الكتاب: تعليقة على معالم الأصول
المؤلف: السيد علي الموسوي القزويني
الجزء: ١
الوفاة: ١٢٩٨
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق: السيد علي العلوي القزويني
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٢٢
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك: ٩٦٤-٤٧٠-٣١٣-٨
ملاحظات:

1041
تعليقة
على
معالم الأصول
تأليف
الفقيه المحقق والأصولي المدقق
العلامة السيد علي الموسوي القزويني قدس سره
تحقيق حفيده
السيد علي العلوي القزويني
الجزء الأول
- * * * -
مؤسسة النشر الإسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
1

شابك 8 - 313 - 470 - 964
- - - - - - - - - - - - - -
ISBN 964 - 313 - 158 - 8
تعليقة
على معالم الأصول
(ج 1)
تأليف: العلامة السيد علي الموسوي القزويني قدس سره
الموضوع: الأصول
تحقيق: السيد علي العلوي القزويني
طبع ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: الأولى
المطبوع: 1000 نسخة
التاريخ: 1422 ه‍. ق
مؤسسة النشر الإسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا إلى معالم دينه بإرشاد رسوله الأمين ونور قلوبنا بضياء
كتابه المبين وأتم نعمته علينا بولاية مولانا علي أمير المؤمنين وأولاده المعصومين
- صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - وعصمنا عن متابعة أهل البدع والأهواء
المنحرفين الضالين.
وبعد، لا يخفى على من ألقى السمع وهو شهيد: أن علم الأصول من أشرف
العلوم الإسلامية وأنفعها حيث يتعرف به طرق استنباط الأحكام الشرعية من
أدلتها التفصيلية، على صعوبة مداركها ودقة مسالكها، وهو العلم الذي ازدوج فيه
العقل والسمع، فليست مباحثه عقلية صرفة بحيث لا يتلقاها الشرع بالقبول ولا
نقلية محضة لا تؤيدها ولا تسددها العقول، وهو من العلوم المبتكرة للمسلمين، لا
يساهمهم في إبداعه وتوسعه غيرهم من الملاحدة الكافرين.
ولقد اعتنى علماؤنا الإمامية بدراسة هذا العلم أكثر مما اعتنى به علماء سائر
الفرق، لشدة اهتمامهم بالتفقه ومعرفة الحلال والحرام وتعهدهم والتزامهم العمل
بأحكام الإسلام، ولهذا اشتدت عنايتهم عبر القرون والأعصار بالهداية إلى معالمه
وإحكام قوانينه وتهذيب أصوله وترتيب فصوله وبيان بدائعه ونقد فرائده، إلى أن
أصبح هذا الفن عدة وافية وزبدة شافية.
وناهيك شاهدا - مما ألفوه وصنفوه - هذه الموسوعة المنيفة والجوهرة النفيسة
التي صنفها سيد الفقهاء العظام وأستاذ العلماء الأعلام محيي معالم الدين ومشيد
3

قوانين سيد المرسلين، آية الله في الأرضين " الآقا سيد علي الموسوي القزويني "
حشره الله مع أجداده الطيبين الطاهرين.
ولقد كان هذا الكتاب المتين منذ تأليفه مكنوزا في بلدة قزوين عند أحفاده
الكرام، ما زال الباحثون المحققون في غفلة عنه، ونحن بعد الاطلاع عليه اقترحنا
على خلفه الصالح وحفيده الفاضل سماحة الحجة " الحاج السيد علي العلوي
القزويني " أن يسمح لنا بنسخة الكتاب التي خطها المؤلف (قدس سره) بأنامله الشريفة،
وأن يتحمل أعباء تحقيقها وتنميقها والتعليق عليها - علما منا بأنه حقيق بذلك -
وهو حفظه الله أجابنا إلى ما التمسنا منه وأجاد في عملية التحقيق إلى أن أخرج
هذا السفر الجليل بإخراج فني جميل مزدانا بمقدمة مشتملة على نبذة من حياة
جده الأمجد والتعريف بسائر تآليفه القيمة، شكر الله سعيه وجزاه خير ما جزي
خلف صالح عن سلفه الكريم.
ونحن نحمد الله تعالى ونشكره على ما وفقنا بتقديم هذا السفر الجليل، ونسأله
المزيد من التوفيق والتسديد، إنه حكيم مجيد.
مؤسسة النشر الإسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
4

بسم الله الرحمن الرحيم
نبذة من حياة المؤلف:
الحمد لله الذي رفع درجات العلماء، وجعلهم ورثة الأنبياء، وفضل مدادهم
على دماء الشهداء، والصلاة والسلام على الصادع بالشريعة الغراء، ومؤسس الملة
البيضاء، شمس فلك الاصطفاء، محمد المصطفى وآله الطيبين الأصفياء.
أما بعد، فهذه نبذة حول حياة أحد الشخصيات العلمية الخالدة، والنوابغ القلائل
اللامعة، ذي النفس الزاكية والآراء الراقية والتصانيف العالية، الذي يضن بأمثاله
الدهر إلا في المجالات المتقطعة والفترات النادرة، سلالة المصطفين، المحرز
لقصبات السبق في مضمار الفضل، وحيد عصره وفريد دهره سيد الفقهاء والمجتهدين،
جد جدنا الأمجد وسمي مولانا الممجد فخر الأساطين صاحب الحاشية على
القوانين، السيد علي بن إسماعيل الموسوي القزويني قدس الله نفسه الزكية.
وحيث لم يصل إلينا من تاريخ حياته وتفصيل مجاري أحواله إلا ما ذكره
بعض أصحاب التراجم والفهرستات، وما كتبه والدي الماجد - دام ظله الوارف -
في مقدمة رسالة العدالة (المطبوعة بقم المشرفة سنة 1410 ه‍)
لمؤلفه العلامة (رحمه الله)
ولم يتيسر لنا مزيد تتبع وفحص إلا اليسير، فنكتفي بنقل ما ذكروه وما تيسر لنا من
الإضافات، فنقول ومن الله التوفيق:
مولده وأسرته وهجرته:
كان ميلاده الشريف في شهر ربيع المولود سنة 1237 ه‍. ق في مدينة
5

قزوين (1) حسب ما يستفاد من وصيته التي أرخ فيها زمن بلوغه بقوله: " براي من
از قيمت آنها (ثلث أموال) از أول زمان تكليف من كه ربيع المولود سنة 1252
هزار ودويست وپنجاه ودو باشد، إلى يوم وفاة استيجار صوم وصلاة نمايند ".
وكانت أمه من أرحام السيد إبراهيم الموسوي القزويني صاحب ضوابط
الأصول (المتوفى 1262 ه‍) كما ذكره العلامة الطهراني في ذيل ترجمة السيد
رضي الدين القزويني خال سيدنا المترجم له بقوله:
" السيد رضي الدين القزويني: كان من العلماء الأعلام والمراجع في
التدريس ونشر الأحكام وكان زاهدا مرتاضا، وهو خال السيد علي القزويني
صاحب حاشية القوانين، وقد قرأ عليه ابن أخته المذكور في الأوائل قليلا - إلى أن
قال -:
أن اسم والد المترجم له السيد علي أكبر وأنه كان ابن عم السيد إبراهيم بن
محمد باقر الموسوي القزويني صاحب " الضوابط " (2).
ومن أجل ذا كان يعبر سيدنا المترجم له عنه كثيرا في مختلف مجالات هذا
الكتاب ب‍ " ابن عمنا السيد " أو " ابن عمنا السيد في ضوابطه " (3).
وأما أبوه السيد إسماعيل فلم يصل إلينا شئ من أحواله غير ما ذكره والدي
- دام ظله - بقوله: " ومن المظنون أن مسقط رأس والده كان في قرية خوئين من

(1) كما صرح بذلك في ختام المجلد الأول من حاشيته على القوانين بقوله: " قد تم بيد مؤلفه
الفقير إلى الله الغني علي بن إسماعيل الموسوي القزويني مولدا ومسكنا في العشر الأول من
الربيع الأول سنة اثني وتسعين ومائتين بعد الألف 1292 من الهجرة النبوية ".
(2) الكرام البررة: ج 2 ص 576.
(3) كما جاء في المجلد الثالث من التعليقة - حسب تجزئتنا - في مبحث الأوامر بقوله: هل
يعتبر كون الأمر مستفادا من القول أو أعم منه ومما يستفاد من الفعل؟ فيه وجهان بل قولان،
اختار أولهما العلامة في التهذيب والنهاية وصار إلى ثانيهما جمع من متأخري الأعلام منهم
" ابن عمنا السيد " قدس الله روحه وعلله السيد في ضوابطه بأن المتبادر عند الإطلاق وإن
كان هو الأول ولكنه إطلاقي لعدم صحة السلب عن طلب الأخرس بالإشارة أو الكتابة إلى
آخره.
6

قرى زنجان " (1).
ويؤيده ما ذكره العلامة الطهراني في ترجمة السيد رضي الدين المتقدم ذكره
بقوله: "... إن أصلهم من خوئين لكن جدهم سكن قزوين فتعاقبوا من بعده ونسبوا
إليها " (2).
ثم مات أبوه وهو لم يبلغ الحلم، فعاش في كنف خاله العلامة السيد رضي
الدين القزويني (3) - المتقدم ذكره - عيشة تعزز ونعمة. وقد حدب خاله العلامة
على تربيته تربية علمية صالحة، ومهد له السبيل إلى تحصيل العلم فظهرت معالم
النبوغ الفطري على هذا الطفل المؤمل من أوائل أمره حتى فرغ من تحصيل
مقدمات العلوم في حداثة سنه وبداية أمره، ثم هاجر في طلب العلم وتكميل
مباني الفقاهة والاجتهاد إلى حائر الحسين (عليه السلام) في شهر شعبان المعظم سنة مائتين
واثنين وستين بعد الألف من الهجرة النبوية (1262 ه‍. ق) كما سجل ذلك بخط يده
الشريفة على ظهر حاشية السيد الشريف على الرسالة الوضعية العضدية بقوله:
" هو المالك بالاستحقاق، كيف أقول هذا ملكي وأنا مملوك ربي، بل هو من
عواري الدهر عندي استعرتها بالمبايعة الشرعية تحت قبة سيدي الحسين عليه
وعلى أولاده المعصومين ألف تحية وسلام، وكان ذلك في شهر رمضان المبارك
من شهور مائتين واثنتين وستين بعد الألف من الهجرة النبوية - على هاجرها ألف
تحية وسلام - ولقد كان الشهر المزبور الثاني من السنة الأولى من ورودي في هذه
الأرض الأقدس، وإني أقل الخليقة بل ليس موجودا في الحقيقة، عبده العاصي

(1) رسالة في العدالة - للسيد علي القزويني - المطبوعة بقم المشرفة سنة 1419 ه‍ ص 4.
(2) الكرام البررة: ج 2 ص 576.
(3) قال في المآثر والآثار (ص 152) في ترجمته: آقا سيد رضي الدين: مجتهد قزويني، خال
آقا سيد علي صاحب تعليقه معالم وحاشيه قوانين بود ودر قزوين ومتعلقاتش رياستى
بزرگ ومجلس فقه خارجي بمثابه رؤساى عراق عرب مشحون به گروهى از مستعدين
علماى عجم داشت، جلالت قدر وعظمت شأن آن بزرگوار در اين گونه اختصارات
نمى گنجد قدس سره ".
7

علي الموسوي. (محل خاتمه الشريف) ".
ثم هاجر الهجرتين إلى الأرض الأقدس النجف الأشرف لائذا بمنبع العلم
والفضيلة مولى الموحدين أمير المؤمنين - عليه آلاف التحية والثناء - ولكن لم
نعثر على تاريخ هجرته الثانية، ولا يبعد كونها بعد وفاة السيد إبراهيم القزويني
صاحب " ضوابط الأصول " حسبما يساعده الاعتبار. والله العالم.
بعض مشايخه:
كان سيدنا (قدس سره) قد ترعرع في أحضان أساتذة عظام، وتتلمذ عند أساطين العلم
وعباقرة الفضل في عصره، منهم:
1 - خاله العلامة السيد رضي الدين القزويني، كما قال العلامة الطهراني في
ذيل ترجمته:
" وهو خال السيد علي القزويني صاحب حاشية القوانين، وقد قرأ عليه ابن
أخته المذكور في الأوائل قليلا " (1).
2 - الميرزا محمد التنكابني (رحمه الله) صاحب " قصص العلماء " حيث قال: " اين
فقير را تلامذه چنديست كه أرباب كمالند وبعضى از اين فقير اجازه دارند از آن
جمله:
" آقا سيد علي كه مسلم بلد است واز خويشان أستاذ آقا إبراهيم است " (2).
3 - السيد الجليل والأستاد النبيل السيد إبراهيم الموسوي القزويني صاحب
" ضوابط الأصول " (المتوفى 1262 ه‍. ق) كما ذكره في مستدركات أعيان الشيعة
بقوله:
"... ثم هاجر إلى العراق قاصدا الحوزة العلمية الكبرى وسكن كربلاء والتحق
بحوزة السيد إبراهيم الموسوي الذي كان يرتبط به بصلة القرابة ولكن لم تطل

(1) الكرام البررة: ج 2 ص 576.
(2) قصص العلماء: ص 67.
8

أيامه وتوفي السيد في نفس العام فتوجه المترجم له إلى النجف الأشرف... " (1).
هذا وإن ساعد عليه الاعتبار، ولكنا لم نقف على ما يدل عليه صراحة من
خلال كلماته وعباراته، نعم يؤيده ما أورده في تقريرات بعض مشايخه بقوله:
" كذا ذكره السيد الأستاذ عن أستاذه الشريف " (2).
4 - شيخ المشايخ، أستاذ الفقهاء والمجتهدين الشيخ محمد حسن النجفي (رحمه الله)
(صاحب الجواهر) المتوفى سنة (1266 ه‍. ق) ويستفاد ذلك من صريح كلامه في
مواضع عديدة من كتابه الكبير في الفقه الموسوم ب‍ " ينابيع الأحكام في معرفة
الحلال والحرام " حيث يعبر عنه ب‍ " شيخنا في جواهره " أو " شيخنا في الجواهر "
منها: ما في مبحث استحباب مسح الرأس بمقدار ثلاث أصابع، حيث قال: - بعد ما
نقل مقالة الشهيد (قدس سره) في المسالك عند قول المحقق: " والمندوب مقدار ثلاث
أصابع عرضا " -: وقد تبعه على ذلك شيخنا في الجواهر، حيث قال: والظاهر أن
المراد من المستحب مقدار عرض ثلاث أصابع لأنه المتبادر من التقدير... إلى
آخره.
5 - قدوة المحققين وفخر المجتهدين وحيد عصره وفريد دهره الشيخ
مرتضى الأنصاري (المتوفى 1281 ه‍. ق) حيث عبر عنه ب‍ " شيخنا " أو " شيخنا
الأستاذ " وهذا يبدو من مجالات متعددة من مؤلفاته في الفقه والأصول.
منها: ما ذكره في المجلد الخامس من التعليقة على المعالم عند ختام البحث
عن حجية ظواهر الكتاب بقوله: " ثم إنه ينبغي ختم المسألة بذكر أمور، أولها: ما
حكاه شيخنا (قدس سره) من أنه ربما يتوهم أن الخلاف في اعتبار ظواهر الكتاب قليل
الجدوى... إلى آخره ".

(1) مستدركات أعيان الشيعة: ج 3 ص 138.
(2) والمراد ب‍ " الأستاذ الشريف " هو الشيخ محمد الشريف المعروف بشريف العلماء
المازندراني أصلا والحائري مسكنا ومدفنا (المتوفى 1246 ه‍. ق) وهو الذي تتلمذ عنده
السيد إبراهيم القزويني صاحب ضوابط الأصول (المتوفى 1262 ه‍. ق).
9

ومنها: ما في مبحث حرمة العمل بالظن، حيث قال: - بعد ما نقل عن المحقق
البهبهاني (رحمه الله) بداهة عدم جواز العمل بالظن عند العوام فضلا عن العلماء -: " ونقل
الضرورة ربما يكون أقوى من نقل الإجماع كما نبه عليه شيخنا الأستاذ عند
تتلمذنا عنده ".
6 - قد ذكر بعض (1) تتلمذه عند شريف العلماء المازندراني الحائري (رحمه الله)، وهو
خطأ محض لا يساعده الاعتبار، لأن الأستاذ الشريف مات بكربلاء بمرض
الطاعون في سنة (1246 ه‍. ق) - على الأصح - (2) وهو آنذاك لم يكمل عشر
سنين ومن البعيد جدا تتلمذه عنده، هذا مضافا إلى أن وروده بكربلاء كان في سنة
1262 ه‍. ق كما تقدم آنفا.
7 - قد عد صاحب مستدركات أعيان الشيعة (3) جملة من العلماء الأعلام
القاطنين آنذاك بقزوين في زمرة مشايخه كالشهيد الثالث المولى محمد تقي
البرغاني، والمولى آغا الحكمي والشيخ ميرزا عبد الوهاب البرغاني وغيرهم
قدس الله اسرارهم ولكنا مع شدة فحصنا في آثاره (رحمه الله) لم نعثر على ما يدل عليه
صراحة أو ظهورا، ولا تكفي فيه المعاصرة أيضا كما لا يخفى.

(1) تاريخ روابط إيران وعراق - مرتضى مدرس چهاردهى - ص 207.
(2) حكى في " مكارم الآثار " (ج 4 ص 1271) عن بعض تلامذة صاحب الفصول (رحمه الله) -
الذي كان آنذاك قاطنا بكربلاء المعلى وابتلي أيضا بالطاعون ولكن نجى منها - ما هذا لفظه:
" اليوم 24 شهر ذي القعدة الحرام سنة 1246 روزى بي دروغ تخمينا در كربلاى معلى
دويست و پنجاه تا سيصد نفر از طاعون مى ميرند... و جناب شريف العلماء اليوم وفات كرد
و زنش و دختر و پسرش... ".
وقال في موضع آخر:
" اليوم 24 شهر ذي قعدة سنة 1246 أحوالم بحمد الله خوب است لكن خلق بسيار
مردند، و جناب شريف العلماء ملا شريف مازندراني ملقب به آخوند مطلق اليوم مرد با يك
زنش و يك دختر و يك پسرش بچند يوم قبل... ".
(3) مستدركات أعيان الشيعة ج 3 ص 138.
10

هذا مع أنه لم يصرح به في كلمات غيره من أصحاب الفهارس والتراجم، ولا
ندري أنه من أين وقف على ذلك؟
بعض تلامذته:
قد ارتوى من منهل علمه العذب كثير من الأجلة الأفاضل منهم:
1 - العلامة الحكيم الحاج مولى محمد المدعو بالهيدجي ابن الحاج
معصومعلي (1).
2 - العلامة المحقق والفقيه الأصولي الشيخ عبد الله المازندراني (1259 -
1331) (2).
3 - العلامة الهمام فخر المحققين الحاج الشيخ جواد بن مولى محرمعلى
الطارمي (1263 - 1325) (3).
4 - العالم الفقيه والفاضل الجليل السيد حسين الاشكوري (المتوفى 1349
ه‍. ق) (4).
5 - العلامة المحقق الشيخ شعبان الجيلاني النجفي (1275 - 1348) الذي
كان من الفقهاء الأعلام ومراجع التقليد في عصره (5).
6 - الفقيه الزاهد السيد حسين الزرآبادي (المتوفى بعد سنة 1300 ه‍. ق) (6).
7 - العالم الفقيه السيد مهدي بن حسن بن السيد أحمد القزويني النجفي الحلي
(المتوفى 1300) (7).

(1) فهرست مشاهير علماء زنجان - الشيخ موسى الزنجاني -: ص 135.
(2) ذيل سياحت شرق - آقا نجفي قوچاني -: ص 366.
(3) نقباء البشر: ج 1 ص 339، أعيان الشيعة: ج 4 ص 279، فهرست مشاهير علماء زنجان:
ص 22.
(4) نقباء البشر: ج 2 ص 590.
(5) نقباء البشر: ج 2 ص 838.
(6) نقباء البشر: ج 2 ص 501.
(7) أعيان الشيعة: ج 2 ص 145.
11

8 - العلامة الشيخ جعفر بن عبد الله (المتوفى سنة 1334 ه‍. ق) (1).
9 - العلامة الشيخ فتح علي بن الحاج ولي بن علي عسكر (المتوفى 1338 ه‍
. ق) (2).
10 - العالم البارع المولى علي أصغر بن غلامعلي (المتوفى 1341 ه‍. ق) (3).
11 - العالم الفقيه الميرزا نصر الله شيخ الإسلام والد الميرزا فضل الله
المعروف بشيخ الإسلام الزنجاني (4).
12 - العالم الفقيه السيد أبو الحسن بن هادي بن محمد رضا الحسيني
التنكابني (المتوفى 1286 ه‍. ق) (5).
ولعل هناك كثيرا ممن لم نعثر على أساميهم، التي قد أهملت أسماؤهم ولم
يضبط أحوالهم في كتب التراجم فلم نقف عليها.
تأليفاته:
ترك سيدنا الجد (قدس سره) آثارا جليلة، أهمها ما يلي:
1 - الحاشية على القوانين: وهو الكتاب الذي نال به مؤلفه شهرته الخالدة في
علم الأصول حتى صار يعرف المؤلف بالمؤلف ويوصف ب‍ " صاحب الحاشية على
القوانين ". وهذه من أشهر حواشي القوانين وأحسنها تنقيحا وأجودها توضيحا
وأمتنها تعبيرا وتحريرا.
وقد حكي في " تاريخ روابط إيران وعراق " عن العلامة محمد صالح
المازندراني السمناني في شأن هذا الكتاب ما هذا نصه:

(1) فهرست مشاهير علماء زنجان: ص 33.
(2) فهرست مشاهير علماء زنجان: ص 97.
(3) المصدر السابق: ص 135.
(4) مستدركات أعيان الشيعة: ج 7 ص 210.
(5) المصدر السابق: ج 3 ص 7.
12

" اين دو كتاب (حاشية سيد على بر قوانين وحاشيه ميرزا محمد على مدرس
رشتى) از نظر دقت وتحقيق علم أصول از شاهكارهاى علمي در قرون أخير
بشمار مى روند " (1).
وقد حدثني أيضا سيدنا الأستاذ آية الله المعظم السيد موسى الشبيري
الزنجاني - دام ظله العالي - عن آية الله الفقيد السيد مرتضى الفيروزآبادي عن آية
الله العظمى السيد محمود الشاهرودي - قدس سرهما - أنه كان يقول:
نحن أيام دراستنا عند المحقق النائيني (رحمه الله) كان يعجبنا دقائق أفكاره ونفائس
آرائه في الأصول، وكنا نحسبها من بنات أفكاره وإبداعاته، إلى أن قدر لي أن
أعثر على حاشية السيد علي القزويني (رحمه الله) على القوانين فرأيت فيها جل هذه
التحقيقات الأنيقة، انتهى ما حكيناه عنه.
وهذه القضية ترشدنا إلى ما هو من أهم مصادر الآراء الأصولية لمدرسة
المحقق النائيني (رحمه الله) ومن هنا يجدر على الباحث عن دقائق نظريات هذه المدرسة
الأصولية، الرجوع إلى تلك الحاشية الرشيقة للنيل إلى دقيق طورها وبعيد غورها.
وقد طبعت هذه الحاشية المباركة في سنة 1299 ه‍. ق في عاصمة طهران وطبعت
أيضا بهامش القوانين كرارا.
2 - التعليقة على معالم الأصول: وهذا هو الكتاب الماثل بين يديك، وهذا
السفر الجليل أبسط تعليقة علقت على المعالم - فيما نعلم - تبلغ قريبا من أربعة
عشر مجلدا - حسب تجزئتنا - ومن المؤسف بقيت هذه التعليقة المباركة حتى
اليوم مخطوطة، حبيسة في زوايا المكتبات يعلوها التراب ولم يطلع عليها إلا
بعض النابهين من الأعلام ممن يفتشون عن النفائس دون الزخارف.
واليوم - بحمد الله والمنة - قد خرجت في أحسن هيئة وأجمل أسلوب إلى
الحوزات العلمية والملأ العلمي، ولله الحمد على ما أنعم والشكر على ما ألهم.

(1) تاريخ روابط إيران وعراق: ص 245.
13

وأما منهجه (قدس سره) في هذا الكتاب، فهو أنه يبدأ الموضوع في كل مسألة بشكل
مستوعب ويطرح حوله آراء الأعلام الذين يعتنى بأقوالهم وأفكارهم (1) ثم
يناقشها بالنقض والإبرام، ثم يشرع في التعليق على بعض عبائر المعالم.
ثم إنه (قدس سره) أورد فيها بعض ما لم يأت بها صاحب المعالم (رحمه الله) من المسائل
الأصولية كما نبه عليه في مقدمة الكتاب بقوله: " غير أني أضفت إلى ما احتواه من
المسائل ما كان المصنف قد تركه وكثيرا من مبادئه التي قد أهملها... الخ ".
وبذلك صار هذا السفر الجليل موسوعة كبيرة أصولية، التي لم يعمل بمثلها في
عالم المصنفات، جامعا جهتي التفصيل والتحقيق، ولذا أحال إليها كثيرا في حاشية
القوانين بقوله: " فصلناه في التعليقة " أو " حققناه في التعليقة " وأمثال ذلك من
العبارات.
3 - رسالة في تحقيق حقيقة المفرد المحلى باللام.
4 - رسالة في أقسام الواجب وأحكامها.
5 - رسالة في تداخل الأسباب والمسببات.
6 - رسالة في قاعدة نفي الضرر والضرار، وقد أحال إليها في مبحث البراءة

(1) ومن أهم ما يطرح فيها من الآراء والأقوال هي آراء هؤلاء الفطاحل والأعاظم:
الشيخ محمد حسين الإصفهاني (صاحب الفصول) الذي يعبر عنه ب‍ " بعض الفضلاء "
وأخيه الشيخ محمد تقي صاحب (هداية المسترشدين) الذي يعبر عنه ب‍ " بعض الأفاضل "
وصاحب القوانين الذي يعبر عنه ب‍ " بعض الأعلام " والمحقق سلطان العلماء المحشي على
المعالم، الذي يرمز عنه ب‍ " بعض المحققين " والسيد إبراهيم القزويني صاحب (ضوابط
الأصول) الذي يعبر عنه تارة ب‍ " ابن عمنا السيد " وأخرى ب‍ " بعض الأعاظم " وثالثة ب‍ " بعض
أجلة المعاصرين ". والميرزا محمد إبراهيم الكلباسي صاحب " إشارات الأصول " الذي يعبر
عنه أيضا ب‍ " بعض الأعاظم ".
والسيد مهدي بحر العلوم صاحب (شرح الوافية) الذي يعبر عنه ب‍ " بعض الأجلة " أو
" بعض أجلة السادة " والشيخ مرتضى الأنصاري (رحمه الله) الذي يعبر عنه ب‍ " بعض مشايخنا "
والمدقق الشيرواني والمحقق النراقي صاحب (مناهج الأصول) وغيرهم من أكابر الطائفة
وأعاظم الفرقة الناجية.
14

من حاشيته على القوانين.
7 - رسالة في الولاية وقد أشار إليها في حاشية القوانين في مبحث الاجتهاد
والتقليد.
8 - رسالة في قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، طبعت في سنة 1419
ه‍. ق بقم المشرفة.
9 - رسالة في العدالة، وقد فرغ من تأليفها في محرم الحرام (سنة 1286 ه‍. ق)
طبعت في سنة 1419 ه‍. ق بقم المشرفة.
10 - رسالة في حمل فعل المسلم على الصحة، قد فرغ منها في إحدى
وعشرين من شهر ذي القعدة الحرام سنة (1288 ه‍. ق) طبعت في سنة 1419 بقم
المشرفة.
11 - رسالة في أن الأصل في المعاملات الصحة أو الفساد.
12 - رسالة فارسية في الاجتهاد والتقليد والطهارة والصلاة والزكاة والخمس
والصوم والرضاع طبعت في (سنة 1290 ه‍. ق).
13 - رسالة فارسية في أنواع التكسب والبيع والخيارات والقرض.
14 - رسالة فارسية المسماة ب‍ " أصول الدين وشرح أفعال الصلاة " طبعت في
سنة 1331 في العاصمة طهران.
15 - رسالة سؤال وجواب بالفارسية، المشتملة على أجوبة الاستفتاءات
وغيرها من المسائل الفقهية وفيها بيان لمعاني بعض الأخبار المشكلة.
ولقد أشار المحقق الطهراني إلى تلك الرسائل في الذريعة ذيل عنوان
" الرسائل الكثيرة " (1).
16 - ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام (2) وهذا كتاب كبير في الفقه
يشتمل على خمس مجلدات كبار:
المجلد الأول: في المياه.

(1) الذريعة: ج 10 ص 256.
(2) الذريعة: ج 25 ص 886.
15

المجلد الثاني: في الطهارات الثلاث وتوابعها.
المجلد الثالث: في الصلاة.
المجلد الرابع: في الزكاة.
المجلد الخامس: في التجارة.
وقد أحال إليه في مبحث اجتماع الأمر والنهي من حاشيته على القوانين.
ونسأل الله تعالى أن يوفقنا لطبع هذا الأثر الفقهي الكبير.
17 - شرح على شرائع الإسلام: من أول كتاب التجارة إلى الأجرة على
الأذان ومن أول الفصل الثاني في عقد البيع إلى بيع السمك في الآجام.
وشرح على كتاب الصيد والذباحة من أوله إلى مسألة القطعة المبانة من الحي.
و على كتاب الصوم من أوله إلى إيصال الغبار والدخان إلى الحلق ويلحق به
البحث عن شرائط المتعاقدين في النكاح.
18 - كتاب البيع من أوله إلى آخره، ويشتمل على البحث من جملة من
المشتركات بين المسلمين كالمساجد والمدارس والربط والمعادن.
19 - تعليقة على كتاب الرضاع للشيخ مرتضى الأنصاري (رحمه الله).
20 - كتاب الرضاع بالفارسية: قال في مفتتح هذا الكتاب: " بدان كه چون أقل
عباد الله سابق براين رساله رضاعية منسوب به شيخ أستاذ - طاب ثراه - را
ملاحظه كرده وبر بعض مواضع آن حاشية نوشته بودم ومقلدين را اذن در رجوع
به آن وعمل كردن بر مسائل آن داده بودم و مسائل آن نيز در ميان مردم كثير
الحاجة وعام البلوى است خواستم آن را هم جزء اين رساله قرار داده
باشم، حواشي آن را داخل در متن نموده ومجموع را جزء اين رسالة قرار دادم
كه مردم در مسائل رضاع نيز كه محتاج به آنها ميشوند معطل نباشند ".
21 - تعليقة على تفسير البيضاوي.
منزلته العلمية وزهده ومرجعيته:
كان قدس الله نفسه الزكية من أحد الشخصيات النادرة في تاريخ الفقه
16

والأصول، وقد آتاه الله فكرا قويا ثاقبا وذوقا سليما سويا في التفكير
والاستدلال، كما يكشف عنه حاشيته المعروفة على القوانين بما فيها من الكنوز
الثمينة من الآراء الناضجة والتحقيقات الراقية، وهذا يجعلنا في غنى وكفاية عن
تبيين موقفه العلمي.
كان (قدس سره) دائم التفكير لا يفارقه العمل العلمي تدريسا أو تأليفا إلا في أوقات
العبادة والراحة كما يومي إليه ما كتبه في ختام المجلد الأول من ينابيعه بقوله:
" قد فرغ من تسويده مؤلفه الفقير إلى الله الغني علي بن إسماعيل المرحوم
الموسوي عند طلوع الفجر من يوم الثلاثاء الاثني عشر من شهر رجب المرجب
من شهور سنة 1272 ".
ومع ذلك كان من مراجع عصره قد رجع إليه جمع من المؤمنين وطبعت
رسالته العملية في 1290 ه‍. ق لتنبيه أمور المقلدين الذين يرجعون إليه في التقليد،
وقد علق عليه فقيه الطائفة المحقة السيد محمد كاظم اليزدي صاحب العروة
الوثقى (1).
ومن جانب آخر كان في حياته الشخصية زاهدا قانعا معرضا عن الدنيا
وأربابها ورياساتها الفانية، كما أشار إليه كل من تصدى لترجمته من أصحاب
التراجم والفهرستات كما يأتي إن شاء الله تعالى.
ومما ينبغي الإشارة إليه هنا، ما حكى بعض المعاصرين (2) عن بعض من
عاصره (رحمه الله) في شأنه (رحمه الله) بقوله:
"... درس أصول - خصوص قوانين - وپيشنمازى و وثوق قلبي و حتى تقليد
بعضي منحصر به آقا سيد علي بود، ولو قضاوت نمى كرد، مراوده با أعيان
واشراف هم نداشت، خمس وزكاة ومظالم مى گرفت و فورا تقسيم مى كرد ميان

(1) وهو موجود في مكتبة والدي دام ظله بقزوين.
(2) سيماى تاريخ وفرهنگ قزوين - دكتر پرويز ورجاوند: ج 2 ص 1102 نقلا عن كيوان
نامه ص 53 - 56.
17

علماء وطلاب، و از اين جهت روى دل طلاب به أو بود...
در مسجد آقا سيد على هر كه اقتداء مى نمود هيچ مقيد نبود كه خود را به أو
نشان دهد زيرا به هر كه چيزى مى داد توقع اقتداء از أو نداشت...
مسجد آقا سيد علي چنان پر از مأمومين مى شد كه غالبا جا نبود با آنكه
مسجد بزرگى بود جنب خانه اش، در ماه رمضان مسجد آقا سيد علي براي نماز
جا خريده مى شد وهر واعظى آرزو داشت كه در آنجا منبر رود... "
نشاطاته الإجتماعية:
لم يصل إلينا شئ من حياته السياسية والاجتماعية سوى كتاب له أرسله إلى
الوزير الأعظم الناصري الميرزا محمد حسين خان سپهسالار، عند ما استعان
الوزير منه (قدس سره) في دفع الفرقة البابية الضالة المضلة ولكنه أجاب (قدس سره) بما يظهر منه
شدة فطانته وكياسته في حقن دماء الأبرياء وحفظ حريم المسلمين، وحيث إن
لهذا الكتاب - الذي وجدناه بخط ولده الفقيه السيد محمد باقر القزويني (رحمه الله) - قيمة
تاريخية مضافا إلى اشتماله على بعض الفوائد، نورده هنا بتمامه:
صورة مكتوبى است كه جناب آقاى والد مرحوم - أعلى الله مقامه - در
جواب مراسلة صدر أعظم مغفور ميرزا محمد حسين خان مرقوم فرموده اند
زماني كه حكم به اخذ طائفة بابيه - خذلهم الله - شده بود.
" هو العالي، بعرض أعلى حضرت جناب صدارت وعظمت وفقه الله سبحانه
على ما يحب ويرضى ويرشده إلى ما يؤمنه عن الشدائد في الوحشة الكبرى
مى رساند:
كه از عطف ضمير منير بيضاء تنوير، وعطف عميم سليم معاني تصميم، به
واسطه پيك مكتوب مرغوب فصاحت أسلوب وبلاغت مصحوب به رحل رنجور
اين مهجور كدورت... أنواع فرح و سرور ارزانى فرمود، و به أنوار خامه نامه
سپهر فأمه كه چون نامه سليمانى كه آن را باد صبا به شهر سبا آورده بر ديده رمد
18

ديده اين داعى صميمى غيبي لا ريب كحل و داروى بينائى عنايت و التفات
فرموده بودند، بحمد الله والمنة له كه در اين زمان سعادت اقتران مهر سپهر سلطنت
در دايره تدبير فلك صدارت آن برگزيده حضرت أحديت روى به سير و حركت
و تدوير آمد وسيله رفاه و آسودگى اسلاميان و تبعه إيران، اگر چه تابش آفتاب
وجود مبارك حضرت شاهنشاه جمجاه عالم پناه خلد الله ملكه است وليكن
استقرار و دوام بلكه ظهور و بروز آن مربوط به استقامت و حركت و سير دايره
صدارت صانها الله عن الحدثان و عوارض زمان است، در سنواتى كه آن سامى
در نظم و انتظام سفارت إسلامبول مشغول بوديد به واسطه وفور آثار خير كه از
آن سامى در مشاهد متبركه ظهور و بروز يافته بود چقدر أسباب رفاهيت و
آسودگى از مكرمت و شوكت و حسن نيت آن وجود مسعود حقانيت نمود براي
مسلمانان و شيعيان اثنى عشرى كه در آن أماكن مقدسه و ساير ثغور و جوانب
ساكن بودند نشر و انتشار يافته بود، كه ذكر خير آن سامى بر همه زبانها جارى و
دعاى خير آن بزرگوار مكرمت مدار بر لسان عامة خلايق از علماء و أكابر
خاصه، خواص و عوام، أعلى و أدنى، سارى بود، الحال كه بحمد الله زمام إيران
مدارى به كف كفايت آن بزرگوار معدلت شعار آمده البتة پر واضح و روشن است
كه بيشتر از پيشتر خواهند وجود حقانيت نمود خود را در حفظ و حراست ثغور
اسلام و تعظيم شعائر الله و توقير علماء ملت و امهاق أهل ضلالت وأعداد دين
مبين ورفع ظلامات مظلومين واحقاق حقوق مسلمانان و جمع أسباب رفاهيت و
آسودگى ايشان مصروف خواهد فرمود.
اين ذره بي مقدار اگر چه وجودي براي خود قرار نداده و خود را در جرگه
علماء اعلام و فقها ذوى العز والاحترام كثر الله أمثالهم داخل ننموده، بلكه اگر
قبول فرمايند خود را در عداد زمره طلاب مى شمارد و به همين تقريب است كه
غالب أوقات شبانه روز را در مصاحبت و مجالست و مذاكره علوم دينيه با اين
طايفه مى گذارند، ولى چون خطاب عطوفانه از آن قطب دايره ملوكانه به اين
19

ذره بي مقدار توجه صدور فرموده بودند، فلذا قدم جرأت به نگارش اين عريضه
كه در حقيقت جسارت نامه است كه از بنده ذليل حقيرى است به آن صوب
عظمت و حشمت و اقتدار صدور يافت:
أولا: اين ذره بي مقدار را و ساير علماى عظام را ترغيب و تحريص
ما لا كلام فرموده بودند بر دعاى بقاء دولت عليه حقانيه زادها الله شرفا وسلطانا،
البتة چگونه مى شود كه علماء اعلام از اين فقره تجاهل كنند و تغافل ورزند و
حال اينكه بأدله و براهين دانسته اند و مى دانند كه اقتدار بر ترويج شرايع دين و
نشر احكام دين سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله) و انتظام معيشت و زندگانى براي ايشان
نخواهد بود مگر به دعاى بقاء و اقتدار اين دولت.
ثانيا: اين ذره بي مقدار را وصيت فرموده بودند به متحد دانستن دين و دولت
و متفق بودن أرباب اين دو با يكديگر، البتة اين فقره نيز پر واضح است كه دين و
دولت بايد متحد باشند و أرباب دين با أولياء دولت را لازم است كه ظهير
يكديگر و عقيب همديگر باشند والا براي هيچيك قرار و دوام و بقائى نخواهد
بود، و بحمد الله والمنة له نيز چنين بوده و هستند زيرا كه معنى اتحاد و اتفاق دين
و دولت اين است كه در أمور راجعه به دين و ملت بايد رجوع أولياء دولت به
بزرگان دين و پيشوايان ملت بوده باشد، و در أمور راجعه به دولت بايد علماء
دين و ملت أطاعت از أولياء دولت و امناى سلطنت كنند و همديگر را در مهام
يكديگر أعانت و حمايت فرمايند و بحمد الله إلى يومنا هذا در اين خصوص از
علما سلف و خلف قصورى نشده و تقصيري سر نزده و در آنچه كه متابعت و
أطاعت دولت بر ايشان لازم بوده كوتاهى نكرده و مخالفت نورزيده اند.
وثالثا: اين ذره بي مقدار را مأمور فرموده بوديد به تفحص و استعلام وجود
ضاله مضله بابيه خذلهم الله در اين صوب و إعلام و إظهار آن به جناب سامى كه
در قلع و قمع آنها كما هو حقه بكوشند البتة وظيفة جناب صدارت همين است كه
در اين فقره كمال اهتمام را فرمايند زيرا كه اين طائفه ضاله مضله نه تنها أعداء
20

دين و ملت مى باشند بلكه أعداء دولت و سلطنت نيز مى باشند، بلكه أهم مقصود
ايشان همان دولت و سلطنت است... دين و ملت ديگر براي پيش نهاد و توصل
به همين مطلب مى نمايند، ولكن چون اين ذره بي مقدار چندان مجالست و
معاشرت با عامه أهالي دوران ندارد فلذا از اين طائفه ضاله مضله كساني را بر
وجه تعيين و تفصيل نديده و نشناخته است، البتة اگر من بعد شناسائى در حق
كسى پيدا شود خواهد در مقام اظهار و اعلام عريضه نگار شد، زيادة سوء أدب و
جسارت خواهد،... أدام الله شوكتكم وإجلالكم العالي بجاه نبيه المرسل وأهل
بيته وعترته الطاهرة والسلام.
أولاده:
قد أنجب (قدس سره) ابنا وأربع بنات، وأما ابنه فهو:
العالم الفقيه الأصولي السيد محمد باقر الموسوي القزويني (رحمه الله) المتوفى
(1338 ه‍. ق) الذي كان من أجلاء عصره ومشاهير دهره، ولد في أرض الغري
وتخرج على الميرزا حبيب الله الرشتي والشيخ محمد حسن بن عبد الله الممقاني،
وله إجازات من أعلام عصره كالفاضل الشربياني والسيد المجدد آية الله السيد
محمد حسن الشيرازي وغيرهما من الأعلام، وبرز منه تأليفات كثيرة وتوفي يوم
الأربعين سنة 1338 ه‍ بكربلاء المشرفة ودفن في جوار مولانا الحسين (عليه السلام) (1).
وأما بناته:
1 - زوجة العالم الورع الميرزا حسين بن المولى آغا القزويني (الخوئيني)
كما نبه عليه العلامة الطهراني في الكرام البررة (2).
2 - زوجة العالم الفقيه السيد أبو القاسم الحسيني القزويني، وهي أم العالم
الأورع والفقيه الزاهد السيد محمد الحسيني المدعو ب‍ " جزمه اى " (قدس سره).

(1) راجع مقدمة رسالة العدالة ص 11 - نقباء البشر: ج 1 ص 214.
(2) الكرام البررة: ج 2 ص 577.
21

3 - زوجة السيد زين العابدين التنكابني (رحمه الله) وهي أم العالم الفقيه السيد أبو
الحسن التنكابني (رحمه الله).
4 - زوجة العالم الجليل السيد خليل بن السيد رفيع القزويني، وهي أم الحكيم
الإلهي والفيلسوف الرباني، فقيه الطائفة آية الله العظمى السيد أبو الحسن الرفيعي
القزويني (المتوفى 1396 ه‍. ق).
الثناء عليه:
تعرض لوصفه ببالغ المديح والثناء كثير من العلماء العظام وأصحاب التراجم
والفهرستات.
1 - وفي طليعتهم ما أطرى عليه السيد المجدد آية الله العظمى الميرزا محمد
حسن الشيرازي (رحمه الله) (المتوفى 1312 ه‍. ق) عند إجازته لولده العالم السيد محمد
باقر - المتقدم ذكره - حيث عبر عن والده (قدس سره) ب‍ " مجتهد الزماني " مع ما هو معلوم
من سيرته وطريقته من شدة تجنبه عن بذل العناوين والألقاب إلى غير أهلها،
وهذا يكشف جليا عن جلالة قدر سيدنا المترجم له وعلو شأنه (1).
2 - قال في المآثر والآثار (ص 142):
" آقا سيد على قزويني: از أعاظم مجتهدين و أجله حفظه شريعت و دين بود
و در علم فقه مقام تحقيق أو را از معاصرين أحدى انكار نداشت ولى در اين
أصول مسلم تر مى نمود، غالب أوقات قوانين محقق قمى را عنوان أفادت قرار

(1) هذه صورة ما أجازه: بسم الله الرحمن الرحيم: بر قاطبه مؤمنين أيدهم الله تعالى مخفى
نماند كه جناب مستطاب سلالة السادات العظام عمدة العلماء الأعلام كروبى نصاب، قدسي
خطاب آقا سيد باقر ابن مرحوم " مجتهد الزماني " آقا سيد علي أعلى الله مقامه، آراسته
بزينت تقوى ومتحلى به حليه پرهيز كارى از جمله موثقين بوده ومى باشند لهذا آنجناب
مأذون ميباشد در تصرف كردن در جميع أمور حسبيه كمال احتياط را مراعاة خواهند
فرمود...
الأحقر محمد حسن الشيرازي - محل خاتمه الشريف
22

مى داد و به آن كتاب كريم اعتقادي عظيم داشت و هم بر قوانين حاشية نگاشته
كه به طبع رسيده و نيز بر معالم الأصول تعليقه مبسوطي پرداخته است، به زهد و
تقوى و قدس أو كمتر كسى ديده شده و آن علامه عهد و زاهد عصر همشيره زاده
حاج سيد رضى الدين مجتهد قزوينى است رضوان الله عليهما ".
3 - وفي ريحانة الأدب (ج 4 ص 454) لميرزا محمد على المدرس الخياباني -:
" قزويني سيد على بن إسماعيل موسوى عالمي است فاضل، عابد، زاهد،
فقيه، أصولي، محدث، رجالي، مفسر، معقولى، منقولى، از فحول علماى أواخر
قرن سيزدهم هجرت كه أغلب أوقات قوانين الأصول ميرزاى قمى را تدريس
مى كرده و از تأليفات اوست:
1 - حاشية قوانين مذكور كه بسيار مرغوب و بين العلماء محل توجه و
مطلوب و از تبحر و رشاقت بيان مؤلف خود حاكى است و در تهران چاپ شده.
2 - حاشية معالم الأصول.
3 - قاعده لا ضرر، و در سال هزار و دويست و نود و هشت هجرت وفات
يافته ".
3 - قال في نقباء البشر (ج 4 ص 1308):
" السيد علي القزويني: من الفضلاء الأجلة والعلماء الكاملين، ومن أرحام
السيد إبراهيم القزويني صاحب " الضوابط " وقد أجازه العلامة الميرزا محمد
التنكابني صاحب " قصص العلماء " المتوفى في سنة 1302 كما ذكره فيه ".
وكذا ذكره في الذريعة ج 6 ص 177، ج 10 ص 256، وهكذا تصدى
لترجمته غيرهم من أصحاب التراجم كما جاء في نجوم السماء (ج 1 ص 331)
وأحسن الوديعة، " مينو در " يا باب الجنة ج 2.
وفاته:
قد جرى عليه قضاء الله ولبى نداء ربه في يوم الثلاثاء أربع مضين من شهر
23

محرم الحرام سنة مائتين وثمان وتسعين بعد الألف من الهجرة النبوية (1298 ه‍
. ق) بعد ساعتين من النهار في بلدة قزوين، وحمل جثمانه الشريف إلى حائر
الحسين (عليه السلام) ودفن في بقعة فيها مرقد السيد إبراهيم القزويني صاحب ضوابط
الأصول وخاليه السيد تقي والحاج السيد رضي الدين القزويني قدس سرهم.
وجاء في تاريخ وفاته:
بر پيغمبريه (1) آسمان گفت * چنين: يا ليتني كنت ترابا
پى تاريخ ديدم بر مزارى * بود سيد على رضوان مآبا
فسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيا، وآخر دعوانا أن الحمد لله
رب العالمين. والسلام
مصادر الترجمة
1 - طبقات أعلام الشيعة (نقباء البشر - الكرام البررة) - للعلامة الشيخ آغا
بزرگ الطهراني -
2 - قصص العلماء - لميرزا محمد التنكابني -
3 - نجوم السماء - ميرزا محمد مهدي الكشميري -
4 - أحسن الوديعة - السيد مهدي بن السيد محمد الموسوي الخوانساري -
5 - تاريخ روابط إيران وعراق - مرتضى مدرسى چهاردهى -
5 - سيماى تاريخ وفرهنگ قزوين - دكتر پرويز ورجاوند -
7 - مقدمة على رسالة في العدالة - للسيد جواد العلوي -
8 - اختلافيه كيوان - عباسعلى كيوان -
9 - كيوان نامه - عباسعلى كيوان -
10 - المآثر والآثار - اعتماد السلطنة -
11 - ريحانة الأدب - ميرزا محمد على مدرس الخياباني -

(1) پيغمبريه: مقبرة معروفة بقزوين، يقال: دفن فيها أربعة أنبياء من بنى إسرائيل.
24

12 - حاشية القوانين - للسيد علي القزويني -
13 - فهرست مشاهير علماء زنجان - الشيخ موسى الزنجاني -
14 - سياحت شرق - آقا نجفي قوچانى -
15 - أعيان الشيعة - السيد محسن الأمين -
16 - مستدركات أعيان الشيعة - السيد حسن الأمين -
17 - مينو دريا باب الجنة - محمد علي گلريز -
18 - الذريعة إلى تصانيف الشيعة - للعلامة الطهراني -
19 - التعليقة على معالم الأصول - للسيد علي القزويني -
20 - ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - للسيد علي القزويني -
21 - مكارم الآثار - ميرزا محمد علي معلم حبيب آبادي -
منهجية التحقيق:
لا يخفى على المتتبع ما يواجهه المحقق من مصاعب شتى في مسيرة عمله
التحقيقي، وبالخصوص فيما لو عزت عليه النسخ لأجل تثبيت المواضع المضطربة
أو تشخيص المقاطع المبهمة، مما يضعه في دوامة لا محيص عنها. وهذا ما دعانا
إلى اتباع الدقة والانتباه بقدر الممكن لابتغاء المطلوب الذي جهدنا على تحقيقه.
ولذا فقد بادرنا إلى تشكيل برنامج عمل يتخذ ما يلي أساسا له:
1 - اعتمدنا في مراحل عملنا على النسخة المدونة بخط المؤلف (رحمه الله) وحدها،
بيد أنه ظهر لنا بعد التتبع أن له (رحمه الله) تحريرين من التعليقة دونتهما يراعتاه
الشريفتان، ولما كان الثاني منهما أتقن متنا وأسبك عبارة وأشد إيجازا من الأول
فقد عولنا عليها بشكل رئيسي، غير أنها - وللأسف - غير تامة، وعليه فقد
اقتصرنا على الأولى في هذه الحالة.
2 - قمنا بتقويم النص، وقد آلينا الدقة المطلوبة فيها، وتلخص في: تقطيع
النص إلى عدة فقرات حسب ما تقتضيه المطالب، ووضع العلامات الإملائية بين
25

العبائر لغرض تسهيل القراءة، والإعانة على فهم المطالب المذكورة، وتوضيح
المبهمات، وشرح الكلمات الغريبة وإدراجها في ذيل صفحات الكتاب، مستعينين
بما جاء في أوراق التحرير الأول، وما في حاشيته رحمه الله على " القوانين "
ومنوهين في الأثناء إلى ذلك في الهامش.
3 - بذلنا ما في الوسع لتخريج الآيات الكريمة والروايات الشريفة. وأما
الأقوال المنقولة فبادرنا إلى تخريجها بادئ الأمر، ثم ارتأينا تركه حرصا منا على
التسرع في إصدار هذا السفر القيم بتمام أجزائه ولئلا يزداد في حجم مجلداته.
4 - أضفنا إلى المتن بعض الكلمات التي نراها مناسبة لمقتضى السياق،
حرصا منا على توضيح المراد، وإعانة للقارئ الكريم على الوصول إلى بغيته
المرجوة. هذا وقد حرصنا على أن نجعل الإضافة الواردة بين معقوفتين [] حفظا
منا على الأصل الذي هو أمانة في أعناقنا.
حفيد المؤلف
السيد علي العلوي القزويني - نزيل قم المشرفة
26

صورة الصفحة الأولى من التعليقة الموجودة في خزانة
مكتبة مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) بقزوين
27

صورة الصفحة الأخيرة من التعليقة
28

تعليقة
على
معالم الأصول
29

باسمه تعالى
تيسيرا لمراجعة القراء الكرام أوردنا من متن
معالم الدين ما يخص كل مبحث قبل الشروع فيه.
مؤسسة النشر الإسلامي
معالم الدين:
فصل
الفقه في اللغة: الفهم وفي الاصطلاح هو: العلم بالأحكام الشرعية
الفرعية عن أدلتها التفصيلية. فخرج بالتقييد بالأحكام العلم بالذوات
كزيد مثلا، وبالصفات ككرمه وشجاعته، وبالأفعال ككتابته وخياطته.
وخرج بالشرعية غيرها كالعقلية المحضة واللغوية. وخرج بالفرعية
الأصولية. وبقولنا: " عن أدلتها " علم الله سبحانه، وعلم الملائكة
والأنبياء، وخرج بالتفصيلية علم المقلد في المسائل الفقهية؛ فانه
مأخوذ من دليل إجمالي مطرد في جميع المسائل؛ وذلك لأنه إذا علم
أن هذا الحكم المعين قد أفتى به المفتي، وعلم أن كلما أفتى به المفتي،
فهو حكم الله تعالى في حقه، يعلم بالضرورة أن ذلك الحكم المعين هو
حكم الله سبحانه في حقه. وهكذا يفعل في كل حكم يرد عليه.
وقد أورد على هذا الحد: أنه إن كان المراد بالأحكام البعض لم
يطرد؛ لدخول المقلد إذا عرف بعض الأحكام كذلك؛ لأنا لا نريد به
العامي، بل من لم يبلغ رتبة الإجتهاد. وقد يكون عالما متمكنا من
تحصيل ذلك، لعلو رتبته في العلم، مع أنه ليس بفقيه في الاصطلاح.
وإن كان المراد بها الكل لم ينعكس؛ لخروج أكثر الفقهاء عنه، إن لم
يكن كلهم؛ لأنهم لا يعلمون جميع الأحكام، بل بعضها أو أكثرها.
30

ثم إن الفقه أكثره من باب الظن؛ لابتنائه غالبا على ما هو ظني
الدلالة أو السند. فكيف أطلق عليه العلم.
والجواب: أما عن سؤال الأحكام، فبأنا نختار أولا: أن المراد
البعض. قولكم: " لا يطرد لدخول المقلد فيه "، قلنا: ممنوع؛ أما على
القول بعدم تجزي الاجتهاد، فظاهر؛ إذ لا يتصور على هذا التقدير،
انفكاك العلم ببعض الأحكام كذلك عن الاجتهاد؛ فلا يحصل للمقلد،
وإن بلغ من العلم ما بلغ. وأما على القول بالتجزي، فالعلم المذكور
داخل في الفقه، ولا ضير فيه؛ لصدقه عليه حقيقة وكون العالم بذلك
فقيها بالنسبة إلى ذلك المعلوم اصطلاحا وإن صدق عليه عنوان
التقليد بالإضافة إلى ما عداه.
ثم نختار ثانيا: أن المراد بها الكل - كما هو الظاهر؛ لكونها جمعا
محلى باللام، ولا ريب أنه حقيقة في العموم - قولكم: " لا ينعكس
لخروج أكثر الفقهاء عنه "، قلنا: ممنوع، إذ المراد بالعلم بالجميع التهيؤ
له، وهو أن يكون عنده ما يكفيه في استعلامه من المآخذ والشرائط،
بأن يرجع إليه، فيحكم. وإطلاق " العلم " على مثل هذا التهيؤ شايع في
العرف؛ فانه يقال في العرف: " فلان يعلم النحو " مثلا، ولا يراد أن
مسائله حاضرة عنده على التفصيل. وحينئذ فعدم العلم بالحكم في
الحال الحاضر لا ينافيه.
واما عن سؤال الظن، فبحمل " العلم " على معناه الأعم، أعني
ترجيح أحد الطرفين، وإن لم يمنع من النقيض، وحينئذ فيتناول الظن.
وهذا المعنى شايع في الاستعمال، سيما في الأحكام الشرعية.
وما يقال في الجواب أيضا - من أن الظن في طريق الحكم، لا فيه
نفسه، وظنية الطريق لا تنافى علمية الحكم - فضعفه ظاهر عندنا. وأما
عند المصوبة القائلين بأن كل مجتهد مصيب - كما سيأتي الكلام فيه،
إن شاء الله تعالى، في بحث الاجتهاد - فله وجه. وكأنه لهم. وتبعهم فيه
من لا يوافقهم على هذا الأصل، غفلة عن حقيقة الحال.
31

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل فروع أحكامه منتظمة، وأصول تلك الفروع منضبطة،
وقوانين هذه الأصول محكمة، وضوابط هذه القوانين متقنة، والصلاة والسلام على
نبيه نبي الصدق الذي كفى في طريق تصديقه وآية صدقه في نبوته وما أتى به من
شرائع دينه عند العقول الصحيحة الكاملة إنه ما أمر بشئ فقال العقل: " يا ليته
نهى " ولا نهى عن شئ فقال العقل: " يا ليته أباحه " وعلى آله وخلفائه وأصحابه
الذين لم ينقضوا عهده في خلفائه، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الأولين
والآخرين إلى يوم الدين.
وبعد فيقول - العبد الجاني علي بن إسماعيل الموسوي القزويني مولدا
وموطنا -: إني لما وجدت أصول الفقه من أجل مباني العلم بالأحكام، وأعظم
مبادئ الاجتهاد المؤدي إلى معرفة الحلال والحرام، حاولت الخوض في مباحثه،
وحسن النظر في مبادئه ومبانيه، رجاء للوصول إلى كنوز معارفه وبحور معالمه،
فبالغت مستكملا للجد التام والاجتهاد التمام في تسويد أوراق تحتوي المهمات
من مسائله، وتضبط من دقائق الأفكار ما لا يكاد يلتقط في المدونات من دفاتره،
وألهمت أن أجعلها تعليقة على معالم الأصول لنتبرك ببركات محاسنه - تأليفا
وترتيبا - ولأجل ذا أحببت أن أسميها بهذه اللفظة، رعاية لمطابقة الاسم مسماه،
غير إني أضفت إلى ما احتواه من المسائل ما كان المصنف قد تركه، وكثيرا من
مبادئه التي كان قد أهملها، فأرجو من الله من منه وفضله التوفيق على إتمامها،
والتأييد للنفع والانتفاع لنفسي، وكل من حاول النفع والانتفاع بها.
* * *
32

[1] قوله: (الفقه... الخ)
وإنما أهمل أصول الفقه، وترك التعرض لشرحه لغة وعرفا، إضافة وعلما،
لكون غرضه الأصلي من وضع الكتاب التعرض لمسائل الفقه، وإنما أورد جملة
من مسائل أصول الفقه من باب المبادئ، كما هو ديدن جماعة من أوائل
الأصحاب، حيث أوردوا في مفتتح كتبهم الفقهية كثيرا من مباحث هذا العلم،
وحيث إن غرضنا الأصلي هنا البحث عن هذا العلم واستكمال النظر في مسائله،
فالمناسب أن نتعرض لبيان ما أهمله المصنف (قدس سره) فنقول:
إن أصول الفقه علم لهذا العلم كما صرح به جماعة من الأصوليين، وكذلك
غيره من ألفاظ سائر العلوم، كالفقه والكلام والمنطق والنحو والصرف وغيرها،
فإن كلا علم لمسماه الخاص، ولكن ينبغي أن يعلم أنه ليس المراد بالعلمية هنا
كونها من قبيل علم الشخص كزيد وعمرو ونحوهما، بدليل: إن كلا منها في معناه
العلمي مما يعرف ويعرف به، وعلم الشخص ما كان مسماه جزئيا حقيقيا، ومن
حكمه أن لا يعرف ولا يعرف به، ولا كونها من قبيل علم الجنس كأسامة ونحوه،
بدليل عدم جريان أحكام المعارف عليها لذواتها من دون اعتبار تعريف فيها
بواسطة الإضافة أو اللام.
وعلم الجنس ما يجري فيه أحكام المعارف، سواء قلنا بكونه معرفة أيضا،
كما هو قضية القول بالفرق بينه وبين اسم الجنس بأنه ما وضع للماهية بشرط
حضورها في الذهن، واسم الجنس ما وضع لها لا بشرط.
وعليه مبنى القول بالفرق بينه وبين المعرف باللام، بأنه يدل على التعريف
بجوهره، والمعرف باللام يدل عليه بواسطة اللام.
أو قلنا: بأنه لا فرق بينهما إلا في أحكام اللفظ، من امتناع الإضافة، ودخول
اللام، والوصف بالمعرفة، والوقوع ذا الحال، وغير ذلك من أحكام المعارف.
ولا ريب أن كلا من ألفاظ العلوم مما يصح إضافته وتعريفه باللام، ولا يصح
وصفه بالمعرفة بدون اعتبار تعريف فيه بأحد الوجهين، كما يظهر أثر صدق هذا
33

الكلام فيما عدا أصول الفقه - كالفقه والنحو وغيرهما - لسبق تعريفه بالإضافة على
العلمية، فتعين أن يكون المراد بها معناه اللغوي وهو " العلامة " كما يقال: الرفع علم
الفاعلية والنصب علم المفعولية.
وهذا وإن كان معنى عاما جامعا لأعلام الأشخاص، وأعلام الأجناس،
وأسماء الأجناس وغيرها من الألفاظ الموضوعة، لكون كل لفظ موضوع باعتبار
دلالته على معناه الموضوع له علامة له، غير أن المراد به هنا ما ينطبق على أسماء
الأجناس، لانتفاء الأولين حسبما عرفت، فيكون أصول الفقه كغيره من قبيل اسم
الجنس الموضوع للماهية الكلية من حيث هي، التي هي إما القدر المشترك بين
جميع المسائل والقدر المعتد به منها الكافي في حصول الغرض المقصود من
تدوينها، أو جنس التصديق بالمسائل، أو جنس ملكة التصديق بها، على الخلاف
الآتي.
ويمكن القول بخروج أصول الفقه عن سياق النظائر، لتضمن معناه التعريف،
ولذا يعرف: " بأنه العلم بالقواعد... الخ " ولا جهة له إلا العلمية، فيكون من قبيل
علم الجنس، بخلاف الفقه مثلا المتضمن معناه التعريف، بشهادة أنه يعرف: " بالعلم
بالأحكام... الخ " وجهته التعريف باللام، فيكون من قبيل اسم الجنس المعرف.
وفي تعريف المنطق يقال: " إنه آلة قانونية... الخ " وفي تعريف النحو يقال:
" إنه علم... الخ " فالقول بالتفصيل حينئذ غير بعيد.
ثم في كون الألفاظ المشار إليها أسامي لنفس المسائل، أو التصديق بها، أو
ملكة التصديق بها، وجوه بل أقوال خيرها أوسطها، لأن الأمور الاصطلاحية
يرجع لمعرفتها إلى تنصيص أربابها، ولا نظن نصا منهم أقوى مما اتفقت عليه
تعاريف هذه الأسامي، إلا ما شذ منها من أخذ العلم فيها جنسا، واعتبار تعلقه
بالمسائل، أو ما يرادفها كالأحكام والقواعد والقوانين والأحوال ونحوها، فإنه
لولا كونها عندهم أسامي للتصديق بالمسائل، لأفضى أخذ العلم فيها جنسا إلى
البينونة فيما بين الحد والمحدود.
34

وأما القول بكونها لنفس المسائل، فأول ما يرد عليه ويبطله: أنه لو صح ذلك
لامتنع الجمع في الحدود بين أخذ العلم جنسا واعتبار تعلقه بالمسائل ومرادفاته،
ضرورة امتناع اتحاد المتعلق مع المتعلق، فوجب أن لا يراد المسائل من الجنس،
فلا يكون المحدود أيضا مرادا به المسائل، لوجوب انطباق الحد على المحدود.
وثاني ما يرد عليه: صدق الفقيه والحكيم و المتكلم وغيرها من الألفاظ
المشتقة من تلك الأسامي باعتبار معناها الوصفي المأخوذ فيه المبدأ صدقا
حقيقيا، ومن الممتنع كون ذلك المبدأ هو المسائل، لأن القائم بالذات المأخوذة في
مفاهيم هذه المشتقات ليس هو المسائل، ولا أن الذات متصفة أو متلبسة بها، بل
هو إما التصديق أو ملكته، فوجب أن يكون مسمى الألفاظ أيضا أحد هذين،
لوجوب التطابق بين المشتق والمشتق منه في المعنى الحدثي.
مع أنه لم نقف لهذا القول على ما يعتمد عليه إلا على وجوه ضعيفة، ربما أمكن
الاحتجاج بها:
منها: دعوى تبادر المسائل من تلك الألفاظ.
ومنها: قولهم: " النحو ما دونه فلان " و " المنطق ما دونه فلان " وهكذا،
بتقريب: إن المدون ليس إلا المسائل.
ومنها: قولهم: " هذا فقه أو نحو أو منطق " إشارة إلى الكتاب الحاضر، بتقريب:
أن الإشارة إنما تقع على المكتوب الذي ليس إلا المسائل، فهي مسمى الاسم
الواقع محمولا، لامتناع حمل المبائن.
ومنها: قولهم: " هذه المسألة من النحو أو بعض منه " وما أشبه ذلك، بتقريب:
أن كون شئ بعضا من شئ مسمى باسم، يستدعى كون الاسم اسما للمجموع من
الشئ الأول وغيره، وهو ليس إلا المسألة بحكم الإشارة فكذلك غيره.
وفي الأول: منع واضح، لو أريد به ما يستند إلى حاق اللفظ ليكون وضعيا.
نعم شيوع إطلاقها على نفس المسائل مما لا مجال إلى إنكاره، فإن أريد به
ما يستند إليه أو ما هو موجود في الأمثلة المذكورة، وفي مثل قولهم: " فلان يعلم
35

النحو " وما أشبه ذلك فهو غير مجد، لاستناده إلى أمر آخر غير الوضع، والبواقي
ترجع إلى إثبات استعمال لا يصلح دليلا على الحقيقة، مع أنه في جميع الموارد
المذكورة حتى في مثل " فلان يعلم النحو " استعمال مع القرينة كما يظهر بأدنى
تأمل، مع أنه في بعضها ليس استعمالا في المسائل فقط، بل في المجموع منها ومن
المبادئ والموضوعات، كما في العبارة الأولى، بدليل التدوين، وفي بعضها استعمال
في أمر مبائن كما في العبارة الثانية، لوضوح أن المكتوب المشار إليه هو النقوش
الحاكية عن المسائل لا أنها نفس المسائل، ولئن سلمنا أصل الاستعمال بل شيوعه
أيضا - كما أشرنا إليه - فهو لا يقاوم التنصيص المستفاد من الحدود، والجمع بينهما
بالتزام الاشتراك بين المسائل والتصديق بها بعيد، مع أن المجاز خير منه.
وبجميع ما ذكر ظهر ضعف القول بكونها للملكات، ومما يزيفه أيضا: إن من
القواعد اتصاف الاسم باعتبار المسمى بما يتصف به المسمى من الصفات اللاحقة
به، كزيد المتصف بما يتصف به مسماه من الطول والقصر والعالمية والشاعرية
ونحوها، والمقام على تقدير الوضع للملكة ليس بتلك المثابة، لاتصاف الملكة
بصفات كالشدة والضعف والقوة والوهن مع عدم اتصاف الاسم من جهتها بها،
لغرابة أن يقال: " الفقه القوي، أو الشديد، أو الضعيف ".
وقضية ذلك عدم كونه اسما للموصوف بهذه الصفات، مع أنه ليس له وجه
يعتمد عليه إلا توهم تبادر الملكة منها عند الإطلاق، كما في " فلان فقيه، أو
حكيم، أو متكلم، أو نحوي، أو أصولي " حيث لا يتبادر منها إلا كونه ذا ملكة.
ويؤيده، بل يدل عليه: أن الفنون المدونة ليست إلا كسائر الحرف والصنائع،
وإن امتازت عنها بما فيها من الشرافة وعلو المرتبة، بل هي صنائع علمية وغيرها
صنائع عملية.
ومن المقرر المعلوم بالاستقراء المصرح به في كلام غير واحد، كون ألفاظ
سائر الحرف والصنائع مع الألفاظ المشتقة منها بأسرها أسامي لملكاتها، من دون
اعتبار التلبس والاشتغال بالمبدأ الحالي في مسمياتها، وكذلك ألفاظ الصنائع
36

العلمية وسائر تصاريفها، فلا يدخل في مسمياتها التلبس الفعلي بالمبدأ الحالي
وهو " الإذعان للنسبة " والقول: بأن صدق الفقيه على صاحب الملكة الذي لا يعلم
شيئا من الأحكام بعيد، مجرد استبعاد لا يصلح للاستناد إليه، مع أن المراد
بصاحب الملكة هنا من له قوة راسخة يقتدر بها على الإذعانات الفعلية للمسائل
بمراجعة المدارك واستعمال مبادئها حين المراجعة.
ومن الظاهر أن هذه القوة لا تحصل إلا بالممارسة التامة في الفن، المستتبعة
لاستحضار مسائله واستحصال مبادئه، مع التمكن من أعمالها حين الرجوع إلى
المدارك، بحيث لم يكن بينه وبين الإذعان الفعلي للمسائل حالة منتظرة إلا
الرجوع إلى المدارك والنظر فيها، فهو في القوة إذا كان بتلك المثابة، يصدق عليه
" الفقيه " وغيره على وجه الحقيقة بلا إشكال فيه ولا شبهة تعتريه.
وتبادر الملكة من أصل ألفاظ العلوم المتنازع فيها ممنوع، ومن الألفاظ
المشتقة منها مسلم، ولكنه لا يجدي في ثبوت كون الألفاظ المتنازع فيها أسامي
للملكات، غاية ما هنالك حصول الفرق بين المشتقات ومبادئها، ولعله وضع آخر
في المشتقات وارد على خلاف مقتضى وضع المبادئ، نظير الكاتب والقارئ
والمعلم والخياط وغيرها من المشتقات العرفية بالقياس إلى مبادئها، الظاهرة
في الحال، مع كون المشتقات لذوي الملكات، باعتبار الوضع الجديد العرفي،
على ما عليه غير واحد من المحققين.
ويمكن الفرق في المبادئ أيضا بين الفقه وغيره بجعل الأول للملكة، كما
يرشد إليه بناؤهم في دفع الإشكال المعروف، الوارد على تعريفه من جهة انتقاض
عكسه بخروج أكثر الفقهاء، على حمل العلم المأخوذ في جنسه على الملكة، فإنه
لولا المعرف اسما للملكة فسد التعريف على هذا الحمل من جهة أخرى، وهو لزوم
البينونة بين المعرف والمعرف، بل هذا أوضح فسادا من انتقاض العكس.
لا يقال: لو صح كون هذا اللفظ اسما للملكة، لكان في التصديق بالمسائل
مجازا، وهو باطل.
37

ويلزم ذلك، على القول بذلك في مطلق ألفاظ العلوم أيضا، إذ لو أريد
بالتصديق بالمسائل ما لا ملكة معه أصلا، فهو مما لا يمكن تحققه عادة فيما هو
محل البحث، من استناد العلم بالأحكام إلى الاجتهاد واستفراغ الوسع في الأدلة
المعهودة، وعلى فرض إمكان تحققه فبطلان اللازم ممنوع بالنظر إلى الاصطلاح،
وإن كان مسلما بالنظر إلى العرف واللغة.
ولو أريد به ما نشأ عن الملكة - كما في فقهائنا اليوم - فالملازمة ممنوعة،
لا لأن المسمى خصوص التصديق لا بشرط وجود الملكة، بل لأن المسمى هو
الملكة الموجودة مع التصديق، المأخوذة في الوضع لا بشرط ذلك التصديق، نظرا
إلى أن حصول التصديق الفعلي مسببا عن الملكة لا يوجب زوال الملكة،
كما هو واضح.
ثم إن قضية الاعتراف بالأقوال الثلاث المذكورة، التزام كون أسامي العلوم
بأسرها من المنقولات، لوضوح عدم كون شئ من المسائل والتصديق بها وملكة
التصديق بها عين مسمى هذه الألفاظ لغة، مع ما في كلامهم مما هو بمنزلة التصريح
بذلك، حيث يتعرضون لشرحها لغة واصطلاحا فيذكرون لها بحسب كل معنى.
ومن ذلك تصريحهم في خصوص أصول الفقه، بأن فيه جهتين باعتبار
الإضافة والعلمية، فإن اعتبار جهة الإضافة اعتراف بالمعنى الإضافي اللغوي، كما
أن اعتبار جهة العلمية اعتراف بثبوت ما يغاير الأول، ويعبر عنه بالمعنى العلمي
فلابد وأن يكون اصطلاحيا ليغاير الأول بقرينة المقابلة.
وأما ما يوهمه بعض عبارات بعضهم من أن الإضافة بنفسها تعريف لهذا العلم،
من منافاته لما ذكر بل إنكار للنقل، نظرا إلى أنه اعتبار للمعنى الإضافي،
وهو لا يلائم القول بثبوت المعنى العلمي المغاير له، فإن القائل بالنقل لا يعتبر
المعنى المنقول منه.
معنى الأصل
فيدفعه: منع منافاة ذلك للاعتراف بالنقل هنا، لأن مرجع هذا الكلام عند
التحقيق إلى منع انحصار تعريف المسمى الاصطلاحي بالرسم في التعريف
38

المشهور، المعبر عنه " بالعلم بالقواعد الممهدة... الخ " مثلا، لإمكان رسمه أيضا
باعتبار الإضافة المعنونة بأنه " أصول الفقه " على معنى ما يبتنى عليه الفقه، بناء
على أن الماهية المقررة في نفس الأمر إذا احتوت فيها عناوين متكثرة وجهات
متعددة يجوز تعريفها بكل واحد منها، حيث أن المقصود تأتي معرفتها بوجه ما،
وهي تتأتى بأي عنوان يكون، وإن كان المأخوذ في بعضها ما هو من قبيل الغاية،
وفي الآخر ما هو من قبيل العرض.
وعلى أي حال كان، فقد جرت عادة الأصوليين في لفظ " أصول الفقه "
بالبحث عن كلتا الجهتين، استعلاما للمناسبة المعتبرة في النقل كما هو الأظهر،
أو تنبيها على صحة إرادة كلا المعنيين في مقام التعريف، أو على عدم تحقق الهجر
في المعنى المنقول منه على ما احتمله بعض الأجلة، غير أنه اختلفت مشاربهم
في التعرض للجهتين من حيث التقديم والتأخير، فإن منهم من قدم المعنى
الإضافي - وهم الأكثرون - نظرا منهم إلى تقدمه بالطبع، المقتضي لأولوية تقدمه
في الوضع أيضا.
ومنهم من قدم المعنى العلمي كبعض الأعلام (1) نظرا إلى أنه المقصود أصالة،
فهو أولى بالتقديم من المقصود بالتبع، ولكل وجه وإن كان الأول أولى، لما يرتبط
بالمعنى العلمي ما لا يتأتى معرفته إلا بمعرفة المعنى الإضافي، فالنظر في المعنى
الإضافي يستدعي البحث في مقامين:
المقام الأول:
فيما يتعلق بالجزء الأول من هذا المركب وهو ال‍ " أصول " فإنه جمع مفرده
الأصل وهو في العرف الكاشف عن اللغة يأتي لمعان:
أحدها: مبدأ الشئ وأوله، يقال: الملح أصله ماء، أو في الأصل كان ماء،
والخمر أصله ماء عنب أو في الأصل كذلك، وفلان أصله عربي أو بغدادي،

(1) قوانين الأصول: 5.
39

أو في الأصل كان كذا " وأنت إذا تأملت في موارد إطلاق هذا اللفظ لوجدته
أغلب استعمالا في هذا المعنى.
ومنه ما في كلام أهل الصرف عند إعلال الكلمات، من أن اللفظ الفلاني أصله
كذا أو في الأصل كذا فصار كذا، ولعله عليه مبنى ما في عرف الأصوليين من
إطلاقه على الاستصحاب، لما أعتبر عندهم فيه من وجود الحالة السابقة، التي
هي الحالة الأولية في الشئ.
والعجب أنهم اقتصروا في هذا المقام على ذكر المعنى الآتي، وتركوا هذا
المعنى إلا قليل منهم، مع كونه أشيع والاستعمال فيه أغلب.
وثانيها: ما ذكره الأكثر من الخاصة والعامة، من أنه ما يبتنى عليه غيره، كما
حكى التصريح به عن أبي الحسين البصري (1) ومنه أصل الجدار وأصل الشجر،
وكون مشيئة الله أصلا في الأشياء.
ومن هنا يعلم أن الابتناء المأخوذ في هذا المعنى، أعم من كونه على نحو
العلية التامة، أو السببية باصطلاح الأصولي للحدوث أو البقاء.
نعم لا يطلق الأصل بهذا المعنى على ما هو من قبيل الشروط والمعدات
وغيرها من العلل الناقصة.
وقد أفرط في هذا المقام الآمدي (2) في محصوله - على ما حكي عنه - وكذلك
في منتخبه.
وعن صاحب التحصيل (3) أيضا من تفسيره بالمحتاج إليه، فإنه بحسب
المفهوم يشمل ما لو كان من قبيل الشروط وغيرها، إلا أن يراد به ما يرجع إلى

(1) شرح الإشنوي: 26.
(2) هو: علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعالبي، سيف الدين الآمدي، الفقيه الأصولي
المتكلم، صاحب كتاب " الإحكام في أصول الأحكام " توفي سنة 631 ه‍، أنظر (شذرات
الذهب 5 / 144 - وفيات الأعيان 2 / 455).
(3) أنظر: التحصيل - لسراج الدين الأرموي 1: 167.
40

المبتنى، عليه، فيكون التعبير به واردا على سبيل المسامحة، وكما أنه بناء على
ظاهر عبارته أفرط فقد فرط هو في إحكامه، وجماعة أخرى ففسروه بما يستند
تحقق الشئ إليه (1).
وصاحب الحاصل (2) ففسره بما منه الشئ، وبعضهم ففسره بمنشأ الشئ،
فإن هذه التفاسير ظاهرة كالصريح في إرادة العلة التامة للحدوث فقط.
وقد عرفت أنه للأعم من الجهتين، إلا أن يريدوا بها ما يرجع إلى المعنى
الأعم.
وممن فرط في هذا المقام من فسره بما يبنى عليه الشئ، لظهور ذلك في
الابتناء الناشئ عن الجعل والاعتبار، وهو في العرف للأعم منه ومما يكون من
مقتضيات ذات الشئ، كالمعلول بالقياس إلى علته التامة، بل الأشياء بالقياس إلى
مشيئة الله تعالى.
وأضعف التفاسير، تفسيره بما في القاموس من أسفل الشئ، سواء أريد به
المطلق، أو المقيد بما يكون على جهة الابتناء.
أما الأول: فلوضوح عدم إطلاق الأصل على كل أسفل حتى ما لا يبتنى عليه
غيره، وهو كثير.
وأما الثاني: فلأن الأصل وإن كان يصدق على الأسفل المبتنى عليه الأعلى،
لكن لا باعتبار عنوان الأسفلية، بل باعتبار عنوان الابتناء عليه.
والحاصل: بين ما يبتنى عليه وأسفل الشئ عموم من وجه، والأصل إنما
يصدق في مادة افتراق الأول ومادة اجتماعه مع الثاني، لكن من جهة عنوان
الابتناء عليه.
وبالجملة، الذي يساعد عليه العرف إنما هو صحة ما ذكره الأكثرون.

(1) حكى عنه في شرح الإشنوي: 26.
(2) الإحكام في أصول الأحكام - للآمدي - 1: 8.
41

ومنه إطلاق الأصل على رئيس القوم وسيدهم، بتقريب: أنه الذي يبتنى عليه
أمورهم مما يصلحهم ويفسدهم.
ومنه اخذ أيضا ما في لسان الأصوليين من إطلاقه على الدليل، والقاعدة،
والظاهر على ما يأتي بيانه، فإن الدليل ما يبتنى عليه العلم بالنتيجة، والقاعدة ما
يبتنى عليه معرفة أحكام جزئيات موضوعها، والظاهر ما يبتنى عليه مدار الإفادة
والاستفادة بالألفاظ.
ومنه أيضا إطلاقه في لسان أهل القياس على المقيس عليه، قبالا للمقيس
المسمى عندهم بالفرع، فإنه الذي يبتنى عليه معرفة حكم الفرع.
نعم ربما يطلق على ما يتردد بين رجوعه إلى المعنى الأول ورجوعه إلى
المعنى الثاني، كما في لسان علماء الرجال من إطلاقه على الأصول الأربعمائة،
التي ألفها الرواة من أصحاب الأئمة (عليهم السلام) في ضبط الأحاديث، فإن كونها أصولا
إما من جهة أنها أول ما دونت في الإمامية، أو من جهة إنها التي يبتنى عليها
مذهب الإمامية وشرعهم، أو التي يبتنى عليها الكتب الأربعة وغيرها من كتب
الحديث المنتخبة عنها.
وثالثها: واقعية الشئ وتحققه في نفس الأمر، كما يقال: هل للشئ الفلاني
أصل؟ وللخبر الفلاني أصل؟ وهكذا.
وكما أنه لغة جاء للمعاني المذكورة فكذلك اصطلاحا يطلق على معان، وهي
الأربع المعروفة المتقدم إليها الإشارة، أعني الدليل والقاعدة والاستصحاب
والظاهر، وفي كلام غير واحد أنه يستعمل اصطلاحا في معان كثيرة مرجعها إلى
الأربع المعروفة، ومرادهم بالمعاني الكثيرة - على ما يظهر للمتتبع ويشهد له
تعرض جماعة لضبط تلك المعاني وجمعها في رسائل مفردة - هي الأصول
المتداولة على لسان الأصولية والمتفقهة من أصالة الحقيقة، وأصالة العموم،
وأصالة الإطلاق، وأصالة عدم التخصيص، وأصالة عدم التقييد، وأصالة عدم
الاشتراك، وأصالة عدم القرينة، وأصالة عدم النسخ، وأصالة البراءة، وأصالة
42

الاحتياط، وأصالة النفي، وأصالة العدم، وأصالة عدم الدليل دليل العدم، وأصالة
الصحة في فعل المسلم، وأصالة اللزوم في العقد وفي البيع، وأصالة الفساد في
العبادة والمعاملة، وأصالة الطهارة في الماء أو في الأشياء، وأصالة الإمكان،
وأصالة التداخل أو عدم التداخل في الأسباب، وأصالة الأقل فيما دار الأمر بينه
وبين الأكثر، وأصالة عدم الجزئية أو الشرطية، وأصالة الركنية، وأن الأصل في
المسألة الإجماع مثلا، وأن الأصل في الماء المشكوك كريته الكرية أو عدمها، إلى
غير ذلك مما لا يكاد يحصى.
وقضية ذلك، كون مرادهم بالكثرة المدعاة هنا، كثرة موارد الاستعمال
ومصاديق المستعمل فيه الغير الخارج عن الأربع المذكورة، فيكون المراد
برجوعها إليها اندراجها فيها.
فمحصل العبارة المذكورة: أنه يستعمل في موارد كثيرة، تندرج في الأربع
المعروفة اندراج مصاديق الكلي تحته، لا أنه يستعمل في معان كلية متغايرة
ومغايرة للأربع المذكورة لكن يرجع إليها بنحو من التأويل، كما هو مؤدى العبارة
المذكورة ظاهرا، لوضوح أن الموارد المذكورة ونظائرها ليست إلا مصاديق
الأربع المعروفة، ولم يعهد منهم إطلاقه على ما يغايرها مغائرة المفاهيم الكلية
بعضها لبعض كما لا يخفى.
وعليه، فما في كلام بعض الأعلام (1) من أنه في العرف يطلق على معان كثيرة،
منها الأربعة المتداولة في ألسنة الأصوليين، لا محمل له سوى أن يراد بالمعاني
الكثيرة - التي منها الأربعة المتداولة - ما يعم ما في كلام أهل الصرف، وما في كلام
أهل القياس، وما في كلام علماء الرجال وما أشبه ذلك.
وكيف كان، فالعمدة في المقام هو النظر في أنه بالقياس إلى المعاني الأربع هل
هو حقيقة في الجميع على طريق الاشتراك لفظا أو معنى أو مجاز في الجميع

(1) قوانين الأصول 5: 1.
43

أو حقيقة في البعض ومجاز في آخر؟ وجوه، أوجهها الأول لبطلان الوجوه الأخر
بانتفاء لوازمها.
فإن الحقيقية في الجميع على طريقة الاشتراك المعنوي تستلزم كون
الاستعمال بالقياس إلى كل من باب إطلاق الكلي على الفرد، بأن يكون المستعمل
فيه المقصود من اللفظ أصالة هو المعنى اللغوي الكلي، ويكون كل من المعاني
الأربع مرادا باعتبار الماهية الكلية اللغوية المتحققة فيه، لا باعتبار الخصوصية
المأخوذة فيه قيدا للماهية.
وهذا اللازم كما ترى مما يقطع بانتفائه في المقام، من حيث إن المعلوم من
طريقة أهل الاصطلاح - المعلومة بالتتبع - في موارد إطلاقاتهم، عدم ملاحظة
المعنى اللغوي في شئ من إطلاقات اللفظ رأسا، فضلا عن كونه مقصودا منه
أصالة مستعملا فيه قصدا.
ومن هنا يعلم انتفاء ما هو من لوازم المجازية في الجميع أو في البعض، فإن
هذا الاحتمال وإن كان غير بعيد في حد ذاته، لجواز بقاء اللفظ في لسانهم على
معناه الأصلي من دون تجدد وضع آخر له في مصطلحهم، مع كون مبنى استعماله
في كل من الأربع على التجوز بملاحظة مناسبتها للمعنى الأصلي، باعتبار الفردية
أو غيرها من أنواع العلائق، لكن ينفيه القطع بعدم ملاحظة شئ من هذه العلاقة
ولا غيرها في شئ من إطلاقاته، ومن البين أن ملاحظة العلاقة من شروط التجوز.
نعم قد يستشكل في كونه حقيقة بالقياس إلى الظاهر، وإلا لوجب اطراده فيما
يطرد فيه الظاهر، والتالي باطل، لوضوح صحة إطلاق الظاهر فيما لو استفيد حكم
من [دليل] (1) لفظي مثلا، فيقال: " الحكم الفلاني ظاهر هذا الدليل " و " إن الدليل
الفلاني ظاهر في هذا الحكم " مع عدم صحة القول بأن الحكم الفلاني أصل هذا
الدليل، وإن أصل الدليل الفلاني هذا الحكم، مرادا به الظاهر.

(1) أضفناها لاستقامة العبارة.
44

لكن يدفعه: أن كون الأصل حقيقة في الظاهر لا يستلزم كون كل ظاهر مما
يصح إطلاق الأصل عليه، كما في الخمر المستعمل في المسكر من العصير العنبي،
الغير المستعمل في كل مسكر.
والسر فيه: أن مسمى الأصل ظاهر خاص، أعتبر كونه وصفا قائما بما هو من
صفات اللفظ وأحواله، كالحقيقة والعموم والإطلاق ونحوه، ولذا يصح أن يقال:
" الأصل في الاستعمال الحقيقة، وفي العام العموم، وفي المطلق الإطلاق "
ومفروض المثال المأخوذ موردا للنقض ليس من هذا الباب، لوضوح أن الظاهر
هنا مما اعتبر وصفا للمدلول.
وقد يستدل على بطلان المجازية باستلزامه المجاز بلا حقيقة، وعلى بطلان
الاشتراك المعنوي بفقد الجامع القريب، وعلى بطلان المجازية في البعض بعدم
وجود المناسبة، والكل منظور فيه.
أما الأول: فأولا بالنقض بما قبل تحقق النقل، بناء على ما اختاره المستدل،
بعد البناء على الحقيقة في الجميع من باب الاشتراك لفظا من كونه تعينيا للأصل
فيه، فإن وضع التعين يستلزم سبق الاستعمالات المجازية البالغة في الكثرة حدا
يستغنى معه عن القرينة، فاللفظ حينئذ كان مجازا في الجميع، فإن فرض له حقيقة
في تلك الحالة فهي موجودة في جميع الأحوال، وإلا لزم المجاز بلا حقيقة.
وثانيا: بالحل، بأن وجود المعنى اللغوي الصادق على الجميع صدق الكلي
على الفرد كاف في هدم بنيان هذا المحذور.
والمفروض أن النقل على فرض تحققه حاصل عن هذا المعنى، واحتمال كون
المعتبر في نظر المستدل وجود حقيقة أخرى غير المعنى اللغوي، مع اعتبار نقل
اللفظ في لسانهم منه إليها بالقياس إلى تلك المعاني على فرض مجازيتها مقطوع
بفساده، لعدم القول به لأحد، مع عدم الإشارة إليه في كلام المستدل، مع عدم
لزومه حيث لا دليل عليه.
وأما الثاني: فلأن المراد بالجامع القريب، إن كان مطلقه الذي يكون عاما
45

لتلك المعاني ولغيرها مما ثبت إطلاق اللفظ عليه في العرف فهو موجود، لكفاية
المعنى اللغوي الموجود هنا.
وإن كان مقيده الذي يكون خاصا بها بحيث لا يتعداها إلى غيرها، على معنى
اعتبار نقل اللفظ في اصطلاحهم عن المعنى اللغوي العام إلى ما هو أخص منه
وأعم منها جامعا لها.
ففيه: أنه غير لازم، إذ مع وجود المعنى العام لا جهة لاعتبار غيره على جهة
الاختصاص بهذا اللسان.
إلا أن يقال: بابتناء الكلام على فرض ثبوت النقل في هذا اللفظ، فحينئذ لو
كان بعد ذلك النقل مشتركا معنويا بين المعاني الأربع لاستلزم وجود جامع قريب
بينها يكون هو المنقول إليه، ومرجعه إلى اعتبار بناء الاشتراك المعنوي على
الوضع الجديد الاصطلاحي وهو مفقود.
فيدفعه: مع أنه لا داعي إلى التزام هذا الاعتبار، إمكان فرض وجود مثل هذا
المعنى، نحو ما يستنبط منه الحكم الشرعي مثلا، إلا أن يراد بفقده [عدم] (1)
معهودية إطلاق اللفظ على نحو ذلك في لسانهم، فيرجع إلى ما بيناه بنوع من
التأويل.
وأما الثالث: فلأن المناسبة المعتبرة هنا المفروض انتفاؤها إما أن يراد بها
المناسبة العامة الغير المختصة بتلك المعاني، فهي موجودة فيما بينها وبين المعنى
اللغوي، فلم لا يجوز كون استعماله في بعض تلك المعاني مجازا لأجل تلك
المناسبة بالغا حد الحقيقة وفي بعضها الآخر غير بالغ هذا الحد. أو يراد بها ما هي

(1) في الأصل: [على] والظاهر أنه سهو من قلمه الشريف والصحيح هو ما أثبتناه في المتن
بقرينة ما جاء في التحرير الأول من التعليقة بخطه الشريف، حيث قال - في هذا الموضع -:
" إلا أن يراد بفقده عدم اعتباره في لسانهم وعدم وقوع استعمالاتهم فيه على وجه يكون
بالقياس إلى تلك المعاني من باب إطلاق الكلي على الفرد، فحينئذ يرجع الاستدلال إلى ما
قدمناه من الحجة على نفي هذا الاحتمال ".
46

مختصة بها، على معنى اعتبار كون بعض تلك المعاني وهو المعنى المجازي مناسبا
للبعض الآخر الذي فرض كون اللفظ حقيقة فيه، ففيه:
أولا: منع لزوم ذلك وعدم الداعي إليه، لكفاية المناسبة اللغوية في صحة
التجوز.
وثانيا: منع عدم وجودها، فإن مشابهة بعض تلك المعاني لبعض في وصف
استنباط الحكم الشرعي منها - مثلا - كافية في صحة التجوز، ومع وجودها لا
معنى للإنكار إلا أن يرجع إلى إنكار اعتبارها وملاحظتها حين الاستعمال، فيرجع
هذا الوجه أيضا إلى ما قررناه من الحجة على نفي هذا الاحتمال.
وعلى أي حال كان، فهل الوضع الثابت هنا - بناء على المختار - ثابت من
باب التعيين أو التعين؟ وجهان، مبناهما على أن الأصل في الوضع حيثما ثبت
مرددا بينهما هل هو التعيين أو التعين؟
قد يقال: بكون الأصل الثاني، لأصالة تأخر الحادث، وأصالة عدم تعدد
الوضع، وللنظر في ذلك مجال واسع، لمكان المناقشة في كل من الأصلين.
أما الأول: فلأن أصالة التأخر - بعد تسليم اعتبارها ثم جريانها في الألفاظ -
لا تفيد نفعا في ثبوت وضع التعين، إلا بإحراز مقدمتين:
إحداهما: ثبوت كون التقدم من لوازم وضع التعيين وخصائصه، على معنى
عدم اجتماعه مع وضع التعين، وأخراهما ثبوت كون التأخر من لوازم وضع التعين
وخصائصه، على معنى منافاته لوضع التعيين.
والمقدمة الأولى وإن كانت لا مجال إلى إنكارها، للزوم وضع التعين
مسبوقيته للاستعمالات المجازية، فيلزمه التأخر عن الصدر الأول الذي حدث فيه
الاصطلاح وتأسيس الفن وموضوعاته المتداولة، فلا يمكن تقدمه على حدوث
الاستعمال. لكن المقدمة الثانية في حيز المنع، لعدم منافاة التأخر لوضع التعيين في
حكم العقل، بإمكان تحققه فيما بين الاستعمالات المجازية المتأخرة، التي هي في
قوة أن يحدث معها وضع التعين، بدعوى: أن صاحب الفن والاصطلاح بعد تحقق
47

الاستعمالات المجازية البالغة حد القوة المذكورة في متن الواقع تصدى لتعيين
اللفظ تسهيلا للأمر على نفسه وتابعيه، وقضية ذلك استناد تعين اللفظ إلى التعيين
دون كثرة الاستعمالات المجازية، في مكان لولاه لكانت الكثرة مؤثرة في
حصول ذلك التعين، فأصالة التأخر حسبما فرضها المستدل لا تنهض منتجة لوضع
التعين بعينه، بل لما هو مردد بعد بينه وبين وضع التعيين.
وأما الثاني: فلأن الوضع الذي يراد نفي تعدده بالأصل، إما أن يراد به ما هو
من أحوال الموضوع - المعبر عنه بالمعنى المفعولي - وهو الموضوعية، أو ما هو
من أحوال الواضع المعبر عنه بالمعنى الفاعلي.
وبعبارة أخرى: إما أن يراد به المسبب الذي هو التعين، أو السبب الذي هو
التعيين، على معنى أن الأصل عدم تعرض أحد لجعل هذا اللفظ ثانيا بإزاء المعنى
المبحوث عنه، بعدما تعرض واضع اللغة لجعله وتعيينه بإزاء المعنى اللغوي، ولا
سبيل إلى شئ منهما.
أما الأول: فلأن المفروض تيقن حدوث الوضع بهذا المعنى، والشك إنما هو
في سببه المردد بين التعيين وكثرة الاستعمالات المجازية، فلا يعقل نفيه بالأصل.
وأما الثاني: فلأن الأصل بالقياس إليه مشغول بالمعارض، إذ كما أن الأصل
عدم تعرض أحد لجعل هذا اللفظ وتعيينه، فكذلك الأصل عدم تعرض أحد
لمراعاة لوازم المجاز، فيه من نصب القرينة وملاحظة العلاقة ونحوها.
نعم هاهنا وجه آخر يمكن التعويل عليه لتأسيس هذا الأصل، وهو الغلبة
الثابتة بالاستقراء، فإن الغالب في المنقولات كونها حاصلة بوضع التعين، لكن
النظر الدقيق يقضي بعدم استقامة ذلك أيضا، فإن هذه الغلبة لا تجدي إلا بإحراز
أمور، من استيفاء المنقولات الموجودة في الخارج كلا أو جلا، ومن الاطلاع على
كيفية وضعها مع كون تلك الكيفية كيفية وضع التعين، ومن عدم العلم بوجود فرد
مخالف في الحكم، كما هو شرط في كل استقراء مفيد للقطع أو الظن باللحوق، وإن
لم يوجد اعتباره في صريح كلام أحد، نظرا إلى أن هذا القطع أو الظن إنما ينشأ من
48

القطع أو الظن بحكم الكلي الحاصل بوجدان غالب أفراده على ذلك الحكم،
بتأليف قياس على طريق الشكل الأول، مشتمل على صغرى موضوعها الفرد
المشكوك فيه المستقرأ له، وكبرى موضوعها ذلك الكلي الجامع بين ذلك الفرد
وغيره من الأفراد الغالبة المستقرأ فيها، ومحمولها الحكم المعلوم ثبوته في تلك
الأفراد المقطوع أو المظنون ثبوته للكلي، فمعنى قولهم: " الظن يلحق الشئ
بالأعم الأغلب " إن الظن بحكم الكلي الذي هو في قوة الكبرى الكلية المظنونة،
يلحق الشئ الذي هو الفرد المشكوك فيه المأخوذ موضوعا في صغرى القياس
بالأعم الأغلب، الذي هو الغالب من أفراد ذلك الكلي المعلوم حكمها. ومحصله:
أن الظن بحكم الفرد المشكوك ظن بالنتيجة، وهو لا يتأتى إلا بنظم قياس صغراه
كون هذا الفرد ملزوما لهذا الكلي، وكبراه كون الكلي ملزوما لهذا الحكم.
ومن البين أن الظن بحكم الكلي المعتبر في كبرى هذا القياس الحاصل
بملاحظة أفراده الغالبة، لا يتأتى مع العلم بوجود فرد له مخالف في الحكم لتلك
الأفراد، بل يستلزم ذلك العلم بعدم كون ذلك الحكم المعلوم للأفراد الغالبة حكم
ذلك الكلي من حيث إنه ذلك الكلي، ومعه لا يحصل الظن بحكم الفرد المشكوك
فيه، لأن الشبهة في حكمه من أول الأمر إنما نشأت عن الشبهة في حكم كليه
التي لم ترتفع بعد، بل ارتفعت بانكشاف عدم كون الحكم المشكوك في ثبوته للفرد
من لوازمه.
ومن هنا يتبين أن إعمال القياس هنا لا ينافي تسمية العمل بالاستقراء، فإن
الاستقراء - في مصطلح المنطقيين - وإن كان يطلق على ما يقابل القياس والتمثيل،
غير أنه في لسان الأصوليين على ما علم من طريقتهم وملاحظة موارد تمسكهم به
يطلق على ما ينحل إلى حجتين:
إحداهما: الاستقراء بمصطلح المنطقي، ليعلم أو يظن به كون الحكم المعلوم
للأفراد الغالبة من لوازم الكلي الجامع لتلك الأفراد ولغيرها، جنسا أو نوعا
أو صنفا.
49

وأخراهما: القياس بمصطلحهم أيضا، ليعلم به أو يظن كون ما هو من لوازم
ذلك الكلي ثابتا للفرد المشكوك في حكمه، فإن المنطقيين لا يتمسكون
بالاستقراء إلا لاستعلام حكم الكلي من غير نظر لهم إلى فرد من أفراده، بخلاف
الأصوليين حيث إنهم لا يتمسكون به إلا عند الشك في حكم الفرد، الناشئ عن
الشك في حكم كليه.
ومن البين أن الأول لا يرتفع إلا بإعمال القياس بطريق الشكل الأول، كما أن
الثاني لا يرتفع إلا بإعمال الاستقراء المصطلح عليه عند المنطقيين، والأول
مترتب على الثاني، حيث إن العلم بلحوق الفرد بالأفراد الغالبة بعد العلم بحكمها
لابد له من طريق، وهو إما ثبوت كونه من جملة الأفراد الغالبة وهو محال،
لإفضائه إلى الدور، أو ثبوت كون الحكم المعلوم لها من لوازم الكلي المشترك
بينها وبين الفرد، وهذا لا يثبت إلا بالاستقراء المنطقي، كما أن العلم باللحوق بعده
لا يحصل إلا بالقياس المنطقي.
وكيف كان، فالأمور المذكورة بأسرها منتفية في المقام - كما يظهر بأدنى تأمل
- ومعه كيف يمكن دعوى الغلبة، ثم التعويل عليها.
فالحق أن المسألة لا أصل لها مع أنها بنفسها قليل الجدوى، وحيث لا ثمرة
فيها إلا ما فرض نادرا في الحقائق الشرعية - على القول بثبوتها - من لزوم مراعاة
التاريخ على تقدير كون النقل لوضع التعين.
[2] قوله: (في اللغة الفهم... الخ)
مفردات تعريف الفقه
هذا تعرض للمقام الثاني الذي يبين فيه ما يتعلق بالجزء الثاني من لفظ
" أصول الفقه " وله أيضا بحسب كل من اللغة والاصطلاح معنى:
أما الأول: فعلى ما في العبارة، وكلام جمهور الأصولية، وأئمة اللغة، إنه الفهم.
وعن الرازي (1) تفسيره بفهم غرض المتكلم من كلامه. وعن بعضهم

(1) المحصول في علم الأصول - للرازي - 1: 78.
50

تفسيره بفهم الأشياء الدقيقة (1).
وعن بعض الفضلاء (2) أنه: التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد، والظاهر أن
مراده العلم الحاصل بطريق النظر، مع احتمال اختصاصه بالعلم التصديقي كما هو
الظاهر، فيكون المراد بالعلم الشاهد خصوص الحجة، أو عمومه للعلم التصوري،
فيراد بالعلم الشاهد ما يعم المعرف أيضا، وقوة الظن بل الجزم في جانب الأول،
وعلى طبقه ورد استعمالات الكتاب والسنة على حد الكثرة.
منها: قوله عز من قائل: (لا يكادون يفقهون قولا) (3) وقوله أيضا: (ولكن
لا تفقهون تسبيحهم) (4) وقوله (عليه السلام): أنتم أفقه الناس - إلى - عرفتم معاني كلامنا
... الخ.
وأما التفاسير الأخر المتضمنة للخصوصيات المعلومة فإن رجعت إلى الأول
بدعوى: ورودها لإرادة المثال من دون إرادة مدخلية الخصوصيات في المسمى
اللغوي فهو، وإلا فلا يلتفت إليها.
وأما " الفهم ": فهو أيضا مما اختلفت كلمتهم في تفسيره، فمنهم من فسره
بالإدراك المطلق، المتناول لكل من التصور والتصديق، وهو المتبادر من إطلاقاته
الجارية على لسان العرف كما يظهر للمتتبع.
ومنهم من فسره بالعلم، ولعله راجع إلى الأول، لاحتمال إرادة ما يعم التصور
من العلم وإن كان خلاف الظاهر.
ومنهم من فسره بجودة الذهن من حيث استعداده لاكتساب المطالب من
المبادئ.

(1) الفقه في اللغة فهم ما دق وغمض. شرح اللمح (1: 157) - شرح اللمع للشيخ أبو إسحاق
الشيرازي وهو إبراهيم بن علي بن يوسف، جمال الدين الشيرازي. أحد أعلام الشافعية، من
أهم مؤلفاته في الأصول " اللمع " وشرحه، والتبصرة. توفي سنة 476 ه‍. (أنظر: وفيات
الأعيان 1 / 9 - شذرات الذهب 3 / 349).
(2) حكى في الفصول عن مفردات الراغب: 1.
(3) الكهف: 93.
(4) الإسراء: 47.
51

ومنهم من فسره بسرعة الانتقال من المبادئ إلى المطالب، وهذان
الاستعمالان كما ترى غير معهودين في الاستعمالات العرفية.
نعم كثر وشاع إطلاقه عليهما في لسان العرف الخاص كما هو واضح
بالوجدان، لكنه لا ينفع فيما هو مقصود المقام، مع ما فيه من اقترانه بقرينة الحال،
من حيث وروده في مقام المدح والوصف.
ولعل الذي فسره بهما اشتبه عليه الأمر بملاحظة هذه الاستعمالات، ومن هنا
ضعف كلام من جزم بكونه لجودة الذهن، فرد تفسيره بالعلم المقتضي لترادفهما،
بدعوى الفرق بينهما كالفرق بين العامين من وجه، لتصادقهما في العالم الفطن
وتفارق " الفهم " في العامي أو الطفل الفطنين، وتفارق " العلم " في العالم الغبي، فإن
هذا الفرق مبني على الأخذ بما هو في لسان أهل العرف الخاص، فلا ينهض دافعا
للقول المذكور.
وأما الثاني: فاختلفت عباراتهم أيضا في تعريفه، اختلافا راجعا إلى مجرد
التعبير دون المسمى، حيث إنه عند الجميع شئ واحد عبر عنه كل أحد بما ساعد
عليه نظره، بزعم أنه لولا التعبير به لم يسلم التعريف طردا أو عكسا أو غير ذلك
مما أعتبر مراعاته في التعاريف، ونحن نقتصر منها على ما اختاره المصنف - تبعا
للأكثر - من أنه: " العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية ".
[3] قوله: (وفي الاصطلاح... الخ)
لا يذهب عليك، أن هذا اللفظ حيثما أطلق عقيب ذكر المعنى اللغوي يراد به
ما يقابل العرف العام وعرف الشرع، فورود الحد المذكور أو غيره من مرادفاته في
كلام الفقهاء أو الأصوليين - قديما وحديثا، من العامة والخاصة - مقيدا
بالاصطلاح، تصريح بكونه معنى جديدا محدثا من المجتهدين، من دون أن يكون
للشارع فيه من حيث إنه شارع مدخل وتصرف فيه فليس من المعاني الشرعية،
ولا لفظ " الفقه " بالقياس إليه من الحقائق الشرعية، كما هو الراجح في النظر
القاصر لعدم ثبوت كون المعنى المذكور من مخترعات الشارع ليدخل اللفظ
52

الواقع عليه في ضابط الحقيقة الشرعية - على القول بثبوتها كما هو الأظهر - خلافا
لبعض المحدثين في كلام محكي عنه (1) في المناقشة على من أخرج الضروريات
عن الفقه، قائلا: " بأن الإجماع على بعض الأحكام من فرق الإسلام كلها، لا
يخرجها عن كونها مسألة فقهية بحسب إطلاق الشرع، ألا ترى أن كثيرا من
الفرعيات مما انعقد إجماع المسلمين عليها مع أنها دونت في الكتب وذكروا
مدارك أحكامها ".
وعنه أيضا: " أن الفقهاء لم يزعموا أن هذا الاصطلاح اخترعوه من عند
أنفسهم، بل قالوا: إنه مفهوم من الأخبار وكلام الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، ومن تتبع
كلامهم لم يختلجه شك ولا ريب في ذلك.
وفيه: أن إطلاق الشرع إن أريد به إطلاق الشارع على حد ما هو الحال في
الحقائق الشرعية، على أن يكون الإطلاق تابعا لوضعه تعيينا أو مستتبعا للوضع
في زمانه تعينا.
فيدفعه أولا: ما أشرنا إليه من عدم ثبوت كون المعنى المذكور من مخترعاته
وجعلياته التي من شأنها أن لا تؤخذ إلا منه، كما يظهر بأدنى تأمل.
ولا شاهد في كلام الفقهاء بما زعمه، بل الشاهد على ما عرفت من التقييد
بالاصطلاح قائم بخلافه، وكونه مفهوما من الأخبار وكلام الأئمة الأطهار - على
فرض تسليمه - لا يلازمه، حيث إن الشارع لا يراد منه في مفهوم الحقيقة الشرعية
ما يعمهم أيضا.
وثانيا: منع كون الإطلاق عليه أو الوضع له بعد تسليم ثبوتهما من الشارع
صادرا منه بعنوان الشارعية، ومع عدم مدخلية هذا العنوان في الإطلاق أو الوضع
خرج المفروض عن ضابط الحقائق الشرعية، وإلا كان كثير من الألفاظ المتفق
على عدم كونها منها داخلا فيها، كما يأتي تحقيقه في محله.

(1) حكاه في هداية المسترشدين: 1 (الطبعة الحجرية).
53

وإن أريد به إطلاق أهل الشرع بالمعنى الشامل للأئمة (عليهم السلام)، فثبوت أصل
الإطلاق بل الوضع في الجملة ولو من الأئمة (عليهم السلام) وفي زمنهم غير بعيد، بل هو
الظاهر بملاحظة أن علم الفقه قد شاع في زمنهم بين أصحابهم - ولا سيما
الصادقين (عليهما السلام) - وقد كان جماعة من أصحابهم معروفين بالفضل والفقاهة،
موسومين بلفظ " الفقيه " قبالا لمن كان منهم موسوما بلفظ " المتكلم " وغيره من
ألفاظ العلوم على ما يرشد إليه تتبع الأخبار وكلمات العلماء الأخيار في الرجال
في ضبط أحوال الرواة، ولا ريب أن مجرد ذلك لا يقضي بكون اللفظ حقيقة
شرعية.
ومن هنا يعلم أن نفي الحقيقة الشرعية هنا لا ينافي ما نسب إلى الفقهاء من
أنهم لم يزعموا أن هذا الاصطلاح من عند أنفسهم.
وأما المناقشة في إخراج الضروريات فستعرف دفعها فيما بعد ذلك، وانتظر
لتتمة الكلام فيما يتعلق بإطلاقات هذا اللفظ، عند الكلام في إخراج علم المقلد
عن الحد، إن شاء الله تعالى.
[4] قوله: (هو العلم... الخ)
العلم في اللغة والعرف بالمعنى الأعم - من العام والخاص - يطلق على معان
كثيرة: الإدراك المطلق، والتصور، والاعتقاد الراجح المعبر عنه بالتصديق مطلقا،
والاعتقاد الراجح الغير المانع من النقيض المعبر عنه بالظن، والاعتقاد الراجح
المانع مطلقا المعبر عنه تارة بالجزم وأخرى بالقطع، والراجح المانع الغير المطابق
المعبر عنه بالجهل المركب، والراجح المانع المطابق مطلقا والمانع المطابق الذي
يقبل الزوال بتشكيك المشكك المعبر عنه بالتقليد، والمانع المطابق الذي لا يزول
بالتشكيك المعبر عنه باليقين والملكة.
وقيل: قد يطلق أيضا على المسألة، كما في قولهم: فلان يعلم علم النحو،
أي مسائله.
وجميع هذه الإطلاقات يوجد في العرف الخاص، وإن اختص بعضها بل
أكثرها بأهل المنطق.
54

وأما العرف العام فلا يوجد فيه منها إلا بعضها، والقدر المقطوع به منه بعنوان
الحقيقة، القدر الجامع بين التقليد واليقين تارة، وخصوص التقليد أخرى، واليقين
ثالثة.
والظاهر أن موضوعه لغة هو الأول، وإطلاقه على الأخيرين باعتباره
لا لوضعه لخصوص كل منهما، للتبادر وعدم صحة سلبه عن الاعتقاد التقليدي،
وصحة سلبه عن الظن والجهل المركب، وبعنوان المجاز الاعتقاد الراجح الجامع
بين الجزم والظن.
وأما المعاني الأخر فلم نقف في العرف العام على إطلاقه عليها حتى الظن
ولو بعنوان المجاز.
وما يتوهم من إطلاقه عليه مجازا بعلاقة وجوب العمل أو رجحان الحصول
ويجعل من ذلك قوله تعالى: (فإن علمتموهن مؤمنات) (1) وقوله الآخر: (وإن
علمتم فيهم خيرا) (2) بحمله على إرادة الظن المتاخم للعلم، لتعذر حقيقة العلم هنا.
ففيه: منع ثبوت ذلك في استعمالات العرف - وفاقا لبعض مشايخنا قدس الله
أرواحهم - وتوهم وروده في الآيتين.
يدفعه: منع وجود القرينة عليه، ودعوى تعذر الحقيقة هنا غير مسموعة.
نعم لا نضائق تعسر حصوله غير إنه بمجرده لا يقضي بعدم جواز إرادة
الحقيقة، ولو سلم عدم كون الحقيقة مرادة فلا قاضي بتعين إرادة الظن بالخصوص،
لجواز كون المراد المعنى العام الثابت إطلاقه عليه في العرف العام.
ومع الغض عن جميع ذلك، فاعتبار كون العلاقة وجوب العمل واضح الفساد،
لوجوب كون علاقة المجاز مما يعتبره العرف، بناء على أن المعتبر فيها ثبوت
ترخيص الواضع الذي يكشف عنه المؤانسة العرفية، ووجوب العمل حكم شرعي
لا يعرفه أهل العرف إلا من جهة الشرع، وصلاحية رجحان الحصول لكونه علاقة
أيضا، لا يخلو عن منع.

(1) الممتحنة: 10.
(2) النور: 33.
55

ثم لا يجوز أخذ العلم المأخوذ في جنس الحد بمعنى المسألة، ولا صورة
الشك، لقضائه بفساد الحد لفظا ومعنى، كما أنه لا ينبغي أخذه بمعنى التصور
الساذج ولا الإدراك المطلق، بقرينة تعديته بالباء التي لا تلائم شيئا من المعنيين،
واحتمال زيادة " الباء " كاحتمال إضمار لفظ " المتعلق " وصفا للعلم كما سبق إلى
بعض الأوهام، مما لا يلتفت إليه في نظائر المقام لعدم الداعي إليه.
وأما البواقي فلا مانع من إرادتها في شئ من الجهتين، وإن كان أكثرها
يستلزم تجوزا في اللفظ إن صححناه عرفا في بعضها، لكن المتعين منها من جهة
أصالة الحقيقة حمله على إرادة القدر الجامع بين التقليد واليقين، لأنه المسمى
الحقيقي على ما عرفت.
فلو قيل: إن الأصل المذكور إنما يؤخذ به حيث لم يكن هناك ما يوجب
صرف اللفظ عن مسماه الحقيقي، وظرف " عن أدلتها " ظاهر الرجوع إلى العلم،
وهذا يصلح صارفا له عن مسماه الحقيقي إلى إرادة الظن أو القدر الجامع بينه وبين
المسمى الحقيقي، بتقريب: أن الحاصل من الأدلة التفصيلية في الغالب إنما هو
الظن بالحكم.
قلنا: أخذ رجوع الظرف إلى العلم قرينة صارفة له عن حقيقته، مبني على
مقدمة يقضي لزوم حفظ عكس التعريف وطرده بفسادها، وهي أخذ " الأحكام "
بمعنى الأحكام الواقعية الصرفة.
ووجه فساد ذلك استلزامه انتقاض عكس التعريف بخروج المعلومات
والمشكوكات معا، أو المشكوكات فقط.
وتوضيحه: أن الأحكام المأخوذة في التعريف عبارة عن مسائل الفقه،
المدونة في الكتب الفقهية، وهي عبارة عن النسب الخبرية التي يستدل عليها الفقيه
في الفن، أو المحمولات المنتسبة إلى الموضوعات التي ينظر الفقيه في إثباتها لها،
وهي بحكم الاستقراء القطعي على ثلاثة أنواع، لأن الفقيه بعد ما ورد في كل مسألة
تحقيقا لها وطلبا للدليل عليها، فإما أن يظفر على دليل علمي، أو يظفر على دليل
56

ظني عليها، بالمعنى الأعم من الظن الخاص والظن المطلق، أو لا يظفر على شئ
منهما، فتصير المسألة مشكوكة الثبوت لموضوعها، فيرجع حينئذ إلى الأصول
العملية كل في الموضع المناسب له.
وهذا الاختلاف في المسائل إنما يتأتى إذا أخذت " الأحكام " بمعنى
الأحكام الواقعية، وهي المحمولات المنتسبة إلى الموضوعات لعناوينها الخاصة.
وحينئذ فإن أخذ العلم بمعناه الحقيقي انتقض عكس التعريف بالمظنونات
والمشكوكات، وإن أخذ بمعنى الظن انتقض بالمعلومات والمشكوكات، وإن أخذ
بمعنى الاعتقاد الراجح انتقض بالمشكوكات، فلابد لحفظ العكس من أخذ
" الأحكام " بالمعنى الجامع للأنواع الثلاث المذكورة، وهو الأحكام الفعلية التي
هي عبارة عن المحمولات المتعلقة بالمكلف تعلقا فعليا، بحيث يجب عليه بناء
العمل عليه والتدين به ويعاقب على مخالفته، ويندرج فيها بهذا المعنى كل من
المعلومات والمظنونات والمشكوكات.
أما اندراج الأولى؛ فلأن الفقيه بعد الظفر على الدليل العلمي وحصول العلم
بالمسألة له، ينكشف عنده تعلق معلومه به تعلقا فعليا، بحيث يجب عليه بحكم
العقل المستقل بناء العمل عليه.
وأما اندراج الثانية؛ فلأنه بعد الظفر على الدليل الظني وحصول الظن له
ينكشف عنده بحكم الأدلة القطعية القائمة بحجية الظن، تعلق مظنونه به تعلقا فعليا،
بحيث يجب عليه بناء العمل عليه.
وأما اندراج الثالثة؛ فلأنه بعد اليأس عن الدليل علميا وظنيا يندرج الواقعة
باعتبار كونها مشكوكة في موضوع الأصول العملية، المأخوذ فيه الشك وجهالة
الحكم الواقعي، فينكشف عنده بحكم الأدلة القطعية القائمة على تلك الأصول،
تعلق مؤدى الأصل الجاري في الواقعة به تعلقا فعليا، بحيث يجب عليه أيضا بناء
العمل عليه، فيكون كل من المعلوم والمظنون ومؤدى الأصل حكما فعليا في حقه،
فوجب حمل " الأحكام " على الفعلية منها ليتناول جميع مسائل الفن.
57

وقد يقال - في تقريب أخذها بمعنى الأحكام الفعلية -: أن الأحكام الواقعية
ليست إلا أمورا تعليقية وقضايا شأنية وإطلاق الحكم عليها مبني على ضرب من
المسامحة، لظهوره في الأمر الفعلي، من حيث إنه عند التحقيق عبارة عن النسبة
التي هي الربط الحاصل بين المكلف وفعله، والمأخوذ في القضية الشأنية ليس
بحاصل فعلا بل هو في قوة الحصول، فالمتعين حملها [على] (1) الفعلية لأنها
النسب التي تتعلق بالمكلف فعلا بانعقاد شروطه، ومن آثاره وجوب بناء العمل
عليها، وما قررناه أولى. وإذا أخذ " الأحكام " بمعنى الأحكام الفعلية فلا صارف
معه للعلم عن مسماه الحقيقي، لأن الأحكام الفعلية بأسرها معلومات للفقيه، وهو
عالم بها مطلقا.
لا يقال: أخذ " الأحكام " بمعنى الأحكام الفعلية لا يجدي نفعا في تصحيح
رجوع الظرف إلى العلم، لأن العلم بالأحكام الفعلية إنما من دليل إجمالي مطرد
في جميع المسائل، وهو قولنا: " هذا ما أدى إليه اجتهادي، وكل ما أدى إليه
اجتهادي فهو حكم الله في حقي وحق مقلدي " لا عن الأدلة التفصيلية، لأن كلا
من المقدمتين مأخوذة من الأدلة التفصيلية.
أما المقدمة الأولى؛ فلأن الفقيه في كل مسألة ترد عليه، يعلم بالضرورة أن له
ولمقلده في هذه المسألة حكما فعليا لا محالة، فيجتهد في طلبه وإذا أدى نظره
بواسطة دليل علمي أو ظني إلى العلم أو إلى الظن بحكم، أو بواسطة فقد الدليل بكلا
قسميه إلى مؤدى أصل من الأصول العملية، يحرز عنده مقدمة: أن هذا ما أدى إليه
اجتهادي بعنوان القطع.
وأما المقدمة الثانية؛ فلأن مدركها ليس بخارج عن الأدلة التفصيلية التي هي
الكتاب والسنة والإجماع والعقل، وحيث إن مقدمتي هذا الدليل تستندان إلى
الأدلة التفصيلية، أستند إليها العلم بالأحكام الفعلية أيضا، لأنه مفهوم كلي منتزع
عن النتائج من مقدمتي هذا الدليل.

(1) زيادة يقتضيها السياق.
58

ولا ريب أن النتيجة الحاصلة منهما مستندة في حصولها إليها، فصح أن يقال:
إن العلم بالأحكام الفعلية حاصل عن الأدلة التفصيلية.
هذا مع أن النتيجة لا تغائر بالذات مقدمتي القياس، والعلم بها ليس بخارج
عن العلم بهما، بل هي بعينها مطوية في كل منهما، والعلم بها مندرج في العلم بكل
منهما، فإنها قضية يحكم فيها بثبوت الأكبر من حيث هو للأصغر من حيث هو.
وفي إحدى مقدمتي القياس إذا كان بطريق الشكل الأول يحكم بثبوت الأكبر
بعنوان الأوسط للأصغر كالصغرى، وفي الأخرى يحكم بثبوت الأكبر من حيث هو
للأصغر بعنوان الأوسط كالكبرى، ففي نتيجة دليل حدوث العالم - مثلا - يحكم
بثبوت " حادث " من حيث هو " للعالم " من حيث هو، وفي صغراه يحكم بثبوت
" حادث " بعنوان إنه متغير " للعالم " من حيث هو، وفي كبراه يحكم بثبوت
" حادث " من حيث هو " للعالم " من حيث إنه متغير، فالجميع متضمن للعلم
بحدوث العالم، إلا أنه في النتيجة بطريق التفصيل وفي كل من المقدمتين بطريق
الإجمال، إما لإجمال في محمول القضية أو لإجمال في موضوعها.
والسر فيه، أن في الصغرى يحكم بثبوت حادث بعنوان عام جامع لجميع
لوازمه التي منها " الحادث " للعالم، وفي الكبرى يحكم بثبوت " حادث " للعالم
بعنوان عام جامع لجميع ملزوماته التي منها " العالم " فالعلم بحدوث العالم حاصل
في النتيجة وفي كل من المقدمتين، بلا فرق فيه بينها وبين كل منهما إلا بالإجمال
والتفصيل، فيكون العلم في النتيجة مستندا إلى الأدلة التفصيلية، باعتبار أنه في
كل منهما مستند إليها، فيصدق على العلم بالأحكام الفعلية انه علم حاصل عن
الأدلة التفصيلية، فرجوع الظرف إلى العلم لا يصلح صارفا للعلم إلى إرادة الظن
أو الاعتقاد الراجح.
هذا كله دفعا لتوهم كون الظرف باعتبار رجوعه إلى العلم قرينة صارفة مع
كون المصروف أحد هذين المعنيين.
وأما حمله على الملكة، بناء على كون ألفاظ العلوم أسامي لملكاتها، أو كون
59

لفظ " الفقه " بالخصوص اسما لملكة هذا العلم، كما هو قضية بنائهم دفع الإشكال
الآتي الوارد على عكس التعريف من جهة خروج أكثر الفقهاء على ذلك، فلا
نضائقه إلا أنه يشكل الحال حينئذ من وجهين:
أحدهما: ما ينشأ من تعلق مدخول " الباء " بالعلم، فإن الملكة ليست من
معاني الأفعال ليصح تعلق الظرف وما في حكمه بها.
وثانيهما: ما ينشأ من ظهور رجوع ظرف " عن أدلتها " إلى العلم، فإنه يقضي
بحصول العلم عن الأدلة التفصيلية، والملكة إنما تحصل عن الممارسة في الفن
لا عن الأدلة.
ولكن يسهل دفعه في كلا الوجهين، بأن الملكة المرادة من لفظ " العلم " عبارة
عن الملكة التي يقتدر بها على العلم بالأحكام عن الأدلة، فهو مفهوم مركب عما
يصح تعلق الظرف وما في حكمه به، وهو العلم بمعنى التصديق الجازم، وهذا هو
الذي يقدر حصوله عن الأدلة، لا أصل الملكة من حيث إنها هيئة راسخة في
النفس، فلا إشكال أصلا.
[5] قوله: (بالأحكام... الخ)
جمع مفرده الحكم، وهذا أيضا يطلق على معان:
منها: الإلزام الذي يتداوله العرف الكاشف عن اللغة، فإنه المتبادر من
إطلاقاته عرفا، يقال: حكمت عليه بكذا، أي ألزمته عليه. ومنه ما يسند إلى حكام
الجور من سلطان وولاته، وما يسند إلى حكام الشرع في رفع الخصومات، ويعتبر
في الحكم بهذا المعنى أمور:
أولها: كونه من مقولة الإنشاء فلا يتناول الإخباريات.
وثانيها: كون الإنشاء على وجه الحتم تعلق بفعل شئ أو تركه، فلا يصدق
على ما لا حتم فيه.
وثالثها: علو رتبة الحاكم شرعا أو عرفا بالنسبة إلى المحكوم عليه، فلا يطلق
على الزامات الداني والمساوي.
60

ومنها: ما يتداوله أهل الميزان، وهو التصديق عند من يجعله بسيطا عبارة عن
الحكم فقط، المعبر عنه بإسناد أمر إلى آخر إيجابا أو سلبا، دون غيره من أجزاء
القضية.
ومنها: ما يوجد في كلام بعض أهل الميزان أيضا، من إطلاقه على النسبة
الحكمية المعبر عنها بالنسبة الخبرية.
ومنها: ما يوجد في كلام كافة أهل العلم من إطلاقه على المسألة، فيقال:
أحكام النحو، وأحكام الفقه، أي مسائله.
والفرق بينه وبين سابقه: أن المسائل هي النسب الخبرية التي يستدل عليها
في الفن، بخلاف النسبة المطلقة فإنها تشمل النسب المتداولة في العرف أيضا.
ومنها: ما هو مصطلح قدماء الأصوليين، من أنه خطاب الله المتعلق بأفعال
المكلفين من حيث الاقتضاء والتخيير، مع قيد " الوضع " أو إسقاطه على الخلاف
فيه من جهة الاختلاف في كون الوضعيات من الأحكام الشرعية أو من منتزعات
العقل، وإن لم نقل على الأول بكونها من مجعولات الشارع نظرا إلى أن كون
الشئ حكما شرعيا لا يستلزم كونه مجعولا وإن استلزم كونه مجعولا كونه حكما
شرعيا.
والمراد بالاقتضاء: ما يعم الأربع الطلبية وبالتخيير: ما يختص بالإباحة، وأما
الخطاب فالمستفاد من جماعة أن المراد به ما هو من مقولة اللفظ.
قال شيخنا البهائي (قدس سره) - في حواشي زبدته -: أن الخطاب لغة توجيه الكلام
نحو الغير للإفهام (1).
وقد صرح الآمدي (2) وغيره من علماء الأصول بنقله إلى الكلام الموجه.
انتهى.

(1) زبدة الأصول: 31.
(2) الإحكام في أصول الأحكام 1: 85 حيث قال: والحق أنه: " اللفظ المتواضع عليه المقصود
به إفهام من هو متهيئ لفهمه ".
61

وفي بيان المختصر - بعد ايراد التعريف -: أن الخطاب معناه توجيه ما أفاد
في الاصطلاح نحو الحاضر ومن في حكمه، وأريد به هاهنا ما وقع به الخطاب،
وهو ما يقصد به إفهام من هو متهيئ للفهم. انتهى.
ولكن يشكل هذا بملاحظة أن أصل هذا الاصطلاح في الحكم من الغزالي
وتبعه آخرون، وهو من الأشاعرة القائلة بالكلام النفسي، الذي يجعلونه مدلول
الكلام اللفظي الذي منه الكتاب، كما يرشد إليه قولهم الآتي في دفع شبهة اتحاد
الدليل والمدلول، بناء على أخذ الحكم في التعريف بالمعنى المذكور.
فإن قضية هذا كله، كون المراد بالخطاب هنا ما هو من مقولة المدلول لا
اللفظ، إلا أن يقال: بأن اصطلاحهم منعقد في اللفظ، وحمله في الحد على المعنى
تأويل ارتكبوه لدفع الشبهة.
ومنها: ما هو مصطلح الفقهاء من إطلاقه على الخمس التكليفية خاصة، وشاع
عندهم إطلاقه على ما يعمه الوضعيات أيضا.
والفرق بين هذا وما تقدم من مصطلح الأصولي واضح، بناء على ما عرفت
من تصريح الجماعة المقتضي كون المراد ثمة بالخطاب ما هو من مقولة اللفظ.
نعم يشكل الفرق بملاحظة ما استظهرناه من الغزالي، لأن مقتضاه اتحاد
الاصطلاحين كما سبق إلى بعض الأوهام أيضا، إلا أن يفرق بينهما أيضا بالنظر إلى
الاعتبار، بدعوى: أن الحكم الثابت لابد فيه من جهتين صدورا وتعلقا، فهو من
جهة صدوره قائم بنفس الشارع ومن جهة تعلقه قائم بالمكلف وفعله، واصطلاح
الأصولي ناظر إليه باعتبار جهة صدوره، واصطلاح الفقيه ناظر إليه باعتبار جهة
تعلقه، ويؤيده التعبير عن الأول بالخطاب، الظاهر في التوجيه الذي هو صفة
المخاطب بالكسر، وعن الثاني بالوجوب والحرمة والندب والكراهة والإباحة،
الظاهرة فيما هو من صفات فعل المكلف.
ويمكن القول: بأن مصطلح الأصولي أصله من المتكلمين - كما يفصح عنه ما
تقدم من كونه من الغزالي الذي هو من المتكلمين - وهم إنما يبحثون عن التكليف
62

باعتبار ما يرجع إلى الشارع، فلا يرتبط إلا بجهة الصدور، كما أن الفقيه لا يبحث
عنه إلا باعتبار كونه من عوارض فعل المكلف، فلا يرتبط إلا بجهة التعلق، فتعين
الفرق حينئذ.
[6] قوله: (الشرعية... الخ)
كلمة " الياء " في هذه اللفظة للنسبة، فهي باعتبار هذه النسبة وصف للأحكام،
ويكون المعنى: الأحكام المنتسبة إلى الشارع، والأحكام الشرعية بهذا المعنى
يقال على ما يقابل الأحكام النحوية والصرفية والمنطقية وغيرها.
وانتساب الأحكام إلى الشارع إما لأجل جعله الثابت فيها فيراد بها
مجعولات الشارع، أو لأجل الأخذ منه فيراد بها الأحكام المأخوذة منه، أو لأجل
كونها من طريقته الثابتة له بجعل أو إمضاء أو كشف عن الواقع.
والفرق بينه وبين الأولين، إنهما يستدعيان تأويلا في لفظ " الشرع " بإرادة
معنى الشارع بخلافه، كما هو واضح.
والظاهر صحة إرادة كل من الوجوه الثلاث إلا الوجه الأول، على بعض
تقادير الأحكام الوضعية حسبما تعرفه.
ومن الأفاضل (1) من اعترض على إرادة الوجه الثاني باستلزامه انتقاض
العكس، بخروج مثل وجوب الحكم بوجود الصانع، ووجوب شكر المنعم،
ووجوب النظر في المعجزة، وغيره مما لا سبيل إلى إدراكه إلا من جهة العقل، مع
أن الجميع من الحكم الشرعي جزما، من غير فرق بين أن يعتبر الأخذ فعليا أو
شأنيا، فإن هذه الأحكام ليست مأخوذة من الشارع فعلا لئلا يلزم الدور كما قرر
في محله، ولا أن من شأنها أن تؤخذ منه، لأن ممتنع الأخذ منه فعلا ليس من شأنه
أن يؤخذ منه، هذا ملخص كلامه، نقلناه بالمعنى.
ويدفعه: أن أخذ الحكم من الشارع أعم من أن يكون ببيان الشرع أو العقل،

(1) هداية المسترشدين: 3 (الطبعة الحجرية).
63

ومحذور الدور إنما يتوجه على الأول لتوقفه على ثبوت الشرع، المتوقف على
هذه الأحكام.
وقد اعترف المعترض بأنها مأخوذة من العقل، وحيث إنه لسان الشرع
فالأخذ منه أخذ من الشارع، مع توجه المنع إلى الملازمة بين كون الشئ ممتنع
الأخذ منه فعلا وكونه بحيث ليس من شأنه أن يؤخذ منه، فإن معنى شأنية الأخذ
من الشارع أن في الشئ لذاته ما يقتضي الأخذ منه، والمقتضي قد يصادف وجود
المانع، وامتناع الأخذ منه فعلا إنما نشأ عن مصادفة مانع الدور، وهو لا ينافي
وجود المقتضى الذي عليه مدار صدق القضية الشأنية.
ألا ترى إن العبادة الواقعية من شأنها أن يأمر الشارع كل مكلف بها إيصالا له
إلى ما فيها من المصالح النفس الأمرية والصفات الكامنة فيها، مع امتناع تنجز ذلك
بالقياس إلى الغافل وغيره من ذوي الأعذار، لمصادفة مانع التكليف بغير المقدور.
وأضعف من هذا الاعتراض ما يستفاد من بعض الفضلاء (1) - على تقدير إرادة
الوجه الثالث - وهو لزوم نسبة الشئ إلى نفسه، حيث إن الأحكام ليست إلا
عبارة عن نفس الطريقة المختصة بالشارع، فيكون مفاد وصفها بالشرعية بهذا
المعنى الطريقة المنتسبة إلى الطريقة، وإنه محال لوجوب تغاير المنسوب
والمنسوب إليه في النسبة.
ويدفعه: أن الطريقة المنتسبة إلى الشارع إما عبارة عن مجموع أمور تثبت
بجعل الشارع وإمضائه وكشفه عن الواقع، أو عما يصدق على كل من الجهات
المتحققة فيما بين التكليفيات وماهيات العبادات والمعاملات صدق الكلي على
أفراده، فهي بالإضافة إلى الخصوصيات المندرجة فيها إما كل بالقياس إلى
أجزائه، أو كلي بالقياس إلى جزئياته.
وأيا ما كان فنسبة " الأحكام " إليها صحيحة على حد نسبة الجزء إلى كله،

(1) الفصول: 2.
64

ونسبة الجزئي إلى كليه، بناء على اعتبار العموم في " الأحكام " فالمنسوب في
الحقيقة أفراد هذا، وهي بالقياس إلى الطريقة إما أجزاء أو جزئيات.
ثم قد عرفت أن أخذ الشئ من الشارع من جهة اعتباري الفعل والشأن على
قسمين، كما أنه أيضا من جهة اعتباري الأخذ منه بلا واسطة والأخذ منه بواسطة
العقل على قسمين، فيتصور في الوجه الثاني - على تقدير إرادته - وجوه خمس:
ما أخذ من الشارع فعلا بلسان الشرع، وما أخذ منه فعلا ولو بلسان العقل، وما من
شأنه أن يؤخذ منه وقد أخذ فعلا بلسان الشرع، وما من شأنه أن يؤخذ منه وقد
أخذ فعلا ولو بلسان العقل، وما من شأنه أن يؤخذ منه مطلقا.
ولا يصح من هذه الوجوه إلا الثاني والرابع والخامس، لاستلزام الأول
والثالث انتقاض العكس بخروج مستقلات العقل، فيجب الحمل على ما عداهما
حذرا عن ذلك، من غير فرق فيه بين ما لو حمل " الأحكام " على النسب الخبرية،
أو التصديقات، أو المسائل، أو مصطلح الفقهاء بمعناه الأعم أو الأخص، إن قلنا
بكون الوضعيات ليست مجعولة ولا أنها من الأحكام الشرعية، فإن الحمل عليها
مع قطع النظر عن الإشكالات المتوجهة إلى أكثرها لا يستلزم محذورا بالقياس
إلى الوجوه الثلاث الجارية في قيد " الشرعية " خلافا لمن توهم عدم استقامة
الأخذ بتلك الوجوه إلا إذا حمل " الأحكام " على مصطلح الفقهاء، تعليلا: بأن
الحمل على المعاني الأخر لا يلائم شيئا من الوجوه الخمس المذكورة، لاستلزامه
انتقاض العكس والطرد معا في بعض تلك الوجوه كالأول والثالث وانتقاض الطرد
فقط في البعض الباقي، فإن المستقلات العقلية تخرج على الأول والثالث.
كما أن القصص والأمثال والمواعظ والنصائح ومسائل الحبط والتكفير
وتجسيم الأعمال ونحوها مما ورد في الكتاب والسنة تدخل على الجميع وإن
اختص ذلك ببعض هذه الأمور في الثالث والرابع والخامس من الوجوه، فإن
الجميع نسب خبرية أو تصديقات، أو مسائل مأخوذة من الشارع، كما أن مسائل
الحبط والتكفير وتجسيم الأعمال من الأمور التي من شأنها أن تؤخذ من الشارع.
65

وفيه: منع واضح بعد اعتبار الشأن مع قيد الحيثية، فإن الحكم الشرعي ما أخذ
أو من شأنه أن يؤخذ من الشارع من حيث إنه شارع، والأمور المذكورة مأخوذة
منه أو من شأنها أن يؤخذ منه من حيثيات أخر لا من حيث الشارعية، كما في
سائر تفاصيل أحوال المعاد وغيرها مما لا يؤخذ إلا من الشارع.
[7] قوله: (الفرعية... الخ)
صفة بعد صفة للأحكام و " ياؤها " كما في الشرعية أيضا للنسبة، فيراد
بالأحكام الموصوفة بها الأحكام المنتسبة إلى الفرع، وانتساب الأحكام إلى الفرع
معناه تعلقها به، كما يراد بالأحكام الأصولية الأحكام المنتسبة إلى الأصول
باعتبار تعلقها بها.
ومن هنا يتضح أن الفرع اصطلاح للمتشرعة في مقابلة الأصل، فيقال: فروع
الدين قبالا لأصول الدين.
و " الأصل " اصطلاح لهم في المعارف الخمس وما يتبعها، فهي عبارة عن
عقائد مخصوصة للمكلف، تعلق بها بخصوصها من الشارع أحكام مخصوصة،
وتسمى تلك الأحكام بهذا الاعتبار أصولية، وقد تسمى علمية لكون متعلقها علم
المكلف، ويقابلها العملية مرادفة للفرعية لكون متعلقها عمل المكلف، فالمراد
بالفرع ما يقابل اعتقاد المكلف ويرادف عمله، ولذا قد يعرف الفرعية: بما يتعلق
بالعمل بلا واسطة، والموصول هنا كناية عن موصوف مطوي وهو " الأحكام "
بمعنى المسائل - على ما نختاره ونحققه - لا " العلم " مطلقا ولا " العلم بالحكم
الشرعي " كما توهم.
وأخذ " التعلق " في الصلة تنبيه على أن المعتبر في انتساب الأحكام إلى الفرع
المستفاد من كلمة " الياء " ما يكون بنحو التعلق والعروض، على معنى كون تعلق
الأحكام الشرعية بالفرع تعلقا عروضيا، وبيان لتغاير الانتساب المأخوذ هنا لما
هو مأخوذ في قيد " الشرعية ".
والجمع بين هاتين الجهتين من الانتساب، تنبيه على أن الحكم المأخوذ في
66

حد " الفقه " يعتبر فيه باعتبار الصدور والتعلق جهتان، يرجع أوليهما إلى الشارع
تعالى وثانيتهما إلى عمل المكلف.
ويتضح بذلك - زيادة على ما مر - كون الحكم عبارة عن أمر فعلي، نظرا إلى
أن الفعلية وصف لا يتأتى إلا بالتعلق الذي هو ظاهر في الفعل، كما أنه يندفع به -
مضافا إلى ما مر - ما قيل على طرد الحد من صدق " الأحكام الشرعية الفرعية "
على أحكام شرع اليهود وغيرهم من سائر الأمم، لانتسابها إلى الشرع والفرع معا،
إلا أن يخصص " الشرعية " بشرع نبينا (صلى الله عليه وآله)، أو حمل اللام على العهد احترازا عما
ذكر، فإن هذه الشرائع مخرجة بقيد " الأحكام " بملاحظة ما قدمناه من ظهورها
في الفعل، ولا فعلية في الشرائع الأخر، ولو سلم عدم وفاء ذلك بالإخراج فاعتبار
التعلق في " الفرعية " الظاهر في العروض الفعلي كاف في إخراجها.
نعم ربما يتوجه النقض بأحكام الملائكة والتكاليف المختصة بهم، فإن العلم
بها من هذه الجهة كالعلم بشرائع الأمم السالفة لا يسمى فقها، ولا العالم بها فقيها،
مع أن ما ذكر في تعريف الفرعية صادق عليها.
ويمكن دفعه: بأن الظاهر المنساق من التعريف كون الحكم متعلقا بالعمل
تعلقا يجب معه العمل عليه، والتدين به على العالم به، أو من شاركه في التكليف.
ولا ريب أن الأحكام المتعلقة بالملائكة بالقياس إلى من يعلمها من البشر
ليست بتلك المثابة.
وقد يدفع: باعتبار كون العمل عملا للمكلف الآدمي من باب التقييد أو حمل
اللام على العهد.
ومنهم من زاد في تعريف الفرعية قيد " الكيفية " مضافة إلى " العمل " وهي
الهيئة المخصوصة التي تعتبر مع العمل في تعلق الحكم الشرعي به.
والمراد بها إما الصورة النوعية التي يمتاز بها كل نوع من العمل عن مشاركاته
في الجنس، أو الهيئة العارضة له من انضمام أو تقييد أو انضمام وتقييد (1) على

(1) كذا في الأصل.
67

ما يأتي الإشارة إلى تفصيل ذلك عند بيان تشريع الماهيات واختراعها، وملخصه:
أن المخترع للعبادة أو المعاملة يلاحظ الماهية مكيفة بكيفيات مخصوصة، حاصلة
من انضمام أمور بعضها إلى بعض وهو التركيب، واقترانها بأمور أخر من حالة كذا
أو جهة كذا أو زمان كذا أو مكان كذا وهو التقييد، ثم يجعل لها حكما من الخمس،
وإلى هذا يشير ما قيل: من أن مفهوم الصيغة يرد على المادة بعد اعتبار قيودها
وحيثياتها، فمورد الحكم الفرعي هو العمل الملحوظ معه الكيفية المخصوصة بأحد
المعنيين أو كليهما، لا ذات العمل بعنوانه العام الغير الملحوظ معه شئ من
الكيفيات المخصوصة، ففائدة قيد " الكيفية " إما مجرد توضيح هذا المعنى، أو
المحافظة على طرد التعريف بمثل مسألة وجوب شكر المنعم، التي هي إما مسألة
عقلية صرفة أو مسألة كلامية وليست من المسائل الفرعية، مع أن الحكم المأخوذ
فيها متعلق بالشكر الذي هو عبارة عن صرف العبد جميع ما أنعمه المنعم فيما أنعمه
لأجله، وهو كما ترى عمل للمكلف غير أنه لم يلاحظ معه في هذه القضية شئ
من الكيفيات المخصوصة التي يتوقف ثبوتها على ورود الشرع وثبوته، فهو من
هذه الجهة ليس بحكم فرعي، بل الحكم الفرعي ما اعتبر في متعلقه الكيفية
المخصوصة، فيخرج بهذا القيد عن التعريف.
ثم أعتبر في الحكم الفرعي - مضافا إلى اعتبار تعلقه بالعمل - كون تعلقه بلا
واسطة غريبة في العروض، بأن يكون عروضه له ذاتيا وإسناده إليه حقيقيا، لا بأن
يكون بحيث لو أسند إليه كان إسنادا مجازيا، كحركة السفينة المسندة إلى جالسها،
فالوجوب المستفاد من قوله تعالى: (أقيموا الصلاة) (1) حكم فرعي لتعلقه بالعمل
بلا واسطة، لا نحو وجوب الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر وغيرها من أصول
العقائد وتوابعها، وإن صح فرض تعلقه بالصلاة بعيدا بواسطة غريبة وهي الإيمان
المذكور باعتبار كونه من شروط صحة الصلاة، وغيرها من الفروع، فإنه لمجرد
مثل هذا التعلق البعيد لا يسمى حكما فرعيا.

(1) الأنعام: 72.
68

ويمكن القول بالاستغناء عن القيد المذكور بملاحظة ظهور الصلة في التعلق
الحقيقي، فيخرج به ما يكون تعلقه بواسطة غريبة، حتى نحو وجوب الوضوء
بالقياس إلى الصلاة بواسطة كون الوضوء من شروط صحة الصلاة، فإنه وإن صح
فرض تعلقه بالصلاة، بأن يقال: إن معنى قولنا: يجب الوضوء في الصلاة، يؤول إلى
قولنا: يجب الصلاة مقرونة بالوضوء، إلا أن كونه حكما فرعيا ليس بهذا الاعتبار
البعيد، الذي ينشأ بعده من كون اسناده إلى الصلاة مجازيا، بل باعتبار تعلقه بنفس
الوضوء الذي هو عمل وتعلق به الحكم المذكور بلا واسطة.
ثم إن هاهنا إشكال يصعب دفعه، يرد على ما ذكر من تعريف الحكم الفرعي،
وهو لزوم أحد الأمرين من انتقاض طرده أو عكسه بالأحكام الوضعية - بناء على
كونها من الأحكام الشرعية - فإنها إن كانت من الأحكام الفرعية والمسائل الفقهية
انتقض العكس بخروج جملة كثيرة منها، وإن لم تكن منها انتقض الطرد بدخول
جملة أخرى، وينتقض من جهته حد " الفقه " بأحد الوجهين، لاشتماله على قيد
" الفرعية " بالمعنى المذكور.
وتوضيحه: أن الأحكام الوضعية حسبما ساعد عليه الاستقراء أنحاء:
منها: ما هو متعلق بعمل المكلف كالسببية المتعلقة بالوضوء وأخويه،
والإتلاف والغصب والقتل والجناية ونحوها، حيث إن الثلاث الأولى أسباب
للطهارة وتالياها سببان للضمان، والأخيران سببان للقصاص والدية.
ومنها: ما هو متعلق بعين المكلف، كطهارة المسلم ونجاسة الكافر، والولاية
والسلطنة والمالكية والوارثية والمورثية ونحوها.
ومنها: ما هو متعلق بحال من أحوال المكلف، كالشرطية للطهارة، ومستورية
العورة، وكونه مستقبل القبلة، والمانعية للحيض والحدث والنجاسة ونحوها.
ومنها: ما هو متعلق بالأعيان الخارجية، كنجاسة الكلب والخنزير ونحوهما،
وطهارة الماء والغنم وغيرهما.
ومنها: ما هو متعلق بحال من أحوال الأعيان الخارجية، كالسببية لدلوك
الشمس.
69

ومنها: ما هو متعلق بعمل أو عين ما هو شبيه بالمكلف، كالوضعيات المتعلقة
بأفعال الصبيان والمجانين وأعيانهم، فإن كانت الوضعيات بجميع أنواعها
المذكورة من المسائل الفقهية خرج ما عدا النوع الأول وهو انتقاض العكس، وإن
لم يكن منها دخل النوع الأول وهو انتقاض الطرد، ولما كان الراجح في النظر عدم
كونها من المسائل الفقهية، لأنها ليست كالأحكام التكليفية مقصودة بالأصالة، بل
إنما تذكر في الفقه استطرادا أو استتباعا للتوصل بها إلى ما هو مقصود بالأصالة،
انحصر الإشكال في انتقاض الطرد.
ويمكن دفعه أيضا: بظهور الجملة الفعلية الدالة على التجدد والحدوث، في
حدوث التعلق اللازم للجعل الثابت في التكليفيات فقط - على ما سنقرره - فيخرج
به السببية القائمة بالأفعال المذكورة وغيرها، مما يندرج في عمل المكلف بحكم
الملازمة الواقعية التي كشف عنها الشارع، أو الملازمة العرفية التي أمضاها
الشارع، وأيا ما كانت فليست السببية حادثة متأخرا حدوثها عن محلها ولو ذهنا،
كما هو الحال في الأحكام التكليفية.
نعم يبقى في المقام إشكال آخر بالقياس إلى عكس هذا التعريف، بالنسبة إلى
أفراد المعرف وهي التكليفيات، بملاحظة أن متعلق هذه الأحكام على أنواع:
منها: ما كان أمرا وجوديا اختياريا صادرا من الجوارح، وما كان أمرا
وجوديا غير اختياري مستندا إلى الجوارح أيضا، كالأفعال التوليدية، بناء على
صحة تعلق التكليف بها كما هو الحق.
ومنها: ما كان أمرا عدميا اختياريا أو غير اختياري مستندا إلى الجوارح
أيضا، كالتروك ولو كانت من التوليديات.
ومنها: ما كان أمرا وجوديا اختياريا أو متولدا من الاختياري قائما بالقلب
غير اعتقاد، كالنية وقصد القربة، حيث يتعلق بهما الوجوب أو غيره، وقصد
المعصية - بناء على قبحه - والرياء والعجب والبخل والحسد حيث يتعلق بها
الحرمة، فإن هذه الأحكام تعد عندهم من الفروع، مع أن العمل المأخوذ في
70

التعريف ظاهر عرفا ولغة في الوجودي الاختياري الصادر من الجوارح، فيخرج
منه ما عدا النوع الأول.
ويمكن دفعه أيضا: بأن " العمل " هنا - على ما عرفت - مرادف " للفرع "
المقابل " للأصل " المصطلح عندهم في الاعتقاد، المنقسم إلى المعارف الخمس
وما يلحق بها، وينبغي أن يكون الفعل المأخوذ موضوعا للفقه مرادفا لهما.
وقد ذكرنا سابقا أن " الفرع " اصطلاح للمتشرعة فيما يقابل الاعتقاد، وليكن
مرادفاه أيضا كذلك، وهو بهذا الاعتبار يشمل جميع الأنواع المذكورة، والجامع
لها الأمر الغير الاعتقادي الذي يصح عرفا أن يسند إلى المكلف نفسه، وهذا كما
ترى صادق على الجميع، فينبغي أن يكون هذا هو المعنى المصطلح عليه، ولا
ينافيه الظهور المدعى بحسب العرف واللغة فيما هو أخص منه، لأن هذا ظهور
أولي والعبرة بالظهور الثانوي الناشئ من الاصطلاح بقرينة المقابلة، لكن ينبغي أن
يراد من " المكلف " هنا ما من شأنه أن يكون مكلفا، ليشمل التعريف عبادات
الصبي - بناء على شرعيتها - وحيث إن " المكلف " مأخوذ هنا فيخرج به ما يتعلق
بأفعال الباري تعالى، كقبح الظلم، وإظهار المعجزة في يد الكافر، ووجوب اللطف
عليه تعالى، وكونه مختارا في أفعاله إلى غير ذلك، إن قلنا بأن هذه المذكورات
أحكام شرعية، وإلا - فبناء على التحقيق - هذه أحكام عقلية كلامية فتخرج بقيد
" الشرعية " ولا حاجة معه إلى اعتبار خروجها من " الفرعية " أيضا، وإن كان ذلك
يستلزم انتقاض تعريفها طردا بالخصوص من غير أن يسري النقض إلى حد
" الفقه " كما يظهر بأدنى تأمل.
ولو أردنا صون تعريفها أيضا عن النقض المذكور نتشبث بما ذكر، وحيث إن
المكلف في لسان المتشرعة ينصرف إلى الآدميين فيخرج به الأحكام المتعلقة
بأفعال الملائكة والأجنة لو فرض حصول العلم بها بطريق الاستدلال، بناء على أن
هذا العلم لا يسمى " فقها " في الاصطلاح، وان ما ذكرنا سابقا (1) في دفع إشكال

(1) تقدم في نفس هذه التعليقة، الصفحة: 53.
71

عدم سلامة الطرد من جهة هذه الأحكام لا ينهض مخرجا لها، وإلا فلا حاجة إلى
تكلف دعوى الانصراف. فليتأمل.
[8] قوله: (عن أدلتها... الخ)
متعلق بعامل مقدر عام " كالحصول " فيكون الظرف مستقرا باتفاق النحاة، أو
خاص كالأخذ أو الاستنباط أو الاستفادة أو غيرها مما يلائم كلمة المجاوزة،
فالظرف لغو في قول ومستقر في آخر، والعامل على التقديرين وصف راجع إلى
العلم، فيكون المعنى: العلم بالأحكام الحاصل أو المأخوذ أو المستنبط أو المستفاد
عن الأدلة التفصيلية، أو إلى الأحكام فيكون المعنى: العلم بالأحكام الحاصلة أو
المأخوذة أو المستنبطة أو المستفادة عن الأدلة.
وقضية قاعدتهم في الظرف الواقع عقيب المعرفة كونه باعتبار العامل المقدر
حالا على التقديرين، وهذا معنى رجوعه إلى " العلم " أو " الأحكام " لا أن العامل
هو " العلم " أو " الحكم " ولكن ظاهر لفظ الحد يقتضي رجوعه إلى العلم.
وقد يقال: بعدم إمكان كونه من متعلقات العلم، لأن العلم المسمى " بالفقه "
ليس حاصلا عن الأدلة، وما يحصل عنها ليس من الفقه، نظرا إلى أن الثاني ما
يعتبر في مقام الاجتهاد والأول معتبر في مقام الفقاهة، والاجتهاد مع الفقاهة
وصفان مرتبان لموصوف واحد، لتأخر رتبة الفقاهة عن رتبة الاجتهاد، والمجتهد
بمجرد استفراغ الوسع في تحصيل العلم أو الظن بالأحكام الشرعية والنظر في
الأدلة المحصلة لهما لا يسمى " فقيها " ولا علمه أو ظنه الحاصلان عنها " فقها " بل
غاية ما هناك أن يحصل له صغرى وجدانية فيجب عليه تحصيلا لمقام الفقاهة أن
يحصل كبرى كلية ويضمها إلى الصغرى المذكورة، فينتظم عنده صورة قياس
منتجة لكون مؤدى اجتهاده حكم الله في حقه، وحينئذ يصير " فقيها " وعلمه
المأخوذ في تلك النتيجة " فقها " وهذا العلم كما ترى لم يكن حاصلا عن الأدلة
التفصيلية، فوجب حينئذ اعتبار تعلق الظرف " بالأحكام " ليكون المعنى: أن الفقه
هو العلم بالأحكام الحاصلة عن الأدلة التفصيلية، ومعنى حصولها عنها كون ذواتها
72

وهي التي يشار إليها في صغرى القياس بلفظة " هذا " حاصلة عنها ولقد سبق منا
تحقيق القول في دفعه (1) ولا حاجة إلى الإعادة.
[9] قوله: (التفصيلية... الخ)
وصف للأدلة قبالا للأدلة الإجمالية، وهي المنسوبة إلى الإجمال، وهو الجمع
يقال: أجملت الشئ إجمالا، أي جمعته من غير تفصيل، ومنه اللفظ المجمل
لجمعه أكثر من احتمال واحد، فمعنى إجمالية الدليل كونه عن وسط واحد جامع
لشتات جميع الجزئيات، لا بمعنى كونه مجملا مرادفا للمبهم كما هو من لوازم
مجمل اللفظ كما توهم، حتى يورد على القول بكون دليل المقلد إجماليا بأن دليله
عام لا أنه مجمل، فالأدلة التفصيلية يراد بها المنسوبة إلى التفصيل المأخوذ من
الفصل بمعنى الفرقة، ومعنى تفصيلية الأدلة كونها عن أوساط متفرقة مختلفة
الحقائق.
وإلى إرادة هذا المعنى ينظر كلام الأكثرين في اخراج علم المقلد بهذا القيد
كما هو الأظهر، ويحتمل كون المراد بالدليل الإجمالي ما يكون مدلوله أمرا مجملا
مرددا بين أمور، نظير مجمل اللفظ المتردد بين معان، وعليه مبني ما يأتي عن
بعض الأعلام (2) من كون قيد " التفصيلية " لإخراج الأدلة الإجمالية المقامة على
الأحكام المعلومة بالإجمال، بملاحظة الضرورة، وعمومات الآيات، والأخبار
الدالة على ثبوت التكاليف إجمالا، وستعرف الكلام في تزييفه إن شاء الله.
[10] قوله: (فخرج بالتقييد بالأحكام العلم بالذوات، كزيد وبالصفات
ككرمه وشجاعته، وبالأفعال ككتابته وخياطته... الخ)
خروج هذه الأمور بقيد " الأحكام " مبني على أن يراد منها النسب الخبرية
كما هو أحد محتملاته بل الأقوال المتقدمة، ولذا قيل في وجه الإخراج - الذي
هو فرع على الدخول - إن العلم لابد له من متعلق، وهو إما أن يكون في وجوده

(1) تقدم في التعليقة الرقم 4.
(2) قوانين الأصول: 6.
73

الخارجي بحيث يحتاج إلى محل يقوم به أو لا، والثاني هو الذات، والأول إما أن
يكون وجوده منوطا بقصد المختار وشعوره أو لا، والأول الأفعال، والثاني إما أن
يكون محتاجا إلى محل واحد أو إلى محلين، والأول الصفات والثاني النسب،
وظاهر أن خروج ما عدا القسم الأخير لا يستند إلى قيد " الأحكام " إلا مع إرادة
النسب، بل إرادته لازم لكل من يجعل هذا القيد مخرجا للأمور المذكورة.
وصرح غير واحد من فحولنا بالحمل عليها في غير هذا الكتاب أيضا، غير أن
التحقيق والنظر الدقيق يقضي بفساد هذه الدعوى، واستلزام الحمل عليها خروج
القيد مستدركا، فإن العلم بهذه الأمور الذي يخرج بهذا القيد إما أن يراد به العلم
التصوري المتعلق بها، أو العلم التصديقي المتحقق معها، ولا سبيل إلى شئ منهما.
أما الأول: فلأن خروج شئ عن الحد فرع على دخوله في جنسه، ولا يعقل
دخول تصور الأمور المذكورة إلا على تقدير إرادة الإدراك المطلق من " العلم ".
وقد عرفت سابقا منعه (1) وعدم ملائمته للتعدية " بالباء " وإضمار المتعلق
خلاف أصل لا يصار إليه إلا مع قرينة مفقودة في المقام.
وأما الثاني: فلأن " الحكم " الذي أريد به النسبة لا يخرج التصديق المتضمن
للنسبة، فخروج التصديق بهذه الأمور على تقدير إرادة النسب من " الأحكام "
لابد وأن يستند إلى القيود الأخر، وهذا معنى خروج قيد " الأحكام " مستدركا.
وأما الاعتراض على القول بإرادة هذا المعنى، باستلزامه خروج النسب
الإنشائية كما في قوله تعالى: (أقيموا الصلاة) (2) ونظائره لو قيدت النسب هنا
بالخبرية، فليس بشئ، إذ النسب الإنشائية لم تؤخذ إلا في أدلة الأحكام وهي
ملحوظة من باب المبادئ، والنسب المرادة من الأحكام لابد وأن تكون من باب
النسب المأخوذة في مسائل الفن ولا يكون إلا خبرية، وهي النتائج الحاصلة عن
دليل يكون العلم بالنسب الإنشائية المستفادة من الأوامر والنواهي محرزا

(1) تقدم في التعليقة رقم 4 ص...
(2) الأنعام: 72.
74

لصغراه، وكما أن الحمل على هذا المعنى مما لا ينبغي، فكذا الحمل على إرادة
المعنى العرفي أعني الإلزام حتى يكون " الفقه " عبارة عن العلم بالإلزامات
الشرعية، لخروج الحد معه غير منعكس بالقياس إلى الأحكام الغير الإلزامية،
كالندب والكراهة والإباحة والعلم بها داخل في المحدود جزما.
وأما الحمل على التصديق وإن احتمله المدقق الشيرواني (1) ونقل القول به
عن المحقق الشريف، لكنه أيضا كسابقيه غير مستقيم، سواء أريد به تصديق الفقيه
أو تصديق الشارع.
أما الأول: فواضح.
وأما الثاني: فلأن الفقه الحاصل عن الأدلة إنما هو اعتقاد الفقيه بمعتقدات
الشارع لا اعتقاداته، فيلزم البينونة بين الحد ومحدوده، إلا أن يؤول فيه بجعل
التعريف بالتصديق باعتقادات الشارع تفسيرا باللازم، بدعوى: أن الفقه في نفس
الأمر وإن كان هو التصديق بمعتقد الشارع غير أنه يلزمه التصديق باعتقاده.
وفيه: أن ذلك خلاف ظاهر لا داعي إلى ارتكابه مع إمكان صحة الحد بدونه،
بحملها على بعض ما تقدم من معانيها حسبما نقرره، من غير حاجة إلى ارتكاب
تأويل.
وفي كلام غير واحد من العامة ولا سيما الأشاعرة، أخذها بالمعنى المصطلح
الأصولي المتقدم ذكره (2).
وعمدة ما يرد عليه: استلزامه خروج قيدي " الشرعية " و " الفرعية "
مستدركا، حيث إن خطاب الله المأخوذ بالاعتبار المذكور لا يكون إلا شرعيا
فرعيا، وهذا هو الذي يرد عليه، إلا أن المعروف عندهم الإيراد عليه بلزومه اتحاد
الدليل والمدلول، فإن الحكم المأخوذ في الحد لابد وأن يكون مدلولا للأدلة

(1) حواشي الموسوم بحواشي ملا ميرزا، المطبوعة بهامش المعالم: 22.
(2) تقدم في التعليقة 5، الصفحة 47 - 48.
75

التفصيلية التي منها الكتاب وهو أيضا خطاب الله، فلو أخذ الحكم المستفاد منه
بمعنى خطاب الله لزم كونه متحدا مع دليله.
ومبنى هذا الإيراد على توهم كون المراد بالخطاب المأخوذ في مفهوم الحكم
بهذا المعنى ما هو من مقولة اللفظ، ولعل منشؤه ما تقدم عن جماعة من التصريح
بكون المراد به هنا الكلام الموجه، أو ما وقع به الخطاب.
ويشكل بما أشرنا إليه من أن أصل هذا التعريف من الأشاعرة القائلين
بالكلام النفسي، ولم يعهد أخذ " الأحكام " في الحد بهذا المعنى عن غيرهم، فلم
لا يجوز أن يكون ذلك منهم بناء على مذهبهم في الكلام النفسي فحينئذ لا يتوجه
إليهم الإيراد المذكور.
ومن هنا عزي إليهم الفرق في دفع الإشكال بين الخطابين بكون أحدهما من
مقولة الكلام اللفظي وهو الدليل، والآخر من مقولة الكلام النفسي وهو المدلول
فلا اتحاد، ولكن أعترض عليه بوجوه:
منها: ما تفرد به بعض الأعلام (1) من أنه يلزم حينئذ كون الكتاب كاشفا
عن المدعى لا مثبتا للدعوى، فلا يكون دليلا في الاصطلاح.
وأوضحه في حواشيه بأن الدليل في اصطلاح الأصوليين هو ما يمكن
التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري، فإذا كان الخطاب هو المبين للكلام
النفسي والمظهر له أولا من دون سبق اطلاع عليه لا إجمالا ولا تفصيلا، فأين
المطلوب الخبري الذي يعمل النظر في الكتاب لتحصيله، فلابد أن يسبق الدعوى
على الدليل، ولو سبقا إجمالا حتى يطلب من الدليل.
ووافقه على هذا الاعتراض بعض الأعاظم (2) وملخصه: أن الدليل بحسب
الاصطلاح يعتبر فيه سبق الدعوى، الذي لازمه صدق عنوان المطلوبية على
النتيجة الحاصلة منه، لوضوح أنه ما يقع فيه النظر الذي هو ترتيب أمور معلومة
للتأدي إلى مجهول.

(1) قوانين الأصول: 5.
(2) إشارات الأصول: 2.
76

ولا ريب أن الترتيب بهذا المعنى لا يتأتى إلا بعد إحراز ما يكون مطلوبا يعمل
النظر في طلبه من جهة كونه مجهولا قبل النظر، وقد وقع الإشارة إلى اعتبار ذلك
في مواضع من التعريف:
أحدها: لفظ " التوصل " الذي لابد له مما يتوصل إليه.
وثانيها: لفظ " النظر " الذي لابد له مما ينظر له.
وثالثها: لفظ " المطلوب " بتقريب: أن وقوعه غاية يقتضي كون مطلوبيته
محرزة قبل اعتبار المغيى، وهذا المعنى كما ترى غير حاصل فيما بين الكلام
اللفظي ومدلوله، لأن اللفظ ما يكشف عن مدلوله كشفا ابتدائيا من دون سبق
دعواه ولا اطلاع عليه تفصيلا وإجمالا.
وهذه الدعوى مما لا مدفع لها، ولا يمكن منعها في الدليل الاصطلاحي، بل لا
اختصاص لاعتبار هذا الشرط بمصطلح الأصولي كما يظهر بأدنى تأمل في بعض
ما ذكر، فما في كلام غير واحد من دفعها بمنع اعتبار ما ذكر في الدليل ليس على
ما ينبغي، كما أنه كذلك ما قيل في دفعها من نقضه بالإجماع الذي نهوضه دليلا
منوط بالكشف عن قول المعصوم، فإن المعترض لا ينكر كون دلالة الدليل في
بعض أقسامه من باب الكشف، كالدليل الإني الذي مبني على ذلك، ووجوده مما
لا يقبل الإنكار، بل الأدلة النقلية بأسرها والعقلية في موضع يكون حكم العقل
إدراكا لمجعول الشارع لا جعلا لما سكت عنه الشارع منوطة بذلك، فما توهم من
كلامه من أنه بصدد إنكار ما يكون من الأدلة إنيا واضح الضعف.
نعم يتوجه إليه في هذا الاعتراض منع الملازمة التي يدعيها، بناء على جعل
الكتاب من باب الكلام اللفظي والحكم من باب الكلام النفسي، فإن الكلام اللفظي
- خبريا كان أو إنشائيا - يكشف تارة عن قيام مدلوله وهو النسبة - خبرية كانت
أو إنشائية - بذهن المتكلم، وأخرى عن مطابقة ذلك المدلول للواقع إذا كان خبريا
وتعلقه بالسامع مثلا إذا كان إنشائيا، ومعنى كشفه عنهما إفادته الاعتقاد بهما علما
أو ظنا.
77

وغاية ما يمكن أن يناقش في دليلية الكلام اللفظي إنما هو باعتبار كشفه
الأول مع إشكال فيه ستعرفه، وأما باعتبار كشفه الثاني فلا مانع من اندراجه في
الدليل الاصطلاحي، فيكون الكتاب دليلا بهذا الاعتبار، ولا ينافيه اشتراط سبق
الدعوى والعلم الإجمالي بالمدعى فيه، لأن المخاطب إذا وجد مخاطبه في
معرض الخطاب، فهو يعلم أن له مقصود أو مقاصد وهو مريد لإبرازه له وإفادته
إياه، فيكون هذا المعلوم بالإجمال مجهولا تفصيله ويصير بذلك مطلوبا له، لأنه
بنظره في كلام المتكلم طالب للعلم التفصيلي بذلك المعلوم بالإجمال.
ولو سلم منع ذلك في كلام كل متكلم، فلا سبيل إلى منعه في الكتاب الذي هو
كلام لفظي لله سبحانه، لوضوح الفرق بين كلام ألقاه المتكلم إلى مخاطبه وكلام
يبلغه رسوله إليه، لإمكان تطرق الغفلة إلى المخاطب عن غرض المتكلم في الأول
بخلاف الثاني، فإنه إذا اطلع على قضية كون ذلك الرسول مرسلا إليه، يعلم إجمالا
أن عنده أحكاما راجعة إليه وهو قاصد لتبليغها، فينتظر للعلم التفصيلي بها بالنظر
في الكلام، ولا ريب أن الكتاب العزيز من هذا الباب، فالمخاطبون بخطاباته كانوا
يلاحظون فيها - بعد علمهم بتضمنها أحكاما راجعة إليهم - إجمالا طلبا لمعرفة
تفاصيل تلك الأحكام المعلومة بالإجمال.
ولو سلم منع ذلك أيضا، نقول: إن أريد بدليلية الكتاب كونه دليلا في
الاصطلاح مطلقا حتى بالقياس إلى المشافهين الموجودين في مجلس الوحي،
فلا داعي إلى التزامها ولا يظن بأحد أنه اعتبره دليلا على هذا الوجه، وإن أريد بها
كونه كذلك في الجملة وبالقياس إلى المعدومين فقط بل الغائبين عن مجلس
الوحي، فإنكاره حينئذ مكابرة صرفة، ضرورة أن المعدومين لا ينظرون فيه إلا
طلبا لمعلوماتهم الإجمالية، وهذا هو معنى سبق الدعوى على إعمال النظر في
الدليل، ولذا ترى يتوقف استفادة تفاصيل تلك الأحكام منه على إعمال مقدمات
يندفع بها احتمال التجوز والاشتراك والنقل والنسخ والتقييد والتخصيص
78

والإضمار والتحريف والتأليف (1) والزيادة والنقيصة والسقط وما أشبه ذلك من
الأحوال المزاحمة لدلالة الخطاب اللفظي، فمع افتقار استفادة المطلب من الكتاب
- ولو كان من مقولة الكلام اللفظي - إلى النظر الملازم للعلم الإجمالي، فكيف ينكر
صدق الدليل عليه اصطلاحا، ولا يتفاوت الحال في ذلك بين القول بشمول
الخطابات الشفاهية للمعدومين وخلافه.
ولا يذهب عليك، أن هذا وإن كان يدفع الاعتراض المذكور من الجهة التي
تقدم ذكرها، ولكن تطبيقه على مذهب الأشاعرة لا يخلو عن إشكال، لأن حاصل
ما قررناه كون الكلام اللفظي دليلا في الاصطلاح باعتبار كشفه الثاني، والمنقول
من مذهبهم يقتضي دليليته باعتبار كشفه الأول، حيث إنهم جعلوا مدلوله الكلام
النفسي المفسر عندهم تارة: بالمعنى القائم بنفس المتكلم، وأخرى: بالنسبة
الذهنية - خبرية كانت أو إنشائية - وثالثة: بالنسبة القائمة بالذهن، حتى إنهم
يجعلونه بهذا التفسير مغائرا للنسبة الخارجية، ومعنى كونه مدلولا للكلام اللفظي
إفادة الكلام العلم بقيامه في الذهن، وهذا كما ترى هو الكشف الأول من الكلام،
وقد عرفت أنه بهذا الاعتبار لا يعد دليلا في الاصطلاح، فالاعتراض متوجه
إليهم، لكن لا لما علله المعترض من عدم سبق الدعوى والعلم الإجمالي بالمدعى،
فإن السبق والعلم الإجمالي حاصلان في الكلام اللفظي بكل من التقادير الثلاث
المتقدمة، ولو بالقياس إلى الكشف الأول، بل لأن الكلام بهذا الاعتبار من
الأسباب الضرورية للعلم لأنه يورث العلم بلا نظر وفكر بقيام مدلوله في ذهن
المتكلم، إلا أن يمنع ذلك أيضا ويقال: إنه سبب ضروري بالقياس إلى أمر آخر
وهو التصور، أو هو مع العلم بوجود اللفظ في الخارج وصدوره من لافظه
لا بالقياس إلى ما ذكر من الكشفين.
وبيان ذلك: أن الكلام اللفظي كقوله تعالى: (أقيموا الصلاة) (2) له إفادة
من جهات ثلاث:

(1) كذا في الأصل.
(2) الأنعام: 72.
79

إحداها: أنه يفيد تصور معاني ألفاظه مفردة ومركبة، وحضور تلك المعاني في
ذهن السامع، فإنه بمجرد سماعه اللفظ يحضر عنده تلك المعاني حضورا تصوريا.
وثانيتها: أنه يفيد العلم أو الظن بالمراد من تلك المعاني الذي هو المعنى القائم
بذهن المتكلم، فإن السامع إذا حضر عنده في المقام الأول معاني اللفظ - حقيقية
ومجازية - يتوجه ذهنه إلى تعيين ما هو المراد منها، القائم بنفس المتكلم، فيحتاج
في هذا المقام إلى إعمال مقدمات كثيرة سبق إليها الإشارة فإذا علم أو ظن بعد
إعمالها في المثال المتقدم أن المراد منه الطلب الحتمي للصلاة بمعنى الأركان
المخصوصة، يحرز به صغرى قياس آخر يوجب العلم أو الظن بتعلق ذلك الطلب
بالسامع تعلقا تكليفيا وهذا هو الجهة الثالثة من الإفادة المتوقفة على إعمال
مقدمات أخر، بعضها نتيجة القياس المنتظم في الجهة الثانية، وبعضها قضايا
مأخوذة من الكلام مبتنية على وجوب شكر المنعم، الموجب لإطاعة المنعم
الحقيقي فيما يأمره وينهاه.
ولا ريب أن الجهة الأولى هي التي لا يصدق معها على الكلام اللفظي عنوان
الدليلية، لأنه من هذه الجهة سبب ضروري للتصور بل التصديق بصدور اللفظ من
لافظه، والمعتبر في الدليل اصطلاحا كونه موصلا بالنظر إلى التصديق.
وأما الجهتان الأخريان فيصدق عليه باعتبارهما عنوان الدليلية، لكونه في
كل منهما موصلا إلى التصديق بالنظر، لوضوح أنه في كل منهما يتوصل بصحيح
النظر إلى مطلوب خبري.
الكلام النفسي
وقضية كلام الأشاعرة اعتبار الكتاب دليلا على الكلام النفسي من الجهة
الأولى من هاتين الجهتين، ويلزم من ذلك كون هذا العلم هو المأخوذ في حد
" الفقه " وينبغي النظر في انطباقه على المحدود وعدمه، ويبتنى ذلك على النظر في
أن العلم المأخوذ في ذلك هل المراد منه عندهم العلم بالمعاني القائمة بنفس
الشارع، المبني على كون الأحكام عبارة عن الأمور النفس الأمرية مع قطع النظر
عن تعلقها بالمكلف، أو العلم بالأمور المتعلقة بالمكلف تعلقا فعليا موجبا لترتب
آثار التكليف عليه التي منها الثواب والعقاب.
80

فنقول: قضية ما أشرنا إليه سابقا (1) من كون الأحكام عبارة عن الأمور
الفعلية، انطباق الحد على الجهة الثانية إذ لا فعلية إلا مع التعلق فهو المأخوذ في
مسمى المحدود، وكذلك بناء على أخذ " الأحكام " بمصطلح الأصولي، كما عليه
مبنى كلام الأشاعرة أيضا بقرينة التعلق المأخوذ في مفهومه بهذا المعنى، فما عليه
الأشاعرة من جعل الكتاب دليلا على الكلام النفسي المنطبق على الأولى من
الجهتين أجنبي عن هذا الحد والمحدود، إلا إذا انفردوا في الاصطلاح فلا مشاحة،
أو التزموا الدليلية من الجهة الثانية، بدعوى: أن المعنى القائم بالنفس له جهتان:
جهة قيامه الذي محله من هذه الجهة نفس المتكلم، وجهة تعلقه الذي محله من
هذه الجهة فعل المكلف، و " الفقه " عبارة عندنا عن العلم بالمعاني القائمة بنفس
الشارع من حيث تعلقها بالمكلفين، لا من حيث قيامها بنفس الشارع فقط، فلا
محذور.
ومنها: أنه لو كان الحكم عبارة عن الكلام النفسي، المفسر بالمعنى القائم
بالنفس، الذي ليس في الإنشائيات إلا الطلب المشار إليه في حد " الحكم " بلفظ
" الاقتضاء " لزم أحد الأمرين، من تعدد القدماء أو السفه، واللازم بكلا قسميه
باطل، وأيضا لزم بالقياس إلى الصبي والمجنون والنائم إما تكليف ما لا يطاق،
أو تغير القديم، وهذان اللازمان أيضا باطلان.
أما الملازمة الأولى؛ فلقولهم بقدم الكلام النفسي، فإذا كان الطلب قديما وهو
يقتضي مطلوبا منه، فإن فرض تحقق المطلوب منه معه في جميع آنات وجوده
يلزم المحذور الأول، وإن فرض انفكاكه عنه يلزم المحذور الثاني، لأن التكليف
بلا مكلف سفه، وقد يقرر من غير جهة السفهية وهو أن الطلب أمر نسبي لا يتعقل
ولا يتحقق إلا بتعقل وتحقق منتسبيه الطالب والمطلوب منه، فإن فرض معه
المطلوب منه موجودا مطلقا لزم تعدد القدماء، وإلا لزم تحقق الأمر النسبي بدون
أحد المنتسبين وهو محال.

(1) تقدم في التعليقة الرقم 4، الصفحة 43.
81

وأما الملازمة الثانية؛ فلأن الطلب القديم إما أن يكون متوجها إلى الطوائف
المذكورة في أحوالهم الثلاث فيلزم تكليف ما لا يطاق، لعدم اقتدارهم في هذه
الأحوال على الامتثال، أو لا فيلزم تغير القديم وهو محال، لأنه من لوازم
الحادث، وأيضا فإن الجواب المذكور يبتني على ثبوت الكلام النفسي وكون
كلامه تعالى نفسيا لا لفظيا وهو باطل.
أما أولا: فلقوله تعالى: (وكلم الله موسى تكليما) (1) حكاية عن تكلمه تعالى
لموسى (عليه السلام) في الشجرة، فلو كان كلامه تعالى بالمعنى القائم بنفسه لم يكن
لتخصيص إسناده إلى نفسه بموسى (عليه السلام) وجه، لتحقق الكلام بهذا المعنى منه تعالى
بالقياس إلى سائر الأنبياء بوحي أو إلهام أو نحوه، فلابد وأن يكون وجه تخصيصه
به لكون كلامه لفظيا، وهو منه إنما تحقق مع موسى (عليه السلام) خاصة، لأن الواقع في
الخارج معه إنما هو الكلام بواسطة الأصوات والحروف.
وأما ثانيا: فلأنه لو كان كلامه تعالى نفسيا لزم أن لا يكون آمرا ولا ناهيا وهو
باطل، لقوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وايتاء ذي القربى وينهى عن
الفحشاء والمنكر) (2) وبيان الملازمة: أن كلا من الأمر والنهي طلب بالقول
استعلاء، فالقول اللفظي مأخوذ في مفهوميهما، والمفروض أن كلامه ليس بلفظي
فلا يصدر منه أمر ولا نهي.
وأما ثالثا: فلأن الكلام اللفظي على تفسيركم هو المؤلف من الحروف
والأصوات، والنفسي مدلوله لكن لا من حيث حصوله في ذهن السامع بل من
حيث قيامه بنفس المتكلم، وهو عندكم قديم مغائر للعلم والإرادة والكراهة.
وهذا مما لا يتعقل، لأن الكلام إذا كان خبرا لابد فيه من أمور ثلاث، العبارة
الصادرة، وثبوت النسبة أو انتفائها في الواقع، والإذعان بثبوت النسبة أو انتفائها
في الواقع، والأولان ليسا بكلام نفسي بالاتفاق، والأخير ليس إلا علما، فلم يبق

(1) النساء: 162.
(2) النحل: 90.
82

ما يكون مصداقا للكلام النفسي، وإذا كان إنشاء فلابد فيه من لفظ صادر ومن
إرادة مضمونة في الأمر وكراهته في النهي، والكلام النفسي ليس بشئ منهما.
أما الأول: فلكونه لفظيا، وأما الثاني: فلمغائرته له على فرضكم، فأي شئ
يصلح مصداقا؟
وأنت بعد التأمل تعرف أن هذه الوجوه لا وقع لشئ منها، فإن للأشاعرة أن
يدفعوا الأول منها باختيار الثاني من شقي الترديد، من فرض عدم تحقق المطلوب
منه في جميع أزمنة تحقق الطلب.
والقول بلزوم السفه حينئذ، يرده: أن السفه عبارة عما لا يقارنه قصد الغاية
وترتبها، سواء قارنه العلم بعدم ترتبها أو الغفلة عن ترتبها رأسا، فإنه هو الذي
يوجب تقبيح العقل وذم العقلاء، ولا يجدي في صحته ترتب الغاية في الخارج من
باب الاتفاق، وأما ما قارنه قصد الغاية على وجه يكون معللا بها فيخرج به عن
عنوان السفهية ويعد من أفعال العقلاء، سواء ترتب عليه الغاية المقصودة بحسب
الخارج أو لم يترتب.
نعم يفرق في ذلك بين العالم بالعواقب وغيره، فإن المعتبر في صحة قصد الغاية
من الثاني قيام احتمال ترتبها راجحا أو مرجوحا، بالغا مع الرجحان حد الجزم
وعدمه، كما عليه مدار أمور العقلاء في معائشهم ومكاسبهم وأسفارهم ومكاتباتهم،
بل لو تأملت في مجاري أفعالهم لوجدت أكثرها مبتنية على مجرد الاحتمال
المرجوح، بخلاف الأول لكون المعتبر في صحة القصد والفعل منه علمه بترتبها،
فإذا علم صح منه الأمران ولا يشترط فيه مقارنة الترتب لصدور الفعل، بل يكفي
فيه الترتب خارجا، ولو بتراخي أزمنة متطاولة، وإلا لانتقض بإيجاد العالم وخلقة
بني آدم المعلل بحصول المعرفة والطاعة، لعدم ترتبهما عليه إلا بعد فاصلة زمان
كثير يستكمل فيه شرائط التكليف من العلم والقدرة والعقل والبلوغ، وعلى هذا
فلم لا يجوز أن يكون الباري تعالى تحقق منه الطلب النفساني لغاية الامتثال حال
عدم وجود المطلوب منه، لعلمه القديم بأنه سيوجد ويستكمل الشرائط فيمتثل؟
83

وتوهم استلزامه التكليف بلا مكلف فاسد، نشأ عن الخلط بين التكليف ومادته،
فإن الطلب النفساني بمجرد انعقاده في النفس لا ينعقد تكليفا ما لم يستكمل
شرائط التكليف التي منها: وجود المطلوب منه، ومنها: علمه بانعقاد ما في النفس
الذي هو مادة التكليف، ضرورة: أنه إذا انعقد في النفس يبقى تعلقه بالمطلوب منه
مراعى على علمه بالانعقاد، المتوقف على وجوده، وبعد علمه بالانعقاد أيضا لا
ينعقد تكليفا إلا بعد استكماله سائر الشروط، وهي القدرة على الفعل والعقل
والبلوغ وإن لم يتوقف عليها أصل ماهية الطلب المتوقفة على تحقق جهتي القيام
والتعلق.
ومن هنا صار التحقيق عندنا حصول الفرق بين الشرائط الأربع المقررة
للتكليف، بكون العلم من شروط تعلقه الخارجي بالمطلوب منه والثلاث الأخير
من شروط صحته، فما لم يتحقق هذه الأمور كلا أم بعضا لم ينعقد ما في النفس
تكليفا، ولذا أمكن الجمع بين مقالة الأشاعرة بقدم الكلام النفسي وكون التكليف
حادثا، لجواز كون القائم بالنفس قديما مع كون التكليف حادثا بحدوث جهة
التعلق، ولا ينافيه تسميته طلبا، وهو لا يتحقق إلا بتحقق طرفيه اللذين أحدهما
التعلق، إما لبنائهم على أنه الطلب حقيقة بدعوى: أنه يكفي في انعقاده طلبا مع
قيامه بالنفس إضافته في الذهن بحسب لحاظ الطالب إلى المطلوب منه، ولا يعتبر
فيه التعلق الخارجي به، ووجوده مع علمه بالمعنى القائم بالنفس شرط لتعلقه
الخارجي لا لصحة إضافته إليه في الذهن، كما يشعر به قولهم بقدمه، أو إنه العمدة
مما ينعقد به الطلب كما يساعد عليه النظر، وإطلاق التكليف الواقعي عليه في
بعض الأحيان إنما هو لأوله إليه، وإلا فهو حكم واقعي ولا ملازمة بينه وبين
التكليف.
ومعيار الحكم الواقعي أنه مدلول الصيغة ومفادها باعتبار الوضع - ولو ثانويا
- حسبما لاحظه الواضع أو يلاحظه المستعمل، فإن الملحوظ في كل منهما إنما
هو المعنى القائم في النفس المعرى عن جهة التعلق من غير دخولها في الوضع
84

ولا المستعمل فيه وإلا لزم الدور، بملاحظة ما ذكرنا من توقف تلك الجهة على
علم المخاطب بقيام المعنى بنفس المتكلم، ضرورة أن التعلق إذا كان متوقفا على
العلم وهو موقوف على دلالة اللفظ التي تستدعي تقدم مدلوله عليها بالذات
وفرض مدلوله الطلب المتعلق، المتوقف تعلقه على العلم المذكور، لزم توقف العلم
على نفسه.
وإن شئت قلت: لزم كون العلم موجودا حال كونه معدوما، فإن كونه حاصلا
بدلالة اللفظ يقتضي كونه مسبوقا بالدلالة معدوما قبل وجود الدال، ومقتضى كون
التعلق المتوقف عليه جزء لمدلول اللفظ كونه سابقا على الدلالة لسبق المدلول
عليها، فلزم كونه سابقا عليها حال كونه مسبوقا بها، وهذا معنى كونه موجودا حال
كونه معدوما، فلابد وأن يفرض مدلول اللفظ الملحوظ حين الوضع أو الاستعمال
شيئا معرى عما يتوقف على العلم المذكور، وليس إلا المعنى القائم بالنفس الذي
متى تعلق بالمطلوب منه صار طلبا، سواء حصل التعلق بعد الخطاب بلا تراخي أو
بتراخي زمان، فمدلول قوله: " أنت وزيد تفعلان كذا " ينعقد طلبا بالنسبة إلى
المخاطب بمجرد صدور اللفظ، وبالنسبة إلى زيد الغائب حيث بلغه الخطاب،
والفارق بينهما حصول العلم للمخاطب بالمعنى القائم بالنفس في زمان الخطاب،
ولزيد في الزمان المتأخر، مع أن العلم بتعلق ما في النفس - الذي هو لازم لنفس
التعلق - ما يحصل في المرتبة الثالثة من المراتب الثلاث المتقدم اعتبارها للكلام
النفسي، فلا يعقل كون المستلزم له مدلولا للفظ باعتبار الوضع، لأنه كما عرفت
مدلوله في المرتبة الأولى التي لا يفيد اللفظ فيها إلا حضور مدلوله اللغوي أو
العرفي أو الشرعي في الذهن حضورا تصوريا، أو في المرتبة الثانية التي لا يفيد
اللفظ مع انضمام المقدمات المشار إليها إلا التصديق بكون الحاضر في الذهن
مرادا منه.
وبملاحظة ما ذكر أمكن الجواب عن التقرير الثاني من الاعتراض الأول: فإن
الطلب وإن كان أمرا نسبيا، غير أنه يكفي في تحققه إضافته إلى المطلوب منه
85

حسبما احتملنا في مقالتهم أولا، أو أن نسبيته إنما هي من جهة تضمنه لطرفي
القيام الذي محله الطالب، والتعلق الذي محله المطلوب منه، والمعتبر في تحققه
وإن كان تحقق هذين الطرفين في الخارج، غير أنه لا يعتبر مقارنة تحققهما
بحسب الزمان، بل يجوز تراخي زمان تحقق المطلوب منه عن زمان تحقق
الطالب متلبسا بجهة القيام، بأن ينقدح في نفسه الأمر النفساني، المعلق انعقاده
طلبا حقيقيا على لحوق التعلق بوجود المطلوب منه وعلمه بقيام الأمر النفساني
بالنفس، وتسميته طلبا إنما هو باعتبار أوله (1) إلى الطلب، ولا ضير أن يكون
مرادهم بالكلام النفسي المعبر عنه بالطلب هذا المعنى الذي لا سبيل إلى التشكيك
في ثبوته، فيمكنهم بذلك حينئذ اختيار ثاني شقي الترديد من دون لزوم محذور،
لأنه إنما يلزم لو قالوا بتحقق الطلب التام المتضمن لجهتي القيام والتعلق بدون
وجود المطلوب منه معه في جميع آنات وجوده أو في بعضها، وهذا ليس بلازم
من مذهبهم لما عرفت من إمكان كون المراد من الطلب هنا المعنى القائم بالنفس
لا بشرط شئ من التعلق وعدمه.
وأما الجواب عن ثاني الاعتراضات: فيمكن بأن التوجه المسؤول عنه
بالقياس إلى الطوائف الثلاث في الأحوال الثلاث إن أريد به التوجه الواقعي على
حد ما هو ثابت في الأحكام الواقعية بالقياس إلى متعلقاتها، على معنى كون
المعنى القائم معدا لأن يتعلق بهم عند زوال عذرهم، فيختار الشق الأول وهو
الحكم بالتوجه، والقول بكونه تكليفا بما لا يطاق، يدفعه: منع كون ذلك من مقام
التكليف، فإن المفروض لم ينعقد تكليفا بعد، وإن أريد به التوجه التكليفي الذي
هو عبارة عن مقام تعلق الأمر النفساني بهم فعلا فيختار الشق الثاني.
وتوهم: كونه تغيرا في القديم.
يدفعه: أن التغير من جهة الوجود تارة والعدم أخرى إنما يحصل في التكليف،

(1) آل الشئ (يؤل) أولا ومآلا: رجع (المصباح المنير: 29).
86

وهو على ما أشرنا إليه حادث لحدوث شروطه، فإن التكليف الذي هو عبارة عما
يجب امتثاله ويعاقب على مخالفته، عنوان يطرأ الطلب بسبب تعلقه بالمطلوب منه
وحيث إن التعلق حادث لحدوث شروطه، فهو يقضي بحدوث عنوان التكليف
الذي لم يكن قبله حاصلا، ولا يلزم من حدوثه كون مادة التكليف وهو المعنى
القائم بالنفس أيضا حادثا.
وأما الجواب عن ثالث الاعتراضات: فيمكن أيضا بمنع صلاحية ما ذكر من
الوجوه الثلاث لإبطال الكلام النفسي.
أما الأول منها: فلأنه لا دلالة في قوله [تعالى]: (وكلم الله موسى
تكليما) (1) على نفي تكليمه تعالى لسائر الأنبياء حتى يخص ذلك بالكلام اللفظي،
إذ ليس في الآية أداة حصر ولا ما ثبت له مفهوم من المفاهيم المعتبرة، ومجرد
التعلق بالمفعول به ليس من أسباب الحصر، كما في " ضربت زيدا " إلا من باب
مفهوم اللقب وهو غير حجة، فلا مانع من كون المراد بالتكليم المحكي الواقع فيما
بينه تعالى وبين موسى توجيه المعنى القائم بالنفس إليه، وإن كان ذلك حاصلا
بالقياس إلى سائر الأنبياء أيضا، ولا ينافيه وجود الأصوات والحروف في
الشجرة إذا كان إيجادها منه تعالى من باب ضرب العلامة على توجيه الكلام
النفسي إليه.
وأما الثاني منها: فلمنع الملازمة أولا، فإن أخذ اللفظ في مفهومي الأمر والنهي
أمر خلافي عند الأصوليين، ولهم فيه - على ما سيأتي في مبحث الأمر - مذاهب
متشتتة تعرفها مفصلة.
ومن المذاهب - وهو الحق - عدم اعتبار لفظ فيهما بوجه من الوجوه، ومن
الجائز كون مبنى الكلام النفسي على هذا المذهب، ويؤيده: أن الحاجبي الذي
هو من أهل هذا القول عرف الأمر: باقتضاء فعل غير كف على جهة الاستعلاء (2).

(1) النساء: 162.
(2) مختصر ابن الحاجب: مخطوط - الورقة 40 - شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب، 188.
87

وصرح بعض شراح كلامه بكون أخذ مفهوم الأمر مجردا عن اللفظ متفرعا
على ثبوت الكلام النفسي، فلا ينافي القول به كونه تعالى آمرا وناهيا حسبما ورد
في الكتاب العزيز.
ومنع بطلان اللازم ثانيا، فإن الأمر والنهي الواردين في الكتاب محمولان
على ما تجرد عن اللفظ. غاية الأمر بناء على كونه مأخوذا في مفهوميهما عرفا
ولغة لزوم التجوز في الاستعمال ولا حجر منه بعد مساعدة القرينة عليه، ولعل
دليلهم القائم على الكلام النفسي لو تم صالح لأن يكون قرينة عليه فلا محذور.
وأما الثالث: فلمنع انحصار ما يعتبر في الخبر في الأمور الثلاث المذكورة،
وما يعتبر في الإنشاء في الأمرين المذكورين.
أما سند الأول: فلأنه يعتبر في الخبر مع الأمور المذكورة رابع، وهو النسبة
الذهنية، المفسرة بالنسبة القائمة بالذهن، المصرح في كلامهم بمغايرتها للنسبة
الواقعية، تعليلا بأن حصولها في الذهن يحتاج إلى تعقل طرفيها الموضوع
والمحمول ولا شئ من الواقعية بتلك المثابة، ولذا أعترض عليهم: بأن النسبة بهذا
المعنى قائمة بطرفيها لا أنها قائمة بالذهن فلا وجه لجعلها قائمة به، فأجابوا عنه:
بأنها وإن كانت قائمة بطرفيها، غير أنهما قائمان بالذهن لحصولهما فيه، فقيامها
بالذهن باعتبار قيام طرفيها به.
غاية الأمر، أن يلزم بإسناد القيام إليها ضرب من التجوز، ولا ضير فيه بعد
وضوح المراد.
وكما أنهم صرحوا بمغائرتها للنسبة الواقعية، كذلك صرحوا بمغائرتها للعلم،
المراد به الإذعان للنسبة والاعتقاد بها، تعليلا بأن المخبر كثيرا ما يخبر بما لا يعلم
به بل بما يعلم خلافه، وهذا آية مغايرتها العلم، نظير ما قيل في المنطق في دفع
كلام من لم يفرق في التصديق بين النسبة الحكمية والحكم، من الاعتراض عليه
بوجود صورة الشك التي لا حكم فيها مع وجود النسبة الحكمية، فقضية هذه
التصريحات المعللة بما سمعت مغايرة النسبة الذهنية للعلم مغائرة المعروض
88

للعارض، كما بين النسبة الحكمية والحكم عند أهل المنطق، ومع ذلك كيف ينكر
عليهم وجود شئ في الخبر يكون مصداقا للكلام النفسي، المغاير للعلم المفسر
بالنسبة الذهنية؟
وأما سند الثاني: فلأن مبنى كلامهم على جعل الكلام النفسي في الإنشاء
عبارة عن الطلب، وهو عندهم أمر يغاير الإرادة والكراهة، وعللوه بأن الآمر كثيرا
ما يأمر ويطلب فعلا وهو غير مريد له بل كاره له، كما في أمر السيد عبده استعلاما
لحاله في مقام الإطاعة، أو إعلاما لمقام إطاعته للغير، أو إظهارا لعصيانه له حتى
يعتذر في معاقبته ونحو ذلك، فتخلف الإرادة عن الطلب آية مغايرتها له، خلافا
للمعتزلة القائلة بعدم المغايرة بينهما ذاتا بل كونهما متحدين، على معنى أن المنقدح
في نفس الآمر ليس إلا صفة واحدة يعبر عنها تارة بالإرادة وأخرى بالطلب.
والذي يساعد عليه النظر - على ما سيأتي تفصيله في بحث الأمر، وفاقا
لبعض الأفاضل (1) - حقية ما صار إليه الأشاعرة، لكن لا لما ذكروه من التعليل
المتقدم فإنه عليل جدا، لوضوح أنه إن أرادوا بالطلب الموجود في الموارد
المذكورة ما يكون صوريا فالإرادة بهذا المعنى أيضا موجودة معه، وإن أرادوا
بالإرادة المنتفية معه ما يكون واقعيا فالطلب بهذا المعنى أيضا منتف.
وبالجملة: ما يوجد في الأوامر الابتلائية طلب صوري لا حقيقي، وهو
يستلزم الإرادة الصورية، بل لما سنحققه في محله مفصلا، وملخصه: حصول الفرق
بين الأمرين بعد الفرق بينهما بحسب المفهوم في الأحكام واللوازم، وهو من
وجوه شتى:
منها: كون الإرادة كالكراهة من الصفات القهرية التابع حصولها لحصول
منشأها، وهو رجحان أحد طرفي الفعل والترك على الآخر، وكون الطلب مبنيا
على الاختيار على وجه كان للمريد إيجاده والإمساك عنه.

(1) هداية المسترشدين: 136 (الطبعة الحجرية) حيث قال في بحث الأمر: فظهر بما قررناه
قوة القول بمغايرة الطلب للإرادة بالمعنى المذكور...
89

ومنها: كون الأول أمرا نسبيا بين شيئين المريد والمراد، وكون الثاني أمرا
نسبيا بين أشياء ثلاث، الطالب والمطلوب والمطلوب منه.
ومنها: كون الثاني مما يستدعي في انعقاده استعمال علاج، يتحقق معه فعل
خارجي من خطاب أو إشارة أو كتابة أو نحوها، بخلاف الأول.
وبالجملة: بعدما بنى على التحقيق من وجود معنى نفساني آخر مغائر للإرادة
والكراهة، فلا وجه لإنكار وجود ما يقع مصداقا للكلام النفسي.
فالأولى في دفع مقالتهم في إثباته أن ينظر في تشخيص ما هو محل الخلاف
بينهم وبين المعتزلة، وبيان ما يقع موردا للنفي والإثبات الجاريين على لسان
الفريقين، والذي يتراءى في بادئ الأمر لا يخلو عن احتمالات:
أحدها: كون النزاع إثباتا ونفيا راجعا إلى وجود ما يكون من المعاني النفسية
مغائرا للعلم والإرادة والكراهة، فالأشاعرة يثبتونه والمعتزلة ينكرونه.
وثانيها: كونه راجعا إلى أمر لفظي، وهو تسمية المعنى النفسي المغاير للعلم
والإرادة و الكراهة على تقدير ثبوته باتفاق الفريقين بالكلام عرفا، وصدقه عليه
صدقا حقيقيا كصدقه على المؤلف من الأصوات والحروف وعدمه، فالأشاعرة
يثبتونه والمعتزلة ينكرونه.
وثالثها: كونه راجعا إلى وجود هذا المعنى المسمى بالكلام بالقياس إلى
الباري تعالى خاصة وعدمه، وهذا يتصور على وجهين:
الأول: دعوى أن الكلام بهذا المعنى لا يوجد إلا في حقه تعالى من باب قصر
الصفة على الموصوف، فالمعتزلة ينكرونه إما لدعواهم وجوده في حق غيره تعالى
أيضا، أو لدعواهم عدم وجوده في حقه تعالى أيضا.
الثاني: دعوى أنه لا يوجد في حقه تعالى إلا الكلام النفسي من باب قصر
الموصوف على الصفة، فكونه متكلما معناه قيام المعنى بنفسه تعالى لا قيام
الأصوات والحروف به، فالمعتزلة ينكرونه بدعوى: عدم انحصار كلامه تعالى في
ذلك، أو دعوى: أنه لا يوجد منه تعالى إلا الكلام اللفظي، أو أن كونه متكلما معناه
90

أنه يوجد الأصوات والحروف ولو في الأجسام الخارجية من شجرة أو حصاة
أو نحوهما، ولكن المستفاد من تتبع كلماتهم المنقولة مع ملاحظة ما سبق ذكره
أن للأشاعرة على سبيل التحقيق دعاوي ثلاث:
الأولى: وجود ما يغائر العلم والإرادة والكراهة من الصفات النفسانية.
الثانية: كون الكلام حقيقة فيما يعم المؤلف من الأصوات والحروف، والمعنى
القائم بالنفس المغاير للثلاث المذكورة على طريقة الاشتراك لفظا أو معنى.
الثالثة: كونه تعالى متكلما إنما هو بواسطة المعنى القائم بالنفس دون المؤلف
من الأصوات والحروف.
ومنشأ كل هذه الاختلافات الحاصلة بين الفريقين - حسبما يقتضيه التتبع - ما
وقع بينهما في مباحث المشتق من الخلاف في اشتراط قيام المبدأ بمن يصدق
عليه المشتق في صدقه عليه وعدمه، فالأشاعرة صاروا إلى الاشتراط فلا يصدق
عندهم المشتق على غير من قام به المبدأ، وخالفهم المعتزلة فصاروا إلى عدم
الاشتراط، محتجين بصدق المتكلم والضارب على الذات مع قيام مبدأ الأول وهو
الصوت بالهواء وقيام مبدأ الثاني بالمضروب، وأيضا بصدق المتكلم والخالق عليه
تعالى مع قيام الأصوات والحروف بالأجسام الخارجية وقيام الخلقة بالمخلوق،
فتفصى عنه الأشاعرة بالنسبة إلى المتكلم، بمنع كون مبدئه هو الأصوات
والحروف، بل المبدأ فيه هو الأمر النفساني وهو قائم بذات المتكلم، ولا يلزم
الترادف بين المتكلم والعالم لمكان المغايرة بين العلم وهذا المعنى، وقضية ذلك
كون الكلام الذي أشتق منه المتكلم حقيقة في هذا المعنى القائم بالنفس كما
لا يخفى، فيلزم منه كون كلامه تعالى نفسيا، بل لازمه كون كلام كل متكلم نفسيا،
بل ربما يستفاد من ذلك كون الكلام عندهم حقيقة خاصة في المعنى القائم
بالنفس.
وكيف كان، فإن كان نزاعهم مع المعتزلة في الدعوى الأولى فالحق معهم، لما
91

أشرنا إليه سابقا (1) من وجود النسبة الذهنية في الخبر والطلب في الإنشاء،
ومغائرتهما للعلم والإرادة والكراهة كما يقضي به الوجدان السليم.
ومن أنكره فقد كابر وجدانه، وإن كان نزاعهم في الدعوى الثانية فالحق مع
المعتزلة إن أريد بحقيقية الكلام في الأعم كونه كذلك عرفا ولغة، فإنه غلط صرف
ضرورة أنه ليس في عرف ولا لغة ما يشهد بذلك، بل الأمارات من التبادر وعدمه
وصحة السلب وعدمها وتنصيص أهل اللغة بل اتفاق أهل العربية كافة قائمة
بخلافه، بل إطلاقه على المعنى القائم بالنفس المدلول عليه باللفظ غير معهود في
العرف واللغة.
وأما ما يتوهم من إطلاقه عليه في كلام الشاعر:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما * جعل اللسان على الفؤاد دليلا
ففيه: منع صلوح ذلك للتعويل عليه، حيث لم يثبت كون قائله ممن يوثق بهم
ويستشهد بكلامهم، بل التأمل في مساق هذا الشعر يعطي كون قائله من الأشاعرة
فيفسد الاستشهاد به رأسا، ولو سلم فيتوجه المنع إلى كونه على وجه الحقيقة،
لجواز قصد التجوز بعلاقة المدلولية.
وربما استدلوا أيضا بما في قول القائل: " إن في نفسي كلاما " بتقريب: أنه
أطلق على ما في النفس الذي ليس إلا المدلول القائم بالذهن، وهو أضعف من
الأول لوضوح ورود إطلاقه هاهنا في المؤلف من الصوت والحرف باعتبار
وجوده الذهني فإن كل كلام لفظي وجوده الخارجي مسبوق بوجوده الذهني،
ضرورة أن اللافظ كما يتصور قبل التلفظ معاني الألفاظ الصادرة منه، كذلك
يتصور نفس تلك الألفاظ، فقوله: " في نفسي كلام " إنما يراد به الألفاظ الحاضرة
في ذهنه لا غير.
هذا مع أنه لا داعي إلى ارتكاب هذا التكلف إلا التفصي عن إشكال المعتزلة

(1) تقدم في نفس التعليقة، الصفحة 74.
92

المتقدم عنهم في بحث المشتق بالقياس إلى الأمثلة المذكورة، التي منها المتكلم
ولا ريب أن طريقه لا ينحصر في هذا التكلف، لوضوح دفع احتجاجهم بمنع كون
مبادئ تلك المشتقات قائمة بغير الذوات التي هي صادقة عليها، بل هي قائمة
بنفس تلك الذوات، بملاحظة أن القيام قد يكون صدوريا وقد يكون حلوليا وقد
يكون تعلقيا.
والمعتبر في صدق المشتق هو القسم الأول الذي هو حاصل بالقياس إلى
الذوات، ضرورة أن محل صدور الأصوات والحروف ذات المتكلم، والذي
يحصل في الهواء هو القيام الحلولي، ومحل صدور حدث الضرب والخلق هو ذات
الضارب والخالق، والذي يحصل في المضروب والمخلوق قيام تعلقي.
فلو قيل: إن ذلك لا يجري في المتكلم بالقياس إلى البارئ تعالى، إما لأن
صدور الصوت لابد فيه من جارحة وهو مقطع الفم ولا جارحة له، أو لأن الصوت
من جملة الحوادث التي ليس البارئ تعالى محلا لها.
لقلنا: بمنع كون المبدأ في المتكلم كالخالق من الحالات بل هو من الملكات،
فيراد بالمتكلم من يقدر على إيجاد الصوت، كما أن المراد من الخالق من يقدر
على الخلق.
ولا ريب أنه بهذا المعنى صادق عليه تعالى على وجه الحقيقة، ولو سلم أنه
من قبيل الحالات لتوجه المنع إلى كون إطلاقه عليه تعالى ناظرا إلى معناه اللغوي
الحقيقي، لجواز ابتنائه على ضرب من التجوز، فيراد به الذي يوجد الكلام ولو في
الأجسام الخارجية، على قياس ما هو الحال في إطلاق " الرحمن " و " الرحيم "
وغيره من كثير الصفات الجارية عليه، وكون الإطلاق عليه على وجه الحقيقة -
على فرض تسليمه - لا ينافي ابتناءه على المجاز باعتبار اللغة، لجواز طرو النقل
عرفا بالقياس إلى المتشرعة أو الفرقة الكلامية، فلا يلزم بمجرد ذلك كون الكلام
في العرف واللغة حقيقة في غير المؤلف من الأصوات.
نعم لو أريد بالحقيقة ما يكون كذلك في مصطلحهم فلا مشاحة، وليس
للمعتزلة حينئذ أن ينازعوهم في أمر راجع إلى اصطلاحهم.
93

وإن كان نزاعهم في الدعوى الثالثة، فإن كان مقصودهم من الالتزام بها
التفصي عن شبهة المعتزلة والمحافظة على قاعدة الاشتقاق، المقتضية لقيام المبدأ
بذات من صدق عليه المشتق، أو الفرار عن محذور إثبات الجارحة للبارئ تعالى،
أو كونه محلا للحوادث.
ففيه: عدم الحاجة إليه بعد ملاحظة ما ذكرناه من قيام مدفع لا يستدعي شيئا
مما ذكر، وإن كان مقصودهم به دعوى امتناع صدور الكلام اللفظي منه ولو بواسطة
الايجاد في الأجسام الخارجية، أو وجوب كونه متكلما بواسطة المعنى القائم
بالنفس، فهي دعوى لا شاهد عليها من عقل ولا نقل، إذ لا نجد في حكم العقل ولا
خطاب الشرع ما يقضي بشئ من الامتناع والوجوب، هذا مضافا إلى أن الطلب
الذي يعتبرونه أحد قسمي الكلام النفسي ويحكمون عليه بالقدم يستحيل كونه
قديما، لابتنائه على الاختيار.
ومن البين أن المسبوق بالاختيار حادث، ولكونه باعتبار أنه أمر نسبي بين
أمور ثلاث منها المطلوب منه، مركبا من جهتي الصدور والتعلق، الذي هو حادث
بحدوث متعلقه وشروطه فيكون الطلب حادثا، ولا يجدي قدمه باعتبار جهة
صدوره - بعد تسليمه - لأن المركب من القديم والحادث ليس بقديم، وإلا فأصل
جهة الصدور أيضا حادث كما عرفت، فلا يجديهم دعوى: أن الطلب عندنا
اصطلاح في جهة الصدور فقط وهو ليس بحادث، ولأنه عند انعقاده الخارجي
يقتضي علاجيا (1) على معنى استلزامه له لا محالة فيكون ملزوما للحادث، ومن
المستحيل كون القديم ملزوما للحادث وإلا لم يكن قديما.
ثم إن تأملت في تضاعيف كلماتنا المتعلقة بمقالة الأشاعرة في الكلام النفسي
إصلاحا وإفسادا تعرف أن ما في كلام بعضهم من بناء دفع ما ذكروه في التفصي
عن شبهة اتحاد الدليل والمدلول على بطلان الكلام النفسي ليس بسديد.

(1) كذا في الأصل: وفي التحرير الأول من التعليقة هكذا: " يقتضي استعمال علاج يتحقق معه
فعل خارجي من خطاب أو إشارة أو كتابة أو نحوها... ".
94

ومن الأعلام (1) من تعرض لدفع الشبهة، بجعل الأحكام عبارة عن الخطابات
المعلومة بديهة بالإجمال، والأدلة عبارة عن الخطابات المفصلة، فإنا نعلم بديهة
أن لأكل الميتة وأكل الربا وغيرهما حكما من الأحكام، ولكن لا نعرفه بالتفصيل
إلا من قوله تعالى: (وحرمت عليكم الميتة " (2) و (حرم الربا) (3) وغير ذلك.
وفهم جماعة من متأخرينا عنه أن مقصوده ابداء الفرق بين المدلول ودليله
بالإجمال والتفصيل، فالدليل هو الخطابات المفصلة والمدلول هو الخطابات
المجملة، فكونهما خطابين لا يستلزم اتحادهما، لكفاية ما بينهما من الإجمال
والتفصيل في التغائر.
فأوردوا عليه: بأن ذلك لا يلائم قيد " الأدلة التفصيلية " إذ مقتضى رجوعه إلى
العلم كونه حاصلا من الأدلة التفصيلية.
ولا ريب أن العلم المأخوذ في الخطابات المعلومة بالإجمال حاصل من
الأدلة الإجمالية كالبداهة ونحوها، لا من الأدلة التفصيلية، والحاصل منها علم
تفصيلي لا إجمالي.
وأضاف إليه بعض الأفاضل (4): إن العلم بالخطابات على سبيل الإجمال ليس
من الفقه في شئ، يعني أن المأخوذ في مسمى " الفقه " هو العلم بالخطابات على
سبيل التفصيل لا الإجمال، فلا ينطبق الحد على المحدود.
وأنت خبير بما في هذين الإيرادين، من ابتنائهما على الاشتباه وعدم التعمق
في فهم مقصود العبارة المذكورة، كيف وهما لا يتوجهان إليه إلا إذا فرض حمله
" العلم " المأخوذ في جنس الحد - بعد جعله " الأحكام " عبارة عن المعلومات
بالإجمال - على العلم الإجمالي، حتى يكون " الفقه " عبارة عن العلم على سبيل
الإجمال بالمعلومات إجمالا الحاصل من الأدلة التفصيلية، فحينئذ يقال: عليه إن
هذا العلم غير حاصل من الأدلة التفصيلية، وإن " الفقه " هو العلم بالخطابات على

(1) قوانين الأصول: 5.
(2) المائدة: 6.
(3) البقرة: 277.
(4) هداية المسترشدين: 2 (الطبعة الحجرية).
95

سبيل التفصيل، ولا يخفى أنه بري عن إرادة هذا المعنى، وعبارته تأبى عن إفادته،
كيف وهو يقول: - في ذيل العبارة -: " ولكن لا نعرفه بالتفصيل إلا من قوله تعالى:
(وحرمت... الخ) فإنه تصريح بأن الحاصل من الأدلة التفصيلية هو العلم على
سبيل التفصيل، فيكون هو المراد من جنس الحد، ومعه كيف يورد عليه بنحو
ما ذكر، خصوصا بعد ملاحظة ما في العبارة أيضا من التصريح بأن العلم الإجمالي
إنما يحصل من الأمور الإجمالية كالبداهة ونحوها، كما في قوله: " فإنا نعلم بديهة
أن لأكل الميتة وأكل الربا وغيرهما حكما من الأحكام... الخ ".
فالتحقيق: في معنى العبارة أنه يريد بها ما يندفع معه الإشكال المعروف، مع
ما أورده هو سابقا على طريقة الأشاعرة في جوابهم المتقدم من استلزامه خروج
الكتاب عن كونه دليلا في الاصطلاح.
ومحصل مرامه: أنه يعتبر في الأحكام قبل النظر في الأدلة كونها معلومات
بالإجمال، ليكون النظر في الأدلة التي منها الكتاب مسبوقا بالدعوى والعلم
الإجمالي بالمدعى، فلا يخرج الكتاب عن كونه دليلا في الاصطلاح، ولما كانت
المعلومات بالإجمال التي يستفصل من الأدلة من مقولة المعاني فلا يتحد المدلول
مع دليله الذي هو الكتاب وإن عبر عنه بالخطاب، مع كون الكتاب أيضا خطابا
لتغائر الخطابين، بكون أحدهما من مقولة اللفظ والآخر من مقولة المعنى.
نعم يتوجه إليه إن ما ذكره الأشاعرة أيضا على ما قررناه سابقا (1) يرجع إلى
هذا المعنى، فلا وجه للاعتراض عليهم بما مر من خروج الكتاب عن كونه دليلا
في الاصطلاح، وإن فسد ما صاروا إليه من اعتبار هذا المدلول كلاما نفسيا.
مفردات تعريف الفقه
وقد يجاب عن شبهة الاتحاد: بأن المراد بخطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين
مدلول الخطاب لا نفسه على طريقة الإضمار، بدليل أخذ المتعلق وصفا له، مضافا
إلى قيد حيثية " الاقتضاء والتخيير " فإن الذي يتعلق بفعل المكلف مدلول الخطاب

(1) تقدم في نفس التعليقة، راجع الصفحة 64 - 67.
96

لا نفسه، كما أن الاقتضاء والتخيير المنحلين إلى الأحكام الخمس مدلول الخطاب
لا نفسه.
وفيه: أن الالتزام بالإضمار لأجل ما ذكر من القرينة ليس بأولى من التزام
حمل الخطاب بنفسه على إرادة المدلول حسبما صنعه الأشاعرة، إن لم نقل بأنه
أولى، لقوة احتمال كون الخطاب عندهم مصطلحا في المدلول.
وكيف كان فحمل " الأحكام " على مصطلح الأصولي - بعد البناء على كون
الخطاب المأخوذ فيه مرادا به ما هو من مقولة المعنى، كما هو الظاهر - أقرب
محامل هذا اللفظ، لولا ما قدمنا ذكره (1) من قضائه بخروج قيدي " الشرعية "
و " الفرعية " مستدركين، فهذا هو الداعي إلى العدول عن ذلك، فلم يبق من معاني
هذا اللفظ المتقدم ذكرها إلا المسائل ومصطلح الفقهاء.
والحمل على الثاني وإن كان يترجح بملاحظة القاعدة، نظرا إلى أن الحد من
الفقهاء، فلابد من حمل أجزائه على ما هو المصطلح عندهم، إن ثبت لهم فيها
اصطلاح خاص، والمفروض أنه قد ثبت لهم في خصوص " الأحكام " اصطلاح
فمقتضى الأصل حملها على مصطلحهم.
لكن يضعف ذلك: بعدم انطباقه على ما هو ميزان تصحيح الحد، من حمل كل
واحد من أجزائه على ما لا يوجب خروج هذا الجزء ولا خروج الجزء الآخر
مستدركا، ولا انتقاض الحد في عكسه أو طرده أو البينونة بينه وبين المحدود،
ولذا عدلنا عن المعاني الأربع المتقدمة لكون بعضها موجبا لعدم انعكاس الحد
كالإلزام، والبعض الآخر للبينونة بينه وبين المحدود كالتصديق، والثالث لخروج
هذا القيد بنفسه مستدركا كالنسبة الخبرية، والرابع لخروج غيره مستدركا
كمصطلح الأصولي.
فلو حمل الحكم حينئذ على مصطلح الفقهاء، فإن كان ذلك هو معناه الأخص
أعني الخمس التكليفية.

(1) تقدم في نفس التعليقة الصفحة: 61.
97

يرد عليه أولا خروج قيد " الشرعية " مستدركا، إذ الخمس المذكورة ليست
إلا أمورا شرعية.
وثانيا: انتقاض العكس بخروج الوضعيات رأسا. وإن كان ذلك هو الشامل
للوضعيات أيضا يرد عليه أول الأمرين وإن اندفع معه الأمر الثاني.
فلو قيل: لو اخترنا أول الاحتمالين وهو الحمل على المعنى الأخص يستقيم
الحد ولا يلزم شئ من المحذورين.
أما عدم لزوم الأول: فلجواز كون المراد الخمس التكليفية لا بشرط كونها من
الشارع أو من غيره كالموالي ونحوهم من الأعالي، فإن الخمس التكليفية تتحقق
من الموالي بالقياس إلى عبيدهم، ومن الأمراء بالقياس إلى الرعية، كما تتحقق من
الشارع بالقياس إلى المكلفين، فلو أريد " بالأحكام " ما يعم القسمين كان قيد
" الشرعية " مخصصة لها بأحدهما وهو الخمس الصادرة من الشارع.
وأما عدم لزوم الثاني: فلأحد الوجهين، من أن الوضعيات لا ضير في
خروجها، بناء على أنها ليست كالأحكام التكليفية من مجعولات الشارع
بالأصالة، وإنما هي مفاهيم منتزعة ينتزعها العقل عن المجعولات فليست من
جملة المحدود ليضر خروجها عن الحد، أو أنها ليست بخارجة لو حمل
" الأحكام " على الخمس التكليفية، بناء على أنها آئلة إلى التكليفيات، فإن معنى
سببية الدلوك للصلاة وجوب الصلاة عند الدلوك، ومعنى شرطية الطهارة لها
وجوبها متلبسة بالطهارة، ومعنى مانعية الحيض لها حرمتها حال الحيض وهكذا.
لقلنا: هذا فاسد جدا، أما الأول: فلأن حيثية العموم إن أريد اعتبارها في
مصطلح الفقهاء على معنى قيام اصطلاحهم على المعنى العام فهو كذب، حيث لم
يعهد منهم اعتبار ذلك في شئ من موارد إطلاقات الألفاظ الواقعة على الخمس
التكليفية، ضرورة أنهم لا يلاحظون عند إطلاق لفظ " الوجوب " أو " الحرمة " أو
" الندب " أو " الكراهة " أو " الإباحة " إلا المفاهيم الخمس المعهودة من حيث
إضافتها إلى الشارع.
98

نعم ملاحظة المعنى الأعم ربما توجد في كلام الأصوليين في بعض المسائل
الأصولية كما في بحثي صيغة الأمر والنهي، حيث ينازعون بالقياس إلى الأولى
في كونها للوجوب أو الندب أو الإباحة، أو للأولين أو الثلاث على الاشتراك لفظا
أو معنى، وبالقياس إلى الثانية في كونها للتحريم أو الكراهة، أو لهما على الاشتراك
لفظا أو معنى، إذ لا ريب أن نظرهم في هذين البحثين ليس إلا في إثبات مفهوم
اللفظ لغة وعرفا، ولا يكون ذلك إلا إذا أخذ المبحث على الوجه الأعم، غير أنه لا
مدخل لذلك في طريقة الفقهاء، ولا ينبغي تنزيل مصطلحهم على ذلك جزما، وإن
أريد اعتبارها في المراد من اللفظ هنا وإن خرجت عن المصطلح عليه فليس ذلك
حملا على مصطلح الفقهاء، والكلام على هذا الفرض لا غير.
وأما الثاني: فلأن مجرد خروج الوضعيات عن كونها من مجعولات الشارع لا
يجدي في إصلاح الحد، وحفظه عن انتقاض عكسه ما لم يثبت خروجها عن
الأحكام الشرعية أيضا، بل وعن المسائل الفقهية أيضا، فإن التكليفيات قد ثبت
فيها عناوين ثلاث: كونها مجعولات الشارع أصالة، وكونها أحكاما شرعية أصالة،
وكونها من المسائل الفقهية أصالة، وما ذكر في دفع الإشكال إنما يجدي بعد نفي
هذه الجهات عن الوضعيات بل نفي الجهة الثالثة خاصة، ولعل الخصم ينكر الجميع
أو ينكر نفي الأخيرتين أو نفي الأخيرة خاصة، إذ لا منافاة بين كون شئ من
توابع المجعول لا من المجعول وكونه من الأحكام الشرعية مستقلة، كما لا منافاة
بين كون شئ من توابع الأحكام الشرعية لا نفسها وكونه من المسائل الفقهية، لا
من توابعها، ولا سيما الوضعيات التي لا يبحث عنها إلا في فن الفقه وفي الكتب
الفقهية، ولا يبينها إلا الفقيه بل ليس بيانها إلا من شأن الفقيه، وكونها من التوابع مع
أنها بتلك المثابة، وأن المباحث اللاحقة والأبواب المدونة لها أكثر مما يرجع إلى
التكليفيات بمراتب شتى، لعله بعيد.
ثم دعوى: عدم خروجها على تقدير الحمل على التكليفيات لأولها إليها غير
واضحة المراد، فإن أريد بأولها إليها أنها وإن كانت أمورا متأصلة ثابتة في محالها
99

أصالة، مغايرة للتكليفيات التي هي أيضا لذواتها أمور متأصلة لكن يمكن
إرجاعها إليها بضرب من التأويل القاضي باتحادهما بالاعتبار كما هو ظاهر البيان
المتقدم، فهو لا يجدي في دفع الإشكال، ضرورة أن اللفظ في كل مقام ينصرف
إلى ما بالذات ولا ينصرف إلى ما بالاعتبار، فالتكليفية المرادة من " الأحكام "
لا تنصرف إلا إلى ما يغائر الوضعيات بالذات، واعتبار الاتحاد بينهما لا يقضي
بتناول الأحكام للأعم، فتبقى الوضعيات حينئذ خارجة. وإن أريد بأولها إليها أنها
ليست كالتكليفيات أمورا متأصلة، بل هي في كل موضع يفرض ثبوتها فيه ليست
إلا مفاهيم اعتبارية، وإلا فالثابت في المحل بعنوان الحقيقة شئ واحد وهو
الحكم التكليفي.
ففيه: مع أن عبارة البيان المتقدم لا تتحمل هذا المعنى، أن ذلك كلام مرجعه
إلى ما ذكر أولا من أن الوضعيات ليست أمورا مجعولة، بل هي مفاهيم منتزعة عن
المجعول.
وقد تبين ما فيه من ان مجرد ذلك لا يجدي في تصحيح الحد، إلا بعد فرض
كونها من توابع المسائل، وإن البحث اللاحق لها بحث في الحقيقة عن التكليفيات.
ومع الغض عن ذلك كله، فالتزام هذه الأمور ليس تصحيحا للحد في الحقيقة،
لأن المقصود من تصحيحه هنا حمله على ما يوافق جميع المذاهب، بحيث يكون
حد " الفقه " هو ما ذكر عند الكل، وهذا غير حاصل على التقدير المذكور كما
لا يخفى. بل الذي يوافق معه الحد لجميع المذاهب هو حمل " الأحكام " على
المسائل، ضرورة أن إرادتها لا تنافي القول بكون الوضعيات من المجعولات
ولا القول بخلافه، ولا القول بكونها من الأحكام الشرعية، أو كونها من المسائل
الفقهية، ولا القول بخلافهما، ولا يوجب ذلك محذورا آخر من استدراك
أو انتقاض أو بينونة أو غير ذلك، فيتعين الحمل عليها.
فإن قلت: أي فرق بين المسائل وبين النسب الخبرية التي عدلت عن الحمل
عليها على خلاف الجماعة؟
100

قلت: الفرق واضح بملاحظة ما سبق الإشارة إليه (1) فإن المسائل لكونها
عبارة عن النسب الخبرية التي يستدل عليها في الفن أخص مطلقا من النسب
الخبرية الشاملة للنسب العرفية التي لا يستدل عليها في الفنون، فإذا أردنا من
" الأحكام " النسب الخبرية بهذا المعنى كانت مخرجة للنسب التي ليست بتلك
المثابة، فلا يكون القيد من جهته مستدركا ولا موجبا لاستدراك قيد آخر كما يظهر
بالتأمل، ويعلم تفصيله فيما يأتي.
[11] قوله: (وخرج بالشرعية غيرها، كالعقلية المحضة، واللغوية... الخ)
والمراد باللغوية ما يعم النحوية وغيرها من العلوم العرفية، فإنها وإن كانت
أحكاما بمعنى المسائل غير أنها ليست شرعية، بناء على أن المراد بالشرعية ما
ينتسب إلى الشارع من جهة الجعل أو الأخذ، أو ما ينتسب إلى طريقته المختصة به
على التفصيل المتقدم (2) لعدم كون هذه المسائل من مجعولات الشارع، ولا
مأخوذة منه، ولا من شأنها أن تؤخذ منه، ولا من الطريقة المختصة به.
وقضية الوجهين الأخيرين بقاء الوضعيات بأسرها مندرجة في قيد
" الشرعية " كما أنها مندرجة في قيد " الأحكام " فإنها أيضا أمور مأخوذة من
الشارع لاستفادتها من خطاباته أو من القواعد المتلقاة منه، بناء على أن الأخذ في
مفهوم الحكم الشرعي يعم جميع جهات الاستفادة، من المطابقة والتضمن
والالتزام حتى ما كان منها من باب الإشارة.
ولا ريب أن الأخذ بهذا المعنى موجود في الوضعيات أيضا، كما أنها من
الطريقة المختصة بالشارع، لأنها على ما سنفصله عبارة عن مجموع أمور تثبت
بجعل الشارع وإمضائه وكشفه عن الواقع، والوضعيات غير خالية عن بعض هذه
الجهات.
ويمكن أن تكون عبارة عما يصدق على كل من الجهات المتحققة فيما بين

(1) تقدم في التعليقة الرقم 5، الصفحة: 47. (2) تقدم في التعليقة الرقم 6.
101

التكليفيات وماهيات العبادات والمعاملات صدق الكلي على أفراده، كما يظهر
بأدنى تأمل فيما بيناه سابقا (1) وكذلك على الوجه الأول إن قلنا بكون الوضعيات
من مجعولات الشارع.
وأما على القول الآخر مع القول بكونها من الأحكام الشرعية، فيشكل اعتبار
هذا الوجه ويتعين إرادة أحد الوجهين الأخيرين.
وهل تخرج مسائل أصول الفقه بقيد " الشرعية " بعدما كانت مندرجة في قيد
" الأحكام " أو لا؟
تحقيقه مبني على اندراجه في الحكم الشرعي بأحد المعنيين المذكورين
وعدمه، والظاهر أن ذلك يختلف باختلاف مسائل هذا العلم، فمثل مباحث الأوامر
والنواهي وغيرها من مشتركات الكتاب والسنة خارجة عنه بكلا المعنيين، إذ
لا مدخل للشرع فيها، بل هي أحكام لغوية تؤخذ من العرف واللغة، وكذلك من
المسائل ما يعد من المبادئ اللغوية كمباحث الحقيقة والمجاز والاشتراك
والمشتق وتعارض الأحوال ونحوها، كما أن مباحث الحجية بأسرها كحجية
الكتاب وخبر الواحد والإجماع المنقول وغيرها داخلة فيه، فلا تخرج بقيد
" الشرعية " سواء أريد بالحجية وجوب العمل بها أو كونها وسطا، على معنى كونها
طريقا إلى معرفة الحكم الشرعي، فإن بيان كل ذلك من وظيفة الشارع، كما أن
الكل من جملة طريقته المختصة به.
وليس من هذا الباب ما يضاف من الحجية إلى العام المخصص، ومفهوم
الشرط وغيره مما يندرج في المشتركات، بناء على أن المراد بالحجية هنا وجود
مناط الحجية وهو الظهور والدلالة.
ومع التنزل عن ذلك فيراد بالحجية هنا ما من شأنه أن يؤخذ من العرف، وهو
وجوب الالتزام بظواهر الألفاظ في المحاورات، ومثل مباحث الحجية المباحث
المتعلقة بالأصول الأربع المعروفة كأصل البراءة ونحوها.

(1) تقدم في التعليقة الرقم 6، الصفحة: 50.
102

وأما ما كان من المسائل المدونة في علم أصول الفقه من قبيل المبادئ
الأحكامية، فمنه ما هو خارج منه كبحث أمر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه، وبحث
الإجزاء، واجتماع الأمر والنهي ووجوب المقدمة ونحوه مما هو مأخوذ من العقل
الصرف، ومنه ما يترجح دخوله فيه كمباحث الواجب التخييري، والواجب
الكفائي، والواجب الموسع ونحوه مما يبحث فيه عن تعيين موضوع الحكم
الشرعي، بناء على أنه عند الاشتباه من شأنه الأخذ من الشارع، ومنه ما يترجح
خروجه كمبحث تبعية القضاء للأداء.
ونظير هذا الكلام يجري في مباحث الاجتهاد والتقليد، فإن الحكم في جملة
منها شرعي جزما، وفي جملة أخرى عقلي، ويظهر الحال في مباحث التعادل
والترجيح بملاحظة ما ذكر، فكل ما لم يخرج مما ذكر بقيد " الشرعية " لابد
من إخراجه بقيد آخر.
[12] قوله: (وخرج بالفرعية الأصولية... الخ)
المراد بالأصولية على ما في كلام غير واحد، ما يعم الاعتقادية والعملية.
وقد يعرف " الأصولية " بهذا المعنى بما لا يتعلق بالعمل بلا واسطة، قبالا
لتعريف " الفرعية " بما يتعلق بالعمل بلا واسطة، والظاهر بناء على ما يساعد عليه
الذوق السليم أن قيد " التعلق " لإخراج الأصولية العملية إذ لا تعلق لها بالعمل
أصلا، والقيد الآخر لإخراج الأصولية الاعتقادية كوجوب الإيمان بالله وبرسوله
وباليوم الآخر وغيره من المعارف، فإن له تعلق بالعمل كالصلاة وغيرها من
الفروع تعلقا بعيدا بواسطة كون الإيمان شرطا لصحته، نظير ما يعرض الشئ
بواسطة غريبة كحركة السفينة بالقياس إلى جالس السفينة، فلك أن تقول: بان
قولنا: " يجب الإيمان بالله " - مثلا - يؤول بملاحظة أن الإيمان شرط في صحة
الصلاة إلى أن يقال: " يجب الصلاة متلبسة بالإيمان " فقد تعلق الحكم الأصولي
بالعمل بعدما تعلق بالاعتقاد، على معنى أنه عرض العمل بواسطة عروضه
الاعتقاد بنفس ذلك العروض، على وجه كان العروض واحدا والمعروض متعددا
بالاعتبار، على ما هو الضابط فيما يعرض الشئ بواسطة غريبة لضرب من المجاز.
103

ولكن قد يعكس الأمر، ويقال: بناء على تعريف " الفرعية " بما ذكر، باستناد
خروج الأصولية الاعتقادية إلى قيد " التعلق " لعدم تعلق لها بالعمل أصلا، وخروج
الأصولية العملية بالقيد الأخير، فيرجع الكلام في الفرق بين الأحكام الفرعية
والأصولية الاعتقادية والأصولية العملية إلى أن يقال: أن الأصولية الاعتقادية
لا تعلق لها بالعمل أصلا، والفرعية تتعلق به بلا واسطة، والأصولية العملية تتعلق به
مع الواسطة.
والظاهر أن المراد بالواسطة المعبر انتفاؤها في الحكم الفرعي ووجودها في
الأصلي العملي إنما هي الواسطة في العروض، فالأصلي العملي على هذا البيان
وإن كان يعرض عمل المكلف ولكنه بواسطة في العروض، فحينئذ لابد في مفهوم
الحكم الفرعي من اعتبار انتفاء الواسطة في العروض ليخرج به الأصلي العملي.
وينبغي النظر أولا، في صحة دعوى عروض الأصلي العملي بالعمل مع
الواسطة وسقمها، ثم النظر - على تقدير صحة هذه الدعوى - إلى أنه هل يحتاج
إلى اعتبار قيد " عدم الواسطة " في الفرعية، بحيث لولاه لأدى إلى خروج الحد
غير مطرد أو لا يحتاج إليه، ليكون القيد المأخوذ فيه لمجرد التوضيح لا الاحتراز.
فنقول: أن الأصولية العملية لكونها في كلام القائل باعتبار القيد غير معلوم
المراد تحتمل وجهين:
أحدهما: ما يجري في لسان القوم قبالا للأصول الاجتهادية، التي هي عبارة
عن القواعد المعمولة في مقام الاجتهاد الذي يقصد منه العلم بانكشاف الواقع ولو
ظنا والعمل بعده، كالأصول اللفظية وغيرها من مسائل أصول الفقه وغيرها من
مبادئها لغوية وأحكامية.
فيراد بالعملية الأصول الأربع المعمولة في مقام الفقاهة، التي يقصد منها مجرد
العمل، على معنى أن الأصولية بهذا المعنى ما يتعلق الحكم فيها بعمل المكلف
بواسطة في العروض، كأصل البراءة مثلا حيث إنه أصل مقرر لعنوان ما لم يعلم
حكمه بالخصوص، وحكمه نفي الوجوب أو الحرمة، ويتعدى هذا الحكم عن هذا
104

العنوان الكلي إلى أنواعه المندرجة تحته التي منها قراءة الدعاء عند رؤية الهلال
فينتظم قياس هكذا: قراءة الدعاء ما لم يعلم حكمه بالخصوص، وكلما هو كذلك
فهو ليس بواجب، فقراءة الدعاء ليست بواجبة، وهكذا يقال في أصل الإباحة عند
نفي الحرمة.
وثانيهما: القواعد التي يستعلم منها أحوال العمل، سواء كانت من الأصول
العملية بالمعنى الأول أو غيرها مما يذكر في أصول الفقه من مسائل أصل الفن أو
مبادئها لغوية أو أحكامية، بدعوى: أن منها ما يتعلق حكمه بالعمل مع الواسطة
سواء كانت من المسائل أو المبادئ مثلا قولنا: " صيغة إفعل حقيقة في الوجوب "
مسألة أصولية مع تعلق حكمها بالعمل بواسطة، وكذلك مقدمة الواجب واجبة،
فإنها إما مسألة أصولية على ما سبق إلى بعض الأوهام، أو من مبادئها الأحكامية -
على التحقيق - مع تعلق حكمها بالعمل كذلك، وضابطه الكلي أن يكون لتلك
المسألة ونظائرها موضوع لو قسته إلى موضوعات المسائل الفرعية كان بمنزلة
الجنس بالقياس إلى الأنواع المندرجة تحته، فإن قولنا: " صيغة إفعل حقيقة في
الوجوب " في قوة قولنا: " ما تعلق به صيغة إفعل مجردة عن القرينة فهو واجب "
وموضوع هذه القضية كما ترى عنوان كلي نسبته إلى الصلاة التي هي من موضوع
المسألة الفرعية كنسبة الجنس إلى النوع، ولذا يتعدى حكم الوجوب المتعلق به
إلى الصلاة، فيقال - بملاحظة قوله: (أقيموا الصلاة) -: إن الصلاة ما تعلق بها
صيغة " إفعل " مجردة عن القرائن، وكلما هو كذلك فهو واجب، وكذلك الكلام في
عنوان " المقدمة " المأخوذة في المسألة الأصولية، فإنها بالقياس إلى طي المسافة
وغيره جنس، فيتعدى حكم الوجوب عنها إليه بواسطة ما ينتظم بتلك الصورة،
طي مسافة الحج مقدمة الواجب، وكلما هو كذلك فهو واجب، وهكذا يقال في أكثر
المسائل.
فإن كان المراد بالأصول العملية المخرجة بالقيد المأخوذ في الفرعية أول
المعنيين، فيرد عليه:
105

أن الأصول العملية بهذا المعنى بحكم الحصر العقلي منحصر في الأربع المشار
إليها، الاستصحاب وأصل البراءة بالمعنى المتناول لأصل الإباحة وأصل
الاحتياط الذي يعبر عنه في بعض أقسامه بأصل الاشتغال وأصل التخيير، وأنت
إذا تأملت بدقيق النظر لوجدت الحكم في بعض هذه الأصول غير شرعي فيخرج
بقيد " الشرعية " وهو في البعض الآخر وإن كان شرعيا لكن ليس مما يتعلق
بالعمل، بل هو نظير الأصول الاعتقادية فيخرج بقيد " التعلق " كما أنه في البعض
الثالث وإن كان شرعيا متعلقا بالعمل لكنه لا حاجة في إخراجه إلى اعتبار قيد
آخر، سوى ظهور التعلق بنفسه في الحقيقي الملازم لانتفاء الواسطة، فإن أصل
الاشتغال الذي يجري عند اليقين بالتكليف مع الشك في المكلف به ووجود القدر
المتيقن، مما يحصل به الامتثال المعلوم بعدم دوران الأمر بين المحذورين، كما في
موارد التخيير، يتضمن في مورد جريانه كالصلاة مثلا عند الشك في مدخلية شئ
فيها جزءا أو شرطا مع ثبوت التكليف بها مقدمات عديدة، يكشف عنها قولنا:
الصلاة ما اشتغلت الذمة بها يقينا، وقولنا: اليقين بالاشتغال مما يستدعي اليقين
بالبراءة والامتثال، وقولنا: اليقين بالبراءة عنها يتوقف على الصلاة مع ما شك في
مدخليته.
ونتيجة هذه المقدمات كما ترى أن الصلاة مع الشئ المشكوك فيه واجبة،
وحيث إن الاستدلال بذلك يرجع إلى التمسك بقاعدة المقدمية، فالمقدمات
المذكورة في إنتاج ما ذكر من النتيجة ينحل إلى قياسين، يجرز بأحدهما وجوب
ذي المقدمة وهو اليقين بالبراءة، وبالآخر وجوب المقدمة الذي هو المطلوب
بالنتيجة.
فيقال في نظم أولهما: الصلاة ما اشتغلت الذمة بها يقينا، وكلما هو كذلك يجب
البراءة عنها يقينا، أي يجب اليقين بالبراءة عنها، فالصلاة ما يجب اليقين بالبراءة
عنها، وفي نظم ثانيهما: إن الصلاة مع المشكوك في مدخليته ما يتوقف عليه اليقين
بالبراءة، وكلما هو كذلك فهو واجب، فالصلاة مع ما ذكر واجبة.
106

فإن أريد بالحكم المأخوذ في هذا الأصل المدعى تعلقه بالعمل بواسطة،
الحكم المأخوذ في كبرى القياس الأول فهو ليس حكما شرعيا، بل هو حكم
عقلي صرف، حيث إن المستفاد من الخطاب بالصلاة إنما هو وجوب البراءة
الواقعية، ولما كان الواقع لا طريق إليه إلا العلم، فالعقل يلزم المكلف على تحصيل
العلم بالبراءة الواقعية، تحذيرا له عن الوقوع في مخالفة الواقع الموجبة لاستحقاق
العقوبة، فوجوبه ليس مستفادا من الشرع ولا أن بيانه من شأن الشارع، حتى أنه لو
فرض صدور خطاب أصلي به كان مؤكدا لحكم العقل.
ولو سلم أنه مأخوذ به بلسان العقل فيكون حكما شرعيا بأحد المعان الثلاث
المتقدمة (1) لا نسلم استناد خروجه إلى اعتبار انتفاء الواسطة، بل هو مستند إلى
اعتبار التعلق بالعمل كسائر الأصول الاعتقادية، لكونه متعلقا باعتقاد المكلف.
وإن أريد به ما هو مأخوذ في كبرى القياس الثاني، فالكلام فيه يتضح عند دفع
الشبهة في الحكم الأصولي المأخوذ في مسألة قولنا: مقدمة الواجب واجبة،
الداخلة في عنوان المعنى الثاني حسبما بيناه (2) لأن قولنا: " ما يتوقف عليه اليقين
بالبراءة واجب " من جزئيات تلك المسألة كما لا يخفى.
ومعنى حجية الاستصحاب الذي حقيقة معناه إبقاء ما كان، وجوب إبقاء ما
كان، على معنى الحكم ببقائه، والحكم عبارة هنا عن الإذعان، وحيث إن الإذعان
بالبقاء مع فرض الشك فيه مما لا يتعقل، فلا جرم يكون المراد منه الإذعان بأن ما
كان هو الذي يتدين به في تلك الحال كما كان كذلك في الحال السابق، فيترتب
عليه حينئذ جميع آثاره ولوازمه الشرعية، فإن كان وجوبا أو حرمة فآثارهما،
وإن كان إباحة فآثارها، وإن كان طهارة أو نجاسة فآثارهما أيضا، فيرجع
الوجوب المذكور إلى كونه متعلقا بما هو من مقولة الاعتقاد.
وأصل البراءة وإن كان حكما مستفادا من الشرع متعلقا بالعمل مع الواسطة،

(1) تقدم في التعليقة الرقم 6، الصفحة: 49.
(2) تقدم في نفس التعليقة، الصفحة: 91.
107

لكن يكفي في إخراجه ظهور التعلق في الحقيقي، وكذلك أصل الاحتياط في محل
مفارقته أصل الاشتغال على القول بوجوبه، وكذلك أصالة التخيير عند دوران
الأمر بين المحذورين، فإن الكل من واد واحد فخروجها أيضا يستند إلى ظهور
" التعلق " في كونه بلا واسطة.
وإن كان المراد بها ثاني المعنيين الذي مرجعه إلى المسائل المدونة في أصول
الفقه، فيرد عليه: أنها على ما سبق بيانه على أقسام:
فما كان منها من قبيل الأصول الأربع المتقدمة فقد اتضح حالها.
وما كان منها من قبيل المشتركات فقد عرفت سابقا أنها غير داخلة في
الشرعية حتى يحتاج في إخراجها إلى قيد آخر، حتى أن بحث صيغة " إفعل "
أيضا غير داخلة فيها وإن أولناها إلى ما تقدم من العبارة الموهمة، لتعلق حكمها
بفعل المكلف بواسطة، فإن الحكم المأخوذ في تلك المسألة وجوب عرفي ينبغي
أن يؤخذ من العرف لا من الشارع، ولذا يستند في الملازمة المدعاة فيها إلى
القواعد العرفية، وأيضا فإن الوجوب المأخوذ فيها ملحوظ على الوجه الأعم من
غير نظر إلى كونه من الشارع أو غيره.
ولا ريب أن الوجوب وغيره من الأحكام إذا لوحظ على هذا الوجه لا يؤخذ
من الشارع ولا من شأنه أن يؤخذ منه، وأيضا إنما يلاحظ في تلك المسألة مفهوم
الوجوب وغيره من غير نظر إلى مصاديقه. والذي يؤخذ من الشارع بعض
مصاديق هذا المفهوم.
وما كان منها من قبيل المبادئ اللغوية فأوضح خروجا عن الشرعية.
وما كان منها من قبيل المبادئ الأحكامية، فمنه ما هو خارج أيضا بقيد
" الشرعية " ومن هذه الجملة وجوب المقدمة بناء على جعله من المبادئ وإن
قررناه سابقا بحيث أوهم تعلقه بالعمل بواسطة، لرجوع البحث فيه إلى الملازمة
العقلية بين وجوب شئ ووجوب مقدماته، فإن الملازمة على فرض ثبوتها حكم
عقلي صرف، وعلى فرض كونها حكما شرعيا ليست متعلقة بالعمل وإنما هي أمر
108

نسبي بين الوجوبين، وأيضا فإن الوجوب المأخوذ فيه ملحوظ على الوجه الأعم
فلا يرتبط بما يؤخذ من الشارع.
ومع الغض عنه، فالملحوظ فيه مفهوم الوجوب والمأخوذ من الشارع بعض
مصاديق هذا المفهوم، ومع التنزل فخروج هذا الحكم مستند إلى ظهور " التعلق "
في الحقيقي. وكذا الكلام في بحث الأمر بالشئ المقتضي للنهي عن ضده، بناء
على إرجاعه إلى المبادئ بدعوى: رجوع البحث فيها إلى بيان الملازمة بين
وجوب شئ وحرمة ضده. وأما لو قلنا إنه مع بحث المقدمة من مسائل أصول
الفقه، بناء على رجوع البحث إلى دلالة الأمر بالشئ على وجوب مقدماته أو
حرمة أضداده فخروجه عن " الشرعية " أوضح. ونظيرهما على هذا التقدير مسألة
كون القضاء بالأمر الأول بناء على إرجاعها إلى دلالة الأمر بالمقيد على تكليفين:
أحدهما التكليف بالمطلق، والآخر به مع القيد، فإذا ارتفع الثاني بفوات قيده بقي
الأول على حاله. وأما لو أرجعناها إلى وجوب القضاء عند فوات الأداء بدليل
آخر، فإن لم نقل بكونها مسألة فرعية وإن ذكرها الأصولية لما فيها من جهة الكلية،
فخروجها مستند إلى ظهور التعلق في الحقيقي.
وأما مباحث الواجب المخير والكفائي والموسع، فالبحث فيها يرجع إلى
نفس الحكم الشرعي، وهو الوجوب أو موضوعه الذي ليس بعمل المكلف كما
يظهر بالتأمل.
وما كان منها من مباحث الحجية فالحكم فيها لا تعلق له بالعمل أصلا، سواء
أريد بالحجية كون الشئ وسطا أو وجوب العمل.
أما الأول: فلأنه شئ يعرض ذات الدليل، وأما الثاني: فلأنه شئ يعرض
اعتقاد المكلف.
وما كان منها من مباحث الاجتهاد والتقليد، كوجوب الإجتهاد عينا أم كفاية،
وجواز عمل المجتهد برأيه ووجوب التقليد على العامي، ووجوب تقليد الأعلم أو
الحي وجواز تقليد الميت ونحوه، فالحكم في بعضها فرعي يجب دخوله، وفي
109

بعضها اعتقادي يخرج باعتبار التعلق بالعمل، فإن المجتهد يعتبر في حقه عناوين
ثلاث:
أحدها: السعي في تحصيل الاعتقاد بالحكم الشرعي، الذي هو عبارة عن
أمور ملتئمة عن حركات اختيارية، ويعبر عنه بالاجتهاد المعرف باستفراغ الوسع.
وثانيها: الإعتقاد بالحكم الشرعي علما أو ظنا.
وثالثها: التدين بمؤدى اجتهاده، على معنى الإذعان بكون مؤديات الاجتهاد
هو الذي يجب اتباعه والعمل على طبقه، على ما هو مفاد أدلة حجية الظن أو غيره
من الطرق المقررة، ووجوب العمل بالاجتهاد.
وهذه العناوين كلها مورد للحكم الشرعي، غير أن الأول منها مورد لحكم
فرعي وإن كان ذلك الحكم مقدميا، لتوقف الاعتقاد بالحكم الشرعي على هذه
الجهة، وهذا مما يجب دخوله في الحكم الفرعي ولا واسطة له في العروض، نعم له
واسطة في الثبوت وهو وجوب ذي المقدمة، ولا يعتبر في الحكم الفرعي انتفاء
الواسطة في الثبوت كما عرفت.
وتعرض الأصوليين لذكر هذا الحكم استطراد لما فيه من الجهة الكلية، وإليه
يجب تنزيل كلام من أطلق القول بأن مباحث الاجتهاد والتقليد من المسائل الفرعية.
والثاني منها كالثالث من مقولة الأصول الاعتقادية، وكون الاعتقاد غير
اختياري لذاته لا يمنع تعلق التكليف به كما في الأصول الاعتقادية، لأن القدرة
التي من شرائط التكليف أعم منها بالواسطة، كما في الأفعال التوليدية بناء على
التحقيق من تعلق التكليف بها لا بمبادئها. وبالجملة، يشترط في مورد التكليف
كونه بنفسه أو بمبادئه مقدورا. ومن أطلق القول بأن مسائل الاجتهاد والتقليد من
الأصول الكلامية لابد وأن ينزل كلامه إلى هذين الوجهين.
وهذه العناوين الثلاث كما هي جارية في حق المجتهد، كذلك جارية في حق
المقلد بالقياس إلى فتوى المجتهد، والكلام فيها هو الكلام المتقدم.
وما كان منها من مباحث التعادل والتراجيح فخروجها عن " الفرعية " وعدم
110

تعلقها بالعمل واضح، لكون البحث فيها راجعا إلى حال الدليل وإن قلنا بكون
الحكم المأخوذ فيها شرعيا في الجملة كما لا يخفي.
فخلاصة الكلام أن اعتبار انتفاء الواسطة في الحكم الفرعي، لا نجد فيه فائدة
إلا إخراج الأصول الاعتقادية حسبما أشرنا إليه، ولولا ذلك لكان لمجرد
التوضيح.
[13] قوله: (وبقولنا: عن أدلتها علم الله سبحانه، وعلم الملائكة،
والأنبياء... الخ)
والوجه في خروج هذه العلوم بقيد " الأدلة " أن قضية كون العلم حاصلا عن
الدليل تنحل إلى كونه مسببا عن سبب، وكون ذلك السبب مما يصدق عليه عنوان
الدليلية في الاصطلاح. فالمعتبر في مفهوم " الفقه " أمران:
أحدهما: كونه مسببا، فيخرج به علم الله تعالى لعدم كونه بقدمه مسببا عن
سبب، على القول بأن معنى ذاتية علمه تعالى كونه عين الذات.
وثانيهما: كون السبب دليلا، فيخرج به علوم الباقين، لاستنادها إلى أسباب
ضرورية من الثبت في اللوح المحفوظ والوحي والإلهام وغير ذلك، مما ورد في
الروايات على اختلافها بالقياس إلى علوم الأئمة (عليهم السلام)، وعلى فرض استنادها إلى
الكتاب أو سنة النبي (صلى الله عليه وآله) فكذلك أيضا، لعدم ابتنائها على النظر والاستدلال على
الطريق المعهود، ويخرج به أيضا علم الله تعالى على القول الآخر، وهو كون معنى
ذاتية علمه أنه يعلم الأشياء بذاته، على معنى كون علمه بطريق الانكشاف المستند
إلى ذاته لا إلى الأمور الخارجة عن الذات، هذا بناء على إرجاع الظرف إلى العلم.
وأما على الوجه الآخر فقد يستشكل في خروج هذه العلوم بذلك القيد،
تعليلا بأنها أيضا علم بالأحكام الحاصلة عن الأدلة.
غاية الأمر، تحقق الحصول عن الدليل بالقياس إلى غير المذكورين وهو
الفقيه، كما في كلام بعض المحققين (1).

(1) والمراد منه هو سلطان العلماء في حاشيته على المعالم: 5 (الطبعة الحجرية).
111

وفيه: أنه لو قلنا بشمول جنس الحد لهذه العلوم، فلا يفترق الحال في استناد
خروجها إلى هذا القيد بين احتمالي رجوعه إلى العلم أو إلى الحكم.
أما أولا: فلأن المنساق من لفظ " الحد " اتحاد محلي الحصول والعلم، فإنهما
عرضان، وإن كان الأول عرضا اعتباريا والثاني عرضا محققا، غير أن المعتبر في
" الفقه " كون محلهما واحدا بمقتضى ظاهر الحد، فلا يتناول علما يغائر محله
لمحل الحصول عن الدليل.
وأما ثانيا: فلأن الحيثية معتبرة في نظائر المقام، فالفقه عبارة عن العلم
بالأحكام الحاصلة عن الدليل من حيث إنها حاصلة عن الدليل، ولا ريب أن
الحيثية منتفية بالقياس إلى العلوم المذكورة.
ودعوى: أن الحيثية غير مجدية في ذلك، لعدم تعين ارتباطها بالعلم بل ظهور
ارتباطها بالحكم، فيصدق على العلوم المذكورة أنها علم بالأحكام الحاصلة عن
الأدلة من حيث إنها حاصلة عن الأدلة، كما في كلام بعض الأفاضل (1).
يدفعها: أن الحيثية إن أخذت تعليلية بملاحظة أن التعليق على الوصف مما
يشعر بالعلية، بأن يكون حصول الحكم عن الدليل علة فارتباطها بالحكم غير
معقول، ضرورة أن هذا الحصول ليس عبارة عن الحصول الخارجي، وإلا لزم كون
الأدلة الشرعية بالقياس إلى الأحكام الشرعية وسائط في الثبوت وهو بديهي
البطلان، بل هو عبارة عن الحصول الذهني الاعتقادي، فيجب أن تكون مرتبطة
بالعلم، على معنى كون العلم معلولا عن الاعتقاد اللاحق بذوات الأحكام الحاصل
عن الأدلة على ما فصلناه سابقا (2) من أن العلم بالنتيجة لا يغائر بالذات للعلم
المأخوذ في المقدمتين، فإذا كان العلم المأخوذ في الصغرى - وهو العلم بذوات
الأحكام على أنها مظنونات أو معتقدات - مستندا إلى الأدلة، كان العلم المأخوذ
في النتيجة - وهو العلم بتلك المظنونات أو المعتقدات على أنها أحكام فعلية -

(1) هداية المسترشدين: 4 (الطبعة الحجرية).
(2) تقدم في التعليقة الرقم 4، الصفحة 45.
112

مستندا لها على معنى أن الدليل علة للحصول الاعتقادي اللاحق بذات الحكم،
وهو علة أو ملزوم للعلم المأخوذ في الصغرى، وهو لا يغائر بالذات للعلم المأخوذ
في النتيجة، فيكون هذا العلم معلولا عن الحصول الاعتقادي أو ملزوما له، وعلى
التقديرين يكون بالأخرة معلولا عن الدليل. ولا ريب أن العلوم المذكورة ليست
بهذه المثابة، فتكون خارجة بالقيد بعد اعتبار الحيثية المذكورة.
وإن أخذت تقييدية على معنى كون حيثية الحصول عن الدليل قيدا للحكم،
فهي أولا وبالذات وإن كانت مرتبطة بالحكم، إلا أنها بالأخرة أيضا ترتبط بالعلم،
لأن الحكم المقيد بها بنفسه قيد له.
ولا ريب أن قيد القيد قيد للمقيد بالقيد، كما في رأيت رجلا عالما بغداديا،
حيث إن " البغدادية " ترجع بالأخرة إلى الرجل المقيد بالعالمية فتخصصه، فيكون
العلم مقيدا بتلك الحيثية، ومعنى تقيده بها انتفاؤه عند انتفائها، على معنى أنه لو لم
تكن الحيثية متحققة لم يكن العلم حاصلا، لامتناع العرض بدون الموضوع، والعلم
بدون المتعلق. ولا ريب أن علومهم بالأحكام ليست بتلك المثابة، فتكون خارجة
أيضا بالقيد المذكور بعد اعتبار الحيثية.
وربما يورد على القول بكون هذا القيد مخرجا للعلوم المذكورة بما يرجع
محصله: إلى أن علم الله سبحانه ذاتي فلا يشمله العلم العرضي، وعلوم غيره من
المذكورين ضرورية فلا يشملها العلم النظري، والفقه عبارة عما جامع الوصفين
فهي غير داخلة في جنس الحد ليعتبر خروجها بالقيد.
وهذا كما ترى أضعف من الاشكال المتقدم، إذ لو أريد بعدم دخولها في
الجنس أن لفظ " العلم " بحسب مفهومه العرفي اللغوي لا يشملها فهو بديهي
البطلان، ولو أريد به أنه بالمعنى المراد منه هنا لا يشملها، ففيه: منع كون المراد منه
هنا ما يغائر المعنى العرفي العام للجميع.
ولو سلم، فالإيراد إنما يتوجه إلى ظاهر لفظ الحد، والمراد مع عدم اقتران
اللفظ بما يوضحه، لا يدفعه، وإلا لم ينتقض شئ من الحدود في جمع ولا منع.
113

نعم لو كان الإيراد على القول المذكور مما لابد منه، فينبغي أن يقال: بمنع
شمول الجنس لهذه العلوم من جهة أخرى، وهي كون العلم محمولا على الملكة،
بقرينة ما تقدم (1) من كون ألفاظ العلوم أسامي لملكات التصديق بمسائلها، أو
بقرينة ما سيأتي من بناء دفع أول الإيرادين المعروفين الآتي بيانهما عليه،
بملاحظة الجمع المعرف باللام الصالح للقرينية هنا.
ولا ريب أن اللفظ المحمول على معناه المجازي بقرينة موضحة لا يتناول
المعنى الحقيقي ولا ما هو من أفراده.
ويرد هذا الإشكال أيضا بناء على حمله على الظن - كما عليه جماعة - دفعا
لثاني الإيرادين الآتيين، فقضية ذلك خروج القيد توضيحيا، إلا أن يقال: بمنع
انحصار فائدته في إخراج العلوم المذكورة ليلزم خروجه بلا فائدة على تقدير
عدم دخولها في الجنس، بل من جملة فوائده خروج الضروريات، فإن العلم بها
ليس من الفقه كما في صريح كلام بعض الأعاظم (2) واحتمله بعض الأعلام (3)
وعليه جماعة منهم بعض الأفاضل (4) في صريح كلامه، غير أنه خالف غيره في
وجه خروجها بهذا القيد، فإن غيره علله بأن الفقه علم يعتبر حصوله بطريق النظر
والاستدلال وهذا هو مفاد القيد الراجع إلى العلم، وهو في الضروريات ليس
مستحصلا عن الدليل بطريق النظر والاستدلال، بل هو مستفاد من سبب ضروري
وهو الضرورة والبداهة، وهو علله بأن الفقه علم مستحصل عن الأدلة الفقهية وهي
المتداولة في لسان الفقهاء، فيراد بأدلتها هذه الأدلة المعهودة، فيخرج بها
الضروريات لأنها مستحصلة عن الأدلة الكلامية، وهي التي تدل على صدق
النبي (صلى الله عليه وآله) وكون شريعته التي أتى بها ثابتة في الواقع، لأن ضرورة الدين لا توجب
إلا العلم بكون الحكم الضروري ثابتا من النبي، ولا يلزم من ذلك كونه ثابتا في
الواقع ليصير حكما واجبا اتباعه إلا بعد ثبوت صدق النبي وحقية شريعته، والأدلة

(1) تقدم في التعليقة الرقم 1، الصفحة 20.
(2) إشارات الأصول: 3.
(3) قوانين الأصول: 6.
(4) هداية المسترشدين: 5 (الطبعة الحجرية).
114

المعمولة في إثبات ذلك أدلة كلامية، فيكون الحكم المستفاد منها خارجا بإرادة
العهد من الإضافة. انتهى محصلا.
وإخراج الضروريات بهذا القيد لازم كل من يصرح بخروج الضروريات عن
الفقه، كما في كلام كثير منهم، فينبغي النظر أولا في أنها هل هي من المسائل
الفقهية، أو من المسائل الخارجة عن الفقه ليجب خروجها عن حده، ثم النظر في
استناد خروجها إلى القيد المذكور وكيفية خروجها به وعدمه، فالكلام في مقامين:
أما المقام الأول: فكلماتهم فيه مختلفة، فمنهم من أخرجها عن " الفقه " وعمم
بالقياس إلى ضروريات الدين والمذهب معا كبعض الأعاظم (1) حيث صرح
بخروج القسمين معا بالقيد المذكور.
ومنهم من منع خروجها عنه وعمم، نسبه الفاضل المتقدم ذكره (2) إلى بعض
الأفاضل تبعا لبعض الأخباريين، بل يستفاد من العبارة التي حكاها عن بعض
الأخباريين الاتفاق على كون ضروريات المذهب من الفقه، حيث احتج على
عدم خروج ضروريات الدين عن الفقه: بأنه لو كان ضروريات الدين خارجة عنه
لخرج عنه ضروريات المذهب أيضا.
وقضية ذلك، كون عدم خروج ضروريات المذهب متسالما عند الفريقين،
وإلا بطل التقريب كما هو واضح.
ومنهم: من فصل فأخرج ضروريات الدين دون المذهب، ومنهم من صرح
بخروج الضروريات وأطلق.
وتحقيق القول في ذلك: أن مسائل كل علم على ما مر مرارا، عبارة عن
النسب الخبرية التي يستدل عليها في ذلك العلم، وهي القضايا التي تطلب من
الاستدلالات المأخوذة فيه، المعبرة عنها بالنتائج الحاصلة عن تلك الاستدلالات
المطلوبة من إعمال النظر فيها، فالمسألة حينئذ هي النتيجة، ويعتبر فيها إعمال
النظر في العلم نفسه.

(1) إشارات الأصول: 3.
(2) هداية المسترشدين: 5 (الطبعة الحجرية).
115

وطريقه: أن يحرز فيه كلا مقدمتي الدليل أو إحداهما، صغرى كانت إن أخذت
كبراه محرزة من الخارج، أو كبرى إن أخذت صغراه محرزة من الخارج، فكل
نتيجة إذا كانت كل من مقدمتيها بينة بنفسها كالقضايا التي قياساتها معها لم يعقل
أخذها مسألة لعلم، كما أنها لو كانت كل من مقدمتيها متبينة في علم آخر لم يعقل
أخذها مسألة لعلم آخر غير العلم المذكور، بل لو فرض أن إحدى مقدمتيها متبينة
في علم والمقدمة الأخرى متبينة في علم آخر لم يعقل كونها مسألة لعلم ثالث
خارج عن العلمين، بل هي إما من مسائل هذا العلم أو ذاك العلم أو كليهما، ومتى
أخذت مسألة لأحدهما كانت المقدمة المحرزة في العلم الآخر مأخوذة هنا من
باب الأخذ بالمسلمات، وكذا لو فرض أن إحدى مقدمتي النتيجة بينة بنفسها
والأخرى متبينة في علم لم يعقل كون النتيجة مسألة لعلم آخر غير ذلك العلم،
فالواجب في مسألة العلم المعدودة من نتائج استدلالاته، حصول البحث عنها
بإحراز ما يكون صغرى وكبرى معا، أو صغرى وحدها، أو كبرى كذلك، ولازمه
كون الأخذ بالمقدمة الأخرى حاصلا من الخارج من باب أخذ المسلمات من
المقدمات البينة بأنفسها أو المتبينة في علوم أخر.
وكثير من العلوم المدونة المتداولة ما كان كيفية البحث فيها إحراز الصغريات،
تنضم إليها كبرى أو كبريات مسلمة مأخوذة من الخارج، كالعلوم العربية في غالب
مسائلها، فإن كبرى الاستدلالات المأخوذة فيها مقدمة كلية بينة أو متبينة في
الخارج، وهي أنه كلما ثبت جوازه عند أهل اللسان أو استقر بناؤهم عليه في
الألفاظ الجارية على ذلك اللسان - مما يتعلق بالمادة فقط، أو الهيئة الإفرادية أو
التركيبية وحدها، أو المجموع المركب من المادة والهيئة - فهو مما ثبت جوازه أو
لزومه من رئسيهم وواضع ألفاظهم، فالصرفي في قلب حرف العلة " ألفا " عند
تحركها وانفتاح ما قبلها على نحو اللزوم مثلا، لا يطالب منه إلا ما يكون صغرى
لتلك الكلية، وهي كون ذلك القلب مما استقر عليه بناء أهل اللسان المعلوم بالتتبع
واستقراء موارد استعمالاتهم، ولذا ترى لا يستدل على مطلبه إلا بموارد من
116

الاستعمالات الواردة في الأشعار والقصائد ونحوها، وكذا النحوي في رفع الفاعل
لزوما وحذفه جوازا أو لزوما، واللغوي في إثبات معاني مفردات الألفاظ
ومركباتها، وأهل المعاني والبيان في إثبات ما يرجع إلى البلاغة.
ومن هذا الباب علم الفقه الذي يبحث فيه الفقيه، فإنه لا يأخذ في استدلالاته
إلا ما يكون صغرى مستنبطة عن الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع الكاشف
عن السنة والعقل الكاشف عنها أيضا، وله كبرى واحدة مسلمة مأخوذة من
المسائل الكلامية، وهي كون شريعة نبينا (صلى الله عليه وآله) ودينه حقا، والأحكام المندرجة فيه
ثابتة من الله سبحانه متوجهة إلينا فعلا، كما هي متوجهة إلى أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)
فإن ذلك كما ترى من فروع صدق النبي (صلى الله عليه وآله) وثبوت نبوته الثابتين في الكلام.
فالفقيه بالاستدلال بالكتاب أو السنة أو الإجماع أو العقل أو غيره لا يقصد
إلا إحراز صغريات لهذه الكبرى، وهي كون مؤديات تلك الأدلة من شريعة
نبينا (صلى الله عليه وآله) التي أتى بها من الله سبحانه، فإذا انضم إليها الكبرى المذكورة يحصل
النتائج التي هي مسائل الفقه، كوجوب الشئ الفلاني المستفاد من الكتاب،
وحرمة الشئ الآخر المستفاد من السنة، واستحباب الشئ الثالث المستفاد من
الإجماع، وكراهة أو إباحة الشئ الرابع المستفاد من العقل أو غيره.
وبذلك يندفع ما اعترضه الفاضل المعلل (1) في خروج الضروريات بما تقدم
على من علله بأن الفقه ما يحصل بطريق النظر والضروريات غير حاصلة عن
الدليل بالنظر، من منع خروجها بهذا الوجه ما لم يقدر الإضافة للعهد، لأن الضرورة
لا تقتضي إلا ثبوت الأحكام الضرورية عن صاحب الشريعة، وأما ثبوتها في
الواقع فيحتاج إلى صدق صاحب الشريعة وحقية شرعه ودينه، المتوقف على
الاستدلال بالأدلة الكلامية، فالضروريات أيضا معلومة بالنظر والاستدلال،
والعلم الحاصل فيها حاصل عن الدليل، فيجب في إخراجها عن " الفقه " إرادة
العهد من الإضافة، الموجبة لحمل " الأدلة " على الأدلة المعهودة.

(1) والمراد منه هو صاحب هداية المسترشدين (رحمه الله).
117

ووجه الاندفاع: أنه لو صح القول بعدم خروج الضروريات إلا بحمل
الإضافة على العهد، فخروجها حينئذ لكونها ثابتة بالأدلة الكلامية دون الأدلة
المعهودة، لزم منه خروج المسائل الفقهية بأسرها بهذا القيد، إذ لا فرق بين
الضرورة وغيرها من الأدلة المعهودة الفقهية في كون الجميع ما يحرز به صغرى -
وهي كون الأحكام المستفادة منها ثابتة من صاحب الشريعة - لكبرى كلامية،
فالأدلة الكلامية معمولة في الجميع لإحراز الكبرى المذكورة لصغرى محرزة تارة
بالضرورة، وأخرى بالأدلة المعهودة، فلو صلحت الأدلة المحمولة على الأدلة
المعهودة مخرجة للضروريات لمجرد كون كبراها مما يثبت بالأدلة الكلامية،
لكانت مخرجة لغيرها أيضا من نظريات الفقه، لكون كبراها مما يثبت بالأدلة
الكلامية وهو كما ترى.
فالتحقيق: بناء على ما قررناه إن المسألة ما يعتبر فيها النظر، ومرجع النظر
المعتبر في المسائل الفقهية إلى إحراز ما يكون صغرى منتجة لها بضميمة الكبرى
المأخوذة من المسائل الكلامية، فكل مسألة مذكورة في الفقه أو غير مذكورة فيه
إذا لم يستلزم النظر في إحراز صغراها لم يكن من المسائل الفقهية.
ومن هذا الباب الضروريات، لأن المحرز للصغرى فيها على ما بيناه نفس
الضرورة، وهو وضوح الحكم لا النظر.
وإن كانت هنا من باب الضروريات الثانوية، وهي المقدمات التي يتوقف
ثبوت محمولاتها لموضوعاتها على وسائط لا تسمى وسطا في الاصطلاح،
كالحس والحدس والتجربة ونحوها، لا الضروريات الأولية وهي المقدمات الغير
المتوقف ثبوت محمولاتها لموضوعاتها على واسطة أصلا.
وهل يفرق في الضروريات الخارجة عن المسائل الفقهية بين ضروريات
الدين، وهي التي يكون وضوح الأمر فيها عند قاطبة أهل ملة الإسلام،
وضروريات المذهب، وهي التي يكون وضوح الأمر فيها عند قاطبة الشيعة
الإثنى عشرية، وضروريات العلماء وهي التي يكون وضوح الأمر فيها عند قاطبة
أهل العلم، أو لا؟
118

تحقيقه: إن الضرورة إن أعتبرت ذاتية لا يخرج القسمان الأخيران، بل لا
يخرج القسم الأول، إذ ما من ضروري الدين إلا وهو مسبوق بالنظر كما يظهر
بالتأمل. فهذا ليس بمراد من الضروريات هنا، وإن اعتبرت عرضية كما في
الجميع، سواء كان عروض الضرورية قبل تدوين العلم أو بعده فيلزم خروج
الجميع.
وإن اعتبرت عرضية مع عروض الضرورة بعد التدوين، كان الخارج
ضروريات الدين فقط، لكون كل من الباقيتين مسبوقا بالنظر، وإنما طرءت
الضرورة بسبب كثرة التسامع وغلبة التظافر وعموم البلوى ودوام الحاجة
والابتلاء، فالمسألة في كل واحد منها دونت وهي نظرية، لحصول تدوين الفن في
زمان كانت آثار مذهب الشيعة مستورة وخصائصهم مهجورة، وهذا النحو من
النظرية كاف في عدها من المسائل الفقهية.
ولا يقدح فيه طرو الضرورة في الأزمنة المتأخرة عن التدوين، وبذلك يندفع
ما تقدم (1) من نقض الأخباريين، لوضوح منع الملازمة بما قررناه من الفرق، فإن
ضروريات الدين قد وصلت حد الضرورة قبل تدوين العلم بكثير - بل قبل انقطاع
الوحي - بخلاف ضروريات المذهب، فقد دون العلم وضروريات الدين غير
صالحة لأن تكون من مسائله، وضروريات المذهب صالحة له، وبملاحظة جميع
ما ذكر تبين الكلام في المقام الثاني أيضا.
فإن الضروريات حيثما وجب إخراجها عن الحد، كان خروجها مستندا إلى
القيد المذكور بالتقريب المتقدم عن بعض الأعاظم (2) لا بالتقريب المتقدم عن
بعض الأفاضل (3) لكن يشكل الحال في طرد الحد وعكسه بالقياس إلى الأقسام
الثلاث لو بنى على التفصيل المذكور، من خروج ضروريات الدين عن المسائل
الفقهية دون ضروريات المذهب والعلماء.

(1) تقدم في نفس التعليقة الصفحة: 101.
(2) إشارات الأصول: 3.
(3) هداية المسترشدين: 5 (الطبعة الحجرية).
119

فإن الواجب على هذا الفرض خروج الأولى عن الحد ليسلم الطرد، ودخول
الأخيرتين ليسلم العكس، والقيد غير صالح لإفادة كل من هذين الأمرين، إذ
حصول العلم المستند إلى الأدلة إن أريد به الحصول الشأني، بأن يكون الحكم
بحيث من شأنه أن يكون حاصلا بطريق النظر والاستدلال وإن لم يتوقف عليهما
بالفعل في بعض الموارد بواسطة طرو الضرورية ليدخل ضروريات المذهب
وضروريات العلماء، انتقض الطرد بدخول ضروريات الدين أيضا لما تقدم إليه
الإشارة من سبق كونها نظرية على صيرورتها ضرورية، وإن أريد به الحصول
الفعلي ليخرج ضروريات الدين، انتقض العكس بخروج ضروريات المذهب
والعلماء أيضا، لعدم حصول العلم بها فعلا بطريق النظر والاستدلال، فلابد في
التفصي عن الإشكال من التزام أحد الأمرين صونا للحد عن اللإنتقاضين.
إما القول بخروج الضروريات بأقسامها الثلاث عن الفقه مع إرادة الحصول
الفعلي، أو القول بدخولها أجمع فيه مع إرادة الحصول الشأني، إلا أن يلتزم بمراعاة
الإضافة والاعتبار مع إرادة الحصول الفعلي، بدعوى: أن النظرية والضرورية
أمران اعتباريان إضافيان، فقد يكون الشئ نظريا في زمان وفي حق شخص
وضروريا في زمان آخر ولشخص آخر، وضروريات المذهب وغيرها لطرو
الضرورية فيها بعد التدوين في الأزمنة المتأخرة كانت نظرية في الصدر الأول
بالقياس إلى أهله، ثم صارت ضرورية في الأزمنة المتأخرة بالقياس إلى اللاحقين.
ومن الجائز أن تكون داخلة في مسائل الفقه بالقياس إلى السابقين، لكون
علمهم بها حاصلا بطريق النظر والاستدلال، وخارجة عنها بالقياس إلى اللاحقين
- وإن كانت مذكورة في الفقه - لعدم حصول علمهم بها بطريق النظر والاستدلال،
فلو اعتبر الحصول ما يكون فعليا كان شاملا لعلم السابقين، فتدخل في الحد لكونه
من أفراد المحدود، وغير شامل لعلم اللاحقين فيخرج عن الحد، لعدم كونه من
أفراد المحدود، هذا غاية ما يمكن في توجيه المقام، ولم نقف على من تعرض له
من الأعلام، وبعد فيه نوع تأمل.
120

وبالجملة، هذا القيد بناء على خروج الضروريات عن الفقه مطلقة أو في
الجملة لا يخلو عن فائدة.
وقد يقال: إن فائدة هذا القيد إخراج علم المقلد، والمستفاد من بعض
الأعاظم (1) أنه من جملة فوائده، لكن أختلفت عباراتهم في وجهه، ففي بعضها أن
علم المقلد مقصور على السماع الذي هو سبب ضروري فلا يشمله ذات الدليل
حسبما هو معتبر في الاصطلاح، وفي بعضها أن علمه كعلم المجتهد وإن كان
محصلا عن الدليل، غير أن الفرق بينهما أن المجتهد له أنواع من الأدلة وليس
للمقلد إلا نوع واحد، فيخرج علمه باعتبار الجمعية المستفادة من " أدلتها ".
وفي بعضها أيضا أن الإضافة في " أدلتها " إذا كانت للعهد و " الأدلة " محمولة
على المعهودة التي يستعملها المجتهد كانت مخرجة لعلم المقلد، لعدم كون دليله
من جملة هذه الأدلة، وفي جميع هذه الوجوه من الضعف ما لا يخفى.
أما الأول: فلأن السماع سبب ضروري لإفادة تصور معاني الألفاظ الصادرة
من المجتهد في مقام الإفتاء - مفردة ومركبة - بل هو عند التحقيق سبب ضروري
للعلم بوجود لفظ الفتوى وصدوره عن لافظه، كما هو الحال في سائر المقامات.
وأما استفادة مرادات المجتهد ومعتقداته فمتوقفة على إعمال مقدمات كثيرة،
يدفع بها احتمال التجوز والإضمار والتخصيص والتقييد والكذب والخطأ والسهو
والنسيان وما أشبه ذلك، نظرا إلى أن اللفظ الصادر من المجتهد كاللفظ الصادر من
المعصوم (عليه السلام) له عام وخاص، ومطلق ومقيد، ونص وظاهر، ومجمل ومبين،
ومحكم ومتشابه، فيجري فيه جميع ما يجري في كلام المعصوم من الأصول
والمقدمات التي يحرز بها المرادات والمعتقدات فيندرج بذلك قول المجتهد في
عداد الأدلة بالقياس إلى مقلده على حد اندراج قول المعصوم (عليه السلام) في عدادها
بالقياس إلى المجتهد.

(1) إشارات الأصول: 3.
121

وأما الثاني: فلأن الجمعية هنا ملغاة، كما يفصح عنه إسناد الأكثر خروج علم
المقلد إلى قيد " التفصيلية " كيف لا تكون ملغاة ولو فرض اقتصار المجتهد في
علمه بجميع الأحكام على نوع واحد من الأدلة كالسنة مثلا - على تقدير كفايتها -
كان فقيها وعلمه فقها في الاصطلاح من دون نكير، فالأدلة هنا يراد بها جنس
الدليل ليشمل الواحد وما فوقه، فيندرج فيها دليل المقلد أيضا.
وأما الثالث: فلأن عهد الإضافة مرجعه إلى إرادة المعهود المعين الخارجي
من المضاف، وهو خلاف ظاهر لا داعي إلى المصير إليه، ومجرد كونه مرادا
للمعرف اعتبار لا يفي بحصوله ظاهر اللفظ فلا يكفي، للزوم كون المدخل
والمخرج في الحدود ظاهر ألفاظها ولو بمعونة القرينة.
فتحقيق المقام أن يلاحظ أن علم المقلد بالأحكام الشرعية الفرعية هل هو
مما يصدق عليه " الفقه " أو لا؟
وعلى الثاني، فهل يقع مشمولا لجنس الحد ليحتاج إلى مخرج أو لا؟ وعلى
الأول ينظر في مخرجه، ويتضح الكلام في جميع ذلك إن شاء الله.
[14] قوله: (وخرج بالتفصيلية علم المقلد في المسائل الفقهية، فإنه
مأخوذ من دليل إجمالي مطرد في جميع المسائل... الخ)
واعلم: أن " الفقه " على ما عرفته سابقا يطلق على معان:
أحدها: المعرفة على الإطلاق، وهو المعنى اللغوي.
وثانيها: ما هو أخص من الأول، وهو معرفة الأحكام الشرعية أصولية
وفروعية على طريق الاجتهاد أو التقليد.
وقد شاع إطلاقه عليه في أخبار الأئمة الأطهار (عليهم السلام) على ما قيل، حتى أن
التفقه الوارد في الآية بحكم الروايات المفسرة محمول عليه، لكن كونه إطلاقا فيما
يغائر المعنى اللغوي في الآية والرواية موضع تأمل، لقوة احتمال كونه من باب
إطلاق الكلي.
122

وثالثها: ما هو أخص من الأولين وهو المصطلح عليه عند الفقهاء الذي يراد
من الحد، سواء كان من مخترعاتهم أو واصلا إليهم من الأئمة (عليهم السلام) أو من الشارع
- على تقدير ثبوت الحقيقة الشرعية فيه كما توهم - فإن أخذ " الفقه " على أحد
المعنيين الأولين فلا إشكال في صدقه على علم المقلد لكنه ليس بمحل كلام.
وإن أخذ على المعنى الأخير، فالمصرح به في كلامهم عدم صدقه عليه وهو
الحق الذي لا محيص عنه، كما يفصح عنه صحة سلب اسم " الفقيه " عنه واسم
" الفقه " عن علمه بحسب الاصطلاح.
وظاهر أن هذا الاختلاف بينه وبين المجتهد الذي لا يصح السلب عنه وعن
علمه، لابد وأن يكون من منشأ معنوي مأخوذ في مفهوم " الفقه " اصطلاحا غير
موجود فيه، وهو لا يخلو عن أمرين:
أحدهما: أن يكون المعتبر في مسماه الاصطلاحي كونه ملكة أو إدراكا ناشئا
عنها بالمعنى المتقدم ذكره، وهو الحالة النفسانية الناشئة عن الممارسة في الفن
واستحضار مسائله - ولو إجمالا - ومبادئه على وجه لم يكن بينه وبين إدراكاته
الفعلية حالة منتظرة، سوى الرجوع إلى المدارك واستعمال مبادئها الحاضرة لديه -
ولو قوة - حين المراجعة.
ولا ريب أن الملكة بهذا المعنى غير حاصلة للمقلد، ولا أن إدراكه الفعلي
ناش عنها.
وثانيهما: إن علم المقلد بوصف أنه مقلد إنما يستند إلى وسط واحد، وهو
العنوان الكلي الجامع لجزئيات المسائل بأسرها، الذي ينشأ منه علمه في كافة
المسائل، كعلم المجتهد واعتقاده بناء على أنه مأخوذ موضوعا لأحكام المقلد،
بخلاف المجتهد الذي يكون علمه عن أوساط عديدة مختلفة الحقائق، على معنى
كونه صالحا لأن يستند إليها ولو فرض في بعض الصور النادرة استناده إلى وسط
واحد، كما لو انحصر دليله في جميع المسائل إلى الكتاب أو خبر الواحد، فإنه لا
يمنع عن صلاحية استناده إلى أكثر من وسط واحد على نحو التوزيع، بأن يستند
123

في جملة منها إلى الكتاب، وفي أخرى إلى السنة، وفي ثالثة إلى الإجماع،
وفي رابعة إلى العقل والظن المطلق على القول به.
ولا ريب أن هذه الصلاحية منتفية في علم المقلد، ولا يجدي في إعطاء
الصلاحية فرض تعدد المجتهدين، ولا اختلافهم في الأعلمية وغيرها والحياة
والموت ونحوها كما توهم، لكون الوسط في الجميع واحدا وهو العلم والاعتقاد
فتأمل.
فإذا أخذت هذه الصلاحية في مسمى " الفقه " اصطلاحا، كان وجها آخر في
الفرق بين المقلد والمجتهد، وكأنه إلى هذا الفرق ينظر ديدنهم الجاري في الفرق
بينهما، بأن المقلد ليس له إلا دليل واحد إجمالي بخلاف المجتهد فإن له أدلة
تفصيلية، نظرا إلى أن الدليل الإجمالي يراد به المنسوب إلى الإجمال وهو الجمع،
يقال: أجملت الشئ إجمالا أي جمعته من غير تفصيل، ومنه اللفظ لجمعه
الاحتمالين أو أكثر، فمعنى إجمالية دليل المقلد مع وحدته كونه وسطا واحدا
جامعا لشتات الجزئيات بأسرها، لا بمعنى كونه مجملا مرادفا للمبهم، كما هو من
لوازم مجمل اللفظ كما توهم، حتى يورد عليه: أن دليل المقلد عام لا أنه مجمل،
والأدلة التفصيلية يراد بها المنسوبة إلى التفصيل المأخوذ من الفصل بمعنى الفرقة،
فمعنى تفصيلية أدلة المجتهد كونها أوساطا متفرقة مختلفة الحقائق، وقضية هذا
الفرق أيضا أن لا يصدق " الفقيه " على المقلد ولا " الفقه " على علمه.
وبعد وضوح الفرق بينهما في الوجهين المذكورين، فإن كان جنس حد الفقه
محمولا على الملكة - بالمعنى المتقدم (1) - بقرينة ما تقدم (2) من كون ألفاظ العلوم
أسامي للملكات، أو بقرينة أخذ الجمع المعرف في الحد المفيد للاستغراق الغير
الصالح إلا على تقدير إرادة الملكة على ما يأتي بيانه، فعلم المقلد خارج بنفس
الجنس، ضرورة عدم شمول اللفظ المحمول على معنى مجازي بواسطة القرينة
معناه الحقيقي ولا ما هو من أفراده، فلا يفتقر حينئذ إلى مخرج.

(1 و 2) تقدم في التعليقة الرقم 4، الصفحة: 45.
124

نعم إن كان الجنس محمولا على نفس الإدراك كان شاملا لعلم المقلد،
فيحتاج حينئذ إلى مخرج ولا مخرج له إلا قيد " التفصيلية " على ما فهمه الأكثرون
ومنهم المصنف على ما هو صريح العبارة المتقدمة، لأن العلم الحاصل عن الأدلة
التفصيلية على ما بيناه مخصوص بالمجتهد.
لكن أورد عليه: تارة بأنه إن أريد بما ذكر أن الدليل الإجمالي مقصور على
المقلد ولا يوجد للمجتهد.
ففيه: أن نظير ذلك موجود له أيضا، وهو قوله - في كل مسألة مسألة: هذا
ما أدى إليه اجتهادي، وكلما هو كذلك، فهو حكم الله في حقي وحق مقلدي.
وإن أريد به أن للمجتهد - مضافا إلى الدليل الإجمالي - أدلة تفصيلية
ولا يوجد مثلها للمقلد.
ففيه: أن له أيضا أدلة تفصيلية، وهي فتاوى المجتهد المجتمعة له في الوقائع
كلها.
وأخرى: بمنع خروج علم المقلد بقيد " التفصيلية " فإنه لاستناده إلى علم
المجتهد وفتواه المستندين إلى الأدلة التفصيلية، مما يصدق عليه مفهوم قولنا: العلم
المستند إلى الأدلة التفصيلية.
وثالثة: بمنع كون الدليل الإجمالي مما أستند إليه علم المقلد، بل هو دليل
لاعتبار علمه كما إن نظيره موجود للمجتهد.
ورابعة: بمنع استناد خروج علم المقلد إلى قيد " التفصيلية " - وإن صح ذلك -
بل هو مستند إلى قيد " أدلتها " لما قرر في محله من أنه إذا اجتمع في الحد قيدان
صالحان لإخراج شئ فالأولى إسناد خروجه إلى أولهما، فيكون قيد " التفصيلية "
لمجرد التوضيح.
والجواب عن الأول: فباختيار الشقين معا، على معنى أن ليس للمجتهد
إلا أدلة تفصيلية ولا للمقلد إلا دليل إجمالي.
125

ودعوى: أن للمجتهد أيضا دليلا إجماليا بالبيان المذكور، غفلة عما قدمناه (1)
من تفسير الدليل الإجمالي، وما قدمناه (2) في تحقيق مسائل الفقه من أن البحث
فيها يرجع إلى إحراز صغريات مستفادة من الأدلة التفصيلية بالمعنى المتقدم، فإن
إجمالية الدليل عبارة عن كون العلم الحاصل به عن وسط واحد ليس إلا، جامع
لشتات جزئيات المسائل، وما أخذ من الوسط في دليل المجتهد وإن كان واحدا
بحسب المفهوم، لكنه واحد جنسي ينحل إلى أوساط متكثرة مندرجة تحته،
اندراج الأنواع تحت جنس عام لها، لكون كل في حد ذاته عنوانا كليا، فالصغرى
المأخوذة في هذا الدليل منحلة إلى صغريات عديدة مشتملة على محمولات
متفرقة مختلفة الحقائق، ضرورة أن قولنا: " هذا ما أدى إليه اجتهادي " بمنزلة أن
يقول - في جملة من المسائل -: هذا ما أدى إليه الكتاب، وفي أخرى: هذا ما أدى
إليه خبر الواحد، وفي ثالثة: هذا ما أدى إليه الإجماع، وفي رابعة: هذا ما أدى إليه
الظن المطلق وهكذا، وهذا هو معنى استناد علم المجتهد إلى الأدلة التفصيلية،
وهذا كما ترى مما لا إجمال فيه بحسب الحقيقة ولا عبرة بالإجمال المنوط
بالاعتبار، كما أن التفصيلية بهذا المعنى غير حاصلة للمقلد.
وتوهم كون الفتاوى المجتمعة عنده أدلة تفصيلية له، يدفعه: أن الفتاوى
المجتمعة جزئيات حقيقية لعنوان واحد نوعي، وهو مفهوم " الفتوى " الراجعة إلى
علم المجتهد واعتقاده، فليست الصغريات المفروضة هنا في الوقائع الجزئية
مشتملة على أوساط متفرقة مختلفة الحقائق كما لا يخفى، فليس علم المقلد
إلا عن وسط واحد إجمالي جامع لشتات المسائل الجزئية.
وعن الثاني: بأن استناد العلم إلى الأدلة التفصيلية وحصوله منها ظاهر في
الحقيقي الذي لا يتخلل معه بين المستند والمستند إليه واسطة، ولا ريب أن استناد
علم المقلد إليها غير حقيقي.

(1) تقدم في نفس التعليقة، الصفحة: 110.
(2) تقدم في التعليقة الرقم 13، الصفحة: 103.
126

وعن الثالث: بأن المراد من كون القياس المذكور دليلا لاعتبار علم المقلد
لا لأصل العلم غير واضح، فإن علم المقلد إنما يراد به العلم المأخوذ في نتيجة هذا
القياس، وهو من حيث إنه علم لا يفتقر إلى دليل الاعتبار، لكون اعتباره من
القضايا التي قياساتها معها، فإنه عبارة عن انكشاف الواقع وليس وراء الواقع
شئ آخر يكون معتبرا بنفسه ليفتقر اعتبار انكشافه إلى دليل، بل معنى اعتبار
انكشافه اعتبار نفسه، وهو في نفسه ولذاته يقتضي الاعتبار.
نعم كون الاعتقاد المفروض في متعلقه - كالنسبة الموجودة في النتيجة مثلا -
انكشافا للواقع يتوقف على صدقها، ويكفي فيه صدق المقدمتين الصغرى
والكبرى والمفروض هنا صدقهما، أما صدق الصغرى - وهو قولنا: " هذا ما أفتى به
المفتي " - فلأنه المفروض، وأما صدق الكبرى وهو قولنا: " كل ما أفتى به المفتي
فهو حكم الله في حقي " فللأدلة القاضية بحجية الفتوى، ووجوب رجوع العامي
إلى العالم المجتهد، وقضية صدق المقدمتين صدق النتيجة المتولدة منهما، ويلزم
من ذلك كون المجموع منهما سببا للعلم المأخوذ في النتيجة، ولا يعني من كون
الدليل الإجمالي دليلا لعلم المقلد إلا هذا، وهكذا يقال في دليل المجتهد.
وأيضا فإن مناط دليلية الدليل إنما هو الوسط المأخوذ فيه، وهو العنوان
المتكرر في مقدمتيه، وقد تبين أن وسط دليل المقلد فتوى المجتهد، كما أن وسط
دليل المجتهد ما ينحل إلى الكتاب والسنة والإجماع والعقل وغير ذلك.
ولا ريب أن الفتوى من حيث إنها الفتوى ليست دليلا على اعتبار علم المقلد
بل هي سبب لأصل العلم، كما أن أوساط دليل المجتهد من حيث إنها الأمور
المذكورة أسباب لأصل علمه، لا أنها أدلة على اعتبار هذا العلم.
نعم كل من الفتوى والأمور المذكورة ملزومة للاعتبار بالأدلة الدالة على
حجيتها، أما الفتوى فبما دل على وجوب رجوع الجاهل في الأحكام إلى العالم،
وأما غيرها فبما دل على حجية كل ولو من باب كونه من أسباب الظن.
ولك أن تقول حينئذ: إن " الفقه " يراد به هنا ما كان ملزوما للاعتبار، كما أن
127

المطلوب من الدليل إجماليا كان أو تفصيليا ليس إلا ما كان ملزوما للاعتبار، فإن
المكلف مجتهدا كان أو مقلدا لا يرجع إلى الدليل إجماليا كان أو تفصيليا إلا بعد
إحراز كبرى كلية، وهي كون كل ما أدى إليه الاجتهاد أو كلما أفتى به المفتي
[فهو] حكم الله الفعلي في حقه، وهي كما ترى تفيد اعتبار ما يحصل لهما من
العلم عن الدليل المفروض على أحد الوجهين، فمنظوره في الرجوع إلى الدليل
حينئذ إحراز صغرى تنضم إلى تلك الكبرى الكلية.
ومن المعلوم أن الصغرى مما لابد له من مستند، كما أن العلم المطلوب فيها
لابد له من مدرك، وهذا المستند هو الدليل الذي يرجع إليه، فإن كان أدلة تفصيلية
كان العلم المأخوذ في النتيجة المتولدة عن الصغرى المنضمة إلى الكبرى المذكورة
" فقها " وإن كان دليلا إجماليا وهو فتوى المفتي ورأيه واعتقاده كان العلم المأخوذ
في النتيجة المتولدة عن المقدمتين المذكورتين خارجا من الفقه.
فالعلم المطلوب في تلك النتيجة إنما يطلب حصوله عن الأدلة التفصيلية أو
الدليل الإجمالي وهو ملزوم للاعتبار، وكون الاعتبار من لوازمه المستندة إلى أدلة
كبرى هذا القياس لا ينافي كونه في حد ذاته حاصلا عن الأدلة التفصيلية أو الدليل
الإجمالي اللذين يحرز بهما صغرى هذا القياس، نظرا إلى أن الأدلة التفصيلية أو
الدليل الإجمالي يراد بهما في الحقيقة ما يحرز به الصغرى، ومعنى استناد النتيجة
إليهما استنادها باعتبار استناد الصغرى إليهما، ووصف الاعتبار إنما حصل بغير
هذا الاعتبار فلا منافاة، والقياس المذكور إنما ينتظم بعد إعمال النظر في دليلي
الكبرى والصغرى، لا أنه بنفسه دليل للعلم أو على اعتباره.
وبالجملة: نتيجة هذا القياس إنما تسمى مسألة فقهية باعتبار كون البحث فيها
عبارة عن طلب إحراز صغرى بالنظر في الأدلة التفصيلية، فكل نتيجة يكون
البحث فيها عبارة عن طلب إحراز الصغرى بالنظر في الدليل الإجمالي لا الأدلة
التفصيلية، فليست من المسألة الفقهية.
وعن الرابع: بمنع صحة استناد خروج علم المقلد إلى قيد " أدلتها " لأنه لا يتم
128

إلا إذا فرض الفتوى من الأسباب الضرورية الخارجة من عنوان الدليل اصطلاحا،
أو اعتبرت الجمعية في مفهوم " الأدلة " ليكون الفقه عبارة عن العلم الحاصل عن
جماعة من الأدلة، أو اعتبر العهد في الإضافة.
وقد عرفت إن هذه الوجوه بأسرها ضعيفة، سيما الوجه الأخير المؤدي إلى
ارتكاب خلاف الظاهر بلا داع إليه ولا قرينة عليه.
وتوهم كون " التفصيلية " قرينة، يدفعه:
أنه لا يتم إلا إذا أخذت " اللام " المأخوذة فيه للعهد، وهذا أيضا يحتاج إلى
قرينة أخرى، مع أن ذلك تأويل يلتزم به لإخراج قيد من قيود الحد إلى كونه
توضيحيا مع صلاحية نهوضه للاحتراز به عن علم المقلد، مع بقاء قيد " الأدلة "
أيضا على الأصل، لإفادته الاحتراز عن الضروريات حسبما بيناه (1) نظرا إلى أن
قرائن المجاز بأسرها توضيحية، وهذا كما ترى خلاف ضابطة الحدود.
ومن الأعلام من احتمل كون قيد " التفصيلية " لإخراج الأدلة الإجمالية،
معللا بأن ثبوت الأحكام في الجملة من ضروريات الدين، فما دل على ثبوت
الأحكام إجمالا من الضرورة وغيرها، مثل عمومات الآيات والأخبار الدالة على
ثبوت التكاليف إجمالا أدلة لكن إجمالا لا تفصيلا، وهذا لا يسمى " فقها " بل الفقه
هو معرفة تلك الأحكام الإجمالية من الأدلة التفصيلية. انتهى (2).
ولا يذهب عليك ان ليس مراده بالدليل الإجمالي هنا ما هو مفروض للمقلد
بالمعنى المتقدم، بل المراد به ما يكون مدلوله أمرا مجملا مرددا بين أشياء، نظير
مجمل اللفظ المردد بين معان، ومعنى خروج الدليل الإجمالي بهذا المعنى خروج
العلم الإجمالي المستند إليه، الذي هو من لوازم الحكم المعلوم بالإجمال، فإنه لا
يسمى " فقها " في الاصطلاح، بل " الفقه " هو العلم التفصيلي المستند إلى الأدلة
التفصيلية، وهذا المطلب في نفسه صحيح لا سترة عليه، غير أن اعتبار دخول ما
ذكر ثم إخراجه بالقيد المذكور وهم، يكذبه النظر الدقيق.

(1) تقدم في التعليقة الرقم 13، الصفحة: 100. (2) قوانين الأصول: 6.
129

أما أولا: فلمنع شمول جنس الحد لمثل هذا العلم حسبما اعترف به (رحمه الله) في
غير موضع من كتابه، من دعوى ظهور لفظ " العلم " حيثما أطلق في العلم
التفصيلي.
وأما ثانيا: فلأنه على فرض اندراجه في الجنس، خارج بظهور تعلق العلم
بالأحكام في تأخره عن متعلقه طبعا، ضرورة تأخر المتعلق عن المتعلق، فيخرج
العلم الإجمالي لتقدمه طبعا على الحكم بالمعنى الذي هو متعلق للعلم التفصيلي،
بملاحظة ما تقدم إليه الإشارة من ظهور الحكم في الفعلي، المتوقف فعليته على
العلم الذي يستحيل كونه هو العلم التفصيلي المأخوذ جنسا حذرا عن تقدم الشئ
على نفسه، لاقتضاء تعلقه بالحكم بوصف كونه فعليا تأخره عنه وعن فعليته، فلا
جرم يكون ذلك علما آخر، وليس إلا العلم الإجمالي المفروض استناده إلى
الأدلة الإجمالية، فإذا كان ذلك هو العلة الموجبة لوصف الفعلية في الحكم التي
هي عبارة أخرى لتعلق الحكم بالمكلف، كان متقدما على وصف الفعلية، فيخرج
بانفهام التأخر من اعتبار تعلق الجنس بالحكم المتصف بهذا الوصف.
وأما ثالثا: فلأنه على فرض عدم خروجه بذلك أيضا يصح أن يستند خروجه
إلى قيد " الأحكام " بناء على ما رجحناه من حملها على المسائل بمعنى النسب
الخبرية المستدل عليها في الفقه، ضرورة أن الفقيه يبحث عن النسب الخبرية
المفصلة ويستدل عليها، لا عن النسب الخبرية الإجمالية.
وأما رابعا: فعلى تقدير عدم خروجها بذلك القيد أمكن إخراجها بقيد
" الشرعية " لأن الذي من شأنه أن يؤخذ من الشارع هو الأحكام المفصلة، لا
المعلومات بالإجمال باعتبار كونها مبهمة.
وأما خامسا: فعلى فرض عدم خروجه به أيضا فهو خارج بقيد " الفرعية "
بناء على تفسيرها المتقدم (1) من انتساب الحكم إلى الفرع على معنى تعلقه به.

(1) تقدم في التعليقة الرقم 7، الصفحة: 52.
130

" فالفقه " هو العلم بالحكم المتعلق بالفرع من حيث تعلقه به، والعلم الإجمالي
المتعلق بالحكم ليس تعلقه من هذه الحيثية، بل إنما يتعلق به من حيث صدوره من
الشارع، لما عرفت من أنه الذي ينشأ منه تعلق الحكم بالفرع، فلا يعقل تعلقه به من
هذه الحيثية.
وبالجملة، تعلقه بجهة صدور الحكم علة لحصول جهة التعلق له والفقه علم
يتعلق بجهة تعلق الحكم لا جهة صدوره، وهذا هو المعنى المراد من الفرعية.
وأما سادسا: فلأن هذا العلم على فرض استناده الأولي إلى الضرورة، مع
فرض كون ورود عمومات الآيات والروايات من باب التأكيد لمقتضى الضرورة،
سبيله سبيل الضروريات المخرجة بقيد " الأدلة " لعدم كون مستنده حينئذ مندرجا
في عنوان " الدليل " نعم يسقط ذلك لو جعلنا العلم الإجمالي مستندا إلى العموم
والضرورة ناشئة منه لكونه حينئذ حاصلا من الدليل.
[15] قوله: (وقد أورد على هذا الحد، أنه إن كان المراد " بالأحكام "
البعض... الخ)
ومنشأ هذا الإشكال ملاحظة ورود الجمع المحلى بحسب الإطلاقات على
معان خمس، وهي الاستغراق المدعي على كونه حقيقة فيه، الاتفاق والمعهودان
الخارجي والذهني، وجنسا الجمع والمفرد، فالسؤال عن إرادة الكل مبني على
احتمال كونه محمولا على الاستغراق، كما أن السؤال عن إرادة البعض مبني على
احتمال كونه مرادا منه إما المعهود الذهني - أي الجماعة المعهودة في الذهن الغير
المعينة في لحاظ الحد، وإن كانت معينة في لحاظ الخارج، بملاحظة أن التصديق
في تعلقه الخارجي يقتضي محلا معينا - أو جنس الجمع الصادق على القليل
والكثير من الجماعات محمولا هنا على أول مصاديقه وهو الثلاثة، أو جنس الفرد
الصالح لأن يتحقق في ضمن الواحد والكثير من الآحاد، وأما المعهود الخارجي
فلا مجال هنا إلى احتمال إرادته، للزومه المعهودية بأحد أنحائها الثلاث المنتفية
في المقام.
131

وأما ما في كلام بعض الأفاضل (1) من أن إرادة العهد الذهني مما لا وجه له في
المقام غير واضح الوجه، بل عدم جواز إرادته هنا مما لا وجه له، ولا يلزم من
ذلك تعلق التصديق بأمر مبهم حتى ينهض سندا للمنع، إذ عدم التعيين أعم مما هو
في الخارج أو في الذهن فقط، والتصديق لا يقتضي إلا التعين الخارجي، وهو لا
ينافي لأن يؤخذ في الحد الذي لحاظه لحاظ الذهن البعض الغير المعين، لعدم
الملازمة بين عدم التعين الذهني وعدم التعين الخارجي، كما في قوله (عليه السلام): " ولقد
أمر على اللئيم يسبني " (2).
وإن شئت فقل: إنه يراد من اللفظ الذات المتعينة في الخارج لا بوصف التعين.
ومن البين أن عدم اعتبار التعين في الذهن لا يستلزم انتفاءه بحسب الخارج.
وملخص الإشكال: أن الأحكام إن أريد به الكل لم تنعكس الحد لخروج أكثر
الفقهاء - إن لم نقل كلهم - لعدم تيسر الإحاطة لهم بجميع الأحكام، وإن أريد به
البعض لم يطرد لدخول المقلد الذي عرف بعض الأحكام بطريق الاستدلال، مع
أنه ليس بفقيه وعلمه ليس بفقه في الاصطلاح.
[16] قوله: (لم يطرد... الخ)
وحيث إن الحد يعتبر كونه مساويا لمحدوده بعدم كونه أخص ولا أعم منه
فيحصل بينهما الصدق الكلي من الجانبين، على معنى صدق المحدود على جميع
ما يصدق عليه الحد، وصدق الحد على جميع ما يصدق عليه المحدود، وقد جرت
العادة بالتعبير عن الكلية الأولى " بالطرد " ومن لوازمه كون الحد مانعا، وعن
الكلية الثانية " بالعكس " ومن لوازمه كون الحد جامعا، فالطرد والعكس بحسب
أصل الاصطلاح وصفان لهاتين الكليتين لا للحد، بخلاف " المنع " و " الجمع "
المعتبرين وصفين لنفس الحد، ولو فسر الطرد بكون الحد مانعا والعكس بكونه
جامعا كان تفسيرا باللازم.

(1) هداية المسترشدين: 6 (الطبعة الحجرية).
(2) مغني اللبيب: ص 102.
132

[17] قوله: (ثم إن الفقه أكثره من باب الظن، لابتنائه غالبا على ما هو
ظني الدلالة أو السند... الخ)
وهذا اشكال آخر في الحد.
وملخص تقريره: أن العلم في جنس الحد ظاهر في الاعتقاد الجازم، فيخرج
به أكثر الأحكام الفرعية لابتنائها غالبا على الأدلة الظنية، فإن الفقيه بالقياس إليها
ظان والجنس لا يشمله.
[18] قوله: (والجواب: أما عن سؤال الأحكام... الخ)
أجيب عن أول الإشكالين باختيار كل من الشقين، فتارة باختيار أولهما وهو
حمل " الأحكام " على إرادة البعض، ولا ينتقض الحد معه في طرد ولا عكس.
وملخص الجواب على هذا التقدير: أن المورد إما أن يكون ممن يجوز
التجزي في الاجتهاد أو لا، فإن كان من الثاني فلا يشمل الحد إلا المجتهد في
الكل، إذ ليس المراد بالبعض هنا البعض بشرط لا، بل البعض لا بشرط بالنظر إلى
كونه في ضمن الكل وعدمه، وهو لا يعقل بالنسبة إلى المقلد الذي جعلوه موردا
للنقض، لأنه على هذا القول أجنبي عن كونه عالما ببعض الأحكام، لاستحالة
معرفة البعض المنفك عن الكل على مذاق هذا القائل، فانحصر البعض لا بشرط
في أحد فرديه وهو البعض المندرج في ضمن الكل، والعالم بالبعض كذلك مجتهد
في الكل، فالحد على هذا القول لا يشمل إلا المجتهد في الكل، وإن كان من الأول
فيشمل الحد للعلم المفروض، ويطرد لكونه حينئذ من أفراد المحدود.
والفرق بين طرفي الترديد أن بناء الأول على أن العلم المذكور ليس من أفراد
الفقه وهو غير داخل في حده، فلم يثبت عدم اطراده.
وبناء الثاني على أنه من أفراده وهو داخل فيه، فلا يكون صدق الحد عليه مما
يوجب عدم اطراده، بل الواجب صدقه حينئذ مراعاة لانعكاسه، وأيضا في الأول
تسليم قول المورد أنه ليس بفقيه في الاصطلاح، وفي الثاني منع له.
ويشكل ذلك على مذهب المصنف في مسألة التجزي من إمكانه وعدم
اعتباره، وبعبارة أخرى: جواز التجزي عقلا وإنكار جوازه شرعا.
133

فإن الأقوال في تلك المسألة على ما ستظفر عليه أربعة:
الأول: القول بعدم إمكان التجزي.
الثاني: إمكانه وعدم اعتباره مطلقا وعليه المصنف.
والثالث: إمكانه مع اعتباره للمتجزي بالخصوص، وهو الأظهر.
والرابع: إمكانه واعتباره له ولغيره ممن يقلده، والبيان المذكور إنما يجدي في
دفع الإشكال على أحد القولين الأخيرين.
وأما على القول الثاني، فيبقى انتقاض الطرد بحاله، إلا أن يقال: بكون " الفقه "
اسما للأعم من الصحيح والفاسد كما احتمله بعضهم.
لكن يدفعه: منع ذلك بملاحظة ما مر مرارا من ظهور " الأحكام " في الفعلية.
ولا ريب أن مؤدى الاجتهاد لا يصير حكما فعليا إلا مع اعتبار الاجتهاد شرعا،
فيكون الصحة مأخوذة في مسمى " الفقه " اصطلاحا، إذ لا يراد بالصحة هنا إلا ما
يرجع إلى الاعتبار الشرعي.
واتضح بهذا البيان عدم انتقاض الطرد على مذهب المصنف أيضا، لكن لا
يخفى ما في عبارته من القصور، ولذا عدل بعض الأعلام عن بيانه إلى بيان آخر
أبسط منه (1) كما يظفر عليه من يراجع كلامه.
[19] قوله: (فبأنا نختار أولا: أن المراد البعض... الخ)
واعلم أن العلم ببعض الأحكام مفهوم كلي له أفراد أربع:
الأول: العلم بالبعض في ضمن الواحد.
الثاني: العلم بالبعض في ضمن الكثير.
الثالث: العلم بالبعض في ضمن الأكثر.
الرابع: العلم بالبعض في ضمن الكل.
ويعبر عن الرابع بالبعض بشرط شئ، وعن الأول والثاني والثالث بالبعض
بشرط لا، وعما يشمل الجميع بالبعض لا بشرط.

(1) قوانين الأصول: 9.
134

ولا ريب أن القائل بعدم إمكان التجزي يمنع إمكان حصول العلم بالبعض
بشرط لا دون البعض بشرط شئ، والقائل بإمكانه يجوز البعض بشرط لا
والبعض بشرط شئ معا، فالعلم بالبعض - الذي هو مفهوم كلي - له أفراد متعددة
موجودة بأجمعها في الخارج على القول بالإمكان، وغير موجودة فيه إلا واحد
منها على القول الآخر، فهو على مذاقه كلي منحصر في فرد واحد كواجب
الوجود.
ومن البين أن الجواب باختيار هذا الشق لا يستقيم إلا إذا اعتبر البعض المراد
من " الأحكام " لا بشرط شئ، لانتقاض الطرد لو اعتبر البعض بشرط لا والبعض
بشرط شئ.
أما على الأول فبخروج العلم بالبعض المنضم إلى الكل، وأما على الثاني
فبخروج علم المتجزي على القول بجوازه، على ما يراه المصنف من كونه من
أفراد المحدود، وعليه يجب أن يراد من " الأحكام " من المعان الخمس المتقدمة
للجمع المحلى، جنس المفرد دون غيره لما يتضح وجهه.
[20] قوله: (قولكم: لا يطرد لدخول المقلد فيه، قلنا: ممنوع، أما على
القول بعدم تجزي الاجتهاد فظاهر، إذ لا يتصور على هذا التقدير انفكاك
العلم ببعض الأحكام كذلك عن الاجتهاد، فلا يحصل للمقلد وإن بلغ من
العلم ما بلغ... الخ)
وفيه نظر: لأن مرجعه إلى أن " الأحكام " بمعنى البعض اللا بشرط وإن كان
كليا بحسب المفهوم، لكنه في نظر القائل بامتناع التجزي من باب كلي ليس له في
الخارج إلا فرد واحد، وهو البعض المنضم إلى الكل كما عرفت، فلا يكون الحد
شاملا لما فرض في السؤال، لا لأن له وجودا ولا يشمله الحد بل لأنه لا وجود له
في الخارج فالسالبة بانتفاء الموضوع، وهذا كما ترى لا يدفع السؤال إلا على
تقدير أحد الأمرين، من القول بأن هذا الحد إنما هو بالنظر إلى الأفراد وهو خلاف
ما اتفقوا عليه من أن الحدود لابد وأن تكون للماهيات بالماهيات، أو القول بأن
135

العبرة في الكلي إنما هي بفعلية الصدق على الكثيرين لا بقابلية الصدق، وهو أيضا
خلاف ما صرحوا به، وإلا لزم أن لا يكون مثل شريك الباري والعنقاء وواجب
الوجود كليا، وبعد بطلان هاتين المقدمتين يبقى السؤال على حاله، إذ البعض
اللا بشرط بعنوان إنه كلي في نظر العقل يصدق على المفروض في السؤال، وإن
كان لا وجود له فعلا في الخارج، إذ صدق الكلي على شئ إنما هو على فرض
وجوده وفرض المحال ليس بمحال.
[21] قوله: (وأما على القول بالتجزي... الخ)
واعلم: أن القائل بجواز التجزي لو كان قائلا بالملازمة بين الاجتهاد والفقه
في الوجود والعدم ليس له إرادة الاستغراق من " الأحكام " حذرا عن انتقاض
العكس بخروج ما عدا الفرد الأخير مما اندرج تحت العلم بالبعض، وهو العلم به
في ضمن الواحد أو الكثير أو الأكثر، ولا المعهود الخارجي أو الذهني، لكون
المعنى - حينئذ -: " جماعة واحدة من الأحكام " فينتقض العكس أيضا، إذ بقيد
" الجماعة " يخرج الأول من الأربع وبقيد " الوحدة " يخرج الرابع إلا أن يفرض
الجميع جماعة واحدة، ولا جنس الجمع فيخرج الأول من الأربع أيضا مع أن من
شأنه على التقدير المذكور أن يدخل في الحد، فتعين له إرادة جنس المفرد،
وما تقدم من تجويز إرادة كل من المعهود الذهني وجنسي الجمع والمفرد إنما
هو بالنظر إلى تحليل السؤال، لكونه بإطلاقه قابلا للجميع، وأما الجواب المبني
على جواز التجزي في الاجتهاد فليس قابلا له.
[22] قوله: (فالعلم المذكور داخل في الفقه... الخ)
بناء على أن " الفقه " اسم لما يعم الصحيح والفاسد، أو أن المراد بالتجزي جوازه
الشرعي الملازم للاعتبار، وعلى أي تقدير يشكل الحال بأن أقصى ما يقتضيه
القول بجواز التجزي في الاجتهاد، صدق " المجتهد " على المقلد العالم البالغ رتبة
136

الاجتهاد في البعض، وصدق " الاجتهاد " على فعله، وهو لا يستلزم صدق
" الفقيه " عليه، ولا صدق " الفقه " على علمه والمقصود في المقام تحديد الفقه
لا الاجتهاد.
وقد يوجه عدم الصدق هنا، بأن " الفقه " وغيره من أسماء العلوم ليس كالقرآن
الصادق على الكل والأبعاض، لكونه مشتركا أو وضعا للقدر المشترك بين الكل
وكل بعض، بل ألفاظ العلوم بأسرها أسام لمعظم مسائلها، أو القدر المعتد به منها
الذي يحصل معه الغرض المطلوب من تدوينها، للتبادر وصحة السلب عما دون
ذلك، فالنحو مثلا لا يصدق على مسألة ولا على أزيد ما لم يبلغ حدا يعتد به وليس
" الفقه " من هذه الجهة إلا كنظائره، فلا يصدق " الفقيه " على من يعلم مسألة أو أزيد
إلى أن يبلغ الحد المزبور، وقضية ذلك خروج الحد غير مطرد، ويجري هذا
التوجيه على القول بوضع الألفاظ للملكات، إذا قدرت الملكة بالإضافة إلى الكل
أو القدر المعتد به في حصول الغرض.
وبالجملة مبنى هذا الكلام على توهم الملازمة بين الاجتهاد والفقه، بأن يكون
كل مجتهد فقيها وكل فقيه مجتهدا، وهذا وإن كان قد ينسب إلى ظاهر المحققين
لكنه موضع منع، بل بين العنوانين عموم مطلق، والافتراق لجانب الفقه كما في
المجتهد المتجزي.
فاتضح بما ذكرنا أن الاشكال المذكور لا يندفع بشئ من تقادير إرادة
البعض من " الأحكام " وبشئ من أقوال التجزي في الاجتهاد، فيجب الاقتصار
في دفع الإشكال على اختيار الشق الآخر من شقي السؤال، وهو إرادة الكل من
" الأحكام " مع حمل الجنس على العلم الملكي.
[23] قوله: (ثم نختار ثانيا: إن المراد بها الكل - إلى قوله - قولكم:
لا ينعكس لخروج أكثر الفقهاء عنه، قلنا: ممنوع إذ المراد بالعلم بالجميع
التهيؤ له... الخ)
هذا اختيار للثاني من شقي الترديد، بناء على إرادة التهيؤ القريب من العلم،
المعبر عنه بالعلم الملكي.
137

ومن المعلوم وجود العلم بهذا المعنى لكافة الفقهاء في قاطبة الأحكام، والذي
لا يوجد لهم غالبا إنما هو العلم الفعلي بجميع الأحكام.
والمناقشة في ذلك باستلزامه لعدم ارتباط " عن أدلتها " بالعلم، من حيث إن
الملكة أمر يحصل بسبب الممارسة في الفن لا عن الأدلة التفصيلية.
يدفعها: أن المراد به حينئذ ليس هو الملكة المطلقة حسبما مر بيانه (1) بل
الملكة المضافة إلى التصديق على نحو يدخل معه الإضافة في المستعمل فيه
ويخرج عنه المضاف إليه، فالظرف يرتبط بالملكة باعتبار ما أضيفت إليه لا
باعتبار نفسها.
" فالفقه " حينئذ هو ملكة التصديق بالأحكام، الذي يحصل ذلك التصديق عن
الأدلة التفصيلية وهو ظاهر لا سترة عليه.
وقد يناقش فيه أيضا بما عن شيخنا البهائي (2) من أن التهيؤ لاستعلام جميع
الأحكام كحصول العلم بالجميع فعلا متعذر أو متعسر أيضا، لحصول التوقف
والتحير من فحول الفقهاء في كثير من المسائل ولو بعد استفراغ الوسع وبذل الجهد
وحصول قوة قوية، بحيث لا يتوقف في شئ من الأحكام بعد بذل الوسع مما لا
يتحقق في العادات.
ولا يخفى ما فيه من الوهن الواضح، فإن الملكة والتهيؤ للعلم بالجميع إنما
يعتبر من باب المقتضى بالقياس إلى جهة الفعل. ومن البين أن المقتضى قد لا
يستتبع الاقتضاء الفعلي لمصادفة فقد شرط أو وجود مانع، فوفور التوقف لفحول
العلماء في كثير من المسائل ليس لأجل ضعف المقتضي وقصوره أو عدم وجوده،
بل لأجل مصادفة وجود المانع له، وهو في موارد التوقف إما فقد الدليل أو إجماله
أو معارضة دليل آخر له، ولا ريب أنه في القوة القريبة بحيث لولا وجود هذه
الموانع لتيسر عن العلم الفعلي، فالملكة حينئذ حاصلة وإن لم يترتب عليها أثر
الفعلية لوجود أحد الموانع المذكورة.

(1) تقدم في التعليقة 4، الصفحة: 45 - 46.
(2) زبدة الأصول: 6.
138

مع أن لك أن تمنع كونها من باب المقتضي بالمعنى المرادف للسبب الأصولي،
بل الذي يساعد عليه النظر كما سنشير إليه أيضا كونها بالقياس إلى الإدراك الفعلي
من باب الشروط.
هذا، مع أنه إنما يتجه الاعتراض لو أريد من " الأحكام " خصوص الأحكام
الواقعية، وقد عرفت مرارا منعه، بل المراد منها إما الأحكام الفعلية أو الأحكام
الظاهرية، المرادفة بأحد الوجوه الآتية في دفع الإشكال الثاني للأحكام الفعلية.
ومن البين أن الفقيه له ملكة العلم بجميع الأحكام الفعلية أو الظاهرية حتى
بالقياس إلى موارد التوقف، من حيث إن التوقف إنما يحصل بالنسبة إلى الحكم
الواقعي، ومن المقرر أن المرجع حينئذ هو الأصول العملية.
وقد عرفت - كما تعرف أيضا - أن مؤديات الأصول بعد اليأس عن الدليل
أيضا أحكام فعلية أو ظاهرية، فهو بالقياس إلى تلك الموارد متهيئا لمراجعة
الأصول واستعلام الأحكام الفعلية المستندة إليها.
وقد يستشكل في المقام أيضا، بناء على أن المراد بالملكة المرادة من العلم
هي القوة التي يقتدر بها على استنباط جميع الأحكام الشرعية عن الأدلة
التفصيلية، بما يرجع محصله إلى أن الملكة بهذا المعنى محتملة لوجوه ثلاث:
أحدها: القوة التي يمكن أن يستنبط بها جميع الأحكام من الأدلة الموجودة
المتداولة.
وثانيها: القوة التي يمكن أن يستفاد بها جميع الأحكام عن الأدلة على فرض
وجودها وورودها في الشريعة على قدر الكفاية.
وثالثها: القوة التي يقتدر معها على استنباط ما يمكن استنباطه من الأحكام
عن الأدلة الموجودة، واستنباط ما لم ينهض به تلك الأدلة مما يضاهي تلك في
وجوه الإشكال وصعوبة الاستدلال، ولا سبيل إلى شئ من تلك الوجوه.
أما الأول: فلقضاء العادة بامتناع حصول قوة يستنبط معها جميع الأحكام
عن الأدلة الموجودة، ضرورة عدم وفاء تلك الأدلة بجميع الأحكام، مع أن كثيرا
منها لم يرد بيانها في الأخبار المأثورة، ولم يقم عليه شئ من سائر الأدلة.
139

وأما الثاني: فلاستلزامه تكثر أولى الملكات، لابتناء الكلام على الفرض الذي
له عرض عريض، فلو فرض أنه ورد في كل حكم من أحكام الشريعة أخبار
ظاهرة واضحة الدلالة لأدركه أكثر الأفهام، حتى كثير من العوام، سيما مع
اشتهارها وغاية وضوح أسانيدها، وهذا هو اللازم مع انتفاء صدق " الفقه " على
تلك القوة و " الفقيه " على صاحبها.
وأما الثالث: فمع ما فيه من التعسف البين، إنه أيضا مما يمتنع بحسب العادة،
لوضوح تجدد ظهور وجوه الاستدلال وطرق الاستنباط بحسب تلاحق الأفكار.
ألا ترى أن الفقيه الواحد يستنبط في أواخر عمره من الأدلة ما لم يصل إليه
فكره في الأول، فالقوة المتقدر بها على استنباط الكل بعد الاجتهاد خارج عن
مجاري العادات، وكأن مرجع ذلك إلى نقض عكس الحد بما فرضه من الفقيه
المختلف أحواله، نظرا إلى أن حصول استنباط ما لم يبلغ إليه فكره أولا في أواخر
العمر مما يكشف عن كون ذلك الحكم مما يمكن استنباطه عن تلك الأدلة من أول
الأمر، مع فقد القوة المذكورة في ذلك الحين، وإلا لم يتأخر استنباطه إلى أواخر
العمر، فاعتبار الملكة بهذا المعنى مما يوجب خروج جميع الفقهاء عن الحد.
وأنت خبير بوهن هذه المناقشة أيضا، فلك أن تختار الاحتمال الأول من
دون امتناع في حكم العادة، بعد ملاحظة أن " الأحكام " محمولة على الأحكام
الفعلية حسبما قررناه وأن الأدلة المأخوذة في الحد مراد بها ما يعم الأدلة الخاصة
الناهضة على الوقائع المخصوصة، والأدلة العامة الناهضة على ما لم يلاحظ فيه
خصوصية الواقعة من العنوان العام، المعبر عنه " بما لم يعلم حكمه بالخصوص "
كالأصول التي قررها الشارع في حق الجاهل بالحكم الواقعي المأيوس عن
الوصول إليه، إذ قد عرفت أن مؤديات الأصول العملية أيضا في مجاريها أحكام
فعلية، فتلك الأصول تجري مجرى الأدلة العامة بسبب ما في مداركها من العموم،
ومع فرض هاتين المقدمتين فأي امتناع في حكم العادة في حصول قوة يقتدر بها
على استنباط جميع الأحكام الفعلية عن الأدلة الموجودة، المفروض كونها أعم
140

من الأدلة الخاصة والعامة، كما أن لك ان تختار الاحتمال الثاني، مع منع الملازمة
المدعاة تارة، ومنع بطلان اللازم أخرى.
وتوضيحه: أن ما فرض من ورود الأخبار الظاهرة الواضحة الدلالة في كل
حكم، إن أريد به ما بلغ في الظهور والوضوح إلى حيث لم يكن الحاجة في استفادة
المطلب منها ماسة إلى إعمال النظر ولا مراعاة طرق الاستدلال، فهو مع أنه في
غاية البعد بل لا يكاد يتحقق في العادات، غير قادح في سلامة الحد بخروج من
يستفيد الحكم بهذا الطريق عن الحد، بملاحظة قيد " عن أدلتها " الظاهر في كون
العبرة في الفقيه بقوة يستتبع إدراك الأحكام بطريق النظر والاستدلال، مع توجه
المنع من شمول العلم بمعنى الملكة لمثل هذه القوة وصاحبها.
وإن أريد به ما لم يبلغ تلك المرتبة من الظهور والوضوح، على معنى توقف
استفادة المطلب عن الأخبار المفروضة على إعمال النظر ومراعاة طرق
الاستدلال، فدعوى انتقاض الطرد بما يلزم من تكثر أولى الملكات غفلة عن
معنى الملكة، التي قدمنا شرحها وكونها مرادة في المقام وهي القوة الراسخة
الناشئة عن الممارسة في الفن، والاطلاع الإجمالي على مسائله، والاشتمال على
المبادئ المتوقف حصولها على الخبرة بفنون كثيرة عمدتها العلوم العربية وعلم
أصول الفقه، والتمكن من إعمالها حين مراجعة الأدلة.
ولا ريب أن الكثير من الأفهام وقاطبة العوام فاقدون لتلك القوة، ومعه كيف
يقال باندراجهم في الحد الذي يراد من جنسه الملكة الموصوفة، ومع هذا فلو
فرض أولوا الملكات المتكثرة من بلغ قوتهم المرتبة المذكورة فلا مانع من
تكثرهم، بل ولا مانع من حصول تلك الملكة لأهل العالم بأجمعهم، لكونهم حينئذ
من أفراد المحدود، فالواجب اندراجهم في الحد لا خروجهم عنه.
والحاصل: إن المراد بالقوة في تفسير الملكة هي القوة القريبة من الفعل، الغير
الحاصلة لغير العالم الممارس في الفن، فلا وجه للنقض بتكثر أولى الملكات، لأنه
لو أريد باللازم ما يلزم بالنسبة إلى العالم الممارس في الفن فبطلان اللازم ممنوع،
141

ضرورة صدق اسم " الفقيه " بالملكة على المفروض، ولو أريد به ما يلزم بالنسبة
إلى الأعم منه ومن العامي، الذي في حكمه العالم الممارس في غير ذلك الفن
فالملازمة ممنوعة، لكونها ناشئة عن القياس مع الفارق، إذ العامي بالمعنى الأعم
فاقد للقوة المذكورة.
ولك أيضا أن تختار الاحتمال الثالث وتدفع انتقاض العكس، بأنه إنما يلزم
إذا أريد " بالإمكان " فيما يمكن استنباطه الإمكان الذاتي، الغير المنافي للامتناع
العرضي الناشئ عن ضعف القوة، وهو غير لازم بل غير ظاهر من لفظ " الإمكان "
لظهوره في الإمكان الفعلي الغير المجامع للامتناع العرضي، فعلى تقدير كونه مرادا
لا يخرج الفقيه المفروض ولا أحد من الفقهاء عن الحد، لعدم كون الحكم
المفروض حصول استنباطه في أواخر العمر مما يمكن استنباطه فعلا من أول
الأمر، لدخوله فيما يمتنع استنباطه حينئذ امتناعا عرضيا، نظرا إلى أن الإمكان
فيما يستنبط من الأحكام عن الأدلة كالملكة له مراتب مختلفة في قلة المتعلق
وكثرته، ينشأ اختلافها عن اختلاف مراتب الملكة في الضعف والقوة، فإمكان
الاستنباط في كل مرتبة إنما يلاحظ بحسب مرتبة الملكة.
ومما يناقش به في المقام عدم إمكان الجمع بين هذا الجواب عن الإشكال
الأول وما سيأتي من الأجوبة في دفع الإشكال الثاني، فإن مبنى هذه الأجوبة -
على ما ستعرف - على اعتبار العلم بمعنى الإدراك الظاهر في الفعل، ومبنى
الجواب المذكور على أخذه بمعنى القوة.
ومن البين أن الفعل والقوة متقابلان فلا يمكن اجتماعهما في محل واحد،
والمفروض أن الحد لا يسلم إلا بدفع الإشكالين معا، وهو يقضي بالجمع بين
الجوابين وهو غير ممكن كما عرفت، هذا مع ما يلزم على تقدير الجمع بين
الجوابين بالقياس إلى وجوه الجواب عن الإشكال الثاني من كون العلم في جنس
الحد مستعملا في معنييه الحقيقي والمجازي، أو في معنييه المجازيين وهو إما غير
جائز أو في غاية المرجوحية التي لا يلتزم بها في الحدود.
142

يدفعها: أن الجمع بين الجوابين قد يتصور بنحو الوصف، كأن يقال - مثلا -:
الفقه ملكة، هو الإدراك بجميع الأحكام أو بالعكس، وقد يتصور بنحو العطف، كأن
يقال: الفقه ملكة وإدراك بجميع الأحكام، وقد يتصور بنحو الإضافة، كأن يقال:
الفقه ملكة الإدراك بجميع الأحكام، ومحذور الجمع بين المتنافيين إنما يلزم لو
قرر الحد على الوجه الأول، كما إنه مع محذور الاستعمال في المعنيين إنما يلزم لو
قرر الحد على الوجه الثاني كما لا يخفى.
وأما لو قرر على الوجه الثالث فلا، ضرورة أن ملكة الإدراك مما يمكن
حصوله، ويندفع به كل من الإشكالين ولا يلزم الاستعمال في المعنيين، لعدم كون
المضاف إليه في هذا المفهوم المركب داخلا في المستعمل فيه.
نعم يلزم على هذا التقدير بالنسبة إلى بعض الأجوبة عن الإشكال الثاني سبك
المجاز في المجاز، وهو أن يستعمل اللفظ فيما يناسب مناسب الموضوع له لعلاقة
بينه وبين ذلك المناسب، لا لعلاقة بينه وبين نفس الموضوع له، كما لو حمل
" العلم " في الجواب عن الإشكال الثاني على الظن أو الاعتقاد الراجح، فإن
العلاقة بين الملكة والإدراك الفعلي إنما هي علاقة السببية، وهي إنما تتحقق
بالقياس إلى الموضوع له إذا اعتبر " العلم " بمعنى ملكة الاعتقاد الجازم.
وأما إذا اعتبر بمعنى ملكة الاعتقاد الظني أو الاعتقاد الراجح فلا، ضرورة
عدم كون الملكة بوصف هذه الإضافة سببا للاعتقاد الجازم وإنما هي سبب للظن،
والقدر المشترك بينه وبين الجزم والذي بينه وبين الجزم يحصل العلاقة فهو الظن
أو الاعتقاد الراجح، فعند إرادة ملكة أحد هذين من " العلم " لابد من العدول أولا
عن الجزم إلى أحدهما لعلاقة المشابهة في الرجحان، أو علاقة العموم
والخصوص، ثم العدول عنه إلى الملكة المضافة إليه، لعلاقة السببية، وهو كما ترى
محذور آخر يتوجه إلى من اعتبر الظن أو الاعتقاد الراجح في دفع الإشكال
الثاني، مضافا إلى ما ورد من الوجوه الواردة على هذين القولين.
ومما يناقش أيضا، أن حمل " العلم " على الملكة مبني على كون ألفاظ العلوم
143

أسامي لملكاتها، حذرا عن البينونة فيما بين المعرف والمعرف وهو خلاف
التحقيق، بل هي أسامي لنفس المسائل أو التصديق بها، وأيا ما كان فلا يجوز أخذ
جنس الحد بمعنى الملكة، وعليه يدفع الإشكال المشهور المتقدم بحمل
" الأحكام " على الاستغراق العرفي دون الحقيقي، بإرادة جملة منها يعتد بها بحيث
تكون كافية في ترتب الثمرة المطلوبة وحصول الغاية المقصودة من وضع الفن،
وهذه المناقشة يستفاد من كلام بعض الأفاضل (1) لكن يدفعها التحقيق المتقدم (2)
في أسامي العلوم ومعه لا مناص من حمل " العلم " على الملكة.
[24] قوله: (وهو أن يكون عنده ما يكفيه في استعلامه من المآخذ
والشرائط، بأن يرجع إليه فيحكم... الخ)
واعلم أن التهيؤ للعلم بالجميع عبارة أخرى لملكة العلم بالجميع بالمعنى
المتقدم، وهو الحالة النفسانية الناشئة عن الممارسة في الفن واستحضار مسائله
ومبادئه، على نحو لم يكن بينها وبين الإدراك الفعلي حالة منتظرة إلا مراجعة
المآخذ والمبادئ، وإنما تحصل تلك الحالة باجتماع جميع ما له مدخل في
الإدراك، من الشروط والعلل الناقصة التي هي بالقياس إلى العلة التامة أجزاء، إلا
الجزء الأخير منها أو ما يقرب من الجزء الأخير.
ثم إن لفظة " من " في عبارة قوله: " من المآخذ " ظاهرها كونها بيانا لكلمة
" ما " بناء على أن المراد " بالشرائط " ما يعم الملكة، وكونها صلة " ليستعلم "
احتمال يزيفه عطف " الشرائط " بملاحظة أنها لا يستعلم منها كالمآخذ، بل هي مما
يستعلم بها، وبعد في العبارة نوع تشويش يظهر وجهه بالتأمل.
[25] قوله: (وإطلاق العلم على مثل هذا التهيؤ شائع في العرف... الخ)
إشارة إلى دفع ما يناقش أيضا، من أن " العلم " بمعنى الملكة مجاز معيب
أخذه كالمشترك في الحدود.

(1) هداية المسترشدين: 8 (الطبعة الحجرية).
(2) تقدم في التعليقة الرقم 1، الصفحة: 20.
144

وحاصل الدفع: منع إطلاق هذا الكلام، فإن ذلك إنما يعيب إذا أخذ المجاز
بحيث لم يتضح معه المعنى المجازي المراد، لمنافاته ما هو الغرض الأصلي في
مقام التحديد من إيضاح حال المحدود واستعلام حقيقته.
ولا ريب أن ذلك يزول إذا أخذ المجاز مع القرينة الموضحة للمراد، و " العلم "
مما ادعى شيوع إطلاقه على الملكة - كما في العبارة - حتى أن المستفاد من
بعضهم بلوغه لكثرة الاستعمالات حد الحقيقة بالوضع الثانوي التعيني، وعلى
فرض عدم بلوغه هذا الحد فهو من المجاز المشهور لا محالة، فيكفي ما معه من
قرينة الشهرة وشيوع الاستعمال في إيضاح المعنى المراد منه، فتأمل.
ولو سلم منعه نقول: إن العلم بكون لفظ المحدود اسما للملكة ينهض قرينة
على المعنى المجازي المراد من لفظ الجنس، لكن يبقى الكلام في استعلام العلاقة
المعتبرة في هذا التجوز.
والذي يستفاد من كلامهم - وهو المصرح به في كلام بعضهم - كون التجوز هنا
لعلاقة السببية، وظاهر ذلك فرض السببية في جانب الملكة، على معنى كونها سببا
للإدراكات الفعلية الحاصلة منها، وهذا حسن إذا ثبت كون السببية - المعدودة
عندهم من العلائق - عبارة عما يعم السبب الأصولي وغيره من الشروط
والمعدات، بأن يراد منها مجرد المدخلية والتأثير في الوجود، سواء كانت
المدخلية من باب مدخلية السبب أو الشرط أو غيره من العلل الناقصة، ضرورة أن
الملكة بالقياس إلى الإدراكات الفعلية ليست سببا، بل السبب الذي هو مقتض لها
إنما هو الأدلة التفصيلية والملكة شرط. والظاهر أن ذلك هو المستفاد من أرباب
الفن، كما يرشد إليه تمثيلهم " برعينا الغيث " و " أمطرت السماء نباتا " ونحوه.
وربما سبق إلى بعض الأوهام تجويز انعكاس الفرض، بدعوى قيام السببية
بالإدراكات لا الملكة، على معنى كون الملكة مسببة عن الإدراكات وإن كانت هي
بنفسها سببا لإدراكات، فلابد من فرض إدراكات سابقة تكون الملكة مسببة عنها،
وإدراكات لاحقة تكون الملكة سببا لها، غير أنه عند التحقيق بين الفساد لاستلزامه
145

أحد الأمرين، من انتقاض عكس الحد أو كون لفظ الجنس مستعملا في معنييه
الحقيقي والمجازي، وذلك لأن " العلم " المحمول على الملكة إما يعتبر بحيث
يختص بالإدراكات اللاحقة، أو بحيث يشمل كلا من اللاحقة والسابقة، والأول
يستلزم انتقاض العكس بخروج الإدراكات السابقة، مع أنها من أفراد المحدود،
والثاني يتصور على وجهين:
أحدهما: اعتبار شموله لهما بمعنى الملكة.
وثانيهما: اعتبار شموله للإدراكات السابقة، بمعنى الإدراك الجزمي
وللإدراكات اللاحقة بمعنى الملكة، والأول خلاف الفرض لعدم كون الإدراكات
السابقة ناشئة عن الملكة، كيف ولو صح ذلك لأدى إلى الدور لو فرض كونها ناشئة
عن الملكة والمسببة عنها، أو التسلسل لو فرض كونها ناشئة عن ملكة أخرى،
والثاني يستلزم استعمال " العلم " في المعنيين الحقيقي والمجازي كما لا يخفى.
[26] قوله: (وأما عن سؤال الظني... الخ)
والحق في الجواب عن سؤال ظنية الأحكام أن يقال: أولا، بمنع عدم شمول
جنس الحد لظنيات الفقه، بعد ملاحظة حمل " العلم " على الملكة والتهيؤ القريب
حسبما مر بيانه في دفع أول الإشكالين (1) إذ لا ريب أن الظان في جميع موارد ظنه
له ملكة الاعتقاد الجازم، ولا ينافيه عدم تحقق الجزم له فعلا، لأنه إنما هو من جهة
عدم وجود الأدلة العلمية أو لوقوع الاختلال في الأدلة الموجودة، بحيث لولا
هاتان الجهتان لكان الجزم متحققا لمجرد ما له من الملكة والقوة القريبة من الفعل،
وهذا البيان من الدفع كما ترى مما يغني عن الوجوه الأخر التي يأتي إليها الإشارة.
والعجب عنهم أنهم لم يلتفتوا هنا إلى ذلك مع تعرضهم له في دفع الإشكال
الأول وهو يدفع الإشكالين معا، ولعله لأجل أن يندفع هذا الإشكال بوجوه أخر
ولو على تقدير عدم استقامة ما ذكروه في دفع الاشكال الأول، أو يندفع ذلك

(1) تقدم في التعليقة الرقم 23، الصفحة: 123.
146

ولو فرض عدم جريان ما ذكروه ثمة بجميع تقاديره هنا، بملاحظة أن أحد
تقديري الجواب المذكور ثمة - وهو حمل " الأحكام " على البعض - غير جار هنا،
ويمكن أن يكون النكتة في التفكيك بين الإشكالين بعدم إجراء الوجه المذكور في
دفع ثانيهما مع إجرائه في دفع أولهما، اعتبار الملكة بحيث يدخل في مفهومها
وجود المدرك والتمكن من استعماله، فحينئذ يكون المذكور فاقدا للملكة بهذا
المعنى، لما نبهنا عليه من عدم وجود الأدلة العلمية له مع وجود الاختلال في
الأدلة الموجودة.
وثانيا: منع توجه الإشكال على تقدير حمل " الأحكام " على الفعلية، وقد
تقدم أنها الظاهر من إطلاقها عرفا ولغة، فحينئذ يشمل الحد لجميع موارد الفقه وإن
كانت تختلف بالنظر إلى الواقع بكون بعضها مقطوعا بها، والبعض الآخر مظنونا
بها، والبعض الثالث مشكوكا فيها، لأنه في الجميع جازم إذا اعتبر فيه وصف
الفعلية بملاحظة دليله المؤلف من مقدمتين قطعيتين، المعبر عنهما " بأن هذا مؤدى
اجتهادي، وكل مؤدى اجتهادي فهو حكم الله في حقي " والمناقشة فيه: بأن
مقتضى الحد حصول العلم عن الأدلة التفصيلية وهذا دليل إجمالي.
يدفعها: ما قدمنا الإطناب في تحقيقه وتقريبه من أن استناد صغرى هذا
القياس إلى الأدلة التفصيلية - كما هو المفروض - كاف في صحة استناد النتيجة
إليها، ولا يضر فيه استناد الكبرى إلى غيرها، ويتأكد هذا البيان بملاحظة ما سبق (1)
من كون " الفقه " من جملة العلوم التي يطلب بالبحث فيها إحراز صغريات بالنظر،
تنضم إليها كبرى مسلمة مأخوذة من الخارج، فالمسائل الفرعية حينئذ هي النتائج
المستند صغريات قياساتها إلى الأدلة التفصيلية، ويجب أن يكون هذا هو المراد
بما في الحد من تعلق " الأدلة " بالعلم على ما هو الظاهر.
[27] قوله: (وما يقال - في الجواب أيضا -: من أن الظن في طريق
الحكم لا فيه نفسه، وظنية الطريق لا ينافي علمية الحكم... الخ)

(1) تقدم في التعليقة الرقم 13، الصفحة: 103.
147

والقائل به العلامة (1) تبعا لما في كتب أكثر العامة، وهذا كما ترى يرجع إلى ما
قررناه أخيرا، بناء على أن المراد بطريق الحكم هو الدليل المذكور المؤلف من
مقدمتين قطعيتين، فإن الظن في هذا الدليل إنما أخذ وسطا، لوقوعه محمول
الصغرى وموضوع الكبرى، لا أنه في نفس الحكم بأن يكون بنفسه مظنونا، بل هو
مقطوع به لقطعية مقدمتي دليله، أما الأولى فبالفرض والوجدان، وأما الثانية
فبالأدلة القاضية بوجوب التعبد بالظن بعنوان القطع، والفرق بين الاعتبارين أن
الظن على الاعتبار الأول من أجزاء القضية محمولا وموضوعا، وعلى الاعتبار
الثاني من عوارض النسبة التي هي أيضا من أجزائها، لكن المصنف ومن تبعه لم
يرض بهذا الجواب نظرا منه إلى أنه لا يرتبط إلا بمقالة المصوبة.
[28] قوله: (فضعفه ظاهر عندنا، وأما عند المصوبة القائلين بأن كل
مجتهد مصيب - كما سيأتي الكلام فيه في بحث الاجتهاد - فله وجه
... الخ)
وحاصل مراده من هذا الاعتراض مع تحرير منا: أن قولكم: ظنية الطريق لا
ينافي علمية الحكم، محتملا لوجوه ثلاث:
الأول: كون الدليل ظنيا لا ينافي كون الحاصل منه هو القطع، وهذا كما ترى
واضح البطلان ولا يتفوه به أحد، لكون النتيجة في وصفي القطع والظن تابعة
لدليلها فإن قطعيا بقطعية مقدمتيها فقطعية، وإن ظنيا بظنية إحدى مقدمتيها أو
كلتيهما فظنية، فإذا فرض الدليل ظنيا لا يعقل كون الحاصل منه هو القطع.
الثاني: أن كون الدليل ظنيا وإن استلزم كون الحاصل منه هو الظن، لكن
حصول الظن منه وتعلقه بالحكم لا ينافي تعلق القطع أيضا بمتعلقه مع كونهما في
درجة واحدة، بأن لا يكون الظن علة لشئ كالقطع، وهذا أيضا - مع كونه خلاف
الفرض حيث لم يكن الحكم مقطوعا به، وإلا لم يكن هناك إشكال - واضح
الفساد، لأدائه إلى اجتماع المتضادين في محل واحد من جهة واحدة.

(1) تهذيب الوصول إلى علم الأصول: 2.
148

الثالث: أن كون الدليل ظنيا وإن استلزم كون الحاصل منه هو الظن، لكنه
لا ينافي تعلق القطع بمتعلق الظن الحاصل منه، مع كون الظن علة لحدوث جعل
الحكم أو تعيينه.
فهذا هو المراد من العبارة المذكورة لوضوح فساد الأولين، وهو أيضا لا
يستقيم إلا على مذهب المصوبة، وهم قوم يزعمون - على ما حكي عنهم كما في
نهاية العلامة (1) - إنه ليس لله سبحانه في الوقائع قبل اجتهاد المجتهد حكم معين،
في مقابلة المخطئة وهم القائلون: بأن له تعالى في كل واقعة حكما معينا في الواقع
قبل اجتهاد المجتهد، فهذا الحكم المعين إن أدركه المجتهد كان مصيبا وله أجران،
وإن لم يدركه كان مخطئا وهو معذور في خطائه وله أجر واحد.
فظن المجتهد على مذهب المصوبة إما علة لحدوث الحكم الواقعي إن رجع
النفي في العبارة المنقولة عنهم إلى المقيد، على معنى أن لا يكون في الواقعة قبل
الاجتهاد حكم أصلا، فإذا اجتهد وأدى اجتهاده إلى شئ يصير ذلك حكمه
الواقعي بجعل الشارع له حكما في تلك الحال، كما يقتضيه بعض الحكايات لهذا
المذهب، أو علة لتعينه إن رجع النفي إلى القيد، كما يقتضيه بعض آخر من
الحكايات، وهو أن الله تعالى لعلمه القديم بعدد المجتهدين وعدد آرائهم الحاصلة
باجتهاداتهم فجعل (2) بحسب تعدد تلك الآراء أحكاما في الواقع من غير أن يعين
بعضا لبعض، فإذا اجتهد المجتهدون وأدى اجتهاد كل إلى شئ منها عينه حينئذ
حكما واقعيا في حقه، فعبارة الجواب على الاحتمال الأخير ينطبق على أحد
هذين المعنيين من مقالة المصوبة، فلا يلائم مذهب المخطئة فيكون فاسد الوضع
على هذا المذهب.

(1) نهاية الوصول إلى علم الأصول: الورقة 217 (مخطوط).
(2) كذا في الأصل.
149

[29] قوله: (وكأنه لهم، وتبعهم فيه من لا يوافقهم على هذا الأصل،
غفلة عن حقيقة الحال... الخ)
وفيه منع واضح، بناء على ما وجهناه على الوجه الصحيح.
وأما التوجيه الآخر المنطبق على مقالة المصوبة، فإنما يستقيم بعد إحراز
مقدمتين ممنوعتين:
إحداهما: كون المراد " بالحكم " المذكور في العبارة المذكورة هو الحكم
الواقعي وقد عرفت منعها، لظهور الحكم في الفعلي الذي هو أعم من الواقعي
والظاهري.
وأخراهما: كون المراد بظنية الطريق كون الدليل مفيدا للظن، وهو أيضا
ممنوع بما أشرنا إليه: من أن المراد به كون الظن مأخوذا في الطريق من باب
الوسطية، كما صرح به جماعة من فحول الأصولية من العامة والخاصة، كالسيدين
العميدي والجرجاني في شرحيهما للتهذيب، وشارح المختصر في بيانه، وشارح
المنهاج في نهاية المرام، وهو ظاهر الآخرين.
وقد يدفع الاعتراض أيضا، بحمل العبارة على إرادة أن الظن في طريق
الحكم الواقعي، وظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم الظاهري، ومحصله: حمل
" الحكم " في الفقرة الأولى على الواقعي وفي الفقرة الثانية على الظاهري فلا
تصويب، لأن إثبات الحكم الظاهري القابل للتعدد باتفاق المخطئة من خواص
غير المصوبة.
وفيه من التفكيك الذي ينافيه ظاهر سوق العبارة ما لا يخفى، مع ابتنائه على
تسليم المقدمة الثانية مما تقدم إليها الإشارة التي قد عرفت منعها.
ثم إنهم أجابوا عن أصل الإشكال بوجوه أخر غير سديدة، مع رجوع بعضها
إلى ما قررناه أخيرا بنحو من الاعتبار.
150

أولها: التصرف في لفظ " العلم " بحمله على الظن - كما صنعه شيخنا البهائي (1)
- ولعله لتوهم الترادف بين " الفقه " و " الاجتهاد " المأخوذ في مفهومه الاصطلاحي
- على ما سيعلم في محله - الظن بالحكم الشرعي، وهذا مع إنه توهم فاسد مما
يدفعه:
أولا: ما سمعت سابقا من أن حمل " العلم " على الظن مما لا مسوغ له من
العرف واللغة، وتنزيله على مصطلح أهل الميزان تكلف بعيد.
وثانيا: أنه وإن كان مجديا في حفظ الحد بالنظر إلى ظنيات الفقه، لكنه يقضي
بانتقاض عكسه بالقياس إلى قطعياته، بل شكياته التي يرجع فيها إلى الأصول
العامة المقررة للشاك، إلا أن يدفع ذلك بدعوى: أن هذا الحد منزل على الغالب
وغير الظنيات نادر، والنادر في حكم المعدوم فلا يضر خروجه أو بالتزام خروج
ما ذكر عن المحدود فيجب خروجه عن الحد أيضا.
والكل تعسف لا يصغى إليه بل مقطوع بفساده، فإن الأول إنما يستقيم إذا كان
النظر في التحديد إلى الأفراد فحينئذ أمكن مراعاة ما هو الغالب وعدم الالتفات
إلى النادر، وهو على خلاف القاعدة المقررة المتقدم إليها الإشارة عند دفع أول
الإشكالين، من أن التحديد إنما هو باعتبار الماهية من غير نظر إلى الأفراد، فلا
يتفاوت الحال حينئذ بين الغالب والنادر، فيكون خروج كل مضرا.
والثاني خلاف طريقة القوم وتصريحاتهم، فإن المعتبر في في الفقه بل العلوم
بأسرها إعمال النظر في مسائلها. ومن المعلوم أن النظر قد يوصل إلى العلم
بالمسألة، وقد يوصل إلى الظن بها، وقد لا يوصل إلى شئ، ونحن نقطع أيضا أن
الرجل يصدق عليه " الفقيه " في موارد قطعه وفي مجاري الأصول أيضا، بل لو
فرض اتفاق القطع له في جميع المسائل على خلاف العادة كان فقيها وعلمه فقها،
ودعوى المرادفة بينه وبين الاجتهاد ممنوعة على مدعيها.

(1) زبدة الأصول: 6.
151

نعم لو كان المراد من القطعيات ما يستند القطع فيها إلى الأسباب الضرورية
كضروريات الدين أو المذهب - في وجه تقدم ذكره (1) - كان لالتزام خروجها
وجه، غير أن الإشكال بالقياس إلى القطعيات النظرية بحاله.
وثالثا: أن أخذ جنس الحد ظنا مما يفسد به الحد رأسا، إذ لا ينبغي أن يراد به
الظن بشرط عدم الحجية لضرورة أن من لا حجية في ظنه لا يسمى " فقيها " في
الاصطلاح وإن بلغ في الفضل والعلم إلى ما بلغ، ولا الظن لا بشرط الحجية
وعدمها لأنه أيضا في ضمن أحد فرديه خارج عن مسمى الفقه، فالواجب حينئذ
إرادة الظن بشرط الحجية، وعليه فإما أن يراد بالحجية ما يستلزم كون المظنون
حكما واقعيا فيراد " بالأحكام " الواقعية منها، أو ما يستلزم كونه حكما فعليا أعم
من الواقعي وغيره فيراد " بالأحكام " الفعلية منها، فالفقه حينئذ إما عبارة عن الظن
بأمور المستلزم لكونها بأسرها أحكاما واقعية، أو عن الظن بها المستلزم لكونها
بأسرها أحكاما فعلية، وإن كان فيها ما يكون حكما واقعيا أيضا، ولا سبيل إلى
شئ منهما.
أما الأول: فلوضوح ارتباطه بالتصويب الذي من أصله فاسد، مع قضائه بعدم
سلامة الحد في جميع المذاهب وهو خلاف المقصود.
وأما الثاني: فلأن الظن المستلزم لفعلية الأحكام، مأخوذ في وسط دليل
الأحكام الفعلية، فلا يعقل أخذه من عوارض النتائج التي هي المسائل الفقهية،
والمقصود من جنس الحد ما يكون من عوارض المسائل هذا.
ومع الغض عن جميع ما ذكر نقول: هذا تجوز في الحد لا داعي إلى ارتكابه
مع إمكان ما لا يستلزمه.
ومنها (2): التصرف في " العلم " أيضا، بحمله على الاعتقاد الراجح - كما صنعه
المصنف - وهو مجاز شائع فلا بأس بأخذه في الحدود.

(1) تقدم في التعليقة الرقم 13، الصفحة: 101.
(2) عطف على قوله سابقا: أولها: التصرف في لفظ " العلم " بحمله على الظن.
152

وفيه: مع أن المجاز مع إمكان ما لا يستلزمه مما لا معنى للمصير إليه، مع
قضائه بانتقاض العكس بخروج الشكيات التي يرجع فيها إلى الأصول وهو فقيه
بالنسبة إليها جزما، ولا يمكن اندراجها في أحد فردي هذا المعنى وهو الجزم،
لأنها أحكام معلومة في مرحلة الظاهر، لأن مبنى الإشكال على أخذ " الأحكام "
بمعنى الواقعية والتزام التصرف في " العلم " لدفعه تقريرا للحمل على هذا المعنى
إنه يرد عليه باعتبار الفرد الآخر من هذا المعنى - وهو الظن - ما ورد على سابقه،
على تقدير أن يراد من الظن ما هو ملزوم الحجية، على معنى ما يستلزم صيرورة
متعلقه أحكاما واقعية أو صيرورته أحكاما فعلية، فإن الأول تصويب والثاني أخذ
للوسط عارضا للنسبة في النتيجة.
ومنها: ما صنعه غير واحد من اعتبار وجوب العمل، الذي اضطربت الأفهام
في توجيهه، فقد يحتمل كون المراد اعتباره في مفهوم " الأحكام " بأن يراد منها ما
يجب العمل به، فيكون حاصل معنى الحد: إن " الفقه " هو العلم بالأحكام على أنها
ما يجب العمل بها لا على أنها أحكام واقعية، فإن الشئ قد يجتمع فيه حيثيتان،
كونه ظنيا باعتبار إحداهما لا ينافي كونه علميا باعتبار الأخرى، كما يظهر
بالتأمل.
وقد يقال: إن المراد اعتباره من باب الإضمار، فالفقه: هو العلم بوجوب العمل
بالأحكام.
والمستفاد من بعض الأعلام (1) تارة: اعتباره علاقة للتجوز في لفظ " العلم "
بإرادة الظن، إذ " العلم " كما أن معناه الحقيقي مما يجب العمل به، فكذلك معناه
المجازي الذي هو الظن، فهو استعارة له بتلك العلاقة، كما أنه على المذهب المتقدم
من حمله على الظن استعارة له بعلاقة رجحان الحصول، وأخرى: اعتباره في
مفهوم " العلم " بأن يراد منه ما يجب العمل به، ولعله راجع إلى سابقه بكون

(1) وهو المحقق القمي (رحمه الله) في بعض حواشيه على القوانين 8: 1 في ذيل قوله: ومنها أن المراد
به وجوب العمل... الخ.
153

الموصول كناية عن الظن الموصوف بما يصلح علاقة للتجوز، ويحتمل كونه أعم
منه بإرادة ما يعم المعنى الحقيقي والظن، لاشتراكهما في الوصف الصالح علاقة.
وربما يحتمل كون وجوب العمل بنفسه مرادا من " العلم " ليكون الفقه عبارة
عن وجوب العمل بالأحكام، بناء على فرض مقدمتين، كون المبحوث عنه في
المسائل الفقهية وجوب العمل بالأحكام المفصلة، وكون لفظ " الفقه " اسما لنفس
المسائل.
والصحيح من هذه الوجوه هو الوجه الأول، ودونه الوجه الثاني، فإن
مظنونات الفقيه - التي حصل له العلم بها على أنها مظنونات عن الأدلة التفصيلية،
نظرا إلى أن الظن بالشئ يستلزم العلم بكون ذلك الشئ مظنونا، فالظن به ملزوم
له، واستناده إلى الأدلة التفصيلية يقضي باستناد لازمه إليها - كما أنها تتصف
بكونها أحكاما فعلية فكذلك تتصف بوجوب العمل بها.
غاية الأمر أن هذا الوصف لازم لوصف الفعلية، فيكون التفسير به في الحد
دون الفعلية من باب التفسير باللازم، والذي أوجب العدول عنه إلى ما اخترناه من
حملها على الفعلية كونه عدولا عن الظاهر إلى خلافه، لما بيناه من ظهور الحكم
في الملزوم، وإلا فالفقيه بعد الفراغ عن إثبات كون مظنوناته أحكاما فعلية يجب
العمل بها، طالب عند رجوعه إلى الأدلة التفصيلية للعلم بتلك المظنونات على أنها
أحكام فعلية يلزمها وجوب العمل بها، غير أن الظاهر من لفظ " الحكم " ما يعتبر
فيه الفعلية وإن لزمه وجوب العمل دون ما يعتبر فيه وجوب العمل، وكذلك الداعي
إلى العدول عن التزام الإضمار كونه عدولا عما لا يستلزمه، وهو الظاهر إلى
خلافه، فإن الظاهر لا يعدل عنه في غير موضع العذر.
وأما الوجه الثاني، فيدفعه: أن الظن مما لا مسوغ له بحسب العرف واللغة، ولو
سلم فوجوب العمل غير صالح لكونه علاقة، بناء على أن المعتبر فيها ما يتداوله
أهل العرف ولا معرفة لهم بأحكام الشرع ووجوب العمل حكم شرعي، ولو سلم
فهو مخرج للقطعيات والشكيات التي لا ينبغي خروجها على ما عرفت.
154

ولو سلم فالظن الذي يعتبر فيه وجوب العمل لابد وأن يكون حجة، إما بمعنى
ما هو ملزوم لصيرورة متعلقه حكما واقعيا فيلزم التصويب، أو حكما فعليا
فيستحيل أخذه في الجنس، لأن الظن بهذا الاعتبار مأخوذ في وسط دليل الحكم
الفعلي، فلا يعقل كونه مطلوبا من استدلالات المسائل التي هي نتائج هذا الدليل،
ضرورة أن الوسط ملزوم للأكبر وملزوم الشئ لا يصلح عارضا له، والمفروض أن
جنس الحد لابد وأن ينحل إلى ما يؤخذ في نتائج الفن ويتعلق بالنسب المأخوذة
في تلك النتائج، ولو سلم فالتجوز غير لازم الارتكاب بعد إمكان الحقيقة.
أما الوجه الرابع (1): فمرجعه إلى سابقه إن اعتبر الموصول كناية عن الظن،
فيدفعه ما تقدم، وإلا فيرجع إلى ما سبق عن المصنف من حمل " العلم " على مطلق
الاعتقاد، وإن حصل الفرق بينهما بالاعتبار من جهة تفاوت العلاقة المعتبرة، لأنه
على ما سبق مجاز مرسل بعلاقة العموم والخصوص، وعلى ذلك استعارة بعلاقة
وجوب العمل، فيرد عليه أكثر ما ورد على سابقه.
وأما الوجه الخامس (2) فيدفعه:
أولا: منع كون مسمى ألفاظ العلوم نفس المسائل.
وثانيا: منع كون المطلوب بالبحث في المسائل الفرعية وجوب العمل
بالمظنون، بل المطلوب هو الحكم الفعلي المستلزم لوجوب العمل.
وتوضيحه: أن الفقيه إذا ظن بملاحظة قوله تعالى: (أقيموا الصلاة) (3)
بوجوب الصلاة، ينتظم عنده قياس بتلك الصورة: " الصلاة ما ظننت بوجوبه،
وكلما ظننت بوجوبه فهو واجب فعلا " والوجوب المأخوذ في نتيجة هذا القياس
حكم فعلي، ووجوب العمل ليس بعينه وإنما هو لازمه شرعا، والمبحوث عنه
في الفقه هو الملزوم لا اللازم، فلا وجه لأن يؤخذ جنسه ما هو من قبيل اللازم،

(1) كذا في الأصل.
(2) كذا في الأصل.
(3) الأنعام: 72.
155

إلا أن يعتذر بكونه لمراعاة التعريف باللازم، غير انه لا يجدي إذا كان الحد بنفسه
ظاهرا في الملزوم.
ومنها: ما صنعه بعضهم أيضا، من اعتبار مدلول الدليل الذي اضطربت
العبارات المتكفلة لبيانه أيضا، والمتحصل منها مع تحرير منا وجوه:
الأول: كونه عنوانا يعتبر في " الأحكام " ليكون الفقه عبارة عن العلم
بالأحكام على أنها مداليل للأدلة، فإنها بهذه الحيثية معلومة وإن كانت من حيث
كونها أحكاما واقعية مظنونة، فإن الشئ قد يجتمع فيه جهات وحيثيات تكون
بعضها معلوم النسبة إليه وبعضها الآخر مظنونها وبعضها الثالث مشكوكها وبعضها
الرابع موهومها، فكونه في بعضها مظنونا أو مشكوكا أو موهوما لا ينافي كونه
معلوما في بعضها الآخر، فكون مظنونات المجتهد من حيث إنها أحكام واقعية
مظنونة بالفرض لا ينافي كونها من حيث إنها مداليل الأدلة معلومة.
الثاني: اعتباره في الحد من باب الإضمار.
الثالث: اعتباره علاقة للتجوز في " العلم " بإرادة الظن منه استعارة، بمشابهة
كونه كالعلم مدلولا للدليل.
ولا يخفى ضعف هذا الاعتبار بجميع وجوهه.
أما الوجه الأول: فلوضوح أن منظور الفقيه في المسائل الفقهية ليس استعلام
ما هو مدلول الدليل، بل منظوره استعلام أحكامه الفعلية وإن لزمها كونها مداليل
الأدلة، غير أنه فرق واضح بين كون شئ هو الجهة المبحوث عنها في الفن وكونه
من لوازم تلك الجهة، فإن لازم الشئ قد لا يكون من قبيل المقاصد. ومن البين
اختلاف العناوين باختلاف حيثياتها، وهذا بعينه ينهض وجها لضعف الوجه
الثاني.
وأما الوجه الثالث: فيظهر وجه ضعفه بملاحظة ما سبق (1) مضافا إلى أن كون
شئ مدلولا للدليل لا يصلح علاقة للتجوز.

(1) تقدم في نفس التعليقة، الصفحة: 136.
156

ولو سلم، فهو ليس بموجود في المقام، ضرورة أن العلم والظن ليسا من قبيل
المداليل، بل المدلول هو المعلوم والمظنون.
ومنها: حمل " الأحكام " على الظاهرية - كما صنعه غير واحد من أجلة
المعاصرين (1) - بناء على أن الإشكال إنما توجه لتوهم كون " الأحكام " مرادا بها
الواقعية، وهي الأحكام المجعولة في الوقائع بعناوينها الخاصة على طبق الصفات
الكامنة فيها معلقة على عدم مصادفة المانع من جهل المكلف ونحوه، ولعله عند
التحقيق يرجع إلى ما اخترناه وإن كان لا يخلو عن نوع إجمال، وبيانه: أن الحكم
الظاهري في لسان الفقهاء والأصوليين يرد لمعان:
أحدها: ما جوزه الشارع وجعله في حال الاضطرار، كالأحكام المبتنية على
التقية وغيرها من جهات الاضطرار، وقد يعبر عنه " بالواقعي الثانوي " قبالا
" للواقعي الأولي " المفسر بما يختص بالمكلف الجامع لجهات الاختيار، فمقابله
ما يختص بالمكلف الغير الجامع لجهات الاختيار بطرو الاضطرار لبعض جهاته.
وثانيها: مظنونات المجتهد حال انسداد باب العلم، فإنها - بناء على الظن
المطلق - أحكام ظاهرية، وهذا أعم من وجه من الحكم الواقعي، كما أن الأول
مبائن له، والوجه واضح بعد ملاحظة أن الحكم الواقعي قد يصادفه العلم، والظن
قد يصادف الحكم الواقعي وقد لا يصادفه، فالأول افتراق الواقعي والأخير
افتراق الظاهري والأوسط مورد اجتماعهما.
وثالثها: مؤديات الأصول العملية من أصل البراءة والاستصحاب وأصل
الشغل ونحوه، فإنها أيضا أحكام ظاهرية بينها وبين الأحكام الواقعية عموم مطلق
كما لا يخفى.
ورابعها: مؤديات الأمارات التعبدية الصرفة المعمولة في الأحكام، كخبر
الواحد ومنقول الإجماع ونحوهما على القول بها من باب الظن الخاص، أو في

(1) ضوابط الأصول: 5.
157

الموضوعات الخارجية كالبينة واليد وسوق المسلم وما أشبه ذلك، فإنها أيضا
أحكام ظاهرية عندهم.
وخامسها: ما يعم المعاني الأربع المذكورة، أعني الأمور التي يجب بناء العمل
عليها فعلا، ولا ريب أن ذلك مفهوم يعم جميع المذكورات.
والظاهر أن من يحمل " الأحكام " على الظاهرية لا يريد منها أحد الأربع
الأول، لاستلزامه انتقاض العكس بخروج ما سوى المحمول عليه وهو في صدد
دفع هذا المحذور، فإذا كان مراده المعنى الأخير يندفع به الإشكال بحذافيره، إلا
أن مرجعه إلى ما اخترناه لأن الحكم الظاهري بهذا المعنى عبارة أخرى للحكم
الفعلي، وإنما عدلنا عن الحمل عليه لكونه بملاحظة ما ذكرناه من إطلاقه على
المعاني المتعددة كالمنقول بالاشتراك فلا يناسب أخذه الحد.
ومنها: حمل " الأحكام " على ما يعم الظاهرية والواقعية - كما صنعه بعض
الأعلام (1) - وإنما دعاه إلى ذلك جعل الحد بحيث يتناول القطعيات وغيرها، فإن
الأحكام الواقعية من هذا المعنى عبارة عن قطعيات الفقيه، كما أن الأحكام
الظاهرية من فرديه عبارة عن غير القطعيات.
وفيه: أولا منع الملازمة بين القطع بالشئ وكون المقطوع به حكما واقعيا،
لكثرة ما يقع فيها من الخطأ، فالحكم الواقعي الذي أحد فردي هذا المعنى لا يشمل
جميع القطعيات إلا أن يقال: باندراج ما عدا الواقعي منها في الفرد الآخر.
وثانيا: منع الحاجة إلى هذا التكلف، بل الحمل على خصوص الأحكام
الظاهرية بالمعنى الأخير كاف في شمول جميع القطعيات وغيرها، وذلك لأن
الأدلة التي يستعملها الفقيه عند الاستنباط لا تخلو عن أنواع أربع:
الأول: ما يكون دليليته واعتباره منوطا بإفادته القطع كالإجماع والعقل.
تعريف أصول الفقه
والثاني: ما يكون دليليته منوطة بإفادته الظن كالأمارات على الظن المطلق.

(1) قوانين الأصول 6: 1.
158

والثالث: ما يكون دليليته لمجرد التعبد، كخبر الواحد وغيره على الظن
[الخاص] (1).
والرابع: ما يكون دليليته منوطة بعدم ورود دليل من أحد الأنواع المذكورة
على الخلاف، كالأصول العملية.
ولا ريب إن المستنبط في الرجوع إلى جميع تلك الأنواع لا يحرز إلا صغرى،
وهي بمجردها لا تقضي بكون مفاد الدليل حكما في حقه إلا إذا انضم إليها الكبرى
المحرزة في الخارج، طلبا للنتيجة التي هي الحكم المجعول في حقه، وهذا كما
ترى هو الحكم الفعلي بمذاقنا، والحكم الظاهري بمذاق من تقدم، فالحكم
الظاهري بهذا المعنى يشمل الأحكام المستفادة من الأدلة القطعية أيضا، إلا أن
يدفع أول الإشكالين بأن الغير الواقعي من القطعيات وإن خرج عن أحد فردي
الأحكام بهذا المعنى، لكنه يدخل في الفرد الآخر وهو الظاهري منهما، وثاني
الإشكالين بأن المراد بالأعم من الواقعي والظاهري القدر المشترك بينهما الجامع
لهما، وهو ما يجب بناء العمل عليها، فيرجع محصله حينئذ إلى الحمل على إرادة
الأحكام الفعلية، ومعه فلا مخالفة.
هذا كله فيما يتعلق بمركب " أصول الفقه " باعتبار جزئيه الماديين المضاف
والمضاف إليه. وأما ما يتعلق به باعتبار جزئه الصوري ومعناه العلمي، فالكلام فيه
يقع في مقامين:
المقام الأول: واعلم أن " الأصول " من هذا المركب إن أخذ بأحد معانيه
اللغوية المتقدم (2) ذكرها المبتنى عليه، والمحتاج إليه، والمستند إليه، والمنشأ، وما
منه الشئ، ومن معانيه الاصطلاحية بمعنى الدليل أو الراجح أو الاستصحاب
كانت الإضافة بينه وبين " الفقه " لامية، سواء أخذ " الفقه " بمعنى المسائل أو
التصديق بها أو ملكة التصديق بها، وإن أخذ بمعنى القاعدة أمكن جعلها بيانية، بناء
على أخذ " الفقه " بمعنى المسائل.

(1) زيادة تقتضيها السياق.
(2) تقدم في التعليقة الرقم 1، الصفحة: 25.
159

وأما على أخذه بمعنى التصديق بالمسائل أو ملكة التصديق بها فالمتعين
أيضا كونها لامية.
والضابط أن المضاف بعد ملاحظة استحالة إضافة المساوي إلى مثله
والأخص إلى الأعم لابد وأن يكون أعم مطلقا أو من وجه من المضاف إليه، ولو
باعتبار الوجود والتحقق دون الحمل والصدق، لئلا ينتقض بمثل " غلام زيد " و
" ضرب اليوم " فإن كان عمومه بأحد الوجهين باعتبار الوجود والتحقق كانت
الإضافة معه ظرفية، بمعنى " في " إن كان المضاف إليه ظرفا له، ولامية إن لم يكن
ظرفا له، وإن كان باعتبار الحمل والصدق كانت الإضافة بيانية، لنهوضه بيانا عن
كون المراد بلفظ المضاف ما هو عين المضاف إليه إن كان أخص منه مطلقا، أو
خصوص مادة اجتماعه معه إن كان أخص منه من وجه.
وهذا هو المستفاد من تتبع موارد الإضافة، ويشهد به الذوق والسليقة، وعليه
فالإضافة في مثل " يوم الأحد " و " علم الفقه " و " شجر الأراك " بيانية إن أخذ
" الفقه " بمعنى التصديق بالمسائل، أو بمعنى الملكة مع حمل " العلم " عليها أيضا،
لا أنها لامية كما توهم ليحتاج في إصلاحها إلى تكلف أن يقال: بأنه لا يلزم فيما
هو بمعنى اللام أن يصح التصريح بها بل يكفي فيه إفادة الاختصاص الذي هو
مدلول " اللام " فقولك: " يوم الأحد " و " علم الفقه " و " شجر الأراك " بمعنى
" اللام " ولا يصح إظهار " اللام " فيها كما ارتكبه بعض النحاة.
ومما ذكر يظهر أن ما ذكره ذلك البعض في ضابط الأقسام الثلاث، من أن
المضاف إليه إما مبائن للمضاف، وحينئذ إن كان ظرفا له فالإضافة بمعنى " في "
وإلا فهي بمعنى " اللام " وإما مساو له أو أعم مطلقا فالإضافة على التقديرين
ممتنعة، وإما أخص مطلقا " كيوم الأحد " و " علم الفقه " و " شجر الأراك "
فالإضافة حينئذ أيضا بمعنى " اللام " وإما أخص من وجه، فإن كان المضاف إليه
أصلا للمضاف فالإضافة بمعنى " من " وإلا فهي أيضا بمعنى " اللام " فإضافة خاتم
إلى فضة بيانية، وإضافة فضة إلى خاتم بمعنى " اللام " كما يقال: فضة خاتمك خير
من فضة خاتمي، ليس بسديد جدا.
160

ثم المستفاد من كلماتهم بل المصرح به في عباراتهم أن هذا المركب اصطلاح
لهم في هذا العلم المخصوص، المعدود من مبادئ الفقه وشرائط الاجتهاد، وهل
بناء هذا الاصطلاح حيثما يجري اللفظ على لسانهم بالقياس إلى هذا العلم على
إطلاق الكلي على الفرد، أو على النقل، وعليه فهل المسمى المنقول إليه أعتبر
بحيث اخذ معه المعنى الإضافي المنقول منه وصفا له، على معنى اعتبار النقل إليه
موصوفا بوصف كونه ما يبتنى عليه الفقه، أو يحتاج إليه أو يستند إليه أو نحو ذلك،
أو اعتبر معرى عن هذا الوصف، وإن كان ملحوظا حين النقل اعتبارا للمناسبة غير
إنه لم يؤخذ جزءا للمسمى، على معنى اعتبار النقل إليه من حيث إنه مجموع عدة
مسائل يجمعها أمر واحد أو أمور متعددة، أو من حيث إنه التصديق بهذه المسائل،
أو من حيث إنه ملكة التصديق بها على الوجوه الثلاث المتقدمة وجوه.
من أصالة عدم النقل، ومن أن الأصل فيه - على فرض ثبوته - كونه نقلا من
الكلي إلى الفرد، ومن أصالة عدم اعتبار ما زاد على ذات العلم في الوضع.
ويندفع الأول: بتصريح جماعة من أساطين أهل الاصطلاح من الخاصة
والعامة بطرو النقل فيه، كما يومئ إليه أيضا اتفاقهم على التعرض لبيان المعنى
العلمي لهذا اللفظ بعد التعرض لبيان معناه الإضافي، ولا ينافيه ما في كلام بعضهم
من كون نفس الإضافة في هذا اللفظ تعريفا لهذا العلم كما سنشير إليه، لما وجهناه
في مفتتح الباب وستقف على زيادة بيان في ذلك، كما أنه مع الثاني يندفعان بأن
ملاحظة المعنى الوصفي الإضافي غير معهودة منهم في شئ من موارد إطلاق هذا
اللفظ، بل المتبادر منه حيثما تطلق ذات الموصوف المعراة عن الوصف.
فما حكاه بعض الأفاضل (1) من القول بكون معناه التركيبي مأخوذا في معناه
الاصطلاحي، بأن يكون قد خصص معناه التركيبي ببعض مصاديقه وقد زيد تلك
الخصوصية في معناه الإضافي بالوضع الطاري عليه من جهة التخصيص أو

(1) هداية المسترشدين: 11.
161

التخصص، كما قد يقال ذلك في لفظ " ابن عباس " وغيره فإن تعيين " ابن عباس "
في " عبد الله " لا ينافي أن يكون كل من لفظي " ابن " و " عباس " وغيره مستعملا
في معناه الحقيقي، إذا كان التخصيص المذكور حاصلا من جهة غلبة إطلاق ذلك
المركب على خصوص ذلك الفرد، وقد تعين ذلك اللفظ بملاحظة معناه التركيبي
لخصوص ذلك الفرد، ويجري ذلك في لفظ " الرحمن " بعد اختصاصه لله تعالى من
جهة الوضع الطاري، فإن معناه الوصفي ملحوظا فيه أيضا وليس اسما لنفس
الذات، فالقول بمثل ذلك في " أصول الفقه " غير بعيد أيضا، وحينئذ فلابد من
ملاحظة معناه التركيبي في معناه العلمي أيضا، مما لا يصغى إليه.
وبما ذكر يظهر ضعف ما ادعى من كون لفظ " الأصول " حين إضافته إلى
" الفقه " علما لهذا العلم على وجه يكون التقييد داخلا والقيد خارجا.
واستظهره بعض الأفاضل (1) من صاحب الوافية، وجعله مما قد يشير إليه
ظاهر الإطلاقات، وعلله بأنه لا يبعد كون معنى " الفقه " مقصودا في استعمالات
" أصول الفقه " فإن ذلك أيضا مما يكذبه التبادر المقطوع به المتقدم ذكره، بل ظاهر
الإطلاقات يأبى عن ملاحظة معنى " الفقه " حين الإطلاق، كيف وهو مبني على
كون المعنى التركيبي الإضافي مأخوذا مع المسمى العلمي، وقد عرفت منعه.
وبالتأمل في ذلك يظهر فائدة الفرق بين الوجهين الأخيرين، فإن ثاني هذين
الوجهين يستدعي كون المنقول هو مجموع هذا اللفظ المركب المستلزم لعدم إرادة
شئ من معنيي الجزئين عند الإطلاق كما هو كذلك حسبما بيناه، بخلاف أولهما
فإن ذلك لا يستقيم إلا مع اختصاص النقل الطاري بالجزء الأول من المركب مقيدا
مع خروج القيد، المستلزم لبقائه على معناه الأصلي.
وبذلك يظهر الفرق بينهما من وجه آخر باعتبار المعنى، وهو أن المنقول إليه
على أول الوجهين ما هو من أفراد المبتنى عليه الكلي، باعتبار أنه الذات التي
يبتنى عليها غيرها.

(1) المصدر السابق.
162

وعلى ثانيهما ما هو من أفراد جزء هذا المعنى الكلي، وهو الذات المخصوصة
المعراة عن وصف الابتناء عليه، التي هي نفس المسائل أو التصديق بها أو ملكة
التصديق بها كما هو واضح.
ثم ينبغي أن يعلم أنه على أول الوجوه المذكورة وكذا على ثانيهما لا يجوز
أخذ " الأصول " من هذا المركب بمعنى الراجح، ولا بمعنى الاستصحاب كما هو
واضح، ولا بمعنى الدليل لعدم كون هذا العلم عبارة عن ذات الأدلة، بل هو باحث
عن أحوال الأدلة وعوارضها الذاتية.
ومن البين عدم شمول " الأصول " بمعنى الأدلة لأحوالها والمسائل المتعلقة
بها، وأما القواعد فيمكن أخذه بمعناها، على تقدير حمل " الفقه " على التصديق أو
الملكة كما لا يخفى.
ومن الفضلاء (1) من جوز ذلك تعليلا بأن مسائل هذا العلم قواعد للفقه، بعدما
قال: بأنه لم يقف على من يذكره، لكنك خبير بأن ذلك إنما يستقيم إذا كان " أصول
الفقه " باعتبار معناه العلمي اسما لنفس المسائل وهو خلاف التحقيق، فمورد
الإطلاق حينئذ لابد وأن يؤخذ بمعنى ملكة التصديق بهذه المسائل، وعليه فلا
يمكن أخذ " الأصول " بمعنى القواعد في إطلاقه عليها بأحد الوجهين المذكورين،
من كونه من باب إطلاق الكلي على الفرد، أو من باب النقل إلى ما اعتبر معه
المعنى التركيبي الإضافي.
فالمتعين حينئذ أخذ " الأصول " بمعناه اللغوي وهو المبتنى عليه بالخصوص،
دون غيره من المعاني المتقدم ذكرها، لما عرفت في مفتتح الباب.
فإن ملكة هذه المسائل أيضا مما يبتنى عليه الفقه، كما إن المسائل بأنفسها
والتصديق بها أيضا مما يبتنى عليه الفقه " فأصول الفقه " بعموم مفهومه حينئذ
يشمل جميع مسائل هذا العلم ومبادئه اللغوية والأحكامية وغيرها، بل يشمل أدلة
الفقه التي هي موضوع هذا العلم.

(1) الفصول: 6.
163

وأما مباحث الاجتهاد والتقليد فلا تندرج فيه بهذا المعنى، لعدم ابتناء الفقه
ولا الاستنباط على معرفة هذه المسائل كما سنقرره في محله، بل الذي يتوقفان
عليه إنما هو وجود نفس المستنبط واحتوائه للشرائط المقررة، وهو غير معرفة
الأحكام المتعلقة بهما والمسائل الراجعة إليهما، كما لا يخفى.
فما في كلام بعض الأعلام (1) من أن الأولى هنا إرادة اللغوية ليشمل أدلة الفقه
إجمالا وغيرها من عوارضها ومباحث الاجتهاد والتقليد وغيرها، تبعا لغير واحد
كالعلامة وغيره في النهاية (2) والمنية (3) وغيرهما في إدراج المباحث المشار إليها
في مفهوم " أصول الفقه " ليس على ما ينبغي.
وقد يتكلف في إدراجها فيه باعتبار إرجاع البحث فيها إلى كونه عن حال
الدليل، نظرا إلى أن البحث هناك عن حال المستدل، وهو يرجع أيضا إلى أن دلالة
تلك الأدلة على ثبوت الأحكام الشرعية إنما هي بالنسبة إلى من جمع الشرائط
المخصوصة، فهو أيضا بحسب الحقيقة بحث عن حال الأدلة.
وفيه: ما لا يخفى، فإن أقصى ما يقتضيه ذلك - لو سلم - اندراج ما ذكر في
المباحث المتعلقة بحال الدليل ويتجه المنع إلى كون هذا النحو من البحث عن حال
الدليل مما يبتنى عليه الفقه لما عرفت من عدم ابتنائه على معرفة هذا البحث.
وكيف كان، فوجه عدم جواز أخذ " الأصول " هنا بأحد المعاني الأربع
الاصطلاحية على الوجهين المذكورين، إن المعنى العلمي الاصطلاحي الذي هو
" العلم بالقواعد الممهدة... الخ " ليس فردا من استصحابات الفقه ولا ظواهر الفقه
ولا قواعد الفقه ولا أدلة الفقه، ليكون بناء الاصطلاح بالقياس إليه على إطلاق
الكلي على الفرد، أو النقل من الكلي إلى الفرد، وكما لا يصح أخذه بأحد هذه
المعاني الأربع على هذين الوجهين، كذلك لا يصح على الوجه الأخير المتقدم

(1) قوانين الأصول 5: 1.
(2) نهاية الوصول إلى علم الأصول: الورقة 1 (مخطوط).
(3) منية اللبيب في شرح التهذيب (مخطوط): الورقة...
164

وهو النقل من المعنى الإضافي اللغوي إلى العلمي المعرى عن وصف المعنى
الإضافي، لفقد المناسبة المعتبرة في النقل بين العلم بالقواعد وهذه المعاني إلا
بتكلفات بعيدة لا ينبغي الالتفات إليها كما يظهر بالتأمل.
وهذا هو الوجه في أولوية وتعين أخذه بمعنى المبتني عليه، حتى في مقابلة
أخذه بمعنى الأدلة، وإن كان المستفاد من جماعة من العامة والخاصة من
الأصوليين أخذه بمعناها.
ومن الأعلام (1) من علل الأولوية بأن لا يلزم النقل المرجوح، قائلا: بأن ليس
المراد بالنقل المرجوح نقل لفظ " أصول الفقه " عن معناه الإضافي إلى العلمي إذ
هو مما لا مناص عنه في المقام، بل المراد لزوم النقل في مدخول العلم، وملخص
مراده بالنقل المرجوح إنما هو النقل الآخر الزائد على القدر المعتبر في المعنى
العلمي، فإن المعنى العلمي عبارة عن العلم بالقواعد، فاعتبر فيه العلم بمعنى
الإدراك أو ملكة الإدراك وتعلقه بالقواعد، فالعلم المأخوذ فيه تقتضي نقلا وهو
النقل الذي لا مناص عنه هنا ومتعلقه يقتضي نقلا آخر لأنا قد عدلنا أولا عن أدلة
الفقه إلى العلم بالأدلة بمعنى الإدراك أو ملكته، ثم عن العلم بالأدلة إلى العلم
بالقواعد لأنه لولا هذا النقل الثاني لوجب أن يقال في تعريف المعنى العلمي العلم
بأدلة الفقه، والمفروض أنهم عرفوه بالعلم بالقواعد، فقد عدلنا حينئذ فيما أضيف
إليه العلم وهو القواعد عما جعلناه متعلق العلم أولا وهو الأدلة، وهذا هو النقل
الحاصل في مدخول العلم الزائد على النقل الحاصل في نفس العلم.
هذا حاصل ما أفاده بملاحظة مجموع عبارته من البداية إلى النهاية.
ويرد عليه أولا: النقض بالمعنى اللغوي، فإن اعتبار النقل من أدلة الفقه لو
استلزم تعدد النقل للزم ذلك لو اعتبر النقل من المبتنى عليه بعين البيان المذكور.
وثانيا: الحل بمنع الملازمة، فإن " أصول الفقه " نقل من المعنى المركب

(1) وهو المحقق القمي (رحمه الله) في حاشية القوانين، في ذيل قوله: والأولى هنا إرادة اللغوي... الخ
فراجع قوانين الأصول 5: 1.
165

الإضافي إلى معنى مفرد بسيط نقلا واحدا، وإن فرض المنقول منه " أدلة الفقه "
فالوجه في الأولوية هو ما ذكرنا.
وفي كلام غير واحد أن إضافة اسم المعنى تفيد اختصاص المضاف بالمضاف
إليه، كما عن فخر الدين في المحصول، قائلا: بإفادتها الاختصاص في المعنى
الذي عينت له لفظة المضاف (1) وتبعه على هذه الدعوى بهذا التعبير العلامة في
النهاية (2) والسيد في المنية (3) وعلله في المنية: بأنا إذا قلنا مكتوب زيد لم يكن
المكتوب مختصا بزيد إلا في كونه مكتوبا له فقط، لا في كونه ملموسا ولا منظورا
إليه ولا غير ذلك مما يظهر مشاركة غيره له فيه، وفي معناه عبارة العضدي (4) قائلا:
وإضافة اسم المعنى تفيد اختصاص المضاف بالمضاف إليه باعتبار ما دل عليه لفظ
المضاف تقول: " مكتوب زيد " والمراد اختصاصه به لمكتوبيته له، بخلاف إضافة
اسم العين فإنها تفيد الاختصاص مطلقا.
ويستفاد القول بذلك من التفتازاني والمحقق الشريف أيضا، لكن لا يخفى
عليك أن تقييد الاسم بالمعنى في عنوان هذه القاعدة شئ وقع في كلام هؤلاء
المذكورين وغيرهم، عدا ما في المحكي عن المحصول من ورود ذكر الاسم فيه
بقول مطلق المقتضي لجريان القاعدة في اسم العين أيضا.
قال التفتازاني: واعلم أنه قال الإمام في المحصول: أما " أصول الفقه " فاعلم:
أن إضافة الاسم إلى شئ تفيد اختصاص المضاف بالمضاف إليه في المعنى الذي
عينت له لفظة المضاف، يقال: " هذا مكتوب زيد " والمراد ما ذكرنا، ولما لم يكن
هذا موجودا في مثل دار زيد وفرسه خصه الشارح باسم المعنى، وهو ما يدل على
معنى زائد على الذات بخلاف اسم المعنى وهو ما يدل على نفس الذات، فإنه
لا دلالة في إضافته إلى الشئ على خصوصية الاختصاص. انتهى.

(1) المحصول في علم أصول الفقه - للرازي - 180: 1.
(2) نهاية الوصول إلى علم الأصول: الورقة 1 (مخطوط).
(3) منية اللبيب في شرح التهذيب: - الورقة 2 - (مخطوط).
(4) شرح العضدي على مختصر الحاجبي: 5.
166

والتأمل في هذه الكلمات يعطي كون المراد بالاختصاص الذي يفيده
الإضافة في اسم المعنى هو جهة الاختصاص، التي عبر عنها التفتازاني
بالخصوصية، وهي التي أخذت في مدلول اسم المعنى من الوصف الزائد على
الذات القائم بها، كالمكتوبية في المثال المتقدم، بخلاف اسم العين حسبما زعموه
فإن إضافته وإن أفادت الاختصاص إلا أنها يفيد أصل الاختصاص لا جهته
بالمعنى المذكور، لوضوح أن إضافة " الدار " إلى " زيد " لا تفيد اختصاص " الدار "
بزيد لوصف خاص غير متناول غيره كالمسكونية والمملوكية وغيرها مما يضاف
إليها من الصفات اللائقة بها، بل تفيد الاختصاص المطلق المردد بالنظر إلى صفات
المحل بين أمور، لا تعرف إرادة الخصوصية منها إلا باعتبار الخارج.
وغرضهم ببيان هذه القاعدة في هذا المقام إما التنبيه على أن مجرد الإضافة
في " أصول الفقه " مما يكفي في اعتبار حصول النقل فيه بالقياس إلى معناه العلمي،
وهو العلم المخصوص، ولا حاجة معه إلى التزام طرو الوضع الجديد له تعيينا الذي
منشؤه تصدي الواضع بإنشاء الجعل قصدا، أو تعينا الذي منشؤه غلبة الإطلاق
ولو بعنوان الحقيقة.
ويزيفه: ما تقدم من عدم ملحوظية المعنى الوصفي التركيبي في شئ من
موارد إطلاق هذا اللفظ، والوجه المذكور لا يتم إلا مع كون هذا المعنى مأخوذا في
المسمى العلمي ومرادا ولو بعنوانه الخاص من اللفظ في إطلاقاته، أو التنبيه على
كفاية الإضافة المفيدة للاختصاص في تعريف " أصول الفقه " باعتبار معناه
العلمي، ولا حاجة معه إلى تكلف تعريفه: " بالعلم بالقواعد الممهدة " وغيره مما
ذكروه في المقام، من تعريفه بعبائر مختلفة، بدعوى: أنه كما يمكن تعريفه بعنوان
العلم بالقواعد وغيره فكذلك يمكن تعريفه بعنوان " أصول الفقه " بمعنى المبتنى
عليه الفقه.
ويزيفه أولا: منع اختصاص وصف الابتناء على هذا العلم بالفقه، بل والذي
يختص به من هذا العلم إنما هو الغرض من تدوينه حيث لم يدون إلا لغرض الفقه
واستنباط مسائله عن الأدلة.
167

ومن البين أن الغرض من تدوين الشئ خارج عن مفهومه، فهو ليس بداخل
في مدلول " أصول الفقه " بهذا المفهوم، وهو من حيث هو هذا المفهوم لا اختصاص
له بالفقه لعدم انحصار الابتناء على هذا العلم بحسب الواقع فيه، لجواز ابتناء أشياء
أخر عليه أيضا، كالمطالب الكلامية - مثلا - إذا بنى على استفادتها من الكتاب
والسنة وغيرها من الأدلة التي وجه الابتناء على هذا العلم إفادته فهمها ومعرفة
كيفية الاستنباط منها، وحينئذ فكما أن " الفقه " يبتنى على هذا العلم فكذلك يبتنى
عليه علم الكلام أيضا على التقدير المذكور.
ويقوى هذا الكلام بعد ملاحظة أن العبرة في صدق المفهوم والكلي المعتبرين
في مقام التعريف بقابلية الصدق على الكثرة، وقضية ذلك عدم صدق التعريف بهذا
اللفظ بناء على الأخذ بالاختصاص المستفاد من الإضافة على هذا العلم رأسا، إذ
يصير المعنى حينئذ المبتنى عليه " الفقه " ابتناء مختصا به ولا يتعداه إلى غيره،
وهذا كما ترى مما لا مصداق له وعلى تقدير تحقق مصداق له فهذا العلم ليس منه
كما عرفت.
وثانيا: منع اختصاص الجهة المختصة المستفاد اختصاصها من الإضافة، وهو
وصف الابتناء عليه بهذا العلم، لمشاركة غيره له في هذا الوصف ولو مع ملاحظة
الاختصاص، كعلم الرجال بل هو أشد اختصاصا بعلم " الفقه " من هذا العلم كما
يظهر بالتأمل فيما ذكرناه ومعه لا طرد للتعريف.
ولك أن تقول: بانتفاء الطرد أيضا بالقياس إلى ما ليس من مسائل هذا العلم
من مبادئه اللغوية والأحكامية، ضرورة أن ليس الغرض من جمعها وضبطها في
هذا العلم إلا التوصل إلى الفقه والاستنباط، بل لا طرد أيضا بالقياس إلى " أدلة
الفقه " فإنها أيضا من حيث وصف الدليلية مختصة " بالفقه " مع كونها مما يبتنى
عليه " الفقه " بل اختصاص المسائل الأصولية الباحثة عن أحوال الأدلة ليس بأشد
من اختصاص نفس الأدلة به التي هي موضوعات هذه المسائل كما لا يخفى.
وما يتكلف في دفع النقض باعتبار علم الرجال من اعتبار العهد في الإضافة
168

مضافا إلى اعتبار الاختصاص ليس بشئ في المقام، لأن غاية هذا الاعتبار كون
المراد من اللفظ حيثما يؤخذ في مقام التعريف، المبتنى عليه المعهود المعين
بالخصوص وهو العلم المخصوص، وهو كما ترى لا يوجب قصر اللفظ على
المعنى المراد ما لم يقترنه قيد أو قرينة إذا كان في حد ذاته شاملا له ولغيره.
ومن المقرر - المتقدم ذكره مرارا - أن الإيراد لا يندفع بخصوص المراد
لتوجهه إلى ظاهر عبارة التعريف.
وأضعف منه ما قيل في دفع النقض " بالأدلة " من أن قيد " الإجمال " ملحوظ
في " الأصول " فيخرج عنها تلك الأدلة لكونها تفصيلية، مستندا فيه بعضهم إلى أن
التفصيل مأخوذ في حد المضاف إليه، وليس مستند التفصيل إلا الأدلة الإجمالية،
فإن ذلك مما لا يفهم معناه إذ " الأصول " عبارة عن الأمور الواقعة مبتنى عليها.
وهذا المعنى كما أنه صادق على مسائل هذا العلم فكذلك صادق على
تفاصيل الأدلة التي هي موضوعات هذه المسائل. وكون المأخوذ في حد الفقه
المضاف إليه العلم التفصيلي الحاصل عن الأدلة التفصيلية مما لا يرفع هذا الصدق،
كما لا يصلح قرينة على اعتبار الإجمال في مفهوم " الأصول " من حيث شموله
" للأدلة " بل هو مفهوم أخذ لا بشرط الإجمال والتفصيل، فيشمل بهذا الاعتبار كلا
من الأدلة الإجمالية والأدلة التفصيلية، سواء أريد بالإجمال والتفصيل ما تقدم
ذكره في الفرق بين دليل المقلد وأدلة المجتهد، أو ما تقدم أيضا في الفرق بين ما
يفيد العلم الإجمالي والعلم التفصيلي، إن كان فيما بين الأدلة الإجمالية بكلا
المعنيين ما يستند إليه " الفقه " المأخوذ فيه العلم التفصيلي، وإلا فيتجه المنع إلى
دعوى أنه ليس مستند التفصيل إلا الأدلة الإجمالية، خصوصا إذا اعتبر الأدلة
الإجمالية بالمعنى المتقدم ذكره للمقلد، كيف ولو صح ذلك لقضى بعدم ارتباط
الظرف في " عن أدلتها " المأخوذ في حد " الفقه " بالعلم المأخوذ فيه جنسا،
169

ضرورة اقتضائه استناد العلم إلى الأدلة التفصيلية دون الإجمالية، مع أن العلم في
وصفي الإجمال والتفصيل يتبع دليله، فكيف يعقل استناد التفصيل إلى الأدلة
الإجمالية لو أريد بها ما هو بالمعنى الثاني.
وثالثا: أن هذا العلم له اعتبارات ثلاث، حسبما عرفت:
أحدها: نفس المسائل.
وثانيها: التصديق بها.
وثالثها: ملكة التصديق بها.
والكل مما يتوقف عليه " الفقه " كما لا يخفى، وحينئذ فإن اعتبر المعنى العلمي
المأخوذ معرفا بالنسبة إلى هذا العلم نفس المسائل - بناء على كون ألفاظ العلوم
لنفس مسائلها - انتقض الطرد بالاعتبارين الأخيرين، لأنهما أيضا مما يبتنى عليه
" الفقه " وليس من المعرف.
وإن اعتبر التصديق بالمسائل انتقض الطرد بالاعتبار الأول والثالث، وإن
اعتبر ملكة التصديق بها انتقض بالاعتبارين الأولين والوجه ما ذكر.
وأما ما قد يتعسف - كما عن شيخنا البهائي في حواشي الزبدة (1) - من تقدير
مضاف قبل " الأصول " ليكون المعرف هو علم " أصول الفقه ".
ففيه: ما لا يخفى، إذ المقصود أخذ " أصول الفقه " بمعناه الإضافي تعريفا
لمعناه العلمي، والمضاف المقدر ليس بداخل في المعنى الإضافي على وجه يكون
ملحوظا معه بطريق القيدية، مع أن اللفظ إذا قصر عن إفادة المضمر فاعتباره
بحسب الواقع لا يجدي في دفع الإشكال، كما أنه لا يجدي في دفعه ما أفاده بعض
الفضلاء (2) من أن هذا الاسم كأسامي سائر العلوم موضوع تارة بإزاء نفس
المسائل، وأخرى بإزاء العلم، على ما يرشد إليه تتبع موارد استعماله، فمعناه
الإضافي منطبق على معناه العلمي بالاعتبار الأول، ومعه لا حاجة إلى التقدير

(1) زبدة الأصول: 6.
(2) الفصول: 7.
170

المذكور، إذ قد عرفت أن كلا من الاعتبارات الثلاث مما يبتنى عليه " الفقه " فأخذ
أحدها أو الاثنين منهما في المسمى العلمي لا يرفع النقض بالقياس إلى الباقي وإن
كان واحدا.
وكيف كان: فالقول بكون " أصول الفقه " باعتبار معناه الإضافي تعريفا له
باعتبار معناه العلمي ساقط جدا.
ويبقى الكلام في أمرين يشكل الحال فيهما، ولا بأس بالتعرض لهما وإن
خرج عن مقصود المقام، مراعاة لمناسبة التعرض للإشارة إليه هنا:
أحدهما: أن اسم المعنى في موضوع هذه القاعدة إن أريد به ما لم يكن لمسماه
حيثية سواء أخذ معه بعض صفاته كالصادق والكاذب، أو لم يؤخذ كالعلم والجهل
حسبما فسره السيد في المنية (1) قبالا لاسم العين الذي فسره بما كان لمسماه
حيثية اخذ معه بعض صفاته كالقائم والراكب أو لم يؤخذ كالرجل والفرس، انتقض
عكس القاعدة بمثل القائم والراكب من المشتقات الداخلة تحتها عندهم، وطردها
بالمصادر التي لا تفيد الاختصاص بالمعنى الذي ذكروه كما يشهد به الوجدان.
وصرح به بعضهم كالمحقق الشريف - على ما حكى عنه (2) - كما تعرفه، وإن
أريد به المعنى المصطلح عليه عند النحاة وهو: " ما دل على معنى قائم بغيره " أخذ
معه ذكر " الغير " أو لا انتقض الطرد بما ذكر، ولذا صار المحقق المتقدم ذكره (3) إلى
أن المراد به ما دل على شئ باعتبار معنى وحاصله المشتق وما في معناه، رادا
على من فسره بالمعنى المذكور بأنه متناول للمصدر، ولا يدل إضافته على
الاختصاص باعتبار المعنى الذي عنى بالمضاف بل باعتبار معنى آخر، فإن
إضافة " الدق " - مثلا - إلى " الثوب " لا يفيد الاختصاص باعتبار الدق بل باعتبار
التعلق وهو خارج عن مدلوله، بخلاف إضافة " الكاتب " إلى " القاضي " فإنها تفيد
الاختصاص باعتبار الكاتبية وهو مما دل عليه المضاف.

(1) منية اللبيب في شرح التهذيب (مخطوط): الورقة 2.
(2) الفصول: 7.
(3) نفس المصدر.
171

فتقرر بما ذكر، أن الذي ينبغي أن يراد باسم المعنى هنا المشتق وما في معناه،
كالأصل مثلا، فإنه بمعنى الدليل أو المبني عليه أو المستند إليه أو غير ذلك وإن
كان خروجا عن الاصطلاح.
وثانيهما: أن اختصاص الإضافة إن أريد به اقتضاء الإضافة كون ما أريد من
المضاف مختصا بالمضاف إليه، ولا يتعداه بهذا الاعتبار إلى غيره.
وبعبارة أخرى: اختصاص شخص من أشخاص مدلول المضاف يعينه
الإضافة فهو حق، لكن يتوجه إلى ما ذكروه أمران:
الأول: أنه لا يلائم ما تقدم في كلام جماعة من تفسير ما اختص بالمضاف
إليه بحكم الإضافة بما عينت له لفظة المضاف، ولا ما تقدم في عبارة العضدي من
التعبير عنه بما دل عليه لفظ المضاف، ضرورة أن ما عين له لفظ المضاف المدلول
عليه بنفس اللفظ ليس خصوص الشخص الذي عينته الإضافة وأفادت اختصاصه
بالمضاف، بل هو الماهية الكلية الصادقة عليه وعلى غيره من أشخاصه الموجودة
أو الممكن وجودها أو المفروض كونها موجودة ولو امتنع وجودها.
الثاني: منع اختصاص اقتضاء الاختصاص بهذا المعنى بإضافة اسم المعنى،
بل هو حاصل في كل من الإضافتين وعام لكلا القبيلتين، كما يرشد إليه إطلاق
ما تقدم عن المحصول، فإن حصول الاختصاص بهذا المعنى من ضروريات
إضافة العام إلى الخاص المقتضية للتخصيص، الذي هو عبارة عن تقليل الشركاء
كما هي شرط صحة الإضافة على ما تقدم (1) من امتناعها في المساوي والأخص،
وكما أن المكتوب وغيره من المشتقات وأسماء المعاني إذا اعتبر معرى عن
الإضافة كان معناه المأخوذ في وضعه، الذات المتصفة بالمكتوبية التي هي وصف
عام قابل لإضافات متكثرة باعتبار تكثر أفراد ما أضيف هو إليه من زيد وعمرو
وبكر ونحوهم، وإذا اخذ مضافا إلى زيد أفاد قلة شركائه وأخرجه عن قابلية

(1) تقدم في نفس التعليقة الصفحة: 146.
172

الكثرة وخصه عما بين إضافاته المتكثرة بما هو مختص بزيد، فكذلك الدار
وغيرها من أسماء الأعيان التي في حكمها المصادر هنا وإن كانت من أسماء
المعاني بمصطلح النحاة، فإنها إذا أخذت معراة عن الإضافة كان معناه الثابت لها
باعتبار الوضع الماهية الكلية، التي هي أمر عام قابل لإضافات متكثرة باعتبار
تكثر أشخاص ما يضاف هي إليه من زيد وعمرو وبكر وغيرهم، فإذا أخذ مضافا
إلى زيد أفاد بالقياس إلى هذا الأمر العام قلة شركائه وخصه عما بين إضافاته
المتكثرة بما هو مختص بزيد.
وكون جهة الاختصاص في الأول هو وصف المكتوبية دون الأوصاف الأخر
الذي هو غير حاصل في الثاني غير قادح في دعوى عدم الفرق، لأن كون الجهة
في الأول هو الوصف المخصوص دون الأوصاف الأخر ليس من مقتضيات
الإضافة بل هو من مقتضيات وضع المضاف، لأن المشتق وما في معناه قد وضع
للذات باعتبار الوصف فعدم تناول الإضافة هنا لسائر الصفات كالملموسية
والمنظورية ونحوها إنما هو لخروج هذه الصفات عن مدلول المضاف لا من جهة
أنه من آثار اختصاص الإضافة كما يوهمه عبارة المنية المتقدمة (1) وتبعه في هذا
البيان غيره، وهذا هو الوجه في عدم كون جهة الاختصاص في إضافة اسم العين
هو الوصف الزائد على الذات، فإنه ليس من جهة أن الإضافة هاهنا لا تفيد
الاختصاص، بل لأن وضع اسم العين إنما ثبت للماهية معراة عن جميع صفاتها،
فكل باعتبار ما اخذ في وضعه مفيد للاختصاص، الحاصل بالنظر إلى الشخص
المراد منه في لحاظ الإضافة، الراجع إفادتها إلى نهوض المضاف [إليه] (2) لمكان
أنه أخص قرينة كاشفة عن أن المراد منه من حصص ماهية معناه الموضوع له،
ما هو في الخصوصية بقدر خصوصية المضاف إليه.
وإن أريد به اقتضائها كون تمام مدلول المضاف مختصا بالمضاف إليه

(1) منية اللبيب في شرح التهذيب (مخطوط): الورقة 2.
(2) زيادة تقتضيها السياق.
173

ولا يتعداه بهذا الاعتبار إلى غيره، وبعبارة أخرى: اختصاص نوع مدلوله،
المستلزم لاختصاصه به بجميع أفراده التي كان يشملها بالوضع، فالاختصاص
بهذا المعنى كما أنه غير حاصل في إضافة اسم العين فكذلك لا يحصل في إضافة
اسم المعنى، ضرورة أن " مكتوب زيد " لا يفيد اختصاص المكتوبية بجميع
إضافاته بزيد، والذي يفيده الإضافة المأخوذة في القضية إنما هو شخص الإضافة
لا نوعها، وفرد من أفراد المكتوبية لا جميع أفرادها التي يشملها بمفهومها العام
حيثما أخذت معراة عن الإضافة.
فخلاصة الكلام: أن اختصاص الإضافة لا يمكن أن يراد منه إلا أول
المعنيين، وعليه فلا يتفاوت الحال بين قسمي الاسم، ويجري القاعدة في اسم
العين جريها في اسم المعنى، فلا وجه للتفصيل ولا سبيل إلى التخصيص، وعليه
فإطلاق عبارة المحصول هو الذي لا محيص من الأخذ الالتزام به.
وأظهر منه في الدلالة عليه، ما عن الحاجبي في شرح كافيته من أن وضع
الإضافة المعنوية على أن تفيد أن بين المضاف والمضاف إليه خصوصية ليست
لغيره، مما دل عليه لفظ المضاف.
المقام الثاني: واعلم أن لهم في رسم " أصول الفقه " باعتبار معناه العلمي
عبارات مختلفة أسلمها جمعا ومنعا ما في كلام جماعة من المتأخرين، من أنه
" العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية ".
" فالعلم " على المختار محمول على الملكة الناشئة عن الممارسة، فيخرج به
علم الله وعلوم الملائكة والأنبياء وغيرهم بالأحكام الأصولية.
وعلى القول الآخر لابد وأن يحمل على " الاعتقاد " بالمعنى الأعم ليشمل
الظن أيضا نظرا إلى كون كثير من مسائل هذا العلم ظنية، وحيث إن القواعد عبارة
عندهم عن القضايا الكلية فخرج بها غيرها من القضايا الشخصية، التي منها
المطالب الرجالية اللاحقة بأحوال آحاد الرواة، فإنها قضايا موضوعاتها
الأشخاص، وتوهم خروج الجزئيات ولو تصورية بهذا القيد واضح الفساد، لعدم
174

دخول التصور في الجنس، وحيث إن " القواعد " جمع معرف ظاهر في العموم
فيسلم العكس من جهته، على ما نبهنا عليه من حمل " العلم " على الملكة، فلا
يقدح فيه حينئذ ما يكثر من عدم العلم فعلا ببعض المسائل النادرة، فإن الجهل
بالبعض لا ينافي ملكة الكل.
وأما على القول الآخر قد يشكل الحال إلا بصرف عموم " القواعد " إلى
العرفي كما صنعه بعض الفضلاء (1).
وخرج " بالممهدة " غيرها كالقواعد العرفية والعقلية المتداولة في العادات
وأمور المعاش وغيرها و " بالاستنباط " ما مهد لا لغرض الاستنباط كأكثر
المسائل الكلامية وغيرها من العلوم العقلية و " بالأحكام " ما مهد لغرض استنباط
الموضوعات - شرعية وعرفية ولغوية - كمباحث المشتق والحقيقة الشرعية
وأمارات الحقيقة والمجاز وغيرها من المبادئ اللغوية المأخوذة في هذا العلم
و " بالشرعية " العربية والمنطق وغيرها مما يستنبط منه الأحكام العقلية ومنه
مبادئ هذا العلم أحكامية ولغوية، و " بالفرعية " ما مهد لغرض استنباط الأحكام
الشرعية الأصولية، اعتقادية وغيرها.
ومن الفضلاء (2) من زاد على ما ذكر قيد " عن أدلتها التفصيلية " لإخراج
الأحكام الشرعية المستنبطة عن الأدلة الإجمالية، كما في حق المقلد، فلو ترك
القيد لدخل فيه مباحث التقليد المصرح بخروجها عنه وورودها فيه استطرادا،
ولا بأس به على تقدير صدق الاستنباط في حقه.
وربما نقض الطرد بالقواعد الكلية المقررة في الفقه التي يستنبط منها فروع
كثيرة، كقولهم: " كلما أمكن أن يكون حيضا فهو حيض " و " ما يضمن بصحيحه
يضمن بفاسده " و " كل ما يصح إعارته يصح إجارته " و " من ملك شيئا ملك الإقرار
به " وما أشبه ذلك مما لا يعد ولا يحصى، مع خروجها عن المعرف. ويندفع بالغاية

(1 و 2) الفصول: 7.
175

المستفادة من لفظة " اللام " واستنباط الفروع عن القواعد المشار إليها إنما يترتب
عليها من باب الفائدة التي هي أعم من الغاية، ضرورة أن تقرير هذه القواعد في
الكتب الفقهية ليس لغرض الاستنباط وإن كان يترتب عليه الاستنباط من باب
الفائدة الغير المقصودة، بل لغرض بيان نفس الحكم الثابت لموضوعه العام، كما أنه
يندفع بمثل ذلك ما توهم من انتقاض الطرد أيضا بمثل العربية والمنطق.
ولا يشكل الحال بجملة من المطالب النحوية المعنونة في كثير من كتب هذا
العلم، نظرا إلى أنه لا غرض لعنوانها فيها إلا جهة الاستنباط لظهور " التمهيد " في
ابتداء التدوين، وهذا ليس منه بل نقل لما هو من مدونات كتب النحو في كتب هذا
العلم لما فيها من مزيد دخل في الاستنباط.
وبذلك يندفع ما قيل في نقض الطرد أيضا، من أن المراد " بالممهدة " إن كان
الممهدة مطلقا في السابق واللاحق، لزم أنه لو مهد شخص نبذة من المسائل
اللغوية وغيرها لاستنباط الأحكام الشرعية لكان داخلا في هذا العلم وهو باطل،
وإن كان المراد الممهدة سابقا لا غير، فإن كان المراد ما مهده كل العلماء أو ما مهده
السابقون الذين كانوا في صدر بناء هذا العلم، لزم خروج أكثر المسائل الأصولية،
وإن كان المراد ما مهده البعض مطلقا، لزم أنه لو مهد مسألة في زماننا السابق بقليل
يكون داخلا وما سيمهد بعد ذلك بقليل يكون خارجا، وهو بعيد جدا.
فإن المراد " بالممهد " جنسه الصادق على ما مهده الكل وما مهده البعض
سابقا وما يمهد كذلك لاحقا، ودعوى: انتقاض الطرد بالمسائل اللغوية وغيرها،
متضح الدفع: بأن المسائل اللغوية إن أريد بها ما هو من مدونات كتب اللغة من
النحو والصرف وغيرها فقد عرفت أن إيرادها في كتب أصول الفقه ليس بمندرج
في التمهيد، وإنما هو نقل لما مهد لغير استنباط الأحكام الشرعية.
موضوع علم الأصول
وإن أريد بها ما لم يتعرض أحد لذكره في سائر العلوم العربية وكان إيراده في
كتب هذا العلم ابتداء تدوين له، كما هو الحال في أكثر مسائل هذا العلم المعبر عنها
بمشتركات الكتاب والسنة، فبطلان دخوله في حيز المنع.
176

ولو أريد من المسائل اللغوية ما هو من قبيل المبادئ اللغوية المقررة في كتب
هذا العلم، فتخرج بما يخرج به تلك المبادئ من قيد " الأحكام " إذ قد عرفت أنها
مهدت لاستنباط موضوعات الأحكام لا نفسها، ولك أن تقول: إنها مهدت
لاستنباط المسائل الأصولية كما يفصح عنه التعبير عنها بالمبادئ، فتخرج بقيد
" الفرعية " ولا ينافي شيئا مما ذكر ما لو اتفق من استنباط بعض الأحكام أيضا من
هذه المسائل، لأن ذلك حينئذ من باب الفوائد المترتبة على الشئ الخارجة عن
عنوان الغايات، فليتدبر.
ولأجل بعض ما ذكر قد يعدل عن التعريف المذكور، فيعرف " بالعلم بأحوال
أدلة الأحكام الشرعية الفرعية من حيث إنها أدلتها " فخرج " بأحوال الأدلة "
أحوال غيرها من النحو وغيره، و " بالأحكام " أحوال أدلة غير الأحكام
و " بالشرعية " أحوال أدلة غير الأحكام الشرعية و " بالفرعية " أحوال أدلة
الأحكام الغير الفرعية، وبالحيثية أحوال أدلة الأحكام الشرعية اللاحقة لها لغير
جهة الدليلية، ككون الكتاب منجما، أو منزلا على وجه الإعجاز، أو كونه على
سبعة أحرف أو غير ذلك.
تتمة في بعض ما يتعلق بموضوع هذا العلم.
واعلم أن شرح موضوع العلم بعنوانه المطلق لعلنا نتعرض له عند شرح عبارة
المصنف الآتية، والغرض الأصلي في هذا المقام بيان موضوع هذا العلم فنقول:
إن المعروف بينهم جعله الأدلة الأربعة الكتاب والسنة والإجماع والعقل، وقد
يضاف إليها الاجتهاد والتعادل والترجيح فيجعل الموضوع أقساما ثلاث، نظرا
إلى أنه كما يبحث في هذا العلم عن الأدلة الأربعة كذلك يبحث عن الاجتهاد
وهو القسم الثاني، وعن التعادل والترجيح وهو القسم الثالث، وعن بعضهم إدراج
الثالث في الأول، نظرا إلى أن البحث عن التعادل والتراجيح راجع في الحقيقة
إلى البحث عن دلالة الأدلة وتعيين ما هو الحجة منها عند التعارض.
177

وعن بعض المحققين (1) أنه ذهب إلى أن موضوعه الأدلة الأربعة. وأن سائر
المباحث راجعة إلى بيان أحوالها، نظرا إلى أن البحث عن الأدلة إما من حيث
دلالتها في نفسها وهو الأمر الأول، أو من حيث دلالتها باعتبار التعارض وهو
الأمر الثالث، أو من حيث الاستنباط وهو الأمر الثاني.
والأولى ترك تقييد الأدلة بالأربعة، لئلا يحتاج في إدراج بعض ما ليس منها
كالاستصحاب فيها إلى تكلف القول بأنه إن اخذ من الأخبار فيدخل في السنة،
وإلا فيدخل في العقل كما في كلام بعض الأعلام (2).
والحق: أن جهة البحث عن الدليل ليست منحصرة في الدلالة حتى أن البحث
عن جواز تخصيص الكتاب، أو نسخه بخبر الواحد أو بالإجماع، وجواز نسخ
الإجماع به أو بالكتاب، وجواز نقل الحديث بالمعنى ونحو ذلك بحث عن حال
الدليل، فلا وجه لإرجاع البحث عن التعادل والتراجيح إلى دلالة الدليل، كيف
والشبهة في مقام التعادل - كما أن عمدة الشبهة في مقام الترجيح - إنما تحصل من
جهة السند من غير تعلق لها بالدلالة.
فالوجه حينئذ أن يقال: إن البحث في التعادل راجع إلى أن الخبرين
المتعادلين هل يخير بينهما في العمل، أو يتوقف فيهما، أو يطرح كلاهما فيعمل
على الأصل في الصورتين، وهذا كما ترى بحث عن حال الدليل من غير مدخل
للدلالة فيه، كما أن البحث في الترجيح راجع إلى أن الخبرين الغير المتعادلين
يجب تقديم ذي المزية المنصوصة منهما على غيره، وهل يجب تقديم ذي المزية
الغير المنصوصة على الخالي منها أو لا؟ وهل يجب تقديم ما وافق منهما الأصل
على ما خالفه أو لا؟ إلى غير ذلك من المباحث المعنونة في العنوان المذكور، وهذا
أيضا بحث عن حال الدليل من غير جهة الدلالة.

(1) والمراد منه هو سلطان العلماء في حاشيته على المعالم.
(2) قوانين الأصول 9: 1.
178

وعلى هذا القياس بحثهم فيما لو أمكن الجمع بين المتعارضين من حيث
أولوية الجمع وعدمها، فإن هذا كله بحث عن حال الدليل، ولا حاجة معه إلى جعل
التعادل والترجيح قسما آخر من موضوع الفن قبالا للأدلة.
وأما المباحث المتعلقة بالاجتهاد فقد تقدم الإشارة (1) إلى أنها ليست من
مسائل الفن، بل هي كمباحث التقليد ترد في الفن استطرادا، لعدم مدخل لها في
الاستنباط، ولا كونها مما يبتنى عليها الاجتهاد، وسيأتي زيادة بيان لذلك في باب
الاجتهاد، ومعه لا حاجة إلى النظر في أنه بنفسه قسم آخر من موضوع الفن أو أن
البحث عنه راجع إلى حال الدليل، مع ما في الإرجاع إليه باعتبار الاستنباط من
التعسف ما لا يخفى، لوضوح كون الاستنباط من أحوال المستنبط، وهو ليس من
الدليل في شئ.
ثم، في المقام إشكالات ينبغي الإشارة إليها والتعرض لدفعها:
أحدها: أن أكثر مسائل هذا العلم مفروضة على الوجه الأعم، كمباحث الأمر
والنهي، والمنطوق والمفهوم، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، وغير ذلك مما
يلحق أنواع اللفظ بقول مطلق، شامل لغير ما هو في الكتاب والسنة بل غير ما هو
من الشارع، فإن الأمر وتواليه بقول مطلق ليس بدليل، بل الدليل خصوص ما ورد
منه في الكتاب أو السنة مع أن كلا من تلك مأخوذ في المباحث المذكورة على
الوجه الأعم، ضرورة أن غرض الأصولي من حقيقية الأمر مثلا في الوجوب ليس
حقيقية خصوص ما ورد في الكتاب أو السنة، كيف وهو ينافي تصريحاتهم
الموجودة في مطاوي كلماتهم، ولا يلائمه تعبيراتهم عن العنوانات بكونها كذلك
في العرف أو اللغة.
وبالجملة، موضوع الفن أخص من موضوعات مسائله لأن وصف الدليلية
قائم بالأمر الكتابي ونحوه، والأحكام المأخوذة في المسائل ترد على ما هو أعم
منه، كما لا يخفى.

(1) تقدم في التعليقة الرقم 29، الصفحة، 150.
179

وستعرف - كما هو المقرر عندهم - أن ما يعرض الشئ لأمر أعم ولو جزءا له
لا يطلب في العلم الذي موضوعه ذلك الشئ، بل في العلم الذي أخذ موضوعه
الأمر الأعم، فالأحكام المذكورة المأخوذة على الوجه الأعم لا تندرج عندهم
في الأعراض الذاتية بالقياس إلى الموضوع، لكون المراد بها على ما ذكروه الآثار
المطلوبة للموضوع المختصة به باعتبار أنه موضوع، وهذه الأحكام آثار مطلوبة
لما هو أعم من الدليل، غير مختصة بالدليل.
وما يتوهم في دفع ذلك من أن بحثهم عن هذه الأمور في الفن يجوز أن يكون
بحثا عن مطلقها ولا يلزم إشكال من ذلك، لأن مطلقها جزء من الكتاب والسنة،
كما أن المقيد منها جزء منهما، أو لأن المطلق جزء من المقيد والمقيد جزء من
الموضوع، فيكون المطلق أيضا جزء منه لأن جزء الجزء جزء، ومن المقرر أن
موضوع مسائل الفن قد يكون بعض أجزاء الموضوع، واضح المنع.
أما أولا: فلمنع كون المطلق جزء من المقيد، بل هو نفسه وإنما غايره
بالاعتبار، فإن الماهية إنما تصير مطلقة إذا أخذت لا بشرط القيد فتصير مقيدة إذا
أخذت باعتبار تقيدها بالقيد. ومن البين أن أخذ القيد وعدمه معها أمران
اعتباريان.
وأما ثانيا: فلمنع كون المقيد جزء من الكتاب والسنة، إذا اعتبر الأول الكلام
المنزل على وجه الإعجاز، والثاني قول المعصوم وما يقوم مقامه، فإن المقيدات
حينئذ جزئيات لهما كما جزم به بعض الفضلاء (1) وإنما يصح كونها أجزاء إذا جعل
الأول عبارة عن مجموع الألفاظ المأخوذة فيما بين الدفتين، والثاني عبارة عن
مجموع الأقوال الواردة في الأخبار.
وأما ثالثا: فلأن المطلق على فرض كونه جزءا من المقيد جزء عقلي، والذي
قد يؤخذ في مسائل الفن من بعض أجزاء الموضوع لابد وأن يكون من الأجزاء
الخارجية، كالبحث عن الفاتحة والركوع والسجود مثلا التي هي من أجزاء الصلاة

(1) الفصول: 9.
180

التي هي من فعل المكلف، والجزء العقلي إذا كان جنسا أو ما هو بمنزلة الجنس هو
الذي ليس البحث عنه بحثا في الفن الذي موضوعه ما هو أخص منه، لتركبه منه
ومن غيره الذي هو إما فصل أو ما هو بمنزلته.
نعم البحث عن الجزء المساوي ولو عقليا كالفصل، بحث عن هذا المركب
لكون المبحوث عنه من الآثار المطلوبة له المختصة به، كما لا يخفى.
فالأولى - في دفع الإشكال - أن يقال: إن المأخوذ في عداد الأدلة بالنظر إلى
الكتاب والسنة إنما هو الألفاظ المعبر عنها بالأدلة اللفظية.
ومن البين، أن الألفاظ إنما تنهض أدلة بالنظر إلى الأحكام الشرعية الفرعية
إذا أخذت في جهة خاصة لجهة عامة، فإضافة الأمور المذكورة إلى الكتاب
والسنة تحقيق للجهة الأولى فيها، وأخذها في عناوين المسائل على الوجه الأعم
إنما هو لمراعاة الجهة الثانية، والجهتان ليستا بمتضادتين ولا متناقضتين، فالجمع
بينهما بمراعاتهما معا في الموضوع لا يستتبع محذورا.
وتوضيحه: أن الأدلة اللفظية لا تصلح أدلة على الأحكام الشرعية إلا إذا
كانت بينها وبين الأحكام ملازمة، وهذه الملازمة مما لا يتأتى فيها إلا إذا تضمنت
سندا ترجع من جهته إلى الشارع، ودلالة ترجع من جهتها إليه أو إلى العرف العام
أو اللغة، فالإضافة إلى الكتاب والسنة في الأمر والنهي وغيرهما من الأمور
المذكورة إنما هي لإحراز السند الذي هو الجهة الخاصة، وأخذها في عناوين
المسائل لا بهذه الإضافة إنما هو لإحراز الدلالة التي هي الجهة العامة، نظرا إلى أن
دلالات الألفاظ على معانيها التي ينوط بها ثبوت الأحكام الشرعية ليست
لمناسبات ذاتية، بل لابد فيها إما من الوضع الشرعي أو القرينة المقامة من الشارع،
وحيث انتفى الأمران لابد فيها من مراعاة الوضع العرفي أو اللغوي، التفاتا إلى أن
طريقة الشارع في خطاباته غالبا إنما هي طريقة العرف واللغة واعتبار جهة العموم
في عناوين المسائل إنما هو لمراعاة الملازمة المنوطة بالعرف واللغة نظرا إلى
انتفائه الأمرين الأولين.
181

وبعبارة أخرى: أن الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة إنما ينظر في دلالاتها
باعتبار العرف واللغة بعد الفراغ عن إثبات انتفاء الوضع الشرعي وفقد القرائن
الشرعية فيها، أو بعد الفراغ عن إثبات انتفاء الأول على التحقيق وفقد الثاني على
الفرض والتقدير، ليجدي الحكم الثابت فيها على جهة العرف واللغة في مواضع
فقد القرينة.
وبالجملة، فتخصيص الكتاب والسنة بكونهما أدلة عما بين الأمور اللفظية
تحقيق للسند المختص بالشارع، وهو لا ينافي أخذ ألفاظها باعتبار العرف واللغة
تحقيقا لما لابد فيها من الدلالة، لعدم مدخلية جهة الشرع في ذلك.
فموضوع علم " أصول الفقه " إذا اعتبرناه من مقولة الأدلة اللفظية، إنما هي
الألفاظ في سند خاص لدلالة عامة، ومعنى عموم الدلالة كون جهة الإضافة إلى
الشارع من حيث الدلالة ملغاة، على معنى عدم اعتبار خصوصية هذه الإضافة في
جهة الدلالة، لعدم مدخلية لها فيها على ما هو مفروض المقام، فجعل الكتاب
والسنة بقيد الخصوصية دليلين إنما هو لمدخلية خصوصية الإضافة المذكورة في
السند، وهو لا ينافي عدم مدخليتها في ألفاظها من حيث الدلالة.
والحاصل: اختصاص العنوان بوصف الدليلية إنما هو لخصوصية إحدى
الجهتين، ولا هو يقضي باختصاصه من الجهة الأخرى، لكون الخصوصية من هذه
الجهة ملغاة، وهذا معنى كون الأمر والنهي وغيرهما مأخوذين في عناوين
المسائل على الوجه الأعم، على معنى أن الأمر الوارد في الكتاب أو السنة بنفسه
يفيد الوجوب من غير مدخلية لوروده في الكتاب والسنة في تلك الإفادة، وهكذا
يقال في سائر المسائل، فعموم عناوينها باعتبار أن النظر فيها إلى حيث الدلالة،
وخصوصية الإضافة من هذه الحيثية على ما هو مأخوذ في مفهوم الموضوع ملغاة
عنها، وهو لا ينافي كونها معتبرة من الحيثية الأخرى، لكون موضوع الفن على
البيان المذكور الألفاظ التي خصوصية الإضافة مأخوذة فيها سندا وملغاة عنها
دلالة.
182

وأما ما في كلام بعض الفضلاء (1) من دفع الإشكال بأن الأمور المذكورة إنما
يبحث عنها باعتبار وقوعها في الكتاب والسنة، فعند التحقيق ليس موضوع
مباحثهم مطلق تلك الأمور بل المقيد منها بالوقوع في الكتاب والسنة. ولا يقدح
في ذلك بيانهم لوضعه اللغوي والعرفي، إذ المقصود بيان مداليل تلك الألفاظ بأي
وجه كان.
فليس بسديد جدا إلا أن يرجع إلى ما قررناه من اعتبار جهتين مجتمعتين في
موضوع هذا العلم هو موضوع مباحثهم، أحدهما يقتضي التخصيص الذي لا
يتأتى إلا بأخذ الإضافة إلى الكتاب والسنة التي هي بعينها إضافة إلى الشارع،
وآخرهما تقتضي التعميم الذي لا يتأتى إلا بإلغاء تلك الإضافة، ولا يخفى ما في
العبارة حينئذ من القصور عن إفادة هذا المعنى.
وثانيها: أن موضوع هذا العلم إذا كان " الأدلة " فلا يرتبط به جملة من
مسائله، كحجية الكتاب وخبر الواحد وغيرهما من مباحث الحجية، فإن ذلك
بحث عن حال ما ليس بدليل، ضرورة أن الغرض بالبحث إثبات الدليلية ولا يلتئم
ذلك إلا بفرض موضوع المسألة ما ليس له وصف الدليلية، فلا يرتبط بموضوع
العلم.
ومن هنا اضطربت كلمتهم في التفصي عن الإشكال، فهم بين جماعة التزموا
بخروج هذه المباحث عن مسائل الفن بتوهم دخولها في الأصول الكلامية، ومنهم
بعض الأعلام (2) حيث إنه بعدما نقل عن بعضهم أنه ذكر قولهم: الكتاب حجة مثالا
لما يكون من المسائل موضوعه نفس موضوع العلم، رده بقوله: ولا يرجع إلى
محصل، إذ ذلك معنى كونه دليلا، والمفروض أنا نتكلم بعد فرض كونها " أدلة "
وهو خارج عن الفن، وبيانه ليس من علم الأصول كما لا يخفى، بل هو من توابع
الكلام. انتهى.
وبين فرقة جزموا بكونها من مسائله بتكلف اعتبار الموضوع ذات الدليل

(1) الفصول: 9.
(2) قوانين الأصول: 1.
183

معراة عن وصف الدليلية، ومنهم بعض الفضلاء (1) قائلا: وأما بحثهم عن حجية
الكتاب وخبر الواحد فهو بحث عن الأدلة، لأن المراد بها ذات الأدلة لا هي مع
وصف كونها أدلة، فكونها أدلة من أحوالها اللاحقة لها. انتهى.
وفي جميع ذلك من التعسف ما لا يخفى على المنصف، والذي يرشد إليه
التحقيق ويساعد عليه النظر الدقيق، منع خروج هذه المسائل عن وضع المسائل
الأصولية الباحثة عن الأدلة الظاهرة فيها بوصفها العنواني، وليس في شئ من
ذلك ما يرتبط بالأصول الكلامية ولا ما يقضى بكون البحث فيها لاحقا بذوات
الأدلة معراة عن وصف الدليلية، وإن كان البحث عن الحجية نفيا وإثباتا يرجع إلى
البحث عن الدليلية، وصلاحية المورد للطريقية التي مرجعها إلى الملازمة بينه
وبين مدلوله.
وتوضيحه: أن الملازمة المقصودة من الدليلية والطريقية قد تفرض فيما بين
الحكم الشرعي وما ادعي كونه دليلا عليه وطريقا إليه، كالملازمة فيما بينه وبين
السنة المفسرة بقول المعصوم أو فعله أو تقريره، أو بينه وبين قول الله سبحانه
الخالي عن الإجمال والمنع الطارئ عن العمل به.
وقد تفرض فيما بين طريق الحكم الشرعي الثابت كونه طريقا إليه بالفرض
وبين ما ادعي كونه طريقا إلى إحراز هذا الطريق، كالملازمة فيما بين قول
المعصوم أو رأيه وإجماع العلماء على طرق الخاصة، ومثلها الملازمة فيما بين
السنة وبين نقل العدل الواحد لها مثلا، أو بين قول الله تعالى والنقل الغير العلمي
لهذا القول.
وقد تفرض فيما بين طريق طريق الحكم الشرعي الثابت كونهما طريقين وما
ادعي كونه طريقا إلى إحراز طريق الطريق، كالملازمة فيما بين الإجماع بعد البناء
على كونه دليلا لكشفه عن قول المعصوم أو رأيه وبين نقله الغير البالغ حد التواتر.

(1) الفصول: 9.
184

ثم الدليل الثابت كونه بنفسه ولذاته ملزوما للحكم الشرعي قد يطرأه مانع أو
منع شرعي عن العمل به، كالكتاب الذي هو قول الله على ما ادعاه الأخبارية فيه
من طرو الإجمال لظواهره كما يستفاد من بعضهم، أو قيام المنع من الشارع عن
العمل به بمقتضى الأخبار الناهية عنه حسبما يظهر من البعض الآخر، فالبحث عن
الحجية نفيا وإثباتا إن رجع إلى الملازمة الأولى فلا جرم يكون ذلك البحث من
مباحث الكلام، ويكون موضوعه ذات الدليل بدون وصف الدليلية، ضرورة أن
كون قول المعصوم ملزوما للحكم الشرعي من توابع العصمة التي إثباتها وظيفة
المتكلم، وكذلك كون قول الله سبحانه ملزوما له فإنه من توابع وجوب حكمته
وامتناع الكذب والقبيح عليه وغير ذلك، مما له مدخل في الحكم بمطابقة هذا
القول للواقع، فلا يبحث عنهما إلا في الكلام ولا رجوع للأصولي إلى هذا البحث،
كما أنه لا تعلق لفن " أصول الفقه " بهذا المبحث ونظائره، وليس مأخوذا في شئ
من كتبه ولا في مسائله المدونة، بل المأخوذ فيها الذي يكون البحث عنه وظيفة
الأصولي من مباحث الحجية إنما هو الملازمة بالمعنى الثاني أو الثالث، أو ما هو
من لوازم الملازمة بالمعنى الأول أو ملزوماتها، فإن قول الأصولي: " خبر الواحد
حجة " يريد به أن نقل السنة بغير تواتر ملزوم للسنة وطريق يحرز به السنة، لأن
الخبر ليس نفس السنة بل كلام محكي السنة، وقوله: " الإجماع المنقول حجة "
يريد به أن نقل الإجماع ملزوم له وطريق إلى إحرازه، وهذا كما ترى بحث عن
حال الدليل بوصف الدليلية، لأن مرجعه إلى أن السنة والإجماع يثبتان بالنقل الغير
العلمي، ولو قال الأصولي: " الإجماع حجة أو ليس بحجة " كان باحثا عن حال
الدليل أيضا، لكون معنى القضية حينئذ: " ان الإجماع هل هو ملزوم لقول المعصوم
أو رأيه بأحد طرقه المعهودة لدى أصحابنا أو ليس بملزوم له " وظاهر أن قول
المعصوم ورأيه داخلان في السنة المعدودة من الأدلة، غاية الأمر كونه حينئذ سنة
إجمالية.
فخلاصة الكلام: أن كل بحث عن الحجية إذا رجع إلى الملازمة بالمعنى
185

الأول، لم يكن بحثا عن حال الدليل في شئ من طرفي الملازمة - اللازم
والملزوم - ولا أن القضية معه مأخوذة في المباحث الأصولية، وكل بحث عنها إذا
رجع إلى الملازمة بالمعنى الثاني أو الثالث كان بحثا عن حال الدليل باعتبار أحد
طرفي الملازمة وهو اللازم، فيكون القضية معه من المسائل الأصولية وهو المعهود
المتداول فيما بين أهل الفن المأخوذ في مباحثه كما لا يخفى على الخبير البصير.
وأما البحث عن حجية الكتاب إن أريد به ما وقع بين الأخباريين وأصحابنا
المجتهدين، فمرجعه إلى أن ظواهر الكتاب العزيز هل طرأها إجمال لئلا يجوز
العمل بها وتسقط عن الحجية الذاتية، وهل طرأها منع شرعي عن العمل بها أو لم
يطرأها شئ من ذلك لتكون على حجيتها الذاتية، ويترتب عليها أثر الحجية؟
وهذا أيضا بحث عن حال الدليل جدا، لأن الإجمال والبيان من عوارض الأدلة،
وإن أريد به غير ذلك على معنى رجوع النزاع إلى الكتاب باعتبار السند بأن يرجع
إنكار المنكر للحجية إلى إنكار سند الكتاب الموجود بأيدينا، فهذا النزاع غير
معهود عن أهل هذا الفن، ولا أن ذلك البحث مأخوذ في مباحثه، كما لا يخفى على
الخبير البصير.
نعم ربما يبحث فيه عن قرآنية ما قد ينقل في الشواذ من الآيات، وهو في
الحقيقة بحث عن حال الدليل أيضا، بالتقريب المتقدم في حجية خبر الواحد
ونحوه، لرجوع البحث حينئذ إلى أن القرآنية التي هي موضوع الحجية هل تثبت
بنقل الآحاد أو لا؟ ومنشأ هذا البحث ما وقع في كلامهم من أن القرآن متواتر فما
نقل آحادا ليس بقرآن.
وبما عرفت من البيان تعرف حقيقة المراد في بحث حجية الشهرة بناء على
أن معنى حجيتها - عند قائليها بالنظر إلى الحكم الشرعي - حجية المنكشف وهو
الدليل المعتبر الذي لو عثرنا عليه لعملنا به من غير تأمل، فيرجع البحث حينئذ إلى
أنها هل تكشف عن وجود دليل معتبر في المسألة وهل يثبت بها الدليل مستندا لها
186

أو لا؟ ولعله إلى ذلك يشير ما في كلام الشهيد في الذكرى (1) عند الاستدلال على
حجية الشهرة من أن عدالتهم تمنع عن الاقتحام على الإفتاء بغير علم، ولا يلزم
من عدم الظفر بالدليل عدم الدليل، خصوصا وقد تطرق الدروس إلى كثير من
الأحاديث، لمعارضة الدول المخالفة ومبائنة الفرق المنافية... الخ. ويظهر منه
انكشاف وجود ما يكون من السنة.
ويجري نظير ذلك في مسألة حجية القياس التي أنكرها أصحابنا الإمامية،
نظرا إلى أن علة الحكم الشرعي حيثما ثبت عليتها بالقاطع فهي دليل عليه، ولذا
صار أصحابنا - إلا بعضهم - إلى حجية القياس المنصوص العلة، فكون العلة دليلا
على الحكم مما لا إشكال فيه كما لا خلاف فيه، وإنما الخلاف بالنسبة إلى القياس
المستنبط العلة واقع في أن الطرق المقررة عند جمهور المخالفين لاستنباط العلة
هل تفيد العلية على الاستقلال أو لا؟
وبعبارة أخرى: هل العلة التي هي دليل على الحكم الشرعي تثبت بطرق
الاستنباط أو لا؟ فيكون هذا أيضا بحثا عن حال الدليل، لرجوعه إثباتا ونفيا إلى
الملازمة بين الحكم العقلي بالعلية بواسطة الطرق المقررة للاستنباط، وبين نفس
العلة التي حيثما ثبتت كانت دليلا على الحكم في غير مورد النص، ومعه فلا حاجة
في التفصي عن الإشكال بالقياس إلى بحثهم عن عدم حجية القياس والاستحسان
ونحوهما إلى تكلف القول بأنه استطرادي تتميما للمباحث، أو أن المقصود من
نفي كونها أدلة انحصار " الأدلة " في البواقي فيكون بحثا عن أحوالها، أو أن المراد
" بالأدلة " ما يكون دليلا ولو عند البعض، أو ما يحتمل عند علماء الإسلام
- ولو بعضهم - أن يكون دليلا، كما ارتكبه بعض الفضلاء (2).
نعم ربما يقوى في بادئ الرأي خروج بحثهم عن حجية الظن المطلق وعدمها
عن مباحث الفن، لكون الحجية المتنازع فيها عبارة عن الملازمة بين الظن ونفس

(1) ذكرى الشيعة 51: 1.
(2) الفصول: 9.
187

الحكم الشرعي الواجب اتباعه، لكن النظر الدقيق يقضي بخلافه، ويشهد برجوع
ذلك أيضا إلى البحث عن حال الدليل.
أما على الظن في الطريق الذي اختاره الهداية (1) والفصول (2) فواضح، وأما
على الظن في نفس الأحكام الذي هو المعروف من أهل القول بالحجية، فلأن
عبارة قولهم: " الظن حجة أو ليس بحجة " وإن كانت تقضي بظاهرها بكبروية
النزاع، على معنى كونه في أصل الملازمة بين الظن والحكم الشرعي، غير أن
المستفاد من مطاوي كلماتهم وتضاعيف عباراتهم في الاستدلال والنقض
والإبرام كون الكبرى والملازمة المذكورة مسلمة، ورجوع النزاع إلى أمر
صغروي، وهو وجود الطرق المعتبرة المرخص في الرجوع إليها شرعا بعنوان
القطع وإن لم تكن بأنفسها علمية في أزمنة الغيبة وفقدها على هذا الوجه، كما
يفصح عنه مقابلة القول بالحجية لمقالة الأخبارية القائلة بقطعية أخبارنا اليوم
مطلقة أو الموجودة منها في الكتب الأربعة خاصة، ومقالة أهل القول بالظنون
الخاصة، ومقالة من احتمل عند نقض دليل الانسداد كون المرجع حال الانسداد
هو الاحتياط أو البراءة الأصلية أو غيرها من الأصول المقررة في الشريعة.
ولذا كان المهم في نظر أهل القول بالحجية إثبات انسداد باب العلم، بنفي
وجود الطرق العلمية والظنون الخاصة ونفي مرجعية الأصول العامة، فالقول
بالحجية مرجعه في الحقيقة إلى دعوى فقد الطرق العلمية وغيرها من المعتبرة
شرعا، كما أن مرجع القول بنفيها إلى دعوى وجودها بأحد الوجوه المذكورة،
ويشهد به الإجماعات المنقولة على الحجية على تقدير الانسداد مطلقا.
وثالثها: أن من المسائل المقررة في الفن، المباحث المتعلقة بالأصول العامة

(1) هداية المسترشدين: 407 (الطبعة الحجرية) في ذيل البحث عن دليل الانسداد على
حجية الخبر الواحد.
(2) الفصول: 277، حيث أورده في ذيل الدليل الثامن من الأدلة القائمة على حجية الخبر،
وهو الدليل المعروف بدليل انسداد باب العلم.
188

العملية المقررة للجاهل، من الاستصحاب وأصلي البراءة والاحتياط، والبحث
فيها غير راجع إلى حال الدليل بوصف كونه دليلا.
فإن المعروف فيما بينهم اندراج هذه الأصول في الأدلة العقلية، وقد ذكروا في
تعريف الدليل العقلي: " أنه حكم عقلي يتوصل به إلى حكم شرعي " والبحث في
هذه الأصول لا يخلو إما أن يرجع إلى أن العقل هل يحكم في موارد الاستصحاب
ببقاء ما كان، وفي موارد البراءة بنفي التكليف، وفي موارد الاحتياط بوجوبه،
وفي موارد الاشتغال بوجوب اليقين بالبراءة أو لا يحكم، فالقائل بالحجية مدع
لحكم العقل ومنكرها ناف لحكمه.
أو يرجع إلى الملازمة بين حكم العقل المفروض ثبوته وبين حكم الشرع بما
حكم به العقل من البقاء أو نفي التكليف أو وجوب الاحتياط أو وجوب اليقين
بالبراءة، فالقائل بالحجية مدع للملازمة والمنكر لها ينفيها.
فالبحث عن الأول يرجع إلى إثبات أصل حكم العقل ونفيه، وعلى الثاني
يرجع إلى إثبات كونه دليلا على الحكم الشرعي ونفيه، وأيا ما كان فليس بحثا عن
حال الدليل الموصوف بوصفه العنواني.
ويجري هذا الكلام في المستقلات العقلية التي نازعوا فيها تارة في إدراك
العقل حسن بعض الأشياء وقبحها وعدمه، وأخرى في الملازمة بين ما أدركه
العقل وكونه حكما شرعيا وعدمها، وتوهم خروج هذه المباحث عن مسائل الفن
رأسا يكذبه القطع بخلافه، بدلالة صدق تعريفه عليها، ضرورة كونها قواعد لم تمهد
إلا لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية الواجب إتباعها فعلا.
وهذا الإشكال مما يصعب دفعه إلا بالتزام الخروج وهو أصعب، لكن قد يقال:
بمنع التلازم بين مسائل الفن واندراجها في موضوعه إذا كانت بحيث يشملها
تعريفه كما في المباحث المذكورة، فيحكم بكونها من مسائله لمجرد اندراجها في
تعريفه وإن لم تندرج في ضابط موضوعه، فإن صحت هذه الدعوى اندفع بها
الإشكال لكنا لا نعرف لها وجها، بل لا يلائمها ما صرحوا به من أن موضوع العلم
189

لابد وأن يكون جهة جامعة لمسائله، ولا ما في كلام المحققين في ضابط مسائل
كل علم من أنه لابد لها من موضوعات وهي إما نفس موضوع العلم، أو جزء من
أجزائه، أو نوع من أنواعه، أو عرض ذاتي له، أو نوع من عرضه الذاتي.
نعم يمكن أن يتكلف في دفعه في الجملة بأن يقال: - بالقياس إلى
الاستصحاب - إن جمعا من الفحول قسموا الاستصحاب على أربعة أقسام،
وصرحوا بعدم الخلاف في حجية أكثرها.
أحدها: نفي الحكم الشرعي وبراءة الذمة منه إلى أن يظهر دليله وهو المعبر
عنه بالبراءة الأصلية، وقد وقع الخلاف فيه بين الأخباريين ففرقوا في الحجية بين
الشبهات الوجوبية فالحجية والشبهات التحريمية فعدمها، بناء فيها على وجوب
الاحتياط، وبين المجتهدين فعمموا الحجية.
وثانيها: استصحاب حكم العموم إلى أن يقوم المخصص وحكم النص إلى أن
يرد الناسخ.
وثالثها: استصحاب إطلاق النص إلى أن يثبت المقيد، وهذان القسمان مما لا
خلاف في حجيته عند الفريقين كما هو المعلوم المصرح به في كلام جماعة منهم
صاحب الحدائق (1).
ورابعها: استصحاب حكم شرعي في موضع طرئت له حالة لم يعلم شمول
الحكم لها، بمعنى أنه يثبت حكم في وقت ثم يجيء وقت آخر ولا يقوم دليل على
انتفاء ذلك الحكم فيه، فيحكم ببقائه على ما كان، استصحابا لتلك الحالة الأولى،
وهذا هو الاستصحاب المعروف المتنازع في حجيته التي أنكرها الأخبارية،
فحينئذ نقول: إنهم اتفقوا على حجية الاستصحاب في كثير من أقسامه، وكونه دليلا

(1) الحدائق الناضرة 51: 1 - حيث قال في المطلب الثاني من المقدمة الثالثة من مقدمات
الكتاب، بعد بيان الأقسام الأربعة للاستصحاب -: إذا عرفت ذلك فاعلم أنه لا خلاف
ولا إشكال في حجيته بالمعنى الثاني والثالث لأن مرجعهما إلى الاستدلال بعموم النص
وإطلاقه...
190

في الشريعة في الجملة، لكنهم اختلفوا في انحصار الحجة والدليل منه في
المذكورات وعدم انحصارهما فيها، بدعوى: كون القسم الأخير منه أيضا حجة
وانحصار الدليل فيما ذكر وعدمه حال من أحوال الدليل الذي ثبت له وصف
الدليلية.
وبالقياس إلى أصلي البراءة والاحتياط بالمعنى الأعم من قاعدة الاشتغال
إنهم بعد اتفاقهم على إن الجاهل بالحكم الواقعي المنقطع عن الدليل العلمي، لابد له
من مرجع يرجع إليه لاستعلام حكمه الظاهري، وطريق منصوب من الشارع
يعتمد عليه في معرفة تكليفه الفعلي، فهناك طريق منصوب من الشارع لا محالة،
نازعوا في تعيين هذا الطريق المقطوع بانتصابه، فهذا دليل نوزع في تعيينه، فمنهم
من قال بأنه البراءة، ومنهم من زعم إنه الاحتياط، وهذا كما ترى أيضا نحو حال
من أحوال الدليل، هذا حسبما يختلج بالبال في تلك الحال المقرونة بضيق
المجال، وبعد فيه تأمل إلى ما هدانا الله ذو الجلال مدفع الإشكال.
* * *
191

معالم الدين:
فصل
واعلم: أن لبعض العلوم تقدما على بعض، إما لتقدم موضوعه،
أو لتقدم غايته، أو لاشتماله على مبادي العلوم المتأخرة، أو لغير ذلك
من الأمور التي ليس هذا موضع ذكرها.
ومرتبة هذا العلم متأخرة عن غيره، بالاعتبار الثالث؛ لافتقاره إلى
سائر العلوم واستغنائها عنه.
أما تأخره عن علم الكلام، فلأنه يبحث في هذا العلم عن كيفية
التكليف، وذلك مسبوق بالبحث في معرفة نفس التكليف والمكلف.
وأما تأخره عن علم أصول الفقه، فظاهر، لأن هذا العلم ليس
ضروريا، بل هو محتاج إلى الاستدلال، وعلم أصول الفقه متضمن
لبيان كيفية الاستدلال.
ومن هذا يظهر وجه تأخره عن علم المنطق أيضا، لكونه متكفلا
ببيان صحة الطرق وفسادها.
وأما تأخره عن علم اللغة والنحو والتصريف، فلأن من مبادي هذا
العلم الكتاب والسنة، واحتياج العلم بهما إلى العلوم الثلاثة ظاهر. فهذه
هي العلوم التي يجب تقدم معرفتها عليه في الجملة. ولبيان مقدار
الحاجة منها محل آخر.
193

[30] قوله: (واعلم أن لبعض العلوم تقدما على بعض، إما لتقدم
موضوعه أو لتقدم غايته، أو لاشتماله على مبادئ العلوم المتأخرة... الخ)
والمراد " بالتقدم " هنا ما يعم الطبعي والرتبي، لوضوح أن المتقدم بالاشتمال
على مبادئ المتأخر لا يكون إلا متقدما بالطبع، كما أن المتقدم بتقدم الموضوع
أو الغاية لا ينطبق إلا على المتقدم بالرتبة.
وأما أمثلة الأقسام، فمن القسم الأول علم " أصول الفقه " الباحث عن أحوال
أدلة الأحكام من حيث هي أدلتها حسبما تقدم بيانه، بالقياس إلى " الفقه " الباحث
عن نفس الأحكام من حيث تعلقها بفعل المكلف مستفادة من الأدلة المفصلة.
ومن القسم الثاني علم الصرف والنحو، الباحث عن أحوال اللفظ العربي من
حيث الصحة والاعتلال، ومن حيث صحة التركيب وسقمه، بالقياس إلى علوم
البلاغة الباحثة عن أحواله من حيث مطابقته لمقتضى الحال، واشتماله على
محسنات المقال.
ومن القسم الثالث، علم النحو أيضا بالقياس إلى علوم البلاغة، ضرورة أن
الغرض المطلوب من النحو حفظ اللسان عن الخطأ في البيان، ومن علوم البلاغة
الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى بلفظ بليغ، ولا يتأتى ذلك إلا بعد مراعاة أدائه
باللفظ الفصيح، الذي لا يتأتى إلا بمراعاة فصاحة الكلام، المعبر عنها بخلوصه عن
أمور منها ضعف التأليف المفسر بكون تأليف أجزائه على خلاف القانون المشتهر
فيما بين معظم أصحابه، مع فصاحة كلماته، المفسرة بخلوصها عن أمور:
منها: مخالفة القياس المعبر عنها بكون الكلمة على خلاف القانون المستنبط
من تتبع مفردات لغة العرب وألفاظهم الموضوعة، كالإعلال في نحو " قام "
والإدغام في نحو " مد " وغير ذلك، مما هو مقرر في مظانه.
ثم إن من العلوم ما يتقدم باعتبار الشرف، كما أن منها ما يتقدم في التعليم
لنحو من وجوه الاستحسان.
أما الأول: فيختلف الحال فيه بحسب اختلاف الموضوعات والغايات في
194

الشرافة والضعة، كما في الكلام والتفسير والحديث والفقه والبلاغة بالقياس
إلى غيرها.
وأما الثاني: فلكون مسائل أحد العلمين سهل المأخذ، بينة المقدمات دون
الآخر، فناسب تقديمه في التعليم لسهولة تحصيله على المتعلم، فيقوى بذلك
استعداده ويزيد ملكته المقتدر بها على الإدراكات الجزئية، فيهون عليه الاشتغال
بالآخر، أو لكون أدلة أحدهما أقوم وبراهينه أحكم وأبعد عن الخطأ. فيقدم في
التعليم، ليتعود المتعلم على عدم قبول المطالب الواهية، وعدم الإذعان بالنتائج
الغير الواضحة المقدمات، ويتجنب عن التعويل على البراهين الخفية، ويتحرز عن
الاعتماد على الشواهد الغير الجلية، وهاتان الجهتان حاصلتان في العلوم
الرياضية بالقياس إلى سائر الفنون الفلسفة، على ما كان متعارفا عند قدماء
الفلاسفة في تعاليمهم من تقديم الأولى على الثانية، وكان قوله: " أو لغير ذلك من
الأمور التي ليس هذا موضع ذكرها " إشارة إلى ذلك.
* * *
195

معالم الدين:
فصل
ولابد لكل علم أن يكون باحثا عن أمور لاحقة لغيرها. وتسمى
تلك الأمور مسائله، وذلك الغير موضوعه. ولابد له من مقدمات
يتوقف الاستدلال عليها، ومن تصورات الموضوع وأجزائه وجزئياته.
ويسمى مجموع ذلك بالمبادي.
ولما كان البحث في علم الفقه عن الأحكام الخمسة، أعني:
الوجوب، والندب، والإباحة، والكراهة، والحرمة؛ وعن الصحة
والبطلان، من حيث كونها عوارض لأفعال المكلفين، فلا جرم كان
موضوعه هو أفعال المكلفين، من حيث الاقتضاء والتخيير. ومباديه ما
يتوقف عليه من المقدمات، كالكتاب والسنة والاجماع، ومن
التصورات، كمعرفة الموضوع وأجزائه وجزئياته؛ ومسائله هي
المطالب الجزئية المستدل عليها فيه.
197

[31] قوله: (ولابد لكل علم أن يكون باحثا عن أمور لاحقة لغيرها...
الخ)
البحث على ما في كلام بعض المحققين جعل موضوع العلم أو نوع منه أو
عرض ذاتي له أو نوع من عرضه الذاتي موضوعا للأمور المذكورة المسماة
" بالمسائل " على ما في العبارة وغيرها، والمعبر عنها " بالعوارض الذاتية " على ما
يساعد عليه النظر، كالعدد في لحوق الناقص أو التام أو الزائد أو الزوج أو الفرد له،
والثلاثة في لحوق مخرج الثلث له، والزوج في لحوق الانقسام بمتساويين له،
وزوج الزوج في لحوق قبول التنصيف أزيد من مرة واحدة إلى أن ينتهي إلى
الواحد له، في مقابلة ما لا يقبل التنصيف إلا مرة واحدة، المسمى بزوج الفرد
كالعشرة، وما يقبله أزيد من مرة من دون أن ينتهي إلى الواحد المسمى بزوج
الزوج والفرد كعشرين، وأما المقابل لهما فكالثمانية ولا يقدح فيما يلحق النوعين
كونه أعم منهما لشيوع وقوعه في العلوم، كما في قول الفقهاء: " المسكر حرام "
وقول النحاة: " الفاعل مرفوع ".
نعم يعتبر عدم كونه أعم من موضوع العلم لدخوله حينئذ في العوارض
الغريبة، كما لو قال المحاسب: الثلاثة عرض، وزوج الزوج كم مثلا.
وقد صرح بما ذكرناه من اعتبار عدم الأعمية المحقق الطوسي - على ما
حكي عنه - في نقد التنزيل.
وأما إذا لم يكن أعم منهما على وجه ساوى الموضوع، فقد يتوهم منافاته لما
جرى عليه ديدنهم من عد ما يلحق الموضوع بواسطة أمر خارج عنه أخص منه
من الأعراض الغريبة، غير أنه سيلحقك ما يدفعه، من أن العوارض الذاتية في
تعريف الموضوع عبارة عما يختص به ولا يوجد في غيره، مع شموله بجميع
أفراده منفردا أو منضما إليه ما يقابله في لحاظ الحمل إذ اعتبر فيهما على البدل،
بأن يفرض المحمول في كل مسألة موضوعها أمر أخص مع مقابلاته من
محمولات سائر المسائل الأخر شاملا لجميع أفراد الموضوع، فيكون قبول
198

التنصيف أزيد من مرة إلى أن ينتهي إلى الواحد إذا اخذ مع مقابليه المتقدمين على
وجه الترديد عرضا ذاتيا للعدد لعدم خلوه عن أحدها، ولولا ذلك لانتقضت
القاعدة بأكثر مسائل العلوم بأسرها، لكون موضوعاتها أنواعا لموضوع العلم مع
عدم مساواة محمول كل نوع بانفراده له، كما يظهر بالتأمل.
وليس ذلك من باب ما يلحق الموضوع بواسطة أمر خارج أخص ليكون من
الأعراض الغريبة، لأن موضوعات هذه المحمولات المتقابلة وإن كانت أمور
متقابلة، غير أنها إذا اعتبرت مجتمعة كانت مساوية للموضوع، فيكون محمولاتها
اللاحقة له على الوجه المذكور مما يلحقه بواسطة أمر مساو، بناء على حمل
الواسطة المساوية له على ما يعم المساوي له بحسب الحقيقة أو بحسب الاعتبار،
فيكون محموله المعتبر كونه مساويا له أعم مما ينحل إليه محمولات المسائل على
طريق الترديد.
وعليه فليحمل ما يكون محمول نوعه بالقياس إليه عرضا غريبا على ما ليس
له بحسب الخارج إلا نوع واحد أو على ما لا محمول بحيث اخذ مسألة في العلم
إلا لأحد أنواعه، أو على ما لو اخذ محمول بعض الأنواع بالقياس إليه بشرط
الانفراد، بناء على أن كونه بهذا الاعتبار عرضا غريبا بالقياس إليه، لكونه أخص
منه غير شامل لجميع أفراده لا ينافي كونه بشرط الانضمام إلى محمولات سائر
الأنواع على وجه الترديد من الأعراض الذاتية، وعليه فلا حاجة إلى حمل كلام
المتأخرين في تعريف الموضوع حيث لم يأخذوا فيه إلا الأعراض الذاتية على
المسامحة، كما صنعه المحقق الدواني، كما لا حاجة إلى تكلف حمله على البناء
على الفرق بين محمول العلم ومحمول المسألة، كالفرق بين موضوعيهما، بدعوى:
أن محمول العلم ما كان عرضا ذاتيا لموضوعه بخلاف محمول المسألة، فإنه ربما
لا يكون عرضا ذاتيا له، كما إذا كان موضوعها نوعا من موضوع العلم، فإن
محمول المسألة على هذا التقدير إنما لا يكون عرضا ذاتيا لموضوع العلم إذا اخذ
بانفراده، وأما إذا اخذ مع ما يقابله على نحو الترديد فقد عرفت أنه يكون حينئذ
199

عرضا ذاتيا له، فيكون محمول العلم على ذلك التقدير ما ينحل إليه محمولات
المسائل المأخوذة على وجه الترديد، ولك أن تقول: إن انتساب الأعراض إلى
ذات الموضوع، يشمل محمولات الأنواع ولو اخذت بانفرادها، بناء على ان
الإضافة مما يكفي فيه أدنى الملابسة.
ومن المعلوم أن لذات الموضوع مدخلية في اتصاف نوعه بمحموله، لكون
النوع عبارة عن ذات الموضوع المأخوذة مقيدة بالخصوصية الحاصلة من انضمام
الفصل أو ما هو بمنزلته.
غاية الأمر، أن الخصوصية أيضا له مدخلية في ذلك، بل هي في كثير من
الصور أقوى الجزئين، غير أنها لا تنافي مدخلية الذات فيه أيضا، وهذا يكفي في
النسبة وجعل الأعراض اللاحقة للأنواع ذاتية بالقياس إليه، بناء على أنه لا يعتبر
في حصول هذه النسبة - بعد ملاحظة ما ذكر - صحة أخذ محمول النوع بانفراده
محمولا لنفس الموضوع، ولعل إلى هذا التوجيه يشير ما عن الشيخ في الشفاء -
بعد ما عرف موضوع الصناعة بما يبحث فيها عن الأحوال المنسوبة إليه،
والعوارض الذاتية له - من أن المسائل هي القضايا التي محمولاتها عوارض ذاتية
لهذا الموضوع، أو لأنواعه أو لعوارضه... الخ.
فإن كون العوارض ذاتية بالقياس إلى الأنواع والعوارض لا ينافي كونها
بالقياس إلى الموضوع من الأحوال المنسوبة إليه، بل العوارض الذاتية له بالنظر
إلى التوجيه، لكن يزيفه: أن العبرة في انتساب الأعراض إلى الذات هنا إنما هي
بكونها من محمولات الذات كما ظهر بالبيان المتقدم، ويلحقك أيضا زيادة بيان
فيه، لا بكونها من معلولاتها كما هو قضية التوجيه.
[32] قوله: (وتسمى تلك الأمور مسائله... الخ)
واعلم أن المسائل والمطالب والمباحث والنتائج ألفاظ متقاربة المعنى بل
متحدة، حيث لا تغاير بينها إلا بالاعتبار، فإن النسب التامة الخبرية التي يستدل
عليها في الفن من حيث إنها تسأل عنها تسمى مسائل، ومن حيث إنها تطلب في
200

العلم تسمى مطالب، ومن حيث إنها يقع عليها البحث تسمى مباحث، ومن حيث
استخراجها عن الأدلة تسمى نتائج.
وفي جعله الأمور اللاحقة الظاهرة في المحمولات عبارة عن المسائل - بناء
على هذا الظهور - مسامحة، يكشف عنها ما في ذيل كلامه من قوله: " ومسائله هي
المطالب الجزئية المستدل عليها فيه " نظرا إلى أن المتصف بالجزئية المستدل عليه
في الفن ليس إلا النسبة الخبرية، وإلا فالمحمول لابد وأن يكون بمفهومه أمرا كليا،
مع أن استدلالات الفن لا تقع على نفس المحمول بل على انتسابه إلى الموضوع،
مع أن الذي يطلب في العلم وهو الذي ينبغي أن يطلب، هو حصول التصديق
بالأمور التي دون العلم لأجل بيانها ولغرض البحث عنها، ولا يصلح له إلا النسب
التامة الخبرية، ضرورة أن غيرها من أجزاء القضية من الموضوعات والمحمولات
لا يقع إلا موردا للتصور الذي هو أمر آخر معتبر في التصديق.
فما في كلام بعض محققي الشراح (1) من تفسيرها بالنسب التامة المستدل
عليها مما لا محيص عنه.
وقد علم بما ذكرنا، أن ما في بعض التفاسير من أنها المحمولات المنسوبة إلى
الموضوعات واضح الضعف، واعتبار الحيثية كما في بعض التوجيهات غير مجد
في تصحيحه، إذ غاية ما فيها الدلالة على أن النسب غير خارجة عن المسائل
وهذه ليس من الدلالة، على أنها عينها في شئ كيف وأدلة العلم لا تنهض إلا على
نفس النسب.
وبذلك يظهر ضعف تفسيرها بالمحمولات المثبتة بالدليل، إذ لو أريد بإثبات
المحمولات بالدليل إقامة الدليل على ثبوتها في نفس الأمر فهو ليس بما يطلب
في العلم جزما، وإن أريد به إقامته على ثبوتها لموضوعاتها فهو معنى كون
المستدل عليه في الفن هو النسبة بناء على أنها ليست عبارة إلا عن ثبوت

(1) هداية المسترشدين: 14 (الطبعة الحجرية).
201

المحمول من حيث إنه ثبوته، فلا مدخلية لنفس المحمول فيه إلا من حيث إنه أحد
الطرفين، وذلك لا يوجب كونه عينه، ولا يجدي في إصلاحه إضمار النسب كما
في بعض التوجيهات أيضا، بأن يكون المعنى نسب المحمولات المثبتة بالدليل،
لما فيه من التكلف الغير المرضي عند القائل، وإلا لم يكن عدل إلى التفسير
المذكور.
وأضعف من الجميع تفسيرها بالقضايا التي تطلب في العلم، أو التي يقع فيها
أبحاث العلم، أو التي محمولاتها عوارض ذاتية لموضوع العلم أو لأنواعه أو
لعوارضه الذاتية كما عرفته عن الشيخ في الشفاء، فإنه يستلزم اندراج
الموضوعات في المسائل، لتصريحهم بتثليث أجزاء القضية التي منها
الموضوعات، وهذا لا يلائمه اعتبارهم المسائل في طرف المقابل للموضوعات
وتصريحهم بتثليث أجزاء العلوم التي منها الموضوعات ومنها المسائل.
[33] قوله: (وذلك الغير موضوعه... الخ)
الأعراض الذاتية
ربما يتوهم شمول العبارة بإطلاقها ما ليس بموضوع العلم، نظرا إلى ما سبق
ذكره من أن " الغير " الذي يلحقه الأمور المبحوث عنها في العلم قد يكون نوعا من
موضوع العلم أو عرضا ذاتيا له أو نوعا من عرضه الذاتي، فإطلاق القول بكونه
موضوعا للعلم يتناول المذكورات التي ليست بموضوع العلم بل هي موضوعات
لمسائله.
ويندفع: أن المراد باللحوق في قوله: " عن أمور لاحقة لغيرها " ما يعم اللحوق
بالواسطة وبلا واسطة، والأمور اللاحقة للأمور المذكورة يلحق الموضوع بواسطة
هذه الأمور. والإشكال إنما يتوجه إذا اعتبر لحوقها له بلا واسطة.
ثم الموضوع - على ما سبق ذكره واتفق عليه كلمتهم - هو الذي يبحث في
العلم عن عوارضه الذاتية، والمراد بعوارضه الذاتية - حسبما عرفت آثاره
المطلوبة له وأحواله المختصة به على وجه يشمل جميع أفراده ولا يشمل ما ليس
منها، وهذا هو معنى استنادها إلى ذات الموضوع، فلا يراد منها ما يعرض ذات
202

الموضوع من حيث هي ذاته، ولا ما كان معلولا للذات، ويقابلها العوارض الغريبة
وهي التي ليست من آثاره المطلوبة له المختصة به، الشاملة لجميع أفراده الغير
الشاملة لغيرها، وإنما سميت " بالغريبة " لبعدها عن ذات المعروض.
واضطربت كلمتهم في تعريف العوارض الذاتية اضطرابا لا يكاد ينضبط،
ومن جملة ما ذكروه ما في الرسالة الشمسية (1) من تعريفها بالعوارض التي تلحق
الشئ لما هو هو أي لذاته، أو لما يساويه، أو لجزئه.
ووافقه على ذلك شارحها إلا أنه بين أمثلة الصور الثلاث، فخص مثال
الصورة الأخيرة بما كان عارضا بواسطة الجزء الأعم، كالحركة اللاحقة للإنسان
بواسطة أنه حيوان، ونحوه ما في شرح المطالع مع التصريح فيه بكون الجزء في
الصورة الأخيرة أعم من كونه الأعم أو المساوي.
ثم اعترض عليهم في عدهم ما يلحق الشئ بجزئه الأعم من العرض الذاتي
في أثناء كلامه نافيا لكونه منه، معللا بأن الأعراض التي تعم الموضوع خارجة
عن أن تفيد أثرا من الآثار المطلوبة له، إذ تلك الآثار إنما توجد في الموضوع
وهي خارجة منه.
ثم قال: فالأولى أن يقال: العرض الذاتي ما يلحق الشئ لما هو هو، أو
بواسطة أمر يساويه كالفصل والعرض الأولي، أو يقال: ما يختص بذلك الشئ
ويشمل أفراده إما على الإطلاق، كما للمثلث من تساوي الزوايا الثلاث لقائمتين،
أو على سبيل التقابل كما للخط من الاستقامة والانحناء. انتهى.
وإطلاق كلامه يقتضي أن يقال: - في شرح العرض الذاتي - إنه ما يلحق على
الانفراد أو الانضمام للشئ لذاته، أو لما يساويه في الوجود داخليا كان أو
خارجيا، ساواه في الحمل أو باينه كما يساعد عليه النظر، ومرجع الجميع إلى
قسمين ينبغي التعرض لبعض ما يتعلق بهما:

(1) شرح الشمسية: 18.
203

أحدهما: ما يلحق الشئ لذاته، ويعبر عنه " بالعرض الأولي " والمراد به على
ما صرحوا به عرض يلحق معروضه بلا واسطة في عروضه.
وعن الشيخ في الشفاء في الفرق بين المقدمة الأولية ومقدمة محمولها أولي:
أن الأولى هي التي لا حاجة لها إلى واسطة في التصديق كقولنا: " الكل أعظم من
الجزء " وأن الثانية هي التي لحوق محمولها لموضوعها لا بتوسط لحوقه لشئ
آخر، بمعنى كونه عارضا له لا لشئ آخر، ولو كان عارضا لشئ آخر فكان
بتوسط كونه عارضا له، فهو له أولا وبالذات وللشئ الآخر ثانيا وبالواسطة.
وملخص ذلك: إن المعتبر في العرض الأولي انتفاء الواسطة في العروض، لا
انتفاء الواسطة في التصديق، وبذلك يندفع ما اعترض عليهم في قولهم: " بأن
العوارض اللاحقة للأشياء لذواتها هي التي لحقها بلا توسط شئ آخر " من أنه
يستلزم كون تلك اللواحق بينة الثبوت لتلك الأشياء، فتخرج عن كونها من مسائل
العلم، لأن مسائل العلم تحتاج في ثبوتها لموضوعاتها إلى دليل وبرهان، والأمور
البينة الثبوت لا حاجة لها في ثبوتها إلى برهان، فإن انتفاء الواسطة في العروض لا
ينافي الاحتياج إلى الواسطة في التصديق، وكما لا يعتبر في العرض الأولي انتفاء
هذه الواسطة فكذلك لا يعتبر انتفاء الواسطة في الثبوت بالمعنى المقابل للواسطة
في العروض، كما نص عليه بعض الفضلاء (1) قائلا: والمراد بالعرض الذاتي ما
يعرض الشئ لذاته، أي لا بواسطة في العروض سواء احتاج إلى واسطة في
الثبوت ولو إلى مبائن أعم أو لا.
أما الأول، فكالأحوال الإعرابية الطارئة على الكلمة والكلام بواسطة الوضع،
وهو أمر مبائن للفظ وإن كان له نوع تعلق به، أعم بحسب الوجود لتحققه في
النقوش وغيرها أيضا، وكالأحكام الشرعية الطارئة على أفعال المكلفين باعتبار
وعلى الأدلة باعتبار بواسطة جعل الشارع وخطابه، وهو أمر مبائن للأفعال
والأدلة وإن كان له تعلق بها، وأعم من كل منهما لتحققه في الأخرى.

(1) الفصول: 8.
204

وأما الثاني، فكالحاجة اللاحقة للممكن المبحوث عنه في فن المعقول، فإنه
يتصف بها من حيث الذات على ما هو التحقيق وكالأحوال الطارئة على الأشكال،
كمعادلة الزوايا الثلاث القائمتين المبحوث عنها في علم الهندسة، فإن لحوق تلك
الأحوال لموضوعاتها مستندة إلى ذواتها، وكذلك الأحوال اللاحقة للعدد
المبحوث عنها في علم الحساب. انتهى.
وقد سبقه إلى هذا التحقيق جماعة منهم المحقق الشريف في حواشيه لشرح
المطالع قائلا بأن المعتبر في العرض الأولي هو انتفاء الواسطة في العروض، وهي
التي تكون معروضة لذلك العارض، دون الواسطة في الثبوت التي هي أعم.
وله كلام آخر في حواشيه لشرح الرسالة الشمسية ربما توهم كونه مناقضا
لذلك، حيث قال: واعلم أن العوارض التي تلحق الأشياء لذواتها لا يكون بينها
وبين تلك الأشياء واسطة في ثبوتها لها بحسب نفس الأمر، وأما العلم بثبوتها لها
فربما يحتاج إلى برهان.
ويدفعه: أن غرضه بذلك إنما هو الرد على الاعتراض المتقدم إليه وإلى دفعه
الإشارة، من أن العرض الذي يلحق الشئ لذاته - أي بلا واسطة - يكون بين
الثبوت له فكيف يصلح مسألة للعلم، فيكون المراد بثبوتها - المدعي انتفاء الواسطة
بالقياس إليه - ثبوتها لموضوعاتها في لحاظ الحمل الذي مفاده اتحادهما باعتبار
الوجود، على معنى عدم احتياجها في لحاظ الحمل إلى واسطة يثبت لها أولا
وبالذات ولموضوعاتها المبحوث عنها ثانيا وبالواسطة، وهو بهذا المعنى يرادفه
نفي الواسطة في العروض، فلا ينافيه احتياجها في ثبوتها لتلك الموضوعات في
لحاظ الخارج إلى واسطة تكون علة لتحققها فيه كما لا يخفى، ولعله إلى ما وجهناه
يشير ما قيل في بعض حواشي عبارته المذكورة من إمكان التوفيق بين كلاميه،
بأن يحمل كلامه هنا على نفي الواسطة في الثبوت في ضمن الواسطة في العروض
لا مطلقا.
وقضية كلامه على التوجيه المذكور، ورود إطلاق الواسطة في الثبوت في
205

كلامهم لمعنيين، فتارة لما يرادف الواسطة في العروض، وأخرى لما يقابلها
والواسطة في التصديق، فإن ثبوت شئ لشئ أعم من كونه كذلك في لحاظ
الحمل أو في لحاظ الخارج، والعروض أخص منه، كما يشير إليه ما في ذيل
الحاشية المتقدمة من قوله: " دون الواسطة في الثبوت التي هي أعم " بإرادة كونها
أعم من الواسطة في العروض كما هو الظاهر من سياق العبارة.
ومن البين أن نفي الأعم قد يراد منه نفيه في ضمن الأخص فلا ينافيه ثبوته
في ضمن الأخص الآخر، خصوصا إذا كان النفي واردا في موضع التنبيه على
شبهة من اشتبه المقدمة التي محمولها أولي بالمقدمة الأولية، فإن ذلك قرينة
واضحة على أن المراد بالواسطة المنفية واسطة يوجب انتفاءها كون محمول
المقدمة أوليا، الغير المنافي لعدم كونها من المقدمات الأولية كما يومئ إليه أيضا
قوله: " وأما العلم بثبوتها لها فربما يحتاج إلى برهان ".
ثم إن العرض الأولي بالمعنى المتقدم أعم من العرض الذي يشمل جميع
أفراد معروضه بانفراده، والذي يشمل الجميع منضما إلى مقابلاته إذا أخذ في
لحاظ الحمل على وجه الترديد، لكن يشترط في أوليته في صورة الانضمام بعدم
احتياجه في عروضه له إلى أن يصير نوعا معينا، كالمتحرك والساكن العارضين
للجسم على نحو الترديد، حيث إنهما في عروضهما له لا يحتاجان إلى أن يصير
إنسانا أو حيوانا، وكالزوج والفرد العارضين للعدد الغير المحتاجين إلى أن يصير
أربعة وثلاثة، وأما ما يحتاج في عروضه له إلى أن يصير نوعا معينا كالضاحك
والصاهل العارضين للحيوان المحتاجين إلى صيرورته إنسانا وفرسا، لوضوح أن
الحيوان ضاحك بواسطة أنه إنسان لا لذاته، فليس من الأعراض الأولية، وإن كان
إذا أخذ مع مقابلاته العارضة لسائر الأنواع على وجه الترديد أيضا بحيث يكون
مرجعه إلى اعتبار كون محمول القضية هو الأمر المردد بين الجميع من الأعراض
الذاتية، لوضوح كون هذا الأمر المردد إذا أخذ على هذا الوجه من لوازم الموضوع
وآثاره المطلوبة وخصائصه الغير الشاملة لغيره العامة لجميع جزئياته، ووجود
206

هذا القسم من الأعراض كسابقه كثير شائع في العلوم، ولم يقل أحد بكون وروده
فيها من باب الأعراض الغريبة.
ألا ترى أن الإعراب والبناء يبحث عنهما في النحو، الذي موضوعه " الكلمة "
وهما لا يعرضانها إلا بواسطة أنواعها من الاسم وأخويه، فيقال: " الأصل في
الاسم الإعراب في الفعل والحرف البناء " فالضاحك في المثال المتقدم إذا أخذ
منفردا وإن كان من آثار نوع الجسم المطلوبة له، فيكون بهذا الاعتبار بالقياس إلى
الجسم من الأعراض الغريبة، غير إنه إذا أخذ مع مقابلاته على وجه يكون
المأخوذ محمولا هو الأمر المردد، كان من آثار الجسم المطلوبة له، فيكون بهذا
الاعتبار من الأعراض الذاتية، ولا منافاة بين الاعتبارين وقد سبق بعض ما يتعلق
بهذا المقام.
وثانيهما: ما يلحق الشئ لأمر يساويه، على معنى مساواته في الوجود،
والمساوي بهذا المعنى إما داخل في الشئ كالجزء، أو خارج عنه مساو له في
الحمل أيضا مطلقا، أو إذا أخذ على التقابل، أو غير مساو له، فإن الكل بالقياس إلى
الموضوع يندرج في الأعراض الذاتية بالمعنى المتقدم.
أما الأول: كالعارض له بواسطة فصله كالمتعجب العارض له بواسطة الناطق،
فلأنه وإن كان أولا وبالذات يعرض الفصل غير أنه لاختصاص الفصل به يصح
عده من آثاره المطلوبة له ولوازمه المختصة به، فيصح بذلك إدراجه في مباحث
العلم الذي هو موضوعه، بخلاف ما لو عرضه العارض بتوسط جزئه الأعم، وهو
الجنس، كالتحرك للإنسان بواسطة الحيوان، فإنه ليس من الأحوال المختصة
بالإنسان فلا يطلب من العلم الذي موضوعه الإنسان.
وأما الثاني: كالضاحك بالقوة العارض له بواسطة المتعجب، فلأن الواسطة
لكونها من مختصاته فيختص به ما يختص بها، فيصح عده من الآثار المطلوبة له.
وأما الثالث: كمحمولات أنواع الموضوع العارضة له على الوجه المتقدم، فلما
تبين وجهه.
207

وأما الرابع: كالأبيض العارض للجسم بواسطة السطح المبائن له، فلأن
الواسطة - على ما هو المفروض - لا توجد في الخارج إلا والمعروض موجود
معها غير منفك عنها، ولا هي متناولة غيره فتكون من خصائصه وإن امتنع حمله
عليه، فيختص به ما يختص بها فما يقال: من أن ما يعرض الموضوع بواسطة
الخارج ولو مساويا له ليس في الحقيقة من عوارض الموضوع، بل من عوارض
ما يساويه، فاللازم أن يبحث عنه في علم يكون موضوعه ذلك المساوي، مما لا
يلتفت إليه.
وأما الأعراض الغريبة: فالمعروف بينهم أنها ما يعرض الشئ بواسطة أمر
خارج أعم أو أخص، فيصير أقسام العرض بضميمة هذين القسمين إلى ما تقدم
من أقسام العرض الذاتي - عدا ما يعرض بواسطة أمر مبائن خمسة، حصره
المتأخرون فيها، وبينوا وجهه بأن العرض إما يعرض الشئ أولا وبالذات أو
بواسطة، والواسطة إما داخل فيه أو خارج عنه، والخارج إما أعم منه أو أخص أو
مساو له.
وعن صاحب القسطاس أنه أضاف إليها سادسا، وهو أن يكون الواسطة أمرا
مبائنا للمعروض بزعم كونه من الأعراض الغريبة.
الأعراض الغريبة
واستصوبه في شرح المطالع ووافقهما غير واحد وهو الأصح، وعليه فأقسام
العرض الغريب ثلاث، ثالثها ما يعرض الشئ بواسطة أمر خارج مبائن له، لكن
يجب تقييد ما يعرض بواسطة أمر خارج أخص بما لو أخذ العرض في لحاظ
الحمل بوصف الانفراد، لما عرفت من أنه لو أخذ بوصف الانضمام على وجه
الترديد كان من جملة الأعراض الذاتية، لا لأنه على هذا الاعتبار مما يعرض
بواسطة أمر أخص ومعه يكون عرضا ذاتيا، بل لانقلاب الفرض حينئذ إلى كونه
مما يعرض بواسطة أمر مساو حسبما وجهناه، كما أنه يجب تقييد ما يعرض
بواسطة الخارج المبائن بكونه مبائنا في الحمل والوجود معا، إذ العارض لأمر
مبائن في الحمل مساو في الوجود من الأعراض الذاتية، حسبما عرفت وجهه.
208

وبالجملة: عد ما يعرض لأمر مبائن عرضا غريبا بقول مطلق - كما هو ظاهر
الجماعة - ليس بصواب، بل هو مقيد بعدم مساواة الواسطة في الوجود أيضا.
وممن سبقنا على هذا التحقيق المحقق الشريف في حواشي شرح المطالع،
عند اعتراضه على من جعل الأبيض المحمول على الجسم بتوسط حمله على
السطح المبائن له من أمثلة العرض الغريب، لمبائنة الواسطة قائلا:
ويرد عليه: أنه قد بحث عن الألوان في العلم الذي موضوعه الجسم الطبيعي،
مع كونها عارضة له بواسطة مبائنة كما حققناه، فكيف يعد العارض بتوسط المبائن
عرضا غريبا، وإنما المثال المطابق له عروض الحركة الغير الإرادية لجالس
السفينة بواسطة حركة السفينة، لوضوح أن السفينة تبائن جالسها في الوجود كما
تبائنه في الحمل، فيكون الحركة العارضة بتوسطها عرضا [غريبا] (1)، دون البياض
العارض للجسم بتوسط السطح فإنه من الأعراض الذاتية كما تقدم، لتساوي
السطح للجسم في الوجود وإن بائنه في الحمل.
وبما اعتبره من وصف الحركة بكونها غير إرادية لا مجال للقول بأن الحركة
إن أريد بها الخروج من حيز إلى آخر فهي عارضة لذات الجالس فيكون مما
يلحق الشئ بواسطة الجزء الأعم، لوضوح أن ما هو من لوازم الذات إنما هو
الحركة بالإرادة، والحركة المفروضة غير إرادية بل غير اختيارية، ولا تكون إلا أن
معروضها الأولي هي السفينة المبائنة للجالس حملا ووجودا، فهي حركة واحدة
تنسب إليها أولا وبالذات وإليه ثانيا وبالواسطة، لا أن هناك حركتين ممتازتين
قائم إحداهما بها والأخرى به كما في حركتي اليد والمفتاح، فلو فرض حينئذ
للجالس حركة أخرى غير ما هي قائمة بالسفينة مسببة عنها، كانت من قبيل حركة
المفتاح الناشئة عن حركة اليد، فتخرج السفينة بالقياس إليها حينئذ عن ضابطة
الواسطة في العروض، وتندرج في عنوان الواسطة في الثبوت بالمعنى المقابل
للواسطة في العروض، وهي ليست من معقد البحث هنا.
وبذلك يعلم أن التمثيل لما يعرض للواسطة المبائنة بالحرارة العارضة للماء

(1) أضفناه لاستقامة العبارة.
209

بواسطة النار ليس بسديد، لما قيل - ونعم ما قيل - من عدم كون النار ولا مماستها
واسطة في عروض الحرارة للماء وإن كانت واسطة في ثبوتها له، لأن الواسطة في
العروض ما يكون العارض عارضا له في الحقيقة ولا يكون عارضا لغيره كذلك،
بل لو عرض الغير كان ذلك بتوسطة عروضه الواسطة، لا بمعنى أن هناك عروضين
بل عروض واحد منسوب إلى الواسطة أولا وبالذات وإلى الغير ثانيا وبالعرض،
ومعلوم أن الحرارة العارضة للماء عارضة للنار بعروض غير عروضها للماء، وهما
عروضان متمايزان، فليس العارض في المثال المذكور مندرجا في الأعراض
المعتبر معها الواسطة في العروض.
وربما ينكر وفاقا للمتأخرين المسقطين للواسطة المبائنة عن البين رأسا،
وجود هذا القسم من الواسطة، بدعوى: عدم جواز كون الواسطة أمرا مبائنا
وعلة، (1) تارة بأن يقال - في وجه الحصر المتقدم -: إن العرض إما أن يلحق
الشئ لا بتوسط لحوق شئ آخر له أو بتوسطه، والواسطة إما داخلة أو خارجة
إلى آخر الأقسام، فعلى هذا لا يمكن أن يكون الواسطة مبائنة، لأن المبائن لا
يلحق الشئ.
وأخرى: بأن الوسط - على ما عرفه الشيخ (2) - ما يقترن بلام الغاية التعليلية
حين يقال: " لأنه كذا " فلابد من اعتبار الحمل، والمبائن لا يحمل.
ويندفع الأول: تارة بمنع أخذ العرض في المقسم بالمعنى المذكور، القاضي
بلزوم كون الواسطة أيضا مما يلحق المعروض، بل الواجب أن يقال: إن العرض
إما أن يلحق الشئ لا بواسطة لحوقه لغيره أو يلحقه بواسطة لحوقه للغير، إلى آخر
الأقسام.
ولا ريب أن كون الغير مما يلحقه العرض أعم من كونه بنفسه مما يلحق
المعروض وعدمه، فيندرج فيه ما يلحق بواسطة المبائن.

(1) هكذا في الأصل.
(2) وفي الأصل " الشئ " والصواب ما أثبتناه، بقرينة ما سيأتي منه في اندفاع هذا الوجه،
بقوله: " بأن الوسط الذي عرفه الشيخ... الخ ".
210

وأخرى: بأن العرض الذي يلحق الشئ لا بتوسط لحوق شئ آخر لا
ينحصر في العرض الأولي الذي يلحق الشئ لما هو هو، فإن انتفاء لحوق شئ
آخر قد يكون بانتفاء ذلك الشئ الذي هو ذات اللاحق، كما في العرض الأولي.
وقد يكون بانتفاء لحوقه الذي هو وصف اللاحق، كما في العرض اللاحق لما
يبائنه، كما يندفع الثاني بأن الوسط الذي عرفه الشيخ إنما هو الواسطة في
التصديق. ومحل الكلام هو الواسطة في العروض، ولا يعتبر فيها كونها مما يصلح
للحمل كما عرفت.
ومن هنا أورد على الاستدلال به، بأنه لو كان المراد " بالوسط " هناك ما ذكره
لم يكن إثبات الأعراض الأولية من المطالب العلمية، لوضوح أن العارض بلا
وسط بهذا المعنى يكون بين الثبوت لمعروضة.
والشبهة إنما نشأت عن عدم التفرقة بين الوسط في التصديق والوسط في
الثبوت، نظرا إلى أن ما عرفه الشيخ هو الوسط في التصديق. وكلامنا هناك في
الوسط في الثبوت والفرق بينهما واضح.
ولا يذهب [عليك] أن جعل الكلام هنا في الوسط في الثبوت مع أن محل
البحث - على ما عرفت - هو الوسط في العروض مبني على ما قررناه سابقا في
توجيه عبارة المحقق الشريف.
وتوضيحه: - زيادة على ما مر - أن الواسطة في الثبوت قد تطلق على ما
يقابل الواسطة في التصديق، فيراد بها ما يكون علة لثبوت المحمول للموضوع في
الواقع، سواء كانت معروضة لذلك المحمول الذي هو من عوارض الموضوع
فتكون واسطة في العروض أيضا أو لا، فتكون واسطة في الثبوت المقابلة للواسطة
في العروض، وقد تطلق على ما يقابل الواسطة في العروض فيراد بها ما لم يكن
معروضا بل كان علة للعروض، فبين المعنيين عموم مطلق، يجتمعان في المبدأ
الفياض المتوسط لعروض الألوان للسطوح، ويفترق الأول في التعجب المتوسط
لعروض الضحك للإنسان.
211

وأما الواسطة في التصديق، فما كان علة لثبوت المحمول للموضوع في
الذهن، فإن كان مع ذلك علة لثبوته له في الواقع أيضا يسمى " بالبرهان اللم "
وإلا " فببرهان الإن ".
ومن الأفاضل (1) من اختار القول بمنع وجود الواسطة المبائنة في العروض
أيضا، قائلا: وأما ما ذكر من صحة كون الواسطة في العروض مبائنا للمعروض
فغير واضح، بل الظاهر فساده.
بيان ذلك: أنه إن جعل الواسطة فيما يفتقر إلى واسطة فيه، الأعراض القائمة
بمحالها المبائنة لمعروضاتها كما هو الشأن في العروض، كان الحمل في جميع ما
يفتقر إلى الواسطة الخارجية بتوسط الأمر المبائن، ولا يتحقق هناك واسطة
خارجية لا تكون مبائنة للمعروض بحسب الصدق، ضرورة تبائن كل عرض
لمعروضه، فلا يتجه الحكم بكون بعض الوسائط مبائنا في الصدق دون البعض،
وإن جعل الواسطة فيه العرضيات والمشتقات المحمولة على المعروضات لم
يتحقق هناك مبائنة بالنسبة إلى شئ منها، ضرورة صحة حملها على الذات من
غير فرق في ذلك بين خصوصيات الأعراض، فما ادعى من الفرق بين الفساد (2).
وفيه: أن الواسطة فيما أمكن فيه الاشتقاق اللغوي هي المشتقات دون مبادئها
التي هي الأعراض القائمة بمحالها، لا لمجرد امتناع حملها على الموضوع، بل له
ولامتناع حمل الغير عليها، وهو العرض المبحوث عنه المعتبر عروضه للواسطة،
وفيما لا يمكن فيه الاشتقاق اللغوي كالإنسان والحيوان والسفينة والسطح والنار
- على فرض صحة التمثيل بها - فالواسطة هي نفس الذات.
موضوع الفقه ومبادئه ومسائله
ولا ريب أن بعض هذه الذوات مما يصح حملها وبعضها مما لا يصح - مع
صحة حمل الغير عليه - وهذا هو الواسطة المبائنة كالسفينة والنار بل السطح - وإن
نوقش في كونه مبائنا بأن الواسطة هنا هو المسطح، وذكر السطح مسامحة في

(1 و 2) هداية المسترشدين: 15 (الطبعة الحجرية).
212

التمثيل، فالمثال غير منطبق على الممثل، لوضوح أن المسطح لا يبائن الجسم،
فإن حمل الأبيض على الجسم بواسطة حمله على السطح الذي ليس من المبادئ
المصدرية صحيح، غير مفتقر صحته إلى كون الواسطة أيضا مما يصح حمله عليه،
فليس في التمثيل به بعد ما يصح الحمل عليه مسامحة، بل المسامحة إنما هي في
التمثيل بالمسطح من حيث إن الاشتقاق الجعلي المأخوذ فيه لا يعطيه عنوان
المساواة في الحمل بالقياس إلى الجسم، بعد ملاحظة أن مبدأ الاشتقاق فيه بنفسه
مستقل في موضوعيته للأبيض، إذ من البين أن الاعتبار والتقدير لا يرفعان حكم
الواقع ونفس الأمر، ومن المحسوس بالوجدان أن العروض الواحد الذي لو أخذ
بالقياس إلى الواسطة كان حاصلا أولا وبالذات ولو أخذ بالقياس إلى أصل
الموضوع كان حاصلا ثانيا وبالعرض، ما يتحقق للأبيض فيما بين السطح
والجسم، وإن عبر عنه بالمسطح.
[34] قوله: (ولابد له من مقدمات يتوقف الاستدلال عليها، ومن
تصورات الموضوع وأجزائه وجزئياته، ويسمى مجموع ذلك بالمبادئ
... الخ)
قد تقرر عندهم أن أجزاء العلوم ثلاثة، ثالثها المبادئ وهي على ما بينوه
عبارة: عما يتوقف عليه التصديق بالمسائل، إما لكونها حدودا تفيد تصورات
تتعلق بموضوع العلم، أو أجزائه أو جزئياته أو أعراضه الذاتية المأخوذة في
موضوعات المسائل حسبما تقدم بيانه (1) فتسمى بالمبادئ التصورية، أو مقدمات
تفيد تصديقات لا يتم الاستدلال على المسائل إلا بها فتسمى بالمبادئ التصديقية،
فالتمثيل لها حسبما في عبارة المصنف بالكتاب والسنة والإجماع غير خال عن
المسامحة، لوضوح كون هذه الأمور موضوعات المبادئ وعلى أي حال فهي إما
مسائل من علم آخر أو علمين فصاعدا، كمسائل النحو والمنطق والكلام وأصول

(1) تقدم في التعليقة رقم 31.
213

الفقه، أو قضايا معلومة بالضرورة كقولنا: " النقيضان لا يجتمعان " و " الكل أعظم
من الجزء " وما أشبه ذلك بالقياس إلى علم الفقه.
والوجه في كون مسائل ما عدا أصول الفقه من العلوم المذكورة من مبادئ
الفقه، ما تقدم في عبارة المصنف المتعرضة لبيان وجه تأخيره عن العلوم المذكورة
بالثالث من الاعتبارات الثلاث المتقدم ذكرها.
وأما مسائل " أصول الفقه " فلأنها باحثة عن الأحوال الراجعة إلى أدلة الفقه أو
أجزائها أو جزئياتها، فلا يتم الاستدلال بها على المسائل الفقهية إلا بإحراز تلك
المسائل، وبما ذكر ظهر أن المقدمات المأخوذة في تفسير المبادئ أعم من البعيدة
والقريبة كما نص عليه أيضا بعضهم.
ويستفاد من إطباقهم على عد العلوم المذكورة وغيرها من مقدمات الاجتهاد
على ما سيأتي في بابه.
[35] قوله: (ولما كان البحث في علم الفقه عن الأحكام الخمسة، أعني
الوجوب... الخ)
في الحكم التكليفي والوضعي
وكأن في تخصيص الخمس التكليفية بالذكر، تنبيها على خروج غيرها من
الوضعيات عن مسائل الفقه، وهو كذلك كما تقدم إليه الإشارة - وسنفصله أيضا إذ
لولا أفعال المكلفين معروضة للتكليفيات الموجبة لاستحقاق الثواب والعقاب
الأخرويين، لما كان للفقيه تعرض لتدوين هذا العلم جزما، حيث لا غرض له
بالذات سوى النظر فيها، ولا ينافيه ما يكثر صدوره عنه من النظر في الوضعيات
أيضا كطهارة شئ ونجاسته ونحوهما، لكونه مما يقصده بالعرض طلبا لما
يستلزمه مما هو مقصود له بالذات، ضرورة أن البحث عن نجاسة الكلب مثلا لا
فائدة فيه إلا ترتيب ما يترتب عليها من التكاليف، فيكون البحث عنها ونظائرها
مما ليس بتكليفي استطرادا بحتا.
214

[36] قوله: (وعن الصحة والبطلان... الخ)
وظاهر السياق يقضي بكون المراد بهما ما يضاف إلى موارد التكليف، كما أن
قضية ورودهما في عداد الخمس التكليفية كون البحث عنهما من مسائل الفن،
لكن يرده أن البحث عنهما وإن شاع وقوعه فيه، غير انه ليس لغرض أصلي، بل
لترتيب ما يترتب عليهما من التكاليف التي منها وجوب الإعادة والقضاء
وعدمهما، بل هما لعدم كونهما من جملة الأحكام الشرعية أولى بعدم كونهما من
المسائل الفرعية بالقياس إلى سائر الوضعيات التي تقدم بيان كونها من الأحكام
الشرعية وإن لم تكن من مجعولات الشارع.
[37] قوله: (فلا جرم يكون موضوعه هو أفعال المكلفين من حيث
الاقتضاء والتخيير... الخ)
وفي الحيثية إشارة إلى أنواع الخمس التكليفية، فإن الاقتضاء هو الطلب،
ومتعلقه إما فعل شئ أو تركه مع المنع من النقيض ولا معه فيندرج فيه أربع منها،
ويبقى الباقي وهو " الإباحة " مرادا من التخيير، لأنه عبارة عن التسوية بين شيئين
فصاعدا، والإباحة يلزمها التسوية بين طرفي الفعل والترك، ومن يرى الوضعيات
داخلة في مسائل " الفقه " يعتبر بعد ذلك قيد " الوضع " أيضا، ويراد به ما لم يكن
مما طلبه الشارع ولا سوى فيه بين الفعل والترك، بل عينه سببا أو شرطا أو مانعا
أو غير ذلك، مما لا يعد ولا يحصى.
وضابط الفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي: أن الأول عبارة عن كل
صفة في الشئ منوط ثبوتها فيه بالأربع المعروفة في شروط التكليف العامة، وهي
محصورة عندهم في الخمس المذكورة، يسمى كل منها باسم، وتسمية الجميع
بالحكم التكليفي تغليب غير ملحوظ معه مناسبة المعنى اللغوي، فإن الملحوظ فيه
تلك المناسبة ليس إلا الوجوب والتحريم، من حيث إن التكليف " تفعيل " من
215

الكلفة بمعنى " المشقة " الحاصلة فيهما باعتبار المعنى، لما فيهما من المنع الذي
هو في معنى تضييق الأمر على المكلف، على معنى حمله على الضيق المعنوي
الذي في تحمله مشقة على النفس، وهذا المعنى كما ترى ليس بموجود في الثلاث
الباقية لخلوها عن جهة المنع، غير أنه بعد ما سمي الأولان بهذا الاسم مراعاة
للمناسبة المذكورة غلبا على الثلاث الباقية، لمشاركتها لهما في الإناطة بالشروط
الأربع.
والثاني: عبارة عن كل صفة في الشئ لم يكن ثبوتها فيه منوطا بتلك
الشروط، وله أيضا أنواع يسمى كل نوع باسم خاص، وإنما سمي المجموع حكما
وضعيا لكون الصفة المفروضة مما وضعه الشارع في الشئ وعينه له، وخصصه
عما بين الأشياء به، لمراعاة ما فيه من الحكمة الكامنة.
فالقوم بعد اتفاقهم على كون الأحكام التكليفية بأسرها مجعولات للشارع لما
طرأها منه من الجعل بواسطة الطلب أو التسوية اختلفوا في مجعولية الأحكام
الوضعية وعدمها.
عدم مجعولية الأحكام الوضعية
والقول بالعدم هو المشهور المحكي عليه الشهرة في كلام الفاضل الجواد
المحكوم عليه بكونه ما استقر عليه مذهب المحققين في كلام السيد شارح الوافية،
المصرح به في كلام جماعة من الفحول، وعليه بعض مشايخنا دام ظله العالي (1).
وربما يستظهر من كل من أسقط قيد " الوضع " عن تعريف الحكم الشرعي،
كما صنعه كثير - منهم شيخنا البهائي (2) - ويظهر من المصنف أيضا، وهو الموافق
للأصل حيث إن الجعل بالمعنى المتنازع فيه هنا المتفق عليه في الحكم التكليفي

(1) فرائد الأصول للشيخ الأنصاري: 229، حيث قال: - في باب الاستصحاب -: المشهور كما
في شرح الزبدة، بل الذي استقر عليه رأي المحققين كما في شرح الوافية للسيد صدر الدين،
إن الخطاب الوضعي مرجعه إلى الخطاب الشرعي...
(2) زبدة الأصول: 29، حيث قال: الحكم الشرعي طلب الشارع من المكلف الفعل أو تركه مع
استحقاق الذم بمخالفته وبدونه، أو تسويته بينهما لوصف مقتض لذلك.
216

أمر حادث يدفع عند الشك في حدوثه بأصل العدم، لأنه عبارة عن كون الصفة
الموجودة في الشئ بحيث أوجدها موجد، بأن لاحظ ذلك الشئ بعنوانه
الخاص على أنه ذلك الشئ فأوجد فيه تلك الصفة، بحيث لولا إيجاده لما كانت
موجودة فيه، وهو الحق.
والذي يمكن الاحتجاج به على عدم الجعل بهذا المعنى - مضافا إلى الأصل -
قضاء الوجدان الضروري بعدم الحاجة فيها إلى الجعل وكونها مما ينتزعها العقل،
فإن من أراد الإلزام على إيجاد ماهية يلاحظها أولا مكيفة بكيفيات مخصوصة
تحصل عن انضمام أمور بعضها إلى بعض، واقترانها بأمور أخر من حالة كذا أو
جهة كذا وزمان كذا ومكان كذا ثم يطلبها أو يأمر لها على هذا الوجه، وحينئذ فإذا
وقف عليها العقل بتلك الكيفية يحللها إلى الأمور المأخوذة معها، المحصلة للكيفية
المذكورة، فيجدها أقساما.
منها: ما له مدخلية في أصل رجحانها، فيحصل له عنوان السببية.
ومنها: ما له مدخلية داخلية فيها، فيحصل له عنوان الجزئية.
ومنها: ما لوجوده مدخلية خارجية، فيحصل له عنوان الشرطية.
ومنها: ما لعدمه مدخلية خارجية فيحصل له عنوان المانعية، وهكذا.
فكل هذه المفاهيم صفات يدركها العقل بعد التحليل، ويكفي في حصولها
لموصوفاتها مجرد تعلق ملاحظة الشارع بالعبادة على الكيفية التي لا تحصل إلا
بالأمور الملحوظة معها، ومعه لا حاجة لها إلى ملاحظة أخرى ولا اعتبار مؤنة
زائدة على ما في أصل العبادة من الملاحظة والجعل بالطلب، وهذا معنى كون
الأحكام الوضعية من منتزعات العقل.
وأنت إذا لاحظت الأمثلة العرفية يتضح لك حقيقة ما ذكرناه غاية اتضاح.
ألا ترى أنه لو قال السيد لعبده: " إذا جاءك زيد فأضفه، وأحضر له إداما فيه
كذا وكذا، في آنية كذا، في وقت كذا ومكان كذا " فينتقل العبد بعد التحليل إلى كون
مجيء زيد سببا، وما يشتمل عليه الإدام جزءا، وكل من الآنية والوقت والمكان
217

شرطا، من غير أن يصرح له السيد بتلك المفاهيم، ولا يتعرض إلى إيجادها في
محالها بحيث لولا تعرضه لم تكن موجودة، وقس على ذلك كلما ورد من هذا
القبيل في خطابات الشارع، كقوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم
وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) (1) وقوله أيضا:
(أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) (2) وقوله (عليه السلام): " إذا دخل الوقت
وجب الطهور والصلاة " (3) وقوله (عليه السلام): " دعي الصلاة أيام أقرائك " (4) فيستفاد في
حكم العقل من الأول شرطية الوضوء للصلاة وجزئية الغسل والمسح له، ومن
الثاني والثالث سببية الدلوك ودخول الوقت لوجوب الصلاة، ومن الرابع مانعية
القرء عنها، وهذا هو معنى الانتزاع.
لكن يمكن المناقشة في هذا البيان، بأن حكم العقل في الفروض المذكورة
ليس إلا من باب إدراك الوصف الثابت، فثبوت العناوين المذكورة ليس من حكمه
بل هو مورد لإدراكه، وإلا فلا إشكال في أن من يلاحظ الماهية مكيفة بكيفيات
مخصوصة عند إرادة طلبها يلاحظ الأمور المحصلة لتلك الكيفيات لا محالة
ملاحظة تفصيلية، وعليه فلم لا يجوز أن يلاحظ بعض هذه الأمور على أن
للاشتمال عليها مدخلية في المطلوب.
وبعضها الآخر على أن للتلبس بوجودها مدخلية فيه، وبعضها الثالث على أن
للتلبس بعدمها مدخلية فيه.
ولا ريب ان ملاحظة الجهات المذكورة من المدخلية تصلح اعتبارا للمدخلية
بنحو الجزئية والشرطية والمانعية، بحيث لولا هذا الاعتبار لما كانت المدخلية
ثابتة بشئ من عناوينها ولا يعنى من الجعل إلا هذا، ولعله إلى ذلك يشير ما قيل

(1) المائدة: 6.
(2) الإسراء: 78.
(3) التهذيب 2: 140 ح 546، الوسائل 1: 372 أبواب الوضوء ب 4 ح 1.
(4) الكافي 3: 83 ح 1، التهذيب 1: 381 ح 1183، سنن الدارقطني 1: 212، السنن الكبرى
1: 332.
218

من أن مفهوم الصيغة إنما يرد على المادة بعد اعتبار قيودها وحيثياتها، إذ لا يراد
من اعتبار القيود والحيثيات إلا تقييد مدلول المادة بها، ولا معنى محصلا للتقييد
إلا جعل المدخلية وإيجادها بالمعنى المقصود من جعل الحكم الوضعي.
وتحقيق المقام: يستدعي بناء المسألة على النظر في حقيقة معنى تشريع
الماهية واختراعها المنسوب إلى الشارع، هل يراد منه إبداع ما لم يكن أو الكشف
عما كان في الواقع، على معنى كونها مقررة في نفس الأمر على ما هي عليه
وبجميع الأمور المعتبرة معها، فالشارع تعالى لإحاطته التامة بجميع الكليات
والجزئيات التي منها تلك الماهية وكونها بتلك المثابة، كشف عنها لعباده عملا
بلطفه العميم وفضله الجسيم، ويختلف طريق الكلام في ذلك على حسب إختلاف
الماهيات في كونها من العبادات أو المعاملات، فما كان منها من قبيل العبادات
فمقتضى القاعدة المتفق عليها عند العدلية من تبعية الأحكام للصفات الكامنة في
الأشياء والمصالح والمفاسد النفس الأمريين، كون مشروعيتها من باب الكشف
عن الواقع، على قياس ما هو الحال في الأدوية ومعاجين الأطباء الملتئمتين عن
أمور متبائنة المشتملتين في الواقع على آثار وخواص، فاطلع عليها الأطباء
بقواعدهم الطبية فكشفوا عنها وأرشدوا إليها إيصالا إلى ما فيها من الآثار
والخواص.
ولذا استقر مذهب المحققين في اعتبار جهة الإرشاد مضافة إلى جهة المولوية
في أوامر الشارع ونواهيه.
وقضية ذلك كون جهات المدخلية ثابتة في الأمور المعتبرة مع العبادة بحسب
الواقع من دون مدخلية فيها لاعتبار معتبر ولا جعل جاعل، فإذا كشف الشارع
عنها وعن الأمور المعتبرة معها بواسطة خطاب تكليفي أو وضعي بالبيانات
الخارجية المفصلة، انكشف جهات المدخلية بأجمعها في نظر العقل، وحصل له
الانتقال إلى ثبوتها بملاحظة الخطاب ولو من باب دلالة الإشارة، وهذا هو معنى
انتزاع العقل.
219

ومن حكم بكونها منتزعة عن التكليف إن أراد به هذا المعنى ففي محله. وإن
أراد أنها ليست إلا أمورا اعتبارية ومفاهيم صرفة تثبت بمجرد الاعتبار من غير
أن يكون لها واقعية، نظير الكليات الفرضية فهو غير مستقيم، لضرورة كونها أمورا
واقعية ثابتة في نفس الأمر وإن لم تكن مسبوقة بالجعل والوضع بالمعنى المتقدم.
وما كان منها من قبيل المعاملات، فهي عبارة عن الأسباب المعهودة المقررة
في الشريعة من العقود والإيقاعات وغيرها مما يختلف في مظانها بحسب
اختلاف مسبباتها، من انتقال عين أو منفعة أو بضع أو زوال زوجية أو رقية أو
اشتغال ذمة أو ضمان أو نحو ذلك، ومعلوم أن السبب بالقياس إلى مسببه لابد فيما
بينهما من ملازمة وعلقة سببية، وهي فيما بينهما - على ما قرر في محله ويأتي
تفصيله في موضعه - تتصور على وجوه ثلاث:
أحدها: كونها عرفية على معنى كون ثبوتها منوطا بنظر أهل العرف، بكون
السبب مما يتداولوه ويتعاطوه ترتيبا لمسببه المقرر عندهم، فأمضاه الشارع
وقررهم على تعارفهم ورخص لتابعيه في استعماله واتخاذه توصلا إلى مسببه
المتداول لدا أهل العرف.
وثانيها: كونها واقعية مستورة على أهل العرف، ثابتة فيما بينهما بحسب نفس
الأمر، فاطلع عليها الشارع وكشف عنها بترخيصه لتابعيه، إيصالا لهم إلى المسبب
الواقعي.
وثالثها: كونها جعلية منوطا ثبوتها باعتبار المعتبر، بحيث لولا اعتباره لكان
السبب مع مسببه - لعراهما بالذات عن العلقة التي هي ربط بينهما - أجنبيين، على
قياس ما هو الحال في الارتباطات الجعلية الثابتة في التعليقات، كما في قولك:
" إن جاءك زيد فأكرمه " حيث إن الربط فيما بين مجيء زيد ووجوب إكرامه أمر
جعلي صرف، منوط بالاعتبار الذي لولاه لم يكن هذا سببا ولا ذاك مسببا.
ووجود هذا القسم في الشرعيات وإن لم يقم على امتناعه برهان من العقل
والشرع، غير أنه لم ينهض أيضا دليل على ثبوته، لكنه لو ثبت كان قاضيا بمجعولية
220

جهات المدخلية الثابتة في الأمور المعتبرة مع المعاملة، حسبما مر بيانه في
المناقشة.
وأما القسمان الأخيران فالظاهر ثبوت كل منهما في الشريعة، وأما تعيين أحد
هذين في شئ من الأسباب الشرعية فمما لم يحم حوله أحد، وإن كان يترجح
كون البيع وبعض آخر من أنواع العقود من هذا الباب، غير أنهما حيثما ثبتا
ملزومان لعدم مجعولية جهات المدخلية الثابتة في الأمور المعتبرة معهما من
الشارع، لضرورة ثبوتها قبل أن يلحقهما التشريع وترخيص الشارع في
استعمالهما كما هو واضح.
فمن حكم بكونها مجعولة إن أراد به كونها أمورا واقعية ثابتة في نفس الأمر
فهو حق، وإن أراد به كونها مسبوقة بالجعل الشرعي فهو دعوى لا شاهد عليها.
ومن هنا - زيادة على ما مر - يتضح عدم كون الصحة والفساد المضافين إلى
المعاملات من المجعولات الشرعية، لأن الصحة إما أن يراد بها كون الشئ بحيث
يترتب عليه الأثر، أو عن نفس الأثر المترتب، أو عن ترتبه، وأيا ما كانت فليست
مجعولة.
أما على الأول: فلأنها بالمعنى المذكور عبارة أخرى من الملازمة الثابتة فيما
بين السبب ومسببه، وقد عرفت انتفاء الجعل فيها.
وأما الأخيران: فلأنهما بعد عدم مجعولية أصل الملازمة أولى بعدم المجعولية،
مع أنه لو سلمنا الجعل في الملازمة لا نسلمه فيهما، لأنهما من لوازم الوجود
الخارجي المترتبة على ما يقع في الخارج لمجرد مطابقته المشروع.
وبذلك يعلم عدم مجعولية الصحة والفساد المضافين إلى العبادات، سواء أريد
" بالصحة " موافقة الأمر أو إسقاط القضاء، فإنهما يحصلان لمجرد انطباق الفعل
الموجود في الخارج على المأمور به الكلي الواقعي، أو الأعم منه ومن الظاهري
فيكونان من لوازم الوجود الخارجي.
هذا كله في تحقيق المسألة على الإجمال، رفعا للإيجاب الكلي الذي يرجع
221

إليه مقالة من يرى الأحكام الوضعية مجعولة، وأما تحقيقها على التفضيل استعلاما
لأن النفي الذي صرنا إليه هل هو من باب السلب الكلي، أو السلب الجزئي الغير
المنافي للإيجاب الجزئي، فيستدعي صرف النظر إلى ضبط الأحكام الوضعية
إجمالا، وكلماتهم في ذلك مضطربة، حيث إن منهم من جعلها خمسة: السببية
والشرطية والمانعية والصحة والفساد، وهم بين من أطلق في الأخيرين وبين من
قيدهما بالمعاملات. ومنهم من أضاف إلى الخمس المذكورة " الرخصة " وهي
المشروع لعذر مع قيام المحرم لولا العذر، كأكل الميتة للمضطر، وقصر الصلاة في
السفر، و " العزيمة " وهي المشروع لا لعذر، كفعل مباح الأصل بالمعنى الأعم.
ومنهم من اقتصر على الثلاث الأولى، ومنهم من اقتصر عليها مع تبديل المانعية
بالجزئية. ومنهم من اقتصر عليها أيضا مع إضافة " الرخصة " فقط إليها. ومنهم من
اقتصر عليها أيضا مع إضافة " الجزئية " إليها دون " الرخصة ". ومنهم من عد من
الأحكام الوضعية العلة والعلامة، وعن الشهيد أنه احتمل رجوع الأول من هذين
إلى السبب، ورجوع ثانيهما إليه أو إلى الشرط. ومنهم من ذكر من الأحكام
الوضعية " الحجة " كالبينة ونحوها. ومنهم من جعل منها بيان أن اللفظ الفلاني
موضوع شرعا للمعنى الفلاني.
والراجح في النظر - وفاقا لغير واحد من أهل النظر - أنها غير محصورة في
عدد كما يظهر بالتتبع في الشرعيات، فإن منها الضمان والولاية في أولياء الصغير
والمجنون والحكومة في حكام الشرع والوارثية والمورثية والأقربية في الورثة
والطهارة والنجاسة والمطهرية والمنجسية والرافعية والناقضية ونحوها، وإن كان
بعض هذا المذكورات يرجع إلى الآخر، ثم السببية والجزئية والشرطية والمانعية
وكذلك الصحة والبطلان ليست من مجعولات الشارع بضابطة ما ذكرناه
والرخصة والعزيمة على فرض اندراجها في الأحكام الوضعية يرجعان إلى
222

التكليف بل هما نفسه على التفسير المتقدم، فالجعل الثابت فيهما جعل تكليفي
فيكون تسميتهما وضعيا اصطلاحا، والنجاسة إن جعلناها عبارة عن نفس نبذة
أحكام تكليفية مجتمعة في شئ، من وجوب الاجتناب والمنع من الاستعمال في
مشروط بالطهارة وغيره، فالمتجه كونها مجعولة لا لأنها وضعي بل لأنها عدة
أحكام تكليفية.
وإن جعلناها عبارة عن الصفة الثابتة في المحل التي هي منشأ للأحكام
المذكورة - كما هو الراجح في النظر، وعليه الأكثر - فربما أمكن إرجاع الكلام في
مجعوليتها إلى ما فرض من المسألة العقلية في توابع الماهيات ولوازمها، المبحوث
عن كونها مجعولة أو منجعلة، فيتجه عدم المجعولية هنا على القول بعدم المجعولية،
نظرا إلى أن النجاسة في مواردها من اللوازم الثابتة للأعيان.
وعلى القول الآخر فالمتجه ثبوت الجعل هنا أيضا، لكن يشكل ذلك بناء على
اعتبار الحيثية كما هو الظاهر، والجعل على فرض ثبوته في المسألة العقلية ليس
من حيث الشارعية، والطهارة أيضا على قياس ما ذكر في النجاسة إن كانت وصفا
وجوديا، وإلا فهي أولى بعدم المجعولية.
وأما البواقي مما أشرنا إليه وغيره فغير خالية عن كونها في الحقيقة حكما
تكليفيا، كالرخصة والعزيمة والولاية والضمان والحجية على أحد الوجهين، أو
متولدا عن الحكم التكليفي كالحجية في وجهها الآخر، أو من آثار السببية العرفية
التي أمضاها الشارع، أو الواقعية التي كشف عنها الشارع، فإن المشروع لعذر
والمشروع لا لعذر ليسا إلا حكمين تكليفيين كما أشرنا إليه ولذا ينقسم الأول إلى
الوجوب والندب والإباحة على ما صرحوا به، وكذا الثاني.
غاية الأمر أنهما يسميان بهذين الاسمين، تنبيها على انقسام التكليفيات
باعتبار اختصاص ثبوت البعض بمقام العذر والبعض الآخر بغيره، هذا إن
223

جعلناهما اسمين لنفس الأحكام، وأما إذا جعلنا [هما] (1) اسمين لفعل المكلف
الذي يعرضه هذان القسمان من الأحكام التكليفية - كما يظهر ذلك من بعضهم،
حيث أخذ المقسم فيهما فعل المكلف - فعدم المجعولية فيهما حينئذ واضح، لأن
المجعول هو التكاليف العارضة للفعل العذري والفعل الغير العذري، بل يشكل
تسميته بهذا الاعتبار حكما شرعيا، لأنه على هذا الوجه موضوع للحكم الشرعي،
فلو انعقد ذلك اصطلاحا فلا مشاحة.
والولاية في أولياء الصبي وغيره ليست إلا عبارة عن الإذن في التصرف في
ما يتعلق بالمولى عليه أو المأذونية فيه، والأول تكليف والثاني متولد منه.
والضمان ليس عبارة إلا عن وجوب الخروج عن العهدة أو كون الشئ في
العهدة، والأول تكليف، والثاني متولد منه أو هو من آثار السببية العرفية أو
الواقعية. والحجية عبارة إما عن وجوب العمل بالأمارة أو عن كونها وسطا،
والأول تكليف والثاني متولد منه. والوارثية والمورثية؛ وغيرها مما تقدم من آثار
السببية القائمة بموت الإنسان الموجبة لانتقال أملاكه إلى غيره، وهي إما من
الملازمات العرفية أو الواقعية، وأيا ما كان فليست مجعولة للشارع.
فالإنصاف: أن الأحكام الوضعية لم يتبين فيها ما يكون مجعولا بالخصوص.
موضوع الفقه ومبادئه ومسائله
نعم قد يوجد في بعض الآيات والروايات ما يوهم تحقق الجعل في بعض
الموارد كما في قوله تعالى: (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) (2)
وقوله تعالى: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق) (3)
وقوله تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة) (4) وقوله (عليه السلام) - في مقبولة عمر بن
حنظلة -: " فإني قد جعلته حاكما عليكم فارضوا به حكما " (5) وقريب منه ما في

(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2) الإسراء: 33.
(3) ص: 26.
(4) البقرة: 30.
(5) الكافي 7: 5412 / 5، التهذيب 6: 218 / 514، الوسائل 27: 136 أبواب صفات القاضي
ب 11 ح 1.
224

مشهورة أبي خديجة (1) فإن الحكومة من الأحكام الوضعية، كما أن السلطنة منها،
والخلافة إما ولاية أو سلطنة أو هي صالحة لأن تكون منها، وقد نصت الآية
والرواية بالجعل فيها.
لكن يدفعه: منع النصوصية بل منع الظهور في الجعل بالمعنى المبحوث عنه،
فإن السلطان في الآية الأولى مرجعه إلى إذن ولي المقتول في القصاص، ويؤيده
النهي المتأخر بقوله تعالى: (فلا يسرف في القتل) (2) فإن ما قبل النهي لما كان
موهما لإطلاق الإذن فرفعه بالنهي عن الإسراف، والخليفة قد جاءت لمعان:
السلطان الأعظم، والمدبر في أمور الناس، والخلفة لمن سلف، فمعنى جعله خليفة
على الأول توفيق أسباب السلطنة وجمعها له، وعلى الثاني خلقه بحيث يكون
مدبرا في الأرض، أي بحيث خلق له قابلية واستعدادا به يدبر أمور الناس، وعلى
الثالث خلقه بحيث يكون خلفة لمن سلف من الرسل، وعلى أي تقدير كان لا ربط
له بمحل البحث.
وعلى المعنى الثاني يحمل الآية الثالثة، بل هو المتعين بملاحظة ما ورد في
شأن نزولها، وجعل من جامع الصفات الواردة في الرواية حاكما لا معنى له إلا
إذنه في الحكم والقضاء بين الناس، اللذين هما من مناصب الإمامة.
[38] قوله: (ومسائله هي المطالب الجزئية المستدل عليها فيه... الخ)
والمراد بالمطالب الجزئية - بقرينة ما سبق - خصوص ما يرجع إلى الأحكام
التكليفية مع ضميمة الصحة والبطلان، وفيه تنبيه - كما عرفته - على خروج
المباحث المتعلقة بسائر الأحكام الوضعية بأنفسها عن المسائل الفقهية، وقد تقدم
منا ما يعضده وتفصيل القول فيه: أن الذي يظهر - والله أعلم - أنها بأسرها ليست
كالأحكام التكليفية لتكون مقصودة بالأصالة، وإنما يبحث عنها في الفقه تبعا

(1) الكافي 7: 412 / 4، الفقيه 3: 2 / 1، التهذيب 6: 219 / 516، الوسائل 27: 139 أبواب
صفات القاضي ب 11 ح 6.
(2) الإسراء: 33.
225

لاستلزامها أحكاما تكليفية والذي يدل عليه وجوه:
أحدها: أن مسائل كل علم - على ما قررناه سابقا - عبارة عن النسب الخبرية
التي يستدل عليها في الفن أصالة، ويعبر عنها بما دون العلم لأجل بيانه، على معنى
كون الغرض من تدوين الفن بيانه، بحيث لولاه لم يكن الفن مدونا، وهي بهذا
المعنى مخصوصة بالأحكام التكليفية، ضرورة أنه لو فرض عدم وجود مكلف
أصلا، أو عدم ثبوت تكليف لبني نوع الإنسان، بأن يكون حالهم وحال سائر
الحيوانات والبهائم سواء، لم يكن للفقهاء غرض في وضع الفقه وتدوينه، ولم
يكونوا دونوه أصلا، كما أنه لولا عروض الأحوال الإعرابية والبنائية لكلمات
العرب، ولولا جهة الإيصال إلى المجهول النظري ملحوظة في التصورات
والتصديقات، بأن تكونا بأسرهما نظريتين أو ضروريتين لم يكن النحاة وأهل
المنطق دونوا النحو والمنطق، وإذا كانت الأحكام التكليفية المتوجهة إلى بني نوع
الإنسان بتلك المثابة، فتكون هي المقصودة بالأصالة، والبحث عن الأحكام
الوضعية مقصود تبعا، لما ينشأ منها من الأحكام التكليفية.
ويؤيده أن النجاسة في الكلب وغيره من الأعيان النجسة التي يبحث عنها في
الفقه، من الصفات الذاتية لتلك الأعيان، ولها صفات ذاتية أخر ولم يتعرض الفقهاء
لبيان تلك الصفات، بل لو تعرض أحد لبيانها كان مستنكرا، فإفرادهم النجاسة
بالبحث دون غيرها ليس إلا من جهة أن النجاسة منشأ لتكاليف لا تنشأ عن
غيرها.
وثانيها: أن من الأحكام الوضعية - على ما تبين سابقا - السببية والجزئية
والشرطية والمانعية بل هي العمدة منها، والبحث عنها في الفقه في كل من العبادات
والمعاملات معا راجع إلى بيان ماهية العبادة والمعاملة، التي هي من موضوعات
الأحكام التكليفية، كالوجوب في الصلاة ونحوها، والحلية في البيع ونحوه،
والحرمة في الرباء ونحوه.
226

ومن المقرر المصرح به في كلامهم، أن بيان الموضوع ليس من العلم، بل
خارج عنه يقع فيه من باب المبادئ.
وثالثها: ما اتفقت كلمتهم على التصريح بأن موضوع الفقه فعل المكلف، وقد
أشرنا سابقا إلى أن موضوع العلم عبارة عن الجهة الجامعة لمسائله، والمعتبر في
الجهة الجامعة كون المسائل بأسرها واردة عليه عارضة له ولو بالواسطة - حسبما
فصلناه - لكونها عبارة عن عوارضه الذاتية، فيجب أن يكون الموضوع بحيث لم
يخرج عنه شئ من المسائل بعروضه لغيره، وإلا لم يكن جهة جامعة، وظاهر أن
المسائل التي يكون فعل المكلف جامعا لها على وجه لم يخرج عنه شئ ليست
إلا الأحكام التكليفية، لما عرفت من أن أغلب الأحكام الوضعية خارجة عن فعل
المكلف عارضة لغيرها، فلو أنها أيضا كانت من المسائل المقصودة أصالة في الفقه
لوجب اعتبار الموضوع ما يعمها بأسرها والأحكام التكليفية كذلك.
ويؤيد الجميع قضاء الاعتبار بأن الفقهاء لما وجدوا أفعال المكلفين على
أنواع، منها: ما أمر به الشارع على وجه الحتم، ومنها: ما أمر به على وجه الندب،
ومنها: ما منع عنه على وجه الحتم، ومنها: ما منع عنه على وجه التنزيه، ومنها: ما
سوا فيه بين طرفي الفعل والترك، فاضطروا إلى وضع فن يضبط فيه المصاديق
المندرجة تحت الأنواع المذكورة، فيكون بحثهم عن الوضعيات أيضا لأجل هذا
الغرض، لا لأنها مقصودة بالأصالة.
* * *
227

معالم الدين:
المقصد الثاني
في تحقيق مهمات المباحث الأصولية التي هي الأساس لبناء
الأحكام الشرعية، وفيه مطالب:
المطلب الأول
في نبذة من مباحث الألفاظ
تقسيم:
اللفظ والمعنى، إن اتحدا، فإما أن يمنع نفس تصور المعنى من وقوع
الشركة فيه، وهو الجزئي، أولا يمنع، وهو الكلي ثم الكلي: إما أن يتساوى
معناه في جميع موارده، وهو المتواطي؛ أو يتفاوت، وهو المشكك.
وإن تكثرا، فالألفاظ متباينة، سواء كانت المعاني متصلة كالذات
والصفة، أو منفصلة كالضدين.
وإن تكثرت الألفاظ واتحد المعنى فهي مترادفة.
وإن تكثرت المعاني واتحد اللفظ من وضع واحد، فهو المشترك.
وإن اختص الوضع بأحدها، ثم استعمل في الباقي، من غير أن
يغلب فيه، فهو الحقيقة والمجاز. وإن غلب، وكان الاستعمال لمناسبة،
فهو المنقول اللغوي، أو الشرعي، أو العرفي. وإن كان بدون المناسبة
فهو المرتجل.
229

[39] قوله: (اللفظ والمعنى إن اتحدا... الخ)
واعلم، أن كلا من الاتحاد والتكثر وصف يجري في كل من اللفظ والمعنى،
وبذلك يحصل بينهما نسبة دعتهم إلى تنويع الألفاظ المنتسبة إلى معانيها باعتبار
هذين الوصفين إلى أربعة أنواع، يضبطها كونهما معا متحدين أو متكثرين، أو
المعنى متحدا مع تكثر اللفظ، أو اللفظ متحدا مع تكثر المعنى، فالمقسم هو اللفظ
باعتبار نسبته إلى المعنى بالاتحاد والتكثر، ولذا عنون العلامة في النهاية (1) بحث
هذا التقسيم بقوله: " البحث الخامس: في نسبة اللفظ إلى المعنى... الخ " وعلى
طبقه ما في المنية (2) ببيان أوضح، قائلا: - بعد نقل عبارة التهذيب المشتملة على
التنويع: - هذا هو التقسيم الثالث من تقاسيم الألفاظ، وهو باعتبار نسبتها إلى
معانيها بالاتحاد والتعدد... الخ.
والمراد باللفظ في هذا التقسيم ما من شأنه أن يقصد منه المعنى، المأخوذ معه
طرفا للنسبة المذكورة وإن لم يكن تاما، كالهيئة أو المادة المجردتين في الألفاظ
الموضوعة بنوع هيآتها أو موادها، كما أن المراد بالمعنى هاهنا ما من شأنه أن
يقصد من اللفظ، وإن لم يكن مما وضع له ذلك اللفظ.
ومن المعلوم أن الشأنية المأخوذة في كل من اللفظ والمعنى وصف فيهما لا
يتأتى إلا بأحد أمرين، الوضع والعلاقة المرخص فيها، فإذا وضع لفظ لمعنى نوعا
أو شخصا كان من شأنه أن يقصد منه ذلك المعنى، ومن شأن المعنى أن يقصد من
ذلك اللفظ، كما أنه إذا حصل بين ما وضع له اللفظ وغيره علاقة مرخص فيها كان
من شأن اللفظ أن يقصد منه هذا المعنى الغير الموضوع له، ومن شأن هذا المعنى أن
يقصد من اللفظ.
ومن هنا جرت عادتهم بأخذ الحقيقة والمجاز من أقسام بعض أنواع هذا
التقسيم، وكما أن النسبة ملحوظة هنا بين اللفظ ومعناه وكذلك ملحوظة بينه وبين

(1) نهاية الوصول إلى علم الأصول: الورقة 17 (مخطوط).
(2) منية اللبيب في شرح التهذيب: الورقة 26 (مخطوط).
230

لفظ آخر وبين معناه ومعنى هذا اللفظ، ولولا ذلك لم يعقل كونهما معا متكثرين
ولم يعقل كون الألفاظ المتبائنة من أنواع هذا التقسيم، ولذا قال في المنية (1):
إن التباين إنما يلحق باللفظ عند نسبته إلى لفظ آخر، ونسبة معناه إلى معناه وتحقق
التغاير بينهما، فهو لا يعقل إلا مع تكثر اللفظ والمعنى، انتهى.
وقضية ذلك كون الحيثية معتبرة في جميع أنواع هذا التقسيم، فاللفظ مع معناه
إنما يصير من المتبائنة مع ملاحظة نسبتهما إلى لفظ آخر ومعناه، وأما إذا جرد عن
هذه الملاحظة فلا جرم كان داخلا في أحد العناوين الأخر، وعليه فيمكن اجتماع
هذه العناوين في لفظ واحد باعتبار توارد الحيثيات عليه، وسنورد عليك زيادة
بيان في ذلك.
[40] قوله: (فإما أن يمنع نفس تصور المعنى من وقوع الشركة فيه
وهو الجزئي، أو لا يمنع وهو الكلي... الخ)
ولا يذهب عليك أن الضميرين بملاحظة ما ستعرفه من انعقاد اصطلاحهم في
الكلي والجزئي على الألفاظ يعودان إلى اللفظ دون المعنى، وإن احتمله في بادئ
النظر بملاحظة سبق الذكر لو قطع النظر عن قرينة ما ذكر، التي يساعدها العطف
بلفظه " ثم " في قوله: " ثم إما أن يتساوى معناه في جميع موارده وهو المتواطئ
أو يتفاوت وهو المشكك، فإنه بملاحظة إضافة المعنى إلى الضمير العائد إلى الكلي
الممتنع وقوعه على المعنى استحالة إضافة الشئ إلى نفسه يوجب القطع بما
ذكرناه.
ويرادف العبارة حينئذ عبارة المختصر، فإنه بعد ما أشار إلى الأقسام الأربع
المفروضة للفظ والمعنى بقوله: " وللمفرد باعتبار وحدته ووحدة معناه وتعددهما
أربعة أقسام " قال: " فالقسم الأول إن اشترك في مفهومه كثيرون فهو الكلي، فإن
تفاوتت كالوجود للخالق والمخلوق فمشكك، وإلا فمتواط، وإن لم يشترك

(1) منية اللبيب في شرح التهذيب: الورقة 27 (مخطوط).
231

فجزئي ". ويرادفهما عبارة الشرح الموسوم ببيان المختصر، القائلة: " والقسم
الأول وهو أن يتحد اللفظ والمعنى إن اشترك في مفهومه كثيرون فهو الكلي، فإن
تفاوتت الأفراد في مفهومه بالأولية وعدمها أو الشدة والضعف أو التقدم والتأخر
سمي مشككا، وإن لم تتفاوتت الأفراد في مفهومه سمي متواطئا، وإن لم يشترك
في مفهومه كثيرون فهو الجزئي مثل زيد وهذا الإنسان ".
وهذه العبارات قريبة في المؤدى مما في نهاية العلامة (1) من قوله: " واعلم أن
اللفظ المفرد إما يمنع نفس تصوره من الشركة فيه وهو الجزئي الحقيقي، إلى قوله:
أو لا يمنع وهو الكلي، وأقسامه بالنسبة إلى الوجود الخارجي وتعدد أفراده ستة "
وما في شرح المنهاج من قوله: " والاسم إن كان معناه مشتركا بين الأفراد
المتوهمة فهو الكلي كالإنسان، وإن لم يكن مشتركا فهو الجزئي كزيد، وإنما يطلق
الكلي والجزئي على الألفاظ تبعا لمعناها، والكلي لا يخلو من أن يكون حصوله
في تلك الأفراد على السواء، كحصول الإنسان في أفراده وهو اللفظ المتواطئ، أو
كان حصوله فيها على التفاوت كحصول الوجود في الواجب والممكن فهو اللفظ
المشكك، لتشكيك الناظر فيه بأنه من المشترك أو [لا] من المشترك (2).
تحقيق في الكلي والجزئي
ومن المحققين (3) من اعترض على المصنف، حيث أخذ التقسيم إلى الكلي
والجزئي في القسم الأول، بأنه يخرج عن ظاهر التقسيم ألفاظ الكلي المترادفة،
وكذا ألفاظ الجزئي المترادفة، وكذا الألفاظ المشتركة الموضوعة للكلي والجزئي،
بل يخرج منه مجموع الألفاظ المتبائنة سواء كانت موضوعة للكلي أو الجزئي،
ولا يدخل شئ إلا بعد اعتبار الحيثيات وارتكاب التكلفات التي لا يليق بالحدود
والتقسيمات، والأولى جعل التقسيم بالكلي والجزئي تقسيما برأسه شاملا للمتحد
والمتكثر، وجعل التقسيم بالمتحد والمتكثر تقسيما آخر. انتهى.

(1) نهاية الوصول إلى علم الأصول: الورقة 17 (مخطوط).
(2) كذا في الأصل، وأضفنا لفظة [لا] لاستقامة العبارة في الجملة.
(3) حاشية سلطان العلماء - المطبوعة بهامش المعالم -: 25.
232

ويمكن دفعه: بعد ملاحظة عدم منافاة جريانه في هذا القسم جريانه في
الأقسام الأخر على فرض إمكانه، التفاتا إلى أن قصر شئ على شئ لا يقضي
بقصر المقصور عليه على المقصور، بأن المقابلة فيما بين هذه الأقسام ليست
بحقيقية - على ما بيناه - بل هي اعتبارية تنشأ من فرض الوحدة والكثرة في كل
من جانبي اللفظ والمعنى، ولولا ذلك الفرض كان الكل من المتحد، ضرورة أن كل
لفظ إذا لوحظ بما هو هو ليس إلا واحدا، كما أن كل معنى إذا لوحظ كذلك ليس إلا
واحدا، فالإنسان والبشر إذا لوحظا معا، والذهب والفضة من معاني العين إذا
لوحظا معا، والإنسان مع معناه والفرس مع معناه إذا لوحظا معا، كان الأول من
المترادفة، والثاني من متكثر المعنى، والثالث من المتبائنة، ولولا هذه الملاحظة
كان كل في كل من المتحد.
وعلى هذا فمورد القسمة بحسب المعنى ما يعم آحاد جميع الأقسام.
وإن شئت قلت: إن المقسم في الجميع بعد تحليلها إلى آحادها هو المتحد،
ولولا هذا التحليل كان وصفها بالكلية والجزئية من الحيثيات المأخوذة فيها
مستحيلا، فإن المترادفة والمتبائنة وغيرها بوصف الكثرة المأخوذة فيها لا يلحقها
وصف الكلية والجزئية، بل إنما يلحق كل واحد من آحادها التي حصلت الكثرة
بانضمام بعض إلى آخر، ثم ينبغي تتميم المبحث برسم مطالب:
المطلب الأول: في بيان جهة الكلي والجزئي وشرح مفهوميهما من حيث
إنهما يلحقان المفاهيم مع قطع النظر عن ألفاظها الدالة عليها.
فنقول: إن المعروف في تعريف الكلي أنه: " ما لا يمنع نفس تصوره عن وقوع
الشركة فيه " ويقابله الجزئي وهو: " ما يمنع نفس تصوره عن وقوع الشركة فيه "
والمراد بنفس التصور - بعد جعل الموصول كناية عن المفهوم - تحصله الذهني
المعرى عن ملاحظة الواقع، من حيث عدم فعلية وقوع الشركة في بعض الموارد
المنكشف بحكم الضرورة والوجدان، كما في مفهومي " اللاشئ " و " الممتنع "
أو النظر والبرهان كما في مفهومي " واجب الوجود " و " شريك الباري ".
233

ومحصل المعنى، إن " الكلي " مفهوم لا يمنع تحصله الذهني المعرى عن
ملاحظة الواقع عن شركة الكثرة فيه، على معنى صدقه عليها صدقا يوجب اتحاده
مع الجميع في الوجود، لو وجدت على وجه وجد مع كل حال وجوده مع الآخر،
سواء وجدت بالفعل مع التناهي وعدمه، أو لم توجد أصلا مع إمكان الوجود
أو امتناعه، أو وجد الواحد فقط مع إمكان غيره أو امتناعه.
وهذه هي الأقسام الست التي أشار إليها العلامة (1) في العبارة المتقدم إليها
الإشارة، وإنما أنيط المنع وعدمه بنفس التصور دون المتصور نفسه، بأن يعرف
الكلي " بما لا يمنع " والجزئي " بما يمنع " ليستقيم الحدان عكسا وطردا بمثل
المفاهيم الأربع المشار إليها وغيرها مما يشاركها في عدم فعلية وقوع الشركة،
لعدم وجود الكثرة ولو بالامتناع نظرا إلى ظهور " ما لا يمنع " و " ما يمنع " في المنع
الواقعي النفس الأمري، فيسبق إلى ذهن الناظر في التعريف كون النظر فيهما إلى ما
هو واقع الأمر، ويحسب لشدة اتصال العلم الضروري أو النظري المركوز في ذهنه
المانع عن شركة الكثرة - بل إمكانها أيضا - في المفاهيم المذكورة بالمفهوم
المتحصل في الذهن من أن المانع فيها نفس المفهوم، فيوجب ذلك دخولها في
نظره في حد الجزئي الموجب لخروجها عن الحد الآخر فيفسد طرد الأول
وعكس الثاني، فأضيف المنع وعدمه إلى نفس التصور تنبيها على الانصراف عن
هذا الاستباق، ببيان أن العبرة في الحدين إنما هو بالمفهوم من حيث إنه أمر
متحصل في الذهن مع قطع النظر فيه عن لحاظ الواقع الذي انكشف بالعلم
الضروري أو النظري، ولا ريب أنه بهذا الاعتبار صادق على الجميع.
ومن الأفاضل (2) من جعل التعريف بما ذكر أولى من تعريفهما: " بامتناع
فرض صدقه على كثيرين وعدمه " تعليلا بما في لفظ " الفرض " من اشتراكه بين
التقدير والتجويز ولا يصح الحد إلا على الأخير، ولخروج الكلي الذي يمتنع

(1) نهاية الوصول إلى علم الأصول: الورقة 17 (مخطوط).
(2) هداية المسترشدين: 18 (الطبعة الحجرية).
234

صدقه على كثيرين مطلقا كشريك الباري، أو على ما يزيد على الواحد كواجب
الوجود عن الكلي واندراجه في الجزئي، لعدم تجويز العقل صدقه على كثيرين.
ويدفعهما: منع ابتناء صحة الحد على أخذ " الفرض " بالمعنى الأخير، بل يصح
بكل من المعنيين، فلا يوجب وقوعه في الحد فسادا فيه، وإن كان مشتركا بين
المعنيين، فإن الألفاظ المشتركة إنما يختل بصحة التعريفات إذا أوجبت إخلالا بما
هو الغرض المقصود من التعريف، وهو انكشاف المعرف واتضاح حقيقته، وإنما
يلزم ذلك إذا أخذ اللفظ بالمعنى المعين ولم يقم معه ما يعين هذا المعنى المعين،
وأما إذا أخذ على هذا الوجه مع وجود ما يعينه أولا على هذا الوجه، بل على وجه
يصح أخذه بكل من معنييه على البدل، كأن يكون المعنيان متلازمان في الوجود
الخارجي مع كونهما معا لازمين للمعرف فليس بضائر في صحته، لفرض حصول
الغرض بكل من المعنيين كما في المقام.
أما على أخذه بمعنى التقدير، فلأن فائدته التنبيه على أنه لا اعتبار في كلية
الكلي لوجود الكثرة بالفعل، بل المعتبر فيه عدم امتناع تقدير صدقه على الكثرة لو
وجدت، وتقدير الصدق على الكثرة معناه يرجع إلى تقدير وجود الكثرة، وظاهر
أن تقدير وجودها قد يصادف فعلية الوجود، وقد يصادف إمكان الوجود، وقد
يصادف امتناع الوجود، فوجود الكثرة له مراتب ثلاث والتقدير ممكن في الجميع
وليس بممتنع حتى في المرتبة الأخيرة، فإن الممتنع في تلك المرة (1) هو المقدر
ولا يقضي امتناعه بامتناع أصل التقدير، ويتبع تقدير وجود الكثرة في جميع
هذه المراتب تقدير صدق المفهوم عليها إن كان كليا، فإنه أيضا قد يصادف فعلية
الصدق وقد يصادف إمكانه وقد يصادف امتناعه، وهو ليس بممتنع حتى بالقياس
إلى المرتبة الأخيرة، وإن كان أصل الصدق ممتنعا، وعليه فيندرج في تعريف
" الكلي " جميع الأقسام الست المذكورة للكلي، ولا يندرج شئ منها في تعريف

(1) كذا في الأصل.
235

الجزئي، لأن المأخوذ في تعريفه إنما هو امتناع تقدير الصدق لا مجرد امتناع
الصدق.
وإلى ذلك ينحل ما قيل في الذب عن الإشكال الأخير، من إمكان تصحيح
الحد بالفرق بين استحالة الفرض وفرض المستحيل، والمذكور في الحد هو امتناع
الفرض، والممتنع في الكلي المفروض إنما هو المفروض دون الفرض.
والعجب عن الفاضل المتقدم ذكره أنه مع علو شأنه في الفن غفل عن حقيقة
مفاد العبارة، فدفعه بقوله: وفيه ما لا يخفى، نظرا إلى امتناع تجويز العقل ذلك في
بعض الكليات مما يكون امتناع صدقه على الأفراد ضروريا " كاللاشئ "
و " الممتنع " وأيضا يلزم اختلاف حال المفهوم في الكلية والجزئية باختلافه في
التجوز المذكور، فإنه قبل قيام البرهان على امتناع صدقه على كثيرين يندرج في
الحد المذكور، وبعد قيام البرهان عليه عند العقل يخرج عنه. انتهى (1).
وفيه ما لا يخفى، أولا: من عدم تعلقه بالقول المذكور، فإنه وارد على تقدير
أخذ " الفرض " بمعنى التقدير، وما ذكره في دفعه - على فرض تماميته - مبني على
أخذه بمعنى تجويز العقل.
وثانيا: من عدم لزوم الالتزام بأخذ هذا المعنى، فإن الحد - على ما قررناه -
يستقيم على تقدير الأخذ بمعنى التقدير، وكان الباعث على عدوله عن هذا المعنى
إلى ما أخذ به، توهم قضائه بفساد حد الجزئي حينئذ، لجريان الوجه المذكور في
الجزئي أيضا، والتقدير بالمعنى المزبور مما يصح فرضه فيه أيضا، إذ لو قدر في
الخارج كثيرون كان الجزئي صادقا على الجميع فينقلب الجزئي كليا، ويلزمه
انحصار المفاهيم في الكليات، وهذا مع أنه واضح الفساد بنفسه يقضي بأن
لا توجد لحد الجزئي مصداق.
ويدفعه: أن الجزئي إنما يصير جزئيا لخصوصية المتعينة التي بها يمتاز عن
جميع ما عداه.

(1) هداية المسترشدين: 18 (الطبعة الحجرية).
236

ولا ريب أن هذه الخصوصية ما دامت موجودة كانت مانعة عن صدقه
على كثيرين بل على غيره، على معنى صحة حمله المقتضي لاتحاده مع كل
في الخارج.
نعم هو مع إلغاء تلك الخصوصية وإن كان مما يمكن صدقه على كثيرين، غير
أنه خرج بهذا الاعتبار عن كونه جزئيا وانقلب كليا ولا كلام فيه.
وأما هو ما دام جزئيا فليس قابلا للصدق على الكثرة، ولا قابلا لتقدير صدقه،
على معنى أن صدقه عليها كما أنه بنفسه ممتنع كذلك تقديره أيضا ممتنع، وهو
الفارق بينه وبين الكلي، فهو بعد ما شارك الكلي في ضمن بعض أقسامه في امتناع
أصل الصدق على الكثرة، يفارقه بامتناع تقدير الصدق فيه أيضا دون الكلي،
وقضية قولهم: " فرض المحال ليس بمحال " ليست على إطلاقها، بل رب ممتنع
تقديره أيضا ممتنع.
وضابطه الكلي أن كل ممتنع بحسب الخارج إذا كان معقولا في الذهن
فتقديره ليس بممتنع، كما في وجود شريك الباري مثلا، ضرورة أنه يدخل له فرد
في الذهن كالآلهة الباطلة وإن امتنع دخوله في الخارج، فكل ممتنع بحسب
الخارج إذا لم يكن معقولا فتقديره أيضا ممتنع، لأن تقدير الشئ فرع لتصوره
وهو فرع لمعقوليته، فما لم يعقل لم يتصور وما لم يتصور استحال تقديره، وذلك
كاجتماع النقيضين أو الضدين في محل واحد خارجي، فإنه كما لا يدخل في
ظرف الخارج كذلك لا يدخل في ظرف الذهن.
ولا ريب أن صدق بعض الكليات على الكثيرين من باب القسم الأول،
وصدق الجزئي الحقيقي عليها من قبيل القسم الثاني.
توضيحه: أن صدق المفهوم على الكثرة معناه يرجع إلى أنه لو اعتبرنا قضايا
عديدة على حسب عدد تلك الكثرة، على وجه أخذ المفهوم محمولا فيها والكثرة
المفروضة موضوعاتها على نحو التوزيع كانت بأجمعها صادقة، كما في صدق
الإنسان على أفراده الراجع إلى صدق قولنا: " زيد إنسان " و " عمرو إنسان "
و " بكر إنسان " وهكذا.
237

وظاهر أن صدق القضية إنما هو باعتبار مطابقة النسبة المأخوذة فيها للواقع،
كما هي حقيقة معنى الصدق، ومحصل معناه حينئذ مطابقة تلك النسبة.
ويقرب منه، ما قد يوجد في كلامهم من تفسيره بصحة الحمل، ونحوه أيضا
تفسيره بالاتحاد في الوجود الخارجي، فإن الحمل لا يصح إلا مع مطابقة النسبة
كما إن الاتحاد لا يحصل إلا معها.
ولا ريب أن مطابقة النسبة فيما بين بعض الكليات وأفرادها الفرضية وإن
كانت ممتنعة بحسب الخارج، غير أنها أمر معقول بحسب الذهن، فلا يمتنع
تقديرها، بخلاف مطابقة النسبة فيما بين الجزئي الحقيقي والكثرة، فإنها أمر غير
معقول فيمتنع تقديرها، لأنه إن أخذ بلحاظ الخارج فهو فيه ليس إلا هو، ولا يعقل
معه الحمل، نظرا إلى أنه يقتضي تعددا وتغايرا في الذهن واتحادا في الخارج،
والواحد بوحدته الشخصية غير قابل للتعدد، كما أن لحاظ الخارج غير قابل
للتغاير الذهني، وإن أخذ بلحاظ الذهن واعتبر محمولا في قضية موضوعها واحد
من الكثرة المفروضة وصح الحمل، اقتضى اتحاده مع ذلك الواحد ذاتا، على معنى
كونه عينه، وبقي ما عدا ذلك الواحد بالنسبة إلى القضايا الأخر بلا محمول، وظاهر
أن الحمل من غير محمول غير معقول.
وتوهم: تقدير المحمول كالموضوع، غايته كون كل من طرفي الحمل أمرا
مقدرا.
يدفعه: أنه إن قدر مثل المحمول الأول رجع إلى حمل الكثرة على الكثرة،
وهو - إن صححناه - خارج عن محل البحث الذي هو من حمل الوحدة على
الكثرة، وإن قدر غير المحمول الأول الذي قضى الحمل في القضية الأولى باتحاده
مع موضوعها، عاد إلى حمل ذلك الموضوع على ما يبائنه، لكون آحاد الكثرة
المفروضة أمورا متبائنة، والحمل المقتضي للاتحاد في الوجود الخارجي بينها غير
معقول، لأوله بالآخرة إلى اجتماع الضدين في محل واحد.
ووجه الفرق بين حمل الكلي الغير المستتبع للمحذور وحمل الجزئي
238

المستتبع له، أن الكلي مفهوم يؤخذ لا بشرط شئ من جميع التعينات الخارجية
وهو صالح لها بأجمعها، ومن حكمه أنه إن أخذ في القضية بهذا الاعتبار فالحمل
يقتضي أن يلحقه باعتبار كون موضوعها ذاتا متعينة في الخارج نحو من التعين
الذي هو من جملة التعينات المذكورة، مع بقائه على وصف اللابشرطية بالنسبة
إلى سائرها، كما هو قضية كون اللا بشرط مما لا ينافيه ألف شرط.
ثم إذا أخذ في قضية أخرى قضى الحمل أيضا بتعينه بموضوع تلك القضية
بنحو آخر من التعين، مع بقائه على الوصف أيضا وهكذا إلى أن يحصل له جميع
التعينات الصالحة له من دون تمانع، كما هو قضية أن اللا بشرط يجتمع فيه ألف
شرط، وهذا هو السر في صدق القضايا كلها بخلاف الجزئي، فإنه مفهوم لو اخذ
بشرط تعين خاص غير صالح لسائر التعينات المضادة له، فإنه لو اخذ في القضية
وصح حمله لقضي باتحاده مع موضوعها ذاتا، على معنى كونه عينه من حيث إنه
ذات متعينه في الخارج، فيبقى القضية الأخرى بلا محمول إلا بفرض الذات
المذكورة محمولا فيها، فيؤول الأمر إلى المحذور المذكور.
وقضية هذا الفرق كون الحمل في الأول متعارفيا مقتضيا للاتحاد في الوجود،
على معنى كون المحمول موجودا بوجود الموضوع الذي هو وجود واحد مع
قابليته للتعدد بحسب الذات، وفي الثاني ذاتيا مقتضيا للاتحاد في الموجود على
معنى اتحاد ذاتي المحمول والموضوع، لا في مجرد وصف الوجود.
وأما على أخذه بمعنى التجوز، فلأن الصدق بمعنى الحمل المقتضي للاتحاد
مع كثيرين، أو الاتحاد الناشئ عن مطابقة النسبة في قضية الحمل على كثيرين،
إنما هو بنفس قابلية المفهوم له، وهو لا ينافي عدم وجود كثيرين ولا استحالة
وجوده، والذي يستحيله الضرورة في مثل الممتنع واللابشئ، أو البرهان في
شريك الباري وواجب الوجود، إنما هو وجود كثيرين لا صدق المفهوم على
تقدير الوجود، نظرا إلى قابليته، فالقضيتان مختلفتان موضوعا، ضرورة
أن التجويز وارد على صدق المفهوم بنفسه، والاستحالة متعلقة بوجود كثيرين،
239

ولا يلزم من كذب قضية وجود الموضوع كذب قضية صدق وصف المحمول على
ذات الموضوع لو وجد.
وإن شئت قلت: إن قضية تجويز العقل لصدق المفهوم على كثيرين شرطية،
على معنى أنه يجوز الصدق لو وجدت الكثيرون، فتجويز الصدق معلق على
وجود الكثيرين.
وواضح أن كذب الشرط لا ينافي صدق الشرطية، كما أنه لا يستلزم كذبها
وحينئذ فلا يتفاوت الحال في اتصاف المفهوم بالكلية بالنظر إلى ما قبل البرهان
وما بعده، فإن المفهوم من حيث هو مما يجوز صدقه العقل على كل حال، والذي
يختلف حاله بالنظر إلى صورتي ما قبل البرهان وما بعده إنما هو وجود الكثيرين،
فإنه قبل قيامه لا يحكم عليه بالامتناع وبعد قيامه يحكم عليه به، وهذا ليس
من اختلاف الشئ في الكلية والجزئية في شئ، والجزئية امتناع تجويز الصدق
على كثيرين.
وأما ما أورد على حد الكلي بناء على أخذ " الفرض " بمعنى التجويز، تارة:
بأن الشبح المرئي من البعيد مما يجوز العقل صدقه على أمور عديدة مع عدم كونه
كليا وقد نص الشيخ (1) بأن الطفل يدرك شبحا واحدا من أمه بحيث يصدق
على غيرها ولذا يتخيل أن يكون كل وارد عليه هي أمه، فيصدق ذلك على كثيرين
مع كونه جزئيا حقيقيا.
وأخرى: بأن كلا من المفاهيم الجزئية مطابق لصوره التي في أذهان الجماعة
فيلزم أن يكون كليا والذب عنه - بأن الكلية والجزئية من العوارض الذهنية، فهي
إنما تعرض المفاهيم الحاصلة في الذهن دون الأمور الخارجية مردود، بأنا لا
نلاحظ المفهوم المذكور من حيث وجوده في الخارج، بل من حيث تصور
المتصور له، فإن ذلك المفهوم الحاصل في العقل مع كونه جزئيا حقيقيا منطبق
على جميع تلك الصور الكثيرة الحاصلة في الأذهان العديدة - فواضح الدفع.

(1) حكى عنه في هداية المسترشدين: 18 (الطبعة الحجرية).
240

أما الأول: فلوضوح الفرق بين صدق الشئ على أمور وبين تردده بين أمور،
فإن الصدق - على ما بيناه - عبارة عن مطابقة النسبة المأخوذة في القضايا التي
محمولها الكلي وموضوعاتها الكثيرون للواقع، ويلزم من صدقها في الجميع كون
الحمل المأخوذ فيها متعارفيا، وهو يقتضي كون المحمول متحد الوجود مع
الكثيرين، ومعناه أن يكون موجودا مع كل واحد حال وجوده مع الآخر، والصدق
بهذا المعنى منتف فيما بين الشبح والأمور العديدة.
أما أولا: فلأن الشبح حيثما يؤخذ في القضية بالنسبة إلى هذه الأمور، فإنما
يعتبر موضوع القضية وهذه الأمور محمولا فيها، فيقال: هذا إما زيد أو عمرو مثلا.
وأما ثانيا: فلأن صدق الشبح مع بعض هذه الأمور في الواقع يوجب امتناع
صدقه مع الآخر، وإنما الموجود فيه هو التردد الذي هو عبارة عن احتمال صدقه
على هذا أو ذلك على البدل، بل عن احتمال كون الشئ المردد هذا بعينه أو ذاك
بعينه على البدل، مع امتناع كونه ذاك على تقدير كونه هذا بعينه، وامتناع كونه هذا
بعينه على تقدير كونه ذاك بعينه في الواقع، وهذا بعينه معنى كونه جزئيا، وليس فيه
شائبة من الصدق على الكثيرين، وإنما يحصل التردد في الشبح ونحوه من جهة
تبين كونه جزئيا حقيقيا لم يتبين خصوصية تعينه التي بها يمتاز عن جميع ما عداه،
ومن جهتها امتنع صدقه على غيره في نظر الرائي، على معنى أنه مع علمه بكونه
جزئيا حقيقيا يردده بين أمور لعدم تبين خصوصية تعينه، فالتردد إنما هو لاحتمال
هذه الخصوصية المجهولة لخصوصيات الأمور المردد فيها، ولأجل ذلك لو صح
الحمل مع بعض هذه الأمور في الواقع كان ذاتيا مقتضيا لكونه متحد الذات مع هذا
البعض، ومعه يمتنع صدقه على البعض الآخر، لرجوعه إلى فرض الصدق بين
هذه الأمور.
وبذلك يندفع توهم الصدق على الأمور في شبح الطفل، مع توجه المنع
241

إلى كونه من باب التردد بين أمور، بعد المنع عن كونه من باب الصدق على الأمور،
فإن الطفل من جهة قصور نظره - خصوصا في أوائل تولده - عن إدراك ما يمتاز به
أمه عما عداها من خصوصية التعين التي بها امتنع صدقها على غيرها، لم يدرك
من أمه إلا جثة وقطرا، فيحسب كل من يراه بهذين الأمرين أنه بعينه أمه، لا أن الأم
في نظره صادقة على كثيرين.
وهذا ليس من تردد شئ بين أمور ولا من صدقه على أمور، ولو سلم فهو من
صدق الكلي عليها لا من صدق الجزئي، لأن ما أدركه الطفل من أمه من الجثة
والقطر إنما هو الجهة المشتركة بينها وبين سائر أشخاص النوع، فصدق " الأم "
على الكثيرين إنما هو باعتبار ما به الاشتراك الذي هو الجهة الكلية.
ولو سلم ذلك أيضا لتوجه المنع إلى نقض تعريف الكلي، نظرا إلى أن المأخوذ
فيه إنما هو " الفرض " بمعنى التجويز، الذي هو عبارة عن تجويز العقل ولا عقل
للطفل. وبما قررناه جميعا يعلم أن ما في كلام غير واحد من إطلاق الكلي على
فرد ما ليس على ما ينبغي، إن أرادوا به الحقيقة، فإنه ليس إلا جزئيا حقيقيا طرأه
الاحتمال البدلي لما طرأه من إلغاء الخصوصية.
وتوضيحه: إن موضوع حكم القضية إخبارا كان أو إنشاء قد يكون في لحاظ
الحاكم ماهية كلية معراة عن ملاحظة الفرد، فيؤديه بما يفيد أصل الماهية، وقد
يكون فردا من الماهية بشرط التعيين وخصوصية تعينه، بأن يكون للخصوصية
مدخلية في الحكم، وهي مع ذلك مقصودة له بالإفادة، فيؤديه بما يفيد الفردية
والخصوصية معا من اسمه الخاص به، كالعلم أو ما بحكمه كاسم الإشارة ونحوه،
وقد يكون فردا منها لا بشرط التعيين، بأن لا يكون للخصوصية مدخلية في الحكم
أصلا، أو لم تكن مقصودة له بالإفادة وإن كان لها مدخلية في الحكم بحسب
الخارج، فيؤدي ما يفيد الفردية المعراة عن الخصوصية.
وقضية ذلك: أن يطرأه تردد واحتمال بدلي بين أمور في نظر السامع أو من
بحكمه ممن يلاحظ الخطاب، وهذا هو فرد ما، وهو المأخوذ في وضع النكرات
242

وما بحكمها، والموجود فيه إنما هو التردد بين أمور المقتضي للاحتمال البدلي،
وكلما كان كذلك فليس من الكلي في شئ.
وبالجملة، الكلي من لوازمه صدقه على الكثيرين، وفرد ما شئ يلزمه التردد
والاحتمال البدلي بين كثيرين، وهو ليس من الصدق على الكثيرين في شئ،
فالشئ المردد أيضا ليس من الكلي في شئ.
نعم إطلاق الكلي عليه توسعا لما فيه من الانتشار والشيوع البدلي ليس
بضائر.
وأما الثاني: فلوضوح أن مجرد انطباق شئ على شئ ومطابقته له، ليس من
باب صدقه عليه بالمعنى المقتضي للاتحاد ذاتا أو وجودا فقط.
ألا ترى أن الأسد الخارجي منطبق على كل واحد من صوره المنطبعة على
الجدار، ومثله انطباق الجسم على صوره المنطبعة في المرآة، هذا إذا اعتبر المفهوم
باعتبار وجوده الخارجي مقيسا إلى صوره الذهنية، وأما إذا اعتبر باعتبار وجوده
الذهني مقيسا إلى ما وجد منه في أذهان كثيرة، فعدم تحقق الصدق بينه وبينها على
وجه أخذ بعضها موضوع القضية والبعض الآخر محمولها أوضح.
المطلب الثاني: قضية العبارات المتقدمة وغيرها، انعقاد اصطلاحهم الكلي
والجزئي في الألفاظ، بعدما أخذوا بالاصطلاح المنعقد عند أهل الميزان في
المعاني أصلا وبالذات، وهو الأنسب بمباحث الفن من حيث إن شغلهم وغرضهم
إنما هو النظر في الألفاظ باعتبار دلالاتها على المعاني، فغلبوا هذين
الاصطلاحين لمراعاة ذلك على الألفاظ ولذا شاع في تضاعيف عباراتهم
إطلاقهما على اللفظ.
وإن شئت لاحظ تصريحهم بأن " الكلي " قد أطلق أو أستعمل في الفرد أو
الجزئي، وقولهم: " إطلاق الكلي على الفرد حقيقة واستعماله فيه مجاز " وهذا هو
الباعث على التزامهم بأخذ اللفظ مقسما في هذا التقسيم بخلاف أهل الميزان،
فإنهم من حيث إنهم أهل الميزان لا شغل لهم بالألفاظ ولا غرض لهم فيها، بل
243

غرضهم الأصلي في جميع أبواب فنهم مقصور على المعاني، ولذا لم يعهد منهم
نظير الإطلاق المذكور، وهو الباعث على اتفاق تقسيماتهم في أخذ المفهوم
أو المعنى مقسما.
لكن ينبغي أن يعلم أن الألفاظ في لحوق وصفي الكلية والجزئية بها ليست
ملحوظة أصلا وبالذات، بل هي إنما تتصف بوصف المعنى تبعا له، فإن كان
الوصف الثابت فيه هو الكلية تتصف بها اللفظ باعتباره وإن اتصف بالجزئية
باعتبار آخر، وإن كان الوصف الثابت فيه هو الجزئية اتصف بها اللفظ بهذا
الاعتبار، وإن اتصف بالكلية باعتبار آخر.
وقد يتخيل لحوقهما اللفظ بنفسه من دون ملاحظة المعنى، بل ومع كونه مهملا،
فإن لفظة " زيد " و " ديز " مع قطع النظر عن صدورهما من آحاد اللافظين
والمستعملين كلي، يندرج تحته خصوص ما صدر عن هذا اللافظ وما صدر عن
لافظ آخر وما صدر عن ثالث وهكذا، فإن كلا من ذلك بقيد الخصوصية المذكورة
جزئي لامتناع صدقه بهذا الاعتبار على كثيرين، بخلاف ما لو أخذ مع التعرية عنها
فإنه حينئذ كلي، لصدقه على كثيرين على ما هو ضابط الكلية، فتوهم اشتراط
اتصاف الألفاظ بهما بوجود مفاهيم في إزائها غلط.
وأصل هذا المطلب - حسبما زعمه هذا المتخيل - حق لا سترة عليه ولا شبهة
تعتريه، فإن اللفظ مفهوما وإن كان عبارة عما يتلفظ به الإنسان، المعبر عنه
بالصوت المعتمد على مقطع الفم، غير أن مصاديقه الخارجية عبارة عن الأصوات
المختلفة على حسب اختلاف الكيفيات الطارئة لها باعتبار الضم والتركيب
وتلاحق الحركات والسكنات، وهذا هو الوجه في اشتمال اللفظ عندهم على مادة
وهو أصل الصوت وجوهره، وهيئة وهي الكيفية الطارئة له عما ذكر، وظاهر أن
الألفاظ بمعنى الأصوات المخصوصة قد طرأها الوضع مرتين، إحداهما: باعتبار
وضعها لمعانيها، وأخراهما: باعتبار وضع الخطوط المعهودة التي هي عبارة عن
الصور الكتبية المخصوصة لها، فإنها على ما يساعد عليه النظر أمور تعتبر حواكي
244

عن الألفاظ المخصوصة، التي تعتبر حواكي عن معانيها المخصوصة، فهي دالة
على المعاني بواسطة دلالتها على الألفاظ الدالة عليها كما يدرك بالوجدان، وكما
إن الدلالة فيما بين الألفاظ والمعاني لا مستند لها إلا الوضع، فكذلك الدلالة فيما
بين الخطوط والألفاظ، فصورة زيد من حيث إنها هذا الخط موضوعة للفظه من
حيث إنه صوت مخصوص موضوع هو أيضا لمسماه، ومعلوم ضرورة أن المأخوذ
في وضع الخطوط ووضع الألفاظ معا هو الأصوات من حيث هي صالحة لأن
تصدر من كثيرين، وتصدق على الكثرة الصادرة عن آحاد اللافظين، وهي بهذا
الاعتبار أمور كلية لاحظها واضع الخطوط فوضعها بإزائها، وواضع الألفاظ
فوضعها بإزاء معانيها، وخصوص ما يصدر عن لافظ خاص عند التلفظ بلفظة
" زيد " صوت شخصي، وهو جزئي حقيقي من جزئيات نوع هذا الصوت الذي
لاحظه واضع الخطوط وواضع الألفاظ، فالمعتبر في لحاظ هذين الواضعين نوع
هذا الصوت الصادق على جزئياته الصادرة عن آحاد اللافظين بهذا اللفظ، وكذا
الكلام فيها إذا كانت مهملة بالقياس إلى أحد الوضعين، وهو وضع الخطوط
" كديز " ونحوه، فإن معنى كونه مهملا أنه لم يوضع لمعنى، لا أنه لم يوضع له خط
كما هو واضح.
وهذا هو معنى لحوق الكلية والجزئية للألفاظ بأنفسها ولذواتها من غير نظر
إلى معانيها، غير أنه بهذا الاعتبار مما لا تعلق له بمقالة أهل الفن في وصف الألفاظ
بهما، فإن نظرهم في ذلك إلى اتصافها بهما تبعا لمعانيها.
ولا يذهب عليك، أن مقصود المتخيل بإيراد هذا المطلب في المقام غير
واضح، فإن أراد به تخطئة من أسند إليهم أنهم عقدوا اصطلاحهم في الكلي
والجزئي في الألفاظ باعتبار معانيها في أصل هذا الإسناد، على معنى إنكار
انعقادها عليها كذلك، بل هي منعقدة عليها لذواتها.
ففيه ما لا يخفى من قصور النظر وقلة التدبر في كتبهم وعباراتهم الواردة فيها،
فإنها على ما سمعت نبذة منها بين صريحة وظاهرة في صدق الإسناد، وإن أراد به
245

تخطئتهم في جعل اصطلاحهم فيهما في الألفاظ بالاعتبار المذكور، بدعوى: كون
اللازم عليهم جعله فيها لذواتها بالتقريب المذكور، ففيه: ما لا يخفى من نهوضه
تخطئة لنفسه حيث غفل عما يناسب مباحث الفن، فإن الأصوليين لم يتعلق
غرضهم بالألفاظ في حد أنفسها ولذواتها، بل غرضهم في جميع المباحث المتعلقة
بالألفاظ متعلق بالألفاظ باعتبار دلالاتها على معانيها، لما هو معلوم بالتتبع أن
جميع مقاصدهم في مباحث الألفاظ إنما هو لغرض إحراز أصل الدلالة، كما هو
المبحوث عنه في مشتركات الكتاب والسنة المعدودة من مسائل الفن، التي
موضوعها اللفظ باعتبار وصف الدليلية، أو إحراز ما يحرز به الدلالة، كما هو
المبحوث عنه في المبادئ اللغوية الباحثة عن اللفظ لا باعتبار وصف الدليلية،
وأيا ما كان فالمطلوب والبحث إنما هو جهة الدلالة.
غاية الأمر أنها في المشتركات تطلب بلا واسطة، وفي غيرها مع الواسطة،
ومن هنا انحصر اصطلاحاتهم في سلسلة الألفاظ والمعاني في أقسام ثلاث:
أحدها: ما هو منعقد على الألفاظ باعتبار دلالاتها على المعاني، كالمفرد
والمركب والحقيقة والمجاز والمشترك والمنقول والعام والخاص والمطلق والمقيد
والمجمل والمبين والنص والظاهر والمؤول والمحكم والمتشابه، إلى غير ذلك.
وثانيها: ما هو منعقد على المعاني باعتبار مدلوليتها للألفاظ، كالمنطوق
والمفهوم بأقسامه، على ما سنقرره من كونهما وصفين للمدلول.
وثالثها: ما هو منعقد على الدلالة، التي هي النسبة فيما بين الألفاظ والمعاني،
كالمطابقة والتضمن والالتزام والاقتضاء والتنبيه والإيماء والإشارة، ولم يعهد
عنهم اصطلاح في الألفاظ المجردة عن المعاني ولا المعاني المجردة عن الألفاظ،
ولو فرض وجود نحو هذا الاصطلاح لم يكن له تعلق بمباحث فنهم، فليكن
اصطلاحهم في الكلي والجزئي أيضا جاريا هذا المجرى.
ثم إن قضية كون الألفاظ إنما تتصف بالكلية والجزئية تبعا لمعانيها المتصفة
بهما، صدق قضية قولنا: " كلما اتصف اللفظ بالكلية والجزئية باعتبار المعنى فلابد
246

وأن يتصف المعنى بهما " وينعكس بأنه: " كلما لم يتصف المعنى بهما فلابد وأن
لا يتصف بهما اللفظ ".
وأما قضية قولنا: " كلما لم يتصف اللفظ بهما فلابد وأن لا يتصف المعنى "
فلعلها كعكس نقيضها، وهو أنه: كلما اتصف المعنى بهما فلابد وأن يتصف اللفظ
بهما غير صادقة، لكون الأمور الاصطلاحية من الأمور القابلة للتخصيص فجاز
انعقاد اصطلاحهم من أهله في نوع من اللفظ دون غيره.
ومن هنا ربما يشتبه الأمر في خصوص المقام، بملاحظة أنه لم يعهد منهم
إطلاق الكلي والجزئي على الحروف والأفعال باعتبار معانيها النسبية المستندة
إلى هيآتها، كما اعترف به غير واحد ويظهر بالتتبع، وهل هذا من باب التخصيص
في الألفاظ لنكتة فلابد من بيان النكتة، أو من جهة اندراجهما في عكس القضية
الأولى، على معنى أن عدم الاتصاف فيهما لأجل عدم اتصاف معانيها، لكن
المستفاد من كلام جماعة بناء الأمر على الوجه الثاني، وعليه بعض الأعلام (1)
حيث قال: وأما الفعل والحرف فلا يتصفان بالكلية والجزئية في الاصطلاح.
ولعل السر فيه أن نظرهم في التقسيم إلى المفاهيم المستقلة التي يمكن
تصورها، والمعنى الحرفي غير مستقل بالمفهومية، بل هو أمر نسبي رابطي وآلة
لملاحظة حال الغير في الموارد المشخصة المعينة، ولا يتصور انفكاكها أبدا عن
تلك الموارد فهي تابعة لمواردها، وكذلك الفعل بالنسبة إلى الوضع النسبي.
وفي معناه كلام بعض الفضلاء (2) حيث علل عدم اتصاف المعاني الحرفية،
بأنها مفاهيم آلية يمتنع ملاحظة العقل إياها بنفسها.
وملخص مفاد العبارتين دعوى: استناد المنع عن اتصاف اللفظ إلى امتناع
اتصاف المعنى، لمكان انتفاء قابلية الاتصاف عنها من حيث إنها ليست إلا نسبا
مخصوصة متعينة، مختلفة الجهات والحيثيات على حسب اختلاف الموارد

(1) قوانين الأصول 10: 1.
(2) الفصول: 9.
247

والمقامات، فهي كما أنها تتبع الموارد في أصلها فكذلك تتبعها في وصفها، فإن
كان المورد له وصف الكلية يتصف بها النسب المخصوصة بالعرض، وإن كان له
وصف الجزئية يتصف بها النسب أيضا كذلك، ففي الحقيقة يكون اتصاف المعنى
الحرفي بهما من باب اتصاف الشئ بوصف متعلقه لا نفسه، فينحل حاصل المعنى
إلى دعويين:
إحداهما: أن معاني الحروف معان نسبية وأمور رابطية تعتبر آلة لملاحظة
حال الغير، وهذا هو الذي يساعد عليه النظر الدقيق وصرح به أهل التحقيق، نظرا
إلى أن ما عدا المعاني الحدثية والمعاني الغير الحدثية المستقلة من المفاهيم نسب
وارتباطات مخصوصة، تختلف باختلاف الحيثيات والاعتبارات، ووضع لبعضها
هيئآت الأفعال كالارتباط الحاصل فيما بين الذات والحدث باعتبار صدوره عنها
ونحوه، ولأكثرها الحروف كالإرتباط الحاصل فيما بينهما باعتبار تعلقه بها كما
في الحروف الجارة الداخلة في المفاعيل، أو باعتبار كونها مبدأ لصدوره أو منتهى
ومحلا لانقطاعه، أو كونها محلا لوقوعه فيها من زمان أو مكان كما في " من "
الابتداء و " إلى " و " حتى " الانتهاء و " في " الظرفية، والارتباط الحاصل فيما بين
المعاني الحدثية بعضها مع بعض باعتبار كون أحدهما غاية للآخر أو علة له، كما
في " كي " الغرض ولام التعليل، والارتباط الحاصل فيما بين الذوات بعضها مع
بعض باعتبار كون إحداهما متفوقا على الأخرى أو ظرفا لهما، كما في " على "
الاستعلاء و " في " الظرفية وهكذا إلى آخر الحروف ومعانيها، فإنها غير خارجة
عن الارتباطات المختلفة بالاعتبارات، وليس في كلام أهل العربية وأئمة اللغة ما
ينافي ذلك سوى ما يوهمه قولهم: " من " للابتداء و " إلى " للانتهاء و " كي " للغرض
وما أشبه ذلك، من كون المأخوذ في وضعها هذه المفاهيم أو جزئياتها على أنها
هذه المفاهيم باعتبار ما لوحظ معها من وصف الآلية الباعثة على خروجها عن
استقلال المفهومية، كما هو المستفاد من كثير من العبائر أيضا.
ولكن يدفعه: القطع بعدم كون مرادهم بذلك إفادة كون المأخوذ في الحروف
248

هذه المفاهيم على الوجه الكلي أو الجزئي، كيف وهي بهذا الاعتبار معان مصدرية
أخذ منها المشتقات.
ولا يذهب إلى وهم أحد كون المأخوذ في وضع الحروف معاني حدثية
مصدرية، بل المراد بها النسب المخصوصة والارتباطات المذكورة، وإنما وقع
التعبير عنها بتلك الألفاظ تسهيلا في التعبير واختصارا في التفسير، أو تنبيها على
وجوه هذه الارتباطات واعتباراتها حسبما فصلناه.
وأخراهما: كون هذه المعاني لعدم استقلالها إنما تتصف بالكلية والجزئية
بواسطة متعلقاتها التي هي الموارد الخاصة لا على الاستقلال، فهي كما أنها أمور
غير مستقلة في المفهومية فكذا غير مستقلة في الاتصاف بالكلية والجزئية.
لكن يشكل ذلك: بأن كون ما يتصف به المعنى الحرفي تبعا لملاحظة الموارد
الخاصة هو الوصف الثابت فيها يعتبر ثبوته فيه على سبيل العرض والمجاز غير
معلوم، وإنما يسلم ذلك لو كانت الموارد الخاصة بالإضافة إلى ما يلحقه من
الوصفين ملحوظة من باب الوسائط في العروض، على معنى كون الوصف
العارض له هو الوصف الثابت فيها بعينه فيسند إليها إسنادا أوليا على سبيل الحقيقة
وإليه إسنادا ثانويا على سبيل المجاز، فالعارض واحد والمعروض متعدد
بالاعتبار وهو خلاف التحقيق، بل الأقوى في النظر كونها ملحوظة من باب
الوسائط في الثبوت، لما يدرك بالوجدان من تعدد العارض كالمعروض عند
حصول ملاحظته تبعا لملاحظتها.
ألا ترى: أنه لو عبرنا عن المعنى الحرفي للفظة " من " بالارتباط بين الشيئين،
باعتبار كون أحدهما مبدأ للآخر، بعنوان أنهما شيئان لا بعنوان السير والبصرة،
كان المدرك في نظر العقل نحوين من الشركة بين الكثرة، على ما هو مناط الكلية:
أحدهما: شركة الشيئين بين مصاديقهما، التي منها السير والبصرة.
وثانيهما: شركة الارتباط الذي هو النسبة الملحوظة بينهما بين مصاديقه، التي
منها الارتباط الحاصل بين السير والبصرة.
249

ولو عبرنا عنه بالارتباط بين السير والبصرة على الوجه المذكور مع فرض
كل من السير والبصرة بالمعنى النوعي، كان المدرك في نظر العقل نحوين من منع
الشركة بالقياس إلى ما فوقهما، ونحوين من الشركة بالقياس إلى ما تحتهما، بناء
على أنهما بهذا الاعتبار من باب الجزئيات الإضافية.
ولو عبرنا عنه بالارتباط بين السير والبصرة بالمعنى الشخصي فيهما، كان
المدرك نحوين من عدم الشركة، بالمعنى الذي هو مناط الجزئية الحقيقية،
أحدهما: عدمها في السير والبصرة، وثانيهما: عدمها في الارتباط الحاصل بينهما.
ومن هنا يقال: إن الواضع في وضع الحرف تصور أمرا كليا فوضع الحرف له -
كما عليه القدماء - أو لجزئياته - كما عليه المتأخرون - فإن الأمر الكلي الذي
لاحظه الواضع إنما ينطبق على العنوان المأخوذ في التعبير الأول، وجزئياته
تنطبق على العنوان المأخوذ في التعبيرين الأخيرين.
فقضية ما قررناه، كون اتصاف معاني الحروف بالكلية والجزئية من باب
اتصاف الشئ بوصف نفسه، فلا جرم يكون عدم جريان الاصطلاح في الكلي
والجزئي عندهم على الحروف مستندا إلى نحو من التخصيص في الأمر
الاصطلاحي.
ولعل النكتة في ذلك أنه لا غرض لهم في هذا الاصطلاح إلا تشخيص موردي
الحقيقة والمجاز، اللاحقين للألفاظ الموضوعة للمفاهيم الكلية والجزئية باعتبار
كلية تلك المفاهيم أو جزئيتها.
ومن المعلوم كفاية جعل الاصطلاح في الألفاظ التي يدرك كلية أو جزئية
معانيها بدون تكلف ملاحظة الغير، على أنه واسطة في الثبوت أو العروض في
حصول هذا الغرض.
ويمكن أن يقال أيضا: إن هذا الغرض الذي هو أثر ذلك الاصطلاح إنما
يحصل في الألفاظ التي يجتمع فيها الحقيقة والمجاز، على معنى كونها بحيث
طرأها كل من الوصفين فعلا في استعمالات العرف باعتبار كلية معانيها أو
250

جزئيتها، وليست الحروف والأفعال لمعانيها النسبية من هذا القبيل، لاتفاق
الفريقين من القدماء والمتأخرين على عدم اتفاق استعمالهما في المفاهيم الكلية
التي وضعت لها على رأي الأولين، أو لوحظت آلة للملاحظة على رأي الآخرين،
فهي بالقياس إلى الجزئيات المستعمل فيها إما حقائق لا مجاز لها، أو مجازات
لا حقيقة لها، فالوصفان غير مجتمعين فيها باتفاق الفريقين.
ولا يخفى أن الوجه الثاني لو تم وصلح نكتة لجرى في أسماء الإشارة
والضمائر والموصولات وغيرها مما يشارك الحروف في الوضع لأمر عام، لكون
الكل من واد واحد، وقضية ذلك عدم جريان الاصطلاح المذكور في المذكورات
أيضا.
وهذا وإن التزمه بعض الأعلام (1) على رأي المتأخرين، تعليلا بكونها حينئذ
تشبه الحرف لمناسبتها إياه في الوضع، بل المتصف بهما حينئذ هو الموارد الخاصة
بخلافه على رأى القدماء، فإنها حينئذ تدخل في الكلي، لكن يأباه ما يوجد في
تضاعيف عباراتهم من إطلاق الجزئي عليها، كما يقف عليه المتتبع، بل هو مما
ورد التصريح به في عبارة شارح المنهاج المتقدم ذكرها، فإن التمثيل " بهذا
الإنسان " في تلك العبارة للجزئي تنصيص على أن الجزئي يطلق عندهم على اسم
الإشارة، والظاهر من طريقتهم عدم الفرق بينه وبين المضمر والموصول، لكون
الكل من باب واحد.
وعليه فما عرفته عن بعض الأعلام يشبه بكونه اجتهادا في مقابلة النص، مع
كون تعليله بنفسه عليلا لقصور مجرد الشباهة في الوضع عن منع الاتصاف.
نعم إنما يظهر أثر تلك الشباهة في الأحكام الراجعة إلى أصل اللغة كالإعراب
والبناء، لمكان أنها لما وردت مبنية في أصل اللغة التزمنا بكونه لعلة الشباهة
المذكورة لمبنى الأصل، وأما كونها مؤثرة في الأمور الاصطلاحية أيضا فغير ثابت
بل الثابت خلافه على ما عرفت.

(1) قوانين الأصول 10: 1 (الطبعة الحجرية).
251

المطلب الثالث: قد عرفت بما تقدم من عباراتهم أن الكلي ينقسم عندهم
بالمتواطي والمشكك على حذو ما صنعه أهل الميزان، ويوجه التسمية بالأخير
بأن السامع بملاحظة تفاوت الأفراد يقع في الشك في أن اللفظ أهو متواط أو
مشترك، وقد حدث تقسيم آخر هنا في خصوص التشكيك، وهو تقسيمه إلى
البدوي والمضر الإجمالي والمبين العدم، بملاحظة أن الفرد النادر قد يبلغ في
الخفاء مرتبة يقطع السامع بالتأمل في إطلاقات اللفظ بدخوله في مدلول اللفظ
فيزول شكه، وقد يبلغ مرتبة يستقر شكه في كونه داخلا أو خارجا ولو بعد التأمل،
فيضر هذا التشكيك في إطلاق اللفظ ويصيره مجملا بالنسبة إلى الفرد، وقد يبلغ
مرتبة يقطع بخروجه عن المدلول فيتبين عنده عدم الدخول.
وقضية ما سبق من كون المراد بالكلي والجزئي ما يجري في اللفظ باعتبار ما
يعرض معناه من الوصفين كون المتواطي والمشكك أيضا جاريين على اللفظ
باعتبار جريانهما على المعنى، وهو صريح العبارة المتقدمة من المصنف بملاحظة
إضافة المعنى إلى ضمير الكلي الذي هو عبارة عن اللفظ، بل المصرح به في عبائر
الجماعة المتقدمة، بل كل من تصدى لهذا التقسيم، كما هو المناسب لوضع الفن
وطريقة الأصوليين. ويشهد له أيضا ما عرفته من شيوع إطلاق هذين العنوانين
على المطلقات في غير هذا الموضع.
لكن ربما يشكل انطباق هذا الإطلاق على مقتضى التقسيم في هذا المقام، بعد
ملاحظة ما يجعلونه معيارا للتواطي والتشكيك، فإن كلماتهم هنا مطبقة على إناطة
الأمرين بتساوي الأفراد وتفاوتها في صدق المعنى عليها، من حيث الأولية
والأولوية والأشدية وأضدادها، ممثلين للمشكك في الجميع بالوجود بالقياس
إلى قسميه الواجب والممكن، ولا يلائمه التواطي والتشكيك الواردان في باب
المطلقات بحسب بادئ النظر، لكونهما ثمة منوطين بتساوي الأفراد وتفاوتها في
صدق اللفظ ودلالته عليها ظهورا وخفاء، مع كون التفاوت على تقديره ناشئا عن
غلبة إطلاق اللفظ على بعضها، أو غلبة وجود هذا البعض في الخارج، وهذا
252

المعيار كما ترى ليس بعين المعيار الأول، ولا لازما أو ملزوما له، كيف وإن النسبة
بينهما بحسب المورد عموم من وجه.
ولا ريب أن المعيار الأول أنسب بما تقدم من أن التواطي والتشكيك من
الصفات اللاحقة بالألفاظ باعتبار لحوقهما المعاني، وهما على المعيار الثاني ليسا
مما يلحق المعاني، فتكون الألفاظ في لحوقهما لها على الاستقلال، وبذلك أيضا
يحصل الفرق بين المعيارين.
وبالجملة فالمقام في كلام القوم غير منقح، وكلماتهم بالنسبة إلى مقام التقسيم
وباب المطلقات مضطربة، وهذا هو منشأ الإشكال.
ولكن يمكن دفعه - جمعا بين كلماتهم - بالتزام تعدد اصطلاحهم في
خصوص هذين العنوانين:
أحدهما: اعتبار لحوقهما الألفاظ تبعا لمعانيها لا على الاستقلال، فلابد حينئذ
من إناطة الأمر بالمعيار الأول.
وثانيهما: اعتبار لحوقهما الألفاظ على الاستقلال، فلابد حينئذ من الإناطة
بالمعيار الثاني.
ويمكن القول، أيضا ببناء الاصطلاح على الأول، وكون الثاني توسعا في
الاستعمال واردا على خلاف المصطلح عليه، ليظهر فائدته في باب المطلق، وفي
كل من الوجهين ما لا يخفى.
بل الدافع للإشكال والحاسم لمادته، الجامع بين كلماتهم على جهة الجزم
والاطمئنان، هو المنع عن تغاير المعيارين وتبائنهما، بل منع حصول معيار آخر
لهم عدا المعيار الأول، ومنع وجود ما يقضي في كلماتهم باعتبار المعيار الثاني،
وذلك لأن الأصوليين تكلموا في التواطي والتشكيك في مقامين:
أحدهما: مقام التقسيم. وثانيهما: باب المطلق.
لكن غرضهم في المقام الأول، إنما هو تشخيص موضوع التواطي والتشكيك
والتمييز بينهما، من باب المبادئ اللغوية التصورية طلبا لإحراز ما يكون موضوعا
253

لمسألة أصولية، فهم في هذا المقام وإن خالفوا أهل الميزان في جعلهم المتواطئ
والمشكك اصطلاحين في الألفاظ تبعا لملاحظة معانيها، وكل لفظ يكون معناه
متواطئا عند أهل الميزان سموه متواطئا، وكل لفظ يكون معناه مشككا عند أهل
الميزان سموه مشككا، إلا أنهم وافقوهم في معيارهما بجعل العبرة فيهما بتساوي
وتفاوت أفراد المعنى في صدقه عليها بحسب الأولية وغيرها مما تقدم، غير أنه
ينبغي أن يعلم أنهم كأهل الميزان وإن ذكروا في أسباب التشكيك والجهات
المقتضية له هذه الأمور الثلاث، لكن مقصودهم ليس إفادة حصر أسبابه
ومقتضياته فيها خاصة، بل له عندهم جهات أخر، منها: غلبة وجود المعنى في
بعض الأفراد في لحاظ الخارج، ومنها: غلبة اعتبار وجوده في بعضها في لحاظ
الاستعمال وإن لم يكن غالب الوجود في ذلك بحسب الخارج، وإنما خصوا
الأمور المذكورة بالذكر هنا لكون ذكرها من باب المثال، أو لنكتة أخرى، وأشاروا
إلى غيرها كالأمرين المذكورين في باب المطلق، والضابط الذي يندرج فيه
الأسباب كلها والجهات المقتضية للتشكيك بأسرها، اختلاف الأفراد في الكمال
وعدمه، الموجب لتفاوت صدق المعنى عليها.
وظاهر أن كمال الفرد قد يتأتى بأولية صدق الكلي عليه، وقد يتأتى بأولويته،
وقد يتأتى بأشديته، وقد يتأتى بغلبة وجوده بلحاظ الخارج، وقد يتأتى بغلبة
اعتبار وجوده في ضمن البعض بلحاظ الاستعمال، كأن يغلب استعماله في المعنى
باعتبار غلبة وجوده في ضمن بعض معين من الأفراد.
وأما كلامهم في المقام الثاني، فهو راجع إلى البحث عن حال الدليل باعتبار
الدلالة، لشبهة عرضت لها عن التشكيك بالمعنى المذكور المحرز في المقام الأول
موضوعا لهذا البحث، الذي هو بحث في المسألة الأصولية.
وتحريرها: أن التشكيك اللاحق للمطلق باعتبار اختلاف أفراد معناه
وتفاوتها في الكمال وعدمه، هل توجب تفاوتا في دلالته، فينصرف إلى الفرد
الكامل مطلقا، أو إذا كان الكمال باعتبار الغلبة في الوجود، أو الإطلاق، أو في
254

الوجود فقط دون غيره أو لا يوجبه مطلقا، بل هو في دلالته على أفراد معناه
متساوي الصدق والدلالة على الجميع، وإن تفاوتت الأفراد في الكمال وعدمه.
وهذه أقوال أربع مستفادة من كلماتهم وإن لم تذكر مجموعة في موضع،
وكلها واردة في المشكك بالمعنى المصطلح عليه، وكلها كما ترى حاصلة بينهم بعد
الاتفاق على أن المتواطي من حكمه تساوي دلالته على أفراد معناه، فيكون هذا
كلاما في أن المشكك أيضا من حكمه تساوي دلالته على أفراد معناه المختلفة في
الكمال وعدمه، أو تفاوت دلالته عليها مطلقا، أو يفصل بإحدى الوجهين، وهذا
كما ترى ليس من القول بكون المتواطي والمشكك يلحقان اللفظ باعتبار تساوي
وتفاوت دلالته على أفراد معناه.
وإن شئت قلت: إن تساوي الدلالة وتفاوتها حكم من أحكام المتواطي
والمشكك، فالتكلم فيهما تكلم في الحكم، لا أنهما جزء من الموضوع، فالقول بأن
المتواطي والمشكك عند الأصوليين باعتبار تفاوت الأفراد في الظهور والخفاء،
بالنسبة إلى فهمها من اللفظ ودلالته عليها، فما تساوى أفراده ظهورا فمتواط وإلا
فمشكك، ليس على ما ينبغي.
المطلب الرابع: أن الكلي قد ينقسم إلى الطبيعي والمنطقي والعقلي، قالوا
مفهوم الكلي - أعني ما لا يمتنع فرض صدقه على كثيرين - كلي منطقي،
ومعروضه كلي طبيعي، والمجموع من العارض والمعروض كلي عقلي، والظاهر
أن المراد بالمعروض والعارض ما يقع موضوعا ومحمولا في قضية قولنا:
" الحيوان كلي " كما هو المصطلح الجاري فيهما عند أهل المعقول.
ومحصل التقسيم أن موضوع هذه القضية المعبر عنه بالجسم النامي الحساس
المتحرك بالإرادة، إن اعتبرناه مع قطع النظر عن محمولها العارض له، كما لو
اعتبرنا زيدا في قضية قولنا: " زيد عالم " مع قطع النظر عن وصف العالم كلي
طبيعي، لكونه من الطبائع وقد يعبر عنه بالماهية من حيث هي هي التي ليست إلا
هي، ولا يلتفت إلى مقارنتها بشئ في نفس الأمر وجودا وعدما، ومحمولها الذي
255

يعبر عنه بما تقدم إن اعتبرناه مع قطع النظر عن موضوعها، كما لو اعتبرنا " العالم "
في القضية المذكورة مع قطع النظر عن زيد كلي منطقي، لأنه الموضوع المبحوث
عنه في المباحث المنطقية، والمجموع من هذا الموضوع وذاك المحمول إن اعتبرنا
كلا منهما مع انضمام الآخر إليه، على معنى اعتبار الموضوع موصوفا بوصف
المحمول كالحيوان الكلي، كما لو اعتبرنا زيدا بوصف العالمية وقلنا: " زيد العالم "
كلي عقلي، إذ لا تحقق له إلا عند العقل.
ومن هنا بعد التأمل يظهر، أن هذا التقسيم لفظي إذ ليس فيما بين الأقسام
المذكورة قدر جامع يكون مسمى اللفظ بعنوان الحقيقة، كما لا يخفى.
فلابد من أن يراد بالمقسم ما يسمى بالكلي، أو ما يطلق عليه الكلي أو نحو
ذلك وإن شئت قلت: إنه من باب تقسيم المشترك اللفظي إلى معانيه.
وعليه فما في كلمات بعض الأعلام (1) عند الفرق بين الجنس والكلي الطبيعي
من توهم أن الكلي الطبيعي أخص من الجنس الذي هو مرادف الكلي الذي هو
أعم من الكلي الطبيعي، لانقسامه إليه وإلى غيره من القسمين الأخيرين، ليس
بسديد، إذ ليس في التقسيمات اللفظية ما يكون أعم ليكون كل قسم أخص منه
بعنوان الحقيقة، مع أن الجنس إن فسرناه بالماهية لا بشرط شئ كما هو
مصطلحهم والمصرح به في غير موضوع من كلامه، لا ينطبق على الكلي بالمعنى
الذي يقع عليه اسمه في قضية التقسيم، بل إنما ينطبق عليه الكلي الطبيعي بالمعنى
المشار إليه، أعني الماهية من حيث هي هي التي ليست إلا هي، فهما مترادفان
لفظا ومتحدان معنى.
الكلي الطبيعي
ثم الكلي الطبيعي إذا أضيف إليه الوجود فإما أن يضاف إليه في الذهن فلا
إشكال ولا خلاف في وجوده، سواء أخذ بنفسه أو باعتبار أفراده، أو يضاف إليه

(1) قوانين الأصول 203: 1، حيث قال: "... وليس كل جنس يكون كليا طبيعيا، فالجنس
أعم، فإن الكلي الطبيعي معروض لمفهوم الكلي ونفس الكلي جنس، فالجنس أعم
مطلقا... ".
256

في الخارج بنفسه، على معنى اعتبار وجوده فيه مع قطع النظر عن أفراده، حتى
يكون على تقدير الوجود موجودا فيه وإن لم يكن له فرد موجود، ويكون في
الطرف المقابل من فرده إن كان له فرد موجود، ولا إشكال كما لا خلاف في عدم
وجوده بل امتناع وجوده على هذا الوجه، أو يضاف إليه في الخارج أيضا ولكن
باعتبار أفراده، على معنى كونه إن أخذ مع أفراده موجودا إما بطريق العينية - بأن
يكون عين فرده الموجود - أو بطريق الضمنية - بأن يكون جزءا من فرده
الموجود - ففي وجوده بهذا الاعتبار على أحد الوجهين وعدم وجوده مطلقا
خلاف.
ومحصل الخلاف أن الطبيعة التي يعرضها الكلية بطريق الحمل أو الوصف
النحوي، هل لها مع قطع النظر عن وجودها الذهني وجود وتحصل خارجي،
بحيث لو وقعت عليها الإشارة مع قطع النظر عن الخصوصيات المكتنفة بها
والشروط المضافة إليها لوقعت على أمر حسي وشئ متأصل في الخارج، فتكون
موجودة في الأعيان بطريق العينية أو الضمنية، أو لا وجود له في الخارج أصلا،
بل ليس له من الوجود إلا ما في الأذهان.
فالقول بالعينية لجماعة ويستفاد من المصنف على ما ستعرفه، ومن التفتازاني
شارح الشرح حيث قال: والحق وجودها في الأعيان، لكن لا من حيث كونها
جزء من الجزئيات المحققة على ما هو رأي الأكثرين، بل من حيث إنه يوجد
شئ يصدق هي عليه وقد تكون عينه بحسب الخارج وإن تغاير بحسب المفهوم.
والقول بالضمنية منسوب إلى المحققين. ويستفاد من كلام محكي عن الشيخ
في الشفاء، وهي على ما في حواشي الزبدة من مؤلفها:
والحيوان بشرط أن لا يكون معه شئ آخر لا وجود له في الخارج، وأما
الحيوان لا بشرط فله وجود في الأعيان، فإنه في حقيقته بلا شرط وإن كان معه
ألف شرط يقارنه من الخارج، فالحيوان بمجرد الحيوانية موجود في الأعيان،
وليس ذلك يوجب عليه أن يكون مفارقا، بل الذي هو في نفسه خال عن الشرائط
257

اللاحقة موجود في الأعيان وقد اكتنفه من خارج شرائط وأحوال، فهو في حد
وحدته التي هو بها واحد من تلك الجهة هو حيوان مجرد بلا شرط شئ آخر.
انتهى، فتأمل.
والقول بعدم الوجود معروف، وعليه شارح المطالع ويستفاد من الحاجبي في
المختصر، وربما عزى إلى المصنف أيضا وليس كما عزى، بل المستفاد منه في غير
موضع من الكتاب هو القول الأول، وإن شئت لاحظ كلامه في بحث اجتماع الأمر
والنهي، فإنه عند دفع ثاني حجتي القول بجواز الاجتماع، قال: ضرورة أن
الأحكام إنما تتعلق بالكليات باعتبار وجودها، فالفرد الذي يتحقق به الكلي هو
الذي يتعلق به الحكم حقيقة، وهكذا يقال في جهة الصلاة، فإن الكون المأمور به
فيها وإن كان كليا، لكنه إنما يراد باعتبار الوجود، فمتعلق الأمر في الحقيقة إنما هو
الفرد الذي يوجد منه ولو باعتبار الحصة التي في ضمنه من الحقيقة الكلية على
أبعد الرأيين في وجود الكلي الطبيعي. انتهى (1).
ولا يخفى أن قوله: " ضرورة إن الأحكام إنما يتعلق بالكليات باعتبار
وجودها " وكذلك قوله: " فالفرد الذي يتحقق به الكلي هو الذي يتعلق به الحكم "
صريح في خلاف القول بعدم الوجود، وبمثل ذلك صرح في بحث المفرد المعرف
باللام، بقوله: " إذ الأحكام الشرعية إنما تجري على الكليات باعتبار وجودها ".
فدعوى: أن قوله: - في آخر كلامه المذكور - " على أبعد الرأيين في وجود
الكلي الطبيعي " يدل على أن مذهبه عدم وجوده في الخارج بل أفراده موجودة،
واردة على خلاف التدبر في عمق العبارة، بل ما ذكر بصراحته يدل على اختياره
القول بالعينية، حيث جعل القول بوجود الحقيقة الكلية باعتبار الحصة الموجودة
منها في ضمن الفرد أبعد الرأيين في وجود الكلي الطبيعي، فإن من البين أن
الرأيين في الوجود:
أحدهما: كونه في ضمن الفرد الموجود منه.

(1) معالم الأصول: 99.
258

وثانيهما: كونه عينه، فإذا كان الأول عنده أبعد يتعين كون الثاني هو الأقرب،
ويشهد له قوله: " فمتعلق الأمر في الحقيقة إنما هو الفرد الذي يوجد منه ولو
باعتبار الحصة التي في ضمنه من الحقيقة الكلية " فإن لفظة " لو " إذا كانت للوصل
فإنما هي للترقي عن الفرد الظاهر القوي إلى الفرد النادر الخفي على ما هو الغالب
فيها، فإذا كان القول بوجود الحصة خفيا في نظره بقي كون القول بالعينية قويا، لأن
القول بعدم الوجود بالمرة ينفيه الكلمات السابقة.
وأظهر من الجميع في إفادة هذا المعنى كلام محكي عنه في الحاشية المعلقة
على حكمه بكون الاستعمال في اللفظ الموضوع للمعنى الكلي في خصوص الفرد
مجازا، عند من يزعم كون صيغة " إفعل " للقدر المشترك بين الوجوب والندب،
فقال: هذا الحكم واضح عند من لا يقول بأن الكلي الطبيعي موجود بعين وجود
أفراده وأما على هذا القول - وهو الأظهر - فوجه المجازية... الخ (1).
وستقف على تمام هذه العبارة في بحث الصيغة.
وكيف كان، فالذي نراه حقا على الوجه الذي لا محيص عنه إنما هو الوجود،
لكن لا لما يستدل به من أنه جزء من هذا الحيوان الموجود وجزء الموجود
موجود، فإنه غير خال عن المصادرة، والذي ينكر وجوده بالمرة ينبغي أن ينكر
جزئيته أيضا لئلا يتدافع بعض كلامه بعضا، بل لأن الفطن العارف إذا جانب
الاعتساف ولاحظ بعين الإنصاف جميع أجزاء العالم من جواهرها وأعراضها لا
يرى منها شيئا إلا وهو كلي طبيعي تلبس بلباس الوجود وماهية متأصلة تحلت
بحلية التحصل، بل هو من الأمور الحسية التي قد يلتبس أمرها على الوهم،
ويشتبه حالها على النظر السفسطي فيذهب إليه عدم كونه إلا أمرا اعتباريا لا
تحصل له إلا في الذهن، وشيئا منتزعا ينتزعه العقل عن الأفراد الذي لولا انتزاعه

(1) المعالم: 45 في ذيل قوله: "... على أن المجاز لازم بتقدير وضعه للقدر المشترك أيضا... -
إلى أن قال -: فالمجاز لازم في غير صورة الاشتراك... ".
259

لم يكن شيئا بحسب الخارج أصلا، غفلة عن أن الأفراد لا تقوم لها إلا به، ولا أصل
لها إلا هو، ولا تتحصل إلا بتحصله، ولنا في إثباته طريقان:
أحدهما: طريق الحس والوجدان.
والآخر: طريق الحدس والبرهان.
أما الأول: فلأنا نجد بالحس والعيان وندرك بالضرورة والوجدان عن كل
شخص خارجي لو قطع النظر عن جميع مميزاته وجرد عن كافة عوارضه
المشخصة، ما يكون منطبقا على الماهية الكلية الصادقة على الكثيرين، انطباقا
يوجب صحة حملها عليه، فإنا كما نجد منه بالحس ونحس عنه بالعيان أعراضا
مخصوصة مكتنفة به مميزة له عما سواه، كذلك نجد ونحس منه أمرا زائدا عليها
جامعا بينه وبين سائر مشاركاته.
وبالجملة، كما ندرك من الأفراد الخارجية ما به امتيازها بالحس والعيان
فكذا ندرك ما به اشتراكها بالحس والوجدان، بحيث لو أخذه العقل لا بشرط شئ
من مشخصاته واعتبره معرى عن جميع قيوده كان بعينه هو الماهية الكلية التي
يجوز العقل صدقها على الكثيرين، ومن أنكر ذلك فقد كذب حسه وكابر وجدانه
فلا يلتفت إليه.
وأما الثاني: فلأن فرد الماهية هو الشئ الذي طرأه الوجود في الخارج،
وظاهر أن الشئ ما لم يتشخص لم يوجد، كما أنه ما لم يوجد لم يتشخص، لا
بمعنى أن الوجود والتشخص متحدان ذهنا وخارجا، بل بمعنى أنهما متغايران
ذهنا متلازمان خارجا، ولذا كان الوجود عبارة عما يقابله ما يناقضه وهو العدم،
والتشخص عبارة عما يقابله ما يضاده كتشخص فرد آخر.
ومن المعلوم أن التشخص أمر نسبي لابد له من مشخص، كما أنه لابد له من
متشخص، فهو لا يتحقق ولا يتعقل إلا بتحقق وتعقل منتسبيه، المشخص
والمتشخص، والمشخص للشئ مع كونه مشخصا له قد يكون متشخصا به، بأن
يكون كل منهما مشخصا لصاحبه ومتشخصا بصاحبه أيضا، كما لو كانت الماهية
260

من مقولة الجواهر والحدث (1) والأعيان ومشخصاته من مقولة الأعراض، ولازمه
أن يحصل التشخص في الشئ بانضمام ماهية إلى ماهية أخرى مغايرة لها، كما
في " زيد " المتشخص بسواده وطول قامته، فإنه فرد من ماهية الإنسان كما أن
سواده وطول قامته فردان من ماهيتي السواد والطول.
فحينئذ إما أن يقال: بأن الموجود في الخارج هو التشخص دون الطرفين، أو
الطرفان دونه، أو هو مع أحدهما، أو هو مع كليهما، لا سبيل إلى الأول لاستحالة
تخلف المنتسبين عن الأمر النسبي كاستحالة تخلف العلة عن المعلول، ولا إلى
الثاني لاستحالة تخلف الأمر النسبي عن منتسبيه كاستحالة تخلف المعلول عن
علته، فإنه لازم قهري من تحقق الطرفين فيستحيل انفكاكه عنهما، مع أنه لو صح
وأمكن لكفى في ثبوت المطلوب، ولا إلى الثالث لامتناع الترجيح من غير مرجح
مع استحالة تخلف أحد طرفي النسبة كاستحالة تخلف الطرفين معا، مع أنه لو صح
وأمكن لكفى في الجملة، فتعين الرابع وهو المطلوب، فالفرد حينئذ هو الطبيعة
المتشخصة، على وجه يرجع حاصله إلى شئ مركب من الطبيعة والتشخص على
نحو دخل نفس التشخص وخرج ما يوجبه.
لا يقال: قضية صحة الفرض لزوم الدور، لافتقار كل من الطبيعتين في
التشخص الملازم للوجود الخارجي إلى الأخرى، لأن ذلك دور معي لا استحالة
فيه، لكون الطبيعتين في انضمام كل إلى الأخرى معلولتين لعلة خارجة عنهما
مشتركة بينهما، فيكونان من قبيل المتلازمين في الوجود الخارجي، اللذين لا
توقف بينهما ذاتا، ولكل منهما وجود مغاير لوجود الأخرى، فهما موجودين
بوجودين متمايزين.
فإن قلت: كيف يصح ذلك، مع ما قيل: من أنه لا يحصل من انضمام كلي إلى
كلي آخر إلا كلي ثالث.

(1) كذا في الأصل.
261

قلت: هذا القول ليس على إطلاقه، وإنما يسلم ذلك في مثل الحدود
والتعريفات، فإن أجزاء كل تعريف من أجناسه وفصوله وما بمنزلتهما مفاهيم كلية،
لا يحصل من انضمام بعض إلى آخر إلا كلي آخر وهو المعرف.
ولا يذهب عليك، أن البيان المذكور في تقرير البرهان لا يجري بعينه فيما لو
كانت الطبيعة من مقولة الأفعال والأحداث، فإن محصل ما قررناه كون كل مما له
التشخص وما به التشخص كليا، ومشخص الحدث أمر راجع إلى فاعله ومفعوله
ومحل وقوعه زمانا ومكانا - بناء على التحقيق من كون الزمان والمكان أيضا من
مشخصات الماهية - وأيا ما كان فهو أمر متعين في حد ذاته، سابق تعينه على
حدوث ذلك الحدث من دون أن يكون هو أيضا كليا مفتقرا في تعينه وتشخصه
إلى حدوث الحدث، فكل من ذلك حينئذ مشخص الشئ وليس متشخصا به.
ولكن لا يقدح ذلك فيما أقمناه من البرهان على وجود الكلي الطبيعي.
غاية الأمر تطرق تغير ما إلى صورة التقرير، بل هو بعينه يجري بالنسبة إلى
أحد طرفي النسبة، ويزيد عليه في إبطال بعض الصور هنا لزوم خلاف الفرض.
هذا مضافا إلى أن الفرد الموجود في الخارج إذا قطع فيه النظر عن مميزاته
والإضافات القائمة به والخصوصيات المكتنفة به المميزة له، فإما أن يبقى فيه
شئ آخر أو لا.
وعلى الأول: فإما أن يكون الباقي هو الطبيعة الكلية الملحوظة عند العقل
لا بشرط شئ من الإضافات أو أمر آخر غيرها، والأول (1) باطل وإلا لزم وجود
العرض لا في الموضوع وقيامه بنفسه في أفراد كثير من الماهيات، وكذا الأخير
وإلا لزم مبائنة الأفراد للطبائع في كل مما به اشتراكها وما به امتيازها، ويلزم منه
عدم صحة الحمل بينهما، فتعين الثاني وهو المطلوب.
مع أنا نقطع بضرورة من الوجدان بأن الحس حيثما توجه إلى فرد موجود

(1) والمراد به هو صورة عدم بقاء شئ في الفرد بعد قطع النظر عن مميزاته والإضافات
القائمة به والخصوصيات المكتنفة به المميزة له. كما لا يخفى.
262

في الخارج، فالعقل ينظر في طلب ما يميزه عن سائر الأفراد لا محالة، وحينئذ
فإما أن يكون ذلك النظر بعد إدراك شئ منه بالحس أو قبله، والثاني باطل وإلا
لزم طلب المميز بدون العلم بالقدر الجامع وأنه محال، لما قرر في محله من أن
السؤال عما يميز الشئ عن مشاركاته فرع على العلم به إجمالا، وإلى ذلك ينظر
ما قيل أيضا عن أن ما لا جنس له لا فصل له.
وعلى الأول، فإما أن يكون المعلوم بالحس هو الخصوصية أو غيرها لا سبيل
إلى الأول، وإلا لزم طلب الحاصل لأن العلم بالخصوصية لا ينفك عن العلم بالمميز
فتعين الثاني وهو المطلوب، إذ لا واسطة بين الخصوصية والطبيعة الكلية لتكون
هي المعلومة بالحس.
لا يقال: لم لا يجوز أن يكون ما فرضته معلوما في ابتداء النظر هو الأمر
المنتزع الذي يقول به منكروا وجود الكلي الطبيعي، لأن ذلك مما يبطله دليل
الخلف، فإن المفروض أولا كون المعلوم في ابتداء النظر معلوما بالحس، وليس
شئ من المنتزع مما يعلم بالحس، بل هو أمر ذهني يعلمه العقل ولا وجود له في
الخارج ليندرج في عداد المحسوسات.
وأما القول بعدم الوجود فليس له إلا وجوه واهية:
منها: ما أشار إليه الحاجبي عند الاحتجاج على كون متعلق الأوامر هو
الأفراد قائلا: بأن الماهية يستحيل وجودها في الأعيان، لما يلزم من تعددها
فيكون كليا جزئيا وهو محال.
ومحصله: على ما قرره شارح كلامه في بيان المختصر: أن الماهية من حيث
هي لزمها التعدد أي يلزمها الاشتراك بين كثيرين فيكون كليا، والموجود في
الخارج يلزمه التشخص فيكون جزئيا، فلو كانت الماهية موجودة في الخارج
يلزم أن يكون كليا جزئيا معا، وهو محال.
ودفعه الشارح: بأن لا نسلم أن الماهية من حيث هي هي يلزمها التعدد، وذلك
لأنه لو استلزم الماهية من حيث هي هي التعدد امتنع عروض التشخص لها وليس
كذلك، بل الماهية من حيث هي هي لا يقتضي التعدد ولا الوحدة. انتهى.
263

والتحقيق في الجواب: منع الملازمة، فإن الماهية الموجودة إن أخذت باعتبار
الخارج فلا يتصف بالكلية ولا الجزئية، كما هو قضية كونهما من المعقولات الثانية،
وإن أخذت باعتبار الذهن فدائما يتصف إما بالجزئية أو الكلية، ولا يتصف بهما
معا أبدا، وذلك لأن العقل إما أن يلاحظ الماهية مقيدة بمميز الفرد الخارجي فلا
تتصف عنده إلا بالجزئية، أو يلاحظها مطلقة ولا بشرط شئ من مميزات الأفراد
الخارجية فلا تتصف عنده إلا بالكلية، كما هو شأن كل كلي ملحوظ لا بشرط.
ومنها: أن الطبيعة الكلية لو وجدت في الأعيان، لكان الموجود في الأعيان
إما مجرد الطبيعة أو هي مع أمر آخر، لا سبيل إلى الأول وإلا لزم وجود الأمر
الواحد الشخصي في أمكنة مختلفة، واتصافه بصفات متضادة وأنه محال، ولا إلى
الثاني، وإلا فلا يخلو الأمر من أن يكون الطبيعة مع ذلك الأمر موجودين بوجود
واحد أو موجودين بوجودين، والثاني باطل وإلا لزم أن لا يمكن حمل الطبيعة
الكلية على المجموع وهذا خلف وكذلك الأول إذ لو فرض قيام ذلك الوجود بكل
واحد منهما على الاستقلال لزم قيام الشئ الواحد بمحلين مختلفين وأنه محال،
ولو فرض قيامه بالمجموع من حيث هو لم يكن كل منهما موجودا بل الموجود هو
المجموع.
والجواب: بأن الأمر الآخر - الذي فرض كون الطبيعة على تقدير وجودها
معه في السؤال - إن أريد به مميزات الأفراد ومشخصات الأعيان الموجودة نختار
الشق الأول، ونقول: إن الموجود في الأعيان بالوجود المتنازع فيه هو مجرد
الطبيعة، على وجه لا ينافي مقارنة التشخص لها على نحو مقارنة الوجود لها.
ودعوى: استلزامه محذور وجود الأمر الواحد الشخصي في أمكنة مختلفة
واتصافه بصفات متضادة، يدفعها: منع الملازمة في تقدير ومنع بطلان اللازم في
آخر، إذ لو اخذت الطبيعة الموجودة بوصف الوحدة فلا توجد إلا في مكان واحد،
كما لا تتصف إلا بصفة واحدة.
264

ولو أخذت بوصف الكثرة أو لا بوصف الوحدة ولا الكثرة، فالواجب
وجودها في أمكنة مختلفة واتصافها بصفات متضادة كما هو لازم الكثرة
الخارجية، إذ الوصفان يلحقان حينئذ آحاد الكثرة على وجه التوزيع، ولولاه
استحال تحقق الكثرة في الخارج هذا واضح على الأول، وكذا على الثاني فإن
الموجود على هذا التقدير في الأعيان هو الماهية الملحوظة بلا شرط، لا الماهية
بشرط الوجود حتى يكون أمرا واحدا شخصيا.
ومن خواص الماهية اللا بشرط وجودها في أمكنة مختلفة، وكما أنها بالقياس
إلى الوجود والعدم ملحوظة لا بشرط شئ فكذلك بالقياس إلى الصفات الطارئة
لها والأحوال اللاحقة بها، بل بالقياس إلى الوحدة والكثرة وغيرهما من الصفات
الاعتبارية، فمن لوازمها حينئذ جواز اتصافها بصفات متضادة على حسب
وجوداتها وتحصلاتها، واتصافها في الوجود الخارجي بالوحدة والكثرة، ولا
ينافيه كونه واحدا بالنوع لأن الواحد النوعي له من المبدأ الفياض نحو جعل يكون
مع الواحد واحدا، ومع الكثير كثيرا، ومع الموجود موجودا، ومع المعدوم معدوما،
فوحدته النوعية لا تنافي الوحدة والكثرة الشخصيتين. وقضية ذلك تكثر
وجوداتها مع الكثرة على حسب تكثر أشخاصها، ولأجل ما ذكرناه من اعتبار
الطبيعة بلا شرط صح حملها على الفرد كائنا ما كان.
وإن أريد به التشخص الملازم للوجود نختار الشق الثاني مع عدم الالتزام
بشئ مما ذكر في الترديد الثاني، فإن هنا شقا آخر غير ما ذكر في الترديد، فلا
يلزم على تقدير كون الموجود في الأعيان - إن أريد بها الأفراد الخارجية - هو
الطبيعة مع أمر آخر اعتبار وجودين لهما ولا اعتبار وجود واحد قائم بكل منهما
على الاستقلال أو المجموع من حيث هو، خصوصا إذا أردنا من الأمر الآخر نفس
الوجود القائم بالطبيعة الذي هو بالقياس إليها بمنزلة الظرف من مظروفه واللباس
من لابسه، فكما أن كون شئ ظرفا أو لباسا لآخر لا يقتضي كونه مظروفا ولا
لابسا لنفسه بل ولا يعقل، ولا كونه مظروفا لظرف آخر ولا لابسا للباس آخر،
فكذلك بالوجود فإن الفرد هو الطبيعة والوجود معا.
265

ولا ريب أن الوجود أمر لا يعقل فيه وجود آخر وإلا لزم التسلسل، واقتضائه
كونه مظروفا لنفسه أولى بعدم المعقولية، فهو ليس قائما إلا بالطبيعة على
الاستقلال وعلى قياسه التشخص لو كان هو المراد بالأمر الآخر.
فحاصل الجواب على هذا التقدير: أنا نقول إن الموجود في الأعيان هو
الطبيعة مع أمر آخر وهو التشخص، على وجه يكون الوجود قائما بنفس الطبيعة
على الاستقلال مع مقارنة التشخص للوجود القائم بها، بناء على أن يراد بالمعية
المستفادة من كلمة " مع " هنا ما يرجع إلى مشاركة التشخص للوجود في عدم
اقتضائه لوجود آخر ولا تشخص آخر لئلا يلزم التسلسل، لا ما يرجع إلى
مشاركته للموجود وهو الطبيعة في وصف كونها مظروفة للوجود ولابسة له، وإلا
لزم الدور أو التسلسل كما هو واضح، ومعه فلا وجه لما ذكر في السؤال من أن
الطبيعة مع ذلك الأمر هل هما موجودان بوجودين فيلزم أن لا يمكن حملها على
المجموع، أو موجودان بوجود واحد قائم بهما معا على الاستقلال فيلزم قيام أمر
واحد بمحلين مختلفين، أو قيامه بالمجموع من حيث هو، فيلزم أن لا يكون كل
واحد موجودا.
ومنها: أنها لو وجدت في الخارج لكانت إما نفس الجزئيات أو جزءا منها أو
خارجا عنها، والأقسام بأسرها باطلة.
أما الأول: فلأنها لو كانت عين الجزئيات يلزم أن يكون كل واحد من
الجزئيات عين الآخر، لوضوح أن كل جزئي فرض فهو عين الطبيعة الكلية وهي
عين الجزئي الآخر، فيكون كل جزئي عين الجزئي الآخر، بضابطة أن عين العين
عين، وهذا محال.
وأما الثاني: فلأنها لو كانت جزء منها في الخارج لتقدم عليها في الوجود،
ضرورة أن الجزء الخارجي ما لم يتحقق أولا وبالذات لم يتحقق الكل، وحينئذ
يكون مغايرة لها في الوجود فلا يصح حملها عليها.
وأما الثالث: فبطلانه واضح لا يفتقر إلى البيان.
266

والجواب: أن الجزئيات إن أريد بها ما لا يدخل في حقيقتها مشخصاتها ولا
تشخصاتها نختار الشق الأول، ونمنع لزوم كون الجزئيات بعضها عين البعض
الآخر - مع تسليم كون كل جزئي فرض في الخارج عين الطبيعة الكلية التي هي
عين الجزئي الآخر - بضابطة أن مقدمتي قياس المساواة في إنتاجهما يتوقفان
على صدق المقدمة الخارجية المنضمة إليها، نظرا إلى أن إنتاجهما ليس لذاتهما.
ولا ريب أن الكلية في مقدمة " كون عين العين عينا " ليست بصادقة، لوضوح
أن العينية بالمعنى المراد من العينية المتحققة فيما بين الطبيعة الكلية وكل من
جزئياتها منتفية عما بين الجزئيات، بعد ملاحظة أن المراد بالطبيعة الكلية -
المحكوم عليها بكونها عين كل جزئي لها في الخارج - هو ما في الذهن الملحوظ
بلا شرط. حتى الوجود والتشخص الملازم له، فإن معنى العينية حينئذ إما صدق
الطبيعة الملحوظة لا بشرط على الجزئي الخارجي على وجه يقتضي صحة حملها
عليه، أو انطباق الجزئي الخارجي عليها بعدم اشتماله على ما ينافيها، والكل
حاصل فيما بين الطبيعة وجزئياتها الخارجية، وإن اشتملت على الوجود
والتشخص، فإن اللا بشرط من حكمه صدقه على بشرط شئ، منطبق عليه وإن
يجتمع مع ألف شرط، بخلاف الجزئيات بأنفسها فإن الصدق فيما بينها مستحيل،
لاشتمال كل على شرط مغاير لما اشتمل عليه الآخر من الوجود والتشخص،
ولأجل هذا بعينه ليس شئ منها منطبقا على الآخر لتضمن كل ما ينافي الآخر.
وإن أريد بها ما لا يدخل فيها المشخصات فقط وإن دخل فيها الوجود
والتشخص نختار الشق الثاني، ونمنع كلية الدعوى في تقدم الجزء على الكل، إن
أريد به التقدم الزماني كما هو قضية الاستدلال، لجواز المقارنة، فإن الفرد إذا كان
هو الماهية مع الوجود كان أحد جزئيه هو الوجود والجزء الآخر فيه بمثابة يتحقق
الكل بمجرد وجوده من دون تقدم ولا تأخر.
وقد بينا سابقا أن الوجود من الطبيعة الموجودة بمنزلة الظرف من مظروفه،
267

وكما أن كون شئ مظروفا لشئ لا يستدعي بطبعه سبق مظروفيته لظرف آخر،
فكذلك الطبيعة فإن كونها موجودة بالوجود القائم بها لا يستدعي سبق موجوديتها
بوجود آخر مغاير له، هذا مع أن الحمل إنما يعتبر فيما بين الطبيعة الموجودة
بأخذها موضوع القضية، والملحوظة لا بشرط الوجود بأخذها محمول القضية،
ولا تنافي بين الكل والجزء إذا أخذ بهذا الاعتبار.
هذا كله في دفع مقالة منكري وجود الكلي الطبيعي، وأما مقالة من يدعي
وجوده على طريق العينية، فإن أراد به أن الوجود الذي يضاف إلى الكلي فهو بعينه
الوجود الذي يضاف إلى الفرد ولا تغائر بينهما في ذلك فهو متين، ولعل الخلاف
يعود لفظيا حينئذ، وإن أراد به أن الفرد الموجود بعينه هو الكلي الموجود ولا تغاير
بينهما أصلا ولو بالاعتبار فهو فاسد، لوضوح أن الماهية لا بشرط الوجود غير
الماهية بشرط الوجود، والكلي هو الأول والفرد هو الثاني، غير أن المغايرة بينهما
اعتبارية.
وبالجملة الكلي الطبيعي عبارة عن الماهية لا بشرط الوجود ولا بشرط
العدم، وهي بهذا الاعتبار مأخوذة في وضع الألفاظ الكلية على ما عليه المحققون،
من وضعها للمعاني الكلية من دون مدخلية للوجود فيها ذهنا وخارجا، وهي بهذا
الاعتبار أيضا مأخوذة في موضوعات الأحكام، بناء على ما سنحققه من تعلق
الأحكام بالطبائع.
والفرد عبارة عن الماهية الموجودة بشرط الوصف. وبعبارة أخرى: الماهية
بوصف الوجود على نحو يكون اعتبار الوجود في الفرد بعنوان الجزئية، فالفرد هو
المجموع من الماهية ووجودها، فالفرق بينه وبين الطبيعة حينئذ أنها هي الماهية لا
بشرط الوجود والفرد هو الماهية بشرط الوجود، ووجودها عبارة عن تحصلها
الخارجي وتحققها فيما يقابل وعاء الذهن.
تقسيمات اللفظ
ومن يدعي وجود الكلي الطبيعي على طريق الضمنية والجزئية، إن أراد به
هذا المعنى فمرحبا بالوفاق وإلا بأن يدعي مدخلية مشخصات الفرد معه في
268

الفردية أو التشخص الحاصل منها بعنوان الجزئية، بدعوى: أن الفرد عبارة عن
المجموع من الماهية والتشخصات اللاحقة بها والمشخصات الموجبة لها، أو عن
مجموع الماهية وتشخصها دون المشخصات، ولازمه على التقديرين دخول
الوجود في حقيقة الفرد، فغير مسموع، لوضوح فساد الأول، وكون الثاني خلاف
ما يساعد عليه طريقة العرف والعقلاء، كما يعلم ذلك من بنائهم في تعليقهم
الأحكام على فرد ما لابتناء ذلك على أخذ الماهية باعتبار الوجود مع تجريدها
عن التشخص، لمكان عدم مدخليته في الحكم أصلا، أو عدم كونه مقصودا
بالإفادة عند الخطاب.
وأما ما في كلام بعضهم من التعبير عن القول بوجود الكلي الطبيعي في الفرد
على طريق الضمنية بوجوده فيه باعتبار الحصة الموجودة منه فيه، فإن أريد به
تنزيله منزلة ذلك بدعوى: أن الماهية لما كانت بتمامها موجودة مع كل فرد
وتعددت وجوداتها بتمامها على حسب تعدد أفرادها، وكان كل من ذلك منطبقا
عليها فكأنها شئ واحد خارجي تحصص حصصا كثيرة على حسب كثرة
وجوداتها، ووجدت كل حصة منها في ضمن كل من ذلك، فلا ضير فيه وإلا فلا
ريب أنها ليست من الأمور القابلة للتجزئة ليتفرق أجزاؤها إلى أفرادها ليوجد مع
كل فرد حصة منها بهذا المعنى.
[41] قوله: (وإن تكثر فالألفاظ متبائنة... الخ)
قد عرفت بما بيناه سابقا أن التقابل بين أقسام هذا التقسيم ليس بخارجي،
ليتغاير كل قسم لآخر بحسب الخارج، بل هو تغاير ذهني منوط بالاعتبار،
ولذا كانت الإضافة والنسبة - وهي نسبة اللفظ إلى المعنى - بالاتحاد والتكثر
مأخوذة في متن التقسيم، فالمقسم عند التحقيق هو النسبة المأخوذة، وجهة
الانقسام إنما هي حيثيات تلك النسبة واعتباراتها، فالقسم الأول وهو المتحد
اللفظ والمعنى عبارة عن اللفظ الواحد من حيث إضافته ونسبته إلى معنى واحد،
سواء وضع له اللفظ أو لا وسواء كان قابلا للفظ آخر أو لا وسواء كان اللفظ قابلا
لمعنى آخر أو لا.
269

ولا ريب أن أمثلة هذا القسم بالحيثية المأخوذة فيه فوق حد الإحصاء، بل
مقتضى كلام العلامة في النهاية حيث قسم هذا القسم باعتبار كون معناه جزئيا أو
كليا إلى العلم والمضمر والمبهم وإلى الكلي بقسميه المتواطي والمشكك كون
جميع الأعلام الشخصية والمضمرات والمبهمات وأسماء الأجناس بل وأعلامها
من هذا القسم لكن بالحيثية المأخوذة فيه، فلا تنافي اندارجها تحت أقسام أخر،
فما سبق إلى بعض الأوهام من أن هذا القسم مما لا يوجد له مصداق ولا مثال
فلعله مبتن على توهم كون التقابل خارجيا، موجبا لتفسير هذا القسم بما لا يوجد
للفظ إلا معنى واحد، ولا للمعنى إلا لفظ واحد، وعلى أي تقدير فليس على ما
ينبغي. فلا حاجة حينئذ إلى تكلف التمثيل له بلفظ الجلالة - كما صنعه بعض من لا
تحقيق له - ليتوجه إليه - بناء على التوهم - منع كلتا المقدمتين فيه.
والقسم الثاني وهو متكثر اللفظ والمعنى، عبارة عن الألفاظ المتكثرة من
حيث إضافتها ونسبتها إلى معان متكثرة. والقسم الثالث وهو متكثر اللفظ ومتحد
المعنى، عبارة عن الألفاظ المتكثرة من حيث إضافتها ونسبتها إلى المعنى الواحد.
والقسم الرابع وهو متحد اللفظ ومتكثر المعنى، عبارة عن اللفظ الواحد من
حيث إضافته ونسبته إلى معان متكثرة.
[42] قوله: (سواء كانت المعاني متصلة كالذات والصفة، أو منفصلة
كالضدين... الخ)
وقد يعبر عن التعميم بتوافق المعاني وتعاندها. وحاصل التعميم: أن المراد
بتكثر المعاني تغايرها ذهنا وخارجا، أو ذهنا مع اتحادها خارجا، بكون البعض
ذاتا والآخر وصفا لها كالسيف والصارم، أو الجميع أوصافا لموصوف واحد
كالضاحك والشاعر، أو كون بعض صفة للصفة كالناطق والفصيح، إلى غير ذلك من
الألفاظ المتساوية، فشملت العبارة جميع المعاني التي يتحقق فيها النسب الأربع
من العام والخاص المطلقين والعامين من وجه والمتبائنين والمتساويين، غير أن
الثلاث الأولى تندرج في التغاير بحسب الذهن والخارج، حيث إن المراد بتغاير
270

الخارج عدم اجتماع المعنيين لافتراق بينهما من جانب واحد أو من جانبين،
جزئيا أو كليا.
فظهر بذلك أن المعتبر في الألفاظ المتبائنة من جهة المعنى تغاير معانيها
مفهوما، تغايرت مصداقا أو اتحدت، فالمتساويان حينئذ من المتبائنة وإن توهمها
بعضهم من المترادفة، ومن المتبائنة أيضا ما لو تكثرت مادة في هيئة واحدة،
كالناصر والقاتل والضارب، أو هيئة في مادة كالضارب والمضروب والضرب.
وفي كلام بعض الأفاضل (1) تعميم هذا القسم بالنسبة إلى الحقائق والمجازات
والملفق منهما، وهو كذلك أخذا بظاهر كلماتهم.
[43] قوله: (وإن تكثرت الألفاظ واتحد المعنى فهي مترادفة... الخ)
وهذا التكثر أيضا أعم منه بحسب المادة والهيئة معا، كالإنسان والبشر، أو
المادة فقط كالقاعد والجالس، أو الهيئة وحدها كقتيل والمقتول، ولا يفترق في
ذلك بين ما لو كانت الألفاظ المتكثرة المضافة إلى المعنى من لغة واحدة أو لغات
متعددة مختلفة كما نص عليه غير واحد.
والمعتبر في وحدة المعنى اتحاده ذهنا وخارجا ذاتا واعتبارا، فليست من
الألفاظ المترادفة الألفاظ المتساوية كما عرفت، ولا مثل " أسد " و " أسامة " مما
كان الاختلاف بين الألفاظ بحسب اسم الجنس وعلمه، لمكان التغاير فيهما
بحسب المعنى اعتبارا، من حيث إن المعتبر في الأول هو الماهية لا بشرط
الحضور في الذهن وعدمه، وفي الثاني هو الماهية بشرط الحضور، ولا مثل " هذا "
و " زيد " و " هو " و " زيد " و " أنت " و " زيد " و " إنك " و " زيد " و " هذا " و " أنت "
و " هذا " و " أنا " وغير ذلك من الألفاظ الواقعة على مسمى واحد شخصي المختلفة
بحسب العنوان، بكون البعض علما والآخر اسم إشارة أو مضمرا ونحوه، لعدم
اتحاد المعنى فيها مفهوما وإن اتحد مصداقا، فإن المأخوذ في وضع ما عدا العلم

(1) هداية المسترشدين: 19 (الطبعة الحجرية).
271

هو الذات المتعينة مقيدة بحالة الإشارة أو تقدم الذكر أو الحضور أو الحكاية عن
النفس وفي وضعه تلك الذات مطلقة ولا بقيد حالة دون أخرى، ولا الحد
والمحدود " كالإنسان " و " الحيوان الناطق " كما نص عليه جماعة، منهم العلامة
في النهاية (1) والحاجبي في المختصر، وإن ذهب جمع من غير المحققين إلى
كونهما من المترادفة، على ما حكاه العلامة (2) لأن المعتبر في المحدود هو الماهية
الكلية من حيث هي من دون نظر إلى أجزائها ومفرداتها، وفي الحد هو الأجزاء
والمفردات.
وفي كون مثل " أسد " و " غضنفر " حيثما استعملا مجازا في معنى رجل، وكذا
" أسد " و " رجل " في ذلك المعنى من الألفاظ المترادفة إشكال، واحتمله بعضهم
في الأخير وهو الملفق من الحقيقة والمجاز، غير أن المصرح به في شرح المنهاج
عدمه، حيث عرف الترادف بتوالي الألفاظ المفردة الدالة على معنى واحد باعتبار
واحد، فقال: وبقولنا: " باعتبار واحد " خرج الألفاظ الدالة على معنى واحد
بالحقيقة والمجاز، كالإنسان والأسد الدالين على الرجل الشجاع، فإنه من الألفاظ
المتبائنة.
وفي توجيهه لفائدة القيد ما لا يخفى، فإن وحدة الاعتبار وإن أخذها القوم
في مفهوم الترادف، غير ان غرضهم بها ليس إفادة اعتبار جهة الاستعمال من حيث
الحقيقة والمجاز، بل إفادة وحدة الاعتبار الذي لو تعدد لقضى بتعدد المعنى ذهنا
ولو لمجرد الاعتبار، احترازا عن الأمور المتقدم إليها الإشارة وغيرها، ولذا
ترى أن العلامة بعدما عرف الألفاظ المترادفة في النهاية (3) بالألفاظ المفردة الدالة

(1) نهاية الوصول إلى علم الأصول: الورقة 19 (مخطوط) حيث قال: فخرج بالمفردة الحد مع
المحدود...
(2) المصدر السابق: الورقة 19 - حيث قال -: وقد ذهب قوم غير محققين إلى أن الحد
والمحدود مترادفان...
(3) نهاية الوصول إلى علم الأصول: الورقة 19 (مخطوط).
272

على مسمى واحد باعتبار واحد، قال: " فخرج بالمفردة " الحد مع المحدود،
وبقولنا: " باعتبار واحد " اللفظان إذا دلا على شئ واحد باعتبار صفتين
" كالصارم " و " المهند " أو باعتبار الصفة وصفة الصفة " كالفصيح " و " الناطق ".
ولا يبعد القول باختصاص الاصطلاح في الترادف بالألفاظ الحقيقية
بملاحظة الخلاف الواقع في إمكان الترادف ووقوعه بحسب اللغة، فإن من الناس
من أنكر ذلك - وإن كان شاذا - ولم يورد عليه بأن إنكاره هذا يؤول إلى إنكار
المجاز ووقوعه، فتأمل.
[44] قوله: (وإن تكثرت المعاني واتحد اللفظ من وضع واحد فهو
المشترك... الخ)
عن ابن المصنف (1) عن والده أن المراد بالوضع الواحد ما لم ينظر فيه إلى
الوضع الآخر، فكان كل وضع ابتدائيا، فلا ينافيه قولهم: المشترك ما وضع لأوضاع
متعددة.
وملخص مراده: أن اللفظ إذا وضع لمعنى ثم لمعنى آخر، من دون ملاحظة
مناسبته للموضوع له الأول ولا ملاحظة عدم مناسبته له على وجه يكون تبعا
للوضع الأول، حصل وصف الكثرة في المعنى بالوضع الثاني مع كونه واحدا،
لمجرد عدم ملحوظية وضع آخر معه، بخلاف ما لو وضع ثانيا لمعنى باعتبار
مناسبته لما وضع له أولا، فإن هذا كثرة تنشأ من وضعين لمكان مدخلية الوضع
الأول فيها أيضا، وإن كان الوضع الثاني أقوى وأشد في المدخلية.
ولولا التفسير المنقول منه لكانت العبارة بظاهرها منصرفة إلى نحو اسم
الإشارة مما وضع بوضع واحد لمعان خاصة ومفاهيم جزئية كما لا يخفى، فإن
المعنى المذكور بعيد عن الفهم جدا، فتكلف إرادته في التقسيمات التي هي في
حكم التعريفات ليس بسديد.

(1) حكاه عنه سلطان العلماء (رحمه الله) في حاشيته المتعلقة بالمقام، المعالم: 26.
273

وقد يعترض عليه أيضا في تعبيره بذلك، بما لو وضع اللفظ الموضوع لمعنى
بإزاء مناسبه لمناسبته له، فإنه مما لا ينبغي التأمل في كونه من المشترك مع
خروجه عن الحد المستفاد من العبارة، ولكنه ليس في محله كما أن ما أضيف إليه
أيضا من أنه لو فرض بلوغ المجاز إلى حد الحقيقة من جهة الغلبة مع عدم هجر
الأول كان من المشترك مع خروجه عن الحد قطعا ليس في محله كما ستعرفه،
وكأنه مبني على توهم اعتبار الهجر في النقل وهو أيضا محل منع، لعدم ثبوت
اعتباره من الأكثر، بل ظاهرهم قصر الفرق بينه وبين المشترك على ملاحظة
المناسبة في الأول عند وضعه الثاني، وما زاد دون الثاني وإن لم يساعد عليه
عبارة المصنف بل يساعد على خلافه، فالمفروضان يندرجان في المنقول وإن
كان لا يتحمله ظاهر العبارة الآتية.
نعم يرد على بيانه ما لو وضع لفظ موضوع لمعنى، لمعنيين آخرين على
التعيين لمناسبتهما المعنى الأول، أو استعمل فيهما مجازا إلى أن يبلغ حد الحقيقة،
فإن ذلك على الظاهر بالنسبة إلى المعنيين من الألفاظ المشتركة ولا يتناوله البيان
المذكور، لعدم صدق الوحدة بالمعنى المذكور على الوضع الحاصل لهما.
وأما على البيان المشهور في حد المشترك من أنه لفظ وضع لمعان متعددة
بأوضاع متعددة من دون ملاحظة المناسبة فيها فاندراجه فيه ظاهر، ولا ينتقض
بأنه أيضا مما لوحظ فيه المناسبة، لأنها إنما لوحظت بين المعنى الأول والمعنيين
لا بين المعنيين بأنفسهما، فالاشتراك حاصل بينهما لا بينهما وبين الأول، ولذا
يصح الفرض لو لم يكن بينهما مناسبة أصلا، فهذا اللفظ باعتبار كونه بين الأول
وبينهما يندرج في المنقول، وباعتبار كونه بينهما يندرج في المشترك، ولا منافاة
بعد مراعاة الحيثية.
وقد بينا سابقا أن الحيثية ملحوظة في جميع أنواع هذا التقسيم، ومن هنا
يجوز اجتماع الترادف والتبائن والاشتراك وغيره في لفظ واحد ذي حيثيات، فلو
فرض وضع لفظ " الأسد " للحيوان المفترس والثعلب، ووضع لفظ " الغضنفر "
274

للحيوان المفترس والأرنب، كان كل بالقياس إلى معنييه مشتركا، وهما بالقياس
إلى الحيوان المفترس من المترادفة، وبالقياس إلى الثعلب والأرنب من المتبائنة،
ويجوز فيهما فرض الحقيقة والمجاز والنقل والارتجال باعتبارات مختلفة،
كما لا يخفى.
[45] قوله: (وإن اختص الوضع بأحدهما، ثم استعمل في الباقي من غير
أن يغلب فيه... الخ)
إيراد التثنية اكتفاء بأقل مراتب التعدد، لا قصر لأقسام متكثر المعنى على ما لو
اختص تعدد معناه بين معنيين لا أزيد، فيندرج فيه ما لو اختص الوضع بأكثر من
معنى، كما يندرج فيه ما لو كان الباقي المفروض انتفاء الوضع عنه أكثر من معنى.
والظاهر بملاحظة ما سبق كون المراد بالوضع المفروض اختصاصه بأحدهما
هو الوضع المتقدم ذكره، وهو الوضع الواحد بالمعنى المتقدم، واختصاص الوضع
بهذا المعنى بأحد المعنيين قد يكون لاختصاص أصل الوضع الذي يلحقه وصف
الوحدة، وقد يكون لاختصاص وحدته التي هي وصف فيه، فالباقي المنتفى عنه
هذا الوضع بمقتضى مفهوم الاختصاص المنحل إلى عقدين إيجابي وسلبي قد
يكون مما انتفى عنه أصل الوضع، كما إذا كان معنى مجازيا وقد يكون مما انتفى
عنه الوصف المذكور، كما إذا كان معنى نقليا أو ارتجاليا على بعض الوجوه.
ولما كان العقد السلبي المستفاد من الاختصاص متضمنا لجميع هذه الأقسام
فأخذ المصنف بتقسيم موضوعه إليها على التفصيل بقوله: " ثم استعمل في الباقي
من غير أن يغلب فيه " فإن ذلك بيان تفصيلي لما انتفى عن الباقي أصل الوضع، بناء
على أن المراد بالغلبة فيه هو غلبة اللفظ على المعنى، بعود ضمير " يغلب " إلى
اللفظ دون الاستعمال كما هو الظاهر بملاحظة السياق، وبقرينة ما في العبارة
الآتية من إظهار الاستعمال في قوله: " وكان الاستعمال لمناسبة " إذ لو كان ضمير
الجملة المتقدمة عليه عائدا إلى الاستعمال كان ما ذكر محلا للإضمار كما لا
يخفى، فالعدول عنه إلى الإظهار يقضي بمغايرة ما أضمر في الجملة المتقدمة، ولا
يصلح له إلا ما يعود إلى اللفظ.
275

وحينئذ فغلبة اللفظ على المعنى كناية عن تعينه له، الناشئ عن وضع التعيين
أو كثرة الاستعمالات المجازية البالغة حد الحقيقة، فإن اللفظ والمعنى ما لم يحصل
بينهما أحد الأمرين كانا متنافرين، كالتنافر الحاصل بين المتقابلين الذي هو معنى
عدم اجتماعهما في جانب واحد، فإذا حصل أحد الأمرين فكأن اللفظ بتعينه
الناشئ عنه له غلب على المعنى وأخذه على جانبه، وعلى هذا فقوله: " وإن غلب
وكان الاستعمال لمناسبة فهو المنقول " يشمل كلا قسمي المنقول الحاصل نقله
بالتعين أو التعيين، ولا ينافيه قوله: " وكان الاستعمال لمناسبة " بدعوى: عدم
ملائمته لوضع التعيين الذي لأجله يلاحظ المناسبة لا لأجل الاستعمال، لأن
الاستعمال إذا وقع للوضع وهو للمناسبة فيصدق أن الاستعمال وقع للمناسبة،
وعلى هذا فلا قصور في عبارة المصنف.
ولا يرد عليه: أن الظاهر من كلامه أنه لا وضع في المعنى المنقول إليه
والمرتجل كما في المجاز، حيث جعل الثلاثة من أقسام ما اختص الوضع بأحد
المعاني، فالفرق بينهما وبين المجاز اعتبار عدم الغلبة في المجاز واعتبارها فيهما.
والفرق بينهما اعتبار المناسبة في المنقول دون المرتجل، مع اشتراك الجميع في
عدم الوضع الحقيقي كما سبق إليه بعض المحققين (1) فلا يلزم كون استعمالات
المرتجل على كلامه غير صحيحة، لفرض انتفاء الوضع وملاحظة المناسبة فيها
معا، ولا يخفى إن الاستعمال بدون أحد الأمرين غير صحيح، فإن الغلبة المفروضة
فيه بالمعنى الذي قررناه ملزومة للوضع، وهو أحد فردي مصحح الاستعمال.
نعم يشكل الحال فيه بالقياس إلى أن مقتضى كلامه ثبوت الوضع في المرتجل
وعدم كونه واحدا بالمعنى المتقدم، وهو مما لا يرتبط بما اعتبر فيه فرقا بينه وبين
المنقول، من كون الاستعمال بدون ملاحظة المناسبة، فإن وصف الوحدة إنما ينتفي
مع ملاحظتها، إلا أن يوجه قوله: " بدون المناسبة " إلى إرادة كون الاستعمال لعدم

(1) حاشية سلطان العلماء (رحمه الله) على المعالم: 26.
276

المناسبة، ومرجعه حينئذ إلى ما قد يذكر في الفرق بينه وبين المشترك والمنقول من
أن المشترك ما لم يلاحظ في وضعه لمعانيه المناسبة، والمنقول ما لوحظ في وضعه
المناسبة، والمرتجل ما لوحظ في وضعه عدم المناسبة.
وعلى أي حال ففي عبارته من البداية إلى تلك النهاية من الغلق والاضطراب
ما لا يخفى، وإصلاحها على وجه يسلم عن جميع المناقشات لا يكاد يحصل إلا
بارتكاب أنحاء من التكلف، وإلا فالغلبة إن أريد بها الغلبة في الاستعمال الغير
البالغة حد الحقيقة يرد عليه:
أولا: ما تقدم من اقتضائه ابتناء النقل والارتجال على انتفاء الوضع رأسا،
وهو خلاف ما يستفاد من القوم.
وثانيا: خروج استعمالات المرتجل غلطا كما عرفت.
وثالثا: انتفاض عكس المجاز وطرد المنقول بالمجاز المشهور.
وإن أريد بها ما احتمله بعض المحققين (1) من بلوغ الاستعمال إلى أن يترك
ويهجر المعنى الأول، على معنى أنه لم يستعمل فيه بدون القرينة إلا أهل
الاصطلاح الآخر، لقضى بأن المجاز ما يعتبر فيه عدم هجران المعنى الأول لا
انتفاء الوضع عن المعنى الثاني، وهو كما ترى.
[46] قوله: (فهو المرتجل... الخ)
المستفاد من جماعة في الفرق بين المنقول والمرتجل، أن الأول ما نقل عن
المعنى الأصلي إلى غيره لمناسبة بينهما، والثاني ما نقل إلى الغير لا لمناسبة بينهما
" كجعفر " الموضوع لغة للنهر الصغير، و " طلحة " من الطلح الموضوعة في الأصل
للشجرة الواحدة، اللذين سمي بهما الرجل، وهذا الاصطلاح للمرتجل يخالف ما
عليه النحاة، من أنه ما جعل علما لشئ ولم يكن منقولا إليه من معنى آخر، كما
حكاه في المنية (2).

(1) حاشية سلطان العلماء (رحمه الله) على المعالم: 26 في ذيل قوله (رحمه الله): من غير أن يغلب فيه... الخ.
(2) منية اللبيب في شرح التهذيب: الورقة 28 (مخطوط).
277

ثم إن تربيع أقسام النوع الرابع وهو اللفظ المتحد لمعنى متعدد هو المعروف
بينهم، وقد يجعل أقسامه ثلاثة بإدراج المرتجل في المشترك، وكأنه لزعم
اشتراكهما في عدم ملاحظة المناسبة، وإن افترقا في ابتناء الارتجال على هجر
المعنى الأصلي كما قيل دون مطلق المشترك، وقد يدرج المنقول أيضا في
المشترك، كما يستفاد ذلك من الحاجبي، حيث قال: " الثالث إن كان حقيقة لمتعدد
فمشترك وإلا فحقيقة ومجاز ".
وربما يعترض على التقسيم بعدم كونه حاصرا لجميع أنواع اللفظ، لقصوره
عن الشمول لمثل " هذا " وغيره على رأي المتأخرين.
وهذا ما تعرض له بعض المحققين بقوله: لا يخفى أنه لما كان المعتبر في
المشترك تعدد الوضع لا مجرد تعدد الموضوع له، فيخرج منه مثل لفظ " هذا " مما
وضع بالوضع العام الواحد لمعان خاصة متعددة - كما هو التحقيق فيها - وفي
أمثالها، لكن يخدشه: أنه على هذا وإن خرج من المشترك لكن لا يدخل في شئ
من أقسام المتعدد المعنى التي ذكرت، مع كونها متعدد المعنى على هذا المذهب
قطعا (1).
وقد يقرر الاعتراض بأن المعنى في المقسم إن أريد به خصوص ما وضع له
اللفظ، بطل إدراج الحقيقة والمجاز في المتعدد المعنى، لأن المعنى الموضوع له
حينئذ واحد، فيلزم دخولهما في المتحد اللفظ والمعنى، وإن أريد به ما يعمه
والمستعمل فيه بطل الحصر بمثل " هذا " ونحوه على رأي المتأخرين، لعدم
اندراجه في شئ من الأنواع ولا شئ من أقسام النوع الرابع.
أما عدم اندراجه في النوع الأول فلتكثر المعنى، وأما عدم اندراجه في النوع
الثاني فلاتحاد اللفظ، وأما عدم اندراجه في النوع الثالث فلتكثير المعنى واتحاد
اللفظ، وأما عدم اندراجه في المشترك والمنقول والمرتجل فلاتحاد الوضع هنا

(1) حاشية سلطان العلماء (رحمه الله) على المعالم: 26.
278

وتعدده فيها، وأما عدم اندراجه في الحقيقة والمجاز فلكون المعاني بأجمعها
حقائق.
أقول: هذا الإشكال على تقدير وروده لا اختصاص له بمقالة المتأخرين، بل
هو مشترك الورود بينها وبين مقالة القدماء، القائلة بعموم الوضع والموضوع له معا
في تلك الألفاظ، فإن الموضوع له عندهم وإن كان واحدا لكن المستعمل فيه
متعدد على حسب اعترافهم بعدم وقوع استعمالاتها إلا على الخصوصيات
المندرجة تحت كلي الموضوع له، والمفروض أن المعنى في المقسم مراد به
المستعمل فيه وإن لم يكن موضوعا له فلا تندرج حينئذ في شئ من الأنواع لما
عرفت.
ولا ينبغي توهم دخولها في الحقيقة والمجاز، بناء على احتمال بقائها في
كونها مجازات، ولا في المنقول بناء على بلوغها بكثرة الاستعمالات المجازية حد
الحقيقة بوضع التعين، لأن المفروض عدم اتفاق استعمالها في المعنى الكلي
الموضوع له، المعتبر كونه المعنى الحقيقي على التقدير الأول، أو المنقول منه على
التقدير الثاني، إلا أن يمنع اعتبار الاستعمال بدعوى: أن المعتبر فيهما وجود
الموضوع له وإن لم يستعمل فيه اللفظ، ولا ينافيه التعبير بالحقيقة في أحد القسمين
لابتنائه على مراعاة الغالب في الألفاظ الموضوعة من وقوع استعمالها في معانيها
الموضوع لها، وفيه: من التكلف ما لا يخفى، مع عدم مساعدة ظاهر كلماتهم عليه،
بل صريحها فإنها بين ظاهر وصريح في اندراجها تحت النوع الأول كما ستعرفه.
ومع الغض عن ذلك فيكفي في فساد التوهم، أنه خروج عما فرض كونه
مقسما في تقسيم القوم، وهو المعنى المستعمل فيه كما أشرنا إليه، فإن قضية ذلك
كون اللفظ في قسم الحقيقة والمجاز مستعملا في كل من معنييه الموضوع له والغير
الموضوع له، وفي قسم المنقول مستعملا في كل من معنييه المنقول منه والمنقول
إليه.
وكيف كان، فقد يذب عن الإشكال بأن التقسيمات المشهورة مبتنية على
279

طريقة القدماء، الذين لم يثبتوا فيما بين الألفاظ ما يكون موضوعا بوضع عام
لمعنى خاص، فلذا حصروا متكثرة المعنى في تلك الأقسام، ولم يأخذوا فيها ما
يكون من قبيل الألفاظ المذكورة.
وأما المتأخرون فهم وإن أثبتوا ذلك، إلا أنهم لم يغيروا ما ذكره القدماء في
تقسيم الألفاظ محافظة على ما استقر عليه كلام القوم في مبادئ العلم، وإنما
أشاروا إلى ما هو المختار عندهم في تقرير المطالب.
وهذا الوجه مستفاد من كلام السيد الجليل العلامة الطباطبائي في شرحه
للوافية وهذا كما ترى مبني على توهم اختصاص ورود الإشكال بمقالة
المتأخرين، بزعم اندراج الألفاظ المذكورة في النوع الأول، لما فيها من اتحاد
المعنى الموضوع له الكلي، وقد عرفت ما فيه، مضافا إلى ما ستعرفه.
ومن الأعلام (1) من يستفاد منه الالتزام بخروجها عن التقسيم لزعم عدم
اندراجها في المقسم، بدعوى: انعقاد تقسيماتهم في المفاهيم المستقلة فيخرج
عنها الحروف، وكذلك أسماء الإشارة ونظائرها لمشابهتها لها في الوضع، وهذا
البيان وإن كان قد ذكره في تقسيم الكلي والجزئي، غير أن عموم كلامه يجري في
المقام كما لا يخفى، ويجري هنا ما قدمناه في تزييفه ثمة، مضافا إلى ما سيظهر.
ومن الفضلاء (2) من تفصى عن الإشكال بإدراجها في أقسام متكثر المعنى
بزيادة قسم آخر على أقسامه المتقدمة، فإنه بعد ما أخذ بتقسيم النوع الرابع، جعل
ما وضع لكل من المعاني على قسمين:
أحدهما: ما تعدد فيه الوضع على حسب تعدد المعنى فهو المشترك إن كانت
الأوضاع ابتدائية بأن لم يلاحظ في بعضها مناسبة لآخر، وإلا فإن لوحظ في الثاني
مناسبته للأول فهو منقول تعييني أو تعيني وإلا فمرتجل.

(1) قوانين الأصول 10: 1.
(2) الفصول: 9.
280

وثانيهما: ما لم يتعدد فيه الوضع، فسماه بالوضع العام والموضوع له الخاص،
ولعله أراد به التفرد في الطريقة والاصطلاح، وإلا فلو أراد به إصلاح كلام القوم
وتقسيمهم فهو لا يتحمله جدا.
ومنهم من احتمل اندراجها في المشترك، بدعوى: أنه وإن تضمن تعدد
الأوضاع لكنه أعم من التعدد الحقيقي كما في المشترك المعهود، والمتعدد
الانحلالي كما في هذه الألفاظ، فإن وضعها وإن كان عاما لكنه لتعلقه بالمتعدد
ينحل إلى أوضاع متعددة على حسب تعدد الخصوصيات، ويشكل ذلك بعدم
مساعدة كلامهم عليه أيضا. نعم لو ثبت في كلامهم إطلاق المشترك على هذه
الألفاظ كان لذلك وجه، غير أن هذا الإطلاق غير معهود منهم.
ولا يخفى أن هذه الوجوه في دفع الإشكال كأصل الإشكال مبنية على الغفلة
عن حقيقة مرادهم في المقام، وعدم العثور على جهة تقسيمهم، فإن الألفاظ
المذكورة مع دخولها في المقسم داخلة في النوع الأول من أنواعه على كلا
المذهبين، ولا قصور في التقسيم أصلا ورأسا، ولذا ترى أن العلامة في النهاية
قسم المعنى في هذا النوع إلى ما يكون المعنى فيه جزئيا فمثل له بالعلم والمضمر
والمبهم وغير ذلك، وما يكون كليا.
ويقرب من ذلك ما صنع في التهذيب وقرره العميدي في شرحه، وإن اقتصر
فيه على ذكر العلم والمضمر، فالألفاظ المذكورة على مقتضى كلامهم مندرجة في
هذا النوع كالعلم، وإن حصل الفرق بينه وبينها في أنه قابل لأن يتحقق فيه
الحيثيات المأخوذة في سائر الأنواع وأقسام النوع الرابع، من المشترك والمنقول
والمرتجل والحقيقة والمجاز، فيندرج في كل منها إذا أخذت فيه غير الحيثية
المأخوذة في النوع الأول بخلافها، فإنها لا يوجد فيها إلا الحيثية المأخوذة في هذا
النوع، وليست قابلة لأن يطرأها حيثيات أقسام النوع الرابع، ضرورة أن الجزئيات
الواقعة موضوعا لها أو مستعملا فيها وإن كانت أمورا متكثرة في حد ذواتها غير
أنه لا عبرة بهذا التكثر، بل هو بمقتضى طريقتهم في حكم الاتحاد، إذ قد عرفت أن
هذا التقسيم إنما هو باعتبار نسبة الألفاظ إلى المعاني.
281

فالمقسم في الحقيقة هو النسبة الحاصلة فيما بين اللفظ والمعنى، واتحاد اللفظ
أو المعنى، أو كليهما أو تعددهما وجوه وحيثيات لها، واختلاف الأنواع إنما
يحصل باختلاف الوجوه والحيثيات، فالعبرة في الاتحاد والتكثر - عند التحقيق -
باتحاد النسبة وتكثرها، وظاهر أن حصولها فيما بين الألفاظ والمعاني ليس
لذواتها، لعدم كون دلالات الألفاظ للمناسبات الذاتية بل إنما هو باعتبار منشأ
لغوي راجع إلى الواضع، وليس إلا الوضع وهو إما شخصي أو نوعي في الحقائق أو
نوعي في المجازات، وهو فيما بين اللفظ والمعنى إما متكثر بتكثر اللفظ أو المعنى
أو هما معا أو متحد وإن كان في أحدهما أو كليهما نحو تكثر.
ولا ريب أن تكثر المنشأ واتحاده بأحد الوجوه يوجب تكثر النسبة الحاصلة
بين اللفظ والمعنى واتحادها، وهما يوجبان وصف اللفظ أو المعنى أو هما معا
بالتكثر والاتحاد بهذا الاعتبار من غير نظر إلى ما فيهما لذاتهما من التكثر، فالعبرة
في تكثر اللفظ والمعنى واتحادهما بتكثر النسبة واتحادها الناشئين عن تكثر
المنشأ واتحاده.
وبالجملة: فكما أن النسبة يتبع الوضع في ذاتها فكذلك يتبعه في وصفي التكثر
والاتحاد، وقضية ذلك كون العبرة في اتحاد اللفظ والمعنى بما يلحقهما بهذا
الاعتبار، وإن كانا متكثرين لا بهذا الاعتبار.
وإن شئت قلت: إن اتحاد اللفظ والمعنى على قسمين حقيقي وحكمي،
والمراد بالثاني ما لحقهما باعتبار اتحاد النسبة المتولد عن اتحاد المنشأ، وهو
الوضع بأحد الوجوه الثلاث، وهذا هو الوجه في عدم أخذهم الألفاظ المبحوث
عنها في أقسام متكثر المعنى، ولازمه اندراجها في متحد المعنى، كما أدرجها فيه
العلامة على ما عرفت.
ومما يفصح عن ذلك أيضا عدم التفاتهم في أقسام متكثر المعنى إلى اللفظ
المتحد إذا تكثر معانيه المجازية، وأخذ من حيث إضافته إليها من دون انضمام
معناه الحقيقي إليها.
282

ولا ريب أنه بهذا الاعتبار من أقسام متكثر المعنى، بحكم التصوير العقلي فهو
عقلا خامس أقسامه ولكنهم لم يعتبروه من أقسامه، فإما أن يقال: بأنهم لم يتفطنوا
بوجود هذا القسم باعتبار الإضافة المذكورة، أو يقال: إن نظرهم إلى ما لحقه مع
تكثره الذاتي، تكثر باعتبار تكثر النسبة المتولد عن تكثر الوضع المتعلق باللفظ،
وما لم يلحقه التكثر بهذا الاعتبار فهو جار مجرى المتحد عندهم وإن تكثر ذاتا،
والأول باطل جدا، فتعين الثاني.
ومما يفصح عنه أيضا ظهور كون مثل " قائم " و " ناصر " و " ضارب " من باب
المتحد هيئة والمتكثر مادة عندهم، ومثل " ضرب " مصدرا و " ضارب "
و " مضروب " بعكسه مع أن الهيئة في الأول والمادة في الثاني عند التحقيق
متكثرتان بحسب الشخص، فلا وجه لعد هذا النحو من التكثر من باب الاتحاد إلا
اتحاد النسبة الحاصل من اتحاد الوضع النوعي المتعلق بنوع الهيئة أو نوع المادة
كما لا يخفى.
والحاصل: أنه بعدما اتضح كون المقسم في هذا التقسيم هو النسبة الحاصلة
بين اللفظ والمعنى باعتبار الوضع، ولو كان هو الوضع النوعي المجازي، يتضح أن
العبرة في الاتحاد والتكثر بما حصل فيها باعتبار اتحاد الوضع وتكثره، واللفظ
والمعنى أيضا يتصفان بهما بهذا الاعتبار فالنسبة حيثما تكثرت باعتبار تكثر
الوضع يلزمه التكثر في اللفظ أو المعنى أو هما معا لذاتهما، بخلاف ما لو اتحدت
باعتبار اتحاد الوضع، فإنها حينئذ لا يلزمها اتحاد اللفظ أو المعنى ذاتا، بل هما
على تقدير تكثرهما الذاتي يجريان مجرى المتحد.
وهذا هو سر ما عرفته عن النهاية والمنية من كون هذا التقسيم باعتبار نسبة
الألفاظ إلى معانيها.
فبذلك يندفع ما عساه يورد على التقسيم، من عدم شموله لجملة كثيرة من
الألفاظ، وهي ما تكثر كل من اللفظ والمعنى مع اتحاد الوضع في الجميع
" كضارب " و " قاتل " و " ناصر " ونحوها، من أسماء الفاعلين وغيرها من أنواع
283

المشتقات فإنها ليست من متحد اللفظ والمعنى لما في كل منهما من التعدد، ولا من
المتبائنة لظهور كلامهم في اعتبار تعدد الوضع فيها وهو فيما ذكر واحد، وعدم
كونها من المترادفة وأقسام متكثر المعنى واضح.
وجه الاندفاع ما بيناه وحاصله: إنها إن أخذت باعتبار موادها فمن المتبائنة،
وإن أخذت باعتبار هيآتها فمن المتحدة كما هو مقتضى ما ذكرناه من الضابط،
نظرا إلى أن لها باعتباري المادة والهيئة وضعين، وفي مثل " ضرب " و " ضارب "
و " مضروب " ينعكس الأمر كما أشرنا إليه.
وبالجملة: فما عرفت من ضابط الاتحاد والتكثر يحسم جميع مواد الإشكال
ويسلم تقسيم القوم عن القصور والاختلال، هذا واغتنم فإنه من مواهب الملك
المتعال.
* * *
284

- تعليقة -
الحقيقة فعيلة من الحق، بمعنى الثابت المقابل للباطل بمعنى المعدوم، والفعيل
هنا إما بمعنى الفاعل " كعليم " و " رحيم " أو بمعنى المفعول " كقتيل " و " جريح "
فإطلاقه على اللفظ المخصوص على الأول لكونه ثابتا في محله وهو معناه
الموضوع له، وعلى الثاني لكونه مثبتا في المحل و " تاؤها " ناقلة للدلالة على
انتقالها عن الوصفية إلى الاسمية.
والمجاز مصدر ميمي أو اسم مكان من الجواز بمعنى العبور، وهو انتقال
الشئ عن مكان إلى آخر، فأطلق على اللفظ المخصوص لانتقاله عن مكانه
الأصلي وهو معناه الموضوع له إلى غيره، والحقيقة على معناه الاصطلاحي في
أصح التعاريف وأسلمها: " هو اللفظ المستعمل فيما وضع له من حيث هو كذلك ".
واللفظ من التعريف بمنزلة جنسه، يشمل المفرد والمركب على القول بثبوت
الوضع فيه، وإيثاره على الكلمة - كما في كلام أهل البيان - لأجل ذلك، جمعا بين
الحقيقة في المفردات والحقيقة في المركبات بتعريف واحد، فإنه أوفق بمباحث
الفن حيث لا يقصد فيها إلا استعلام حال خطاب الشرع، كما أن التفريق بينهما
بتعريفين - كما صنعه أهل البيان - أنسب بمباحثهم كما هو واضح.
وإيثاره على الاستعمال على خلاف ما في كلام بعضهم من تعريفه: باستعمال
اللفظ... الخ، تنبيه على أن الحقيقة عنوان يلحق اللفظ دون الاستعمال الذي هو من
285

لوازمها، كما هو المتبادر في إطلاقات أهل الفن، ولأنه لا يصح حملها على
الاستعمال ولا وصفه بها إلا بتوسط " ياء " النسبة، ومثله ينهض دليلا على
المغايرة، وأيضا فإنها كالمجاز أحد أقسام التقسيم السابق الذي مقسمه اللفظ
لا غير، وتعدد الاصطلاح غير ثابت فلا وجه لتعريفهما بالاستعمال إلا على إرادة
التوسع أو التعريف باللازم.
وعلى ما قررناه فالاستعمال فصل يحترز به عما وضع لمعنى ولم يتفق
استعماله فيه، فإنه لا يعد عندهم حقيقة ولا مجازا، كما أن الوضع من فصوله يحترز
به عن المجازات والأغلاط، والحيثية فصل أخير له يحترز به عن المنقول إذا
استعمله الناقل في معناه المنقول منه لمناسبته له، أو استعمله أهل اللغة أو العرف
العام في معناه المنقول إليه كذلك، كالصلاة بالقياس إلى الدعاء على الأول،
والأركان المخصوصة على الثاني، فإنه من المجاز على التقديرين ولا يخرج عن
تعريف الحقيقة إلا بقيد الحيثية، وكما يخرج به ذلك فكذلك يخرج به المشترك إذا
استعمل في أحد معنييه لمناسبة الآخر، فإنه جائز ومجاز في الفرض ولا يخرج إلا
بهذا القيد.
وفي كلام كثير منهم مكان الحيثية التقييد " باصطلاح به التخاطب " ظرفا
للوضع احترازا عن المنقول حسبما ذكرناه، وهذا وإن كان ينهض بإخراجه لكنه
يقصر عن إخراج المشترك على الفرض المذكور كما لا يخفى. ومنهم من جمع بين
القيدين دفعا للنقضين.
لكن الأولى بعد ما عرفت من كفاية الحيثية في دفعهما معا هو الاكتفاء بها،
حذرا عن التطويل المرغوب عنه في التعاريف، إلا أن يقال: بأن الغرض من هذا
القيد هو الاحتراز عن المنقول الواقع في لسان الناقلين على المنقول منه لوضعه
الثابت له عند المصطلحين به، لا لمناسبته، أو في لسانهم على المنقول إليه لما له
من الوضع عند الناقلين لا لأجل المناسبة، فإنه لا يعد حقيقة في هذا اللسان وإن
كان حقيقة في لسان آخر وليس ببعيد، فحينئذ لابد من اعتبار القيدين.
286

وبمقايسة ما ذكر يعلم تعريف المجاز أيضا، فإنه: " اللفظ المستعمل في خلاف
ما وضع له لعلاقة " وفائدة اللفظ والاستعمال قد علمت مما مر، وقيد " الخلاف "
احتراز عن الحقيقة، كما إن قيد " العلاقة " احتراز عن الغلط، وكما يحترز بها عن
ذلك فكذلك يحترز بها عن المنقول إذا استعمله الناقل في وضعه الأول، أو استعمله
أهل اللغة أو العرف في وضعه الثاني، فإنه على الاعتبارين استعمال في خلاف ما
وضع له في الجملة وليس بمجاز لعدم كون الاستعمال لعلاقة، وهذا وإن كان يخرج
بالحيثية أيضا لو اعتبرناها لكن الغلط لا يخرج إلا بالعلاقة، والجمع بينهما تطويل
فالمتعين الاكتفاء بالعلاقة.
ثم يرد على التعريفين إشكالات:
أحدها: أن الوضع على ما صرحوا به شخصي ونوعي، والثاني كما صرحوا به
ثابت في المجازات كما أنه ثابت في الحقائق أيضا، فالوضع المأخوذ في
التعريفين إن أريد به خصوص الشخصي انتقض عكس الحقيقة وطرد المجاز
بالحقائق الموضوعة بالنوع كالمشتقات اسمية وفعلية، والمركبات على القول
بوضع النوع فيها، وإن أريد به النوعي بالخصوص انتقض العكس والطرد في كل
منهما، أما عكس الأول وطرد الثاني فبالحقائق الموضوعة بالشخص كأسماء
الأجناس وأعلامها والمبهمات والأعلام الشخصية والحروف، أما طرد الأول
وعكس الثاني فبالمجازات كلا لثبوت الوضع فيها نوعا، وإن أريد به ما يعم
القسمين انتقض طرد الأول وعكس الثاني بالمجازات جميعها، بل لا يبقى لتعريف
المجاز مصداق، إذ لا مجاز يكون مستعملا في خلاف ما وضع له بالمعنى الأعم
على فرض ثبوت الوضع فيها نوعا.
ويدفعه: اختيار الشق الأخير وعدم منافاته لوضع النوع بالمعنى الثابت في
المجازات، فإن الوضع في التعريفين محمول على معناه الحقيقي وإطلاقه على ما
ثبت في المجازات مجازي لا يصرف إليه إطلاق التعريف.
وتوضيحه: أن الوضع قد يطلق على ما تعلق بمادة مخصوصة في ضمن هيئة
287

مخصوصة، على معنى كون الخصوصية ملحوظة ومعتبرة في كل من المادة والهيئة،
كأسماء الأجناس وأعلامها وغيرها مما ذكر سابقا، وهذا ما يوصف عندهم
" بالشخصي " لكون المتعلق من حيث المادة والهيئة شخصا.
وقد يطلق على ما تعلق بهيئة مخصوصة معراة عن مادة مخصوصة، على
معنى كون الخصوصية ملحوظة ومعتبرة في جانب الهيئة وملغاة في جانب المادة،
كما في المشتقات من نحو " فاعل " و " مفعول " و " فعيل " و " فعل " و " إفعل "
باعتبار أنها هيئآت مخصوصة.
وقد يطلق على ما تعلق بمادة مخصوصة معراة عن الهيئة المخصوصة، على
معنى اعتبار الخصوصية في جانب المادة وإلغائها في جانب الهيئة، كما في مبادئ
المشتقات على ما نراه من كون الموضوع فيها للحدث المخصوص، هو الحروف
المخصوصة المرتبة من حيث التقديم والتأخير المعراة عن الهيئة المخصوصة،
الحاصلة باعتبار انضمام الحركات والسكنات إليها، فإن حروف " ض ر ب " بهذا
الترتيب في مشتقات " الضرب " لا بشرط كونها في ضمن خصوص هيئة " فاعل "
أو " مفعول " أو " فعل " أو " إفعل " موضوعة للحدث المخصوص، المعبر عنه
بإمساس جسم لجسم حيوان على وجه يستتبع التألم، وهذان يقيدان عندهم
" بالنوعي " لكون المتعلق باعتبار إلغاء الخصوصية في أحد الجانبين نوعا شاملا
لجميع خصوصياته. وقد يقال عليهما الشخصي أيضا، لمراعاة الخصوصية المعتبرة
في الجانب الآخر، فإنها من هذه الجهة شخص وإن كانت باعتبار تقومها بالجهة
المطلقة تصير نوعا، فيختلف الحال بالاعتبار.
وقد يطلق على ما تعلق بما لم يلاحظ معه هيئة ولا مادة مخصوصة كما في
المجازات، فإن الثابت فيها ليس إلا ترخيص الواضع باستعمال كل لفظ موضوع
فيما يناسب معناه الموضوع له، ويقال عليه " الوضع النوعي " توسعا، أما كونه
" وضعا " فلأن الواضع بترخيصه كأنه عين كل لفظ بإزاء معناه المجازي، وأما كونه
" نوعيا " فلتعلقه بما لم يؤخذ معه خصوصية أصلا فيكون من قبيل النوع العالي،
288

ووجه كون الإطلاق توسعا فلأن الوضع عندهم تعيين وتخصيص، وهذا يقتضي
اعتبار الخصوصية بإحدى الجهات المتقدمة، فإن التعيين يقتضي محلا معينا،
والمحل لا يتعين إلا بالخصوصية، ومع عدم اعتبار الخصوصية لا تعين للمحل، فلا
يتحقق بالقياس إليه تعيين، فالمفروض شبه تعيين لا أنه تعيين على الحقيقة،
فيكون الإطلاق بالنسبة إليه مجازيا، والمأخوذ في التعريفين هو الوضع بالمعنى
الحقيقي الشامل لجميع الأقسام الثلاث الأول، والوضع بهذا المعنى ثابت في
الحقائق ومنتف في المجازات، وانتفاؤه لا ينافي ثبوت الوضع فيها بمعناه
المجازي فلا إشكال إذن في التعريفين.
وثانيها: أن اللفظ المأخوذ فيهما إن أراد به التام، وهو المجموع المركب من
المادة والهيئة اللتين هما جزءان منه، انتقض العكس بخروج الموضوعات النوعية
مادة وهيئة كما في المشتقات، لأن الوضع فيها وكذلك الاستعمال متعلق بالجزئين
والجزء ليس بلفظ بهذا المعنى، وإن أريد به ما يعم المجموع وكل جزء يلزم أخذ
المجاز في التعريف بلا قرينة موضحة، لأن اللفظ مجاز في المعنى العام لكونه
حقيقة في المجموع خاصة.
ويمكن دفعه أولا: باختيار الشق الثاني ومنع الملازمة، لمنع اختصاص اللفظ
في عرفهم بالمجموع المركب، بل هو على ما يساعد عليه التتبع في تضاعيف
عباراتهم اصطلاح عندهم في الأعم، فكل من الهيئة والمادة أيضا لفظ حقيقة.
وثانيا: باختيار الشق الثاني ومنع الملازمة أيضا، فإنها إنما تسلم إذا فرض
متعلق الوضع في الهيئات الهيئة المعراة عن المادة رأسا مقيدة ومطلقة، على معنى
عدم اعتبار المادة معها مطلقا، وفي المواد المادة المعراة عن الهيئة رأسا مقيدة
ومطلقة، على معنى عدم اعتبار الهيئة معها مطلقا، والالتزام بذلك ليس بلازم، لأن
القدر المسلم في وضع الهيئة عدم اعتبار مادة مخصوصة معها، وفي وضع المادة
عدم اعتبار هيئة مخصوصة معها، ومرجعه إلى إلغاء الخصوصيتين في كل من
الوضعين، وهو لا يلازم إلغاء المادة في الأول والهيئة في الثاني رأسا، فلم لا يجوز
289

تعلق الوضع في الأول بالهيئة الخاصة مقيدة بالمادة المطلقة، وفي الثاني بالمادة
الخاصة مقيدة بالهيئة المطلقة.
وإن شئت فقل: إن متعلق الوضعين المجموع المركب من الهيئة الخاصة
والمادة المطلقة، والمجموع المركب من المادة الخاصة والهيئة المطلقة،
والمفروض أن اللفظ هو المجموع المركب وهو حاصل في الموضوعات النوعية.
فإن قلت: هذا على فرض تسليمه باعتبار الوضع يتخلف عنه الاستعمال، لأنه
لا يقع في موارده إلا على المجموع من الخصوصيتين " كضارب " ونحوه فإنه
المستعمل، وهذا على الفرض المذكور ليس بمورد شئ من وضعي الهيئة والمادة.
قلت: اعتبار الخصوصية في كل من الجانبين لإفادة ما يخصها من المعنيين،
ولا مدخلية لخصوصية المادة في إفادة الهيئة معناها المختص بها، كما لا مدخلية
لخصوصية الهيئة في إفادة ما يختص بها من المعنى، فقيد كل من حيث إنه قيد لها
يعتبر في لحاظ استعمالها مطلقا، وإن كان يعتبر لا بهذه الحيثية في لحاظ استعماله
لإفادة معنى نفسه بقيد الخصوصية، فإن كل خاص يتضمن الخاص وكل مقيد
يتضمن المقيد، والاستعمال استفعال من العمل، ومعناه أن يطلب المتكلم من اللفظ
إفادة معناه المختص به، فلم لا يجوز أن يطلب عند إطلاق " ضارب " إفادة ما
يخص الهيئة منها مقيدة بالمادة المطلقة المتحققة في ضمن هذه المادة المخصوصة،
وإفادة ما يخص المادة منها مقيدة بالهيئة المطلقة المتحققة في ضمن هذه الهيئة
المخصوصة، فالاستعمال واقع في الحقيقة على ما وقع عليه الوضع، وإن كان
المحسوس عند السمع ما اشتمل على الخصوصيتين. فتأمل جيدا.
المجاز الأصلي والتبعي
وثالثها: أن قيد " الوضع " في التعريفين مما يخل بعكسهما بالنسبة إلى الحقائق
التعينية والمشتركات اللفظية والمبهمات والحروف والأفعال، بناء على أنه عبارة
عن تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه، فبقيد " التعيين " يخرج ما لا تعيين فيه
كالأولى، وبقيد " الدلالة على المعنى بنفسه " البواقي، لكون الدلالة في الكل بمعونة
الخارج من قيود لفظية أو معنوية، وهذا الإشكال إنما يرد هنا لوروده على تعريف
290

الوضع، ويندفع هنا باندفاعه عنه وللتعرض له محل آخر يأتي، وتعرف أنه غير
وارد. ثم إن في المقام فوائد تتعلق بالحقيقة والمجاز.
الأولى: أن الحقيقة والمجاز قد يلحقان اللفظ الموضوع بواسطة التصرف في
نفسه ويسمى المجاز حينئذ " أصليا " ويجري ذلك في أسماء الأجناس، كما في
الأسد للرجل، وفي الأسماء المشتقة كما في اسم الفاعل المراد منه معنى المفعول،
واسم المفعول المراد منه معنى الفاعل " كدافق " و " مستور " وفي الأفعال أيضا إذا
أريد منها خلاف ما وضع له صيغها كفعلي الماضي والمضارع إذا أريد من الأول
نسبة الحدث إلى فاعل ما مجردة عن الزمان أو مقترنة بزمان غير ماض، ومن
الثاني نسبة مجردة أو مقترنة بغير زمان الحال على ما هو أصح الأقوال فيه، وفي
الحروف أيضا كلفظة " في " بمعنى السببية و " مع " ولفظة " إلى " بمعنى " مع "
وهكذا.
وقد يلحقانه بواسطة التصرف فيما هو من متعلقاته ويسمى المجاز حينئذ
" تبعيا " ويوجد ذلك في المشتقات اسمية وفعلية وفي الحروف أيضا، أما في
الأولى فبتطرق الوصف إلى صيغتيهما باعتبار تطرقه إلى ما اشتقا منه " كقاتل "
و " قتل " في الاستعارة للضرب الشديد مثلا، وأما في الثانية فبأن يدخل الحرف
بمعناه الموضوع له فيما ليس بمدخوله الواقعي لعلاقة بينه وبين المدخول الواقعي،
كما في [قوله تعالى:] (ليكون لهم عدوا وحزنا) (1) فإن " اللام " للتعليل،
والعداوة والحزن ليسا بما هو علة غائية في الواقع حسبما لاحظه آل فرعون، بل
العلة الغائية في نظرهم هي المحبة والتبني، لكن شبها بالعلة الغائية لما فيهما من
مشاركتهما لها في الترتب الخارجي، فأدخل عليهما ما هو من خواص المشبه به.
ولا يخفى عليك أن هذا ليس مجازا بالمعنى المصطلح عليه لا في الحرف
ولا في مدخوله. نعم هو مجاز بالمعنى اللغوي، لأنه جاوز محله الأصلي، وهو
ما كان ينبغي مدخولا له إلى غيره، وهو الواقع مدخوله فعلا.

(1) القصص: 8.
291

فبجميع ما ذكر يعلم أن ما في نهاية العلامة (1) من أن الحرف لا يدخل فيه
المجاز بالذات، لعدم استقلاله بالمفهومية وإنما يفيد مع انضمامه إلى غيره، فإن ضم
إلى ما ينبغي ضمه إليه فلا مجاز، وإن ضم إلى ما لا ينبغي ضمه إليه كان مجازا في
التركيب لا في المفرد، ليس بسديد، إذ قد عرفت دخوله في المجاز لذاته أيضا، بل
هو الشائع من مجازاته.
وأضعف منه ما قيل بالقياس إلى الفعل من أنه: " دال على ثبوت شئ
لموضوع غير معين في زمان معين " فهو مركب من المصدر والزمان والنسبة، فما
لم يدخل المجاز في المصدر استحال دخوله في الفعل الذي لا يفيد إلا ثبوت ذلك
المصدر لشئ ما، ولذا تنظر فيه العلامة تعليلا بأن مجازية المركب لا تنحصر في
مفرد بعينه، فجاز كون الفعل مجازا باعتبار صيغته بأن يدل وضعا على زمان
ماض، ويستعمل في المستقبل مجازا وليس في المشتق منه... الخ (2).
ومنه يظهر ضعف ما قيل أيضا في المشتق من أنه ما لم يتطرق المجاز إلى
المشتق منه لم يتطرق إلى المشتق الذي لا معنى له إلا أنه أمر ما حصل له المشتق
منه فإذن المجاز في الحقيقة إنما هو في أسماء الأجناس، ولذا اعترض عليه
العلامة (3) أيضا بمثل ما مر، بقوله: إن المشتق مركب من المشتق منه ومن صيغة
خاصة تدل على الفاعلية والمفعولية، فجاز أن يكون المجاز في الصيغة.
وأما ما في كلام بعض الأعلام (4) من أن الأفعال والحروف فالحقيقة والمجاز
فيهما إنما هو بملاحظة متعلقاتهما وبتبعيتها كما في " نطقت الحال " و (ليكون لهم
عدوا) هذا بحسب المواد. وأما الهيئة فقد يتصف الفعل بالحقيقة والمجاز
والاشتراك والنقل، كالماضي للإخبار والإنشاء، والمضارع للحال والاستقبال،
والأمر للوجوب والندب.
في الفرق بين الحقيقة اللغوية والعرفية
ففيه: أيضا شئ من الضعف، فإن قوله: " وأما الهيئة " وإن كان يصرفه العبارة

(1) نهاية الوصول إلى علم الأصول: الورقة 25 (مخطوط).
(2 و 3) نفس المصدر السابق.
(4) قوانين الأصول: 1.
292

المتقدمة عليه عما هي ظاهرة فيه ويدفع عنها الحزازة بالنسبة إلى الفعل، لكنه
لقصورها عن دفعها عنها بالقياس إلى الحرف موضع مناقشة، بعد ملاحظة ما
ذكرناه من عدم انحصار المجاز اللاحق للحرف في التبعي.
الثانية: قد علم مما سبق أن الحقيقة والمجاز يستلزمان الوضع، فهما باعتبار
انتسابهما إلى ما نسب إليه الواضع ينقسمان إلى أقسام، فالحقيقة إلى اللغوية
والعرفية والشرعية، كما أن المجاز إلى اللغوي والعرفي والشرعي، فالحقيقة
اللغوية على ما في كلامهم ما كان واضعه من أهل اللغة، وهل المعتبر فيها المعاني
الأصلية المهجورة " كالدابة " المشتقة من الدبيب لكل ما يدب على الأرض
و " القارورة " لما يستقر فيه الشئ، و " الغائط " للمكان المطمئن، أو المعاني
الأصلية الثابتة كمعاني الأرض والسماء والماء، أو المعاني الأصلية مهجورة كانت
أو ثابتة؟
والذي يستفاد من تضاعيف كلماتهم تعين الأخير، فيعتبر في الحقيقة اللغوية
كون وضعها أصليا وإن لم يكن المعنى باقيا بالفعل، وهل المعتبر في الوضع
الأصلي عدم كونه مسبوقا بوضع آخر أصلا. كما استظهره السيد في شرحه للوافية
من كلام الأصوليين وعلماء البيان، أو المعتبر فيه أن لا يكون مسبوقا بجميع
أوضاع اللفظ وإن تقدم عليه بعضها، كما استظهره فيه من بعضهم ثم استبعده بقوله:
وهو بعيد جدا وجهان أجودهما الثاني فالاستبعاد في محله، ضرورة أن الوضع
المتأخر إن كان من أهل العرف فهو وضع جديد مقابل عندهم للوضع اللغوي على
ما هو المصرح به في كلامهم، فكيف يكون اللفظ من جهته حقيقة لغوية.
وإن كان من أهل اللغة فهو أيضا وضع أصلي، إذ الوضع الأصلي ما لم يكن
طارئا من غير أهل اللغة، ولا يعتبر فيه كونه واحدا فقد يتعدد ويكون اللفظ معه
مشتركا لغويا، سواء حصل الوضعان في زمان واحد من شخص واحد، أو
شخصين أو في زمانين من واحد أو اثنين، فأوضاع اللفظ لو أريد بها ما كانت
بأجمعها من هذا القبيل فتخصيص الأصلي منها بما لم يكن مسبوقا بالجميع غير
293

سديد، كما لا يخفى، ولو أريد بها ما عدا ذلك بأن يفرض لفظ تطرق إليه وضع
لغوي، ثم وضع عرفي عام، ثم عرفي خاص شرعي أو غير شرعي، فالأصلي منها
لا يكون إلا ما تقدم على الجميع، وإن كان في حد ذاته متعددا، وأما العرفية
فالمعتبر فيها أن تكون طارئة غير أصلية، باقية كانت أو مهجورة، دون الباقية
أصلية كانت أو طارئة، ودون الطارئة الباقية.
وبالجملة، يعتبر في الحقيقة العرفية طريان الوضع لابقاء الموضوع له، إذ قد
عرفت أن الأصلية داخلة في اللغوية ولو مهجورة، والعرفية مقابلة لها ولا يتأتى
المقابلة إلا بانتفاء التصادق عما بينهما، فقرينة المقابلة تقضي باعتبار طريان
الوضع في العرفية كما أن ظهور كلامهم في انتفاء الواسطة عما بينهما يقضي
باندراج المهجورة من الأصلية في اللغوية والمهجورة من الطارئة في العرفية ومن
هنا حصل التزام التعميم بالقياس إلى الباقية والمهجورة في كل من القسمين.
وبالجملة، ظهور كلامهم في المقابلة الكلية يستدعي أصالة الوضع في اللغوية
وطروه في العرفية كما أن ظهور انتفاء الواسطة عما بين اللغوية والعرفية يستدعي
جعل كل من الأصلية والطارئة أعم من المهجورة والباقية.
وأما ما في كلامهم - من أن الأصل - اتحاد العرف واللغة، كما هو المتفق عليه
بينهم في مباحث الألفاظ من المطالب الأصولية وغيرها من موضوعات الأحكام
الغير الشرعية، حيث إنهم إذا عرفوا للفظ الوارد في الكتاب والسنة معنى باعتبار
العرف من جهة الأمارات العرفية، يحكمون باتحاد اللغة بل الشرع معه، استنادا
إلى الأصل، فغير مناف لما ذكرناه، لأن المقصود بذلك إثبات كون اللفظ من
الحقيقة اللغوية الباقية بالأصل المعول عليه عندهم، المعبر عنه " بأصالة عدم
النقل " وقد يضاف إليها " أصالة التشابه " المعمول بها عند بعضهم.
الفرق بين الحقيقة العرفية العامة والخاصة
وهذا الأصل مما لا مجال للاسترابة فيه، كما أن الحقيقة العرفية بالمعنى
المقابل للغوية حيثما وجدت مما لا مجال للتأمل في ابتنائه على مخالفة الأصل
وهو النقل، الذي يأتي تارة بوضع التعين، وأخرى بوضع التعيين، ولذا صرح
294

العلامة في النهاية (1) وغيره في غيرها بانحصار الحقيقة العرفية العامة في أمرين:
أحدهما: اشتهار المجاز بحيث يصير حقيقة عرفية.
وثانيهما: تخصيص الاسم ببعض مسمياته.
فما يستظهر من بعضهم من أن العرفية ما يستفاد منه المعنى في العرف مطلقا
وإن كان المعنى أصليا، غفلة واضحة، وكأن منشأها القصور عن فهم حقيقة مرادهم
من الأصل المذكور المتفق عليه عندهم.
وقد عرفت أنه ليس لبيان الاتحاد فيما بين الحقيقة اللغوية والحقيقة العرفية
المأخوذة في الطرف المقابل للغوية، ومن المستحيل اتحاد المتقابلين.
وأضعف منه ما عن بعض كلمات القوم من أن الحقيقة العرفية ما يستفاد منه
المعنى بحسب العرف بالفعل، لقضائه بخروج المهجورة عن العرفية وإن كانت
طارئة.
ثم مقتضى ما عرفت من تصريح النهاية وغيرها، أن المراد بالوضع الطارئ
المأخوذ في العرفية ما يرادف النقل بقسميه، فلا يتناول وضع الألفاظ المخترعة
التي لم توضع في اللغة لمعنى، خلافا لما صرح به السيد في شرح الوافية من أن
الوضع الطارئ هو الوضع الجديد الذي ليس بأصلي، دون الطارئ على وضع
سابق المختص بالنقل، تعليلا بأن الألفاظ المخترعة المذكورة من أقسام الحقيقة
العرفية، وهو الأوفق بظاهر إطلاقاتهم، مع ظهور كلماتهم في انتفاء الواسطة.
ثم العرفية منقسمة عندهم إلى العامة والخاصة، وفرق السيد المتقدم ذكره
بينهما بأن العامة ما لم يتعين واضعه " كالدابة " فإنها في اللغة لكل ما يدب على
الأرض، ثم غلب استعمالها في العرف العام في ذي الأربع حتى تعينت لذلك،
وليست الغلبة فيها من فريق دون فريق، أو طائفة دون أخرى بل من الجميع، فلذا
كانت عامة.

(1) نهاية الوصول إلى علم الأصول: الورقة 22 (مخطوط).
295

والخاصة ما تعين واضعه كما في اصطلاحات أرباب العلوم والصناعات،
فإنها مختصة بهم، لحصول الغلبة والاشتهار في معانيها عندهم.
ثم فرق بينهما من وجه آخر، وهو عموم الاستعمال في الأول وخصوصه في
الثاني، فإن الخاصة إنما تكون حقيقة لو كان المستعمل لها من أهل الاصطلاح،
فإن " الفعل " مثلا إذا استعمله غير النحاة فيما يقابل الاسم والحرف كان مجازا،
لكونه مستعملا في غير ما وضع له في اصطلاح التخاطب.
ثم قال: ومن هذا يعلم أن الفرق بين العرفية العامة والخاصة من وجهين، تعين
الواضع وعدمه، وعموم الاستعمال على وجه الحقيقة وخصوصه.
ثم فرع على هذين الفرقين خروج الأعلام الشخصية عن القسمين، قائلا:
بأنها تفارق العامة من الوجه الأول، لاختصاص الموضوع فيها بواحد معين غالبا،
والخاصة من الوجه الثاني، فإنها إذا استعملت في مسمياتها كانت حقيقة من أي
مستعمل كان كالعرفية العامة.
وفيه نظر: فإن ما أفاده في وجه عدم تعين الواضع في العامة يقضي بانحصار
الوضع فيها في التعين الناشئ عن الاشتهار والغلبة.
وقد عرفت من تصريحاتهم ما يقضي بخلافه، وعليه فقد يتعين الواضع في
العامة أيضا، إذا وضعها واحد معين أو جماعة معينة تعيينا، فأخذها منهما الباقون
من باب التسليم والإمضاء، بل صدور الوضع تعيينا فيها عن الجميع على وجه
اجتمع الكل على إيجاده مما يستحيله العادة، فهذا الوضع حيثما تحقق لا يصدر
إلا عن بعض معين، وكون الاستعمال على وجه الحقيقة خاصا في الخاصة على
إطلاقه غير سديد، وإنما يسلم ذلك إذا لم يكن مستند الاستعمال في لحاظ
المستعمل هو الوضع العرفي الخاص، الثابت عند أهل الاصطلاح بذلك اللفظ
والمعنى. ولا ريب إن الاستعمال حيثما وقع على هذا الوجه كان مجازا، وإن كان
المستعمل من أهل الاصطلاح.
فمناط الحقيقية إنما هو استناد الاستعمال من أي مستعمل كان إلى الوضع
296

أصليا أو طارئا، من العام أو الخاص، وعليه فلا يفترق الحال في مجازية
الاستعمال على الوجه الأول، وحقيقية على الوجه الثاني بين أقسام الحقيقة من
اللغوية والعرفية العامة والخاصة، سواء كان المستعمل في الجميع من أهل اللغة، أو
العرف العام أو الخاص، وهذا المناط كما ترى من مقتضيات ما عرفته سابقا من
الحيثية والعلاقة المأخوذتين في تعريفي الحقيقة والمجاز، فما أفاده (قدس سره) من ضابط
الفرق بين العرفيتين ليس على ما ينبغي في شئ من وجهيه، بل ضابط الفرق
بينهما حسبما يساعد عليه النظر - بعد تفسير العرف العام بقاطبة أهل اللسان،
والعرف الخاص بطائفة منهم - هو أن الداعي إلى فتح باب الأوضاع الطارئة
الجديدة بل الوضع مطلقا ولو أصليا كون المعنى الموضوع له مما حصلت به
البلوى واشتدت الحاجة إلى التعبير عنه، فإن كانت البلوى به والحاجة إلى التعبير
عنه خاصتين بطائفة دون أخرى، قضى ذلك بحدوث الوضع تعيينا أم تعينا عند
هذه الطائفة خاصة، وإن كانتا عامتين لقاطبة أهل اللسان قضى بحدوثه على أحد
الوجهين، على وجه العموم من دون اختصاص له بطائفة دون أخرى.
وإلى هذا يشير ما في نهاية العلامة (1) وغيرها في وجه حدوث الحقيقة
العرفية، من أنه قد تحصل معان فتفتقر إلى التعبير عنها ولم يوضع لها ألفاظ في
اللغة، فيضطر إلى اختراع ألفاظ لها، لكن لما كرهوا الخروج عن قانون اللغة،
التجأوا إلى سلوك طريق يجمع بين حصول مطلوبهم والتزام قانون اللغة، فعمدوا
إلى كل لفظ موضوع لمعنى يناسب معناه المعنى الذي طلبوا التعبير عنه فنقلوه إليه،
إذا كان ذلك جريا على قانون اللغة، ولم يخترعوا لتلك المعاني ألفاظا من عندهم
للعلة المذكورة، فإن غلب استعمالهم في المعنى الثاني صار حقيقة عرفية. إما
بالعرف العام أو الخاص، فإن أهمل الأول صار استعمال اللفظ فيه مجازا عرفيا،
وإن كان حقيقة لغوية.

(1) نهاية الوصول إلى علم الأصول: الورقة 22 (مخطوط).
297

وعليه فالأعلام الشخصية تندرج في ضابط العرفية الخاصة، إذ الابتلاء
بالتعبير بها عن مسمياتها يحصل لخصوصيات الطوائف دون قاطبة أهل اللسان،
والوضع فيها أيضا يحصل غالبا من معين فيأخذه الباقون إمضاء وتسليما، ويأتي
على قسميه، وإن كان الحاصل منهما بالغلبة والاشتهار نادرا بالقياس إلى غيره،
وعموم الاستعمال بعنوان الحقيقة فيها ليس إلا كعمومه في اصطلاحات العلوم
والصناعات، فلا وجه له إلا الإمضاء والتسليم أو الاتباع.
تحقيق الحال في الأعلام الشخصية
غاية الأمر قيام الفرق بينها وبين سائر الاصطلاحات، باعتبار أن المصطلحين
يجمعهم جهة جامعة منتزعة عن عناوين العلوم أو الصناعات، بخلاف المستعملين
لها، وهذا كما ترى لا يصلح فارقا بينهما، بحيث أوجب اندراج إحداهما في
الحقيقة العرفية وخروج الأخرى، عنها فالإيراد على القوم بأن تقسيم الحقيقة إلى
الأقسام الثلاثة غير حاصر لعدم تناوله الأعلام لعله في غير محله، كما أن الالتزام
بخروجها عن المقسم بالمرة - أعني مطلق الحقيقة - ليس في محله، كيف والحقيقة
لم يؤخذ في حده إلا اللفظ والوضع والاستعمال والحيثية، والكل موجود فيها مع
وجود خواص الحقيقة ولوازمها، ولو كان ذلك لخصوصية مأخوذة في ماهية
الحقيقة وإن لم ينبه عليها في حدها، فهو مما يخل بسلامة الحد، ولم يتعرض له
أحد ولا يكون إلا لتبين عدم مدخلية شئ آخر زائد [ا] على ما ذكر في الماهية.
وعليه فما حكى عن الرازي والآمدي في المحصول (1) والإحكام (2) من أن
الحقيقة والمجاز يشتركان في امتناع اتصاف أسماء الأعلام بهما " كزيد "
و " عمرو " وهو المستفاد من نهاية العلامة (3) حيث أدرجها في عنوان ما يتوسط

(1) المحصول في علم الأصول 343: 1 حيث قال: المسألة الأولى: في أن دلالة اللفظ بالنسبة
إلى المعنى قد تخلو عن كونها حقيقة ومجازا، أما في الأعلام فظاهر...
(2) الإحكام في أصول الأحكام: 32.
(3) نهاية الوصول إلى علم الأصول: الورقة 26 (مخطوط) حيث قال: البحث الثاني في إمكان
الخلو عنهما - إلى أن قال -: وأيضا الأعلام ليست حقيقة ولا مجازا.
298

بين الحقيقة والمجاز وليس بأحدهما، فلعله ليس بظاهره لجواز كون المقصود نفي
كونهما من الحقيقة والمجاز اللغويين لا مطلقهما.
وربما يستفاد ذلك من صريح النهاية (1) أيضا، حيث قال: وأيضا الأعلام
ليست حقيقة ولا مجازا، لكونها من الألقاب والحقيقة استعمال اللفظ فيما وضع له
والمجاز في غير ما وضع له، وهو يستدعي كونهما قد وضعا قبل الاستعمال لغة
وأسماء الأعلام ليست كذلك، فإن استعمالها ليس فيما وضعه أهل اللغة ولا في
غيره.
وذكر في موضع آخر، أن الأعلام ليست مجازات، لأن شرط المجاز استناد
الفعل إلى علاقة بين الأصل والفرع، وهي منتفية في الأعلام (2).
ولا ريب أن نفي الخاص لا يستلزم انتفاء العام. وبالجملة، فمن أطلق نفي
اتصافها بالحقيقة والمجاز إن أراد به عدم كونهما في مسمياتها من الحقائق
والمجازات اللغويين بل العرفيين في الجملة فهو في محله، ضرورة عدم استناد
استعمالاتها في مسمياتها الموضوع لها إلى شئ من الوضع اللغوي ولا العرفي
العام، ولا إلى العلاقة الملحوظة بينها وبين المعاني اللغوية، ولا العرفية العامة.
وإن أراد به امتناع لحوق وصفي الحقيقة والمجاز لهما أصلا ورأسا فهو
مقطوع بفساده لما بيناه، فهي إذا استند استعمالاتها إلى ما فيها من الوضع الثابت
لمسمياتها كانت من الحقائق، وإذا استندت إلى المناسبة المعتبرة لمسمياتها
الموضوع لها كانت من المجازات.
ثم على تقدير عدم اندراجها في العرفية بقسيمها لا يتوجه نقض إلى تقسيمهم
من حيث عدم أخذهم لها رابع الأقسام أو خامسها، لجواز ابتنائه على قلة ما
يترتب عليها من الثمرات والفوائد الفقهية وغيرها، بل لعدم فائدة تتعلق بها مطلقا،
حتى بالنسبة إلى سائر الفنون المدونة، بخلاف سائر الأقسام المأخوذة في

(1) نهاية الوصول إلى علم الأصول: الورقة 26 (مخطوط).
(2) نهاية الوصول إلى علم الأصول: الورقة 25 (مخطوط).
299

التقسيم، فإن الفوائد المترتبة عليها واضحة حتى بالقياس إلى العرفية الخاصة التي
من فوائدها المترتبة على معرفة مصاديقها المتفرقة في الفنون المعهودة والعلوم
المتداولة تيسر حصول إفادة المطالب العلمية واستفادتها بواسطة الألفاظ
المصطلحة فيها.
وأما الحقيقة الشرعية فهي على الضابط المتقدم ذكره، وإن كانت من العرفية
الخاصة، غير أن إفرادها عنها بجعلها قسما برأسه لما فيها من الفضل والشرف
بالقياس إلى غيرها، أو لانفرادها بوقوع النزاع في ثبوتها وعدمه بخلاف غيرها
من أقسام العرفية الخاصة، فإنه لا خلاف على ما في كلام غير واحد في ثبوتها كما
هو واضح، وإنكاره مكابرة لا يلتفت إليها، وسنورد بعض ما يتعلق بالحقيقة
الشرعية مما يناسب المقام عند التعرض للبحث في إثباتها فعليك بالانتظار.
الثالثة: المجاز ممكن عقلا وواقع لغة وشائع خارجا، حتى أنه في شيوع
إمكان المجاز عقلا ووقوعه خارجا
الوقوع بلغ إلى ما ادعي كون أغلب اللغة مجازات، وإنكار أبي إسحاق ومتابعيه
دفع للبديهة، وأدلتهم المنقولة - مثل أنه مخل بالفهم، وأنه إن أفاد المعنى المجازي
مع القرينة لم يكن مجازا من حيث عدم احتمال غيره حينئذ، أو لا معها فيكون
حقيقة فيه، أو لا تفيد شيئا مع عدمها فلا تكون حقيقة ولا مجازا، وأن كل معنى
مجازي فله لفظ موضوع بإزائه فلا يقع من الحكيم التجاوز من لفظه إلى استعارة
غيره لما فيه من التطويل إن ذكر القرينة، وعدم إفادة المقصود إن أخل بها - بأسرها
مدخولة.
إمكان الواسطة فيما بين الحقيقة والمجاز
وكما أنه واقع في اللغة وارد في الكتاب العزيز بلا شبهة، وإنكار وقوعه فيه -
كما عن الظاهرية - لا يلتفت إليه، كما لا يلتفت إلى حججهم المنقولة في ذلك، مثل
أن المجاز كذب ولهذا يمكن نفيه، وأن المجاز ركيك والله تعالى منزه عنه، وأنه إنما
يصار إليه عند العجز عن الحقيقة، وأنه إنما يفيد مع القرينة. وربما خفيت فيقع
المكلف في الجهل وذلك قبيح من الحكيم، وأنه يستلزم كونه متجوزا، وأن كلامه
تعالى حق وكل حق فله حقيقة مقابلة المجاز.
300

فإن الكذب إنما يلزم بإرادة الحقيقة حين إقامة الدلالة على المجاز، ولا
ركاكة في نوع المجاز بل فيه من الحسن والبلاغة في غالب موارده ما ليس في
الحقيقة، والإتيان به غير مقصور على العجز عن الحقيقة، وخفاء القرينة بتقصير
المكلف عن المراعاة أو بواسطة العوارض الخارجة لا يوجب قبحا على الحكيم،
ووجود معنى المتجوز فيه تعالى غير ممنوع، وهو لا يوجب جواز إطلاق لفظه
لوجود المانع أو فقد المقتضي، لمكان توقيفية أسمائه تعالى، وكلامه حق مستلزم
للحقيقة بالمعنى المرادف للصدق لا المقابل للمجاز.
الرابعة: لا ريب في إمكان الواسطة فيما بين الحقيقة والمجاز، بأن يكون هناك
لفظ بالقياس إلى معنى ليس بحقيقة ولا مجاز، فإن الحقيقة على ما تقدم بالإضافة
إلى ما يصير من جهته من المعاني حقيقة تتضمن الوضع والاستعمال، والمجاز
بالإضافة إلى ما يصير من جهته من المعاني مجازا يتضمن العلاقة والاستعمال،
فأمكن الخلف بين الوضع والاستعمال في الأول، وبين العلاقة والاستعمال في
الثاني، وقضية ذلك تحقق صور من اللفظ تخلفت عن الحقيقة والمجاز:
إحداها: لفظ وضع ولم يستعمل في الموضوع له.
وثانيتها: لفظ لمعناه الموضوع له مناسب لم يستعمل فيه، وهذا هو الذي قد
يعبر عنه بالمجاز الشأني.
وثالثتها: لفظ مستعمل في غير مناسب لمعناه الموضوع له من غير وضع له
بإزائه، وهذا هو الذي يعبر عنه " بالغلط " لكن العلامة في النهاية (1) لم يتعرض إلا
للصورة الأولى، مع تصريحه بأنه يندر، بل لا يوجد لانتفاء معظم فوائد الوضع.
وأما ما عن فخر الدين (2) من أن دلالة اللفظ قد لا تكون حقيقة ولا مجازا،
فلعله ناظر إلى الصورة الأخيرة، نظرا إلى أن الدلالة مسبوقة بالاستعمال، ولا يعقل
انتفاء الوصفين مع وقوع الاستعمال إلا بانتفاء لازميهما من الوضع والعلاقة، لكنه

(1) نهاية الوصول إلى علم الأصول: الورقة 26 (مخطوط).
(2) المحصول في علم الأصول 343: 1.
301

لا يلائمه احتجاجه المحكي باللفظ في حالة الوضع قبل الاستعمال، ولذا اعترض
عليه العلامة بقوله: ليس بجيد (1) تعليلا بكون الدلالة مسبوقة بالوضع.
ومما جعله العلامة من الواسطة بعد ما ذكر الصورة الأولى منها كما عرفت،
الأعلام مصرحا بأنها ليست حقيقة ولا مجازا، وكان مراده على ما يظهر من تعليله
عدم كونهما من الحقيقة والمجاز اللغويين كما أشرنا إليه سابقا، وهو بهذا التوجيه
وإن كان جيدا غير أنه يشكل بقضائه بعدم كون الحقائق العرفية عامة وخاصة -
خصوصا إذا كانت موضوعة بوضع التعيين - حقيقة ومجازا بهذا المعنى، فلا وجه
للاقتصار على الأعلام وإفرادها بنفي الحقيقة والمجاز.
لا يقال: إن الوضع في الحقائق العرفية إنما يحصل من باب النقل، الذي لا
يتأتى إلا مع وجود المناسبة، فهي لتضمنها المناسبة بالقياس إلى الوضع اللغوي
كانت مجازات لغوية، ويقوى ذلك فيما حصل وضعه بالاشتهار والغلبة.
لأنا نقول: مع أن المناسبة المعتبرة في النقل لم يجب كونها مصححة للتجوز،
بأن يكون من العلائق المعتبرة في المجاز، أن المعتبر في المجاز استناد استعمالاته
إلى العلاقة الموجودة، والمأخوذ الموجود في النقل استناد الوضع إليها حتى فيما
طرء بالاشتهار والغلبة، فإن اللفظ حيثما بلغ حد الحقيقة فاستعمالاته في تلك
الحالة ليست مستندة إلى العلاقة بل مستندة إلى الوضع الطارئ، فهو في هذه الحالة
ليست بمجاز لغوي جزما، وكونه مجازا قبلها في إحدى الصورتين لا يقضي بكونه
كذلك بعدها.
ويقوى ذلك في المنقول بوضع التعين إذا لم يطرأه من أهل اللغة ولا غيرهم
استعمال لأجل العلاقة الموجودة.
المجاز لا يستلزم الحقيقة
نعم هذا على ذلك التقدير مجازي شأني، لكن قد عرفت كون المجازات
الشأنية من جملة الوسائط، وما قد يوجد في كلامهم من أن كل حقيقة عرفية

(1) نهاية الوصول إلى علم الأصول: 26 (مخطوط).
302

أو شرعية مجاز لغوي، وكل حقيقة لغوية فهو مجاز عرفي أو شرعي ليس على
إطلاقه، وعلى تقدير إرادة الإطلاق فهو ليس بسديد، إلا إذا أخذ في حدي الحقيقة
والمجاز " اصطلاح التخاطب " كما عليه جماعة، لا الحيثية الراجعة إلى الاستعمال
كما حققناه، وهو مع ضعفه لا يخلو عن إشكال يظهر وجهه بالتأمل.
وتوضيحه: أن ظاهر الاستعمال في خلاف ما وضع له في اصطلاح التخاطب
المأخوذ في حد المجاز، يقضي بكون الاستعمال واقعا عليه على أنه خلاف ما
وضع له في ذلك الاصطلاح.
ولا ريب أنه خرج حينئذ عن كونه حقيقة عرفية أيضا، وإنما يصير حقيقة
عرفية إذا وقع الاستعمال عليه على أنه ما وضع له بالوضع الطارئ، ولا يتفاوت
الحال في ذلك بين كون المستعمل من أهل اللغة أو العرف أو الشرع.
وبذلك يظهر أن قيد " اصطلاح التخاطب " المأخوذ في الحدين لا يجدي في
دفع النقض بالمنقول الوارد عليهما حسبما تقدم ذكره مفصلا، بل الدافع للنقض
ليس إلا قيد " الحيثية " وبعد اعتباره في الحدين بطل توهم كون الحقيقة العرفية أو
الشرعية مجازا لغويا وبالعكس.
وبالجملة، فالمقام غير خال عن إشكال لما في كلماتهم من وصمة الإجمال.
نعم على القول بأن المراد " باللغة " في الحكم بعدم كون الأعلام من الحقيقة
والمجاز اللغويين، ما يعم العرف والشرع لا ما يقابلهما يسقط ما تقدم من النقض
بالحقائق العرفية العامة والخاصة، لكن الحكم في الأعلام إنما يصح لو بني على
خروجها عن العرفية بكلا قسميها، وقد عرفت ما في ذلك أيضا من الإشكال.
الخامسة: الأقرب أنه لا تلازم بين الحقيقة والمجاز، فالحقيقة لا تلازم
المجاز كما أن المجاز لا يلازمها، أما الأول فهو المصرح به في كلامهم المتفق عليه
فيما بينهم، لجواز كون استعمال اللفظ بعد الوضع مقصورا على المعنى الموضوع له
من غير اتفاق استعماله في خلافه المناسب له.
وأما الثاني: فاختلفوا فيه على قولين:
303

أحدهما: ما صار إليه غير واحد من أساطين الأصول، من أن المجاز أيضا
لا يلازم الحقيقة، وعزى إلى المعظم تارة والأكثر أخرى والمحققين ثالثة.
وثانيهما: أنه يستلزمها، ذهب إليه - على ما في النهاية - جماعة منهم فخر
الدين الرازي.
حجة القول الأول: ان المجاز هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة
بينهما، فهو بالضرورة مسبوق بالوضع، لكن الوضع لا يجب معه الاستعمال،
فأمكن انفكاك المجاز عن الحقيقة من حيث إمكان انفكاك الاستعمال عن الوضع.
نعم يستحيل انفكاكه عن الوضع الأصلي، لكونه تابعا فيستحيل وجوده بدون
وجود متبوعه.
حجة القول الآخر أمران:
أحدهما: أن المجاز هو اللفظ المستعمل في غير موضوعه الأصلي، وهذا
تصريح بوضعه في الأصل لمعنى آخر، فاللفظ متى استعمل في ذلك الموضوع
كان حقيقة.
ورد: بأن الإلزام على الوضع الأصلي إلزام بما لا كلام فيه، كما لا كلام في
انعقاد الشرطية في الخارج بعد تحقق شرطها وهو الاستعمال، وإنما الكلام في
وجوب هذا الشرط من الوضع، وهو الممنوع عندنا.
ولا ريب أن فرض التحقق لا يصير المفروض متحققا، ومع عدم التحقق تحقق
المجاز من دون حقيقة، والمفروض أن كون الموضوع له صالحا لأن يقع عليه
الاستعمال لا يوجب وقوعه مستعملا فيه بحسب الحقيقة، والحقيقة تستلزم الوضع
والاستعمال الفعليين، وإذا انتفت الفعلية عن أحدهما انتفت الحقيقة ألبتة.
وثانيهما: أنه لو لم يستلزم الحقيقة لعرى الوضع عن الفائدة، إذ غايته الباعثة
عليه إنما هو الاستعمال فيما وضع له، فإذا انتفى الاستعمال انتفت الفائدة.
304

وأجيب عنه: بأن الواجب في فعل الحكيم قصد الفائدة لا ترتبها في الخارج،
فعدم ترتبها لدواع خارجية لا يخل بالحكمة.
ونوقش بأن قصد ما لا يترتب على الشئ راجع إلى الجهل بحاله، فما ذكر
إنما يتم إذا ثبت أن الواضع ليس هو الله وأن الوضع ليس بإلهامه، وإلا فالقصد
المذكور غير ممكن، وعلى تقدير إمكانه فهو مخل بالحكمة.
وأجيب أيضا: بمنع الملازمة، فإن صحة التجوز الذي هو تابع للوضع، فائدة
تترتب عليه.
ونوقش بأن فائدة الوضع للمعنى المجازي أكثر، لاستغنائه عن مؤنة القرينة
والخروج عن ظاهر الاستعمال، فالعدول عنه إخلال بالحكمة.
ويمكن دفعها: بأن المعاني المجازية قد تتعدد، ومع الاتحاد فالحكيم العالم
بالحال قد يعلم بأن الوضع في لفظ خاص لا يستتبع الاستعمال فيما وضع له، سواء
فرض ذلك الوضع في المعنى المجازي، أو فيما فرضه المجيب موضوعا له لفائدة
التجوز في غيره، على معنى علمه بأن المتحاورين بذلك اللفظ إنما يتعلق غرضهم
فيه بالاستعمال المجازي لحكمة دعتهم إليه، بحيث لولاه لم يستعملوه أبدا، فيجب
في الحكمة أن يضعه لأحد المعنيين أو المعاني، لفائدة التجوز الذي به يتعلق
غرض المتحاورين تسهيلا للأمر عليهم، مع أن مراعاة ما في التجوز من المزايا
المعنوية والجهات المحسنة الراجعة إلى مقام البلاغة وحسن التأدية التي لا
يستتبعها الاستعمال الحقيقي، ربما تصلح حكمة باعثة على إيثار الوضع لما
يستتبع التجوز على الوضع لما لا يستتبعه، وهو المعنى المجازي المفروض.
ألا ترى: أنك إذا قلت: " رأيت أسدا " مريدا به الرجل الشجاع، يفيد المعنى
على الوجه الأكمل الذي لا يفيده قولك: " رأيت شجاعا " وفائدة الاستغناء عن
مؤنة القرينة وإن كانت هي الحكمة الباعثة على فتح باب الوضع، غير إنها كثيرا ما
لا تقع مؤثرة، لعدم مقاومتها في كثير من الألفاظ والمعاني مزايا التجوز، وإلا كان
فتح باب التجوز في مظانه عدولا عن ملازمة مقتضى الحكمة، مع أنه يمكن منع
305

الملازمة أيضا، بأن الاستعمال في المعنى الموضوع له ربما يتفق بعد التجوز
بالقياس إلى خلافه، فهو قبل طرو هذا الاستعمال كان مجازا بدون الحقيقة، وهذا
كاف في منع الاستلزام، ولا يشترط في حصول فائدة الوضع سبقه على سائر
استعمالات اللفظ.
قال العلامة في النهاية (1): ومن أغرب الأشياء اعتراف فخر الدين قبل ذلك
بقليل باستلزام المجاز الوضع، وكونه جائز الخلو عن الحقيقة والمجاز انتهى. وهذا
كما ترى اعتراف بفساد الدليل.
ثم إن أصحاب القول بإمكان المجاز بلا حقيقة اختلفوا في وقوعه، مع
اعتراف القائلين بالوقوع بندرته.
واحتجوا على الوقوع بوجوه لا يخلو شئ منها عن شئ.
منها: لفظ " الرحمن " فإنه موضوع في الأصل لرقيق القلب ولم يستعمل فيه،
بل أستعمل فيه تعالى مجازا، وعلى فرض كونه موضوعا في الأصل لذي الرحمة
والإحسان والفضل والامتنان ثبت المطلوب أيضا، لعدم استعماله فيه على الوجه
الذي أخذ في الوضع، بل أستعمل فيه تعالى باعتبار الخصوصية مجازا، وأيا ما
كان فيتحقق المجاز بدون الحقيقة.
ومنها: الأفعال المنسلخة عن الزمان، " كعسى " و " نعم " و " بئس " و " ليس "
فإنها في الأصل كانت موضوعة للاقتران بالزمان على حد سائر الأفعال الماضية،
ولم تستعمل إلا مجردة عن الزمان كما هو قضية التعبير عنها بالأفعال المنسلخة.
ومنها: نحو " قامت الحرب على ساق " و " شابت لمة الليل " من المركبات
فإنها مستعملة في هذه المعاني مجازا، فتكون من المجاز بلا حقيقة لفقد ما يصلح
حقيقة لها.
وقد يحتج بهذه المذكورات على بطلان القول باستلزام المجاز للحقيقة، فيقرر

(1) نهاية الوصول إلى علم الأصول: الورقة 26 (مخطوط).
306

الاحتجاج بالوجه الأخير، بأنه لو استلزمها لكان نحو المركبات المذكورة حقائق
وبطلانه معلوم بالضرورة.
ويمكن الجواب عن الأول أولا: بمنع كونه فيه تعالى مجازا لجواز طرو النقل
فيه بالقياس إليه تعالى، ولا يلزمه سبق التجوز، لعدم انحصاره في المسبوق به إلى
أن يغلب فبلغ حد الحقيقة، بل قد يكون بالتعيين من دون سبق استعمال فيه عليه،
وقد يكون بالتعين من دون سبق تجوز في الاستعمال، بأن يكثر إطلاقه عليه تعالى
من باب إطلاق الكلي على الفرد إلى أن يغلب فيه ويتعين له.
ولا يذهب عليك أن ثاني الوجهين مخدوش عندنا، لتنافي فرض الإطلاق
المبني على إلغاء الخصوصية وحصول التعين من جهته المبني على اعتبار
الخصوصية، فإن التعين إنما ينشأ من غلبة استعمالات اللفظ إلى أن يستغني عن
القرينة، فلابد وأن يكون محله معروض تلك الاستعمالات، فإذا كان التقدير تقدير
تعرية معروض الاستعمالات عن الخصوصية استحال طرو التعين لها، وإذا كان
فرض التعين محققا في الخارج وهو يقتضي اعتبار الخصوصية استحال تعرية
الاستعمالات عنها.
وثانيا: بمنع قضاء عدم الاطلاع على عدم الوقوع.
واعترض عليه العضدي والتفتازاني: بأنا لا نعني بعدم الاستعمال إلا عدم
الاطلاع بعد الاستقراء التام.
وثالثا: بمنع عدم اتفاق استعماله في موضوعه الأصلي، كيف وإنهم أطلقوا
" رحمن اليمامة " على مسيلمة الكذاب، حتى أنه قال بعضهم في شأنه: " وأنت
غيث الورى لا زلت رحمانا ".
واعترض عليه تارة: بأن الإطلاق المذكور على تقدير صحته متأخر عن
استعماله فيه تعالى، فهو قبل طرو هذا الإطلاق مما يصدق عليه المجاز من دون
حقيقة وهذا كاف.
وأخرى: بأن هذا الإطلاق وقع منهم تعنتا في كفرهم فلا يعبأ به.
307

وزاد التفتازاني: هذا كما إذا أطلق كافر لفظ " الله " على مخلوق، فلا يكون
استعمالا صحيحا.
وفيه: أن ذلك إنما يتم إذا كان مبنى الاحتجاج على دعوى عدم وقوع
الاستعمال في المعنى الأصلي على الوجه الشرعي، بناء على ما ادعي من قيام
المنع الشرعي من استعماله في غيره تعالى.
وهذا واضح الفساد، إذ المقصود إقامة الحجة على عدم اتفاق استعمال هذا
اللفظ فيما وضع له، لا إقامة الدليل على قيام المنع الشرعي من الاستعمال،
فوقوعه منهم تعنتا يكشف عن عدم اعتنائهم بالشرع، وهو لا ينافي صحته باعتبار
اللغة، مع أن النزاع إثباتا ونفيا ليس في صحة الإطلاق لغة وعدمها، بل الصحة على
فرض وقوعه من مسلمات الفريقين.
وإنما النزاع في وقوع أصل الاستعمال، لئلا يكون المثال من المجاز بلا
حقيقة، وعدم وقوعه ليكون منه، فالحكم عليه بعدم الصحة مما لا تعلق له بالمقام،
ولم يدعه أحد، وعلى فرض التنزل فقياس الإطلاق المذكور على ما لو أطلق كافر
لفظ الجلالة على المخلوق فاسد، لوضوح الفارق في وجود مقتضي الصحة في لفظ
" الرحمن " وهو وضعه النوعي للمعنى الكلي الوصفي، وعدم وجوده في لفظ
الجلالة، من حيث إنه على الأصح لم يوضع إلا علما للذات الواجب الوجود،
فإطلاقه على غيره تعالى غلط جزما.
وثالثة: بما في كلام التفتازاني زيادة على ما مر، من أنك إذا تأملت علمت أن
هذا الإطلاق ليس حقيقيا، لأنهم لم يريدوا به رقة القلب، وملخصه: أنه في هذا
الإطلاق أيضا مجاز، بل أرادوا به الفضل والإحسان كما يشهد به قوله: " غيث
الورى " ويقتضيه أيضا إضافته إلى اليمامة التي هي مدينة من اليمن على مرحلتين
من الطائف، وصاحبها مسيلمة الكذاب.
ولا ريب أن رقة القلب لا تلائمه، فالإطلاق هنا وفيه تعالى على معنى، كما
هو من مقتضى كفرهم أيضا، وتوهم كونه بحسب الأصل لذي الفضل والإحسان
308

فاسد، وعلى فرض الصحة فالخصوصية الباعثة على التجوز قائمة هنا أيضا،
حسبما ذكر فيه تعالى.
ورابعا (1): بمنع كون إطلاقه في الله تعالى إطلاقا له في غير وضعه الأصلي،
فإن له باعتبار نوعي الهيئة والمادة وضعين نوعيين، كما هو قضية كونه من
المشتقات، وهو باعتبار الهيئة بالقياس إليه تعالى مستعمل في المعنى الفاعلي كما
هو قضية وضعه النوعي المتعلق بنوع هذه الهيئة، وليس هذا إلا استعمالا فيما
يقتضيه الوضع الأصلي.
نعم إنما حصل فيه التجوز باعتبار المادة من حيث إن الرحمة في ضمن هذه
الهيئة لم يرد منها الرقة، غير أنه ليس بهذا الاعتبار تجوزا منفكا عن الحقيقة،
لضرورة كون هذه المادة في ضمن سائر هيئاتها وباقي تصاريفها مستعملة في
وضعها الأصلي.
ولا ريب أن انتفاء المقيد لا يستلزم انتفاء المطلق، غاية ما هنالك عدم
استعمالها مقيدة بتلك الهيئة في وضعها الأصلي، والمفروض إنها بهذا الاعتبار
ليس لها وضع على حدة، واستعمالها مقيدة بسائر الهيئات عمل فيه بمقتضى وضع
النوع، وهذا كاف في انعقاد الحقيقة بالنسبة إلى هذه المادة الموضوعة مجردة عن
الهيئات المخصوصة، فيكون استعمالها في ضمن هيئة " رحمن " بالقياس إليه
تعالى بعد انضمام مستعملاتها الأخر المتحققة في ضمن سائر الهيئات، مجازا
مع الحقيقة.
وبالجملة الاحتجاج بلفظ " الرحمن " المستعمل فيه تعالى لإثبات كونه
مجازا من دون الحقيقة، إن رجع إليه باعتبار هيئته فهو غلط، لأن الهيئة هنا
مستعملة في مقتضى وضعها الأصلي وهو المعنى الفاعلي، وإن رجع إليه باعتبار
مادته فهو غير مجد، لأن مستعملات هذه المادة ليست مقصورة على هذه الهيئة،

(1) هذا جواب رابع عن الاستدلال (منه).
309

بل هي في ضمن سائر الهيئات أيضا مستعملة بالبديهة، وليس هذا إلا استعمالا لها
في مقتضى وضعها الأصلي، وهذا كاف في كونها في ضمن هذه الهيئة مجازا مع
الحقيقة، لأن الحقيقة والمجاز إنما يلاحظان في اللفظ باعتبار ما ثبت فيه من
الوضع، وهو هنا نوعي، فالاستعمال في ضمن هذه الهيئة عدول عن مقتضى هذا
الوضع، وفي ضمن غيرها أخذ بمقتضاه، فيصدق على المادة أنها مستعملة في كل
من معناها الموضوع له وخلافه.
وبهذا الطريق يمكن الجواب عن الاحتجاج الثاني بالنسبة إلى بعض الأفعال
المتقدمة " كعسى " فإن وضعه على فرض كونه فعلا نوعي باعتبار الهيئة.
ولا ريب في كون هذه الهيئة في ضمن غير هذه المادة مستعملة في مقتضى
وضعها الأصلي النوعي، وهذا كاف في كونها في ضمن هذه المادة مجازا مع
الحقيقة.
وقد يجاب عن الاحتجاج بالجميع: بأنه لا نسلم أن هذه الألفاظ مجازات، بل
لم توضع إلا لمعانيها التي أستعملت فيها، ومحصله: منع كونها أفعالا، فلم لا يجوز
كونها موضوعة لمعانيها المستعمل فيها ابتداء كسائر كلمات الإنشاء وأدوات
النفي، والنزاع في فعلية ليس معروف كما لا يخفى على من تتبع كتب الصرف.
ولو سلم، فلا نسلم عدم الاستعمال، غاية الأمر عدم الوجدان وهو لا يدل
على عدم الوجود.
ودفعه التفتازاني بقوله: الكلام مع من اعترف بكونها أفعالا، مع الإطباق على
أن كل فعل موضوع لحدث وزمان معين من الأزمنة الثلاثة، ولا نعني بعدم
الاستعمال إلا عدم الوجدان بعد الاستقراء، على أن عدم جواز استعمال هذه
الأفعال في المعاني الزمانية معلوم من اللغة. انتهى.
وأجيب عن الثالث بوجوه:
منها: النقض بأنه مشترك الورود، فإن المجاز يستلزم الوضع لمعنى
بالضرورة، فإذا لم يكن هناك معنى ليستعمل فيه لم يكن معنى ليوضع له، إذ الوضع
310

يستدعي معنى يكون موضوعا له، كما أن الاستعمال يستدعي معنى يكون
مستعملا فيه وقد فرضتم انتفاءه.
والأولى أن يقال - في تقرير هذا الجواب -: إن المراد بفقد ما يكون حقيقة إن
كان فقد معنى آخر يكون معنى حقيقيا غير المعنى الذي أستعمل فيه هذان
المركبان فهو اعتراف بفقد معنى آخر يكون موضوعا له، ولازمه كون المستعمل
فيه المفروض هو الموضوع له، لاستحالة المجاز بدون الموضوع له باتفاق
الفريقين، فبطل به دعوى مجازية هذا الاستعمال، فيكون المثالان على هذا
التقدير من الحقيقة بدون المجاز لا العكس، كما هو المقصود بالاستدلال، وإن كان
فقد ما به يصير ذلك المعنى الآخر حقيقة وهو الاستعمال كما هو محل الكلام،
فغايته عدم الوجدان الغير المستلزم لعدم الوجود، مع إن المركبات على تقدير
الوضع فيها وضعها نوعي متعلق بالهيئة التركيبية.
ولا ريب أن الهيئة التركيبية الموجودة في هذين المركبين مستعملة في ضمن
غير هذه المفردات في وضعها الأصلي، وهذا يكفي في تحقق الحقيقة بالنسبة إلى
هذا المجاز، مع أنه يجوز أن يكون الأصل المستعمل في الموضوع له في " قامت
الحرب على ساق " قامت رجال الحرب على ساق، فحذف المضاف وأقيم
المضاف إليه مقامه، وأسند القيام على ساق إليها لعلاقة المسببية، نظرا إلى أن
الرجال سبب فاعلي لها.
ومن هنا ينقدح احتمال آخر في هذا المركب، وهو كون المجاز فيه من باب
مجاز الحذف والإضمار، لا المجاز في المركب ولا الكلمة.
ومنها: الحل، بأن الوضع والاستعمال لا يستدعيان تحقق المعنى في الواقع
لتحققهما بالنسبة إلى الممتنعات، فإن قولنا: " الواحد ضعف الاثنين " و " الجزء
أعظم من الكل " و " النقيضان يجتمعان أو يرتفعان " إلى غير ذلك من الأخبار
الكاذبة موضوع للإسناد، وإلا لما صدق على القائل به أنه مخبر كاذب، مع إن
المعنى لا تحقق له إلا بحسب الفرض، فإن أريد بالمعنى الحقيقي المحكوم بفقده ما
يتناول المتحقق بحسب الفرض، منعنا فقده في المثالين.
311

ويزيفه: مع ابتنائه على كون الوجه في دعوى فقد الحقيقة فقد أصل المعنى،
ولعله ليس بمراد المستدل، أن عدم الاستعمال في غير المستعمل فيه المجازي مما
أخذه المستدل مفروغا عنه، والتعليل بفقد أصل المعنى تنبيه على أن هذه السالبة
من جهة انتفاء موضوع القضية.
ومن المعلوم أن فرض تحقق المعنى لا يحقق الاستعمال الذي هو مناط
الحقيقية، وفرض الاستعمال أيضا متحققا كفرض المعنى لا يجدي نفعا في انعقاد
الحقيقية، وإلا لأمكن بذلك التوصل إلى حقيقية كل لفظ في معان متكثرة.
ومنها: أن المركبات لا وضع لها، وإنما الوضع لمفرداتها، والتجوز من توابع
الوضع فلا مجاز إلا في المفردات، فالمجاز في الفرض المذكور إما في المسند أو
المسند إليه.
ولا ريب في ثبوت الحقيقة فيهما، أما الإسناد فليس له إلا جهة واحدة في
الكل لا يخطر بالبال غيرها عند الاستعمال، فلا يتطرق إليه التجوز.
واعترض عليه: بأن البيان المذكور إنما يتجه في مثل " شابت لمة الليل " فإن
التحقيق فيه أن " اللمة مجاز عن سواد الليل " و " الشيب " مجاز عن حدوث
البياض فيه، وأما نحو " قامت الحرب على ساق " ونظائره فلا يتجه فيه ذلك إذ لا
تجوز في شئ من مفرداته، بل في المركب حيث شبه حال الحرب بحال من يقوم
ولا يقعد، فيكون استعارة تمثيلية، على حد قولهم للمتردد: أراك تقدم رجلا
وتؤخر أخرى.
ويدفعه أولا: أن حاصل معنى " شابت لمة الليل " بناء على التوجيه المذكور
يرجع إلى قضية أن يقال: بيض سواد الليل، وهذا مما لا يقبله الطبع السليم، إلا بأن
يعتبر مع ما ذكر من التجوز في اللفظين ضربا من المجاز في الإسناد كما لا يخفى،
وهو خلاف مطلب المجيب، بل هذا التوجيه ألصق برجوعه إلى الاستعارة التمثيلية
التي هي مجاز في المركب لا في مفرداته، بأن يقال: بناء على قراءة اللمة بكسر
اللام وتشديد الميم بمعنى الشعر المتدلي الذي يجاوز شحم الأذنين، شبه صورة
312

منتزعة عن متعدد هي حالة ظهور بياض الصبح في آخر الليل، بصورة منتزعة عن
متعدد آخر هي حالة ظهور الشيب في الشعر، ثم أطلق اللفظ الدال على المشبه به
بالمطابقة على المشبه.
وإن كان يشكل ذلك أيضا من حيث إن " اللمة " في هذا المركب باعتبار
إضافتها إلى الليل ليست من ألفاظ المتعدد الملحوظ في جانب المشبه به كما لا
يخفى، ومعه يخرج عن ضابط الاستعارة التمثيلية.
نعم يجري احتمال المجاز في المفردين المسند والمسند إليه من دون مجاز
في الإسناد، بناء على قراءة " اللمة " بضم اللام وتخفيف الميم، بمعنى الجماعة في
عدد غير محصور بأن يكون " لمة الليل " مجازا عن معظمه و " الشيب " مجازا عن
الانقضاء، ليكون المعنى: انقضى معظم الليل، ويقصد به التنبيه على قرب الصبح، أو
يكون " اللمة " بناء على القراءة الأولى مجازا عن ظلمة الليل، و " الشيب " مجازا
عن الزوال والارتفاع، ليكون المعنى: زال ظلمة الليل وارتفعت، ويقصد بها التنبيه
على طلوع الفجر، وكأن مراد المجيب من دعوى كون المجاز في المسند أو المسند
إليه بالنسبة إلى هذا المركب أحد هذين الوجهين، إن ساعدنا عليه قضية كلامه
بحملها على المنفصلة المانعة الخلو، لما عرفت من لزوم المجاز في المسند
والمسند إليه كليهما لا في أحدهما، نعم لزومه في أحدهما لا بعينه إنما يتجه في
المركب الآخر حسبما نوجهه عن قريب.
وثانيا: منع انطباق ما ذكر في " قامت الحرب على ساق " على الاستعارة
التمثيلية، ومنع عدم جواز تطرق المجاز إلى مفرداته، بل هذا بعد صرفه عن المجاز
في الإسناد هو المتعين، بأن يكون المجاز فيه إما في المسند بكون " القيام
بالساق " مجازا عن الاستقرار و " الحرب " مرادا بها معناها الأصلي، أو في
المسند إليه بكون " الحرب " مجازا عن رجالها بعلاقة المسببية حسبما أشرنا إليه
سابقا، و " القيام " مرادا به معناه الأصلي.
وقد يقرر ذلك، بأن شبه الحرب برجل ذي ساق في النفس ليكون استعارة
313

بالكناية، ثم أثبتت له ما هو من خواص المشبه به وهو " القيام " ليكون استعارة
تخييلية ولا يخلو عن ضعف، لأنه في الحقيقة مجاز في الإسناد لا في المسند إليه
على وجه يكون مجازا في الكلمة، وأما توهم الاستعارة التمثيلية فيه بالبيان
المتقدم، أو بأن يقال: شبه اشتداد الحرب الذي هو حالة منتزعة عن متعدد
باستقرار قيام الرجل المبني على أعمال الساق الذي هو حالة منتزعة عن متعدد
آخر، ثم أطلق اللفظ الدال على المشبه به بالمطابقة على المشبه فغير سديد،
لوضوح ان الحرب من ألفاظ المتعدد في جانب المشبه لا من ألفاظ المتعدد في
جانب المشبه به، وقاعدة الاستعارة التمثيلية يقتضي كون مفردات المركب
بأجمعها من ألفاظ المشبه به، كما في " أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى " حيث يرد
مجازا عن المتردد.
وبالجملة، هذا المركب كالمركب السابق - حسبما تقدم الإشارة إليه - خارج
عن ضابط الاستعارة التمثيلية، غير أنه لو صححنا هذه الاستعارة فيهما وثبت أن
العرب في إطلاقاتهم لهما كانوا يقصدون بهما هذا النحو من الاستعارة، لكان
الاستدلال بهما في محله، فيثبت بهما غرض القائل بوقوع المجاز بلا حقيقة، إذ لم
يعقل استعمالهما في معنييهما الحقيقيين على وجه لم يتطرق تجوز إليهما ولا إلى
مفرداتهما، وكان ذلك هو وجه الاستدلال لا ما يوهم من ابتناء الاستدلال على
جعل الإسناد فيهما مجازيا، حتى يتوجه إليه تارة: أن المركبات الدالة على
الإسناد لا وضع لها، والمجاز يتبع الوضع وحيث لا وضع فلا مجاز.
وأخرى: منع كون الإسناد مما يتطرق إليه المجاز، ولو قلنا بوضع الهيئة
التركيبية له، لأنه على جهة واحدة ويقع في جميع موارده على وجه الحقيقة، وإن
كان قد يتطرق التصرف إلى متعلقه المعبر عنه بالفاعل، بأن يقيم غير الفاعل مقام
الفاعل الحقيقي ويعطي حكمه حتى يصح إسناد الفعل إليه على وجه الحقيقة،
وتطلق عليه التجوز، غير أنه تجوز بالمجاز العقلي المقابل للمجاز اللغوي، ولا
كلام فيه لعدم استلزامه تجوزا في اللفظ كما هو محل الكلام، وإنما هو أمر عقلي
314

يراد به إسناد الفعل أو شبهه إلى غير من هو له لعلاقة بينهما، وانتسابه إلى العقل لأنه
الحاكم بكونه إسنادا إلى غير من هو له لاطلاعه على من هو له في الواقع، بمعونة
الحس والعيان كما في " سيل مفعم " و " جرى الميزاب " أو بملاحظة البينة
والبرهان كما في " أنبت الربيع البقل " لكن قد تبين أن كلا من المقدمتين موضع
منع، ففسد الاستدلال وبطل المدعى.
ثم على تقدير كون مبنى الاستدلال على كون المجاز في نظائر هذين
المثالين مجازا في الإسناد على وجه يكون مجازا لغويا، بدعوى: أن نوع هذه
الهيئة موضوع للإسناد إلى الفاعل الحقيقي، ولم يستعمل هنا فيه بل استعمل في
الإسناد إلى الفاعل المجازي، فيكون مجازا لغويا بلا حقيقة.
يرد عليه أولا: ما أشرنا إليه سابقا من أن الموضوعات بالنوع يكفي في تحقق
الحقيقة بالقياس إليها استعمالها بعد الوضع في ضمن بعض موادها، فلو استعملت
حينئذ في ضمن مادة أخرى فيما يغاير معانيها الموضوع لها كانت من المجاز مع
الحقيقة.
وثانيا: منع دعوى اختصاص الوضع بالإسناد إلى الفاعل الحقيقي، لعدم الفرق
فيه بحكم أمارات الوضع بينه وبين الإسناد إلى الفاعل الادعائي، كيف والطبع
السليم والذوق المستقيم يحكم بعدم الفرق بين ما في قول القائل: " سرتني
رؤيتك " وما في قوله: " مات زيد " بحسب المعنى، مع أن من المصرح به في
كلامهم كون الأول من المجاز في الإسناد دون الثاني، فالإسناد فيهما يقع على
نمط واحد، والاختلاف يتأتى بالقياس إلى المسند إليه، من حيث إن " الرؤية " في
الأول فاعل ادعائي، و " زيد " في الثاني فاعل حقيقي.
وأما ما قيل في دفعه أيضا: من أن الهيئة لو كانت موضوعة للإسناد إلى الفاعل
الحقيقي خاصة لزم أن لا يكون لها في الأخبار الكاذبة معنى، فوجب كونها
للإسناد إلى مطلق الفاعل، ولو كانت فاعليته ادعائية، إذ لا يعقل من الإسناد إلا
معنى واحد وهو جار في جميع الموارد.
315

ففيه: ضعف واضح، لعدم ابتناء الأخبار الكاذبة على الإسناد الحقيقي، بل
الإسناد المقصود بها صوري.
فإن الإسناد حقيقي وصوري، والحقيقي قد يكون إسنادا إلى فاعل حقيقي
وقد يكون إسنادا إلى فاعل ادعائي، والهيئة الخبرية ليست موضوعة إلا للإسناد
الحقيقي، والأخبار الكاذبة متضمنة للإسناد الصوري، وهو معنى مجازي على
التحقيق.
ولذا يقال في وصف الخبر بالصدق والكذب: أنه لا يحتمل إلا الصدق
والكذب، احتمال عقلي فبذلك بطلت الملازمة المدعاة.
ومن هنا أيضا يظهر ما في دعوى: أن الإسناد لا يعقل منه إلا معنى واحد، فإن
الإسناد الصوري أيضا معنى للإسناد معقول في حد ذاته.
وإن شئت قلت: إنه إسناد جعلي، على معنى أنه مما لا واقعية له، لكن يحصل
في الكلام بجعل المتكلم، لأنه الذي ينزل ما ليس بواقع منزلة الواقع، فيعبر عنه
باللفظ الموضوع للواقع.
فتقرر بجميع ما ذكر ما هو الحق في المسألة، من أن المجاز بلا حقيقة في حد
ذاته أمر ممكن وليس فيه شائبة امتناع ذاتي ولا عرضي، وأما وقوعه في الخارج
فغير ثابت، لأن أدلة وقوعه مدخولة حسبما تبين، لكن على تقدير الوقوع فلا
إشكال بل لا خلاف في كونه في كمال الندرة كما صرح به جماعة من أساطين
الطائفة، ولذا ترى أن قائله لم يأت لإثبات دعواه إلا ببعض الأمثلة الشاذة التي في
كل واحد ألف كلام.
وإن شئت - بعد ما بيناه لك - قلت: إن العلماء المختلفين في تلك المسألة
بجميع فرقهم الثلاث، مطبقون على ندرته على فرض وقوعه بعد إمكانه، وإلا
فمنهم من أنكر إمكانه ومنهم من أنكر وقوعه.
في علائق المجاز
ومن متفرعات المسألة، بطلان مقالة القدماء في المبهمات وغيرها، مما ادعوا
فيها كون الوضع والموضوع له عاما، مع اعترافهم بعدم اتفاق استعمالها في
316

الموضوع له العام قط، إذ على مقالتهم يلزم كون المجاز بلا حقيقة الواقع في اللغة
في غاية الكثرة، وهو مما أطبق العلماء على خلافه.
السادسة: اللفظ والمعنى ما لم يكن بينهما علقة - وهي اتصال ما حصل بينهما
لذاتهما أو للعارض - استحال كون الانتقال إلى اللفظ بمجرد سماعه أو تخييله
موجبا للانتقال إلى المعنى، ولما كانت العلقة الذاتية المبنية على المناسبات الطبعية
فيما بينهما واضح الفساد - على ما سنقرره - فالمتعين كونها حيثما حصلت
عارضية، وهي بحكم الاستقراء التام مقصورة على الوضع كما في الحقائق،
والعلاقة كما في المجازات، فإنها وإن كانت تعتبر بين المعنيين المستعمل فيه
والموضوع له، إلا أن حصولها بينهما يقضي بحصولها بين اللفظ والمستعمل فيه،
ضرورة ان الوضع إذا أوجب علاقة بين اللفظ والموضوع له أوجبها بينه وبين كل
خلاف الموضوع له الذي بينه وبين الموضوع له علاقة بحسب المعنى، ولذا عد
المجاز من توابع الوضع، وقضية ذلك كون الانتقال من اللفظ إلى الموضوع له
أوليا، وإلى خلافه ثانويا لحصوله بواسطة الأول، لكن لا يلزم منه التعدي عن
الموضوع له إليه بإثبات الوضع له أيضا لمجرد العلاقة المذكورة، ولا اعتبار كون
اللفظ حقيقة فيه أيضا.
فبذلك اندفع ما توهم من لزوم القياس في اللغة، من قولهم: لابد في المجاز
من وجود العلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي وإلا كان اختراعا.
واختلفت كلمتهم في ضبط أنواع العلاقة من حيث العدد، حيث إن بعضهم
ردها إلى اثنين، المشابهة وغيرها كما في بعض كتب البيان.
وفي مختصر الحاجبي عد منها أربعة: المشابهة في الشكل أو في الوصف
الظاهر، والكون، والأول، والمجاورة.
وعن الآمدي (1) أنها تتصور من وجوه خمسة، وفي شرح المنهاج عد منها
تسعة.

(1) الإحكام في أصول الأحكام 28: 1.
317

ومن أجلة المعاصرين من عد منها عشرة، وفي تهذيب العلامة (1) أحد عشر
وفي نهايته (2) كما عن الفخر والبيضاوي اثنى عشر، وفي زبدة شيخنا البهائي (3)
أنها محصورة في خمسة وعشرين، ناسبا له إلى القدماء.
وعزى أيضا إلى المشهور كما عن شرحها للفاضل وعن بعضهم أنها ستة
وعشرون كما نقله في المفاتيح (4) وعن الصفي الهندي (5): الذي يحضرنا من
أنواعها أحد وثلاثون، وفي المفاتيح عن أستاده أنها غير محصورة ناقلا كلامه
القائل: بأن التحقيق أن العلاقة غير متوقفة على السماع، ولا محصورة فيما ذكروه
من الأنواع، فإنهم عرفوا العلاقة بأنه اتصال ما للمعنى المستعمل فيه بالمعنى
الموضوع له وهو غير محصور، ولذا ترى أن الأصوليين وأرباب البيان لم يقفوا
على حد مضبوط ولا عدد معلوم، فإن اللاحق منهم يزيد على الأول بحسب
استقرائه وتتبعه. انتهى (6).
وإلى ذلك ينظر ما عن بعضهم من حصر العلاقة في الاتصال صورة أو معنى،
وهذا هو الحق الذي لا محيص عنه، فإن العلاقة - حسبما نفصله - ليست إلا
الاتصال بين المعنيين، الذي يدركه الطباع السليمة والأفهام المستقيمة،
وخصوصياته النوعية مما لا يكاد ينضبط، ولا يندرج في عنوان كلي يعبر عنه
باسم خاص، مما هو يطلق عندهم على الأنواع المعهودة المعدودة لديهم،
ولا بأس بالتعرض لذكر كثير من هذه الأنواع.
فمنها: المشابهة المخصوصة بموارد الاستعارة، المنقسمة عندهم إلى كونها
تارة في الصورة كالفرس وغيره للصورة المنقوشة، وأخرى في الصفة كأسد
للشجاع، وقيده في المختصر وغيره " بالظهور " احترازا عن الأبخر المشابه للأسد
في صفة البخر التي لا توجب بمجردها صحة الاستعمال.

(1) تهذيب الوصول إلى علم الأصول: 11.
(2) نهاية الوصول إلى علم الأصول: الورقة... (مخطوط).
(3) زبدة الأصول: 23.
(4 و 7) مفاتيح الأصول: 53.
(5) حكى عنه في مفاتيح الأصول: 53.
318

وضابطه الكلي بل ضابط المشابهة بنوعها، كون وجه الشبه من خصائص
المستعار منه التي يمتاز بها عما عداه، كالصورة النوعية في كل نوع المسوغة
لإطلاق لفظه على ما طرأته هذه الصورة كائنا ما كان، والصفة المعنوية التي هي
من هذا النوع خاصة أو بمنزلة الخاصة.
وقد يعد من المشابهة المشاركة في مبدأ الاشتقاق، كما في إطلاق المصدر
على الفاعل في " زيد عدل " والمفعول في " خلق الله " وإطلاق اسم الفاعل في
" قمت قائما " واسم المفعول في قوله تعالى: (بأيكم المفتون) (1) عليه، وإطلاق
كل من اسم الفاعل واسم المفعول على صاحبه، كما في قوله تعالى: (من ماء
دافق) (2) و (لا عاصم اليوم) (3) و (حجابا مستورا) (4) و (كان وعده مأتيا) (5)
لكنه وهم يفسده أن العلاقة لابد وإن تعتبر بين المعنيين، والمشاركة في مبدأ
الاشتقاق أمر لفظي لا يلحقه حكم العلاقات المعتبرة هنا.
ومنها: كون المعنى المجازي سببا أو مسببا، كالنبات للمطر، والغيث للنبات،
وقد ينوع ذلك أربعة أنواع، باعتبار انقسام العلة إلى المادية والصورية والفاعلية
والغائية.
الأول: إطلاق السبب المادي المفسر بالمحل القابل، كالوادي في قولهم:
" سال الوادي " فإنه محل قابل لسيلان الماء فيه.
والثاني: إطلاق السبب الصوري كالقدرة، فإنها صورة اليد، وقد يقرر في جعل
اليد في قوله تعالى: (يد الله فوق أيديهم) (6) مجاز في القدرة، بأنها تشبه الصورة
من حيث إن الأثر الصادر من اليد لا يكون إلا بتوسط القدرة، فكانت كالجسم
الذي لا يؤثر إلا بتوسط صورته، ولحلول القدرة فيها كحلول الصورة في المادة.
والثالث: إطلاق السبب الفاعلي كالسحاب، في قولهم: " ينزل السحاب " فإنه

(1) القلم: 6.
(2) الطارق: 6.
(3) هود: 43.
(4) الإسراء: 45.
(5) مريم: 61.
(6) الفتح: 10.
319

فاعل لنزول المطر منه، وقد يمثل له بقولهم: " كثرت أيادي فلان عندي " بإرادة
النعمة من اليد، فإنها تصدر غالبا منها.
والرابع: إطلاق السبب الغائي، كالخمر إذا أطلق على العنب، فإن الغاية
المطلوبة منه الخمر.
وقيل: إن إطلاق السبب على المسبب أولى من عكسه، كما أن إطلاق السبب
الغائي عما بين الأسباب أولى من غيره.
أما الأول: فلأن السبب المعين يستدعي مسببا معينا، بخلاف المسبب المعين
فإنه لا يستدعي إلا سببا ما.
وأما الثاني: السبب الغائي يتضمن اعتبارين: كونه علة، وكونه معلولا، فإن كل
غاية لتقدمها ذهنا سبب، وتأخرها خارجا مسبب.
ومنها: كونه جزء أو عكسه بشرط كون الجزء في الثاني من مقومات الكل،
كالأصابع للأنامل، والرقبة للإنسان، والعين للربيئة، فإنه من حيث كونه ربيئة يصح
إطلاق العين عليه لا من حيث كونه إنسانا.
هذا على ما قيل. ويستفاد من كلماتهم أيضا ومقتضاه عدم كون المستعمل فيه
المجازي ذات الإنسان، بل الذات المتصفة بوصف الربيئية، وهو لا يستقيم إلا إذا
عمم الكل بحيث يشمل الكل الذهني الاعتباري أيضا وهو مشكل، ولو أخذ
الوصف والحيثية قيدا تعليليا انقلب الفرض وخرج الإطلاق عن كونه لعلاقة الكلية.
وربما يشكل الأمر في الرقبة أيضا، من حيث إنه لا يطلق إلا على الذات
المملوكة من الإنسان، فإما أن يعمم المقام ليشمل الكل الذهني الاعتباري، أو
يجعل الوصف للتعليل لينقلب الفرض، والكل مشكل.
ومنها: كونه كليا كالمرسن للأنف، أو جزئيا كالأنف للمرسن، بناء على أن
المرسن اسم بحسب الأصل لأنف الفرس، وإلا فعلى ما في كلام بعض أهل اللغة
من كونه في الأصل لموضع الرسن من أنفه يشكل الفرض، بل يبتنى أصل الصحة
في الأول على سبك المجاز.
320

ومنها: العموم والخصوص الأصوليين، فالأول كما في قوله تعالى: (علمت
نفس ما قدمت) (1) أي كل نفس، والثاني كالعلماء لغير زيد.
ومنها: اللزوم إما بكونه لازما، كالنطق للدلالة في " نطقت الحال " أو ملزوما
" كشد الإزار " لمعتزل النساء.
ومنها: الكون، تسمية للشئ باسم ما كان، كما في قوله تعالى: (وآتوا
اليتامى أموالهم) (2) ومنه إطلاق العبد على المعتق.
ومنها: الأول، تسمية للشئ باسم ما يؤول إليه.
ومنها: كونه محلا أو حالا، فالأول كإطلاق الرحمة على الجنة في قوله تعالى:
(وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله) (3) وفيه على هذا التقدير من سبك
المجاز ما لا يخفى، فإن " الرحمة " ما لم تعتبر مجازا في الفضل والنعمة لا يصلح
مجازا في الجنة كما هو واضح، والثاني كإطلاق " اللسان " على الكلام و " الذكر "
في قولهم: " لسان فصيح " وقوله تعالى: (واجعل لي لسان صدق) (4) أي ذكرا
حسنا وقد يعتبر ذلك من باب إطلاق الآلة على ذيها.
ومنها: التضاد، كما في إطلاق " الأسد " على الجبان، تنزيلا له منزلة أحد
أفراد الشجاع، أو تنزيلا لما فيه من الجبن منزلة الشجاعة قصدا إلى التمليح أو
التهكم، ومنه إطلاق " الأبيض " على الأسود تنزيلا لسواده منزلة البياض في مقام
التمليح... وإطلاق " الجاهل " على العالم تنزيلا لعلمه منزلة الجهل من جهة عدم
الاعتداد به.
وقد يعتبر من ذلك إطلاق " السيئة " على مجازاتها في قوله تعالى: (جزاء
سيئة سيئة مثلها) (5) لمشابهتها لها من حيث إنها تقع على صورة السيئة وإن تجرد
عن وصفها.

(1) الانفطار: 5.
(2) النساء: 2.
(3) آل عمران: 107.
(4) الشعراء: 84.
(5) الشورى: 40.
321

ومنها: التعلق بإطلاق المتعلق بالكسر على مفتوحه، كتسمية المخلوق خلقا
أو بالعكس، كتسمية التصديق حكما.
ومنها: المجاورة كما في قوله تعالى: (واسئل القرية) (1) بإرادة " الأهل "
ومنه إطلاق الرواية الموضوعة للبعير على القربة، وإطلاق " النهر " على الماء
وعكسه، وقد يجعل ذلك من باب إطلاق الظرف على مظروفه وبالعكس، وقد
يجعل المجاورة بحيث يتناول أكثر الأنواع المذكورة، كما صنعه العضدي
والتفتازاني في إصلاح كلام الحاجبي الحاصر للعلاقة في الأربعة أو الخمسة التي
منها المجاورة.
وعلله التفتازاني: بأن مجاورة المعنى المستعمل فيه للمعنى الموضوع له،
يجوز أن يكون أحدهما في الآخر جزءا منه أو عرضا حالا فيه أو مظروفا متمكنا
فيه، فيشمل ستة أقسام، إطلاق الجزء على الكل وبالعكس، الحال على المحل
وبالعكس، المظروف على الظرف وبالعكس، ويجوز أن يكون بكونهما في محل
واحد أو في محلين متقاربين، أو في حيزين متقاربين فيشمل ثلاثة أقسام،
كالحياة للعلم وكلام السلطان لكلام الوزير، والراوية للمزادة.
قال العضدي: بل يشمل إطلاق اسم السبب على المسبب وعكسه، إلى أن
قال: ويشمل أيضا إطلاق اسم أحد الضدين على الآخر، ثم قال: ولو جعلنا
الوجود أعم من اللفظي أيضا ليندرج فيه المشاكلة، أعني التعبير عن الشئ بلفظ
غيره لوقوعه في صحبته، مثل قلت: " اطبخوا لي جبة وقميصا " لم يبعد بل لا يبعد
أن يجعل المجاورة والاتصال شاملا للكل، كما ذهب إليه بعض الأصوليين من أن
جميع العلاقات منحصرة في الاتصال صورة أو معنى. انتهى.
وقد يذكر من أنواع العلاقات ما لو كان المستعمل فيه المجازي مشروطا،
كما في إطلاق " الإيمان " على الصلاة في قوله تعالى: (وما كان الله ليضيع

(1) يوسف: 82.
322

إيمانكم) (1) وهذه المناسبة بعينها موجودة في إطلاق " الحياة " على العلم. ووجه
تفرقة بعض الفضلاء (2) بينهما غير واضح.
والأولى جعلهما معا من باب إطلاق السبب بناء على إرادة مطلق المدخلية
من السببية ولو شرطية، كما هو الحال في الأمثلة المتقدمة على ما يظهر بالتأمل،
وأولى منه تفسيرها بشدة المدخلية ليختص الحكم بما له مزيد دخل كالشرط
ونحوه.
ثم إنه قد سبق إلى بعض الأوهام أن الواضع قد اعتبر هذه الأنواع من حيث
الخصوص، وأن أهل اللغة قد نقلوها فليس لنا التعدي عما نقلوه، وفيه ما لا يخفى.
أما أولا: فلمنع تعرض الواضع لاعتبار هذه الأنواع بعناوينها الخاصة، ومنع
كونها مما تعرض لنقلها أهل اللغة، بل لا يسلم من الواضع تصرف سوى وضع
الألفاظ لمعانيها الحقيقية، المقتضي لاتصالها بمعانيها المجازية، المتصلة بمعانيها
الحقيقية حسبما نقرره.
ولو سلم منه تصرف، فليس إلا تجويزه الإطلاق المجازي، تعويلا على
العلاقة المقتضية لاتصال المعنيين حيثما وجدت، سواء تحققت في ضمن أحد
الأنواع المذكورة أو لا.
وأما ثانيا: فلمنع انحصار ما اعتبره الواضع بالخصوص، ونقله أهل اللغة كذلك
فيها، ليلزم منه عدم جواز التعدي منها إلى غيرها، كيف وكثير من المجازات بمثابة
لا تبلغ الأوهام إلى إدراك وجوه علاقاتها، ويعجز الأفهام عن معرفة عناوينها
الخاصة، كما في مجازات الحروف التي منها ما تطرق إلى أدوات الاستفهام
كالاستبطاء في قولهم: " كم دعوتك " والتعجب في مثل [قوله تعالى:] (مالي لا
أرى الهدهد) (3) والتنبيه على الضلال في مثل [قوله تعالى:] (فأين تذهبون) (4).

(1) البقرة: 143.
(2) الفصول: 18.
(3) النمل: 20.
(4) التكوير: 26.
323

ومن هنا ترى أن التفتازاني في المطول عند شرح كلام الماتن المتضمن
للمذكورات، قال: وتحقيق كيفية هذا المجاز وبيان أنه أي نوع من أنواعه مما لم
يحم أحد حوله، فكما أن معرفة كيفية أنواع هذه المجازات مما لم يحم أحد حوله،
فكذا الالتزام بخلوها عن العلاقة أيضا مما لم يحم أحد حوله، فما تخيل من كون
ما ذكر من جملة ما خلت عن العلاقة بينها وبين معانيها الأصلية، تعليلا بأن المجاز
قد يصح بدون العلاقة إذا نص الواضع بالرخصة في بعض الموارد بدونها، مما لا
ينبغي الالتفات إليه، لوروده على خلاف التحقيق، ومخالفته اتفاق أهل النظر على
انحصار مصحح الاستعمال في الوضع والعلاقة.
وأنت إذا تأملت المجازات المتطرقة إلى المشتقات الفعلية والاسمية، التي
منها ما تقدم، ومنها إطلاق المشتق على ما انقضى عنه المبدأ، وما أخذ فيه زمان
خاص من الثلاث المعهودة وإطلاق الفعل معرى عن الزمان، وخصوص الماضي
مقترنا بغير الماضي، والمضارع مقترنا بغير المستقبل، والخبر على الإنشاء، وهو
على الأخبار، لوجدتها مشتملة على العلاقة التي لا يكاد يتبين نوعها، وعليه فلا
داعي في مجاز صحيح مشتمل على العلاقة - بمعنى الاتصال المدرك بالوجدان -
الخفي وجهها على الأنظار إلى ارتكاب تكلفات بعيدة وتمحلات باردة في
استعلام وجهها، كما اتفق نظير ذلك في " اليد " للقوة عمن جعله من باب إطلاق
السبب أو المسبب الصوريين، وفي إطلاق " الطبخ " على الخياطة في قوله:
قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخة * قلت اطبخوا لي جبة وقميصا
حيث صارت الأنظار مضطربة فيه، فمنهم من زعمه من المجاورة بعدما
جعلها أعم منها في الخارج - كما في إطلاق " السلطان " على الوزير - وفي الخيال
كما في إطلاق أحد الضدين على الآخر لكونهما كالمتلازمين في التصور، وفي
الذكر ويعبر عنها حينئذ " بالمشاكلة " أيضا بالتفسير المتقدم، وهو التعبير عن
الشئ بلفظ غيره لوقوعه في جنبه، كما في إطلاق " الطبخ " على الخياطة.
كفاية نوع العلاقة في المجازات
ومنهم من جعله من باب المجاورة في الخيال، لأن خياطة الجبة والقميص
324

لما كانت مطلوبة عنده ارتسم صورتها في خياله لكثرة ما ناجى به نفسه، فإذا أورد
صورة الطبخ في خياله جاز أن يعبر به عنها.
ومن الفضلاء من زعمه لعلاقة الاشتراك في المطلوبية، تعليلا بأن السامع ينزل
ما هو مطلوب عنده واقعا من الجبة والقميص منزلة ما فرضه السائل مطلوبا له من
الشئ المطعوم، الذي واعده على بذله بدليل نسبة الطبخ إليه، فهو يدعي اتحادهما
في الجنس قصدا إلى إلزام المخاطب على حسبما التزم به، وعلى هذا فكل من
الجبة والقميص استعارة بالكناية لعلاقة الاشتراك في وصف المطلوبية... الخ (1).
وفي هذه الوجوه من الضعف - بعد كون الجميع تكلفا لا حاجة إلى ارتكابه -
ما لا يخفى، ولا سيما الأخير فإن الاشتراك في المطلوبية لا يندرج في الوصف
الظاهر، فلو قيل: إنه من باب إطلاق الأخص على الأعم - كما تقدم في إطلاق
المرسن على الأنف - كان ألصق وأوجه، فإن الطبخ بحسب الأصل والمتعارف
عبارة عن إرقاء المطعوم من المأكول والمشروب وغيره مما يتوقف كماله على
عمل من النار إلى مرتبة الكمال، فإذا ألقى عنه الخصوصية كان عبارة عن إرقاء
كل شئ إلى مرتبة الكمال، بناء على أن كمال كل شئ بلوغه حدا يترتب عليه
الغاية المقصودة والفائدة المطلوبة منه، كصلاحية الأكل في المأكول والشرب في
المشروب، واللبس في الملبوس وهكذا، فهو بهذا المعنى العام يطلق على خياطة
الجبة والقميص وغيرها.
وأنت إذا لاحظت المحاورة لوجدت هذا الإطلاق شائع التداول في غير
الخياطة أيضا، ولا جهة له مما قدمناه إلا ما قررناه.
السابعة: اختلفوا في اشتراط المجاز بنقل آحاده - المعبر عنها بأعيان
المجازات - عن الواضع وعدمه، فالجمهور على الثاني، وادعى عليه الشهرة
فيكتفي بنقل نوع العلاقة ولا حاجة معه إلى نقل الآحاد، وشرذمة على الأول،

(1) الفصول: 25.
325

فلا يكتفي إلا بما نقل شخصه عن الواضع فيجب الاقتصار عليه، ولا يقاس عليه
غيره مما لم ينقل بعينه.
وقد يوجه مقالة الفريقين بأن ليس مرادهم بنقل النوع ونقل الآحاد انتهاء
اعتبار أنواع العلاقة أو آحاد المجاز إلى تنصيص الواضع، أو استعماله بطريق النقل
المصطلح، ولا إلى تنصيص أهل اللسان، لئلا ينسد باب المجاز رأسا، لعدم تحقق
شئ من ذلك في شئ من المجازات.
وكيف يجامع التزامه - الذي لا قائل به - بلوغ المجازات حدا من الكثرة حتى
ادعى كونها في اللغة أغلب بالنظر إلى الحقائق، بل المراد به استناد التجوز في نوع
اللفظ بالقياس إلى نوع المعنى، أو في خصوصيات الألفاظ المتطرق إليها التجوز
إلى ترخيص الواضع في مراعاة نوع العلاقة والاكتفاء به، أو في استعمال ما تطرق
إليه التجوز في خلاف وضعه الأصلي، المعلوم ثبوته باستقراء أو استعمالات
العرب وتتبع مجازاتهم.
قال التفتازاني في شرح كلام العضدي: إن الواضع عين اللفظ بإزاء المعنى
المجازي تعيينا كليا، بمعنى أنه جوز إطلاقه على كل ما يكون بينه وبين المعنى
الحقيقي نوع من العلاقات المعدودة، وقد علم ذلك باستقراء اللغة واستعمالات
العرب، وإن لم يوجد التصريح به في كل من الآحاد، كما في رفع الفاعل ونصب
المفعول، بل سائر ما يدل بحسب الهيئة كالمبني للمفعول، والأمر والمثنى
والمجموع والمصغر والمنسوب وغير ذلك، مما لم يصرح الواضع بآحادها، بل
علم بالاستقراء تعيين هيآتها للدلالة على معانيها، إلا أن تعيين الهيئات للدلالة
بنفسها - أي من غير اشتراط قرينة خارجة عن اللفظ - فصارت كالأوضاع
الشخصية ودخلت في مطلق الوضع فكانت من قسم الحقيقة، وتعيين المجازات
للدلالة بمعونة القرائن المانعة عن إرادة المعاني الأصلية فخرجت عن قسم
الحقيقة، وعن أن يتناولها الوضع المطلق لكونه اسما للقسم الأول من التعيين.
انتهى.
326

وذهب جماعة، منهم بعض الأعلام (1) إلى عدم اشتراط نقل الآحاد، ولا
الاكتفاء بنوع العلاقة على إطلاقه، بل يقتصر على ما ثبت فيه ترخيص الواضع من
أفراد النوع، أو أفراد صنف من النوع، فيتعدى عما سمع إلى ما لم يسمع من أفراد
النوع، أو الصنف، ولا يقاس عليها أفراد نوع أو صنف آخر مما لم يوجد في أفراده
الاعتبار والاستعمال لأجله.
ويمكن تنزيل مقالة المطلقين بكفاية النوع على إرادة هذا المعنى، بناء على
رجوع النزاع إلى تعيين مورد الإذن في التجوز بعد الاتفاق على اعتباره،
فالقائلون باشتراط نقل الآحاد زعموا أنه لم يثبت إلا في آحاد من المجاز،
والآخرون زعموه ثابتا في نوع العلاقة، ولو باعتبار تحقق هذا النوع في ضمن
بعض أصنافه، وعليه فلم يعقل منهم القول بكفاية النوع ولو مع عدم ثبوت
الإذن فيه.
وعن بعضهم اختيار التفصيل بين الحروف والظروف والأفعال الناقصة
فيشترط فيها نقل الآحاد، وبين غيرها فيكفي فيه نقل النوع.
وفي معناه ما عزي إلى بعض الأفاضل من التفصيل بين الألفاظ التي ضبطوا
معانيها المجازية كالحروف وصيغ الأمر والنهي وبين غيرها.
فعلى الأول يقتصر على القدر المنقول دون الثاني، وكأن وجهه أن ضبطهم
المعاني المجازية في الصورة الأولى آية عدم وجود معنى آخر يكون بينه وبين
المعاني الحقيقية علاقة معتبرة، وبهذا التوجيه أمكن الفرق بين التفصيلين، بدعوى:
ابتناء التفصيل الأول على ما نبهنا عليه سابقا من أن المجاز كثيرا ما يثبت فيما
لا طريق إلى معرفة نوع علاقته، والمجازات المتطرقة إلى الحروف والظروف
والأفعال الناقصة من جملة هذا الباب كما قدمنا الإشارة إليه.
ويحتمل تنزيل التفصيل الثاني أيضا على إرادة هذا المعنى، ويمكن ابتنائهما

(1) قوانين الأصول 26: 1 (الطبعة الحجرية).
327

معا على ما تقدم من القول بأن المجاز قد يصح بدون العلاقة إذا نص الواضع
بالرخصة في بعض الموارد بدونها.
ومن الفضلاء (1) من صار إلى أن المعتبر في العلاقة المصححة للتجوز هي
المناسبة التي يقبلها الطبع، سواء وجدت في ضمن إحدى الأنواع المضبوطة أو في
غيرها، بل هذه الأنواع إنما تعتبر إذا تضمنت هذه المناسبة، ويستفاد منه جواز
رجوع مقالة الأكثر إليه أيضا، حيث قال: واعلم، أن الأكثر لم يبالغوا في حصر
أنواع العلاقة وضبطها كما يشهد به تصفح كتبهم، وكأن ذلك تنبيه منهم على أن
المعتبر في العلاقة إنما هو تحقق المناسبة التي يقبل الطبع إطلاق اللفظ الموضوع
لأحدهما على الآخر، وأن الوجوه المذكورة من مظانها. وهذا هو التحقيق الذي
ينبغي تنزيل كلماتهم عليه... الخ.
وقضية كلامه عدم الاحتياج في استعلام اعتبار العلاقة ومعرفة صحة التجوز
معها إلى مراعاة الاستقراء، ولا مراجعة مجازات اللغة، ولا التوقف عند التجوز
لعلاقة موجودة إلى انكشاف كون هذه العلاقة بخصوصها من جملة العلاقات
المتداولة في المحاورة.
والظاهر أن ما اختاره (قدس سره) متين، بل في غاية المتانة، بل هو الحق الذي لا
محيص عنه ولا طريق إلى ما سواه.
وبيانه: أن العلاقة المصححة للتجوز حسبما يساعد عليه المجازات المتحققة
في لغة العرب، ويرشد إليه الأمثلة المنقولة عنهم في كلام أهل الأدب عبارة عن
شدة اتصال وارتباط بين المعنيين الموضوع له والمستعمل فيه، أوجب في نظر
العقل ولحاظ الاعتبار كونهما كالمتحدين بحسب الذات، والحكم على أحدهما
بكونه من صاحبه بمثابة كأنه هو بعينه، وإن كان قد يتوقف حصول هذا الاعتبار
على انضمام بعض الخصوصيات الخارجة عن ذات المعنيين إليهما، من القصد

(1) الفصول: 25.
328

إلى تمليح أو تهكم كما في الأسد والأبيض للجبان والأسود، أو تعظيم كما في
الشمس للشريف، أو تحقير كما في الكلب للخسيس، والحمار للبليد أو نحو ذلك.
ولا ريب أنها بهذا المعنى مما يدرك بالوجدان السليم والطبع المستقيم، بل هي
لكمال اتضاحها لكل ذي مسكة وفطرة إنسانية حتى الصبي والصبية كادت تلحق
بالفطريات، وهي بهذا المعنى مما انتزع عنها الأنواع المتقدمة المعبر عنها بأسامي
خاصة، فلا حاجة في معرفتها إلى تنصيص من الواضع ولا أهل اللسان ولا
غيرهم، ولا إلى استقراء استعمالاتهم أو ملاحظة مجازاتهم، وإن كان كثيرا ما
يعسر العلم بحقيقة عنوانها، بل قد يعجز البيان عن أدائها بعبارة خاصة، وعليها
يبتنى المجازات الحادثة شرعية وغيرها، مما كان يتعاطيها الفصحاء والبلغاء من
كل لسان ولغة من سلفهم إلى خلفهم، في نظمهم ونثرهم، مع قضاء ضرورة
الوجدان بأنه لم يسبقهم إليها غيرهم، ولا أنهم أخذوها عن سلفهم، أو استعملوا
مراعاة علاقاتها الملحوظة عمن سبقهم، أو استقراء المجازات الصادرة من أهل
لسانهم ممن هو مثلهم أو دونهم أو فوقهم، أو توقفوا في التعويل على ما أدركوه
بوجدانهم من اتصال المعنيين إلى أن يتبين اندراجه بشخصه أو نوعه في العلاقات
المتداولة فعلا بأشخاصها أو أنواعها، ولم ينكر ذلك عليهم، ولا أن أحدا من أهل
المعرفة غلطهم، بل لا يزال كلامهم يحكم عليه لأجل ذلك بالفصاحة وأعلى مرتبة
البلاغة، مع أن مرتبة الفصاحة والبلاغة متأخرة عن مرتبة الصحة، فالحكم بهما مع
انتفائها غير معقول.
وقد أشار إلى بعض ما ذكرناه العضدي، بل صرح به التفتازاني بقوله: ومن تتبع
أحوالهم وتفاصيل نظمهم ونثرهم علم أنهم لا يتوقفون، بل يعدون اختراع آحاد
المجازات من كمال البلاغة... الخ.
وبالجملة، المعلوم من المحاورات عدم مراعاة المتجوزين من جميع اللغات
في تجوزاتهم ورود أصل الاستعمال، ولا سبق اعتبار العلاقة الموجودة في البين،
ومع ذلك يتلقى المجازات الصادرة منهم صحيحة بالغة حد البلاغة، خالية عن
329

شوائب الغرابة، وليس ذلك إلا لأن المتجوز بحسب فطرته المستقيمة يجد اتصال
المعنيين على الوجه المذكور، فيجد من جهة اتصال اللفظ بالمعنى المجازي شبه
اتصاله بالمعنى الحقيقي، مع علمه باختصاص وضعه التحقيقي بالمعنى الحقيقي،
وليس ذلك إلا لأن وضع لفظ لمعنى كما أنه يوجب اتصال هذا اللفظ بذاك المعنى
فكذا يوجب اتصاله بكل ما اتصل بمعناه الموضوع له، فهذا الاتصال المستند إلى
الوضع هو المسوغ لاستعماله فيما لم يوضع له على التحقيق، وإن لم يتحقق أصل
الاستعمال من الواضع ولا أهل اللسان، بل ولم يكن الاتصال الموجود بين
المعنيين مما التفت إليه العرف، أو لاحظه الواضع بعنوانه الخاص، ولا يلزم على
هذا التقدير كون الاستعمال المحدث غلطا واردا على خلاف قانون اللغة، لفرض
استناده إلى الاتصال المستند إلى الوضع، فيكون في الحقيقة مستندا إلى الوضع
بواسطة اتصال المعنيين وإن لم يكن المستعمل فيه موضوعا له على التحقيق،
فالواضع بوضعه إياه بإزاء معناه الموضوع له كأنه وضعه لكل ما اتصل من المعاني
بهذا المعنى، فيكون ذلك بالقياس إليها وضعا تأويليا.
وهذا هو الذي ينبغي أن يراد بالوضع النوعي المتفق على ثبوته في
المجازات، وعليه ينطبق ما عزى إلى الجمهور من كونهم على أن المجاز موضوع
بالوضع التأويلي التعييني النوعي، ولا حاجة معه إلى استقراء، ولا استفادة إذن
الواضع، أو ترخيص أهل اللغة في مراعاة العلاقة الموجودة بالخصوص، لأن
المقصود من وضع الواضع في الحقائق وترخيصه في المجازات، صون الاستعمال
عن الغرابة ومخالفة اللغة، وهو حاصل بمجرد تحقق الاتصال المذكور.
وعليه فما احتج به أهل القول بكفاية نوع العلاقة، من أنه لولاها لتوقف أهل
اللسان في محاوراتهم على ثبوت النقل، ولما احتاج المتجوز إلى النظر في العلاقة
لكفاية النقل عنه، ولكان الاستعمال في المعاني المحدثة الشرعية وغيرها غلطا،
لعدم وقوف أهل اللغة على تلك المعاني، هذا مع أنهم لم يبالغوا في تدوين
المجازات مبالغتهم في تدوين الحقائق، ولم يتعرض أحد بجمعها وضبطها مع
330

عموم البلوى بها، وإنما تعرضوا لضبط أنواع العلائق وبالغوا في جمعها حسبما
عرفت. وهذا كله آية كون أمر التجوز منوطا بنوع العلاقة، إن أرادوا به إثبات ما
يرجع إلى المعنى الذي قررناه فهو جيد، وإن أرادوا به إثبات تجويز الواضع في
كل نوع بالخصوص، على وجه يستلزم كون كل نوع بالخصوص ملحوظا عنده
بعنوانه الخاص، مصرحا بالتجوز من جهته، كما تقتضيه ما عن بعضهم من: أن
الواضع قد اعتبر هذه العلاقات بخصوصها، ونسبه إليهم مدعيا عليه الوفاق، فليس
بجيد، لعدم قضاء شئ مما ذكر بالتعرض للإذن، أو ملاحظة أنواع العلاقات
بالخصوص، بل لا قضاء في بعضها - حسبما قررناه - إلا بما نبهنا عليه، فلاحظ
وتأمل كي يتضح لك صحة ما قلناه.
وأما أهل القول باشتراط نقل الآحاد فلهم وجوه:
أحدها: أنه لولا النقل لكان التجوز قياسا أو اختراعا، أما الملازمة: فلأن
المجاز الذي لم ينقل بعينه من الواضع فاستعماله في خلاف معناه إما لعلة مشتركة
بينه وبين ما نقل عنه أو لا، والأول قياس والثاني اختراع، وأيا ما كان فهو واضح
البطلان.
ودفع: بأن ثبوت الرخصة في اعتبار نوع العلاقة مما يخرجه عن الاختراع،
وليس الاستعمال معها لعلة مشتركة، لعدم استناده في الحقيقة إليها وإنما يستند إلى
الوضع المفروض انتفاؤه هنا.
وأما على ما قررناه، فيدفعه: أن الاختراع إن أريد به ابتداء الاستعمال فبطلان
اللازم بإطلاقه غير مسلم، لما عرفت من أنه يعد عندهم إذا استند إلى العلاقة
بالمعنى المتقدم من البلاغة، وليس ذلك من القياس في شئ، لكون علة الجواز في
الحقائق اتصال اللفظ بما وضع له الناشئ من الوضع، وفي المجاز اتصاله بخلافه
الناشئ من اتصال المعنيين بواسطة الوضع.
وإن أريد مخالفة الاستعمال لقانون اللغة، على وجه يعد الاستعمال من جهته
من الغرائب والأغلاط، فالملازمة غير مسلمة كما بيناه مفصلا.
331

وثانيها: أنه لولاه لجاز استعمال " النخلة " في غير الإنسان، كالحائط والجبل
الطويلين لعلاقة المشابهة، و " الصيد " في الشبكة وبالعكس لعلاقة المجاورة،
و " الابن " في الأب وعكسه لعلاقة السببية والمسببية.
ودفع تارة: بأن انتفاء الصحة لا ينافي وجود المقتضي، إذا استند إلى وجود
المانع، فإن عدم المانع ليس جزء من المقتضي، وحينئذ فيجوز مصادفة المانع له
وإن لم يعلم بالخصوص.
وأخرى: بأن ذلك لفقد المقتضي، فإن اللغات لكونها توقيفية، فالأصل فيها
عدم جواز الاستعمال إلا ما ثبت فيه الرخصة، ولم تثبت إلا في العلاقة الظاهرة
والمناسبة الواضحة، فالمعتبر من المشابهة ما إذا كان وجه الشبه من أظهر خواص
المشبه به بل المشبه أيضا، ومن المجاورة ما إذا كانت ملحوظة في الأنظار مع
مؤانسة تامة بين المتجاورين، بأن لم يكن أحدهما متنفرا عن الآخر، ومن السببية
والمسببية ما لم يكن خفيا، بحيث لم ينتقل إليه الذهن، وعلاقات الأمثلة المذكورة
ليست بتلك المثابة، أما الجدار والجبل فلنقصان مشابهتهما النخلة، من حيث إنها
إنما تتم إذا تحققت في الطول مع تقارب القطر والحجم، وأما الصيد والشبكة
فلكمال المنافرة بينهما، وأما في الأب والابن فلخفاء السببية والمسببية فيهما،
وعدم كونهما من أظهر خواصهما في نظر العرف وفي كل من الوجهين نظر.
أما الأول: فلأن المانع المحتمل وجوده إن أريد به ما يرجع إلى الواضع فلا
يتصور له معنى محصل، سوى أنه لم يرخص في الاكتفاء بالنوع الموجود في
الأمثلة المذكورة ونظائرها، وهذا اعتراف بموجب الاحتجاج، وإن أريد به ما
يرجع إلى غيره فتأثيره في المنع غير معقول، فإن الجواز اللغوي لا ينافيه المنع
الغير اللغوي على فرض تسليم قيامه، كيف وقيامه غير مسلم.
نعم ربما أمكن كون المانع المدعى قيامه مرادا به ما يوجب سقوط إطلاق
النوع المرخص فيه عن الاعتبار، بدعوى: نهوض ما كشف عن أن رخصة الواضع
إنما حصلت في الاكتفاء بالنوع في الجملة، ولو باعتبار تحققه في ضمن بعض
332

أصنافه، ولو بالقياس إلى بعض أنواع العلاقات لا أجمعها، لكن يشكل هذا التعبير
بأن مقتضاه رجوع هذا الوجه إلى الوجه الثاني بل كونه عينه، فلا وجه لجعله
مغايرا له، كما هو ظاهر من عدل عنه إلى اختياره كبعض الأعلام (1).
وأما الثاني: فلما قررناه من أن الالتزام بصدور الرخصة من الواضع في
خصوص النوع أيضا غير لازم، بعد وجود العلاقة بالمعنى المتقدم، وهو الارتباط
والاتصال بين المعنيين على وجه يقبله الطبع، ويوجب الاتحاد بينهما في نظر
الاعتبار.
فالمناسب لهذه الطريقة أن يقرر الجواب - بعد بناء عدم الجواز في الموارد
المذكورة على فقد المقتضى - بأن العلاقة بمعنى الارتباط والاتصال غير موجود
فيها، فإن الارتباط لابد له من رابط، كما أن الاتصال لابد له من موجب، وهو غير
متحقق في الموارد المذكورة ونظائرها.
وتوضيحه: أن المشابهة فيما بين أنواع العلاقات إنما تصلح رابطة وموجبة
لاتصال المستعمل فيه بالموضوع له، إذا كان وجه الشبه من أظهر ما يختص
بالمشبه به، من صورة نوعية - ولو متقومة بأحد أجزاء نوع المشبه به - أو صفة
معنوية يمتاز بها عما عداه ككونها فصلا أو خاصة له، والموجود في الجبل
والجدار الطويلين ليس بهذه المثابة، ضرورة أن الصورة النوعية المختصة بالنخلة
ليست لمجرد الطول، لوجوده في المنارة وجملة كثيرة من الأشجار وغيرها، بل
هو مع الحجم والقطر على الوجه المخصوص المتحقق لبعض آحاد الإنسان،
المفقود عن الجبل والجدار، كما يرشد إليه سلامة الطبع، وليس المعتبر في
المجاورة مجرد الاتصال الخارجي الحاصل بين المعنيين كيفما اتفق ولو أحيانا،
بل الاتصال الدائمي أو الغالبي المتحقق بينهما بمقتضي طبعهما ونوعهما، نظير
اتصال الظرف بمظروفه، والحال بمحله، والمتمكن بمكانه، وهذا هو الباعث على
صحة التجوز في القرية والبستان بإرادة الأهل دون الإبريق والغراب.

(1) قوانين الأصول 26: 1.
333

ولا ريب أن الاتصال فيما بين الصيد والشبكة اتفاقي غير ناش عن مقتضى
طبعهما، ولذا يجد فيهما الطبع السليم من الانفصال المعنوي ما لا يجده عما بين
القرية وأهلها.
وأما مسألة الأب والابن، فيدفعها: النقض بالأب حيثما يطلق على الجد،
والابن حيثما يطلق على ابن الابن، فإنه على ما هو المعلوم من العرف والمصرح
في كلام أهل اللغة مجازا، ولا علاقة له ظاهرا سوى المسببية في الأول والسببية
في الثاني، مع أن علاقة السببية وأختها في جميع مواردهما لابد وأن يتحققا بين
مفهومي اللفظين على الوجه الذي أخذا في لحاظ الوضع.
ولا ريب أن التجوز في الأب والابن حسبما هو مفروض الاحتجاج إنما
يتأتى إذا أريد بالأول من له البنوة وبالثاني من له الأبوة، لأنهما مفهومان قد أخذا
في وضع اللفظين، غير أنهما كما ترى عنوانان لا سببية بينهما بكون أحدهما من
حيث إنه مأخوذ في وضع لفظه سببا لصاحبه الذي هو أيضا من هذه الحيثية يكون
مسببا عنه، بل هما أمران متلازمان تلازم التضائف لمكان اللزوم بينهما خارجا
فلذا لا يتحقق أحدهما بدون تحقق الآخر، وذهنا فلذا لا يتعقل أحدهما بدون
تعقل الآخر، وهما معا بهذا الاعتبار مسببان عن سبب ثالث خارج عنهما، وهو
الزواج وما استتبعه من الشروط والمعدات، وهذا مما لا دخل له بمفهوم الأب كما
لا يخفى.
هذا إذا أريد بالسبب ما يرادف العلة أو ما يقرب منها، وإلا فمن جملة شروط
تحقق العنوانين وانعقادهما في الخارج إذا أريد به ما يعم الشرط أيضا، إنما هو
الذات المعراة عن وصفي الأبوة والبنوة، وهو الذي سيصير أبا بالتوالد، وظاهر أنه
بهذا الاعتبار عنوان لم يوضع له لفظ فضلا عن لفظي " الأب " و " الابن " هذا إذا
اعتبرنا تلك الذات بعنوان كلي، وإن كان النظر إلى شخص هذا العنوان فلا محصل
له إلا المعنى العلمي الشخصي، فيكون لفظه الموضوع له هو العلم والسببية حاصلة
بينه وبين المجموع من معنيي الأب والابن، لا بين نفس المعنيين هذا واغتنم.
334

وأما ما عساه يتخيل في دفع الاحتجاج بمسألة الأب والابن من منع بطلان
اللازم، بدعوى: صحة إطلاق " الابن " على الأب بعلاقة الكون عليه، وإطلاق
" الأب " على الابن بعلاقة الأول إليه، فالصحة حاصلة مستندة إلى هذين النوعين
من العلاقة، ولا يلزم منه استنادها إلى النوع الآخر المجامع لهما وهو السببية
وأختها.
فيزيفه: ما تقدم الإشارة إليه من أن التجوز هاهنا لابد وأن يتأتى في لفظي من
له الأبوة ومن له البنوة، بأن يراد الأول من لفظ " الابن " والثاني من لفظ " الأب "
والمفروض ليس من هذا الباب، لكون المراد من " الابن " على الأول الذات
المعراة عن وصف البنوة لعلاقة كونها على هذا الوصف، ومن " الأب " على الثاني
الذات المعراة عن وصف الأبوة بعلاقة أنه سيوصف به، فلم يرد من الأول من له
الأبوة ولا من الثاني من له البنوة، مع أن إطلاق " الابن " على من صار أبا إذا كان
باعتبار الإضافة الأولية ليس على المجاز، بل هو على الحقيقة حين مذ تحقق له
هذا العنوان إلى ما لقى وجه الله الرحمن، ضرورة أن ابن عمروا حينما صار ابنا
لعمرو لا يزول عنه هذا العنوان أبدا ولو صار أبا لألف عمرو.
وثالثها: أنه لولاه لخرج القرآن عن كونه عربيا واللازم يبطله قوله تعالى:
(إنا أنزلناه قرآنا عربيا) (1) فيبطل معه الملزوم، أما الملازمة: فلأن ما لم ينقل عن
العرب ليس بعربي، والقرآن لاشتماله على مجازات كثيرة مشتمل على غير
العربي، فيكون من باب المركب من العربي وغيره، والمركب منهما ليس بعربي.
وجوابه - بعد النقض بالصلاة والصوم وغيرهما مما لم يكن معهودا عند العرب
من المعاني المحدثة الشرعية - منع الملازمة، بمنع انحصار العربية فيما نقل عن
العرب بشخصه بل نوعه أيضا، بل يكفي فيها اتصال اللفظ بالمعنى المستعمل فيه
الناشئ عن الوضع العربي، بواسطة اتصاله بالمعنى الموضوع له المتصل بالمستعمل
فيه على الوجه المتقدم.

(1) يوسف: 2.
335

وقد يقرر ذلك، بأنه إنما يلزم ذلك مع انتفاء النقل رأسا، وأما مع وجوده
في النوع فلا، وقد عرفت أن الالتزام بالنقل غير لازم.
وأجيب أيضا مضافا إلى ما ذكر -: بأن المراد كونه عربي الأسلوب فلا ينافيه
عدم عربية بعض كلماته، وإلا ينقضه اشتماله على ما لا شبهة في عدم كونه عربيا
من الهندي والرومي والمعرب كالمشكاة والقسطاس والسجيل، مع أنه لو سلمت
الملازمة وبطلان اللازم معا فأقصاه كون مجازات القرآن منقولة من العرب دون
غيرها.
وبالجملة، قضية الدليل بعد تسليم مقدماته تحقق النقل في مجازات القرآن،
لا اشتراط المجاز كائنا ما كان بنقل الآحاد، مضافا إلى توجه المنع إلى بطلان
اللازم، لابتنائه على عود ضمير (أنزلناه) إلى القرآن بجملته، وهو محل منع،
لجواز عوده إلى البعض المعهود منه من سورة أو آية، ولا ينافيه تذكير الضمير بعد
إمكان تطرق التأويل إليهما بالمنزل أو المذكور أو نحو ذلك، ولا وقوع البعض مما
اطلق عليه القرآن بعد ملاحظة أنه مشترك بين الكل والبعض على رأي، أو
موضوع للقدر المشترك بين الكل وكل بعض على رأي آخر، وأجود الأجوبة
ما قررناه.
وممن وافقنا على هذا الجواب بعض الفضلاء المتقدم ذكره، قائلا: والتحقيق
عندي أنه لا حاجة في المجاز إلى الوضع والرخصة، بل جوازه طبعي مبني على
المسامحة والتأويل في الوضع الأصلي، حيثما يتحقق بين المعنيين علاقة معتبرة
عند الطبع - إلى أن قال -: ولا يلزم من ذلك خروج المجازات عن كونها عربية،
إذ يكفي في النسبة توقفها على أوضاع عربية وابتنائها عليها، وكذلك نسبة المجاز
إلى سائر اللغات والاصطلاحات. انتهى (1).
تتمة: قضية ما قررناه في تحقيق العلاقة وكون صحة المجاز في مواقعه مبتنية

(1) الفصول: 25.
336

على اتصال اللفظ بالمعنى المجازي المستند إلى الوضع واتصال المعنيين على
الوجه المتقدم جواز سبك المجاز من المجاز.
ولا يقدح فيه انتفاء العلاقات المعهودة المتقدمة عما بين الموضوع له
والمستعمل فيه، لمكان كفاية الاتصال الحاصل بينهما بواسطة الاتصال الحاصل
بين الموضوع له والمعنى المجازي الآخر، المتصل بالمستعمل فيه بوجود أحد
أنواع العلاقات المعهودة، ويلزم من ذلك اتصال اللفظ بذلك المعنى المستعمل فيه.
نعم على القول باعتبار الرخصة في نوع العلاقة، والاقتصار على الأنواع
المعهودة فالمتجه عدم صحة التجوز، إلا إذا وجدت العلاقة بين الموضوع له ونفس
المستعمل فيه، فلا يكفي وجودها بين الموضوع له ومجازي آخر بينه وبين
المستعمل فيه علاقة أيضا، ووجهه واضح.
* * *
337

- تعليقة -
الوضع المعتبر في الحقيقة والمجاز لابد وأن يكون المراد به ما عرفه به شارح
المختصر في بيانه، من: " أنه اختصاص شئ بشئ، بحيث لو اطلق الشئ الأول
فهم منه الشئ الثاني " ليشمل كلا من الموضوعات التعيينية والتعينية.
وإن شئت بدل الشيئين باللفظ والمعنى، فإن الوضع على ما يستفاد من
تضاعيف كلماتهم مقول بالاشتراك عندهم على ما يكون من صفات الواضع وهو
الجعل والتعيين، وما يكون من صفات الموضوع، وهو كونه موضوعا للمعنى وتعينه
له، سواء نشأ ذلك من الوضع بالمعنى الأول، أو من شيوع الاستعمال مجازا، والمتعين
في باب الحقيقة والمجاز إنما هو اعتبار المعنى الثاني، كما يفصح عنه كونهما
عندهم للأعم من اللغويين والعرفيين عاما وخاصا، والشرعيين كما لا يخفى.
والظاهر أن المعنى المشهور في تعريفه من: " أنه تعيين اللفظ للدلالة على
المعنى بنفسه " ينظر إليه بالمعنى الأول دون ما يعمه وغيره، لأنه الأصل في باب
الوضع من حيث إن الوضع في الموضوعات التعينية إنما يحصل تبعا له، ولأنه
الثابت فيما هو الأصل في الحقائق وهي الحقائق اللغوية، لأنها حقائق أصلية
بخلاف غيرها من العرفية والشرعية، فإنها طاروية، ولأنه المبحوث عنه في كثير
من مباحث هذا الفن كما في البحث الآتي، من كون دلالات الألفاظ بالوضع
أو بالمناسبات الذاتية، وفي كون الوضع من فعل الله سبحانه أو فعل البشر.
338

وكيف كان: " فالتعيين " في هذا التعريف عبارة عن الجعل الذي مرجعه إلى
تخصيص اللفظ بالمعنى، الذي يقل معه الشركاء من حيث إن اللفظ قبل ما طرأه
الجعل كان متساوي النسبة إلى جميع المعاني، فكأنه كان صالحا لها جمع،
فأوجب الوضع الطارئ نفي تلك الصلاحية، وخرج به المجازات بأسرها بالقياس
إلى ما يثبت فيها من الرخصة في النوع، لعدم صدق التعيين عليها بعنوان الحقيقة،
أو عدم انصراف إطلاقه عليها، وإطلاق الوضع عليها في مقابلة الوضع الثابت في
الحقائق مجاز من باب الاستعارة، لمشاركة الرخصة النوعية في التجوز له في
إفادة صحة الاستعمال.
وإضافته إلى اللفظ ما يخرج به تعيين غيره، وكونه للدلالة يخرج به تعيينه لغير
الدلالة، كالوضع والتركيب وغيرهما وكون هذه الدلالة دلالة على المعنى يخرج به
ما عين للدلالة على غيره، كوجود اللافظ واللفظ في الألفاظ الموضوعة للألفاظ،
والمعروف في القيد الأخير كونه لإخراج المجاز الذي دلالته على المعنى ليس
بنفسه بل بمعونة الغير.
ويشكل بأن المجاز على فرض اندراجه في الجنس، يخرج بظهور الدلالة
على المعنى في الاستقلال، ومن هنا قد يستغنى عن هذا القيد، فإن مفاد ما تجرد
عن هذا القيد هو بعينه مفاد ما اشتمل عليه من غير تفاوت بينهما، إلا في الظهور
والنصوصية بالنسبة إلى إفادة اعتبار إسناد الدلالة إلى مجرد اللفظ، فما سبق إلى
بعض الأوهام من أن مفهوم التعريف بدون هذا القيد أعم من مفهومه معه لتناوله
المجازات، ليس على ما ينبغي، هذا مع ما سمعته من المناقشة في صدق التعيين
على ما في المجازات من الرخصة النوعية، إلا أن يراد بتعيينه استعمال المتجوز،
فإنه حينئذ بالقياس إلى المعنى المجازي تعيين له للدلالة على المعنى بمعونة
القرينة، وكيف كان فاعترض على التعريف المذكور بوجوه:
أحدها: انتقاض عكسه بالموضوعات التعينية، فإنها ألفاظ موضوعة
ولا تعيين فيها.
339

ويدفعه: أن هذا التعريف في لحاظ معرفه ناظر إلى الوضع بمعنى الصفة
الراجعة إلى الواضع، فما في الموضوعات التعينية ليس بداخل في المعرف ليجب
دخوله في التعريف.
غاية الأمر، أنه يبقى في المقام سؤال عن وجه إفراد الوضع بهذا المعنى
بالتعريف دونه بالمعنى الأعم، فأمكن له الجواب بالوجوه الثلاث المتقدمة.
ويمكن دفع الاعتراض أيضا، بحمل " التعيين " على التعين من باب ذكر
الملزوم وإرادة اللازم الأعم، فإن تعين اللفظ للمعنى قد يتسبب عن التعيين بمعنى
الجعل، وقد يتسبب عن شيوع الاستعمال مجازا.
لكن يضعفه: أن أخذ المجاز في التعريف بدون قرينة موضحة للمراد فيه يخل
بما هو المقصود منه، من انكشاف حال المعرف فيخرج التعريف معه معيبا، ولا
يعقل كون العلم بحقيقة المعرف وتفصيله بحسب الخارج قرينة، بعد ملاحظة أن
المعرف إنما ينهض معرفا للجاهل بالمعرف، وفائدة التعريف إنما تظهر له سواء
أريد بالعلم المذكور علم الجاهل أو علم غيره ممن رتب هذا التعريف، فإن الأول
مفض إلى الدور، والثاني غير معقول، وإلا للزم الاستغناء عن قرينة المجاز في
جميع المجازات بعلم المتجوز بإرادته المعنى المجازي، هذا مع أن هذا الحمل
يأباه " لام " الغاية الداخلة في الدلالة، فإن مفادها كون ما بعدها مقصود لترتب
على ما قبلها فلابد من قاصد، ووضع التعين ما ينشأ من شيوع الاستعمالات
المجازية، ولا يعقل منها قصد الدلالة، وكون " اللام " للعاقبة خلاف الظاهر.
لا يقال: إن الاستعمالات المجازية أفعال للمستعملين والقصد يتأتى منهم،
لأن هذه الاستعمالات لكونها مجازية حصلت منهم بقصد الدلالة على المعنى
بالقرينة ولو كانت شهرة، فعلى فرض دخول الموضوعات التعينية في الجنس
بالتأويل المذكور، لزم خروجها بقيد " الدلالة على المعنى بنفسه ".
وبذلك يظهر ضعف ما أفاده بعض الأجلة (1) في دفع الاعتراض: " من أنهم

(1) هو السيد مهدي بحر العلوم في شرحه على الوافية.
340

أرادوا بالتعيين ما هو أعم من الاستعمال الشائع، المتحقق فيما صار حقيقة بالغلبة
والاشتهار، كأكثر المنقولات والحقائق العرفية... الخ، فإن الاستعمال الشائع إذا
كان هو الاستعمال المجازي البالغ حد الغلبة والكثرة، فلم يقصد به إلا الدلالة على
المعنى بواسطة القرينة، فكيف يصدق عليه أنه تعيين اللفظ للدلالة على المعنى
بنفسه، بعد الإغماض عن منع انصراف إطلاق " التعيين " إليه.
وثانيها: أن اعتبار " الدلالة بنفسه " في التعريف، يقتضي انتفاء الوضع في
اللفظ المشترك، فإنه لا يدل على شئ من معانيه إلا بالقرينة.
وأجيب عنه بوجهين:
الأول: أن قضية تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه، كون اللفظ الموضوع
بالنسبة إلى الدلالة من باب المقتضى لها، وظاهر أن المانع ليس جزءا من
المقتضي، كما أن وجود الشرط ليس جزءا منه، ولذا قد يصادفه وجود المانع كما
قد يصادفه فقد الشرط، والمشترك أيضا لفظ موضوع للدلالة على كل واحد من
معانيه، وعدم الدلالة مع فقد القرينة إنما هو لمصادفة وجود المانع، وهو الاشتراك
الناشئ عن تعدد الوضع.
ويزيفه: بعد المنع عن دعوى عدم الدلالة، أنه لا يحسم مادة الإشكال
بحذافيره، فإن التعيين الذي هو فعل اختياري للواضع لا يصح عقلا ممن حصل
الاشتراك بوضعه إلا مع عدم التفاته إلى الوضع الآخر، سواء كان هو الواضع الأول
أو غيره، فهو حينئذ يعين اللفظ ليكون مقتضيا للدلالة على المعنى بنفسه، وأما إذا
التفت إلى الوضع الآخر فهو من حين الوضع عالم بمصادفة المانع.
ولا ريب أن كونه حينئذ قاصدا بفعله الدلالة على المعنى بنفس اللفظ يخل
بصحة ذلك الفعل، لكونه مع هذا الفرض لغوا وعبثا فينافي حكمته، وعلى فرض
صدور الوضع منه والحال هذه، فلابد من التزام القول بأنه إنما قصد بوضعه الدلالة
على المعنى بمعونة الغير، وهو يناقض مفاد التعريف، فالإشكال بالقياس إلى هذا
الفرض بحاله.
341

ومن هنا يضعف ما قد يقال - في تقرير الجواب المذكور -: من أن واضع
المشترك إنما صدر عنه الوضع ليترتب عليه غاية الدلالة على المعنى بنفسه، كما
هو مفاد " لام الغاية ". ولا ريب أن انتفاءها لمانع الاشتراك لا يقضي بانتفاء الوضع،
إذ رب فعل لا يترتب عليه الغاية المطلوبة منه لمانع، فإن الواجب في مثل ذلك
تعلل الفعل بالغاية لا فعلية ترتب الغاية عليه.
ووجه الضعف: أن الفعل إنما يعلل بغايته المطلوبة منه إذا كانت الغاية معلوم
الحصول أو مرجوه.
وأما مع العلم بعدم اتفاق حصولها أصلا فيستحيل في الحكمة تعلله بها، وإلا
كان لغوا منافيا لحكمة الفاعل، فالوجه المذكور إنما يجري فيما لو حصل
الاشتراك بوضع من لم يلتفت إلى وضع آخر، وإن كان هو الفاعل للوضع الآخر،
فإن رجاء حصول الغاية ممكن حصوله منه، ويصح معه فعل الوضع الموجب
للاشتراك عقلا.
وأما الملتفت إلى الوضع الآخر، فهو عالم بعدم ترتب فائدة الدلالة على
المعنى بنفس اللفظ على ما يصدر منه من فعل الوضع، فيقبح فعله حينئذ لو صدر
لأجل تلك الغاية، وعلى فرض صدوره والحال هذه كشف عن كونه قاصدا لغاية
أخرى وهي الدلالة على المعنى بمعونة الغير، ويلزم منه انتقاض العكس حسبما
زعمه المعترض.
والثاني: منع انتفاء الدلالة في المشترك عند تجرده عن القرينة، فإنه بمجرده
يدل على جميع معانيه دلالة واحدة، وإنما يفتقر إلى ملاحظة القرينة تعيين ما هو
المراد منها لا أصل الدلالة، لأن الإجمال والتردد حاصل في المراد دونها، بخلاف
المجاز فإن المفتقر إلى القرينة فيه إنما هو أصل الدلالة، وهذا هو التحقيق في
الجواب.
وإن كان دعوى الدلالة على الجميع بالمعنى المقصود في تعريف الوضع
ليست على ما ينبغي، والذي يحصل من الدلالة بالقياس إلى الجميع ليس بمقصود
هنا، وإلا بطل الفرق بين الحقيقة والمجاز.
342

وينبغي أن نحرر المقام على وجه ينكشف بعض الأمور ويرتفع بعض
الاشتباهات.
فنقول: ربما يلتبس المعنى المراد من " الدلالة " المعتبرة في مفهوم الوضع،
ومن جهته يشتبه حقيقة ما فرقوه بين الحقائق والمجازات، من حصول الدلالة
على المعنى بنفس اللفظ كما في الأولى، أو بمعونة القرينة كما في الثانية.
وتحقيق هذا المقام: أن حقيقة الدلالة عبارة عن فهم المعنى من اللفظ، كما هو
المصرح به في كلامهم، ومعنى كون الفهم من اللفظ على ما هو مقتضى نشوية كلمة
" من " كون اللفظ سببا ومقتضيا لفهم المعنى في الجملة، وفهم المعنى من اللفظ قد
يكون تصوريا، على معنى أنه بمجرده يوجب تصور المعنى والانتقال إليه انتقالا
تصوريا، وهو في الدلالة بهذا المعنى مشروط بأمرين:
أحدهما: وضعه له بالمعنى المتناول للرخصة النوعية في المجازات.
وثانيهما: العلم بذلك الوضع الملحوظ بالمعنى الأعم، على معنى كون الناظر
في اللفظ كالسامع ونحوه عارفا بمعانيه الحقيقية والمجازية، فمعنى دلالته
التصورية حينئذ أنه يوجب حضور معانيه حقيقية ومجازية في الذهن حضورا
تصوريا.
وقد يكون تصديقيا على معنى أنه يوجب ولو بمعونة الغير التصديق بما هو
المراد منها، فإن الذهن بعد ما حصل له تصور المعاني بالمعنى الأعم، وإذعانه بأن
صدوره من لافظه لا ينبغي أن يكون بعنوان اللغوية، نظرا منه إلى كونه في مقام
الإفادة، يتوجه إلى تعيين ما هو المراد منها، المردد بين كونه المعنى الحقيقي أو
المجازي، فلا جرم يتوجه إلى جانب اللفظ، فقد يوجد معه ما يرجح إرادة المعنى
المجازي من القرائن على وجه يوجب التصديق بإرادته، وقد لا يوجد معه ما
يرجح المعنى المجازي فيترجح إرادة المعنى الحقيقي على وجه يستتبع التصديق
بإرادته، وقد يوجد معه ما يتردد بين المرجح للمعنى المجازي وعدمه فيبقى
مترددا بين المعنيين، كما في المجاز المشهور على المشهور، والدلالة إنما تحصل
343

في الصورتين الأوليين - حسبما بيناه - وقضية ذلك توقف الدلالة التصديقية زيادة
على توقفها على ما كانت الدلالة التصورية متوقفة عليه من الأمرين المتقدمين
على أمر ثالث، وهو القرينة المرجحة للمعنى المجازي في المجاز، وتجرد اللفظ
عن تلك القرينة في الحقيقة.
ولا ريب أن الدلالة المأخوذة في تعريف الوضع، الفارقة بين الحقائق
والمجازات إنما هي الدلالة التصديقية، لما هو معلوم ضرورة بالوجدان أن الدلالة
التصورية - حسبما بيناه - بالقياس إلى المعنى الحقيقي والمجازي إنما تحصل
بنفس اللفظ حيثما احتوى الشرطين المتقدمين، ولأنها التي ينطبق عليها حكمة
الوضع المصرح بها في كلامهم، وهي تفهيم المعاني وما في الضمائر وإفادتها من
دون تجشم القرائن.
عدم القرينة
ولا ريب أن مجرد إفادة التصور مما لا يعقل له فائدة، لتكون هي الحكمة
الباعثة على الوضع، ضرورة أن الأحكام والآثار المطلوبة في المحاورات إنما
يترتب على التصديقات بالمرادات والمقاصد الكامنة في الضمائر، ولأنه لولا ذلك
لخرج أصالة الحقيقة - التي عليها مدار الإفادة والاستفادة وبناء المحاورات
والمخاطبات في كافة اللغات - بلا مورد، لكون موضوعها اللفظ المجرد عن
القرينة المتردد في نظر السامع العارف بمعنييه الحقيقي والمجازي بين المعنيين،
فإن التردد فرع على التصور، المفروض توقفه في المعنى المجازي على القرينة،
فكيف يجامعه فرض التجرد عنها، وحينئذ فاتضح الفرق بين المجاز والمشترك في
توقف أصل الدلالة في الأول - وهو الفهم التصديقي - على القرينة، بحيث لولاها
لم تكن الدلالة حاصلة أصلا، وعدم توقفها في الثاني عليها، فإنه إذا صدر من
المتكلم أوجب الدلالة التصورية على جميع معانيه حقيقية ومجازية أولا، وإذا
توجه النفس إلى تعيين ما هو المراد، وراجع جانب اللفظ ووجدته مجردا عما
يرجح شيئا من المعاني المجازية، يترجح عنده حقيقي ما من حقائقه، على معنى
حصول التصديق بإرادته، فيبقى المراد لعدم تعيينه مرددا بين الجميع، فيرجع
344

حينئذ إلى ما يعين ذلك المراد المدلول عليه بنفس اللفظ، فمراجعة القرينة المعينة
في المشترك إنما هو بعد الفراغ عن الدلالة التصديقية على جهة الإجمال.
ولا ريب أن هذه الدلالة ليست إلا بنفس اللفظ، وعلى ما قررناه من القاعدة
يترتب مطالب شريفة وبه ينكشف تحقيق الحال في مسائل مهمة:
منها: تحقيق الحال في المسألة المعنونة، بأن عدم القرينة هل هو جزء لما
يقتضي حمل اللفظ على معناه الحقيقي، أو وجودها مانع عن الحمل، وهذه المسألة
وإن كانت ليس لها ثمرة إلا ما قد يذكر من جواز إحراز عدم القرينة بالأصل عند
الشك في وجودها وعدم جوازه، فعلى تقدير كون وجودها مانعا يجوز إحراز
عدمها بالأصل، لأن المانع من شأنه أن يحرز فقده به، بخلافه ما لو كان عدمها
جزءا للمقتضي، فإن الشك فيه حينئذ يرجع إلى الشك في المقتضي.
ومن المعلوم أن المقتضي لا يحرز وجوده بالأصل، فإن الحكم بوجود
المقتضي بالأصل خلاف الأصل، المقتضي لعدم الوجود.
ويخدشه: أن القيود العدمية من شأنها أن تحرز بالأصل وإن أخذت جزء
للمقتضي، وإنما لا يحرز به الأمر الوجودي الذي يشك في وجوده، والمقام ليس
منه، إذ المقتضي هنا أمر مركب من أمرين وجوديين هما الوضع والعلم به، وأمر
عدمي وهو التجرد عن القرينة، ووجود الأولين متيقن لا يعقل الشك فيه، فلا
حاجة في إحرازه إلى الأصل المقتضي للعدم، وإنما الشك في الجزء الأخير الذي
يشك في وجوده.
ولا ريب أن الأصل يقتضي عدم الوجود، وهذا الأمر العدمي الذي يحرز
عدمه بالأصل، إذا انضم إلى الجزئين الأولين انعقد تمام المقتضي، فلا يتفاوت
الحال من هذه الجهة بين الوجهين.
لكن يظهر تحقيقها مما مر من القاعدة، فإن حمل اللفظ على معناه الحقيقي إن
أريد به دلالته التصورية عليه - وإن كان خلاف الظاهر من لفظ " الحمل " - فلا
ريب أن القرينة حينئذ لا مدخلية لها فيه أصلا، لا وجودا ولا عدما، كما لا مدخلية
345

لها وجودا وعدما في دلالته التصورية على المعنى المجازي، وإن أريد به دلالته
التصديقية عليه - كما هو ظاهر لفظ " الحمل " - فعدم القرينة بمعنى تجرد اللفظ
عنها جزء للمقتضي.
ومنها: تحقيق الحال في المسألة المعنونة، بأن الدلالة تتبع الإرادة أو الوضع
تبعية الدلالة للإرادة
وبعبارة أخرى: أن الإرادة هل لها مدخلية في الدلالة شطرا أو شرطا أو لا مدخلية
لها فيها أصلا، فإن " الدلالة " إن أريد بها الفهم التصوري فمدخلية الإرادة فيها غير
معقولة، وإن أريد بها الفهم التصديقي فعدم مدخلية الإرادة فيها غير معقول،
ضرورة أنها متعلقة للتصديق الذي لا يعقل بدون المتعلق، وينهض ذلك نحو
محاكمة بين الفريقين، بل لا يبعد القول بعود النزاع بينهما لفظيا بدعوى: أن أهل
القول بمدخلية الإرادة إنما يدعون المدخلية فيما لا ينبغي لأحد إنكار مدخليتها
فيه وهو الفهم التصديقي، كما أن أهل القول بنفي المدخلية أيضا يدعونه فيما لا
ينبغي لأحد إنكار عدم مدخليتها فيه وهو الفهم التصوري، المتعلق بذات المعنى،
بل التأمل في كلمات الطرفين بعين الدقة مما يعطي الجزم بذلك.
ألا ترى أن الفريق الأول يفسرون " الدلالة " بفهم المعنى من اللفظ على أنه
مراد للمتكلم، ولا يعقل له معنى محصل إلا التصديق بكونه مرادا، وفي معناه
الحكم بكونه مرادا على معنى ترتيب آثار الإرادة، بناء على حجية أصالة الحقيقة
تعبدا إذا لم يستتبع إذعانا بإرادة المعنى الحقيقي.
وعلى التفسير المذكور ينطبق عبارة المحقق الطوسي - المحكية في شرح
منطق التجريد للعلامة - القائلة: " بأن اللفظ لا يدل بذاته على معناه، بل باعتبار
الإرادة والقصد، واللفظ حين يراد منه معناه المطابقي لا يراد منه معناه التضمني،
فهو إنما يدل على معنى واحد لا غير ". انتهى.
بناء على أن مراده " بذات اللفظ " ما لو اخذ لا بشرط كونه مرادا ومقصودا به
المعنى، فالمراد به باعتبار الإرادة والقصد هو اللفظ من حيث إنه أريد وقصد منه
معناه.
346

وقضية ذلك كون معنى " دلالته عليه " الدلالة من حيث إنه مراد ومقصود
للافظه وليس له معنى محصل إلا التصديق بإرادته.
وإن حجج الفريق الثاني التي أقاموها على نفي مدخلية الإرادة كلها مطبقة
على نفيها عن مجرد الفهم التصوري، فإنهم احتجوا تارة: بالألفاظ الصادرة عن
النائم والساهي والهازل الدالة على معانيها مع انتفاء الإرادة رأسا.
وأخرى: بالمجازات الدالة على معانيها المجازية، بواسطة دلالتها على
معانيها الحقيقية الغير المرادة.
وثالثة: بالكنايات بالقياس إلى الملزومات الغير المرادة، المستعمل فيها
المدلول عليها.
ورابعة: بالألفاظ المنقوشة الدالة على المعاني مع انتفاء الإرادة.
وخامسة: بالألفاظ التي أختلف فيها الاصطلاح، فإن أهل كل اصطلاح إنما
يفهمون منها المعنى الذي اصطلحوا عليه، وإن كان المستعمل لها أهل اصطلاح
آخر.
ألا ترى أن المتشرعة إذا سمعوا لفظ " الصلاة " يتبادر إلى أذهانهم المعنى
الشرعي، ولو كان المستعمل من أهل اللغة وأراد منه المعنى اللغوي.
وسادسة: بالدلالات التضمنية والالتزامية اللتين من الدلالات الوضعية،
ولا يعقل فيهما اعتبار الإرادة، لأن التضمن فهم الجزء في ضمن الكل، والالتزام
فهم اللازم في ضمن الملزوم.
وهذه الوجوه يزيفها: أن مفادها بالنسبة إلى الدلالة بمعنى التصور حق
ولا منكر له من هذه الجهة، ويبقى ما دخل فيه الإرادة سليما عما ينافيه.
والظاهر أن مبنى الاحتجاج بالوجوه المذكورة، على توهم كون " الدلالة " في
مفهوم الوضع عبارة عن مجرد الفهم التصوري الحاصل ابتداء.
وقد تبين فساده، وإلا بطل الفرق بين الحقائق والمجازات، لاستناد هذه
الدلالة في الجميع إلى نفس اللفظ.
347

ومنها: تحقيق الحال في قضية قولهم: " المجاز معاند للحقيقة " بدليل قياس
معاندة المجاز للحقيقة
المساواة، الذي يقرر: بأن المجاز ملزوم للقرينة المعاندة للحقيقة، وملزوم
معاند الشئ معاند له، فإنه يعلم بملاحظة التحقيق المتقدم.
وتوضيحه: أن العناد إما أن يراد به ما هو من أحوال اللفظ، بدعوى: أن اللفظ
المستعمل حيثما لحقه عنوان المجازية يستحيل أن يلحقه مع ذلك عنوان الحقيقية،
أو ما هو من أحوال المعنى باعتبار صفة راجعة إلى السامع وهو الدلالة، بدعوى:
أن اللفظ المستعمل إذا دل باعتبار القرينة على معنى مجازي دلالة تصديقية
يستحيل مع ذلك أن يدل بتلك الدلالة على المعنى الحقيقي، أو ما هو من أحوال
المعنى باعتبار صفة راجعة إلى المتكلم وهو الإرادة، بدعوى: أن اللفظ المستعمل
إذا أراد المتكلم منه باعتبار القرينة معناه المجازي يستحيل أن يريد معناه الحقيقي
أيضا.
ولا ريب في تحقق العناد بينهما بالمعنى الأول، فإن العنوانين قد أخذ فيهما
كون اللفظ المستعمل مع القرينة أو مع التجرد عنها.
ولا ريب أن تعاند القيدين يقضي بتعاند المقيدين، كما هو شأن كل عنوانين
ممتازين بقيدين متناقضين أو متضادين.
وكذلك على المعنى الثاني، فإن قرينة المجاز إذا أوجبت الفهم التصديقي
للسامع بإرادة المعنى المجازي، فلا يمكن أن يحصل له التصديق بإرادة المعنى
الحقيقي أيضا، لعدم انعقاد تمام مقتضيه بانتفاء جزئه الأخير.
غرض الوضع في الألفاظ المفردة
وأما على المعنى الثالث، فإن أريد بالاستحالة ما يكون ذاتيا، بمعنى أن
المتكلم بعدما أراد المعنى المجازي بواسطة القرينة لا يقدر بالذات على إرادة
المعنى الحقيقي فهو واضح البطلان، إذ الإرادة أمر اختياري والقرينة لا تصلح
سالبة لذلك الاختيار في شئ من فروضه، فالعناد بهذا المعنى غير متحقق بين
المجاز والحقيقة، وان أريد بها ما يكون عرضيا بمعنى الاستحالة العرضية
المستندة إلى القبح الناشئ من منافاة الحكمة، فالعناد بهذا المعنى متحقق أيضا
348

بينهما، إذ اللفظ إذا أفاد بواسطة القرينة إرادة المعنى المجازي يبقى قاصرا عن
إفادة إرادة المعنى الحقيقي، فلو أراده والحال هذه يكون لاغيا، ومعلوم أن
المتكلم لمكان حكمته في أمر التكلم يقبح منه اللغو، فيمتنع فلا يتحقق منه إرادة
المعنى الحقيقي حال إرادة المعنى المجازي بالقرينة.
فتقرر بما ذكرنا معاندة المجاز للحقيقة بجميع وجوهها، وهذا هو وجه
الاحتجاج بها في سند القول بمنع استعمال اللفظ في معنييه الحقيقي والمجازي،
فما اعترضه المدقق الشيرواني على الحجة من أن المجاز ملزوم لقرينة مانعة عن
إرادة المعنى الحقيقي منفردا لا مطلقا، حتى إرادته مجتمعا مع المعنى المجازي،
ليس في محله.
كما أن ما اعترضه عليها المحقق السلطان من أن القرينة المانعة عن إرادة
الحقيقة في المجاز، إنما تمنع عن إرادتها بدلا عن إرادة المعنى المجازي. وأما
بالنظر إلى إرادة أخرى منضمة إليها فلا، ليس في محله.
فإن هذين الاعتراضين مع ابتنائهما على اعتبار وجود قرينة المجاز مانعا، لا
اعتبار عدمها جزءا للمقتضي، وهو خلاف التحقيق، يرد عليهما: أنه إن أريد بكونها
مانعة أنها توجب استحالة إرادة المعنى الحقيقي على أحد الوجهين بالذات، على
معنى زوال القدرة من جهتها عن المتكلم فهو في البطلان بمكان من الوضوح -
على ما أشرنا إليه - وإن أريد به أنها توجب الاستحالة العرضية فلا يتفاوت الحال
من هذه الجهة بين ما لو أريد المعنى الحقيقي منفردا أو بدلا، وبين ما لو أريد
مجتمعا مع المعنى المجازي أو بإرادة مستقلة منضمة إلى إرادة المعنى المجازي،
إذ منافاة الحكمة لا ترتفع بفرض اجتماعه مع المعنى المجازي، أو بفرض تعلق
الإرادة المستقلة به المنضمة إلى إرادة المعنى المجازي، وانتظر لتتمة الكلام في
هذا المقام، فإنه سيلحقك في محله إن شاء الله.
ومنها: أنه يندفع بما قررناه من الفرق بين الدلالتين، وأن المأخوذ في تعريف
الوضع هو الدلالة التصديقية لا غير، التناقض المتوهم بين قضية قول جماعة:
349

بأن ليس الغرض من وضع الألفاظ المفردة إفادة معانيها وإلا لزم الدور، وقضية
التعريف حيث أخذ الدلالة غرضا للتعيين بمقتضى " لام " الغاية، فإن الإفادة ليست
إلا الدلالة، فكيف يجتمع نفي كونها غرضا مع إثبات كونها غرضا في تعريف
الوضع.
ووجه الاندفاع: بعد البناء على صحة توهم الدور فيما قالوه: إن المراد
" بالإفادة " في موضوع القاعدة المذكورة ما ينطبق على الفهم التصوري،
و " بالدلالة " في تعريف الوضع هو الفهم التصديقي بالمعنى المتقدم فلا منافاة،
لتعدد موضوعي القاعدتين، مع اختصاص لزوم الدور بالأول دون الثاني.
أما تقريره في الأول - على ما زعموه -: أن تصور معنى اللفظ متوقف على
العلم بوضع اللفظ له، لاستحالة الفهم من الجاهل، والوضع لكونه نسبة بين اللفظ
والمعنى فالعلم به متوقف على تصور اللفظ وتصور المعنى، فينتج أن تصور المعنى
متوقف على تصور المعنى.
وأما عدم لزومه في الثاني، فلأن التصديق بكون المعنى مرادا وإن توقف على
العلم بالوضع، ولكن العلم بالوضع لا يتوقف عليه، بل على تصور اللفظ والمعنى،
وهو لا يتوقف على التصديق المذكور، بل التصديق المذكور كالوضع يتوقف على
تصورهما فلا دور.
وأما أن الإفادة في مورد القاعدة المذكورة عبارة عما ينطبق على الدلالة
التصورية، فلأن الدور المتوهم هنا هو الدور الذي توهم في قولهم: بتوقف الدلالة
- بعد تفسيرها بفهم المعنى من اللفظ - على العلم بالوضع، وكلامهم صريح في كون
الدور ثمة مفروضا في الدلالة بمعنى التصور.
وإن شئت لاحظ كلام التفتازاني في المطول (1) حيث قرره: بأنه لو توقف فهم
المعنى من اللفظ على العلم بالوضع لزم الدور، لأن العلم بالوضع موقوف على فهم

(1) المطول: 245 (الطبعة الحجرية).
350

المعنى، لأن الوضع عبارة عن النسبة بين اللفظ والمعنى، والعلم بالنسبة متوقف
على فهم المنتسبين.
ولا ريب أن التعبير بفهم المنتسبين صريح في إرادة التصور، لأنه الذي
يتوقف عليه الإذعان للنسبة، فيكون هو المراد بالإفادة في مورد القاعدة.
وأما أن " الدلالة " في تعريف الوضع عبارة عن الفهم التصديقي، فلما أثبتناه
وبرهنا عليه، وعليه ينطبق ما في كلام الجماعة بعدما نفوا كون إفادة المعاني غرضا
من وضع الألفاظ المفردة، من أن الغرض من وضعها إنما هو تفهيم ما يتركب من
معانيها بواسطة تركيب ألفاظها الدالة عليها للعالم بالوضع، فإن تفهيم المعاني
المركبة مآله بالأخرة إلى التصديق بكون المعاني المركبة مرادة، إذ تفهيم المعنى
من فعل المتكلم، وهو عبارة عن طلبه من السامع فهم المعنى الذي قصده وما في
ضميره، ومعلوم ضرورة أنه لا يطلب منه الفهم التصوري، إذ لا يتعلق بمجرد تصور
ما في ضمير المتكلم غرض وفائدة معتد بها، بل يطلب منه الفهم التصديقي، لأنه
الذي يترتب عليه الأحكام المقصودة، إخبارية وإنشائية، ويرادف التفهيم بهذا
المعنى، أو يقرب منه الاستعمال الذي هو أيضا فعل من المتكلم، لأنه استفعال من
العمل، وعمل اللفظ في المعنى إفادته له ودلالته عليه، فاستعماله حينئذ عبارة عن
طلب المتكلم من اللفظ إفادة ما في ضميره، وهو يستلزم طلبه من السامع فهم ما
في ضميره الذي لا ينبغي أن يراد منه إلا التصديق بمراداته كما عرفت.
وقضية ذلك كون الغرض من وضع الألفاظ المفردة هو الاستعمال،
والمفروض أن الغرض من الاستعمال أيضا هو التصديق بالمرادات، فيكون
الغرض من وضع الألفاظ بالأخرة هو التصديق بالمرادات، التي هي المعاني
الموضوع لها الألفاظ المفردة، وإنما اعتبروا التركب في المعاني لأن الاستعمال
المتعقب لتصديق السامع بالمرادات من عوارض اللفظ، وهو لا يعرض الألفاظ
المفردة إلا في التراكيب الكلامية خبرية وإنشائية، فتركب الألفاظ المفردة بعضها
مع بعض من لوازم الاستعمال العارض، وقضية ذلك كون تركب معانيها بعضها مع
351

بعض أيضا من لوازمه، لأن تركب الألفاظ يستلزم تركب المعاني في النفس،
فيكون الغرض من وضع الألفاظ المفردة تفهيم معانيها المركبة باستعمالها،
المستلزم لتركب بعضها مع بعض، المتعقب للتصديق بتلك المعاني المركبة، أي
بكونها مرادة فيرجع الغرض في الحقيقة إلى التصديق بمرادية المعاني المركبة،
فليفهم ذلك.
والعجب من بعض الأعلام (1) أنه تصدى لدفع التناقض المتوهم - حسبما بيناه
- فحمل " الدلالة " في تعريف الوضع على كون اللفظ موجبا لتصور المعنى،
وحاصله: الحمل على الدلالة التصورية، والإفادة في مورد القاعدة المذكورة على
إرادة التصديق بكون المعنى ما وضع له اللفظ، فإن الأول واضح الفساد كما بيناه
بما لا مزيد عليه، والثاني بمراحل عن مقصودهم جدا، وبقي الكلام فيما يتعلق
بالقاعدة المذكورة في أمرين:
أحدهما: في صحة ما توهموه من الدور وسقمه، وغير خفي أنه توهم محض،
مندفع بما ذكروه من منع الملازمة على تقدير صحة كون الغرض من وضع الألفاظ
المفردة إفادة معانيها، على معنى كونها موجبة لتصور تلك المعاني، فإن تصور
المعنى من اللفظ بوصف كونه ناشئا من اللفظ وإن كان يتوقف على العلم بوضع
اللفظ، ولكنه لا يتوقف على تصوره بهذا الوصف بل على تصوره مطلقا.
ومن المعلوم أن تصوره لا بشرط كونه من اللفظ لا يتوقف على تصوره من
اللفظ، ويقرب من ذلك ما قيل من أن تصور المعنى في الحال يتوقف على العلم
بالوضع السابق على تلك الحال، وهو يتوقف على تصوره السابق لا على تصوره
في الحال.
أما ما في محكي نهاية السؤال (2) في شرح منهاج الأصول في دفع الدور أيضا
من: " أن الغرض من وضع اللفظ قد أثبتنا أنه تعريف الغير ما في ضمير المتكلم من

(1) قوانين الأصول: 1.
(2) كذا، والظاهر: نهاية السؤول.
352

المعاني المدلول عليها بالألفاظ، سواء كانت المعاني مفردة أو مركبة ولا دور هنا،
فإنا لا نستفيد العلم بتلك المسميات من تلك الألفاظ، بل نستفيد قصد المتكلم
أو غرضه من المعاني المفردة من ذلك اللفظ المفرد " فغفلة عن مرادهم بما توهموا
وعجز عن دفع المحذور من أصله، فإنهم على ما عرفت لا ينكرون غرضية ما
ذكره بل يعترفون به، ولم يوردوا فيه دورا وإنما أوردوه فيما ذكرناه ودفعناه كما
دفعه المحققون.
وثانيهما: في وجه تخصيصهم إشكال الدور بالألفاظ المفردة، بواسطة تقييد
الألفاظ في عنوان القاعدة " بالمفردة " المخرجة للألفاظ المركبة، فيمكن القول
بأنه بناء على القول بانتفاء الوضع في الألفاظ المركبة، فلا وضع فيها حتى ينظر في
أن الغرض منه هل هو إفادة معانيها أو لا، وأنه على الأول هل يستتبع الدور أو لا،
لكنه بعيد عن كلماتهم جدا، بل الذي ينبغي أن يقال: إنه بناء على منع لزوم الدور
هنا لو كان الغرض من الوضع إفادة المعاني، فإن معاني المركبات تحصل في ذهن
السامع قهرا بواسطة حصول معاني مفرداتها، مع نسبها المخصوصة الطارئة لها
بواسطة الحركات المخصوصة اللاحقة لألفاظها، من غير توقف له على العلم
بالوضع الثابت لها.
وإن شئت صدق هذه المقالة لاحظ عبارة الجماعة، فإنها مصرحة بذلك، قال
في المنية - بعد ما قرر سؤال الدور بالنسبة إلى الألفاظ المركبة -: بأن هذا بعينه
وارد في المركبات، فإنا لا نفهم منها معانيها إلا بعد العلم بكونها موضوعة لتلك
المعاني، وذلك يستدعي سبق العلم بتلك المعاني، فلو استفيد العلم بتلك المعاني
من تلك الألفاظ المركبة لزم الدور.
قلت: لا نسلم أن إفادة الألفاظ المركبة لمعانيها يتوقف على العلم بكونها
موضوعة لها، وبيان ذلك: أنا متى علمنا كون كل واحد من تلك الألفاظ المفردة
موضوعا لمعناه، وعلمنا أيضا كون حركات تلك الألفاظ المفردة دالة على النسب
المخصوصة لتلك المعاني، فإذا توالت الألفاظ المفردة بحركاتها المخصوصة على
353

السمع ارتسمت تلك المعاني المفردة مع نسب بعضها إلى بعض في ذهن السامع،
ومتى حصلت المعاني المفردة مع نسب بعضها إلى بعض حصل العلم بالمعاني
المركبة لا محالة، فظهر أن إفادة اللفظ المركب لمعناه لا يتوقف على العلم بكونه
موضوعا له. انتهى (1).
وهذا البيان وإن كان يدفع الدور المتوهم هنا - إن بنينا على وروده ثمة - لكنه
يعطي بانتفاء الوضع في المركبات رأسا، إذ لو صح فهم معانيها من دون العلم
بالوضع فمآله إلى دعوى: أن ثبوت الوضع وعدمه فيها على حد سواء، ويلزم من
ذلك خروج فعله من الواضع عاريا عن الفائدة، فيقبح صدوره فيمتنع من الحكيم.
ومنها: دفع الاعتراض المتقدم بالنسبة إلى الحروف، فيتجه المنع إلى عدم
دلالتها على معانيها بالمعنى المأخوذ في تعريف الوضع إلا بواسطة ضم الضمائم
وذكر المتعلقات، بل دلالتها عليها بهذا المعنى تحصل بأنفسها وإنما المحتاج إلى
الضم والذكر غير هذه الدلالة، وهو مجرد تصوراتها الذهنية وتحصلاتها العقلية
المتقدمة رتبة على الدلالة المذكورة.
والسر فيه يعلم بملاحظة ما بيناه في تحقيق معاني الحروف في مباحث الكلي
والجزئي، فإنها إذا كانت عبارة عن النسب المخصوصة المحيثة بحيثيات مختلفة
المعنونة باعتبارات وجهات متعينة، فمن حكمها أن لا تدخل في الذهن إلا
بدخول متعلقاتها فيه، فإن النسبة من حكمها أن يتوقف على منتسبيها خارجا
وذهنا، على معنى أن لا تتحقق في الخارج ولا تتعقل في الذهن إلا بتحقق وتعقل
المنتسبين، فالضمائم والمتعلقات لا مدخلية لها إلا في هذه الدلالة.
وأما التصديق بما هو المراد من النسب المخصوصة الحاصلة في الذهن
بملاحظة الضمائم والمتعلقات، للعارف بالموضوع له منها وخلافه، فإنما يحصل
بعد مراجعة جانب اللفظ، باقترانه بما يرجح إرادة المعنى المجازي وتجرده عنه،
فيصدق على الحرف حينئذ أنه لفظ عين للدلالة على المعنى بنفسه، بل أنه لفظ يدل

(1) منية اللبيب في شرح التهذيب: (مخطوط).
354

على المعنى بنفسه، ولا ينافيه ما في كلام النحاة من إنه ما لا يدل على معنى في
نفسه، لتغاير موردي الإثبات والنفي من حيث القيدين، بل القضيتان تتصادقان
عليه بهذا الاعتبار، فإن الظرف في الأولى لغو متعلق " بالدلالة " ولفظة " الباء "
سببية والضمير عائد إلى " اللفظ " بخلاف ما في الثانية فإن لفظة " في " ظرفيه
والظرف مستقر والضمير عائد إلى " المعنى " وحاصل معنى التعريف: أنه غير كائن
في نفسه، أو أنه كائن في غيره، وليس ذلك إلا من جهة أنه أمر نسبي متقوم
بمنتسبيه، وهذا هو الوجه في عدم استقلاله بالمفهومية كما عرفت، إن فسرنا به
عدم كونه كائنا في نفسه كما في كلام النحاة أيضا، وهو بهذا التفسير أيضا غير مضر
في صدق القضية الأولى المستفادة من تعريف الوضع، القاضي بصدق التعريف
عليه أيضا، إذ غاية ما فيه من عدم الاستقلال بالمفهومية إنما هو عدم الاستقلال
بالمفهومية بمعنى الإدراك التصوري.
وقد عرفت أنه مسلم وغير مناف لاستقلاله بالمفهومية من حيث الإدراك
التصديقي، المتعلق بكونه مرادا، المتأخر في الوجود عن الإدراك التصوري
المتوقف حصوله على ملاحظة الغير.
وإن شئت تعريفه الجامع بين التعريفين فقل: " إنه لفظ يدل بنفسه على معنى
غير كائن في نفسه، أو كائن في غيره " وهذا واضح لا غائلة فيه.
وأما ما قد يقال - في دفع الاعتراض أيضا بعد تسليم عدم الدلالة فيه بدون
ذكر المتعلقات -: من أن عدم دلالة اللفظ على المعنى بنفسه قد يكون لقصور اللفظ
عن الدلالة، ولا يكون إلا لانتفاء الوضع كما في المجازات، وقد يكون لقصور
المعنى عن المدلولية بنفسه كما في المقام، فعدم الدلالة لقصور المعنى لا ينافي
استقلال اللفظ في الدلالة لولا قصور المعنى، فتعريف الوضع بالتعيين للدلالة على
المعنى بنفس اللفظ صادق عليه، فلعله لا يجدي نفعا بعد ملاحظة أن هذا البيان
يؤول إلى ما تقدم في الجواب الأول عن اعتراض المشترك، من أن تعيين اللفظ
بالنسبة إلى الدلالة على المعنى بنفسه يعتبر من باب المقتضى، فلا ينافي صدقه
355

انتفاء الدلالة لمصادفة وجود المانع أو فقد الشرط. ومن المعلوم أن قابلية المعنى
للمدلولية بنفسه واستقلاله بالمفهومية شرط لدلالة اللفظ عليه، فانتفاؤها في
الحرف مستند إلى فقد هذا الشرط لا إلى انتفاء المقتضى.
فيضعف بنظير ما تقدم ثمة من أن العلم بمصادفة فقد الشرط مما يخل بصحة
الفعل من الحكيم، فلابد وأن يلتزم إما بعدم إقدام الواضع الحكيم على إيجاد
الوضع رأسا، أو بأنه إنما أوجده لغاية الدلالة بواسطة الغير، وأيا ما كان فهو التزام
بخروجه عن قضية التعريف كما لا يخفى، مع أن المقصود إصلاح التعريف على
وجه يتناوله، ولا يتأتى ذلك إلا بما قررناه.
وأضعف منه ما قيل في الجواب أيضا: من أنا لا نسلم أن دلالة الحرف على
معناه مشروطة بذكر المتعلق، وقول النحاة: " الحرف ما دل على معنى في غيره "
لا يقتضي ذلك، لجواز أن يكون المراد منه ما ذكره بعض المحققين منهم في بيان
ذلك، من أن المعنى ما دل على معنى ثابت في لفظ غيره، فإن " اللام " في قولنا:
" الرجل " مثلا يدل بنفسه على التعريف الذي هو في الرجل، و " هل " في قولنا:
" هل قام زيد " يدل بنفسه على الاستفهام الذي هو في جملة " قام زيد " إلى غير
ذلك.
سلمنا ذلك لكن معنى دلالة اللفظ بنفسه، أن دلالته على المعنى ليست بواسطة
قرينة مانعة عن إرادة المعنى الأصلي والحرف، كذلك فإن ثبوت معنى الحرف في
لفظ غيره مع أنه بالبيان المذكور غير مطرد من أصله غير معقول حتى في المثالين
المذكورين، لوضوح أن التعريف من لواحق معنى اللفظ الآخر، والذي يجري في
اللفظ هو أحكام تعريف المعنى لا أن نفس تلك الأحكام تعريف، وإطلاق المعرفة
على اللفظ اصطلاح لا مدخلية لوضع الحرف باعتبار أصل اللغة فيه، والاستفهام
الذي هو مدلول الحرف يتعلق بمضمون الجملة، ضرورة أنه عبارة عن طلب الفهم
التصديقي فلا يتعلق إلا " بقيام زيد ".
وبما قررناه في وجه افتقار معنى الحرف إلى الغير، يعلم فساد ما قيل في
356

وجهه من أن الواضع اشترط ذكر المتعلق في دلالته على المعنى الإفرادي، فإن
معنى الحرف إذا كان هو النسبة المخصوصة فافتقاره إلى ذكر المتعلق من
ضرورياته وإن لم يشترطه الواضع، بل يكون اشتراطه على هذا التقدير أمرا
سفهيا، ضرورة أن الاشتراط إنما يحسن من الحكيم إذا كان المحل بنفسه قابلا
لفقدانه الشرط.
وقد عرفت أن معنى الحرف لا يعقل إلا بواسطة متعلقه، فذكره ضروري فيقبح
معه التصريح بالاشتراط.
ومنها: دفع الاعتراض بالنسبة إلى أسماء الإشارة ونظائرها، ويعلم وجهه
بملاحظة ما قدمناه في دفع اعتراض المشترك، فإن أصل الدلالة فيها بمعنى
التصديق بإرادة جزئي ما من الجزئيات الموضوع لها يحصل بنفس اللفظ، والقيود
اللفظية أو المعنوية إنما يتحرى عنها بعد إحراز الدلالة لتعيين المدلول عليه بتلك
الدلالة لا غير.
وقد يجاب عنه بمثل ما تقدم في المشترك أيضا: من أن غاية ما هنالك إنما هو
انتفاء الغاية لمزاحمة تعدد الموضوع له، وهو لا يقضي بانتفاء أصل الفعل، ولا
يجب فعلية ترتبها عليه، بل الواجب تعلله بها وصدروه لأجل حصولها، وإن اتفق
عدم حصولها فعلا لمانع.
ورد: بأنه إنما يتم ذلك حيثما كانت مرجو الحصول حال الفعل، وأما مع العلم
بعدمه للعلم بمصادفة المانع سيما إذا كان المانع من قبله فلا.
* * *
357

- تعليقة -
عن عباد بن سليمان الصيمري وأهل التكسير وأوائل المعتزلة أن بين اللفظ
والمعنى مناسبة ذاتية، وأطبق أصحابنا وغيرهم من المحققين على بطلانه، فقالوا
ليس بين اللفظ ومدلوله مناسبة ذاتية تقتضي اختصاص اللفظ بالمعنى في الدلالة.
وتحرير المقام على وجه ينكشف به محل الكلام، أنه لا إشكال في اختصاص
كل لفظ بمعناه وتعينه له، كما لا إشكال في دلالته عليه حيثما أطلق والاختصاص
مع الدلالة على ما يختص به اللفظ من المعنى، كأنهما متلازمان بحسب الخارج
ومعلولان لعلة مشتركة بينهما، وهذا كله مما اتفق عليه الفريقان وإنما اختلفوا في
تعيين هذه العلة المشتركة، فالعباد وأصحابه على أنها المناسبة الذاتية بين اللفظ
والمعنى لا غير، وغيره على أنها الوضع بمعنى الجعل والتعيين لا غير.
وهذا هو المستفاد من كلماتهم في صريح عنواناتهم للمسألة، وتعبيراتهم
عن القولين فيها.
وأما ما يتراءى عن بعض العبارات في حكاية مذهب عباد ومن تبعه، من أنه
يجعل وضع الألفاظ لمعانيها للمناسبات الذاتية بينهما، على معنى أنه بعد اعترافه
بثبوت الوضع يجعله تابعا لها، فلعله لا ينافي ما ذكرناه إن أريد " بالوضع "
ما هو صفة اللفظ أعني التعين والاختصاص، فإنه كما عرفت على القول بالمناسبة
الذاتية من آثار المناسبة، كما هو مقتضى كونها علة فلا اختلاف في نقل هذا
المذهب كما توهم.
358

نعم لو أريد به ما هو فعل الواضع كان الاختلاف ثابتا، غير أنه يتطرق حينئذ
الاسترابة إلى النقل المذكور، لوروده على خلاف المعنى المعروف، مع عدم كونه
مما يساعد عليه حجة هذا المذهب الآتية، من حيث إن مفادها بصراحتها كون
ثبوت الوضع بمعنى الاختصاص متسالما للفريقين، وإنما المقصود بالحجة إثبات
استناده إلى المناسبة دون الوضع بمعنى التعيين والتخصيص.
وبذلك يضعف ما عن جماعة من تأويلهم هذا القول - لظهور فساده بظاهره -
إلى دعوى كون التناسب الذاتي هو العلة الباعثة على الوضع، الذي هو السبب في
دلالة اللفظ على المعنى، ولا ينافيه وصفها بكونها ذاتية، لمكان توقفها على الوضع
المتوقف على المناسبة الذاتية التي هي علة، له فيصدق عليها أنها متوقفة على
المناسبة الذاتية إن أرادوا بالوضع فعل الواضع، وإلا فالوجه المذكور ليس تأويلا
في هذا القول بل هو أخذ بصريحه عنوانا ودليلا حسبما بيناه، وكون المنقول في
كتب الأصول هو القول بالمناسبة الذاتية بين اللفظ والمعنى، وإن كان بنفسه صالحا
للتوجيه المذكور ويتحمله، غير أن انضمام حجته إليه يخرجه عن تلك الصلاحية،
فتأمل.
وفي كلام شارح المنهاج ما يوهم كون الدلالة ذاتية، على معنى دلالة الألفاظ
على معانيها لذواتها، وقضية ذلك كون اللفظ لذاته هو الجهة المقتضية للدلالة لا
المناسبة الذاتية وغيرها، وهو بظاهره واضح البطلان، محجوج عليه بنفس حجة
هذا القول التي مبناها على استحالة الترجح من غير مرجح. وهذا البيان على
فرض الالتزام به تجويز له كما يظهر بالتأمل.
ثم الظاهر أن مرجع القولين إلى دعوى الإيجاب الجزئي والسلب الكلي،
الذي يدعيه الجمهور بالنسبة إلى نفي استناد الدلالة إلى المناسبة الذاتية، فإن من
الألفاظ جملة كثيرة لا يمكن الاسترابة في استناد دلالاتها إلى الوضع بالمعنى
الأعم، من التعيين والتعين الناشئ عن غلبة الإطلاق كالأعلام الشخصية
والمنقولات العرفية عامة وخاصة من الحقائق الشرعية والأمور الاصطلاحية،
359

فمطرح الخلاف حينئذ الألفاظ الأصلية الواقعة في العرف على المعاني الأصلية
الواصلتين عن أصل اللغة، من غير أن يتطرق إليها تغير ولا نقل ولا ارتجال، كلفظ
" الماء " و " الأرض " و " السماء " و " النار " وغير ذ لك.
وإن شئت قلت: موضع النزاع هنا الألفاظ التي وقع النزاع على تقدير ثبوت
الوضع فيها في تعيين واضعها، فالقول بالمناسبة الذاتية في هذه الطائفة من الألفاظ
قول بالإيجاب الجزئي.
وإذا تمهد هذا كله فاعلم: أن الذي ينبغي أن يقطع به ما صار إليه الجمهور من
عدم استناد الدلالة إلا إلى الوضع، بل وعدم كون ما سواه معقولا، بناء على أن
المناسبة مفاعلة من النسبة، وهو الربط الحاصل بين أمرين، وكونها ذاتية معناه
استنادها إلى ذاتي اللفظ والمعنى، على معنى كونهما لذاتهما مقتضيين لها، فإن
ذلك في الحقيقة دعوى غير معقولة كما تعرفه.
لنا: أنه لو كان بين كل لفظ ومدلوله مناسبة ذاتية أستندت إليها الدلالة لكانت
إما علة تامة للدلالة، على معنى، أن لا يكون لما عداها من الأمور العدمية
والوجودية - حتى علم السامع بها - مدخلية في الدلالة، أو سببا معلقا تأثيره على
أمر وجودي كالعلم بها، أو أمر عدمي كعدم القرينة ونحوه، والتالي بكلا قسميه
باطل.
أما الأول: فلقضائه بامتناع اختلاف الأمم باختلاف اللغات، وامتناع
اختصاص الدلالة في حصولها بشخص دون آخر، وامتناع تحقق الجهل لأحد
بشئ من ألفاظ شئ من اللغات المختلفة، ووجوب اهتداء كل أحد إلى جميع
الاصطلاحات المتبائنة، لاستحالة تخلف المعلول عن علته التامة، وقد علمنا
خلاف جميع ذلك ضرورة، هذا مضافا إلى استلزامه استحالة تحقق النقل إن أخذ
فيه الهجر، واستحالة حصول الهجر معه إن لم يؤخذ فيه في الألفاظ المتنازع فيها
لعين ما ذكر، وبطلان اللازم أيضا معلوم بالضرورة.
وأما الثاني: فلقضائه بانسداد باب الدلالة، وامتناع فهم المعنى من كل أحد
360

في كل لفظ من ألفاظ كل لغة، على معنى لزوم أن لا يبلغ إدراك أحد إلى معاني
ألفاظ اللغات، لمكان جهل الكل بالمناسبات الذاتية، وقصور الأذهان عن البلوغ
إلى إدراكها، وبطلان التالي معلوم بالضرورة فالمقدم مثله.
لا يقال: إن الملازمة على التقدير الثاني لعلها ممنوعة، فإن المناسبة الذاتية
بالنسبة إلى الدلالة إذا اخذت من باب المقتضي، المشروط في تأثيره بالعلم بها
أو ما يقوم مقامه - وهو نقل أصل الدلالة إلى الجاهل بالمناسبة ممن أدركها وعثر
عليها - لم يلزم ما ذكر، إذ من الجائز أن يحصل العثور عليها لأوائل أهل اللغة
أو الأوحدي من كل أمة، فتحصل من جهته الدلالة المستندة إليها لهم، فعرفوها
لمن عداهم ممن قصر نظره عن إدراك المناسبة، فيكون الدلالات حينئذ بحيث
نقلها كل سابق إلى لاحقه حتى وصلت إلينا وإلى غيرنا من الجاهلين بالمناسبات،
وإن حصل ذلك النقل بشهادة الحال وقرائن الأحوال نظرا إلى أنه لا يعتبر فيه
التنصيص.
غاية الأمر اشتراط المناسبة في اقتضائها الدلالة بأحد الأمرين، من العلم بها
أو حصول نقل أصل الدلالة المستند إليها لغير العالم بها.
لأنا نقول: بأن الالتزام به عدول عن القول باستناد الدلالة إلى المناسبة الذاتية،
لكون النقل المذكور المعلوم لقاطبة الجاهلين بالمناسبات حينئذ هو العلة التامة
لها، ولا يعقل معه لها مدخلية فيها أصلا، مع أنه لو كانت هناك مناسبات ذاتية
أدركها الأوائل أو الأوحدي من الناس لقضت العادة بنقلها، وامتلئت الأسماع
بحكاياتها، وكثرت التصانيف في ضبطها وجمعها، كما كثرت في ضبط أصل
اللغات، والعلائق المعتبرة في مجازاتها، والأحوال العارضة لها صحة واعتلالا،
إعرابا وبناء، فصاحة وبلاغة، ووضعت للوصول إليها أمارات وعلائم، كما وضعت
للوضع أمارات وعلامات، واللوازم كلها مما يقضي البديهة ببطلانه.
وأما الملازمة: فلتوفر الدواعي إلى هذه اللوازم، وكثرة الفوائد المترتبة عليها
بل دواهي هذه اللوازم القائمة بالنسبة إلى أصل اللغات وأحوالها الإعرابية
والإعلالية وغيرها، وعلائق مجازاتها بأعيانها قائمة هنا.
361

وهنا وجوه أخر احتجوا بها في إبطال القول بالمناسبة، لا يخلو شئ منها
عن شئ:
منها: أنه لو كانت الدلالة باعتبار المناسبة الذاتية لما دل لفظ على معنى
مجازي بواسطة القرينة، لأن ما بالذات لا يزول بالغير، فانسد باب المجاز رأسا،
وأنه باطل.
ويزيفه ما قررناه سابقا، من أن قرينة المجاز لا تنافي الدلالة على الحقيقة، إن
أريد بها مجرد الفهم التصوري.
نعم إنما ينافيها لو أريد بالدلالة فهمها التصديقي، ويتطرق المنع حينئذ إلى
دعوى الملازمة، لجواز كون المناسبة الذاتية عند قائليها معتبرة من باب المقتضي
الصالح لمصادفة وجود المانع وهو القرينة، فليس عدم الدلالة حينئذ من قبيل
زوال ما بالذات بالغير، بل هو من قبيل عدم تأثير ما بالذات بالغير.
ومنها: أنا نقطع بان المنقولات والأعلام وغيرها من الألفاظ التي حدث فيها
الوضع، لم تكن لها قبل حدوثه دلالة على ما يفهم منها بعده، وإنما حدثت فيها
الدلالة عليه تبعا لحدوث الوضع، وأن الكثير منها كان دالا قبل حدوث وضعه
الثاني على ما لا دلالة له عليه بعد حدوثه، وليس ذلك إلا لحدوث الوضع اللاحق
وزوال أثر الوضع السابق بالهجر، إذ لو كانت الدلالة ذاتية لاستوت في جميع
الأحوال.
ويزيفه في شقه الأول ما نبهنا عليه من قضية الخروج عن محل النزاع،
فالخصم في الألفاظ المشار إليها لا ينكر استناد الدلالة بالنسبة إلى المعنى الجديد
إلى الوضع.
ويمكن دفعه في شقه الثاني بجواز الالتزام بكون المناسبة الذاتية بالقياس إلى
الدلالة من باب المقتضى، المشروط تأثيره بعدم مصادفة ما يمنعها عنه، ولا ريب
أن النقل المتضمن للهجر يصلح مانعا.
ومنها: أن من الألفاظ ما يدل على معنيين متنافيين " كالقرء " الدال على الطهر
362

والحيض، و " الجون " الدال على الأبيض والأسود، ولولا ذلك لأجل الوضع لقضي
بأن يناسب الشئ الواحد بالذات كلا المتنافيين، وأن يدل على الاتصاف
بالمتنافيين وأن يختلف ما بالذات إن اعتبر دلالته عليهما معا، أو يتخلف إن اعتبر
دلالته على أحدهما، واللوازم بأجمعها باطلة فكذا ملزومها.
وأجيب عنه: بأن الممتنع كون الشئ الواحد مناسبا للمتنافيين من حيث إنهما
متنافيان، وأما كونه مناسبا لهما من غير جهة التنافي، بل باعتبار أمر مشترك،
أو جهتين مختلفتين فلا امتناع فيه قطعا، ومنه يعلم جواز الاختلاف في المدلول،
فإن امتناعه فرع امتناع المناسبة للمتنافيين، وقد عرفت ما فيه.
وقد يقرر الوجه المذكور على نهج آخر، وهو انه يصح وضع كل لفظ لكل
معنى حتى لنقيض ما قد وضع له وضده، فإنه لو فرض ذلك لم يلزم منه محال
لذاته، بل ذلك معلوم الوقوع " كالقرء " للطهر والحيض وهما نقيضان، و " الجون "
للأسود والأبيض وهما ضدان، ولو كان الدلالة لمناسبة ذاتية لما كان كذلك.
وتقريره: أنا لو فرضنا وضع اللفظ الدال على الشئ لنقيضه أو لضده، دل عليه
دون هذا المدلول لهما فعليهما، وما بالذات لا يتخلف ولا يختلف، هكذا قرره
العضدي، وأوضحه التفتازاني: بأن دلالة الألفاظ على معانيها لو كانت لمناسبة
ذاتية بينهما لما صح وضع اللفظ الدال على الشئ بالمناسبة الذاتية لنقيض ذلك
الشئ أو ضده، لأنا لو وضعناه لمجرد النقيض أو الضد لما كان له في ذلك
الاصطلاح دلالة على ذلك الشئ، فيلزم تخلف ما بالذات وهو محال، ولو
وضعناه لذلك الشئ ولنقيضه أو ضده فدل عليهما لزم اختلاف ما بالذات، بأن
يناسب اللفظ بالذات للشئ ونقيضه أو ضده وهما مختلفان إنتهى. ويظهر ضعفه
بملاحظة الكلمات المتقدمة.
وحجة القول بالمناسبة الذاتية: أنه لو تساوت الألفاظ بالنسبة إلى المعاني لم
تختص الألفاظ بالمعاني، وإلا لزم الاختصاص بدون تخصيص أو التخصيص
بدون مخصص، وكلاهما محال.
363

وحاصله: أنه إن لم يكن مع الاختصاص المفروض تخصيص فهو المحال
الأول، لأنه ترجح بلا مرجح، وإن كان معه تخصيص فهو المحال الثاني، لأن
المفروض كون اللفظ الواحد متساوي النسبة إلى جميع المعاني، والمعنى الواحد
متساوي النسبة إلى جميع الألفاظ.
وجوابه التحقيقي: منع الملازمة باختيار الشق الثاني وهو كون الاختصاص
عن تخصيص، ودعوى: أنه تخصيص بلا مخصص، ممنوعة، أما أولا: بالنقض
بالأعلام وغيرها مما عرفت خروجها عن محل النزاع، فإن الاختصاص المستند
فيها إلى التخصيص مما لا إشكال ولا خلاف فيه، فكل ما يخرج ذلك عن محذور
الترجيح بلا مرجح، يوجب خروج محل الكلام عنه.
وأما ثانيا: فلأن التخصيص يقتضي مرجحا ما، وأما أنه المناسبة الذاتية دون
غيرها فلا، لجواز أن يكون هناك وجوه واعتبارات أو حكم خفية أحاط بها علم
الواضع الحكيم، فاختار كل لفظ لمعناه لوجه واعتبار أو حكمة من الحكم، وليس
علينا تعيين ذلك، كالوجوه المرعية في وضع الأعلام وغيرها من الأمور
الاصطلاحية.
وقد يجاب عنه أيضا: بمنع استحالة ترجيح أحد المتساويين من دون مرجح
إن أريد به مجرد الاختيار، وإنما المستحيل جعله راجحا وهو حسن.
وفي كلام غير واحد الجواب عنه بمنع الملازمة، فإن إرادة الواضع المختار
يصلح مخصصا من غير انضمام داعية إليها، فمن الله كتخصيص خلق الحوادث
بأوقاتها، ومن الناس كتخصيص الأعلام بمسمياتها.
ورد عليه: أن الاكتفاء بالإرادة في الترجيح التزام بالترجيح بلا مرجح، لأن
الإرادة لكونها اختيارية بنفسها تقتضي مرجحا، وقد يذب عنه بالنسبة إلى إرادة
الله بأنها عبارة عن العلم بالأصلح، وهو لا يقتضي مرجحا، وبالنسبة إلى إرادة
الناس بأن المرجح خطور اللفظ وحده عما بين الألفاظ، وسبق المعنى إلى الذهن
عما بين المعاني.
364

ويرد على الأول: أن الالتزام بكون المرجح هو العلم بالأصلح يقرب من كونه
التزاما بموجب الحجة، لجواز أن يستظهر الخصم بأن يدعي أن الأصلحية المعلومة
إنما هي من جهة المناسبة الذاتية، ومعها لا حاجة إلى تخصيص.
وعلى الثاني: أن أخذ الحضور (1) والسبق مرجحين لا يكاد يجدي، لما
يشاهد بالوجدان عند إرادة الوضع أن كثيرا ما يخطر بالبال ألفاظ كثيرة، أو يسبق
إلى الذهن معاني عديدة، ومع ذلك لا يختار إلا لفظ معين لمعنى معين، وهذا مما
يقتضي مرجحا، فالوجه في الجواب هو ما قررناه، ودونه تاليه.
وقد يفرع القول بالمناسبات الذاتية على ما أطبق عليه علماء العدد، من
إثبات الطبائع لحروف التهجي على حد ما هو ثابت في العناصر، فكما أن للعناصر
طبائع يترتب عليها آثار مختلفة، ومن جهتها انقسمت إلى أنواع أربعة، منها ما له
طبيعة تقتضي الحرارة واليبوسة وهو النار، ومنها ما له طبيعة تقتضي الحرارة
والرطوبة وهو الهواء، ومنها ما له طبيعة تقتضي البرودة والرطوبة وهو الماء، ومنها
ما له طبيعة تقتضي البرودة واليبوسة وهو الأرض، فكذلك الحروف فإنها لتضمنها
طبائع تترتب عليها آثار مخصوصة تنقسم - على ما ذكر في بعض كتبهم - إلى
كونها نارية وهوائية ومائية وأرضية.
أما النارية فسبعة حروف يجمعها " أعهطحفش " وطبيعتها الحرارة واليبوسة
كالنار، وأما الهوائية فسبعة حروف يجمعها " قيصغظكض " وطبيعتها الحرارة
والرطوبة كالهواء، وأما المائية فسبعة أيضا يجمعها " سلزتنود " وطبيعتها البرودة
والرطوبة كالماء، وأما الأرضية فسبعة أيضا يجمعها " جمرنحبشذ " وطبيعتها
البرودة واليبوسة كالأرض، ولذلك تراها تترتب عليها باعتبار صورها الأفرادية
والتركيبية على وجوهها المختلفة بوجوداتها النطقية والكتبية في العوالم العلوية
والسفلية من غرائب الآثار وعجاب الأسرار ما لا يكاد يخفى على أولي الأبصار،
كما يشهد به ما يشاهد بالنقل والتجارب والامتحانات من التأثير في الحروف

(1) كذا في الأصل.
365

المقطعة والعوذات والطلسمات والنيرنجاب والأشكال المشتملة على الأعداد من
المثلثات والمربعات وغيرها، وهذا كما ترى في غاية الوهن والسقوط، لعدم
انطباق المناسبات عند قائليها على القاعدة المذكورة، لأن مرادهم بالمناسبات
الذاتية إما أن يكون ما يتبعه أصل دلالات الألفاظ على معانيها، كما هو المعنى
المعروف من محل الخلاف، أو ما يتبعه الوضع للدلالة على ما زعمه بعضهم
واحتمله جماعة، وأيا ما كان فتوهم التفريع فاسد.
أما على الأول: فلأن الدلالة بالنسبة إلى اللفظ ليست من باب الآثار المترتبة
على طبائع الحروف التي يتألف منها اللفظ، وإلا لزم إما توقف تلك الآثار في
ترتبها على العلم بالجهة المقتضية لها، أو عدم توقف الدلالة في حصولها على العلم
بالجهة المقتضية لها، واللازم بكلا قسميه يبطله دليل الخلف، فإن الدلالة لا تحصل
إلا للعالم بالجهة المقتضية، وآثار طبائع الحروف لا تدور مدار العلم بطبائعها
المقتضية لها.
وتوضيحه: أن الآثار الغريبة والأسرار العجيبة إنما تترتب على طبائع
الحروف من باب الخاصية، على معنى إنها خواص أودعها الله عز وجل لحكمته
البالغة فيها كالخواص المودعة في كثير من الأجسام المركبة من العناصر الأربعة،
بل الخواص المودعة في الأدوية والمعاجين حسبما هو معهود عند الأطباء، ومن
حكم الخواص أن لا يكون للعلم والجهل مدخلية فيها، كما في سمية السم، بخلاف
دلالة اللفظ على المعنى، فإنها وإن كانت من آثار اللفظ غير أنها متوقفة على العلم
بالجهة المقتضية لها، من مناسبة ذاتية أو وضع أو قرينة، فلو جعلناها من مقتضيات
طبائع الحروف التي تألفت منها الألفاظ على حد سائر الآثار الغريبة والأطوار
العجيبة، لامتنع حصولها إلا للأوحدي الواقفين على الطبائع، كعلماء العدد مثلا
وخلافه معلوم بالضرورة، وذلك مما يكشف حينئذ عن عدم مدخلية لها في الدلالة
وعدم كونها منوطة بها ومتوقفة عليها.
وتوهم كون الأوحدي بعد ما حصل لهم الدلالة بعثورهم على الطبائع
المقتضية لها عرفوها لمن لم يبلغ رتبتهم.
366

يدفعه أولا: ما تقدم إليه الإشارة.
وثانيا: كونه خلاف الفرض على ما هو معلوم أيضا ضرورة، فإن المفروض
عدم استناد معرفة الدلالات إلى نقل علماء العدد وغيرهم من الواقفين بطبائع
الحروف، هذا مضافا إلى أن مدخلية طبائع حروف الألفاظ بالنارية والهوائية
والمائية والأرضية في الدلالة على المعاني أمر بنفسه غير معقول، ولو مع العلم
بتلك الطبائع.
لا يقال: ليس المراد بالتفريع المذكور أن طبائع الحروف بأنفسها مؤثرة في
الدلالة، فإن ذلك إنما يتجه على ما كان يوهمه بعض العبارات من تفسير ذاتية
الدلالة بكون الألفاظ لذواتها دالة على معانيها، وليس الأمر كما يوهمه كما تقدم
الإشارة إليه، بل المراد استناد الدلالة إلى التناسب الحاصل فيما بين الألفاظ
والمعاني في الطبيعة، باعتبار كون كل منهما ذوات الطبائع وهذا أمر معقول.
لأن ذلك مما يوهنه ما يبطل به الوجه الثاني، وهو أن كون وضع الألفاظ
حاصلا تبعا للمناسبة الحاصلة بينها وبين المعاني في الطبائع إنما يستقيم بعد
إحراز مقدمات أربع.
أحدها: كون الألفاظ أو الحروف التي يتألف منها الألفاظ ذوات طبائع، على
معنى كون طبائعها من نوع الطبائع الثابتة في المعاني في الجملة، كما إذا كانت من
مقولة العناصر أو الأجسام المركبة منها، وهو موضع منع، ولا ينافيه ما عليه علماء
العدد، لمكان البينونة بين الطبائع التي أثبتوها للحروف والطبائع الثابتة للعناصر،
ولذا ترى أن الآثار واللوازم المترتبة على كل واحدة منهما غير الآثار واللوازم
التابعة للأخرى.
ومن الظاهر أن اختلاف اللوازم مما يكشف عن اختلاف الملزومات، وتنويع
الحروف عندهم إلى الأنواع الأربع المتقدمة مبني على ضرب من الاستعارة
والتشبيه، لا أن معنى نارية الحروف أو مائيتها أنها تؤثر أثر النار أو الماء في
الحقيقة، فإن ذلك باطل ببديهة من الحس والوجدان.
367

ولعل النظر في ذلك إلى أن الحرارة المترتبة على النار كما أنها تستلزم تعبا
وشدة وألما، والبرودة المترتبة على الماء كما أنها تستلزم سكونا وراحة ولذة،
فكذلك التأثيرات المترتبة على الحروف النارية من التفريق والعداوة والهلاكة،
والتأثيرات المترتبة على الحروف المائية من التحبيب والجمع ونيل الآمال
تستلزم هذه الأمور كما لا يخفى، فليست الألفاظ ذوات طبائع بالمعنى الذي يعتبر
في العناصر وما يتركب منها.
وثانيتها: كون المعاني بأجمعها ذوات طبائع، وهذه أيضا في محل المنع
لوضوح أن أكثر المعاني المتداولة في المحاورة من مقولة الأعراض، من الأفعال
والكيفيات والكميات والإضافيات كالفوقية والتحتية والاعتباريات والفرضيات
ولا يعقل لها طبائع تقتضي ما تقدم من مقتضيات العناصر.
وثالثتها: حصول التناسب بين طبائع الألفاظ وطبائع المعاني، على معنى كون
طبيعة معنى كل لفظ مناسبة لطبيعة حروف ذلك اللفظ، وهذه أيضا موضع منع،
ويكفي في سنده ملاحظة الألفاظ الأربع الموضوعة للعناصر الأربع، فإن في لفظ
" النار " ليس من الحروف النارية إلا حرف واحد، وأما " الهواء " فليس فيه شئ
من الحروف الهوائية، ولا في " الماء " شئ من الحروف المائية، ولا في
" الأرض " شئ من الحروف الأرضية.
ورابعتها: كون التناسب على فرض حصوله في قاطبة الألفاظ والمعاني مما
لاحظه الواضع، واعتبره وأوجد الوضع في الكل لأجله، وهذا أيضا واضح المنع.
وربما ينزل القول بالمناسبة أيضا على ما عليه أئمة الاشتقاق والتصريف، كما
عن السكاكي من أن للحروف بأنفسها خواص بها تختلف، كالجهر والهمس
والشدة والرخاوة والتوسط بينهما وغير ذلك، وتلك الخواص تقتضي أن يكون
العالم بحالها إذا أخذ في تعيين شئ مركب منها لمعنى لا يهمل التناسب بينهما
قضاء لحق الحكمة " كالفصم " بالفاء الذي هو حرف رخوة لكسر الشئ من غير
أن يبين و " القصم " بالقاف الذي هو حرف شدة لكسر الشئ حتى يبين، وأن
368

الهيئات تركيب الحروف أيضا خواص كالفعلان والفعلى بالتحريك، كالنزوان
والجيدي لما في مسماهما من الحركة، وكذا باب " فعل " بضم العين مثل شرف
وكرم للأفعال الطبيعية اللازمة.
وهذا الكلام وإن كان لا يساعد عليه المذهب المعروف من أهل القول
بالمناسبة الذاتية ولا ظاهر حجته المتقدمة - حسبما بيناه سابقا - غير أنه بنفسه
دعوى لا تنكر في باب الوضع، فإن ما ذكره أيضا من الوجوه والاعتبارات
الداعية إلى الوضع والتخصيص، ومنها: انطباق لفظ معين بصورته على الصوت
المرتفع عن مسماه.
فإن شئت قلت: إنه يؤخذ من الألفاظ ما هو بوزان هذا الصوت، فيوضع لذيه
كما في الغراب والهدهد، الموضوعين لنوعين من الطير، ولعل البعير الذي جمعه
" الأباعر " من هذا الباب، ويمكن القول بكون " القصم " و " الفصم " أيضا من هذا
الباب، كما يشهد به التأمل الصادق.
ومنها: ما لو كان المسمى مناسبا في بعض صفاته لمسمى لفظ آخر، فيؤخذ
من ذلك اللفظ لفظ آخر ويوضع لذلك المسمى، كما في " الإنسان " المأخوذ على
ما قيل من الأنس أو النسيان الموضوع للحيوان الناطق لما فيه من الوصفين.
وبالجملة: فالواضع لوجوب حكمته لا يعدل عما هو أولى من مراعاة ما يدفع
عن فعله توهم الترجيح من غير مرجح، وليس بلازم أن يكون ذلك مناسبة ذاتية
بمعنى يعم التناسب المتوهم فيما بين المعاني والحروف التي يتألف منها الألفاظ
في الطبائع الأربع المذكورة على تقدير ثبوتها واطرادها في كلا الطرفين،
وحصول الموافقة بينهما فيها، كيف وكل من ذلك محل منع.
* * *
369

- تعليقة -
اختلفوا في توقيفية اللغات مطلقا أو اصطلاحيتها كذلك، أو توقيفية القدر
الضروري المحتاج إليه في التعريف واصطلاحية الباقي، أو اصطلاحية القدر
الضروري المحتاج إليه وتوقيفية الباقي، أو الوقف مطلقا. أو التوقيف إن اكتفى فيه
بغير قطعي وإلا فالوقف، على أقوال عزي أولها إلى أبي الحسين الأشعري
ومتابعيه، وجماعة من الفقهاء، فقالوا: إن واضع اللغة هو الله ووضعها توقيفي
مستفاد من وحي، أو خلق الأصوات، أو حروف يسمعها واحد أو جماعة من
البشر، أو خلق علم ضروري به.
وثانيها: إلى أبي هاشم الجبائي وأصحابه وجماعة من المتكلمين، فقالوا: إن
وضع اللغة اصطلاح من البشر من واحد أو جماعة تواطؤوا على وضعها، ثم حصل
التعريف لآخرين بالإشارة والقرائن مع التكرار، كما أن الأطفال يتعلمون اللغات
بترديد الألفاظ مرة بعد أخرى، مع قرينة الإشارة وغيرها.
وثالثها: إلى الأستاد أبي إسحاق الأسفرائيني، فقال: بأن ابتداء اللغة توقيفي
والباقي اصطلاحي.
والرابع: إلى جماعة قالوا بعكس الثالث.
والخامس: إلى القاضي أبي بكر والغزالي والمحققين، كما في المحكي عن
370

المحصول (1) وحكاه في النهاية (2) عن جمهور المحققين واستقربه، وإن قوى القول
بالتوقيف أيضا (3)، فقالوا بإمكان الجميع عقلا، وفقدان ما يوجب العلم ببعض ما
ذكر على جهة التعيين فلابد من الوقف.
والسادس: إلى أكثر المتأخرين منا ومن العامة، وصار إليه ابن الحاجب (4)
وهو المعتمد تعويلا على ما سيجيء من آية اختلاف الألسنة، وظاهر أن معقد هذا
الخلاف ومورد تلك الأقوال هي الموضوعات الأصلية التي لم يطرأها نقل
ولا ارتحال، ولا تطرق إليها تغيير وإبدال، وأما غيرها من المنقولات الشرعية
والعرفية العامة أو الخاصة والأعلام الشخصية فلا ينبغي الاسترابة في كونها من
موضوعات البشر، وليس المراد بالوضع المتنازع في واضعه مجرد تأليف
الحروف المفردة وضم بعضها إلى بعض، وإن أوهمه بعض الوجوه الآتية المقامة
على التوقيف، بل جعل المؤلفات بإزاء معانيها، ولو قيل بالملازمة بين التأليف
والجعل، على معنى كون المؤلف هو الواضع على كلا قولي التوقيف والاصطلاح
لم يكن بعيدا، فيكون النزاع في الجعل الذي يلزمه النزاع في التأليف تبعا مع
الاتفاق على الملازمة، وليس في المسألة أصل يعتمد عليه، من أصل العدم
وأصالة التأخر، للقطع بحدوث ما حدث، والشك في تعيين محدثه من دون أن
يرجع إلى بدو زمانه.
نعم قد يقرر الأصل بمعنى الغلبة لكل من التوقيف والاصطلاح، أما على
الأول: فبناء على أخذ وضع اللغات من مقولة إيجاد الكائنات وخلق الموجودات.
وأما على الثاني: فبناء على جعله من مثابة تأليف المواد البسيطة التي أصل

(1) المحصول في علم الأصول 82: 1.
(2) نهاية الوصول إلى علم الأصول: الورقة: 15 (مخطوط) حيث قال: والجمهور من المحققين
توقفوا هنا وهو اختيار القاضي أبي بكر والغزالي.
(3) نفس المصدر.
(4) حيث قال: فالأقرب التوقف وتجويز كل منهما وإن كان التوقيف أقوى. (نهاية الوصول إلى
علم الأصول): الورقة 16 (مخطوط).
371

إيجادها من الله سبحانه، وغيره من الأحوال العارضة لها على الانفراد أو
الانضمام من الخلق، بدعوى: أن الحروف التي هي مواد الألفاظ مما أوجده الله
تعالى، ففوض ما عداه من تأليفها وجعل المؤلف منها بإزاء مسمياتها إلى خلقه،
كما في سائر الأشياء وإن كان الإقدار عليهما أيضا منه تعالى، والكل ضعيف
وليس فيها أيضا ثمرة يعتد بها، وربما يذكر ثمرات ضعيفة:
منها: عدم صحة ما صار إليه المتأخرون في الحروف والمبهمات وغيرها، من
عموم الوضع وخصوص الموضوع له، على القول بواضعية البشر لاستحالة
ملاحظة ما لا يتناهى في زمان متناه عليه، وصحته على القول بواضعية الله تعالى
لكونه قد أحاط بكل شئ علما.
ويزيفه: عدم اعتبار الملاحظة التفصيلية، كعدم استحالة الملاحظة الإجمالية
من البشر، الحاصلة بملاحظة آلة الملاحظة، وهي كافية في الوضع، وإن كان
الواضع هو الله سبحانه.
ومنها: جواز نفي اعتبار المرة والتكرار والفور والتراخي الزائدة على أصل
الماهية عند وضع الصيغة لها بأصل العدم على القول بواضعية البشر، لجواز الذهول
والغفلة في حقه وعدم جوازه على القول الآخر، لأنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة
في الأرض ولا في السماء، ولا يشغله علم شئ عن علم شئ، ويستحيل عليه
الغفلة والذهول.
ويزيفه: أن ليس المراد بعدم الملاحظة عدم الالتفات إلى ما زاد على أصل
الماهية ليستحيل إسناده إليه تعالى، بل عدم اعتبار الزائد وأخذه من أجزاء
الموضوع له أو قيوده كما هو واضح، فلا ينافيه الالتفات كما لا يلازمه عدمه.
ومنها: عدم جواز وضع المفرد المعرف باللام للمعهود الذهني على تقدير
واضعية الله تعالى، لما فيه من القبح الذي هو منزه عنه، وجوازه على التقدير الآخر
لعدم استحالة القبيح على البشر.
ويزيفه: منع القبح أولا في هذا الوضع على تقدير وقوعه، حيث لا مقتضى له
372

عقلا، ومنع جوازه من البشر لو كان هو الواضع، لما في الواضع من وجوب الحكمة
ولو بشرا، فيستحيل الوضع المذكور على تقدير قبحه على القولين معا.
حجة القول بالتوقيف: مضافا إلى بعد اهتداء العقول إلى مثل هذا الاختراع
المشتمل على دقائق الحكم ولطائف البدع من دون توقيف من الله تعالى، وجوه
عمدتها قوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها) (1) بتقريب: أن " الاسم " هنا
محمول على ما يتبادر منه في العرف العام، وهو اللفظ الموضوع لمعنى، ويحتمل
كونه محمولا على معناه اللغوي أعني العلامة، بناء على كونه من الوسم والسمة
لهذا المعنى، فيراد به هاهنا ما يرادف المعنى العرفي، باعتبار أن كل لفظ موضوع
علامة لمعناه الموضوع له، من حيث كشفه عنه وإيجابه انتقال الذهن إليه،
فالأسماء لظهوره في العموم بل نصوصيته فيه هاهنا بقرينة تأكيده بما هو نص فيه
يشمل جميع الألفاظ الموضوعة، حتى ما هو من مقولة الأفعال والحروف.
وبذلك يندفع ما قد يتوهم من كون الدليل أخص من المدعى لعدم تناول
الأسماء للأفعال والحروف، فإن خطاب الشرع لا ينزل على الأمور الاصطلاحية،
والاسم في العرف واللغة لا يختص بما يختص به في اصطلاح النحو المحدث،
وربما يستشهد لإرادة ما ذكر من المعنى مع عمومه بما اشتهر من أن الله تعالى أنزل
على آدم (عليه السلام) حروف المعجم في إحدى وعشرين صحيفة، وهي أول كتاب أنزل
إلى الدنيا وفيه ألف لغة، وأنه تعالى علمه جميع تلك اللغات.
وقد روى عن أبي ذر الغفاري (رضي الله عنه) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: قلت له يا رسول
الله (صلى الله عليه وآله) كل نبي مرسل بم يرسل؟ قال بكتاب منزل، قلت: يا رسول الله أي كتاب
أنزل الله تعالى على آدم؟ قال كتاب المعجم، قلت: أي كتاب المعجم، قال ا ب ت
ث وعدها إلى آخره.
وفي تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) عن علي بن الحسين (عليه السلام) في معنى الآية،
علمه أسماء كل شئ وفيه أيضا أسماء أنبياء الله وأوليائه وعتاة أعدائه.

(1) البقرة: 31.
373

وفي حديث الشفاعة فيأتون آدم (عليه السلام) فيقولون: أنت أبو الناس، خلقك الله
بيده وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شئ.
وعن ابن عباس ومجاهد وقتادة، أنه علمه اسم كل شئ حتى القصعة
والقصيعة.
وربما يحتمل إرادة ما يعم الألفاظ وغيرها من أنواع المدركات من
المعقولات والمحسوسات، تعليلا: بأن اللغة وحدها ليست علما يصلح به تفضيل
آدم (عليه السلام) على الملائكة كما يقتضيه سوق الآية، والظاهر عدم كونه في محله، فإن
تعليم اللغة إذا أريد به أعلام الوضع كما هو المقصود من الدليل، يستلزم تعليم سائر
أنواع المدركات، نظرا إلى أن الوضع نسبة بين اللفظ والمعنى، فالعلم بها على معنى
الإذعان لتلك النسبة لا يتأتى إلا بمعرفة المنتسبين، فتعريف المعاني بأسرها لازم
من تعريف ألفاظها الموضوعة، ومعه لا حاجة إلى ارتكاب خلاف الظاهر في
الأسماء الظاهرة في الألفاظ وحدها.
وأما ما يقال - في دفع الاحتجاج -: من كون الأسماء مرادا به المسميات
والحقائق، بقرينة ما يختص بذوي العقول من الضمير، في قوله تعالى: (ثم
عرضهم على الملائكة) (1) فلو أن المراد به الألفاظ لوجب أن يقال: ثم عرضها.
فيدفعه: أن إصلاح الضمير بإرجاعه إلى المسميات والحقائق لا يقضي
بارتكاب التجوز في الأسماء، بعد ما بينا لك من أن تعليم الألفاظ المتضمن لإعلام
الوضع يدل بالالتزام على تعريف المعاني.
غاية الأمر، كون المرجع حينئذ معنويا على ما قرر في محله ولا ضير فيه، كما
لا تجوز فيه بعد ملاحظة كون وضع ضمير الغائب لما هو معهود بين المتكلم
والسامع، دل عليه الكلام بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام.
مع أن الحمل على المسميات على إطلاقه لا يكفي في حصول هذا الغرض،

(1) البقرة: 31.
374

بل لابد من تقدير عود الضمير إلى ذوي العقول منها، وحينئذ يلزم في الأسماء
مجاز آخر باعتبار الهيئة زيادة على ما لزم منه فيها باعتبار المادة.
ولا ريب أن الالتزام بهما من دون ما يقضي من القرائن باعتبار شئ منهما
في الكلام خروج عن القواعد اللفظية، وكون كل شئ من الموجودات حتى
الأحجار والحيوانات العجم بحسب استعداده وفي حد ذاته ذا عقل وشعور يعرف
به بارئه ويسبح من جهته خالقه على ما نطق به بعض الآيات وورد عليه بعض
الروايات، لا يجدي نفعا في التفصي عن الإشكال بالنسبة إلى الهيئة، بدعوى: عدم
الحاجة إلى إخراج المسميات عن إطلاقها اكتفاء بما ذكر من العقل والشعور، لعدم
كون هذا النحو من العقل معتبرا في نظر أرباب الفن بالنسبة إلى قواعدهم المقررة
في باب الألفاظ، مع أن التصرف في المادة بالحمل المذكور مما يأباه الضمير في
" كلها " مع عدم تحمله إلا العود إلى " الأسماء " فلولا المراد بها الألفاظ لوجب أن
يقال: كلهم. فالاختلاف بينه وبين الضمير في " عرضهم " قرينة واضحة على تغاير
مرجعيهما، وعليه يتعين كون " الأسماء " مرادا بها الألفاظ، وضمير " عرضهم "
مرادا به المدلول عليه بالالتزام، إما بتأويله إلى إرادة الخمسة الطاهرة من أهل
العصمة، أو الأربعة عشر المعصومين بأجمعهم (عليهم السلام)، أو كافة الأنبياء والأوصياء
وغيرهم من الأولياء، أو ما يعمهم وعتاة أعداء الله تعالى على ما نطق به بعض
الروايات المتقدمة من كون المراد بالأسماء ما يعم أسماءهم، بل في تفسير
الإمام (عليه السلام) ما يقضي باختصاص " الأسماء " هنا بأسمائهم، حيث قال: (وعلم آدم
الأسماء كلها) (1) أسماء أنبياء الله، وأسماء محمد وعلي وفاطمة والحسن
والحسين، والطيبين من آلهما، وأسماء أخيار شيعتهم، وعتاة أعدائهم، ثم عرضهم
أي عرض محمدا وعليا والأئمة على الملائكة، أي عرض أشباحهم وهم أنوار
في الأظلة، فقال: (أنبؤني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) (2) انتهى كلامه.

(1) البقرة: 31.
(2) البقرة: 33.
375

مع أن هذا الضمير بمقتضى السياق منساق على ما انساق به الإشارة في قوله:
(أنبؤني بأسماء هؤلاء) والضميران في قوله: (يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما
أنبئهم بأسمائهم) فيكون الجمع المعرف منطبقا على الجمع المضاف في هذه
المواضع الثلاث، ومن المستحيل كونه فيها مرادا به المسميات والحقائق، وإلا لزم
إضافة الشئ إلى نفسه كما لا يخفى، فينهض ذلك أيضا قرينة واضحة على عدم
الخروج عن مقتضى الحقيقة في الجمع المعرف أيضا، نظرا إلى أن التفكيك مما
ينفيه وحدة السياق، مضافة إلى أصالة الحقيقة.
وأضعف مما ذكر ما احتمل أيضا في دفع الاحتجاج من كون التعليم مرادا به
الإلهام بوضع الأسماء، كما في قوله تعالى: (وعلمناه صنعة لبوس لكم) (1) أو
الإقدار على وضعها، فإن في الثاني من المجاز في التعليم وإضمار الوضع وتجريد
الأسماء عن الوضع ما لا يخفى، والأول وإن سلم عن المجاز في التعليم، حيث إن
الإلهام من جملة طرق التعليم، ولا مانع من حصوله في المقام بهذا الطريق حتى
على ما عرفته من تقريب الاستدلال، وأما الإضمار والتجريد فلا مناص عنهما.
ومما أورد على الاستدلال أيضا أنه - بعد تسليم جميع ما مضى - إنما يجدي
إذا ثبت كون الأسماء التي علمها الله آدم (عليه السلام) هي الألفاظ المتداولة عندنا،
واللغات المتعارفة لدينا ولا دليل عليه، مع أنه قد شاع واشتهر أن اللغة العربية إنما
حدثت في زمان إسماعيل وأن العرب من ولده.
ويندفع بعد ملاحظة أصالة التشابه، بأصالة عدم حدوث شئ سوى ما علمه
الله تعالى آدم، فإنه القدر المقطوع بحدوثه، وأصالة بقاء ما علمه آدم بعده
واستمراره إلى زمان القطع بانسلاخه، وحكاية حدوث اللغة العربية في زمان
إسماعيل وإن اشتهرت في الألسنة، وصرح به بعض الأجلة إلا أنها من الأكاذيب
المشهورة والأغلاط المعروفة، حيث لا مستند ولا مأخذ لها، فيدفعها أولا:
عدم القول بالفصل.

(1) الأنبياء: 80.
376

وثانيا: بعد تأخر حدوث تلك اللغة عن غيرها، مع اشتمالها من الفصاحة
وغيرها من الدقائق المحكمة واللطائف المتقنة على ما لم يشتمل عليه غيرها.
وثالثا: ما في بعض النصوص على ما حكاه السيد الجليل من أن أول من
تكلم بالعربية آدم (عليه السلام).
ورابعا: ما ذكره السيد أيضا من أن الحميريين والعمالقة وقوم ثمود وعاد كلهم
من العرب، وقد كانوا قبل إسماعيل بمدة متطاولة، نعم آل أدنان - وهم طائفة
من العرب - من ولد إسماعيل.
وأما اشتهار هذه الحكاية فيمكن توجيهه: بأن ذرية آدم (عليه السلام) كانوا بأجمعهم
عالمين بجميع تلك اللغات، فلما تفرقوا في أكناف الأرض اختار كل قوم منهم لغة
فتكلموا بها، وكان ما اختاروه غير لغة العرب فبقيت غير مشهورة إلى زمان
إسماعيل، ثم اشتهرت في زمانه وتكلم أولاده بها، فتوهم أنها إنما حدثت في
زمانه. كما يمكن توجيهه أيضا: بأن آدم رخص كل طائفة من ولده بتعلم لغة، فلما
تفرقوا وانتشروا في أكناف الأرض كان أهل اللغة العربية ضعفاء قليلين غير
معروفين إلى زمان إسماعيل، فتكثروا في ذلك الزمان واشتهروا فاشتهرت لغتهم،
فتوهم الآخرون أنها محدثة، هكذا قيل.
نعم يمكن الإيراد عليه: بأن غاية ما يدل عليه الآية بعد اللتيا والتي، كون
الأسماء بالمعنى المذكور مما علمه الله تعالى آدم (عليه السلام)، وأما كون وضعها من الله
تعالى كما هو المطلوب أو من غيره فهي ساكتة عنه، فيجوز أن يكون المراد
" بالأسماء " ما وقع من ولده من الاصطلاحات واللغات، لمكان علمه تعالى به
وتساوي علمه بالقياس إلى الماضي والحال والاستقبال، أو من خلق سابق عليه،
بناء على ما يستفاد من النصوص من وجود خلق آخر قبله.
وقد نقل عن علي بن إبراهيم أنه روى في تفسيره في الصحيح أو الحسن
كالصحيح عن مولانا الصادق (عليه السلام) أنه قال: إن الله تبارك وتعالى أمر الملائكة
بالسجود لآدم (عليه السلام)، فدخل في أمر الملائكة إبليس، وأن إبليس كان مع الملائكة
377

في السماء، يعبد الله وكانت الملائكة تظن أنه منهم ولم يكن منهم، فلما أمر الله
تعالى الملائكة بالسجود لآدم (عليه السلام) أخرج ما كان في قلب إبليس من الحسد، فعلم
الملائكة عند ذلك أن إبليس لم يكن منهم، فقيل له (عليه السلام) فكيف وقع الأمر على
إبليس، وإنما أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم (عليه السلام) فقال (عليه السلام): كان إبليس
منهم بالولاء ولم يكن من جنس الملائكة، وذلك أن الله خلق خلقا قبل آدم (عليه السلام)،
وكان إبليس فيهم حاكما في الأرض فعتوا وأفسدوا وسفكوا الدماء، فبعث الله
الملائكة فقتلوهم وأسروا إبليس ورفعوه إلى السماء، فكان مع الملائكة يعبد الله
إلى أن خلق الله تبارك وتعالى آدم (عليه السلام).
وفي معناه ما رواه المحدث القاشاني في تفسيره، والنصوص الدالة على
وجود الجن والنسناس قبل آدم كثيرة.
وقضية هذا كله، كون المراد بالأسماء موضوعات غيره تعالى.
ويمكن دفعه: أن احتمال لحوق الوضع من ولد آدم (عليه السلام) مما ينفيه سوق الآية،
المقتضي تفضيله (عليه السلام) على غيره من الملائكة، فإنه لو صح ذلك لقضي بكون ولده
الواضعون أولى بالتفضيل، لمكان علمهم باللغات مع اختراعهم لها ووضعهم إياها،
مع أن هذا النحو من الاختراع مع اشتماله على دقائق محكمة ولطائف متقنة لو كان
صادرا عن أحد منهم لاستطر اسمه في الدفاتر والأوراق، واشتهر مدحه ووصفه
في الأعاصر والآفاق، كما هو الحال في مبدعي سائر الأمور العجيبة والأطوار
الغريبة، لقضاء العادة بذلك، مع أن كون تعليم الأسماء مرادا به تعليم ما وقع من ولد
آدم (عليه السلام) من الاصطلاحات يقضي بالتزام أحد المحذورين، من الكذب والتجوز
الغير الناشئ من شاهد معتبر، فإن الأسماء باعتبار دخول الوضع في مفهومه عرفا
ولغة إما أن يراد به الألفاظ الموضوعة بالوضع الحاصل في الحال فيلزم الكذب،
أو الموضوعة بالوضع الحاصل في الاستقبال باعتبار ما يؤول فيلزم المجاز.
وأما احتمال كون الوضع من خلق سابق، فيدفعه: أنه لا وجه فيه للصحة إلا
بإحراز أربع مقدمات:
378

إحداها: وجود خلق آخر قبل آدم (عليه السلام)، وأخراها: أن يكون لهم لغات
يتحاوروا بها، الثالثة: مطابقة لغاتهم للغات المتداولة بين بني آدم، والرابعة: صدور
وضعها عن غيره تعالى.
وقصارى ما يسلم من هذه المقدمات إنما هو المقدمة الأولى، ثم المقدمة
الثانية بعد الإغماض عن منعها، ثم الثالثة كذلك، وأما الرابعة فيتجه المنع عنها، بعد
ملاحظة ما كان يقتضيه سوق الآية من تفضيل آدم على الملائكة، فإنه لو صح
الفرض المذكور لكان غير آدم من الخلق الذي فرض كونه واضعا أولى بإثباتها له،
لمكان علمه مع كونه مخترعا وواضعا، وضرورة بطلان ذلك - كما ترى - تغني عن
إقامة البينة والبرهان، مضافة إلى أنه مما يقضي به الآية، حيث إنه تعالى قرر
الملائكة في دعواهم الفضيلة على الخلق السابق واللاحق بالنسبة إلى السابق دون
اللاحق حيث ردهم بالنسبة إلى اللاحق بإثبات الفضيلة على ما ستعرف تفصيله
دون السابق.
ودعوى: أن هذا الغرض غير حاصل، وإن قدر عدم صدور الوضع عن غيره
تعالى، لأن الملائكة أيضا لهم أن يتعلموا الأسماء لو علمهم الله، فكيف يثبت بذلك
فضيلة لآدم (عليه السلام)، فلابد وأن يكون سبب فضيلته شيئا آخر، ولعله من جهة شرافة
نبينا خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله) بل الأئمة المعصومين (عليهم السلام) على ما يقتضيه بعض الأخبار،
متضح المنع، بأن هذا الغرض لا يتوقف حصوله على انتفاء استعداد التعلم عن
الملائكة، بل على ما ظهر لهم من علو رتبته وارتفاع درجته عند الله تعالى، حيث
خصه بتعليم الأسماء دونهم، ولعله لأجل ما ذكر أو غيره مما يوجب القرب
المعنوي، وإنما يقع النظر في تعليم الأسماء من جهة أنه مما جعله الله تعالى كاشفا
للملائكة عن ذلك القرب، فالاستدلال به على الفضيلة من باب الإن، وأقوى ما
يفصح عن ذلك ويشهد به أنه تعالى نصبه مرجعا لهم، وفوض إليه إنبائهم بالأسماء
فقال: (يا آدم أنبئهم بأسمائهم) (1) بعدما اعترفوا بالتحدي والعجز عن الاستقلال

(1) البقرة: 33.
379

بالإنباء في قولهم: (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم) (1)
وإنما أراد الله بذلك تنبيههم على خطائهم في زعمهم أنهم أفضل من آدم، كما يشعر
به قولهم: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس
لك) (2) بعدما أخبرهم تعالى ب‍ (إ ني جاعل في الأرض خليفة) توهما منهم أنه
كالخلق السابق في عدم الفضيلة عليه، ولذا وصفوه بالإفساد وسفك الدماء.
ومما يشعر بما نبهنا عليه من قرب آدم (عليه السلام) عنده تعالى، وعلو رتبته لديه،
قوله تعالى: (إني أعلم ما لا تعلمون) (3) أي إني أعلم فيه من الفضيلة وعلو الرتبة
ما لا تعلمون، وقوله أيضا: (فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب
السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) (4) أي أعلم غيب
السماوات والأرض الذي من جملته فضيلة آدم (عليه السلام) عليكم، حيث خفي عنكم،
وأعلم ما تبدونه من إسناد الإفساد وسفك الدماء المنبئين عن الخذلان، وما كنتم
تكتمونه من دعواكم أنكم أفضل منه.
هذا، ولكن الذي يقتضيه الإنصاف أن الآية لا يستفاد منها إلا انتفاء الواضعية
عن آدم (عليه السلام) من دون تعرض فيها للواضع وتعيينه.
وبالجملة لا قاضي فيها لا بنفسها ولا بسياقها المقتضي للتفضيل - حسبما
فصلناه - بأن واضع اللغات لابد وأن يكون هو الله سبحانه، لا بنحو النصوصية ولا
بنحو الظهور، أما عدم دلالتها بنفسها فواضح، وأما عدم دلالتها بسياقها فلوضوح
أن مجرد استعداد تعلم اللغة، بل وفعلية تعلمها بل وإنباء الملائكة بها، ليس له مزيد
دخل في تلك الفضيلة لينتقل بها إلى انتفاء هذه الأمور عن غير آدم (عليه السلام) من خلق
سابق أو لاحق، المستلزم لانتفاء الواضعية عنه أيضا، ولا أنها بمجردها مما
اعتبرها الله تعالى كاشفا عما في آدم (عليه السلام) من القرب المعنوي وعلو الرتبة، بل
الكاشف عن ذلك لعله ما ظهر لهم بإنبائه (عليه السلام) إياهم بأسماء العقلاء على حسب ما

(1) البقرة: 32.
(2 و 3) البقرة: 30.
(4) البقرة: 33.
380

أريد من اسم الإشارة والضمائر الثلاث المختصة بذوي العقول على - ما بيناه -
الذين لا محمل لهم في هذا المقام إلا العترة الطاهرة وأهل بيت النبوة (عليهم السلام)،
أو الأنبياء وأوصيائهم المعصومين، وغيرهم من أولياء الله المقربين، من أنه (عليه السلام)
أبو هؤلاء الأنوار وأنهم من نسله وأولاده وأعقابه.
ولا ريب أن فيه من الفضيلة والشرافة والكرامة ما لا يتصور ما فوقه، وإذا
احتمل كون ذلك هو سبب الفضيلة، لا مانع من كون واضع اللغة غيره تعالى من
خلق آخر غير آدم (عليه السلام)، غاية ما هنالك انتفاء احتمال كونه من ولده (عليه السلام)، بظهور
الوضع المأخوذ في مفهوم " الأسماء " في الوضع الحاصل حال النسبة المعتبرة في
الكلام، وهي حال التعليم التي هي حال الماضي، حسبما يقتضيه صيغة " علم "
لو سلمناه.
وأما احتمال كونه من خلق سابق احتمالا مساويا فقائم جدا، ولا نافي له في
الآية أصلا.
بل قد عرفت عن تفسير الإمام (عليه السلام) ما يقضي بمنع الدلالة من وجه آخر، وهو
كون المراد " بالأسماء " ما ليس بداخل في محل البحث على ما أشرنا إليه في
صدر المبحث، كما لا يخفى على المتأمل.
ومن الوجوه المذكورة في حجة هذا القول، قوله تعالى: (ومن آياته خلق
السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم) (1) بتقريب: أن ليس المراد
" بالألسنة " الجارحة المخصوصة، حيث لا اختلاف فيها، ولو كان فهو في غاية
الخفاء، بخلافه في غيرها من سائر الجوارح، فإنه فيها أشد وأبلغ وبدائع الصنع فيه
أتم وأكمل، فكان عده من جملة الآيات أولى وأجدر، بل المراد بها اللغات
الصادرة منها، مجازا من باب تسمية الحال باسم المحل، أو إطلاق اسم السبب
على المسبب، أو إطلاق الآلة على ذيها.

(1) الروم: 22.
381

ولا ريب أن عد اختلاف اللغات من جملة الآيات ليس له معنى محصل،
إلا أن يراد باختلافها جعل اللغات مختلفة، فيكون التقدير: ومن آياته أنه جعل
لغاتكم مختلفة، ولا يعني بوضع اللغة إلا جعلها.
وإن شئت قلت: إن معنى الآية: أن من آياته ألسنتكم المختلفة، على معنى أنه
أعطاكم الألسنة المختلفة، وذلك يقتضي كونه تعالى مخترع اللغات وواضعها،
فالآية على ذلك آية واضحة على التوقيفية.
والمناقشة في ذلك بأن احتمال إرادة صور النطق عن الألسنة مما ينهض مانعا
عن تعين إرادة اللغات، ومعه لا ينهض الآية دليلا على المدعى، مع حصول غرضه
تعالى من عد اختلاف الألسنة من جملة الآيات، لوضوح أن اختلاف صور النطق
وكيفياته باعتبار الأصوات واللهجات والنغمات على وجه لا يكاد معه يشتبه
منطقان على أحد أشد وأبلغ.
يدفعها: قاعدة الأقربية، فإن اللغات أقرب مجازات " الألسنة " بحسب
العرف، لمكان غلبة الاستعمال فيها، كما يرشد إليه ملاحظة موارد الاستعمالات.
وأضعف من تلك المناقشة ما قيل أيضا، بأن اختلاف اللغات لعل المراد به
الإقدار على إحداثها مختلفة، فينهض الآية حينئذ دليلا على ضد المطلوب، أو
تصير مجملة فتسقط عن درجة الاعتبار، فإن الظاهر بملاحظة السياق من حيث
ورودها مورد الامتنان وإظهار العظمة وكمال القدرة وسبق خلق السماوات
والأرض ولحوق اختلاف الألوان الذي ليس إلا من صنعه تعالى، كون اللغات
المختلفة من عطاياه ومصنوعاته تعالى.
ومما احتج به على التوقيف، قوله تعالى: (وعلم الإنسان ما لم يعلم) (1)
بتقريب: كون المراد أن كلما يعلمه الإنسان من الهدى والبيان، فهو بتعليم الله عز
وجل، إلا ما علم إضافته إليه من زيادات العلوم الحاصلة بتلاحق الأفكار، أو أنه

(1) العلق: 5.
382

علمه أصول العلوم والصناعات، وسائر ما يحتاج إليه النوع في إصلاح المعاش
والمعاد، وإن استقل بنفسه بتفريع أمور كثيرة، وترتيب آثار جديدة عليها.
وكيف كان، فاللغة داخلة في التعليم لوجود المقتضي وهو العموم، وفقد المانع.
وفيه أولا: منع وجود المقتضي، لما سيأتي تحقيقه من أن الموصول لا يفيد
العموم إلا في موضع ليس المقام منه، وهو ما إذا تضمن معنى الشرط.
وثانيا: منع اندراج اللغة في العموم، لمكان الشك في كونها مما لم يعلم إلا
بتوقيف الله عز وجل - كما هو محل البحث - من باب الشبهة في المصداق، وليس
مفاد الآية أن كلما علمه الإنسان فهو بتعليمه تعالى إلا ما خرج بالدليل، بل كلما لم
يستقل بعلمه مما تعلق بمعاشه أو معاده فعلمه به إنما نشأ من تعليمه تعالى، ولم
يثبت اندراج اللغة في هذا العنوان فلا يتناولها العموم.
وثالثا: منع منافاته لاصطلاحية اللغة على تقدير اندراجها فيه، فإن اختراع
اللغة ووضعها لابد من معرفة طريقهما، وإذا فرض كون حصولها بتعليم الله عز
وجل كانت اللغة داخلة في العموم بهذا الاعتبار، فيكون الآية دليلا على ضد
المطلوب أو مجملة فتسقط عن درجة الدلالة.
ورابعا: منع ثبوت أصل المطلوب بمجرد ذلك، وهو كون وضع اللغة من الله عز
وجل كما هو المتنازع، لجواز كونها من موضوعات غيره تعالى من خلق سابق،
حسبما تقدم الإشارة إليه.
ومما احتج به أيضا، قوله تعالى: (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآبائكم
ما أنزل الله بها من سلطان) (1) بتقريب: أنه تعالى ذم عبدة الأوثان في تسميتهم
المسميات المعينة من عند أنفسهم، فلولا أن التسمية واللغات توقيفية لم يكن لذلك
وجه.
وفيه أولا: النقض بحصول التسمية من غير جهة التوقيف في الأعلام
الشخصية والأمور الاصطلاحية والمخترعات العرفية، فإن قيل بكون ذلك نقضا

(1) النجم: 23.
383

بما هو خارج عن محل البحث - كما تقدم إليه الإشارة في صدر المبحث - لورد
عليه كون محل الاستدلال أيضا مما هو خارج عن محل البحث، لكون التسمية
المذكورة في الآية من باب التسمية في الأعلام.
وثانيا: منع كون توجه الذم إليهم من جهة إعراضهم في التسمية عن جهة
التوقيف، بل لأجل أنهم إنما كانوا يعبدون مجرد الأسماء، حيث إن مسمياتها لعدم
كونها إلا جمادات لا يترتب عليها شئ من آثار المعبود، أو من جهة أنهم سموا
هذه المسميات بأسماء لا يستحقها إلا المعبود بالحق.
ومما احتج به أيضا، قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شئ) (1) (ونزلنا
عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) (2) بتقريب: أن العموم في الآيتين يتناول اللغات
أيضا.
وفيه: الجزم بعدم ورود بيان اللغات في الكتاب حسبما هو طريقة أهل اللغة
في كتبهم، مع أن الكتاب إنما نزل بعد شيوع اللغات وانتشارها بأزمنة متطاولة، فلا
يعقل ورود بيانها فيه على وجه يكون هو المرجع لأهل كل لغة في الأخذ بها.
ومما احتج به أيضا، أنه لو كانت اللغات اصطلاحية لزم الدور أو التسلسل،
فإن الاصطلاح لا يتم إلا بمعرفة كل من المصطلحين قصد صاحبه، ولا تكون إلا
باللفظ أو الكتابة الموقوفين على الاصطلاح، فإن اتحدا لزم الدور،
وإلا فالتسلسل.
وفيه: منع توقف معرفة القصد على أحد الأمرين الموقوفين على اصطلاح
آخر، لجواز استنادها إلى الترديد والقرائن إن احتيج إليها في بدو زمان حدوث
الاصطلاح مع جهل المخاطب بالمصطلح، وإلى علمه به إن احتيج إليها بعد
استقراره وعلم الكل بحدوثه.
ومما احتج به أيضا: أن انتفاء التوقيف يستلزم إمكان تطرق التغيير إلى
الشرائع بتغيير لغاتها مع عدم الاشتهار، والتالي ضروري البطلان.

(1) الأنعام: 38.
(2) النحل: 89.
384

وقد يقرر كما في المفاتيح (1): بأن اللغات لو كانت اصطلاحية لجاز تغير ذلك
الاصطلاح وتبدله، بأن يصطلح المتأخرون على غير ما اصطلح عليه المتقدمون،
وحينئذ يرتفع الأمان من الشرع، إذ ما من لفظ إلا ويحتمل ذلك، ولا يمكن أن
يستدل على عدم حصول التغير بعدم ظهوره، لأن عدم الوجدان لا تدل على عدم
الوجود، ولا يمكن أن يقال: لو كان لاشتهر بل وتواتر، وعدمهما يدل على العدم،
للمنع من الملازمة، فإن من معجزات النبي (صلى الله عليه وآله) ما لم يشتهر وما لم يتواتر.
وفيه: مع أن التوقيفية لا تمنع عن تطرق التغيير إلى اللغات، كما يرشد إليه
وجود الحقائق العرفية، كما هو المصرح به في كلامهم، بل المتفق عليه عندهم، منع
الملازمة إن أريد حصول التغير في الكل، ومنع بطلان اللازم إن أريد حصوله في
البعض النادر، وكون كل لفظ محتملا له على فرض صحته لا يوجب ارتفاع الأمان
من الشرع، لأنه يعالج بالأصول المحكمة المتفق عليها عندهم، كيف والاحتمال
قائم في أكثر الحقائق العرفية، ولو فرضنا اللغات بحسب الواقع توقيفية مع ابتناء
الشرع عليها، ولم يذهب إلى وهم كونه منشأ للإشكال.
وعن أبي هاشم الاحتجاج بوجهين:
أحدهما: قوله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) (2) فإنه يدل
على سبق وضع اللغة على الإرسال، فلو كانت اللغة بالتوقيف الذي لا يتصور إلا
بالإرسال، لزم سبق الإرسال عليها وهو محال.
وبعبارة أخرى: أن الآية دلت على سبق اللغة على الإرسال، فلو كانت توقيفية
لزم سبق الإرسال عليها واللازم باطل لكونه محالا، أما الملازمة: فلتوقف التوقيف
على الإرسال المستلزم لتوقف اللغة عليه، ومن المعلوم أن كل موقوف مسبوق
على الموقوف عليه، وقد فرضنا فيما نحن فيه كونه سابقا.
وفيه: منع انحصار طريق التوقيف في الإرسال، لجواز حصوله بغير الوحي

(1) مفاتيح الأصول: 3 (الطبعة الحجرية).
(2) إبراهيم: 4.
385

كخلق أصوات أو علم ضروري، أو بالوحي إلى نبي غير رسول، بناء على كونه
أعم من الرسول، أو إلى الرسول قبل بعثه للرسالة إلى قومه، إما لفقدهم كما في
آدم (عليه السلام) بعد خلقته إلى أوائل هبوطه إلى الأرض أو لعدم كونه مأمورا بتبليغ
الأحكام، بناء على أن الرسول هو الرجل المبعوث لتبليغ الأحكام، فيجوز أن
يوحى إليه باللغة قبل البعثة، ثم ارسل للتبليغ فيصدق قوله: (وما أرسلنا من
رسول إلا بلسان قومه) لأنه لا يسمى قبل البعثة رسولا وإن أوحى إليه اللغة.
وثانيهما: أن اللغات لو كانت توقيفية لكان إيقافه إلى المخلوق إما بخلق علم
ضروري بأنه تعالى وضع تلك الألفاظ لمعانيها أو لا، وكلاهما فاسدان.
أما الأول: فلأن خلق ذلك العلم الضروري إما في العاقل أو غيره، والأول
باطل لاستلزامه أن يكون العلم به ضروريا، أما الملازمة: فلأن وضعه اللغات
وصف له، والعلم بالصفة مسبوق بالعلم بالموصوف وفرع له، فالعلم الضروري
بالوصف يستلزم أن يكون العلم بالموصوف أيضا كذلك، والتالي باطل لاستلزامه
أن لا يكون المعرفة مكلفا بها، وبطلانه مما يشهد به العيان وضرورية فساده كفت
عن إقامة البرهان، وكذلك الثاني لامتناع أن يخلق في غير العاقل علما ضروريا
بالألفاظ ومناسباتها وتراكيبها العجيبة.
وأما الثاني: فلافتقار السامع حينئذ في كون ما سمعه موضوعا بإزاء معناه إلى
طريق، فننقل الكلام إليه فإما يدور أو يتسلسل، وكلاهما محالان.
وفيه: أن خلق العلم الضروري بالوضع من دون أن يستتبع محذورا مما يشهد
بإمكانه العيان الغير المفتقر إلى البيان، ودعوى قضائه بضرورية العلم به تعالى
استنادا إلى كون وضع اللغات وصفا له والعلم بالصفة مسبوق بالعلم بالموصوف
وفرع له، ويلزم منه عدم كون المعرفة مكلفا بها كلام ظاهري لا يلتفت إليه، فإن
المسبوق بالموصوف إنما هو نفس الصفة في تحققها الواقعي ووجودها الخارجي،
وأما معرفتها التي هي عبارة عن تحصلها الذهني فليست مسبوقة بمعرفة
الموصوف، ولا موقوفة عليها ما لم تؤخذ إضافتها إليه، على أن الوضع من مقولة
386

الأفعال الخارجية التي ربما يعلم بها من غير العلم بفواعلها على التعيين، كما في
" ضرب زيد " فمن الجائز لله تعالى خلق العلم الضروري بأصل الوضع المتعلق
بألفاظ مخصوصة لمعان معينة، من دون خلق العلم بفاعله.
ولو سلم فيتوجه المنع إلى قضائه بسقوط التكليف بالمعرفة، فإن المكلف به
إنما هو معرفة ذاته الشريف بجميع صفاته الكمالية، التي ليس منها كونه واضعا
على معنى عدم ثبوت التكليف بمعرفته بتلك الصفة، وخلق العلم الضروري إنما
يفرض بالنسبة إلى تلك الصفة، وهو لا يستلزم العلم الضروري بسائر صفاته
المكلف بمعرفتها، ضرورة أن معرفة " زيد " على أنه عالم لا يكفي عن معرفته على
أنه شاعر أو كاتب أو غير ذلك من الصفات اللاحقة به.
هذا مع إمكان اختيار الشق الثاني ومنع فساده بمنع أدائه إلى الدور أو
التسلسل، فإن السامع إن أريد به من أوقفه الله تعالى اللغات، فالمحذور إنما يرد لو
انحصر طريقه في الوحي أو خلق الأصوات وهو بمكان من المنع، لوجود طريق
آخر بأن يبعث ملكا بصورة البشر يعلمهم اللغات بطريق الترديد والقرائن من دون
دور ولا تسلسل، مع إمكان المنع عن لزومهما لو أراد الإيقاف بأحد الطريقين،
لجواز أن يكون قد أدب أحدا من خلقه بآداب الفطانة ونور قلبه بأنوار الزكاوة،
فهو بحسب صفاء باطنه وضياء قلبه كلما أحس شيئا من المعاني الحاضرة عنده
بالحواس الظاهرية أو الباطنية وطلب أمرا يكون معبرا عنه، فأوحى الله تعالى إليه
عند ذلك لفظه الذي وضعه بإزائه من دون الحاجة إلى توسيط واسطة.
وإن أريد به غيره من تابعيه بعد وقوفه عليها بإيقاف من الله تعالى، فإمكان
إيقافه بمعونة الترديد والقرائن من دون استلزامه المحذورين غني عن البيان.
وعن أبي إسحاق الإحتجاج على توقيفية القدر الضروري المحتاج إليه في
التعريف، بأنه لو لم يكن القدر المحتاج إليه توقيفيا لزم الدور، لتوقف الاصطلاح
على سبق معرفة هذا القدر، والمفروض أنه لا يعرف إلا بالاصطلاح، فيلزم توقف
معرفته على الاصطلاح المتوقف معرفته عليه، وهو الدور.
387

وجوابه: يعلم مما قررناه في دفع الاحتجاج بنحو ذلك على التوقيفية المطلقة.
وعن أصحاب القول الرابع الاحتجاج، بأنه لو لم يكن القدر الضروري
المحتاج إليه اصطلاحيا لكان توقيفيا، والمفروض أنه لا يكون إلا بالوحي فيلزم
حينئذ إما توقفه على نفسه أو على وحي آخر، فإذا نقل الكلام إليه يؤول إلى الدور
أو التسلسل، وجوابه يعلم مما تقدم في دفع حجة القول الثاني.
وأما حجة المتوقف: فهو إمكان الجميع مع ضعف حجج الأقوال كلها.
وأجيب عنها: بأنه مسلم إن أريد القطع، فإن أدلة الأقوال بأسرها قاصرة عن
إفادته، وغير مسلم إن أريد الظهور لقوة أدلة التوقيف مطلقا.
أقول: قد عرفت ضعف أكثر أدلة هذا القول.
* * *
388

- تعليقة -
اختلفوا في كون الألفاظ بأسرها موضوعة للأمور الخارجية أو للصور
الذهنية، على ما هو المعروف من قدماء الأصوليين من انحصار الخلاف بحسب
أصل وضع المسألة في قولين، عزي أولهما إلى بعض الناس، وربما يعزى إلى
السيوطي في المزهر، وحكي نسبته أيضا إلى السبكي وأبي إسحاق الشيرازي
وابن مالك، ويظهر الميل إليه من العلامة في النهاية، وربما كان عبارته صريحة في
اختياره وثانيهما إلى جماعة، ولذا ترى أن أساطين المتعرضين للمسألة كالعلامة
في التهذيب والنهاية وشارح التهذيب في المنية وغيرهما لم يذكروا ما عداهما،
وهو المستفاد من أدلة الطرفين، لظهورها في دوران المعاني بالقياس إلى الألفاظ
الموضوعة بين كونها خارجية أو ذهنية من دون واسطة، وهو الذي يساعد عليه
النظر بملاحظة ما سنقرره من تفسير الأمور الخارجية والصور الذهنية.
وقضية ذلك كون ما عداهما مما حدث من المتأخرين، كما نص عليه غير
واحد أيضا، فمن جملة ذلك ما نسب إلى محققي المتأخرين من كونها موضوعة
للمعاني الواقعية المعبر عنها بالماهيات من حيث هي هي، على معنى كون المأخوذ
في الوضع هي المعاني بذواتها وحقائقها من غير نظر إلى وجودها في الخارج ولا
في الذهن، ذهبوا إليه بزعم أنه يغاير القول الأول، وستعرف منعه.
ومنها: الفرق بين ما له مصداق في الخارج فللخارجية، وما لا مصداق له فيه -
كالممتنع والمعدوم ونحوهما - فللذهنية.
389

ومنها: الفرق بين الكليات فللماهيات، والجزئيات فللخارجية.
ومنها: الفرق بين الجزئيات الخارجية فللشخص الخارجي، والجزئيات
الذهنية فللشخص الذهني، والكليات فللماهيات من حيث هي، حكاه بعض أجلة
السادة عن المتأخرين، واختاره قائلا: " بأنه الحق الذي لا محيص عنه، ثم قال -
في آخر كلامه -: ولا يذهب عليك أنه يمكن رجوع القول بالماهية إلى هذا
التفصيل، على أن يكون المراد من الماهية ذات الشئ وحقيقته مطلقا، كلية كانت
أو جزئية، فإنها قد تطلق على هذا المعنى ". انتهى.
وقد يناقش في هذا القول: بأنه ليس فيما بين الألفاظ الموضوعة ما يكون
دالا على الجزئيات الذهنية ليلتزم بوضعه للشخص الذهني، وربما يقرر هذه
المناقشة: بأنه ليس فيما بين المعاني ما يكون جزئيا ذهنيا ليكون اللفظ الدال عليه
موضوعا بإزائه.
نعم هاهنا معان لا تحصل لها إلا في الذهن، كالكلية والجزئية والجنسية
والنوعية والفصلية وغيرها من المعقولات الثانية غير أنها كما ترى أمور كلية لا
ينبغي التعبير عنها بالجزئيات الذهنية.
وربما يوجه بأن المعاني الحاصلة في الذهن إذا أشير إليها باسم الإشارة كانت
جزئيات ذهنية بالقياس إلى كلي المشار إليه، فيكون اللفظ الدال عليه موضوعا
بإزائها على ما يراه متأخروا أهل العربية، من كون الموضوع له فيه وفي نظائره
خاصا. وفيه ما لا يخفى، فإن النظر في هذا التفصيل على ما يستفاد من دليله الآتي
إلى إناطة جزئية الجزئي بوجوده، على معنى تحصله في أحد الوعاءين الملازم
لتشخصه بانضمام المشخصات الخارجة عن حقيقة الفرد، ومناط جزئية الصور
الذهنية التي يقع عليها اسم الإشارة بالتقرير المذكور ليس مجرد الوجود الذهني،
بل اندراجها تحت كلي عنوان " المشار إليه " من حيث كونها أخص منه، وإن كانت
أعم بالقياس إلى ما تحتها، كما لو كانت ماهية جنسية أو نوعية.
وأيضا فلو كان نظر هذا القائل في قسم الجزئيات الذهنية إلى هذا الفرض،
390

لوجب عليه تربيع الأقسام أو جعل القسم الثاني ما يعم الجزئيات الخارجية
والذهنية، التفاتا إلى وقوع اسم الإشارة بحسب الاستعمالات تارة على الخارجية
وأخرى على الذهنية.
نعم يمكن التوجيه بأن الجزئي لا يغاير الكلي إلا في أن الماهية إذا اخذت بلا
شرط الوجود والعدم خارجا وذهنا كانت كليا، وإذا اخذت بشرط الوجود
خارجا أو ذهنا كانت جزئيا، ضرورة أن الماهية الموجودة في الخارج باعتبار
تحصله الخاص ممتنع الصدق على كثيرين، بناء على أن امتناع الصدق فيما بين
الجزئيات الخارجية إنما هو لتغايرها باعتبار تعدد وجودات الماهية، كما أن
الماهية المرتسمة في الذهن - كما هو حقيقة معنى تحصلها الذهني باعتبار
ارتسامها الخاص - ممتنع الصدق على الكثيرين، بناء على أن التغاير المعتبر في
امتناع الصدق إنما هو باعتبار تعدد ارتساماتها.
نعم إذا جرد النظر عن الارتسام الخاص انقلبت كليا، كما أنه إذا جرد النظر
عن وجودها الخاص في الخارج انقلبت كليا، فهي إذا اخذت بالاعتبار المذكور
كانت جزئيا ذهنيا، فيكون اللفظ الدال عليه موضوعا بإزاء الشخص الذهني، وهذا
هو الذي يساعد عليه دليل هذا القول، وإن كان يزيفه: أنه إنما يدفع المناقشة
بالتقرير الثاني.
وأما تقريرها الأول فعلى حاله، لتطرق المنع إلى وجود لفظ يكون وضعه
للدلالة على الجزئيات الذهنية، بل منع ما يكون من الألفاظ الموضوعة دالا على
الجزئي الذهني من حيث إنه جزئي ذهني، كما هو واضح.
وهاهنا توجيه ثالث لهذا القول، وهو أن من المعاني ما هو من قبيل الأعراض
المحتاجة إلى محل تقوم به، ومن الأعراض ما هو قائم بالذهن، كالمعرفة والعلم
والإدراك وغيرها من الصور الذهنية، باعتبار أنها قائمة به من جهة كونها علما أو
إدراكا أو غيرهما لا باعتبار أنها حاصلة فيه.
ولا ريب أنها إذا اخذت بمشخصاتها من حيث خصوصيات المحل كالذاهن،
391

أو المتعلق أو غيرهما كانت جزئيات ذهنية، ويكون الألفاظ الدالة عليها كنكرات
ألفاظ المعرفة، والعلم والظن واليقين والشك موضوعة بإزائها، بناء على أن النكرة
موضوعة للفرد المأخوذ بوصف الانتشار.
وهذا كما ترى أوجه مما تقدم، إلا أن كلام القائل ودليله لا يساعد عليه.
وكيف كان فالإنصاف: أن القول بوضع الألفاظ للأمور الخارجية لا يغاير
القول بالماهية باعتبار المعنى، وإن غايره بحسب العبارة.
وبيانه: أن معاني الألفاظ مطلقا إن اخذت لذواتها وفي حد أنفسها كانت أمورا
واقعية جزئية كانت أو كلية، حتى ما لم يكن له مصداق في الخارج بالفعل مع
الإمكان أو الامتناع، بعد مراعاة الفرض وملاحظة إمكانه وإن استحال المفروض
كما عليه مبنى كلية الكلي، وإن اخذت متحصلة في الذهن لم يكن الداخل فيه
ذوات هذه المعاني وأعيانها، فإنه مما يستحيله العقل بل صورها المطابقة لها
وأشباهها المنطبقة عليها، على حد ما يحصل في المرآة من الجسم المحاذي لها،
فإن الذهن المدرك للأشياء حاله كالمرآة ينطبع منها فيه صورها شبه ما ينطبع منها
في المرآة، وهذا هو المراد من الصور الذهنية في كلام من يزعم وضع الألفاظ
بإزائها، والأمر في مسألة وضع الألفاظ في نظر القوم مردد بين تعلقه بصور
المعاني المنطبعة في الأذهان، أو بذواتها وأعيانها وهذا هو المراد من وضعها
للأمور الخارجية، بناء على أن المراد من الخارج هنا إنما هو الخارج عن الذهن،
وهو المرادف للواقع على حد ما أريد به في حد الخبر، بأنه: " كلام لنسبته خارج ".
ومما يفصح عن ذلك مضافا إلى أنه المستفاد من مطاوي كلماتهم ومساق أدلة
الطرفين، عبارة العلامة في النهاية، فإنه بعدما حكم بأن الألفاظ لم توضع للدلالة
على الموجودات الخارجية بل للدلالة على الذهنية، وذكر حجته في المفردات
والمركبات معا، قال: وفيه نظر، فإن الواضع إنما وضع الألفاظ للمعاني الخارجية
392

والحقائق العينية، وأمر من يتحدث على لغته باستعمال اللفظ فيما وضعه له،
إلى آخر كلامه رفع مقامه.
فإن قوله: " والحقائق العينية " عطف تفسير للمعاني الخارجية، وهو مع وصف
الحقائق بالعينية قرينة واضحة على أن مراد أهل القول بوضعها للمعاني الخارجية
دعوى وضعها لحقائق المعاني وأعيانها، قبالا لمن يدعي وضعها لصور تلك
الحقائق وأشباهها، والتعبير " بالعين " تنبيه على مقابلته للشبه والصورة، فالنزاع
بناء على ما قررناه لا يرجع إلى أخذ الوجود بأحد قسميه في مداليل الألفاظ
ومعانيها الموضوع لها شطرا أو شرطا، كما زعمه جماعة بل هو المعروف في
أعصارنا هذه، فإنه اشتباه في فهم معنى عنوان المسألة وغفلة عن حقيقة مراد
المتنازعين فيها.
والظاهر أن منشأ الاشتباه أمران، أحدهما: ما تكرر في تضاعيف المسألة، من
التعبير عن القولين بالوضع للموجودات الخارجية والوضع للموجودات الذهنية.
وثانيهما: احتجاج أهل القول بالوضع للأمور الخارجية، بما يأتي من قول
القائل: " شربت الماء وأكلت الخبز... " الخ.
وقد عرفت ما يصرف الأول عما يوهمه، وليس مبنى الاستدلال على كون
هذه الألفاظ مستعملة فيما دخل فيه الوجود، بل على كونها مستعملة في أعيان
المعاني المرادة منها لا في صورها المرتسمة في الذهن، بدليل أن الأفعال
المذكورة لا تتعلق إلا بالأعيان ولا يعقل تعلقها بالصور الذهنية، وكما أنه ليس
مبنى النزاع على أخذ الوجود بأحد قسميه في الوضع بعنوان الجزئية أو بعنوان
القيدية، فكذلك ليس مبناه على ملاحظته حيثية في الوضع للمفاهيم من دون
اعتباره جزءا ولا قيدا، ولا على ملاحظة الحيثية بالقياس إلى المفاهيم، بأن
يعتبر الوضع لها من حيث كونها عنوانات لمصاديقها خارجية أو ذهنية، فإنه
على ما قررناه من تحريره لا يقتضي شيئا من هذه الاعتبارات، بل يأبى أكثرها
كما لا يخفى على المتأمل.
393

ومن هنا اتضح ضعف ما في كلام بعض الأفاضل (1) من ذكر وجوه أربع للقول
بوضعها للأمور الخارجية، مع اختياره هذا القول في وجهه الرابع:
أحدها: اعتبار الوجود الخارجي، على أن يكون جزءا للموضوع.
وثانيها: اعتباره على أن يكون قيدا خارجا عنه، مع دخول التقييد فيه.
وثالثها: اعتبار الوضع للمفاهيم باعتبار وجودها الخارجي ومن حيث تحققها
كذلك، على معنى كون الموضوع له نفس تلك المفاهيم بهذه الملاحظة، أعم من أن
تكون موجودة في الخارج فعلا أو لا.
ورابعها: اعتباره لها من حيث كونها عنوانات لمصاديقها في الواقع، سواء كان
من شأن مصاديقها أن تكون خارجية أو ذهنية أو أعم منهما، ولو كان تقديريا كما
في الممتنعات، ثم أطنب حتى ساق الكلام إلى إجراء هذه الوجوه في القول
بوضعها للمعاني الذهنية، فإن هذا كله كما ترى خروج عن وضع المسألة حسبما
دونه الأساطين، منشؤه ما نبهنا هنا عليه من الغفلة عن حقيقة مرادهم.
وأضعف منه ما عرفته عن بعض أجلة السادة (2) من دعوى إمكان رجوع
القول بالماهية إلى ما اختاره من التفصيل، فإن جميع المعاني بالقياس إلى ألفاظها
الدالة عليها - بالنظر إلى ما قررناه في معنى النزاع - على حد سواء، لجريان
احتمال كون وضعها لأعيان المعاني كلية أو جزئية خارجية أو ذهنية بالوجه
الثالث من التوجيهات المتقدمة، أو لصورها المرتسمة في الأذهان، ولا يعقل فيه
التفصيل على الوجه الذي اختاره كما هو واضح.
وأضعف من الجميع، ما عن بعضهم من القول بأن من قال: بأن الألفاظ
موضوعة للأمور الذهنية إنما أراد بالصور الذهنية الماهية من حيث هي، فإنه قد
يطلق عليها اسم الصورة، تعليلا بأنه لو كان النزاع في الصورة الذهنية بمعنى
المعلوم لم تنهض الدلائل التي ذكروها على إفادة المدعى، إذ لا يلزم من عدم

(1) هداية المسترشدين: 73 (الطبعة الحجرية).
(2) هو السيد مهدي بحر العلوم (رحمه الله).
394

كونها موضوعة للأمر الخارجي كونها موضوعة للصور الذهنية من حيث إنها صور
ذهنية، فإن هذا في معنى جعل النزاع لفظيا، فإن الماهية إذا أريد بها أعيان المعاني
وحقائقها لا واسطة بينها وبين صورها المنطبعة في الأذهان، ليرجع إليها القول
بكونها موضوعة للصور الذهنية.
وقد علم بما قررناه إن أهل القول بذلك لا يدعون الوضع لها باعتبار أنها أمور
معلومة، بل مرادهم ثبوت الوضع بإزائها بزعم عدم ثبوته لأعيان المعاني
وحقائقها، باعتبار أنها أمور واقعية.
ومثله في الضعف ما عن بعض المحققين (1) من جعل النزاع في مسألة الوضع
لفظيا، بدعوى: كون مآل القولين إلى القول بالوضع للماهية بمعنى الصورة
المعلومة، فمن قال: إنها موضوعة للأمر الخارجي أراد بالأمر الخارجي ما يقابل
الصورة الذهنية، بمعنى الصورة العلمية القائمة بالذهن، ومن قال: إنها موضوعة
للأمور الذهنية أو الصور الذهنية أراد بها الماهية المعلومة، إذ كثيرا ما يطلق عليها
الصورة، فإن هذا على ما قررناه كلام خال عن التحقيق ويبعد صدوره عن
المحققين، وهو كما ترى يستلزم كون مراد القائلين بالوضع لنفس الماهيات هو
هذا المعنى، وهو بعد ما بيناه من أن المراد بها وبالوضع للأمور الخارجية نفس
المعاني وأعيانها وحقائقها الواقعية من حيث إن المعاني الذهنية صور لها وأشباه
منطبقة عليها واضح الفساد، فالمراد بالأمور الخارجية ما يقابل الصور المنطبعة
في الذهن المنطبقة على ذواتها، لا ما يقابل الصور العلمية القائمة بالذهن.
وبجميع ما قررناه يندفع ما اعترض على القول بالماهية، من أن الوضع لها إنما
يستقيم في الأمور الكلية كالإنسان مثلا، فإن الظاهر أنها موضوعة للماهية من
حيث هي، مع قطع النظر عن الوجود الذهني والخارجي.
وأما الأمور الشخصية فلا يصح فيها القول بالماهية، إذ ظاهر أن " زيدا " مثلا

(1) هو سلطان العلماء في حاشيته على المعالم.
395

ليس موضوعا لماهية الإنسان من حيث هي ولا يعقل له مع قطع النظر عن
الوجودين ماهية غير ماهية الإنسان أصلا، إذ لا يمكن أن يكون شخص واحد
موجودا في الذهن والخارج معا... الخ، فإن الماهية بمعنى عين المعنى في مقابلة
الصورة المنطبعة عنه في الذهن لا يتفاوت فيها الحال بين كلية المعنى وجزئيته.
وكل هذه الكلمات كما ترى مبني على ما ذكرناه من توهم رجوع النزاع إلى
أخذ الوجودين في الوضع وتجريده عنهما، اشتباها عن حقيقة تصوير المسألة،
فلا ينبغي الالتفات إليها.
نعم هاهنا شئ آخر، وهو أنه ربما يحكى عن بعض الأفاضل (1) أنه بنى
الخلاف في هذه المسألة على الخلاف في مسألة المعلوم بالذات، مدعيا: أن من
قال: بأن المعلوم بالذات هو الصورة الذهنية كالشيخين وأتباعهما، بناء على أن
الحاصل في الذهن حقيقة إنما هو الصور الذهنية وذو الصورة إنما يحصل فيه بناء
على أن صورته المطابقة أو غير المطابقة حاصلة فيه، وأنا كثيرا ما نتصور أشياء لا
وجود لها في الخارج، قال: بأن الألفاظ موضوعة للصور الذهنية، ومن قال: إن
المعلوم بالذات هو ذو الصورة كالعلامة الرازي، والمحقق الطوسي، والسيد
الشريف وغيرهم، بناء على أن ذو الصورة هو الملتفت إليه بالذات، وأن الصورة
إنما هي مرآة لملاحظته، ولذا قد يحصل الالتفات إلى الأمر الخارجي من دون
شعور بالصورة، بل مع إنكارها، كما للمتكلمين النافين للوجود الذهني وارتسام
الصور، وإنا إذا أبصرنا " زيدا " كان المبصر هو زيد الخارجي لا صورته المنطبعة
في الجليدية، فإنها ليست من المحسوسات فضلا عن أن يكون من المبصرات،
قال: بأن الألفاظ موضوعة للأمور الخارجية، وهذا بناء على أن الألفاظ موضوعة
لما هو معلوم بالذات.
وهذا البناء كما ترى غير واضح الوجه، وإن كان مورد المسألتين واحدا، فإن

(1) هداية المسترشدين: 79 (الطبعة الحجرية).
396

كان النظر فيه إلى أن الوضع لما هو معلوم بالذات من مقتضى حكمة الواضع،
والوضع لغيره خروج عنها، فهو راجع إلى ترجيح اللغة بالعقل.
وإن كان النظر فيه إلى أن الوضع له أقرب وأدخل بحكمة الوضع وهو التفهيم
والتفهم، من حيث إن غير المعلوم بالذات ربما يغفل عنه فلم يحصل التفهيم
والتفهم، ففيه: أن الأقرب بحكمة الوضع ما عليه مدار الأحكام المتعلقة بمعاني
الألفاظ، على حسب حوائج أهل المحاورة ومقاصدهم، وليس إلا ذو الصورة.
وإن كان النظر فيه إلى أن الوضع مسبوق بتصور الموضوع له، وتصور ما هو
معلوم بالذات قد حصل للواضع لا محالة، وتصور غيره لكونه مما يغفل عنه غير
معلوم الحصول، فينفى احتماله بالأصل ولا يعقل ذلك في تصور المعلوم بالذات،
فتعين التزام الوضع له، لأنه فيما لم يتصور غير معقول.
ففيه: مع عدم استقامته على تقدير توقيفية اللغات، أن مراعاة حكمة الوضع
في نظر الواضع مما يدعوه إلى مراعاة ما هو أقرب بها، وإن فرضناه غير معلوم
بالذات والظاهر أن النظر في البناء المذكور ليس إلى شئ من هذه الوجوه، مع أنه
لو صح هذا لوجب على أصحاب القولين هنا تعليل ما اختاره بما رجحه ثمة من
المعلومية بالذات، فالعدول عنه إلى ما يأتي من الأدلة بينة واضحة على انتفاء
الملازمة بين كون شئ معلوما بالذات وكونه موضوعا له في نظر أصحاب القولين
هاهنا، بل الاستناد لإثبات الوضع للأمور الخارجية إلى تعلق الأحكام بها
كالاستناد لإثباته للصور الذهنية إلى دوران التسمية وجودا وعدما معها، دليل
على أنهما العلة الكاشفة في نظر الفريقين عن مورد الوضع وإن فرضناه غير معلوم
بالذات، مع أن بناء المسألة اللغوية على المسألة العقلية مع وضوح انتفاء التلازم
بينهما كما ترى.
نعم لو ثبت اتفاق الفريقين على كون الألفاظ موضوعة لما هو معلوم بالذات
ثم افترقا لتعيينه في المسألة العقلية كان له وجه، غير أنه مع عدم مساعدة أدلة
المسألتين عليه محل منع، ولذا قيل في الاعتراض عليه بأن تلك المقدمة ليست
397

بينة ولا مبينة ولا مسلمة للجميع، فتفريع الخلاف عليها مجرد دعوى لا شاهد لها.
واعترض عليه أيضا (1): بأنه لو صح البناء المذكور فالواجب أن يزاد في
المسألة قول ثالث، هو أن اللفظ في الموجود الخارجي موضوع لما هو موجود في
الخارج وفيما عدا ذلك للأمر الذهني، فإن الظاهر من كلام صاحب المحاكمات أنه
قال بذلك في مسألة المعلوم بالذات.
وقد رجحه أيضا بعض المحققين مدعيا رجوع الإطلاقين إلى هذا التفصيل،
وأن النزاع في المسألة لفظي، قال: وكيف يتوهم في شأن المحقق الطوسي والإمام
الرازي وأمثالهما من القائلين بأن المبصر هو زيد الخارجي، أنهم ذهبوا إلى أن
المعلوم في غير الموجودات الخارجية هو الموجود الخارجي، فالظاهر أن
مرادهم أن المعلوم بالذات هو الموجود الخارجي في الموجودات الخارجية لا
مطلقا، فينطبق على التفصيل المذكور، وكذا يبعد من الشيخ والفارابي وأحزابهما
القول بأن الألفاظ موضوعة للصور الذهنية مطلقا، فلو صح أن الخلاف في الوضع
متفرع على الخلاف في المعلوم بالذات، فالظاهر أن المراد كون الصورة معلومة
بالذات فيما لم يكن ذو الصورة موجودا في الخارج، فينطبق على التفصيل أيضا،
ويصير النزاع بين الفريقين لفظيا في كلتا المسألتين، إلى آخر ما ذكر.
وفي التفصيل في مسألة الوضع ما لا يخفى، وكذلك التفصيل في مسألة
المعلوم بالذات، فإن التحقيق فيها أنه إن أريد بالمعلوم بالذات ما يحصل في نفسه
في الذهن، فلا ينبغي التأمل في كونه الصورة لا غير، لاستحالة حصول ذي
الصورة بعينه فيه، ولذا أخذت الصورة في مفهوم العلم التصوري، ففسر تارة
بحصول صورة الشئ في الذهن، وأخرى بالصورة الحاصلة من الشئ عند
العقل، وإن أريد به ما هو المقصود بالأصالة من العلم بالمعنى المذكور، فلا ينبغي
التأمل في أنه ذو الصورة وأن الصورة يعتبر حصولها في الذهن آلة لملاحظته، ولذا

(1) هداية المسترشدين: 80 (الطبيعة الحجرية).
398

صح أن يقال - بعد حصول صورته في الذهن -: عرفته أو علمته أو أدركته، أو
تصورته بإضافة العلم والمعرفة والإدراك والتصور إلى ذي الصورة نفسه، ومن هنا
أيضا يتعلق به الأحكام المترتبة عليه المشروطة بالعلم، ولا يتفاوت الحال بين
ما له مصداق في الخارج وما لا مصداق له فيه، لأنه يفرض له المصداق من
الموجودات الخارجية كالصنم بالقياس إلى شريك الباري مثلا.
ثم إن مسألة الوضع لدوران الأمر فيها بين المتبائنين لا يجري فيها أصل، لأن
الحادث لا يتعين بالأصل.
والتمسك بالأصل النافي لاعتبار أمر زائد على أصل المعنى في الموضوع له،
وهو الوجود بأحد قسميه.
يزيفه: ابتناؤه على توهم رجوع النزاع إلى أخذ الوجود خارجا أو ذهنا في
مداليل الألفاظ باعتبار الوضع، على معنى كون المأخوذ في الوضع ما دخل فيه
الوجود خارجا أو ذهنا، وقد بينا بما لا مزيد عليه أنه بمعزل عن التحقيق.
ثم المعتمد بل الحق الذي لا محيص عنه، كون الألفاظ بأسرها الموضوعة
لجواهر المعاني وأعراضها، بجميع أصنافهما، كلية وجزئية، موضوعة للأمور
الخارجية، على معنى حقائق المعاني وأعيانها التي ترتسم صورها وتنطبع
أشباهها في الأذهان.
لنا: تبادر الأمور الخارجية بهذا المعنى من الألفاظ عند إطلاقها من دون أن
يسبق الذهن إلى صورها المنطبعة في الأذهان تفصيلا ولا إجمالا، مضافا إلى عدم
صحة السلب عن الأمور الخارجية وصحته عن الصور الذهنية، فلا يصح سلب
" الأسد " عن الحيوان المفترس من حيث إنه أمر واقعي، مع صحة سلبه عن صورته
المرتسمة في الذهن، ولا سلب " الماء " عن الجسم الرطب السيال من حيث إنه
أمر واقعي، مع صحته عن الصورة المائية المنطبعة في الأذهان.
وهذا كله آية أن المأخوذ في وضع الألفاظ إنما هو الأمور الواقعية دون
الصور الذهنية، هذا مع أنه المركوز في أذهان آحاد العرف قاطبة، فإنا بعد مراجعة
399

أنفسنا وملاحظة حالات سائر أهل العرف، علمنا إنه لم يعهد أحد في معاني
الألفاظ الموضوعة سوى الأمور الخارجية، من دون أن يتوجه النفس ولا تلتفت
إلى الصور الذهنية ولو إجمالا، فالمعهود في " أكلت الخبز " ونظائره مما لا يحصى
والمركوز في أذهان العقلاء، إنما هو الأكل الواقعي المتعلق بالخبز الواقعي، من
دون توجه النفس إلى صورتهما المنطبعة في الأذهان، كما هو واضح.
مضافا إلى أن المعلوم بالاستقراء القطعي وقوع الاستعمالات الدائرة في
المحاورات على الأمور الخارجية، على معنى الخارجة عن الذهن المعبر عنها
بالمعاني الواقعية، ولم يعهد فيها ما وقع على الصورة الذهنية، فلو صح أن الألفاظ
كانت موضوعة للصور الذهنية مع عدم وقوع استعمالها فيها، كانت بأسرها أو
بأكثرها مجازات بلا حقيقة، وهذا واضح الفساد.
وإلى بعض ما ذكرنا يرجع احتجاج أهل القول بالوضع للأمور الخارجية
بتعلق الأحكام بالأمور الخارجية، فإن من قال: " دخلت الدار، وأكلت الخبز،
وشربت الماء، وبعت العبد، وأخذت الدرهم، واشتريت الدابة " ونحو ذلك مما لا
يحصى، إنما يريد بذلك كله الأمور الخارجية دون الصور الذهنية، فعلم أن الألفاظ
موضوعة لها دون الصور.
وتوهم أن تلك الألفاظ استعملت في الأمور الخارجية مجازا من باب
المشاكلة لوجود القرينة الصارفة، بعيد بل مقطوع بفساده، فإن ذلك يفضي إلى
انسداد باب الحقيقة بالمرة، وارتكاب التجوز في الألفاظ بالكلية، وهو باطل
بالاتفاق.
ودفعه تارة: بأن الاستعمال في جميع هذه الموارد استعمال مع القرينة، فإن
الأكل والشرب والبيع والأخذ والشراء من لوازم الفرد، ويشهد له أنه لو قيل الخبز
أو الماء أو الدار لا يفهم منه الموجود الخارجي، فلو لم يتحقق المنافاة في موضع
لا نسلم استعمالها في الخارجيات.
وأخرى: بمعارضته بالألفاظ الكثيرة التي موضوعاتها المعدومات الممكنة
400

[و] الممتنعة، فإن إرادة الأمور الخارجية فيها غير متصورة، ولذا قيل إن القول
بكون الألفاظ بأسرها موضوعة للحقائق الخارجية - على ما صرح به بعض
النحويين - مما لا خفاء في بطلانه.
وثالثة: بأن هذا إنما يقضي ببطلان القول بوضعها للصور الذهنية، ولا يتعين به
الوضع للأمور الخارجية، لاحتمال الواسطة مع عدم منافاتها الدليل.
يندفع في وجهه الأول: بأن القطع الضروري حاصل بعدم تعويل المستعملين
والمخاطبين في إفادة المعاني واستفادتها في الموارد المذكورة ونظائرها على
القرائن الموجودة مع الألفاظ، بل كل أحد يجد من نفسه أنه في الإفادة
والاستفادة إنما يعول على حاق اللفظ.
وفي وجهه الثاني: بأن الأمور الخارجية التي إرادتها غير متصورة في
المعدومات، إن أريد بها ما دخل فيه الوجود الخارجي فعدم تصور إرادتها مسلم،
غير أن النزاع على ما عرفت مرارا لا يرجع إلى أخذ الوجود بأحد قسميه في
وضع الألفاظ، وإن أريد بها ما خرج عن الذهن - أعني المعاني الواقعية - فعدم
تصور إرادتها محل منع، كما يفصح عنه قولك: " العنقاء معدوم " و " شريك الباري
ممتنع " ضرورة أن الحكم بالمعدومية والامتناع لا يلحق الصورة الذهنية وإنما
يلحق الأمر الخارجي، وهو ما فرضه العقل عنقاء وشريك الباري في الواقع.
وفي وجهه الثالث: بأن الواسطة المتخيلة - على ما قررناه - ليست إلا الأمور
الخارجية، على معنى الخارجة عن الذهن المعبر عنها بالمعاني الواقعية، ومبنى
الاعتراض على توهم أوضحنا فساده مرارا، وهو رجوع النزاع إلى أخذ الوجود
في الوضع.
حجة القول بوضعها للصور الذهنية وجوه:
أولها: دوران الألفاظ الموضوعة مع الصور الذهنية وجودا وعدما، فإن من
ظن الشبح حجرا سماه به، وإذا تغير ذلك بظنه إنسانا مثلا تغيرت معه التسمية
فسماه باسم الإنسان، فلو كانت بإزاء الأمور الخارجية لما تغيرت التسمية بتغير
الشبح لاستحالة تغير الأمر الخارجي.
401

وفيه: أنه على خلاف مطلوب المستدل أدل، بل لا يدل إلا على خلاف
مطلوبه كما يظهر بالتأمل في تقريره، فإن الذي سماه الظان تارة باسم الحجر
وأخرى باسم الإنسان هو الشبح لا الصورة الذهنية، لأنه الذي ظنه حجرا تارة
وأخرى إنسانا وهو أمر خارجي، فهو المسمى لا غير.
غاية الأمر كون الاختلاف في التسمية ناشئا عن اختلاف الصورة الذهنية،
وهو لا يقضي بكون المسمى هو الصورة كما لا يستلزم تغير ما في الخارج
المحكوم عليه بالامتناع، لأن الممتنع تغير ما في الخارج في الواقع، وأما تغيره في
اعتقاد المعتقد فلا استحالة فيه، إذ الاعتقاد بشئ لا يستلزم كون المعتقد هو ذلك
الشئ في الواقع، غاية ما يلزم كون أحد الاعتقادين خطأ، ولذا ترى أن المعتقد
بعد تغير اعتقاده الأول يخطأ نفسه في اعتقاده الأول، وبذلك يظهر الجواب عن
الدليل المذكور لو قرر بأنه: لولا الألفاظ بإزاء المعاني الذهنية لما تغيرت التسمية،
والتالي باطل لضرورة تغيرها في مثال الشبح، وبيان الشرطية: أنها لولا بإزاء
المعاني الذهنية لكانت بإزاء الأمور الخارجية، واللازم باطل، لأن ما في الخارج
لا يتغير ولا يتبدل، وقد أثبتنا تغير التسمية، ولا يكون إلا لأجل تغير الصورة
الذهنية.
وقد يقرر الجواب بطريق القلب، بأنه لولا الألفاظ بإزاء الأمور الخارجية لما
تغيرت التسمية بتغير الشبح الخارجي في الاعتقاد، والتالي باطل لدوران اللفظين
في التسمية مع الشبح الخارجي، وبيان الشرطية: أنه لو كانت الألفاظ بإزاء المعاني
الذهنية لكان مسمى اللفظين في المثال المذكور هو الصورة، وقد ظهر بطلانه.
وثانيها: أن الألفاظ لو كانت موضوعة للأمور الخارجية لزم امتناع الكذب
في الأخبار، إذ المفروض أن كلا من زيد وقائم في قولنا: " زيد قائم " موضوع لما
هو موجود في الخارج من مدلوليهما والمجموع المركب للنسبة الخارجية، فيدل
المجموع على قيام زيد الموجود في الخارج، لاستحالة تخلف المدلول عن الدال،
وهذا خلاف ما اتفقوا عليه من انقسام الكلام إلى الخبر والإنشاء، وأن الفرق بينهما
كون الأول محتملا للصدق والكذب معا دون الثاني.
402

وفيه: منع الملازمة بعد مراجعة ما قررناه في معنى الأمور الخارجية، فإن
الواضع عند وضع الخبر باعتبار الهيئة النوعية قد لاحظ النسبة الخارجية - بمعنى
الخارجة عن الذهن لا محالة - فأخذها في وضع الخبر، فإن أخذها لا بشرط
المطابقة للواقع كان الخبر محتملا للصدق والكذب على حد سواء، وإن أخذها
بشرط المطابقة كان مدلول الخبر بحسب الظهور هو الصدق، لكنه لا ينفي احتمال
الكذب لأن الظهور المستند إلى وضع اللفظ باعتبار أصالة الحقيقة لا ينافي
احتمال خلافه.
غاية الأمر كونه مجازا، فالخبر أيضا محتمل لهما لكن على التفاوت في
الظهور وعدمه، وإليه يرجع كلام من ادعى كون مدلول الخبر هو الصدق، وأن
الكذب احتمال عقلي.
وأجيب أيضا: بأنه لو كان الكلام موضوعا للنسبة الذهنية لكان دالا عليها في
الذهن، فيكون قولنا: " زيد قائم " بمنزلة زيد قائم في اعتقادي، فيلزم كون العبرة
في صدق الكلام وكذبه بمطابقته الاعتقاد وإن خالف الخارج، ولا مطابقته له وإن
طابق الخارج كما عليه النظام، وهو خلاف التحقيق المقرر في محله، من كون
العبرة فيهما بمطابقة الواقع وعدمها، كما عليه الجمهور.
وفيه نظر: لأن ارتسام صورة النسبة في الذهن لا يلازم الاعتقاد بها.
وثالثها: إنا نعلم بالضرورة بوضع جملة من الألفاظ للمعدومات الممكنة
والممتنعة، ومع هذا فكيف يدعي أن الألفاظ بأسرها موضوعة للموجودات
الخارجية.
وفيه أولا: أنه لو تم لقضى بنفي إطلاق الوضع للأمور الخارجية، ولا يلزم منه
إطلاق ثبوت الوضع للمعاني الذهنية، والتفصيل ممكن، بأن يكون الموجودات
للأمور الخارجية، والمعدومات للمعاني الذهنية.
وثانيا: بأنه غفلة عما قررناه مرارا بتوهم أن الأمور الخارجية يراد بها ما
يدخل فيه الوجود، وأما الأمور الخارجية بمعنى ما خرج عن الذهن فيندرج فيها
403

المعدومات أيضا، لأنها أيضا إذا اخذت خارجة عن الذهن تصلح لأن توضع لها
الألفاظ ويتعلق بها الأحكام، كما يفصح عنه قولنا: " العنقاء معدوم " و " شريك
الباري ممتنع " لوضوح أن العدم والامتناع يلحقان الأمر الخارج عن الذهن، وكما
يجوز لحوق نحو هذه الأحكام به، فكذلك يجوز لحوق الوضع به.
وبالتأمل في جميع ما قررناه يتبين بطلان أدلة سائر التفاصيل المحدثة في
المسألة، كما تبين بما قررناه سابقا في تحرير المسألة، وتوضيح موضوعها وبيان
معنى العنوان فيها، فساد هذه التفاصيل في حد أنفسها، من حيث عدم تحمل عنوان
المسألة بالمعنى المتقدم شيئا من التفاصيل، وعدم تفاوت الحال في دوران وضع
الألفاظ الموضوعة بين كونها وضعا بإزاء حقائق المعاني وأعيانها الخارجة عن
الأذهان، بين المعاني جزئية أو كلية، موجودة أو معدومة، ممكنة أو ممتنعة.
وكيف كان، فاستدل لأول التفاصيل على الوضع للخارجية فيما له مصداق
خارجي بالاستعمالات العرفية المتقدم أمثلتها، وللذهنية فيما لا مصداق له، بعدم
إمكان الوضع له إلا بهذا الاعتبار، حيث لا وجود له في الخارج، حتى يقال: بأن
الوضع فيه أيضا للأمور الخارجية، وفيه ما يظهر بالتأمل فيما تقدم.
ولثانيها على الوضع للماهية في للأمور الكلية بالظهور المقرر: بأن الظاهر
أنها موضوعة للماهية من حيث هي مع قطع النظر عن الوجودين، والظاهر أن
المراد به التبادر، وإلا فلا يخلو عن مصادرة.
وعلى الوضع للخارجية في الجزئيات بعدم إمكان الوضع للماهية فيها، إذ
الأشخاص ليس لها ماهية سوى الماهية الكلية، بل الظاهر أن التشخص ليس في
هويته أمر سوى الماهية، لا العوارض الخارجية ولا أمر نسبته إلى الماهية النوعية
كنسبة الفصل إلى الجنس، بل الماهية الكلية إذا وجدت صارت متشخصة بدون
ضم شئ إليها، فالألفاظ التي تدل على الأشخاص ليست موضوعة لتلك الماهية،
بل لها من حيث التشخص بالوجود، وهو معنى الوضع للأمور الخارجية.
ولثالثها على الوضع للماهية ما مر من دعوى الظهور، وعلى الوضع للخارجية
404

في الجزئيات الخارجية والذهنية في الجزئيات الذهنية بنحو ما مر، من أن
الأشخاص لا ماهية لها سوى الماهية الكلية، فإنها إذا وجدت صارت متشخصة
بدون ضم شئ إليها، فإن وجدت في الخارج كانت شخصا، وإن وجدت في
الذهن كانت شخصا آخر، والألفاظ الدالة عليها ليست موضوعة بإزاء تلك
الماهية، بل لها من حيث التشخص، وهو غير خال عن أحد الأمرين، فيكون
الموضوع له هو الشخص الخارجي أو الذهني على الاعتبارين، وفي الكل
ما لا يخفى.
ثم إنا لم نعثر للمسألة على ثمرة تقصد من تدوينها، لكن غير واحد من
متأخري المتأخرين ذكروا في ثمرتها وجهين:
أحدهما: كون الأمر الظاهري العقلي مقتضيا للإجزاء وعدمه، فلو أمره بإكرام
زيد فاعتقد عمرا أنه زيد فأكرمه، فعلى القول بالأمور الذهنية يكون ممتثلا، لأنه
أتى بالمأمور به على وجهه، بخلافه على القول الآخر.
وثانيهما: التصويب في الموضوعات على القول بالذهنية، إذ الموضوع له
حينئذ هو المعنى الموجود في الذهن، فكل من حصل في ذهنه معنى للفظ -
كالقبلة بالنسبة إلى الجهات الأربع - فهو مصيب في ترتيب الأحكام عليه، وإن
خالف ما حصل في ذهن كل لما حصل في ذهن الآخر، للزوم هذا القول تعدد
الموضوع له واختلافه بحسب تعدد الأذهان في الاعتقادات واختلافها، والتخطئة
على غيره إذ الموضوع له حينئذ أمر واحد من أصابه فهو مصيب، ومن أصاب
غيره فهو مخطئ.
وفيه ما لا يخفى من الضعف.
فأول ما يرد عليه: عدم اندراجه في ضابط ثمرات المسائل، إذ لم يظهر أنهم
قصدوا بتدوين هذه المسألة إلى ترتب نحو مسألتي الإجزاء والتصويب، إن لم نقل
بظهور خلافه إلا أن يقصد من الثمرة مطلق الفائدة وإن لم تكن مقصودة.
وثاني ما يرد عليه: أن الإجزاء في الأمر العقلي والتصويب في الموضوعات
405

على القول بهما، يتفرعان على اعتقاد المكلف، فلا ينطبق شئ منهما على القول
بالوضع للصور الذهنية، لعدم ابتنائه على أخذ الاعتقاد في الوضع، بل مبناه - على
ما ظهر بما لا مزيد عليه - على جعل مسميات الألفاظ صور الأشياء المنطبعة في
الأذهان، من حيث إنها صورها لا من حيث إنها يعتقدها المعتقد، أو يدركها
المدرك، بل لا من حيث ارتساماتها فضلا عن الاعتقاد.
وثالث ما يرد عليه: أن تفرع الإجزاء في نحو المثال والتصويب في
الموضوعات على الاعتقاد لو صح وسلم أوفق بالقول بالأمور الخارجية، لأن
الاعتقاد في مثال " إكرام زيد " إنما يتعلق بعمرو على أنه زيد خارجي، لا على أنه
صورة زيد المنطبعة في الذهن، كما أنه في نحو مثال " القبلة " يتعلق بكل جهة على
أنها قبلة خارجية، لا على أنها صورتها المرتسمة في الذهن.
ورابع ما يرد عليه: أن القائل بالصور الذهنية يوافق القائل بالأمور الخارجية
في منع الإجزاء والتصويب في نحو موردي المسألتين، لأنهما يتوافقان في
الإذعان بتعلق نحو هذه الأحكام بالأمور الخارجية، غير أن القائل بالأمور
الخارجية يزعمه باعتبار الوضع، والقائل بالصور الذهنية يزعمه باعتبار القرينة،
فإنه يجعل نحو الإكرام والاستقبال في الصلاة من باب قرينة المجاز، كما تقدم منه
نظير ذلك في رد احتجاج القائل بالأمور الخارجية بنحو دخلت الدار، وأكلت
الخبز وشربت الماء إلى آخر الأمثلة.
وخامس ما يرد عليه، منع استلزام القول بالصور الذهنية للإجزاء في الأمر
الظاهري العقلي، والتصويب في الموضوعات، لأن الظاهر أنه يشترط في الصور
الذهنية المأخوذة في وضع الألفاظ مطابقتها للأمور الخارجية وانطباقها عليها،
فالآتي بإكرام عمرو باعتقاد أنه زيد غير آت بالمأمور به على وجهه على هذا
القول أيضا، كما أنه لا يستلزم تعدد الموضوع له بتعدد الصور، واختلافه باختلاف
الأذهان.
* * *
406

- تعليقة -
الحق وفاقا للمحققين عدم دخول العلم في مداليل الألفاظ بحسب الوضع
شطرا ولا شرطا، على معنى عدم كونها موضوعة للمعلومات بوصف كونها
معلومات، خلافا لمن توهم دخوله فيها باعتبار الوضع، على معنى وضع الألفاظ
للأمور المعلومة على وجه يكون العلم جزءا للموضوع له، وربما عزى إلى كثير
ممن لا تحقيق له، حتى قالوا: إن معنى " لا تتوضأ بالماء النجس " و " لا تأكل
الميتة " و " لا تشرب الخمر " و " لا تعمل بخبر الفاسق " النهي عما علم ثبوت
الوصف له، فأما ما جهل ثبوته له فهو خارج عن مدلول اللفظ.
وقضية هذا القول - مع الالتزام بخروج غير المعلوم عن المدلول - تحقق
الواسطة بين الطاهر والنجس، وبين العادل والفاسق ونظائر ذلك، فإن ما لم يعلم
طهارته ونجاسته، ومن لم يعلم عدالته وفسقه، إذا خرج عن مدلولي اللفظين فهو
غير المدلولين فيكون واسطة، وقد يتأمل في الفرق بين هذه المسألة والبحث
المتقدم، باعتبار أن العلم أيضا أمر ذهني، فلابد وأن يكون اعتباره في الموضوع له
ثابتا عند أصحاب القول بالوضع للأمور الذهنية، وعكسه ثابتا عند أهل القول
بالوضع للأمور الخارجية.
وقد يوجه الفرق بين المسألتين، بأن مرجع القول بالوضع للأمور الذهنية إلى
وجوب العمل بالمعتقد، وكونه موجبا للامتثال في مقام التكليف مع قطع النظر عن
407

عدم وجوب الفحص عند انتفاء العلم، ومرجع القول بالوضع للأمور المعلومة إلى
عدم وجوب الفحص عند انتفاء العلم مع قطع النظر عن وجوب العمل بالمعلوم
وكونه موجبا للامتثال، وكذا القول بعدم اعتبار العلم في المدلول فإن مرجعه إلى
وجوب الفحص عند الجهل مع قطع النظر عن وجوب العمل بالمعلوم وكونه موجبا
للامتثال. وفيه ما لا يخفى.
أما أولا: فلأن قضية ما ذكر كون مبنى القول بالأمور الذهنية على أخذ
الاعتقاد في مسميات الألفاظ، وقد عرفت منعه.
وأما ثانيا: فلأن ما ذكر في الفرق بين المسألتين إبداء لتغاير الثمرتين،
ومقتضاه كون الثمرتين من متفرعات دخول الاعتقاد في مسميات الألفاظ
وخروجه عنها، ولا خفاء ان تعدد الثمرة لا يوجب تعدد المسألة، فإن الثمرات
المترتبة على الشئ من قبيل اللوازم، وظاهر أن تعدد لوازم الشئ لا يوجب
تعدد الملزوم، فالواجب حينئذ أخذ عنوان المسألة باعتبار دخول العلم في
المدلول وخروجه عنه، فيقال في التفريع: إن دخوله فيه يلزمه، أولا: كون العمل
بالمعتقد بوصف كونه معتقدا موجبا للامتثال.
وثانيا: عدم وجوب الفحص عند انتفاء العلم، وخروجه عنه يلزمه وجوب
الفحص وعدم الامتثال، وبالجملة تعدد الثمرة لا يقتضي تعدد المسألة.
فالوجه في الفرق - ما نبهنا عليه سابقا - من عدم كون مبنى القول بالأمور
الذهنية على أخذ الاعتقاد في الوضع، بل على جعل مسميات الألفاظ صور
الأشياء المرتسمة في الأذهان من حيث إنها صورها، لا من حيث إنه ارتساماتها
فضلا عن الاعتقادات المتعلقة بها، فالخلاف في مسألة دخول العلم في المدلول
متفرع في الحقيقة على القول بالأمور الخارجية، لأن العلم والاعتقاد إنما يتعلق
بها باعتبار انها أمور خارجية لا باعتبار أنها صور ذهنية، فيرجع البحث إلى أن
الأمور الخارجية هل اخذت في وضع الألفاظ من حيث إنها أمور واقعية، أو من
حيث إنها أمور معلومة؟
408

نعم هاهنا إشكال آخر يصعب دفعه، ولم نقف على من تفطن به وتفصى عنه،
وهو أن قضية إطلاقهم بل صريح الأمثلة المتقدمة عدم الفرق في الألفاظ بين
الجوامد والمشتقات، كما أن ظاهر مطاوي كلماتهم عنوانا ودليلا وثمرة، كون
العلم المتنازع في دخوله في مداليل الألفاظ هو العلم التصديقي، المعبر عنه
بالاعتقاد لا العلم التصوري ولا مطلق الإدراك، فيشكل تصوير دخوله في مداليل
الألفاظ بأسرها حتى الجوامد، كالخمر والميتة والكلب والخنزير ونحو ذلك، فإن
العلم بالمعنى المذكور من عوارض النسبة اللازمة لتحقق طرفيها المنسوب
والمنسوب إليه، فلا يمكن أخذه في مداليل الجوامد، لعدم تركب فيها بحيث
يتضمن نسبة يتعلق بها العلم والإذعان.
نعم ربما أمكن تصويره في مداليل المشتقات باعتبار اشتمالها على نسبة
ملحوظة بين الذات والمبدأ، فيصح في مثل " فاسق " أن يقال: إنه موضوع لذات
علم بثبوت الفسق لها، وأما نحو الميتة والخمر وغيرهما فلم يشتمل مدلول شئ
منها على نسبته، لكونه أمرا بسيطا لم يتركب من شيئين ذات ووصف يتحقق بينهما
هذه النسبة، فلا يجري فيها نحو البيان المتقدم.
وبالجملة دخول العلم التصديقي في مدلول اللفظ باعتبار الوضع، إنما يصح
فرضه في كل لفظ انحل مدلوله بحسب الوضع إلى قضية حملية، مشتملة على ذات
ووصف ونسبة بينهما، وهذا في الجوامد غير معقول.
وتوهم انحلال مداليلها أيضا إلى نحو هذه القضية، فإن " الرجل " و " الأسد "
و " زيد " و " عمرو " مثلا ينحل مداليلها إلى ذات ثبت لها الرجولية، وذات ثبت لها
الأسدية، وذات ثبت لها الزيدية، وذات ثبت له العمرية.
يدفعه: أنه إنما يصح لو كان كل من الذات والوصف المذكورين مأخوذا مع
الموضوع له باعتبار الوضع، وهذا في الوصف غير صحيح، لأن الرجولية وصف
منتزع ينتزعه العقل عن الذات وهو الأمر الواقعي، باعتبار أنه يقع عليه اسم
الرجل، فيكون مع عدم كونه وصفا حقيقيا ثابتا في الذات في نفسه متأخرا عن
الوضع، ودخوله مع الذات في الوضع يقتضي تقدمه على الوضع وهو محال،
409

لأن ما شأنه أن يتأخر عن الوضع يستحيل أن يتقدم عليه، وإلا لزم تقدم الشئ
على نفسه.
وتوهم أن الاستعمال في كل من الحقيقة والمجاز - كما حققه بعض الأعلام -
يتولد منه الحمل الذاتي فيدخل العلم في معاني الجوامد بهذا الاعتبار.
يدفعه: أيضا مع أن هذا الحمل من عوارض الاستعمال لا من لوازم الوضع،
أنه لا يجدي في صحة دخول العلم في مدلول اللفظ إلا إذا دخل فيه النسبة وكل
من طرفيها الموضوع والمحمول ليس كذلك، لخروج الموضوع وهو المعنى
المتصور قبل الاستعمال والنسبة عن مدلوله، الذي هو المعنى المستعمل فيه
المجعول محمولا في القضية، كما يظهر بالتأمل.
نعم لو أخذ العلم المبحوث عنه العلم التصوري صح فرض دخوله في الوضع
في الجوامد أيضا، على معنى كونها موضوعة لمعانيها من حيث كونها معلومة
بالعلم التصوري، لأن التصور لا يعتبر فيه أن يكون متعلقه النسبة كما هو واضح،
فلابد في تحرير موضوع المسألة بعد ملاحظة الإشكال المذكور من التزام أحد
الأمور الثلاث: إما حمل " العلم " المتنازع في دخوله في مداليل الألفاظ على العلم
التصوري، أو تخصيص المسألة بالمشتقات وما ضاهاها في اشتمال مداليلها على
نسبة خبرية أو تقييدية، كالمركبات التامة والمركبات الناقصة الموضوعة للنسب
التقييدية، أو التفصيل بين الجوامد بحمل " العلم " بالقياس إليها على العلم
التصوري والمشتقات وما شابهها بحمل " العلم " بالإضافة إليها على العلم
التصديقي، وكلامهم بالنسبة إلى هذا المقام غير محرر، كما أنه غير محرر بالنسبة
إلى أن " العلم " المبحوث عنه هل هو علم المتكلم أو علم المخاطب أو علمهما معا،
وإن كان بياناتهم في الأمثلة المتقدمة وما ذكروه من الثمرتين - حسبما تعرفهما -
يقتضي كون الاعتبار بعلم المخاطب، وكيف كان فالمعتمد ما نبهنا عليه من عدم
دخول العلم في مداليل الألفاظ بحسب الوضع، سواء أريد به العلم التصديقي
أو التصوري أو ما يعمهما، وسواء أريد به علم المتكلم أو المخاطب أو ما يعمهما.
لنا: على ذلك - بعد الأصل النافي لتعرض الواضع لأخذ العلم في وضع
410

الألفاظ - التبادر، فإن المتبادر من الألفاظ بأسرها عند إطلاقاتها معانيها من حيث
إنها أمور واقعية من دون أن يتبادر معها وصف المعلومية بجميع وجوهه
ومحتملاته، لا تفصيلا ولا إجمالا، لا تبادرا أوليا ولا ثانويا، وهذا آية عدم دخوله
في الوضع أصلا، هذا مضافا إلى أنه المركوز في أذهان أهل العرف، فإنه لم يعهد
أحد في معنى شئ من الألفاظ إلا نفس المعنى من حيث إنه أمر واقعي لا بوصف
أنه معلوم، بل لم يدخل في ذهن أحد دخول وصف المعلومية مع المعنى في وضع
اللفظ الدال عليه، كما يكشف عن ذلك ذمهم تارك المأمور به لجهله مع تمكنه عن
الاستعلام بالفحص اعتذارا بعدم علمه به، وعدم إذعان أحد منهم ثبوت الواسطة
بين المؤمن والكافر، والعادل والفاسق، والحلال والحرام، والطاهر والنجس.
ويدل عليه أيضا كلام أئمة اللغة في ترجمة الألفاظ وضبط معانيها، لعدم
تعرض أحد منهم لذكر وصف المعلومية مع المعاني، وإنما اقتصروا في كافة
الألفاظ على أصل المعاني من دون إيماء ولا إشعار بدخول العلم معها في الوضع،
فكان ذلك منهم اتفاقا على عدم الاعتبار.
واستدل أيضا بأن مقتضى قواعد الصرف والاشتقاق أن المشتق هو الذات
المتصف بالمبدأ، فإذا كان العلم خارجا عن مدلول المبادئ كان خارجا عن
المشتقات أيضا، هذا مضافا إلى أنه ليس للقول بالوضع للأمور المعلومة مدرك
يعتمد عليه، ولا مستند يلتفت إليه.
نعم ربما احتمل كون مستنده في الأخبار أن المخبر لما لم يصح له الإخبار إلا
مع العلم بالموضوع والمحمول، كان قول القائل: " هذا الماء طاهر " في قوة " هذا
الذي علم أنه ماء هو معلوم الطهارة " وفي الإنشاء أن الطالب لما لم يصح له طلب
غير المقدور، والعلم من شرائط القدرة كان قوله: " لا تستعمل النجس " بمنزلة أن
يقول: " لا تستعمل ما علمت نجاسته ".
وفيه: مع اختلاف مؤداه بالنسبة إلى الخبر والإنشاء، من حيث إن مؤداه
بالنسبة إلى الخبر اعتبار علم المتكلم، وبالنسبة إلى الانشاء اعتبار علم المخاطب،
ما لا يخفى من الضعف.
411

أما بالنسبة إلى الخبر: فلأن العلم بالموضوع والمحمول الذي يتوقف عليه
صحة الأخبار، إما أن يراد به العلم التصوري بملاحظة ما تقرر في محله من أن
تصور المحكوم عليه وتصور المحكوم به كتصور النسبة الحكمية من شرائط
الحكم في القضية فهو صحيح، إلا أنه شرط عقلي للحكم، ومقتضى كونه شرطا
عقليا اعتبار حصوله في الخارج مقدما على الحكم، لا دخوله في مدلول اللفظ
الدال على موضوع القضية ومحمولها.
وبعبارة أخرى: لا ملازمة بين كون تصور الموضوع والمحمول شرطا للحكم
في القضية بحسب نظر العقل وبين دخوله في مدلول اللفظ الدال عليهما بحسب
الوضع، وليس على الواضع أن يأخذ العلم التصوري في وضع الألفاظ، بمراعاة
أنه يتوقف عليه الحكم في القضايا، التي تؤخذ هذه الألفاظ في موضوعاتها
ومحمولاتها.
أو يراد به العلم التصديقي، بتقريب: أن القضية في قولنا: " هذا الماء طاهر "
شخصية لكون موضوعها الشخص، ومحمول هذه القضية من لوازم الماهية الكلية
المائية، والحكم بثبوت ما هو من لوازم الكلي للمصداق الخارجي يتوقف على
العلم باندراج ذلك المصداق تحت الكلي، على معنى العلم بكون هذا الشخص
ماء، فهو مع عدم اطراده في جميع القضايا وعدم جريانه بالنسبة إلى محمول
القضية صحيح في نحو هذه القضية، غير أن العلم المذكور شرط عقلي لحكم
القضية، ومقتضى كونه شرطا عقليا اعتبار حصوله في الخارج، لا دخوله في وضع
اللفظ الدال على موضوع القضية، على معنى عدم الملازمة بين كونه شرطا عقليا
للحكم في القضية، وبين دخوله في مدلول اللفظ المأخوذ في موضوعها بحسب
الوضع، كما عرفت.
هذا مضافا إلى عدم إمكان دخول هذا العلم في وضع اللفظ الدال على
الموضوع، سواء فرضت الموضوع هو المشار إليه، أو مدخول اسم الإشارة، نظرا
إلى أن التركيب بين اسم الإشارة ومدخولها الذي هو نعت أو عطف بيان له،
يتضمن نسبة تقييدية تنحل إلى النسبة التامة الخبرية، فإن قولنا: " هذا الماء " في
412

قوة قولنا: " الذي هو ماء " والعلم المفروض من عوارض هذه النسبة الخارجة عن
مدلول كل من اسم الإشارة ومدخوله.
وقد يجاب أيضا: بأن اعتبار العلم في الخبر لكونه من لوازم صدق الخبر عند
المخبر، لا لدخوله في مدلول اللفظ كما هو المطلوب.
وأما بالنسبة إلى الإنشاء: فلأن مقدمة: " إن الطالب لا يصح له طلب غير
المقدور " وإن كانت مسلمة، لكون القدرة من شرائط التكليف فلا يتعلق الطلب إلا
بالمقدور، لكن المقدمة الثانية وهي كون العلم من شرائط القدرة على إطلاقها
ليست مسلمة، وإنما يسلم ذلك في العلم بأصل التكليف، فإن القدرة على امتثال
التكليف يتوقف على العلم به تفصيلا أو إجمالا، وأما العلم بمتعلق التكليف المعبر
عنه بالمكلف به فليس مما يتوقف عليه القدرة على الامتثال، بل إنما يتوقف عليه
العلم بالامتثال على معنى أنه أحد شرطي العلم بالامتثال، فإن المكلف إذا علم
بتكليفه بشئ واشتبه هذا الشئ لجهله به بين أمور، فلابد في علمه بامتثال هذا
التكليف إما من الإتيان بجميع هذه الأمور التي اشتبه فيها المكلف به فعلا أو تركا -
كما هو الحال في الشبهة المحصورة - أو من تحصيل العلم بالمكلف به الواقعي
بالفحص على وجه يزول معه الاشتباه، وكونه شرطا للعلم بالامتثال إنما يثبت
بحكم العقل، ومقتضاه اعتبار حصوله في الخارج لا دخوله مع المكلف به في مدلول
اللفظ باعتبار الوضع لعدم الملازمة، وليس على الواضع أيضا أن يراعي العلم في
وضع الألفاظ لمجرد أنها تؤخذ في القضايا التكليفية، وبمثل هذا يجاب أيضا لو
سلم إطلاق القول بكون العلم من شرائط القدرة، وهذا معنى ما قيل في الجواب من
أن اعتبار العلم لامتناع طلب ما لا يطاق لا يوجب دخوله في المدلول كما هو
المطلوب، إذ امتناع التكليف بغير المقدور لا يقتضي اعتبار العلم في الوضع.
وقد يقال: إن الألفاظ وإن كانت بحسب الوضع بإزاء الأمور الواقعية من غير
مدخلية للعلم فيها شطرا ولا شرطا، إلا أنها في خطابات الشارع تنصرف إلى
المعلومات.
وبعبارة أخرى: أن العلم وإن لم يدخل في مداليل الألفاظ باعتبار لحاظ
413

الوضع، إلا أنه يدخل فيها في لحاظ الخطاب، وهذا أيضا ضعيف، لأن وضع
الألفاظ بإزاء الأمور الواقعية يقتضي ظهورها فيها مطلقا حتى في حيز الخطابات
الشرعية، وانصرافها فيها إلى المعلومات لابد له من موجب، وهو إما العرف على
معنى كون المنساق منها حينئذ هو الأمور المعلومة لشاهد عرفي، أو العقل بتوهم
كون الخطاب بغير المعلوم تكليفا بغير المقدور، أو الشرع بزعم أن المستفاد من
قوله (عليه السلام): " الناس في سعة ما لم يعلموا " (1) أو " ما حجب الله علمه عن العباد فهو
موضوع عنهم " (2) ونحو ذلك من عمومات البراءة، كون التكاليف معلقة على
المعلومات، ولا سبيل إلى شئ من ذلك.
أما الأول: فلأن انسباق الأمور المعلومة عرفا إما لطرو الوضع الجديد العرفي
بإزائها.
فيدفعه: بعد الأصل، كون الوضع الجديد مقطوعا بعدمه، بعين ما مر في نفي
الوضع اللغوي.
أو لغلبة إطلاقها في خطابات العرف أو خطابات الشرع عليها.
فيدفعه: أن هذه الغلبة مما لا أثر له في شئ من الألفاظ بحسب العرف ولا
بحسب الشرع، أو لنهوض الخطاب المتضمن للتكليف بنفسه قرينة على إرادتها،
فيدفعه: ان الخطاب ومضمونه لا يعاند الأمور الواقعية حتى ينهض صارفا للألفاظ
الدالة عليها إلى المعلومات.
بل الظاهر المنساق منها في الخطابات العرفية ليس إلا الأمور الواقعية، كما
يرشد إليه التزامهم عند الجهل بالفحص والسؤال أو الاحتياط بالجمع بين
المحتملات، حتى إن المأمور الجاهل لو ترك الامتثال بترك الأمرين مع إمكانهما
أو إمكان أحدهما كان مذموما، ولم يكن عذره بجهله مقبولا، وطريقة الشارع
في خطاباته أيضا طريقة العرف.
وأما الثاني: فلأنه إنما يصح لو كان العلم من شرائط القدرة على الامتثال،

(1) المحاسن: 452.
(2) التوحيد: 413.
414

وإنما يسلم ذلك في العلم بأصل التكليف، وأما العلم بمتعلقه فقد عرفت أنه شرط
للعلم بالامتثال، كما أن الاحتياط بالجمع بين المحتملات شرط له أيضا،
فالخطاب بما لا يعلمه المكلف من الموضوعات مع القدرة على الامتثال وإمكان
العلم به، بالفحص والسؤال أو الاحتياط بالجمع بين المحتملات، لا تستتبع تكليف
ما لا يطاق ولا محذورا آخر، ليحكم العقل من جهته بدخول العلم في المراد.
وأما الثالث: فلأن المنساق من الأخبار المذكورة ونظائرها، إنما هو العلم
بأصل التكليف الحاصل في مفروض المسألة تفصيلا أو إجمالا، لا العلم بمتعلقه
كما هو واضح.
فالإنصاف ومجانبة الاعتساف، أن العلم كما لا يدخل في مداليل الألفاظ في
لحاظ الوضع، فكذلك لا يدخل فيها في لحاظ الخطاب، فالقولان بدخوله فيها
على أحد الوجهين في الضعف سيان، فمما بيناه يظهر أنه لا يجدي ما عن بعضهم
في إصلاح القول بدخول العلم فيها من تنزيل الخلاف المشهور إلى ما تعلق به
الخطاب الشرعي من الموضوعات، يزعم كون دخول العلم في مدلولات الألفاظ
بحسب الوضع - حتى يكون " الفاسق " اسما لمن علم فسقه و " المؤمن " لمن علم
إيمانه وهكذا - مما لا يقبل النزاع، ولا يصلح مطرحا للأنظار، تعليلا: بأن عدم
مدخلية العلم في وضع الواضع ظاهر كالشمس، وإنما الخلاف فيما تعلق به الحكم
ولم يقدر المكلف بعد الفحص والبحث على أن يعلمه، واستظهر حينئذ عدم تعلق
الخطاب به لأصالة البراءة واشتراط التكليف بالعلم، فإذا تفحص ولم يعلم حاله
يكون خارجا عن الخطاب، ويتوقف حكمه على خطاب آخر، فمن شك في أنه
مستطيع إذا لم يقدر على تقويم ماله لعدم المقوم ونحوه فلا تكليف له، وكذا من لم
يقدر على معرفة المسافة فلا يدخل تحت حكم القصر، وفي آية النبأ يلحق
المجهول حاله بالفاسق للعلة المنصوصة التي هي خطاب آخر لاشتراكهما فيها،
وفي الحلال والحرام يلحق مجهول الحال بالمباح لقولهم (عليهم السلام): " كل شئ فيه
حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه " (1) انتهى.

(1) المحاسن: 495.
415

ثم ظاهر هذه العبارة مع ما يرد على التنزيل المذكور من عدم مساعدة
أطراف المسألة عليه، ولا سيما التعبير عن العنوان " بأن الألفاظ هل هي أسام
للأمور الواقعية أو المعلومة " ربما يوهم كون معقد الخلاف ما بعد الفحص والعجز
عن العلم وهو خلاف التحقيق، فإن ثمرة الخلاف على ما ذكروه - سواء فرض
وقوعه في دخول العلم في المداليل بحسب الوضع أو بحسب الخطاب - إنما تظهر
في وجوب الفحص وعدمه، قال العلامة الطباطبائي بعد اختياره القول المشهور:
ومما يتفرع على ذلك، وجوب الفحص والاجتهاد مع الجهل بالحال، كما لو
قال: " صل إلى جهة الكعبة " و " اعمل برواية العدل " فإنه يجب الاجتهاد في تعيين
سمت القبلة، والتفتيش عن عدالة الراوي مع الجهالة، لإطلاق التكليف وتحقق
القدرة على الامتثال، ولو كان العلم بالوصف معتبرا في صدق اللفظ لم يجب
الفحص والاجتهاد قطعا، إذا التكليف حينئذ مشروط بتقدم العلم، ووجوب البحث
معه تحصيل الحاصل (1) انتهى.
ويمكن توجيه العبارة بحمل ما ذكره من الفروع على كونه تفريعا على القول
بالأمور الواقعية، وقوله: " وإنما الخلاف فيما تعلق به الحكم ولم يقدر المكلف "
الخ، قصور في التأدية.
ومن فروع المسألة أيضا - على ما ذكره العلامة المذكور - اشتراط عدالة
الراوي وعدم حجية خبر مجهول الحال لما عرفت، من أن العادل اسم لمن ثبت له
وصف العدالة في نفس الأمر، والفاسق لمن ثبت له الفسق كذلك، والمجهول الحال
في نفس الأمر إما عادل أو فاسق، وليس واسطة بين العادل والفاسق الواقعيين،
وإنما هو واسطة بين معلوم العدالة ومعلوم الفسق، والحكم بالتثبت في آية النبأ عند
خبر الفاسق يقتضي وجوب التوقف عند إخبار من له تلك الصفة في الواقع،
فيتوقف القبول على العلم بانتفائها، ويجب التوقف مع العلم بثبوتها أو بالجهل
بالحال، إلى آخر ما ذكره.
* * *

(1) شرح الوافية للسيد بحر العلوم.
416

- تعليقة -
الوضع مسبوق بتصور ما وضع له، أو بتصور ما يلزم من تصوره تصور ما
وضع له إجمالا، ويقال له آلة الملاحظة، وقد يطلق آلة الملاحظة على الأمر
المتصور قبل الوضع من حيث إنه يتصور قبله، سواء كان نفس الموضوع له أو ما
يلزم من تصوره تصور الموضوع له إجمالا، فالوضع باعتبار آلة الملاحظة
والموضوع له ينقسم عندهم إلى أقسام أربع:
الوضع العام والموضوع له العام: وهو أن يتصور الواضع أمرا عاما ومفهوما
كليا ثم يضع اللفظ لنفس هذا الأمر العام.
والوضع الخاص والموضوع له الخاص: وهو أن يتصور أمرا خاصا ويضع
اللفظ لنفس هذا الأمر الخاص.
والوضع العام والموضوع له الخاص: وهو أن يتصور أمرا عاما ويضع اللفظ
لجزئياته المندرجة تحته، على وجه يقع كل جزئي في نفسه موضوعا له.
والوضع الخاص والموضوع له العام: وهو أن يتصور أمرا خاصا وجزئيا
حقيقيا ويضع اللفظ لأمر عام مشترك بينه وبين سائر الجزئيات.
وربما خفي الوجه في وصف الوضع في عنوان هذا التقسيم بالعموم
والخصوص هل هو لنفسه أو لغيره؟ وهل الموصوف بأحد هذين الوصفين هو
الوضع بمعناه المصطلح - وهو تعيين اللفظ - أو غيره؟ فقد يتوهم إن الوضع هنا
يطلق على آلة الملاحظة.
417

بل صريح سيد الأفاضل في شرحه للوافية كونه اصطلاحا لهم، حيث قال:
وأما باعتبار الموضوع له والوضع فينقسم الوضع إلى الوضع الخاص والعام، إما مع
عموم الموضع له أو خصوصه، وذلك لأن المعنى المتصور حال الوضع - ويسمى
في الاصطلاح وضعا وعنوانا - إما أن يكون معنى خاصا، إلى آخر ما ذكره.
وحينئذ فالمتصف بالعموم والخصوص هو آلة الملاحظة، فإنها إما أن تكون
أمرا عاما أو خاصا.
ويشكل ذلك: بأن ظاهرهم في عنوان هذا التقسيم إنما هو تقسيم الوضع لا
غير، وهذا البيان يقتضي كون المقسم هو آلة الملاحظة لا الوضع باعتباره
والموضوع له.
ويظهر من بعض الأعلام (1) تبعا للمصنف في مباحث التخصيص في بحث
الاستثناء المتعقب لعمومات متعددة، أن الوضع يتصف بهما تبعا للتصور المعتبر فيه
من باب وصف الشئ بحال لازمه، حيث علل تسمية الوضع عاما أو خاصا،
بقوله: لعموم التصور المعتبر ولخصوص التصور المعتبر فيه.
وقد يحتمل في كلاميهما كون المراد " بالتصور " هو المعنى المتصور، أعني آلة
الملاحظة التي هي أيضا كالتصور لازمة للوضع، فوصفه بهما أيضا من باب وصف
الشئ بوصف لازمه، فإسناد أحد الوصفين إليه على أحد هذين الوجهين إسناد
مجازي، لأنهما يسندان إلى التصور أو إلى آلة الملاحظة أولا وبالذات وعلى وجه
الحقيقة، وإلى الوضع الملزوم لهما ثانيا وبالعرض وعلى وجه المجاز.
ولا يبعد أن يقال: بالنظر إلى ظاهر بعض كلماتهم إن الوضع بمعناه المصطلح
لنفسه يتصف بهما، فإسناد الوصف إليه حقيقي لا أنه مجازي، وذلك أن الوضع
بمعنى تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه يتعلق باللفظ بإزاء المعنى الموضوع
له، وتعيين اللفظ قد يكون خاصا بأمر خاص لا يتعداه إلى غيره، وقد يكون عاما
له ولغيره من مشاركاته، فوضع " زيد " خاص بمسماه الشخصي، ووضع " ذا " عام

(1) قوانين الأصول 287: 1 (الطبعة الحجرية).
418

له ولغيره من سائر جزئيات المشار إليه الكلي، ولذا يقال: إن " ذا " وضع بوضع
واحد عام لجزئيات المشار إليه، وكذلك وضع " الإنسان " بإزاء الحيوان الناطق،
فإنه ليس خاصا بزيد بل عام له ولسائر الجزئيات المندرجة تحت ذلك الكلي،
وإن تعلق بالكلي.
ويشكل ذلك أيضا بعدم اطراده لأنه لا يتم في القسم الرابع، أعني الوضع
الخاص والموضوع له الخاص، فالأولى جعل لحوقهما الوضع باعتبار عموم آلة
الملاحظة وخصوصها.
وقد وقع الخلاف في وقوع القسم الثالث بعد اتفاقهم على جوازه عقلا وعلى
جواز القسم الأول عقلا ووقوعه لغة في أسماء الأجناس وأشباهها، وعلى جواز
القسم الثاني عقلا ووقوعه لغة أيضا في أعلام الأشخاص، وعلى عدم ثبوت القسم
الرابع، وربما نفي الإشكال والخلاف في عدم وجوده.
وربما ادعي امتناعه، وعلل: بأن الجزئي لا يقع عنوانا للكلي وآلة لملاحظته،
وتوجيهه: أن الجزئي عبارة عن الماهية مع التشخص، والتشخص إنما يلحق
الماهية بواسطة انضمام المشخصات، فالماهية ما به اشتراك الجزئي مع سائر
الجزئيات، والمشخصات ما به امتيازها عن سائر الجزئيات، والمحسوس المعائن
منه عند الملاحظة إنما هو المجموع مما به الاشتراك وما به الامتياز، ووقوعه
عنوانا للكلي - وهو الماهية المشتركة - ليوضع لها لفظ فرع على التمييز بين ما به
الاشتراك وما به الامتياز، وهذا لا يتأتى بمجرد ملاحظة الجزئي، فلا يحصل
بملاحظته تصور الكلي لا تفصيلا ولا إجمالا، فيستحيل الوضع بإزائه.
وبعبارة أخرى: أن الماهية المتحققة في الجزئي عبارة عما يلتئم من الذاتيات
من الأجناس والفصول، والمشخصات المتحققة معها من باب العرضيات،
والجزئي مشتمل عليهما، ولا يقع عنوانا للكلي وآلة لملاحظته إلا بعد التمييز بين
ذاتياته وعرضياته، وهو بمجرد تصور الجزئي غير ممكن، فلا يحصل تصور
الكلي وهو الماهية المشتركة من تصوره، فيستحيل الوضع له.
419

وبالجملة، الكلي إن أمكن ملاحظته في نفسه فلا حاجة فيه إلى توسيط
الجزئي في الملاحظة ليقع عنوانا وآلة للملاحظة، والعدول عن ملاحظته في نفسه
إلى ملاحظته في ضمن ملاحظة الجزئي ربما لا يلائم حكمة الواضع الحكيم، ولا
ينتقض ذلك بعكس هذه الصورة، كما في القسم الثالث لأن بملاحظة الكلي تحصل
تصور الجزئيات إجمالا وهو كاف في الوضع، ويتعين الاكتفاء به عن تصورها
تفصيلا لتعذره أو تعسره أو خروجا عن حزازة اللغوية.
وإن لم يمكن ملاحظته في نفسه، بأن ينحصر طريق ملاحظته في الجزئي، كما
هو المقصود من جعله عنوانا، فلا يحصل ملاحظته بملاحظة الجزئي، لعدم إمكان
الفرق بين ذاتياته وعرضياته بمجرد ملاحظته.
وبما قررناه يندفع ما عساه يقال: من أن ما ذكرته في وجه الاستحالة إنما يتم
على تقدير واضعية البشر، وأما على تقدير واضعية الواجب تعالى فلا، لأنه لا
يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، فلا استحالة في جعل
الجزئي عنوانا للكلي في حقه تعالى، بحيث يلزم من ملاحظته تعالى للجزئي
تصوره، فإن الكلي في نفسه أيضا مما لا يعزب عن علمه، فإحاطة علمه تعالى به
مما يغني عن جعل الجزئي آلة لملاحظته، فليتدبر لئلا يختلط الأمر.
وكيف كان، فهذا المقام مما لا جدوى في التعرض لتحقيقه، فالأولى صرف
زمام الكلام إلى موضع الخلاف وهو القسم الثالث، فالقدماء من أهل العربية
والأصول أنكروا ثبوت ذلك أيضا، خلافا لأكثر المتأخرين فأثبتوه في الضمائر
والموصولات وأسماء الإشارة والحروف بأسرها، والأفعال الناقصة بل التامة
باعتبار النسبة الفاعلية أو الطلبية، والمشتقات الاسمية بأجمعها عند جماعة منهم.
وقد ذكر سيد الأفاضل ضابطا كليا يندرج فيه جميع هذه المذكورات وغيرها
مما لم يذكر إن كان، وهو كل مستعمل في غير منحصر لأمر مشترك لم يستعمل فيه
فقالوا: بأن الوضع فيها عام والموضوع له خاص، على معنى أن الواضع لاحظ كلي
المفرد المذكر الغائب المتقدم ذكره، وكلي من يحكي عن نفسه، وكلي المفرد
420

المذكر من المخاطب، وكلي المفرد المذكر ممن يتعين بالصلة، وكلي المفرد المذكر
من المشار إليه، وكلي الابتداء والانتهاء والاستعلاء، وكلي تقرير صفة لموصوف،
وكلي نسبة الحدث إلى الفاعل، وكلي الذات المتصفة بالمبدأ، ثم وضع لفظة " هو " و
" أنا " و " أنت " و " الذي " و " ذا " و " من " و " إلى " و " على " و " كان " وهيئة " فعل "
و " يفعل " و " فاعل " في كل من الكليات المذكورة للجزئيات المندرجة تحته،
على وجه يقع كل جزئي بنفسه موضوعا له، فيتعدد الموضوع له على حسب تعدد
الجزئيات، وإن اتحد الوضع فيكون استعمال اللفظ في كل واحد بإنفراده استعمالا
له في تمام معناه الموضوع له.
والقدماء زعموا أن الوضع والموضوع له في الجميع عام، وربما قيل: إنهم
صاروا فريقين بعد إطباقهم على عدم اتفاق استعمال اللفظ في المعنى العام
المفروض كونه موضوعا له، ففريق إلى أن الواضع بعد ما وضع اللفظ بإزاء المفهوم
الكلي شرط على تابعيه أن لا يستعملوه إلا في جزئيات هذا المفهوم، وفريق آخر
إلى أن الواضع لم يشرط ذلك إلا أنه اتفق أنه لم يستعمل إلا في الجزئيات، ويرد
على الفريق الأول:
أولا: أن الالتزام بالشرط المذكور مصير إلى ضد المطلوب وكر على ما فر منه
مع تضمنه تجويز حزازة اللغو والعبث إلى الواضع الحكيم، فإن إلزام الواضع على
تابعيه بأن لا يستعملوا اللفظ إلا في الجزئيات في معنى تعيينه له بإزاء الجزئيات،
إذ لا يعني من الوضع بمعنى تعيين اللفظ ما يفيده خصوص لفظ " وضعت " أو
" عينت " أو " جعلت " بل كل ما يؤدي مؤداه صدق عليه الوضع، فقوله: " شرطت
استعمال هذا اللفظ في ذلك المعنى " بمنزلة أن يقول: " وضعته له " كما أن قوله:
" وضعته له " بمنزلة قوله: " ألزمت استعماله فيه ".
ومن هنا ظهر الوجه في لزوم اللغو على تقدير الوضع للمفهوم الكلي،
وستسمع زيادة توضيح له.
وثانيا: أن شرط الاستعمال في الجزئيات إن كان بعنوان التعويل على العلاقة
421

بينها وبين الكلي الموضوع له، لزم أن يكون هذه الألفاظ على كثرتها مجازات بلا
حقيقة، بل يلزم أن يكون المجاز بلا حقيقة أكثر بمراتب شتى من الحقيقة مطلقا
فضلا عن الحقيقة بلا مجاز، وهذا ضروري البطلان حتى على القول بوقوع المجاز
بلا حقيقة، وإن كان لا على الوجه المذكور لزم عدم كونها حقائق ولا مجازات،
لفرض عدم التعويل في استعمالاتها على وضع ولا على علاقة.
أما الأول: فلانتفائه، وأما الثاني: فبحكم الفرض، واللازم بديهي البطلان
لانتفاء الواسطة فيما بين الحقيقة والمجاز مع وقوع الاستعمال.
ويرد على الفريق الثاني: لزوم اللغو والعبث على الواضع الحكيم، لفرض
انتفاء الاستعمال الذي هو الغرض المطلوب من الوضع، والفائدة المقصودة منه.
وتوهم أن المعتبر في صحة الفعل من الحكيم كونه عن غرض، ولأجل ترتب
فائدة عليه، ولا يعتبر حصول الغرض وترتب الفائدة عليه فعلا.
يدفعه: أن المعتبر في صحة قصد الغاية وترتب الفائدة احتمال الترتب،
وكونها مرجو الحصول، فلا يمكن مع العلم بالعدم، كما هو الحال في المقام، لمكان
علم الواضع الحكيم باستهجان الاستعمال في المفهوم الكلي.
وتوهم أن الوضع قد يكون للتوصل إلى صحة التجوز بالاستعمال في
الجزئيات مجازا.
يدفعه: أولا ما تقدم من بطلان المجاز بلا حقيقة في هذه الألفاظ بأسرها.
وثانيا: أن الوضع للكليات لفائدة التوصل إلى صحة التجوز في الجزئيات
ليس بأولى من الوضع للجزئيات توصلا إلى صحة الاستعمال، بل العكس أولى
بالإذعان، لأنه أقرب بالاعتبار مع كون الأول من باب الأكل من القفاء، فيندرج
في اللغو أيضا، بناء على أنه ليس في التجوز هنا من وجوه البلاغة ما لا يكون في
الحقيقة، وكيف كان فالمعتمد ما عليه المتأخرون.
لنا عليه وجوه:
أحدها: التبادر، فإن المتبادر من هذه الألفاظ المسموعة من وراء الجدار إنما
422

هو الأشخاص، وإن طرأها الإبهام بواسطة تعددها، ولا يقدح فيه كون التبادر أمرا
عرفيا فغاية ما يثبت به الوضع العرفي والمقصود إثبات الوضع لغة، لأن ذلك أيضا
يثبت بضميمة أصالة عدم النقل، على معنى عدم تجدد وضع آخر تعيينا أو تعينا
فيها غير ما طرأها من الوضع اللغوي بالفرض.
والمناقشة فيه باحتمال كونه إطلاقيا مستندا إلى القرائن الخارجة من الألفاظ
لا إلى حاق الألفاظ.
يدفعها: القطع بكونه من حاق الألفاظ بحكم الفرض من انتفاء القرائن، كما هو
قضية فرض كونها مسموعة من وراء الجدار.
ومن هنا اندفع ما عساه يقال عليه: من أن فهم الخصوصية لعله يستند إلى
القرائن اللازمة لهذه الألفاظ في الاستعمالات، من تقدم الذكر والحضور والحكاية
عن النفس والإشارة والصلة وغيرها مما يناسب كل نوع منها، وهذا لا ينافي فهم
المفاهيم الكلية من نفس اللفظ، فيكون مع ما معه من القرينة من باب دالين
لمدلولين، لقضاء الوجدان بأن فهم الخصوصية ليس إلا من حاق اللفظ، مع القطع
بانتفاء الالتفات إلى شئ من المفاهيم الكلية من المستعملين والمخاطبين، كيف
وفهمهما فرع على وقوع الاستعمال فيها، والمفروض انتفاؤه باتفاق الفريقين، وما
لزمها من القرائن المعبر عنها " بالقيود اللفظية والمعنوية " إنما يعتبر للتعيين ورفع
الإبهام، كما في قرينة المشترك التي تعتبر لتعيين المدلول عليه بالإجمال لا لأصل
الدلالة.
وثانيها: أن الأحكام العرفية المتداولة في المحاورات والمخاطبات - خبرية
وإنشائية - بأسرها ترد على الأشخاص، ولم يتعلق بالمفاهيم الكلية حكم في
العرف بواسطة هذه الألفاظ، فتكون الأشخاص هي التي تحتاج إلى التعبير عنها
بألفاظ، فالحكمة الباعثة على فتح اللغات ووضع الألفاظ تدعوا إلى وضع هذه
الألفاظ للأشخاص لا غير.
وثالثها: الاستعمال المنحصر في الأشخاص في جميع هذه الألفاظ، مقيسا
423

إلى غلبة الاستعمال فيما يستعمل في معنيين مع غلبته في أحدهما، فإنها - على ما
ستعرف في مباحث أمارات الوضع - تدل على الحقيقة فيما غلب استعماله فيه
والمجاز فيما ندر، فإذا دل الاستعمال مع الغلبة على الوضع فلئن يدل مع
الانحصار عليه طريق للأولوية.
ورابعها: تنصيص أهل العربية وأئمة اللغة في جملة من هذه الألفاظ بل كلها
بأنه حقيقة في كذا ومجاز في كذا، كلفظة " في " مثلا في الظرفية والسببية، ولفظة
" ذا " في القريب والبعيد إلى غير ذلك مما لا يخفى على الخبير البصير.
بتقريب: أن الحقيقة والمجاز يستلزمان الوضع والاستعمال مع اتحاد
مورديهما في الحقيقة، والمفروض أن استعمال هذه الألفاظ في صورتي الحقيقة
والمجاز لا يقع إلا على الأشخاص، فوضعها أيضا لم يقع إلا على الأشخاص.
واستدل على القول المختار أيضا بوجوه أخر:
منها: أنه لولا الوضع للجزئيات بل للمفاهيم الكلية لصح استعمالها فيها،
لوجود أقوى سببي صحة الاستعمال وهو الوضع، والتالي باطل بشهادة استهجان
العرف واستنكار الوجدان.
ويزيفه: أن الملازمة مشترك الورود بين القولين، إذ لو كانت موضوعة
للجزئيات لصح استعمالها في المفاهيم الكلية لوجود أحد سببي صحة الاستعمال
وهو العلاقة، أعني علاقة الخصوص والعموم، وكون الوضع أقوى السببين لا ينفي
سببية العلاقة والتالي باطل، لمكان الاستهجان والاستنكار المذكورين، فدل ذلك
على أن عدم صحة الاستعمال فيها ليس لفقد المقتضي بل لوجود المانع، وهو ما
ذكر من الاستهجان، فمجرد بطلان اللازم لذلك لا يقضي بالوضع للجزئيات.
وأما ما قيل في دفع ما ذكرناه من المعارضة من أن العلاقة كثيرا ما تتخلف
عن صحة الاستعمال، ولذا ترى إن " النخلة " لا يصح استعمالها في الحائط والجبل
الطويلين مع وجود علاقة المشابهة، و " الصيد " لا يصح استعماله في الشبكة، ولا
" الشبكة " في الصيد، ولا أن يقال: " اسئل الإبريق " مع وجود علاقة المجاورة في
424

الجميع، ولا يصح استعمال " الأب " في الابن، ولا " الابن " في الأب مع وجود
علاقة السببية والمسببية، بخلاف الوضع فإنه لا يتخلف عن صحة الاستعمال
أصلا.
ففيه أولا: النقض " بالرحمن " و " الفاضل " فإن الوضع اللغوي الاشتقاقي في
الأول يقتضي جواز استعماله في غيره تعالى، وفي الثاني يقتضي جواز استعماله
فيه تعالى، مع عدم جوازه فيهما.
وتوهم دفعه: بأنه لوجود المانع وهو المنع الشرعي الذي لولاه لصح
الاستعمال بخلاف الأمثلة المذكورة، فإن أصل الاستعمال فيهما غير صحيح.
يندفع: بأنه معارض بمثله في الألفاظ المتنازع فيها، لما عرفت من أن عدم
صحة الاستعمال فيها من جهة وجود المانع، لا لانتفاء الوضع.
وثانيا: منع وجود العلاقة في الأمثلة المذكورة، بناء على ما حققناه في
تفسيرها من أنها اتصال وارتباط بين المعنيين الموضوع له والمستعمل فيه، يقبله
الطبع السليم والذوق المستقيم، ولا ريب في انتفاء هذا المعنى في الأمثلة
المذكورة.
لا يقال: هذا بعينه يرد في الألفاظ المتنازع فيها على تقدير الوضع للجزئيات،
إذ الاستهجان يكشف عن انتفاء العلاقة بالمعنى المذكور بينها وبين المفاهيم
الكلية، لأن الكلي والجزئي مما لا ريب في اتصال كل منهما بالآخر على وجه
يدركه الطبع، والاستهجان العرفي أمر لا يرجع إليهما، بل إلى اللفظ ونفس المفهوم
الكلي ولا يكون إلا لأجل المنافرة بين اللفظ والمعنى، وهي لا تلازم المنافرة
بين المعنيين.
ومنها: أنه لولا الوضع للجزئيات لزم كونها مجازات بلا حقيقة، واللازم باطل
وكذا المقدم، والملازمة بينة، وهذا هو الذي أوردناه على القدماء، ولكن الأولى في
تقريره أن يقال: إنها لو كانت موضوعة للمفاهيم الكلية لكان استعمالاتها في
الجزئيات إما على وجه التعويل على العلاقة أو لا على هذا الوجه، واللازم
425

بكلا قسميه باطل، لبطلان المجاز بلا حقيقة في هذه الألفاظ على جميع الأقوال
في المجاز بلا حقيقة، وبطلان الواسطة بين الحقيقة والمجاز هنا، فكذا الملزوم.
ومنها: لزوم خروج معاني الحروف التي اتفق النحاة على كونها غير مستقلة
إلى المعاني الاسمية التي اتفقوا على كونها مستقلة، لو كانت الحروف موضوعة
للمفاهيم الكلية، كمفهوم الابتداء والانتهاء والاستعلاء، دون الجزئيات لوضوح
استقلال تلك المفاهيم، ولزوم عدم انقسام الكلمة إلى الثلاثة الذي يدور مع
استقلال معانيها وعدم استقلالها، لأن الوضع للمفاهيم الكلية يوجب الاستقلال في
الجميع، وهذا خلاف ما اتفق عليه النحاة.
ويزيفهما: أن مناط الفرق بين المعاني الأسمية والمعاني الحرفية وإن كان هو
الاستقلال وعدم الاستقلال، إلا أن المدار في الاستقلال وعدمه ليس على كلية
المعنى وجزئيته، ضرورة أن الكلية لا تلازم الاستقلال والجزئية لا تلازم عدم
الاستقلال، كيف وكما أن " الابتداء " الكلي مثلا أمر مستقل فكذلك " الابتداء "
الجزئي أيضا أمر مستقل.
غاية الأمر أن الأول عبارة عن الماهية الملحوظة من حيث هي، والثاني عن
الماهية الملحوظة من حيث الوجود والتشخص.
ولا ريب أن انضمام الوجود والتشخص إلى الماهية لا يخرجها عن
الاستقلال، ولا يجدي في خروج الجزئي عن الاستقلال أن يؤخذ معه قيد حيثية
كونه آلة ومرآة لملاحظة حال الغير، لأن " الابتداء " بنفسه وطبيعته حالة في غيره
سواء أعتبر كليا أو جزئيا، لأنه عبارة عن كون شئ - كالبصرة - محلا للابتداء
بشئ آخر كالسير، ومن المستحيل كون شئ حيثية في نفسه، مع أنه لو قضي ذلك
في الجزئي بعدم الاستقلال لقضى به في الكلي أيضا، لأن المفروض اعتبار الكلي
في الوضع عنوانا لملاحظة الجزئيات، فلا يدخل فيها قيد حيثية الآلية والمرآتية إلا
باعتبار لحوقه بالكلي الملحوظ عنوانا لملاحظتها، فلابد أن يقال: إن الواضع
تصور " الابتداء " الكلي من حيث إنه آلة لملاحظة حال الغير، ثم وضع اللفظ
426

للجزئيات المندرجة تحت الكلي الملحوظ بهذه الحيثية، فوجب الالتزام بعدم
الاستقلال في الكلي أيضا، وهذا مع بطلانه في نفسه مما لا يقول به المستدل.
وتوهم أن عدم استقلال الابتداء الجزئي باعتبار أنه لا يتصور إلا بتصور
متعلقه كالسير والبصرة، كما هو الشأن في كل أمر نسبي، ضرورة أن الابتداء
المضاف إليهما لا يحصل تصوره إلا بتصورهما.
يدفعه: أنه من اشتباه استلزام تصور " الابتداء " الجزئي لتصور متعلقه، بتوقف
تصوره على تصور متعلقه، والمعتبر في الأمر النسبي الغير المستقل هو الثاني
والموجود فيما نحن فيه هو الأول، لوضوح أن الجزئي عبارة عن الماهية مع
التشخص، ومتعلق " الابتداء " الجزئي مشخص، ومن حكم الماهية المتشخصة أنه
يلزم من تصورها بوصف التشخص تصور مشخصاتها، على حد ما هو الحال في
لازم الشئ باللزوم البين بالمعنى الأخص، فمدار عدم استقلال المعاني الحرفية
ليس على كونها جزئيات للمفاهيم الكلية المستقلة، بل على كونها نسبا مخصوصة
بين شيئين ملحوظة بوجه من وجوهها، و " الابتداء " كليا أو جزئيا من قبيل
الوجوه على ما سنحققه.
حجة أهل القول بالوضع للمفاهيم وجوه ضعيفة:
أولها: تنصيص أهل اللغة بأن " هذا " للمشار إليه، و " أنا " للمتكلم، و " أنت "
للمخاطب، و " من " للابتداء، و " إلى " للانتهاء، و " في " للظرفية، و " كي " للغرض
إلى غير ذلك مما لا يحصى، ولا ريب أن تلك المعاني مفهومات كلية.
وفيه: أن هذه التفاسير - على ما سنقرره - من باب تعريف اللفظ بوجه المعنى
لا بأصل المعنى، فلا تنافي جزئية المعنى.
وقد يجاب أيضا: بالحمل على إرادة المصداق دون المفهوم، على معنى
أنهم أرادوا بيان أن هذا للشخص المعين المشار إليه لا للمفهوم، ومثل هذا غير
عزيز في كلامهم.
427

قال سيد الأفاضل (1): ويؤيده أن الغرض الأصلي من بيان معاني الألفاظ
تصحيح الاستعمال وتمييز الصحيح من الفاسد، وهذا إنما يحصل على تقدير إرادة
المصداق لأن اللفظ إنما يستعمل فيه، وأما المفهوم فلا يصح الاستعمال فيه
بالاتفاق.
وثانيها: أنها لو كانت موضوعة للمعاني الجزئية لكانت متكثر المعنى، والتالي
باطل لحصرهم المتكثر المعنى في المشترك، والحقيقة والمجاز، والمنقول
والمرتجل، وهذه خارجة من الأقسام الأربعة، أما عن غير المشترك فظاهر، وأما
عنه فلأن المشترك لا يكون إلا بأوضاع متعددة، والوضع فيها واحد.
وفيه أولا: أن ذلك مشترك الورود، بناء على كون المراد بالمعنى في عنوان
تقسيم اللفظ والمعنى المستعمل فيه مطلقا لا الموضوع له بالخصوص، لئلا يبطل
إدراج الحقيقة والمجاز في المتكثر المعنى، ولا ريب أن المستعمل فيه في هذه
الألفاظ متكثر، وإن اتحد الموضوع له على قولهم، فيلزم كونها من متكثر المعنى.
وثانيا: منع الملازمة، وسنده ما تقدم تحقيقه في بحث تقسيم اللفظ والمعنى،
من كون هذه الألفاظ باعتبار وحدة الوضع فيها من متحد المعنى على القولين.
وقد أجيب عنه بما لا يكاد يستقيم، من منع انحصار المتكثر في الأقسام
الأربع، والتقسيمات المذكورة مبتنية على طريقة القدماء، ولقد عرفت أنهم يقولون
بهذا القسم، وأما المتأخرون القائلون بهذا القسم فيلزمهم الزيادة عليها، إلا أنهم
راعوا في التقسيم ما فعله القدماء، محافظة على ما استقر عليه اصطلاح القوم في
مبادئ العلم، وإنما أشاروا إلى ما هو الحق عندهم في طي المطالب، وفيه ما فيه.
التنبيه على أمور
وثالثها: أنها لو كانت موضوعة للجزئيات لوجب استحضار ما لا يتناهى
دفعة حين الوضع، لتوقف الوضع للمعنى على تصوره، والتالي باطل جزما لتعذر
استحضار ما لا يتناهى، أو تعسره أو لزومه اللغو.

(1) هو السيد مهدي بحر العلوم (رحمه الله).
428

وفيه: منع الملازمة إن أريد التصور التفصيلي، ومنع بطلان اللازم إن أريد
التصور الإجمالي.
ورابعها: أنها لو كانت موضوعة لتلك المعاني لكان " هذا " و " أنا " ونحوه
مشتركة بين معاني غير محصورة وهو باطل اتفاقا، وأجيب بمنع الملازمة، لتعدد
الوضع في المشترك ووحدته هنا.
وخامسها: أنها قد استعملت في الجزئيات المندرجة تحت مفهوم كلي، فيجب
أن تكون حقيقة فيه، ولعل مراد المستدل الاستناد إلى قاعدة أشتهرت عندهم
وهي: " أن كل لفظ إذا استعمل في معنيين أو أكثر، بينهما قدر مشترك وجهة
جامعة " فالأصل أن يكون موضوعا للقدر المشترك وحقيقة فيه.
ويزيفه أولا: أن هذه القاعدة مما لا أصل له عندنا، كما سنقرره في مباحث
الاستعمال.
وثانيا: على تقدير صحة القاعدة، إنما تسلم إذا استعمل اللفظ المفروض في
القدر المشترك استعمالا بالغا حد الكثرة والغلبة، ولقد عرفت مرارا أن الألفاظ في
محل الكلام غير مستعملة في المفاهيم الكلية أصلا، فضلا عن بلوغه حد الكثرة.
وسادسها: أن أكثر الألفاظ الغير العلمية موضوعة للمفاهيم الكلية فيجب
إلحاق محل البحث بها، فإن المشكوك فيه يلحق بالغالب.
وفيه: أن الغلبة على تقدير تسليمها إنما تعتبر حيث أفادت ظن اللحوق، وهي
هنا بعد ملاحظة أدلة المتأخرين غير مفيدة له، مع أن الغالب في مورد الغالب إنما
هو استعمال الموضوعات في المفاهيم الكلية، بل لم يوجد فيها لفظ وضع لمفهوم
كلي ولم يستعمل فيه، وليس في هذه الألفاظ ما استعمل في المفهوم الكلي، فكيف
يظن لحوقه بالغالب.
وينبغي التنبيه على أمور:
الأمر الأول: في أنه ينبغي أن يعلم أن الضمائر وأسماء الإشارة والموصولات
وغيرها من الأسماء وإن كانت تشابه الحروف في الوضع، باعتبار كون الجميع
429

موضوعا بوضع عام لمعنى خاص، إلا أنها تغائرها في أصل المعاني وحقائقها
ليحصل الفرق بينهما بالاسمية والحرفية، فإن الحروف موضوعة لنسب مخصوصة
تضاف إليها وجوه واعتبارات كثيرة، وجهات وحيثيات شتى يعبر عنها
" بالابتداء " و " الانتهاء " و " الاستعلاء " و " الظرفية " و " الغرض " و " التعليل "
و " الإخراج " و " النداء " وغيرها، فالواضع في وضع " من " و " إلى " و " على "
و " في " و " كي " و " اللام " و " إلا " و " يا " وغيرها من الحروف تصور النسبة بين
شيئين على الوجه الكلي، من حيث كون أحدهما مبتدأ للآخر أو منتهى إليه
بالقياس إلى الآخر، أو مستعليا عليه، أو ظرفا له، أو غرضا منه، أو علة له، أو
مخرجا منه، أو منادى له، فوضع الحروف المذكورة للنسب الملحوظة بالحيثيات
المذكورة على الوجه الكلي عند القدماء، أو لجزئياتها المندرجة تحتها على رأي
المتأخرين، فتفسير الحروف المذكورة في كلام أهل العربية وأئمة اللغة بالابتداء
والانتهاء وغيرهما من المفاهيم المذكورة، من باب تعريف اللفظ بوجه من وجوه
معناه، لا من باب تعريفه بنفس المعنى وحقيقته.
وبالجملة: فالمعنى الحرفي هو النسبة الملحوظة بين شيئين بإحدى الوجوه
المذكورة، المأخوذة في الوضع على الوجه الكلي أو الجزئي على الخلاف
المتقدم، لا نفس الابتداء والانتهاء وغيرهما كليا ولا جزئيا.
وعليه ينبغي أن ينزل كلام من يوهم عبارته عند بيان معاني الحروف خلاف
ذلك، وما لم يقبل هذا الحمل والتنزيل فمبناه على الغفلة وقصور النظر، فلا ينبغي
الالتفات إليه، بخلاف الضمائر وأسماء الإشارة وغيرها، فإنها موضوعة للذوات
المتعينة بالتعينات الخارجية الملحوظة مقيدة بإحدى وجوهها وحيثياتها، فإن
الذوات المتعينة الخارجية أيضا تلحقها وجوه وحيثيات شتى، كالغيبة والخطاب
والحكاية عن النفس والإشارة، وما ينساق من الصلة من فاعلية أو مفعولية فإن
أخذت في الوضع مطلقة غير مقيدة بإحدى تلك الحيثيات كان اللفظ الموضوع
علما، وإن أخذت مقيدة بالغيبة كان اللفظ الموضوع ضمير غائب، أو بالخطاب
430

كان ضمير مخاطب، أو بالحكاية عن النفس كان ضمير متكلم، أو بالإشارة إليه
كان اسم إشارة، أو بالصلة كان اسم موصول، ولأجل ذلك تكون كالعلم من قبيل
الأسماء لاستقلال معانيها، فالضمائر وأخواتها تشارك الأعلام في كون معاني
الجميع ذوات متعينة وجزئيات حقيقية معينة، وتفارقها في إطلاق الذات
المأخوذة في الوضع وتقييدها بإحدى الحيثيات المذكورة.
ومما قررناه يظهر بالتأمل أن الجهات المذكورة كالجهات الملحوظة في وضع
الحروف، كلها من قبيل الحيثيات الملحوظة في الوضع مع الموضوع له، لا من
الأمور المأخوذة معه شطرا أو شرطا، مع احتمال كونها في غير الحروف من قبيل
القيود الخارجة عن الموضوع له وإن دخل التقيد بها، فالموضوع له فيها ليس هو
المجموع من الذات والوصف، كما يوهمه ظاهر أكثر عباراتهم.
ويظهر بالتأمل أيضا ضعف ما قرره بعض الفضلاء في هذا المقام بكلا
احتماليه، حيث قال - بعد ذكر الحروف وأسماء الإشارة والضمائر والموصولات
وغيرها مما يتضمن معاني الحروف -: إن التحقيق أن الواضع لاحظ في وضعها
معانيها الكلية ووضعها بإزائها، باعتبار كونها آلة ومرآة لملاحظة حال متعلقاتها
الخاصة، فلاحظ في وضع " من " مثلا مفهوم الابتداء المطلق ووضعها بإزائه،
باعتبار كونه آلة ومرآة لملاحظة حال متعلقاتها الخاصة من السير والبصرة مثلا،
فتكون مداليلها خاصة لا محالة، لوضوح أن الماهية إذا أخذت مع تشخص لاحق
لها كانت جزئية، مع احتمال أن يكون قد لاحظ في وضع الحروف معانيها الكلية
ووضعها بإزاء كل جزئي جزئي من جزئياتها المأخوذة، آلة ومرآة لتعرف حال
تلك الذوات وعلى هذا القياس.
والفرق بين الاعتبارين أن الخصوصية مأخوذة في أحدهما باعتبارين، وفي
الآخر باعتبار واحد، وهو الأقرب لسلامته عن الاعتبار الزائد. انتهى (1).
وأنت خبير بما في كلا الاعتبارين من الوهن المخرج للمطلب من السداد.

(1) الفصول: 16 (الطبعة الحجرية).
431

الأمر الثاني: أن الحيثيات المذكورة الملحوظة مع الذوات المتعينة في
الخارج في وضع الأسماء المذكورة لا مدخلية لها في تعيناتها الخارجية، لوضوح
أن التعين عبارة عن التشخص اللاحق بالماهية بواسطة المشخصات، وهذه
الحيثيات اعتبارات زائدة عليه، وحيث إن هذه الأسماء كالأعلام من المعارف
فالحيثيات المذكورة لا مدخلية لها أيضا في معرفة الذوات المأخوذة في وضعها،
التي مناطها المعهودية والحضور الذهني زيادة على التعين والتشخص الخارجي،
ضرورة أن المعرفة والمعهودية تلحق الذوات بأسباب أخر، كتقدم الذكر في ضمير
الغائب، والحضور الخارجي في كل من ضميري المتكلم والمخاطب، لحضور كل
منهما لصاحبه ويوجب ذلك معرفته ومعهوديته، والحضور الخارجي أيضا في اسم
الإشارة، والخصوصيات الخارجية التي منها الحضور أيضا في الموصول.
ولا ريب أن الغيبة والخطاب بمعنى توجيه الكلام والتكلم بمعنى الحكاية عن
النفس، والإشارة والصلة بمعنى الفاعلية أو المفعولية المستفادة، كلها اعتبارات
زائدة على معرفة الذات ومعهوديتها، لوضوح سبق لحوق المعرفة والمعهودية على
لحوقها، كما يرشد إليه أيضا أنها والأعلام متشاركة في المعرفة والدلالة بالوضع
على شئ بعينه على معنى المعين عند المتكلم والمخاطب، ومتمايزة في الإطلاق
بالقياس إلى الحيثيات المذكورة وعدم ملاحظتها مع الذوات المعينة والتقييد بها أو
ملاحظتها معها، فالواضع في وضعها تصور الذوات المعينة المعهودة على الوجه
الكلي من حيث الغيبة أو الخطاب أو التكلم أو الإشارة أو الفاعلية أو المفعولية
المنساقة من الصلة، فوضع كلا منها لجزئيات كل من هذه المفاهيم الملحوظة على
الوجه الكلي من الحيثية المذكورة.
الأمر الثالث: قد عرفت أن الحروف موضوعة للنسب المخصوصة، وبذلك
صار المعنى الحرفي غير مستقل بالمفهومية، ويشاركها في ذلك عند جماعة
هيئآت الأفعال، لكونها موضوعة للنسب المخصوصة أيضا.
غاية الأمر أن النسبة هنا ملحوظة بين الحدث والذات من حيث كونها فاعلا
432

له، وقضية ذلك كون المعنى الفعلي كالمعنى الحرفي غير مستقل بالمفهومية،
ويشكل ذلك بمنافاته لما أخذه النحاة في حد الفعل من الدلالة على معنى مستقل
بالمفهومية مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة، قبالا في الأول للحرف لدلالته على معنى
غير مستقل، وفي الثاني للاسم لدلالته على معنى مستقل غير مقترن، فبطل بذلك
الفرق بين الفعل والحرف.
ويمكن الذب عن الإشكال على مذاق النحويين، بأنهم لا يعتبرون في الفعل
هيئة ومادة بحيث كانت كل منهما منفردة بالوضع، بل يجعلون المجموع كلمة
واحدة بملاحظة أن الكلمة عندهم عبارة عن مجموع الهيئة والمادة، ثم يجعلون
الفعل بهذا الاعتبار دالا على الحدث والزمان والنسبة إلى فاعل ما، وعليه فالفعل
باعتبار دخول الحدث والزمان في مدلوله صح تعريفه بالدلالة على معنى مستقل
مقترن بالزمان، وإن دخل معه النسبة إلى فاعل ما أيضا، فإنه لا ينافي دلالته على
معنى مستقل بخلاف الحرف، فإنه لا دلالة فيه على معنى مستقل أصلا وهذا هو
وجه الفرق بينهما.
وأما على مذاق الأصوليين فالوجه في دفعه: هو منع دخول النسبة إلى فاعل
ما في وضع هيئات الأفعال، ولا في وضع موادها، بل هي باعتبار موادها تفيد
الحدث وباعتبار هيئاتها تفيد الزمان، ويلزم من الجمع بينهما اقتران الحدث
بالزمان.
نعم لما كان وقوع الحدث في الزمان لابد له من فاعل يوقعه فيه، فالدلالة
على النسبة إلى فاعل ما تحصل فيه بهذا الاعتبار التزاما باللزوم البين بالمعنى
الأعم، وهذا هو المستفاد من كلام أكثر الأصوليين، ولم يظهر من النحاة خلاف
ذلك أيضا، بل كلماتهم بين ظاهرة وصريحة فيه، ومن الصريحة كلام الأزهري في
التصريح عند تعريفه لاسم الفاعل: " بالدلالة على الحدث وحدوثه وفاعله "
واحترز بالقيد الأخير عن الفعل، تعليلا بأن الفعل إنما يدل على الحدث والزمان
بالوضع، لا على الفاعل وإن دل عليه بالالتزام. انتهى.
433

لا يقال: منع دلالة الفعل بالوضع على النسبة الفاعلية لا يجدي في حسم مادة
الإشكال بحذافيره، لكفاية دلالته على النسبة الزمانية وهي النسبة بين الحدث
والزمان من حيث وقوعه فيه في ورود نحوه، لمنع كون الدلالة على هذه النسبة
أيضا وضعية، على معنى كون المأخوذ في وضع هيئة الفعل هو النسبة الزمانية بل
القدر المسلم مما أخذ في وضعها هو نفس الزمان، ويلزم من الجمع بينه وبين
الحدث المدلول بالمادة الدلالة على اقتران الحدث بالزمان، ويرجع ذلك إلى
النسبة الزمانية على الوجه المذكور، فالنسبة ليست بشئ من وجوهها داخلة في
وضع الأفعال لينشأ منه الإشكال، وانتظر لتتمة الكلام في تحقيق هذا المقام، فإنه
يأتي في مباحث المشتق إن شاء الله.
الأمر الرابع: هل الوضع في هيئات الأفعال للأزمنة الثلاثة من قبيل وضع
الحروف والمبهمات أو لا؟ وجهان:
توضيحه: أن ضرورة المحاورة قاضية بأن المستعمل في مثل " ضرب زيد "
إنما هو الهيئة الشخصية الموجودة فيه، التي هي من جزئيات نوع هذه الهيئة، وإنما
يستعمل هذا الشخص من الهيئة في زمان خاص معين، هو جزئي حقيقي مندرج
تحت كلي الزمان الماضي، فهذا مما لا ينبغي الاسترابة فيه، وحينئذ فيمكن أن
يقال: إن الواضع تصور كلي " الهيئة " وكلي " الزمان " فوضع الأول للثاني، ثم
يتشخص الأول في الاستعمال بخصوص المادة، والثاني بخصوص الحدث الواقع
فيه، فاستعمل الشخص الأول في الشخص الثاني، أو أنه تصور كلا من الكليين آلة
لملاحظة جزئياتهما اكتفاء بتصورها الإجمالي، ثم وضع جزئيات الأول لجزئيات
الثاني، فيكون الوضع عاما والموضوع له خاصا، كما أنهما على الأول عامان، وكل
من الوجهين وإن كان بحسب الاعتبار العقلي ممكنا إلا أنه يمكن ترجيح ثانيهما
بملاحظة ما ذكرناه من قضاء ضرورة المحاورة في " ضرب زيد " ونحوه، بكون
المستعمل شخص الهيئة وقد استعمل في شخص الزمان، مع انضمام ظهور كلام
أهل اللغة في إطباقهم على كون الاستعمال المفروض حقيقة بتقريب: أن الحقيقة
434

لفظ مستعمل فيما وضع له، وهذا يقتضي اعتبار الوضع والاستعمال واتحاد
مورديهما في الحقيقة.
وقد عرفت أن مورد الاستعمال بالنسبة إلى كل من المستعمل والمستعمل فيه
هو الشخص، فوجب أن يكون مورد الوضع أيضا هو الشخص، وهو المطلوب.
نعم ربما يمكن أن يقال: إن الغرض إن كان هو الوضع للجزئيات فلا حاجة
فيه إلى ملاحظة الزمان الكلي آلة لملاحظة جزئياته، ثم وضع جزئيات الهيئة لها،
لحصول ذلك الغرض بدون ذلك أيضا، إما بأن يلاحظ الواضع كلي الهيئة وكلي
الزمان الماضي مثلا ثم يضع الأول للثاني، قصدا إلى أن يوضع جزئيات الأول
لجزئيات الثاني، أو أن يلاحظ الهيئة والزمان الماضي على وجه العموم الأصولي
ويقول: " وضعت كلما كان على زنة " فعل " مثلا لكل زمان ماض " ولزم منه على
التقديرين كون الهيئة الشخصية المتحققة في كل من " ضرب " و " نصر " و " علم "
و " قتل " وهكذا، وضعا لجميع جزئيات الزمان الماضي.
اللهم إلا أن يدفع: بأن ذلك على التقديرين يؤول إلى الوضع العام للمعنى
الخاص على حدة، [و] لأن وضع الكلي للكلي قصد منه كونه تبعا لوضع
الجزئيات للجزئيات، والمقصود بالأصالة هو الثاني فرجع الوضع بالقياس إلى
الكليين إلى مجرد تصور كل منهما آلة لملاحظة جزئياته، وتصور الجزئيات على
الإجمال المعتبر في هذا الوضع أعم من تصورها بعنوان العام المنطقي، أو بعنوان
العموم الأصولي. فليتأمل.
الأمر الخامس: في وضع المشتقات الاسمية هل هو من قبيل وضع الحروف
والمبهمات، كما عليه جمع من متأخري الأصوليين، أو من قبيل وضع أسماء
الأجناس، كما عليه بعض الأعلام قولان، يمكن ترجيح ثانيهما بأن غاية ما يمكن
أن يقال في تصويره: إن الواضع تصور ما كان على زنة " فاعل " مثلا على الوجه
الكلي ومن قام به المبدأ كذلك آلة لملاحظة جزئياتهما ثم وضع جزئيات الأول
لجزئيات الثاني، ولزم منه وضع " ضارب " لمن قام به الضرب، و " ناصر " لمن قام
435

به النصر، و " عالم " لمن قام به العلم، وهكذا، ولا يعني من الوضع العام والموضوع
له الخاص إلا هذا، غاية الأمر كون الجزئيات هنا إضافية.
ويدفعه: أن الوضع للجزئيات كما هو المقصود ربما يحصل بدون الحاجة إلى
هذا الاعتبار، إما بأن يضع ما كان على زنة " فاعل " لمن قام به المبدأ كليين، قصدا
إلى وضع الجزئيات المندرجة تحتهما بعضها لبعض، أو بأن يضع كلما كان على زنة
" فاعل " لكل من قام به المبدأ موزعا، ولا حاجة مع ذلك إلى ملاحظة الكلي في
جانبي اللفظ والمعنى، ثم العدول منه إلى الجزئيات ووضع بعضها لبعض.
لا يقال: هذا بعينه يرد في وضع هذا وغيره من المبهمات، لأن اللفظ هنا واحد
شخصي وقد تعلق غرض الواضع بوضع لفظ واحد بوضع واحد لجزئيات كثيرة
غير محصورة، وحيث إن الوضع مسبوق بتصور الموضوع له وتصور الجزئيات
على التفصيل متعذرا أو متعسرا ومستلزم للعبث، فلا جرم اكتفى فيها بتصورها
على الإجمال الذي يتأتى بتصور المعنى الكلي آلة للملاحظة، فالحاجة ماسة إلى
ملاحظة المعنى الكلي في الوضع للجزئيات بخلاف ما نحن فيه، فإن الجزئيات في
جانب المعنى هنا وإن كانت متكثرة إلا أن الجزئيات في جانب اللفظ أيضا
متكثرة، والغرض متعلق بوضع الجزئيات للجزئيات.
ومحصله: أن المقصود هنا وضع ألفاظ متكثرة لمعان متكثرة، لا وضع لفظ
واحد لمعان متكثرة بواسطة أمر مشترك بينها، ويتأتى ذلك بأحد الوجهين
المتقدمين، بدون الحاجة إلى توسيط ملاحظة الأمر المشترك آلة للملاحظة لا
للوضع لنفسه.
وأيضا فإن المقام لا يندرج في الضابط المتقدم للألفاظ الموضوعة بالوضع
العام للموضوع الخاص، وهو كل مستعمل في غير منحصر لأمر مشترك لم
يستعمل فيه، وهذا يقتضي وحدة اللفظ وكثرة المستعمل فيه، بل عدم انحصاره مع
كون اللفظ بوحدته موضوعا لغير المنحصر على وجه يتعدد الموضوع له وإن اتحد
الوضع واللفظ، وهاهنا كل من اللفظ والمستعمل فيه متكثر.
436

وأيضا فإن الوضع العام والموضوع له الخاص بمفهومه لا يتحقق في
المشتقات الاسمية أصلا، وإن فرض صدور وضعها من الواضع بالكيفية التي
توهموا كونها كوضع الحروف والمبهمات، لأنه عبارة عن أن يوضع لفظ واحد
بوضع واحد عام لعموم آلة الملاحظة للخصوصيات المندرجة تحت آلة الملاحظة
على وجه يتكثر الموضوع له على حسب تكثر الخصوصيات مع وحدة اللفظ
والوضع.
وغاية ما يلزم من ملاحظة ما كان على زنة " فاعل " ومن قام به المبدأ على
الوجه الكلي فيهما ثم وضع جزئيات كلي اللفظ لجزئيات كلي المعنى - كما زعموه
- أن يوضع " ضارب " لمن قام به الضرب، و " ناصر " لمن قام به النصر، وعالم لمن
قام به العلم وهكذا، وهذا لا يجدي نفعا في كون ذلك بالنسبة إلى " ضارب "
و " ناصر " و " عالم " وغيره من الوضع للموضوع الخاص بالمعنى المذكور، لكون
كل من اللفظ والمعنى واحدا مع كونه عاما بالقياس إلى ما تحته، لوضوح أن من
قام به الضرب وقع موضوعا له للفظ " ضارب " على الوجه، فهذا أشبه بالوضع
العام والموضوع له العام، بل هو من أفراده ضرورة أن " ضاربا " في من قام به
الضرب ليس إلا " كإنسان " في الحيوان الناطق، وغيره من أسماء الأجناس.
غاية الأمر أن اللفظ والمعنى في الأول لوحظا على وجه الإجمال، وفي
الثاني على وجه التفصيل.
نعم إنما يصير " ضارب " مع فرض وضعه على الوجه المذكور من الموضوع
بوضع الحروف والمبهمات، لو فرض وقوع وضعه بمقتضى الوجه المذكور لمن قام
به الضرب، ومن قام به النصر، ومن قام به العلم وهكذا إلى آخر الجزئيات
الإضافية المندرجة تحت كلي من قام به المبدأ، وهذا باطل بضرورة من العرف
واللغة إذ لم يقل أحد بكون " ضارب " موضوعا لغير من قام به الضرب، ولا أنه
يستعمل في غيره على وجه الحقيقة.
لا يقال: هذا كله يرد على الأفعال التي بنيت فيها على الوضع العام والموضوع
437

له الخاص، لأن خصوصيات الزمان الماضي - مثلا - جزئيات حقيقية غير
محصورة، فإذا وضع كلما كان على زنة " فعل " لجزئيات الزمان الماضي
الملحوظة إجمالا لزم منه وضع " ضرب " لتلك الجزئيات، فيكون استعماله في كل
زمان ماض حقيقة، لكونه استعمالا في نفس الموضوع له، بخلاف " ضارب " فإنه
لم يوضع بواسطة وضع جزئيات ما كان على زنة " فاعل " لجزئيات من قام به
المبدأ، إلا لمن قام به الضرب وهو كلي واستعماله فيه على الوجه الكلي حقيقة،
وفي كل فرد منه بقيد الخصوصية مجاز " فضرب " لفظ واحد مستعمل في غير
منحصر لأمر مشترك لم يستعمل فيه، ووضعه لغير المنحصر مسبوق بتصوره وهو
على التفصيل متعذر أو متعسر، أو خال عن الفائدة، وعلى الإجمال يتأتى
بملاحظة الكلي فيكون وضعه لها على هذا الوجه عاما والموضوع له خاصا،
بالمعنى المتقدم وهكذا في " نصر " وغيره.
* * *
إلى هنا انتهى الجزء الأول من هذه التعليقة المباركة - حسب تجزئتنا -
ويتلوه الجزء الثاني إن شاء الله تعالى
موارد ثبوت الوضع.
438