: فقبضت يدي فقال: عليه الصلاة والسلام ما لك يا عمرو؟ قلت: أردت أن أشترط قال: تشترط ماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر لي قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله " الحديث.
والظاهر أن * (ما) * لا يمكن حملها في الكل على العموم كما لا يخفى فلا تغفل. وذكر بعضهم أن الكافر إذا أسلم يلزمه التوبة والندم على ما سلف مع الايمان حتى يغفر له وفيه تأمل فتأمل.
* (وق‍اتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير) *.
* (وقاتلوهم) * عطف على * (قل) * وعم الخطاب لزيادة ترغيب المؤمنين في القتال لتحقيق ما يتضمنه قوله سبحانه: * (فقد مضت سنة الأولين) * (الأنفال: 38) من الوعيد * (حتى لا تكون فتنة) * أي لا يوجد منهم شرك كما روى عن ابن عباس. والحسن، وقيل: المراد حتى لا يفتتن مؤمن عن دينه * (ويكون الدين كله لله) * وتضمحل الأديان الباطلة كلها إما بهلاك أهلها جميعا أو برجوعهم عنها خشية القتل، قيل: لم يجيء تأويل هذه الآية بعد وسيتحقق مضمونها إذا ظهر المهدي فإنه لا يبقى على ظهر الأرض مشرك أصلا على ما روى عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه * (فإن انتهوا) * عن الكفر بقتالكم * (فإن الله بما يعملون بصير) * الجملة قائمة مقام الجزاء أي فيجازيهم على انتهائهم وإسلامهم، أو جعلت مجازا عن الجزاء أو كناية وإلا فكونه تعالى بصيرا أمر ثابت قبل الانتهاء وبعده ليس معلقا على شيء. وعن يعقوب أنه قرأ * (تعملون) * بالتاء على أنه خطاب للمسلمين المجاهدين أي بما تعملون من الجهاد المخرج لهم إلى الإسلام، وتعليق الجزاء بانتهائهم للدلالة على أنهم يثابون بالسببية كما يثاب المباشرون بالمباشرة.
* (وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير) *.
* (وإن تولوا) * ولم ينتهوا عن كفرهم
207

* (فا اعلموا أن الله مولاكم) * أي ناصركم فثقوا به ولا تبالوا بمعاداتهم * (نعم المولى) * لا يضيع من تولاه * (ونعم النصير) * لا يغلب من نصره: هذا ومن باب الإشارة في الآيات: * (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم) * تأديب منه سبحانه لأهل بدر وهداية لهم إلى فناء الأفعال حيث سلب الفعل عنهم بالكلية، ويشبه هذا من وجه قوله سبحانه: * (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) * والفرق أنه لما كان النبي صلى الله عليه وسلمفي مقام البقاء بالحق سبحانه نسب إليه الفعل بقوله تعالى: * (إذ رميت) * مع سلبه عنه * (بما رميت) * وإثباته لله تعالى في حيز الاستدراك ليفيد معنى التفصيل في عين الجمع فيكون الرامي محمدا عليه الصلاة والسلام لا بنفسه ولعلو مقامه صلى الله عليه وسلم وعدم كونهم في ذلك المقام الأرفع نسب سبحانه إليه صلى الله عليه وسلم ما نسب ولم ينسب إليهم رضي الله تعالى عنهم من الفعل شيئا، وهذا أحد أسرار تغيير الأسلوب في الجملتين حيث لم ينسب في الأولى ونسب في الثانية، بقي سر التبعير بالمضارع المنفي * (بلم) * في حداهما والماضي المنفي * (بما) * في الأخرى فارجع إلى فكرك. فلعل الله تعالى يفتحه عليك: * (وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا) * ليعطيهم عطاء جميلا وهو توحيد الأفعال، والمراد لهذا فعل ذلك * (إن الله سميع) * (الأنفال: 17) بخطرات نفوسكم بنسبة القتل إليكم * (عليم) * بأنه القتل حقيقة وكونكم مظهرا لفعله * (وأن الله موهن كيد الكافرين) * (الأنفال: 18) لاحتجابهم بأنفسهم * (إن تستفتحوا) * الآية، قيل فيها: أي تفتحوا أبواب قلوبكم بمفاتيح الصدق والإخلاص وترك السوي في طلب التجلي * (فقد جاءكم الفتح) * بالتجلي فإنه سبحانه لم يزل متجليا ولا يزال لكن لا يدرك ذلك إلا من فتح قلبه * (وإن تنتهوا) * عن طلب السوي * (فهو خير لكم) * لما فيه من الفوز بالمولى * (وإن تعودوا) * إلى طلب الدنيا وزخارفها * (نعد) * إلى خذلانكم ونكلكم إلى أنفسكم * (ولن تغني عنكم فئتكم) * الدنيوية * (شيئا) * مما لخاصته سبحانه * (ولو كثرت) * (الأنفال: 19) لأنها كسراب بقيعة * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون) * (الأنفال: 20) لأن ثمرة السماع الفهم والتصديق وثمرتهما الإرادة وثمرتها الطاعة فلاتصح دعوى السماع مع الإعراض * (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون) * لكونهم محجوبين عن الفهم * (إن شر الدواب عند الله الصم) * عن السماع * (البكم) * عن القبول * (الذين لا يعقلون) * لماذا خلقوا * (ولو علم الله فيهم خيرا) * استعدادا صالحا * (لأسمعهم) * سماع تفهم * (ولو أسمعهم) * مع عدم علم الخير فيهم * (لتولوا) * ولم ينتفعوا به وارتدوا سريعا إذ شأن العارض الزوال وهم معرضون بالذات * (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول) * بالتصفية * (إذا دعاكم لما يحييكم) * وهو العلم بالله تعالى، وقد يقال: استجيبوا لله تعالى بالباطن والأعمال القلبية وللرسول بالظاهر والأعمال النفسية، أو استجيبوا لله تعالى بالفناء في الجمع وللرسول عليه الصلاة والسلام بمراعاة حقوق التفصيل إذا دعاكم لما يحييكم من البقاء * (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) * فيزول الاستعداد فانتهزوا الفرصة * (وأنه إليه تحشرون) * (الأنفال: 24) فيجازيكم على حسب مراتبكم * (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) * (الأنفال: 25) بل تشملهم وغيرهم بشؤم الصحبة * (واذكروا إذ أنتم قليل) * من حيث القدر لجهلكم * (مستضعفون) * في أرض النفس * (تخافون أن يتخطفكم الناس) * أي ناس القوى الحسية لضعف نفوسكم * (فآواكم) * إلى مدينة العلم، وأيدكم بنصره في مقام توحيد الأفعال * (ورزقكم من الطيبات) * أي لوم تجليات الصفات * (لعلكم تشكرون) * (الأنفال: 26) ذلك، وقد يقال: واذكروا أيها الأرواح والقلوب إذ كنتم قليلا ليس معكم غيركم إذ لم ينشأ لكم بعد الصفات والأخلاق الروحانية * (مستضعفون) * في أرض البدن * (تخافون أن يتخطفكم الناس) * من النفس وأعوانها
208

* (فآواكم) * إلى حظائر قدسه * (وأيدكم بنصره) * بالواردات الربانية * (ورزقكم من الطيبات) * (الأنفال: 26) وهي تجلياته سبحانه * (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله) * بترك الإيمان * (والرسول) * بترك التخلق بأخلاقه عليه الصلاة والسلام * (وتخونوا أماناتكم) * وهي ما رزقكم الله تعالى من القدرة وسلامة الآلات بترك الأعمال الحسنة أو لا تخونوا الله تعالى بنقض ميثاق التوحيد الفطري السابق والرسول عليه الصلاة والسلام بنقض العزيمة ونبذ العقد اللاحق وتخونوا أماناتكم من المعارف والحقائق التي استودع الله تعالى فيكم حسب استعدادكم بإخفائها بصفات النفس * (وأنتم تعلمون) * (الأنفال: 27) قبح ذلك أو تعلمون أنكم حاملوها * (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة) * يختبركم الله تعالى بها ليرى أتحتجبون بمحبتها عن محبته أو لا تحتجبون * (وأن الله عنده أجر عظيم) * (الأنفال: 28) لمن لا يفتتن بذلك ولا يشغله عن محبته * (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله) * بالاجتناب عن الخيانة والاحتجاب بمحبة الأموال والأولاد * (يجعل لكم فرقانا) * نورا تفرقو به بين الحق والباطل، وربما يقال: إن ذلك إشارة إلى نور يفرقون به بين الأشياء بأن يعرفوها بواسطته معرفة يمتاز به بعضها عن بعض وهو المسمى عندهم بالفراسة. وفي بعض الآثار " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور من نور الله تعالى " * (ويكفر عنكم سيآتكم) * وهي صفات نفوسكم * (ويغفر لكم) * ذنوب ذواتكم * (والله ذو الفضل العظيم) * (الأنفال: 29) فيجعل لكم الفرقان ويفعل ويفعل * (وإذ يمكر بك الذين كفروا) * الآية جعلها بعضهم خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم ومعناها ما ذكرناه سابقا، وجعلها بعضهم خطابا للروح وهو تأويل أنفسي، أي وإذ يمكر بك أيها الروح الذين كفروا وهي النفس وقواها * (ليثبتوك) * ليقيدوك في أسر الطبيعة * (أو يقتلوك) * بانعدام آثارك * (أو يخرجوك) * (الأنفال: 30) من عالم الأرواح * (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) * (الأنفال:) لأنك الرحمة للعالين * (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) * (الأنفال: 33) إذ لا ذنب مع الاستغفار ولاعذاب من غير ذنب * (وما لهم ألا يعذبهم الله) * أي أنهم مستحقون لذلك كيف لا وهم يصدون المستعدين عن المسجد الحرام الذي هو القلب بإغرائهم على الأمور النفسانية واللذات الطبيعية * (وما كانوا أولياءه) * لغلبة صفات أنفسهم عليهم * (إن أولياؤه إلا المتقون) * تلك الصفات * (ولكن أكثرهم لا يعلمون) * (الأنفال: 34) ذلك الحكم، وقال النيسابوري: ولكن أكثرهم أي المتقين لا يعلمون أنهم أولياؤه لأن الولي قد لا يعرف أنه ولي * (وما كان صلاتهم عند البيت) * وهو ذلك المسجد * (الإمكاء) * إلا وساوس وخطرات شيطانية * (وتصدية) * (الأنفال: 35) وعزما على الأفعال الشنيعة * (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم) * من الاستعداد الفطري في غير مرضاة الله تعالى * (ليصدوا عن سبيل الله) * طريقه الموصل إليه * (فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة) * لزوال لذاتهم حتى تكون نسيا منسيا * (ثم يغلبون) * لتمكن الأخلاق الذميمة فيهم فلا يستطيعون العدول عنها * (والذين كفروا
) * أي وهم، إلا أنه أقيم الظاهر مقام المضمر تعليلا للحكم الذي تضمنه قوله سبحانه: * (إلى جهنم يحشرون) * (الأنفال: 36) وهي جهنم القطعية * (قل للذين كفروا إن ينتهوا) * عما هم عليه * (يغفر لهم ما قد سلف) * (الأنفال: 38) * (وقاتلوهم) * أي قاتلوا أيها المؤمنون كفار النفوس فإن جهادها هو الجهاد الأكبر * (حتى لا تكون فتنة) * مانعة عن الوصول إلى الحق * (ويكون الدين كله لله) * ويضمحل دين النفس الذي شرعته * (فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير) * (الأنفال: 39) فيجازيهم على ذلك والله تعالى الموفق لأوضح المسالك لا رب غيره ولا يرجى إلا خيره.
209