الكتاب: تفسير الآلوسي
المؤلف: الآلوسي
الجزء: ١١
الوفاة: ١٢٧٠
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

* (إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنيآء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون) *
* (إنما السبيل) * أي بالمعاتبة والمعاقبة * (على الذين يستأذنونك) * في التخلف * (وهم أغنياء) * واجدون للأهبة قادرون على الخروج معك * (رضوا) * استئناف بياني كأنه قيل: لم استأذنوا أو لم استحقوا ما استحقوا؟ فأجيب بأنهم رضوا * (بأن يكونوا مع الخوالف) * تقدم معناه * (وطبع الله على قلوبهم) * خذلهم فغفلوا عن سوء العاقبة * (فهم) * بسبب ذلك * (لا يعلمون) * أبدا وخامة ما رضوا به وما يستتبعه عاجلا كما لم يعلموا نجاسة شأنه آجلا.
* (يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى ع‍الم الغيب والشه‍ادة فينبئكم بما كنتم تعملون) *
* (يعتذرون إليكم) * بيان لما يتصدون له عند الرجوع إليهم، والخطاب قيل للنبي صلى الله عليه وسلم، والجمع للتعظيم، والأولى أن يكون له عليه الصلاة والسلام ولأصحابه لأنهم كانوا يعتذرون للجميع أي يعتذرون إليكم في التخلف * (إذا رجعتم) * من الغزو منتهين * (إليهم) * وإنما لم يقل سبحانه إلى المدينة إيذانا بأن مدار الاعتذار هو الرجوع إليهم لا الرجوع إلى المدينة فلعل منهم من بادر إلى الاعتذار قبل الرجوع إليها * (قل) * خطاب له صلى الله عليه وسلم، وخص بذلك لما أن الجواب وظيفته عليه الصلاة والسلام * (لا تعتذروا) * أي لا تفعلوا الاعتذار أو لا تعتذروا بما عندكم من المعاذير * (لن نؤمن لكم) * استئناف لبيان موجب النهي، وقوله: قد نبأنا الله من أخباركم
استئناف لبيان موجب النفي كأنه قيل: لم نهيتمونا عن الاعتذار؟ فقيل: لأنا لم نصدقكم في عذركم فيكون عبثا فقيل: لم لن تصدقونا؟ فقيل: لأن الله تعالى قد أنبأنا بالوحي بما في ضمائركم من الشر والفساد. و * (نبأ) * عند جمع متعدية إلى مفعولين الأول الضمير والثاني * (من أخباركم) * أما لأنه صفة المفعول الثاني، والتقدير جملة من أخباركم أو لأنه بمعنى بعض أخباركم، وليست * (من) * زائدة على مذهب الأخفش من زيادتها في الإيجاب.
وقال بعضهم: إنها متعدية لثلاثة * (ومن أخباركم) * ساد مسد مفعولين لأنه بمعنى إنكم كذا وكذا أو المفعول الثالث محذوف أي واقعا مثلا، وتعقب بأن السد المذكور بعيد، وحذف المفعول الثالث إذا ذكر المفعول الثاني في هذا الباب خطأ أو ضعيف، ومعنى * (نبأنا) * على الأول عرفنا كما قيل وعلى الثاني أعلمنا، وقيل: معناه خبرنا، و * (من) * بمعنى عن وليس بشيء، وجمع ضمير المتكلم في الموضعين للمبالغة في حسم اطماع المنافقين المعتذرين رأسا ببيان عدم رواج اعتذارهم عند أحد من المؤمنين أصلا فإن تصديق البعض لهم ربما يطمعهم في تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام أيضا وللإيذان بافتضاحهم بين المؤمنين كافة وتعدية * (نؤمن) * باللام مر بيانها * (وسيرى الله عملكم) * أي سيعلمه سبحانه علما يتعلق به الجزاء فالرؤية علمية، والمفعول الثاني محذوف أي أتنيبون عما أنتم فيه من النفاق أم تثبتون عليه، وكأنه لمكان السين المفيدة للتنفيس استتابة
2

وإمهال للتوبة، وتقديم مفعول الرؤية على الفاعل من قوله سبحانه: * (ورسوله) * للإيذان باختلاف حال الرؤيتين وتفاوتهما وللإشعار بأن مدار الوعيد هو علمه عز وجل بأعمالهم. * (ثم تردون) * يوم القيامة * (إلى ع‍الم الغيب والشه‍ادة) * للجزاء بما ظهر منكم من الأعمال، ووضع الوصف موضع الضمير لتشديد الوعيد فإن علمه سبحانه بجميع أعمالهم الظاهرة والباطنة وإحاطته بأحوالهم البارزة والكامنة مما يوجب الزجر العظيم، وتقديم الغيب على الشهادة قيل: لتحقيق أن نسبة علمه تعالى المحيط إلى سائر الأشياء السر والعلن واحدة على أبلغ وجه وآكده، كيف لا وعلمه تعالى بمعلوماته منزه عن أن يكون بطريق حصول الصورة بل وجود كل شيء وتحققه في نفسه علم بالنسبة إليه تعالى، وفي هذا المعنى لايختلف الحال بين الأمور البارزة والكامنة انتهى.
ولا يخفى عليك أن هذا قول بكون علمه سبحانه بالأشياء حضوريا لا حصوليا. وقد اعترضوا عليه بشمول علمه جل وعلا الممتنعات والمعدومات الممكنة والعلم الحضوري يختص بالموجودات العينية لأنه حضور المعلوم بصورته العينية عند العالم فكيف لا يختلف الحال فيه بين الأمور البارزة والكامنة مع أن الكامنة تشمل المعدومات الممكنة والممتنعة، ولا يتصور فيها التحقق في نفسها حتى يكون علما له تعالى كذا قيل وفيه نظر، وتحقيق علم الواجب سبحانه بالأشياء من المباحث المشكلة والمسائل المعضلة التي كم تحيرت فيها أفهام وزلت من العلماء الاعلام أقدام، ولعل النبوة إن شاء الله تعالى تفضي إلى تحقيق ذلك * (فينبئكم) * عند ردكم إليه سبحانه ووقوفكم بين يديه * (بما كنتم تعملون) * أي بما تعملونه على الاستمرار في الدنيا من الأعمال السيئة السابقة واللاحقة على أن * (ما) * موصولة أو بعملأبي كم المستمر على أن * (ما) * مصدرية، والمراد من التنبئة بذلك المجازاة عليه، وإيثارها عليها لمراعاة ما سبق من قوله تعالى: * (قد نبأنا الله) * الخ وللإيذان بأنهم ما كانوا عالمين في الدنيا بحقيقة أعمالهم وإنما يعلمونها يومئذ.
* (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزآء بما كانوا يكسبون) *
* (سيحلفون بالله لكم) * تأكيدا لمعاذيرهم الكاذبة وترويجا لها.
والسين للتأكيد على ما مر، والمحلوف عليه ما يفهم من الكلام وهو ما اعتذروا به الأكاذيب، والجملة بدل من يعتذرون أو بيان لهه * (إذا انقلبتم) * من سفركم * (إليهم) * والانقلاب هو الرجوع والانصراف مع زيادة معنى الوصول والاستيلاء، وفائدة تقييد حلفهم كما قال بعض المحققين به الإيذان بأنه ليس لرفع ما خاطبهم النبي صلى الله عليه وسلم به من قوله تعالى: * (لا تعتذروا) * الخ بل هو أمر مبتدأ * (لتعرضوا عنهم) * فلا تعاتبوهم وتصفحوا عما فرط منهم صفح رضا كما يفصح عنه قوله تعالى: * (لترضوا عنهم) * * (فأعرضوا عنهم) * لكن لا اعراض رضا كما طلبوا بل إعراض اجتناب ومقت كما ينبىء عنه التعليل بقوله سبحانه: * (إنهم رجس) * فانه صريح في أن المراد بالاعراض إما الاجتناب عنهم لما يفهم من القذارة الروحانية وإما ترك استصلاحهم بترك المعاملة المقصود منها التطهير بالحمل
على التوبة وهؤلاء أرجاس لا تقبل التطهير، وقيل: إن * (لتعرضوا) * بتقدير للحذر عن أن تعرضوا على أن الإعراض فيه أعراض مقت أيضا ولا يخفى أنه تكلف لا يحتاج إليه، وقوله تعالى: * (ومأواهم جهنم) * إما من تمام التعليل فإن كونهم من أهل النار من دواعي الاجتناب عنهم وموجبات ترك
3

استصلاحهم باللوم والعتاب وإما تعليل مستقل أي وكفتهم النار عتابا على حد - عتابه السيف ووعظه الصفع - فلا تتكلفوا أنتم بذلك * (جزاء) * نصب على أنه مفعول مطلق مؤكد لفعل مقدر من لفظه وقع حالا أي يجزون جزاء أو لمضمون ما قبله فإنه مفيد لمعنى المجازاة كأنه قيل: مجزيون جزاء * (بما كانوا يكسبون) * أي بما يكسبونه على سبيل الاستمرار من فنون السيآت في الدنيا أو بكسبهم المستمر لذلك.
وجوز أن يكون مفعولا له وحالا من الخبر عند من يرى ذلك.
* (يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الف‍اسقين) *
* (يحلفون لكم) * بدل مما سبق، والمحلوف عليه محذوف لظهوره كما تقدم أي يحلفون به تعالى على ما اعتذروا * (لترضوا عنهم) * بحلفهم وتستديموا عليهم ما كنتم تفعلون بهم * (فان ترضوا عنهم) * حسبما طلبوا * (فان الله لا يرضى عن القوم الف‍اسقين) * أي فرضاكم لا ينتج لهم نفعا لأن الله تعالى ساخط عليهم ولا أثر لرضا أحد من سخطه تعالى، وجوز بعضهم كون الرضا كناية عن التلبيس أي أن أمكنهم أن يلبسوا عليكم بالأيمان الكاذبة حتى يرضوكم لا يمكنهم أن يلبسوا على الله تعالى بذلك حتى يرضى عنهم فلا يهتك أستارهم ولا يهينهم وهو خلاف الظاهر، ووضع الفاسقين موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالخروج عن الطاعة المستوجبة لما حل بهم، والمراد من الآية نهى المخاطبين عن الرضا عنهم والاغترار بمعاذيرهم الكاذبة على أبلغ وجه وآكده فإن الرضا عمن لا يرضى عنه الله تعالى مما لا يكاد يصدر عن المؤمن، والآية نزلت على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في جد بن قيس. ومعتب بن قشير. وأصحابهما من المنافقين وكانوا ثمانين رجلا أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين لما رجعوا إلى المدينة أن لا يجالسوهم ولا يكلموهم فامتثلوا، وعن مقاتل أنها نزلت في عبد الله بن أبي حلف للنبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتخلف عنه أبدا وطلب أن يرضى فلم يفعل صلى الله عليه وسلم.
* (الاعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود مآ أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم) *
* (الأعراب) * هي صيغة جمع وليست بجمع للعرب على ما روي عن سيبويه لئلا يلزم كون الجمع أخص من الواحد، فإن العرب هذا الجيل المعروف مطلقا والإعراب ساكن البادية منهم، ولذا نسب إلى الأعراب على لفظه فقيل أعرابي، وقيل: العرب سكان المدن والقرى والأعراب سكان البادية من هذا الجيل أو مواليهم فهما متباينان، ويفرق بين الجمع والواحد بالياء فيهما فيقال للواحد عربي وأعرابي وللجماعة عرب وأعراب وكذا أعاريب وذلك كما يقال الواحد: مجوسي ويهودي ثم تحذف الياء في الجمع فيقال المجوس واليهود، أي أصحاب البدو * (أسد كفرا ونفاقا) * من أهل الحضر الكفار والمنافقين لتوحشهم وقساوة قلوبهم وعدم مخالطتهم أهل الحكمة وحرمانهم استماع الكتاب والسنة وهم أشبه شيء بالبهائم، وفي الحديث عن الحسن عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من سكن البادية جفا ومن اتبع الصيد غفل ومن أتي السلطان افتتن " وجاء " ثلاثة من الكبائر " وعد منها التعرب بعد الهجرة وهو أن يعود إلى البادية ويقيم مع الأعراب بعد أن كان مهاجرا، وكان من رجع بعد الهجرة إلى موضعه من غير عذر يعدونه كالمرتد، وكان ذلك لغلبة الشر في أهل البادية والطبع سراق أو للبعد عن مجالس العلم وأهل الخير وإنه ليفضي إلى شر كثير، والحكم على الأعراب بما ذكر من باب وصف الجنس بوصف بعض أفراده كما في قوله تعالى: * (وكان الإنسان كفورا) * (الإسراء: 67) إذ ليس كلهم كما ذكر، ويدل عليه قوله تعالى الآتي: * (ومن الأعراب من يؤمن) * (التوبة: 98) الخ، وكان ابن سيرين كما أخرج أبو الشيخ عنه يقول: إذا تلا أحدكم هذه الآية فليتل الآية الأخرى
4

يعنى بها ما أشرنا إليه، والآية المذكورة كما روي عن الكلبي نزلت في أسد. وعطفان، والعبرة بعموم اللفظ لا لخصوص السبب. * (وأجدر) * أي أحق وأخلق، وهو على ما قال الطبرسي مأخوذ من جدر الحائط بسكون الدال وهو أصله وأساسه ويتعدى بالباء فقوله تعالى: * (ألا يعلموا) * بتقدير بأن لا يعلموا * (حدود ما أنزل الله على رسوله) * وهي كما أخرج أبو الشيخ عن الضحاك الفرائض وما أمروا به من الجهاد، وأدرج بعضهم السنن في الحدود، والمشهور أنها تخص الفرائض، أو الأوامر والنواهي لقوله تعالى: * (تلك حدود الله فلا تعتدوها) * (البقرة: 229) و * (تلك حدود الله فلا تقربوها) * (البقرة: 187)، ولعل ذلك من باب التغليب ولا بعد فيه فإن الأعراب أجدر أن لا يعلموا كل ذلك لبعدهم عمن يقتبس منه، وقيل: المراد منها بقرينة المقام وعيده تعالى على مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم في الجهاد، وقيل: مقادير التكاليف. * (والله عليم) * يعلم أحوال كل من أهل الوبر والمدر * (حكيم) * بما سيصيب به مسيئهم ومحسنهم من العقاب والثواب.
* (ومن الاعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دآئرة السوء والله سميع عليم) *
* (ومن الأعراب) * أي من جنسهم الذي نعت بنعت بعض أفراده. وقيل: من الفريق المذكور * (من يتخذ) * أي يعد * (ما ينفق) * أي يصرفه في سبيل الله تعالى ويتصدق به كما يقتضيه المقام * (مغرما) * أي غرامة وخسرانا من الغرا بمعنى الهلاك، وقيل: من الغرم وهو نزول نائبة بالمال من غير جناية، وأصله من الملازمة ومنه قيل لكل من المتداينين غريم، وإنما أعدوه كذلك لأنهم لا ينفقونه احتسابا ورجاء لثواب الله تعالى ليكون لهم مغنما وإنما ينفقونه تقية ورئاء الناس فيكون غرامة محضة، وما في صيغة الاتخاذ من معنى الاختيار والانتفاع بما يتخذ إنما هو باعتبار غرض المنفق من الرياء والتقية لا باعتبار ذات النفقة أعني كونها غرامة * (ويتربص بكم الدوائر) * أي ينتظر بكم نوب الدهر ومصائبه التي تحيط بالمرء لينقلب بها أمركم ويتبدل بها حالكم فيتخلص مما ابتلي به * (عليهم دائرة السوء) * دعاء
عليهم بنحو ما يتربصون به، وهو اعتراض بين كلامين كما في قوله تعالى: * (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا) * (المائدة: 64) الخ، وجوز أن تكون الجملة اخبارا عن وقوع ما يتربصون به عليهم، والدائرة اسم للنائبة وهي في الأصل مصدر كالعافية والكاذبة أو اسم فاعل من دار يدور وقدم تمام الكلام عليها، و * (السوء) * في الأصل مصدر أيضا ثم أطلق على كل ضرر وشر وقد كان وصفا للدائرة ثم أضيفت إليه فالإضافة من باب إضافة الموصوف إلى صفته كما في قولك: رجل صدق وفيه من المبالغة ما فيه، وعلى ذلك قوله تعالى: * (ما كان أبوك أمرأ سوء) * (مريم: 28) وقيل: معنى الدائرة يقتضي معنى السوء فالإضافة للبيان والتأكيد كما قالوا: شمس النهار ولحيا رأسه. وقرأ ابن كثير. وأبو عمرو * (السوء) * هنا وفي ثانية الفتح بالضم وهو حينئذ اسم بمعنى العذاب وليس بمصدر كالمفتوح وبذلك فورق الفراء بينهما: وقال أبو البقاء: السوء بالضم الضرر وهو مصدر في الحقيقة يقال: سؤته سوءا ومساءة ومسائية وبالفتح الفساد والرداءة، وكأنه يقول بمصدرية كل منهما في الحقيقة كما فهمه الشهاب من كلامه، وقال مكي: المفتوح معناه الفساد والمضمون معناه الهزيمة والضرر وظاهره كما قيل إنهما اسمان * (والله سميع) * بمقالاتهم الشنيعة عند الانفاق * (عليم) * بنياتهم الفاسدة التي من جملتها أن يتربصوا بكم الدوائر، وفيه من شدة الوعيد
5

ما لا يخفى.
* (ومن الاعراب من يؤمن بالله واليوم الاخر ويتخذ ما ينفق قرب‍ات عند الله وصلوات الرسول ألاإنها قربة لهم سيدخلهم الله فى رحمته إن الله غفور رحيم) *
* (ومن الأعراب) * أي من جنسهم على الإطلاق * (من يؤمن بالله واليوم الآخر) * على الوجه المأمور به * (ويتخذ) * على وجه الاصطفاء والاختيار * (ما ينفق) * في سبيل الله تعالى * (قربات) * جميع قربة بمعنى التقرب، وهو مفعول ثان ليتخذ، والمراد اتخاذ ذلك سببا للتقرب على التجوز في النسبة أو التقدير، وقد تطلق القربة على ما يتقرب به والأول اختيار الجمهور، والجمع باعتبار الأنواع والأفراد، وقوله سبحانه: * (عند الله) * صفة * (قربات) * أو ظرف ليتخذ.
وجوز أبو البقاء كونه ظرفا لفربات على معنى مقربات عند الله تعالى، وقوله تعالى: * (وصلوات الرسول) * عطف على * (قربات) * أي وسببا لدعائه عليه الصلاة والسلام فإنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم، ولذلك يسن للمتصدق عليه أن يدعو للمتصدق عند أخذ صدقته لكن ليس له أن يصلى عليه، فقد قالوا: لا يصلي على غير الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام إلا بالتبع لأن في الصلاة من التعظيم ما ليس في غيرها من الدعوات وهي لزيادة الرحمة والقرب من الله تعالى فلا تليق بمن يتصور منه الخطايا والذنوب ولاقت عليه تبعا لما في ذلك من تعظيم المتبوع، واختلف هل هي مكروهة تحريما أو تنزيها أو خلافا الأولى؟ صحح النووي في الأذكار الثاني، لكن في خطبة شرح الاشباه للبيري من صلى على غيرهم أثم وكره وهو الصحيح. وما رواه الستة غير التمرذي من قوله صلى الله عليه وسلم: " اللهم صل على ل أبي أوفي " لا يقوم حجة على المانع لأن ذلك كما في المستصفى حقه عليه الصلاة والسلام فله أن يتفضل به على من يشاء ابتداءا وليس الغير كذلك. وأما السلام فنقل اللقاني في " شرح جوهرة التوحيد " عن الإمام الجويني أنه في معنى الصلاة فلا يستعمل في الغائب، ولا يفرد به غير الأنبياء والملائكة عليهم السلام فلا يقال: علي عليه السلام بل يقال: رضي الله تعالى عنه، وسواء في هذا الأحياء والأموات إلا في الحاضر فيقال: السلام أو سلام عليك أو عليكم، وهذا مجمع عليه انتهى، أقول: ولعل من الحاضر * (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) * و * (سلام عليكم دار قوم مؤمنين) * وإلا فهو مشكل، والظاهر أن العلة في منع السلام ما قاله النووي في علة منع الصلاة من أن ذلك شعار أهل البدع وأنه مخصوص في لسان السلف بالأنبياء والملائكة عليهم السلام كما أن قولنا: عز وجل مخصوص بالله سبحانه فلا يقال محمد عز وجل وإن كان عزيزا جليلا صلى الله عليه وسلم، ثم قال اللقاني: وقال القاضي عياض: الذي ذهب إليه المحققون وأميل إليه ما قاله مالك. وسفيان، واختاره غير واحد من الفقهاء والمتكلمين أنه يجب تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالصلاة والتسليم كما يختص الله سبحانه عند ذكره بالتقديس والتنزيه ويذكر من سواهم بالغفران والرضا كما قال تعالى: * (رضي الله عنهم ورضوا عنه) * (المائدة: 115) * (يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالإيمان) * (الحشر: 10) وأيضا أن ذلك في غير من ذكر لم يكن في الصدر الأول وإنما أحدثه الرافضة في بعض الأئمة والتشبيه بأهل البدع منهى عنه فتجب مخالفتهم انتهى، ولا يخفى أن مذهب الحنابلة جواز ذلك في غير الأنبياء والملائكة عليهم السلام استقلالا عملا بظاهر الحديث السابق، وكراهة التشبيه بأهل البدع مقررة عندنا أيضا لكن لا مطلقا بل في المذموم وفيما قصد به التشبه بهم كما ذكره الحصكفي في الدر المختار فافهم. ثم التعرض لوصف الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر في هذا الفريق مع أن مساق الكلام
6

لبيان الفرق بين الفريقين في بيان شأن اتخاذ ما ينفقانه حالا ومآلا وأن ذكر اتخاذه سببا للقربات والصلوات مغن عن التصريح بذلك لكمال العناية بإيمانهم وبيان اتصافهم به وزيادة الاعتناء بتحقق الفرق من أول الأمر، وأما الفريق الأول فاتصافهم بالكفر والنفاق معلوم من سياق النظم الكريم صريحا.
وجوز عطف * (وصلوات) * على * (ما ينفق) * وعليه اقتصر أبو البقاء أي يتخذ ما ينفق وصلوات الرسول عليه الصلاة والسلام قربات * (ألا إنها قربة لهم) * شهادة لهم من جناب الله تعالى بصحة ما اعتقدوه وتصديق لرجائهم، والضمير إما للنفقة المعلومة مما تقدم أو - لما - التي هي بمعناها فهو راجع لذلك باعتبار المعنى فلذا أنث أو لمراعاة الخبر. وجوز ابن الخازن رجوعه للصلوات والأكثرون على الأول، وتنوين * (قربة) * للتفخيم المغنى عن الجمع أي قربة لا يكتنه كنهها، وفي إيراد الجملة اسمية بحرفي التنبيه والتحقيق من الجزالة ما لا يخفى.
والاقتصار على بيان كونها قربة لهم لأنها الغاية القصوى وصلوات الرسول عليه الصلاة والسلام من ذرائعها وقرىء * (قربة) * بضم الراء للاتباع * (سيدخلهم الله في رحمته) * وعد لهم بإحاطة رحمته سبحانه بهم كما يشعر بذلك * (في) * الدالة على الظرفية وهو في مقابلة الوعيد للفرقة السابقة المشار إليه بقوله تعالى: * (والله سميع عليم) * وفيه تفسير للقربة أيضا، والسين للتحقيق والتأكيد لما تقدم أنها في الإثبات في مقابلة لن في النفي، وقوله سبحانه: * (إن الله غفور رحيم) *
تقرير لما تقدم كالدليل عليه، والآية كما أخرج ابن جرير. وابن المنذر. وأبو الشيخ. وغيرهم عن مجاهد نزلت في بني مقرن من مزينة. وقال الكلبي: في أسلم. وغفار. وجهينة وقيل: نزلت التي قبلها في أسد. وغطفان. وبني تميم وهذه في عبد الله ذي البجادين بن نهم المزنى رضي الله تعالى عنه.
* (والس‍ابقون الاولون من المه‍اجرين والأنص‍ار والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جن‍ات تجري تحتها الأنه‍ار خ‍الدين فيهآ أبدا ذالك الفوز العظيم) *
* (والسابقون الأولون من المهاجرين) * بيان لفضائل أشراف المسلمين إثر بيان طائفة منهم، والمراد بهم كما روي عن سعيد. وقتادة. وابن سيرين. وجماعة الذين صلوا إلى القبلتين، وقال عطاء بن رباح: هم أهل بدر، وقال الشعبي: هم أهل بيعة الرضوان وكانت بالحديبية، وقيل: هم الذين أسلموا قبل الهجرة * (والأنصار) * أهل بيعة العقبة الأولى وكانت في سنة إحدى عشرة من البعة وكانوا على ما في بعض الروايات سبعة نفر وأهل بيعة العقبة الثانية وكانت في سنة اثنتي عشرة وكانوا سبعين رجلا وامرأتين. والذين أسلموا حين جاءهم من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو زرارة مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف وكان قد أرسله عليه الصلاة والسلام مع أهل العقبة الثانية يقرئهم القرآن ويفقههم في الدين * (والذين اتبعوهم باحسان) * أي متلبسين به، والمراد كل خصلة حسنة، وهم اللاحقون بالسابقين من الفريقين على أن * (من) * تبعيضة أو الذين أتبعوهم بالإيمان والطاعة إلى يوم القيامة فالمراد بالسابقين جميع المهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم، ومعنى كونهم سابقين أنهم أولون بالنسبة إلى سائر المسلمون وكثير من الناس ذهب إلى هذا. روي عن حميد بن زياد أنه قال: قلت: يوما لمحمد بن كعب القرظي ألا تخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كان بينهم من الفتن فقال لي: إن الله تعالى قد غفر لجميعهم وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم فقلت له: في أي موضع أوجب لهم الجنة؟ فقال: سبحان الله الا تقرأ قوله تعالى: * (والسابقون الأولون) * الآية فتعلم أنه تعالى أوجب لجيمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والرضوان وشرط على التابعين شرطا قلت: وما ذلك الشرط؟ قال: شرط عليهم أن يتبعوهم باحسان وهو أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة ولا يقتدوا بهم في غير ذلك أو يقال: هو أن يتبعوهم
7

بإحسان في القول وان لا يقولوا فيهم سوءا وأن لا يوجهوا الطعن فيما أقدموا عليه، قال حميد بن زياد: فكأني ما قرأت هذه الآية قط، وعلى هذا تكون الآية متضمنة من فضل الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما لم تتضمنه على التقدير الأول.
واعترض القطب على التفاسير السابقة للسابقين من المهاجرين بأن الصلاة إلى القبلتين وشهود بدر وبيعة الرضوان مشتركة بين المهاجرين والأنصار. وأجيب بأن مراد من فسر تعيين سبقهم لصحبتهم ومهاجرتهم له صلى الله عليه وسلم على من عداهم من ذلك القبيل. واختار الإمام أن المراد بالسابقين من المهاجرين السابقون في الهجرة ومن السابقين من الأنصار السابقون في النصرة وادعى أن ذلك هو الصحيح عنده، واستد عليه بأنه سبحانه ذكر كونهم سابقين ولم يبين أنهم سابقون فيما ذا فبقى اللفظ مجملا إلا أنه تعالى لما وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصارا علم أن المراد من السبق السبق في الهجرة والنصرة إزالة للإجمال عن اللفظ، وأيضا كل واحدة من الهجرة والنصرة لكونه فعلا شاقا على النفس طاعة عظيمة فمن أقدم عليه أولا صار قدوة لغيره في هذه الطاعة وكان ذلك مقويا لقلب الرسول صلى الله عليه وسلم وسببا لزوال الوحشة عن خاطره الشريف عليه الصلاة والسلام فلذلك أثني الله تعالى على كل من كان سابقا إليهما وأثبت لهم ما أثبت، وكيف لا وهم آمنوا وفي عدد المسلمين في مكة والمدينة قلة وضعف فقوى الإسلام بسببهم وكثر عدد المسلمين بإسلامهم وقوى قلبه صلى الله عليه وسلم بسبب دخولهم في الإسلام واقتداء غيرهم بهم فكان حالهم في ذلك كحال من سن سنه حسنة؛ وفي الخبر " من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة " ولا يخفى أنه حسن.
ويجوز عندي أن يراد بالسابقين الذين سبقوا إلى الإيمان بالله واليوم الآخر واتخاذ ما ينفقون قربات والقرينة على ذلك ظاهرة، وأياما كان فالسابقون مبتدأ خبره قوله تعالى: * (رضي الله عنهم) * أي بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم * (ورضوا عنه) * بما نالوه من النعم الجليلة الشأن. وجوز أبو البقاء أن يكون الخبر * (الأولون) * أو * (من المهاجرين) * وأن يكون * (السابقون) * معطوفا على * (من يؤمن) * أي ومنهم السابقون وما ذكرناه أظهر الوجوه. وعن عمر رضي الله تعالى عنه انه قرأ * (والأنصار) * بالرفع على أنه معطوف على السابقون.
وأخرج أبو عبيدة. وابن جرير. وابن المنذر. وغيرهم عن عمرو بن عامر الأنصاري أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يقرأ بأسقاط الواو من * (والذين اتبعوهم) * فيكون الموصول صفة الأنصار جنى قال له زيد: إنه بالواو فقال ائتوني بأبي بن كعب فأتاه فسأله عن ذلك فقال: هي بالواو فتابعه. وأخرج أبو الشيخ عن أبي أسامة. ومحمد بن إبراهيم التيمي قالا: مر عمر بن الخطاب برجل يقرأ * (والذين) * بالواو فقال: من أقرأك هذه؟ فقال: أبي فأخذ به إليه فقال: يا أبا المنذر أخبرني هذا أنك أقرأته هكذا قال أبي: صدق وقد تلقنتها كذلك من في رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: أنت تلقنتها كذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم فأعاد عليه فقال في الثالثة وهو غضبان: نعم والله لقد أنزلها الله على جبريل عليه السلام وأنزلها جبريل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ولم يستأمر فيها الخطاب ولا ابنه فخرج عمر رافعا يديه وهو يقول الله أكبر الله أكبر.
وفي رواية أخرجها أبو اأبي شيخ أيضا عن محمد بن كعب أن أبيا رضي الله تعالى عنه: تصديق هذه الآية في أول الجمعة * (وآخرين منهم) * (الجمعة: 3) وفي أوسط الحشر * (والذين جاءوا من بعدهم) * (الحشر: 10) وفي آخر الأنفال * (والذين آمنوا من بعد) * (الأنفال: 75) الخ، ومراده رضي الله تعالى عنه أن هذه الآيات تدل على أن التابعين غير الأنصار،
8

وفيها أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا وأراد اختصاص السبق بالمهاجرين، وظاهر تقديم المهاجرين على الأنصار
مشعر بأنهم أفضل منهم وهو الذي يدل عليه قصة السقيفة، وقد جاء في فضل الأنصار ما لا يحصى من الأخبار. ومن ذلك ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن أنس قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار ".
وأخرج الطبراني عن السائب بن يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم الفيء الذي أفاء الله تعالى بحنين في أهل مكة من قريش وغيرهم فغضب الأنصار فأتاهم فقال: " يا معشر الأنصار قد بلغني من حديثكم في هذه المغانم التي آثرت بها أناسا أتألفهم على الإسلام لعلهم أن يشهدوا بعد اليوم وقد أدخل الله تعالى قلوبهم الإسلام ثم قال: يا معشر الإسلام ألم يمن الله تعالى عليكم بالإيمان وخصكم بالكرامة وسماكم بأحسن الأسماء أنصار الله تعالى وأنصار روسله عليه الصلاة والسلام ولولا الهجرة لكنت أمرءا من الأنصار ولو سلك الناس واديا وسلكتم واديا لسلكت واديكم أفلا ترضون أن يذهب الناس بهذه الغنائم البعير والشاء وتذهبون برسول الله؟ فقالوا: رضينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجيبوني فيما قلت. قالوا: يا رسول الله وجدتنا في ظلمة فأخرجنا الله بك إلى النور، وجدتنا على شفا حفرة من النار فانقذنا الله بك، وجدتنا ضلالا فهدانا الله تعالى بك فرضينا بالله تعالى ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، فقال عليه الصلاة والسلام: لو اجببتموني بغير هذا القول لقلت: صدقتم لو قلتم ألم تأتنا طريدا فآويناك؟ ومكذبا فصدقناك؟ ومخذولا فنصرناك وقبلنا ما رد الناس عليك لصدقتم، قالوا: بل لله تعالى ولرسوله المن والفضل علينا وعلى غيرنا " فانظر كيف قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف أجابوه رضي الله تعالى عنهم * (وأعد لهم جن‍ات تجري تحتها الأنهار) * أي هيأ لهم ذلك في الآخرة. وقرأ ابن كثير * (من تحتها) * وأكثر ما جاء في القرآن موافق لهذه القراءة * (خ‍الدين فيها أبدا) * من غير انتهاء * (ذلك الفوز العظيم) * أي الذي لا فوز وراءه، وما في ذلك من معنى البعد قيل لبيان بعد منزلتهم في الفضل وعظم الدرجة من مؤمني الأعراب، ولا يخفى أن هذا لا يكاد يصح إلا بتكلف ما إذا أريد من الذين اتبعوهم صنف آخر غير الصحابة لأن الظاهر أن مؤمني الأعراب صحابة ولا يفضل غير صحابي صحابيا كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه "، وقوله صلى الله عليه وسلم: " أمتى كالمطر لا يدري أوله خير أم آخره " من باب المبالغة.
* (وممن حولكم من الاعراب من‍افقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم) *
* (وممن حولكم من الأعراب) * شروع في بيان منافقي أهل المدينة ومن حولها من الأعراب بعد بيان حال أهل البادية منهم أي وممن حول بلدكم * (منافقون) * والمراد بالموصول كما أخرج ابن المنذر عن عكرمة: جهينة. ومزينة. وأشجع. وأسلم. وغفار؛ وكانت منازلهم حول المدينة، وإلى هذا ذهب جماعة من المفسرين كالبغوي. والواحدي. وابن الجوزي. وغيرهم. واستشكل ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم مدح هذه القبائل ودعا لبعضها. فقد أخرج الشيخان. وغيرهما عن أبي هريرة عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: " قريش. والأنصار. وجهينة. ومزينة. واشجع. وأسلم. وغفار موالي الله تعالى ورسوله لا موالي لهم غيره، وجاء عنه أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال:
9

" اسلم سالمها الله تعالى وغفار غفر الله لها أما إني لم أقلها لكن قالها الله تعالى "، وأجيب بأن ذلك باعتبار الأغلب منهم * (ومن أهل المدينة) * عطف على * (ممن حولكم) * فيكون كالمعطوف عليه خبرا عن - المنافقون - كأنه قيل: المنافقون من قوم حولكم ومن أهل المدينة، وهو من عطف مفرد على مفلد ويكون قوله سبحانه: * (مردوا على النفاق) * جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب مسوقة لبيان غلوهم في النفاق إثر بيان اتصافهم به أو صفة لمنافقون، واستبعده أبو حيان بأن فيه الفصل بين الصفة وموصوفها، وجوز أن يكون * (من أهل المدينة) * خبر مقدم والمبتدأ بعده محذوف قامت صفته مقامه والتقدير ومن أهل المدينة قوم مردوا، وحذف الموصوف وإقامة صفته مقامه إذا كان بعض اسم مجرور بمن أو في مقدم عليه مقيس شائع نحو - منا أقام ومنا ظعن -، وفي غير ذلك ضرورة أو نادر، ومنه قول سحيم: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا * متى أضع العمامة تعرفوني
على أحد التأويلات فيه، وأصل المرود على ما ذكره علي بن عيسى الملاسة ومنه صرح ممرد، والأمرد الذي لا شعر على وجهه، والمرداء الرملة التي لا تنبت شيئا، وقال ابن عرفة: أصله الظهور ومنه قولهم: شجرة مرداء إذا تساقط ورقها وأظهرت عيدانها، وفي القاموس مرد كنصر وكرم مرودا ومرودة ومرادة فهو ما رد ومريد ومتمرد أقدم وعتا أو هو أن يبلغ الغاية التي يخرج بها من جملة ما عليه ذلك الصنف، وفسروه بالاعتياد والتدرب في الأمر حتى يصير ما هرا فيه وهو قريب مما ذكره في القاموس من بلوغ الغاية، ولا يكاد يستعمل إلا في الشر.
وهو على الوجهين الأولين شامل للفريقين حسب شمول النفاق وعلى الوجه الأخير خاص بمنافقي أهل المدينة واستظهر ذلك، وقيل: إنه الأنسب بذكر منافقي أهل البادية أولا ثم ذكر منافقي الاعراب المجاورين ثم ذكر منافقي أهل المدينة ويبقى على هذا أنه لم يبين مرتبة المجاورين في النفاق بخلافه على تقدير شموله للفريقين؛ ثم لا يخفى أن التمرد على النفاق إذا اقتضى الأشدية فيه أشكل عليه تفسيرهم المفضل في قوله سبحانه: * (الأعراب أشد كفرا ونفاقا) * (التوبة: 97) بأهل الحضر، ولعل المراد تفضيل المجموع على المجموع أو يلتزم عدم الاقتضاء.
وقوله تعالى: * (لا تعلمهم) * بيان لتمردهم أي لا تعرفهم أنت بعنوان نفاقهم يعني أنهم بلغوا من المهارة في النفاق والتنوق في مراعاة التقية والتحامي عن مواقع التهم إلى حيث يخفى عليك مع كمال فطنتك وصدق فراستك حالهم، وفي تعليق نفي العلم بهم مع أنه متعلق بحالهم مبالغة في ذلك وإيماء إلى أن ما هم عليه من صفة النفاق لعراقتهم ورسوخهم فيها صارت بمنزلة ذاتياتهم أو مشخصاتهم بحيث لا يعد من لا يعرفهم بتلك الصفة عالما بهم، ولا حاجة في هذا المعنى إلى حمل العلم على المتعدي لمفولين وتقدير المفعول الثاني أي لا تعلمهم منافقين، وقيل: المراد لا تعرفهم بأعيانهم وإن عرفتهم إجمالا، وما ذكرناه لما فيه من المبالغة ما فيه أولى وحاصله لا تعرف نفاقهم * (نحن نعلمهم) * أي نعرفهم بذلك العنوان وإسناد العلم بمعنى المعرفة إليه تعالى مما لا ينبغي أن يتوقف فيه وإن وهم فيه من وهم لا سيما إذا خرج ذلك مخرج
المشاكلة، وقد فسر العلم هنا بالمعرفة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما أخرجه عند أبو الشيخ. نعم لا يمتنع حمله على معناه المتبادر كما لا يمتنع حمله على ذلك فيما تقدم لكنه محوج إلى التقدير وعدم التقدير أولى من التقدير.
والجملة تقرير لما سبق من مهارتهم في النفاق أي لا يقف على سرائرهم المركوز فيهم إلا من لا تخفى عليه خافية
10

لما هم عليه من شدة الاهتمام بإبطال الكفر وإظهار الإخلاص، وأمر تعليق العلم هنا كؤمر تعليق نفيه فيما مر. واستدل بالآية على أنه لا ينبغي الإقدام على دعوى الأمور الخفية من أعمال القلب ونحوها. وقد أخرج عبد الرزاق. وابن المنذر وغيرهما عن قتادة أنه قال: ما بال أقوام يتكلفون على الناس يقولون. فلان في الجنة وفلان في النار فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري لعمري أنت بنفسك أعلم منك بأعمال الناس ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه نبي قال نوع عليه السلام و * (ما علمي بما كانوا يعملون) * (الشعراء: 112) وقال شعيب عليه السلام: * (وما أنا عليكم بحفيظ) * (هود: 86) وقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: * (لا تعلمهم نحن نعلمهم) * وهذه الآيات ونحوها أقوى دليل في الرد على من يزعم الكشف والاطلاع على المغيبات بمجرد صفاء القلب وتجرد النفس عن الشواغل وبعضهم يتساهلون في هذا الباب جدا * (سنعذبهم) * ولا بد لتحقيق المقتضى فيهم عادة * (مرتين) * أخرج ابن أبي حاتم. والطبراني في الأوسط. وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: " قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة خطيبا فقال قم يا فلان فأخرج فإنك منافق أخرج يا فلان فإنك منافق فأخرجهم بأسمائهم ففضحهم ولم يك عمر بن الخطاب شهد تلك الجمعة لحاجة كانت له فلقيهم وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم استحياء أنه لم يشهد الجمعة وظن أن الناس قد انصرفوا واختبأوا هم منه وظنوا أنه قد علم بأمرهم فدخل المسجد فإذا الناس لم ينصرفوا فقال له رجل: أبشر يا عمر فقد فضح الله تعالى المنافقين اليوم فهذا العذاب الأول والعذاب الثاني عذاب القبر ". وفي رواية ابن مردويه عن ابن مسعود الأنصاري أنه صلى الله عليه وسلم أقام في ذلك اليوم وهو على المنبر ستة وثلاثين رجلا.
وأخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه فسر العذاب مرتين بالجوع والقتل، ولعل المراد به خوفه وتوقعه، وقيل: هو فرضى إذا أظهروا النفاق وفي رواية أخرى عنه أنهم عذبوا بالجوع مرتين، وعن الحسن أن العذاب الأول أحذ الزكاة والثاني عذاب القبر. وعن ابن إسحق أن الأول غيظهم من أهل الإسلام والثاني عذاب القبر، ولعل تكرير عذابهم لما فيهم من الكفر المشفوع بالنفاق أو النفاق المؤكد بالتمرد فيه.
وجوز أن يراد بالمرتين التكثير كما في قوله تعالى: * (فارجع البصر كرتين) * (الملك: 4) لقوله سبحانه: * (أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) * (التوبة: 126) * (ثم يردون) * يوم القيامة الكبرى * (إلى عذاب عظيم) * هو عذاب النار، وتغيير الأسلوب على ما قيل بإسناد عذابهم السابق إلى نون العظمة حسب أسناد ما قبله من العلم وإسناد ردهم إلى العذاب اللاحق إلى أنفسهم إيذان باختلافهما حالا وإن الأول خاص بهم وقوعا وزمانا يتولاه الله سبحانه وتعالى؛ والثاني شامل لعامة الكفرة وقوعا وزمانا وإن اختلفت طبقات عذابهم، ولا يخفى أنه إذا فسر العذاب العظيم بعذاب الدرك الأسفل من النار لم يكن شاملا لعامة الكفرة نعم هو شامل لعامة المنافقين فقط، وقد يقال: إن في بناء * (يردون) * لما لم يسم فاعله من التعظيم ما فيه فيناسب العذاب العظيم فلذا غير السبك إليه والله تعالى أعلم.
* (وءاخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا ص‍الحا وءاخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم) *
* (وءاخرون) * بيان لحال طائفة من المسلمين ضعيفة الهمم في أمر الدين ولم يكونوا منافقين على الصحيح. وقيل: هم طائفة من المنافقين إلا أنهم وفقوا للتوبة فتاب الله عليهم. قيل: وهو مبتدأ خبره جملة * (خلطوا) * وهي حال بتقدير - قد - والخبر جملة * (عسى الله) * الخ، والمحققون على أنه معطوف على * (منافقون) * أي ومنهم يعني ممن حولكم أو من أهل المدينة قوم آخرون * (اعترفوا) * أي أقروا عن معرفة * (بذنوبهم) * التي هي تخلفهم عن الغزو وإيثار الدعة عليه
11

والرضا بسوء جوار المنافقين ولم يعتذروا بالمعاذير الكاذبة المؤكدة بالإيمان الفاجرة وكانوا على ما أخرج البيهقي في الدلائل. وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عشرة تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فلما حشر رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسوارى المسجد وكان ممر النبي عليه الصلاة والسلام إذا رجع في المسجد عليهم فلما رآهم قال: من هؤلاء الموثقون أنفسهم؟ قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله وقد أقسموا أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا أقسم بالله تعالى لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله تعالى هو الذي يطلقهم فأنزل الله تعالى الآية فأرسل عليه الصلاة والسلام إليهم فأطلقهم وعذرهم.
وفي رواية أخرى عنه أنهم كانوا ثلاثة، وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد أنهم كانوا ثمانية، وروي أنهم كانوا خمسة، والروايات متفقة على أن أبا لبابة بن عبد المنذر منهم * (خلطوا عملا صالحا) * خروجا إلى الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم * (وءاخر سيئا) * تخلفا عنه عليه الصلاة والسلام روي هذا عن الحسن. والسدى، وعن الكلبي أن الأول التوبة والثاني الاثم، وقيل: العمل الصالح يعم جميع البر والطاعة والسيء ما كان ضده، والخلط المزج وهو يستدعي مخلوطا ومخلوطا به والأول هنا هو الأول والثاني هو الثاني عند بعض، والواو بمعنى الباء كما نقل عن سيبويه في قولهم: بعت الشاء شاة ودرهما، وهو منا باب الاستعارة لأن الباء للالصاق والواو وللجمع وهما من واد واحد، ونقل شارح اللبان عن ابن الحاجب إن أصل المثال بعت الشاة بدرهم أي مع درهم ثم كثر ذلك فأبدلوا من باء المصاحبة واوا فوجب أن يعرب ما بعدها بإعراب ما قبلها كما في قولهم: كل رجل وضيعته، ولا يخفى ما فيه من التكلف. وذكر الزمخشري أن كل واحد من المتعاطفين مخلوط ومخلوط به لأن المعنى خلط كل واحد منهما بالآخر كقولك: خلطت الماء واللبن تريد خلطت كل واحد منهما بصاحبه، وفيه ما ليس في قولك: خلطت الماء باللبن لأنك جعلت الماء مخلوطا واللبن مخلوطا به وإذا قلته بالواو وجعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطا بهما كأنك قلت خلطت الماء باللبن واللبن بالماء، وحاصله أن المخلوط به في كل واحد من الخلطين هو المخلوط في الآخر لأن الخلط لما اقتضى مخلوطا به فهو إما الآخر أو غيره والثاني منتف بالأصل والقرينة لدلالة سياق الكلام إذا قيل:
خلطت هذا وذاك على أن كلا منهما مخلوط ومخلوط به وهو أبلغ من أن يقال خلطت أحدهما بالآخر إذ فيه خلط واحد وفي الواو خلطان.
واعترض بأن خلط أحدهما بالآخر يستلزم خلط الآخر به ففي كل من الواو والباء خلطان فلا فرق، وأجيب بأن الواو تفيد الخلطين صريحا بخلاف الباء فالفرق متحقق، وفيه تسليم حديث الاستلزام ولا يخفى أن فيه خلطا حيث لم يفرق فيه بين الخلط والاختلاط، والحق أن اختلاط أحد الشيئين بالآخر مستلزم لاختلاط الآخر به وأما خلط أحدهما بالآخر فلا يستلزم خلط الآخر به لأن خلط الماء باللبن مثلا معناه أن يقصد الماء أو لا يجعل مخلوطا باللبن وظاهر أنه لا يستلزم أن يقصد اللبن أولا بل ينافيه، فعلى هذا معنى خلط العمل الصالح بالسيء أنهم أتوا أولا بالصالح ثم استعقبوه سيئا ومعنى خلط السيء بالصالح أنهم أتوا أولا بالسيء ثم أردفوه بالصالح، وإلى هذا يشير كلام السكاكي حيث جعل تقدير الآية خلطوا عملا صالحا بسيء وآخر سيئا بصالح أي تارة أطاعوا واحبطوا الطاعة بكبيرة وأخرى عصوا وتداركوا المعصية بالتوبة وهو ظاهر في أن العمل الصالح
12

والسيء في أحد الخلطين غيرهما في الخلط الآخر، وكلام الزمخشري ظاهر في اتحادهما وفيه ما فيه، ولذلك رجح ما ذهب إليه السكاكي لكن ما ذكره من الإحباط ميل إلى مذهب المعتزلة، وادعى بعضهم أن ما في الآية نوع من البديع يسمى الاحتباك والأصل خلطوا عملا صالحا بآخر سيء وخلطوا آخر سيئا بعمل صالح، هو خلاف الظاهر. واستظهر ابن المنير كون الخلط مضمنا معنى العمل والعدول عن الباء لذلك كأنه قيل: عملوا عملا صالحا وآخر سيئا، وأنا اختار أن الخلط بمعنى الجمع هنا وإذا اعتبر السياق وسبب النزول يكون المراد من العمل الصالح الاعتراف بالذنوب من التخلف عن الغزو وما معه من السيء تلك الذنوب أنفسها ويكون المقصود بالجمع المتوجه إليه أولا بالضم هو الاعتراف، والتعبير عن ذلك بالخلط للاشارة إلى وقوع ذلك الاعتراف على الوجه الكامل حتى كأنه تخلل الذنوب وغير صفتها، وإذا لم يعتبر سبب النزول يجوز أن يراد من العمل الصالح الاعتراف بالذنوب مطلقا ومن السيء الذنوب كذلك وتمام الكلام بحاله، ويجوز أن يراد من العمل الصالح والسيء ما صدر من الأعمال الحسنة والسيئة مطلقا، ولعل المتوجه إليه أولى على هذا أيضا ليجمع العمل الصالح إذ بضمه يفتح باب الخير، ففي الخبر " أتبع السيئة بالحسنة تمحها "، وقد حمل بعضهم الحسنة فيه على مطلقها، وأخرج ابن سعد عن الأسود بن قيس قال: لقي الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما يوما حبيب بن مسلمة فقال: يا حبيب رب مسير لك في غير طاعة الله تعالى فقال: أما مسيري إلى أبيك فليس من ذلك قال: بلى ولكنك أطعت معاوية على دنيا قليلة زائلة فلئن قام بك في دنياك فلقد قعد بك في دينك ولو كنت إذ فعلت شرا فعلت خيرا كان ذلك كما قال الله تعالى: * (خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا) * ولكنك كما قال الله تعالى: * (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) * (المطففين: 14) والتعبير بالخلط حينئذ يمكن أن يكون لما في ذلك من التغيير أيضا، وربما يراد بالخلط مطلق الجمع من غير اعتبار أولية في البين والتعبير بالخلط لعله لمجرد الإيذان بالتخلل فإن الجمع لا يقتضيه، ويشعر بهذا الحمل ما أخرجه أبو الشيخ والبيهقي عن مطرف قال: إني لأستلقي من الليل على فراشي وأتدبر القرآن فأعرض أعمالي على أعمال أهل الجنة فإذا أعمالهم شديدة كانوا قليلا من الليل ما يهجعون يبيتون لربهم سجدا وقياما أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما فلا أراني منهم فأعرض نفسي على هذه الآية * (ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين) * (المدثر: 42) إلى قوله سبحانه: * (نكذب بيوم الدين) * (المدثر: 46) فأرى القوم مكذبين فلا أراني فيهم فأمر بهذه الآية * (وآخرون اعترافوا بذنوبهم) * الخ وأرجو أن أكون أنا وأنتم يا اخوتاه منهم، وكذا ما أخرجاه وغيرهما عن أبي عثمان النهدي قال: ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله سبحانه: * (وآخرون) * الخ والظاهر أنه لم يفهم منها صدور التوبة من هؤلاء الآخرين بل ثبت لهم الحكم المفهوم من قوله سبحانه: * (عسى الله أن يتوب عليهم) * مطلقا وإلا فهي وكثير من الآيات التي في هذا الباب سواء وأرجى منها عندي قوله تعالى: * (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا) * (الزمر: 53) والمشهور أن الآية يفهم منها ذلك لأن التوبة من الله سبحانه بمعنى قبول التوبة وهو يقتضي صدورها عنهم فكأنه قيل: وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فتابوا عسى الخ.
وجعل غير واحد الاعتراف دالا على التوبة ولعل ذلك لما بينهما من اللزوم عرفا، وقال الشهاب: لأنه توبة إذا اقترن بالندم والعزم على عدم العود، وفيه أن هذا قول بالعموم والخصوص وقد ذكروا أن العام لا يدل على الخاص بإحدى الدلالات الثلاث، وكلمة * (عسى) * للإطماع وهو من أكرم الأكرمين إيجاب وأي إيجاب، وقوله تعالى:
13

* (إن الله غفور رحيم) * تعليل لما أفادته من وجوب القبول، وليس هو الوجوب الذي يقول المعتزلة كما لا يخفى أي إنه تعالى كثير المغفرة والرحمة يتجاوز عن التائب ويتفضل عليه.
* (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم والله سميع عليم) *
* (خذ من أموالهم صدقة) * أخرج غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم لما أطلقوا انطلقوا فجاؤا بأموالهم فقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا فقال عليه الصلاة والسلام: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا فنزلت الآية فأخذ صلى الله عليه وسلم منها الثلث كما جاء في بعض الروايات، فليس المراد من الصدقة الصدقة المفروضة أعني الزكاة لكونها مأمورا بها وإنما هي على ما قيل كفارة لذنوبهم حسبما ينبىء عنه قوله عز وجل: * (تطهرهم) * أي عما تطلخوا به من أوضار التخلف. وعن الجبائي أن المراد بها الزكاة وأمر صلى الله عليه وسلم بأخذها هنا دفعا لتوهم الحاقهم ببعض المنافقين فإنها لم تكن تقبل منه كما علمت وأمر التطهير سهل، وأياما كان فضمير أموالهم لهؤلاء المعترفين، وقيل: إنه على الثاني راجع لأرباب الأموال مطلقا، وجمع الأموال للإشارة إلى أن الأخذ من سائر أجناس المال، والجار والمجرور متعلق بخذ ويجوز أن يتعلق بمحذوف وقع حالا من * (صدقة) * والتاء في * (تطهرهم) * للخطاب. وقرىء بالجزم على أنه جواب الأمر والرفع على أن الجملة حال من فاعل * (خذ) * أو صفة لصدقة بتقدير بها لدلالة ما بعده عليه أو مستأنفة كما قال أبو البقاء، وجوز على احتمال
الوصفية أن تكون التاء للغيبة وضمير المؤنث للصدقة فلا حاجة بنا إلى بها. وقرىء تطهرهم من أطهره بمعنى طهره * (وتزكيهم بها) * بإثبات الياء وهو خبر مبتدأ محذوف والجملة حال من الضمير في الأمر أو في جوابه وقيل استئناف أي وأنت تزكيهم بها أي تنمي بتلك الصدقة حسناتهم وأموالهم أو تبالغ في تطهيرهم، وكون المراد ترفع منازلهم من منازل المنافقين إلى منازل الإبرار المخلصين ظاهر في أن القوم كانوا منافقين والمصحح خلافه، هذا على قراءة الجزم * (في تطهرهم) * وأما على قراءة الرفع فتزكيهم عطف عليه، وظاهر ما في الكشاف يدل على أن التاء هنا للخطاب لا غير لقوله سبحانه: * (بها) * والحمل على أن الصدقة تزكيهم بنفسها بعيد عن فصاحة التزيل. وقرأ مسلمة بن محارب * (تزكهم) * بدون الياء * (وصل عليهم) * أي ادع لهم واستغفر، وعدى الفعل بعلي لما فيه من معنى العطف لأنه من الصلوين، وإرادة المعنى اللغوي هنا هو المتبادر، والحمل على صلاة الميت بعيد وان روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ولذا استدل بالآية على استحباب الدعاء لمن يتصدق، واستحب الشافعي في صفته أن يقول للمتصدق آجرك الله فيما أعطيت وجعله لك طهورا وبارك لك فيما أبقيت. وقال بعضهم: يجب على الإمام الدعاء إذا أخذ، وقيل: يجب في صدقة الفرض ويستجب في صدقة التطوع، وقيل: يجب على الإمام ويستحب للفقير والحق الاستحباب مطلقا * (إن صلاتك سكن لهم) * تعليل للأمر بالصلاة، والسكن السكون وما تسكن النفس إليه من الأهل والوطن مثلا وعلى الأول جعل الصلاة نفس السكن، والاطمئنان مبالغة وعلى الثاني يكون المراد تشبيه صلاة عليه الصلاة والسلام في الالتجاء إليها بالسكن والأول أولى أي إن دعاءك تسكن نفوسهم إليه وتطمئن قلوبهم به إلى الغاية ويثقون بأنه سبحانه قبلهم.
وقرأ غير واحد من السبعة * (صلواتك) * بالجمع مراعاة لتعدد المدعو لهم * (والله سميع) * يسمع الاعتراف بالذنب والتوبة والدعاء * (عليم) * بما في الضمائر من الندم والغم لما فرط وبالإخلاص في التوبة والدعاء
14

أو سميع يجيب دعاءك لهم عليم بما تقتضيه الحكمة، والجملة حينئذ تذييل للتعليل مقرر لمضمونه وعلى الأول تذييل لما سبق من الآيتين محقق لما فيهما.
* (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدق‍ات وأن الله هو التواب الرحيم) *
* (ألم يعلموا) * الضمير إما للمتوب عليهم والمراد تمكين قبول توبتهم في قلوبهم والاعتداد بصدقاتهم وإما لغيرهم والمراد التحضيض على التوبة والصدقة والترغيب فيهما.
وقرىء * (تعلموا) * بالتاء وهو على الأول التفات وعلى الثاني بتقدير قل، وجوز أن يكون الضمير للتائبين وغيرهم على أن يكون المقصود التمكين والتحضيض لا غير، واختار بعضهم كونه للغير لا غير لما روي أنه لما نزلت توبة هؤلاء التائبين قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين هؤلاء كانوا معنا بالأمس لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم اليوم فنزلت، ويشعر صنيع الجمهور باختيار الأول وهو الذي يقتضيه سياق الآية، والخبر لما نقف على سند له يعول عليه أي ألم يعلم هؤلاء التائبون * (أن الله هو يقبل التوبة) * الصحيحة الخالصة * (عن عباده) * المخلصين فيها، وتعدية القبول بعن لتضمنه معنى التجاوز والعفو أي يقبل ذلك متجاوزا عن ذنوبهم التي تابوا عنها، وقيل: عن بمعنى من والضمير إما للتأكيد أوله مع التخصيص بمعنى ان الله سبحانه يقبل التوبة لا غيره أي إنه تعالى يفعل ذلك البتة لما قرر أن ضمير الفصل يفيد ذلك والخبر المضارع من مواقعه، وجعل بعضهم التخصيص بالنسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أي أنه جل وعلا يقبل التوبة لا رسوله عليه الصلاة والسلام لأن كثرة رجوعهم إليه مظنة لتوهم ذلك، والمراد بالعباد إما أولئك التائبون ووضع الظاهر موضع الضمير للإشعار بعلية ما يشير إليه القبول وإما كافة العباد وهم داخلون في ذلك دخولا أوليا * (ويأخذ الصدقات) * أي يقبلها قبول من يأخذ شيئا ليؤدي بدله فالأخذ هنا استعارة للقبول، وجوز أن يكون إسناد الأخذ إلى الله تعالى مجازا مرسلا، وقيل: نسبة الأخذ إلى الرسول في قوله سبحانه: * (خذ) * ثم نسبته إلى ذاته تعالى إشارة إلى أن أخذ الرسول عليه الصلاة والسلام قائم مقام أخذ الله تعالى تعظيما لشأن نبيه صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى: * (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) * (الفتح: 10) فهو على حقيقته وهو معنى حسن إلا أن في دعوى الحقيقة ما لا يخفى، والمختار عندي أن المراد بأخذ الصدقات الاعتناء بأمرها ووقوعها عنده سبحانه موقعا حسنا، وفي التعبير به ما لا يخفى من الترغيب. وقد أخرج عبد الرزاق عن أبي هريرة أن الله تعالى يقبل الصدقة إذا كانت من طيب ويأخذها بيمينه وإن الرجل ليتصدق بمثل اللقمة فيربيها له كما يربي أحدكم فصيله أو مهره فتربو في كف الله تعالى حتى تكون مثل أحد. وأخرج الدارقطني في الأفراد عن ابن عباس قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقوا فإن أحدكم يعطي اللقمة أو الشيء فيقع في يد الله عز وجل قبل أن يقع في يدل السائل ثم تلا هذه الآية ". وفي بعض الروايات ما يدل على أنه ليس هناك أخذ حقيقة، فقد أخرج ابن المنذر. وغيره عن أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده ما من عبد يتصدق بصدقة طيبة من كسب طيب ولا يقبل الله تعالى إلا طيبا ولا يصعد إلى السماء إلا طيب فيضعها في حق إلا كانت كأنما يضعها في يد الرحمن فيربيها له كما يربى أحدكم فلوه أو فصيله حتى ان اللقمة أو التمرة لتأتي يوم القيامة مثل الجبل العظيم ".
وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى ألم يعلموا إن الله يقبل التوبة الآية. و * (أل) * في الصدقات يحتمل أن تكون عوضا عن المضاف إليه أي صدقاتهم وإن تكون للجنس أي جنس الصدقات المندرج فيه صدقاتهم اندراجا أوليا وهو الذي يقتضيه ظاهر الأخبار * (وأن الله هو التواب الرحيم) * تأكيد لما عطف عليه وزيادة
15

تقرير لما يقرره مع زيادة معنى ليس فيه أي ألم يعلموا أنه سبحانه المختص المستأثر ببلوغ الغاية القصوى من قبول التوبة والرحمة وذلك شأن من شؤونه وعادة من عوائده المستمرة، وقيل غير ذلك، والجملتان في حيز النصب بيعلموا يسد كل واحدة منهما مسد مفعوليه.
* (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى ع‍الم الغيب والشه‍ادة فينبئكم بما كنتم تعملون) *
* (وقل اعملوا) * ما تشاؤون من الأعمال * (فسيرى الله عملكم) * خيرا كان أو شرا، والجملة تعليل لما قبله أو تأكيد لما يستفاد منه من الترغيب والترهيب والسين للتأكيد كما قررنا أي يرى الله تعالى البتة * (ورسوله والمؤمنون) * عطف على الاسم الجليل، والتأخير عن المفعول للاشعار بما بين الرؤيتين من التفاوت، والمراد
من رؤية العمل عند جمع الاطلاع عليه وعلمه علما جليا، ونسبة ذلك للرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين باعتبار أن الله تعالى لا يخفى ذلك عنهم ويطلعهم عليه أما بالوحي أو بغيره.
وأخرج أحمد. وابن أبي الدنيا في الاخلاص عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لأخرج الله تعالى عمله للناس كائنا ما كان " وتخصيص الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بالذكر على هذا لأنهم الذين يعبأ المخاطبون باطلاعهم، وفسر بعضهم المؤمنين بالملائكة الذين يكتبون الأعمال وليس بشيء، ومثله بل أدهى وأمر ما زعمه بعض الأمامية إنهم الأئمة الطاهرون ورووا أن الأعمال تعرض عليهم في كل اثنين وخميس بعد أن تعرض على النبي صلى الله عليه وسلم.
وجوز بعض المحققين أن يكون العلم هنا كناية عن المجازاة ويكون ذلك خاصا بالدنيوي من إظهار المدح والاعزاز مثلا وليس بالردىء، وقيل: يجوز إبقاء الرؤية على ما يتبادر منها. وتعقب بأن فيه التزام القول برؤية المعاني وهو تكلف وإن كان بالنسبة إليه تعالى غير بعيد، وأنت تعلم أن من الأعمال ما يرى عادة كالحركات ولا حاجة فيه إلى حديث الالتزام المذكور على أن ذلك الالتزام في جانب المعطوف لا يخفى ما فيه.
وأخرج ابن أبي شيبة. وغيره عن سلمة بن الأكوع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ * (فسيرى الله عملكم) * أي فسيظهره * (وستردون) * أي بعد الموت * (إلى ع‍الم الغيب) * ومنه ما سترونه من الأعمال * (والشه‍ادة) * ومنها ما تظهرونه، وفي ذكر هذا العنوان من تهويل الأمر وتربية المهابة ما لا يخفى. * (فينبئكم) * بعد الرد الذي هو عبارة عن الأمر الممتد * (بما كنتم تعملون) * قبل ذلك في الدنيا والأنباء مجاز عن المجازاة أو كناية أي يجازيكم حسب ذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر ففي الآية وعد ووعيد.
* (وءاخرون مرجون لامر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم) *
* (وءاخرون) * عطف على آخرون قبله أي ومنهم قوم آخرون غير المعترفين المذكورين دمرجون) * أي مؤخرون وموقوف أمرهم * (لأمر الله) * أي إلى أن يظهر أمر الله تعالى في شأنهم.
وقرأ أهل المدينة. والكوفة غير أبي بكر * (مرجون) * بغير همزة والباقون * (مرجئون) * بالهمز وهما لغتان يقال: أرجئته وأرجيته كأعطيته، ويحتمل أن يكون الياء بدلا من الهمزة كقولهم: قرأت وقريب وتوضأت وتوضيت وهو في كلامهم كثير، وعلى كونه لغة أصلية هو يائي، وقيل: إنه واوي، ومن هذه المادة المرجئة احدى فرق أهل القبلة وقد جاء فيه الهمز وتركه، وسموا بذلك لتأخيرهم المعصية عن الاعتبار في استحقاق العذاب حيث
16

قالوا لا عذاب مع الإيمان فلم يبق للمعصية عندهم أثر، وفي المواقف سموا مرجئة لأنهم يرجون العمل عن النية أي يؤخرونه في الرتبة عنها وعن الاعتقاد، أو لأنهم يعطون الرجاء في قولهم: لا يضر مع الإيمان معصية انتهى.
وعلى التفسيرين الأولين يحتمل أن يكون بالهمز وتركه، وأما على الثالث فينبغي أن يقال مرجئة بفتح الراء وتشديد الجيم، والمراد بهؤلاء المرجون كما في الصحيحين هلال بن أمية. وكعب بن مالك. ومرارة بن الربيع وهو المروى عن ابن عباس وكبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وكانوا قد تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ما مع الهم باللحاق به عليه الصلاة والسلام فلم يتيسر لهم ولم يكن تخلفهم عن نفاق وحاشاهم فقد كانوا من المخلصين فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم وكان ما كان من المتخلفين قالوا: لا عذر لنا إلا الخطيئة ولم يعتذروا له صلى الله عليه وسلم ولم يفعلوا كما فعل أهل السواري وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتنابهم وشدد الأمر عليهم كما ستعلمه إن شاء الله تعالى إلى أن نزل قوله سبحانه: * (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار) * الخ، وقد وقف أمرهم خمسين ليلة لا يدرون ما الله تعالى فاعل بهم * (إما يعذبهم وإما يتوب عليهم) * في موضع الحال أي منهم هؤلاء إما معذبين وإما متوبا عليهم.
وقيل: خبر * (آخرون) * على أنه مبتدأ و * (مرجون) * صفته، والأول أظهر، واما للتنويع على معنى أن أمرهم دائر بين هذين الأمرين، وقيل: للترديد بالنظر للفساد؛ والمعنى ليكن أمرهم عندكم بين الرجاء والخوف، والمقصود تفويض ذلك إلى إرادة الله تعالى ومشيئته إذ لا يجب عليه سبحانه تعذيب العاصي ولا مغفرة التائب وإنما شدد عليهم مع إخرصهم، والجهاد فرض كفاية لما نقل عن ابن بطال في الروض الأنف وارتضاه أن الجهاد كان على الأنصار خاصة فرض عين لأنهم بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم عليه، ألا ترى قول راجزهم في الخندق: نحن الذين بايعوا محمدا * على الجهاد ما بقينا أبدا
وهؤلاء من أجلتهم فكان تخلفهم كبيرة، وروي عن الحسن أن هذه الآية في المنافقين وحينئذ لا يراد بالآخرين من ذكرنا لأنهم من علمت بل يراد به آخرون منافقون، وعلى هذا ينبغي أن يكون قول من قال في في * (إما يعذبهم) * أي إن أصروا على النفاق. وقد علمت أن ذلك خلاف ما في الصحيحين. وحمل النفاق في كلام القائل على ما يشبهه بعيد ودعوى بلا دليل * (والله عليم) * بأحوالهم * (حكيم) * فيما فعل بهم من الارجاء وفي قراءة عبد الله * (غفور رحيم) *.
* (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لك‍اذبون) *
* (والذين اتخذوا مسجدا) * عطف على ما سبق أي ومنهم الذين، وجوز أن يكون مبتدأ خبره * (أفمن أسس) * والعائد محذوف للعلم به أي منهم أو الخبر محذوف أي فيمن وصفنا، وأن يكون منصوبا بمقدر كأذم وأعني. وقرأ نافع. وابن عامر بغير واو، وفيه الاحتمالات السابقة إلا العطف، وأن يكون بدلا من * (آخرون) * على التفسير المرجوح، وقوله سبحانه: * (ضرارا) * مفعول له وكذا ما بعده وقيل: مصدر في موضع الحال أو مفعول ثان لا تخذوا على أنه بمعنى صيروا أو مفعول مطلق لفعل مقدر أي يضارون بذلك المؤمنين ضرارا، والضرار
17

طلب الضرر ومحاولته، أخرج ابن جرير. وغيره عن ابن عباس أن جماعة من الأنصار قال لهم أبو عامر: ابنوا مسجدا واستمدوا ما استطعتم من قوة وسلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم فأخرج محمدا عليه الصلاة والسلام وأصحابه فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا فنحب أن تصلي فيه وتدعو بالبركة فنزلت. وأخرج ابن إسحق. وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال أتى أصحاب مسجد الضرار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا، يا رسول الله أنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الساتية وأنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه فقال صلى الله عليه وسلم: إني على جناح سفر وحال شغل أو كما قال عليه الصلاة والسلام ولو قدمنا إن شاء الله تعالى لآتيناكم فصلينا لكم فيه فلما رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ونزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار أتاه خبر المسجد فدعا مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف. ومعن بن عدي وأخاه عاصم بن عدي أحد بلعجان فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وأحرقاه فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك فقال مالك لصاحبه: أنظرني حتى أخرج لك بنار من أهلي فدخل إلى أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه أهله فأحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه ونزل فيهم من القرآن ما نزل وكان البانون له اثنى عشر رجلا: خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف ومن داره أخرج المسجد. وعباد بن حنيف من بني عمرو بن عوف أيضا. وثعلبة بن حاطب. ووديعة بن ثابت وهما من بني أمية بن زيد رهط أبي لبابة بن عبد المنذر. ومعتب بن قشير. وأبو حبيبة بن الأزعر. وحارثة بن عامر. وابناه مجمع. وزيد. ونبيل بن الحرث. ونجاد بن عثمان، وبجدح من بني ضيعة. وذكر البغوي من حديث ذكره الثعلبي - كما قال العراقي - بدون سند " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بعد حرق المسجد وهدمه أن يتخذ كناسة يلقى فيها الجيف والنتن والقمامة إهانة لأهله لما أنهم اتخذوه ضرارا * (وكفرا) * أي وليكفروا فيه، وقدر بعضهم التقوية أي وتقوية الكفر الذي يضمرونه، وقيل عليه: أن الكفر يصلح علة فما الحاجة إلى التقدير. واعتذر بأنه يحتمل أن يكون ذلك لما أن اتخاذه ليس بكفر بل مقوله لما اشتمل عليه فتأمل * (وتفريقا بين المؤمنين) * وهم كما قال السدى أهل قباء فإنهم كانوا يصلون في مسجدهم جميعا فأراد هؤلاء حسدا أن يتفرقوا وتختلف كلمتهم * (وإرصادا) * أي ترقبا وانتظارا * (لمن حارب الله ورسوله) * وهو أبو عامر والد حنظلة غسيل الملائكة رضي الله تعالى عنه، وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح وتنصر فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال له أبو عامر: ما هذا الدين الذي جئت به؟ فقال صلى الله عليه وسلم: الحنيفية البيضاء دين إبراهيم عليه السلام قال: فأنا عليها فقال له عليه الصلاة والسلام: إنك لست عليها فقال: بلى ولكنك أنت أدخلت فيها ما ليس منها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما فعلت ولكن جئت بها بيضاء نقية فقال أبو عامر: أمات الله تعالى الكاذب منا طريدا وحيدا فأمن النبي صلى الله عليه وسلم فسماه الناس أبا عامر الكذاب وسماه النبي صلى الله عليه وسلم الفاسق فلما كان يوم أحد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم فلم يزل كذلك إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن يومئذ
18

ولى هاربا إلى الشام وأرسل إلى المنافقين يحثهم على بناء مسجد كما ذكرنا آنفا عن الحبر فبنوه وبقوا منتظرين قدومه ليصلي فيه ويظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهدم كما مر ومات أبو عامر وحيدا بقنسرين وبقي ما أضمروه حسرة في قلوبهم.
* (من قبل) * متعلق بحارب أي حارب الله ورسوله عليه الصلاة والسلام قبل هذا الاتخاذ أو متعلق باتخذوا أي اتخذوه من قبل أن ينافقوا بالتخلف حيث كانوا بنوه قبل غزوة تبوك كما سمعت، والمراد المبالغة في الذم * (وليحلفن إن أردنا) * أي ما أردنا ببناء هذا المسجد * (إلا الحسنى) * أي إلا الخصلة الحسنى وهي الصلاة وذكر الله تعالى والتوسعة على المصلين؛ فالحسنى تأنيث الأحسن وهو في الأصل صفة الخصلة وقد وقع مفعولا به لأردنا، وجوز أن يكون قائما مقام مصدر محذوف أي الإرادة الحسنى * (والله يشهد إنهم لكاذبون) * فيما حلفوا عليه.
* (لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) *
* (لا تقم) * أي للصلاة * (فيه) * أي في ذلك المسجد * (أبدا) * وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير * (لا تقم) * بلا تصل على أن القيام مجاز عن الصلاة كما في قولهم: فلان يقوم الليل، وفي الحديث " من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له " * (لمسجد أسس) * أي بنى أساسه * (على التقوى) * أي تقوى الله تعالى وطاعته، و * (على) * على ما يتبادر منها، ولا يخفى ما في جعل التقوى وهي - هي - أساسا من المبالغة، وقيل: إنها بمعنى مع، وقيل: للتعليل لاعتباره فيما تقدم من الاتخاذ، واللام اما للابتداء أو للقسم أي والله لمسجد. وعلى التقديرين فمسجد مبتدأ والجملة بعده صفته، وقوله تعالى: * (من أول يوم) * متعلق بأسس و * (من) * لابتداء الزمان على ما هو الظاهر، وفي ذلك دليل للكوفيين في أنها تكون للابتداء مطلقا ولا تتقيد بالمكان، وخالف في ذلك البصريون ومنعوا دخولها على الزمان وخصوه بمذ ومنذ وتأولوا الآية بأنها على حذف مضاف أي من تأسيس أول يوم. وتعقبه الزجاج وتبعه أبو البقاء بأن ذلك ضعيف لأن التأسيس المقدر ليس بمكان حتى تكون - من - لابتداء الغاية فيه. وأجيب بأن مرادهم من التأويل الفرار من كونها لابتداء الغاية في الزمان وقد حصل بذلك التقدير، وليس في كلامهم ما يدل على أنها لا تكون لابتداء الغاية إلا في المكان، وقال الرضى: لا أرى في الآية ونظائرها معنى الابتداء إذ المقصود منه أن يكون الفعل شيئا ممتدا كالسير والمشي ومجرور - من - منه الابتداء نحو سرت من البصرة أو يكون أصلا لشيء ممتد نحو خرجت من الدار إذ الخروج ليس ممتدا وليس التأسيس ممتدا ولا أصلا لممتد بل هما حدثان واقعان فيما بعد * (من) * وهذا معنى. في، ودمن) * في الظروف كثيرا ما تقع بمعنى في انتهى. وفي كون التأسيس ليس أصلا لممتد منع ظاهر. نعم ذهب إلى احتمال الظرفية العلامة الثاني وله وجه وحينئذ يبطل الاستدلال ولا يكون في الآية شاهد للكوفيين، والحق أن كثيرا من الآيات وكلام العرب يشهد لهم والتزام تأويل كل ذلك تكلف لا داعي إليه، وقوله تاعلى: * (أحق أن تقوم فيه) * خبر المبتدأ و * (أحق) * افعل تفضيل والمفضل عليه كل مسجد أو مسجد الضرار على الفرض
والتقدير أو هو على زعمهم، وقيل: إنه بمعنى حقيق أي حقيق ذلك المسجد بأن تصلي فيه، واختلف في المراد منه. فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. والضحاك أنه مسجد قباء. وقد جاءت أخبار في فضل الصلاة فيه. فأخرج ابن أبي شيبة. والترمذي. والحاكم وصححه. وابن ماجه عن أسيد بن ظهير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
19

" صلاة في مسجد قباء كعمرة " قال الترمذي. لا نعرف لأسيد هذا شيئا يصح غير هذا الحديث، وفي معناه ما أخرجه أحمد. والنسائي عن سهل بن حنيف. وأخرج ابن سعد عن ظهير بن رافع الحارثي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من صلى في مسجد قباء يوم الاثنين والخميس انقلب بأجر عمرة " وذهب جماعة إلى أنه مسجد المدينة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستدلوا بما أخرجه مسلم. والترمذي. وابن جرير. والنسائي. وغيرهم عن أبي سعيد الخدري قال: اختلف رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى. فقال أحدهما: هو مسجد قباء، وقال الآخر: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيا رسول الله عليه الصلاة والسلام فسألاه عن ذلك فقال: هو هذا المسجد لمسجده صلى الله عليه وسلم وقال: في ذلك خير كثير يعني مسجد قباء. وجاء في عدة روايات أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن ذلك فقال: هو مسجدي هذا، وأيد القول الأول بأنه الأوفق بالسباق واللحاق وبأنه بني قبل مسجد المدينة، وجمع الشريف السمهودي بين الأخبار وسبقه إلى ذلك السهيلي وقال: كل من المسجدين مراد لأن كلا منهما أسس على التقوى من أوب يوم تأسيسه، والسر في إجابته صلى الله عليه وسلم السؤال عن ذلك بما في الحديث دفع ما توهمه السائل من اختصاص ذلك بمسجد قباء والتنويه بمزية هذا على ذاك، ولا يخفى بعد هذا الجمع فإن ظاهر الحديث الذي أخرجه الجماعة عن أبي سعيد الخدري بمراحل عنه، ولهذا اختار بعض المحققين القول الثاني وأيده بأن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أحق بالوصف بالتأسيس على التقوى من أول يوم وبأن التعبير بالقيام عن الصلاة في قوله سبحانه: * (أحق أن تقوم فيه) * يستدعي المداومة، ويعضده توكيد النهي بقوله تعالى: * (أبدا) * ومداومة الرسول عليه الصلاة والسلام لم توجد إلا في مسجده الشريف عليه الصلاة والسلام.
وأما ما رواه الترمذي. وأبو داود عن أبي هريرة من أن قوله جل وعلا: * (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) * نزلت في أهل قباء وكانوا يستنجون بالماء فهو لا يعارض نص رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما ما رواه ابن ماجه عن أبي أيوب. وجابر. وأنس من أن هذه الآية لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا معشر الأنصار إن الله تعالى قد أثني عليكم خيرا في الطهور فما طهوركم هذا؟ قالوا: نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة قال: فهل مع ذلك غير؟ قالوا: لا غير إن أحدنا إذا خرج إلى الغائط أحب أن يستنجي باملاء. قال عليه الصلاة والسلام: هو ذاك فعليكموه " فلا يدل على اختصاص أهل قباء ولا ينافي الحمل على أهل مسجده صلى الله عليه وسلم من الأنصار، وأنا أقول: قد كثرت الأخبار في نزول هذه الآية في أهل قباء. فقد أخرج أحمد. وابن خزيمة. والطبراني. وابن مردويه. والحاكم عن عويم بن ساعدة الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال: " إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟ فذكروا أنهم كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط ".
وأخرج أحمد. وابن أبي شيبة. والبخاري في تاريخه. والبغوي في معجمه. وابن جرير. والطبراني عن محمد بن عبد الله بن سلام عن أبيه نحو ذلك، وأخرج عبد الرزاق. والطبراني عن أبي أمامة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأهل قباء ما هذا الطهور الذي خصصتم به في هذه الآية * (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) *؟ قالوا: يا رسول الله ما منا أحد يخرج من الغائط إلا غسل مقعدته ".
20

وأخرج عبد الرزاق. وابن مردويه عن عبد الله بن الحرث بن نوفل نحوه إلى غير ذلك، وروى القول بنزولها في أهل قباء عن جماعة من الصحابة وغيرهم كابن عمر. وسهل الأنصاري. وعطاء. وغيرهم. وأما الأخبار الدالة على كون المراد بالمسجد المذكور في الآية مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكثيرة أيضا وكذا الذاهبون إلى ذلك كثيرون أيضا، والجمع فيما أرى بين الأخبار والأقوال متعذر، وليس عندي أحسن من التنقير عن حال تلك الروايات صحة وضعفا فمتى ظهر قوة إحداهما على الأخرى عول على الأقوى. وظاهر كلام البعض يشعر بأن الأقوى رواية ما يدل على أن المراد من المسجد مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام، ومعنى تأسيسه على التقوى من أول يوم أن تأسيسه على ذلك كان مبتدأ من أول يوم من أيام وجوده لا حادثا بعده ولا يمكن أن يراد من أول الأيام مطلقا ضرورة. نعم قال الذاهبون إلى أن المراد بالمسجد مسجد قباء: إن المراد من أول أيام الهجرة ودخول المدينة.
قال السهيلي: ويستفاد من الآية صحة ما اتفق عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين مع عمر رضي الله تعالى عنه حين شاورهم في التاريخ فاتفق رأيهم على أن يكون من عام الهجرة لأنه الوقت الذي أعز الله فيه الإسلام والحين الذي أمن فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وبنيت المساجد وعبد الله تعالى كما يجب فوافق رأيهم هذا ظاهر التنزيل، وفهمنا الآن بنقلهم أن قوله تعالى: * (من أول يوم) * أن ذلك اليوم هو أول أيام التاريخ الذي نؤرخ به الآن، فإن كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم أخذوه من هذه الآية فهو الظن بهم لأنهم أعلم الناس بتأويل كتاب الله تعالى وأفهمهم بما فيه من الإشارات، وإن كان ذلك عن رأي واجتهاد فقد علمه تعالى وأشار إلى صحته قبل أن يفعل إذ لا يعقل قول القائل فعلته أول يوم إلا بالإضافة إلى عام معلوم أو شهر معلوم أو تاريخ كذلك وليس ههنا إضافة في المعنى إلا إلى هذا التاريخ المعلوم لعدم القرائن الدالة على غيره من قرينة لفظ أو حال فتدبره ففيه معتبر لمن أدكر وعلم لمن رأى بعين فؤاده واستبصر انتهى. ولا يخفى على المطلع على التاريخ أن ما وقع كان عن اجتهاد وأن قوله: وليس ههنا إضافة الخ محل نظر، ويستفاد من الآية أيضا على ما قيل النهي عن الصلاة في مساجد بنيت مباهاة أو رياء وسمعت أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله تعالى، وألحق بذلك كل مسجد بني بمال غير طيب.
وروي عن شقيق ما يؤيد ذلك. وروي عن عطاء لما فتح الله الأمصار على عمر رضي الله تعالى عنه أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأن لا يتخذوا في مدينة مسجدين
يضار أحدهما صاحبه، ومن حمل التطهير فيها على ما نطقت به الأخبار السابقة قال: يستفاد منها سنة الاستنجاء بالماء، وجاء من حديث البزار تفسيره بالجمع بين الماء والحجر وهو أفضل من الاقتصار على أحدهما، وفسره بعضهم بالتخلص عن المعاصي والخصال المذمومة وهو معنى مجازي له، وإذا فسر بما يسمل التطهير من الحدث الأكبر والخبث والتنزه من المعاصي ونحوها كان فيه من المدح ما فيه، وجوز في جملة * (فيه رجال) * ثلاثة أوجه أن تكون مستأنفة مبينة لأحقية القيام في ذلك المسجد من جهة الحال بعد بيان الأحقية من جهة المحل، وأن يكون صفة للمبتدأ جاءت بعد خبره، وأن تكون حالا من الضمير في * (فيه) * وعلى كل حال ففيها تحقيق وتقرير لاستحقاق القيام فيه، وقرىء * (أن يطهروا) * بالادغام.
* (والله يحب المطهرين) * أي يرضى عنهم ويكرمهم ويعظم ثوابهم وهو المراد بمحبة الله تعالى عند
21

الأشاعرة وأشياعهم وذكروا أن المحبة الحقيقية لا يوصف بها سبحانه، وحمل بعضهم التعبير بها هنا على المشاكلة، والمراد من المطهرين إما أولئك الرجال أو الجنس ويدخلون فيه.
* (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به فى نار جهنم والله لا يهدى القوم الظ‍المين) *
* (أفمن أسس بنيانه) * أي مبنية فهو مصدر كالغفران واستعمل بمعنى المفعول، وعن أبي علي أن البنيان جمع واحده بنيانة ولعل مراده أنه اسم جنس جمعي واحده ما ذكر وإلا فليس بشيء، والتأسيس وضع الأساس وهو أصل البناء وأوله، ويستعمل بمعنى الأحكام وبه فسره بعضهم هنا، واختار آخرون التفسير الأول لتعديه بعلي في قوله سبحانه: * (على تقوى من الله ورضوان) * فإن المتبادر تعلقه به، وجوز تعلقه بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن في أسس وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى، والمراد من الرضوان طلبه بالطاعة مجازا وإن شئت قدرت المضاف ليكون المتعاطفان من أعمال العبد، والهمزة للإنكار، والفاء للعطف على مقدر كما قالوا في نظائره أي أبعد ما علم حالهم فمن أسس بنيانه على تقوى وخوف من الله تعالى وطلب مرضاته بالطاعة * (خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف) * أي طرفه، ومنه أشفى على الهلاك أي صار على شفاء وشفى المريض لأنه صار على شفا البرء والسلامة ويثنى على شفوان. والجرف بضمتين البئر التي لم تطو، وقيل: هو الهوة وما يجرفه السيل من الأودية لجرف الماء له أي أكله وإذهابه. وقرأ أبو بكر. وابن عامر. وحمزة * (جرف) * بالتخفيف وهو لغة فيه * (هار) * أي متصدع مشرف على السقوط وقيل ساقط؛ وهو نعت لجرف وأصله هاور أو هاير فهو مقلوب ووزنه فالع، وقيل: إنه حذفت عينه اعتباطا فوزنه قال، والاعراب على رائه كباب، وقيل: إنه لا قلب فيه ولا حذف وأصله هور أو هير على وزن فعل بكسر العين ككتف فلما تحرك حرف العلة وانفتح ما قبله قلب ألفا، والظاهر أنه وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى فيما سبق، وفيه استعارة تصريحية تحقيقية حيث شبه الباطل والنفاق بشفا جرف هار في قلة الثبات ثم استعير لذلك والقرينة المقابلة، وقوله تعالى: * (فانهار به في نار جهنم) * ترشيح، وباؤه أما للتعدية أو للمصاحبة، ووضع في مقابلة الرضوان تنبيها على أن تأسيس ذلك على أمر يحفظه مما يخاف ويوصله إلى ما أدنى مقتضياته الجنة، وتأسيس هذا على ما هو بصدد الوقوع في النار ساعة فساعة ثم المصير إليها لا محالة، والاستعارة فيما تقدم مكنية حيث شبهت فيه التقوى بقواعد البناء تشبيها مضمرا في النفس ودل عليه ما هو من روادفه ولوازمه وهو التأسيس والبنيان، واختار غير واحد أن معنى الآية أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة محكمة هي التقوى وطلب الرضا بالطاعة خير أم من أسس على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها فأدى به ذلك لخوره وقلة استمساكه إلى السقوط في النار، وإنما اختير ذلك على ما قيل لما أنه أنسب بتوصيف أهل مسجد الضرار بمضارة المسلمين والكفر والتفريق والإرصار وتوصيف أهل مسجد التقوى بأنهم يحبون أن يتطهروا بناء على أن المراد التطهير عن المعاصي والخصال المذمومة لأنه المقتضى بزعم البعض لمحبة الله تعالى لا التطهير المذكور في الأخبار، وأمر الاستعارة على هذا التوجيه على طرز ما تقدم في التوجيه الأول، وجوز أن يكون في الجملة الأولى تمثيل لحال من أخلص لله تعالى وعمل الأعمال الصالحة
22

بحال من بنى بناء محكما يستوطنه ويتحصن به، وان يكون البنيان استعارة أصلية والتأسيس ترشيحا أو تبعية وكذا جوز التمثيل في الجملة الثانية وإجراء ذلك فيها ظاهر بعد اعتبار إجرائه في مقابله، وفاعل * (انهار) * إما ضمير البنيان وضمير * (به) * للمؤسس وإما للشفا وضمير - به - للبنيان وإليه يميل ظاهر التفسير المار آنفا.
وظاهر الأخبار أن ذلك المسجد إذا وقع وقع في النار. فقد أخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن قتادة أنه قال في الآية: والله ما تناهى أن وقع في النار، وذكر لنا أنه حفرت فيه بقعة فرئى منه الدخان.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى أنه قال فيها: مضى حين خسف به إلى النار. وعن سفيان بن عيينة يقال: إنه بقعة من نار جهنم. وأنت تعلم أني والحمد لله تعالى مؤمن بقدرته سبحانه على أتم وجه وأنه جل جلاله فعال لما يريد لكني لا أومن بمثل هذه الظواهر ما لم يرد فيها خبر صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرأ نافع. وابن عامر * (أسس) * بالبناء للمفعول في الموضعين، وقرىء * (أساس بنيانه وأس بنيانه) * على الإضافة ونسب ذلك إلى علي بن نصر * (وأسس) * بفتحات ونسبت إلى عاصم * (إساس) * بالكسر، قيل: وثلاثتها جمع أس وفيه نظر، ففي الصحاح الأس أصل البناء وكذلك الأساس والأسس مقصور منه وجمع الأس أساس مثل عس وعساس وجمع الأساس أسس مثل قذال وقذل وجمع الأسس آساس مثل سبب وأسباب انتهى. وجوز في في أسس أن يكون مصدرا. وقرأ عيسى بن عمرو * (وتقوى) * بالتنوين، وخرج ذلك ابن جنى على أن الألف للإلحاق كما في أرطى ألحق بجعفر لا للتأنيث كالف تترى في رأي وإلا لم يجز تنوينه. وقرأ ابن مسعود * (فإنها ربه قواعده في نار جهنم) * * (والله لا يهدي القوم الظ‍المين) * أي لأنفسهم أو الواضعين للأشياء في غير مواضعها أي لا يرشدهم إلى ما فيه صلاحهم إرشادا موجبا له لا محالة.
* (لا يزال بنيانهم الذى بنوا ريبة فى قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم) *
* (لا يزال بنيانهم الذي بنوا) * أي بناؤهم الذي بنوه، فالبنيان مصدر أريد به المفعول كما مر، ووصفه بالمفرد ما يرد على مدعي الجمعية وكذا الأخبار عنه بقوله سبحانه: * (ريبة في قلوبهم) * واحتمال تقدير مضاف وجعل الصفة وكذا الخبر له خلاف الظاهر. نعم قيل: الأخبار بريبة لا دليل فيه على عدم الجمعية لأنه يقال: الحيطان منهدمة والجبال راسية؛ وجوز بعضهم كون البنيان باقيا على المصدرية و * (الذي) * مفعوله، والريبة اسم من الريب بمعنى الشك وبذلك فسرها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والمراد به شكهم في نبوته صلى الله عليه وسلم المضمر في قلوبهم وهو عين النفاق، وجعل بنيانهم نفس الريبة للمبالغة في كونه سببا لها. قال الإمام: وفي ذلك وجوه. أحدها أن المنافقين عظم فرحهم ببنيانه فلما أمر بتخريبه ثقل عليهم وازداد غيظهم وارتيابهم في نبوته صلى الله عليه وسلم. وثانيها أنه لما أمر بتخريبه ظنوا أن ذلك للحسد فارتفع أمانهم عنه صلى الله عليه وسلم وعظم خوفهم فارتابوا في أنهم هل يتركون على حالهم أو يؤمر بقتلهم ونهب أموالهم. وثالثها أنهم اعتقدوا أنهم كانوا محسنين في البناء فلما أمر بتخريبه بقوا شاكين مرتابين في أنه لأي سبب أمر بذلك والصحيح هو الأول. ويمكن كما قال العلامة الطيبي أن يرجح الثاني بأن تحمل الريبة على أصل موضوعها ويراد منها قلق النفس واضطرابها.
وحاصل المعنى لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوا سببا للقلق والاضطراب والوجل في القلوب ووصف بنيانهم بما وصف للإيذان بكيفية بنائهم له وتأسيسه على ما عليه تأسيسه مما علمت وللأشعاء بعلة الحكم، وقيل: وصف بذلك للدلالة على أن المراد بالبنيان ما هو المبني حقيقة لا ما دبروه من الأمور فإن البناء قد يطلق على تدبير الأمر وتقديره
23

كما في قولهم كم أبني وتهدم وعليه قوله: متى يبلغ البنيان يوما تمامه * إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
وحاصله أن الوصف للتأكيد وفائدته دفع المجاز، وهذا نظير ما قالوا في قوله سبحانه: * (وكلم الله موسى تكليما) * (النساء: 164) وفيه بحث.
والاستثناء في قوله تعالى: * (إلا أن تقطع قلوبهم) * من أعم الأوقات أو أعم الأحوال وما بعد إلا في محل النصب على الظرفية أي لا يزال بنيانهم ريبة في كل وقت إلا وقت تقطع قلوبهم أو في كل حال إلا حال تقطعها أي تفرقها وخروجها عن قابلية الإدراك وهذا كناية عن تمكن الريبة في قلوبهم التي هي محل الإدراك وإضمار الشرك بحيث لا يزوب منها ما داموا أحياء إلا إذا تقطعت وفرقت وحينئذ تخرج منها الريبة وتزول، وهو خارج مخرج التصوير والفرض، وقيل: المراد بالتقطع ما هو كائن بالموت من تفرق أجزاء البدن حقيقة وروي ذلك عن بعض السلف. وأخرج ابن المنذر. وغيره عن أيوب قال: كان عكرمة يقرأ * (إلا أن تقطع قلوبهم في القبور) * وقيل: المراد إلا أن يتوبوا ويندموا ندامة عظيمة تفتت قلوبهم وأكبادهم فالتقطع كناية أو مجاز عن شدة الأسف. وروى ذلك ابن أبي حاتم عن سفيان، وتقطع من التفعل بإحدى التاءين والبناء للفاعل أي تتقطع. وقرىء * (تقطع) * على بناء الجهول من التفعيل وعلى البناء للفاعل منه على أن الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أي إلا أن تقطع أنت قلوبهم بالقتل، وقرىء على البناء للمفعول من الثلاثي مذكرا ومؤنثا.
وقرأ الحسن * (إلى أن تقطع) * على الخطاب، وفي قراءة عبد الله * (ولو قطعت قلوبهم) * على إسناد الفعل مجهولا إلى قلوبهم. وعن طلحة ولو قطعت قلوبهم على خطاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويصح أن يعني بالخطاب كل مخاطب، وكذا يصح أن يجعل ضمير تقطع مع نصب قلوبهم للريبة * (والله عليم) * بجميع الأشياء التي من جملتها ما ذكر من أحوالهم * (حكيم) * في جميع أفعاله التي من جملتها أمره سبحانه الوارد في حقهم.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: * (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين) * (التوبة: 75) إشارة إلى وصف المغرورين الذين ما ذاقوا طعم المحبة ولا هب عليهم نسيم العرفان، ومن هنا صححوا لأنفسهم أفعالا فقالوا: لنصدقن * (فلما آتاهم من فضله بخلوا به) * (التوبة: 76) أي أنهم نقضوا العهد لما ظهر لهم ما سألوه، والبخال كما قال أبو حفص: ترك الايثار عند الحاجة إليه * (ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم) * وهو ما لا يعلمونه من أنفسهم * (ونجواهم) * (التوبة: 78) أي ما يعلمونه منها دون الناس، وقيل: السر ما لا يطلع عليه إلا عالم الأسرار والنجوى ما يطلع عليه الحفظة * (وقالوا لا تنفروا في الحرقل نار جهنم أشد حرا) * (التوبة: 81) أرادوا التثبيط على المؤمنين ببيان بعض شدائد الغزو وما دروا أن المحب يستعذب المر في طلب وصال محبوبه ويرى الحزن سهلا والشدائد لذائذ في ذلك، ولا خير فيمن عاقه الحر والبرد، ورد عليهم بأنهم آثروا بمخالفتهم النار التي هي أشد حرا ويشبه هؤلاء المنافقين في هذا التثبيط أهل البطالة الذين يثبطون السالكين عن السلوك ببيان شدائد السلوك وفوات اللذائذ الدنيوية * (لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم) * فأفنوا كل ذلك في طلب مولاهم جل جلاله * (وأولئك لهم الخيرات) * المشاهدات والمكاشفات والقربات * (وأولئك هم المفلحون) * (التوبة: 88) الفائزون بالبغية.
* (ليس على الضعفاء) * أي الذين أضعفهم حمل المحمبة * (ولا على المرضى) * بداء الصبابة حتى ذابت أجسامهم
24

بحرارة الفكر وشدائد الرياضة * (ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون) * وهم المتجردون من الأكوان * (حرج) * اثم في التخلف عن الجهاد الأصغر * (إذا نصحوا لله ورسوله) * (التوبة: 92) بأن أرشدوا الخلق إلى الحق * (ومن الاعراب من يتخذ ما ينفق مغرما) * (التوبة: 98) غرامة وخسرانا، قيل: كل من يرى الملك لنفسه يكون ما ينفق غرامة عنده وكل من يرى الأشياء لله تعالى وهي عارية عنده يكون ما ينفق غنما عنده * (والسابقون الأولون) * أي الذين سبقوا إلى الوحدة من أهل الصنف الأول * (من المهاجرين) * وهم الذين هجروا مواطن النفس * (والأنصار) * وهم الذين نصروا القلب بالعلوم الحقيقية على النفس * (والذين اتبعوهم) * في الاتصاف بصفات الحق * (بأحسان) * أي بمشاهدة من مشاهدات الجمال والجلال * (رضي الله تعالى عنهم) * بما أعطاهم من عنايته وتوفيقه * (ورضوا عنه) * بقبول ما أمر به سبحانه وبدل أموالهم ومهجهم في سبيل عز شأنه * (وأعد لهم جنات) * من جناب الأفعال والصفات * (تجري من تحتها الأنهار) *
(التوبة: 100) وهي أنهار علوم التوكل والرضا ونحوهما ووراء هذه الجنات المشتركة بين المتعاطفات جنة الذات وهي مختصة بالسابقين * (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) * وهم الذين لم ترسخ فيهم ملكة الذنب وبقي منهم فيهم نور الاستعداد ولهذا لانت شكيمتهم واعترفوا بذنوبهم ورأوا قبحها وأما من رسخت فيه ملكة الذنب واستولت عليه الظلمة فلا يرى ما يفعل من القبائح إلا حسنا * (خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا) * حيث كانوا في رتبة النفس اللوامة التي لم يصر اتصالها بالقلب وتنورها بنوره ملكة لها ولهذا تنقاد له تارة وتعمل أعمالا صالحة وذلك إذا استولى القلب عليها وتنفر عنه أخرى وتفعل أفعالا سيئة إذا احتجبت عنه بظلمتها وهي دائما بين هذا وذاك حتى يقوى اتصالها بالقلب ويصير ذلك ملكة لها وحينئذ يصلح أمرها وتنجو من المخالفات، ولعل قوله سبحانه: * (عسى الله أن يتوب عليهم) * (التوبة: 102) إشارة إلى ذلك وقد تتراكم عليها الهيآت المظلمة فترجه القهقري ويزول استعدادها وتحجب عن أنوار القلب وتهوى إلى سجين الطبيعة فتهلك مع الهالكين، وترجح أحد الجانبين على الآخر يكون بالصحبة فإن أدركها التوفيق صحبت الصالحين فتحلت بأخلاقهم وعملت أعمالهم فكانت منهم، وإن لحقها الخذلان صحبت المفسدين واختلطت بهم فتدنست بخلالهم وفعلت أفاعيلهم فصارت من الخاسرين أعاذنا الله تعالى من ذلك، ولله در من قال:
عليك بأرباب الصدور فمن غدا * مضافا لأرباب الصدور تصدرا
وإياك أن ترضى صحابة ناقص * فتنحط قدرا عن علاك وتحقرا
فرفع أبو من ثم خفض مزمل * يبين قولي مغريا ومحذرا
وقد يكون ترجح جانب الاتصال بأسباب أخر كما يشير إليه قوله سبحانه وتعالى: * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) * لأن المال مادة الشهوات فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأخذ من ذلك ليكون أول حالهم التجرد لتنكسر قوى النفس وتضعف أهواؤها وصفاتها فتتزكى من الهيآت المظلمة وتتطهر من خبث الذنوب ورجس دواعي الشيطان * (وصل عليهم) * بامداد الهمة وإفاضة أنوار الصحبة * (إن صلاتك سكن لهم) * (التوبة: 103) أي سبب لنزول السكينة فيهم، وفسروا السكينة بنور يستقر في القلب وبه يثبت على التوجه إلى الحق ويتخلص عن الطيش * (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه) * لأن النفس تتأثر
25

فيه بصفاء الوقت وطيب الحال وذوق الوجدان بخلاف ما إذا كان مبنيا على ضد ذلك فإنها تتأثر فيه بالكدورة والتفرقة والقبض.
وأصل ذلك أن عالم الملك تحت قهر عالم الملكوت وتسخيره فيلزم أن يكون لنيات النفوس وهيأتها تأثير فيما تباشره من الأعمال، ألا ترى الكعبة كيف شرفت وعظمت وجعلت محلا للتبرك لما أنها كانت مبنية بيد خليل الله تعالى عليه الصلاة والسلام بنية صادقة ونفس شريفة، ونحن نجد أيضا أثر الصفاء والجمعية في بعض المواضع والبقاع وضد ذلك في بعضها، ولست أعني إلا وجود ذوي النفوس الحساسة الصافية لذلك وإلا فالنفوس الخبيثة تجد الأمر على عكس ما تجده أرباب تلك النفوس، والصفراوي يجد السكر مرا، والجعل يستخبث رائحة الورد: ومن هنا كان المنافق في المسجد كالسمك في اليبس والمخلص فيه كالسمكة في الماء * (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) * أي أهل إرادة وسعى في التطهر عن الذنوب، وهو إشارة إلى أن صحبة الصالحين لها أثر عظيم، ويتحصل من هذا وما قبله الإشارة إلى أنه ينبغي رعاية المكان والإخوان في حصول الجمعية، وجاء عن القوم أنه يجب مراعاة ذلك مع مراعاة الزمان في حصول ما ذكر * (والله يحب المطهرين) * (التوبة: 108) ولو محبته إياهم لما أحبوا ذلك. وعن سهل الطهارة على ثلاثة أوجه: طهارة العلم من الجهل، وطهارة الذكر من النسيان، وطهارة الطاعة من المعصية. وقال بعضهم: الطهارة على أقسام كثيرة: فطهارة الاسرار من الخطرات، وطهارة الأرواح من الغفلات، وطهارة القلوب من الشهوات وطهارة العقول من الجهالات، وطهارة النفوس من الكفريات، وطهارة الأبدان من الزلات. وقال آخر: الطهارة الكامل طهارة الاسرار من دنس الأغيار والله تعالى هو الهادي إلى سواء السبيل.
* (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يق‍اتلون فى سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرءان ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به وذالك هو الفوز العظيم) *
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) * الخ ترغيب للمؤمنين في الجهاد ببيان حال المتخلفين عنه، ولا ترى كما نقل الشهاب ترغيبا في الجهاد أحسن ولا أبلغ مما في هذه الآية لأنه أبرز في صورة عقد عاقده رب العزة جل جلاله، وثمنه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولم يجعل المعقود عليه كونهم مقتولين فقط بل كونهم قاتلين أيضا لإعلاء كلمة الله تعالى ونصرة دينه سبحانه، وجعله مسجلا في الكتب السماوية وناهيك به من صك، وجعل وعده حقا ولا أحد أو في من وراعده فنسيئته أقوى من نقد غيره، وأشار إلى ما فيه من الربح والفوز العظيم وهو استعارة تمثيلية.
صور جهاد المؤمنين وبذل أموالهم وأنفسهم فيه وائابة الله تعالى لهم على ذلك الجنة بالبيع والشراء، وأتي بقوله سبحانه: * (يقاتلون) * الخ بيانا لمكان التسليم وهو المعركة، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: " الجنة تحت ظلال السيوف " ثم أمضاه جل شأنه بقوله ذلك الفوز العظيم، ومن هنا أعظم الصحابة رضي الله تعالى عنهم أمر هذه الآية. فقد أخرج ابن أبي حاتم. وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد * (إن الله اشترى) * الخ فكثر الناس في المسجد فأقبل رجل من الأنصار ثانيا طرفي ردائه على عاتقه فقال: يا رسول الله أنزلت هذه الآية؟ قال: نعم. فقال الأنصاري: بيع ربيح لا نقيل ولا نستقيل. ومن الناس من قرر وجه المبالغة بأنه سبحانه عبر عن قبوله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم التي بذلوها في سبيله تعالى وإثباته إياهم بمقابلتها الجنة بالشراء على طريقة الاستعارة التبعية ثم جعل
26

المبيع الذي هو العمدة والمقصد في العقد أنفس المؤمنين وأموالهم والثمن الذي هو الوسيلة في الصفقة الجنة، ولم يعكس بأن يقال: إن الله باع الجنة في المؤمنين بأنفسهم وأموالهم ليدل على أن المقصد بالعقد هو الجنة وما بذله المؤمنون في مقابلتها وسيلة إليها بكمال العناية بهم وبأموالهم ثم إنه تعالى لم يقل بالجنة بل قال عز شأنه: * (بأن
لهم الجنة) * مبالغة في تقرير وصول الثمن إليهم واختصاصه بهم كأنه قيل: بالجنة الثابتة لهم المختصة بهم، ومن هنا يعلم أن هذه القراءة أبلغ من قراءة الأعمش ونسبت أيضا إلى عبد الله رضي الله تعالى عنه بالجنة على أنها أوفق بسبب النزول. فقد أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي. وغيره أنهم قالوا: " قال عبد الله بن رواحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اشترط لربك ولنفسك ما شئت. قال: اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم قالوا: فما لنا؟ قال: الجنة قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت إن الله اشترى الآية ".
وقيل: عبر بذلك مدحا للمؤمنين بأنهم بذلوا أنفسهم وأموالهم بمجرد الوعد لكمال ثقتهم بوعده تعالى مع أن تمام الاستعارة موقوف على ذلك إذ لو قيل بالجنة لاحتمل كون الشراء على حقيقته لأنها صالحة للعوضية بخلاف الوعد بها، واعترض بأن مناط دلالة ما عليه النظم الجليل على الوعد ليس كونه جملة ظرفية مصدرة بأن فإن ذلك بمعزل من الدلالة على الاستقبال بل هو الجنة التي يستحيل وجودها في عالم الدنيا ولو سلم ذلك بكون العوض الجنة الموعود بها لا نفس الوعد بها، على أن حديث احتمال كون الشراء حقيقة لو قيل بالجنة لا يخلو عن نظر كما قيل لأن حقيقة الشراء مما لا يصح منه تعالى لأنه جل شأنه مالك الكل والشراء إنما يكون ممن لا يملك، ولهذا قال الفقهار: طلب الشراء يبطل دعوى الملكية، نعم قد لا يبطل في بعض الصور كما إذا اشترى الأب دارا لطفله من نفسه فكبر الطفل ولم يعلم ثم باعها الأب وسلمها للمشتري ثم طلب الابن شراءها منه ثم علم بما صنع أبوه فادعى الدار فإنه تقبل دعواه ولا يبطلها ذلك الطلب كما يقتضيه كلام الاستروشني لكن هذا لا يضرنا فيما نحن فيه، ومن المحققين من وجه دلالة ما في النظم الكريم على الوعد بأنه يقتضي بصريحه عدم التسليم وهو عين الوعد لأنه إذا قلت: اشتريت منك كذا بكذا احتمل النقد بخلاف ما إذا قلت: بأن لك كذا فإنه في معنى لك على كذا وفي ذمتي، واللام هنا ليست للملك إذ لا يناسب شراء ملكه بملكه كالمهورة إحدى خدمتيها فهي للاستحقاق وفيه إشعار بعدم القبض، وأما كون تمام الاستعارة موقوفا على ذلك فله وجه أيضا حيث كان المراد بالاستعارة الاستعارة التمثيليلة إذ لولاه لصح جعل الشراء مجازا عن الاستبدال مثلا وهو مما لا ينبغي الالتفات إليه مع تأتي التمثيل المشتمل من البلاغة واللطائف على ما لا يخفى، لكن أنت خبير بأن الكلام بعد لا يخلو عن بحث، ومما أشرنا إليه من فضيلة التمثيل يعلم انحطاط القول باعتبار الاستعارة أو المجاز المرسل في * (اشترى) * وحده كما ذهب إليه البعض، وقوله تعالى: * (يقاتلون في سبيل الله) * قيل بيان لمكان التسليم كما أشير إليه فيما تقدم، وذلك لأن البيع سلم كما قال الطيبي. وغيره، وقيل: بيان لما لأجله الشراء كأنه لما قال سبحانه: * (إن الله اشترى) * الخ، قيل: لماذا فعل ذلك؟ فقيل: ليقاتلوا في سبيله تعالى وقيل: بيان للبيع الذي يستدعيه الاشتراء المذكور كأنه قيل: كيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة، فقيل: يقاتلون في سبيله عز شأنه وذلك بذل منهم لأنفسهم وأموالهم إلى جهته تعالى وتعريض لهما للهلاك،
27

وقيل: بيان لنفس الاشتراء وقيل: ذكر لبعض ما شمله الكلام السابق اهتماما به على أن معنى ذلك أنه تعالى اشترى من المؤمنين أنفسهم بصرفها في العمل الصالح وأموالهم ببذلها فيما يرضيه وهو في جميع ذلك خبر لفظا ومعنى ولا محل له من الأعراب، وقيل: إنه في مغنى الأمر كقوله سبحانه: * (تجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) * (الصف: 11) ووجه ذلك بأنه أتى بالمضارع بعد الماضي لإفادة الاستمرار كأنه قيل: اشتريت منكم أنفسكم في الأزل وأعطيت ثمنها الجنة فسلموا المبيع واستمروا على القتال، ولا يخفى ما في بعض هذه الأقوال من النظر. وانظر هل ثم مانع من جعل الجملة في موضع الحال كأنه قيل: اشترى منهم ذلك حال كونهم مقاتلين في سبيله فإني لم أقف على من صرح بذلك مع أنه أوفق الأوجه بالاستعارة التمثيلية تأمل.
وقوله سبحانه: * (فيقتلون ويقتلون) * بيان لكون القتال في سبيل الله تعالى بذلا للنفس وأن المقاتل في سبيله تعالى باذل لها وإن كانت سالمة غانمة، فإن الإسناد في الفعلين ليس بطريق اشتراط الجمع بينهما ولا اشتراط الاتصاف بأحدهما البتة بل بطريق وصف الكل بحال البعض، فإنه يتحقق القتال من الكل سواء وجد الفعلان أو أحدهما منهم أو من بعضهم بل يتحقق ذلك وإن لم يصدر منهم أحدهما أيضا كما إذا وجد المضاربة ولم يوجد القتل من أحد الجانبين، ويفهم كلام بعضهم أنه يتحقق الجهاد بمجرد العزيمة والنفير وتكثير السواد وإن لم توجد مضاربة وليس بالبعيد لما أن في ذلك تعريض النفس للهلاك أيضا، والظاهر أن أجور المجاهدين مختلفة قلة وكثرة وإن كان هناك قدر مشترك بينهم. ففي " صحيح مسلم " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة الا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم ". وفي رواية أخرى " ما من غازية أو سرية تغزو فتغنم وتسلم إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم وما من غازية أو سرية تحنق وتصاب إلا أتم أجورهم ". وزعم بعضهم أنهم في الأجر سواء ولا ينقص أجرهم بالغنيمة، واستدلوا عليه بما في الصحيحين من أن المجاهد يرجع بما نال من أجر وغنيمة، وبأن أهل بدر غنموا وهم - هم - ويرد عليه أن خبر الصحيحين مطلق وخبر مسلم مقيد فيجب حمله عليه، وبأنه لم يجىء نص في أهل بدر أنهم لو لم يغنموا لكان أجرهم على قدر أجرهم وقد غنموا فقط، وكونهم هم - هم - لا يلزم منه أن لا يكون وراء مرتبتهم مرتبة أخرى أفضل منها، والقول بأن في السند أبا هانىء وهو مجهول فلا يعول على خبره غلط فاحس فإنه ثقة مشهور روى عنه الليث بن سعد. وحيوة. وابن وهب. وخلائق من الأئمة، ويكفى في توثيقه احتجاج مسلم به في صحيحه، ومثل هذا ما حكاه القاضي عن بعضهم من أن تعجل ثلثي الأجر إنما هو في غنيمة أخذت على غير وجهها إذ لو كانت كذلك لم يكن ثلث الأجر، وكذا ما قيل: من أن الحديث محمول على من خرج بنية الغزو والغنيمة معا فإن ذلك ينقص ثوابه لا محالة، فالصواب أن أجر من لم يغنم أكثر من أجر من غنم لصريح ما ذكرناه الموافق لصرائح الأحاديث الصحيحة المشهورة عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم. ويعلم من ذلك أن أجر من قتل أكثر من أجر من قتل لكون الأول من الشهداء دون الثاني، وظاهر ما أخرجه مسلم من رواية أبي هريرة " من قتل في سبيل الله تعالى فهو شهيد ومن مات في سبيل الله تعالى فهو شهيد " أن القتل في سبيل الله تعالى والموت فيها سواء في الأجر وهو الموافق لمعنى قوله تعالى: * (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله) * (النساء: 100) واستدل له أيضا بعض
28

العلماء بغير ذلك مما لا دلالة فيه عليه كما نص عليه النووي رحمه الله تعالى، وتقديم حالة القاتلية في الآية على حالة المقتولية للإيذان بعدم الفرق بينهما في كونهما مصداقا لكون القتال بذلا للنفس، وقرأ حمزة. والسكائي بتقديم المبنى للمفعول رعاية لكون الشهادة عريقة في هذا الباب إيذانا بعدم مبالاتهم بالموت في سبيل الله تعالى بل بكونه أحب إليهم من السلامة كما قال كعب بن زهير في حقهم:
لا يفرحون إذا نالت رماحهم * قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا
لا يقع الطعن إلا في نحورهم * وما لهم عن حياض الموت تهليل
وفيه على ما قيل دلالة على جراءتهم حيث لم ينكسروا لأن قتل بعضهم، ومن الناس من دفع السؤال بعدم مراعاة الترتيب في هذه القراءة بأن الواو لا تقتضيه. وتعقب بأن ذلك لا يجدي لأن تقديم ما حقه التأخير في أبلغ الكلام لا يكون بسلامة الأمير كما لا يخفى * (وعدا عليه) * مصدر مؤكد لمضمون الجملة لأن معنى الشراء بأن لهم الجنة وعد لهم بها على الجهاد في سبيله سبحانه، وقوله تعالى: * (حقا) * نعت له و * (عليه) * في موضع الحال من * (حقا) * لتقدمه عليه، وقوله سبحانه: * (في التورياة والانجيل والقرآن) * متعلق بمحذوف وقع نعتا لوعدا أيضا أي وعدا مثبتا في التوارة والإنجيل كما هو مثبت في القرآن فالمراد الحاق ما لا يعرف بما يعرف إذ من المعلوم ثبوت هذا الحكم في القرآن، ثم إن ما في الكتابين إما أن يكون أم محمد صلى الله عليه وسلم اشترى الله تعالى منهم أنفسهم وأموالهم بذلك أو أن من جاهد بنفسه وماله له ذلك، وفي كلا الأمرين ثبوت موافق لما في القرآن، وجوز تعلق الجار باشترى ووعدا وحقا * (ومن أوفى بعهده من الله) * اعتراض مقرر لمضمون ما قبله من حقية الوعد، والمقصود من مثل هذا التركيب عرفا نفي المساواة أي لا أحد مثله تعالى في الوفاء بعهده، وهذا كما يقال: ليس في المدينة أفقه من فلان فإنه يفيد عرفا أنه أفقه أهلها، ولا يخفى ما في جعل الوعد عهدا وميثاقا من الاعتناء بشأنه * (فاستبشروا) * التفات إلى خطابهم لزيادة التشريف والاستبشار إظهارا لسرورهم، وليست السين فيه للطلب، والفاء لترتيبه أو ترتيب الأمر به على ما قبله أي فإذا كان كذلك فاظهروا السرور بما فزتم به من الجنة، وإنما قال سبحانه: * (ببيعكم) * مع أن الابتهاج به باعتبار أدائه إلى الجنة لأن المراد ترغيبهم في الجهاد الذي عبر عنه بالبيع، ولم يذكر العقد بعنوان الشراء لأن ذلك من قبله سبحانه لا من قبلهم والترغيب على ما قيل إنما يتم فيها هو من قبلهم، وقوله تعالى: * (الذي بايعتم به) * لزيادة تقرير بيعهم وللاشعار بتميزه على غيره فإنه بيع الفاني بالباقي ولأن كلا البدلين له سبحانه وتعالى، ومن هنا كان الحسن إذا قرأ الآية يقول: أنفس هو خلفها وأموال هو رزقها * (وذالك) * أي البيع الذي أمرتم به * (هو الفوز العظيم) * الذي لا فوز أعظم منه، وما في ذلك من البعد إشارة إلى بعد منزلة المشار إليه وسمو رتبته في الكمال؛ والجملة تذييل مقرر لمضمون الأمر السابق، ويجوز أن يكون تذييلا للآية الكريمة والأشارة إلى الجنة التي جعلت ثمنا بمقابلة ما بذلوا من أنفسهم وأموالهم، وفي ذلك إعظام للثمن ومنه يعلم حال المثمن، ونقل عن الأصمعي أنه أنشد للصادق رضي الله تعالى عنه:
29

أثامن بالنفس النفيسة ربها * فليس لها في الخلق كلهم ثمن
بها اشترى الجنات أن أنابعتها * بشيء سواها إن ذلكم غبن
إذا ذهبت نفسي بدنيا أصبتها * فقد ذهبت مني وقد ذهب الثمن
والمشهور عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها، وهو ظاهر في أن المبيع هو الأبدان، وبذلك صرح بعض الفضلاء في حواشيه على تفسير البيضاوي حيث قال: إن الله تعالى اشترى من المؤمن الذي هو عبارة عن الجوهر الباقي بدنه الذي هو مركبه وآلته، والظاهر أنه أراد بالجوهر الباقي الجوهر المجرد المخصوص وهو النفس الناطقة، ولا يخفى أن جمهور المتكلمين على نفي المجردات وإنكار النفس الناطقة وأن الإنسان هو هذا الهيكل المحسوس، وبذلك أبطل بعض أجلة المتأخرين من أفاضل المعاصرين القول بخلق الأفعال لما يلزم عليه من كون الفاعل والقابل واحدا، وقد قالوا: بامتناع اتحادهما؛ والإنصاف إثبات شيء مغاير للبدن والهيكل المحسوس في الإنسان، والمبيع أما ذاك ومعنى بيعه تعريضه للمهالك والخروج عن التعلق الخاص بالبدن وإما البدن ومعنى بيعه ظاهر إلا أنه ربما يدعى أن المتبادر من النفس غير ذلك كما لا يخفى على ذوي النفوس الزكية.
* (الت‍ائبون الع‍ابدون الح‍امدون الس‍ائحون الراكعون الس‍اجدون الامرون بالمعروف والناهون عن المنكر والح‍افظون لحدود الله وبشر المؤمنين) *
* (الت‍ائبون) * نعت للمؤمنين، وقطع لأجل المدح أي هم التائبون ويدل على ذلك قراءة عبد الله. وأبى * (التائبين) * بالياء على أنه منصوب على المدح أو مجرور على أنه صفة للمؤمنين.
وجوز أن يكون * (التائبون) * مبتدأ والخبر محذوف أي من أهل الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا لقوله تعالى: * (وكلا وعد الله الحسنى) * فإن كلا فيه عام، والحسنى بمعنى الجنة.
وقيل: الخبر قوله تعالى: * (العابدون) * وما بعده خبر بعد خبر، وقيل: خبره * (الآمرون بالمعروف) * وقيل: إنه بدل من ضمير * (يقاتلون) * والأول أظهر إلا أنه يكون الموعود بالجنة عليه هو المجاهد المتصف بهذه الصفات لا كل مجاهد وبذلك يشعر ما أخرجه ابن أبي شيبة. وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: الشهيد من كان فيه الخصال التسع وتلا هذه الآية.
وأورد عليه أنه ينافي ذلك ما صح من حديث مسلم من أن من قتل في سبيل الله تعالى وهو صابر محتسب مقبل غير مدبر كفرت خطاياه إلا الدين فإنه ظاهر في أن المجاهد قد لا يكون متصفا بجميع ما في الآية من الصفات وإلا لا يبقى لتكفير الخطايا وجه، وكأنه من هنا اختار الزجاج كونه مبتدأ والخبر محذوف كما سمعت إذ في
الآية عليه تبشير مطلق المجاهدي بما ذكر وهو المفهوم من ظواهر الأخبار. نعم دل كثير منها على أن الفضل الوارد في المجاهدين مختص بمن قاتل لتكون كلمة الله تعالى هي العليا وأن من قاتل للدنيا والسمعة استحق النار. وفي " صحيح مسلم " ما يقتضي ذلك فليفهم، والمراد من التائبين على ما أخرجه ابن جرير. وابن املنذر. وغيرهما عن الحسن. وقتادة الذين تابوا عن الشرك ولم ينافقوا. وأخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن الضحاك أنهم الذين تابوا عن الشرك والذنوب، وأيد ذلك بأن التائبين في تقدير الذين تابوا وهو من ألفاظ العموم يتناول كل تائب فتخصيصه بالتائب عن بعض المعاصي تحكم. وأجيب بأن ذكرهم بعد ذكر المنافقين ظاهر في حمل التوبة على التوبة عن الكفر والنفاق، وأيضا لو حملت التوبة على التوبة عن المعاصي يكون ما ذكر بعد من الصفات غير تام الفائدة مع أن من اتصف بهذه الصفات الظاهر اجتنابه للمعاصي، والمراد
30

من العابدين الذين أتوا بالعباد على وجهها، وقال الحسن: هم الذين عبدوا الله تعالى في أحايينهم كلها أما والله ما هو بشهر ولا شهرين ولا سنة وة سنتين ولكن كما قال العبد الصالح: * (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا) * وقال قتادة: هم قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم، * (الحامدون) * أي الذين يحمدون الله تعالى على كل حال كما روي عن غير واحد من السلف، فالحمد بمعنى الوصف بالجميل مطلقا، وقيل: هو بمعنى الشكر فيكون في مقابلة النعمة أي الحامدون لنعمائه تعالى وأنت تعلم أن الحمد في كل حال أولى وفيه تأس برسول الله صلى الله عليه وسلم: فقد أخرج ابن مردويه. وأبو الشيخ. والبيهقي في الشعب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من يدعى إلى الجنة الحمادون الذين يحمدون على السراء والضراء " وجاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الأمر يسره قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وإذا أتاه الأمر يكرهه قال: الحمد لله على كل حال " * (السائحون) * أي الصائمون، فقد أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود. وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم " أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك فأجاب بما ذكر " وإليه ذهب جلة من الصحابة والتابعين.
وجاء عن عائشة " سياحة هذه الأمة الصيام "، وهو من باب الاستعارة لأن الصوم يعوق عن الشهوات كما أن السياحة تمنع منها في الأكثر، أو لأنه رياضة روحانية ينكشف بها كثير من أحوال الملك والملكوت فشبه الاطلاع عليها بالاطلاع على البلدان والأماكن النائية إذ لا يزال المرتاض يتوصل من مقام إلى مقام ويدخل من مدائن المعارف إلى مدينة بعد أخرى على مطايا الفكر. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أن السائحين هم المهاجرون ليس في أمة محمد صلى الله عليه وسلم سياحة إلا الهجرة.
وأخرج هو. وأبو الشيخ عن عكرمة أنهم طلبة العلم لأنهم يسيحون في الأرض لطلبه، وقيل: هم المجاهدون لما أخرج الحاكم وصححه. والطبراني. وغيرهما " عن أبي أمامة أن رجلا استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السياحة فقال: إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله تعالى " والمختار ما تقدم كما أشرنا إليه، وإنما لم تحمل السياحة على المعنى المشهور لأنها نوع من الرهبانية، وقد نهى عنها وكانت كما أخرج ابن جرير عن وهب بن منبه في بني إسرائيل * (الراكعون الس‍اجدون) * أي في الصلوات المفروصات كما روي عن الحسن، فالركوع والسجود على معناهما الحقيقي، وجعلهما بعضهم عبارة عن الصلاة لأنهما أعظم أركانهافكأنه قيل: المصلون * (الآمرون بالمعروف) * أي الإيمان * (والناهون عن المنكر) * أي الشرك كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الأمرين، ولو أبقى لفظ النظم الجليل على عمومه لكان له وجه بل قيل إنه الأولى، والعطف هنا على ما في المغنى إنما كان من جهة إن الأمر والنهي من حيث هما أمر ونهي متقابلان بخلاف بقية الصفات لأن الآمر بالمعروف ناه عن المنكر وهو ترك المعروف والناهي عن المنكر آمر بالمعروف فأشير إلى الاعتداد بكل من الوصفين وأنه لا يكفي فيه ما يحصل في ضمن الآخر، وحاصله على ما قيل: إن العطف لما بينهما من التقابل أو لدفع الايهام.
ووجه بعض المحققين ذلك بأن بينهما تلازما في الذهن والخارج لأن الأوامر تتضمن النواهي ومنافاة يحسب الظاهر لأن أحدهما طلب فعل والآخر طلب ترك فكانا بين كمال الاتصال والانقطاع المقتضى للعطف بخلاف
31

ما قبلهما، وقيل: إن العطف للدلالة على أنهما في حكم خصلة واحدة كأنه قيل: الجامعون بين الوصفين، ويرد على ظاهره أن * (الراكعون الساجدون) * في حكم خصلة واحدة أيضا فكان ينبغي فيهما العطف على ما ذكر إذ معناه الجامعون بين الركوع والسجود ويدفع بأدنى التفات، وإما العطف في قوله سبحانه: * (والحافظون لحدود الله) * أي فيما بينه وعينه من الحقائق والشرائع فقيل للإيذان بأن العدد قد تم بالسباع من حيث أن السبعة هو العدد التام والثامن ابتداء تعداد آخر معطوف عليه ولذلك يسمى واو الثمانية، وإليه مال أبو البقاء. وغيره ممن أثبت واو الثمانية وهو قول ضعيف لم يرضه النحاة كما فصله ابن هشام وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه، وقيل: إنه للتنبيه على أن ما قبله مفصل الفضائل وهذا مجملها، يعني أنه من ذكر أمر عام شامل لما قبله وغيره، ومثله يؤتى به معطوفا نحو زيد وعمرو وسائر قبيلته كرماء فلمغايرته بالإجمال والتفصيل والعموم والخصوص عطف عليه، وقيل: هو عطف عليه، وقيل: هو عطف على ما قبله من الأمر والنهي لأن من لم يصدق فعله قوله لا يجدي أمره نفعا ولا يفيد نهيه منعا.
وقال بعض المحققين: إن المراد بحفظ الحدود ظاهره وهي إقامة الحد كالقصاص على من استحقه؛ والصفات الأول إلى قوله سبحانه: * (والآمرون) * صفات محمودة للشخص في نفسه وهذه له باعتبار غيره فلذا تغاير تعبير الصنفين فترك العاطف في القسم الأول وعطف في الثاني، ولما كان لا بد من اجتماع الأول في شيء واحد ترك فيها العطف لشدة الاتصال بخلاف هذه فإنه يجوز اختلاف فاعلها ومن تعلقت به، وهذا هو الداعي لاعراب * (التائبون مبتدأ موصوفا بما بعده و * (الآمرون) * خبره فكؤنه قيل: الكاملون في أنفسهم المكملون لغيرهم وقدم الأول لأن المكمل لا يكون مكملا حتى يكون كاملا في نفسه، وبهذا يتسق النظم أحسن اتساق من غير
تكلف وهو وجه وجيه للعطف في البعض وترك العطف في الآخر، خلا أن المأثور عن السلف كابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وغيره تفسير الحافظين لحدود الله بالقائمين على طاعته سبحانه وهو مخالف لما في هذا التوجيه ولعل الأمر فيه سهل الله تعالى أعلم بمراده * (وبشر المؤمنين) * أي هؤلاء الموصوفين بتلك الصفات الجليلة، ووضع المؤمنين موضع ضميرهم للتنبيه على أن ملاك الأمر هو الإيمان وان المؤمن الكامل من كان كذلك، وحذف المبشر به إشارة إلى أنه أمر جليل لا يحيط به نطاق البيان.
* (ما كان للنبى والذين ءامنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصح‍ابالجحيم) *
* (ما كان) * أي ما صح في حكم الله عز وجل وحكمته وما استقام * (للنبي والذين ءامنوا) * بالله تعالى على الوجه المأمور به * (أن يستغفروا للمشركين) * به سبحانه * (ولو كانوا) * أي المشركون * (أولى قربى) * أي ذوي قرابة لهم، وجواب * (لو) * محذوف لدلالة ما قبله عليه، والجملة معطوفة على جملة أخرى قبلها محذوفة خذفا مطردا أي لو لم يكونوا أولى قربى ولو كانوا كذلك * (من بعد ما تبين لهم) * أي للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين * (أنهم) * أي المشركين * (أصحاب الجحيم) * بأن ماتوا على الكفر أو نزل الوحي بأنهم مطبوع على قلوبهم لا يؤمنون أصلا، وفيه دليل على صحة الاستغفار لأحيائهم الذين لا قطع بالطبع على قلوبهم، والمراد منه في حقهم طلب توفيقهم للإيمان، وقيل: إنه يستلزم ذلك بطريق الاقتضاء فلا يقال: إنه لا فائدة في طلب المغفرة للكافر، والآية على الصحيح نزلت في أبي طالب. فقد أخرج أحمد، وابن أبي شيبة.
32

والبخاري. ومسلم. والنسائي. وابن جرير. وابن المنذر. والبيهقي في الدلائل. وآخرون عن المسيب بن حزن قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل. وعبد الله بن أبي أمية فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أي عم قل: لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله فقال: أبو جهل: وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه وأبو جهل. وعبد الله بن أبي أمية فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أي عم قل: لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله فقال: أبو جهل: وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه وأبو جهل. وعبد الله يعاودانه بتلك المقالة فقال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول: لا إله إلا الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فنزلت * (ما كان للنبي) * الآية.
واستبعد ذلك الحسين بن الفضل بأن موت أبي طالب قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين وهذه السورة من أواخر ما نزل بالمدينة. قال الواحدي: وهذا الاستبعاد مستبعد فأي بأس أن يقال: كان عليه الصلاة والسلام يستغفر لأبي طالب من ذلك الوقت إلى وقت نزول الآية فإن التشديد مع الكفار إنما ظهر في هذه السورة، وذكر نحوا من هذا صاحب التقريب، وعليه لا يراد بقوله: فنزلت في الخبر أن النزول كان عقيب القول بل يراد أن ذلك سبب النزول، فالفاء فيه للسببية لا للتعقيب. واعتمد على هذا التوجيه كثير من جلة العلماء بل يراد أن ذلك سبب النزول، فالفار فيه للسببية لا للتعقيب. واعتمد على هذا التوجيه كثير من جلة العلماء وهو توجيه وجيه، خلا أنه يعكر عليه ما أخرجه ابن سعد. وابن عساكر عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بموت أبي طالب فبكى فقال: " إذهب فغسله وكفنه وواره غفر الله له ورحمه ففعلت وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر له أياما ولا يخرج من بيته حتى نزل عليه جبريل عليه الصلاة والسلام بهذه الآية * (ما كان للنبي) * الخ " فإنه ظاهر في أن النزول قبل الهجرة لأن عدم الخروج من البيت فيه مغيا به، اللهم إلا أن يقال بضعف الحديث لكن لم نر من تعرض له، والأولى في الجواب عن أصل الاستبعاد أن يقال: إن كون هذه السورة من أواخر ما نزل باعتبار الغالب كما تقدم فلا ينافي نزول شيء منها في المدينة. والآية على هذا دليل على أن أبا طالب مات كافرا وهو المعروف من مذهب أهل السنة والجماعة.
وروى ابن إسحق في سيرته عن العباس بن عبد الله بن معبد عن بعض أهله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من خبر طويل " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي طالب في مرض موته وقد طمع فيه: أي عم فانت فقلها يعني لا إله إلا الله أستحل بها لك الشفاعة يوم القيامة - وحرض عليه عليه الصلاة والسلام بذلك - فقال: والله يا ابن أخي لولا مخافة السبة عليك وعلى بني أبيك من بعدي وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها ولا أقولها إلا لأسرك بها فلما تقارب من أبي طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه فأصغى إليه بأذنه فقال: يا ابن أخي لقد قال أخى الكلمة التي أمرته أن يقولها فقال له صلى الله عليه وسلم: لم أسمع " واحتج بهذا ونحوه من أبياته المتضمنة للإقرار بحقية ما جاء به صلى الله عليه وسلم وشدة حنوه عليه ونصرته له صلى الله عليه وسلم الشيعة الذاهبون إلى موته مؤمنا وقالوا: إنه المروى عن أهل البيت وأهل البيت أدرى. وأنت تعلم قوة دليل الجماعة فالاعتماد على ما روي عن العباس دونه مما تضحك منه الثكلى، والأبيات على انقطاع أسانيدها ليس فيها النطق بالشهادتين وهو مدار فلك الإيمان، وشدة الحنو والنصرة مما لا ينكره أحد إلا أنها بمعزل عما نحن فيه، وأخبار الشيعة عن أهل البيت أو هن من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت. نعم لا ينبغي للمؤمن الخوض فيه كالخوض في سائر كفار قريش من أبي جهل. وأضرا به
33

فإن له مزية عليهم بما كان يصنعه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من محاسن الأفعال، وقد روى نفع ذلك له في الآخرة أفلا ينفعه في الدنيا في الكف عنه وعدم معاملته معاملة غيره من الكفار. فعن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وقد ذكر عنده عمه: " لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من نار " وجاء في رواية أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عمك أيا طالب كان يحوطك وينصرك فهل ينفعه ذلك؟ فقال: نعم وجدته في غمرات النار فأخرجته إلى ضحضاح من نار. وسبه عندي مذموم جدا لا سيما إذا كان فيه إيذاء لبعض العلويين إذ قد ورد " لا تؤذوا الأحياء بسبب الأموات - ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعينه ".
وزعم بعضهم أن الآية. نزلت في غير ذلك. فقد أخرج البيهقي في الدلائل. وغيره عن ابن سمعود قال: " خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوما إلى المقابر فجاء حتى جلس إلى قبر منها فناجاه طويلا ثم بكى فبكينا لبكائه ثم قام فصلى ركعتين فقام إليه عمر فدعاه ثم دعانا فقال: إليه عمر فدعاه ثم دعانا فقال: ما أبكاكم؟ قلنا: بكينا لبكائك قال: إن القبر الذي جلست عنده قبر آمنة وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي وأنزل على * (ما كان للنبي) * الخ فأخذني ما يأخذ الولد للوالدة من الرقة فذاك الذي أبكاني " ولا يخفى أن الصحيح في سبب النزول هو الأول. نعم خبر الاستئذان في الاستغفار لأمه عليه الصلاة والسلام وعدم الاذن جاء في رواية صحيحة لكن ليس فيها أن ذلك سبب النزول. فقد أخرج مسلم. وأحمد. وأبو داود. وابن ماجه. والنسائي عن أبي هريرة قال: " أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال عليه الصلاة والسلام: استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنت أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فانها تذكركم الموت " واستدل بعضهم بهذا الخبر ونحوه على أن أمه عليه الصلاة والسلام ممن لا يستغفر له، وفي ذلك نزاع شهير بين العلماء، ولعل النوبة تفضي إلى تحقيق الحق فيه إن شاء الله تعالى.
* (وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدهآ إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم) *
* (وما كان استغف‍ار إبراهيم لأبيه) * آزر بقوله * (واغفر لأبي) * أي بأن توفقه للإيمان وتهديه إليه كام يلوح به تعليله بقوله: * (إنه كان من الضالين) * (الشعراء: 86) والجملة استئناف لتقرير ما سبق ودفع ما يتراءى بحسب الظاهر من المخالفة، وأخرج أبو الشيخ. وابن عساكر من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: لما مات أبو طالب قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحمك الله وغفر لك لا أزال استغفر لك حتى ينهاني الله تعالى فأخذ المسلمون يستغفرون لموتاهم الذين ماتوا وهم مشركون فأنزل الله تعالى * (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) * (التوبة: 113) الآية فقالوا: قد استغفر إبراهيم لأبيه فأنزل سبحانه * (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه) * * (إلا عن موعدة) * وقرأ طلحة * (وما استغفر) * وعنه * (وما يستغفر) * على حكاية الحال الماضية لا أن الاستغفار سوف يقع بعد يوم القيامة كما يتوهم مما سيأتي إن شاء الله تعالى، والاستثناء مفرغ من أعم العلل أي لم يكن استغفاره عليه السلام لأبيه ناشئا عن شيء من الأشياء إلا عن موعدة * (وعدها) * أي إبراهيم عليه السلام * (إياه) * أي أباه بقوله: * (لأستغفرن لك) *، وقوله: * (سأستغفر لك ربي) * فالوعد كان من إبراهيم عليه السلام. ويدل على ذلك ما روي عن الحسن. وحماد الرواية. وابن السميقع. وابن نهيك. ومعاذ القارىء أنهم قرأوا * (وعدها أباه) * بالموحدة، وعد ذلك أحد الأحرف الثلاث التي صحفها ابن المقفع في القرآن مما
34

لا يلتفت إليه بعد قراءة غير واحد من السلف به وإن كانت شاذة. وحاصل معنى الآية ما كان لكم الاستغفار بعد التبين واستغفار إبراهيم عليه الصلاة والسلام إنما كان عن موعدة قبل التبين، ومآله أن استغفار إبراهيم عليه السلام كان قبل التبين وينبىء عن ذلك قوله تعالى: * (فلما تبين له) * أي لإبراهيم عليه السلام * (أنه) * أي أن أباه * (عدو لله) * أي مستمر على عداوته تعالى وعدم الإيمان به وذلك بأو أوحى إليه عليه السلام أنه مصر على الكفر. وأخرج ابن جرير. وابن المنذر. وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ذلك التبين كان بموته كافرا وإليه ذهب قتادة، قيل: والأنسب بوصف العداوة هو الأول والأمر فيه هين.
* (تبرأ منه) * أي قطع الوصلة بينه وبينه، والمراد تنزه عن الاستغفار له وتجانب كل التجانب، وفيه من المبالغة ما ليس في تركه ونظائره * (إن إبراهيم لأواه) * أي لكثير التأوه، وهو عند جماعة كناية عن كمال الرأفة ورقة القلب. وأخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم؛ وغيرهما عن عبد الله بن شداد قال: قال رجل: يا رسول الله ما الأواه؟ قال: الخاشع المتضرع الدعاء. وأخرج أبو الشيخ عن زيد بن أسلم أنه الدعاء المستكن إلى الله تعالى كهيئة الرميض المتأوه من مرضه وهو قريب مما قبله: وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد. وقتادة. وعطاء. والضحاك. وعكرمة إنه الموقن بلغة الحبشة، وعن عمرو بن شرحبيل أنه الرحيم بتلك اللغة وأطلق ابن مسعود تفسيره بذلك، وعن الشعبي أنه المسبح. وأخرج البخاري في تاريخه أنه الذي قلبه معلق عند الله تعالى. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان. وغيره عن كعب أن إبراهيم وصف بالأواه لأنه كان إذا ذكر النار قال أوه من النار أوه. وأخرج أبو الشيخ عن أبي الجوزاء مثله، وإذا صح تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم له لا ينبغي العدول عنه. نعم ما ذهب إليه الجماعة غير مناف له ومناسبته لما نحن فيه ظاهرة كما لا يخفى. وقد صرح غير واحد أنه فعال للمبالغة من التأوه؛ وقياس فعله أن يكون ثلاثيا لأن أمثلة المبالغة إنما يطرد أخذها منه، ووحكى قطرب له فعلا ثلاثيا فقال: يقال آه يؤوه كقام يقوم أوها وأنكره عليه غيره وقال: لا يقال إلا أوه وتأوه قال المثقب العبدي: إذا ما قمت أرحلها بليل * تأوه آهة الرجل الحزين
وأصل التأوه قوله آه ونحوه مما يقوله الحزين. وفي الدرة للحريري أن الأفصح أن يقال في التأوه أوه بكسر الهاء وضمها وفتحها والكسر أغلب، وعليه قول الشاعر: فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها * ومن بعد أرض بيننا وسماء
وقد شدد بعضهم الواو وأسكن الهاء فقال أوه، وقلب بعضهم الواو ألفا فقال آه، ومنهم من حذف الهاء وكسر الواو فقال أو ثم ذكر أن تصريف الفعل من ذلك أوه وتأوه وأن المصدر الآهة والأهة وإن من ذلك قول المثقب السابق * (حليم) * أي صبور على الأذى صفوح عن الجناية، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان من حلمه عليه السلام أنه إذا آذاه الرجل من قومه قال له: هداك الله تعالى، ولعل تفسيره بالسيد على ما روي عن الحبر مجاز. والجملة استئناف لبيان ما حمله عليه الصلاة والسلام على الموعدة بالاستغفار لأبيه مع شكاسته عليه وسوء خلقه معه كما يؤذن بذلك قوله عليه الصلاة والسلام:
35

* (لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا) * (مريم: 46)، وقيل: استئناف لبيان ما حمله على الاستغفار. وأورد عليه أنه يشعر بظاهره أن استغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه كان عن وفور الرحمة وزيادة الحلم وهو يخالف صدر الآية حيث دل على أنه كان عن موعدة ليس إلا، ولعل المراد أن سبب الاستغفار ليس إلا الموعدة
الناشئة عما ذكر فلا اشكال. وفيها تأكيد لوجوب الاجتناب بعد التبين كأنه قيل: إنه عليه الصلاة والسلام تبرأ منه بعد التبين وهو في كمال رقة القلب والحلم فلا بد أن يكون غيره أكثر منه اجتنابا وتبرؤا، وجوز بعضهم أن يكون فاعل وعد ضمير الأب و * (إياه) * ضمير إبراهيم عليه الصلاة والسلام أي إلا عن موعدة وعدها إبراهيم أبوه وهي الوعد بالإيمان.
قال شيخ مشايخنا صبغة الله أفندي الحيدري: لعل هذا هو الأظهر في التفسير فإن ظاهر السياق أن هذه الآية دفع لما يرد على الآية الأولى من النقض باستغفار إبراهيم لأبيه الكافر ويكفى فيه مجرد كونه في يحاة أبيه حيث يحمل ذلك على طلب المغفرة له بالتوفيق للإيمان كما قرر سابقا من غير حاجة إلى حديث الموعدة فيصير * (إلا عن موعدة وعدها إياه) * كالحسو على التوجيه الأول للضميرين بخلاف هذا التوجيه فإن محصله عليه هو أنه لا يرد استغفار إبراهيم لأبيه نقضا على ما ذكرنا إذ هو إنما صدر عن ظن منه عليه الصلاة والسلام بإيمانه حيث سبق وعده معه عليه الصلاة والسلام فظن أنه وفي بالوعد وجرى على مقتضى العهد فاستغفر له فلما تبين له أنه لن يفي ولن يؤمن قط أو لم يف ولم يؤمن تبرأ منه.
ويمكن أن يوجه ذكر الموعدة على التوجيه الأول أيضا بأن يقال: أراد سبحانه وتعالى تضمين الجواب بكون ذلك الاستغفار في حال حياة المستغفر له وحمله على الطلب المذكور فائدة أخرى هي أنه صلى الله عليه وسلم لغاية تصلبه في الدين وفرط تعصبه على اليقين ما كان يستغفر له وإن كان جائزا لكن تأوه وتحلم فاستغفر له وفاء بالموعدة التي وعدها إياه فتفطن انتهى، وأنت تعلم أنه على التوجيه الثاني لا يستقيم ما قالوه في استئناف الجملة من أنه لبيان الحامل وكان عليه أن يذكر وجه ذلك عليه، وأيضا قوله رحمه الله تعالى في بيان الفائدة: لكنه تأوه وتحلم حيث نسب فيه الحلم إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام بصيغة التفعل مع وصفه تعالى له عليه الصلاة والسلام بالحليم عثرة لا يقال لصاحبها لعا، وحمل ذلك على المشاكلة مع إرادة فعل مما لا يوافق عرضه وسوق كلامه، فالحق الذي ينبغي أن يعول عليه التفسير الأول للآية وهو الذي يقتضيه ما روي عن الحسن. وغيره من سلف الأمة رضي الله تعالى عنهم. وذكر حديث الموعدة لبيان الواقع في نفس الأمر مع ما فيه من الإشارة إلى تأكيد الاجتناب وتقوية الفرق كأنه قيل: فرق بين بين الاستغفار الذي نهيتم عنه واستغفار إبراهيم عليه السلام فإن استغفاره كان قبل التبين وكان عن موعدة دعاه إليها فرط رأفته وحلمه وما نهيتم عنه ليس كذلك. بقي أن هذه الآية يخالفها ظاهر ما رواه البخاري في " الصحيح " عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يلقى إبراهيم عليه السلام أباه يوم القيامة وعلى وجهه قترة وغبرة فيقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ألم أقل لك لا تعصني فيقول أبوه اليوم لا أعصيك فيقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزي من أبى الأبعد فيقول الله تعالى إني حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال: يا إبراهيم ما تحت رجليك؟ فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار. ورواه غيره بزيادة فيتبرأ منه فإن الآية ظاهرة في انقطاع رجاء إبراهيم عليه السلام اتصاف أبيه بالإيمان وجزمه بأنه لا يغفر له ولذلك تبرأ منه وترك الاستغفار له فإن الاستغفار له مع الجزم بأنه لا يغفر له مما لا يتصور
36

وقوعه من العارف لا سيما مثل الخليل عليه الصلاة والسلام، وقد صرحوا بأن طلب المغفرة للمشرك طلب لتكذيب الله سبحانه نفسه، والحديث ظاهر في أنه عليه الصلاة والسلام يطلب ذلك له يوم القيامة ولا ييأس من نجاته إلا بعد المسخ فإذا مسخ يئس منه وتبرأ.
وأجاب الحافظ ابن حجر عن المخالفة بجوابين بحث فيهما بعض فضلاء الروم، ومن الغريب قوله في الجواب الثاني: إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يتيقن موت أبيه على الكفر لجواز أن يكون آمن في نفسه ولم يطلع عليه الصلاة والسلام على ذلك ويكون وقت تبريه منه بعد الحالة التي وقعت في الحديث فإنه مخالف مخالفة ظاهرة لما يفهم من الآية من أن التبين والتبري كان كل منهما في الدنيا، وأجاب ذلك البعض بأنا لا نسلم التخالف بين الآية والحديث، وإنما يكون بينهما ذلك لو كان في الحديث دلالة على وقوع الاستغفار من إبراهيم لأبيه وطلب الشفاعة له وليس فليس، وقوله: يا رب إنك وعدتني الخ أراد به عليه الصلاة والسلام محض الاستفسار عن حقيقة الحال فإنه اختلج في صدره الشريف أن هذه الحال الواقعة على أبيه خزي له وأن خزي الأب خزي الابن فيؤدي ذلك إلى خلف الوعد المشار إليه بقوله: إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، وأنت خبير بأن الخبر ظاهر في الشفاعة، وهي استغفار كما يدل عليه كلام المتكلمين في ذلك المقام.
ويزيد ذلك وضوحا أن الحاكم أخرج عن أبي هريرة أيضا وصححه، وقال على شرط مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يلقى رجل أباه يوم القيامة فيقول: يا أبت أي ابن كنت لك؟ فيقول: خير ابن. فيقول: هل أنت مطيعي اليوم؟ فيقول: نعم. فيقول خذ بازرتي فيأخذ بازرته ثم ينطلق حتى يأتي الله تعالى وهو يفصل بين الخلق فيقول: يا عبدي ادخل من أي أبواب الجنة شئت فيقول: أي رب وأبي معي فإنك وعدتني أن لا تخزيني قال فيمسخ أباه ضبعا فيهوى في النار فيأخذ بأنفه فيقول سبحانه: يا عبدي هذا أبو فيقول: لا وعزتك "، وقال الحافظ المنذري: إنه في " صحيح البخاري " إلا أنه قال: " يلقى إبراهيم أباه " وذكر القصة إذ بفهم من ذلك أن الرجل في حديث الحاكم هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام وطلبه المغفرة لأبيه فيه وإدخاله الجنة أظهر منهما في حديث البخاري وما ذكره الزمخشري ملاالفا على ما قيل: لما شاع عن المعتزلة أن امتناع جواز الاستغفار للكافر إنما علم بالوحي لا بالعقل لأن العقل يجوز أن يغفر الله تعالى للكافر، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب: " لأستغفرن لك ما لم أنه لا ينفع في هذا الغرض إلا إذا ضم إليه عدم علم إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذلك بالوحي إلى يوم القيامة وهو مما لا يكاد يقدم عليه عاقل فضلا عن فاضل.
وأجاب بعض المعاصرين أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان عالما بكفر أبيه ومتيقنا بأن الله تعالى لا يغفر أن يشرك به إلا أن الشفقة والرأفة الطبيعية غلبت عليه حين رأى أباه في عرصات يوم القيامة وعلى وجهه قترة فلم يملك نفسه أن طلب ما طلب، ونظير ذلك من وجه قول نوح عليه الصلاة والسلام لربه سبحانه: * (ربان ابني من أهلى وأن وعدك الحق) * (هود: 45) ولا يخفى أنه من الفساد بمكان ومثله ما قيل: إنه ظن استثناء أبيه من عموم * (إن الله يغفر أن يشرك به) * (النساء:
48) لأن الله وعده أن لا يخزيه فقدم على الشفاعة له، ولعمري لا يقدم عليه إلا جاهل بجهله أما الأول فلأن الأنبياء عليهم السلام أجل قدرا من أن تغلبهم أنفسهم على الاقدام على ما فيه تكذيب الله تعالى، وأما الثاني فلأنه له كان لذلك ألفا أصل ما كان يتبرأ منه عليه السلام في الدنيا بعد أن تبين له أنه لله وهو الأوام.
37

وقيل: إن الأحسن في الجواب التزام أن ما في الخبرين ليس من الشفاعة في شيء ويقال: إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ظن أن خزي أبيه في معنى الخزي له فطلب بحكم وعد الله سبحانه إياه أن لا يخزيه تخليصا من ذلك حسبما يمكن فخلصه منه بمسخه ذيخا، ولعل ذلك مما يعده إبراهيم عليه السلام تخليصا له من الخزي لاختلاف النوع وعدم معرفة العارفين لأبيه بعد أنه أبوه فكأن الأبوة انقطعت من البين ويؤذن بذلك أن بعد المسخ يأخذ سبحانه بأنفه فيقول له عليه السلام: يا عبدي هذا أبوك؟ فيقول: لا وعزتك، ولعل المراد من التبري في الرواية السابقة في الخبر الأول هو هذا القول، وتوسيط حديث تحريم الجنة على الكافرين ليس لأن إبراهيم عليه السلام كان طالبا ادخال أبيه فيها بل لإظهار عدم إمكان هذا الوجه من التخليص اقناطا لأبيه وإعلاما له بعظم ما أتي به، ويحمل قوله عليه السلام في خبر الحاكم حين يقال له: يا عبد ادخل من أي أبواب الجنة شئت أي رب وأبى معي على معنى أأدخل وأبي واقف معي، والمراد لا أدخل وأبي في هذه الحال وإنما ادخل إذا تغيرت، ويكون قوله عليه السلام: فانك وعدتني أن لا تخزيني تعليلا للنفي المدلول عليه بالاستفهام المقدر وحينئذ يرجع الأمر إلى طلب التخليص عما ظنه خزيا له أيضا فيمسخ ضبعا لذلك. ولا يرد أن التخليص ممكن بغير المسخ المذكور لأنا نقول. لعل اختيار ذلك المسخ دون غيره من الأمور الممكنة ما عدا دخول الجنة لحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه، وقد ذكروا أن حكمة مسخه ضبعا دون غيره من الحيوانات أن الضبع أحمق الحيوانات ومن حمقه أنه يغفل عما يجب له التيقظ ولذلك قال على كرم الله تعالى وجهه: لا أكون كالضبع يسمع الكدم فيخرج له حتى يصاد وآزر لما لم يقبل النصيحة من أشفق الناس عليه زمان إمكان نفعها له وأخذ بازرته حين لا ينفعه ذلك شيئا كان أشبه الخلق بالضبع فمسخ ضبعا دون غيره لذلك، ولم يذكروا حكمة اختيار المسخ دون غيره وهو لا يخلو عن حكمة والجهل بها لا يضر انتهى.
ولا يخفى ما في هذا الجواب من التكلف، وأولى منه التزام كون فاعل * (وعد) * ضمير الأب وضمير * (إياه) * راجعا إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام وكون التبين والتبري واقعين في الآخرة حسبما تضمنه الخبران السابقان، فحينئذ لا يبعد أن يكون إبراهيم مستغفرا لأبيه بعد وعده إياه بالإيمان طالبا له الجنة لظن أنه وفى بوعده حتى يمسخ ذيخا، لكن لا يساعد عليه ظاهر الآية ولا المأثور عن سلف الأمة وإن صح كون الآية عليه دفعا لما يرد على الآية الأولى من النقض أيضا بالعناية، ولعل أخف الأجوبة مؤنة كون مراد إبراهيم عليه الصلاة والسلام من تلك المحاورة التي تصدر منه في ذلك الموقف إظهار العذر فيه لأبيه وغيره على أتم وجه لا طلب المغفرة حقيقة، وهذا كما قال المعتزلة في سؤال موسى عليه السلام رؤية الله تعالى مع العلم بامتناعها في زعمهم، والقول بأن أهل الموقف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وغيرهم من سائر المؤمنين والكفار سواء في العلم بامتناع المغفرة للمشرك مثلا في حيز المنع، وربما يدعى عدم المساواة لظاهر طلب الكفار العفو والإخراج من النار ونحو ذلك بل في الخبرين السابقين ما يدل على عدم علم الأب بحقيقة الحال وأنه لا يغفر له فتأمل ذاك والله سبحانه يتولى هذاك * (وبقي أيضا) * أنه استشكل القول بأن استغفار إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه حتى تبين له أنه عدو لله كان في حياته بما في سورة الممتحنة من قوله سبحانه: * (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم) * (الممتحنة: 4) إلى قوله سبحانه: * (إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك) * (الممتحنة: 4) حيث منع من الاقتداء به فيه ولو كان في حياته لم يمنع منه لأنه يجوز الاستغفار بمعنى طلب الإيمان لأحياء المشركين. وأجيب بأنه إنما منع من الاقتداء بظاهره وظن
38

أنه جائز مطلقا كما وقع لبعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك باذن الله تعالى الهادي.
* (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم) *
* (وما كان الله ليضل قوما) * أي ما يستقيم من لطف الله تعالى وافضاله أن يصف قوما بالضلال عن طريق الحق ويذمهم ويجري عليهم أحكامه * (بعد إذ هداهم) * للإسلام * (حتى يبين لهم) * بالوحي صريحا أو دلالة * (ما يتقون) * أي ما يجب اتقاؤه من محذورات الدين فلا ينزجروا عما نهوا عنه، وكأنه تسلية للذين استغفروا للمشركين قبل البيان حيث أفاد أنه ليس من لطفه تعالى أن يذم المؤمنين ويؤاخذهم في الاستغفار قبل أن يبين أنه غير جائز لمن تحقق شركه لكنه سبحانه يذم ويؤاخذ من استغفر لهم بعد ذلك. والآية على ما روي عن الحسن نزلت حين مات بعض المسلمين قبل أن تنزل الفرائض فقال إخوانهم: يا رسول الله أخواننا الذين ماتوا قبل نزول الفرائض ما منزلتهم وكيف حالهم؟ وعن مقاتل. والكلبي أن قوما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قبل تحريم الخمر وصرف القبلة إلى الكعبة ثم رجعوا إلى قومهم فحرمت الخمر وصرفت القبلة ولم يعلموا ذلك حتى قدموا بعد زمان إلى المدينة فعلموا ذلك فقالوا: يا رسول الله قد كنت على دين ونحن على غيره فنحن في ضلال فأنزل الله تعالى الآية، وحمل الاضلال فيها على ما ذكرنا هو الظاهر وليس من الاعتزال في شيء كما توهم وكأنه لذلك عدل عنه الواحدي حيث زعم أن المعنى ما كان الله لوقع في قلوبهم الضلالة: واستدل بها على أن الغافل وهو من لم يسمع النص والدليل المسعي غير مكلف، وخص ذلك المعتزلة بما لم يعلم بالعقل كالصدق في الخبر ورد الوديعة فإنه غير موقوف على التوقيف عندهم وهو تفريع على قاعدة الحسن والقبح العقليين ولأهل السنة فيها مقال * (إن الله بكل شيء عليم) * تعليل لما سبق أي إن الله تعالى عليم بجميع الأشياء التي من جملتها حاجتهم إلى البيان فيبين لهم، وقيل: إنه استئناف لتأكيد الوعيد المفهوم مما قبله [بم وكذا قوله سبحانه:
* (إن الله له ملك السم‍اوات والارض يحى ويميت وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير) *
* (إن الله له ملك السموات والأرض) * من غير شريك له فيه.
* (يحيي ويميت ومالكم من دون الله من ولى ولا نصير) * وقال غير واحد: إنه سبحانه لما منعهم عن الاستغفار للمشركين وإن كانوا أولى قربى وتضمن ذلك وجوب التبري عنهم رأسا بين لهم أن الله سبحانه مالك كل موجود ومتولى أمره والغالب عليه ولا يتأتى لهم ولاية ولا نصر إلا منه تعالى ليتوجهوا إليه جل شأنه بشراشرهم
متبرئين عما سواه غير قاصدين إلا إياه.
* (لقد تاب الله على النبى والمه‍اجرين والانص‍ار الذين اتبعوه فى ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم) *
لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار) * قال أصحاب المعاني المراد ذكر التوبة على المهاجرين والأنصار إلا أنه جيء في ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم تشريفا لهم وتعظيما لقدرهم، وهذا كما قالوا في ذكره تعالى في قوله سبحانه: * (فأن لله خمسه وللرسول) * (الأنفال: 41) الخ أي عفا سبحانه عن زلات سبقت منهم يوم أحد ويوم حنين، وقيل: المراد ذكر التوبة عليه عليه الصلاة والسلام وعليهم، والذنب بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم من باب خلاف الأولى نظرا إلى مقامه الجليل، وفسر هنا على ما روي عن ابن عباس بالاذن للمنافقين في التخلف، وبالنسبة إليهم رضي الله تعالى عنهم لا مانع من أن يكون حقيقيا إذ لا عصمة عندنا لغير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ويفسر بما فسر أولا.
وجوز أيضا أن يكون من باب خلاف الأولى بناء على ما قيل: إن ذنبهم كان الميل إلى العقود عن غزوة تبوك حيث وقعت في وقت شديد، وقد تفسر التوبة بالبراءة عن الذنب والصون عنه مجازا حيث أنه لا مؤاخذة
39

في كل، وظاهر الإطلاق الحقيقة، وفي الآية ما لا يخفى من التحريض والبعث على التوبة للناس كلهم * (الذين اتبعوه) * ولم يتخلفوا عنه صلى الله عليه وسلم * (في ساعة العسرة) * أي في وقت الشدة والضيق، والتعبير عنه بالساعة لزيادة تعيينه وكانت تلك الشدة حالهم في غزوة تبوك فإنهم كانوا في شدة من الظهر يعتقب العشرة على بعير واحد وفي شدة من الزاد تزودوا التمر المدود والشعير المسوس والاهالة الزنخة وبلغت بهم الشدة أن قسم التمرة اثنان، وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء كما روي عن قتادة، وفي شدة من الماء حتى تحروا الإبل واعتصروا فروثها كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وفي شدة زمان من حمارة القيظ ومن الجدب والقحط، ومن هنا قيل لتلك الغزوة غزوة العسرة ولجيشها جيش العسرة. ووصف المهاجرين والأنصار بالاتباع في هذه الساعة للإشارة إلى أنهم حريون بأن يتوب الله عليهم لذلك وفيه أيضا تأكيد لأمر التحريض السابق * (من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم) * بيان لتناهي الشدة وبلوغها الغاية القصوى وهو إشراف بعضهم إلى أن يميلوا إلى التخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو إشراف بعضهم إلى أن يميلوا عن الثبات على الإيمان وحمل ذلك على مجرد الهم والوسوسة، وقيل: كان ميلا من ضعفائهم وحديثي عهدهم بالإسلام. وفي * (كاد) * ضمير الشأن و * (قلوب) * فاعل * (يزيغ) * والجملة في موضع الخبر لكاد ولا تحتاج إلى رابط لكونها خبرا عن ضمير الشأن وهو المنقول عن سيبويه وإضمار الشأن على ما نقل عن الرضى ليس بمشهور في أفعال المقاربة إلا في كاد وفي الناقصة إلا في كان وليس، وجوز أن يكون اسم كاد ضمير القوم والجملة في موضع الخبر أيضا والرابط عليه الضمير في * (منهم) * وهذا على قراءة * (يزيغ) * بالياء التحتانية وهي قراءة حمزة. وحفص. والأعمش وأما على قراءة * (تزيغ) * بالتاء الفوقانية وهي قراءة الباقين فيحتمل أن يكون * (قلوب) * اسم كاد و * (تزيغ) * خبرها وفيه ضمير يعود على اسمها ولا يصح هذا على القراءة الأولى لتذكير ضمير يزيغ، وتأنيث ما يعود إليه وقد ذكر هذا الوجه منتخب الدين الهمداني. وأبو طالب المكي. وغيرهما. وتعقبه في الكشف بأن في جعل القلوب اسم كاد خلاف وضعه من جوب تقديم اسمه على خبره كما ذكره الشيخ ابن الحاجب في " شرح المفصل " وفي البحر أن تقديم خبر كاد على اسمها مبني على جواز تركيب كان يقوم زيد وفيه خلاف والأصح المنع. وأجاب بعض فضلاء الروم بأن أبا علي جوز ذلك وكفى به حجة، وبأن عليه كلام ابن مالك في التسهيل وكذا كلام شراحه ومنهم أبو حيان وجرى عليه في ارتشافه أيضا، ولا يعبأ بمخالفته في البحر إذ مبني ذلك القياس على باب كان وهو لا يصادم النص عن أبي علي، على أن في كون أبي حيان من أهل القياس منعا ظاهرا فالحق الجواز، ويحتمل أن يكون اسم كاد ضميرا يعود على جمع المهاجرين والأنصار أي من بعد ما كاد الجمع، وقدر ابن عطية مرجع الضمير القوم أي من بعد ما كاد القوم. وضعف بأنه اضمر في كاد ضمير لا يعود إلا على متوهم، وبأن خبرها يكون قد رفع سببيا وقد قالوا: إنه لا يرفع إلا ضميرا عائدا على اسمها وكذا خبر سائر اخواتها ما عدا عسى في رأي، ولا يخفى ورود هذا أيضا على توجيهي القراءة الأولى لكن الأمر على التوجيه الأول سهل. وجوز الرضى تخريج الآية على التنازع وهو ظاهر على القراءة الثانية ويتعين حينئذ أعمال الأول إذ لو أعمل الثاني لوجب أن يقال في الأول * (كادت) * كما فرأ به الله تعالى عنه.
40

ولا يجوز كان إلا عند الكسائي فإنه يحذف الفاعل، وكأن الرضى لم يبال بما لزم على هذا التخريج من تقديم خبر كاد على اسمه لما عرفت من أنه ليس بمحذور على ما هو الحق. وذهب أبو حيان إلى أن * (كاد) * زائدة ومعناها مراد ككان ولا عمل لها في اسم ولا خبر ليخلص من القيل والقال، ويؤيده قراءة ابن مسعود * (من بعد ما زاغت) * بإسقاط كاد، وقد ذهب الكوفيون إلى زيادتها في نحو لم يكد مع أنها عاملة معمولة فهذا أولى.
وقرأ الأعمش * (تزيغ) * بضم التاء، وجعلوا الضمير على قراءة ابن مسعود للمتخلفين سواء كانوا من المنافقين أم لا كأبي لبابة * (ثم تاب عليهم) * تكرير للتأكيد بناء على أن الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم، والتأكيد يجوز عطفه بثم كما صرح به النحاة وإن كان كلام أهل المعاني يخالفه ظاهرا، وفيه تنبيه على أن توبته سبحانه في مقابلة ما قاسوه من الشدائد كما دل عليه التعليق بالموصول، ويحتمل أن يكون الضمير للفريق، والمراد أنه تاب عليهم لكيدودتهم وقربهم من الزيغ لأنه جرم محتاج إلى التوبة عليه فلا تكرار لما سبق، وقوله: * (إنه بهم رءوف رحيم) * استئناف تعليلي فإن صفة الرأفة والرحمة من دواعي التوبة والعفو، وجوز كون الأول عبارة عن إزالة الضرر والثاني عن إيصال النفع، وأن يكون أحدهما للسوابق والآخر للواحق.
* (وعلى الثل‍اثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم) *
* (وعلى الثلاثة) * عطف على * (النبي) *، وقيل: إن * (تاب) * مقدر في نظم الكلام لتغاير هذه التوبة السابقة وفيه نظر، أي وتاب على الثلاثة * (الذين خلفوا) * أي خلف أمرهم وأخر عن أمر أبي لبابة وأصحابه حيث لم يقبل منهم معذرة مثل أولئك ولا ردت ولم يقطع في شأنهم بشيء إلى أن نزل الوحي بهم، فالإسناد إليهم إما ممجاز أو بتقدير مضاف في النظم الجليل، وقد يفسر المتعدي باللازم أي الذين تخلفوا عن الغزو وهم كعب بن مالك من بني سلمة، وهلال بن أمية من بني واقف، ومرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف، ويقال فيه ابن ربيعة، وفي مسلم. وغيره وصفه بالعامري وصوب كثير من المحدثين العمري بدله.
وقرأ عكرمة. ورزين بن حبيش. وعمرو بن عبيد * (خلفوا) * بفتح الخاء واللام خفيفة أي خلفوا الغازين بالمدينة أو فسدوا من الخالفة وخلوف الفم، وقرأ علي بن الحسن. ومحمد الباقر. وجعفر الصادق رضي الله تعالى عنهم. وأبو عبد الرحمن السلمي. * (خالفوا) *، وقرأ الأعمش: * (وعلى المخلفين) * وظاهر قوله تعالى: * (حتى إذا ضاقت عليهم الأرض) * إنه غاية للتخليف بمعنى تأخير الأمر أي أخر أمرهم إلى أن ضاقت عليهم الأرض * (بما رحبت) * أي برحبها وسعتها لاعراض الناس عنهم وعدم مجالستهم ومحادثتهم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك وهو مثل لشدة الحيرة، والمراد أنهم لم يقروا في الدنيا سعتها وهو كما قيل: كأن بلاد الله وهي فسيحة * على الخائف المطلوب كفة حابل
* (وضاقت عليهم أنفسهم) * أي قلوبهم وعبر عنها بذلك مجازا لأن قيام الذوات بها، ومعنى ضيقها غمها حزنها كأنها لا تسع السرور لضيقها، وفي هذا ترق من ضيق الأرض عليهم إلى ضيقهم في أنفسهم
41

وهو في غاية البلاغة * (وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا آليه) * أي علموا أن لا ملجأ من سخطه إلا إلى استغفاره والتوبة إليه سبحانه، وحمل الظن على العلم لأنه المناسب لهم * (ثم تاب عليهم) * أي وفقهم للتوبة * (ليتوبوا) * أو أنزل قبول توبتهم في القرآن وأعلمهم بها ليعدهم المؤمنون في جملة التائبين أو رجع عليهم بالقبول والرحمة مرة بعد أخرى ليستقيموا على التوبة ويستمروا عليها، وقيل: التوبة ليست هي المقبولة، والمعنى قبل توبتهم من التخلف ليتوبوا في المستقبل إذ صدرت منهم هفوة ولا يقنطوا من كرمه سبحانه * (إن الله هو التواب) * المبالغ في قبول التوبة لمن تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة * (الرحيم) * المتفضل عليهم بفنون الآلاء مع استحقاقهم لأفانين العقاب.
أخرج عبد الرزاق. وابن أبي شيبة. وأحمد. والبخاري. ومسلم. والبيهقي من طريق الزهري قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب من بنيه حين عمي قال: " سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة تبوك قال كعب: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة غزاها قط إلا في غزوة تبوك غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر ولم يعاتب أحدا تخلف عنها إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله تعالى بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزاة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفاوز، واستقبل عدوا كثيرا فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم وأخبرهم بوجهه الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرلا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان - قال كعب فقال رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة حين طابت الثمار والظل وأنا إليها أصغرهم فتهجز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولا أقضي شيئا فأقول لنفسي أنا قادر على ذلك إذا أردت فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا وقلت أتجهز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه فغدوت يوم ما فصلوا لا تجهز فرجعت ولم أقض من جهازي شيئا ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى انتهوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فأدركهم وليت أني فعلت ثم لم يقدر ذلك لي وطفقت إذا خرجت في الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أن لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذره الله تعالى ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب بن مالك قال رجل
42

من بني سلمة: حبسه يا رسول الله برداه والنظر في عطفيه فقال له معاذ بن جبل: بئسما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك حضرني شيء فطفقت أتفكر الكذب، وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدا أستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبدا فأجمعت صدقه فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاء المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى حتى جئت فلما سلمت عليه عليه الصلاة والسلام تبسم تبسم المغضب ثم قال لي: تعالى فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي: ما خلفك ألم تكن قد اشتريت ظهرك؟ فقلت: يا رسول الله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر لقد أعطيت جدلا ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى عني به ليوشكن الله تعالى بسخطك علي ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه أني لأرجو فيه عقبي من الله تعالى، والله ما كان لي عذر والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله تعالى فيك فقمت وبادرني رجال من بني سلمة واتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ولقد عجزت أن لا
تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون ولقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فوالله ما زالوا يرايبوني حتي أردت أن أرجع فأكذب نفسي، ثم قلت: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم لقيه معك رجلان قالا ما قلت وقيل لهما مثل ما قيل لك فقلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع. وهلال بن أمية فذكروا إلى رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة فمضيت حين ذكروهما لي قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض التي كنت أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد وآتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في ملجسه بعد الصلاة فأسلم وأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام أم لاثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلى فإذا التفت نحوه أعرض حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة - وهو ابن عمي وأحب الناس إلي - فسلمت عليه فوالله ما رد السلام علي فقلت له: أبا قتادة أنشدك الله تعالى هل تعلم أتي أحب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فسكت فعدت فنشدته فسكت فعدت فنشدته فقال: الله تعالى ورسوله أعلم ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار، فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل علي كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاء فدفع إلى كتابا من ملك غسان وكنت كاتبا فإذا فيه: أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله تعالى بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسيك فقلت حين قرأتها: وهذه أيضا من البلاء فتيممت بها التنور
43

فسجرته فيها إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك قلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: بل اعتزلها ولا تقربها وأرسل إلي صاحبي مثل ذلك فقلت: لامرأتى الحقي بأهلك لتكوني عندهم حتى يقضي الله تعالى في هذا الأمر، فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن هلالا شيخ ضائع، وليس له خادم فهل تكره أن أخدمه؟ فقال: لا ولكن لا يقربنك قالت: وإنه والله ما به حركة إلى شيء والله ما زال يبكي من لدن أن كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أدري ماذا يقول إذا استأذنته وأنا رجل شاب قال: فلبثت عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى عنها قد ضاقت علي نفسي وضاقت على الأرض بما رحبت سمعت صارخا أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله تعالى علينا حين صلى الفجر فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون وركض إلى رجل فرسا وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي وكسوتهما إياه ببشارته والله ما أملك غيرهما يؤمئذ فاستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقاني الناس فوجا بعد فوج يهنؤنني بالتوبة يقولون: ليهنك توبة الله تعالى علك حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد حوله الناس فقام إلى طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام إلى رجل من المهاجرين غيره قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو ببرق وجهه من السرور: ابشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: لا بل من عند الله تعالى، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن انخلع من مالي صدقة إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم قال: أمسك بعض مالك فهو خير لك قلت: إني أمسك سهمي الذي بخيبر وقلت: يا رسول الله إنما نجاني الله تعالى بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت، فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين إبلاه الله تعالى في الصدق بالحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله تعالى، والله ما تعمدت كذبة منذ ذلك إلى يومي هذا وإني لأرجو أن يحفظني الله تعالى فيما بقي قال: وأنزل الله تعالى * (لقد تاب) * الآية والله ما أنعم الله تعالى على من نعمة قط بعد أن هداني الله سبحانه للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله عليه الصلاة والسلام يومئذ أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه فإن الله تعالى قال للذين كذبوه حين نزل الوحي شر ما قال لأحد فقال: * (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم) * قوله سبحانه: * (الفاسقين) *.
وجاء في رواية عن كعب رضي الله تعالى عنه قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامي كلام صاحبي فلبثت كذلك حتى طال على الأمر وما من شيء أهم إلي من أن أموت فلا يصلى على رسول الله صلى
44

الله تعالى عليه وسلم أو يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد منهم ولا يصلى علي فأنزل
الله تعالى توبتنا على نبيه صلى الله عليه وسلم حين بقي الثلث الأخير من الليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة، وكانت محسنة في شأني معينة في أمري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أم سلمة تيب علي كعب بن مالك قالت: أفلا أرسل إليه أبشره؟ قال إذا تحطمكم الناس فيمنعونكم النوم سائر الليل حتى إذا صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر آذن بتوبة الله تعالى علينا ".
هذا وفي وصفه سبحانه هؤلاء بما وصفهم به دلالة وأية دلالة على قوة إيمانهم وصدق توبتهم، وعن أبي بكر الوارق أنه سئل عن التوبة النصوح فقال: أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه.
* (ي‍اأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وكونوا مع الص‍ادقين) *
* (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) * فيما لا يرضاه * (وكونوا مع الصادقين) * أي مثلهم في صدقهم: وأخرج ابن الأنباري عن ابن عباس أنه كان يقرأ * (وكونوا من الصادقين) * وكذا روى البيهقي وغيره عن ابن مسعود أنه كان يقرأ كذلك، والخطاب قيل: لمن آمن من أهل الكتاب وروي ذلك عن ابن عباس فيكون المراد بالصادقين الذين صدقوا في إيمانهم ومعاهدتهم الله تعالى ورسوله الله صلى الله عليه وسلم على الطاعة: وجوز أن يكون عاما لهم ولغيرهم فيكون المراد بالصادقين الذين صدقوا في الدين نية وقولا وعملا، وأن يكون خاصا بمن تخلف وربط نفسه بالسوارى، فالمناسب أن يراد بالصادقين الثلاثة أي كونوا مثلهم في الصدق وخلوص النية. وأخرج ابن المنذر. وابن جرير عن نافع أن الآية نزلت في الثلاثة الذين خلفوا، والمراد بالصادقين محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وبذلك فسره ابن عمر كما أخرجه ابن أبي حاتم. وغيره، وعن عسيد بن جبير أن المراد كونوا مع أبي بكر. وعمر رضي الله تعالى عنهما.
وأخرج ابن عساكر. وآخرون عن الضحاك أنه قال: أمروا أن يكونوا مع أبي بكر. وعمر. وأصحابهما.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس. وابن عساكر عن أبي جعفر أن المراد كونوا مع علي كرم الله تعالى وجهه. وبهذا استدل بعض الشيعة على أحقيته كرم الله تعالى وجهه بالخلافة، وفساده على فرض صحة الرواية ظاهر. وعن السدى أنه فسر ذلك بالثلاثة ولم يتعرض للخطاب، والظاهر عموم الخطاب ويندرج فيه التائبون اندراجا أوليا، وكذا عموم مفعول * (اتقوا) * ويدخل فيه المعاملة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر المغازي دخولا أوليا أيضا، وكذا عموم * (الصادقين) * ويراد بهم ما تقدم على احتمال عموم الخطاب.
وفي الآية ما لا يخفى من مدح الصدق، واستدل بها كما قال الجلال السيوطي من لم يبح الكذب في موضع من المواضع لا تصريحا ولا تعريضا. وأخرج غير واحد عن ابن مسعود أنه قال: لا يصلح الكذب في جد ولا هزل ولا أن يعد أحدكم صبيته شيئا ثم لا ينجزه وتلا الآية، والأحاديث في ذمه أكثر من أن تحصى، والحق أباحته في مواضع. فقد أخرج ابن أبي شيبة. وأحمد عن أسماء بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجل كذب في خديعة حرب أو اصلاح بين اثنين أو رجل يحدث امرأته ليرضيها "، وكذا إباحة المعاريض. فقد أخرج ابن عدي عن عمران بن حصين قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب ".
* (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذالك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة فى سبيل الله ولا يطأون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين) *
* (ما كان) * أي ما صح ولا استقام * (لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب) * كمزينة. وجهينة.
45

وأشجع. وغفار. وأسلم. وأضرا بهم * (أن يتخلفوا عن رسول الله) * عند توجهه عليه الصلاة والسلام إلى الغزو * (ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه) * أي لا يصرفوها عن نفسه الكريمة ولا يصونوها عما لم يصنها عنه بل يكابدون ما يكابده من الشدائد، وأصله لا يترفعوا بأنفسهم عن نفسه بأن يكرهوا لأنفسهم المكاره ولا يكرهوها له عليه الصلاة والسلام بل عليهم أن يعكسوا القضية، وإلى هذا يشير كلام الواحدي حيث قال: يقال رغبت بنفسي عن هذا الأمر أي ترفعت عنه. وفي النهاية يقال: رغبت بفلان عن هذا الأمر أي كرهت له ذلك.
وجوز في * (يرغبوا) * النصب بعطفه على * (يتخلفوا) * المنصوب بأن واعادة * (لا) * لتذكير النفي وتأكيده وهو الظاهر والجزم على النهي وهو المراد من الكلام إلا أنه عبر عنه بصيغة النفي للمبالغة، وخص أهل المدينة بالذكر لقربهم منه عليه الصلاة والسلام وعلمهم بخروجه، وظاهر الآية وجوب النفير إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو بنفسه. وذكر بعضهم أنه استدل بها على أن الجهاد كان فرض عين في عهده عليه عليه الصلاة والسلام وبه قال ابن بطال: وعلله بأنهم بايعوه عليه عليه الصلاة والسلام فلا يجب النفير مع أحد من الخلفاء ما لم يلم العدو ولم يمكن دفعه بدونه، وقدر بعضهم في الآية مضافا إلى رسول أي أن يتخلفوا عن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خلاف الظاهر؛ وعليه يكون الحكم عاما وفيه بحث.
وأخرج ابن جرير. وغيره عن ابن زيد أن حكم الآية حين كان الإسلام قليلا فلما كثر وفشا قال الله تعالى: * (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) * (التوبة: 122)، وأنت تعلم أن الإسلام كان فاشيا عند نزول هذه السورة، ولا يخفى ما في الآية من التعريض بالمتخلفين رغبة باللذائذ وسكونا إلى الشهوات غير مكترثين بما يكابد عليه الصلاة والسلام، وقد كان تخلف جماعة عنه صلى الله عليه وسلم كما علمت لذلك، وجاء أن أناسا من المسلمين تخلفوا ثم ان منهم من ندم وكره مكانه فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم غير مبال بالشدائد كأبي خثيمة فقد روي " أنه رضي الله تعالى عنه بلغ بستانه وكانت له امرأة حسناء فرشت له في الظل وبسطت له الحصير وقربت إليه الرطب والماء البارد فنظر فقال: ظل ظليل ورطب يانع وماء بارد وامرأة حسناء ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح ما هذا بخير مقام فرحل ناقته وأخذ سيفه ورمحه ومر كالريح فمد رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفه إلى الطريق فإذا براكب يزهاه السراب فقال عليه الصلاة والسلام: كن أبا خيثمة فكانه ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم واستغفر له " * (ذالك) * إشارة إلى ما دل عليه الكلام من وجوب المشايعة * (بأنهم) * أي بسبب أنهم * (لا يصيبهم ظمأ) * أي شيء من العطش. وقرىء بالمد والقصر * (ولا نصب) * ولا تعب ما * (ولا مخمصة) * ولا مجاعة ما * (في سبيل الله) * في جهاد أعدائه أو في طاعته سبحانه مطلقا * (ولا يطؤن موطئا يغيظ الكفار) * أي يغضبهم ويضيق صدورهم والوطء الدوس بالأقدام ونحوها كحوافر الخيل وقد يفسر بالإيقاع والمحاربة. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " آخر وطأة وطأها الله تعالى بوج " والموطىء اسم مكان على الأشهر الأظهر، وفاعل * (يغيظ) * ضميره بتقدير مضاف أي يغيظ وطؤه لأن المكان نفسه لا يغيظ، ويحتمل أن يكون ضميرا عائدا إلى
46

الوطء الذي في ضمنه، وإذا جعل الموطىء مصدرا كالمورد فالأمر ظاهر * (ولا ينالون) * أي ولا يأخذون * (من عدو نيلا) * أي شيئا من الأخذ فهو مصدر كالقتل والأسر والفعل نال ينيل. وقيل: نال ينول فأصل نيلا نولا فأبدلت الواو ياء على غير القياس، ويجوز أن يكون بمعنى المأخوذ فهو مفعول به لينالون أي لا ينالون شيئا من الأشياء * (إلا كتب لهم به) * أي بالمذكور وهو جميع ما تقدم ولذا وحد الضمير، ويجوز أن يكون عائدا على كل واحد من ذلك على البدل: قال النسفي. وحد الضمير لأنه لما تكررت * (لا) * صار كل واحد منها على البدل مفردا بالذكر مقصودا بالوعد، ولذا قال فقهاؤنا: لو حلف لا يأكل خبزا ولا لحما حنث بواحد منهما ولو حلف لا يأكل لحما وخبزا لم يحنث إلا بالجميع بينهما، والجملة في محل نصب على الحال من * (ظمأ) * وما عطف عليه أي لا يصيبهم ظمأ ولا كذا إلا مكتوبا لهم به * (عمل صالح) * أي ثواب ذلك فالكلام بتقدير مضاف، وقد يجعل كناية عن الثواب وأول به لأنه المقصود من كتابة الأعمال، والتنوين للتفخيم، والمراد أنهم يستحقون ذلك استحقاقا لازما بمقتضى وعده تعالى لا بالوجوب عليه سبحانه. واستدل بالآية على أن من قصد خيرا كان سعيه فيه مشكورا من قيام وقعود ومشي وكلام وغير ذلك، وعلى أن المدد يشارك الجيش في الغنيمة بعد انقضاء الحرب لأن وطء ديارهم مما يغيظهم. ولقد أسهم النبي صلى الله عليه وسلم لابني عامر وقد قدما بعض تقضي الحرب، واستدل بها - على ما نقل الجلال السيوطي - أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه على جواز الزنا بنساء أهل الحرب في دار الحرب * (إن الله لا يضيع أجر المحسنين) * على إحسانهم، والجملة في موضع التعليل للكتب، والمراد بالمحسنين إما المبحوث عنهم ووضع المظهر موضع المضمر لمدحهم والشهادة لهم بالانتظام في سلك المحسنين وأن أعمالهم من قبيل الإحسان وللاشعار بعلية المأخذ للحكم وإما الجنس وهم دخولا أوليا.
* (ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون) *
* (ولا ينفقون نفقة صغيرة) * ولو تمرة أو علاقة سوط * (ولا كبيرة) * كما أنفق عثمان رضي الله تعالى عنه في جيش العسرة، وذكر الكبيرة بعد الصغيرة وان علم من الثواب على الأولى الثواب على الثانية لأن المقصود التعميم لا خصوص المذكور إذ المعنى ولا ينفقون شيئا ما فلا يتوهم أن الظاهر العكس، وفي أرشاد العقل السليم أن الترتيب باعتبار كثرة الوقوع وقلته، وتوسيط * (لا) * للتنصيص على استبداد كل منهما بالكتب والجزاء لا لتأكيد النفي كما في قوله تعالى شأنه: * (ولا يقطعون) * أي ولا يتجاوزون في سيرهم لغزو * (واديا) * وهو في الأصل اسم فاعل من ودي إذا سال فهو بمعنى السيل نفسه ثم شاع في محله وهو المنعرج من الجبال والآكام التي يسيل فيها الماء ثم صار حقيقة في مطلق الأرض ويجمع على أودية كناد على أندية وناج على أنجية ولا رابع لهذه على ما قيل في كلام العرب * (إلا كتب لهم) * أي أثبت لهم أو كتب في الصحف أو اللوح ولا يفسر الكتب بالاستحقاق لمكان التعليل بعد، وضمير * (كتب) * على طرز ما سبق أي المذكور أو كل واحد، وقيل: هو للمعل وليس بذاك وفصل هذا وأخر لأنه أهون مما قبله * (ليجزيهم الله) * بذلك * (أحسن ما كانوا يعملون) * أي أحسن جزاء أعمالهم على معنى أن لأعمالهم جزاء حسنا وأحسن وهو سبحانه اختار لهم أحسن جزاء
47

فانتصاب * (أحسن) * على المصدرية لإضافته إلى مصدر محذوف.
وقال الإمام: فيه وجهان: الأول أن الأحسن صفة عملهم وفيه الواجب. والمندوب. والمباح فهو يجزيهم على الأولين دون الأخير، والظاهر أن نصب * (أحسن) * حينئذ على أنه بدل اشتمال من ضمير يجزيهم كما قيل. وأورد عليه أنه ناء عن المقام مع قلة فائدته لأن حاصله أنه تعالى يجزيهم على الواجب والمندوب وأن ما ذكر منه ولا يخفى ركاكته وأنه غير خفي على أحد كونه كناية عن العفو عما فرط منهم في خلاله أن وقع لأن تحصيص الجزاء به يشعر بأنه لا يجازي على غيره خلاف الظاهر، ثم قال: الثاني أن الأحسن صفة للجزاء أي ليجزيهم جزاء هو أحسن من أعمالهم وأفضل وهو الثواب. واعترضه أبو حيان بأنه إذا كان الأحسن صفة الجزاء كيف يضاف إلى الأعمال وليس بعضا منها وكيف يفضل عليهم بدون من، ولا وجه لدفعه بأن أصله مما كانوا الخ فحذف * (من) * مع بقاء المعنى على حاله كما قيل لأنه لا محصل له. هذا ووصف النفقة بالصغيرة والكبيرة دون القليلة والكثيرة مع أن المراد ذلك قيل حملا للطاعة على المعصية فإنها إنما توصف بالصغيرة والكبيرة في كلامهم دون القليلة والكثيرة فتأمل.
* (وما كان المؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) *
* (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) * أي ما استقام لهم أن يخرجوا إلى الغزو جميعا. روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه تعالى لما شدد على المتخلفين قالوا: لا يتخلف منا أحد عن جيش أو سرية أبدا ففعلوا ذلك وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده فنزل * (وما كان) * الخ والمراد نهيهم عن النفير جميعا لما فيه من الإخلال بالتعلم * (فلولا نفر) * لولا هنا تحضيضية، وهي مع الماضي تفيد التوبيخ على ترك الفعل ومع المضارع تفيد طلبه والأمر به لكن اللوم على الترك فيما يمكن تلافيه قد يفيد الأمر به في المستقبل أي فهلا نفر * (من كل فرقة) * أي جماعة كثيرة * (منهم) * كأهل بلدة أو قبيلة عظيمة * (طائفة) * أي جماعة قليلة، وحمل الفرقة والطائفة على ذلك مأخوذ من السياق ومن التبعيضية لأن البعض في الغالب أقل من الباقي وإلا فالجوهري لم يفرق بينهما، وذكر بعضهم أن الطائفة قد تقع على الواحد، وآخرون أنها لا تقع وأن أقلها اثنان، وقيل: ثلاثة * (ليتفقهوا في الدين) * أي ليتكلفوا الفقاهة فيه فصيغة التفعل للتكلف، وليس المراد به معناه المتبادر بل مقاساة الشدة في طلب ذلك لصعوبته فهو لا يحصل بدون جد وجهد * (ولينذروا قومهم إذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون) * أي عما ينذرون منه وضمير يتفقوا وينذروا عائد إلى الفرقة الباقية المفهومة من الكلام، وقيل: لا بد من إضمار وتقدير، أي فلولا نفر من كل فرقة طائفة وأقام طائفة ليتفقهوا الخ.
وكان الظاهر أن يقال: ليعلموا بدل * (لينذروا) * ويفقهون بدل * (يحذرون) * لكنه اختير ما في النظم الجليل للإشارة إلى أنه ينبغي أن يكون غرض المعلم الإرشاد والإنذار وغرض المتعلم اكتساب الخشية لا التبسط والاستكبار.
قال حجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة: كان اسم الفقه في العصر الأول اسما لعلم الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة واستيلاء الخوف على القلب وتدل عليه هذه الآية فما به الإنذار والتخويف هو الفقه دون تعريفات الطلاق واللعان والسلم والاجارات، وسأل فرقد السنجي الحسن عن شيء فأجابه فقال: إن الفقهاء يخالفونك فقال الحسن: ثكلتك أمك هل رأيت
48

فقيها يعينك؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصير بدينه المداوم على عبادة ربه الورع الكاف عن إعراض المسلمين العفيف عن أموالهم الناصح لجماعتهم، ولم يقل في جميع ذلك الحافظ لفروع الفتاوى اه‍ وهو من الحسن بمكان، لكن الشائع إطلاق الفقيه على من يحفظ الفروع مطلقا سواء كانت بدلائلها أم لا كما في التحرير. وفي " البحر " عن المنتقى ما يوافقه، واعتبر في القنية الحفظ مع الأدلة فلا يدخل في الوصية للفقهاء من حفظ بلا دليل. وعن أبي جعفر أنه قال: الفقيه عندنا من بلغ في الفقه الغاية القصوى، وليس المتفقه بفقيه وليس له من الوصية نصيب، والظاهر أن المعتبر في الوصية ونحوها العرف وهو الذي يقتضيه كلام كثير من أصحابنا، وذكر غير واحد أن تخصيص الإنذار بالذكر لأنه الأهم وإلا فالمقصود الإرشاد الشامل لتعليم السنن والآداب والواجبات والمباحات والإنذار أخص منه، ودعوى أنهما متلازمان وذكر أحدهما مغن عن الآخر غفلة أو تغافل، وذهب كثير من الناس إلى أن المراد من النفر النفر والخروج لطلب العلم فالآية ليست متعلقة بما قبلها من أمر الجهاد بل لما بين سبحانه وجوب الهجرة والجهاد وكل منهما سفر لعبادة فبعدما فضل الجهاد ذكر السفر الآخر وهو الهجرة لطلب العلم فضمير يتفقهوا وينذروا للطائفة المذكورة وهي النافرة وهو الذي يقتضيه كلام مجاهد. فقد أخرج عنه ابن جرير. وابن المنذر. وغيرهما أنه قال: إن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا في البوادي فأصابوا من الناس معروفا ومن الخصب ما ينتفعون به ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى فقال لهم الناس: ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا فوجدوا في أنفسهم من ذلك تحرجا وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية * (وما كان المؤمنون) * الخ أي لولا خرج بعض وقعد بعض يبتغون الخير ليتفقهوا في الدين وليسمعوا ما أنزل ولينذروا الناس إذا رجعوا إليهم.
وستدل بذلك على أن التفقه في الدين من فروض الكفاية. وما في كشف الحجاب عن أبي سعيد " طلب العلم فريضة على كل مسلم " على تضعيف الصغاني له ليس المراد من العلم فيه إلا ما يتوقف عليه آداء الفرائض ولا شك في أن تعلمه فرض على كل مسلم. وذكر بعضهم أن في الآية دلالة على أن خبر الآحاد حجة لأن عموم كل فرقة يقتضي أن ينفر من كل ثلاثة تفردوا بقرية طائفة إلى التفقه لتنذر قومها كي يتذكروا ويحذروا فلو لم يعتبر الإخبار ما لم تتواتر لم يفد ذلك، وقرر بعضهم وجه الدلالة بأمرين. الأول أنه تعالى أمر الطائفة بالإنذار وهو يقتضي فعل المأمور به وإلا لم يكن إنذارا. والثاني أمره سبحانه القوم بالحذر عند الإنذار لأن معنى قوله تعالى: * (لعلهم يحذرون) * ليحذروا وذلك أيضا يتضمن لزوم العمل بخبر الواحد، وهذه الدلالة قائمة على أي تفسير شئت من التفسيرين، ولا يتوقف الاستدلال بالآية على ما ذكر على صدق الطائفة على الواحد الذي هو مبدأ الإعداد بل يكفي فيه صدقها على ما لم يبلغ حد التواوتر وإن كان ثلاثة فأكثر، وكذا لا يتوقف على أن لا يكون الترجي من المنذرين بل يكون من الله سبحانه ويراد منه الطلب مجازا كما لا يخفى.
* (ياأيها الذين ءامنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين) *
* (يا أيها الذين آمنوا ق‍اتلوا الذين يلونكم من الكفار) * أي الذين يقربون منكم قربا مكانيا وخص الأمر به مع قوله سبحانه في أول السورة: * (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) * (التوبة: 5) ونحوه قيل: لأنه من المعلوم أنه لا يمكن
49

قتال جميع الكفار وغزو جميع البلاد في زمان واحد فكان من قرب أولى ممن بعد، ولأن ترك الأقرب والاشتغال بقتال إلا بعد لا يؤمن معه من الهجوم على الذراري والضعفاء، وأيضا الأبعد لا حد له بخلاف الأقرب فلا يؤمر به، وقد لا يمكن قتال إلا بعد قبل قتال الأقرب، وقال بعضهم: المراد قاتلوا الأقرب فالأقرب حتى تصلوا إلى الأبعد فالأبعد وبذلك يحصل الغرض من قتال المشركين كافة، فهذا إرشاد إلى طريق تحصيله على الوجه الأصلح.
ومن هنا قاتل صلى الله عليه وسلم أولا قومه ثم انتقل إلى قتال سائر العرب ثم إلى قتال قريظة. والنضير. وخيبر. وأضرابهم ثم إلى قتال الروم فبدأ عليه الصلاة والسم بقتال الأقرب فالأقرب وجرى أصحابه على سننه صلى الله عليه وسلم إلى أن وصلت سراياهم وجيوشهم إلى ما شاء الله تعالى وعلى هذا فلا نسخ، وروي عن الحسن أن الآية منسوخة بما تقدم والمحققون على أنه لا وجه له، وزعم الخازن تبعا لغيره أن المراد من الولي ما يعم القرب المكاني والنسبي وهو خلاف الظاهر، وقيل: إنه خاص بالنسبي لأنها نزلت لما تحرج الناس من قتل أقربائهم، ولا يخفى ضعفه.
* (وليجدوا فيكم غلظة) * أي شدة كما قال ابن عباس وهي مثلثة الغين، وقرىء بذلك لكن السبعة على الكسر، والمراد من الشدة ما يشمل الجراءة والصبر على القتال والعنف في القتل والأسر ونحو ذلك، ومن هنا قالوا: إنها كلمة جامعة والأمر على حد - لا أرينك ههنا - فليس المقصود أمر الكفار بأن يجدوا في المؤمنين ذلك بل أمر المؤمنين بالاتصاف بما ذكر حتى يجدهم الكفار متصفين به * (واعلموا أن الله مع المتقين) * بالعصمة والنصرة، والمراد بهم إما المخاطبون والإظهار للتنصيص على أن الإيمان والقتال على الوجه المذكور من باب التقوى والشهادة بكونهم من زمرة المتقين، وإما الجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا، وأيا ما كان فالكلام تعليل وتأكيد لما قبله.
* (وإذا مآ أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته ه‍اذه إيم‍انا فأما الذين ءامنوا فزادتهم إيم‍انا وهم يستبشرون) *
* (وإذا ما أنزلت سورة) * من سور القرآن * (فمنهم) * أي من المنافقين كما روي عن قتادة. وغيره * (من يقول) * على سبيل الإنكار والاستهزاء لإخوانه ليثبتهم على النفاق أو لضعفة المؤمنين ليصدهم عن الإيمان * (أيكم زادته هذه) * السورة * (إيمانا) * وقرأ عبيد بن عمير * (أيكم) * بالنصب على تقدير فعل يفسره
المذكور ويقدر مؤخرا لأن الاستفهام له الصدر أي أيكم زادت زادته الخ.
واعتبار الزيادة على أول الاحتمالين في المخاطبين باعتبار اعتقاد المؤمنين * (فأما الذين آمنوا) * جواب من جهته تعالى شأنه وتحقيق للحق وتعيين لحالهم عاجلا وآجلا. وقال بعض المدققين: إن الآية دلت على أنهم مستهزئون وأن استهزاءهم منكر فجاء قوله تعالى: * (فأما الذين آمنو... وأما الذين في قلوبهم مرض) * الخ تفصيلا لهذين القسمين، وجعل ذلك الطيبي تفصيلا لمحذوف وبينه بما لا يميل القلب إليه، وأيا ما كان فجواب * (إذا) * جملة * (فمنهم) * الخ، وليس هذا وما بعده عطفا عليه؛ أي فأما الذين آمنوا بالله سبحانه وبما جاء من عنده * (فزادتهم إيمانا) * أي تصديقا لأن ذلك هو المتبادر من الإيمان كما قرر في محله.
وقبول التصديق نفسه الزيادة والنقص والشدة والضعف مما قال به جمع من المحققين وبه أقول لظواهر الآيات والأخبار ولو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا، ومن لم يقبل قبوله للزيادة ولم يدخل الأعمال في الإيمان قال: إن زيادته بزيادة متعلقه والمؤمن به، وإليه يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قيل: ويلزمه أن لا يزيد اليوم لإكمال الدين وعدم تجدد متعلق وفيه نظر وإن قاله من تعقد عليه الخناصر وتعتقد بكلامه الضمائر، ومن لم يقبل وأدخل الأعمال فالزيادة وكذا مقابلها ظاهرة عنده * (وهم يستبشرون) *
50

بنزولها لأنه سبب لزيادة كمالهم ورفع درجاتهم بل هو لعمري أجدى من تفاريق العصا.
* (وأما الذين فى قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم ك‍افرون) *
* (وأما الذين في قلوبهم مرض) * أي نفاق * (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) * أي نفاقا مضموما إلى نفاقهم فالزيادة متضمنة معنى الضم ولذا عديت بإلى، وقيل: إلى بمعنى مع ولا حاجة إليه * (وماتوا وهم كافرون) * واستحكم ذلك فيهم إلى أن يموتوا عليه.
* (أولا يرون أنهم يفتنون فى كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون) *
* (أولا يرون) * يعني المنافقين، والهمزة للإنكار والتوبيخ، والكلام في العطف شهير. وقرأ حمزة. ويعقوب. وأبي بن كعب بالتاء الفوقانية على أن الخطاب للمؤمنين والهمزة للتعجيب أي أولا يعلمون وقيل أولا يبصرون * (أنهم) * أي المنافقين * (يفتنون في كل عام) * من الأعوام * (مرة أو مرتين) * بأفانين البليات من المرض والشدة مما يذكر الذنوب والوقوف بين يدي علام الغيوب فيؤدي إلى الإيمان به تعالى والكف عما هم عليه، وفي الخبر " إذا مرض العبد ثم عوفي ولم يزدد خيرا قالت الملائكة: هو الذي داويناه فلم ينفعه الدواء " فالفتنة هنا بمعنى البلية والعذاب، وقيل: هي بمعنى الاختبار، والمعنى أولا يرون أنهم يختبرون بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعاينون ما ينزل عليه من الآيات لا سيما الآيات الناعية عليهم قبائحهم * (ثم لا يتوبون) * عما هم فيه * (ولا هم يذكرون) * ولا يعتبرون.
والجملة على قراءة الجمهور عطف على * (يرون) * داخل تحت الإنكار والتوبيخ، وعلى القراءة الأخرى عطف على * (يفتنون) * والمراد من المرة والمرتين على ما صرح به بعضهم مجرد التكثير لا بيان الوقوع على حسب العدد المزبور. وقرأ عبد الله * (أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين وما يتذكرون) *.
* (وإذا مآ أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون) *
* (وإذا ما أنزلت سورة) * بيان لأحوالهم عند نزولها وهم في محفل تبليغ الوحي كما أن الأول بيان لمقالاتهم وهم غائبون عنه * (نظر بعضهم إلى بعض) * ليتواطؤا على الهرب كراهة سماعها قائلين إشارة: * (هل يراكم من أحد) * أي هل يراكم أحد من المسلمين إذا قمتم من المجس أو تغامزوا بالعيون إنكارا وسخرية بها قائلين هل يراكم أحد لننصرف مظهرين أنهم لا يصطبرون على استماعها ويغلب عليهم الضحك فيفتضحون، والسورة على هذا مطلقة، وقيل: إن نظر بعضهم إلى بعض وتغامزهم كان غيظا لما في السورة من مخازيهم وبيان قبائحهم، فالمراد بالسورة سورة مشتملة على ذلك، والإطلاق هو الظاهر، وأيا ما كان فلا بد من تقدير القول قبل الاستفهام ليرتبط الكلام، فإن قدر اسما كان نصبا على الحال كما أشرنا إليه، وإن قدر فعلا كانت الجملة في موضع الحال أيضا، ويجوز جعلها مستأنفة، وإيراد ضمير الخطاب لبعث المخاطبين على الحزم فإن المرء بشأنه أكثر اهتماما منه في شأن أصحابه كما في قوله تعالى: * (وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا) * (الكهف: 19) * (ثم انصرفوا) * عطف على * (نظر بعضهم) * والتراخي باعتبار وجود الفرصة والوقوف على عدم رؤية أحد من المؤمنين، أي ثم انصرفوا جميعا عن محفل الوحي لعدم تحملهم سماع ذلك لشدة كراهتهم أو مخافة الفضيحة بغلبة الضحك أو الاطلاع على تغامزهم. أو انصرفوا عن المجلس بسبب الغيظ، وقيل: المراد انصرافهم عن الهداية والأول أظهر.
* (صرف الله قلوبهم) * عن الإيمان حسب انصرافهم عن ذلك المجلس، والجملة تحتمل الإخبار والدعاء، واختار الثاني أبو مسلم. وغيره من المعتزلة، ودعاؤه تعالى على عباده وعيد لهم وإعلام بلحوق العذاب بهم؛ وقوله سبحانه:
51

* (بأنهم) * قيل متعلق بصرف على الاحتمال الأول وبانصرفوا على الثاني، والباء للسببية أي بسبب أنهم * (قوم لا يفقهون) * لسوء فهمهم أو لعدم تدبرهم فهم إما حمقى أو غافلون.
* (لقد جآءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم) *
* (لقد جاءكم) * الخطاب للعرب * (رسول) * أي رسول عظيم القدر * (من أنفسكم) * أي من جنسكم ومن نسبكم عربي مثلكم، أخرج عبد بن حميد. وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ليس من العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي صلى الله عليه وسلم مضريها وربيعتها ويمانيها، وقيل: الخطاب للبشر على
الإطلاق ومعنى كونه عليه الصلاة والسلام من أنفسهم أنه من جنس البشر، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وابن محيصن. والزهري * (أنفسكم) * أفعل تفضيل من النفاسة، والمراد الشرف فهو صلى الله عليه وسلم من أشرف العرب، أخرج الترمذي وصححه. والنسائي عن المطلب بن ربيعة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغه بعض ما يقول الناس فصعد المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال: " من أنا "؟ قالوا: أنت رسول الله قال: " أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب إن الله تعالى خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة، وجعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، وجعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا " وأخرج البخاري. والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى كنت من القرن الذي كنت فيه " وأخرج مسلم. وغيره عن واثلة بن الأسقع قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى اصطفى من ولد إبراهيم - إسماعيل -، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم ". وروى البيهقي عن أنس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما افترق الناس فرقتين إلا جعلني الله تعالى في خيرهما فأخرجت من بني أبوي فلم يصبني شيء من عهر الجاهلية وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم حتى انتهيت إلى أبي وأمي فأنا خيركم نفسا وخيركم أبا " * (عزيز عليه) * أي شديد شاق من عز عليه بمعنى صعب وشق * (ما عنتم) * أي عنتكم، وهو بالتحريك ما يكره، أي شديد عليه ما يلحقكم من المكروه كسوء العاقبة والوقوع في العذاب، ورفع * (عزيز) * على أنه صفة سببية لرسول وبه يتعلق * (عليه) *، وفاعله المصدر وهو الذي يقتضيه ظاهر النظم الجليل، وقيل: إن * (عزيز عليه) * خبر مقدم و * (ما عنتم) * ابتداء كلام أي يهمه ويشق عليكم عنتكم * (حريص عليكم) * أي على إيمانكم وصلاح شأنكم لأن الحرص لا يتعلق بذواتهم * (بالمؤمنين) * منكم ومن غيركم * (رءوف رحيم) * قيل: قدم الأبلغ منهما وهو الرأفة التي هي عبارة عن شدة الرحمة رعاية للفواصل وهو أمر مرعي في القرآن، وهو مبني على ما فسر به الرأفة، وصحح أن الرأفة الشفقة، والرحمة الإحسان، وقد يقال: تقديم الرأفة باعتبار أن آثارها دفع المضار وتأخير الرحمة باعتبار أن آثارها جلب المنافع والأول أهم من الثاني ولهذا قدمت في قوله سبحانه: * (رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها) * (الحديد: 27) ولا يجري هنا أمر الرعاية كما لا يخفى، وكأن الرأفة على هذا مأخوذة من رفو الثوب لإصلاح شقه، فيكونف ي وصفه صلى الله عليه وسلم بما ذكر وصف له بدفع الضرر عنهم وجلب المصلحة لهم، ولم يجمع هذان الإسمان لغيره عليه الصلاة والسلام، وزعم بعضهم أن المراد رؤوف بالمطيعين منهم رحيم بالمذنبين، وقيل: رؤوف
52

بأقربائه رحيم بأوليائه، وقيل: رؤوف بمن يراه رحيم بمن لم يره ولا مستند لشيء من ذلك.
* (فإن تولوا فقل حسبى الله لاإل‍اه إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) *
* (فإن تولوا) * تلوين للخطاب وتوجيه له إليه صلى الله عليه وسلم تسلية له، أي فإن أعرضوا عن الإيمان بك * (فقل حسبي الله) * فإنه يكفيك معرتهم ويعينك عليهم * (لا إلاه إلا هو) * استئناف كالدليل لما قبله لأن المتوحد بالألوهية هو الكافي المعين * (عليه توكلت) * فلا أرجو ولا أخاف إلا منه سبحانه * (وهو رب العرش) * أي الجسم المحيط بسائر الأجسام ويسمى بفلك الأفلاك وهو محدد الجهات * (العظيم) * الذي لا يعلم مقدار عظمته إلا الله تعالى. وفي الخبر " أن الأرض بالنسبة إلى السماء الدنيا كحلقة في فلاة وكذا السماء الدنيا بالنسبة إلى السماء. التي فوقها وهكذا إلى السماء السابعة وهي بالنسبة إلى الكرسي كحلقة في فلاة وهو بالنسبة إلى العرش كذلك " وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لا يقدر قدره أحد، وذكر أهل الأرصاد أن بعد مقعر الفلك الأعظم من مركز العالم ثلاثة وثلاثون ألف ألف وخمسمائة وأربعة وعشرون ألفا وستمائة وتسع فراسخ، وأن بعد محدبه منه قد بلغ مرتبة لا يعلمها إلا الله الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وهو بكل شيء عليم، وقد يفسر العرش هنا بالملك وهو أحد معانيه كما في " القاموس "، وقرىء * (العظيم) * بالرفع على أنه صفة الرب، وختم سبحانه هذه السورة بما ذكر لأنه تعالى ذكر فيها التكاليف الشاقة والزواجر الصعبة فأراد جل شأنه أن يسهل عليهم ذلك ويشجع النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغه، وقد تضمن من أوصافه صلى الله عليه وسلم الكريمة ما تضمن، وقد بدأ سبحانه من ذلك بكونه من أنفسهم لأنه كالأم في هذا الباب، ولا ينافي وصفه صلى الله عليه وسلم بالرأفة والرحمة بالمؤمنين تكليفه إياهم في هذه السورة بأنواع من التكاليف الشاقة لأن هذا التكليف أيضا من كمال ذلك الوصف من حيث أنه سبب للتخلص من العقاب المؤبد والفوز بالثواب المخلد، ومن هذا القبيل معاملته صلى الله عليه وسلم للثلاثة الذين خلفوا كما علمت، وما أحسن ما قيل: فقسا ليزدجروا ومن يك حازما * فليقس أحيانا على من يرحم
وهاتان الآيتان على ما روي عن أبي بن كعب آخر ما نزل من القررن. لكن روى الشيخان عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه أنه قال: آخر آية نزلت * (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) * (النساء: 127) وآخر سورة نزلت براءة.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما آخر آية نزلت * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) * (البقرة: 281) وكان بين نزولها وموته صلى الله عليه وسلم ثمانون يوما، وقيل: تسع ليال، وحاول بعضهم التوفيق بين الروايات في هذا الشأن بما لا يخلو عن كدر. ويبعد ما روي عن أبي ما أخرجه ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جاءته جهينة فقالوا له: إنك قد نزلت بين أظهرنا فأوثق لنا نأمنك وتأمنا قال: ولم سألتم هذا؟ قالوا: نطلب الأمن فأنزل الله تعالى هذه الآية * (لقد جاءكم) * (التوبة: 128) الخ والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
وقد ذكروا لقوله سبحانه: * (فإن تولوا) * (التوبة: 129) الآية ما ذكروا من الخواص، وقد أخرج أبو داود عن أبي الدرداء موقوفا. وابن السني عنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال حين يصبح وحين يمسي حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات كفاه الله تعالى ما أهمه من أمر
الدنيا والآخرة، وأخرج ابن النجار في تاريخه عن الحسين رضي الله تعالى عنه قال: من قال حين يصبح سبع مرات حسبي الله لا إله إلا هو الخ لم
53

يصبه في ذلك اليوم ولا تلك الليلة كرب ولا نكب ولا غرق، وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن كعب قال: خرجت سرية إلى أرض الروم فسقط رجل منهم فانكسرت فخذه فلم يستطيعوا أن يحملوه فربطوا فرسه عنده ووضعوا عنده شيئا من ماء وزاد فلما ولوا أتاه آت فقال له: مالك ههنا؟ قال: انكسرت فخذي فتركني أصحابي فقال: ضع يدك حيث تجد الألم وقل: * (فإن تولوا) * الآية فوضع يده فقرأها فصح وركب فرسه وأدرك أصحابه، وهذه الآية ورد هذا الفقير ولله الحمد منذ سنين نسأل الله تعالى أن يوفق لنا الخير ببركتها إنه خير الموفقين.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) * (التوبة: 111) لما هداهم سبحانه إلى الإيمان العلمي وهم مفتونون بمحبة الأنفس والأموال استنزلهم لغاية عنايته سبحانه بهم عن ذلك بالمعاملة الرابحة بأن أعطاهم بدل ذلك الجنة، ولعل المراد بها جنة النفس ليكون الثمن من جنس المثمن الذي هو مألوفهم ولكن الفرق بين الأمرين، قال ابن عطاء: نفسك موضع كل شهوة وبلية ومالك محل كل إثم ومعصية فاشترى مولاك ذلك منك ليزيل ما يضرك ويعوضك عليه ما ينفعك ولهذا اشترى سبحانه النفس ولم يشتر القلب، وقد ذكر بعض الأكابر في ذلك أيضا أن النفس محل العيب والكريم يرغب في شراء ما يزهد فيه غيره فشراء الله تعالى ذلك مع اطلاعه سبحانه على العيب بالجنة التي لا عيب فيها نهاية الكرم ويرشد إلى ذلك قول القائل: ولي كبد مقروحة من يبيعني * بها كبدا ليست بذات قروح
أباها جميع الناس لا يشترونها * ومن يشتري ذا علة بصحيح
وعن الجنيد قدس سره قال: إنه سبحانه اشترى منك ما هو صفتك وتحت تصرفك والقلب تحت صفته وتصرفه لم تقع المبايعة عليه، ويشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن "، وذكر بعض أرباب التأويل أنه تعالى لما اشترى الأنفس منهم فذاقوا بالتجرد عنها حلاوة اليقين ولذة الترك ورجعوا عن مقام لذة النفس وتابوا عن هواها ولم يبق عندهم لجنة النفس التي كانت ثمنا قدر وصفهم بالتائبين فقال سبحانه: * (التائبون) * أي الراجعون عن طلب ملاذ النفس وتوقع الأجر إليه تعالى وبلفظ آخرهم قوم رجعوا من غير الله إلى الله واستقاموا بالله تعالى مع الله تعالى. * (العابدون) * أي الخاضعون المتذللون لعظمته وكبريائه تعالى تعظيما وإجلالا له جل شأنه لا رغبة في ثواب ولا رهبة من عقاب وهذه أقصى درجات العبادة ويسميها بعضهم عبودة * (الحامدون) * بإظهار الكمالات العملية والعلمية حمدا فعليا حاليا وأقصى مراتب الحمد إظهار العجز عنه. يروى أن داود عليه السلام قال: يا رب كيف أحمدك والحمد من آلائك فأوحى الله تعالى إليه الآن حمدتني يا داود. وما أعلى كلمة نبينا صلى الله عليه وسلم " اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " (السائحون) إليه تعالى بالهجرة عن مقام الفطرة ورؤية الكمالات الثابتة لهم في مفاوز الصفات ومنازل السبحات، وقال بعض العارفين: السائحون هم السيارون بقلوبهم في الملكوت الطائرون بأجنحة المحبة في هواء الجبروت، وقد يقال: هم الذين صاموا عن المألوفات حين عاينوا هلال جماله تعالى في هذه النشأة ولا يفطرون حتى يعاينوه مرة أخرى في النشأة الأخرى، وقد امتثلوا ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " * (الراكعون) * في مقام محو الصفات * (الساجدون) * بفناء الذات، وقال بعض العارفين: الراكعون هم العاشقون المنحنون من ثقل أوتار المعرفة على باب العظمة ورؤية الهيبة، والساجدون هم الطالبون
54

لقربه سبحانه. فقد جاء في الخبر " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد " وقد يقال: الراكعون الساجدون هم المشاهدون للحبيب السامعون منه، وما أحسن ما قيل:
لو يسمعون كما سمعت كلامها * خروا لعزة ركعا وسجودا
* (الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر) * أي الداعون الخلق إلى الحق والدافعون لهم عما سواه، فإن المعروف على الإطلاق هو الحق سبحانه والكل بالنسبة إليه عز شأنه منكر * (والحافظون لحدود الله) * أي المراعون أوامره ونواهيه سبحانه في جوارحهم وأسرارهم وأرواحهم أو الذين حفظوا حدود الله المعلومة فأقاموها على أنفسهم وعلى غيرهم، وقيل: هم القائمون في مقام العبودية بعد كشف صفات الربوبية لهم فلا يتجاوزون ذلك وإن حصل لهم ما حصل فهم في مقام التمكين والصحو لا يقولون ما يقوله سكارى المحبة ولا يهيمون في أودية الشطحات.
وفي الآية نعي على أناس ادعوا الانتظام في سلك حزب الله تعالى وزمرة أوليائه وهم قد ضيعوا الحدود وخرقوا سفينة الشريعة وتكلموا بالكلمات الباطلة عند المسلمين على اختلاف فرقهم حتى عند السادة الصوفية فإنهم أوجبوا حفظ المراتب، وقالوا: إن تضييعها زندقة. وقد خالطتهم فرأيت منهم * خبائث بالمهيمن نستجير
ولعمري إن المؤمن من ينكر على أمثالهم فإياك أن تغتربهم * (وبشر المؤمنين) * (التوبة: 112) بالإيمان الحقي المقيمين في مقام الاستقامة واتباع الشريعة * (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) * أي ما صح منهم ذلك ولا استقام فإن الوقوف عند القدر من شأن الكاملين.
ومن هنا قيل: لا تؤثر همة العارف بعد كمال عرفانه أي إذا تيقن وقوع كل شيء بقدره تعالى الموافق للحكمة البالغة وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولم يتهم الله سبحانه في شيء من الفعل والترك سكن تحت كهف الأقدار وسلم لمدعي الإرادة وأنصت لمنادي الحكمة وترك مراده لمراد الحبيب بل لا يريد إلا ما يريده، وهو الذي يقتضيه مقام العبودية المحضة الذي هو أعلى المقامات ودون ذلك مقام الإدلال، ولقد كان حضرة مولانا القطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره في هذا المقام وله كلمات تشعر بذلك لكن لم يتوف قدس سره حتى انتقل منه إلى مقام العبودية المحضة كما نقل مولانا عبد الوهاب الشعراني في " الدرر واليواقيت "، وقد ذكر أن هذا المقام كان مقام تلميذه حضرة مولانا أبي السعود الشبلي قدس سره * (وما كان الله ليضل قوما) * أي ليصفهم بالضلال عن طريق التسليم والانقياد لأمره والرضا
بحكمه * (بعد إذ هداهم) * إلى التوحيد العلمي ورؤية وقوع كل شيء بقضائه وقدره * (حتى يبين لهم ما يتقون) * أي ما يجب عليهم اتقاؤه في كل مقام من مقامات سلوكهم وكل مرتبة من مراتب وصولهم فإذا بين لهم ذلك فإن أقدموا في بعض المقامات على ما تبين لهم وجوب اتقائه أضلهم لارتكابهم ما هو ضلال في دينهم وإلا فلا * (إن الله بكل شيء عليم) * (التوبة: 115) فيعلم دقائق ذنوبهم وإن لم يتفطن لها أحد.
* (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة) * (التوبة: 116) لا يخفى أن توبة الله سبحانه على كل من النبي عليه الصلاة والسلام ومن معه بحسب مقامه، وذكر بعضهم أن التوبة إذا نسبت إلى العبد كانت بمعنى الرجوع من الزلات إلى الطاعات وإذا نسبت إلى الله سبحانه كانت بمعنى رجوعه إلى العباد بنعت الوصال وفتح الباب ورفع الحجاب * (وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم) * وذلك لاستشعار سخط المحبوب * (وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه) * أي تحققوا ذلك فانقطعوا إليه سبحانه
55

ورفعوا الوسائط * (ثم تاب عليهم) * (التوبة: 118) حيث رأى سبحانه انقطاعهم إليه وتضرعهم بين يديه، وقد جرت عادته تعالى مع أهل محبته إذا صدر منهم ما ينافي مقامهم بأدبهم بنوع من الحجاب حتى إذا ذاقوا طعم الجناية واحتجبوا عن المشاهدة وعراهم ما عراهم مما أنساهم دنياهم وأخراهم أمطر عليهم وابل سحاب الكرم وأشرق على آفاق أسرارهم أنوار القدم فيؤنسهم بعد يأسهم ويمن عليهم بعد قنوطهم * (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا) * (الشورى: 28)، وما أحلى قوله: هجروا والهوى وصال وهجر * هكذا سنت الغرام الملاح
* (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) * في جميع الرذائل بالاجتناب عنها * (وكونوا مع الصادقين) * (التوبة: 119) نية وقولا وفعلا أي اتصفوا بما اتصفوا به من الصدق، وقيل: خالطوهم لتكونوا مثلهم فكل قرين بالمقارن يقتدى.
وفسر بعضهم الصادقين بالذين لم يخلفوا الميثاق الأول فإنه أصدق كلمة، وقد يقال: الأصل الصدق في عهد الله كما قال تعالى: * (رجال صدقوا ما عاهدوا الله) * (الأحزاب: 23) ثم في عقد العزيمة ووعد الخليقة كما قال سبحانه في إسماعيل: * (إنه كان صادق الوعد) * (مريم: 54) وإذا روعي الصدق في المواطن كلها كالخاطر والفكر والنية والقول والعمل صدقت المنامات والواردات والأحوال والمقامات والمواهب والمشاهدات فهو أصل شجرة الكمال وبذر ثمرة الأحوال وملاك كل خير وسعادة؛ وضده الكذب فهو أسوأ الرذائل وأقبحها وهو منافي المروءة كما قالوا: لا مروءة لكذوب * (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) * (التوبة: 122) إشارة إلى أنه يجب على كل مستعد من جماعة سلوك طريق طلب العلم إذ لا يمكن لجميعهم أما ظاهرا فلفوات المصالح وأما باطنا فلعدم الاستعداد للجميع.
والفقه من علوم القلب. وهي إنما تحصل بالتزكية والتصفية وترك المألوفات واتباع الشريعة، فالمراد من النفر السفر المعنوي وهذا هو العلم النافع، وعلامة حصوله عدم خشية أحد سوى الله تعالى، ألا ترى كيف نفى الله عمن خشي غيره سبحانه الفقه فقال: * (لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون) * (الحشر: 13) وعلى هذا فحق لمثلي أن ينوح على نفسه، وقد صرح بعض الأكابر أن الفقه علم راسخ في القلب، ضاربة عروقه في النفس، ظاهر أثره على الجوارح لا يمكن لصاحبه أن يرتكب خلاف ما يقتضيه إلا إذا غلب القضاء والقدر، وقد أنزل الله تعالى كما قيل على بعض أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام: لا تقولوا العلم بالسماء من ينزل به ولا في تخوم الأرض من يصعد به ولا من وراء البحر من يعبر ويأتي به، العلم مجعول في قلوبكم تأدبوا بين يدي بآداب الروحانيين وتخلقوا بأخلاق الصديقين، أظهر العلم من قلوبكم حتى يغمركم ويغطيكم. وجاء " من اتقى الله أربعين صباحا تفجرت ينابع الحكمة من قلبه " وإذا تحققت ذلك علمت أن دعوى قوم اليوم الفقه بالمعنى الذي ذكرناه مع تهافتهم على المعاصي تهافت الفراش على النار وعقدهم الحلقات عليها دعوى كاذبة مصادمة للعقل والنقل وهيهات أن يحصل لهم ذلك الفقه ما داموا على تلك الحال ولو ضربوا رؤوسهم بألف صخرة صماء، وعطف سبحانه قوله: * (ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) * على قوله تعالى: * (ليتفقهوا) * إشارة إلى أن الإنذار بعد التفقه والتحلي بالفضائل إذ هو الذي يرجى نفعه:
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها * فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يسمع ما تقول ويقتدي * بالقول منك وينفع التعليم
ولذا قال جل وعلا: * (لعلهم يحذرون) * (التوبة: 122) وقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) *
56

إشارة إلى الجهاد الأكبر ولعله تعليم لكيفية النفر المطلوب وبيان لطريق تحصيل الفقه أي قاتلوا كفار قوى نفوسكم بمخالفة هواها، وفي الخبر " أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك " * (وليجدوا فيكم غلظة) * أي قهرا وشدة حتى تبلغوا درجة التقوى * (واعلموا أن الله مع المتقين) * (التوبة: 123) بالولاية والنصر * (أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) * أي يصيبهم بالبلاء ليتوبوا * (ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون) * (التوبة: 126) وفي الأثر البلاء سوط من سياط الله تعالى يسوق به عباده إليه ويرشد إلى ذلك قوله تعالى: * (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين) * (لقمان: 168) وقوله تعالى: * (وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما) * (يونس: 12) وبالجملة إن البلاء يكسر سورة النفس فيلين القلب فيتوجه إلى مولاه إلا أن من غلبت عليه الشقاوة ذهب منه ذلك الحال إذا صرف عنه البلاء كما يشير إليه قوله تعالى: * (فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) * (العنكبوت: 65) وقوله سبحانه: * (فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه) * (يونس: 12) * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) * أي من جنسكم لتقع الألفة بينكم وبينه فإن الجنس إلى الجنس يميل وحينئذ يسهل عليكم الاقتباس من أنواره صلى الله عليه وسلم. وقرىء كما قدمنا * (من أنفسكم) * أي أشرفكم في كل شيء ويكفيه شرفا أنه عليه الصلاة والسلام أول التعينات وأنه
كما وصفه الله تعالى على خلق عظيم. وعلى تفنن واصفيه بوصفه * يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف
* (عزيز عليه ما عنتم) * أي يشق عليه عليه الصلاة والسلام مشقتكم فيتألم صلى الله عليه وسلم لما يؤلمكم كما يتألم الشخص إذا عرا بعض أعضائه مكروه، وعن سهل أنه قال: المعنى شديد عليه غفلتكم عن الله تعالى ولو طرفة عين فإن العنت ما يشق ولا شيء أشق في الحقيقة من الغفلة عن المحبوب * (حريص عليكم) * أي على صلاح شأنكم أو على حضوركم وعدم غفلتكم عن مولاكم جل شأنه * (بالمؤمنين رؤوف) * يدفع عنهم ما يؤذيهم * (رحيم) * (التوبة: 128) يجلب لهم ما ينفعهم، ومن آثار الرأفة تحذيرهم من الذنوب والمعاصي ومن آثار الرحمة إضافته صلى الله عليه وسلم عليهم العلوم والمعارف والكمالات، قال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: علم الله تعالى عجز خلقه عن طاعته فعرفهم ذلك لكي يعلموا أنهم لا ينالون الصفو من خدمته فأقام سبحانه بينه وبينهم مخلوقا من جنسهم في الصورة فقال: * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) * وألبسه من نعته الرأفة الرحمة وأخرجه إلى الخلق سفيرا صادقا وجعل طاعته طاعته وموافقته موافقته فقال سبحانه: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * (النساء: 80) ثم أفرده لنفسه خاصة وآواه إليه بشهوده عليه في جميع أنفاسه وسلى قلبه عن إعراضهم عن متابعته بقوله جل شأنه: * (فإن تولوا) * وأعرضوا عن قبول ما أنت عليه لعدم الاستعداد وزواله * (فقل حسبي الله) * لا حاجة لي بكم كما لا حاجة للإنسان إلى العضو المتعفن الذي يجب قطعه عقلا فالله تعالى كافي * (لا إله إلا هو) * فلا مؤثر غيره ولا ناصر سواه * (عليه توكلت) * لا على غيره من جميع المخلوقات إذ لا أرى لأحد منهم فعلا ولا حول ولا قوة إلا بالله * (وهو رب العرش العظيم) * (التوبة: 129) المحيط بكل شيء، وقد ألبسه سبحانه أنوار عظمته وقواه على حمل تجلياته ولولا ذلك لذاب بأقل من لمحة عين، وإذا قرىء * (العظيم) * بالرفع فهو صفة للرب سبحانه، وعظمته جل جلاله مما لا نهاية لها وما قدروا الله حق قدره نسأله بجلاله وعظمته أن يوفقنا لا تمام تفسير كتابه حسبما يحب ويرضى فلا إله غيره ولا يرجى إلا خيره.
57

سورة يونس
مكية على المشهور واستثنى منها بعضهم ثلاثة آيات * (فلعلك تارك) * (هود: 114) * (أفمن كان على بينة من ربه) * (هود: 17) * (وأقم الصلاة طرفي النهار) * (هود: 114) قال: إنها نزلت في المدينة، وحكى ابن الفرس. والسخاوي أن من أولها إلى رأس أربعين آية مكي والباقي مدني، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما روايتان، فأخرج ابن مردويه من طريق العوفي عنه ومن طريق ابن جريج عن عطاء عنه أنها مكية، وأخرج من طريق عثمان بن عطاء عن أبيه عنه أنها مدنية، والمعول عليه عند الجمهور الرواية الأولى، وآياتها مائة وتسع عند الجميع غير الشامي فإنها عنده مائة وعشر آيات.
ووجه مناسبتها لسورة براءة أن الأولى ختمت بذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وهذه ابتدأت به، وأيضا أن في الأولى بيانا لما يقوله المنافقون عند نزول سورة من القرآن وفي هذه بيان لما يقوله الكفار في القرآن حيث قال سبحانه: * (أم يقولون افتراه قل فائتوا بسورة مثله) * (يونس: 38) الآية، وقال جل وعلا: * (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله) * (يونس: 15) وأيضا في الأولى ذم المنافقين بعدم التوبة والتذكر إذا أصابهم البلاء في قوله سبحانه: * (أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون) * (التوبة: 126) على أحد الأقوال وفي هذه ذم لمن يصيبه البلاء فيرعوي ثم يعود وذلك في قوله تعالى: * (وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه) * (يونس: 12) وفي قوله سبحانه: * (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين) * (يونس: 22) إلى أن قال سبحانه: * (فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق) * (يونس: 23) وأيضا في الأولى براءة الرسول صلى الله عليه وسلم من المشركين مع الأمر بقتالهم على أتم وجه وفي هذه براءته صلى الله عليه وسلم من عملهم لكن من دون أمر بقتال بل أمر فيها عليه الصلاة والسلام أن يظهر البراءة فيها على وجه يشعر بالإعراض وتخلية السبيل كما قيل على ضد ما في الأولى وهذا نوع من المناسبة أيضا وذلك في قوله تعالى: * (وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا برىء مما تعملون) * (يونس: 41) إلى غير ذلك، والعجب من الجلال السيوطي عليه الرحمة كيف لم يلح له في تناسق الدرر وجه المناسبة بين السورتين وذكر وجه المناسبة بين هذه السورة وسورة الأعراف وقد يوجد في الإسقاط ما لا يوجد في الاسفاط.
* (الر تلك ءاي‍ات الكت‍ابالحكيم) *
* (بسم الله الرحما - ن الرحيم * الر) * بتفخيم الراء المفتوحة وهو الأصل وأمال أبو عمرو وبعض القراء إجراء لألف الراء مجرى الألف المنقلبة عن الياء فإنهم يميلونها تنبيها على أصلها، وفي الإمالة هنا دفع توهم أن - را - حرف كما ولا فقد صرحوا أن الحروف يمتنع فيها الإمالة، وقرأ ورش بين بين، والمراد من * (الر) * على ما روى جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنا الله أرى، وفي رواية أخرى لنها بعض الرحمن وتمامه حم ون، وعن قتادة أنها بعض الراحم وهو من أسماء القرآن، وقيل: هي أسماء للأحرف المعلومة من حروف التهجي أتى بها مسرودة على نمط التعديد بطريق التحدي وعليه فلا محل لها من الإعراب، والكلام فيها وفي نظائرها شهير.
58

والأكثرون على أنها اسم للسورة فمحلها الرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف أي هذه السورة مسماة بكذا وهو أظهر من الرفع على الابتداء لعدم سبق العلم بالتسمية بعد فحقها الإخبار بها لا جعلها عنوان الموضوع لتوقفه على علم المخاطب بالانتساب، والإشارة إليها قبل جريان ذكرها لصيرورتها في حكم الحاضر لاعتبار كونها على جناح الذكر كما يقال في الصكوك: هذا ما اشترى فلان، وجوز النصب بتقدير فعل لائق بالمقام كاذكر واقرأ وكلمة * (تلك) * إشارة إليها أما على تقدير كون * (الر) * مسرودا على نمط التعديد فقد نزل حضور مادتها منزلة ذكرها فأشير إليها كأنه قيل: هذه الكلمات المؤلفة من جنس هذه الحروف المبسوطة الخ، وأما على تقدير
كونها اسما للسورة فقد نوهت بازشارة إليها بعد تنويهها بتعيين اسمها أو الأمر بذكرها أو بقراءتها. وما في اسم الإشارة من معنى البعد للتنبيه على بعد منزلتها في الفخامة ومحله الرفع على أنه مبتدأ خبره قوله عز وجل: * (آيات الكتاب) * وعلى تقدير كون * (الر) * مبتدأ فهو إما مبتدأ ثان أو بدل من الأول، والمعنى هي آيات مخصوصة منه مترجمة باسم مستقل، والمقصود ببيان بعضيتها منه وصفيتها بما أشير إلى اتصافه به من النعوت الفاضلة والصفات الكاملة، والمراد بالكتاب إما جميع القرآن العظيم وإن لم ينزل بعد إما باعتبار تعينه وتحققه في العلم أو في اللوح أو باعتبار نزوله جملة إلى بيت العزة من السماء الدنيا وإما جميع القررن النازل وقتئذ المتفاهم بين الناس إذ ذاك فإنه كما يطلق على المجموع الشخصي يطلق على مجموع ما نزل في كل كذا قال شيخ الإسلام.
وأنت تعلم أن المشهور عن السلف تفويض معنى * (الر) * وأمثاله إلى الله تعالى وحيث لم يظهر المراد منها لا معنى للتعرض لإعرابها، وقد ذكروا أنه يجوز في الإشارة أن تكون لآيات هذه السورة وأن تكون لآيات القرآن ويجوز في الكتاب أن يراد به السورة وأن يراد القرآن فتكون الصور أربعا. إحداها: الإشارة إلى آيات القرآن والكتاب بمعنى السورة ولا يصح إلا بتخصيص آيات أو تأويل بعيد. وثانيها: عكسه ولا محذور فيه. وثالثها: الإشارة إلى آيات السورة والكتاب بمعنى السورة. ورابعها: ازشارة إلى آيات القررن والكتاب بمعنى القرآن، ومرجع إفادة الكلام عليهما باعتبار صفة الكتاب الآتية، وجوز الإشارة إلى الآيات لكونها في حكم الحاضر وإن لم تذكر كما في المثال المذكور آنفا. وفي " أمالي ابن الحاجب " أن المشار إليه لا يشترط أن يكون موجودا حاضرا بل يكفي أن يكون موجودا ذهنا. وفي " الكشاف " في تفسير قوله تعالى: * (هذا فراق بيني وبينك) * (الكهف: 78) ما يؤيديه، وأوثر لفظ تلك لما أشار إليه الشيخ ولكونه في حكم الغائب من وجه ولا يخلو ما ذكروه عن دغدغة، وأما حمل الكتاب على الكتب التي خلت قبل القرآن من التوراة والإنجيل وغيرهما كما أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة فهو في غاية البعد فتأمل، وقوله تعالى: * (الحكيم) * صفة للكتاب ووصف بذلك لاشتماله على الحكم فيراد بالحكيم ذو الحكمة على أنه للنسبة كلابن وتامر، وقد يعتبر تشبيه الكتاب بإنسان ناطق بالحكمة على طريق الاستعارة بالكناية وإثبات الحكمة قرينة لها، وجوز أن يكون وصفه بذلك لأنه كلام حكيم فالمعنى حكيم قائله فالتجوز في الإسناد كليله قائم ونهاره صائم، وقيل: لأن آياته محكمة لم ينسخ منها شيء أي بكتاب آخر ففعيل بمعنى مفعل وقد تقدم ماله وما عليه * (أكان للناس عجبا) * الهمزة لإنكار تعجبهم ولتعجيب السامعين منه لوقوعه في غير محله، والمراد بالناس كفار العرب، والتعبير عنهم باسم
59

الجنس من غير تعرض لكفرهم الذي هو المدار لتعجبهم كما تعرض له فيما بعد لتحقيق ما فيه من الشركة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم وتعيين مدار التعجيب في زعمهم ثم تبيين خطئهم وإظهار بطلان زعمهم بإيراد الإنكار، واللام متعلقة بمحذوف وقع حالا من * (عجبا) * كما هو القاعدة في نعت النكرة إذا تقدم عليها، وقيل: متعلقة بعجبا بناء على التوسع المشهور في الظروف، وبعضهم جعلها متعلقة به لا على طريق المفعولية كما في قوله:
عجبت لسعي الدهر بيني وبينها
بل على طريق التبيين كما في * (هيت لك) * (يوسف: 23) وسقيا لك ومثل ذلك يجوز تقديمه على المصدر. وأنت تعلم أن هذا قول بالتعلق بمقدر في التحقيق، وقيل: إنها متعلقة به لأنه بمعنى المعجب والمصدر إذا كان بمعنى مفعول أو فاعل يجوز تقديم معموله عليه، وجوز أيضا تعلقه بكان وإن كانت ناقصة بناء على جوازه، و * (عجبا) * خبر كان قدم على اسمها وهو قوله سبحانه:
* (أكان للناس عجبا أن أوحينآ إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين ءامنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الك‍افرون إن ه‍اذا لس‍احر مبين) *
* (أن أوحينا) * لكونه مصب الإنكار والتعجيب وتشويقا إلى المؤخر ولأن في الاسم ضرب تفصيل ففي تقديمه رعاية للأصل نوع إخلال بتجاوب أطراف النظم الكريم. وقرأ ابن مسعود * (عجب) * بالرفع على أنه اسم كان وهو نكرة والخبر * (أن أوحينا) * وهو معرفة لأن أن مع الفعل في تأويل المصدر المضاف إلى المعرفة فهو كقول حسان: كأن سبيئة من بيت رأس * يكون مزاجها عسل وماء
وحمله بعضهم على القلب، وفي قبوله مطلقا أو إذا تضمن لطيفة خلاف والمعول عليه اشتراط التضمن وهو غير ظاهر هنا، وحكى عن ابن جني أنه قال: إنما جاز ذلك في البيت من حيث كان عسل وماء جنسين فكأنه قال: يكون مزاجها العسل والماء، ونكرة الجنس تفيد مفاد معرفته، ألا ترى أنك تقول: خرجت فإذا أسد بالباب أي فإذا الأسد بالباب لا فرق بينهما لأنك في الموضعين لا تريد أسدا معينا، ولهذا لم يجز هذا في قولك: كان قائم أخاك وكان جالس أباك لأنه ليس في جالس وقائم معنى الجنسية التي تتلاقى معنى نكرتها ومعرفتها.
ومعنى الآية على هذا كان الوحي للناس هذا الجنس من الفعل وهو التعجب، ولا يخفى أن المصدر المتحصل هو المصدر المضاف إلى المعرفة كما سمعت فاعتباره محلى بأل الجنسية خلاف الظاهر. وأجاز بعضهم الإخبار عن المعرفة بالنكرة في باب النواسخ خاصة سواء كان هناك نفي أو ما في حكمه أم لا. وابن جني يجوز ذلك إذا كان نفي أو ما في حكمه ولا يجوز إذا لم يكن، وفي الآية قد تقدم الاستفهام الإنكاري على الناسخ وهو في حكم النفي. واختار غير واحد كون كان تامة. و * (عجب) * فاعل لها و * (أن أوحينا) * بتقدير حرف جر متعلق بعجب أي لأن أوحينا أو من أن أوحينا أو هو بدل منه بدل كل من كل أو بدل اشتمال، والإنكار متوجه إلى كونه عجبا لا إلى حدوثه وكون الإبدال في حكم تنحية المبدل منه ليس معناه إهداره بالمرة كما تقرر في موضعه، واقتصر في اللوامح على أن * (للناس) * خبر كان، وتعقب بأنه ركيك معنى لأنه يفيد إنكار صدوره من الناس لا مطلقا وفيه ركاكة ظاهرة فافهم، وإنما قيل: للناس لا عند الناس للدلالة على أنهم اتخذوه أعجوبة لهم وفيه من زيادة تقبيح حالهم ما لا يخفى * (إلى رجل منهم) * أي إلى بشر من جنسهم كقوله تعالى حكاية: * (أبعث الله بشرا رسولا) * (الإسراء: 94) وقوله سبحانه: * (لو شاء ربنا لأنزل ملائكة) * (فصلت: 14) أو إلى رجل من أفناء رجالهم من حيث المال لا من حيث النسب لأنه صلى الله عليه وسلم كان من
مشاهيرهم فيه وكان منه بمكان لا يدفع فهو كقولهم:
60

* (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) * (الزخرف: 31) وفي بعض الآثار أنهم كانوا يقولون: العجب أن الله تعالى لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب والعجب من فرط جهلهم أما في قولهم الأول فحيث لم يعلموا أن بعث الملك إنما يكون عند كون المبعوث إليهم ملائكة كما قال تعالى: * (قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا) * (الإسراء: 95) وأما عامة البشر فبمعزل عن استحقاق مفاوضة الملائكة لأنها منوطة بالتناسب فبعث الملك إليهم مزاحم للحكمة التي عليها يدور فلك التكوين والتشريع وإنما الذي تقتضيه الحكمة بعث الملك من بينهم إلى الخواص المختصين بالنفوس الزكية المؤيدين بالقوة القدسية المتعلقين بكلا العالمين الروحاني والجسماني ليتأتى لهم الاستفاضة والإفاضة وهذا تابع للاستعداد الأزلي كما لا يخفى، وأما في قولهم الثاني فلان مناط الاصطفاء للإيحاء إلى شخص هو التقدم في الاتصاف بما علمت والسبق في إحراز الفضائل وحيازة الملكات السنية جبلة واكتسابا، ولا ريب لأحد في أن للنبي صلى الله عليه وسلم القدح المعلى من ذلك بل له عليه الصلاة والسلام فيه غاية الغايات القاصية ونهاية النهايات النائية يقول رائيه: وأحسن منك لم تر قط عيني * ومثلك قط لم تلد النساء
خلقت مبرأ من كل عيب * كأنك قد خلقت كما تشاء
وكذا يقول: ولو صورت نفسك لم تزدها * على ما فيك من كرم الطباع
وأما التقدم في الرياسة الدنيوية والسبق في نيل الحظوظ الدنية فلا دخل له في ذلك قطعا بل له إخلال به غالبا، وما أحسن قول الشافعي رضي الله تعالى عنه من أبيات: لكن من رزق الحجا حرم الغنى * ضدان مفترقان أي تفرق
وما ذكروه من اليتم أن رجع إلى ما في الآية على التوجيه الثاني فبطلانه بطلانه وإن أرادوا أن أصل اليتم مانع من الإيحاء إليه صلى الله عليه وسلم فهو أظهر بطلانا وأوضح هذيانا وما ألطف ما قيل إن أنفس الدر يتيمه، وقيل للحسن: لم جعل الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم يتيما؟ فقال: لئلا يكون لمخلوق عليه منة فإن الله سبحانه هو الذي آواه وأدبه ورباه صلى الله عليه وسلم هذا والوجه الثاني من الوجهين السابقين في قوله سبحانه: * (إلى رجل منهم) * على الوجه الذي ذكرناه هو الذي أراده صاحب الكشاف ولم يرتضه الجلال السيوطي وزعم أن التحامي عنه أولى، ثم قال: والذي عندي في تفسير ذلك أن المراد إلى مشهور بينهم يعرفون نسبه وجلالته وأمانته وعفته كما قال سبحانه: في آخر السورة التي قبل * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) * (التوبة: 128) فإن هذا هو محل إنكار العجب ويكون هذا وجه مناسبة وضع هذه السورة بعد تلك واعتلاق أول هذه بآخر تلك، ونظيره * (ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه) * (النحل: 113) * (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم) * (البقرة: 129) إلى آخر ما قال، وتعقب بأنه غير ظاهر لأنه وإن كان أعظم مما ذكر لكن السياق يقتضي بيان كفرهم وتذليلهم وتحقير من أعزه الله تعالى وعظمه والذي يقتضيه سبب النزول تعين الوجه الأول هنا. فقد أخرج ابن جرير. وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا أنكرت العرب ذلك أو من أنكر منهم فقالوا: الله تعالى أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد عليه الصلاة والسلام فأنزل سبحانه * (أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم) * الآية، وقوله تعالى: * (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا) * (النحل: 43) الآية.
61

فلما كرر الله سبحانه عليهم الحجج قالوا: وإذا كان بشرا فغير محمد صلى الله عليه وسلم كان أحق بالرسالة فلولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم فأنزل الله تعالى ردا عليهم * (أهم يقسمون رحمة ربك) * (الزخرف: 32) الآية ومنه يعلم أن ما حكى في الوجه الثاني سبب لنزول آية أخرى * (أن أنذر الناس) * أي أخبرهم بما فيه تخويف لهم مما يترتب على فعل ما لا ينبغي، والمراد به جميع الناس الذين يمكنه عليه الصلاة والسلام تبليغهم ذلك لا ما أريد بالناس أولا وهو النكتة في إيثار الإظهار على الإضمار، وكون الثاني عين الأول عند إعادة المعرفة ليس على الإطلاق، و * (أن) * هي المفسرة لمفعول الإيحاء المقدر وقد تقدم عليها ما فيه معنى القول دون حروفه وهو الإيحاء أو هي المخففة من المثقلة على أن اسمها ضمير الشأن، والجملة الأمرية خبرها وفي وقوعها خبر ضمير الشأن دون تأويل وتقدير قول اختلاف، فذهب صاحب الكشف إلى أنه لا يحتاج إلى ذلك لأن المقصود منها التفسير وخالفه غير واحد في ذلك وذهبوا إلى أنه لا فرق بين خبره وخبر غيره.
وقال بعضهم: هي المصدرية الخفيفة في الوضع بناء على أنها توصل بالأمر والنهي والكثير على المنع، وذكر أبو حيان هذا الاحتمال هنا مع أنه نقل عنه في " المغني " أن مذهبه المنع لما أنه يفوت معنى الأمر إذا سبك بالمصدر.
واعترض بأنه يفوت معنى المضي والحالية والاستقبال المقصود أيضا مع الاتفاق على جواز وصلها بما يدل على ذلك، وأجيب بأنه قد يقال: بأن بينهما فرقا فإن المصدر يدل على الزمان التزاما فقد تنصب عليه قرينة فلا يفوت معناه بالكلية بخلاف الأمر والنهي فإنه لا دلالة للمصدر عليهما أصلا. وقال بعض المدققين: إن المصدر كما يجوز أخذه من جوهر الكلمة يجوز أخذه من الهيئة وما يتبعها فيقدر في هذا ونحوه أوحينا إليه الأمر بالإنذار كما قدر في - أن لا تزني خير - عدم الزنا خير، ولا يخفى أن هذا البحث يجري في أن المخففة من الثقيلة لأنها مصدرية أيضا وأن أقل الاحتمالات مؤنة احتمال التفسير * (وبشر الذين آمنوا) * بما أوحيناه إليك وصدقوه * (أن لهم) * أي بأن لهم * (قدم صدق) * أي سابقة ومنزلة رفيعة * (عند ربهم) * وأصل القدم العضو المخصوص، وأطلقت على السبق مجازا مرسلا لكونها سببه وآلته وأريد من السبق الفضل والشرف والتقدم المعنوي إلى المنازل الرفيعة مجازا أيضا فالمجاز هنا بمرتبتين، وقيل: المراد تقدمهم على غيرهم في دخول الجنة لقوله صلى الله عليه وسلم: " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة " وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن الجنة محرمة على الأنبياء حتى أدخلها أنا وعلى الأمم حتى تدخلها أمتي "، وقيل: تقدمهم في البعث وأصل الصدق ما يكون في الأقوال ويستعمل كما قال الراغب في الأفعال فيقال: صدق في القتال إذا وفاه حقه وكذا في ضده يقال: كذب فيه
فيعبر به عن كل فعل فاضل ظاهرا وباطنا ويضاف إليه كمقعد صدق ومدخل صدق ومخرج صدق إلى غير ذلك، وصرحوا هنا بأن الإضافة من إضافة الموصوف إلى صفته، والأصل قدم صدق أي محققة مقررة، وفيه مبالغة لجعلها عين الصدق ثم جعل الصدق كأنه صاحبها، ويحتمل أن تكون الإضافة من إضافة المسبب إلى السبب وفي ذلك تنبيه على أن ما نالوه من المنازل الرفيعة كان بسبب صدق القول والنية.
وقال بعضهم: إن هذا التنبيه قد يحصل على الاعتبار الأول لأن الصدق قد تجوز به عن توفية الأمور الفاضلة حقها للزوم الصدق لها حتى كأنها لا توجد بدونه ويكفي مثله في ذلك التنبيه وهذا كما قالوا: أن أبا لهب
62

يشير إلى أنه جهنمي وفيه خفاء كما لا يخفى. ويجوز إلى يراد بالقدم المقام بإطلاق الحال وإرادة المحل، وعن الأزهري أن القدم الشيء الذي تقدمه قدامك ليكون عدة لك حين تقدم عليه ويشعر بأنه اسم مفعول وبه صرح بعضهم وقال إنه كالنقض، وقيل: إنه اسم للحسنى من العبد كما أن اليد اسم للحسنى من السيد وفعلوا ذلك للفرق بين العبد والسيد وهو من الغرابة بمكان، ولا يكاد يصح في قول ذي الرمة: لكم قدم لا ينكر الناس أنها * مع الحسب العادي طمت على البحر
وقوله: وأنت امرؤ من أهل بيت ذؤابة * لهم قدم معروفة في المفاخر
والسبق هو الأسبق إلى الذهن في ذلك وكذا في قول حسان: لنا القدم العليا إليك وخلفنا * لأولنا في طاعة الله تابع
وقول الآخر: صل لذي العرض واتخذ قدما * تنجيك يوم العثار والزلل
محتمل لسائر المعاني وهل يطلق على سابقة السوء أولا الظاهر الأول وقد نص على ذلك أبو عبيدة. والكسائي. وقال صاحب الانتصاف لم يسموا سابقة السوء قدما إما لكون المجاز لا يطرد وإما لأنه غلب في العرف على سابقة الخير وفيه نظر، وتفسير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما له بالأجر وابن مسعود بالعمل لا يخرج عما ذكرنا من معانيه، وكذا تفسير علي كرم الله تعالى وجهه. وأبي سعيد الخدري. والحسن. وزيد بن أسلم له برأس الموجودات محمد صلى الله عليه وسلم يرجع إلى تفسيره بالخير والسعادة كما قاله جمع، وكونه صلى الله عليه وسلم خيرا وسعادة للمؤمنين ما لا يمتري فيه مؤمن، أو يقال: إن المراد شفاعته صلى الله عليه وسلم والأمر في ذلك حينئذ في غاية الظهور وخص التبشير بالمؤمنين لأنه لا يتعلق بالكفار وتبشيرهم أن آمنوا راجع إلى تبشير المؤمنين وهذا بخلاف الإنذار فإنه يتعلق بالمؤمن والكافر ولذلك ذكره سبحانه ولم يذكر جل وعلا المنذر به للتعميم والتهويل، وذكر المبشر به على الوجه الذي ذكره لتقوى رغبة المؤمنين فيما يؤديهم إليه، وقدم الإنذار على التبشير لأن التخلية مقدمة على التحلية وإزالة ما لا ينبغي مقدمة في الرتبة على فعل ما ينبغي.
* (قال الكافرون) * هم المتعجبون وإيرادهم بهذا العنوان على بابه، وترك العاطف لجريانه مجرى البيان للجملة التي دخل عليها همزة الإنكار أو لكونه استئنافا مبنيا على السؤال كأنه قيل: ماذا صنعوا بعد التعجب هل بقوا على التردد والاستبعاد أو قطعوا فيه بشيء؟ فقيل: قال الكافرون على طريقة التأكيد * (إن ه‍اذا) * أي ما أوحى إليه صلى الله عليه وسلم من الكتاب المنطوي على الإنذار والتبشير، وزعم الخازن أن في الكلام حذفا أي أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر وبشر فلما جاءهم بالوحي وأنذرهم قال الكافرون إن هذا * (لس‍احر مبين) * أي ظاهر. وقرأ ابن كثير. والكوفيون * (لساحر) * على أن الإشارة إلى رجل وعنوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي قراءة أبي * (ما هذا إلا سحر مبين) * وأرادوا بالسحر الحاصل بالمصدر، وفي هذا اعتراف بأن ما عاينوه خارج عن طوق البشر نازل من حضرة خلاق القوى والقدر ولكنهم
63

يسمونه بما قالوا تماديا في العناد كما هو شنشنة المكابر اللجوج ونشنشة المفحم المحجوج.
* (إن ربكم الله الذي خلق السم‍اوات والارض فى ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الامر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذالكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون) *
* (إن ربكم) * استئناف سيق لإظهار بطلان تعجبهم المذكور وما تبعه من تلك المقالة الباطلة غب الإشارة إليه بالإنكار والتعجيب وحقق فيه حقية ما تعجبوا منه وصحة ما أنكروه بالتنبيه الإجمال على بعض ما يدل عليها من شؤون الخلق والتقدير وأحوال التكوين والتدبير ويرشدهم إلى معرفتها بأدنى تذكير لاعترافهم به من غير نكير كما يعرب عنه غير ما آية في الكتاب الكريم، والتأكيد لمزيد الاعتناء بمضمون الجملة على ما هو الظاهر أي أن ربكم ومالك أمركم الذي تعجبون من أن يرسل إليكم رجلا منكم بالإنذار والتبشير وتعدون ما أوحى إليه من الكتاب سحرا هو * (الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام) * أي أوقات فالمراد من اليوم معناه اللغوي وهو مطلق الوقت. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن تلك الأيام من أيام الآخرة التي يوم منها كألف سنة مما تعدون، وقيل: هي مقدار ستة أيام من أيام الدنيا وهو الأنسب بالمقام لما فيه من الدلالة على القدرة الباهرة بخلق هذه الأجرام العظيمة في مثل تلك المدة اليسيرة ولأنه تعريف لنا بما نعرفه، ولا يمكن أن يراد باليوم اليوم المعروف لأنه كما قيل عبارة عن كون الشمس فوق الأرض وهو مما لا يتصور تحققه حين لا أرض ولا سماء، واليوم بهذا المعنى يسمى النهار المفرد، ويطلق اليوم أيضا على مجموع ذلك النهار وليلته ومقدار ذلك حينئذ ممكن الإرادة هنا أيضا. وقد صرح بعض الأكابر بأن المراد بالسموات ما عدا المحدد وأن اليوم هنا عبارة عن مدة دورة تامة له، ولا يخفى أن اليوم اللغوي يتناول هذا أيضا إلا أن إرادته كإرادة مقدار مجموع النهار وليلته يحتاج إلى نقل وليس ذلك أمرا معروفا عند المخاطبين ليستغني عن النقل على أن القول به يدور على كون المحدد متحركا بالحركة الوضعية ويحتاج ذلك إلى النقل أيضا، وكذا يدور على كون المحدد خارجا عن السموات المخلوقة في الأيام الست لكن ذلك لا يضر إذ الآيات والأخبار شاهدة بالخروج كما لا يخفى، وفي خلقها مدرجا مع القدرة التامة على إبداعها في طرفة عين اعتبار للنظار وحث لهم على التأني في الأحوال والأطوار، وفيه أيضا على ما صرح به بعض المحققين دليل على الاختيار، وأما تخصيص ذلك بالعدد المعين فقد قيل: إنه أمر قد استأثر بعلم ما يستدعيه علام الغيوب جلت قدرته ودقت حكمته. وقيل: إنه سبحانه جعل لكل من خلق مواد السموات وصورها وربط بعضها ببعض وخلق مادة
الأرض وصورتها وربط إحداهما بالأخرى وقتا فلذا صارت الأوقات ستا وفيه تأمل، وسيأتي إن شاء الله تعالى في الدخان تحقيق هذا المطلب على وجه ينكشف به الغبار عن بصائر الناظرين.
وإيثار جمع السموات لما هو المشهور من الإيذان بأنها اجرام مختلفة الطباع متباينة الآثار والأحكام، وتقديمها على الأرض إما لأنها أعظم منها خلقا أو لأنها جارية مجرى الماعل والأرض جارية مجرى القابل على ما بين في موضعه، وتقديم الأرض عليها في آية طه لكونها أقرب إلى الحس وأظهر عنده وسيأتي أيضا تحقيقه هناك إن شاء الله تعالى: * (ثم استوى على العرش) * على المعنى الذي أراده سبحانه وكف الكيف مشلولة، وقيل: الاستواء على العرش مجاز عن الملك والسلطان متفرع عن الكناية فيمن يجوز عليه القعود على السرير يقال: استوى فلان على سرير الملك ويراد منه ملك وإن لم يقعد على السرير أصلا؛ وقيل: إن الاستواء بمعنى الاستيلاء وأرجعوه إلى صفة القدرة. وأنت تعلم أن هذا وأمثاله من المتشابه وللناس فيه مذاهب
64

وما أشرنا إليه هو الذي عليه أكثر سلفة الأمة رضي الله تعالى عنهم، وقد صرح بعض أن الاستواء صفة غير الثمانية لا يعلم ما هي إلا من هي له والعجز عن درك الإدراك إدارك، واختار كثير من الخلف أن المراد بذلك الملك والسلطان وذكره لبيان جلالة ملكه وسلطانه سبحانه بعد بيان عظمة شأنه وسعة قدرته بما مر من خلق هاتيك الإجرام العظيمة، وقوله تعالى: * (يدبر الأمر) * استئناف لبيان حكمة استوائه جل وعلا على العرش وتقرير عظمته، والتدبير في اللغة النظر في أدبار الأمور وعواقبها لتقع على الوجه المحمود والمراد به هنا التقدير الجاري على وفق الحكمة والوجه الأتم الأكمل. وأخرج أبو الشيخ وغيره عن مجاهد أن المعنى يقضي الأمر والمراد بالأمر أمر الكائنات علويها وسفليها حتى العرش فأل فيه للعهد أي يقدر أمر ذلك كله على الوجه الفائق، والنمط اللائق حسبما تقتضيه المصلحة وتستدعيه الحكمة ويدخل فيما ذكر ما تعجبوا منه دخولا ظاهرا، وزعم بعضهم أن المعنى يدبر ذلك على ما اقتضته حكمته ويهيء أسبابه بسبب تحريك العرش وهو فلك الإفلاك عندهم وبحركته يحرك غيره من الأفلاك الممثلة وغيرها لقوة نفسه، وقيل: لأن الكل في جوفه فيلزم من حركته حركته لزوم حركة المظروف لحركة الظرف وهو مبني على أن الظرف مكان طبيعي للمظروف وإلا ففيه نظر. وأنت تعلم أن مثل هذا الزعم على ما فيه مما لا يقبله الحدثون وسلف الأمة إذ لا يشهد له الكتاب ولا السنة وحينئذ فلا يفتى به وإن حكم القاضي، وجوز في الجملة أن تكون في محل النصب على أنها حال من ضمير * (استوى) * وأن تكون في محل الرفع على أنها خبر ثان لأن، وعلى كل حال فايثار صيغة المضارع للدلالة على تجدد التدبير واستمراره منه تاعلى، وقوله سبحانه: * (ما من شفيع إلا من بعد اذنه) * بيان لاستبداده تعالى في التدبير والتقدير ونفي للشفاعة على أبلغ وجه فإن نفي جميع أفراد الشفيع بمن الاستغراقية يستلزم نفي الشفاعة على أتم الوجوه، فلا حاجة إلى أن يقال: التقدير ما من شفاعة لشفيع، وفي ذلك أيضا تقرير لعظمته سبحانه إثر تقرير، والاستثناء مفرغ من أعم الأوقات أي ما من شفيع يشفع لأحد في وقت من الأوقات إلا بعد إذنه تعالى المبني على الحكمة الباهرة وذلك عند كون الشفيع من المصطفين الأخيار والمشفوع له ممن يليق بالشفاعة. وذهب القاضي إلى أن فيه ردا على من زعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله تعالى.
وتعقب بأنه غير تام لأنهم لما ادعوا شفاعتها فقد يدعون الإذن لها فكيف يتم هذا الرد ولا دلالة في الآية على أنهم لا يؤذن لهم، وما قيل: إنها دعوى غير مسلمة واحتمالها غير مجد لا فائدة فيه إلا أن يقال: مراده أن الأصنام لا تدلاك ولا تنطق فكونها ليس من شأنها أن يؤذن لها بديعي، وقوله عز شأنه: * (ذالكم الله ربكم) * استئناف لزيادة التقرير والمبالغة في التذكير ولتفريع الأمر بالعبادة بقوله سبحانه: * (فاعبدوه) * والإشارة إلى الذات الموصوف بتلك الصفات المقتضية لاستحقاق ما أخب به عنه وهو الله وربكم فانهما خبران لذلكم، وحيث كان وجه ثبوت ذلك له ما ذكر مما لا يوجد في غيره اقتضى انحصاره فيه وأفاد أن لا رب غيره ولا معبود سواه، ويجوز أن يكون الاسم الجليل نعتا لاسم الإشارة و * (ربكم) * خبره وان يكون هو الخبر و * (ربكم) * بيان له أو بدل منه ولا يخلو الكلام من إفادة الانحصار، وإذا فرع الأمر المذكور على ذلك أفاد الأمر بعبادته
65

سبحانه وحده، أي فاعبدوه سبحانه من غير أن تشركوا به شيئا من ملك أو نبي فضلا غن جماد لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع، وليس الداعي لهذا الحمل أن أصل العبادة ثابت لهم فيحمل الأمر بها على ذلك ليفيد لما قيل: من أن الخطاب للمشركين ولا عبادة مع الشرك * (أفلا تذكرون) * أي أتعلمون أن الأمر كل فصل فلا تتذكرون ذلك حتى تقفوا على فساد ما أنتم عليه فترتدعوا عنه وتعبدوا الله تعالى وحده، وإيثار * (تذكرون) * على تفكرون للإيذان بظهور الأمر وأنه كالمعلوم الذي لا يفتقر إلى فكر تام ونظر كامل بل إلى مجرد التفات وإخطار بالبال [بم وقوله سبحانه:
* (إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزى الذين ءامنوا وعملوا الص‍الحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) *
* (إليه مرجعكم جميعا) * كالتعليل لوجوب العبادة، والجار والمجرور خبر مقدم و * (مرجعكم) * مبتدأ مؤخر وهو مصدر ميمي لا اسم مكان خلافا لمن وهم فيه، و * (جميعا) * حال من الضمير المجرور لكونه فاعلا في المعنى أي إليه تعالى رجوعكم مجتمعين لا إلى غيره سبحانه بالبعث * (وعد الله) * مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة لأنها وعد منه تعالى بالبعث وحيث كانت لا تحتمل غير الوعد كان ذلك من أفراد المصدر المؤكد لنفسه عندهم كما في قولك: له على ألف عرفا، ويجوز أن يكون نصبا على المصدرية لفعل محذوف أي وعد الله وعدا، وأيا ما كان فهو دليل على أن المراد بالمرجوع الرجوع بالبعث لأن ما بالموت بمعزل عن الوعد كما أنه بمعزل عن الاجتماع فما وقع في بعض نسخ القاضي بالموت أو النشور ليس على ما ينبغي.
وقرىء * (وعد الله) * بصيغة الفعل ورفع الاسم الجليل على الفاعلية * (حقا) * مصدر مؤكد لما دل عليه الأول وهو من قسم المؤكد لغيره لأن الأول ليس نصا فيه
فإن الوعد يحتمل الحقية والتخلف. وقيل: إنه منصوب بوعد على تقدير - في - وتشبيه بالظرف كقوله: أفي الحق أني هائم بك مغرم
والأول أظهر، وقوله سبحانه: * (إنه يبدؤ الخلق ثم يعيده) * كالتعليل لما أفاده * (إليه مرجعكم) * فإن غاية البدء والإعادة هو الجزاء بما يليقب. وقرأ أبو جعفر. والأعمش * (أنه) * بفتح الهمزة على تقدير لأنه، وجوز أن يكون منصوبا بمثل ما نصب * (وعد) * أي وعد الله سبحانه بدء الخلق ثم إعادته أي إعادته بعد بدئه، ويكون الوعد واقعا على المجموع لكن باعتبار الجزء الأخير لأن البدء ليس موعودا، وأن يكوم مرفوعا بمثل ما نصب حقا أي حق بدء الخلق ثم إعادته ويكون نظير قول الحماسي: أحقا عباد الله أن لست رائيا * رفاعة طول الدهر إلا توهما
وعن المرزوقي أنه خرجه على النصب على الظرفية وهو اما خبر مقدم أو ظرف معتمد وزعم أن ذلك مذهب سيبويه، وجوز أن يكون النصب بوعد الله على أنه مفعول له، والرفع بحقا على أنه فاعل له، وظاهر كلام الكشاف يدل على أن الفعلين العاملين في المصدرين المذكورين هما اللذان يعملان فيما ذكر لا فعلان آخران مثلهما وحينئذ يفوت أمر التأكيد الذي ذكرناه لأن فاعل العامل بالمصدر المؤكد لا بد أن يكون عائدا على ما تقدمه مما أكده، وقرىء * (حق أنه يبدأ الخلق) * وهو كقولك: حق أن زيدا منطلق. وقرىء * (يبدىء) * من أبدأ، ولعل المراد من الخلق نحو المكلفين لا ما يعم ذلك والجمادات، ويؤيد ذلك ما أخرجه غير واحد عن مجاهد أن معنى الآية يحيي الخلق ثم يميته ثم يحييه * (ليجزي الذين ءامنوا وعملوا الصالحات بالقسط) * أي بالعدل وهو حال من فاعل * (يجزي) * أي ملتبسا بالعدل أو متعلق بيجزي أي ليجزيهم بقسطه ويوفيهم
66

أجورهم، وإنما أجمل ذلك إيذانا بأنه لا يفي به الحصر، ويرشح ذلك جعل ذاته الكريمة هي المجازية أو بقسطهم وعدلهم في أمورهم أو بإيمانهم؛ ورجح هذا بأنه أوفق بقوله تعالى: * (والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) * فإن معناه ويجزي الذين كفروا بشراب من ماء جار وقد انتهى حره وعذاب أليم بسبب كفرهم فيظهر التقابل بين سببي جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين، مع أنه لا وجه لتخصيص العدل بجزاء المؤمنين بل جزاء الآخرين أولى به كما لا يخفى، وتكرير الإسناد بجعل الجملة الطرفية خبرا للموصول لتقوية الحكم، والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع للدلالة على مواظبتهم على الكفر، وتغيير النظم الكريم للمبالغة في استحقاقهم العقاب بجعله حقا مقررا لهم والإيذان بأن التعذيب بمعزل عن الانتظام في سلك العلة الغائية للإعادة بناء على تعلق ليجزي بها أولها وللبدى بناء على تعلقه بهما على التنازع، وإنما المنتظم في ذلك السلك هو الاثابة فهي المقصود بالذات والعقاب واقع بالعرض.
* (هو الذى جعل الشمس ضيآء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذالك إلا بالحق يفصل الآي‍ات لقوم يعلمون) *
* (هو الذي جعل الشمس ضياء) * تنبيه على الاستدلال على وجوده تعالى ووحدته وعلمه وقدرته وحكمته بآثار صنيعه في النيرين بعد التنبيه على الاستدلال بما مر وبيان لبعض أفراد التدبير الذي أشير إليه إشارة إجمالية وإرشاد إلى أنه سبحانه حين دبر أمورهم المتعلقة بمعاشهم هذا التدبر البديع فلأن يدبر مصالحهم المتعلقة بمعادهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب أولى وأحرى، أو جعل إما بمعنى أنشأ وأبدع فضياء حال من مفعوله وإما بمعنى صير فهو مفهوله الثاني، والكلام على حد - ضيق فم القربة - إذ لم تكن الشمس خالية عن تلك الحالة وهي على ما قيل مأخوذة من شمسة القلادة للخرزة الكبيرة وسطها وسميت بذلك لأنها أعظم الكواكب كما تدل عليه الآثار ويشهد له الحس وإليه ذهب جمهور أهل الهيئة، ومنهم من قال: سميت بذلك لأنها في الفلك الأوسط بين أفلاك العلوية وبين أفلاك الثلاثة الأخر وهو أمر ظني لم تشهد له الأخبار النبوية كما ستعلمه قريبا إن شاء الله تعالى. والضياء مصدر كقيام، وقال أبو علي في الحجة: كونه جمعا كحوض وحياض وسوط وسياط أقيس من كونه مصدرا. وتعقب بأن إفراد النور فيما بعد يرجح الأول، وياؤه منقلبة عن واو لإنكسار ما قبلها. وأصل الكلام جعل الشمس ذات ضياء.
ويجوز أن يجعل المصدر بمعنى اسم الفاعل أي مضيئة وأن يبقى على ظاهره من غير مضاف فيفيد المبالغة بجعلها نفس الضياء. وقرأ ابن كثير * (ضئاء) * بهمزتين بينهما ألف. والوجه فيه كما قال أبو البقاء: أن يكون أخر الياء وقدم الهمزة فلما وقعت الياء طرفا بعد ألف زائدة قلبت همزة عند قوم وعند آخرين قلبت ألفا ثم قلبت الألف همزة لئلا يجتمع ألفان * (والقمر نورا) * أي ذا نور أو منيرا أو نفس النور على حد ما تقدم آنفا والنور قيل أعم من الضوء بناء على أنه ما قوى من النور والنور شامل للقوى والضعيف، والمقصود من قوله سبحانه: * (الله نور السموات والأرض) * (النور: 35) تشبيه هداه الذي نصبه للناس بالنور الموجود في الليل أثناء الظلام والمعنى أنه تعالى جعل هداه كالنور في الظلام فيهدي قوم ويضل آخرون ولو جعله كالضياء الذي لا يبقى معه ظلام لم يضل أحد. وهو مناف للحكمة وفيه نظر، وقيل: هما متباينان فما كان بالذات فهو ضياء وما كان بالعرض فهو نور، ولكون الشمس نيرة بنفسها نسب إليها الضياء ولكون نور القمر مستفادا منها نسب إليه النور. وتعقبه العلامة الثاني بأن ذلك قول الحكماء وليس من اللغة في شيء فإنه شاع نور الشمس ونور النار
67

ونحن قد بسطنا الكلام على ذلك فيما تقدم وفي كتابنا الطراز المذهب وأتينا بما فيه هدى للناطرين. بقي أن حديث الاستفادة المذكورة سواء كانت على سبيل الانعكاس من غير أن يصير جوهر القمر مستنيرا كما في المرآة أو بأن يستنير جوهره على ما هو الأشبه عند الإمام قد ذكرها كثير من الناس حتى القاضي في تفسيره وهو مما لم يجىء من حديث من عرج إلى السماء صلى الله عليه وسلم وإنما جاء عن الفلاسفة. وقد زعموا أن الأفلاك الكلية تسعة أعلاها فلك الأفلاك ثم فلك الثوابت ثم فلك كيوان ثم فلك برجيس. ثم فلك بهرام ثم فلك الشمس ثم فلك الزهرة ثم فلك الكاتب ثم فلك القمر، وزعم صاحب التحفة أن فلك الشمس تحت فلك الزهرة وما عليه الجمهور هو الأول، واستدل كثير منهم على هذا الترتيب بما يبقى معه الاشتباه بين الشمس وبين الزهرة والكاتب كالكسف والانكساف واختلاف المنظر الذي يتوصل إلى معرفته بذات الشعبتين لأن الأول لا يتصور هناك لأن الزهرة والكاتب يحترقان عند الاقتران في معظم المعمورة والثاني أيضا مما لا يستطاع علمه بتلك الآلة لأنها تنصب في سطح نصف النهار وهذان الكوكبان لا يظهران هناك لكونهما حوالي الشمس بأقل من برجين فإذا بلغا نصف النهار كانت الشمس فوق الأرض شرقية أو غربية فلا يريان أصلا،
وجعل الشمس في الفلك الأوسط لما في ذلك من حسن الترتيب كأنها شمسة القلادة أو لأنها بمنزلة الملك في العالم فكما ينبغي للملك أن يكون في وسط العسكر ينبغي لها أن تكون في وسط كرات العالم أمر إقناعي بل هو من قبيل التمسك بجبال القمر، ومثل ذلك تمسكهم في عدم الزيادة على هذه الأفلاك بأنه لا فضل في الفلكيات مع أنه لزم عليه أن يكون ثخن الفلك الأعظم أقل ما يمكن أن يكون للأجسام من الثخانة إذ لا كوكب فيه حتى يكون ثخنه مساويا لقطره فالزائد على أقل ما يمكن فضل. وقد بين في رسالة الأبعاد والإجرام أنه بلغ الغاية في الثخن. وقد قدمنا لك ذلك وحينئذ يمكن أن يكون لكل من الثوابت فلك على حدة وأن تكون تلك الأفلاك متوافقة في حركاتها جهة وقطبا ومنطقة وسرعة بل لو قيل بتخالف بعضها لم يكن هناك دليل ينفيه لأن المرصود منها أقل قليل فيمكن أن يكون بعض ما لم يرصد متخالفا على أن من الناس من أثبت كرة فوق كرة الئوابت وتحت الفلك الأعظم واستدل على ذلك بما استدل، ومن علم أن أرباب الارصاد منذ زمان يسير وجدوا كوكبا سيارا أبطأ سيرا من زحل وسموه هرشلا وقد رصده لالنت فوجده يقطع البرج في ست سنين شمسية وأحد عشر شهرا وسبعة وعشرين يوما وهو ويوم تحريرنا هذا المبحث وهو اليوم الرابع والعشرون من جمادي الآخرة سنة الألف والمائتين والست والخمسين حيث الشمس في السنبلة قد قطع من الحوت درجة واحدة وثلاث عشرة دقيقة راجعا لا يبقى له اعتماد على ما قاله المتقدمون، ويجوز أمثال ما ظفر به هؤلاء المتأخرون، وأيضا من الجائز أن تكون الأفلاك ثمانية لإمكان كون جميع الثوابت مركوز في محدب ممثل زحل أي في متممه الحاوي على أنه يتحرك بالحركة البطيئة والفلك الثامن يتحرك بالحركة السريعة وحينئذ تكون دائرة البروح المارة بأوائل البروج منتقلة بحركة الثامن غير منتقلة بحركة الممثل ليحصل انتقال الثوابت بحركة الممثل من برج إلى برج كما هو الواقع. وقد صرح البرجندي أن القدماء لم يثبتوا الفلك الأعظم وإنما أثبته المتأخرون، وأيضا يجوز أن تكون سبعة بأن يفرض الثوابت ودائرة البروج على ما محدب ممثل زحل ويكون هناك نفسان تتصل إحداهما بمجموع السبعة وتحركها إحدى الحركتين الأوليين والأخرى بالكرة السابعة وتحكرها الأخرى ولكن بشرط
68

أن تفرض دوائر البروج متحركة بالسريعة دون البطيئة كتحركها متوهمة على سطوح الممثلات بالسريعة دون البطيئة لينقل الثوابت بالبطيئة من برج إلى برج كما هو الواقع ونحن من وراء المنع فيما يرد على هذا الاحتمال، وأيضا ذكر الإمام أنه لم لا يجوز أن تكون الثوابت تحت فلك القمر فتكون تحت كرات السيارة لا فوقها. وما يقال: من أنا نرى أن هذه السيارة تكسف الثوابت والكاسف تحت المكسوف لا محالة مدفوع بأن هذه السيارات إنما تكسف الثوابت القريبة من المنطقة دون القريبة من القطبين فلم لا يجوز أن يقال: هذه الثوابت القريبة من المنطقة مركوز في الفلك الثامن والقريبة من القطبين مركوز في كرة أخرى تحت كرة القمر. على أنه لم لا يجوز أن يقال: الكواكب تتحرك بأنفسها من غير أن تكون مركوزة في جسم آخر ودون إثبات الامتناع خرط القتاد.
وذكروا في استفادة نور القمر من ضوء الشمس إنه من الحدسيات لاختلاف أشكاله بحسب قربه وبعده منها وذلك كما قال ابن الهيثم لا يفيد الجزم بالاستفادة لاحتمال أن يكون القمر كرة نصفها مضيء ونصفها مظلم ويتحرك على نفسه فيرى هلالا ثم بدرا ثم ينمحق وهكذا دائما، ومقصوده أنه لا بد من ضم شيء آخر إلى اختلاف الأشكال حسب القرب والبعد ليدل على المدعى وهو حصول الخسوف عند توسط الأرض بينه وبين الشمس. وبعض المحققين كصاحب حكمة العين وصاحب المواقف نقلوا ما نقلوا عن ابن الهيثم ولم يقفوا على مقصوده منه فقالوا: إنه ضعيف وإلا لما انخسف القمر في شيء من الاستقبالات أصلا وذلك كما قال العاملي عجيب منهم، وأنت تعلم أن لا جزم أيضا وأن ضم ما ضم لجواز أن يكون سبب آخر لاختلاف تلك الأشكال النورية لكنا لا نعلمه كأن يكون كوكب كمد تحت فلك القمر ينخسف به في بعض استقبالاته.
وإن طعن في ذلك بأنه لو كان لرؤي. قلنا: لم لا يجوز أن يكون ذلك الاختلاف والخسوف من آثار إرادة الفاعل المختار من دون توسط القرب والبعد من الشمس وحيلولة الأرض بينها وبينه بل ليس هناك إلا توسط الكاف والنون وهو كاف عند من سلمت عينه من الغين. وللمتشرعين من المحدثين وكذا لساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم كلمات شهيرة في هذا الشأن، ولعلك قد وقفت عليها وإلا فستقف بعد إن شاء الله تعالى.
وقد استندوا فيما يقولون إلى أخبار نبوية وأرصاد قلبية وغالب الأخبار في ذلك لم تبلغ درجة الصحيح وما بلغ منها آحاد ومع هذا قابل للتأويل بما لا ينافي مذهب الفلاسفة والحق أنه لا جزم بما يقولونه في ترتيب الأجرام العلوية وما يلتحق بذلك وأن القول به مما لا يضر بالدين إلا إذا صادم ما علم مجيئه عن النبي صلى الله عليه وسلم * (هذا) * وسمي القمر قميرا لبياضه كما قال الجوهري، واعتبر هو وغيره كونه قمرا بعد ثلاث.
* (وقدره) * أي قدر له وهيأ * (منازل) * أو قدر مسيره في منازل فمنازل على الأول مفعول به وعلى الثاني نصب على الظرفية، وجوز أن يكون قدر بمعنى جعل المتعدي لواحد و * (منازل) * حال من مفعوله أي جعله وخلقه متنقلا وإن يكون بمعنى جعل المتعدي لاثنين أي صيره ذا منازل، وإياما كان فالضمير للقمر وتخصيصه بهذا التقدير لسرعة سيره بالنسبة إلى الشمس ولأن منازله معلومة محسوسة ولكونه عمدة في تواريخ العرب ولأن أحكام الشرع منوطة به في الأكثر، وجوز أن يكون الضمير له وللشمس بتأويل كل منهما، والمنازل ثمانية وعشرون وهي الشرطان والبطين والثريا والدبران والهقعة والهنعة والذراع والنثرة والطرف والجبهة والزبرة والصرفة
69

والعواء. والسماك الاعزل والعفرة والزباني والأكليل والقلب والشولة والنعائم والبلدة وسعد الذابح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية وفرغ الدلو المقدم والفرغ المؤخر وبطن الحوت، وهي مقسمة على البروج الاثنى عشر المهشورة فيكون لكل برج منزلان وثلث، والبرج عندهم ثلاثون درجة حاصلة من قسمة ثلثمائة وستين أجزاء دائرة البروج على اثنى عشر، والدرجة عندهم منقسمة بستين دقيقة وهي منقسمة بستين ثانية وهي منقسمة بستين ثالثة وهكذا إلى الروابع والخوامس والسوادس وغيرها، ويقطع القمر بحركته الخاصة في كل يوم بليلته ثلاث عشرة درجة وثلاث دقائق وثلاثا وخمسين ثانية وستا وخمسين ثالثة، وتسمية ما ذكرنا منازل مجاز لأنه
عبارة عن كواكب مخصوصة من الثوابت قريبة من المنطقة، والمنزلة الحقيقية للقمر الفراغ الذي يشغله جرم القمر على أحد الأقوال في المكان، فمعنى تزول القمر في هاتيك المنازل مسامتته إياها، وكذا تعتبر المسامتة في نزوله في البروج لأنها مفروضة أولا في الفلك الأعظم. وأما تسمية نحو الحمل والثور والجوزة بذلك فباعتبار المسامتة أيضا.
وكان أول المنازل الشرطين ويقال له النطح وهو لأول الحمل ثم تحركت حتى صار أولها على ما حرره المحققون من المتأخرين الفرغ المؤخر ولا يثبت على ذلك لأن للثوابت حركة على التوالي على الصحيح وإن كانت بطيئة وهي حركة فلكها، ومثبتو ذلك اختلفوا في مقدار المدة التي يقطع بها جزأ واحدا من درجات منطقته فقيل هي ست وستون سنة شمسية أو ثمان وستون سنة قمرية، وذهب ابن الاعلم إلى أنها سبعون سنة شمسية أو ثمان وستون سنة قمرية، وذهب ابن الاعلم إلى أنها سبعون سنة شمسية وطابقه الرصد الجديد الذي تولاه نصير الطوسي بمراغة، وزعم محيي الدين أحد أصحابه أنه تولى رصد عدة من الثوابت كعين الثور وقلب العقرب بذلك الرصد فوجدها تتحرك في كل ست وستين سنة شمسية درجة واحدة، وادعى بطليموس أنه وجد الثوابت القريبة إلى المنطقة متحركة في كل مائة سنة شمسية درجة والله تعالى أعلم بحقائق الأحوال وهو المتصرف في ملكه وملكوته حسبما يشاء * (لتعلموا عدد السنين) * التي يتعلق بها غرض علمي لإقامة مصالحكم الدينية والدنيوية * (والحساب) * أي ولتعلموا الحساب بالأوقات من الأشهر والأيام وغير ذلك مما نيط به شيء من المصالح المذكورة، واللام على ما يفهم من أمالي عز الدين بن عبد السلام متعلقة بقدر. واستشكل هو ذلك بأن علم العدد والحساب لا يفتقر لكون القمر مقدرا بالمنازل بل طلوعه وغروبه كاف. وذكر بعضهم أن كمة ذلك صلاح الثمار بوقوع شعاع القمر عليها وقوعا تدريجيا، وكونه أدل على وجوده سبحانه وتعالى إذ كثرة اختلاف أحوال الممكن وزيادة تفاوت أوصافه أدعى إلى احتياجه إلى صانع حكيم واجب بالذات وغير ذلك مما يعرفه الواقفون على الاسرار؛ وأجاب مولانا سرى الدين بأن المراد من الحساب حساب الأوقات بمعرفة الماضي من الشهر والباقي منه وكذا من الليل ثم قال: وهذا إذا علقت اللام - بقدره منازل - منازل - فإن علقته بجعل الشمس والقمر لم يرد السؤال.
ولعل الأولى على هذا أن يحمل * (السنين) * على ما يعم السنين الشمسية والقمرية وان كان المعتبر في التاريخ العربي الإسلامي السنة القمرية، والتفاوت بين السنتين عشرة أيام وإحدى عشرة ساعة ودقيقة واحدة، فإن السنة الأولى عبارة عن ثلثمائة وخمسة وستين يوما وخمس ساعات وتسع وأربعين دقيقة على مقتضى الرصد الايلخاني والسنة الثانية عبارة عن ثلثمائة وأربعة وخمسين يوما وثماني ساعات وثمان وأربعين دقيقة، وينقسم
70

كل منهما إلى بسيطة وكبيسة وبيان ذلك في محله، وتخصيص العدد بالسنين والحساب بالأوقات لما أنه لم يعتبر في السنين المعدودة معنى مغاير لمراتب الأعداد كما اعتبر في الأوقات المحسوبة، وتحقيقه أن الحساب إحصاء ما له كمية انفصالية بتكرير أمثاله من حيث يتحصل بطائفة معينة منها عدد معين له اسم خاص وحكم مستقل كالسنة المتحصلة من اثنى عشر شهرا قد تحصل كل من ذلك من أيام معلومة قد تحصل كل منها من ساعات كذلك والعد مجرد إحصائه بتكرير أمثاله من غير اعتبار أن يتحصل بذلك شيء كذلك، ولما لم يعتبر في السنين المعدودة تحصيل حد معين له اسم خاص غير أسامي مراتب الأعداد وحكم مستقل أضيف إليها العدد، وتحصل مراتب الأعداد من العشرات والمئات والألوف اعتباري لا يجدي في تحصيل المعدود نفعا، وحيث اعتبر في الأوقات المحسوبة تحصيل ما ذكر من المراتب التي لها أسام خاصة وأحكام مستقلة علق بها الحساب المنبىء عن ذلك، والسنة من حيث تحققها في نفسها مما يتعلق به الحساب وإنما الذي يتعلق به العد طائفة منها، وتعلقه في ضمن ذلك بكل واحدة من تلك الطائفة ليس من تلك الحيثية المذكورة - أعني حيثية تحصلها من عدة أشهر - قد تحصل كل واحد منها من عدة أيام قد حصل كل منها من عدة ساعات فإن ذلك وظيفة الحساب بل من حيث أنها فرد من تلك الطائفة المعدودة من غير أن يعتبر معها شيء غير ذلك.
وتقديم العدد على الحساب مع أن الترتيب بين متعلقيهما وجودا وعلما على العكس لأن العلم المتعلق بعدد السنين له علم إجمالي بما تعلق به الحساب تفصيلا وإن لم تتحد الجهة أو لأن العدد من حيث أنه لم يعتبر فيه تحصيل أمر آخر حسبما حقق آنفا نازل من الحساب الذي اعتبر فيه ذلك منزلة البسيط من المركب قاله شيخ الإسلام.
* (ما خلق الله ذلك) * أي ما ذكر من الشمس والقمر على ما حكى سبحانه من الأحوال * (إلا بالحق) * استثناء من أعم أحوال الفاعل والمفعول، والباء للملابسة أي ما خلق ذلك ملتبسا بشيء من الأشياء إلا ملتبسا بالحق مراعيا فيه الحكمة والمصلحة أو مراعى فيه ذلك فالمراد بالحق هنا خلاف الباطل والعبث * (يفصل الآيات) * أي الآيات التكوينية المذكورة أو الأعم منها ويدخل المذكور دخولا أوليا أو نفصل الآيات التنزيلية المنبهة على ذلك. وقرىء * (نفصل) * بنون العظمة وفيه التفات * (لقوم يعلمون) * الحكمة في إبداع الكائنات فيستدلون بذلك على شؤون مبدعها جل وعلا أو يعلمون ما في تضاعيف الآيات المنزلة فيؤمنون بها.
وتخصيص التفصيل بهم على الاحتمالين لأنهم المنتفعون به، والمراد لقوم عقلاء من ذوي العلم فيعم من ذكرنا وغيرهم.
* (إن فى اختل‍افاليل والنهار وما خلق الله فى السم‍اوات والارض لآي‍ات لقوم يتقون) *
* (إن في اختلاف الليل والنهار) * تنبيه آخر اجمالي على ما ذكر أي في تعاقبهما وكون كل منهما خلفة للآخر بحسب طلوع الشمس وغروبها التابعين عند أكثر الفلاسفة لحركة الفلك الأعظم حول مركزه على خلاف التوالي فإنه يلزمها حركة سائر الأفلاك وما فيها من الكواكب على ما تقدم مع سكون الأرض وهذا في أكثر المواضع وأما في عرض تسعين فلا يطلع شيء ولا يغرب بتلك الحركة أصلا بل بحركات أخرى وكذا فيما يقرب منه قد يقع طلوع وغروب بغير ذلك وتسمى تلك الحركة الحركة اليومية وجعلها بعضهم بتمامها للأرض وجعل آخرون بعضها للأرض وبعضها للفلك الأعظم، والمشهور عند كثير من المحدثين أن الشمس نفسها تجري مسخرة بإذن الله تعالى في بحر مكفوف فتطلع وتغرب حيث شاء الله تعالى
71

ولا حركة للسماء وإلى مثل ذلك ذهب الشيخ الأكبر قدس سره.
ويجوز أن يراد باختلاف الليل والنهار تفاوتهما في أنفسهما بازدياد كل منهما بانتقاص الآخر وانتقاصه بازدياده وهو ناشىء عنده من اختلاف حال الشمس بالنسبة إلينا قربا وبعدا بسبب حركتها الثانية التي بها تختلف الأزمنة، وتنقسم السنة إلى فصول وقد يتساوى الليل والنهار في بعض الأزمان عند بعض وذلك إنما يكون إذا اتفق حلول الشمس نقطة الاعتدال عند الطلوع أو الغروب وكان الأوج في احد الاعتدالين فإنه إذا تحقق الأول كان قوس النهار كقوس الليل وإذا تحقق الثاني كان الأمر بالعكس وهذا نادر جدا، ولا يمكن على ما ذهب إليه بطليموس من عدم حركة الأوج فلا يتساوى الليل والنهار عنده أصلا، وقد يراد اختلافهما بحسب الأمكنة أما في الطول والقصر فإن البلاد القريبة من القطب الشمالي أيامها الصيفية أطول ولياليها الصيفية أقصر من أيام البلاد البعيدة منه ولياليها، وأما في أنفسهما فإن كرية الأرض على ما قالوا تقتضي أن تكون بعض الأوقات في بعض الأماكن ليلا وفي مقابله نهارا.
* (وما خلق الله في السموات والأرض) * من المصنوعات المتقنة والآثار المحكمة * (لآي‍ات) * عظيمة كثيرة دالة على وجود الصانع تعالى ووحدته وكمال قدرته وبالغ حكمته التي من جملة مقتضياته ما أنكروا من إرسال الرسول وإنزال الكتاب وتبيين طرائق الهدى وتعيين مهاوي الرد * (لقوم يتقون) * الله تعالى ويحذرون من العاقبة، وخصصهم سبحانه بالذكر لأن التقوى هي الداعية للنظر والتدبر.
* (إن الذين لا يرجون لقآءنا ورضوا بالحيواة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن ءاي‍اتنا غ‍افلون) *
* (إن الذين لا يرجون لقاءنا) * بيان لمآل أمر من كفر بالبعث المشار إليه فيما سبق، وأعرض عن البينات الدالة عليه، والمراد بلقائه تعالى شأنه إما الرجوع إليه بالبعث أو لقاء الحساب، وأياما كان ففيه مع الالتفات إلى ضمير الجلالة من تهويل الأمر ما لا يخفى.
والرجاء يطلق على توقع الخير كالأمل وعلى الخوف وتوقع الشر وعلى مطلق التوقع وهو في الأول حقيقة وفي الأخيرين مجاز، واختار بعض المحققين المعنى المجازي الأخير المنتظم للأمل والخوف، فالمعنى لا يتوقعون الرجوع إلينا أو لقاء حسابنا المؤدي إلى حسن الثواب أو إلى سوء العقاب فلا يأملون الأول ولا يخافون الثاني ويشير إلى عدم أملهم قوله سبحانه: * (ورضوا بالحياة الدنيا) * فإنه منبىء عن إيثار الأدنى الخسيس على الأعلى النفيس وإلى عدم خوفهم قوله عز وجل * (واطمأنوا بها) * فإن المراد أنهم سكنوا فيها سكون من لا براح له آمنين من اعتراء المزعجات غير مخطرين ببالهم ما يسوءهم من العذاب، وجوز أن يراد بالرجاء المعنى الأول والكلام على حذف مضاف أي لا يؤملون حسن لقائنا بالبعث والاحياء بالحياة الأبدية ورضوا بدلا منها ومما فيها من الكرامات السنية بالحياة الدنيا الفانية الدنية وسكنوا إليها مكبين عليها قاصرين مجامع هممهم على لذائذها وزخارفها من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم، وجوز أن يراد به المعنى الثاني والكلام على حذف المضاف أيضا أي لا يخافون سوء لقائنا الذي يجب أن يخاف، وتعقب بأن كلمة الرضا بالحياة الدنيا تأبى ذلك فإنها منبئة عما تقدم من ترك الأعلى وأخذ الأدنى، وقال الآمام: إن حمل الرجاء على الخوف بعيد لأن تفسير الضد بالضد غير جائز ولا يخفى أنه في حيز المنع فقد ورد ذلك في استعمالهم وذكره الراغب
72

والإمام المرزوقي وأنشدوا شاهدا له قول أبي ذؤيب: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها * وحالفها في بيت نوب عوامل
ووجه ذلك الراغب بأن الرجاء والخوف يتلازمان، وأما الاعتراض على الإمام بأن استعمال الضد في الضد جائز في الاستعارة التهكمية فليس بشيء لأن مقصوده رحمه الله تعالى أن ذلك غير جائز في غير الاستعارة المذكورة كما يشعر به قوله تفسير دون استعارة ثم إنه لا يجوز اعتبار هذه الاستعارة هنا لأن التهكم غير مراد كما لا يخفى، ويعلم مما ذكرنا في تفسير الآية أن الباء للظرفية، وجوز أن تكون للسببية على معنى سكنوا بسبب زينتها وزخارفها، واختيار صيغة الماضي في الخصلتين الأخيرتين للدلالة على التحقق والتقرر كما أن اختيار صيغة المستقبل في الأولى للإيذان بالاستمرار * (والذين هم عن ءاياتنا) * المفصلة في صحائف الأكوان حسبما أشير إلى بعضها أو آياتنا المنزلة المنبهة على الاستدلال بها المتفقة معها في الدلالة على حقية ما لا يرجونه من اللقاء المترتب على البعث وعلى بطلان ما رضوا به واطمأنوا فيه من الحياة الدنيا * (غافلون) * لا يتفكرون فيها أصلا وإن نبهوا بما نبهوا لانهماكهم بما يصدهم عنها من الأحوال المعدودة، وتكرير الموصول للتوصل به إلى هذه الصلة المؤذنة بدوام غفلتهم واستمرارها والعطف لمغايرة الوصف المذكور لما قبله من الأوصاف وفي ذلك تنبيه على أنهم جامعون لهذا وتلك وأن كل واحد منهما متميز مستقل صالح لأن يكون منشأ للذم والوعيد، والقول بأن ذلك لتغاير الوصفين والتنبيه على أن الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات رأسا والانهماك في الشهوات بحيث لا يخطر ببالهم الآخرة أصلا ليس بشيء إذ يفهم من ظاهره أن كلا منهما غير موجب للوعيد بالاستقلال بل الموجب له المجموع وهو كما ترى، وكونه لتغاير الفريقين بأن يراد من الأولين من أنكر البعث ولم يرد إلا الحياة الدنيا وبالآخرين من ألهاه حب العاجل عن التأمل في الآجل والإعداد له كأهل الكتاب الذين ألهاهم حب الدنيا والرياسة عن الإيمان والاستعداد للآخرة بعيد غاية البعد في هذا المقام.
* (أول‍ائك مأواهم النار بما كانوا يكسبون) *
* (أولائك) * أي الموصوفن بما ذكر * (مأواهم) * أي مسكنهم ومقرهم الذي لا براح لهم منه * (النار) * لا ما اطمأنوا به من الحياة الدنيا ونعيمها * (بما كانوا يكسبون) * من الأعمال القلبية المعدودة وما يستتبعه من المعاصي أو يكسبهم ذلك، والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع للدلالة على الاستمرار، والباء متعلقة بما دل عليه الجملة الأخيرة الواقعة خبرا عن اسم الإشارة وقدره أبو البقاء جوزوا، وجملة * (أولئك) * الخ خبر إن في قوله سبحانه: * (إن الذين لا يرجون) * الخ.
* (إن الذين ءامنوا وعملوا الص‍الحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجرى من تحتهم الانه‍ار في جن‍ات النعيم) *
* (إن الذين آمنوا) * بما يجب الإيمان به ويندرج فيه الإيمان بالآيات التي غفل عنها الغافلون اندراجا أوليا وقد يخص المتعلق بذلك نظرا للمقام * (وعملوا الصالحات) * أي الأعمال الصالحة في أنفسها اللائقة بالإيمان وترك ذكر الموصوف لجريان الصفة مجرى الأسماء * (يهديهم ربهم بإيمانهم) * أي يهديهم بسبب إيمانهم إلى مأواهم
ومقصدهم وهي الجنة وإنما لم تذكر تعويلا على ظهورها وانسياق النفس إليها لا سيما مع ملاحظة ما سبق من بيان مأوى الكفرة وما أداهم إليه من الأعمال السيئة ومشاهدة ما لحق من التلويح والتصريح.
73

والمراد بهذا الإيمان الذي جعل سببا لما ذكر الإيمان الخاص المشفوع بالأعمال الصالحة لا المجرد عنها ولا ما هو الأعم ولا ينبغي أن ينتطح في ذلك كبشان، والآية عليه بمعزل عن الدلالة على خلاف ما عليه الجماعة من أن الإيمان الخالي عن العمل الصالح يفضي إلى الجنة في الجملة ولا يخلد صاحبه في النار فإن منطوقها أن الإيمان المقرون بالعمل الصالح سبب للهداية إلى الجنة، وأما إن كل ما هو سبب لها يجب أن يكون كذلك فلا دلالة لها ولا لغيرها عليه كيف لا وقوله سبحانه: * (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) * (الأنعام: 82) مناد بخلافه بناء على ما أطبقوا عليه من تفسير الظلم بالشرك ولئن حمل على ظاهره أيضا يدخل في الاهتداء من آمن ولم يعمل صالحا ثم مات قبل أن يظلم بفعل حرام أو بترك واجب، وإلى حمل الإيمان على ما قلنا ذهب الزمخشري وقال: إن الآية تدل على أن الإيمان المعتبر في الهداية إلى الجنة هو الإيمان المقيد بالعمل الصالح، ووجه ذلك بأنه جعل فيها الصلة مجموع الأمرين فكأنه قيل: إن الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ثم قيل: بإيمانهم أي هذا المضموم إليه العمل الصالح. وزعم بعضهم أن ذلك منه مبني على الاعتزال وخلود غير الصالح في النار، ثم قال إنه لا دلالة في الآية على ما ذكره لأنه جعل سبب الهداية إلى الجنة مطلق الإيمان، وأما إن إضافته إلى ضمير الصالحين يقتضي أخذ الصلاح قيدا في التسبب فممنوع فإن الضمير يعود على الذوات بقطع النظر عن الصفات، وأيضا فإن كون الصلة علة للخبر بطريق المفهوم فلا يعارض السبب الصريح المنطوق على أنه ليس كل خبر عن الموصول يلزم فيه ذلك، ألا ترى أن نحو الذي كان معنا بالأمس فعل كذا خال عما يذكرونه في نحو الذي يؤمن يدخل الجنة، وانتصر للزمخشري بأن الجمع بين الإيمان والعمل الصالح. ظاهر في أنهما السبب والتصريح بسببية الإيمان المضاف إلى ضمير الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالتنصيص على أنه ذلك الإيمان المقرون بما معه لا المطلق لكنه ذكر لأصالته وزيادة شرفه، ولا يلزم على هذا استدراك ذكره ولا استقلاله بالسببية.
وفيه رد على القاضي البيضاوي حيث ادعى أن مفهوم الترتيب وإن دل على أن سبب الهداية الإيمان والعمل الصالح لكن منطوق قوله سبحانه: * (بإيمانهم) * دل على استقلال الإيمان. ومنع في " الكشف " أيضا كون المنطوق ذلك وفرعه على كون الاستدلال من جعل الإيمان والعمل الصالح واقعين في الصلة ليجريا مجرى العلة ثم لما أعيد الإيمان مضافا كان إشارة إلى الإيمان المقرون لما ثبت أن استعمال ذلك إنما يكون حيث معهود والمعهود السابق هو هذا والأصل عدم غيره، ثم قال: ولو سلم أن المنطوق ذلك لم يضر الزمخشري لأن العمل يعد شرطا حينئذ جمعا بين المنطوق والمفهوم بقدر الإمكان فلم يلغ اقتران العمل ولا دلالة السببية، وهذا فائدة إفراده بالذكر ثانيا مع ما فيه من الأصالة وزيادة الشرف، ولا مخالف له من الجماعة لأن العصاة غير مهديين، وأما أن كل من ليس مهتديا فهو خالد في النار فهو ممنوع غاية المنع انتهى وفي القلب: من هذا المنع شيء والأولى التعويل على ما قدمناه في تقرير كون الآية بمعزل عن الدلالة على خلاف ما عليه الجماعة، والهداية على هذا الوجه يحتمل أن تفسر بالدلالة الموصلة إلى البغية وبمجرد الدلالة والمختار الأول، واختار الثاني من قال: إن المعنى يهديهم طريق الجنة بنور إيمانهم، وذلك أما على تقدير المضاف أو على أن إيمانهم يظهر نورا بين أيديهم، وقيل: إن المعنى يسددهم بسبب إيمانهم للاستقامة على سلوك السبيل المؤدي إلى الثواب والهداية عليه بالمعنى الأول، وقيل: المراد يهديهم إلى إدراك حقائق الأمور فتنكشف لهم بسبب ذلك، وأيا ما كان فالالتفات في
74

قوله سبحان: * (ربهم) * لتشريفهم بإضافة الرب إليهم مع الإشعار بعلة الهداية وقوله تعالى: * (تجري من تحتهم الأنهار) * أي من تحت منازلهم أو من بين أيديهم، استئناف نحوي أو بياني فلا محل له من الإعراب أو خبر ثان لأن فمحله الرفع.
وجوز أن يكون في محل النصب على الحال من مفعول * (يهديهم) * على تقدير كون المهدي إليه ما يريدون في الجنة كما قال أبو البقاء، وإن جعل حالا منتظرة لم يحتج إلى القول بهذا التقدير لكنه خلاف الظاهر، والزمخشري لما فسر * (يهديهم ربهم) * بيسددهم الخ جعل هذه الجملة بيانا له وتفسيرا لأن التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها، ولا يخفى أن سبيل هذا البيان سبيل البدل وبذلك صرح الطيبي وحينئذ فمحلها الرفع لأنه محل الجملة المبدل منها وقوله سبحانه: * (في جنات النعيم) * خبر آخر أو حال أخرى من مفعول * (يهديهم) * فتكون حالا مترادفة أو من * (الأنهار) * فتكون متداخلة أو متعلق بتجري أو بيهدي والمراد على ما قيل بالمهدي إليه إما منازلهم في الجنة أو ما يريدونه فيها.
* (دعواهم فيها سبح‍انك اللهم وتحيتهم فيها سلام وءاخر دعواهم أن الحمد لله رب الع‍المين) *
* (دعواهم) * أي دعاؤهم وهو مبتدأ، وقوله تعالى شأنه: * (فيها) * متعلق به، وقوله سبحانه: * (سبحانك اللهم) * خبره أي دعاؤهم هذا الكلام، والدعوى وإن اشتهرت بمعنى الادعاء لكنها وردت بما ذكرنا أيضا، وكون الخبر من جنس الدعاء يشهد له قوله صلى الله عليه وسلم: " أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفات لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ". والظاهر أن إطلاق الدعاء على ذلك مجاز وهو الذي يفهمه كلام ابن الأثير حيث قال: إنما سمى التهليل والتحميد والتمجيد دعاء لأنه بمنزلته في استيجاب ثواب الله تعالى وجزائه. وفي الحديث " إذا شغل عبدي ثناؤه على من مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين " وجاءت بمعنى العبادة كما في قوله سبحانه: * (واعتزلكم وما تدعون من دون الله) * (مريم: 48) وجوز إرادته هنا والمراد نفي التكليف أي لا عيادة لهم غير هذا القول وليس ذلك بعبادة وإنما يلهمونه وينطقون به تلذذا لا تكليفا. ونظير ذلك قوله سبحانه: * (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) * (الأنفال: 35) وفيه خفاء كما لا يخفى وقد يقال: يأتي نظير هذا في الآية على احتمال أن يراد بالدعوى الدعاء حقيقة فيكون المعنى على طرز ما قرر أنه لا سؤال لهم من الله تعالى سوى ذلك، ومن المعلوم أن ذلك ليس بسؤال فيفيد أنه لا سؤال لهم أصلا.
والغرض من ذلك الإشارة إلى حصول جميع مقاصدهم بالفعل فليس بهم حاجة إلى سؤال شيء إلا أن فيه ما فيه ونصب - سبحان - على المصدرية لفعل محذوف وجوبا وهو بمعنى التسبيح. وقدرت الجملة اسمية أي أنا نسبحك تسبيحا لأنها أبلغ والجمل التي بعدها كذلك، و * (اللهم) * بتقدير يا ألله حذف حرف النداء وعوض عنه الميم وتمام الكلام فيه وفيما قبله قد تقدم لك فتذكر، وكان القياس تقديم الاسم الجليل لأن النداء يقدم على الدعاء لكنه استعمل في التسبيح كذلك قيل: لأنه تنزيه عن جميع النقائص وفي النداء ربما يتوهم ترك الأدب.
* (وتحيتهم) * أي ما يحيون به * (فيها سلام) * أي سلامتهم من كل مكروه، وهو خبر * (تحيتهم) * و * (فيها) * متعلق بها، والتحية والتكرمة بالحال الجليلة وأصلها أحياك الله تعالى حياة طيبة، وإضافتها هنا إلى المفعول، والفاعل أما الله سبحانه أي تحية الله تعالى إياهم ذلك ويرشد إليه قوله عز وجل: * (سلام قولا من رب رحيم) * (يس: 58) أو الملائكة عليهم السلام ويرشد إليه قوله سبحانه: * (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام) * (الرعد: 23).
75

وجوز أن تكون الإضافة إلى الفاعل بتقدير مضاف أي تحية بعضهم بعضا آخر ذلك. وقد يعتبر البعض المقدر مفعولا فالإضافة إلى المفعول والفعل محذوف، وقيل: يجوز أن يكون مما أضيف فيه المصدر لفاعله ومفعوله معا إذا كان المعنى يحيي بعضهم بعضا، ونظيره في الإضافة إلى الفاعل والمفعول قوله تعالى: * (وكنا لحكمهم شاهدين) * حيث أضيف حكم إلى ضمير داود وسليمان عليهما السلام وهما حاكمان وغيرهما وهم المحكوم عليهم، وليس ذلك من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز المختلف فيه حيث أن إضافة المصدر لفاعله حقيقة ولمفعوله مجاز لأنه لا خلاف في جواز الجمع إذا كان المجاز عقليا إنما الخلاف فيه إذا كان لغويا * (وآخر دعواهم) * أي خاتمة دعائهم * (أن الحمد لله رب العالمين) * أي أنه الحمد لله فأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن محذوف والجملة الاسمية خبرها وأن ومعمولاها خبر آخر، وليست مفسرة لفقد شرطها، ولا زائدة لأن الزيادة خلاف الأصل ولا داعي إليها، على أنه قد قرأ ابن محيصن. ومجاهد. وقتادة. ويعقوب بتشديدها ونصب * (الحمد) * وفي ذلك دليل لما قلنا، والظاهر أن تحقق مضمون هذه الجمل لكونها اسمية على سبيل الدوام والاستمرار وفي الإخبار ما يؤيده، فلعل القوم لما دخلوا الجنة حصل لهم من العلم بالله تعالى ما لم يحصل لهم قبله على اختلاف مراتبهم.
وقد صرح مولانا شهاب الدين السهروردي في بعض رسائله في الكلام بتفاوت أهل الجنة في المعرفة فقال: أن عوام المؤمنين في الجنة يكونون في العلم كالعلماء في الدنيا والعلماء فيها يكونون كالأنبياء عليهم السلام في الدنيا والأنبياء عليهم السلام يكونون في ذلك كنبينا صلى الله عليه وسلم ويكون لنبينا عليه الصلاة والسلام من العلم بربه سبحانه الغاية القصوى التي لا تكون لملك مقرب ولا لنبي مرسل، ويمكن أن يكون ذلك المقام المحمود، ولا يبعد عندي أنهم مع تفاوتهم في المعرفة لا يزالون يترقبون فيها على حسب مراتبهم، والسير في الله سبحانه غير متناه والوقوف على الكنه غير ممكن، وحينئذ التفاوت في معرفة الصفات وهي كما قيل إما سلبية وتسمى بصفات الجلال لأنها يقال فيها: جل عن كذا جل عن كذا وإما غيرها وتسمى بصفات الإكرام وبذلك فسر قوله تعالى: * (تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام) * (الرحمن: 55) فلا يزالون يدعون الله تعالى بالتسبيح الذي هو إشارة إلى نعته بنعوت الجلال وبالتحميد الذي هو إشارة إلى وصفه بصفات الإكرام، والدوام عرفي وهو أكثر من أن يحصى، وقوله عليه الصلاة والسلام في وصف أهل الجنة كما في " صحيح مسلم ": " يسبحون الله تعالى بكرة وعشيا " يؤيد بظاهره ذلك، والمراد بالبكر والعشية - كما قال النووي - قدرهما، وظاهر الآية أنهم يقدمون نعته تعالى بنعوت الجلال ويختمون دعاءهم بوصفه بصفات الإكرام لأن الأولى متقدمة على الثانية لتقدم التخلية على التحلية، ويرشد إلى ذلك قوله سبحانه: * (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) * (الشورى: 11) والمختار عندي كون فاعل التحية هو الله تعالى أو الملائكة عليهم السلام وحينئذ لا يبعد أن يكون الترتيب الذكرى حسب الترتيب الوقوعي وذلك بأن يقال: إنهم حين يشرعون بالدعاء سبحون الله تعالى وينزهونه فيقابلون بالسلام وهو دعاء بالسلامة عن كل مكروه فإن كان من الله سبحانه فهو مجاز لا محالة لاستحالة حقيقة الدعاء عليه تعالى وإن كان من الملائكة عليهم السلام فلا مانع من بقائه على حقيقته لكن يوجه الطلب فيه إلى الدوام لأن أصل السلامة حاصل لهم وإن قلنا: إنها تقبل الزيادة فلا بعد في أن يوجه إلى طلبها، وما ألطف مقابلة التسبيح والتنزيه بالسلامة عن المكروه لقربها من ذلك معنى كما لا يخفى على المنصف ثم يختمون دعاءهم بالحمد لله رب العالمين. وهكذا لا يزال دأبهم بكرة وعشيا كما يشير إليه خبر الصحيح، ولعل
76

عدم ذكر التحميد فيه اكتفاء بما في الآية وهذا ما عندي فيها. وأخرج ابن جرير. وابن المنذر. وأبو الشيخ عن ابن جريج قال: أخبرت أن أهل الجنة إذا مر بهم الطائر يشتهونه قالوا: سبحانك اللهم وذلك دعاؤهم به فيأتيهم الملك بما اشتهوا فإذا جاء الملك به يسلم عليهم فيردون عليه وذلك قوله تعالى: * (وتحيتهم فيها سلام) * فإذا أكلوا قدر حاجتهم قالوا: الحمد لله رب العالمين وذلك قوله سبحانه: * (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) * وهو ظاهر في أن الترتيب الذكرى حسب الترتيب الوقوعي أيضا لكن يدل على أن الدعوى بمعنى الدعاء، ومعنى كون سبحانك اللهم دعاء وطلبا لما يشتهون حينئذ أنه علامة للطلب، ونظير ذلك تسبيح المصلى إذا نابه شيء في صلاته وفي بعض الآثار أن هذه الكلمة علامة بين أهل الجنة والخدم في الطعام فإذا قالوها أتوهم بما يشتهون.
وأخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب مرفوعا أنهم إذا قالوا ذلك أتاهم ما اشتهوا من الجنة من ربهم ولا بأس في ذلك. نعم في كون الحمد بعد أكل قدر حاجتهم مدلول قوله سبحانه: * (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) * خفاء.
وقال القاضي بيض الله تعالى غرة أحواله: لعل المعنى أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمة الله سبحانه وكبرياءه مجدوه ونعتوه بنعوت الجلال ثم حياهم الملائكة بالسلامة عن الآفات والفوز بأصناف الكرامات أو الله تعالى فحمدوه وأثنوا عليه بصفات الإكرام وهو أيضا ظاهر في كون الترتيب الذكري كما قلنا إلا أنه تعقب بأن إضافة * (آخر) * إلى * (دعواهم) * يأباه، وكأن وجه الإباء على ما قيل: إن ذلك على هذا آخر الحال وبأن اعتبار الفوز بالكرامات في مفهوم السلام غير ظاهر، ولعل الأمر
فدي ذلك سهل.
وقال شيخ الإسلام: لعلهم يقولون: سبحانك اللهم عندما يعاينون من تعاجيب آثار قدرته تعالى ونتائج رحمته ورأفته ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر تقديسا لمقامه تعالى عن شوائب العجز والنقصان وتنزيها لوعده الكريم عن سمات الخلف ويكون خاتمة دعائهم أن يقولوا: الحمد لله رب العالمين نعتا له تعالى شأنه بصفات الإكرام إثر نعته بصفات الجلال، والمعنى دعاؤهم منحصر فيما ذكر إذ ليس لهم مطلب مترقب حتى ينظموه في سلك الدعاء، ولعل توسيط ذكر تحيتهم عند الحكاية بين دعائهم وخاتمته للتوسل إلى ختم الحكاية بالتحميد تبركا مع أن التحية ليست بأجنبية على الإطلاق انتهى. وكأنه أراد بعدم كون التحية أجنبية على الإطلاق كونها دعاء معنى، وكلامه نص في أن الترتيب الوقوعي مخالف للترتيب الذكري، ولا يخفى أن توجيه توسيذ ذكر التحية بما ذكره مما لا يكاد يرتضيه منصف على أنه غفل هو وسائر من وقفنا على كلامه من المفسرين عن توجيه اسمية الجمل فافهم، والله تعالى أعلم.
* (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقآءنا فى طغيانهم يعمهون) *
* (ولو يعجل الله للناس) * هم الذين لا يرجون لقاء الله تعالى المذكورون في قوله سبحانه: * (إن الذين لا يرجون لقاءنا) * الخ، والآية متصلة بذلك دالة على استحقاقهم للعذاب وأنه سبحانه إنما يمهلهم استدراجا وذكر المؤمنين وقع في البين تتميما ومقابلة، وجىء بالناس بدل ضميرهم تفظيعا للأمر.
وفي إرشاد العقل السليم إنما أوردوا باسم الجنس لما أن تعجيل الخير لهم ليس دائرا على وصفهم المذكور إذ ليس كل ذلك بطريق الاستدراج، والمراد لو يعجل الله تعالى لهم * (الشر) * الذي كانوا يستعجلون به تكذيبا واستهزاءا فإنهم كانوا يقولون: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة
77

من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ونحو ذلك.
وأخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال: هو دعاء الرجل على نفسه وماله بما يكره أن يستجاب له، وأخرجا عن مجاهد أنه قال: هو قول الإنسان لولده وماله إذا غضب اللهم لا تبارك فيه. اللهم العنه، وفييه حمل - الناس - على العموم والمختار الأول، ويؤيده ما قيل: من أن الآية نزلت في النضر بن الحرث حين قال: اللهم إن كان هذا هو الحق الخ، وقوله سبحانه: * (استعجالهم بالخير) * نصب على المصدرية، والأصل - على ما قال أبو البقاء - تعجيلا مثل استعجالهم فحذف تعجيلا وصفته المضافة وأقيم المضاف إليه مقامها.
وفي " الكشاف " وضع * (استعجالهم بالخير) * موضع تعجيله لهم إشعارا بسرعة إجابته سبحانه لهم وإسعافه بطلبتهم حتى كأن استعجالهم بالخير تعجيل له وهو كلام رصين يدل على دقة نظر صاحبه كما قال ابن المنير، إذ لا يكاد يوضع مصدر مؤكد مقارنا لغيير فعله في الكتاب العزيز بدون مثل هذه الفائدة الجليلة، والنحاة يقولون في ذلك: أجري المصدر على فعل مقدر دل عليه المذكور ولا يزيدون عليه، وإذا راجع اللفطن قريحته وناجى فكرته علم أنه إنما قرن بغير فعله لفائدة وهي في قوله تعالى: * (والله أنبتكم من الأرض نباتا) * (نوح: 17) التنبيه على نفوذ القدرة في المقدور وسرعة إمضاء حكمها حتى كأن إنبات الله تعالى لهم نفس نباتهم أي إذا وجد الإنبات وجد النبات حتما حتى كأن أحدهما عين الآخر فقرن به. وقال الطيبي: كان أصل الكلام ولو يجعل الله للناس الشر تعجيله ثم وضع موضعه الاستعجال ثم نسب إليهم فقيل استعجالهم بالخير لأن المراد أن رحمته سبقت غضبه فأريد مزيد المبالغة وذلك أن استعجالهم الخير أسرع من تعجيل الله تعالى لهم ذلك فإن الإنسان خلق عجولا والله تعالى صبور حليم يؤخر للمصالح الجمة التي لا يهتدي إليها عقل الإنسان ومع ذلك يسعفهم بطلبتهم ويسرع إجابتهم. وأوجب أبو حيان كون التقدير تعجيلا مثل استعجالهم أو أن ثم محذوفا يدل علييه المصدر أي لو يعجل الله للناس الشر إذا استعجلوه استعجالهم بالخير قال: لأن مدلول عجل غير مدلول استعجل لأن عجل يدل على الوقوع واستعجل يدل على طلب التعجيل وذلك واقع من الله تعالى وهذا مضاف إليهم فلا يجوز ما قرره الزمخشري وأتباعه: وأجاب السفاقسي بأن استفعل هنا للدلالة على وقوع الفعل لا على طلبه كاستقر بمعنى أقر، وقوله: وهذا مضاف إليهم مبني على أن المصدر مضاف للفاعل ويحتمل أن يكون مضافا للمفعول ولا يخفى أن كل ذلك ناش من قلة التدبر، ومعنى قوله سبحانه: * (لقضي إليهم أجلهم) * لأميتوا وأهلكوا بالمرة يقال: قضى إليه أجله أي أنهى إليه مدته التي قدر فيها موته فهلك، وفي إيثار صيغة المبنى للمفعول جرى على سنن الكبرياء مع الإيذان بتعين الفاعل. وقرأ ابن عامر. ويعقوب * (لقضى) * على البناء للفاعل، وقرأ عبد الله * (لقضينا) * وفيه التفات، واختيار صيغة الاستقبال في الشرط وإن كان المعنى على المضي لإفادة أن عدم قضاء الأجل لاستمرار عدم التعجيل فإن المضارع المنفي الواقع موقع الماضي لي بنص في إفادة انتفاء استمرار الفعل بل قد يفيد استمرار انتفائه أيضا بحسب المقام كما حقق في موضعه.
وذكر بعض المحققين أن المقدم ههنا ليس نفس التعجيل المذكور بل هو إرادته المستتبعة للقضاء المذكور وجودا وعدما لأن القضاء ليس أمرا مغايرا لتعجيل الشر في نفسه بل هو إما نفسه أو جزئي منه
78

كسائر جزئياته من غير مزية له على البقية إذ لم يعتبر في مفهومه ما ليس في مفهوم تعجيل الشر من الشدة والهول فلا يكون في ترتبه عليه وجودا أو عدما مزيد فائدة مصححة لجعله تاليا له فليس كقوله تعالى: * (لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم) * (الحجرات: 7) ولا كقوله سبحانه: * (ولو ترى إذ وقفوا على ربهم) * (الأنعام: 30) وقوله تعالى: * (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة) * (فاطر: 45) إذا فسر الجواب بالاستئصال، وأيضا في ترتيب التالي على إرادة المقدم ما ليس في ترتيبه على المقدم نفسه من الدلالة على المبالغة وتهويل الأمر والدلالة على أن الأمور منوطة بإرادته تعالى المبنية على الحكم البالغة. وقوله سبحانه: * (فنذر الذين لا يرجون لقاءنا) * أي نتركهم إمهالا واستدراجا * (في طغيانهم) * الذي هو عدم رجاء اللقاء وإنكار البعث والجزاء وما يتفرع على ذلك من الأعمال السيئة والمقالات الشنيعة * (يعمهون) * أي يترددون ويتحيرون، لا يصح عطفه على شرط * (لو) * ولا على جوابها لانتفائه وهو مقصود إثباته
وليست * (لو) * بمعنى أن كما قيل فهو إما معطوف على مجموع الشرطية لأنها في معنى لا يعجل لهم وفي قوته فكأنه قيل: لا يعجل بل يذرهم أو معطوف على مقدر تدل عليه الشرطية أي ولكن يمهلهم أو ولكن لا يعجل ولا يقضي فيذرهم وبكل قال بعض، وقيل: الجملة مستأنفة والتقدير فنحن نذرهم، وقيل: إن الفاء واقعة في جواب شرط مقدر والمعنى لو يعجل الله تعالى ما استعجلوه لأبادهم ولكن يمهلهم ليزيدوا في طغيانهم ثم يستأصلهم وإذا كان كذلك فنحن نذر هؤلاء الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يترددون ثم نقطع دابرهم. وصاحب الكشف بعد ما قرر أن اتصال * (ولو يعجل) * الخ بقوله تعالى: * (إن الذين لا يرجون لقاءنا) * (يونس: 7) الخ وأن ذكر المؤمنين إنما وقع في البين تتميما ومقابلة وليس بأجنبي قال: إنه لا حاجة إلى جعل هذا جواب شرط مقدر، وفي وضع الموصول موضع الضمير نوع بيان للطغيان بما في حيز الصلة وإشعار بعليته للترك والاستدراج.
* (وإذا مس الإنس‍ان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قآئما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنآ إلى ضر مسه كذالك زين للمسرفين ما كانوا يعملون) *
* (وإذا مس الإنسان الضر) * أي إذا أصابه جنس الضر من مرض وفقر وغيرهما من الشدائد إصابة يسيرة، وقيل: مطلقا * (دعانا) * لكشفه وإزالته * (لجنبه) * في موضع الحال ولذا عطف عليه الحال الصريحة أعني قوله سبحانه: * (أو قاعدا أو قائما) * أي دعانا مضطجعا أو ملقى لجنبه، واللام على ظاهرها، وقيل: إنها بمعنى على كما في قوله تعالى: * (يخرون للأذقان) * ولا حاجة إليه وقد يعبر بعلى وهي تفيد استعلاءه عليه واللام تفيد اختصاص كينونته واستقراره بالجنب إذ لا يمكنه الاستقرار على غير تلك الهيئة ففيه مبالغة زائدة.
واختلف في ذي الحال فقيل: إنه فاعل * (دعانا) * وقييل: هو مفعول * (مس) * واستضعف بأمرين: أحدهما تأخر الحال عن محلها من غير داع. الثاني أن المعنى على أنه يدعو كثيرا في كل أحواله إلا أنه خص المعدودات بالذكر لعدم خلو الإنسان عنها عادة لا أن الضر يصيبه في كل أحواله: وأجيب عن هذا بأنه لا بأس به فإنه يلزم من مسه الضر في هذه الأحوال دعاؤه فيها أيضا لأن القيد في الشرط قيد في الجواب فإذا قلت إذا جاء زيد فقيرا أحسنا إليه فالمعنى أحسنا إليه في حال فقره وأنت تعلم أن الأظهر هو الأول، واعتبر بعضهم توزيع هذه الأحوال على أفراد الإنسان على معنى أن من الإنسان من يدعو على هذه الحالة ومنه من يدعو على تلك، وذكر غير واحد أنه يجوز أن يكون المراد بهذه الأحوال تعميم أصناف المضار لأنها إما خفيفة
79

لا تمنع الشخص القيام أو متوسطة تمنعه القييام دون القعود أو شديدة تمنعه منها وانفهام ذلك منها بمعونة السياق و * (إذا) * قيل إنها على أصلها وقيل إنها للمضي * (فلما كشفنا عنه ضره) * الذي مسه غب ما دعانا كما ينبىء عنه الفاء * (مر) * أي مضى واستمر على ما كان عليه قبل ونسي حالة الجهد والبلاء أو مر عن موقف الدعاء والابتهال ونأى بجانبه، والمرور على الأول مجاز وعلى الثاني باق على حقيقته ويكون كناية عن عدم الدعاء * (كأن لم يدعنا) * أي كأنه لم يدعنا فخفف وحذف ضمير الشأن، ومثل ذلك قوله:
ووجه مشرق النحر * كأن ثدياه حقان
فإن الأصل فيه كأنه فخفف كأن وحذف ضمير الشأن، لكن صرح ابن هشام في شواهده أن ذلك غير متعين إذ يجوز كون الضمير للوجه أو للصدر على رواية - وصدر - وروي كأن ثدييه على إعمال كأن في اسم مذكور ولا يبعد أن يجوز ذلك في الرواية الأولى على بعض اللغات، والجملة التشبيهية في موضع الحال من فاعل * (مر) * أي مر مشبها بمن لم يدعنا * (إلى ضر) * أي إلى كشفه لأنه المدعو إليه، وقيل: لا حاجة إلى التقدير، وإلى بمعنى اللام أي لضر * (مسه) * والظاهر أن هذا وصف لجنس الإنسان مطلقا أو الكافر منه باعتبار حال بعض الأفراد ممن هو متصف بهذه الصفات.
وذكر الشهاب أن للمفسرين في المراد بالإنسان هنا ثلاثة أقوال فقيل: الجنس وقيل: الكافر وقيل: شخص معين وعليه لا حاجة إلى الاعتبار لكن لا اعتبار له * (كذلك) * أي مثل ذلك التزيين العجيب * (زين للمسرفين) * أي للموصوفين بما ذكر من الصفات الذميمة * (ما كانوا يعملون) * من الإعراض عن الذكر والدعاء والانهماك في الشهوات، والإسراف مجاوزة الحد وسموا أولئك مسرفين لما أن الله تعالى إنما أعطاهم القوى والمشاعر ليصرفوها إلى مصارفها ويستعملوها فيما خلقت له من العلوم والأعمال الصالحة وهم قد صرفوها إلى ما لا ينبغي مع أنها رأس مالهم، وفاعل التزيين إما مالك الملك جل شأنه وإما الشيطان عليه اللعنة وقد مر تحقيق ذلك وكذلك فتذكر. وتعلق الآية الكريمة بما قبلها قيل من حيث أن في كل منهما إملاء للكفرة على طريقة الاستدراج بعد الإنقاذ من الشر المقرر في الأولى ومن الضر المقرر في الأخرى.
وذكر الإمام في وجه الانتظام مع الآية الأولى وجهين. الأول: أنه تعالى بين في الأولى أنه لو أنزل العذاب على العبد في الدنيا لهلك وأكد ذلك في هذه الآية حيث دلت على غاية ضعفه ونهاية عجزه. والثاني: أنه سبحانه أشار في الأولى إلى أن الكفرة يستعجلون نزول العذاب وبين جل شأنه في هذه أنهم كاذبون في ذلك الطلب حيث أفادت أنه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يكرهه فإنه يتضرع إلى الله تعالى في إزالته عنه انتهى. ولكل وجهة.
وفي الآية ذم لمن يترك الدعاء في الرخاء ويهرع إليه في الشدة واللائق بحال الكامل التضرع إلى مولاه في السراء والضراء فإن ذلك أرجى للإجابة ففي الحديث " تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ".
وأخرج أبو الشيخ عن أبي الدرداء قال: ادع الله تعالى يوم سرائك يستجب لك يوم ضرائك، وفي حديث للترمذي عن أبي هريرة، ورواه الحاكم عن سلمان وقال صحيح الإسناد " من سره أن يستجيب الله تعالى له عند الشدائد والكروب فليكثر الدعاء في الرخاء " والآثار في ذلك كثيرة.
* (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجآءتهم رسلهم بالبين‍ات وما كانوا ليؤمنوا كذالك نجزي القوم المجرمين) *
* (ولقد أهلكنا القرون) * مثل
80

قوم نوح. وعاد. وثمود، وهو جمع قرن بفتح القاف أهل كل زمان مأخوذ من الاقتران كأن أهل ذلك الزمان اقترنوا في أعمالهم وأحوالهم، وقيل: القرن أربعون سنة وقيل: ثمانون وقيل مائة وقيل هو مطلق الزمان، والمراد هنا المعنى الأول وكذا في قوله صلى الله عليه وسلم: " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم " وقوله:
إذا ذهب القرن الذي أنت فيهم * وخلفت في قرن فأنت غريب
* (من قبلكم) * أي من قبل زمانكم، والخطاب لأهل مكة على طريقة الالتفات للمبالغة في تشديد التهديد بعد تأييده بالتوكيد القسمي، والجار والمجرور متعلق بأهلكنا، ومنع أبو البقاء كونه حالا من القرون * (لما ظلموا) * أي حين فعلوا الظلم بالتكذيب والتمادي في الغي والضلال، والظرف متعلق بأهلكنا وجعل لما شرطية بتقدير جواب هو أهلكناهم بقرينة ما قبله تكلف لا حاجة إليه وقوله سبحانه: * (وجاءتهم رسلهم) * حال من ضمير * (ظلموا) * باضمار قد وقوله تعالى: * (بالبينات) * متعلق بجاءتهم على أن الباء للتعدية أو بمحذوف وقع حال من * (رسلهم) * دالة على إفراطهم في الظلم وتناهيهم في المكابرة أي ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلهم بالآيات البينة الدالة على صدقهم أو متلبسين بها حين لا مجال للتكذيب، وجوز أبو البقاء وغيره عطفه على * (ظلموا) * فلا محل له من الاعراب أو محله الجر وذلك عند من يرى إضافة الظرف إلى المعطوف عليه، والترتيب الذكرى لا يجب أن يكون حسب الترتيب الوقوعي كما في قوله تعالى: * (ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا) * (يوسف: 100) ولا حاجة إلى هذا الاعتذار بناء على أن الظلم ليس منحصرا في التكذيب بل هو محمول على سائر أنواع الظلم، والتكذيب مستفاد من قوله تعالى: * (وما كانوا ليؤمنوا) * على أبلغ وجه وآكده لأن اللام لتؤكيد النفي.
وهذه الجملة على الأول عطف على * (ظلموا) * وليس من العطف التفسيري في شيء على ما قاله صاحب الكشف خلافا للطيبي لأن الأولى أخبار باحداق التكذيب وهذه أخبار بالإصرار عليه، وعلى الثاني عطف على ما عطف عليه، وقيل: اعتراض للتأكيد بين الفعل وما يجري مجرى مصدره التشبيهي أعني قوله سبحانه: * (كذالك) * فإن الجزاء المشار إليه عبارة عن مصدره أي مثل ذلك الجزاء الفظيع أي الاهلاك الشديد الذي هو الاستئصال بالمرة * (نجزي القوم المجرمين) * أي كل طائفة مجرمة فيشمل القرون، وجعل ذلك عبارة عنهم غير مناسب للسياق. وقرىء * (يجزي) * بياء الغيبة التفاتا من التكلم في * (أهلكنا) * إليها. وحاصل المعنى على تقدير العطف أن السبب في إهلاكهم تكذيبهم الرسل وأنهم ما صح وما استقام لهم أن يؤمنوا لفساد استعدادهم وخذلان الله تعالى إياهم، ويقتصر على الأمر الأول في بيان الحاصل على تقدير الاعتراض، وذكر الزمخشري بدل الأمر الثاني علم الله تعالى أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجة ببعثة الرسل عليهم السلام وجعل بيانا على التقديرين وفيه ما يحتاج إلى الكشف فتدبره. وتعليل عدم الإيمان بالخذلان ونحوه ظاهر، وكلام القاضي صريح في تعليله أيضا بعلم الله تعالى أنهم يموتون على الكفر. واعترض بأنه مناف لقولهم: إن العلم تابع للمعلوم، وتكلف بعض الفضلاء في تصحيحه ما تكلف ولم يأت بشيء. وقال بعض المحققين:
81

معنى كون العلم تابعا للمعلوم أن علمه تعالى في الازل بالمعلوم المعين الحادث تابع لماهيته بمعنى أن خصوصية العلم وامتيازه عن سائر العلوم إنما هو باعتبار أنه علم بهذه الماهية، وأما وجود الماهية وفعليتها فيما لا يزال فتابع لعلمه الأزلي التابع لماهيته بمعنى أنه تعالى لما علمها في الأزل على هذه الخصوصية لزم أن تتحقق وتوجد فيما لا يزال على هذه الخصوصية فنفس موتهم على الكفر وعدم إيمانهم متبوع لعلمه تعالى الأزلي ووقوعه تابع له وهذا مما لا شبهة فيه وهو مذهب أهل السنة رحمهم الله تعالى وبه ينحل إشكالات كثيرة فليحفظ. وذكر مولانا الشيخ إبراهيم الكوراني أن معنى كون العلم تابعا للمعلوم أنه متعلق به كاشف له على ما هو عليه وبني على ذلك كون الماهيات ثابتة غير مجعولة في ثبوتها، والقول بالتبعية المذكورة مما ذهب إليه الشيخ الأكبر قدس سره ونازع في ذلك عبد الكريم الجيلي. وقال الشيخ محمد عمر البغدادي عليه الرحمة: إن كون العلم تابعا للمعلوم بالنظر إلى حضرة الأعيان القديمة التي أعطت الحق العلم التفصيلي بها وأما بالنظر إلى العلم الإجمالي الكلي فالمعلوم تابع للعلم لأن الحق تعالى لما تجلى من ذاته لذاته بالفيض الأقدس حصلت الأعيان واستعداداتها فلم تحصل عن جهل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وحينئذ فلا مخالفة بين الشيخ الأكبر قدس سره والجيلي، على أنه إن بقيت هناك مخالفة فالحق مع الشيخ لأن الجيلي بالنسبة إليه نحلت تدندن حول الحمى، والدليل أيضا مع الشيخ كنار على علم لكنه قد أبعد رضي الله تعالى عنه الشوط بقوله: العلم تابع للمعلوم والمعلوم أنت وأنت هو والبحث وعر المسلك صعب المرتقى وتمام الكلام فيه يطلب من محله.
واستفادة معنى العلم هنا على ما قيل من التأكيد الذي أفادته اللام، وفي الآية وعيد شديد وتهديد أكيد لأهل مكة لأنهم وؤولئك المهلكين مشتركون فيما يقتضي الإهلاك، ويعلم مما تقرر أن ضمير * (كانوا) * للقرون وهو ظاهر، وجوز مقاتل أن يكون الضمير لأهل مكة وهو خلاف الظاهر، وكذا جوز كون المراد بالقوم المجرمين أهل مكة على طريقة وضع الظاهر موضع ضمير الخطاب إيذانا بأنهم أعلام في الإجرام وذكر * (القوم) * إشارة إلى أن العذاب عذاب استئصال.
والتشبيه على هذا ظاهر إذ المعنى يجزيكم مثل جزاء من قلبكم، وأما على الأول فهو على منوال * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) * (البقرة: 143) وأضرا به وفيه بعد أيضا بل قال بعض المحققين: يأباه كل الاباء قوله سبحانه:
* (ثم جعلن‍اكم خل‍ائف فى الارض من بعدهم لننظر كيف تعملون) *
* (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم) * فإنه صريح في أنه ابتداء تعرض لأمورهم وإن ما بين فيه مبادي أحوالهم لاختبار كيفية أعمالهم على وجه يشعر باستمالتهم نحو الإيمان والطاعة فمحال أن يكون ذلك إثر بيان منتهى أمرهم وحطابهم ببت القول باهلاكهم لكمال إجرامهم والعطف على قوله تعالى: * (ولقد أهلكنا لا على ما قبله، والمعنى ثم استخلفناكم في الأرض بعد إهلاك أولئك القرون التي تسمعون أخبارها وتشاهدون آثارها * (لننظر كيف تعملون) * أي لنعلم أي عمل تعملون فكيف مفعول مطلق لتعلمون، وقد صرح في المغنى بأن كيف تأتي كذلك وأن منه * (كيف فعل ربك) * (الفجر: 6) وليست معمولة * (لننظر) * لأن الاستفهام له
الصدارة فيمنع ما قبله من العمل فيه، ولذا لزم تقديمه على عامله هنا.
وقيل: محلها النصب على الحال من ضمير * (تعملون) * كما هو المشهور فيها إذا كان بعدها فعل نحو كيف ضرب زيد أي على أي حال تعملون الأفعال اللائقة بالاستخلاف من أوصاف الحسن، وفيه من المبالغة في
82

الزجر عن الأعمال السيئة ما فيه، وقيل: محلها النصب على أنها مفعول به لتعملون أي أي عمل تعملون خيرا أو شرا، وقد صرحوا بمجيئها كذلك أيضا، وجعلوا من ذلك نحو كيف ظننت زيدا، وبما ذكر فسر الزمخشري الآية، وتعقبه القطب بما تعقبه ثم قال: ولعله جعل كيف ههنا مجازا بمعنى أي شيء لدلالة المقام عليه.
وذكر بعض المحققين أن التحقيق أن معنى كيف السؤال عن الأحوال والصفات لا عن الذوات وغيرها فالسؤال هنا عن أحوالهم وأعمالهم ولا معنى للسؤال عن العمل إلا عن كونه حسنا أو قبيحا وخيرا أو شرا فكيف ليست مجازا بل هي على حقيقتها، ثم إن استعمال النظر بمعنى العلم مجاز حيث شبه بنظر الناظر وعيان المعاين في تحققه، والكلام استعارة تمثيلية مرتبة على استعارة تصريحية تبعية، والمراد يعاملكم معاملة من يطلب العلم بأعمالكم ليجازيكم بحسبها كقوله تعالى: * (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) * (الملك: 2) وقيل يمكن أن يقال: المراد بالعلم المعلوم فحينئذ يكون هذا مجازا مرتبا على استعارة، وأيا ما كان فلا يلزم أن لا يكون الله سبحانه وتعالى عالما بأعمالهم قبل استخلافهم، وليس مبني تفسير النظر بالعلم على نفي الرؤية كما هو مذهب بعض القدرية القائلين بأنه جل شأنه لا يرى ولا يرى فأنا ولله تعالى الحمد ممن يقول: إنه تبارك وتعالى يرى ويري والشروط في الشاهد ليست شروطا عقلية كما حقق في موضعه، وان الرؤية صفة مغايرة للعلم وكذا السمع أيضا، وممن يقول أيضا: إن صور الماهيات الحادثة مشهودة لله تعالى أزلا في حال عدمها في أنفسها في مرايا الماهيات الثابتة عنده جل شأنه بل هو مبني على اقتضاء المعنى له فإنك إذا قلت: أكرمتك لأرى ما تصنع فمعناه أكرمتك لأختبرك وأعلم صنعك فأجازيك عليه، ومن هنا يعلم أن حمل النظر على الانتظار والتربص كما هو أحد معانيه ليس بشيء، وبعض الناس حمل كلام بعض الأفاضل عليه وارتكاب شططا وتكلم غلطا.
* (هذا) * وقرىء * (لنظر) * بنون واحدة وتشديد الظاء ووجه ذلك أن النون الثانية قلبت ظاءا وأدغمت [بم وقوله تعالى:
* (وإذا تتلى عليهم ءاي‍اتنا بينات قال الذين لا يرجون لقآءنا ائت بقرءان غير ه‍اذآ أو بدله قل ما يكون لىأن أبدله من تلقآء نفسىإن أتبع إلا ما يوحىإلى إنىأخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم) *
* (وإذا تتلى عليهم ءاي‍اتنا بين‍ات) * التفات من خطابهم إلى الغيبة إعراضا عنهم وتوجيها للخطاب إلى سيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم بتعديد جناياتهم المضادة لما أريد منهم بالاستخلاف من التكذيب والكفر بالآيات البينات وغير ذلك كدأب من قبلهم من القرون المهلكة، وصيغة المضارع للدلالة على تحدد جوابهم الآتي حسب تجدد التلاوة، والمراد بالآيات الآيات الدالة على التوحيد وبطلان الشرك.
وقيل: ما هو أعم من ذلك. والإضافة لتشريف المضاف والترغيب في الإيمان به والترهيب عن تكذيبه ونصب * (بينات) * على الحال أي حال كونها واضحات الدلالة على ما تضمنته، وإيراد فعل التلاوة مبنيا للمفعول مسندا إلى الآيات دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ببنائه للفاعل للاشعار بعدم الحاجة لتعيين التالي وللإيذان بأن كلامهم في نفس المتلو ولو تلاه رجل من إحدى القريتين عظيم * (قال الذين لا يرجون لقاءنا) * وضع الموصول موضع الضمير إشعارا بعلية ما حيز الصلة المعظمة المحكية عنهم وذما لهم بذلك أي قالوا لمن يتلوها عليهم وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم * (ائت بقرءان غير هذا) * أشاروا بهذا إلى القرآن المشتمل على تلك الآيات لا إلى أنفسها فقط قصدا إلى إخراج الكل من البين أي ائت بكتاب آخر نقرؤه
83

ليس فيه ما نستبعده من البعث وتوابعه أو ما نكرهه من ذم آلهتنا والوعيد على عبادتها * (أو بدله) * بأن تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية أخرى، ولعلهم إنما سألوا ذلك كيدا وطمعا في إجابته عليه الصلاة والسلام ليتوسلوا إلى الإلزام والاستهزاء وليس مرادهم أنه عليه الصلاة والسلام لو أجابهم آمنوا * (قل) * أيها الرسول لهم * (ما يكون لي أن أبدله) * المصدر فاعل يكون وهي من كان التامة وتفسر بوجد ونفي الوجود قد يراد به نفي الصحة فإن وجود ما ليس بصحيح كلا وجود، فالمعنى هنا ما يصح لي أصلا تبديله دمن تلقاء نفسي) * أي من جهتي ومن عندي. وأصل تلقاء مصدر على تفعال التاء ولم يجيء مصدر بكسرها غيره وغير تبيان في المشهور.
وقرىء شاذا بالفتح وهو القياس في المصادر الدالة على التكرار كالتطواف والتجوال، وقد خرج هنا من ذلك إلى الظرفية المجازية، والجر بمن لا يخرج الظرف عن ظرفيته ولذا اختصت الظروف الغير المتصرفة كعند بدخولها عليها. ومن الناس من وهم في ذلك وقصر الجواب ببيان امتناع ما اقترحوه على اقتراحهم الثاني للإيذان بأن استحالة ما اقترحوه أولا من الظهور بحيث لا حاجة إلى بيانها ولأن ما يدل على استحالة الثاني يدل على استحالة الأول بالطريق الأولى فهو بحسب المآل والحقيقة جواب عن الأمرين * (إن أتبع) * أي ما اتبع فيما آتى وأذر * (إلا ما يوحى إلي) * من غير تغيير له في شيء أصلا على معنى قصر حاله عليه الصلاة والسلام على أتباع ما يوحى لا قصر اتباعه على ما يوحي إليه كما هو المتبادر من ظاهر العبارة فكأنه قيل: ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلي، والجملة مستأنفة بيانا لما يكون فإن من شأنه اتباع الوحي على ما هو عليه لا يستقل بشيء دونه أصلا، وفي ذلك على ما قيل جواب لنقض مقدر وهو أنه كيف هذا وقد نسخ بعض الآيات ببعض، ورد لما عرضوا له بهذا السؤال من أن القرآن كلامه صلى الله عليه وسلم، وكذا تقييد التبديل في الجواب بقوله: * (من تلقاء نفسي) * لرد تعريضهم بأنه من عنده عليه الصلاة والسلام ولذلك أيضا سماه عصيانا عظيما مستتبعا لعذاب عظيم بقوله عز وجل: * (إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) * وهو تعليل لمضمون ما قبله من امتناع التبديل واقتصار أمره صلى الله عليه وسلم على أتباع الوحي أي إني أخاف إن عصيته تعالى بتعاطي التبديل والإعراض عن الوحي عذاب يوم عظيم هو يوم القيامة
ويوم اللقاء الذي لا يرجونه، وفيه إيماء بأنهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح لأن اقتراح ما يوجبه يستوجبه أيضا وإن لم يكن كفعله، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة لضميره عليه الصلاة والسلام لتهويل أمر العصيان وإظهار كمال نزاهته صلى الله عليه وسلم، وفي إيراد اليوم بالتنوين التفخيمي ووصفه بعظيم ما لا يخفى ما فيه من العذاب وتفظيعه، وجوز العلامة الطيبي كون الجواب المذكور جوابا عن الاقتراحين من غير حاجة إلى شيء وذلك بحمل التبديل فيه على ما يعم تبديل ذات بذات أخرى كبدلت الدنانير دراهم وهو الذي أشاروا إليه بقولهم: * (ائت بقرآن غير هذا) * وتبديل صفة بصفة أخرى كبدلت الخاتم حلقة وهو الذي أشاروا إليه بقولهم: * (أو بدله) *. وأورد عليه بأن تقييد التبديل بقوله سبحانه: * (من تلقاء نفسي) * يمنع حمله على الأعم لأنه يشعر بأن ذلك مقدور له صلى الله عليه وسلم ولكن لا يفعله بغير إذنه تعالى والتبديل الذي أشاروا إليه أولا غير مقدور له عليه الصلاة والسلام حتى أن المقترحين يعلمون استحالة ذلك لكن اقترحوه
84

لما مر وقالوا: لو شئنا لقلنا مثل هذا مكابرة وعنادا، ثم أن الظاهر أنهم اقترحوا التبديل والإتيان بطريق الافتراء قيل: لا مساغ للقول بأنهم اقترحوا ذلك من جهة الوحي فكأنهم قالوا: ائت بقرآن غير هذا أو بدله من جهة الوحي كما أتيت بالقرآن من جهته ويكون معنى قوله: * (ما يكون لي) * الخ ما يتسهل لي ولا يمكنني أن أبدله لما في الكشاف من أن قوله: * (إني أخاف إن عصيت ربي) * يرد ذلك، ووجه بأنهم لم يطلبوا ما هو عصيان على هذا التقدير حتى يقول في جوابهم ما ذكر، ونظر فيه بأن الطلب من غير اذن عصيان فإن لم يحمل ما يتسهل لي على أن ذلك لكونه غير مأذون كان الجواب غير مطابق لسؤالهم لأن السؤال عن تبديل من الله تعالى وهو عليه الصلاة والسلام قال: لا يمكنني التبديل من تلقاء نفسي في الجواب وإن حمل عليه فالعصيان أيضا منزل عليه، وأجيب بأن صاحب الكشاف حمل * (ما يكون) * على أنه لا يمكن ولا يتسهل والعصيان يقع على الممكن المقدور لا أنهم طلبوا ما هو عصيان أو ليس والمطابقة حاصلة بل أشدها لأن الحاصل أما التبديل من تلقاء نفسي فغير ممكن وأما من قبل الوحي فأنا تابع غير متبوع. نعم لا ينكر أنه يمكن أن يأتي وجه آخر بأن يحمل على أنه لا يحل لي ذلك دون إذن وصاحب الكشاف لم ينفه.
وذكر بعض المحققين أنه لا مساغ لحمل مقترحهم على ما هو من جهة الوحي لمكان التعليل بأني أخاف الخ إذ المقصود بما ذكر فيه معصية الافتراء كما يرشد إلى ذلك صريح ما بعده من الآيتين الكريمتين وحينئذ لا يتحقق فيه تلك المعصية، ومعصية استدعاء تبديل ما اقتضته الحكمة التشريعية لا سيما بموجب اقتراح الكفرة ليست مقصودة فلا ينفع تحققها، وهو كلام وجيه يعلم منه ما في الكلام السابق من النظر. بقي أنه يفهم من بعض الآثار أنهم طلبوا الاتيان من جهة الوحي فعن مقاتل أن الآية نزلت في خمسة نفر عبد الله بن أمية المخزومي. والوليد بن المغيرة. ومكرز بن حفص. وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري. والعاص بن عامر بن هشام قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت تريد أن نؤمن من لك فائت بقرآن ليس فيه ترك عبادة اللات والعزى ومنات وليس فيه عيبها وإن لم ينزل الله تعالى عليك فقل أنت من نفسك أو بدله فاجعل مكان آية عذاب رحمة ومكان حرام حلالا ومكان حلالا حراما، وربما يقال: إن هذا على تقدير صحته لا يأبى أن يكون ما في الأية ما أشار إليه تالى الشرطية الثانية من كلامهم فتدبر [بم وقوله سبحانه:
* (قل لو شآء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون) *
* (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم) * تحقيق لحقية القرآن وأنه من عنده سبحانه أثر بيان بطلان ما اقترحوه على أتم وجه، وصدر بالأمر المستقل إظهارا لكمال الاعتناء بشأنه وإيذانا باستقلاله مفهوما وأسلوبا فإنه برهان دال على كونه يأمر الله تعالى ومشيئته كما ستعلمه إن شاء الله تعالى وما سبق مجرد إخبار باستحالة ما اقترحوه، ومفعول المشيئة محذوف ينبىء عنه الجزاء كما هو المطرد في أمثاله، ويفهم من ظاهر كلام بعضهم أنه غير ذلك وليس بذلك وهو ظاهر، والمعنى أن الأمر كله منوط بمشيئته تعالى وليس لي منه شيء أصلا ولو شاء سبحانه عدم تلاوتي له عليكم وعدم إدرائكم به بواسطتي بأن لم ينزله جل شأنه علي ولم يأمرني بتلاوته ما تلوته عليكم * (ولا أدراكم به) * أي ولا أعلمكم به بواسطتي والتالي وهو عدم التلاوة والإدراء منتف فينتفي المقدم وهو مشيئته العدم وهي مستلزمة لعدم مشيئته الوجود فانتفاؤه مستلزم لانتفائه وهو إنما يكون بتحقق مشيئة الوجود فثبت أن تلاوته عليه الصلاة والسلام للقرآن وإدراءه تعالى بواسطته بمشيئته تعالى.
85

وتقييد الإدراء بذلك هو الذي يقتضيه المقام وحيث اقتصر بعضهم في تقدير المفعول في الشرط على عدم التلاوة علل التقييد بأن عدم الاعلام مطلقا ليس من لوازم الشرط الذي هو عدم مشيئة تلاوته عليه الصلاة والسلام فلا يجوز نظمه في سلك الجزاء، ولم يظهر وجه الاقتصار على ذلك وعدم ضم عدم الإدراء إليه مع أن العطف ظاهر فيه، وفي إسناد عدم الإدراء إليه تعالى المنبىء عن استناد الإدراء إليه سبحانه أعلام بأنه لا دخل عليه الصلاة والسلام في ذلك حسبما يقتضيه المقام أيضا. وفي رواية أبي ربيعة عن ابن كثير * (ولأدراكم) * بلام التوكيد وهي الواقعة في جواب * (لو) * أب لو شاء الله ما تلوته عليكم ولأعلمكم به على لسان غيري على معنى أنه الحق الذي لا محيص عنه لو لم أرسل به لأرسل به غيري، وجيء باللام هنا للإيذان بأن إعلامهم به على لسان غيره صلى الله عليه وسلم أشد انتفاء وأقوى، ولعل * (لا) * في القراءة الأولى لأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع وإلا فهي لا تقع في جواب * (لو) * فلا يقال: لو قام زيد لا قام عمرو بل ما قام، ومن هنا نص السمين على أنها زائدة مؤكدة للنفي. وروي عن ابن عباس. والحسن. وابن سيرين أنهم قرأوا * (ولا أدرأتكم) * بإسناد الفعل إلى ضميره صلى الله عليه وسلم كالفعل السابق، والأصل ولا أدريتكم فقلت الياء ألفا على لغة من يقلب الياء الساكنة المفتوح ما قبلها ألفا وهي لغة بلحرث بن كعب وقبائل من اليمن حتى قلبوا ياء التثنية ألفا وجعلوا المثنى في جميع الأحوال على لفظ واحد وحكى ذلك قطرب عن عقيل.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر. وغيرهما عن الحسن أنه قرأ * (ولا أدرأتكم) * بهمزة ساكنة فقيل: إنها مبدلة من الألف المنقلبة عن الياء كما سمعت وقيل: إنها مبدلة من الياء ابتداء كما يقال في لبيت لبئت وعلى القولين هي غير أصلية، وجاء ذلك في بعض اللغات كما نص عليه غير واحد، وجوز أن تكون أصلية على أن الفعل من الدرء وهو الدفع والمنع ويقال أدرأته أي جعلته دارئا أي دافعا، والمعنى ولا جعلتكم بتلاوته خصماء تدرءونني بالجدال. وقرىء * (ولا أدراكم) * بالهمز وتركه
أيضا مع إسناد الفعل إلى ضمير الله تعالى. وأخرج سعيد بن منصور. وابن جرير أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان يقرأ دولا أنذرتكم به) * * (فقد لبثت فيكم عمرا) * نوع تعليل للملازمة المستلزمة لكون ذلك بمشيئة الله عز وجل حسبما مر آنفا واللبث الإقامة، ونصب * (عمرا) * على التشبيه بظرف الزمان والمراد منه مدة، وقيل: هو على تقدير مضاف أي مقدار عمر، وهو بضم الميم وقرأ الأعمش بسكونها للتخفيف، والمعنى قد أقمت فيما بينكم مدة مديدة وهي مقدار أربعين سنة تحفظون تفاصيل أحوالي وتحيطون خبرا بأقوالي وأفعالي * (من قبله) * أي من قبل نزول القرآن أو من قبل وقت نزوله، ورجوع المضير للتلاوة ليس بشيء لا أتعاطى شيئا مما يتعلق بذاك لا من حيث نظمه المعجز ولا من حيث معناه الكاشف عن أسرار الحقائق وأحكام الشرائع * (أفلا تعقلون) * أي ألا تلاحظون ذلك فلا تعقلون امتناع صدوره عن مثلي ووجوب كونه منزلا من عند الله العزيز الحكيم فإن ذلك غير خاف على من لهعقل سليم وذهن مستقيم بل لعمري أن من كان له أدنى مسكة من عقل إذا تأمل في أمره صلى الله عليه وسلم وأنه نشأ فيما بينهم هذا الدهر الطويل من غير مصاحبة العلماء في شأن من الشؤون ولا مراجعة إليهم في فن من الفنون ولا مخالطة
86

للبلغاء في المحاورة والمفاوضة ولا خوض معهم في إنشاء الخطب والمعارضة ثم أتى بكتاب بهرت فصاحته كل ذي أدب وحيرت بلاغته مصاقع العرب واحتوى على بدائع أصناف العلوم ودقائق حقائق المنطوق والمفهوم وغدا كاشفا عن أسرار الغيب التي لا تنالها الظنون ومعربا عن أقاصيص الأولين وأحاديث الآخرين من القرون ومصدقا لما بين يديه من الكتب المنزلة ومهيمنا عليها في أحكامه المجملة والمفصلة لا يبقى عنده اشتباه في أنه وحي منزل من عند الله جل جلاله وعم أفضاله، هذا هو الذي اتفقت عليه كلمة الجمهور وهو أوفق بالرد عليهم كما لا يخفى على المتأمل.
وقيل: إن الأنسب ببناء الجواب فيما سلف على امتناع صدور التغيير والتبديل عنه عليه الصلاة والسلام لكونه معصية موجبة للعذاب العظيم واقتصاره صلى الله عليه وسلم على اتباع الوحي وامتناع الاستبداد بالرأي من غير تعرض هناك ولا هنا لكون القرآن في نفسه أمرا خراجا عن طوق البشر ولا بكونه عليه الصلاة والسلام غير قادر على الاتيان بمثله أن يستشهد ههنا بما يلائم ذلك من أحواله صلى الله عليه وسلم المستمرة في تلك المدة المتطاولة من كمال نزاهته عليه الصلاة والسلام عما يوهم شائبة صدور الكذب والافتراء عنه في حق أحد كائنا من كان كما ينبىء عنه تعقيبه بتظليم المفتري على الله تعالى، والمعنى قد لبثت فيما بين ظهرانيكم قبل الوحي لا أترض لأحد قط بتحكم ولا جدال ولا أحوم حول مقال فيه شائبة شبهة فضلا عما فيه كذب وافتراء ألا تلاحظونه فلا تعقلون أن من هذا شأنه المطرد في هذا العهد البعيد يستحيل أن يفتري على الله عز وجل ويتحكم على كافة الخلق بالأوامر والنواهي الموجبة لسلب الأموال وسفك الدماء وغير ذلك وإن ما أتى به وحي مبين تنزيل من رب العالمين انتهى.
وأنت تعلم أن هذا غير منساق إلى الذهن وأن الكلام الأول مشير في الجملة إلى كون القرآن أمرا خارجا عن طوق البشر وأنه صلى الله عليه وسلم غير قادر على الاتيان بمثله على أنه بعد لا يخلو عن مقال فتأمل [بم وقوله سبحانه:
* (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآي‍اته إنه لا يفلح المجرمون) *
* (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته) * استفهام انكاري معناه النفي أي لا أحد أظلم من ذلك، ونفى الأظلمية كما هو المشهور كناية عن نفس المساواة فالمراد أنه أظلم من كل ظالم وقد مر تحقيق ذلك.
والآية مرتبطة بما قبلها على أن المقصود منها تفاديه صلى الله عليه وسلم مما لوحوا به من نسبة الافتراء على الله سبحانه إليه عليه الصلاة والسلام وحاشاه وتظليم للمشركين بتكذيبهم للقرآن وكفرهم به، وزيادة * (كذبا) * مع أن الافتراء لا يكون إلا كذلك للإيذان بأن ما لوحوا به ضمنا وحملوه عليه الصلاة والسلام عليه صريحا مع كونه افتراء على الله سبحانه كذب في نفسه فرب افتراء يكون كذبه في الإسناد فقط كما إذا أسندت ذنب زيد إلى عمرو وهذا للمبالغة منه صلى الله عليه وسلم في التفادي مما ذكر، والفاء لترتيب الكلام على ما سبق من بيان كون القرآن بمشيئته تعالى وأمره أي وإذا كان الأمر كذلك فمن افترى عليه سبحانه بأن يخلق كلاما فيقول: هذا من عند الله تعالى أو يبدل بعض آياته ببعض كما تجوزون ذلك في شأني، وكذلك من كذب بآياته جل شأنه كما تفعلونه أنتم أظلم من كل ظالم، وقيل: المقصود من الآية تظليم المشركين بافترائهم على الله تعالى في قولهم: إنه تعالى عما يقولون ذو شريك وذو ولد وتكذيبهم بآياته سبحانه، وهي مرتبطة أما بما قلبها أيضا على معنى أني لم أفتر على الله تعالى ولمأكذب عليه وقد قام الدليل على ذلك وأنتم قد فعلتم ذلك حيث زعمتم أن لله تعالى شريكا وان له
87

ولدا وكذبتم نبيه صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عنده سبحانه وأما بقوله تعالى: * (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا) * (يونس: 13) الخ على أن يكون قوله تعالى: * (ثم جعلناكم خلائف) * وقوله سبحانه: * (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات) * (يونس: 15) إلى هنا اعلاما بأن المشركين الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستنوا بسنن من قبلهم في تكذيب آيات الله تعالى والرسل عليهم الصلاة والسلام ويكون هذا عودا إلى الأول بعد الفراغ من قصة المشركين، وقيل: وجه تعلقها بمت تقدم أنهم إنما سألوه صلى الله عليه وسلم تبديل القرآن لما فيه من ذم آلهتهم الذين افتروا في جعلها آلهة، وقيل: إن الآية توطئة لما بعدها ولا يخفى أن الأول هو الأنسب بالمقام وأوفق بالفاء وأبعد عن التكلف وأقرب انسياقا إلى الذهن السليم * (أنه) * أي الشأن * (لا يفلح المجرمون) * أي لا ينجون من محذور ولا يفوزون بمطلوب، والمراد جنس المجرمين فيندرج فيه المفتري والمكذب اندراجا أوليا، ولا يخفى ما في اختيار ضمير الشأن من الاعتناء بشأن ما يذكر بعده من أول الأمر.
* (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون ه‍اؤلاء شفع‍اؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم فى السم‍اوات ولا فى الارض سبحانه وتعالى عما يشركون)
*
* (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم) * حكاية لجناية أخرى لهم وهي عطف على قوله سبحانه: * (وإذا تتلى عليهم) * الآية عطف قصة على قصة، و * (من دون) * في موضع الحال من فاعل * (يعبدون) * أي متجاوزين الله تعالى إما بمعنى ترك عبادته سبحانه بالكلية لأنها لا تصح ولا تقع عبادة مع الشركة أو بمعنى عدم الاكتفاء بها وجعلها قريبا لعبادة غيره سبحانه كما اختاره البعض، و * (ما) * إما موصولة أو موصوفة، والمراد بها الأصنام، ومعنى كونها لا تضر ولا تنفع أنها لا تقدر على ذلك لأنها جمادات، والمقصود من هذا الوصف نفي صحة معبوديتها لأن من شأن المعبود القدرة على ما ذكر، وقيل: المعنى لا تضرهم إن تركوا عبادتها ولا تنفعهم إن عبدوها والمقصود أيضا نفي صحة معبوديتها لأن من شأن المعبود أن يثبت عابده ويعاقب من لم يعبده، والفرق بين التفسيرين على ما قاله القطب اطلاق النفع والضر في الأول والتقييد بالعبادة وتركها في الثاني، وقيل: المقصود على الأول من الموصول الأصنام بعينها وعلى الثاني فاقد أوصاف المعبودية، ويجوز أن يدخل فيه غير الأصنام من الملائكة والمسيح عليهم السلام، والظاهر أن المراد هنا الأصنام لأن العرب إنما كانوا يعبدونها وكان أهل الطائف يعبدون اللات وأهل مكة العزى ومناة وهبل وأسافا ونائلة * (ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) * أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: كان النضر بن الحرث يقول: إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى وفيه نزلت الآية.
والظاهر أن سائر المشركين كانوا يقولون هذا القول، ولعل ذلك منهم على سبيل الفرض والتقدير أي إن كان بعث كما زعمتم فهؤلاء يشفعون لنا، فلا يقال: إن المتبادر من الشفاعة عند الله تعالى أنه في الآخرة وهو مستلزم للبعث وهم ينكرونه كما يدل عليه قوله تعالى: * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت) * (النور: 53) وكذا ما تقدم آنفا من قوله سبحانه: * (قال الذين لا يرجون لقاءنا) * (يونس: 15) فيلزم المنافاة بين مفاهيم الآيات، وكأنه لذلك قال الحسن عليه الرحمة: إنهم أرادوا من هذه الشفاعة الشفاعة في الدنيا لإصلاح المعاش، وحينئذ لا منافاة والجمهور على الأول، ومن سبر حال القوم رآهم مترددين ولذلك اختلفت كلماتهم، ونسبة الشفاعة للأصنام قيل باعتبار السببية وذلك لأنهم كما هو المشهور وضعوها على صور رجال صالحين ذوي خطر عندهم وزعموا
88

أنهم متى اشتغلوا بعبادتها فإن أولئك الرجال يشفعون لهم، وقيل: إنهم كانوا يعتقدون أن المتولي لكل إقليم روح معين من أرواح الأفلام فعينوا لذلك الروح صنما من الأصنام واشتغلوا بعبادتها قصدا إلى عبادة الكواكب وقيل: غير ذلك، والحق أن من الأصنام ما وضع على الوجه الأول ومنها ما وضع لكونها كالهياكل للروحانيات * (قل) * تبكيتا لهم * (أتنبؤن الله بما لا يعلم) * أي أتخبرونه سبحانه بما لا وجود له ولا تحقق أصلا وهو كون الأصنام شفعاءهم عنده جل شأنه فإن ما لا يعلمه علام الغيوب المحيط علمه بالكليات والجزئيات لا يكون له تحقق بالكلية، وذكروا أن مثل ذلك لا يسمى شيئا بناء على أنه كما قال سيبويه ما يصح أن يعلم ويخبر عنه وهو يشمل الموجود والمعدوم كما حققه بعض أصحابنا كالمعتزلة وسموا ما لا يعلم بالمنفي كالشريك وكاجتماع الضدين، وحقق ذلك الشيخ إبراهيم الكورابي في رسالة مستقلة أتى فيها بالعجب العجاب، ويجوز أن يراد بالموصول أن له سبحانهش ريكا والمقصود على الوجهين من ذكر إنباء الله تعالى بما لا تحقق له ولم يتعلق به علمه التهكم والهزء بهم وإلا فلا إنباء، وقوله سبحانه: * (في السموات ولا في الأرض) * في موضع الحال من العائد المحذوف أي بما لا يعلمه كائنا في ذلك، والمقصود منه تأكيد النفي المدلول عليه بما قبله فإنه قد جرى في العرف أن يقال عند تأكيد النفي للشيء ليس هذا في السماء ولا في الأرض لاعتقاد العامة أن كل ما يوجد إما في السماء وإما في الأرض كما هو رأى المتكلمين في كل ما سوى الله تعالى إذ هو سبحانه المعبود المنزه عن الحلول في المكان، والآيات التي ظاهرها ذلك من المتشابه والمذاهب فيه شهيرة، وهذا إذا أريد بالسماء والأرض جهتا العلو والسفل، وقيل: الكلام إلزامي لزعم المخاطبين الكافرين أن الأمر كذلك، وقيل: إن معنى الآية أتخبرونه تعالى بشريك أو شفيع لا يعلم شيئا في السموات ولا في الأرض كما في قوله تعالى: * (ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض) * (النحل: 73) وليس بشيء * (سبحانه وتعالى عما يشركون) * أي عن إشراكهم المستلزم لتلك المقالة الباطلة أو عن شركائهم الذين يعتقدونهم شركاء، وقرىء * (أتنبئون) * بالتخفيف، وقرأ حمزة. والكسائي * (تشركون) * بتاء الخطاب على أنه من جملة القول المأمور به، وعلى الأول هو اعتراض تذييلي من جهته سبحانه وتعالى.
* (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون) *
* (وما كان الناس إلا أمة واحدة) * أي وما كان الناس كافة من أول الأمر إلا متفقين على الحق والتوحيد من غير اختلاف، وروي هذا عن ابن عباس. والسدي. ومجاهد. والجبائي. وأبي مسلم، ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه * (وما كان الناس إلا أمة واحدة على هدى) * وذلك من عهد آدم عليه الصلاة والسلام إلى أن قتل قابيل هابيل، وقييل: إلى زمن إدريس عليه الصلاة والسلام، وقيل: إلى زمن نوح عليه الصلاة والسلام، وكانوا عشرة قرون، وقيل: كانوا كذلك في زمنه عليه الصلاة والسلام بعد أن لم يبق على الأرض من الكافرين ديار إلى أن ظهر بينهم الكفر، وقيل: من لدن إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى أن أظهر عمرو بن لحى عبادة الأصنام وهو المروي عن عطاء، وعليه فالمراد من * (الناس) * العرب خاصة وهو الأنسب بإيراد الآية الكريمة إثر حكاية ما حكى منهم من الهنات وتنزيه ساحة الكبرياء عن ذلك.
89

* (فاختلفوا) * بأن كفر بعضهم وثبت الآخرون على ما هم عليه فخالف كل من الفريقين الآخر، والفاء للتعقيب وهي لا تنافي امتداد زمان الاتفاق إذ المراد بيان وقوع الاختلاف عقيب انصرام مدة الاتفاق لا عقيب حدوثه * (ولولا كلمة سبقت من ربك) * بتأخير القضاء بينهم أو العذاب الفاصل بينهم إلى يوم القيامة فإنه يوم الفصل والجزء * (لقضي بينهم) * عاجلا * (فيما فيه يختلفون) * بأن ينزل عليهم آيات ملجئة إلى اتباع الحق ورفع الاختلاف أو بأن يهلك المبطل ويبقى المحق، وصيغة الاستقبال لحكاية الحال الماضية والدلالة على الاستمرار، ووجه ارتباط الآية بما قبلها أنها كالتأكيد لما أشار إليه من أن التوحيد هو الدين الحق حيث أفادت أنه ملة قديمة
اجتمعت عليها الأمم قاطبة وأن الشرك وفروعه جهالات ابتدعها الغواة خلافا للجمهور وشقا لعصا الجماعة، وقيل: وجه ذلك أنه سبحانه بين فيما قبل فساد القوم بعبادة الأصنام وبين في هذه أن هذا المذهب ليس مذهبا للعرب من أول الأمر بل كانوا على الدين الحق الخالي عن عبادة الأصنام وإنما حدثت فيهم عبادتها بتسويل الشياطين.
قيل: والغرض من ذلك أن العرب إذا علموا أن ما هم عليه اليوم لم يكن من قبل فيهم وإنما حدث بعد أن لم يكن لم يتعصبوا لنصرته ولم يتأذوا من تزييفه وإبطاله. وعن الكلبي أن معنى كونهم أمة واحدة اتفاقهم على الكفر وذلك في زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وروى مثله عن الحسن إلا أنه قال: كانوا كذلك من لدن وفاة آدم إلى زمن نوح عليهما السلام ثم آمن من آمن وبقي من بقي على الكفر. وفائدة إيراد هذا الكلام في هذا المقام تسليته صلى الله عليه وسلم كأنه قيل: لا تطمع في أن يصير كل من تدعوه إلى الإيمان والتوحيد مجيبا لك قابلا لدينك فإن الناس كلهم كانوا على الكفر وإنما حدث الإيمان في بعضهم بعد ذلك فكيف تطمع في اتفاق الكل عليه. واعترض بأنه يلزم على هذا خلو الأرض في عصر عن مؤمن بالله تعالى عارف به وقد قالوا: إن الأرض في كل وقت لا تخلو عن ذلك. وأجيب بأن عدم الخلو في حيز المنع فقد ورد في بعض الآثار أن الناس قبل يوم القيامة ليس فيهم من يقول الله الله، وعلى تقدير التسليم المراد بالاتفاق على الكفر اتفاق الأكثر.
والحق أن هذا القول في حد ذاته ضعيف فلا ينبغي التزام دفع ما يرد عليه، وأضعف منه بل لا يكاد يصح كون المراد أنهم كانوا أمة واحدة فاختلفوا بأن أحدث كل منهم ملة على حدة من ملل الكفر مخالفة لملة الآخر لأن الكلام ليس في ذلك الاختلاف إذ كل من الفريقين مبطل حينئذ فلا يتصوران يقضي بينهما بإبقاء المحق وإهلاك المبطل أو بإلجاء أحدهما إلى اتباع الحق ليرتفع الاختلاف كما لا يخفى هذا.
ومن باب الإشارة في الآيات: * (الر) * (يونس: 1) إشارة إلى الذات الذي هو أول الوجود و * (ل) * إشارة إلى العقل المسمى جبريل عليه السلام وهو أوسط الوجود الذي يستفيض من المبدأ ويفيض إلى المنتهى، و * (ر) * إشارة إلى الرحمة التي هي الذات المحمدية وهي في الحقيقة أول ووسط آخر لكن الاعتبارات مختلفة، وكأن ذلك قسم منه تعالى بالحقيقة المحمدية على أن ما تضمنته السورة أو القرآن من الآي آيات الكتاب المتقن وقيل: المعنى ما أشير إليه بهذه الأحرف أركان كتاب الكل ذي الحكمة أو المحكم ومعظم تفاصيله * (أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم) * أنكار لتعجبهم من سنة الله الجارية وهي الإيحاء إلى رجل، وكان ذلك لبعدهم عن مقامهم وعدم مناسبة حالهم لحاله ومنافاة ما جاء به لما اعتقدوه * (أن أنذر الناس) * أي خوفهم
90

من أن يشركوا بي شيئا * (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) * سابقة عظيمة وقربة ليس لأحد مثلها، وقيل: سابقة رحمة أودعها في محمد صلى الله عليه وسلم * (قال الكافرون) * أي المحجوبون عن الله تعالى * (إن هذا) * أي الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم * (لسحر مبين) * (يونس: 2) لما رأوه خارجا عن قدرهم واحتجبوا بالشيطنة عن الوقوف على حقيقة الحال قالوا ذلك * (إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام) * أي أوقات مقدار كل يوم منها دورة الفلك الأعظم مرة واحدة كما نص عليه الشيخ الأكبر والستة عدد تام واختاره الله تعالى لما فيه من الأسرار * (ثم استوى على العرش) * أي الملك * (يدبر الأمر) * على وفق حكمته بيد قدرته، وقد يفسر العرش بقلب الكامل فالكلام إشارة إلى خلق الإنسان الذي انطوى فيه العالم بأسره * (ما من شفيع) * يشفع لأحد بدفع ما يضره أو جلب ما ينفعه * (إلا من بعد إذنه) * بموهبة الاست، داد ثم بتوفيق الأسباب * (ذلكم) * الموصوف بهذه الصفات الجليلة * (الله ربكم) * الذي يريكم ويدبر أمركم فاعبدوه فخصوه بالعبادة واعرفوه بهذه الصفات ولا تعبدوا الشيطان ولا تحتجبوا عنه تعالى فتنسبوا قوله وفعله إلى الشيطان * (أفلا تذكرون) * (يونس: 3) آياته التي خطها بيد قدرته في صحائف الآفاق والأنفس فتتفكروا فيها وتنزجروا عن الشرك به سبحانه * (إليه مرجعكم جميعا) * بالعود إلى عين الجمع المطلق في القيامة الصغرى أو إلى عين جمع الذات بالفناء فيه تعالى عند القيامة الكبرى كذا قيل، وقال بعض العارفين: إن مرجع العاشقين جماله ومرجع العارفين جلاله ومرجع الموحدين كبرياؤه ومرجع الخائفين عظمته ومرجع المشتاقين وصاله ومرجع المحبين دنوه ومرجع أهل العناية ذاته، وقال الجنيد قدس سره في الآية: إنه تعالى منه الابتداء وإليه الانتهاء وما بين ذلك مرابع فضله وتواتر نعمه * (وعد الله حقا أنه يبدأ الخلق ثم يعيده) * أي يبدؤه في النشأة الأولى ثم يعيده في النشأة الثانية أو يبدأ الخلق باختفائه وإظهارهم ثم يعيده بإفنائهم وظهوره * (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) * (يونس: 4) أي يفعل ذلك ليجزي المؤمن والكافر على حسب ما يقتضيه عمل كل، * (هو الذي جعل الشمس ضياء) * أي جعل شمس الروح ضياء الوجود * (والقمر) * أي قمر القلب * (نورا وقدره منازل) * أي مقامات * (لتعلموا عدد السنين) * أي سني مراتبكم وأطواركم في المسير إليه وفيه تعالى: * (والحساب) * (يونس: 5) أي حساب درجاتكم ومواقع أقدامكم في كل مقام ومرتبة، ويقال: جعل شمس الذات ضياء للأرواح العارفة وجعل قمر الصفات نورا للقلوب العاشقة ففنيت الأرواح بصولة الذات في عين الذات وبقيت القلوب بمشاهدة الصفات في عين الصفات وهذه الشمس المشار إليها لا تغيب أصلا عن بصائر الأرواح ومن هنا قال قائلهم:
هي الشمس إلا أن للشمس غيبة * وهذا الذي نعنيه ليس يغيب
* (إن في اختلاف الليل) * أي غلبة ظلمة النفس على القلب * (والنهار) * أي نهار إشراق ضوء الروح عليه * (وما خلق الله في السموات) * أي سموات الأرواح * (والأرض) * أي أرض الأجساد * (لآيات لقوم يتقون) * (يونس: 6) حجب صفات النفس الأمارة * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم) * أي يوصلهم إلى الجنات الثلاث بحسب نور إيمانهم فقوله سبحانه: * (تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم) * (يونس: 9) كالبيان لذلك * (دعواهم) * الاستعدادي * (فيها) * أي في تلك الجنات * (سبحانك اللهم) * إشارة إلى تنزيهه تعالى والتنزيه في الأولى عن الشرك في الأفعال بالبراءة عن حولهم وقوتهم وفي الثانية عن الشرك في الصفات بالانسلاخ عن صفاتهم وفي الثالثة
91

عن الشرك في الوجود بفنائهم * (وتحيتهم) * أي تحية بعضهم لبعض أو تحية لله تعالى * (فيها سلام) * أي إفاضة أنوار التزكية وإمداد التصفية أو إشراق أنوار التجليات وإمداد التجريد وإزالة الآفات * (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) * (يونس: 10) أي آخر ما يقتضيه استعدادهم قيامهم بالله تعالى في ظهور كمالاته وصفات جلاله وجماله عليهم وهو الحمد الحقيقي منه وله سبحانه * (وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما) * أو استغرق أوقاته في الدعاء * (فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه) * (يونس: 12) هذا وصف الذين لم يدركوا حقائق العبودية في مشاهد الربوبية فإنهم إذا أظلم عليهم ليل البلاء قاموا إلى إيقاد مصباح التضرع فإذا انجلت عنهم الغياهب بسطوع أنوار فجر الفرج نسوا ما كانوا فيه ومروا كأن لم يدعوا مولاهم إلى كشف ما عناهم. كأن الفتى لم يعر يوما إذا اكتسى * ولم يك صعلوكا إذا ما تمولا
ولو كانوا عارفين لم يبرحوا دارة التضرع وإظهار العبودية بين يديه تعالى في كل حين * (وما كان الناس إلا أمة واحدة) * على الفطرة التي فطر الله الناس عليها متوجهين إلى التوحيد متنورين بنور الهداية الأصلية * (فاختلفوا) * بمقتضيات النشأة واختلاف الأمزجة والأهوية والعادات والمخالطات * (ولولا كلمة سبقت من ربك) * وهو قضاؤه سبحانه الأزلي بتقدير الآجال والأرزاق * (لقضى بينهم فيما فيه يختلفون) * (يونس: 19) بإهلاك المبطل وإبقاء المحق، والمراد أن حكمة الله تعالى اقتضت أن يبلغ كل منهم وجهته التي ولى وجهه إليها بأعماله التي يزاولها هو وإظهار ما خفي في نفسه وسبحان الحكيم العليم.
* (ويقولون لولا أنزل عليه ءاية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إنى معكم من المنتظرين) *
* (ويقولون) * حكاية لجناية أخرى لهم، وفي " الكشاف " تفسير المضارع بالماضي أي وقالوا وجعل ذلك إشارة إلى أن العطف ليس على * (ويقولون هؤلاء شفعاؤنا) * (يونس: 18) كما يقتضيه ظاهر اللفظ وإنما هو على قوله سبحانه: * (قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا) * (يونس: 15) وما بينهما اعتراض وأوثر المضارع على الماضي ليؤذن باستمرار هذه المقالة وأنها من دأبهم وعادتهم مع ما في ذلك من استحضار صورتها الشنيعة.
وجوز العطف على * (يعبدون) * وهو الذي اقتصر عليه بعض المحققين، وأبقى بعضهم الفعل على ظاهره وله وجه، والقائل كفار مكة * (لولا أنزل عليه آية من ربه) * أرادوا آية من الآيات التي اقترحوها كآية موسى. وعيسى عليهما السلام، ومعنى إنزالها عليه إظهار الله تعالى لها على يده صلى الله عليه وسلم، وطلبوا ذلك تعنتا وعنادا وإلا فقد أتى صلى الله عليه وسلم بآيات ظاهرة ومعجزات باهرة تعلو على جميع الآيات وتفوق سائر المعجزات لا سيما القرآن العظيم الباقي إعجازه على وجه الدهر إلى يوم القيامة، ولعمري لو أنصفوا لاستغنوا عن كل آية غيره عليه الصلاة والسلام فإنه الآية الكبرى ومن رآه وسبر أحواله لم يكد يشك في أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم * (فقل) * لهم في الجواب * (إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين) * وهو جواب على ما قرره الطيبي على الأسلوب الحكيم فإنهم حين طلبوا ما طلبوا مع وجود الآيات المتكاثرة دل على أن سؤالهم للتعنت كما علمت آنفا فأجيبوا بما أجيبوا ليؤذن بأن سؤالهم سؤال المقترحين يستحقون به نقمة الله تعالى وحلول عقابه، يعني أنه لا بد أن يستأصل شأفتكم لكن لا أعلم متى يكون وأنتم كذلك لأن ذلك من الغيب وهو مختص به تعالى لا يعلمه أحد غيره جل شأنه وإذا كان كذلك فانتظروا ما يوجبه اقتراحكم إني معكم من المنتظرين إياه، وقيل: إن المراد أنه تعالى هو المختص بعلم الغيب والصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب فلا يعلمه إلا هو، واعترض عليه بأنه معين وهو عنادهم قال تعالى: * (وما يشعركم إنها إذا جاءت لا يؤمنون) * (الأنعام: 109).
92

وأجيب بأنا لا نسلم أن عنادهم هو الصارف وقد يجاب المعاند والآية وإن دلت على بقائهم على العناد وإن جاءت لم تدل على أن العناد هو الصارف.
واختار بعض المحققين أن ما اقترحتموه وزعمتم أنه من لوازم النبوة وعلقتم إيمانكم بنزوله من الغيوب المختصة به سبحانه لا وقوف لي عليه فانتظروا نزوله إني معكم من المنتظرين لما يفعل الله تعالى بكم لاجترائكم على مثل هذه العظيمة من جحود الآيات، واقتراح غيرها، واعترض على ما قيل بأنه يأباه ترتيب الأمر بالانتظار على اختصاص الغيب به تعالى، والذي يخطر بالبال أن سؤال القوم قاتلهم الله تعالى متضمن لدعوى أن الصلاح في إنزال آية مما اقترحوا حيث لم يعتبروا ما نزل ولم يلتفتوا إليه فكأنهم قالوا: لا صلاح في نزول ما نزل وإنما الصلاح في إنزال آية مما نقترح فلولا نزلت وفي ذلك دعوى الغيب بلا ريب فأجيبوا بأن الغيب مختص بالله فهو الذي يعلم ما به الصلاح لا أنتم ولا غيركم ثم قال سبحانه: * (فانتظروا) * الخ على معنى وإذا كان علم الغيب مختصا بالله تعالى وقد ادعيتم من ذلك ما ادعيتم وطعنتم فيما طعنتم فانتظروا نزول العذاب بكم إني معكم من المنتظرين إياه، ولا يرد على هذا ما أورد على غيره ولا ما عسى أن يورد أيضا فتأمل.
* (وإذآ أذقنا الناس رحمة من بعد ضرآء مستهم إذا لهم مكر فىءاي‍اتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون) *
* (وإذا أذقنا الناس رحمة) * كالصحة والسعة * (من بعد ضراء مستهم) * أي خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم، وإسناد المساس إلى الضراء بعد إسناد الإذاقة إلى ضمير الجلالة من الآداب القرآنية كما في قوله تعالى: * (وإذا مرضت فهو يشفين) * (الشعراء: 80) ونظائره وينبغي التأدب في ذلك ففي الخبر " اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك " والمراد بالناس كفار مكة على ما قيل لما روي أن الله تعالى سلط عليهم القحط سبع سنين حتى كادوا يهلكون فطلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم بالخصب ووعدوه بالإيمان فلما دعا لهم ورحمهم الله تعالى بالحياء طفقوا يطعنون في آياته تعالى ويعاندونه عليه الصلاة والسلام ويكيدونه وذلك قوله سبحانه: * (إذا لهم مكر في آي‍اتنا) * أي بالطعن
فيها وعدم الاعتداد بها والاحتيال في دفعها، والظاهر أن المراد بالآيات الآيات القرآنية، وقيل: المراد بها الآيات التكوينية كإنزال الحياء، ومكرهم فيها إضافتها إلى الأصنام والكواكب. وقيل: إن * (الناس) * عام لجميع الكفار، ولا يجوز حمله على ما يشمل العصاة كما لا يخفى، وكانت العرب تضيف الأمطار وكذا الرياح والحر والبرد إلى الأنواء، وهو جميع نوء مصدر ناء ينوء إذا نهض بجهد ومشقة ويقال ذلك أيضا إذا سقط فهو من الأضداد، ويطلق على النجم الذي هو أحد المنازل
الثمانية والعشرين التي ذكرناها فيما سبق وهو المراد في كلامهم إلا أن الإضافة إليه باعتبار سقوطه مع الفجر وغروبه كما هو المشهور أو باعتبار طلوعه ذلك الوقت كما قال الأصمعي.
وقد عد القائل بتأثير الأنواء كافرا فقد روى الشيخان. وأبو داود. والنسائي عن زيد بن خالد قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكوكب وكافر بي ومؤمن بالكوكب فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب) ولعل كون ذلك من الكفر بالله تعالى مبني على زعم أن للكواكب تأثيرا اختياريا ذاتيا في ذلك وإلا فاعتقاد أن التأثير عندها لا بها كما هو المشهور من مذهب الأشاعرة في سائر الأسباب ليس بكفر كما نص عليه العلامة ابن حجر، وكذا اعتقاد أن التأثير بها على معنى
93

أن الله تعالى أودع فيها قوة مؤثرة بإذنه فمتى شاء سبحانه أثرت ومتى لم يشأ لم تؤثر كما هو مذهب السلف في الأسباب على ما قرره الشيخ إبراهيم الكورابي في مسلك السداد، ولو كان نسبة التأثير مطلقا إلى الأنواء ونحوها من العلويات كفرا لاتسع الخرق ولزم إكفار كثير من الناس حتى أفاضلهم لقولهم بنسبة الكثير من عالم الكون والفساد إلى العلويات ويسمونها بالآباء العلوية، وقد صرح الشيخ الأكبر قدس سره بأن للكواكب السيارات وغيرها تأثيرا في هذا العالم إلا أن الوقوف على تعيين جزئياته مما لا يطلع عليه إلا أرباب الكشف والأرصاد القلبية، وليس مراده قدس سره وكذا مراد من أطلق التأثير إلا ما ذهب إليه أحد الفريقين في الأسباب وحاشا ثم حاشا أن يكون أولئك الأفاضل ممن يعتقد أن في الوجود مؤثرا غير الله تعالى بل من وقف على حقيقة كلام الحكماء الذين هم بمعزل عن الشريعة الغراء وجدهم متفقين على أن الوجود معلول له تعالى على الإطلاق، قال بهمنيار في التحصيل: فإن سئلت الحق فلا يصح أن يكون علة الوجود إلا ما هو برىء من كل وجه من معنى ما بالقوة وهذا هو المبدأ الأول لا غير، وما نقل عن أفلاطون من قوله: إن العالم كرة والأرض مركز والإنسان هدف والأفلاك قسي والحوادث سهام والله تعالى هو الرامي فأين المفر يشعر بذلك أيضا * (نعم) * أنهم قالوا بالشرائط العقلية وهي المراد بالوسائط في كلام بعضهم وهو خلاف المذهب الحق، وبالجملة لا يكفر من قال: إن الكواكب مؤثرة على معنى أن التأثير عندها أو بها بإذن الله تعالى بل حكمه حكم من قال: إن النار محرقة والماء مرو مثلا، ولا فرق بين القولين إلا بما عسى أن يقال: إن التأثير في نحو النار والماء أمر محسوس مشاهد والتأثير في الكواكب ليس كذلك والقول به رجم بالغيب لكن ذلك بعد تسليمه لا يوجب كون أحد القولين كفرا دون الآخر كما لا يخفى على المنصف، ومع هذا الأحوط عدم إطلاق نسبة التأثير إلى الكواكب والتجنب عن التلفظ بنحو ما أكفر الله سبحانه المتلفظ به هذا * (وإذا) * الأولى شرطية والثانية فجائية رابطة للجواب، وتنكير * (مكر) * للتفخيم، و * (في) * متعلقة بالاستقرار الذي تتعلق به اللام.
* (قل الله أسرع مكرا) * أي منكم فأسرع أفعل تفضيل وهو مأخوذ إما من سرع الثلاثي كما حكاه الفارسي أو من أسرع المزيد إلا أن في أخذ أفعل من المزيد خلافا فمنهم من منعه مطلقا ومنهم من جوزه مطلقا ومنهم من قال: إن كانت الهمزة للتعدية امتنع وإلا جاز ومثله في ذلك بناء التعجب، ووصف المفضل عليه بالسرعة دل عليه المفاجأة على أن صحة استعمال أسرع في ذلك لا يتوقف على دلالة الكلام على ما ذكر خلافا لما يقتضيه ظاهر كلام الزمخشري، وأصل المكر إخفاء الكيد والمضرة، والمراد به الجزاء والعقوبة على المكر مجازا مرسلا أو مشاكلة وهي لا تنافيه كما في " شرح المفتاح "، وقد شاع أنه لا يستعمل فيه تعالى إلا على سبيل المشاكلة وليس بذاك كما حقق في موضعه
94

* (إن رسلنا) * الحفظة من قبلنا على أعمالكم * (يكتبون ما تمكرون) * أي مكركم أو ما تمكرونه، وكيفية كتابة ذلك مما لا يلزم العلم به ولا حاجة إلى جعل ذلك مجازا عن العلم، وهذا تحقيق للانتقام منهم وتنبيه على أن ما دبروا في إخفائه غير خاف على الكتبة فضلا عن منزل الكتاب الذي لا تخفى عليه خافية. وفي ذلك تجهيل لهم كما لا يخفى، والظاهر أن الجملة ليست داخلة في الكلام الملقن كقوله تعالى: * (ولو جئنا بمثله مددا) * (الكهف: 109) وهي تعليل لأسرعية مكره سبحانه وتعالى، وجوز أن تكون داخلة في ذلك وفي * (إن رسلنا) * التفاتا إذ لو أجرى على قوله سبحانه: * (قل الله) * لقيل إن رسله فلا إشكال فيه من حيث أنه لا وجه لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم إن رسلنا إذ الضمير لله تعالى لا له عليه الصلاة والسلام بتقدير مضاف أي رسل ربنا أو بالإضافة لأدنى ملابسة كما قيل.
وقال بعضهم في الجواب: إنه حكاية ما قال الله تعالى على كون المراد أداء هذا المعنى لا بهذه العبارة.
وقرأ الحسن. ومجاهد * (يمكرون) * على لفظ الغيبة، وروي ذلك أيضا عن نافع. ويعقوب وفيه الجري على ماس بق من قوله سبحانه: * (مستهم) * و * (لهم) * والمناسب الخطاب كما قرأ الباقون إذا كانت الجملة داخلة في حيز القول إذ المعنى قل لهم، ومناسبة الخطاب حينئذ ظاهرة وفيه أيضا مبالغة في الإعلام بمكرهم، وجعلها بعض المحققين على تلك القراءة وعدم دخولها في حيز القول تعليلا للأسرعية أو للأمر المذكور. وصيغة الاستقبال في الفعلين للدلالة على الاستمرار [بم والتجدد وكذا في قوله سبحانه:
* (هو الذى يسيركم فى البر والبحر حتى إذا كنتم فى الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جآءتها ريح عاصف وجآءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من ه‍اذه لنكونن من الش‍اكرين) *
* (هو الذي يسيركم في البر والبحر) * وهو على ما قيل كلام مستأنف مسوق لبيان جناية أخرى لهم مبنية على ما مر آنفا من اختلاف حالهم بحسب اختلاف ما يعتريهم من الضراء. وعن أبي مسلم أنه تفسير لبعض ما أجمل في قوله سبحانه: * (وإذا أذقنا الناس) * الخ، وهو قريب من قول الإمام أنه تعالى لما قال: * (وإذا أذقنا) * الآية وهو كلام كلي ضرب لهم مثلا بهذا ليتضح ويظهر ما هم عليه.
وزعم بعضهم أنه متصل بما تقدم من دلائل التوحيد فكأنه قيل: إلهكم الذي جعل الشمس ضياءا والقمر نورا و * (هو الذي يسيركم) * الخ، وأول التيسير بالحمل على السير والتمكين منه، والداعي لذلك قيل: عدم صحة جعل قوله سبحانه: * (حتى إذا كنتم في الفلك) * غاية للتسيير في البحر مع أنه مقدم عليه وغاية الشيء لا بد أن تكون متأخرة عنه، وبعد التأويل لا إشكال في جعل ما ذكر غاية لما قبله.
وقيل: هو دفع لزوم الجمع بين الحقيقة والمجاز وذلك لأن المسير في البحر هو الله تعالى إذ هو سبحانه المحدث لتلك الحركات في الفلك بالريح ولا دخل للعبد فيه بل في مقدماته، وأما سير البر فمن الأفعال الاختيارية الصادرة من المخاطبين أنفسهم إن كانوا مشاة أو من دوابهم إن كانوا ركبانا وتسيير الله تعالى فيه إعطاء الآلات والأدوات ولزوم الجمع عليه ظاهر. ووجه الدفع أن المراد من التسيير ما ذكر وهو معنى مجازي شامل للحقيقة والمجاز.
وادعى بعضهم اتحاد التسيير في البر والبحر واستدل بالآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى. وتعقب بأنه تكلف. والزمخشري لم يؤول التسيير بما ذكرنا وجعل الغاية مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد حتى بما في حيزها كأنه قيل: يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة وكانت كيت وكيت من مجىء الريح العاصف وتراكم الأمواج والظن للهلاك والدعاء بالإنجاء دون الكون في البحر، وتعقب ذلك القطب بأنه لو جعل الكون في الفلك مع ما عطف عليه من قوله تعالى: * (وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها) * كفى ولم يحتج إلى اعتبار مجموع الشرط والجزاء، ثم قال: والتحقيق أن الغاية إن فسرت بما ينتهي إليه الشيء بالذات فهي ليس إلا ما وقع شرطا في مثل ذلك وإن فسرت بما ينتهي إليه الشيء مطلقا سواء كان بالذات أو بالواسطة فهي مجموع الشرط والجزاء، واستوضح ذلك من قولك: مشيت حتى إذا بلغت البلد اتجرت فإن ما انتهى إليه المشي بالذات الوصول إلى البلد وأما الاتجار
95

فأمر مترتب على ذلك فيكون مما انتهى إليه المشي بالواسطة والتضعيف في * (يسير) * للتعدية تقول سار الرجل وسيرته، وقال الفارسي: إن سار متعد كسير لأن العرب تقول سرت الرجل وسيرته بمعنى، ومنه قول الهذلي: فلا تجزعي من سنة أنت سرتها * فأول راض سنة من يسيرها
وقال في " الصحاح ": سارت الدابة وسارها صاحبها يتعدى ولا يتعدى وأنشد له هذا البيت، وأوله النحويون حيث لم يرتضوا ذلك، و * (الفلك) * السفن ومفرده وجمعه واحد وتغاير الحركات بينهما اعتباري، وفي " الصحاح " أنه واحد وجمع يذكر ويؤنث وكأن ذلك باعتبار المركب والسفينة، وكان سيبويه يقول: الفلك التي هي جمع تكسير للفلك الذي هو واحد وليست مثل الجنب الذي هو واحد وجمع والطفل وما أشبههما من الأسماء لأن فعلا وفعلا يشتركان في الشيء الواحد مثل العرب والعرب والعجم والعجم والرهب والرهب فحيث جاز أن يجمع فعل على فعل مثل أسد وأسد لم يمتنع أن يجمع فعل على فعل، وضمير * (جرين) * للفلك وضمير * (بهم) * لمن فيها وهو التفات للمبالغة في تقبيح حالهم كأنه أعرض عن خطابهم وحكى لغيرهم سوء صنيعهم، وقيل: لا التفات بل معنى قوله سبحانه: * (حتى إذا كنتم في الفلك) * حتى إذا كان بعضكم فيها إذ الخطاب للكل ومنهم المسيرون في البر فالضمير الغائب عائد إلى ذلك المضاف المقدر كما في قوله تعالى: * (أو كظلمات في بحر لجى يغشاه موج) * (النور: 40) فإنه في تقدير أو كذي ظلمات يغشاه موج، والباء الأولى للتعدية والثانية وكذا الثالثة للسببية فلذا تعلق الحرفان بمتعلق واحد، وإلا فقد منعوا تعلق حرفين بمعنى بمتعلق واحد، واعتبار تعلق الثاني بعد تعلق الأول به وملاحظته معه يزيل اتحاد المتعلق.
وجوز أن تكون الثانية للحال أي جرين بهم ملتبسة بريح فتتعلق بمحذوف كما في البحر، وقد تجعل الأولى للملابسة أيضا * (وفرحوا) * عطف على * (جرين) * هو عطف على * (كنتم) * وقد تجعل حالا بتقدير قد وضمير * (بها) * للريح ونقل الطبرسي القول برجوعه للفلك ولا يكاد يجري به القلم، والمراد بطيبة حسبما يقتضيه المقام لينة الهبوب موافقة المقصد.
وظاهر الآية - على ما نقل عن الإما - يقتضي أن راكب السفينة متحرك بحركتها خلافا لمن قال: إنه ساكن، ولا وجه كما قال بعض المحققين لهذا الخلاف فإنه ساكن بالذات سائر بالواسطة. وقرأ ابن عامر * (ينشركم) * بالنون والشين المعجمة والراء المهملة من النشر ضد الطي أي يفرقكم ويبثكم، وقرأ الحسن * (ينشركم) * من أنسر بمعنى أحيا. وقرأ بعض الشاميين * (ينشركم) * بالتشديد للتكثير من النشر أيضا، وعن أم الدرداء أنها قرأت * (في الفلكي) * بزيادة ياءي النسب، ووجه ذلك بأنهما زائدتان كما في الخارجي والأحمري ولا اختصاص لذلك في الصفات لمجىء دودوي وأنا الصلتاني في قول الصلتان، ويجوز أن يراد به اللج والماء الغمر الذي لا تجري الفلك إلا فيه، وقوله سبحانه: * (جاءتها) * جواب * (إذا) * والضمير المنصوب للفلك أو للريح الطيبة على معنى تلقتها واستولت عليها من طرف مخالف لها فإن الهبوب على وفقها لا يسمى على ما قيل مجيئا لريح أخرى عادة بل هو اشتداد للريح الأولى، ورجح الثاني بأنه الأظهر لاستلزامه للأول من غير عكس لأن الهبوب على طريقة الريح اللينة يعد مجيئا بالنسبة إلى الفلك دون الريح اللينة مع أنه لا يستتبع تلاطم لأمواج الموجب لمجيئها من كل مكان ولأن التهويل في بيان استيلائها على ما فرحوا به وعلقوا به حبال
96

رجائهم أكثر وفيه تأمل * (ريح عاصف) * أي ذات عصف فهو من باب النسب كلابن وتامر، ويستوي فيه المذكر والمؤنث كما صرحوا به فلذا لم يقل عاصفة مع أن الريح مؤنثة لا تذكر بدون تأويل.
وقيل: لم يقل عاصفة لأن العصوف مختص بالريح كحائض فلا حاجة إلى الفارق أو أنه اعتبر التذكير في الريح كما اعتبر فيها التأنيث والأولى ما قدمناه، وأصل العصف الكسر والنبات المتكسر والمراد شديدة الهبوب * (وجاءهم الموج) * وهو ما علا وارتفع من اضطراب الماء، وقيل: هو اضطراب البحر والأول هو المشهور * (من كل مكان) * أي من أمكنة مجىء الموج عادة وقد يتفق مجيئه من جهات حسب أسباب تتفق لذلك * (وظنوا أنهم أحيط بهم) * أي أهلكوا كما رواه ابن المنذر عن ابن جريج، ففي الكلام استعارة تبعية، وقيل: إن الإحاطة استعارة لسد مسالك الخلاص تشبيها له بإحاطة العدو بإنسان ثم كنى بتلك الاستعارة عن الهلاك
لكونها من روادفها ولوازمها.
وقيل: إن ذلك مثل في الهلاك، والظن على ما يتبادر منه، وجوز أن يكون بمعنى اليقين بناء على تحقق وقوعه في اعتقادهم أو كون الكناية عن القرب من الهلاك * (دعوا الله) * جعله غير واحد بدل اشتمال من ظنوا لأن دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فبينهما ملابسة تصحح البدلية، وقيل: هو جواب ما اشتمل عليه المعنى من معنى الشرط أي لما ظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله الخ.
وجعله أبو حيان استئنافا بيانيا كأنه قيل: فماذا كان حالهم إذ ذاك؟ فقيل: دعوا الخ، ورجح القول بالبدل عليه بأنه أدخل في اتصال الكلام. والدلالة عن كونه المقصود مع إفادته ما يستفاد من الاستئناف مع الاستغناء عن تقدير السؤال. وأنت تعلم أن تقدير السؤال ليس تقديرا حقيقيا بل أمر اعتباري وفيه من الإيجاز ما فيه وليس بأبعد مما تكلف للبدلية، ويشعر كلام بعضهم جواز كونه جواب الشرط و * (جاءتها) * في موضع الحال كقوله تعالى: * (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله) * (العنكبوت: 65) الآية، وتعقب بأن الاحتياج إلى الجواب يقتضي صرف ما يصلح له إليه لا إلى الحال الفضلة المفتقرة إلى تقدير قد مع أن عطف * (وظنوا) * على * (جاءتها) * يأبى الحالية والفرح بالريح الطيبة لا يكون حال مجىء العاصفة والمعنى على تحقق المجىء لا على تقديره ليجعل حالا مقدرة ولا يخلو عن حسن، والظاهر أن ما عده مانعا من الحالية غير مشترك بينه وبين كونه جواب * (إذا) * لأنه يقتضي أنهما في زمان واحد كما لا يخفى على من له أدنى معرفة بأساليب الكلام، وقوله سبحانه: * (مخلصين له الدين) * حال من ضمير * (دعوا) * و * (له) * متعلق بمخلصين و * (الدين) * مفعوله أي دعوه تعالى من غير إشراك لرجوعهم من شدة الخوف إلى الفطرة التي جبل عليها كل أحد من التوحيد وأنه لا متصرف إلا الله سبحانه المركوزفي طبائع العالم وروي ذلك عن ابن عباس. ومن حديث أخرجه أبو داود. والنسائي. وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال: " لما كان يوم الفتح فر عكرمة بن أبي جهل فركب البحر فأصابتهم عاصف فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا فقال عكرمة: لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص ما ينجيني في البر غيره اللهم أن لك عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدا حتى أضع يدي
97

في يده فلأجدنه عفوا كريما قال فجاء فأسلم ". وفي رواية ابن سعد عن أبي مليكة " أن عكرمة لما ركب السفينة وأخذتهم الريح فجعلوا يدعون الله تعالى ويوحدونه قال: ما هذا؟ فقالوا: هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله تعالى قال: فهذا له محمد صلى الله عليه وسلم الذي يدعونا إليه فارجعوا بنا فرجع. وأسلم ". وظاهر الآية أنه ليس المراد تخصيص الدعاء فقط به سبحانه بل تخصيص العبادة به تعالى أيضا لأنهم بمجرد ذلك لا يكونون مخلصين له الدين.
وأيا ما كان فالآية دالة على أن المشركين لا يدعون غيره تعالى في تلك الحال، وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتراهم أمر خطير وخطب جسيم في بر أو بحر دعوا من لا يضر ولا ينفع ولا يرى ولا يسمع فمنهم من يدعو الخضر والياس ومنهم من ينادي أبا الخميس والعباس ومنهم من يستغيث بأحد الأئمة ومنهم من يضرع إلى شيخ من مشايخ الأمة ولا ترى فيهم أحدا يخص مولاه بتضرعه ودعاه ولا يكاد يمر له ببال أنه لو دعا الله تعالى وحده ينجو من هاتيك الأهوال فبالله تعالى عليك قل لي أي الفريقين من هذه الحيثية أهدى سبيلا وأي الداعيين أقوم قيلا؟ وإلى الله تعالى المشتكى من زمان عصفت فيه ريح الجهالة وتلاطمت أمواج الضلالة وخرقت سفينة الشريعة واتخذت الاستغاثة بغير الله تعالى للنجاة ذريعة وتعذر على العارفين الأمر بالمعروف وحالت دون النهي عن المنكر صنوف الحتوف، هذا وقوله تعالى: * (لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الش‍اكرين) * في محل نصب بقول مقدر عند البصريين وهو حال من الضمير السابق، ومذهب الكوفيين إجراء الدعاء مجرى القول لأنه من أنواعه وجعل الجملة محكية به والأول هو الأولى هنا، واللام موطئة لقسم مقدر و * (لنكونن) * جوابه.
والمشار إليه بهذه الحال التي هم فيها أي والله لئن أنجيتنا مما نحن فيه من الشدة لنكونن البتة بعد ذلك أبدا شاكرين لنعمك التي من جملتها هذه النعمة المسؤولة، والعدول عن لنشكرن إلى ما فيي النظم الجليل للمبالغة في الدلالة على الثبوت في الشكر والمثابرة عليه.
* (فلمآ أنجاهم إذا هم يبغون فى الارض بغير الحق ياأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحيواة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون) *
* (فلما أنجاهم) * مما نزل بهم من الشدة والكربة، والفاء للدلالة على سرعة الإجابة * (إذا هم يبغون في الأرض) * أي فاجأوا الفساد فيها وسارعوا إليه مترامين في ذلك ممعنين فيه من قولهم: بغى الجرح إذا ترامى في الفساد، وزيادة * (في الأرض) * للدلالة على شمول بغيهم لأقطارها، وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار، وقوله سبحانه وتعالى: * (بغير الحق) * تأكيدا لما يفيده البغي إذ معناه أنه بغير الحق عندهم أيضا بأن يكون ظلما ظاهرا لا يخفى قبحه على كل أحد كما قيل نحو ذلك في قوله تعالى: * (ويقتلون النبيين بغير الحق) * (البقرة: 61).
وقد فسر البغي بإفساد صورة الشيء وإتلاف منفعته وجعل * (بغير
الحق) * للاحتراز مما يكون من ذلك بحق كتخريب الغزاة ديار الكفرة وقطع أشجارهم وحرق زروعهم كما فعل صلى الله عليه وسلم ببني قريظة.
وتعقب بأنه مما لا يساعده النظم الكريم لأن البغي بالمعنى الأول هو اللائق بحال المفسدين فينبغي بناء الكلام عليه. والزمخشري اختار كون ذلك للاحتراز عما ذكر. وذكر في " الكشف " أنه أشار بذلك إلى أن الفساد اللغوي خروج الشيء من الانتفاع فلا كل بغى - أي فساد في الأرض واستطالة فيها - كذلك كما علمت وإن كان موضوعه العرفي للاستطالة بغير حق لكن النظر إلى موضوعه الأصلي، وقيل: إن البغي الذي يتعدى بفي بمعنى الإتلاف والإفساد وهو يكون حقا وغيره والذي يتعدى بعلى بمعنى الظلم، وتقييد الأول بغير
98

الحق للاحتراز وتقييد الثاني به للتأكيد، ولعل من يجعل البغي هنا بمعنى الظلم يقول: إن المعنى يبغون على المسلمين مثلا فافهم * (يا أيها الناس) * توجيه الخطاب
إلى أولئك الباغين للتشديد في التهديد والمبالغة في الوعيد * (إنما بغيكم) * الذي تتعاطونه وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه: * (على أنفسكم) * أي عليكم في الحقيقة لا على الذين تبغون عليهم وإن ظن كذلك، وقوله تعالى: * (متاع الحياة الدنيا) * نصب على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر بطريق الاستئناف أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا، والمراد من ذلك بيان كون ما في البغي من المنفعة العاجلة شيئا غير معتد به سريع الزوال دائم الوبال، وقيل: إنه منصوب على أنه مصدر واقع موقع الحال أي متمتعين، والعامل هو الاستقرار الذي في الخبر ولا يجوز أن يكون نفس البغي لأنه لا يجوز الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر، وأيضا لا يخبر عن المصدر إلا بعد تمام صلاته ومعمولاته. وتعقب بأنه ليس في تقييد كون بغيهم على أنفسهم بحال تمتعهم بالحياة الدنيا معنى يعتد به.
وقيل: على أنه ظرف زمان كمقدم الحاج أي زمان متاع الحياة الدنيا والعامل فيه الاستقرار أيضا وفيه ما في سابقه، وقيل: على أنه مفعول لفعل دل عليه المصدر أي تبغون متاع الحياة الدنيا. واعترض بأن هذا يستدعي أن يكون البغي بمعنى الطلب لأنه الذي يتعدى بنفسه والمصدر لا يدل عليه، وجعل المصدر أيضا بمعناه مما يخل بجزالة النظم الكريم لأن الاستئناف لبيان سوء عاقبة ما حكى عنهم من البغي المفسر على المختار بالفساد المفرط اللائق بحالهم وحينئذ تنتفي المناسبة ويفوت الانتظام، وجعل الأول أيضا بمعناه مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عنه.
وقيل: على أنه مفعول له أي لأجل متاع الحياة الدنيا والعامل فيه الاستقرار. وتعقب بأن المعلل بما ذكر نفس البغي لا كونه على أنفسهم، وقيل: العامل فيه فعل مدلول عليه بالمصدر أي تبغون لأجل متاع الحياة الدنيا على أن الجملة مستأنفة، وقيل: على أنه مفعول صريح للمصدر وعليكم متعلق به لا خبر لما مر، والمراد بالأنفس الجنس، والخبر محذوف لطول الكلام، والتقدير إنما بغيكم على أبناء جنسكم متاع الحياة الدنيا مذموم أو منهي عنه أو ضلال أو ظاهر الفساد أو نحو ذلك. وفيه الابتناء على أن البغي بمعنى الطلب وقد علمت ما فيه. نعم لو جعل نصبه على العلة أي إنما بغيكم على أبناء جنسكم لأجل متاع الحياة الدنيا مذموم كما اختاره بعضهم لكان له وجه في الجملة لكن الحق الذي يقتضيه جزالة النظم هو الأول. وقرأ الجمهور * (متاع) * بالرفع.
قال صاحب المرشد: وفيه وجهان، أحدهما: كونه الخبر والظرف صلة المصدر. والثاني: كونه خبر مبتدأ محذوف أي هو أو ذلك متاع، وزيد وجه آخر وهو كونه خبرا بعد خبر لبغيكم، والمختار بل المتعين على الوجه الأول كون المراد بأنفسكم أبناء جنسكم أو أمثالكم على سبيل الاستعارة، والتعبير عنهم بذلك للتشفيق والحث على ترك إيثار التمتع المذكور على ما ينبغي من الحقوق، ولا مانع على الوجهين الأخيرين من الحمل على الحقيقة كما بين ذلك مولانا شيخ الإسلام. وقرىء بنصب المتاع * (والحياة) * وخرج نصب الأول على ما مر ونصب الثاني على أنه بدل اشتمال من الأول.
وقيل: على أنه مفعول به له إذا لم يكن انتصابه على المصدرية لأن المصدر المؤكد لا يعمل، وذكر أبو البقاء أنه قرىء بجرهما على أن الثاني مضاف إليه والأول نعت للأنفس أي ذات متاع، وجوز أن يكون
99

المصدر بمعنى اسم الفاعل أي متمتعات، وضعف كونه بدلا إذ قد أمكن كونه صفة هذا وفي الآية من الزجر عن البغي ما لا يخفى. وقد أخرج أبو الشيخ. وأبو نعيم. والخطيب. والديلمي. وغيرهم عن أنس قال؛ " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث هن رواجع على أهلها المكر والنكث والبغي ثم تلا عليه الصلاة والسلام يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله ومن نكث فإنما ينكث على نفسه ".
وأخرج البيهقي الشعب عن أبي بكرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من ذنب أجدر أن يعجل لصاحبه العقوبة من البغي وقطيعة الرحم. وأخرج أيضا من طريق بلال بن أبي بردة عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يبغي على الناس إلا ولد بغى أو فيه عرق منه ".
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس. وابن عمر رضي الله تعالى عنهم قالا: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما " وكأن المأمون يتمثل بهذين البيتين لأخيه.
يا صاحب البغي إن البغي مصرعة * فاربع فخير فعال المرء أعدله
فلو بغى جبل يوما على جبل * لاندك منه أعاليه وأسفله
وعقد ذلك الشهاب فقال: إن يعد ذو بغي عليك فخله * وارقب زمانا لانتقام باغي
واحذر من البغي الوخيم فلو بغى * جبل على جبل لدك الباغي
* (ثم إلينا مرجعكم) * عطف على ما مر من الجملة المستأنفة المقدرة كأنه قيل: تتمتعون متاع الحياة الدنيا ثم ترجعون إلينا، وإنما غير السبك إلى ما في النظم الكريم للدلالة على الثبات والقصر.
* (فينبئكم بما كنتم تعملون) * في الدنيا على الاستمرار من البغي فهو وعيد وتهديد بالحزاء والعذاب وقد تقدم الكلام في نظيره.
* (إنما مثل الحيواة الدنيا كمآء أنزلناه من السمآء فاختلط به نبات الارض مما يأكل الناس والانع‍ام حتى إذآ أخذت الارض زخرفها وازينت وظن أهلهآ أنهم قادرون عليهآ أتاهآ أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالامس كذالك نفصل الآي‍ات لقوم يتفكرون) *
* (إنما مثل الحياة الدنيا) * كلام مستأنف لبيان شأن الحياة الدنيا وقصر مدة التمتع فيها، وأصل المثل ما شبه مضربه بمورده ويستعار للأمر العجيب المستغرب، أي إنما حالها في سرعة تقضيها وانصرام نعيمها بعد إقبالها واغترار الناس بها * (كماء أنزلناه من السماء فاختلط به) * أي فكثر بسببه * (نبات الأرض) * حتى التف بعضه ببعض، فالباء للسببية ومنهم من أبقاها على المصاحبة، وجعل الاختلاط بالماء نفسه فإنه كالغذاء للنبات فيجري فيه ويخالطه والأول هو الذي يقتضيه كلام ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما * (مما يأكل الناس والأنعام) * كالبقول والزروع. والحشيش والمراعي، والجار والمجرور في موضع الحال من النبات * (حتى إذا أخذت الأرض) * أي استوفت واستكملت * (زخرفها) * أي حسنها وبهجتها * (وازينت) * بأصناف النبات وأشكالها وألوانها المختلفة. كأذيال خود أقبلت في غلائل * مصبغة والبعض أقصر من بعض
وقد ذكر غير واحد أن في الكلام استعارة بالكناية حيث شبهت الأرض بالعروس وحذف المشبه به وأقيم المشبه مقامه وإثبات أخذ الزخرف لها تخييل وما بعده ترشيح، وقيل: الزخرف الذهب استعير للنضارة
100

والمنظر الشار، وأصل ازينت تزينت فأدغمت التاء في الزاي وسكنت فاجتلبت همزة وصل للتوصل للابتداء بالساكن، وبالأصل قرأ عبد الله، وقرأ الأعرج. والشعبي. وأبو العالية. ونصر بن عاصم. والحسن بخلاف * (وأزينت) * بوزن أفعلت كأكرمت، وكان قياسه أن يعل فيقلب ياؤه ألفا فيقال أزانت لأنه المطرد في باب الأفعال المعتل العين لكنه ورد على خلافه كأغيلت المرأة إذا سقت ولدها الغيل وهو لبن حملها عليه وقد جاء أغالت على القياس.
ومعنى الأفعال هناك هنا الصيرورة أي صارت ذات زينة أو صيرت نفسها كذلك، وقرأ أبو عثمان النهدي * (أزيأنت) * بهمزة وصل بعدها زاي ساكنة وياء مفتوحة وهمزة كذلك ونون مشددة وتاء تأنيث، وأصله ازيانت بوزن احمارت بألف صريحة فكرهوا اجتماع ساكنين فقلبوا الألف همزة مفتوحة كما قرىء الضألين وجاء أيضا احمأرت بالهمزة كقوله: إذا ما الهوادي بالعبيط حمأرت
وقرأ عوف بن جميل * (ازيانت) * بألف من غير إبدال، وقرىء * (ازاينت) * لقصد المبالغة * (وظن أهلها أنهم قادرون عليها) * أي على الأرض، والمراد ظنوا أنهم متمكنون من منفعتها محصلون لثمرتها رافعون لغلتها، وقيل: الكناية للزروع، وقيل: للثمرة، وقيل: للزينة لانفهام ذلك من الكلام * (أتأها أمرنا) * جواب * (إذا) * أي نزل بها ما قدرناه من العذاب وهو ضرب زرعها ما يجتاحه من الآفات والعاهات كالبرد. والجراد. والفأر. والصرصر. والسموم. وغير ذلك * (ليلا أو نهارا) * أي في ليل أو في نهار، ولعل المراد الإشارة إلى أنه لا فرق في إتيان العذاب بين زمن غفلتهم وزمن يقظتهم إذ لا يمنع منه مانع ولا يدفع عنه دافع * (فجعلناها) * أي فجعلنا نباتها * (حصيدا) * أي شبيها بما حصد من أصله، والظاهر أن هذا من التشبيه لذكر الطرفين فيه فإن المحذوف في قوة المذكور، وجوز أن يكون هناك استعارة مصرحة والأصل جعلنا نباتها هالكا فشبه الهالك بالحصيد وأقيم اسم المشبه به مقامه، ولا ينافيه تقدير المضاف كما توهم لأنه لم يشبه الزرع بالحصيد بل الهالك به. وذهب السكاكي إلى أن في الكلام استعارة بالكناية حيث شبهت الأرض المزخرفة والمزينة بالنبات الناضر المونق الذي ورد عليه ما يزيله ويفنيه وجعل الحصيد تخيلا ولا يخفى بعده * (كأن لم تغن) * أي كان لم يغن نباتها أي لم يمكث ولم يقم، فتغن من غنى بالمكان إذا أقام ومكث فيه ومنه قيل للمنزل مغني، وقد حذف المضاف في هذا وفيما قبله فانقلب الضمير المجرور منصوبا في أولهما ومرفوعا مستترا في الثاني، واختير الحذف للمبالغة حيث أفاد ظاهر الكلام جعل الأرض نفسها حصيدا وكأنها نفسها لم تكن لتغيرها بتغير ما فيها، وقد عطف بعضهم عليهما * (عليها) * لما أن التقدير فيه على نباتها فحذف المضاف وجر الضمير بعلى وليس بالبعيد خلا أن في كون الحذف للمبالغة أيضا ترددا، وقيل: ضمير * (تغن) * وما قبله يعودان على الزرع كما قيل في ضمير * (عليها) * وقيل: يعودان على الأرض ولا حذف بل يجعل التجوز في الإسناد. وأنت تعلم أن إرجاع الضمائر كلها للأرض ولو مع ارتكاب التجوز في الإسناد أولى من إرجاعها لغيرها كائنا ما كان. نعم إنه لا يمكن إرجاع الضمير إليها في قراءة الحسن * (يغني) * بالياء التحتية وجعل ذلك من قبيل ولا أرض أبقل أبقالها كما ترى فينبغي أن يرجع للنبات أو للزرع مثلا ومآل المعنى كأن لم يكن نابتا * (بالأمس) * أي فيما قبل إتيان أمرنا بزمان قريب فإن الأمس مثل في ذلك، والجملة التشبيهية جوز أن تكون في محل النصب على أنها حال وأن تكون مستأنفة لا محل لها من الإعراب جوابا لسؤال مقدر، والممثل
101

به في الآية ما يفهم من الكلام وهو زوال خضرة النبات فجأة وذهابه حطاما لم يبق له أثر بعد ما كان غضا طريقا قد التف بعضه ببعض وازينت الأرض بأوالنه حتى طمع الناس وظنوا أنه قد سلم من الجوائح لا الماء وإن دخلته كاف التشبيه فإنه من التشبيه المركب مع اشتمال الكلام نفسه على أمور حقيقية وأمور مجازية فيها من اللطافة ما لا يخفى. وعن أبي أنه قرأ * (كأن لم تغن بالأمس وما أهلكناها إلا بذنوب أهلها) * * (كذلك) * أي مثل ذلك التفصيل البديع * (نفصل الآيات) * أي القرآنية التي من جملتها هذه الآية الجليلة الشأن المنبهة على أحوال الحياة الدنيا أي نوضحها ونبينها * (لقوم يتفكرون) * في معانيها ويقفون على حقائقها، وتخصيصهم بالذكر لأنهم المنتفعون، وجوز أن يراد بالآيات ما ذكر في أثناء التمثيل من الكائنات والفاسدات وبتفصيلها تصريفها على الترتيب المحكي إيجادا وإعداما فإنها آيات ما ذكر في أثناء التمثيل من الكائنات والفاسدات وبتفصيلها تصريفها على الترتيب المحكي إيجادا وإعداما فإنها آيات وعلامات يستدل بها المتفكر فيها على أحوال الحياة الدنيا حالا ومآلا والأول هو الظاهر. وعن أبي مجلز أنه قال: كان مكتوبا إلى جنب هذه الآية فمحى * (ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمني واديا ثالثا ولا يشبع نفس ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب) *.
* (والله يدعوإلى دار السلام ويهدى من يشآء إلى صراط مستقيم) *
* (والله يدعوا إلى دار السلام) * ترغيب للناس في الحياة الأخروية الباقية إثر ترغيبهم عن الحياة الدنيوية الفانية أي يدعو الناس جميعا إلى الجنة حيث يأمرهم بما يفضي إليها، وسميت الجنة بذلك لسلامة أهلها عن كل ألم وآفة أو لأن الله تعالى يسلم عليهم أو لأن خزنتها يقولون لهم سلام عليكم طبتم أو لأن بعضهم يسلم فيها على بعض.
فالسلام إما بمعنى السلامة أو بمعنى التسليم، أو لأن السلام من أسمائه تعالى ومعناه هو الذي منه وبه السلامة أو ذو السلامة عن جميع النقائص فأضيفت إليه سبحانه
للتشريف كما في بيت الله تعالى للكعبة ولأنه لا ملك لغيره جل شأنه فيها ظاهرا وباطنا وللتنبيه على أن من فيها سالم عما مر للنظر إلى معنى السلامة في أصله، ويدل على قصده تخصيصه بالإضافة إليه دون غيره من أسمائه تعالى * (ويهدي من يشاء) * هدايته * (إلى صراط مستقيم) * موصل إلى تلك الدار وهو الدين الحق، وفي الآية دلالة على أن الهداية غير الدعوة إلى ذلك وعلى أن الأمر مغاير للإرادة حيث عمم سبحانه الدعوة إذ حذف مفعولها وخص الهداية بالمشيئة المساوية للإرادة على المشهور إذ قيدها بها وهو الذي ذهب إليه الجماعة، وقال المعتزلة: إن المراد بالهداية التوفيق والإلطاف ومغايرة الدعوة والأمر لذلك ظاهرة فإن الكافر مأمور وليس بموفق وأن من يشاء هو من علم سبحانه أن اللطف ينفع فيه لأن مشيئته تعالى شأنه تابعة للحكمة فمن علم أنه لا ينفع فيه اللطف لم يوفقه ولم يلطف به إذ التوفيق لمن علم الله تعالى أنه لا ينفعه عبث والحكمة منافية للعبث فهو جل وعلا يهدي من ينفعه اللطف وإن أراد اهتداء الكل.
* (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أول‍ائك أصح‍ابالجنة هم فيها خ‍الدون) *
* (للذين أحسنوا) * أي العمل بأن فعلوا المأمور به واجتنبوا المنهي عنه، وفسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الإحسان بقوله عليه الصلاة والسلام: " أن تعبد الله تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " * (الحسنى) * أي المنزلة الحسنى وهي الجنة * (وزيادة) * وهي النظر إلى وجه ربهم الكريم جل جلاله وهو التفسير المأثور عن أبي بكر. وعلي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس. وحذيفة. وابن مسعود. وأبي موسى الأشعري. وخلق آخرين، وروى مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق شتى، وقد أخرج الطيالسي. وأحمد. ومسلم. والترمذي. وابن ماجه. وابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم.
102

وابن خزيمة. وابن حبان. وأبو الشيخ. والدارقطني في الرؤية. وابن مردويه. والبيهقي في الأسماء والصفات عن صهيب " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية للذين أحسنوا الخ فقال إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة أن لكم عند الله تعالى موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه سبحانه فوالله ما أعطاهم الله تعالى شيئا أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم " فحكاية هذا التفسير بقيل: كما فعل البيضاوي عفا الله تعالى عنه مما لا ينبغي، وقول الزمخشري عامله الله تعالى بعدله: إن الحديث مرقوع - بالقاف - أي مفترى لا يصدر إلا عن رقيع فإنه متفق على صحته وقد أخرجه حفاظ ليس فيهم ما يقال.
نعم جاء في تفسير ذلك غير ما ذكر لكن ليس في هذه الدرجة من الصحة ولا رفع فيه صريحا، فقد أخرج ابن جرير. عن مجاهد قال: الزيادة المغفرة والرضوان، وأخرج عن الحسن أنها تضعيف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وأخرج عن ابن زيد أنها أن لا يحاسبهم على ما أعطاهم في الدنيا، وأخرج عن الحكم بن عتيبة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنها غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب. وتعقبه ابن الجوزي بأنه لا يصح، وقيل: الزيادة أن تمر السحابة بهم فتقول: ما تريدون أنا أمطركم فلا يريدون شيئا إلا أمطرتهم.
وجمع بعضهم بين الروايات بأنه لا مانع من أن يمن الله تعالى عليهم بكل ما ذكر ويصدق عليه أنه زيادة على ما من به عليهم من الجنة، وأيد ذلك بما أخرجه سعيد بن منصور. وابن المنذر. والبيهقي. عن سفيان أنه قال: ليس في تفسيرالقرآن اختلاف إنما هو كلام جامع يراد به هذا وهذا، والذي حمل الزمخشري على عدم الاعتماد على الروايات الناطقة بحمل الزيادة على رؤية الله تعالى زعمه الفاسد كأصحابه أن الله تعالى لا يرى وقد علمت منشأ ذلك الزعم وقد رده أهل السنة بوجوه * (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) * أي لا يغشاها غبرة ما فيها سواد ولا أثر هوان ما وكسوف بال، والمعنى لا يعرض عليهم ما يعرض لأهل النار أو لا يعرض لهم ما يوجب ذلك من الحزن وسوء الحال، والكلام على الأول حقيقة وعلى الثاني كناية لأن عدم غشيان ذلك لازم لعدم غشيان ما يوجبهما فذكر اللازم لينتقل منه إلى الملزوم، ورجح هذا بأنه أمدح، والمقصود بيان خلوص نعيمهم من شوائب المكاره إثر بيان ما من سبحانه به عليهم من النعيم، وقيل: إن ذكر ذلك لتذكيرهم بما ينقذهم منه فإنهم إذا ذكروا ذلك زاد ابتهاجهم ومسرتهم كما أن أهل النار فإن الإنسان متى علم أن عدوه في الهوان وسوء الحال ازداد سرورا، وقد شاهدنا من يكتفي بمضرة عدوه عن حصول المنفعة له بل من يسره ضرر عدوه وإن تضرر هو، وتقديم المفعول على الفاعل للاهتمام ببيان أن المصون من الرهق أشرف أعضائهم وللتشويق إلى المؤخر ولأن في الفاعل ضرب تفصيل * (أول‍ائك) * أي المذكورون باعتبار اتصافهم بما تقدم * (أصح‍ابالجنة هم فيها خ‍الدون) * دائمون بلا زوال ويلزم ذلك عدم زوال نعيمها.
* (والذين كسبوا السيئات جزآء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من اليل مظلما أول‍ائك أصح‍ابالنار هم فيها خ‍الدون) *
* (والذين كسبوا السيئ‍ات) * أي الشرك والمعاصي، وهو مبتدأ بتقدير المضاف خبره قوله سبحانه: * (جزاء سيئة بمثلها) * والباء متعلقة بجزاء وهو مصدر المبني للمفعول لا اسم للعوض كما في بعض الأوجه الآتية
103

على ما قيل أي جزاء الذين كسبوا السيئات أن تجازي سيئة واحدة بسيئة مثلها على معنى عدم الزيادة بمقتضى العدل وإلا فلا مانع عن العفو بمقتضى الكرم لكن ذلك في غير الشرك ويجوز أن يكون جزاء سيئة بمثلها جملة من مبتدأ وخبر هي خبر المبتدأ وحينئذ لا حاجة إلى تقدير المضاف لكن العائد محذوف أي جزاء سيئة منهم بمثلها على حد - السمن منوان بدرهم -.
وأجاز أبو الفتح أن يكون جزاء مبتدأ محذوف الخبر أي لهم جزاء سيئة بمثلها وحذف لهم لقرينة * (للذين أحسنوا) * والجملة خبر * (الذين كسبوا) * وحينئذ لا حاجة إلى تقدير عائد كما لا حاجة إلى تقدير مضاف، وجوز غير واحد أن يكون * (الذين) * عطفا على الذين المجرور الذي هو مع جاره خبر وجزاء سيئة معطوف على الحسنى الذي هو المبتدأ، وفي ذلك العطف على معمولي عاملين مختلفين وفيه مذاهب المنع مطلقا وهو مذهب سيبويه والجواز مطلقا وهو مذهب الفراء والتفصيل بين أن
يتقدم المجرور نحو في الدار زيد والحجرة عمرو فيجوز أو لا فيمتنع، والمانعون يحملون نحو هذا المثال على إضمار الجار ويجعلونه مطردا كقوله: أكل امرىء تحسبين امرأ * ونار توقد بالليل نارا
وقيل: هو مبتدأ والخبر جملة * (ما لهم من الله من عاصم) * أو * (كأنما أغشيت) * أو * (أولئك أصحاب النار) * وما في البين اعتراض، وفي تعدد الاعتراض خلاف بين النحويين و * (جزاء سيئة) * حينئذ مبتدأ و * (بمثلها) * متعلق به والخبر محذوف أي واقع أو * (بمثلها) * هو الخبر على أن الباء زائدة أو الجار والمجرور في موضع الخبر على أن الباء غير زائدة، والأولى تقدير المتعلق خاصا كمقدر ويصح تقديره عاما، والقول بأنه لا معنى له حاصل وهم ظاهر، وأيا ما كان لا دلالة في الآية على أن الزيادة هي الفضل دون الرؤية وقد علمت أن تفسيرها بذلك هو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وجملة من السلف الصالح فلا ينبغي العدول عنه لما يتراءى منه خلافه لا سيما وقد أتى الإمام وغيره بدلائل جمة على أن المراد بها ذلك ولم يؤت بالآيتين على أسلوب واحد لمراعاة ما بين الفريقين من كمال التنائي والتباين، وإيراد الكسب للإيذان بأن ذلك إنما هو بسوء صنيعهم وجنايتهم على أنفسهم * (وترهقهم ذلة) * أي هوان عظيم، فالتنوين هنا للتفخيم على عكس التنوين فيما قبل كما أشرنا إليه، وفي إسناد الرهق إلى أنفسهم دون وجوههم إيذان بأنها محيطة بهم غاشية لهم.
وقرىء * (يرهقهم) * بالباء التحتانية لكون الفاعل ظاهرا وتأنيثه غير حقيقي، وقيل: التذكير باعتبار أن المراد من الذلة سببها مجازا، ولا يحتاج إليه كما لا يخفى لأن التذكير في مجازي التأنيث لا سيما المفصول كثير جدا.
والواو على ما قال غير واحد للعطف وما بعده معطوف على * (كسبوا) * وضعفه أبو البقاء بأن المستقبل لا يعطف على الماضي. وأجيب بالمنع، وفي العطف ههنا ما لا يخفى من المبالغة حيث أخرج نسبة الرهق إليهم يوم القيامة مخرج المعلوم حيث جعل ذلك بواسطة العطف صلة الموصول، وقيل: إنه عطف على ما قبله بحسب المعنى كأنه قيل: والذين كسبوا السيئات تجازي سيئتهم بمثلها وترهقهم ذلة ولعله أولى من الأول، وأما جعل الواو حالية والجملة في موضع الحال من ضمير * (كسبوا) * فلا يخفى حاله * (ما لهم من الله من عاصم) * أي ما لهم أحد يعصمهم ويمنعهم من سخط الله تعالى وعذابه فمن الأولى متعلقة بعاصم والكلام على حذف مضاف و * (من) * الثانية زائدة لتعميم النفي، أو ما لهم من جهته وعنده تعالى من يعصمهم كما يكون للمؤمنين فمن الأولى متعلقة بمحذوف وقع
104

حالا من * (عاصم) * وقيل متعلقة بالاستقرار المفهوم من الظرف وليس في الكلام مضاف محذوف، و * (من) * الثانية على حالها والجملة مستأنفة أو حال من ضمير * (ترهقهم) * وفي نفي العاصم من المبالغة في نفي العصمة ما لا يخفى * (كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل) * أي كأنما ألبست ذلك لفرط سوادها وظلمتها، والجار والمجرور صفة * (قطعا) * وقوله سبحانه: * (مظلما) * حال من * (الليل) * والعامل فيه متعلق الجار والمجرور فعلا كان أو اسما.
وجوز أبو البقاء كونه حالا من * (قطعا) * أو صفة له، وكان الواجب الجمع لأن * (قطعا) * جمع قطعة إلا أنه أفردت حاله أو صفته لتأويل ذلك بكثير ولا يخفى أنه تكلف مستغنى عنه، والظاهر أن دمن) * للتبعيض، وقال بعض المحققين: لليل معنيان زمان تخفى فيه الشمس قليلا أو كثيرا كما يقال دخل الليل والآن ليل وما بين غروب الشمس إلى طلوعها أو قربها من الطلوع، فمن إما تبعيضية على الأول وبيانية على الثاني، وجوز الزمخشري أن يكون العامل في الحال * (أغشيت) * من قبل أن * (من الليل * (صفة لقطعا فكان إفضاؤه إلى الموصوف كافضائه إلى الصفة. قال صاحب التقريب: وفيه نظر لأن * (من الليل) * ليس صلة أغشيت حتى يكون عاملا في المجرور بل التقدير أنه صفة فيكون العامل فيه الاستقرار، وأيضا الصفة * (من الليل) * وذو الحال هو - الليل - فلا يكون * (أغشيت) * عاملا في ذي الحال مع أنه المقصود وقد يقال: إن * (من) * للتبيين والتقدير كائنة من الليل فاغشيت عامل في الصفة وهي كائنة فكأنه عامل في * (الليل) * وهو مبني على أن العامل في العامل في الشيء عامل فيه وهو فاسد فالوجه أن يقال: إن * (من) * للتبعيض أي بعض الليل ويكون بدلا من * (قطعا) * ويجعل * (مظلما) * حالا من البعض لا * (من الليل) * فيكون العامل في ذي الحال * (أغشيت) * ولا يخفى أنه وجه أغشى قطعا من ليل التكلف والتعسف مظلما. وأجاب الإمام أمين الدين بأنه نسبة * (أغشيت) * إلى * (قطعا) * إنما هي باعتبار ذاتها المبهمة المفسرة بالليل لا باعتبار مفهوم القطع في نفسها وإنما ذكرت لبيان مقدار ما أغشيت به وجوههم وهو الليل مظلما فافضاء الفعل إلى * (قطعا) * باعتبار ما لا يتم معناها المراد إلا به كافضاء الفعل إليه كما إذا قيل: اشتريت أرطالا من الزيت صافيا فإن المشتري فيه الزيت والارطال مبينة لمقدار ما اشترى صافيا فالعامل في الحال إنما هو العامل اللفظي ولا يلاحظ معنى الفعل في الجار والمجرور من جهة العمل لغلبة العامل اللفظي عليه بالظهور ولا يخفى ما فيه. وقال في الكشف: إن الزمخشري ذهب إلى أن * (أغشيت) * له اتصال بقوله تعالى: * (من الليل) * من قبل أن الصفة والموصوف متحدان لا سيما والقطع بعض الليل فجاز أن يكون عاملا في الصفة بذلك الاعتبار وكأنه قيل أغشيت الليل مظلما وهذا كما جوز في نحو * (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا) * (الحجر: 47) أن يكون حالا من الضمير باعتبار اتحاده بالمضاف وكأنه قيل: ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا وكما جوز في * (ملة إبراهيم حنيفا) * (البقرة: 135) لأن الملة كالجزء كأنه قيل: اتبعوا إبراهيم حنيفا وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري وهو سر هذا الموضع لا ما طوله كثيرون لا سيما حمل * (من) * على التجريد فإنه مع أن المعنى على التبعيض لا البيان وليس كل بيان تجريدا لا يتم مقصوده انتهى.
وقد عرض في ذلك بشيخه العلامة الطيبي فإنه عليه الرحمة قد تكلف ما تكلف والانصاف أن ما جوزه الزمخشري هنا مما لا ينبغي والسعي في إصلاحه مع وجود الوجه الواضح الذي لا ترهقه قترة يقرب من أن يكون عبثا. وقرأ ابن كثير. والكسائي. ويعقوب. وسهل * (قطعا) * بسكون الطاء وهو اسم مفرد معناه طائفة من الليل أو ظلمة آخره أو اسم جنس لقطعة وأنشدوا.
105

افتحي الباب وانظري في النجو * كم علينا من قطع ليل بهيم
وعلى هذا يجوز أن يكون * (مظلما) * صفة له أو حالا منه بلا تكلف تأويل. وقرىء. * (كأنما يغشى وجوههم قطع من الليل مظلم) * والكلام فيه ظاهر، والجملة كالتي قبلها مستأنفة أو حال من ضمير * (ترهقهم) * * (أول‍ائك) * أي الموصوفون بما ذكر من الصفات الذميمة * (أصحاب النار هم فيها خالدون) * لا يخرجون منها أبدا واحتجت الوعيدية بهذه الآية على قولهم الفاسد بخلود أهل الكبائر. وأجيب بأن السيآت شاملة للكفر وسائر المعاصي وقد قامت الأدلة على أنه لا خلود لأصحاب المعاصي فخصصت الآية بمن عداهم، وأيضا قد يقال انهم داخلون في الذين أحسنوا بناء على ما أخرج ابن جرير. وابن المنذر. وغيرهما عن ابن عباس وأبو الشيخ عن قتادة أنهم الذين شهدوا أن لا إله إلا الله أي المؤمنون مطلقا فلا يدخلون في القسم الآخر لتنافي الحكمين، وقيل: إن أل في السيئات للاستغراق فالمراد من عمل جميع ذلك؛ والقول بخلوده في النار مجمع عليه وليس بذاك.
* (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركآؤكم فزيلنا بينهم وقال شركآؤهم ما كنتم إيانا تعبدون) *
* (ويوم نحشرهم) * كلام مستأنف مسوق لبيان بعض آخر من أحوالهم الفظيعة، وتأخيره في الذكر مع تقدمه في الوجود على بعض أحوالهم المحكية سابقا كما قال بعض المحققين للإيذان باستقلال كل من السابق واللاحق بالاعتبار ولو روعي الترتيب الخارجي لعد الكل شيئا واحدا ولذلك فصل عما قبله، وزعم الطبرسي أنه تعالى لما قدم ذكر الجزاء بين بهذا وقت ذلك، وعليه فالآية متصلة بما ذكر آنفا لكن لا يخفى أن ذلك لم يخرج مخرج البيان، وأولى منه أن يقال: وجه اتصاله بما قبله أن فيه تأكيدا لقوله سبحانه: * (ما لهم من الله من عاصم) * من حيث دلالته على عدم نفع الشركاء لهم. و * (يوم) * منصوب بفعل مقدر كذكرهم وخوفهم، وضمير * (نحشرهم) * لكلا الفريقين من الذين أحسنوا الحسنى والذين كسبوا السيآت لأنه المتبادر من قوله تعالى: * (جميعا ومن أفراد الفريق الثاني بالذكر في قوله سبحانه: * (ثم نقول للذين أشركوا) * أي للمشركين من بينهم ولأن توبيخهم وتهديدهم على رؤوس الاشهاد أفظع، والأخبار بحشر الكل في تهويل اليوم ادخل، وإلى هذا ذهب القاضي البيضاوي وغيره، وكون مراده بالفريقين فريقي الكفار والمشركين خلاف الظاهر جدا. وقيل: الضمير للفريق الثاني خاصة فيكون الذين أشركوا من وضع الموصول موضع الضمير. والنكتة في تخصيص وصف إشراكهم في حيز الصلة من بين سائر ما اكتسبوه من السيئات ابتناء التوبيخ والتقريع عليه مع ما فيه من الإيذان بكونه معظم جناياتهم وعمدة سيئاتهم، وهو السر في الاظهار في مقام الإضمار على القول الأخير * (مكانكم) * ظرف متعلق بفعل حذف فسد هو مسده وهو مضاف إلى الكاف، والميم علامة الجمع أي الزموا مكانكم. والمراد انتظروا حتى تنظروا ما يفعل بكم. وعن أبي علي الفارسي أن مكان اسم فعل وحركته حركة بناء. وهل هو اسم فعل لالزم أو لاثبت ظاهر كلام بعضهم الأول والمنقول عن شرح التسهيل الثاني لأنه على الأول يلزم أن يكون متعديا كالزم مع أنه لازم، وأجيب بمنع اللزوم، وقال السفاقسي: في كلام الجوهري ما يدل على أن الزم يكون لازما ومتعديا فلعل ما هو اسم له اللازم: وذكر الكوفيون
106

أنه يكون متعديا وسمعوا من العرب مكانك زيدا أي انتظره. واختار الدماميني في " شرح التسهيل " عدم كونه اسم فعل فقال: لا أدري ما الداعي إلى جعل هذا الظرف اسم فعل إما لازما وإما متعديا وهلا جعلوه ظرفا على بابه ولم يخرجوه عن أصله أي أثبت مكانك أو انتظر مكانك. وإنما يحسن دعوى اسم الفعل حيث لا يمكن الجمع بين ذلك الاسم وذلك الفعل نحوصه وعليك وإليك، وأما إذا أمكن فلا كوراءك وأمامك وفيه منع ظاهر.
وقوله تعالى: * (أنتم) * توكيد للضمير المنتقل إلى الظرف من عامله على القول الأول وللضمير المستتر في اسم الفعل على القول الثاني، وقوله سبحانه: * (وشركاؤكم) * عطف على ذلك، وقيل: إن * (أنتم) * مبتدأ خبره محذوف أي مهانون أو مجزيون وهو خلاف الظاهر مع ما فيه من تفكيك النظم، قيل: ولأنه يأباه قراءة وشركاءكم بالنصب إذ يصير حينئذ مثل - كل رجل وضيعته - ومثله لا يصح فيه ذلك لعدم ما يكون عاملا فيه، والعامل على التوجيه الأول ظاهر لمكان * (مكانكم) * * (فزيلنا بينهم) * أي ففرقنا، وهو من زلت الشيء عن مكانه أزيله أي أزلته، والتضعيف للتكثير لا للتعدية، وهو يائى ووزنه فعل بدليل زايل، وقد قرىء به وهو بمعناه نحو كلمته وكالمته وصعر خده وصاعر خده.
وقال أبو البقاء: إنه واوى لأنه من زال يزول، وإنما قلبت الواو ياءا لأنه فيعل، والأول أصح لما علمت ولأن مصدره التزييل لا الزيولة مع أن فعل أكثر من فيعل، ونصب - بين - على الظرفية لا على أنه مفعول به كما توهم، والمراد بالتفريق قطع الاقران والوصل التي كانت بينهم وبين الشركاء في الدنيا. وقيل: التفريق الجسماني وظاهر النظم الجليل لا يساعده، والعطف على * (نقول) * وإيثار صيغة الماضي للدلالة على التحقق لزيادة التوبيخ والتحسير، والفاء الدلالة على وقوع التزييل ومبادية عقيب الخطاب من غير مهملة إيذانا بكمال رخاوة ما بين الفريقين من العلاقة والوصلة، وقوله سبحانه: * (وقال شركاؤهم) * عطف على ما قبله، وجوز أن يكون في موضع الحال بتقدير قد أو بدونها على الخلاف، والإضافة باعتبار أن الكفار هم الذين اتخذوهم شركاء لله سبحانه وتعالى:
وقيل: لأنهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم فصيروهم شركاء لأنفسهم في ذلك، والمراد بهؤلاء الشركاء قيل: الأصنام فإن أهل مكة إنما كانوا يعبدونها وهم المعنيون بأكثر هذه الآيات، ونسبة القول لها غير بعيد من قدرته سبحانه فينطقها الله الذي أنطق كل شيء في ذلك الموقف فتقول لهم * (ما كنتم إيانا تعبدون) * والمراد من ذلك تبريهم من عبادتهم وأنهم إنما عبدوا في الحقيقة أهواءهم الداعية لهم وما أعظم هذا مكان الشفاعة التي كانوا يتوقعونها منهم. وقيل: المراد بهم الملائكة والمسيح عليهم السلام لقوله تعالى: * (ويوم يحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة أهؤلاء اياكم كانوا يعبدون) * (سبأ: 40) وقوله سبحانه: * (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي الهين) * (المائدة: 116) الآية، والمراد من ذلك القول ما أريد منه أولا أيضا لأن نفي العبادة لا يصح لثبوتها في الواقع والكذب لا يقع في القيامة ممن كان، وقيل: إن قول الشركاء مجرى على حقيقته بناء على أن ذلك الموقف موقف الدهشة والحيرة فذلك الكذب يكون جاريا مجرى كذب الصبيان والمجانين المدهوشين، ويمكن أن
107

يقال أيضا: أنهم ما أقاموا لأعمال الكفار وزنا وجعلوها لبطلانها كالعدم فلذا نفوا عبادتهم إياهم أو يقال: إن المشركين لما تخيلوا فيما عبدون أوصافا كثيرة غير موجودة
فيه في نفس الأمر كانوا في الحقيقة إنما عبدوا ذوات موصوفة بتلك الصفات ولما كانت ذوات الشركاء خالية عن تلك الصفات صدق أن يقال: إن المشركين ما عبدوا الشركاء وهذا أولى من الأولين بل لا يكاد يلتفت إليهما وكأن حاصل المعنى عليه انكم عبدتم من زعمتم أنه يقدر على الشفاعة لكم وتخليصكم من العذاب وانه موصوف بكيت وكيت فاطلبوه فأنا لسنا كذلك. والمراد من ذلك قطع عرى أطماعهم وإيقاعهم في اليأس الكلي من حصول ما كانوا يرجونه ويعتقدونه فيهم ولعل اليأس كان حاصلا لهم من حين الموت والابتلاء بالعذاب ولكن يحصل بما ذكر مرتبة فوق تلك المرتبة. وقيل: المراد بهم الشياطين وقطع الوصل عليه من الجانبين لا من جانب العبدة فقط كما يقتضيه ما قبل، والمراد من قولهم ذلك على طرز ما تقدم. وأورد على القول بأن المراد الملائكة والمسيح عليهم السلام بأنه لا يناسب قوله سبحانه: * (مكانكم أنتم وشركاؤكم) * حيث أن المراد منه الوعيد والتهديد، وظاهر العطف انصراف ذلك إلى الشركاء أيضا، وتهديد أولئك الكرام عليهم الصلاة والسلام مما لا يكاد يقدم على القول به.
واعترض بأن هذا مشترك الإلزام فإنه يرد على القول الأول أيضا إذ لا معنى للوعيد والتهديد في حق الأصنام مع عدم صدور شيء منها يوجب ذلك، ولا مخلص إلا بالتزام أن التهديد والوعيد للمخاطبين فقط أو للمجموع باعتبارهم.
وأجيب بجواز كون تهديد الأصنام نظير ادخالها النار مع عبدتها كما يدل عليه قوله تعالى: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) * (الأنبياء: 98) وكذا قوله سبحانه: * (فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة (البقرة: 24) على ما عليه جمع من المفسرين، ودعوى الفرق بين التهديد والإدخال في النار تحتاج إلى دليل. نعم قالوا: يجب على القول بأن المراد الملائكة عليهم السلام أن تحمل الغفلة في قوله سبحانه:
* (فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغ‍افلين) *
* (فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين) * على عدم الارتضاء لا على عدم الشعور لأن عدم شعور الملائكة بعبادتهم غير ظاهر بل لو قيل بوجوب هذا الحمل على القول بأن المراد المسيح عليه السلام أيضا لم يبعد لأن عدم شعوره بعبادتهم مع أنه سينزل ويكسر الصليب كذلك، ولا يكاد يصح الحمل على الظاهر إلا إذا كان المراد الأصنام فإن عدم شعورهم بذلك ظاهر، وتعقب بأنه لا دليل على شعور الملائكة عليهم السلام بعبادتهم ليصرف له اللفظ عن حقيقته، وليس هؤلاء المعبودون هم الحفظة أو الكتبة بل ملائكة آخرون ولعلهم مشغلون بأداء ما أمروا به عن الالتفات إلى ما في هذا العالم ونحن لا ندعي في الملائكة عليهم السلام ما يدعيه الفلاسفة فإنهم الذين قالوا يوم استنبئوا عن الأسماء: * (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا) * (البقرة: 32) وهذا جبريل عليه السلام من أجلهم قدرا كان كثيرا ما يسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء فيقول: لا أعلم وسوف أسأل ربي، وكذا لا دليل على شعور المسيح عليه السلام بعادة هؤلاء المخاطبين عند إيقاعها وكونه سينزل ويكسر الصليب لا يستدعي الشعور بها كذلك كما لا يخفى، وقد يستأنس لعدم شعوره بما حكى الله تعالى عنه في الجواب عن سؤاله له عليه السلام من قوله: * (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن أعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد) * (المائدة: 117)، واعترض على القول الأخير بأنه لا يصح مع هذا القول
108

مطلقا لأن الشياطين هم الذين زينوا لهم هذه الشنيعة الشنعاء وأغروهم عليها فكيف يتأتى القول بأنهم غافلون حقيقة عنها أو أنهم غير مرتضين لها، ولعل من ذهب إلى ذلك يلتزم الكذب ويقول بجواز وقوعه يوم القيامة.
وقيل: إن القول الأول لا يصح مع هذا القول أيضا مطلقا لأن الأوثان لا تتصف بالغفلة حقيقة لأنها كما يفهم من القاموس اسم لترك الشيء وذهاب القلب عنه إلى غيره وهذا شأن ذوي القلوب والأوثان ليست من ذلك وكذا لا تتصف بها مجازا عن عدم الارتضاء إذ الظاهر أن مرادهم من عدم الاتضاء السخوط والكراهة وظاهر أن الأوثان لا تتصف بسخط ولا ارتضاء إذ هما تابعان للإدراك ولا إدراك لها ومن أثبته للجمادات حسب عالمها فالأمر عنده سهل ومن لا يثبته يقول: إنها مجاز عن عدم الشعور، وقد يقال: إن المراد بغفلتهم عن عبادة المشركين عدم طلبهم الاستعدادي لها ويرجع ذلك بالآخرة إلى نفي استحقاق العبادة عن أنفسهم وإثبات الظلم لعابديهم.
وحينئذ فالأظهر أن يراد بالشركاء جميع ما عبد من دون الله تعالى من ذوي العقول وغيرهم والكل صادق في قوله ذلك، وقد يراد من عدم الطلب ما يشمل عدم الطلب الحالي والقالي إذا اعتبر كون القائل ممن يصح نسبة ذلك له كالملائكة عليهم السلام وهذا الوجه لا يتوقف على شعور الشركاء بعبادتهم ولا على عدمه فيجوز أن يكون لهم شعور بذلك ويجوز أن لا يكون لهم شعور، والظاهر أن تفسير الغفلة بعدم الارتضاء المراد منهم على ما قيل السخط والكراهة يستدعي الشعور إذ كراهة الشيء مع عدم الشعور به مما لا يكاد يعقل وإثباته لجميع الشركاء ولو اجمالا في وقت من الأوقات الدنيوية غير مسلم، ولعل التعبير بالغفلة أكثر تهجينا للمخاطبين ولعبادتهم من التعبير بعدم الطلب مثلا فتأمل، والباء في * (بالله) * صلة و * (شهيدا) * تمييز، و * (إن) * مخففة من أن واللام هي الفارقة بين المخففة والنافية والظرف متعلق بغافلين، والتقديم لرعاية الفاصلة، أي كفى الله شهيدا فإنه العليم الخبير المطلع على كنه الحال إنا كنا غافلين عن عبادتكم، والظاهر من كلام بعض المحققين أن * (فكفى) * الخ استشهاد على النفي السابق لا على الإثبات اللاحق.
* (هنالك تبلوا كل نفس مآ أسلفت وردوا إلى الله مول‍اهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون) *
* (هنالك) * أي في ذلك المقام الدحض والمكان الدهش وهو مقام الحشر فهنالك باق على أصله وهو الظرفية المكانية، وقيل: إنه استعمل ظرف زمان مجازا أي في ذلك الوقت * (تبلوا) * أي تختبر * (كل نفس) * مؤمنة كانت أو كافرة * (ما أسلفت) * من العمل فتعاين نفعه وضره أتم معاينة.
وقرأ حمزة. والكسائي * (تتلو) * من التلاوة بمعنى القراءة، والمراد قراءة صحف ما أسلفت، وقيل: إن ذلك كناية عن ظهور الأعمال. وجوز أن يكون من التلو
على معنى أن العمل يتجسم ويظهر فيتبعه صاحبه حتى يرد به الجنة أو النار أو هو تمثيل. وقرأ عاصم في رواية عنه * (نبلو) * بالباء الموحدة والنون ونصب * (كل) * على أن فاعل - نبلو - ضميره تعالى و * (كل) * مفعوله و * (ما) * بدل منه بدل إشتمال، والكلام استعارة تمثيلية أي هنالك نعامل كل نفس معاملة من يبلوها ويتعرف أحوالها من السعادة والشقاوة باختبار ما أسلفت من العمل، ويجوز أن يراد نصيب بالبلاء أي العذاب كل نفس عاصية بسبب ما أسلفت من الشر فتكون ما منصوبة بنزع الخافض وهو الباء السببية.
* (وردوا إلى الله) * عطف على زيلنا والضمير للذين أشركوا وما في البين اعتراض في أثناء الحكاية مقرر لمضمونها، والمعنى ردوا إلى جزائه وعقابه أو إلى موضع ذلك، فالرد ءما معنوي أو حسي. وقال الإمام: المعنى جعلوا ملجئين إلى الإقرار بأولهيته سبحانه وتعالى * (مولاهم) * أي ربهم * (الحق) * أي المتحقق الصادق في ربوبيته لا ما اتخذوه
109

ربا باطلا. وقرىء * (الحق) * بالنصب على المدح، والمراد به الله تعالى وهو من أسمائه سبحانه أو على المصدر المؤكد والمراد به ما يقابل الباطل، ولا منافاة بين هذه الآية وقوله سبحانه: * (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم) * لاختلاف معنى المولى فيهما. وأخرج أبو الشيخ عن السدى أن الأولى منسوخة بالثانية ولا يخفى ما فيه * (وضل) * أي ضاع وذهب * (عنهم ما كانوا يفترون) * من أن آلهتهم تشفع لهم أو ما كانوا يدعون أنها شركاء لله عز وجل، و * (ما) * يحتمل أن تكون موصولة وأن تكون مصدرية والجملة معطوفة على قوله سبحانه: * (ردوا) * ومن الناس من جعلها عطفا على - زيلنا - وجملة - ردو - معطوفة على جملة - تبلو - الخ داخلة في الاعتراض وضمير الجمع للنفوس المدلول عليها بكل نفس، والعدول إلى الماضي للدلالة على التحقق والتقرر، وإيثار صيغة الجمع للإيذان بأن ردهم إليه سبحانه يكون على طريق الاجتماع ومذا ذكرناه أولى لفظا ومعنى. وتعقب شيخ الإسلام جعل الضمير للنفوس وعطف * (ردوا) * على * (تبلو) * الخ بأنه لا يلائمه التعرض لوصف الحقية في قوله سبحانه: * (مولاهم الحق) * فإنه للتعريض بالمردودين ثم قال: ولئن اكتفى فيه بالتعريض ببعضهم أو حمل * (الحق) * على معنى العدل في الثواب والعقاب أي مع تفسير المولى بمتولي الأمور فقوله سبحانه: * (وضل) * الخ مما لا مجال فيه للتدارك قطعا فإن ما فيه من الضمائر الثلاثة للمشركين فيلزم التفكيك حتما، وتخصيص كل نفس بالنفوس المشركة مع عموم البلوي للكل يأباه مقام تهويل المقام انتهى، والظاهر أنه اعتبر عطف * (وضل عنهم) * الخ على * (ردوا) * مع رجوع ضميره للنفوس وهو غير ما ذكرناه فلا تغفل.
* (قل من يرزقكم من السمآء والارض أمن يملك السمع والابص‍ار ومن يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى ومن يدبر الامر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون) *
* (قل) * أي لأولئك المشركين الذين حيكت أحوالهم وبين ما يؤدي إليه أفعالهم التي هي أفعى لهم احتجاجا على حقية التوحيد وبطلان ما هم عليه من الاشراك.
* (من يرزقكم من السماء والأرض) * أي منهما جميعا فإن الارزاق تحصل بأسباب سماوية كالمطر وحرارة الشمس المنضجة وغير ذلك ومواد أرضية والأولى بمنزلة الفاعل والثانية بمنزلة القابل أو من كل واحد منهما بالاستقلال كاللأمطار والمن والأغذية الأرضية توسعة عليكم - فمن - على هذا لابتداء الغاية، وقيل: هي لبيان * (من) * على تقدير المضاف، وقيل: تبعيضية على ذلك التقدير أي من أهل السماء والأرض * (أمن يملك السمع والأبصار) * * (أم) * منقطعة بمعنى بل والاضراب انتقالي لا ابطالي وفيه تنبيه على كفاية هذا الاستفهام فيما هو المقصود أي من يستطيع خلقهما وتسويتهما على هذه الفطرة العجيبة ومن وقف على تشريحهما وقف على ما يبهر العقول أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتها وسرعة انفعالهما عن أدنى شيء يصيبهما أو من يتصرف بهما ادهابا وابقاء، والملك على كل مجاز، قيل: والمعنى الأول أوفق لنظم الخالقية مع الرازقية كقوله تعالى: * (هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض) * (فاطر: 35) * (ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي) * أي ومن ينشىء الحيوان من النطفة مثلا والنطفة من الحيوان أو من يحيي أو يميت بأن يكون المراد بالإخراج التحصيل من قولهم: الخارج كذا أي الحاصل أي من يحصل الحي من الميت بأن يفيض عليه الحياة ويحصل الميت من الحي بأن يفيض عليه الموت ويسلب عنه الحياة والمآل ما علمت، ومن الناس من فسر الحي والميت هنا بالمؤمن والكافر والأول أولى * (ومن يدبر الأمر) * أي ومن يلي تدبير أم العالم جميعا وهو تعميم بعد تخصيص ما اندرج تحته من الأمور الظاهرة بالذكر، وفيه إشارة إلى أن الكل منه سبحانه وإليه وأنه لا يمكنكم علم تفاصيله * (فسيقولون) *
110

بلا تلعثم ولا تأخير * (الله) * إذ لا مجال للمكابرة والعناد في شيء من ذلك لغاية وضوحه، والاسم الجليل مبتدأ والخبر محذوف أي الله يفعل ما ذكر من الأفاعيل لا غيره * (هذا) * وربما يستدل بالآية على تقدير أن لا تكون * (من) * لابتداء الغاية على جواز أن يقال الله سبحانه انه من أهل السماء والأرض، وكون المراد هناك غير الله تعالى لا يناسب الجواب ومن لم ير الجواز تعني ومن رآه بناء على ظواهر الآيات المفيدة لكونه تعالى في السماء وقوله صلى الله عليه وسلم في الجارية التي أشارت إلى السماء حين قيل لها. اين الله؟ " أعتقها فإنها مؤمنة " وإقراره حصينا حين قال له عليه الصلاة والسلام: " كم تعيديا حصين؟ فقال: سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء فقال صلى الله عليه وسلم: فمن الذي أعددته لرغبتك ورهبتك؟ فقال حصين: الاله الذي في السماء " أبقي الآية على ما يقتضيه ظاهرها. وأنت تعلم إنه لم يرد صريحا كونه تعالى من أهل السماء والأرض وان ورد كونه جل وعلا في السماء على المعنى اللاثق بجلاله جل جلاله فلا أرى جواز ذلك، ولا داعي لإخراج * (من) * عن ابتداء الغاية ليحتاج إلى العناية فر رد الاستدلال كما لا يخفى. وفي الانتصاف أن هذه الآية كافحة لوجوه القدرية الزاعمين أن الارزاق منقسمة فمنها ما رزقه الله تعالى للعبد وهو الحلال ومنها ما رزقه العبد لنفسه وهو الحرام فهي ناعية عليهم هذا الشرك الخفي لو سمعوا * (أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون) * وكذا فيما قيل تكفح في وجوه أناس يزعمون أن الذي يدبر الأمر في كل عصر قطبه وهو عماد السماء عندهم ولولاه لوقعت على الأرض فكؤني بك إذا سألتهم من يدبر الأمر يقولون القطب، وقد يعتذر عنهم بأن مرادهم أنه المدبر باذن الله تعالى وجاء اطلاق المدبر بهذا المعنى على غيره تعالى في قوله سبحانه: * (فالمدبرات
أمرا) * (النازعات: 5).
وربما يقال إنه لا فرق عندهم بين الله تعالى وبين القطب إلا بالاعتبار لأنه الذي فاز بقربي النوافل والفرائض على أتم وجه فارتفعت الغيرية، فالقول بأن القطب هو المدبر كالقول بأن الله سبحانه هو المدبر بلا فرق.
واعترض هذا بأنه ذهاب إلى القول بوحدة الوجود وأكثر المتكلمين وبعض الصوفية كالإمام الرباني قدس سره ينكرون ذلك، والأول بأنه هلا قال المشركون في جواب ذلك: الملائكة أو عيسى عليهم السلام مثلا على معنى أنهم المدبرون للأمر بإذن الله تعالى فيكون المذكورون عندهم بمنزلة الأقطاب عند أولئك، وأجيب بأن السؤال إنما هو عمن ينتهي إليه الأمر فلا يتسنى لهم إلا الجواب المذكور، ولعل غير أهل الوحدة لو سئلوا كذلك ما عدلوا في الجواب عنه سبحانه، وأما أهل الوحدة قدس الله تعالى أسرارهم فلهم كلمات لا يقولها المشركون وهي لعمري فوق طور العقل ولذا أنكرها أهل الظاهر عليهم * (فقل) * لهم * (أفلا تتقون) * الهمزة لإنكار عدم الاتقاء بمعنى إنكار الواقع كما في قولك: أتضرب إياك لا بمعنى إنكار الوقوع كما في قولك: أأضرب أبي، والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه النظم الكريم أي أتعلمون ذلك فلا تتقون، والخلاف في مثل هذا التركيب شهير وما ذكرناه هو ما عليه البعض، ومفعول * (تتقون) * محذوف وهو متعد لواحد أي أفلا تتقون عذابه الذي لكم بما تتعاطونه من إشراككم به سبحانه ما لا يشاركه في شيء مما ذكر من خواص الأولوهية، وكلام القاضي يوهم أنه متعد إلى مفعولين وليس بذاك.
* (فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون) *
* (فذالكم الله ربكم الحق) * فذلكة لما تقرر والإشارة إلى المتصف بالصفات السابقة حسبما اعترفوا به، وهي مبتدأ والاسم الجليل صفة له و * (ربكم) * خبر و * (الحق) * خبر بعد خبر أو صفة أو خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون الاسم
111

الجليل هو الخبر و * (ربكم) * بدل منه أو بيان له و * (الحق) * صفة الرب أي مالككم ومتولي أموركم الثابت، ربوبيته والمتحقق الوهيته تحققا لا ريب فيه * (فماذا بعد الحق إلا الضلال) * أي لا يوجد غير الحق شيء يتبع الا الضلال فمن تخطى الحق وهو عبادة الله تعالى وحده لا بد وإن يقع في الضلال وهو عبادة غيره سبحانه على الانفراد أو الاشتراك لأن عبادته جل شأنه مع الاشتراك لا يعتد بها - فما - اسم استفهام و - ذا - موصول، ويجوز أن يكون الكل اسما واحدا قد غلب فيه الاستفهام على اسم الإشارة، وهو مبتدأ خبره * (بعد الحق) * على ما في النهر والاستفهام إنكاري بمعنى إنكار الوقوع ونفيه، و * (بعد) * بمعنى غير مجاز والحق ما علمت، وهو غير الأول ولذا أظهر، وإطلاق - الحق - على عبادته سبحانه وكذا اطلاق - الضلال - على عبادة غيره تعالى لما أن المدار في العبادة الاعتقاد، وجوز أن يكون - الحق - عبارة عن الأول والاظهار لزيادة التقرير ومراعاة كمال المقابلة بينه وبين الضلال والمراد به هو الأصنام، والمعنى فماذا بعد الرب الحق الثابت ربوبيته إلا الضلال أي الباطل الضائع المضمحل وإنما سمي بالمصدر مبالغة كأنه نفس الضلال والضياع، وقيل: المراد بالحق والضلال ما يعم التوحيد وعبادة غيره سبحانه وغير ذلك ويدخل ما يقتضيه المقام هنا دخولا أولياء، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أشهب قال: سئل مالك عن شهادة اللعاب بالشطرنج والنرد فقال أما من أدمن فما أرى شهادتهم طائلة يقول الله تعالى: * (فماذا بعد الحق إلا الضلال) * فهذا كله من الضلال. * (فأني تصرفون) * أي فكيف تصرفون عن الحق إلى الضلال والاستفهام إنكاري بمعنى إنكار الواقع واستبعاده والتعجب منه، وفيه من المبالغة ما ليس في توجيه الإنكار إلى نفس الفعل فإنه لا بد لكل موجود من أن يكون وجوده على حال من الأحوال فإذا انتفى جميع أحوال وجوده فقد انتفى وجوده على الطريق البرهاني والفاء لترتيب الإنكار والتعجب على ما قبله، ولعل ذلك الإنكار والتعجب متوجهان في الحقيقة إلى منشأ الصرف وإلا فنفس الصرف منه تعالى على ما هو الحق فلا معنى لإنكاره والتعجب منه مع كونه فعله جل شأنه، وإنما لم يسند الفعل إلى الفاعل لعدم تعلق غرض به. وذهب المعتزلة أن فاعل الصرف نفسه المشركون فهم الذين صرفوا أنفسهم وعدلوا بها عن الحق إلى الضلال بناء على أن العباد هم الخالقون لأفعالهم، وأمر الإنكار والتعجب عليه ظاهر، وإنما لم يسند الفعل إلى ضميرهم على جهة الفاعلية إشارة إلى أنه بلغ من الشناعة إلى حيث أنه لا ينبغي أن يصرح بوقوعه منهم فتدبر.
* (كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون * قل هل من شركآئكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون) *
* (كذالك) * أي كما حقت كلمة الربوبية لله سبحانه وتعالى أو كما أنه ليس بعد الحق إلا الضلال أو كما أنهم مصرفون عن الحق * (حقت كلمت ربك) * أي حكمه * (على الذين فسقوا) * أي تمردوا في الكفر وخرجوا إلى أقصى حدوده، والمراد بهم أولئك المخاطبون، ووضع الموضول موضع ضميرهم للتوصل إلى ذمهم بعنوان الصلة وللاشعار بالعلية * (أنهم لا يؤمنون) * بدل من الكلمة بدل كل من كل أو بدل اشتمال بناء على أن الحكم بالمعنى المصدري أو بمعنى المحكوم به، وقد تفسر الكلمة بالعدة بالعذاب فيكون هذا في موضع التعليل لحقيتها أي لأنهم الخ، واعترض بأن محصل الآية حينئذ على ما تقرر في الذين فسقوا أن كلمة العذاب حقت على أولئك المتمردين لتمردهم في كفرهم ولأنهم لا يؤمنون وهو تكرار لا طائل تحته، وأجيب بأنه لو سلم أن في الآية تكرارا مطلقا فهو تصريح بما علم ضمنا، وفيه دلالة على شرف الإيمان بأن عذاب المتمردين في الكفر بسبب انتفاء الإيمان * (قل هل من شركائ - كم من يبدؤا الخلق ثم يعيده) * احتجاج آخر على حقية التوحية
112

وبطلان الاشراك، ولم يعطف إيذانا باستقلاله في إثبات المطلوب، والسؤال للتبكيت والإلزام، وجعل سبحانه الإعادة لسطوع البراهين القائمة عليها بمنزلة البدء في إلزامهم ولم يبال بإنكارهم لها لأنهم مكابرون فيه والمكابر لا يلتفت إليه فلا يقال: إن مثل هذا الاحتجاج إنما يتأتى على من اعترف بأن من خواص الإلهية بدء الخلق ثم إعادته ليلزم من نفيه عن الشركاء نفي الإلهية وهم غير مقرين بذلك، ففي الآية الإشارة إلى أن الإعادة أمر مكشوف ظاهر بلغ في الظهور والجلاء بحيث يصح أن يثبت فيه دعوى أخرى، وجعل ذلك الطيبي من صنعة الادماج كقول ابن نباتة: فلا بد لي من جهلة في وصاله * فمن لي بخل أودع الحلم عنده
فقد ضمن الغزل الفخر بكونه حليما والفخر شكاية الإخوان * (قل الله يبدؤ االخلق ثم يعيده) * قيل هو أمر له صلى الله عليه وسلم بأن يبين لهم من يفعل ذلك أي قل لهم الله سبحانه هو يفعلهما لا غيره كائنا ما كان لا بأن ينوب عليه الصلاة والسلام عنهم في الجواب كما قاله غير واحد لأن المقول المأمور به غير ما أريد منهم من الجواب وإن كان مستلزما له إذ ليس المسؤول عنه من يبدأ الخلق ثم يعيده كما في قوله سبحانه: * (قل من رب السموات والأرض قل الله) * (الرعد: 16) حتى يكون القول المأمور به عين الجواب الذي أريد منهم ويكون صلى الله عليه وسلم نائبا عنهم في ذلك بل إنما هو وجود من يفعل البدء والإعادة من شركائهم فالجواب المطلوب منهم لا لا غير. نعم أمر صلى الله عليه وسلم بأن يضمنه مقالته إيذانا بتعينه وتحتمه وإشعارا بأنهم لا يجترئون على التصريح به مخافة التبكيت والقام الحجر لا مكابرة ولجاجا انتهى، وقد يقال: المراد من قوله سبحانه: * (هل من شركائكم) * الخ هل المبدىء المعيد الله أم الشركاء، والمراد من قوله سبحانه جل شأنه: * (الله) * الخ الله يبدأ ويعيد لا غيره من الشركاء وحينئذ ينتظم السؤال والجواب وانفهام الحصر بدلالة الفحوى فإنك إذا قلت: من يهب الألوف زيد أم عمرو فقيل: زيد يهب الألوف أفاد الحصر بلا شبهة.
وبما ذكر يعلم ما في الكلام السابق في الرد على ما قاله الجمع وكذا رد ما قاله القطب من أن هذا لا يصلح جوابا عن ذلك السؤال لأن السؤال عن الشركاء وهذا الكلام في الله تعالى بل هو الاستدلال على الهيته تعالى وإنه الذي يستحق العبادة بأنه المبدىء المعيد بعد الاستدلال على نفي الهية الشركاء فتأمل، وفي إعادة الجملة في الجواب بتمامها غير محذوفة الخبر كما في الجواب السابق لمزيد التأكيد والتحقيق * (فأنى تؤفكون) * الإفك الصرف والقلب عن الشيء يقال: أفكه عن الشيء يأفكه أفكا إذا قلبه عنه وصرفه، ومنه قول عروة بن أذينة: إن تك عن أحسن الصنيعة مأ * فوكا ففي آخرين قد أفكوا
وقد يخص كما في " القاموس " بالقلب عن الرأي ولعله الأنسب بالمقام أي كيف تقلبون من الحق إلى الباطل والكلام فيه كما تقدم في * (فأنى تصرفون) * (يونس: 32).
* (قل هل من شركآئكم من يهدىإلى الحق قل الله يهدى للحق أفمن يهدىإلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدىإلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون) *
* (قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق) * احتجاج آخر على ما ذكر جىء به إلزاما غب إلزام وإفحاما إثر إفحام. وفصله إيذانا بفضله واستقلاله في إثبات المطلوب كما في سابقه.
والمراد هل من يهدي إلى الحق بإعطاء العقل وبعثة الرسل وإنزال الكتب والتوفيق إلى النظر والتدبر بما نصب في الآفاق والأنفس إلى غير ذلك الله سبحانه أم الشركاء؟. ومنهم من يبقى الكلام على ما يتبادر منه كما سمعت فيما قبل، ومن الناس من خصص طريق الهداية، والتعميم أوفق بما يقتضيه المقام من كمال التبكيت والإلزام كما لا يخفى * (قل الله يهدي للحق) * أي هو سبحانه يهدي له دون غيره جل شأنه، والكلام في
113

الأمر على طرز ما سبق، وفعل الهداية يتعدى إلى اثنين ثانيهما بواسطة وهي إلى أو اللام وقد يتعدى لهما بنفسه وهو لغة على ما قيل كاستعماله قاصرا بمعنى اهتدى، والمبرد أنكر هذا حيث قال: إن هدى بمعنى اهتدى لا يعرف لكن لم يتابعه على ذلك الحفاظ كالفراء وغيره، وقد جمع هنا بين صلتيه إلى واللام تفننا وإشارة بإلى إلى معنى الانتهاء وباللام للدلالة على أن المنتهى غاية للهداية وأنها لم تتوجه إليه على سبيل الاتفاق بل على قصد من الفعل وجعله ثمرة له ولذلك عدى بها ما أسند إليه سبحانه كما ترى، وأما قوله تعالى: * (أفمن يهدي إلى الحق) * فالمقصود به التعميم وإن كان الفاعل في الواقع هو الله جل شأنه.
وقيل: اللام هنا للاختصاص والجمهور على الأول، والمفعول محذوف في المواضع الثلاثة، وجواز اللزوم في الأول مما لا يلتفت إليه، ويقدر فيها على طرز واحد كالشخص ونحوه، وقيل: التقدير قل هل من شركائكم من يهدي غيره إلى الحق قل الله يهدي من يشاء إلى الحق أفمن يهدي غيره إلى الحق * (أحق أن يتبع أمن لا يهدى) * بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال وهي قراءة يعقوب. وحفص، وأصله يهتدي وكسر الهاء لالتقاء الساكنين. وقرأ حماد. ويحيى عن أبي بكر عن عاصم بكسر الياء والهاء والتشديد وكسرت الياء اتباعا للهاء، وكان سيبويه يرى جواز كسر حرف المضارعة لغة إلا الياء لثقل الكسرة عليها وهذه القراءة حجة عليه. وقرأ ابن كثير. وورش عن نافع. وابن عامر بفتح الياء والهاء والتشديد والأصل يهتدي فنقلت فتحة التاء إلى الهاء قبلها ثم قلبت دالا لقرب مخرجهما وأدغمت فيها. وقرأ أبو عمرو. وقالون عن نافع كذلك لكنه اختلس فتحة الهاء تنبيها على أن الحركة فيها عارضة، وفي بعض الطرق عن أبي عمرو أنه قرأ بالإدغام المجرد عن نقل الحركة إلى ما قبلها أو التحريك بالكسر لالتقاء الساكنين. واستشكل ذلك بأن فيه الجمع بين الساكنين ولذا قال المبرد: من رام هذا لا بد أن يحرك حركة خفيفة قال ابن النحاس إذ بدونه لا يمكن النطق، وذكر القاضي أنه لم يبال بالتقاء الساكنين لأن المدغم في حكم المتحرك، وأنكر بعضهم هذه القراءة وادعى أنه إنما قرأ بالاختلاس، والحق أنه قرأ بهما وروي ذلك عن نافع أيضا وتفصيله في لطائف الإشارات والطيبة.
وقرأ حمزة. والكسائي * (يهدي) * كيرمي، وهو إما لازم بمعنى يهتدي كما هو أحد استعمالات فعل الهداية على المعول عليه كما علمت آنفا أو متعد أي لا يهدي غيره، ورجح هذا بأنه الأوفق بما قبل فإن المفهوم منه نفي الهداية لا الاهتداء، وقد يرجح الأول بأن فيه توافق القراءات معنى وتوافقها خير من تخالفها، وإنما نفى الاهتداء مع أن المفهوم مما سبق نفي الهداية كما ذكر لما أن نفيها مستتبع لنفيه غالبا فإن من اهتدى إلى الحق لا يخلو عن هداية غيره في الجملة وأدناها كونه قدوة له بأن يراه فيسلك مسلكه، والفاء لترتيب الاستفهام على ما سبق كأنه قيل: إذا كان الأمر كذلك فأنا أسألكم أمن يهدي إلى الحق الخ.، والمقصود من ذلك الإلزام، والهمزة على هذا متأخرة في الاعتبار وإنما قدمت في الذكر لإظهار عراقتها في اقتضاء الصدارة كما هو المشهور عند الجمهور.
وصيغة التفضيل إما على حقيقتها والمفضل عليه محذوف كما اختاره مكي والتقدير أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع ممن لا يهدي أم من لا يهدي أحق، وإما بمعنى
حقيق كما اختاره أبو حيان، وهو خبر عن الموصول، والفصل بالخبر بين أم وما عطفت عليه هو الأفصح كما قال السمين، وقد لا يفصل كما في قوله سبحانه: * (أقريب أم بعيد
114

ما توعدون) * (الأنبياء: 109) والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير، و * (أن يتبع) * في حيز النصب أو الجر بعد حذف الجار على الخلاف المعروف في مثله أو بأن يتبع * (إلا أن يهدى) * استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا يهتدي أو لا يهدي غيره في حال من الأحوال إلا حال هدايته تعالى له إلى الاهتداء أو إلى هداية الغير، وهذا على ما قاله جمع حال أشراف شركائهم كالمسيح وعزير والملائكة عليهم السلام دون الأوثان لأن الاهتداء الذي هو قبول الهداية وهداية الغير مختصان بذوي العلم فلا يتصور فيها. وأخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ. وغيرهما أن المراد الأوثان؛ ووجه ذلك بأنه جار على تنزيلهم لها منزلة ذوي العلم، وقيل: المعنى أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينقل إليه إلا أن ينقل إليه أو إلا أن ينقله الله تعالى من حاله إلى أن يجعله حيوانا مكلفا فيهديه وهو من قولك: هديت المرأة إلى زوجها وقد هديت إليه وقيل: الآية الأولى * (قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده) * (يونس: 34) في الأصنام أو فيما يعمهم ونحو الملائكة عليهم السلام وهذه في رؤساء الضلالة كالأحبار والرهبان الذين اتخذوا أربابا من دون الله وليس بالعيد فيما أرى، ويؤيده التعبير بالاتباع فإنه يقتضي العمل بأوامرهم والاجتناب عن نواهيهم وهذا لا يعقل في الأوثان إلا بتكلف، وهو وإن عقل في أشراف شركائهم لكنهم لا يدعون إلا إلى خير واتباعهم في ذلك لا ينعى على أحدهم اللهم إلا أن يقال: إن المشركين تقولوا عليهم أوامر ونواهي فنعى عليهم اتباعهم لهم في ذلك، وعبر بالاتباع ولم يعبر بالعبادة بأن يقال: أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يعبد أم من لا يهدي إلا أن يهدى مع أن الآية متضمنة إبطال صحة عبادتهم من حيث أنهم لا يهدون وأدنى مراتب العبودية هداية المعبود لعبدته إلى ما فيه صلاح أمرهم مبالغة في تفظيع حال عبادتهم لأنه إذا لم يحسن الاتباع لم تحسن العبادة بالطريق الأولى وإذا قبح حال ذاك فحال هذه أقبح والله تعالى أعلم. وقرىء إلا أن * (يهدي) * مجهولا مشددا دلالة على المبالغة في الهداية * (فمالكم) * أي أي شيء لكم في اتخاذ هؤلاء العاجزين شركاء لله سبحانه وتعالى، والكلام مبتدأ وخبر والاستفهام للإنكار والتعجب.
وعن بعض النحاة أن مثل هذا التركيب لا يتم بدون حال بعده نحو قوله تعالى: * (فما لكم عن التذكرة معرضين) * فلعل الحال هنا محذوف لظهوره كأنه قيل: فما لكم متخذين هؤلاء شركاء ولا يصح أن يكون قوله عز وجل: * (كيف تحكمون) * في موضع الحال لأن الجملة الاستفهامية لا تقع حالا بل هو استفهام آخر للإنكار والتعجب أيضا أي كيف تحكمون بالباطل الذي يأباه صريح العقل ويحكم ببطلانه من اتخاذ الشركاء لله جل وعلا، والفاء لترتيب الإنكار على ما ظهر من وجوب اتباع الهادي.
* (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغنى من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون) *
* (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا) * كلام مبتدأ غير داخل في حيز الأمر مسوق من جهته تعالى لبيان سوء إدراكهم وعدم فهمهم لمضمون ما أفحمهم من البراهين النيرة الموجبة للتوحيد أي ما يتبع أكثرهم في معتقداتهم ومحاوراتهم إلا ظنا واهيا مستند إلى خيالات فارغة وأقيسة باطلة كقياس الغائب على الشاهد وقياس الخالق على المخلوق بأدنى مشاركة موهومة ولا يلتفتون إلى فرد من أفراد العلم فضلا عن أن يسلكوا مسالك الأدلة الصحيحة الهادية إلى الحق فيفهموا مضمونها ويقفوا على صحتها وبطلان ما يخالفها، فالمراد بالاتباع مطلق الانقياد الشامل لما يقارن القبول والانقياد وما لا يقارنه وبالقصر ما أشير إليه من أن لا يكون لهم في أثنائه اتباع لفراد من أفراد العلم والتفات إليه. وتنكير * (ظنا) * للنوعية، وفي تخصيص هذا الاتباع بالأكثر الإشارة إلى أن منهم من قد يتبع فيقف
115

على حقيقة التوحيد لكن لا يقبله مكابرة وعناداف، ومقتضى ما ذكروه في وجه أمره صلى الله عليه وسلم بأن ينوب عنهم في الجواب من أنه الإشارة إلى أن لجاجهم وعنادهم يمنعهم من الاعتراف بذلك أن فيهم من علم وكان معاندا، ولعل النيابة حينئذ عن الجميع باعتبار هذا البعض، وجوز أن يكون المعنى ما يتبع أكثرهم مدة عمره إلا ظنا ولا يتركونه أبدا، فإن حرف النفي الداخل على المضارع يفيد استمرار النفي بحسب المقام فالمراد بالاتباع هو الإذعان والانقياد والقصر باعتبار الزمان، وفي التخصيص تلويح بما سيكون من بعضهم من اتباع الحق والتوبة، وقيل: المعنى وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالله تعالى إلا ظنا لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم، وقيل: المعنى وما يتبع أكثرهم في قولهم للأصنام أنها آلهة وأنها شفعاء عند الله إلا الظن، والأكثر بمعنى الجميع وهذا كما ورد القليل بمعنى العدم في قوله تعالى: * (فقليلا ما يؤمنون) * (البقرة: 88) وفي قوله: قليل التشكي في المصيبات حافظ * من اليوم أعقاب الأحاديث في غد
وحمل النقيض على النقيض حسن وطريقة مسلوكة، ولا يخفى أنه لا يتعين على هذين القولين حمل الأكثر على الجميع بل يمكن حمله على ما يتبادر منه أيضا، ومن الناس من جعل ضمير * (أكثرهم) * للناس وحينئذ يجب الحمل على المتبادر بلا كلفة * (إن الظن) * مطلقا * (لا يغني من الحق شيئا) * فكيف الظن الفاسد والمراد من الحق العلم والاعتقاد الصحيح المطابق للواقع، والجار متعلق بما قبله * (وشيئا) * نصب على أنه مفعول مطلق أي إغناء ما، ويجوز أن يكون مفعولا به والجار والمجرور في موضع الحال منه، والجملة استئناف لبيان شأن الظن وبطلانه، وفيه دليل لمن قال: إن تحصيل العلم في الاعتقاديات واجب وإن إيمان المقلد غير صحيح، وإنما لم يؤخذ عاما للعمليات لقيام الدليل على صحة التقليد والاكتفاء بالظن فيها كما قرر في موضعه.
* (إن الله عليم بما يفعلون) * وعيد لهم على أفعالهم القبيحة ويندرج فيها ما حكى عنهم من الإعراض عن البراهين القاطعة واتباع الظنون الفاسدة اندراجا أوليا. وقرىء * (تفعلون) * بالالتفات إلى الخطاب لتشديد الوعيد.
* (وما كان ه‍اذا القرءان أن يفترى من دون الله ول‍اكن تصديق الذى بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب الع‍المين) *
* (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله) * شروع في بيان حالهم من القرآن إثر بيان حالهم مع الأدلة المندرجة في تضاعيفه أو استئناف لبيان ما يجب اتباعه
والبرهان عليه غب المنع مع اتباع الظن، وقيل: إنه متعلق بما قصه الله تعالى من قولهم: * (ائت بقرآن غير هذا) * (يونس: 15) وقيل: بقوله سبحانه: * (ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه) * (يونس: 20) الخ ولا يخفى ما في ذلك من البعد * (وكان) * هنا ناقصة عند كثير من الكاملين * (وهذا) * اسمها * (والقرآن) * نعت له أو عطف بيان * (وأن يفترى) * بتأويل المصدر أي افتراء خبر * (كان) * وهو في تأويل المفعول أي مفترى كما ذكره ابن هشام في قاعدة أن اللفظ بد يكون على تقدير وذلك المقدر على تقدير آخر، ومنه قوله: لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى
وذهب بعض المعربين أن * (ما كان) * بمعنى ما صح وأن في الكلام لا ما مقدرة لتأكيد النفي، والأصل ما كان هذا القرآن لأن يفتري كقوله تعالى: * (وما كان المؤمنين لينفروا كافة) * (التوبة: 122) * (وأن يفترى) * خبر كان * (ومن دون الله) * خبر ثان وهو بيان للأول، أي ما صح ولا استقام أن يكون هذا القرآن المشحون بفنون الهدايات المستوجبة للاتباع التي حمن جملتها هاتيك الحجج البينة الناطقة بحقية التوحيد وبطلان الشرك صادرا من غير الله تعالى كيف كان، وقيل عليه ما قيل لكنه لا ينبغي العدول عما قاله في محل * (من دون الله) * وما ذكر في حاصل المعنى أمر مقبول كمالا يخفى، وجوز البدر
116

الدماميني أن تكون * (كان) * تامة * (وأن يفترى) * بدل اشتمال من * (هذا القرآن) * وتعقب بأنه لا يحسن قطعا لأن ما وجد القرآن يوهم من أول الأمر نفي وجوده وأيضا لا بد من الملابسة بين البدل والمبدل منه في بدل الاشتمال فيلزم أن يبتني الكلام على الملابسة بين القرآن العظيم والافتراء وفي التزام كل ما ترى، وأجيب عن ذلك بما لا أراه مثبتا للحسن أصلا، واقتصر بعضهم على اعتبار المصدر من غير تأويله باسم المفعول اعتبارا للمبالغة على حد ما قيل في زيد عدل، والظاهر عندي أن المبالغة حينئذ راجعة إلى النفي نظير ما قيل في قوله تعالى: * (وما ربك بظلام للعبيد) * (آل عمران: 182) لا أن النفي راجع إلى المبالغة كما لا يخفى، ومن هنا يعلم ما في قول بعض المحققين: إن قول الزمخشري في بيان معنى الآية: وما صح وما استقام وكان محالا أن يكون مثله في علو أمره وإعجازه مفترى ربما يشعر بأنه على حذف اللام إذ مجرد توسيط - كان - لا يفيد ذلك والتعبير بالمصدر لا تعلق له بتأكيد معنى النفي من النظر، ثم إنهم فيما رأينا لم يعتبروا المصدر هنا إلا نكرة، والمشهور اتفاق النحاة على أن أن والفعل المؤول بالمصدر معرفة ولذلك لا يخبر به عن النكرة، وكأنه مبني على ما قاله ابن جني في الخاطريات من أنه يكون نكرة وذكر أنه عرضه على أبي علي فارتضاه. واستشكل بعضهم هذه الآية بأن أن تخلص المضارع للاستقبال كما نص على ذلك النحويون، والمشركون إنما زعموا كون القرآن مفترى في الزمان الماضي كما يدل عليه ما يأتى إن شاء الله تعالى فكيف ينبغي كونه مفترى في الزمان المستقبل. وأجيب عنه بأن الفعل فيها مستعمل في مطلق الزمان وقد نص على جواز ذلك في الفعل ابن الحاجب. وغيره ونقله البدر الدماميني في شرحه لمغني اللبيب، ولعل ذلك من باب المجاز، وحينئذ يمكن أن يكون نكتة العدول عن المصدر الصريح مع أنه المستعمل في كلامهم عند عدم ملاحظة أحد الأزمنة نحو أعجبني قيامك أن المجاز أبلغ من الحقيقة، وقيل: لعل النكتة في ذلك استقامة الحمل بدون تأويل للفرق بين المصدر الصريح والمؤول على ما أشار إليه شارح اللباب. وغيره، ولا يخفى أن فيه مخالفة لما مرت الإشارة إليه من أن أن والفعل في تأويل المصدر وهو في تأويل المفعول.
قيل: وقد يجاب أيضا عن أصل الإشكال بأنه إنما نفى في الماضي إمكان تعلق الافتراء به في المستقبل وكونه محلا لذلك فينتفي تعلق الافتراء بالفعل من باب أولى، وفي ذلك سلوك طريق البرهان فيكون في الكلام مجاز أصلي أو تبعي، وقد نص أبو البقاء على جواز كونه الخبر محذوفا وأن التقدير وما كان هذا القرآن ممكنا أن يفترى، وقال العلامة ابن حجر: إن الآية جواب عن قولهم: * (ائت بقرآن غير هذا أو بدله) * وهو طلب للافتراء في المستقبل، وأما الجواب عن زعمهم أنه عليه الصلاة والسلام افتراه وحاشاه فسيأتي عند حكاية زعمهم ذلك فلا إشكال، على أن عموم تخليص أن المضارع للاستقبال في حيز المنع، لم لا يجوز أن يكون ذلك فيما عدا خبر كان المنفية كما يرشد إليه قوله سبحانه: * (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) * (التوبة: 113) فإنه نزل عن استغافار سبق منهم للمشركين كما قاله أئمة التفسير، وقد أطال الكلام على ذلك في ذيل فتاويه فتبصر.
* (ولكن تصديق الذي بين يديه) * أي من الكتب الإلهية كالتوراة والإنجيل، فالمراد من الموصول الجنس، وعنى بالتصديق بيان الصدق وهو مطابقة الواقع وإظهاره وإضافته إما لفاعله أو مفعوله، وتصديق الكتب له بأن ما فيه من العقائد الحقة مطابق لما فيها وهي مسلمة عند أهل الكتاب وما عداهم إن اعترف بها وإلا فلا عبرة به.
117

وفي جعل الإضافة للمفعول مبالغة في نفي الافتراء عنه لأن ما يثبت ويظهر به صدق غيره فهو أولى بالصدق، ووجه كونه مصدقا لها أنه دال على نزولها من عند الله تعالى ومشتمل على قصص الأولين حسبما ذكر فيها وهو معجز دونها فهو الصالح لأن يكون حجة وبرهانا لغيره لا بالعكس، وزعم بعضهم أن المراد من * (الذي بين يديه) * أخبار الغيوب والإضافة للفاعل، وتصديقها له مجيئها على وفق ما أخبر به وليس بشيء، ونصب - التصديق - على العطف على خبر - كان - أو على أنه خبر لكان مقدرة، وقيل: على أنه مفعول لأجله لفعل مقدر. أي أنزل لتصديق ذلك، وجعل العلة هنا ما ذكر مع أنه أنزل لأمور لأنه المناسب لمقام رد دعوى افترائه، وقيل: نصب على المصدرية لفعل مقدر أي صدق تصديق الخ، وقرأ عيسى بن عمرو الثقفي برفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ولكن هو تصديق الخ وكذا قرأ بالرفع في قوله تعالى: * (وتفصيل الكتاب) * أي ما كتب وأثبت من الحقائق والشرائع، والعطف نصبا أو رفعا على * (تصديق) * وقوله سبحانه: * (لا ريب فيه) * خبر آخر للكن أو للمبتدأ المقدر، وفصل لأنه جملة مؤكدة لما قبلها، وجوز أن يكون حالا من الكتاب وإن كان مضافا إليه فإنه مفعول في المعنى وأن يكون استئنافا نحويا لا محل له من الإعراب أو بيانيا جوابا للسؤال عن حال الكتاب والأول أظهر، والمعنى لا ينبغي لعاقل أن يرتاب فيه لوضوح برهانه وعلو شأنه * (من رب العالمين) * خبر آخر لكان أو المبتدأ المقدر كما مر في سابقه أو متعلق بتصديق أو بتفصيل أو بالفعل المعلل بهما أو متعلق بمحذوف وقع حالا من الكتاب و * (لا ريب فيه) * اعتراض لئلا يلزم الفصل بالأجنبي بين المتعلق والمتعلق أو الحال وذيها. وجوز أن يكون حالا من الضمير المجرور في * (فيه) *.
* (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم ص‍ادقين) *
* (أم يقولون افتراه) * أم منقطعة وهي مقدرة ببل والهمزة عند سيبويه والجمهور أي بل أيقولون، وبل انتقالية والهمزة لإنكار الواقع واستبعاده أي ما كان ينبغي ذلك، وجوز أن تكون للتقرير لإلزام الحجة والمعنيان على ما قيل متقاربان، وقيل: إن أم متصلة ومعادلها مقدر أي أتقرون به أم تقولون افتراه، وقيل: هي استفهامية بمعنى الهمزة، وقيل: عاطفة بمعنى الواو والصحيح الأول، وأيا ما كان فالضمير المستتر للنبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يذكر لأنه معلوم من السياق * (قل) * تبكيتا لهم وإظهارا لبطلان مقالتهم الفاسدة إن كان الأمر كما تقولون * (فأتوا بسورة) * طويلة كانت أو قصيرة * (مثله) * في البلاغة وحسن الارتباط وجزالة المعنى على وجه الافتراء، وحاصله على ما قيل: إن كان ذاك افتراء مني فافتروا سورة مثله فإنكم مثلي في العربية والفصاحة وأشد تمرنا واعتيادا في النظم والنثر، وعلى هذا فالمراد بإتيان المخاطبين بذلك إنشاؤهم له والتكلم به من عند أنفسهم لا ما يعم ذلك وإيراده من كلام الغير ممن تقدم، وجوز أن يكون المراد ما ذكر ولعله السر في العدول عن قولوا سورة مثله مثلا إلى ما في النظم الكريم، أي إن كان الأمر كما زعمتم فأتوا من عند أنفسكم أو ممن تقدمكم من فصحاء العرب وبلغائها كامرىء القيس وزهير وأضرابهما بسورة مماثلة له في صفاته الجليلة فحيث عجزتم عن ذلك مع شدة تمرنكم ولم يوجد في كلام أولئك وهم الذن نصبت لهم المنابر في عكاظ الفصاحة والبلاغة وبهم دارت حا النظم والنثر وتصرمت أيامهم في الإنشاء والإنشاد دل على أنهل يس من كلام البشر بل هو من كلام خالق القوى والقدر. وقرىء * (بسورة مثله) * على الإضافة أي بسورة كتاب مثله * (وادعوا) * للمعاونة والمظاهرة.
* (من استطعتم) * دعاءه والاستعانة به من آلهتكم التي تزعمون إنها ممدة لكم في المهمات والملمات والمداراة الذين
118

تلجؤون إليهم في كل ما تأتون وتذرون * (من دون الله) * متعلق بادعوا كما قيل و * (من) * ابتدائية على معنى أن الدعاء مبتدأ من غيره تعالى لا ملابسة له معه جل شأنه بوجه، وجوز أن يكون متعلقا بما عنده ومن بيانية أي ادعوا من استطعتم من خلقه ولا يخلو عن حسن.
وفائدة هذا القيد قيل: التنصيص على براءتهم منه تعالى وكونهم في عدوة المضادة والمشاقة، وليس المراد به إفادة استبداده تعالى بالقدرة على ما كلفوه فإن ذلك مما يوهم أنهم لو دعوه لأجابهم إليه، وقد يقال: لا بأس بإفادة ذلك لأن الاستبداد المذكور مما يؤيد المقصود وهو كون ما أتى به صلى الله عليه وسلم لم يكن من عند نفسه بل هو منه تعالى، والإيهام مما لا يلتفت إليه فإن دعاءهم إياه تعالى بمعنى طلبهم منه سبحانه وتعالى أن يأتي بما كلفوه مستبدا به ممالا يكاد يتصور لأنه ينافي زعمهم السابق كما لا يخفى فتأمل * (إن كنتم ص‍ادقين) * في أنى افتريته فإن ذلك مستلزم لإمكان الإتيان بمثله وهو أيضا مستلزم لقدرتكم عليه وجواب * (إن) * محذوف لدلالة المذكور عليه، وفي هذه الآية دلالة على إعجاز القرآن لأنه عليه الصلاة والسلام تحدي مصاقع العرب بسورة ما منه فلم يأتوا بذلك وإلا لنقل إلينا لتوفر الدواعي إلى نقله. وزعم بعض الملاحدة أنه لا يلزم من عجزهم عن الإتيان بذلك كونه من عند الله تعالى قطعا فإنه قد يتفق في الشخص خصوصية لا توجد في غيره فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان مخصوصا بهذه المرتبة من الفصاحة والبلاغة ممتازا بها عن سائر العرب فأتى بما أتى دونهم، وقد جاء من بعضا لطرق أنه صلى الله عليه وسلم قال: " أنا أفصح العرب بيد أني من قريش " وأجيب بأنه صلى الله عليه وسلم وإن كان في أقصى الغايات من الفصاحة حتى كأن الله تعالى شأنه وعزت قدرته مخض اللسان العربي وألقى زبدته على لسانه صلى الله عليه وسلم فما من خطب يقاومه الأنكص متفكك الرجل وما من مصقع يناهزه إلا رجع فارغ السجل إلا أن كلامه صلى الله عليه وسلم لا يشبه ما جاء به من القرآن وكلام شخص واحد متشابه كما لا يخفى على ذوي الأذواق الواقفين على كلام البلغاء قديما وحديثا.
وتعقب بأنه لا يدفع ذلك الزعم لما فيه ظاهرا من تسليم كون كلامه عليه الصلاة والسلام معجزا لا تستطاع معارضته وحينئذ العجز عن معارضة القرآن يجعله دائرا بين كونه كلامه تعالى وكونه كلامه صلى الله عليه وسلم ولا يثبت كونه كلام الله عز وجل إلا بضم امتيازه على كلامه صلى الله عليه وسلم والزاعم لم يدع إلا عدم لزوم كونه من عند الله تعالى قطعا من عجزهم عن الإتيان بذلك، وأيضا ينافي هذا التسليم ما تقدم في بيان حاصل * (فأتوا بسورة مثله) * حيث علل بأنكم مثلي في العربية والفصاحة الخ، ومن هنا قيل: الأوجه في الجواب أن يلتزم عدم إعجاز كلامه صلى الله عليه وسلم مع كونه عله الصلاة والسلام أفصح العرب ولا منافاة بينهما كما لا يخفى على المتأمل. وأطال بعضهم الكلام في هذا المقام، وبعض أدرج مسألة خلق الأفعال في البين وجعل مدار الجواب مذهب الأشعري فيها ولعل الأمر غني عن الإطالة عند من انجاب عن عين بصيرته الغين.
* (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان ع‍اقبة الظ‍المين) *
* (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه) * قيل: هو إضراب وانتقال عن إظهار بطلان ما قالوا في حق القرآن العظيم بالتحدي إلى إظهاره ببيان أنه كلام ناشىء عن عدم علمهم بكنه أمره والاطلاع على شأنه الجليل فما عبارة عن القرآن وهو المروى عن الحسن وعليه محققو المفسرن، وقيل: هي عبارة عما ذكر فيه مما يخالف دينهم كالتوحيد والبعث والجزاء وليس بذاك سواء كانت الباء للتعدية كما هو المتبادر أم للسببية، والمراد أنهم سارعوا إلى تكذيبه من غير أن يتدبروا ما فيه ويقفوا على ما في تضاعيفه من الشواهد الدالة على كونه كما وصف آنفا ويعلموا أنه ليس مما يمكن أن
119

يؤتى بسورة مثله، والتعبير عنه بهذا العنوان دون أن يقال: بل كذبوا به من غير أن يحيطوا بعلمه أو نحوه للإيذان بكمال جهلهم به وأنهم لم يعلموه إلا بعنوان عدم العلم به وبأن تكذيبهم به إنما هو بسبب عدم إحاطتهم بعلمه لما أن تعليق الحكم بالموصول مشعر بعلية ما في حيز الصلة له، وأصل الكلام بما لم يحيطوا به علما إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الكريم لأنه أبلغ * (ولما يأتهم تأويله) * عطف على الصلة أو حال من الموصول أي ولم يقفوا بعد على معانيه الوضعية والعقلية المنبئة عن علو شأنه وسطوح برهانه، فالتأويل نوع من التفسير، والإتيان مجاز عن المعرفة والوقوف، ولعل اختياره للإشعار بأن تلك المعاني متوجهة إلى الأذهان منساقة إلها بنفسها،
وجوز أن يراد بالتأويل وقوع مدلوله وهو عاقبته وما يؤول إليه وهو المعنى الحققي عند بعض فإتيانه حينئذ مجاز عن تبينه وانكشافه، أي ولم يتبين لهم إلى الآن تأويل ما فيه من الأخبار بالغيوب حتى يظهر أنه صدق أم كذب. والمعنى أن القرآن معجز من جهة النظم. والمعنى ومن جهة الإخبار بالغيب وهم فاجؤوا تكذيبه قبل أن يتدبروا نظمه ويتفكروا في معناه أو ينتظروا وقوع ما أخبر به من الأمور المستقبلة، ونفى إتيان التأويل بكلمة * (لما) * الدالة على توقع منفيها بعد نفي الإحاطة بعلمه بكلمة - لم - لتأكيد الذم وتشديد التشنيع فإن الشناعة في تكذيب الشيء قبل علمه المتوقع إتيانه أفحش منها في تكذيبه قبل علمه مطلقا.
وادعى بعضهم أن الإضراب عن التكذيب عنادا المدلول عليه بقوله سبحانه: * (قل فأتوا) * الخ فإن الإلزام إنما يأتي بعد ظهور العجز، ومعنى هذا الإضراب ذمهم على التقلد وترك النظر مع التمكن منه وهو أدخل في الذم من العناد من وجه، وذلك لأن التقليد اعتراف من صاحبه بالقصور في الفطنة ثم لا يعذر فيه فلا يرتضي ذو عقل أن يقلد رجلا مثله من غير تقدم عله بفطنة وتجربة وأما العناد فقد يحمده بعض النفوس الأبية بل في أشعارهم ما يدل على أنهم مفتخرون بذلك كقولهم: فعاند من تطيق له عنادا
ولا رد أن العناد لما كان بعد العلم كان أدخل في الذم فلا نسلم أنه أدخل فيه من التقليد بل من الجهل قبل التدبر دون اقتران التقليد به، وإن سلم فهذا أيضا أدخل من وجه، وقد جعل مصب الإنكار على جمعهم بن الأمرين والجمع على كل حال أدخل من التفرد بواحد صح الإضراب فكأنه قيل: دع تحديهم وإلزامهم فإنهم لا يستأهلون الخطاب لأنهم مقلدون متهافتون في الأمر لا عن خبر وحجى. وقد ذكر الزمخشري في هذا المقام ثلاثة أوجه، الوجه الأول أن التقدير أم كذبوا وقالوا هو مفترى بعد العلم بإعجازه عنادا بل كذبوا به قبل أن يأتيهم العلم بوجه إعجازه أيضا فهم مستمرون على التكذيب في الحالين مذمومون به موسومون برذيلتي التقليد والعناد جامعون بينهما بالنسبة إلى وقتين، ووجه ذلك بأن * (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه) * صريح في تكذيبهم قبل العلم بوجه الإعجاز * (ولما يأتهم تأويله) * يدل على امتداد هذا التكذيب إلى مجىء التأويل المنتظر بالنسبة إلى تكذيبهم قبل لا بالنسبة إلى زمان الإخبار فإن التأويل أيضا واقع، وحينئذ إما أن يكون التكذيب قد زال فلا يتوجه عليهم الذم بالتكذيب الأول وإما أن يكون مستمرا وهو الواجب ليصح كونه واردا ذما لهم بالتسرع إلى التكذب الذي هو منطوق النص فيجب أن يكون العطف على قوله سبحانه: * (أم يقولون افتراه) * (يونس: 38) ويكون ذلك لبيان أنهم كذبوا عن علم وهذا لبيان تكذيبهم قبله أيضا ويكون الجهتان منظورتين وأنهم مذمومون فيهما.
والحاصل أن * (أم يقولون افتراه) * لا مرية فيه أنه تكذيب بعد العلم لمكان الأمر بعده. لكن لما جعل التوقع
120

المفاد بلما لعلم الإعجاز لزم أن يكون بالنسبة إلى حالهم الأولى وهو التكذيب قبل العلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوقع زواله بالعلم ويكون معنى المبالغة في * (لما) * الإشعار باستغراق الوقت للتكذيب إلى زمان التأويل المنتظر الواقع الذي كذبوا فيه عنادا وبغيا.
الوجه الثاني: حمل التأويل على المعنى الثاني الذي ذكرناه. والمعنى بل سارعوا إلى التكذيب قبل الإحاطة بعلمه ليعرفوا إعجاز نظمه، وقيل: إتيان التأويل المنتظر وهو ما يؤول إليه من الصدق في الإخبار بالمغيبات، والمقصود من هذا ذمهم بالتسارع إلى التكذيب من الوجهين لكن لما كان مع الوجهين علم ما يتضمنه لو يدبروا لم يكن فيه شيء منتظر والثاني لما لم يكن كذلك كان فه أمر منتظر، وأتى بحرف التوقع دليلا عن أن هذا المنتظر كائن وسيظهر أنهم مبطلون فيه أيضا كالأول ولا نظر إلى أنهم مذمومون حالتي العناد والتقليد بل المقصود كمال إظهار الإلزام بأنه مفروغ عنه مع أمثالهم للتهافت المذكور.
الوجه الثالث أن * (أم يقولون افتراه) * ذم لطائفة كذبوا عن علم وهذا ذم لأخرى كذبت عن شك ولما وجد فيما بينهم القسمات أسند الكل إلى الكل وليس بدعا في القرآن، والغرض من الاضراب تعميم التكذيب وانه كان الواجب على الشاك التوقف لا التسرع إلى التكذيب ومعنى التوقع أنه سيزل شكهم فسيعلم بعضهم ويبقى بعض على ما هو عليه، والآية ساكتة عن التفصيل ناطقة بزوال الشك ولا خفاء أن الشاك ينتظر وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يتوقع زوال شكهم انتهى، ولا يخفى أن ما نقلنا أولا أولى بالقبول عند ذوي العقول.
وأورد على دعوى أن * (أم يقولون افتراه) * تكذيب بعد العلم أنها ناشئة من عدم العلم وما سيق لاثباتها في حيز المنع فإن الإلزام بعد التحدي وذلك القول قبله، وكونه مسبوقا بالتحدي الوارد في سورة البقرة يرده أنها مدنية وهذه مكية.
نعم ربما يقال في الاستدلال على كون ذلك القول بعد العلم بوقوع حكايته في النظم الكريم بعد حكاية الإشارة إلى مضمونه بقوله تعالى: * (قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله) * (يونس: 15) ورده بما سمعته هناك حسبما قرره الجمهور، وبيان ذلك أنهم نقل عنهم أولا الإشارة إلى نسبة الافتراء إلى سيد الصادقين صلى الله عليه وسلم ثم نقل عنهم التصريح بذلك، والظاهر أن الأمر حسبما نقل لكثرة وقوع التصريح بعد الإشارة، وقد تخلل ردما أشاروا إليه في البين فيحتمل أنهم عقلوه وعلموا الحق لكنهم لم يقروا به عنادا وبغيا فصرحوا بما صرحوا فيكون ذلك منهم بعد العلم ولترقيهم من الإشارة إلى التصريح ترقي في الزامهم فإن هذا التحدي أظهر في الإلزام مما تقدم كما هو ظاهر، لكن للمناقشة في هذا مجال، ويخطر بالبال أنه يحتمل أن يكون الاضراب عن ذمهم بالتكذيب بالقرآن إلى ذمهم بالمسارعة إلى تكذيب ما لم يحيطوا به علما وأن الوقوف على العلم به متوقع سواء كان قرآنا أو غيره - فما - عامة للأمرين ويدخل القرآن في العموم دخولا أوليا ولعله أولى مما قيل: إنه اضراب عن مقدر وينبغي أن تسمى - بل - هذه فصيحة فإن المعنى فما أجابوا أو ما قدروا أن يأتوا بل كذبوا الخ * (كذالك) * أي مثل تكذيبهم من غير تدبر وتأمل * (كذب الذين من قبلهم) * أي فعلوا التكذيب أو كذبوا أنبياءهم فيما أتوا به * (فانظر كيف كان ع‍اقبة الظ‍المين) * خطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون عاما لكل من يصلح له، والمراد بالظالمين الذين من قبلهم، ووضع المظهر موضع المضمر للإيذان بكون التكذيب ظلما
121

وبعليته لإصابة ما أصابهم من سوء العاقبة وبدخول هؤلاء الذين حكى عنهم ما حكى في زمرتهم جرما ووعيدا دخولا أوليا، والفاء لترتيب ما بعدها على محذوف ينساق
إليه الكلام أي فاهلكناهم فانظر الخ، وكيف في موضع نصب خبر كان، وقد يتصرف فيها فتوضح موضع المصدر وهو كيفية ويخلع عنها معنى الاستفهام بالكلية، وهي هنا تحتمل ذلك، وكذا قول البخاري رضي الله تعالى عنه: - كيف كان بدء الوحي - كما قال السمين؛ ونقل إنه أن فعل النظر معلق عن العمل لمكان كيف لأنهم عاملوها في كل موضع معاملة الاستفهام المحض.
* (ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين) *
* (ومنهم من يؤمن به) * وصف لحالهم بعد اتيان التأويل المتوقع كما قبل إذ حينئذ يمكن تنويعهم إلى المؤمن به وغير المؤمن به ضرورة امتناع الإيمان بشيء من غير علم به واشتراك الكل في التكذيب قبل ذلك فالضمير للمكذبين، ومعنى الإيمان به إما الاعتقاد بحقيته فقط أي منهم من يصدق به في نفسه أنه حق عند الإحاطة بعلمه وإتيان تأويله لكنه يعاند ويكابر وإما الإيمان الحقيقي أي منهم من سيؤمن به ويتوب عن الكفر * (ومنهم من لا يؤمن به) * أي لا يصدق به في نفسه كما لا يصدق به ظاهرا لفرط غباوته المانعة عن الإحاطة بعلمه كما ينبغى أو لسخافة عقله واختلال تمييزع وعجزه عن تخليص علومه عن معارضة الظنون والأوهام التي ألفها فيبقى على ما كان عليه من الشك أولا يؤمن به فيما سيأتي بل يموت على كفره معاندا كان أو شاكا * (وربك أعلم بالمفسدين) * أي بكلا الفريقين على الوجه الأول من التفسير لا بالمعاندين فقط لاشتراكهما في أصل الافساد المستدعي لاشتراكهما في الوعيد المراد من الكلام أو بالمصرين الباقين على الكفر على الوجه الثاني منه.
* (وإن كذبوك فقل لى عملى ولكم عملكم أنتم بريئون ممآ أعمل وأنا برىء مما تعملون) *
* (وإن كذبوك) * أي أصروا على تكذيبك بعد الزام الحجة، وأول بذلك لأن أصل التكذيب حاصلا فلا يصح فيه الاستقبال المفاد بالشرط، وأيضا جوابه وهو قوله سبحانه: * (فقل لي عملي ولكم عملكم) * المراد منه التبرؤ والتخلية إنما يناسب الاصرار على التكذيب واليأس من الإجابة، والمعنى لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم كيفما كانا، وتوحيد العمل المضاف إليهم باعتبار الاتحاد النوعي ولمراعاة كمال المقابلة كما قيل، وقوله سبحانه: * (أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون) * تأكيد لما أفاده لام الاختصاص من عدم تعدي جزاء العمل إلى غير عامه أن لا تؤاخذون بعملي ولا أؤاخذ بعملكم، وعلى هذا فالآية محكمة غير منسوخة بآية السيف لما أن مدلولها اختصاص كل بأفعاله وثمراتها من الثواب والعقاب وآية السيف لم ترفع ذلك، وعن مقاتل. والكلبي. وابن زيد أنها منسوخة بها وكأن ذلك لما فهموا منها الأعراض وترك التعرض بشيء، ولعل وجه تقديم حكم المتكلم أولا وتأخيره ثانيا والعكس في حكم المخاطبين ظاهر مما ذكرناه في معنى الآية فافهم.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: * (وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا) * وهو احتجابهم عن قبول صفات الحق وذلك لأنه بتوفر النعم الظاهرة والمرادات الجسمانية يقوي ميل النفس إلى الجهة السفلية فتحتجب عن قبول ذلك كما أنه بأنواع البلاء تنكسر سورة النفس ويتلطف القلب ويحصل الميل إلى الجهة العلوية والتهيؤ لقبول ذلك * (قل الله أسرع مكرا) * بإخفاء القهر الحقيقي في هذا اللطف الصوري * (إن رسلنا يكتبون ما تمكرون) * (يونس: 21) في ألواح الملكوت * (هو الذي يسيركم في البر والبحر) * أي يسير نفوسكم في بر المجاهدات وقلوبكم في بحر المشاهدات، وقيل: يسير عقولكم في بر الأفعال وأرواحكم في بحر الصفات والذات
122

* (حتى إذا كنتم في الفلك) * أي فلك العناية الإزلية * (وجرين بهم بريح طيبة) * وهي ريح صبا وصاله سبحانه * (وفرحوا بها) * لايذانها بذلك وتعطرها بشذا ديار الأنس ومرابع القدس:
ألا يا نسيم الريح مالك كلما * تقربت منا زاد نشرك طيبا
أظن سليمى خبرت بسقامنا * فأعطتك رياها فجئت طبيبا
* (جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان) * وذلك عاصف القهر وأمواج صفات الجلال، وهذه سنة جارية في العاشقين لا يستمر لهم حال ولا يدوم لهم وصال، ولله در من قال: فبتنا على رغم الحسود وبيننا * شراب كريح المسك شيب به الخمر
فوسدتها كفى وبت ضجيعها * وقلت لليلى طل فقد رقد البدر
فلما أضاء الصبح فرق بيننا * وأي نعيم لا يكدره الدهر
* (وظنوا أنهم أحيط بهم) * أي أنهم من الهالكين في تلك الأمواج * (دعوا الله مخلصين له الدين) * بالتبري من غير الله تعالى قائلين * (لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين) * (يونس: 22) لك بك * (فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق) * وهو تجاوزهم عن حد العبودية بكسرهم في جمال الربوبية، وذلك مثل ما عرا الحلاج وأضرابه ثم أنه سبحانه نبههم بعد رجوعهم من السكر إلى الصحو على أن الأمر وراء ذلك بقوله جل وعلا: * (يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم) * (يونس: 23) أي أنه يرجع إليكم ما ادعيتم لا إليه تعالى فإنه سبحانه الموجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق كذا قالوا. وقال ابن عطاء في الآية * (حتى إذا ركبوا) * مراكب المعرفة وجرت بهم رياح العناية وطابت نفوسهم وقلوبهم بذلك وفرحوا بتوجههم إلى مقصودهم * (جاءتها ريح عاصف) * أفنتهم عن أحوالهم وإرادتهم * (وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم) * أي تيقنوا أنهم مأخوذون عنهم ولم يبق لهم ولا عليهم صفة يرجعون إليها وأن الحق خصهم من بين عباده بأن سلبهم عنهم * (دعوا الله مخلصين له الدين) * (يونس: 22) حيث صفى سبحانه أسرارهم وطهرها مما سواه * (فلما أنجاهم) * أي ردهم إلى أوصافهم وأشباحهم ورجعوا إلى ما عليه عوام الخلق من طلب المعاش للنفوس انتهى. وكأنه حمل البغي على الطلب وضمنه معنى الاشتغال أي يطلبون في الأرض مشتغلين بغير الحق سبحانه وهو المعاش الذي به قوام أبدانهم، ويشكل أمر الوعيد المنبىء به * (فننبئكم) * (يونس: 23) الخ على هذا التأويل وما قبله لأن ما يقع في السكر لا
وعيد عليه وكذا طلب المعاش، وانظر هل يصح أن يقال: إن الأمر من باب حسنات الابرار سيآت المقربين؟ ثم أنه سبحانه مثل الحياة في سرعة زوالها وانصرام نعيمها غب اقبالها واغترار صاحبها بها بما أشار إليه سبحانه بقوله جل وعلا: * (كما أنزلناه) * (يونس: 24) الخ وفيه إشارة إلى ما يعرض والعياذ بالله تعالى لمن سبقت شقاوته في الأزل من الحور بعد الكور فبينما تراه وأحواله حالية وأعوامه عن شوائب الكدر خالية وغصون أنسه متدلية ورياض قربه مونقة قلب الدهر له ظهر المجن وغزاه بجيوش المحن وهبت على هاتيك الرياض عاصفات القضاء وضاقت عليه فسيحات الفضاء وذهب السرور والانس وجعل حصيدا كأن لم يغن بالأمس وأنشد لسان حاله: قف بالديار فهذه آثارهم * نبكي الأحبة حشرة وتشوقا
كم قد وقفت بهنا أسائل مخبرا * عن أهلها أو صادقا أو مشفقا
فأجابني داعي الهوى في رسمها * فارقت من تهوي فعز الملتقى
123

* (والله يدعو إلى دار السلام) * وعو العالم الروحاني السليم من الآفات * (ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) * (يونس: 25) لا شعوب فيه وهو طريق الوحدة. وقد يقال: يدعو الجميع إلى داره. ويهدي خواص العارفين إلى وصاله. أو يدعو السالكين إلى الجنة ويبدي المجذوبين إلى المشاهدة * (للذين أحسنوا) * وهم خواص الخواص * (الحسنى) * وهي رؤية الله تعالى * (وزيادة) * وهي دوام الرؤية، أو للذين جاؤا بما يحسن به حالهم من خير قلبي أو قالبي، المثوبة الحسنة من الكمال الذي يفاض عليهم وزيادة في استعداد قبول الخير إلى ما كانوا عليه قبل، وقد يقال: الحسنى ما يقتضيه قرب النوافل والزيادة ما يقتضيه قرب الفرائض * (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) * أي لا يصيبهم غبار الخجالة ولا ذلك الفرقة * (أولئك أصحاب الجنة) * التي تقتضيها أفعالهم * (هم فيها خالدون) * (يونس: 26) ثم ذكر سبحانه حال الذين أساءوا بقوله جل شأنه: * (والذين كسبوا السيآت) * (يونس: 27) الخ وأشار إلى أنه على عكس حال أولئك الكرام * (ويوم نحشرهم جميعا) * في المجمع الأكبر * (ثم نقول للذين أشركوا) * منهم وهم المحجوبون الواقفون مع الغير بالمحبة والطاعة * (مكانكم أنتم وشركاؤكم) * قفوا جميعا وانتظروا الحكم * (فزيلنا بينهم) * أي قطعنا الأسباب التي كانت بينهم * (وقال شركاؤهم ما كنتم ايانا تعبدون) * (يونس: 28) بل كنتم تعبدون أشياء اخترعتموها في أوهامكم الفاسدة * (فكفي بالله شهيدا بيننا وبينكم ان كنا عن عبادتكم لغافلين) * (يونس: 29) لم نطلبها منكم لا بلسان حال ولا بلسان قال * (هنالك) * أي في ذلك الموقف * (تبلو كل نفس) * أي تذوق وتختبر * (ما أسلفت) * في الدنيا * (وردوا إلى الله مولاهم الحق) * المتولي لجزائهم بالعدل والقسط * (وضل عنهم ما كانوا يفترون) * (يونس: 30) من اختراعاتهم وتوهماتهم الكاذبة وأمانيهم الباطلة. ثم ذكر سبحانه مما يدل على التوحيد ما ذكر، والرزق من السماء عند العارفين هو رزق الأرواح ومن الأرض رزق الأشباح، والحي عندهم العارف والميت الجاهل * (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا) * (يونس: 36) ذم لهم بعدم العلم بما يجب لمولاهم وما يمتنع وما يجوز ولا يكاد ينجو من هذا الذم إلا قليل، ومنهم الذين عرفوه جل شأنه به لا بالفكر بل قد يكاد يقصر العلم عليهم فإن أدلة أهل الرسوم من المتكلمين وغيرهم متعارضة وكلماتهم متجاذبة فلا تكاد ترى دليلا سالما من قيل وقال ونزاع وجدال، والوقوف على علم من ذلك مع ذلك أمر أبعد من العيوق وأعز من بيض الانوق.
لقد طفت في تلك المعاهد كلها * وسرحت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر * على ذقن أو قارعا سن نادم
فمن أراد النجاة فليفعل ما فعل القوم ليحصل له ما حصل لهم أولا فليتبع السلف الصالح فيما كانوا عليه في أمر دينهم غير مكترث بمقالات الفلاسفة ومن حذا حذوهم من المتكلمين التي لا تزيد طالب الحق إلا شكا * (وما كان هذا القرآن أن يفتري من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه) * من اللوح المحفوظ * (وتفصيل الكتاب) * (يونس: 37) الذي هو الأم، أي كيف يكون مختلقا وقد أثبت قبله في كتابين مفصلا ومجملا * (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله) * (يونس: 39) ذم لهم بالمسارعة إلى تكذيب الحق قبل التأمل والتدبر والاطلاع على الحقيقة وهذه عادة المنكرين أهل الحجاب مع كلمات القوم حيث أنهم يسارعون إلى إنكارها قبل التأمل فيها وتدبر مضامينها والوقوف على الاصطلاحات التي ينبت عليها وكان الحرى بهم التثبت والتدبر
124

والله تعالى ولي التوفيق.
* (ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون) *
* (ومنهم من يستمعون اليك) * بيان لكونهم مطبوعا على قلوبهم بحيث لا سبيل إلى إيمانهم * (ومن) * مبتدأ خبره مقدم عليه، وهو إما موصول أو نكرة موصوفة والجملة بعده إما صلة أو صفة، وجمع الضمير الراجع إليه رعاية لجانب المعنى كما أفرد فيما بعد رعاية لجانب اللفظ، ولعل ذلك للإيماء إلى كثرة المستمعين بناء على عدم توقف الاستماع على ما يتوقف عليه النظر من الشروط العادية أو العقلية، والمعنى ومن المكذبين الذين أو اناس يصغون إلى القرآن أو إلى كلامك إذا علمت الشرائع وتصل الألفاظ لآذانهم ولكن لا ينتفعون بها ولا يقبلونها كالصم الذين لا يسمعون * (أفأنت تسمع الصم) * أي تقدر على اسماعهم * (ولو كانوا لا يعقلون) * أي ولو انضم إلى صممهم عدم عقلهم لأن الأصم العاقل ربما تفرس إذا وصل إلى صماخه دوى وأما إذا اجتمع فقدان السمع والعقل فقد تم الأمر، وإنما جعلوا كالصم الذين لا عقل لهم مع كونهم عقلاء لأن عقولهم قد أصيبت بآفة معارضة الوهم لها وداء متابعة الألف والتقليد، ومن هنا تعذر عليهم فهم معاني القرآن والأحكام الدقيقة وادراك الحكم الرشيقة الأنيقة فلم ينتفعوا بسرد الألفاظ عليهم غير ما تنتفع به البهائم من كلام الناعق، وتقديم المسند إليه في * (أفأنت) * للتقوية عند السكاكي وجعله العلامة للتخصيص. ففي تقديم الفاعل المعنوي وإيلائه همزة الإنكار الدلالة على أن نبي لله صلى الله عليه وسلم تصور في نفسه من حرصه على إيمان القوم أنه قادر على
الاسماع أو نزل منزلة من تصور أنه قادر عليه وأنه تعالى شأنه نفى ذلك عنه صلى الله عليه وسلم وأثبته لنفسه سبحانه على الاختصاص كأنه قيل: أنت لا تقدر على اسماع أولئك بل نحن القادرون عليه كذا قيل وفي القلب منه شيء، ولذا اختير هنا مذهب السكاكي، وجعل إنكار الاسماع متفرعا على المقدمة الاستدراكية المطوية المفهومة من المقام حسبما أشير أليه، وفيه اعتبار كون الهمزة مقدمة من تأخير لاقتضائها الصدارة وهو مذهب لبعضهم.
وقيل: إنها في موضعها، وأدخلت الفاء لإنكار ترتب الاسماع على الاستماع لكن لا بطريق العطف على فعله المذكور الواقع صلة أو صفة للزوم اختلال المعنى على ذلك بل بطريق العطف على فعل مثله مفهوم من فحوى النظم غير واقع موقعه كأنه قيل: أيستمعون إليك فأنت تسمعهم، وقد يراد إنكار إمكان وقوع الاسماع عقيب ذلك وترتبه عليه كما ينبىء عنه وضع الصم موضع ضميرهم ووصفهم بعدم العقل، وجواب * (لو) * محذوف لدلالة ما قبله عليه، والجملة معطوفة على جملة مقدرة مقابلة لها، والكل في موضع الحال من مفعول الفعل السابق، أي أفأنت تسمع الصم لو كانوا يعقلون ولو كانوا لا يعقلون على معنى أفأنت تسمعهم على كل حال مفروض - ويقال - للو - هذه وصلية وذلك أمر مشهور. واستشكل الاتيان بها هنا بأن الأصل فيها أن يكون الحكم على تقدير تحقق مدخولها ثابتا كما أنه ثابت على تقدير عدمه إلا أنه على تقدير عدمه أولى والأمر هنا بالعكس. وأجيب بأن اتصال الوصل بالإثبات جار على المعروف فإن تقديره تسمعهم ولو كانوا لا يعقلون وظاهر أن إسماعهم مع العقل بطريق الأولى، والاستفهام إثبات بحسب الظاهر فإن نظر إليه فذاك وإن نظر إلى الإنكار وأنه نفى بحسب المعنى اعتبر أنه داخل على المجموع بعد ارتباطه وكذا يقال فيما بعد فتأمل فيه ولا تغفل.
ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدى العمى ولو كانوا لا يبصرون) *
* (ومنهم من ينظر إليك) * ويعاين دلائل نبوتك الواضحة ولكن لا يهتدي
125

بها كالأعمى * (أفأنت تهدي العمي) * تقدر على هدايتهم * (ولو كانوا لا يبصرون) * أي وان انضم إلى عدم البصر عدم البصيرة فإن المقصود من الأبصار هو الاعتبار والاستبصار والعمدة في ذلك هي البصيرة ولذلك يحدس الأعمى المستبصر ويتفطن لما لا يدرك البصير الأحمق، فلا يقال: كيف أثبت لهم النظر والابصار أولا ونفى عنهم ثانيا.
* (إن الله لا يظلم الناس شيئا ول‍اكن الناس أنفسهم يظلمون) *
* (إن الله لا يظلم الناس) * أي لا ينقصهم * (شيئا) * مما نيطت به مصالحهم وكمالاتهم من مبادىء الادراكات وأسباب العلوم والإرشاد إلى الحق بإرسال الرسل عليهم السلام ونصب الأدلة بل يوفيهم ذلك فضلا منه جل شأنه وكرما * (ول‍اكن الناس أنفسهم يظلمون) * أي ينقصون ما ينقصون من ذلك لعدم استعمال مشاعرهم فيما خلقت له واعراضهم عن قبول الحق وتكذيبهم للرسل وترك النظر في الأدلة - فشيئا - مفعول ثان - ليظلم - بناء على أنه مضمن معنى ينقص كما قيل أو أنه بمعناه من غير حاجة إلى القول بالتضمين كما نقول وان النقص يتعدى لاثنين كما يكون لازما ومتعديا لواحد، ولم يذكر ثاني مفعول الثاني لعدم تعلق الغرض به، وتقديم المفعول الأول يحتمل أن يكون لمجرد الاهتمام مع مراعاة الفاصلة من غير قصد إلى قصر المظلومية عليهم على رأي من لا يرى التقديم موجبا للقصر كابن الأثير ومن تبعه كما في قوله سبحانه: * (وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم) * (هود: 101) ويحتمل أن يكون لقصر المظلومية على رأي من يرى التقديم موجبا لذلك كالجمهور ومن تبعهم، ولعل إيثار قصرها على قصر الظالمية عليهم للمبالغة في بطلان أفعالهم وسخافة عقولهم على أن قصر الأولى عليهم مستلزم كما قيل لما يقتضيه ظاهر الحال من قصر الثانية عليهم فاكتفى بالقصر الأول عن الثاني مع رعاية ما ذكر من الفائدة.
وجوز بعضهم كون * (أنفسهم) * تأكيدا للناس والمفعول حينئذ محذوف فيكون بمنزلة ضنير الفصل في قوله تعالى: * (وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين) * (النحل: 118) في قصر الظالمية عليهم، والتعبير عن فعلهم ذلك بالنقص مع كونه تفويتا بالكلية لمراعاة جانب قرينه، وصيغة المضارع للاستمرار نفيا وإثباتا أما الثاني فظاهر وأما الأول فلأن حرف النفي إذا دخل على المضارع يفيد بحسب المقام استمرار النفي لا نفي الاستمرار كما مر غير مرة.
وقيل: المعنى إن الله لا يظلم الناس بتعذيبهم يوم القيامة شيئا من الظلم ولكن الناس أنفسهم يظلمون ظلما مستمرا فإن مباشرتهم المستمرة للسيئات الموجبة للتعذيب عين ظلمهم لأنفسهم فالظلم على معناه المشهور، و * (شيئا) * مفعول مطلق والمضارع المنفى للاستقبال والمثبت للاستمرار، ومساق الآية الكريمة على الأول لالزام الحجة وعلى الثاني للوعيد وعلى الوجهين هي تذييل لما سبق، وجعلها على الأول تذييلا لجميع التكاليف والأقاصيص المذكورة من أول السورة وإن كان متجها خلاف الظاهر لا سيما وما بعد ليس ابتداء مشروع في قصة آخرين.
وقيل: معنى الآية إن الله لا يظلم الناس شيئا بسلب حواسهم وعقولهم إن سلبها لأنه تصرف في حالص ملكه ولكن الناس أنفسهم يظلمون بإفساد ذلك وصرفه لما لا يليق، وهي جواب لسؤال نشأ من الآية السابقة والظلم فيها على ظاهره أيضا. واستدل بها على أن للعبد كسبا وليس مسلوب الاختيار بالكلية كما ذهب إليه الجبرية والمختار عند كثير من المحققين أن نفي ظلم الناس عنه تعالى شأنه لأنه سبحانه جواد حكيم يفيض على القوابل حسب استعدادها الأزلي الثابت في العلم فما من كمال أو نقص في العبد الا هو كماله أو نقصه الذي اقتضاه
126

استعداده كما يرشد إلى ذلك قوله جل وعلا: * (أعطى كل شيء خلقه) * (طه: 50) وقوله سبحانه: * (فألهما فجورها وتقواها) * (الشمس: 8) وأن اثبات ظلم الناس لأنفسهم باعتبار اقتضاء استعدادهم الثابت في العلم الأزلي ما أفيض عليهم مما استحقوا به التعذيب.
وقد ذكروا أن هذا الاستعداد غير مجعول ضرورة أن الجعل مسبوق بتعلق القدرة المسبوق بتعلق الإرادة المسبوق بتعلق العلم والاستعداد ليس كذلك لأنه لم يثبت العلم إلا
وهو متعلق به بل بسائر الأشياء أيضا لأن التعلق بالمعلوم من ضروريات العلم والتعلق بما لا ثبوت له أصلا مما لا يعقل ضرورة أنه نسبة وهي لا تتحقق بدون ثبوت الطرفين، ولا يرد على هذا أنه يلزم منه استغناء الموجودات عن المؤثر لأنا نقول: إن كان المراد استغناءها عن ذلك نظرا إلى الوجود العلمي القديم فالأمر كذلك ولا محذور فيه وان كان المراد استغناءها عن ذلك نظرا إلى وجودها الخارجي الحادث فلا نسلم اللزوم وتحقيق ذلك بما له وما عليه في محله، وفي الآية على هذا تنبيه على أن كون أولئك المكذبين كما وصفوا إنما نشأ عن اقتضاء استعدادهم له ولذلك ذموا به لا عن محض تقديره عليهم من غير أن يكون منهم طلب له باستعدادهم ولعل تسمية التصرف على خلاف ما يقتضيه الاستعداد لو كان ظلما من باب المجاز وتنزيل المقتضى منزلة الملك وإلا فحقيقة الظلم مما لا يصح إطلاقه على تصرف من تصرفاته تعالى كيف كان إذ لا ملك حقيقة لأحد سواه في شيء من الأشياء، ووضع الظاهر في الجملة الاستداركية موضع الضمير لزيادة التعيين والتقرير. وقرأ حمزة. والكسائي بتخفيف * (لكن) * ورفع * (الناس) *.
* (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقآء الله وما كانوا مهتدين) *
* (ويوم يحشرهم) * بالياء وهي قراءة حمزة على عاصم. وقرأ الباقون بالنون على الالتفات و * (يوم) * عند الأكثرين منصوب بمضمر أي اذكر لهم أو أنذرهم يوم نجمعهم لموقف الحساب * (كأن لم يلبثوا) * أي كأنهم أناس لم يلبسوا * (إلا ساعة من النهار) * أي شيئا قليلا منه فانها مثل في غاية القلة وتخصيصها بالنهار لأن ساعاته أعرف حالا من ساعات الليل والجملة في موقع الحال من مفعول * (نحشرهم) * أي نحشرهم مشبهين بمن لم يلبث في الدنيا أو في البرزخ إلا ذلك القدر اليسير، وليس المراد من التشبيه ظاهره على ما قيل، وقد صرح في " شرح المفتاح " أن التشبيه كثيرا ما يذكر ويراد به معان أخر تترتب عليه، فالمراد إما التأسف على عدم انتفاعهم بأعمارهم أو تمني أن يطول مكثهم قبل ذلك حتى لا يشاهدوا ما شاهدوه من الأهوال فمآل الجملة في الآخرة نحشرهم متأسفين أو متمنين طول مكثهم قبل ذلك. ويجوز أن يراد نحشرهم مشبهين في أحوالهم الظاهرة للناس بمن لم يلبث في الدنيا ولم يتقلب في نعيمها إلا يسيرا فإن من أقام بها دهرا وتمتع بمتاعها لا يخلو عن بعض آثار نعمة وأحكام بجهة منافية لما بهم من رثاثة الهيئة وسوء الحال وإليه ذهب بعضهم، والظاهر أنه تكلف لإبقاء التشبيه على ظاهره والأول أولى كما لا يخفى، وأيا ما كان ففائدة التشبيه كنار على علم، والعجب ممن لم يرها فقال الظاهر أن * (كأن) * للظن، وادعى البعض أن فائدة التقييد على تقدير أن يراد اللبث في البرزخ بيان كمال يسر الحشر بالنسبة إلى قدرته تعالى ولو بعد دهو طويل وإظهار بطلان استبعادهم وإنكارهم بقولهم: * (أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون) * (المؤمنون: 82) ونحو ذلك أو بيان تمام الموافقة بين النشأتين في الاشكال والصور فإن قلة اللبث في البرزخ من موجبات عدم التبدل والتغير، ولعل مآل الحال على هذا ويوم نحشرهم على صورهم وأشكالهم غير متغيرين، وجوز أبو علي كون الجملة في موضع الصفة - ليوم - والعائد محذوف تقديره كأن لم يلبثوا قبله أو لمصدر محذوف والعائد كذلك أي
127

حشرا كأن لم يلبثوا قبله، ورد بأن مثل هذا الرابط لا يجوز حذفه والأول بأن المراد بالظرف المضاف وهو الموصوف يوم القيامة وهو يوم معين وتقدير الكلام يوم حشره أو يوم حشرنا فيكون الموصوف معرفة والجمل نكرات ولا تنعت المعرفة بالنكرة. وأجيب بأن المنع من جواز حذف مثل ذلك الرابط في حيز المنع وبأن الجمل التي تضاف إليها أسماء الزمان قد يقدر حلها إلى معرفة فيكون ما أضيف إليها معرفة وقد يقدر حلها إلى نكرة فيكون ذلك نكرة، ولعل أبا علي يتكلف لاعتبار حلها إلى نكرة ويكون الموصوف هنا نكرة عنده فيرتفع محذور نعت المعرفة بالنكرة. وأنت تعلم أن الجواب إنما يدفع البطلان لا غير فالحق ترجيح الحالية، وقوله سبحانه: * (يتعارفون بينهم) * أي يعرف بعضهم بعضا كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلا يحتمل أن يكون استئنافا وأن يكون بيانا للجملة التشبيهية واستدلالا عليها كما قيل، وذلك أنه لو طال العهد لم يبق التعارف لأن طول العهد منس مفض إلى التناكر لكن التعارف باق فطول العهد منتف وهو معنى * (لم يلبثوا إلا ساعة) * وفية دغدغة.
وزعم أبو البقاء كونه حالا مقدرة ولا داعي لاعتبار كونها مقدرة لأن الظاهر عدم تأخر التعارف عن الحشر بزمان طويل ليحتاج إليه، وقد صرحوا بأن التعارف بينهم يكون أول حروجهم من القبور ثم ينقطع لشدة الأهوال المذهلة واعتراء الأحوال المعضلة المغيرة للصور والاشكال المبدلة لها من حال إلى حال، وعندي أن لا قطع بالانقطاع فالمواقف مختلفة والأحوال متفاوتة فقد يتعارفون بعد التناكر في موقف دون موقف وحال دون حال، وفي بعض الآثار ما يؤيد ذلك. وزعم بعضهم المنافاة بين ما تدل عليه هذه الآية وما يدل عليه قوله سبحانه: * (لا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) * (المؤمنون: 101) وقوله تعالى: * (ولا يسأل حميم حميما) * (المعارج: 01) من عدم التعارف لولا اعتبار الزمانين.
وقيل: لا منافاة بناء على أن الثمبت تعارف تقريع وتوبيخ الومنفى تعارف تواصل وشفقة، ولمانع أن يمنع دلالة ما ذكر من الآيات على نفي التعارف، وقصارى ما يدل عليه نفي نفع الأنساب وسؤال بعضهم بعضا، والتعارف، الذي تدل عليه هذه الآية لا ينافي ذلك، فقد أخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن الحسن أنه قال فيها: يعرف الرجل صاحبه إلى جنبه فلا يستطيع أن يكلمه ثم أن حمل التعارف على معرفة بعضهم بعضا هو المعروف عند المفسرين، وقيل: المراد به التعريف أي يعرف بعضهم بعضا ما كانوا عليه من الخطأ والكفر وفيه ما فيه.
وجوز بعضهم أن يكون الظرف السابق متعلقا - بيتعارفون - قيل فيعطف على ما سبق ولا يظهر له وجه وقوله تعالى: * (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله) * جملة مستأنفة سيقت للشهادة منه تعالى على خسرانهم والتعجيب منه وهي خبرية لفظا إنشائية معنى، وقيل: مقول لقول مقدر وقع حالا من ضمير * (يتعارفون) * أو من ضمير * (يحشرهم) * إن كانت جملة * (يتعارفون) * حالا أيضا لئلا يفصل بين الحال وذيها أجنبي والاستئناف أظهر، والتعبير عنهم بالموصول مع أن المقام مقام إضمار لذمهم بما في حيز الصلة وللاشعار بعليته لما أصابهم، والظاهر أن المراد بلقاء الله تعالى مطلق الحساب والجزاء وبالخسران الوضيعة أي قد وضعوا في تجارتهم
ومعاملتهم واشترائهم الكفر بالإيمان، وجوز أن يراد بالأول سوء اللقاء وبالثاني الهلاك والضلال، أي قد ضلوا وهلكوا بتكذيبهم بذلك * (وما كانوا مهتدين) * أي لطرق التجارة عارفين بأحوالها أو ما كانوا مهتدين إلى طريق النجاة، والجملة عطف على جملة * (قد خسر) * الخ، وجوز أن تكون معطوفة على صلة الموصول على أنها كالتأكيد لها.
* (وإما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون) *
* (وإما نرينك) *
128

أصله إن نرينك و * (ما) * مزيد لتأكيد معنى الشرط ومن ثمت أكد الفعل بالنون والرؤية بصرية أي اما نرينك بعينك * (بعض الذي نعدهم) * من العذاب بأن نعذبهم في حياتك * (أو نتوفينك) * قبل ذلك * (فالينا مرجعهم) * جواب للشرط وما عطف عليه، والمعنى إن عذابهم في الآخرة مقرر عذبوا في الدنيا أولا، وقيل: هو جواب * (نتوفينك) * كأنه قيل: إنا نتوفينك فإلينا مرجعهم فنريكه في الآخرة وجواب الأول محذوف أي إما نرينك فذاك المراد أو المتمني أو نحو ذلك، وقال الطيبي: أي فذاك حق وصواب أو واقع أو ثابت واختار الأول أبو حيان، والاعتراض عليه بأن الرجوع لا يترتب على تلك الإراءة فيحتاج إلى التزام كون الشرطية اتفاقية ناشىء من الغفلة عن المعنى المراد، والمراد من * (نعدهم) * وعدناهم إلا أنه عدل إلى صيغة الاستقبال لاستحضار الصورة أو للدلالة على التجدد والاستمرار أن نعدهم وعدا متجددا حسبما تقتضيه الحكمة من إنذار غب إنذار.
وفي تخصيص البعض بالذكر قيل رمز إلى أن العدة بإراءة بعض الموعود وقد أراه صلى الله عليه وسلم ذلك يوم بدر * (ثم الله شهيد على ما يفعلون) * من الأفعال السيئة التي حكيت عنهم، والمراد من الشهادة لازمها مجازا وهو المعاقبة والجزاء فكأنه قيل: ثم الله تعالى معاقب على ما يفعلون، وجوز أن يراد منها إقامتها وأداؤها بإنطاق الجوارح وإلا فشهادة الله سبحانه بمعنى كونه رقيبا وحافظا أمر دائم في الدارين و * (ثم) * لا تناسب ذلك، والظاهر أنها على هذين الوجهين على ظاهرها. وفي " الكشف " وغيره هي على الأول للتراخي الرتبي وعلى الثاني على الظاهر وظاهر كلام البعض استحسان حملها على التراخي الرتبي مطلقا ولا أرى لارتكاب خلاف الظاهر بعد ذلك الارتكاب داعيا، وأن العطف بها على الجزاء لا على مجموع الشرطية، وأنت تعلم أن العطف على ذاك يمنع من إرادة التعذيب منه أو إراءته أو نحو ذلك مما لا يصح أن يكون المعنى المعطوف بثم بعده ومترتبا عليه، ولعل ما اعتبروه هناك ليس تفسيرا للرجوع بل هو بيان للمقصود من الكلام، وإظهار اسم الجلالة لإدخال الروعة وتربية المهابة وتأكيد التهديد. وقرأ ابن أبي عبلة * (ثم) * بالفتح أي هنالك.
* (ولكل أمة رسول فإذا جآء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون) *
* (ولكل أمة) * يوم القيامة * (رسول) * تنسب إليه وتدعى به * (فإذا جاء رسولهم) * الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان * (قضي بينهم) * أي بعد أن يشهد * (بالقسط) * بالعدل وحكم بنجاة المؤمن وعقاب الكافر * (وهم لا يظلمون) * أصلا والجملة قيل تذييل لما قبلها مؤكدة له.
وقيل: في موضع الحال أي مستمرا عدم ظلمهم، ونظير هذه الآية على هذا قوله سبحانه: * (وجىء بالنبيين والشهداء وقضى بينهم) * (الزمر: 69) أو لكل أمة من الأمم الخالية رسول يبعث إليهم بشريعة اقتضتها الحكمة ليدعوهم إلى الحق فإذا جاء رسولهم فبلغهم ودعاهم فكذبوه وخالفوه قضى بينهم أي بين كل أمة ورسولها بالعدل وحكم بنجاة الرسول والمؤمنين به وهلاك المكذبين والأول مما رواه ابن جرير. وغيره عن مجاهد، والاستقبال عليه على ظاهره ولا يحتاج إلى تقدير مثل ما احتيج في التفسير الثاني وقد رجح بقوله تعالى.
* (ويقولون متى ه‍اذا الوعد إن كنتم ص‍ادقين) *
* (ويقولون متى ه‍اذا الوعد إن كنتم ص‍ادقين) * بناء على أن الظاهر أن المراد بالوعد الذي أشاروا إليه العذاب الدنيوي الموعود كما يرشد إله ما بعد. واستشكل ما يقتضيه ظاهر الآية من أن الله تعالى لم يهمل أمة من
129

الأمم قط بل بعث إلى كل واحدة منهم رسولا بأن أهل الفترة ليس فيهم رسول كما يشهد له قوله سبحانه: * (لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم) * (يس: 6) وأجيب بأن عموم الآية لا يقتضي أن يكون الرسول حاضرا مع كل أمة منهم لأن تقدمه على بعض منهم لا يمنع من كونه رسولا إلى ذلك البعض كمالا يمنع تقدم رسولنا صلى الله عليه وسلم من كونه مبعوثا إلينا إلى آخر الأبد غاية ما في الباب أن ما وقع من تخليط القوم في زمن الفترة يكون مؤديا إلى ضعف أثر دعوة الأنبياء عليهم السلام انتهى وهو كما ترى. وقد يقال: إن المراد من كل أمة كل جماعة أراد الله تعالى تكليفها حسبما سبق به علمه أو أراد سبحانه تنفيذ كلمته فيها أو نحو ذلك من المخصصات التي لا يلغو معها الحكم لا كل جماعة من الناس مطلقا فلا إشكال أصلا فتدبر. ثم إن هذا القول من المكذبين استعجال لما وعدوا به وغرضهم منه على ما قيل استبعاد الموعود وإنه مما لا يكون وقد يراد بالاستفهام الاستبعاد ابتداء إذ المقام يقتضيه ولا مانع عنه والقول بأن ذلك إنما يكون ابتداء بأين وأنى ونحوهما دون متى غير مسلم كيف وهو معنى مجازي والمجاز لا حجر فيه والخطاب لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام والمؤمنن الذين يتلون عليهم الآيات المتضمنة لذلك، وجواب * (ان) * محذوف اعتمادا على ما تقدمه أي إن كنتم صادقين في أنه يأتينا فليأتنا عجلة، ولكونه صلى الله عليه وسلم هو الواسطة في إتيان ذلك ومنه نشأ الوعد دون المؤمنين أمر صلى الله عليه وسلم بالجواب بقوله سبحانه:
* (قل لا أملك لنفسى ضرا ولا نفعا إلا ما شآء الله لكل أمة أجل إذا جآء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) *
* (قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا) * أي لا أقدر على شيء منهما بوجه من الوجوه وتقديم الضر لما أن مساق النظم الكريم لإظهار العجز عنه وأما ذكر النفع فللتعميم
إظهارا لكمال العجز، وقيل: إنه استطرادي لئلا يتوهم اختصاص ذلك بالضر والأول أولى، وما وقع في سورة الأعراف من تقديم النفع فللإشعار بأهميته والمقام مقامه، والمعنى لا أملك شيئا من شؤوني ردا وإيرادا مع إن ذلك أقرب حصولا فكيف أملك شؤونكم حتى أتسبب في إتيان عذابكم الموعود حسبما تريدون * (إلا ما شاء الله) * استثناء منقطع عند جمع أي ولكن ما شاء الله تعالى كائن، وقيل: متصل على معنى إلا ما شاء الله تعالى أن أملكه، وتعقب بأنه يأباه مقام التبرىء عن أن يكون له صلى الله عليه وسلم دخل في إتيان الوعد فإن ذلك يستدعي بيان كون المتنازع فيه مما لا يشاء أن يملكه عليه الصلاة والسلام: والمعتزلة قالوا باتصال الاستثناء واستدلوا بذلك على أن العبد مستقل بأفعاله من الطاعات والمعاصي، وأنت تعلم أن ذلك بمراحل عن إثبات مدعاهم. نعم استدل بها بعض من يرى رأي السلف من أن للعبد قدرة مؤثرة بإذن الله تعالى لا أنه ليس له قدرة أصلا كما يقوله الجبرية، ولا أن له قدرة لكنها غير مؤثرة كما هو المشهور عن الأشاعرة، ولا أن له قدرة مؤثرة إن شاء الله تعالى وإن لم يشأ كما هو رأي المعتزلة وقال: المعنى لا أقدر على شيء من الضر والنفع إلا ما شاء الله تعالى أن أقدر عليه منهما فإني أقدر عليه بمشيئته سبحانه، وقال بعضهم: إذا كان الملك بمعنى الاستطاعة يكون الاستثناء متصلا وإذا أبقى على ظاهره تعين الانقطاع، ولا يخفى أن الأصل الاتصال ولا ينبغي العدول عنه حيث أمكن من دون تعسف، وأيا ما كان فظاهر كلامهم أن الاستثناء من المفعول إلا أنه على تقدير الانقطاع ليس المعنى على إخراج المستثنى من حكم المستثنى منه ولذا جعل الحكم على ذلك التقدير أنه كائن دون أملكه مثلا فلا تدافع في كلام من حكم بالانقطاع وقال
130

في بيان المعنى أي ولكن ما شاء الله تعالى من ذلك كائن مشيرا بذلك إلى النفع والضر فإنه صريح في كون المستثنى من جنس المستثنى منه المقتضى للاتصال لأن المدار عند المحققين في الأمرين على الإخراج من الحكم وعدمه.
ومما يقضي منه العجب زعم أن الاستثناء من فاعل * (لا أملك) * وجعل المعنى لا أملك أنا ولكن الله سبحانه هو المالك لكل ما يشاء يفعله بمشيئته * (لكل أمة) * من الأمم الذين أصروا على تكذيب رسلهم * (أجل) * لعذابهم يحل بهم عند حلوله لا يتعدى إلى أمة أخرى * (إذا جاء أجلهم) * أي أجل كل أمة على ما هو الظاهر، ووضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التقرير، والإضافة لإفادة كمال التعين، وجوز أن يكون الضمير للأمم المدلول عليه بكل أمة، ووجه إظهار الأجل مضافا لذلك بأنه لإفادة المعنى المقصود الذي هو بلوغ كل أمة أجلها الخاص بها ومجيئه إياها بعينها من بين الأمم بواسطة اكتساب الأجل بإضافته عموما يفيده معنى الجمعية كأنه قيل: إذا جاءتهم آجالهم بالجمع كما قرأ به ابن سيرين بأن يجىء كل واحد من تلك الأمم أجلها الخاص بها، ويفسر الأجل بحد معين من الزمان والمجىء عليه ظاهر وبما امتد إليه من ذلك فمجيئه حينئذ عبارة عن انقضائه إذ هناك يتحقق مجيئه بتمامه أي إذا تم وانقضى أجلهم الخاص بهم * (فلا يستأخرون) * عنه * (ساعة) * أي شيئا قليلا من الزمان * (ولا يستقدمون) * عليه، والاستفعال عند جمع على أصله، ونفى طلب التأخر والتقدم أبلغ، وقال آخرون: إنه بمعنى التفعل أي لا يتأخرون ولا يتقدمون، والجملة الثانية إما مستأنفة أو معطوفة على القيد والمقيد ومنعوا عطفها على * (لا يستأخرون) * لئلا يرد أنه لا يتصور التقدم بعد مجىء الأجل فلا فائدة في نفيه، وأجازه غير واحد والفائدة عنده في ذلك المبالغة في انتفاء التأخر لأنه لما نظم في سلكه أشعر بأنه بلغ في الاستحالة إلى مرتبته فهو مستحيل مثله للتقدير الإلهي وإن أمكن في نفسه، قيل: وهذا هو السر في إيراد صيغة الاستفعال أي أنه بلغ في الاستحالة إلى أنه لا يطلب إذ المحال لا يطلب. ودفع بعضهم ذلك بأن * (جاء) * بمعنى قارب المجىء نحو قولك: إذا جاء الشتاء فتأهب له. وتعقب بأنه ليس في تقييد عدم الاستئخار بالقرب والدنو مزيد فائدة، وأشار الزمخشري إلى جواب آخر وهو أن لا يتأخر ولا يتقدم كناية عن كونه له حد معين وأجل مضروب لا يتعداه بقطع النظر عن التقدم والتأخر كقول الحماسي: وقف الهوى بى حيث أنت فليس لي * متقدم عنه ولا متأخر
فإنه أراد كما قال المرزوقي حبسني الهوى في موضع تستقرين فيه فألزمه ولا أفارقه وأنا معك مقيمة وظاعنة لا أعدل عنك ولا أميل إلى سواك، ووجه تقديم بيان انتفاء الاستئخار على بيان انتفاء الاستقدام قد تقدم في آية الأعراف مع بسط كلام فيها؛ ثم لا يخفى أن هذه الآية داخلة في حيز الجواب ولم تعطف على ما قبلها إيذانا باستقلالها فيه. قال العلامة الطيبي طيب الله تعالى ثراه: إن الجواب بقوله سبحانه: * (قل لا أملك) * الخوارد على الأسلوب الحكيم لأنهم ما أرادوا بالسؤال إلا استبعاد أن الموعود من الله تعالى وأنه صلوات الله تعالى وسلامه عليه هو الذي يدعي أن ذلك منه فطلبوا منه تعيين الوقت تهكما وسخرية فقيل في الجواب هذا التهكم إنما يتم إذا ادعيت بأني أنا الجالب لذلك الموعود: وإذا كنت مقرا بأني مثلكم في أني لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا كيف أدعي ما ليس لي بحق؟ ثم شرع في الجواب الصحيح ولم يلتفت صلى الله عليه وسلم إلى تهكمهم واستبعادهم فقال: * (لكل أمة أجل) * الخ، وحاصله على ما في " الكشاف " إن عذابكم له أجل مضروب
131

عند الله تعالى وحد محدود من الزمان إذا جاء ذلك الوقت أنجز وعدكم لا محالة فلا تستعجلوا، ومن هنا يعلم سر إسقاط الفاء من * (إذا جاء أجلهم) * وزيادتها في * (فلا يستأخرون) * على عكس آية الأعراف حيث أتى بها أولا ولم يؤت بها ثانيا، وذلك أنه لما سيقت الآية جوابا عن استعجالهم العذاب الموعود حسبما علمت آنفا اعتنى بأمر الشرطية ولزومها كمال الاعتناء فأتى بها غير متفرعة على شيء كأنها من الأمور الثابتة في نفسها الغير المتفرعة على غيرها وقوي لزوم التالي فيها للمقدم بزيادة الفاء التي بها يؤتى للربط في أمثال ذلك ولا كذلك آية الأعراف كما لا يخفى إلا على الأنعام فاحفظه فإنه من الأنفال، ولا يأباه ما مر في تقرير الاستفهام في صدر الكلام كما هو ظاهر لدى ذوي الأفهام، وكذا لا يأباه ما قيل في ربط هذه الآية بما قبلها من أنها بيان لما أبهم في الاستثناء وتقييد لما في القضاء السابق من الإطلاق المشعر بكون المقضي به أمرا منجزا غير متوقف على شيء غير مجىء الرسول وتكذيب الأمة لأنه على ما فيه ما فيه إنكار المدخلية في الجواب، ولعل الغرض يتم بمجرد ذلك لحصول التغاير بين مساقي الآيتين به أيضا، وقد يقال: إن إسقاط الفاء أولا لتكون الجملة في موضع الصفة - لأجل - تهويلا لأمره وتنويها بشأنه حسبما يقتضيه المقام، أي لكل أمة أجل موصوف بأنه إذا جاء لا يستأخرون عنه ولا يستقدمون عليه البتة، والإظهار في موضع ازضمار لزيادة التقرير مثل ما مر آنفا وليس بذاك، ومما
تضحك منه الموتى ما قاله بعض العظاميين بعد أن كاد يقضي عليه فكرا من أن السر في اختلاف الآيتين الإشارة منه تعالى إلى جواز الأمرين عربية ولم يعلم عافاه الله تعالى أن القرآن الكريم لم ينزل معلما للعربية مبينا لقواعدها وشارحا لما يجوز فيها وما لا يجوز، بل نزل معجزا بفصاحته وبلاغته وما تضمنه من الأسرار أقواما كل منهم في ذلك الشأن - الجذيل المحكك والعذيب المرجب -.
وذكر بعض من أحيا ميت الفضل علمه وصفا عن تخليط أبناء العصر فهمه صفاء الدين عيسى البندنيجي أن مساق هذه الآية لتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وشرح صدره عليه الصلاة والسلام عما عسى يضيق به بحسب البشرية من قولهم: * (متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) * (يونس: 48) ولتلقينه صلى الله عليه وسلم رد قولهم ذلك كما يشعر به السباق فناسب قطع كل من الجملتين عن الأخرى ليستقل كل منهما في إفادة التثبيت والرد للتأكيد والمبالغة فيها ولذا لم يؤت بالفاء في صدر الشرطية وجىء بها في الجواب زيادة في ذلك لإفادتها تحقق ما بعدها عقيب ما يقتضيه بلا مهلة، وآية الأعراف سيقت وعيدا لأهل مكة، ومن البين أن محط الفائدة في إشعار أنه وعيد وأن ما هو أدخل في التخويف الجملة الشرطية، لأنها النص في نزول العذاب عند حلول الأجل وأنه لا محيص لهم عن ذلك عنده دون * (لكل أمة أجل) * فقط فكان المقام مقام ربط ووصل فجىء بالفاء لتدل على ذلك وتؤذن باتحاد الجملتين في كونهما وعيدا ولمسامحته سبحانه في الوعيد لم يؤت بالفاء في الجواب انتهى. ولعل ما قدمناه ليس بالبعيد عنه من وجه وإن خالفه من وجه آخر ولكل وجهة والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.
* (قل أرءيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون) *
* (قل) * لهم بعد ما بينت لهم كيفية حالك وجريان سنة الله تعالى فيما بين الأمم على الإطلاق ونبهتهم على أن عذابهم أمر مقرر محتوم لا يتوقف إلا على مجىء أجله المعلوم إيذانا بكمال دنوه وتنزيلا له منزلة إتيانه حقيقة * (أرأيتم إن أتاكم عذابه) * الذي تستعجلون به ولعل استعمال * (إن) * من باب المجاراة * (بياتا) * أي وقت بيات * (أو نهارا) * أي عند اشتغالكم بمشاغلكم وإنما لم يقل ليلا ونهارا ليظهر التقابل لأن المراد الإشعار بالنوم والغفلة والبيات متكفل بذلك لأنه الوقت الذي يبيت فيه العدو ويوقع فيه ويغتنم فرصة
132

غفلته وليس في مفهوم الليل هذا المعنى ولم يشتهر شهرة النهار بالاشتغال بالمصالح والمعاش حتى يحسن الاكتفاء بدلالة الالتزام كما في النهار، وقد يقال: النهار كله محل الغفلة لأنه إما زمان اشتغال بمعاش أو زمان قلولة بخلاف الليل فإن محل الغفلة فيه ما قارب وسطه وهو وقت البيات فلذا خص بالذكر، والبيات جاء بمعنى البيتوتة وبمعنى التبييت كالسلام بمعنى التسليم والمعنى المراد هنا مبني على هذا * (ماذا يستعجل منه المجرمون) * أي أي شيء يستعجلون من العذاب وليس شيء منه يوجب الاستعجال لما أن كله مكروه مر المذاق موجب للنفار، فمن للتبعيض والضمير للعذاب والتنكير في شيء للفردية، وجوز أن يكون المعنى على التعجب وهو مستفاد من المقام كأنه قيل: أي هول شديد يستعجلون منه، فمن بيانية وتجريدية بناء على عد الزمخشري لها منها، وقيل: الضمير لله تعالى، وعليه فالمعنى على الثاني ولكن تزول فائدة الإبهام والتفسير وما فيه من التفخيم.
وما قيل: إنه أبلغ على معنى هل تعرفون ما العذاب المعذب به هو الله سبحانه فهو مشترك على التقديرين ألا ترى إلى قوله تعالى: * (عذابه) *، و * (ماذا) * بمعنى أي شيء منصوب المحل مفعولا مقدما وهو أولى من جعله مبتدأ، ومن فعل قدر العائد، ومن قال: إن ضمير * (منه) * هو الرابط مع تفسيره بالعذاب جنح إلى أن المستعجل من العذاب فهو شامل للمبتدأ فيقوم مقام رابطه لأن عموم الخبر في الاسم الظاهر يكون رابطا على المشهور ففي الضمير أولى. وزعم أبو البقاء أن الضمير عائد إلى المبتدأ وهو الرابط وجعل ذلك نظير قولك: زيد أخذت منه درهما وليس بشيء كما لا يخفى، والمراد من المجرمون المخاطبون، وعدل عن الضمير إليه للدلالة على أنهم لجرمهم ينبغي أن يفزعوا من إتيان العذاب فضلا عن أن يستعجلوه، وقيل: النكتة في ذلك إظهاره تحقيرهم وذمهم بهذه الصفة الفظيعة، والجملة متعلقة - بأرأيتم - على أنها استئناف بياني أو في محل نصب على المفعولية وعلق عنها الفعل للاستفهام، وهو في الأصل استفهام عن الرؤية البصرية أو العلمية ثم استعمل بمعنى أخبروني لما بين الرؤية والإخبار من السببية والمسببية في الجملة فهو مجاز فيما ذكر وإليه ذهب الكثير، وذهب أبو حيان إلى أن ذلك بطريق التضمين ولم يستعمل إلا في الأمر العجيب، وجواب الشرط محذوف أي إن أتاكم عذابه في أحد ذينك الوقتين تندموا أو تعرفوا الخطأ أو فاخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون.
وزعم أبو حيان تعين الأخير لأن الجواب إنما يقدر مما تقدمه لفظا أو تقديرا ولم يدر أن تقديره من غير جنس المذكور إذا قامت قرينة عليه ليس بعزيز، ولئن سلم صحة الحصر الذي ادعاه فما ذكر غير خارج عنه بناء على أن المقصود من * (أرأيتم) * * (ماذا يستعجل منه) * الخ تنديمهم أو تجهيلهم كما نص عليه بعض المحققين.
وفي " الكشف " تقريرا لأحد الأوجه المذكورة في " الكشاف " أن * (ماذا) * الخ متعلق الاستخبار والشرط مع جوابه المحذوف مقرر لمضمون الاستخبار ولهذا وسط بينهما، ولما كان في الاستفهام تجهيل وتنديم قدر الجواب تندموا أو تعرفوا الخطأ، ولا مانع من تقديرهما معا أو ما يفيد المعنيين ولهذا حذف الجواب ووسط تأكيدا على تأكيد انتهى.
وجوز كون * (ماذا يستعجل) * جوابا للشرط كقولك: إن أتيتك ماذا تطعمني والمجموع بتمامه متعلق * (بأرأيتم) * ورد بأن جواب الشرط إذا كان استفهاما فلا بد فيه من الفاء تقول إن زارنا فلان فأي رجل هو ولا تحذف إلا ضرورة، وقد صرح في المفصل بأن الجملة إذا كانت إنشائية لا بد من الفاء معها، والاستفهام وإن لم يرد به حقيقته لم يخرج عن الإنشائية، والمثال مصنوع فلا يعول عليه.
133

وأجيب بأن الرضي صرح بأن وقوع الجملة الاستفهامية جوابا بدون الفاء ثابت في كثير من الكلام الفصيح، ولو سلم ما ذكر فيقدر القول وحذفه كثير مطرد بلا خلاف، وأورد أيضا على هذا الوجه أن استعجال العذاب قبل إتيانه فكيف يكون مرتبا عليه وجزاء له، وأجيب بأنه حكاية عن حال ماضية أي ماذا كنتم تستعجلون، ويشهد لهذا
التصريح - بكنتم - فيما بعد والقرآن يفسر بعضه بعض، وأنت تعلم أن مجرد ذلك لا يجوز كونه جوابا لأن الاستعجال الماضي لا يترتب على إتيان العذاب فلا بد من تقدير نحو تعلموا أي تعلموا ماذا الخ، وقيل: إن أتاكم بمعنى إن قارب إتيانه إياكم أو المراد إن أتاكم أمارات عذابه، وقيل: حيث أن المراد إنكار الاستعجال بمعنى نفيه رأسا صح كونه جوابا، واعترض على جعل مجموع الشرطية متعلقا * (بأرأيتم) * بأنه لا يصح أن يكون مفعولا به له بناء على أنه بمعنى أخبروني وهو متعد بعن ولا تدخل الجملة إلا أنها إذا اقترنت بالاستفهام وقلنا بجواز تعليقها وفيه كلام في العربية جاز، ودفع بأن مراد القائل بالتعلق التعلق اللغوي لأن المعنى أخبروني عن صنيعكم أن أتاكم الخ [بم والمراد بقوله سبحانه:
* (أثم إذا ما وقع ءامنتم به ءآلان وقد كنتم به تستعجلون) *
* (أثم إذا ما وقع ءامنتم به) * زيادة التنديم والتجهيل، والمعنى أئذا وقع العذاب وحل بكم حقيقة آمنتم به وعاد استهزاؤكم وتكذيبكم تصديقا وإذعانا، وجىء بثم دلالة على زيادة الاستبعاد، وفيه إن هذا الثاني أبعد من الأول وأدخل في الإنكار.
وجوز أن يكون هذا جواب الشرط والاستفهامية الأولى اعتراض، والمعنى أخبروني أن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان، وأصل الكلام على ما قيل: إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ووقع وتحقق آمنتم ثم جىء بحرف التراخي بدل الواو دلالة على الاستبعاد ثم زيد أداة الشرط دلالة على استقلاله بالاستبعاد وعلى أن الأول كالتمهيد له وجىء - بإذا - مؤكدا - بما - ترشيحا لمعنى الوقوع والتحقيق وزيادة للتجهيل وأنهم لم يؤمنوا إلا بعد إن لم ينفعهم البتة، وهذا الوجه مما جوزه الزمخشري. وتعقب بأنه في غاية البعد لأن ثم حرف عطف لم يسمع تصدير الجواب به والجملة المصدرة بالاستفهام لا تقع جوابا بدون الفاء وأجيب عن هذا بما مر. وأما الجواب عنه بأنه أجرى * (ثم) * مجرى الفاء فكما أن الفاء في الأصل للعطف والترتيب وقد ربطت الجزاء فكذلك هذه فمخالف لإجماع النحاة، وقياسه على الفاء غير جلي ولهذه الدغدغة قيل: مراد الزمخشري أنه يدل على الجواب والتقدير إن أتاكم عذابه أمنتم به بعد وقوعه وما في النظم الكريم معطوف عليه للتأكيد نحو * (كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون) * وتعقب بأنه لا يخفى تكلفه فإن عطف التأكيد بثم مع حذف المؤكد مما لا ينبغي ارتكابه ولو قيل: المراد إن * (آمنتم) * هو الجواب و * (أثم إذا ما وقع) * معترض فالاعتراض بالواو والفاء وأما - بثم - فلم يذهب إليه أحد، وبالجملة قد كثر الجرح والتعديل لهذا الوجه ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر. وقرىء * (ثم) * بفتح الثاء بمعنى هنالك، وقوله سبحانه: * (الآن) * على تقدير القول وهو الأظهر والأقوى معنى أي قيل لهم عند إيمانهم بعد وقوع العذاب الآن آمنتم به. فالآن في محل نصب على أنه ظرف لآمنتم مقدرا، ومنع أن يكون ظرفا للمذكور لأن الاستفهام له صدر الكلام. وقرىء بدون همزة الاستفهام والظاهر عندي على هذا تعلقه بمقدر أيضا لأن الكلام على الاستفهام، وبعض جوز تعلقه بالمذكور وليس بذاك. وعن نافع أنه قرىء * (آلآن) * بحذف الهمزة التي بعد اللام وإلقاء حركتها على اللام، وقوله سبحانه:
134

* (وقد كنتم به تستعجلون) * في موضع الحال من فاعل * (آمنتم) * المقدر، والكلام على ما قيل مسوق من جهته تعالى غير داخل تحت القول الملقن لتقرير مضمون ما سبق من إنكار التأخير والتوبيخ عليه، وفائدة الحال تشديد التوبيخ والتقريع وزيادة التنديم والتحسير. قال العلامة الطيبي: إن الآن آمنتم به يقتضي أن يقال بعده: وقد كنتم به تكذبون لا * (تستعجلون) * إلا أنه وضع موضعه لأن المراد به الاستعجال السابق وهو ما حكاه سبحانه عنهم بقوله تعالى: * (متى هذا الوعد) * وكان ذلك تهكما منهم وتكذيبا واستبعادا، وفي العدول استحضار لتلك المقالة الشنيعة فيكون أبلغ من تكذبون، وتقديم الجار والمجرور على الفعل لمراعاة الفواصل، وقوله تعالى: * (ثم قيل) * الخ عطف على قيل المقدر قبل * (الآن) * لتوكيد التوبيخ.
* (ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون) *
* (للذين ظلموا) * أي وضعوا ما نهوا عنه من الكفر والتكذيب موضع ما أمروا به من الإيمان والتصديق أو ظلموا أنفسهم بتعريضها للهلاك والعذاب، ووضع الموصول موضع الضمير لذمهم بما في حيز الصلة والإشعار بعليته لإصابة ما أصابهم * (ذوقوا عذاب الخلد) * أي المؤلم على الدوام * (هل تجزون) * أي ما تجزون اليوم * (إلا بما كنتم تكسبون) * أي إلا ما استمررتم على كسبه في الدنيا من أصناف الكفر التي من جملتها ما مر من الاستعجال، وزاد غير واحد في البيان سائر أنواع المعاصي بناء أن الكفار مكلفون بالفروع فيعذبون على ذلك لكن هل العذاب عليه مستمر تبعا للكفر أو منته كعذاب غيرهم من العصاة؟ قيل: الظاهر الثاني وبه جمع بين النصوص الدالة على تخفيف عذاب الكفار وما يعارضها فقالوا: إن المخفف عذاب المعاصي والذي لا يخفف عذاب الكفر.
* (ويستنبئونك أحق هو قل إى وربىإنه لحق ومآ أنتم بمعجزين) *
* (ويستنبؤنك) * أي يستخبرونك * (أحق هو) * أي العذاب الموعود كما هو الأنساب بالسياق دون ادعاء النبوة الذي جوزه بعضهم، ورجح عليه أيضا بأنه لا يتأتى إثبات النبوة لمنكريها بالقسم. وأجيب بأنه ليس المراد منه إثباتها بل كون تلك الدعوى جدا لا هزلا أو أنه بالنسبة لمن يقنع بالإثبات بمثله، وقد يقال: ما ذكر مشترك الإلزام لأن العذاب الموعود لا يثبت عند الزاعمين أنه افتراء قبل وقوعه بمجرد القسم أيضا فلا يصلح ما ذكر مرجحا، والحق أن القسم لم يذكر للإلزام بل توكيد لما أنكروه، والاستفهام للإنكار، والاستنباء على سبيل التهكم والاستهزاء كما هو المعلوم من حالهم فلا يقتضي بقاءه على أصله، وربما يقال: إن الاستنباء بمعنى طلب النبأ حقيقة لكن لا عن الحقبة ومقابلها بالمعنى المتبادر لأنهم جازمون بالثاني بل المراد من ذلك الجد والهزل كأنهم قالوا: إنا جازمون بأن ما تقوله كذب لكنا شاكون في أنه جد منك أم هزل فأخبرنا عن حقيقة ذلك، ونظير هذا قولهم: * (أفترى على الله كذبا أم به جنة) * (سبأ: 8) على ما قرره الجماعة إلا أن ذلك خلاف الظاهر، و * (حق) * خبر قدم على المبتدأ الذي هو * (هو) * ليلى الهمزة المسؤول عنه، وجوز أن يكون مبتدأ وهو مرتفع به ساد مسد الخبر لأنه بمعنى ثابت فهو حينئذ صفة
وقعت بعد الاستفهام فتعمل ويكتفي بمرفوعها عن الخبر إذا كان اسما ظاهرا أو في حكمه كالضمير المنفصل هنا، والمشهور أن استنبأ تتعدى إلى اثنين أحدهما بدون واسطة والآخر بواسطة - عن - فالمفعول الأول على هذا ليستنبؤون الكاف والثاني قامت مقامه هذه الجملة، على معنى يسألونك عن جواب هذا السؤال إذ الاستفهام لا يسأل عنه وإنما يسأل عن جوابه. والزمخشري لما رأى أن الجملة هنا لا تصلح أن تكون مفعولا ثانيا معنى لما عرفت ولفظا
135

لأنه لا يصح دخول - عن - عليها جعل الفعل مضمنا معنى القول أي يقولون لك هذا، والجملة في محل نصب مفعول القول. وقرأ الأعمش * (آلحق هو) * بالتعريف مع الاستفهام وهي تؤيد كون الاستفهام للإنكار لما فيها من التعريض لبطلانه المقتضى لإنكاره لإفادة الكلام عليها القصر وهو من قصر المسند على المسند إليه على المشهور، والمعنى أن الحق ما تقول أم خلافه، وجعله الزمخشري من قصر المسند إليه على المسند حيث قال كأنه قيل: أهو الحق لا الباطل أو أهوى الذي سميتموه الحق، وأشار بالترديد إلى أن الغرض من هذا الوجه لا يختلف جعل الحصر حقيقيا تحكما أو ادعائيا. واعترض ذلك بأنه مخالف لما عليه علماء المعاني في مثل هذا التركيب. وفي " الكشف " أنه يتخايل أن الحصر على معنى أهو الحق لا غيره لا معنى أهو الحق لا الباطل على ما قرروه في قولهم: زيد المنطلق والمنطلق زيد، فعلى هذا لا يسد ما ذكره الزمخشري ولكنه يضمحل بما حققناه في قوله تعالى: * (وقودها الناس والحجارة) * (البقرة: 24) وأن انحصار أحدهما في الآخر يلاحظ بحسب المقام وحينئذ لا يبالي قدم أو أخر، وههنا المعنى على حصر العذاب في الحقية لا على حصر الحقية في العذاب.
وقد قال هناك: إن التحقيق أن نحو زيد المنطلق وعكسه إنما يحكم فيه بقصر الثاني أعني الانطلاق على الأول لأن المناسب قصر العام على الخاص، وكذلك نحو الناس هم العلماء والعلماء هم الناس وإن كان بينهما عموم وخصوص من وجه لأن المقصود بين، وأما في نحو قولنا: الخاشعون هم العلماء والعلماء هم الخاشعون فالحكم مختلف تقديما وتأخيرا وأحد القصرين غير الآخر، فينبغي أن ينظر إلى مقتضى المقام إن تعين أحدهما لذلك حكم به قدم أو أخر وإلا روعي التقديم والتأخير، وقد يكون القصر متعاكسا نحو زيد المنطلق إذا أريد المعهود وهذا ذاك، وكذلك الجنسان إذا اتحدا موردا كقولك: الضاحك الكاتب إلى آخر ما قال، وكون المعنى ههنا على حصر العذاب في الحقية دون العكس هو المناسب، ومخالفة علماء المعاني ليست بدعا من صاحب الكشاف وأمثاله، والحق ليس محصورا بما هم عليه كما لا يخفى فتدبر * (قل إي وربي إنه لحق) * أي قل لهم غير مكترث باستهزائهم مغضيا عما قصدوا بانيا للأمر على أساس الحكمة: نعم إن ذلك العذاب الموعود ثابت البتة، فضمير * (إنه) * للعذاب أيضا * (وإي) * حرف جواب وتصديق بمعنى نعم قيل: ولا تستعمل كذلك إلا مع القسم خاصة كما أن هل بمعنى قد في الاستفهام خاصة، ولذلك سمع من كلامهم وصلها بواو القسم إذا لم يذكر المقسم به فيقولون - إيو - ويوصلون به هاء السكت أيضا فيقولون: - إيوه - وهذه اللفظة شائعة اليوم في لسان المصريين وأهل ذلك الصقع. وادعى أبو حيان أنه يجوز استعمالها مع القسموبدونه إلا أن الأول هو الأكثر قال: وما ذكر من السماع ليس بحجة لأن اللغة فسدت بمخالطة غير العرب فلم يبق وثوق بالسماع، وحذف المجرور بواو القسم والاكتفاء بها لم يسمع من موثوق به وهو مخالف للقياس، وأكد الجواب بأتم وجوه التأكيد حسب شدة إنكارهم وقوته وقد زيد تقريرا وتحقيقا بقوله جل شأنه: * (وما أنتم بمعجزين) * أي بفائتين العذاب على أنه من فاته الأمر إذا ذهب عنه، ويصح جعله من أعجزه بمعنى وجده عاجزا أي ما أنتم بواجدي العذاب أو من يوقعه بكم عاجزا عن إدراككم وإيقاعه بكم، وأيا ما كان فالجملة إما معطوفة على جواب القسم أو مستأنفة سيقت لبيان عجزهم عن الخلاص مع ما فيه من التقرير المذكور.
* (ولو أن لكل نفس ظلمت ما فى الارض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون) *
* (ولو أن لكل نفس ظلمت) * أي بالكفر أو بالتعدي على الغير أو غير ذلك من أصناف الظلم كذا
136

قيل، وربما يقتصر على الأول لأنه الفرد الكامل مع أن الكلام في حق الكفار و * (لو) * قيل بمعنى أن وقيل على ظاهرها واستبعد ولا أراه بعيدا * (ما في الأرض) * أي ما في الدنيا من خزائنها وأموالها ومنافعها قاطبعة * (لافتدت به) * أي لجعلته فدية لها من العذاب من افتداه بمعنى فداه فالمفعول محذوف أي لافتدت نفسها به.
وجوز أن يكون افتدى لازما على أنه مطاوع فدى المتعدي يقال فداه فافتدى، وتعقب بأنه غير مناسب للسياق إذ المتبادر منه أن غيره فداه لأن معناه قبلت الفدية والقابل غير الفاعل، ونظر فيه بأنه قد يتحد القابل والفاعل إذا فدى نفسه نعم المتبادر الأول * (وأسروا) * أي النفوس المدلول عليها بكل نفس، والعدول إلى صيغة الجمع لإفادة تهويل الخطب بكون الإسرار بطريق المعية والاجتماع، وإيثار صيغة جمع المذكر لحمل لفظ النفس على الشخص أو لتغليب ذكور مدلوله على إناثه، والإسرار الإخفاء أي أخفوا * (الندامة) * أي الغم والأسف على ما فعلوا من الظلم، والمراد إخفاء آثارها كالبكاء وعض اليد وإلا فهي من الأمور الباطنة التي لا تكون إلا سرا وذلك لشدة حيرتهم وبهتهم * (لما رأوا العذاب) * أي عند معاينتهم من فظاعة الحال وشدة الأهوال ما لم يمر لهم ببال، فأشبه حالهم حال المقدم للصلب يثخنه ما دهمه من الخطب ويغلب حتى لا يستطيع التفوه ببنت شفة ويبقى جامدا مبهوتا، وقيل: المراد بالإسرار الإخلاص أي أخلصوا الندامة وذلك إما لأن إخفاءها إخلاصها وإما من قولهم: سر الشيء لخالصه الذي من شأنه أن يخفى ويصان ويضن به وفيه تهكم بهم: وقال أبو عبيدة. والجبائي: إن الأسرار هنا بمعنى الإظهار. وفي " الصحاح " أسررت الشيء كتمته وأعلنته أيضا وهو من الأضداد، والوجهان جميعا يفسران في قوله تعالى: * (وأسروا الندامة) * وكذلك في قول امرىء القيس: لو يسرون مقتلي
انتهى وفي " القاموس " أيضا أسره كتمه وأظهره ضد، وفيه اختلاف اللغويين فإن الأزهري منهم ادعى أن استعمال أسر بمعنى أظهر غلط وأن المستعمل بذلك المعنى هو أشر بالشين المعجمة لا غير. ولعله قد غلط في الغليط، وعليه فالإظهار أيضا باعتبار الآثار على ما لا يخفى.
وجوز بعضهم أن يكون المراد بالإسرار الإخفاء إلا أن المراد من ضمير الجمع الرؤساء أي أخفى رؤساؤهم الندامة من سفلتهم الذين أضلوهم حياء منهم وخوفا من
توبيخهم، وفيه أن ضمير * (أسروا) * عام لا قرينة على تخصيصه على أن هول الموقف أشد من أن يتفكر معه في أمثال ذلك، وجملة * (أسروا) * مستأنفة على الظاهر وقيل: حال بتقدير قد، و * (لما) * على سائر الأوجه بمعنى حين منصوب بأسروا، وجوز أن يكون للشرط والجواب محذوف على الصحيح لدلالة ما تقدم عليه أي لما رأوا العذاب أسروا الندامة * (وقضي) * أي حكم وفصل * (بينهم) * أي بين النفوس الظالمة * (بالقسط) * أي بالعدل * (وهم لا يظلمون) * أصلا لأنه لا يفعل بهم إلا ما يقتضيه استعدادهم، وقيل: ضمير * (بينهم) * للظالمين السابقين في قوله سبحانه: * (ولو أن لكل نفس ظلمت) * والمظلومين الذين ظلموهم وإن لم يجر لهم ذكر لكن الظلم يدل بمفهومه عليهم وتخصيص الظلم بالتعدي، والمعنى وقعت الحكومة بين الظالمين والمظلومين وعومل كل منهما بما يليق به. وأنت تعلم أن المقام لا يساعد
137

على ذلك لأنه إن لم يقتض حمل الظلم على أعظم أفراده وهو الشرك فلا أقل من أنه يقتضي حمله على ما يدخل ذلك فيه دخولا أوليا، والظاهر أن جملة * (قضى) * مستأنفة، وجوز أن تكون معطوفة على جملة * (رأوا) * فتكون داخلة في حيز لما.
* (ألاإن لله ما فى السم‍اوات والارض ألا إن وعد الله حق ول‍اكن أكثرهم لا يعلمون) *
* (ألا إن لله ما في السموات والأرض) * أي إن له سبحانه لا لغيره تعالى ما وجد في هذه الأجرام العظيمة داخلا في حقيقتها أو خارجا عنها متمكنا فيها، وكلمة * (ما) * لتغليب غير العقلاء على العقلاء، وهو تذييل لما سبق وتأكيد واستدلال عليه بأن من يملك جميع الكائنات وله التصرف فيها قادر على ما ذكر وقيل: إنه متصل بقوله سبحانه: * (ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به) * (يونس: 54) كأنه بيان لعقدهم ما يفتدون به وعدم ملكهم شيئا حيث أفاد أن جميع ما في السموات والأرض ملكه لا ملك لأحد فيه سواه جل وعلا وليس بشيء وإن ذكره بعض الأجلة واقتصر عليه * (ألا إن وعد الله) * أي جميع ما وعد به كائنا ما كان فيندرج فيه العذاب الذي استعجلوه وما ذكر في أثناء بيان حاله اندراجا أوليا، فالمصدر بمعنى اسم المفعول، ويجوز أن يكون باقيا على معناه المصدري أي وعده سبحانه بجميع ما ذكر * (حق) * أي ثابت واقع لا محالة أو مطابق للواقع، والظاهر أن حمل الوعد على العموم بحيث يندرج فيه العذاب المذكور والعقاب للعصاة أو الوعد بهما يستدعي اعتبار التغليب في الكلام، وبعضهم حمل الوعد على ما وعد به صلى الله عليه وسلم من نصره وعقاب من لم يتبعه وقال: إن اعتبار التغليب توهم وليس بالمتعين، وإظهار الاسم الجليل لتفخيم شأن الوعد والإشعار بعلة الحكم، وتصدير الجملتين بحرفي التنبيه والتحقيق للتسجيل على تحقق مضمونها المقرر لمضمون ما سلف من الآيات الكريمة والتنبيه على وجوب استحضاره والمحافظة عليه.
وذكر الإمام في توجيه ذكر أداة التنبيه في الجملة الأولى أن أهل هذا العالم مشغولون بالنظر إلى الأسباب الظاهرة فيضيفون الأشياء إلى ملاكها الظاهرة المجازية ويقولون مثلا الدار لزيد والغلام لعمرو والسلطنة للخليفة والتصرف للوزير فكانوا مستغرقين في نوم الجهل والغفلة حيث يظنون صحة تلك الإضافات فلذلك زادهم سبحانه بقوله عز اسمه: * (ألا إن لله) * الخ، واستناد جميع ذلك إليه جل شأنه بالمملوكية لما ثبت من وجوب وجوده لذاته سبحانه وأن جميع ما سواه ممكن لذاته وأن الممكن لذاته مستند إلى الواجب لذاته إما ابتداء أو بواسطة وذلك يقتضي أن الكل مملوك له تعالى، والكلام في ذكر الأداة في الجملة الثانية على هذا النمط لا يخلو عن تكلف، والحق ما أشرنا إليه في وجه التصدير، ووجه اتصال هذه الجملة بما تقدم ظاهر مما قررنا وللطبرسي في توجيه ذلك كلام ليس بشيء * (ول‍اكن أكثرهم) * لسواء استعداداتهم وقصور عقولهم واستيلاء الغفلة عليهم * (لا يعلمون) * فيقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون.
* (هو يحى ويميت وإليه ترجعون) *
* (هو يحي ويميت) * في الدنيا من غير دخل لأحد في ذلك، وهذا على ما يفهم من كلام البعض استدلال على البعث والنشور على معنى أنه تعالى يفعل الإحياء والإماتة في الدنيا فهو قادر عليهما في العقبى لأن القادر لذاته لا تزول قدرته والمادة القابلة بالذات للحياة والموت قابلة لهما أبدا، ولا يخفى أن ذكر القدرة على الإماتة استطرادي لا دخل له في الاستدلال على ذلك، والظاهر عندي أنه كالذي قبله تذييل لما سبق * (وإليه ترجعون) * في الآخرة بالبعث والحشر.
* (ياأيها الناس قد جآءتكم موعظة من ربكم وشفآء لما فى الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين) *
* (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين) * التفات ورجوع إلى
138

استمالتهم نحو الحق واستنزالهم إلى قبوله واتباعه غب تحذيرهم من غوائل الضلال بما تلا عليهم من القوارع وإيذان بأن جميع ذلك مسوق لمصالحهم وهذا وجه الربط بما تقدم. وقال أبو حبان في ذلك: أنه تعالى لما ذكر الأدلة على الألوهية والوحدانية والقدرة ذكر الدلائل الدالة على صحة النبوة والطريق المؤدي إليها وهو المتصف بهذه الأوصاف والأول أولى ولا يأباه عموم الخطاب كما هو الظاهر واختاره الطبري خلافا لمن جعله خاصا بقريش، والموعظة كالوعظ والعظة تذكير ما يلين القلب من الثواب والعقاب، وقيل: زجر مقترن بتخويف، والشفاء الدواء ويجمع على أشفية وجمع الجمع أشافي، والهدى معلوم مما مر غير مرة، والرحمة الإحسان أو إرادته أو صفة غيرهما لائقة بمن قامت به، و * (من ربكم) * متعلق بجاء و * (من) * ابتدائية أو بمحذوف وقع صفة لموعظة و * (من) * تبعيضية والكلام على حذف مضاف أي موعظة من مواعظ ربكم و * (لما) * إما متعلق بما عنده واللام مقوية وأما متعلق بمحذوف وقع نعتا له وكذا يقال على ما قيل فيما بعد، والمراد قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد والمنافع كاشف عن أحوال الأعمال حسناتها وسيئاتها مرغب في الأولى ورادع عن الأخرى ومبين للمعارف الحقة المزيلة لأدواء الشكوك وسوء مزاج الاعتقاد وهاد إلى طريق الحق واليقين بالإرشاد إلى الاستدلال بالدلائل الآفاقية والأنفسية ورحمة للمؤمنين حيث نجوا به من ظلمات الكفر والضلال إلى نور الإيمان وتخلصوا من دركات النيران وارتقوا إلى درجات الجنان. قال بعض المحققين: إن في ذلك إشارة إلى أن للنفس الإنسانية مراتب كمال من تمسك بالقرآن فاز بها. أحدها
: تهذيب الظاهر عن فعل ما لا ينبغي وإليه الإشارة * (بالموعظة) * بناء على أن فيها الزجر عن المعاصي وثانيها: تهذيب الباطن عن العقائد الفاسدة والملكات الردية وإليه الإشارة * (بشفاء لما في الصدور) * وثالثها: تحلي النفس بالعقائد الحقة والأخلاق الفاضلة ولا يحصل ذلك إلا بالهدى. ورابعها: تجلي أنوار الرحمة الإلهية وتختص بالنفوس الكاملة المستعدة بما حصل لها من الكمال الظاهر والباطن لذلك. وقال الإمام: الموعظة إشارة إلى تطهر ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشريعة، والشفاء إلى تطهر الأرواح عن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة وهو الطريقة، والهدى إلى ظهور الحق في قلوب الصديقين وهو الحقيقة، والرحمة إلى بلوغ الكمال والأشراق حتى يكمل غيره ويفيض عليه وهو النبوة والخلافة فهذه درجات لا يمكن فيها تقديم ولا تأخير، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر جدا والذي يقتضيه الظاهر كون المذكورات أوصافا للقرآن باعتبار كونه سببا وآلة لها، وجعلت عينه مبالغة وبينها تلازم في الجملة، والتنكير فيها للتفخيم، والهداية إن أخذت بمعنى الدلالة مطلقا فعامة أو بمعنى الدلالة الموصولة فخاصة وحينئذ يكون * (للمؤمنين) * قيد الأمرين، ويؤيد تقييد الهدى بذلك قوله سبحانه: * (هدى للمتقين) * فالقرآن واعظ بما فيه من الترهيب والترغيب أو بما فيه من الزجر عن المعاصي كيفما كانت المقترن بالتخويف فقط بناء على التفسير الثاني للموعظة، وشاف لما في الصدور من الأدواء المفضية إلى الهلاك كالجهل والشك والشرك والنفاق وغيرها، ومرشد ببيان ما يليق وما لا يليق إلى ما فيه النجاة والفوز بالنعيم الدائم أو موصل إلى ذلك، وسبب الرحمة للمؤمنين الذين آمنوا به وامتثلوا ما فيه من الأحكام، وأما إذا ارتكب خلاف الظاهر فيقال غير ما قيل أيضا مما ستراه إن شاء الله تعالى في باب الإشارة. واستدل كما قال الجلال السيوطي بالآية على أن القررن يشفي من الأمراض البدنية كما يشفي من الأمراض القلبية فقد أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
139

إني أشتكي صدري فقال عليه الصلاة والسلام: " اقرأ القرآن يقول الله تعالى شفاء لما في الصدور " وأخرج البيهقي في الشعب عن واثلة بن الأسقع أن رجلا شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجع حلقه فقال: " عليك بقراءة القرآن " وأنت تعلم أن الاستدلال بها على ذلك مما لا يكاد يسلم، والخبر الثاني لا يدل عليه إذ ليس فيه أكثر من أمره صلى الله عليه وسلم الشاكي بقراءة القرآن إرشادا له إلى ما ينفعه ويزول به وجعه ونحن لا ننكر أن لقراءة القرآن بركة قد يذهب الله تعالى بسببها الأمراض والأوجاع وإنما ننكر الاستدلال بالآية على ذلك؛ والخبر الأول وإن كان ظاهرا في المقصود لكن ينبغي تأويله كأن يقال: لعله صلى الله عليه وسلم اطلع على أن في صدر الرجل مرضا معنويا قلبيا قد صار سببا للمرض الحسي البدني فأمره عليه الصلاة والسلام بقراءة القرآن ليزول عنه الأول فيزول الثاني، ولا يستبعد كون بعض الأمراض القلبية قد يكون سببا لبعض الأمراض القالبية فإنا نرى أن نحو الحسد والحقد قد يكون سببا لذلك، ومن كلامهم لله تعالى در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله: وهذا أولى من إخراج الكلام مخرج الأسلوب الحكيم. والحسن البصري ينكر كون القرآن شفاء للأمراض، فقد أخرج أبو الشيخ عنه. أنه قال: إن الله تعالى جعل القرآن شفاء لما في الصدور ولم يجعله شفاء لأمراضكم، والحق ما ذكرنا.
* (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) *
* (قل) * تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمر الناس بأن يغتنموا ما في القرآن العظيم من الفضل والرحمة أي قل لهم * (بفضل الله وبرحمته) * متعلق بمحذوف، وأصل الكلام ليفرحوا بفضل الله تعالى وبرحمته ثم قدم الجار والمجرور على الفعل لإفادة اختصاصه بالمجرور ثم أدخل عليه الفاء لإفادة معنى السببية فصار بفضل الله وبرحمته فليفرحوا ثم جىء بقوله سبحانه: * (فبذلك فليفرحوا) * للتأكيد والتقرير ثم حذف الفعل الأول لدلالة الثاني عليه، والفاء الأولى قيل جزائية والثانية زائدة للتأكيد، والأصل أن فرحوا بشيء فبذلك ليفرحوا لا بشيء آخر ثم زيدت الفاء لما ذكر ثم حذف الشرط، وقيل: إن الأولى هي الزائدة لأن جواب الشرط في الحقيقة فليفرحوا - وبذلك - مقدم من تأخير لما أشير إليه، وزيدت فيه الفاء للتحسين، ولذلك جوز أن يكون بدلا من قوله سبحانه: * (بفضل الله وبرحمته) * وحينئذ لا يحتاج إلى القول بحذف متعلقه ونظير ذلك في الاختلاف في تعيين الزائد فيه قول النمر بن تولب: لا تجزعي إن منفسا أهلكته * فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي
ومن غريب العربية ما أشار إليه بعضهم إن الآية من باب الاشتغال وقد أقيم اسم الإشارة مقام ضمير المعمول وتوحيده باعتبار ما ذكر ونحوه كما هو شائع فيه، ووجه غرابته أن المعروف في شرط الباب اشتغال العامل بضمير المعمول ولم يذكر أحد من النحاة اشتغاله باسم الإشارة إليه، وجوز أن يقدر متعلق الجار والمجرور * (فليعتنوا) * أي بفضل الله ورحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا، والقرينة على تقدير ذلك أن ما يفرح به يكون مما يعتني ويهتم بشأنه، أو تقديم الجار والمجرور على ما قيل، وقال الحلبي: الدلالة عليه من السباق واضحة وليس شرط الدلالة أن تكون لفظية، فقول أبي حيان: إن ذلك إضمار لا دليل عليه مما لا وجه له، وأن يقدر جاءتكم بعد * (قل) * مدلولا عليه بما قبل أي قل جاءتكم موعظة وشفاء وهدى ورحمة بفضل الله وبرحمته ولا يجوز تعلقه بجاءتكم المذكور لأن * (قل) * تمنع من ذلك، - وذلك - على هذا إشارة إلى المصدر المفهوم من
140

الفعل وهو المجىء أي فبمجىء المذكورات فليفرحوا، وتكرير الباء في برحمته على سائر الأوجه للإيذان باستقلالها في استيجاب الفرح، والمراد بالفضل والرحمة إما الجنس ويدخل فيه ما في مجىء القرآن من الفضل والرحمة دخولا أوليا وإما ما في مجيئه من ذلك، ويؤيده ما روي عن مجاهد أن المراد بالفضل والرحمة القرآن.
وأخرج أبو الشيخ. وابن مردويه عن أنس قال قال: " رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله " وروي ذلك عن البراء. وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهما موقوفا. وجاء عن جمع جم أن الفضل القرآن والرحمة الإسلام وهو في معنى الحديث المذكور. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الفضل العلم والرحمة محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج الخطيب. وابن عساكر عنه تفسير الفضل بالنبي عليه الصلاة والسلام والرحمة بعلي كرم
الله تعالى وجهه، والمشهور وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة كما يرشد إليه قوله تعالى: * (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) * (الأنبياء: 107) دون الأمير كرم الله تعالى وجهه، وإن كان رحمة جليلة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وقيل: المراد بهما الجنة والنجاة من النار. وقيل غير ذلك، ولا يجوز أن يراد بالرحمة على الوجه الأخير من أوجه الإعراب ما أريد بها أولا بل هي فيه غير الأولى كما لا يخفى. وروى رويس عن يعقوب أنه قرأ * (فلتفرحوا) * بتاء الخطاب ولام الأمر على أصل المخاطب المتروك بناء على القول بأن أصل صيغة الأمر الأمر باللام فحذفت مع تاء المضارعة واجتلبت همزة الوصل للتوصل إلى الابتداء بالساكن لا على القول بأنها صيغة أصلية، وقد وردت هذه القراءة في حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخرجه جماعة منهم أبو داود. وأحمد. والبيهقي من طرق عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه مرفوعا، وقرأ بها أيضا ابن عباس. وقتادة. وغيرهما. وفي تعليقات الزمخشري على كشافه كأنه صلى الله عليه وسلم إنما آثر القراءة بالأصل لأنه أدل على الأمر بالفرح وأشد تصريحا به إيذانا بأن الفرح بفضل الله تعالى وبرحمته بليغ التوصية به ليطابق التقرير والتكرير وتضمين معنى الشرط لذلك، ونظيره مما انقلب فيه ما ليس بفصيح فصيحا قوله سبحانه: * (ولم يكن له كفوا أحد) * (الصمد: 4) من تقديم الظرف اللغو ليكون الغرض اختصاص التوحيد انتهى، وهو مأخوذ من كلام ابن جني في توجيه ذلك، ونقل عن " شرح اللب " في توجيهه أنه لما كان النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الحاضر والغائب جمع بين اللام والتاء قيل: وكأنه عنى أن الأمر لما كان لجملة المؤمنين حاضرهم وغائبهم غلب الحاضرون في الخطاب على الغائبين وأتى باللام رعاية لأمر الغائبين، وهي نكتة بديعة إلا أنه أمر محتمل، وما نقل عن صاحب الكشاف أولى بالقبول.
وقرىء * (فافرحوا) * وهي تؤيد القراءة السابقة لأنها أمر المخاطب على الأصل. وقرىء * (فليفرحوا) * بكسر اللام * (هو خير مما يجمعون) * من الأموال والحرث والإنعام وسائر حطام الدنيا فإنها صائرة إلى الزوال مشرفة عليه وهو راجع إلى لفظ ذلك باعتبار مدلوله وهو مفرد فروعي لفظه وإن كان عبارة عن الفضل والرحمة.
ويجوز إرجاع الضمير إليهما ابتداء بتأويل المذكور كما فعل في ذلك أو جعلهما في حكم شيء واحد، ولك أن تجعله راجعا إلى المصدر أعني المجىء الذي أشير إليه و * (ما) * تحتمل الموصولية والمصدرية. وقرأ ابن عامر * (تجمعون) * بالخطاب لمن خوطب * (بيا أيها الناس) * سواء كان عاما أو خاصا بكفار قريش، وضمير * (فليفرحوا) * للمؤمنين أي فبذلك فليفرح المؤمنون فهو خير مما تجمعون أيها المخاطبون وعلى قراءة * (فلتفرحوا) * * (وافرحوا) *
141

يكون الخطاب على ما قيل للمؤمنين، وجوز أن يكون لهم على قراءة الغيبة أيضا التفاتا، وتعقب بأن الجمع أنسب بغيرهم وإن صح وصفهم به في الجملة فلا ينبغي أن يلتزم القول بما يستلزمه ما دام مندوحة عنه.
* (قل أرأيتم مآ أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على الله تفترون) *
* (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق) * أي ما قدر لانتفاعكم من ذلك وإلا فالرزق ليس كله منزلا، واستعمال أنزل فيما ذكر مجاز من إطلاق المسبب على السبب، وجوز أن يكون الإسناد مجازيا بأن أسند الإنزال إلى الرزق لأن سببه كالمطر منزل، وقيل: إن هناك استعارة مكنية تخيلية وهو بعيد، وجعل الرزق مجازا عن سببه أو تقدير لفظ سبب مما لا ينبغي و * (ما) * إما موصولة في موضع النصب على أنها مفعول أول - لأرأيتم - والعائد محذوف أي أنزله والمفعول الثاني ما ستراه إن شاء الله تعالى قريبا و * (ما) * استفهامية في موضع النصب على أنه مفعول * (أنزل) * وقدم عليه لصدارته، وهو معلق لما قبله إن قلنا بالتعليق فيه أي أي شيء أنزل الله تعالى من رزق * (فجعلتم منه حراما وحلالا) * أي فبعضتموه وقسمتموه إلى حرام وحلال وقلتم، * (هذه إنعام وحرث حجر) * و * (ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا) * إلى غير ذلك.
* (قل الله آذن لكم) * في جعل البعض منه حراما والبعض الآخر حلالا * (أم على الله تفترون) * * (أم) * والهمزة متعادلتان والجملة في موضع المفعول الثاني - لأرأيتم - و * (قل) * مكرر للتأكيد فلا يمنع من ذلك، والعائد على المفعول الأول مقدر، والمعنى أرأيتم الذي أنزله الله تعالى لكم من رزق ففعلتم فيه ما فعلتم أي الأمرين كائن فيه الإذن فيه من الله تعالى بجعله قسمين أم الافتراء منكم، وكان أصل * (آلله أذن لكم) * الخ آلله أذن أم غيره فعدل إلى ما في النظم الجليل دلالة على أن الثابت هو الشق الثاني وهم نسبوا ذلك إليه سبحانه فهم مفترون عليه جل شأنه لا على غيره وفيه زجر عظيم كما لا يخفى، ولعل هذا مراد من قال: إن الاستفهام للاستخبار ولم يقصد به حقيقته لينافي تحقق العلم بانتفاء الإذن وثبوت الافتراء بل قصد به التقرير والوعيد وإلزام الحجة.
وجوز أن يكون الاستفهام لإنكار الإذن وتكون * (أم) * منقطعة بمعنى بل الإضرابية، والمقصود الإضراب عن ذلك لتقرير افترائهم، والجملة على هذا معمولة للقول وليست متعلقة - بأرأيتم - وهو قد اكتفى بالجملة الأولى كما أشرنا إليه، ومن الناس من جوز كون * (أم) * متصلة وكونها منفصلة على تقدير تعلق الجملة بفعل القول وأوجب الاتصال على تقدير تعلقها - بأرأيتم - وجعل الاسم الجليل مبتدأ مخبرا عنه بالجملة للتخصيص عند بعض ولتقوية الحكم عند آخر، والإظهار بعد في مقام الإضمار للإيذان بكمال قبح افترائهم، وتقديم الجار والمجرور للقصر مطلقا في رأي ولمراعاة الفواصل على الوجه الأول وللقصر على الوجه الثاني في آخر.
واستدل المعتزلة بالآية على أن الحرام ليس برزق ولا دليل لهم فيها على ما ذكرناه لأن المقدر للانتفاع هو الحلال فيكون المذكور هنا قسما من الرزق وهو شامل للحلال والحرام والكفرة إنما أخطأوا في جعل بعض الحلال حراما، ومن جعل أهل السنة نظيرا لهم في جعلهم الرزق مطلقا منقسما إلى قسمين فقد أعظم الفرية.
* (وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القي‍امة إن الله لذو فضل على الناس ول‍اكن أكثرهم لا يشكرون) *
* (وما ظن الذين يفترون على الله الكذب) * كلام مسوق من جهته تعالى لبيان هول ما سيلقونه غير داخل تحت القول المأمور به، والتعبير عنهم بالموصول لقطع
احتمال الشق الأول من الترديد والتسجيل عليهم بالافتراء، وزيادة الكذب مع أن الافتراء لا يكون إلا كذلك لإظهار
142

لإظهار كمال قبح ما افتعلوا وكونه كذبا في اعتقادهم أيضا، و * (ما) * استفهامية مبتدأ و * (ظن) * خبرها هو مصدر مضاف إلى فاعله ومفعولاه محذوفان.
وقوله سبحانه: * (يوم القيامة) * ظرف لنفس الظن لا بيفترون لعدم صحته معنى ولا بمقدر لأن التقدير خلاف الظاهر، أي أي شيء ظنهم في ذلك اليوم أني فاعل بهم، والمقصود التهديد والوعيد، ويدل على تعلقه بالظن قراءة عيسى ابن عمر * (وما ظن) * بصيغة الماضي و * (ما) * في هذه القراءة بمعنى الظن في محل نصب على المصدرية، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع وأكثر أحوال القيامة يعبر عنها بذلك في القرآن لما ذكر، والعمل في الظرف المستقبل لا يمنع لتصييره الفعل نصا في الاستقبال التجوز المذكور لأنه يقدر لتحققه أيضا ماضيا، وقيل: الظرف متعلق بما يتعلق به ظنهم اليوم من الأمور التي ستقع يوم القيامة تنزيلا له ولما يقع فيه من الأهوال لمكان وضوح أمره في التحقق والتقرر منزلة المسلم عندهم، أي أي شيء ظنهم لما سيقع يوم القيامة أيحسبون أنهم لا يسألون عن افترائهم أو لا يجازون عليه أو يجازون جزاء يسيرا ولذلك ما يفعلون يفعلون كلا إنهم لفي أشد العذاب لأن معصيتهم أشد المعاصي، والآية السابقة قيل متصلة بقوله سبحانه: * (قل من يرزقكم من السماء والأرض) * الخ كأنه قيل: حيث أقروا أنه سبحانه الرازق قل لهم أرأيتم ما أنزل الله الخ ونقل ذلك عن أبي مسلم، وقيل: بقوله تعالى * (يا أيها الناس) * الخ، وذلك أنه جل شأنه لما وصف القررن بما وصفه وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرغب باغتنام ما فيه عقب ذلك بذكر مخالفتهم لما جاء به وتحريمهم ما أحل، وقيل: إنها متصلة بالآيات الناعية عليهم سوء اعتقادهم كأنه سبحانه بعد أن نعى عليهم أصولهم بين بطلان فروعهم، ولعل خير الثلاثة وسطها.
* (إن الله لذو فضل) * أي عظيم لا يقدر قدره ولا يكتنه كنهه * (على الناس) * جميعا حيث أنعم عليهم بالعقل ورحمهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب وبين لهم ما لا تستقل عقولهم بإدراكه وأرشدهم إلى ما يهمهم من أمر المعاش والمعاد ورغبهم ورهبهم وشرح لهم الأحوال وما يلقاه الحائد عن الرشاد من الأهوال.
* (ولكن أكثرهم لا يشكرون) * ذلك الفضل فلا ينتفعون به، ولعل الجملة تذييل لما سبق مقرر لمضمونه.
* (وما تكون فى شأن وما تتلوا منه من قرءان ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الارض ولا فى السمآء ولا أصغر من ذالك ولاأكبر إلا فى كتاب مبين) *
* (وما تكون في شأن) * أي في أمر معتنى به، من شأنه بالهمز كسأله إذا قصده وقد تبدل همزته ألفا، وهو في الأصل مصدر وقد أريد المفعول * (وما تتلوا منه) * الضمير المجرور للشأن؛ والتلاوة أعظم شؤونه صلى الله عليه وسلم ولذا خصت بالذكر أو للتنزيل، والإضمار قبل الذكر لتفخيم شأنه أو لله عز وجل، و * (من) * قيل تبعيضية على الاحتمالين الأولين وابتدائية على الثالث والتي في قوله سبحانه: * (من قرءان) * زائدة لتأكيد النفي على جميع التقادير وإلى ذلك ذهب القطب. وقال الطيبي: إن * (من) * الأولى على الاحتمال الأخير ابتدائية والثانية مزيدة، وعلى الاحتمال الأول الأولى للتبعيض والثانية للبيان، وعلى الثاني الأولى ابتدائية والثانية للبيان.
وفي إرشاد العقل السليم أن الضمير الأول للشأن والظرف صفة لمصدر محذوف أي تلاوة كائنة من الشأن أو للتنزيل و * (من) * ابتدائية أو تبعيضية أو لله تعالى شأنه و * (من) * ابتدائية و * (من) * الثانية مزيدة وابتدائية على الوجه الأول وبيانية أو تبعيضية على الوجه الثاني والثالث. وأنت تعلم أنه قد يكون الظرف متعلقا بما عنده، والتزام تعلقه بمحذوف وقع صفة لمصدر كذلك في جميع الاحتمالات مما لا حاجة إليه. نعم اللازم بناء على المشهور أن لا يتعلق حرفان بمعنى بمتعلق
143

واحد، وذهب أبو البقاء إلى أن الضمير الأول للشأن و * (من) * الأولى للأجل كما في قوله سبحانه: * (مما خطيئاتهم أغرقوا) * (نوح: 25) و * (من) * الثانية مزيدة وما بعدها مفعول به - لتتلو - وله وجه، ومما يقضي منه العجب ما قاله بعضهم إنه يحتمل أن يكون ضمير * (منه) * للشأن إما على تقدير ما تتلو حال كون القراءة بعض شؤونك وإما أن يحمل الكلام على حذف المضاف أي وما تتلو من أجل الشأن بأن يحدث لك شأن فتتلو القرآن من أجله فإن الحالية مما لا تكاد تخطر ببال من له أدنى ذوق في العربية ولم نر القول بتقدير مضاف في الكلام إذا كان فيه * (من) * الأجلية أو نحوها، وما في كلام غير واحد من الأفاضل في أمثال ذلك تقدير معنى لا تقدير إعراب، ويبعد حمل هذا البعض على ذلك كما لا يخفى * (هذا) * ثم إن القرآن عام للمقروء كلا وبعضا وهو حقيقة في كل كما حقق في موضعه، والقول بأنه مجاز في البعض بإطلاق الكل وإرادة الجزء مما لا يلتفت إليه * (ولا تعملون من عمل) * أي أي عمل كان، والخطاب الأول خاص برأس النوع الإنساني وسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم وهذا عام ويشمل سائر العباد برهم وفاجرهم لا الأخيرين فقط، وقد روعي في كل من المقامين ما يليق به فعبر في مقام الخصوص في الأول بالشأن لأن عمل العظيم عظيم وفي الثاني بالعمل العام للجليل والحقير، وقيل: الخطاب الأول عام للأمة أيضا كما في قوله تعالى: * (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) * (الطلاق: 1) * (إلا كنا عليكم شهودا) * استثناء مفرغ من أعم أحوال المخاطبين بالأفعال الثلاثة أي وما تلابسون بشيء منها في حال من الأحوال إلا حال كوننا رقباء مطلعين عليه حافظين له كذا قالوا، ويفهم منه أن الجار والمجرور متعلق بما بعده، ولعل تقديمه للاهتمام بتخويف من أريد تخويفه من المخاطبين، وكأنه للمبالغة فيه جىء بضمير العظمة، وأن المقصود من الاطلاع عليهم الاطلاع على عملهم * (إذ تفيضون فيه) * أي تشرعون فيه وتتلبسون به، وأصل الإفاضة الاندفاع بكثرة أو بقوة، وحيث أريد بالأفعال السابقة الحالة المستمرة الدائمة المقارنة للزمان الماضي أيضا أوثر في الاستثناء صيغة الماضي، وفي الظرف كلمة * (إذ) * التي تفيد المضارع معنى الماضي كذا قيل، ولم أر من تعرض لبيان وجه اختيار النفي - بما - التي تخلص المضارع للحال ععند الجمهور عند انتفاء قرينة خلافه في الجملتين الأوليين والنفي - بلا - التي تخلص المضارع للاستقبال عند الأكثرين خلافا لابن مالك في الجملة الثالثة، ولعل ذلك من آثار اختلاف الخطاب خصوصا وعموما فتأمله فإنه دقيق جدا * (وما يعزب عن ربك) * أي ما يبعد وما يغيب، ومنه يقال: الروض العازب وروض عزيب إذا كان بعيدا من الناس
، والكلام على حذف مضاف أي وما يعزب عن علم ربك عز وجل أو هو كناية عن ذلك، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من الإشعار باللطف ما لا يخفى.
وقرأ الكسائي. والأعمش. ويحيى بن وثاب بكسر الزاي * (من مثقال ذرة) * * (من) * مزيدة لتأكيد النفي، والمثقال اسم لما يوازن الشيء ويكون في ثقله وهو في الشرع أربعة وعشرون قيراطا. وأخرج ذلك ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبي جعفر، والصحيح أنه لم يختلف جاهلية وإسلاما فقد نقل الجلال السيوطي عن الرافعي أنه قال: أجمع أهل العصر الأول على التقدير بهذا الوزن وهو أن الدرهم ستة دوانيق وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل ولم يتغير المثقال في الجاهلية ولا في الإسلام. والذرة واحدة الذر وهو النمل الأحمر الصغير، وسئل
144

ثعلب عنها فقال: إن مائة نملة وزن حبة والذرة واحدة منها، وقيل: الذرة ليس لها وزن ويراد بها ما يرى في شعاع الشمس الداخل في الناذة * (في الأرض ولا في السماء) * أي في جهتي السفل والعلو أو في دائرة الوجود والإمكان لأن العامة لا تعرف سواهما ممكنا ليس فيهما ولا متعلقا بهما، والكلام شامل لهما أنفسهما أيضا كما لا يخفى، وتقديم الأرض على السماء مع أنها قدمت عليها في كثير من المواضع ووقعت أيضا في سبأ في نظير هذه الآية مقدمة لأن الكلام في حال أهلها والمقصود إقامة البرهان على إحاطة علمه سبحانه بتفاصيلها، وذكر السماء لئلا يتوهم اختصاص إحاطة علمه جل وعلا بشيء دون شيء، وحاصل الاستدلال أنه سبحانه لا يغيب عنه شيء ومن يكون هذا شأنه كيف لا يعلم حال أهل الأرض وما هم عليه مع نبيه صلى الله عليه وسلم، وقوله سبحانه: * (ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) * جملة مستقلة ليست معطوفة على ما قبلها، و * (لا) * نافية للجنس و * (أصغر) * اسمها منصوب لشبهه بالمضاف وكذا * (أكبر) * لتقدير عمله، وقول السمين: إنهما مبنيان على الفتح ضعيف وهو مذهب البغداديين، وزعم أنه سبق قلم متأخر عن حيز القبول، و * (في كتاب) * متعلق بمحذوف وقع خبرا.
وقرأ حمزة. ويعقوب. وخلف. وسهل بالرفع على الابتداء والخبر، و * (لا) * يجوز الغاؤها إذا تكررت، وأما قولهم: إن الشبيه بالمضاف يجب نصبه فالمراد منه المنع من البناء لا المنع من الرفع والإلغاء كما توهمه بعضهم، وجوز أن يكون ذلك على جعل * (لا) * عاملة عمل ليس، وقيل: إن * (أصغر) * على القراءة الأولى عطف على * (مثقال) * أو * (ذرة) * باعتبار اللفظ، وجيء بالفتح بدلا عن الكسر لأنه لا ينصرف للوصف ووزن الفعل، وعلى القراءة الأخرى معطوف على * (مثقال) * باعتبار محله لأنه فاعل. و * (من) * كما عرفت مزيد. واستشكل بأنه يصير التقدير ولا يعزب عنه أصفر من ذلك ولا أكبر منه إلا في كتاب فيعزب عنه ومعناه غير صحيح. وأجيب بأن هذا على تقدير اتصال الاستثناء وأما على تقدير انقطاعه فيصير التقدير لكن لا أصغر ولا أكبر إلا هو في كتاب مبين، وهو مؤكد لقوله سبحانه: * (لا يعزب عنه) * (سبأ: 3) الخ، وأجاب بعضهم على تقدير الاتصال بأنه على حد * (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) * (الدخان: 56) * (وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف) * (النساء: 23) في رأي، فالمعنى لا يبعد عن علمه شيء إلا ما في اللوح الذي هو محل صور معلوماته تعالى شأنه بناء على تفسير الكتاب المبين به أو إلا ما في علمه بناء على ما قيل: إن الكتاب العلم، فإن عد ذلك من العزوب فهو عازب عن علمه وظاهر أنه ليس من العزوب قطعا فلا يعزب عن علمه شيء قطعا. ونقل عن بعض المحققين في دفع الأشكال أن العزوب عبارة عن مطلق البعد، والمخلوقات قسمان قسم أوجده الله تعالى من غير واسطة كالأرض والسماء والملائكة عليهم السلام وقسم أوجده بواسطة القسم الأول مثل الحوادث في العالم وقد تتباعد سلسلة العلية والمعلولية عن مرتبة وجود واجب الوجود سبحانه، فالمعنى لا يبعد عن مرتبة وجوده تعالى ذرة في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين أثبت فيه سبحانه تلك المعلومات، فهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال، وإثبات العزوب بمعنى البعد عنه تعالى في سلسلة الإيجاد لا محذور فيه وهو وجه دقيق إلا أنه أشبه بتدقيقات الحكماء وأن خالف ما هم عليه في الجملة.
وقال الكواشي: معنى يعزب يبين وينفصل، أي لا يصدر عن ربك شيء من خلقه إلا وهو في اللوح وتلخيصه
145

أن كل شيء مكتوب فيه. واعترض بأن تفسيره بيبين وينفصل غير معروف، وقيل: المراد بالبعد عن الرب سبحانه البعد والخروج عن غيبه أي لا يخرج عن غيبه إلا ما كان في اللوح فيعزب عن الغيب ويبعد إذ لا يبقى ذلك غيبا حينئذ لاطلاع الملائكة عليهم السلام وغيرهم عليه فيفيد إحاطة علمه سبحانه بالغيب والشهادة. ومن هنا يظهر وجه آخر لتقديم الأرض على السماء، وقيل: إن * (إلا) * عاطفة بمنزلة الواو كما قال بذلك الفراء في قوله تعالى: * (لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم) * (النحل: 10 - 11) والأخفش في قوله سبحانه: * (لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم) * (البقرة: 150) وقوم في قوله جل شأنه: * (الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش إلا اللمم) * (النجم: 32) وهو مقدر بعدها، والكلام قد تم عند قوله سبحانه: * (ولا أكبر) * ثم ابتدأ بقوله تعالى: * (إلا في كتاب) * أي وهو في كتاب ونقل ذلك مكي عن أبي علي الحسن بن يحيى الجرجاني ثم قال: وهو قول حسن لولا أن جميع البصريين لا يعرفون * (إلا) * بمعنى الواو، والانصاف أنه لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى العزيز على ذلك ولو اجتمع الخلق إنسهم وجنهم على مجيء إلا بمعنى الواو، وقيل: آن الاستثناء من محذوف دل عليه الكلام السابق أي ولا شيء إلا في كتاب؛ ونظيره * (ما فرطنا في الكتاب من شيء) * (الأنعام: 38) ويكون من مجموع ذلك إثبات العلم لله تعالى في كل معلوم وإن كل شيء مكتوب في الكتاب، ويشهد لهذا على ما قيل كثير من أساليب كلام العرب. ونقل عن صاحب كتاب تبصرة المتذكر أنه يجوز أن يكون الاستثناء متصلا بما قبل قوله تعالى: * (ولا يعزب) * ويكون في الآية تقديم وتأخير، وترتيبها وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا في كتاب مبين إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه إلى ولا أكبر، وتلخيصه وما من شيء إلا وهو في اللوح المحفوظ ونحن نشاهده في كل آن. ونظر فيه البلقيني في رسالته المسماة بالاستغناء بالفتح المبين في الاستثناء في * (ولا أكبر إلا في كتاب مبين) * بأنه على ما فيه من التكلف يلزم عليه القول بتركيب في الكلام المجيد لم يوجد في كلام
العرب مثله أعني إلا في كتاب مبين إلا كنا عليكم شهودا وليس ذلك نظير. أمرر بهم الا الفتى إلا العلا. كما لا يخفى.
وأنت تعلم أن أقل الأقوال تكلفا القول بالانقطاع، وأجلها قدرا وأدقها سرا القول بالاتصال وإخراج الكلام مخرج * (إلا ما قد سلف) * (النساء: 22) ونظائره الكثيرة نثرا ونظما، ولا عيب فيه إلا أن الآية عليه أبلغ فليفهم، ثم إنه تعالى لما عمم وعده ووعيده في حق كافة من أطاع وعصى أتبعه سبحانه بشرح أحوال أوليائه تعالى المخلصين [بم فقال عز من قائل:
* (ألاإن أوليآء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *
* (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * وفي ارشاد العقل السليم أنه بيان على وجه التبشير والوعد لما هو نتيجة لأعمال المؤمنين وغاية لما ذكر قبله من كونه سبحانه مهيمنا على نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته في كل ما يأتون ويذرون وإحاطة علمه جل وعلا بعد ما أشير إلى فظاعة حال المفترين على الله تعالى يوم القيامة وما سيعتريهم من الهول إشارة إجمالية على طريق التهديد والوعيد، وصدرت الجملة بحرف التنبيه والتحقيق لزيادة تقرير مضمونها، والأولياء جمع ولي من الولي بمعنى القرب والدنو يقال: تباعد بعد ولي أي قرب، والمراد بهم خلص المؤمنين لقربهم الروحاني منه سبحانه كما يفصح عنه تفسيرهم الآتي، ويفسر الولي بالمحب وبين المعنيين تلازم، وسيأتي تمام الكلام على ذلك قريبا إن شاء الله تعالى، وجاء بمعنى النصير ويشير كلام البعض إلى صحة اعتبار هذا المعنى هنا، والمراد من الجملتين المنفيتين المتعاطفتين دوام انتفاء مدلولهما كما مر تحقيقه غير مرة، قيل: والمعنى لا خوف عليه من لحوق مكروه ولا هم يحزنون من فوات مطلوب في جميع الأوقات أي لا يعتريهم
146

ما يوجب ذلك أصلا لا أنه يعتريهم لكنهم لا يخافون ولا يحزنون ولا أنه لا يعتريهم خوف وحزن أصلا بل يستمرون على النشاط والسرور، كيف لا واستشعار الخوف استعظاما لجلال الله تعالى واستقصارا للجد والسعي في إقامة حقوق العبودية من خصائص الخواص والمقربين بل كلما ازداد العبد قربا من ربه سبحانه ازداد خوفا وخشية منه سبحانه، ويرشد إلى ذلك غير ما خبر وقوله تعالى: * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * (فاطر: 28) وإنما لا يعتريهم ذلك لأن مقصدهم ليس إلا الله تعالى ونيل رضوانه المستتبع للكرامة والزلفى وذلك مما لا ريب في حصوله ولا احتمال لفواته بموجب الوعد الإلهي، وأما ما عدا ذلك من الأمور الدنيوية المترددة بين الحصول والفوات فهي عندهم أحقر من ذبالة عن الحجاج بل الدنيا بأسرها في اعينهم أقذر من ذراع خنزير ميت بال عليه كلب في يد مجذوم فهيهات أن تنتظم في سلك مقصدهم وجودا وعدما حتى يخافوا من حصول ضارها أو يحزنوا من فوات نافعها.
وقيل: المراد بانتفاء الخوف والحزن أمنهم من ذلك يوم القيامة بعد تحقق مالهم من القرب والسعادة وإلا فالخوف والحزن يعرضان لهم قبل ذلك سواء كان سببهما دنيويا أو أخرويا، ولا يجوز أن يراد أمنهم مما ذكر في الدنيا أو فيما يعمها والآخرة لأن في ذلك أمنا من مكر الله تعالى * (ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) * (الأعراف: 99) وهذا مبني على أن الخوف المنفي مسند إليهم وليس بالمتعين، فقد ذهب بعض الجلة إلى أنه مسند إلى غيرهم أي غيرهم لا يخاف عليهم ولا يلزم من ذلك أنهم لا يخافون ليجيء حديث لزوم الأمن، وجعل ذلك نكتة اختلاف أسلوب الجملتين، والعدول عن لا هم يخافون الأنسب - بلا هم يحزنون - إلى ما في النظم الجليل، وقد يقال: إذا كان المراد أنهم لا يعتريهم ما يوجب الخوف والحزن لا يبقى لحديث لزوم الأمن من مكر الله تعالى مجال على ما لا يخفى على المتدبر لكن لا يظهر عليه نكتة اختلاف أسلوب الجملتين وكونها اختلاف شأن الخوف والحزن بشيوع وصف الأخير بعدم الثبات كما قيل: فلا حزن يدوم ولا سرور
دون الأول ولذا ناسب أن يعبر بالاسم في الأول وبالفعل المفيد للحدوث والتجدد في الثاني كما ترى.
وقيل: إن المراد نفي استيلاء الخوف عليهم ونفي الحزن أصلا ومفاد ذلك اتصافهم بالخوف في الجملة، ففيه إشارة إلى أنهم بين الرجاء والخوف غير آيسين ولا آمنين، ولهذا لم يؤت بالجملتين على طرز واحد، وكذا لم يقل لا خوف لهم مثلا، والأوجه عندي ما نقل عن بعض الجلة من أن معنى * (لا خوف عليهم) * لا يخاف عليهم غيرهم ويجعل الجملة الأولى عليه كناية عن حسن حالهم، وأنت في الجملة الثانية بالخيار، والخوف على ما قال الراغب توقع المكروه وضده الأمن، والحزن من الحزن بالفتح وهو خشونة في النفس لما يحصل من الغم ويضاده الفرح، وعلى هذا قالوا في بيان المعنى لا خوف عليهم من لحوق مكروه ولا هم يحزنون من فوات مأمول.
* (الذين ءامنوا وكانوا يتقون) *
* (الذين آمنوا) * أي بكل ما جاء من عند الله تعالى * (وكانوا يتقون) * عما يحق الاتقاء منه من الأفعال والتروك اتقاء دائما حسبما يفيده الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل والموصول في محل الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، والجملة استئناف بياني كأنه قيل: من أولئك وما سبب فوزهم بما أشار إليه الكلام السابق؟ فقيل: هم الذين جمعوا بين الإيمان والتقوى المفضيين إلى كل خير المجنبين عن كل شر؟ ولك أن تقصر في السؤال على
من أولئك فيكون ذلك بيانا وتفسيرا للمراد من الأولياء فقط، وعلى الأول هذا مع الإشارة إلى ما به نالوا مالوا، وقيل: محله النصب أو الرفع على المدح أو على أنه وصف للأولياء. ورد بأن في ذلك الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر.
147

أباه النحاة. نعم جوزه الحفيد، وجوز فيه البدلية أيضا، والمراد من التقوى عند جمع المرتبة الثالثة منها وهي التقوى المأمور بها في قوله تعالى: * (اتقوا الله حق تقاته) * (آل عمران: 102) وفسرت بتنزه الإنسان عن كل ما يشغل سره عن الحق والتبتل إليه بالكلية، وبذلك يحصل الشهود والحضور والقرب الذي يدور إطلاق الاسم عليه، وهكذا كان حال من دخل معه صلى الله عليه وسلم تحت الخطاب بقوله سبحانه وتعالى: * (ولا تعملون من عمل) * الخ خلا أن لهم في شأن التبتل والتنزه
درجات متفاوتة حسبما درجات تفاوت استعداداتهم، وأقصى الدرجات ما انتهى إليه همم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حتى جمعوا بذلك بين رياسة النبوة والولاية ولم يعقهم التعلق بعالم الأشباح عن الاستغراق في عالم الأرواح ولم تصدهم الملابسة بمصالح الخلف عن التبتل إلى جناب الحق سبحانه عز وجل لكمال استعداد نفوسهم الزكية المؤيدة بالقوة القدسية كذا قيل، وفي كون حال كل من دخل معه صلى الله عليه وسلم تحت الخطاب مرادا به جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما أشار إليه من التقوى الحقيقية المأمور بها في الآية التي بها يحصل الشهود والحضور والقرب بحث، وقصارى ما تحقق بعد نزاع طويل ذكرناه في جوابنا لبسؤال أهل - لاهور - أن الصحابة كلهم عدول من لابس منهم الفتنة ومن لم يلابسها ودعوى أن العدالة تستلزم الولاية بالمعنى السابق أن تمت تم المقصود وإلا فلا، والآية ظاهرة في أن الأولياء هم المؤمنون المتقون وأقل ما يكفي في إطلاق الولي التقرب إليه سبحانه بالفرائض من امتثال الأوامر واجتناب الزواجر، والأكمل التقرب إليه جل شأنه بكل ما يمكن من القرب، وفي المبين المعين الولي هو من يتولى الله تعالى بذاته أمره فلا تصرف له أصلا إذ لا وجود له ولا ذات ولا فعل ولا وصف، والتركيب يدل على القرب فكأنه قريب منه عز وجل لاستدامة عباداته واستقامة طاعاته أو لاستغراقه في بحر معرفته ومشاهدة طلعة عظمته انتهى، وفيه القول بأن الولي فعيل بمعنى مفعول، وجوز أن يكون بمعنى فاعل، وفسر بأنه من يتولى عبادة الله تعالى وطاعته على التوالي من غير تخلل معصية، وعن القشيري أن كلا الوصفين تولى الله تعالى أمره وتولية عبادة الله تعالى وطاعته شرط في الولاية غير أن الوصف الأول غالب على المجذوب المراد والثاني على السالك المريد، ولا يخفى أن هذا الكلام وكذا ما قبله يدل على أن تخلل المعصية مناف للولاية وهو الذي يشير إليه كلام غير واحد من الفضلاء، وليس في ذلك قول بالعصمة التي لم يثبتها الجماعة إلا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بل قصارى ما فيه القول بالحفظ، وقد قيل: الأولياء محفوظون وفسر بعدم صدور الذنب مع إمكانه، والقيد لإخراج العصمة.
نعم جاءت العصمة بمعنى الحفظ المفسر بما ذكر، وعلى ذلك خرج قول صاحب حزب البحر اللهم اعصمني في الحركات والسكنات لأن الدعاء بما هو من خواص الأنبياء عليهم السلام لا يجوز كالدعاء بسائر المستحيلات كما حقق في محله. وأطلق بعضهم القول بأن تخلل ذلك غير مناف احتجاجا بما حكى عن الجنيد قدس سره أنه سئل هل يزني العارف؟ فقال: نعم * (وكان أمر الله قدرا مقدورا) * (الأحزاب: 38)، وتعقب بأنه محمول على الإمكان سؤال وجوابا ولا كلام فيه وإنما الكلام في أن الوقوع مناف أو غير مناف، وقال بعضهم: لا شبهة في عدم بقاء وصف الولاية حال التلبس بالمعصية إذ لا تقوى حينئذ بالإجماع ومدار هذا الوصف عليها وكذا على الإيمان، وهو غير كامل إذ ذاك عند أهل الحق وغير متحقق أصلا بل المتحقق الفسق المعنى بالواسطة أو الكفر عند آخرين، وكذا لا شبهة في عدم منافاة وقوع المعصية الاتصاف بالولاية بعده بأن يعود من ابتلى بذلك إلى تقوى الله تعالى ويتصف بما تتوقف الولاية عليه، وهو نظير من يتصف بالإيمان أو بالعدالة مثلا بعد أن لم
148

يكن متصفا بذلك بقي الكلام في منافاة الوقوع الاتصاف قبل، فإن قيل: إنه مناف له بمعنى أنه لذلك لم يكن متصفا قبل بما هو إيمان وتقوى عند الناس فلا شبهة أيضا في عدم المنافاة بهذا المعنى وهو ظاهر وإن قيل: إنه مناف له بمعنى أنه لم يكن لذلك متصفا بما ذكر عند الله تعالى بناء على أن المراد بالتقوى التي هي شرط الولي التقوى الكاملة التي يترتب عليها حب الله تعالى المترتب عليه الحفظ كما أشير إليه فيما رواه البخاري من حديث أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى قال من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ولا زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها " الحديث.
وقد قال غير واحد في معنى الشرطية فإذا أحببته كنت حافظا حواسه وجوارحه فلا يسمع ولا يبصر ولا يأخذ ولا يمشي إلا فيما ارضى وأحب وينقلع عن الشهوات ويستغرق في الطاعات، وقريب منه قول الخطابي: المراد من ذلك توفيقه في الأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء، يعني ييسر عليه فيها سبيل ما يحبه ويعصمه عن موافقة ما يكرهه من إصغاء إلى لهو يسمعه ونظر إلى ما نهى عنه ببصره وبطش بما لا يحل بيده وسعى في باطل برجله، وكذا قول بعضهم المعنى أجعل سلطان حبي غالبا عليه حتى أسلب عنه الاهتمام بشيء غير ما يقر بها إلي فيصير متخليا عن اللذات متجنبا عن الشهوات متى ما يتقلب وأينما يتوجه لقى الله تعالى بمرأى فيه وسمع منه ويأخذ حب الله تعالى مجامع قلبه فلا يسمع ولا يرى ولا يفعل إلا ما يحبه ويكون له في ذلك عونا ومؤيدا ووكيلا يحمي جوارحه وحواسه فله وجه لأنه إذا وقعت المعصية يعلم أنه لم يكن محفوظا وبه يعلم أنه لم يكن محبوبا وبذلك يعلم أنه لم يكن متقربا إليه تعالى شأنه ومتقيا إياه حق تقاته وان ظنه الناس كذلك فهو ليس من أوليائه سبحانه في نفس الأمر. نعم من اتصف بصفات الأولياء ظاهرا يجب تعظيمه واحترامه والتأدب معه والكف عن إيذائه بشيء من أنواع الإيذاء التي لا مسوغ لها شرعا كالإنكار عليه عنادا أو حسدا دون المنازعة في محاكمة أو خصومة راجعة لاستخراج حق أو كشف غامض ونحو ذلك لما دل عليه الحديث السابق المشتمل من تهديد المؤذي على الغاية القصوى والحكم على من ذكره لولاية إذا لم يكن هناك نص من معصوم على ما يدل على تحققها في نفس الأمر إنما هو بالنظر إلى الظاهر لا إلى ما عند الله تعالى لما أن من الذنوب ما لا يمكن أن يطلع عليه إلا علام الغيوب ومنها الذنوب القلبية التي هي أدواء قاتلة وسموم ناقعة من أن الأعمال بخواتيمها وهي مجهولة إلا للمبدىء المعيد جل جلاله * (هذا) * وهو تحقيق يلوح عليه مخايل القبول، ومن الناس من قسم الولاية إلى صغرى قد يقع فيها الذنب على الندرة لكن يبادر للتنصل منه فورا وعد العلامة ابن حجر عليه الرحمة من وقع منه الذنب كذلك فبادر للتنصل منه محفوظا فالوقوع عنده على الندرة مع المبادرة للتنصل لا ينافي الحفظ وإنما ينافيه تكرر الوقوع وكثرته وكذا ندرته مع عدم المبادرة للتنصل، وكبرى لا يقع فيها الذنب أصلا مع إمكان الوقوع ولو قيل أو مع استحالته كما في ولاية الأنبياء عليهم السلام وادعى أن ذلك من خصوصيات ولايتهم فيكون الحفظ أعم من العصمة لم يبعد. وأنت تعلم أن قولهم الأنبياء معصومون ظاهر في كون العصمة من توابع النبوة ومعللة بها وهو مخالف لتلك الدعوى كما لا يخفى، وما ذكر من التقسيم حسن ويعلم منه أن الكثير ممن يدعي الولاية في زماننا أو تدعى له ليس له منها سوى الدعوى لإصراره والعياذ بالله تعالى على كبائر تقع منه في اليوم مرارا عافانا الله تعالى والمسلمين من ذلك. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير
149

الأولياء ما يظن أنه مخالف لما دلت عليه الآية في ذلك. فقد أخرج ابن المبارك: والترمذي في نوادر الأصول وأبو الشيخ. وابن مردويه. وآخرون عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قيل: يا رسول الله من أولياء الله؟ قال: " والذين إذا رؤا ذكر الله تعالى " أي لحسن سمتهم وأخباتهم.
وأخرج أحمد. وابن أبي حاتم. والبيهقي. وجماعة عن أبي مالك الأشعري قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن للهتعالى عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله تعالى. قال أعرابي: يا رسول الله انعتهم لنا قال: " هم أناس من افناء الناس ونوازع القبائل لم تصل بينهم أرحام متفاربة تحابوا في الله وتصافوا في الله يضع الله تعالى لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسون عليها يفزع الناس وهم لا يفزعون وهم أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " ولا مخالفة في الحقيقة فإن ما أشير إليه من حسن السمات والأخبات والتحاب في الله تعالى من الأحكام اللازمة للإيمان والتقوى والآثار الخاصة بهما الحقيقة بالتخصيص بالذكر لظهورها وقربنا من أفهام الناس، وقد أورد رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا من ذلك حسبما يقتضيه مقام الإرشاد والتذكير ترغيبا لسائل أو حاضر فيما خصه بالذكر من أحكامهما، وأريد بوصهفهم بأنهم يغبطهم النبيون على مجالسهم وقربهم الإشارة إلى راحتهم مما يعتري الأنبياء عليهم السلام من الاشتغال بأممهم، والمراد أنهم يغبطونهم على مجموع الأمرين، وعن الكواشي أن ذلك خارج مخرج المبالغة، والمعنى أنه لو فرض قوم بهذه الصفة لكانوا هؤلاء. وقال بعض المحققين: إن ذلك تصوير لحسن حالهم على طريقة التمثيل، وأيا ما كان فلا دليل فيه على أن الولاية أفضل من النبوة وقد كفر معتقد ذلك، وقد يؤول له بحمل ذلك على أن ولاية النبي أفضل من نبوته كما حمل ما قاله العز بن عبد السلام المخالف للأصح من أن النبوة أفضل من الرسالة على نحو ذلك، وكذا لنظير ما ذكرنا لا يخالف ما دلت الآية عليه تفسير عيسى عليه السلام لذلك.
فقد أخرج أحمد في الزهد. وابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن وهب قال: قال الحواريون: يا عيسى من أولياء الله تعالى الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ فقال عليه السلام: الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها والذين نظروا إلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها وأماتوا منها ما يخشون أن يميتهم وتركوا ما علموا أن سيتركهم فصار استكثارهم منها استقلالا وذكرهم إياها فواتا وفرحهم بما أصابوا منها حزنا وما عارضهم من نائلها رفضوه وما عارضهم من رفعتها بغير الحق وضعوه، خلقت الدنيا عندهم فليسوا يجددونها وخربت بينهم فليسوا يعمرونها وماتت في صدورهم فليسوا يحيونها، يحدمونها فيبنون بها آخرتهم ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم، رفضوها فكانوا برفضها هم الفرحين، باعوها فكانوا ببيعها هم الرابحين ونظروا إلى أهلها صرعى قد خلت فيهم المثلات فأحيوا ذكر الموت وأماتوا ذكر الحياة، يحبون الله سبحانه وتعالى ويستضيؤون بنوره ويضيؤون به لهم خبر عجيب وعندهم الخبر العجيب، بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا وبهم علم الكتاب وبه علموا، ليس يرون نائلا مع نالوا ولا أماني دون ما يرجون ولا فرقا دون ما يحذرون.
* (لهم البشرى في الحيواة الدنيا وفى الاخرة لا تبديل لكلمات الله ذالك هو الفوز العظيم) *
* (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) * استئناف جيء به في موضع التعليل لنفي حزنهم والخوف عليهم في قول، وفي آخر جيء به بيانا لما أولاهم سبحانه من خيرات الدارين بعد أن أخبر جل وعلا بانجائهم
150

من شرورهما ومكارههما وكأنه على هذا قيل: هل لهم وراء ذلك من نعمة وكرامة؟ فقيل: لهم البشرى الخ، وتقديم الأول لما أن التخلية سابقة على التحلية مع ما فيه من رعاية حق المقابلة بين حسن حال المؤمنين وسوء حال المفترين وتعجيل إدخال المسرة بتبشير الخلاص عن الأهوال، وتوسيط البيان السابق بين التخلية والتحلية لإظهار كمال العناية به مع الإيذان بأن انتفاء ما تقدم لإيمانهم واتقائهم عما يؤدي إليه من الأسباب، ومن الناس من فسر الأولياء بالذين يتولنه تعالى بالطاعة ويتولاهم بالكرامة وجعل * (الذين آمنوا) * الخ تفسيرا لتوليهم إياه تعالى، وهذه الجملة تفسيرا لتوليته تعالى إياهم.
وتعقب بأنه لا ريب في أن اعتبار القيد الأخير في مفعوم الولاية غير مناسب لمقام ترغيب المؤمنين في تحصيلها والثبات عليها وبشارتهم بآثارها ونتائجها بل مخل بذلك إذ التحصيل إنما يتعلق بالمقدور والاستبشار لا يحصل إلا بما علم وجود سببه والقيد المذكور ليس بمقدور لهم حتى يحصلوا الولاية بتحصيله ولا بمعلوم لهم عند حصوله حتى يعرفوا حصول الولاية لهم ويستبشروا بمحاسن آثارها بل التولي بالكرامة عين نتيجة الولاية فاعتباره في عنوان الموضوع ثم الأخبار بعدم الخوف والحزن مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل انتهى، وأنت تعلم أن ما ارتكبه ذلك البعض تكلف وعدول عن الظاهر فلا ينبغي العدول إليه وإن كان ما ذكره المتعقب لا يخلو عن نظر. وجوز كون الموصول مبتدأ وهذه الجملة خبره، وفي بعض الأخبار ما يؤيده، و * (البشرى) * في الأصل الخبر بما يظهر السرور في بشرة الوجه ومثلها البشارة وتطلق على المبشر به من ذلك وإلى إرادة كل ذهب بعض، والظرفان بعده على الأول متعلقان به وعلى الثاني في موضع الحال منه، والعامل ما في الخبر من معنى الاستقرار أي لهم البشرى حال كونها في الدنيا وحال كونها في الآخرة أي عاجلة وآجلة؛ أو من الضمير المجرور أي حال كونهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، والثابت في أكثر الروايات أن البشرى في الحياة الدنيا هي الرؤيا الصالحة التي هي جزء من ستة وأربعين جزأ من النبوة كما هو المشهور، أو جزء من سبعين جزأ منها كما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عمر. وأبي هريرة. وهو. وابن ماجه عن الأول. فقد أخرج الطيالسي. وأحمد. والدارمي. والترمذي. وابن ماجه. والطبراني. والحاكم وصححه. والبيهقي. وغيرهم عن عبادة بن الصامت قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله سبحانه: * (لهم البشرى في الحياة الدنيا) * قال: هي " الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له " وأخرج ابن جردويه عن ابن مسعود أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأجيب بما ذكر أيضا، وأخرج من طريق أبي سفيان عن جابر مثل ذلك، وأخر ابن أبي الدنيا. وأبو الشيخ. وأبو القاسم بن منده من طريق أبي جعفر عن جابر المذكور قال: أتى رجل من أهل البادية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أخبرني عن قول الله تعالى: * (الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى) * الخ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما
قوله تعالى: * (لهم البشرى في الحياة الدنيا) * فهي الرؤيا الحسنة ترى للمؤمن فيبشر بها في دنياه وأما قوله سبحانه: * (وفي الآخرة) * فإنها بشارة المؤمن عند الموت أن الله قد غفر لك ولمن حملك إلى قبرك " وجاء مرفوعا وموقوفا عن غير واحد تفسيرها بما ذكر، وأخرج ابن جرير. وابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن البشرى في الحياة الدنيا هي قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا) * (الأحزاب: 47) وعن الزجاج. والفراء أنها هذا وما يشاكله من قوله تعالى: * (وبشر الذين آمنوا أن لهم
151

قدم صدق عند ربهم) * (يونس: 2) وقوله سبحانه: * (يبشرهم ربهم برحمة منه) * (التوبة: 21)، وقوله جل وعلا: * (وبشر الصابرين) * (البقرة: 551) إلى غير ذلك، وأخرج ابن أبي شيبة. وغيره عن الضحاك أنه قال في ذلك: إنهم يعلمون أين هم قبل أن يموتوا. وجاء في تفسير البشرى في الآخرة ما سمعت في الخبر عن جابر الأخير.
وأخرج ابن جرير. وغيره عن أبي هريرة مرفوعا أنها الجنة، وعن عطاء أن البشرى في الدنيا أن تأتيهم الملائكة عند الموت بالرحمة قال الله تعالى: * (تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة) * (فصلت: 30) وأما البشرى في الآخرة فتلقى الملائكة اياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة وما يرون من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يقرأون منها وغير ذلك من البشارات، وقيل: المراد بالبشرى العاجلة نحو النصر والفتح والغنيمة والثناء الحسن والذكر الجميل ومحبة الناس وغير ذلك، وأما البشرى الآجلة فغنية عن البينا، وأنت تعلم أنه لا ينبغي العدول عما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير ذلك إذا صح وحيث عدل من عدل لعدم وقوفه على ذلك فيما أظن، فالأولى أن يحمل البشرى في الدارين على البشارة بما يحقق نفي الخوف والحزن كائنا ما كان، ويرشد إلى ذلك السباق، ومن أجل ذلك بشرى الملائكة لهم بذلك وقتا فوقتا حتى يدخلوا الجنة، وقد نطق الكتاب العزيز في غير موضع بهذه البشرى من الله تعالى علينا بها برحمته وكرمه * (لا تبديل لكلم‍ات الله) * (يونس: 64) أي لا تغيير لأقواله التي من جملتها مواعيده الواردة بشارة للمؤمنين المتقين فيدخل فيها البشارات الواردة ههنا دخولا أوليا ويثبت امتناع الاخلاف فيها لطفا وكرما ثبوتا قطعيا، وأريد من عدم تبديل كلماته سبحانه على تقدير أن يراد من البشرى الرؤيا الصالحة عدم الخلف بينها وبين ما دل على ثبوتها ووقوعها فيما سيأتي بطريق الوعد من قوله تبارك اسمه: * (لهم البشرى) * لا عدم الخلف بينها وبين نتائجها الدنيوية والأخروية ولم يظهر لي وجهه بعد الندبر، والمشهور أن الرؤيا الصالحة لا يتخلف ما تدل عليه. وقد جاء من حديث الحكيم الترمذي. وغيره عن عبادة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال له في الرؤيا الصالحة كلام يكلم به ربكعبده في المنام * (ذالك) * أي ما ذكر من أن لهم البشرى في الدارين * (هو الفوز العظيم) * الذي لا فوز وراءه، وجوز أن تكون الإشارة إلى البشرى بمعنى التبشير وقيل: إن ذلك إشارة إلى النعيم الذي وقعت به البشرى وجعل غير واحد الجملة الأولى وهذه الجملة اعتراضا جيء به لتحقيق المبشر به لتعظيم شأنه وهو مبني على جواز تعدد الاعتراض وعلى أنه يجوز أن يكون في آخر الكلام. ولذا قال العلامة الطيبي: لو جعلت الأولى معترضة والثانية تذييلا للمعترض والمعترض فيه ومؤكدة لهما كان أحسن بناء على أن ما في آخر الكلام يسمى تذييلا لا اعتراضا وهو مجرد اصطلاح. [بم ومن جعل قوله سبحانه:
* (ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم) *
* (ولا يحزنك قولهم) * معطوفا على الجملة قبل أي ان أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون فلا يحزنك قول أعداء الله تعالى فالاعتراض عنده بين متصلين لا في آخر الكلام لكنه ليس بشيء، والذي عليه الجمهور أنه استئناف سيق تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما كان يلقاه من جهة الاعداء من الأذية الناشئة من مقالاتهم الرديئة الوحشية وتبشيرا له عليه الصلاة والسلام بالنصر والعز إثر بيان أن له ولأتباعه أمنا من كل محذور وفوزا بكل مطلوب فهو متصل بقوله سبحانه: * (ألا إن أولياء الله) * الخ معنى. وقيل: إنه
152

متصل بقوله سبحانه: * (وإن كذبوك فقل لي عملي ولكن عملكم) * (يونس: 41) الآية واختاره على ما فيه من البعد الطبرسي.
وقرأ نافع * (ولا يحزنك) * من أحزن وهو في الحقيقة نهى له صلى الله عليه وسلم عن الحزن كأنه قيل: لا تحزن بقولهم ولا تبال بكل ما يتفوهون به في شأنك مما لا خير فيه، وإنما عدل عنه إلى ما في النظم الجليل للمبالغة في النهي عن الحزن لما أن النهي عن التأثير نهى عن التأثر بأصله ونفى له بالمرة، ونظير ذلك كما مر غير مرة قولهم - لا أرينك ههنا - ولا يأكلك السبع - ونحوه، وقد وجه فيه النهي إلى اللازم والمراد هو النهي عن الملزوم، قيل: وتخصيص النهي عن الحزن بالإيراد مع شمول النفي السابق للخوف أيضا لما أنه لم يكن فيه صلى الله عليه وسلم شائبة خوف حتى ينهى عنه وربما كان يعتريه صلى الله عليه وسلم في بعض الأوقات حزن فسلى عنه، ولا يخفى أنه إذا قلنا أن الخوف والحزن متقاربان فإذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا كما علمت آنفا كان النهي عن الحزن نهيا عن الخوف أيضا إلا أن الأولى عدم اعتبار ما فيه توهم نسبة الخوف إلى ساحته عليه الصلاة والسلام وإن لم يكن في ذلك نقص. فقد جاء نهي الأنبياء عليهم السلام عن الخوف كنهيهم عن الحزن بل قد ثبت صريحا نسبة ذلك إليهم وهو مما لا يخل بمرتبة النبوة إذ ليس كل خوف نقصا لينزهوا عنه كيف كان.
* (إن العزة لله جميعا) * كلام مستأنف سيق لتعليل النهي، وقيل: جواب سؤال مقدر كأنه قيل: لم لا يحزنه؟ فقيل: لأن الغلبة والقهر لله سبحانه لا يملك أحد شيئا منها أصلا لا هم ولا غيرهم فلا يقهر ولا يغلب أولياءه بل يقهرهم ويغلبهم ويعصمك منهم. وقرأ أبو حيوة * (أن) * بالفتح على صريح التعليل أي لأن، وحمل قتيبة بن مسلم ذلك على البدل ثم أنكر القراءة لذلك لأنه يؤدي إلى أن يقال: فلا يحزنك أن العزة لله جميعا وهو فاسد. وذكر الزمخشري أنه لو حمل على البدل لكان له وجه أيضا على أسلوب * (فلا تكونن ظهيرا للكافرين) * (القصص: 86) * (ولا تدع مع الله إلها آخر) * (القصص: 88) فيكون للتهييج والإلهاب والتعريض بالغير وفيه بعد * (هو السميع العليم) * يسمع أقوالهم في حقك ويعلم ما يضمرونه عليك فيكافؤهم على ذلك وما ذكرناه في الآية هو الظاهر المتبادر. وأخرج أبو الشيخ عن
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لما لم ينتفعوا بما جاءهم من الله تعالى وأقاموا على كفرهم كبر ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه من الله سبحانه فيما يعاتبه * (ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم) * يسمع ما يقولون ويعلمه فلو شاء بعزته لانتصر منهم ولا يخفى أنه خلاف الظاهر جدا مع ما فيه من تعليق العلم بما علق بالسمع، ولعل روايته عن الحبر غير معول عليها.
* (ألاإن لله من فى السم‍اوات ومن فى الارض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركآء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون) *
* (ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض) * أي من الملائكة والثقلين كما يدل عليه التعبير - بمن - الشائع في العقلاء، والتغليب غير مناسب هنا، ووجه تخصيصهم بالذكر الإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بغيرهم فإنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم إذا كانوا عبيدا لله مملوكين له سبحانه فما عداهم من الموجودات أولى بذلك، والجملة مع ما فيها من التأكيد لما سبق من اختصاص العزة به جل شأنه الموجب لسلوته عليه الصلاة والسلام وعدم مبالاته بمقالات المشركين تمهيد لما لحق من قوله سبحانه: * (وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء) * ودليل على بطلان ظنونهم وأعمالهم المبنية عليها والاقتصار على أحد الأمرين قصور فلا تكن من القاصرين، و * (ما) * نافية * (وشركاء) * مفعول * (يتبع) * ومفعول * (يدعون) * محذوف لظهوره، أي ما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء في
153

الحقيقة وان سموها شركاء لجهلهم فالمراد سلب الصفة في الحقيقة ونفس الأمر فما ذكره أبو البقاء من عدم جواز هذا الوجه من الإعراب لأنه يدل على نفي اتباعهم الشركاء مع أنهم اتبعوهم ناشىء من الغفلة عما ذكرنا، وجوز أن يكون * (شركاء) * المذكور مفعول * (يدعون) * ويكون مفعول * (يتبع) * محذوفا لانفهامه من قوله سبحانه: * (إن يتبعون إلا الظن) * أي ما يتبعون يقينا وإنما يتبعون ظنهم الباطل أو ظنهم أنها شركاء بتقدير معمول الظن أو تنزيله منزلة اللازم، وقدر بعضهم مفعول * (يتبعون) * شركاء ميلا إلى إعمال الثاني في التنازع، وتعقب بأنه لا يصح أن يكون من ذلك الباب لأن مفعول الفعل الأول مقيد دون الثاني فلا يتحد المعمول والاتحاد شرط في ذلك، وكون التقييد عارضا بعد الإعمال بقرينة عاملة فلا ينافي ما شرط في الباب بالباب كما لا يخفى، وجوز أيضا أن تكون * (ما) * استفهامية منصوبة - بيتبع - و * (شركاء) * مفعول * (يدعون) * أي أي شيء يتبع المشركون أي ما يتبعونه ليس بشيء، وأن تكون موصولة معطوفة على * (من) * أي وله تعالى ما يتبعه المشركون خلقا وملكا فكيف يكون شريكا له سبحانه، وتخصيص ذلك بالذكر مع دخوله فيما سبق عبارة أو دلالة للمبالغة في بيان بطلان الاتباع وفساد ما بنوه عليه من الظن الذي هو من الفساد بمكان، وجوز على احتمال الموصولية أن تكون مبتدأ خبره محذوف أي باطل ونحوه أو الخبر قوله سبحانه: * (إن يتبعون) * والعائد محذوف أي في عبادته أو اتباعه.
وقرأ السلمي * (تدعون) * بالتاء الخطابية، وروي ذلك عن علي كرم الله وجهه وهي قراءة متجهة خلافا لزاعم خلافه فإن * (ما) * فيها استفهامية للتبكيت والتوبيخ والعائد على * (الذين) * محذوف و * (شركاء) * حال منه، والمراد من * (الذين) * الملائكة والمسيح وعزير عليهم الصلاة والسلام فكأنه قيل: أي شيء يتبع الذين تدعونهم حال كونهم شركاء في زعمكم من الملائكة والنبيين تقريرا لكونهم متبعين لله تعالى مطيعين له وتوبيخا لهم على عدم اقتدائهم بهم في ذلك كقوله سبحانه: * (أولئك الذين تدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة) * (الإسراء: 57) وحاصله أن الذين تعبدونهم يعبدون الله تعالى ولا يعبدون غيره فما لكم لا تقتدون بهم ولا تتبعونهم في ذلك ثم صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة فقيل: إن يتبع هؤلاء إلا الظن ولا يتبعون ما يتبعه الملائكة والنبيون عليهم السلام من الحق * (وإن هم الا يخرصون) * أي يحزرون ويقدرون أنهم شركاء تقديرا باطلا أو ييكذبون فيما ينسبونه إليه سبحانه وتعالى على أن الخرص إما بمعنى الحزر والتخمين كما هو الأصل الشائع فيه وإما بمعنى الكذب فإنه جاء استعماله في ذلك لغلبته في مثله.
* (هو الذى جعل لكم اليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن فى ذالك لآي‍ات لقوم يسمعون) *
* (هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا) * تنبيه على تفرده تعالى بالقدرة الكاملة والنعمة الشاملة ليدلهم على توحده سبحانه باستحقاق العبادة فتعريف الطرفين للقصر وهو قصر تعيين، وفي ذلك أيضا تقرير لما سلف من كون جميع الموجودات الممكنة تحت قدرته وملكته المفصح عن اختصاص العزة به سبحانه.
والجعل إن كان بمعنى الإبداع والخلق - فمبصرا - حال وإن كان بمعنى التصيير - فلكم - المفعول الثاني أو حال كما فيي الوجه الأول فالمفعول الثاني * (لتسكنوا فيه) * أو هو محذوف يدل عليه المفعول الثاني من الجملة الثانية كما أن العلة الغائية منها محذوفة اعتمادا على ما في الأولى، والتقدير هو الذي جعل لكم الليل مظلما لتسكنوا فيه والنهار مبصرا لتتحركوا فيه لمصالحكم فحذف من كل ما ذكر في الآخر اكتفاء بالمذكور عن المتروك؛ وفيه على هذا صنعة الاحتباك والآية شائعة في التمثيل بها لذلك وهو الظاهر فيها وإن كان أمرا غير ضروري، ومن هنا ذهب جمع إلى أنه لا احتباك فيها، والعدول عن لتبصروا فيه الذي يقتضيه ما قبل إلى ما في النظم الجليل
154

للتفرقة بين الظرف المجرور والظرف الذي هو سبب يتوقف عليه في الجملة وإسناد الإبصار إلى النهار مجازي كالذي في قول جرير:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى * ونمت وما ليل المطي بنائم
وقولهم: - نهاره صائم - وغير ذلك مما لا يحصي كثرة. وإلى هذا ذهب ابن عطية. وجماعة، وقيل: إن * (مبصرا) * للنسب كلابن وتامر أي ذا إبصار * (إن في ذلك) * أي في الجعل المذكور أو في الليل والنهار، وما في اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان ببعد منزلة المشار إليه وعلو رتبته * (لآي‍ات) * أي حججا ودلالات على توحيد الله تعالى كثيرة أو آيات أخر غير ما ذكر * (لقوم يسمعون) * أي الحجج مطلقا سماع تدبر واعتبار أو يسمعون هذه الآيات المتلوة ونظائرها المنبهة على تلك الآيات التكوينية الآمرة بالتأمل فيها ذلك السماع فيعملون بمقتضاها، وتخصيص هؤلاء بالذكر مع أن الآيات منصوبة لمصلحة الكل لما أنهم المنتفعون بها.
* (قالوا اتخذ الله ولدا سبح‍انه هو الغني له ما فى السم‍اوات وما فى الارض إن عندكم من سلطان به‍اذآ أتقولون على الله ما لا تعلمون) *
* (قالوا اتخذ الله ولدا) * شروع في ذكر ضرب آخر من أباطيل المشركين وبيان بطلانه، والمراد بهؤلاء المشركين على ما قيل: كفار قريش والعرب فإنهم قالوا: الملائكة بنات الله تعالى، واليهود والنصارى القائلون: عزير وعيسى عليهما السلام ابناه عز وجل والاتخاذ صريح في التبني، وظاهر الآية يدل على أن ذلك قول كل المشركين وإذا ثبت أن منهم من يقول بالولادة والتوليد حقيقة كان ما هنا قول البعض ولينظر هل يجري فيه احتمال إسناد ما للبعض للكل لتحقق شرطه أم لا يجري لفقد ذلك والولد يستعمل مفردا وجمعا.
وفي " القاموس " الولد محركة وبالضم والكسر والفتح واحد وجمع وقد يجمع على أولاد وولدة وإلدة بالكسر فيهما وولد الضم وهو يشمل الذكر والأنثى * (سبحانه) * تنزيه وتقديس له تعالى عما نسبوا إليه على ما هو الأصل في معنى سبحانه وقد يستعمل للتعجب مجازا ويصح إرادته هنا، والمراد التعجب من كلمتهم الحمقى، وجمع بعضهم بين التنزيه والتعجب ولعله مبني على أن التعجب معنى كنائي وأنه يصح إرادة المعنى الحقيقي في الكناية وهو أحد قولين في المسألة، وقيل: إنه لا يلزم استفادة معنى التعجب منه باستعمال اللفظ فيه بل هو من المعاني الثواني، وقوله سبحانه: * (هو الغني) * أي عن كل شيء في كل شيء علة لتنزهه تعالى وتقدس عن ذلك وإيذان بأن اتخاذ الولد مسبب عن الحاجة وهي التقوى أو بقاء النوع مثلا، وقوله تعالى:
* (له ما في السموات وما في الأرض) * أي من العقلاء وغيرهم تقرير لمعنى الغنى لأن المالك لجميع الكائنات هو الغني وما عداه فقير، وقيل: هو علة أخرى للتنزه عن التبني لأنه ينافي المالكية، وقوله جل شأنه: * (إن عندكم من سلطان) * أي حجة * (بهذا) * أي بما ذكر من القول الباطل توضيح لبطلانه بتحقيق سلامة ما أقيم من البرهان الساطع عن المعارض والمنافي - فإن - نافية و * (من) * زائدة لتأكيد النفي ومجرورها مبتدأ والظرف المقدم خبره أو مرتفع على أنه فاعل له لاعتماده على النفي وب * (بهذا) * متعلق إما - بسلطان - لأنه بمعنى الحجة كما سمعت وإما بمحذوف وقع صفة له، وقيل: وقع حالا من الضمير المستتر في الظرف الراجع إليه وإما بما في * (عندكم) * من معنى الاستقرار، ويتعين على هذا كون * (سلطان) * فاعلا للظرف لئلا يلزم الفصل بين العامل المعنوي ومتعلقه بأجنبي، والالتفات إلى الخطاب لمزيد المبالغة في الإلزام والإفحام وتأكيد ما في قوله تعالى:
155

* (أتقولون على الله ما لا تعلمون) * من التوبيخ والتقريع على جهلهم واختلاقهم، وفي الآية دليل على أن كل قول لا دليل عليه فهو جهالة وأن العقائد لا بد لها من قاطع وأن التقليد بمعزل من الاهتداء ولا تصلح متمسكا لنفي القياس والعمل بخبر الآحاد لأن ذلك في الفروع وهي مخصوصة بالأصول لما قام من الأدلة على تخصيصها وإن عم ظاهرها.
* (قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) *
* (قل) * تلوين للخطاب وتوجيه له إلى سيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم ليبين سوء مغبتهم ووخامة عاقبتهم وفي ذلك إنذار لهم عن الاستمرار على ما هم فيه ولغيرهم عن الوقوع في مثله * (إن الذين يفترون على الله الكذب) * في كل أمر ويدخل الافتراء بنسبة الولد والشريك إليه تعالى دخولا أوليا وهو أولى من الاقتصار على ما الكلام فيه، وحينئذ فالمراد بالموصول ما يعم أولئك المخاطبين وغيرهم، أي إن من تكون هذه صفتهم كائنا ما كانوا * (لا يفلحون) * لا ينجون من مكروه ولا يفوزون بمطلوب أصلا ويندرج في ذلك عدم النجارة من النار وعدم الفوز بالجنة والاقتصار عليه في مقام المبالغة في الزجر عن الافتراء عليه سبحانه دون التعميم في المناسبة.
* (مت‍اع فى الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون) *
* (متاع في الدنيا) * خبر مبتدأ محذوف أي هو أو ذلك متاع، والتنوين للتحقير والتقليل، والظرف متعلق بما عنده أو بمحذوف وقع نعتا له، والجملة كلام مستأنف سيق جوابا لسؤال مقدر عما يتراءى فيهم بحسب الظاهر من نيل المطالب والفوز بالحظوظ الدنيوية على الإطلاق أو في ضمن افترائهم وبيانا لأن ذلك بمعزل من أن يكون من جنس الفلاح كأنه قيل: كيف لا يفلحون وهم في غبطة ونعيم؟ فقيل: هو أو ذلك متاع حقير قليل في الدنيا وليس بفوز بالمطلوب، ثم أشير إلى انتفاء النجاة عن المكروه أيضا بقوله سبحانه: * (ثم إلينا مرجعهم) * أي إلى حكمنا رجوعهم بالموت فيلقون الشقاء المؤبد * (ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون) * أي بسبب كفرهم المستمر أو بكفرهم في الدنيا فأين هم من الفلاح وما ذكرنا من كون متاع خبر مبتدأ محذوف هو الذي ذهب إليه غير واحد من المعربين، غير أن أبا البقاء وآخرين منهم قدروا المبتدأ حياتهم أو تقلبهم أو افتراؤهم، واعترض على تقدير الأخير بأن المتاع إنما يطلق على ما يكون مطبوعا عند النفس مرغوبا فيه في نفسه يتمتع به وينتفع وإنما عدم الاعتداد به لسرعة زواله، ونفس الافتراء عليه سبحانه أقبح القبائح عند النفس فضلا عن أن يكون مطبوعا عندها. وأجيب بأن إطلاق المتاع على ذلك باعتبار أنه مطبوع عند نفوسهم الخبيثة وفيه انتفاع لهم به حسبما يرونه انتفاعا وإن كان من أقبح القبائح وغير منتفع به في نفس الأمر، ولا يخفى أن الوجه الأول مع هذا أوجه، وقيل: إن المذكور مبتدأ محذوف الخبر أي لهم متاع الخ وليس ببعيد، والآية إما مسوقة من جهته سبحانه لتحقيق عدم إفلاحهم غير داخلة في الكلام المأمور به وهو الذي يتقضيه ظاهر قوله سبحانه: * (ثم إلينا مرجعهم) * وقوله تعالى: * (ثم نذيقهم) * وإما داخلة فيه على أن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بنقله وحكايته عنه تعالى شأنه وله نظائر في الكتاب العزيز * (واتل عليهم) * أي على المشركين من أهل مكة وغيرهم لتحقيق ما سبق من عدم إفلاح المفترين وكون ما يتمتعون به على جناح الفوات وأنهم مشرفون على الشقاء المؤبد والعذاب الشديد.
* (واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه ياقوم إن كان كبر عليكم مقامى وتذكيرى بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركآءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا
إلى ولا تنظرون) *
* (نبأ نوح) * أي خبره الذي له شأن وخطر مع قومه الذين هم أضراب قومك في الكفر والعناد
156

ليتدبروا ما فيه مما فيه مزدجر فلعلهم ينزجرون عما هم عليه أو تنكسر شدة شكيمتهم ولعل بعض من يسمع ذلك منك ممن أنكر صحة نبوتك أن يعترف بصحتها فيؤمن بك بأن يكون قد ثبت عنده ما يوافق ما تضمنه المتلو من غير مخالفة له أصلا فيستحضر أنك لم تسمع ذلك من أحد ولم تستفده من كتاب فلا طريق لعلمك به إلا من جهة الوحي وهو مدار النبوة.
وفي ذلك من تقرير ما سبق من كون الكل لله سبحانه، واختصاص العزة به تعالى، وانتفاء الخوف على أوليائه وحزنهم، وتشجيع النبي صلى الله عليه وسلم وحمله على عدم المبالاة بهم وبأقوالهم وأفعالهم ما لا يخفى، والاقتصار على بعض ذلك قصور؛ وقد تقدم الكلام في نوح عليه السلام * (إذ قال لقومه) * اللام للتبليغ أو التعليل و * (إذ) * بدل من * (نبأ) * بدل اشتمال أو معمولة له لا - لاتل - لفساد المعنى، وجوز أبو البقاء تعلقه بمحذوف وقع حالا من * (نبأ) * وأيا ما كان فالمراد بعض نبئه عليه الصلاة والسلام لا كل ما جرى بينه وبين قومه وكانوا على ما قال الأجهوري من بني قابيل * (يا قوم إن كان كبر) * أي عظم وشق * (عليكم مقامي) * أي نفسي على أنه في الأصل اسم مكان وأريد منه النفس بطريق الكناية الإيمائية كما يقال المجلس السامي، ويجوز أن يكون مصدرا ميميا بمعنى الإقامة يقال: قمت بالمكان وأقمت بمعنى أي إقامتي بين ظهرانيكم مدة مديدة، وكونها ما ذكر الله تعالى ألف سنة إلا خمسين عاما يقتضي أن يكون القول في آخر عمره ومنتهى أمره ويحتاج ذلك إلى نقل، أو المراد قيامه بدعوتهم وقريب منه قيامه لتذكيرهم ووعظهم لأن الواعظ كان يقوم بين من يعظهم لأنه أظهر وأعون على الاستماع كما يحكى عن عيسى عليه السلام أنه كان يعظ الحواريين قائما وهم قعود، وكثيرا ما كان نبينا صلى الله عليه وسلم يقوم على المنبر فيعظ الجماعة وهم قعود فيجعل القيام كناية أو مجازا عن ذلك أو هو عبارة عن ثبات ذلك وتقرره * (وتذكيري) * إياكم * (بآيات الله) * الدالة على وحدانيته المبطلة لما أنتم عليه من الشرك * (فعلى الله توكلت) * لا على غيره، والجملة جواب الشرط وهو عبارة عن عدم مبالاته والتفاته إلى استثقالهم، ويجوز أن تكون قائمة مقامه، وقيل: الجواب محذوف وهذا عطف عليه أي فافعلوا ما شئتم، وقيل: المراد الاستمرار على تخصيص التوكل به تعالى، ويجوز أن يكون المراد إحداث مرتبة مخصوصة من مراتب التوكل وإلا فهو عليه السلام متوكل عليه سبحانه لا على غيره دائما، وقوله سبحانه: * (فأجمعوا أمركم) * عطف على الجواب المذكور عند الجمهور والفاء لترتيب الأمر بالإجماع على التوكل لا لترتيب نفس الإجماع عليه، وقيل: إنه الجواب وما سبق اعتراض وهو يكون بالفاء. فاعلم فعلم المرء ينفعه
ولعله أقل غائلة مما تقدم لما سمعته مع ما فيه من ارتكاب عطف الإنشاء على الخبر وفيه كلام. و * (أجمعوا) * بقطع الهمزة وهو كما قال أبو البقاء من أجمعت على الأمر إذا عزمت عليه إلا أنه حذف حرف الجر فوصل الفعل، وقيل: إن أجمع متعد بنفسه واستشهد له بقول الحرث بن حلزة: أجمعوا أمرهم بليل فلما * أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
ونص السدوسي على أن عدم الإتيان بعلى كأجمعت الأمر أفصح من الإتيان بها كأجمعت على الأمر، وقال أبو الهيثم: معنى أجمع أمره جعله مجموعا بعد ما كان متفرقا وتفرقته أن يقول مرة أفعل كذا ومرة أفعل
157

كذا فإذا عزم فقد جمع ما تفرق من عزمه ثم صار بمعنى العزم حتى وصل بعلى وأصله التعدية بنفسه، ولا فرق بين أجمع وجمع عند بعض، وفرق آخرون بينهما بأن الأول يستعمل في المعاني والثاني في الأعيان فيقال: أجمعت أمري وجمعت الجيش ولعله أكثري لا دائمي، والمراد بالأمر هنا نحو المكر والكيد * (وشركاءكم) * أي التي زعمتم أنها شركاء لله سبحانه وتعالى، وهو نصب على أنه مفعول معه من الفاعل لأن الشركاء عازمون لا معزوم عليهم، ويؤيد ذلك قراءة الحسن. وابن أبي إسحاق. وأبي عبد الرحمن السلمي. وعيسى الثقفي بالرفع فإن الظاهر أنه حينئذ معطوف على الضمير المرفوع المتصل ووجود الفاصل قائم مقام التأكيد بالضمير المنفصل.
وقيل: إنه مبتدأ محذوف الخبر أي وشركاؤكم يجمعون ونحوه. وقيل: إن النصب بالعطف على * (أمركم) * بحذف المضاف أي وأمر شركائكم بناء على أن أجمع تتعلق بالمعاني والكلام خارج مخرج التهكم بناء على أن المراد بالشركاء الأصنام، وقيل: إنه على ظاهره والمراد بهم من على دينهم. وجوز أن لا يكون هناك حذف والكلام من الإسناد إلى المفعول المجازي على حد ما قيل في * (واسأل القرية) * (يوسف: 82)، وقيل: إن ذاك على المفعولية به لمقدر كما قيل في قوله: علفتها تبنا وماء باردا
أي وادعوا شركاءكم كما قرأ به أبي رضي الله تعالى عنه، وقرأ نافع * (فاجمعوا) * بوصل الهمزة وفتح الميم من جمع، وعطف الشركاء على الأمر في هذه القراءة ظاهر بناء على أنه يقال: جمعت شركائي كما يقال: جمعت أمري، وزعم بعضهم أن المعنى ذوي أمركم وهو كما ترى، والمعنى أمرهم بالعزم والإجماع على قصده والسعي في إهلاكه على أي وجه يمكنهم من المكر ونحوه ثقة بالله تعالى وقلة مبالاة بهم، وليس المراد حقيقة الأمر * (ثم لا يكن أمركم) * ذلك * (عليكم غمة) * أي مستورا من غمه إذا ستره، ومنه حديث وائل ابن حجر " لا غمة في فرائض الله تعالى " أي لا تستر ولا تخفى وإنما تظهر وتعلن، والجار والمجرور متعلق - بغمة -، والمراد نهيهم عن تعاطي ما يجعل ذلك غمة عليهم فإن الأمر لا ينهى ويستلزم ذلك الأمر بالإظهار، فالمعنى أظهروا ذلك وجاهروني به فإن الستر إنما يصار إليه لسد باب تدارك الخلاص بالهرب أو نحوه فحيث استحال ذلك في حقي لم يكن للستر وجه، وكلمة * (ثم) * للتراخي في الرتبة، وإظهار الأمر في مقام الإضمار لزيادة التقرير، وقيل: أظهر لأن المراد به ما يعتريهم من جهته عليه السلام من الحال الشديدة عليهم المكروهة لديهم لا الأمر الأول، والمراد بالغمة الغم كالكربة
والكرب، والجار والمجرور متعلق بمقدر وقع حالا منها، وثم للتراخي في الزمان، والمعنى ثم لا يكن حالكم غما كائنا عليكم وتخلصوا بهلاكي من ثقل مقامي وتذكيري بآيات الله تعالى، واعترض عليه بأنه لا يساعده قوله تعالى شأنه: * (ثم اقضوا إلي ولا تنظرون) * أي أدوا إلى ذلك الأمر الذي تريدون ولا تمهلوني على أن القضاء من قضى دينه إذا أداه، ومفعوله محذوف كما أشرنا إليه وفيه استعارة مكنية والقضاء تخييل وقد يفسر القضاء بالحكم أي احكموا بما تؤدوه إلى ففيه تضمين واستعارة مكنية أيضا لأن توسيط ما يحصل بعد الإهلاك بين الأمر بالعزم على مباديه وبين الأمر بقضائه من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه، والوجه الأول سالم عن ذلك وهو ظاهر، وقييل: المراد بالغمة المعنى الأول وبالأمر ما تقدم وبالنهي الأمر بالمشاورة أي أجمعوا أمركم ثم تشاوروا فيه وفيه بعد لعدم ظهور كلا الترتيبين الدالة عليهما ثم سواء اعتبرت قراءة الجماعة أو قراءة نافع في * (اجمعوا) * وقرىء * (أفضوا) * إلى بالفاء أي انتهوا إلى بشركم أو ابرزوا إلى من أفضى إذا خرج إلى الفضاء كأبرز إذا خرج إلى البراز وهو المكان الواسع.
* (فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجرى إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين) *
* (فإن توليتم) * أي بقيتم على إعراضكم عن تذكيري أو أحدثتم إعراضا
158

مخصوصا عن ذلك بعد وقوفكم على أمري ومشاهدتكم مني ما يدل على صحة قولي * (فما سألتكم) * بمقابلة تذكيري ووعظي * (من أجر) * تؤدونه إلي حتى يؤدي ذلك إليكم إلى توليكم إما لاتهامكم إياي بالطمع أو لثقل دفع المسؤول عليكم أو حتى يضرني توليكم المؤدي إلى الحرمان فالأول لإظهار بطلان التولي ببيان عدم ما يصححه والثاني لإظهار عدم مبالاته عليه السلام بوجوده وعدمه، وعلى التقديرين فالفاء الأولى لترتب هذا الشرط على الجزاء قبله والفاء الثانية لسببية الشرط للإعلام بمضمون الجزاء بعده كما ذكره بعض المحققين، أي إن توليتم فاعلموا أن ليس في مصحح له أولا تأثر منه على حد ما قيل في قوله تعالى: * (وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير) * (الأنعام: 17).
وذهب بعضهم إلى أن جواب الشرط محذوف أقيم ما ذكر وهو علته مقامه أي فلا باعث لكم على التولي ولا موجب له أو فلا ضير علي بذلك، وكلام البعض مشعر بأنه مع اعتبار الحذف والإقامة المذكورين يجىء حديث اعتبار سببية الشرط للإعلام وهو الذي يميل إليه الذوق و * (من) * زائدة للتأكيد أي فما سألتكم أجرا، وقوله تعالى: * (إن أجرى إلا على الله) * تأكيد لما قبله على المعنى الأول وتعليل لاستغنائه عليه السلام على المعنى الثاني أي ما ثوابي على العظة والتذكير إلا عليه تعالى يثبني بذلك آمنتم أو توليتم، وقوله سبحانه: * (وأمرت أن أكون من المسلمين) * تذييل على ما قيل لمضمون ما قبله مقرر له، والمعنى وأمرت بأن أكون منتظما في عداد المسلمين الذين لا يأخذون على تعليم الدين شيئا ولا يطلبون به دنيا، وفيه حمل الإسلام على ما يسارق الإيمان واعتبار التقييد، وعدل عنه بعضهم لما فيه من نوع تكلف فحمل الإسلام على الاستسلام والانقياد ولم يقيد، أي وأمرت بأن أكون من جملة المنقادين لحكمه تعالى لا أخالف أمره ولا أرجو غيره، وفيه على هذا المعنى أيضا من تأكيد ما تقدم وتقرير مضمونه ما لا يخفى، ولا يظهر أمر التأكيد على تقدير أن يكون المعنى من المستسلمين لكل ما يصيب من البلاء في طاعة الله تعالى ظهوره على التقديرين السابقين، وبالجملة أنه عليه السلام لم يقصر في إرشادهم بهذا الكلام وبلغ الغاية القصوى فيه.
وذكر بعضهم وجه نظمه على هذا الأسلوب على بعض الأوجه المحتملة فقال: إنه عليه الصلاة والسلام قال في أول الأمر: * (فعلى الله توكلت) * فبين وثوقه بربه سبحانه أي إني وثقت به فلا تظنوا بي أن تهديدكم إياي بالقتل والإيذاء يمنعني من الدعاء إلى الله تعالى، ثم أورد عليهم ما يدل على صحة دعواه فقال: * (فأجمعوا أمركم) * كأنه يقول: أجمعوا كل ما تقدرون عليه من الأشياء التي توجب حصول مطلوبكم ثم لم يقتصر على ذلك بل أمرهم أن يضيفوا إلى أنفسهم شركاءهم الذين كانوا يزعمون أن حالهم يقوى بمكانهم وبالتقرب إليهم ثم لم يقتصر على هذين بل ضم إليهما ثالثا وهو قوله: * (ثم لا يكون أمركم عليكم غمة) * فأراد أن يسعوا في أمره غاية السعي ويبالغوا فيه غاية المبالغة حتى يطيب عيشهم، ثم لم يقتصر على ذلك حتى ضم إليه رابعا فقال: * (ثم اقضوا إلي) * آمرا لهم بأداء ذلك كله إليه، ثم ضم إلى ذلك خامسا * (ولا تنظرون) * (يونس: 71) فنهاهم عن الإمهال وفي ذلك من الدلالة على أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الغاية في التوكل على الله سبحانه وأنه كان قاطعا بأن كيدهم لا يضره ولا يصل إليه وأن مكرهم لا ينفذ فيه ما هو أظهر من الشمس وأبين من أمس، ثم إنه عليه السلام أراد أن يجعل الحجة لازمة عليهم ويبرىء ساحته فنفي سؤاله إياهم شيئا من الأجر وأكد ذلك بأن أجره على الله سبحانه لا على غيره مشيرا إلى مزيد
159

كرمه جل جلاله وأنه يثيبه على فعله سأله أو لم يسأله ولذا لم يقل إن سؤالي الأجر إلا من الله تعالى، ثم لم يكتف بذلك حتى ضم إليه أنه مأمور بما يندرج فيه عدم سؤالهم والالتفات إلى ما عندهم وأن يتصف به على أتم وجه لأن * (من المسلمين) * أبلغ من مسلما كما تحقق في محله وفي ذلك قطع ما عسى أن يحول بينهم وبين إجابة دعوته والاتعاظ بعظته إلا أن القوم قد بلغوا الغاية في العناد والتمرد.
* (فكذبوه فنجيناه ومن معه فى الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآي‍اتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين) *
* (فكذبوه) * أي فأصروا بعد أن لم يبق عليهم عليه السلام في قوس الإلزام منزعا وفي كأس بيان أن لا سبب لتوليهم غير التمرد مكرعا على ما هم عليه من التكذيب الدال عليه السباق واللحاق وهو عطف على جملة قوله تعالى: * (قال لقومه) * والفاء في قوله تعالى: * (فنجيناه) * فصيحة في رأي أي فحقت عليهم كلمة العذاب فأنجيناه، وأنكر ذلك الشهاب وادعى أن ذكر ما يشير إليه في عبارة بعض المفسرين توطئة للتفريع لا إشارة إلى أن الفاء فصيحة، وأنا لا أرى فيه بأسا إلا أن تقدير فعاملنا كلا بما تقتضيه الحكمة ونحوه عندي أولى، ومتعلق الإنجاء محذوف أي من الغرق كما يدل عليه المقام، وقيل: من أيدي الكفار أي فخلصناه من ذلك * (ومن معه) * من المؤمنين به وكانوا في المشهور أربعين رجلا وأربعين امرأة وقيل دون ذلك * (في الفلك) * أي السفينة وهو مفرد ههنا، والجار كما قال الأجهوري
وغيره متعلق بأنجيناه أي وقع الإنجاء في الفلك، ويجوز أن يتعلق بالاستقرار الذي تعلق به الظرف قبله الواقع صلة أي والذين استقروا معه في الفلك * (وجعلناهم خلائف) * عمن هلك بالإغراق بالطوفان وهو جمع خليفة * (وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا) * وهم الباقون من قومه، والتعبير عنهم بالموصول للإيذان بعلية مضمون الصلة للإغراق وتأخير ذكره عن ذكر الإنجاء والاستخلاف لإظهار كمال العناية بشأن المقدم ولتعجيل المسرة للسامعين وللإيذان بسبق الرحمة التي هي من مقتضيات الربوبية على الغضب الذي هو من مستتبعات جرائم المجرمين * (فانظر كيف كان عاقبة المنذرين) * المخوفين بالله تعالى وعذابه والمراد بهم المكذبين، والتعبير عنهم بذلك للإشارة إلى إصرارهم على التكذيب حيث لم ينجع الإنذار فيهم ولم يفدهم شييئا وقد جرت عادة الله تعالى أن لا يهلك قوما بالاستئصال إلا بعد الإنذار لأن من أنذر فقد أعذر، والنظر كما قال الراغب يكون بالبصر والبصيرة والثاني أكثر عند الخاصة وسيق الكلام لتهويل ما جرى عليهم وتحذير من كذب بالرسول عليه الصلاة والسلام والتسلية له صلى الله عليه وسلم، والمراد اعتبر ما أخبر الله تعالى به لأنه لا يمكن أن ينظر إليه هو صلى الله عليه وسلم ولا من أنذره.
* (ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجآءوهم بالبين‍ات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين) *
* (ثم بعثنا) * أي أرسلنا * (من بعده) * أي من بعد نوح عليه الصلاة والسلام * (رسلا) * أي كراما ذوي عذر كثير فالتنكير للتفخيم والتكثير * (إلى قومهم) * قيل أي إلى أقوامهم على معنى أرسلنا كل رسول الله إلى قوم خاصة مثل هود إلى عاد وصالح إلى ثمود وغير ذلك ممن قص منهم ومن لم يقص لا على معنى أرسلنا كل رسول منهم إلى أقوام الكل أو إلى قوم أي قوم كانوا، وفيه إشارة إلى أن عموم الرسالة إلى البشر لم يثبت لأحد من أولئك الرسل عليهم الصلاة والسلام، وظاهر كلامهم الإجماع على أن ذلك مخصوص بنبينا صلى الله عليه وسلم ولم يثبت لأحد ممن أرسل بعد نوح، واختلف فيه عليه السلام هل بعث إلى أهل الأرض كافة أو إلى أهل
160

صقع منها، وعليه يبنى النظر في الغرق هل عم جميع أهل الأرض أو كان لبعضهم وهم أهل دعوته المكذبيين به كما هو ظاهر كثير من الآيات والأحاديث، قال ابن عطية: الراجح عند المحققين هو الثاني، وكثير من أهل الأرض كأهل الصين وغيرهم ينكرون عموم الغرق، والأول لا ينافي القول باختصاص عموم الرسالة على العموم المشهور بين الخصوص والعموم بنبينا صلى الله عليه وسلم لأنها لمن بعده إلى يوم القيامة.
وزعم بعضهم أن الغرق كان عاما مع خصوص البعثة ولا مانع من أن يهلك الله تعالى من لا جناية له مع من له جناية ولا اعتراض عليه سبحانه فيما ذكر إذ هو تصرف في خالص ملكه ولا يسئل عما يفعل. وفي قوله سبحانه: * (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) * (الأنفال: 25) نوع إشارة إلى ذلك. نعم قد ثبت لنون عليه السلام عموم الرسالة انتهاء حيث لم يبق على وجه الأرض بعد الطوفان سوى من كان معهم وهم جميع أهل الأرض إذ ذاك فالفرق بين رسالته عليه السلام ورسالة نبينا صلى الله عليه وسلم ظاهر فإن رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام عامة ابتداء وانتهاء ورسالته عليه السلام عامة انتهاء لا ابتداء ولا يخلو عن نظر، والأولى أن يعتبر في اختصاص عموم رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام كونها لمن بعده إلى يوم القيامة فإن عدم ثبوت ذلك لأحد من الرسل عليهم السلام قبل نوح وبعده مما لا يتنازع فيه، وهذا كله إذا لم يلاحظ في العموم الجن وكذا الملائكة إذا لوحظ كما يفيده قوله سبحانه: * (ليكون للعالمين نذيرا) * (الفرقان: 1) فأمر الاختصاص أظهر وأظهر.
* (فجاءوهم) * أي فأتى كل رسول قومه المخصوصين به * (بالبينات) * أي بالمعجزات الواضحة الدالة على صدق ما يقولون، والباء إما متعلقة بما عندها على أنها للتعدية أو بمحذوف وقع حالا من الضمير المرفوع أي متلبسين بالبينات لكن لا بأن يأتي كل رسول ببينة فقط بل بأن يأتي ببينة أو ببينات كثيرة خاصة به معينة له حسب اقتضاء الحكمة، وإلى نفي إرادة الاتيان ببينة وإرادة الاتيان ببينات كثيرة ذهب شيخ الإسلام، ثم قال: فإن مراعاة انقسام الآحاد على الآحاد إنما هي في ضميري * (جاؤوهم) * كما أشير إليه، ولعل صنيعنا أحسن من صنيعه، ويفهم من كلام بعض المحققين أن انفهام إرسال كل رسول إلى قومه من إشافة القوم إلى ضمير * (رسلا) * وليس ذلك من مقابلة الجمع بالجمع المقتضى لانقسام الآحاد على الآحاد، ولا شك أن انفهام مجيء كل رسول قومه المخصوصين به تابع لذلك. وبعد هذا كله إذا اعتبر مقابلة الجمع بالجمع في جاؤوهم بالبينات، وقيل بانقسام الآحاد على الآحاد لا يلزم أن يكون لكل رسول بينة جاء بها كما أن - باع القوم دوابهم - لا يقتضي أن يكون لكل واحد من القوم دابة واحدة باعها فإن معناه باع كل من القوم ماله من الدواب وهم يعم الدابة الواحدة وغيرها، وهذا بخلاف ركب القوم دوابهم فإنه يتعين فيه إرادة كل واحدة من الدواب لاستحالة ركوب الشخص دابتين مثلا. وقد نص العلامة أبو القاسم السمرقندي في حواشيه على المطول أنه لا يشترط في مقابلة الجمع بالجمع انقسام الآحاد على الآحاد بمعنى أن يكون لكل واحد من أحد الجمعين واحد من الجمع الآخر وهو ظاهر فيما قلنا، والمعول عليه في كون الآية من قبيل المثال الأول أمر خارج، فإن من المعلوم أن الرسول الواحد من الرسل عليهم السلام قد جاء قومه ببينات فوق الواحدة * (فما كانوا ليؤمنوا) * بيان
161

لاستمرار عدم إيمانهم في الزمان الماضي أي فما صح ولا استقام لهم في وقت من الأوقات أن يؤمنوا لشدة شكيمتهم ومزيد عنادهم، وضمير الجمع هنا للقوم المبعوث إليهم وكذا في قوله تعالى: * (بما كذبوا به من قبل) * والباء فيه صلة - يؤمنوا - و * (ما) * موصولة والمراد بها جميع الشرائع التي جاء بها كل رسول أصولها وفروعها، والمراد بعدم إيمانهم بها إصرارهم على ذلك بعد اللتيا والتي وبتكذيبهم من قبل تكذيبهم من حين مجيء الرسل عليهم السلام إلى زمان الاصرار والعناد، وهذا بناء على أن المحكي آخر أحوالهم حسبما يشير إليه حكاية قوم نوح عليه السلام، ولم يجعل التكذيب مقصودا بالذات كما جعل عدم إيمانهم كذلك إيذانا بأنه بين في نفسه غني عن البيان، وإنما المحتاج إليه عدم إيمانهم بعد تواتر البينات وتظاهر المعجزات التي كانت تضطرهم إلى القبول لو كانوا من أهل العقول، وإذا كان المحكى جميع أحوال أولئك الأقوام فالمراد بعدم إيمانهم المفاد بالنفي السابق كفرهم المستمر من حين مجيء الرسل عليهم السلام إلى زمان إصرارهم وبعدم إيمانهم المفهوم من جملة
الصلة كفرهم قبل مجيء الرسل عليهم السلام، ويراد حينئذ من الموصول أصول الشرائع التي أجمعت عليها الرسل قاطبة ودعوا أممهم إليها كالتوحيد ولوازمه مما يستحيل تبدله وتغيره ومعنى تكذيبهم بذلك قبل مجيء رسلهم أنهم ما كانوا أهل جاهلية بحيث لم يسمعوا بذلك قط بل كأن كل قوم يتسامعون به من بقايا من قبلهم فيكذبونه ثم كانت حالهم بعد مجيء الرسل كحالهم قبل ذلك كأن لم يبعث إليهم أحد، وقيل: المراد أنهم لم ينتفعوا بالبعثة وكانت حالهم بعد البعثة كحالهم قبلها في كونهم أهل جاهلية والأول أولى، وتخصيص التكذيب وعدم الإيمان بما ذكر من الأصول لظهور حال الباقي بدلالة النص، فإنهم حيم لم يؤمنوا بما اجتمعت عليه الكافة فلأن لا يؤمنوا بما تفرد به البعض أولى، وعدم جعل هذا التكذيب مقصودا بالذات لأن ما عليه يدور أمر العذاب عند اجتماع التكذيبين هو التكذيب الواقع بعد البعثة والدعوة حسبما يعرب عنه قوله تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * (الإسراء: 15) وإنما ذكر ما وقع قبل بيانا لعراقتهم في الكفر والتكذيب، وفكك بعضهم بين الضمائر فقيل: ضمير * (كانوا) * و * (يؤمنوا) * لقوم الرسل وضمير * (كذبوا) * لقوم نوح عليه السلام أي ما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح أي بمثله، والمراد به ما بعث الرسل عليهم السلام لإبلاغه.
وجوز على هذا القول أن يراد بالموصول نوح نفسه أي ما كان قوم الرسل ليؤمنوا بنوح عليه السلام إذ لو آمنوا به آمنوا بأنبيائهم عليهم السلام ولا يخفى ما في ذلك، ومن الناس من جعل الباء سببية ودما) * مصدرية والمعنى كذبوا رسلهم فكان عقابهم من الله تعالى أنهم لم يكونوا ليؤمنوا بسبب تكذيبهم من قبل وأيده بالآية الآتية، وفيه مخالفة الجمهور من جعل * (ما) * المصدرية إسما كما هو رأي الأخفش. وابن السراج ليرجع الضمير إليها، وفي إرجاعه إلى الحق بادعاء كونه مركوزا في الاذهان ما لا يخفى من التعسف، وقيل: * (ما) * موصوفة والباء للسببية أيضا أو للملابسة أي بشيء كذبوا به وهو العناد والتمرد وهو كما ترى * (كذالك) * أي مثل ذلك الطبع المحكم * (نطبع) * فالإشارة على حد ما قرر في قوله سبحانه: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) * (البقرة: 143) ونظائره مما مر، وجعل الإشارة إلى الاغراق كما فعل الخازن ليس بشيء، والطبع يطلق على تأثير الشيء بنقش الطابع وعلى الأثر الحاصل عن النقش والختم مثله في ذلك على ما ذكره الراغب أيضا، وذكر أنه تصور الشيء بصورة ما كطبع السكة وطبع الدراهم وأنه أعم من الختم وأخص من النقش، والأكثرون على تفسيره بالختم مرادا به المنع أي نختم
162

* (على قلوب المعتدين) * أي المتجاوزين عن الحدود المعهودة في الكفر والعناد ونمنعها لذلك عن قبول الحق وسلوك سبيل الرشاد، وقد جاء الطبع بمعنى الدنس ومنه طبع السيف لصدئه ودنسه، وبعضهم حمل ما في الآية على ذلك، وفسره المعتزلة حيث وقع منسوبا إليه تعالى بالخذلان تطبيقا له على مذهبهم، ومن هنا قال الزمخشري: إنه جار مجرى الكناية عن عنادهم ولجاجهم لأن من عاند وثبت على اللجاج خذله الله تعالى ومنعه التوفيق واللطف فلا يزال كذلك حتى يتراكم الرين والطبع على قلبه، ومراده كما قيل أن * (نطبع) * بمعنى نخذل على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية لكن لما كان الطبع الذي هو الخذلان تابعا لعنادهم ولجاجهم لازما لهما أجرى مجرى الكناية عنهما. وقرىء * (يطبع) * بالياء على أن الضمير لله سبحانه وتعالى:
* (ثم بعثنا من بعدهم موسى وه‍ارون إلى فرعون وملئه بآي‍اتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين) *
* (ثم بعثنا) * عطف على * (ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم) * (يونس: 74) عطف قصة على قصة * (من بعدهم) * أي من بعد أولئك الرسل عليهم السلام * (موسى وهارون) * أوثر التنصيص على بعثتهما عليهما السلام مع ضرب تفصيل إيذانا بخطر شأن القصة وعظم وقعها * (إلى فرعون وملائه) * أي أشراف قومه الذين يحتمعون على رأي فيملأون العين رواء والنفوس جلالة وبهاء، وتخصيصهم بالذكر لأصالتهم في إقامة المصالح والمهمات ومراجعة الكل إليهم في النوازل والملمات، وقيل: المراد بهن هنا مطلق القوم من استعمال الخاص في العام * (بآياتنا) * أي أدلتنا ومعجزاتنا وهي الآيات المفصلات في الاعراف والباء للملابسة أي متلبسين بها * (فاستكبروا) * أي تكبروا وأعجبوا بأنفسهم وتعظموا عن الاتباع، والفاء فصيحة أي فأتياهم فبلغاهم الرسالة فاستكبروا، وأشير بهذا الاستكبار إلى ما وقع منهم أول الأمر من قول اللعين لموسى عليه السلام: * (ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين) * (الشعراء: 18) وغير ذلك * (وكانوا قوما مجرمين) * جملة معترضة تذييلية وجوز فيها الحالية بتقدير قد، وعلى الوجهين تفيد اعتيادهم الاجرام وهو فعل الذنب العظيم، أي وكانوا قوما شأنهم ودأبهم ذلك.
وقد يؤخذ مما ذكر تعليل استكبارهم، والحمل على العطف الساذج لا يناسب البلاغة القرآنية ولا يلائمها فمعلوم هذا القدر من سوابق أوصافهم.
* (فلما جآءهم الحق من عندنا قالوا إن ه‍اذا لسحر مبين) *
* (فلما جاءهم الحق من عندنا) * الفاء فصيحة أيضا معربة عما صرح به في مواضع أخر كأنه قيل: قال موسى: قد جئتكم ببينة من ربكم إلى قوله تعالى: * (فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين) * (الأعراف: 107 - 108) فلما جاءهم الحق * (قالوا) * من فرط عنادهم وعتوهم مع تناهي عجزهم:
* (إن ه‍اذا لسحر مبين) * أي ظاهر كونه سحرا أو واضح في بابه فائق فيما بين أضرابه - فمبين - من أبان بمعنى ظهر واتضح لا بمعنى أظهر وأوضح كما هو أحد معنييه، والإشارة إلى الحق الذي جاءهم، والمراد به كما قال غير واحد الآيات، وقد أقيم مقام الضمير للإشارة إلى ظهور حقيته عند كل أحد، ونسبة المجيء إليه على سبيل الاستعارة تشير أيضا إلى غاية ظهوره وشدة سطوعه بحيث لا يخفى على من له أدنى مسكة، ومن هنا قيل في المعنى: فلما جاءهم الحق من عندنا وعرفوه قالوا الخ، فالاعتراض عليه بأنه لا دلالة في الكلام على هذه المعرفة وإنما تعلم من موضع آخر كقوله سبحانه: * (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) * (النمل: 14) من قلة المعرفة لظهور دلالة ما علمت، وكذا ما قالوا بناء على ما قيل من دلالته على الاعتراف وتناهى العجز عليها، وقرىء * (لساحر) *
163

وعنوا به موسى عليه السلام لأنه الذي ظهر على يده ما أعجزهم.
* (قال موسى أتقولون للحق لما جآءكم أسحر ه‍اذا ولا يفلح الس‍احرون) *
* (قال موسى) * استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال لهما موسى عليه السلام؟ فقيل: قال لهم على سبيل الاستفهام الإنكاري التوبيحي: * (أتقولون للحق) * الذي هو أبعد شيء من السحر الذي هو الباطل البحت * (لما جاءكم) * أي حين مجيئه إياكم ووقوفكم عليه وهو الذي يقتضيه ما أشير إليه آنفا، أو من أول الأمر من غير تأمل وتدبر كما قيل، وإياما كان فهو مما ينافي القول الذي في حيز الاستفهام، والمقول محذوف ثقة بدلالة ما قبل وما بعد عليه وإيذانا بأنه مما لا ينبغي أن يتفوه به ولو على نهج الحكاية، أي أتقولون له ما تقولون من أنه سحر مبين؟ يعني به أنه مما لا يمكن أن يقوله قائل ويتكلم به متكلم، وجوز أن يكون مقول القول قوله عز وجل: * (أسحر ه‍اذا) * على أن مقصودهم بالاستفهام تقريره عليه السلام لا الاستفهام الحقيقي لأنهم قد بتوا القول بأنه سحر فكيف يستفهمون عنه، والمحكي في أحد الموضعين مفهوم قولهم ومعناه وإلا فالقصة واحدة والصادر فيها بحسب الظاهر إحدى المقالتين ولا يخفي ضعفه، وأن يكون القول بمعنى العيب والطعن من قولهم: فلأن يخاف القالة - وبين الناس تقاول - إذا قال بعضهم لبعض ما يسوءه، ونظيره الذكر في قوله تعالى: * (سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) * (الأنبياء: 60) وحينئذ يستغني عن المفعول، واللام لبيان المطعون فيه كما في قوله تعالى: * (هيت لك) * (يوسف: 23) أي أتعيبونه وتطعنون فيه، وعلى هذا الوجه وكذا الوجه الأول يكون قول سبحانه: * (أسحر هذا) * إنكارا مستأنفا من جهة موسى عليه السلام لكونه سحرا وتكذيب لقولهم وتوبيخ لهم عليه إثر توبيخ وتجهيل إثر تجهيل، أما على الوجه المتقدم فظاهر، وأما على الوجه الأخير فوجه إيثار إنكار كونه سحرا على إنكار كونه معيبا بأن يقال: أفيه عيب؟ حسبما يقتضيه ظاهر الإنكار السابق التصريح بالرد عليهم في خصوصية ما عابوه به بعد التنبيه بالإنكار الأول على أنه ليس فيه شائبة عيب ما، وتقديم الخبر للإيذان بأنه مصب الإنكار، وما في اسم الإشارة من معنى القرب لزيادة تعيين المشار إليه واستحضار ما فيه من الصفات الدالة على كونه آية باهرة من آيات الله تعالى المنادية على امتناع كونه سحرا، أي أسحر هذا الذي أمره واضح مكشوف وشأنه مشاهد معروف بحيث لا يرتاب فيه أحد ممن له عين مبصرة، وقوله سبحانه: * (ولا يفلح الس‍احرون) * تأكيد للإنكار السابق وما فيه من التوبيخ والتجهيل، وقد استلزم القول بكونه سحرا القول بكون من أتى به ساحرا، والجملة في موضع الحال من ضمير المخاطبين والرابط الواو بلا ضمير كما في قوله: جاء الشتاء ولست أملك عدة
وقولك: جاء زيد ولم تطلع الشمس، أي أتقولون للحق إنه سحر والحال أنه لا يفلح فاعله أي لا يظفر بمطلوب ولا ينجو من مكروه وأنه قد أفلحت وفزت بالحجة ونجوت من الهلكة، وجملة * (أسحر هذا) * معترضة بين الحال وذيها لتأكيد الإنكار السابق ببيان استحالة كونه سحرا بالنظر إلى ذاته قبل بيان استحالته بالنظر إلى صدوره منه عليه السلام، ومن جعلها مقول القول أبقى الحالية على حالها ولا اعتراض عنده، وكان المعنى على ذلك أتحملوني على الإقرار بأنه سحر وما أنا عليه من الفلاح دليل على أن بينه وبين السحر أبعد مما بين المشرق والمغرب، وقيل: يجوز أن تكون هذه الجملة كالتي قبلها في حيز قولهم وهي حالية أيضا لكن على نمط آخر والاستفهام مصروف إليها، والمعنى أجئتنا بسحر تطلب به الفلاح والحال أنه لا يفلح الساحر، أو هم يتعجبون من فلاحه وهو ساحر، ولا يخفى أن السباق والسياق يأبيان
164

هذا التجويز فلا ينبغي حمل النظم الجليل على ذلك، وفي إرشاد العقل السليم أن تجويز أن يكون الكل مقول القول مما لا يساعده النظم الكريم أصلا، أما أولا فون ما قالوا هو الحكم بأنه سحر من غير أن يكون فيه دلالة على ما تعسف فيه من المعنى بوجه من الوجوه، فصرف جوابه عليه السلام عن صريح ما خاطبوه به إلى ما لا يفهم منه مما يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله؛ وكون ذلك اعراضا عن رد الإنكار السابق إلى رد ما هو أبلغ منه في الإنكار لا أراه يحسن الالتفات هنا إلى قبول ذلك التجويز في كلام الله تعالى العزيز.
وأما ثانيا فلأن التعرض لعدم افلاح السحرة على الإطلاق من وظائف من يتمسك بالحق المبين دون الكفرة المتشبثين بأذيال بعض منهم في معارضته عليه السلام ولو كان ذلك من كلامهم لناسب تخصيص عدم الإفلاح بمن زعموه ساحرا بناء على غلبة من يأتون به من السحرة، والاعتذار بأن التشبث بأذيال بعض السحرة لا ينافي التعرض لعدم إفلاحهم على الإطلاق لجواز أن يكون اعتقادهم عدم الإفلاح مطلقا وتشبثهم بعد بما تشبثوا به من باب تلقي الباطل بالباطل لا أراه إلا من باب تشبث الغريق بالحشيش، وأما ثالثا [بم فلأن قوله عز وجل:
* (قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه ءاباءنا وتكون لكما الكبريآء فى الارض وما نحن لكما بمؤمنين) *.
* (قالوا أجئتنا) * الخ مسوق لبيان أنه عليه السلام ألقمهم الحجر فانقطعوا عن الاتيان بكلام له تعلق بكلامه عليه السلام فضلا عن الجواب الصحيح واضطروا إلى التشبث بذيل التقليد الدي هو دأب كل عاجز محجوج وديدن كل معالج لجوج على أنه استئناف وقع جوابا عما قبله من كلامه صلى الله عليه وسلم على طريقة * (قال موسى) * كما أشير إليه كأنه قيل: فماذا قالوا لموسى عليه السلام حين قال لهم ما قال؟ فقيل: قالوا عاجزين عن المحاجة: أجئتنا * (لتلفتنا) * أي لتصرفنا، وبين اللفت والفتل مناسبة معنوية واشتقاقية وقد نص غير واحد على أنهما أخوان وليس أحدهما مقلوبا من الآخر كما قال الأزهري * (عما وجدنا عليه ءاباءنا) * أي من عبادة غير الله تعالى، ولا ريب في أن ذلك إنما يتسنى بكون ما ذكر من تتمة كلامه عليه السلام على الوجه الذي شرح إذ على تقدير كونه محكيا من قبلهم يكون جوابه عليه السلام خاليا عن التبكيت الملجىء لهم إلى العدول عن سنن المحاجة، ولا ريب في أنه لا علاقة بين قولهم: * (أجئتنا) * الخ وبين إنكاره عليه السلام لما حكي عنهم مصححة لكونه جوابا عنه، وهذا ظاهر إلا على من حجب عن إدراك البديهيات، وبالجملة الحق أن لا وجه لذلك التجويز بوجه والانتصار له من الفضول كما لا يخفى * (وتكون لكما الكبرياء) * أي الملك كما ريو عن مجاهد فهو من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم، وعن الزجاج أنه إنما سمي الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمر
الدنيا، وقيل: أي العظمة والتكبر على الناس باستتباعهم. وقرأ حماد بن يحيى عن أبي بكر. وزيد عن يعقوب * (يكون) * بالياء التحتانية لأن التأنيث غير حقيقي مع وجود الفاصل.
* (في الأرض) * أي أرض مصر، وقيل: أريد الجنس، والجار متعلق - بتكون - أو بالكبرياء أو بالاستقرار في - لكما - لوقوعه خبرا أو بمحذوف وقع حالا من * (الكبرياء) * أو من الضمير في * (لكما) * لتحمله إياه * (وما نحن لكما بمؤمنين) * أي بمصدقين فيما جئتما به أصلا، وفيه تأكيد لما يفهم من الإنكار السابق، والمراد بضمير المخاطبين موسى وهارون عليهما السلام، وإنما لم يفردوا موسى عليه السلام بالخطاب هنا كما أفردوه به فيما تقدم لأنه المشافه لهم بالتوبيخ والإنكار تعظيما لأمر ما هو أحد سبى الأعراض معنى ومبالغة في
165

إغاظة موسى عليه السلام وإقناطه عن الإيمان بما جاء به، وفي إرشاد العقل السليم أن تثنية الضمير في هذين الموضعين بعد أفراده فيما تقدم من المقامين باعتبار شمول الكبرياء عليهما السلام واستلزام التصديق لأحدهما التصديق للآخر، وأما اللفت والمجيء له فحيث كانا من خصائص صاحب الشريعة أسند إلى موسى عليه السلام خاصة انتهى فتدبر
* (وقال فرعون ائتونى بكل س‍احر عليم) *.
* (وقال فرعون) * أسند الفعل إليه وحده لأن الأمر من وظائفه دون الملأ وهذا بخلاف الأفعال السابقة من الاستكبار ونحوه فإنها مما تسند إليه وإلى ملئه، لكن الظاهر أنه غير داخل في القائلين * (أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا) * لأنه عليه اللعنة لم يكن يظهر عبادة أحد كما كان يفعله ملؤه وسائر قومه، أي قال لملئه يأمرهم بترتيب مبادي الالزام بالفعل بعد اليأس عن الالزام بالقول * (ائتوني بكل ساحر عليم) * بفنون السحر حاذق ماهر فيه. وقرأ حمزة. والكسائي * (ساحر) *.
* (فلما جآء السحرة قال لهم موسى ألقوا مآ أنتم ملقون) *
* (فلما جاء السحرة) * (يونس: 80) عطف على مقدر يستدعيه المقام قد حذف إيذانا بسرعة امتقالهم لومر كما هو شأن الفاء الفصيحة، وقد نص على نظير ذلك في قوله سبحانه: * (فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت) * (البقرة: 60) أي فأتوا به فلما جاؤوا * (قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون) * أي ما ثبتم واستقر رأيكم على إلقائه كائنا ما كان من أصنف السحر، وأصل الالقاء طرح الشيء حيث تلقاه أي تراه ثم صار في العرف أسما لكل طرح، وكان هذا القول منه عليه السلام بعد ما قالوا له ما حكى عنهم في السور الأخر من قولهم: * (إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين) * (الأعراف: 115) ونحو ذلك ولم يكن في إبتداء مجيئهم، و * (ما) * موصولة والجملة بعدها صلة والعائد محذوف أي ملقون إياه، ولا يخفى ما في الإبهام من التحقير والاشعار بعدم المبالاة، والمراد أمرهم بتقديم ما صمموا على فعله ليظهر إبطاله وليس المراد الأمر بالسحر والرضا به.
* (فلمآ ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين) *
* (فلما ألقوا) * ما ألقوا من العصى والحبال واسترهبوا الناس وجاؤوا بسحر عظيم * (قال) * لهم * (موسى) * غير مكترث بهم وبما صنعوا * (ما جئتم به السحر) * * (ما) * موصولة وقعت مبتدأ و * (السحر) * خبر وأل فيه للجنس والتعريف لإفادة القصر إفرادا أي الذي جئتم به هو السحر لا الذي سماه فرعون وملؤه من آيات الله تعالى سحرا وهو للجنس، ونقل عن الفراء أن أل للعه، لتقدم السحر في قوله تعالى: * (إن هذا لسحر) * ورد بأن شرط كونها للعهد اتحاد المتقدم والمتأخر ذاتا كما في * (أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول) * (المزمل: 15، 16) ولا اتحاد فيما نحن فيه فإن السحر المتقدم ما جاء به موسى عليه السلام وهذا ما جاء به السحرة. ومن الناس من منع اشتراط الاتحاد الذاتي مدعيا أن الاتحاد في الجنس كاف فقد قالوا في قوله تعالى: * (والسلام على) * إن أل للعهد مع أن السلام الواقع على عيسى عليه السلام غير السلام الواقع على يحيى عليه السلام ذاتا، والظاهر اشتراط ذلك وعدم كفاية الاتحاد في الجنس وإلا لصح في رأيت رجلا وأكرمت الرجل إذا كان الأول زيدا والثاني عمرا مثلا أن يقال: إن أل للعه، لأن الاتحاد في الجنس ظاهر ولم نجد من يقوله بل لا أظن أحدا تحدثه نفسه بذلك وما في الآية من هذا القبيل بل المغايرة بين المتقدم والمتأخر أظهر إذ الأول سحر ادعائي والثاني حقيقي، و * (السلام) * فيما نقوا متحد وتعدد من وقع عليه لا يجعله متعددا في العرف والتدقيق الفلسفي لا يلتفت إليه في مثل ذلك.
وقد ذكر بعض المحققين أن القول يكون التعريف للعهد مع دعوى استفادة القصر منه مما يتنافيان لأن
166

القصر إنما يكون إذا كان التعريف للجنس. نعم إذا لم يرد بالنكرة المذكورة أولا معين ثم عرفت لا ينافي التعريف الجنسية لأن النكرة تساوي تعريف الجنس فحينئذ لا ينافي تعريف العهد القصروان كان كلامهم يخالفه ظاهرا فليحرر انتهى. وأقول: دعوى الفراء العهد هنا مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، ولعله أراد الجنس وأن عبر بالعهد بناء على ما ذكره الجلال السيوطي في همع الهوامع نقلا عن ابن عصفور أنه قال: لا يبعد عندي أن يسمى الألف واللام اللتان لتعريف الجنس عهديتين لأن الأجناس عند العقلاء معلومة مذ فهموها والعهد تقدم المعرفة. وادعى أبو الحجاج يوسف بن معزوز أن أل لا تكون إلا عهدية وتأوله بنحو ما ذكر إلا أن ظاهر التعليل لا يساعد ذلك. وقرأ عبد الله * (سحر) * بالتنكير، وأبى * (ما أتيتم به سحر) * والكلام على ذلك مفيد للقصر أيضا لكن بواسطة التعريض لوقوعه في مقابلة قولهم: * (إن هذا لسحر مبين) * وجوز في * (ما) * في جميع هذا القراآت أن تكون استفهامية و * (السحر) * خبر مبتدأ محذوف. وقرأ أبو عمرو. وأبو جعفر * (آلسحر) * بقطع الألف ومدها على الاستفهام - فما - استفهامية مرفوعة على الابتداء و * (جئتم به) * خبرها و * (السحر) * خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف، أي شيء جسيم جئتم به أهو السحر أو السحر هو، وقد يجعل السحر بدلا من * (ما) * كما تقول ما عندك أدينار أم درهم، وقد تجعل * (ما) * نصبا بفعل محذوف
يقدر بعدها أي أي شيء أتيتم به و * (جئتم به) * مفسر له وفي * (السحر) * الوجهان الأولان.
وجوز أن تكون موصولة مبتدأ والجملة الاسمية أي أهو السحر أو السحر هو خبره، وفيه الأخبار بالجملة الإنشائية، ولا يجوز أن تكون على هذا التقدير منصوبة بفعل محذوف يفسره المذكور لأن ما لا يعمل لا يفسر عاملا.
* (إن الله سيبطله) * أي سيمحقه بالكلية بما يظهره على يدي من المعجزة فلا يبقى له أثر أصلا أو سيظهر بطلانه وفساده للناس، والسين للتأكيد * (إن الله لا يصلح عمل المفسدين) * أي جنسهم على الإطلاق فيدخل فيه السحرة دخولا أوليا، ويجوز أن يراد بالمفسدين المخاطبون فيكون من وضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بالافساد والاشعار بعلة الحكم، والجملة تذييل لتعليل ما قبلها وتأكيده، والمراد بعدم إصلاح ذلك عدم إثباته أو عدم تقويته بالتأييد الإلهي لا عدم جعل الفاسد صالحا لظهور أن ذلك مما لا يكون أي أنه سبحانه لا يثبت عمل المفسدين ولا يديمه بل يزيله ويمحقه أو لا يقويه ولا يؤيده بل يظهر بطلانه ويجعله معلوما.
واستدل بالآية على أن السحر إفساد وتمويه لا حقيقة له. وأنت تعلم أن في اطلاق القول بأن السحر لا حقيقة له بحثا، والحق أن منه ما له حقيقة ومنه ما هو تخيل باطل ويسمى شعبذة وشعوذة.
* (ويحق الله الحق بكلم‍اته ولو كره المجرمون) *
* (ويحق الله الحق) * أي يثبته ويقويه وهو عطف على قوله سبحانه: * (سيبطله) * وإظهار الاسم الجليل في المقامين لإلقاء الروعة وتربية المهابة * (بكلماته) * أي بأوامره وقضاياه، وعن الحسن أي بوعده النصر لمن جاء به وهو سبحانه لا يخلف ذلك، وعن الجبائي أي بما ينزله مبينا لمعاني الآيات التي أتى بها نبيه عليه السلام. وقرىء * (بكلمته) * وفسرت بالأمر واحد الأوامر حسبما فسرت الكلمات بالأوامر وأريد منها الجنس فيتطابق القراءتان، وقيل: يحتمل أن يراد بها قول كن وأن يراد بها الأمر واحد الأمور ويراد بالكلمات الأمور والشؤون * (ولو كره المجرمون) * ذلك، والمراد بهم كل من اتصف بالإجرام من السحرة وغيرهما.
* (فمآ ءامن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الارض وإنه لمن المسرفين) *
* (فما آمن لموسى) * عطف على مقدر فصل في موضع آخر أي فألقى
167

عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون الخ، وإنما لم يذكر تعويلا على ذلك وإيثار للإيجاز وإيذانا بأن قوله تعالى: * (إن الله سيبطله) * (يونس: 81) مما لا يحتمل الخلف أصلا، ولعل عطفه على ذلك بالفاء باعتبار الإيجاب الحادث الذي هو أحد مفهومي الحصر، فانهم قالوا: معنى ما قام إلا زيد قام زيد ولم يقم غيره، وبعضهم لم يعتبر ذلك وقال: إن عطفه بالفاء على ذلك مع كونه عدما مستمرا من قبيل ما في قوله تعالى: * (فاتبعوا أمر فرعون) * وما في قولك: وعظته فلم يتعظ - وصحت به فلم ينزجر، والسر في ذلك أن الاتيان بالشيء بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه وإن كان استمرارا عليه لكنه بحسب العنوان فعل جديد وضع حادث أي فما آمن عليه السلام في مبدى أمره * (إلا ذرية من قومه) * أي إلا أولاد بعض بني إسرائيل دعا عليه السلام الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون وأجابته طائفة من شبانهم، فالمراد من الذرية الشبان لا الأطفال. و * (من) * للتبعيض، وجوز أن تكون للابتداء والتبعيض مستفاد من التنوين، والضمير لموسى عليه السلام كما هو إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرج ابن جرير عنه أن الضمير لفرعون وبه قال جمع، فالمؤمنون من غير بني إسرائيل ومنهم زوجته آسية وماشطته ومؤمن آل فرعون والخازن وامرأته، وفي إطلاق الذرية على هؤلاء نوع خفاء. ورجح بعضهم ارجاع الضمير لموسى عليه السلام بأنه المحدث عنه وبأن المناس على القول الآخر الاضمار فيما بعد، ورجح ابن عطية ارجاع الضمير لفرعون بأن المعروف في القصص أن بني إسرائيل كانوا في قهر فرعون وكانوا قد بشروا بأن خلاضهم على يد مولود يكون نبيا صفته كذا كذا فلما ظهر موسى عليه السلام اتبعوه ولم يعرف أن أحدا منهم خالفه فالظاهر القول الثاني، وما ذكر من أن المحدث عنه موسى عليه السلام لا يخلو عن شيء، فإن لقائل أن يقابل ذلك بأن الكلام في قوم فرعون لأنهم القائلون إنه ساحر ولأن وعظ أهل مكة وتخويفهم المسوق له الآيات قاض بأن المقصود هنا شرح أحوالهم. وأنت تعلم أن للبحث في هذا مجالا والمعروف بعد تسليم كونه معروفا لا يضر القول الأول لأن المراد حينئذ فما أظهر إيمانه وأعلن به الاذرية من بني إسرائيل دون غيرهم فانهم أخفوه ولم يظهروه * (على خوف) * حال من ذرية و * (على) * بمعنى مع كما قيل في قوله تاعلى: * (وآتي المال على حبه) * والتنوين للتعظيم أي كائنين مع خوف عظيم * (من فرعون وملائهم) * الضمير لفرعون، والجمع عند غير واحد على ما هو المعتاد في ضمائر العظماء. ورد بأن الوارد في كلام العرب الجمع في ضمير المتكلم كنحن وضمير المخاطب كما في قوله تعالى: * (رب ارجعون) * (المؤمنون: 99) وقوله: ألا فارحموني يا اله محمد
ولم ينقل في ضمير الغائب كما نقل عن الرضى، وأجيب بأن الثعالبي. والفارسي نقلا في الغائب أيضا والمثبت مقدم على النافي، وبأنه لا يناسب تعظيم فرعون فإن كان على زعمه وزعم قومه فإنما يحسن في كلام ذكر أنه محكى عنهم وليس فليس. ويجاب بأن المراد من التعظيم تنزيله منزلة المتعدد، وكونه لا يناسب في حيز المنع، لم لا يجوز أن يكون مناسبا لما فيه من الإشارة إلى مزيد عظم الخوف المتضمن زيادة مدح المؤمنين؟ وقيل: إن ذلك وارد على عادتهم في محاوراتهم في مجرد جمع ضمير العظماء وإن لم يقصد التعظيم أصلا فتأمله، وجوز أن يكون الجمع لأن المراد من * (فرعون) * آله كما يقال: ربيعة. ومضر. واعترض عليه بأن هذا إنما عرف في القبيلة وأبيها إذ يطلق اسم الأب عليهم وفرعون ليس من هذا القبيل، على أنه قد قيل: إن اطلاق أبي نحو القبيلة عليها لا يجوز ما لم يسمع ويتحقق جعله علما لها، ألا تراهم لا يقولون:
168

فلان من هاشم ولا من عبد المطلب بل من بني هاشم وبني عبد المطلب فكيف يراد من فرعون آله ولم يتحقق فيه جعله علما لهم، ودعوى التحقق هنا أول المسألة فالقول
بأن الجمع لأن المراد به آله كربيعة ليس بشيء إلا أن يراد أن فرعون ونحوه من الملوك إذا ذكر خطر بالباب خطر أتباعه معه فعاد الضمير على ما في الذهن، وتمثيله بما ذكر لأنه نظيره فالجملة، ثم إنه لا يخفى أنه إذا أريد من فرعون آله ينبغي أن يراد من * (آل فرعون) * فرعون وآله على التغليب، وقيل: إن الكلام على حذف مضاف أي آل فرعون فالضمير راجع إلى ذلك المحذوف، وفيه أن الحذف يعتمد القرينة ولا قرينة هنا، وضميير الجمع يحتمل رجوعه لغير ذلك المحذوف كما ستعلمه قريبا إن شاء الله تعالى فلا يصلح لأن يكون قرينة، وأما أن المحذوف لا يعود إليه ضمير كما قال أبو البقاء فليس بذاك لأنه إن أريد أنه لا يعود إليه مطلقا فغير صحيح؛ وإن أريد إذا حذف لقرينة فممنوع لأنه حينئذ في قوا المذكور، وقد كثير عود الضمير إليه كذلك في كلام العرب، وقريب من هذا القيل زعم أن هناك معطوفا محذوفا إليه يعود الضمير أي على خوف من فرعون وقومه وملئهم، ويرد عليه أيضا ما قيل: إن هذا الحذف ضعيف غير مطرد.
وقيل: الضمير للذرية أو للقوم أي على خوف من فرعون ومن أشراف بني إسرائيل حيث كانوا يمنعونهم خوفا من فرعون عليهم أو على أنفسهم، أو من أشراف القبط ورؤسائهم حيث كانوا يمنعونهم انتصارا لفرعون، ولعل المنساق إلى الذهن رجوعه إلى الذرية والجمع باعتبار المعنى، ويؤول المعنى إلى أنهم آمنوا على خوف من فرعون ومن أشراف قومهم * (أن يفتنهم) * أي يبتليهم ويعذبهم، وأصل الفتن كما قال الراغب إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته واستعمل في إدخال الإنسان النار كما في قوله سبحانه: * (يوم هم على النار يفتنون) * (الذاريات: 13) ويسمي ما يحصل منه العذاب فتنة ويستعمل في الاختيار وبمعنى البلاء والشدة وهو المراد هنا، و * (أن) * وما بعدها في تأويل مصدر وقع بدلا من فرعون بدل اشتمال أي على خوف من فرعون فتنته، ويجوز أن يكون مفعول * (خوف) * لأنه مصدر منكر كثر إعماله، وقيل: إنه مفعول له والأصل لأن يفتنهم فحذف الجار وهو مما يطرد فيه الحذف، ولا يضر في مثل هذا عدم اتحاد فاعل المصدر والمعلل به على أن مذهب بعض الأئمة عدم اشتراط ذلك في جواز النصب وإليه مال الرضى وأيده بما ذكرناه في حواشينا على شرط القطر للمصنف، وإسناد الفعل إلى فرعون خاصة لأنه مدار أمر التعذيب، وفي الكلام استخدام في رأي حيث أريد من فرعون أولا آله وثانيا هو وحده وأنت تعلم ما فيه.
* (وإن فرعون لعال في الأرض) * أي لغالب قاهر في أرض مصر، واستعمال العلو بالغلبة والقهر مجاز معروف * (وإنه لمن المسرفين) * أي المتجاوزي الحد في الظلم والفساد بالقتل وسفك الدماء أو في الكبر والعتو حتى ادعى الربوبية واسترق أسباط الأنبياء عليهم السلام، والجملتان اعتراض تذييلي مؤكد لمضمون ما سبق وفيهما من التأكيد ما لا يخفى.
* (وقال موسى ياقوم إن كنتم ءامنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين) *
* (وقال موسى) * لما رأى تخوف المؤمنين * (ي‍اقوم إن كنتم آمنتم بالله) * أي صدقتم به وبآياته * (فعليه توكلوا) * أي اعتمدوا لا على أحد سواه فإنه سبحانه كافيكم كل شر وضر.
169

* (إن كنتم مسلمين) * أي مستسلمين لقضاء الله تعالى مخلصين له، وليس هذا من تعليق الحكم بشرطين بل من تعليق شيئين بشرطين لأنه علق وجوب التوكل المفهوم من الأمر وتقديم المتعلق بالإيمان فإنه المقتضى له وعلق نفس التوكل ووجوده بالإسلام والإخلاص لأنه لا يتحقق مع التخليط، ونظير ذلك - إن دعاك زيد فأجبه إن قدرت عليه - فإن وجوب الإجابة معلق بالدعوة ونفس الدعوة معلقة بالقدرة، وحاصله إن كنتم آمنتم بالله فيجب عليكم التوكل عليه سبحانه فافعلوه واتصفوا به إن كنتم مستسلمين له تعالى.
وهذا النوع على ما في " الكشف " يفيد مبالغة في ترتب الجزاء على الشرط على نحو - إن دخلت الدار فأنت طالق إن كنت زوجتي - وجعله بعضهم من باب التعليق بشرطين المقتضى لتقدم الشرط الثاني على الأول في الوجود حتى لو قال: إن كلمت زيدا فأنت طالق إن دخلت الدار لم تطلق ما لم تدخل قبل الكلام لأن الشرط الثاني شرط للأول فيلزم تقدمه عليه، وقرره بأن ههنا ثلاثة أشياء: الإيمان. والتوكل. والإسلام، والمراد بالإيمان التصديق وبالتوكل إسناد الأمور إليه عز وجل، وبالإسلام تسليم النفس إليه سبحانه وقطع الأسباب فعلق التوكل بالتصديق بعد تعليقه بالإسلام لأن الجزاء معلق بالشرط الأول وتفسير للجزاء الثاني كأنه قيل: إن كنتم مصدقين بالله تعالى وآياته فخصوه سبحانه بإسناد جميع الأمور إليه وذلك لا يتحصل إلا بعد أن تكونوا مخلصين لله تبارك وتعالى مستسلمين بأنفسكم له سبحانه ليس للشيطان فيكم نصيب وإلا فاتركوا أمر التوكل.
ويعلم منه أن ليس لكل أحد من المؤمنين الخوض في التوكل بل للآحاد منهم وأن مقام التوكل دون مقام التسليم والأكثر على الأول ولعله أدق نظرا.
* (فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظ‍المين) *
* (فقالوا) * مجيبين له عليه السلام من غير تلعثم وبلع ريق في ذلك * (على الله توكلنا) * لا على غيره سبحانه ويؤخذ من هذا القصر والتعبير بالماضي دون نتوكل أنهم كانوا مؤمنين مخلصين، قيل: ولذا أجيب دعاؤهم * (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظ‍المين) * أي موضع فتنة وعذاب لهم بأن تسلطهم علينا فيعذبونا أو يفتنونا عن ديننا أو يفتنوا بنا ويقولوا: لو كان هؤلاء على الحق لما أصيبوا.
* (ونجنا برحمتك من القوم الك‍افرين) *
* (ونجنا برحمتك من القوم الك‍افرين) * دعاء بالإنجاء من سوء جوارهم وسوء صنيعهم بعد الإنجاء من ظلمهم، ولذا عبر عنهم بالكفر بعدما وصفوا بالظلم ففيه وضع المظهر موضع المضمر، وجوز أن يراد من القوم الظالمين الملأ الذين تخوفوا منهم ومن القوم الكافرين ما يعمهم وغيرهم، وفي تقديم التوكل على الدعاء وإن كان بيانا لامتثال أمر موسى عليه السلام لهم به تلويح بأن الداعي حقه أن يبني دعاءه على التوكل على الله تعالى فإنه أرجى للإجابة ولا يتوهمن أن التوكل مناف للدعاء لأنه أحد
الأسباب للمقصود والتوكل قطع الأسباب لأن المراد بذاك قطع النظر عن الأسباب العادية وقصره على مسببها عز وجل واعتقاد أن الأمر مربوط بمشئته سبحانه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وقد صرحوا أن الشخص إذا تعاطى الأسباب معتقدا ذلك يعد متوكلا أيضا، ومثل التوكل في عدم المنافاة للدعاء على ما تشعر به الآية الاستسلام. نعم في قول بعضهم: إن الاستسلام من صفات إبراهيم عليه السلام وكان من آثاره ترك الدعاء حين ألقى في النار واكتفاؤه عليه السلام بالعلم المشار إليه بقوله: حسبي من سؤالي علمه بحالي ما يشعر بالمنافاة ومن عرف المقامات وأمعن النظر هان عليه أمر الجمع.
* (وأوحينآ إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلواة وبشر المؤمنين) *
* (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا) * * (أن) * مفسرة لأن في الوحي معنى القول، ويحتمل أن
170

تكون مصدرية؛ والتبوؤ اتخاذ المباءة أي المنزل كالتوطن اتخاذ الوطن، والجمهور على تحقيق الهمزة ومنهم من قرأ * (تبويا) * * (لقومكما بمصر بيوتا) * فجعلها ياء وهي مبدلة من الهمزة تخفيفا، والفعل على ما قيل مما يتعدى لواحد فيقال: تبوأ زيد كذا لكن إذا أدخلت اللام على الفاعل فقيل: تبوأ لزيد كذا تعدى لما كان فاعلا باللام فيتعدى لاثنين، وخرجت الآية على ذلك - فلقومكما - أحد المفعولين، وقيل: هو متعد لواحد و * (لقومكما) * متعلق بمحذوف وقع حالا من البيوت، واللام على الوجهين غير زائدة. وقال أبو علي: هو متعد بنفسه لاثنين واللام زائدة كما في * (ردف لكم) * وفعل وتفعل قد يكونان بمعنى مثل علقتها وتعلقتها، والتقدير بوئا قومكما بيوتا يسكنون فيها أو يرجعون إليها للعبادة. و * (مصر) * غير منصرف لأنه مؤنث معرفة ولو صرفته لخفته كما صرفت هندا لكان جائزا، والجار متعلق - بتبوآ - وجوز أن يكون حالا من * (بيوتا) * أو من - قومكما - أو من ضمير الفاعل في * (تبوآ) * أي مصلى، وقيل: مساجد متوجهة نحو القبلة يعني الكعبة فإن موسى عليه السلام كان يصلي إليها، وعلى التفسيرين تكون القبلة مجازا فيما فسرت به بعلاقة اللزوم أو الكلية والجزئية، والاختلاف في المراد هنا ناظر للاختلاف في أن تلك البيوت المتخذة هل للسكنى أو للصلاة فإن كان الأول فالقبلة مجاز عن المصلى وإن كان الثاني فهي مجاز عن المساجد.
واعترض القول بحمل القبلة على المساجد المتوجهة إلى الكعبة بأن المنصوص عليه في الحديث الصحيح أن اليهود تستقبل الصخرة والنصارى مطلع الشمس ولم يشتهر أن موسى عليه السلام كان يستقبل الكعبة في صلاته فالقول به غريب، وأغرب منه ما قاله العلائي: من أن الأنبياء عليهم السلام كانت قبلتهم كلهم الكعبة، قيل: وجعل البيوت مصلى ينافيه ما في الحديث " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " من أن الأمم السالفة كانوا لا يصلون إلا في كنائسهم، وأجيب عن هذا بأن محله إذا لم يضطروا فإذا اضطروا جازت لهم الصلاة في بيوتهم كما رخص لنا صلاة الخوف، فإن فرعون لعنه الله تعالى خرب مساجدهم ومنعهم من الصلاة فأوحى إليهم أن صلوا في بيوتكم كما روي عن ابن عباس. وابن جبير، وقد يقال: إنه لا منافاة أصلا بناء على أن المراد تعيين البيوت للصلاة وعدم صلاحة الصلاة في غيرها فيكون حكمها إذ ذاك حكم الكنائس اليوم وما هو من الخصائص صحة الصلاة في أي مكان من الأرض وعدم تعين موضع منها لذلك فلا حاجة إلى ما يقال: من أن اعتبار جعل الأرض كلها مسجدا خصوصية بالنظر إلى ما استقرت عليه شريعة موسى عليه السلام من تعين الصلاة في الكنائس وعدم جوازها في أي مكان أراده المصلى من الأرض، وما تقدم من استقبال من تعين الصلاة في الكنائس وعدم جوازها في أي مكان أراده المصلي من الأرض، وما تقدم من استقبال اليهود الصخرة فالمشهور أنه كان في بيت المقدس وأما قبل بعد نزول التوراة فكانوا يستقبلون التابوت وكان يوضع في قبة موسى عليه السلام، على أنه قد قيل: إن الاستقبال في بيت المقدس كان للتابوت أيضا وكانوا يضعونه على الصخرة فيكون استقباله استقبالها، وأما استقبالهم في مصر فيحتمل أنه كان للكعبة كما روي عن الحسن وما في الحديث محمول على آخر أحوالهم، ويحتمل أنه كان للصخرة حسبما هو اليوم ويحتمل غير ذلك والله تعالى أعلم بحقيقة الحال، وقيل: معنى * (قبلة) * متقابلة ورواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أي اجعلوا بيويتكم يقابل بعضها بعضا * (وأقيموا الصلاة) * فيها، قيل: أمروا بذلك في أول أمرهم لئلا يظهر عليهم الكفرة فيؤذونهم ويفتنونهم
171

في دينهم، وهو مبني على أن المراد بالبيوت المساكن أما لو أريد بها المساجد فلا يصح كما لا يخفى، ولعل التوجيه على ذلك هو أنهم أمروا بالصلاة ليستعينوا ببركتها على مقصودهم فقد قال سبحانه: * (واستعينوا بالصبر والصلاة) * وهي في المساجد أفضل فتكون أرجى للنفع * (وبشر المؤمنين) * بحصول مقصودهم، وقيل: بالنصرة في الدنيا إجابة لدعوتهم والجنة في العقبى، وإنما ثنى الضمير أولا لأن التبوأ للقوم واتخاذ المعابد مما يتولاه رؤساء القوم بتشاور، ثم جمع ثانيا لأن جعل البيوت مساجد والصلاة فيها مما يفعله كل أحد مع أن في إدخال موسى وهارون عليهما السلام مع القوم في الأمرين المذكورين ترغيبا لهم في الامتثال، ثم وحد ثالثا لأن بشارة الأمة وظيفة صاحب الشريعة وهي من الأعظم أسر وأوقع في النفس، ووضع المؤمنين موضع ضمير القوم لمدحهم بالإيمان وللإشعار بأنه المدار في التبشير.
* (وقال موسى ربنآ إنك ءاتيت فرعون وملاه زينة وأموالا فى الحيواة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم) *
* (وقال موسى ربنا إنك أتيت فرعون وملأه زينة) * أي ما يتزين به من اللباس والمراكب ونحوها وتستعمل مصدرا * (وأموالا) * أنواعا كثيرة من المال كما يشعر به الجمع والتنوين، وذكر ذلك بعد الزينة من ذكر العام بعد الخاص للشمول، وقد يحمل على ما عداه بقرينة المقابلة، وفسر بعضهم الزينة بالجمال وصحة البدن وطول القامة ونحوه * (في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك) * أي لكي يضلوا عنها وهو تعليل للإيتاء السابق، والكلام إخبار من موصى عليه السلام بأن الله تعالى إنما أمدهم بالزينة والأموال استدراجا ليزدادوا إثما وضلالة كما أخبر سبحانه عن أمثالهم بقوله سبحانه: * (إنما نملي لهم ليزدادوا إثما) * (آل عمران: 178) وإلى كون اللام للتعليل ذهب الفراء والظاهر أنه حقيقة فيكون ذلك الضلال مراد الله تعالى، ولا يلزم ما قاله المعتزلة من أنه إذا كان مرادا يلزم أن يكونوا مطيعين به بناء على أن الإرادة أمر أو مستلزم له لما أنه قد تبين بطلان هذا المبنى في الكلام، وقدر بعضهم حذرا من ذلك لئلا يضلوا كما قدر في * (شهدنا أن تقولوا) * شهدنا أن لا تقولوا
ولا حاجة إليه، وقال الأخفش: اللام للعاقبة فيكون ذلك إخبارا منه عليه السلام لممارسته لهم وتفرسه بهم أو لعلمهم بالوحي على ما قيل بأن عاقبة ذلك الإيتاء الضلال.
والفرق بين التعليل المجازي وهذا إن قلنا بأنه معنى مجازي أيضا أن في التعليل ذكر ما هو سبب لكن لم يكن إيتاؤه لكونه سببا وفي لام العاقبة لم يذكر سبب أصلا وهي كاستعارة أحد الضدين للآخر، وقال ابن الأنباري: إنها للدعاء ولا مغمز على موسى عليه السلام في الدعاء عليهم بالضلال إما لأنه عليه السلام علم بالممارسة أو نحوها أنه كائن لا محالة فدعا به وحاصله أنه دعاء بما لا يكون إلا ذلك فهو تصريح بما جرى قضاء الله تعالى به، ونحوه لعن الله تعالى الشيطان وإما لأنه ليس بدعاء حقيقة، وليس النظر إلى تنجيز المسؤول وعدمه بل النظر إلى وصفهم بالعتو وإبلاء عذره عليه السلام في الدعوة فهو كناية إيمائية على هذا، وما قيل: هذا شهادة بسوء حالهم بطريق الكناية في الكناية لأن الضلال رديف الإضلال وهو منع اللطف فكني بالضلال عن الإضلال والإضلال رديف كونهم كالمطبوع عليهم فكان هذا كشفا وبيانا لحالهم بطريق الكناية فهو على ما فيه شيء عنه غني لأن الطبع مصرح به بعد بل النظر ههنا إلى الزبدة والخلاصة من هذه المطالب كلها، ويشعر كلام الزمخشري باختيار كونها للدعاء، وفي الانتصاف أنه اعتزال أدق من دبيب النمل يكاد الاطلاع عليه يكون كشفا، والظاهر أنها للتعليل، وقال صاحب الفرائد: لولا التعليل لم يتجه قوله: * (إنك آتيت فرعون وملأه زينة) * ولم ينتظم.
172

وأورد عليه أيضا أنه ينافي غرض البعثة وهو الدعوة إلى الإيمان والهدى، ولا يخفى أن دفع هذا يعلم مما قدمنا آنفا. وأما وجه انتظام الكلام فهو كما قال غير واحد: إن موسى عليه السلام ذكر قوله: * (إنك آتيت) * الخ تمهيدا للتخلص إلى الدعاء عليهم أي إنك أوليتهم هذه النعمة ليعبدوك ويشكروك فما زادهم ذلك إلا طغيانا وكفرا وإذا كانت الحال هذه فليضلوا عن سبيلك ولو دعا ابتداء لم يحسن إذ ربما لم يعذر فقدم الشكاية منهم والنعي بسوء صنيعهم ليتسلق منه إلى الدعاء مع مراعاة تلازم الكلام من إيراد الأدعية منسوقة نسقا واحدا وعدم الاحتياج إلى الاعتذار عن تكرير النداء كما احتاج القول بالتعليل إلى الاعتذار عنه بأنه للتأكيد وللإشارة إلى أن المقصود عرض ضلالهم وكفرانهم تقدمة للدعاء عليهم بعد. وادعى الطيبى أنه لا مجال للقول بالاعتراض لأنه إنما يحسن موقعه إذا التذت النفس بسماعه، ولذا عيب قول النابغة: لعل زيادا لا أبا لك غافل
وفي كلامه ميل إلى القول بأن اللام للدعاء وهو لدى المنصف خلاف الظاهر، وما ذكروه له لا يفيده ظهورا.
وقرىء * (ليضلوا) * بضم الياء وفتحها * (ربنا اطمس على أموالهم) * أي أهلكها كما قال مجاهد، فالطمس بمعنى الإهلاك، وفعله من باب ضرب ودخل، ويشهد له قراءة * (اطمس) * بضم الميم، ويتعدى ولا يتعدى، وجاء بمعنى محو الأثر والتغيير وبهذا فسره أكثر المفسرين قالوا: المعنى ربنا غيرها عن جهة نفعها إلى جهة لا ينتفع بها.
وأنت تعلم أن تغييرها عن جهة نفعها إهلاك لها أيضا فلا ينافي ما أخرجه ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن الضحاك أنه بعد هذا الدعاء صارت دراهمهم ودنانيرهم ونحاسهم وحديدهم حجارة منقوشة. وعن محمد القرظي قال: سألني عمر بن عبد العزيز عن هذه الآية فأخبرته أن الله تعالى طمس على أموال فرعون وآل فرعون حتى صارت حجارة فقال عمر: مكانك حتى آتيك فدعا بكيس مختوم ففكه فإذا فيه البيضة مشقوقة وهي حجارة وكذا الدراهم والدنانير وأشباه ذلك. وفي رواية عنه أنه صار سكرهم حجارة وأن الرجل بينما هو مع أهله إذ صارا حجرين وبينما المرأة قائمة تخبز إذ صارت كذلك، وهذا مما لا يكاد يصح أصلا وليس في الآية ما يشير إليه بوجه، وعندي أن أخبار تغيير أموالهم إلى الحجارة لا تخلو عن وهن فلا يعول عليها، ولعل الأولى أن يراد من طمسها إتلافها منهم على أتم وجه، والمراد بالأموال ما يشمل الزينة من الملابس والمراكب وغيرها * (واشدد على قلوبهم) * أي أجعلها قاسية واطبع عليها حتى لا تنشرح للإيمان كما هو قضية شأنهم * (فلا يؤمنوا) * جواب للدعاء أعني * (اشدد) * دون * (اطمس) * فهو منصوب، ويحتمل أن يكون دعاء بلفظ النهي نحو إلهي لا تعذبني فهو مجزوم، وجوز أن يكون عطفا على * (ليضلوا) * وما بينهما دعاء معترض فهو حينئذ منصوب أو مجزوم حسبما علمت من الخلاف في اللام * (حتى يروا العذاب الأليم) * أي يعاينوه ويوقنوا به بحيث لا ينفعهم ذلك إذ ذاك، والمراد به جنس العذاب الأليم. وأخرج غير واحد عن ابن عباس تفسيره بالغرق.
واستدل بعضهم بالآية على أن الدعاء على شخص بالكفر لا يعد كفرا إذا لم يكن على وجه الاستيجاز والاستحسان للكفر بل كان على وجه التمني لينتقم الله تعالى من ذلك الشخص أشد انتقام، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام خواهر زاده، فقولهم: الرضا بكفر الغير كفر ليس على إطلاقه عنده بل هو مقيد بما إذا
173

كان على وجه الاستحسان، لكن قال صاحب الذخيرة: قد عثرنا على رواية عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أن الرضا بكفر الغير كفر من غير تفصيل، والمنقول عن علم الهدى أبي منصور الماتريدي التفصيل ففي المسألة اختلاف، قيل: والمعول عليه أن الرضا بالكفر من حيث أنه كفر كفر وأن الرضا به لا من هذه الحيثية بل من حيثية كونه سببا للعذاب الأليم أو كونه أثرا من آثار قضاء الله تعالى وقدره مثلا ليس بكفر وبهذا يندفع التنافي بين قولهم: الرضا بالكفر كفر، وقولهم: الرضا بالقضاء واجب بناء على حمل القضاء فيه على المقضي، وعلى هذا لا يتأتى ما قيل: إن رضا العبد بكفر نفسه كفر بلا شبهة على إطلاقه بل يجري فيه التفصيل السابق في الرضا بكفر الغير أيضا، ومن هذا التحقيق يعلم ما في قولهم: إن من جاءه كافر ليسلم فقال له: اصبر حتى أتوضأ أو أخره يكفر لرضاه بكفره في زمان من النظر، ويؤيده ما في الحديث الصحيح في فتح مكة أن ابن أبي سرح أتى به عثمان رضي الله تعالى عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله بايعه فكف صلى الله عليه وسلم يده عن بيعته ونظر إليه ثلاث مرات كل ذلك يأبى أن يبايعه فبايعه بعد الثلاث ثم أقبل صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقال: أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟ قالوا: وما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك ألا أومأت إلينا بعينك فقال عليه الصلاة والسلام: إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة أعين، وقد أخرجه ابن أبي شيبة، وأبو داود. والنسائي. وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص وهو معروف في السير فإنه ظاهر في أن التوقف مطلقا ليس
كما قالوه كفرا فليتأمل.
* (قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعآن سبيل الذين لا يعلمون) *
* (قال قد أجيبت دعوتكما) * هو خطاب لموسى وهارون عليهما السلام، وظاهره أن هارون عليه السلام دعا بمثل ما دعا موسى عليه السلام حقيقة لكن اكتفى بنقل دعاء موسى عليه السلام لكونه الرسول بالاستقلال عن نقل دعائه وأشرك بالبشارة إظهارا لشرفه عليه السلام، ويحتمل أنه لم يدع حقيقة لكن أضيفت الدعوة إليه أيضا بناء على أن دعوة موسى في حكم دعوته لمكان كونه تابعا ووزيرا له، والذي تضافرت به الآثار أنه عليه السلام كان يؤمن لدعاء أخيه والتأمين دعاء، فإن معنى آمين استجب وليس اسما من أسمائه تعالى كما يروونه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قيل: ولكونه دعاء استحب الحنفية الإسرار به، وفيه نظر لأن الظاهر أن مدار استحباب الإسرار والجهر ليس كونه دعاء فإن الشافعية استحبوا الجهر به مع أن المشهور عنهم أنهم قائلون أيضا بكونه دعاء، وظاهر كلام بعض المحققين أن إضافة الرب إلى ضمير المتكلم مع الغير في المواقع الثلاثة تشعر بأنه عليه السلام كان يؤمن لدعاء موسى عليه السلام ولا يخفى ما في ذلك الإشعار من الخفاء. وقرىء * (دعواتكما) * بالجمع ووجهه ظاهر * (فاستقيما) * فامضيا لأمري واثبتا على ما أنتم عليه من الدعوة وإلزام الحجة ولا تستعجلا فإن ما طلبتماه كائن في وقته لا محالة. أخرج ابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: يزعمون أن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة، وأخرج ابن جرير عن ابن جريج مثله، وأخرج الترمذي عن مجاهد أن الدعوة أجيبت بعد أربعين سنة ولم يذكر الزعم * (ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون) * بعادات الله تعالى في تعليق الأمور بالحكم والمصالح أو سبيل الجهلة في عدم الوثوق بوعد الله سبحانه، والنهي لا يقتضي صحة وقوع المنهي عنه فقد كثر نهي الشخص عما يستحيل وقوعه منه، ولعل الغرض منه هنا مجرد تأكيد أمر الوعد وإفادة أن في تأخير إنجازه
174

حكما إلهية. وعن ابن عامر أنه قرأ * (ولا تتبعان) * بالنون الخفيفة المكسورة لالتقاء الساكنين، ووجه ذلك ابن الحاجب بأن * (لا) * نافية والنون علامة الرفع، والجملة إما في موضع الحال من الضمير المرفوع في - استقيما - كأنه قيل: استقيما غير متبعين، والجملة المضارعية المنفية - بلا - الواقعة حالا يجوز اقترانها بالواو وعدمه خلافا لمن زعم وجوب عدم الاقتران بالواو إلا أن يقدر مبتدأ، وإما معطوفة على الجملة الطلبية التي قبلها وهي وإن كانت خبرية لفظا إلا أنها طلبية معنى لأن المراد منها النهي كما في قوله تعالى: * (تؤمنون بالله ورسوله) * (الصف: 11) و * (لا تعبدون إلا الله) * (البقرة: 83) والنهي المخرج بصورة الخبر أبلغ من النهي المخرج بصورته، ويجوز أن تعتبر الجملة مستأنفة للإخبار بأنهما لا يتبعان سبيل الجاهلين، ومن الناس من جعل * (لا) * في قراءة العامة نافية أيضا وهو ضعيف لأن النفي لا يؤكد على الصحيح، وقيل: * (لا) * ناهية والنون نون التوكيد الخفيفة كسرت لالتقاء الساكنين وهو تخريج لين فإن الكسائي وسيبويه لا يجيزانه لأنهما يمنعان وقوع الخفيفة بعد الألف سواء كانت ألف التثنية أو الألف الفاصلة بين نون الإناث ونون التوكيد نحو هل تضربنان يا نسوة، وأيضا النون الخفيفة إذا لقيها ساكن لزم حذفها عند الجمهور ولا يجوز تحريكها، لكن يونس. والفراء أجازا ذلك وفيه عنهما روايتان إبقاؤها ساكنة لأن الألف لخفتها بمنزلة الفتحة وكسرها على أصل التقاء الساكنين وعلى هذا يتم ذاك التخريج.
وقيل: إن هذه النون هي نون التوكيد الثقيلة إلا أنها خففت وهو كما ترى، وعنه أيضا * (ولا تتبعان) * بتخفيف التاء الثانية وسكونها وبالنون المشددة من تبع الثلاثي، وأيضا * (ولا تتبعان) * وهي كالأولى إلا أن النون ساكنة على إحدى الروايتين عمن تقدم في تسكين النون الخفيفة بعد الألف على الأصل واغتفار التقاء الساكنين إذا كان الأول ألفا كما في محياي. ثم اعلم أنه اشتهر في تعليل كسر النون في قراءة العامة بأنه لالتقاء الساكنين وظاهره أنه بذلك زال التقاء الساكنين وليس كذلك إذ الساكنان هما الألف والنون الأولى ولا شيء منهما بمتحرك وإنما المتحرك النون الثانية، ومن هنا قال بعض محققي النحاة: إن أصل التحريك ليتأتى الإدغام وكونه بالكسر تشبيها بنون التثنية، والتقاء الساكنين أعني الألف والنون الأولى غير مضر لما قالوا من جوازه إذا كان الأول حرف مد والثاني مدغما في مثله كما في - دابة - لارتفاع اللسان بهما معا حينئذ وقد حقق ذلك في موضعه فليراجع هذا والله تعالى أعلم.
ومن باب الإشارة في الآيات: * (ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون) * (يونس: 42) أشار سبحانه إلى أنهم يستمعون لكن حكمهم حكم الأصم في عدم الانتفاع وذلك لعدم استعدادهم حقيقة أو حكما بأن كان ولكن حجب نوره رسوخ الهيآت المظلمة؛ وكذا يقال فيما بعد، ثم إنه تعالى رفع ما يتوهم من أن كونهم في تلك الحالة ظلم منه سبحانه لهم بقوله جل شأنه: * (إن الله لا يظلم الناس شيئا) * بسلب حواسهم وعقولهم مثلا * (ولكن الناس أنفسهم يظلمون) * (يونس: 44) حيث طلب استعدادهم الغير المجعول ذلك * (ويوم نحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار) * لذهولهم بتكاثف ظلمات المعاصي على قلوبهم * (يتعارفون بينهم) * بحكم سابقة الصحبة وداعية الهوى اللازمة للجنسية الأصلية، وهذا التعارف قد يبقى إذا اتحذوا في الوجهة واتفقوا في المقصد وقد لا يبقى وذلك إذا اختلفت الأهواء وتباينت الآراء فحينئذ تتفاوت الهيئات المستفادة من لواحق النشأة فيقع التناكر وعوارض العادة * (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين) * (يونس: 45)
175

لما ينتفعون به * (ولكل أمة رسول) * من جنسهم ليتمكنوا من الاستفاضة منه * (فإذا جاء رسولهم قضى بينهم) * بإنجاء من اهتدى به وإثابته وإهلاك من أعرض عنه وتعذيبه لظهور أسباب ذلك بوجوده * (وهم لا يظلمون) * (يونس: 47) فيعاملوا بخلاف ما يستحقون * (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) * (يونس: 48) إنكار للقيامة لاحتجابهم بما هم فيه من الكثافة * (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله) * (يونس: 49) سلب لاستقلاله في التأثير وبيان لأنه لا يملك إلا ما أذن الله تعالى فيه، وهذا نوع من توحيد الأفعال وفيه إرشاد لهم بأنه لا يملك استعجال ما وعدهم به * (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم) * أي تزكية
لنفوسكم بالوعد والوعيد والزجر عن الذنوب المتسببة للعقاب والتحريض على الطاعة الموجبة بفضل الله تعالى للثواب * (وشفاء لما في الصدور) * أي دواء للقلوب من أمراضها التي هي أشد من أمراض الأبدان كالشك والنفاق والحسد والحقد وأمثال ذلك بتعليم الحقائق والحكم الموجبة لليقين والتصفية والتهيء لتجليات الصفات الحقة * (وهدى) * لأرواحكم إلى الشهود الذاتي * (ورحمة) * (يونس: 57) بإفاضة الكمالات اللائقة بكل مقام من المقامات الثلاثة بعد حصول الاستعداد في مقام النفس بالموعظة ومقام القلب بالتصفية ومقام الروح بالهداية للمؤمنين بالتصديق أولا ثم باليقين ثانيا ثم بالعيان ثالثا.
وذكر بعضهم الموعظة للمريدين والشفاء للمحبين والهدى للعارفين والرحمة للمستأنسين والكل مؤمنون إلا أن مراتب الإيمان متفاوتة والخطاب في الآية لهم وفيها إقامة الظاهر مقام المضمر، ويقال: إنه سبحانه بدأ بالموعظة لمريض حبه لأنها معجون لإسهال شهواته فإذا تطهر عن ذلك يسقيه شراب ألطافه فيكون ذلك شفاء له مما به فإذا شفي يغذيه بهدايته إلى نفسه فإذا كمل بصحبته يطهره بمياه رحمته من وسخ المرض ودرن الامتحان * (قل بفضل الله) * بتوفيقه للقبول في المقامتت * (وبرحمته) * بالمواهب الخلقية والعملية والكشفية فيها * (فبذلك فليفرحوا) * لا بالأمور الفانية القليلة المقدار الدنية القدر * (هو خير مما يجمعون) * (يونس: 58) من الخسائس والمحقرات، وفسر بعضهم الفضل بانكشاف صباح الأزل لعيون أرواح المريدين وزيادة وضوحه في لحظة حتى تطلع شموس الصفات. وأقمار الذات فيطيرون في أنوار ذلك بأجنحة الجذبات إلى حيث شاء الله تعالى والرحمة بتتابع مواجيد الغيوب للقلوب بنعت التفريد بلا انقطاع، ومن هنا قال ضرغام أجمة التصوف أبو بكر الشبلي قدس سره: وقتي سرمد وبحري بلا شاطىء؛ وقيل: فضله الوصال ورحمته الوقاية عن الانفصال، وقيل: فضله إلقاء نيران المحبة في قلوب المريدين ورحمته جذبه أرواح المشتاقين، وقيل: فضله سبحانه على العارفين كشف الذات وعلى المحبين كشف الصفات وعلى المريدين كشف أنوار الآيات ورحمته جل شأنه على العارفين العناية وعلى المحبين الكفاية وعلى المريدين الرعاية.
وقال الجنيد: فضل الله تعالى في الابتداء ورحمته في الانتهاء وهو مناسب لما قلنا، وقال الكتاني: فضل الله تعالى النعم الظاهرة ورحمته النعم الباطنة وقيل غير ذلك، * (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم) * أي أخبروني ما أنزل الله سبحانه من رزق معنوي كالمعارف الحقانية وكالآداب الشرعية * (فجعلتم منه حراما) * كالقسم الأول حيث أنكرتموه على أهله ورميتموه بالزندقة * (وحلالا) * كالقسم الثاني حيث قبلتموه * (قل الله أذن لكم) * في الحكم بالتحليل والتحريم * (أم على الله تفترون) * (يونس: 59) في ذلك، ثم أنه سبحانه أوعد المفترين بقوله عز من قائل: * (وما ظن الذين يفترون) * (يونس: 60) الخ، ففي الآية إشارة إلى سوء حال المنكرين على من تحلى بالمعارف الإلهية، ولعل منشأ ذلك زعمهم انحصار العلم
176

فيما عندهم ولم يعلموا أن وراء علومهم علوما لا تحصى يمن الله تعالى بها على من يشاء، وفي قوله تعالى: * (وقل رب زدني علما) * (طه: 114) إشارة إلى ذلك فما أولاهم بأن يقال لهم: * (ما أوتيتم من العلم إلا قليلا) * (الإسراء: 85) ومن العجيب أنهم إذا سمعوا شيئا من أهل الله تعالى مخالفا لما عليه مجتهدوهم ردوه وقالوا: زيغ وضلال واعتمدوا في ذلك على مجرد تلك المخالفة ظنا منهم أن الحق منحصر فيما جاء به أحد أولئك المجتهدين مع أن الاختلاف لم يزل قائما بينهم على ساق.
على أنه قد يقال لهم: ما يدريكم أن هذا القائل الذي سمعتم منه ما سمعتم وأنكرتموه أنه مجتهد أيضا كسائر مجتهديكم؟ فإن قالوا: إن للمجتهد شروطا معلومة وهي غير موجودة فيه قلنا: هذه الشروط التي وضعت للمجتهد في دين الله تعالى هل هي منقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صريحا أو صنعتموها أنتم من تلقاء أنفسكم أو صنعها المجتهد؟ فإن كانت منقولة عن الرسول عليه الصلاة والسلام فأتوا بها واتلوها وصححوا نقلها إن كنتم صادقين وهيهات ذاك، وإن كان الواضع لها أنتم - وأنتم أجهل من ابن يوم - فهي رد عليكم ولا حبا ولا كرامة على أن في اعتبارها أخذا بكلام من ليس مجتهدا وأنتم لا تجوزونه، وإن كان الواضع لها المجتهد فإثبات كونه مجتهدا متوقف على اعتبار تلك الشروط واعتبار تلك الشروط متوقف على إثبات كونه مجتهدا وهل هذا إلا دور وهو محال لو تعقلونه، وأيضا لم لا يجوز أن تكون تلك الشروط شروطا للمجتهد النقلي وهناك مجتهد آخر شرطه تصفية النفس وتزكيتها وتخلقها بالخلق الرباني وتهيؤها واستعدادها لقبول العلم من الله تعالى؟ وأي مانع من أن يخلق الله تعالى العلم فيمن صفت نفسه وتهيأت بالفقر واللجأ إلى الله تعالى وصدق عزمه في الأخذ ولم يتكل على حوله وقوته كما يخلقه فيمن استوفى شروط الاجتهاد عندكم فاجتهد وصرف فكره ونظره؟ والقول بأنه سبحانه إنما يخلق العلم في هذا دون ذاك حجر على الله تعالى وخروج عن الإنصاف كما لا يخفى، فلا ينبغي للمصنف العارف بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء من عباده إلا أن يسلم لمن ظهرت فيه آثار التصفية والتهىء وسطعت عليه أنوار التخلق بالخلق الرباني ما أتى به ولو لم يأت به مجتهد ما لم يخالف ما علم مجيئه من الدين بالضرورة، ويأبى الله تعالى أن يأتي ذلك بمثل ما ذكر.
لكن ذكر مولانا الإمام الرباني ومجدد الألف الثاني قدس سره في بعض مكتوباته الفارسية أنه لا يجوز تقليد أهل الكشف في كشفهم لأن الكشف لا يكون حجة على الغير وملزما له، وقد يقال: ليس في هذا أكثر من منع تقليد أهل الكشف، ومحل النزاع الإنكار عليهم ورميهم والعياذ بالله تعالى بالزندقة وليس في الكلام أدنى رائحة منه كما لا يخفى * (إن الله لذو فضل على الناس) * (البقرة: 243) بصنفي العلمين وإفاضتهما بعد تهيئة الاستعداد لقبولهما * (ولكن أكثرهم لا يشكرون) * (يونس: 60) ذلك ولا يعرفون قدره فيمنعون عن الزيادة * (وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه) * (يونس: 61) إخبار منه تعالى بعظيم اطلاعه سبحانه على الخواطر وما يجري في الضمائر فلا يخفى عليه جل شأنه خاطر ولا ضمير * (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) * (الملك: 14) ثم أخبر جل وعلا عن سلطان إحاطته على كل ذرة من العرش إلى ما تحت الثرى بقوله تبارك اسمه: * (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء) * (يونس: 61) أي إن علمه سبحانه محيط بما في العالم السفلي والعلوي فكل ذرة من ذراته داخلة في حيطة علمه كيف لا وكلها قائمة به جل شأنه
ينظر إلى كل في كل آن
177

نظر الحفظ والرعاية ولولا ذلك لهلكت الذرات واضمحلت سائر الموجودات * (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم) * إذ لم يبق منهم بقية يخاف بسببها من حرمان * (ولا هم يحزنون) * (يونس: 62) لامتناع فوات شيء من الكمالات واللذات منهم * (الذين آمنوا) * الإيمان الحقيقي * (وكانوا يتقون) * (يونس: 63) بقاياهم وظهور تلوناتهم * (لهم البشرى في الحياة الدنيا) * بوجود الاستقامة والأخلاق المبشرة بجنة النفوس * (وفي الآخرة) * (يونس: 64) بظهور أنوار الصفات والحقائق عليهم المبشرة بجنة القلوب؛ والظاهر أن الموصول بيان للأولياء، فالولي هو المؤمن المتقي على الكمال ولهم في تعريفه عبارات شتى تقدم بعضها.
وفي الفتوحات: هو الذي تولاه الله تعالى بنصرته في مقام مجاهدته الأعداء الأربعة الهوى والنفس والشيطان والدنيا، وفيها تقسيم الأولياء إلى عدة أقسام منها الأقطاب والأوتاد والإبدال والنقباء والنخباء وقد ورد ذلك مرفوعا وموقوفا من حديث عمر بن الخطاب. وعلي بن أبي طالب. وأنس. وحذيفة بن اليمان. وعبادة بن الصامت. وابن عباس. وعبد الله بن عمر. وابن مسعود. وعوف بن مالك. ومعاذ بن جبل. وواثلة بن الأسقع. وأبي سعيد الخدري. وأبي هريرة. وأبي الدرداء. وأم سلمة، ومن مرسل الحسن. وعطاء. وبكر بن خنيس، ومن الآثار عن التابعين ومن بعدهم ما لا يحصى. وقد ذكر ذلك الجلال السيوطي في رسالة مستقلة له وشيد أركانه، وأنكره - كما قدمنا - بعضهم والحق مع المثبتين، وأنا والحمد لله تعالى منهم وإن كنت لم أشيد قبل أركان ذلك، والأئمة والحواريون والرجبيون والختم والملامية والفقراء وسقيط الرفرف ابن ساقط العرش والأمناء والمحدثون إلى غير ذلك، وعد الشيخ الأكبر قدس سره منهم الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والبيان الذي في الآية صادق عليهم عليهم السلام على أتم وجه، ونسب إليه رضي الله تعالى عنه القول بتفضيل الولي على النبي والرسول وخاض فيه كثير من المنكرين حتى كفروه وحاشاه بسبب ذلك، وقد صرح في غير موضع من فتوحاته وكذا من سائر تأليفاته بما ينافي هذا القول حسبما فهمه المنكرون، وقد ذكر في كتاب القربة أنه ينبغي لمن سمع لفظة من عارف متحقق مبهمة كأن يقول الولاية هي النبوة الكبرى أو الولي العارف مرتبته فوق مرتبة الرسول أن يتحقق المراد منها ولا يبادر بالطعن، ثم ذكر في بيان ما ذكر ما نصه: اعلم أنه لا اعتبار للشخص من حيث ما هو إنسان فلا فضل ولا شرف في الجنس بالحكم الذاتي وإنما يقع التفاضل بالمراتب، فالأنبياء صلوات الله تعالى عليهم ما فضلوا الخلق إلا بها، فالنبي صلى الله عليه وسلم له مرتبة الولاية والمعرفة والرسالة ومرتبة الولاية والمعرفة دائمة الوجود ومرتبة الرسالة منقطعة فإنها تنقطع بالتبليغ والفضل للدائم الباقي، والولي العارف مقيم عنده سبحانه والرسول خارج وحالة الإقامة أعلى من حالة الخروج، فهو صلى الله عليه وسلم من حيثية كونه وليا وعارفا أعلى وأشرف من حيثية كونه رسولا وهو صلى الله عليه وسلم الشخص بعينه واختلفت مراتبه لا أن الولي منا أرفع من الرسول نعوذ بالله تعالى من الخذلان، فعلى هذا الحد يقول تلك الكلمة أصحاب الكشف والوجود إذ لا اعتبار عندنا إلا للمقامات ولا نتكلم إلا فيها لا في الأشخاص، فإن الكلام في الأشخاص قد يكون بعض الأوقات غيبة، والكلام على المقامات والأحوال من صفات الرجال، ولنا في كل حظ شرب معلوم ورزق مقسوم انتهى، وهو صريح في أنه قدس سره لا يقول هو ولا غيره من الطائفة بأن الولي أفضل من النبي حسبما ينسب إليه، وقد نقل الشعراني عنه أنه قال: فتح لي قدر خرم إبرة من مقام النبوة تجليا لا دخولا فكدت أحترق، فينبغي تأويل جميع ما يوهم القول بذلك كإخباره في كتابه التجليات وغيره باجتماعه ببعض الأنبياء عليهم السلام وإفادته لهم من العلم ما ليس
178

عندهم. وكقول الشيخ عبد القادر الجيلي قدس سره وقد تقدم: يا معاشر الأنبياء أوتيتم الألقاب وأوتينا ما لم تؤتوه إلى غير ذلك، فإن اعتقاد أفضلية ولي من الأولياء على نبي من الأنبياء كفر عظيم وضلال بعيد، ولو ساغ تفضيل ولي على نبي لفضل الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه على أحد من الأنبياء لأنه أرفع الأولياء قدرا كما ذهب إليه أهل السنة ونص عليه الشيخ قدس سره في كتاب القربة أيضا مع أنه لم يفضل كذلك بل فضل على من عداهم كما نطق به " ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين أفضل من أبي بكر الصديق " فمتى لم يفضل الصديق وهو الذي وقر في صدره ما وقر ونال من الكمال ما لا يحصر فكيف يفضل غيره؟.
وفضل كثير من الشيعة عليا كرم الله تعالى وجهه وكذا أولاده الأئمة الطاهرين رضي الله تعالى عنهم أجمعين على كثير من الأنبياء والمرسلين من أولي العزم وغيرهم ولا مستند لهم في ذلك إلا أخبار كاذبة وأفكار غير صائبة. وبالجملة متى رأينا الشخص مؤمنا متقيا حكمنا عليه بالولاية نظرا لظاهر الحال ووجب علينا معاملته بما هو أهله من التوقير والاحترام غير غالين فيه بتفضيله على رسول أو نبي أو نحو ذلك مما عليه العوام اليوم في معاملة من يعتقدونه وليا التي هي أشبه شيء بمعاملة المشركين من يعتقدونه إلها نسأل الله تعالى العفو والعافية، ولا يشترط فيه صدور كرامة على يده كما يشترط في الرسول صدور معجزة، ويكفيه الاستقامة كرامة كما يدل عليه ما اشتهر عن أبي يزيد قدس سره، بل الولي الكامل لا التفات له إليها ولا يود صدورها على يده إلا إذا تضمنت مصلحة للمسلمين خاصة أو عامة. وفي " الجواهر " و " الدر " للشعراني سمعت شيخنا يقول: إذا زل الولي ولم يرجع لوقته عوقب بالحجاب، وهو أن يحبب إليه إظهار خرق العوائد المسماة في لسان العامة كرامات فيظهر بها ويقول: لو كنت مؤاخذا بهذه الذلة لقبض عني التصريف وغاب عنه أن ذلك استدراج بل ولو سلم من الزلة فالواجب خوفه من المكر والاستدراج، وقال بعضهم: الكرامة حيض الرجال ومن اغتر بالكرامات بالكرى مات. وأضر الكرامات للولي ما أوجب الشهرة فإن الشهرة آفة، وقد نقل عن الخواص أنها تنقص مرتبة الكمال، وأيد ذلك بالأثر المشهور خص بالبلاء من عرفه الناس. نعم ذكر في أسرار القرآن أن الولاية لا تتم إلا بأربع مقامات. الأول: مقام المحبة. والثاني: مقام الشوق. والثالث: مقام العشق. والرابع: مقام المعرفة، ولا تكون المحبة إلا بكشف الجمال ولا يكون الشوق إلا باستنشاق نسيم الوصال ولا يكون العشق إلا بدنو الأنوار ولا تكون المعرفة إلا بالصحبة، وتتحقق الصحبة بكشف الألوهية مع ظهور أنوار الصفات، ولحصول ذلك آثار وعلامات مذكورة فيه فليراجعه من أرادها؛ والكلام في هذا المقام كثير وكتب القوم ملأى منه وما ذكرناه كفاية لغرضنا. وأحسن ما يعتمد عليه في معرفة الولي اتباع الشريعة الغراء وسلوك المحجة البيضاء فمن خرج عنها قيد شبر بعد عن الولاية بمراحل فلا ينبغي أن يطلق عليه اسم الولي ولو أتى بألف ألف خارق، فالولي الشرعي اليوم أعز من الكبريت الأحمر ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أما الخيام فإنها كخيامهم * وأرى نساء الحي غير نسائها
* (لا تبديل لكلمات الله) * (يونس: 64) أي لما سبق لهم في الأزل من حسن العناية، أولا تبديل لحقائقه سبحانه الواردة عليهم وأسمائه تعالى المنكشفة لهم وأحكام تجلياته جل وعلا النازلة بهم، أو لا تبديل لفطرهم التي فطرهم عليها، ويقال لكل محدث - كلمة - لأنه أثر الكلمة * (ولا يحزنك قولهم) * أي لا تتأثر به * (إن العزة لله جميعا) * لا يملك أحد سواه منها شيئا فسيكفيكهم الله تعالى ويقهرهم و * (هو السميع) * لأقوالهم * (العليم) * (يونس: 65) بما ينبغي أن يفعل بهم.
179

* (ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض) * أي إن كل من في ذلك تحت ملكه سبحانه وتصرفه وقهره لا يقدرون على شيء من غير إذنه فهو كالتأكيد لما أفادته الآية السابقة أو أن من فيها الملائكة والثقلين الذين هم أشرف الممكنات عبيد له سبحانه لا يصلح أحد منهم للربوبية فما لا يعقل أحقل بأن لا يصلح لذلك فهو كالدليل على قوله سبحانه: * (وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون) * (يونس: 66) إلا ما يتوهمونه ويتخيلونه شريكا ولا شركة له في الحقيقة * (هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه) * إشارة إلى سكون العشاق والمشتاقين في الليل إذا مد أطنابه ونشر جلبابه وميلهم إلى مناجاة محبوبهم وانجذابهم إلى مشاهدة مطلوبهم وتلذذهم بما يرد عليهم من الواردات الإلهية واستغراقهم بأنواع التجليات الربانية، ومن هنا قال بعضهم: لولا الليل لما أحببت البقاء في الدنيا، وهذه حالة عشاق الحضرة وهم العشاق الحقيقيون نفعنا الله تعالى بهم، وأنشد بعض المجازيين: أقضي نهاري بالحديث وبالمنى * ويجمعني بالليل والهم جامع
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا * لي الليل هزتني إليك المضاجع
* (والنهار مبصرا) * أي ألبسه سربال أنوار القدرة لتقضوا فيها حاجاتكم الضرورية، وقيل: الإشارة بذلك إلى ليل الجسم ونهار الروح أي جعل لكم ليل الجسم لتسكنوا فيه ونهار الروح لتبصروا به حقائق الأشياء وما تهتدون به * (إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون) * (يونس: 67) كلام الله تعالى فيقيمون بواطنه وحدوده ويطلعون به على صفاته وأسمائه سبحانه * (وقالوا اتخذ الله ولدا) * أي معلولا يجانسه * (سبحانه) * أي أنزهه جل وعلا من ذلك * (هو الغني) * الذي وجوده بذاته وبه وجود كل شيء وذلك ينافي الغني وأكد غناه جل شأنه بقوله تعالى: * (له ما في السموات) * (يونس: 68) الخ، وقوله سبحانه: * (واتل عليهم نبأ نوح) * (يونس: 71) الخ أمر له صلى الله عليه وسلم أن يتلو عليهم نبأ نوح عليه السلام في صحة توكله على الله تعالى ونظره إلى قومه وشركائهم بعين الغنى وعدم المبالاة بهم وبمكايدهم ليعتبروا به حاله عليه الصلاة والسلام فإن الأنبياء عليهم السلام في ملة التوحيد والقيام بالله تعالى وعدم الالتفات إلى الخلق سواء، أو أمر له صلى الله عليه وسلم بأن يتلو نبأ نوح مع قومه ليتعظ قومه وينزجروا عما هم عليه مما يفضي إلى إهلاكهم * (وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله) * أي إيمانا حقيقيا * (فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين) * (يونس: 84) أي منقادين، أي إن صح إيمانكم يقينا فعليه توكلوا بشرط أن لا يكون لكم فعل ولا تروا لأنفسكم ولا لغيركم قوة ولا تأثيرا بل تكونوا منقادين كالميت بين يدي مغسله، فإن شرط صحة التوكل فناء بقايا الأفعال والقوى * (قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما) * (يونس: 89) أي على ما أنتما عليه من الدعوة شكرا لتلك الإجابة، وقيل: أي استقيما على معرفتكما مقام السؤال وهو مقام الرضوان والبسط ليستجاب لكما بعد إذا دعوتما فإن من لم يعرف مقام السؤال قد يوقعه في غير مقامه فيسىء الأدب فلا يستجاب له، وقيل: إن هذا عتاب لهما عليهما السلام أي قد أجيب دعوتكما لضعفكما عن تحمل وارد امتحاني فاستقيما بعد ذلك على تحمل بلائي والصبر فيه فإنه اللائق بشأنكما، وقد قيل: المعرفة تقتضي الرضا بالقضاء والسكون في البلاء، وقيل: أي استقيما في دعائكما والاستقامة في الدعاء على ما قال ذو النون المصري أن لا يغضب الداعي لتأخير الإجابة ولا يسأل سؤال خصوص نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى.
* (وجاوزنا ببنىإسراءيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذآ أدركه الغرق قال ءامنت أنه لاإل‍اه إلا الذى ءامنت به بنوا إسراءيل وأنا من المسلمين) *
* (وجاوزنا ببني إسرئيل البحر) * من جاوز المكان إذا قطعه وتخطاه، وهو متعد إلى المفعول الأول الذي كان فاعلا في الأصل بالباء وإلى الثاني بنفسه، والمعنى
180

جعلناهم مجاوزين البحر بأن جعلناه يبسا وحفظناهم حتى بلغوا الشط. وقرأ الحسن * (وجوزنا) * بالتضعيف، وفعل بمعنى فاعل فهو من التجويز المرادف للمجاوزة بالمعنى السابق وليس بمعنى نفذ لأنه لا يحتاج إلى التعدية بالباء ويتعدى إلى المفعول الثاني بفي كما في قوله:
ولا بد من جار يجيز سبيلها * كما جوز السكي في الباب فيتق
فكان الواجب هنا من حيث اللغة أن يقال: وجوزنا بني إسرائيل البحر أي نفذناهم وأدخلناهم فيه؛ وفي الآية إشارة إلى انفصالهم عن البحر وإلى مقارنة العناية الإلهية لهم عند الجواز كما هو المشهور في الفرق بين أذهبه وذهب به * (فأتبعهم) * قال الراغب: يقال تبعه وأتبعه إذا قفا أثره إما بالجسم أو بالارتسام والائتمار وظاهره أن الفعلين بمعنى.
وقال بعض المحققين: يقال تبعته حتى أتبعته إذا كان سبقك فلحقته، فالمعنى هنا أدركهم ولحقهم * (فرعون وجنوده) * حتى تراءت الفئتان وكاد يجتمع الجمعان * (بغيا وعدوا) * أي ظلما واعتداء، وهما مصدران منصوبان على الحال بتأويل اسم الفاعل أي باغين وعادين أو على المفعولية لأجله أي للبغي والعدوان.
وقرأ الحسن * (وعدوا) * بضم العين والدال وتشديد الواو، وذلك أن الله سبحانه وتعالى لما أخبر موسى وهارون عليهما السلام بإجابة دعوتهما أمر موسى عليه السلام بإخراج بني إسرائيل من مصر ليلا وكانوا كما ذكره غير واحد ستمائة ألف فخرج بهم على حين غفلة من فرعون وملئه فلما أحس بذلك خرج هو وجنوده على أثرهم مسرعين فالتفت القوم فإذا الطامة الكبرى وراءهم فقالوا: يا موسى هذا فرعون وجنوده وراءنا وهذا البحر أمامنا فكيف الخلاص فأوحى الله تعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق اثني عشر فرقا كل فرق كالطود العظيم وصار لكل سبط طريق فسلكوا ووصل فرعون ومن معه إلى الساحل وهم قد خرجوا من البحر ومسلكهم باق على حاله فسلكه بمن معه أجمعين فلما دخل آخرهم وهم أولهم بالخروج غشيهم من اليم ما غشيهم * (حتى إذا أدركه الغرق) * أي لحقه، والمراد بلحوقه
إياه وقوعه فيه وتلبسه بأوائله، وقيل: معنى أدركه قارب إدراكه كجاء الشتاء فتأهب لأن حقيقة اللحوق تمنعه من القول الذي قصه سبحانه بقوله جل شأنه: * (قال ءامنت) * الخ، ومن الناس من أبقى الإدراك على ظاهره وحمل القول على النفسي وزعم أن الآية دليل على ثبوت الكلام النفسي، ونظر فيه بأن قيام الاحتمال يبطل صحة الاستدلال، وأيا ما كان فليس المراد الإخبار بإيمان سابق كما قيل بل إنشاء إيمان * (أنه لا إلاه إلا الذي ءامنت به بنو إسرائيل) * أي بأنه، وقدر الجار لأن الإيمان وكذا الكفر متعد بالباء ومحل مدخوله بعد حذفه الجر أو النصب فيه خلاف شهير وجعله متعديا بنفسه فلا تقدير لأنه في أصل وضعه كذلك مخالفة للاستعمال المشهور فيه. وقرأ حمزة والكسائي * (إنه) * بالكسر على إضمار القول أي وقال إنه أو على الاستئناف لبيان إيمانه أو الإبدال من جملة آمنت؛ والجملة الاسمية يجوز إبدالها من الفعلية، والاستئناف على البدلية باعتبار المحكي لا الحكاية لأن الكلام في الأول، والجملة الأولى في كلامه مستأنفة والمبدل من المستأنف مستأنف والضمير للشأن، وعبر عنه تعالى بالموصول وجعل صلته إيمان بني إسرائيل به تعالى ولم يقل كما قال السحرة: * (آمنا برب العالمين * رب موسى
181

وهارون) * (الأعراف: 121، 122) للإشعار برجوعه عن الاستعصاء واتباعه لمن كان يستتبعهم طمعا في القبول والانتظام معهم في سلك النجاة * (وأنا من المسلمين) * أي الذين أسلموا نفوسهم لله تعالى أي جعلوها خالصة سالمة له سبحانه، وأراد بهم أما بني إسرائيل خاصة وإما الجنس وهم إذ ذاك داخلون دخولا أوليا، والظاهر أن الجملة على التقديرين معطوفة على جملة * (آمنت) * وإيثار الاسمية لادعاء الدوام والاستمرار.
وقيل: إنها على الأول معطوفة وعلى الثاني تحتمل الحالية أيضا من ضمير المتكلم أي آمنت مخلصا لله تعالى منتظما في سلك الراسخين في ذلك، ولقد كرر المعنى الواحد بثلاث عبارات وبالغ ما بالغ حرصا على القبول المقتضي للنجاة وليت بعض ذلك قد كان حين ينفعه الإيمان وذلك قبل اليأس، فإن إيمان اليأس غير مقبول كما عليه الأئمة الفحول.
* (ءالان وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) *
* (ءالآن) * الاستفهام للإنكار والتوبيخ، والظرف متعلق بمحذوف يقدر مؤخرا أي الآن تؤمن حين يئست من الحياة وأيقنت بالممات، وقدر مؤخرا ليتوجه الإنكار والتوبيخ إلى تأخير الإيمان إلى حد يمتنع قبوله فيه، والكلام على تقدير القول أي فقيل له ذلك وهو معطوف على * (قال) *، وهذا إلى * (آية) * حكاية لما جرى منه سبحانه من الغضب على المحذوف ومقابلة ما أظهره بالرد الشنيع وتقريعه بالعصيان والإفساد إلى غير ذلك، وفي حذف الفعل المذكور وإبراز الخبر المحكي في صورة الإنشاء من الدلالة على عظم السخط وشدة الغضب ما لا يخفى. والقائل له ذلك قيل: هو الله تعالى، وقيل: هو جبريل عليه السلام، وقيل: إنه ميكائيل عليه السلام. فقد أخرج أبو الشيخ عن أبي أمامة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي جبريل عليه السلام: " ما أبغضت شيئا من خلق الله تعالى ما أبغضت إبليس يوم أمر بالسجود فأبى أن يسجد وما أبغضت شيئا أشد بغضا من فرعون فلما كان يوم الغرق خفت أن يعتصم بكلمة الإخلاص فينجو فأخذت قبضة من حمأة فضربت بها في فيه فوجدت الله تعالى عليه أشد غضبا مني فأمر ميكائيل فأتاه فقال آلآن " الخ وما تضمنه هذا الخبر من فعل جبريل عليه السلام جاء في غير ما خبر. ومن ذلك ما أخرجه الطيالسي. وابن حبان. وابن جرير. وابن المنذر. وابن مردويه. والبيهقي في الشعب. والترمذي. والحاكم وصححاه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي جبريل: لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في في فرعون مخافة أن تدركه الرحمة. واستشكل هذا التعليل.
وفي " الكشاف " أن ذلك من زيادات الباهتين لله تعالى وملائكته عليهم السلام: وفيه جهالتان: إحداهما: أن الإيمان يصح بالقلب كإيمان الأخرس فحال البحر لا يمنعه. والأخرى: أن من كره إيمان الكافر وأحب بقاءه على الكفر فهو كافر لأن الرضا بالكفر كفر، وارتضاه ابن المنير قائلا: لقد أنكر منكرا وغضب لله تعالى وملائكته عليهم السلام كما يجب لهم، والجمهور على خلافه لصحة الحديث عند الأئمة الثقات كالترمذي المقدم على المحدثين بعد مسلم. وغيره. وقد خاضوا في بيان المراد منه بحيث لا يبقى فيه إشكال.
ففي إرشاد العقل السليم أن المراد بالرحمة الرحمة الدنيوية أي النجاة التي هي طلبة المخذوف وليس من ضرورة إدراكها صحة الإيمان كما في إيمان قوم يونس عليه السلام حتى يلزم من كراهته ما لا يتصور في شأن جبريل عليه السلام من الرضا بالكفر إذ لا استحالة في ترتب هذه الرحمة على مجرد التفوه بكلمة الإيمان وإن كان ذلك في حالة البأس واليأس فيحمل دسه عليه السلام على سد باب الاحتمال البعيد لكمال الغيظ وشدة الحرد انتهى.
182

ولا يخفى أن حمل الرحمة على الرحمة الدنيوية بعيد ويكاد يأبى عنه ما أخرجه ابن جرير. والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي جبريل عليه السلام: لو رأيتني يا محمد وأنا أغط فرعون بإحدى يدي وأدس من الحال في فيه مخافة أن تدركه رحمة الله تعالى فيغفر له " فإنه رتب فيه المغفرة على إدراك الرحمة وهو ظاهر في أنه ليس المراد بها الرحمة الدنيوية لأن المغفرة لا تترتب عليها وإنما يترتب عليها النجاة.
وقال بعض المحققين: إنما فعل جبريل عليه السلام ما فعل غضبا عليه لما صدر منه وخوفا أنه إذا كرر ذلك ربما قبل منه على سبيل خرق العادة لسعة بحر الرحمة الذي يستغرق كل شيء، وأما الرضا بالكفر فالحق أنه ليس بكفر مطلقا بل إذا استحسن وإنما الكفر رضاه بكفر نفسه كما في التأويلات لعلم الهدى انتهى، وقد تقدم آنفا ما يتعلق بهذه المسألة فتذكره فما في العهد من قدم، نعم قيل: إن الرضا بكفر نفسه إنما يكون وهو كافر فلا معنى لعده كفرا والكفر حاصل قبله، وهو على ما له وما عليه بحث آخر لا يضر فيما نحن فيه.
والطيبي بعد أن أجاب بما أجاب أردف ذلك بقوله: على أنه ليس للعقل مجال في مثل هذا النقل الصحيح إلا التسليم ونسبة القصور إلى النفس، وقد يقال: إن الخبر متى
خالف صريح العقل أو تضمن نسبة ما لا يتصور شرعا في حق شخص إليه ولم يمكن تأويله على وجه يوافق حكم العقل ويندفع به نسبة النقص لا يكون صحيحا، واتهام الراوي بما يوهن أمر روايته أهون من اتهام العقل الصريح ونسبة النقص إليه دون نسبة النقص إلى من شهد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بعصمته وكماله فتأمل والله تعالى الموفق، وقوله سبحانه: * (وقد عصيت قبل) * في موضع الحال من فاعل الفعل. العامل في الظرف جىء به لتشديد التوبيخ والتقريع على تأخير الإيمان إلى هذا الآن ببيان أنه لم يكن تأخيره لما عسى يعد عذرا بل كان ذلك على طريقة الرد والاستعصاء والإفساد فإن قوله تعالى: * (وكنت من المفسدين) * عطف على * (عصيت) * داخل في حيز الحال والتحقيق أي وقد كنت من المفسدين الغالين في الضلال والإضلال عن الإيمان فهذا عبارة عن فساده الراجع إلى نفسه والساري إلى غيره من الظلم والتعدي وصد بني إسرائيل عن السبيل والأول عن عصيانه الخاص به [بم وقوله جل شأنه:
* (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك ءاية وإن كثيرا من الناس عن ءاي‍اتنا لغ‍افلون) *
* (فاليوم ننجيك ببدنك) * تهكم به وتخييب له وحسم لأطماعه بالمرة، والمراد فاليوم نخرجك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ونجعلك طافيا ملابسا ببدنك عاريا عن الروح إلا أنه عبر عن ذلك بالتنجية مجازا، وجعل الجار والمجرور في موضع الحال من ضمير المخاطب لذلك مع ما فيه من التلويح بأن مراده بالإيمان هو النجاة، وقيل: معنى الحال عاريا عن اللباس أو تام الأعضاء كاملها.
وجعل بعض الأفاضل الكلام على التجريد، وجوز أن يكون الباء زائدة - وبدنك - بدل بعض من ضمير المخاطب كأنه قيل: ننجي بدنك، وجعل الباء للآلة ليكون على وزان قولك - أخذته بيدك - ونظرته بعينك - إيذانا بحصول هذا المطلوب البعيد التناول وجه لكنه غير وجيه كما لا يخفى، وقيل: التنجية الإلقاء على النجوة وهي المكان المرتفع، قيل: وسمي به لنجاته عن السيل، وإلى هذا ذهب يونس بن حبيب النحوي، فقد أخرج ابن الأنباري. وأبو الشيخ عنه أنه قال: المعنى نجعلك على نجوة من الأرض كي يراك بنو إسرائيل فيعرفوا أنك قدمت، وجاء تفسير البدن بالدرع، وروي ذلك عن محمد بن كعب. وأبي، وكانت له درع من
183

ذهب يعرف بها، وفي رواية أنها كانت من لؤلؤ.
وأخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن أبي جهضم موسى بن سالم أنه كان لفرعون شيء يلبسه يقال له البدن يتلألأ، وقرأ يعقوب * (ننجيك) * من باب الأفعال وهو بمعنى التفعيل بمعنييه السابقين، وأخرج ابن الأنباري عن محمد بن السميقع اليماني. ويزيد البربري أنهما قرآ * (ننحيك) * بالحاء المهملة ونسبت إلى أبي بن كعب. وأبي السمال أي نجعلك في ناحية ونلقيك على الساحل. وقرأ أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه * (بأبدانك) * على صيغة الجمع بجعل كل عضو بمنزلة البدن فأطلق الكل على الجزء مجازا وعلى هذا جمع الإجرام في قوله: وكم موطن لولاي طحت كما هوى * بإجرامه من قلة النيق منهوي
أو بإرادة دروعك بناء على أن المخذول كان لابسا درعا على درع. وأخرج ابن الأنباري عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قرأ * (بندائك) * أي بدعائك * (لتكون لمن خلفك ءاية) * أي لتكون لمن يأتي بعدك من الأمم إذا سمعوا حال أمرك ممن شاهد حالك وما عراك عبرة ونكالا من الطغيان أو حجة تدلهم على أن الإنسان وإن بلغ الغاية القصوى من عظم الشأن وعلو الكبرياء وقوة السلطان فهو مملوك مقهور بعيد عن مظان الألوهية والربوبية، وقيل: المراد بمن خلفه من بقي بعده من بني إسرائيل فهو مملوك مقهور بعيد عن مظان الألوهية والربوبية، وقيل: المراد بمن خلفه من بقي بعده من بني إسرائيل أي لتكون لهم علامة على صدق موسى عليه السلام إذ كان في نفوسهم من عظمته ما خيل إليهم أنه لا يهلك فكذبوا لذلك خبر موسى عليه السلام بهلاكه حتى عاينوه على ممرهم من الساحل أحمر قصيرا كأنه ثور وروي هذا عن مجاهد. وقرىء * (لمن خلفك) * فعلا ماضيا أي حل مكانك، ونسب إلى ابن السميقع. وأبي السمال أنهما أيضا قرآ * (لمن خلقك) * بفتح اللام والقاف أي لتكون لخالقك آية كسائر الآيات فإن إفراده سبحانه إياك بالإلقاء إلى الساحل دليل على أنه قصد منه جل شأنه لكشف تزويرك وإماطة الشبهات في أمرك وبرهان نير على كمال علمه وقدرته وحكمته وإرادته وهو معنى لا بأس به يصح أن توجه به الآية على القراءة المشهورة أيضا. ذكر في النشر أن مما لا يوثق بنقله قراءة ابن السميقع. وأبي السمال * (ننحيك) * بالحاء و * (لمن خلقك) * بالقاف، وفي تعليل تنجيته بما ذكر كما قاله بعض المحققين إيذان بأنها ليست لا عزازه أو لفائدة أخرى عائدة إليه بل لكمال الاستهانة به وتفضيحه على رؤوس الأشهاد وزيادة تفظيع حاله كمن يقتل ثم يجر جسده في الأسواق ويطرح جيفة في الميدان أو يدار برأسه في النواحي والبلدان، واللام الأولى متعلقة بالفعل قبلها والثانية بمحذوف وقع حالا من * (آية) * أي كائنة لمن خلفك، وجاد الرد على هذا المحذوف على طرز ما أتى به في قوله: * (آمنت أنه) * الخ في اشتماله على المبالغة كما لا يخفى على من تفكر في الآية، وقد قرر فحوى المحكي بقوله سبحانه: * (وإن كثيرا من الناس عن ءاياتنا لغ‍افلون) * أي لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها، وهو اعتراض تذييلي جىء به عند الحكاية لذلك، ولهذه الآية وأشباهها وقع الإجماع على كفر المخذول وعدم قبول إيمانه، ويشهد لذلك أيضا ما رواه ابن عدي. والطبراني من أنه صلى الله عليه وسلم قال: " خلق الله تعالى يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا وخلق فرعون في بطن أمه كافرا " فهو من أهل النار المخلدين فيها بلا ريب وبذلك قال الشيخ الأكبر قدس سره في أول كتابه الفتوحات في الباب الثاني والستين منه حيث ذكر أن الذين خلذهم الله تعالى من العباد جعلهم طائفتين، طائفة لا تضرهم الذنوب التي وقعت منهم واليهم الإشارة بقوله تعالى: * (والله يعدكم مغفرة منه وفضلا) * (البقرة: 268) وهؤلاء لا تمسهم النار بما
184

تاب الله تعالى عليه واستغفار الملأ الأعلى ودعائهم لهم.
وقسم الطائفة الأخرى إلى قسمين قسم أخرجهم من النار بالشفاعة وهم طائفة من المؤمنين وأهل التوحيد ماتوا ولم تكفر عنهم خطاياهم، وقسم آخر أبقاهم في النار وهم المجرمون خاصة الذين يقال لهم يوم القيامة: * (وامتازوا اليوم أيها المجرمون) * (يس: 59) ولهم يقال: أهل النار لأنهم الذين يعمرونها، وهم على أربع طواثف
كلهم في النار لا يخرجون منها. الطائفة الأولى المتكبرون على الله تعالى كفرعون وأشباهه ممن ادعى الربوبية لنفسه ونفاها عن الله تعالى فقال: * (ما علمت لكم من اله غيري) * (القصص: 38) وقال: * (أنا ربكم الأعلى) * (النازعات: 24) يريد به ما في السماء غيري وكذلك نمروذ وغيره.
والثانية المشركون وهم الذين أثبتوا الله تعالى إلا أنهم جعلوا معه آلهة أخرى وقالوا: * (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) * (الزمر: 3) والثالثة المعطلة وهم الذين نفوا إلا له جملة واحدة فلم يثبتوا للعالم الها أصلا. والرابعة المنافقون وهم الذين أظهروا الإيمان للقهر الذي حكم عليهم وهم في نفوسهم على ما هم عليه من اعتقاد إحدى هذه الطوائف الثلاث فهؤلاء الأصناف الأربعة هم أهل النار الذين لا يخرجون منها من الجن والانس انتهى. وهو صريح فيما قلنا إلا أنه ذهب في موضع آخر من الكتاب المذكور إلى خلافه فقال في الباب السابع والستين ومائة ما حاصله:
إن الله تعالى لما علم أنه قد طبع على كل قلب مظهر للجبروت والكبرياء وأن فرعون في نفسه أذل الاذلاء أمر موسى وهارون عليهما السلام أن يعاملاه بالرحمة واللين لمناسبة باطنه واستنزال ظاهره من جبروته وكبريائه فقال سبحانه: * (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) * (طه: 44) ولعل وعسى من الله تعالى واجبتان فتذكر بما يقابله من اللين والمسكنة ما هو عليه في باطنه ليكون الظاهر والباطن على السواء فما زالت تلك الخميرة معه تعمل في باطنه مع الترجي الإلهي الواجب فيه وقوع المترجى ويتقوى حكمها إلى حين انقطاع يأسه من أتباعه وحال الغرق بينه وبين اطماعه لجأ إلى ما كان مستترا في باطنه من الذلة والافتقار ليتحقق عند المؤمنين وقوع الرجاء الإلهي فقال: * (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) * (يونس: 90) فرفع الاشكال من الاشكال كما قالت السحرة لما آمنت: * (آمنا برب العالمين رب موسى وهارون) * (الأعراف: 121، 122) أي الذي يدعوان إليه فجاءت بذلك لدفع الارتياب ورفع الأشكال، وقوله: * (وأنا من المسلمين) * (يونس: 90) خطاب منه للحق تعالى لعلمه أنه سبحانه يسمعه ويراه فخاطبه الحق بلسان الغيب وسمعه آلآن أظهرت ما قد كنت تعلمه وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين لأتباعك، وما قال له * (وأنت من المفسدين) * فهي كلمة بشرى له عرفنا بها لنرجو رحمته مع إسرافنا وإجرامنا ثم قال سبحانه: * (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية) * يعني لتكون النجاة لمن يأتي بعدك آية أي علامة إذا قال ما قلته تكون له النجاة مثل ما كانت لك، وما في الآية أن بأس الآخرة لا يرتفع وأن إيمانه لم يقبل وإنما فيها أن بأس الدنيا لا يرتفع عمن نزل به إذا آمن في حال نزوله الأقوم يونس عليه السلام فقوله سبحانه: * (فاليوم ننجيك ببدنك) * بمعنى أن العذاب لا يتعلق إلا بظاهرهك وقد أريت الخلق نجاته من العذاب فكان ابتداء الغرق عذابا فصار الموت فيه شهادة خالصة بريئة لم يتخللها معصية فقبض على أفضل عمل وهو التلفظ بالإيمان كل ذلك حتى لا يقنط أحد من رحمة الله تعالى والأعمال بخواتيمها فلم يزل الإيمان بالله تعالى يجول في باطنه وقد حال الطابع الإلهي الذاتي في الخلق بين الكبرياء واللطائف الإنسانية فلم يدخلها قط كبرياء، وأما قوله تعالى: * (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) * (غافر: 85) فكلام محقق في غاية الوضوح فإن النافع هو الله تعالى فما نفعهم إلا
185

هو سبحانه، وقوله عز وجل: * (سنة الله التي قد خلت في عباده) * (غافر: 85) فيعنى بذلك الإيمان عند رؤية البأس الغير المعتاد، وقد قال تعالى: * (ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها) * فغاية هذا الإيمان أن يكون كرها وقد أضافه الحق سبحانه إليه والكراهة محلها القلب والإيمان كذلك والله تعالى لا يأخذ العبد بالأعمال الشاقة عليه من حيث ما يجده من المشقة فيها بل يضاعف له فيها الأجر، وأما في هذا الموطن فالمشقة منه بعيدة بل جاء طوعا في إيمانه وما عاش بعد ذلك بل قبض ولم يؤخر لئلا يرجع إلى ما كان عليه من الدعوى ولو قبض ركاب البحر الذين قال سبحانه فيهم: * (ضل من تدعون إلا إياه) * عند نجاتهم لماتوا موحدين وقد حصلت لهم النجاة، ثم قوله تعالى في تتميم قصته هذه: * (وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون) * على معنى قد ظهرت نجاتك آية أي علامة على حصول النجاة فغفل أكثر الناس عن هذه الآية فقضوا على المؤمن بالشقاء، وأما قوله تعالى: * (فأوردهم النار) * فليس فيه أنه يدخلها معهم بل قال جل وعلا: * (أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) * ولم يقل أدخلوا فرعون وآله، ورحمة الله تعالى أوسع من أن لا يقبل إيمان المضطر وأي اضطرار أعظم من اضطرار فرعون في حال الغرق؟ والله تبارك وتعالى يقول: * (أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) * فقرن للمضطر إذ دعاه بالإجابة وكشف السوء عنه، وهذا آمن من لله تاعلى خالصا وما دعاه في البقاء في الحياة الدنيا خوفا من العوارض وأن يحال بينه وبين هذا الإخلاص الذي جاءه في هذه الحال فرجح جانب لقاء الله تعالى على البقاء بالتلفظ بالإيمان وجعل ذلك الغرق نكال الآخرة والأولى فلم يكن عذابه أكثر من غم الماء الاجاج وقبضه على أحسن صفة، وهذا هو الذي يعطيه ظاهر اللفظ وهو معنى قوله تعالى: * (إن في ذلك لعبرة لمن يخشى) * يعني في أخذه نكال الآخرة والأولى.
وقدم سبحانه: ذكر الآخرة على الأولى ليعلم أن ذلك العذاب أعني عذاب الغرق هو نكال الآخرة وهذا هو الفصل العظيم انتهى، وهو نص في إيمانه بل في كونه من الشهداء بناء على أن الموت غرقا شهادة للمؤمنين كما أجمع عليه أئمة الدين على خلاف في موت من قصر في تعلم السباحة غريقا هل يهد شهادة أم لا؟ فإن بعض الشافعية ذهب إلى أن المقصر المذكور إذا مات غريقا مات عاصيا لا شهيدا، وإنما الشهيد من مات كذلك وكان عارفا بالسباحة أو غير مقصر في تعلمها لكن لم يتعلم وكأن الشيخ قدس سره لا يقول بهذا التفصيل أو كان يعلم أن فرعون كان ممن يعلم السباحة أو ممن لم يقصر في تعلمها أو أنه يقول: إن الإيمان كفر عنه كل معصية قبله ومن جملة ذلك معصية التقصير مثلا التي هي دون قوله: * (أنا ربكم الأعلى) * (النازعات: 24) و * (ما علمت لكم من إله غيري) * (القصص: 38) بألف ألف مرتبة لكن لا أدري هل الغريق شهيد في شريعة موسى عليه السلام كما هو كذلك في شريعتنا أم هذا هلأمر من خواص هذه الشريعة التي أنعم الله تعالى على أهلها بما أنعم كرامة لنبيها صلى الله عليه وسلم، وقد ذهب قدس سره في كتابه فصوص الحكم إلى نحو ما ذهب إليه أخيرا في كتابه الفتوحات، وقد اعترض عليه بذلك غير واحد وهو عندي ليس بأعظم من قوله قدس سره بإيمان قوم نوح عليه السلام وكثير من اضرابهم ونجاتهم يوم القيامة وقد نص على ذلك في الفصوص، والعجب أنه لم
يكثر معترضوه في ذلك كثرتهم في القول بإيمان فرعون؛ وقد انتصر له بعض الناس ومنهم في المشهور الجلال الدواني وله رسالة في ذلك أتى فيها بما لا يعد شيئا عند أصاغر الطلبة، لكن في تاريخ حلب للفاضل الحلبي كما قال مولانا الشهاب أنها ليست للجلال وإنما هي لرجل يسمى محمد بن هلال النحوي وقد ردها القزويني
186

وشنع عليه وقال: إنما مثله مثل رجل خامل الذكر لما قدم مكة بال في زمزم ليشتهر بين الناس، وفي المثل خالف تعرف، ويؤيد كونها ليست للجلال أنه شافعي المذهب كما يشهد لذلك حاشيته على الأنوار. وفي فناوي ابن حجر أن بعض فقهائنا كفر من ذهب إلى إيمان فرعون مع ما عليه تلك الرسالة من اختلال العبارة وظهور الركاكة وعدم مشابهتها لسائر تأليفاته، ولولا خوف الاطالة لسردتها عليك، وبالجملة ظواهر الآي صريحة في كفرفرعون وعدم قبول إيمانه، ومن ذلك قوله سبحانه: * (وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) * فإنه ظاهر في استمرار فرعون على الكفر والمعاصي الموجبة لما حل به كما يدل عليه التعبير بكان والفعل المضارع ومع الإيمان لا استمرار، على أن نظمه في سلك من ذكر معه ظاهر أيضا في المدعى. وألحق بعضهم بذلك قوله تعالى: * (يأخذه عدو لي وعدو له) * (طه: 39) بناء على أن * (عدو) * صفة مشبهة وهي للثبوت فيدل على ثبوت عداوته لله تعالى وعداوته لرسوله عليه السلام وثبوت احدى العداوتين كاف في سوء حاله خلافا لمن وهم، وقد صرحوا أيضا بأن إيمان البأس واليأس غير مقبول ولا شك أن إيمان المخذول كان من ذلك القبيل وإنكاره مكابرة، وقد حكى إجماع الأئمة المحتهدين على عدم القابول ومستندهم فيه الكاتب والسنة، وما ينقل عن الإمام مالك من القبول لم يثبت عند المطلعين على أقوال المجتهدين واختلافاتهم. نعم صرح الإمام القاضي عبد الصمد من ساداتنا الحنفية في تفسيره بأن مذهب الصوفية أن الإيمان ينتفع به ولو عند معاينة العذاب، وهذا الإمام متقدم على الشيخ الأكبر قدس سره بنحو مائة سنة، وحينئذ تشكل حكاية الإجماع إلا أن يقال: بعدم تسليم صحة ذلك عن الصوفية الذين هم من أهل الاجتهاد المعول عليهم لما فيه من المخالفة للأدلة الظاهرة في عدم النفع فلا يخل ذلك بالإجماع بالاجماع. وفي الزواجر أنه على تقدير التسليم لا يضرنا ذلك في دعوى إجماع الأمة على كفر فرعون لأنا لم نحكم بكفره لأجل إيمانه عند البأس فحسب بل لما انضم إليه من أنه لم يؤمن بالله تعالى إيمانا صحيحيا بل كان تقليدا محضا بدليل قوله: * (إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل) * (يونس: 90) فكأنه اعترف بأنه لا يعرف الله تعالى وإنما سمع من بني إسرائيل أن للعالم إلها فآمن بذلك الإله الذي سمع بني إسرائيل يقرون بوجوده وهذا هو محض التقليد الذي لا يقبل لا سيما من مثل فرعون الذي كان دهريا منكرا لوجود الصانع فإنه لا بد له من برهان قطعي يزيل ما هو عليه من الاعتقاد الخبيث البالغ نهاية القبح والفحش، وأيضا لا بد في إسلام الدهري ونحوه ممن كان قد دان بشيء أن يقر ببطلان ذلك الشيء الذي كفر به فلو قال: آمنت بالذي لا إله غيره لم يكن مسلما، وفرعون لم يعترف ببطلان ما كان كفر به من نفى الصانع وادعاء الإلهية لنفسه الخبيثة، وقوله: * (إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل) * لا يدري ما الذي أراد به فلذا صرح الأئمة بأن آمن بالذي لا إله غيره لا يحصل الإيمان للاحتمال فكذا ما قاله، وعلى التنزل فالإجماع منعقد على أن الإيمان بالله تعالى مع عدم الإيمان بالرسول لا يصح فلو سلمنا أن فرعون آمن بالله تعالى إيمانا صحيحا فهو لم يؤمن بموسى عليه السلام ولا تعرض له أصلا فلم يكن إيمانه نافعا، ألا ترى أن الكافر لو قال ألوفا من المرات أشهد أن لا إله إلا الله أو إلا الذي آمن به المسلمون لا يكون مؤمنا حتى يقول وان محمدا رسول الله.
187

والسحرة تعرضوا في إيمانهم للإيمان بموسى عليه السلام بقولهم: * (آمنا برب العالمين رب موسى وهارون) * (الأعراف: 121، 122) فلا يقال: إن إيمان فرعون على طرز إيمانهم لذلك على أن إيمانهم حين آمنوا كان بمعجزة موسى عليه السلام والإيمان بالله تعالى مع الإيمان بمعجزة الرسول إيمان بالرسول فهم آمنوا. وسى عليه السلام بخلاف فرعون فإنه لم يتعرض للإيمان به عليه السلام أصلا بل في ذكره بني إسرائيل دونه مع أنه الرسول العارف بالاله وما يليق به والهادي إلى طريقه إشارة ما إلى بقائه على كفره به. وما ذكره الشيخ الأكبر قدس سره في توجيه آية * (حتى إذا أدركه الغرق) * (يونس: 90) الخ خارج عن ذوق الكلام العربي وتجشم تكلف لا معنى له، ويرشد إلى بعض ذلك أنه قدس سره حمل قوله تعالى: * (الآن وقد عصيت) * (يونس: 91) الخ على على العتب والبشرى، مع أنه لا يحفى أنه لو صح إيمانه وإسلامه لكان الأنسب بمقام الفضل الذي إليه طمح نظر الشيخ أن يقال له: الآن نقبلك ونكرمك لاستلزام صحة إيمانه رضا الحق عنه ومن وقع له الرضا لا يخاطب بمثل ذلك الخطاب كما لا يخفى على من له وقوف على أساليب كلام العرب ومحاوراتهم، وأيضا كيف يخاطب من محا الإيمان عصيانه وافساده بما هو ظاهر في التأنيب المحض والتقريع الصرف والتوبيخ البحت فما ذلك إلا لإقامة أعظم نواميس الغضب عليه وتذكيره بقبائحه التي قدمها وإعلامه بأنها هي التي منعته عند النطق بالإيمان إلى حيث لا ينفعه وكذا تأويله * (فلم يك ينفعهم إيمانهم) * (غافر: 85) بأن النافع هو الله تعالى مع أن اصطلاح الكتاب والسنة نسبة الأشياء إلى أسبابها إيجابا وسلبا، فإذا قيل: لا ينفع الإيمان فليس معناه الشرعي إلا الحكم عليه بأنه باطل لا يعتد به؛ وأي معنى سوغ تخصيص نفع الله تعالى بهذه الحالة التي هي حالة وقوع العذاب مع النظر إلى ما هو الواقع من أن الله تعالى هو النافع حقيقة في كل وقت ولو نفعهم لما استأصلهم بالعذاب، وقوله تعالى: * (وخسر هنالك المبطلون) * (غافر: 78) دليل واضح على أن المراد * (بلم يك ينفعهم إيمانهم) * (غافر: 85) أنهم باقون مع ذلك الإيمان على الكفر إلى غير ذلك مما لا يخفى على النظر في كلامه قدس سره، فالذي ينبغي أن يعول عليه ما ذهب أولا إليه، وقد قالوا: إذا اختلف كلام إمام يؤخذ منه بما يوافق الأدلة الظاهرة ويعرض عما خالفها، ولا شك أن ما ذهب إليه أولا هو الموافق لذلك، على أنه لو لم يكن له قدس سره إلا القول بقبول إيمانه لا يلزمنا اتباعه في ذلك والأخذ به لمخالفته ما دل عليه الكتاب والسنة وشهدت به أئمة الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المجتهدين، وجلالة قائله لا توجب القبول، فقد قال مالك. وغيره: ما من أحد إلا مأخوذ من قوله ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وعن على كرم الله تعالى وجهه: لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال، وكأن الشيخ قدس سره
قال ذلك من طريق النظر والنظر يخطىء ويصيب، ومن علم أن للنبي عليه الصلاة والسلام اجتهادا جاء الوحي بخلافه لم يستعظم ما قيل في الشيخ وان كان هو - هو - على أنه لو كان قال ذلك من طريق الكشف إلا أنه أبدي الاستدلال تفهيما وإرشادا إلى أن فهمه لم يخالف ما يدل عليه الكاتب لم يلزمنا أيضا تقليده بل قد مر عن الإمام الرباني قدس سره أنه لا يجوز تقليد الكشف، وصرح غير واحد بأنه ليس بحجة على الغير كالإلهام ولا يثبت به حكم شرعي. وأنت تعلم أنه لو كان كل من القولين من طريق الكشف يلزم انقسام الكشف إلى صواب وخطأ كالنظر ضرورة عدم اجتماع الإيجاب والسلب على الكذب ولا على الصدق وهو ظاهر، وقد قال بعضهم: بالانقسام ويخفى وجهه، ومن الناس من أول كلام الشيخ المثبت لقبول الإيمان بأن المراد بفرعون فيه النفس
188

الأمارة وبموسى وهرون المأمورين بالقول اللين موسى الروح وهارون القلب وأخذ يقرر الكلام على هذا السنن، ولا يخفى أن ارتكاب ذلك على ما فيه من التكلف الظاهر الكلف في كلام الشيخ ما يأباه، ولعله خلاف مطمح نظره ولذلك لم يرتكبه أجلة أصحابه بل أبقوا كلامه على ظاهره وهو الظاهر، واكفار بعض المنكرين له فيه ضلال وأي ضلال وظلم عظيم موجب للنكال، فإن له قدس سره في ذلك مستندا كغيره المقابل له وان اختلفا في القوة والضعف، على أن الوقوف على حقيقة هذه المسألة ليس مما كلفنا به فلا يضر الجهل بها في الدين والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
* (ولقد بوأنا بنىإسراءيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جآءهم العلم إن ربك يقضى بينهم يوم القي‍امة فيما كانوا فيه يختلفون) *
* (ولقد بوأنا بني إسرائيل) * كلام مستأنف سيق لبيان النعم الفائضة عليهم أثر نعمة الانجاء على وجه الاجمال واخلالهم بشكرها، وبوأ بمعنى أنزل كأباء والاسم منه البيئة بالكسر كما في القاموس، وجاء بوأه منزلا وبوأه في منزل وكذا بوأت له مكانا إذا سويته، وهو مما يتعدى لواحد ولاثنين أي أنزلناهم بعد أن انجيناهم وأهلكنا أعداءهم * (مبوأ صدق) * أي منزلا صالحا مرضيا وهو اسم مكان منصوب على الظرفية، ويحتمل المصدرية بتقدير مضاف أي مكان مبوأ وبدونه، وقد يجعل مفعولا ثانيا، وأصل الصدق ضد الكذب لكن جرت عادة العرب على أنهم إذا مدحوا شيئا أضافوه إلى الصدق فقالوا: رجل صدق مثلا إذا كان كاملا في صفته صالحا للغرض المطلوب منه كأنهم لاحظوا أن كل ما يظن به فهو صادق، والمراد بهذا المبوأ كما رواه ابن املنذر. وغيره عن الضحاك الشام ومصر، فإن بني إسرائيل الذين كانوا في زمان موسى عليه السلام وهم المرادون هنا ملكوا ذلك حسبما ذهب إليه جمع من الفضلاء.
وأخرج أبو الشيخ. وغيره عن قتادة أن المراد به الشام وبيت المقدس واختاره بعضهم بناء على أن أولئك لم يعودوا إلى مصر بعد ذلك، وأنت تعلم أنه ينبغي أن يراد ببني إسرائيل عن القولين ما يشمل ذريتهم بناء على أنهم ما دخلوا الشام في حياة موسى عليه السلام وإنما دخلها أبناؤهم وقد تقدم لك ما يتعلق بهذا المقام فتذكره. وقيل: المراد به أطراف المدينة إلى جهة الشأم، وببني اسرائيل بنو إسرائيل الذي كانوا على عهد نبينا عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام * (ورزقناهم من الطيب‍ات) * أي اللذائذ؛ قيل: وقد يفسر بالحلال * (فما اختلفوا) * في أمور دينهم بل كانوا متبعين أمر رسولهم عليه السلام * (حتى جاءهم العلم) * أي إلا بعد ما علموا بقراءة التوراة والوقوف على أحكامها، وقيل: المعنى ما اختلفوا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم إلا بعد ما علموا صدق نبوته بنعوته المذكورة في كتابهم وتظاهر معجزاته، وهو ظاهر على القول الأخير في المراد من بني إسرائيل المبوئين، وأما على القول الأول ففيه خفاء لأن أولئك المبوئين الذين كانوا في عصر موسى عليه السلام لم يختلفوا في أمر نبيا صلى الله عليه وسلم ضرورة لينسب إليهم ذلك الاختلاف حقيقة، وليس هذا نظير قوله تعالى: * (وإذ أنجيناكم من آل فرعون) * (الأعراف: 141) الآية ولا قوله سبحانه: * (فلم تقتلون أنبيائ الله) * (البقرة: 91) ليعتبر المجاز، وزعم الطبرسي أن المعنى أنهم كانوا جميعا على الكفر لم يختلفوا فيه حتى أرسل إليهم موسى عليه السلام ونزلت التوراة فيها حكم الله تعالى فمنهم من آمن ومنهم من أصر على كفره وليس بشيء أصلا كما لا يخفى * (إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) * فيميز بين المحق والمبطل بالإثابة والعقوبة.
إن كنت في شك ممآ أنزلنآ إليك فاسأل الذين يقرءون الكت‍ابمن قبلك لقد جآءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين) *
* (فان كنت في شك مما أنزلنا إليك) * أي في شك ما يسير، والخطاب قيل: له صلى الله عليه وسلم والمراد إن كنت في ذلك على سبيل الفرض والتقدير لأن الشك لا يتصور منه عليه الصلاة والسلام لانكشاف الغطاء له ولذا عبر - بأن - التي تسعمل غالبا فيما لا تحقق له حتى تسعمل في المستحيل عقلا وعادة
189

كما في قوله سبحانه: * (قل إن كان للرحمن ولد) * (الزخرف: 81) وقوله تعالى: * (فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض) * (الأنعام: 35) وصدق الشرطية لا يتوقف على وقوعها كما هو ظاهر؛ والمراد بالموصول القصص، أي إن كنت في شك من القصص المنزلة إليك التي من جملتها قصة فرعون وقومه وأخبار بني إسرائيل * (فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) * فإن ذلك محقق عندهم ثابت في كتبهم حسبما أنزلناه إليك، وخصت القصص بالذكر لأن الأحكام المنزلة إليه عليه الصلاة والسلام ناسخة لأحكامهم مخالفة لها فلا يتصور سؤالهم عنها، والمراد بالكتاب جنسه فيشمل التوراة والإنجيل وهو المروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ويؤيده أنه قرىء * (الكتب) * بالجمع، وفسر الموصول بمن لم يؤمن من أهل الكتاب لأن إخبارهم بما يوافق ما أنزل المترتب على السؤال أجدى في المقصود، وفسره بعضهم بالمؤمنن منهم كعبد الله بن سلام. وتميم الداري ونسب ذلك إلى ابن عباس. والضحاك. ومجاهد.
وتعقب بأن ابن سلام. وغيره إنما أسلموا بالمدينة وهذه السورة مكية، وينبغي أن يكون المراد الاستدلال على حقية المنزلة والاستشهاد بما في الكتب المتقدمة على ما ذكر وأن القرآن مصدق لها، ومحصل ذلك أن الفائدة دفع الشك إن طرأ لأحد غيره صلى الله عليه وسلم بالبرهان أو وصف أهل الكتاب بالرسوخ في العلم بصحة نبوته صلى الله عليه وسلم وتوبيخهم على ترك الإيمان أو تهييج الرسول عليه الصلاة والسلام وزيادة تثبيته، وليس الغرض إمكان وقوع الشك له صلى الله عليه وسلم أصلا، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام حين جاءته الآية على ما أخرج عبد الرزاق. وابن جرير عن قتادة: " لا أشك ولا أسأل ".
وزعم الزجاج أن * (إن) * نافية وقوله سبحانه: * (فاسأل) * جواب شرط. مقدر أي ما كنت في شك مما أنزلنا إليك فإن أردت أن تزداد يقينا فاسأل وهو خلاف الظاهر وفيما ذكر غنى عنه، ومثله ما قيل: إن الشك بمعنى الضيق والشدة بما يعاينه صلى الله عليه وسلم من تعنت قومه وأذاهم أي إن ضقت ذرعا بما تلقى من أذى قومك وتعنتهم فاسأل أهل الكتاب كيف صبر الأنبياء عليهم السلام على أذى قومهم وتعنتهم فاصبر كذلك بل هو أبعد جدا من ذلك، وقيل: الخطاب له صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته أو لكل من يسمع أي إن كنت أيها السامع في شك مما أنزلنا على لسان نبينا إليك فاسأل، * (فأنزلنا إليك) * على هذا نظير قوله سبحانه: * (وأنزلنا إليكم نورا مبينا) * وفي جعل القراءة صلة الموصول إشارة إلى أن الجواب لا يتوقف على أكثر منها، وفي الآية تنبيه على أن من خالجته شبهة في الدين ينبغي له مراجعة من يزيلها من أهل العلم بل المسارعة إلى ذلك حسبما تدل عليه الفاء الجزائية بناءا على أنها تفيد التعقيب * (لقد جاءك الحق) * الواضح الذي لا محيد عنه ولا ريب في حقيته * (من ربك) * القائم بما يصلح شأنك * (فلا تكونن من الممترين) * أي بالتزلزل عما أنت عليه من الحزم واليقين ودم على ذلك كما كنت من قبل، والامتراء الشك والتردد وهو أخف من التكذيب فلذا ذكر أولا، وعقب بقوله سبحانه:
* (ولا تكونن من الذين كذبوا بآي‍ات الله فتكون من الخ‍اسرين) *
* (ولا تكونن من الذين كذبوا بآي‍ات الله) * أي بشيء منها * (فتكون) * بذلك * (من الخ‍اسرين) * أنفسا وأعمالا، والتعبير بالخاسرين أظهر في التحذير من التعبير بالكافرين، وفائدة النهي في الموضعين التهييج والإلهاب نظير ما مر، والمراد بذلك اعلام أن الامتراء والتكذيب قد بلغا في القبح والمحذورية إلى حيث ينبغي أن ينهي عنهما من لا يمكن أن يتصف بهما فكيف بمن يكن اتصافه وفيه قطع لاطماع الكفرة.
190

* (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون) *
* (إن الذين حقت عليهم) * الخ بيان لمنشأ اصرار الكفرة على ما هم عليه من الكفر والضلال إلى حيث لا ينتفعون بالإيمان أي إن الذين ثبتت عليهم * (كلمة ربك) * أي حكمه وقضاؤه المفسر عند الاشاعرة بإرادته تعالى الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال بأنهم يموتون على الكفر أو يخلدون في النار * (لا يؤمنون) * إذ لا يمكن أن ينتقض قضاؤه سبحانه وتتخلف إرادته جل جلاله.
* (ولو جآءتهم كل ءاية حتى يروا العذاب الاليم) *
* (ولو جاءتهم كل ءاية) * واضحة المدلول مقبولة لدى العقول * (حتى يروا العذاب الأليم) * الاغراق ونحوه وحينئذ يقال لهم - الصيف ضيعت اللبن - وفسر الزمخشري الكلمة بقول الله تعالى الذي كتبه في اللوح وأخبر سبحانه به الملائكة أنهم يموتون كفارا وجعل تلك كتابة معلوم لا كتابة مقدر ومراد، ولا ضير في تفسير الكلمة بذلك إلا أن جعل الكتابة كتابة معلوم لا كتابة مقدر ومراد مبني على مذهب الاعتزال، والذي عليه أهل السنة أن أفعال العباد بأسرها معلومة له تعالى ومرادة ولا يكون إلا ما أراده سبحانه، وعلمه عز شأنه وإرادته متوافقان ولا تجوز المخالفة بينهما ولا يتعلق علمه سبحانه إلا بما عليه الشيء في نفسه ولا يريد إلا ما علم ولا يقدر إلا ما يريد ولا جبر هناك ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين، وفسره الملوى الكوراني في شرحه للمقدمات الأربع المذكورة في توضيح الأصول بأن العبد مجبور باختياره وفصله بما لا مزيد عليه، وبإثبات الاستعداد وانه غير مجعول تتضح الحجة البالغة وبسط الكلام في علم الكلام، وقد تقدم بعض ما ينفع في هذا المقام، وإن أردت ما يطمئن به الخاطر وتنشرح له الضمائر فعليك برسائل ذلك المولى في هذا الشأن فإنها واضحة المسالك في تحصيل الإيقان.
* (فلولا كانت قرية ءامنت فنفعهآ إيمانها إلا قوم يونس لمآ ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزى فى الحيواة الدنيا ومتعناهم إلى حين) *
* (فلولا كانت) * كلام مستأنف لتقرير هلاكهم و * (لولا) * هنا تحضيضية فيها معنى التوبيخ كهلا ومثلها ما في قول الفرزدق: تعدون عقر النيب أفضل مجدكم * بني ضوطري لولا الكمى المقنعا
ويشهد لذلك قراءة أبي. وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما * (فهلا) *، والتوبيخ على ما نقل عن السفاقسي على ترك الإيمان المذكور بعد؛ * (وكان) * كما اختاره بعض المحققين ناقصة، وقوله تعالى: * (قرية) * اسمها، وجملة قوله سبحانه: * (آمنت) * خبرها، وقوله جل شأنه: * (فنفعها إيمانها) * معطوف على الخبر، أي فهلا كانت قرية من القرى التي أهلكت هلاك الاستئصال آمنت قبل معاينة العذاب ولم تؤخر إيمانها إلى حين معاينته كما أخر فرعون إيمانه فنععها ذلك بأن يقبله الله تعالى منها ويكشف بسببه العذاب عنها، وذهب السمين وغيره إلى أنها تامة * (وقرية) * فاعلها وجملة * (آمنت) * صفة * (ونفعها) * معطوفة عليها. وتعقب بأنه يلزم حينئذ أن يكون التحضيض والتوبيخ على الوجود مع أنه ليس بمراد. وأجيب بأنه لا مانع من أن يكون التحضيض على الصفة وحينئذ لا غبار على ما قيل، وأيا ما كان فالمراد بالقرية أهلها مجازا شائعا والقرينة هنا أظهر من أن تخفى، وقوله تبارك وتعالى: * (إلا قوم يونس) * استثناء منقطع كما قال الزجاج. وسيبويه. والكسائي. وأكثر النحاة أي لكن قوم يونس * (لما ءامنوا) * عند ما رأوا أمارات العذاب ولم يؤخروا إلى حلوله * (كشفنا عنهم عذال الخزي) * أي الذل والهوان * (في الحياة الدنيا) * بعد ما أظلهم وكاد
191

يثزل بهم * (ومتعنهم) * بمتاع الدنيا بعد كشف العذاب عنهم * (إلى حين) * أي زمان من الدهر مقدر لهم في علم الله تعالى. ونقل عن ابن عباس أن المراد إلى يوم القيامة فهم اليوم أحياء إلا أن الله تعالى سترهم عن الناس على حد ما يقال في الخضر عليه السلام، ورأيت في بعض الكتب ما يوافقه إلا أنه ذكر فيه أنهم يظهرون أيام المهدي ويكونون من جملة انصاره ثم يموتون والكل مما لا صحة له. وقال آخرون: الاستثناء متصل، ويراد من القرية أهلها المشرفون على الهلاك.
وقيل: العاصون ويعتبر النفي الذي يشعر به التحضيض وهو مشعر بالأمر أيضا ولذا جعلوه في حكمه إلا أنه لا يصح اعتباره على تقدير الاتصال لما يلزمه من كون
الإيمان من المستثنين غير مطلوب وهو غير مطلوب بل فاسد، وقيل: لا مانع من ذلك على ذلك التقدير لأن أهل القرى محضوضون على الإيمان النافع وليس قوم يونس محضوضين عليه لأنهم آمنوا، والذوق يأبي إلا اعتبار النفي فقط حال اعتبار الاتصال، ويكون قوله سبحانه: * (لما آمنوا) * استشنافا لبيان نفع إيمانهم. وقرىء * (إلا قوم) * بالرفع على البدل من قرية المراد بها أهلها، وأيد بذلك القول بالاتصال واعتبار النفي لأن البدل لا يكون إلا في غير الموجب، وخرج بعضهم هذه القراءة على أن * (إلا) * بمعنى غير وهي صفة ظهر إعرابها فيما بعدها كما في قوله على رأي. وكل أخ مفارقه أخوه * لعمر أبيك إلا الفرقدان
وظاهر كلامهم ان الاستثناء مطلقا من قرية، وعن الزمخشري أنه على الأول من القرية لا من الضمير في * (آمنت) * وعلل بأن المنقطع بمعنى لكن فيتوسط بين الكلامين المتغايرين فلا يعتمد ما لا يستقل ولأنه لا مدخل للوصف أعني الإيمان في المستثنى منه فالاستثناء عن أصل الكلام، وأما على الثاني فهو استثناء من الضمير من حيث المعنى جعل في اللفظ منه أو من القرية إذ لا فرق في قولك: كان القوم منطلقين إلا زيدا بين جعله من الاسم أو من الضمير في الخبر لأن الحكم إنما يتم بالخبر، وإنما الفرق في نحو ضربت القوم العالمين إلا زيدا، ثم قال: ونظير هذا في الوجهين قوله تعالى: * (إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط) * ووجه ذلك ظاهر. وفي الكشف أن وجه الشبه اختلاف معنى الهلاك على الوجهين كاختلاف معنى الإرسال هنالك على الوجهين، وكأنه عني بالهلاك المأخوذ قيدا في قوله فهلا كانت قرية من القرى التي أهلكناها فتدبر. وفي * (يونس) * لغات تثليث النون مهموزا وغير مهموز والمتواتر منها الضم بلا همز.
وكانت من قصة هؤلاء القوم على ما روي عن غير واحد أن يونس عليه السلام بعث إلى أهل نينوي من أرض الموصل وكانوا أهل كفر وشرك فدعاهم إلى الإيمان بالله تعالى وحده وترك ما يعبدون من الأصنام فأبوا عليه وكذبوه فأخبرهم أن العذاب مصبحهم إلى ثلاث فلما كانت الليلة الثالثة ذهب عنهم من جوف الليل فلما أصبحوا تغشاهم العذاب فكان فوق رؤوسهم ليس بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل، وجاء أنه غامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخانا شديدا فهبط حتى غشى مدينتهم واسودت أسدحتهم فلما أيقنوا بالهلاك طلبوا نبيهم فلم يجدوه فخرجوا إلى الصحراء بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم ولبسوا المسوح وأظهروا الإيمان والتوبة وفرقوا بين الوالدة وولدها من الناس والدواب فحن البعض إلى البعض وعلت الأصوات
192

وعجوا جميعا وتضرعوا إليه تعالى وأخلصوا النية فرحمهم ربهم واستجاب دعاءهم وكشف عنهم ما نزل بهم من العذاب وكان ذلك يوم عاشوراء وكان يوم الجمعة.
قال ابن مسعود: إنه بلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم فيما بينهم حتى إن كان الرجل ليأتي إلى الحجر قد وضع أساس بنيانه عليه فيقعله ويرده إلى صاحبه، وجاء في رواية عن قتادة أنهم عجوا إلى الله تعالى أربعين صباحا حتى كشف ما نزل بهم، وأخرج أحمد في الزهد. وابن جرير. وغيرهم عن ابن غيلان قال: لما غشي قوم يونس العذاب مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا: ما ترى؟ قال: قولوا: يا حي حين لا حي ويا حي محيي الموتى ويا حي لا إله إلا أنت فقالوها فكشف عنهم العذاب، وقال الفضيل بن عياض: قالوا: اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم وأجل فافعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله، وكان يونس عليه السلام إذ ذهب عنهم قعد في الطريق يسأل الخبر كما جاء مرفوعا فمر به رجل فقال له: ما فعل قوم يونس؟ فحدثه بما صنعوا فقال: لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم وانطلق مغاضبا حسبما قصه الله تعالى في غير هذا الموضع مما سيأتي إن شاء الله تعالى، وظاهر الآية يستدعي أن القوم شاهدوا العذاب لمكان * (كشفنا) * وهو الذي يقتضيه أكثر الإخبار وإليه ذهب كثير من المفسرين، ونفع الإيمان لهم بعد المشاهدة من خصوصياتهم فإن إيمان الكفار بعد مشاهدة ما وعدوا به إيمان بأس غير نافع لارتفاع التكليف حينئذ وعادة الله إهلاكهم من غير إمهال كما أهلك فرعون، والقول بأنه بقي حيا إلى ما شاء الله تعالى وسكن أرض الموصل من مفتريات اليهود.
* (ولو شآء ربك لآمن من فى الارض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) *
* (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض) * تحقيق لدوران إيمان جميع المكلفين وجودا وعدما على قطب مشيئته سبحانه مطلقا بعد بيان تبعية كفر الكفرة لكلمته، ومفعول المشيئة هنا محذوف حسب المعهود في نظائره أي لو شاء سبحانه إيمان من في الأرض من الثقلين لآمن * (كلهم) * بحيث لا يشذ منهم أحد * (جميعا) * أي مجتمعين على الإيمان لا يختلفون فيه لكنه لم يشأ ذلك لأنه سبحانه لا يشاء إلا ما يعلم ولا يعلم إلا ما له ثبوت في نفسه فيما لا ثبوت له أصلا لا يعلم وما لا يعلم لا يشاء، وإلى هذا التعليل ذهب الكوراني عليه الرحمة وأطال الكلام في تحريره والذب عنه في غير ما رسالة، والجمهور على أنه سبحانه لا يشاؤه لكونه مخالفا للحكمة التي عليها بناء أساس التكوين والتشريع. والآية حجة على المعتزلة الزاعمين أن الله تعالى شاء الإيمان من جميع الخلق فلم يؤمن إلا بعضهم، والمشيئة عندهم قسمان تفويضية يجوز تخلف الشيء عنها وقسرية لا يجوز التخلف عنها وحملوا ما في الآية على هذا الأخير، فالمعنى عندهم لو شاء ربك مشيئة الجاء وقسر إيمان الثقلين لآمنوا لكنه سبحانه لم يشأ كذلك بل أمرهم بالإيمان وخلق لهم اختيارا له ولضده وفوض الأمر إليهم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وهذا ديدنهم في كل ما ورد عليهم من الآيات الظاهرة في إبطال ما هم عليه، وفيه أنه لا قرينة على التقييد مع أن قوله سبحانه: * (أفأنت تكره الناس) * يأباه فيماق يل، فإن الهمزة للإنكار وهي لصدارتها مقدمة من تأخير على ما عليه الجمهور والفاء للتفريع والمقصود تفرع الإنكار على ما قبل ولا
193

فائدة بل لا وجه لاعتبار مشيئة القسر والإلجاء خاصة في تفرع الإنكار، وقيل: إن الهمزة في موضعها والعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام كأنه قيل: أربك لا يشاء ذلك فأنت تكرهه * (حتى يكونوا مؤمنين) * والإنكار متوجه إلى ترتيب الإكراه المذكور على عدم مشيئته تعالى والإباء هو الإباء فلا بد من حمل المشيئة على إطلاقها، والمراد بالناس من طبع عليهم أو الجميع مبالغة، وجوز في * (أنت) * أن يكون فاعلا بمقدر يفسره ما بعده وأن يكون مبتدأ خبره الجملة بعده ويعدونه فاعلا معنويا، وتقديمه لتقوية حكم الإنكار كما ذهب إليه الشريف قدس سره في " شرح المفتاح " وذكر فيه أن المقصود إنكار صدور الفعل من المخاطب لا إنكار كونه هو الفاعل مع تقرر أصل الفعل، وقيل: إن التقديم للتخصيص ففيه إيذان بأن الإكراه أمر ممكن لكن الشأن في المكره من هو وما هو إلا سبحانه وحده لا يشارك فيه لأنه جل شأنه
القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرهم إلى الإيمان وذلك غير مستطاع للبشر.
* (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون) *
* (وما كان لنفس) * بيان لتبعية إيمان النفوس التي علم الله تعالى إيمانها لمشيئته تعالى وجودا وعدما بعد بيان الدوران الكلي عليها كذلك، وقيل: هو تقرير لما يدل عليه الكلام السابق من أن خلاف المشيئة مستحيل أي ما صح وما استقام لنفس من النفوس التي علم الله تعالى أنها تؤمن * (أن تؤمن إلا بإذن الله) * أي بمشيئته وإرادته سبحانه، والأصل في الإذن بالشيء الإعلام بإجازته والرخصة فيه ورفع الحجر عنه، وجعلوا ما ذكر من لوازمه كالتسهيل الذي ذكره بعضهم في تفسيره، وخصصت النفس بالصفة المذكورة ولم تجعل من قبيل قوله تعالى: * (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله) * قيل لأن الاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي ما كان لنفس أن تؤمن في حال من أحوالها إلا حال كونها ملابسة بإذنه سبحانه فلا بد من كون الإيمان مما يؤول إليه حالها كما أن الموت حال لكل نفس لا محيص لها عنه فلا بد من التخصيص بما ذكر، فإن النفوس التي علم الله تعالى أنها لا تؤمن ليس لها حال تؤمن فيها حتى تستثني تلك الحال من غيرها انتهى، وقد يقال: إن هذا الاستثناء بالنظر إلى النفس التي علم الله تعالى أنها لا تؤمن مفيد لعدم إيمانها على أتم وجه على حد ما قيل في قوله تعالى: * (وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف) * (النساء: 23) فكأنه قيل: ما كان لنفس علم الله تعالى أنها لا تؤمن أن تؤمن في حال من الأحوال كسلامة العقل وصحة البدن وغيرهما إلا في حال ملابستها إذن الله تعالى وإرادته أن تؤمن وهي تابعة لعلمه بذلك وعلمه به محال لأنه قد علم نقيضه فيلزم انقلاب العلم جهلا فتكون إرادته ذلك محالا فيكون إيمانها محالا إذ الموقوف على المحال محال. وفي " الحواشي الشهابية " أن * (ما كان) * إن كان بمعنى ما وجد احتاج إلى تقييد النفس بمن علم أنها تؤمن وإن كان بمعنى ما صح لا يحتاج إليه ولذا ذكره من ذكره وتركه من تركه وفيه خفاء فتأمل * (ويجعل الرجس) * أي الكفر كما في قوله تعالى: * (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) * (التوبة: 125) بقرينة ما قبله، وأصله الشيء الفاسد المستقذر وعبر عنه بذلك لكونه علما في الفساد والاستقذار، وقيل: المراد به العذاب وعبر عنه بذلك لاشتراكهما في الاستكراه والتنفر، وأن إرادة الكفر منه باعتبار أنه نقل أولا عن المستقذر إلى العذاب للاشتراك فيما ذكر ثم أطلق على الكفر لأنه سببه فيكون مجازا في المرتبة الثانية، واختار الإمام التفسير الأول تحاشيا مما في إطلاق المستقذر على عذاب الله تعالى من الاستقذار وبعض الثاني لما أن كلمة * (على) * في قوله تعالى: * (على الذين لا يعقلون) * أي لا يستعملون عقولهم بالنظر في الحجج والآيات أو لا يعقلون دلائله
194

وأحكامه لما على قلوبهم من الطبع تأبى الأول. وتعقب بأن المعنى يقدره عليهم فلا إباء، ويفسر * (الذين لا يعقلون) * بما يكون به تأسيسا كما سمعت في تفسيره، ومنه تعلم أن الفعل منزل منزلة اللازم أوله مفعول مقدر، وقد يفرق بين التفسيرين بأنهم على الأول لم يسلبوا قوة النظر لكنهم لم يوفقوا لذلك وعلى الثاني بخلافه والأمر الآتي ظاهر في الأول، والجملة معطوفة على مقدر كأنه قيل: فيأذن لهم بالإيمان ويجعل الخ أو فيأذن لبعضهم بذلك ويجعل الخ. وقرىء * (الرجز) * بالزاي؛ وقرأ حماد. ويحيى عن أبي بكر * (ونجعل) * بالنون.
* (قل انظروا ماذا فى السم‍اوات والارض وما تغنى الآي‍ات والنذر عن قوم لا يؤمنون) *
* (قل انظروا) * خطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم أن يأمر الكفرة الذين هو عليه الصلاة والسلام بين ظهرانيهم بالتفكر في ملكوت السموات والأرض وما فيهما من عجائب الآيات الآفاقية والأنفسية ليتضح له صلى الله عليه وسلم أنهم من الذين لا يعقلون؛ وكأنه متعلق بما عنده، وتعليقه بقوله سبحانه: * (أفأنت تكره الناس) * (يونس: 99) الخ على معنى لا تكره الناس على الإيمان ولكن اؤمرهم بما يتوصل به إليه عادة من النظر لا يخلو عن النظر، وقيل: إنه تعالى لما أفاد فيما تقدم أن الإيمان ولكن أؤمرهم بما يتوصل به إليه عادة من النظر لا يخلو عن النظر، وقيل: إنه تعالى لما أفاد فيما تقدم أن الإيمان بخلقه سبحانه وأنه لا يؤمن من يؤمن إلا من بعد إذنه وأن الذين حقت عليهم الكلمة لا يؤمنون أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يأمر بالنظر لئلا يزهد فيه بعد تلك الإفادة، وأرى الأول أولى، وجاء ضم لام قل وكسرها وهما قراءتان سبعيتان، وقوله سبحانه: * (ماذا في السموات والأرض) * في محل نصب بإسقاط الخافض لأن الفعل قبله معلق بالاستفهام لأن * (ما) * استفهامية وهي مبتدأ و * (ذا) * بمعنى الذي والظرف صلته وهو خبر المبتدأ، ويجوز أن يكون * (ماذا) * كله اسم استفهام مبتدأ والظرف خبره أي أي شيء بديع في السموات والأرض من عجائب صنعته تعالى الدالة على وحدته وكمال قدرته جل شأنه.
وجوز أن يكون * (ماذا) * كله موصولا بمعنى الذي وهو في محل نصب بالفعل قبله، وضعفه السمين بأنه لا يخلو حينئذ من أن يكون النظر قلبيا كما هو الظاهر فيعدى بفي وأن يكون بصريا فيعدى بإلى.
* (وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) * أي ما تكفيهم وما تنفعهم، وقرىء بالتذكير، والمراد بالآيات ما أشير إليه بقوله سبحانه: * (ماذا في السموات والأرض) * ففيه إقامة الظاهر مقام المضمر * (والنذر) * جمع نذير بمعنى منذر أي الرسل المنذرون أو بمعنى إنذار أي الإنذارات، وجمع لإرادة الأنواع، وجوز أن يكون * (النذر) * نفسه مصدرا بمعنى الإنذار، والمراد بهؤلاء القوم المطبوع على قلوبهم أي لا يؤمنون في علم الله تعالى وحكمه و * (ما) * نافية والجملة اعتراضية، وجوز أن تكون في موضع الحال من ضمير * (قل) * وفي القلب من جعلها حالا من ضمير * (انظروا) * شيء فانظروا، ويتعين كونها اعتراضية إذا جعلت * (ما) * استفهامية إنكارية، وهي حينئذ في موضع النصب على المصدرية للفعل بعدها أو على أنه مفعول به له، والمفعول على هذا وكذا على احتمال النفي محذوف إن لم ينزل الفعل منزلة اللازم أي ما تغنى شيئا.
* (فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إنى معكم من المنتظرين) *
* (فهل ينتظرون) * أي هؤلاء المأمورون بالنظر من مشركي مكة وأشرافهم * (إلا مثل أيام الذين خلوا) * أي مثل وقائعهم ونزول بأس الله تعالى بهم إذ لا يستحقون غير ذلك، وجاء استعمال الأيام في الوقائع كقولهم: أيام العرب، وهو مجاز مشهور من التعبير بالزمان عما وقع فيه كما يقال: المغرب للصلاة الواقعة فيه، والمراد بالموصول المشركون من الأمم الماضية * (من قبلهم) * متعلق - بخلوا - جىء به للتأكيد والإيماء بأنهم سيخلون كما خلوا * (قل) * تهديدا
195

لهم * (فانتظروا) * ذلك * (إني معكم من المنتظرين) * إياه فمتعلق الانتظار واحد بالذات وهو الظاهر وجوز أن يكون مختلفا بالذات متحدا بالجنس أي فانتظروا إهلاكي إني معكم من المنتظرين هلاككم.
* (ثم ننجى رسلنا والذين ءامنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين) *
* (ثم ننجي رسلنا) * بالتشديد، وعن الكسائي. ويعقوب بالتخفيف، وهو عطف على مقدر يدل عليه قوله سبحانه: * (مثل أيام الذين خلوا) * (يونس: 102) وما بينهما اعتراض جىء به مسارعة إلى التهديد ومبالغة في تشديد الوعيد كأنه قيل: نهلك الأمم ثم ننجي المرسل إليهم * (والذين ءامنوا) * بهم، وعبر بالمضارع لحكاية الحال الماضية لتهويل أمرها باستحضار صورها، وتأخير حكاية التنجية عن حكاية الإهلاك على عكس ما جاء في غير موضع ليتصل به قوله سبحانه: * (كذلك حقا علينا ننج المؤمنين) * أي ننجيهم إنجاء كذلك الإنجاء الذي كان لمن قبلهم على أن الإشارة إلى الإنجاء، والجار والمجرور متعلق بمقدر وقع صفة لمصدر محذوف. وجوز أن يكون الكاف في محل نصب بمعنى مثل سادة مسد المفعول المطلق. ويحتمل عند بعض أن يكون في موقع الحال من الإنجاء الذي تضمنه * (ننجي) * بتأويل نفعل الإنجاء حال كونه مثل ذلك الإنجاء وأن يكون في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك، و * (حقا) * نصب بفعله المقدر أي حق ذلك حقا، والجملة اعتراض بين العامل والمعمول على تقدير أن يكون * (كذلك) * معمولا للفعل المذكور بعد، وفائدتها الاهتمام بالإنجاء وبيان أنه كائن لا محالة وهو المراد بالحق، ويجوز أن يراد به الواجب، ومعنى كون الإنجاء واجبا أنه كالأمر الواجب عليه تعالى وإلا فلا وجوب حقيقة عليه سبحانه، وقد صرح بأن الجملة اعتراضية غير واحد من المعربين ويستفاد منه أنه لا بأس الجملة الاعتراضية إذا بقي شيء من متعلقاتها، وجوز أن يكون بدلا من الكاف التي هي بمعنى مثل أو من المحذوف الذي نابت عنه.
وقيل: إن * (كذلك) * منصوب - بننجي - الأول و * (حقا) * منصوب بالثاني وهو خلاف الظاهر، والمراد بالمؤمنين إما الجنس المتناول للرسل عليهم السلام وأتباعهم وإما الأتباع فقط، وإنما لم يذكر إنجاء الرسل إيذانا بعدم الحاجة إليه، وأيا ما كان ففيه تنبيه على أن مدار الإنجاء هو الإيمان، وجىء بهذه الجملة تذييلا لما قبلها مقررا لمضمونه.
* (قل ياأيها الناس إن كنتم فى شك من دينى فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ول‍اكن أعبد الله الذى يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين) *
* (قل) * لجميع من شك في دينك وكفر بك * (يا أيها الناس) * أوثر الخطاب باسم الجنس مصدرا بحرف التنبيه تعميما للتبليغ وإظهارا لكمال العناية بشأن ما بلغ إليهم * (إن كنتم في شك من ديني) * الذي أعبد الله تعالى به وأدعوكم إليه ولم تعلموا ما هو ولا صفته حتى قلتم إنه صبا.
* (فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله) * في وقت من الأوقات * (ولكن أعبد الله الذي يتوفياكم) * ثم يفعل بكم ما يفعل من فنون العذاب، وجعل هذه الجملة باعتبار مضمونها جوابا بتأويل الإخبار وإلا فلا ترتب لها على الشرط بحسب الظاهر، فالمعنى إن كنتم في شك من ذلك فأخبركم أنه تخصيص العبادة به تعالى ورفض عبادة ما سواه من الأصنام وغيرها مما تعبدونه جهلا، وقد كثر جعل الإخبار بمفهوم الجملة جزاء نحو إن أكرمتني اليوم فقد أكرمتك أمس، وعلى هذا الطرز قوله تعالى: * (وما بكم من نعمة فمن الله) * فإن استقرار النعمة ليس سببا لحصولها من الله تعالى بل الأمر بالعكس، وإنما سبب للإخبار بحصولها منه تعالى كما قرره ابن الحاجب.
196

وقد يكون المعنى إن كنتم في شك من صحة ديني وسداده فأخبركم أن خلاصته العبادة لا له هذا شأنه دون ما تعبدونه مما هو بمعزل عن ذلك الشأن فأعرضوا ذلك على عقولكم وأجيلوا فيه أفكاركم وانظروا بعين الإنصاف لتعلموا صحته وحقيته، وذكر بعضهم أنه لا يحتاج على هذا إلى جعل المسبب الإخبار والإعلام بل يعتبر الجزاء الأمر بعرض ما ذكر على عقولهم والتفكر فيه، والأظهر اعتبار كون الإخبار جزاء كما في المعنى الأول، والتعبير عما هم عليه بالشك مع كونهم قاطعين بعدم الصحة للإيذان بأن أقصى ما يمكن عروضه للعاقل في هذا الباب هو الشك في الصحة وأما القطع بعدمها فما لا سبيل إليه، وقيل: لا نسلم أنهم كانوا قاطعين. بل كانوا في شك واضطراب عند رؤية المعجزات، وجىء - بإن - للإشارة إلا أنه مما لا ينبغي أن يكون لوجود ما يزيله.
وجوز أن يكون المعنى إن كنتم في شك من ديني ومما أنا عليه أأثبت عليه أم أتركه وأوافقكم فلا تحدثوا أنفسكم بالمحال ولا تشكوا في أمري واقطعوا عني أطماعكم واعلموا أني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولا أختار الضلالة على الهدى كقوله تعالى: * (قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون) * (الكافرون: 1، 2) ولا يخفى أن ما قبل أوفق بالمقام، وتقديم ترك عبادة غير الله تعالى على عبادته سبحانه لتقدم التخلية على التحلية كما في كلمة التوحيد والإيذان بالمخالفة من أول الأمر، وتخصيص التوفي من بين سائر صفات الأفعال بالذكر متعلقا بهم للتخويف فإنه لا شيء أشد عليهم من الموت، وقيل: المراد أعبد الله الذي خلقكم ثم يتوفاكم ثم يعيدكم وفيه إيماء إلى الحشر الذي ينكرونه وهو من أمهات أصول الدين ثم حذف الطرفان وأبقى الوسط ليدل عليهما فإنهما قد كثر اقترانهما به في القرآن * (وأمرت أن أكون من المؤمنين) * أي أوجب الله تعالى على ذلك فوجوب الإيمان بالله تعالى شرعي كسائر الواجبات، وذكر المولى صدر الشريعة أن للشرعي معنيين ما يتوقف على الشرع كوجوب الصلاة والصوم، وما ورد به الشرع ولا يتوقف على الشرع كوجوب الإيمان بالله سبحانه ووجوب تصديقه صلى الله عليه وسلم فإنه لا يتوقف على الشرع فهو ليس بشرعي بالمعنى الأول، وذلك لأن ثبوت الشرع موقوف على الإيمان بوجود الباري تعالى وعلمه وقدرته وكلامه، وعلى التصديق بنبوة النبي عليه
الصلاة والسلام بدلالة معجزاته فلو توقف شيء من هذه الأحكام على الشرع لزم الدور، ولقائل أن يمنع توقف الشرع على وجوب الإيمان ونحوه سواء أريد بالشرع خطاب الله تعالى أو شريعة النبي صلى الله عليه وسلم وتوقف التصديق بثبوت شرع النبي صلى الله عليه وسلم على الإيمان بالله تعالى وصفاته وعلى التصديق بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم ودلالة معجزاته لا يقتضي توقفه على وجوب الإيمان والتصديق ولا على العلم بوجوبهما غايته أنه يتوقف على نفس الإيمان والتصديق وهو غير مفيد لتوقفه على وجوب الإيمان والتصديق ولا مناف لتوقف وجوب الإيمان ونحوه على الشرع كما هو المذهب عندهم من أن لا وجوب إلا بالسمع، وقول الزمخشري هنا: إنه عليه الصلاة والسلام أمر بالعقل والوحي لا يخلو عن نزغة اعتزالية كما هو دأبه في كثير من المواضع، ومن قال من المفسرين منا: إنه وجب على ذلك بالعقل والسمع أراد بالعقل التابع لما سمع بالشرع فلا تبعية، والكلام على حذف الجار أي أمرت بأن أكون، وحذفه من أن وأن مطرد وإن
قطع النظر عن ذلك فالحذف بعد أمر مسموع عن العرب كقوله:
197

امرتك الخير فافعل ما أمرت به * فقد تركتك ذا مال وذا نشب
وأدخل بعضهم هذه الجملة في الجزاء وليس بمتعين.
* (وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين) *
* (وأن أقم وجهك للدين) * عطف كما قال غير واحد على * (أن أكون) *، واعترض بأن * (أن) * في المعطوف عليه مصدرية بلا كلام لعملها النصب والتي في جانب المعطوف لا يصح أن تكون كذلك لوقوع الأمر بعدها، وكذا لا يصح أن تكون مفسرة لعطفها على المصدرية ولأنه يلزم دخول الباء المقدرة عليها والمفسرة لا يدخل عليها ذلك، ودفع ذلك باختيار كونها مصدرية ووقوع الأمر بعدها لا يضر في ذلك، فقد نقل عن سيبويه أنه يجوز وصلها به، ولا فرق في صلة الموصول الحرفي بين الطلب والخبر لأنه إنما منع في الموصول الإسمي لأنه وضع للتوصل به إلى وصف المعارف بالجمل والجمل الطلبية لا تكون صفة، والمقصود من أن هذه يذكر بعدها ما يدل على المصدر الذي تأول به وهو يحصل بكل فعل، وكون تأويله يزيل معنى الأمر المقصود منه مدفوع بأنه يؤول كما أشرنا إليه فيما مر بالأمر بالإقامة إذ كما يؤخذ المصدر من المادة قد يؤخذ من الصيغة مع أنه لا حاجة إليه هنا لدلالة قوله تعالى: * (أمرت) * عليه، وفي " الفرائد " أنه يجوز أن يقدر وأوحى إلى أن أقم، وتعقبه الطيبي بأن هذا سائغ إعرابا إلا أن في ذلك العطف فائدة معنوية وهي أن * (وأن أقم) * الخ كالتفسير - لأن أكون - الخ على أسلوب - أعجبني زيد وكرمه - داخل معه في حكم المأمور فلو قدر ذلك فات غرض التفسير وتكون الجملة مستقلة معطوفة على مثلها، وفيه تأمل لجواز أن تكون هذه الجملة مفسرة للجملة المعطوفة هي عليها، وقدر أبو حيان ذلك وزعم أن * (أن) * حينئذ يجوز أن تكون مصدرية وأن تكون مفسرة لأن في الفعل المقدر معنى القول دون حروفه وأنه على ذلك يزول قلق العطف ويكون الخطاب في * (وجهك) * في محله، ورد بأن الجملة المفسرة لا يجوز حذفها، وأما صحة وقوع المصدرية فاعلا أو مفعولا فليس بلازم ولا قلق في العطف الذي عناه، وأمر الخطاب سهل لأنه لملاحظة المحكي والأمر المذكور معه.
وإقامة الوجه للدين كناية عن توجيه النفس بالكلية إلى عبادته تعالى والإعراض عمن سواه، فإن من أراد أن ينظر إلى شيء نظر استقصاء يقيم وجهه في مقابلته بحيث لا يلتفت يمينا ولا شمالا إذ لو التفت بطلت المقابلة، والظاهر أن الوجه على هذا على ظاهره ويجوز أن يراد به الذات، والمراد اصرف ذاتك وكليتك للدين واجتهد بأداء الفرائض والانتهاء عن القبائح، فاللام صلة * (أقم) * وقيل: الوجه على ظاهره وإقامته توجيهه للقبلة أي استقبل القبلة ولا تلتفت إلى اليمين أو الشمال، فاللام للتعليل وليس بذاك، ومثله القول بأن ذلك كناية عن صرف العقل بالكلية إلى طلب الدين * (حنيفا) * أي مائلا عن الأديان الباطلة، وهو حال إما من الوجه أو من الدين، وعلى الأول: تكون حالا مؤكدة لأن إقامة الوجه تضمنت التوجه إلى الحق والإعراض عن الباطل، وعلى الثاني: قيل تكون حالا منتقلة وفيه نظر، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في * (أقم) * * (ولا تكونن من المشركين) * عطف على * (أقم) * داخل تحت الأمر وفيه تأكيد له أي لا تكونن منهم اعتقادا ولا عملا.
* (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظ‍المين) *
* (ولا تدع من دون الله) * استقلالا ولا اشتراكا * (ما لا ينفعك) * بنفسه إذا دعوته بدفع مكروه أو جلب محبوب * (ولا يضرك) * إذا تركته بسلب المحبوب دفعا أو رفعا أو بإيقاع المكروه، والجملة قيل معطوفة على جملة النهي قبلها، واختار بعض المحققين عطفها على قوله سبحانه: * (قل يا أيها الناس) * (يونس: 105) فهي غير داخلة
198

تحت الأمر لأن ما بعدها من الجمل إلى آخر الآيتين متسقة لا يمكن فصل بعضها عن بعض ولا وجه لإدراج الكل تحت الأمر. وأنت تعلم أنه لو قدر فعل الإيحاء في * (وأن أقم) * كما فعل أبو حيان وصاحب الفرائد لا مانع من العطف كما هو الظاهر على جملة النهي المعطوفة على الجملة الأولى وإدراج جميع المتسقات تحت الإيحاء، وقد يرجح ذلك التقدير بأنه لا يحتاج معه إلى ارتكاب خلاف الظاهر من العطف على البعيد، وقيل: لا حاجة إلى تقدير الإيحاء والعطف كما قيل والأمر السابق بمعنى الوحي كأنه قيل: وأوحى إلى أن أكون الخ والاندراج حينئذ مما لا بأس به وهو كما ترى ولا أظنك تقبله * (فإن فعلت فإنك إذا من الظ‍المين) * أي معدودا في عدادهم، والفعل كناية عن الدعاء كأنه قيل: فإن دعوت ما لا ينفع ولا يضر، وكني عن ذلك على ما قيل تنويها لشأنه عليه الصلاة والسلام وتنبيها على رفعة مكانه صلى الله عليه وسلم من أن ينسب إليه عبادة غير الله تعالى ولو في ضمن الجملة الشرطية.
والكلام في فائدة نحو النهي المذكور قد مر آنفا، وجواب الشرط على ما في النهي جملة * (فإنك) * وخبرها أعني * (من الظالمين) * وتوسطت * (إذا) * بين الاسم والخبر مع أن رتبتها بعد الخبر رعاية للفاصلة. وفي " الكشاف " أن * (إذا) * جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر كأن سائلا سأل عن تبعة عبادة الأوثان فجعل
من الظالمين لأنه لا ظلم أعظم من الشرك * (إن الشرك لظلم عظيم) * (لقمان: 13) وهذه عبارة النحويين، وفسرت كما قال الشهاب: بأن المراد أنها تدل على أن ما بعدها مسبب عن شرط محقق أو مقدر وجواب عن كلام محقق أو مقدر. وقد ذكر الجلال السيوطي عليه الرحمة في " جمع الجوامع " - بعد أن بين أن - إذا - الظرفية قد يحذف جزء الجملة التي أضيفت هي إليها أو كلها فيعوض عنه التنوين وتكسر للساكنين لا للإعراب خلافا للأخفش وقد تفتح - أن شيخه الكافيجي ألحق بها * (إذن) *، ثم قال في شرحه " همع الهوامع ": وقد أشرت بقولي: وألحق شيخنا بها في ذلك * (إذن) * إلى مسألة غريبة قل من تعرض لها؛ وذلك أني سمعت شيخنا عليه الرحمة يقول في قوله تعالى: * (ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون) * ليست * (إذن) * هذه الكلمة المعهودة وإنما هي إذا الشرطية حذفت جملتها التي يضاف إليها وعوض عنها التنوين كما في يومئذ وكنت أستحسن هذا جدا وأظن أن الشيخ لا سلف له في ذلك حتى رأيت بعض المتأخرين جنح إلى ما جنح إليه الشيخ، وقد أوسعت الكلام في ذلك في حاشية المغني انتهى.
وأنت تعلم أن الآية التي ذكرها كالآية التي نحن فيها وما ذكره مما يميل إليه القلب ولا أرى فيه بأسا ولعله أولى مما قاله صاحب الكشاف ومتبعوه فليحمل ما في الآية عليه، وكان كثيرا ما يخطر لي ذلك إلا أني لم أكد أقدم على إثباته حتى رأيته لغيري ممن لا ينكر فضله فأثبته حامدا لله تعالى.
* (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا رآد لفضله يصيب به من يشآء من عباده وهو الغفور الرحيم) *
* (وإن يمسسك الله بضر) * تقرير لما أورد في حيز الصلة من سلب النفع من المعبودات الباطلة وتصوير لاختصاصه به سبحانه أي وإن يصبك بسوء ما * (فلا كاشف له) * عنك كائنا من كان وما كان * (إلا هو) * وحده فثبت عدم كشف الأصنام بالطريق البرهاني، وهو بيان لعدم النفع برفع المكروه المستلزم لعدم النفع بجلب المحبوب استلزاما ظاهرا، فإن رفع المكروه أدنى مراتب النفع فإذا انتفى انتفى النفع بالكلية * (وإن يردك بخير) * تحقيق لسلب الضرر الوارد في حيز الصلة أي إن يرد أن يصيبك بخير * (فلا راد لفضله) * الذي من جملته ما أرادك به من الخير، فهو دليل على جواب الشرط لا نفس
199

الجواب، وفيه إيذان بأن فيضان الخير منه تعالى بطريق التفضل والكرم من غير استحقاق عليه سبحانه أي لا أحد يقدر على رده كائنا من كان فيدخل فيه الأصنام دخولا أوليا، وهو بيان لعدم ضرها بدفع المحبوب قبل وقوعه المستلزم لعدم ضرها برفعه أو بإيقاع المكروه استلزاما جليا؛ ولعل ذكره الإرادة مع الخير والمس مع الضر مع تلازم الأمرين لأن ما يريده سبحانه يصيب وما يصيب لا يكون إلا بإرادته تعالى للإيذان بأن الخير مقصود لله تعالى بالذات والضر إنما يقع جزاء على الأعمال وليس مقصودا بالذات، ويحتمل أنه أريد معنى الفعلين في كل من الخير والضر لاقتضاء المقام تأكيد كل من الترغيب والترهيب إلا أنه قصد الإيجاز في الكلام فذكر في أحدهما المس وفي الآخر الإرادة ليدل بما ذكر في كل جانب على ما ترك في الجانب الآخر، ففي الآية نوع من البديع يسمى احتباكا وقد تقدم في غير آية، ولم يستثن سبحانه في جانب الخير إظهارا لكمال العناية به وينبىء عن ذلك قوله تعالى: * (يصيب به من يشاء من عباده) * حيث صرح جل شأنه بالإصابة بالفضل المنتظم لما أراد من الخير، وقيل: إنما لم يستثن جل وعلا في ذلك لأنه قد فرض فيه أن تعلق الخير به واقع بإرادته تعالى وصحة الاستثناء تكون بإرادة ضده في ذلك الوقت وهو محال، وهذا بخلاف مس الضر فإن إرادة كشفه لا تستلزم المحال وهو تعلق الإرادتين بالضدين في وقت واحد، وفي العدول عن يرد بك الخير إلى ما في النظم الجليل إيماء كما قيل إلى أن المقصود هو الإنسان وسائر الخيرات مخلوقة لأجله، وما أشرنا إليه من رجوع ضمير * (به) * إلى الفضل هو الظاهر المناسب، وجوز رجوعه لما ذكر وليس بذاك، وحمل الفضل على العموم أولا وآخرا حسبما علمت هو الذي ذهب إليه بعض المحققين رادا على من جعله عبارة عن ذلك الخير بعينه على أن يكون الإتيان به أولا ظاهرا من باب وضع المظهر موضع المضمر إظهارا لما ذكر من الفائدة بأن قوله سبحانه: * (من يشاء من عباده) * يأبى ذلك لأنه ينادي بالعموم، ويجوز عندي أن يكون الكلام من باب - عندي درهم ونصفه -، وقوله سبحانه: * (وهو الغفور الرحيم) * تذييل لقوله تعالى: * (يصيب به) * الخ مقرر لمضمونه والكل تذييل للشرطية الأخيرة مقرر لمضمونها. وذكر الإمام في هذه الآيات أن قوله تعالى: * (ولا تكونن من المشركين) * (يونس: 105) لا يمكن أن يكون نهيا عن عبادة الأوثان لأن ذلك مذكور في قوله سبحانه أول الآية: * (لا أعبد الذين تعبدون من دون الله) * (يونس: 104) فلا بد من حمل هذا الكلام على ما فيه فائدة زائدة وهي أن من عرف مولاه لو التفت بعد ذلك إلى غيره كان ذلك شركا وهو الذي يسميه أصحاب القلوب بالشرك الخفي، ويجعل قوله سبحانه: * (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك) * (يونس: 106) إشارة إلى مقام هو آخر درجات العارفين لأن ما سوى الحق ممكن لذاته موجود بإيجاده والممكن لذاته معدوم بالنظر إلى ذاته وموجود بإيجاب الحق وحينئذ فلا نافع إلا الحق ولا ضار إلا هو وكل شيء هالك إلا وجهه وإذا كان كذلك فلا رجوع إلا إليه عز شأنه في الدارين. ومعنى * (فإن فعلت) * الخ فإن اشتغلت بطلب المنفعة والمضرة من غير الله تعالى فأنت من الظالمين أي الواضعين للشيء في غير موضعه إذ ما سوى الله تعالى معزول عن التصرف فإضافة التصرف إليه وضع للشيء في غير موضعه وهو الظلم، وطلب الانتفاع بالأشياء التي خلقها الله تعالى للانتفاع بها من الطعام والشراب ونحوهما لا ينافي الرجوع بالكلية إلى الله تعالى بشرط أن يكون بصر العقل عند التوجه إلى شيء
200

من ذلك مشاهدا لقدرة الله تعالى وجوده وإحسانه في إيجاد تلك الموجودات وإيداع تلك المنافع فيها مع الجزم بأنها في أنفسها وذواتها معدومة وهالكة ولا وجود لها ولا بقاء ولا تأثير إلا بإيجاد الله تعالى وإبقائه وإفاضة ما فيها من الخواص عليها بجوده وإحسانه، وقوله تبارك وتعالى: * (وإن يمسسك الله) * الخ تقرير لأن جميع الممكنات مستندة إليه سبحانه وتعالى وإنه لا معول إلا عليه عز شأنه، وهو كلام حسن بيد أن زعمه أن قوله تعالى: * (ولا تكونن من المشركين) * (يونس: 105) لا يمكن أن يكون نهيا عن عبادة الأوثان الخ لا يخفى ما فيه. وقد ذكر نحو هذا الكلام في الآيات ساداتنا الصوفية، ففي أسرار القرآن أنه سبحانه خوف نبيه صلى الله عليه وسلم من الالتفات إلى غيره في اقباله عليه سبحانه بقوله: * (ولا تكونن من المشركين) * أي من الطالبين غيري والمؤثرين على جمال مشاهدتي ما لا يليق من
الحدثان، وقد ذكروا أن إقامة الملة الحنيفية بتصحيح المععرفة وهو لا يكون إلا بترك النظر إلى ما سوى الحق جل جلاله، ثم أنه تعالى زاد تأكيدا للإقبال عليه والاعراض عما سواه بقوله جل شأنه: * (ولا تدع) * الخ حيث أشار فيه إلى أن من طلب النفع أو الضر من غيره تعالى فهو ظالم أي واضع للربوبية في غير موضعها. ومن هنا قال شقيق البلخي: الظالم من طلب نفعه ممن لا يملك نفع نفسه واستدفع الضر ممن لا يملك الدفاع عن نفسه ومن عجز عن إقامة نفسه كيف يقيم غيره، وقرر ذلك بقوله تعالى: وإن يمسسك الخ.
ومن ذلك قال ابن عطاء: إنه تعالى قطع على عباده الرهبة والرغبة إلا منه وإليه بإعلامه أنه الضار النافع؛ وقد يكون الضر إشارة إلى الحجاب والخير إشارة إلى كشف الجمال أي إن يمسسك الله بضر الحجاب فلا كاشف لضرك إلا هو بظهور أنوار وصاله وإن يردك بكشف جماله فلا راد لفضل وصاله من سبب وعلة فإن المختص في الازل بالوصال لا يحتجب بشيء من الأشياء لأنه في الفضل السابق مصون من جريان القهر * (هذا) * ولعله مغن عن الكلام من باب الإشارة في الآيات حسبما هو العادة في الكتاب.
* (قل ياأيها الناس قد جآءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ومآ أنا عليكم بوكيل) *
* (قل) * يا أيها الرسول مخاطبا لأولئك الكفرة بعد ما بلغتهم ما أوحى إليك أو للمكلفين مطلقا كما قال الطبرسي * (يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم) * وهو القرآن العظيم الظاهر الدلالة المشتمل على محاسن الأحكام التي من جملتها ما مرآنفا من أصول الدين واطلعتم على ما في تضاعيفه من البينات والهدى ولم يبق لكم عذر، وقيل: المراد من الحق النبي صلى الله عليه وسلم وفيه من المبالغة ما لا يخفى. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد أن * (الحق) * هو ما دل عليه قوله تعالى: * (وإن يمسك) * الخ وهو كما ترى * (فمن اهتدى) * بالإيمان والمتابعة * (فانما يهتدي لنفسه) * أي منفعة اهتدائه لها * (ومن ضل) * بالكفر والاعراض * (فإنما يضل عليها) * أي فوبال ضلاله عليها، قيل: والمراد تنزيه ساحة الرسالة عن شائبة غرض عائد إليه عليه الصلاة والسلام من جلب نفع ودفع ضر، ويلوح إليه إسناد المجيء إلى الحق من غير اشعار بكون ذلك بواسطته صلى الله عليه وسلم * (وما أنا عليكم بوكيل) * أي بحفيظ موكول إلى أمركم وإنما أنا بشير ونذير، وفي الآية إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام لا يجبرهم على الإيمان ولا يكرههم عليه وإنما عليه البلاغ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها منسوخة بآية السيف.
* (واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الح‍اكمين) *
* (واتبع) * في جميع شؤونك
201

من الاعتقاد والعمل والتبليغ * (ما يوحى إليك) * على نهج التجدد والاستمرار، والتعبير عن بلوغ الحق المفسر بالقرآن إليهم بالمجيء وإليه صلى الله عليه وسلم بالوحي تنبيه على ما بين المرتبتين من التنافي، وإذا أريد من الحق ما قيل فالأمر ظاهر جدا * (واصبر) * على ما يعتريك من مشاق التبليغ وأذى من ضل * (حتى يحكم الله) * بالنصرة عليه أو بالأمر بالقتال * (وهو خير الحاكمين) * إذ لا يمكن الخطأ في حكمه تعالى لاطلاعه على السرائر كاطلاعه على الظواهر، وغيره جل شأنه من الحاكمين إنما يطلع على الظواهر فيقع الخطأ في حكمه، ولا يخفى ما في هذه الآيات من الموعظة الحسنة وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم ووعد للمؤمنين والوعيد للكافرين والحمد لله تعالى رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين الذي يؤنس ذكره قلوب الموحدين وعلى آله وصحبه أجمعين.
سورة هود
كما أخرج ذلك ابن النحاس في تاريخه، وأبو الشيخ. وابن مردويه من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما ولم يستثنيا منها شيئا وإلى ذلك ذهب الجمهور، واستثنى بعضهم منها ثلاث آيات * (فعلك تارك) * (هود: 12). * (أفمن كان على بينة من ربه) * * (أقم الصلاة طرفي النهار) * (هود: 114) وروى استثناء الثالثة عن قتادة، قال الجلال السيوطي: ودليله ما صح من عدة طرق أنها نزلت بالمدينة في حق أبي اليسر، وهي كما قال الداني في كتاب العدد مائة واحدى وعشرون آية في المدني الأخير واثنتان في المدني الأول وثلاث في الكوفي، ووجه اتصالها بسورة يونس عليه السلام أنه ذكر في سورة يونس قصة نوح عليه السلام مختصرة جدا مجملة فشرحت في هذه السورة وبسطت فيها ما لم تبسط في غيرها من السور ولا سورة الاعراف على طولها ولا سورة * (إنا أرسلنا نوحا) * (نوح: 1) التي أفردت لقصته فكانت هذه السورة شرحا لما أجمل في تلك السورة وبسطا له ثم أن مطلعها شديد الارتباط بمطلع تلك فإن قوله تعالى هنا: * (الر كتاب أحكمت آياته) * (هود: 1) نظير قوله سبحانه هناك: * (الر تلك آيات الكتاب الحكيم) * (يونس: 1) بل بين مطلع هذه وختام تلك شدة ارتباط أيضا حيث ختمت بنفي الشرك واتباع الوحي وافتتحت هذه ببيان الوحي والتحذير من الشرك، وورد في فضلها ما ورد، فقد أخرج الدارمي. وأبو داود في مراسيله. والبيهقي في شعب الإيمان. وغيرهم عن كعب قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأوا هودا يوم الجمعة ". وأخرج الترمذي وحسنه. وابن المنذر. والحاكم وصححه. والبيهقي في البعث والنشور من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: " قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله قد شبت قال: شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت ". وأخرج ابن عساكر من طريق يزيد الرقاشي عن أنس عن الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال: " يا رسول الله أسرع إليك الشيب قال: أجل شيبتنب سورة هود واخواتها الواقعة والقارعة والحاقة وإذا الشمس كورت وسأل سائل ".
وقد جاء في بعض الروايات أيضا أن عمر رضي الله تعالى عنه عنه قال له عليه الصلاة والسلام: أسرع إليك الشيب يا رسول الله فأجابه بنحو ما ذكر إلا أنه ذكر من الأخوات الواقعة. وعم. وإذا الشمس كورت، وفي رواية أخرى عن سعد بن أبي وقاص قال: قلت يا رسول الله لقد شبت فقال: شيبتني هود والواقعة إلى
202

آخر ما في خبر عمر، وفي بعضها الاقتصار على " شيبتني هود وأخواتها "، وفي بعض آخر بزيادة " وما فعل بالأمم من قبلي " وقد أخرج ذلك ابن عساكر عن جعفر
بن محمد عن أبيه رضي الله تعالى عنهما مرفوعا.
وأخرج ابن مردويه. وغيره عن عمران بن حصين " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أصحابه: أسرع إليك الشيب فقال: شيبتنب هود وأخواتها من المفصل والواقعة " وكل ذلك يدل على خطرها وعظم ما اشتملت عليه وأشارت إليه وهو الذي صار سببا لاسراع الشيب إليه صلى الله عليه وسلم، وفسره بعضهم بذكر يوم القيامة وقصص الأمم ويشهد له بعض الآثار. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي علي الشترى قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام: فقلت يا رسول الله روي عنك أنك قلت: " شيبتني هود " قال: نعم. فقلت: ما الذي شيبك منها قصص الأنبياء عليهم السلام وهلاك الأمم؟ قال: لا ولكن قوله تعالى: * (فاستقم كما أمرت) * (هود: 112) وهذا هو الذي اعتمد عليه بعض السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم وبينه بما بينه، والحق أن الذي شيبه صلى الله عليه وسلم ما تضمنته هذه السورة أعم من هذا الأمر وغيره مما عظم أمره على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتضى علمه الجليل ومقامه الرفيع، وهذا هو المنقدح لذهن السامع ولذلك لم يسأله صلى الله عليه وسلمأصحابه عما شيبه منها ومن أخواتها بل اكتفوا بما يتبادر من أمثال ذلك الكلام.
ودعوى أن المتبادر لهم رضي الله تعالى عنهم ما خفي على أبي علي فلذلك لم يسألوا على تقدير تسليمها يبقى أنهم لم لم يسألوا عما شيبه عليه الصلاة والسلام من الأخوات مع أنه ليس فيها إلا ذكر يوم القيامة وهلاك الأمم دون ذلك الأمر؟ وكونهم علموا أن المشيب فيها ذلك وفي اخواتها شيء آخر هو ذكر يوم القيامة وهلاك الأمم يأباه ما في خبر أبي علي من نفيه صلى الله عليه وسلم، وكون ما ذكر مشيبا مفهوما من سورة دون أخرى لا يخفى حاله، وبالجملة لا ينبغي التعويل على هذه الرواية وإن سلم أنها صحت عن أبي علي، واتهام الرائي بعدم الحفظ أو بعدم تحقيق المرئي أهون من القول بصحة الرؤية والتكلف لتوجيه ما فيها، وسيأتي في آخر السورة إن شاء الله تعالى تمام الكلام في هذا المقام فليفهم.
* (الر كتاب أحكمت ءاي‍اته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) *
* (بسم الله الرحم‍ان الرحيم الر) * اسم للسورة على ما ذهب إليه الخليل. وسيبويه. وغيرهما أو للقرآن على ما روي عن الكلبي. والسدى، وقيل: إنها إشارة إلى اسم من أسمائه تعالى أو صفة من صفاته سبحانه، وقيل: هي إقسام منه تعالى بما هو من أصول اللغات ومبادي كتبه المنزلة ومباني أسمائه الكريمة، وقايل وقيل، وقد تقدم الكلام فيما ينفعك هنا على أتم تفصيل، واختار غير واحد من المتأخرين كونها اسما للسورة وأنها خبر مبتدأ محذوف أي هذه السورة مسماة - بالر - وقيل: محلها الرفع على الابتداء أو النصب بتقدير فعل يناسب المقام نحو اذكر أو اقرأ، وقوله سبحانه: * (كتاب) * خبر لها على تقدير ابتدائيتها أو لمبتدأ محذوف على غيره من الوجوه، والتنوين فيه للتعظيم أي كتاب عظيم الشأن جليل القدر * (أحكمت ءاياته) * أي نظمت نظما محكما لا يطرأ عليه اختلال فلا يكون فيه تناقض أو مخالفة للواقع والحكمة أو شيء مما يخل بفصاحته وبلاغته فالأحكام مستعار من إحكام البناء بمعنى اتقانه أو منعت من النسخ لبعضها أو لكلها بكتاب آخر كما وقع للكتب السالفة فالأحكام من أحكمه إذا منعه؛ ويقال: أحكمت السفيه إذا منعته من السفاهة، ومنه قول جرير: أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم * إني أخاف عليكم إن أغضبا
203

وقيل: المراد منعت من الفساد أخذا من أحكمت الدابة إذا جعلت في فمها الحكمة وهي حديدة تجعل في فم الدابة تمنعها من الجماح، فكأن ما فيها من بيان المبدأ والمعاد بمنزلة دابة منعها الدلائل من الجماح، ففي الكلام استعارة تمثيلية أو مكنية. وتعقب بأن تشبيهها بالدابة مستهجن لا داعي إليه، ولعل الذوف يفرق بين ذلك وبين تشبيهها بالجمل الأنوف الوارد في بعض الآثار لانقيادها مع المتأولين لكثرة وجوه احتمالاتها الموافقة لأغراضهم.
واعترض بعضهم على إرادة المنع من الفساد بأن فيه إيهام ما لا يكاد يليق بشأن الآيات الكريمة من التداعي إلى الفساد لولا المانع، فالأول إذ يراد معنى المنع أن يراد المنع من النسخ ويراد من الكتاب القرآن وعدم نسخه كلا أو بعضا على حسب ما أشرنا إليه؛ وكون ذلك خلاف الظاهر في حيز المنع.
وادعى بعضهم أن المراد بالآيات آيات هذه السورة وكلها محكمة غير منسوخة بشيء أصلا، وروي ذلك عن ابن زيد وخولف فيه. وادعى أن فيها من المنسوخ أربع آيات قوله سبحانه: * (إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل) * (هود: 12) * (وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون) * (هود: 121) والتي تليها ونسخت جميعا بآية السيف و * (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها) * (هود: 15) الآية ونسخت بقوله سبحانه * (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد) * ولا يخلو عن نظر، ويجوز أن يكون المعنى منعت من الشبه بالحجج الباهرة وأيدت بالأدلة الظاهرة أو جعلت حكمية أي ذات حكمة لاشتمالها على أصول العقائد والأعمال الصالحة والنصائح والحكم، والفعل على هذا منقول من حكم بالضم إذا صار حكيما، ومنه قول نمر بن تولب: وأبغض بغيضك بغضا رويدا * إذا أنت حاولت أن تحكما
فقد قال الأصمعي: إن المعنى إذا حاولت أن تكون حكيما، وفي إسناد الإحكام على الوجوه المذكورة إلى الآيات دون الكتاب نفسه لا سيما إذا أريد ما يشمل كل آية آية من حسن الموقع والدلالة على كونه في أقصى غاياته ما لا يخفى * (ثم فصلت) * أي جعلت مفصلة كالعقد المفصل بالفرائد التي تجعل بين اللالىء، ووجه جعلها كذلك اشتمالها على دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص أو فصل فيها مهمات العباد في المعاش والمعاد على الإسناد المجازي أو جعلت فصلا فصلا من السورو يراد بالكتاب القرآن، وقيل: يصح أن يراد به هذه السورة أيضا على أن المعنى جعلت معاني آياتها في سور ولا يخفى أنه تكلف لا حاجة إليه. أو فرقت في التنزيل فلم تنزل جملة بل نزلت نجما نجما على حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة، و * (ثم) * على هذا ظاهرة في التراخي الزماني لما أن المتبادر من التنزيل المنجم فيه التنزيل المنجم بالفعل، وإن أريد جعلها في نفسها بحيث يكون نزولها منجما حسب الحكمة فهو رتبي لأن ذلك وصف لازم لها حقيق بأن يرتب على وصف أحكامها، وهي على الأوجه الأول للتراخي الرتبي لا غير، وقيل: للتراخي بين الأخبارين. واعترض بأنه لا تراخي هناك إلا أن يراد بالتراخي الترتيب مجازا أو يقال بوجوده
باعتبار ابتداء الخير الأول وانتهاء الثاني.
وأنت تعلم أن القول بالتراخي في الرتبة أولى خلا أن تراخى رتبة التفصيل بأحد المعنيين الأولين عن رتبة الأحكام أمر ظاهر وبالمعنى الثالث فيه نوع خفاء، ولا يخفى عليك أن الاحتمالات في الآية الحاصلة من ضرب معاني الأحكام الأربعة في معاني التفصيل كذلك وضرب المجموع في احتمالات المراد - بثم - تبلغ اثنين وثلاثين أو ثمانية وأربعين احتمالا ولا حجر. والزمخشري ذكر للأحكام على ما في الكشف ثلاثة أوجه.
204

أخذه من أحكام البناء نظرا إلى التركب البالغ حد الإعجاز. أو من الأحكام جعلها حكيمة. أو جعلها ذات حكمة فيفيد معنى المنع من الفساد، وللتفصيل أربعة. جعلها كالقلائد المفصلة بالفرائد لما فيها من دلائل التوحيد وأخواتها، وجعلها فصولا سورة سورة وآية آية. وتفريقها في التنزيل. وتفصيل ما يحتاج إليه العباد وبيانه فيها روي هذا عن مجاهد، وقال: إن معنى * (ثم) * ليس التراخي في الوقت ولكن في الحال كما تقول هي محكمة أحسن الإحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل، وفلان كريم الأصل ثم كريم الفعل.
والظاهر أنه أراد أنها في جميع الاحتمالات كذلك، وفيه أيضا أنه إذا أريد بالإحكام أحد الأولين وبالتفصيل أحد الطرفين فالتراخي رتبي لأن الأحكام بالمعنى الأول راجع إلى اللفظ والتفصيل إلى المعنى، وبالمعنى الثاني وإن كان معنويا لكن التفصيل اكمال لما فيه من الإجمال، وان أريد أحد الأوسطين فالتراخي على الحقيقة لأن الأحكام بالنظر إلى كل آية في نفسها وجعلها فصولا بالنظر إلى بعضها مع بعض أو لأن كل آية مشتملة على جمل من الألفاظ المرصفة وهذا تراخ وجودي، ولما كان الكلام من السائلات كان زمانيا أيضا، ولكن الزمخشري آثر التراخي في الحال مطلقا حملا على التراخي في الأخبار في هذين الوجهين ليطابق اللفظ الوضع وليظهر وجه العدول من الفاء إلى ثم، وإن أريد الثالث وبالتفصيل أحد الطرفين فرتبي وإلا فأخباري، والأحسن أن يراد بالأحكام الأول وبالتفصيل أحد الطرفين وعليه ينطبق المطابقة بين * (حيكم) * ودخبير) * و * (احكمت) * و * (فصلت) * ثم قال: ومنه ظهر أن التراخي في الحال يشمل التراخي الرتبي والأخباري انتهى فليتأمل، وقرىء * (أحكمت) * بالبناء للفاعل المتكلم و * (فصلت) * بفتحتين مع التخفيف وروي هذا عن ابن كثير، والمعنى ثم فرقت بين الحق والباطل، وقيل: * (فصلت) * هنا مثلها في قوله تعالى: * (ولما فصلت العير) * (يوسف: 94) أي انفصلت وصدرت * (من لدن حكيم خبير) * صفة لكتاب وصف بها بعد ما وصف بأحكام آياته وتفصيلها الداليت على علو مرتبته من حيث الذات إبانة لجلالة شأنه من حيث الإضافة أو خبر ثان للمبتدأ الملفوظ أو المقدر أو هو معمول لأحد الفعلين على التنازع مع تعلقه بهما معنى أي من عنده أحكامها وتفصيلها واختار هذا في الكشف. وفي الكشاف أن فيه طباقا حسنا لأن المعنى أحكمها حكيم وفصلها أي بينها وشرحها خبير عالم بكيفيات الأمور ففي الآية اللف والنشر، وأصل الكلام على ما قال الطيبي: أحكم آياته الحكيم وفصلت الخبير ثم عدل عنه إلى أحكمت حكيم وفصلت خبير على حد قوله تعالى: * (يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال) * (النور: 36) على قراءة البناء للمفعول، وقوله:
لبيك يزيد ضارع لخصومة * ومختبط مما تطيح الطوائح
ثم إلى ما في النظم الجليل لما في الكناية من الحسن مع إفادة التعظيم البالغ الذي لا يصل إلى كنهه وصف الواصف لا سيما وقد جيء بالاسمين الجليلين منكرين بالتنكير التفخيمي، و * (لدن) * من الظروف المبنية وهي لأول غاية زمان أو مكان، والراد هنا الأخير مجازا، وينبت لشبهها بالحرف في لزومها استعمالا واحدا وهي كونها مبدأ غاية وامتناع الأخبار بها وعنها ولا يينى عليها المبتدأ بخلاف عند و - لدي - فانهما لا يلزمان استعمالا واحدا بل يكونان لابتداء الغاية وغيرها ويبنى عليهما المبتدأ كما في قوله سبحانه: * (وعنده مفاتح الغيب) * (الأنعام: 59) * (ولدينا مزيد) * (ق: 35) قيل: ولقوة شبهها بالحرف وخروجها عن نظائرها لا تعرب إذا أضيفت. نعم جاء عن قيس اعرابها تشبيها
205

بعند وعلى ذلك خرجت قراءة عاصم * (بأسا شديدا من لدنه) * (الكهف: 2) بالجر واشمام الدال الساكنة الضم واقترانها بمن كما في الآية، وكذا إضافتها إلى مفرد كيفما كان هو الغالب وقد تتجرد عن - من - وقد تضاف إلى جملة اسمية كقوله: وتذكر نعماه لدن أنت يافع
وفعلية كقوله:
صريح غوان راقهن ورقنه * لدن شب حتى شاب سود الذوائب
ومنع ابن الدهان من إضافتها إلى الجملة وأول ما ورد من ذلك على تقدير أن المصدرية بدليل ظهورها معها في قوله: وليت فلم تقطع لدن ان وليتنا * قرابة ذي قربى ولاحق مسلم
ولا يخفى ما في التزام ذلك من التكلف لا سيما في مثل - لدن أنت يافع - وتتمحض للزمان إذا أضيفت إلى الجملة، وجاء نصب غدوة بعدها في قوله: لدن غدوة حتى دنت لغروب وخرج على التمييز، وحكى الكوفيون رفعها بعدها وخرج على إضماء كان، وفيها ثمان لغات. فمنهم من يقول * (لدن) * بفتح اللام وضم الدال وسكون النون وهي اللغة المشهورة، وتخفف بحذف الضمة كما في عضد وحينئذ يتلقى ساكنان. فمنهم من يحذف النون لذلك فيبقى - لد - بفتح اللام وسكون الدال. ومنهم من لا يحذف ويحرك الدال فتحا فيقول * (لدن) * بفتح اللام والدال وسكون النون. ومنهم من لا يحذف ويحرك الدال كسرا فيقول * (لدن) * بفتح اللام وكسر الدال وسكون النون ومنهم من لا يحذف ويحرك النون بالكسر فيقول * (لدن) * بفتح اللام وسكون الدال وكسر النون، وقد يخفف بنقل ضمة الدال إلى اللام كما يقال في عضد عضد بضم العين وسكون الضاد على قلة، وحينئذ يلتقي ساكنان أيضا. فمنهم من يحذف النون لذلك فيقول - لد - بضم اللام وسكون الدال. ومنهم من لا يحذف ويحرك النون بالكسر فيقول * (لدن) * بضم اللام وسكون الدال وكسر النون فهذه سبع لغات. وجاء - لد - بحذف نون * (لدن) * التي هي أم الجميع وبذلك تتم
الثمانية، ويدل على أن أصل - لد - لدن إنك إذا أضفته لمضمر جئت بالنون فقتول: من لدنك ولا يجوز من - لدك - كما نبه عليه سيبويه، وذكر لها في همع الهوامع عشر لغات ما عدا اللغة القيسية فليراجع.
* (ألا تعبدوا إلا الله إننى لكم منه نذير وبشير) *
* (ألا تعبدوا إلا الله) * في موضع العلة للفعلين السابقين على جعل * (أن) * مصدرية وتقدير اللام معها كأنه قيل: كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لئلا تعبدوا إلا الله أي لتتركوا عبادة غيره عز وجل وتتمحضوا لعبادته سبحانه، فإن الأحكام والتفصيل مما يدعوهم إلى الإيمان والتوحيد وما يتفرع عليه من الطاعات قاطبة. وجوز أن تكون مفسرة لما في التفصيل من معنى القول دون حروفه كأنه قيل: فصل وقال: لا تعبدوا إلا الله أو أمر أن لا تعبدوا إلا الله، وقيل: إن هذا كلام منقطع عما قبله غير متصل به اتصالا لفظيا بل هو ابتداء كلام قصد به الاغراء على التوحيد على لسانه صلى الله عليه وسلم و * (أن) * وما بعدها في حيز المفعول به لمقدر كأنه قيل: الزموا ترك عبادة غيره تعالى، واحتمال أن يكون ما قبل أيضا مفعولا به بتقدير قل أول الكلام خلاف الظاهر، ومثله احتمال كون * (أن) * والفعل في موقع المفعول المطلق، وقد صرح بعض المقحقين أن ذلك مما لا يحسن أو لا يجوز فلا ينبغي أن يلتفت إليه * (انني لكم منه نذير وبشير) * ضمير الغائب المجرور لله تعالى و * (من) * لابتداء الغاية، والجار والمجرور في الأصل صفة النكرة فلما قدم عليها صار حالا كما هو المعروف في أمثاله أي إني لكن من جهته تعالى نذير أنذركم عذابه أن لم تتركوا ما أنتم عليه من عبادة غيره سبحانه وبشير
206

أبشركم ثوابه إن آمنتم وتمحضتم في عبادته عز وجل، وجوز كون * (من) * صلة النذير والضمير إما له تعالى أيضا، والمعنى حينئذ على ما قال أبو البقاء نذير من أجل عذابه وإما للكتاب على معنى إني لكن نذير من مخالفته وبشير لمن آمن به، وقوله تعالى:
* (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإنيأخاف عليكم عذاب يوم كبير) *
* (وأن استغفروا ربكم) * عطف على * (أن لا تعبدوا إلا الله) * سواء كان نهيا أو نفيا وفي * (أن) * الاحتمالان السابقان وقد علمت أن الحق أن * (أن) * المصدرية توصل بالأمر والنهي كما توصل بغيرهما، وفي توسيط جملة * (إني لكم) * الخ بين المتعاطفين ما لا يخفى من الإشارة إلى علو شأن التوحيد ورفعة قدر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روعي في تقديم الانذار على التبشير ما روعي في الخطاب من تقديم النفي على الإثبات والتخلية على التحلية لتتجاوب الأطراف، والتعرض لوصف الربوبية تلقين للمخاطبين وأرشاد لهم إلى طريق الابتهال في السؤال وترشيح لما يذكر من التمتيع وإيتاء الفضل، وقوله سبحانه: * (ثم توبوا إليه) * عطف على * (استغفروا) * واختلف في توجيه توسيط * (ثم) * بينهما مع أن الاستغفار بمعنى التوبة في العرف فقال الجبائي: إن المراد بالاستغفار هنا التوبة عما وقع من الذنوب وبالتوبة الاستغفار عما يقع منها بعد وقوعه أي استغفروا ربكم من ذنوبكم التي فعلتموها ثم توبوا إليه من ذنوب تفعلونها، فكلمة * (ثم) * على ظاهرها من التراخي في الزمان، وقال الفراء: إن * (ثم) * بمعنى الواو كما في قوله: بهز كهز الرديني * جرى في الأنابيب ثم اضطرب
والعطف تفسيري، وقيل: لا نسلم أن الاستغفار هو التوبة بل هو ترك المعصية والتوبة هي الرجوع إلى الطاعة ولئن سلم أنهما بمعنى - فثم - للتراخي في الرتبة، والمراد بالتوبة الإخلاص فيها والاستمرار عليها وإلى هذا ذهب صاحب الفرائد. وقال بعض المحققين: الاستغفار هو التوبة إلا أن المراد بالتوبة في جانب المعطوف التوصل إلى المطلوب مجازا من إطلاق السبب على المسبب، و * (ثم) * على ظاهرها وهي قرينة على ذلك.
وأنت تعلم أن أصل معنى الاستغفار طلب الغفر أي الستر ومعنى التوبة الرجوع، ويطلق الأول على طلب ستر الذنب من الله تعالى والعفو عنه والثاني على الندم عليه مع العزم على عدم العود فلا اتحاد بينهما بل ولا تلازم عقلا، لكن اشترط شرعا لصحة ذلك الطلب وقبوله الندم على الذنب مع العزم على عدم العود إليه، وجاء أيضا استعمال الأول في الثاني، والاحتياج إلى توجيه العطف على هذا ظاهر، وأما على ذاك فلأن الظاهر أن المراد من الاستغفار المأمور به الاستغفار المسبوق بالتوبة بمعنى الندم فكأنه قيل: استغفروا ربكم بعد التوبة ثم توبوا إليه ولا شبهة في ظهور احتياجه إلى التوجيه حينئذ، والقلب يميل فيه إلى حمل الأمر الثاني على الإخلاص في التوبة والاستمرار عليها، والتراخي عليه يجوز أن يكون رتبيا وأن يكون زمانيا كما لا يخفى * (يمتعكم متاعا حسنا) * مجزوم بالطلب، ونصب * (متاعا) * على أنه مفعول مطلق من غير لفظه كقوله تعالى: * (أنبتكم من الأرض نباتا) * ويجوز أن يكون مفعولا به على أنه اسم لما ينتفع به من منافع الدنيا من الأموال والبنين وغير ذلك، والمعنى كما قيل يعشكم في أمن وراحة، ولعل هذا لا ينافي كون الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ولا كون أشد الناس بلاء الامثل فالأمثل لأن المراد بالأمن أمنه من غير الله تعالى * (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) * (الطلاق: 3) وبالراحة طيب عيشه برجاء الله تعالى والتقريب إليه حتى يعد المحنة منحة:
207

وتعذيبكم عذب لدى وجوركم * علي بما يقضي الهوى لكم عدل
وقال الزجاج: المراد يبقيكم ولا يستأصلكم بالعذاب كما استأصل أهل القرى الذين كفروا، والخطاب لجميع الأمة بقطع النظر عن كل فرد فرد * (إلى أجل مسمى) * مقدر عند الله تعالى وهو آخر أعماركم أو آخر أيام الدنيا كما يقتضيه كلام الزجاج، ولا دلالة في الآية على أن للإنسان أجلين كما زعمه المعتزلة * (ويؤت) * أي يعط * (كل ذي فضل) * أي زيادة في العمل الصالح * (فضله) * أي جزاء فضله في الدنيا أو في الآخرة لأن العمل لا يعطى، وقد يقال: لا حاجة إلى تقدير المضاف، والمراد المبالغة على حد * (سيجزيهم وصفهم) * (الأنعام: 139) والضمير لكل، ويجوز أن يعود إلى الرب، والمراد بالفضل الأول ما أريد به أولا وبالثاني زيادة الثواب بقرينة أن الاعطاء ثواب وحينئذ يستغني عن التأويل.
واختار بعض المحققين التفسير الأول ثم قال: وهذه تكملة لما أجمل من التمتيع إلى أجل مسمى وتبيين لما عسى أن يعسر فهم حكمته من بعض ما يتفق في الدنيا من
تفاوت الحال بين العاملين فرب إنسان له فضل طاعة وعمل لا يمتع في الدنيا أكثر مما متع آخر دونه في الفضل وربما يكون المفضول أكثر تمتيعا فقيل: ويعط كل فاضل جزاء فضله أما في الدنيا كما يتفق في بعض المواد وإما في الآخرة وذلك مما لا مراد له انتهى.
ويفهم من كلام بعضهم عدم اعتبار الانفصال على أنه سبحانه ينعم على ذي الفضل في الدنيا والآخرة ولا يختص إحسانه باحدى الدارين، ولا شك أن كل ذي عمل صالح منعم عليه في الآخرة بما يعلمه الله تعالى وكذا في الدنيا بتزيين العمل الصالح في قلبه والراحة حسب تعليق الرجاء بربه ونحو ذلك ولا إشكال في ذلك كما هو ظاهر للمتأمل، وقيل: في الآية لفونشر فإن التمتيع مربت على الاستغفار وإيتاء الفضل مرتب على التوبة انتهى.
وايا ما كان ففي الكلام ضرب تفصيل لما أجمل فيما سبق من البشارة، ثم شرع في الإنذار بقوله سبحانه: * (وإن تولوا) * أي تستمروا على الاعراض عما القى إليكم من التوحيد والاستغفار والتبوة، وأصله تتولوا فهو مضارع مبدوإ بتاء الخطاب لأن ما بعده يقتضيه وحذفت منه إحدى التاءين كما فعل في أمثاله، وقيل: إن * (تولوا) * ماض غائب فلا حذف ويقدر فيما بعد فقل لهم وهو خلاف الظاهر، وأخر الانذار عن البشارة جريا على سنن تقدم الرحمة على الغضب أو ون العذاب قد علق بالتولي عما ذكر من التوحيد وما معه وذلك يستدعي سابقة ذكره.
وقرأ عيسى بن عمرو، واليماني * (تولوا) * بضم التاء وفتح الواو وضم اللام وهو مضارع - ولى - من قولهم: ولى هاربا أي أدبر * (فإني أخاف عليكم) * بمقتضى الشفقة والرأفة أو أتوقع * (عذاب يوم كبير) * هو يوم القيامة وصف بذلك لكبر ما يكون فيه ولذا وصف بالثقل أيضا، وجوز وصفه بالكبر لكونه كذلك في نفسه، وقيل: المراد به زمان ابتلاهم الله تعالى فيه في الدنيا، وقد روي أنهم ابتلوا بقحط عظيم أكلوا فيه الجيف، وأيا ما كان ففي إضافة العذاب إليه تهويل وتفظيع له.
* (إلى الله مرجعكم وهو على كل شىء قدير) *
* (إلى الله مرجعكم) * مصدر ميمي وكان قياسه فتح الجيم لأنه من باب ضرب وقياس مصدره الميمي ذلك كما علم من محله، أي إليه تعالى رجوعكم بالموت ثم البعث للجزاء في مثل ذلك اليوم لا إلى غيره جميعا لا يتخلف منكم أحد * (وهو على كل شيء قدير) *
208

فيندرج في تلك الكلية قدرته سبحانه على إماتتكم ثم بعثكم وجوزائكم فيعذبكم بأفانين العذاب، وهذا تقرير وتأكيد لما سلف من ذكر اليوم وتعليل للخوف.
* (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور) *
* (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه) * كأنه جواب سؤال مقدر، وذلك أنه لما ألقى إليهم ما ألقى وسيق إليهم ما سيق من الترغيب والترهيب وقع في ذهن السامع أنهم بعد ما سمعوا مثل هذا المقال الذي تخر له صم الجبال هل قابلوه بالإقبال أم تمادوا فيما كانوا عليه من الإعراض والضلال فقيل: مصدرا بكلمة التنبيه إشعارا بأن ما بعدها من هناتهم أمر ينبغي أن يفهم ويتعجب منه * (ألا إنهم) * الخ، فضمير * (إنهم) * للمشركين المخاطبين فيما تقدم و * (يثنون) * بفتح الياء مضارع ثنى الشيء إذا لواه وعطفه، ومنه على ما قيل الاثنان، لعطف أحدهما على الآخر والثناء لعطف المناقب بعضها على بعض وكذا الاستثناء للعطف على المستثنى منه بالإخراج، وأصله يثنيون فأعل الإعلال المعروف في نحو يرمون، وفي المراد منه احتمالات: منها أن الثني كناية أو مجاز عن الإعراض عن الحق لأن من أقبل على شيء واجهه بصدره ومن أعرض صرفه عنه، أي أنهم يثنون صدورهم الحق ويتحرفون عنه، والمراد استمرارهم على ما كانوا عليه من التولي والإعراض المشار إليه بقوله سبحانه: * (فإن تولوا) * الخ. ومنها أنه مجاز عن الإخفاء لأن ما يجعل داخل الصدر فهو خفي أي أنهم يضمرون الكفر والتولي عن الحق وعداوة النبي صلى الله عليه وسلم. ومنها أنه باق على حقيقته، والمعنى أنهم إذا رأوا النبي عليه الصلاة والسلام فعلوا ذلك وولوه ظهورهم، والظاهر أن اللام متعلقة - بيثنون - على سائر الاحتمالات، وكأن بعضهم رأى عدم صحة التعلق على الاحتمال الأول لما أن التولي عن الحق لا يصلح تعليله بالاستخفاء لعدم السببية فقدر لذلك متعلقا فعل الإرادة على أنه حال أو معطوف على ما قبله، أي ويريدون ليستخفوا من الله تعالى فلا يطلع رسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين على أغراضهم، وجعله في قود المعنى إليه من قبيل الإضمار في قوله تعالى: * (اضرب بعصاك البحر فانفلق) * (الشعراء: 63) أي فضرب فانفلق، لكن لا يخفى أن انسياق الذهن إلى توسيط الإرادة بين ثني الصدور والاستخفاء ليس بمثابة انسياقه إلى توسيط الضرب بين الأمر والانفرق كما ذكره العلامة القسطلاني وغيره، وقيل: إنه لا حاجة إلى التقدير في الاحتمالين الأولين لأن انحرافهم عن الحق بقلوبهم وعطف صدورهم على الكفر والتولي وعداوة النبي صلى الله عليه وسلم وعدم إظهارهم ذلك يجوز أن يكون للاستخفاء من الله تعالى لجهلهم بما لا يجوز على الله تعالى، وأما على الاحتمال الثالث فالظاهر أنه لا بد من التقدير إلا أن يعاد الضمير منه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الذي يقتضيه سبب النزول على ما ذكره أبو حيان من أن الآية نزلت في بعض الكفار الذين كانوا إذا لقيهم النبي صلى الله عليه وسلم تطامنوا وثنوا صدورهم كالمستتر وردوا إليه ظهورهم وغشوا وجوههم بثيابهم تباعدا منه وكراهة للقائه عليه الصلاة والسلام وهم يظنون أنه يخفي عليه صلى الله عليه وسلم، لكن ظاهر قوله تعالى الآتي: * (يعلم ما يسرون وما يعلنون) * (هود: 5) يقتضي عود الضمير إليه تعالى. واختار بعض المحققين الاحتمال الثاني من الاحتمالات الثلاث، وأمر التعليل والضمير عليه ظاهر، وأيده بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلا حلو المنطق حسن السياق للحديث يظهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم المحبة ويضمر في قلبه ما يضادها لكنه ليس بمجمع عليه لما سمعت عن أبي حيان.
209

وقيل: إنه كان الرجل من الكفار يدخل بيته ويرخي ستره ويحني ظهره ويتغشى بثوبه ويقول: هل يعلم الله ما في قلبي فنزلت، وأخرج ابن جرير، وغيره عن عبد الله بن شداد أنها نزلت في المنافقين كان أحدهم إذا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وتغشى لئلا يراه، وهو في معنى ما تقدم عن أبي حيان إلا أن فيه بعض الكفار دون المنافقين، فلا يرد عليه ما أورد على هذا من أن الآية مكية والنفاق إنما حدث بالمدينة فكيف يتسنى القول بأنها نزلت في المنافقين؟ وقد أجيب عن ذلك بأنه ليس
المراد بالنفاق ظاهره بل ما كان يصدر من بعض المشركين الذين كان لهم مداراة تشبه النفاق، وقد يقال: إن حديث حدوث النفاق بالمدينة ليس إلا غير مسلم بل ظهوره إنما كان فيها والامتياز إلى ثلاث طوائف، ثم لو سلم فلا إشكال بل يكون على أسلوب قوله سبحانه: * (كما أنزلنا على المقتسمين) * إذا فسر باليهود ويراد به ما جرى على بني قريظة فإنه إخبار عما سيقع، وجعله كالواقع لتحققه وهو من الإعجاز لأنه وقع كذلك فكذا ما نحن فيه. نعم الثابت في " صحيح البخاري ". وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم. وابن مردويه من طريق محمد بن عباد بن جعفر أنه سمع ابن عباس يقرأ الآية فسأله عنها فقال: أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء فنزل ذلك فيهم، وليس في الروايات السابقة ما يكافىء هذه الرواية في الصحة، وأمر * (يثنون) * عليها ظاهر خلا أنه إذا كان المراد بالأناس جماعة من المسلمين كما صرح به الجلال السيوطي أشكل الأمر، وذلك لأن الظاهر من حال المسلم إذا استحيا من ربه سبحانه فلم يكشف عورته مثلا في خلوة كان مقصوده مجرد إظهار الأدب مع الله تعالى مع علمه بأنه جل شأنه لا يحجب بصره حاجب ولا يمنع علمه شيء ومثل هذا الحياء أمر لا يكاد يذمه أحد بل في الآثار ما هو صريح في الأمر به وهو شعار كثير من كبار الأمة، والقول بأن استحياء أولئك المسلمين كان مقرونا بالجهل بصفاته عز وجل فظنوا أن الثني يحجب عن الله سبحانه فرد عليهم بما رد لا أظنك تقبله؛ وبالجملة الأمر على هذه الرواية لا يخلو عن إشكال ولا يكاد يندفع بسلامة الأمر، والذي يقتضيه السياق ويستدعيه ربط الآيات كون الآية في المشركين حسبما تقدم فتدبر والله تعالى أعلم.
وقرأ الحبر رضي الله تعالى عنه. ومجاهد. وغيرهما * (تثنوني) * بالتاء لتأنيث الجمع وبالياء التحتية لأن التأنيث غير حقيقي، وهو مضارع اثنوني كاحلولي فوزنه تفعوعل بتكرير العين وهو من أبنية المزيد الموضوعة للمبالغة لأنه يقال حلي فإذا أريد المبالغة قيل احلولي وهو لازم - فصدورهم - فاعله، ويراد منه ما أريد من المعاني في قراءة الجمهور إلا أن المبالغة ملحوظة في ذلك فيقال: المعنى مثلا تنحرف صدورهم انحرافا بليغا. وعن الحبر أيضا. وعروة. وغيرهما أنهم قرأوا * (تثنون) * بفتح التاء المثناة من فوق وسكون الثاء وفتح النون وكسر الواو وتشديد النون الأخيرة، والأصل تثنونن بوزن تفعوعل من الثن بكسر الثاء وتشديد النون وهو ما هش وضعف من الكلأ أنشد أبو زيد:
يا أيها المفضل المعني * إنك ريان فصمت عنيتكفي اللقوح أكلة من وثن
ولزم الإدغام لتكرير العين إذا كان غير ملحق و * (صدورهم) * على هذه مرفوع أيضا على الفاعلية، والمعنى على وصف قلوبهم بالسخافة والضعف كذلك النبت الضعيف، فالصدور مجاز عما فيها من القلوب، وجوز أن يكون مطاوع ثناه فإنه يقال: ثناه فانثنى وائتوني كما صرح به ابن مالك في التسهيل فقال: وافعوعل للمبالغة وقد يوافق استفعل ويطاوع فعل ومثلوه بهذا الفعل، فالمعنى أن صدورهم قبلت الثني ويؤول إلى معنى انحرفت
210

كما فسر به قراءة الجمهور. وعن مجاهد وكذا عروة الأعشى أنه قرأ * (تثنئن) * كتطمئن وأصله يثنان فقلبت الألف همزة مكسورة رغبة في عدم التقاء الساكنين وإن كان على حدة، ويقال في ماضيه اثنأن كاحمأر وابيأض، وقيل: أصله تثنون بواو مكسورة فاستثقلت الكسرة على الواو فقلبت همزة كما قيل في وشاح أشاح وفي وسادة إسادة فوزنه على هذا تفوعل وعلى الأول تفعال، ورجح باطراده وهو من الثن الكلأ الضعيف أيضا، وقرىء * (تثنوي) * كترعوي ونسب ذلك إلى ابن عباس أيضا، وغلط النقل بأنه لا حظ للواو في هذا الفعل إذ لا يقال: ثنوته فانثوى كرعوته فارعوى ووزن ارعوى من غريب الأوزان، وفي " الصحاح " تقديره افعول ووزنه افعلل، وإنما لم يدغم لسكون الياء وتمام الكلام فيه يطلب من محله، وقرىء بغير ذلك، وأوصل بعضهم القراءات إلى ثلاث عشرة وفصلها في " الدر المصون "، ومن غريبها أنه قرىء * (يثنون) * بالضم. واستشكل ذلك ابن جني بأنه لا يقال: أثنتيه بمعنى ثنيته ولم يسمع في غير هذه القراءة، وقال أبو البقاء: لا يعرف ذلك في اللغة إلا أن يقال: معناه عرضوها للانثناء كما تقول: أبعت الفرس إذا عرضته للبيع * (ألا حين يستغشون ثيابهم) * أي يجعلونها أغشية، ومنه قول الخنساء: أرعى النجوم وما كلفت رعيتها * وتارة أتغشى فضل اطماري
وحاصله حين يأوون إلى فراشهم ويلتحفون بما يلتحف به النائم، وهو وقت كثيرا ما يقع فيه حديث النفس عادة، وعن ابن شداد حين يتغطون بثيابهم للاستخفاء، وأيا ما كان فالمراد من الثياب معناه الحقيقي وقيل: المراد به الليل وهو يستر كما تستر الثياب، ومن ذلك قولهم: الليل أخفى للويل، والظرف متعلق بقوله سبحانه: * (يعلم) * أي ألا يعلم * (ما يسرون وما يعلنون) * حين يستغشون ثيابهم؛ ولا يلزم منه تقييد علم الله تعالى بذلك الوقت لأن من يعلم فيه يعلم في غيره بالطريق الأولى، وجوز تعلقه بمحذوف وقدره السمين. وأبو البقاء يستخفون وبعضهم يريدون، و * (ما) * في الموضعين إما مصدرية أو موصولة عائدها محذوف أي الذي يسرونه في قلوبهم والذي يعلنونه أي شيء كان ويدخل ما يقتضيه السياق دخولا أوليا، وخصه بعضهم به، وقدم هنا السر على العلن نعيا عليهم من أول الأمر ما صنعوا وإيذانا بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه وتحقيقا للمساواة بين العلمين على أبلغ وجه فكأن علمه سبحانه بما يسرونه أقدم منه بما يعلنونه، وحاصل المعنى يستوي بالنسبة إلى علمه المحيط سرهم وعلنهم فكيف يخفى عليه سبحانه ما عسى أن يظهروه.
وقرأ ابن عباس * (على حين يستغشون) * قال ابن عطية: ومن هذا الاستعمال قول النابغة: على حين عابت المشيب على الصبا
* (إنه عليم بذات الصدور) * تعليل لما سبق وتقرير له، والمراد - بذات الصدور - الإسرار المستكنة فيها أو القلوب التي في الصدور، وأيا ما كان فليست الذات مقحمة كما في ذات غدوة ولا من إضافة المسمى إلى اسمه كما توهم، أي أنه تعالى مبالغ في الإحاطة بمضمرات جميع الناس وأسرارهم أو بالقلوب وأحوالها فلا يخفى عليه سر من أسرارها فكيف يخفى عليه ما يسرون وما يعلنون، وكان التعبير بالجملة الاسمية للإشارة إلى أنه سبحانه لم يزل عالما بذلك، وفيه دليل على أنه تعالى يعلم الأشياء قبل وجودها الخارجي، وهذا مما لا ينكره أحد سوى شرذمة من المعتزلة قالوا: إنه تعالى إنما يعلم الأشياء بعد حدوثها تعالى عن ذلك علوا كبيرا، ولا يلزم هذا
بعض المتكلمين المنكرين للوجود الذهني لأنهم إذا لم يقولوا به مع إنكار الوجود الذهني يلزمهم القول بتعلق العلم بالمعدوم الصرف، وامتناعه من أجل البديهيات، والإنكار مكابرة أو جهل بمعنى التعلق بالمعدوم الصرف، وقد أورد ذلك عليهم المحقق الدواني، وهو ناشىء على ما قيل عن الذهول عن معنى إنكار الوجود الذهني وبعد تحقيق المراد منه يندفع ذلك. وبيانه أنه ليس معنى إنكارهم ذلك أنه لا يحصل صورة عند العقل إذا تصورنا شيئا أو صدقنا به لأن حصولها عنده في الواقع بديهي لا ينكره إلا مكابر، وكيف ينكره الجمهور والعلم الحادث مخلوق عندهم والخلق إنما يتعلق بأعيان الموجودات بل هو بمعنى أن ذلك الحصول ليس نحوا آخر من وجود الماهية المعلومة بأن يكون لماهية واحدة كالشمس مثلا وجودان، أحدهما خارجي والآخر ذهني كما يقول به مثبتوه، فهم لا ينكرون الوجود عن صور الأشياء وأشباحها وهي موجودات خارجية وكيفيات نفسانية وهي المخلوقة عندهم، وإنما ينكرون الوجود الذهني عن أنفس تلك الأشياء وذلك بشهادة أدلتهم حيث قالوا: لو حصلت النار في الأذهان لاحترقت الأذهان بتصورها واللازم باطل فإنه كما ترى إنما ينفي الوجود عن نفس النار لا عن شبحها ومثالها، فالحق أن الجمهور إنما أنكروا ما ذهب إليه محققو الحكماء من أن الحاصل في الأذهان أنفس ما هيأت الأشياء ولم ينكروا ما ذهب إليه أهل الأشباح، وحينئذ يقال: علم الواجب عندهم إما تعلقه بأشباح الأشياء أو صفة ذات ذلك التعلق فلا يلزمهم القول بما قاله الشرذمة، ولا يتجه عليهم أن التعلق بتلك الأشباح الموجودة في الأزل لكونه نسبة بينها وبينه تعالى متأخر عنها فيلزم إيجاد تلك الأشباح بلا علم وهو محال، لأنا نقول لما كان الواجب تعالى موجبا في علمه وسائر صفاته الذاتية كان وجود تلك الصور الإدراكية التي هي تلك الأشباح مقتضى ذاته تعالى فلا بأس في كونها سابقة على العلم بالذات وإنما المسبوق بالعلم هو أفعاله الاختيارية، ثم ينبغي أن يعلم أنه ليس معنى قولهم: إن علم الواجب تبارك وتعالى بالأشياء أزلي وتعلقه بها حادث أنه ليس هناك إلا تعلق حادث لأنه يلزم حدوث نفس العلم فيعود ما ارتكبه الشرذمة للقطع بأنه لا يصير المعلوم معلوما قبل تعلق العلم به وهو من الفساد بمكان، بل معناه أن التعلق الذي لا تقتضيه حقيقة العلم حادث وهناك تعلق تقتضيه تلك الحقيقة وهو قديم، وذلك لأن الأشباح والأمثال معلومة بالذات وبواسطتها تعلم الأشياء، فتعلق العلم عندهم أعم من تعلقه بذات الشيء المعلوم أو بمثاله وشبحه، ولما لم يمكن وجود الحوادث في الأزل كان العلم الممكن بالنسبة إليها بالتعلق بأمثالها وأشباحها وبعد حدوثها يتجدد التعلق بأن يكون بذات تلك الحوادث. وبالجملة تعلق العلم بأمثال الحوادث وأشباحها أزلي وبأنفسها وذواتها حادث ولا إشكال فيه أصلا، وبهذا التحقيق يندفع شبهات كثيرة كما قيل، لكن أورد عليه أن برهان التطبيق جار في هاتيك الأشباح لما أنها متميزة الآحاد في نفس الأمر فيلزم أحد المحذورين.
وفي المقام أبحاث طويلة الذيل وقد بسط الكلام في ذلك مولانا إسماعيل أفندي الكلنبوي في حواشيه على شرح العضدية، وللمولى الشيخ إبراهيم الكوراني تحقيق على طرز آخر ذكره في كتابه مطلع الجود فارجع إليه. وبالجملة لا تخفى صعوبة هذه المسألة وهي مما زلت فيها أقدام أقوام، ولعل الله سبحانه يرزقك تحقيقها بمنه سبحانه، وقد قال به أفضل المتأخرين مولانا إسماعيل أفندي الكلنبوي.
211