الكتاب: تفسير الآلوسي
المؤلف: الآلوسي
الجزء: ٢٧
الوفاة: ١٢٧٠
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

سورة الذاريات
مكية: كما روى عن ابن عباس. وابن الزبير رضي الله تعالى عنهما - ولم يحك في ذلك خلاف - وهي ستون آية بالاتفاق كما في كتاب العدد، ومناسبتها لسورة * (ق) * أنها لما ختمت بذكر البعث واشتملت على ذكر الجزاء والجنة والنار وغير ذلك افتتحت هذه بالأقسام على أن ما وعدوا من ذلك لصادق، وأن الجزاء لواقع، وأنه قد ذكر هناك إهلاك كثير من القرون على وجه الإجمال، وذكر هنا إهلاك بعضهم على سبيل التفصيل إلى غير ذلك مما يظهر للمتأمل.
* (والذاري‍ات ذروا) *.
بسم الله الرحم‍ان الرحيم * (والذاري‍ات ذروا) * أي الرياح التي تذروا التراب وغيره من - ذرا - المعتل بمعنى فرق وبدد ما رفعه عن مكانه.
* (فالح‍امل‍ات وقرا) *.
* (فالح‍امل‍ات وقرا) * أي حملا وهي السحب الحاملة للمطر.
* (فالج‍اري‍ات يسرا) *.
* (فالج‍اري‍ات يسرا) * أي جريا سهلا إلى حيث سيرت وهي السفن
* (فالمقسم‍ات أمرا) *.
* (فالمقسم‍ات أمرا) * هي الملائكة الذين يقسمون الأمور بين الخلق على ما أمروا به، وتفسير كل بما به قد صح روايته من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهه، وفي بعض الروايات أن ابن الكواء سأله عن ذلك وهو رضي الله تعالى عنه يخطب على المنبر فأجاب بما ذكر، وفي بعض الأخبار ما يدل على أنه تفسير مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخرج البزار. والدارقطني في " الافراد ". وابن مردويه. وابن عساكر عن سعيد بن المسيب قال: " جاء صبيغ التميمي إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال: أخبرني عن * (الذاريات ذروا) * قال: هي الرياح، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: فأخبرني عن * (الحاملات وقرا) * قال: هي السحاب ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: فأخبرني عن * (الجاريات يسرا) * قال: هي السفن ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: فأخبرني عن * (المقسمات أمرا) * قال: هي الملائكة ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته ثم أمر به فضرب مائة وجعل في بيت فلما برأ دعاه فضربه مائة أخرى وحمله على قتل وكتب إلى أبي موسى الأشعري امنع الناس من مجالسته فلم يزالوا كذلك حتى أتى أبا موسى فحلف له بالايمان المغلظة ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئا فكتب إلى عمر رضي الله تعالى عنه ما أخاله إلا قد صدق فخلى بينه وبين مجالسة الناس ".
ويدل هذا أن الرجل لم يكن سليم القلب وأن سؤاله لم يكن طلبا للعلم وإلا لم يصنع به عمر رضي الله تعالى عنه ما صنع.
وفي رواية عن ابن عباس أن - الحاملات - هي السفن الموقرة بالناس وأمتعتهم، وقيل: هي الحوامل من جميع الحيوانات، وقيل: الجاريات السحب تجري وتسير إلى حيث شاء الله عز وجل، وقيل: هي الكواكب
2

التي تجري في منازلها وكلها لها حركة وإن اختلفت سرعة وبطأ كما بين في موضعه، وقيل: هي الكواكب السبعة الشهيرة وتسمى السيارة، وقيل: * (الذاريات) * النساء الولود فإنهن يذرين الأولاد كأنه شبه تتابع الأولاد بما يتطاير من الرياح، وباقي المتعاطفات على ما سمعت أولا، وقيل: * (الذاريات) * هي الأسباب التي تذري الخلائق على تشبيه الأسباب المعدة للبروز من العدم بالرياح المفرقة للحبوب ونحوها، وقيل: الحاملات الرياح الحاملة للسحاب، وقيل: هي الأسباب الحاملة لمسبباتها مجازا، وقيل: الجاريات الرياح تجري في مهابها، وقيل: المقسمات السحب يقسم الله تعالى بها أرزاق العباد، وقيل: هي الكواكب السبعة السيارة - وقول باطل - لا يقول به إلا من زعم أنها مدبرة لعالم الكون والفساد، وفي " صحيح البخاري " عن قتادة " خلق الله تعالى هذه النجوم لثلاث جعلها زينة للسماء. ورجوما للشياطين. وعلامات يهتدي بها فمن تأول فيها بغير ذلك فقد أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف ما لا يعلم " وزاد رزين " وما لا علم له به وما عجز عن علمه الأنبياء والملائكة " وعن الربيع مثله وزاذ " والله ما جعل الله تعالى في نجم حياة أحد ولا رزقه ولا موته وإنما يفترون على الله تعالى الكذب ويتعللون بالنجوم " ذكره " صاحب جامع الأصول "، وقد مر الكلام في إبطال ما قاله المنجمون مفصلا فتذكر، ولعله سيأتي إن شاء الله تعالى شيء من ذلك، وجوز أن يراد بالجميع الرياح فإنها - كما تذر - وما تذروه تثير السحاب وتحمله، وتجري في الجو جريا سهلا - وتقسم الأمطار بتصريف السحاب في الأقطار - والمعول عليه ما روى عن عمر رضي الله تعالى عنه سامعا له من رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقاله باب مدينة العلم كرم الله تعالى وجهه على المنبر - وإليه كما نقل عن الزجاج ذهب جميع المفسرين أي المعتبرين، وقول الإمام بعد نقله له عن الأمير: الأقرب أن تحمل هذه الصفات الأربع على الرياح جسارة عظيمة على ما لا يسلم له، وجهل منه بما رواه ابن المسيب من الخبر الدال على أن ذلك تفسير النبي صلى الله عليه وسلم فأين منه الإمام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.
وقول " صاحب الكشف ": إنه شديد الطباق للمقام ولذا آثره الإمام لا أسله له أيضا إذا صح الحديث ثم إذا حملت هذه الصفات على أمور مختلفة متغايرة بالذات كما في المعول عليه فالفاء للترتيب في الأقسام ذكرا ورتبة باعتبار تفاوت مراتبها في الدلالة على كمال قدرته عز وجل، وهذا التفاوت إما على الترقي أو التنزل لما في كل منها من الصفات التي تجعلها أعلى من وجه وأدنى من آخر إذا نظر لها ذو نظر صحيح، وقيل: الترتيب بالنظر إلى الأقرب فالأقرب منا، وإن حملت على واحد وهو الرياح
فهي لترتيب الأفعال والصفات إذ الريح تذر الأبخرة إلى الجو أولا حتى تنعقد سحابا فتحمله ثانيا وتجري به ثالثا ناشرة وسائقة له إلى حيث أمرها الله تعالى ثم تقسم أمطاره، وقيل: إذا حملت الذاريات والحاملات على النساء، فالظاهر أنها للتفاوت في الدلالة على كمال القدرة فتدبر.
ونصب * (ذروا) * على أنه مفعول مطلق، * (ووقرا) * على أنه مفعول به، وجوز الإمام أن يكون من باب ضربته سوطا، و * (يسرا) * على أنه صفة مصدر محذوف بتقدير مضاف أي جريا ذا يسر، أو على أنه حال أي ميسرة كما نقل عن سيبويه، و * (أمرا) * على أنه مفعوله به وهو واحد الأمور، وقد أريد به الجمع ولم يعبر به لأن الفرد أنسب برؤوس الآي مع ظهور الأمر، وقيل: على أنه حال أي مأمورة، والمفعول به محذوف أو الوصف منزل منزلة اللازم أي تفعل التقسيم مأمورة، وقرأ أبو عمرو. وحمزة * (والذاريات ذروا) * بادغام التاء في الذال، وقرىء * (وقرا) * بفتح الواو على أنه مصدر وقره إذا حمله - كما أفاده كلام الزمخشري - وناهيك
3

به إماما في اللغة، وعلى هذا هو منصوب على أنه مفعول به أيضا على تسمية المحمول بالمصدر أو على أنه مفعول مطلق - لحاملات - من معناها كأنه قيل: فالحاملات حملا. وقوله تعالى شأنه:
* (إنما توعدون لص‍ادق * وإن الدين لواقع) *.
* (إنما توعدون لصادق * وإن الدين لواقع) * جواب للقسم، و * (ما) * موصولة والعائد محذوف أي إن الذي توعدونه، أو توعدون به، ويحتمل أن تكون مصدرية أي إن وعدكم، أو وعيدكم إذ توعدون يحتمل أن يكون مضارع وعد، وأن يكون مضارع أوعد، ولعل الثاني أنسب لقوله تعالى: * (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد) * (ق: 45) ولأن المقصود التخويف والتهويل، وعن مجاهد أن الآية في الكفار وهو يؤيد الوعيد ومعنى صدقه تحقق وقوعه، وفي " الكشاف " وعد صادق - كعيشة راضية - و * (الدين) * الجزاء ووقوعه حصوله، والأكثرون على أن الموعود هو البعث، وفي تخصيص المذكورات بالإقسام بها رمز إلى شهادتها بتحقق الجملة المقسم عليها من حيث أنها أمور بديعة فمن قدر عليها فهو قادر على تحقيق البعث الموعود.
* (والسمآء ذات الحبك) *
* (والسمآء ذات الحبك) * أي الطرق جمع حبيكة كطريقة، أو حباك كمثال ومثل، ويقال: حبك الماء للتكسر الجاري فيه إذ مرت عليه الريح، وعليه قول زهير يصف غديرا: مكلل بأصول النجم تنسجه * ريح خريق لضاحي مائه حبك
وحبك الشعر لآثار تثنيه وتكسره، وتفسيرها بذلك مروي عن مقاتل. والكلبي. والضحاك، والمراد بها إما الطرق المحسوسة التي تسير فيها الكواكب، أو المعقولة التي تدرك بالبصيرة وهي ما تدل على وحدة الصانع وقدرته وعلمه وحكمته جل شأنه إذا تأملها الناظر، وقال ابن عباس. وقتادة. وعكرمة. ومجاهد. والربيع: ذات الخلق المستوى الجيد، وفي رواية أخرى عن مجاهد المتقنة البنيان، وقيل: ذات الصفاقة وهي أقوال متقاربة وكأن الحبك عليها من قولهم: حبكت الشيء أحكمته وأحسنت عمله وحبكت العقدة أوثقتها، وفرس محبوك المعاقم - وهي المفاصل - أي محكمها، وفي " الكشف " أصل الحباكة الصفاقة وجودة الأثر، وعن الحسن - حبكها - نجومها، والظاهر أن إطلاق الحبك على النجوم مجاز لأنها تزين السماء كما يزين الثوب الموشى حبكه وطرائق وشيه فكأنه قيل: ذات النجوم التي هي كالحبك أي الطرائق في التزيين، واستظهر في السماء أنه جنس أريد به جميع السموات وكون كل واحدة منها ذات حبك بمعنى مستوية الخلق جيدته، أو متقنة البنيان أو صفيقة، أو ذات طرق معقولة ظاهر، وأما كون كل منها كذلك بمعنى ذات طرق محسوسة فباعتبار أن الكواكب في أي سماء كانت تسير مسامتة لسائر السموات، فممراتها باعتبار المسامتة طرق، وبمعنى ذات النجوم فباعتبار أن النجوم في أي سماء كانت تشاهد في سائر السموات بناءا على أن السموات شفاقة لا يحجب كل منها إدراك ما وراءه، وأخرج ابن منيع عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: هي السماء السابعة، وعن عبد الله بن عمرو مثله فتدبر ولا تغفل.
وقرأ ابن عباس. والحسن بخلاف عنه. وأبو مالك الغفاري. وأبو حيوة. وابن أبي عبلة. وأبو السماء.
4

ونعيم عن أبي عمرو - الحبك - بإسكان الباء على زنة القفل، وعكرمة بفتحها جمع حبكة مثل طرفة وطرف وبرقة وبرق، وأبو مالك الغفاري. والحسن بخلاف عنه أيضا بكسر الحاء والباء - كالإبل - وهو على ما ذكر الخفاجي اسم مفرد ورد على هذا الوزن شذوذا وليس جمعا، وأبو مالك. والحسن. وأبو حيوة أيضا بكسر الحاء وإسكان الباء كالسلك - وهو تخفيف فعل مكسور الفاء والعين وهو اسم مفرد لا جمع لأن فعللا ليس من أبنية الجموع - قاله في البحر - وابن عباس. وأبو مالك أيضا بفتحهما كالجبل - قال أبو الفضل الرازي - فهو جمع حبكة مثل عقبة وعقب، والحسن أيضا بكسر الحاء وفتح الباء كالنعم، وأبو مالك أيضا بكسر الحاء وضم الباء وذكرها ابن عطية عن الحسن أيضا ثم قال: هي قراءة شاذة غير متوجهة وكأن بعد أن كسر الحاء توهم قراءة الجمهور فضم التاء وهذا من تداخل اللغات وليس في كلام العرب هذا البناء أي لأن فيه الانتقال من خفة إلى ثقل على عكس ضرب مبنيا للمفعول، وقال " صاحب اللوامح ": هو عديم النظير في العربية في أبنيتها وأوزانها ولا أدري ما وراءه انتهى.
وعلى التداخل تأول النحاة هذه القراءة، وقال أبو حيان: الأحسن عندي أن يكون ذلك مما أتبع فيه حركة الحاء لحركة تاء * (ذات) * في الكسر ولم يعتد بالام الساكنة لأن الساكن حاجز غير حصين.
* (إنكم لفى قول مختلف) *.
* (إنكم لفي قول مختلف) * أي متخالف متناقض في أمر الله عز وجل حيث تقولون: إنه جل شأنه خالق السموات والأرض وتقولون بصحة عبادة الأصنام معه سبحانه
، وفي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فتقولون: تارة إنه مجنون، وأخرى إنه ساحر ولا يكون الساحر إلا عاقلا، وفي أمر الحشر فتقولون: تارة لا حشر ولا حياة بعد الموت أصلا، وتزعمون أخرى أن أصنامكم شفعاؤكم عند الله تعالى يوم القيامة إلى غير ذلك من الأقوال المتخالفة فيما كلفوا بالايمان به، واقتصر بعضهم على كون القول المختلف في أمره صلى الله عليه وسلم، والجملة جواب القسم ولعل النكتة في ذلك القسم تشبيه أقوالهم في اختلافها وتنافي أغراضها بطرائق السموات في تباعدها واختلاف هيآتها، أو الإشارة إلى أنها ليست مستوية جيدة، أو ليست قوية محكمة، أو ليس فيها ما يزينها بل فيها ما يشينها من التناقض.
* (يؤفك عنه من أفك) *.
* (يؤفك عنه من أفك) * أي يصرف عن الايمان بما كلفوا الايمان به لدلالة الكلام السابق عليه، وقال الحسن. وقتادة: عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال غير واحد: عن القرآن، والكلام السابق مشعر بكل من صرف الصرف الذي لا أشد منه وأعظم؛ ووجه المبالغة من إسناد الفعل إلى من وصف به فلولا غرض المبالغة لكان من توضيح الواضح فكأنه أثبت للمصروف صرف آخر حيث قيل: * (يصرف عنه) * المصروف فجاءت المبالغة من المضاعفة ثم الإطلاق في المقام الخطابي له مدخل في تقوية أمر المضاعفة وكذلك الإبهام الذي في الموصول، وهو قريب من قوله تعالى: * (فغشيهم من اليم ما غشيهم) * (طه: 78) وقيل: المراد * (يصرف عنه) * في الوجود الخارجي من * (صرف عنه) * في علم الله تعالى وقضائه سبحانه، وتعقب بأنه ليس فيه كثير فائدة لأن كل ما هو كائن معلوم أنه ثابت في سابق علمه تعالى الأزلي وليس فيه المبالغة السابقة، وأجيب عن الأول بأن فيه الإشارة إلى أن الحجة البالغة لله عز وجل في صرفه وكفى بذلك فائدة وهو مبني أن العلم تابع للمعلوم فافهمه، وحكى الزهراوي أنه يجوز أن يكون الضمير * (لما توعدون) * أو - للدين - أقسم سبحانه - بالذاريات - على أن وقوع أمر القيامة حق ثم أقسم بالسماء على أنهم في * (قول مختلف) * في وقوعه، فمنهم شاك،
5

ومنهم جاحد ثم قال جل وعلا: * (يؤفك) * عن الإقرار بأمر القيامة من هو المأفوك، وذكر ذلك الزمخشري ولم يعزه، وادعى " صاحب الكشف " أنه أوجه لتلاؤم الكلام، وقيل: يجوز أن يكون الضمير - لقول مختلف - - وعن - للتعليل كما في قوله تعالى: * (وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك) * (هود: 53). ينهون عن أكل وعن شرب * مثل المها يرتعن في خصب
أي يصرف بسبب ذلك القول المختلف من أراد الإسلام، وقال الزمخشري: حقيقته يصدر إفكهم عن القول المختلف، وهذا محتمل لبقاء - عن - على أصلها من المجاوزة واعتبار التضمين، وفيه ارتكاب خلاف الظاهر من غير داع مع ذهاب تلك المبالغة، وجوز ابن عطية رجوع الضمير إلى القول إلا أنه قال: المعنى يصرف عن ذلك القول المختلف بتوفيق الله تعالى للإسلام من غلبت سعادته، وتعقبه بأن فيه مخالفة للعرف فإن عرف الاستعمال في الإفك الصرف من خير إلى شر فلذلك لا تجده إلا في المذمومين، ثم إن ذلك على كون الخطاب في أنكم للكفار - وهو الذي ذهب إليه ابن زيد وغيره - واستظهر أبو حيان كونه عاما للمسلم والكافر، واستظهر العموم فيما سبق أيضا، والقول المخلف حينئذ قول المسلمين بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام، وقول الكفار بنقيض ذلك، وقرأ ابن جبير. وقتادة * (من أفك) * مبنيا للفاعل أي من أفك الناس عنه وهم قريش، وقرأ زيد بن علي - يأفك عنه من أفك - أي يصرف الناس عنه من هو أفاك كذاب، وقرىء - يؤفن عنه من أفن - بالنون فيهما أي يحرمه من حرم من أفن الضرع إذا أنهكه حلبا.
* (قتل الخراصون) *.
* (قتل الخراصون) * أي الكذابون من أصحاب القول المختلف، وأصل الخرص الظن والتخمين ثم تجوز به عن الكذب لأنه في الغالب يكون منشأ له، وقال الراغب: حقيقة ذلك أن كل قول مقول عن ظن وتخمين يقال له: خرص سواء كان مطابقا للشيء أو مخالفا له من حيث أن صاحبه لم يقله عن علم ولا غلبة ظن ولاسماع بل اعتمد فيه على الظن والتخمين كفعل خارص الثمرة في خرصه، وكل من قال قولا على هذا النحو قد يسمى كاذبا وإن كان قوله مطابقا للمقول المخبر به كما في قوله تعالى: * (إذا جاءك المنافقون) * (المنافقون: 1) الآية انتهى.
وفيه بحث وحقيقة - القتل - معروفة، والمراد - بقتل - الدعاء عليهم مع قطع النظر عن المعنى الحقيقي.
وعن ابن عباس تفسيره باللعن قال ابن الأنباري: وإنما كان القتل بمعنى اللعن هنا لأن من لعنه الله تعالى بمنزلة المقتول الهالك، وقرىء - قتل الخراصين - أي قتل الله الخراصين.
* (الذين هم فى غمرة س‍اهون) *.
* (الذين هم في غمرة) * في جهل عظيم يغمرهم ويشملهم شمول الماء الغامر لما فيه * (ساهون) * غافلون عما أمروا به، فالمراد بالسهو مطلق الغفلة.
* (يس‍الون أيان يوم الدين) *.
* (يسئلون) * أي بطريق الاستعجال استهزاءا * (أيان يوم الدين) * معمول ليسألون على أنه جار مجرى يقولون لما فيه من معنى القول، أو لقول مصدر - أي فيقولون متى وقوع يوم الجزاء - وقدر الوقوع ليكون السؤال عن الحدث كما هو المعروف في * (أيان) * ولا ضير في جعل الزمان زمانيا فإن اليوم لما جعل موعودا ومنتظرا في نحو قوله تعالى: * (فارتقب يوم تأتي السماء) * (الدخان: 10) صار ملحقا بالزمانيات وكذلك - كل يوم له شأن مثل يوم العيد. والنيروز - وهذا
6

جار في عرفي العرب والعجم على أنه يجوز عند الأشاعرة أن يكون للزمان زمان على ما فصل في مكانه، وقرىء * (إيان) * بكسر الهمزة وهي لغة.
* (يوم هم على النار يفتنون) *.
* (يوم هم على النار يفتنون) * أي يحرقون، وأصل الفتن إذابة الجوهر ليظهر غشه ثم استعمل في الإحراق والتعذيب ونحو ذلك، و * (يوم) * نصب على الظرفية لمحذوف دل عليه وقوع الكلام جوابا للسؤال مضاف للجملة الاسمية بعده - أي يقع يوم الدين يوم هم على النار - الخ، وقال الزجاج: ظرف لمحذوف وقع خبرا لمبتدأ كذلك أي هو واقع، أو كائن يوم الخ، وجوز أن يكون هو نفسه خبر مبتدأ محذوف، والفتحة فتحة بناء لإضافته إلى غير، وهي الجملة الاسمية فإن الجمل بحسب الأصل كذلك على كلام فيه بين البصريين والكوفيين مفصل في " شرح التسهيل " - أي هو يوم هم - الخ، والضمير قيل: راجع إلى وقت الوقوع فيكون هذا الكلام قائما مقام الجواب على نحو - سيقولون لله - في جواب * (من رب السموات والأرض) * (الرعد: 16) لأن تقدير السؤال في أي وقت يقع، وجوابه الأصلي في يوم كذا، وإذا قلت: وقت يوم كذا كان قائما مقامه، ويجوز أن يكون الضمير لليوم والكلام جواب بحسب المعنى، فالتقدير يوم الجزاء - يوم تعذيب الكفار - ويؤيد - كونه مرفوع المحل خبرا لمبتدأ محذوف - قراءة ابن أبي عبلة. والزعفراني (يوم هم) بالرفع، وزعم بعض النحاة أن - يوم - بدل من * (يوم الدين) * وفتحته على قراءة الجمهور فتحة بناء، و * (يوم) * وما في حيزه من جملة كلام السائلين قالوه استهزاءا، وحكى على المعنى، ولو حكى على اللفظ لقيل: يوم نحن على النار نفتن، وهو في غاية البعد كما لا يخفى، وقوله تعالى:
* (ذوقوا فتنتكم ه‍اذا الذى كنتم به تستعجلون) *.
* (ذوقوا فتنتكم) * بتقدير قول وقع حالا من ضمير * (يفتنون) * أي مقولا لهم * (ذوقوا فتنتكم) * أي عذابكم المعد لكم، وقد يسمى مايحصل عنه العذاب - كالكفر - فتنة، وجوز أن يكون منه ما هنا كأنه قيل: ذوقوا كفركم - أي جزاء كفركم - أو يجعل الكفر نفس العذاب مجازا وهو كما ترى * (ه‍اذا الذي كنتم به تستعجلون) * جملة من مبتدأ وخبر داخلة تحت القول المضمر - أي هذا العذاب الذي كنتم تستعجلون به بطريق الاستهزاء - وجوز أن يكون هذا بدلا من * (فتنتكم) * بتأويل العذاب، وفيه بعد.
* (إن المتقين فى جن‍ات وعيون) *.
* (إن المتقين في جن‍ات وعيون) * لا يبلغ كنهها ولا يقادر قدرها.
* (ءاخذين مآ ءات‍اهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين * كانوا قليلا من اليل ما يهجعون) *.
* (ءاخذين ما ءات‍اهم ربهم) * أي قابلين لكل ما أعطاهم عز وجل راضين به على معنى إن كل ما آتاهم حسن مرضي يتلقى بحسن القبول، والعموم مأخوذ من شيوع ما وإطلاقه في معرف المدح وإظهار منه تعالى عليهم، واعتبار الرضا لأن الأخذ قبول عن قصد، ونصب * (آخذين) * على الحال من الضمير في الظرف * (إنهم كانوا قبل ذالك) * في الدنيا * (محسنين) * أي لأعمالهم الصالحة آتين بها على ما ينبغي فلذلك استحقوا ما استحقوا من الفوز العظيم، وفسر إحسانهم بقوله تعالى: * (كانوا قليلا من اليل ما يهجعون) * الخ على أن الجملة في محل رفع بدل من قوله تعالى: * (كانوا قبل ذلك محسنين) * (الذاريات: 16) حصل بها تفيسره، أو أنها جملة لا محل لها من الإعراب مفسرة كسائر الجمل التفسيرية، وأخرج الفريابي. وابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: * (آخذين ما آتاهم ربهم) * من الفرائض * (إنهم كانوا قبل ذلك محسنين) * (الذاريات: 16) أي كانوا قبل تنزل الفرائض يعملون، ولا أظن صحة نسبته لذلك الحبر، ولا يكاد تجعل جملة * (كانوا) * الخ عليه تفسيرا إذا صح ما نقل عنه في تفسيرها، وسيأتي إن شاء الله تعالى. و - الهجوع - النوم، وقيده الراغب بقوله: ليلا، وغيره بالقليل، و * (ما) * إما مزيدة - فقليلا -
7

معمول الفعل صفة لمصدر محذوف أي - هجوعا قليلا - و * (من الليل) * صفة، أو لغو متعلق - بيهجعون - و * (من) * للابتداء، وجملة * (يهجعون) * خبر - كان - أو * (قليلا) * صفة لظرف محذوف - أي زمانا قليلا - و * (من الليل) * صفة على نحو - قليل من المال عندي - وإما موصولة عائدها محذوف - أي زمانا قليلا - و * (من الليل) * صفة على نحو - قليل من المال عندي - وإما موصولة عائدها محذوف فهي فاعل * (قليلا) * وهو خبر - كان - و * (من الليل) * حال من الموصول مقدم كأنه قيل: كانوا قد قل المقدار الذي يهجعون فيه كائنا ذلك المقدار * (من الليل) * وإما مصدرية فالمصدر فاعل * (قليلا) * وهو خبر كان أيضا، و * (من الليل) * بيان لا متعلق بما بعده لأن معمول المصدر لا يتقدم، أو حال من المصدر، و * (من) * للابتداء كذا في " الكشف " فهما من الكشاف، وذهب بعضهم إلى أن * (من) * على زيادة - ما - بمعنى في كما في قوله تعالى: * (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة) * (الجمعة: 9) واعترض بن المنير احتمال مصدريتها بأن لا يجوز في * (من الليل) * كونه صفة، أو بيانا - للقليل - لأنه فيه واقع على الهجوع ولا صلة المصدر لتقدمه، وأجيب بأنه بيان للزمان المبهم؛ وحكى الطيبي أنه إما منصوب على التبيين أو متعلق بفعل يفسره * (يهجعون) * وجوز أن يكون * (ما يهجعون) * على ذلك الاحتمال بدلا من اسم كان فكأنه قيل: كان هجوعهم قللا وهو بعيد، وجوز في * (ما) * أن تكون نافية، و * (قليلا) * منصوب - بيهجعون - والمعنى - كانوا لا يهجعون من الليل قليلا ويحيونه كله - ورواه ابن أبي شيبة. وأبو نصر عن مجاهد، ورده الزمخشري بأن * (ما) * النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها لأن لها صدر الكلام وليس فيها التصرف الذي في أخواتها كلا فإنها قد تكون كجزء مما دخلت عليه نحو - عوتب بلا جرم - ولم. ولن - لاختصاصهما بالفعل كالجزء منه، وأنت تعلم أن منع العمل هو مذهب البصريين، وفي " شرح الهادي " أن بعض النحاة أجازه مطلقا، وبعضهم أجازه في الظرف خاصة للتوسع فيه، واستدل عليه بقوله: ونحن عن فضلك ما استغنينا
نعم يرد على ذلك أن فيه كما في " الانتصاف " خلللا من حيث المعنى فإن طلب قيام الليل غير مستثنى منه جزء للهجوع وإن قل غير ثابت في الشرع ولا معهود اللهم إلا
أن يدعي أن من ذهب إلى ذلك يقول: بأنه كان ثابتا في الشرع، فقد أخرج ابن أبي شيبة. وابن المنذر عن عطاء أنه قال في الآية: كان ذلك إذا أمروا بقيام الليل كله فكان أبو ذكر يعتمد على العصار فمكثوا شهرين ثم نزلت الرخصة * (فاقرءوا ما تيسر منه) * (المزمل: 20) وقال الضحاك: * (كانوا قليلا) * في عددهم، وتم الكلام عند * (قليلا) * ثم ابتدأ * (من الليل ما يهجعون) * على أن * (ما) * نافية؛ وفهي ما تقدم مع زيادة تفكيك للكلام، ولعل أظهر الأوجه زيادة * (ما) * ونصب * (قليلا) * على الظرفية، و * (من الليل) * صفة قيل: وفي الكلام مبالغات لفظ الهجوع بناءا على أنه القليل من النوم، وقوله تعالى: * (قليلا) * و * (من الليل) * لأن الليل وقت السبات والراحة وزيادة * (ما) * لأنها تؤكد مضمون الجملة فتؤكد القلة وتحققها باعتبار كونها قيدا فيها.
والغرض من الآية أنهم يكابدون العبادة في أوقات الراحة وسكون النفس ولا يستريحون من مشاق النهار إلا قليلا، قال الحسن: كابدوا قيام الليل لا ينامون منه إلا قليلا، وعن عبد الله بن رواحة هجعوا قليلا ثم قاموا، وفسر أنس بن مالك الآية - كما رواه جماعة عنه وصححه " الحاكم " فقال: كانوا يصلون بين المغرب والعشاء وهي لا تدل على الاقتصار على ذلك.
* (وبالاسح‍ار هم يستغفرون) *.
* (وبالأسح‍ار هم يستغفرون) * أي هم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم يداومون على الاستغفار في الأسحار كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم ولم يتفرغوا فيه للعبادة، وفي بناء الفعل على الضمير إشعار بأنهم الأحقاء بأن يوصفوا بالاستغفار كأنهم المختصون به لاستدامتهم له وإطنابهم فيه.
وفي الآية من الإشارة إلى مزيد خشيتهم وعدم اغترارهم بعبادتهم ما لا يخفى، وحمل الاستغفار على حقيقته المشهورة هو الظاهر - وبه قال الحسن -.
8

أخرج عنه ابن جرير. وغيره أنه قال: صلوا فلما كان السحر استغفروا، وقيل: المراد طلبهم المغفرة بالصلاة، وعليه ما أخرج ابن المنذر. وجماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: * (يستغفرون) * يصلون، وأخرج ابن مردويه عنه ذلك مرفوعا ولا أراه يصح، وأخرج أيضا عن أنس قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن آخر الليل في التهجد أحب إلي من أوله لأن الله تعالى يقول: * (وبالأسحار هم يستغفرون) * " وهو محتمل لذلك التفسير والظاهر.
* (وفىأموالهم حق للسآئل والمحروم) *.
* (وفي أموالهم حق) * أي نصيب وافر يستوجبونه على أنفسهم تقربا إلى الله عز وجل وإشفاقا على الناس فهو غير الزكاة كما قال ابن عباس. ومجاهد. وغيرهما.
* (للسآئل) * الطالب منهم * (والمحروم) * وهو المتعفف الذي يحسبه الجاهل غنيا فيحرم الصدقة من أكثر الناس.
أخرج ابن جرير. وابن حبان. وابن مردويه عن أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان والأكلة والأكلتان قيل: فمن المسكين؟ قال: الذي ليس له ما يغنيه ولا يعلم مكانه فيتصدق عليه فذلك المحروم " وفسره ابن عباس بالمحارف الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه ولا يسأل الناس، وقيل: هو الذي يبعد منه ممكنات الرزق بعد قربها منه فيناله الحرمان، وقال زيد بن أسلم: هو الذي اجتيحت ثمرته، وقيل: من ماتت ماشيته، وقيل: من ليس له سهم في الإسلام، وقيل: الذي لا ينمو له مال، وقيل: غير ذلك - قال في البحر: وكل ذلك على سبيل التمثيل ويجمع الأقوال أنه الذي لا مال له لحرمان أصابه - وأنا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أقول - وقال منذر بن سعيد هذا الحق هو الزكاة المفروضة، وتعقب بأن السورة مكية وفرض الزكاة بالمدينة، وقيل: أصل فريضة الزكاة كان بمكة والذي كان بالمدينة القدر المعروف اليوم، وعن ابن عمر أن رجلا سأله عن هذا الحق فقال الزكاة وسوى ذلك حقوق فعمم، والجمهور على الأول.
* (وفى الارض ءاي‍ات للموقنين) *.
* (وفي الأرض ءاي‍ات) * دلائل من أنواع المعادن. والنباتات. والحيوانات، أو وجوه دلالات من الدحو وارتفاع بعضها عن الماء، واختلاف أجزائها في الكيفيات والخواص، فالدليل على الأول ما في الأرض من الموجودات والظرفية حقيقية والجمع على ظاهره، وعلى الثاني الدليل نفس الأرض، والجمعية باعتبار وجوه الدلالة وأحوالها، والظرفية من ظرفية الصفة في الموصوف والدلالة على وجود الصانع جل شأنه وعلمه وقدرته وإرادته ووحدته وفرط رحمته عز وجل * (للموقنين) * للموحدين الذين سلكوا الطريق السوي البرهاني الموصل إلى المعرفة فهم نظارون بعيون باصرة وأفهام نافذة، وقرأ قتادة - آية - بالإفراد.
* (وفىأنفسكم أفلا تبصرون) *.
* (وفي أنفسكم) * أي في ذواتكم آيات إذ ليس في العالم شيء إلا وفي ذات الإنسان له نظير يدل مثل دلالته على ما انفرد به من الهيآت النافعة والمناظرة البهية والتركيبات العجيبة والتمكن من الأفعال البديعة واستنباط الصنائع المختلفة واستجماع الكمالات المتنوعة، وآيات الأنفس أكثر من أن تحصى، وقيل: أريد بذلك اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع، ورواه عطاء عن ابن عباس، وقيل: سبيل الطعام وسبيل الشراب والحق أن لا حصر * (افلا تبصرون) * أي ألا تنظرون فلا تبصرون بعين البصيرة، وهو تعنيف على ترك النظر في الآيات الأرضية والنفسية، وقيل: في الأخير.
* (وفى السمآء رزقكم وما توعدون) *.
* (وفي السماء رزقكم) * أي تقديره وتعيينه، أو أسباب رزقكم من النيرين والكواكب والمطالع
9

والمغارب التي تختلف بها الفصول التي هي مبادىء الرزق إلى غير ذلك، فالكلام على تقدير مضاف أو التجوز بجعل وجود الأسباب فيها كوجود المسبب، وذهب غير واحد إلى أن السماء السحاب وهي سماء لغة، والمراد بالرزق المطر فإنه سبب الأقوات وروى تفسيره بذلك مرفوعا وقرأ ابن محيصن - أرزاقكم - على الجمع.
* (وما توعدون) * عطف على رزقكم أي والذي توعدونه من خير وشر كما روي عن مجاهد، وفي رواية أخرى عنه وعن الضحاك - ما توعدون - الجنة والنار
وهو ظاهر في أن النار في السماء وفيه خلاف، وقال بعضهم: هو الجنة وهي على ظهر السماء السابعة تحت العرش، وقيل: أمر الساعة، وقيل: الثواب والعقاب فإنهما مقدران معينان فيها، وقيل: إنه مستأنف خبره.
* (فورب السمآء والارض إنه لحق مثل مآ أنكم تنطقون) *.
* (فورب السماء والأرض إنه لحق) * على أن ضمير * (إنه) * * (لما) * وعلى ما تقدم، فإما له أو للرزق، أو لله تعالى، أو للنبي صلى الله عليه وسلم، أو للقرآن، أو للدين في * (إن الدين لواقع) * (الذاريات: 6) أو لليوم المذكور في * (أيان يوم الدين) * (الذاريات: 12) أو لجميع المذكور * (أما ما أقوال) *، واستظهر أبو حيان الأخير منها وهو مروى عن ابن جريج أي أن جميع ما ذكرناه من أول السورة إلى هنا لحق * (مثل ما أنكم تنطقون) * أي مثل نطقكم كما أنه لا شك لكم في أنكم تنطقون ينبغي أن لا تشكوا في حقية ذلك وهذا كقول الناس: إن هذا لحق كما أنك ترى وتسمع، ونصب * (مثل) * على الحالية من المستكن في * (لحق) * وهو لا يتعرف بالإضافة لتوغله في التنكير، أو على الوصف لمصدر محذوف أي إنه حق حقا مثل نطقكم، وقيل: إنه مبني على الفتح فقال المازني: لتركبه مع * (ما) * حتى صارا شيئا واحدا نحو - ويحما - وأنشدوا لبناء الاسم معها قول الشاعر: أثور " ما " أصيدكم أم ثورين * أم هذه الجماء ذات القرنين
وقال غيره: لإضافته إلى غير متمكن وهو * (ما) * إن كانت نكرة موصوفة بمعنى شيء، أو موصولة بمعنى الذي و * (أنكم) * الخ خبر مبتدأ محذوف أي هو * (أنكم) * الخ، والجملة صفة، أو صلة، أو هو أن بما في حيزها إن جعلت * (ما) * زائدة، وهو نص الخليل ومحله على البناء الرفع على أنه صفة * (لحق) * أو خبر ثان ويؤيده قراءة حمزة. والكسائي. وأبي بكر. والحسن. وابن أبي إسحاق. والأعمش بخلاف عن ثلاثتهم * (مثل) * بالرفع، وفي " البحر " أن الكوفيين يجعلون - مثلا - ظرفا فينصبونه على الظرفية ويجيزون زيد مثلك بالنصب، وعليه يجوز أن يكون في قراءة الجمهور منصوبا على الظرفية - واستدلالهم، والرد عليهم مذكور في النحو - وفي الآية من تأكيد حقية المذكور ما لا يخفى، وأخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال فيها: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قاتل الله قوما أقسم لهم ربهم ثم لم يصدقوا " وعن الأصمعي أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود فقال: ممن الرجل؟ قلت: من بني أصمع قال: من أين أقبلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن قال: اتل علي فتلوت * (والذاريات) * (الذاريات: 1) فلما بلغت * (وفي السماء رزقكم) * (الذاريات: 22) قال: حسبك فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق فالتفت فإذا بالأعرابي قد نحل واصفر فسلم علي واستقرأ السورة فلما بلغت الآية صاح وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ثم قال: وهل غير هذا؟ فقرأت * (فورب السماء والأرض إنه لحق) * فصاح وقال: يا سبحان الله من ذا أغضب الجليل حتى حلف لم يصدقوه بقوله حتى ألجأوه إلى اليمين قالها
10

*
ثلاثا وخرجت معها نفسه.
* (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين) *.
* (هل أت‍اك حديث ضيف إبراهيم) * فيه تفخيم لشأن الحديث وتنبيه على أنه ليس مما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير طريق الوحي قاله غير واحد، وفي " الكشف " فيه رمز إلى أنه لما فرغ من إثبات الجزاء لفظا القسم ومعنى بما في المقسم به من التلويح إلى القدرة البالغة مدمجا فيه صدق المبلغ، وقضى الوطر من تفصيله مهد لإثبات النبوة وأن هذا الآتي الصادق حقيق بالاتباع لما معه من المعجزات الباهرة فقال سبحانه: * (هل أتاك) * الخ، وضمن فيه تسليته عليه الصلاة والسلام بتكذيب قومه فله بسائر آبائه وإخوانه من الأنبياء عليهم السلام أسوة حسنة هذا إذا لم يجعل قوله تعالى: * (وفي موسى) * عطفا على قوله سبحانه: * (وفي الأرض آيات) * وأما على ذلك التقدير فوجهه أن يكون قصة الخليل. ولوط عليهما السلام معترضة للتسلي بإبعاد مكذبيه وأنه مرحوم منجي مكرم بالاصطفاء مثل أبيه إبراهيم صلوات الله تعالى وسلامه عليه وعليهم - والترجيح مع الأول انتهى - وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بقوله سبحانه: * (وفي موسى) *، و * (الضيف) * في الأصل مصدر بمعنى الميل ولذلك يطلق على الواحد والمتعدد، قيل: كانوا اثني عشر ملكا، وقيل: ثلاثة. جبرائيل. وميكائيل. وإسرافيل عليهم السلام وسموا ضيفا لأنهم كانوا في صورة الضيف ولأن إبراهيم عليه السلام حسبهم كذلك، فالتسمية على مقتضى الظاهر والحسبان، وبدأ بقصة إبراهيم وإن كانت متأخرة عن قصة عاد لأنها أقوى في غرض التسلية * (المكرمين) * أي عند الله عز وجل كما قال الحسن فهو كقوله تعالى في الملائكة عليهم السلام: * (بل عباد مكرمون) * (الأنبياء: 26) أو عند إبراهيم عليه السلام إذ خدمهم بنفسه وزوجته وعجل لهم القرى ورفع مجالسهم كما في بعض الآثار، وقرأ عكرمة * (المكرمين) * بالتشديد.
* (إذ دخلوا عليه فقالوا سل‍اما قال سل‍ام قوم منكرون) *.
* (إذ دخلوا عليه) * ظرف للحديث لأنه صفة في الأصل، أو للضيف، أو * (لمكرمين) * إن أريد إكرام إبراهيم لأن إكرام الله تعالى إياهم لا يتقيد، أو منصوب بإضمار اذكر * (فقالوا سل‍اما) * أي نسلم عليك سلاما، وأوجب في " البحر " حذف الفعل لأن المصدر ساد مسده فهو من المصادر التي يجب حذف أفعالها، وقال ابن عطية: يتجه أن يعمل في * (سلاما) * قالوا: على أن يجعل في معنى قولا ويكون المعنى حينئذ أنهم قالوا: تحية وقولا معناه * (سلام) * ونسب إلى مجاهد وليس بذاك.
* (قال سل‍ام) * أي عليكم سلام عدل به إلى الرفع بالابتداء لقصد الثبات حتى يكون تحيته أحسن من تحيتهم أخذا بمزيد الأدب والإكرام، وقيل: * (سلام) * خبر مبتدأ محذوف أي أمري * (سلام) * وقرئا مرفوعين، وقرىء - سلاما قال سلما - بكسر السين وإسكان اللام والنصب، والسلم السلام، وقرأ ابن وثاب. والنخعي.
وابن جبير. وطلحة - سلاما قال سلم - بالكسر والإسكان والرفع، وجعله في " البحر " على معنى نحن أو أنتم سلم * (قوم منكرون) * أنكرهم عليه السلام للسلام الذي هو علم الإسلام، أو لأنهم عليهم السلام ليسوا ممن عهدهم من الناس، أو لأن أوضاعهم وأشكالهم خلاف ما عليه الناس، و * (قوم) * خبر مبتدأ محذوف والأكثر على أن التقدير أنتم قوم منكرون وأنه عليه السلام قاله لهم للتعرف كقولك لمن لقيته: أنا لا أعرفك تريد عرف لي نفسك وصفها، وذهب بعض المحققين إلى أن الذي يظهر أن التقدير هؤلاء * (قوم منكرون) * وأنه عليه السلام قاله في نفسه، أو لمن كان معه من أتباعه وغلمانه من غير أن يشعرهم بذلك فإنه الأنسب بحاله
11

عليه السلام لأن في خطاب الضيف بنحو ذلك إيحاشا ما، وطلبه به أن يعرفوه حالهم لعله لا يزيل ذلك. وأيضا لو كان مراده ذلك لكشفوا أحوالهم عند القول المذكور ولم يتصد عليه السلام لمقدمات الضيافة.
* (فراغ إلى أهله فجآء بعجل سمين) *.
* (فراغ إلى أهله) * أي ذهب إليهم على خفية من ضيفه، نقل أبو عبيدة أنه لا يقال: راغ إلا إذا ذهب على خفية، وقال: يقال روغ اللقمة إذا غمسها في السمن حتى تروى، قال ابن المنير: وهو من هذا المعنى لأنها تذهب مغموسة في السمن حتى تخفى، ومن مقلوب الروغ غور الأرض والجرح لخفائه وسائر مقلوباته قريبة من هذا المعنى، وقال الراغب: الروغ الميل على سبيل الاحتيال، ومنه راغ الثعلب، وراغ فلان إلى فلان مال نحوه لأمر يريده منه بالاحتيال، ويعلم منه أن لاعتبار قيد الخفية وجها وهو أمر يقتضيه المقام أيضا لأن من يذهب إلى أهله لتدارك الطعام يذهب كذلك غالبا، وتشعر الفاء بأنه عليه السلام بادر بالذهاب ولم يمهل وقد ذكروا أن من أدب المضيف أن يبادر بالقرى من غير أن يشعر به الضيف حذرا من أن يمنعه الضيف، أو يصير منتظرا * (فجاء بعجل) * هو ولد البقرة كأنه سمي بذلك لتصور عجلته التي تعدم منه إذا صار ثورا * (سمين) * ممتلىء الجسد بالشحم واللحم يقال: سمن - كسمع - سمانة بالفتح وسمنا - كعنب - فهو سامن وسمين، وكحسن السمين خلقة كذا في " القاموس "، وفي " البحر " يقال: سمن سمنا فهو سمين شذوذا في المصدر، واسم الفاعل. والقياس سمن وسمن، وقالوا: سامن إذا حدث له السمن انتهى، والفاء فصيحة أفصحت عن جمل قد حذفت ثقة بدلالة الحال عليها، وإيذانا بكمال سرعة المجىء بالطعام أي فذبح عجلا فحنذه فجاء به، وقال بعضهم إنه كان معدا عنده حنيذا قبل مجيئهم لمن يرد عليه من الضيوف فلا حاجة إلى تقدير ما ذكر، والمشهور اليوم أن الذبح للضيف إذا ورد أبلغ في إكرامه من الإتيان بما هىء من الطعام قبل وروده، وكان كما روي عن قتادة عامة ماله عليه السلام البقر ولو كان عنده أطيب لحما منها لأكرمهم به.
* (فقربه إليهم قال ألا تأكلون) *.
* (فقربه إليهم) * بأن وضعه لديهم، وفيه دليل على أن من إكرام الضيف أن يقدم له أكثر مما يأكل وأن لا يوضع الطعام بموضع ويدعى الضيف إليه * (قال ألا تأكلون) *، قيل: عرض للأكل فإن في ذلك تأنيسا للضيف، وقيل: إنكار لعدم تعرضهم للأكل، وفي بعض الآثار أنهم قالوا: إنا لا نأكل إلا ما أدينا ثمنه فقال عليه السلام: إني لا أبيحه لكم إلا بثمن قالوا: وما هو؟ قال: أن تسموا الله تعالى عند الابتداء وتحمدوه عز وجل عند الفراغ فقال بعضهم لبعض: بحق اتخذه الله تعالى خليلا.
* (فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغل‍ام عليم) *.
* (فأوجس منهم خيفة) * فأضمر في نفسه منهم خوفا لما رأى عليه الصلاة والسلام إعراضهم عن طعامه وظن أن ذلك لشر يريدونه فإن أكل الضيف أمنة؛ ودليل على انبساط نفسه وللطعام حرمة وذمام والامتناع منه وحشة موجبة لظن الشر. وعن ابن عباس أنه عليه السلام وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب فخاف * (قالوا لا تخف) * إنا رسل الله تعالى، عن يحيى بن شداد مسح جبريل عليه السلام العجل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه فعرفهم وأمن منهم، وعلى ما روي عن الخبر أن هذا لمجرد تأمينه عليه السلام، وقيل: مع تحقيق أنهم ملائكة وعلمهم بما أضمر في نفسه إما باطلاع الله تعالى إياهم عليه، أو إطلاع ملائكته الكرام الكاتبين عليه وإخبارهم به، أو بظهور أمارته في وجهه الشريف فاستدلوا بذلك على الباطن * (وبشروه) * وفي سورة الصافات * (وبشرناه) * أي بواسطتهم * (بغل‍ام) *
12

هو عند الجمهور إسحاق بن سارة وهو الحق للتنصيص على أنه المبشر به في سورة هود، والقصة واحدة، وقال مجاهد: إسماعيل ابن هاجر كما رواه عنه ابن جرير وغيره ولا يكاد يصح * (عليم) * عند بلوغه واستوائه، وفيه تبشير بحياته وكانت البشارة بذكر لأنه أسر للنفس وأبهج، ووصفه بالعلم لأنها الصفة التي يختص بها الإنسان الكامل لا الصورة والجميلة والقوة ونحوهما، وهذا عند غير الأكثرين من أهل هذا الزمان فإن العلم عندهم لا سيما العلم الشرعي رذيلة لا تعادلها رذيلة والجهل فضيلة لا توازنها فضيلة، وفي صيغة المبالغة مع حذف المعمول ما لا يخفى مما يوجب السرور، وعن الحسن * (عليم) * نبي ووقعت البشارة بعد التأنيس، وفي ذلك إشارة إلى أن درء المفسدة أهم من جلب المصلحة، وذكر بعضهم أن علمه عليه السلام بأنهم ملائكة من حيث بشروه بغيب.
* (فأقبلت امرأته فى صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم) *.
* (فأقبلت امرأته) * سارة لما سمعت بشارتهم إلى بيتها وكانت في زاوية تنظر إليهم، وفي التفسير الكبير إنها كانت في خدمتهم فلما تكلموا مع زوجها بولادتها استحيت وأعرضت عنهم فذكر الله تعالى ذلك بلفظ الإقبال على الأهل دون الإدبار على الملائكة، وهو إن صح مثله عن نقل وأثر لا يأباه الخطاب الآتي لأنه يقتضي الإقبال دون الإدبار إذ يكفي لصحته أن يكون بمسمع منها وإن كانت مدبرة، نعم في الكلام عليه استعارة ضدية ولا قرينة ههنا تصححها، وقيل: أقبلت بمعنى أخذت كما تقول أخذ يشتمني * (في صرة) * في صيحة من الصرير قاله ابن عباس، وقال قتادة. وعكرمة: صرتها رنتها، وقيل: قولها أوه، وقيل: يا ويلتي، وقيل: في شدة، وقيل: الصرة الجماعة المنضم بعضهم إلى بعض كأنهم صروا أي جمعوا في وعاء - وإلى هذا ذهب ابن بحر - قال: أي أقبلت في صرة من نسوة تبادرن نظرا إلى الملائكة
عليهم السلام، والجار والمجرور في موضع الحال، أو المفعول به إن فسر * (أقبلت) * بأخذت قيل: إن * (في) * عليه زائدة كما في قوله: يجرح في عراقيبها نصلي * والتقدير أخذت صيحة، وقيل: بل الجار والمجرور في موضع الخبر لأن الفعل حينئذ من أفعال المقاربة * (فصكت وجهها) * قال مجاهد: ضربت بيدها على جبهتها وقالت: يا ويلتاه، وقيل: إنها وجدت حرارة الدم فلطمت وجهها من الحياء، وقيل: إنها لطمته تعجبا وهو فعل النساء إذا تعجبن من شيء * (وقالت عجوز) * أي أنا عجوز * (عقيم) * عاقر فكيف ألد، وعقيم فعيل قيل: بمعنى فاعل أو مفعول وأصل معنى العقم اليبس.
* (قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم) *.
* (قالوا كذلك) * أي مثل ذلك القول الكريم الذي أخبرنا به * (قال ربك) * وإنما نحن معبرون نخبرك به عنه عز وجل لا أنا نقوله من تلقاء أنفسنا، وروي أن جبريل عليه السلام قال لها: انظري إلى سقف بيتك فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة * (إنه هو الحكيم العليم) * فيكون قوله عز وجل حقا وفعله سبحانه متقنا لا محالة، وهذه المفاوضة لم تكن مع سارة فقط بل كانت مع إبراهيم أيضا حسبما تقدم في سورة الحجر، وإنما لم يذكر ههنا اكتفاءا بما ذكر هناك كما أنه لم يذكر هناك سارة اكتفاءا بما ذكر - ههنا وفي سورة هود -.
* (قال فما خطبكم أيها المرسلون) *.
* (قال) * أي إبراهيم عليه السلام لما علم أنهم ملائكة أرسلوا لأمر * (فما خطبكم) * أي شأنكم الخطير الذي لأجله أرسلتم سوى البشارة * (أيها المرسلون) *.
* (قالوا إنآ أرسلنآ إلى قوم مجرمين) *.
* (قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين) * يعنون قوم لوط عليه السلام.
* (لنرسل عليهم حجارة من طين) *.
* (لنرسل عليهم) * أي بعد قلب قراهم عاليها سافلها حسبما فصل في سائر السور الكريمة
13

* (حجارة من طين) * أي طين متحجر وهو السجيل؛ وفي تقييد كونها من طين رفع توهم كونها بردا فإن بعض الناس يسمى البرد حجارة.
* (مسومة عند ربك للمسرفين) *.
* (مسومة) * معلمة من السومة وهي العلامة على كل واحدة منها اسم من يهلك بها؛ وقيل: أعلمت بأنها من حجارة العذاب، وقيل: بعلامة تدل على أنها ليست من حجارة الدنيا، وقيل: مسومة مرسلة من أسمت الإبل في المرعى، ومنه قوله تعالى: * (ومنه شجر فيه تسيمون) * * (عند ربك) * أي في محل ظهور قدرته سبحانه وعظمته عز وجل، والمراد إنها معلمة في أول خلقها، وقيل: المعنى إنها في علم الله تعالى معدة * (للمسرفين) * المجاوزين الحد في الفجور، و - أل - عند الإمام للعهد أي لهؤلاء المسرفين، ووضع الظاهر موضع الضمير ذما لهم بالإسراف بعد ذمهم بالإجرام، وإشارة إلى علة الحكم، وقوله تعالى:
* (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين) *.
* (فأخرجنا) * إلى آخره حكاية من جهته تعالى لما جرى على قوم لوط عليه السلام بطريق الإجمال بعد حكاية ما جرى بين الملائكة وبين إبراهيم عليه السلام من الكلام، والفاء فصيحة مفصحة عن جمل قد حذفت ثقة بذكرها في موضع آخر كأنه قيل: فقاموا منه وجاءوا لوطا فجرى بينهم وبينه ما جرى فباشروا ما أمروا به فأخرجنا بقولنا: * (فأسر بأهلك) * الخ * (من كان فيها) * أي في قرى قوم لوط وإضمارها بغير ذكر لشهرتها.
* (من المؤمنين) * ممن آمن بلوط عليه السلام.
* (فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) *.
* (فما وجدنا فيها غير بيت) * أي غير أهل بيت للبيان بقوله تعالى: * (من المسلمين) * فالكلام بتقدير مضاف، وجوز أن يراد بالبيت نفسه الجماعة مجازا، والمراد بهم - كما أخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم - عن مجاهد لوط وابنتاه، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه قال: كانوا ثلاثة عشر، واستدل بالآية على اتحاد الإيمان والإسلام للاستثناء المعنوي فإن المعنى فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فلم يكن المخرج إلا أهل بيت واحد وإلا لم يستقم الكلام، وأنت تعلم أن هذا يدل على أنهما صادقان على الأمر الواحد لا ينفك أحدهما عن الآخر كالناطق والإنسان إما على الاتحاد في المفهوم وهو المختلف فيه عند أهل الأصول والحديث فلا، فالاستدلال بها على اتحادهما فيه ضعيف، نعم تدل على أنهما صفتا مدح من أوجه عديدة استحقاق الإخراج واختلاف الوصفين وجعل كل مستقلا بأن يجعل سبب النجاة وما في قوله تعالى: * (من كان) * أولا، و * (غير بيت) * ثانيا من الدلالة على المبالغة فإن صاحبهما محفوظ * (من كان) * وأين كان إلى غير ذلك، ومعنى الوجدان منسوبا إليه تعالى العلم على ما قاله الراغب، وذهب بعض الأجلة إلى أنه لا يقال: ما وجدت كذا إلا بعد الفحص والتفتيش، وجعل عليه معنى الآية فأخرج ملائكتنا * (من كان فيها من المؤمنين) * فما وجد ملائكتنا فيها * (غير بيت من المسلمين) * أو في الكلام ضرب آخر من المجاز فلا تغفل.
* (وتركنا فيهآ ءاية للذين يخافون العذاب الاليم) *.
* (وتركنا فيها) * أي في القرى * (ءاية) * علامة دالة على ما أصابهم من العذاب، قال ابن جريج: هي أحجار كثيرة منضودة، وقيل: تلك الأحجار التي أهلكوا بها، وقيل: ماء منتن قال الشهاب: كأنه بحيرة طبرية، وجوز أبو حيان كون ضمير * (فيها) * عائدا على الإهلاكة التي أهلكوها فإنها من أعاجيب الإهلاك بجعل أعالي القرية أسافل، وإمطار الحجارة، والظاهر هو الأول * (للذين يخافون العذاب الأليم) * أي من شأنهم أن يخافوه لسلامة فطرتهم ورقة قلوبهم دون من عداهم من
ذوي القلوب القاسية فإنهم لا يعتدون بها
14

ولا يعدونها آية.
* (وفى موسى إذ أرسلن‍اه إلى فرعون بسلط‍ان مبين) *.
* (وفي موسى) * عطف على * (وتركنا فيها) * (الذاريات: 37) بتقدير عامل له أي وجعلنا في موسى، والجملة معطوفة على الجملة، أو هو عطف على * (فيها) * بتغليب معنى عامل الآية، أو سلوك طريق المشاكلة في عطفه على الأوجه التي ذكرها النحاة في نحو: علفتها تبنا وماءا باردا
لا يصح تسليط الترك بمعنى الإبقاء على قوله سبحانه. * (وفي موسى) * فقول أبي حيان. لا حاجة إلى إضمار * (تركنا) * لأنه قد أمكن العامل في المجرور تركنا الأول فيه بحث، وقيل: * (في موسى) * خبر لمبتدأ محذوف أي * (وفي موسى) * آية، وجوز ابن عطية. وغيره أن يكون معطوفا على قوله تعالى: * (وفي الأرض وما بينهما) * (الذاريات: 38) اعتراض لتسليته عليه الصلاة والسلام على ما مر، وتعقبه في " البحر " بأنه بعيد جدا ينزه القرآن الكريم عن مثله * (إذ أرسلن‍اه) * قيل: بدل من * (موسى) *، وقيل: هو منصوب بآية، وقيل: بمحذوف أي كائنة وقت إرسالنا، وقيل: بتركنا.
* (إلى فرعون بسلط‍ان مبين) * هو ما ظهر على يديه من المعجزات الباهرة، والسلطان يطلق على ذلك مع شموله للواحد والمتعدد لأنه في الأصل مصدر.
* (فتولى بركنه وقال س‍احر أو مجنون) *.
* (فتولى بركنه) * فأعرض عن الإيمان بموسى عليه السلام على أن ركنه جانب بدنه وعطفه، والتولي به كناية عن الإعراض، والباء للتعدية لأن معناه ثني عطفه، أو للملابسة، وقال قتادة: تولى بقومه على أن الركن بمعنى القوم لأنه يركن إليهم ويتقوى بهم، والباء للمصاحبة أو الملابسة وكونها للسببية غير وجيه، وقيل: تولى بقوته وسلطانه، والركن يستعار للقوة - كما قال الراغب - وقرىء بركنه بضم الكاف اتباعا للراء * (وقال س‍احر) * أي هو ساحر * (أو مجنون) * كان اللعين جعل ما ظهر على يديه عليه السلام من الخوارق العجيبة منسوبة إلى الجن وتردد في أنه حصل باختياره فيكون سحرا، أو بغير اختياره فيكون جنونا، وهذا مبني على زعمه الفاسد وإلا فالسحر ليس من الجن كما بين في محله - فأو - للشك، وقيل: للإبهام، وقال أبو عبيدة: هي بمعنى الواو لأن اللعين قال الأمرين قال: * (إن هذا لساحر عليم) * وقال: * (إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون) * وأنت تعلم أن اللعين يتلون تلون الحرباء فلا ضرورة تدعو إلى جعلها بمعنى الواو.
* (فأخذن‍اه وجنوده فنبذن‍اهم فى اليم وهو مليم) *.
* (فاخذن‍اه وجنوده فنبذن‍اهم) * طرحناهم غير معتدين بهم * (في اليم) * في البحر، والمراد فأغرقناهم فيه، وفي الكلام من الدلالة على غاية عظم شأن القدرة الربانية ونهاية قمأة فرعون وقومه ما لا يخفى * (وهو مليم) * أي آت بما يلام عليه من الكفر والطغيان فالأفعال هنا للإتيان بما يقتضي معنى ثلاثية كأغرب إذا أتى أمرا غريبا، وقيل: الصيغة للنسب، أو الإسناد للسبب - وهو كما ترى - وكون الملام عليه هنا الكفر والطغيان هو الذي يقتضيه حال فرعون وهو مما يختلف باعتبار من وصف به فلا يتوهم أنه كيف وصف اللعين بما وصف به ذو النون عليه السلام.
* (وفى عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم) *.
* (وفي عاد إذ أرسلنا) * على طرز ما تقدم * (عليهم الريح العقيم) * الشديد التي لا تلقح شيئا كما أخرجه جماعة عن ابن عباس وصححه الحاكم، وفي لفظ هي ريح لا بركة فيها ولا منفعة ولا ينزل منها غيث ولا يلقح بها شجر كأنه شبه عدم تضمن المنفعة بعقم المرأة فعيل بمعى فاعل من اللازم وكون هذا المعنى لا يصح هنا مكابرة، وقال بعضهم وهو حسن: سميت عقيما لأنها أهلكتهم وقطعت دابرهم على أن هناك استعارة تبعية شبه إهلاكهم وقطع دابرهم بعقم النساء وعدم
15

حملهن لما فيه من إذهاب النسل ثم أطلق المشبه به على المشبه واشتق منه العقيم، وفعيل قيل: بمعنى فاعل أو مفعول، وهذه الريح كانت الدبور لما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: " نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور " وأخرج الفريابي. وابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه أنها النكباء، وأخرج ابن جرير وجماعة عن ابن المسيب أنها الجنوب، وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أنها الصبا، والمعول عليه ما ذكرنا أولا، ولعل الخبر عن الأمير كرم الله تعالى وجهه غير صحيح.
* (ما تذر من شىء أتت عليه إلا جعلته ك الرميم) *.
* (ما تذر من شيء) * ما تدع شيئا * (أتت عليه) * جرت عليه * (إلا جعلته ك الرميم) * الشيء البالي من عظم، أو نبات، أو غير ذلك من رم الشيء بلي، ويقال للبالي: رمام كغراب، وأرم أيضا لكن قال الراغب: يختص الرم بالفتات من الخشب والتبن، والرمة بالكسر تختص بالعظم البالي، والرمة بالضم بالحبل البالي، وفسره السدي هنا بالتراب، وقتادة بالهشيم، وقطرب بالرماد، وفسره ابن عيسى بالمنسحق الذي لا يرم أي لا يصلح كأنه جعل الهمزة في أرم للسلب، والجملة بعد * (إلا) * حالية، والشيء هنا عام مخصوص أي من شيء أراد الله تعالى تدميره وإهلاكه من ناس. أو ديار. أو شجر. أو غير ذلك، روي أن الريح كانت تمر بالناس فيهم الرجل من عاد فتنتزعه من بينهم وتهلكه.
* (وفى ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين) *.
* (وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين) * أخرج البيهقي في سننه عن قتادة أنه ثلاثة أيام - وإليه ذهب الفراء. وجماعة - قال: تفسيره قوله تعالى: * (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام) * (هود: 65) واستشكل بأن هذا التمتع مؤخر عن العتو لقوله تعالى: * (فعقروها فقال تمتعوا) * الخ، وقوله تعالى:
* (فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون) *.
* (فعتوا عن أمر ربهم) * يدل على أن العتو مؤخر، وأجيب بأن هذا مرتب على تمام القصة كأنه قيل: وجعلنا في زمان قولنا ذلك لثمود آية أو وفي زمان قولنا ذلك لثمود آية، ثم أخذ في بيان كونه آية فقيل. * (فعتوا عن أمر ربهم) * أي فاستكبروا عن الامتثال به إلى الآخر، فالفاء للتفصيل قال في " الكشف ". وهو الظاهر من هذا المساق، وكذلك قوله تعالى: * (فتولى بركنه) * مرتب على القصة زمان إرسال موسى عليه السلام بالسلطان، وإن كان هناك لا مانع من الترتب على الإرسال وذلك لأنه جىء بالظرف مجىء الفضلة حيث جعل فيه الآية، والقصة من توليهم إلا هلاكهم انتهى، وقال الحسن: هذا أي - القول لهم تمتعوا حتى حين - كان حين بعث إليهم صالح أمروا بالإيمان بما جاء به، والتمتع إلى أن تأتي آجالهم - ثم عتوا بعد ذلك - قال في " البحر "، ولذلك جاء العطف بالفاء المقتضية تأخر العتو عما أمروا به فهو مطابق لفظا ووجودا واختاره الإمام فقال. قال بعض المفسرين: المراد بالحين الأيام الثلاثة التي أمهلوها بعد عقر الناقة وهو ضعيف لأن ترتب فعتوا بالفاء دليل على أن العتو كان بعد القول المذكور، فالظاهر أنه ما قدر الله تعالى من الآجال فما من أحد إلا وهو ممهل مدة الأجل كأنه يقول له. تمتع إلى آخر أجلك فإن أحسنت فقد حصل لك التمتع في الدارين وإلا فمالك في الآخرة من نصيب انتهى، وما تقدم أبعد مغزى * (فأخذتهم الص‍اعقة) * أي أهلكتهم، روي أن صالحا عليه السلام وعدهم الهلاك بعد ثلاثة أيام، وقال لهم: تصبح وجوهك غدا مصفرة. وبعد غد محمرة. واليوم الثالث مسودة ثم يصبحكم العذاب، ولما رأوا الآيات التي بينها عليه السلام عمدوا إلى قتله فنجاه الله تعالى فذهب إلى أرض فلسطين ولما كان ضحوة اليوم الرابع تحنطوا وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم الصاعقة وهي نار من السماء، وقيل: صيحة منها فهلكوا، وقرأ عمر. وعثمان رضي الله تعالى عنهما. والكسائي الصعقة
16

وهي المرة من الصعق بمعنى الصاعقة أيضا، أو الصيحة * (وهم ينظرون) * إليها ويعاينونها ويحتاج إلى تنزيل المسموع منزلة المبصر على القول بأن الصاعقة الصيحة وأن المراد ينظرون إليها، وقال مجاهد: * (ينظرون) * بمعنى ينتظرون أي وهم ينتظرون الأخذ والعذاب في تلك الأيام الثلاثة التي رأوا فيها علاماته وانتظار العذاب أشد من العذاب.
* (فما استط‍اعوا من قيام وما كانوا منتصرين) *.
* (فما استط‍اعوا من قيام) * كقوله تعالى: * (فأصبحوا في دارهم جاثمين) * (الأعراف: 87) وقيل: هو من قولهم: ما يقوم فلان بكذا إذا عجز عن دفعه، وروي ذلك عن قتادة فهو معنى مجازي، أو كناية شاعت حتى التحقت بالحقيقة * (وما كانوا منتصرين) * بغيرهم كما لم يتمنعوا بأنفسهم.
* (وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين) *.
* (وقوم نوح) * أي وأهلكنا قوم، فإن ما قبله يدل عليه، أو واذكر، وقيل: عطف على الضمير في * (فأخذتهم) *، وقيل: في * (فنبذناهم) * لأن معنى كل فأهلكناهم - هو كما ترى - وجوز أن يكون عطفا على محل * (وفي عاد) * أو * (وفي ثمود) * وأيد بقراءة عبد الله. وأبي عمرو. وحمزة. والكسائي. وقوم بالجر، وقرأ عبد الوارث. ومحبوب. والأصمعي عن أبي عمرو. وأبو السمال. وابن مقسم. وقوم بالرفع والظاهر أنه على الابتداء، والخبر محذوف أي أهلكناهم * (من قبل) * أي من قبل هؤلاء المهلكين * (إنهم كانوا قوما فاسقين) * خارجين عن الحدود فيما كانوا فيه من الكفر والمعاصي.
* (والسمآء بنين‍اها بأيد وإنا لموسعون) *.
* (والسماء) * أي وبنينا السماء * (بنين‍اها بأييد) * أي بقوة قاله ابن عباس. ومجاهد. وقتادة، ومثله - الآد - وليس جمع * (يد) * وجوزه الإمام وإن صحت التورية به * (وإنا لموسعون) * أي لقادرون من الوسع بمعنى الطاقة، فالجملة تذييل إثباتا لسعة قدرته عز وجل كل شيء فضلا عن السماء، وفيه رمز إلى التعريض الذي في قوله تعالى: * (وما مسنا من لغوب) * (ق: 38)، وعن الحسن * (لموسعون) * الرزق بالمطر وكأنه أخذه من أن المساق مساق الامتنان بذلك على العباد لا إظهار القدرة فكأنه أشير في قوله تعالى: * (والسماء بنيناها بأيد) * (الذاريات: 47) إلى ما تقدم من قوله سبحانه: * (وفي السماء رزقكم) * (الذاريات: 22) على بعض الأقوال فناسب أن يتمم بقوله تعالى: * (وإنا لموسعون) * (الذاريات: 47) مبالغة في المن ولا يحتاج أن يفسر الأيد بالأنعام على هذا القول لأنه يتم المقصود دونه، واليد بمعنى النعمة لا الإنعام، وقيل: أي لموسعوها بحيث أن الأرض وما يحيط بها من الماء والهواء بالنسبة إليها كحلقة في فلاة، وقيل: أي لجاعلون لمكانية، بينها وبين الأرض سعة، والمراد السعة المكانية، وفيه على القولين تتميم أيضا.
* (والارض فرشن‍اها فنعم الم‍اهدون) *.
* (والأرض) * أي وفرشنا الأرض * (فرشن‍اها) * أي مهدناها وبسطناها لتستقروا عليها ولا ينافي ذلك شبهها للكرة على ما يزعمه فلاسفة العصر * (فنعم الم‍اهدون) * أي نحن، وقرأ أبو السمال. ومجاهد. وابن مقسم برفع السماء ورفع الأرض على أنهما مبتدآن وما بعدهما خبر لهما.
* (ومن كل شىء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون) *.
* (ومن كل شيء) * أي من كل جنس من الحيوان * (خلقنا زوجين) * نوعين ذكرا وأنثى - قاله ابن زيد. وغيره - وقال مجاهد: هذا إشارة إلى المتضادات والمتقابلات كالليل. والنهار. والشقوة. والسعادة. والهدى. والضلال. والسماء. والأرض والسواد. والبياض. والصحة. والمرض. إلى غير ذلك، ورجحه الطبري بأنه أدل على القدرة، وقيل: أريد بالجنس
17

المنطقي، وأقل ما يكون تحته نوعان فخلق سبحانه من الجوهر مثلا المادي والمجرد، ومن المادي النامي والجامد، ومن النامي المدرك والنبات، ومن الدرك الصامت والناطق وهو كما ترى * (لعلكم تذكرون) * أي فعلنا ذلك كله كي تتذكروا فتعرفوا أنه عز وجل الرب القادر الذي لا يعجزه شيء فتعملوا بمقتضاه ولا تعبدوا ما سواه،
وقيل: خلقنا ذلك كي تتذكروا فتعلموا أن التعدد من خواص الممكنات وأن الواجب بالذات سبحانه لا يقبل التعدد والانقسام، وقيل: المراد التذكر بجميع ما ذكر لأمر الحشر والنشر لأن من قدر على إيجاد ذلك فهو قادر على إعادة الأموات يوم القيامة وله وجه، وقرأ أبي تتذكرون بتاءين وتخفيف الذال.
* (ففروا إلى الله إنى لكم منه نذير مبين) *.
* (ففروا إلى الله) * تفريع على قوله سبحانه: * (لعلكم تذكرون) * وهو تمثيل للاعتصام به سبحانه وتعالى وبتوحيده عز وجل، والمعنى قل يا محمد: * (ففروا إلى الله) * لمكان * (إني لكم منه) * أي من عقابه تعالى المعد لمن لم يفر إليه سبحانه ولم يوحده * (نذير مبين) * بين كونه منذرا من الله سبحانه بالمعجزات، أو * (مبين) * ما يجب أن يحذر عنه.
* (ولا تجعلوا مع الله إل‍اها ءاخر إنء لكم منه نذير مبين) *.
* (ولا تجعلوا مع الله إل‍اها ءاخر) * عطف على الأمر، وهو نهى عن الإشراك صريحا على نحو وحدوه ولا تشركوا، ومن الأذكار المؤثورة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وكرر قوله تعالى:
* (إني لكم منه نذير مبين) * لاتصال الأول بالأمر واتصال هذا بالنهي والغرض من كل ذلك الحث على التوحيد والمبالغة في النصيحة، وقيل: إن المراد بقوله تعالى: * (ففروا إلى الله) * (الذاريات: 50) الأمر بالإيمان وملازمة الطاعة، وذكر * (ولا تجعلوا) * الخ، إفرادا لأعظم ما يجب أن يفر منه، و * (إني لكم) * الخ، الأول مرتب على ترك الإيمان والطاعة، والثاني على الإشراك فهما متغايران لتغاير ما ترتب كل منهما عليه ووقع تعليلا له ولا يخلو عن كدر، وقال الزمخشري: في الآية: * (فروا إلى) * طاعته وثوابه من معصيته وعقابه ووحدوا ولا تشركوا به، وكرر * (إني لكم) * الخ عند الأمر بالطاعة والنهي عن الشرك ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل كما أن العمل لا ينفع إلا مع الإيمان وأنه لا يفوز عند الله تعالى إلا الجامع بينهما انتهى، وفيه أنه لا دلالة في الآية على ذلك بوجه ثم تفسير الفرار إلى الله بما فسره أيضا لينطبق على العمل وحده غير مسلم على أنه لو سلم الإنذار بترك العمل فمن أين يلزم عدم النفع، وأهل السنة لا ينازعون في وقوع الإنذار بارتكاب المعصية، فالمنساق إلى الذهن على تقدير كون المراد بالفرار إلى الله تعالى العبادة أنه تعالى أمر بها أولا وتوعد تاركها بالوعيد المعروف له في الشرع وهو العذاب دون خلود، ونهى جل شأنه ثانيا أن يشرك بعبادته سبحانه غيره وتوعد المشرك بالوعيد المعروف له وهو الخلود، وعلى هذا يكون الوعيد أن متغايرين وتكون الآية في تقديم الأمر على النهي فيها نظير قوله تعالى: * (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) * (الكهف: 110)، وقوله سبحانه: * (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا) * (النساء: 36) وأين هذا مما ذكره الزمخشري عامله الله تعالى بعدله.
* (كذلك مآ أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا س‍احر أو مجنون) *.
* (كذالك) * أي الأمر مثل ذلك تقرير وتوكيد على ما مر غير مرة، ومن فصل الخطاب لأنه لما أراد سبحانه أن يستأنف قصة قولهم المختلف في الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن تقدمت عموما أو خصوصا في قوله تعالى: * (إنكم لفي قول مختلف) * (الذاريات: 8) وكان قد توسط ما توسط قال سبحانه: الأمر كذلك أي مثل ما يذكر ويأتيك
18

خبره إشارة إلى الكلام الذي يتلوه أعني قوله عز وجل: * (ما أتي الذين من قبلهم) * إلى آخره فهو تفسير ما أجمل وهو مراد من قال: الإشارة إلى تكذيبهم الرسول عليه الصلاة والسلام وتسميتهم إياه وحاشاه ساحرا ومجنونا، ويعلم مما ذكر أن كذلك خبر مبتدأ محذوف ولا يجوز نصبه بأتى على أنه صفة لمصدره، والإشارة إلى الإتيان أي * (ما أتي الذين من قبلهم) * من رسول إتيانا مثل إتيانهم * (إلا قالوا: الخ لأن ما بعد * (ما) * النافية لا يعمل فيما قبلها على المشهور، ولا يأتي مقدرا على شريطة التفسير لأن ما لا يعمل لا يفسر عاملا في مثل ذلك كما صرح به النحاة، وجعله معمولا لقالوا، والإشارة للقول أي إلا قالوا ساحر أو مجنون قولا مثل ذلك القول لا يجوز أيضا على تعسفه لمكان * (ما) * وضمير قبلهم لقريش أي ما أتي الذين من قبل قريش * (من رسول) * أي رسول من رسل الله تعالى * (إلا قالوا) * في حقه * (ساحر أو مجنون) * خبر مبتدأ محذوف أي هو ساحر، و - أو - قيل: من الحكاية أي * (إلا قالوا ساحر) *، أو * (قالوا مجنون) * وهي لمنع الخلو وليست من المحكي ليكون مقول كل مجموع * (ساحر أو مجنون) * وفي البحر هي للتفصيل أي قال بعض: ساحر؛ وقال بعض: مجنون، وقال بعض: ساحر ومجنون فجمع القائلون في الضمير ودلت - أو - على التفصيل انتهى فلا تغفل.
واستشكلت الآية بأنها تدل على أنه ما من رسول إلا كذب مع أن الرسل المقررين شريعة من قبلهم كيوشع عليه السلام لم يكذبوا وكذا آدم عليه السلام أرسل ولم يكذب. وأجاب الإمام بقوله: لا تسلم أن المقرر رسول بل هو نبي على دين رسول ومن كذب رسوله فهو يكذبه أيضا وتعقب بأن الأخبار وكذا الآيات دالة على أن المقررين رسل، وأيضا يبقى الاستشكال بآدم عليه السلام وقد اعترف هو بأنه أرسل ولم يكذب وأجاب بعض عن الاستشكال بالمقررين بأن الآية إنما تدل على أن الرسل الذين أتوا من قبلهم كلهم قد قيل في حقهم ما قيل، ولا يدخل في عموم ذلك المقررون لأن المتبادر من إتيان الرسول قوما مجيئه إياهم مع عدم تبليغ غيره إياهم ما أتي به من قبله وذلك لم يحصل للمقرر شرع من قبله كما لا يخفى، وعن الاستشكال بآدم عليه السلام بأن المراد - ما أتي الذين من قبلهم من الأمم الذين كانوا موجودين على نحو وجود هؤلاء رسول إلا قالوا - الخ، وآدم عليه السلام لم يأت أمة كذلك إذ لم يكن حين أرسل إلا زوجته حواء، ولعله أولى مما قيل: إن المراد من رسول من بني آدم فلا يدخل هو عليه السلام في ذلك، واستشكل أيضا بأن * (إلا قالوا) * يدل على أنهم كلهم كذبوا مع أنه ما من رسول إلا آمن به قوم، وأجاب الإمام بأن إسناد القول إلى ضمير الجمع على إرادة الكثير بل الأكثر، وذكر المكذب فقط لأنه الأوفق بغرض التسلية، وأخذ منه بعضهم الجواب عن الاستشكال السابق فقال: الحكم باعتبار الغالب
لا أن كل أمة من الأمم أتاها رسول فكذبته ليرد آدم والمقررون حيث لم يكذبوا - وفيه ما فيه - وحمل بعضهم الذين من قبلهم على الكفار ودفع به الاستشكالين - وفيه ما لا يخفى - فتأمل جميع ذلك ولا تظن انحصار الجواب فيما سمعت فأمعت النظر والله تعالى الهادي لأحسن المسالك.
* (أتواصوا به بل هم قوم ط‍اغون) *.
* (أتوا صوابه) * تعجيب من إجماعهم على تلك الكلمة الشنيعة أي كأن الأولين والآخرين منهم أوصى بعضهم بعضا بهذا القول حتى قالوه جميعا، وقيل: إنكار للتواصي أي ما تواصوا به.
19

* (بل هم قوم طاغون) * إضراب عن أن التواصي جامعهم إلى أن الجامع لهم على ذلك القول مشاركتهم في الطغيان الحامل عليه.
* (فتول عنهم فمآ أنت بملوم) *.
* (فتول عنهم) * فأعرض عن جدالهم فقد كررت عليهم الدعوة ولم تأل جهدا في البيان فأبوا إلا إباءا وعنادا * (فما أنت بملوم) * على التوالي بعد ما بذلت المجهود وجاوزت في الا بلوغ كل حد معهود.
* (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) *.
* (أي الذين قدر الله تعالى إيمانهم، أو المؤمنين بالفعل فإنها تزيدهم بصيرة وقوة في اليقين، وفي البحر يدل ظاهر الآية على الموادعة وهي منسوخة بآية السيف، وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن المنذرعن ابن عباس في قوله تعالى: * (فتول عنهم) * (الذاريات: 54) الخ، قال: أمره الله تعالى أن يتولى عنهم ليعذبهم وعذر محمدا صلى الله عليه وسلم ثم قال سبحانه: * (وذكر) * الخ فنسختها.
وأخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم. والبيهقي في الشعب. والضياء في المختارة. وجماعة من طريق مجاهد عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: لما نزلت * (فتول عنهم فما أنت بملوم) * (الذاريات: 54) لم يبق منا أحد إلا أيقن بالهلكة إذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولى عنا فنزلت * (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) * (الذاريات: 55) فطابت أنفسنا، وعن قتادة أنهم ظنوا أن الوحي قد انقطع وأن العذاب قد حضر فأنزل الله تعالى * (وذكر) * الخ.
* (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) *.
* (وما خلقت الجن والاإنس إلا ليعبدون) * استئناف مؤكد للأمر مقرر لمضمون تعليله فإن خلقهم لما ذكر سبحانه وتعالى مما يدعوه صلى الله عليه وسلم إلى تذكيرهم ويوجب عليهم التذكر والاتعاظ، ولعل تقديم الجن في الذكر لتقدم خلقهم على خلق الإنس في الوجود، والظاهر أن المراد من يقابلون بهم وبالملائكة عليهم السلام ولم يذكر هؤلاء قيل: لأن الأمر فيهم مسلم، أو لأن الآية سيقت لبيان صنيع المكذبين حيث تركوا عبادة الله تعالى وقد خلقوا لها؛ وهذا الترك مما لا يكون فيهم بل هم عباد مكرمون لا يستكبرون عن عبادته عز وجل، وقيل: لأنه صلى الله عليه وسلم ليس مبعوثا إليهم فليس ذكرهم في هذا الحكم مما يدعوه عليه الصلاة والسلام إلى تذكيرهم، وأنت تعلم أن الأصح عموم البعثة فالأولى ما قيل بدله لاستغنائهم عن التذكير والموعظة، وقيل: المراد بالجن ما يتناولهم ونه من الاستتار وهم مستترون عن الانس، وقيل: لا يصح ذكرهم في حيز الخلق لأنهم كالأرواح من عالم الأمر المقابل لعالم الخلق، وقد أشير إليهما بقوله تعالى: * (له الخلق والأمر) * (الأعراف: 54) ورد بقوله سبحانه: * (خالق كل شيء) * (الأنعام: 102) و * (له الخلق والأمر) * ليس كما ظن والعبادة غاية التذلل، والظاهر أن المراد بها ما كانت بالاختيار دون التي بالتسخير الثابتة لجميع المخلوقات وهي الدلالة المنبهة على كونها مخلوقة وأنها خلق فاعل حكيم، ويعبر عنها بالسجود كما في قوله تعالى: * (والنجم والشجر يسجدان) * (الرحمان: 6) وأل في الجن والانس على المشهور للاستغراق، واللام قيل: للغاية والعبارة وإن لم تكن غاية مطلوبة من الخلق لقيام الدليل على أنه عز وجل لم يخلق الجن والإنس لاجلها أي لارادتها منهم إذ لو أرادها سبحانه منهم لم يتخلف ذلك لاستلزام
20

الإرادة الالهية للمراد كما بين في الأصول مع أن التخلف محقق بالمشاهدة، وأيضا ظاهر قوله تعالى: * (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس) * (الأعراف: 179) يدل على إرادة المعاصي من الكثير ليستحقوا بها جهنم فينافي إرادة العبادة لكن لما كان خلقهم على حالة صالحة للعبادة مستعدة لها حيث ركب سبحانه فيهم عقولا وجعل لهم حواس ظاهرة وباطنة إلى غير ذلك من وجوه الاستعداد جعل خلقهم مغيا بها مبالغة بتشبيه المعد له الشيء بالغاية ومثله شائع في العرف، ألا تراهم يقولون للقوى جسمه: هو مخلوق للمصارعة، وللبقر: هي مخلوقة للحرث.
وفي الكشف أن أفعاله تعالى تنساق إلى الغايات الكمالية واللام فيها موضوعها ذلك، وأما الإرادة فليست من مقتضى اللام إلا إذا علم أن الباعث مطلوب في نفسه وعلى هذا لا يحتاج إلى تأويل فانهم خلقوا بحيث يتأتى منهم العبادة وهدوا إليها وجعلت تلك غاية كمالية لخلقهم، وتعوق بعضهم عن الوصول إليها لا يمنع كون الغاية غاية، وهذا معنى مكشوف انتهى. فتأمل، وقيل: المراد بالعبادة التذلل والخضوع بالتسخير، وظاهر أن الكل عابدون إياه تعالى بذلك المعنى لا فرق بين مؤمن، وكافر، وبر، وفاجر، ونحوه ما قيل: المعنى ما خلقت الجن والإنس إلا ليذلوا لقضائي، وقيل: المعنى ما خلقتهم إلا ليكونوا عبادا لي، ويراد بالعبد العبد بالايجاد وعموم الوصف عليه ظاهر لقوله تعالى: * (إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا) * (مريم: 93) لكن قيل عليه: إن عبد بمعنى صار عبدا ليس من اللغة في شيء، وقيل: العبادة بمعنى التوحيد بناءا على ما روي عن ابن عباس أن كل عبادة في القرآن فهو توحيد فالكل يوحدونه تعالى في الآخرة أما توحيد المؤمن في الدنيا هناك فظاهر، وأما توحيد المشرك فيدل عليه قوله تعالى: * (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) * (الأنعام: 23) وعليه قول من قال: لا يدخل النار كافر، أو المراد كما قال الكلبي: إن المؤمن يوحده في الشدة والرخاء والكافر يوحده سبحانه في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء، كما قال عز وجل: * (فإذا
ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين) * (العنكبوت: 65) ولا يخفى بعد ذلك عن الظاهر والسياق، ونقل عن على كرم الله تعالى وجهه، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما خلقتهم إلا لآمرهم وأدعوهم للعبادة فهو كقوله تعالى: * (وما أمروا إلا ليعبدوا الله) * (البينة: 5) فذكر العبادة المسببة شرعا عن الأمر أو اللازمة له، وأريد سببها أو ملزومها فهو مجاز مرسل، وأنت تعلم أن أمر كل من أفراد الجن وكل من أفراد الإنس غير متحقق لا سيما إذا كان غير المكلفين كالأطفال الذين يموتون قبل زمان التكليف داخلين في العموم، وقال مجاهد: إن معنى * (ليعبدون) * ليعرفون وهو مجاز مرسل أيضا من إطلاق اسم السبب على المسبب على ما في الإرشاد، ولعل السر فيه التنبية على أن المعتبر هي المعرفة الحاصلة بعبادته تعالى لا ما يحصل بغيرها كمعرفة الفلاسفة قيل: وهو حسن لأنهم لو لم يخلقهم عز وجل لم يعرف وجوده وتوحيده سبحانه وتعالى، وقد جاء " كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف " وتعقب بأن المعرفة الصحيحة لم تتحقق في كل بل بعض قد أنكر وجوده عز وجل كالطبيعيين اليوم فلا بد من القول السابق في توجيه التعليل ثم الخبر بهذا اللفظ ذكره سعد الدين سعيد الفرغاني في منتهى المدارك، وذكر غيره كالشيخ الأكبر في الباب المائة والثمانية والتسعين من الفتوحات بلفظ آخر وتعقبه الحفاظ فقال ابن تيمة: إنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف له سند صحيح ولا ضعيف، وكذا قال الزركشي. والحافظ ابن حجر. وغيرهما: ومن
21

يرويه من الصوفية معترف بعدم ثبوته نقلا لكن يقول: إنه ثابت كشفا، وقد نص على ذلك الشيخ الأكبر قدس سره في الباب المذكور، والتصحيح الكشفي شنشنة لهم، ومع ذلك فيه إشكال معنى إلا أنه أجيب عنه ثلاث أجوبة ستأتي إن شاء الله تعالى، وقيل: أل في * (الجن والانس) * للعهد، والمراد بهم المؤمنون لقوله تعالى: * (ولقد ذرأنا) * (الأعراف: 179) الآية أي بناءا على أن اللام فيها ليست للعاقبة، ونسب هذا القول لزيد بن أسلم. وسفيان، وأيد بقوله تعالى قبل: * (فإن الذكرى تنفع المؤمنين) * (الذاريات: 55) وأيده في البحر برواية ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين " ورواها بعضهم قراءة لابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ومن الناس من جعلها للجنس، وقال: يكفي ثبوت الحكم له ثبوته لبعض أفراده وهو هنا المؤمنون الطائعون وهو في المآل متحد مع سابقه، ولا إشكال على ذلك في جعل اللام للغاية المطلوبة حقيقة وكذا في جعلها للغرض عند من يجوز تعليل أفعاله تعالى بالأغراض مع بقاء الغني الذاتي وعدم الاستكمال بالغير - كما ذهب كثير من السلف، والمحدثين - وقد سمعت أن منهم من يقسم الإرادة إلى شرعية تتعلق بالطاعات وتكوينية تتعلق بالمعاصي وغيرها، وعليه يجوز أن يبقي * (الجن والإنس) * على شمولها للعاصين، ويقال: إن العبادة مرادة منهم أيضا لكن بالإرادة الشرعية إلا أنه لا يتم إلا إذا كانت هذه الإرادة لا تستلزم وقوع المراد كالارادة التفويضية القائل بها المعتزلة.
هذا وإذا أحطت خبرا بالأقوال في تفسير هذه الآية هان عليك دفع ما يتراءى من المنافاة بينها وبين قوله تعالى: * (ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) * (هود: 118، 119) على تقدير كون الإشارة إلى الاختلاف بالتزام بعض هاتيك الأقوال فيها، ودفعه بعضهم بكون اللام في تكل الآية للعاقبة والذي ينساق إلى الذهن أن الحصر إضافي أي خلقتهم للعبادة دون ضدها أو دون طلب الرزق والإطعام على ما يشير إليه كلام بعضهم أخذا من تعقيب ذلك بقوله سبحانه:
* (مآ أريد منهم من رزق ومآ أريد أن يطعمون) *.
* (مآ أريد منهم من رزق ومآ أريد أن يطعمون) * وهو لبيان أن شأنه تعالى شأنه مع عباده ليس كشأن السادة مع عبيدهم لأنهم إنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم وأرزاقهم، ومالك ملاك العبيد نفي عز وجل أن يكون ملكه إياهم لذلك فكأنه قال سبحانه: ما أريد أن استعين بهم كما يستعين ملاك العبيد بعبيدهم فليشتغلوا بما خلقوا له من عبادتي، وذكر الإمام فيه وجهين: الأول أن يكون لدفع توهم الحاجة من خلقهم للعبادة، والثاني أن يكون لتقرير كونهم مخلوقين لها، وبين هذا بأن الفعل في العرف لا بد له من منفعة لكن العبيد على قسمين: قسم يتخذون لاظهار العظمة بالمثول بين أيادي ساداتهم وتعظيمهم إياهم كعبيد الملوك، وقسم يتخذون للانتفاع بهم في تحصيل الأرزاق أو لإصلاحها، فكأنه قال سبحانه: إني خلقتهم ولا بد فيهم من منفعة فليتفكروا في أنفسهم هل هم من قبيل أن يطلب منهم تحصيل رزق وليسوا كذلك فما أريد منهم من رزق، وهل هم ممن يطلب منهم إصلاح قوت كالطباح ومن يقرب الطعام؟ وليسوا كذلك وما أريد أن يطعمون) * (الذاريات: 57) فإذا هم عبيد من القسم الأول، فينبغي أن لا يتكروا التعظيم، والظاهر أن المعنى ما أريد منهم من رزق لي لمكان قوله سبحانه: * (وما أريد أن يطعمون) * وإليه ذهب الإمام، وذكر في الآية لطائف: الأولى أنه سبحانه كرر نفي الإرادتين لأن السيد قد يطلب من العبد التكسب له وهو طلب الرزق وقد لا يطلب حيث كان له مال وافر لكنه يطلب قضاء
22

حواجه من حفظ المال وإحضار الطعام من ماله بين يديه، فنفي الإرادة الأولى لا يستلزم نفي الإرادة الثانية فكرر النهي على معنى لا أريد هذا ولا أريد ذلك، الثانية أن ترتيب النفيين كما تضمنه النظم الجليل من باب الترقي في بيان غناه عز وجل كأنه قال سبحانه: لا أطلب منهم رزقا ولا ما هو دون ذلك وهو تقديم الطعام بين يدي السيد فإن ذلك أمر كثيرا ما يطلب من العبيد إن كان التكسب لا يطلب منهم، الثالثة أنه سبحانه قال: ما أريد منهم من رزق دون ما أريد منهم أن يرزقون لأن التكسب لطلب العين لا الفعل، وقال سبحانه: * (ما أريد أن يطعمون) * دون ما أريد من طعام لأن ذلك للإشارة إلى الاستغناء عما يفعله العبد الغير المأمور بالتكسب كعبد وافر المال والحاجة إليه للفعل نفسه، الرابعة، أنه جل وعلا خص الاطعام بالذكر لأن أدنى درجات الاستعانة أن يستعين السيد بعبده في تهيئة أمر الطعام ونفي الأدني يتبعه نفي الأعلى بطريق الأولى فكأنه قيل: ما أريد منهم من عين ولا عمل، الخامسة أن * (ما) * لنفي الحال إلا أن المراد به الدنيا وتعرض له دون نفي الاستقبال لأن من المعلوم البين أن العبد بعد موته لا يصلح أن يطلب منه رزق أو إطعام انتهى، فتأمله.
ويفهم من ظاهر كلام الزمخشري أن المعنى ما أريد منهم من رزق لي ولهم، وفي البحر ما أريد منهم من رزق أي أن يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم * (وما أريد أن يطعمون) * أي أن يطعموا خلقي فهو على حذف مضاف قاله ابن عباس انتهى، ونحوه ما قيل: المعنى ما أريد أن يرزقوا أحدا من خلقي ولا أريد أن يطعموه، وأسند
الإطعام إلى نفسه سبحانه لأن الخلق كلهم عيال الله تعالى. ومن أطعم عيال أحد فكأنما أطعمه، وفي الحديث " يا عبدي مرضت فلم تعدني وجعت فلم تطعمني " فإنه كما يدل عليه آخره على معنى مرض عبدي فلم تعده وجاع فلم تطعمه؛ وقيل: الآية مقدرة بقل فتكون بمعنى قوله سبحانه: * (قل لا أسألكم عليه أجرا) * والغيبة فيها رعاية للحكاية إذ في مثل ذلك يجوز الأمر أن الغيبة والخطاب، وقد قرىء بهما في قوله تعالى: * (قل للذين كفروا ستغلبون) *، وقيل: المراد قل لهم وفي حقهم فتلائمه الغيبة في * (منهم) * و * (يطعمون) * ولا ينافي ذلك قراءة - أني أنا الرزاق - فيما بعد لأنه حينئذ تعليل للأمر بالقول، أو الائتمار لا لعدم الإرادة، نعم لا شك في أنه قول بعيد جدا.
* (إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) *.
* (إن الله هو الرزاق) * الذي يرزق كل مفتقر إلى الرزق لا غيره سبحانه استقلالا، أو اشتراكا ويفهم من ذلك استغناؤه عز وجل عن الرزق * (ذو القوة أي القدرة * (المتين) * شديد القوة، والجملة تعليل لعدم الإرادة قال الإمام: كونه تعالى هو الرزاق ناظر إلى عدم طلب الرزق لأن من يطلبه يكون فقيرا محتاجا؛ وكونه عز وجل هو ذو القوة المتين ناظر إلى عدم طلب العمل المراد من قوله سبحانه: * (وما أريد أن يطعمون) * لأن من يطلبه يكون عاجزا لا قوة له فكأنه قيل: ما أريد منهم من رزق لأني أنا الرزاق وما أريد منهم من عمل لأني قوي متين، وكان الظاهر - أني أنا الرزاق - كما جاء في قراءة له صلى الله عليه وسلم لكن التفت إلى الغيبة، والتعبير بالاسم الجليل لاشتهاره بمعنى المعبودية فيكون في ذلك إشعار بعلة الحكم ولتخرج الآية مخرج المثل كما قيل ذلك في قوله تعالى: * (إن الباطل كان زهوقا) * (الإسراء: 81) والتعبير به على القول بتقدير قل فيما تقدم هو الظاهر، وتحتاج القراءة الأخرى إلى ما ذكرناه آنفا، وآثر سبحانه ذو القوة على القوى قيل: لأن في * (ذو) * كما قال ابن حجر الهيثمي وغيره تعظيم ما أضيفت إليه، والموضوف بها والمقام يقتضيه ولذا جيء
23

بالمتين بعد ولم يكتف به عن الوصف بالقوة؛ وقال الإمام: لما كان المقصود تقرير ما تقدم من عدم إرادة الرزق وعدم الاستعانة بالغير جيء بوصف الرزق على صيغة المبالغة لأنه بدونها لا يكفي في تقرير عدم إرادة الرزق وبوصف القوة بما لا مبالغة فيه لكفايته في تقرير عدم الاستعانة فإن من له قوة دون الغاية لا يستعين بغيره لكن لما لم يدل ذو القوة على أكثر من أن له تعالى قوة * (ما) * زيد الوصف بالمتين وهو الذي له ثبات لا يتزلزل، ثم قال: إن القوى أبلغ من ذي القوة والعزة أكمل من المتانة وقد قرن الأكمل بالأكمل وما دونه بما دونه في قوله تعالى: * (ليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز) * وفي قوله تعالى: * (إن الله هو الرزاق) * الخ لما اقتضى المقام ذلك، وقد أطال الكلام في هذا المقام وما أظنه يصفو عن كدر، وقرأ ابن محيصن - الرازق - بزنة الفاعل، وقرأ الأعمش. وابن وثاب - المتين - بالجر، وخرج على أنه صفة القوة، وجاز ذلك مع تذكيره لتأويلها بالاقتدار أو لكونه على زنة المصادر التي يستوي فيها المذكر والمؤنث، أو لاجرائه مجرى فعيل بمعنى مفعول، وأجاز أبو الفتح أن يكون صفة - لذو - وجر على الجوار - كقولهم هذا حجر ضب خرب - وضعف.
* (فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصح‍ابهم فلا يستعجلون) *.
* (فأن للذين ظلموا) * أي إذا ثبت أن الله تعالى ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه وأنه سبحانه ما يريد منهم من رزق إلى آخر ما تقدم فإن للذين ظلموا أنفسهم باشتغالهم بغير ما خلقوا له من العبادة وإشراكهم بالله عز وجل وتكذيبهم رسوله عليه الصلاة والسلام وهم أهل مكة وأضرابهم من كفار العرب * (ذنوبا) * أي نصيبا من العذاب * (مثل ذنوب) * أي نصيب * (اصح‍ابهم) * أي نظرائهم من الأمم السالفة، وأصل الذنوب الدلو العظيمة الممتلئة ماءا، أو القريبة من الامتلاء، قال الجوهري: ولا يقال لها ذنوب وهي فارغة، وهي تذكر وتؤنث وجمعها أذنبة وذنائب فاستعيرت للنصيب مطلقا شرا كان كالنصيب من العذاب في الآية، أو خيرا كما في العطاء في قول علقمة بن عبدة التميمي يمدح الحرث بن أبي شمر الغساني وكان أسر أخاه شأسا يوم عين أباغ: وفي كل حي قد خبطت بنعمة * فحق لشأس من نداك (ذنوب)
يروى أن الحرث لما سمع هذا البيت قال نعم وأذنبة ومن استعمالها في النصيب قول الآخر: لعمرك والمنايا طارقات * لكل بني أب منها (ذنوب)
وهو استعمال شائع، وفي الكشاف هذا تمثيل أصله في السقاة يقتسمون الماء فيكون لهذا ذنوب ولهذا ذنوب قال الراجز: إنا إذا نازلنا غريب * له (ذنوب) ولنا (ذنوب)
وإن أبيتم فلنا القليب * * (فلا يستعجلون) * أي لا يطلبوا مني أن أعجل في الاتيان به يقال استعجله أي حثه على العجلة وطلبها منه، ويقال: استعجلت كذا أن طلبت وقوعه بالعجلة، ومنه قوله تعالى: * (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) * وهو على ما في الإرشاد جواب لقولهم: * (متى هذا الوعد إن كنتم صادقين).
* (فويل للذين كفروا من يومهم الذى يوعدون) *.
* (فويل للذين كفروا) *
24

أي فويل لهم، ووضع الموصول موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بما في حيز الصلة من الكفر وإشعارا بعلة الحكم، والفاء لترتيب ثبوت الويل لهم على أن لهم عذابا عظيما كما أن الفاء التي قبلها لترتيب النهي عن الاستعجال على ذلك، و * (من) * في قوله سبحانه: * (من يومهم الذي يوعدون) * للتعليل؛ والعائد على الموصول محذوف أي يوعدونه أو يوعدون به على قول، والمراد بذلك اليوم قيل: يوم بدر، ورجح بأنه الأوفق لما قبله من حيث أنه ذنوب من العذاب الدنيوي، وقيل: يوم القيامة، ورجح بأنه الأنسب لما في صدر السورة الكريمة الآتية، والله تعالى أعلم.
ومما قاله بعض أهل الإشارة في بعض الآيات: * (والذاريات ذروا) * (الذاريات: 1) إشارة إلى الرياح التي تحمل أنين المشتاقين المتعرضين لنفحات الألطاف إلى ساحات العزة، ثم تأتي بنسيم نفحات الحق إلى مشام المحبين فيجدون راحة ما من غلبات اللوعة * (فالحاملات وقرا) * (الذاريات: 2) إشارة إلى سحائب ألطاف
الألوهية تحمل أمطار مراحم الربوبية فتمطر على قلوب الصديقين * (فالجاريات يسرا) * (الذاريات: 3) إشارة إلى سفن أفئدة المحبين تجري برياح العناية في بحر التوحيد على أيسر حال * (فالمقسمات أمرا) * (الذاريات: 4) إشارة إلى الملائكة النازلين من حظائر القدس بالبشائر والمعارف على قلوب أهل الاستقامة، وإن شئت جعلت الكل إشارة إلى أنواع رياح العناية فمنها ما يطير بالقلوب في جو الغيوب، وقد قال العاشق المجازي: خذا من صبا نجد أمانا لقلبه * فقد كاد رياها يطير بلبه
وإيا كما ذاك النسيم فإنه * متى هب كان الوجد أيسر خطبه
ومنها * (الحاملات وقرا) * دواء قلوب العاشقين كما قيل: أيا جبلى نعمان بالله خليا * نسيم الصبا يخلص إلى نسيمها
أجد بردها أو تشف مني حرارة * على كبد لم يبق إلا صميمها
فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت * على نفس مهموم تجلت همومها
ومنها * (الجاريات) * من مهاب حضرات القدس إلى أفئدة أهل الانس بسهولة لتنعش قلوبهم، ومنها * (المقسمات) * ما جاءت به مما عبق بها من آثار الحضرة الإل‍اهية على نفوس المستعدين حسب استعداداتهم وإن شئت قلت غير ذلك فالباب واسع * (والسماء ذات الحبك) * (الذاريات: 7) إشارة إلى سماء القلب فإنها ذات طرائق إلى الله عز وجل * (إن المتقين في جنات وعيون) * (الذاريات: 15) إشارة إلى جنات الوصال وعيون الحكمة * (وبالأسحار هم يستغفرون) * (الذاريات: 18) يطلبون غفر أي ستر وجودهم بوجود محبوبهم، أو يطلبون غفران ذنب رؤية عبادتهم من أول الليل إلى السحر * (ومن كل شيء خلقنا زوجين) * (الذاريات: 49) إشارة إلى أن جميع ما يرى بارزا من الموجودا ليس واحدا وحدة حقيقية بل هو مركب ولا أقل من كونه مركبا من الإمكان، وشيء آخر فليس الواحد الحقيقي إلا الله تعالى الذي حقيقته سبحانه إنيته * (ففروا إلى الله) * (الذاريات: 50) بترك ما سواه عز وجل: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56) أي ليعرفون، وهو عندهم إشارة إلى ما صححوه كشفا من روايته صلى الله عليه وسلم عن ربه سبحانه أنه قال: " كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف " وفي كتاب " الأنوار السنية " للسيد نور الدين السمهودي يلفظ " كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت هذا الخلق ليعرفوني في عرفوني " وفي " المقاصد الحسنة " للسخاوي بلفظ: " كنت كنزا لا أعرف فخلقت خلقا فعرفتهم بي
25

فعرفوني " إلى غير ذلك، وهو مشكل لأن الخفاء أمر نسبي فلا بد فيه من مخفي ومخفى عنه فحيث لم يكن خلق لم يكن مخفى عنه فلا يتحقق الخفاء، وأجيب أولا: بأن الخفاء عن الأعيان الثابة لأن الأشياء في ثبوتها لا إدراك لها وجوديا فكان الله سبحانه مخفيا عنها غير معروف لها معرفة وجودية - فأحب أن يعرف معرفة حادثة من موجود حادث - فخلق الخلق لأن معرفتهم الوجودية فرع وجودهم فتعرف سبحانه إليهم بأنواع التجليات على حسب تفاوت الاستعدادات فعرفوا أنفسهم بالتجليات فعرفوا الله تعالى من ذلك فبه سبحانه عرفوه، وثانيا: بأن المراد بالخفاء لازمه وهو عدم معرفة أحد به جل وعلا، ويؤيده ما في لفظ السخاوي من قوله: لا أعرف بدل مخفيا، وثالثا: بأن مخفيا بمعنى ظاهرا من أخفاه أي أظهره على أن الهمزة للإزالة أي أزال خفاءه، وترتيب قوله سبحانه: * (فأحببت أن أعرف) * الخ عليه باعتبار أن الظهور متى كان قويا أوجب الجهالة بحال الظاهر فخلق سبحانه الخلق ليكونوا كالحجاب فيتمكن معه من المعرفة، ألا يرى أن الشمس لشدة ظهورها لا تستطيع أكثر الأبصار الوقوف على حالها إلا بواسطة وضع بعض الحجب بينها وبينها وهو كما ترى لا يخلو عن بحث، وأما إطلاق الكنز عليه عز وجل فقد ورد، روى الديلمي في " مسنده " عن أنس مرفوعا كنز المؤمن ربه أي فإن منه سبحانه كل ما يناله من أمر نفيس في الدارين، والشيخ محيى الدين قدس سره ذكر في معنى - الكنز - غير ذلك فقال في الباب الثلثمائة والثمانية والخمسين من فتوحاته: لو لم يكن في العالم من هو على صورة الحق ما حصل المقصود من العلم بالحق أعني العلم الحادث في قوله: * (كنت كنزا) * الخ فجعل نفسه كنزا، والكنز لا يكون إلا مكتنزا في شيء فلم يكن كنز الحق نفسه إلا في صورة الإنسان الكامل في شيئية ثبوته هناك كان الحق مكنوزا فلما ألبس الحق الإنسان ثوب شيئية الوجود ظهر الكنز بظهوره فعرفه الإنسان الكامل بوجوده وعلم أنه سبحانه كان مكنوزا فيه في شيئية ثبوته وو لا يشعر به انتهى، وهو منطق الطير الذي لا نعرفه نسأل الله تعالى التوفيق لما يحب ويرضى بمنه وكرمه.
سورة الطور
مكية: كما روى عن ابن عباس. وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم ولم نقف على استثناء شيء منها، وهي تسع وأربعون آية في الكوفي والشامي، وثمان وأربعون في البصري، وسبع وأربعون في الحجازي، ومناسبة أولها لآخر ما قبلها اشتمال كل على الوعيد، وقال الجلالي السيوطي: وجه وضعها بعد الذاريات تشابههما في المطلع والمقطع فإن في مطلع كل منهما صفة حال المتقين، وفي مقطع كل منهما صفة حال الكفار، ولا يخفى ما بين السورتين الكريمتين من الاشتراك في غير ذلك.
* (والطور) *.
بسم الله الرحم‍ان الرحيم * (والطور) * الطور اسم لكل جبل على ما قيل: في اللغة العربية عند الجمهور، وفي اللغة السريانية عند بعض، ورواه ابن المنذر. وابن جرير عن مجاهد، والمراد به هنا * (طور سينين) * الذي كلم الله تعالى موسى عليه السلام عنده، ويقال له: طور سيناء أيضا، والمعروف اليوم بذلك ما هو بقرب التيه بين مصر والعقبة، وقال أبو حيان في تفسير سورة * (والتين) * (التين: 1): ولم يختلف في طور سيناء أنه جبل بالشام وهو الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه الصلاة والسلام، وقال في تفسيره: هذه السورة في الشام جبل يسمى الطور وهو طور سيناء فقال نوف البكالي: إنه الذي أقسم الله سبحانه به لفضله على الجبال، قيل: وهو الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام انتهى فلا تغفل، وحكى الراغب أنه جبل محيط بالأرض ولا يصح عندي، وقيل: جبل من جبال
26

الجنة، وروى فيه ابن مردويه عن أبي هريرة، وعن كثير بن عبد الله حديثا مرفوعا ولا أظن صحته، واستظهر أبو حيان أن المراد الجنس لا جبل معين، وروى ذلك
عن مجاهد. والكلبي، والذي أعول عليه ما قدمته.
* (وكت‍ابمسطور) *.
* (وكت‍ابمسطور) * مكتوب على وجه الانتظام فإن السطر ترتيب الحروف المكتوبة، والمراد به على ما قال الفراء الكتاب الذي يكتب فيه الأعمال ويعطاه العبد يوم القيامة بيمينه أو بشماله وهو المذكور في قوله تعالى: * (ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) * (الإسراء: 13)، وقال الكلبي: هو التوراة، وقيل: هي. والإنجيل. والزبور وقيل: القرآن، وقيل: اللوح المحفوظ، وفي " البحر " لا ينبغي أن يحمل شيء من هذه الأقوال على التعيين وإنما تورد، على الاحتمال، والتنكير قيل: للإفراد نوعا، وذلك على القول بتعدده، أو للإفراد شخصا، وذلك على القول المقابل، وفائدته الدلالة على اختصاصه من جنس الكتب بأمر يتميز به عن سائرها، والأولى على وجهي التنكير إذا حمل على أحد الكتابين أعني القرآن والتوراة أن يكون من باب * (ليجزى قوما) * (الجاثية: 14) ففي التنكير كمال التعريف، والتنبيه على أن ذلك الكتاب لا يخفى نكر أو عرف، ومن هذا القبيل التنكير في قوله تعالى:
* (فى رق منشور) *.
* (في رق منشور) * والرق بالفتح ويكسر، وبه قرأ أبو السمال جلد رقيق يكتب فيه وجمعه رقوق وأصله على ما في " مجمع البيان " من اللمعان يقال. ترقرق الشيء إذا لمع. أو من الرقة ضد الصفاقة على ما قيل، وقد تجوز فيه عما يكتب فيه الكتاب من ألواح وغيرها. والمنشور المبسوط والوصف به قيل: للإشارة إلى صحة الكتاب وسلامته من الخطأ حيث جعل معرضا لنظر كل ناظر آمنا عليه من الاعتراض لسلامته عما يوجبه، وقيل: هو لبيان حاله التي تضمنتها الآية المذكورة آنفا بناءا على أن المراد به صحائف الأعمال ولبيان أنه ظاهر للملائكة عليهم السلام يرجعون إليه بسهولة في أمورهم بناءا على أنه اللوح، أو للناس لا يمنعهم مانع عن مطالعته والاهتداء بهديه بناءا على الأقوال الأخر، وفي " البحر " * (منشور) * منسوخ ما بين المشرق والمغرب.
* (والبيت المعمور) *.
* (والبيت المعمور) * هو بيت في السماء السابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه حتى تقوم الساعة كما أخرج ذلك ابن جرير. وابن المنذر. والحاكم وصححه. وابن مردويه. والبيهقي في الشعب عن أنس مرفوعا.
وأخرج عبد الرزاق. وجماعة عن أبي الطفيل أن ابن الكواء سأل عليا كرم الله تعالى وجهه فقال: ذلك الضراح بين فوق سبع سموات تحت العرض يدخله كل يوم سبعون ألف ملك الخ، وجاء في رواية عنه كرم الله تعالى وجهه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه حيال الكعبة بحيث لو سقط سقط عليها.
وروى عن مجاهد. وقتادة. وابن زيد أن في كل سماء بحيال الكعبة بيتا حرمته كحرمتها وعمارته بكثرة الواردين عليه من الملائكة عليهم السلام كما سمعت، وقال الحسن: هو الكعبة يعمره الله تعالى كل سنة بستمائة ألف من الناس فإن نقصوا أتم سبحانه العدد من الملائكة، وأنت تعلم أن المجاز المشهور - مكان معمور - بمعنى مأهول مسكون تحل الناس في محل هو فيه، فعمارة الكعبة بالمجاورين عندها وبحجاجها صح خبر الحسن المذكور أم لا.
* (والسقف المرفوع) *.
* (والسقف المرفوع) * أي السماء كما رواه جماعة، وصححه الحاكم عن الأمير كرم الله تعالى وجهه، وعن ابن عباس هو العرش وهو سقف الجنة، وأخرجه أبو اليخ عن الربيع بن أنس، وعليه لا بأس في تفسير البيت المعمور بالسماء كما روى عن مجاهد، وعمارتها بالملائكة أيضا فما فيها موضع إهاب إلا وعليه ملك ساجد
27

أو قائم.
* (والبحر المسجور) *.
* (والبحر المسجور) * أي الموقد نارا.
أخرج ابن جرير، وابن المنذر. وابن أبي حاتم. وأبو الشيخ في العظمة عن سعيد بن المسيب قال: قال علي كرم الله تعالى وجهه لرجل من اليهود: أين موضع النار في كتابكم؟ قال: البحر فقال كرم الله تعالى وجهه: ما أراه إلا صادقا، وقرأ * (والبحر المسجور) * * (وإذا البحار سجرت) * وبذلك قال مجاهد. وشمر بن عطية. والضحاك. ومحمد بن كعب. والأخفش، وقال قتادة: المسجور المملوء يقال: سجره أي ملأه، والمراد به عند جمع البحر المحيط، وقيل: بحر في السماء تحت العرش، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه، وابن جرير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وفي " البحر " إنهما قالا فهي ماء غليظ، ويقال له: بحر الحياة بمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحا فينبتون في قبورهم، وأخرج أبو الشيخ عن الربيع أنه الملأ الأعلى الذي تحت العرش وكأنه أراد به الفضاء الواسع المملوء ملائكة، وعن ابن عباس * (المسجور) * الذي ذهب ماؤه، وروى ذو الرمة الشاعر، وليس له كما قيل حديث غير هذا عن الحبر قال: خرجت أمة لتستقي فقالت: إن الحوض مسجور أي فارغ فيكون من الأضداد، وحمل كلامه رضي الله تعالى عنه على إرادة البحر المعروف، وأن ذهاب مائه يوم القيامة، وفي رواية عنه أنه فسره بالمحبوس، ومنه ساجور الكلب وهي القلادة التي تمسكه وكأنه عني المحبوس من أن يفيض فيغرق جميع الأرض، أو يغيض فتبقى الأرض خالية منه، وقيل: * (المسجور) * المختلط، وهو نحو قولهم للخليل المخالط: سجير، وجعله الراغب من سجرت التنور لأنه سجير في مودة صاحبه، والمراد بهذا الاختلاط تلاقي البحار بمياهها واختلاط بعضها ببعض، وعن الربيع اختلاط عذبها بملحها، وقيل: احتلاطها بحيوانات الماء، وقيل: المفجور أخذا من قوله تعالى: * (وإذا البحار فجرت) * (الانفطار: 3) ويحامله ما أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس من تفسيره بالمرسل، وإذا اعتبر هذا مع ما تقدم عنه آنفا من تفسير
بالمحبوس يكون من الأضداد أيضا، وقال منبه بن سعيد: هو جهنم سميت بحرا لسعتها وتموجها، والجمهور على أن المراد به بحر الدنيا - وبه أقول - وبأن المسجور بمعنى الموقد، ووجه التناسب بين القرائين بعد تعين ما سيق له الكلام لائح، وهو ههنا إثبات تأكيد عذاب الآخرة وتحقيق كينونته ووقوعه، فأقسم سبحانه له بأمور كلها دالة على كمال قدرته عز وجل مع كونها متعلقة بالمبدأ والمعاد، فالطور لأنه محل مكالمة موسى عليه والسلام، ومهبط آيات البدأ والمعاد يناسب حديث إثبات المعاد وكتاب الأعمال كذلك مع الايمانء إلى أن إيقاع العذاب عدل منه تعالى فقد تحقق، ودون في * (الكتاب) * ما يجر إليه قبل، * (والبيت المعمور) * لأنه مطاف الرسل السماوية، ومظهر لعظمته تعالى، ومحل لتقديسهم وتسبيحهم إياه جل وعلا، * (والسقف المرفوع) * لأنه مستقرهم ومنه تنزل الآيات، وفيه الجنة: * (والبحر المسجور) * لأنه محل النار، وإذا حمل الكتاب على التوراة كان التناسب مع ما قبله حسب النظر الجليل أظهر ولم يحمله عليها كثير لزعم أن * (الرق المنشور) * لا يناسبها لأنها كانت في الألواح، ولا يخفى عليك أن شيوع الرق فيما يكتب فيه الكتاب مطلقا يضعف هذا الزعم في الجملة، ثم إن المعروف أن التوراة لا يكتبها اليهود اليوم إلا في - رق - وكأنهم أخذوا ذلك من أسلافهم، وقال الإمام: يحتمل أن تكون الحكمة في القسم - بالطور. والبيت المعمور. والبحر المسجور - أنها أماكن خلوة لثلاثة أنبياء مع ربهم سبحانه، أما الطور فلموسى عليه السلام وقد خاطب عنده ربه عز وجل بما خاطب، وأما البيت المعمور فلرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال عنده: " سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين لا أحصي
28

ثناءا عليك أنت كما أثنيت على نفسك "؛ وأما البحر: فليونس عليه السلام قال فيه: * (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الضالمين) * فلشرفها بذلك أقسم الله تعالى بها، وأما ذكر * (الكتاب) * فلأن الأنبياء كان لهم في هذه الأماكن كلام والكلام في الكتاب، وأما ذكر السقف المرفوع فلبيان رفعة البيت المعمور ليعلم عظمة شأن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر وجها آخر، ولعمري إنه لم يأت بشيء فيهما، والواو الأولى للقسم وما بعدها على ما قال أبو حيان للعطف، والجملة المقسم عليها قوله تعالى:
* (إن عذاب ربك لواقع) *.
* (إن عذاب ربك لواقع) * أي لكائن على شدة كأنه مهيأ في مكان مرتفع فيقع على من يحل به من الكفار؛ وفي إضافته إلى الرب مع إضافة الرب إلى ضميره عليه الصلاة والسلام أمان له صلى الله عليه وسلم وإشارة إلى أن العذاب واقع بمن كذبه، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما - واقع - بدون لام، وقوله تعالى:
* (ما له من دافع) *.
* (ما له من دافع) * خبر ثان - لان - أو صفة * (لواقع) * أو هو جملة معترضة، و * (من دافع) * إما مبتدأ للظرف أو مرتفع به على الفاعلية، و * (من) * مزيدة للتأكيد ولا يخفى ما في الكلام من تأكيد الحكمة وتقريره؛ وقد روى أن عمر رضي الله تعالى عنه قرأ من أول السورة إلى هنا فبكى ثم بكى حتى عيد من وجعه وكان عشرين يوما، وأخرج أحمد. وسعيد بن منصور. وابن سعد عن جبير بن مطعم قال: قدمت المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكلمه في أساري بدر فدفعت إليه وهو يصلي بأصحابه صلاة المغرب فسمعته يقرأ * (والطور) * إلى * (إن عذاب ربك لواقع * ما له من دافع) * (الطور: 1 - 8) فكأنما صدع قلبي، وفي رواية فأسلمت خوفا من نزول العذاب وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب، وهو لا يأبى أن يكون المراد الوقوع يوم القيامة ومن غريب ما يحكى أن شخصا رأى مكتوبا في كفه خمس واوات فعبرت له بخير فسأل ابن سيرين فقال: تهيأ لما لايسر فقال له: من أين أخذت هذا؟ فقال: من قوله عز وجل: * (والطور) * إلى * (إن عذاب ربك لواقع) * (الطور: 1 - 7) فما مضى يومان أو ثلاثة حتى أحيط بذلك الشخص، وقوله سبحانه:
* (يوم تمور السمآء مورا) *.
* (يوم تمور السماء مورا) * منصوب على الظرفية وناصبه * (واقع) * أو * (دافع) * أو معنى النفي وإيهام أنه لا ينتفي دفعه في غير ذلك اليوم بناءا على اعتبار المفهوم لا ضير فيه لعدم مخالفته للواقع لأنه تعالى أمهلهم في الدنيا وما أهملهم، ومنع مكي أن يعمل فيه * (واقع) * ولم يذكر دليل المنع ولا دليل له فيما يظهر، ومعنى * (تمور) * تضطرب كما قال ابن عباس أن ترتج وهي في مكانها، وفي رواية عنه تشقق، وقال مجاهد: تدور، وأصل المور التردد في المجيء والذهاب، وقيل: التحرك في تموج، وقيل: الجريان السريع، ويقال للجري مطلقا وأنشدوا للأعشى: كأن مشيتها من بيت جارتها * (مور السحابة لا ريث ولا عجل)
* (وتسير الجبال سيرا) *.
* (وتسير الجبال سيرا) * عن وجه الأرض فتكون هباءا منبثا، والإتيان بالمصدرين للإيذان بغرابتهما وخروجهما عن الحدود المعهودة أي مورا عجيبا وسيرا بديعا لا يدرك كنههما.
* (فويل يومئذ للمكذبين) *.
* (فويل يومئذ) * أي إذا وقع ذلك أو إذا كان الأمر كما ذكر فويل يوم إذ يقع ذلك * (للمكذبين) *.
* (الذين هم فى خوض يلعبون) *.
* (الذين هم في خوض يلعبون) * أي في اندفاع عجيب في الأباطيل والأكاذيب يلهون، وأصل الخوف المشي في الماء ثم تجوز فيه عن الشروع
29

في كل شيء وغلب في الخوض في الباطل كالإحضار عام في كل شيء ثم غلب استعماله في الإحضار للعذاب.
* (يوم يدعون إلى نار جهنم دعا) *.
* (يوم يدعون إلى نار جهنم دعا) * أي يدفعون دفعا عنيفا شديدا بأن تغل أيديهم إلى أعناقهم وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم فيدفعون إلى النار ويطرحون فيها، وقرأ زيد بن علي. والسلمي. وأبو رجاء * (يدعون) * بسكون الدار وفتح العين من الدعاء فيكون * (دعا) * حالا أي ينادون إليها مدعوعين و * (يوم) * إما بدل من يوم * (تمور) * أو ظرف لقول مقدر محكي به قوله تعالى:
* (ه‍اذه النار التى كنتم بها تكذبون) *.
* (ه‍اذه النار التي كنتم بها تكذبون) * أي فيقال لهم ذلك * (يوم) * الخ، ومعنى التكذيب بها تكذيبهم بالوحي الناطق بها، وقوله تعالى:
* (أفسحر ه‍اذا أم أنتم لا تبصرون) *.
* (أفسحر ه‍اذا) * توبيخ وتقريع لهم حيث كانوا يسمونه سحرا كأنه قيل: كنتم تقولون للوحي الذي أنذركم بهذا سحرا أفهذا المصدق له سحر أيضا وتقديم الخبر لأنه المقصود بالإنكار والمدار للتوبيخ. * (أم أنتم لا تبصرون) * أي أم أنتم عمي عن المخبر به كما كنتم في الدنيا عميا عن الخبر والفاء مؤذنة بما ذكر وذلك لأنها لما كانت تقتضي معطوفا عليه يصح ترتب الجملة أعني سحر هذا عليه وكانت هذه جملة واردة تقريعا مثل هذه النار الخ لم يكن بد من تقدير ذلك على وجه يصح الترتب ويكون مدلولا عليه من السياق فقدر كنتم تقولون إلى آخره، ودل عليه قوله تعالى: * (في خوض يلعبون) * (الطور: 14) وقوله سبحانه: * (هذه النار التي كنتم بها تكذبون) * (الطور: 12) وفي " الكشف " إن هذا نظير ما تستدل بحجة فيقول الخصم: هذا باطل فتأتى بحجة أوضح من الأول مسكتة وتقول: أفباطل هذا؟! تعيره بالإلزام بأن مقالته الأولى كانت باطلة، وفي مثله جاز أن يقدر القول على معنى أفتقول باطل هذا وأن لا يقدر لابتنائه على كلام الخصم وهذا أبلغ، و * (أم) * كما هو الظاهر منقطعة، وفي " البحر " لما قيل لهم: هذه النار وقفوا على الجهتين اللتين يمكن منهما دخول الشك في أنها النار وهي إما أن يكون ثم سحر يلبس ذات المرأى، وإما أن يكون في ناظر الناظر اختلال، والظاهر أنه جعل * (أم) * معادلة والأول أبعد مغزى.
* (اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سوآء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون) *.
* (سواء عليكم) * أي الأمران سواء عليكم في عدم النفع إذ كل لا يدفع العذاب ولا يخففه - فسواء - خبر مبتدأ محذوف وصح الإخبار به عن المثنى لأنه مصدر في الأصل، وجوز كونه مبتدأ محذوف الخبر وليس بذاك، وقوله تعالى: * (إنما تجزون ما كنتم تعملون) * تعليل للاستواء فإن الجزاء حيث كان متحتم الوقوع لسبق الوعيد به وقضائه سبحانه إياه بمقتضى عدله كان الصبر ودمه مستويين في عدم النفع.
* (إن المتقين فى جن‍ات ونعيم) *.
* (إن المتقين في جن‍ات ونعيم) * شروع في ذكر حال المؤمنين بعد ذكر حال الكافرين كما هو عادة القرآن الجليل في " الترهيب والترغيب "، وجوز أن يكون من جملة المقول للكفار إذ ذاك زيادة في غمهم وتنكيدهم والأول أظهر، والتنوين في الموضعين للتعظيم أي في جنات عظيمة ونعيم عظيم، وجوز أن يكون للنوعية أي نوع من الجنات، ونوع من النعيم مخصوصين بهم وكونه عوضا عن المضاف إليه أي جناتهم ونعيمهم ليس بالقوى كما لا يخفى.
* (فاكهين بمآ ءات‍اهم ربهم ووق‍اهم ربهم عذاب الجحيم) *.
* (فاكهين) * متلذذين * (بما ءاتاهم ربهم) * من الإحسان، وقرىء - فكهين - بلا ألف، ونصبه في القراءتين على الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور أعني في جنات الواقع خبرا لأن، وقرأ خالد - فاكهون - بالرفع على أنه
30

الخبر، وفي جنات متعلق به لكنه قدم عليه للاهتمام، ومن أجاز تعدد الخبر أجاز أن يكون خبرا بعد خبر * (ووق‍اهم ربهم عذاب الجحيم) * عطف على * (في جنات) * على تقدير كونه خبرا كأنه قيل: استقروا * (في جنات) * * (ووقاهم ربهم) * الخ، أو على * (أتاهم) * إن جعلت * (ما) * مصدرية أي فاكهين بإيتائهم ربهم ووقايتهم عذاب الجحيم، ولم يجوز كثير عطفه عليه إن جعلت موصولة إذ يكون التقدير فاكهين بالذي وقاهم ربهم فلا يكون راجع إلى الموصول، وجوزه بعض بتقدير الراجع أي وقاهم به على أن الباء للملابسة، وفي " الكشف " لم يحمل على حذف الراجع لكثرة الحذف ولو درج لصا، والفعل من المتعدي إلى ثلاثة مفاعيل وهو مسموع عند بعضهم، ولا يخفى أنه وجه سديد أيضا، والمعنى عليه أسد لأن الفكاهة تلذذ يشتغل به صاحبه والتلذذ بالايتاء يحتمل التجدد باعتبار تعدد المؤتى إما بالوقاية أي على تقدير المصدرية فلا، وأقول لعله هو المنساق إلى الذهن، وجوز أن يكون حالا بتقدير قد أو بدونه إما من المستكن في الخبر أو في الحال. وإما من فاعل آتى. أو من مفعوله. أو منهما، وإظهار الرب في موقع الإضمار مضافا إلى ضميرهم للتشريف والتعليل. وقرأ أبو حيوة * (وقاهم) * بتشديد القاف.
* (كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون) *.
* (كلوا واشربوا هنيئا) * أي يقال لهم * (كلوا واشربوا) * أكلا وشربا هنيئا، أو طعاما وشرابا هنيئا، فالكلام بتقدير القول، و * (هنيئا) * نصب على المصدرية لأنه صفة مصدر. أو على أنه مفعول به، وأيا ما كان فقد تنازعه الفعلان، والهنيء كل ما لا يلحق فيه مشقة ولا يعقب وخامة * (بما كنتم تعملون) * أي بسببه أو بمقابلته والباء عليهما متعلق - بكلوا واشربوا - على التنازع، وجوز الزمخشري كونها زائدة وما بعدها فاعل هنيئا كما في قول كثير: هنيئا مريئا غير داء مخامر * لعزة من أعراضنا ما استحلت
فإن ما فيه فاعل هنيئا على أنه صفة في الأصل بمعنى المصدر المحذوف فعله وجوبا لكثرة الاستعمال كأنه قيل: هنؤ لعزة المستحل من أعراضنا، وحينئذ كما يجوز أن يجعل ما هنا فاعلا على زيادة الباء على معنى هنأكم ما كنتم تعملون يجوز أن يجعل الفاعل مضمرا راجعا إلى الأكل أو الشرب المدلول عليه بفعله، وفيه أن الزيادة في
الفاعل لم تثبت سماعا في السعة في غير فاعل كفى على خلاف ولا هي قياسية في مثل هذا ومع ذلك يحتاج الكلام إلى تقدير مضاف أي جزاء ما كنتم الخ، وفيه نوع تكلف.
* (متكئين على سرر مصفوفة وزوجن‍اهم بحور عين) *.
* (متكئين) * نصب على الحال قال أبو البقاء: من الضمير في * (كلوا) * أو في * (وقاهم) * أو في * (آتاهم) * أو في * (فاكهين) * أو في الظرف يعني في جنات، واستظهر أبو حيان الأخير * (على سرر) * جمع سرير معروف، ويجمع على أسرة وهو من السرور إذ كان لأولى النعمة، وتسمية سرير الميت به للتفاؤل بالسرور الذي يلحق الميت برجوعه إلى جوار الله تعالى وخلاصه من سجن الدنيا، وقرأ أبو السمال سرر بفتح الراء وهي لغة لكلب في المضعف فرارا من توالي ضمتين مع التضعيف.
31

(مصفوفة) مجعولة على صف وخط مستو * (وزوجن‍اهم بحور عين) * أي قرناهم بهن - قاله الراغب - ثم قال: ولم يجىء في القرآن زوجناهم حورا كما يقال زوجته امرأة تنبيها على أن ذلك لا يكون على حسن المتعارف فيما بيننا من المناكحة، وقال الفراء: تزوجت بامرأة لغة أزد شنوءة، والمشهور أن التزوج متعد إلى مفعول واحد بنفسه والتزويج متعد بنفسه إلى مفعولين، وقيل: فيما هنا أن الباء لتضمين الفعل معنى القران أو الإلصاق، واعترض بأنه يقتضي معنى التزويج بالعقد وهو لا يناسب المقام إذ العقد لا يكون في الجنة لأنها ليست دار تكليف أو أنها للسببية والتزويج ليس بمعنى الانكاح بل بمعنى تصييرهم زوجين زوجين أي صيرناهم كذلك بسبب حور عين، وقرأ عكرمة بحور عين على إضافة الموصوف إلى صفته بالتأويل المشهور، وقوله تعالى:
* (والذين ءامنوا واتبعتهم ذريتهم بإيم‍ان ألحقنا بهم ذريتهم ومآ ألتن‍اهم من عملهم من شىء كل امرىء بما كسب رهين) *.
* (والذين ءامنوا) * الخ كلام مستأنف مسوق لبيان حال طائفة من أهل الجنة إثر بيان حال الكل وهم الذي شاركتهم ذريتهم في الايمان، والموصول مبتدأ خبره ألحقنا بهم، وقوله تعالى: * (واتبعتهم ذريتهم) * عطف على آمنوا، وقيل اعتراض للتعليل، وقوله تعالى: * (بإيم‍ان) * متعلق بالاتباع أي أتبعتهم ذريتهم بإيمان في الجملة قاصر عن رتبة إيمان الآباء إما بنفسه بناءا على تفاوت مراتب نفس الايمان، وإما باعتبار عدم انضمام أعمال مثل أعمال الآباء إليه، واعتبار هذا القيد للإيذان بثبوت الحكم في الايمان الكامل أصالة لا إلحاقا قيل: هو حال من الذرية، وقيل: من الضمير وتنوينه للتعظيم، وقيل: منهما وتنوينه للتنكير والمعول عليه ما قدمنا * (الحقنا بهم ذريتهم) * في الدرجة. أخرج سعيد بن منصور. وهناد. وابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. والحاكم. والبيهقي في " سننه " عن ابن عباس قال: " إن الله تعالى ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه ثم قرأ الآية " وأخرجه البزار. وابن مردويه عنه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية ابن مردويه. والطبراني عنه أنه قال: " إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال له: إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به " وقرأ ابن عباس الآية، وظاهر الأخبار أن المراد بإلحاقهم بهم إسكانهم معهم لا مجرد رفعهم إليهم واتصالهم بهم أحيانا ولو للزيارة. وثبوت ذلك على العموم لا يبعد من فضل الله عز وجل، وما قيل: لعله مخصوص ببعض دون بعض تحجير لإحسانه الواسع جل شأنه، وقد يستأنس للتخصيص بما روى عن ابن عباس إن الذين آمنوا المهاجرون والأنصار، والذرية التابعون لكن لا أظن صحته * (وما ألتن‍اهم) * أي وما نقنصا الآباء بهذا الإلحاق * (من عملهم) * أي من ثواب عملهم * (من شيء) * أي شيئا بأن أعطينا بعض مثوباتهم أبناءهم فتنقص مثوباتهم وتنحط درجتهم وإنما رفعناهم إلى منزلتهم بمحض التفضل والإحسان، وقال ابن زيد - الضمير عائد على الأبناء أي وما نقصنا الأبناء الملحقين من جزاء عملهم الحسن والقبيح شيئا بل فعلنا ذلك بهم بعد مجازاتهم بأعمالهم كملا - وليس بشيء وإن قال أبو حيان يحسن هذا الاحتمال قوله تعالى: * (كل امرىء بما كسب رهين) * وإلى الأول ذهب ابن عباس. وابن جبير. والجمهور. والآية على ما ذهب إليه المعظم في الكبار من الذرية، وقال منذر بن سعيد: هي في الصغار.
وروى عن الحبر. والضحاك أنهما قالا: إن الله تعالى يلحق الأبناء الصغار وإن لم يبلغوا زمن الايمان بآبائهم
32

المؤمنين، وجعل بإيمان عليه متعلقا بألحقنا أي ألحقنا بسبب إيمان الآباء بهم ذريتهم الصغار الذين ماتوا ولم يبلغوا التكليف فهم في الجنة مع آبائهم قيل: وكأن من يقول بذلك يفسر * (اتبعتهم ذريتهم) * بماتوا ودرجوا على أثرهم قبل أن يبلغوا الحلم، وجوز أن يتعلق بإيمان بابتعتم على معنى اتبعوهم بهذا الوصف بأن حكم لهم به تبعا لآبائهم فكانوا مؤمنين حكما لصغرهم وإيمان آبائهم، والصغير يحكم بإيمانه تبعا لأحد أبويه المؤمن والكل كما ترى، وقيل: الموصول معطوف على حور، والمعنى قرناهم بالحور وبالذين آمنوا أي بالرفقاء والجلساء منهم فيتمتعون تارة بملاعبة الحور؛ وأخرى بمؤانسة الإخوان المؤمنين، وقوله تعالى: * (واتبعتهم) * عطف على زوجناهم، وقوله سبحانه: بإيمان متعلق بما بعده أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل، وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم وإن كانوا لا يستأهلونها تفضلا عليهم وعلى آبائهم ليتم سرورهم ويكمل نعيمهم، أو بسبب إيمان داني المنزلة وهو إيمان الذرية كأنه قيل: بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم، وصنيع الزمخشري ظاهر في اختيار العطف على حور فقد ذكره وجها أول، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يتخيل ذلك أحد غير هذا الرجل، وهو تخيل أعجمي مخالف لفهم العربي القح كابن عباس. وغيره، وقيل عليه: إنه تعصب منه، والإنصاف أن المتبادر الاستئناف، وإن أحسن الأوجه في الآية وأوفقه للمقام ما تقدم.
وقرأ أبو عمرو * (وأتبعناهم) * بقطع الهمزة وفتحها، وإسكان التاء، ونون بعد العين وألف بعدها أي جعلناهم تابعين لهم في الإيمان، وقرأ أيضا ذرياتهم جمعا نصبا، وابن عامر كذلك رفعا، وقرأ ذرياتهم بكسر الذال * (واتبعتهم ذريتهم) * بتاء الفاعل، ونصب ذريتهم على المفعولية، وقرأ الحسن. وابن كثير - ألتناهم - بكسر اللام من ألت يألت كعلم يعلم، وعلى قراءة الجمهور من باب ضرب يضرب، وابن هرمز آلتناهم بالمد من آلت يؤلت، وابن مسعود. وأبي لتناهم من لات يليت وهي
قراءة طلحة. والأعمش، ورويت عن شبل. وابن كثير، وعن طلحة. والأعمش، ورويت عن شبل. وابن كثير، وعن طلحة. والأعمش أيضا - لتناهم - بفتح اللام، قال سهل: لا يجوز فتح اللام من غير ألف بحال وأنكر أيضا آلتناهم بالمد، وقال: لا يروى عن أحد ولا يدل عليه تفسير ولا عربية - وليس كما قال - بل نقل أهل اللغة آلت بالمد كما قرأ هرمز، وقرىء وما ولتناهم من ولت يلت، ومعنى الكل واحد، وجاء ألت بمعنى غلظ يروى أن رجلا قام إلى عمر رضي الله تعالى عنه فوعظه فقال: لا تألت على أمير المؤمنين أي لا تغلظ عليه * (كل امرىء بما كسب) * أي بكسبه وعمله * (رهين) * أي مرهون عند الله كأن الكسب بمنزلة الدين ونفس العبد بمنزلة الرهن ولا ينفك الرهن ما لم يؤد الدين فإن كان العمل صالحا فقد أدى لأن العمل الصالح يقبله ربه سبحانه ويصعد إليه عز وجل وإن كان غير ذلك فلا أداء فلا خلاص إذ لا يصعد إليه سبحانه غير الطيب، ولذا قال جل وعلا: * (كل نفس بما كسبت رهينة * إلا أصحاب اليمين) * (المدثر: 38، 39) فإن المراد كل نفس رهن بكسبها عند الله تعالى غير مفكوك إلا أصحاب اليمين فإنهم فكوا عنه رقابهم بما أطابوه من كسبهم.
ووجه الاتصال على هذا أنه سبحانه لما ذكر حال المتقين وأنه عز وجل وفر عليهم ما أعده لهم من الثواب والتفضل عقب بذلك الكلام ليدل على أنهم فكوا رقابهم وخلصوها وغيرهم بقي معذبا لأنه لم يفك رقبته، وكان موضعه من حيث الظاهر أن يكون عقيب قوله تعالى: * (هو البر الرحيم) * (الطور: 28) ليكون كلاما راجعا إلى حال الفريقين - المدعوين. والمتقين - وإنما جعل متخللا بين أجزية المتقين عقيب ذكر توفير ما أعد لهم، قال في " الكشف ":
33

ليدل على أن الخلاص من بعض أجزيتهم أيضا ويلزم أن عدم الخلاص جزاء المقابلين من طريق الإيماء وموقعه موقع الاعتراض تحقيقا لتوفير ما عدد لأنه إنما يكون بعد الخلاص، وفيه إيماء إلى أن إلحاق الأبناء إنما كان تفضلا على الآباء لا على الأبناء ابتداءا لأن التفضل فرع الفك وهؤلاء هم الذين فكوا فاستحقوا التفضل، وجعله استئنافا بيانيا لهذا المعنى كما فعل الطيبي بعيد، وقيل: * (رهين) * فعيل بمعنى الفاعل والمعنى كل امرىء بما كسب راهن أي دائم ثابت، وفي " الإرشاد " أنه أنسب بالمقام فإن الدوام يقتضي عدم المفارقة بين المرء وعمله، ومن ضرورته أن لا ينقص من ثواب الآباء شيء، فالجملة تعليل لما قبلها، وأنت تعلم أن فعيلا بمعنى المفعول أسرع تبادرا إلى الذهن فاعتباره أولى ووجه الاتصال عليه أوفق وألطف كما لا يخفى.
* (وأمددن‍اهم بف‍اكهة ولحم مما يشتهون) *.
* (وأمددن‍اهم بف‍اكهة ولحم مما يشتهون) * أي وزدناهم على ما كان لهم من مبادىء التنعم وقتا فوقتا مما يشتهون من فنون النعماء وألوان الآلاء، وأصل المد الجر، ومنه المدة للوقت الممتد ثم شاع في الزيادة، وغلب الإمداد في المحبوب، والمد في المكروه وكونه وقتا بعد وقت مفهوم المد نفسه.
* (يتن‍ازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم) *.
* (يتن‍ازعون فيها كأسا) * أي يتجاذبونها في الجنة هم وجلساؤهم تجاذب ملاعبة كما يفعل ذلك الندامى بينهم في الدنيا لشدة سرورهم قال الأخطل: نازعته طيب الراح الشمول وقد * صاح الدجاج وحانت وقعة الساري
وقيل: التنازع مجاز عن التعاطي، والكأس مؤنث سماعي كالخمر، ولا تسمى كأسا على المشهور إلا إذا امتلأت خمرا أو كانت قريبة من الامتلاء، وقد تطلق على الخمر نفسها مجازا لعلاقة المجاورة، وقال الراغب: الكأس الإناء بما فيه من الشراب ويسمى كل واحد منهما بانفراده كأسا، وفسرها بعضهم هنا بالإناء بما فيه من الخمر، وبعضهم بالخمر، والأول: أوفق بالتجاذب، والثاني: بقوله سبحانه: * (لا لغو فيها) * أي في شربها حيث لا يتكلمون في أثناء الشرب بلغو الحديث وسقط الكلام * (ولا تأثيم) * ولا يفعلون ما يؤثم به فاعله أي ينسب إلى الإثم لو فعله في دار التكليف كما هو ديدن الندامى في الدنيا وإنما يتكلمون بالحكم وأحاسن الكلام ويفعلون ما يفعله الكرام، وقرأ ابن كثير. وأبو عمرو * (لا لغو) * * (ولا تأثيم) * بفتحهما.
* (ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون) *.
* (ويطوف عليهم) * أي بالكأس * (غلمان لهم) * أي مماليك مختصون بهم كما يؤذن به اللام ولم يقل غلمانهم بالإضافة لئلا يتوهم أنهم الذين كانوا يخدمونهم في الدنيا فيشفق كل من خدم أحدا في الدنيا أن يكون خادما له في الجنة فيحزن بكونه لا يزال تابعا، وقيل: أولادهم الذين سبقوهم فالاختصاص بالولادة لا بالملك، وفيه أن التعبير عنهم بالغلمان غير مناسب وكذا نسبة الخدمة إلى الأولاد لا تناسب مقام الامتنان * (كأنهم لؤلؤ مكنون) * مصون في الصدف لم تنله الأيدي - كما قال ابن جبير - ووجه الشبه البياض والصفاء، وجوز أن يراد بمكنون مخزون لأنه لا يخزن إلا الحسن الغالي الثمن، أخرج عبد الرزاق. وابن جرير. وابن المنذر عن قتادة قال: " بلغني أنه قيل: يا رسول الله هذا الخادم مثل اللؤلؤ فكيف بالمخدوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: " والذي نفسي بيده إن فضل ما بينهم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب " وروي " أن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامه فيجىء ألف ببابه لبيك لبيك ".
* (وأقبل بعضهم على بعض يتسآءلون) *.
* (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) * أي يسأل كل بعض منهم بعضا آخر عن أحواله وأعماله فيكون
34

كل بعض سائلا ومسؤولا لا أنه يسأل بعض معين منهم بعضا آخر معينا ثم هذا التساؤل في الجنة كما هو الظاهر، وحكى الطبري عن ابن عباس أنه إذا بعثوا في النفخة الثانية ولا أراه يصح عنه لبعده جدا.
* (قالوا إنا كنا قبل فىأهلنا مشفقين) *.
* (قالوا) * أي المسؤولون وهم كل واحد منهم في الحقيقة * (إنا كنا قبل) * أي قبل هذا الحال * (في أهلنا مشفقين) * أرقاء القلوب خائفين من عصيان الله عز
وجل معتنين بطاعته سبحانه، أو وجلين من العاقبة، و * (في أهلنا) * قيل: يحتمل أنه كناية عن كون ذلك في الدنيا، ويحتمل أن يكون بيانا لكون إشفاقهم كان فيهم وفي أهلهم لتبعيتهم لهم في العادة ويكون قوله تعالى:
* (فمن الله علينا ووق‍انا عذاب السموم) *.
* (فمن الله علينا) * أي بالرحمة والتوفيق * (ووق‍انا عذاب السموم) * أي عذاب النار النافذة في المسام نفوذ السموم وهو الريح الحارة المعروفة، ووجه الشبه وإن كان في النار أقوى لكنه في ريح السموم لمشاهدته في الدنيا أعرف فلذا جعل مشبها به، وقال الحسن: * (السموم) * اسم من أسماء جهنم عاما لهم ولأهلهم، فالمراد بيان ما من الله تعالى به عليهم من اتباع أهلهم لهم، وقيل: ذكر * (في أهلنا) * لإثبات خوفهم في سائر الأوقات والأحوال بطريق الأولى فإن كونهم بين أهليهم مظنة الأمن ولا أرى فيه بأسا، نعم كون ذلك لأن السؤال عما اختصوا به من الكرامة دون أهليهم ليس بشيء، وقيل: لعل الأولى أن يجعل ذلك إشارة إلى الشفقة على خلق الله تعالى كما أن قوله عز وجل:
* (إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم) *.
* (إنا كنا من قبل ندعوه) * إلى آخره إشارة إلى التعظيم لأمر الله تعالى وترك العاطف بجعل الثاني بيانا للأول ادعاءا للمبالغة في وجوب عدم انفكاك كل منهما للآخر ولا يخفى ما فيه، والذي يظهر أن هذا إشارة إلى الرجاء وترك العطف لقصد تعداد ما كانوا عليه أي إنا كنا من قبل ذلك نعبده تعالى ونسأله الوقاية * (إنه هو البر) * أي المحسن كما يدل عليه اشتقاقه من البر بسائر مواده لأنها ترجع إلى الإحسان - كبر في يمينه - أي صدق لأن الصدق إحسان في ذاته ويلزمه الإحسان للغير، وأبر الله تعالى حجة أي قبله لأن القبول إحسان وزيادة، وأبر فلان على أصحابه أي علاهم لأنه غالبا ينشأ عن الإحسان لهم فتفسيره باللطيف كما روي عن ابن عباس، أو العالي في صفاته، أو خالق البر، أو الصادق فيما وعد أولياءه كما روي عن ابن جريج بعيد إلا أن يراد بعض ما صدقات، أو غايات ذلك البر؟ * (الرحيم) * الكثير الرحمة الذي إذا عبد أثاب وإذا سئل أجاب، وقرأ أبو حيوة * (ووقانا) * بتشديد القاف، والحسن. وأبو جعفر. ونافع. والكسائي * (أنه) * بفتح الهمزة لتقدير لام الجر التعليلية قبلها أي لأنه.
* (فذكر فمآ أنت بنعمة ربك بك‍اهن ولا مجنون) *.
* (فذكر) * فاثبت على ما أنت عليه من التذكير بما أنزل عليك من الآيات والذكر الحكيم ولا تكترث بما يقولون مما لا خير فيه من الأباطيل. * (فما أنت بنعمت ربك بكاهن) * هو الذي يخبر بالغيب بضرب من الظن، وخص الراغب الكاهن بمن يخبر بالأخبار الماضية الخفية كذلك، والعراف بمن يخبر بالأخبار المستقبلة كذلك، والمشهور في الكهانة الاستمداد من الجن في الإخبار عن الغيب، والباء في * (بكاهن) * مزيدة للتأكيد أي ما أنت كاهن * (ولا مجنون) * واختلف في باء * (بنعمة) * فقال أبو الباقء: للملابسة؛ والجار والمجرور في موضع الحال والعامل فيه كاهن، أو مجنون، والتقدير ما أنت كاهن ولا مجنون ملتبسا بنعمة ربك وهي حال لازمة لأنه عليه الصلاة والسلام ما زال ملتبسا بنعمة ربه عز وجل، وقيل: للقسم فنعمة ربك مقسم به، وجواب القسم ما علم من الكلام وهو - ما أنت بكاهن ولا مجنون - وهذا كما تقول: ما زيد والله بقائم وهو بعيد، والأقرب عندي أن الباء للسببية
35

وهو متعلق بمضمون الكلام، والمعنى انتفى عنك الكهانة والجنون بسبب نعمة الله تعالى عليك، وهذا كما تقول ما أنا معسر بحمد الله تعالى وإغنائه، والمراد الرد على قائل ذلك، وإبطال مقالتهم فيه عليه الصلاة والسلام وإلا فلا امتنان عليه صلى الله عليه وسلم بانتفاء ما ذكر مع انتفائه عن أكثر الناس، وقيل: الامتنان بانتفاء ذلك بسبب النعمة المراد بها ما أوتيه صلى الله عليه وسلم من صدق النبوة ورجاحة العقل التي لم يؤتها أحد قبله، والقائلون بذلك هم الكفرة قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون، وممن قال كاهن: شيبة بن ربيعة، وممن قال مجنون: عقبة بن أبي معيط.
* (أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون) *.
* (أم يقولون) * أي بل أيقولون * (شاعر) * أي هو شاعر * (نتربص) * أي ننتظر * (به ريب المنون) * أي الدهر، وهو فعول من المن بمعنى القطع لأنه يقطع الأعمار وغيرها، ومنه حبل منين أي مقطوع، والريب مصدر رابه إذا أقلقه أريد به حوادث الدهر وصروفه لأنها تقلق النفوس وعبر عنها بالمصدر مبالغة، وجوز أن يكون من راب عليه الدهر أي نزل، والمراد بنزوله إهلاكه، وتفسير المنون بالدهر مروى عن مجاهد. وعليه قول الشاعر: " تربص بها ريب المنون " لعلها * تطلق يوما أو يموت حليلها
وبيت أبي ذؤيب. أمن " المنون وريبة " يتوجع * والدهر ليس بمعتب من يجزع
قيل: ظاهره ذلك؛ وكذلك قول الأعشى: أأن رأت رجلا أعضى أضر به * " ريب المنون " ودهر متبل خبل
ولهذا أنشده الجوهري شاهدا له، وأخرج ابن جرير. وغيره عن ابن عباس تفسيره بالموت وهو مشتكر بين المعنيين فقد قال المرزوقي في شرح بيت أبي ذؤيب المار آنفا: المنون قد يراد به الدهر فيذكر وتكون الرواية ريبه، وقد يراد به المنية فيؤنث، وقد روى ريبها، وقد يرجع له ضمير الجمع لقصد أنواع المنايا وريبها نزولها انتهى فلا تغفل، وهو أيضا من المن بمعنى القطع فإنها قاطعة الأماني واللذات، ولذا قيل: المنية تقطع الأمنية، وريب المنون عليه نزول المنية، وجوز أن يكون بمعنى حادث الموت على أن الإضافة بيانية، روي أن قريشا اجتمعت في دار الندوة وكثرت آراؤهم فيه عليه الصلاة والسلام حتى قال قائل منهم وهم بنو عبد الدار - كما قال الضحاك - تربصوا به ريب المنون فإنه شاعر سيهلك كما هلك زهير. والنابغة. والأعمشى فافترقوا على هذه المقالة فنزلت، وقرأ زيد بن علي * (يتربص) * بالياء
مبنيا للمفعول، وقرىء * (ريب) * بالرفع على النيابة.
* (قل تربصوا فإنى معكم من المتربصين) *.
* (قل تربصوا) * تهكم بهم، وتهديد لهم * (فإني معكم من المتربصين) * أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي، وفيه عدة كريمة بإهلاكهم.
* (أم تأمرهم أحل‍امهم به‍اذآ أم هم قوم طاغون) *.
* (أم تأمرهم أحلامهم) * أي عقولهم وكانت قريش يدعون أهل الأحلام والنهي - وذلك على ما قال الجاحظ - لأن جميع العالم يأتونهم ويخالطونهم وبذلك يكمل العقل وهو يكمل بالمسافرة وزيادة رؤية البلاد المختلفة والأماكن المتباينة ومصاحبة ذوي الأخلاق المتفاوتة وقد حصل لهم الغرض بدون مشقة، وقيل لعمرو بن العاص: ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله تعالى بالعقل؟! فقال: تلك عقول كادها الله عز وجل أي لم يصحبها التوفيق فلذا لم يؤمنوا وكفروا - وأنا لا أرى في الآية دلالة على رجحان عقولهم -
36

ولعلها تدل على ضد ذلك * (به‍اذا) * التناقص في المقال فإن الكاهن والشاعر يكونان ذا عقل تام وفطنة وقادة والمجنون مغطى عقله مختل فكره وهذا يعرب عن أن القوم لتحيرهم وعصبيتهم وقعوا في حيص بيص حتى اضطربت عقولهم وتناقضت أقوالهم وكذبوا أنفسهم من حيث لا يشعرون، وأمر الأحلام بذلك مجاز عن التأدية إليه بعلاقة السببية كما قيل، وقيل: جعلت الأحلام آمرة على الاستعارة المكنية فتشبه الأحلام بسلطان مطاع تشبيها مضمرا في النفس، وتثبت له الأمر على طريق التخييل * (أم هم قوم طاغون) * مجاوزون الحدود في المكابرة والعناد لا يحومون حول الرشد والسداد ولذلك يقولون ما يقولون من الأكاذيب المحضة الخارجة عن دائرة العقول، وقرأ مجاهد * (بل هم) *.
* (أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون) *.
* (أم يقولون تقوله) * أي اختلقه من تلقاء نفسه.
وقال ابن عطية: معناه قال: عن الغير أنه قاله فهو عبارة عن كذب مخصوص، وضمير المفعول للقرآن * (بل لا يؤمنون) * فلكفرهم وعنادهم يرمون بهذه الأباطيل كيف لا وما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا واحد من العرب فكيف أتى بما عجز عنه كافة الأمم من العرب والعجم.
* (فليأتوا بحديث مثله إن كانوا ص‍ادقين) *.
* (فليأتوا بحديث مثله) * مماثل القرآن في النعوت التي استقل بها من حيث النظم ومن حيث المعنى * (إن كانوا ص‍ادقين) * فيما زعموا فإن صدقهم في ذلك يستدعي قدرتهم على الإتيان بمثله بقضية مشاركتهم له عليه الصلاة والسلام في البشرية والعربية مع ما بهم من طول الممارسة للخطب والإشعار، وكثرة المزاولة لأساليب النظم والنثر، والمبالغة في حفظ الوقائع والأيام؛ ولا ريب في أن القدرة على الشيء من موجبات الإتيان به ودواعي الأمر بذلك، فالكلام رد للأقوال المذكورة في حقه عليه الصلاة والسلام، والقرآن بالتحدي فإذا تحدوا وعجزوا علم رد ما قالوه وصحة المدعى، وجوز أن يكون ردا لزعمهم التقول خاصة فإن غيره مما تقدم حتى الكهانة كما لا يخفى أظهر فسادا منه ومع ذلك إذا ظهر فساد زعم التقول ظهر فساد غيره بطريق اللزوم، وقرأ الجحدري، وأبو السمال بحديث مثله على الإضافة أي بحديث رجل مثل الرسول صلى الله عليه وسلم في كونه أميا لم يصحب أهل العلم ولا رحل عن بلده، أو مثله في كونه واحدا منهم فلا يعوز أن يكون في العرب مثله في الفصاحة فليأت بمثل ما أتى به ولن يقدر على ذلك أبدا.
* (أم خلقوا من غير شىء أم هم الخ‍القون) *.
* (أم خلقوا من غير شيء) * أي أم أحدثوا وقدروا هذا التقدير البديع من غير مقدر وخالق، وقال الطبري: المراد أم خلقوا من غير شيء حي فهم لا يؤمرون ولا ينهون كالجمادات، وقيل: المعنى أم خلقوا من غير علة ولا لغاية ثواب وعقاب فهم لذلك لا يسمعون، و * (من) * عليه للسببية، وعلى ما تقدم لابتداء الغاية والمعول عليه من الأقوال ما قدمنا، وسيأتي إن شاء الله تعالى زيادة إيضاح له، ويؤيده قوله سبحانه: * (أم هم الخ‍القون) * أي الذين خلقوا أنفسهم فلذلك لا يعبدون الله عز وجل ولا يلتفتون إلى رسوله صلى الله عليه وسلم إذ على القولين لا يظهر حسن المقابلة، وإرادة خلقوا أنفسهم يشعر به قوله تعالى: * (أم خلقوا السموات والأرض) *. إذ لو أريد العموم لعدم ذكر المفعول لم يظهر حسن المقابلة أيضا، وقال ابن عطية: المراد أهم الذين خلقوا الأشياء فهم لذلك يتكبرون ثم خص من تلك الأشياء السموات والأرض لعظمهما وشرفهما في المخلوقات وفيه ما سمعته.
* (أم خلقوا السم‍اوات والارض بل لا يوقنون) *.
* (بل لا يوقنون) * أي إذا سئلوا من خلقكم وخلق السموات
37

والأرض؟ قالوا: الله وهم غير موقنين بما قالوا إذ لو كانوا موقنين لما أعرضوا عن عبادته تعالى فإن من عرف خالقه وأيقن به امتثل أمره وانقاد له.
* (أم عندهم خزآئن ربك أم هم المسيطرون) *.
* (أم عندهم خزائن ربك) * أي خزائن رزقه تعالى ورحمته حتى يرزقوا النبوة من شاءوا، ويمسكوها عمن شاءوا، وقال الرماني: خزائنه تعالى مقدوراته سبحانه، وقال ابن عطية: المعنى أم عندهم الاستغناء عن الله تعالى عن جميع الأمور لأن المال والصحة والعزة وغير ذلك من الأشياء من خزائن الله تعالى، وقال الزهري: يريد بالخزائن العلم واستحسنه أبو حيان، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يعلم حاله منه.
* (أم هم المصيطرون) * الأرباب الغالبون حتى يدبروا أمر الربوبية ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم فالمسيطر الغالب، وفي معناه قول ابن عباس: المسلط القاهر وهو من سيطر على كذا إذا راقبه وأقام عليه وليس مصغرا كما يتوهم ولم يأت على هذه الزنة إلا خمسة ألفاظ أربعة من الصفات، وهي مهيمن. ومسيطر. ومبيقر. ومبيطر، وواحد من الأسماء، وهو مجيمر اسم جبل، وقرأ الأكثر * (المصيطرون) * بالصاد لمكان حرف الاستعلاء وهو الطاء، وأشم خلف عن حمزة وخلاد عنه بخلاف الزاي.
* (أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلط‍ان مبين) *.
* (أم لهم سلم) * هو ما يتوصل به إلى الأمكنة العالية فيرجى به السلامة ثم جعل اسما لكل ما يتوصل به إلى شيء رفيع كالسبب أي أم لهم سلم منصوب إلى السماء.
* (يستمعون فيه) * أي صاعدين فيه على أن الجار والمجرور متعلق بكون خاص محذوف وقع حالا والظرفية على حقيقتها، وقيل: هو متعلق - بيستمعون - على تضمينه معنى الصعود.
وقال أبو حيان: أي يستمعون عليه أو منه إذ حروف الجر قد يسد بعضها مسد بعض ومفعول * (يستمعون) * محذوف أي كلام الله تعالى، قيل: ولو نزل منزلة اللازم جاز * (فليأت مستمعهم بسلط‍ان مبين) * أي بحجة واضحة تصدق استماعه.
* (أم له البن‍ات ولكم البنون) *.
* (أم له البن‍ات ولكم البنون) * تسفيه لهم وتركيك لعقولهم، وفيه إيذان بأن من هذا رأيه لا يكاد يعد من العقلاء فضلا عن الترقي إلى عالم الملكوت وسماع كلام ذي العزة والجبروت والالتفات إلى الخطاب لتشديد الإنكار والتوبيخ.
* (أم تس‍الهم أجرا فهم من مغرم مثقلون) *.
* (أم تسئلهم أجرا) * أي على تبليغ الرسالة وهو رجوع إلى خطابه صلى الله عليه وسلم وإعراض عنهم * (فهم) * لأجل ذلك * (من مغرم) * مصدر ميمي من الغرم والغرامة وهو - كما قال الراغب - ما ينوب الإنسان في ماله من ضرر لغير جناية منه، فالكلام بتقدير مضاف أي من التزام مغرم، وفسره الزمخشري بالتزام الإنسان ما ليس عليه فلا حاجة إلى تقدير - لكن الذي تقتضيه اللغة هو الأول - * (مثقلون) * أي محمولن الثقل فلذلك لا يتبعونك.
* (أم عندهم الغيب فهم يكتبون) *.
* (أم عندهم الغيب) * أي اللوح المحفوظ المثبت فيه الغيوب * (فهم يكتبون) * منه ويخبرون به الناس - قاله ابن عباس - وقال ابن عطية: أم عندهم علم الغيب فهم يثبتون ما يزعمون للناس شرعا، وذلك عبادة الأوثان وتسبيب السوائب وغير ذلك من سيرهم، وقال قتادة: * (أم عندهم الغيب) * فهم يعلمون متى يموت محمد صلى الله عليه وسلم الذي يتربصون به، وفسر بعضهم * (يكتبون) * بيحكمون.
* (أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون) *.
* (أم يريدون كيدا) * بك وبشرعك وهو ما كان منهم في حقه صلى الله عليه وسلم بدار الندوة مما هو معلوم من السير، وهذا من الإخبار بالغيب فإن قصة دار الندوة وقعت في وقت الهجرة وكان نزول السورة قبلها كما تدل عليه الآثار * (فالذين كفروا) * هم المذكورون المريدون كيده عليه الصلاة والسلام،
38

ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بما في حيز الصلة من الكفر وتعليل الحكم به، وجوز أن يراد جميع الكفرة وهم داخلون فيه دخولا أوليا * (هم المكيدون) * أي الذين يحيق بهم كيدهم ويعود عليهم وباله لا من أرادوا أن يكيدوه وكان وباله في حق أولئك قتلهم يوم بدر في السنة الخامسة عشر من النبوة قيل: ولذا وقعت كلمة * (أم) * مكررة هنا خمس عشرة مرة للإشارة لما ذكر، ومثله على ما قال الشهاب: لا يستبعد من المعجزات القرآنية وإن كان الانتقال لمثله خفي ومناسبته أخفى، وجوز أن يكون المعنى هم المغلوبون في الكيد من كايدته فكدته * (أم لهم إله غير الله) * يعينهم ويحرسهم من عذابه عز وجل.
* (أم لهم إل‍اه غير الله سبح‍ان الله عما يشركون) *.
* (سبح‍ان الله عما يشركون) * أي عن إشراكهم على أن ما مصدرية، أو عن شركة الذي يشركونه على أنها موصولة وقبلها مضاف مقدر والعائد محذوف.
* (وإن يروا كسفا من السمآء س‍اقطا يقولوا سح‍ابمركوم) *.
* (وإن يروا كسفا) * قطعة فهو مفرد وقد قرىء في جميع القرآن كسفا وكسفا جمعا وإفرادا إلا هنا فإنه على الإفراد وحده، وتنوينه للتفخيم أي وإن يروا كسفا عظيما * (من السماء ساقطا) * لتعذيبهم * (يقولوا) * من فرط طغيانهم وعنادهم * (سحاب) * أي هو سحاب * (مركوم) * متراكم ملقى بعضه على بعض أي هم في الطغيان بحيث لو أسقطنا عليهم حسبما قالوا، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا لقالوا هو سحاب متراكم يمطرنا ولم يصدقوا أنه كسف ساقط لعذابهم.
* (فذرهم حتى يل‍اقوا يومهم الذى فيه يصعقون) *.
* (فذرهم) * فدعهم غير مكترث بهم وهو على ما في " البحر " أمر موادعة منسوخ بآية السيف * (حتى يل‍اقوا) * وقرأ أبو حيوة يلقوا مضارع لقي * (يومهم الذي فيه يصعقون) * على البناء للمفعول وهي قراءة عاصم. وابن عامر. وزيد بن علي. وأهل مكة في قول شبل بن عباد: من صعقته الصاعقة، أو من أصعقته، وقرأ الجمهور وأهل مكة في قول إسماعيل: يصعقون بفتح الياء والعين، والسلمى بضم الياء وكسر العين من أصعق رباعيا، والمراد بذلك اليوم يوم بدر، وقيل: وقت النفخة الأولى فإنه يصعق فيه من في السموات ومن في الأرض، وتعقب بأنه لا يصعق فيه إلا من كان حيا حينئذ وهؤلاء ليسوا كذلك وبأن قوله تعالى:
* (يوم لا يغنى عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون) *.
* (يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا) * أي شيئا من الإغناء بدل من يومهم، ولا يخفى أن التعرض لبيان عدم نفع كيدهم يستدعي استعمالهم له طمعا بالانتفاع به وليس ذلك إلا ما دبروه في أمره صلى الله عليه وسلم من الكيد الذي من جملته مناصبتهم يوم بدر، وأما النفخة الأولى فليست مما يجري في مدافعته الكيد والحيل، وأجيب عن الأول بمنع اختصاص الصعق بالحي فالموتى أيضا يصعقون وهم داخلون في عموم * (من) * وإن لم يكن صعقهم مثل صعق الأحياء من كل وجه وهو خلاف الظاهر فيحتاج إلى نقل صحيح، وعن الثاني بأن الكلام على نهج قوله: على لا حب لا يهتدى بمناره
فالمعنى يوم لا يكون لهم كيد ولا إغناء وهو كثير في القرآن وباب من أبواب البلاغة والإحسان، وقيل: هو يوم القيامة - وعليه الجمهور - وفي بحث، وقيل: هو يوم موتهم، وتعقب بأن فيه ما فيه مع أنه تأباه الإضافة المنبئة عن اختصاصه بهم فلا تغفل * (ولا هم ينصرون) * من جهة الغير في دفع العذاب عنهم.
* (وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ول‍اكن أكثرهم لا يعلمون) *.
* (وأن للذين ظلموا) * أي لهم ووضع الموصول موضع الضمير لما ذكر قبل وجوز العموم وهم داخلون دخولا أوليا * (عذابا) * آخر * (دون ذلك) * دون ما لاقوه من القتل أي قبله وهو - كما قال مجاهد -
39

القحط الذي أصابهم سبع سنين.
وعن ابن عباس هو ما كان عليهم يوم بدر والفتح، وفسر * (دون ذلك) * بقبل يوم القيامة بناءا على كون يومهم الذي فيه يصعقون ذلك، وعنه أيضا. وعن البراء بن عازب أنه عذاب القبر وهو مبني على نحو ذلك التفسير، وذهب إليه بعضهم بناءا على أن * (دون ذلك) * بمعنى وراء ذلك كما في قوله: يريك القذى من دونها وهو دونها
وإذا فسر اليوم بيوم القيامة ونحوه، و * (دون ذلك) * بقبله، وأريد العموم من الموصول فهذا العذاب عذاب القبر، أو المصائب الدنيوية، وفي مصحف عبد الله - دون ذلك قريبا - * (ول‍اكن أكثرهم لا يعلمون) * إن الأمر كما ذكر، وفيه إشارة إلى أن فيهم من يعلم ذلك وإنما يصر على الكفر عنادا، أو لا يعلمون شيئا.
* (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم) *.
* (واصبر لحكم ربك) * بإمهالهم إلى يومهم الموعود وإبقائك فيما بينهم مع مقاساة الأحزان ومعاناة الهموم * (فإنك بأعيننا) * أي في حفظنا وحراستنا، فالعين مجاز عن الحفظ، ويتجوز بها أيضا عن الحافظ وهو مجاز مشهور، وفي " الكشاف " هو مثل أي بحيث نراك ونكلؤك، وجمع العين هنا لإضافته إلى ضمير الجمع ووحد في * (طه) * لإضافته إلى ضمير الواحد، ولوح الزمخشري - في سورة المؤمنين - إلى أن فائدة الجمع الدلالة على المبالغة في الحفظ كأن معه من الله تعالى حفاظا يكلؤونه بأعينهم، وقال العلامة الطيبي: إنه أفرد هنالك لإفراد الفعل وهو كلاءة موسى عليه السلام، وههنا لما كان لتصبير الحبيب على المكايد ومشاق التكاليف والطاعات ناسب الجمع لأنها أفعال كثيرة كل منها يحتاج إلى حراسة منه عز وجل انتهى، ومن نظر بعين بصيرته علم من الآيتين الفرق بين الحبيب والكليم عليهما أفضل الصلاة وأكل التسليم، ثم إن الكلام في نظير هذا على مذهب السلف مشهور، وقرأ أبو السمال - بأعينا - بنون مشددة * (وسبح بحمد ربك) * أي قل سبحان الله ملتبسا بحمده تعالى على نعمائه الفائتة الحصر، والمراد سبحه تعالى واحمده * (حين تقوم) * من كل مجلس قاله عطاء. ومجاهد. وابن جبير، وقد صح من رواية أبي داود. والنسائي. وغيرهما عن أبي بزرة الأسلمي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أراد أن يقوم من المجلس: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك فسئل عن ذلك فقال: كفارة لما يكون في المجلس " والآثار في ذلك كثيرة، وقيل: حين تقوم إلى الصلاة، أخرج أبو عبيد. وابن المنذر عن سعيد بن المسيب قال: " حق على كل مسلم حين يقوم إلى الصلاة أن يقول: سبحان الله وبحمده لأن الله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (وسبح بحمد ربك حين تقوم) * " وأخرج سعيد بن منصور وغيره عن الضحاك أنه قال في الآية: حين تقوم إلى صلاة تقول هؤلاء الكلمات " سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك " وحكاه في " البحر " عن ابن عباس؛ وأخرج عنه ابن مردويه أنه قال: " سبح بحمد ربك حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل في الصلاة " وروي نحوه عن ابن السائب، وقال زيد أسلم: " حين تقوم من القائلة والتسبيح إذ ذاك هو صلاة الظهر " وقوله تعالى:
* (ومن اليل فسبحه وإدب‍ار النجوم) *.
* (ومن اليل فسبحه) * إفراد لبعض الليل بالتسبيح لما أن العبادة فيه أشق على النفس وأبعد عن الرياء كما يلوح به تقديمه على الفعل * (وإدبار النجوم) * أي وقت إدبارها من آخر الليل أي غيبتها بضوء الصباح، وقيل: التسبيح من الليل صلاة المغرب والعشاء، * (وإدبار النجوم) * ركعتا الفجر، وعن عمر رضي الله تعالى عنه.
40

وعلي كرم الله تعالى وجهه. وأبي هريرة. والحسن رضي الله تعالى عنهما التسبيح من الليل النوافل، و * (إدبار النجوم) * ركعتا الفجر، وقرأ سالم بن أبي الجعد. والمنهار بن عمرو. ويعقوب - أدبار - بفتح الهمزة جمع دبر بمعنى عقب أي في أعقابها إذا غربت، أو خفيت بشعاع الشمس. هذا ونظم الآيات من قوله تعالى: * (أم يقولون شاعر) * إلى قوله سبحانه: * (أم لهم إله غير الله) * (الطور: 30 - 43) الخ فيه غرابة ولم أر أحدا كشف عن لثامه ك‍ " صاحب الكشف " جزاه الله تعالى خيرا، ولغاية حسنه - وكونه مما لا مزيد عليه - أحببت نقله بحذافيره لكن مع اختصار ما، فأقول: قال: أومأ الزمخشري إلى وجهين في ذلك في قوله تعالى: * (بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر) * (الأنبياء: 5) أحدهما: أنه حكاية قولهم المضطرب على وجهه، والثاني: أنه تدرج منه سبحانه في حكاية ما
قالوه من المنكر إلى ما هو أدخل فيه، والأول ضعيف فيما نحن فيه لأن ما سيق له الكلام ليس اضطراب أقوالهم فتحكى على ما هي عليه بل تسليته عليه الصلاة والسلام وأنه لا محالة ينتقم له منهم وأن العذاب المكذب به واقع بهم جزاءا لتكذيبهم بالمنبىء والنبأ والمنبأ به، فالمتعين هو الثاني، ووجهه - والله تعالى أعلم - أن قوله: * (فذكر) * معناه إذ ثبت كون العذاب واقعا وكون الفريقين المصدقين والمكذبين مجزيين بأعمالهم، وإنك على الحق المبين الذي من كذب به استحق الهوان، ومن صدق استحق الرضوان فدم على التذكير ولا تبال بما تكايد فإنك أنت الغالب حجة وسيفا في هذه الدار، ومنزلة ورفعة في دار القرار، ومن قوله تعالى: * (فما أنت) * إلى قوله سبحانه: * (هم المكيدون) * (الطور: 29 - 42) تفصيل هذا المجمل مع التعريض بفساد مقالاتهم الحمقاء وأنهم بمرأى من الله تعالى ومسمع فلا محالة ينتقم لنبيه عليه الصلاة والسلام منهم، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم من الله تعالى بمكان لا يقادر قدره فهو شد من عضد التسلي، وقوله سبحانه: * (فما أنت بنعمة ربك) * (الطور: 29) الخ فيه أن من أنعم عليه بالنبوة يستحيل أن يكون أحد هذين، وبدأ بقولهم المتناقض لينبه أولا على فساد آرائهم ويجعله دستورا في إعراضهم عن الحق وإيثار اتباع أهوائهم فما أبعد حال من كان أتقنهم رأيا وأرجحهم عقلا وأبينهم آيا منذ ترعرع إلى أن بلغ الأشد عن الجنون والكهانة على أنهما متناقضان لأن الكهان كانوا عندهم من كامليهم وكان قولهم إماما متبعا عندهم فأين الكهانة من الجنون، ثم ترقى مضربا إلى قولهم فيه وحاشاه صلى الله عليه وسلم أنه شاعر لأنه أدخل في الكذب من الكاهن والمجنون وقدما قيل: أحسن الشعر أكذبه ليبين حال تلجلجهم واضطرابهم، وقوله تعالى: * (قل تربصوا) * (الطور: 31) من باب المجازاة بمثل صنيعهم وفيه تتميم للوعيد، فهذا باب من إنكارهم هدمه سبحانه أولا تلويحا بقوله تعالى: * (بنعمة ربك) * وثانيا تصريحا بقوله جل وعلا. * (أم تأمرهم أحلامهم) * (الطور: 32) كأنه قيل دعهم وتلك المقالة وما فيها من الاضطراب ففيها عبرة، ثم قيل: لا بل ذلك من طغيانهم لأنه أدخل في الذم من نقصان العقل وأبلغ في التسلية لأن من طغى على الله عز وجل فقد باء بغضبه، ثم أخذ في باب أوغل في الإنكار وهو نسبة الافتراء إليه صلى الله عليه وسلم وذلك لأن الافتراء أبعد شيء من حاله لاشتهاره بالصدق على أن كونه افتراءا وعجزهم عن الاتيان بأقصر سورة من هذا المفتري متنافيان لدلالته على الصدق على ما مر - في الأحقاف - ولأن الشاعر لا يتعمد الكذب لذاته، ثم قد يكون شعره حكما ومواعظ وهو لا ينسب فيه إلى عار، والتدرج عن الشعر ههنا عكس التدرج إليه في الأنبياء لأن بناء الكلام ههنا على التدرج في المناقضة والتوغل في القدح فيه عليه الصلاة والسلام ونفي رسالته، وهنالك عن القدح في بعض من الذكر متجدد النزول فقيل: إن افتراءه لا يبعد ممن هو شاعر ذو افتراءآت كثيرة، وأين هذا من ذاك؟ وللتنبيه على التوغل
41

جيء بصريح حرف الإضراب في الرد فقيل: * (بل لا يؤمنون) * (الطور: 33) وعقب بقوله تعالى: * (فليأتوا) * (الطور: 34) ثم من لا يؤمن أشد إنكارا له من الطاغي كما أن المفتري أدخل في الكذب من الشاعر، ثم أخذ في أسلوب أبلغ في الرد على مقالاتهم الجنون والكهانة لتقاربهما، ثم الشعر، ثم الافتراء حيث نزل القائلين منزلة من يدعي أنه خلق من غير شيء أي مقدر وخالق وإلا لأهمهم البحث عن صفاته وأفعاله فلم ينكروا منك ما أنكروا، ومن حسب أنه مستغن عن الموجد نسب رسوله إلى الجنون والكهانة لا بل كمن يدعي أنه خالق نفسه فلا خالق له ليبحث عن صفاته فهو ينسبه إلى الشعر إذ لا يرسل إليه البتة، والشعر أدخل في الكذب لا بل كمن يدعي أنه خلق السموات والأرض وما بينهما فهو ينسبه إلى الافتراء حيث لم يرسله، ثم أضرب صريحا عنه بقوله تعالى: * (بل لا يوقنون) * (الطور: 36) ومن لا إيقان له بمثل هذا البديهي لا يبعد أن يزنك بما زن، فكأنه قيل: مقالتهم تلك تؤدي إلى هذه لا أنهم كانوا قائلين بها إظهارا لتماديهم في العناد، ثم بولغ فيه فجيء بما يدل على أن الرسول لا بد أن يكون مفتريا غير صالح للنبوة في زعمهم، فالأول: لما لم يمنع تعدد الآلهة إنما يدل على افترائه من حيث أن أحد الخالقين لا يدعو الآخر إلى عبادته، والثاني: يمنعه بالكلية لأنه إذا كان عندهم جميع خزائن ربه وهم ما أرسلوه لزم أن يكون مفتريا ألبتة، وأدمح فيه إنكارهم للمعاد، ونسبتهم إياه صلى الله عليه وسلم في ذلك أيضا خاصة إلى الافتراء، والحمل على خزائن القدرة أظهر لأن * (أم عندهم الغيب) * (الطور: 41) إشارة إلى خزائن العلم ولما كان المقصود هنالك أمر البعث على ما سيحقق إن شاء الله تعالى كان هذا القول أيضا من القبول بمكان ولا يخفى ما في قوله تعالى: * (أم هم المسيطرون) * (الطور: 37) من الترقي ثم لما فرغ من ذلك وبين فساد ما بنوا عليه أمر الإنكار بدليل العقل قيل: لم يبق إلا المشاهدة والسماع منه تعالى وهو أظهر استحالة فتهكم بهم، وقيل: بل * (لهم سلم يستمعون) * (الطور: 38) وذيل بقوله تعالى: * (أم له البنات) * (الطور: 39) إشعارا بأن من جعل خالقه أدون حالا منه لم يستبعد منه تلك المقالات الخرقاء كأنه سلى صلى الله عليه وسلم؛ وقيل: ناهيك بتساوي الطعنين في البطلان وبما يلقون من سوء مغبتهما، ثم قيل: * (أم تسألهم أجرا) * (الطور: 40) أي إن القوم أرباب ألباب وليسوا من تلك الأوصاف في شيء بل الذي زهدهم فيك أنك تسألهم أجرا مالا، أو جاها، أو ذكرا، وفيه تهكم بهم وذم لهم بالحسد واللؤم وأنهم مع قصور نظرهم عن أمر الميعاد لا يبنون الأمر على المتعارف المعتاد إذ لا أحد من أهل الدنيا وذوي الأخطار يجبه الناصح المبرأ ساحته عن لوث الطمع بتلك المقالات على أنه حسد لا موقع له عند ذويه فليسوا في أن يحصل لهم نعمة النبوة ولا هو ممن يطمع في نعمهم إحدى الثلاث، ثم قيل: * (أم عندهم الغيب) * (الطور: 41) على معنى بل أعندهم اللوم فيعلمون كل ما هو كائن ويكتبون فيه تلك المعلومات وقد علموا أن ما تدعيه من المعاد ليس من الكائن المكتوب، والمقصود من هذا نفي المنبأ به أعني البعث على وجه يتضمن دفع النبوة أيضا إدماجا عكس الأول ولهذا أخره عن قوله تعالى: * (أم لهم سلم) * فقد سلف أن مصب الغرض حديث النبأ والمنبأ والمنبأ به فقضى الوطر من الأولين مع الرمز إلى الأخير، ثم أخذ فيه مع الرمز إليهما قضاءا لحق الإعجاز، ففي الغيب إشارة إلى الغيب أعني الساعة أول كل شيء وفيه ترق في الدفع من وجه أيضا لأن العلم أشمل موردا من القدرة ولأن الأول إنكار من حيث أنهم لم يرسلوه، وهذا من تلك الحيثية، ومن حيث أنهم ما علموا بإرسال غيره إياه أيضا مع إحاطة علمهم لكنه غير مقصود قصدا أوليا، ثم ختم الكلام بالإضراب عن الإنكار إلى الاخبار عن حالهم بأنهم يريدون بك كيدا فهم ينصبون لك الحبائل قولا وفعلا
42

لا يقفون على هذه المقالة وحدها وهم المكيدون لا أنت قولا وفعلا وحجة وسيفا، وحقق ما ضمنه من الوعيد بقوله سبحانه: * (أم لهم إله غير الله) * (الطور: 43) فينجيهم من كيده وعذابه لا والله سبحان الله عن أن يكون إليه غيره، ومنه يظهر أن حمل الذين كفروا على المريدين به كيدا أظهر في هذا المساق انتهى، وكأن ما بعد تأكيدا لأمر طغيانهم ومزيد تحقيق للوعيد ومبالغة في التسلية، ويعلم مما ذكره - لا زالت رحمة الله تعالى عليه متصلة - أن * (أم) * في كل ذلك منقطعة وهي مقدرة ببل الإضرابية، والإضراب ههنا واقع على سبيل الترقي وبالهمزة وهي للإنكار وهو ما اختاره أبو البقاء، وكثير من المفسرين، وحكى الثعلبي عن الخليل أنها متصلة والمراد بها الاستفهام، وعليك بما أفاده كلام ذلك الهمام والله تعالى أعلم.
ومما ذكروه من باب الإشارة في بعض الآيات: * (والطور) * (الطور: 1) إشارة إلى قالب الإنسان * (وكتاب مسطور) * (الطور: 2) إشارة إلى سره * (في رق منشور) * إشارة إلى قلبه * (البيت المعمور) * (الطور: 4) إشارة إلى روحه * (والسقف المرفوع) * (الطور: 5) إشارة إلى صفته * (والبحر المسجور) * (الطور: 6) إشارة إلى نفسه المسجورة بنيران الشهوة والغضب والكبر، وقيل: - الطور - إشارة إلى ما طار من الأرواح من عالم القدس والملكوت حتى وقع في شباك عالم الملك - والكتاب المسطور في الرق المنشور - إشارة إلى النقوش الإلهية المدركة بأبصار البصائر القدسية المكتوبة في صحائف الآفاق * (والبيت المعمور) * إشارة إلى قلب المؤمن المعمور بالمعرفة والإخلاص * (والسقف المرفوع) * إشارة إلى العالم العلوي المرفوع عن أرض الطبيعة * (والبحر المسجور) * إشارة إلى بحث القدرة المملوء من أنواع المقدورات التي لا تتناهى، وقيل: إشارة إلى الفضاء الذي فيه الملائكة المهيمون، ووصفه - بالمسجور - إما لأنه مملوء منهم، وإما لأنه سجر بنيران الهيام ولذا لا يعلم أحدهم بسوى الله عز وجل، وقيل: غير ذلك * (فويل يومئذ للمكذبين * الذي هم في خوض يلعبون) * (الطور: 11، 12) أي يخوضون في غمران البحر اللجي الدنيوي ويلعبون فيها بزبدها الباطل ومتاعها القليل ويكذبون المستخلصين عن الاكدار المتحلين بالأنوار إذ أنذروهم أن المتقين هم أضداد أولئك * (فاكهين بما آتاهم ربهم) * مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر * (ووقاهم ربهم عذاب الجحيم) * (الطور: 18) وهو عذاب الحجاب * (كلوا) * من ثمرات المعارف المختصة باللطيفة النفسية * (واشربوا) * (الطور: 19) من مياه العيون المختصة باللطيفة القلبية * (وسبح بحمد ربك حين تقوم) * (الطور: 48) أي مقام العبودية * (ومن الليل فسبحه) * أي عند نزول السكينة عليك * (وإدبار النجوم) * (الطور: 49) أي عند ظهور نور شمس الوجه، وتسبيحه سبحانه عند ذلك بالاحتراز عن إثبات وجود غير وجوده تعالى الحق فإن إثبات ذلك شرك مطلق في ذلك المقام أعاذنا الله تعالى وإياكم من الشرك بحرمة الحبيب عليه الصلاة والسلام.
43

سورة والنجم
وتسمى أيضا سورة - النجم - بدون واو وهي مكية: على الإطلاق، وفي الاتقان استثنى منها * (الذين يجتنبون) * (النجم: 32) إلى اتقى، وقيل: * (أفرأيت الذي تولى) * (النجم: 33) الآيات التسع، ومن الغريب حكاية الطبرسي عن الحسن أنها مدنية. ولا أرى صحة ذلك عنه أصلا، وآيها اثنتان وستون آية في الكوفي، وإحدى وستون في غيره، وهي كما أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود أول سورة أعلن النبي صلى الله عليه وسلم بقراءتها فقرأها في الحرم والمشركون يسمعون، وأخرج البخاري. ومسلم. وأبو داود. والنسائي عنه قال: " أول سورة أنزلت فيها سجدة * (والنجم) * فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد الناس كلهم إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه فرأيته بعد ذلك قتل كافرا " وهو أمية بن خلف، وفي " البحر " أنه عليه الصلاة والسلام سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب فإنه رفع حفنة من تراب وقال: يكفي هذا، فيحتمل أنه وأمية فعلا كذلك، وهي شديدة المناسبة لما قبلها فإن الطور ختمت بقوله تعالى: * (إدبار النجوم) * وافتتحت هذه بقوله سبحانه: * (والنجم) * وأيضا في مفتتحها ما يؤكد رد الكفرة فيما نسبوه إليه صلى الله عليه وسلم من التقول والشعر والكهانة والجنون، وذكر أبو حيان أن سبب نزولها قول المشركين: إن محمدا عليه الصلاة والسلام يختلق القرآن، وذكر الجلال السيوطي في وجه مناسبتها أن الطور فيها ذكر ذرية المؤمنين وأنهم تبع لآبائهم وهذه فيها ذكر ذرية اليهود في قوله تعالى: * (هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم) * (النجم: 32) الآية فقد أخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم. والطبري. وأبو نعيم في المعرفة. والواحدي عن ثابت بن الحرث الأنصاري " قال: كانت اليهود إذا هلك لهم صبي صغير قالوا هو صديق فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كذبت يهود ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمها إلا أنه شقي أو سعيد فأنزل الله تعالى عند ذلك * (وهو أعلم بكم) * الآية كلها " وأنه تعالى لما قال هناك في المؤمنين: * (ألحقنا بهم ذريتهم) * الخ قال سبحانه هنا في الكفار، أو في الكبار: * (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) * خلاف ما دخل في المؤمنين الصغار، ثم قال: وهذا وجه بديع في المناسبة من وادي التضاد، وفي صحة كون قوله تعالى: * (هو أعلم بكم) * الآية نزل لما ذكر نظر عندي، وكون قوله تعالى: * (ألحقنا بهم ذريتهم) * في الصغار لم يتفق عليه المفسرون كما سمعت غير بعيد، نعم من تأمل ظهر له وجوه من المناسبات غير ما ذكر فتأمل.
* (والنجم إذا هوى) *.
بسم الله الرحم‍ان الرحيم * (والنجم إذا هوى) * أقسم سبحانه بجنس النجم المعروف على ما روى عن الحسن ومعمر بن المثنى، ومنه قوله: فباتت تعد النجم في مستحيرة * سريع بأيدي الآكلين جمودها
ومعنى * (هوى) * غرب، وقيل: طلع يقال هوى يهوى كرمى يرمي هويا بالفتح في السقوط والغروب لمشابهته له؛ وهويا بالضم للعلو، والطلوع، وقيل: الهوى بالفتح للإصعار والهوى بالضم للانحدار؛ وقيل: الهوى بالفتح والضم السقوط ويقال أهوى بمعنى هوى، وفرق بعض اللغويين بينهما بأن هوى إذا انقض لغير صيد،
وأهوى
44

إذا انقض له، وقال الحسن. وأبو حمزة الثمالي: أقسم سبحانه بالنجوم إذا انتثرت في القيامة، وعن ابن عباس في رواية أقسم عز وجل بالنجوم إذا انقضت في إثر الشياطين، وقيل: المراد بالنجم معين فقال مجاهد. وسفيان: هو الثريا فإن النجم صار علما بالغلبة لها، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا طلع النجم صباحا ارتفعت العاهة " وقول العرب: - طلع النجم عشاءا فابتغى الراعي كساء، طلع النجم غدية فابتغي الراعي كسية - وفسر هويها بسقوطها مع الفجر، وقيل: هو الشعري المرادة بقوله تعالى: * (وأنه هو رب الشعري) * (النجم: 49) والكهان يتكلمون على المغيبات عند طلوعها، وقيل: الزهرة وكانت تعبد، وقال ابن عباس. ومجاهد. والفراء. ومنذر بن سعيد: * (النجم) * المقدار النازل من القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، * (وإذا هوى) * بمعنى إذا نزل عليه مع ملك الوحي جبريل عليه والسلام، وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: هو النبي صلى الله عليه وسلم وهويه نزوله من السماء ليلة المعراج، وجوز على هذا أن يراد بهويه صعوده وعروجه عليه الصلاة والسلام إلى منقطع الأين، وقيل: هو الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وقيل: العلماء على إرادة الجنس، والمراد بهويهم قيل: عروجهم في معارج التوفيق إلى حضائر التحقيق، وقيل: غوصهم في بحار الأفكار لاستخراج درر الأسرار، وأظهر الأقوال القول بأن المراد بالنجم جنس النجم المعروف فإن أصله اسم جنس لكل كوكب، وعلى القول بالتعيين فالأظهر القول بأنه الثريا، ووراء هذين القولين القول بأن المراد به المقدار النازل من القرآن، وفي الإقسام بذلك على نزاهته عليه الصلاة والسلام عن شائبة الضلال والغواية من البراعة البديعة وحسن الموقع ما لا غاية وراءه، أما على الأولين فلأن النجم شأنه أن يهتدي به الساري إلى مسالك الدنيا كأنه قيل: * (والنجم) * الذي تهتدي به السابلة إلى سواء السبيل.
* (ما ضل ص‍احبكم وما غوى) *.
* (ما ضل صاحبكم) * أي ما عدل عن طريق الحق الذي هو مسلك الآخرة فهو استعارة وتمثيل لكونه عليه الصلاة والسلام على الصواب في أقواله وأفعاله * (وما غوى) * أي وما اعتقد باطلا قط لأن الغي الجهل مع اعتقاد فاسد وهو خلاف الرشد فيكون عطف هذا على * (ما ضل) * من عطف الخاص على العام اعتناءا بالاعتقاد، وإشارة إلى أنه المدار.
وأما على الثالث فلأنه تنويه بشأن القرآن وتنبيه على مناط اهتدائه عليه الصلاة والسلام ومدار رشاده كأنه قيل: وما أنزل عليك من القرآن الذي هو علم في الهداية إلى مناهج الدين ومسالك الحق واليقين * (ما ضل) * عنها محمد صلى الله عليه وسلم * (وما غوى) * فهو من باب. وثناياك أنها إغريض
والخطاب لقريش وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان المصاحبة لهم للإيذان بوقوفهم على تفاصيل أحواله الشريفة وإحاطتهم خبرا ببراءته صلى الله عليه وسلم مما نفى عنه بالكلية وباتصافه عليه الصلاة والسلام بغاية الهدى والرشاد فإن طول صحبتهم له عليه الصلاة والسلام ومشاهدتهم لمحاسن شؤونه العظيمة مقتضية لذلك حتما ففي ذلك تأكيد لإقامة الحجة عليهم، واختلف في متعلق إذا قال بعضهم: فاوضت جار الله في قوله تعالى: * (والنجم إذا هوى) * فقال: العامل فيه ما تعلق به الواو فقلت: كيف يعمل فعل الحال في المستقبل؟! وهذا لأن معناه أقسم الآن لا أقسم بعد هذا، فرجع وقال: العامل فيه مصدر محذوف، والتقدير - وهوى النجم إذا هوى - فعرضته على بعض المشايخ فلم يستحسن قوله الثاني، والوجه تعلقه بأقسم وهو قد انسلخ عنه معنى الاستقبال وصار للوقت المجرد ونحوه آتيك إذا احمر البسر أي وقت احمراره، وقال عبد القاهر: إخبار الله تعالى بالمتوقع يقام مقام الإخبار بالواقع
45

إذ لا خلف فيه فيجري المستقبل مجرى المحقق الماضي، وقيل: إنه متعلق بعامل هو حال من النجم، وأورد عليه أن الزمان لا يكون خبرا ولا حالا عن جثة كما هنا، وأن * (إذا) * للمستقبل فكيف يكون حالا إلا أن تكون حالا مقدرة أو تجرد * (إذا) * لمطلق الوقت كما يقال بصحية الحالية إذا أفادت معنى معتدا به، فمجيء الزمان خبرا أو حالا عن جثة ليس ممنوعا على الإطلاق كما ذكره النحاة، أو المجم لتغيره طلوعا وغروبا أشبه الحدث، والإنصاف أن جعله حالا كتعلقه بمصدر محذوف ليس بالوجه، وإنما الوجه، - على ما قيل - ما سمعت من تعلقه بأقسم منسلخا عنه معنى الاستقبال وهو الذي اختاره في " المغنى " وتخصيص القسم بوقت الهوى ظاهر على الأخير من الأقوال الثلاثة، وأما على الأولين فقيل: لأن النجم لا يهتدي به الساري عند كونه في وسط السماء ولايعلم المشرق من المغرب ولا الشمال من الجنوب، وإنما يهتدي به عند هبوطه، أو صعوده مع ما فيه من كمال المناسبة لما سيحكى من التدلي والدنو، وقيل: لدلالته على حدوثه الدال على الصانع وعظيم قدرته عز وجل كما قال الخليل على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأكمل السلام * (لا أحب الآفلين) * (الأنعام: 76) وسيأتي إن شاء الله تعالى آخر الكتاب تمام الكلام في تحقيق إعراب مثل هذا التركيب فلا تغفل.
* (وما ينطق عن الهوى) *.
* (وما ينطق) * أي النبي صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكره في قوله سبحانه: * (صاحبكم) * والنطق مضمن معنى الصدور فلذا عدى بعن في قوله تعالى: * (عن الهوى) * وقيل: هي بمعنى الباء وليس بذاك أي ما يصدر نطقه فيما آتاكم به من جهته عز وجل كالقرآن، أو من القرآن عن هوى نفسه ورأيه أصلا فإن المراد استمرار النفي كما مر مرارا في نظائره.
* (إن هو إلا وحى يوحى) *.
* (إن هو) * أي ما الذي ينطق به من ذلك أو القرآن وكل ذلك مفهوم من السياق * (إلا وحي) * من الله عز وجل * (يوحى) * يوحيه سبحانه إليه، والجملة صفة مؤكدة لوحي رافعة لاحتمال المجاز مفيدة للاستمرار التجددي، وقيل: ضمير * (ينطق) * للقرآن فالآية كقوله تعالى: * (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) * (الجاثية
: 29) وهو خلاف الظاهر، وقيل: المراد ما يصدر نطقه عليه الصلاة والسلام مطلقا عن هوى وهو عائد لما ينطق به مطلقا أيضا. واحتج بالآية على هذا التفسير من لم ير الاجتهاد له عليه الصلاة والسلام كأبي علي الجبائي. وابنه أبي هاشم، ووجه الاحتجاج أن الله تعالى أخبر بأن جميع ما ينطق به وحي وما كان عن اجتهاد ليس بوحي فليس مما ينطق، وأجيب بأن الله تعالى إذا سوغ له عليه الصلاة والسلام الاجتهاد كان الاجتهاد وما يسند إليه وحيا لا نطقا عن الهوى، وحاصله منع كبر القياس، واعترض عليه بأنه يلزم أن تكون الأحكام التي تستنبطها المجتهدون بالقياس وحيا، وأجيب بأن النبي عليه الصلاة والسلام أوحى إليه أن يجتهد بخلاف غيره من المجتهدين، وقال القاضي البيضاوي: إنه حينئذ بالوحي لا وحي، وتعقبه صاحب الكشف بأنه غير قادح لأنه بمنزلة أن يقول الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: متى ما ظننت بكذا فهو حكمي أي كل ما ألقيته في قلبك فهو مرادي فيكون وحيا حقيقة، والظاهر أن الآية واردة في أمر التنزيل بخصوصه وإن كان مثله الأحاديث القدسية والاستدلال بها على أنه عليه الصلاة والسلام غير متعبد بالوحي محوج لارتكاب خلاف الظاهر وتكلف في دفع نظر البيضاوي عليه الرحمة كما لا يخفى على المنصف، ولا يبعد عندي أن يحمل قوله تعالى: * (وما ينطق عن الهوى) * على العموم بأن من يرى الاجتهاد له عليه الصلاة والسلام كالإمام أحمد. وأبي يوسف عليهما الرحمة
46

لا يقول بأن ما ينطق به صلى الله عليه وسلم مما أدى إليه اجتهاده صادر عن هوى النفس وشهوتها حاشا حضرة الرسالة عن ذلك وإنما يقول هو واسطة بين ذلك وبين الوحي ويجعل الضمير في قوله سبحانه: * (إن هو إلا وحي) * للقرآن على أن الكلام جواب سؤال مقدر كأنه قيل: إذا كان شأنه عليه الصلاة والسلام أنه ما ينطق عن الهوى فما هذا القرآن الذي جاء به وخالف فيه ما عليه قومه واستمال به قلوب كثير من الناس وكثرت فيه الأقاويل؟ فقيل: ما هو إلا وحي يوحيه الله عز وجل إليه صلى الله عليه وسلم فتأمل، وفي الكشف أن في قوله تعالى: * (ما ينطق) * مضارعا مع قوله سبحانه: * (ما ضل) * * (وما غوى) * ما يدل على أنه عليه الصلاة والسلام حيث لم يكن له سابقة غواية وضلال منذ تميز وقبل تحنكه واستنبائه لم يكن له نطق عن الهوى كيف وقد تحنك ونبىء، وفيه حث لهم على أن يشاهدوا منطقه الحكيم.
* (علمه شديد القوى) *.
* (علمه) * الضمير للرسول والمفعول الثاني محذوف أي القرآن، أو الوحي، وجوز أبو حيان كون الضمير للقرآن، وأن المفعول الأول محذوف أي علمه الرسول عليه الصلاة والسلام * (شديد القوى) * هو جبريل عليه السلام كما قال ابن عباس. وقتادة. والربيع، فإنه الواسطة في إبداء الخوارق وناهيك دليلا على شدة قوته أنه قلع قرىء قوم لوط من الماء الأسود الذي تحت الثرى وحملها على جناحه ورفعها إلى السماء ثم قلبها، وصاح بثمود صيحة فأصبحوا جاثمين وكان هبوطه على الأنبياء عليهم السلام وصعوده في أسرع من رجعة الطرف، فهو لعمري أسرع من حركة ضياء الشمس على ما قرروه في الحكمة الجديدة.
* (ذو مرة فاستوى) *.
* (ذو مرة) * ذو حصافة واستحاكم في العقل كما قال بعضهم، فكأن الأول وصف بقوة الفعل، وهذا وصف بقوة النظر والعقل لكن قيل: إن ذاك بيان لما وضع له اللفظ فإن العرب تقول لكل قوى العقل والرأي * (ذو مرة) * من أمررت الحبل إذا أحكمت فتله. وإلا فوصف الملك بمثله غير ظاهر فهو كناية عن ظهور الآثار البدعية، وعن سعيد بن المسيب ذو حكمة لأن كلام الحكماء متين، وروى الطستي أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عنه فقال: ذو شدة في أمر الله عز وجل واستشهد له، وحكى الطيبي عنه أنه قال: ذو منظر حسن واستصوبه الطبري، وفي معناه قول مجاهد، ذو خلق حسن: وهو في قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى " بمعنى ذي قوة، وفي " الكشف " إن المرة لأنها في الأصل تدل على المرة بعد المرة تدل على زيادة القوة فلا تغفل * (فاستوى) * أي فاستقام على صورته التي خلقه الله تعالى عليها وذلك عند حراء في مبادي النبوة وكان له عليه الصلاة والسلام - كما في حديث أخرجه الإمام أحمد. وعبد بن حميد. وجماعة عن ابن مسعود - ستمائة جناح كل جناح منها يسد الأفق فالاستواء ههنا بمعنى اعتدال الشيء في ذاته كما قال الراغب، وهو المراد بالاستقامة لا ضد الإعوجاج، ومنه استوى الثمر إذا نضج، وفي الكلام على ما قال الخفاجي: طي لأن وصفه عليه السلام بالقوة وبعض صفات البشر يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه في غير هيئته الحقيقية وهذا تفصيل لجواب سؤال مقدر كأنه قيل: فهل رآه على صورته الحقيقية: فقيل؟ نعم رآه فاستوى الخ، وفي " الإرشاد " أنه عطف على علمه بطريق التفسير فإنه إلى قوله تعالى: * (ما أوحى) * باين لكيفة التعليم، وتعقب بأن الكيفية غير منحصرة فيما ذكر، ومن هنا قيل: إن الفاء للسببية فإن تشكله عليه السلام بشكله يتسبب عن قوته وقدرته على الخوارق أو عاطف على * (علمه) * على مكعنى علمه على غير صورته الأصلية، ثم استوى على صورته الأصلية وتعقب بأنه لا يتم به التئام الكلام ويحسن به النظام، وقيل:
47

استوى بمعنى ارتفع والعطف على علم، والمعنى ارتفع إلى السماء بعد أن علمه وأكثر الآثار تقتضي ما تقدم.
* (وهو بالافق الاعلى) *.
* (وهو بالأفق الأعلى) * أي الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر، وأصله الناحية وما ذكره أهل الهيئة معنى اصطلاحي وينقسم عندهم إلى حقيقي وغيره كما فصل في محله، وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس أن المراد به هنا مطلع الشمس وفي معناه قول الحسن: هو أفق المشرق، والجملة في موضع الحال من فاعل استوى، وقال الفراء. والطبري: إن هو عطف على الضمير المستتر في استوى وهو عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما أن ذلك عائد لجبريل عليه السلام، وجوز العكس، والجار متعلق باستوى وفيه العطف على الضمير المرفوع من غير فصل، وهو مذهب الكوفيين مع أن المعنى ليس عليه عند الأكثرين.
* (ثم دنا فتدلى) *.
* (ثم دنا) * أي ثم قرب جبريل عليه السلام من النبي صلى الله عليه وسلم * (فتدلى) * فتعلق جبريل عليه عليه الصلاة والسلام في الهواء، ومنه تدلت الثمرة ودلى رجليه من السرير. والدوالي الثمر المعلق كعناقيد العنب وأنشدوا لأبي ذؤيب يصف مشتار عسل: تدلى عليها بين سب وخيطة * بجرداء مثل الوكف يكبو غرابها
ومن أسجاع ابنة الخس - كن حذرا كالقرلى إن رأى خيرا تدلى، وإن رأى شرا تولى - فالمراد بالتدلي دنو خاص فلا قلب ولا تأويل بإرادة الدنو كما في الإيضاح، نعم إن جعل بمعنى التنزل من علو كما يرشد إليه الاشتقاق كان له وجه.
* (فكان قاب قوسين أو أدنى) *.
* (فكان) * أي جبريل عليه السلام من النبي صلى الله عليه وسلم * (قاب قوسين) * أي من قسى العرب لأن الإطلاق ينصرف إلى متعارفهم، والقاب، وكذا القيب. والقاد. والقيد. والقيس المقدار، وقرأ زيد بن علي قاد، وقرىء قيد وقدر، وقد جاء التقدير بالقوس كالرمح والذراع وغيرهما، ويقال على ما بين مقبض القوس وسيتها، وهي ما عطف من طرفيها فلكل قوس قابان، وفسر به هنا قيل: وفي الكلام عليه قلب أي فكان قابى قوس، وفي " الكشف " لك أن تقول قابا قوس وقاب قوسين واحد دون قلب، وعن مجاهد. والحسن أن قاب القوس ما بين وترها ومقبضها ولا حاجة إلى القلب عليه أيضا فإن هذا على ما قال: الخفاجي إشارة إلى ما كانت العرب في الجاهلية تفعله إذا تحالفوا فإنهم كانوا يخرجون قوسين ويلصقون إحداهما بالأخرى فيكون القاب ملاصقا للآخر حتى كأنهما ذا قاب واحد ثم ينزعونهما معا ويرمون بهما سهما واحدا فيكون ذلك إشارة إلى أن رضا أحدهم رضا الآخر وسخطه سخطه لا يمكن خلافه، وعن ابن عباس القوس هنا ذراع يقاس به الأطوال وإليه ذهب أبو رزين، وذكر الثعلبي أنه من لغة الحجاز، وأيا ما كان فالمعنى على حذف مضاف - أي فكان ذا قاب قوسين - ونحوه قوله: فأدرك أبقاء لعرادة ظلعها * وقد جعلتني من (خزيمة أصبعا)
فإنه على معنى ذا مقدار أصبع وهو القرب فكأنه قيل فكان قريبا منه، وجوز أن يكون ضمير كان للمسافة بتأويلها بالبعد ونحوه فلا حاجة إلى اعتبار الحذف وليس بذاك * (أو أدنى) * أي أو أقرب من ذلك، و * (أو) * للشك من جهة العباد على معنى إذا رآه الرائي يقول: هو قاب قوسين أو أدنى، والمراد إفادة شدة القرب.
* (فأوحى إلى عبده مآ أوحى) *.
* (فأوحى) * أي جبريل عليه السلام * (إلى عبده) * أي عبد الله وهو النبي صلى الله عليه وسلم، والإضمار ولم يجر له تعالى ذكرا لكونه في غاية الظهور ومثله كثير في الكلام، ومنه * (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة) *
48

وقوله سبحانه: * (إنا أنزلناه في ليلة القدر) * (القدر: 1) * (ما أوحى) * أي الذي أوحاه والضمير المستتر لجبريل عليه السلام أيضا، وإبهام الموحى به للتفخيم فهذا نظير قوله تعالى: * (فغشيهم من اليم ما غشيهم) * (طه: 78) وقال أبو زيد: الضمير المستتر لله عز وجل أي أوحى جبريل إلى عبد الله ما أوحاه الله إلى جبريل، والأول مروي عن الحسن وهو الأحسن، وقيل: ضمير * (أوحى) * الأول والثاني لله تعالى، والمراد بالعبد جبريل عليه السلام وهو كما ترى.
* (ما كذب الفؤاد ما رأى) *.
* (ما كذب الفؤاد) * أي فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم * (ما رأى) * ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام أي ما قال فؤاده صلى الله عليه وسلم لما رآه لم أعرفك ولو قال ذلك لكان كاذبا لأنه عرفه بقلبه كما رآه ببصره فهو من قولهم كذب إذا قال كذبا فما كذب بمعنى ما قال الكذب، وقيل: أي * (ما كذب الفؤاد) * البصر فيما حكاه له من صورة جبريل عليه السلام وما في عالم الملكوت تدرك أولا بالقلب ثم تنتقل منه إلى البصر. قرأ أبو رجاء وأبو جعفر. وقتادة. والجحدري. وخالد بن الياس. وهشام عن ابن عامر * (ما كذب) * مشددا أي صدقه ولم يشك أنه جبريل عليه السلام بصورته، وفي الآيات من تحقيق أمر الوحي ما فيها، وفي الكشف أنه لما قال سبحانه: * (إن هو إلا وحي) * (النجم: 4) أي من عند الله تعالى: * (يوحى) * ذكر جل وعلا ما يصور هذا المعنى ويفصله ليتأكد أنه وحى وأنه ليس من الشعر وحديث الكهان في شيء فقال تعالى: * (علم صاحبكم) * هذا الوحي من هو على هذه الصفات، وقوله تعالى: * (فاستوى) * وحديث قيامه بصورته الحقيقية ليؤكد أن ما يأتيه في صورة دحية هو هو فقد رآه بصورة نفسه وعرفه حق معرفته فلا يشتبه عليه بوجه، وقوله تعالى: * (ثم دنا فتدلى) * تتميم لحديث نزوله إليه عليه الصلاة والسلام وإتيانه بالمنزل، وقوله سبحانه: * (فأوحى) * أي جبريل ذلك الوحي الذي مر أنه من عند الله تعالى إلى عبد الله وإنما قال سبحانه: - ما أوحى - ولم يأت بالضمير تفخيما لشأن المنزل وأنه شيء يجل عن الوصف فأنى يستجيز أحد من نفسه أن يقول إنه شعر أو حديث كاهن، وأيثار عبده بدل إليه أي إلى صاحبكم لإضافة الاختصاص وإيثار الضمير على الاسم العلم في هذا المقام لترشيحه وأنه ليس عبدا إلا له عز وجل فلا لبس لشهرته بأنه عبد الله لا غير، وجاز أن يكون التقدير فأوحى الله تعالى بسببه أي بسبب هذا المعلم إلى عبده ففي الفاء دلالة على هذا المعنى وهذا وجه أيضا سديد، ثم قال سبحانه: * (ما كذب الفؤاد ما رأى) * على معنى أنه لما عرفه وحققه لم يكذبه فؤاده بعد ذلك ولو تصور بغير تلك الصورة إنه جبريل، فهذا نظم سرى مرعى فيه النكت حق الرعاية مطابق للوجود لم يعدل به عن واجب الوفاق بين البداية والنهاية انتهى.
وهو كلام نفيس يرجح به ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها وسيأتي ذلك إن شاء الله عز وجل بماله وعليه.
* (أفتم‍ارونه على ما يرى) *.
* (أفتمارونه على ما يرى) * أي أتكذبونه فتجادلونه على ما يراه معاينة فتمارونه عطف على محذوف على ما ذهب إليه الزمخشري من المراء وهو المجادلة واشتقاقه من مرى الناقة إذا مسح ظهرها وضرعها ليخرج لبنها وتدر به فشبه به الجدال لأن كلا من المتجادلين يطلب الوقوف على ما عند الآخر ليلزمه الحجة فكأنه يستخرج دره
.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. وعبد الله. وابن عباس. والجحدري. ويعقوب. وابن سعدان. وحمزة والكسائي. وخلف * (أفتمرونه) * بفتح التاء وسكون الميم مضارع مريت أي جحدت يقال: مريته حقه إذا جحدته، وأنشدوا لذلك قول الشاعر: لئن هجرت أخا صدق ومكرمة * لقد (مريت) أخا ما كان يمريكا
49

أو مضارع مريته إذا غلبته في المراء على أنه من باب المغالبة، ويجوز حمل ما في البيت عليه وعدى الفعل بعلى وكان حقه أن يعدي بفي لتضمينه معنى المغالبة فإن المجادل والجاحد يقصدان بفعلهما غلبة الخصم، وقرأ عبد الله فيما حكى ابن خالويه. والشعبي فيما ذكر شعبة * (أفتمرونه) * بضم التاء وسكون الميم مضارع أمريت قال أبو حاتم: وهو غلط، والمراد بما يرى ما رآه من صورة جبريل عليه السلام، وعبر بالمضارع استحضارا للصورة الماضية لما فيها من الغرابة، وفي البحر جيء بصيغة المضارع وإن كانت الرؤية قد مضت إشارة إلى ما يمكن حدوثه بعد، وقيل: المراد * (أفتمارونه على ما يرى) * من الصور التي يظهر بها جبريل عليه السلام بعد ما رآه قبل وحققه بحيث لا يشتبه عليه بأي صورة ظهر فالتعبير بالمضارع على ظاهره.
* (ولقد رءاه نزلة أخرى) *.
* (ولقد رءاه) * أي رأى النبي جبريل صلى الله عليه وسلم في صورته التي خلقه الله تعالى عليها * (نزلة أخرى) * أي مرة أخرى من النزول وهي فعلة من النزول أقيمت مقام المرة ونصبت نصبها على الظرفية لأن أصل المرة مصدر مر يمر ولشدة اتصال الفعل بالزمان يعبر به عنه ولم يقل مرة بدلها ليفيد أن الرؤية في هذه المرة كانت بنزول ودنو كالرؤية في المرة الأولى الدال عليها ما مر. وقال الحوفي. وابن عطية: إن نزلة منصوب على المصدرية للحال المقدرة أي نازلا نزلة، وجوز أبو البقاء كونه منصوبا على المصدرية - لرأي - من معناه أي رؤية أخرى وفيه نطر، والمراد من الجملة القسمية نفي الريبة والشك عن المرة الأخيرة وكانت ليلة الإسراء.
* (عند سدرة المنتهى) *.
* (عند سدرة المنتهى) * هي شجرة نبق عن يمين العرش في السماء السابعة على المشهور، وفي حديث أخرجه أحمد. ومسلم. والترمذي. وغيرهم في السماء السادسة نبقها كقلال هجرو أوراقها مثل آذان الفيلة يسير الراكب في ظلها سبعين عاما لا يقطعها، وأخرج الحاكم وصححه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا " يسير الراكب في الفنن منها مائة سنة " والأحاديث ظاهرة في أنها شجرة نبق حقيقة.
والنبات في الشاهد يكون ترابيا ومائيا وهوائيا؛ ولا يبعد من الله تعالى أن يخلقه في أي مكان شاء وقد أخبر سبحانه عن شجرة الزقوم أنها تنبت في أصل الجحيم، وقيل: إطلاق السدرة عليها مجاز لأنها تجتمع عندها الملائكة عليهم السلام كما يجتمع الناس في ظل السدرة، و * (المنتهى) * اسم مكان وجوز كونه مصدرا ميميا، وقيل: لها * (سدرة المنتهى) * لأنها كما أخرج عبد بن حميد. وابن أبي حاتم عن ابن عباس إليها ينتهي علم كل عالم وما وراءها لا يعلمه إلا الله تعالى، أو لأنها ينتهي إليها علم الأنبياء عليهم السلام ويعزب علمهم عما وراءها. أو لأنها تنتهي إليها أعمال الخلائق بأم تعرض الله تعالى عندها؛ أو لأنها ينتهي إليها ما ينزل من فوقها وما يصعد من تحتها. أو لأنها تنتهي إليها أرواح الشهداء أو أرواح المؤمنين مطلقا. أو لانتهاء من رفع إليها في الكرامة. وفي الكشاف كأنها منتهى الجنة وآخرها، وإضافة * (سدرة) * إلى المنتهى) * من إضافة الشيء لمحله كما في أشجار البستان، وجوز أن تكون من إضافة المحل إلى الحال كما في قولك " كتاب الفقه "، وقيل: يجوز أن يكون المراد بالمنتهى الله عز وجل فالإضافة من إضافة الملك إلى المالك أي * (سدرة) * الله الذي إليه * (المنتهى) * كما قال سبحانه: * (وأن إلى ربك المنتهى) * (النجم: 42) وعد ذلك من باب الحذف والإيصال ولا يخفى أن هذا القول يكاد يكون المنتهى في البعد.
* (عندها جنة المأوى) *.
* (عندها) * أي عند السدرة، وجوز أن يكون الضمير للنزلة وهو نازل عن رتبة القبول * (جنة المأوى) * التي يأوي إليها المتقون يوم القيامة كما روي عن الحسن، واستدل به على أن الجنة في السماء، وقال ابن عباس بخلاف عنه. وقتادة:
50

هي جنة تأوي إليها أرواح الشهداء وليست بالتي وعد المتقون، وقيل: هي جنة تأوي إليها الملائكة عليهم السلام والأول أظهر، والمأوى على ما نص عليه الجمهور اسم مكان وإضافة الجنة إليه بيانية، وقيل: من إضافة الموصوف إلى الصفة كما في مسجد الجامع، وتعقب بأن اسم المكان لا يوصف به، والجلمة حالية، وقيل: الحال هو الظرف، و * (جنة) * مرتفع به على الفاعلية، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. وأبو الدرداء. وأبو هريرة. وابن الزبير. وأنس. وزر. ومحمد بن كعب. وقتادة: * (جنة) * بها الضمير وهو ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، وجن فعل ماض أي عندها سترة إيواء الله تعالى، وجميل صنعه به، أو ستره المأوى بظلاله ودخل فيه على أن * (المأوى) * مصدر ميمي، أو اسم مكان، وجنة بمعنى ستره، قال أبو البقاء: شاذوا لمستعمل أجنة، ولهذا قالت عائشة رضي الله تعالى عنها. وكذا جمع من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين: من قرأ به فأجنة الله تعالى أي جعله مجنونا أو أدخله الجنن وهو القبر، وأنت تعلم أنه إذا صح أنه قرأ به الأمير كرم الله تعالى وجهه ومن معه من أكابر الصحابة فليس لأحد رده من حيث الشذوذ في الاستعمال، وعائشة قد حكى عنها الإجازة أيضا.
* (إذ يغشى السدرة ما يغشى) *.
* (إذ يغشى السدرة ما يغشى) * متعلق برآه، وقيل: بما بعد من الجملة المنفية ولا يضر التقدم على * (ما) * النافية للتوسع في الظرف والغشيان بمعنى التغطية والستر، ومنه الغواشى أو بمعنى الاتيان يقال فلان يغشى زيدا كل حين أي يأتيه. والأول هو الأليق بالمقام، وفي إبهام * (ما يغشى) * من التفخيم ما لا يخفى فكأن
الغاشي أمر لا يحيط به نطاق البيان ولا تسعه أردان الأذهان، وصيغة المضارع لحاكية الحالة الماضية استحضارا لصورتها البديعة، وجوز أن يكون للإيذان باستمرار الغشيان بطريق التجدد، وورد في بعض الأخبار تعيين هذا الغاشي، فعن الحسن غشيها نور رب العزة جل شأنه فاستنارت. ونحوه ما روي عن أبي هريرة يغشاها نور الخلاق سبحانه، وعن ابن عباس غشيها رب العزة عز وجل وهو من التشابه، وقال ابن مسعود. ومجاهد. وإبراهيم: يغشاها جراد من ذهب، وروي عن مجاهد أن ذلك تبدل أغصانها لؤلؤا وياقوتا وزبر جدا.
وأخرج عبد بن حميد عن سلمة قال: استأذنت الملائكة الرب تبارك وتعالى أن ينظروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأذن لهم فغشيت الملائكة السدرة لينظروا إليه عليه الصلاة والسلام، وفي حديث " رأيت على كل ورقة من ورقة ملكا قائما يسبح الله تعالى وقيل: يغشاها رفرف من طير خضر، والإبهام على هذا كله على نحو ما تقدم.
* (ما زاغ البصر وما طغى) *.
* (ما زاغ البصر) * أي ما مال بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم عما رآه * (وما طغى) * وما تجاوزه بل أثبته إثباتا صحيحا مستيقنا، وهذا تحقيق للأمر ونفي لريب عنه، أو ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها وما جاوزها إلى ما لم يؤمر برؤيته.
* (لقد رأى من ءاي‍ات ربه الكبرى) *.
* (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) * أي والله لقد رأى الآيات الكبرى من آياته تعالى وعجائبه الملكية والملكوتية ليلة المعراج - فالكبرى - صفة موصوف محذوف مفعول لرأي أقيمت مقامه بعد حذفه وقدر مجموعا ليطابق الواقع، وجوز أن تكون * (الكبرى) * صفة المذكور على معنى، و * (لقدر رأى) * بعضا من الآيات الكبرى، ورجح الأول بأن المقام يقتضي التعظيم والمبالغة فينبغي أن يصرح بأن المرأى الآيات الكبرى وجوز الوصفية المذكورة مع كون من مزيدة، وأنت تعلم أن زيادة من في الإثبات ليس محمعا على جوازه، وجاء في بعض الأخبار تعيين ما رأى عليه الصلاة والسلام، أخرج البخاري. وابن جرير. وابن المنذر. وجماعة عن ابن مسعود أنه قال في
51

الآية رأى رفرفا أخضر من الجنة قد سد الأفق. وعن ابن زيد رأى جبريل عليه السلام في الصورة التي هو بها، والذي ينبغي أن لا يحمل ذلك على الحصر كما لا يخفى فقد رأى عليه الصلاة والسلام آيات كبرى ليلة المعراج لا تحصى ولا تكاد تستقصى. هذا وفي الآيات: أقوال غير ما تقدم، فعن الحسن أن * (شديد القوى) * (النجم: 5) هو الله تعالى، وجمع * (القوى) * للتعظيم ويفسر * (ذو مرة) * عليه بذي حكمة ونحوه مما يليق أن يكون وصفا له عز وجل، وجعل أبو حيان الضميرين في قوله تعالى: * (فاستوى * وهو بالأفق الأعلى) * (النجم: 6، 7) عليه له سبحانه أيضا. وقال: إن ذلك على معني العظمة والقدرة والسلطان، ولعل الحسن يجعل الضمائر في قوله سبحانه: * (ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى) * (النجم: 8 - 10) له عز وجل أيضا، وكذا الضمير المنصوب في قوله تعالى: * (ولقد رآه نزلة أخرى) * (النجم: 13) فقد كان عليه الرحمة يحلف بالله تعالى، لقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه وفسر دنوه تعالى من النبي صلى الله عليه وسلم برفع مكانته صلى الله عليه وسلم عنده سبحانه وتدليله جل وعلا بجذبه بشراشره إلى جانب القدس، ويقال لهذا الجذب: الفناء في الله تعالى عند المتأهلين، وأريد بنزوله سبحانه نوع من دنوه المعنوي جل شأنه.
ومذهب السلف في مثل ذلك إرجاع علمه إلى الله تعالى بعد نفي التشبيه، وجوز أن تكون الضمائر في * (دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى) * (النجم: 8، 9) على ما روي عن الحسن للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد ثم دنا النبي عليه الصلاة والسلام من ربه سبحانه فكان منه عز وجل * (قاب قوسين أو أدنى) * والضمائر في * (فأوحى) * الخ لله تعالى، وقيل: * (إلى عبده) * ولم يقل إليه للتفخيم، وأمر المتشابه قد علم، وذهب غير واحد في وقوله تعالى: * (علمه شديد القوى) * (النجم: 5) إلى قوله سبحانه: * (وهو بالأوفق الأعلى) * (النجم: 7) إلى أنه في أمر الوحى وتلقيه من جبريل عليه السلام على ما سمعت فيما تقدم، وفي قوله تعالى: * (ثم دنا فتدلى) * الخ إلى أنه في أمر العروج إلى الجناب الأقدس ودنوه سبحانه منه صلى الله عليه وسلم ورؤيته عليه السلام إياه جل وعلا فالضمائر في * (دنا، وتدلى) * وكان و * (أوحى) * وكذا الضمير المنصوب في * (رآه) * لله عز وجل، ويشهد لهذا ما في حديث أنس عند البخاري من طريق شريك بن عبد الله " ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله جتى جاء سدرة المنتهى ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى فأوحى إليه فيما أوحى خمسين صلاة " الحديث، فأنه ظاهر فيما ذكر.
واستدل بذلك مثبتو الرؤية كحبر الأمة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره، وادعت عائشة رضي الله تعالى عنها خلاف ذلك، أخرج مسلم عن مسروق قال: " كنت متكئا عند عائشة فقالت: يا أبا عائشة ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله تعالى الفرية قلت ما هن؟ قالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، قال: وكنت متكئا فجلست فقلت: يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ألم يقل الله تعالى: * (ولقد رآه بالأفق المبين) * (التكوير: 23) * (ولقد رآه نزلة أخرى) * (النجم: 13)؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا إنما هو جبريل لم أره على صورته الذي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض " الحديث، وفي رواية ابن مردويه من طريق أخرى عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق " فقالت: أنا أول من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا فقلت: يا رسول الله هل رأيت ربك؟ فقال: إنما رأيت جبريل منهبطا " ولا يخفى أن جواب رسول الله عليه الصلاة والسلام ظاهر في أن الضمير المنصوب في * (رآه) * ليس راجعا إليه تعالى بل إلى جبريل عليه السلام، وشاع أنها تنفى أن يكون صلى الله عليه وسلم رأى ربه سبحانه مطلقا، وتستدل لذلك بقوله تعالى: * (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) * (الأنعام: 103) وقوله
52

سبحانه: * (وما كان لبشر أن يكمله الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا) * (الشورى: 51) وهو ظاهر ما ذكره البخاري في صحيحه في تفسير هذه السورة، وقال بعضهم: إنها إنما تنفي رؤية تدل عليها الآية التي نحن فيها وهي التي احتج بها مسروق.
وحاصل ما روي عنها نفي صحة الاحتجاج بالآية المذكورة على رؤيته عليه الصلاة والسلام ربه سبحانه ببيان أن مرجع الضمير فيها إنما هو جبريل عليه السلام على ما يدل عليه جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، وحمل قوله صلى الله عليه وسلم في جوابها " لا " على أنه نفي للرؤية المخصوصة وهي التي يظن دلالة الآية عليها ويرجع إلى نفي الدلالة ولا يلزم من انتفاء الخاص انتفاء المطلق، والانصاف أن الأخبار ظاهرة في أنها تنفي الرؤية مطلقا، وتستدل عليه بالآيتين السابقتين، وقد أجاب عنهما مثبتو الرؤية بما هو مذكور في محله.
والظاهر أن ابن عباس لم يقل بالرؤية إلآ عن سماع، وقد أخرج عنه أحمد أنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت ربي " ذكره الشيخ محمد الصالحي الشامي تلميد الحافظ السيوطي في الآيات البينات وصححه، وجمع بعضهم بين قولي ابن عباس. وعائشة بأن قول عائشة محمول على نفي رؤيته تعالى في نوره الذي هو نوره المنعوت بأنه لا يقوم له بصر، وقول ابن عباس محمول على ثبوت رؤيته تعالى في نوره الذي لا يذهب بالأبصار بقرينة قوله في جواب غكرمة عن قوله تعالى: * (لا تدركه الأبصار) * (الأنعام: 103) ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، وبه يظهر الجمع بين حديثي أبي ذر، أخرج مسلم من طريق يزيد بن إبراهيم عن قتادة عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: " نوراني أراه " ومن طريق هشام. وهمام كلاهما عن قتادة عن عبد الله قال: قلت لأبي ذر لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته فقال: عن أي شيء كنت تسأله؟ قال: كنت أسأله هل رأيت ربك؟ فقال أبو ذر: قد سألته فقال: " رأيت نورا " فيحمل النور في الحديث الأول على النور القاهر للأبصار بجعل التنوين للنوعية أو للتعظيم، والنور في الثاني على ما لا يقوم له البصر والتنوين للنوعية، وإن صحت رواية الأول كما حكاه أبو عبد الله المازري بلفظ " نوراني " بفتح الراء وكسر النون وتشديد الياء لم يكن اختلاف بين الحديثين ويكون نوراني بمعنى المنسوب إلى النور على خلاف القياس ويكون المنسوب إليه هو نوره الذي هو نوره، والمنسوب هو النور المحمول على الحجاب حمل مواطأة في حديث السبحات في قوله عليه الصلاة والسلام: " حجابه النور " وهو النور المانع من الإحراق الذي يقوم له البصر.
ثم إن القائلين بالرؤية اختلفوا، فمنهم من قال: إنه عليه الصلاة والسلام رأى ربه سبحانه بعينه، وروي ذلك ابن مردويه عن ابن عباس، وهو مروى أيضا عن ابن مسعود. وأبي هريرة. وأحمد بن حنبل، ومنهم من قال: رآه عز وجل بقلبه، وروي ذلك عن أبي ذر، أخرج النسائي عنه أنه قال: " رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بقلبه ولم يره ببصره " وكذا روي عن محمد بن كعب القرظي بل أخرج عبد بن حميد. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عنه أنه قال: قالوا: يا رسول الله رأيت ربك؟ قال: " رأيته بفؤادي مرتين ولم أره بعيني ثم قرأ ما كذب الفؤاد ما رأى " وفي حديث عن ابن عباس يرفعه " فجعل نور بصري في فؤادي فنظرت إليه بفؤادي " وكأن التقدير في الآية على هذا * (ما كذب الفؤاد فيما رأى) * (النجم: 11)، ومنهم من ذهب إلى أن إحدى الرؤيتين كانت بالعين والأخرى الفؤاد وهي رواية عن ابن عباس، أخرج الطبراني. وابن مردويه عنه أنه قال: إن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل مرتين مرة ببصره ومرة بفؤاده؛ ونقل القاضي عياض عن بعض مشايخه أنه توقف أي
53

في الرؤية بالعين، وقال: إنه ليس عليه دليل واضح قال في الكشف. لأن الروايات مصرحة بالرؤية أما أنها بالعين فلا، وعن الإمام أحمد أنه كان يقول: إذا سئل عن الرؤية رآه رآه حتى ينقطع نفسه ولا يزيد على ذلك وكأنه لم يثبت عنده ما ذكرناه، واختلف فيما يقتضيه ظاهر النظم الجليل فجزم صاحب الكشف بأنه ما عليه الأكثرون من أن الدنو والتدلي مقسم ما بين النبي وجبريل صلاة الله تعالى وسلامه عليهما أي وأن المرئى هو جبريل عليه السلام، وإذا صح خبر جوابه عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله تعالى عنها لم يكن لأحد محيص عن القول به، وقال العلامة الطيبي: الذي يقتضيه النظم إجراء الكلام إلى قوله تعالى: * (وهو بالأفق الأعلى) * (النجم: 7) على أمر الوحي وتلقيه من الملك ورفع شبه الخصوم، ومن قوله سبحانه: * (ثم دنا فتدلى) * (النجم: 8) إلى قوله سبحانه: * (من آيات ربه الكبرى) * (النجم: 18) على أمر العروج إلى الجناب الأقدس، ثم قال: ولا يخفى على كل ذي لب إباء مقام * (فأوحى) * الحمل على أن جبريل أوحى إلى عبد الله * (ما أوحى) * إذ لا يذوق منه أرباب القلوب إلا معنى المناغاة بين المتسارين وما يضيق عنه بساط الوهم ولا يطيقه نطاق الفهم، وكلمة * (ثم) * على هذا للتراخي الرتبي والفرق بين الوحيين أن أحدهما وحى بواسطة وتعليم، والآخر بغير واسطة بجهة التكريم فيحل عنه عنده الترقي من مقام * (وما منا إلا له مقام معلوم) * (الصافات: 164) إلى مخدع * (قاب قوسين أو أدنى) * (النجم: 9) وعن جعفر الصادق عليه الرضا أنه قال: لما قرب الحبيب غاية القرب نالته غاية الهيبة فلاطفه الحق سبحانه بغاية اللطف لأنه لا تتحمل غاية الهيبة إلا بغاية اللطف، وذلك قوله تعالى: * (فأوحى إلى عبده ما أوحى) * (النجم: 10) أي كان ما كان وجرى ما جرى قال الحبيب للحبيب ما يقول الحبيب لحبيه وألطف به إلطاف الحبيب بحبيبه وأسر إليه ما يسر الحبيب إلى حبيبه فأخفيا ولم يطلعا على سرهما أحدا وإلى نحو هذا يشير ابن الفارض بقوله: ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا * سر أرق من النسيم إذا سرى
ومعظم الصوفية على هذا فيقولون بدنو الله عز وجل من النبي صلى الله عليه وسلم ودنوه منه سبحانه على الوجه اللائق وكذا يقولون بالرؤية كذلك، وقال بعضهم في قوله تعالى: * (ما زاغ البصر وما طغى) * (النجم: 17) ما زاغ بصر النبي صلى الله عليه وسلم وما التفت إلى الجنة ومزخرفاتها ولا إلى الجحيم وزفراتها بل كان شاخصا إلى الحق * (وما طغى) * عن الصراط المستقيم، وقال أبو حفص السهروردي: ما زاغ البصر حيث لم يتخلف عن البصيرة ولم يتقاصر * (وما طغى) * لم يسبق البصر البصيرة ويتعدى مقامه، وقال سهل بن عبد الله التستري: لم يرجع رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى شاهد نفسه وإلى مشاهدتها وإنما كان مشاهدا
لربه تعالى يشاهد ما يظهر عليه من الصفات التي أوجبت الثبوت في ذلك المحل، وأرجع بعضهم الضمير في قوله تعالى: * (وهو الأفق الأعلى) * (النجم: 7) إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو منتهى وصول اللطائف، وفسر * (سدرة المنتهى) * (النجم: 14) بما يكون منتهى سير السالكين إليه ولا يمكن لهم جاوزته إلا بجذبة من جذبات الحق، وقالوا في * (قاب قوسين) * ما قالوا وأنا أقول برؤيته صلى الله عليه وسلم ربه سبحانه وبدنوه منه سبحانه على الوجه اللائق ذهبت فيما اقتضاه ظاهر النظم الجليل إلى ما قاله صاحب الكشف أم ذهبت فيه إلى ما قاله الطيبي فتأمل والله تعالى الموفق.
* (أفرءيتم الل‍ات والعزى * ومنواة الثالثة الاخرى) *.
* (أفرءيتم الل‍ات والعزى * ومنواة الثالثة الأخرى) * هي أصنام كانت لهم فاللات كما قال قتادة: لثقيف بالطائف، وأنشدوا: وفرت ثقيف إلى (لاتها) * بمقلب الخائب الخاسر
54

وقال أبو عبيدة. وغيره: كان بالكعبة، وقال ابن زيد: كان بنخلة عند سوق عكاظ يعبده قريش، ورجح ابن عطية قول قتادة، وقال أبو حيان: يمكن الجمع بأن يكون المسمى بذلك أصناما فأخبر عن كل صنم بمكانه، والتاء فيه قيل: أصلية وهي لام الكلمة كالباء في باب، وألفه منقلبة فيما يظهر من ياء لأن مادة (ل ي ت) موجودة فإن وجدت مادة (ل وت) جاز أن تكون منقلبة من واو، وقيل: تاء العوض، والأصل لوية بزنة فعلة من لوى لأنهم كانوا يلوون عليه ويعتكفون للعبادة، أو يلتون عليه أي يطوفون فخفف بحذف الياء وأبدلت واوه ألفا، وعوض عن الياء تاءا فصارت كتاء أخت وبنت، ولذا وقف عليها بالتاء، وقرأ ابن عباس. ومجاهد. ومنصور بن المعتمر. وأبو صالح. وطلحة. وأبو الجوزاء. ويعقوب. وابن كثير في رواية بتشديد التاء على أنه اسم فاعل من لت يلت إذا عجن قيل: كان رجل يلت السويق للحاج على حجر فلما مات عبدوا ذلك الحجر إجلالا له وسموه بذلك، وعن مجاهد أنه كان على صخرة في الطائف يصنع حيسا ويطعم من يمر من الناس فلما مات عبدوه، وأخرج ابن أبي حاتم. وابن مردويه عن ابن عباس أنه كان يلت السويق على الحجر فلا يشرب منه أحد إلا سمن فعبدوه، وأخرج الفاكهي عنه أنه لما مات قال لهم عمرو بن حلى: إنه لم يمت ولكنه دخل الصخرة فعبدوها وبنوا عليها بيتا، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال: كان رجل من ثقيف يلت السويق بالزيت فلما توفي جعلوا قبره وثنا، وزعم الناس أنه عامر بن الظرب أحد عدوان، وقيل: غير ذلك * (والعزى) * لغطفان وهي على المشهور سمرة بنخلة - كما قال قتادة - وأصلها تأنيث الأعز، وأخرج النسائي. وابن مردويه عن أبي الطفيل قال: " لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة وكانت بها العزى فأتاها خالد وكانت ثلاث سمرات فقطع السماوات وهدم البيت الذي كان عليها ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: ارجع فإنك لم تصنع شيئا فرجع خالد فلما أبصرته السدنة مضوا وهم يقولون يا عزي يا عزي فأتاها فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال عليه الصلاة والسلام: تلك العزى " وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم بعث إليها خالدا فقطعها فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها داعية ويلها واضعة يدها على رأسها فضربها بالسيف حتى قتلها وهو يقول: يا عز كفرانك لا سبحانك * إني رأيت الله قد أهانك
ورجع فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: تلك العزى ولن تعبد أبدا " وقال ابن زيد: كانت العزى بالطائف، وقال أبو عبيدة: كانت بالكعبة، وأيده في البحر بقول أبي سفيان في بعض الحروب للمسلمين لنا العزى ولا عزى لكم؛ وذكر فيه أنه صنم وجمع بمثل ما تقدم، * (ومناة) * قيل: صخرة كانت لهذيل. وخزاعة، وعن ابن عباس لثقيف، وعن قتادة للأنصار بقديد، وقال أبو عبيدة: كانت بالكعبة أيضا، واستظهر أبو حيان أنها ثلاثتها كانت فيها قال: لأن المخاطب في قوله تعالى: أفرأيتم قريش؟ وفيه بحث، ومناة مقصورة قيل: وزنها فعلة، وسميت بذلك لأن دماء النسائك كانت تمنى عندها أي تراق، وقرأ ابن كثير على ما في البحر مناءة بالمد والهمز كما في قوله: ألا هل أتي تميم بن عبد (مناءة) * على النأى فيما بيننا ابن تميم
ووزنها مفعلة فالألف منقلبة عن واو كما في مقالة، والهمزة أصل وهي مشتقة من النوء كأنهم كانوا
55

يستمطرون عندها الأنوار تبركا بها، والظاهر أن (الثالثة الأخرى) صفتان لمناة وهما على ما قيل: للتأكيد فإن كونها ثالثة وأخرى مغايرة لما تقدمها معلوم غير محتاج للبيان، وقال بعض الأجلة: (الثالثة) للتأكيد، و (الأخرى) للذم بأنها متأخرة في الرتبة وضيعة المقدار، وتعقبه أبو حيان بأن آخر ومؤنثة أخرى لم يوضعا لذم ولا لمدح وإنما يدلان على معنى غير، والحق أن ذلك باعتبار المفهوم الأصلي وهي تدل على ذم السابقتين أيضا قال في الكشف: هي اسم ذم يدل على وضاعة السابقتين بوجه أيضا لأن * (أخرى) * تأنيث آخر تستدعي المشاركة مع السابق فإذا أتى بها لقصد التأخر في الرتبة عملا بمفهومها الأصلي إذ لا يمكن العمل بالمفهوم العرفي لأن السابقتين ليستا ثالثة أيضا استدعت المشاركة قضاءا لحق التفضيل، وكأنه قيل: (الأخرى) في التأخر انتهى وهو حسن، وذكر في نكتة ذم مناة بهذا الذم أن الكفرة كانوا يزعمون أنها أعظم الثلاثة فأكذبهم الله تعالى بذلك.
وقال الإمام: (الأخرى) صفة ذم كأنه قال سبحانه: (ومناة الثالثة) الذليلة وذلك لأن اللات كان على صورة آدمي * (والعزى) * صورة نبات * (ومناة) * صورة صخرة، فالآدمي أشرف من النبات، والنبات أشرف من الجماد - فالجماد متأخر - ومناة جماد فهي في أخريات المراتب، وأنت تعلم أنه لا يتأتى على كل الأقوال، وقيل: (الأخرى) صفة للعزى لأنها ثانية اللات، والثانية يقال لها (الأخرى) وأخرت لموافقة رؤوس الآي، وقال الحسن ابن المفضل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير والعزى الأخرى * (ومناة الثالثة) ولعمري إنه ليس بشيء، والكلام خطاب لعبدة هذه المذكورات وقد كانوا مع عبادتهم لها يقولون: إن الملائكة عليهم السلام وتلك المعبودات الباطلة بنات الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فقيل لهم توبيخا وتبكيتا: * (أفرأيتم) * الخ والهمزة للإنكار والفاء لتوجيهه إلى ترتيب الرؤية على ما ذكر من شؤون الله تعالى المنافية لها غاية المنافاة وهي علمية عند كثير، ومفعولها الثاني على ما اختاره بعضهم محذوف لدلالة الحال عليه، فالمعنى أعقيب ما سمعتم من
آثار كمال عظمة الله عز وجل في ملكه وملكوته وجلاله وجبروته وإحكام قدرته ونفاذ أمره رأيتم هذه الأصنام مع غاية حقارتها بنات الله سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى:
* (ألكم الذكر وله الانثى) *.
* (ألكم الذكر وله الأنثى) * توبيخ مبني على ذلك التوبيخ ومداره تفضيل جانب أنفسهم على جنابه عز وجل حيث جعلوا له تعالى الإناث واختاروا لأنفسهم الذكور، ومناط الأول نفس تلك النسبة، وقيل: المعنى * (أرأيتم) * هذه الأصنام مع حقارتها وذلتها شركاء لله سبحانه مع ما تقدم من عظمته، وقيل: المعنى اخبروني عن آلهتكم هل لها شيء من القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة في الآي السابقة، وقيل: المعنى أظننتم أن هذه الأصنام التي تعبدونها تنفعكم؛ وقيل المعنى * (فرأيتم) * هذه الأصنام إن عبدتموها لا تنفعكم وإن تركتموها لا تضركم، ولا يخفى أن قوله تعالى: * (ألكم) * الخ لا يلتئم مع ما قبله على جميع هذه الأقوال التئامة على القول السابق، وقيل: إن قوله سبحانه: * (ألكم) * الخ في موضع المفعول الثاني للرؤية وخلوها عن العائد إلى المفعول الأول لما أن الأصل أخبروني أن اللات والعزى ومناة ألكم الذكر وله هن أي تلك الأصنام فوضع موضعها الأنثى لمراعاة الفواصل وتحقيق مناط التوبيخ وهو على تكلفه يقتضي اقتصار التوبيخ على ترجيح جانبهم الحقير الذليل على جناب الله تعالى العزيز الجليل من غير تعرض للتوبيخ على نسبة الولد إليه سبحانه، وفي الكشف وجه النظم الجليل أنه بعدما صور أمر الوحي تصويرا تاما وحققه بأن ما يستمعه وحي لا شبهة فيه لأنه رأى الآتي به وعرفه
حق المعرفة قال سبحانه: * (أفتمارونه على ما يرى) * (النجم: 12) على معنى أتلاحونه بعد هذه البيانات على ما يرى من الآيات المحقق لأنه على بينة من ربه سبحانه هاديا مهديا، وأني يبقى للمراء مجال - وقد رآه نزلة أخرى -؟!
56

وعرفه حق المعرفة، ثم قيل: * (لقد رأى من آيات) * الخ تنبيها على أن ما عد منها فهو أيضا نفي للضلالة والغواية وتحقيق للدراية والهداية.
وقوله تعالى: * (أفرأيتم) * عطف على تمارونه وإدخال الهمزة لزيادة الإنكار والفاء لأن القول بأمثاله مسبب عن الطبع والعناد وعدم الإصغاء لداعي الحق، والمعنى أبعد هذا البيان تستمرون على ما أنتم عليه من المراء فترون اللات والعزى ومناة أولادا له تعالى ثم أخسها وسد مسد المفعول الثاني قوله تعالى: * (ألكم) * الخ زيادة للإنكار فعلى هذا ليس * (أفرأيتم) * في معنى الاستخبار وجاز أن يكون في معناه على معنى * (أفتمارونه) * فأخبروني هل لكم الذكر وله الأنثى، والقول مقدر أي فقل لهم أخبروني والمعنى هو كذا تهكما وتنبيها على أنه نتيجة مرائهم وأن من كان هذا معتقده فهو على الضلال الذي لا ضلال بعده ولا يبعد عن أمثاله نسبة الهادين المهديين إلى ما هو فيه من النقص انتهى، وما ذكره أولا أولى وهو ليس بالبعيد عما ذكرنا.
* (تلك إذا قسمة ضيزى) *.
* (تلك) * إشارة إلى القسمة المنفهمة من الجملة الاستفهامية * (إذا قسمة ضيزى) * أي جائرة حيث جعلتم له سبحانه ما تستنكفون منه وبذلك فسر ضيزى ابن عباس. وقتادة، وفي معناه قول سفيان منقوصة، وابن زيد مخالفة، ومجاهد. ومقاتل عوجاء، والحسن غير معتدلة، والظاهر أنه صفة، واختلف في يائه فقيل: منقلبة عن واو، وقيل: أصلية، ووزنه فعلى بضم الفاء كحبلى وأنثى، ثم كسرت لتسلم الياء كما فعل ذلك في بيض جمع أبيض فإن وزنه فعل بضم الفاء كحمر ثم كسرت الفاء لما ذكر ومثله شائع، ولم يجعل وزنه فعلى بالكسر ابتداءا لما ذهب إليه سيبويه من أن فعلى بالكسر لم يجىء عن العرب في الصفات وجعله بعضهم كذلك متمسكا بورود ذلك. فقد حكى ثعلب مشية حيكى، ورجل كيصى، وغيره امرأة عز هي وامرأة سعلى، ورد بأنه من النوادر والحمل على الكثير المطرد في بابه أولى، وأيضا يمكن أن يقال في حيكى وكيصى ما قيل في ضيزى؛ ويمنع ورود عز هي وسعلى فإن المعروف عزهاة وسعلاة، وجوز أن يكون ضيزى فعلى بالكسر ابتداءا على أنه مصدر كذكرى ووصف به مبالغة، ومجىء هذا الوصف في المصادر كما ذكر، والأسماء الجامدة كدفلى وشعرى، والجموع كحجلى كثير، وقرأ ابن كثير ضئزى بالهمز على أنه مصدر وصف به، وجوز أن يكون وصفا وهو مضموم عومل معاملة المعتل لأنه يؤول إليه. وقرأ ابن زيد ضيزى بفتح الضاد وبالياء على أنه كدعوى أو كسكرى، ويقال ضؤزى بالواو والهمز وضم الفاء؛ وقد حكى الكسائي ضأز يضأز ضأزا بالهمز وأنشد الأخفش: فإن تنأ عنها تقتنصك وإن تغب * فسهمك (مضؤز) وأنفك راغم
والأكثر ضاز بلا همز كما في قول امرىء القيس: (ضازت) بنو أسد بحكمهم * إذ يجعلون الرأس كالذنب
وأنشده ابن عباس على تفسيره السابق.
* (إن هى إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وءابآؤكم مآ أنزل الله بها من سلط‍ان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الانفس ولقد جآءهم من ربهم الهدى) *.
* (إن هي) * الضمير للأصنام أي ما الأصنام باعتبار الألوهية التي تدعونها * (إلا أسماء) * محضة ليس فيها شيء ما أصلا من معنى الألوهية؛ وقوله تعالى: * (سميتموها) * صفة للأسماء وضميرها لها لا للأصنام، والمعنى جعلتموها أسماء فإن التسمية نسبة بين الاسم والمسمى فإذا قيست إلى الاسم فمعناها جعله اسما للمسمى وإن قيست إلى المسمى فمعناها جعله مسمى للاسم وإنما اختير ههنا
57

المعنى الأول من غير تعرض للمسمى لتحقيق أن تلك الأصنام التي يسمونها آلهة أسماء مجردة ليس لها مسميات قطعا كما في قوله سبحانه: * (ما تعبدون من دونه إلا أسماء) * (يوسف: 40) الآية لا أن هناك مسميات لكنها لا تستحق التسمية، وقيل: هي للأسماء الثلاثة المذكورة حيث كانوا يطلقونها على تلك الأصنام لاعتقادهم أنها تستحق العكوف على عبادتها والأعزاز والتقرب إليها بالقرابين، وتعقب بأنه لو سلم دلالة الأسماء المذكورة على ثبوت تلك المعاني الخاصة للأصنام فليس في سلبها عنها مزيد فائدة بل إنما هي في سلب الألوهية عنها كما هو زعمهم المشهور في حق جميع الأصنام على وجه برهاني فإن انتفاء الوصف بطريق الأولوية أي ما هي شيء من
الأشياء إلا أسماء خالية عن المسميات وضعتموها * (أنتم وءاباؤكم) * بمقتضى الأهواء الباطلة * (ما أنزل الله بها من سلط‍ان) * برهان يتعلقون به * (إن يتبعون) * أي ما يتبعون فيما ذكر من التسمية والعمل بها * (إلا الظن) * إلا توهم أن ما هم عليه حق توهما باطلا، فالظن هنا مراد به التوهم وشاع استعماله فيه، ويفهم من كلام الراغب أن التوهم من أفراد الظن * (وما تهوى الأنفس) * أي والذي تشتهيه أنفسهم الأمارة بالسوء على أن * (ما) * موصولة وعائدها مقدر - وأل - في الأنفس للعهد، أو عوض عن المضاف إليه، وجوز كون * (ما) * مصدرية وكذا جوز كون - أل - للجنس والنفس من حيث هي إنما تهوى غير الأفضل لأنها مجبولة على حب الملاذ وإنما يسوقها إلى حسن العاقبة العقل، والالتفات في * (يتبعون) * إلى الغيبة للإيذان بأن تعداد قبائحهم اقتضى الإعراض عنهم، وحكاية جناياتهم لغيرهم، وقرأ ابن عباس. وابن مسعود. وابن وثاب. وطلحة. والأعمش وعيسى بن عمر - تتبعون - بتاء الخطاب * (ولقد جاءهم من ربهم الهدى) * حال من ضمير.
* (أم للإنس‍ان ما تمنى) *.
* (يتبعون) * مقررة لبطلان ما هم عليه من اتباع الظن والهوى، والمراد بالهدى الرسول صلى الله عليه وسلم أو القرآن العظيم على أنه بمعنى الهادي أو جعله هدى مبالغة أي ما يتبعون إلا ذلك، والحال لقد جاءهم من ربهم جل شأنه ما ينبغي لهم معه تركه واتباع سبيل الحق.
وحاصله * (يتبعون) * ذلك في حال ينافيه، وجوز أن تكون الجملة معترضة وهي أيضا مؤكدة لبطلان ذلك * (أم للاإنس‍ان ما تمنى) * * (أم) * منقطعة مقدرة - ببل - وهي للانتقال من بيان أن ما هم عليه غير مستند إلا إلى توهمهم وهوى أنفسهم إلى بيان أن ذلك مما لا يجدي نفعا أصلا؛ والهمزة وهي للإنكار والنفي أي بل ليس للإنسان كل ما يتمناه وتشتهيه نفسه، ومفاده قيل: رفع الإيجاب الكلي ومرجعه إلى سالبة جزئية، وإليه يشير قول بعضهم: المراد نفي أن يكون للكفرة ما كانوا يطمعون فيه من شفاعة الآلهة والظفر بالحسنى عند الله تعالى يوم القيامة وما كانوا يشتهونه من نزول القرآن على رجل من إحدى القريتين عظيم ونحو ذلك، ويفهم من كلام بعض المحققين أن المراد السلب الكلي، والمعنى لا شيء مما يتمناه الإنسان مملوكا له مختصا به يتصرف فيه حسب إرادته ويتضمن ذلك نفي أن يكون للكفرة ما ذكر وليس الإنسان خاصا بهم كما قيل، وقوله تعالى:
* (فلله الاخرة والاولى) *.
* (فلله الآخرة والأولى) * تعليل لانتفاء ذلك فإن اختصاص ملك أمور الآخرة والأولى جميعا به تعالى مقتض لانتفاء أن يكون للإنسان أمر من الأمور بل ما شاء الله تعالى له كان وما لم يشأ لم يكن، وقدمت الآخرة اهتماما برد ما هو أهم أطماعهم عندهم من الفوز فيها، ولذا أردف ذلك بقوله تعالى:
* (وكم من ملك فى السم‍اوات لا تغنى شف‍اعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشآء ويرضى) *.
58

* (وكم من ملك في السموات لا تغني شف‍اعتهم شيئا) * وإقناطهم عما طمعوا به من شفاعة الملائكة عليهم السلام موجب لإقناطهم عن شفاعة الأصنام بطريق الأولوية * (وكم) * خبرية مفيدة للتكثير محلها الرفع على الابتداء، والخير الجملة المنفية، وجمع الضمير في شفاعتهم مع إفراد الملك باعتبار المعنى أي وكثير من الملائكة لا تغني شفاعتهم عند الله تعالى شيئا من الإغناء في وقت من الأوقات * (إلا من بعد أن يأذن الله) * لهم في الشفاعة.
* (لمن يشاء) * أن يشفعوا له * (ويرضى) * ويراه سبحانه أهلا للشفاعة من أهل التوحيد والإيمان، وأما من عداهم من أهل الكفر والطغيان فهم من إذن الله تعالى بمعزل. وعنه بألف ألف منزل، وجوز أن يكون المراد إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء من الملائكة بالشفاعة ويراه عز وجل أهلا لها، وأيا ما كان فالمعنى على أنه إذا كان حال الملائكة في باب الشفاعة كما ذكر فما ظنهم بحال الأصنام، والكلام قيل من باب: على لاحب لا يهتدى بمناره
فحاصله لا شفاعة لهم ولا غناء بدون أن يأذن الله سبحانه الخ، وقيل: هو وارد على سبيل الفرض فلا يخالف قوله تعالى: * (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) * (البقرة: 552)، وقرأ زيد بن علي شفاعته بإفراد الشفاعة والضمير، وابن مقسم شفاعاتهم بجمعهما وهو اختيار صاحب الكامل أبي القاسم الهذلي، وأفردت الشفاعة في قراءة الجمهور قال أبو حيان: لأنها مصدر ولأنهم لو شفع جميعهم لواحد لم تغن شفاعتهم عنه شيئا.
* (إن الذين لا يؤمنون بالاخرة ليسمون المل‍ائكة تسمية الانثى) *.
* (إن الذين لا يؤمنون بالأخرة) * وبما فيها من العقاب على ما يتعاطونه من الكفر والمعاصي * (ليسمون المل‍ائكة) * المنزهين عن سمات النقصان على الإطلاق * (تسمية الأنثى) * فإنهم كانوا يقولون الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عما يقولون، * (والملائكة) * في معنى استغراق المفرد فيكون التقدير ليسمون كل واحد من * (الملائكة تسمية الأنثى) * أي يسمونه بنتا لأنهم إذا قالوا ذلك فقد جعلوا كل واحد منهم بنتا، فالكلام على وزان كسانا الأمير حلة أي كسا كل واحد منا حلة، والإفراد لعدم اللبس، ولذا لم يقل تسمية الإناث فلا حاجة إلى تأويل الأنثى بالإناث ولا إلى كون المراد الطائفة الأنثى، وما ذكر أولا قيل: مبني على أن تسمية الأنثى في " النظم الجليل " ليس نصبا على التشبيه وإلا فلا حاجة إليه أيضا، وفي تعليق التسمية بعدم الإيمان بالآخرة إشعار بأنها في الشناعة والفظاعة واستتباع العقوبة في الآخرة بحيث لا يجترىء عليها إلا من لا يؤمن بها رأسا، وقوله تعالى:
* (وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغنى من الحق شيئا) *.
* (وما لهم به من علم) * حال من فاعل * (يسمون) * وضمير به للمذكور من التسمية وبهذا الاعتبار ذكر، أو باعتبار القول أي يسمونهم إناثا، والحال أنهم لا علم لهم بما يقولون أصلا، وقرأ أبي بها أي بالتسمية، أو بالملائكة * (إن يتبعون) * أي ما يتبعون في ذلك * (إلا الظن) * أي التوهم الباطل * (وإن الظن) * أي
جنس الظن كما يلوح به الإظهار في موقع الإضمار، وقيل: الإظهار ليستقل الكلام استقلال المثل.
* (لا يغني من الحق شيئا) * من الإغناء فإن الحق الذي هو عبارة عن حقيقة الشيء وما هو عليه إنما يدرك إدراكا معتدا به إذا كان عن يقين لا عن ظن وتوهم فلا يعتد بالظن في شأن المعارف الحقيقية أعني المطالب الاعتقادية التي يلزم فيها الجزم ولو لم يكن عن دليل، وإنما يعتد به في العمليات وما يؤدى إليها.
وفسر بعضهم الحق بالله عز وجل لقوله سبحانه: * (ذلك بأن الله هو الحق) * (الحج: 6)، واستدل بالآية من لم يعتبر
59

التقليد في الاعتقاديات - وفيه بحث - والظاهرية على إبطاله مطلقا، وإبطال القياس ورده على أتم وجه في الأصول، وما أخرج ابن أبي حاتم عن أيوب قال: قال عمر بن الخطاب: احذروا هذا الرأي على الدين فإنما كان الرأي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبا لأن الله تعالى كان يريه وإنما هو منا تكلف وظن * (وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) * هو أحد أدلتهم على إبطال القياس أيضا، وقد حكى الآمدي في الأحكام نحوه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فقال: قال ابن عمر: اتهموا الرأي عن الدين فإن الرأي منا تكلف وظن * (وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) * وأجاب عنه بأن غايته الدلالة على احتمال الخطأ فيه وليس فيه ما يدل على إبطاله، وأن المراد بقوله: * (إن الظن) * الخ استعمال الظن في مواضع اليقين وليس المراد به إبطال الظن بدليل صحة العمل بظواهر الكتاب والسنة، ويقال نحو هذا في كلام عمر رضي الله تعالى عنه، وقد ذكر جملة من الآثار استدل بها المبطل على ما زعمه وردها كلها فمن أراد ذلك فليراجعه.
* (فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحيواة الدنيا) *.
* (فأعرض عن من تولى عن ذكرنا) * أي عنهم ووضع الموصول موضع ضميرهم للتوسل به إلى وصفهم بما في حيز صلته من الأوصاف القبيحة، وتعليل الحكم بها أي فأعرض عمن أعرض عن ذكرنا المفيد للعلم الحق وهو القرآن العظيم. المنطوي على بيان الاعتقادات الحقة. المشتمل على علوم الأولين والآخرين. المذكر للآخرة وما فيها من الأمور المرغوب فيها والمرهوب عنها، والمراد بالإعراض عنه ترك الأخذ بما فيه وعدم الاعتناء به، وقيل: المراد بالذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وبالإعراض عنه ترك الأخذ بما جاء به، وقيل: المراد به الإيمان، وقيل: هو على ظاهره والإعراض عنه كناية عن الغفلة عنه عز وجل * (ولم يرد إلا الحيواة الدنيا) * راضيا بها قاصرا نظره عليها جاهدا فيما يصلحها كالنضر بن الحرث. والوليد بن المغيرة، والمراد من الأمر المذكور النهي عن المبالغة في الحرص على هداهم كأنه قيل: لا تبالغ في الحرص على هدى من تولى عن ذكرنا وانهمك في الدنيا بحيث كانت منتهى همته وقصارى سعيه، وقوله تعالى:
* (ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى) *.
* (ذلك) * أي أمر الحياة الدنيا المفهوم من الكلام ولذا ذكر اسم الإشارة، وقيل: أي ما أداهم إلى ما هم فيه من التولي وقصر الإرادة على الحياة الدنيا، وقيل: ذلك إشارة إلى الظن الذي يتبعونه، وقيل: إلى جعلهم الملائكة بنات الله سبحانه وكلا القولين كما ترى * (مبلغهم من العلم) * أي منتهى علمهم لا علم لهم فوقه اعتراض مقرر لمضمون ما قبلها من قصر الإرادة على الحياة الدنيا.
والمراد بالعلم مطلق الإدراك المنتظم للظن الفاسد، وضمير * (مبلغهم) * - لمن - وجمع باعتبار معناه كما أن إفراده قبل باعتبار لفظه، وقوله سبحانه:
* (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى) * تعليل للأمر بالإعراض، وتكرير قوله تعالى: * (هو أعلم) * لزيادة التقرير والإيذان بكمال تباين المعلومين، والمراد * (بمن ضل) * من أصر على الضلال ولم يرجع إلى الهدى أصلا، و * (بمن اهتدى) * من شأنه الاهتداء في الجملة، أي هو جل شأنه المبالغ في العلم بمن لا يرعوي عن الضلال أبدا، وبمن يقبل الاهتداء في الجملة لا غيره سبحانه فلا تتعب نفسك في دعوتهم ولا تبالغ في الحرص عليها فإنهم من القبيل الأول، وقوله تعالى:
* (ولله ما فى السم‍اوات وما فى الارض ليجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى) *.
* (ولله ما في السموات وما في الأرض) * أي له ذلك على الوجه الأتم أي خلقا وملكا لا لغيره عز وجل أصلا لا استقلالا ولا اشتراكا، ويشعر بفعل يتعلق به
60

قوله تعالى: * (ليجزي الذين أس‍ائوا بما عملوا) * أي خلق ما فيهما ليجزي الضالين بعقاب ما عملوا من الضلال الذي عبر عنه بالإساءة بيانا لحاله؛ أو بمثل ما عملوا، أو بسبب ما عملوا على أن الباء صلة الجزاء بتقدير مضاف أو للسببية بلا تقدير * (ويجزي الذين أحسنوا) * أي اهتدوا * (بالحسنى) * أي بالمثوبة الحسنى التي هي الجنة، أو بأحسن من أعمالهم أو بسبب الأعمال الحسنى تكميل لما قبل لأنه سبحانه لما أمره عليه الصلاة والسلام بالإعراض نفي توهم أن ذلك لأنهم يتركون سدى، وفي العدول عن ضمير ربك إلى الاسم الجامع ما ينبىء عن زيادة القدرة وأن الكلام مسوق لوعيد المعرضين وأن تسوية هذا الملك العظيم لهذه الحكمة فلا بد من ضال ومهتد، ومن أن يلقى كل ما يستحقه، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم يلقى الحسنى جزاءا لتبليغه وهم يلقون السوأى جزاءا لتكذيبهم، وكرر فعل الجزاء لإبراز كمال الاعتناء به والتنبيه على تباين الجزاءين.
وجوز أن يكون معنى * (فأعرض) * الخ لا تقابلهم بصنيعهم وكلهم إلى ربك أنه أعلم بك وبهم فيجزى كلا ما يستحقه، ولا يخفى ما في العدول عن الضميرين في * (بمن ضل) * * (وبمن اهتدى) * وجعل قوله تعالى: * (ليجزى) * على هذا متعلقا بما يدل عليه قوله تعالى: * (إن ربك هو أعلم) * الخ أي ميز الضال عن المهتدي وحفظ أحوالهم * (ليجزى) * الخ، وقوله سبحانه: * (ولله ملك السموات) * جملة معترضة تؤكد حديث أنهم يجزون البتة ولا يهملون كأنه قيل: هو سبحانه أعلم بهم وهم تحت ملكه وقدرته، وجوز على ذلك المعنى أن يتعلق * (ليجزى) * بقوله تعالى: * (ولله ما في السموات) * كما تقدم على تأكيد أمر الوعيد، أي - هو أعلم بهم - وإنما سوي هذا الملك للجزاء، ورجح بعضهم ذلك المعنى بالوجهين المذكورين على ما مر، وجوز في جملة * (لله ما في السموات) * كونها حالا من
فاعل أعلم سواء كان بمعنى عالم أولا، وفي * (ليجزى) * تعلقه - بضل. واهتدى - على أن اللام للعاقبة أي هو تعالى * (أعلم بمن ضل) * ليؤول أمره إلى أن يجزيه الله تعالى بعمله، و * (بمن اهتدى) * ليؤول أمره إلى أن يجزيه بالحسنى، ولا يخفى بعده، وأبعد منه بمراحل تعلقه بقوله سبحانه: * (لا تغني شفاعتهم) * كما ذكره مكي، وقرأ زيد بن علي - لنجزى - ونجزى بالنون فيهما * (الذين يجتنبون كب‍ائر الاثم) * بدل من الموصول الثاني وصيغة الاستقبال في صلته للدلالة على تجدد الاجتناب واستمراره. أو بيان. أو نعت. أو منصوب على المدح. أو مرفوع على أنه خبر محذوف؛ و * (الاثم) * الفعل المبطىء عن الثواب وهو الذنب. وكبائره ما يكبر عقابه، وقرأ حمزة. والكسائي. وخلف - كبير الاثم - على إرادة الجنس، أو الشرك * (والفواحش) * ما عظم قبحه من الكبائر فعطفه على ما تقدم من عطف الخاص على العام، وقيل: الفواحش والكبائر مترادفان * (إلا اللمم) * ما صغر من الذنوب وأصله ما قل قدره، ومنه لمة الشعر لأنها دون الوفرة، وفسره أبو سعيد الخدري بالنظرة. والغمزة. والقبلة وهو من باب التمثيل، وقيل: معناه الدنو من الشيء دون ارتكاب له من ألممت بكذا أي نزلت به وقاربته من غير مواقعة - وعليه قول الرماني - هو الهم بالذنب وحديث النفس دون أن يواقع، وقول ابن المسيب: ما خطر على القلب، وعن ابن عباس. وابن زيد هو ما ألموا به من الشرك والمعاصي في الجاهلية قبل الإسلام، والآية نزلت لقول الكفار للمسلمين قد كنتم بالأمس تعملون أعمالنا فهي مثل قوله تعالى: * (وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف) * (النساء: 23) على ما في " البحر "، وقيل: هو مطلق الذنب.
61

وفي رواية عن ابن عباس أنه ما يلم به المرء في الحين من الذنوب ثم يتوب، والمعظم على تفسيره بالصغائر والاستثناء منقطع، وقيل: إنه لا استثناء فيه أصلا، و * (إلا) * صفة بمعنى غير إما لجعل المضاف إلى المعرف باللام الجنسية أعني كبائر الاثم في حكم النكرة، أو لأن غير و * (إلا) * التي بمعناها قد يتعرفان بالإضافة كما في * (غير المغضوب) * (الفاتحة: 7) وتعقبه بعضهم بأن شرط جواز وقوع * (إلا) * صفة كونها تابعة لجمع منكر غير محصور ولم يوجد هنا، ورد بأن هذا ما ذهب إليه ابن الحاجب، وسيبويه يرى جواز وقوعها صفة مع جواز الاستثناء فهو لا يشترط ذلك، وتبعه أكثر المتأخرين، نعم كونها هنا صفة خلاف الظاهر ولا داعي إلى ارتكابه، والآية عند الأكثرين دليل على أن المعاصي منها كبائر ومنها صغائر وأنكر جماعة من الأئمة هذا الانقسام وقالوا: سائر المعاصي كبائر، منهم الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني، والقاضي أبو بكر البلاقلاني، وإمام الحرمين في " الإرشاد "، وتقي الدين السبكي. وابن القشيري في المرشد بل حكاه ابن فورك عن الأشاعرة. واختاره في تفسيره فقال معاصي الله تعالى كلها عندنا كبائر وإنما يقال لبعضها صغيرة وكبيرة بالإضافة، وحكى الانقسام عند المعتزلة، وقال: إنه ليس بصحيح، وقال القاضي عبد الوهاب: لا يمكن أن يقال في معصية إنها صغيرة إلا على معنى أنها تصغر باجتناب الكبائر ويوافق ذلك ما رواه الطبراني عن ابن عباس لكنه منقطع أنه ذكر عنده الكبائر فقال: كل ما نهى الله تعالى عنه فهو كبيرة، وفي رواية كل شيء عصى الله تعالى فيه فهو كبيرة، والجمهور على الانقسام قيل: ولا خلاف في المعنى، وإنما الخلاف في التسمية، والإطلاق لإجماع الكل على أن من المعاصي ما يقدح في العدالة ومنها ما لا يقدح فيها وإنما الأولون فروا من التسمية فكرهوا تسمية معصية الله تعالى صغيرة نظرا إلى عظمة الله عز وجل وشدة عقابه سبحانه وإجلالا له جل شأنه عن تسمية معصيته صغيرة لأنها بالنظر إلى باهر عظمته كبيرة أي كبيرة، ولم ينظر الجمهور إلى ذلك لأنه معلوم؛ وقسموها إلى ما ذكر لظواهر الآيات والأحاديث ولذلك قال الغزالي: لا يليق إنكار الفرق بين الكبائر والصغائر وقد عرفنا من مدارك الشرع، ثم القائلون بالفرق اختلفوا في حد الكبيرة فقيل: هي ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة وهي عبارة كثير من الفقهاء، وقيل: كل معصية أوجبت الحد - وبه قال البغوي. وغيره - والأول أوفق لما ذكروه في تفصيل الكبائر إذ عدوا الغيبة والنميمة والعقوق وغير ذلك منها ولا حد فيه فهو أصح من الثاني وإن قال الرافعي: إنهم إلى ترجيحه أميل، وقد يقال: يرد على الأول أيضا أنهم عدوا من الكبائر ما لم يرد فيه بخصوصه وعيد شديد. / جسم]
وقيل: هي كل ما نص الكتاب على تحريمه أو وجب في جنسه حد وترك فريضة تجب فورا والكذب في الشهادة والرواية واليمين، زاد الهروي. وشريح وكل قول خالف الإجماع العام، وقيل: كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة وهو المحكي عن إمام الحرمين، ورجحه جمع لما فيه من حسن الضبط، وتعقب بأنه بظاهره يتناول صغيرة الخسة، والإمام - كما قال الأذرعي - إنما ضبط به ما يبطل العدالة من المعاصي الشاملة لذلك لا الكبيرة فقط، نعم هو أشمل من التعريفين الأولين، وقيل: هي ما أوجب الحد أو توجه إليه الوعيد ذكره الماوردي في فتاويه، وقيل: كل محرم لعينه منهي عنه لمعنى في نفسه فإن فعله على وجه يجمع وجهين أو وجوها من التحريم كان فاحشة، فالزنا كبيرة وبحليلة الجار فاحشة والصغيرة تعاطي ما تنقص رتبته عن رتبته المنصوص عليه. أو تعاطيه على وجه دون المنصوص عليه فإن تعاطاه على وجه يجمع وجهين أو أكثر من التحريم
62

كان كبيرة. فالقبلة. واللمس. والمفاخذة صغيرة، ومع حليلة الجار كبيرة كذا نقله ابن الرفعة وغيره عن القاضي حسين عن الحليمي، وقيل: هي كل فعل نص الكتاب على تحريمه أي بلفظ التحريم وهو أربعة أشياء، أكل الميتة، ولحم الخنزير، ومال اليتيم، والفرار من الزحف ورد بمنع الحصر، وقيل: إنها كل ذنب قرن به حد، أو وعيد. أو لعن بنص كتاب. أو سنة. أو علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به ذلك. أو أكثر. أو أشعر بتهاون مرتكبه في دينه إشعارا صغر الكبائر المنصوص عليها بذلك كما لو قتل من يعتقده معصوما فظهر أنه مستحق لدمه أو وطىء امرأة ظانا أنه زان بها فإذا هي زوجته أو أمته، وإليه ذهب شيخ الإسلام البارزي وقال: هو التحقيق؛ وقيل: غير ذلك، واعتمد الواحدي أنها لا حد لها يحصرها فقال: الصحيح أن الكبيرة ليس لها حد يعرفها العباد به وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها ولكن الله تعالى أخفى ذلك عنهم ليجتهدوا في اجتناب المنهي عنه رجاء أن تجتنب الكبائر، ونظير ذلك إخفاء الاسم الأعظم. والصلاة الوسطى. وليلة القدر. وساعة الإجابة، وقال العلامة ابن حجر الهيتمي: كل ما ذكر من الحدود إنما قصد به التقريب فقط وإلا فهي ليست بحدود جامعة، وكيف يمكن ضبط ما لا مطمع في ضبطه؟
وذهب جمع إلى تعريفها بالعد، فعن ابن عباس أنها ما ذكره الله تعالى في أول سورة النساء إلى قوله سبحانه: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) * (النساء: 31).
وقيل: هي سبع وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه. وعطاء. وعبيد بن عمير، واستدل له بما في الصحيحين " اجتنبوا السبع الموبقات. الإشراك بالله تعالى. والسحر. وقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق. وأكل مال اليتيم. وأكل الربا. والتولي يوم الزحف. وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " وقيل: خمس عشرة، وقيل: أربع عشرة، وقيل: أربع، وعن ابن مسعود ثلاث، وفي رواية أخرى عشرة، وقال شيخ الإسلام العلائي: المنصوص عليه في الأحاديث أنه كبيرة خمس وعشرون، وتعقبه ابن حجر بزيادة على ذلك، وقال أبو طالب المكي: هي سبع عشرة أربع في القلب. الشرك. والإصرار على المعصية. والقنوط. والأمن من المكر، وأربع في اللسان. القذف. وشهادة الزور. والسحر، وهو كل كلام يغير الإنسان أو شيئا من أعضائه. واليمين الغموس وهي التي تبطل بها حقا أو تثبت بها باطلا، وثلاث في البطن. أكل مال اليتيم ظلما. وأكل الربا. وشرب كل مسكر، واثنان في الفرج. الزنا. واللواط، واثنتان في اليد القتل. والسرقة، وواحدة في الرجل. الفرار من الزحف، وواحدة في جميع الجسد عقوق الوالدين، وفيه ما فيه، وروى الطبراني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رجلا قال له: كم الكبائر سبع هي؟ فقال هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار، وقد ألف فيها غير واحد من العلماء، وفي كتاب الزواجر تأليف العلامة ابن حجر ما فيه كفاية فليراجع، والله تعالى الموفق وإنا لنستغفره ونتوب إليه * (إن ربك واسع المغفرة) * حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر، فالجملة تعليل لاستثناء اللمم، وتنبيه على أن إخراجه عن حكم المؤاخذة ليس لخلوه عن الذنب في نفسه بل لسعة المغفرة الربانية، وجوز أن يكون المعنى له سبحانه أن يغفر لمن يشاء من المؤمنين ما يشاء من الذنوب صغيرها وكبيرها، ولعل تعقيب وعيد المسيئين ووعد المحسنين بذلك حينئذ لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته تعالى ولا يتوهم وجوب العقاب عليه عز وجل، وزعم بعض جواز كون الموصول مبتدأ وهذه الجملة خبره والرابط محذوف أي * (واسع المغفرة) * لهم ليس بشيء كما لا يخفى.
* (هو أعلم بكم) * أي بأحوالكم من كل أحد * (إذ أنشأكم) * في ضمن إنشاء أبيكم آدم عليه السلام.
63

* (من الأرض) * إنشاءا إجماليا حسبما مر تحقيقه، وقيل: إنشاؤهم من الأرض باعتبار أن المني الذي يتكونون منه من الأغذية التي منشؤها من الأرض، وأيا ما كان - فإذا - ظرف - لأعلم - وهو على بابه من التفضيل.
وقال مكي: هو بمعنى عالم إذ تعلق علمه تعالى بأحوالهم في ذلك الوقت لا مشارك له تعالى فيه، وتعقب بأنه قد يتعلق علم من أطلعه الله تعالى من الملائكة عليه، وقيل: * (إذ) * منصوب بمحذوف، والتقدير اذكروا * (إذ أنشأكم) * وهو كما ترى * (وإذ أنتم أجنة) * ووقت كونكم أجنة * (في بطون أمهاتكم) * على أطوار مختلفة مترتبة لا يخفى عليه سبحانه حال من أحوالكم وعمل من أعمالكم التي من جملتها اللمم الذي لولا المغفرة الواسعة لأصابكم وباله، فالجملة استئناف مقرر لما قبلها وذكر * (في بطون أمهاتكم) * مع أن الجنين ما كان في البطن للإشارة إلى الأطوار كما أشرنا إليه، وقيل: لتأكيد شأن العلم لما أن بطن الأم في غاية الظلمة، والفاء في قوله تعالى: * (فلا تزكوا أنفسكم) * لترتيب النهي عن تزكية النفس على ما سبق من أن عدم المؤاخذة باللمم ليس لعدم كونه من قبيل الذنوب بل لمحض مغفرته تعالى مع علمه سبحانه بصدوره عنكم أي إذا كان الأمر كذلك فلا تثنوا على أنفسكم بالطهارة عن المعاصي بالكلية أو بزكاء العمل وزيادة الخير بل اشكروا الله تعالى على فضله ومغفرته جل شأنه * (هو أعلم بمن اتقى) * المعاصي جميعا وهو استئناف مقرر للنهي ومشعر بأن فيهم من يتقيها بأسرها كذا في " الإرشاد "، وقيل: اتقى الشرك، وقيل: اتقى شيئا من المعاصي، والآية نزلت على ما قيل: في قوم من المؤمنين كانوا يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون صلاتنا وصيامنا وحجنا وهذا مذموم منهي عنه إذا كان بطريق الإعجاب، أو الرياء أما إذا لم يكن كذلك فلا بأس به ولا يعد فاعله من المزكين أنفسهم، ولذا قيل: المسرة بالطاعة طاعة وذكرها شكر، ولا فرق في التزكية بين أن تكون عبارة وأن تكون إشارة وعد منها التسمية بنحو برة، أخرج أحمد. ومسلم. وأبو داود. وابن مردويه. وابن سعد عن زينب بنت أبي سلمة أنها سميت برة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم سموها زينب " وكذا غير عليه الصلاة والسلام إلى ذلك اسم برة بنت جحش، وتغيير مثل ذلك مستحب وكذا ما يوقع نفيه بعض الناس في شيء من الطيرة كبركة ويسار، والنهي عن التسمية به للتنزيه وقوله صلى الله عليه وسلم كما روى جابر: " إن عشت إن شاء الله أنهى أمتي أن يسموا نافعا وأفلح وبركة " محمول كما قال النووي على إرادة أنهى نهي تحريم، والظاهر أن كراهة ما يشعر بالتزكية مخصوصة بما إذا كان الإشعار قويا كما إذا كان الاسم قبل النقل ظاهر الدلالة على التزكية مستعملا فيها فلا كراهة في التسمية بما يشعر بالمدح إذا لم يكن كذلك كسعيد وحسن، وقد كان لعمر رضي الله تعالى عنه ابنة يقال لها: عاصية فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جميلة كذا قيل، والمقام بعد لا يخلو عن بحث فليراجع، وقيل: معنى - لا تزكوا أنفسكم - لا يزكى بعضكم بعضا، والمراد النهي عن تزكية السمعة أو المدح للدنيا، أو تزكية على سبيل القطع، وأما التزكية لإثبات الحقوق ونحوه فهي جائزة، وذهب بعضهم إلى أن الآية نزلت في اليهود.
أخرج الواحدي. وابن المنذر. وغيرهما عن ثابت بن الحرث الأنصاري قال: " كانت اليهود إذا هلك لهم صبي صغير قالوا: هو صديق فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كذبت يهود ما من نسمة يخلقها الله تعالى في بطن أمها إلا يعلم سعادتها أو شقاوتها " فأنزل الله سبحانه عند ذلك * (هو أعلم بكم) * الآية.
* (أفرأيت الذى تولى) *.
64

* (أفرءيت الذي تولى) * أي عن اتباع الحق والثبات عليه.
* (وأعطى قليلا وأكدى) *.
* (وأعطى قليلا) * أي شيئا قليلا، أو إعطاءا قليلا * (وأكدى) * أي قطع العطاء من قولهم حفر فأكدى إذا بلغ إلى كديه أي صلابة في الأرض فلم يمكنه الحفر،
قال مجاهد. وابن زيد: نزلت في الوليد بن المغيرة كان قد سمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس إليه ووعظه فقرب من الإسلام وطمع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إنه عاتبه رجل من المشركين، وقال له: أتترك ملة آبائك؟! ارجع إلى دينك وأثبت عليه وأنا أتحمل عنك كل شيء تخافه في الآخرة لكن على أن تعطيني كذا وكذا من المال فوافقه الوليد على ذلك ورجع عما هم به من الإسلام وصل ضلالا بعيدا، وأعطى بعض المال لذلك الرجل ثم أمسك عنه وشح، وقال الضحاك: هو النضر بن الحرث أعطى خمس قلائص لفقير من المهاجرين حتى ارتد عن دينه وضمن له أن يحمل عنه مأثم رجوعه، وقال السدي: نزلت في العاص بن وائل السهمي كان يوافق النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور، وقال محمد بن كعب: في أبي جهل قال: والله ما يأمر محمد إلا بمكارم الأخلاق، والأول هو الأشهر الأنسب لما بعده من قوله سبحانه:
* (أعنده علم الغيب فهو يرى) *.
* (أعنده علم الغيب) * إلى آخره، وأما ما في " الكشاف " من أنها نزلت في عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه كان يعطي ماله في الخير فقال له عبد الله بن سعيد بن أبي سرح: يوشك أن لا يبقى لك شيء فقال عثمان: إن لي ذنوبا وخطايا وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه فقال عبد الله: أعطني ناقتك برحلها وأنا أحمل عنك ذنوبك كلها فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن العطاء فباطل - كما قال ابن عطية - ولا أصل له، وعثمان رضي الله تعالى عنه منزه عن مثل ذلك، و * (أفرأيت) * هنا على ما في " البحر " بمعنى أخبرني ومفعولها الأول الموصول، والثاني: الجملة الاستفهامية، والفاء في قوله تعالى: * (فهو يرى) * للتسبب عما قبله أي أعنده علم بالأمور الغيبية فهو بسبب ذلك يعلم أن صاحبه يتحمل عنه يوم القيامة ما يخافه، وقيل: يرى أن ما سمعه من القرآن باطل، وقال الكلبي: المعنى أأنزل عليه قرآن فرأى أن ما صنعه حقه، وأيا ما كان - فيرى - من الرؤية القلبية، وجوز أن تكون من الرؤية البصرية أي فهو يبصر ما خفى عن غيره مما هو غيب.
* (أم لم ينبأ بما فى صحف موسى) *.
* (أم لم ينبأ) * أي بل ألم يخبر.
* (بما في صحف موسى) * وهي التوراة.
* (وإبراهيم الذى وفى) *.
* (وإبراهيم) * وبما في صحف إبراهيم التي نزلت عليه * (الذي وفى) * أي وفر وأتم ما أمر به، أو بالغ في الوفاء بما عاهد عليه الله تعالى، وقال ابن عباس: وفي بسهام الإسلام كلها ولم يوفها أحد غيره وهي ثلاثون سهما منها عشرة في براءة * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) * الآيات، وعشرة في (الأحزاب: 35) * (إن المسلمين والمسلمات) * الآيات، وست في - قد أفلح المؤمنون - الآيات التي في أولها، وأربع في سأل سائل * (والذين يصدقون بيوم الدين) * (المعارج: 26) الآيات، وفي حديث ضعيف عن أبي أمامة يرفعه، وفي بأربع ركعات كان يصليهن في كل يوم، وفي رواية يصليهن أول النهار.
وأخرج أحمد من حديث معاذ بنأنس مرفوعا أيضا * (ألا أخبركم لم سمى الله تعالى إبراهيم خليله الذي وفي أنه كان يقول كلما أصبح وأمسى سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) * الآية وقال عكرمة: * (وفي) * بتبليغ هذه العشرة أن لا تزر إلى آخره * (وقيل، وقيل:) * والأولى العموم وهو مروي عن الحسن قال: ما أمره الله تعالى بشيء إلا وفى به وتخصيصه عليه السلام بهذا الوصف لاحتماله ما لا يحتمله غيره، وفي قصة الذبح ما فيه كفاية
65

وخص هذان النبيان عليهما السلام بالذكر قيل: لأنه فيما بين نوح. وإبراهيم كانوا يأخذون الرجل بابنه وبأبيه وعمه وخاله، والزوج بامرأته، والعبد بسيده فأول من خالفهم إبراهيم وقرر ذلك موسى ولم يأت قبله مقرر مثله عليه السلام، وتقديمه لما أن صحفه أشهر عندهم وأكثر، وقرأ أبو أمامة الباهلي. وسعيد بن جبير. وأبو مالك الغفاري. وابن السميقع. وزيد بن علي * (وفى) * بتخفيف الفاء.
* (ألا تزر وازرة وزر أخرى) *.
* (ألا تزر وازرة وزر أخرى) * أي أنه لا تحمل نفس من شأنها الحمل حمل نفس أخرى على أن * (أن) * هي المخففة من الثقيلة وضمير الشأن الذي هو اسمها محذوف، والجملة المنفية خبرها ومحل الجملة الجر على أنها بدل مما في صحف موسى، أو الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والاستئناف بياني كأنه قيل: ما في صحفهما؟ فقيل: هو * (أن لا تزر) * الخ، والمعنى أنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره ليتخلص الثاني عن عقابه، ولا يقدح في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " فإن ذلك وزر الإضلال الذي هو وزره لا وزر غيره، وقوله تعالى:
* (وأن ليس للإنس‍ان إلا ما سعى) *.
* (وأن ليس للإنس‍ان إلا ما سعى) * بيان لعدم إثابة الإنسان بعمل غير إثر بيان عدم مؤاخذته بذنب غيره * (وأن) * كأختها السابقة، و * (ما) * مصدرية وجوز كونها موصولة أي ليس له إلا سعيه، أو إلا الذي سعى به وفعله، واستشكل بأنه وردت أخبار صحيحة بنفع الصدقة عن الميت، منها ما أخرجه مسلم. والبخاري. وأبو داود. والنسائي عن عائشة " أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أمي افتلتت نفسها وأظنها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم " وكذا بنفع الحج.
أخرج البخاري. ومسلم. والنسائي عن ابن عباس قال: " أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أختي نذرت لأن تحج وأنها ماتت فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم قال: فحق الله أحق بالقضاء " وأجيب بأن الغير لما نوى ذلك الفعل له صار بمنزلة الوكيل عنه القائم مقامه شرعا
فكأنه بسعيه، وهذا لا يتأتى إلا بطريق عموم المجاز، أو الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يجوزه، وأجيب أيضا بأن سعي غيره لما لم ينفعه إلا مبنيا على سعي نفسه من الايمان فكأنه سعيه، ودل على بنائه على ذلك ما أخرجه أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة وأن هشاما ابنه نحر حصته خمسين وأن عمرا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: " أما أبوك فلو كان أقر بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك " وأجيب بهذا عما قيل: إن تضعيف الثواب الوارد في الآيات ينافي أيضا القصر على سعيه وحده، وأنت تعلم ما في الجواب من النظر، وقال بعض أجلة المحققين إنه ورد في الكتاب والسنة ما هو قطعي في حصول الانتفاع بعمل الغير وهو ينافي ظاهر الآية فتقيد بما لا يهبه العامل، وسأل والي خراسان عبد الله بن طاهر الحسين بن الفضل عن هذه الآية مع قوله تعالى: * (والله يضاعف لمن يشاء) * (البقرة: 261) فقال: ليس له بالعدل إلا ما سعى وله بالفضل ما شاء الله تعالى فقبل عبد الله رأس الحسين، وقال عكرمة: كان هذا الحكم في قوم إبراهيم. وموسى عليهما السلام، وأما هده الأمة فللإنسان منها سعي غيره يدل عليه حديث سعد بن عبادة " هل لأمي إذا تطوعت عنها؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم " وقال الربيع: الإنسان هنا الكافر، وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره، وعن ابن عباس أن الآية منسوخة بقوله تعالى: * (والذين آمنوا واتبعتهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم) * (الطور: 21) وقد أخرج عنه ما يشعر به أبو داود
66

والنحاس كلاهما في الناسخ، وابن جرير. وابن المنذر. وابن مردويه، وتعقب أبو حيان رواية النسخ بأنها لا تصح لأن الآية خبر لم تتضمن تكليفا ولا نسخ في الأخبار. وما يتوهم جوابا من أنه تعالى أخبر في شريعة موسى. وإبراهيم عليهما السلام أن لا يجعل الثواب لغير العامل ثم جعله لمن بعدهم من أهل شريعتنا مرجعه إلى تقييد الأخبار لا إلى النسخ إذ حقيقته أن يراد المعنى، ثم من بعد ذلك ترتفع إرادته، وهذا تخصيص الإرادة بالنسبة إلى أهل الشرائع فافهمه، وقيل: اللام بمعنى على أي ليس على الإنسان غير سعيه، وهو بعيد من ظاهرها ومن سياق الآية أيضا فإنها وعظ للذي تولى وأعطى قليلا وأكدى، والذي أميل إليه كلام الحسين، ونحوه كلام ابن عطية قال: والتحرير عندي في هذه الآية أن ملاك المعنى هو اللام من قوله سبحانه: * (للإنسان) * فإذا حققت الشيء الذي حق الإنسان أن يقول فيه لي كذا لم تجده إلا سعيه وما يكون من رحمة بشفاعة، أو رعاية أب صالح، أو ابن صالح، أو تضعيف حسنات، أو نحو ذلك فليس هو للإنسان ولا يسعه أن يقول لي كذا وكذا إلا على تجوز، وإلحاق بما هو حقيقة انتهى.
ويعلم من مجموع ما تقدم أن استدلال المعتزلة بالآية على أن العبد إذا جعل ثواب عمله أي عمل كان لغيره لا يجعل ويلغو جعله غير تام؛ وكذا استدلال الإمام الشافعي بها على أن ثواب القراءة لا تلحق الأموات - وهو مذهب الإمام مالك - بل قال الإمام ابن الهمام: إن مالكا. والشافعي لا يقولان بوصول العبادات البدنية المحضة كالصلاة والتلاوة بل غيرها كالصدقة والحج، وفي " الأذكار " للنووي عليه الرحمة المشهور من مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وجماعة أنها لا تصل، وذهب أحمد بن حنبل وجماعة من العلماء ومن أصحاب الشافعي إلى أنها تصل، فالاختيار أن يقول القارىء بعد فراغه اللهم أوصل ثواب ما قرأته إلى فلان، والظاهر أنه إذا قال ذلك ونحوه كوهبت ثواب ما قرأته لفلان بقلبه كفى، وعن بعضهم اشتراط نية النيابة أول القراءة وفي القلب منه شيء، ثم الظاهر أن ذلك إذا لم تكن القراءة بأجرة أما إذا كانت بها كما يفعله أكثر الناس اليوم فإنهم يعطون حفظة القرآن أجرة ليقرءوا لموتاهم فيقرءون لتلك الأجرة فلا يصل ثوابها إذ لا ثواب لها ليصل لحرمة أخذ الأجرة على قراءة القرآن وإن لم يحرم على تعليمه كما حققه خاتمة الفقهاء المحققين الشيخ محمد الأمين بن عابدين الدمشقي رحمه الله تعالى، وفي " الهداية " من كتاب الحج عن الغير إطلاق صحة جعل الإنسان عمله لغيره ولو صلاة وصوما عند أهل السنة والجماعة، وفيه ما علمت ما مر آنفا.
وقال الخفاجي: هو محتاج إلى التحرير وتحريره أن محل الخلاف العبادة البدنية هل تقبل النيابة فسقط عمن لزمته بفعل غيره سواء كان بإذنه أم لا بعده حياته أم لا فهذا وقع في الحج كما ورد في الأحاديث الصحيحة، أم الصوم فلا، وما ورد في حديث " من مات وعليه صيام صام عنه وليه " وكذا غيره من العبادات فقال الطحاوس: إنه كان في صدر الإسلام ثم نسخ وليس الكلام في الفدية وإطعام الطعام فإنه بدل وكذا إهداء الثواب سواء كان بعينه أو مثله فإنه دعاء وقبوله بفضله عز وجل كالصدقة عن الغير فاعرفه انتهى فلا تغفل.
* (وأن سعيه سوف يرى) *.
* (وأن سعيه سوف يرى) * أن يعرض عليه ويكشف له يوم القيامة في صحيفته وميزانه من أريته الشيء، وفي " البحر " يراه حاضرو القيامة ويطلعون عليه تشريفا للمحسن وتوبيخا للمسيء.
* (ثم يجزاه الجزآء الأوفى) *.
* (ثم يجزابه) * أي يجري الإنسان سعيه، يقال: جزاه الله عز وجل بعمله وجزاه على عمله وجزاه عمله بحذف الجار وإيصال الفعل، وقوله تعالى:
67

* (الجزآء الأوفى) * مصدر مبين للنوع وإذا جاز وصف المجزى به بالأوفى جاز وصف الحدث عن الجزاء لملابسته له، وجوز كونه مفعولا به بمعنى المجزى به وحينئذ يكون الفعل في حكم المتعدي إلى ثلاثة مفاعيل. ولا بأس لأن الثاني بالحدث والإيصال لا التوسع فيجيء فيه الخلاف، وبعضهم يجعل الجزاء منصوبا بنزع الخافض، وجوز أن يكون الضمير المنصوب في * (يجزاه) * للجزاء لا للسعي، و * (الجزاء الأوفى) * عليه عطف بيان، أو بدل كما في قوله تعالى: * (وأسروا النجوى الذين ظلموا) * وتعقبه أبو حيان بأن فيه إبدال الظاهر من الضمير وهي مسألة خلافية والصحيح المنع.
* (وأن إلى ربك المنتهى) *.
* (وأن إلى ربك المنتهى) * أي إن انتهاء الخلق ورجوعهم إليه تعالى لا إلى غيره سبحانه استقلالا ولا اشتراكا، والمراد بذلك رجوعهم إليه سبحانه يوم القيامة حين
يحشرون ولهذا قال غير واحد: أي إلى حساب ربك أو إلى ثوابه تعالى من الجنة وعبقابه من النار الانتهاء، وقيل: المعنى أنه عز وجل منتهى الأفكار فلا تزال الأفكار تسير في بيداء حقائق الأشياء وماهياتها والإحاطة بما فيها حتى إذا وجهت إلى حرم ذات الله عز وجل وحقائق صفاته سبحانه وقفت وحرنت وانتهى سيرها، وأيد بما أخرجه البغوي عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الآية: * (لا فكرة في الرب) * وأخرجه أبو الشيخ في العظمة عن سفيان الثوري، وروى عنه عليه الصلاة والسلام: " إذا ذكر الرب فانتهوا "، وأخرج ابن ماجه عن ابن عباس قال: " مر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم يتفكرون في الله فقال: تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لن تقدروه " وأخرج أبو الشيخ عن أبي ذر قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فتهلكوا ".
واستدل بذلك من قال باستحالة معرفته عز وجل بالكنه، والبحث في ذلك طويل، وأكثر الأدلة النقلية على عدم الوقوع، وقرأ أبو السماء، وإن بالكسر هنا وفيما بعد على أن الجمل منقطعة عما قبلها فلا تكون مما في الصحف.
* (وأنه هو أضحك وأبكى) *.
* (وأنه هو أضحك وأبكى) * خلق فعلي الضحك والبكاء، وقال الزمخشري: خلق قوتي الضحك والبكاء، وفيه دسيسة اعتزال، وقال الطيبي: المراد خلق السرور والحزن أو ما يسر ويحزن من الأعمال الصالحة والطالحة، ولذا قرن بقوله تعالى:
* (وأنه هو أمات وأحيا) *.
* (وأنه هو أمات وأحيا) * وعليه فهو مجاز ولا يخفى أن الحقيقة أيضا تناسب الإماتة والإحياء لا سيما والموت يعقبه البكاء غالبا والاحياء عند الولاد الضحك وما أحسن قوله: ولدتك أمك يا ابن آدم باكيا * والناس حولك يضحكون سرورا
فاجهد لنفسك أن تكون إذا بكوا * في يوم موتك ضاحكا مسرورا
وقال مجاهد. والكلبي: * (أضحك) * أهل الجنة * (وأبكى) * أهل النار، وقيل: * (أضحك) * الأرض بالنبات * (وأبكى) * السماء بالمطر، وتقديم الضمير وتكرير الإسناد للحصر أي أنه تعالى فعل ذلك لا غيره سبحانه، وكذا في أنه * (هو أمات وأحيا) * فلا يقدر على الإماتة والإحياء غير عز وجل، والقاتل إنما ينقض البنية الإنسانية ويفرق أجزاءها والموت الحاصل بذلك فعل الله تعالى على سبيل العادة في مثله فلا إشكال في الحصر.
* (وأنه خلق الزوجين الذكر والانثى) *.
* (وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى) * من نوع الإنسان وغيره من أنواع الحيوانات ولم يذكر الضمير على طرز ما تقدم لأنه لا يتوهم نسبة خلق الزوجين إلى غيره عز وجل.
* (من نطفة إذا تمنى) *.
* (من نطفة إذا تمنى) * أي تدفق في الرحم
68

يقال: أمنى الرجل ومنى بمعنى، وقال الأخفش: أي تقدر يقال منى لك الماني أي قدر لك المقدر، ومنه المنا الذي يوزن به فيما قيل، والمنية وهي الأجل المقدر للحيوان.
* (وأن عليه النشأة الاخرى) *.
* (وأن عليه النشأة الأخرى) * أي الإحياء بعد الإماتة وفاءا بوعده جل شأنه، وفي " البحر " لما كانت هذه النشأة ينكرها الكفار بولغ بقوله تعالى كأنه تعالى أوجب ذلك على نفسه، وفي الكشاف قال سبحانه: * (عليه) * لأنها واجبة في الحكمة ليجازي على الإحسان والإساءة وفيه مع كونه على طريق الاعتزال نظر، وقرأ ابن كثير. وأبو عمرو - النشاءة - بالمد وهي أيضا مصدر نشأة الثلاثي.
* (وأنه هو أغنى وأقنى) *.
* (وأنه هو أغنى وأقنى) * وأعطى القنية وهو ما يبقى ويدوم من الأموال ببقاء نفسه أو أصله كالرياض والحيوان والبناء، وإفراد ذلك بالذكر مع دخوله في قوله تعالى: * (أغنى) * لأن القنية أنفس الأموال وأشرفها، وفي " البحر " يقال: قنيت المال أي كسبته ويعدي أيضا بالهمزة والتضعيف فيقال: أقناه الله تعالى مالا وقناه الله تعالى مالا، وقال الشاعر: كم من غني أصاب الدهر ثرواته * ومن فقير (يقني) بعد إقلال
أي يقني المال، وعن ابن عباس * (أغنى) * مول، و * (أقنى) * أرضى. وهو بهذا المعنى مجاز من القنية قتل الراغب: وتحقيق ذلك أنه جعل له قنية من الرضا والطاعة وذلك أعظم القنائن، ولله تعالى در من قال: هل هي إلا مدة وتنقضي * ما يغلب الأيام إلا من رضى
وعن ابن زيد. والأخفش * (أقنى) * أفقر، ووجه بأنهما جعلا الهمزة فيه للسلب والإزالة كما في أشكى، وقيل: إنهما جعلا * (أقنى) * بمعنى جعل له الرضا والصبر قنية كناية عن ذلك ليظهر فيه الطباق كما في * (أمات وأحيا) * * (وأضحك) * * (وأبكى) * وفسره بأفقر أيضا الحضرمي إلا أنه كما أخرج عنه ابن جرير. وأبو اليخ قال * (أغنى) * نفسه سبحانه و * (أفقر) * الخلائق إليه عز وجل، والظاهر على تقدير اعتبار المفعول في جميع الأفعال المتقدمة أن يكون من المحدثات الصالحة لتعلق الفعل، وعندي أن * (أغني) * سبحانه نفسه كأوجد جل شأنه نفسه لا يخلو عن سماجة وإيهام محذور، وإنما لم يذكر مفعول لأن القصد إلى
الفعل نفسه.
* (وأنه هو رب الشعرى) *.
* (وأنه هو رب الشعرى) * هي * (الشعرى) * العبور بفتح العين المهملة والباء الموحدة والراء المهملة بعد الواو، وتقال * (الشعرى) * أيضا على الغميصاء بغين معجمة مضمومة وميم مفتوحة بعدها ياء مثناة تحتية وصاد مهملة ومد، والأولى: في الجوزاء، وإنما قيل لها العبور لأنها عبرت المجرة فلقيت سهيلا ولأنها تراه إذا طلع كأنها ستعبر وتسمى أيضا كلب الجبار لأنها تتبع الجوزاء المسماة بالجبار كما يتبع الكلب الصائد أو الصيد، والثانية: في ذراع الأسد المبسوط، وإنما قيل لها الغميصاء لأنها بكت من فراق سهيل فغمصت عينها، والغمص ما سال من الرمص وهو وسخ أبيض يجتمع في الموق، وذلك من زعم العرب أنهما أختا سهيل، وفي " القاموس " من أحاديثهم أن الشعري العبور قطعت المجرة فسميت عبورا وبكت الأخرى على أثرها حتى غمصت ويقال لها الغموس أيضا، وقيل: زعموا أن سهيلا و * (الشعري) * كانا زوجين فانحدر سهيل وصار يمانيا فاتبعه الشعري فعبرت المجرة فسميت العبور وأقامت الغميصاء وسميت بذلك لأنها دون الأولى ضياءا، وكل ذلك من تخيلاتهم الكاذبة التي لا حقيقة لها، والمتبادر عند الإطلاق وعدم الوصف العبور لأنها أكبر جرما وأكثر ضياءا وهي التي عبدت من دون الله سبحانه في الجاهلية.
قال السدي: عبتدها حمير. وخزاعة، وقال غيره: أول من عبدها أبو كبشة رجل من خزاعة، أو هو سيدهم
69

واسمه وخز بن غالب وكان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: ابن أبي كبشة شبهوه به لمخالفته قومه في عبادة الأصنام، وذكر بعضهم أنه أحد أجداده عليه الصلاة والسلام من قبل أمه وأنهم كانوا يزعمون أن كل صفة في المرء تسري إليه من أحد أصوله فيقولون نزع إليه عرق كذا، وعرق الخال نزاع، وقيل: هو كنية وهب بن عبد مناف جده صلى الله عليه وسلم من قبل أمه، وقولهم له عليه الصلاة والسلام ذلك على ما يقتضيه ظاهر القاموس لأنه صلى الله عليه وسلم في الشبه الخلقي دون المخالفة، وقيل: كنية زوج حليمة السعدية مرضعته عليه الصلاة والسلام، وقيل: كنية عم ولدها ولكونها عبدت من دونه عز وجل خصت بالذكر ليكون ذلك تجهيلا لهم بجعل المربوب ربا، ولمزيد الاعتناء بذلك جيء بالجملة على ما نطق به النظم الجليل.
ومن العرب من كان يعظمها ويعتقد تأثيرها في العالم ويزعمون أنها تقطع السماء عرضا وسائر النجوم تقطعها طولا ويتكلمون على المغيبات عند طلوعها ففي قوله تعالى: * (وأنه هو رب الشعري) * إشارة إلى نفي تأثيرها.
* (وأنه أهلك عادا الاولى) *.
* (وأنه أهلك عادا الأولى) * أي القدماء لأنهم أولى الأمم هلاكا بعد قوم نوح كما قاله ابن زيد والجمهور، وقال الطبري: وصفت بالأولى لأن في القبائل * (عادا) * أخرى وهي قبيلة كانت بمكة مع العماليق وهم بنو لقيم بن هزال، وقال المبرد: عاد الأخرى هي ثمود، وقيل: الجبارون، وقيل: عاد الأولى ولد عاد بن إرم بن عوف بن سام بن نوح، وعاد الأخرى من ولد عاد الأولى، وفي " الكشاف " * (الأولى) * قوم هود والأخرى إرم، والله تعالى أعلم.
وجوز أن يراد بالأولى المتقدمون الأشراف؛ وقرأ قوم عاد الولي بحذف الهمزة ونقل ضمها إلى اللام قبلها، وقرأ نافع. وأبو عمرو - عادا لولي - بإدغام التنوين في اللام المنقول إليها حركة الهمزة المحذوفة، وعاب هذه القراءة المازني. والمبرد، وقالت العرب: في الابتداء بعد النقل - الحمر، ولحمر - فهذه القراءة جاءت على لحمر فلا عيب فيها، وأتى قالون بعد ضمة اللام بهمزة ساكنة في موضع الواو كما في قوله: أحب الموقدين إلى موسى
وكما قرأ بعضهم على - سؤقه - وفيه شذوذ، وفي حرف أبي عاد غير مصروف للعلمية والتأنيث ومن صرفه فباعتبار الحي، أو عامله معاملة هند لكونه ثلاثيا ساكن الوسط.
* (وثمود فمآ أبقى) *.
* (وثمودا) * عطف على * (عادا) * ولا يجوز أن يكون مفعولا - لأبقى - في قوله تعالى: * (فما أبقى) * لأن - ما - النافية لها صدر الكلام والفاء على ما قيل: مانعة أيضا فلا يتقدم معمول مابعدها، وقيل: هو معمول - لأهلك - مقدر ولا حاجة إليه، وقرأ عاصم. وحمزة. - ثمود - بلا تنوين ويقفان بغير ألف. والباقون بالتنوين ويقفون بالألف، والظاهر أن متعلق * (أبقى) * يرجع إلى عاد وثمود معا أي فما أبقى عليهم، أي أخذهم بذنوبهم، وقيل: أي ما أبقى منهم أحدا، والمراد ما أبقى من كفارهم.
* (وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى) *.
* (وقوم نوح) * عطف على * (عادا) * أيضا * (من قبل) * أي من قبل إهلاك عاد وذثمود، وصرح بالقبلية لأن نوحا عليه الصلاة والسلام آدم الثاني وقومه أول الطاغين والهالكين.
* (إنهم كانوا هم أظلم وأطغى) * أي من الفريقين حيث كانوا يؤذونه ويضربونه حتى لا يكاد يتحرك وكان الرجل منهم يأخذ بيد ابنه يتمشى به إليه يحذره منه ويقول: يا بني إن أبي مشى بي إلى هذا وأنا مثلك يومئذ فإياك أن تصدقه فيموت الكبير على الكفر وينشأ الصغير على وصية أبيه ولم يتأثروا من دعائه وقد دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما، وقيل: ضمير * (إنهم) * يعود على جميع من تقدم عاد، وثمود وقوم نوح أي كانوا أظلم من قريش وأطغى منهم، وفيه من التسلية للنبي عليه الصلاة والسلام
70

ما لا يخفى، و * (هم) * يجوز أن يكون تأكيدا للضمير المنصوب ويجوز أن يكون فصلا لأنه واقع بين معرفة وأفعل التفضيل، وحذف المفضول مع الواقع خبرا لكان
لأنه جار مجرى خبر المبتدأ وحذفه فصيح فيه فكذلك في خبر كان.
* (والمؤتفكة أهوى) *.
* (والمؤتفكة) * هي قرى قوم لوط سميت بذلك لأنها ائتفكت بأهلها أي انقلبت بهم، ومنه الإفك لأنه قلب الحق، وجوز أن يراد بالمؤتفكة كل ما انقلبت مساكنه ودثرت أماكنه.
وقرأ الحسن - والمؤتفكات - جمعا * (أهوى) * أي أسقطها إلى الأرض بعد أن رفعها على جناح جبيريل عليه السلام إلى السماء، وقال المبرد: جعلها تهوى.
والظاهر أن أهوى ناصب للمؤتفكة وأخر العامل لكونه فاصلة، وجوز أن يكون - المؤتفكة - معطوفا على ما قبله و * (أهوى) * مع فاعله جملة في موضع الحال بتقدي قد، أو بدونه توضح كيفية إهلاكهم.
* (فغش‍اها ما غشى) *.
* (فغشاها ما غشى) * فيه تهويل للعذاب وتعميم لما أصابهم منه لأن الموصول من صيغ العموم العموم والتضعيف في غشاها يحتمل أن يكون للتعدية فيكون * (ما) * مفعولا ثانيا والفاعل ضميره تعالى، ويحتمل أن يكون للتكثير والمبالغة ف * (ما) * هي الفاعل.
* (فبأى آلاء ربك تتمارى) *.
* (فبأي ألاء ربك تتمارى) * تتشكك والتفاعل هنا مجرد عن التعدد في الفاعل والمفعول للمبالغة في الفعل، وقيل: إن فعل التماري للواحد باعتبار تعدد متعلقه وهو الآلاء المتماري فيها، والخطاب قيل: لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه من باب الإلهاب والتعريض بالغير، وقيل: للإنسان على الإطلاق وهو أظهر والاستفهام للإنكار، والآلاء جمع إلى النعم، والمراد به ما عد في الآيات قبل وسمي الكل بذلك مع أن منه نقما لما في النقم من العبر والمواعظ للمعتبرين والانتفاع للأنبياء والمؤمنين فهي نعم بذلك الاعتبار أيضا، وقيل: التعبير بالآلاء للتغليب وتعقب بأن المقام غير مناسب له، وقرأ يعقوب. وابن محيصن - ربك تمارى - بتاء مشددة.
* (ه‍اذا نذير من النذر الاولى) *.
* (ه‍اذا نذير من النذر الأولى) * الإشارة إلى القرآن. وقال أبو مالك: إلى الأخبار عن الأمم، أو الإشارة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والنذير يجيء مصدرا ووصفا، والنذر جمعه مطلقا وكل من الأمرين محتمل هنا، ووصف * (النذر) * جمعا للوصف بالأولى على تأويل الفرقة، أو الجماعة، واختير على غيره رعاية للفاصلة، وأيا ما كان فالمراد * (هذا نذير من) * جنس * (النذر الأولى) *.
وفي " الكشف " أن قوله تعالى: * (هذا نذير) * الخ فذلكة للكلام إما لما عدد من المشتمل عليه الصحف وإما لجميع الكلام من مفتتح السورة فتدبر ولا تغفل.
* (أزفت الازفة) *.
* (أزفت الأزفة) * أي قربت الساعة الموصوفة بالقرب في غير آية من القرآن، فأل في * (الآزفة) * كاللعهد لا للجنس، وقيل: * (الآزفة) * علم بالغلبة للساعة هنا، وقيل: لا بأس بإرادة الجنس ووصف القريب بالقرب للمبالغة.
* (ليس لها من دون الله كاشفة) *.
* (ليس لها من دون الله) * أي غير الله تعالى أو إلا الله عز وجل * (كاشفة) * نفس قادرة على كشفها إذا وقعت لكنه سبحانه لا يكشفها؛ والمراد بالكشف الإزالة، وقريب من هذا ما روى عن قتادة. وعطاء. والضحاك أي إذا غشيت الخلق أهوالها وشدائدها لم يكشفها ولم يردها عنهم أحد، أو ليس لها الآن نفس كاشفة أي مزيلة للخوف منها فإنه باق إلى أن يأتي الله سبحانه بها وهو مراد الزمخشري بقوله: أوليس لها الآن نفس كاشفة بالتأخير، وقيل: معناه لو وقعت الآن لم يردها إلى وقتها أحد إلا الله تعالى، فالكشف بمعنى التأخير وهو إزالة مخصوصة، وقال الطبري. والزجاج: المعنى
71

ليس لها من دون الله تعالى نفس كاشفة تكشف وقت وقوعها وتبينه لأنها من أخفى المغيبات، فالكشف بمعنى التبيين والآية كقوله تعالى: * (لا يجليها لوقتها إلا هو) * (الأعراف: 187) والتاء في * (كاشفة) * على جميع الأوجه للتأنيث، وهو لتأنيث الموصوف المحذوف كما سمعت، وبعضهم يقدر الموصوف حالا، والأول أولى؛ وجوز أن تكون للمبالغة مثلها في علامة، وتعقب بأن المقام يأباه لإيهامه ثبوت أصل الكشف لغيره عز وجل وفيه نظر، وقال الرماني. وجماعة: يحتمل أن يكون * (كاشفة) * مصدرا كالعافية، وخائنة الأعين أي ليس لها كشف من دون الله تعالى.
* (أفمن ه‍اذا الحديث تعجبون) *.
* (أفمن ه‍اذا الحديث) * أي القرآن * (تعجبون) * إنكارا.
* (وتضحكون ولا تبكون) *.
* (وتضحكون) * استهزاءا مع كونه أبعد شيء من ذلك * (ولا تبكون) * حزنا على ما فرطتم في شأنه وخوفا من أن يحيق بكم ما حاق بالأمم المذكورة.
* (وأنتم س‍امدون) *.
* (وأنتم س‍امدون) * أي لاهون كما روى عن ابن عباس جوابا لنافع بن الأزرق، وأنشد عليه قول هزيلة بنت بكر وهي تبكي قوم عاد: ليت (عادا) قبلوا الحق * ولم يبدوا جحودا
قيل: قم فانظر إليهم * ثم دع عنك (السمودا)
وفي رواية أنه رضي الله تعالى عنه سئل عن السمود، فقال: البرطمة وهي رفع الرأس تكبرا أي وأنتم رافعون رؤوسكم تكبرا، وروى تفسيره بالبرطمة عن مجاهد أيضا، وقال الراغب: السامد اللاهي الرافع رأسه - من سمد البعير في سيره - إذا رفع رأسه، وقال أبو عبيدة: السمود الغناء بلغة حمير يقولون: يا جارية اسمدي لنا أي غنى لنا، وروى نحوه عن عكرمة، وأخرج عبد الرزاق. والبزار. وابن جرير. والبيهقي في " سننه " وجماعة عن ابن عباس أنه قال: هو الغناء باليمانية وكانوا إذا سمعوا القرآن غنوا تشاغلا عنه، وقييل: يفعلون ذلك ليشغلوا الناس عن استماعه، والجملة الاسمية على جميع ذلك حال من فاعل - لا تبكون - ومضمونها قيد للنفي والانكار متوجه إلى نفي البكاء ووجود السمود، وقال المبرد: السمود الجمود والخشوع كما في قوله: رمى الحدثان نسوة آل سعد * بمقدار سمدن له (سمودا)
فرد شعورهن السود بيضا * ورد وجوههن البيض سودا
والجملة عليه حال من فاعل - تبكون - أيضا إلا أن مضمونها قيد للمنفى، والإنكار وارد على نفي البكاء والسمود معا فلا تغفل، وف حرف أبي. وعبد الله - تضحكون - بغير واو، وقرأ الحسن - تعجبون تضحكون - بغير واو وضم التاءين وكسر الجيم والحاء، واستدل بالآية كما في أحكام القرآن على استحباب البكاء عند سماع القرآن وقراءته، أخرج البيهقي في " شعب الايمان " عن أبي هريرة قال: " لما نزلت * (أفمن هذا الحديث) * الآية بكى أصحاب الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينهم بكى معهم فبكينا ببكائه فقال عليه الصلاة والسلام: لا يلج النار من بكى من خشية الله تعالى ولا يدخل الجنة مصر على معصيته ولو لم تذنبوا لجاء الله تعالى بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم " وأخرج أحمد في الزهد. وابن أبي شيبة. وهناد. وغيرهم عن صالح أبي الخليل قال: لما نزلت هذه الآية * (أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون) * ما ضحك النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلا أن يتبسم " ولفظ عبد بن حميد " فما رؤى النبي عليه الصلاة والسلام ضاحكا ولا متبسما حتى ذهب من الدنيا " وفيه سد باب الضحك عند قراءة القرآن ولو لم يكن استهزاءا والعياذ بالله عز وجل. /
* (فاسجدوا لله واعبدوا) *.
72

* (فاسجدوا لله واعبدوا) * الفاء لترتيب الأمر أو موجبه على ما تقرر من بطلان مقابلة القرآن بالتعجب والضحك وحقية مقابلته بما يليق به، ويدل على عظم شأنه أي وإذا كان الأمر كذلك فاسجدوا لله تعالى الذي أنزله واعبدوه جل جلاله، وهذه آية سجدة عند أكثر أهل العلم، وقد سجد النبي صلى الله عليه وسلم عندها.
أخرج الشيخان. وأبو داود. والنسائي. وابن مردويه عن ابن مسعود قال: " أول سورة أنزلت فيها سجدة * (والنجم) * فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد الناس كلهم إلا رجلا " الحديث.
وأخرج ابن مردويه. والبيهقي في السنن عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما " قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ النجم فسجد بنا فأطال السجود " وكذا عمر رضي الله تعالى عنه، أخرج سعيد بن منصوب عن سبرة قال: صلى بنا عمر بن الخطاب الفجر فقرأ في الركعة الأولى سورة يوسف، ثم قرأ في الثانية سورة النجم فسجد، ثم قام فقرأ إذا زلزلت ثم ركع، ولا يرى مالك السجود هنا، واستدل له بما أخرجه أحمد. والشيخان. وأبو داود. والترمذي. والنسائي والطبراني وغيرهم عن زيد بن ثابت قال: قرأت النجم عند النبي صلى الله عليه وسلم فلم يسجد فيها، وأجيب بأن الترك إنما ينافي وجوب السجود وليس بمجمع عليه وهو عند القائل به على التراخي في مثل ذلك على المختار وليس في الحديث ما يدل على نفيه بالكلية فيحتمل أنه عليه الصلاة والسلام سجد بعد، وكذا زيد رضي الله تعالى عنه، نعم التأخير مكروه تنزيها ولعله فعل لبيان الجواز، أو لعذر لم نطلع عليه، وما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس من قوله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة " ناف وضعيف، وكذا قوله فيما رواه أيضا عنه " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في النجم بمكة فلما هاجر إلى المدينة تركها " على أن الترك إنما ينافي - كما سمعت - الوجوب، والله تعالى أعلم.
سورة القمر
وتسمى أيضا * (اقتربت) * وعن ابن عباس أنها تدعى في التوراة المبيضة تبيض وجه صاحبها يوم تسود الوجوه، أخرجه عنه البيهقي في " شعب الإيمان " لكن قال: إنه منكر وهي مكية في قول الجمهور، وقيل: مما نزل يوم بدر، وقال مقاتل: مكية إلا ثلاث آيات * (أم يقولون) * (القمر: 44) إلى * (وأمر) * (القمر: 3) واقتصر بعضهم على استثناء * (سيهزم الجمع) * الخ، ورد بما أخرجه ابن أبي حاتم. والطبراني في الأوسط. وابن مردويه عن أبي هريرة قال: أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم بمكة قبل يوم بدر * (سيهزم الجمع ويولون الدبر) * (القمر: 45) وقال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول الله أي جمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر وانهزمت قريش نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم مصلتا بالسيف وهو يقول: * (سيهزم الجمع ويولون الدبر) * فكانت ليوم بدر، وفي " الدر المنثور: أخرج البخاري عن عائشة قالت: " نزل على محمد صلى الله عليه وسلم بمكة وإني لجارية ألعب * (بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر) * (القمر: 46) " ويرد به وبما قبله ما حكي عن مقاتل أيضا، وقيل: * (إلا أن المتقين) * الآيتين وآيها خمس وخمسون بالإجماع، ومناسبة أولها لآخر السورة التي قبلها ظاهرة فقد قال سبحانه: ثم * (أزفت الآزفة) * (النجم: 57) وهنا * (اقتربت الساعة) * (القمر: 1) وقال الجلال السيوطي: لا يخفى ما في توالي هاتين السورتين من حسن التناسق
73

للتناسب في التسمية لما بين - النجم، والقمر - من الملابسة، وأيضا إن هذه بعد تلك - كالأعراف بعد الأنعام، وكالشعراء بعد الفرقان، وكالصافات بعد يس - في أنها تفصيل لأحوال الأمم المشار إلى إهلاكهم في قوله تعالى: * (وأنه أهلك عادا الأولى وثمود فما أبقى وقوم نوح) * إلى قوله سبحانه: * (والمؤتفكة أهوى) * (
النجم: 53).
* (اقتربت الساعة وانشق القمر) *.
* (اقتربت الساعة) * أي قربت جدا * (وانشق القمر) * انفصل بعضه عن بعض وصار فرقتين وذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة بنحو خمس سنين فقد صح من رواية الشيخين. وابن جرير عن أنس أن أهل مكة سألوه عليه الصلاة والسلام أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما، وخبر أبي نعيم من طريق الضحاك عن ابن عباس - أن أحبار اليهود سألوا آية فأراهم الله تعالى القمر قد انشق - لا يعول عليه، وفي " الصحيحين " وغيرهما من حديث ابن مسعود " انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين فرقة على الجبل وفرقة دونه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشهدوا " ومن حديثه أيضا " انشق القمر على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة فقال رجل: انتظروا ما يأتيكم به السفار فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم فجاء السفار فأخبروهم بذلك " رواه أبو داود. والطيالسي، وفي رواية البيهقي " فسألوا السفار وقد قدموا من كل وجه فقالوا: رأيناه " فأنزل الله تعالى: * (اقتربت الساعة وانشق القمر) *.
وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس من وجه ضعيف قال: " اجتمع المشركون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الوليد بن المغيرة. وأبو جهل بن هشام. والعاص بن وائل. والعاص بن هشام. والأسود بن عبد يغوث. والأسود بن المطلب. وربيعة بن الأسود. والنضر بن الحرث فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين نصفا على أبي قبيس ونصفا على قينقاع فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: " إن فعلت تؤمنوا؟ قالوا: نعم وكانت ليلى بدر فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل أن يعطيه ما سألوا فأمسى القمر قد مثل نصفا على أبي قبيس ونصفا على قينقاع ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي يا أبا سلمة بن عبد الأسد. والأرقم بن الأرقم اشهدوا ".
والأحاديث الصحيحة في الانشقاق كثيرة، واختلف في تواتره فقيل: هو غير متواتر، وفي شرح المواقف الشريفي أنه متواتر وهو الذي اختاره العلامة ابن السبكي قال في شرحه لمختصر ابن الحاجب: الصحيح عندي أن انشقاق القمر متواتر وهو الذي اختاره العلامة ابن السبكي قال في شرحه لمختصر ابن الحاجب: الصحيح عندي أن انشقاق القمر متواتر منصوص عليه في القرآن مروى في " الصحيحين " وغيرهما من طرق شتى بحيث لا يمتري في تواتره انتهى باختصار، وقد جاءت أحاديثه في روايات صحيحة عن جماعة من الصحابة منهم علي كرم الله تعالى وجهه. وأنس. وابن مسعود. وابن عباس. وحذيفة. وجبير بن مطعم. وابن عمر. وغيرهم، نعم إن منهم من لم يحضر ذلك كابن عباس فإنه لم يكن مولودا إذ ذاك وكأنس فإنه كان ابن أربع أو خمس بالمدينة، وهذا لا يطعن في صحة الخبر كما لا يخفى، ووقع في رواية البخاري. وغيره عن ابن مسعود " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى فانشق القمر " ولا يعارض ما صح عن أنس أن ذلك كان بمكة لأنه لم يصرح بأنه عليه الصلاة والسلام كان ليلتئذ بمكة، فالمراد أن الانشقاق كان والنبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك مقيم بمكة قبل أن يهاجر إلى المدينة، ووقع في نظم السيرة للحافظ أبي الفضل العراقي ما هو نص في وقوع الانشقاق مرتين، وظاهر في أنه مجمع على وقوعه كذلك حيث قال: وانشق مرتين بالإجماع، وكأن مستند الأول ما أخرجه
74

عبد بن حميد. والحاكم وصححه. وابن مردويه. والبيهقي في الدلائل من طريق مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود قال: رأيت القمر منشقا شقتين مرتين بمكة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم الحديث، وأما الإجماع فغير مسلم، وفي المواهب قال الحافظ ابن حجر: أظن أن قوله: بالإجماع يتعلق - بانشق - لا بمرتين فإني لا أعلم من جزم من علماء الحديث بتعدد الانشقاق في زمنه صلى الله عليه وسلم، ولعل قائل مرتين أراد فرقتين، وهذا الذي لا يتجه غيره جمعا بين الروايات انتهى، ولا يخفى أن هذا التأويل مع بعده لا يتسنى في خبر ابن مسعود المذكور آنفا لمكان شقتين وهي بمعنى فرقتين ومرتين معا، والذي عندي في تأويل ذلك أن مرتين في كلام ابن مسعود قيد للرؤية وتعددها لا يقتضي تعدد الانشقاق بأن يكون رآه منشقا فصرف نظره عنه ثم أعاده فرآه كذلك لم يتغير ففيه إشارة إلى أنها رؤية لا شبهة فيها وقد فعل نحو ذلك الكفرة، أخرج أبو نعيم من طريق عطاء عن ابن عباس قال: انتهى أهل مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هل من آية نعرف بها أنك رسول الله؟ فهبط جبريل عليه السلام فقال: يا محمد قل لأهل مكة أن يجتمعوا هذه الليلة يروا آية فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالة جبريل عليه السلام فخرجوا ليلة أربع عشرة فانشق القمر نصفين نصفا على الصفا ونصفا على المروة فنظروا ثم قالوا بأبصارهم فمسحوها ثم أعادوا النظر فنظروا ثم مسحوا أعينهم ثم نظروا فقالوا ما هذا إلا سحر فأنزل الله تعالى: * (اقتربت الساعة وانشق القمر) * فلو قال أحد هؤلاء رأيت القمر منشقا ثلاث مرات على معنى تعدد الرؤية صح بلا غبار ولم يقتض تعدد الانشقاق فليخرج كلام ابن مسعود على هذا الطرز ليجمع بين الروايات، ثم هذا الحديث إن صح كان دليلا لما أشار إليه البوصيري في قوله: شق عن صدره وشق له البد * ر ومن شرط كل شرط جزاء
من أن الشق كان ليلة أربع عشرة لأن البدر هو القمر ليلة أربع عشرة ويعلم من ذلك ما في قول العلامة ابن حجر الهيتمي في شرحه: ظاهر التعبير بالبدر دون القمر أن الشق كان ليلة أربع عشرة ولم أر له في ذلك سلفا، ولعله أراد بالبدر مطلق القمر، ويؤيد كونه ليلة البدر ما أخرجه الطبراني، وابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: كسف القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سحر القمر فنزلت * (اقتربت الساعة) * إلى * (مستمر) * فإن الكسوف وإن جاز عادة أن يكون ليلة الثالث عشر وليلة الخامس عشر إلا أن الأغلب كونه ليلة الرابع عشر ولا ضرورة إلى حمل الكسوف في هذا الخبر على الانشقاق إذ لا مانع كما في البداية والنهاية أن يكون قد حصل للقمر مع انشقاقه كسوف، نعم ذكر فيها أن سياق الخبر غريب.
ثم إن القمر بعد انشقاقه لم تفارق قطعتاه السماء بل بقيتا فيها متباعدتين تباعدا ما لحظة ثم اتصلتا، وما يذكره بعض القصاص من أنه دخل في جيب النبي صلى الله عليه
وسلم وخرج من كمه فباطل لا أصل له كما حكاه الشيخ بدر الدين الزركشي عن شيخه العماد بن كثير ولعنة الله تعالى على من وضعه. وما في خبر أبي نعيم - الذي أخرجه من طريق الضحاك عن ابن عباس من أنه انشق فصار قمرين أحدهما على الصفا والآخر على المروة قدر ما بين العصر إلى الليل ينظرون إليه ثم غاب - لا يعول عليه، كيف وقد تضمن ذلك الخبر أن الانشقاق وقع لطلب أحبار اليهود وأن القائل هذا * (سحر مستمر) * (القمر: 2) هم، وهو مخالف لما نطقت به الأخبار الصحيحة الكثيرة كما لا يخفى على المتتبع، وقد شاع " أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى القمر بسبابته الشريفة فانشق " ولم أره في خبر صحيح والله تعالى أعلم.
75

وأنكر الفلاسفة أصل الانشقاق بناءا على زعمهم استحالة الخرق والالتئام على الأجرام العلوية ودليلهم على ذلك أوهن من بيت العنكبوت وقد خرق بأدنى نسمة من نسمات أفكار أهل الحق العلويين خرقا لا يقبل الالتئام كما بين في موضعه، وقال بعض الملاحدة: لو وقع لنقل متواترا واشترك أهل الأرض كلهم في معرفته ولم يختص بها أهل مكة لأنه أمر محسوس مشاهد والناس فيه شركاء والطباع حريصة على رواية الغريب ونقل ما لم يعهد، ولا أغرب من انشقاق هذا الجرم العظيم ولم يعهد أصلا في الزمن القديم ولو كان له أصل الخلد أيضا في كتب التسيير والتنجيم ولذكره أهل الأرصاد فقد كانت موجودة قبل البعثة بكثير وإطباقهم على تركه وإغفاله مع جلالة شأنه ووضوح أمره مما لا تجوزه العادة، وأيضا لا يعقل سبب لخرق هذا الجرم العظيم وأيضا خرقه يوجب صوتا هائلا أشد من أصوات الصواعق المهلكة بأضعاف مضاعفة لا يبعد هلاك أكثر أهل الأرض منه، وأيضا متى خرق وصار قطعتين ذهبت منه قوة التجاذب كالجبل إذا انشق فيلزم بقاؤه منشقا ولا أقل من أن يبقى كذلك سنين كثيرة؛ والجواب عن ذلك أنه وقع في الليل وزمان الغفلة وكان في زمان قليل ورؤية القمر في بلد لا تستلزم رؤيته في جميع البلاد ضرورة اختلاف المطالع فقد يكون القمر طالعا على قوم غائبا عن آخرين ومكسوفا عند قوم غير مكسوف عند آخرين والاعتناء بأمر الأرصاد لم يكن بمثابته اليوم وغفلة أهلها لحظة غير مستبعد والانشقاق لا تختلف به منازله ولا يتغير به سيره غاية ما في الباب أن يحدث في القطعة الشرقية قوة سير لتلحق أختها الغربية، وأي مانع من أن يخلق الله تعالى فيها من السرعة نحو ما خلق الله سبحانه في ضوء الشمس فقد قال أهل الحكمة الجديدة: إن بين الأرض والشمس ثلثمائة ألف فرسخ وأربعون ألف فرسخ وأن ضوءها ليصل إلى الأرض في مدة ثمان دقائق وثلاث عشرة ثانية فيقطع الضوء في كل ثانية سبعين ألف فرسخ ولا يلزم أن يعلم سبب كل حادث بل كثير من الحوادث المتكررة المشاهدة لم يوقف على أسبابها كرؤية الكواكب قريبة مع بعدها المفرط فقد ذكروا أنهم لم يقفوا على سببه ويكفي في ذلك عدم وقوفهم على سبب الإبصار بالعين على الحقيقة ولو أخبرهم مخبر بفرض إن لم يكن لهم أبصار بخواص البصر مع كونه قطعة شحم صغيرة معروفة أحوالها عند أهل التشريح لأنكروا عليه غاية الإنكار وكذبوه غاية التكذيب ونسبوه إلى الجنون.
ومن سلم تأثير النفوس إلى حد أن يصرع الشخص آخر بمجرد النظر إليه وتوجيه نفسه نحوه لم يستبعد أن يكون هناك سبب نحو ذلك، وقد صح في إصابة العين أن بعض الأعراب ممن لن عين صائبة يفلق سنام الناقة فلقتين، وربما تصور له من رمل فينظر إليه ويفلقه فينفلق سنامها مع عدم رؤيته لها نفسها وهذا كله من باب المماشاة وإلا فإرادة الله تعالى كافية في الانشقاق وكذا في كل المعجزات وخوارق العادات ولو كان لكل حادث سبب لزم التسلسل وقد قامت الأدلة على بطلانه، وكون الخرق يوجب صوتا هائلا ممنوع فيما نحن فيه ومثله ذهاب التجاذب والأجسام مختلفة من حيث الخواص فلا يلزم اتحاد جرم القمر والأرض فيها ويمكن أن يكون إحدى القطعتين كالجبل العظيم بالنسبة إلى الأرض إذا ارتفع عنها بقاسر مثلا جذبته إليه إذا لم يخرج عن حد جذبها على ما زعموه ويلتزم في تلك القطعة عدم الخروج عن حد الجذب على أنا في غنى عن كل ذلك أيضا بعد إثبات الإمكان لشمول قدرته عز وجل وأنه سبحانه فعال لما يريد.
والحاصل أنه ليس عند المنكر سوى الاستبعاد ولا يستطيع أن يأتي بدليل على الاستحالة الذاتية ولو انشق، والاستبعاد في مثل هذه المقامات قريب من الجنون عند من له عقل سليم، وروي عن الحسن أنه قال: هذا
76

الانشقاق بعد النفخة الثانية، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع، وروي ذلك عن عطاء أيضا، ويؤيد ما تقدم الذي عليه الأكثرون قراءة حذيفة وقد انشق القمر فإن الجملة عليها حالية فتقتضي المقارنة لاقتراب الساعة ووقوع الانشقاق قبل يوم القيامة، وكذا قوله تعالى:
* (وإن يروا ءاية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر) *.
* (وإن يروا آية يعرضوا) * فإنه يقتضي أن الانشقاق آية رأوها وأعرضوا عنها، وزعم بعضهم أن انشقاق القمر عبارة عن انشقاق الظلمة عند طلوعه وهذا كما يسمى الصبح فلقا عند انفلاق الظلمة عنه وقد يعبر عن الانفلاق بالانشقاق كما في قوله النابغة: فلما أدبروا ولهم دوي * دعانا عند * (شق) * الصبح داعي
وزعم آخر أن معنى انشق القمر وضح الأمر وظهر وكلا الزعمين مما لا يعول عليه ولا يلتفت إليه ولا أظن الداعي إليهما عند من يقر بالساعة التي هي أعظم من الانشقاق ويعترف بالعقائد الإسلامية التي وقع عليها الاتفاق سوى عدم ثبوت الأخبار في وقوع ذلك على عهده عليه الصلاة والسلام عنده؛ ومنشأ ذلك القصور التام والتمسك بشبه هي على طرف الثمام، ومع هذا لا يكفر المنكر بناءا على عدم الاتفاق على تواتر ذلك وعدم كون الآية نصفا فيه، والإخراج من الدين أمر عظيم فيحتاط فيه ما لا يحتاط في غيره والله تعالى الموفق.
والظاهر أن المراد باقتراب الساعة القرب الشديد الزماني، وكل آت قريب، وزمان العالم مديد، والباقي بالنسبة إلى الماضي شيء يسير، ومال الإمام إلى أن المراد به قربها في العقول والأذهان، وحاصله أنها ممكنة إمكانا قريبا لا ينبغي لأحد إنكارها، واستعمال الاقتراب مع أنه أمر مقطوع به كاستعمال * (لعل) * في قوله تعالى: * (لعل الساعة تكون قريبا) * (الأحزاب: 63) مع أن الأمر معلوم عند الله تعالى وانشقاق القمر آية ظاهرة على هذا القرب، وعلى الأول قيل: هو آية لأصل الإمكان الذي يقتضيه قرب الوقوع، وقيل: هو آية لقرب الوقوع ومعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم باعتبار أن الله تعالى مخبر في كتبه السالفة بأنه إذا قربت الساعة
انشق القمر معجزة وكلاهما كما ترى، واختار بعضهم أنه آية لصدق النبي عليه الصلاة والسلام في جميع ما يقول ويبلغ ربه سبحانه لأنه معجزة له صلى الله عليه وسلم ومنه دعوى الرسالة والأخبار باقتراب الساعة وغير ذلك، و * (آية) * نكرة في سياق الشرط فتعم، فالمعنى * (وإن يروا كل آية يعرضوا) * عن التأمل فيها ليقفوا على وجه دلالتها وعلو طبقتها * (ويقولوا سحر) * أي هذا أو هو أي ما نراه سحر * (مستمر) * أي مطرد دائم يأتي به محمد صلى الله عليه وسلم على مر الزمان وهو ظاهر في ترادف الآيات وتتابع المعجزات.
وقال أبو العالية. والضحاك: * (مستمر) * محكم موثق من المرة بالفتح أو الكسر بمعنى القوة وهو في الأصل مصدر مررت الحبل مرة إذا فتلته فتلا محكما فأريد به مطلق المحكم مجازا مرسلا، وقال أنس. ويمان. ومجاهد. والكسائي. والفراء - واختاره النحاس - مستمر أي مار ذاهب زائل عن قريب عللوا بذلك أنفسهم ومنوها بالأماني الفارغة كأنهم قالوا: إن حاله عليه الصلاة والسلام وما ظهر من معجزاته سبحانه. سحابة صيف عن قريب تقشع
* (ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) * (التوبة: 32) وقيل: * (مستمر) * مشتد المرارة أي مستبشع عندنا منفور عنه لشدة مرارته يقال: مر الشيء وأمر إذا صار مرا وأمر غيره ومره يكون لازما ومتعديا، وقيل: * (مستمر) * يشبه بعضه بعضا أي استمرت أفعاله على هذا الوجه من التخييلات، وقيل: * (مستمر) * مار من الأرض إلى السماء أي بلغ من سحره أنه سحر القمر وهذا ليس بشيء، ولعل الأنسب
77

بغلوهم في العناد والمكابرة ما روي عن أنس ومن معه، وقرىء - وأن يروا - بالبناء للمفعول من الإراءة.
* (وكذبوا واتبعوا أهوآءهم وكل أمر مستقر) *.
* (وكذبوا) * النبي صلى الله عليه وسلم وبما أظهره الله تعالى على يده من الآيات * (واتبعوا أهواءهم) * التي زينها الشيطان لهم، وقيل: * (كذبوا) * الآية التي هي انشقاق القمر * (واتبعوا أهواءهم) * وقالوا سحر القمر أو سحرت أعيننا والقمر بحاله، والعطف على الجزاء السابق وصيغة الماضي للدلالة على التحقق، وقيل: العطف على * (اقتربت) * والجملة الشرطية اعتراض لبيان عادتهم إذا شاهدوا الآيات، وقوله تعالى: * (وكل أمر مستقر) * استئناف مسوق للرد على الكفار في تكذيبهم ببيان أنه لا فائدة لهم فيه ولا يمنع علو شأنه صلى الله عليه وسلم، أو لإقناطهم عما علقوا به أمانيهم الفارغة من عدم استقرار أمره عليه الصلاة والسلام حسبما قالوا: * (سحر مستمر) * ببيان ثبوته ورسوخه أي وكل أمر من الأمور منته إلى غاية يستقر عليها لا محالة ومن جملتها أمر النبي صلى الله عليه وسلم فسيصير إلى غاية يتبين عندها حقيته وعلو شأنه، وللإشارة إلى ظهور هذه الغاية لأمره عليه الصلاة والسلام لم يصرح بالمستقر عليه، وفي " الكشاف " أي كل أمر لا بد أن يصير إلى غاية يستقر عليها وأن أمره صلى الله عليه وسلم سيصير إلى غاية يتبين عندها أنه حق أو باطل وسيظهر له عاقبتهم أو وكل أمر من أمره عليه الصلاة والسلام، وأمرهم مستقر أي سيثبت ويستقر على حالة نصرة أو خذلان في الدنيا أو سعادة وشقاوة في الآخرة، قال في " الكشف ": والكلام على الأول تذييل جار مجرى المثل وعلى الثاني تذييل غير مستقل، وقرأ شيبة * (مستقر) * بفتح القاف ورويت عن نافع، وزعم أبو حاتم أنها لا وجه لها وخرجت على أن مستقرا مصدر بمعنى استقرار، وحمله على كل أمر بتقدير مضاف أي ذو مستقر ولو لم يقدر وقصد المبالغة صح، وجوز كونه اسم زمان أو مكان بتقدير مضاف أيضا أي ذو زمان استقرار، أو ذو موضع استقرار، وتعقب بأن كون كل أمر لا بد له من زمان أو مكان أمر معلوم لا فائدة في الأخبار به، وأجيب بأن فيه إثبات الاستقرار له بطريق الكناية وهي أبلغ من التصريح.
وقرأ زيد بن علي * (مستقر) * بكسر القاف والجر، وخرج على أنه صفة أمر وأن كل معطوف على الساعة أي اقتربت الساعة؛ واقترب كل أمر يستقر ويتبين حاله أي بقربها، قال في " الكشف ": وفيه شمة من التجريد وتهويل عظيم حيث جعل في اقترابها اقتراب كل أمر يكون له قرار وتبين حال مما له وقع، وقوله تعالى: * (وانشق القمر) * على هذا إما على تقدير قد وينصره القراءة بها، وإما منزل منزلة الإعراض لكونه مؤكدا لقرب الساعة، وقوله سبحانه: * (وإن يروا آية) * الخ مستطرد عند ذكر انشقاق القمر.
واعترض ذلك أبو حيان بأنه بعيد لكثرة الفواصل بين المعطوف والمعطوف عليه وجعل الكلام عليه نظير - أكلت خبزا، وضربت خالدا، وإن يجىء زيد أكرمه، ورحل إلى بني فلان، ولحما بعطف - لحما على خبزا - ثم قال بل لا يوجد مثله في كلام العرب، وتعقب بأنه ليس بشيء لأنه إذا دل على العطف الدليل لا يعد ذلك مانعا منه على أن بين الآية والمثال فرقا لا يخفى، وقال صاحب اللوامح إن * (مستقر) * خبر كل، والجر للجوار، واعترضه أبو حيان أيضا بأنه ليس بجيد لأن الجر على الجوار في غاية الشذوذ في مثله إذ لم يعهد في خبر المبتدأ، وإنما عهد في الصفة على اختلاف النحاة في وجوده، واستظهر كون كل مبتدأ وخبره مقدر كآت، أو معمول به ونحوه مما يشعر به الكلام أو مذكور بعد وهو قوله تعالى: * (حكمة بالغة) * وقد اعترض بينهما بقوله سبحانه:
* (ولقد جآءهم من الانبآء ما فيه مزدجر) *.
* (ولقد جاءهم) * في القرآن * (من الأنباء) * أي أخبار القرون الخالية، أو أخبار الآخرة، والجار والمجرور
78

في موضع الحال من ما في قوله عز وجل: * (ما فيه مزدجر) * قدم عليه رعاية للفاصلة وتتويقا إليه و * (من) * للتبعيض، أو للتبيين بناءا على المختار من جواز تقديمه على المبين، قال الرضى: إنما جاز تقديم * (من) * المبينة على المبهم في نحو - عندي من المال ما يكفي - لأنه في الأصل صفة لمقدر أي شيء من المال، والمذكور عطف بيان للمبين المقدر قبلها ليحصل البيان بعد الإبهام أي بالله لقد جاءهم كائنا من الأنباء ما فيه ازدجار لهم ومنع عما هم فيه من القبائح، أو موضع ازدجار ومنع، وهي أنباء التعذيب، أو أنباء الوعيد، وأصل * (مزدجر) * مزتجر بالتاء موضع الدال وتاء الافتعال تقلب دالا مع الدال والذال والراء للتناسب،
وقرىء مزجر بقلبها زايا وإدغام الزاي فيها، وقرأ زيد بن علي مزجر اسم فاعل من أزجر أي صار ذا زجر كأعشب صار ذا عشب.
* (حكمة بالغة فما تغنى النذر) *.
* (حكمة بالغة) * أي واصلة غاية الإحكام لا خلل فيها، ورفع * (حكمة) * على أنها بدل كل، أو اشتمال من * (ما) *، وقيل: من * (مزدجر) * أو خبر مبتدأ محذوف أي هي، أو هذه على أن الإشارة لما يشعر به الكلام من إرسال الرسل وإيضاح الدليل والإنذار لمن مضى، أو إلى ما في الأنباء، أو إلى الساعة المقتربة، والآية الدالة عليها - كما قاله الإمام وتقدم آنفا - احتمال كونها خبرا عن كل في قراءة زيد، وقرأ اليماني * (حكمة بالغة) * بالنصب حالا من * (ما) * فإنها موصولة أو نكرة موصوفة، ويجوز مجىء الحال منها مع تأخرها أو هو بتقدير أعني.
* (فما تغن النذر) * نفي للإغناء أو استفهام إنكاري والفاء لترتيب عدم الإغناء على مجىء الحكمة البالغة مع كونه مظنة للإغناء وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار، و * (ما) * على الوجه الثاني في محل نصب على أنها مفعول مطلق أي فأي إغناء تغني النذر، وجوز أن تكون في محل رفع على الابتداء، والجملة بعدها خبر، والعائد مقدر أي فما تغنيه النذر وهو جمع نذير بمعنى المنذر، وجوز أن يكون جمع نذير بمعنى الإنذار، وتعقب بأن حق المصدر أن لا يثنى ولا يجمع وأن يكون مصدرا كالإنذار، وتعقب بأنه يأباه تأنيث الفعل المسند إليه وكونه باعتبار أنه بمعنى النذارة لا يخفى حاله.
* (فتول عنهم يوم يدعو الداع إلى شىء نكر) *.
* (فتول عنهم) * الفاء للسببية والمسبب التولي أو الأمر به والسبب عدم الإغناء أو العلم به، والمراد بالتولي إما عدم القتال، فالآية منسوخة، وإما ترك الجدال للجلاد فهي محكمة، والظاهر الأول * (يوم يدع الداع) * ظرف - ليخرجون - أو مفعول به لأذكر مقدرا، وقيل: لانتظر، وجوز أن يكون ظرفا لتغني، أو لمستقر وما بينهما اعتراض، أو ظرفا - ليقول الكافر - أو - لتول - أي تول عن الشفاعة لهم يوم القيامة، أو هو معمول له بتقدير إلى، وعليه قول الحسن - فتول عنهم إلى يوم -.
والمراد استمرار التولي والكل كما ترى، والداعي إسرافيل عليه السلام، وقيل: جبرائيل عليه السلام، وقيل: ملك غيرهما موكل بذلك، وجوز أن يكون الدعاء للإعادة في ذلك اليوم كالأمر في * (كن فيكون) * على القول بأنه تمثيل، فالداعي حينئذ هو الله عز وجل، وحذفت الواو من * (يدع) * لفظا لالتقاء الساكنين ورسما اتباعا للفظ، والياء من * (الداع) * تخفيفا، وإجراءا لال مجرى التنوين لأنها تعاقبه، والشيء يحمل على ضده كما يحمل على نظيره * (إلى شيء نكر) * أي فظيع تنكره النفوس لعدم العهد بمثله وهو هول القيامة ويكنى بالنكر عن الفظيع لأنه في الغالب منكر غير معهود، وجوز أن يكون من الإنكار ضد الإقرار وأيما كان فهو وصف على فعل بضمتين وهو قليل في الصفات، ومنه - روضة أنف لم ترع، ورجل شلل خفيف في الحاجة سريع حسن الصحبة
79

طيب النفس، وسجح لين سهل، وقرأ الحسن. وابن كثير. وشبل * (نكر) * بإسكان الكاف كما قالوا: شغل وشغل، وعسر وعسر وهو إسكان تخفيف، أو السكون هو الأصل والضم للاتباع، وقرأ مجاهد. وأبو قلابة. والجحدري. وزيد بن علي * (نكر) * فعلا ماضيا مبنيا للمفعول بمعنى أنكر.
* (خشعا أبص‍ارهم يخرجون من الاجداث كأنهم جراد منتشر) *.
* (خشعا أبصارهم) * حال من فاعل * (يخرجون) * أي يخرجون * (من الأجداث) * أي القبور أذلة أبصارهم من شدة الهول أي أذلاء من ذلك، وقدم الحال لتصرف العامل والاهتمام، وفيه دليل على بطلان مذهب الجرمي من عدم تجويز تقدم الحال على الفعل وإن كان متصرفا، ويرده أيضا قولهم: شتى تؤب الحلبة، وقوله: سريعا يهون الصعب عند ألى النهى * إذا بر جاء صادق قابلوا البأسا
وجعل حالا من ذلك لقوله تعالى: * (يوم يخرجون من الأجداث سراعا) * إلى قوله تعالى: * (خاشعة أبصارهم) * (المعارج: 43، 44). وقيل: هو حال من الضمير المفعول المحذوف في * (يدع الداع) * أي يدعوهم الداع؛ وتعقب بأنه لا يطابق المنزل وأيضا يصير حالا مقدرة لأن الدعاء ليس حال خشوع البصر وليست في الكثرة كغيرها وكذلك جعله مفعول - يدعو - على معنى يدعو فريقا خاشعا أبصارهم أي سيخشع وإن كان هذا أقرب مما قبل، وقيل: هو حال من الضمير المجرور في قوله تعالى: * (فتولى عنهم) * وفيه ما لا يخفى، وأبصارهم فاعل خشعا وطابقه الوصف في الجمع لأنه إذا كسر لم يشبه الفعل لفظا فتحسن فيه المطابقة وهذا بخلاف ما إذا جمع جمع مذكر سالم فإنه لم يتغير زنته وشبهه للفعل فينبغي أن لا يجمع إذا رفع الظاهر المجموع على اللغة الفصيحة دون لغة أكلوني البراغيث، لكن الجمع حينئذ في الاسم أخف منه في الفعل كما قال الرضي، ووجهه ظاهر، وفي التسهيل إذا رفعت الصفة اسما ظاهرا مجموعا فإن أمكن تكسيرها - كمررت برجل * (قيام) * غلمانه - فهو أولى من إفراده - كمررت برجل * (قائم) * غلمانه - وهذا قول المبرد ومن تبعه والسماع شاهد له كقوله: وقوفا بها صحبي على مطيهم * يقولون لا تهلك أسى وتجملي
وقوله: بمطرد لدن صحاح كعوبه * وذي رونق عضب يقد القوانسا
وقال الجمهور: الإفراد أولى والقياس معهم، وعليه قوله: ورجال حسن أوجههم * من إياد بن نزار بن معد
وقيل: إن تبع مفردا فالإفراد أولى - كرجل * (قائم) * غلمانه - وإن تبع جمعا فالجمع أولى - كرجال قيام غلمانهم - وأما التثنية والجمع السالم فعلى لغة أكلوني البراغيث؛ وجوز أن يكون في * (خشعا) * ضمير مستتر، و * (أبصارهم) * بدلا منه، وقرأ ابن عباس. وابن جبير. ومجاهد. والجحدري. وأبو عمرو. وحمزة. والكسائي - خاشعا - بالإفراد، وقرأ أبي. وابن مسعود - خاشعة - وقرىء - خشع - على أنه خبر مقدم، و * (أبصارهم) * مبتدأ، والجملة في موضع
الحال، وقوله تعالى: * (كأنهم جراد منتشر) * حال أيضا وتشبيههم بالجراد المنتشر في الكثرة والتموج والانتشار في الأقطار، وجاء تشبيههم بالفراش المبثوث ولهم يوم الخروج سهم من الشبه لكل، وقيل: يكونون أولا كالفراش حين يموجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون لأن الفراش لا جهة لها تقصدها، ثم كالجراد المنتشر إذا توجهوا إلى المحشر فهما تشبيهان باعتبار وقتين، وحكي ذلك عن مكي بن أبي طالب.
* (مهطعين إلى الداع يقول الك‍افرون ه‍اذا يوم عسر) *.
* (مهطعين إلى الداع) * مسرعين إليه قال أبو عبيدة: وزاد بعضهم مادي أعناقهم، وآخر مع هز ورهق ومد بصر.
80

وقال عكرمة: فاتحين آذانهم إلى الصوت، وعن ابن عباس ناظرين إليه لا تقلع أبصارهم عنه وأنشد قول تبع: تعبدني نمر بن سعد وقد أرى * ونمر بن سعد لي " مطيع ومهطع "
وفي رواية أنه فسره بخاضعين وأنشد البيت، وقيل: خافضين ما بين أعينهم، وقال سفيان: شاخصة أبصارهم إلى السماء، وقيل: أصل الهطع مد العنق، أو مد البصر، ثم يكنى به عن الإسراع، أو عن النظر والتأمل فلا تغفل، * (يقول الك‍افرون ه‍اذا يوم عسر) * صعب شديد لما يشاهدون من مخايل هو له وما يرتقبون من سوء منقلبهم فيه، وفي إسناد القول المذكور إلى الكفار تلويح بأنه على المؤمنين ليس كذلك.
* (كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر) *.
* (كذبت قبلهم قوم نوح) * شروع في تعداد بعض ما ذكر من الأنباء الموجبة للازدجار؛ ونوع تفصيل لها وبيان لعدم تأثرهم بها تقريرا لفحوى قوله تعالى: * (فما تغن النذر) * (القمر: 5) والفعل منزل منزلة اللازم أي فعلت التكذيب قبل تكذيب قومك قوم نوح، وقوله تعالى: * (فكذبوا عبدنا) * تفسير لذلك التكذيب المبهم كما في قوله تعالى: * (ونادى نوح ربه فقال) * (هود: 45 (الخ، وفيه مزيد تحقيق وتقرير للتكذيب، وجوز أن يكون المعنى كذبوا تكذيبا إثر تكذيب كلما خلا منهم قرن مكذب جاء عقيبه قرن آخر مكذب مثله، أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا أي لما كانوا مكذبين للرسل جاحدين للنبوة رأسا كذبوا نوحا لأنه من جملة الرسل، والفاء عليه سببية، وقيل: معنى كذبت قصدت التكذيب وابتدأته، ومعنى فكذبوا وبلغوا نهايته كما قيل في قوله: قد جبر الدين الأله فجبر
وفي ذكره عليه السلام بعنوان العبودية مع الإضافة إلى نون العظمة تفخيم له عليه السلام ورفع لمحله وتشنيع لمكذبيه.
* (وقالوا مجنون) * أي لم يقتصروا على مجرد التكذيب بل نسبوه إلى الجنون فقالوا هو مجنون * (وازدجر) * عطف على - قالوا - وهو إخبار منه عز وجل أي وزجر عن التبليغ بأنواع الأذية والتخويف قاله ابن زيد، وقرأ * (لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين) * (الشعراء: 116) وقال مجاهد: هو من تمام قولهم أي هو مجنون، وقد ازدجرته الجن وذهبت بلبه وتخبطته، والأول أظهر وأبلغ، وجعل مبنيا للمفعول لغرض الفاصلة، وطهر الألسنة عن ذكرهم دلالة على أن فعلهم أسوأ من قولهم:
* (فدعا ربه أنى مغلوب فانتصر) *.
* (فدعا ربه أني) * أي بأني.
وقرأ ابن أبي اسحق. وعيسى. والأعمش. وزيد بن علي - ورويت عن عاصم - * (إني) * بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين، وعلى إجراء الدعاء مجرى القول عند الكوفيين * (مغلوب) * من جهة قومي مالي قدرة على الانتقام منهم * (فانتصر) * فانتقم لي منهم، وقيل: فانتصر لنفسك إذ كذبوا رسولك، وقيل: المراد - بمغلوب - غلبتني نفسي حتى دعوت عليهم بالهلاك وهو خلاف الظاهر وما دعا عليه السلام عليهم إلا بعد اليأس من إيمانهم، والتأكيد لمزيد الاعتناء بأمر الترحم المقصود من الأخبار.
* (ففتحنآ أبوابالسمآء بماء منهمر) *.
* (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر) * أي منصب، وقيل: كثير قال الشاعر: أعيناي جودا بالدموع (الهوامر) * على خير باد من معد وحاضر
والباء للآلة مثلها في فتحت الباب بالمفتاح، وجوز أن تكون للملابسة والأول أبلغ، وفي الكلام استعارة تمثيلية بتشبيه تدفق المطر من السحاب بانصباب أنهاء انفتحت بها أبواب السماء وانشق أديم الخضراء. وهو الذي ذهب إليه الجمهور، وذهب قوم إلى أنه على حقيقته وهو ظاهر كلام ابن عباس.
81

أخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم عنه أنه قال: لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم ولا بعده إلا من السحاب، وفتحت أبواب السماء بالماء من غير سحاب ذلك اليوم فالتفى الماآن، وفي رواية لم تقلع أربعين يوما، وعن النقاش أنه أريد بالأبواب المجرة وهي شرج السماء كشرح العيبة، والمعروف من الأرصاد أن المجرة كواكب صغار متقاربة جدا، والله تعالى أعلم.
ومن العجيب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين فأهلكهم الله تعالى بمطلوبهم، وقرأ ابن عامر. وأبو جعفر. والأعرج. ويعقوب * (ففتحنا) * بالتشديد لكثرة الأبواب، والظاهر أن جمع القلة هنا للكثرة.
* (وفجرنا الارض عيونا فالتقى المآء على أمر قد قدر) *.
* (وفجرنا الأرض عيونا) * وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون متفجرة وأصله فجرنا عيون الأرض فغير إلى التمييز للمبالغة بجعل الأرض كلها متفجرة مع الابهام والتفسير، فالتمييز محول عن المفعول، وجعله بعضهم محولا عن الفاعل بناءا على أنه الأكثر، والأصل انفجرت عيون الأرض وتحويله كما يكون عن فاعل الفعل
المذكور يكون عن فاعل فعل آخر يلاقيه في الاشتقاق - وهذا منه - وهو تكلف لا حاجة إليه، ومنع بعضهم مجيء التمييز من المفعول فأعرب * (عيونا) * حالا مقدرة، وجوز عليه أن يكون مفعولا ثانيا لفجرنا على تضمينه ما يتعدى إليه أي صيرنا بالتفجير الأرض عيونا وكان ذلك على ما في بعض الروايات أربعين يوما، وقرأ عبد الله. وأصحابه. وأبو حيوة. والمفضل عن عاصم * (فجرنا) * بالتخفيف * (فالتقى الماء) * أي ماء السماء وماء الأرض، والإفراد لتحقيق أن التفاء الماءين لم يكن بطريق المجاورة بل بطريق الاختلاط والاتحاد، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. والحسن. ومحمد بن كعب. والجحدري - الماآن - والتثنية لقصد بيان اختلاف النوعين وإلا فالماء شامل لماء السماء وماء الأرض، ونحوه قوله: لنا (إبلان) فيهما ما علمتم * فعن (أيها) ما شئتم فتنكبوا
وقيل: فيها إشارة إلى أن ماء الأرض فار بقوة وارتفع حتى لاقى ماء السماء وفي ذلك مبالغة لا تفهم من الأفراد، وقرأ الحسن أيضا - ما وان - بقلب الهمزة واوا كقولهم: علبا وان كما قال الزمخشري، ولم يرد أنه نظيره بل أراد كما أن هنالك إبدالا بعلة أنها غير أصلية لأنها زائدة للالحاق كذلك ههنا لانها مبدلة والبدل وإن كان من الهاء لكنه أجريت مجرى البدل عن الواو فقيل في النسبة فيه: ماوى، وجاء في جمعه أمواء كما جاء أمواه، ولا يبعد أن يكون من ثناه بالواو قاسه على النسبة كذا في الكشف، وعنه أيضا المايان بقلب الهمزة ياءا.
* (على أمر قد قدر) * أي كائنا على حال قد قدرها الله تعالى في الازل من غير تفاوت أو على حال قدرت وسويت وهي أن ما نزل على قدر ما خرج.
وقيل: إن ماء الأرض علا سبعة عشر ذراعا ونزل ماء السماء مكملا أربعين، وقيل: ماء الأرض كان أكثر وله مقدار معين عند الله عز وجل، أو على أمر قدره الله تعالى وكبته في اللوح المحفوظ وهو هلاك قوم نوح بالطوفان، ورجحه أبو حيان بأن كل قصة ذكرت بعد ذكر الله تعالى فيها هلاك المكذبين فيكون هذا كناية عن هلاك هؤلاء، و * (على) * عليه للتعليل، ويحتمل تعلقها بالتقى. وفيه رد على أهل الأحكام النجومية حيث زعموا أن الطوفان لاجتماع الكواكب السبعة ما عدا الزهرة في برج مائي، وقرأ أبو حيوة. وابن مقسم * (قدر) * بتشديد الدال.
* (وحملناه على ذات ألواح ودسر) *.
* (وحملناه) * أي نوحا عليه السلام * (على ذات ألواح) * أخشاب عريضة * (ودسر) * أي مسامير كما قاله الجمهور. وابن عباس في رواية ابن جرير، وابن المنذر جمع دسار ككتاب وكتب، وقيل:
82

(دسر) كسقف وسقف. وأصل الدسر الدفع الشديد بقهر فسمى به المسمار لأنه يدق فيدفع بشدة. وقيل: حبال من ليف تشد بها السفن. وقال الليث: خيوط تشد بها ألواحها، وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة. والحسن أنها مقاديم السفينة وصدرها الذي تضرب به الموج وتدفعه. وروي عن ابن عباس نحوه. وأخرج عن مجاهد أنها عوارض السفينة أي الخشبات التي تعرض في وسطها. وفي رواية عنه هي أضلاع السفينة. وأيا ما كان فقوله تعالى: * (ذات ألواح ودسر) * من الصفات التي تقوم مقام الموصوفات على سبيل الكناية كقولهم: حي مستوى القامة عريض الأظفار في الكناية عن الإنسان وهو من فصيح الكلام وبديعه. ونظير الآية قول الشاعر: مفرشي صهوة الحصان ولكن * (قميصي) مسرودة من حديد
فإنه أراد قميصي درع. وقوله يصف هزال الإبل: تراءى الهافي كل عين مقابل * ولو في (عيون النازيات بأكرع)
فإنه أراد في عيون الجراد لأن النزو بالأكرع يختص بها. وأما كونه على حذف الموصوف لدلالة الصفة عليه على ما في المفصل وغيره فكلام نحوى.
* (تجرى بأعيننا جزآء لمن كان كفر) *.
* (تجري بأعيننا) * بمرأى منا. وكني به عن الحفظ أي تجري في ذلك الماء بحفظنا وكلاءتنا، وقيل: بأوليائنا يعني نوحا عليه السلام ومن آمن معه يقال: مات عين من عيون الله تعالى أي ولي من أوليائه سبحانه، وقيل: بأعين الماء التي فجرناها، وقيل: بالحفظة من الملائكة عليهم السلام سماهم أعينا وأضافهم إليه جل شأنه والأول أظهر، وقرأ زيد بن علي. وأبو السمال - بأعينا - بالادغام.
* (جزاء لمن كان كفر) * أي فعلنا ذلك جزاءا لنوح عليه السلام فإنه كان نعمة أنعمها الله تعالى على قومه فكفروها وكذا كل نبي نعمة من الله تعالى على أمته، وجوز أن يكون على حذف الجاء وإيصال الفعل إلى الضمير واستتاره في الفعل بعد انقلابه مرفوعا أي لمن كفر به وهو نوح عليه السلام أيضا أي جحدت نبوته، فالكفر عليه ضد الإيمان، وعلى الأول كفران النعمة، وعن ابن عباس. ومجاهد من يراد به الله تعالى كأنه قيل: غضبا وانتصارا لله عز وجل وهو كما ترى، وقرأ مسلمة بن محارب - كفر - بإسكان الفاء خفف فعل كما في قوله: لو عصر منه البان والمسك (انعصر)
وقرأ يزيد بن رومان. وقتادة. وعيسى * (كفر) * مبنيا للفاعل فمن يراد بها قوم نوح عليه السلام لا غير، وفي هذه القراءة دليل على وقوع الماضي بغير قد خبرا لكان وهو مذهب البصريين وغيرهم يقول لا بد من وقوع قد ظاهرة أو مقدرة، وجوز أن تكون * (كان) * زائدة كأنه قيل: جزءا لمن * (كفر) * ولم يؤمن.
* (ولقد تركن‍اها ءاية فهل من مدكر) *.
* (ولقد تركن‍اها) * أي أبقينا السفينة * (ءاية) * بناءا على ما روي عن قتادة. والنقاش أنه بقي خشبها على الجودي حتى رآه بعض أوائل هذه الأمة، أو أبقينا خبرها، أو أبقينا جنسها وذلك بإبقاء السفن، أو - تركنا - بمعنى جعلنا، وجوز كون الضمير للفعلة وهي إنجاء نوح عليه السلام ومن معه وإغراق الكافرين * (فهل من مدكر) * أي معتبر بتلك الآية الحرية بالاعتبار، وقرأ قتادة على ما نقل ابن عطية - مذكر - بالذال المعجمة على قلب تار الافتعال ذالا وإدغام الذال في الذال، وقال صاحب اللوامح: قرأ قتادة فهل من - مذكر - بتشديد الكاف من التذكير أي من يذكر نفسه أو غيره بها، وقرىء مذتكر بذال معجمة بعدها تاء الافتعال كما هو الأصل.
* (فكيف كان عذابى ونذر) *.
* (فكيف كان عذابي ونذر) * استفهام تعظيم وتعجيب أي كانا على كيفية هائلة
83

لا يحيط بها الوصف، و - النذر - مصدر كالإنذار، وقيل: جمع نذير بمعنى الإنذار، وجعله بعضهم بمعنى المنذر منه، وليس بشيء، وكذا جعله بمعنى المنذر، وكان يحتمل أن تكون ناقصة فكيف في موضع الخبر؟ وتامة فكيف في موضع الحال؟
* (ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر) *.
* (ولقد يسرنا القرءان) * الخ جملة قسمية وردت في آخر القصص الأربع تقريرا لمضمون ما سبق من قوله تعالى: * (ولقد جاءهم) * الخ وتنبيها على أن كل قصة منها مستقلة بإيجاب الادكار كافية في الازدجار، ومع ذلك لم يحصل فيها اعتبار، أي وبالله لقد سهلنا القرآن لقومك بأن أنزلناه على لغتهم وشحناه بأنواع المواعظ والعبر وصرفنا فيه من الوعيد والوعد * (للذكر) * أي للتذكر والاتعاظ * (فهل من مدكر) * إنكار ونفي للمتعظ على أبلغ وجه وأكده يدل على أنه لا يقدر أحد أن يجيب المستفهم بنعم، وقيل: المعنى سهلنا القرآن للحفظ لما اشتمل عليه من حسن النظم وسلاسة اللفظ وشرف المعاني وصحتها وعروه عن الوحشى ونحوه فله بالقلوب وحلاوة في السمع فهل من طالب لحفظه ليعان عليه؟ ومن هنا قال ابن جبير: لم يستظهر شيء من الكتب الالهية غير القرآن، وأخرج ابن المنذر. وجماعة عن مجاهد أنه قال: يسرنا القرآن هونا قراءته.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس لولا أن الله تعالى يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله تعالى.
وأخرج الديلمي عن أنس مرفوعا مثله. وأخرج ابن المنذر عن ابن سيرين أنه مر برجل يقول سورة خفيفة فقال: لا تقل ذلك ولكن قل سورة يسيرة لأن الله تعالى يقول: * (ولقد يسرنا القرآن للذكر) * والمعنى الذي ذكر أولا أنسب بالمقام، ولعل خبر أنس إن صح ليس تفسيرا للآية، وجوز تفسير * (يسرنا) * بهيأنا من قولهم: يسر ناقته للسفر إذا رحلها، ويسر فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه قال الشاعر: وقمت إليه باللجام (ميسرا) * هنالك يجزيني الذي كنت أصنع
* (كذبت عاد فكيف كان عذابى ونذر) *.
* (كذبت عاد) * شروع في قصة أخرى ولم تعطف وكذا ما بعدها من القصص إشارة إلى أن كل قصة مستقلة في القصد والاتعاظ ولما لم يكن لقوم نوح اسم علم ذكروا بعنوان الإضافة ولما كان لقوم هود علم وهو (عاد) ذكروا به لأنه أبلغ في التعريف، والمراد كذبت عاد هودا عليه السلام ولم يتعرض لكيفية تكذيبهم له عليه السلام روما للاختصار ومسارعة إلى بيان ما فيه الازدجار من العذاب، وقوله: * (فكيف كان عذابي ونذر) * لتوجيه قلوب السامعين نحو الإصغاء إلى ما يلقى إليهم قبل ذكره لا لتهويله وتعظيمه وتعجيبهم من حاله بعد بيانه كما قبله وما بعده كأنه قيل: * (كذبت عاد) * فهل سمعتم، أو فاسمعوا كيف عذابي وإنذاري لهم، وقيل: هو للتهويل أيضا لغرابة ما عذبوا به من الريح وانفراده بهذا النوع من العذاب، وفيه بحث [بم وقوله تعالى:
* (إنآ أرسلنا عليهم ريحا صرصرا فى يوم نحس مستمر) *.
* (إنآ أرسلنا عليهم ريحا صرصرا) * استئناف لبيان ما أجمل أولا، والصرصر الباردة على ما روي عن ابن عباس. وقتادة. والضحاك، وقيل: شديدة الصوت وتمام الكلام قد مر في * (فصلت) *.
* (في يوم نحس) * شؤم عليهم * (مستمر) * ذلك الشؤم لأنهم بعد أن أهلكوا لم يزالوا معذبين في البرزخ حتى يدخلوا جهنم يوم القيامة، والمراد باليوم مطلق الزمان لقوله تعالى: * (فأرسلنا عليهم ربحا صرصرا في أيام نحسات) * (فصلت: 16)، وقوله سبحانه: * (سخرها عليهم سبعليال وثمانية أيام حسوما) * (الحاقة: 7) والمشهور أنه يوم الأربعاء
84

وكان آخر شوال على معنى أن ابتداء إرسال الريح كان فيه فلا ينافي آيتي * (فصلت. والحاقة) *.
وجوز كون * (مستمر) * صفة يوم أي في يوم استمر عليهم حتى أهلكهم، أو شمل كبيرهم وصغيرهم حتى لم تبق منهم نسمة على أن أن الاستمرار بحسب الزمان أو بحسب الأشخاص والأفراد لكن على الأول لا بد من تجوز بإرادة استمرار نحسه، أو بجعل اليوم بمعنى مطلق الزمان لأن اليوم الواحد لم يستمر فتدبر، وجوز كون * (مستمر) * بمعنى محكم وكونه بمعنى شديد المرارة وهو مجاز عن بشاعته وشدة هو له إذ لا طعم له، وجوز كونه بدلا، أو عطف بيان وهو كما ترى، وقرأ الحسن * (يوم نحس) * بتنوين يوم وكسر حاء نحس، وجعله صفة ليوم فيتعين كون * (مستمر) * صفة ثانية له، وأيد بعضهم بالآية ما أخرجه وكيع في الغرر. وابن مردويه. والخطيب البغدادي عن ابن عباس مرفوعا آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر وأخذ بذلك كثير من الناس فتطيروا منه وتركوا السعي لمصالحهم فيه ويقولون له: أربعاء لا تدور، وعليه قوله: لقاؤك للمبكر فأل سوء * ووجهك - أربعاء لا تدور -
وذلك مما لا ينبغي، والحديث المذكور في سنده مسلمة بن الصلت قال أبو حاتم: متروك، وجزم ابن الجوزي بوضعه؛ وقال ابن رجب: حديث لا يصح ورفعه غير متفق عليه فقد رواه الطيوري من طريق آخر موقوفا على ابن عباس، وقال السخاوي: طرقه كلها واهية، وضعفوا أيضا خبر الطبراني يوم الأربعاء يوم نحس مستمر، والآية قد علمت معناها، وجاء في الأخبار والآثار ما يشعر بمدحه ففي منهاج الحليمي، وشعب البيهقي أن الدعاء يستجاب يوم الأربعاء بعيد الزوال، وذكر برهان الإسلام في تعليم المتعلم عن صاحب الهداية أنه ما بدىء شيء يوم الأربعاء إلا وتم وهو يوم خلق الله تعالى فيه النور فلذلك كان جمع من المشايخ يتحرون ابتداء الجلوس للتدريس فيه، واستحب بعضهم غرس الأشجار فيه لخبر ابن حبان. والديلمي عن جابر مرفوعا " من غرس الأشجار يوم الأربعاء وقال: سبحان الباعث الوارث أتته
أكلها " نعم جاءت أخبار وآثار تشعر بخلاف ذلك، ففي الفردوس عن عائشة مرفوعا " لولا أن تكره أمتي لأمرتها أن لا يسافروا يوم الأربعاء، وأحب الأيام إلى الشخوص فيها يوم الخميس " وهو غير معلوم الصحة عندي.
وأخرج أبو يعلى عن ابن عباس. وابن عدى. وتمام في فوائده عن أبي سعيد مرفوعا يوم السبت يوم مكر وخديعة. ويوم الأحد يوم غرس وبناء. ويوم الاثنين يوم سفر وطلب رزق. ويوم الثلاثاء يوم حديد وبأس. ويوم الأربعاء لا أخذ ولا عطاء. ويوم الخميس يوم طلب الحوائج والدخول على السلطان. والجمعة يوم خطبة ونكاح، وتعقبه السخاوي بأن سنده ضعيف، وروي ابن ماجه عن ابن عمر مرفوعا، وخرجه الحاكم من طريقين آخرين " لا يبدو جذام ولا برص إلا يوم الأربعاء " وفي بعض الآثار النهي عن قص الأظفار ويوم الأربعاء وأنه يورث البرص، وكره بعضهم عيادة المرضى فيه، وعليه قيل: لم يؤت في الأربعاء مريض * إلا دفناه في الخميس
وحكى عن بعضهم أنه قال لأخيه: أخرج معي في حاجة فقال: هو الأربعاء قال: فيه ولد يونس قال: لا جرم قد بانت له بركته في اتساع موضعه وحسن كسوته حتى خلصه الله تعالى قال: وفيه ولد يوسف عليه السلام قال: فما أحسن ما فعل أخوته حتى طال حبسه وغربته قال: وفيه نصر المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قال: أجل لكن - بعد أن زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر - ونقل المناوي عن البحر أن
85

أخباره عليه الصلاة والسلام عن نحوسة آخر أربعاء في الشهر من باب التطير ضرورة أنه ليس من الدين بل فعل الجاهلية ولا مبني على قول المنجمين أنه يوم عطارد وهو نحس مع النحوس سعد مع السعود فإنه قول باطل، ويجوز أن يكون من باب التخويف والتحذير أي احذروا ذلك اليوم لما نزل فيه من العذاب وكان فيه من الهلاك وجددوا فيه لله تعالى توبة خوفا أن يلحقكم فيه بؤس كما وقع لمن قبلهم، وهذا كما قال حين أتى الحجر: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين إلي غير ذلك، وحكى أيضا عن بعضهم أنه قال: التطير مكروه كراهية شرعية إلا أن الشرع أباح لمن أصابه في آخر أربعاء شيء في مصالحه أن يدع التصرف فيه لا على جهة التطير واعتقاد أنه يضر أو ينفع بغير إذن الله تعالى بل على جهة اعتقاد إباحة الإمساك فيه لما كرهته النفس لا افتقاءا للتطير ولكن إثباتا للرخصة في التوقي فيه لمن يشاء مع وجوب اعتقاد أن شيئا لا يضر شيئا؛ ونقل عن الحليمي أنه قال: علمنا ببيان الشريعة أن من الأيام نحسا، ويقابل النحس السعد وإذا ثبت الأول ثبت الثاني أيضا، فالأيام منها نحس ومنها سعد كالأشخاص منهم شقي ومنهم سعيد، لكن زعم أن الأيام والكواكب تنحس أو تسعد باختيارها أوقاتا وأشخاصا باطل، والقول - إن الكواكب قد تكون أسبابا للحسن والقبيح والخير والشر والكل فعل الله تعالى وحده - مما لا بأس به، ثم قال المناوي: والحاصل أن توقي الأربعاء على جهة الطيرة وظن اعتقاد المنجمين حرام شديد التحريم إذ الأيام كلها لله تعالى لا تنفع ولا تضر بذاتها وبدون ذلك لا ضير ولا محذور فيه؛ ومن تطير حاقت به نحوسته، ومن أيقن بأنه لا يضر ولا ينفع إلا الله عز وجل لم يؤثر فيه شيء من ذلك كما قيل: تعلم أنه لا طير إلا
على (متطير) وهو الثبور
انتهى، وأقول كل الأيام سواء ولا اختصاص لذلك بيوم الأربعاء وما من ساعة من الساعات إلا وهي سعد على شخص نحس على آخر باعتبار ما يحدث الله تعالى فيها من الملائم والمنافر والخير والشر، فكل يوم من الأيام يتصف بالأمرين لاختلاف الاعتبار وإن استنحس يوم الأربعاء لوقوع حادث فيه فليستنحس كل يوم فما أولج الليل في النهار في الليل إلا لايلاد الحوادث، وقد قيل: ألا إنما الأيام أبناء واحد * وهذي الليالي كلها أخوات
وقد حكى أنه صبح ثمود العذاب يوم الأحد، وورد في الأثر ولا أظنه يصح - نعوذ بالله تعالى من يوم الأحد فإن له حدا أحد من السيف - ولو صح فلعله في أحد مخصوص علم بالوحي ما يحدث فيه، وزعم بعضهم - أن من المجرب الذي لم يخط قط أنه متى كان اليوم الرابع عشر من الشهر القمري الأحد وفعل فيه شيء لم يتم - غير مسلم، وورد في الفردوس من حديث ابن مسعود - خلق الله تعالى الأمراض يوم الثلاثاء، وفيه أنزل إبليس إلى الأرض، وفيه خلق جهنم، وفيه سلط الله تعالى ملك الموت على أرواح بني آدم. وفيه قتل قابيل هابيل، وفيه توفي موسى وهارون عليهم السلام، وفيه ابتلى أيوب - الحديث، وهو إن صح لا يدل على نحوسته غايته أنه وقع فيه ما وقع وقد وقع فيه غير ذلك مما هو خير، ففي رواية مسلم - خلق المنفق أي ما يقوم به المعاش يوم الثلاثاء - وإذا تتبعت التواريخ وقفت على حوادث عظيمة في سائر الأيام، ويكفي في هذا الباب أن حادثة عاد استوعبت أيام الأسبوع فقد قال سبحانه: * (سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما) * (الحاقة: 7) فإن كانت النحوسة لذلك فقل لي أي يوم من الأسبوع خلا منها؟! ومثل أمر النحوسة فيما أرى أمر تخصيص كل يوم بعمل كما
86

يزعمه كثير من الناس، ويذكرون في ذلك أبياتا نسبها الحافظ الدمياطي لعلي كرم الله تعالى وجهه وهي: فنعم اليوم (يوم السبت) حقا * لصيد إن أردت بلا امتراء
وفي (الأحد) البناء لأن فيه * تبدى الله في خلق السماء
وفي (الاثنين) إن سافرت فيه * سترجع بالنجاح وبالثراء
ومن يرد الحجامة (فالثلاثا) * ففي ساعاته هرق الدماء
وإن شرب امرأ يوما دواءا * فنعم اليوم يوم (الأربعاء)
وفي (يوم الخميس) قضاء حاج * فإن الله يأذن بالقضاء
وفي (الجمعات) تزويج وعرس * ولذات الرجال مع النساء
وهذا العلم لا يدريه إلا * نبي أو وصى الأنبياء
ولا أظنها تصح، وقصارى ما أقول: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن لا دخل في ذلك لوقت ولا لغيره، نعم لبعض الأوقات شرف لا ينكر كيوم الجمعة وشهر
رمضان وغير ذلك، ولبعضها عكس ذلك كالأوقات التي تكره فيها الصلاة لكن هذا أمر ومحل النزاع أمر فاحفظ ذاك، والله تعالى يتولى هداك، وقوله تعالى:
* (تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر) *.
* (تنزع الناس) * يجوز أن يكون صفة للريح وأن يكون حالا منها لأنها وصفت فقربت من المعرفة، وجوز أن يكون مستأنفا، وجيء - بالناس - دون ضمير عادقيل: ليشمل ذكورهم وإناثهم - والنزع - القلع، روي أنهم دخلوا الشعاب والحفر وتمسك بعضهم ببعض فقلعتهم الريح وصرعتهم موتى.
* (كأنهم أعجاز نخل منقعر) * أي منقلع عن مغارسه ساقط على الأرض، وقيل: شبهوا بأعجاز النخل وهي أصولها بلا فروع لأن الريح كانت تقلع رؤوسهم فتبقى أجسادا وجثثا بلا رؤوس، ويزيد هذا التشبيه حسنا أنهم كانوا ذوي جثث عظام طوال، والنخل اسم جنس يذكر نظرا للفظ كما هنا ويؤنث نظرا للمعنى كما في قوله تعالى: * (أعجاز نخل خاوية) * (الحاقة: 2) واعتبار كل في كل من الموضعين للفاصلة، والجملة التشبيهية حال من الناس وهي حال مقدرة، وقال الطبري: في الكلام حذف والتقدير فتركتهم كأنهم الخ، فالكاف على ما في البحر في موضع نصب بالمحذوف وليس بذاك وقرأ أبو نهيك أعجز على وزن أفعل نحو ضبع وأضبع، وقوله تعالى:
* (فكيف كان عذابى ونذر) *.
* (فكيف كان عذابي ونذر) * تهويل لهما وتعجيب من أمرهما بعد بيانهما فليس فيه شائبة تكرار مع ما تقدم، وقيل: إن الأول لما حاق بهم في الدنيا والثاني لما يحيق بهم في الآخرة، و * (كان) * للمشاكلة، أو للدلالة على تحققه على عادته سبحانه في إخباره، وتعقب بأنه يأباه ترتيب الثاني على العذاب الدنيوي.
* (ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر) *.
* (ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر) * الكلام فيه كالذي مر.
* (كذبت ثمود بالنذر) *.
* (كذبت ثمود بالنذر) * بالرسل عليهم الصلاة والسلام فإن تكذيب أحدهم وهو صالح عليه السلام هنا تكذيب للكل لاتفاقهم على أصول الشرائع، وجوز أن يكون مصدرا، أو جمعا له وأن يكون جمع نذير بمعنى المنذر منه فلا تغفل.
* (فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنآ إذا لفى ضل‍ال وسعر) *.
* (فقالوا أبشرا منا) * أي كائنا من جنسنا على أن اجلار والمجرور في موضع الصفة - لبشرا - وانتصابه بفعل يفسره - نتبع - بعد أي أنتبع بشرا * (واحدا) * أي منفردا لاتبع له، أو واحدا من آحادهم لا من أشرافهم كما يفهم من التنكير
87

الدال على عدم التعيين وهو صفة أخرى لبشر وتأخيره مع إفراده عن الصفة الأولى مع كونها شبه الجملة للتنبيه على أن كلا من الجنسية والوحدة مما يمنع الاتباع ولو قدم عليها لفات هذا التنبيه، وقرأ أبو السمال فيما ذكر الهذلي في كتابه الكامل. وأبو عمرو الداني - أبشر منا واحد - برفعهما على أن - بشر - مبتدأ، وما بعد صفته، وقوله تعالى: * (نتبعه) * خبره. ونقل ابن خالويه. وصاحب اللوامح. وابن عطية عن أبي السمال رفع - بشر - ونصب * (واحدا) * وخرج ذلك ابن عطية على أن رفع - بشر - إما على إضمار فعل مبني للمفعول والتقدير أينبأ بشر، وإما على الابتداء والخبر جملة * (نتبعه) *، ونصب * (واحدا) * على الحال إما من ضمير النصب في * (نتبعه) *. وإما من الضمير المستقر في * (منا) * وخرج صاحب اللوامح نصب * (واحدا) * على هذا أيضا، وأما رفع بشر فخرجه على الابتداء وإضمار الخبر أي أبشر منا يبعث إلينا أو يرسل أو نحوهما، وتقدم الاستفهام يرجح تقدير فعل يرفع به * (إنا إذا) * أي إذا اتبعنا بشرا منا واحدا * (لفي ضل‍ال) * عظيم عن الحق * (وسعر) * أي نيران جمع سعير.
وروي أن صالحا عليه السلام كان يقول لهم: إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق وسعر فعكسوا عليه لغاية عتوهم فقالوا: إن اتبعناك كنا إذا كما تقول، فالكلام من باب التعكيس والقول بالموجب، وجمع السعير باعتبار الدركات، أو للمبالغة، وروي عن ابن عباس ما يحتمل ما قلنا فإنه قال: أي لفي بعد عن الحق وعذاب، وفي رواية أخرى عنه تفسير السعر بالجنون على أنه اسم مفرد بمعنى ذلك يقال ناقة مسعورة إذا كانت تفرط في سيرها كأنها مجنونة قال الشاعر: كأن بها (سعرا) إذا العيس هزها * ذميل وإرخاء من السير متعب
والأول أوجه وأفصح.
* (أءلقى الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر) *.
* (أءلقى الذكر عليه من بيننا) * أي أأنزل عليه الوحي من بيننا وفينا من هو أحس منه بذلك، والتعبير بألقي دون أنزل قيل: لأنه يتضمن العجلة في الفعل * (بل هو كذاب اشر) * أي شديد البطر وهو على ما قال الراغب: دهش يعتري من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها ووضعها إلى غير وجهها، ويقاربه الطرب وهو خفة أكثر ما تعتري من الفرح، ومرادهم ليس الأمر كذلك بل هو كذا وكذا حمله شدة بطره وطلبه التعظيم علينا على ادعاء ذلك، وقرأ قتادة. وأبو قلابة - بل هو الكذب الأشر - بلام التعريف فيهما وبفتح الشين وشد الراء، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا ما في ذلك، وقوله تعالى:
* (سيعلمون غدا من الكذاب الاشر) *.
* (سيعلمون غدا من الكذاب الأشر) * حكاية لما قاله سبحانه وتعالى بصالح عليه السلام وعدا له ووعيدا لقومه، والسين لتقريب مضمون الجملة وتأكيده، والمراد بالغد
وقت نزول العذاب الدنيوي بهم، وقيل: يوم القيامة فهو لمطلق الزمان المستقبل وعبر به لتقريبه، وعليه قول الطرماح: ألا عللاني قبل نوح النوائح * وقبل اضطراب النفس بين الجوانح
وقبل (غد) يا لهف نفسي على غد * إذا راح أصحابي ولست برائح
أي * (سيعلمون) * البتة عن قريب * (من الكذاب الأشر) * الذي حمله أشره وبطره على ما حمله أصالح أم من كذبه، والمراد سيعلمون أنهم هم الكذابون الأشرون لكن أورد ذلك مورد الإبهام إيماءا إلى أنه مما لا يكاد يخفي، ونحوه قول الشاعر:
88

فلئن لقيتك خاليين لتعلمن * (أيى وأيك) فارس الأحزاب
وقرأ ابن عامر. وحمزة. وطلحة. وابن وثاب. والأعمش - ستعلمون - بتاء الخطاب على حكاية ما قال لهم صالح مجيبا لهم، وفي " الكشاف " أو هو كلام على سبيل الالتفات، قال " صاحب الكشف ": أي هو كلام الله تعالى لقوم ثمود على سيل الالتفات إليهم إما في خطابه تعالى لرسولنا صلى الله عليه وسلم وهو نظير ما حكاه سبحانه عن شعيب * (فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم) * (الأعراف: 79) بعد ما استؤصلوا هلاكا وهو من بليغ الكلام فيه دلالة على أنهم أحقاء بهذا الوعيد وكأنهم حضور في المجلس حول إليهم الوجه لينعى عليهم جناياتهم. وإما في خطابه عز وجل لصالح عليه السلام والمنزل حكاية ذلك الكلام المشتمل على الالتفات. وعلى التقديرين لا إشكال فيه كما توهم. ولفظ الزمخشري على الأول أدل وهو أبلغ انتهى، ومن التفت إلى ما قاله الجمهور في الالتفات لا أظنه تسكن نفسه بماذكر فتأمل، وقرأ مجاهد فيما ذكره " صاحب اللوامح ". وأبو قيس الأودي * (الأشر) * بثلاث ضمات وتخفيف الراء. ويقال: أشر وأشر كحذر وحذر فضمة الشين لغة وضم الهمزة تبع لها.
وحكى الكسائي عن مجاهد ضم الشين دون الهمزة فهو كندس. وقرأ أبو حيوة * (الأشر) * أفعل تفضيل أي الأبلغ في الشرارة وكذا قرأ قتادة. وأبو قلابة أيضا وهو قليل الاستعمال وإن كان على الأصل كالأخير في قول رؤبة: بلال خير الناس وابن الأخير
وقال أبو حاتم: لا تكاد العرب تتكلم - بالأخير - و * (الأشر) * إلا في ضرورة الشعر وأنشد البيت، وقال الجوهري: لا يقال * (الأشر) * إلا في لغة رديئة؛ وقوله تعالى:
* (إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر) *.
* (إنا مرسلوا الناقة) * الخ استئناف مسوق لبيان مبادي الموعود على ما هو الظاهر، وبه يتعين كون المراد بالغد وقت نزول العذاب الدنيوي بهم دون يوم القيامة، والإرسال حقيقة في البعث وقد جعل هنا كناية عن الإخراج، وأريد المعنى الحقيقي معه كما أومأ إليه بعض الأجلة أي إنا مخرجوا الناقة التي سألوها من الهضبة وباعثوها * (فتنة لهم) * امتحانا، وجوز إبقاؤها على معناها المعروف * (فارتقبهم) * فانتظرهم وتبصر ما هم فاعلون * (واصطبر) * على أذاهم ولا تعجل حتى يأتي أمر الله تعالى.
* (ونبئهم أن المآء قسمة بينهم كل شرب محتضر) *.
* (ونبئهم أن الماء) * وأخبرهم بأن ماء البئر التي لهم * (قسمة بينهم) * مقسوم لها يوم ولهم يوم، و * (بينهم) * لتغلب العقلاء، وقرأ معاذ عن أبي عمرو و * (قسمة) * بفتح القاف * (كل شرب) * نصيب وحصة منه * (محتضر) * يحضره صاحبه في نوبته فتحتضر الناقة نارة ويحضرونه أخرى، وقيل: يتحول عنه غير صاحبه من حضر عن كذا تحول عنه وقيل: يمنع عنه غير صاحبه مجاز عن الحظر بالظاء بمعنى المنع بعلاقة السببية فإنه مسبب عن حضور صاحبه في نوبته وهو كما ترى، وقيل: يحضرون الماء في نوبتهم واللبن في نوبتها، والمعنى كل شرب من الماء واللبن تحضرونه أنتم.
* (فنادوا ص‍احبهم فتعاطى فعقر) *.
* (فنادوا) * أي فأرسلنا الناقة وكانوا على هذه الوتيرة من القسمة فملوا ذلك وعزموا على عقر الناقة * (فنادوا) * لعقرها * (صاحبهم) * وهو قدار بن سالف أحيمر ثمود وكان أجرأهم * (فتعاطى) * العقر أي فاجترأ على تعاطيه مع عظمه غير مكترث به.
* (فعقر) * فأحدث العقر بالناقة، وجوز أن يكون المراد فتعاطى الناقة فعقرها، أو فتعاطى السيف فقتلها، وعلى كل فمفعول تعاطى محذوف والتفريع لا غبار عليه، وقيل: تعاطى منزل منزلة اللازم على أن معناه أحدث
89

ماهية التعاطي، وقوله تعالى: * (فعقر) * تفسير له لا متفرع عليه ولا يخفى ركاكته، والتعاطي التناول مطلقا على ما يفهم من كلام غير واحد، وزاد بعضهم قيد بتكلف ونسبة العقر إليهم في قوله تعالى: * (فعقروا الناقة) * (الأعراف: 77) لأنهم كانوا راضين به.
* (فكيف كان عذابى ونذر) *.
* (فكيف كان عذابي ونذر) * الكلام فيه كالذي تقدم.
* (إنآ أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر) *.
* (إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة) * هي صيحة جبريل عليه السلام صاح صباح يوم الأحد كما حكى المناوي عن الزمخشري في طرف منازلهم * (فكانوا) * أي فصاروا * (كهشيم المحتظر) * أي كالشجر اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء.
وفي " البحر " الهشيم ما تفتت من الشجر، و * (المحتظر) * الذي يعمل الحظيرة فإنه يتفتت منه حالة العمل ويتساقط أجزاء مما يعمل به، أو يكون الهشيم ما يبس من الحظيرة بطول الزمان تطؤه البهائم فيتهشم، وتعقب هذا بأن الأظهر عليه كهشيم الحظيرة، والحظيرة الزريبة التي تصنعها العرب. وأهل البوادي للمواشي والسكنى من الأغصان والشجر المورق والقصب من الحظر وهو المنع.
وقرأ الحسن. وأبو حيوة. وأبو السمال. وأبو رجاء. وعمرو بن عبيد * (المحتظر) * بفتح الظاء على أنه اسم مكان. والمراد به الحظيرة نفسها أو هو اسم مفعول قيل: ويقدر له موصوف أي * (كهشيم) * الحائط * (المحتظر) * أو لا يقدر على أن * (المحتظر) * الزريبة نفسها كما سمعت. وجوز أن يكون مصدرا أي كهشيم الاحتظار أي ما تفتت حالة الاحتظار.
* (ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر) *.
* (ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر) * كما مر.
* (كذبت قوم لوط بالنذر) *.
* (كذبت قوم لوط بالنذر) * على قياس النظير السابق * (إنا أرسلنا عليهم حاصبا) * ملكا على ما قيل - يحصبهم أي يرميهم بالحصباء والحجارة أو هم اسم للريح التي تحصب ولم يرد بها الحدوث كما فناقة ضامر وهو وجه التذكير، وقال ابن عباس: هو ما حاصبوا به من السماء من الحجارة في الريح، وعليه قول الفرزدق: مستقبلين شمال الشام تضربنا * (بحاصب) كنديف القطن منثور
* (إنآ أرسلنا عليهم ح‍اصبا إلا آل لوط نجين‍اهم بسحر) *.
* (إلا ءال لوط) * خاصته المؤمنين به، وقيل: إله ابنتاه * (نجين‍اهم بسحر) * أي في سحر وهو آخر الليل، وقيل: السدس الأخير منه، وقال الراغب: السحر والسحرة اختلاط ظلام آخر الليل بصفاء النهار وجعل اسما لذلك الوقت، ويجوز كون الباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال أي ملتبسين * (بسحر) * داخلين فيه.
* (نعمة من عندنا كذلك نجزى من شكر) *.
* (نعمة من عندنا) * أي إنعاما منا وهو علة لنجينا، ويجوز نصبه بفعل مقدر من لفظه، أو بنجينا لأن النتيجة إنعام فهو كقعدت جلوسا * (كذالك) * أي مثل ذلك الجزاء العجيب * (نجزى من شكر) * نعمتنا بالايمان والطاعة.
* (ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر) *.
* (ولقد أنذرهم) * لوط عليه السلام * (بطشتنا) * أخذتنا الشديدة بالعذاب.
وجوز أن يراد بها نفس العذاب * (فتماروا) * فكذبوا * (بالنذر) * متشاكين، فالفعل مضمن معنى التكذيب ولولاه تعدى بفي.
* (ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنآ أعينهم فذوقوا عذابى ونذر) *.
* (ولقد راودوه عن ضيفه) * صرفوه عن رأيه فيهم وطلبوا الفجور بهم وهذا من إسناد ما للبعض للجميع لرضاهم به * (فطمسنا اعينهم) * أي أزلنا أثرها وذلك بمسحها وتسويتها كسائر الوجه، وهو كما قال أبو عبيدة، وروى أن جبريل عليه السلام استأذن ربه سبحانه في عقوبتهم ليلة جاءوا وعالجوا الباب ليدخلوا عليهم فصفقهم بجناحه فتركهم عميانا يترددون لا يهتدون إلى طريق خروجهم حتى أخرجهم لوط عليه السلام
90

وقال ابن عباس. والضحاك: إنما حجب إدراكهم فدخلوا المنزل ولم يروا شيئا فجعل ذلك كالطمس فعبر به عنه.
وقرأ ابن مقسم * (فطمسنا) * بتشديد الميم للتكثير في المفعول * (فذوقوا عذابي ونذر) * أي فقلنا لهم ذلك على ألسنة الملائكة عليهم السلام، فالقول في الحقيقة لهم وأسند إليه تعالى مجازا لأنه سبحانه الآمر أو القائل ظاهر الحال فلا قول وإنما هو تمثيل، والمراد بالعذاب الطمس وهو من جملة ما أنذروه.
* (ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر) *.
* (ولقد صبحهم بكرة) * أول النهار وهي أخص من الصباح فليس في ذكرها بعده زيادة وكان ذلك أول شروق الشمس، وقرأ زيد بن علي * (بكرة) * غير مصروفة للعلمية والتأنيث على أن المراد بها أول نهار مخصوص.
* (عذاب مستقر) * يستقر بهم ويدوم حتى يسلمهم إلى النار، أو لا يدفع عنهم، أو يبلغ غايته.
* (فذوقوا عذابي ونذر) *
* (فذوقوا عذابي ونذر) * حكاية لما قيل لهم بعد التصحيح من جهته تعالى تشديد اللعذاب أو هو تمثيل.
* (ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر) *.
* (ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر) * تقدم ما فيه من الكلام.
* (ولقد جآء ءال فرعون النذر) *.
* (ولقد جاء آل فرعون النذر) * صدرت قصتهم بالتوكيد القسمي لإبراز كمال الاعتناء بشأنها لغاية عظم ما فيها من الآيات وكثرتها وهول ما لاقوه من العذاب وقوة
إيجابها للاتعاظ والاكتفاء بذكر آل فرعون للعلم بأن نفسه أولى بذلك فإنه رأس الطغيان ومدعي الألوهية، والقول: بأنه إشارة إلى إسلامه مما لا يلتفت إليه، و * (النذر) * إن كان جمع نذير بمعنى الإنذار فالأمر ظاهر وكذا إن كان مصدرا، وأما إن كان جمع نذير بمعنى المنذر فالمراد به موسى. وهرون. وغيرهما لأنهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون أي وبالله تعالى لقد جاءهم المنذرون، أو الإنذارات، أو الإنذار، وقوله تعالى:
* (كذبوا بااي‍اتنا كلها فأخذن‍اهم أخذ عزيز مقتدر) *.
* (كذبوا بآياتنا كلها) * استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية مجيء النذر كأنه قيل: فماذا فعل آل فرعون حينئذ؟ فقيل: كذبوا بجميع آياتنا وهي آيات الأنبياء كلهم عليهم السلام فإن تكذيب البعض تكذيب للكل، أو هي الآيات التسع، وجوز الواحدي أن يراد بالنذر نفس الآيات فقوله سبحانه: * (بآياتنا) * من إقامة الظاهر مقام الضمير والأصل كذبوا بها، وزعم بعض غلاة الشيعة وهم المسلمون بالكشفية في زماننا أن المراد - بالآيات كلها - علي كرم الله تعالى وجهه فإنه الإمام المبين المذكور في قوله تعالى: * (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين) * وأنه كرم الله تعالى وجهه ظهر مع موسى عليه السلام لفرعون وقومه فلم يؤمنوا - وهذا من الهذيان بمكان - نسأل الله تعالى وجهه ظهر مع موسى عليه السلام لفرعون وقومه فلم يؤمنوا - وهذا من الهذيان بمكان - نسأل الله تعالى العفو والعافية * (فأخذناهم) * أي آل فرعون، وزعم بعض أن ضمير * (كذبوا) * وضمير أخذناهم عائدان على جميع من تقدم ذكره من الأمم وتم الكلام عند قوله تعالى: * (النذر) * وليس بشيء، والفاء للتفريع أي * (فأخذناهم) * وقهرناهم لأجل تكذيبهم. * (أخذ عزيز) * لا يغالب * (مقتدر) *.
لا يعجزه شيء، ونصب أخذ على المصدرية لا على قصد التشبيه.
* (أكف‍اركم خير من أول‍ائكم أم لكم برآءة فى الزبر) *.
* (أكفاركم خير من أول‍ائكم) * أي الكفار المعدودين قوم نوح. وهود. وصالح. ولوط. وآل فرعون، والمراد الخيرية باعتبار الدنيا وزينتها ككثرة القوة والشدة ووفور العدد والعدة، أو باعتبار لين الشكيمة في الكفر بأن يكون الكفار المحدث عنهم بالخيرية أقل عنادا وأقرب طاعة وانقيادا، وظاهر كلام كثير أن الخطاب هنا عام للمسلمين وغيرهم حيث قالوا: * (أكفاركم) * يا معشر العرب * (خير) * الخ والاستفهام إنكاري في معنى النفي فكأنه قيل: ما كفاركم خير من أولئكم الكفار المعدودين بأن يكونوا أكثر منهم قوة وشدة وأوفر عددا وعدة، أو بأن يكونوا ألين شكيمة في الكفر والعصيان
91

والضلال والطغيان بل هم دونهم في القوة وما أشبهها من زينة الدنيا، أو أسوأ حالا منهم في الكفر، وقد أصاب من هو خير ما أطاب فكيف يطمعون هم في أن لا يصيبهم نحو ذلك، وكذا قيل: في الخطاب في قوله تعالى:
* (ام لكم براءة في الزبر) * وجعل بتقدير أم لكفاركم وهو إضراب وانتقال إلى تنكيت آخر فكأنه قيل: بل ألكفاركم براءة وأمن من تبعات ما يعملون من الكفر والمعاصي وغوائلها في الكتب السماوية فلذلك يصرون على ما هم عليه ولا يخافون، واختار بعضهم في هذا أنه خاص بالكفار، وقالوا في قوله تعالى:
* (أم يقولون نحن جميع منتصر) *.
* (ام يقولون نحن جميع منتصر) * إنه إضراب من التبكيت المذكور إلى تبكيت آخر بطريق الالتفات للإيذان بإفضاء حالهم إلى الإعراض عنهم وإسقاطهم عن رتبة الخطاب وحكاية قبائحهم لغيرهم، أي بل أيقولون واثقين بشوكتهم نحن جماعة أمرنا مجتمع لا يرام ولا يضام، أو * (منتصر) * من الأعداء لا يغلب، أو متناصر ينصر بعضنا بعضا.
والذي يترجح في نظر الفقير أن الخطاب في الموضعين خاص على ما يقتضيه السياق بكفار أهل مكة أو العرب وهو ظاهر في الموضع الثاني لا يحتاج إلى شيء، وأما في الموضع الأول فوجهه أن تكون الإضافة مثلها في الدراهم كلها كذا، وطور سيناء، ويوم الأحد ولم يقل أأنتم للتنصيص على كفرهم المقتضى لهلاكهم، ويجوز أن يعتبر في * (أكفاركم) * ضرب من التجريد الذي ذكروه في نحو * (لهم فيها دار الخلد) * (فصلت: 28) فكأنه جرد منهم كفار وأضيفوا إليهم، وفي ذلك من المبالغة ما فيه، ويجوز أن يكون هذا وجها للعدول عن أأنتم، وربما يترجح به كون الخيرية المنفية باعتبار لين الشكيمة في الكفر وكأنه لما خوف سبحانه الكفار الذين كذبوا الآيات وأعرضوا عنها، وقالوا هي سحر مستمر بذكر ما حل بالأمم السالفة مما تبرق وترعد منه أسارير الوعيد قال عز وجل لهم: لم لا تخافون أن يحل بكم مثل ما حل بهم أأنتم أقل كفرا وعنادا منهم ليكون ذلك سببا للأمن من حلول نحو عذابهم بكم أم أعطاكم الله عز وجل براءة من عذابه أم أنتم أعز منهم منتصرون على جنود الله تعالى وعدل سبحانه عن أم أنتم جميع منتصر إلى ما في النظم الجليل للإشارة إلى أن ذلك مما لا تحقق له أصلا إلا باللفظ ومحض الدعوى التي لا يوافق عليها فتأمل، فأسرار كلام الله تعالى لا تتناهى، ثم لا تعجل بالاعتراض على ما قلناه وإن لم يكن لنا سلف فيه حسبما تتبعنا، ثم إن * (جميع) * على ما أشير إليه بمعنى الجماعة التي أمرها مجتمع وليس من التأكيد في شيء بل هو خبر * (نحن) *، وجوز أن يكون بمعنى مجتمع خبر مبتدأ محذوف وهو * (أمرنا) * والجملة خبر * (نحن) * وأن يكون هو الخبر والإسناد مجازي، و * (منتصر) * على ما سمعت إما بمعنى ممتنع يقال: نصره فانتصر إذا منعه فامتنع.
والمراد بالامتناع عدم المغلوبية أو هو بمعنى منتقم من الأعداء أو هو من النصر بمعنى العون؛ والافتعال بمعنى التفاعل كالاختصام والتخاصم وكان الظاهر منتصرون إلا أنه أفرد باعتبار لفظ الجميع فإنه مفرد لفظا جمع معنى ورجح هناجانب اللفظ عكس بل أنتم قوم تجهلون لخفة الإفراد مع رعاية الفاصلة وليس في الآية رعاية جانب المعنى أولا، ثم رعاية جانب اللفظ ثانيا على عكس المشهور، وإن كان ذلك جائزا على الصحيح كما لا يخفى على الخبير، وقرأ أبو حيوة. وموسى الأسواري. وأبو البرهسم - أم تقولون - بتاء الخطاب، وقوله تعالى:
* (سيهزم الجمع ويولون الدبر) *.
* (سيهزم الجمع) * رد لقولهم ذلك والسين للتأكيد أي يهزم جمعهم البتة * (ويولون الدبر) * أي الأدبار، وقد قرىء كذلك، والإفراد لإرادة الجنس الصادق على الكثير مع رعاية الفواصل ومشاكلة القرائن، أو لأنه في تأويل يولي كل واحد منهم دبره على حد كسانا الأمير حلة مع الرعاية المذكورة أيضا وقد كان هذا يوم بدر وهو من دلائل النبوة لأن الآية مكية، وقد نزلت حيث لم يفرض جهاد ولا كان قتال ولذا قال عمر
92

رضي الله تعالى عنه: يوم نزلت أي جمع يهزم أي من جموع الكفار؟ ولم يتعرض لقتال أحد منهم، وقد تقدم الخبر.
ومما أشرنا إليه يعلم أن قول الطيبي في هذه الرواية نظر لأن همزة الإنكار في * (أم يقولون) * الخ دلت على أن المنهزمين من هم ناشيء عن الغفلة عن مراد عمر رضي الله تعالى عنه، وقرأ أبو حيوة. وموسى الأسواري. وأبو البرهسم - ستهزم الجمع - بفتح التاء وكسر الزاي خطابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونصب الجمع على المفعولية، وقرأ أبو حيوة أيضا. ويعقوب - سنهزم - بالنون مفتوحة وكسر الزاي على إسناد الفعل إلى ضمير العظمة، وعن أبي حيوة. وابن أبي عبلة * (سيهزم) * الجمع بفتح الياء مبنيا للفاعل ونصب الجمع أي سيهزم الله تعالى الجمع، وقرأ أبو حيوة. وداود بن أبي سالم عن أبي عمرو - وتولون - بتاء الخطاب.
* (بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر) *.
* (بل الساعة موعدهم) * أي ليس هذا تمام عقوبتهم بل الساعة موعد عذابهم وهذا من طلائعه * (والساعة ادهى) * أي أعظم داهية وهي الأمر المنكر الفظيع الذي لا يهتدي إلى الخلاص عنه * (وامر) * وأشد مرارة في الذوق وهو استعارة لصعوبتها على النفس، وقيل: أقوى وليس بذاك وإظهار الساعة في موضع إضمارها لتربية تهويلها.
* (إن المجرمين فى ضل‍ال وسعر) *.
* (إن المجرمين) * من الأولين والآخرين * (في ضل‍ال) * في هلاك * (وسعر) * ونيران مسعرة أو في ضلال عن الحق ونيران في الآخرة، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: في خسران وجنون، وقوله تعالى:
* (يوم يسحبون فى النار على وجوههم ذوقوا مس سقر) *.
* (يوم يسحبون) * أي يجرون * (في النار على وجوههم) * متعلق بقول مقدر بعده أي يوم يسحبون يقال لهم * (ذوقوا مس سقر) * وجوز أن يكون متعلقا بمقدر يفهم مما قبل أي يعذبون، أو يهانون، أو نحوه، وجملة القول عليه حال من ضمير * (يسحبون) * وجوز كونه متعلقا - بذوقوا - على أن الخطاب للمكذبين المخاطبين في قوله تعالى: * (أكفاركم) * الخ أي ذوقوا أيها المكذبون محمدا صلى الله عليه وسلم يوم يسحب المجرمون المتقدمون، والمراد حشرهم معهم والتسوية بينهم في الآخرة كما ساووهم في الدنيا وهو كما ترى، والمراد - بمس سقر - ألمها على أنه مجاز مرسل عنه بعلاقة السببية فإن مسها سبب للتألم بها وتعلق الذوق بمثل ذلك شائع في الاستعمال، وفي " الكشاف " * (مس سقر) * كقولك وجد مس الحمى وذاق طعم الضرب لأن النار إذا أصابتهم بحرها ولحقتهم بإيلامها فكأنها تمسهم مسا بذلك كما يمس الحيوان ويباشر بما يؤذي ويؤلم وهو مشعر بأن في الكلام استعارة مكنية نحو * (ينقضون عهد الله) * ويحتمل غير ذلك، * (وسقر) * على لجهنم - أعاذنا الله تعالى منها ببركة كلامه العظيم وحرمة حبيبه عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم - من سرقته للنار وصقرته بإبدال السين صادا لأجل القاف إذا لوحته وغيرت لونه قال ذو الرمة يصف ثور الوحش: إذا ذابت الشمس اتقى صقراتها * بأفنان مربوع الصريمة معبل
وعدم الصرف للعلمية والتأنيث، وقرأ عبد الله إلى النار، وقرأ محبوب عن أبي عمرو * (مس سقر) * بإدغام السين في السين، وتعقب ذلك ابن مجاهد بأن إدغامه خطأ لأنه مشدد، والظن بأبي عمرو أنه لم يدغم حتى حذف إحدى السينين لاجتماع الأمثال ثم أدغم.
* (إنا كل شىء خلقن‍اه بقدر) *.
* (إنا كل شيء) * من الأشياء * (خلقناه بقدر) * أي مقدرا مكتوبا في اللوح قبل وقوعه، فالقدر بالمعنى المشهور الذي يقابل القضاء، وحمل الآية على ذلك هو المأثور عن كثير من السلف، وروى الإمام أحمد. ومسلم. والترمذي. وابن ماجه عن أبي هريرة قال: " جاء مشركو قريش يخاصمون
93

رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت * (يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر * إنا كل شيء خلقناه بقدر) * (القمر: 48، 49) " وأخرج البخاري في " تاريخه ". والترمذي وحسنه. وابن ماجه. وابن عدي. وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب المرجئة والقدرية " أنزلت فيهم آية في كتاب الله * (إن المجرمين في ضلال وسعر) * (القمر: 47) إلى آخر الآيات، وكان ابن عباس يكره القدرية جدا، أخرج عبد بن حميد عن أبي يحيى الأعرج قال سمعت ابن عباس - وقد ذكر القدرية - يقول: لو أدركت بعضهم لفعلت به كذا وكذا ثم قال: الزنا بقدر. والسرقة بقدر. وشرب الخمر بقدر.
وأخرج عن مجاهد أنه قال؛ قلت لابن عباس: ما تقول فيمن يكذب بالقدر؟ قال: أجمع بيني وبينه قلت: ما تصنع به؟ قال: أخنقه حتى أقتله، وقد جاء ذمهم في أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه أحمد. وأبو داود. والطبراني عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لكل أمة مجوس ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم ". وجوز كون المعنى إنا كل شيء خلقناه مقدرا محكما مستوفى فيه مقتضى الحكمة التي يدور عليها أمر التكوين، فالآية من باب * (وخلق كل شيء فقدره تقديرا) * (الفرقان: 2) ونصب * (كل) * بفعل يفسره ما بعده أي إنا خلقنا كل شيء خلقناه، وقرأ أبو السمال قال: ابن
عطية. وقوم من أهل السنة برفع كل وهو على الابتداء، وجملة * (خلقناه) * هو الخبر، و * (بقدر) * متعلق به كما في القراءة المتواترة، فتدل الآية أيضا على أن كل شيء مخلوق بقدر ولا ينبغي أن تجعل جملة خلقناه صفة، ويجعل الخبر * (بقدر) * لاختلاف القراءتين معنى حينئذ، والأصل توافق القراآت، وقال الرضى: لا يتفاوت المعنى لأن مراده تعالى بكل شيء كل مخلوق سواء نصب * (كل) * أو رفعته وسواء جعلت * (خلقناه) * صفة مع الرفع، أو خبرا عنه، وذلك إن خلقنا كل شيء بقدر لا يريد سبحانه به خلقنا كل ما يقع عليه اسم شيء لأنه تعالى لم يخلق جميع الممكنات غير المتناهية واسم الشيء يقع على كل منها، وحينئذ نقول: إن معنى * (كل شيء خلقناه بقدر) * على أن خلقناه هو الخبر * (كل) * مخلوق مخلوق * (بقدر) * وعلى أن * (خلقناه) * صفة * (كل شيء) * مخلوق كائن * (بقدر) * والمعنيان واحد إذ لفظ * (كل) * في الآية مختص بالمخلوقات سواء كان * (خلقناه) * صفة له أو خبرا، وتعقبه السيد السند قدس سره بأنه لقائل أن يقول: إذا جعلنا * (خلقناه) * صفة كان المعنى * (كل) * مخلوق متصف بأنه مخلوقنا كائن بقدر، وعلى هذا لا يمتنع نظرا إلى هذا المعنى أن يكون هناك مخلوقات غير متصفة بتلك الصفة فلا تندرج تحت الحكم، وأماإذا جعلناه خبرا أو نصبنا * (كل شيء) * فلا مجال لهذا الاحتمال نظرا إلى نفس المعنى المفهوم من الكلام فقد اختلف المعنيان قطعا ولا يجديه نفعا أن كل مخلوق متصف بتلك الصفة في الواقع لأنه إنما يفهم من خارج الكلام ولا شك أن المقصود ذلك المعنى الذي لا حتمال فيه، وذكر نحوه الشهاب الخفاجي ولكون النصب نصا في المقصود اتفقت القراآت المتواترة عليه مع احتياجه إلى التقدير وبذلك يترجح على الرفع الموهم لخلافه وإن لم يحتج إليه.
* (ومآ أمرنآ إلا واحدة كلمح بالبصر) *.
* (وما امرنا إلا واحدة) * أي ما شأننا إلا فعلة واحدة على نهج لا يختلف ووتيرة لا تتعدد وهي الإيجاد بلا معالجة ومشقة، أو ما أمرنا إلا كلمة واحدة، وهي قوله تعالى: * (كن) * فالأمر مقابل النهي وواحد الأمور، فإذا أراد عز وجل شيئا قال له: * (كن فيكون) * * (كلمح بالبصر) * أي في السير والسرعة، وقيل: هذا في قيام الساعة فهو كقوله تعالى: * (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر) * (النحل: 77).
* (ولقد أهلكنآ أشي‍اعكم فهل من مدكر) *.
* (ولقد أهلكنا اشياعكم) * أي أشباههكم في الكفر
94

من الأمم السالفة، وأصله جمع شيعة وهم من يتقوى بهم المرء من الأتباع ولما كانوا في الغالب من جنس واحد أريد به ما ذكر إما باستعماله في لازمه، أو بطريق الاستعارة، والحال قرينة على ذلك، وقيل: هو باق على حقيقته أي أتباعكم * (فهل من مدكر) * متعظ بذلك.
* (وكل شىء فعلوه فى الزبر) *.
* (وكل شيء فعلوه) * من الكفر والمعاصي، والضمير المرفوع للأشياع كما روى عن ابن عباس. والضحاك. وقتادة. وابن زيد، وجملة * (فعلوه) * صفة * (شيء) * والرابط ضمير النصب، وقوله تعالى: * (في الزبر) * متعلق بكون خاص خبر المبتدا أي كل شيء فعلوه في الدنيا مكتوب في كتب الحفظة غير مغفول عنه، وتفسير * (الزبر) *. اللوح المحفوظ كما حكاه الطبرسي ليس بشيء، ولم يختلف القراء في رفع * (كل) * وليست الآية من باب الاشتغال فلا يجوز النصب لعدم بقاء المعنى الحاصل بالرفع لو عمل المشتغل بالضمير في الاسم كما هو اللازم في ذلك الباب إذ يصير المعنى ههنا حينئذ فعلوا * (في الزبر) * كل شيء إن علقنا الجار - بفعلوا وهم لم يفعلوا شيئا من أفعالهم في الكتب بل فعلوها في أماكنهم والملائكة عليهم السلام كتبوها عليهم في الكتب، أو فعلوا كل شيء مكتوب * (في الزبر) * إن جعلنا الجار نعتا لكل شيء، وهذا وإن كان معنى مستقيما إلا أنه خلاف المعنى المقصود حالة الرفع وهو ما تقدم آنفا.
* (وكل صغير وكبير مستطر) *.
* (وكل صغير وكبير) * من الأعمال كما روى عن ابن عباس. ومجاهد وغيرهما، وقيل: منها ومن كل ما هو كائن إلى يوم القيامة * (مستطر) * مسطور مكتتب في اللوح بتفاصيله وهو من السطر بمعنى الكتب، ويقال: سطرت واستطرت بمعنى، وقرأ الأعمش. وعمران. وعصمة عن أبي بكر عن عاصم * (مستطر) * بتشديد الراء، قال " صاحب اللوامع ": يجوز أن يكو من - طر - النبات والشارب إذا ظهر، والمعنى كل * (صغير وكبير) * ظاهر في اللوح مثبت فيه ويجوز أن يكون من الاستطار لكن شدد الراء للوقف على لغة من يقول - جعفر ويفعل - بالتشديد وقفا أي ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ووزنه على التوجيه الأول مستفعل وعلى الثاني مفتعل، ولما كان بيان حال سوء الكفرة بقوله تعالى: * (إن المجرمين) * الخ مما يستدعي بيان حسن حال المؤمنين ليتكافأ الترهيب والترغيب بين سبحانه ما لهم من حسن الحال بطريق الاجمال فقال عز قائلا:
* (إن المتقين فى جن‍ات ونهر) *.
* (إن المتقين) * أي من الكفر والمعاصي، وقيل: من الكفر.
* (في جنات) * عظيمة الشأن * (ونهر) * أي أنهار كذلك، والإفراد للاكتفاء باسم الجنس مراعاة للفواصل، وعن ابن عباس تفسيره بالسعة، وأنشد عليه قول لبيد بن ربيعة - كما في " الدر المنثور " - أو قيس بن الخطيب - كما في " البحر " - يصف طعنة: ملكت بها كفي (فأنهرت) فتقها * يرى قائم من دونها ما وراءها
أي أوسعت فتقها، والمراد بالسعة سعة المنازل على ما هو الظاهر، وقيل: سعة الرزق والمعيشة، وقيل: ما يعمهما.
وأخرج الحكيم والترمذي في " نوادر الأصول " عن محمد بن كعب قال: * (ونهر) * أي في نور وضياء وهو على الاستعارة بتشبيه الضياء المنتشر بالماء المتدفق من
منبعه، وجوز أن يكون بمعنى النهار على الحقيقة، والمراد أنهم لا ظلمة ولا ليل عندهم في الجنات، وقرأ الأعرج. ومجاهد. وحميد. وأبو السمال. والفياض بن غزوان * (ونهر) * بسكون الهاء، وهو بمعنى * (نهر) * مفتوحها، وقرأ الأعمش. وأبو نهيك. وأبو مجلز. واليمانى * (ونهر) * بضم النون والهاء، وهو جمع نهر المفتوح أو الساكن - كأسد وأسد، ورهن ورهن - وقيل: جمع نهار، والمراد أنهم لا ظلمة ولا ليل
95

عندهم كما حكى فيما مر، وقيل: قرىء بضم النون وسكون الهاء
* (فى مقعد صدق عند مليك مقتدر) *.
* (في مقعد صدق) * في مكان مرضي على أن الصدق مجاز مرسل في لازمه أو استعارة، وقيل: المراد صدق المبشر به وهو الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو المراد أنه ناله من ماله بصدقه وتصديقه للرسل عليهم السلام، فالإضافة لأدنى ملابسة، وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: مدح المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق، وهو المقعد الذي يصدق الله تعالى فيه مواعيد أوليائه بأنه يبيح عز وجل لهم النظر إلى وجهه الكريم، وإفراد المقعد على إرادة الجنس.
وقرأ عثمان البتي - في مقاعد - على الجمع وهي توضح أن المراد بالمقعد المقاعد.
* (عند مليك) * أي ملك عظيم الملك، وهو صيغة مبالغة وليست الياء من الإشباع * (مقتدر) * قادر عظيم القدرة، والظرف في موضع الحال من الضمير المستقر في الجار والمجرور، أو خبر بعد خبر، أو صفة لمقعد صدق، أو بدل منه، والعندية للقرب الرتبي وذكر بعضهم أنه سبحانه أبهم العندية والقرب ونكر - مليكا، ومقتدرا - للإشارة إلى أن ملكه تعالى وقدرته عز وجل لا تدري الإفهام كنههما وأن قربهم منه سبحانه بمنزلة من السعادة والكرامة بحيث لا عين رأيت ولا أذن سمعت مما يجل عن البيان وتكل دونه الأذهان.
وأخرج الحكيم الترمذي عن بريدة - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: * (إن المتقين) * (الحجر: 45) الخ قال: إن أهل الجنة يدخلون على الجبار كل يوم مرتين فيقرأ عليهم القرآن وقد جلس كل امرىء منهم مجلسه الذي هو مجلسه على منابر الدر والياقوت والزمرد والذهب والفضة بالأعمال فلا تقر أعينهم قط كما تقر بذلك ولم يسمعوا شيئا أعظم منه ولا أحسن منه ثم ينصرفون إلى رحالهم قريرة أعينهم ناعمين إلى مثلها من الغد - وإذا صح هذا فهو من المتشابه كالآية فلا تغفل، ولهذين الاسمين الجليلين شأن في استجابة الدعاء على ما في بعض الآثار.
أخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب قال: دخلت المسجد وأنا أرى أني أصبحت فإذا على ليل طويل وليس فيه أحد غيري فنمت فسمعت حركة خلفي ففزعت فقال: أيها الممتلىء قلبه فرقا لا تفرق أو لا تفزع وقل اللهم إنك مليك مقتدر ما تشاء من أمر يكون ثم سل ما بدا لك قال: فما سألت الله تعالى شيئا إلا استجاب لي وأنا أقول: اللهم إنك مليك مقتدر ما تشاء من أمر يكون فأسعدني في الدارين وكن لي ولا تكن علي وانصرني على من بغى علي وأعذني من هم الدين وقهر الرجال وشماتة الأعداء، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.
سورة الرحمن عز وجل
وسميت في حديث أخرجه البيهقي عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا " عروس القرآن " ورواه موسى بن جعفر رضي الله تعالى عنهما عن آبائه الأطهار كذلك وهي مكية في قول الجمهور، وأخرج ذلك ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير. وعائشة رضي الله تعالى عنهم. وابن النحاس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرج ابن الضريس. وابن مردويه. والبيهقي في الدلائل عنه أنها نزلت بالمدينة، وحكى ذلك عن مقاتل، وحكاه في البحر عن ابن مسعود أيضا، وحكى أيضا قولا آخر عن ابن عباس وهو أنها مدنية سوى قوله تعالى:
96

* (يسأله من في السموات والأرض) * (الرحمن: 29) الآية، وحكى الاستثناء المذكور في جمال القراء عن بعضهم ولم يعينه، وعدد آياتها ثمان وسبعون آية في الكوفي والشامي، وسبع وسبعون في الحجازي، وست وسبعون في البصرى. ووجه مناسبتها لما قبلها على ما قال الجلال السيوطي: أنه لما قال سبحانه في آخر ما قيل * (بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر) * (القمر: 46) ثم وصف عز وجل حال المجرمين * (في سقر) * (المدثر: 42)؛ وحال المتقين * (في جنات ونهر) * (القمر: 54) فصل هذا الإجمال في هذه السورة أتم تفصيل على الترتيب الوارد في الإجمال فبدأ بوصف مرارة الساعة، والإشارة إلى شدتها، ثم وصف النار وأهلها، ولذا قال سبحانه: * (يعرف المجرمون بسيماهم) * (الرحمن: 41) ولم يقل الكافرون، أو نحوه لاتصاله معنى بقوله تعالى هناك: * (إن المجرمين) * (الزخرف: 74)، ثم وصف الجنة وأهلها، ولذا قال تعالى فيهم: * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) * (الرحمان: 46) وذلك هو عين التقوى ولم يقل ولمن آمن، أو أطاع، أو نحوه لتتوافق الألفاظ في التفصيل والمفصل؛ ويعرف بما ذكر أن هذه السورة كالشرح لآخر السورة قبلها، وقال أبو حيان في ذلك: أنه تعالى لما ذكر هناك مقر المجرمين في سعر، ومقر المتقين * (في جنات ونهر) * * (عند مليك مقتدر) * (القمر: 55) ذكر سبحانه هنا شيئا من آيات الملك وآثار القدرة، ثم ذكر جل وعلا مقر الفريقين على جهة الإسهاب إذ كان ذكره هناك على جهة الاختصار، ولما أبرز قوله سبحانه: * (عند مليك مقتدر) * (القمر: 54) بصورة التنكير فكأن سائلا يسأل ويقول من المتصف بهاتين الصفتين الجليلتين؟ فقيل: * (الرحمن) * (الرحمان: 1) الخ، والأولى عندي أن يعتبر في وجه المناسبة أيضا ما في الإرشاد وهو أنه تعالى لما عدد في السورة السابقة ما نزل بالأمم السالفة من ضروب نقم الله عز وجل، وبين عقيب كل ضرب منها أن القرآن قد يسر لتذكر الناس واتعاظهم ونعى عليهم إعراضهم عن ذلك عدد في هذه السورة الكريمة ما أفاض على كافة الأنام من فنون نعمه الدينية والدنيوية والأنفسية والآفاقية وأنكر عليهم إثر كل فن منها إخلالهم بمواجب شكرها، وهذا التكرار أحلى من السكر إذا تكرر، وفي " الدرر " و " الغرر " لعلم الهدى السيد المرتضى التكرار في سورة * (الرحمن
) * إنما حسن للتقرير بالنعم المختلفة المعددة، فكلما ذكر سبحانه نعمة أنعم بها وبخ على التكذيب بها كما يقول الرجل لغيره ألم أحسن إليك بأن خولتك في الأموال؟ ألم أحسن إليك بأن فعلت بك كذا وكذا؟ فيحسن فيه التكرير لاختلاف ما يقرر به وهو كثير في كلام العرب وأشعارهم كقول مهلهل يرثي كليبا: على أن ليس عدلا من كليب * إذا ما ضيم جيران المجير
على أن ليس عدلا من كليب * إذا رجف العضاه من الدبور
على أن ليس عدلا من كليب * إذا خرجت مخبأة الخدور
على أن ليس عدلا من كليب * إذا ما أعلنت نجوى الأمور
على أن ليس عدلا من كليب * إذا خيف المخوف من الثغور
على أن ليس عدلا من كليب * غداة تأثل الأمر الكبير
على أن ليس عدلا من كليب * إذا ما خار جاش المستجير
ثم أنشد قصائد أخرى على هذا النمط ولولا خوف الملل لأوردتها، ولا يرد على ما ذكره أن هذه الآية قد ذكرت بعد ما ليس نعمة لما ستعلمه إن شاء الله تعالى في محله، وقسم في الإتقان التكرار إلى أقسام، وذكر أن منه ما هو لتعدد المتعلق بأن يكون المكرر ثانيا متعلقا بغير ما تعلق به الأول؛ ثم قال: وهذا القسم يسمى بالترديد وجعل منه قوله تعالى: * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * (الرحمان: 13) فإنها وإن تكررت إحدى وثلاثين مرة فكل واحدة
97

تتعلق بما قبلها ولذلك زادت على ثلاثة ولو كان الجميع عائدا على شيء واحد لما زاد على ثلاثة لأن التأكيد لا يزيد عليها كما قال ابن عبد السلام. وغيره، وهو حسن إلا أنه نظر في إطلاق قوله: إن التأكيد الخ بأن ذلك في التأكيد الذي تابع أما ذكر الشيء في مقامات متعددة أكثر من ثلاثة فلا يمتنع وإن لزم منه التأكيد فافهم، وبدأ سبحانه من النعم بتعليم القرآن فقال عز قائلا:
* (الرحم‍ان * علم القرءان) *.
* (الرحم‍ان * علم القرءان) * لأنه أعظم النعم شأنا وأرفعها مكانا كيف لا وهو مدار للسعادة الدينية والدنيوية وعيار على الكتب السماوية ما من مرصد ترنو إليه أحداق الأمم إلا وهو منشؤه ومناطه، ولا مقصد تمتد نحوه أعناق الهمم إلا وهو منهجه وصراطه، ونصبه على أنه مفعول ثان - لعلم - ومفعوله الأول محذوف لدلالة المعنى عليه - أي علم الإنسان القرآن - وهذا المفعول هو الذي كان فاعلا قبل نقل فعل الثلاثي إلى فعل المضعف، وسها الإمام فحسب أن المحذوف المفعول الثاني حيث قال: علم لا بد له من مفعول ثان وترك للإشارة إلى أن النعمة في التعليم لا في تعليم شخص دون شخص، ويمكن أن يقال: أراد أنه لا بد له من مفعول آخر مع هذا المفعول فلا جزم بسهوه، وقيل: المقدر جبريل عليه السلام أو الملائكة المقربين عليهم السلام، وقيل: محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى القولين يتضمن ذلك الإشارة إلى القرآن كلام الله عز وجل، والقول الأول أظهر وأنسب بالمقام، ولي في تعليم غير جبريل عليه السلام من الملائكة الكرام تردد ما بناءا على ما في الإتقان نقلا عن ابن الصلاح من أن قراءة القرآن كرامة أكرم الله تعالى بها البشر فقد ورد أن الملائكة لم يعطوا ذلك وأنهم حريصون لذلك على استماعه من الإنس، وإنما لم أعتبر عمومه للنصوص الدالة على أن جبريل عليه السلام كان يقرأ القرآن وكأني بك لا تسلم صحة ما ذكر وإن استثنى منه جبريل عليه السلام، وقيل: * (علم) * من العلامة ولا تقدير أي جعل القرآن علامة وآية لمن اعتبر، أو علامة للنبوة ومعجزة، وهذا على ما قيل: يناسب ما ذكر في مفتتح السورة السابقة من قوله تعالى: * (وانشق القمر) * (القمر: 1) وتتناسب السورتان في المفتتح حيث افتتحت الأولى بمعجزة من باب الهيبة وهذه بمعجزة من باب الرحمة.
وقد أبعد القائل ولو أبدى ألف مناسبة، فالذي ينبغي أن يعلم أنه من التعليم، والمراد بتعليم القرآن قيل: إفادة العلم به لا بمعنى إفادة العلم بألفاظه فقط بل بمعنى إفادة ذلك والعلم بمعانيه على وجه يعتد به وهو متفاوت وقد يصل إلى العلم بالحوادث الكونية من إشاراته ورموزه إلى غير ذلك فإن الله تعالى لم يغفل شيئا فيه.
أخرج أبو الشيخ في كتاب العظمة عن أبي هريرة مرفوعا " إن الله لو أغفل شيئا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة ".
وأخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عن ابن مسعود أنزل في هذا القرآن علم كل شيء وبين لنا فيه كل شيء ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن، وقال ابن عباس: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى؛ وقال المرسي: جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به، ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا ما استأثر به سبحانه، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم كالخلفاء الأربعة، ثم ورث عنهم التابعون لهم بإحسان، ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن جمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه، وفسر بعضهم التعليم بتنبيه النفس لتصور المعاني، وجوز الإمام أن يراد به هنا جعل الشخص بحيث يعلم القرآن فالآية كقوله تعالى: * (ولقد يسرنا القرآن للذكر) * (القمر: 17) وهو بهذا المعنى مجاز كما لا يخفى، و * (الرحمن) * مبتدأ، والجملة بعده خبره كما هو الظاهر، وإسناد
98

تعليمه إلى اسم * (الرحمن) * للإيذان بأنه من آتار الرحمة الواسعة وأحكامها، وتقديم المسند إليه إما للتأكيد أو للحصر، وفيه من تعظيم شأن القرآن ما فيه، وقيل: * (الرحمن) * خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ خبره محذوف أي الله الرحمن، أو الرحمن ربنا وما بعد مستأنف لتعديد نعمه عز وجل وهو خلاف الظاهر، ثم أتبع سبحانه نعمة تعليم القرآن بخلق الإنسان فقال تعالى:
* (خلق الإنس‍ان) *.
* (خلق الإنس‍ان) * لأن أصل النعم عليه، وإنما قدم ما قدم منها لأنه أعظمها، وقيل: لأنه مشير إلى الغاية من خلق الإنسان وهو كماله في قوة العلم والغاية متقدمة على ذي الغاية ذهنا وإن كان الأمر بالعكس خارجا، والمراد بالإنسان الجنس وبخلقه إنشاؤه على ما هو عليه من القوى الظاهرة والباطنة، ثم أتبع عز وجل ذلك بنعمة تعليم * (البيان) * فقال سبحانه:
* (علمه البيان) *.
* (علمه البيان) * لأن البيان هو الذي به يتمكن عادة من تعلم القرآن وتعليمه، والمراد به المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير.
والمراد بتعليمه نحو ما مر، وفي " الإرشاد " أن قوله تعالى: * (خلق الإنسان) * تعيين للمتعلم، وقوله سبحانه: * (علمه البيان) * تبيين لكيفية التعليم، والمراد بتعليم البيان تمكين الإنسان من بيان نفسه، ومن فهم بيان غيره إذ هو الذي يدور عليه تعليم القرآن. وقيل: بناءا على تقدير المفعول المحذوف الملائكة المقربين إن تقديم تعليم القرآن لتقدمه وقوعا فهم قد علموه قبل خلق الإنسان وربما يرمز إليه قوله تعالى: * (إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون) * (الواقعة: 77 - 79) وفي " النظم الجليل " عليه حسن زائد حيث إنه تعالى ذكر أمورا علوية وأمورا سفلية وكل علوي قابله بسفلي ويأتي هذا على تقدير المفعول جبريل عليه السلام أيضا؛ وقال الضحاك: * (البيان) * الخير والشر، وقال ابن جريج: سبيل الهدى وسبيل الضلالة، وقال يمان: الكتابة والكل كما ترى، وجوز أن يراد به القرآن وقد سماه الله تعالى بيانا في قوله سبحانه: * (هذا بيان) * وأعيد ليكون الكلام تفصيلا لإجمال علم القرآن وهذا في غاية البعد. وقال قتادة: * (الإنسان) * آدم. و * (البيان) * علم الدنيا والآخرة، وقيل: * (البيان) * أسماء الأشياء كلها. وقيل: التكلم بلغات كثيرة، وقيل: الاسم الأعظم الذي علم به كل شيء، ونسب هذا إلى جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه.
وقال ابن كيسان: * (الإنسان) * محمد صلى الله عليه وسلم. وعليه قيل: المراد بالبيان بيان المنزل. والكشف عن المراد به كما قال تعالى: * (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) * (النحل: 44) أو الكلام الذي يشرح به المجمل والمبهم في القرآن أو القرآن نفسه على ما سمعت آنفا، أو نحو ذلك مما يناسبه عليه الصلاة والسلام ويليق به من المعاني السابقة، ولعل ابن كيسان يقدر مفعول علم الإنسان مرادا به النبي صلى الله عليه وسلم أيضا، وهذه أقوال بين يديك، والمتبادر من الآيات الكريمة لا يخفى عليك ولا أظنك في مرية من تبادر ما ذكرناه فيها أولا. ثم إن كلا من الجملتين الأخيرتين خبر عن المبتدأ كجملة * (علم القرآن) * (الرحمان: 2) وكذا قوله تعالى:
* (الشمس والقمر بحسبان) *.
* (الشمس والقمر بحسبان) * والجار والمجرور فيه خبر بتقدير مضاف أي جري * (الشمس والقمر) * كائن أو مستقر * (بحسبان) * أو الخبر محذوف والجار متعلق به أي يجريان بحسبان وهو مصدر كالغفران بمعنى الحساب - كما قال قتادة. وغيره - أي هما يجريان * (بحسبان) * مقدر في بروجهما ومنازلهما بحيث ينتظم بذلك أمور الكائنات السفلية وتختلف الفصول والأوقات ويعلم السنون والحساب، وقال الضحاك. وأبو عبيدة: هو جمع حساب كشهاب وشهبان أي هما يجريان بحسابات شتى في بروجهما ومنازلهما، وقال مجاهد: الحسبان الفلك المستدير من حسبان الرحا وهو ما أحاط بها من أطرافها المستديرة، وعليه فالباء للظرفية، والجار والمجرور في موضع
99

الخبر من غير احتياج إلى ما تقدم، والمراد كل من * (الشمس والقمر) * في فلك، والجمهور على الأول وجريان الشمس والقمر مما لا ينبغي أن يشك فيه.
وفلاسفة العصر كانوا يزعمون أن الشمس لا تجري أصلا، وأن القمر يجري على الأرض، والأرض تجري على الشمس، وقد سمعنا أنهم عدلوا منذ أعوام عن ذلك، فزعموا أن للشمس حركة على كوكب آخر وهذا يدل على أنهم لم يكن عندهم برهان على دعواهم الأولى كما كان يقوله من كان ينتصر لهم، والظاهر أن حالهم اليوم بل وغدا مثل حالهم بالأمس، ونحن مع الظواهر حتى يقوم الدليل القطعي على خلافها وحينئذ نميل إلى التأويل وبابه واسع، ومثل هذه الجملة قوله تعالى:
* (والنجم والشجر يسجدان) *.
* (والنجم والشجر يسجدان) * فإن المعطوف على الخبر خبر، والمراد - بالنجم - النبات الذي ينجم أي يظهر ويطلع من الأرض ولا ساق له، وبالشجر النبات الذي له ساق، وهو المروى عن ابن عباس. وابن جبير. وأبي رزين؛ والمراد بسجودهما انقيادهما له تعالى فيما يريد بهما طبعا، شبه جريهما على مقتضى طبيعتيهما بانقياد الساجد لخالقه وتعظيمه له. ثم استعمل اسم المشبه به في المشبه فهناك استعارة مصرحة تبعية، وقال مجاهد. والحسن، وفي رواية أخرى عن مجاهد أن سجودهما عبارة عن انقيادهما لما يريد سبحانه بهما طبعا، والجمهور على تفسير النجم بما سمعت أولا قبل لأن اقترانه بالشجر يدل عليه، وإن كان تقدم * (الشمس والقمر) * يتوهم منه أنه بمعناه المعروف ففيه تورية ظاهرة، وإخلاء الجمل الثانية. والثالثة. والرابعة عن العاطف لورودها على نهج التعديد مع الإشارة إلى أن كلا مما تضمنته نعمة مستقلة تقتضي الشكر، وقد قصروا في أدائه ولو عطفت مع شدة اتصالها وتناسبها ربما توهم أن الكل نعمة واحدة.
وتوسيط العاطف بين الرابعة والخامسة رعاية لتناسبهما من حيث التقابل لما أن * (الشمس والقمر) * علويان * (والنجم والشجر) * سفليان، ومن حيث إن كلا من حال العلويين وحال السفليين من باب الانقياد لأمر الله عز وجل وخلوهما عن الرابط اللفظي مع كونهما خبرين للتعويل على كمال قوة الارتباط المعنوي إذ لا يتوهم ذهاب الوهم إلى كون حال * (الشمس والقمر) * بتسخير غيره تعالى، ولا إلى كون سجود النجم والشجر لسواه سبحانه فكأنه قيل: الشمس والقمر بحسبانه * (والنجم والشجر يسجدان) * له كذا قالوه، وفي " الكشف ": تبيينا لما ذكره صاحب الكشاف في هذا المقام أخلى الجمل أي التي قبل الشمس والقمر بحسبان عن العاطف لأن
الغرض تعديد النعم وتبكيت المنكر كما يقال: زيد أغناك بعد فقر، أعزك بعد ذل، كثرك بعد قلة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد فما تنكر من إحسانه كأنه لما عد نعمة حرك منه حتى يتأمل هل شكرها حق شكرها أم لا، ثم يأخذ في أخرى ولو جىء بالعاطف صارت كواحدة ولم يكن من التحريك في شيء، ولما قضى الوطر من التعديد المحرك والتبكيت بذكر ما هو أصل النعم على نمط رد الكلام على منهاجه الأصلي من تعداد النعم واحدة بعد أخرى على التناسب والتقارب بحرف النسق، وفيه تنبيه على أن النعم لا تحصى فليكتف بتعديد أجلها رتبة للغرض المذكور.
وجملة * (الشمس والقمر بحسبان) * ليست من أخبار المبتدأ، والزمخشري إنما سأل عن وجه الربط، وأجاب بأن الربط حاصل بالوصل المعنوي كأنه بعد ما بكت ونبه أخذ يعد عليه أصول النعم ليثبت على ما طلب منه من الشكر، وهذا كما تقول في المثال السابق بعد قولك: فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد دانت له أقرانك وأطاعته إخوانك وبسط نواله فيمن تحت ملكته ولم يخرج أحد من حياطة عدله ونصفته، فلا يشك ذو أرب أنها جمل
100

منقطعة عن الأولى إعرابا متصلة بها اتصالا معنويا أورثها قطعها لأنها سيقت لغرض وهذه لآخر، وقريب من هذا الاتصال اتصال قوله تعالى: * (إن الذين كفروا سواء عليهم) * (البقرة: 6) الآية بقوله تعالى: * (الذين يؤمنون بالغيب) * (البقرة: 3) الآية انتهى.
وقد أبعد المغزى فيما أرى إلا أن ظاهر كلام الكشاف يقتضي كون قوله تعالى: * (الشمس والقمر بحسبان) * من الأخبار فتأمل.
* (والسمآء رفعها ووضع الميزان) *.
* (والسماء رفعها) * أي خلقها مرفوعة ابتداءا لا أنها كانت مخفوضة ورفعها، والظاهر أن المراد برفعها الرفع الصوري الحسي، ويجوز أن يكون المراد به ما يشمل الصوري والمعنوي بطريق عموم المجاز أو الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يرى جوازه. ورفعها المعنوي الرتبي لأنها منشأ أحكامه تعالى وقضاياه ومنزل أوامره سبحانه ومحل ملائكته عز وجل، وقرأ أبو السمال * (والسماء) * بالرفع على الابتداء، ولا إشكال فيه لأن الجملة عليه اسمية معطوفة على مثلها، وإنما الإشكال في النصب لأنه بفعل مضمر على شريطة التفسير أي ورفع السماء فتكون الجملة فعلية فإن عطفت على جملة - النجم والشجر يسجدان - الكبرى لزم تخالف الجملتين المعطوفة والمعطوف عليها بالاسمية والفعلية وهو خلاف الأولى، وإن عطفت على جملة * (يسجدان) * الصغرى لزم أن تكون خبرا - للنجم والشجر - مثلها، وذلك لا يصح إذ لا عائد فيها إليهما، وكذا يقال في العطف على كبرى وصغرى * (الشمس والقمر بحسبان) * وأجاب أبو علي باختيار الثاني، وقال: لا يلزم في المعطوف على الشيء أن يعتبر فيه حال ذلك الشيء، وتلا باب قولهم متقلدا سيفا ورمحا، وبعضهم باختيار الأول ويحسن التخالف إذا تضمن نكتة، قال الطيبي: الظاهر أن يعطف على جملة * (الشمس والقمر بحسبان) * ليؤذن بأن الأصل أجرى الشمس والقمر، وأسجد النجم والشجر، فعدل إلى معنى دوام التسخير والانقياد في الجملتين الأوليين، ومعنى التوكيد في الأخيرة والكلام فيما يتعلق بالرفع والنصب فيما إذا ولي العاطف جملة ذات وجهين مفصل في كتب النحو * (ووضع الميزان) * أي شرع العدل وأمر به بأن وفر على كل مستعد مستحقه، ووفى كل ذي حق حقه حتى انتظم أمر العالم واستقام كما قال عليه الصلاة والسلام: " بالعدل قامت السموات والأرض " أي بقيتا على أبلغ نظام وأتقن إحكام، وقال بعضهم: المراد بقاء من فيهما من الثقلين إذ لولا العدل أهلك أهل الأرض بعضهم بعضا، وأما الملأ الأعلى فلا يقع بينهم ما يحتاج للحكم والعدل، فذكرهم للمبالغة، والذي أختاره أن المراد بالسموات والأرض العالم جميعه ولا شك أنه لولا العدل لم يكن العالم منتظما. ومنشأ ما ذكره القائل ظن أن المراد بالعدل في الحديث العدل في الحكم لفصل الخصومات ونحوه وليس كما ظن بل المراد به عدل الله عز وجل وإعطاؤه سبحانه كل شيء خلقه. وتفسير الميزان بما ذكر هو المروى عن مجاهد. والطبري. والأكثرين، وهو مستعار للعدل استعارة تصريحية؛ وعن ابن عباس. والحسن. وقتادة. والضحاك أن المراد به ما يعرف به مقادير الأشياء من الآلة المعروفة والمكيال المعروف ونحوهما، فالمعنى خلقه موضوعا مخفوضا على الأرض حيث علق به أحكام عباده وقضاياهم المنزلة من السماء وما تعبدهم به من التسوية والتعديل في أخذهم وأعطائهم، والمشهور أنه بهذا المعنى مجاز أيضا من استعمال المقيد في المطلق، وقيل: هو حقيقة، فالواضع لم يضعه إلا لما يعرف به المقادير على أي هيئة ومن أي جنس كان، والناس لما ألفوا المعروف لا يكاد يتبادر إلى أذهانهم من لفظ * (الميزان) * سواه، وقيل: المراد به المعروف واللفظ فيه حقيقة ولا يسلم الوضع للعام.
101

ورجح القولان الأخيران بأن ما بعد أشد ملاءمة لهما وبين الوضع والرفع عليهما تقابل، وقد قرأ عبد الله - وخفض الميزان - والأول بأنه أتم فائدة فزن ذلك بميزان ذهنك.
* (ألا تطغوا فى الميزان) *.
* (ألا تطغوا في الميزان) * أي لئلا تطغوا فيه أي حقه وشأنه بأن تعتدوا وتتجاوزوا ما ينبغي فيه على أن * (أن) * ناصبة و * (لا) * نافية ولام العلة مقدرة متعلقة بقوله تعالى: * (وضع الميزان) * وجوز ابن عطية. والزمخشري كون * (أن) * تفسيرية، و * (لا) * ناهية.
واعترضه أبو حيان بأنه لم يتقدم جملة فيها معنى القول وهو شرط في صحة جعل * (أن) * مفسرة، وأجيب بأن وضع الميزان فيه ذلك لأنه بالوحي وإعلام الرسل عليهم السلام، وزعم بعضهم أن التفسير متعين لأنه لا معنى لوضع الميزان لئلا تطغوا في الميزان إذ المناسب الموزون ونحوه، وفيه ما لا يخفى، وفي " البحر " قرأ إبراهيم * (ووضع الميزان) * بإسكان الضاد، وخفض الميزان على أن * (وضع) * مصدر مضاف إلى ما بعده ولم يبين هل * (وضع) * مرفوع أو منصوب، فإن كان مرفوعا فالظاهر أنه مبتدأ * (وأن لا تطغوا) * بتقدير الجار في موضع الخبر. وإن كان منصوبا فالظاهر أن عامله مقدر أي وفعل * (وضع الميزان) * أو ووضع وضع الميزان * (أن لا تطغوا) * الخ، وقرأ عبد الله - لا تطغوا - بغير * (أن) * على إرادة القول أي قائلا، أو نحوه لأقل - كما قيل - و * (لا) *
ناهية بدليل الجزم.
* (وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) *.
* (وأقيموا الوزن بالقسط) * قوموا وزنكم بالعدل، وقال الراغب: هذا إشارة إلى مراعاة المعدلة في جميع ما يتحراه الإنسان من الأفعال والأقوال، وعن مجاهد أن المعنى أقيموا لسان الميزان بالعدل إذا أردتم الأخذ والإعطاء، وقال سفيان بن عيينة: الإقامة باليد، والقسط بالقلب، والظاهر أن الجملة عطف على الجملة المنفية قبلها ولا يضر في ذلك كونها إنشائية، وتلك خبرية لأنها لتأويلها بالمفرد تجردت عن معنى الطلب، وجعل بعضهم * (لا) * في الأولى مطلقا ناهية حرصا على التوافق * (ولا تخسروا الميزان) * أي لا تنقصوه فإن من حقه أن يسوى لأنه المقصود من وضعه وكرر لفظ * (الميزان) * بدون إضماره كما هو مقتضى الظاهر تشديدا للتوصية وتأكيدا للأمر باستعماله والحث عليه، بل في الجمل الثلاث تكرار ما معنى لذلك، وقرىء * (ولا تخسروا) * بفتح التاء وضم السين، وقرأ زيد بن علي. وبلال بن أبي بردة بفتح التاء وكسر السين.
وحكى ابن جني. وصاحب اللوامح عن بلال أنه قرأ بفتحهما، وخرج ذلك الزمخشري على أن الأصل - ولا تخسروا في الميزان - فحذف الجار، وأوصل الفعل بناءا على أنه لم يجىء إلا لازما، وتعقبه أبو حيان بأن خسر قد جاء متعديا كقوله تعالى: * (خسروا أنفسهم) * (الأنعام: 12) * (وخسر الدنيا والآخرة) * (الحج: 11) فلا حاجة إلى دعوى الحذف والإيصال، وأجيب بأنه على تقدير أن يكون متعديا هنا لا بد من القول بالحذف والإيصال لأن المعنى على حذف المفعول به أي لا تخسروا أنفسكم في الميزان أي لا تكونوا خاسريها يوم القيامة بسبب الميزان بأن لا تراعوا ما ينبغي فيه، والراغب جوز حمل الآية على القراءة المشهورة على نحو هذا فقال: إن قوله تعالى: * (وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) * يجوز أن يكون إشارة إلى تحري العدالة في الوزن وترك الحيف فيما يعاطاه فيه، ويجوز أن يكون إشارة إلى تعاطي ما لا يكون به في القيامة خاسرا فيكون ممن قال سبحانه فيه: * (من خفت موازينه) * (القارعة: 8) وكلا المعنيين متلازمان، وقيل: المعنى على التعدي بتقدير مضاف أي موزون الميزان، أو جعل الميزان مجازا عن الموزون فيه فتأمل ولا تغفل.
* (والارض وضعها للانام) *.
* (والأرض وضعها) * خلقها موضوعة مخفوضة عن السماء حسبما يشاهد، وقال الراغب: الوضع هنا الإيجاد والخلق وكأن مراده ما ذكر، وقيل: أي خفضها مدحوة على الماء،
102

والظاهر على تقدير اعتبار الدحو أنه لا حاجة إلى اعتبار أنه سبحانه خلقها كذلك بل لا يصح لأنها لم تخلق مدحوة وإنما دحيت بعد على ما روي عن ابن عباس، ثم إن كونها على الماء مبني على ما اشتهر أنه عز وجل خلق الماء قبلها وخلقها سبحانه من زبده * (للأنام) * قال ابن عباس. وقتادة. وابن زيد. والشعبي. ومجاهد على ما في مجمع البحرين: الحيوان كله، وقال الحسن: الإنس والجن.
وفي رواية أخرى عن ابن عباس هم بنو آدم فقط ولم أر هذا التخصيص لغيره رضي الله تعالى عنه، ففي " القاموس " الأنام الخلق أو الجن والإنس، أو جميع ما على وجه الأرض، ويحتمل أنه أراد أن المراد به هنا ذلك بناءا على أن اللام للانتفاع وأنه محمول على الانتفاع التام وهو للإنس أتم منه لغيرهم، والأولى عندي ما حكى عنه أولا، وقرأ أبو السمال * (والأرض) * بالرفع، وقوله تعالى:
* (فيها فاكهة والنخل ذات الاكمام) *.
* (فيها فاكهة) * الخ استئناف مسوق لتقرير ما أفادته الجملة السابقة من كون الأرض موضوعة لنفع الأنام، وقيل: حال مقدرة من الأرض، أو من ضميرها، فالأحسن حينئذ أن يكون الحال هو الجار والمجرور، و * (فاكهة) * رفع على الفاعلية والتنوين بمعونة المقام للتكثير أي فيها ضروب كثيرة مما يتفكه به * (والنخل ذات الأكمام) * هي أوعية التمر أعني الطلع على ما روي عن ابن عباس جمع - كم - بكسر الكاف وقد تضم، وهذا في - كم - الثمر، وأما - كم - القميص فهو بالضم لا غير، أو كل ما يكم ويغطى من ليف وسعف وطلع فإنه مما ينتفع به كالمكموم من الثمر والجمار مثلا، واختاره من اختاره، ومما ذكر يعلم فائدة التوصيف.
* (والحب ذو العصف والريحان) *.
* (والحب) * هو ما يتغذى به كالحنطة والشعير * (ذو العصف) * قيل: هو ورق الزرع، وقيده بعضهم باليابس، وأخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه التبن، وأخرج ابن جرير. وابن المنذر عن الضحاك أنه القشر الذي يكون على الحب؛ وعن السدي. والفراء أنه بقل الزرع وهو أول ما ينبت، وأخرجه غير واحد عن الحبر أيضا، واختار جمع ما روي عنه أولا، وفي توصيف الحب بما ذكر تنبيه على أنه سبحانه كما أنعم عليهم بما يقوتهم من الحب أنعم عليهم بما يقوت بهائمهم من العصف * (والريحان) * هو كل مشموم طيب الريح من النبات على ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد، وأخرج عن الحسن أنه قال: هو ريحانكم هذا أي الريحان المعروف؛ وأخرج عن مجاهد أنه الرزق بل قال ابن عباس: كما أخرج هو أيضا عنه كل ريحان في القرآن فهو رزق، وزعم الطبرسي أنه قول الأكثر، وعليه قول بعض الأعراب، وقد قيل له: إلى أين أطلب من ريحان الله فإنه أراد من رزقه عز وجل، ووجه إطلاقه عليه أنه يرتاح له، وظاهر كلام الكشاف أنه أطلق وأريد منه اللب ليطابق العصف ويوافق المراد منه في قراءة. حمزة. والكسائي. والأصمعي عن أبي عمرو * (والريحان) * بالجر عطفا على * (العصف) * إذ يبعد عليها حمله على المشموم والقريب حمله على اللب فكأنه قيل: والحب ذو العصف الذي هو رزق دوابكم، وذو اللب الذي هو رزق لكم، وجوز أن يكون الريحان في هذه القراءة عطفا على فاكهة كما في قراءة الرفع، والجر للمجاورة وهو كما ترى، والزمخشري بعد أن فسر * (الأكمام) * بما ذكرناه ثانيا فيها * (والريحان) *
باللب قال: أراد سبحانه فيها ما يتلذذ به من الفواكه، والجامع بين التغذي والتلذذ - وهو ثمر النخل - وما يتغذى به - وهو الحب - وهو على ما في " الكشف " بيان لإظهار وجه الامتنان وأنه مستوعب لأقسام ما يتناول في حال الرفاهية لأنه إما للتلذذ الخالص وهو الفاكهة؛ أوله وللتغذي أيضا
103

وهو ثمر النخل، أو للتغذي وحده وهو الحب، ولما كان الأخيران أدخل في الامتنان شفع كلا بعلاوة فيها منة أيضا، وأنت تعلم أنه إذا كان المقصود من النخل ثمره المعروف فالعطف على أسلوب ملائكته وجبريل كما قيل به في قوله تعالى: * (فيها فاكهة ونخل ورمان) * (الرحمان: 68) وإذا كان ما يعمه وسائر ما ينتفع به منه كالجمار والكفرى، فالعطف ليس على ذلك، وجعل صاحب الكشف قول الزمخشري بعد تفسير * (الأكمام) * بالمعنى الأعم وكله منتفع به كالمكموم إشارة إلى هذا، ثم قال: ولا ينافي جعله منه في قوله تعالى: * (فيها فاكهة) * الخ نظرا إلى أن الجنة دار تخلص للتلذذ فالنظر هنالك إلى المقصود وهو الثمر فقط فتأمل.
وقرأ ابن عامر. وأبو حيوة. وابن أبي عبلة - والحب ذا العصف والريحان - بنصب الجميع، وخرج على أنه بتقدير وخلق الحب الخ، وقيل: يجوز تقدير أخص، وفيه دغدغة، وجوزوا أن يكون الريحان بمعنى اللب حالة الرفع وحالة النصب على حذف مضاف. والأصل وذو أو وذا الريحان فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه و * (الريحان) * فيعلان من الروح. فأصله ريوحان قبلت الواو ياءا لاجتماعها مع ياء ساكنة قبلها وأدغمت في الياء فصار ريحان بالتشديد ثم حذفت الياء الثانية التي هي عين الكلمة فقيل: ريحان كما قيل: ميت وهين بسكون الياء.
وعن أبي علي الفارسي أنه فعلان وأصله روحان بفتح الراء وسكون الواو قلبت واوه ياءا للتخفيف وللفرق بينه وبين الروحان بمعنى ماله روح.
* (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *.
* (فبأي ءالآء ربكما تكذبان) * الخطاب للثقلين لأنهما داخلان في الأنام على ما اخترناه، أو لأن الأنام عبارة عنهما على ما روي عن الحسن، وسينطق بهما في قوله تعالى: * (سنفرغ لكم أنه الثقلان) * (الرحمان: 31) وفي الأخبار كما ستعلمه إن شاء الله تعالى قريبا ما يؤيده، وقد أبعد من ذهب إلى أنه خطاب للذكر والأنثى من بني آدم، وأبعد أكثر منه من قال: إنه خطاب على حد * (ألقيا في جهنم) * (ق: 24) ويا شرطي أضربا عنقه، يعني أنه خطاب للواحد بصورة الاثنين والفاء لترتيب الإنكار، والتوبيخ على ما فصل من فنون النعماء وصنوف الآلاء الموجبة للإيمان والشكر حتما، والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية الكلية والتربية مع الإضافة إلى ضميرهم لتأكيد النكير وتشديد التوبيخ ومعنى تكذيبهم بشيء من آلائه تعالى كفرهم به إما بإنكار كونه منه عز وجل مع عدم الاعتراف بكونه نعمة في نفسه كتعليم القرآن وما يستند إليه من النعم الدينية، وإما بإنكار كونه منه تعالى مع الاعتراف بكونه نعمة في نفسه كالنعم الدنيوية الواصلة إليهم بإسناده إلى غيره سبحانه استقلالا، أو اشتراكا صريحا، أو دلالة فإنه إشراكهم لآلهتهم به تعالى في العبادة من دواعي إشراكهم لها به تعالى فيما يوجبها، والتعبير عن كفرهم المذكور بالتكذيب لما أن دلالة الآلاء المذكورة على وجوب الإيمان والشكر شهادة منها بذلك فكفرهم بها تكذيب لا محالة أي فإذا كان الأمر كما فصل * (فبأي) * فرد من أفراد نعم مالككما ومربيكما بتلك النعم * (تكذبان) * مع أن كلا منها ناطق بالحق شاهد بالصدق ويندب أن يقول سامع هذه الآية: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد، فقد أخرج البزار. وابن جرير. وابن المنذر. والدارقطني في الإفراد. وابن مردويه. والخطيب في تاريخه بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة * (الرحمن) * على أصحابه فسكتوا فقال: مالي أسمع الجن أحسن جوابا لربها منكم ما أتيت على قول الله تعالى: * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * إلا قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد ".
وأخرج الترمذي وجماعة وصححه الحاكم عن جابر بن عبد الله نحوه، وقرىء * (فبأي) * بالتنوين في جميع السورة كأنه
104

حذف منه المضاف إليه وأبدل منه * (آلاء ربكما) * بدل معرفة من نكرة.
* (خلق الإنس‍ان من صلص‍ال ك الفخار) *.
* (خلق الأنس‍ان من صلص‍ال ك الفخار) * تمهيد للتوبيخ على إخلالهم بمواجب شكر النعمة المتعلقة بذاتي كل واحد من الثقلين، والمراد بالإنسان آدم عند الجمهور. وقيل: الجنس وساغ ذلك لأن أباهم مخلوق مما ذكر، والصلصال الطين اليابس الذي له صلصلة، وأصله - كما قال الراغب - تردد الصوت من الشيء اليابس. ومنه قيل: صل المسمار، وقيل: هو المنتن من الطين من قولهم: صل اللحم، وكأنه أصله صلال فقلبت إحدى اللامين صادا ويبعد ذلك قوله سبحانه: * (كالفخار) * وهو الخذف أعني ما أحرق من الطين حتى تحجر وسمي بذلك لصوته إذا نقر كأنه تصور بصورة من يكثر التفاخر، وقد خلق الله تعالى آدم عليه السلام من تراب جعله طينا ثم حمأ مسنونا ثم صلصالا فلا تنافي بين الآية الناطقة بأحدها وبين ما نطق بأحد الآخرين * (وخلق الجان) * هو أبو الجن وهو إبليس قاله الحسن، وقال مجاهد: هو أبو الجن وليس بإبليس، وقيل: هو اسم جنس شامل للجن كلهم.
* (وخلق الجآن من مارج من نار) *.
* (من مارج) * من لهب خالص لا دخان فيه - كما هو رواية عن ابن عباس - وقيل: هو اللهب المختلط بسواد النار، أو بخضرة وصفرة وحمرة - كما روى عن مجاهد - من مرج الشيء إذا اضطرب واختلط، و * (من) * لابتداء الغاية، وقوله تعالى: * (من نار) * بيان لمارج والتنكير للمطابقة ولأن التعريف لكنه عليه فكأنه قيل: خلق من نار خالصة، أو مختلطة على التفسيرين، وجوز جعل * (من) * فيه ابتدائية فالتنكير لأنه أريد نار مخصوصة متميزة من بين النيران لا هذه المعروفة، وأيا ما كان فالمارج بالنسبة إلى الجان كالتراب بالنسبة إلى الإنسان، وفي الآية رد على من يزعم أن الجن نفوس مجردة.
* (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *.
* (فبأي ءالاء ربكما تكذبان) * مما أفاض عليكم في تضاعيف خلقكما من سوابغ النعم.
* (رب المشرقين ورب المغربين) *.
* (رب المشرقين ورب المغربين) * خبر مبتدأ محذوف أي هو رب الخ، أو الذي فعل ما ذكر من الأفاعيل البديعة - رب مشرقي الشمس صيفا وشتاءا ومغربيها - كذلك على ما أخرجه جماعة عن ابن عباس، وروى عن مجاهد. وقتادة. وعكرمة أن * (المشرقين) * مشرقا الشتاء ومشرق الصيف، و * (المغربين) * مغرب الشتاء ومغرب الصيف بدون ذكر الشمس، وقيل: المشرقان مشرقا الشمس والقمر، والمغربان مغرباهما.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن * (المشرقين) * مشرق الفجر ومشرق الشفق، و * (المغربين) * مغرب الشمس ومغرب الشفق، وحكى أبو حيان في المغربين نحو هذا، وفي المشرقين أنهما مطلع الفجر ومطلع الشمس والمعول ما عليه الأكثرون من مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما، ومن قضية ذلك أن يكون سبحانه رب ما بينهما من الموجودات، وقيل: * (رب) * مبتدأ والخبر قوله تعالى: * (مرج) * الخ، وليس بذاك.
وقرأ أبو حيوة. وابن أبي عبلة * (رب) * بالجر على أنه بدل من ربكما.
* (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *.
* (فبأي ءلاء ربكما تكذبان) * مما في ذلك من فوائد لا تحصى كاعتدال الهواء واختلاف الفصول وحدوث ما يناسب كل فصل في وقته.
* (مرج البحرين يلتقيان) *.
* (مرج البحرين) * أي أرسلهما وأجراهما من - مرجت - الدابة - في المرعى - أرسلتها فيه، والمعنى أرسل البحر الملح والبحر العذب * (يلتقيان) * أي يتجاوران وتتماس سطوحهما لا فصل بينهما في مرأى العين، وقيل: أرسل بحري فارس والروم يتلقيان في المحيط لأنهما خليجان ينشعبان منه، وروى هذا عن قتادة لكنه
105

أورد عليه أنه لا يوافق قوله تعالى: * (مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج) * (الفرقان: 53) والقرآن يفسر بعضه بعضا، وعليه قيل: جملة * (يلتقيان) * حال مقدرة إن كان المراد - إرسالهما إلى المحيط، أو المعنى اتحاد أصليهما إن كان المراد إرسالهما إليه.
* (بينهما برزخ لا يبغيان) *.
* (بينهما برزخ) * أي حاجز من قدرة الله تعالى، أو من أجرام الأرض كما قال قتادة * (لا يبغيان) * أي لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة وإبطال الخاصية بالكلية بناءا على الوجه الأول فيما سبق، أو لا يتجاوزان حديهما بإغراق ما بينهما بناءا على الوجه الثاني، وروى هذا عن قتادة أيضا، وفي معناه ماأخرجه عبد الرزاق. وابن المنذر عن الحسن * (لا يبغيان) * عليكم فيغرقانكم، وقيل: المعنى لا يطلبان حالا غير الحال التي خلقا عليها وسخرا لها.
* (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *.
* (فبأي ءالاء ربكما تكذبان) * مما لكما في ذلك من المنافع.
* (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) *.
* (يخرج منهما اللؤلؤ) * صغار الدر * (والمرجان) * كباره كما أخرج ذلك عبد بن حميد. وابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه. ومجاهد، وأخرجه عبد عن الربيع. وجماعة منهم المذكوران. وابن المنذر. وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس، وأخرج ابن جرير عنه أنه قال: * (اللؤلؤ) * ما عظم منه * (والمرجان) * اللؤلؤ الصغار. وأخرج هو. وعبد الرزاق. وعبد بن حميد عن قتادة نحوه، وكذا أخرج ابن الأنباري في الوقف والابتداء عن مجاهد، وأظن أنه إن اعتبر في اللؤلؤ معنى التلألؤ واللمعان وفي المرجان معنى المرج والاختلاط فالأوفق لذلك ما قيل: ثانيا فيهما، وأخرج عبد الرزاق. والفريابي. وعبد بن حميد. وابن جرير. وابن المنذر. والطبري عن ابن مسعود أنه قال: - المرجان - الخرز الأحمر أعني البسذ وهو المشهور المتعارف، و * (اللؤلؤ) * عليه شامل للكبار والصغار، ثم إن اللؤلؤ بناء غريب قيل: لا يحفظ منه في كلام العرب أكثر من خمسة هو، والجؤجؤ الصدر وقرية بالبحرين، والدؤدؤ آخر الشهر أو ليلة خمس وست وسبع وعشرين. أو ثمان وتسع وعشرين. أو ثلاث ليال من آخره، والبؤبؤ بالباء الموحدة الأصل. والسيد الظريف. ورأس المكحلة. وإنسان العين. ووسط الشيء، واليؤيؤ بالياء آخر الحروف طائر كالباشق، ورأيت في كتب اللغة على هذا البناء غيرها وهو الضؤضؤ الأضل للطائر. والنؤنؤ بالنون المكثر تقليب الحدقة. والعاجز الجبان، ومن ذلك شؤشؤ دعاء الحمار إلى الماء وزجر الغنم والحمار للمضي. أو هو دعاء للغنم لتأكل، أو تشرب. وأما المرجان فقد ذكره " صاحب القاموس " في مادة - مرج - ولم يذكر ما يفهم منه أنه معرب، وقال أبو حيان في " البحر ": هو اسم أعجمي معرب. وقال ابن دريد: لم أسمع فيه بفعل متصرف.
وقرأ طلحة - اللؤلؤ - بكسر اللام الأخيرة. وقرء اللؤلى بقلب الهمزة المتطرفة ياءا ساكنة بعد كسر ما قبلها وكل من ذلك لغة. وقرأ نافع. وأبو عمرو * (يخرج) * مبنيا للمفعول من الإخراج، وقرىء * (يخرج) * مبنيا للفاعل منه ونصب * (اللؤلؤ والمرجان) * أي يخرج الله تعالى. واستشكلت الآية على تفسير البحرين بالعذب والملح دون بحري فارس والروم بأن المشاهد خروج * (اللؤلؤ والمرجان) * من أحدهما وهو الملح. فكيف قال سبحانه: * (منهما) *؟ وأجيب بأنهما لما التقيا وصارا كالشيء الواحد جاز أن يقال: يخرجان منهما كما يقال يخرجان من البحر ولا يخرجان من جميعه ولكن من بعضه، وكما تقول خرجت من البلد وإنما خرجت من محلة من محاله بل من دار واحدة من دوره، وقد ينسب إلى الإثنين ما هو لأحدهما كما يسند إلى الجماعة ما صدر من واد منهم. ومثله على ما في الانتصاف * (على رجل من القريتين عظيم) * (الزخرف: 31) وعلى ما نقل عن الزجاج
106

* (سبع سموات طباقا * وجعل القمر فيهن نورا) * (نوح: 15، 16)، وقيل: إنهما لا يخرجان إلا من ملتقى العذب والملح ويرده المشاهدة وكأن من ذكره مع ما تقدم لم يذكره لكونه قولا آخر بل ذكره لتقوية الاتحاد فحينئذ تكون علاقة التجوز أقوى.
وقال أبو علي الفارسي: هذا من باب حذف المضاف والتقدير يخرج من أحدهما وجعل * (من القريتين) * من ذلك. وهو عندي تقدير معنى لا تقدير إعراب. وقال الرماني: العذب منهما كاللقاح للملح فهو كما يقال الولد يخرج من الذكر والإنثى أي بواسطتهما، وقال ابن عباس، وعكرمة: تكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر لأن الأصداف في شهر نيسان تتلقى ماء المطر بأفواهها فتتكون منه، ولذا تقل في الجدب، وجعل عليه ضمير * (منهما) * للبحرين باعتبار الجنس ولا يحتاج إليه بناءا على ما أخرجه ابن جرير عنه أن المراد بالبحرين بحر السماء وبحر الأرض.
وأخرج هو. وابن المنذر عن ابن جبير نحوه إلا أن في تكون المرجان بناءا على تفسيره بالبسذ من ماء المطر كاللؤلؤ ترددا وإن قالوا: إنه يتكون في نيسان، وقال بعض الأئمة: ظاهر كلام الله تعالى أولى بالاعتبار من كلام الناس، ومن علم أن اللؤلؤ لا يخرج من الماء العذب وهب أن الغواصين ما أخرجوه إلا من الملح، ولكن لم قلتم أن الصدف لا يخرج بأمر الله تعالى من الماء العذب إلى الماء الملح فإن خروجه محتمل تلذذا بالملوحة كما تلتذ المتوحمة بها في أوائل حملها حتى إذا خرج لم يمكنه العود، وكيف يمكن الجزم بما قلتم وكثير من الأمور الأرضية الظاهرة خفيت عن التجار الذين قطعوا المفاوز وداروا البلاد فكيف لا يخفى أمر ما في قعر البحر عليهم، والله تعالى أعلم. ومن غريب التفسير: ما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال: * (مرج البحرين يلتقيان) * (الرحمان: 19) علي. وفاطمة رضي الله تعالى عنهما * (بينهما برزخ لا يبغيان) * النبي صلى الله عليه وسلم * (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) * الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما.
وأخرج عن إياس بن مالك نحوه لكن لم يذكر فيه البرزخ، وذكر الطبرسي من الأمامية في تفسيره " مجمع البيان " الأول بعينه عن سلمان الفارسي. وسعيد بن جبير. وسفيان الثوري، والذي أراه أن هذا إن صح ليس من التفسير في شيء بل هو تأويل كتأويل المتصوفة لكثير من الآيات، وكل من علي. وفاطمة رضي الله تعالى عنهما عندي أعظم من البحر المحيط علما وفضلا، وكذا كل من الحسنين رضي الله تعالى عنهما أبهى وأبهج من اللؤلؤ والمرجان بمراتب جاوزت حد الحسبان.
* (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *.
* (فبأي ءالاء ربكما تكذبان) * مما في ذلك من الزينة والمنافع الجليلة فقد ذكر الأطباء أن * (اللؤلؤ) * يمنع الخفقان. والبحر. وضعف الكبد. والكلى. والحصى. وحرقة البول. والسدد. واليرقان. وأمراض القلب. والسموم. والوسواس. والجنون. والتوحش. والربو شربا. والجذام. والبرص. والبهق. والآثار مطلقا بالطلي إلى غير ذلك، وأن المرجان أعني البسذ يفرح ويزيل فساد الشهوة ولو تعليقا. ونفث الدم. والطحال شربا. والدمعة. والبياض. والسلاق. والجرب كحلا إلى غير ذلك مما هو مذكور في كتبهم.
* (وله الجوار المنشئات فى البحر ك الاعل‍ام) *.
* (وله الجوار) * السفن جمع جارية وخصها سبحانه بأنها له وهو تعالى له ملك السموات والأرض وما فيهن للإشارة إلى أن كونهم هم منشئيها لا يخرجها من ملكه عز وجل حيث كان تمام منفعتها إنما هو منه عز وجل، وقرأ عبد الله. والحسن. وعبد الوارث عن أبي عمرو - الجوار -
107

بإظهار الرفع على الراء لأن المحذوف لما تناسوه أعطوا ما قبل الآخر حكمه كما في قوله: لها ثنايا أربع حسان * وأربع فكلها (ثمان)
* (المنشئات) * أي المرفوعات الشرع - كما قال مجاهد - من أنشأه بمعنى رفعه، وقيل: المرفوعات على الماء وليس بذاك، وكذا ما قيل المصنوعات، وقرأ الأعمش. وحمزة. وزيد بن علي. وطلحة. وأبو بكر بخلاف عنه * (المنشآت) * بكسر الشين أي الرافعات الشرع، أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهن، أو اللاتي ينشئن السير إقبالا وإدبار، وفي الكل مجاز، وشدد الشين ابن أبي عبلة، وقرأ الحسن * (المنشآت) * وحد الصفة ودل على الجمع الموصوف كقوله تعالى: * (أزواج مطهرة) * (البقرة: 25) وقلب الهمزة ألفا على حد قوله: إن السباع (لتهدا) في مرابضها
يريد لتهدأ والتاء لتأنيث الصفة كتبت تاءا على لفظها في الأصل * (في البحر كالأعل‍ام) * كالجبال الشاهقة جمع علم وهو الجبل الطويل.
* (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *.
* (فبأي ءالاء ربكما تكذبان) * من خلق مواد السفن والإرشاد إلى أخذها وكيفية تركيبها وإجرائها في البحر بأسباب لا يقدر على خلقها وجمعها وترتيبها غيره سبحانه وتعالى:
* (كل من عليها فان) *.
* (كل من عليها) * أي على الأرض التي وضعت للأنام من الحيوانات والمركبات و * (من) * للتغليب؛ أو للثقلين * (فان) * هالك.
* (ويبقى وجه ربك ذو الجل‍ال والإكرام) *.
* (ويبقى وجه ربك) * أي ذاته عز وجل، والمراد هو سبحانه وتعالى، فالإضافة بيانية وحقيقة الوجه في الشاهد الجارحة واستعماله في الذات مجاز مرسل كاستعمال الأيدي في الأنفس، وهو مجاز شائع، وقيل: أصله الجهة واستعماله في الذات من باب الكناية وتفسيره بالذات هنا مبني على مذهب الخلف القائلين بالتأويل، وتعيين المراد في مثل ذلك دون مذهب السلف، وقد قررناه لك غير مرة فتذكره وعض عليه بالنواجذ.
والظاهر أن الخطاب في - ربك - للرسول صلى الله عليه وسلم وفيه تشريف عظيم له عليه الصلاة والسلام، وقيل: هو للصالح له لعظم الأمر وفخامته، وفي الآية عند
المؤولين كلام كثير منه ما سمعت، ومنه ما قيل: الوجه بمعنى القصد ويراد به المقصود، أي ويبقى ما يقصد به ربك عز وجل من الأعمال، وحمل كلام من فسره بالعمل الصالح على ذلك وفيه ما فيه، وأقرب منه ما قيل: وجهه تعالى الجهة التي أمرنا عز وجل بالتوجه إليها والتقرب بها إليه سبحانه، ومرجع ذلك العمل الصالح أيضا والله جل شأنه يبقيه للعبد إلى أن يجازيه عليه ولذا وصف بالبقاء؛ أو لأنه بالقبول صار غير قابل للفناء لما أن الجزاء عليه قام مقامه وهو باق، ولا يخفى أن كلا القولين غير مناسب للتعليم في * (كل من عليها) * وقيل: وجهه سبحانه الجهة التي يليها الحق أي يتولاها بفضله ويفيضها على الشيء من عنده أي إن ذلك باق دون الشيء في حد ذاته فإنه فان في كل وقت، وقيل: المراد بوجهه سبحانه وجهه الممكن وهي جهة حيثية ارتباطه وانتسابه إليه تعاطى، والإضافة لأدنى ملابسة فالممكن في حد ذاته أي إذا اعتبر مستقلا غير مرتبط بعلته أعني الوجود الحق كان معدوما لأن ظهوره إنما نشأ من العلة ولولاها لم يك شيئا مذكورا، وقول العلامة البيضاوي: لو استقريت جهات الموجودات وتفحصت وجوهها وجدتها بأسرها فانية في حد ذاتها إلا وجه الله تعالى أي الوجه الذي يلي جهته سبحانه محمول على ذلك عند بعض المحققين وإن كان قد فسر الوجه قبل بالذات، وللعلماء في تقرير كلامه اختلاف، فمنهم من يجعل قوله: لو استقريت الخ تتمة لتفسيره الأول،
108

ومنهم من يجعله وجها آخر، وهو على الأول أخذ بالحاصل، وعلى الثاني قيل: يحتمل التطبيق على كل من مذاهب في الممكنات الموجودة، وذلك أنها إما موجودة حقيقة بمعنى أنها متصفة بالوجود اتصافا حقيقيا بأن يكون الوجود زائدا عليها قائما بها، وهو مذهب جمهور الحكماء. والمتكلمين، وإما موجودة مجازا وليس لها اتصاف حقيقي بالوجود بأن يكون الوجود قائما بها بل إطلاق الموجود عليها كإطلاق الشمس على الماء، وإليه ذهب المتألهون من الحكماء. والمحققون من الصوفية إلا أن ذوق المتألهين أن علاقة المجاز أن لها نسبة مخصوصة إلى حضرة الوجود الواجبي على وجوه مختلفة وأنحاء شتى، والطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق، فالوجود عندهم جزئي حقيقي قائم بذاته لا يتصور عروضه لشيء ولا قيامه به ومعنى كون الممكن موجودا أنه مظهر له ومجلى ينجلي فيه نوره - فالله نور السموات والأرض - والممكنات بمنزلة المرايا المختلفة التي تنعكس إليها أشعة الشمس وينصبغ كل منها بصبغ يناسبه، ومذاق المحققين من الصوفية أن علاقة المجاز أنها بمنزلة صفات قائمة بذات الواجب سبحانه إذ ليس في الوجود على مذاقهم ذوات متعددة بعضها واجب وبعضها ممكن بل ذات واحدة لها صفات متكثرة وشؤونات متعددة وتجليات متجددة * (قل الله ثم ذرهم) * (الأنعام: 91) والمشهور أنه لا فرق بين المذاقين.
ووجه التطبيق على الأول أن يقال: المراد من الوجه الذي يلي جهته تعالى هو الوجوه بالغير إذ الممكن - وإن كان موجودا حقيقة عند الجمهور - لكن وجوده مستفاد من الواجب بالذات، وجهة الاستفادة ليست هي الذات ولا شيئا آخر من الجهات والوجوه كالإمكان. والمعلولية. والجوهرية. والعرضية. والبساطة. والتركيب وسائر الأمور العامة لأن كلا منها جهته الخسة، ومقتضى الفطرة الإمكانية البعيدة بمراحل عن لوجوب الذاتي المنافية له، وإنما جهة الشرف القريبة المناسبة للوجوب الذاتي جهة الوجوب بالغير فهو وجه يلي جهة الواجب ويناسبه في كونه وجوبا وإن كان بالغير، ولذا يعقبه فيضان الوجود، ولذا تسمعهم يقولون: الممكن ما لم يجب لم يوجد.
ووجه التطبيق على الثاني أن يقال: الوجه الذي يلي جهته تعالى هو تلك النسبة المخصوصة المصححة لإطلاق لفظ الموجود عليها ولو مجازا، فالمعنى * (كل من عليها فان) * معدوم لا يصح أن يطلق لفظ الموجود عليه ولو مجازا إلا باعتبار الوجه الذي يلي جهته تعالى أي النسبة المخصوصة إلى حضرته تعالى وهي كونه مظهرا له سبحانه، ووجه التطبيق على الثالث أن يقال: المراد بالوجه الذي يلي جهته تعالى كونها شؤونات واعتبارات له تعالى. فالمعنى * (كل من عليها) * معدوم من جميع الوجوه والاعتبارات إلا من الوجه الذي يلي جهته سبحانه والاعتبار الذي يحصل مقيسا إليه عز وجل، وهو كونه شأنا من شؤونه واعتبارا من اعتباراته جل شأنه فتأمل مستعينا بالله عز وجل.
* (ذو الجل‍ال والإكرام) * أي يجله الموحدون عن التشبيه بخلقه ويثبتون له ما يليق بشأنه تعالى شأنه فهذا راجع إلى ماله سحبانه من التعظيم في قلوب من عرفه عز وجل أو الذي يقال في شأنه: ما أجلك وما أكرمك أي هو سبحانه من يستحق أن يقال في شأنه ذلك قيل أو لم يقل فهو راجع إلى ما له تعالى من الكمال في نفسه باعتبار قصور الإدراك عن شأوه، أو من عنده الجلال والإكرام للموحدين فهو راجع إلى الفعل أي يجل الموحدين ويكرمهم، وفسر بعض المحققين * (الجلال) * بالاستغناء المطلق * (والإكرام) * بالفضل التام وهذا ظاهر، ووجه الأول بأن الجلال العظمة وهي تقتضي ترفعه تعالى عن الموجودات ويستلزم أنه سبحانه غني عنها، ثم ألحق بالحقيقة، ولذا قال الجوهري: عظمة الشيء الاستغناء عن غيره وكل محتاج حقير، وقال الكرماني:
109

إنه تعالى له صفات عدمية مثل * (لا شريك له) * (الأنعام: 163) وتسمى صفات الجلال لما أنها تؤدي بجل عن كذا جل عن كذا وصفات وجودية - كالحياة. والعلم - وتسمى صفات الإكرام، وفيه تأمل.
والظاهر أن * (ذو) * صفة للوجه، ويتضمن الوصف بما ذكر على ما ذكره البعض الإشارة إلى أن فناء * (من عليها) * لا يخل بشأنه عز وجل لأنه الغني المطلق، والإشارة إلى أنه تعالى بعد فنائهم يفيض على الثقلين من آثار كرمه ما يفيض وذلك يوم القيامة، ووصف الوجه بما وصف يبعد كونه عبارة عن العمل الصالح أو الجهة على ما سمعت آنفا وكأن من يقول بذلك يقول: * (ذو) * خبر مبتدأ محذوف هو ضمير راجع إلى الرب وهو في الأصل صفة له، ثم قطعت عن التبعية، ويؤده قراءة أبي. وعبد الله - ذي الجلال - بالياء على أنه صفة تابعة للرب، وذكر الراغب أن هذا الوصف قد خص به عز وجل ولم يستعمل في غيره، فهو من أجل أوصافه سبحانه، ويشهد له ما رواه الترمذي عن أنس. والإمام أحمد عن ربيعة بن عامر مرفوعا " ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام " أي الزموه وأثبتوا عليه وأكثروا من قوله والتلفظ به في دعائكم، وروى الترمذي. وأبو داود. والنسائي عن أنس " أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل يصلي ثم دعا فقال: اللهم إني أسألك
بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض ذو الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، فقال صلى الله عليه وسلم: لأصحابه أتدرون بما دعا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: والذي نفسي بيده لقد دعا الله باسمه الأعظم إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى ".
* (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *.
* (فبأي ءالاء ربكما تكذبان) * مما يتضمنه ما ذكر فإن الفناء باب للبقاء، والحياة الأبدية، والإثابة بالنعمة السرمدية، وقال الطيبي: المراد من الآية السابقة ملزوم معناها لأنها كناية عن مجيء وقت الجزاء وهو من أجل النعم، ولذلك خص * (الجلال والإكرام) * بالذكر لأنهما يدلان على الإثابة والعقاب المراد منها تخويف العباد وتحذيرهم من ارتكاب ما يترتب عليه العقاب، والتحذير من مثل نعمة، فلذا رتبت عليها بالفاء قوله تعالى: * (فبأى آلاء) * الخ، وليس بذاك.
* (يسأله من فى السم‍اوات والارض كل يوم هو فى شأن) *.
* (يسئله من في السم‍اوات والأرض) * قاطبة ما يحتاجون إليه في ذواتهم حدوثا وبقاءا وفي سائر أحوالهم سؤالا مستمرا بلسان المقال أو بلسان الحال فإنهم كافة من حيث حقائقهم الممكنة بمعزل من استحقاق الوجود وما يتفرع عليه من الكمالات بالمرة بحيث لو انقطع ما بينهم وبين العناية الإلهية من العلاقة لم يشموا رائحة الوجود أصلا فهم في كل آن سائلون.
وأخرج عبد بن حميد. وابن المنذر عن أبي صالح * (يسأله من في السموات) * الرحمة، ومن في " الأرض " المغفرة والرزق، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج * (يسأله) * الملائكة عليهم السلام الرزق لأهل الأرض والمغفرة. وأهل الأرض يسألونهما جميعا وما تقدم أولى. ولا دليل على التخصيص.
والظاهر أن الجملة استئناف. وقيل: هي حال من - الوجه - والعامل فيها * (يبقى) * أي هو سبحانه دائم في هذه الحال، ولا يخفى حاله على ذي تمييز * (كل يوم) * كل وقت من الأوقات ولحظة من اللحظات.
* (هو في شان) * من الشؤون التي من جملتها إعطاء ما سألوا فإنه تعالى لا يزال ينشىء أشخاصا، ويفنى آخرين ويأتي بأحوال ويذهب بأحوال حسبما تقتضيه مشيئته عز وجل المبنية على الحكم البالغة، وأخرج البخاري في " تاريخه ". وابن ماجه. وابن حبان. وجماعة عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية: " من شأنه أن
110

يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين " زاد البزار * (ويجيب داعيا) *، وقيل: إن لله تعالى في كل يوم ثلاث عساكر. عسكر من الاصلاب إلى الأرحام. وعسكر من الأرحام إلى الدنيا. وعسكر من الدنيا إلى القبور، والظاهر أن المراد بيان كثرة شؤونه تعالى في الدنيا فكل يوم على معنى كل وقت من أوقات الدنيا.
وقال ابن عيينة: الدهر عند الله تعالى يومان، أحدهما: اليوم الذي هو مدة الدنيا فشأنه فيه الأمر والنهي والإماتة والإحياء. وثانيهما: اليوم الذي هو يوم القيامة فشأنه سبحانه فيه الجزاء والحساب، وعن مقاتل إن الآية نزلت في اليهود قالوا: إن الله تعالى لا يقضي يوم السبت شيئا فرد عز وجل عليهم بذلك، وسأل عبد الله بن طاهر الحسين بن الفضل عن الجمع بين هذه الآية وما صح من أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة فقال: شؤون يبديها لا شؤون يبتديها، وانتصب * (كل يوم) * على الظرف، والعامل فيه هو العامل في قوله تعلى: * (في شأن) *، و * (هو) * ثابت المحذوف: فكأنه قيل هو ثابت في شأن كل يوم.
* (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *.
* (فباى ءالاء ربكما تكذبان) * مما يسعف به سؤالكما وما يخرج لكما بيديه من مكمن العدم حينا فحينا.
* (سنفرغ لكم أيها الثقلان) *.
* (سنفرغ لكم) * الفراغ في اللعنة يقتضي سابقة شغل.
والفراغ للشيء يقتضي لاحقيته أيضا، والله سبحانه لا يشغله شأن عنشأن فجعل انتهاء الشؤون المشار إليها بقوله تعالى: * (كل يوم هو شأن) * (الرحمان: 29) يوم القيامة إلى واحد هو جزاء المكلفين فراغا لهم على سبيل التمثيل لأن من ترك أشغاله إلى شغل واحد يقال: فرغ له وإليه فشبه حال هؤلاء - وأخذه تعالى في جزائهم فحسب - بحال من فرغ له، وجازت الاستعارة التصريحية التبعية في * (سنفرغ) * بأن يكون المراد سنأخذ في جزائكم فقط الاشتراك الأخذ في الجزاء فقط، والفراغ عن جميع المهام إلى واحد في أن المعنى به ذلك الواحد، وقيل: المراد التوفر في الانتقام والنكاية، وذلك أن الفراغ للشيء يستعمل في التهديد كثيرا كأنه فرغ عن كل شيء لأجله فلم يبق له شغل غيره فيدل على التوفر المذكور، وهو كناية فيمن يصح عليه، ومجاز في غير كالذي نحن فيه، ولعل مراد ابن عباس. والضحاك بقولهما - كما أخرج ابن جرير عنهما - هذا وعيد من الله تعالى لعباده ما ذكر، والخطاب عليه قيل: للمجرمين، وتعقب بأن النداء الآتي يأباه، نعم المقصود بالتهديد هم، وقيل: لا مانع من تهديد الجميع، ثم إن هذا التهديد إنما هو بما يكون يوم القيامة، وقول ابن عطية: يحتمل أن يكون ذلك توعدا بعذاب الدنيا مما لا يكاد يلتفت إليه، وقيل: إن فرغ يكون بمعنى قصد، واستدل عليه بما أنشده ابن الأنباري لجرير: ألان وقد (فرغت) إلى نمير * فهذا حين كنت لهم عذابا
أي قصدت، وأنشد النحاس: فرغت إلى العبد المقيد في الحجل * وفي الحديث " لأتفرغن لك يا خبيث " قال صلى الله عليه وسلم مخاطبا به أزب العقبة يوم بيعتها أي لأقصدن إبطال أمرك، ونقل هذا عن الخليل. والكسائي. والفراء، والظاهر أنهم حملوا ما في الآية على ذلك، فالمراد حينئذ تعلق الإرادة تعلقا تنجيزيا بجزائهم، وقرأ حمزة. والكسائي. وأبو حيوة. وزيد بن علي - سيفرغ - بياء الغيبة، وقرأ قتادة. والأعرج * (سنفرغ) * بنون العظمة. وفتح الراء مضارع فرغ بكسرها - وهو لغة تميم - كما أن * (سنفرغ) * في قراءة الجمهور مضارع فرغ بفتحها لغة الحجاز، وقرأ أبو السمال. وعيسى * (سنفرغ) * بكسر النون وفتح الراء وهي -
على ما قال أبو حاتم - لغة سفلى مضر، وقرأ الأعمش. وأبو حيوة بخلاف عنهما. وابن أبي عبلة. والزعفراني
111

- سيفرغ - بضم الياء وفتح الراء مبنيا للمفعول؛ وقرأ عيسى أيضا * (سنفرغ) * بفتح النون وكسر الراء، والأعرج أيضا - سيفرغ - بفتح الياء والراء وهي لغة، وقرىء سأفرغ بهمزة المتكلم وحده، وقرأ أبي * (سنفرغ) * إليكم عداه بإلى فقيل: للحمل على القصد، أو لتضمينه معناه أي * (سنفرغ) * قاصدين إليكم.
* (أيه الثقلان) * هما الإنس والجن من ثقل الدابة وهو ما يحمل عليها جعلت الأرض كالحمولة والإنس والجن ثقلاها، وما سواهما على هذا كالعلاوة، وقال غير واحد: سميا بذلك لثقلهما على الأرض، أو لرزانة رأيهما وقدرهما وعظم شأنهما. ويقال لكل عظيم القدر مما يتنافس فيه: ثقل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي " وقيل: سميا بذلك لأنهما مثقلان بالتكليف، وعن الحسن لثقلهما بالذنوب.
* (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *.
* (فباي ءالاء ربكما تكذبان) * التي من جملتها التنبيه على ما ستلقونه يوم القيامة للتحذير عما يؤدي إلى سوء الحساب.
* (يامعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقط‍ار السم‍اوات والارض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلط‍ان) *.
* (ي‍امعشر الجن والانس) * هما الثقلان خوطبا باسم جنسيهما لزيادة التقرير ولأن الجن مشهورون بالقدرة على الأفاعيل الشاقة بما ينبىء عن ذلك لبيان أن قدرتهم لا تفي بما كلفوه وكأنه لما ذكر سبحانه أنه مجاز للعباد لا محالة عقب عز وجل ذلك ببيان أنهم لا يقدرون على الخلاص من جزائه وعقابه إذا أراده فقال سبحانه: * (يا معشر الجن والإنس) * * (إن استطعتم) * إن قدرتم، وأصل الاستطاعة طلب طواعية الفعل وتأتيه.
* (أن تنفذوا من أقطار السم‍اوات والأرض) * أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض هاربين من الله تعالى فارين من قضائه سبحانه: * (فانفذوا) * فاخرجوا منها وخلصوا أنفسكم من عقابه عز وجل، والأمر للتعجيز * (لا تنفذون) * لا تقدرون على النفوذ * (إلا بسلط‍ان) * أي بقوة وقهر وأنتم عن ذلك بمعزل وألف ألف منزل، روى أن الملائكة عليهم السلام ينزلون يوم القيامة فيحيطون بجميع الخلائق فإذا رآهم الجن والإنس هربوا فلا يأتون وجها إلا وجدوا الملائكة أحاطت به، وقيل: هذا أمر يكون في الدنيا، قال الضحاك: بينما الناس في أسواقهم انفتحت السماء ونزلت الملائكة فتهرب الجن والإنس فتحدق بهم الملائكة وذلك قبيل قيام الساعة، وقيل: المراد إن استطعتم الفرار من الموت ففروا، وقيل: المعنى إن قدرتم أن تنفذوا لتعلموا بما في السموات والأرض فانفذوا لتعلموا لكن * (لا تنفذون) * ولا تعلمون إلا ببينة وحجة نصبها الله تعالى فتعرجون عليها بأفكاركم، وروى ما يقاربه عن ابن عباس والأنسب بالمقام لا يخفى.
وقرأ زيد بن علي إن استطعتما رعاية للنوعين وإن كان تحت كل أفراد كثيرة والجمع لرعاية تلك الكثرة وقد جاء كل في الفصيح نحو قوله تعالى: * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) * (الحجرات: 9).
* (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *.
* (فباى ءالاء ربكما تكذبان) * أي من التنبيه والتحذير والمساهلة والعفو مع كمال القدرة على العقوبة، وقيل: على الوجه الأخير فيما تقدم أي مما نصب سبحانه من المصاعد العقلية والمعارج النقلية فتنفذون بها إلى ما فوق السموات العلا * (يرسل عليكما) * استئناف في جواب سؤال مقدر عن الداعي للفرار أو عما يصيبهم أي يصب عليكما.
* (يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران) *.
* (يرسل عليكما) * استئناف في جواب سؤال مقدر عن الداعي للفرار أو عما يصيبهم أي يصب عليكما * (شواظ) * هو اللهب الخالص كما روى عن ابن عباس، وأنشد عليه أبو حيان قول حسان: هجوتك فاختضعت لنا بذل * بقافية تأجج (كالشواظ)
112

وقيل: اللهب المختلط بالدخان، وقال مجاهد: اللهب الأحمر المنقطع، وقيل: اللهب الأخضر، وقال الضحاك: الدخان الذي يخرج من اللهب، وقيل: هو النار والدخان جميعا، وقرأ عيسى. وابن كثير. وشبل * (شواظ) * بكسر الشين * (من نار) * متعلق - بيرسل - أو يمضمر هو صفة - لشواظ - و * (من) * ابتدائية أي كائن من نار والتنوين للتفخيم * (ونحاس) * هو الدخان الذي لا لهب فيه كما قاله ابن عباس لنافع بن الأزرق وأنشد له قول الأعشى، أو النابغة الجعدي: تضيء كضوء السراج السلي‍ * ط لم يجعل الله فيه (نحاسا)
وروي عنه أيضا، وعن مجاهد أنه الصفر المعروف أي يصب على رؤوسكما صفر مذاب، والراغب فسره باللهب بلا دخان ثم قال: وذلك لشبهه في اللون بالنحاس، وقرأ ابن أبي إسحق. والنخعي. وابن كثير. وأبو عمرو * (ونحاس) * بالجر على أنه عطف على نار، وقيل: على * (شواظ) * وجر للجوار فلا تغفل.
وقرأ الكلبي. وطلحة. ومجاهد بالجر أيضا لكنهم كسروا النون وهو لغة فيه، وقرأ ابن جبير - ونحس - كما تقول يوم نحس، وقرأ عبد الرحمن بن أبي بكرة. وابن أبي إسحق أيضا - ونحس - مضارعا، وماضيه حسه أي قتله أي ونقتل بالعذاب، وعن ابن أبي إسحق أيضا - ونحس - بالحركات الثلاث في الحاء على التخيير. وحنظلة بن عثمان - ونحس - بفتح النون وكسر السين، والحسن. وإسمعيل - ونحس - بضمتين والكسر، وهو جمع - نحاس - كلحاف ولحف، وقرأ زيد بن علي - نرسل - بالنون - شواظا - بالنصب - ونحاسا - كذلك عطفا على شواظا * (فلا تنتصران) * فلا تمتنعان وهذا عند الضحاك في الدنيا أيضا.
أخرج ابن أبي شيبة عنه أنه قال في الآية: تخرج نار من قبل المغرب تحشر الناس حتى إنها لتحشر القدرة والخنازير تبيت معهم حيث باتوا وتقيل حيث قالوا، وقال في البحر: المراد تعجيز الجن والإنس أي أنتما بحال من يرسل عليه هذا فلا يقدر على الامتناع مما يرسل عليه.
* (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *.
* (فبأي ءالاء ربكما تكذبان) * فإن التهديد لطف والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء والانتقام من الكفار من عداد الآلاء.
* (فإذا انشقت السمآء فكانت وردة ك الدهان) *.
* (فإذا انشقت السمآء) * أي انصدعت يوم القيامة، وحديث امتناع الخرق حديث خرافة، ومثله ما يقوله أهل الهيئة اليوم في السماء على أن الانشقاق فيها على زعمهم أيضا متصور * (فكانت وردة) * أي كالوردة في الحمرة، والمراد بها النور المعروف قاله الزجاج. وقتادة، وقال ابن عباس. وأبو صالح: كانت مثل لون الفرس الورد، والظاهر أن مرادهما كانت حمراء.
وقال الفراء: أريد لون الفرس الورد يكون في الربيع إلى الصفرة، وفي الشتاء إلى الحمرة، وفي اشتداد البرد إلى الحمرة فشبه تلون السماء بتلون الورد من الخيل، وروي هذا عن الكلبي أيضا، وقال أبو الجوزاء: * (وردة) * صفراء والمعول عليه إرادة الحمرة، ونصب * (وردة) * على أنه خبر - كان -، وفي الكلام تشبيه بليغ، وقرأ عبيد بن عمير * (وردة) * بالرفع على أن - كان - تامة أي فحصلت سماء وردة فيكون من باب التجريد لأنه بمعنى كانت منها، أو فيها سماء وردة مع أن المقصود أنها نفسها كذلك فهو كقول قتادة بن مسلمة: فلئن بقيت لأرحلن بغزوة * نحو المغانم أو يموت كريم
حيث عني بالكريم نفسه، وقوله تعالى: * (ك الدهان) * خبر ثان لكانت - أو نعت - لوردة - أو حال
113

من اسم - كانت - على رأي من أجازه أي كدهن الزيت كما قال تعالى: * (كالمهل) * وهو دردي الزيت، وهو إما جمع دهن كقرط وقراط، أو اسم لما يدهن به كالحزام والادام، وعليه قوله في وصف عينين كثيرتي التذارف: كأنهما مزادتا متعجل * فريان لما تدهنا (بدهان)
وهو الدهن أيضا إلا أنه أخص لأنه الدهن باعتبار إشرابه الشيء، ووجه الشبه الذوبان وهو في السماء على ما قيل من حرارة جهنم وكذا الحمرة، وقيل: اللمعان، وقال الحسن: أي كالدهان المختلفة لأنه تتلون ألوانا؛ وقال ابن عباس: الدهان الأديم الأحمر؛ ومنه قول الأعشى: وأجرد من كرام الخيل طرف * كأن على شواكله (دهانا)
وهو مفرد، أو جمع، واستدل للثاني بقوله: تبعن (الدهان) الحمر كل عشية * بموسم بدر أو بسوق عكاظ
وإذا شرطية جوابها مقدر أي كان ما كان مما لا تطيقه قوة البيان، أو وجدت أمرا هائلا، أو رأيت ما يذهل الناظرين وهو الناصب لإذا، ولهذا كان مفرعا ومسببا عما قبله لأن في إرسال الشواظ ما هو سبب لحدوث أمر هائل، أو رؤيته في ذلك الوقت.
* (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *.
* (فبأي ءالاء ربكما تكذبان) * فإن الأخبار بنحو ما ذكر مما يزجر عن الشر فهو لطف أي لطف ونعمة أي نعمة.
* (فيومئذ لا يس‍ال عن ذنبه إنس ولا جآن) *.
* (فيومئذ) * أي يوم إذ تنشق السماء حسبما ما ذكر * (لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جآن) * لأنهم يعرفون بسيماهم وهذا في موقف، وما دل على السؤال من نحو قوله تعالى: * (فوربك لنسألنهم أجمعين) * (الحجر: 92) في موقف آخر قاله عكرمة. وقتادة وموقف السؤال على ما قيل: عند الحساب، وترك السؤال عند الخروج من القبور، وقال ابن عباس: حيث ذكر السؤال فهو سؤال توبيخ وتقرير، وحيث نفي استخبار محض عن الذنب، وقيل: المنفي هو السؤال عن الذنب نفسه والمثبت هو السؤال عن الباعث عليه، وأنت تعلم أن في الآيات ما يدل على السؤال عن نفس الذنب.
وحكى الطبرسي عن الرضا رضي الله تعالى عنه أن من اعتقد الحق ثم أذنب ولم يتب عذب في البرزخ ويخرج يوم القيامة وليس له ذنب يسأل عنه، ولعمري إن الرضا لم يقل ذلك، وحمل الآية عليه مما لا يلتفت إليه بعين الرضا كما لا يخفى، وضمير ذنبه للإنس وهو متقدم رتبة لأنه نائب عن الفاعل، وإفراده باعتبار اللفظ، وقيل: لما أن المراد فرد من الإنس كأنه قيل: لا يسأل عن ذنبه إنسي ولا جنى، وقرأ الحسن. وعمرو بن عبيد - ولا جأن - بالهمزة فرارا من التفاء الساكنين وإن كان على حده
* (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *.
* (فبأي ءالاء ربكما تكذبان) * يقال فيه نحو ما سمعت في سابقه.
* (يعرف المجرمون بسيم‍اهم فيؤخذ بالنواصى والاقدام) *.
* (يعرف المجرمون يسيم‍اهم) * استئناف يجري مجرى التعليل لانتفاء السؤال، و * (المجرمون) * قيل: من وضع الظاهر موضع الضمير للإشارة إلى أن المراد بعض من الإنس وبعض من الجن وهو المجرمون فيكون ذلك كقوله تعالى: * (لا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) * (القصص: 78)، و - سيماهم - على ما روي عن الحسن سواد الوجوه وزرقة العيون، وقيل: ما يعلوهم من الكآبة والحزن، وجوز أن تكون أمورا أخر - كالعمى. والبكم. والصمم -.
وقرأ حماد بن سليمان بسيمائهم.
* (فيؤخذ بالنواصي) * جمع ناصية وهي مقدم الرأس * (والأقدام) * جمع قدم وهي قدم الرجل المعروفة والباء للآلة مثلها في أخذت بخطام الدابة، والجار والمجرور نائب الفاعل،
114

وقال أبو حيان: إن الباء للتعدية والفعل مضمن معنى ما يعدي بها أي فيسحب بالنواصي الخ، وفيه بحث. وظاهر كلام غير واحد أن - أل - عوض عن المضاف إليه
الضمير أي بنواصيهم وأقدامهم، ونص عليه أبو حيان فقال: - أل - فيهما عوض عن الضمير على مذهب الكوفيين، والضمير محذوف على مذهب البصريين أي بالنواصي والأقدام منهم، وأنت تعلم أن الخلاف بين أهل البلدين فيما إذا احتيج إلى الضمير للربط ولا احتياج إليه هنا، نعم المعنى على الضمير وكيفية هذا الأخذ على ما روي عن الضحاك أن يجمع الملك بين ناصية أحدهم وقدميه في سلسلة من وراء ظهره ثم بكسر ظهره ويلقيه في النار، وقيل: تأخذ الملائكة عليهم السلام بعضهم سحبا بالناصية وبعضهم سحبا بالقدم، وقيل: تسحبهم الملائكة عليهم السلام تارة بأخذ النواصي وتارة بأخذ الأقدام، قالوا بمعنى أو التي للتقسيم وهو خلاف الظاهر، وإبهام الفاعل لأنه كالمتعين، وقيل: للرمز إلى عظمته فقد أخرج ابن مردويه. والضياء المقدسي في صفة النار عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " والذي نفسي بيده لقد خلقت ملائكة جهنم قبل أن تخلق جهنم بألف عام فهم كل يوم يزدادون قوة إلى قوتهم حتى يقبضوا على من قبضوا بالنواصي والإقدام.
* (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *.
* (فبأي ءالاء ربكما تكذبان) * يقال فيه نحو ما تقدم، وقوله تعالى:
* (ه‍اذه جهنم التى يكذب بها المجرمون) *.
* (ه‍اذه جهنم التي يكذب بها المجرمون) * مقول قول مقدر معطوف على قوله تعالى: * (يؤخذ) * الخ أي ويقال هذه الخ. أو مستأنف في جواب ماذا يقال لهم لأنه مظنة للتوبيخ والتقريع، أو حال من أصحاب النواصي بناءا على أن التقدير نواصيهم أو النواصي منهم، وما في البين اعتراض على الأول والأخير وكان أصل * (التي يكذب بها المجرمون) * التي كذبتم بها فعدل عنه لما ذكر للدلالة على استمرار ذلك وبيان لوجه توبيخهم وعلته.
* (يطوفون بينها وبين حميم ءان) *.
* (يطوفون بينها) * أي يترددون بين نارها * (وبين حميم) * ماء حار * (ءان) * متناه إناه وطبخه بالغ في الحرارة أقصاها، قال قتادة: الحميم يغلي منذ خلق الله تعالى جهنم والمجرم ويعاقب بين تصلية النار وشرب الحميم، وقيل: يحرقون في النار ويصب على رؤوسهم الحميم، وقيل: إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم، وقيل: يغمسون في واد في جهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فتنخلع أوصالهم ثم يخرجون منه وقد أحدث الله تعالى لهم لخقا جديدا، وعن الحسن أنه قال: * (حميم آن) * النحاس انتهى حره، وقيل: * (آن) * حاضر.
وقرأ السلمي يطافون، والأعمش. وطلحة. وابن مقسم * (يطوفون) * بضم الياء وفتح الطاء وكسر الواو مشددة، وقرىء * (يطوفون) * أي يتطوفون.
* (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *.
* (فبأي ءالآء ربكما تكذبان) * هو أيضا كما تقدم.
* (ولمن خاف مقام ربه جنتان) *.
* (ولمن خاف مقام ربه) * الخ شروع في تعديد الآلاء التي تفاض في الآخرة، و * (مقام) * مصدر ميمي بمعنى القيام مضاف إلى الفاعل أي * (ولمن خاف) * قيام ربه وكونه مهيمنا عليه مراقبا له حافظا لأحواله، فالقيام هنا مثله في قوله تعالى: * (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) * (الرعد: 33) وهذا مروى عن مجاهد. وقتادة، أو هو اسم مكان، والمراد به مكان وقوف الخلق في يوم القيامة للحساب، والإضافة إليه تعالى لامية اختصاصية لأن الملك له عز وجل وحده فيه بحسب نفس الأمر، والظاهر والخلق قائمون له كما قال سبحانه: * (يقوم الناس لرب العالمين) * (المطففين: 6) منتظرون ما يحل عليهم من قبله جل شأنه، وزعم بعضهم أن الإضافة على هذا الوجه لأدنى ملابسة وليس بشيء، وقيل: المعنى * (ولمن خاف) * مقامه عند ربه على أن المقام مصدر أو اسم مكان وهو للخائف نفسه، وإضافته
115

للرب لأنه عنده تعالى فهي مثلها في قولهم: شاة رقود الحلب، وهي بمعنى - عند - عند الكوفيين أي رقود عند الحلب، وبمعنى اللام عند الجمهور كما صرح به شراح التسهيل وليست لأدنى ملابسة كما زعم أيضا، ثم إن المراد بالعندية هنا مما لا يخفى، وجوز أن يكون مقحما على سبيل الكناية، فالمراد ولمن خاف ربه لكن بطريق برهاني بليغ، ومثله قول الشماخ: ذعرت به القطا ونفيت عنه * (مقام الذئب) كالرجل اللعين
وهو الأظهر على ما ذكره صاحب الكشف، والظاهر أن المراد ولكل فرد فرد من الخائفين:
* (جنتان) * فقيل: إحداهما منزله ومحل زيارة أحبابه له، والأخرى منزل أزواجه وخدمه، وإليه ذهب الجبائي، وقيل: بستانان بستان داخل قصره وبستان خارجه، وقيل: منزلان ينتقل من أحدهما إلى الآخر لتتوفر دواعي لذته وتظهر ثمار كرامته، وأين هذا ممن يطوف بين النار، وبين حميم آن؟؟.
وجوز أن يقال: جنة لعقيدته وجنة لعمله، أو جنة لفعل الطاعات وجنة لترك المعاصي، أو جنة يثاب بها وأخرى يتفضل بها عليه، أو إحداهما روحانية والأخرى جسمانية، ولا يخفى أن الصفات الآتية ظاهرة في الجسمانية.
وقال مقاتل: جنة عدن وجنة نعيم، وقيل: المراد لكل خائفين منكما جنتان جنة للخائف الإنسي وجنة للخائف الجني، فإن الخطاب للفريقين، وهذا عندي خلاف الظاهر، وفي الآثار ما يبعده، فقد أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن الحسن أنه كان شاب على عهد رضي الله تعالى عنه ملازم للمسجد والعبادة فعشقته جارية فأتته في خلوة فكلمته فحدثته نفسه بذلك فشهق شهقة فغشى عليه فجاء عم له فحمله إلى بيته فلما أفاق قال: يا عم انطلق إلى عمر فاقرئه مني السلام وقل له ما جزاء من خاف مقام ربه؟ فانطلق فأخبر عمر وقد شهق الفتى شهقة أخرى فمات فوقف عليه عمر رضي الله تعالى عنه فقال: لك جنتان لك جنتان.
والخوف في الأصل توقع مكروه عند أمارة مظنونة أو معلومة ويضاده الأمن قال الراغب: والخوف من الله تعالى لا يراد به ما يخطر بالبال من الرعب كاستشعار الخوف من الأسد بل إنما يراد به الكف عن المعاصي وتحري الطاعات، ولذلك قيل: لا يعد خائفا من لم يكن للذنوب تاركا، ويؤيد هذا تفسير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الخائف هنا كما أخرج ابن جرير عنه بمن ركب طاعة الله تعالى وترك معصيته.
وقول مجاهد: هو الرجل يريد الذنب فيذكر الله تعالى فيدع الذنب، والذي يظهر أن ذلك تفسير باللازم، وقد يقال: إن ارتكاب الذنب قد يجامع الخوف من الله تعالى وذلك كما إذا غلبته نفسه ففعله خائفا من عقابه تعالى عليه، وأيد ذلك بما أخرجه أحمد. والنسائي. والطبراني. والحكيم الترمذي في نوادر الأصول. وابن أبي شيبة. وجماعة عن أبي الدرداء " أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) * فقلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: الثانية * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) * فقلت: وإن زني وإن سرق؟ فقال الثالثة: * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) * فقلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: نعم وإن رغم أنف أبي الدرداء " وأخرج الطبراني. وابن مردويه من طريق الجريري عن أخيه قال: سمعت محمد بن سعد يقرأ - ولمن خاف مقام ربه جنتان وإن زنى وإن سرق - فقلت: ليس فيه وإن زنى وإن سرق
116

فقال: سمعت أبا الدرداء رضي الله تعالى عنه يقرؤها كذلك فأنا أقرؤها كذلك حتى أموت، وصرح بعضهم أن المراد بالخوف في الآية أشده فتأمل. وجاء من شأن هاتين الجنتين من حديث عياض بن غنم مرفوعا " إن عرض كل واحدة منهما مسيرة مائة عام " والآية على ما روي عن ابن الزبير. وابن شوذب نزلت في أبي بكر.
وأخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ في العظمة عن عطاء أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ذكر ذات يوم وفكر في القيامة. والموازين. والجنة. والنار. وصفوف الملائكة. وطي السموات. ونسف الجبال وتكوير الشمس. وانتثار الكواكب فقال: وددت أني كنت خضرا من هذه الخضر تأتي على بهيمة فتأكلني وأني لم أخلق فنزلت: * (ولمن خاف مقام ربه جنتنان) *.
* (فبأى ءالاء ربكما تكذبان * ذواتآ أفنان) *.
* (فبأي ءالآء ربكما تكذبان * ذواتا افنان) * صفة لجنتان وما بينهما اعتراض وسط بينهما تنبيها على أن تكذيب كل من الموصوف والصفة موجب للإنكار والتوبيخ، وجوز أن يكون خبر مبتدأ مقدر أي هما ذواتا، وأيا ما كان فهو تثنية - ذات - بمعنى صاحبة فإنه إذا ثنى فيه لغتان ذاتا على لفظه وهو الأقيس كما يثنى مذكره ذوا، والأخرى * (ذواتا) * برده إلى أصله فإن التثنية ترد الأشياء إل أصولها، وقد قالوا: أصل ذات ذوات لكن حذفت الواو تخفيفا؛ وفرقا بين الواحد والجمع ودلت التثنية ورجوع الواو فيها على أصل الواحد وليس هو تثنية الجمع كما يتوهم وتفصيله في باب التثنية من شرح التسهيل، والأفنان إما جمع فن بمعنى النوع ولذا استعمل في العرف بمعنى العلم أي ذواتا أنواع من الأشجار والثمار، وروي ذلك عن ابن عباس. وابن جبير. والضحاك، وعليه قول الشاعر: ومن كل (أفنان) اللذاذة والصبا * لهوت به والعيش أخضر ناضر
وإما جمع فنن وهو ما دق ولأن من الأغصان كما قال ابن الجوزي، وقد يفسر بالغصن، وحمل على التسامح وتخصيصها بالذكر مع أنها ذواتا قصب وأوراق وثمار أيضا لأنها هي التي تورق وتثمر. فمنها تمتد الظلال. ومنها تجني الثمار ففي الوصف تذكير لهما فكأنه قيل: * (ذواتا) * ثمار وظلال لكن على سبيل الكناية وهي أخصر وأبلغ، وتفسيره بالأغصان على أنه جمع غنن مروى عن ابن عباس أيضا، وأخرجه ابن جرير عن مجاهد قال أبو حيان: وهو أولى لأن أفعالا في فعل أكثر منه في فعل بسكوت العين كفن، ويجمع هو على فنون.
* (فبأى ءالاء ربكما تكذبان * فيهما عينان تجريان) *.
* (فبأي ءالآء ربكما تكذبان * فيهما عينان تجريان) * صفة أخرى لجنتان أو خبر ثان للمبتدأ المقدر أي في كل منهما عين تجري بالماء الزلال تسمى إحدى العينين بالتسليم، والأخرى بالسلسبيل، وروي هذا عن الحسن، وقال عطية العوفي: * (عينان) * إخداهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذة للشاربين، وقيل: * (عينان) * من الماء * (تجريان) * حيث شاء صاحبهما من الأعالي والأسافل من جبل من مسك، وعن ابن عباس * (عينان) * مثل الدنيا أصعافا مضاعفة * (تجريان) * بالزيادة والكرامة على أهل الجنة.
* (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *.
* (فباي ءالآء ربكما تكذبان * فيهما من كل فاكهة زوجان) * صنفان معروف وغريب لم يعرفوه في الدنيا، أو رطب ويابس ولا يقصر يابسه عن رطبه في الفضل والطيب، وأخرج عبد بن حميد. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: قال ابن عباس في هذه الآية: ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل، ونقل هذا في البحر عن ابن عباس أيضا بزيادة إلا أنه حلو، والجملة كالجملة التي قبلها.
* (فبأى ءالاء ربكما تكذبان * متكئين على فرش بطآئنها من إستبرق وجنى الجنتين دان) *.
* (فباي ءالآء ريكما تكذبان * متكئين) * حال من قوله تعالى: - ولمن خاف - وجمع رعاية للمعنى بعد الافراد
117

رعاية للفظ، وقيل: العامل محذوف أي يتنعمون متكئين، وقيل: مفعول به بتقدير أعني، والاتكاء من صفات المتنعم الدالة على صحة الجسم وفراغ القلب، والمعنى متكئين في منازلهم * (على فرش بطائنها من استبرق) * من ديباج ثخين قال ابن مسعود - كما رواه عنه جمع. وصححه الحاكم - أخبرتم بالبطائن فكيف بالظهائر، وقيل: ظهائرها من سندس، وعن ابن جبير من نور جامد، وفي حديث من نور يتلألأ وهو إن صح وقف عنده.
وأخرج ابن جرير. وغيره عن ابن عباس أنه قيل له: * (بطائنها من استبرق) * فماذا الظواهر؟ قال: ذلك مما قال الله تعالى: * (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قوة أعين) * (السجدة: 17) وقال الحسن: البطائن هي الظهائر وروي عن قتادة وقال الفراء: قد تكون البطانة الظاهرة والظاهرة البطانة لأن كلا منهما يكون وجها والعرب تقول: هذا ظهر السماء وهذا بطن السماء، والحق أن البطائن هنا مقابل الظهائر على الوجه المعروف، وقرأ أبو حيوة * (فرش) * بسكون الراء، وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك قال: قرأ عبد الله على * (سرر. وفرش بطائنها من استبرق) * * (وجنى الجنتين) * أي ما يجني ويؤخذ من أشجارهما من الثمار، فجنى اسم أو صفة مسبهة بمعنى المجنى * (دان) * قريب يناله القائم. والقاعد. والمضطجع، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: تدنو الشجرة حتى يجتنيها ولي الله تعالى إن شاء قائما وإن شاء قاعدا وإن شاء مضطجعا، وعن مجاهد ثمار الجنتين دانية إلى أفواه أربابها فيتناولونها متكئين فإذا اضطجعوا نزلت بإزاء أفواههم فيتناولونها مضطجعين لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك، وقرأ عيسى * (وجنى) * بفتح الجيم وكسر النون كأنه أمال النون وإن كانت الألف قد حذفت في اللفظ كما أمال أبو عمرو * (حتى نرى الله جهرة) * وقرىء دوجنى) * بكسر الجيم وهو لغة فيه.
* (فبأى ءالاء ربكما تكذبان * فيهن ق‍اصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جآن) *.
* (فباي ءالآء ربكما تكذبان * فيهن) * أي الجنان المدلول عليها بقوله تعالى: * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) * فإنه يلزم من أنه لكل خائف جنتان تعدد الجنان، وكذا على تقدير أن يكون المراد لكل خائفين من الثقلين جنتان لا سيما وقد تقدم اعتبار الجمعية في قوله تعالى: * (متكئين) * وقال الفراء: الضمير لجنتان، والعرب توقع ضمير الجمع على المثنى ولا حاجة إليه بعدما سمعت، وقيل: الضمير للبيوت والقصور المفهومة من الجنتين أو للجنتين باعتبار ما فيهما مما ذكر، وقيل: يعود على الفرش، قال أبو حيان: وهذا قول حسن قريب المأخذ، وتعقب بأن المناسب للفرش - على -، وأجيب بأنه شبه تمكهن على الفرش بتمكن المظروف في الظرف وإيثاره للاشعاء بأن أكثر حالهن الاستقرار عليها، ويجوز أن يقال: الظرفية للاشارة إلى أن الفرش إذا جلس عليها ينزل مكان الجالس منها ويرتفع ما أحاط به حتى يكاد يغيب فيها كما يشاهد في فرش الملوك المترفهين التي حشوها ريش النعام ونحوه، وقيل: الضمير للآلاء المعدودة من - الجنتين. والعينين. والفاكهة والفرش. والجنى والمراد معهن * (ق‍اص‍ارت الطرف) * أي نساء يقصرن أبصارهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم، أو يقصرن طرف الناظر إليهن عن التجاوز إلى غيرهن، قال ابن رشيق في قول امرىء القيس: من (القاصرات الطرف) لو (دب محول * من الذر فوق الأنف منها لأثرا)
أراد بالقاصرات الطرف أنها منكسرة الجفن خافضة النظر غير متطلعة لما بعد ولا ناظرة لغير زوجها، ويجوز أن يكون معناه أن طرف الناظر لا يتجاوزها كقول المتنبي:
118

وخصر تثبت الأبصار فيه * كأن عليه من حدق نطاقا
انتهى فلا تغفل، والأكثرون على أول المعنيين اللذين ذكرناهما بل في بعض الأخبار ما يدل على أنه تفسير نبوي.
أخرج ابن مردويه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في ذلك " لا ينظرن إلا إلى أزواجهن " ومتى صح هذا ينبغي قصر الطرف عليه، وفي بعض الآثار تقول الواحدة منهن لزوجها: وعزة ربي ما أرى في الجنة أحسن منك فالحمد لله الذي جعلني زوجك وجعلك زوجي، و * (الطرف) * في الأصل مصدر فلذلك وحد * (لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان) * قال ابن عباس: لم يفتضهن قبل أزواجهن إنس ولا جان، وفيه إشارة إلى أن ضمير قبلهن للأزواج، ويدل عليه * (قاصرات الطرف) * وفي البحر هو عائد على من عاد عليه الضمير في * (متكئين) *، وأصل الطمث خروج الدم ولذلك يقال للحيض طمث، ثم أطلق على جماع الأبكار لما فيه من خروج الدم، وقيل: ثم عمم لكل جماع، وهو المروى هنا عن عكرمة، وإلى الأول ذهب الكثير، وقيل: إن التعبير به للاشارة إلى أنهن يوجدن أبكارا كلما جومعن، ونفي طمثهن عن الأنس ظاهر، وأما عن الجن فقال مجاهد. والحسن: قد تجامع الجن نساء البشر مع أزواجهن إذا لم يذكر الزوج اسم الله تعالى فنفي هنا جميع المجامعين وقيل: لا حاجة إلى ذلك إذ يكفي في نفي الطمث عن الجن إمكانه منهم، ولا شك في إمكان جماع الجنى إنسية بدون أن يكون مع زوجها الغير الذاكر اسم الله تعالى، ويدل على ذلك ما رواه أبو عثمان سعيد بن دواد الزبيدي قال: كتب قوم من أهل اليمن إلى مالك يسألونه عن نكاح الجن وقالوا: إن ههنا رجلا من الجن يزعم أنه يريد الحلال فقال ما أرى بذلك بأسا في الدين ولكن أكره إذا وجدت امرأة حامل قيل: من زوجك؟ قالت: من الجن فيكثر الفساد في الإسلام، ثم إن دعوى أن الجن تجامع نساء البشر جماعا حقيقيا مع أزواجهن إذا لم يذكروا اسم الله تعالى غير مسلمة عند جميع العلماء، وقوله تعالى: * (وشاركهم في الأموال والأولاد) * (الإسراء: 64) غير نص في المراد كما لا يخفى، وقال ضمرة بن حبيب: الجن في الجنة لهم قاصرات الطرف من الجن نوعهم، فالمعنى لم يطمث الانسيات أحد من الإنس، ولا الجنيات أحد من الجن قبل أزواجهن، وقد أخرج نحو هذا عنه ابن أبي حاتم، وظاهره أن ما للجن لسن من الحور.
ونقل الطبرسي عنه أنهن من الحور وكذا الانسيات، ولا مانع من أن يخلق الله تعالى في الجنة حورا للإنس يشاكلنهم يقال لهن لذلك إنسيات، وحورا للجن يشاكلنهم يقال لهن لذلك جنيات، ويجوز أن تكون الحور كلهن نوعا واحدا ويعطي الجنى منهن لكنه في تلك النشأة غيره في هذه النشأة، ويقال: ما يعطاه الانسى منهن لم يطمثها إنسي قبله، وما يعطاه الجنى لم يطمثها جنى قبله وبهذا فسر البلخي الآية، وقال الشعبي. والكلبي: تلك القاصرات الطرف من نساء الدنيا لم يمسسهن منذ أنشئن النشأة الآخرة خلق قبل، والذي يعطاه الإنسي زوجته المؤمنة التي كانت له في الدنيا ويعطي غيرها من نسائها المؤمنات أيضا. وكذا الجنى يعطي زوجته المؤمنة التي كانت له في الدنيا من الجن ويعطي غيرها من نساء الجن المؤمنات أيضا، ويبعد أن يعطي الجنى من نساء الدنيا الإنسانيات في الآخرة.
والذي يغلب على الظن أن الانسى يعطي من الانسيات والحور والجنى يعطي من الجنيات والحور ولا يعطي إنسى جنية، ولا جنى إنسية وما يعطاه المؤمن إنسيا كان أو
جنيا من الحور شيء يليق به وشتهيه نفسه، وحقيقة تلك النشأة وراء ما يخطر بالبال، واستدل بالآية على أن الجن يدخلون الجن ويجامعون فيها كالإنس فهم باقون فيها منعمين كبقاء المعذبين منهم في النار، وهو مقتضى ظاهر ما ذهب إليه أبو يوسف. ومحمد. وابن أبي ليلى.
119

والأوزاعي. وعليه الأكثر - كما ذكره العيني في " شرح البخاري " من أنهم يثابون على الطاعة ويعاقبون على المعصية، ويدخلون الجنة فإن ظاهره أنهم كالإنس يوم القيامة، وعن الإمام أبي حنيفة ثلاث روايات الأولى أنهم لا ثواب لهم إلا النجاة من النار ثم يقال لهم كونوا ترابا كسائر الحيوانات، والثانية أنهم من أهل الجنة ولا ثواب لهم أي زائد على دخولها، الثالثة التوقف قال الكردري: وهو في أكثر الروايات، وفي فتاوي أبي إسحق بن الصفار أن الإمام يقول: لا يكونون في الجنة ولا في النار ولكن في معلوم الله تعالى.
ونقل عن مالك وطائفة أنهم يكونون في ربض الجنة، وقيل: هم أصحاب الأعراف، وعن الضحاك أنهم يلهمون التسبيح والذكر فيصيبون من لذته ما يصيبه بنو آدم من نعيم الجنة وعلى القول بدخولهم الجنة قيل: نراهم ولا يرونا عكس ما كانوا عليه في الدنيا، وإليه ذهب الحرث المحاسبي، وفي اليواقيت الخواص منهم يرونا كما أن الخواص منا يرونهم في الدنيا، وعلى القول بأنهم يتنعمون في الجنة قيل: إن تنعمهم بغير رؤيته عز وجل فإنهم لا يرونه، وكذا الملائكة عليهم السلام ما عدا جبريل عليه السلام فإنه يراه سبحانه مرة ولا يرى بعدها على ما حكاه أبو إسحق إبراهيم بن الصفار في فتاويه عن أبيه، والأصح ما عليه الأكثر مما قدمناه وأنهم لا فرق بينهم وبين البشر في الرؤية وتمامه في محله، وقرأ طلحة. وعيسى. وأصحاب عبد الله * (يطمثهن) * بضم الميم هنا وفيما بعد، وقرأ أناس بضمه في الأول وكسره في الثانية. وناس بالعكس. وناس بالتخيير، والجحدري بفتح الميم فيهما، والجملة صفة - لقاصرات الطرف - لأن إضافتها لفظية أو حال منها لتخصيصها بالإضافة.
* (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *.
* (فباي ءالآء ربكما تكذبان) * وقوله تعالى:
* (كأنهن الياقوت والمرجان) *.
* (كأنهن الياقوت والمرجان) * إما صفة لقاصرات الطرف، أو حال منها كالتي قبل أي مشبهات بالياقوت والمرجان، وقول النحاس: إن الكاف في موضع رفع على الابتداء ليس بشيء كما لا يخفى، أخرج عبد الرزاق. وعبد بن حميد. وابن جرير عن قتادة أنه قال في الآية في صفاء اليافوت وبياض اللؤلؤ، وعن الحسن نحوه، وفي البحر عن قتادة في صفاء الياقوت. وحمرة المرجان فحمل المرجان على ما هو المعروف، وقيل: مشبهات بالياقوت في حمرة الوجه وبالمرجان أي صغار الدر في بياض البشرة وصفائها وتحصيص الصغار على ما في الكشاف لأنه أنصع بياضا من الكبار، وقيل: يحسن هنا إرادة الكبار كما قيل في معناه لأنه أوفق بقوله تعالى: * (كأنهن بيض مكنون) * فلا تغفل) *.
وأخرج أحمد. وابن حبان. والحاكم وصححه. والبيهقي في البعث والنشور عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: * (كأنهن) * الخ قال: ينظر إلى وجهها في خدرها أصفى من المرآة وإن أدنى لؤلؤة عليها تضيء ما بين المشرق والمغرب وأنه يكون عليها سبعون ثوبا ينفذها بصره حتى يوضح سوقها من وراء ذلك.
وأخرج عبد بن حميد. والطبراني. والبيهقي في البعث عن ابن مسعود قال: إن المرأة من الحور العين يرى مخ ساقها من وراء اللحم والعظم من تحت سبعين حلة كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء.
* (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *.
* (فباي ءالاء ربكما تكذبان) * وقوله تعالى:
* (هل جزآء الإحس‍ان إلا الإحس‍ان) *.
* (هل جزاء الاإحس‍ان إلا الاإحس‍ان) * استئناف مقرر لمضمون ما قبله أي ما جزاء الإحسان في العمل إلا الإحسان في الثواب، وقيل: المراد ما جزاء التوحيد إلا الجنة وأيد بظواهر كثير من الآثار، أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول. والبغوي في تفسيره، والديلمي في مسند الفروس. وابن النجار في تاريخه عن أنس قال: " قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم
120

* (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) * فقال: وهل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: يقول: " هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة " وأخرج ابن النجار في تاريخه عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا بلفظ: " قال الله عز وجل هل جزاء من أنعمت عليه " الخ ووراء ذلك أقوال تقرب من مائة قول، واختير العموم ويدخل التوحيد دخولا أوليا، والصوفية أوردوا الآية في باب الإحسان وفسروه بما في الحديث " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " قالوا: فهو اسم يجمع أبواب الحقائق، وقرأ ابن أبي إسحاق إلا الحسان يعني بالحسان قاصرات الطرف اللاتي تقدم ذكرهن.
* (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *.
* (فبأي ءالآء ربكما تكذبان) * وقوله تعالى:
* (ومن دونهما جنتان) *.
* (ومن دونهما جنتان) * مبتدأ وخبر أي ومن دون تينك الجنتين في المنزلة والقدر جنتان أخريان، قال ابن زيد والأكثرون الأوليان للسابقين وهاتان لأصحاب اليمين،
وقد أخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم. وابن مردويه عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) * (الرحمان: 46) وقوله سبحانه: * (ومن دونهما جنتان) * قال: جنتان من ذهب للمقربين وجنتان من ورق لأصحاب اليمين " وقال الحسن: الأوليان للسابقين والأخريان للتابعين، وروي موقوفا وصححه الحاكم عن أبي موسى، وزعم بعضهم أن الأوليين للخائفين والأخريين لذرياتهم الذين ألحقوا بهم ولم أجد له مستندا من الآثار، وحكي في " البحر " عن ابن عباس أنه قال: * (ومن دونهما) * في القرب للمنعمين والمؤخرتا الذكر أفضل من الأوليين، وادعى أن الصفات الآتية أمدح من الصفات السابقة ووافقه من وافقه، وسيأتي تمام الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى.
* (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *.
* (فبأي ءالآء ربكما تكذبان) * وقوله تعالى:
* (مدهآمتان) *.
* (مدهامتان) * صفة لجنتان وسط بينها الاعتراض لما تقدم من التنبيه على أن تكذيب كل من الموصوف والصفة حقيق بالإنكار والتوبيخ أو خبر مبتدأ محذوف أي هما مدهامتان من الدهمة وهي في الأصل على ما قال الراغب سواد الليل ويعبر عن سواد الفرس وقد يعبر بها عن الخضرة الكاملة اللون كما يعبر عنها بالخضرة إذا لم تكن كاملة وذلك لتقاربهما في اللون، ويقال: إدهام ادهيماما فهو مدهام على وزن مفعال إذا اسود أو اشتدت خضرته، وفسرها هنا ابن عباس. ومجاهد. وابن جبير. وعكرمة. وعطاء بن أبي رباح. وجماعة بخضراوان، بل أخرج الطبراني. وابن مردويه عن أبي أيوب رضي الله تعالى عنه قال: " سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: * (مدهامتان) * فقال عليه الصلاة والسلام: خضراوان " والمراد أنهما شديدتا الخضرة والخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد وذلك من الري من الماء كما روي عن ابن عباس. وابن الزبير. وأبي صالح قيل: إن في وصف هاتين الجنتين بما ذكر إشعارا بأن الغالب عليهما النبات والرياحين المنبسطة على وجه الأرض كما أن في وصف السابقتين بذواتا أفنان إشعارا بأن الغالب عليهما الأشجار فإن الأشجار توصف بأنها ذوات أفنان والنبات يوصف بالخضرة الشديدة فالاقتصار في كل منهما على أحد الأمرين مشعر بما ذكر وبني على هذا كون هاتين الجنتين دون الأوليين في المنزلة والقدر كيف لا والجنة الكثيرة الظلال والثمار أعلى وأغلى من الجنة القليلة الظلال والثمار، ومن ذهب إلى تفضيل هاتين الجنتين مع اختصاص الوصف بالخضرة بالنبات وكذا كونه أغلب من وصف الأشجار به فكثيرا ما تسمع الناس يقولون إذا مدحوا بستانا أشجاره خضر يانعة وهو أظهر في مدحه بأنه ذو ثمار من ذي أفنان، وهو يشعر أيضا بكثرة مائه والاعتناء بشأنه وبعده عن التصوح والهلاك.
* (فبأى ءالاء ربكما تكذبان * فيهما عينان نضاختان) *.
121

#
* (فبأي ءالآء ربكما تكذبان * فيهما عينان نضاختان) * فوارتان بالماء على ما هو الظاهر، وفي " البحر " النضخ فوران الماء، وفي " الكشاف ". وغيره النضخ أكثر من النضخ بالحاء المهملة لأنه مثل الرش وهو عند من فضل الجنتين الأوليين دون الجري، فالمدح به دون المدح به، وعليه قول البراء بن عازب فيما أخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم العينان اللتان تجريان خير من النضاحتين، ومن ذهب إلى تفضيل هاتين يقول في الفوران جري مع زيادة حسن فإن الماء إذا فار وارتفع وقع متناثر القطرات كحبات اللؤلؤ المتناثرة كما يشاهد في الفوارات المعروفة، أو يقول بما أخرجه ابن أبي شيبة. وابن أبي حاتم عن أنس * (نضاختان) * بالمسك والعنبر تنضخان على دور الجنة كما ينضخ المطر على دور أهل الدنيا، أو بما أخرجه ابن أبي شيبة. وعبد بن حميد عن مجاهد * (نضاختان) * بالخير، ولفظ ابن أبي شيبة بكل خير.
* (فبأى ءالاء ربكما تكذبان * فيهما فاكهة ونخل ورمان) *.
* (فبأي ءالآء ربكما تكذبان * فيهما فاكهة ونخل ورمان) * عطف الأخيرين على الفاكهة عطف جبريل وميكال عليهما السلام على الملائكة بيانا لفضلهما، وقيل: إنهما في الدنيا لما لم يخلصا للتفكه فإن النخل ثمرة فاكهة وطعام، والرمان فاكهة ودواء عدا جنسا آخر فعطفا على الفاكهة وإن كان كل ما في الجنة للتفكه لأنه تلذذ خالص، ومنه قال الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: إذا حلف لا يأكل فاكهة فأكل رمانا أو رطبا لم يحنث، وخالفه صاحباه ثم إن نخل الجنة ورمانها وراء ما نعرفه.
أخرج ابن المبارك. وابن أبي شيبة. وهناد. وابن أبي الدنيا. وابن المنذر. والحاكم وصححه. وآخرون عن ابن عباس نخل الجنة جذوعها زمرد أخضر وكرانيفها ذهب أحمر وسعفها كسوة أهل الجنة منها مقطعاتهم وحللهم وثمرها أمثال القلال أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وألين من الزبد وليس له عجم وحكمه حكم المرفوع. وفي حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا أصوله فضة وجذوعه فضة وسعفه حلل وحمله الرطب الخ.
وأخرج ابن أبي حاتم. وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعا قال عليه الصلاة والسلام: " نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها كمثل البعير المقتب " وهذا المدح بحسب الظاهر دون المدح في قوله تعالى في الجنتين السابقتين: * (فيهما من كل فاكهة زوجان) * (الرحمان: 52) ومن ذهب إلى تفضيلهما يقول إن التنوين في فاكهة للتعميم بقرينة المقام نظير ما قيل في قوله تعالى: * (علمت نفس ما أحضرت) * (التكوير: 14) فيكون في قوة فيها كل * (فاكهة) * ويزيد ما في " النظم الجليل " على ما ذكر بتضمنه الإشارة إلى مدح بعض أنواعها، وقال الإمام الرازي: إن * (ما) * هنا كقوله تعالى: * (فيهما من كل فاكهة زوجان) * وذلك لأن الفاكهة أنواع أرضية وشجرية كالبطيخ وغيره من الأرضيات المزروعات والنخل وغيرها من الشجريات فقال تعالى: * (مدهامتان) * (الرحمان: 64) لأنواع الخضر التي فيها الفواكه الأرضية، وفيها أيضا الفواكه الشجرية وذكر سبحانه منها نوعين الرطب والرمان لأنهما متقابلان أحدهما حلو والآخر فيه حامض، وأحدهما حار والآخر
بارد، وأحدهما فاكهة وعذاء والآخر فاكهة، واحدهما من فواكه البلاد الحارة والآخر من فواكه البلاد الباردة، وأحدهما أشجاره تكون في غاية الطول والآخر ليس كذلك، وأحدهما ما يؤكل منه بارز وما لا يؤكل كامن والآخر بالعكس فهما كالضدين، والإشارة إلى الطرفين تتناول الإشارة إلى ما بينهما كما في قوله تعالى: * (رب المشرقين ورب المغربين) * (الرحمان: 17) انتهى، ولعل الأول أولى.
* (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *.
* (فبأي ءالآء ربكما تكذبان) * وقوله تعالى:
* (فيهن خيرات حسان) *.
* (فيهن خيرات) * صفة أخرى لجنتان، أو خبر بعد خبر للمبتدأ المحذوف كالجملة التي قبلها،
122

ويجوز أن تكون مستأنفة الكلام في ضمير الجمع هنا كالكلام فيه في قوله تعالى: * (فيهن قاصرات الطرف) * و * (خيرات) * قال أبو حيان: جمع خيرة وصف بني على فعلة من الخير كما بنوا من الشر فقالوا شرة، وقال الزمخشري: أصله * (خيرات) * بالتشديد فخفف كقوله عليه الصلاة والسلام: " هينون لينون " وليس جمع خير بمعنى أخير فإنه لا يقال فيه خيرون ولا خيرات، ولعله لأن أصل اسم التفضيل أن لا يجمع خصوصا إذا نكر، وقرأ بكر بن حبيب. وأبو عثمان النهدي. وابن مقسم * (خيرات) * بتشديد الياء وهو يؤيد أن أصله كذلك، وروي عن أبي عمرو * (خيرات) * بفتح الياء كأنه جمع خائرة جمع على فعلة * (حسان) * قيل: أي حسان الخلق والخلق.
وأخرج عبد الرزاق. وعبد بن حميد. وابن جرير عن قتادة أنه قال في الآية: * (خيرات) * الأخلاق * (حسان) * الوجوه، وأخرج ذلك ابن جرير. والطبراني. وابن مردويه عن أم سلمة مرفوعا.
* (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *.
* (فبأي ءالآء ربكما تكذبان) * وقوله تعالى:
* (حور مقصورات فى الخيام) *.
* (حور) * بدل من * (خيرات) * وهو جمع حوراء وكذا جمع أحور، والمراد بيض كما أخرجه ابن المنذر. وغيره عن ابن عباس وروته أم سلمة أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن الأثير: الحوراء هي الشديدة بياض العين الشديدة سوادها، وفي " القاموس " الحور بالتحريك أن يشتد بياض العين وسواد سوادها وتستدير حدقتها وترق جفونها ويبيض ما حواليها. أو شدة بياضها وسوادها في بياض الجسد، أو اسوداد العين كلها مثل الظباء ولا يكون في بني آدم بل يستعار لها، وإذا صح حديث أم سلمة لم يعدل في القرآن عن تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* (مقصورات في الخيام) * أي مخدرات يقال: امرأة قصيرة ومقصورة أي مخدرة ملازمة لبيتها لا تطوف في الطرق، قال كثير عزة: وأنت التي حببت كل قصيرة * إلي ولم تشعر بذاك القصائر
عنيت (قصيرات الحجال) ولم أرد * قصار الخطا شر النساء البحاتر
والنساء يمدحن بملازمتهن البيوت لدلالتها على صيانتهن كما قال قيس بن الأسلت: وتكسل عن جاراتها فيزرنها * وتغفل عن أبياتهن " فتعذر "
وهذا التفسير مأثور عن ابن عباس. والحسن. والضحاك وهو رواية عن مجاهد، وأخرج ابن أبي شيبة. وهناد بن السري. وابن جرير عنه أنه قال: * (مقصورات) * قلوبهن وأبصارهن ونفوسهن على أزواجهن، والأول أظهر، و * (في الخيام) * عليه متعلق بمقصورات، وعلى الثاني يحتمل ذلك، ويحتمل كونه صفة ثانية لحور فلا تغفل، والخيام جمع خيمة - وهي على ما في " البحر " - بيت من خشب وثمام وسائر الحشيش، وإذا كان من شعر فهو بيت ولا يقال له خيمة. وقال غير واحد: هي كل بيت مستدير أو ثلاثة أعواد أو أربعة يلقى عليها الثمام ويستظل بها في الحر أو كل بيت يبنى من عيدان الشجر وتجمع أيضا على خيمات وخيم بفتح فسكون وخيم بالفتح وكعنب - والخيام هنا بيوت من لؤلؤ - أخرج ابن أبي شيبة وجماعة عن ابن عباس أنه قال: الخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة أربعة فراسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب، وأخرج جماعة عن أبي الدرداء أنه قال: الخيمة لؤلؤة واحدة لها سبعون بابا من در، وأخرج البخاري. ومسلم. والترمذي. وغيرهم عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ستون ميلا في كل زاوية منها للمؤمن
123

أهل لا يراهم الآخرون يطوف عليهم المؤمن، إلى ذلك من الأخبار، وقوله سبحانه: * (فيهن) * الخ دون ما تقدم في الجنتين السابقتين أعني قوله عز وجل: * (فيهن قاصرات الطرف) * إلى قوله تعالى: * (كأنهن الياقوت والمرجان) * في المدح عند من فضلهما على الأخيرتين قيل لما في * (مقصورات) * على التفسير الثاني من الإشعار بالقسر في القصر، وأما على تفسيره الأول فكونه دونه ظاهر وإن لم يلاحظ كونها مخدرة فيما تقدم، أو يجعل قوله تعالى: * (كأنهن الياقوت والمرجان) * كناية عنه لأنهما مما يصان كما قيل: جوهرة أحقاقها الخدور
ومن ذهب إلى تفضيل الأخيرتين يقول: هذا أمدح لعموم * (خيرات حسان) * الصفات الحسنة خلقا وخلقا ويدخل في ذلك قصر الطرف وغيره مما يدل عليه التشبيه بالياقوت والمرجان، والمراد بالقاصر على التفسير الثاني لمقصورات القاصر الطبيعي بقرينة المقام فيكون فيه إشارة إلى تعذر ترك القصر منهن، و * (قاصرات الطرف) * ربما يوهم أن القصر باختيارهن فمتى شئن قصرن ومتى لم يشأن لم يقصرن.
* (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *.
* (فبأي ءالآء ربكما تكذبان) * وقوله تعالى:
* (لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جآن) *.
* (لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان) * الكلام فيه كالكلام في نظيره.
* (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *.
* (فبأي ءالآء ربكما تكذبان) * وقوله سبحانه:
* (متكئين على رفرف خضر وعبقرى حسان) *.
* (متكئين) * قيل: بتقدير يتنعمون متكئين أو أعني متكئين، والضمير لأهل الجنتين المدلول عليهم بذكرهما * (على رفرف) * اسم جنس أو اسم جمع واحده رفرفة، وعلى الوجهين يصح وصفه بقوله تعالى: * (خضر) * وجعله بعضهم جمعا لهذا الوصف ولا يخفى أن أمر الوصفية لا يتوقف على ذلك الجعل، وفسره في الآية علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس. والضحاك بفضول المحابس وهي ما يطرح على ظهر الفراش للنوم عليه، وقال الجوهري: الرفرف ثياب خضر تتخذ منها المحابس واشتقاقه من رف إذا ارتفع، وقال الحسن - فيما أخرجه ابن المنذر وغيره عنه - هي البسط.
وأخرج عن عاصم الجحدري أنها الوسائد، وروي ذلك عن الحسن أيضا. وابن كيسان وقال الجبائي: الفرش المرتفعة، وقيل: ما تدلى من الأسرة من غالي الثياب، وقال الراغب: ضرب من الثياب مشبهة بالرياض، وأخرج ابن جرير. وجماعة عن سعيد بن جبير أنه قال: الرفرق رياض الجنة، وأخرج عبد بن حميد نحوه عن ابن عباس وهو عليه - كما في " البحر " - من رف النبت نعم وحسن، ويقال الرفرف لكل ثوب عريض وللرقيق من ثياب الديباج ولأطراف الفسطاط والخباء الواقعة على الأرض دون الأطناب والأوتاد، وظاهر كلام بعضهم أنه قيل بهذا المعنى هنا وفيه شيء * (وعبقري) * هو منسوب إلى عبقر تزعم العرب أنه اسم بلد الجن فينسبون إليه كل عجيب غريب من الفرش وغيرها فمعناه الشيء العجيب النادر، ومنه ما جاء في عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه فلم أرى عبقريا يفري فريه، ولتناسي تلك النسبة قيل: إنه ليس بمنسوب بل هو مثل كرسي وبختي كما نقل عن قطرب، والمراد الجنس ولذلك وصف بالجمع وهو قوله تعالى: * (حسان) * حملا على المعنى، وقيل: هو اسم جمع أو جمع واحده عبقرية، وفسره الأكثرون بعتاق الزرابي، وعن أبي عبيدة هو ما كله وشي من البسط.
وروى غير واحد عن مجاهد أنه الديباج الغليظ، وعن الحسن أنها بسط فيها صور وقد سمعت ما نقل عنه في الرفرف فلا تغفل عما يقتضيه العطف.
وقرأ عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه. ونصر بن عاصم الجحدري. ومالك بن دينار. وابن محيصن.
124

وزهير الفرقبي. وغيرهم رفارف جمع لا ينصرف * (حضر) * بسكون الضاد، وعباقري بكسر القاف وفتح الياء مشددة، وعنهم أيضا ضم الضاد، وعنهم أيضا فتح القاف قاله صاحب اللوامح، ثم قال أما منع الصرف من عباقري. فلمجاورته لرفارف يعني للمشاكلة وإلا فلا وجه لمنع الصرف مع ياءي النسب إلا في ضرورة الشعر انتهى.
وقال ابن خالويه: قرأ - على رفارف خضر وعباقري - النبي صلى الله عليه وسلم، والجحدري. وابن محيصن، وقد روي عمن ذكرنا - على رفارف خضر وعباقري - بالصرف، وكذلك روي عن مالك بن دينار، وقرأ أبو محمد. المروزي وكان نحويا - على رفارف خضار - بوزن فعال، وقال صاحب الكامل: قرأ رفارف بالجمع ابن مصرف. وابن مقسم. وابن محيصن، واختاره شبل. وأبو حيوة. والجحدري. والزعفراني وهو الاختيار لقوله تعالى: * (خضر) *، وعباقري بالجمع وبكسر القاف من غير تنوين ابن مقسم. وابن محيصن، وروي عنهما التنوين.
وقال ابن عطية: قرأ زهير القرقبي رفارف بالجمع وترك الصرف، وأبو طعمة المدني. وعاصم فيما روي عنه رفارف بالصرف. وعثمان رضي الله تعالى عنه كذلك، وعباقري بالجمع والصرف، وعنه وعباقري بفتح القاف والياء على أن اسم الموضع عباقر بفتح القاف، والصحيح فيه عبقر، وقال الزمخشري: قرىء عباقري كمدايني.
وروى أبو حاتم عباقري بفتح القاف ومنع الصرف وهذا لا وجه لصحته، وقال الزجاج: هذه القراءة لا مخرج لها لأن ما جاوز الثلاثة لا يجمع بياء النسب فلو جمعت عبقري قلت: عباقرة نحو مهلبى ومهالبة ولا تقول مهالبي.
وقال ابن جني: أما ترك صرف عباقري فشاذ في القياس ولا يستنكر شذوذه مع استعماله، وقال ابن هشام: كونه من النسبة إلى الجمع كمدايني باطل فإن من قرأ بذلك قرأ رفارف خضر بقصد المجانسة ولو كان كما ذكر كان مفردا ولا يصح منع صرفه كمدايني وقد صحت الرواية بمنعه الصرف عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو من باب كرسي وكراسي وهو من صيغة منتهى الجموع لكنها خالفت القياس في زيادة ما بعد الألف على المعروف كما ذكره السهيلي، وقال صاحب الكشف: فتح القاف لا وجه له بوجه والمذكور في المنتقى عن النبي صلى الله عليه وسلم الكسر.
وأما منع الصرف فليس بمتعين ليرد بل وجهه أنه نصب على محل رفرف على حد يذهبن في نجد وغورا. وإضافته إلى * (حسان) * مثل إضافة حور إلى عين في قراءة عكرمة كأنه قيل: عباقري مفارش، أو نمارق حسان فهو من باب أخلاق ثياب لأن أحد الوصفين قائم مقام الموصوف، ولعل عبقر وعباقر مثل عرفة وعرفات انتهى، فأحط بجوانب الكلام ولا تغفل، وقرأ ابن هرمز * (خضر) * بضم الضاد وهي لغة قليلة ومن ذلك قول طرفة: أيها القينات في مجلسنا * جرد، وا منها
ورادا " وشقر "
وقول الآخر: وما انتميت إلى خود ولا " كشف " * ولا لئام غداة الروع أو زاع
فشقر جمع أشقر، وكشف جمع أكشف وهو من ينهزم في الحرب، هذا والوصف بقوله تعالى: * (متكئين على رفرف) * الخ دون الوصف بقوله سبحانه: * (متكئين على فرش بطائنها من استبرق) * (الرحمان: 76) عند القائل بتفضيل الجنتين السابقتين لما في هذا الوصف من الإشارة إلى أن الظهائر مما يعجز عنها الوصف.
ومن ذهب إلى تفضيل الأخيرتين يقول: الرفرف ما يطرح على ظهر الفراش وليست الفرش التي يطرح عليها الرفرف مذكورة فيجوز أن يكون ترك ذكرها للإشارة إلى عدم إحاطة الوصف بها ظهارة وبطانة وهو أبلغ من الأول، ولا يسلم أن تلك الفرش هي العبقري، أو يقول الرفرف الفرش المرتفعة وترك التعرض لسوى لونها وهو الخضرة التي ميل الطباع
125

إليها أشد وهي جامعة لأصول الألوان الثلاثة على ما بينه الإمام يشير إلى أنها مما لا تكاد تحيط بحقيقتها العبارات، وقد يقال غير ذلك فتأمل، وينبغي على القول بتفضيل الأخيرتين وكونهما لطائفة غير الطائفة المشار إليهم بمن خاف أن لا يفسر من خاف بمن له شدة الخوف بحيث يختص بأفضل المؤمنين وأجلهم، أو يقال إنهما مع الأوليين لمن خاف مقام ربه ويكون المعنى * (ولمن خاف مقام ربه) * أيضا * (جنتان) * صفتهما كيت وكيت من دون تينك الجنتين، وعليه قيل: * (جنتان) * عطف على * (جنتان) * قبله * (ومن دونهما) * في موضع الحال، وذهب بعضهم إلى أن هاتين الجنتين سواء كانتا أفضل من الأوليين أم لا لمن خاف مقام ربه عز وجل فله يوم القيامة أربع جنان.
قال الطبرسي: والأخيرتان دون الأوليين أي أقرب إلى قصره ومجالسه ليتضاعف له السرور بالتنقل من جنة إلى جنة على ما هو معروف من طبع البشر من شهوة مثل ذلك وهو أبعد عن الملل الذي طبع عليه البشر، وأنت تعلم أن الآية تحتمل ذلك احتمالا ظاهرا لكن ما تقدم من حديث أبي موسى رضي الله تعالى عنه يأباه فإذا صح ولو موقوفا - إذ حكم مثله حكم المرفوع - لم يكن لنا العدول عما يقتضيه، وقد روي عنه أيضا حديث مرفوع ذكره الجلال السيوطي في " الدر المنثور " يشعر بأن الجنان الأربع هي جنان الفردوس.
وأخرج عنه أحمد. والبخاري. ومسلم. والترمذي. والنسائي. وابن ماجه. وغيرهم أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " جنان الفردوس أربع. جنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما. وجنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن " والظاهر على هذا أنه يشترك الألوف في الجنة الواحدة من هذه الجنان، ومعنى قوله تعالى: * (ولمن خاف) * الخ عليه مما لا يخفى، ثم إن قاصرات الطرف إن كن من الإنس فهن أجل قدرا وأحسن منظرا من الحور المقصورات في الخيام بناءا على أنهن النساء المخلوقات في الجنة.
فقد جاء من حديث أم سلمة " قلت يا رسول الله: أنساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال: نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة، قلت: يا رسول الله وبم ذاك؟ قال: بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن ألبس الله وجوههن النور وأجسادهن الحرير بيض الوجوه خضر الثياب صفر الحلي مجامرهن الدر وأمشاطهن الذهب يقلن ألا نحن الخالدات فلا نموت أبدا ألا ونحن الناعمات فلا نبأس أبدا طوبى لمن كنا له وكان لنا " إلى غيره من الأخبار ويكون هذا مؤيدا للقول بتفضيل الجنتين الأوليين على الأخيرتين ولعله إنما قدم سبحانه ذكر الاتكاء أولا على ذكر النساء لأنه عز وجل ذكر في صدر الآية الخوف حيث قال سبحانه: * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) * (الرحمان: 46) فناسب التعجيل بذكر ما يشعر بزواله إشعارا ظاهرا وهو الاتكاء فإنه من شأن الآمنين، وأخر سبحانه ذكره ثانيا عن ذكرهن لعدم ما يستدعي التقديم وكونه مما يكون للرجل عادة بعد فراغ ذهنه عما يحتاجه المنزل من طعام وشراب وقينة تكون فيه، وإذا قلنا: إن الحور كالجواري في المنزل كان أمر التقديم والتأخير أوقع، وقال الإمام في ذلك: إن أهل الجنة ليس عليهم تعب وحركة فهم متنعمون دائما لكن الناس في الدنيا على أقسام منهم من يجتمع مع أهله اجتماع مستوفز وعند قضاء وطره يغتسل وينتشر في الأرض للكسب، ومنهم من يكون مترددا في طلب الكسب وعند تحصيله يرجع إلى أهله ويستريح عما لحقه من تعب قبل قضاء الوطر أو بعده فالله عز وجل قال في أهل الجنة: * (متكئون) * قبل اجتماعهم بأهاليهم متكئون بعد الاجتماع ليعلم أنهم دائمون على السكون، ولا يخفى أن هذا على ما فيه لا يحسم السؤال إذ لقائل
126

أن يقول لم لم يعكس أمر التقديم والتأخير في الموضعين مع أنه يتضمن الإشارة إلى ذلك أيضا، ثم ذكر في ذلك وجها ثانيا وهو على ما فيه مبني على ما لا مستند له فيه من الآثار فتدبر.
* (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *.
* (فبأي ءالآء ربكما تكذبان) * وقوله عز وجل:
* (تب‍ارك اسم ربك ذى الجل‍ال والإكرام) *.
* (تب‍ارك اسم ربك) * تنزيه وتقديس له تعالى فيه تقرير لما ذكر في هذه السورة الكريمة من آلائه جل شأنه الفائضة على الأنام، - فتبارك - بمعنى تعالى لأنه يكون بمعناه وهو أنسب بالوصف الآتي، وقد ورد في الأحاديث " تعالى اسمه " أي تعالى اسمه الجليل الذي من جملته ما صدرت به السورة من اسم * (الرحمن) * المنبىء عن إفاضة الآلاء المفصلة، وارتفع مما لا يليق بشأنه من الأمور التي من جملتها جحود نعمائه وتكذيبها، وإذا كان حال اسمه تعالى بملابسة دلالته عليه سبحانه كذلك فما
ظنك بذاته الأقدس الأعلى؟؟.
وقيل: الاسم بمعنى الصفة لأنها علامة على موصوفها، وقيل: هو مقحم كما في قول من قال: ثم اسم السلام عليكما، وقيل: هو بمعنى المسمى، وزعم بعضهم إن الأنسب بما قصد من هذه السورة الكريمة وهو تعدد الآلاء والنعم تفسير * (تبارك) * بكثرت خيراته ثم إنه لا بعد في إسناده بهذا المعنى لاسمه تعالى إذ به يستمطر فيغاث ويستنصر فيعان، وقوله سبحانه: * (ذي الجل‍ال والاإكرام) * صفة للرب ووصف جل وعلا بذلك تكميلا لما ذكر من التنزيه والتقرير، وقرأ ابن عامر. وأهل الشام - ذو - بالرفع على أنه وصف للاسم ووصفه بالجلال والإكرام بمعنى التكريم واضح.
هذا ومن باب الإشارة: في بعض الآيات * (الرحمن * علم القرآن) * (الرحمان: 1، 2) إشارة إلى ما أودعه سبحانه في الأرواح الطيبة القدسية من العلوم الحقانية الإجمالية عند استوائه عز وجل على عرض الرحمانية * (خلق الإنسان) * (الرحمان: 3) الكامل الجامع * (علمه البيان) * وهو تفصيل تلك العلوم الإجمالية * (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه) * (القيامة: 18، 19) * (الشمس والقمر بحسبان) * (الرحمان: 5) يشير إلى شمس النبوة وقمر الولاية الدائرتين في فلك وجود الإنسان بحساب التجليات ومراتب الاستعدادات، و * (النجم) * القوى السفلية * (والشجر) * الاستعدادات العلوية * (يسجدان) * (الرحمان: 6) يتذللان بين يديه تعالى عند الرجوع إليه سبحانه * (والسماء) * سماء القوى الإلهية القدسية * (رفعها) * فوق أرض البشرية * (ووضع الميزان) * القوة المميزة * (ألا تطغوا في الميزان) * (الرحمان: 8) لا تتجاوزوا عند أخذ الحظوظ السفلية وإعطاء الحقوق العلوية.
وجوز أن يكون * (الميزان) * الشريعة المطهرة فإنها ميزان يعرف به الكامل من الناقص * (والأرض) * أرض البشرية * (وضعها) * بسطها وفرشها * (للأنام) * (الرحمان: 10) للقوى الإنسانية * (فيها فاكهة) * من فواكه معرفة الصفات الفعلية * (والنخل ذات الأكمام) * (الرحمان: 11) وهي الشجرة الإنسانية التي هي المظهر الأعظم وذات أطوار كل طور مستور بطور آخر * (والحب) * هو حب الحب المبذور في مزارع القلوب السليمة من الدغل * (ذو العصف) * أوراق المكاشفات * (والريحان) * (الرحمان: 12) ريحان المشاهدة * (رب المشرقين ورب المغربين) * (الرحمان: 17) رب مشرق شمس النبوة ومشرق قمر الولاية في العالم الجسماني ورب مغربهما في العالم الروحاني * (مرج البحرين) * بحر سماء القوى العلوية وبحر أرض القوى السفلية * (يلتقيان * بينهما برزخ) * (الرحمان: 19، 20) حاجز القلب * (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) * (الرحمان: 22) أنواع أنوار الأسرار ونيران الأشواق * (وله الجوار المنشآت) * سفن الخواطر المسخرة في بحر الإنسان * (كل من عليها فان) * (الرحمان: 26) ما شم رائحة الوجود * (ويبقى وجه ربك) * الجهة التي تليه سبحانه وهي شؤوناته عز وجل * (ذو الجلال) * أي الاستغناء التام عن جميع المظاهر * (والإكرام) * (الرحمان: 27) الفيض العام يفيض على القوابل حسبما استعدت له وسألته بلسان حالها، وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (يسأله من في السموات
127

والأرض) * الخ، واستدل الشيخ الأكبر محيي الدين قدس سره بقوله سبحانه: * (كل يوم هو في شأن) * (الرحمان: 29) على شرف التلون، وكذا استدل به على عدم بقاء الجوهر آنين، وعلى هذا الطرز ما قيل في الآيات بعد، وذكر بعض أهل العلم أن قوله تعالى: * (فبأي ءالاء ربكما تكذبان) * (الرحمان: 13) قد ذكر إحدى وثلاثين مرة، ثمانية منها عقيب تعداد عجائب خلقه تعالى. وذكر المبدأ والمعاد، وسبعة عقيب ذكر ما يشعر بالنار وأهوالها على عدد أبواب جهنم، وثمانية في وصف الجنتين الأوليين ومثلها في وصف الجنتين اللتين دونهما على عدد أبواب الجنة فكأنه أشير بذلك إلى أن من اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها استحق كلتا الجنتين من الله تعالى ووقاه جهنم ذات الأبواب السبعة؛ والله تعالى أعلم بإشارات كتابه وحقائق خطابه ودقائق كلامه التي لا تحيط بها الأفهام وتبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام.
سورة الواقعة
مكية كما أخرجه البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن عباس. وابن مردويه عن ابن الزبير، واستثنى بعضهم قوله تعالى: * (ثلة من الأولين وثلة من الآخرين) * (الواقعة: 39، 40) كما حكاه في الاتقان وكذا استثنى قوله سبحانه: * (فلا أقسم بمواقع النجوم) * إلى * (تكذبون) * (الواقعة: 75 - 82) لما أخرجه مسلم في سبب نزوله وسيأتي إن شاء الله تعالى، وفي " مجمع البيان " حكاية استثناء قوله تعالى: * (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) * (الواقعة: 82) عن ابن عباس. وقتادة وعدد آيها تسع وتسعون في الحجازي والشامي، وسبع وتسعون في البصري، وست وتسعون في الكوفي، وتفصيل ذلك فيما أعد لمثله، وهي وسورة الرحمن متواخية في أن في كل منهما وصف القيامة والجنة والنار، وقال في " البحر ": مناسبتها لما قبلها أنه تضمن العذاب للمجرمين والنعيم للمؤمنين، وفاضل سبحانه بين جنتي بعض المؤمنين وجنتي بعض آخر منهم فانقسم المكلفون بذلك إلى كافر ومؤمن فاضل ومؤمن مفضول؛ وعلى هذا جاء ابتداء هذه السورة من كونهم أصحاب ميمنة وأصحاب مشأمة وسابقين، وقال بعض الأجلة انظر إلى اتصال قوله تعالى: * (إذا وقعت الواقعة) * (الواقعة: 1) بقوله سبحانه: * (فإذا انشقت السماء) * (الرحمان: 37) وأنه اقتصر في الرحمن على ذكر انشقاق السماء، وفي الواقعة على ذكر رج الأرض فكأن السورتين لتلازمهما واتحادهما سورة واحدة فذكر في كل شيء، وقد عكس الترتيب فذكر في أول هذه ما في آخر تلك وفي آخر هذه ما في أول تلك فافتتح في سورة الرحمن بذكر القرآن، ثم ذكر الشمس والقمر، ثم ذكر النبات، ثم خلق الإنسان والجان، ثم صفة يوم القيامة، ثم صفة النار، ثم صفة الجنة، وهذه ابتداؤها بذكر القيامة، ثم صفة الجنة، ثم صفة النار؛ ثم خلق الإنسان، ثم النبات، ثم الماء، ثم النار، ثم ذكرت النجوم ولم تذكر في الرحمن كما لم يذكر هنا الشمس والقمر، ثم ذكر الميزان فكانت هذه كالمقابلة لتلك وكالمتضمنة لرد العجز على الصدر، وجاء في فضلها آثار.
أخرج أبو عبيد في فضائله. وابن الضريس. والحرث بن أبي أسامة. وأبو يعلى. وابن مردويه. والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا ". وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس نحوه مرفوعا، وأخرج ابن مردويه عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " سورة الواقعة سورة الغنى فاقرءوها وعلموها أولادكم ".
128

وأخرج الديلمي عنه مرفوعا * (علموا نساءكم سورة الواقعة فإنها سورة الغنى) *.
* (إذا وقعت الواقعة) *.
بسم الله الرحم‍ان الرحيم * (إذا وقعت الواقعة) * أي إذا حدثت القيامة على أن * (وقعت) * بمعنى حدثت و * (الواقعة) * علم بالغلبة أو منقول للقيامة، وصرح ابن عباس بأنها من أسمائها وسميت بذلك للإيذان بتحقق وقوعها لا محالة كأنها واقعة في ونفسها مع قطع النظر عن الوقوع الواقع في حيز الشرط فليس الإسناد كما في - جاءني جاء - فإنه لغو لدلالة كل فعل على فاعل له غير معين، وقال الضحاك: * (الواقعة) * الصيحة وهي النفخة في الصور، وقيل: * (الواقعة) * صخرة بيت المقدس تقع يوم القيامة وليس بشيء، و * (إذا) * ظرف متضمن معنى الشرط على ما هو الظاهر، والعامل فيها عند أبي حيان الفعل بعدها فهي عنده في موضع نصب - بوقعت - كسائر أسماء الشرط وليست مضافة إلى الجملة، والجمهور على إضافتها فقيل: هي هنا قد سلبت الظرفية ووقعت مفعولا به لا ذكر محذوفا، وقيل: لم تسلب ذلك وهي منصوبة بليس، وصنيع الزمخشري يشعر باختياره.
وقيل: بمحذوف وهو الجواب أي * (إذا وقعت الواقعة) * كان كيت وكيت، قال في " الكشف " هذا الوجه العربي الجزل فالنصب بإضمار اذكر إنما كثر في إذ، وبليس إنما يصح إذا جعلت لمجرد الظرفية وإلا لوجب الفاء في ليس، وأبو حيان تعقب النصب بليس بأنه لا يذهب إليه نحوي لأن ليس في النفي ك‍ * (ما) * وهي لا تعمل، فكذا ليس فإنه مسلوبة الدلالة على الحدث والزمان، والقول: بأنها فعل على سبيل المجاز، والعامل في الظرف إنما هو ما يقع فيه من الحدث فحيث لا حدث فيها لا عمل لها فيه، ثم ذكر نحو ما ذكر " صاحب الكشف " من وجوب الفاء في ليس إذا لم تجرد عن الشرطية؛ واعترض دواه أن * (ما) * لا تعمل بأنهم صرحوا بجواز تعلق الظرف بها لتأويلها بانتفى وأنه يكفي له رائحة الفعل، ويقال عليها في ذلك ليس، وكذا دعوى وجوب الفاء في ليس إذا لم تجرد * (إذا) * عن الشرطية بأن لزوم الفاء مع الأفعال الجامدة إنما هو في جواب إن الشرطية لعملها كما صرحوا به. وأما * (إذا) * فدخول الفاء في جوابها على خلاف الأصل. وسيأتي إن شاء الله تعالى فيها قولان آخران، وبعد القيل والقال الأولى كون العامل محذوفا وهو الجواب كما سمعت. وفي إبهامه تهويل وتفخيم لأمر الواقعة.
وقوله تعالى:
* (ليس لوقعتها كاذبة) *.
* (ليس لوقعتها كاذبة) * إما اعتراض يؤكد تحقيق الوقوع. أو حال من الواقعة كما قال ابن عطية، و * (كاذبة) * اسم فاعل وقع صفة لموصوف محذوف أي نفس، وقيل: مقالة والأول أولى لأن وصف الشخص بالكذب أكثر من وصف الخبر به. و * (الواقعة) * السقطة القوية وشاعت في وقوع الأمر العظيم وقد تخص بالحرب ولذا عبر بها هنا واللام للتوقيت مثلها في قولك: كتبته لخمس خلون أي لا يكون حين وقوعها نفس كاذبة على معنى تكذب على الله تعالى وتكذب في تكذيبه سبحانه وتعالى في خبره بها، وإيضاحه أن منكر الساعة الآن مكذب له تعالى في أنها تقع وهو كاذب في تكذيبه سبحانه لأنه خبر على خلاف الواقع وحين تقع لا يبقى كاذبا مكذبا، بل صادقا مصدقا، وقيل: على معنى ليس في وقت وقوعها نفس كاذبة في شيء من الأشياء، ولا يخفى أن صحته مبنية على القول بأنه لا يصدر من أحد كذب يوم القيامة؛ وأن قولهم: * (والله ربنا ما كنا مشركين) * (الأنعام: 23) مجاب عنه بما هو مذكور في محله أو اللام على حقيقتها، و * (كاذبة) * صفة لذلك المحذوف أيضا أي * (ليس لوقعتها) * نفس كاذبة بمعنى لا ينكر وقوعها أحد ولا يقول للساعة لم تكوني لأن الكون قد تحقق كما يقول لها في الدنيا بلسان القول أو الفعل لأن من اغتر بزخارف الدنيا فقد كذب الساعة في وقعتها
129

بلسان الحال لن تكوني، وهذا كما تقول لمخاطبك ليس لنا ملك ولمعروفك كاذب أي لا يكذبك أحد فيقول: إنه غير واقع، وفيه استعارة تمثيلية لأن الساعة لا تصلح مخاطبا إلا على ذلك إما على سبيل التخييل من باب لو قيل: للشحم أين تذهب، وهو الأظهر وإما على التحقيق، وجوز كون * (كاذبة) * من قولهم كذبت نفسه وكذبته إذا منته الأماني وقربت له الأمور البعيدة وشجعته على مباشرة الخطب العظيم، واللام قيل: على حقيقتها أيضا أي ليس لها إذا وقعت نفس تحدث صاحبها باطاقة شدتها واحتمالها وتغريه عليها.
وفي " الكشف " إن اللام على هذا الوجه للتوقيت كما على الوجه الأول، وجوز أيضا كون * (كاذبة) * مصدرا بمعنى التكذيب وهو التثبيط وأمر اللام ظاهر أي ليس لوقعتها ارتداد ورجعة كالحملة الصادقة من ذي سطوة قاهرة؛ وروى نحوه عن الحسن. وقتادة، وذكر أن حقيقة التكذيب بهذا المعنى راجعة إلى تكذيب النفس إلى كذبها وإغرائها وتشجيعها وأنشد على ذلك لزهير: ليث بعثر يصطاد الرجال إذا * ما الليث (كذب عن أقرانه) صدقا
ويجوز جعل الكاذبة بمعنى الكذب على معنى ليس للوقعة كذب بل هي وقعة صادقة لا تطاق على نحو - حملة صادقة، وحملة لها صادق - أو على معنى ليس هي في وقت وقوعها كذب لأنه حق لا شبهة فيه، ولعل ما ذكر أظهر مما تقدم وإن روى نحوه عمن سمعت. نعم قيل: عليهما إن مجيء المصدر على زنة الفاعل نادر، وقوله عز وجل:
* (خافضة رافعة) *.
* (خافضة رافعة) * خبر مبتدأ محذوف أي هي خافضة لأقوام رافعة لآخرين كما قال ابن عباس، وأخرجه عنه جماعة، والجملة تقرير لعظمتها وتهويل لأمرها فإن الوقائع العظام شأنها الخفض والرفع كما يشاهد في تبدل الدول وظهور الفتن من ذل الأعزة وعز الأذلة، وتقديم الخفض على الرفع لتشديد التهويل، أو بيان لما يكون يومئذ من حط الأشقياء إلى الدركات ورفع السعداء إلى درجات الجنات، وعلى هذا قول عمر رضي الله تعالى عنه: خفضت أعداء الله تعالى إلى النار ورفعت أولياءه إلى الجنة، أو بيان لما يكون من ذلك ومن إزالة الأجرام عن مقارها ونثر الكواكب وتسيير الجبال في الجو كالسحاب، والضحاك بعد أن فسر الواقعة بالصيحة قال: خافضة تخفض قوتها لتسمع الأدنى * (رافعة) * ترفعها لتسمع الأقصى، وروى ذلك أيضا عن ابن عباس. وعكرمة، وقدر أبو علي المبتدأ مقرونا بالفاء أي فهي * (خافضة) * وجعل الجملة جواب إذا فكأنه قيل: * (إذا وقعت الواقعة) * خفضت قوما ورفعت آخرين، وقرأ زيد بن علي. والحسن. وعيسى. وأبو حيوة. وابن أبي عبلة. وابن مقسم. والزعفراني. واليزيدي في اختياره * (خافضة رافعة) * بنصبهما، ووجه أن يجعلا حالين عن الواقعة على أن * (ليس لوقعتها كاذبة) * اعتراض أو حالين عن وقعتها، وقوله سبحانه:
* (إذا رجت الارض رجا) *.
* (إذا رجت الأرض رجا) * أي زلزلت وحركت تحريكا شديدا بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبل متعلق - بخافضة - أو - برافعة - على أنه من باب الأعمال، أو بدل من * (إذا وقعت) * كما قال به غير واحد، وقال ابن جني. وأبو الفضل الرازي: * (إذا رجت) * في موضع رفع على أنه خبر للمبتدأ الذي هو * (إذا وقعت) * وليست واحدة منهما شرطية بل هي بمعنى وقت أي وقت وقوعها وقت رج الأرض، وادعى ابن مالك أن * (إذا) * تكون مبتدأ، واستدل بهذه الآية، وقال أبو حيان: هو بدل من * (إذا وقعت) * وجواب الشرط عندي ملفوظ به وهو قوله تعالى: * (فأصحاب الميمنة) * (الواقعة: 8) والمعنى إذا كان كذا وكذا، فأصحاب الميمنة ما أسعدهم وما أعظم ما يجازون به أي إن سعادتهم وعظم رتبهم
130

عند الله عز وجل تظهر في ذلك الوقت الشديد الصعب على العالم، وقيه بعد.
* (وبست الجبال بسا) *.
أي فتت كما قال ابن عباس. ومجاهد حتى صارت كالسويق الملتوت من بس السويق إذا لته، وقيل؛ سيقت وسيرت من أماكنها من بس الغنم إذا ساقها فهو كقوله تعالى: * (وسيرت الجبال) * (النبأ: 20).
وقرأ زيد بن علي * (رجت، وبست) * بالبناء للفاعل أي ارتجت وتفتتت، وفي كلام هند بنت الخس تصف ناقة بما يستدل به على حملها - عينها هاج وصلاها راج، وهي تمشي وتفاج -.
* (فكانت هبآء منبثا) *.
* (فكانت) * فصارت بسبب ذلك * (هباء) * غبارا * (منبثا) * متفرقا، والمراد مطلق الغبار عند الأكثرين، وقال ابن عباس: هو ما يثور مع شاع الشمس إذا دخلت من كوة، وفي رواية أخرى عنه أنه الذي يطير من النار إذا اضطرمت.
وقرأ النخعي - منبتا - بالتاء المنطوقة بنقطتين من فوق من البت بمعنى القطع، والمراد به ما ذكر من البث بالمثلثة.
* (وكنتم أزواجا ثل‍اثة) *.
* (وكنتم) * خطاب للأمة الحاضرة والأمم السالفة تغليبا كما ذهب إليه الكثير، وقال بعضهم: خطاب للأمة الحاضرة فقط، والظاهر إن - كان - أيضا بمعنى صار أي وصرتم * (أزواجا) * أي أصنافا * (ثل‍اثة) * وكل صنف يكون مع صنف آخر في الوجود أو في الذكر فهو زوج، قال الراغب: الزوج يكون لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة ولكل قرينين فيها، وفي غيرها كالخف والنعل، ولكل ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادا وقوله تعالى:
* (فأصح‍ابالميمنة مآ أصح‍ابالميمنة * وأصح‍ابالمش‍امة مآ أصح‍ابالمش‍امة) *.
* (فأصح‍ابالميمنة ما أصح‍ابالميمنة * وأصح‍ابالمشئمة ما أصح‍ابالمشئمة) * تفصيل للأزواج الثلاثة مع الإشارة الاجمالية إلى أحوالهم قبل تفصيلها، والدائر على ألسنتهم أن أصحاب الميمنة مبتدأ، وقوله تعالى: * (ما أصحاب الميمنة) * * (ما) * فيه استفهامية مبتدأ ثان. و * (أصحاب) * خبره، والجملة خبر المبتدأ الأول والرابط الظاهر القائم مقام الضمير، وكذا يقال في قوله تعالى: * (وأصحاب المشأمة) * الخ، والأصل في الموضعين ما هم؟ أي أي شيء هم في حالهم وصفتهم فان * (ما) * وإن شاعت في طلب مفهوم الاسم والحقيقة لكنها قد تطلب بها الصفة والحال كما تقول ما زيد؟ فيقال: عالم، أو طبيب فوضع الظاهر موضع الضمير لكونه أدخل في المقصود وهو التفخيم في الأول والتفظيع في الثاني، والمراد تعجيب السامع من شأن الفريقين في الفخامة والفظاعة كأنه قيل: * (فأصحاب الميمنة) * في غاية حسن الحال * (وأصحاب المشأمة) * في نهاية سوء الحال، وقيل: جملة * (ما أصحاب) * خبر بتقدير القول على ما عرف في الجملة الإنشائية إذا وقعت خبرا أي مقول في حقهم * (ما أصحاب) * الخ فلا حاجة إلى جعله من إقامة الظاهر مقام الضمير وفيه نظر، و * (الميمنة) * ناحية اليمين، أو اليمن والبركة، * (والمشأمة) * ناحية الشمال من اليد الشؤمى وهي الشمال، أو هي من الشؤم مقابل اليمن، ورجح إرادة الناحية فيهما بأنها أوفق بما يأتي في التفصيل، واختلفوا في الفريقين فقيل: أصحاب الميمنة أصحاب المنزلة السنية، وأصحاب المشأمة أصحاب المنزلة الدنية أخذا من تيمنهم بالميامن وتشؤمهم بالشمائل كما تسمع في السانح والبارح، وهو مجاز شائع، وجوز أن يكون كناية، وقيل: الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم والذين يؤتونها بشمائلهم، وقيل: الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة والذين
يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار، وقيل: أصحاب اليمن وأصحاب الشؤم، فإن السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم والأشقياء مشائيم على أنفسهم
131

بمعاصيهم، وروى هذا عن الحسن. والربيع [بم وقوله تعالى:
* (والس‍ابقون الس‍ابقون) *.
* (والسابقون السابقون) * هو الصنف الثالث من الأزواج الثلاثة، ولعل تأخير ذكرهم مع كونهم أسبق الأصناف وأقدمهم في الفضل ليردف ذكرهم ببيان محاسن أحوالهم على أن أيرادهم بعنوان السبق مطلقا معرض عن إحرازهم قصب السبق من جميع الوجوه.
واختلف في تعيينهم فقيل: هم الذين سبقوا إلى الايمان والطاعة عند ظهور الحق من غير تلعثم وتوان، وروى هذا عن عكرمة. ومقاتل، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت في حزقيل مؤمن آل فرعون. وحبيب النجار الذي ذكر في يس. وعلي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه وكل رجل منهم سابق أمته وعلي أفضلهم، وقيل: هم الذين سبقوا في حيازة الكمالات من العلوم اليقينية ومراتب التقوى الواقعة بعد الايمان، وقيل: هم الأنبياء عليهم السلام لأنهم مقدموا أهل الأديان، وقال ابن سيرين: هم الذين صلوا إلى القبلتين كما قال تعالى: * (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) * وعن ابن عباس هم السابقون إلى الهجرة، وعن علي كرم الله تعالى وجهه هم السابقون إلى الصلوات الخمس، وأخرج أبو نعيم. والديلمي عن ابن عباس مرفوعا أول من يهجر إلى المسجد وآخر من يخرج منه.
وأخرج عبد بن حميد: وابن المنذر عن عبادة بن أبي سودة مولى عبادة بن الصامت قال: بلغنا أنهم السابقون إلى المساجد والخروج في سبيل الله عز وجل، وعن الضحاك هم السابقون إلى الجهاد، وعن ابن جبير هم السابقون إلى التوبة وأعمال البر، وقال كعب: هم أهل القرآن، وفي " البحر " في الحديث " سئل عن السابقين فقال: هم الذين إذا أعطوا الحق قبلوه وإذا سئلوه بذلوه وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم "، وقيل: الناس ثلاثة فرجل ابتكر الخير في حداثة سنه ثم دام عليه حتى خرج من الدنيا فهذا هو السابق، ورجل ابتكر عمره بالذنب وطول الغفلة ثم تراجع بتوبته فهذا صاحب اليمين، ورجل ابتكر الشر في حداثة سنه ثم لم يزل عليه حتى خرج من الدنيا فهذا صاحب الشمال، وعن ابن كيسان أنهم المسارعون إلى كل ما دعا الله تعالى إليه ورجحه بعضهم بالعموم، وجعل ما ذكر في أكثر الأقوال من باب التمثيل، وأيا ما كان فالشائع أن الجملة مبتدأ وخبر والمعنى * (والسابقون) * هم الذين اشتهرت أحوالهم وعرفت فخامتهم كقوله: أنا أبو النجم وشعري شعري
وفيه من تفخيم شأنهم والإيذان بشيوع فضلهم ما لا يخفى، وقيل: متعلق السبق مخالف لمتعلق السبق الثاني أي السابقون إلى طاعة الله تعالى * (السابقون) * إلى رحمته سبحانه، أو * (السابقون) * إلى الخير * (السابقون) * إلى الجنة، والتقدير الأول محكي عن صاحب المرشد.
وأنت تعلم أن الحمل مفيد بدون ذلك كما سمعت بل هو أبلغ وأنسب بالمقام وأيا ما كان فقوله تعالى:
* (أول‍ائك المقربون) *.
* (أول‍ائك المقربون) *، مبتدأ وخبر والجملة استئناف بياني، وقيل: * (السابقون) * السابق مبتدأ * (والسابقون) * اللاحق تأكيد له وما بعد خبر وليس بذاك أيضا لفوات مقابلة ما ذكر لقوله تعالى: * (فأصحاب) * الخ ولأن القسمة لا تكون مستوفاة حينئذ، ولفوات المبالغة المفهومة من نحو هذا التركيب على ما سمعت مع أنهم أعني السابقين أحق بالمدح والتعجيب من حالهم من السابقين ولفوات ما في الاستئناف بأولئك المقربون من الفخامة وإنما لم يقل - والسابقون ما السابقون - على منوال الأولين لأنه جعل أمرا مفروغا مسلما مستقلا في المدح والتعجيب، والإشارة بأولئك إلى السابقين ومافيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل،
132

و * (المقربون) * من القربة بمعنى الحضوة أي أولئك الموصوفون بذلك النعت الجليل الذين أنيلوا حظوة ومكانة عند الله تعالى، وقال غير واحد: المراد الذين قربت إلى العرش العظيم درجاتهم.
هذا وفي الأرشاد الذي تقتضيه جزالة التنزيل أن قوله تعالى: * (فأصحاب الميمنة) * (الواقعة: 8) خبر مبتدأ محذوف وكذا قوله سبحانه: * (وأصحاب المشأمة) * وقوله جل شأنه: * (والسابقون) * فإن المترقب عند بيان انقسام الناس إلى الأقسام الثلاثة بيان أنفس الأقسام.
وأما أوصافها وأحوالها فحقها أن تبين بعد ذلك بإسنادها إليها، والتقدير فأحدها أصحاب الميمنة والآخر أصحاب المشأمة، والثالث السابقون خلا أنه لما أخر بيان أحوال القسمين الأولين عقب كلا منهما بجملة معترضة بين القسمين منبئة عنت ترامي أحوالهما في الخير والشر إنباءا إجماليا مشعرا بأن لأحوال كل منهما تفصيلا مترقبا لكن لا على أن * (ما) * الاستفهامية مبتدأ وما بعدها خبر على مارآه سيبويه في أمثال بل على أنها خبر لما بعدها فإن مناط الإفادة بيان أن أصحاب الميمنة أمر بديع كما يفيده كون * (ما) * خبرا لا بيان أن أمرا بديعا أصحاب الميمنة كما يفيده كونها مبتدأ وكذا الحال في * (ما أصحاب المشأمة) * (الواقعة: 9) وأما القسم الأخير فحيث قرن به بيان محاسن أحواله لم يحتج فيه إلى تقديم الأنموذج فقوله تعالى: * (السابقون) * مبتدأ والإظهار في مقام الإضمار للتفخيم و * (أولئك) * مبتدأ ثان، أو بدل من الأول وما بعده خبر له، أو للثاني، والجملة خبر للأول انتهى، وقيل عليه: أنه ليس في جعل جملتي الاستفهام وقوله سبحانه: * (السابقون) * إخبارا لما قبلها بيان لأوصاف الأقسام وأحوالها تفصيلا حتى يقال: حقها أن تبين بعد أنفس الأقسام بل فيه بيان الأقسام مع إشارة إلى ترامي أحوالها في الخير والشر والتعجيب من ذلك.
وأيضا مقتضى ما ذكره أن لا يذكر * (ما أصحاب اليمين) * و * (ما أصحاب الشمال) * (الواقعة: 41) في التفصيل، وتعقب هذا بأن الذكر محتاج إلى بيان نكتة على الوجه الدائر على ألسنتهم كاحتياجه إليه على هذا الوجه، ولعلها عليه أنه لما عقب الأولين بما يشعر بأن لأحوال كل تفاصيل مترقبة أعيد ذلك للاعلام بأن الأحوال العجيبة هي هذه فلتسمع، والذي يتبادر للنظر الجليل ما في الإرشاد من كون أصحاب الميمنة وكذا كل من الأخيرين خبر مبتدأ محذوف كما سمعت لأن المتبادر بعد بيان
الانقسام ذكر نفس الأقسام على أن تكون هي المقصودة أولا وبالذات دون الحكم عليها وبيان أحوالها مطلقا وإن تضمن ذلك ذكرها لكن ما ذكروه أبعد مغزى ومع هذا لا يتعين على ما ذكر كون تينك الجملتين الاستفهاميتين معترضتين بل يجوز أن يكون كل منهما صفة لما قبلها بتقدير القول كأنه قيل: فأحدها أصحاب الميمنة المقول فيهم * (ما أصحاب الميمنة) * وكذا يقال في * (وأصحاب المشأمة) * الخ، ويجعل أيضا * (السابقون) * صفة - للسابقون - قبله، والتأويل في الوصفية كالتأويل في الخبرية ويكون الوصف بذلك قائما مقام تينك الجملتين في المدح، والجملة بعد مستأنفة استئنافا بيانيا كما في الوجه الشائع، وما يقال: إن في هذا الوجه حذف الموصول مع بعض أجزاء الصلة يجاب عنه بمنع كون - أل - في الوصف حيث لم يرد منه الحدوث موصولة فتأمل ولا تغفل، وقوله تعالى:
* (فى جن‍ات النعيم) *.
* (في جن‍ات النعيم) * متعلق بالمقربون، أو بمضمر هو حال من ضميره أي كائنين في جنات النعيم، وعلى الوجهين فيه إشارة إلى أن قربهم محض لذة وراحة لا كقرب خواص الملك القائمين بأشغاله عنده بل كقرب جلسائه وندمائه الذين لا شغل لهم ولا يرد عليهم أمر، أو نهي ولذا قيل: * (في جنات النعيم) * دون جنات الخلود ونحوه، وقيل: خبر ثان لاسم الإشارة وتعقب بأن الاخبار
133

بكونهم فيها بعد الإخبار بكونهم مقربين ليس فيه مزيد مزية، وأجيب بأن الإخبار الأول للإشارة إلى اللذة الروحانية والإخبار الثاني للإشارة إلى اللذة الجسمانية.
وقرأ طلحة في جنة النعيم بالافراد، وقوله تعالى:
* (ثلة من الاولين) *.
* (ثلة من الأولين) * خبر مبتدأ مقدر أي هم ثلة الخ، وجوز كونه مبتدأ خبره محذوف أي منهم، أو خبرا أولا أو ثانيا - لأولئك - وجوز أبو البقاء كونه مبتدأ والخبر * (على سرر) *، والثلة في المشهور الجماعة كثرت أو قلت، وقال الزمخشري: الأمة من الناس الكثيرة وأنشد قوله: وجاءت إليهم (ثلة) خندفية * (بجيش كتيار من السيل مزبد
وقوله تعالى بعد: * (وقليل) * الخ كفى به دليلا على الكثرة انتهى، والظاهر أنه أنشد البيت شاهدا لمعنى الكثرة في الثلة فإن كانت الباء تجريدية وهو الظاهر فنص وإلا فالاستدلال عليها من أن المقام مقام مبالغة ومدح، وأما استدلاله بما بعد فذلك لأن التقابل مطلوب لأن الثلة لم توضع للقليل بالإجماع حتى يحمل ما بعد على التفنن بل هي إما للكثرة والاشتقاق عليهاأدل لأن الثل بمعنى الصب وبمعنى الهدم بالكلية، والثلة بالكسر الضأن الكثيرة وإما لمطلق الجماعة كالفرقة والقطعة من الثل بمعنى الكسر كأنها جماعة كسرت من الناس وقطعت منهم إلا أن الاستعمال غلب على الكثير فيها فالمعنى جماعة كثيرة من الأولين وهم الناس المتقدمون من لدن آدم إلى نبينا عليهما الصلاة والسلام وعلى من بينهما من الأنبياء العظام.
* (وقليل من الاخرين) *.
* (وقليل من الآخرين) * وهم الناس من لدن نبينا صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة ولا يخالفه قوله عليه الصلاة والسلام: " إن أمتي يكثرون سائر الأمم " أي يغلبونهم في الكثرة لأن أكثرية سابقي المتقدمين من سابقي هذه الأمة لا تمنع أكثرية تابعي هؤلاء من تابعي أولئك.
وحاصل ذكل غلبة مجموع هذه الأمة كثرة على من سواها كقرية فيها عشرة من العلماء ومائة من العوام وأخرى فيها خمسة من العلماء وألف من العوام فخواص الأولى أكثر من خواص الثانية وعوام الثانية ومجموع أهلها أضعاف أولئك، لا يقال يأبى أكثرية تابعي هؤلاء قوله تعالى: * (ثلة من الأولين وثلة من الآخرين) * فإنه في حق أصحاب اليمين وهم التابعون، وقد عبر كل بالثلة أي الجماعة الكثيرة لأنا نقول لأدلة في الآية على أكثر من وصف كل من الفريقين بالكثرة وذلك لا ينافي أكثرية أحدهما فتحصل أن سابقي الأمم السوالف أكثر من سابقي أمتنا. وتابعي أمتنا أكثر من تابعي الأمم، والمراد بالأمم ما يدخل فيه الأنبياء وحينئذ لا يبعد أن يقال: إن كثرة سابقي الأولين ليس إلا بأنبيائهم فما على سابقي هذه الأمة بأس إذ أكثرهم سابقو الأمم بضم الأنبياء عليهم السلام، وأخرج الإمام أحمد. وابن المنذ. ر وابن أبي حاتم. وابن مردويه عن أبي هريرة قال: " لما نزلت * (ثلة من الأولين وقليل من الآخرين) * شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت * (ثلة من الأولين وثلة من الآخرين) * فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة بل أنتم نصف أهل الجنة - أو شطر أهل الجنة - وتقاسمونهم النصف الثاني " وظاهره أنه شق عليهم قلة من وصف بها وأن الآية الثانية أزالت ذلك ورفعته وأبدلته بالكثرة، ويدل على ذلك ما أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: لما نزلت * (ثلة من الأولين وقلل من الآخرين) * حزن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
134

وقالوا إذا لا يكون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا قليل فنزلت نصف النهار * (ثلة من الأولين وثلة من الآخرين) * فنسخت * (وقليل من الآخرين) * وأبى ذلك الزمخشري فقال: إن الرواية غير صحيحة لأمرين: أحدهما: أن الآية الأولى واردة في السابقين، والثانية: في أصحاب اليمين، والثاني أن النسخ في الأخبار غير جائز فإذا أخبر تعالى عنهم بالقلة لم يجز أن يخبر عنهم بالكثرة من ذلك الوجه وما ذكر من عدم جواز النسخ في الأخبار أي في مدلولها مطلقا هو المختار.
وقيل: يجوز النسخ في المتغير إن كان عن مستقبل لجواز المحو لله تعالى فيما يقدره والاخبار يتبعه، وعلى هذا البيضاوي، وقيل: يجوز عن الماضي أيضا وعليه الإمام الرازي. والآمدي، وأما نسخ مدلول الخبر إذا كان مما لا يتغير كوجود الصانع وحدوث العالم فلا يجوز اتفاقا فإن كان ما نحن فيه مما يتغير فنسخه جائز عند البيضاوي ويوافقه ظاهر خبر أبي هريرة الثاني، ولا يجوز على المختار الذي عليه الشافعي وغيره فقول " صاحب الكشف ": لا خلاف في عدم جواز النسخ في مثل ما ذكر من الخبر إذ لا يتضمن حكما شرعيا لا يخلو عن شيء.
وأقول: قد يتعقب ما ذكره الزمخشري بأن الحديث قد صح وورود الآية الأولى في السابقين والثانية في أصحاب اليمين لا يرد مقتضاه فإنه يجوز أن يقال: إن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لما سمعوا الآية الأولى حسبوا أن الأمر في هذه الأمة يذهب على هذا النهج فيكون أصحاب اليمين ثلة من الأولين وقليلا منهم فيكثرهم الفائزون بالجنة من الأمم السوالف فحزنوا لذلك فنزل قوله تعالى في أصحاب اليمين: * (ثلة من الأولين وثلة من الآخرين) * وقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما قال مما أذهب به حزنهم وليس في هذا نسخ للخبر كما لا يخفى.
وقول أبي هريرة فنسخت * (وقليل من الآخرين) * إن صح عنه ينبغي تأويله بأن يقال أراد به فأزالت حسبان أن يذكر نحوه في الفائزين بالجنة من هذه الأمة غير السابقين فتدبر، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: الفرقتان أي في قوله تعالى: * (ثلة من الأولين وقليل من الأخرين) * في أمة كل نبي في صدرها ثلة وفي آخرها قليل، وقيل: هما من الأنبياء عليهم السلام كانوا في صدر الدنيا كثيرين وفي آخرها قليلين.
وقال أبو حيان: جاء في الحديث - الفرقتان في أمتي فسابق أول الأمة ثلة وسابق سائرها إلى يوم القيامة قليل - انتهى، وجاء في فرقتي أصحاب اليمين نحو ذلك، أخرج مسدد في مسنده. وابن المنذر. والطبراني. وابن مردويه بسند حسن عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه: * (ثلة من الأولين وثلة من الآخرين) * قال: هما جميعا من هذه الأمة، وأخرج جماعة بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعا ما لفظه هما جميعا من أمتي؛ وعلى هذا يكون الخطاب في قوله عز وجل: * (وكنتم أزواجا ثلاثة) * (الواقعة: 7) لهذه الأمة فقط.
* (على سرر موضونة) *.
* (على سرر موضونة) * حال من المقربين أو من ضميرهم في قوله تعالى: * (في جنات النعيم) * بناءا على أنه في موضع الحال كما تقدم، وقيل: هو خبر آخر للضمير المحذوف المخبر عنه أولا - بثلة - وفيه وجه آخر أشرنا إلينا فيما مر، * (وموضونة) * من الوضن وهو نسج الدرع قال الأعشى: ومن (نسج داود) موضونة * تسير مع الحي عيرا فعيرا
واستعير لمطلق النسخ أو لنسج محكم مخصوص، ومن ذلك وضين الناقة وهو حزامها لأنه موضون أي مفتول؛ والمراد هنا على ما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس مرمولة أي منسوجة بالذهب، وفي رواية عنه بقضبان الفضة، وقال عكرمة: مشبكة بالدر والياقوت، وقيل: * (موضونة) * متصل بعضها ببعض كحلق الدرع، والمراد متقاربة، وقرأ زيد بن علي. وأبو السمال * (سرر) * بفتح الراء وهي لغة لبعض تميم، وكلب يفتحون
135

عين فعل جمع فعيل المضعف نحو سرير.
* (متكئين عليها متق‍ابلين) *.
* (متكئين عليها) * حال من الضمير المستقر في الجار والمجرور أعني على سرر، وقوله تعالى: * (متق‍ابلين) * حال منهم أيضا ولك أن تعتبر الحالين متداخلين.
والمراد كما قال مجاهد: لا ينظر أحدهم في قفا صاحبه وهو وصف لهم بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق ورعاية الآداب وصفاء البواطن، وقوله تعالى:
* (يطوف عليهم ولدان مخلدون) *.
* (يطوف عليهم) * حال أخرى أو استئناف أي يدور حولهم للخدمة * (ولدان مخلدون) * أي مبقون أبدا على شكل الولدان وحد الوصافة لا يتحولون عن ذلك، وإلا فكل أهل الجنة مخلد لا يموت، وقال الفراء. وابن جبير: مقرطون بخلدة وهي ضرب من الأقراط قيل: هم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها ولا سيآت فيعاقبوا عليها، وروى هذا أمير المؤمنين على كرم الله تعالى وجهه، وعن الحسن البصري - واشتهر أنه عليه الصلاة والسلام - قال: أولاد الكفار خدم أهل الجنة - وذكر الطيبي أنه لم يصح بل صح ما يدفعه؛ أخرج البخاري. وأبو داود. والنسائي عن عائشة قالت: توفي صبي فقلت: طوبى له عصفور من عصافير الجنة فقال صلى الله عليه وسلم: أو لا تدرين أن الله تعالى خلق الجنة وخلق النار فخلق لهذه أهلا ولهذه أهلا، وفي رواية خلقهم لهما وهم في أصلاب آبائهم.
وأخرج أبو داود عنها أنها قالت: قلت: يا رسول الله ذراري المؤمنين فقال من آبائهم فقلت: يا رسول الله بلا عمل قال: الله أعلم بما كانوا عاملين قلت: يا رسول الله فذراري المشركين قال: من آبائهم فقلت: بلا عمل قال: الله أعلم بما كانوا عاملين، وقيل: إنهم يمتحنون يوم القيامة فتخرج لهم نار ويؤمرون بالدخول فيها فمن دخلها وجدها بردا وسلاما وأدخل الجنة، ومن أبى أدخل النار مع سائر الكفار ويروون في ذلك أثرا.
ومن الغريب ما قيل: إنهم بعد الإعادة يكونون ترابا كالبهائم، وفي " الكشف " الأحاديث متعارضة في المسألة وكذلك المذاهب، والمسألة ظنية والعلم عند الله تعالى وهو عز وجل أعلم انتهى؛ والأكثر على دخولهم الجنة بفضل الله تعالى ومزيد رحمته تبارك وتعالى، وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في ذلك.
* (بأكواب وأباريق وكأس من معين) *.
* (بأكواب) * بآنية لا عرا لها ولا خراطيم، والظاهر أنها الأقداح وبذلك فسرها عكرمة وهي جمع كوب * (وأباريق) * جمع إبريق وهو إناء له خرطوم قيل: وعروة، وفي " البحر " أنه من أواني الخمر، وأنشد قول عدي بن زيد: ودعوا بالصبوح يوما فجاءت * في (قينة يمينها إبريق
وفيه أيضا أنه إفعيل من البريق، وذكر غير واحد أنه معرب - آب ريزاي - صاب الماء وهو أنسب مما في بعض نسخ القاموس أنه معرب - آب ري - بلا زاي، وأيا ما كان فهو ليس مأخوذ من البريق، نعم الإبريق بمعنى المرأة الحسنة البراقة والسيف البراق والقوس فيها تلاميع مأخوذ من ذلك، ولعله يقول بأنه عربي لا معرب، وأن البريق مما فيه من الخمر والشعراء يصفونها بذلك كقوله: (مشعشعة) كأن الحص فيها * إذا ما الماء خالطها سخينا
أو لأنه غالبا يتخذ مماله نوع برق كالبلور والفضة * (وكأس من معين) * أي خمر جارية من العيون كما قال ابن عباس. وقتادة أي لم يعصر كخمر الدنيا، وقيل: خمر ظاهرة للعيون مرئية بها لأنها كذلك أهنأ، وأفرد الكأس على ما قيل لأنها لا تسمى كأسا إلا إذا كانت مملوءة.
* (لا يصدعون عنها ولا ينزفون) *.
* (لا يصدعون عنها) * أي بسببها وحقيقته لا يصدر
136

صداعهم عنها، والمراد أنهم لا يلحق رؤوسهم صداع لأجل خمار يحصل منها كما في خمور الدنيا، وقيل: لا يفرقون عنها بمعنى لا تقطع عنهم لذتهم بسبب من الأسباب كما تفرق أهل خمر الدنيا بأنواع من التفريق.
وقرأ مجاهد (لا يصدعون)، بفتح الياء وشد الصاد على أن أصله يتصدعون فأدغم التاء في الصاد أي لا يتفرقون كقوله تعالى: * (يومئذ يصدعون) *، وقرىء * (لا يصدعون) * بفتح الياء والتخفيف أي لا يصدع بعضهم بعضا ولا يفرقونهم أي لا يجلس داخل منهم بين اثنين فيفرق بين المتقاربين فإنه سوء الأدب وليس من حسن العشرة * (ولاع ينزفون) * قال مجاهد. وقتادة. والضحاك: لا تذهب عقولهم بسكرها من نزف الشارب كعنى إذا ذهب عقله، ويقال للسكران نزيف ومنزوف، قيل: وهو من نزف الماء نزحه من البئر شيئا فشيئا فكان الكلام على تقدير مضاف.
وقرأ ابن أبي اسحق. وعبد الله. والسلمي. والجحدري. والأعمش وطلحة. وعيسى. وعاصم كما أخرج عنه عبد بن حميد * (ولا ينزفون) * بضم الياء وكسر الزاي من أنزف الشارب إذا ذهب عقله أو شرابه، ومعناه صار ذا نزف؛ ونظيره أقشع السراب وقشعته الريح وحقيقته دخل في القسع، وقرأ ابن أبي إسحاق أيضا * (ولا ينزفون) * بفتح الياء وكسر الزاي قال: في المجمع وهو محمول على أنه لا يفنى خمرهم، والتناسب بين الجملتين على ما سمعت فيهما أولا على قراءة الجمهور أن الأولى لبيان نفي الضرر عن الأجسام، والثانية لبيان نفي الضرر عن العقول وتأمل لتعرفه إن شاء الله تعالى على ما عدا ذلك.
* (وف‍اكهة مما يتخيرون) *.
* (وف‍اكهة مما يتخيرون) * أي يأخذون خيره وأفضله والمراد مما يرضونه.
* (ولحم طير مما يشتهون) *.
* (ولحم طير مما يشتهون) * مما تميل نفوسهم إليه وترغب فيه، والظاهر أن فاكهة ولحم معطوفان على أكواب فتفيد الآية أن الولدان يطوفون بهما عليهم، واستشكل بأنه قد جاء في الآثار أن فاكهة الجنة وثمارها ينالها القائم والقاعد والنائم، وعن مجاهد أنها دانية من أربابها فيتناولونها متكئين فإذا اضطحعوا نزلت بإزاء أفواههم فيتناولونها مضطجعين، وأن الرجل من أهل الجنة يشتهي الطير من طيور الجنة فيقع في يده مقليا نضجا، وقد أخرج هذا ابن أبي الدنيا عن أبي أمامة.
وأخرج عن ميمونة مرفوعا أن الرجل ليشتهي الطير في الجنة فيجيء مثل البختي حتى يقع على خوانه لم يصبه دخان ولم تمسه نار فيأكل منه حتى يشبع ثم يطير إلى غير ذلك، وإذا كان الأمر كما ذكر استغنى عن طوافهم بالفاكهة واللحم، وأجيب بأن ذلك - والله تعالى أعلم - حالة الاجتماع والشرب، ويفعلون ذلك للإكرام ومزيد المحبة والتعظيم والاحترام، وهذا كما يناول أحد الجلساء على خوان الآخر بعض ما عليه من الفواكه ونحوها وإن كان ذلك قريبا منه اعتناءا بشأنه وإظهارا لمحبته والاحتفال به، وجوز أن يكون العطف على جنات النعيم وهو من باب - متقلدا سيفا ورمحا - أو من بابه المعروف، وتقديم الفاكهة على اللحم للإشارة إلى أنهم ليسوا بحالة تقتضي تقديم اللحم كما في الجائع فإن حاجته إلى اللحم أشد من حاجته إلى الفاكهة بل هم بحالة تقتضي تقديم الفاكهة واختيارها كما في الشبعان فإنه إلى الفاكهة أميل منه إلى اللحم، وجوز أن يكون ذلك لأن عادة أهل الدنيا لا سيما أهل الشرب منهم تقديم الفاكهة في الأكل وهو طبا مستحسن لأنها ألطف وأسرع انحدارا وأقل احتياجا إلى المكث في المعدة للهضم، وقد ذكروا أن أحد أسباب الهيضة إدخال اللطيف من الطعام على الكثيف منه ولأن الفاكهة تحرك الشهوة للأكل واللحم يدفعها غالبا.
ويعلم من الوجه الأول وجه تخصيص التخير بالفاكهة والاشتهاء باللحم، وفيه إشارة إلى أن الفاكهة
137

لم تزل حاضرة عندهم وبمرأى منهم دون اللحم ووجه ذلك أنها مما تلذه الأعين دونه، وقيل: وجه التخصيص كثرة أنواع الفاكهة واختلاف طعومها وألوانها وأشكالها وعدم كون اللحم كذلك، وفي التعبير بيتخيرون دون يختارون وإن تقاربا معنى إشارة لمكان صيغة التفعل إلى أنهم يأخذون ما يكون منها في نهاية الكمال وأنهم في غاية الغنى عنها، والله تعالى أعلم بأسرار كلامه.
* (وحور عين) *.
* (وحور عين) * عطف على * (ولدان) * أو على الضمير المستكن في * (متكئين) * أو على مبتدأ حذف هو وخبره أي لهم هذا كل * (وحور) * أو مبتدأ حذف خبره أي لهم، أو فيها حور، وتعقب الوجه الأول بأن الطواف لا يناسب حالهن، وأجيب بأنه لا يبعد أن يكون من الحور ما ليس بمقصورات في الخيام ولا مخدرات هن كالخدم لهن لا يبالي بطوافهن ولا ينكر ذلك عليهن، وأن الطواف في الخيام أنفسها وهو لا ينافي كونهن مقصورات فيها، أو أن العطف على معنى لهم * (ولدان، وحور) * والثاني بأنه خلاف الظاهر جدا، والثالث بكثرة الحذف، و * (عين) * جمع عيناء وأصله عين على فعل كما تقول حمراء وحمر فكسرت العين لئلا تنقلب الياء واوا، وليس في كلام العرب ياءا ساكنة قبلها ضمة كما أنه ليس فيه واو ساكنة قبلها كسرة.
وقرأ السلمي. والحسن. وعمرو بن عبيد. وأبو جعفر. وشيبة. والأعمش. وطلحة والمفضل. وأبان. وعصمة عن عاصم. وحمزة. والكسائي * (وحور عين) * بالجر. وقرأ النخعي كذلك إلا أنه قلب الواو ياءا والضمة قبلها كسرة في * (حور) * فقال: وحير على الاتباع - لعين - وخرج على العطف على * (جنات النعيم
) * وفيه مضاف محذوف كأنه قيل: هم في جنات وفاكهة ولحم ومصاحبة حور على تشبيه مصاحبة الحور بالظرف على نهج الاستعارة المكنية، وقرينتها التخييلية إثبات معنى الظرفية بكلمة * (في) * فهي باقية على معناها الحقيقي ولا جمع بين الحقيقة والمجاز، وذهب إلى العطف المذكور الزمخشري، وتعقبه أبو حيان فقال: فيه بعد وتفكيك كلام مرتبط بعضه ببعض، وهو فهم أعجمي - وليس كما قال كما لا يخفي - أو على * (أكواب) * ويجعل من باب - متقلدا سفيا ورمحا - كما سمعت آنفا فكأنه قيل: ينعمون بأكواب وبحور، وجوز أن يبقى على ظاهره المعروف، وأن الولدان يطوفون عليهم بالحور أيضا لعرض أنواع اللذات عليهم من المأكول والمشروب والمنكوح كما تأتي الخدام بالسراري للملوك ويعرضوهن عليهم، وإلى هذا ذهب أبو عمر. وقطرب، وأبى ذلك صاحب الكشف فقال: أما العطف على الولدان على الظاهر فلا لأن الولدان لا يطوفون بهن طوافهم بالأكواب، والقلب إلى هذا أميل إلا أن يكون هناك أثر يدل على خلافه، وكون الجر للجوار يأباه الفصل أو يضعفه. وقرأ أبي. وعبد الله - وحورا عينا - بالنصب، وخرج على العطف على محل * (بأكواب) * لأن المعنى يعطون أكوابا وحورا على أنه مفعول به لمحذوف أي ويعطون حورا أو على العطف على محذوف وقع مفعولا به لمحذوف أيضا أي يعطون هذا كله وحورا، وقرأ قتادة * (وحور) * بالرفع مضافا إلى * (عين) *، وابن مقسم * (وحور) * بالنصب مضافا، وعكرمة - وحوراء عيناء - على التوحيد اسم جنس وبفتح الهمزة فيهما فاحتمل الجر والنصب.
* (كأمث‍ال اللؤلؤ المكنون) *.
* (كأمث‍ال اللؤلؤ المكنون) * أي في الصفاء، وقيد بالمكنون أي المستور بما يحفظه لأنه أصفى وأبعد من التغير، وفي الحديث صفاؤهن كصفاء الدر الذي لا تمسه الأيدي، ووصف الحسنات بذلك شائع في العرب، ومنه قوله: قامت تراءى بين سجفي كلة * كالشمس يوم طلوعها بالأسعد
138

أو درة صدفية غواصها * بهج متى يرها يهل ويسجد
والجار والمجرور في موضع الصفة لحور، أو الحال، والاتيان بالكاف للمبالغة في التشبيه، ولعل الأمر عليه نحو زيد قمر.
* (جزآء بما كانوا يعملون) *.
* (جزاء بما كانوا يعملون) * مفعول له لفعل محذوف أي يفعل بهم ذلك كله جزاءا بأعمالهم أو بالذي استمروا على عمله أو هو مصدر مؤكد أي يجزون جزاء.
* (لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما) *.
* (لا يسمعون فيها لغوا) * ما لا يعتد به من الكلام وهو الذي يورد لا عن روية وفكر فيجري مجرى اللغا - وهو صوت العصافير ونحوها من الطير - وقد يسمى كل كلام قبيح لغوا * (ولا تأثيما) * أي ولا نسبة إلى الإثم أي لا يقال لهم أثمتم، وعن ابن عباس كما أخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم تفسيره بالكذب، وأخرجه هناد عن الضحاك - وهو من المجاز كما لا يخفى - والكلام من باب. ولا
* (إلا قيلا سل‍اما سل‍اما) *.
* (إلا قيلا) * أي قولا فهو مصدر مثله * (سل‍اما س‍ال‍اما) * بدل من * (قيلا) * كقوله تعالى: * (لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما) * (مريم: 62) وقال الزجاج: هو صفة له بتأويله بالمشتق أي سالما من هذه العيوب أو مفعوله، والمراد لفظه فلذا جاز وقوعه مفعولا للقول مع إفراده، والمعنى إلا أن يقول بعضهم لبعض * (سلاما) *، وقيل: هو مصدر لفعل مقدر من لفظه وهو مقول القول ومفعوله حينئذ أي نسلم سلاما، والتكرير للدلالة على فشو السلام وكثرته فيما بينهم لأن المراد سلاما بعد سلام، والاستثناء منقطع وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم محتمل لأن يكون من الضرب الأول منه، وهو أن يستثنى من ضفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح له بتقدير دخولها فيها بأن يقدر السلام هنا داخلا فيما قبل فيفيد التأكيد من وجهين، وأن يكون من الضرب الثاني منه وهو أن يثبت لشيء صفة مدح ويعقب بأداة استثناء يليها صفة مدح أخرى بأن لا يقدر ذلك، ويجعل الاستثناء من أصله منقطعا فيفيد التأكيد من وجه، ولولا ذكر التئثيم - على ما قاله السعد - جاز جعل الاستثناء متصلا حقيقية لأن معنى السلام الدعاء بالسلامة وأهل الجنة أغنياء عن ذلك فكان ظاهره من قبيل اللغو وفضول الكلام لولا ما فيه من فائدة الإكرام، وإنما منع التأثيم الذي هو النسبة إلى الإثم لأنه لا يمكن جعل السلام من قبيله وليس لك في الكلام أن تذكر متعددين ثم تأتي بالاستثناء المتصل من الأول مثل أن تقول: ما جاء من رجل ولا امرأة إلا زيدا ولو قصدت ذلك كان الواجب أن تؤخر ذكر الرجل، وقرىء - سلام سلام - بالرفع على الحاكية، وقوله تعالى:
* (وأصح‍اباليمين مآ أصح‍اباليمين) *.
* (وأصح‍اباليمين) * الخ شروع في بيان تفاصيل شؤونهم بعد بيان تفاصيل شؤون السابقين * (وأصحاب) * مبتدأ وقوله: * (ما أصحاب اليمين) * جملة استفهامية مشعرة بتفخيمهم والتعجيب من حالهم وهي على ما قالوا: إما خبر للمبتدأ، وقوله سبحانه:
* (فى سدر مخضود) *.
* (في سدر مخضود) * خبر ثان له، أو خبر لمبتدأ محذوف أي هم في سدر، والجملة استئناف لبيان ما أبهم في قوله عز وجل: * (ما أصحاب اليمين) * من علو الشأن، وإما معترضة والخبر هو قوله تعالى شأنه: * (في سدر) * وجوز أن تكون تلك الجملة في موضع الصفة والخبر هو هذا الجار والمجرور، والجملة عطف على قوله تبارك وتعالى في شرح أحوال السابقين: * (أولئك المقربون * في جنات النعيم) * (الواقعة: 11، 12) أي * (وأصحاب اليمين) * المقول فيهم * (ما أصحاب اليمين) * كائنون * (في سدر) * الخ، والظاهر أن التعبير بالميمنة فيما مر، وباليمين هنا للتفنن وكذا يقال في المشأمة والشمال فيما بعد، وقال الإمام: الحكم في ذلك أن في الميمنة وكذا المشأمة
139

دلالة على الموضع والمكان والازواج الثلاثة في أول الأمر يتيمز بعضهم عن بعض ويتفرقون بالمكان فلذا جيء أولا بلفظ يدل على المكان وفيما بعد يكون التميز والتفرق بأمر فيهم فلذا لم يؤت بذلك اللفظ ثانيا، والسدر شجر النبق، والمخضود الذي خضد أي قطع شوكه، أخرج الحاكم وصححه. والبيهقي عن أبي أمامة قال: " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون إن الله تعالى ينفعنا بالأعراب ومسائلهم أقبل أعرابي يوما فقال: يا رسول الله لقد ذكر الله تعالى في القرآن شجرة مؤذية وما كنت أرى أن في الجنة شجرة تؤذي صاحبها قال: وما هي؟ قال: السدر فإن له شوكا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس الله يقول: * (في سدر مخضود) * خضد الله شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة وأن الثمرة من ثمره تفتق عن اثنين وسبعين لونا من الطعام ما فيها لون يشبه الآخر ".
وأخرج عبد بن حميد عن بن عباس. وقتادة. وعكرمة. والضحاك أنه الموقر حملا على أنه من خضد الغصن إذا ثناه وهو رطب فمخضود مثنى الأغصان كني به عن كثير الحمل.
وقد أخرج ابن المنذر عن يزيد الرقاشي أن النبقة أعظم من القلال والظرفية مجازية للمبالغة في تمكنهم من التنعم والانتفاع بما ذكر.
* (وطلح منضود) *.
* (وطلح منضود) * قد نضد حمله من أسفله إلى أعلاه ليست له ساق بارزة وهو شجر الموز كما أخرج ذلك عبد الرزاق. وهناد. وعبد بن حميد. ابن جرير. وابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه، وأخرجه جماعة من طرق عن ابن عباس ورواه ابن المنذر عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري. وعبد بن حميد عن الحسن، ومجاهد. وقتادة، وعن الحسن أنه قال: ليس بالموز ولكنه شجر طله بارد رطب، وقال السدى: شجر يشبه طلح الدنيا ولكن له ثمر أحلى من العسل، وقيل: هو شجر من عظام العضاه، وقيل: شجر أم غيلان وله نوار كثير طيب الرائحة.
* (وظل ممدود) *.
* (وظل ممدود) * ممتد منبسط لا يتقلص ولا يتفاوت كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، وظاهر الآثار يقتضي أنه ظل الأشجار.
أخرج أحمد. والبخاري. ومسلم. والترمذي. وابن ماجه. وغيرهم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها اقرؤوا إن شئتم * (وظل ممدود) * ".
وأخرج أحمد. والبخاري. ومسلم. والترمذي. وابن مردويه. عن أبي سعيد قال: " قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها وذلك الظل الممدود ".
وأخرج ابن أبي حاتم. وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: الظل الممدود شجرة في الجنة على ساق ظلها قدر ما يسير الراكب في كل نواحيها مائة عام يخرج إليها أهل الجنة أهل الغرف وغيرهم فيتحدثون في ظلها فيشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا فيرسل الله تعالى ريحا من الجنة فتحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا؛ وعن مجاهد أنه قال: هذا الظل من سدرها وطلحها، وأخرج عبد بن حميد. وابن جرير. وابن المنذر عن عمرو بن ميمون أنه قال: الظل الممدود مسيرة سبعين ألف سنة.
* (ومآء مسكوب) *.
* (وماء مسكوب) * قال سفيان وغيره: جار من غير أخاديد، وقيل: منساب حيث شاؤوا لا يحتاجون فيه إلى سانية ولا رشاء وذكر هذه الأشياء لما أن كثيرا من المؤمنين لبداوتهم تمنوها، أخرج عبد بن حميد. وابن جرير. والبيهقي عن مجاهد قال: كانوا يعجبون بوج وظلاله من طلحة وسدره فأنزل الله تعالى: * (وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين * في سدر مخضود) * (الواقعة: 27، 28) الخ، وفي رواية عن الضحاك " نظر المسلمون إلى وج فأعجبهم سدره وقالوا: يا ليت لنا مثل هذا فنزلت هذه الآية ".
140

وقيل: كأنه لما شبه حال السابقين بأقصى ما يتصور لأهل المدن من كونهم على سرر تطوف عليهم خدامهم بأنواع الملاذ شبه حال أصحاب اليمين بأكمل ما يتصور لأهل البوادي من نزولهم في أماكن مخصبة فيها مياه وأشجار وظلال إيذانا بأن التفاوت بين الفريقين كالتفاوت بين أهل المدن والبوادي، وذكر الإمام مدعيا أنه مما وفق له أن قوله تعالى: * (في سدر مخضود * وطلح منضود) * (الواقعة: 28، 29) من باب قوله سبحانه: * (رب المشرق والمغرب) * (الشعراء: 28) لأن السدر أوراقه في غاية الصغر والصلح يعني الموز أوراقه في غاية الكبر فوقعت الأشارة إلى الطرفين فيراد جميع الأشجار لأنها نظرا إلى أوراقها محصورة بينهما وهو مما لا بأس به، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه، وجعفر بن محمد. وعبد الله رضي الله تعالى عنهم - وطلع - بالعين بدل * (وطلح) * بالحاء، وأخرج ابن الأنباري في المصاحف. وابن جرير عن قيس بن عباد قال: قرأت على علي كرم الله تعالى وجهه * (وطلح منضود) * فقال: ما بال الطلح؟ أما تقرأ وطلع، ثم قرأ قوله تعالى: * (لها طلع نضيد) * فقيل له: يا أمير المؤمنين أنحكها من المصحف؟ فقال: لا يهاج القرآن اليوم وهي رواية غير صحيحة كما نبه على ذلك الطيبي، وكيف يقرأ أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه تحريفا في كتاب الله تعالى المتداول بين الناس، أو كيف يظن بأن نقلة القرآن ورواته وكتابه من قبل تعمدوا ذلك أو غفلوا عنه؟ هذا والله تعالى قد تكفل بحفظه سبحانك هذا بهتان عظيم.
ثم إن الذي يقتضيه النظم الجليل كما قال الطيبي: حمل * (في سدر مخضود) * الخ على معنى التظليل، وتكاثف الأشجار على سبيل الترقي لأن الفواكه مستغنى عنها بما بعد وليقابل قوله تعالى: * (وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال * في سموم وحميم * وظل من يحموم) * (الواقعة: 41 - 43) قوله سبحانه: * (وأصحاب
اليمين) * الخ فاذن لا مدخل لحديث الطلع في معنى الظل وما يتصل به لكن قال صاحب الكشف: إن وصف الطلح بكونه منضودا لا يظهر له كثير ملاءمة لكون المقصود منفعة التظليل وينبغي أن يحمل الطلح على أنه من عظام العضاه على ما ذكره في الصحاح فشجر أم غيلان والموز لا ظل لهما يعتد به، ثم قال: ولو حمل الطلح على المشموم لكن وجها انتهى، وقد قدمنا لك خبر سبب النزول فلا تغفل.
* (وف‍اكهة كثيرة) *.
* (وف‍اكهة كثرة) * أي بحسب الأنواع والأجناس على ما يقتضيه المقام.
* (لا مقطوعة ولا ممنوعة) *.
* (لا مقطوعة) * في وقت من الأوقات كفواكه الدنيا * (ولا ممنوعة) * عمن يريد تناولها بوجه من الوجوه ولا يحظر عليها كما يحظر على بساتين الدنيا، وقرىء * (وفاكهة كثيرة * لا مقطوعة ولا ممنوعة) * بالرفع في الجميع على تقدير وهناك * (فاكهة) * الخ.
* (وفرش مرفوعة) *.
* (وفرش) * جمع فراش كسراج وسرج، وقرأ أبو حيوة بسكون الراء * (مرفوعة) * منضدة مرتفعة أو مرفوعة على الأسرة فالرفع حسي كما هو الظاهر، وققد أخرج أحمد. والترمذي وحسنه. والنسائي. وجماعة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ارتفاعها كما بين السماء والأرض ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام ولا تستبعد ذلك من حيث العروج والنزول ونحوهما فالعالم عالم آخر وراء طور عقلك.
وأخرج هناد عن الحسن أن ارتفاعها مسيرة ثمانين سنة وليس بمثابة الخبر السابق، وقال بعضهم: أي رفيعة القدر على أن رفعها معنوي بمعنى شرفها وأيا ما كان فالمراد بالفرش ما يفرش للجلوس عليها. وقال أبو عبيدة: المراد بها النساء لأن المرأة يكنى عنها بالفراش كما يكنى عنها باللباس ورفعهن في الأقدار والمنازل.
وقيل: على الأرائك وأيد إرادة النساء بقوله تعالى:
* (إنآ أنشأن‍اهن إنشآء) *.
* (إنا أنشأن‍اهن إنشاء) * لأن الضمير في الأغلب
141

يعود على مذكور متقدم وليس إلا الفرش ولا يناسب العود إليه إلا بهذا المعنى والاستخدام بعيد هنا، وعلى القول في الفرش الضمير للنساء وإن لم يجر لها ذكر لتقدم ما يدل عليها فهو تتميم بيانا لمقدر يدل عليه السياق كأنه قيل وفرش مرفوعة ونساء أو وحور عين، ثم استؤنف وصفهن بقوله سبحانه: * (إنا أنشأناهن) * تتميما للبيان زيادة للترغيب لا لتعليل الرفع، وقيل: إن المرجع مضمر وتقدير المنزل وفرش مرفوعة لأزواجهم أو لنسائهم فإنا الخ استئناف علة للرفع أي وفرش مرفوعة لأزواجهم لأنا أنشأناهن، والأول أوفق لبلاغة القرآن العظيم، والمراد بأنشأناهن أعدنا إنشاءهن من غير ولادة لأن المخبر عنهن بذلك نساءكن في الدنيا.
فقد أخرج ابن جرير. وعبد بن حميد. والترمذي. وآخرون عن أنس قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في الآية إن المنشآت اللاتي كن في الدنيا عجائز عمشا رمصا " وأخرج الطبراني. وابن أبي حاتم. وجماعة عن سلمة بن مرتد الجعفي قال: " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى: * (إنا أنشأناهن إنشاءا) * الثيب والابكار اللاتي كن في الدنيا " وأخرج الترمذي في الشمائل. وابن المنذر. وغيرهما عن الحسن قال: " أتت عجوز فقالت: يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة فقال: يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز فولت تبكي قال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز إن الله تعالى يقول: * (إنا أنشأناهن إنشاءا) * الخ، وقال أبو حيان: الظاهر أن الإنشاء هو الاختراع الذي لم يسبق بخلق ويكون ذلك مخصوصا بالحور العين فالمعنى إنا ابتدأناهن ابتداءا جديدا من غير ولادة ولا خلق أول.
* (فجعلن‍اهن أبك‍ارا) *.
* (فجعلن‍اهن أبكارا) * تفسير لما تقدم، والجعل إما بمعنى التصيير، و * (أبكارا) * مفعول ثان، أو بمعنى الخلق و * (أبكارا) * حال أو مفعول ثان، والكلام من قبيل ضيق فم الركية، وفي الحديث " إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن أبكارا " أخرجه الطبراني في الصغير. والبزار عن أبي سعيد مرفوعا.
* (عربا أترابا) *.
* (عربا) * متحببات إلى أزواجهن جمع عروب كصبور وصبر، وروي هذا عن جماعة من السلف وفسرها جماعة أخرى بغنجات، ولا يخفى أن الغنج ألطف أسباب التحبب، وعن زيد بن أسلم العروب الحسنة الكلام، وفي رواية عن ابن عباس. والحسن. وابن جبير. ومجاهد هن العواشق لأزواجهن، ومنه على ما قيل قول لبيد: وفي الخدور (عروب غير فاحشة) * ريا الروادف يعشى دونها البصر
وفي رواية أخرى عن مجاهد أنهن الغلمات اللاتي يشتهين أزواجهن، وأخرج ابن عدي بسند ضعيف عن أنس مرفوعا - خير نسائكم العفيفة الغلمة - وقال اسحق بن عبد الله بن الحرث النوافلي: العروب الخفرة المتبذلة لزوجها، وأنشد: (يعرين عند بعولهن) إذا خلوا * وإذا (هم خرجوا فهن خفار)
ويرجع هذا إلى التحبب، وأخرج ابن أبي حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: * (عربا) * كلامهن عربي، ولا أظن لهذا صحة؛ والتفسير بالمتحببات هو الذي عليه الأكثر.
وقرأ حمزة. وجماعة - منها عباس. والأصمعي - عن أبي عمرو، وأخرى - منها خارجة. وكردم - عن نافع، وأخرى منها حماد. وأبو بكر. وأبان - عن عاصم * (عربا) * بسكون الراء وهي لغة تميم، وقال غير واحد: هي للتغفيف كما في عنق وعنق * (أترابا) * مستويات في سن واحد كما قال أنس. وابن عباس.
ومجاهد. والحسن. وعكرمة.
142

وقتادة. وغيرهم كأنهن شبهن في التساوي بالترائب التي هي ضلوع الصدر. أو كأنهن وقعن معا على التراب أي الأرض وهو بنات ثلاث وثلاثين سنة وكذا أزواجهن.
وأخرج الترمذي عن معاذ مرفوعا " يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا مكحلين أبناء ثلاثين، أو ثلاث وثلاثين " والمراد بذلك كمال الشباب، وقوله تعالى:
* (لاصح‍اباليمين) *.
* (لأصحاب اليمين) * متعلق - بأنشانا - أو بجعلنا، وقيل: متعلق - بأترابا - كقولك فلان ترب لفلان أي مساولة فهو محتاج إلى التأويل، وتعقب بأنه مع هذا ليس فيه كثير فائدة وفيه نظر، وقيل: بمحذوف هو صفة - لأبكارا - أي كائنات لأصحاب اليمين، وفيه إقامة الظاهر مقام الضمير لطول العهد أو للتأكيد والتحقيق، وقوله تعالى:
* (ثلة من الاولين * وثلة من الاخرين) *.
* (ثلة من الأولين * وثلة من الأخرين) * خبر مبتدأ محذوف أي هم ثلة، أو خبر ثان لهم المقدر مبتدأ مع * (في سدر) * أو * (لأصحاب اليمين) * في قوله تعالى: * (وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين) * (الواقعة: 17) أو مبتدأ خبره محذوف أي منهم، أو مبتدأ خبره الجار والمجرور قبله احتمالات اعترض الأخير منها بأن المعنى عليه غير ظاهر ولا طلاوة فيه، وجعل اللام بمعنى من كما في قوله: ونحن لكم يوم القيامة أفضل
لا يخفى حاله - والأولون والآخرون - المتقدمون والمتأخرون إما من الأمم وهذه الأمة، أو من هذه الأمة فقط على ما سمعت فيما تقدم، هذا ولم يقل سبحانه في حق أصحاب اليمين - جزاءا بما كانوا يعملون - كما قاله عز وجل في حق السابقين رمزا إلى أن الفضل في حقهم متمحض كأن عملهم لقصوره من عمل السابقين لم يعتبر اعتباره. ثم الظاهر أن ما ذكر من حال أصحاب اليمين هو حالهم الذي ينتهون إليه فلا ينافي أن يكون منهم من يعذب لمعاص فعلها ومات غير تائب عنها ثم يدخل الجنة، ولا يمكن أن يقال: إن المؤمن العاصي من أصحاب الشمال لأن صريح أوصافهم الآتية يقتضي أنهم كانوا كافرين ويلزم من جعل هذا قسما على حدة كون القسمة غير مستوفاة فليتأمل، والله تعالى أعلم.
والكلام في قوله تعالى:
* (وأصح‍ابالشمال مآ أصح‍ابالشمال * فى سموم وحميم) *.
* (وأصح‍ابالشمال مآ أصح‍ابالشمال * في سموم) * على نمط ما سلف في نظيره، والسموم قال الراغب: الريح الحارة التي تؤثر تأثير السم، وفي الكشاف حر نار ينفذ في المسام والتنوين للتعظيم وكذا في قوله تعالى: * (وحميم) * وهو الماء الشديد الحرارة.
* (وظل من يحموم) *.
* (وظل من يحموم) * أي دخان أسود كما قال ابن عباس. وأو مالك. وابن زيد. والجمهور وهي على وزن يفعول، وله نظائر قليلة من الحممة القطعة من الفحم وتسميته ظلا على التشبيه التهكمي، وعن ابن عباس أيضا أنه سرادق النار المحيط بأهلها يرتفع من كل ناحية حتى يظللهم، وقال ابن كيسان: هو من أسماء جهنم فإنها سوداء وكذا كل ما فيها أسود بهيم نعوذ بالله تعالى منها. وقال ابن بريدة. وابن زيد أيضا: هو جبل في النار أسود يفزع أهل النار إلى ذراه فيجدونه أشد شيء، والجار والمجرور في موضع الصفة - لظل - وكذا قوله سبحانه:
* (لا بارد ولا كريم) *.
* (لا بارد ولا كريم) * صفتان له، وتقديم الصفة الجار والمجرور على الصفة المفردة جائز كما صرح به الرضى وغيره أي لا بارد كسائر الظلال، ولا نافع لمن يأوى إليه من أذى الحر - وذلك كرمه - فهناك استعارة، ونفي ذلك ليمحق توهم ما في الظل من الاسترواح إليه وإن وصف أولا بقوله تعالى: * (من يحموم) * والمعنى أنه ظل حار ضار إلا أن للنفي شأنا ليس للإثبات ومن ذلك جاء التهكم والتعريض بأن الذي يستأهل الظل الذي فيه برد وإكرام غير هؤلاء فيكون
143

أشجى لحلوقهم وأشد لتحسرهم، وقيل: الكرم باعتبار أنه مرضى في بابه، فالظل الكريم هو المرضى في برده وروحه، وفيه أنه لا يلائم ما هنا لقوله تعالى: * (لا بارد) * وجوز أن يكون ذلك نفيا لكرامة من يستروح إليه ونسب إلى الظل مجازا، والمراد أنهم يستظلون به وهم مهانون، وقد يحتمل المجلس الرديء لنيل الكرامة، وفي البحر يجوز أن يكونا صفتين - ليحموم - ويلزم منه وصف الظل بهما، وتعقب بأن وصف اليحموم هو والدخان بذلك ليس فيه كبير فائدة، وقرأ ابن أبي عبلة * (لا بارد ولا كريم) * برفعهما أي لا هو بارد ولا كريم على حد قوله: فأبيت لا حرج ولا محروم
أي لا أنا حرج ولا محروم، وقوله تعالى:
* (إنهم كانوا قبل ذلك مترفين) *.
* (إننهم كانوا قبل ذلك مترفين) * تعليل لابتلائهم بما ذكر من العذاب، وسلك هذا المسلم في تعليل الابتداء بالعذاب اهتماما بدفع توهم الظلم في التعذيب، ولما كان إيصال الثواب مما ليس فيه توهم نقص أصلا لم يسلك فيه نحو هذا، والمترف هنا بقرينة المقام هو المرتوك يصنع ما يشاء لا يمنع، والمعنى أنهم عذبوا لأنهم كانوا قبل ما ذكر من العذاب في الدنيا متبعين هوى أنفسهم وليس لهم رادع منها يردعهم عن مخالفة أوامره عز وجل وارتكاب نواهيه سبحانه كذا قيل، وقيل: هو العاتي المستكبر عن قبول الحق والاذعان له، والمعنى أنهم عذبوا لأنهم كانوا في الدنيا مستكبرين عن قبول ما جاءتهم به رسلهم من الإيمان بالله عز وجل وما جاء منه سبحانه، وقيل:
هو الذي أترفته النعمة أي أبطرته وأطغته، وقريب منه ما قيل: هو المنعم المنهمك في الشهوات، وعليه قول أبي السعود أي أنهم كانوا قبل ما ذكر من سوء العذاب في الدنيا منعمين بأنواع النعم من المآكل والمشارب والمساكن الطيبة والمقامات الكريمة منهمكين في الشهوات فلا جرم عذبوا بنقائضها، وتعقب بأن كثيرا من أهل الشمال ليسوا مترفين بالمعنى الذي اعتبره فكيف يصح تعليل عذاب الكل بذلك ولا يرد هذا على ما قدمناه من القولين كما لا يخفى.
ومن الناس من فسر المترف بما ذكر وتفصى عن الاعتراض بأن تعليل عذاب الكل بما ذكر في حيز العلة لا يستدعي أن يكون كل من المذكورات موجودا في كل من أصحاب الشمال بل وجود المجموع في المجموع وهذا لا يضر فيه اختصاص البعض بالبعض فتأمله، وقيل: المترف المجعول ذا ترفة أي نعمة واسعة والكل مترفون بالنسبة إلى الحالة التي يكونون عليها يوم القيامة، وهو على ما فيه لا يظهر أمر التعليل عليه.
* (وكانوا يصرون على الحنث العظيم) *.
* (وكانوا يصرون) * يتشددون ويمتنعون من الاقلاع ويداومون * (على الحنث) * أي الذنب * (العظيم) * وفسر بعضهم الحنث بالذنب العظيم لا بمطلق الذنب وأيد بأنه في الأصل العدل العظيم فوصفه بالعظيم للمبالغة في وصفه بالعظم كما وصف الطود وهو الجبل العظيم به أيضا، والمراد به كما روي عن قتادة. والضحاك. وابن زيد الشرك وهو الظاهر. وأخرج عبد بن حميد عن الشعبي أن المراد به الكبائر وكأنه جعل المعنى - وكانوا يصرون على كل حنث عظيم - وفي رواية أخرى عنه أنه اليمين الغموس وظاهره الاطلاق، وقال التاج السبكي في طبقاته: سألت الشيخ - يعني والده تقي الدين - ما الحنث العظيم؟ - فقال: هو القسم على إنكار البعث المشار إليه بقوله تعالى: * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت) * (النحل: 38) وهو تفسير حسن لأن الحنث وإن فسر بالذنب مطلقا أو العظيم فالمشهور استعماله في عدم البر في القسم، وتعقب بأنه يأباه قوله تعالى:
* (وكانوا يقولون أءذا متنا وكنا ترابا وعظ‍اما أءنا لمبعوثون) *.
* (وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظ‍اما) * إلى آخره للزوم التكرار، وأجيب بأن المراد بالأول
144

وصفهم بالثبات على القسم الكاذب وبالثاني وصفهم بالاستمرار على الإنكار والرمز إلى استدلال ظاهر الفساد مع أنه لا محذور في تكرار ما يدل على الإنكار وهو توطئة وتمهيد لبيان فساده، والمراد بقولهم: - كنا ترابا وعظاما - كان بعض أجزائنا من اللحم والجلد ونحوهما ترابا وبعضها عظاما نخرة، وتقديم التراب لأنه أبعد عن الحياة التي يقتضيها ما هم بصدد إنكاره من البعث، - وإذا - متمحضة للظرفية والعامل فيها ما يدل عليه قوله تعالى:
* (أءنا لمبعوثون) * لا مبعوثون نفسه لتعدد ما يمنع من عمل ما بعده فيما قبله - وهو نبعث - وهو المرجع للإنكار وتقييده بالوقت المذكور ليس لتخصيص إنكاره به فإنهم منكرون للإحياء بعد الموت وإن كان البدن على حاله لتقوية الإنكار للبعث بتوجيهه إليه في حالة منافية له بالكلية وهذا كالاستدلال على ما يزعمونه، وتكرير الهمزة لتأكيد النكير وتحلية الجملة بأن لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد، وقوله سبحانه:
* (أو ءابآؤنا الاولون) *.
* (أو ءاباؤنا الأولون) * عطف على محل - إن - واسمها. أو على الضمير المستتر في مبعوثون وحسن للفصل بالهمزة إن كانت حرفا واحدا - كما قال الزمخشري - ولا يضر عمل ما قبل هذه الهمزة في المعطوف بعدها لأنها مكررة للتأكيد وقد زحلقت عن مكانها، وقولهم: الحرف إذا كرر للتأكيد فلا بد أن يعاد معه ما اتصل به أولا أو ضمير لا يسلم إطراده لورود. ولا - لما - بهم أبدا دواء
وأمثاله، وجوز أن يكون * (آباؤنا) * مبتدأ وخبره محذوف دل عليه ما قبل أي مبعوثون، والجملة عطف على الجملة السابقة وهو تكلف يغني عنه العطف المذكور المعنى - أيبعث - أيضا آباؤنا - على زيادة الاستبعاد يعنون أنهم أقدم فبعثهم أبعد وأبطل، وقرأ قالون. وابن عامر * (أو آباؤنا) * بإسكان الواو وعلى هذه القراءة لا يعطف على الضمير إذ لا فاصل.
* (قل إن الاولين والاخرين) *.
* (قل) * ردا لإنكارهم وتحقيقا للحق * (إن الأولين والأخرين) * من الأمم الذين من جملتهم أنتم وآباؤكم، وتقديم الأولين للمبالغة في الرد حيث كان إنكارهم لبعث آبائهم أشد من إنكارهم لبعثهم مع مراعاة الترتيب الوجودي.
* (لمجموعون إلى ميق‍ات يوم معلوم) *.
* (لمجموعون) * بعد البعث، وقرىء * (لمجمعون) * * (إلى ميق‍ات يوم معلوم) * وهو يوم القيامة ومعنى كونه معلوما كونه معينا عند الله عز وجل، والميقات ما وقت به الشيء أي حد، ومنه مواقيت الإحرام وهي الحدود التي لا يتجاوزها من يريد دخول مكة إلا محرما، وإضافته * (إلى يوم) * بيانية كما في خاتم فضة، وكون يوم القيامة ميقاتا لأنه وقتت به الدنيا، و * (إلى) * للغاية والانتهاء، وقيل: والمعنى * (لمجموعون) * منتهين إلى ذلك اليوم، وقيل: ضمن معنى السوق فلذا تعدى بها.
* (ثم إنكم أيها الضآلون المكذبون) *.
* (ثم إنكم أيها الضالون) * عطف على * (إن الأولين) * داخل في حيز القول، و * (ثم) * للتراخي الزماني أو الرتبي * (المكذبون) * بالبعث، أو بما يعمه وغيره ويدخل هو دخولا أوليا للسياق على ما قيل، والخطاب لأهل مكة وأضرابهم.
* (لاكلون من شجر من زقوم) *.
* (لأكلون) * بعد البعث والجمع ودخولهم جهنم * (من شجر من زقوم) * * (من) * الأولى لابتداء الغاية والثانية لبيان الشجر وتفسيره أي مبتدءون للأكل من شجر هو زقوم، وجوز كون الأولى تبعيضية و * (من) * الثانية على حالها، وجوز كون * (من زقوم) * بدلا من قوله تعالى: * (من شجر) * فمن تحتمل الوجهين، وقيل: الأولى زائدة، وقرأ عبد الله من شجرة فوجه التأنيث ظاهر في قوله تعالى:
* (فمال‍اون منها البطون) *.
* (فما لئون منها البطون) * أي بطونكم من شدة الجوع فإنه الذي اضطرهم وقسرهم على أكل مثلها مما
145

لا يؤكل، وأما على قراءة الجمهور فوجهه الحمل على المعنى لأنه بمعنى الشجرة، أو الأشجار إذا نظر لصدقه على المتعدد، وأما التذكير على هذه القراءة في قوله سبحانه:
* (فش‍اربون عليه من الحميم) *.
* (فش‍اربون عليه) * أي عقيب ذلك بلا ريث.
* (من الحميم) * أي الماء الحار في الغاية لغلبة العطش فظاهر لا يحتاج إلى تأويل، وقال بعضهم: التأنيث أولا باعتبار المعنى والتذكير ثانيا باعتبار اللفظ، فقيل عليه: إن فيه اعتبار اللفظ بعد اعتبار المعنى على خلاف المعارف فلو أعيد الضمير المذكر على الشجر باعتبار كونه مأكولا ليكون التذكير والتأنيث باعتبار المعنى كان أولى وفيه بحث، ووجهه على القراءة الثانية أن الضمير عائد على الزقوم أو على الشجر باعتبار أنها زقوم أو باعتبار أنها مأكول، وقيل: هو مطلقا عائد على الأكل، وتعقب بأنه بعيد لأن الشرب عليه لا على تناوله مع ما فيه من تفكيك الضمائر وكونه مجازا شائعا وغير ملبس لا يدفع البعد فتأمل.
* (فش‍اربون شرب الهيم) *.
* (فش‍اربون شرب الهيم) * قال ابن عباس. ومجاهد. وعكرمة. والضحاك جمع أهيم وهو الجمل الذي أصابه الهيام بضم الهاء وهو داء يشبه الاستسقاء يصيب الإبل فتشرب حتى تموت، أو تسقم سقما شديدا، ويقال إبل هيماء وناقة هيماء كما يقال: جمل أهيم قال الشاعر: فأصبحت (كالهيماء لا الماء مبرد * صداها) ولا يقضي عليها هيامها
وجعل بعضهم * (الهيم) * هنا جمع الهيماء، وقيل: هو جمع هائم أو هائمة، وجمع فاعل على فعل كبازل وبزل شاذ، وعن ابن عباس أيضا. وسفيان * (الهيم) * الرمال التي لا تروى من الماء لتخلخلها ومفرده هيام بفتح الهاء على المشهور كسحاب وسحب ثم خفف وفعل به ما فعل بجمع أبيض من قلب الضمة كسرة لتسلم الياء ويخف اللفظ فكسرت الهاء لأجل الياء وهو قياس مطرد في بابه، وقال ثعلب: هو بالضم كقراد وقرد ثم خفف وفعل به ما فعل مما سمعت والعطف بالفاء قيل: لأن الإفراط بعد الأصلي، وقيل: لأن كلا من المتعاطفين أخص من الآخر فإن شارب الحميم قد لا يكون به داء الهيام ومن به داء الهيام قد يشرب غير الحميم، والشرب الذي لا يحصل الري ناشيء عن شرب الحميم لأنه لا يبل الغليل، والذي اختاره ما قاله مفتي الديار الرومية: إن ذلك كالتفسير لما قبله أي لا يكون شربكم شربا معتادا بل يكون مثل شرب الهيم، والشرب بالضم مصدر، وقيل: اسم لما يشرب، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما روى جماعة منهم الحاكم وصححه - عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما * (شرب) * بفتح الشين وهو مصدر شرب المقيس، وبذلك قرأ جمع من السبعة. والأعرج. وابن المسيب. وشعيب. ومالك بن دينار. وابن جريج، وقرأ مجاهد. وأبو عثمان النهدي بكسر الشين وهو اسم بمعنى المشروب لا مصدر كالطحن والرعي.
* (ه‍اذا نزلهم يوم الدين) *.
* (ه‍اذا) * الذي ذكر من ألوان العذاب * (نزلهم يوم الدين) * يوم الجزاء فإذا كان ذلك نزلهم وهو ما يقدم للنازل مما حضر فما ظنك بما لهم بعدما استقر لهم القرار واطمأنت لهم الدار في النار، وفي جعله نزلا مع أنه مما يكرم به النازل من التهكم ما لا يخفى، ونظير ذلك قوله: وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا * (جعلنا القنا والمرهفات له نزلا
وقرأ ابن محيصن. وخارجة عن نافع. ونعيم. ومحبوب. وأبو زيد. وهرون. وعصمة. وعباس كلهم عن أبي عمرو نزلهم بتسكين الزاي المضمومة للتخفيف كما في البيت، والجملة مسوقة من جهته سبحانه وتعالى بطريق الفذلكة مقررة لمضمون الكلام الملقن غير داخلة تحت القول، وقوله تعالى:
* (نحن خلقن‍اكم فلولا تصدقون) *.
146

* (نحن خلقن‍اكم فلولا تصدقون) * تلوين للخطاب وتوجيه له إلى الكفرة بطريق الإلزام والتبكيت والفاء لترتيب التحضيض على ما قبلها أي فهلا تصدقون بالخلق بقرينة * (نحن خلقناكم) * ولما لم يحقق تصديقهم المشعر به قوله تعالى: * (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله) * (لقمان: 25) عملهم حيث لم يقترن بالطاعة والأعمال الصالحة بل اقترن بما ينبىء عن خلافه من الشرك والعصيان نزل منزلة العدم والإنكار فحضوا على التصديق بذلك، وقيل: المراد فهلا تصدقون بالبعث لتقدمه وتقدم إنكاره في قولهم: * (أئنا لمبعوثون) * فيكون الكلام إشارة إلى الاستدلال بالإبداء على الإعادة فإن من قدر عليه قدر عليها حتما، والأول هو الوجه كما يظهر مما بعد إن شاء الله تعالى:
* (أفرءيتم ما تمنون) *.
* (أفرأيتم ما تمنون) * أي ما تقذفونه في الأرحام من النطف، وقرأ ابن عباس. وأبو الثمال * (تمنون) * بفتح التاء من مني النطقة بمعنى أمناها أي أزالها بدفع الطبيعة
* (أءنتم تخلقونه أم نحن الخ‍القون) *.
* (ءأنتم تخلقونه) * أي تقدرونه وتصورونه بشرا سويا تام الخلقة، فالمراد خلق ما يحصل منه على أن في الكلام تقديرا أو تجوزا، وجوز إبقاء ذلك على ظاهره أي * (أأنتم تخلقونه) * وتنشئون نفس ذات ما تمنونه * (أم نحن الخ‍القون) * له من غير دخل شيء فيه - وأرأيتم - قد مر الكلام غير مرة فيه، ويقال هنا: إن اسم الموصول مفعوله الأول والجملة الاستفهامية مفعوله الثاني، وكذا يقال فيم بعد من نظائره وما يعتبر فيه الرؤية بصرية تكون الجملة الاستفهامية فيه مستأنفة لا محل لها من الإعراب، وجوز في - أنتم - أن يكون مبتدأ، والجملة بعده خبره، وأن يكون فاعلا لفعل محذوف والأصل أتخلقون فلما حذف الفعل انفصل الضمير، واختاره أبو حيان، و * (أم) * قيل: منقطعة لأن ما بعدها جملة فالمعنى - بل أنحن الخالقون - على أن الاستفهام للتقرير، وقال قوم من النحاة: متصلة معادلة للهمزة كأنه قيل: * (أأنتم تخلقونه أم نحن) * ثم جيء - بالخالقون - بعد بطريق التأكيد لا بطريق الخبرية أصالة.
* (نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين) *.
* (نحن قدرنا بينكم الموت) * قسمناه عليكم ووقتنا موت كل أحد بوقت معين حسبما تقتضيه مشيئتنا المبنية على الحكم البالغة، وقرأ ابن كثير * (قدرنا) * بالتخفيف * (وما نحن بمسبوقين) * أي لايغلبنا أحد.
* (على أن نبدل أمث‍الكم وننشئكم فى ما لا تعلمون) *.
* (على أن نبدل أمث‍الكم) * أي على أن نذهبكم ونأتي مكانكم أشباهكم من الخلق فالسبق مجاز عن الغلبة استعارة تصريحية أو مجاز مرسل عن لازمه، وظاهر كلام بعض الأجلة أنه حقيقة في ذلك إذا تعدى بعلي، والجملة في وضع الحال من ضمير * (قدرنا) * وكأن المراد * (قدرنا) * ذلك ونحن قادرون على أن نميتكم دفعة واحدة ونخلق أشباهكم.
* (وننشئكم في ما لا تعلمون) * من الخلق والأطوار التي لا تعهدونها، وقال الحسن: من كونكم قردة وخنازير، ولعل اختيار ذلك لأن الآية تنحو إلى الوعيد، والمراد ونحن قادرون على هذا أيضا وجوز أن يكون أمثالكم جمع مثل بفتحتين بمعنى الصفة لا جمع مثل بالسكون بمعنى الشبه كما في الوجه الأول أي ونحن نقدر على أن نغير صفاتكم التي أنتم عليها خلقا وخلقا وننشئكم في صفات لا تعلمونها، وقيل: المعنى وننشئكم في البعث عل غير صوركم في الدنيا، وقيل: المعنى وما يسبقنا أحد فيهرب من الموت أو يغير وقته الذي وقتناه، على أن المراد تمثيل حال من سلم من الموت أو تأخر أجله عن الوقت المعين له بحال من طلبه طالب فلم يلحقه وسبقه، وقوله تعالى: * (على أن نبدل) * الخ في موضع الحال من الضمير المستتر في مسبوقين أي حال كوننا قادرين
147

أو عازمين على تبديل أمثالكم، والجملة السابقة على حالها، وقال الطبري: * (على أن نبدل) * متعلق - بقدرنا - وعلة له وجملة * (وما نحن بمسبوقين) * اعتراض، والمعنى نحن قدرنا بينكم الموت لأن نبدل أمثالكم أي نميت طائفة ونبدلها بطائفة هكذا قرنا بعد قرن.
* (ولقد علمتم النشأة الاولى فلولا تذكرون) *.
* (ولقد علمتم النشأة الأولى) * من خلقكم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة؛ وقال قتادة: هي فطرة آدم عليه السلام من التراب ولا ينكرها أحد من ولده * (فلولا تذكرون) * فهلا تتذكرون أن من قدر عليها فهو على النشأة الأخرى أقدر وأقدر فإنها أقل صنعا لحصول المواد وتخصيص الأجزاء وسبق المثاق، وهذا - على ما قالوا - دليل على صحة القياس لكن قيل: لا يدل إلا على قياس الأولى لأنه الذي في الآية، وفي الخبر عجبا كل العجب للمكذب بالنشأة الآخرة وهو يرى النشأة الأولى، وعجبا للمصدق بالنشأة الآخرة وهو يسعى لدار الغرور.
وقرأ طلحة تذكرون بالتخفيف وضم الكاف.
* (أفرءيتم ما تحرثون) *.
* (أفرءيتم ما تحرثون) * ما تبذرون حبه وتعملون في أرضه.
* (أءنتم تزرعونه أم نحن الزارعون) *.
* (ءأنتم تزرعونه) * تنبتونه وتردونه نباتا يرف وينمي إلى أن يبلغ الغاية * (أم نحن الزارعون) * أي المنبتون لا أنتم والكلام في - أنتم - و * (أم) * كما مر آنفا، وأخرج البزار. وابن جرير. وابن مردويه. وأبو نعيم. والبيهقي في " شعب الأيمان " - وضعفه - وابن حبان - كما قال الخفاجي - عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يقولن أحدكم زرعت ولكن ليقل حرثت، ثم قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه ألم تسمعوا الله تعالى يقول: * (أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون) * " يشير رضي الله تعالى عنه إلى أنه عليه الصلاة والسلام أخذ النهي من هذه الآية فإنه أسند الحرث إلى المخاطبين دون الزرع، وقال القرطبي: إنه يستحب للزارع أن يقول بعد الاستعاذة وتلاوة هذه الآية الله تعالى الزارع والمنبت والمبلغ اللهم صل على محمد وارزقنا ثمره وجنبنا ضرره واجعلنا لأنعمك من الشاكرين، قيل: وقد جرب هذا الدعاء لدفع آفات الزرع كلها وإنتاجه.
* (لو نشآء لجعلناه حط‍اما فظلتم تفكهون) *.
* (لو نشاء لجعلن‍اه حط‍اما) * هشيما متكسرا متفتتا لشدة يبسه بعدما أنبتناه وصار بحيث طمعتم في حيازة غلاله * (فظلتم) * بسبب ذلك * (تفكهون) * تتعجبون من سوء حاله إثر ما شاهدتموه على أحسن ما يكون من الحال على ما روى عن ابن عباس. ومجاهد. وقتادة، وقال الحسن: تندمون أي على ما تعبتم فيه، وأنفقتم عليه من غير حصول نفع، أو على ما اقترفتم لأجله من المعاصي، وقال عكرمة: تلاومون على ما فعلتم، وأصله التفكه التنقل بصنوف الفاكهة واستعير للتنقل بالحديث وهو هنا ما يكون بعد هلاك الزرع وقد كنى به في الآية عن التعجب، أو الندم. أو التلاوم على اختلاف التفاسير، وفي " البحر " كل ذلك تفسير باللازم، ومعنى * (تفكهون) * تطرحون الفكاهة عن أنفسكم وهي المسرة، ورجل فكه منبسط النفس غير مكترث بشيء وتفكه من أخوات تحرج وتحوب أي إن التفعل فيه للسلب.
وقرأ أبو حيوة. وأبو بكر في رواية العتكي عنه * (فظلتم) * بكسر الظاء كما قالوا: مست بالكسر ومست بالفتح، وحكاها الثوري عن ابن مسعود وجاءت عن الأعمش، وقرأ عبد الله. والجحدري - فظللتم - بلامين أولاهما مكسورة، وقرأ الجحدري أيضا كذلك مع فتح اللام والمشهور ظللت بالكسر، وقرأ أبو حزام تفكنون بالنون بدل الهاء، قال ابن خالويه: تفكه بالهاء تعجب، وتفكن بالنون تندم.
* (إنا لمغرمون) *.
* (إنا لمغرمون) * أي معذبون
148

مهلكون من الغرام وهو الهلاك قال الشاعر: إن يعذب يكن (غراما) وإن يع‍ * - ط جزيلا فإنه لا يبالي
والمراد مهلكون بهلاك رزقنا، وقيل: بالمعاصي أو ملزمون غرامة بنقص رزقنا، وقرأ الأعمش. والجحدري. وأبو بكر - أئنا بالاستفهام والتحقيق، والجملة على القراءتين بتقدير قول هو في حيز النصب على الحالية من فاعل تفكهون أي قائلين، أو تقولون ذلك.
* (بل نحن محرومون) *.
* (بل نحن محرومون) * محدودون لا مجدودون أو محرومون الرزق كأنهم لما قالوا إنا مهلكون لهلاك رزقنا أضربوا عنه وقالوا: بل هذا أمر قدر علينا لنحوسة طالعنا وعدم بختنا، أو لما قالوا: إنا ملزمون غرامة بنقص أرزاقنا أضربوا فقالوا: * (بل نحن محرومون) * الرزق بالكلية.
* (أفرءيتم المآء الذى تشربون) *.
* (أفرءيتم الماء الذي تشربون) * عذبا فراتا، وتخصيص هذا الوصف بالذكر مع كثرة منافعه لأن الشرب أهم المقاصد المنوطة به.
* (أءنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون) *.
* (ءأنتم أنزلتموه من المزن) * أي السحاب واحدته مزنة، قال الشاعر: فلا (مزنة ودقت ودقها * ولا أرض أبقل إبقالها
وقيل: هو السحاب الأبيض وماؤه أعذب * (أم نحن المنزلون) * له بقدرتنا.
* (لو نشآء جعلن‍اه أجاجا فلولا تشكرون) *
.
* (لو نشاء جعلناه أجاجا) * ملحا ذعاقا لا يمكن شربه من الأجيج وهو تلهب النار، وقيل: الأجاج كل ما يلذع الفم ولا يمكن شربه فيشمل الملح والمر والحار، فإما أن يراد ذلك، أو الملح بقرينة المقام وحذفت اللام من جواب لو ههنا للقرينة اللفظية والحالية ومتى أجاز حذف - لم أر - في قول أوس: حتى إذا الكلاب قال لها * (...) كاليوم مطلوبا ولا طلبا
والقرينة حالية فأولى أن يجوز حذفها وحدها لذلك على ما قرره الزمخشري، وقرر وجها آخر حاصله أن اللام لمجرد التأكيد فتناسب مقام التأكيد فأدخلت في آية المطعوم دون المشروب للدلالة على أن أمره مقدم على أمره، وأن الوعيد بفقده أشد وأصعب من قبل أن المشروب تبع له ألا يرى أن الضيف يسقي بعد أن يطعم، وقد ذكر الأطباء أن الماء مبذرق، ويؤيد ذلك تقديمه على المشروب في النظم الجليل، وللإمام في هذا المقام كلام طويل اعترض به على الزمخشري وبين فيه وجه الذكر أولا والحذف ثانيا، ولم أره أتى بما يشرح الصدر، وخير منه عندي قول ابن الأثير في المثل السائل: إن اللام أدخلت في المطعوم دون المشروب لأن جعل الماء العذب ملحا أسهل إمكانا في العرف والعادة والموجود من الماء الملح أكثر من الماء العذب، وكثيرا ما إذا جرت المياه العذبة على الأراضي المتغيرة التربة أحالتها إلى الملوحة فلم يحتج في جعل الماء العذب ملحا إلى زيادة تأكيد فلذا لم تدخل لام التأكيد المفيدة لزيادة التحقيق، وأما المطعوم فإن جعله حطاما من الأشياء الخارجة عن المعتاد وإذا وقع يكون عن سخط شديد، فلذا قرن باللام لتقرير إيجاده وتحقيق أمره انتهى.
* (فلولا تشكرون) * تحضيض على شكر الكل لأنه أفيد دون عذوبة الماء فقط كما ذهب إليه البعض.
نعم أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أذا شرب الماء قال: الحمد لله الذي سقانا عذبا فراتا برحمته ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا ".
* (أفرءيتم النار التى تورون) *.
* (أفرءيتم النار التي تورون) * أي تقدحونها وتستخرجونها من الزناد.
* (أءنتم أنشأتم شجرتهآ أم نحن المنشئون) *.
* (ءانتم أنشأتم شجرتها) * التي منها الزناد وهي المرخ والعفار، وقيل:
149

المراد بالشجرة نفس النار كأنه قيل: نوعها أو جنسها فاستعير الشجرة لذلك وهو قول متكلف بلا حاجة.
* (أم نحن المنشئون) * لها بقدرتنا والتعبير عن خلقها بالإنشاء المنبىء عن بديع الصنع المعرب عن كمال القدرة والحكمة لما فيه من الغرابة الفارقة بينها وبين سائر الأشجار التي لا تخلو عن النار حتى قيل - في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار - كما أن التعبير عن نفخ الروح بالإنشاء في قوله تعالى: * (ثم أنشأنأه) * خلقا آخر لذلك.
* (نحن جعلن‍اها تذكرة ومت‍اعا للمقوين) *.
* (نحن جعلن‍اها تذكرة) * استئناف معين لمنافعها أي جعلناها تذكيرا لنار جهنم حيث علقنا بها أسباب المعاش لينظروا إليها ويذكروا بها ما أوعدوا به، أو جعلناها تذكرة وأنموذجا من جهنم لما في " الصحيحين " وغيرهما عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: " ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم " وعلى الوجهين التذكرة من الذكر المقابل للنسيان ولم ينظر في الأول إلى أنها من جنس نار جهنم أولا وفي الثاني نظر إلى ذلك، وقيل: تبصرة في أمر البعث لأن من أخرج النار من الشجر الأخضر المضاد لها قادر على إعادة ما تفرقت مواده، وقيل: تبصرة في الظلام يبصر بضوئها، وفيه أن التذكرة لا تكون بمعنى التبصرة المأخوذة من البصر وكون المراد تذكرة لنار جهنم هو المأثور عن الكثيرين، ومنهم ابن عباس. ومجاهد. وقتادة * (ومت‍اعا) * ومنفعة * (للمقوين) * للذين ينزلون القواء وهي القفر من أقوى دخل القواء كأصحر دخل الصحراء وتخصيص المقوين بذلك لأنهم أحوج إليها فإن المقيمين، أو النازلين بقرب منهم ليسوا بمضطرين إلى الاقتداح بالزناد.
وقيل: * (للمقوين) * أي المسافرين، ورواه جمع عن ابن عباس. وعبد بن حميد عن الحسن، وهو. وابن جرير. وعبد الرزاق عن قتادة بزيادة كم من قوم قد سافروا ثم أرملوا فأججوا نارا فاستدفئوا وانتفعوا بها، وكان إطلاق المقوين على المسافرين لأنهم كثيرا ما يسلكون القفراء والمفاوز، وقيل: * (للمقوين) * للفقراء يستضيئون بها في الظلمة ويصطلون من البرد كأنه تصور من حال الحاصل في القفر الفقر، فقيل: - أقوى - فلان أي افتقر كقولهم أترب وأرمل، وقال ابن زيد: للجائعين لأنهم أقوت أي خلت بطونهم ومزاودهم من الطعام فهم يحتاجون إليها لطبخ ما يأكلون وخصوا - على ما قيل - لأن غيرهم يتنعم بها لا يجعلها متاعا، وتعقب بأنه بعيد لعدم انحصار ما يهمهم ويسد خلتهم فيما لا يؤكل إلا بالطبخ، وقال عكرمة. ومجاهد: المقوين المستمتعين بها من الناس أجمعين المسافرين والحاضرين يستضيئون بها ويصطلون من البرد وينتفعون بها في الطبخ والخبز، قال العلامة الطيبي. والطبرسي: وعلى هذا القول - المقوى - من الأضداد يقال للفقير: مقو لخلوه من المال، وللغنى مقو لقوته على ما يريد يقال: أقوى الرجل إذا صار إلى حال القوة والمعنى متاعا للأغنياء والفقراء لأنه لا غنى لأحد عنها انتهى.
وفيه بحث لا يخفى، ولعل الأقرب عليه أنه أريد بالاقواء الاحتياج والمستمتع بها محتاج إليها فتدبر، وتأخير هذه المنفعة للتنبيه على أن الأهم هو النفع الأخروي وتقديم أمر الماء على أمر النار لأن الاحتياج إليه أشد وأكثر والانتفاع به أعم وأوفر، وقال بعضهم: قدم خلق الإنسان من نطفة لأن النعمة في ذلك قبل النعمة في الثلاثة بعد، ثم ذكر بعده ما به قوام الإنسان من فائدة الحرث وهو الطعام الذي لا يستغنى عنه الجسد الحي وذلك الحب الذي يختبز فيحتاج بعد حصوله إلى حصول الماء ليعجن به فلذا ذكر بعده ثم إلى النار لتصيره خبزا فلذا ذكرت بعد الماء وهو كما ترى، واستحسن بعضهم من القارىء أن يقول بعد كل جملة استفهامية من الجمل السابقة: بل أنت يا رب، فقد أخرج عبد الرزاق. وابن المنذر. والحاكم. والبيهقي في " سننه " عن حجر المروى
150

قال: بت عند علي كرم الله تعالى وجهه فسمعته وهو يصلي بالليل يقرأ فمر بهذه الآية * (أفرأيتم ما تمنعون * أأنتم تخلقونه أن نحن الخالقون) * (الواقعة: 58. 59) فقال: بل أنت يا رب ثلاثا، ثم قرأ * (أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون) * فقال: بل أنت يا رب ثلاثا، ثم قرأ * (أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون) * (الواقعة: 69) فقال: بل أنت يا رب ثلاثا، ثم قرأ * (أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون) * (الواقعة: 72) فقال: بل أنت يا رب ثلاثا، وأنت تعلم أن في استحسان قول مثل ذلك في الصلاة اختلافا بين العلماء.
* (فسبح باسم ربك العظيم) *.
* (فسبح باسم ربك العظيم) * مرتب على ما عدد من بدائع صنعه عز وجل وودائع نعمه سحبانه وتعالى، والمراد على ما قيل: أحدث التسبيح تنزيلا للفعل المتعدي منزلة اللازم، وأريد من إحداثه استمراره لا إيجاده لأنه عليه الصلاة والسلام غير معرض عنه، وتعقبه الطيبي بأن هذا عكس ما يقتضيه لفظ الإحداث، فالمراد تجديد التسبيح، وفي الكلام إضمار أي سبح بذكر اسم ربك، أو الاسم مجاز عن الذكر فإن إطلاق الاسم للشيء ذكره، والباء للاستعانة أو الملابسة وكونها للتعدية كما هو ظاهر كلام أبي حيان ليس بشيء، والعظيم صفة للاسم، أو للرب، وتعقيب الأمر بالتسبيح لما عدد إما لتنزيهه تعالى عما يقولوه الجاحدون لوحدانيته عز وجل الكافرون بنعمه سبحانه مع عظمها وكثرتها، أو للشكر على تلك النعم السابقة لأن تنزيهه تعالى وتعظيمه جل وعلا بعد ذكر نعمه سبحانه مدح عليها فهو شكر للمنعم في الحقيقة، أو للتعجب من أمر الكفرة في غمط تلك النعم الباهرة مع جلالة قدرها وظهور أمرها؛ وسبحان ترد للتعجب مجازا مشهورا فسبح بمعنى تعجب، وأصله فقل سبحان الله للتعجب وفيه بعد وما تقدم أظهر.
هذا وجوز أن لا يكون في * (باسم ربك) * إضمار ولا مجاز بل يبقى على ظاهره فقد قالوا في قوله تعالى: * (سبح اسم ربك الأعلى) *: كما يجب تنزيه ذاته تعالى وصفاته سبحانه عن النقائص يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن سوء الأدب وهو أبلغ لأنه يلزمه تقديس ذاته عز وجل بالطريق الأولى على طريق الكناية الرمزية، وفيه أنه إنما يتأتى لو لم تذكر الباء، وجعلها زائدة خلاف الظاهر، وحال كونها للتعدية قد سمعته، وجعل بعضهم على هذا الخطاب لغير معين فقال: إنه
تعالى لما ذكر ما ذكر من الأمور وكان الكل معترفين بأنها من الله تعالى وكان الكفار إذا طولبوا بالوحدانية قالوا: نحن لا نشرك في المعنى وإنما نتخذ أصناما آلهة وذلك إشراك في الاسم، والذي خلقنا وخلق السموات والأرض هو الله تعالى فنحن ننزهه في الحقيقة قال سبحانه: * (فسبح باسم ربك) * على معنى كما أنك أيها الغافل اعترفت بعدم اشتراكها في الحقيقة اعترف بعدم اشتراكها في الاسم ولا تقل لغيره تعالى إلها فإن الاسم يتبع المعنى والحقيقة، فالخطاب كالخطاب في قول الواعظ يا مسكين أفنيت عمرك وما أصلحت أمرك لا يريد به أحدا بعينه، وإنما يريد أيها المسكين السامع وهو كما ترى، نعم احتمال عموم الخطاب مما لا ينكر لكن لا يتعين عليه هذا التقرير، ثم الظاهر أن المراد بذكر الرب أو ذكر اسمه سبحانه على ما تقرر سابقا ما هو المتبادر المعروف.
وفي " الكشف " إن المراد بذلك تلاوته صلى الله عليه وسلم للقرآن أو لهذه السورة الكريمة المتضمنة لإثبات البعث والجزاء ومراتب أهله لينطبق عليه قوله تعالى بعد: * (فلا أقسم) * (الواقعة: 75) وعلى الأول لا بد من إضمار - أي فسبح - باسم ربك وامتثل ما أمرت به - فأقسم أنه لقرآن، والغرض تأكيد الأمر بالتسبيح، وأنا أقول يتأتى الانطباق على الظاهر أيضا سوى أنه يعتبر في الكلام إضمار ولا بأس بأن يقال: إنه تعالى لما ذكر ما ذكر من النعم الجليلة الداعية لتوحيده سبحانه ووصفه بما يليق به عز وجل قال سبحانه: * (فسبح باسم ربك) * أي فنزهه تعالى عما يقولون في وصفه سبحانه، وأقبل على إنذارهم بالقرآن والاحتجاج عليهم به بعد الاحتجاج بما ذكرنا فأقسم أنه لقرآن كيت وكيت فلا في قوله عز وجل:
* (فلا أقسم بمواقع النجوم) *.
151

* (فلا أقسم) * مزيدة للتأكيد مثلها في قوله تعالى: * (لئلا يعلم أهل الكتاب) * (الحديد: 29) أو هي لام القسم أشبعت فتحتها فتولدت منها ألف نظير ما في قوله: أعوذ بالله من العقراب
واختاره أبو حيان ثم قال: وهو وإن كان قليلا فقد جاء نظيره في قوله تعالى: * (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) * (إبراهيم: 37) بياء بعد الهمزة وذلك في قراءة هشام.
ويؤيد قراءة الحسن. وعيسى. فلا قسم - وهو مبني على ما ذهب إليه تبعا لبعض النحويين من أن فعل الحال يجوز القسم عليه فيقال: والله تعالى ليخرج زيد وعليه قول الشاعر: ليعلم ربي أن بيتي واسع
وحينئذ لا يصح أن يقرن الفعل بالنون المؤكدة لأنها تخلصه للاستقبال خلاف المراد، والذي اختاره ابن عصفور. والبصريون أن فعل الحال كما هنا لا يجوز أن يقسم عليه ومتى أريد من الفعل الاستقبال لزمت فيه النون المؤكدة فقيل: لأقسمن وحذفها ضعيف جدا، ومن هنا خرجوا قراءة الحسن. وعيسى على أن اللام لام الابتداء والمبتدا محذوف لأنها لا تدخل على الفعل والتقدير فلأنا أقسم، وقيل: نحوه في قراءة الجمهور على أن الألف قد تولدت من الاشباع، وتعقب بأن المبتدا إذا دخل عليه لام الابتداء يمتنع أو يقبح حذفه لأن دخولها لتأكيده وهو يقتضي الاعتناء به وحذفه يدل على خلافه، وقال سعيد بن جبير. وبعض النحاة: - لا - نفي ورد لما يقوله الكفار في القرآن من أنه سحر وشعر وكهانة كأنه قيل: فلا صحة لما يقولون فيه ثم استؤنف فقيل: * (أقسم) * الخ، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يجوز لما فيه من حذف اسم - لا - وخبرها في غير جواب سؤال نحو - لا - في جواب هل من رجل في الدار، وقيل: الأولى فيما إذا قصد بلا نفي لمحذوف واستئناف لما بعدها في اللفظ الاتيان بالواو نحو - لا - وأطال الله تعالى بقاءك، وقال: بعضهم إن - لا - كثيرا ما يؤتى بها قبل القسم على نحو الاستفتاح كما في قوله: (لا وأبيك) ابنة العامري * لا يدعي القوم إني أفر
وقال أبو مسلم وجمع: إن الكلام على ظاهره المتبادر منه، والمعنى لا أقسم إذ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم أي لا يحتاج إلى قسم ما فضلا عن أن هذا القسم العظيم، فقول مفتي الديار الرومية أنه يأباه تعيين المقسم به وتفخيمه ناشيء عن الغفلة على ما لا يخفى على فطن * (بمواقع النجوم) * أي بمساقط كواكب السماء ومغاربها كما جاء في رواية عن قتادة. والحسن على أن الوقوع بمعنى السقوط والغروب وتخصيصها بالقسم لما في غروبها من زوال أثرها، والدلالة على وجود مؤثر دائم لا يتغير، ولذا استدل الخليل عليه السلام بالأفول على وجود الصانع جل وعلا، أو لأن ذلك وقت قيام المتهدين والمبتهلين إليه تعالى وأوان نزول الرحمة والرضوان عليهم.
وقد أخرج البخاري. ومسلم عن أبي هريرة مرفوعا " ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له " وعن الحسن أيضا المراد مواقعها عند الانكدار يوم القيامة قيل: وموقع عليه مصدر ميمي أو اسم زمان ولعل وقوعها ذلك اليوم ليس دفعة واحدة والتخصيص لما في ذلك من ظهور عظمته عز وجل وتحقق ما ينكره الكفار من البعث، وعن أبي جعفر. وأبي عبد الله على آبائهما وعليهما السلام المراد مواقعها عند الانقضاض إثر المسترقين السمع من الشياطين، وقد مر لك تحقيق أمر هذا الانقضاض فلا تغفل، وقيل: مواقع النجوم هي الأنواء التي يزعم الجاهلية
152

أنهم يمطرون بها، ولعله مأخوذ من بعض الآثار الواردة في سبب النزول وسنذكره إن شاء الله تعالى وليس نصا في إرادة الأنواء بل يجوز عليه أن يراد المغارب مطلقا.
وأخرج عبد الرزاق. وابن جرير عن قتادة أنها منازلها ومجاريها على أن الوقوع النزول كما يقال: على الخبير سقطت وهو شائع والتخصيص لأن له تعالى في ذلك من الدليل على عظيم قدرته وكمال حكمته ما لا يحيط به نطاق البيان، وقال جماعة منهم ابن عباس: النجوم نجوم القرآن ومواقعها أوقات نزولها.
وأخرج النسائي. وابن جرير. والحاكم وصححه. والبيهقي في " الشعب " عنه أن قال: " أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة ثم فرق في السنين " وفي لفظ " ثم نزل من السماء الدنيا إلى الأرض نجوما ثم قرأ فلا أقسم بمواقع النجوم " وأيد هذا القول بأن الضمير في قوله تعالى بعد: * (إنه لقرآن)
* يعود حينئذ على ما يفهم من مواقع النجوم حتى يكاد يعد كالمذكور صريحا ولا يحتاج إلى أن يقال يفسره السياق كما في سائر الأقوال، ووجه التخصيص أظهر من أن يخفى، ولعل الكلام عليه من باب: وثناياك إنها إغريض
وقرأ ابن عباس. وأهل المدينة. وحمزة. والكسائي * (بموقع) * مفردا مرادا به الجمع.
* (وإنه لقسم لو تعلمون عظيم) *.
* (وإنه لقسم لو تعلمون عظيم) * مشتمل على اعتراض في ضمن آخر فقوله تعالى: * (إنه لقسم) * * (عظيم) * معترض بين القسم والمقسم عليه وهو قوله سبحانه:
* (إنه لقرءان كريم) *.
* (إنه لقرآن كريم) * وهو تعظيم للقسم مقرر مؤكد له، وقوله عز وجل: * (لو تعلمون) * معترض بين الصفة والموصوف وهو تأكيد لذلك التعظيم وجواب * (لو) * إما متروك أريد به نفي علمهم أو محذوف ثقة بظهوره أي لعظمتموه أو لعملتم بموجبه، ووجه كون ذلك القسم عظيما قد أشير إليه فيما مر، أو هو ظاهر بناءا على أن المراد * (بمواقع النجوم) * ما روي عن ابن عباس. والجماعة، ومعنى كون القرآن كريما أنه حسن مرضي في جنسه من الكتب أو نفاع جم المنافع، وكيف لا وقد اشتمل على أصول العلوم المهمة في إصلاح المعاش، والمعاد، والكرم على هذا مستعار - كما قال الطيبي - من الكرم المعروف.
وقيل: الكرم أعم من كثرة البذل والإحسان والاتصاف بما يحمد من الأوصاف ككثرة النفع فإنه وصف محمود فكونه كرما حقيقة، وجوز أن يراد كريم على الله تعالى قيل: وهو يرجع لما تقدم، وفيه تقدير من غير حاجة وأيا ما كان فمحط الفائدة الوصف المذكور قيل: إن مرجع الضمير هو القرآن لا من حيث عنوان كونه قرآنا فبمجرد الإخبار عنه بأنه قرآن تحصل الفائدة أي إنه لمقروء على نلا أنه أنشأه كما زعمه الكفار، وقوله تعالى:
* (فى كت‍ابمكنون) *.
* (في كت‍ابمكنون) * وصف آخر للقرآن أي كائن في كتاب مصون عن غير المقربين من الملائكة عليهم السلام لا يطلع عليه من سواهم، فالمراد به اللوح المحفوظ كما روي عن الربيع بن أنس وغيره، وقيل: أي في كتاب مصون عن التبديل والتغيير وهو المصحف الذي بأيدي المسلمين ويتضمن ذلك الإخبار بالغيب لأنه لم يكن إذ ذاك مصاحف، وأخرج عبد بن حميد. وابن جرير عن عكرمة أنه قال: في كتاب أي التوراة والإنجيل، وحكي ذلك في " البحر " ثم قال: كأنه قال: ذكر في كتاب مكنون كرمه وشرفه، فالمعنى على هذا الاستشهاد بالكتب المنزلة انتهى.
والظاهر أنه أريد على هذا بالكتاب الجنس لتصح إرادة التوراة والإنجيل، وفي وصف ذلك بالمكنون خفاء ولعله أريد به جليل الشأن عظيم القدر فإن الستر كاللازم للشيء الجليل، وجوز إرادة هذا المعنى المجازي
153

على غير هذا القول من الأقوال، وقيل: الكتاب المكنون قلب المؤمن وهو كما ترى.
وقيل: المراد من كونه في كتاب مكنون كونه محفوظا من التغيير والتبديل ليس إلا كما قال تعالى: * (وإنا له لحافظون) * والمعول عليه ما تقدم، وجوز تعلق الجار بكريم كما يقال زيد كريم في نفسه، والمعنى إنه كريم في اللوح المحفوظ وإن لم يكن كريما عند الكفار، والوصفية أبلغ كما لا يخفى، وقوله تعالى:
* (لا يمسه إلا المطهرون) *.
* (لا يمسه إلا المطهرون) * إما صفة بعد صفة لكتاب مرادا به اللوح، فالمراد بالمطهرون الملائكة عليهم السلام أي المطهرون المنزهون عن كدر الطبيعة ودنس الحظوظ النفسية، وقيل: عن كدر الأجسام ودنس الهيولى والطهارة عليهما طهارة معنوية، ونفى مسه كناية عن لازمه وهو نفي الاطلاع عليه وعلى ما فيه، وإما صفة أخرى لقرآن.
والمراد بالمطهرون المطهرون عن الحدث الأصغر والحدث الأكبر بحمل الطهارة على الشرعية، والمعنى لا ينبغي أن يمس القرآن إلا من هو على طهارة من الناس فالنفي هنا نظير ما في قوله تعالى: * (الزاني لا ينكح إلا زانية) * (النور: 3) وقوله صلى الله عليه وسلم: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه " الحديث وهو بمعنى النهي بل أبلغ من النهي الصريح، وهذا أحد أوجه ذكروها للعدول عن جعل - لا - ناهية، وثانيها: أن المتبادر كون الجملة صفة والأصل فيها أن تكون خبرية ولا داعي لاعتبار الإنشائية وارتكاب التأويل، وثالثها: أن المتبادر من الضمة أنها إعراب فالحمل على غيره فيه إلباس، ورابعها: أن عبد الله قرأ ما يمسه وهي تؤيد أن لا نافية وكون المراد بالمطهرين الملائكة عليهم السلام مروى من عدة طرق عن ابن عباس، وكذا أخرجه جماعة عن أنس. وقتادة. وابن جبير. ومجاهد. وأبي العالية. وغيرهم إلا أن في بعض الآثار عن بعض هؤلاء ما هو ظاهر في أن الضمير في * (لا يمسه) * مع كون المراد بالمطهرين الملائكة عليهم السلام راجع إلى القرآن.
أخرج عبد بن حميد. وابن جرير عن قتادة أنه قال: في الآية ذاك عند رب العالمين لا يمسه إلا المطهرون من الملائكة فأما عندكم فيمسه المشرك والنجس، والمنافق الرجس، وأخرجاهما. وابن المنذر. والبيهقي في المعرفة عن الحبر قال: في الآية الكتاب المنزل في السماء لا يمسه إلا الملائكة، ويشير إليه ما أخرج ابن المنذر عن النعيمي قال: قال مالك: أحسن ما سمعت في هذه الآية * (لا يمسه إلا المطهرون) * أنها بمنزلة الآية التي في عبس * (كلا إنها تذكرة * فمن شاء ذكره * في صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة * بأيدي سفرة * كرام بررة) * (عبس: 11 - 16) وكون المراد بهم المطهرين من الأحداث مروى عن محمد الباقر على آبائه وعليه السلام. وعطاء. وطاوس. وسالم.
وأخرج سعيد بن منصور. وابن أبي شيبة في " المصنف ". وابن المنذر. والحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن زيد قال: كنا مع سلمان - يعني الفارسي - رضي الله تعالى عنه فانطلق إلى حاجة فتوارى عنا فخرج إلينا فقلنا لو توضأت فسألناك عن أشياء من القرآن؟ فقال: سلوني فإني لست أمسه إنما يمسه المطهرون ثم تلا * (لا يمسه إلا المطهرون) *، وقيل: الجملة صفة لقرآن، والمراد - بالمطهرون - المطهرون من الكفر، والمس مجاز عن الطلب كاللمس في قوله تعالى: * (أنا لمسنا السماء) * (الجن: 8) أي لا يطلبه إلا المطهرون من الكفر، ولم أر هذا مرويا عن أحد من السلف، والنفي عليه على ظاهره، ورجح جمع جعل الجملة وصفا للقرآن لأن الكلام مسوق لحرمته وتعظيمه لا لشأن الكتاب المكنون، وإن كان في تعظيمه تعظيمه. وصحح الإمام جعلها وصفا للكتاب - وفيه نظر - وعلى الوصفية للقرآن ذهب من ذهب إلى اختيار تفسير المطهرين بالمطهرين عن الحدث الأكبر والأصغر.
وفي " الأحكام " للجلال السيوطي استدل الشافعي بالآية على منع المحدث من مس المصحف وهو ظاهر في
154

اختيار ذلك، والاحتمال جعل الجملة صفة للكتاب المكنون أو للقرآن، وكون المراد بالمطهرين الملائكة المقربين عليهم السلام على ما سمعت عن ابن عباس. وقتادة عدل الأكثرون عن الاستدلال بها على ذلك إلى الاستدلال بالأخبار، فقد أخرج الإمام مالك. وعبد الرزاق. وابن أبي داود. وابن المنذر عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه قال في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يمس القرآن إلا طاهر " إلى غير ذلك، وقال بعضهم: يجوز أن يؤخذ منع مس غير الطاهر القرآن من الآية على الاحتمالين الآخرين أيضا، وذلك لأنها أفادت تعظيم شأن القرآن وكونه كريما، والمس بغير طهر مخل بتعظيمه فتأباه الآية وهو كما ترى، وأطال الإمام الكلام في هذا المقام بما لا يخفى حاله على من راجعه، نعم لا شك في دلالة الآية على عظم شأن القرآن ومقتضى ذلك الاعتناء بشأنه ولا ينحصر الاعتناء بمنع غير الطاهر عن مسه بل يكون بأشياء كثيرة كالإكثار من تلاوته والوضوء لها وأن لا يقرأه الشخص وهو متنجس الفم فإنه مكروه.
وقيل: حرام كالمس باليد المتنجسة، وكون القراءة في مكان نظيف، والقارىء مستقبل القبلة متخشعا بسكينة ووقار مطرقا رأسه، والاستياك لقراءته، والترتيل، والتدبر، والبكاء، أو التباكي، وتحسين الصوت بالقراءة وأن لا يتخذه معيشة، وأن يحافظ على أن لا ينسى آية أوتيها منه، فقد أخرج أبو داود وغيره " عرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها، وأن لا يجامع بحضرته فإن أراد ستره، وأن لا يضع غيره من الكتب السماوية وغيرها فوقه، وأن لا يقلب أوراقه بأصبع عليها بزاق ينفصل منه شيء فقد قيل: بكفر من يفعل ذلك، إلى أمور أخر مذكورة في محالها، وفي وجوب كون القارىء طاهرا من الأحداث خلاف، فعن ابن عباس في رواية أنه يجوز للجنب قراءة القرآن، وروي ذلك أيضا عن الإمام أبي حنيفة، وعن ابن عمر أحب إلي أن لا يقرأ إلا طاهر وكأنهم اعتبروه كسائر الأذكار والفرق مثل الشمس ظاهر. وقرأ عيسى * (المطهرون) * اسم مفعول مخففا من أطهر، ورويت عن نافع. وأبي عمرو، وقرأ سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه * (المطهرون) * بتخفيف الطاء وتشديد الهاء وكسرها اسم فاعل من طهر أي * (المطهرون) * أنفسهم، أو غيرهم بالاستغفار لهم والإلهام، وعنه أيضا * (المطهرون) * بتشديدهما وأصله المتطهرون فأدغم التاء بعد إبدالها في الطاء؛ ورويت عن الحسن. وعبد الله بن عون، وقرىء المتطهرون على الأصل.
* (تنزيل من رب الع‍المين) *.
* (تنزيل من رب الع‍المين) * صفة أخرى للقرآن أي منزل، أو وصف بالمصدر لأنه ينزل نجوما من بين سائر كتب الله تعالى فكأنه في نفسه تنزيل ولذلك أجري مجرى بعض أسمائه فقيل جاء في التنزيل كذا ونطق به التنزيل.
وجوز كونه خبر مبتدأ محذوف أي هو تنزيل على الاستئناف، وقرىء تنزيلا بالنصب على نزل تنزيلا.
* (أفبه‍اذا الحديث أنتم مدهنون) *.
* (أفبه‍اذا الحديث) * أي أتعرضون فبهذا الحديث الذي ذكرت نعوته الجليلة الموجبة لإعظامه وإجلاله والإيمان بما تضمنه وأرشد إليه وهو القرآن الكريم * (أنتم مدهنون) * متهاونون به كمن يدهن في الأمر أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاونا به، وأصل الإدهان كما قيل: جعل الأديم ونحوه مدهونا بشيء من الدهن ولما كان ذلك ملينا لينا محسوسا يراد به اللين المعنوي على أنه تجوز به عن مطلق اللين أو استعير له، ولذا سميت المداراة مداهنة وهذا مجاز معروف ولشهرته صار حقيقة عرفية، ولذا تجوز به هنا عن التهاون أيضا لأن المتهاون بالأمر
155

لا يتصلب فيه، وعن ابن عباس. والزجاج * (مدهنون) * أي مكذبون، وتفسيره بذلك لأن التكذيب من فروع التهاون.
وعن مجاهد أي منافقون في التصديق به تقولون للمؤمنين آمنا به وإذا خلوتم إلى إخوانكم قلتم إنا معكم والخطاب عليه للمنافقين وما قدمناه أولى، والخطاب عليه للكفار كما يقتضيه السياق.
وجوز أن يراد بهذا الحديث ما تحدثوا به من قبل في قوله سبحانه: * (وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون * أو آباؤنا الأولون) * (الواقعة: 47، 48) فالكلام عود إلى ذلك بعد رده كأنه قيل: أفبهذا الحديث الذي تتحدثون به في إنكار البعث أنتم مدهنون أصحابكم أي تعلمون خلافه وتقولونه مداهنة أم أنتم به جاذمون وعلى الإصرار عليه عازمون، ولا يخفى بعده، وفيه مخالفة لسبب النزول وستعلمه قريبا إن شاء الله تعالى:
* (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) *.
* (وتجعلون رزقكم) * شكركم * (أنكم تكذبون) * تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم كذا وكذا، أخرج ذلك الإمام أحمد. والترمذي وحسنه. والضياء في "
المختارة ". وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو إما إشارة منه عليه الصلاة والسلام إلى أن في الكلام مضافا مقدرا أي شكر رزقكم أو إشارة إلى أن الرزق مجاز عن لازمه وهو الشكر، وحكى الهيثم بن عدي أن من لغة ازدشنوءة ما رزق فلان فلانا بمعنى شكره، ونقل عن الكرماني أنه نقل في " شرح البخاري " أن الرزق من أسماء الشكر واستبعد ذلك ولعله هو ما حكاه الهيثم، وفي " البحر " وغيره أن عليا كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس قرءا - شكركم - بدل * (رزقكم) * وحمله بعض شراح البخاري على التفسير من غير قصد للتلاوة وهو خلاف الظاهر، وقد أخرج ابن مردويه عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: قرأ علي كرم الله تعالى وجهه * (الواقعة) * في الفجر فقال: * (وتجعلون - شكركم - أنكم تكذبون) * فلما انصرف قال: إني قد عرفت أنه سيقول قائل لم قرأها هكذا إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ كذلك كانوا إذا أمطروا قالوا: أمطرنا بنوء كذا وكذا فأنزل الله تعالى - وتجعلون - شكركم أنكم إذا مطرتم تكذبون - ومعنى جعل شكرهم التكذيب جعل التكذيب مكان الشكر فكأنه عينه عندهم فهو من باب: تحية بينهم ضرب وجيع
ومنه قول الراجز: وكان شكر القوم عند المنن * (كي الصحيحات وفقء الأعين)
وأكثر الروايات أن قوله تعالى: * (وتجعلون) * الخ نزل في القائلين: مطرنا بنوء كذا من غير تعرض لما قبل.
وأخرج مسلم. وابن المنذر. وابن مردويه عن ابن عباس قال: " مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر قالوا: هذه رحمة وضعها الله وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا فنزلت هذه الآية * (فلا أقسم بمواقع النجوم) * حتى بلغ * (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) * (الواقعة: 75 - 82).
وأخرج نحوه ابن عساكر في تاريخه عن عائشة رضي الله تعالى عنها وكان ذلك على ما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي عروة رضي الله تعالى عنه في غزوة تبوك نزلوا الحجر فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن لا يحملوا من مائه شيئا ثم ارتحلوا ونزلوا منزلا آخر وليس معهم ماء فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عليه الصلاة والسلام فصلى ركعتين ثم دعا فأمطروا وسقوا فقال رجل من الأنصار يتهم بالنفاق: إنما مطرنا بنوء كذا فنزل ما نزل، ولعل جمعا من الكفار قالوا نحو ذلك أيضا بل هم لم يزالوا يقولون ذلك، والأخبار متضافرة على أن الآية في القائلين بالأنواء، بل قال ابن عطية: أجمع المفسرون على أنها توبيخ لأولئك، وظاهر مقابلة الشكر بالكفر في الحديث السابق أن المراد بالكفر كفران النعمة إذا أضيفت لغير موجدها جل جلاله؛
156

وقد صح ذكره مع الإيمان، أخرج البخاري. ومسلم. وأبو داود. والنسائي. وغيرهم عن زيد بن خالد الجهني قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل فلما سلم أقبل علينا فقال: هل تدرون ما قال ربكم في هذه الليلة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم فقال: قال: ما أنعمت على عبادي نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين فأما من آمن بي وحمدني على سقياي فذلك الذي آمن بي وكفر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك الذي آمن بالكوكب وكفر بي " والآية على القول بنزولها في قائلين ذلك ظاهرة في كفرهم المقابل للإيمان فكأنهم كانوا يقولونه عن اعتقاد أن الكواكب مؤثرة حقيقة موجدة للمطر وهو كفر بلا ريب بخلاف قوله مع اعتقاد أنه من فضل الله تعالى، والنوء ميقات وعلامة له فإنه ليس بكفر، وقيل: تسميته كفرا لأنه يفضي إليه إذا اعتقد أنه مؤثر حقيقة.
هذا وقيل: معنى الآية - وتجعلون شكركم - لنعمة القرآن - أنكم تكذبون - به، ويشير إلى ذلك ما رواه قتادة عن الحسن بئس ما أخذ القوم لأنفسهم لم يرزقوا من كتاب الله تعالى إلا التكذيب.
وفي " الإرشاد " أنه الأوفق لسياق النظم الكريم وسباقه، وأقول ما قدمناه تفسير مأثور نطقت به السنة المقبولة، وذهب إليه الجمهور وليس فيه ما يأبى إرادة معنى مطابق لسبب النزول وموافق لسياق النظم الكريم وسباقه، وذلك بأن يقال: إنه عز وجل بعد أن وصف القرآن بما دل على جلالة شأنه وعزة مكانه وأشعر باشتماله على ما فيه تزكية النفوس وتحليتها بما يوجب كمالها من العقائد الحقة ونحوها حيث قال سبحانه: * (تنزيل من رب العالمين) * (الواقعة: 80) فعبر جل وعلا عن ذاته سبحانه بلفظ الرب الدال على التربية وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا.
وقد يستفاد ذلك من وصفه بكريم بناءا على أن المراد به نفاع جم المنافع فإنه لا منفعة أجل مما ذكر وكان قد ذكر عز وجل غير بعيد ما يدل على أنه تعالى هو المنزل لماء المطر لا غيره سبحانه استقلالا ولا اشتراكا قال عز قائلا: أفبهذا القرآن الجليل الشأن المشتمل على العقائد الحقة المرشد إلى ما فيه نفعكم أنتم متهاونون فلا تشكرون الله تعالى عليه وتجعلون بدل شكركم أنكم تكذبون به، ومن ذلك أنكم تقولون إذا مطرتم مطرنا بنوء كذا وكذا فتسندون إنزال المطر إلى الكواكب وقد أرشدكم غير مرة إلى ما يأبى ذلك من العقائد وهداكم إلى أنه تعالى هو المنزل للمطر لا الكواكب ولا غيرها أصلا - فما جاء من تفسير تكذبون بتقولون مطرنا بنوء كذا وكذا ليس المراد منه إلا بيان نوع اقتضاه الحال من التكذيب بالقرآن المنعوت بتلك النعوت الجليلة وكون ذلك على الوجه الذي يزعمه الكفار تكذيبا به مما لا ينتطح فيه كبشان، وهذا لا تمحل فيه، وقد يقال على تقدير أن يراد بالرزق المطر وكون * (تكذبون) * على معنى تكذبون بكونه - أي المطر - من الله تعالى حيث تنسبونه إلى الأنواء وإن لم أقف على التصريح به في أثر يعول عليه، المعنى أفبهذا القرآن الجليل المرشد إلى أن كل نعمة منه تعالى لا غير المصرح عن قريب بأنه المنزل للمطر وحده أنتم مدهنون أي تكذبون على ما سمعت عن ابن عباس. والزجاج ومن ذلك أنكم * (تجعلون) * موضع شكر ما يرزقكم من المطر وينزله لكم أنكم تكذبون بكونه من الله تعالى وتنسبونه إلى الأنواء، والتبكيت الآتي مبني على تكذيبهم بالقرآن المفهوم من * (تكذبون) * أو من قوله سبحانه: * (أنتم مدهنون) * لكن التكذيب به باعتبار التكذيب ببعض ما نطق به بما سبق وتوقف المراد بالآية على الخبر غير بدع في القرآن الكريم، وحال عطف * (تجعلون رزقكم أنكم تكذبون) * (الواقعة: 82) على ما قبله لا يخفى على نبيه، فتأمل والله تعالى الموفق لفهم كتابه الكريم.
157

وقرأ المفضل عن عاصم * (تكذنون) * بالتخفيف من الكذب وهو قولهم في القرآن إنه - وحاشاه - افتراء ويرجع إلى هذا قولهم في المطر: إنه من الأنواء لأن القرآن ناطق بخلافه، وقوله تعالى:
* (فلولا إذا بلغت الحلقوم) *.
* (فلولا إذا بلغت الحلقوم) * الخ تبكيت كما سمعت وذلك باعتبار تكذيبهم بما نطق به قوله تعالى: * (نحن خلقناكم) * الخ أعني الآيات الدالة على كونهم تحت ملكوته تعالى من حيث ذواتهم ومن حيث طعامهم وشرابهم وسائر أسباب معايشهم - ولولا - للتحضيض بإظهار عجزهم، و * (إذا) * ظرفية، و * (الحلقوم) * مجرى الطعام؛ وضمير * (بلغت) * للنفس لانفهامها من الكلام وإن لم يجر لها ذكر قبل، والمراد بها الروح بمعنى البخار المنبعث عن القلب دون النفس الناطقة فإنها لا توصف بما ذكر وكأنه مبني على القول بتجرد النفس الناطقة وهي المسماة بالروح الأمرية، وأنها لا داخل البدن ولا خارجه ولا تتصف بصفات الأجسام كالصعود والنزول وغيرهما على ما اختاره حجة الإسلام الغزالي وجماعة من المحققين، ومذهب السلف أن النفس الناطقة وهي الروح المشار إليها بقوله تعالى: * (يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) * (الإسراء: 85) جسم لطيف جدا سار في البدن سريان ماء الورد في الورد وهو حي بنفسه يتصف بالخروج والدخول وغيرهما من صفات الأجسام، وقد رد العلامة ابن القيم قول الغزالي ومن وافقه بأدلة كثيرة ذكرها في كتابه الروح، ووصفها ببلوغ الحلقوم عليه ظاهر.
وأما على القول بالتجرد وعدم التحيز فقيل: المراد به ضعف التعلق بالبدن وقرب انقطاعه عنه فكأنه قيل: فلولا إذا حان انقطاع تعلق الروح بالبدن.
* (وأنتم حينئذ تنظرون) *.
* (وأنتم) * أيها الحاضرون حول صاحبها * (حينئذ) * أي حين إذ بلغت الحلقوم ووصلت إليه أو حان انقطاع تعلقها * (تنظرون) * إلى ما يقاسيه من الغمرات، وقيل: * (تنظرون) * حالكم ووجهه أنهم يعلمون أن ما جرى عليه يجري عليهم فكأنهم شاهدوا حال أنفسهم وليس بذاك.
وقرأ عيسى حينئذ بكسر النون اتباعا لحركة الهمزة في إذ.
* (ونحن أقرب إليه منكم ول‍اكن لا تبصرون) *.
* (ونحن أقرب إليه) * أي المحتضر المفهوم من الكلام * (منكم) * والمراد بالقرب العلم وهو من إطلاق السبب وإرادة المسبب فإن القرب أقوى سبب للاطلاع والعلم، وقال غير واحد: المراد القرب علما وقدرة أي نحن أقرب إليه في كل ذلك منكم حيث لا تعرفون من حاله إلا ما تشاهدونه من آثار الشدة من غير أن تقفوا على كنهها وكيفيتها وأسبابها الحقيقية ولا أن تقدروا على مباشرة دفعها إلا بما لا ينجع شيئا ونحن المستولون لتفاصيل أحواله بعلمنا وقدرتنا أو بملائكة الموت * (ول‍اكن لا تبصرون) * لا تدركون كوننا أقرب إليه منكم لجهلكم بشؤوننا وقد علمت أن الخطاب للكفار، وقيل: لا تدركون كنه ما يجري عليه على أن الاستدراك من تنظرون؛ والإبصار من البصر بالعين تجوز به عن الإدراك أو هو من البصيرة بالقلب، وقيل: أريد بأقربيته تعالى إليه منهم أقربية رسله عز وجل أي ورسلنا الذين يقبضون روحه ويعالجون إخراجها أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرونهم.
* (فلولا إن كنتم غير مدينين) *.
* (فلولا إن كنتم غير مدينين) * أي غير مربوبين من دان السلطان الرعية إذا ساسهم وتعبدهم، ومنه قيل للعبد: مدين وللأمة مدينة قال الأخطل: ربت وربا في حجرها ابن " مدينة " * تراه على مسحاته يتركل
والكلام ناظر إلى قوله تعالى: * (نحن خلقناكم فلولا تصدقون) * (الواقعة: 57)، وقيل: هو من دان بمعنى انقاد وخضع، وتجوز به عن الجزاء كما في قولهم - كما تدين تدان - أي فلولا إن كنتم غير مجزيين وجعل ناظرا لإنكارهم البعث وليس بشيء
* (ترجعونهآ إن كنتم ص‍ادقين) *.
* (ترجعونها) * أي الروح إلى مقرها والقائلون بالتجرد يقولون أي ترجعون تعلقها كما كان أولا.
158

* (إن كنتم ص‍ادقين) * في اعتقادكم عدم خالقيته تعالى فإن عدم تصديقهم بخالقيته سبحانه لهم عبارة عن تصديقهم بعدمها على مذهبهم، وفي " البحر " وغيره إن كنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي والمميت المبدىء المعيد ونسبتكم إنزال المطر إلى الأنواء دونه عز وجل، وترجعون المذكور هو العامل - بإذا - الظرفية في * (إذا بلغت الحلقوم) * وهو المحضض عليه - بلولا - الأولى، و * (لولا) * الثانية تكرير للتأكيد، و * (لولا) * الأولى مع ما في حيزها دليل جواب الشرط الأول أعني * (إن كنتم غير مدينين) * والشرط الثاني مؤكد للأول مبين له، وقدم أحد الشرطين على * (ترجعونها) * للاهتمام والتقدير - فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مربوبين صادقين فيما تزعمونه من الاعتقاد الباطل فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم - وحاصل المعنى أنكم إن كنتم غير مربوبين كما تقتضيه أقوالكم وأفعالكم فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن إذا بلغت الحلقوم وتردونها كما كانت بقدرتكم أو بواسطة علاج للطبيعة، وقوله تعالى: * (وأنتم حينئذ تنظرون) * جملة حالية من فاعل * (بلغت) * والاسمية المقترنة بالواو لا تحتاج في الربط للضمير لكفاية الواو فلا حاجة إلى القول بأن العائد ما تضمنه حينئذ لأن التنوين عوض عن جملة أي فلولا ترجعونها زمان بلوغها الحلقوم حال نظركم إليه وما يقاسيه من هول النزع مع تعطفكم عليه وتوفركم على إنجائه من المهالك، وقوله سبحانه: * (ونحن أقرب) * الخ اعتراض يؤكد ما سيق له الكلام من توبيخهم على صدور ما يدل على سوء اعتقادهم بربهم سبحانه منهم، وفي جواز جعله حالا مقال.
وقال أبو البقاء: * (ترجعونها) * جواب * (لولا) * الأولى، وأغني ذلك عن جواب الثانية، وقيل: عكس ذلك.
وقيل: * (إن كنتم) * شرط دخل على شرط فيكون الثاني مقدما في التقدير - أي إن كنتم صادقين إن كنتم غير مربوبين فارجعوا الأرواح إلى الأبدان - وما ذكرناه سابقا اختيار جار الله وأيا ما كان فقوله تعالى:
* (فأمآ إن كان من المقربين) *.
* (فأما إن كان من المقربين) * إلى آخره شروع في بيان حال المتوفى بعد الممات إثر بيان حاله عند الوفاة وضمير * (كان) * للمتوفى المفهوم مما مر أي فأما إن كان المتوفى الذي بين حاله من السابقين من الأزواج الثلاثة عبر عنهم بأجل أوصافهم.
* (فروح وريحان وجن‍ات نعيم) *.
* (فروح) * أي فله روح على أنه مبتدأ خبره محذوف مقدم عليه لأنه نكرة، وقيل: خبر مبتدأ محذوف أي فجزاؤه روح أي استراحة، والفاء واقعة في جواب أما، قال بعض الأجلة: تقدير هذا الكلام مهما يكن من شيء فروح الخ إن كان من المقربين فحذف مهما يكن من شيء، وأقيم أما مقامه ولم يحسن أن يلي الفاء أما، فأوقع الفصل بين أما والفاء بقوله سبحانه: * (إن كان من المقربين) * لتحسين اللفظ كما يقع الفصل بينهما بالظرف والمفعول، والفاء في * (فروح) * وأخويه جواب أما دون * (إن) *، وقال أبو البقاء: جواب أما * (فروح) *، وأما * (إن) * فاستغنى بجواب أما عن جوابها لأنه يحذف كثيرا، وفي " البحر " أنه إذا اجتمع شرطان فالجواب للسابق منهما، وجواب الثاني محذوف، فالجواب ههنا لأما، وهذا مذهب سيبويه.
وذهب الفارسي إلى أن المذكور جواب * (إن) * وجواب أما محذوف، وله قول آخر موافق لمذهب سيبويه.
وذهب الأخفش إلى أن المذكور جواب لهما معا، وقد أبطلنا المذهبين في شرح التسهيل انتهى، والمشهور أنه لا بد من لصوق الاسم - لأما - وهو عند الرضي وجماعة أكثري لهذه الآية، والذاهبون إلى الأول قالوا: هي بتقدير فأما المتوفى * (إن كان) * وتعقب بأنه لا يخفى أن التقدير مستغنى عنه ولا دليل عليه إلا اطراد الحكم، ثم إن كون - أما - قائمة مقام مهما يكن أغلبي إذ لا يطرد في نحو أما قريشا فأنا أفضلها إذ التقدير مهما ذكرت قريشا
159

فأنا أفضلها، وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من كتب العربية.
وأخرج الإمام أحمد. والبخاري في تاريخه. وأبو داود. والنسائي. والترمذي وحسنه. والحاكم وصححه. وآخرون عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ * (فروح) * بضم الراء، وبه قرأ ابن عباس. وقتادة. ونوح القارىء. والضحاك. والأشهب. وشعيب. وسليمان التيمي. والربيع بن خيثم. ومحمد بن علي. وأبو عمران الجوني. والكلبي. وفياض. وعبيد. وعبد الوارث عن أبي عمرو. ويعقوب بن حسان. وزيد. ورويس عنه. والحسن وقال: * (الروح) * الرحمة لأنها كالحياة للمرحوم، أو سبب لحياته الدائمة فإطلاقه عليها من باب الاستعارة أو المجاز المرسل، وروي هذا عن قتادة أيضا، وقال ابن جني: معنى هذه القراءة يرجع إلى معنى الروح فكأنه قيل: فله ممسك روح وممسكها هو الروح كما تقول: الهواء هو الحياة وهذا السماع هو العيش، وفسر بعضهم الروح بالفتح الرحمة أيضا كما في قوله تعالى: * (ولا تيأسوا من روح الله) * (يوسف: 87) وقيل: هو بالضم البقاء * (وريحان) * أي ورزق كما روي عن ابن عباس. ومجاهد. والضحاك، وفي رواية أخرى عن الضحاك أنه الاستراحة، وأخرج عبد بن حميد عن الحسن أنه قال: هو هذا الريحان أي المعروف.
وأخرج ابن جرير عنه أنه قال: تخرج روح المؤمن من جسده في ريحانة؛ ثم قرأ * (فأما إن كان) * الخ.
وأخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: لم يكن أحد من المقربين يفارق الدنيا حتى يؤتى بغصنين من ريحان الجنة فيشمهما ثم يقبض * (وجنت نعيم) * أي ذات تنعم فالإضافة لامية أولادنى ملابسة، وهذا إشارة إلى مكان المقربين بحيث يلزم منه أن يكونوا أصحاب نعيم.
وأخرج الإمام أحمد في الزهد. وابن أبي شيبة. وعبد بن حميد. وابن المنذر عن الربيع بن خيثم قال في قوله تعالى: * (فأما إن كان من المقربين * فروح وريحان) *: هذا له عند الموت، وفي قوله تعالى: * (وجنة نعيم) * تخبأ له الجنة إلى يوم يبعث ولينظر ما المراد بالريحان على هذا، وعن بعض السلف ما يقتضي أن يكون الكل في الآخرة.
* (وأمآ إن كان من أصح‍اباليمين) *.
* (وأما إن كان من أصح‍اباليمين) * عبر عنهم بالعنوان السابق إذ لم يذكر لهم فيما سبق وصف ينبىء عن شأنهم سواه كما ذكر للفريقين الأخيرين، وقوله تعالى:
* (فسل‍ام لك من أصح‍اباليمين) *.
* (فسل‍ام لك من أصح‍اباليمين) * قيل: هو على تقدير القول أي فيقال لذلك المتوفى منهم سلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين أي يسلمون عليك كقوله تعالى: * (لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما * إلا قيلا سلاما سلاما) * (الواقعة: 25، 26) فالخطاب لصاحب اليمين ولا التفات فيه مع تقدير القول، و * (من) * للابتداء كما تقول سلام من فلان على فلان وسلام لفلان منه.
وقال الطبري: معناه فسلام لك أنت من أصحاب اليمين، فمن أصحاب اليمين خبر مبتدأ محذوف والكلام بتقدير القول أيضا، وكأن هذا التفسير مأخوذ من كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
أخرج ابن جرير. وابن المنذر عنه أنه قال في ذلك: تأتيه الملائكة من قبل الله تعالى تسلم عليه وتخبره أنه من أصحاب اليمين، والظاهر أن هذا على هذا المعنى عند الموت، وأنه على المعنى السابق في الجنة. وجوز أن يكون المعنى فسلامة لك عما يشغل القلب من جهتهم فإنهم في خير أي كن فارغ البال عنهم لا يهمك أمرهم، وهذا
كما تقول لمن علق قلبه بولده الغائب وتشوش فكره لا يدري ما حاله كن فارغ البال من ولدك فإنه في راحة ودعة، والخطاب لمن يصلح له أو لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم، وعليه قيل: يجوز أن يكون
160

ذلك تسلية له عليه الصلاة والسلام على معنى أنهم غير محتاجين إلى شفاعة وغيرها، ولا يخفى أن كون جميع أصحاب اليمين غير محتاجين إلى ما ذكر غير مسلم فالشفاعة لأهل الكبائر أمر ثابت عند أهل السنة ولا جائز أن يكونوا من أصحاب الشمال فصرائح الآيات أنهم كفار * (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) * (غافر: 18) وكونهم من أصحاب اليمين أقرب من كونهم من السابقين وجعلهم قسما على حدة قد علمت حاله فتذكر فما في العهد من قدم.
وذكر بعض الأجلة أن هذه الجملة كلام يفيد عظمة حالهم كما يقال فلان ناهيك به وحسبك أنه فلان إشارة إلى أنه ممدوح فوق حد التفصيل، وكأني بك تختار ذلك فإنه حسن لطيف.
* (وأمآ إن كان من المكذبين الضآلين) *.
* (وأما إن كان من المكذبين الض الين) * وهم أصحاب الشمال عبر عنهم بذلك حسبما وصفوا به عند بيان أحوالهم بقوله تعالى: * (ثم إنكم أيها الضالون المكذبون) * (الواقعة: 51) ذما لهم بذلك وإشعارا بسبب ما ابتلوا به من العذاب، ولما وقع هذا الكلام بعد تحقق تكذيبهم ورده على أتم وجه ولم يقع الكلام السابق كذلك قدم وصف التكذيب هنا على عكس ما تقدم، ويجوز أن يقال في ذلك على تقدير عموم متعلق التكذيب بحيث يشمل تكذيبه صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة إن هذا الكلام إخبار من جهته سبحانه بأحوال الأزواج الثلاثة لم يؤمر عليه الصلاة والسلام بأن يشافه بكل جملة منه من هي فيه فقدم فيه وصف التكذيب الشامل لتكذيبه عليه الصلاة والسلام المشعر بسبب الابتلاء بالعذاب كرامة له صلى الله عليه وسلم وتنويها بعلو شأنه، ولما كان الكلام السابق داخلا في حيز القول المأمور عليه الصلاة والسلام بأن يشافه به أولئك الكفرة لم يحسن التقديم للكرامة إذ يكون حينئذ من باب مادح نفسه يقرئك السلام، ويجوز أن يقال أيضا إن الكلام في حال
الكافر المحتضر والتكذيب لكونه مقابل التصديق لا يكون إلا بالقلب وهو لم يتعطل منه تعطل سائر أعضائه فلذا قدم هنا، ويرشد إلى هذا ما قالوه في دعاء صلاة الجنازة اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان من وجه تخصيص الإسلام بالإحياء والإيمان بالإماتة.
وقال الإمام في ذلك: إن المراد من الضلال هناك ما صدر عنهم من الإصرار على الحنث العظيم فضلوا عن سبيل الله تعالى ولم يصلوا إليه ثم كذبوا رسله، * (وقالوا أئذا متنا) * الخ فكذبوا بالحشر فقال تعالى: * (أيها الضالون) * الذين أشركتم المكذبون الذين أنكرتم الحشر لآكلون ما تكرهون، وأما هنا فقال سبحانه لهم: أيها المكذبون الذين كذبتم بالحشر الضالون من طريق الخلاص الذين لا يهتدون إلى النعيم، وفيه وجه آخر وهو أن الخطاب هناك مع الكفار فقال سبحانه: أيها الذين أشركتم أولا وكذبتم ثانيا، والخطاب هنا مع النبي صلى الله عليه وسلم يبين له عليه الصلاة والسلام حال الأزواج الثلاثة كما يدل عليه. فسلام لك فقال سبحانه: المقربون في روح وريحان وجنة ونعيم وأصحاب اليمين في سلامة، وأما المكذبون الذين كذبوك وضلوا فقدم تكذيبهم إشارة إلى كرامته صلى الله عليه وسلم حيث بين أن أقوى سبب في عقابهم تكذيبهم انتهى.
وعليك بالتأمل والإنصاف والنظر لما قال دون النظر لمن قال، وقوله تعالى:
* (فنزل من حميم) *.
* (فنزل) * بتقدير فله نزل أو فجزاؤه نزل كائن * (من حميم) * قيل: يشرب بعد أكل الزقوم كما فصل فيما قبل.
* (وتصلية جحيم) *.
* (وتصلية جحيم) * أي إدخال في النار، وقيل: إقامة فيها ومقاساة لألوان عذابها وكل ذلك مبني على أن المراد بيان ما لهم يوم القيامة، وقيل: هذا محمول على ما يجده في القبر من حرارة النار ودخانها لأن الكلام في حال التوفي وعقب قبض الأرواح والأنسب بذلك كون ما ذكر في البرزخ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية: لا يخرج
161

الكافر حتى يشرب كأسا من حميم، وقرأ أحمد بن موسى. والمنقري. واللؤلؤي عن أبي عمرو * (وتصلية) * بالجر عطفا على * (حميم) *.
* (إن ه‍اذا لهو حق اليقين) *.
* (إن ه‍اذا) * أي الذي ذكر في السورة الكريمة كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس * (لهو حق اليقين) * اليقين على ما يفهم من كلام الزمخشري في الجاثية اسم للعلم الذي زال عنه اللبس وبذلك صرح صاحب المطلع وذكر أنه تفسير بحسب المعنى وهو مأخوذ من المقام وإلا فهو العلم المتيقن مطلقا والإضافة بمعنى اللام والمعنى - لهو عين اليقين - فهو على نحو عين الشيء ونفسه ولا يخفى أن الإضافة من إضافة العام إلى الخاص وكونها بمعنى اللام قول لبعضهم، وقال بعض آخر: إنها بيانية على معنى من، وقدر بعضهم هنا موصوفا أي لهو حق الخبر اليقين وكونه لا يناسب المقام غير متوجه، وفي " البحر " قيل: إن الإضافة من إضافة المترادفين على سبيل المبالغة كما تقول هذا يقين اليقين وصواب الصواب بمعنى أنه نهاية في ذلك فهما بمعنى أضيف أحدهما إلى الآخر للمبالغة وفيه نظر، والفاء في قوله تعالى:
* (فسبح باسم ربك العظيم) *.
* (فسبح باسم ربك العظيم) * لترتيب التسبيح أو الأمر به، فإن حقية ما فصل في تضاعيف السورة الكريمة مما يوجب التسبيح عما لا يليق مما ينسبه الكفرة إليه سبحانه قالا أو حالا تعالى عن ذلك علوا كبيرا وأخرج الإمام أحمد. وأبو داود. وابن ماجه. وابن حبان. والحاكم وصححه. وغيرهم عن عقبة بن عامر الجهني قال:
" لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبح باسم ربك العظيم قال: اجعلوها في ركوعكم ولما نزلت سبح اسم ربك الأعلى قال: اجعلوها في سجودكم ".
ومما قاله السادة أرباب الإشارة: متعلقا ببعض هذه السورة الكريمة أن * (الواقعة) * اسم لقيامة الروح كما أن * (الآزفة) * اسم لقيامة الخفي، و * (الحاقة) * اسم لقيامة السر، و * (الساعة) * اسم لقيامة القلب، وقالوا: إن الواقعة إذا وقعت ترفع صاحبها طورا وتخفضه طورا وتشعل نيران الغيرة وتفجر أنهار المعرفة وتحصل للسالك إذا اشتغل بالسلوك والتصفية ووصل ذكره إلى الروح وهي في البداية مثل ستر أسود يجىء من فوق الرأس عند غلبة الذكر وكلما زاد في النزول يقع على الذاكر هيبة وسكينة وربما يغمى عليه في البداية ويشاهد إذا وقع على عينيه عوالم الغيب فيرى ما شاء الله تعالى أن يرى وتكشف له العلوم الروحانية ويرى عجائب وغرائب لا تحصى، وإذا أفاق فليعرض ما حصل له لمسلكه ليرشده إلى ما فيه مصلحة وقته ويعبر له ما هو مناسب لحوصلته ويقوي قلبه ويأمره بالذكر والتوجه الكلي حتى يكمل بصفو سر الواقعة فيكون سرا منورا فربما يصير السالك بحيث إذا فتح عينيه بعد نزولها في عالم الشهادة يشاهد ما كان مشاهدا له فيها وهي حالة سنية معتبرة عند أرباب السلوك - فليس لوقعتها كاذبة - بل هي صادقة لأن الشيطان يفر عندها والنفس لا تقدر أن تلبس على صاحبها وهي اليقظة الحقيقية وما يعده الناس يقظة هو النوم كما يشير إليه قول أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، ثم أنهم تكلموا على أكثر ما في السورة الجليلة بما يتعلق بالأنفس، وقالوا في مواقع النجوم: إنها إشارة إلى اللطائف المطهرة لأنها مواقع نجوم الواردات القدسية الخفية من السماء الجبروتية اللاهوتية، وقيل: في قوله تعالى: * (لا يمسه إلا المطهرون) * (الواقعة: 79) إن فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي لمن لم يكن طاهر النفس من حدث الميل إلى صغائر الشهوات - وهو الحدث الأصغر - ومن حدث الميل إلى كبائر الشهوات - وهو الحدث الأكبر - أن يمس بيد نفسه وفكره معاني القرآن الكريم كما لا ينبغي لمن لم يكن طاهر البدن من الحدثين المعروفين في البدن أن يمس بيد بدنه وجسده ألفاظه المكتوبة، وقيل: أيضا يجوز أن يقال المعنى
162

لا يصل إلى أدنى حقائق أسرار القرآن الكريم إلا المطهرون من أرجاس الشهوات وأنجاس المخالفات.
وإذا كانت هذه الجملة صفة للكتاب المكنون المراد منه اللوح المحفوظ وأريد بالمطهرين الملائكة عليهم السلام، وكان المعنى لا يطلع عليه إلا الملائكة عليهم السلام كان في ذلك رد على من يزعم أن الأولياء يرون اللوح المحفوظ ويطلعون على ما فيه، وحمل المطهرين على ما يعم الملائكة والأولياء الذين طهرت نفوسهم وقدست ذواتهم حتى التحقوا بالملائكة عليهم السلام لا ينفع في البحث مع أهل الشرع فإن مدار استدلالاتهم على الأحكام الشرعية الظواهر على أنه لم يسمع عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو هو أنه نظر يوما وهو بين أصحابه إلى اللوح المحفوظ واطلع على شيء مما فيه، وقال لهم: إني رأيت اللوح المحفوظ واطلعت على كذا وكذا فيه، وكذلك لم يسمع عن أجلة أصحابه الخلفاء الراشدين أنه وقع لهم ذلك، وقد وقعت بينهم مسائل اختلفوا فيها وطال نزاعهم في تحقيقها إلى أن كاد يغم هلال الحق فيها ولم يراجع أحد منهم لكشفها اللوح المحفوظ.
وذكر بعض العلماء أن سدرة المنتهى ينتهي علم من تحتها إليها وأن اللوح فوقها بكثير، وبكل من ذلك نطقت الآثار، وهو يشعر بعدم اطلاع الأولياء على اللوح، ومع هذا كله من ادعى وقوع الاطلاع فعليه البيان وأنى به، وهذا الذي سمعت مبني على ما نطقت به الأخبار في صفة اللوح المحفوظ وأنه جسم كتب فيه ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، وأما إذا قيل فيه غير ذلك انجر البحث إلى وراء ما سمعت، واتسعت الدائرة.
ومن ذلك قولهم: إن الألواح أربعة، لوح القضاء السابق على المحو والإثبات وهو لوح العقل الأول، ولوح القدر أي لوح النفس الناطقة الكلية التي يفصل فيها كليات اللوح الأول وهو المسمى باللوح المحفوظ، ولوح النفس الجزئية السماوية التي ينتقش فيها كل ما في هذا العالم شكله وهيئته ومقداره - وهو المسمى بالسماء الدنيا - وهو بمثابة خيال العالم كما أن الأول بمثابة روحه، والثاني بمثابة قلبه، ولوح الهيولى القابل للصورة في عالم الشهادة ويقولون أيضا ما يقولون وينشد المنتصر له قوله: وإذا لم تر الهلال فسلم * لأناس رأوه بالأبصار
هذا ولا تظنن أن نفي رؤيتهم للوح المحفوظ نفي لكراماتهم الكشفية وإلهاماتهم الغيبية معاذ الله تعالى من ذلك، وطرق اطلاع الله تعالى من شاء من أوليائه على من شاء من علمه غير منحصر بإراءته اللوح المحفوظ ثم إن الإمكان مما لا نزاع فيه وليس الكلام إلا في الوقوع، وورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وأجلة أصحابه كالصديق. والفاروق. وذي النورين. وباب مدينة العلم. والنقطة التي تحت الباء رضي الله تعالى عنهم أجمعين، والله تعالى أعلم.
وقالوا في قوله تعالى: * (ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون) * (الواقعة: 85) ما بنوه على القول بوحدة الوجود والكلام فيها شائع - وقد أشرنا إليه في هذا الكتاب غير مرة - ولهم في اليقين. وعين اليقين. وحق اليقين عبارات شتى، منها اليقين رؤية العيان بقوة الإيمان لا بالحجة والبرهان، وقيل: مشاهدة الغيوب بصفاء القلوب وملاحظة الاسرار بمحافظة الأفكار، وقيل: طمأنينة القلب على حقيقة الشيء من يقن الماء في الحوض إذا استقر، وحق اليقين فناء العبد في الحق والبقاء به علما وشهودا وحالا لا علما فقط فعلم كل عاقل الموت علم اليقين فإذا عاين الملائكة فهو عين اليقين، وإذا ذاق الموت فهو حق اليقين، وقيل: علم اليقين ظاهر الشريعة، وعين اليقين الإخلاص فيها، وحق اليقين المشاهدة فيها، * (وقيل: وقيل:) * ونحن نسأل الله تعالى الهداية إلى أقوم سبيل، وأن يشرح صدورنا بأنوار علوم كتابه الكريم الجليل. وهو سبحانه حسبنا في الدارين ونعم الوكيل.
سورة الحديد
163

أخرج جماعة عن ابن عباس أنها نزلت بالمدينة، وقال النقاش. وغيره: هي مدينة بإجماع المفسرين ولم يسلم له، فقد قال قوم: إنها مكية، نعم الجمهور - كما قال ابن الفرس - على ذلك.
وقال ابن عطية: لا خلاف أن فيها قرآنا مدنيا لكن يشبه أن يكون صدرها مكيا، ويشهد لهذا ما أخرجه البزار في مسنده. والطبراني. وابن مردويه. وأبو نعيم في " الحلية ". والبيهقي. وابن عساكر عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه دخل على أخته قبل أن يسلم فإذا صحيفة فيها أول سورة الحديد فقرأه حتى بلغ * (آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) * (الحديد: 7) فأسلم، ويشهد لمكية آيات أخر ما أخرج مسلم. والنسائي. وابن ماجه. وغيرهم عن ابن مسعود ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله تعالى بهذه الآية * (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله) * إلا أربع سنين، وأخرج الطبراني. والحاكم وصححه وغيرهما عن عبد الله بن الزبير أن ابن مسعود أخبره أنه لم يكن بين إسلامهم وبين أن نزلت هذه الآية يعاتبهم الله تعالى بها إلا أربع سنين * (ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل) * (الحديد: 16) الآية لكن سيأتي إن شاء الله تعالى آثار تدل على مدنية ما ذكر ولعلها لا تصلح للمعارضة.
ونزلت يوم الثلاثاء على ما أخرج الديلمي عن جابر مرفوعا لا تحتجموا يوم الثلاثاء فإن سورة الحديد أنزلت علي يوم الثلاثاء، وفيه أيضا خبر رواه الطبراني. وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما بسند ضعيف، وهي تسع وعشرون آية في العراقي، وثمان وعشرون في غيره، ووجه اتصالها - بالواقعة - أنها بدئت بذكر التسبيح وتلك ختمت بالأمر به، وكان أو لها واقعا موقع العلة للأمر به فكأنه قيل: * (سبح باسم ربك العظيم) * (الحاقة: 52) لأنه سبح له ما في السموات والأرض، وجاء في فضلها مع أخواتها ما أخرجه الإمام أحمد. وأبو داود. والترمذي وحسنه. والنسائي. وابن مردويه. والبيهقي في " شعب الإيمان " عن عرباض بن سارية " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد، وقال: إن فيهن آية أفضل من ألف آية " وأخرج ابن الضريس نحوه عن يحيى بن أبي كثير ثم قال: قال يحيى: نراها الآية التي في آخر الحشر.
* (سبح لله ما فى السم‍اوات والارض وهو العزيز الحكيم) *.
* (سبح لله ما في السم‍اوات والأرض) * التسبيح على المشهور تنزيه الله تعالى اعتقادا وقولا وعملا عما لا يليق بجنابه سبحانه من سبح في الأرض والماء إذا ذهب وأبعد فيهما، وحيث أسند ههنا إلى غير العقلاء أيضا فإن ما في السماوات والأرض يعم جميع ما فيهما سواء كان مستقرا فيهما أو جزءا منهما بل المراد بما فيهما الموجودات فيكون أظهر في تناول السماوات والأرض ويتناول أيضا الموجودات المجردة عند القائل بها، قال الجمهور: المراد به معنى عام مجازي شامل لما نطق به لسان المقال كتسبيح الملائكة والمؤمنين من الثقلين، ولسان الحال كتسبيح غيرهم فإن كل فرد من أفراد الموجودات يدل بإمكانه وحدوثه على الصانع القديم الواجب الوجود المتصف بكل كمال المنزه عن كل نقص، وذهب بعض إلى أن التسبيح على حقيقته المعروفة في الجميع وهو مبني على ثبوت النفوس الناطقة والإدراك لسائر الحيوانات والجمادات على ما يليق بكل، وقد صرح به جمع من الصوفية فتسبيح كل شيء عندهم قالي وإن تفاوت الأمر، وقيل: معنى سبح حمل رائيه العاقل على قول سبحان الله تعالى ونبهه عليه وهو كما ترى، ومن يجوز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه معا لا يحتاج إلى
164

عموم المجاز، وجوز الطبرسي كون * (ما) * للعالم فقط مثلها في قول أهل الحجاز كما حكى أبو زيد عند سماع الرعد - سبحان * (ما) * سبحت له - ولا يخفى أن عمومها العالم وغيره أولى، والظاهر أنها في الوجهين موصولة، وقال بعضهم: إنها نكرة موصوفة وأن أصل الكلام ما في السماوات وما في الأرض ثم حذفت * (ما) * الثانية وأقيمت صفتها مقامها، ولا يحسن أن تكون موصولة لأن الصلة لا تقوم مقام الموصول عند البصريين وتقوم الصفة مقام الموصوف عند الجميع، والحمل على المتفق عليه أولى من الحمل على المختلف فيه وكون المذكورة موصولة والمحذوفة نكرة موصوفة مما لا وجه له انتهى.
وأنت تعلم أن حذف الموصول الصريح في مثل ذلك أكثر من أن يحصى وجىء باللام مع أن التسبيح متعد بنفسه كما في قوله تعالى: * (وتسبحوه) * للتأكيد فهي مزيدة لذلك كما في نصحت له وشكرت له، وقيل: للتعليل والفعل منزل منزلة اللازم أي فعل التسبيح وأوقعه لأجل الله تعالى وخالصا لوجهه سبحانه، وفيه شيء لا يخفى، وعبر بالماضي هنا وفي بعض الأخوات وبالمضارع في البعض الآخر إيذانا بتحقق التسبيح في جميع الأوقات، وفي كل دلالة على أن من شأن ما أسند إليه التسبيح أن يسبحه وذلك هجيراه وديدنه، أما دلالة المضارع عليه فللدلالة على الاستمرار إلى زمان الأخبار وكذلك فيما يأتي من الزمان لعموم المعنى المقتضى للتسبيح وصلوح اللفظ لذلك حيث جرد عن الدلالة على الزمان وأوثر على الاسم دلالة على تجدد تسبيح غب تسبيح، وأما دلالة الماضي فللتجرد عن الزمان أيضا مع التحقيق الذي هو مقتضاه فيشمل الماضي من الزمان ومستقبله كذلك، وقيل: الإيذان والدلالة على الاستمرار مستفادان من مجموعي الماضي والمضارع حيث دل الماضي على الاستمرار إلى زمان الإخبار والمضارع على الاستمرار في الحال والاستقبال فشملا معا جميع الأزمنة، وقال الطيبي: افتتحت بعض السور بلفظ المصدر وبعض بالماضي وبعض بالمضارع وبعض بالأمر فاستوعب جميع جهات هذه الكلمة إعلاما بأن المكونات من لدن إخراجها من العدم إلى الوجود إلى الأبد مسبحة مقدسة لذاته سبحانه وتعالى قولا وفعلا طوعا وكرها * (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) * * (وهو العزيز) * القادر الغالب الذي لا ينازعه ولا يمانعه شيء * (الحكيم) * الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله مشعر بعلة الحكم، وكذا قوله تعالى:
* (له ملك السم‍اوات والارض يحى ويميت وهو على كل شىء قدير) *.
* (له ملك السم‍اوات والأرض) * أي التصرف الكلي فيهما وفيما فيهما من الموجودات من حيث الإيجاد والإعدام وسائر التصرفات، وقوله سبحانه: * (يحيي ويميت) * أي يفعل الإحياء والإماتة استئناف مبين لبعض أحكام الملك وإذا جعل خبر مبتدأ محذوف أي هو يحيي ويميت كانت تلك الجملة كذلك وجعله حالا من ضمير له يوهم تقييد اختصاص الملك بهذه الحال، وقوله تعالى: * (وهو على كل شيء) * من الأشياء التي منجملتها ما ذكر من الإحياء والإماتة * (قدير) * مبالغ في القدرة تذييل وتكميل لما قبله.
* (هو الاول والاخر والظ‍اهر والب‍اطن وهو بكل شىء عليم) *.
* (هو الأول) * السابق على جميع الموجودات فهو سبحانه موجود قبل كل شيء حتى الزمان لأنه جل وعلا الموجد والمحدث للموجودات * (والآخر) * الباقي بعد فنائها حقيقة أو نظرا إلى ذاتها مع قطع النظر عن مبقيها فإن جميع
165

الموجودات الممكنة إذا قطع النظر عن علتها فهي فانية.
ومن هنا قال ابن سينا: الممكن في حد ذاته ليس وهو عن علته أيس فلا ينافي هذا كون بعض الموجودات الممكنة لا تفنى كالجنة والنار ومن فيهما كما هو مقرر مبين بالآيات والأحاديث لأن فناءها في حد ذاتها أمر لا ينفك عنها، وقد يقال: فناء كل ممكن بالفعل ليس بمشاهد، والذي يدل عليه الدليل إنما هو إمكانه فالبعدية في مثله بحسب التصور والتقدير، وقيل: هو الأول الذي تبتدىء منه الأسباب إذ هو سبحانه مسببها * (والآخر) * الذي تنتهي إليه المسببات فالأولية ذاتية والآخرية بمعنى أنه تعالى إليه المرجع والمصير بقطع النظر عن البقاء الثابت بالأدلة، وقيل: الأول خارجا لأنه تعالى أوجد الأشياء فهو سبحانه متقدم عليها في نفس الأمر الخارجي والآخر ذهنا وبحسب التعلق لأنه عز شأنه يستدل عليه بالموجودات الدالة على الصانع القديم كما قيل: ما رأيت شيئا إلا رأيت الله تعالى بعده، وقال حجة الإسلام الغزالي: إن الأول يكون أولا بالإضافة إلى شيء، والآخر يكون آخرا بالإضافة إلى شيء، وهما متناقضان فلا يتصور أن يكون الشيء الواحد من وجه واحد بالإضافة إلى شيء واحد أولا وآخرا جميعا بل إذا نظرت إلى ترتيب الوجود ولاحظت سلسلة الموجودات المترتبة فالله تعالى بالإضافة إليها أول إذ كلها استفادات الوجود منه سبحانه وأما هو عز وجل فموجود بذاته وما استفاد الوجود من غيره سبحانه وتعالى عن ذلك، ومهما نظرت إلى ترتيب السلوك ولاحظت منازل السالكين فهو تعالى آخر إذ هو آخر ما ترتقي إليه درجات العارفين وكل معرفة تحصل قبل معرفته تعالى فهي مرقاة إلى معرفته جل وعلا، والمنزل الأقصى هو معرفة الله جل جلاله فهو سبحانه بالإضافة إلى السلوك آخر وبالإضافة إلى الوجود أول فمنه عز شأنه المبدأ أولا وإليه سبحانه والمرجع والمصير آخرا انتهى. والظاهر أن كونه تعالى أولا وآخرا بالنسبة إلى الموجودات أولى ولعل ما ذكره أوفق بمشرب القوم. * (والظ‍اهر) * أي بوجوده لأن كل الموجودات بظهوره تعالى ظاهر * (والباطن) * بكنهه سبحانه فلا تحوم حوله العقول، وقال حجة الإسلام: هذان الوصفان من المضافات فلا يكون الشيء ظاهرا لشيء وباطنا له من وجه واحد بل يكون ظاهرا من وجه بالإضافة إلى إدراك وباطنا من وجه آخر فإن الظهور والبطون إنما يكون بالإضافة إلى الإدراكات والله تعالى باطن إن طلب من إدراك الحواس وخزانة الخيال ظاهر إن طلب من خزانة العقل بالاستدلال والريب من شدة الظهور وكل ما جاوز الحد انعكس إلى الضد، وإلى تفسير الباطن بغير المدرك بالحواس ذهب الزمخشري، ثم قال: إن الواو الأولى لعطف المفرد على المفرد فتفيد أنه تعالى الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية والأخيرة أيضا كذلك فتفيد أنه تعالى الجامع بين الظهور والخفاء، وأما الوسطى فلعطف المركب على المركب فتفيد أنه جل وعلا الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين فهو تعالى المستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية وهو تعالى في جميعها ظاهر وباطن جامع للظهور بالأدلة والخفاء فلا يدرك بالحواس، وفي هذا حجة على من جوز إدراكه سبحانه في الآخرة بالحاسة أي وذلك لأنه تعالى ما من وقت يصح اتصافه بالأولية والآخرية إلا ويصح اتصافه بالظاهرية والباطنية معا، فإذا جوز إدراكه سبحانه بالحاسة في الآخرة فقد نفى كونه سبحانه باطنا وهو خلاف ما تدل عليه الآية، وأجاب عن ذلك صاحب الكشف فقال: إن تفسير الباطن بأنه غير مدرك بالحواس تفسير بحسب التشهي فإن بطونه تعالى عن إدراك العقول كبطونه عن إدراك الحواس لأن حقيقة الذات غير مدركة لا عقلا ولا حسا باتفاق بين المحققين من الطائفتين، والزمخشري ممن سلم فهو الظاهر بوجوده والباطن بكنهه وهو سبحانه الجامع بين الوصفين أزلا
166

وأبدا، وهذا لا ينافي الرؤية لأنها لا تفيد ذلك عند مثبتها انتهى، وهو حسن فلا تغفل.
وعليه فالتذليل بقوله تعالى: * (وهو بكل شيء عليم) * لئلا يتوهم أن بطونه تعالى عن الأشياء يستلزم بطونها عنه عز وجل كما في الشاهد، وقال الأزهري: قد يكون الظاهر والباطن بمعنى العالم لما ظهر وبطن؛ وذلك أن من كان ظاهرا احتجب عنه الباطن ومن كان باطنا احتجب عنه الظاهر فإن أردت أن تصفه بالعلم قلت هو ظاهر باطن مثله قوله تعالى: * (لا شرقية ولا غربية) * (النور: 35) أي لا شرقية فقط ولا غربية فقط ولكنها شرقية غربية، وفي التذييل المذكور حينئذ خفاء، وقريب منه من وجه ما نقل أن الظاهر بمعنى العالي على كل شيء الغالب له من قولهم ظهر عليهم إذا علاهم وغلبهم، والباطن الذي بطن كل شيء أي علم باطنه، وتعقب بفوات المطابقة بين الظاهر والباطن عليه وأن بطنه بمعنى علم باطنه غير ثابت في اللغة، لكن قيل: في الآثار ما ينصر تفسير الظاهر بما فسر.
أخرج مسلم. والترمذي. وابن أبي شيبة. والبيهقي عن أبي هريرة قال: " جاءت فاطمة رضي الله تعالى عنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله خادما فقال لها: قولي اللهم رب السماوات السبع ورب العرش الكريم العظيم ربنا ورب كل شيء منزل التوراة والإنجيل والفرقان فالق الحب والنوى أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين وأغننا من الفقر " وقال الطيبي: المعنى بالظاهر في التفسير النبوي الغالب الذي يغلب ولا يغلب فيتصرف في المكونات على سبيل الغلبة والاستيلاء إذ ليس فوقه أحد يمنعه، وبالباطن من لا ملجأ ولا منجى دونه يلتجىء إليه ملتجىء، وبحث فيه بجواز أن يكون المراد أنت الظاهر فليس فوقك شيء في الظهور أي أنت أظهر من كل شيء إذ ظهور كل شيء بك وأنت الباطن فليس دونك في البطون شيء أي أنت أبطن من كل شيء إذ كل شيء يعلم حقيقته غيره وهو أنت وأنت لا يعلم حقيقتك غيرك، أو لأن كل شيء يمكن معرفة حقيقته وأنت لا يمكن أصلا معرفة حقيقتك، وأيضا في دلالة الباطن على ما قال: خفاء جدا على أنه لو كان الأمر كما ذكر ما عدل عنه أجلة العلماء فإن الخبر صحيح، وقد جاء نحوه من رواية الإمام أحمد. وأبي داود. وابن ماجه؛ ويبعد عدم وقوف أولئك الأجلة عليه، وأبعد من ذلك أن يكون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من
أسمائه تعالى غير ما في الآية، ويحتمل أنه عليه الصلاة والسلام أراد بقوله: " فليس دونك شيء " ليس أقرب منك شيء، ويؤيده ما أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات عن مقائل قال: بلغنا في قوله تعالى: * (هو الأول) * الخ هو الأول قبل كل شيء والآخر بعد كل شيء والظاهر فوق كل شيء والباطن أقرب من كل شيء، وإنما يعني القرب بعلمه وقدرته وهو فوق عرشه والذي يترجح عندي ما ذكر أولا، وعن بعض المتصوفة أهل وحدة الوجود أن المراد بقوله سبحانه: * (هو الأول) * الخ أنه لا موجود غيره تعالى إذ كل ما يتصور موجودا فهو إما أول أو آخر أو ظاهر أو باطن فإذا كان الله تعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن لا غيره كان كل ما يتصور موجودا هو سبحانه لا غيره، وأيدوه بما في حديث مرفوع أخرجه الإمام أحمد. وعبد بن حميد. والترمذي. وابن المنذر. وجماعة عن أبي هريرة " والذي نفسي بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله " قال أبو هريرة، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: * (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم) *.
وحال القول بوحدة الوجود مشهور وأما الخبر فمن المتشابه، وقد قال فيه الترمذي: فسر أهل العلم
167

الحديث فقالوا: أي لهبط على علم الله تعالى وقدرته وسلطانه، ويؤيد هذا ذكر التذييل وعدم اقتصاره عليه الصلاة والسلام على ما قبله، وهذه الآية ينبغي لمن وجد في نفسه وسوسة فيما يتعلق بالله تعالى أن يقرأها، فقد أخرج أبو داود عن أبي زميل أن ابن عباس قال له وقد أعلمه أن عنده وسوسة في ذلك: * (إذا وجدت في نفسك شيئا فقل هو الأول) * الآية.
وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن عمر. وأبي سعيد رضي الله تعالى عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يزال الناس يسألون عن كل شيء حتى يقولوا هذا الله كان قبل كل شيء فماذا كان قبل الله فإن قالوا لكم ذلك فقولوا هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ".
* (هو الذى خلق السم‍اوات والارض فى ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج فى الارض وما يخرج منها وما ينزل من السمآء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير) *.
* (هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش) * بيان لبعض أحكام ملكهما وقد مر تفسيره مرارا * (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها) * مر بيانه في سورة سبأ * (وهو معكم أين ما كنتم) * تمثيل لإحاطة علمه تعالى بهم وتصوير لعدم خروجهم عنه أينما كانوا، وقيل: المعية مجاز مرسل عن العلم بعلاقة السببية والقرينة السابق واللحاق مع استحالة الحقيقة، وقد أول السلف هذه الآية بذلك، أخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه قال فيها: عالم بكم أينما كنتم.
وأخرج أيضا عن سفيان الثوري أنه سئل عنها فقال: علمه معكم، وفي " البحر " أنه اجتمعت الأمة على هذا التأويل فيها وأنها لا تحمل على ظاهرها من المعية بالذات وهي حجة على منع التأويل في غيرها مما يجري مجراها في استحالة الحمل على الظاهر، وقد تأول هذه الآية. وتأول الحجر الأسود يمين الله في الأرض، ولو اتسع عقله لتأول غير ذلك مما هو في معناه انتهى.
وأنت تعلم أن الأسلم ترك التأويل فإنه قول على الله تعالى من غير علم ولا نؤول إلا ما أوله السلف ونتبعهم فيما كانوا عليه فإن أولوا أولنا وإن فوضوا فوضنا ولا نأخذ تأويلهم لشيء سلما لتأويل غيره، وقد رأيت بعض الزنادقة الخارجين من ربقة الإسلام يضحكون من هذه الآية مع قوله تعالى: * (ثم استوى على العرش) * ويسخرون من القرآن الكريم لذلك وهو جهل فظيع وكفر شنيع نسأل الله تعالى العصمة والتوفيق.
* (والله بما تعملون بصير) * عبارة عن إحاطته بأعمالهم وتأخير صفة العلم الذي هو من صفات الذات عن الخلق الذي هو من صفات الأفعال مع أن صفات الذات متقدمة على صفات الأفعال لما أن المراد الإشارة إلى ما يدور عليه الجزاء من العلم التابع للمعلوم، وقيل: إن الخلق دليل العلم إذ يستدل بخلقه تعالى وإيجاده سبحانه لمصنوعاته المتقنة على أنه عز وجل عالم ومن شأن المدلول التأخر عن الدليل لتوقفه عليه، وقوله تعالى:
* (له ملك السم‍اوات والارض وإلى الله ترجع الامور) *.
* (له ملك السم‍اوات والأرض) * تكرير للتأكيد وتمهيد لقوله سبحانه المشعر بالإعادة:
* (وإلى الله ترجع الأمور) * أي إليه تعالى وحده لا إلى غيره سبحانه استقلالا أو اشتراكا ترجع جميع الأمور أعراضها وجواهرها، وقرأ الحسن. وابن أبي إسحاق. والأعرج * (ترجع) * مبنيا للفاعل من رجع رجوعا، وعلى البناء للمفعول كما في قراءة الجمهور هو من رجع رجعا.
* (يولج اليل فى النهار ويولج النهار فى اليل وهو عليم بذات الصدور) *.
* (يولج اليل في النهار ويولج النهار في اليل) * مر تفسيره مرارا؛ وقوله تعالى: * (وهو عليم) * أي مبالغ في العلم * (بذات الصدور) * أي بمكنوناتها
168

اللازمة لها بيان لإحاطة علمه تعالى بما يضمرونه من نياتهم بعد بيان إحاطة بأعمالهم التي يظهرونها، وجوز أن يراد * (بذات الصدور) * نفسها وحقيقتها على أن الإحاطة بما فيها تعلم بالأولى.
* (ءامنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين ءامنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير) *.
* (ءامنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) * أي جعلكم سبحانه خلفاء عنه عز وجل في التصرف فيه من غير أن تملكوه حقيقة، عبر جل شأنه عما بأيديهم من الأموال بذلك تحقيقا للحق وترغيبا في الإنفاق فإن من علم أنها لله تعالى وإنما هو بمنزلة الوكيل يصرفها إلى ما عينه الله تعالى من المصارف هان عليه الانفاق
، أو جعلكم خلفاء عمن كان قبلكم فيما كان بأيديهم فانتقل لكم، وفيه أيضا ترغيب في الانفاق وتسهيل له لأن من علم أنه لم يبق لمن قبله وانتقل إليه علم أنه لا يدوم له وينتقل لغيره فيسهل عليه إخراجه ويرغب في كسب الأجر بإنفاقه ويكفيك قول الناس فيما ملكته لقد كان هذا مرة لفلان، وفي الحديث " يقول ابن آدم: ما لي ما لي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت " والمعنى الأول هو المناسب لقوله تعالى: * (له ملك السموات والأرض) * (البقرة: 107) وعليه ما حكى أنه قيل لاعرابي: لمن هذه الإبل؟ فقال: هي لله تعالى عندي، ويميل إليه قول القائل: وما المال والأهلون (إلا ودائع) * ولا بد يوما أن ترد الودائع
والآية على ما روى عن الضحاك نزلت في تبوك فلا تغفل * (فالذين ءامنوا منكم وأنفقوا) * حسبما أمروا به * (لهم) * بسبب ذلك * (أجر كبير) * وعد فيه من المبالغات ما لا يخفى حيث جعل الجملة اسمية وكان الظاهر أن تكون فعلية في جواب الأمر بأن يقال مثلا آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا تعطوا أجرا كبيرا، وأعيد ذكر الايمان والانفاق دون أن يقال فمن يفعل ذلك فله أجر كبير وعدل عن فالذين آمنوا منكم وأنفقوا أجر إلى ما في النظم الكريم وفخم الأجر بالتنكير، ووصف بالكبير، وقوله عز وجل:
* (وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميث‍اقكم إن كنتم مؤمنين) *.
* (وما لكم لا تؤمنون بالله) * استئناف قيل: مسوق لتوبيخهم على ترك الايمان حسبما أمروا به بإنكار أن يكون لهم في ذلك عذر ما في الجملة على أن لا تؤمنون حال من ضمير لكم والعامل ما فيه من معنى الاستقرار أي أي شيء حصل لكم غير مؤمنين على توجيه الانكار والنفي إلى السبب فقط مع تحقق المسبب وهو مضمون الجملة الحالية أعني عدم الايمان فأي لإنكار سبب الواقع ونفيه فقط، ونظيره قوله تعالى: * (ما لكم لا ترجون لله وقارا) * (نوح: 13) وقد يتوجه الانكار والنفي في مثل هذا التركيب لسبب الوقوع فيسريان إلى المسبب أيضا كما في قوله تعالى: * (وما لي لا أعبد) * الخ ولا يمكن إجراء ذلك هنا لتحقق عدم الايمان وهذا المعنى مما لا غبار عليه، وقوله تعالى: * (والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم) * حال من ضمير * (لا تؤمنون) * مفيدة على ما قيل: لتوبيخهم على الكفر مع تحقق ما يوجب عدمه بعد توبيخهم عليه مع عدم ما يوجبه، ولام * (لتؤمنوا) * صلة - يدعو - وهو يتعدى بها وبإلى أي وأي عذر في ترك الايمان * (والرسول يدعوكم) * إليه وينبهكم عليه، وجوز أن تكون اللام تعليلية وقوله سبحانه: * (وقد أخذ ميث‍اقكم) * حال من فاعل يدعوكم أو من مفعوله أي وقد أخذ الله ميثاقكم بالايمان من قبل كما يشعر به تخالف الفعلين مضارعا وماضيا، وجوز كونه حالا معطوفة على الحال قبلها فالجملة حال بعد حال من ضمير * (تؤمنون) * والتخالف بالاسمية والفعلية يبعد ذلك في الجملة، وأيا ما كان فأخذ الميثاق إشارة إلى ما كان منه تعالى من نصب الأدلة الآفاقية والأنفسية
169

والتمكين من النظر فقوله تعالى: * (والرسول يدعوكم) * إشارة إلى الدليل السمعي وهذا إشارة إلى الدليل العقلي وفي التقديم والتأخير ما يؤيد القول بشرف السمعي على العقلي.
وقال البغوي: هو ما كان حين أخرجهم من ظهر آدم وأشهدهم بأنه سبحانه ربهم فشهدوا - وعليه لا مجاز - والأول اختيار الزمخشري، وتعقبه ابن المنير فقال: لا عليه أن يحمل العهد على حقيقته وهو المأخوذ يوم الذر وكل ما أجازه العقل وورد به الشرع وجب الايمان به، وروى ذلك عن مجاهد. وعطاء. والكلبي. ومقاتل، وضعفه الإمام بأن المراد إلزام المخاطبين الايمان ونفي أن يكون لهم عذر في تركه وهم لا يعلمون هذا العهد إلا من جهة الرسول فقبل التصديق بالرسول لا يكون سببا للالزامهم الايمان به، وقال الطيبي: يمكن أن يقال: إن الضمير في * (أخذ) * إن كان لله تعالى فالمناسب أن يراد بالميثاق ما دل عليه قوله تعالى: * (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدي فمن تبع هداي) * (البقرة: 38) الخ لأن المعنى * (فإما يأتينكم مني هدى) * (طه: 123) برسول أبعثه إليكم وكتاب أنزله عليكم، ويدل على الأول قوله سبحانه: * (والرسول يدعوكم لتؤمنوا) * (الحديد: 8) وعلى الثاني * (هو الذي ينزل على عبده آيات) * (الحديد: 9) الخ، وإن كان للرسول صلى الله عليه وسلم فالظاهر أن يراد به ما في قوله تعالى: * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه) * (آل عمران: 81) على أن يضاف الميثاق إلى النبيين إضافته إلى الموثق لا الموثق عليه أي الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم، وهو الوجه لأن الخطاب مع الصحابة رضي الله تعالى عنهم كما يدل عليه ما بعد، ولعل الميثاق نحو ما روينا عن الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل. وعلى النفقة في العسر واليسر. وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وعلى أن نقول في الله تعالى ولا نخاف لومة لائم انتهى.
ويضعف الأول بنحو ما ضعف به الإمام حمل العهد على ما كان يوم الذر، وضعف الثاني أظهر من أن ينبه عليه.
والخطاب قال " صاحب الكشف ": عام يوبخ من لم يؤمن منهم بعدم الايمان ثم من آمن بعدم الانفاق في سبيله.
وكلام أبي حيان ظاهر في أنه للمؤمنين، وجعل آمنوا أمرا بالثبات على الايمان ودوامه * (وما لكم لا تؤمنون) * الخ على معنى كيف لا تثبتون على الايمان ودواعي ذلك موجودة.
وظاهر كلام بعضهم كونه للكفرة وهو الذي أشرنا إليه من قبل، ولعل ما ذكره " صاحب الكشف " أولى إلا أنه قيل عليه: إن آمنوا إذا كان خطابا للمتصفين بالايمان ولغير المتصفين به يلزم استعمال الأمر في طلب أصل الفعل نظرا لغير المتصفين وفي طلب الثبات نظرا للمتصفين وفيه مافيه، ويحتاج في التفصي عن ذلك إلى إرادة معنى عام للأمرين، وقد يقال أراد أنه عمد إلى جماعة مختلفين في الأحوال فأمروا بأوامر شتى وخوطبوا بخطابات متعددة فتوجه كل أمر وكل خطاب إلى من يليق به وهذا كما يقول الوالي لأهل بلده: أذنوا وصلوا ودرسوا وأنفقوا على الفقراء وأوفوا الكيل والميزان إلى غير ذلك فإن كل أمر ينصرف إلى من يليق به منهم فتأمل،
وقرىء * (وما لكم لا تؤمنون) * بالله ورسوله، وقرأ أبو عمرو * (وقد أخذ ميثاقكم) * بالبناء للمفعول ورفع * (ميثاقكم) * * (إن كنتم مؤمنين) * شرط جوابه محذوف دل عليه ما قبل، والمعنى إن كنتم مؤمنين لموجب ما فهذا موجب لا موجب وراءه، وجوز أن يكون المراد إن كنتم ممن يؤمن فما لكم لا تؤمنون والحالة هذه، وقال الواحدي: أي إن كنتم مؤمنين بدليل عقلي أو نقلي فقد بان وظهر لكم على يدي محمد صلى الله عليه وسلم ببعثته وإنزال القرآن عليه؛ وأيا ما كان فلا تناقض بين هذا وقوله تعالى: * (وما لكم لا تؤمنون) * وقال الطبري
170

في ذلك: المراد إن كنتم مؤمنين في حال من الأحوال فآمنوا الآن؛ وقيل: المراد إن كنتم مؤمنين بموسى وعيسى عليهما السلام فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فإن شريعتهما تقتضي الايمان به عليه الصلاة والسلام أو إن كنتم مؤمنين بالميثاق المأخوذ عليكم في عالم الذر فآمنوا الآن، وقيل: المراد إن دمتم على الايمان فأنتم في رتب شريفة وأقدار رفيعة، والكل كما ترى.
وظاهر الأخير أن الخطاب مع المؤمنين وهو الذي اختاره الطيبي، وقال في هذا الشرط: يمكن أن يجري على التعليل كما في قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) * (البقرة: 278) لأن الكلام مع المؤمنين على سبيل التوبيخ والتقريع يدل عليه ما بعد.
* (هو الذى ينزل على عبده ءاي‍ات بين‍ات ليخرجكم من الظلم‍ات إلى النور وإن الله بكم لرءوف رحيم) *.
* (هو الذي ينزل على عبده) * حسبما يعن لكم من المصالح * (ءاي‍ات بين‍ات) * واضحات، والظاهر أن المراد بها آيات القرآن، وقيل: المعجزات * (ليخرجكم) * أي الله تعالى إذ هو سبحانه المخبر عنه، أو العبد لقرب الذكر والمراد ليخرجكم بها * (من الظلم‍اات إلى النور) * من ظلمات الكفر إلى نور الايمان، وقرىء في السبعة ينزل مضارعا فبعض ثقل وبعض خفف.
وقرأ الحسن بالوجهين، وقرأ زيد بن علي. والأعمش أنزل ماضيا * (وإن الله بكم لرءوف رحيم) * مبالغ في الرأفة والرحمة حيث أزال عنكم موانع سعادة الدارين وهداكم إليها على أتم وجه، وقرىء في السبعة * (لرؤوف) * بواوين، وقوله عز وجل:
* (وما لكم ألا تنفقوا فى سبيل الله ولله ميراث السم‍اوات والارض لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وق‍اتل أول‍ائك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وق‍اتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير) *.
* (وما لكم ألا تنفقوا) * توبيخ على ترك الانفاق إما للمؤمنين الغير المنفقين أو لأولئك الموبخين أولا على ترك الايمان، وبخهم سبحانه على ذلك بعد توبيخهم على ترك الايمان بإنكار أن يكون لهم في ذلك أيضا عذر من الأعذار، و * (أن) * مصدرية لا زائدة كما قيل، واقتضاه كلام الأخفش والكلام على تقدير حرف الجر، فالمصدر المؤول في محل نصب أو جر على القولين وحذف مفعول الانفاق للعلم به مما تقدم وقوله تعالى: * (في سبيل الله) * لتشديد التوبيخ، والمراد به كل خير يقربهم إليه تعالى على سبيل الاستعارة التصريحية أي أي شيء لكم في أن لا تنفقوا فيما هو قربة إلى الله تعالى ما هو له في الحقيقة وإنما أنتم خلفاؤه سبحانه في صرفه إلى ما عينه عز وجل من المصارف، أو ما انتقل إليكم من غيركم وسينتقل منكم إلى الغير.
* (ولله ميراث السموات والأرض) * أي يرث كل شيء فيهما ولا يبقى لأحد مال على أن ميراثهما مجاز أو كناية عن ميراث ما فيهما لأن أخذ الظرف يلزمه أخذ المظروف. وجوز أن يراد يرثهما وما فيهما، واختير الأول أنه يكفي لتوبيخهم إذ لا علاقة لأخذ السماوات والأرض هنا، والجملة حال من فاعل لا تنفقوا أو مفعوله مؤكدة للتوبيخ فإن ترك الانفاق بغير سبب قبيح منكر ومع تحقق ما يوجب الانفاق أشد في القبح وأدخل في الإنكار فإن بيان بقاء جميع ما في السماوات والأرض من الأموال بالآخرة لله عز وجل من غير أن يبقى لأحد من أصحابها شيء أقوى في إيجاب الانفاق عليهم من بيان أنها لله تعالى في الحقيقة، أو أنها انتقلت إليهم من غيرهم كأنه قيل: وما لكم في ترك إنفاقها في سبيل تعالى، والحال أنه لا يبقى لكم ولا لغيركم منها شيء بل تبقى كلها لله عز وجل، وإظهار الاسم الجليل في موقع الاضمار لزيادة التقرير وتربية المهابة، وقوله تعالى: * (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وق‍اتل) * بيان لتفاوت درجات المنفقين حسب تفاوت أحوالهم في الانفاق بعد بيان أن لهم أجرا كبيرا على الإطلاق حثا لهم على تحري الأفضل،
171

وعطف القتال على الانفاق للإيذان بأنه من أهم مواد الانفاق مع كونه في نفسه من أفضل العبادات وأنه لا يخلو من الانفاق أصلا وقسيم * (من أنفق) * محذوف أي لا يستوي ذلك وغيره، وحذف لظهوره ودلالة ما بعد عليه، والفتح فتح مكة على ما روى عن قتادة. وزيد بن أسلم. ومجاهد - وهو المشهور - فتعريفه للعهد أو للجنس ادعاءا، وقال الشعبي: هو فتح الحديبية وقد مروجه تسميته فتحا في سورة الفتح، وفي بعض الآثار ما يدل عليه.
أخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم. وابن مردويه. وأبو نعيم في الدلائل من طريق زيد بن أسلم عن عطاءا بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية حتى إذا كان بعسفان قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: يوشك أن يأتي قوم يحتقرون أعمالكم مع أعمالهم قلنا: من هم يا رسول الله أقريش؟ قال: لا ولكن هم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا، فقلنا: أهم خير منا يا رسول الله؟ قال: لو كان لأحدهم جبل من ذهب فأنفقه ما أدرك مد أحدكم ولا نصيفه ألا إن هذا فصل ما بيننا وبين الناس * (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح) * (الحديد: 10).
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما * (قبل) * بغير * (من) * * (أولئك) * إشارة إلى من أنفق، والجمع بالنظر إلى معنى * (من) * كما أن إفراد الضميرين السابقين بالنظر إلى لفظها، ووضع اسم الإشارة البعيد موضع الضمير للتعظيم والاشعار بأن مدار الحكم هو إنفاقهم قبل الفتح وقتالهم، ومحله الرفع على الابتداء؛ والخبر قوله تعالى: * (أعظم درجة) * أي أولئك المنعوتون بذينك النعتين الجليلين أرفع منزلة وأجل قدرا.
* (من الذين أنفقوا من بعد) * بعد الفتح * (وق‍اتلوا) * وذهب بعضهم إلى أن فاعل * (لا يستوي) * ضمير يعود على الانفاق أي لا يستوي هو أي الانفاق أي جنسه إذ منه ما هو قبل الفتح ومنه ما هو بعده، و * (من أنفق) * مبتدأ، وجملة * (أولئك أعظم) * خبره وفيه تفكيك الكلام وخروج عن الظاهر لغير موجب فالوجه ما تقدم، ويعلم منه التزاما التفاوت بين الانفاق قبل الفتح والانفاق بعده، وإنما كان أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا بعد لأنهم إنما فعلوا ما فعلوا عند كمال الحاجة إلى النصرة بالنفس والمال لقلة المسلمين وكثرة أعدائهم وعدم ما ترغب فيه النفوس طبعا من كثرة الغنائم فكان ذلك أنفع وأشد على النفس وفاعله أقوى يقينا بما عند الله تعالى وأعظم رغبة فيه، ولا كذلك الذين أنفقوا بعد * (وكلا) * أي كل واحد من الفريقين لا الأولين فقط * (وعد الله الحسنى) * أي المثوبة الحسنى وهي الجنة على ما روى عن مجاهد. وقتادة، وقيل: أعم من ذلك والنصر والغنيمة في الدنيا، وقرأ ابن عامر. وعبد الوارث - وكل - بالرفع، والظاهر أنه مبتدأ والجملة بعده خبر والعائد محذوف أي وعده كما في قوله: وخالد (يحمد) ساداتنا * بالحق لا يحمد بالباطل
يريد يحمده والجملة عطف على أولئك أعظم درجة وبينهما من التطابق ما ليس على قراءة الجمهور، ومنع البصريون حذف العائد من خبر المبتدا، وقالوا: لا يجوز إلا في الشعر بخلاف حذفه من جملة الصفة وهم محجوجون بهذه القراءة، وقول بعضهم: فيها إن كل خبر مبتدا تقديره، وأولئك كل، وجملة * (وعد الله) * صفة - كل - تأويل ركيك، وفيه زيادة حذف، على أن بعض النحاة منع وصف - كل - بالجملة لأنه معرفة بتقدير وكلهم، وقال الشهاب: الصحيح ما ذهب إليه ابن مالك من أن عدم جواز حذف العائد من جملة الخبر
172

في غير - كل - وما ضاهاها في الافتقار والعموم فإنه في ذلك مطرد لكن ادعى فيه الاجماع وهو محل نزاع.
* (والله بما تعملون خبير) * عالم بظاهره وباطنه ويجازيكم على حسبه فالكلام وعد ووعيد، وفي الآيات من الدلالة على فضل السابقين المهاجرين والأنصار ما لا يخفى، والمراد بهم المؤمنون المنفقون المقاتلون قبل فتح مكة أو قبل الحديبية بناءا على الخلاف السابق، والآية على ما ذكره الواحدي عن الكلبي نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أي بسببه، وأنت تعلم أن خصوص السبب لا يدل على تخصيص الحكم، فلذلك قال: * (أولئك) * ليشمل غيره رضي الله تعالى عنه ممن اتصف بذلك، نعم هو أكمل الأفراد فإنه أنفق قبل الفتح وقبل الهجرة جميع ماله وبذل نفسه معه عليه الصلاة والسلام ولذا قال صلى الله عليه وسلم: " ليس أحد أمن علي بصحبته من أبي بكر " وذلك يكفي لنزولها فيه، وفي " الكشاف " إن أولئك هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: " ولو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " قال الطيبي: الحديث من رواية البخاري. ومسلم. وأبي داود. والترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدا أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه "، وتعقبه في " الكشف " بأنه على هذا لا يختص بالسابقين الأولين كما أشار في " الكشاف " إليه وهو مبني على أن الخطاب في لا تسبوا ليس للحاضرين ولا للموجودين في عصره صلى الله عليه وسلم بل لكل من يصلح للخطاب كما في قوله تعالى: * (ولو ترى إذ وقفوا) * (الأنعام: 30) الآية وإلا فقد قيل: إن الخطاب يقتضي الحضور والوجود ولا بد من مغايرة المخاطبين بالنهي عن سبهم فهم السابقون الكاملون في الصحبة.
وأقول شاع الاستدلال بهذا الحديث على فضل الصحابة مطلقا بناءا على ما قالوا: إن إضافة الجمع تفيد الاستغراق وعليه " صاحب الكشف "، واستشكل أمر الخطاب، وأجيب عنه بما سمعت وبأنه على حد خطاب الله تعالى الأزلي لكن في بعض الأخبار ما يؤيد أن المخاطبين بعض من الصحابة والممدوحين بعض آخر منهم فتكون الإضافة للعهد أو بحمل الأصحاب على الكاملين في الصحبة.
أخرج أحمد عن أنس قال: " كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام فقال خالد لعبد الرحمن بن عوف: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دعو لي أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد - أو مثل الجبال - ذهبا ما بلغتم أعمالهم " ثم في هذا الحديث تأييد ما لكون أولئك هم الذين أنفقوا قبل الحديبية لأن إسلامه رضي الله تعالى عنه كان بين الحديبية وفتح مكة كما في " التقريب " وغيره، والزمخشري فسر الفتح بفتح مكة فلا تغفل، قال الجلال المحلي: كون الخطاب في " لا تسبوا " للصحابة السابين، وقال: نزلهم صلى الله عليه وسلم بسبهم الذي لا يليق بهم منزلة غيرهم حيث علل بما ذكره وهو وجه حسن فتدبر؛ وقوله تعالى:
* (من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم) *.
* (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) * ندب بليغ من الله تعالى إلى الانفاق في سبيله مؤكد للأمر السابق به وللتوبيخ على تركه فالاستفهام ليس على حقيقته بل للحث، والقرض الحسن الانفاق بالإخلاص وتحري أكرم المال وأفضل الجهات، وذكر بعضهم أن القرض الحسن ما يجمع عشر صفات. أن يكون من الحلال فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا. وأن يكون من أكرم ما يملكه المرء. وأن يكون والمرء صحيح شحيح يأمل العيش ويخشي الفقر. وأن يضعه في الأحوج الأولي: وأن يكتم ذلك. وأن لا يتبعه بالمن
173

والأذى. وأن يقصد به وجه الله تعالى. وأن يستحقر ما يعطي وإن كثر. وأن يكون من أحب أمواله إليه. وأن يتوخى في إيصاله للفقير ما هو أسر لديه من الوجوه كحمله إلى بيته. ولا يخفى أنه يمكن الزيادة والنقص فيما ذكر.
وإيما كان فالكلام إما على التجوز في الفعل فيكون استعارة تبعية تصريحية أو التجوز في مجموع الجملة فيكون استعارة تمثيلية وهو الأبلغ أي من ذا الذي ينفق ماله في سبيل الله تعالى مخلصا متحريا أكرمه وأفضل الجهات رجاء أن يعوضه سبحانه بدله كمن يقرضه * (فيض‍اعفه له) * فيعطيه أجره على إنفاقه مضاعفا أضعافا كثيرة من
فضله.
* (وله أجر كريم) * أي وذلك الأجل المضموم إليه الإضعاف كريم مرضي في نفسه حقيق بأن يتنافس فيه المتنافسون، ففيه إشارة إلى أن الأجر كما أنه زائد في الكم بالغ في الكيف فالجملة حالية لا عطف على * (فيضاعفه) *، وجوز العطف والمغايرة ثابتة بين الضعف والأجر نفسه فإن الاضعاف من محض الفضل والمثل فضل هو أجر، ونصب يضاعفه على جواب الاستفهام بحسب المعنى كأنه قيل: أيقرض الله تعالى أحد فيضاعفه له فإن المسؤول عنه بحسب اللفظ وإن كان هو الفاعل لكنه في المعنى هو الفعل إذ ليس المراد أن الفعل قد وقع السؤال عن تعيين فاعله كقولك: من جاءك اليوم؟ إذا علمت أنه جاءه جاء لم تعرفه بعينه وإنما أورد على هذا الأسلوب للمبالغة في الطلب حتى كأن الفعل لكثرة دواعيه قد وقع وإنما يسأل عن فاعله ليجازي ولم يعتبر الظاهر لأنه يشترط بلا خلاف في النصب بعد الفاء أن لا يتضمن ما قبل وقوع الفعل نحو لم ضربت زيدا فيجازيك فإنه حينئذ لا يتضمن سبق مصدر مستقبل وعلى هذا يؤل كل ما فيه نصب وما قبل متضمن للوقوع، وقرأ غير واحد * (فيضاعفه) * بالرفع على القياس نظرا للظاهر المتضمن للوقوع وهو إما عطف على يقرض أو على * (فهو يضاعفه) * وقرىء فيضعفه بالرفع والنصب.
* (يوم ترى المؤمنين والمؤمن‍ات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيم‍انهم بشراكم اليوم جن‍ات تجرى من تحتها الانه‍ار خ‍الدين فيها ذلك هو الفوز العظيم) *.
* (يوم ترى المؤمنين والمؤمن‍ات) * ظرف لما تعلق به له أوله أو لقوله تعالى: * (فيضاعفه) * أو منصوب بإضمار اذكر تفخيما لذلك اليوم، والرؤية بصرية والخطاب لكل من تتأتى منه أو لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم، وقوله عز وجل: * (يسعى نورهم) * حال من مفعول ترى والمراد بالنور حقيقته على ما ظهر من شموس الأخبار - وإليه ذهب الجمهور - والمعنى يسعى نورهم إذا سعوا.
* (بين أيديهم وبأيم‍انهم) * أخرج ابن أبي شيبة. وابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. والحاكم وصححه. وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قال: " يؤتون نورهم على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل ومنهم من نوره مثل النخلة وأدناهم نورا من نوره على إبهامه يطفأ مرة ويقد أخرى " وظاهره أن هذا النور يكون عند المرور على الصراط، وقال بعضهم: يكون قبل ذلك ويستمر معهم إذا مروا على الصراط، وفي الأخبار ما يقتضيه كما ستسمعه قريبا إن شاء الله تعالى، والمراد أنه يكون لهم في جهتين جهة الإمام وجهة اليمين وخصا لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم، وفي " البحر " الظاهر أن النور قسمان: نور بين أيديهم يضيء الجهة التي يؤمونها. ونور بأيمانهم يضيء ما حوليهم من الجهات، وقال الجمهور: إن النور أصله بأيمانهم والذي بين أيديهم هو الضوء المنبسط من ذلك، وقيل: الباء بمعنى عن أي وعن أيمانهم والمعنى في جميع جهاتهم، وذكر الأيمان لشرفها انتهى، ويشهد لهذا المعنى
174

ما أخرج ابن أبي حاتم. والحاكم وصححه. وابن مردويه عن عبد الرحمن بن جبير بن نضير أنه سمع أبا ذر. وأبا الدرداء قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا أول من يؤذن له في السجود يوم القيامة وأول من يؤذن له فيرفع رأسه فأرفع رأسي فأنظر بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي فأعرف أمتي بين الأمم فقيل: يا رسول الله وكيف تعرفهم من بين الأمم ما بين نوح عليه السلام إلى أمتك؟ قال: غر محجلون من أثر الوضوء ولا يكون لأحد غيرهم وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم وأعرفهم بسيماهم في وجوههم من أثر السجود وأعرفهم بنورهم الذي يسعى بين أيديهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم " وظاهر هذا الخبر اختصاص النور بمؤمني هذه الأمة وكذا إيتاء الكتب بالأيمان وبعض الأخبار يقتضي كونه لكل مؤمن، أخرج ابن أبي حاتم عن أبي أمامة قال: " تبعث ظلمة يوم القيامة فما من مؤمن ولا كافر يرى كفه حتى يبعث الله تعالى بالنور للمؤمنين بقدر أعمالهم " الخبر، وأخرج عنه الحاكم وصححه. وابن أبي حاتم من وجه آخر. وابن المبارك. والبيهقي في الأسماء والصفات خبرا طويلا فيه أيضا ما هو ظاهر في العموم وكذا ما أخرج ابن جرير. والبيهقي في " البعث " عن ابن عباس قال: بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله تعالى نورا فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه وكان النور دليلا لهم من الله عز وجل إلى الجنة، ولا ينافي هذا الخبر كونهم يمرون بنورهم على الصراط كما لا يخفى، وكذا إيتاء الكتب بالايمان، ففي هداية المريد لجوهرة التوحيد ظاهر الآيات والأحاديث عدم اختصاصه يعني أخذ الصحف بهذه الأمة وإن تردد فيه بعض العلماء انتهى.
ويمكن أن يقال: إن ما يكون من النور لهذه الأمة أجلى من النور الذي يكون لغيرها أو هو ممتاز بنوع آخر من الامتياز، وأما إيتاء الكتب بالأيمان فعله لكثرته فيها بالنسبة إلى سائر الأمم تعرف به، وفي هذا المطلب أبحاث أخر تذكر إن شاء الله تعالى في محلها، وقيل: أريد بالنور القرآن، وقال الضحاك: النور استعارة عن الهدى والرضوان الذي هم فيه، وقرأ سهل بن شعيب السهمي. وأبو حيوة * (وبإيمانهم) * بكسر الهمزة، وخرج ذلك أبو حيان على أن الظرف يعني بين أيديهم متعلق بمحذوف والعطف عليه بذلك الاعتبار أي كائنا بين أيديهم وكائنا بسبب إيمانهم وهو كما ترى، ولعله متعلق بالقول المقدر في قوله تعالى:
* (بشراكم اليوم جن‍ات) * أي وبسبب إيمانهم يقال لهم ذلك، وجملة القول، إما معطوفة على ما قبل أو استئناف أو حال ويجوز على الحالية تقدير الوصف منه أي مقولا لهم، والقائل الملائكة الذين يتلقونهم.
والمراد بالبشرى مايبشر به دون التبشير والكلام على حذف مضاف أي ما تبشرون به دخول جنات يصح بدونه أي ما تبشرون به جنات، ويصح بدونه أي ما تبشرون به جنات، وما قيل: البشارة لاتكون بالأعيان فيه نظر، وتقدير المضاف لا يغني عن تأويل البشرى لأن التبشير ليس عين الدخول، وجملة قوله تعالى: * (تجري من تحتها الأنه‍ار) * في موضعه الصفة لجنات، وقوله سبحانه: * (خ‍الدين فيها) * حال من جنات، قال أبو حيان: وفي الكلام التفات من ضمير الخطاب في * (بشراكم) * إلى ضمير الغائب في * (خالدين) * ولو أجرى على الخطاب لكان التركيب خالدا أنتم فيها:
* (ذلك هو الفوز العظيم) * يحتمل أن يكون من كلامه تعالى فالإشارة إلى ما ذكر من النور والبشرى بالجنات، ويحتمل أن يكون من كلام الملائكة عليهم السلام
المتلقين لهم، فالإشارة إلى ما هم فيه من النور وغيره أو إلى الجنات بتأويل ما ذكر أو لكونها فوزا على ما قيل، وقرىء ذلك الفوز بدون * (هو) *.
* (يوم يقول المن‍افقون والمن‍افق‍ات للذين ءامنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا ورآءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظ‍اهره من قبله العذاب) *.
175

* (يوم يقول المن‍افقون والمن‍افق‍ات) * بدل من * (يوم ترى) *، وجوز أن يكون معمولا لا ذكر.
وقال ابن عطية: يظهر لي أن العامل فيه ذلك هو الفوز العظيم، ويكون معنى الفوز عليه أعظم كأنه قيل: إن المؤمنين يفوزون يوم يعتري المنافقين والمنافقات كذا وكذا لأن ظهور المرء يوم خمول عدوه مضادة أبدع وأفخم، وتعقبه في " البحر " بأن ظاهره تقريره أن يوم منصوب بالفوز وهو لا يجوز لأنه مصدر قد وصف قبل أخذ متعلقاته فلا يجوز إعماله ولو أعمل وصفه وهو العظيم لجاز - أي الفوز الذي عظم - أي قدره يوم انتهى، وفي عدم جواز إعمال مثل هذا المصدر في مثل هذا المعمول خلاف، ثم إن تعلق هذا الظرف بشيء من تلك الجملة خلاف الظاهر * (للذين ءامنوا انظرونا) * أي انتظرونا * (نقتبس من نوركم) * نصب منه وذلك أن يلحقوا بهم فيستنيروا به.
وقيل: فيأخذوا شيئا منه يكون معهم تخيلوا تأتى ذلك فقالوه، وأصل الاقتباس طلب القبس أي الجذوة من النار، وجوز أن يكون المعنى انظروا إلينا نقتبس الخ لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به فانظرونا على الحذف والايصال لأن النظر بمعنى مجرد الرؤية يتعدى بإلى فإن أريد التأمل تعدى بفي لكن حمل الآية على ذلك خلاف الظاهر؛ وقولهم: للمؤمنين ذلك لأنهم في ظلمة لا يذرون كيف يمشون فيها، وروى أنه يكون ذلك على الصراط.
وفي الآثار دلالة على أنهم يكون لهم نور فيطفأ فيقولون ذلك، أخرج الطبراني. وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يدعو الناس يوم القيامة بأمهاتهم سترا منه على عباده وأما عند الصراط فإن الله تعالى يعطي كل مؤمن نورا وكل منافق نورا فإذا استووا على الصراط أطفأ الله نور النافقين والمنافقات فقال المنافقون: انظرونا نقتبس من نوركم، وقال المؤمنون: أتمم لنا نورنا فلا يذكر عند ذلك أحد أحدا.
وفي حديث آخر مرفوع عنه أيضا إن نور المنافق يطفأ قبل أن يأتي الصراط، وأخرج عبد بن حميد. وابن المنذر عن أبي فاختة يجمع الله تعالى الخلائق يوم القيامة ويرسل الله سبحانه على الناس ظلمة فيستغيثون ربهم فيؤتى الله تعالى كل مؤمن منهم نورا ويؤتى المنافقين نورا فينطلقون جميعا متوجهين إلى الجنة معهم نورهم فبينما هم كذلك إذ أطفأ الله تعالى نور المنافقين فيترددون في الظلمة ويسبقهم المؤمنون بنورهم بين أيديهم فيقولون: انظرونا نقتبس من نوركم الخبر، والاخبار في إيتاء المنافق نورا ثم إطفائه كثيرة وليس في الآية ما يأباه.
وقرأ زيد بن علي. وابن وثاب. والأعمش. وطلحة وحمزة * (أنظرونا) * بقطع الهمزة وفتحها وكسر الظاء من النظرة وهي الإمهال يقال أنظر المديون أي أمهله، وضع * (انظرونا) * بمعنى المهلة وإنظار الدائن المديون موضع اتئاد الرفيق ومشيه الهوينا ليلحقه رفيقه على سبيل الاستعارة بعد سبق تشبيه الحالة بالحالة مبالغة في العجز وإظهار الافتقار، وقيل: هو من أنظر أي أخر، والمراد اجعلونا في آخركم ولا تسبقونا بحيث تفوتونا ولا نلحق بكم.
وقال المهدوي: * (أنظرونا. وانظرونا) * بمعنى وهما من الانتظار تقول العرب: أنظرته بكذا وانتظرته بمعنى واحد والمعنى امهلونا * (قيل) * القائلون على ما روى عن ابن عباس المؤمنون، وعلى ما روى عن مقاتل الملائكة عليهم السلام.
* (ارجعوا وراءكم) * قال ابن عباس: أي من حيث جئتم من الظلمة أو إلى المكان الذي قسم فيه النور على ما صح عن أبي أمامة * (فالتمسوا نورا) * هناك، قال مقاتل: هذا من الاستهزاء بهم كما استهزءوا بالمؤمنين
176

في الدنيا حين قالوا آمنا وليسوا بمؤمنين، وذلك قوله تعالى: * (الله يستهزىء بهم) * (البقرة: 15) أي حين يقال لهم ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا، وقال أبو أمامة: يرجعون حين يقال لهم ذلك إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم وقد ضرب بينهم بسور وهي خدعة الله تعالى التي خدع بها المنافقين حيث قال سبحانه: * (يخادعون الله وهو خادعهم) * (النساء: 142)، وقيل: المراد ارجعوا إلى الدنيا والتمسوا نورا أي بتحصيل سببه وهو الايمان أو تنحوا عنا والتمسوا نورا غير هذا فلا سبيل لكم إلى الاقتباس منه، والغرض التهكم والاستهزاء أيضا. وقيل أرادوا بالنور ما وراءهم من الظلمة الكثيفة تهكما بهم وهو خلاف الظاهر، وأيا ما كان فالظاهر أن وراءكم معمول لارجعوا.
وقيل: لا محل له من الإعراب لأنه بمعنى ارجعوا فكأنه قيل: ارجعوا ارجعوا كقولهم * (وراءك) * أوسع لك أي ارجع تجد مكانا أوسع لك * (فضرب بينهم) * أي بين الفريقين، وقرأ زيد بن علي. وعبيد بن عمير * (فضرب) * مبنيا للفاعل أي فضرب هو أي الله عز وجل * (بسور) * أي بحاجز، قال ابن زيد: هو الاعراف، وقال غير واحد: حاجز غيره والباء مزيدة * (له باب باطنه) * أي الباب كما روي عن مقاتل أو السور وهو الجانب الذي يلي مكان المؤمنين أعني الجنة * (فيه الرحمة) * الثواب والنعيم الذي لا يكتنه * (وظ‍اهره) * الجانب الذي يلي مكان المنافقين أعني النار * (من قبله) * أي من جهته * (العذاب) * وهذا السور قيل: يكون في تلك النشأة وتبدل هذا العالم واختلاف أوضاعه في موضع الجدار الشرقي من مسجد بيت المقدس. أخرج عبد بن حميد عن أبي سنان قال: كنت مع علي بن عبد الله بن عباس عند وادي جهنم يعني المكان المعروف عند بيت المقدس فحدث عن أبيه أنه قال: وقد تلا قوله تعالى: * (فضرب بينهم بسور) * هذا موضع السور عند وادي جهنم، وأخرج هو. وابن جرير. وابن المنذر. والحاكم وصححه وغيرهم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إن السور الذي ذكره الله تعالى في القرآن * (فضرب بينهم بسور) * هو سور بيت المقدس الشرقي (باطنه فيه الرحمة) المسجد * (وظاهره من قبله العذاب) * يعني وادي جهنم وما يليه.
وأخرج عن عبادة بن الصامت أنه كان على سور بيت المقدس الشرقي فبكى فقيل: ما يبكيبك؟ فقال: ههنا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جهنم ولا يخفى أن هذا ونظائره أمور مبنية على اختلاف العالمين وتغاير النشأتين على وجه لاتصل العقول إلى إدراك كيفيته والوقوف على تفاصيله، فإن صح الخبر لم يسعنا إلا الإيمان لعدم خروج الأمر عن دائرة الإمكان، وأبو حيان حكى عمن سمعت. وعن كعب الاحبار أنه الجدار الشرقي من مسجد بيت المقدس واستبعده ثم قال: ولعله لا يصح عنهم.
* (ين‍ادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ول‍اكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الامانى حتى جآء أمر الله وغركم بالله الغرور) *.
* (ينادونهم) * استئناف مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا يفعلون بعد ضرب السور ومشاهدة العذاب؟ فقيل: ينادي المنافقون والمنافقات المؤمينن والمؤمنات * (ألم نكن) * في الدنيا * (معكم) * يريدون به موافقتهم لهم في الظاهر * (قالوا بلى) * كنتم معناكما تقولون * (ول‍اكنكم فتنتم أنفسكم) * محنتموها بالنفاق وأهلكتموها * (وتربصتم) * بالمؤمنين الدوائر * (وارتبتم) * وشككتم في أمور الدين * (وغرتكم الأماني) * الفارغة التي من جملتها الطمع في انتكاس الإسلام،
177

وقال ابن عباس: * (فتنتم أنفسكم) * بالشهوات واللذات * (وتربصتم) * بالتوبة * (وارتبتم) * قال محبوب الليثي: شككتم في الله * (وغرتكم الأماني) * طول الآمال، وقال أبو سنان: قلتم سيغفر لنا * (حتى جاء أمر الله) * أي الموت * (وغركم بالله الغرور) * الشيطان قال لكم: إن الله عفو كريم لا يعذبكم.
وعن قتادة كانوا على خدعة من الشيطان والله ما زالوا عليها حتى قذفهم الله تعالى في النار.
وقرأ سماك بن حرب الغرور بالضم، قال ابن جنى: وهو كقوله: وغركم بالله تعالى الاغترار، وتقديره على حذف المضاف أي وغركم بالله تعالى سلامة الاغترار ومعناه سلامتكم منه اغتراركم.
* (فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هى مول‍اكم وبئس المصير) *.
* (فاليوم لا يؤخذ منكم) * أيها المنافقون * (فدية) * فداء وهو ما يبذل لحفظ النفس عن النائبة والناصب ليوم الفعل المنفي بلا، وفيه حجة على من منع ذلك، وقرأ أبو جعفر. والحسن. وابن أبي إسحق. والأعرج. وابن عامر. وهارون عن أبي عمرو ولا تؤخذ بالتاء الفوقية * (وعلا من الذين كفروا) * أي ظاهرا وباطنا فيغاير المخاطبين المنافقين، ثم الظاهر إن المراد بالفدية ما هو من جنس المال ونحوه، وجوز أن يراد بها ما يعم الإيمان والتوبة فتدل الآية على أنه لا يقبل إيمانهم وتوبتهم يوم القيامة وفيه بعد، وفي الحديث إن الله تعالى يقول للكافر: أرأيتك لو كان لك أضعاف الدنيا أكنت تفتدي بجميع ذلك من عذاب النار، فيقول: نعم يا رب فيقول الله تبارك وتعالى: فدسأ لتك ما هو أيسر من ذلك وأنت في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي فأبيت إلا الشرك * (مأواكم النار) * محل أويكم * (هي مولاكم) * أي ناصركم من باب - تحية بينهم ضرب وجيع - والمراد نفي الناصر على البتات بعد نفي أخذ الفدية وخلاصهم بها عن العذاب، ونحوه قولهم: أصيب بكذا فاستنصر الجزع، ومنه قوله تعالى: * (يغاثوا بماء كالمهل) * (الكهف: 29) وقال الكلبي. والزجاج. والفراء. وأبو عبيدة: أي أولى بكم كما في قول لبيد يصف بقرة وحشية نفرت من صوت الصائد: فغدت كلا الفرجين تحسب أنه * مولى المخافة خلفها وأمامها
أي فغدت كلا جانبيها الخلف والإمام تحسب أنه أولى بأن يكون فيه الخوف، قال الزمخشري: وحقيقة مولاكم هي على هذا محراكم ومقمنكم أي المكان الذي يقال فيه هو أولى بكم كما قيل: هو مئنة للكرم أي مكان لقول القائل: إنه لكريم فأولى نوع من اسم المكان لوحظ فيه معنى أولى إلا أنه مشتق منه كما أن المئنة ليست مشتقة من إن التحقيقية، وفي التفسير الكبير إن قولهم ذلك بيان لحاصل المعنى وليس بتفسير اللفظ لأنه لو كان مولى وأولى بمعنى واحد في اللغة لصح استعمال كل لأمنهما في مكان الآخر وكان يجب أن يصح هذا أولى فلان كما يقال: هذا مولى فلان ولما بطل ذلك علمنا أن الذي قالوه معنى وليس بتفسير، ثم صرح بأنه أراد بذلك رد استدلال الشريف المرتضى بحديث الغدير من كنت مولاه فعلي مولاه على إمامة الأمير كرم الله تعالى وجهه حيث قال: أحد معاني المولى الأولى.
وحمله في الخبر عليه متعين لأن إرادة غيره يجعل الأخبار عبثا كإرادة الناصر والصاحب وابن العم، أو يجعله كذبا كالمعتق والمعتق ولا يخفى على المنصف أنه إن أراد بكونه معنى لا تفسير ما أشار إليه الزمخشري من التحقيق
178

فهو لا يرد الاستدلال إذ يكفي للمرتضى أن يقول: المولى في الخبر بمعنى المكان الذي يقال فيه أولى إذ يلزم على غيره العبث أو الكذب وإن أراد أن ذلك معنى لازم لما هو تفسير له كأن يكون تفسيره القائم بمصالحكم ونحوه مما يكون ذلك لازما له ففي رده الاستدلال أيضا تردد، وإن أراد شيئا آخر فنحن لا ندري ما هو - وهو لم يبينه - والحق أنه ولو جعل المولى بمعنى الأولى أو المكان الذي يقال فيه الأولى لا يتم الاستدلال بالخبر على الإمامة التي تدعيها الإمامية للأمير كرم الله تعالى وجهه لما بين في موضعه، وفي التحفة الأثنى عشرية ما فيه كفاية لطالب الحق.
وقال ابن عباس أي مصيركم وتحقيقه على ما قال الإمام: إن المولى بمعنى موضع الولي وهو القرب والمعنى هي موضعكم الذي تقربون منه وتصلون إليه، وأنت تعلم أن الأخبار بذلك بعد الأخبار بأنها مأواهم ليس فيه كثير جدوى على أن وضع اسم المكان للموضع الذي يتصف صاحبه بالمأخذ حال كونه فيه والقرب من النار وصف لأولئك قبل الدخول فيها ولا يحسن وصفهم به بعد الدخول ولو اعتبر مجاز الكون كما لا يخفى، وجوز بعضهم اعتبار كونه اسم مكان من الولي بمعنى القرب لكن على أن المعنى هي مكان قربكم من الله سبحانه ورضوانه على التهكم بهم؛ وقيل: أي متوليكم أي المتصرفة فيكم كتصرفكم فيما أوجبها واقتضاها في الدنيا من المعاصي والتصرف استعارة للاحراق والتعذيب، وقيل: مشاكلة تقديرية * (وبئس المصير) * أي النار وهي المخصوص بالذم المحذوف لدلالة السياق.
* (ألم يأن للذين ءامنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا ك الذين أوتوا الكت‍ابمن قبل فطال عليهم الامد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون) *.
* (ألم يأن للذين ءامنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله) * استئناف لعتاب المؤمنين على الفتور والتكاسل فيما ندبوا إليه والمعاتب على ما قاله الزجاج طائفة من المؤمنين وإلا فمنهم من لم يزال خاشعا منذ أسلم إلى أن ذهب إلى ربه، وما نقل عن الكلبي. ومقاتل أن الآية نزلت في المنافقين فهم المراد بالذين آمنوا مما لا يكاد يصح، وقد سمعت صدر السورة الكريمة ما روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
وأخرج ابن المبارك. وعبد الرزاق. وابن المنذر عن الأعمش قال: لما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأصابوا من لين العيش ما أصابوا بعد ما كان لهم من الجهد فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا فنزلت * (ألم يأن) * الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم. وابن مردويه عن ابن عباس قال: إن الله تعالى استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال سبحانه: * (ألم يأن) * الآية، وفي خبر ابن مردويه عن أنس بعد سبع عشرة سنة من نزول القرآن.
وأخرج عن عائشة قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفر من أصحابه في المسجد وهم يضحكون فسحب رداءه محمرا وجهه فقال: أتضحكون ولم يأتكم أمان من ربكم بأنه قد غفر لكم وقد نزل علي في ضحككم آية * (ألم يأن للذين) * الخ؟ قالوا: يا رسول الله فما كفارة ذلك؟ قال: تبكون بقدر ما ضحكتم، وفي خبر أن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام قد ظهر فيهم المزاح والضحك فنزلت، وحديث مسلم ومن معه السابق مقدم على هذه الآثار على ما يقتضيه كلام أهل الحديث، و * (يأن) * مضارع أني الأمر أنيا وأناءا وإناءا بالكسر إذا جاء أناه أي وقته، أي ألم يجيء وقت أن تخشع قلوبهم لذكره عز وجل.
وقرأ الحسن. وأبو السمال - ألما - بالهمزة، ولما النافية الجازمة كلم إلا أن فيه أن المنفى متوقع.
179

وقرأ الحسن يئن مضارع آن أينا بمعنى أني السابق، وقال أبو العباس: قال قوم: إن يئين أينا الهمزة مقلوبة فيه عن الحاء وأصله حان يحين حينا وأصل الكلمة من الحين * (وما نزل من الحق) * أي القرآن وهو عطف على ذكر الله فإن كان هو المراد به أيضا فالعطف لتغاير العنوانين نحو: هو الملك القرم وابن الهمام
فإنه ذكر وموعظة كما أنه حق نازل من السماء وإلا بأن كان المراد به تذكير الله تعالى إياهم فالعطف لتغاير الذاتين على ما هو الشائع في العطف وكذا إذا أريد به ذكرهم الله تعالى بالمعنى المعروف، وجوز العطف على الاسم الجليل إذا أريد بالذكر التذكير وهو كما ترى، وقال الطيبي: يمكن أن يحمل الذكر على القرآن وما نزل من الحق على نزول السكينة معه أي الواردات الإلهية ويعضده ما روينا عن البخاري. ومسلم. والترمذي عن البراء كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين فغشيته سحابة فجعلت تدنو وجعل فرسه ينفر منها فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فقال: تلك السكينة تنزل للقرآن.
وفي رواية اقرأ فلان فإنها السكينة تنزل عند القرآن أو للقرآن انتهى، ولا يخفى بعد ذلك جدا ولعلك تختار حمل الذكر وما نزل على القرءان لما يحس مما بعد من نوع تأييد له، وفسر الخشوع للقرآن بالانقياد التام لأوامره ونواهيه والعكوف على العمل بما فيه من الأحكام من غير توان ولا فتور، والظاهر أنه اعتبر كون اللام صلة الخشوع، وجوز كونها للتعليل على أوجه الذكر فالمعنى ألم يأن لهم أن ترق قلوبهم لأجل ذكر الله تعالى وكتابه الحق النازل فيسارعوا إلى الطاعة على أكمل وجوهها، وفي الآية حض على الخشوع، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كما أخرج عنه ابن المنذر إذا تلاها بكى ثم قال: بلى يا رب بلى يا رب، وعن الحسن أما والله لقد استبطأهم وهم يقرؤون من القرآن أقل مما تقرؤون فانظروا في طول ما قرأتم وما ظهر فيكم من الفسق، وروي السلمي عن أحمد بن أبي الحواري قال بينا أنا في بعض طرقات البصرة إذ سمعت صعقة فأقبلت نحوها فرأيت رجلا قد خر مغشيا عليه فقلت: ما هذا؟ فقالوا: كان رجلا حاضر القلب فسمع آية من كتاب الله فخر مغشيا عليه فقلت: ما هي؟ فقيل: قوله تعالى: * (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله) * (الحديد: 16) فأفاق الرجل عند سماع كلامنا فأنشأ يقول: أما آن للهجران أن يتصرما * وللغصن غصن البان أن يتبسما
وللعاشق الصب الذي ذاب وانحنى * ألم يأن أن يبكي عليه ويرحما
كتبت بماء الشوق بين جوانحي * كتابا حكى نقش الوشى المنمنما
ثم قال: إشكال إشكال إشكال فخر مغشيا عليه فحركناه فإذا هو ميت، وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه إن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاءا شديدا فنظر إليهم فقال: هكذا كنا حتى قست القلوب، ولعله أراد رضي الله تعالى عنه أن الطراز الأول كان كذلك حتى قست قلوب كثير من الناس ولم يتأسوا بالسابقين وغرضه مدح أولئك القوم بما كان هو ونظراؤه عليه رضي الله تعالى عنهم، ويحتمل أن يكون قد أراد ما هو الظاهر، والكلام من باب هضم النفس كقوله رضي الله تعالى عنه: أقيلوني فلست بخيركم، وقال شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي قدس سره: معناه تصلبت وأدمنت سماع القرآن وألفت أنواره فما تستغر به حتى تتغير كما تغير هؤلاء السامعون انتهى وهو خلاف الظاهر، وفيه نوع انتقاص للقوم ورمز إلى أن البكاء عند سماع القرآن لا يكون من كامل كما يزعمه بعض جهلة الصوفية القائلين: إن ذلك لا يكون إلا لضعف القلب عن تحمل الواردات الإلهية النورانية ويجل عن ذلك كلام الصديق رضي الله تعالى عنه، وقرأ غير واحد
180

من السبعة * (وما نزل) * بالتشديد، والجحدري. وأبو جعفر. والأعمش. وأبو عمرو في رواية يونس. وعباس عنه * (نزل) * مبنيا للمفعول مشددا، وعبد الله - أنزل - بهمزة النقل مبنيا للفاعل.
* (ولا يكونوا ك الذين أوتوا الكت‍ابمن قبل) * * (لا) * نافية وما بعدها منصوب معطوف على تخشع.
وجوز أن تكون ناهية وما بعدها مجزوم بها ويكون ذلك انتقالا إلى نهي أولئك المؤمنين عن مماثلة أهل الكتاب بعد أن عوتبوا بما سمعت وعلى النفي هو في المعنى نهى أيضا، وقرأ أبو بحرية. وأبو حيوة. وابن أبي عبلة. وإسماعيل عن أبي جعفر، وعن شيبة. ويعقوب. وحمزة في رواية عن سليم عنه * (ولا تكونوا) * بالتاء
الفوقية على سبيل الالتفات للاعتناء بالتحذير، وفي * (لا) * ما تقدم، والنهي مع الخطاب أظهر منه مع الغيبة.
* (فطال عليهم الأمد) * أي الأجل بطول أعمارهم وآمالهم، أو طال أمد ما بينهم وبين أنبيائهم عليهم السلام وبعد العهد بهم، وقيل: أمد انتظار القيامة والجزاء، وقيل: أمد انتظار الفتح، وفرقوا بين الأمد والزمان بأن الأمد يقال باعتبار الغاية والزمان عام في المبدأ والغاية، وقرأ ابن كثير في رواية الأمد بتشديد الدال أي الوقت الأطول * (فقست قلوبهم) * صلبت فهي كالحجارة، أو أشد قسوة * (وكثير منهم فاسقون) * خارجون عن حدود دينهم رافضون لما في كتابهم بالكلية، قيل: من فرط القسوة وذكر أنه مأخوذ من كون الجملة حال، وفيه خفاء والأظهر أنه من السياق، والمراد بالكتاب الجنس فالموصول يعم اليهود والنصارى وكانوا كلهم في أوائل أمرهم يحول الحق بينهم وبين كثير من شهواتهم وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله تعالى ورقت قلوبهم فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة وزالت عنهم الروعة التي كانت يجدونها عند سماع الكتابين وأحدثوا ما أحدثوا واتبعوا الأهواء وتفرقت بهم السبل، والقسوة مبدأ الشرور وتنشأ من طول الغفلة عن الله تعالى، وعن عيسى عليه السلام لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسو قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من الله عز وجل ولا تنظروا إلى ذنوب العباد كأنكم أرباب وانظروا في ذنوبكم كأنكم عباد والناس رجلان مبتلي ومعافى فارحموا أهل البلاء واحمدوا على العافية ومن أحس بقسوة في قلبه فليهرع إلى ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه يرجع إليه حاله كما أشار إليه قوله عز وجل:
* (اعلموا أن الله يحى الارض بعد موتها قد بينا لكم الاي‍ات لعلكم تعقلون) *.
* (إعلموا أن الله يحى الأرض بعد موتها) * فهو تمثيل ذكر استطرادا لاحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة بإحياء الأرض الميتة بالغيث للترغيب في الخشوع والتحذير عن القساوة * (قد بينا لكم الأي‍ات) * التي من جملتها هذه الآيات * (لعلكم تعقلون) * كي تعقلو ما فيها وتعملوا بموجبها فتفوزوا بسعادة الدارين.
* (إن المصدقين والمصدق‍ات وأقرضوا الله قرضا حسنا يض‍اعف لهم ولهم أجر كريم) *.
* (إن المصدقين والمصدق‍ات) * أي المتصدقين والمتصدقات، وقد قرأ أبي كذلك، وقرأ ابن كثير، وأبو بكر. والمفضل. وأبان. وأبو عمر وفي رواية هارون بتخفيف الصاد من التصديق لا من الصدقة كما في قراءة الجمهور أي الذين صدقوا واللاتي صدقن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، والقرءاة الأولى أنسب بقوله تعالى: * (وأقرضوا الله قرضا حسنا) * وقيل: الثانية أرجح لأن الإقراض يغني عن ذكر التصدق، وأنت ستعلم إن شاء الله تعالى فائدته، وعطف * (أقرضوا) * على معنى الفعل من المصدقين على ما اختاره أبو علي. والزمخشري لأن أل بمعنى الذين، واسم الفاعل بمعنى الفعل فكأنه قيل: إن الذين اصدقوا أو صدقوا على القراءتين * (وأقرضوا) *
181

وتعقبه أبو حيان وغيره بأن فيه الفصل بين أجزاء الصلة إذ المعطوف على الصلة صلة بأجنبي وهو المصدقات، وذلك لا يجوز، وقال صاحب التقريب: هو محمول على المعنى كأنه قيل: إن الناس الذين تصدقوا وتصدقن وأقرضوا فهو عطف على الصلة من حيث المعنى بلا فصل، وتعقب بأنه لا محصل له إلا إذا قيل: إن أل الثانية زائدة لئلا يعطف على صورة جزء الكلمة، وفيه بعد، ولا يخفى أن حديث اعتبار المعنى يدفع ما ذكر، ومن هنا قيل: إنه قريب ولا يبعد تنزيل ما تقدم عن أبي علي، والزمخشري عليه، وقيل: العطف على صلة أل في المصدقات واختلاف الضمائر تأنيثا وتذكيرا لا يضر لأن أل تصلح للجميع فيراد بها معنى اللاتي عند عود ضمير جمع الإناث عليها ومعنى الذين عند عود ضمير جمع الذكور عليها وهو كما ترى، ومثله ما قيل: هو من باب كل رجل وضيعته أي إن المصدقين مقرونون مع المصدقات في الثواب والمنزلة، أو يقدر خبر أي - إن المصدقين والمصدقات يفلحون - * (وأقرضوا) * في الوجهين ليس عطفا على الصلة بل مستأنف ويضاعف بعد صفة قرضا أو استئناف ومن أنصف لم ير ذلك مما ينبغي أن يخرج عليه كلام أدنى الفصحاء فضلا عن كلام رب العالمين، واختار أبو حيان تخريج ذلك على حذف الموصول لدلالة ما قبله عليه كأنه قيل: والذين أقرضوا فيكون مثل قوله: فمن يهجر رسول الله منكم * (ويمدحه وينصره) سواء
وهو مقبول على رأي الكوفيين دون رأي البصريين فإنهم لا يجوزون حذف الموصول في مثله، وبعض أئمة المحققين بعد أن استقرب توجيه التقريب ولم يستبعد تنزيل ما سمعت عن الزمخشري. وأبي علي عليه قال: وأقرب منه أن يقال: إن * (المصدقات) * منصوب على التخصيص كأنه قيل: * (إن المتصدقين) * عاما على التغليب وأخص المتصدقات منهم كما تقول: إن الذين آمنوا ولا سيما العلماء منهم وعملوا الصالحات لهم كذا.
ووجه التخصيص ما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: " يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار " يحضهن على الصدقة بأنهن إذا فعلن ذلك كان له تعالى أقبل وجزاؤه عنه سبحانه أوفر وأفضل، ثم قال: ولما لم يكن الاقراض غير ذلك التصدق قيل: وأقرضوا أي بذلك التصدق تحقيقا لكينونته وأنهم مثل ذلك ممثلون عند الله تعالى بمن يعامل مع أجود الأجودين معاملة برضاه، ولو قيل: والمقرضين لفاتت هذه النكتة انتهى.
ولا يخفى أن نصب المصدقات على التخصيص خلاف الظاهر، وأما ما ذكره في نكتة العدول عن المقروضين فحسن وهو متأت على تخريج أبي علي. والزمخشري، وعلى تخريج أبي حيان، وقال الخفاجي: القول - أي قول أبي البقاء - بأن أقرضوا الخ معترض بين اسم إن وخبرها أظهر وأسهل، وكأن النكتة فيه تأكيد الحكم بالمضاعفة، وزعم أن الجملة حال بتقدير قد أو بدونها من ضميري المصدقين والمصدقات لا يخفى معنى وعربية فتدبر * (يضاعف لهم) * الضمير لجميع المتقدمين الذكور والإناث على التغليب كضمير أقرضوا، والجار والمجرور نائب الفاعل، وقيل: هو ضمير التصدق أو ضمير القرض على حذف مضاف أي يضاعف ثواب التصدق أو ثواب القرض لهم، وقرأ ابن كثير. وابن عامر - يضعف - بتشديد العين، وقرىء يضاعف بالبناء للفاعل أي يضاعف الله عز وجل لهم ثواب ذلك * (ولهم أجر كريم) * قد مر الكلام فيه.
* (والذين ءامنوا بالله ورسله أول‍ائك هم الصديقون والشهدآء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بااي‍اتنآ أول‍ائك أصح‍ابالجحيم) *.
* (والذين ءامنوا بالله ورسله) * قد بين كيفية إيمانهم في خاتمة سورة البقرة، والموصول مبتدأ أول، وقوله تعالى: * (أول‍ك) * مبتدأ ثان، وهو إشارة إلى الموصول وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا، وقوله سبحانه:
182

* (وهم) * مبتدأ ثالث، وقوله عز وجل: * (الصديقون والشهداء) * خبر الثالث، والجملة خبر الثاني وهو مع خبره خبر الأول أو هم ضمير فصل وما بعده خبر الثاني، وقوله تعالى: * (عند ربهم) * متعلق على ما قيل: بالثبوت الذي تقتضيه الجملة أي أولئك عند ربهم عز وجل وفي حكمه وعلمه سبحانه هم الصديقون والشهداء. والمراد أولئك في حكم الله تعالى بمنزلة الصديقين والشهداء المشهورين بعلو الرتبة ورفعة المحل وهم الذين سبقوا إلى التصديق ورسخوا فيه واستشهدوا في سبيل الله جل جلاله وسمي من قتل مجاهدا في سبيله تعالى شهيدا لأن الله سبحانه وملائكته عليهم السلام شهود له بالجنة، وقيل: لأنه حي لم يمت كأنه شاهد أي حاضر، وقيل: لأن ملائكة الرحمة تشهده، وقيل: لأنه شهد ما أعد الله تعالى له من الكرامة، وقيل: غير ذلك فهو إما فعيل بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول على اختلاف التأويل، وقوله تعالى: * (لهم اجرهم ونورهم) * خبر ثان للموصول على أنه جملة من مبتدأ وخبر، أو * (لهم) * الخبر وما بعده مرتفع به على الفاعلية وضمير * (لهم) * للموصول، والضميران الأخيران للصديقين والشهداء، والغرض بيان ثمرات ما وصفوا به من نعوت الكمال أي أولئك لهم مثل أجر الصديقين والشهداء ونورهم المعروفين بغاية الكمال وعزة المنال، وقد حذف أداة التشبيه تنبيها على قوة المماثلة وبلوغها حد الاتحاد كما فعل ذلك أولا حيث قيل: أولئك هم الصديقون والشهداء وليست المماثلة بين ما للفريق الأول من الأجر والنور. وبين تمام ما للفريقين الأخيرين بل بين تمام للأول من الأصل والإضعاف وبين ما للأخيرين من الأصل بدون الإضعاف، فالإضعاف هو الذي امتاز به الفريقان الأخيران على الفريق الأول وقد لا يعتبر تشبيه بليغ في الكلام أصلا ويبقى على ظاهره والضمائر كلها للموصول أي أولئك هم المبالغون في الصدق حيث آمنوا وصدقوا جميع أخبار الله تعالى وأخبار رسله عليهم الصلاة والسلام والقائمون بالشهادة لله سبحانه بالوحدانية وسائر صفات الكمال ولهم بما يليق بهم من ذلك لهم الأجر والنور الموعودان لهم، وقال بعضهم: وصفهم بالشهادة لكونهم شهداء على الناس كما نطق به قوله تعالى: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) * (البقرة: 143) فعند ربهم متعلق بالشهداء، والمراد والشهداء على الناس يوم القيامة، وجوز تعلقه بالشهداء أيضا على الوجه الأول على معنى الذين شهدوا مزيد الكرامة بالقتل في سبيل الله تعالى يوم القيامة أو في حظيرة رحمته عز وجل أو نحو ذلك، ويشهد لكون الشهداء معطوفا على الصديقين آثار كثيرة.
أخرج ابن جرير عن البراء بن عازب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن مؤمني أمتي شهداء، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم: * (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم) *، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أنه قال يوما لقوم عنده: كلكم صديق وشهيد قيل له: ما تقول يا أبا هريرة؟ قال: اقرءوا * (والذين آمنوا بالله ورسله) * الآية، وأخرج عبد الرزاق. وعبد بن حميد عن مجاهد قال: كل مؤمن صديق وشهيد ثم تلا الآية، وأخرج عبد بن حميد نحوه عن عمرو بن ميمون، وأخرج ابن حبان عن عمرو بن مرة الجهني قال: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الصلوات الخمس وأديت الزكاة وصمت رمضان وقمته فممن أنا؟ قال: من الصديقين والشهداء " وينبغي أن يحمل الذين آمنوا على من لهم كمال في ذلك يعتد به ولا يتحقق إلا بفعل طاعات يعتد بها وإلا فيبعد أن يكون المؤمن المنهمك في الشهوات الغافل عن الطاعات صديقا شهيدا،
183

ويستأنس لذلك بما جاء من حديث عمر رضي الله تعالى عنه ما لكم إذا رأيتم الرجل يخرق أعراض الناس أن لا تعيبوا عليه؟ قالوا: نخاف لسانه قال: ذلك أحرى أن لا تكونوا شهداء، قال ابن الأثير: أي إذا لم تفعلوا ذلك لم تكونوا في جملة الشهداء الذين يستشهدون يوم القيامة على الأمم التي كذبت أنبياءها، وكذا بقوله عليه الصلاة والسلام: اللعانون لا يكونون شهداء بناءا على أحد قولين فيه.
وفي بعض الأخبار ما ظاهره إرادة طائفة من خواص المؤمنين، أخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من فر بدينه من أرض إلى أرض مخافة الفتنة على نفسه ودينه كتب عند الله صديقا فإذا مات قبضه الله شهيدا وتلا هذه الآية: * (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء) * ثم قال: هذه فيهم ثم قال: والفرارون بدينهم من أرض إلى أرض يوم القيامة مع عيسى ابن مريم في درجته في الجنة " ويجوز أن يراد من قوله: " هذه فيهم " أنها صادقة عليهم وهم داخلون فيها دخولا أوليا، ويقال: في قوله عليه الصلاة والسلام: " مع عيسى في درجته " المراد معه في مثل درجته وتوجه المماثلة بما مر والخبر إذا صح يؤيد الوجه الأول في الآية.
وروي عن الضحاك أنها نزلت في ثمانية نفر سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام وهم أبو بكر. وعمر. وعثمان. وعلي. وحمزة. وطلحة. والزبير. وسعد. وزيد رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وهذا لا يضر في العموم كما لا يخفى، وقيل: الشهداء مبتدأ و * (عند ربهم) * خبره، وقيل: الخبر * (لهم أجرهم) * والكلام عليهما قد تم عند قوله تعالى: * (الصديقون) *، وأخرج هذا ابن جرير عن ابن عباس. والضحاك قالا: * (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون) * هذه مفصولة سماهم صديقين، ثم قال: والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم.
وروي جماعة عن مسروق ما يوافقه، واختلفوا في المراد بالشهداء على هذا فقيل: الشهداء في سبيل الله تعالى.
وحكى ذلك عن مقاتل بن سليمان، وقيل: الأنبياء عليهم السلام الذين يشهدون للأمم عليهم، وحكى ذلك عن مسروق. ومقاتل بن حيان. واختاره الفراء. والزجاج، وزعم أبو حيان أن الظاهر كون الشهداء مبتدأ وما بعده خبر، ومن أنصف يعلم أنه ليس كما قفال، وأن الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم هو ما تقدم، ثم النور على
الجميع الأوجه على حقيقته، وعن مجاهد. وغيره أنه عبارة عن الهدى والكرامة والبشرى.
* (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا) * أي بجميعها على اختلاف أنواعها وهو إشارة إلى كفرهم بالرسل عليهم السلام جميعهم * (أولئك) * الموصوفون بتلك الصفة القبيحة * (اصح‍ابالجحيم) * بحيث لا يفارقونها أبدا.
* (اعلموا أنما الحيواة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر فى الاموال والاول‍اد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفى الاخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحيواة الدنيآ إلا مت‍اع الغرور) *.
* (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأول‍اد) * بعدما بين حال الفريقين في الآخرة شرح حال الحياة التي اطمأن بها الفريق الثاني، وأشير إلى أنها من محقرات الأمور التي لا يركن إليها العقلاء فضلا عن الاطمئنان بها بأنها لعب لا ثمرة فيها سوى التعب * (ولهو) * تشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه * (وزينة) * لا يحصل منها شرف ذاتي كالملابس الحسنة والمراكب البهية والمنازل الرفيعة * (وتفاخر) * بالأنساب والعظام البالية * (وتكاثر) * بالعدد والعدد، وقرأ السلمي * (وتفاخر بينكم) * بالإضافة، ثم أشير إلى أنها مع ذلك سريعة الزوال وشيكة الاضمحلال بقوله سبحانه: * (كمثل غيث) * مطر أعجب الكفار) * أي راقهم * (نعبعاته) * أي النبات الحاصل به، والمراد بالكفار إما الحراث على ما روي عن ابن مسعود لأنهم يكفرون أي يسترون
184

البذر في الأرض ووجه تخصيصهم بالذكر ظاهر، وأما الكافرون بالله سبحانه ووجه تخصيصهم أنهم أشد إعجابا بزينة الدنيا فإن المؤمن إذا رأى معجبا انتقل فكره إلى قدرة موجده عز وجل فأعجب بها، ولذا قال أبو نواس في النرجس: عيون من لجين شاخصات * على أطرافها ذهب سبيك
على قضب الزبرجد شاهدات * (بأن الله ليس له شريك)
والكافر لا يتخطى فكره عما أحس به فيستغرق إعجابا * (ثم يهيج) * يتحرك إلى أقصى ما يتأتى له، وقيل: أي يجف بعد خضرته ونضارته * (فترياه) * يا من تصح منه الرؤية * (مصفرا) * بعد ما رأيته ناضرا مونقا، وقرىء مصفارا وإنما لم يقل فيصفر قيل: إيذانا بأن اصفراره غير مقارن لهيجانه وإنما المترتب عليه رؤيته كذلك، وقيل: للإشارة إلى ظهور ذلك لكل أحد * (ثم يكون حطاما) * هشيما متكسرا من اليبس، ومحل الكاف قيل: النصب على الحالية من الضمير في * (لعب) * لأنه في معنى الوصف، وقيل: الرفع على أنه خبر بعد خبر للحياة الدنيا بتقدير المضاف إليه أي مثل الحياة كمثل الخ، ولتضمن ذلك تشبيه جميع ما فيها من السنين الكثيرة بمدة نبات غيث واحد يفنى ويضمحل في أقل من سنة جاءت الإشارة إلى سرعة زوالها وقرب اضمحلالها، وبعد ما بين حقارة أمر الدنيا تزهيدا فيها وتنفيرا عن العكوف عليها أشير إلى فخامة شأن الآخرة وعظم ما فيها من اللذات والآلام ترغيبا في تحصيل نعيمها المقيم وتحذيرا من عذابها الأليم، وقدم سبحانه ذكر العذاب فقال جل وعلا:
* (وفي الأخرة عذاب شديد) * لأنه من نتائج الانهماك فيما فصل من أحوال الحياة الدنيا * (ومغفرة) * عظيمة * (من الله ورضوان) * عظيم لا يقادر قدره، وفي مقابلة العذاب الشديد بشيئين إشارة إلى غلبة الرحمة وأنه من باب " لن يغلب عسر يسرين ".
وفي ترك وصف العذاب بكونه من الله تعالى مع وصف ما بعده بذلك إشارة إلى غلبتها أيضا ورمز إلى أن الخير هو المقصود بالقصد الأولى * (وما الحيواة الدنيا إلا مت‍اع الغرور) * لمن اطمأن بها ولم يجعلها ذريعة للآخرة ومطية لنعيمها، روي عن سعيد بن جبير الدنيا متاع الغرور إن ألهتك عن طلب الآخرة، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله تعالى وطلب الآخرة فنعم المتاع ونعم الوسيلة.
* (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السمآء والارض أعدت للذين ءامنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء والله ذو الفضل العظيم) *.
* (سابقوآ إلى مغفرة) * أي سارعوا مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار إلى أسباب مغفرة عظيمة كائنة * (من ربكم) * والكلام على الاستعارة أو المجاز المرسل واستعمال اللفظ في لازم معناه وإنما لزم ذلك لأن اللازم أن يبادر من يعمل ما يكون سببا للمغفرة ودخول الجنة لا أن يعمله أو يتصف بذلك سابقا على آخر؛ وقيل: المراد سابقوا ملك الموت قبل أن يقطعكم بالموت عن الأعمال الموصلة لما ذكر؛ وقيل: سابقوا إبليس قبل أن يصدكم بغروره وخداعه عن ذلك وهو كما ترى.
والمراد بتلك الأسباب الأعمال الصالحة على اختلاف أنواعها، وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في الآية: كن أول داخل المسجد وآخر خارج، وقال عبد الله: كونوا في أول صف القتال، وقال أنس: اشهدوا تكبيرة الإحرام مع الإمام وكل ذلك من باب التمثيل، واستدل بهذا الأمر على أن الصلاة بأول وقتها أفضل من التأخير * (وجنة عرضها كعرض السماء والأرض) * أي كعرضهما جميعا لو ألصق أحدهما بالآخر وإذا
185

كان العرض وهو أقصر الامتدادين موصوفا بالسعة دل على سعة الطول بالطريق الأولى فالاقتصار عليه أبلغ من ذكر الطول معه، وقيل: المراد بالعرض البسطة ولذا وصف به الدعاء ونحوه مما ليس من ذوي الأبعاد وتقدم قول آخر في تفسير نظير الآية من سورة آل عمران وتقديم المغفرة على الجنة لتقدم التخلية على التحلية.
* (أعدت للذين ءامنوا بالله ورسله) * أي هيئت لهم، واستدل بذلك على أن الجنة موجودة الآن لقوله تعالى: * (أعدت) * بصيغة الماضي والتأويل خلاف الظاهر، وقد صرح بخلافه في الأحاديث الصحيحة وتمام الكلام في علم الكلام، وعلى أن الإيمان وحده كاف في استحقاق الجنة لذكره وحده فيما في حيز ما يشعر بعلة الإعداد وإدخال العمل في الإيمان المعدى بالباء غير مسلم كذا قالوا، ومتى أريد بالذين آمنوا المذكورين من لهم درجة في الإيمان يعتد بها، وقيل: بأنها لا تحصل بدون الأعمال الصالحة على ما سمعته منا قريبا انخدش الاستدلال الثاني في الجملة كما لا يخفى، وذكر النيسابوري في وجه التعبير هنا - بسابقوا - وفي آية آل عمران - بسارعوا - وبالسماء هنا، بالسماوات هناك - وبكعرض - هنا - وبعرض - بدون أداة تشبيه ثم كلاما مبنيا على أن المراد بالمتقين هناك السابقون المقربون، وبالذين آمنوا هنا من هم
دون أولئك حالا لتأمل * (ذلك) * أي الذي وعد من المغفرة والجنة * (فضل الله) * عطاؤه الغير الواجب عليه * (يؤتيه من يشاء) * إيتاءه * (والله ذو الفضل العظيم) * فلا يبعد منه عز وجل التفضل بذلك على من يشاء وإن عظم قدره، فالجملة تذييل لإثبات ما ذيل بها.
* (مآ أصاب من مصيبة فى الارض ولا فىأنفسكم إلا فى كت‍ابمن قبل أن نبرأهآ إن ذلك على الله يسير) *.
* (ما أصاب من مصيبة) * أي نائبة أي نائبة وأصلها في الرمية وهي من أصاب السهم إذا وصل إلى المرمى بالصواب ثم خصت بها.
وزعم بعضهم أنها لغة عامة في الشر والخير وعرفا خاصة بالشر، و * (من) * مزيدة للتأكيد، وأصاب جاء في الشر كما هنا، وفي الخير كقوله تعالى: * (ولئن أصابكم فضل من الله) * (النساء: 73) وذكر بعضهم أنه يستعمل في الخير اعتبارا بالصواب أي بالمطر وفي الشر اعتبارا بإصابة السهم، وكلاهما يرجعان إلى أصل وتذكير الفعل في مثل ذلك جائز كتأنيثه، وعليه قوله تعالى: * (ما تسبق من أمة أجلها) * (الحجر: 5) والكلام على العموم لجميع الشرور أي مصيبة أي مصيبة * (في الأرض) * كجدب وعاهة في الزرع والثمار وزلزلة وغيرها * (ولا في أنفسكم) * كمرض وآفة كالجرح والكسر * (إلا في كتاب) * أي إلا مكتوبة مثبتة في اللوح المحفوظ، وقيل: في علم الله عز وجل.
* (من قبل أن نبرأها) * أي نخلقها، والضمير على ما روي عن ابن عباس. وقتادة. والحسن. وجماعة للأنفس، وقيل: للأرض، واستظهر أبو حيان كونه للمصيبة لأنها هي المحدث عنها، وذكر الأرض والأنفس إنما هو على سبيل ذكر محلها، وذكر المهدوي جواز عوده على جميع ما ذكر، وقال جماعة: يعود على المخلوقات وإن لم يجر لها ذكر، وقيل: المراد بالمصيبة هنا الحوادث من خير وشر وهو خلاف الظاهر من استعمال المصيبة إلا أن فيما بعد نوع تأييد له وأيا ما كان ففي الأرض متعلق بمحذوف مرفوع أو مجرور صفة لمصيبة على الموضع أو على اللفظ، وجوز أن يكون ظرفا لأصاب أو للمصيبة، قيل: وإنما قيدت المصيبة بكونها في الأرض والأنفس لأن الحوادث المطلقة كلها ليست مكتوبة في اللوح لأنها غير متناهية، واللوح متناه وهو لا يكون
186

ظرفا لغير المتناهي ولذا جاء " جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة " وفي الآية تخصيص آخر وهو أنه سبحانه لم يذكر أحوال أهل السماوات لعدم تعلق الغرض بذلك مع قلة المصائب في أهلها بل لا يكاد يصيبهم سوى مصيبة الموت، وما ذكره في وجه التخصيص الأول لا يتم إذا أريد بالكتاب علمه سبحانه، وقيل: بأن كتابة الحوادث فيه على نحو كتابتها في القرآن العظيم بناءا على ما يقولون: إنه ما من شيء إلا ويمكن استخراجه منه حتى أسماء الملوك ومددهم وما يقع منهم ولو قيل في وجهه - إن الأوفق بما تقدم من شرح حال الحياة الدنيا إنما هو ذكر المصائب الدنيوية فلذا خصت بالذكر - لكان تاما مطلقا * (إن ذلك) * أي إثباتها في كتاب * (على الله) * لا غيره سبحانه * (يسير) * لاستغنائه تعالى فيه عن العدة والمدة، وإن أريد بذلك تحققها في علمه جل شأنه فيسره لأنه من مقتضيات ذاته عز وجل، وفي الآية رد على هشام بن الحكم الزاعم أنه سبحانه لا يعلم الحوادث قبل وقوعها، وفي الإكليل إن فيها ردا على القدرية، وجاء ذلك في خبر مرفوع، أخرج الديلمي عن سليم بن جابر الجهيمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سيفتح على أمتي باب من القدر في آخر الزمان لا يسده شيء يكفيكم منه أن تلقوه بهذه الآية ما أصاب من مصيبة ".
وأخرج الإمام أحمد. والحاكم وصححه عن أبي حسان أن رجلين دخلا على عائشة رضي الله تعالى عنها فقالا: " إن أبا هريرة يحدث أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار فقالت: والذي أنزل القرآن على أبي القاسم صلى الله عليه وسلم ما هكذا كان يقول، ولكن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كان أهل الجاهلية يقولون: إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار، ثم قرأت * (ما أصاب من مصيبة) * الآية.
* (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بمآ ءات‍اكم والله لا يحب كل مختال فخور) *.
* (لكيلا تأسوا) * أي أخبرناكم بذلك لئلا تحزنوا * (على ما فاتكم) * من نعم الدنيا * (ولا تفرحوا بما ءاتاكم) * أي أعطاكموه الله تعالى منها فإن من علم أن الكل مقدر يفوت ما قدر فواته ويأتي ما قدر إتيانه لا محالة لا يعظم جزعه على ما فات ولا فرحه بما هو آت، وعلم كون الكل مقدرا مع أن المذكور سابقا المصائب دون النعم وغيرها لأنه لا قائل بالفرق وليس في " النظم الكريم " اكتفاء كما توهم، نعم إن حملت المصيبة على الحوادث من خير وشر كان أمر العلم أوضح كما لا يخفى وترك التعادل بين الفعلين في الصلتين حيث لم يسندا إلى شيء واحد بل أسند الأول إلى ضمير الموصول والثاني إلى ضميره تعالى لأن الفوات والعدم ذاتي للأشياء فلو خليت ونفسها لم تبق بخلاف حصولها وبقائها فإنه لا بد من استنادهما إليه عز وجل كما حقق في موضعه، وعليه قول الشاعر: فلا تتبع الماضي سؤالك لم مضى * وعرج على الباقي وسائله لم بقي
ومثل هذه القراءة قراءة عبد الله - أوتيتم - مبنيا للمفعول أي أعطيتم، وقرأ أبو عمرو - أتاكم - من الإتيان أي جاءكم وعليها بين الفعلين تعادل، والمراد نفي الحزن المخرج إلى ما يذهب صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله تعالى ورجاء ثواب الصابرين ونفي الفرح المطغي الملهي عن الشكر، وأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام والسرور بنعمة الله تعالى والاعتداد بها مع الشكر فلا بأس بهما.
أخرج جماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال في الآية: ليس أحد إلا وهو يحزن ويفرح ولكن من أصابته مصيبة جعلها صبرا ومن أصابه خير جعله شكرا، وقوله تعالى:
187

* (والله لا يحب كل مختال فخور) * تذييل يفيد أن الفرح المذموم هو الموجب للبطر والاختيال والمختال المتكبر عن تخيل فضيلة تراءت له من نفسه، والفخور المباهي في الأشياء الخارجة عن المرء كالمال والجاه.
وذكر بعضهم أن الاختيال في الفعل والفخر فيه وفي غيره، والمراد من لا يحب يبغض إذ لا واسطة بين الحب والبغض في حقه عز وجل وأولا بالإثابة والتعذيب، ومذهب السلف ترك التأويل مع التنزيه، ومن لا يحب كل مختال لا يحب كل فرد فرد من ذلك لا أنه لا يحب البعض دون البعض ويرد بذلك على الشيخ عبد القاهر في قوله: إذا تأملنا وجدنا إدخال كل في حيز النفي لا يصلح إلا حيث يراد أن بعضا كان وبعضا لم يكن، نعم إن هذا الحكم أكثري لا كلي، وقوله تعالى:
* (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغنى الحميد) *.
* (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل) * بدل من * (كل مختال) * بدل كل من كل فإن المختال بالمال يضن به غالبا ويأمر غيره بذلك، والظاهر أن المراد أنهم يأمرون حقيقة، وقيل: كانوا قدوة فكأنهم يأمرون أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين الخ، أو مبتدأ خبره محذوف تقديره يعرضون عن الإنفاق الغني عنه الله عز وجل، ويدل عليه قوله تعالى: * (ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد) * فإن معناه ومن يعرض عن الإنفاق فإن الله سبحانه غني عنه وعن إنفاقه محمود في ذاته لا يضره الإعراض عن شكره بالتقرب إليه بشيء من نعمه جل جلاله، وقيل: تقديره مستغنى عنهم، أو موعودونب العذاب أو مذمومون.
وجوز أن يكون في موضع نصب على إضمار أعني أو على أنه نعت - لكل مختال - فإنه مخصص نوعا ما من التخصيص فساغ وصفه بالمعرفة وهذا ليس بشيء، وقال ابن عطية: جواز مثل ذلك مذهب الأخفش ولا يخفى ما في الجملة من الإشعار بالتهديد لمن تولى، وقرأ نافع. وابن عامر - فإن الله الغني - بإسقاط - هو - وكذا في مصاحف المدينة والشام وهو في القراءة الأخرى ضمير فصل، قال أبو علي: ولا يحسن أن يكون مبتدأ وإلا لم لم يجز حذفه في القراءة الثانية لأن ما بعده صالح لأن يكون خبرا فلا يكون هناك دليل على الحذف وهذا مبني على وجوب توافق القراءتين إعرابا وليس بلازم.
* (لقد أرسلنا رسلنا بالبين‍ات وأنزلنا معهم الكت‍ابوالميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومن‍افع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوى عزيز) *.
* (لقد أرسلنا رسلنا) * أي من بني آدم كما هو الظاهر * (بالبين‍ات) * أي الحجج والمعجزات * (وانزلنا معهم الكت‍اب) * أي جنس الكتاب الشامل للكل، والظرف حال مقدرة منه على ما قال أبو حيان، وقيل: مقارنة بتنزيل الاتصال منزلة المقارنة * (والميزان) * الآلة المعروفة بين الناس كما قال ابن زيد وغيره، وإنزاله إنزال أسبابه، ولو بعيدة، وأمر الناس باتخاذه مع تعليم كيفيته.
* (ليقوم الناس بالقسط) * علة لإنزال الكتاب والميزان والقيام بالقسط أي بالعدل يشمل التسوية في أمور التعامل باستعمال الميزان، وفي أمور المعاد باحتذاء الكتاب وهو لفظ جامع مشتمل على جميع ما ينبغي الاتصاف به معاشا ومعادا.
* (وأنزلنا الحديد) * قال الحسن: أي خلقناه كقوله تعالى: * (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) * (الزمر: 6) وهو تفسير بلازم الشيء فإن كل مخلوق منزل باعتبار ثبوته في اللوح وتقديره موجودا حيث ما ثبت فيه. وقال قطرب: هيأناه لكم وأنعمنا به عليكم من نزل الضيف * (فيه بأس) * أي عذاب * (شديد) * لأن آلات الحرب تتخذ منه، وهذا إشارة إلى احتياج الكتاب والميزان إلى القائم بالسيف ليحصل القيام بالقسط فإن الظلم من شيم النفوس، وقوله تعالى: * (ومنافع للناس) * أي في معايشهم ومصالحهم إذ ما من صنعة إلا
188

والحديد أو ما يعمل به آلتها للإيماء إلى أن القيام بالقسط كما يحتاج إلى الوازع وهو القائم بالسيف يحتاج إلى ما به قوام التعايش، ومن يقوم بذلك أيضا ليتم التمدن المحتاج إليه النوع، وليتم القيام بالقسط، كيف وهو شامل أيضا لما يخص المرء وحده، والجملة الظرفية في موضع الحال، وقوله سبحانه:
* (وليعلم الله من ينصره ورسله) * عطف على محذوف يدل عليه السياق أو الحال لأنها متضمنة للتعليل أي لينفعهم وليعلم الله علما يتعلق به الجزاء من ينصره ورسله باستعمال آلات الحرب من الحديد في مجاهدة أعدائه والحذف للإشعار بأن الثاني هو المطلوب لذاته وأن الأول مقدمة له، وجوز تعلقه بمحذوف مؤخر والواو اعتراضية أي وليعلم الخ أنزله أو مقدم والواو عاطفة والجملة معطوفة على ما قبلها وقد حذف المعطوف وأقيم متعلقه مقامه، وقوله تعالى: * (بالغيب) * حال من فاعل ينصر، أو من مفعوله أي غائبا منهم أو غائبين منه، وقوله عز وجل: * (إن الله قوي عزيز) * اعتراض تذييلي جىء به تحقيقا للحق وتنبيها على أن تكليفهم الجهاد وتعريضهم للقتال ليس لحاجته سبحانه في إعلاء كلمته وإظهار دينه إلى نصرتهم بل إنما هو لينتفعوا به ويصلوا بامتثال الأمر فيه إلى الثواب وإلا فهو جل وعلا غني بقدرته وعزته عنهم في كل ما يريد.
هذا وذهب الزمخشري إلى أن المراد بالرسل رسل الملائكة عليهم السلام أي أرسلناهم إلى الأنبياء عليهم السلام، وفسر - البينات - كما فسرنا بناءا على الملائكة ترسل بالمعجزات كإرسالها بالحجج لتخبر بأنها معجزات وإلا فكان الظاهر الاقتصار على الحجج وإنزال الكتاب أي الوحي مع أولئك الرسل ظاهر، وإنزال الميزان بمعنى الآلة عنده على حقيقته، قال: روي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح عليه السلام، وقال: مر قومك يزنوا به، وفسره كثير بالعدل، وعن ابن عباس في إنزال الحديد نزل مع آدم عليه السلام الميقعة والسندان والكلبتان، وروى أنه نزل ومعه المر والمسحاة، وقيل: نزل ومعه خمسة أشياء من الحديد السندان والكلبتان والإبرة والمطرقة والميقعة، وفسرت بالمسن، وتجىء بمعنى المطرقة أو العظيمة منها، وقيل: ما تحد به الرحى، وفي حديث ابن عباس نزل آدم عليه السلام من الجنة بالباسنة وهي آلات الصناع، وقيل: سكة الحرث وليس بعربي محض والله تعالى أعلم.
واستظهر أبو حيان كون - ليقوم الناس بالقسط - علة لإنزال الميزان فقط وجوز ما ذكرناه وهو الأولى فيما أرى، وقوله تعالى:
* (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا فى ذريتهما النبوة والكت‍ابفمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون) *.
* (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم) * نوع تفصيل لما أجمل في قوله تعالى: * (لقد أرسلنا رسلنا) * وتكرير القسم لإظهار مزيد الاعتناء بالأمر أي وبالله لقد أرسلنا نوحا وإبراهيم.
* (وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب) * بأن استنبأناهم وأوحينا إليهم الكتب، وقال ابن عباس: الكتاب الخط بالقلم، وفي مصحف عبد الله - والنبية - مكتوبة بالياء عوض الواو * (فمنهم) * أي من الذرية؛ وقيل: أي من المرسل إليهم المدلول عليهم بذكر الإرسال والمرسلين * (مهتد وكثير منهم فاسقون) * خارجون عن الطريق المستقيم، ولم يقل - ومنهم - ضال مع أنه أظهر في المقابلة لأن ما عليه النظم الكريم أبلغ في الذم لأن الخروج عن الطريق المستقيم بعد الوصول بالتمكن منه، ومعرفته أبلغ من الضلال عنه ولإيذانه بغلبة أهل الضلال على غيرهم.
* (ثم قفينا على ءاث‍ارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وءاتين‍اه الإنجيل وجعلنا فى قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبن‍اها عليهم إلا ابتغآء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فااتينا الذين ءامنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون) *.
* (ثم قفينا على آثارهم برسلنا) * أي أرسلنا بعدهم رسولا بعد رسول، وأصل التقفية جعل الشيء
189

خلف القفا، وضمير آثارهم لنوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم من قومهما. وقيل: لمن عاصرهما من الرسل عليهم السلام.
واعترض بأنه لو عاصر رسول نوحا فإما أن يرسل إلى قومه كهارون مع موسى عليهما السلام أو إلى غيرهم كلوط مع إبراهيم عليهما السلام ولا مجال للأول لمخالفته للواقع ولا إلى الثاني إذ ليس على الأرض قوم غيره، وأجيب بأن ذاك توجيه لجمع الضمير وكون لوط مع إبراهيم كاف فيه، وقيل: للذرية، وفيه أن الرسل المقفى بهم من الذرية فلو عاد الضمير عليهم لزم أنهم غيرهم أو اتحاد المقفى والمقفى به وتخصيص الذرية مرجع الضمير بالأوائل منهم خلاف الظاهر من غير قرينة تدل عليه * (وقفينا بعيسى ابن مريم) * جعلناه بعده.
وحاصل المعنى أرسلنا رسولا بعد رسول حتى انتهى الإرسال إلى عيسى عليه الصلاة والسلام * (وءاتين‍اه الاإنجيل) * بأن أوحيناه إليه وليس هو الذي بين أيدي النصارى اليوم أعني المشتمل على قصة ولادته وقصة صلبه المفتراة؛ وقرأ الحسن * (الإنجيل) * بفتح الهمزة، قال أبو الفتح: وهو مثال لا نظير له، قال الزمخشري: وأمره أهون من أمر البرطيل بفتح الباء والكسر أشهر وهو حجر مستطيل واستعماله في الرشوة مولد مأخوذ منه بنوع تجوز لأنه عجمي وهذا عربي وهم يتلاعبون بالعجمي ولا يلتزمون فيه أوزانهم، وزعم بعض أن لفظ الإنجيل عربي من نجلت بمعنى استخرجت لاستخراج الأحكام منه * (وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة) * أي خلقنا أو صيرنا - ففي قلوب - في موضع المفعول الثاني وأيا ما كان فالمراد جعلنا ذلك في قلوبهم فهم يرأف بعضهم ببعض ويرحم بعضهم بعضا، ونظيره في شأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم * (رحماء بينهم) * والرأفة في المشهور الرحمة لكن قال بعض الأفاضل: إنها إذا ذكرت معها يراد بالرأفة ما فيه درء الشر ورأب الصدع، وبالرحمة ما فيه جلب الخير ولذا ترى في الأغلب تقديم الرأفة على الرحمة وذلك لأن درء المفاسد أهم من جلب المصالح وقرىء رآفة على فعالة كشجاعة * (ورهبانية) * منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر أي وابتدعوا رهبانية.
* (ابتدعوها) * فهو من باب الاشتغال، واعترض بأنه يشترط فيه - كما قال ابن الشجري. وأبو حيان - أن يكون الاسم السابق مختصا يجوز وقوعه مبتدأ والمذكور نكرة لا مسوغ لها من مسوغات الابتداء، ورد بأنه على فرض تسليم هذا الشرط الاسم هنا موصوف معنى بما يؤخذ من تنوين التعظيم كما قيل في قولهم: شر أهر ذا ناب.
ومما يدل عليه من النسبة كما ستسمعه إن شاء الله تعالى أو منصوب بالعطف على ما قبل، وجملة * (ابتدعوها) * في موضع الصفة والكلام على حذف مضاف أي وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة وحب رهبانية مبتدعة لهم، وبعضهم جعله معطوفا على ما ذكر ولم يتعرض للحذف، وقال: الرهبانية من أفعال العباد لأنها المبالغة في العبادة بالرياضة والانقطاع عن الناس، وأصل معناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف فعلان من رهب كخشيان من خشي، وأفعال العباد يتعلق بها جعل الله تعالى عند أهل الحق وهي في عين كونها مخلوقة له تعالى مكتسبة للعبد، والزمخشري جوز العطف المذكور وفسر الجعل بالتوفيق كأنه قيل: وفقناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهبانية واستحداثها بناءا على مذهبه أن الرهبانية فعل العبد المخلوق له باختياره، وفائدة * (في قلوب) * على هذا التصوير على ما قيل، ولا يخفى ما في هذا التفسير من العدول عن الظاهر لكن الإنصاف أنه لا يحسن العطف بدون هذا
190

التأويل أو اعتبار حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه على ما تقدم أو تفسير الرهبانية بما هو من أفعال القلوب كالخوف المفرط المقتضى للغلو في التعبد ويرتكب نوع تجوز في ابتدعوها وما بعده كأن يكون المراد ابتداع أعمالها وآثارها أو ارتكاب استخدام في الكلام بأن يعتبر للرهبانية معنيان الخوف المفرط مثلا، ويراد في جعلنا في قلوبهم رهبانية والأعمال التعبدية الشاقة كرفض الدنيا وشهواتها من النساء وغيرهن، ويراد في * (ابتدعوها) * وما بعده وليس الداعي للتأويل الاعتزال بل كون الرهبانية بمعنى الأعمال البدنية ليست مما تجعل في القلب كالرأفة والرحمة فتأمل.
وقرىء * (رهبانية) * بضم الراء وهي منسوبة إلى الرهبان بالضم وهو كما قال الراغب: يكون واحدا وجمعا فالنسبة إليه باعتبار كونه واحدا ومن ظن اختصاص المضموم بالجمع قال: إنه لما اختص بطائفة مخصوصة أعطى حكم العلم فنسبته إليه كما قالوا في أنصار وأنصاري أو أن النسبة إلى رهبان المفتوح وضم الراء في المنسوب من تغييرات النسب كما في دهري بضم الدال، وقوله تعالى: * (ما كتبن‍اها عليهم) *. جملة مستأنفة، وقوله سبحانه:
* (إلا ابتغاء رضوان الله) * استثناء منقطع أي ما فرضناها نحن عليهم رأسا ولكن ابتدعوها وألزموا أنفسهم بها ابتغاء رضوان الله تعالى، وقوله تعالى: * (فما
رعوها حق رعايتها) * أي ما حافظوا عليها حق المحافظة ذم لهم من حيث إن ذلك كالنذر وهو عهد مع الله تعالى يجب رعايته لا سيما إذا قصد به رضاه عز وجل.
واستدل بذلك على أن من اعتاد تطوعا كره له تركه، وجوز أن يكون قوله تعالى: * (ما كتبناها) * الخ صفة أخرى لرهبانية والنفي متوجه إلى قيد الفعل لا نفسه كما في الوجه الأول، وقوله سبحانه: * (إلا ابتغاء) * الخ استثناء متصل من أعم العلل أي ما قضيناها عليهم بأن جعلناهم يبتدعونها لشيء من الأشياء إلا ليبتغوا بها رضوان الله تعالى ويستحقوا بها الثواب، ومن ضرورة ذلك أن يحافظوا عليها ويراعوها حق رعايتها فما رعوها كذلك والوجه الأول مروى عن قتادة. وجماعة، وهذا مروى عن مجاهد ولا مخالفة عليه بين * (ابتدعوها) * و * (وما كتبناها عليهم) * الخ حيث إن الأول يقتضي أنهم لم يؤمروا بها أصلا والثاني يقتضي أنهم أمروا بها لابتغاء رضوان الله تعالى لما أشرنا إليه من معنى * (ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء) * الخ، ودفع بعضهم المخالفة بأن يقال: الأمر وقع بعد ابتداعها أو يؤل ابتدعوها بأنهم أول من فعلها بعد الأمر ويؤيد ما ذكره في الدفع أولا ما أخرجه أبو داود. وأبو يعلى. والضياء عن أنس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ما ابتدعوها ما كتبناها عليهم " يعني الآية، والظاهر أن ضمير فما رعوها لأولئك الذين ابتدعوا الرهبانية، والمراد نفي وقوع الرعاية من كلهم على أن المعنى فما رعاها كلهم بل بعضهم، وليس المراد بالموصول فيما سبق أشخاصا بأعيانهم بل المراد به ما يعم النصارى إلى زمان الإسلام ولا يضر في ذلك أن أصل الابتداع كان من قوم مخصوصين لأن إسناده على نحو الإسناد في - بنو تميم قتلوا زيدا - والقاتل بعضهم.
وقال الضحاك. وغيره: الضمير في * (فما رعوها) * للاخلاف الذين جاءوا بعد المبتدعين والأول أوفق بالصناعة، والمراد بالذين آمنوا في قوله تعالى: * (فأتينا الذين ءامنوا منهم) * الذين آمنوا
191

إيمانا صحيحا وهو لمن أدرك وقت النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان به عليه الصلاة والسلام أي فآتينا الذين آمنوا منهم إيمانا صحيحا بعد رعاية رهبانيتهم * (أجرهم) * أي ما يختص بهم من الأجر وهو الأجر على ما سلف منهم والأجر على الإيمان به عليه الصلاة والسلام، وليس المراد بهم الذين بقوا على رعاية الرهبانية إلى زمان البعثة ولم يؤمنوا لأن رعايتها لغو محض وكفر بحت وإنما لها استتباع الأجر، ويجوز أن يقال: إن الذين لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها هم الذين كذبوه عليه الصلاة والسلام، قال الزجاج: قوله تعالى: * (فما رعوها حق رعايتها) * على ضربين: أحدهما: أن يكونوا قصروا فيما ألزموه أنفسهم، والآخر: وهو الأجود أن يكونوا حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمنوا فكانوا تاركين لطاعة الله تعالى فما رعوا تلك الرهبانية، ودليل ذلك قوله تعالى: * (فآتينا الذين آمنوا منهم) * الخ انتهى، فحمل الذين آمنوا على من أدرك وقته عليه الصلاة والسلام منهم وآمن به صلى الله عليه وسلم والفاسقين في قوله تعالى: * (وكثير منهم فاسقون) * على الذين لم يؤمنوا به صلى الله عليه وسلم، ومقتضى حمل الذين آمنوا على ما سمعت أولا حمله على الأعم الشامل لمن خرج عن اتباع عيسى عليه السلام من قبل وحمل الفريقين على من مضى من المراعين لحقوق الرهبانية قبل النسخ والمخلين بها إذ ذاك بالتثليث والقول بالاتحاد وقصد السمعة ونحو ذلك من غير تعرض لإيمانهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وكفرهم به مما لا يساعده المقام.
وفي الآثار ما يأباه ففي حديث طويل أخرجه جماعة منهم الحاكم وصححه. والبيهقي في " شعب الإيمان " من طرق عن ابن مسعود " اختلف من كان قبلنا على ثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها فرقة وازت الملوك وقاتلتهم على دين الله وعيسى ابن مريم، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى فقتلتهم الملوك ونشرتهم بالمناشر، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بالمقام معهم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهم الذين قال الله: * (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم) * الذين آمنوا بي وصدقوني * (وكثير منهم فاسقون) * الذين حجدوا بي وكفروا بي " وهذا الخبر يؤيد ما استجوده الزجاج، ويعلم منه أيضا سبب ابتداع الرهبانية وليس في الآية ما يدل على ذم البدعة مطلقا، والذي تدل عليه ظاهرا ذم عدم رعاية ما التزموه، وتفصيل الكلام في البدعة ما ذكره الإمام محيي الدين النووي في شرح " صحيح مسلم ". قال العلماء: البدعة خمسة أقسام واجبة ومندوبة. ومحرمة. ومكروهة. ومباحة فمن الواجبة تعلم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعين وشبه. ذلك، ومن المندوبة تصنيف كتب العلم وبناء المدارس والربط وغير ذلك، ومن المباحة التبسط في ألوان الأطعمة وغير ذلك، والحرام والمكروه ظاهران، فعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم " كل بدعة ضلالة " من العام المخصوص.
وقال صاحب جامع الأصول: الابتداع من المخلوقين إن كان في خلاف ما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو في حيز الذم والإنكار وإن كان واقعا تحت عموم ما ندب الله تعالى إليه وحض عليه أو رسوله صلى الله عليه وسلم فهو في حيز المدح وإن لم يكن مثاله موجودا كنوع من الجود والسخاء
192

وفعل المعروف، ويعضد ذلك قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في صلاة التراويح: نعمت البدعة هذه.
* (ياأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وءامنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم) *.
* (يا أيها الذين ءامنوا) * استظهر أبو حيان كون الخطاب لمن آمن من أمته صلى الله عليه وسلم غير أهل الكتاب والآثار تؤيد ذلك، أخرج الطبراني في " الأوسط " عن ابن عباس. وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قالا: إن أربعين من أصحاب النجاشي قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فشهدوا معه أحدا فكانت فيهم جراحات ولم يقتل منهم أحد فلما رأوا ما بالمؤمنين من الحاجة قالوا: يا رسول الله إنا أهل ميسرة فأذن لنا نجيء بأموالنا نواسي بها المسلمين فأنزل الله تعالى فيهم: * (الذي آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون) * إلى قوله سبحانه: * (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا) * (:) فجعل لهم أجرين فلما نزلت هذه الآية قالوا: يا معشر
المسلمين أما من آمن منا بكتابكم فله أجران ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم فأنزل الله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا) * الآية أي رادا عليهم قولهم: ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم.
وفي " الكشاف " إن قائل ذلك من لم يكن آمن من أهل الكتاب قالوه حين سمعوا تلك الآية يفخرون به على المسلمين، والمعنى يا أيها الذين اتصفوا بالايمان * (اتقوا الله) * أثبتوا على تثواه عز وجل فيما نهاكم عنه.
* (وءامنوا برسوله) * وأثبتوا على الايمان برسوله الذي أرسله إليكم وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وفي التعبير عنه بذلك ما لا يخفى من الدلالة على جلالة قدره عليه الصلاة والسلام * (يؤتكم) * بسبب ذلك.
* (كفلين من رحمته) * قال أبو موسى الأشعري: ضعفين بلسان الحبشة، وقال غير واحد: نصيبين، والمراد إيتاؤهم أجرين كمؤمني أهل الكتاب كأنه قيل: يؤتكم ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الأجرين لأنكم مثلهم في الايمان بالرسل المتقدمين وبخاتمهم صلى الله عليه وسلم عليهم أجمعين لاتفرقون بين أحد من رسله.
وقال الراغب: الكفل الحظ الذي فيه الكفاية كأنه تكفل بأمره، والكفلان هما المرغوب فيهما بقوله تعالى: * (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) * (البقرة: 201).
* (ويجعل لكم نورا تمشون به) * يوم القيامة وهو النور المذكور في قوله تعالى: * (يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم) * (الحديد: 12) * (ويغفر لكم) * ما سلف منكم * (والله غفور رحيم) * أي مبالغ في المغفرة والرحمة فلا بدع إذا فعل سبحانه ما فعل، وقوله تعالى:
* (لئلا يعلم أهل الكت‍ابألا يقدرون على شىء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشآء والله ذو الفضل العظيم) *.
* (لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله) * قيل: متعلق بمضمون الجملة الطلبية المتضمنة لمعنى الشرط إذ التقدير إن تتقوا الله وتؤمنوا برسوله يؤتكم كذا وكذا لئلا الخ، وقيل: متعلق بالأفعال الثلاثة قبله على التنازع، أو بمقدر كفعل ذلك وأعلمهم ونحوه و * (لا) * مزيدة مثلها في قوله تعالى: * (ما منعك ألا تسجد) * (الأعراف: 12) ويجوز زيادتها مع القرينة كثيرا و * (أن) * مخففة من الثقيلة واسمها المحذوف ضمير أهل الكتاب أي أنهم، وقيل: ضمير الشأن وما بعد خبرها والجملة في حيز النصب على أنها مفعول يعلم أي ليعلم أهل الكتاب القائلون من آمن بكتابكم منا فله أجران ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم أنهم لا ينالون شيئا من فضل الله من الأجرين وغيرهما ولا يتمكنون من نيله ما لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وحاصله الإعلام بأن إيمانهم بنبيهم لا ينفعهم شيئا ما لم يؤمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام فقولهم: من لم يؤمن بكتابكم فله أجر باطل.
193

وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: لما نزلت * (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا) * (القصص: 54) فخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: لنا أجران ولكم أجر فاشتد ذلك على أصحابه عليه الصلاة والسلام فأنزل الله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا) * الخ فجعل لهم سبحانه أجرين مثل ما لمؤمني أهل الكتاب، وقال الثعلبي: فأنزل الله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) * الآية فجعل لهم أجرين وزادهم النور ثم قال سبحانه: * (لئلا يعلم) * الخ، وحاصله على هذا ليعلموا أنهم ليسوا ملاك فضله عز وجل فيزووه عن المؤمنين ويستبدوا به دونهم، وقوله تعالى: * (وأن الفضل بيد الله) * عطف على أن لا يقدرون داخل معه في حيز العلم، وقوله سبحانه: * (يؤتيه من يشاء) * خبر ثان لأن أو هو الخبر وما قبله على ما قيل: حال لازمة أو استئناف، وقوله عز وجل: * (والله ذو الفضل العظيم) * اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله.
وذهب بعض إلى أن الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب اليهود والنصارى أو لمن يؤمن منهم بعد، فالمعنى يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما السلام آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم أي أثبتوا على الايمان به أو أحدثوا الايمان به عليه الصلاة والسلام يؤتكم نصيبين من رحمته نصيبا على إيمانكم بمن آمنتم به أولا ونصيبا على إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم آخرا ليعلم الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب أنهم لا ينالون شيئا مما يناله المؤمنون منهم ولا يتمكنون من نيله حيث لم يأتوا بشرطه الذي هو الايمان برسوله صلى الله عليه وسلم، وأيد ذلك بما في " صحيح البخاري " " من كانت له أمة علمها فأحسن تعليمها وأدبها فأحسن تأديبها وأعتقها وتزوجها فله أجران، وأيمارجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران، وأيما مملوك أدى حق الله تعالى وحق مواليه فله أجران " ولا إشكال في ذلك بالنسبة إلى النصارى، ولذا قيل: الخطاب لهم لأن ملتهم غير منسوخة قيل ظهور الملة المحمدية ومعرفتهم بها فيثابون على العمل بها حتى يجب عليهم الايمان بالنبي صلى الله عليه وسلم فإذا آمنوا أثيبوا أيضا فكان لهم ثوابان، نعم قد يستشكل بالنسبة إلى غيرهم لأن مللهم منسوخة بملة عيسى عليه السلام والمنسوخ لا ثواب في العمل به، ويجاب بأنه لا يبعد أن يثابوا على العمل بملتهم السابقة وإن كانت منسوخة ببركة الإسلام. وأجاب بعضهم أن الإثابة على نفس إيمان ذلك الكتابي بنبيه وإن كان منسوخ الشريعة فإن الإيمان بكل نبي فرض سواء كان منسوخ الشريعة أم لا، وقيل: إن * (لا) * في * (لأن لا يعلم) * غير مزيدة وضمير لا يقدرون للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أي فعلنا ما فعلنا لئلا يعتقد أهل الكتاب أن الشأن لا يقدر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون به على شيء من فضل الله تعالى الذي هو عبارة عما أوتوه من سعادة الدارين ولا ينالونه، أو أنهم أي النبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنون لا يقدرون الخ، على أن عدم علمهم بعدم قدرتهم على ذلك كناية عن علمهم بقدرتهم عليه فيكون قوله سبحانه: * (وأن الفضل) * الخ معطوفا على - أن لا يعلم - داخلا معه في حيز التعليل دون أن لا يقدر فكأنه قيل: فعلنا لئلا يعتقدوا كذا ولأن الفضل بيد الله فيكون من عطف الغاية على الغاية بناءا على المشهور ولتكلف هذا القيل مع مخالفته لبعض القراءات لم يذهب إليه معظم المفسرين، وقرأ خطاب ابن عبد الله - لأن لا يعلم - بالإظهار، وعبد الله بن مسعود. وابن عباس. وعكرمة. والجحدري. وعبد الله بن سلمة على اختلاف ليعلم، وقرأ الجحدري أيضا - وليعلم - على أن أصله لئن يعلم فقلبت الهمزة ياءا
194

لكسرة ما قبلها وأدغمت النون في الياء بغير غنة، وروى ابن مجاهد عن الحسن - ليلا - مثل ليلى اسم المرأة * (يعلم) * بالرفع، ووجه بأن أصله - لأن لا - بفتح لام الجر وهي لغة وعليه قوله: أريد لأنسى ذكرها فكأنما * تمثل لي ليلى بكل سبيل
فحذفت الهمزة اعتباطا وأدغمت النون في اللام فصار - للا - فاجتمعت الأمثال وثقل النطق بها فأبدلوا من اللام المدغمة ياءا نظير ما فعلوا في قيراط ودينار حيث أن الأصل قراط ودنار فأبدلوا أحد المثلين فيهما ياءا للتخفيف فصار - ليلا - ورفع الفعل لأن أن هي المخففة من الثقيلة لا الناصبة للمضارع، وروى قطرب عن الحسن أيضا - ليلا - بكسر اللام ووجهه كالذي قبله إلا أن كسر اللام على اللغة الشهيرة في لام الجر؛ وعن ابن عباس كي يعلم، وعنه أيضا لكيلا يعلم، وعن عبد الله. وابن جبير. وعكرمة لكي يعلم.
وقرأ عبد الله أن لا يقدروا بحذف النون على أن إن هي الناصبة للمضارع، والله تعالى أعلم.
ومما ذكره المتصوفة قدست أسرارهم في بعض آياتها: * (هو الأول والآخر والظاهر والباطن) * (الحديد: 3) قالوا: هو إشارة إلى وحدانية ذاته سبحانه المحيطة بالكل، وقالوا في قوله تعالى: * (وهو معكم أينما كنتم) * (الحديد: 4) إشارة إلى أنهم لا وجود لهم في جميع مراتبهم بدون وجوده عز وجل، وقوله تعالى: * (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) * (الحديد: 6) إشارة إلى ظهور تجلي الجلال في تجلي الجمال وبالعكس * (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) * (الحديد: 7) إشارة للمشايخ الكاملين إلى تربية المريدين بإفاضة ما يقوي استعدادهم مما جعلهم الله تعالى متمكنين فيه من الأحوال والملكات.
وقال سبحانه: * (اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها) * (الحديد: 17) لئلا يقنط القاسي من رحمته تعالى ويترك الاشتغال بمداواة القلب الميت * (فما رعوها حق رعايتها) * (الحديد: 27) أوردها الصوفية في باب الرعاية وقسموها إلى رعاية الأعمال والأحوال والأوقات - ويرجع ما قالوه فيها - على ما قيل - إلى حفظها عن إيقاع خلل فيها * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته) * أي نصيبين نصيبا من معارف الصفات الفعلية ونصيبا من معارف الصفات الذاتية * (ويجعل لكم نورا) * من نور ذاته عز وجل وهو على ما قيل: إشارة إلى البقاء بعد الفناء، وقيل: هذا النور إشارة إلى نور الكشف والمشاهدة رتب سبحانه جعله للمؤمن على تقواه وإيمانه برسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو نور العلم النافع الذي يتمكن معه من السير في الحضرات الإلهية كما يشير إليه وصفه بقوله عز وجل: * (تمشون به) * (الحديد: 28)؛ وفي بعض الآثار " من عمل بما علم علمه الله تعالى علم ما لم يعلم " وقال سبحانه: * (اتقوا الله ويعلمكم الله) * (البقرة: 282) وكل ذلك في الحقيقة فضل الله تعالى والله عز وجل ذو الفضل العظيم نسأله سبحانه أن لا يحرمنا من فضله العظيم ولطفه العميم وأن يثبتنا على متابعة حبيبه الكريم عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل التسليم.
195