الكتاب: عدة الأصول (ط.ق)
المؤلف: الشيخ الطوسي
الجزء: ٢
الوفاة: ٤٦٠
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق: محمد مهدي نجف
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة: مؤسسة آل البيت ( ع ) للطباعة والنشر
الناشر: مؤسسة آل البيت ( ع ) للطباعة والنشر
ردمك:
ملاحظات: وبذيله الحاشية الخليلية للشيخ خليل بن الغازي القزويني ١٠٠١ - ١٠٨٩ ه‍

فصل في ذكر حقيقة الامر وما به بصيرا
امرا الامر عبارة عن قول القايل لمن هو دونه افعل والفعل لا يسمى امرا الا على وجه المجاز والاستعارة
وهو مذهب أكثر المتكلمين والفقهاء وقال قوم هو مشترك بين القول وبين الفعل والذي يدل على
62

صحة ما ذهبنا إليه ان أهل اللغة قسموا اقسام الكلام قسموا من جملتها قول القايل لمن هو دونه
افعل امرا فينبغي أن يكون ذلك عبارة عنه ولو جاز لمخالف أن يخالف في ذلك لجاز أن يخالف في
ساير ما سموه من اقسام الكلام مثل النهى والتخصيص والتمني والسؤال والخبر وغير ذلك فإذا كان جميع ذلك
صحيحا مسلما فينبغي أن يكون ما ذكرناه مثله وأيضا فإنهم فرقوا في هذه الصيغة بين كونها امرا أو دعاء
ومسألة باعتبار الرتبة بان قالوا إذا كان القايل فوق المقول له سمى امرا وان كان دونه سمى سؤالا
وطلبا ودعاء فلو جاز المخالفة في تسميته امرا جاز المخالفة في تسميته سؤالا وطلبا وذلك لا يقوله أحد
وليس لاحد ان يقول ان تسميتهم لذلك بأنه امر لا خلاف فيه بل هو مسلم وانما الخلاف في أن غيره
هل يسمى بذلك أم لا لان من قال بان هذه الصيغة مشتركة بين القول والفعل يسلم صحة ذلك ويقول
انها تستعمل في الفصل أيضا لأنا ندل على فساد هذه الدعوى فيما بعد انشاء الله تعالى والذي يدل على ما قلناه
من ان هذه الصيغة حقيقة في القول دون الفعل اطرادها في القول ووقوفها في الفعل لأنه ليس
كل فعل يسمى امرا قولا الا ترى انه لا يسمى الاكل والشرب والقيام والقعود بأنه امر وانما يقال لجملة أحوال
الانسان انه امر فيقال امره مستقيم وأمره مضطرب فاما تفاصيل الافعال فلا توصف بذلك وليس
كل القول لان كذلك قول يحصل لمن هو دونه لهذه الصيغة يسمى امرا فعلمنا بذلك انه حقيقة فيما قلناه
ومجاز فيما ذكروه وأيضا فان هذه اللفظة لها اشتقاق لأنها يشتق منها اسم الفاعل فيقال امر واسم المأمور
وفعل الماضي والمستقبل وكل ذلك لا يتأتى في الفعل فعلم بذلك انها مجاز في الفعل وحقيقة في القول
فاما من تعلق بالاستعمال في كون هذه الصيغة مشتركة وقال وجدت هذه اللفظة قد استعملت في الفعل
كما استعملت في القول فينبغي أن تكون حقيقة فيهما وقد قال الله تعالى وما أمرنا الا واحدة كلمح بالبصر وقال
وما امر فرعون برشيد وغير ذلك من المواضع فان الجواب عنه قد يق ان ذلك مجاز وليس نفس الاستعمال
دلالة على الحقيقة لان المجاز أيضا مستعمل كالحقيقة ونحن نبين ذلك فيما بعد وإذا لم يكن ذلك والا على
الحقيقة بطل التعلق به وقد أبطلنا أن يكون ذلك على وجه الحقيقة بما ذكرناه من الأدلة واما قوله تعالى
وأمرنا الا واحدة كلمح بالبصر وقوله وما امر فرعون برشيد فقد قيل فيه وجهان أحدهما انه لا نسلم
ان ذلك عبارة عن الفعل بل لا يمتنع أن يكون أراد بذلك امره الذي هو قوله وامر فرعون الذي
هو قوله ولا يطعن على هذا الوجه مساواة افعاله في هذا الوصف وفي كونها كلمح بالبصر في سرعة يأتيها
63

منه لان ذلك يعلم بدليل اخر بخبر اخر وكذلك يعلم بشئ اخر ان افعال فرعون مثل أقواله في كونها
غير رشيده فلا يمكن التعلق بذلك والوجه الاخر ان ذلك مجاز لما دللنا عليه من قبل فاما من تعلق
في ذلك بان أهل اللغة جمعوا الامر الذي هو من قبيل الأقوال أوامر وجمعوا الامر الذي هو من قبيل الافعال
أمورا فينبغي أن يكون ذلك دلالة على كونها مشتركة فيهما فقوله يبطل لأنه يقال له الصحيح ان الامر لا
يجمع أوامر أصلا وانما يجمع أمور مثل فلس وفلوس وزرع وزروع وغير ذلك فاما أوامر فخارج عن
القياس فان سمع ذلك فإنه يكون على انه جمع الجمع وكأنه جمع أولا أمورا ثم جمع أمور أوامر وعلى هذا
لا يدل على مخالفتهم عن ذلك لاختلاف المعنيين وإذا ثبت ما قلناه لا يمكن التعلق بقوله تعالى
فليحذر الذين يخالفون عن امره في وجوب اتباع أفعاله لان ذلك غير داخل فيه على وجه الحقيقة وكونها
مرادة على وجه المجاز يحتاج إلى دليل غير الظاهر فبطل التعلق به على كل حال واعلم ان هذه الصيغة
التي هي قول القايل افعل وضعها أهل اللغة استدعا الفعل وخالفوا بين معانيها باعتبار الرتبة
فسموها إذا كان القايل فوق القول له امرا وإذا كان دونه سؤالا وطلبا ودعاء ومتى استعملوها
في غير استدعاء الفعل في التهديد نحو قوله تعالى واستفزز من استطعت وقوله اعملوا ما شئتم وفي الإباحة
نحو قوله وإذا حللتم فاصطادوا ونحو قوله فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وفي التحدي نحو قوله
فأتوا بعشر سور مفتريات مثله وفي تكوين الشئ نحو قوله كونوا قردة خاسئين وما أشبه ذلك من الوجوه
كانت مجازا خارجة عن باب ما وضعت له وهذا مذهب كثير من الفقهاء والمتكلمين وقال جماعة
من الفريقين ان هذه الصيغة مشتركة بين جميع ذلك حقيقة فيه وانما يختص ببعضها بالقصد فإذا
أراد المأمور (الفعل خ ل) به كان امرا وسؤالا بحسب الرتبة وان كره الفعل كان ذلك نهيا وتهديدا والذي يدل
على صحة ما ذهبنا إليه ان أهل اللغة فرقوا بين صيغة الامر وصيغة النهى وصيغة الخبر فقالوا صيغة الامر
قول القائل لمن هو دونه افعل وصيغة النهى قول القائل لمن هو دونه لا تفعل والجملة (والخبر مركبة خ ل) مركبة من مبتدأ
وخبر ومن فعل وفاعل نحو قولهم زيد في الدار ونحو قام زيد ولو كان الامر على ما قالوه لما كان لفرقهم
بين هذه الصيغ معنى وقد علمنا انهم فرقوا وانما قلنا ذلك لأنه إذا كان الاعتبار بإرادة المأمور
على قولهم فلو صادف ذلك قول القايل لا تفعل لكان امرا وكذلك لو صادف كراهة ذلك لقوله افعل
لكان نهيا وهذا يؤدى إلى انه لا فرق بين هذه الصيغ والمعلوم من حال أهل اللغة خلاف ذلك
64

ولا يلزمنا مثل ذلك بان يقال أليس قد استعمل صيغة الخبر في الامر نحو قوله تعالى من دخله كان امنا ونحو قوله
والمطلقات يتربصن بأنفسهن وما أشبه ذلك وكذلك قد استعمل صيغة الامر في النهى وغيره من الاقسام
نحو الإباحة والتهديد والتكوين وغير ذلك لأنا نقول انما استعملوا ذلك على وجه المجاز دون الحقيقة
فان قبل ظاهر استعمالهم يدل على انه حقيقة في الموضعين قيل له لا (نم) ان نفس الاستعمال يدل على
الحقيقة لان المجاز أيضا مستعمل وانما يعلم كون اللفظ حقيقة بان ينصوا لنا على انها حقيقة أو نجد
اللفظة تطرد في كل موضع أو غير ذلك من الاقسام التي قدمنا ذكرها فيما مضى للفرق بين الحقيقة والمجاز
وليس مجرد الاستعمال من ذلك وليس لهم أن يقولوا ان المجاز طار والحقيقة هي الأصل بدلالة انه يجوز
أن يكون حقيقة لا مجاز لها ولا يجوز أن يكون مجاز لا حقيقة له فعلم بذلك ان أصل الاستعمال الحقيقة
وذلك ان الذي ذكروه غير مسلم لأنه لا يمتنع أن يكون الواصفون للغة وضعوا اللفظة ونصوا على انها
إذا استعملت في شئ بعينه كانت حقيقة ومتى استعملوها في غيره كانت مجازا وان لم يقع استعمال
اللفظ في واحد من المعنيين ثم يطرء على الوضع الاستعمال فربما استعملوها أولا في الحقيقة وربما استعملوها
أولا في المجاز وانما كان يتم ذلك ان لو جعلوا الاستعمال نفسه طريقا إلى معرفة الحقيقة فيجعل ما ابتدى
استعمال حقيقة وقد بينا انا لا نقول ذلك فان قيل أليس القائل إذا قيل لغيره أريد منك أن تفعل
كذا ناب ذلك مناب قوله افعل فينبغي أن يكون معناهما واحدا قيل له نحن لا نمنع أن يكون لاستدعاء
الفعل لفظة أخرى لأنا ادعينا انه لا لفظة يستدعى بها الفعل الا قول القايل افعل بل الذي
ادعيناه ان هذه اللفظة يستدعى بها الفعل وان شاركها غيرها في فايدة هذه اللفظة الا أنه
متى قال أريد ان يفعل كذا لا يسمى امرا بل يكون مخبرا والخبر غير الامر وليس لهم أن يقولوا ان السؤال أيضا
لا يسمى امرا وهؤلاء استدعاء الفعل على ما قررتموه لأنا قد بينا ان معناهما واحد وانما فرقوا بينهما
في التسمية لشئ يرجع إلى اعتبار الرتبة وليس يمكن مثل فعل ذلك في صيغة الخبر لأنهم فرقوا بينها وبين
صيغة في أصل الوضع دون اعتبار امر اخر فان قيل أليس القائل إذا قال لغيره أريد ان تفعل كذا
وكان دون المقول له يسمى سائلا فينبغي إذا قال ذلك وهو فوقه أن يسمى امرا قيل له هذا اثبات
بالقياس وذلك لا يجوز لأنه ليس إذا كان للسؤال لفظتان تطلق على مستعملهما لفظ السائل ينبغي
أن يكون حكم الامر مثل ذلك ولو جاز ذلك لأدى إلى بطلان ما بيناه من اعتبار أهل اللغة الفرق
65

بين هذه الصيغ ولو لزم ذلك للزم أن يسمى الإشارة امرا لان المشير قد يشير بما يفهم منه استدعاء الفعل
ويسمى سائلا ولا يقول أحد انه امر على حال فان قيل فلو لم يحتج في كونه امرا إلى إرادة المأمور به جاز ان
يكون كارها له وقد علمنا استحالة ذلك قيل له ان أردت بأنه إذا استدعى الفعل لا يجوز أن
يكون كارها له بمعنى ان ذلك مستحيل فليس الامر كذلك بل ذلك يمكن وان أردت ان ذلك لا يحسن
فهو مسلم لأنه متى استدعى الفعل وكان كارها له كان مناقضا لغرضه وان فرضنا ان الامر حكيم
يدل على حسن المأمور به فلو كرهه لكان مقبحا وذلك لا يجوز على الحكيم فلأجل ذلك لا يجوز ومتى فرض
فيمن ليس بحكيم فان جميع ذلك جايز غير مستحيل واما حملهم ذلك على النهى بان قالوا لما كان من شرط
النهى أن يكون كارها للمنتهى عنه وجب في الامر أن يكون مريدا للمأمور به فالجواب عنه ان الكلام في النهي
كالكلام في الامر في ان ذلك ليس بمستحيل ولا يخل بكونه نهيا وانما يقبح لان من نهى عن فعل وكان
حكيما دل نهيه على قبح المنهى فلأجل ذلك وجب أن يكون كارها له ولم يحسن منه ان يريده لان إرادة
القبيح قبيحة ومتى فرض فيمن ليس بحكيم فان ذلك جايز فان قيل فبأي شئ يدخل في أن يكون
مستعملا لما وضعه أهل اللغة حقيقة دون المجاز قلنا بأن يقصد إلى استعماله فيما وضعوه وأطلق
القول فإنه إذا كان حكيما فانا نعلم انه نعلم امر لأنه لو أراد غير ما وضع له على وجه التجوز لبينه
فمتى لم يفرق به البيان دل على انه أراد ما وضع له حقيقة ومتى لم نعرف ان القائل حكيم لا نفهم
مراده الا بقرينة أو يضطر إلى قصده لأنه يجوز أن يكون أراد غير ما وضع له وان لم يبين ذلك
في الحال لان القبيح غير مأمون منه فاما الكلام في القصد وهل هو من قبيل الاعتقادات أو هو
جنس مفرد فليس هذا موضع ذكره وبيان الصحيح منه ولا يمكن أن يدعى ان الامر أمر بجنسه لأنا نجد
من جنسه ما ليس بأمر ما هو في مثل صورته فان ادعى ان ذلك غير ما هو موضوع للامر كان ذلك فاسدا
من وجهين أحدهما انهما يشتبهان على الحاسة فلا يفصل على السامع بينهما من جهة الادراك الا ترى
ان السامع لا يفصل بين قوله أقيموا الصلاة وبين قوله اعملوا ما شئتم من حيث الادراك وان كان
أحدهما امرا والاخر تهديدا والوجه الثاني ان ذلك يبطل التوسع والمجاز لان معنى المجاز أن يستعمل
اللفظة الموضوعة لشئ في غير ما وضعت له فمتى قيل ان هذه اللفظة ليست تلك بطل هذا الاعتبار
ولا يمكن أيضا ان يقال انه يكون امرا لأنه خطاب ولا انه علم الامر ما امر به ولا انه بصورته لان جميع
66

ذلك (يكون خ ل) يثبت فيما ليس بأمر فبطل اعتبار جميع ذلك فصل في ذكر مقتضى الامر هل هو الوجوب أو الندب
أو الوقف والخلاف فيه ذهب أكثر المتكلمين من المعتزلة وغيرهم وقوم من الفقهاء ان الامر لا يقتضي
الايجاب وانما يقتضى ان الآمر أراد المأمور به ثم ينظر فيه فان كان حكيما علم ان المأمور به حسن وليس بقبيح
وان كان قديما علم ان له صفة زائدة على الحسن وهي صفة الندب لان المباح لا يجوز أن يريده الله تعالى
وان كان الامر غير حكيم لا يعلم بأمره حسن الفعل أصلا لأنه يجوز أن يريد القبيح والحسن جميعا وذهب
قوم من المتكلمين وجل الفقهاء إلى ان الامر يقتضى الايجاب وذهب كثير من المتكلمين إلى الوقف في
ذلك وقالوا لا نعلم بظاهر اللفظ أحد الامرين ويحتاج في العلم بأحدهما إلى دليل وهو الذي اختاره
سيدنا المرتضى قدس الله روحه غير انه وان قال ذلك بمقتضى اللغة فإنه يقول انه استقر في
الشرع أوامر الله تعالى وأوامر الرسول صلى الله عليه وآله وأوامر الأئمة عليهم السلام على الوجوب والذي يقوى في نفسي ان الامر
يقتضى الايجاز لغة وشرعا ويحتاج أن ينظر في حكم الامر فان كان حكيما علم ان له صفة الوجوب
وان لم يكن حكيما لم يعلم بأمره صفة الفعل لأنه يجوز أن يوجب ما هو قبيح وما هو واجب وما ليس
بواجب والا قبيح فظاهر امره لا يدل على أحدهما والذي يدل على ذلك انى وجدت العقلاء بأسرهم
يوجهون الذم إلى العبد إذا خالف امر سيده ويوبخونه على ذلك فلولا انهم علموا ان الامر يقتضى الايجاب
فما جاز منهم ذمة (ذمه) على حال لأنه ان كان مقتضيا للندب فلا يستحق تاركه الذم وان مشتركا احتاج
إلى بيان المراد فلا يستحق الذم إذا تركه وخالفه وفي علمنا بذلك دليل على صحة ما اخترناه وليس
لاحد ان يقول ان تعلق ذم العقلاء للعبد بقرينة تنضاف إلى الامر عقل منها الايجاب فلأجل
ذلك ذموه لان ذلك يفسد من وجهين أحدهما ان العقلاء إذا ذموه علقوا الذم بمخالفة الامر دون غيره
حتى إذا استفسروا عن ذلك (عينوا خ ل) عللوا عليه وقالوا لأنه خالف امر مولاه والثاني انه لو كان الامر على ذلك
لوجب أن لا يذمه الا من عرف تلك القرينة وفي علمنا بذمهم له وان لم يعلموا امرا اخر أكثر من مخالفته
للامر دليل على تعليق الذم بذلك حسب ما قلناه فاما قول من قال انه يقتضى إرادة المأمور به فحسب
فقد بينا في الفصل الأول ان الامر لا يدل على إرادة المأمور به من حيث كان امرا وانما دل لامر اخر غير
مطلق الامر فسقط الاعتراض بذلك ولا يمكن ان يدعى الاشتراك من حيث وجدت أوامر كثيرة مستعملة
في الندب لان ذلك انما يكون كذلك على ضرب من المجاز وقد بينا ان الاستعمال ليس به لأنه على الحقيقة
67

لأنه حاصل في الحقيقة والمجاز فان قيل ما أنكرتم على من قال انهم عقلوا هناك قرينة لأجلها ذموا
العبد إذا خالف سيده وذلك انه إذا امره بمنافع نفسه فان فوتها يضربه فلابد أن يكون موجبا
عليه وإذا امره بمنافع يعود إلى العبد ولا يستقر هو بفوتها لم يدل على ذلك ولا يذمونه متى خالف قيل
له هذا يسقط بالوجهين الذين قدمناهما أحدهما انهم علقوا الذم بمخالفة الاخر دون غيره وكان
ينبغي على ما اقتضى هذا السؤال أن يعلقوا الذم بدخول الغرم على السيد وفوت المنفعة وقد علمنا
خلاف ذلك والاخر انه يلزمه من لا يعلم ان السيد يستضر بمخالفته وانه ينتفع بامتثاله فلو كان
الامر على ما قيل لما جاز ان يذمه الا من عرف ذلك وقد علمنا خلاف ذلك على انا لا نم ذلك لان السيد
قد لا يستقر بمخالفة عبده ويستحق العبد مع ذلك الذم إذا خالفه الا ترى إلى من قال لغلامه
اسقني الماء فلم يسقه وكان هناك غلامه آخر فسقاه فان العقلاء يذمون العبد المخالف وان كان
السيد لم يدخل عليه ضرر لأنه قد بلغ غرضه ومراده فلو كان لما قالوه لما حسن ذلك على حال وكذلك
يذمونه وان خالف منافع يرجع إلى العبد الا ترى انه لو قال اغسل ثيابك وادخل الحمام وكل
الخبز وما أشبه ذلك فلم يفعل يحسن منه أن يؤدبه على ذلك ويذمه فلولا ان ذلك كان يجب عليه
والا لم يحسن ذلك وليس لهم ان يقولوا انهم إذا خالفه فيما عددتموه عاد بالضرر عليه فلأجل ذلك حسن
ذمه وذلك انه ان كان الامر على ما قالوه سقط فرقهم بذلك بين منافع يخصه وبين منافع يرجع إلى
السيد لأنهم راموا بذلك ان يفضلوا بين ان يستحق الذم بمخالفة امر سيده لمنافع تعود إليه وبين منافع
ترجع إلى العبد وعلى هذا الفرض لا فصل بينهما لان في كلا الحالين يعود إلى الضرر بالمخالفة على السيد
فبطل الفصل ومن سوى بينهما كان الجواب عنه ما تقدم ويدل أيضا على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى مخاطبا
لإبليس ما منعك الا تسجد إذ أمرتك فقرعه على مخالفته الامر فلولا ان امره كان يقتضى الايجاب والا لم
يستحق التوبيخ وليس لهم ان يقولوا انه انما ذمه لأنه كان قد دله على ان ما امره به واجب بقرينة
اقترنت إلى الخطاب لان الذي ذكروه مخالف للظاهر لان الله تعالى انما علق ذمه بمخالفة الامر دون القرينة
فمن ادعى قرينة احتاج إلى دلالة وليس لهم أن يقولوا ان قوله ما منعك الا تسجد ليس بتوبيخ وانما
هو تقرير على الذي حمله على مخالفه الامر وذلك ان هذا خلاف الاجماع لأنه لا خلاف بين الأمة
في ان هذا القول ذم لإبليس فمن قال ليس كذلك سقط قوله ويدل أيضا على ذلك قوله تعالى فليحذر
68

الذين يخالفون عن امره فحذرنا من مخالفة أوامر الرسول فلولا انها كانت مقتضية للايجاب والا
لم يجب الحذر من مخالفته فان قالوا المخالفة ليس هو ان لا يفعل ما اقتضاه الامر بل المخالفة هو رد
القول وان يق ليس كذلك لان الذي ذكروه ضرب من المخالفة وقد يكون المخالفة ترك المأمور به
الا ترى ان القايل إذا قال لغيره قم واقعد فمضى وقام يق انه خالفه وان لم يرد قوله عليه كما انه
إذا أرده عليه وقال ليس الامر على ذلك يق انه خالفه بكل واحد من الامرين مخالفة ونحن نحمل
الآية عليهما جميعا وليس لهم ان يقولوا ان قوله فليحذر الذين قرينة تدل على ان امره على الوجوب
دون أن يكون ذلك بمقتضى اللغة لأنه متى لم يكن الامر مقتضيا للايجاب لم يحسن التحذير من مخالفته
الا ترى انه لا يحسن ان يحذرنا من مخالفه ما ندبنا إليه لما لم يكن لها صفة الوجوب ويحسن ذلك
فيما يوجبه علينا فعلم بذلك ان التحذير انما يحسن إذا كان الامر مقتضيا للايجاب ويدل أيضا على صحة
ما ذهبنا إليه ما روى ان النبي قال لبريرة ارجعي إلى زوجك فإنه أبو ولدك وله عليك حق
فقالت يا رسول الله أتأمرني (بذلك) قال لا وانما انا شافع فعدل عن الامر إلى الشفاعة فلولا انه كان يقتضي
الايجاب والا لم يكن فرق بينه وبين الشفاعة لان شفاعة النبي مرغب في اجابتها فعلم بذلك ان
امره كان يقتضى فلأجل ذلك لم يأمرها لأنه أراد ترغيبها في ذلك ولم يرد الايجاب ويمكن أن يعتمد في
ان الامر يقتضى الايجاب على ان يقال ان الاحتياط يقتضى ذلك لأنه متى امتثل المأمور به فان كان
مقتضاه الندب فقد فعله على كل حال وان كان مشتركا فقد امن الذم والعقاب من مخالفته لو كان
واجبا وان كان واجبا فقد امتثل المأمور به فالاحتياط يوجب عليه ذلك على المذاهب كلها الا ان
هذا وان أمكن فإنما يمكن أن يق يحجب عليه ان يفعل المأمور به ولا يعتقد فيه ان له صفة الوجوب
لأنه ان اعتقد ذلك وهو لا يامن أن لا يكون كذلك يكون اعتقاده جهلا وانما يسلم له ذلك إذا خلا
من اعتقاد في المأمور به واقتصر على نفس الفعل فإذا فعل ذلك كان ذلك معتمدا ويدل أيضا على صحة ما
ذهبنا إليه رجوع المسلمين بأجمعهم من عهد النبي (ع) إلى زماننا هذا في وجوب الافعال واحتجاجهم في ذلك
إلى أوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وآله فلولا انهما يقتضيان الايجاب والا لم يجز ذلك وكان للمحتج عليه ان يقول
واي شئ في ذلك فما يقتضى الايجاب في الامر لا يقتضى الايجاب في علمنا باجماعهم على ذلك دليل على صحة
ما قلناه وليس لاحد ان يقول انهم عقلوا ذلك بقرينة دلتهم على ذلك لان هذا دعوى محضة ومن ادعى
69

القرينة فعليه ان يوردها ولم نر المحتجين بأوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وآله ذكروها على حال فهذا أيضا طريقة
معتمدة ومن الفقهاء والمتكلمين من استدل على ان الامر يقتضى الايجاب بان قالوا ان الايجاب حكم
معقول فلابد من أن يكون أهل اللغة وضعوا له عبارة لان الحاجة إليه ماسة وليس تجد عبارة
يستعمل في ذلك الا هذه اللفظة فينبغي أن يكون مقيدة للايجاب واعترض على هذا الدليل من خالفهم
بان قالوا هذه محض الاقتراح ولم يجب على أهل اللغة ان يضعوا لذلك عبارة الا انهم قد وضعوا
لكل امر معقول عبارة فان ادعيتم ذلك كان الوجود بخلافه لأنا نعلم ان اختلاف الأذابيح أمور معقولة
ولم يضعوا لكل واحد منها عبارة تخصه كما فعلوا ذلك في الألوان وكذلك لم يضعوا لاختلاف الألوان اسما
كما وضعوا لاختلاف ألوان بأمور كثيره معقولة لم يضعوا لها عبارة فما المنكر من أن يكون حكم الايجاب
ذلك الحكم ولو سلم ذلك وقد وضعوا لذلك وقولهم أوجبت عليك والزمتك إياه أو فرضت عليك
أو متى لم يفعله استحقت الذم والعقاب وهذه عبارات تفيد ما اقترحتموه على ان الندب أيضا معنى معقول
والإباحة معنى معقولة ولم يضعوا لهما عبارة فان قلتم قد وضعوا لهما عبارة وهي قولهم ندبتك إليه
أو أبحتك إياه قيل لكم في الايجاب مثله فان قلتم قولهم أوجبت وألزمت انما هو خير (خبر) وليس بأمر
قيل لكم وكذلك قولهم ندبت وأبحت خبر محض وليس بأمر فاستوى القولان فاما الاستدلال بقوله
تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول على ان أمرهما يقتضيان الايجاب فلا يصح الآية تضمنت الامر
بالطاعة لهما والكلام في الامر وقع هل مقتضاه الايجاب أم لا فالاستدلال بها لا يصح فاما
قوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك إلى قوله مما قضيت ويسلموا تسليما لا يمكن الاعتماد عليه أيضا
في ان الامر يقتضى الايجاب لان القضاء في الآية بمعنى الالزام وليس بمعنى الامر والالزام هو الايجاب
وكذلك قوله تعالى وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله امرا أن يكون لهم الخيرة من امرهم
لا يمكن الاعتماد عليه لان القضاء بمعنى الالزام على ما بيناه على ان من قال ان الامر يقتضى الندب
لا يقول ان لهم الخيرة بل يقول ان الفعل بصفة الندب والأولى فعله والتخيير انما يثبت في المباح
المحض وليس ذلك قولا لاحد وقوله ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا بعيدا لا يمكن أيضا
الاعتماد عليه والذي قلناه هو الاعتراض على قول من قال لو لم يقتضى الايجاب لما يسمى من
خالفه غاصبا لأنا قد بينا ان العصيان قد يطلق على مخالفة المندوب إليه فاما وصف الله
70

تعالى إبليس بالعصيان فإنه علم انه فعل قبيحا بتركه السجود المأمور به وقد دللنا على ان الامر يقتضى الايجاب
فلم يخرج من بابه ومن قال بالندب قال علم ذلك بدليل غير الامر فلا يمكن الاستدلال به فاما من
اعتمد على ان الامر بالشئ نهى عن ضده لفظا أو معنى فلأجل ذلك اقتضى الايجاب فلا يمكن الاعتماد عليه
لان عندنا ليس الامر بالشئ نهيا عن ضده وسنبين ذلك فيما بعده فلا يمكن الاعتماد على ذلك
ولا يمكن أيضا ان يعتمد على ان يقال الامر يدل على ان الامر مريد للمأمور به وإذا كان كذلك فلابد أن يكون
كارها لضده لان ذلك يفسد من وجهين أحدهما انا قد بينا ان الامر لا يقتضى إرادة المأمور به
أصلا فلا يصح ذلك ثم لو اقتضى ذلك لم يجب ان يكون كارها لضده والوجه الثاني ان ذلك
يقتضى أن تكون النوافل واجبة لأنها مرادة وقد علمنا انها ليست مكروهة الضد ولا يمكن أيضا
ان يقال ان نفس الإرادة للشئ كراهية لضده لان ذلك يفسد من وجهين أيضا أحدهما ان الشئ
الواحد لا يجوز أن يكون بصفتين ضدين فكيف يمكن أن يدعى ان لإرادة بصفة الكراهة والثاني ان ذلك
ينتقض بالنوافل لأنها مرادة وليس مكروهة الضد ولم يمكن أيضا ان يعتمد بأن يقال ان الامر يقتضى الأمور
به وليس على جواز تركه دليل لان القايل ان يقول انه لعمري يقتضى المأمور به ولكن الكلام في انه
كيف يقتضيه هل هو على جهة الوجوب أو جهة الندب ولا يمكن أيضا ان يقال ان الامر أراد المأمور به
على جهة الايجاب لان ذلك متى لم يشر به إلى ما قلناه من ان الامر يقتضى الايجاب أو ان يقال انه إذا أراد
المراد فلابد من أن يكون كارها لضده أو اراده الشئ كراهة لضده لا يعقل فان أريد بذلك الوجه الأول
فذلك صحيح وينبغي أن يقتصر على ان يقال ان الامر يقتضى الايجاب ولا يتعرض في العادة وان أريد به ما عدا
ذلك فقد أبطلنا صحة ذلك ولا يلزم القائلين بالندب ان يقال لهم ينبغي على قولكم الا يكون فرق
بين الامر بالنوافل والفرائض لأنهم يقولون ان بمجرد الامر لا فرق بينهما وانما علمنا حكم الفرايض
وانه يستحق بتركها العقاب بدليل غير الامر ولا يلزمهم أيضا ان يقال لهم ينبغي أن يكون الامر لا يدل
على أكثر من حسن المأمور به فقط إذا كان صادر من حكيم ويلزم على ذلك أن يكون الله تعالى مريدا للمباحات
لأنها حسنه لأنهم يقولون المباحات وان كانت حسنة فلا يحس من القديم تعالى ان يريدها في دار
التكليف لان ذلك عبث لا فائدة فيه فالاعتماد على ما قلناه وأحكمناه فصل في حكم الامر
الوارد عقيب الحظر ذهب أكثر الفقهاء (خ ل) ومن صنف أصول الفقه إلى ان الامر إذا ورد عقيب الحظر يقتضى
71

الإباحة وقال قوم ان مقتضى الامر على ما كان عليه من ايجاب أو ندب أو وقف فلا اعتبار بما تقدم
وهذا هو الأقوى عندي والذي يدل على ذلك ان الاعتبار في هذه الالفاظ بظواهرها وموضوعها
في اللغة لأنا متى لم نراع ذلك لم يمكننا الاستدلال بشئ من الكلام وإذا ثبت ذلك وكانت صيغة
الامر وصورته بعد الخطر كما كانت قبل الخطر وجب أن يكون مقتضاهما على ما كان الا أن يدل
دليل على خلاف ذلك فتحمل عليه كما إذا دل دليل ابتداء على خلاف مقتضاها في أصل الوضع حمل
عليه والذي يدل أيضا على ذلك ان كون الامر واردا عقيب الحظر اللفظي ليس بأكثر من كونه واردا
عقيب الحظر العقلي الا ترى ان الصلاة ورمى الجمار وغير ذلك من الشرعيات قبيح بالعقل فعلها
ومع ذلك لما ورد الشرع بها وتناولها الامر حمل ذلك على الوجوب أو الندب على الخلاف فيه ولم
يكن ما تقدمها من الحظر العقلي موجبا لا باجتهاد وكذلك حكم الامر إذا ورد عقيب الحظر اللفظي ينبغي أن
يكون حكمه حكم ما ورد ابتداء ولا يؤثر في تغيير ذلك ما تقدم من الحظر الا بدليل فاما تعلقهم في
ذلك بان قالوا الحظر لما كان من الفعل ينبغي أن يكون الامر رافعا لذلك وذلك يفيد الإباحة
فان الذي يقتضيه هذا الاعتبار انه ينبغي أن يكون الامر مخالفا لحكم الحظر وكذلك تقول وقد
يكون مخالفا بأن يقتضى الوجوب أو الندب أو الإباحة فمن اين ان المراد أحدهما دون الاخر وكل
ذلك يزيل حكم الحظر فسقط التعلق بذلك فاما تعلقهم في ذلك بان أوامر القران الواردة عقيب الحظر
كلها كذلك نحو قوله تعالى فإذا قضيت الصلاة فانتشروا ونحو قوله وإذا حللتم فاصطادوا وما جرى
مجرى ذلك فينبغي أن يكون حقيقتها ذلك ليس بصحيح لأنا نقول انما علم ذلك بدليل غير الظاهر ولو خلينا
والظاهر حكمنا في هذه الأوامر ما كنا نحكم فيها ابتداء من غير أن يتقدمها حظر فالتعلق بذلك لا يصح
على انه قد ورد في القران عقيب الحظر الامر وان لم يوجب الإباحة نحو قوله ولا تحلقوا رؤوسكم
حتى يبلغ الهدى محله وليس بمباح بل هو نسك وذلك يخالف ما أصلوا القول فيه فصل
في ان الامر بالشئ هل هي امر بما لا يتم الا به أم لا اعلم ان الامر إذا ورد فلا يخلوا من أن يكون
متناولا لمن كان على صفة مخصوصة أو يكون مطلقا فان كان متناولا لمن كان على صفة وجب أن يكون
مقصورا على من كان عليها ومن ليس عليها لا يلزمه ان يجعل نفسه عليها ليتناوله الامر الا أن
يدل دليل على وجوب تحصيل تلك الصفة له فحينئذ يلزمه لمكان الدليل وذلك نحو قوله تعالى ولله على
72

الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا فأوجب الحج على من كان مستطيعا فمن ليس بمستطيع
لا يلزمه تحصيل الاستطاعة ليدخل تحت الامر وكذلك لما أوجب الزكاة على من ملك مأتى درهم أو
عشرين دينارا فمن ليس معه النصاب لا يلزمه تحصيل النصاب ليدخل تحت الامر وان كان الامر مطلقا
نظر فيه فان كان لا يصح على وجه الا بفعل اخر وجب تحصيل ذلك الشئ ليتم معه المأمور به وذلك نحو
الامر بالمسبب وهو لا يحصل الا عن سبب فلابد من أن يكون السبب واجبا عليه الا ترى ان من أوجب
على غيره ايلام غيره وذلك لا يحصل الا عن (من خ ل) ضرب فلابد من أن يلزمه الضرب ليحصل عنده الألم ولهذه
الجملة قلنا ان الكافر إذا كان مخاطبا بالشرايع على بنبيه (نبيه) يلزمه الاسلام لأنه لا يصح منه ايقاع
الفعل على وجه القرية (القربة) وكونها شرعية وكونه كافر يمنع من ذلك فان كان ذلك المأمور يصح على وجه
ما حصوله الا انه قد علم بالشرع انه لا يكون شرعيا الا بفعل اخر جرى مجرى الأول في وجوب
تحصيل ذلك الامر حتى يصح المأمور به وذلك نحو قوله أقيموا الصلاة وقد علمنا ان الصلاة لا تصح
الا بالطهارة وستر العورة وغير ذلك من الشرائط ولا شرعية الا كذلك وجب عليه تحصيل كل
ما لا يتم الصلاة الا بها من الطهارة وغيرها وان لم يدل دليل على وجوب فعل اخر غير انه
قيل إذا كان امر من الأمور وجب عليك كذا فإنه لا يجب عليه تحصيل ذلك الامر ليلزم ما أوجب
عليه عند حصوله ولذلك قلنا ان قوله تعالى واتوا الزكاة لا يقتضى وجوب تحصيل النصاب لما
لم يدل دليل شرعي على ذلك وفرقنا بينه وبين أقيموا الصلاة على ما بيناه واما استدلال
أهل العراق على ان ستر الركبة واجب لان ستر العورة لا يتم به فبعيد لان ذلك ليس بمستحيل
بل يمكن ستر العورة وان لم يستر الركبة إذا سلم لهم ان الفخذ عورة وان كان عندنا الامر بخلافه
اللهم ان يدل دليل اخر على ان ستر العورة لا يتم الا بستر الركبة فحينئذ يجب عليه للامر يستر
العورة واما ما قاله الشافعي في قوله أو عدل ذلك صياما في انه إذا كان يدل كل يوم مدا
من طعام فنفض (عن خ ل) من المد يجب صوم يوم تام لان صوم بعضه لا يتم الا بصوم جميعه فصحيح لأنا قد علمنا
بالشريعة ان بعض اليوم لا يكون صوما فأوجبنا تمام اليوم لذلك وجرى ذلك مجرى الامر بالصلاة
وانها لا تكون كذلك الا بالطهارة فأوجبنا الطهارة ولو لم يدل دليل على ذلك لما كنا نوجب عليه
لان ذلك القدر الذي نفسه فاما دخول المرفقين في باب وجوب غسلهما اليدين فخارج عن هذا
73

الباب لان اسم اليدين واقع على عضوين المرفقان داخلان فيهما ليس ذلك من باب ما لا يتم الشئ
الا به فمن ظن ذلك فقد ابعد واما ما يحكى عن ابن عباس في قوله وأتموا الحج والعمرة لله انه لما كان
الاتمام يقتضى الدخول وجب الدخول الذي لا يصح الاتمام الا به فالذي يقوى عندي خلاف ذلك لأنه
لا يمتنع ان يكون الامر متناولا لمن كان فدخل في الحج فحينئذ يلزمه اتمامه واما من لم يدخل فيه فليس يجب
عليه الدخول اللهم الا ان يدل دليل على وجوب الدخول غير الامر بالاتمام فح يجب المصير إليه ولاجل
ما قلنا وجب على من دخل في الحج تطوعا اتمامه وان كان الدخول لم يكن واجبا عليه وحجة
الاسلام تجب الدخول فيها واتمامها لما دل الدليل على ذلك وهذه الجملة كافية ينبغي ان تجرى
الباب على هذا المنهاج انشاء الله تعالى فصل في ان الامر يتناول الكافر والعبد كما يتناول المسلم
والحر ذهب أكثر المتكلمين والفقهاء إلى ان الكافر مخاطب بالشرايع وكذلك العبد وقال قوم شذاذ
ليسوا بمخاطبين بها والذي اذهب إليه هو الأول والذي يدل على ذلك ان المراعى في كون المكلف
مخاطبا بالشريعة ان يرد الخطاب على وجه يتناوله ظاهره ويكون متمكنا من ذلك فإذا ثبت هذا
فمتى ورد الخطاب يحتاج ان ينظر فيه فان كان خطابا للمؤمنين نحو قوله تعه يا أيها الذين امنوا
فينبغي ان يكون الخطاب بحقهم (يخصهم) ولا يتناول الكافر الا ان يدل دليل على انهم مخاطبون به مثل
المؤمنين فيحكم بذلك لأجل الدليل ومتى كان الخطاب متعلقا باسم يتناول الكافر والمسلم مثل
قوله يا أيها الناس ولله على الناس وخذ أموالهم وما جرى مجرى ذلك فينبغي ان يحمله على عمومه
وشموله في دخول الكافر والمسلم تحته الا ان يدل دليل على خلافه فيحكم به ويخرج من جملة العموم
وليس لاحد ان يقول ان الكافر لا يصح منه فعل الصلاة ولا فعل الحج مع كفره فلا يجوز ان يكون
مرادا بالخطاب وذلك ان الذي يجب ان يكون عليه حتى يصح تناول الخطاب له ان يكون على
صفة يصح معها إذا ما تناوله الامر أو يكون متمكنا من تحصيلها ويحسن تكليفه في الحالين
على حد واحد وإذا ثبت ذلك فالكافر وان لم يكن بصفة الايمان فيصح منه العبادة فهو متمكن
من فعل الايمان ويجب عليه تحصيله لتصح منه العبادة لان ايجاب الشئ ايجاب ما لا يتم الشئ
الا به على ما بيناه في الفصل الأول في السبب والمسبب والطهارة والصلاة وانه لا فرق بين ان يكون
متطهرا في انه يلزمه فعل الصلاة وبين ان يكون متمكنا منها في كذلك وكذلك القول في الكافر وليس
74

يجرى ما ذكرناه مجرى من قطع رجل نفسه في سقوط فرض الصلاة عنه قائما لان مع قطع رجله يستحيل
منه فعل الصلاة قائما فلأجل ذلك سقط عنه وليس كذلك الكافر لان الايمان ممكن فيه ويجرى في
هذا الباب مجرى من شد رجل نفسه في انه يلزمه فعل الصلاة قائما لأنه متمكن من حلها فيتمكن
من فعل الصلاة قائما ويدل أيضا على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعه فويل للمشركين الذين لا يئتون (يؤتون)
الزكاة قدم الله تعه المشركين يمنعهم (بمنعهم) الزكاة فلولا انهم يخاطبون بها والا ما كانوا يستحقون الذم إذا
يفعلوها ويدل على ذلك الظاهر قوله تعالى حاكيا عن الكفار قالوا لم نك من المصلين فلولا انهم مخاطبون
بها والا لم يعدوه من جملة ما عوقبوا عليه وليس ان يقولوا انهم عدوا من جملة ذلك قوله ولم
نك نطعم المسكين وان كان ذلك غير واجب عليهم وذلك انه لا يمتنع ان يكونوا أرادوا بذلك
منع الزكاة عن المساكين أو منع ما وجب عليهم من الكفارات من اطعام المساكين على ما تضمنته
الآية الأولى فلأجل ذلك عوده في جملة ما عوقبوا عليه ويدل أيضا على ذلك ما لا خلاف فيه
بين المسلمين من وجوب حد الزاني عليهم إذا زنوا ووجوب القطع إذا سرقوا فلولا انهم مخاطبون بترك
الزنى وترك السرقة والا لم يجب عليهم الحد كما لا يجب على المجانين والأطفال لما لم يكن ذلك
واجب عليهم وتعلق من خالف في ذلك بان قال الصلاة لا تصح منه فينبغي ان لا يكون مخاطبا
بها كما ان المقطوع الرجل لم تصح منه فعل الصلاة قائما لم يكن مخاطبا بها وقد قلنا ما عندنا
في ذلك فأغنى عن الأعاد وتعلقوا أيضا بان قالوا لو كان الكافر مخاطبا بالصلاة لوجب عليه
قضاؤها إذا اسلم مثل المسلم إذا لم يصل وجب عليه قضاؤها وهذا أيضا غير صحيح لان القضاء
قرض بأن يحتاج إلى دليل مستأنف وليس ما دل على وجوب الفعل دل على قضائه الا ترى من فاتته
الجمعة وصلاة العيدين لا يلزمه قضاؤها وان كان مخاطبا بها في حال الأداء وكذلك ما دل على وجوب
القضاء لا يدل على وجوب المقضى لان الحايض يلزمها قضاء الصوم وان لم يكن ذلك واجبا عليها
في حال الحيض فان قال الصوم وان لم يجب عليها في حال الحيض فهو واجب عليها على وجه قلنا
ذلك ينتقض بالصلاة فإنها تجب عليها على وجه مع ذلك لا يلزمها أداؤها في حال الظهر والكلام
في العبد كالكلام في الكافر سواء لا فرق بينهما إذا كان داخلا تحت الاسم وليس لهم ان يقولوا
ان العبد لا يملك تصرفه فكيف تجب عليه فعل ذلك لأنا لا نسلم انه لا يملك تصرفه على كل حال
75

لان الأوقات التي هي أوقات العبادات مستثنات من جملة ما يملك منه من الأوقات فسقط
الاعتراض واما الصبى الذي ليس بكامل العقل ولا مميز لما يجب عليه وان كان الاسم يتناوله
غير مراد لأنا نخصه من ذلك من حيث لا يحسن تكليف من ليس بكامل العقل ومن لا يمكن عن فعل
ما كلفه على الوجه الذي كلف فاما ما يتعلق بالأموال فهم داخلون تحت الاسم الذي يوجب
ذلك من الزكاة وقيم المتلقات وأروش الجنايات وغير ذلك لان قوله خذ من أموالهم صدقة
يدخل تحته البالغ والطفل فينبغي ان يجب ذلك وعلى هذا يجرى الباب واما المرأة فان كان الخطاب
يختص النساء فلا خلاف انها داخلة تحت الخطاب وان كان الخطاب يتناول اسم الجنس مثل
قوله ولله على الناس فكمثله وان كان الخطاب يختص الذكور فمن الناس من قال ان النساء لا يدخلن
فيه الا بدليل وهو الظاهر من مذهب الشافعي وعليه كثير من الفقهاء وذهب الباقون إلى انها يدخل
مع الرجال لان الرجال والنساء إذا جمعوا في الخطاب غلب حكم التذكير وهو الظاهر على مذهب أهل اللغة
فينبغي ان يعتمد عليه وهذه جملة كافية في هذا الباب فصل في ان الامر بالشئ هل هو نهى عن ضده
أم لا ذهب أهل العدل من المتكلمين وكثير من الفقهاء إلى ان الامر بالشئ ليس ينهى عن ضده وذهب
المجبرة وباقي الفقهاء إلى ان الامر بالشئ نهى عن ضده ثم اختلفوا فمنهم من قال انه نهى عن ضده لفظا
ومنهم من قال انه نهى عن ضده معنى والذي اذهب إليه ان الامر بالشئ ليس بنهي عن ضده لفظا واما من
جهة المعنى فعلى المذهب الذي اخترناه وهو ان الامر يقتضى الايجاب وإذا كان صادرا من حكيم دل على وجوب
ذلك الشئ يقتضى ان يكون تركه قبيحا وسواء كان له ترك واحد أم تروك كثيرة في انه يجب كلها قبيحة
إذا كان الامر مضيقا وان كان الامر مخيرا فيه بينه وبين ضد له اخر دل على ان ما عدا ذلك قبيح
من تروكه وان لم يكن له الا ترك واحد فيجب القطع على انه قبيح إذا لم يدل على انه واجب مثله مخير
فيهما الا ان مع هذا التفصيل أيضا لا يجوز ان يسمى نهيا عن ضده لان النهى من صفات الأقوال دون
المعاني وليس كل ما علم قبحه سمى منهيا عنه الا على ضرب من المجاز والذي على صحة ما اخترناه ان
أهل اللغة فرقوا بين صيغة الامر وصيغة النهى فقالوا صيغة الامر لمن دونه افعل والنهى قوله لا تفعل
وهما يدركان بحاسة السمع وليس يسمع من قوله افعل لا تفعل فينبغي ان لا يكون نهيا من حيث
اللفظ لأنه لو كان كذلك لوجب ان يسمعا معا كما يسمع لو جمع بين اللفظين وقد علمنا خلاف ذلك
76

فاما اقتضاء للنهي من جهة المعنى فقد بينا ما عندنا في ذلك وفيه كافية وذلك ينبئ على ان الامر
يقتضى الايجاب وقد ذللنا عليه فيما مضى ونبين أيضا صحة ما قلنا ان الامر بالشئ لو كان نهيا عن ضده
لجاز لقايل ان يقول ان العلم بالشئ جهل بضده وذلك جهالة ولا يلزمنا مثل ذلك فيما اخترناه
من دلالته على قبيح تركه لأنه لا يمتنع ان يدل الشئ على حسن امر وقبح شئ اخر من وجهين وليس
ذلك بمتضاد ويستحيل ان يكون العلم جهلا لان الصفتين متضادتان فبان الفرق فاما شبهة
من خالف في ذلك فهو ان قال ان الامر يقتضى إرادة المأمور به وإرادة الشئ كراهة ضده والحكمة
تقتضي الا يريد الشئ الا ويكره ضده فان ذلك يسقط بما قلناه من ان الامر لا يدل على إرادة المأمور
به ولو دل لم يكن إرادة الشئ كراهة ضده لان إرادة النوافل حاصلة وليست بكراهة لضدها
ومتى بنى على ان الامر يقتضى الايجاب وإذا كان صادرا من حكيم دل على وجوبه وان ما عداه قبيح إذا
لم يدل على انه واجب مخير فيه مثله فهو هو المعتمد عليه على ما بيناه فصل في ان الامر بالشئ
يقتضى الفعل مرة أو يقتضى التكرار ذهب أكثر المتكلمين والفقهاء إلى ان الامر بالشئ لا يقتضى
بظاهره أكثر من فعل مرة ويحتاج في زيادته إلى دليل اخر وهو المحكى عن أبى الحسن والظاهر من قول
الشافعي وقال قوم شذاذ ان الامر بظاهره يقتضى التكرار وذهب قوم إلى الواقف في ذلك
وقالوا نقطع على المرة الواحدة مراد وما زاد عليه فمشكوك فيه متوقف فيه فالذي اختاره
المذهب الأول والذي يدل على ذلك ان الامر في الشاهد على وتيرة واحدة إذا سبرناه يقتضى الفعل
مرة واحدة ولا يفهم من ظاهره الا ذلك الا ترى ان من قال لغلامه اسقني ماء لا يعقل منه أكثر
من مرة واحدة حتى انه لو كرر عليه الماء دفعه ثانية لعدوه سفيها وليس لاحد ان يقول ان ذلك
عقل بشاهد الحال وبقرينة اقترنت إلى الامر دلت على المرة الواحدة وذلك ان ما ذكرناه يعقله
من لا يعرف القرينة أصلا ولا يخطر بباله ثم القرينة تحتاج ان تكون معقولة وليس هناك قرينة
تدل على ذلك فان قالوا القرينة انه يعلم استكفاؤه بشربة واحدة وما زاد عليها لا يحتاج إليه
لان هذا لا طريق له إلى العلم به لأنه قد لا يكتفى بشربة واحدة ويحتاج في زيادتها إلى تجديد الامر
فلو كان ذلك معقولا بالامر الأول لما احتاج إليه وإذا ثبت ذلك في الأوامر في الشاهد وجب
ان يكون حكم أوامر الله تعالى ذلك الحكم ويدل على ذلك أيضا ان الامر لو اقتضى استغراق الأوقات
77

لا اقتضى استغراق الأحوال والأماكن فلولا كان يجب عليه في سائر الأوقات لوجب فعله على
ساير الأحوال وفى ساير الأماكن وذلك لا يقوله أحد وانما قلنا ذلك لان الأوقات ظروف الزمان
فكما ان الفعل لابد له من ذلك فكذلك لابد له من ظروف المكان والأحوال ويدل على ذلك أيضا ما لا
خلاف فيه بين الفقهاء من ان الرجل إذا امر وكيله بطلاق زوجته لم يكن ان يطلقها أكثر من واحدة
فلو كان الامر يقتضى التكرار لجاز له أكثر من مرة وذلك خلاف الاجماع ويدل على ذلك أيضا ان الامر
بالشئ امر باحداثه فجرى في ذلك مجرى الخبر عن احداثه فكما ان الخبر عن احداثه لا يقتضى أكثر من مرة
واحدة فكذلك الامر ويدل على ذلك أيضا ما روى عن النبي ص انه لما قال له سراقة بن مالك بن جعتم
المذحجي في الحج ألعامنا هذا يا رسول الله أم للأبد فقال (ع) بل لعامنا هذا ولو قلت نعم لوجب فبين (ع)
ان ما يقتضى الامر لذلك العام وما زاد على ذلك انما يثبت بقوله نعم لو قاله ولو كان الامر يقتضى
التكرار لما احتياج إلى ذلك فان قيل إذا كان الامر يقتضى الفعل مرة واحدة فلم استفهمه سراقة
وهلا قطع بظاهره على انه لذلك العام ولا يحتاج إلى الاستفهام قيل له انما استفهم عن ذلك
لأنه جوز ان يكون ذلك للأبد بدليل غير ظ الامر كما وجد مثل ذلك في أوامر كثيرة مثل الصلاة
والزكاة وغيرهما من افعال الشرع فلأجل ذلك حسن استفهامه وتعلق من خالف في ذلك شيئا
منها انهم حملوه على النهى وقالوا ان النهى لما اقتضى التكرار فكذلك يجب في الامر لأنه ضده والجواب عن
ذلك انا نقول في النهى مثل ما نقوله في الامر وان الذي تقتضيه ظ ان لا يفعل دفعة واحدة
وما زاد على ذلك يحتاج إلى دليل اخر ومن الناس من فرق بينهما في الاستعمال فرق بين الموضعين
لان النهى يعقل منه في الشاهد التكرار الا ترى ان من قال لغلامه لا تفعل كذا وكذا يعقل منه
الامتناع على كل حال وليس كذلك الامر على ما بيناه وقالوا أيضا ان النهى لما كان يقتضى الكف والكف
عن المنهى عنه لا ضيق فيه ولا حرج فاقتضى لذلك الدوام وليس كذلك الامر لأنه لو اقتضى الدوام للحق
في ذلك المشقة والضيق وقالوا أيضا ان من انتهى عن الفعل في الأزمان كلها يق فيه انه انتهى عما نهى
عنه وإذا امر بالشئ فعله ثم فعل مرة أخرى لا يق انه فعل وما امر به والمعتمد به هو الأول وبعد
الفرق الثاني وهو الرجوع إلى الشاهد وتعلقوا أيضا بان قالوا انه إذا اطلق الامر فليس يقتضى
الفعل في وقت بأولى من ان يقتضى في وقت آخر فيجب ان يحمل على الأوقات كلها والجواب عن ذلك
78

انا نقول انه يجب عليه ان يفعله في الثاني على ما نذهب إليه في الفور فسقط السؤال
ومن قال بالتراخي يقول هو مخير في الأوقات كلها ومن قال بالوقف قال ينتظر بيان وقت الفعل
وليس لاستغراق الأوقات فيه ذكر فيدعى فيه العموم وتعلقوا أيضا بان قالوا لو لم يقتض التكرار
لما أصح النسخ لان معنى النسخ هو إزالة مثل الحكم الثابت بالنص الأول في الثاني بنص اخر على وجه
لولاه لكان ثابتا به مع تأخره عنه ولو كان الامر يقتضى الفعل مرة واحدة لما صح ذلك على حال
والجواب عن ذلك ان النسخ انما يصح إذا دل دليل غير الظاهر على انه أريد به التكرار فاما إذا تجرد عن
ذلك فلا يصح فيه النسخ على حال وتعلقوا أيضا بان قالوا وجدنا أوامر القران كلها على التكرار فوجب
أن يكون ذلك بمقتضى الامر والجواب عن ذلك انا لا نم ان أوامر القران كلها على التكرار لان فيها
ما يقتضى الفعل مرة واحدة وهو الامر بالحج على ما بيناه فاما ما يقتضى منها التكرار فبدليل غير الظاهر
وهو الاجماع فمن أين لهم ان ذلك بمقتضى الامر فهذه الجملة التي ذكرناها تأتى على جميع ما يتعلق
بهذا الباب فصل في ان الامر المعلق بصفة أو شرط هل يتكرر بتكررهما أم لا ذهب أكثر
الفقهاء والمتكلمين إلى انه لا يتكرر بتكرر الشرط والصفة وانه يقتضى الفعل مرة واحدة
متعلقة عنه الشرط والصفة ومنهم من قال ان ذلك يوجب التكرار والذي اذهب إليه هو
الأول الذي يدل على ذلك ان القايل إذا قال لغلامه إذا دخلت السوق اشتر الفاكهة لو يعقل شراء
الفاكهة كلما دخل السوق وانما يعقل ذلك مرة واحدة حتى انه لو فعل دفعة أخرى لا استحق
التوبيخ والذم ويدل أيضا على ذلك انه إذا ثبت ان الامر المطلق يقتضى الفعل مرة واحدة فتعليقه
بشرط أو صفة انما يقتضى ايقاع ذلك الفعل عند حصول الشرط أو الصفة وتخصيصه بهما ولو اقتضى
ذلك التكرار لاقتضى مطلق الامر وقد دللنا على خلاف ذلك ويدل أيضا على ذلك ان القايل إذا
قال لوكيله طلقها إذا دخلت الدار فلا خلاف ان ذلك لا يقتضى جواز طلاقها كلما دخلت الدار
وانما يقتضى جواز ايقاع الطلاق عند دخولها الدار أولا وإذا ثبت ذلك فأوامر الله تعالى ينبغي
أن يكون هذا حكمها لان حقيقة الامر لا يتغير وقد تعلق من خالف في ذلك بأشياء منها
ان قالوا ان الحكم المعلق بالصفة أو الشرط يجرى مجرى تعليله بالعلة فكما ان الامر بالمعلق
بالعلة يقتضى التكرار عند تكرير لعلة فكذلك القول في الشرط والصفة والجواب عن ذلك
79

ان هذا السؤال ساقط عنا لأنا لا نقول بالقياس والعلل ومن قال بذلك يقول ان العلة دالة
على الحكم فلذلك يتكرر الحكم بتكررها لأنها لا يجوز حصول الدليل مع ارتفاع المدلول لان ذلك
يكون نقصا لكونها دلاله والصفة والشرط شرط ولا يجب أن يكون مثل الشرط شرطا في كل
موضع كما لا يجب أن يكون دخول الدار شرطا في جواز الطلاق كلما دخلت الدار وتعلقوا
أيضا بان قالوا لو لم يتكرر بتكرر الشرط والصفة لكان إذا لم يفعل مع الشرط الأول وفعل
مع الشرط الثاني عد قاضيا لا مؤذيا فلما كان ذلك باطلا علم انه مراد والجواب عن ذلك
ان ذلك قضاء في الحقيقة فان منع من اطلاق هذه العبارة عليه في بعض المواضع فلا اعتبار
بذلك لان المعول على المعاني دون العبارات وتعلقوا أيضا بان قالوا لما كان النهى المعلق
بصفة يقتضى تكرره عند تكرر الصفة فكذلك القول في الامر والجواب عن ذلك ان قولنا
في الامر في انه لا يقتضى ذلك بظاهره فسقط الاحتجاج بذلك وتعلقوا أيضا بأن قالوا وجدنا
أوامر القران المتعلقة بالصفات والشروط يقتضى التكرار نحو قوله أقم الصلاة لدلوك الشمس
إلى غسق الليل ونحو قوله وان كنتم جنبا فاطهروا وإذا أقمتم الصلاة فاغسلوا وقوله تعالى الزانية و
الزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة وغير ذلك والجواب عن ذلك ان جميع ذلك عقل
بغير الظاهر وبدليل دل على ذلك من الاجماع وغيره ومن الناس من فرق بين بعض ذلك
وبنى الامر المعلق بالشرط فقال في قوله وان كنتم جنبا فاطهروا وقوله الزانية والزاني
ان ذلك تعليل لا تعليق بصفة وكأنه قال وان كنتم جنبا فاطهروا لأنكم جنب لما علم انه لا يمكن
أداء الصلاة مع الجنابة وكذلك فاجلدوا الزاني والزانية لأنهما زنيا فصار ذلك تعليلا
لا شرطا وإذا كان كذلك جاز حمله على التكرار ولم يسع ذلك في الامر المعلق بالصفة والشرط
على ما بيناه فصل في الامر المعلق بوقت متى لم يفعل المأمور به فيه هل يحتاج إلى دليل في
ايقاعه في الثاني أم لا ذهب أكثر الفقهاء والمتكلمين إلى ان الامر المعلق بوقت إذا لم يفعل
المأمور به فيه احتياج إلى دليل اخر في وجوب فعله في وقت اخر وكذلك قال في الامر المطلق من ذهب
إلى انه على الفور قالوا متى لم يفعل في الثاني احتاج إلى دليل اخر في ايقاعه في الثالث والرابع
وفي الناس من ذهب إلى انه متى لم يفعل في الثاني أو ذلك الوقت يجب عليه فعله في الثالث
80

أو الوقت الاخر فكأنهم قالوا يقتضى الفعل في الثاني فان لم يفعل اقتضاه في الثالث ثم كذلك في الرابع
إلى ان يحصل المأمور به والذي اذهب إليه ما ذكرته أولا والذي يدل على ذلك هو ان الامر
إذا كان معلقا بوقت دل على ان ايقاعه في ذلك الوقت مصلحة فمتى لم يفعل في ذلك الوقت
فمن اين يعلم انه مصلحة في وقت اخر ويحتاج في العلم بذلك إلى دليل اخر وعلى هذا قلنا ان القضاء
فرض ثان يحتاج إلى دليل اخر غير الذي دل على وجوب المقضى وليس لاحد ان يقول ان الامر يدل على
وجوب المأمور به وانه مصلحة وليس للأوقات تأثير في ذلك فينبغي أن يكون ايقاعه مصلحة
أي وقت شاء وذلك انه لا يمتنع أن يكون للأوقات تأثير في كون الفعل مصلحة فيه حتى إذا فعل
في غيره كان مفسدة والذي يكشف عن ذلك ان صلاة الجمعة لا خلاف انها مصلحة وواجبة في
وقت معينة ومن لم يفعلها فإنها تسقط عنه لا يجوز له فعلها في وقت اخر وكذلك من قال لله علي
صوم يوم بعينه فإنه يلزمه صوم ذلك اليوم ولا يجوز له أن يصوم يوما اخر فعلم بذلك ان للأوقات
تأثيرا في كون الفعل مصلحة وسقط السؤال فاما تسمية قضاء فكلام في عبارة فربما اطلق عليه
ذلك وربما امتنع منه لضرب من الابهام وليس لهم أن يقولوا لو اقتضى ايقاع الفعل في ذلك الوقت
ولم تقض ايقاعه في وقت اخر لبطل النسخ وذلك انا قد بينا انه لا يصح النسخ إذا كان الفعل
مطلقا أو مقيدا بوقت الا أن يدل دليل اخر على ان ما بعده من الأوقات حكمة حكم ذلك الوقت
فبطل بذلك أيضا هذا السؤال فصل في ان الامر هل يقتضى كون المأمور به مجزيا ذهب
الفقهاء بأجمعهم وكثير من المتكلمين إلى ان الامر بالشئ يقتضى كونه مجزيا إذا فعل على الوجه الذي
تناوله الامر وقال كثير من المتكلمين انه لا يدل على ذلك ولا يمتنع أن لا يكون مجزيا ويحتاج إلى
القضاء والصحيح هو الأول والذي يدل على ذلك ان الامر بالشئ يدل على وجوب المأمور وكونه مصلحة
إذا فعل على الوجه الذي تناوله الامر فإذا فعل كذلك فلابد من حصول المصلحة به واستحقاق
الثواب عليه لأنه لو لم تكن مصلحة لم يحسن من الحكيم ايجابه ويبطل كونه مصلحة على ما تناوله
الامر وليس لهم ان يقولوا انه لا يمتنع أن يوقع الفعل على الوجه الذي تناوله الامر ويحصل مصلحة
ويستحق الثواب عليه الا انه يحتاج إلى ان يقضيه دفعة أخرى كما ان المفسد للحج يلزمه المضي فيه ومع
ذلك يلزمه قضائه وكذلك الظان لكونه متطهرا في اخر الوقت يلزمه الصلاة ثم إذا علم انه كان
81

غير متطهر يلزمه قضاؤه وذلك ان الذي ذكروه لا يدل على انه غير مجز وانما يدل على ان مثله مصلحة
في الثاني ونحن لا نمتنع من ذلك وجرى ذلك مجرى ان يؤمر بالفعل في وقتين فإنه متى فعل المأمور
فيهما فلا يقول أحد ان ما فعل في الثاني مجزوما فعل في الأول غير مخبر وكذلك ما يفعل بأمر اخر فاما تسمية
قضاء للأول فكلام في العبارة وقد بينا انه لا اعتبار به فاما المعنى المضي في الحج الفاسد ووجوب
الصلاة على الظان لكونه متطهرا في اخر الوقت فالذي يتناوله الامر في هذين اتمام الحج وأداء تلك
الصلاة من قضاء تلك الصلاة إذا تيقن انه كان محدثا وإعادة الحج فإنه علم ذلك بدليل اخر
وقد بينا انه لا اعتبار بتسمية قضاء يتعلق بذلك في هذا الباب فان قيل انما أردنا بكونه
غير مجز انه لا يعلم إذا فعل انه لا يلزمه مثله في المستقبل قيل له وانما أردنا بكونه مجزيا انه لا يعلم
انه يجب عليه مثله في المستقبل ويسقط حينئذ الخلاف ويدل أيضا على ما ذهبنا إليه انه ثبت ان
النهى يقتضى فساد المنتهى عنه على ما سندل عليه فينبغي أن يكون الامر يقتضى كونه مجزيا لأنه ضده
فصل في حكم الامر إذا تكرر بغير واو العطف أو بواو العطف ما لقول فيه اعلم ان الصحيح
ان الامر إذا تكرر بغير واو العطف تكرر المأمور به ووجب كوجوبه وهو مذهب أكثر المتكلمين
والفقهاء وقال قوم انه ينبغي أن يحمل الثاني على الأول وعلى انه تأكيد له والذي تدل على
صحة ما ذهبنا إليه ان كل واحد منهما لو انفرد لا اقتضى فعل المأمور به اما وجوبا أو ندبا
على الخلاف فيه فينبغي أن يكون ذلك حكمه إذا تكرر وليس ذكره بعد ذكر الأول مقتضيا لحمله
على التأكيد الا أن يدل دليل على انه تأكيد فيحمل عليه أو يكون الأول معرفا أو إشارة إلى
معهود والثاني مثله فيحمل على ذلك نحو ان يقول الله تعالى صلوا صلاة صلوا صلاة فإنه يجب أن
يحمل اللفظة الثانية على صلاة غير الصلاة الأولى واما ما يكون فنحو ما روى عن ابن عباس في
قوله فان مع العسر يسرا ان مع العسر يسرا فقال لن يغلب عسر واحد يسرين فحمل العسر على انه
واحد لما كانا معرفين واليسر على انه مختلفان لما كانا منكرين وقال قوم في تأويل هذه
الآية ان التعريف في العسر ليس بتعريف العهد وانما هو تعريف الجنس فكأنه قال مع جنس العسر
يسرا مع جنس العسر يسرا وعلى هذا يكون الثاني غير الأول والذي يدل أيضا على ما قلناه ان الخبرين
إذا تكررا اقتضيا مخبر مخبرين فوجب أن يكون حكم الامرين مثل ذلك لأنهما في المعنى واحد فاما
82

قول القائل لغيره اضرب اضرب فالظاهر من ذلك ان الثاني غير الأول الا أن يدل دليل على انه
أراد تأكيد الأول من شاهد الحال وغير ذلك فيحمل عليه واما إذا عطف أحدهما على الاخر نظر
فيه فان كان الثاني يقتضى ما يقتضيه الأول من غير زيادة ولا نقصان فالكلام فيه كالكلام
في الأول سواء لأنه لما فرق بين أن يفترق ذلك أو يقترن ويصير ذلك بمنزلة أمر واحد بفعلين
ولذلك قال الفقهاء في قول القائل لامرأته أنت طالق وطالق على انه أوقع الثنتين الا
أن يدل دليل على انه أراد تأكيد الأول فيحمل عليه وان كان الثاني يقتضى غير ما يقتضيه الأول
حمل على ظاهره ولا تنافى بينه وبين الأول وان كان الثاني يقتضى بعض ما تناوله الأول
فالظاهر من الاستعمال أن يحمل على انه أراد تأكيد الأول فيحمل عليه وان كان الثاني يقتضى غير ما يقتضيه
الأول حمل على ظاهر ولا تنافى بينه وبين الأول وان كان الثاني يقتضى بعض ما تناوله الأول
فالظاهر من الاستعمال أن يحمل على انه أريد بالثاني غير البعض الذي تناوله الأول لان من حق
المعطوف أن يتناول غير ما يتناوله المعطوف عليه ثم ينظر في ذلك فان كان إذا جعل هذا
البعض مرادا بالثاني كان هو بعينه يمتنع أن يكون مرادا بالأول أيضا فالواجب ان يحمل الأول
على ما عداه وان كان لا يمتنع ان يراد بالأول ما يقتضيه أيضا حمل الأول على جميعه والثاني على البعض
الذي تناوله ولذلك قلنا ان قوله حافظوا على الصلاة والصلاة الوسطى يقتضى ظاهره ان المراد بالصلوات
غير الوسطى ليصح عطف ما عطف به عليه اللهم الا أن يدل دليل على ان الثاني ذكر تأكيدا
أو تعظيما أو تفخيما فان كان ذلك حمل عليه كما قيل في قوله من كان عدوا لله وملائكته ورسله
وجبريل وميكال ان المراد بذكر جبريل وميكال تعظيم لهما وتفخيم وكذلك قال أكثر أهل العلم
في قوله تعالى فيهما فاكهة ونخل ورمان وقال قوم انه لم يقصد بلفظ الملائكة جبريل وميكال
ولا بلفظ الفاكهة النخل والرمان فلأجل ذلك حسن عطف ذلك عليه وذلك موقوف على
الدليل فاما إذا كان الثاني أعم من الأول فالقول فيه كالقول إذا كان الأول أعم سواء
الا فيما ذكرنا أخيرا من حمله على التعظيم والتفخيم لان ذلك لا يمكن فيه واما إذا ورد الامر بأشياء
ثم ورد الامر ببعضها فان ذلك قد يكون نسخا وقد لا يكون كذلك ونحن نبين ذلك في الناسخ
والمنسوخ ان شاء الله فصل في ذكر الامر بأشياء على جهة التخيير كيف القول فيه ذهب
83

كثير من المتكلمين إلى ان الكفارات الثلث كلها واجبة مخير فيها وهو المحكى عن أبي علي وأبي هاشم
واليه ذهب أصحابها وقال أكثر الفقهاء ان الواجب منها واحد لا بعينه وذهب إليه جماعة من
المتكلمين وحكى أبو عبد الله عن أبي الحسن القولين والذي اختاره شيخنا أبو عبد الله ان الواجب
واحد لا بعينه على ما يذهب إليه الفقهاء وذهب سيدنا المرتضى إلى ان كفارته الثلث لها صفة
الوجوب على وجه التخيير والذي اذهب إليه ان الثلاثة لها صفة الوجوب الا أنه يجب على المكلف
اختيار أحدها وهذه المسألة إذا كشف عن معناها ربما زال الخلاف فيها واعلم ان المعنى
بقولنا ان الثلاثة لها صفة الوجوب ان الله تعالى قد علم ان كل واحد منها يقوم مقام صاحبه في
كونه مصلحة ولطفا للمكلف فاعلمنا ذلك وخيرنا بين فعلها فالمخالف في ذلك لا يخلو
اما ان يوافق على ذلك ويقول مع هذا ان الواجب واحد لا بعينه فذلك يكون خلافا في عبارة
لا اعتبار به وان قال ان الذي هو لطف ومصلحة واحد من الثلاثة والثنتان ليس لها
صفة الوجوب فذلك يكون خلافا في المعنى والذي يدل على فساد هذا القول انه لو كان
الواحد منها لها صفة الوجوب والباقي ليس له ذلك لوجب أن يدل الله على ذلك ويعينه لأنه
لا طريق للمكلف إلى معرفة ماله صفة الوجوب ويميزه مما ليس له ذلك ومتى لم يفعل ذلك
والامر على ما قلناه يكون قد كلفه ما لا دليل عليه وذلك لا يجوز ولذلك قلنا انه لا يجوز
أن يكلف الله تعالى اختيار الرسل والشرايع ولا ينصب على ذلك دليلا لان ذلك قبيح وليس
لاحد أن يقول انه يتميز له باختياره لان بعد اختياره قد سقط عنه التكلف وينبغي أن
يتميز له في حال ما وجب عليه حتى يصح منه الاقدام عليه ويميزه له من غيره وذلك يكون قبل
اختياره ولا يلزم على ذلك تعين البيع عند اختيار العقد لان ذلك في الأصل تابع لاختياره
دون كونه مصلحة فكان ما يتبع ذلك مثله ويدل على ذلك أيضا انه لو كان الواحد من ذلك
له صفة الوجوب والباقي ليس له ذلك لكان ينبغي أن لو فرضنا ان المكلف اختار غيره انه لا يجزيه
وفي ذلك خروج عن الاجماع لأنه لا خلاف بين المسلمين انه لو اختار أي الثلاثة كان أجزئه وفي
ذلك بطلان هذا المذهب وأيضا فلو كان الواجب واحدا لا بعينه لما جاز من الحكيم ان يخير المكلف
بينه وبين ما ليس له صفة الوجوب كما لا يحسن ان يخيره بين الواجب والمباح وليس علمه بأنه
84

لا يختار الا ما هو الواجب بمحسن لذلك لأنه لو كان محسناته يحسنه إذا خيره بينه وبين المباح
إذا علم انه لا يختار الا الواجب وقد اتفقنا على خلاف ذلك فاما من نصر ما قلناه وقال معنى
ان الله تعالى أراد كل واحد منها وكره ترك كل واحد منها مع ترك الاخر ولم يكره تركه مع فعل الاخر فلا
يمكننا الاعتماد عليه لأنا قد بينا ان الامر لا يقتضى الايجاب لا انه أراد الامر المأمور به وكره
تركه وبينا ما عندنا في ذلك مع ان هذا المذهب يكاد لا يتصور ولا يتحقق لأنه لا يخلو الا يكره
ترك واحد منها ولا يكره ترك الباقي فان أرادوا ذلك فذلك قول من قال ان الواجب واحد
لا بعينه وان قالوا انه كره تركه وترك الاخر فقد جمعهما للكراهة فينبغي أن يكونا جميعا واجبين
على الجمع وذلك لا يقوله أحد وقولهم ولم يكره ترك واحد مع فعل الاخر يكاد يستحيل لأنه إذا كرهه
مع ترك الاخر فقد حصلت الكراهة له وتعلقت به لنفسها فكيف لا تكون حاصلة إذا قدرنا
فعل الاخر وتعلق من خالف في ذلك بان قال لو فرضنا انه فعل الثلث لكان الواجب منها
واحدا فكذلك قبل الفعل وقالوا أيضا لو لم يفعل الثلاثة لا يستحق العقاب على واحدة منها فعلم
بذلك ان الواجب هو الواحد والجواب عن ذلك ان هذا يسقط بما حررناه لأنه إذا فعل الثلاثة
فالذي كان واجبا عليه واحد وان كان الباقي له صفة الوجوب لأنه كان مخيرا فيها فلأجل ذلك
استحق ثواب الواحد على جهة الوجوب والثنتان فعلهما تبرعا ولا يمتنع أن يكون الشئ له صفة
الوجوب إذا فعل مفردا فإذا فعل مع غيره كان الواحد فيها لا يتغير وجه كونه واجبا والثاني يصير
ندبا فلأجل ذلك يستحق عليه ثواب الندب وكذلك إذا لم يفعل الثلث فإنما يستحق العقاب على واحد
لان واحدا منها كان واجبا عليه دون الثلاثة فان قيل فأيها يستحق عليه الثواب إذا جمعت وأيها
يستحق عليه العقاب إذا لم يفعل شئ منها قيل له لا يلزمنا بيان ذلك بل ما يعلمه الله تعالى من انه لا يتغير
كونه واجبا إذا فعله مع غيره يثبت عليه ثواب الواجب واستحق العقاب بترك ذلك بعينه في والناس
من قال انه يستحق الثواب على الأشق ثواب الواجب والعقاب على الأخف والأول عندي هو المعتمد
فصل في ان الامر هل يقتضى الفور أو التراخي ذهب كثير من المتكلمين والفقهاء إلى ان الامر
يقتضى الفور وهو المحكى عن أبي الحسن الكرخي وذهب كثير منهم إلى انه على التراخي وهو المحكى عن أبي
علي وأبي هاشم وذهب قوم إلى أنه على الوقف وقال يحتمل أن يكون مقتضاه الفور والتراخي ويحتاج
85

إلى دليل واختلفوا فمن أجاز منهم تأخير البيان عن حال الخطاب في المجمل قال متى لم يدل دليل في حال
الخطاب على انه أراد الفعل في الثاني قطعت على انه غير مراد فيه وتوقف في الثالث والرابع
وما زاد عليه وكذلك إذا جاء الوقت الثاني ولم يبين له ان مراده في الثالث قطعت على انه
غير مراد فيه ثم على هذا التدريج هذا الذي اختاره سيدنا المرتضى ومن لم يجز تأخير بيان المجمل عن
حال الخطاب لم يجوز ذلك والذي اذهب إليه هو الأول والذي يدل على ذلك انه قد ثبت بما
دللنا عليه ان الامر يقتضى الايجاب فلو لم يقتضى الفعل في الثاني لم ينفصل مما ليس بواجب في هذه الحال
لان ما ليس بواجب هذا حكمه من انه يجوز تركه وهذا لا حق به وهذا يؤدى إلى نقض كونه موجبا
فان قالوا انه وان جاز تأخيره فلا يجوز ذلك الا إلى بدل وهو العزم وربما قالوا انه يجوز له أن
يؤخر بشرط أن يفعل في الثالث وكذلك فيما بعد قيل له على الوجه الأول اثبات العزم يحتاج إلى دليل
حتى يصح أن يكون مخيرا بينه وبين الفعل فلما إذا لم يثبت ذلك فكيف يجعل مخيرا بينه وبينه
ولا فرق بين من اثبته من غير دليل وبين من أثبت فعلا اخر وجعله مخيرا بينه وبينه (يحصل ح ن) فلما كان
هذا فاسدا بلا خلاف كان العزم مثله وليس لهم أن يقولوا نحن لا نثبت العزم الا بدليل وذلك انه
لما ثبت ان الفعل واجب وكانت الأوقات في أدائها متساوية أثبتنا العزم والا انتقض كونه
واجبا وذلك ان هذا انما يتم إذا ثبت لهم ان الأوقات متساوية في الأداء ودون ذلك خرط القتاد
وأيضا فلو كان مخيرا بينه وبين العزم لجاز له أن يقتصر عليه ولا يفعل الواجب لان هذا حكم سائر
الابدال وفي ذلك اغراء له بترك الواجب والا يفعل شيئا منه أصلا ويقتصر على العزم ابدا وفي
ذلك خروج عن الدين فاما من قال انه يجوز له تأخيره بشرط أن يفعل في الثالث فقوله يفسد
من وجهين أحدهما ان على هذا القول صار مخيرا في الوقت الثاني بين فعله وان لا يفعل وهذه
صفة الندب والثاني انه لا يعلم انه يفعل في الثالث حتى يصح منه تأخيره عن الثاني إليه وفي
بطلان الوجهين معا ثبوت ما قصدناه ومما يدل أيضا على ان الامر يقتضى الفوران الامر في الشاهد
يعقل منها الفور الا ترى ان من امر غلامه بفعل فلم يفعل استحق الذم ولو كان يقتضى التأخير
لجاز له أن لا يفعل ويعتل بذلك ويقول انا مخير بين الفعل وبين العزم عليه فلم أذم
وفي علمنا يبطلان هذا لاعتلال دليل على انه اقتضى الفور وليس لهم أن يدعوا قرينة دلت
86

على انه يقتضى الفور لأجلها ذم وذلك ان القرينة المدعاة غيره معقولة فيحتاجون إلى ان يبينوها
وأيضا فإنه يذمه من لا يعرف القرينة أصلا فعلم انه انما يذمه لأنه عقل من مقتضى الامر الفور دون
التراخي ومما يدل أيضا على ان الفور انه لا يخرج من ان يكون المأمور يجوز له تأخير الفعل لا إلى غاية أو إلى
غاية فان جاز له تأخيره إبدالا إلى غاية ففي ذلك اخراج له من كونه واجبا وان كان يجوز له تأخره
إلى غاية كان ينبغي ان يكون تلك الغاية معلومة وكانت تكون مثل الأوامر الموقتة ومتى لم يفعل
ذلك كان مكلفا لايقاع الفعل في وقت لا طريق له إلى معرفته وذلك تكليف مدد بما لا يطاق
فان ذكروا انه يكون مخيرا بين الفعل والعزم لا إلى غاية كان الكلام عليهم ما تقدم من ان في ذلك
افساد التكليف وان يقتصر المكلف من فعل الواجبات على العزم فحسب فلا يفعل شيئا منها و
ذلك خلاف المعقول والدين جميعا فاما من قال هربا من ذلك انه يتعين الوقت عليه إذا
غلب في ظنه انه متى لم يفعل اخترم أو عجز عنه فإنه يقال له واي امارة توجب هذا الظن المدعى و
ذلك لا سبيل له إليه على انه إذا كان مخيرا بين الفعل والعزم فلو غلب في ظنه فوت الفعل لم
يغلب في ظنه فوت العزم فينبغي ان يجوز له الاقتصار عليه وفيمن وافقنا على هذا المذهب من استدل
على ذلك بقوله تعه وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وبقوله فاستبقوا الخيرات وذلك يضعف
الاحتجاج به لان الظاهر من الآية انه امر بالتوبة لأنها هي التي يحصل عندها الغفران وذلك
متفق عليه انه على الفور فاما الفعل الواجب الذي لم يتقدمه غيره من المعاصي حتى يغفر فكيف
يحمل عليه فان حمل على ان المراد بذلك استحقاق الثواب يصير الآية مجملة لأنه يستحق الثواب بالواجب
والندب وليس الندب واجبا أصلا ومنهم من استدل على ذلك بان قال ان الامر يقتضى ايقاع الفعل في
وقت من جهة الحكمة وان لم يكن مذكورا في اللفظ فأشبه ما يقتضيه العقود والايقاعات من الطلاق
والعتاق فكما ان ذلك كله على الفور وجب مثله في الامر وهذا لا يصح الاستدلال به من وجهين
أحدهما ان هذا قياس ونحن لا نقول بالقياس أصلا فكيف يمكننا ان نعتمد على ذلك ومن قال
بالقياس لا يمكنه أيضا ان يعتمد هذه الطريقة لان القياس يوجب غلبة الظن وهذه المسألة طريقها
العلم فلا يمكن الاعتماد فيها على القياس ولو جاز استعمال القياس في ذلك لكان هذا الاستدلال
قرينة اقترنت إلى ظاهر الامر والقوم لا يمتنعون من ذلك وانما الخلاف في الأوامر المطلقة الخالية
87

من القرآن فعلم ان المعتمد ما قدمناه وإذا ثبت ان الامر على الفور فمتى لم يفعله في الثاني احتاج
إلى دليل اخر في وجوبه عليه في الثالث على ما بيناه فيما تقدم وفى ذلك بطلان مذهب من قال ان
بالامر الأول يلزمه الفعل في الثالث والرابع إلى ان يحصل الفعل واستدل من قال ان الامر يقتضى
التراخي بان قال ان الامر انما يقتضى كون الفعل واجبا وليس للأوقات ذكر في اللفظ وليس بعضها
بان يوجب ايقاعه فيه بأولى من بعض فينبغي ان يكون مخيرا فيه لأنه لو أراد ايقاعه في بعضها لبينه
فمتى لم يبينه دل على انه مخير في ذلك كله والجواب عن ذلك ان يقال ان الأوقات وان لم تكن مذكورة
في اللفظ فوقت الفعل هو الثاني وهو معلوم بالأدلة التي ذكرناها فيجب المصير إلى مقتضاها
وقولهم انه لو أراد ايقاع الفعل في الثاني لبينه فعندنا انه بينه بالأدلة التي قدمناها ثم لأصحاب
الوقف ان يقولوا ولو أراد التراخي لبينه فيجب ان يتوقف في ذلك وينتظر البيان ومتى اعتمد ذلك
أصحاب الوقف كان الكلام عليهم ما تقدم من ان الدليل قد دل على انه يقتضى الفعل في الثاني وان
اعتمدوا على انهم وجدوا الامر مستعملة في الفور والتراخي فقد بينا ان نفس الاستعمال لا يدل على
ان ما استعملوه حقيقة وذلك مجاز عندنا إذا استعمل على ما قالوه وهذا جملة كافية في هذا الباب
فصل في الامر الوقت ما حكمه لا يجوز ان يرد الامر من الحكيم بعبارة معلقة بوقت يقصر الوقت
عن أدائها فيه فان لم يقصر عن ذلك نظر فيه فان كان مما يستغرق أداء العبارة فيه وجب أدائه
فيه بلا خلاف وذلك نحو الصوم المعلق بالنهار فإنه يجب أداؤه في جميعه وان كانت العبادة يمكن
أدائها في بعضه فاختلف العلماء في ذلك فمنهم من قال الوجوب متعلق بأول الوقت ومنهم من قال
يجب أداؤه في اخره ومنهم من جعله مخيرا بين أدائه في أوله واخره وفيما بين ذلك فان اخره إلى
آخره تضيق عليه الأداء فيه ثم اختلفوا فقال قوم منهم يجب عليه الفعل في أوله فمتى لم يفعل وجب
عليه العزم على فعله في اخره ومنهم من قال هو مخير في الأوقات كلها ولا يجب عليه العزم ومن العلماء
من وقف في ذلك وانتظر البيان وقال كل ذلك جايز والذي يقوى في نفسي انه إذا وردت العبادة
معلقة بوقت له أول واخر من جهة اللفظ فإنه يكون مخيرا بين أدائها في أوله واخره فان لم يفصل
في أوله وجب عليه العزم على أدائه في اخره ثم يتضيق في اخر الوقت وذلك نحو ان يقول الله تعالى
تصدق اليوم بدرهم أو صم في هذا الشهر يوما فإنه يكون مخيرا بين ان يتصدق في أول النهار
88

أو وسطه أو اخره وكذلك يكون مخيرا بين ان يصوم في أول الشهر أو وسطه أو اخره الا ان يقوم دليل
على انه واجب في أوله فيخرج عن هذا الباب والذي يدل على ذلك ان الوقت الثاني مثل الوقت الأول
في تناول الامر له بأداء العبارة فيه فليس لنا ان نجعل أحدهما هو الواجب فيه دون الاخر فينبغي
ان يكون مخيرا في الأوقات كلها وليس لهم ان يقولوا ان هذا يرجع عليكم في اخر الوقت فإنكم
جعلتموه مضيقا فان ذلك لابد فيه في اخر الوقت لأنه ان لم نقبل ذلك أدى إلى فوات
العبادة وليس كذلك الوقت الأول لأنه إذا لم يفعل فيه فالوقت الثاني وقت له وليس
لاحد ان يقول ان هذا ينتقض بما ذكرتموه في الباب الأول من ان الامر يقتضى الفور وانه
يجب المأمور عقيبه وذلك انا انما قلنا ذلك في الأوامر المطلقة التي لها وقت واحد
فحملناه على الفور وحمل مخالفونا على التراخي لما لم يكن في اللفظ تعيين الوقت وليس كذلك
في الامر الموقت لأنه قد عين فيه الوقت وذكر أوله واخره فقلنا انه مخير فيهما فان قيل فكيف
أوجبتم العزم بدلا منه في الوقت الأول ولم يذكر العزم في اللفظ وهلا لزمكم ما التزمتموه
من خالفكم في الامر المطلق وانه يقتضى التراخي وأوجب العزم بدلا منه في كل الأوقات قيل له
إذا ثبت ان الامر يتناول الوقت الثاني كتناوله الوقت الأول وهو يقتضى الوجوب
فمتى لم يثبت العزم بدلا منه في الأول أدى ذلك إلى خروجه عن كونه واجبا فلأجل ذلك
أوجباه وليس كذلك في الامر المطلق لأنه لم يثبت للخصم انه يجب في الأوقات ولا ان الامر
تناول الأوقات على جهة البدل فيثبت العزم بدلا منه في الأول بل كان الوقت الذي يلزمه
أداء الفعل فيه هو الثاني لم يجز ان يثبت العزم بدلا منه واحتاج المخالف في اثبات
ذلك إلى دليل فاما من قال انه يجب (يجوز خ ل) تأخيره فمتى فعل في الأول كان نفلا فذلك نقض لاقتضاء
الامر الايجاب وانتقال إلى مذهب من يقول انه يقتضى الندب وذلك خلاف الصحيح على ما
دللنا عليه قال لو كان واجبا في أوله لكان متى لم يفعله فيه استحق الذم لان بذلك
تتميز الواجب من النفل فلما لم يستحق الذم بالا يفعل في الأول علمنا انه نفل فيه قيل له
انما يجب ان نقول بسقوط الذم عمن لم يفعل فعلا بعينه على انه ندب إذا لم يكن هناك
امر بسند ذلك إليه الا كونه نفلا فاما إذا كان هناك امر يسند إليه ذلك فلا يصح
89

الا ترى انه إذا فرضنا ان هناك ما يقوم مقام ويسد مسده من الواجب فمتى لم يفعله وفعل ذلك
الامر لم يستحق الذم وانما يتم ذلك في الامر المضيق اما بفعل واحد أو وقت واحد فمتى لم يفعله بعينه
أو في ذلك الوقت استحق الذم وقد بينا ان هذه المسألة بخلاف ذلك وان هناك عزما يقوم
مقامه فان عادوا إلى ان يقولوا العزم ليس عليه دليل كرر عليهم الكلام الأول وهو انه إذا تناول
الامر الوقت الثاني كتناوله للوقت الأول فلابد متى لم يفعل في الأول من عزم والا خرج من كونه
واجبا إلى ان يكون نفلا وقد ثبت انه واجب فان قالوا إذا جاز لكم ان تعدلوا من ذلك إلى
فعل العزم جاز لنا ان نعدل إلى انه نفل والا فما الفرق قيل له حمله على كونه نفلا نقض
لكونه واجبا وليس ايجاب العزم نقض لكونه واجبا على ما بيناه فكان ذلك فرق بين الموضعين
فان قيل فعلى هذا المذهب ما قولكم في صلاة الظهر التي لها وقتان أول واخر وكذا سائر
الصلوات قيل له اختلف العلماء في ذلك وأصحابنا أيضا فمن الفقهاء من جعل الفرض
متعلقا باخره ومتى فعله في الأول كان نفلا وربما سماه موقوفا على ان يأتي عليه الوقت
الاخر وهو على الصفة التي يحب عليه معها فعل الصلاة ويخرج الوقت فيحكم له بالوجوب
ومع تسميته نفلا يكون قد أجزأت عن الواجب وهذا هو المحكى عن أبى الحسن الكرخي من أصحاب
أبى حنيفة وذهب باقي الفقهاء إلى انه مخير في الأوقات كلها ثم اختلفوا فمنهم من رجح الوقت
الأول بالفصل ومنهم من لم يرجح وسوى بين الأوقات وأصحابنا اختلفوا فكان شيخنا
أبو عبد الله يذهب إلى ان الوجوب يتعلق بأوله وانه متى لم يفعل استحق الذم والعقاب الا
انه متى تلافاه سقط عقابه وذهب سيدنا المرتضى إلى انه مخير في الأوقات كلها أولها واخرها
غير ان أدائها في الأول أفضل وإذا نصرنا المذهب الأول نقول انما قلنا ذلك لأنه لم يخير على
كل حال بين الصلاة في أول الوقت واخر الوقت وانما فرضه الوقت الأول فلا يصح ان يجعل
مخيرا بينه وبين ما لم يجعل له ويجرى ذلك مجرى الامر المضيق المعين بوقت متضيق وليس لهم
ان يقولوا ان ذلك ينقض ان يكون الصلاة لها وقتان وذلك انا نقول إذا نصرنا هذا
المذهب ان لها وقتين في الجملة بالإضافة إلى مكلفين فاما إذا أضفناها إلى كل واحد من المكلفين
فان لها وقتا واحدا فيكون الوقت الأول لمن لا عذر له ولا مانع يمنعه من فعل الصلاة فيه من
90

علة أو مرض أو شغل ديني أو دنياوي والوقت الثاني يكون وقت من (يكون خ ل) له بعض هذه الموانع فتكون
للصلاة وقتان بالإضافة إلى من وصفناه فان قالوا هذا خلاف الاجماع لامة كلها تقول ان كل
صلاة لها وقتان فلا يفصلون هذا التفصيل قيل له هذا اجماع مدعى لان من خالف في هذا
يخالف فيه ويرجع في ذلك إلى الروايات الصادرة عن أئمة الهدى عليهم السلام ومتى نصرنا المذهب
الاخر فالمعتمد فيه على ظاهر الامر وان النبي صلى الله عليه وآله بين لكل صلاة وقتين وقال ما بينهما وقت ولم
يفصل فينبغي ان يكون مخيرا فيها ويقوى ذلك باخبار كثيرة وردت عن الأئمة عليهم (أئمة الهدى خ ل) السلام متضمنة
لذلك يعارض تلك الاخبار والكلام في تعيين هذه المسألة كلام في فرع والذي ذكرناه
أولا كلام في الأصل فلا ينبغي ان يخلطهما جميعا ويمكن ان ينصر المذهب الأول في الصلاة
بان يقال الاحتياط يقتضى أدائها في الأول لأنه إذا تناول الامر ذلك والاخبار تقابلت
في جواز تأخيرها عن أول الوقت والمنع من ذلك فينبغي ان يتعارض ويرجع إلى ظاهر الامر في
وجوب الصلاة الأول في الوقت فان قيل لو كانت الصلاة واجبة في أول الوقت لكان
متى لم يفعل فيها استحق العقاب وأجمعت الأمة على انه لا يستحق العقاب ان لم يفعلها
في أول الوقت فان قلتم انه اسقط عقابه قيل لكم وهذا أيضا باطل لأنه يكون اغراء له
بالقبيح لأنه إذا علم انه متى لم يفعل الواجب في الأول مع انه يستحق العقاب عليه اسقط
عقابه كان ذلك اغراء قيل له ليس ذلك اغراء لأنه انما علم اسقاط عقابه إذا بقي إلى الثاني
وأداها وهو لا يعلم انه يبقى إلى الثاني حتى يؤديها فلا يكون مغرى بتركها وليس لهم
ان يقولوا فعلى هذا لو مات عقيب الوقت الأول ينبغي ان لا يقطع على انه غير مستحق العقاب
وذلك خلاف الاجماع ان قلتموه وذلك ان هذا الاجماع غير مسلم بل الذي نذهب إليه
ان من مات في الثاني مستحق العقاب وأمره إلى الله تعه ان شاء عفى عنه وان شاء عاقبه
فادعاء الاجماع في ذلك لا يصح فاما من خير بين الأوقات ولم يوجب العزم في الأول
بدلا منه فان ذلك ينقض كونه واجبا لان هذا حكم الندب فما أدى إلى مساواة
الواجب للندب ينبغي ان يحكم ببطلانه ومن قال انه نفل في الأول فقوله يبطل بما ثبت
من اقتضاء الامر الايجاب فمن خالف في ذلك كان الكلام في مسألة أخرى وقد مضى الكلام
91

فيها ويدل أيضا على بطلان هذا القول ان الصلاة في أول الوقت لو كانت نفلا لكان
متى نوى بها النفل لكانت تجزئ عن الفريضة لان النية المطابقة للصلاة أولى من
ان يجزئ معها الصلاة من النية المخالفة لها وقد اجمعوا على انه متى نوى بها النفل لم
يحسن فبطل بذلك كونها نفلا في الأول واما إذا قال انها موقوفة فكلامه غير محصل لان
الوجوه التي يقع عليه الافعال فتكون واجبة أو ندبا لا يتأخر عن حال الحدوث ولا يكون أمورا
منتظرة فان وقعت الصلاة في الوقت الأول على وجه الندب فينبغي ان يكون ندبا وان
خرج الوقت وقد اجمعوا على خلاف ذلك وان وقعت واجبة فان ذلك يبطل كونها
ندبا فاما ما يتفرع على هذه المسألة من وجوب القضاء على الحايض إذا طهرت في
اخر الوقت أو سقوطه عنها فكلام في الفرع وقد بينا الصحيح من ذلك في كتب المصنفة
في الفقه فمن أراد ذلك وقف عليه من هناك وهذه جملة كافية وافية في هذا الباب فصل
في ان الامر هل يدخل تحت امره أم لا اعلم ان الصحيح انه لا يجوز ان يدخل الامر تحت
امره ويفارق ذلك الخبر والذي يدل على ذلك ان الامر لا يكون امرا الا باعتبار المرتبة
فيه علما بيناه فيما تقدم وهى ان يكون الامر فوق المأمور وهذا لا يصح ان يدخل بين
الانسان وبين نفسه والخبر ليس كذلك فإنه يجوز ان يخبر الانسان عن نفسه ويجمع بينه
وبين غيره في تناول الخبر لهما لان الرتبة غير مراعاة في الخبر وليس لهم ان يقولوا ليس هذا
المثال مثالا للامر لأنكم قلتم لا يحسن ان يأمر الانسان نفسه ومثل هذا موجود في الخبر
لأنه لا يحسن أيضا ان يخبر نفسه فاما الاخبار عنها فليس بشبه لذلك وذلك انه انما لا
يحسن ان يخبر الانسان نفسه لأنه عبث لان الخبر انما وضع للإفادة فإذا كان عالما بما
يخبر به فاخباره نفسه بذلك لا فائدة فيه وكان عبثا وليس كذلك الامر لأنه انما قبح لفقد
الرتبة المراعاة في كونه امرا وكذلك القول إذا اخبر غيره بلفظ فلا يجوز ان يقصد باللفظ اخبار
نفسه لما قلناه من انه عبث وانما قلنا انه يصح ان يخبر عن نفسه ليعلم بذلك ان الرتبة
غير مراعاة في الخبر أصلا فإذا ثبت هذه الجملة فالنبي (ع) إذا امر غيره بفعل لا يدل ذلك
على انه مأمور به أيضا الا ان يدل دليل على ذلك فيحكم به لأجل الدليل ويفارق ذلك
92

افعاله (ع) لأنها بالعكس من أوامره لان افعاله تختصه ولا يعلم انها متعدية إلى غيره الا بدليل
وأوامره متعدية ولا يعلم تناولها له الا بدليل فاختلف الأمران فصل في ذكر الشروط
التي يحسن معها الامر اعلم انه لا يحسن الامر الا بعد ان يكون الامر على صفة والمأمور
على صفة والامر به على صفة فإذا اجتمع ذلك كله حسن الامر ومتى اختل شئ من ذلك لم يحسن ونحن
نبين جميع ذلك اما ما يجب ان يكون عليه الامر فان كان ممن يعلم العواقب وهو الله تعالى فلابد
من ان يكون عالما بان المأمور يتمكن من أداء ما امر به ويعلم ان المأمور به على وجه يحسن
الامر به ويعلم انه مما يستحق بفعله الثواب ويكون غرضه وصوله إلى الثواب واما
إذا كان الامر مما لا يعلم العواقب من الواحد منا فإنه يحسن منه الامر إذا ظن في المأمور
ما ذكرناه بان يشرط أداؤه ان قدر عليه لأنه إذا لم يعلم العواقب فان الظن يقوم
له مقام العلم ولو لم يحسن مع الظن لما حسن من الواحد منا ان يأمر غيره البتة لأنه
لا طريق له إلى العلم بأنه يقدر عليه أو لا يقدر عليه في المستقبل ولابد ان يعلم حسن
المأمور به ويقصد بذلك وجها حسنا ولا يقوم الظن في ذلك مقام العلم والشرط
لا يدخل في ذلك كما دخل في كونه قادرا ولاجل هذا لا يحسن منا ان نأمر غيرنا بفعل
في الغد الا بشرط ان يكون قادرا عليه في الغد ولا يجوز ان نأمره بفعل لا نعلم حسنه
في الحال فبان الفرق بين الامرين ولو ان قائلا سوى بين حسن الشرط في الامرين لم يكن
ذلك بعيدا لان الواحد منا يأمر غلامه بان يرد وديعة انسان عليه في الغد ولابد
من اشتراط كونه قادرا عليه في حال الرد ولابد من شرط كونه حسنا في ذلك الوقت أيضا لأنه
لو عرض في حال الرد وجه من وجوه القبح من غصب ظالم لها أو غير ذلك من وجوه الفساد
لم يحسن ردها في تلك الحال فاما القصد بذلك وجها من وجوه الحسن فلابد منه على
كل حال ومن الناس من جوز في القديم تعالى أيضا ان يأمر بشرط ان يبقى على كونه قادرا قبل
حال الفعل بوقت والا يمنعه منه والصحيح الأول لان الشرط انما يصح فيمن لا يعلم العواقب
فاما من يعلمها فلا محسن منه ذلك ومتى قيل انه يحسن ذلك الامر بذلك لطفا لغير ذلك
المكلف كان ذلك أيضا فاسدا باطلا لأنه لا يخرج من ان يكون المأمور نفسه ذلك الفعل مصلحة
93

له أولا يكون كذلك فان كان مصلحة له فيجب إقداره عليه والا يمنع منه وان لم يكن مصلحة له
فلا يحسن ان يوجب عليه ما هو لطف للغير فلأجل ذلك قلنا ان النبي صلى الله عليه وآله لابد ان يكون له
في تحمله أعباء الرسالة لطف ولولا ذلك لما وجب عليه الأداء فكذلك القول ههنا ولابد
ان يكون القديم تعالى عالما بان المكلف يفعل ما امر به ولا يعصيه فيه أو يكون في ذلك لطف
للغير ان علم انه يعصى على ما نقول له في قبح تكليف من علم الله انه يكفر إذا لم يكن فيه لطف
للغير ومن خالف في ذلك لم يشترط هذا الشرط وفى الناس من شرط في حسن امر الله تعالى ان
لا ينهى عنه في المستقبل ومنهم من لا يشترط ذلك ونحن نبين الصحيح في ذلك في باب الناسخ
والمنسوخ ان شاء الله تعالى واما الصفات التي يجب كون المأمور عليها نهى ان يكون
متمكنا من ايقاع الفعل على الوجه الذي امر به فان كفى في ذلك مجرد القدرة اقتصر على فعله فيه
قبل الفعل بحالة واحدة أو قبل ذلك بأحوال وان كان الفعل يحتاج إلى العلم فلابد من
حصوله في حال وقوع الفعل فان كان العلم من فعله ممن قبل ذلك من سببه بأوقات
يمكنه تحصيل العلم فيها في حال الفعل (العمل خ ل) وان كان يحتاج إلى نصب الأدلة نصبت له لينظر
فيها فيعلم ما كلف وان كان محتاجا إلى آلة مكن منها فان كانت محلا للفعل مثل اللوح
في الكتابة والسكين في القطع وغير ذلك أو ما يكون في حكم المحل مكن منها في حال الفعل
وان كانت الآلة مما يحتاج إلى تقدمها مكن منها قبل الفعل مثل القوس في الرمي وان كان
الفعل يحتاج إلى الآلة في حال الفعل وقبله مكن منها في الحالين على ما قلناه في السكين
في القطع وغير ذلك وان كان الفعل يحتاج في ايقاعه على وجه إلى الإرادة مكن فيها ولا يصح
منعه منها عند من قال بالإرادة وما يحتاج إلى النظر والسبب فلابد من تمكينه منهما ومن
شرائطه أيضا اللازمة الا يكون ملجأ إلى ما امر به هذه صفته لا يحسن الا ترى انه لا يحسن ان
يكلف الانسان ان لا يقتل نفسه لأنه ملجأ إلى ذلك وكلف الواقف بين يدي السبع لا
يحسن ان يكلف العدو فاما من قال لا يحسن ان يكلف الانسان قتل نفسه لأنه ملجأ إلى
ذلك فغلط لان الالجاء انما هو إلى ان يقتلها فاما إلى قتلها فليس بحاصل وعلى هذا
يحسن ان يكلف قتل نفسه ولهذا اخبر الله تعالى عن قوم فيما مضى انه كلفهم قتل نفوسهم بقوله
94

تعالى اقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم وكذلك يحسن ان يكلف من شاهد السبع الوقوف
لان الالجاء انما هو إلى الهرب لا إلى الوقوف واما الصفات التي يجب كون الامر عليها فان
يكون متقدما للوقت الذي كلف المأمور ان يقتل فيه لأنه متى لم يتقدم لم يفد الترغيب
في الفعل ولا يصح فيه (منه خ ل) ان يستدل به على وجوبه عليه فيجب تقدمه عليه من هذه الوجه
فاما قول من قال من المجبرة ان ما يتقدم يكون إعلاما ومن شرط الأمران يقارن الفعل
فغلط لأنه ان أرادوا بقولهم انه اعلام انه مما يصح ان يعلم به لزوم المأمور به في وقته
فهو خلاف في عبارة وان قالوا يعلم به ان الامر سجدت في وقته امرا اخر فليس في الامر
المتقدم دلالة عليه ذلك على ان هذا القول من قائله دفع لما يعلم ضرورة خلافه
لان الأوامر في الشاهد لا يكون قط الا متقدمة ومتى لم يكن كذلك لم يحسن فكذلك أوامر الله
تعالى الا ترى انه انما يحسن من الواحد منا ان يأمر غلامه ان يسقيه ماء قبل ان يسقيه
ويصح منه ان يسقيه فاما في حال ما سقاه فلا يحسن ذلك فمن ارتكب حسن ذلك
كان دافعا للضرورات واما تقدمه قبل وقت الفعل بأوقات فليس بواجب لكنه
يحسن إذا كان فيه معنى نحو ان يكون فيه صلاح لمن خوطب به بان يكلف أداؤه
إلى من امر به ممن يوجد في المستقبل نحو أوامر الله تعالى لنا في وقت النبي صلى الله عليه وآله بقوله أقيموا الصلاة
لأنه لا خلاف بين الأمة انه امر لسائر المكلفين وان أهل كل عصر قد كلفوا أداؤه
إلى أهل العصر الثاني ويدل على حسن ذلك أيضا انه يحسن في الشاهد ان يأمر الواحد
منا غلامه بفعل بعد أوقات كثيرة ويحسن من الموصى ان يوصى لولده ولمن يجئ بعدهم
من النسل ويأمر ان يفعلوا في الوصية ما يريده وهذا لا يدفع حسنه منصف وعلى هذا
لو قلنا انه يحسن امر المعدوم والعاجز بان يفعل الفعل في الوقت الذي قد علم انه علته
ستراخ فيه وتمكن من فعله ونبين ذلك ان الفعل الذي امر به لا يحتاج إلى تقدم
القدرة في حال الامر لأنها لو وجدت في تلك الحال وعدمت في حال الحاجة إلى الفعل
لم يحسن امره فدل على ان الحاجة إليها تقع قبل حال الفعل بحال ولو لم يحسن ذلك لم
يحسن من الواحد منا ان يأمر غيره بان يفعل في غد فعلا يحتاج إلى آلة مع عدمها
95

وان علم انه يتمكن منها في غد حتى يجب الا يحسن منا ان نأمر النجار باصلاح الباب الا بالآلة
التي بها يصلحه في يده وهذا مما لا يحتاج إلى افساده لأنه معلوم ضرورة خلافه وهذه
جملة كافية شافية في هذا الباب الكلام في النهى فصل في ذكر حقيقة النهى وما
يقتضيه وجملة من احكامه النهى هو قول القايل لمن دونه لا تفعل كما ان الامر قوله
له افعل وما دل على أحدهما دل على الاخر فالطريقة واحدة وانما يكون نهيا إذا كره الناهي المنهى
عنه عند من قال بذلك والذي أقوله في ذلك ما قدمت ذكره في باب حقيقة الامر من ان
هذه الصيغة وضعها أهل اللغة ليدلوا على ايجاب الامتناع من الفعل ثم ينظر في ذلك
فان كان صادرا من حكيم دل على ان ذلك الشئ قبيح لأنه لا يوجب الامتناع مما هو حسن
فهو إذا دلالة على القبيح وقد يرد هذه الصورة لا تفيد النهى على الحقيقة على ضرب من المجاز
مثل ما قلناه في صيغة الامر ولاجل هذا قلنا في قوله تعالى لا تقربا هذه الشجرة ان صورته
صورة النهى وليس ما تناوله قبيحا بل الأولى تركه وعبر عن ذلك بأنه نهى بقول تعالى ما نهاكما
ربكما عن هذه الشجرة مجازا من حيث كانت صورته صورة النهى على الحقيقة الا ان هذا
مجاز لا يثبت الا بدليل والأول هو الحقيقة والدلالة على ذلك ما دللنا به على صورة الامر
سواء وشرائط حسن النهى يقارب حسن الامر على السواء فاما شرائط اقتضائه التكرار أو
الامتناع مرة واحدة فأكثر المتكلمين والفقهاء ممن قال ان الامر يقتضى مرة واحدة ومن
قال انه يقتضى التكرار قالوا في النهى انه يقتضى التكرار ومنهم من سوى بينهما وقال إن الظاهر؟
يقتضى الامتناع مرة واحدة وما زاد على ذلك يحتاج إلى دليل ومنهم من وقف في ذلك
كما وقف في الامر والذي يقوى في نفسي ان ظاهره يقتضى الامتناع مرة واحدة وما زاد على ذلك
يحتاج إلى دليل وانما قلنا ذلك من حيث ان النهى إذا كان دلالة على قبح المنتهى عنه إذا
صدر من حكيم انما يدل على انه قبيح في الثاني لان مقتضاه الفور وما بعد ذلك من الأوقات
لا يعلم ان الفعل فيها قبيح بل يحتاج إلى دليل فمن ادعى تساوى الأوقات في ذلك كمن ادعى تساوى
الأوقات في اقتضاء الامر الفعل فيها وذلك باطل على بيناه وشبه (وشبهه) من قال انه يقتضى
التكرار الرجوع إلى الشاهد وان النهى يقتضى ذلك وذلك غير مسلم بالاطلاق فان
96

استعمل في ذلك بقرينة من شاهد الحال وغيرهما فلا يمكن ادعاء الحقيقة في ذلك فإذا ثبت
ذلك فإنما قلنا انه يقتضى الفور دون التراخي لمثل ما دللنا عليه من ان الامر يقتضى الفور
فالأدلة فيها سواء وأيضا فلو لم يقتضى ذلك في الثاني لوجب ان يقترن به البيان فمتى لم
يقترن به البيان دل على انه قبيح في الثاني فاما النواهي الواردة في القران والسنة وانها
يقتضى التأبيد فإنما علمنا ذلك بدليل من اجماع وغيره فلا يمكن الاعتماد على ذلك كما ان
مثل ذلك علم ان الأوامر على التكرار عند الأكثر فاما النهى القيد بوقت فلا خلاف بين
المحصلين انه لا يقتضى وجوب الانتهاء في غير ذلك الوقت وانما يعلم ذلك بدليل مثل
ما قلنا في الامر المقيد فاما النهى عن الشئ فليس بأمر ضده لا لفظا ولا معنى لمثل
ما قلناه في الامر سواء وانما يدل على ان ما عدا المنهى عنه من أضداده مخالفا له إذا
كان صادرا من حكيم لأنه إذا كان دلالة على القبح فما عدا ذلك الشئ لو كان قبيحا مثله
لوجب ان ينهى عنه أيضا كما نهى عن ذلك فلما لم ينه عن جميع اضداد ولا عن بعضها دل
على انه مخالفا له وقد تكون مخالفة له بان تكون واجبة وندبا ومباحا فلا يمكننا
ان نقول ان ذلك امر بضده لان الامر يقتضى الايجاب على ما بيناه اللهم الا نقول انه لو كان
في أضداده ما هو واجب أو ندب لوجب بيانه فلما لم يبين دل على انها مباحة فان ذلك
يمكن الاعتماد عليه هذا إذا كان له اضداد كثيرة ويمكن الانفكاك من جميعها فاما إذا لم
يمكنه الانفكاك من جميعها ولابد من ان يكون فاعلا لواحد منها فإنه لا يكون أيضا واجبا
عليه لأنه انما يجب الشئ إذا كان مما يصح ان يفعل والا يفعل فاما ما ينفك عنه فلا يصح
وصفه بالوجوب ولاجل هذا قلنا أيضا إذا لم يكن للمنهي عنه الا ضد واحد ولا يمكنه
الانفكاك منه (لا) لما يوصف بأنه واجب عليه من حيث لا يصح الا يفعل وما هذا حكمه
لا يصح ان يجب عليه فان كان له ضد واحد ويصح انفكاكه منهما جميعا فمتى لم يجب عليه
ذلك الشئ أو يندب إليه يجب ان يكون مباحا كما قلناه في الأضداد الكثيرة سواء فاما
النهى إذا تناول أشياء فلا يخلوا من ان يكون متضادة أو مختلفة فان كانت متضادة
فلا يخلوا من ان يصح انفكاكه من جميعها إلى امر اخر ولا يصح ذلك فيها فان كان يصح انفكاكه
97

من جميعها جاز ان ينهى عنها اجمع على جهة التخير ولا يجوز ان ينهى عنها جميعا على وجه الجمع
لان كونها متضادة يمنع من صحة الجمع بينها وقال يصح النهى عنه وان كان لا يصح
انفكاكه من جميعها فلا يجوز ان ينهى عن جميعها على حال لان ذلك تكليف لما لا يطاق وكذلك
إذا نهى عنه ضدين ولهما ثالث جاز ان ينتهى عنهما جميعا على وجه التخيير ولا يجوز ان ينتهى عنهما جميعا
على الجمع لمثل ما قلناه وان لم يكن لهما ثالث لم يجز ان ينتهى عنهما جميعا على حال مثل ما قلناه
وان كان ما تناوله النهى أشياء مختلفة أو شيئين مختلفين فإنه يصح ذلك على وجه الجمع والتخيير
معا وقول من قال لا يصح ذلك على وجه التخير غير صحيح لأنه كما لا يمتنع ان يكون فعلهما مفسدة
إذا جمع بينهما فينهى عنهما جميعا على وجه الجمع وكذلك لا يمتنع ان يكون فعل كل واحد منهما
إذا انفرد كان مفسدة وإذا اجتمع مع غيره لا يكون كذلك فيصح ان ينهى عنه على وجه
التخير مثل ما نقوله في الامر فالفرق بين النهى والامر في هذا الباب لا يمكن والقول في
الامر إذا تناول ضدين مثل القول في النهى سواء لأنه إذا كان لهما ثالث جاز ان يؤمر
بهما على التخيير ولا يجوز ان يؤمر بالجمع بينهما لان ذلك مستحيل وكذلك ان لم يكن لهما
ثالث ما جاز ان يؤمر بهما على وجه التخير فلا يجوز ان يؤمر بهما على وجه الجمع لما قلناه فاما
إذا تناول الامر أشياء مختلفة فإنه يجوز ذلك على وجه الجمع والتحيز بلا خلاف وانما الخلاف
في انه يكون الجميع واجبة أو واحد لا بعينه وقد قلناه ما عندنا في ذلك فأغنى عن الإعادة
وهذه جملة كافية في هذا الباب وما عدا ما ذكرناه احكام النهى فيه احكام الامر على السواء
فلا معنى لتكرار القول فيه فصل في ان النهى يدل على فساد المنهى عنه أم لا ذهب
أهل الظاهر وكثير من الفقهاء من أصحاب الشافعي وأبى حنيفة وكثير من المتكلمين إلى ان النهى
يدل على فساد المنهى عنه وذهب أكثر المتكلمين والباقون من الفقهاء إلى ان ذلك لا
يدل على كونه غير مجز وهو الذي حكاه أبو عبد الله البصري عن أبى الحسن الكرخي وذهب إليه
بعض أصحاب الشافعي والذي اذهب إليه هو الأول وينبغي ان نبين أولا تحقيق الخلاف في
ذلك وما المراد به ثم نتكلم في صحة ذلك أو فساده فمعنى قولنا ان المنهى عنه غير مجز هو ان
الذمة إذا تعلقت بها عبادة يجب أدائها على شروط فمتى أداها على وجه قبيح منهى عنه فان
98

ذمته لا تبرأ وتجب عليه قضاؤها ومن خالف في ذلك يقول لا يعلم بمخالفته الامر وارتكابه النهى
ان ذمته غير برية بل لا يمتنع ان تبرأ ذمته بفعل القبيح كما تبرأ بفعل ما هو حسن والذي يدل
على صحة ما ذهبنا إليه ان كون الشئ مأمورا به يقتضى كونه حسنا ومصلحة للمكلف
وكونه منهيا عنه يدل على انه مفسدة له ومحال ان يكون ما هو مفسدة يقوم مقام
ما هو مصلحة لان ذلك متضاد فان قالوا لكان يمتنع ان يقول الله تعالى أو النبي صلى الله عليه وآله لا تفعل
كيت وكيت ولكن ان فعلته قام لك ذلك مقام المصلحة قيل له الذي فرضته غير
ممتنع لكن ثبوت ذلك يحتاج إلى دليل وانط (وانطلاقا) من النهى ان المأمور به لم يحصل متى ارتكبه
وإذا لم يحصل فلم يحصل براءة الذمة فان قالوا وكذلك وجوب القضاء عليه يحتاج إلى
دليل قيل له إذا فعل المأمور به على الوجه المنهى عنه يدل على ان ما امر به لم يفعله
وإذا ثبت انه لم يفعل ما امر به فلا خلاف بين الأمة انه يجب عليه قضاؤه لأنه لا
فرق بين ان لا يصلى في انه يجب عليه القضاء وبين ان يصلى بغير طهارة في انه أيضا يجب عليه
القضاء في الحالين معا فان قالوا الطهارة شرط في صحة الصلاة وكل موضع ثبت
ان المنهى عنه شرط في صحة العبادة فإنه يدل على انها غير مجزية وانما الخلاف فيما ليس بشرط
في صحة العبادة هل يكونا مجزيا أم لا قيل له فعلى هذا ينبغي ان تسقط الخلاف فإنه متى
فرضنا ان النهى لا يتعلق بشئ يتعلق بالعبادة ولا بشئ من شرائطها فانا لا نحكم بفساد
العبادة لان على هذا التقدير يكون قد أدى العبادة على الوجه الذي امر بها والنهى انما
يتعلق بشئ اخر منفصل عنها فلا تعلق بينه وبينها على حال فان قيل لو كان الامر على
ما ذكرتم لما قام دليل على ان كثير من الأشياء المنهى عنها قام مقام الواجب الحسن
مثل الوضوء بالماء المغصوب والصلاة في الدار المغصوبة والطلاق البدعي و
الوطي في الحيض والذبح في السكين المغصوبة وغير ذلك من الأشياء التي تقرر في الشرع
كونها مجزية قيل له الذي يذهب إليه ان جميع ذلك غير مجز ولا محكوم بصحته فان دل دليل
على ان بعضه مجز وقام مقام الصحيح صرفا إليه بدليل ونحن نبين جميع ذلك فضل بيان
اما الوضوء بالماء المغصوب فلا يصح لان الوضوء لا يصح عندنا الا بنية القربة
99

وذلك يقتضى كون الفعل حسنا وزيادة وذلك لا يمكن في المغصوب لأنه قبيح فلا يصح التقرب به
وإذا ثبت ذلك فلا يصح وضوئه وإذا لم يصح وضوئه فكأنه صلى بغير طهارة وإذا صلى بغير
طهارة فلا خلاف انه يلزمه قضاؤها وليس لهم ان يقولوا ما كان يمتنع ان يقال ان
هذا الفعل وان كان قبيحا فقد قام مقام ما هو حسن قيل له ذلك يحتاج إلى دليل ولو
ان قائلا قال ذلك في الصلاة بغير طهارة وانها ما كانت تمتنع ان تقوم مقام
الصلاة بطهارة فما كان جوابكم يكون جوابنا وليس ذلك الا ما قلناه من ان ذلك يحتاج
إلى دليل وكذلك الصلاة في الدار المغصوبة لا تصح لان نية القربة بها لا يصح وليس
لهم ان يقولوا ليست الصلاة هي الغصب بل الصلاة تشتمل على افعال لا تعلق لها
بالغصب وهى حسنة تصح القربة فيها وذلك ان الصلاة هي الأركان المخصوصة
في الدار من القيام والقعود وتلك قبيحة بلا خلاف وليست الصلاة أمرا آخر
منفصلا من ذلك وإذا كان كذلك ثبت ما قلناه واما الطلاق البدعي فعندنا
انه غير واقع أصلا ومن قال بوقوعه في موضع وان وافقنا في هذا الأصل يقول ان
ذلك القيام دليل ولو خليت وظاهر النهى يحكم انه غير مجز واما الوطي في الحيض
فيما يتعلق به من لحوق الولد وتحليل المرأة للزوج الأول ووجوب المهر كاملا و
وجوب العدة وغير ذلك من الاحكام فان جميع ذلك انما يثبت بدليل ولو خلينا
وظاهر النهى لما أخبرنا شيئا منه على حال فاما الذبح بالسكين المغصوبة فيمكن
ان يقال ان القبح هو التصرف في السكين فما يحصل في السكين من الافعال قبيحة
وليس الذبح حالا في السكين ولا يمتنع أن يكون الذبح حسنا وان كان سببه الذي
أوجبه قبيحا الا ترى ان من رمى مؤمنا فأصاب كافرا حربيا فان رميه يكون قبيحا
وان كان ما حصل عنه من قتل الكافر حسنا فكذلك القول فيما قلناه ويدل أيضا على
صحة ما ذهبنا إليه رجوع الأمة من عهد الصحابة إلى يومنا هذا في فساد الأمور وبطلانها
إلى تناول النهى لها فلولا انهم عقلوا ذلك من النهى والا لم يرجعوا إليه على حال وليس لهم ان
يقولوا انهم رجعوا إلى ذلك لدليل دلهم على ذلك وذلك ان هذا القول ينقض رجوعهم
100

إلى النهى لأنهم إذا حكموا ببطلان الشئ وفساده لدليل دلهم على ذلك فلا تعلق للنهي بذلك
ولا معنى لرجوعهم إليه فان نازعوا في رجوعهم إلى ذلك كان ذلك دفعا لما هو معلوم
خلافه وقيل لهم بينوا في شئ من الأشياء انهم رجعوا إلى العمل به لا يمكننا ان نقول في النهى مثله
ويدل على ذلك أيضا انا قد دللنا على ان الامر يقتضى اجزاء المأمور به فينبغي أن يكون النهى
يقتضى كونه غير مجز لأنه ضده فان خالفونا في الامر فقد دللنا على ذلك فيما مضى فأغنى
عن الإعادة ويمكن الاستدلال بما روى عنه عليه السلام من ادخل في ديننا ما ليس فيه (منه خ ل) فهو رد على
صحة ما ذهبنا إليه لان ارتكاب النهى خلاف الدين بلا خلاف غيره فان قالوا
معنى الرد في الخبر انه غير مقبول ولا يستحق عليه الثواب وذلك لا تعلق له بالاجزاء لأنا
قد بينا انه مع كونه غير مقبول فلا يستحق عليه الثواب لا يمتنع ان يقع موقع الصحيح
قيل لهم ذلك تخصيص للخبر وينبغي ان يحمل الخبر على عمومه وشموله فيحكم بان ذلك
لا يقبل ولا يستحق عليه الثواب ولا يقع به الاجزاء فمن ادعى تخصيصه احتاج إلى دلالة
وليس لهم ان يقولوا انما يمكن الاستدلال بالخبر إذا ثبت ان ارتكاب النهى ليس من الدين
ومن خالف في أن ذلك مجز يقول انه من الدين وذلك انه لا خلاف في ان ذلك قبيح وما
هو قبيح لا يكون من الدين لان كونه من الدين يقتضى كونه حسنا وزيادة وانما الخلاف
في ان ذلك وان كان كذلك هل يجوز ان يقوم مقامه ما هو حسن أم لا وذلك يحتاج
إلى دليل وقد استدل قوم على ذلك أيضا بان قالوا كونه مجزيا لا يخرج ان يعلم ذلك بلفظ
الامر أو الإباحة فان قلتم بذلك فكونه قبيحا من كونه مأمورا به ومن كونه مباحا واعترض
من خالف في ذلك بان قال يعلم ذلك بغير الامر أو الإباحة وهو ان يقول النبي صلى الله عليه وآله لا تفعل
كذا وكذا فان فعلت ذلك فقد أجزأ عنك وقام مقام الحسن الواجب والمباح أو استدلوا
أيضا بان قالوا قد ثبت ان النهى عن الربا في القران دل على فساد المنهى عنه فينبغي ان يكون
سائر النواهي كذلك (لمثل ذلك) واعترض من خالف في ذلك بان قال لم نعلم ذلك بظاهر النهى بل
بقرينة وهو قوله لا تأكلوا الربا فلو كان ذلك مجزيا لما نهى عن اكله وقالوا النهى عن ذلك
مثل النهى عن تلقى الركبان وعن البيع يوم الجمعة وغير ذلك وكل ذلك لا يدل على فساد
101

المنهى عنه ولمن نص الاستدلال بالآية ان يقول هذه المواضع لو خليت والظاهر لحكمت بفساد
البيع فيها لكن دل الدليل على ان ذلك جائز فقلت به لمكان الدليل فاما من خالف في المذهب
الذي ذكرناه من ان النهى يقتضى فساد المنهى عنه وجعل الطريق الذي به يعلم فساد المنهى عنه
كونه مجزيا فحكى أبو عبد الله البصري عن أبي الحسن الكرخي انه متى كان وقوع المنهى عنه على الوجه
الذي نهى عنه يقتضى انه واقع على غير الشرط الذي اقتضاه الشرع وجب فساده لأنه انما يصح
إذا اتى به على شروطه والنهى عنه قد أحل بذلك وما لم يمكن هذه حالة من الأشياء المنهى
عنها فإنه يكون مجزيا وذكر عن الشافعي انه ذكر في كتابه ان فيما نهى عنه فاسدا وفيه ما لا
يفسد وان كان النهى يقتضى كونه جميعه معصية ما لم يكن المراد به التأديب فالذي يفسد
فهو ان يوصل إليه من طريق محرم نحوه كذلك الغير أو الفروج لأنه إذا كان مجزيا يتوصل
إليه بما نهى عنه فيجب ان لا يستباح وحكى عنه قول اخر وهو انه إذا نهى عن الفعل بوجه مختصة
فوجب ان يفسد وكلما ذكرناه انما هو على مذهب من قال ان النهى لا يدل على فساد المنهى عنه
ويحتاج في الفرق بين ما هو فاسد وما ليس كذلك إلى امر اخر ومن قال بما قلناه لا يحتاج
إلى شئ من ذلك فهذه الجملة كافية في هذا الباب فصل فيما يقتضيه الامر من
جمع وآحاد اعلم ان الواجب اعتبار ظاهر الامر فان اقتضى تناوله جميع المكلفين
لزمتهم تلك العبادة وكان ذلك من فروض الأعيان وذلك مثل قوله تعالى
أقيموا الصلاة واتوا الزكاة وما يجرى مجرى ذلك فان دل الدليل على ان المراد به بعضهم حمل عليه و
لأجل هذا قلنا ان قوله فاقطعوا أيديهما يختص الأئمة عليهم السلام ومن يقوم مقامهم في النيابة
عنهم لما دل الدليل على ان ذلك من فروض الأئمة وكذلك قوله خذ من أموالهم صدقة
حملناه على ان المراد به الأئمة والسعاة من قبلهم لما كان ذلك من فروضهم وان دل
الدليل على ان المأمور به مشروط بشروط حمل وجوبه على من اجتمعت تلك الشروط
فيه ولهذا قلنا ان الامر بصلاة الجمعة مخصوص (على من خ ل) بمن كان على صفات مخصوصة واجتمعت
شرائط الجمعة كلها هناك ومن لم يكن كذلك لا يجب عليه وان دل الدليل على ان المراد بالامر
حصول الامر وعلم حصول ذلك الامر ببعض من تناوله الخطاب قلنا ان ذلك من فروض
102

الكفايات وذلك نحو الجهاد لما كان البغية به حفظ بيضة الاسلام ودفع الأعداء عن المسلمين
وكان ذلك يحصل ببعضهم كان ذلك من فروض الكفايات وكذلك القول في الصلاة على الأموات
ودفنهم وحملهم إلى المقابر ومتى قام بذلك لم يحصل البغية به سقط عن الباقين واجري مجرى
ذلك الفقهاء طلب الفقه لان ذلك عندهم من فروض الكفايات لأنهم جوزوا تقليد العلماء و
الرجوع إليهم ومن لم يجز ذلك جعله من فروض الأعيان ولم يجعله من فروض الكفايات
وكذلك اجرى هذا المجرى اختيار الأئمة من أجاز اختيار الأئمة فاما على مذهبنا فطريقة
معرفة الأئمة النص الثابت على أعيانهم على ما ذكرناه في كتب الإمامة فهذه جملة كافية
في هذا الباب لأنها تنبيه على ما زاد عليها وما يتفرع انشاء الله تعالى الكلام في
العموم والخصوص فصل في ذكر حقيقة العموم والخصوص وذكر ألفاظه
اعلم ان معنى قولنا في اللفظ انه عام يفيد انه يستغرق جميع ما يصلح له وبهذا الذي
ذكرناه يتميز من غيره مما لا يشركه في هذا الحكم كما ان الامر والنهى وسائر اقسام الكلام يتميز
بعضها من بعض بما يفيد كل واحد من الاقسام ولذلك يقال عم الله تعالى المكلفين بالخطاب لما
كان متوجها إلى جميعهم فاما استعمال هذه اللفظة في المعاني نحو قولهم عمهم البلاء والقحط
والمطر وغير ذلك فالأقرب في ذلك ان يكون مجازا لأنه لا يطرد في سائر المعاني ولو ان
قائلا قال ان ذلك مشترك لم يكن بعيدا وقد ذهب إليه قوم من الأصوليين ومعنى
قولنا في اللفظ انه خاص يفيد انه يتناول شيئا مخصوصا دون غيره مما كان يصح
ان يتناوله ولذلك يقال خص الله تعالى زيدا بالخطاب لما كان الخطاب متوجها إليه
دون غيره من المكلفين الذين كان يصح ان يوجه إليهم الخطاب فاما ألفاظ التثنية
وألفاظ الجموع وألفاظ النكرات وغير ذلك فلا يوصف بالعموم لما لم تكن متناولة
لها على وجه الاستغراق فاما ألفاظ العموم فكثيرة نحن نذكر منها طرفا فمنها من في
جميع العقلاء إذا كانت نكرة في المجازاة والاستفهام ومتى وقعت معرفة لم تكن للعموم
وكانت بمعنى الذي وهى خاصة بلا خلاف ومنها ما فيما لا يعقل إذا وقعت الموقع
الذي ذكرناه من المجازات والاستفهام ومتى كانت معرفة لم تكن مستغرقة كما قلناه
103

في سواء ومن الناس من قال ان ما يعم ما يعقل وما لا يعقل وهى أعم من من وذلك محكى عن
قوم من النحويين ومنها أي فإنها تستغرق ما يعقل وما لا يعقل وهى أعم من اللفظتين
معا ولاجل هذا إذا قال أي شئ عندك يحسن ان يجاب بما يعقل وما لا يعقل الا انها
لا تفيد الاستغراق كما يفيد من وما الا ان يدل دليل على ذلك فيحكم له بحكم الاستغراق
ومنها متى في الأوقات لأنها تجرى في تناول جميع الأوقات مجرى من في تناولها
لجميع العقلاء وذلك نحو ان يقول القائل متى جئتني جئتك فان ذلك لا يختص
وقتا دون وقت بل يتناول جميع الأوقات ومنها اين في المكان نحو قول القائل
اين زيد يحسن ان يجيبه بذكر كل مكان فعلم انه متناول له ومنها لفظي النفي (النهي خ ل) إذا
دخل على النكرات نحو قول القائل ما رأيت أحدا وما جائني من أحد فان ذلك يفيد
الاستغراق ومنها أسماء الأجناس إذا دخلها الألف واللام ولم يرد بهما التعريف
نحو قوله والعصر ان الانسان لفي خسر ونحو قولهم أهلك الناس الدينار والدرهم
لان ذلك يفيد الجنس كله ومتى كان للتعريف كان مختصا بما عرف به نحو قول القائل
رأيت الانسان يشير به إلى انسان معهود متقدم فاما كان خاليا من الألف واللام
فإنه يفيد واحدا لا بعينه نحو قول القائل رايته رجلا وإنسانا وما يجرى مجراه و
هذا يسميه أهل اللغة النكرة لأنه لا يخصص واحدا من غيره ومنها الأسماء المشتقة
نحو قوله تعالى والسارق والسارقة وقوله تعالى الزانية والزاني وما يجرى مجرى ذلك
فإنه متى كان فيها الألف واللام ولم يكن المراد بهما المعهود والمعرف أفاد الاستغراق ومتى
كان العهد أفاد التعريف نحو قول القائل رأيت القاتل والضارب إذا أشار به إلى قاتل
بعينه أو ضارب بعينه ومتى لم يكن فيها الألف واللام أفادت واحدا لا بعينه كما قلناه
في الأسماء الأجناس إذا دخلت في الألف واللام وذلك نحو قول القائل رأيت ضاربا
وقاتلا فإنه يفيد واحدا لا بعينه ومنها ألفاظ الجموع إذا دخلها الألف واللام
فإنها تفيد الاستغراق نحو قولهم رأيت الرجال وما يجرى مجرى ذلك فان ذلك يفيد
جميع الرجال الا ان يراد بذلك التعريف والعهد فيحمل على ذلك ومتى خلت ألفاظ
104

الجموع من الألف واللام فإنها تفيد ثلاثة فصاعدا لا بأعيانهم ويكون الثلاثة مقطوعا
بهم وما زاد على ذلك مشكوكا فيه مجوزا وقد اختلف المتكلمون فيما ذكرناه من ألفاظ الجموع
وألفاظ الأجناس فذهب أبو على وأكثر المتكلمين إلى ان هذه الالفاظ إذا كان فيها الألف
واللام وجب حملها على الاستغراق إذا لم يكونا للعهد الا أن يدل دليل على انه أريد
بهما البعض فيحمل عليه وذهب أبو هاشم إلى ان ذلك لا يفيد الاستغراق وانما يفيد في أسماء الأجناس
تعريف الجنس المخصوص وفي أسماء الجموع الثلاثة فقط لان الحكيم لو أراد أكثر من ذلك لبينه و
نحن نبين الصحيح من ذلك فيما بعد ان شاء الله تعالى واتفق هؤلاء وغير هؤلاء على تناول الجموع
الثلاثة فصاعدا حقيقة وان أقل الجمع ثلاثة وذهب قوم إلى ان أقل الجمع اثنان والأول
هو مذهب أكثر الفقهاء ومنها لفظ كل إذا دخلت في الكلام فإنها تفيد الاستغراق
سواء دخلت للتأكيد أو لغير ذلك واما ما يدخل للتأكيد نحو قول القائل رأيت الرجال
كلهم فان ذلك يفيد الاستغراق وما يدخل لغير التأكيد نحو قول القائل كل رجل جائني
أكرمته وكل عبد لي فهو حر وعلى هذا قوله تعالى كما القى فيها فوج سألهم خزنتها فهذه جملة
من الالفاظ المستعملة في العموم ونحن ندل على انها تفيد العموم على ما قلناه ونذكر اختلاف
الناس في ذلك والكلام على شبههم في فصل يلي هذا الفصل انشاء الله تعالى فصل
في ذكر العموم على ان العموم له صيغة في اللغة ذهب الفقهاء بأسرهم وأكثر المتكلمين إلى
ان العموم له صيغة موضوعه في اللغة تختص به وقال قوم من المرجئة وغيرهم انه ليس
للعموم صيغة أصلا بل كلما يدعى انه للعموم فهو للخصوص وانما يفيد أقل ما يمكن ان
يكون مرادا وقال أكثر المرجئة ان هذه الالفاظ مشتركة بين العموم والخصوص حقيقة فيهما
معا وفي الناس من قال انه يجب حمل اللفظ على الاستغراق فيما يتعلق بالامر والنهى ولا يجب
ذلك في الاخبار والذي اذهب إليه هو الأول والذي يدل على ذلك ان من إذا استعملت
في المجازات يحسن ان يستثنى منها كل واحد من العقلاء فلولا انها مستغرقة لهم والا لم يجز ذلك
يبين ذلك انها لما لم تكن متناولة لغير العقلاء لم يحسن ان يستثنى منها من ليس بعاقل ومن
دفع بان حسن الاستثناء في هذا الموضع لا يحسن مكالمته فان قيل انما حسن الاستثناء
105

في هذا الموضع لأنه يصلح ان يكون متنا ولا لجميع العقلاء وان لم يكن واجبا وغير العقلاء انما
لم يحسن استثناؤهم لان اللفظ لا يصلح ان يتناولهم أصلا قيل لهم لو كان الاستثناء انما حسن
للصلاح دون الوجوب لحسن الاستثناء من النكرات وقد علمنا انه لا يحسن ان يقول القائل رأيت
رجلا الا زيدا وان كان لفظ رجل يصلح ان يقع على زيد وعلى غيره من الرجال صلاحا لما لم
يكن متناولا له على طريق الوجوب فان ارتكبوا حسن الاستثناء من لفظ رجل لم يحسن كلامهم
لان ذلك معلوم من دين أهل اللغة خلافه وان قالوا انما لم يحسن الاستثناء من ذلك لان
من شان الاستثناء ان لا يدخل الا على جملة ذات عدد وان لم تكن مستغرقة الا ترى
انها تدخل على ألفاظ الجموع التي ليست للاستغراق الا ترى انه إذا قال القائل رأيت رجالا
يحسن ان يستثنى منها زيدا وعمروا وخالدا وبكرا ولا يقول أحد ان ألفاظ الجمع الخالية
من الألف واللام مستغرقة لجميع الرجال فبطل ان يكون الاستثناء دلالة على
الاستغراق قيل لهم اما قولكم ان من شان الاستثناء ان لا يدخل الا على جملة باطل لأنها
تدخل على لفظ الواحد المنفى الا ترى انه يحسن ان يقول القائل ما جائني من أحد ثم
يستثنى كل واحد من العقلاء وليس لفظ أحد لفظ جمع واما ألفاظ الجموع فمن الناس
من يقول انها محمولة على الاستغراق لان المتكلم بها لو أراد أقل الجموع أو جمعا دون جمع
لبينه فلما لم يبين ذلك دل على انه أراد الجميع ومن قال هذا سقط عنه السؤال ومن لم
يقل ذلك ويقول انها تصلح للثلاثة فصاعدا يقول لا يحسن الاستثناء من ألفاظ
الجموع لان من حق الاستثناء ان يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه ولما لم يكن
ذلك في ألفاظ الجموع لم يحسن وربما أكدوا ذلك بان قالوا لو حسن ذلك يحسن ان يقولوا
رأيت رجالا الا رجلا يستثنون واحدا منكرا من ألفاظ الجمع ولما لم يحسن دل على ان
حكم المعرف مثله وانما ذلك بين وليس لهم ان يقولوا انما لم يحسن الاستثناء المنكر
لأنه لا يفيد وذلك انه لو كان يحسن لما قالوه لما حسن استثناؤه من ألفاظ الجموع
إذا كان فيها الألف واللام وذلك نحو قول القائل لقيت الاشراف فإنه يحسن منه ان
يقول الا واحدا وان كان منكرا لما كان لفظ الاشراف مستغرقا من حيث كانت فيه الألف
106

واللام فعلم بذلك انه انما امتنع في الموضع الذي امتنع لمكان الصلاح لا لعلة أخرى فاما من قال
انه انما لم يحسن الاستثناء من لفظ الواحد المنكر في الاثبات من حيث انه كان من حق الاستثناء
ان يميز ذاتا من ذات وإذا قال رأيت رجلا ثم قال الا زيدا فلم يميز ذاتا من ذات لان الذات واحدة
وانما ميزها بصفة كأنه قال ليس صفتها ان يكون زيدا وذلك ضد حقيقة الاستثناء فان
ذلك يبطل بما قلناه من لفظ النكرة في النفي وقولهم ما جائني من أحد فان اللفظ واحد والتميز
يقع ههنا بالتسمية والصفة ومع ذلك فإنه يحسن الاستثناء بلا خلاف على ان الذي
ذكروه غير صحيح لان لفظ رجل يقع على كل رجل صلاحا فإذا استثنى بعض الرجال فقد
ميز ذاتا من غيرها على ما يقتضيه حقيقتها فان قالوا كيف يكون الاستثناء دليلا في هذا
الموضع ونحن نعلم ان القائل إذا قال من دخل دارى أكرمته لم يحسن ان يقول الا الشياطين
وان كانوا من العقلاء وكذلك إذا قال من دخل دارى ضربته لم يحسن ان يقول الا الملائكة
وان كانوا من جملة العقلاء فعلم بذلك ان الاستثناء ليس بدلالة على ان اللفظ متناول
لجميع العقلاء قيل لهم ان الذي ذكرتموه لا ينقض استدلالنا لان هذا السؤال يتضمن
ان اللفظ قد يشتمل على من لم يحسن استثناؤهم وذلك لا يضرنا وانما كان ينقض دليلنا
لو تبينوا حسن الاستثناء من لفظ لا يتناول ما استثنى وذلك متعذر على ما بيناه
على انه انما لم يحسن استثناء واحد من الفريقين المذكورين في السؤال من حيث علمنا
بالعادة انه لم يقصدهما باللفظ فصار الفريقان في حكم من لم يتناوله اللفظ أصلا ومتى
فرضنا ان الكلام صادر من الحكيم تعالى حسن ان يقول من عصاني عاقبته الا إبليس لما كان
اللفظ متناولا جاز (ولجاز خ ل) أن يكون مقصودا به وانما امتنع في الواحد منا لما قلناه فان قالوا
لو كان قول القائل من دخل دارى ضربته متناولا لجميع العقلاء لم يحسن ان يستفهم فيقال
وان دخلها نبي أو وان دخلها أبوك فلما حسن هذا الاستفهام دل على ان اللفظ مشترك
وانما يستفهم عن مراده بها قيل لهم لا نم انه يحسن الاستفهام في هذا الموضع على كل حال
وعلى كل وجه وهو انه إذا كان المخاطب عالما باللغة وكان حكيما لا يجوز عليه التعمية
ولم يقرن بخطابه ما يدل على انه أراد بعضه أو تخصيصه وكان المخاطب أيضا عالما باللغة و
107

بموضوعها لم يحسن ان يستفهم وانما يحسن الاستفهام إذا اختلت بعض الشرائط اما بان يكون
أحدهما غير عالم باللغة وموضوعها أو مع كونهما عاملين يجوز السامع أن يكون المتكلم أراد
به المجاز ولم يبينه في الحال أو غير ذلك من الأمور فان عند ذلك يحسن الاستفهام وإذا
خلا من ذلك لم يحسن على ما بيناه على ان الاستفهام قد يحسن في المواضع التي ليست للاشتراك
الا ترى ان القائل إذا قال لقيت الأمير أو ضربت أبي يحسن ان يقال ألقيت الأمير نفسه أو
بعض أسبابه وكذلك يقال أضربت أباك نفسه وذلك لا يدل على ان اسم الأمير مشترك بينه
وبين صاحبه (غيره خ ل) ولا اسم الأب مشترك بينه وبين غيره فان امتنعوا من حسن الاستفهام
ههنا منعنا هناك وان قالوا ذلك ليس باستفهام وانما هو استعظام واستكبار قيل
لهم وكذلك قول السائل لمن قال من دخل دارى أهنته وان دخلها نبي أو أبوك انما هو استعظام
واستكبار وليس باستفهام ولا فرق بينهما على حال والذي يدل أيضا على ان الاستثناء
يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله تحته لا ما يصلح حسن الاستثناء من الاعداد لان
القائل إذا قال اعط فلانا عشرة دراهم يحسن ان يستثنى منه ان يقول الا واحدا ولا يمكن
ان يقال ان لفظة عشرة مشتركة بين العشرة والتسعة فان ارتكبوا ذلك وقالوا اللفظ مشترك
الزموا أن يكون مشتركا بين العشرة والثمانية والسبعة والستة والخمسة والى الواحد لأنه
يحسن استثناء جميع ذلك من لفظ العشرة لأنه يحسن بلا خلاف ان يقول اعط عشرة
الا خمسة وعلى الصحيح من المذهب وان كان فيه خلاف ان يقول اعط عشرة الا تسعة واي
الامرين ارتكبوا كان ذلك خلافا لما هو معلوم ضرورة من دين أهل اللغة فان قالوا وما
العلة الجامعة بين الاعداد وغيرها ولم إذا ثبت في الاعداد وما قلتم يجب أن يكون حكم
غيرها هذا الحكم قيل لهم انما جمعنا بينهما من حيث ان حقيقة الاستثناء كان أن يخرج
من الكلام ما لولاه لوجب دخوله تحته فلما كان هذا حقيقة الاستثناء وجب (ثبت خ ل) ذلك
في كل موضع فان قالوا الوجوب الذي يثبت في الاعداد امر زايد على الصلاح وإذا كان كذلك
عاد الامر إلى انه انما يحسن الاستثناء فيها للصلاح دون الوجوب قيل لهم الصلاح وان
كان حاصلا في الاعداد فإنه لا ينفصل من الوجوب فينبغي أن يكون حقيقة الاستثناء
108

ان يدخل على الصلاح الذي هو الواجب وكذلك نقول في جميع المواضع التي تقول فيها بالعموم ولا يجب
أن يحكم بان هذا الحكم بمجرد الصلاة لان ذلك ليس بحاصل في الاعداد وانما كان يجوز هنا
لو ثبت الصلاح بمجرده وحسن مع ذلك الاستثناء لزمنا ان نحكم بحسن ذلك الصلاح فاما
ولما يثبت ذلك فلا يجوز على حال ومما يدل أيضا على ما قلناه ان القائل إذا قال من عندك
مستفهما بحسن ان يجاب بذكر كل عاقل فلولا ان اللفظة مستغرقة لجميع العقلاء والا لم يحسن
ذلك وانما قلنا ذلك لان من شأن الجواب مطابقا للسؤال ولا يكون مطابقا الا بأن
يجيب المجيب عما يسئل عنه السائل وفي ذلك ثبوت الاستفهام عن جميع العقلاء ولاجل
حسن الجواب بذكر كل واحد منهم فان قالوا لا يحسن ان يجيب بذكر كل عاقل بل ينبغي
أن يستفهم ويقول من الرجال أو من النساء أو من الاشراف أو من العامة فإذا بين
مراده اجابه ح قيل له المعلوم من مذهب أهل اللغة خلاف هذا لأنهم يستحسنون
الجواب بذكر العقلاء في الموضع الذي ذكرناه وان لم يستفهموا أصلا فمن أوقف حسن
ذلك على الاستفهام كان مكابرا مدافعا للضرورات على ان هذا يوجب ان يستفهموا
ابدا حتى ينتهى إلى أقل من يمكن أن يكون مرادا لأنه لو قال من الرجال كان ذلك غير مستغرق
في الرجال على مذهب الخصم ويحسن أن يستفهم دفعة أخرى فيقال امن أهل الاشراف
أو من غيرهم أمن شيوخهم أم شبانهم أمن صناعهم أو غيرهم وكذلك ابدا وهذا يؤدى
إلى أن لا يحسن الجواب الا بعد ذكر جميع ذلك والمعلوم ضرورة خلاف ذلك وليس لهم
ان يقولوا انما حسن الجواب بجواز أن يكون مستفهما عنه لا بوجوب ذلك وذلك ان
بالصلاح لا يصير الكلام مطابقا للجواب وانما يصير كذلك بالوجوب الا ترى انه إذا سئل
السائل المفتى فقال هل يجوز وطى المرأة في حال قرؤها لم يحسن من المفتى ان يجيب عن ذلك
بنعم أو لا بل يحتاج ان يستفهمه فيقول ما الذي أردت بالقرء فان أردت الحيض فلا يجوز
لك وطئها وان أردت الطهر كان ذلك جائزا والعلة في فتح الجواب بما ذكرناه هو
ان السؤال يمكن أن يكون عن كل واحد من المعنيين ولم يجب أن يكون سؤالا عنهما
فكذلك لو كانت ألفاظ العموم من الاستفهام جارية ذلك المجرى لوجب أن لا يحسن الجواب
109

بذكر آحاد العقلاء وقد علمنا خلاف ذلك فان قالوا إذا ثبت ذلك في الاستفهام لم زعمتم
ان حكم غير الاستفهام حكمه في المجازات وغيرها قيل له غرضنا بهذا الدليل ان يثبت
ان ههنا لفظا موضوعا للاستغراق في اللغة ليبطل به مذهب من قال انه ليس كذلك
أو قال بالاشتراك فاما ثبوتها في كل حال فنعلمه بالاجماع وهو ان كل من قال ان هذه اللفظة
مستغرقة في الاستفهام قال انها كذلك في المجازات فمن فرق بينهما كان مخالفا للاجماع والقول
في لفظة ما ومتى وأين واي إذا وقعت للمجازاة أو الاستفهام حكم ما ذكرناه في من على
السواء فاما إذا وقعت من وما معرفة فلا يدل على الاستغراق بل تكون مصروفة إلى ذلك
المعروف بعينه ولاجل هذا يحتاجون إلى صلة كصلة الذي لما كانت الذي معرفة وذلك
نحو قول القائل ضربت من عندك أو اكلت ما أكلت وما يجرى مجرى ذلك ولا يتم فائدتهما
الا بالصلة على ما بيناه ويدل أيضا على صحة ما ذهبنا إليه ان أهل اللغة عدوا
العموم من اقسام الكلام وكذلك الخصوص وفرقوا بينهما وقالوا هذا الكلام خرج مخرج العموم وهذا
الكلام خرج مخرج الخصوص فدل ذلك على ان فائدتهما تختلف وعلى مذهب الخصم كلاهما
سواء فينبغي أن نحكم ببطلان ذلك وجرى مجرى فصلهم بين صيغة الامر والنهى والخبر وغير ذلك
من اقسام الكلام فكما ان لكل شئ من ذلك صيغة موضوعة ينبغي أن يكون حكم العموم مثله
سواء وان نازعوا في جميع ذلك فقد دللنا على ثبوته فيما تقدم فلا فائدة في اعادته واستدل
كثير من الفقهاء والمتكلمين على ذلك بان قالوا قد ثبت ان العموم معقول والحاجة إلى
استعماله ماسة فلابد أن يكونوا وضعوا لذلك عبارة يلتجئون إليها عند الحاجة إلى
ذلك كما انهم وضعوا لسائر اقسام الكلام وقد قلنا ما عندنا في هذه الطريقة واستدلوا
أيضا بان قالوا لا يخلو لقطة من أن يكون موضوعة لغير العقلاء أو لبعض العقلاء أو لكل واحد
منهم على البدل أو لجميعهم على جهة الاستغراق قالوا ولا يجوز أن تكون موضوعة لغير
العقلاء لان ذلك معلوم خلافه وهو متفق عليه أيضا ولا ان تكون موضوعة لبعضهم
لأنه ليس بعضهم بان يتناوله أولى من بعض ولا أن تكون موضوعة لواحد لا
بعينه لمثل ما قلناه ولأنه لو كان كذلك يجرى مجرى أسماء النكرات وقد علمنا خلاف ذلك
110

وأيضا فلو كان لواحد لا بعينه لكان المسائل إذا استفهم فقال من عندك لم يحسن ان يجاب بذكر
نفسين أو ما زاد عليهما لان السؤال وقع عن واحد وقد علمنا خلاف فلم يبق بعد ذلك الا انها
مستغرقة لجميع العقلاء واستدلوا أيضا على ذلك بأن قالوا وجدنا العموم قد اكد بلفظ لا
يؤكد به الخصوص الا ترى انهم يقولون رأيت القوم أجمعين ورأيت زيدا نفسه ولا يحسن ان
يقول القائل رأيت القوم نفسه ولا رأيت زيدا أجمعين فلما ثبت هذا دل على معناهما
يختلف ولا يختلفان الا بأن يكون أحدهما عاما والاخر يكون خاصا ويمكن الاعتراض
على هذا الدليل بأن يقال انما لم يحسن ان يقال رأيت زيدا أجمعين لان زيدا يختص
شخصا واحدا فلا يجوز ان يؤكد بما يختص الجماعة وان كانت غير مستغرقة وكذلك انما
لم يحسن ان يقال رأيت القوم نفسه لان القوم يفيد جماعة وان لم يفيد جميعهم فلا
يجوز أن يؤكد بما يؤكد به شخص واحد وربما رتبوا دليل الاستفهام على وجه اخر فقالوا
قد علمنا انهم لما استطالوا ان يستفهموا عن العقلاء بذكر أسمائهم فيقولوا أزيد
عندك أعمرو عندك أخالد عندك وضعوا لفظة من نائبة عن تعداد الأسماء
لما شق عليهم ذلك فيجب ان تكون مستغرقة لجميعهم كما انهم لو عدوا ذكر جميعهم على
التفصيل لو أمكن لكان ذلك شاملا لهم ورتبوا مثل هذا في المجازاة وقالوا استطالوا
ان يقولوا ان دخل زيد وعمرو وخالد وبكر دارى أكرمتهم وضعوا لفظ من عوضا
عنه فقالوا من دخل دارى أكرمته فينبغي أن تكون مستغرقة وهذه طريقة قريبة غير انه
يمكن أن يقال عليها لا نم انهم وضعوا بهذه اللفظة بدلا عن تعداد جميع الأسماء بل
لا يمتنع أن يكونوا وضعوها لجماعة لا بأعيانهم فان قلنا جوابا عن ذلك لو كان كذلك
لم يحسن ان يجاب بذكر كل واحد من العقلاء كان ذلك رجوعا إلى الطريقة الأولى
التي قدمناها وقالوا أيضا لما كان الاستفهام بلفظ الخاص يختص شخصا بعينه ولا
يتعدى إلى غيره فينبغي أن يكون الاستفهام بلفظ العموم بالعكس من ذلك وهو ان يتعدى
إلى غيره وليس بأن يتعدى إلى قوم أولى من أن يتعدى إلى آخرين فيجب أن يتعدى إلى جميعهم وهذا
أيضا مثل الأول لأنه يمكن أولا ان يقال ان هذا قياس والقياس في اللغة لا يجوز والثاني
111

ان يقال غاية ما في هذا ان يجب ان يتعدى إلى أكثر من لفظ الخاص ولا يجب من ذلك تعدية إلى جميعهم
فان قلنا لو لم يجب لم يحسن ان يجاب بذكر كل واحد منهم كان رجوعا إلى الدليل الذي قدمناه وان
قلنا ليس بعضهم بذلك أولى من بعض كان ذلك رجوعا إلى دليل التقسيم الذي قدمناه وقد
استدل المخالف على صحة مذهبه بأن قال وجدت (وجرت خ ل) هذه الالفاظ تستعمل في الخصوص
كما تستعمل في العموم بل استعمالها في الخصوص أكثر لأنه ليس في جميع ألفاظ القران لفظة
تفيد الاستغراق الا قوله والله بكل شئ عليم فوجب أن تكون اللفظة مشتركة فيهما
قيل له قد بينا ان مجرد الاستعمال لا يدل على الاشتراك لان المجاز مستعمل كما ان الحقيقة
مستعملة فلا يمكن ان يستدل بالاستعمال على واحد من الامرين ويحتاج في اثبات أحدهما
إلى الرجوع إلى امر اخر واما قولهم انهم لا يجدوا في ألفاظ القران لفظة تفيد الاستغراق الا
لفظة واحدة فليس إذا قل استعمال الحقيقة فيما هو حقيقة فيه وكثر استعماله في المجاز
دل على انه ليس بحقيقة فيه الا ترى انه لم تجد (تجر خ ل) عادتهم في استعمال لفظة الدابة في كل ما
دب بل صار بالعرف لا يستعمل الا في دابة بعينها ولا يدل ذلك على انهم لم يضعوا
هذه اللفظة في الأصل لكل ما يدب فعلم بذلك ان قلة الاستعمال لا يدل على ان
اللفظة ليس بحقيقة وعندنا ان الحكيم تعالى إذا استعمل هذه اللفظة فيما دون الاستغراق
فلابد من أن يدل عليه دالا لم يحسن منه ذلك واستدلوا أيضا بحسن الاستفهام عن هذه
الالفاظ قالوا انها مشتركة والا لم يحسن وقد قلنا اما عندنا في ذلك فيما مضى فأغنى
عن الإعادة واستدلوا أيضا بان قالوا لو كان ذلك مفيدا للاستغراق لما حسن أن يؤكد
لان المؤكد قد أنبأ عن المراد فتأكيده عبث والجواب عن ذلك انا قد بينا ان التأكيد دليل
لمن قال بالاستغراق ولو لزم هذا (بهذا خ ل) الاعتبار أن لا يكون اللفظ موضوعا للاستغراق لوجب
في ألفاظ الخصوص وألفاظ الاعداد مثله لأنا كما (كذا خ ل) وجدناهم يؤكدون ألفاظ الخصوص و
ألفاظ الاعداد كما يؤكدون ألفاظ العموم فأي شئ أجابوا به عن ذلك فهو جوابنا بعينه
واستدلوا أيضا بان قالوا لو كانت هذه الالفاظ تفيد الاستغراق لما حسن الاستثناء
منها وكانت تكون نقصا لان هذه اللفظة تجرى عندكم مجرى تعداد الأسماء فكما لا يجوز
112

ان يعد الأسماء ثم يستثنى منها فكذلك لفظ العموم لو كان جاريا مجرى ذلك لما حسن الاستثناء
منه والجواب عن ذلك ان يقال الاستثناء انما يحسن إذا قصد المتكلم بالخطاب بعض العموم
فيحتاج ان يبين من لم يعنه بالخطاب وانما كان يكون نقضا لو قصد به الاستغراق ثم استثنى
منها ونحن لا نقول ذلك وليس كذلك تعداد الأسماء لأنه إذا عددها فقد قصدها كلها فلا يجوز
بعد ذلك ان يستثنى منها لأنه يؤدي إلى نفى ما اثبته بعينه وذلك لا يجوز على حال وليس كذلك لفظ
العموم لأنه يجوز ان يستعمل في بعض ما وضع له على ضرب من المجاز إذا بين معه المراد بذلك
وفي ذلك سقوط هذا السؤال فاما من فرق بين الأوامر والاخبار فقوله يبطل بما دللنا
عليها من ان هذه الالفاظ تفيد الاستغراق في الاخبار كإفادتها في الأوامر وإذا
ثبت ذلك فمتى ورد خطاب من الله تعالى وجب حمله على عمومه سواء كان امرا أو خبرا
الا ان يدل دليل على ان المراد به التخصيص فتحمل عليه ولاجل هذا قلنا ان ما اخبر الله
تعالى به من عقاب العصاة المراد به بعضهم لا جميعهم لما دل الدليل عندنا على ذلك
فلا يبين ظان ان في القول بالعموم تركا لهذا المذهب وتصحيحا لمذهب الخصم لان الخصم
يدفع ان يكون ههنا دليل يدل على تخصيص آيات الوعيد ونحن نثبته وإذا ثبت
ما ندعيه بطل مذهب الخصم في ذلك فاما من فرق بين الامر والخبر بان قال ان الامر
تكليف والخبر ليس كذلك فلا يمتنع أن لا يكون مفيدا للاستغراق وان لم يعلمه فقد
أخطأ وذلك انه لا فرق بينهما في تعلق تعليق التكليف بهما لان الامر يوجب علينا
فعل ما تناوله والخبر يوجب علينا اعتقاد ما تضمنه فلابد من أن يكون مفيدا
للاستغراق ان كان مطلقا وان كان المراد به الخصوص فلابد من ان يقترن به البيان
والا أدى ذلك إلى إباحة الجهل والاعتقاد الذي لا نأمن (يؤمن خ ل) كونه جهلا وكل ذلك منفى عن
القديم تعالى وهذه جملة كافية في هذا الباب فصل في ذكر ألفاظ الجمع والجنس وغير
ذلك ذهب أكثر من قال بالعموم إلى ان اسم الجنس إذا دخله الألف واللام اقتضى استغراق
الجنس وذلك مثل قوله تعالى والعصر ان الانسان لفي خسر وكذلك قالوا في ألفاظ الجموع
والأسماء المشتقة نحو قولهم رأيت الرجال وقوله اقتلوا المشركين وان الفجار لفي جحيم
113

ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا هذا إذا لم يكن هناك ما يدل على انهما دخلا على العهد فان
دل دليل على ذلك حمل اللفظ عليه قال أبو على مثل ذلك في اسم الجنس وأسماء الجموع وامتنع
من القول به في الأسماء المشتقة وقال أبو هاشم خاصة لا يدل في هذه المواضع كلها على الاستغراق
بل يدل الألف واللام اما على العهد أو على تعريف الجنس فاما الاستغراق فلا يدل على
ذلك الا ان يقترن به دليل يدل عليه نحو قوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما
وقوله ان الفجار لفي جحيم وقوله اقتلوا المشركين ان جميع هذه المواضع المراد به
الاستغراق لان الكلام خرج مخرج الزجر والزجر حاصل في الجميع كما هو حاصل في
كل واحد منهم فلأجل ذلك حملته على الجميع وفي الناس من قال ان الذي ادعاه أبو
هاشم من تعريف الجنس غير معقول أصلا ولا يفهم من الألف واللام الا الاستغراق
أو العهد فهذا جملة الخلاف بين من قال بالعموم في هذه الالفاظ فاما من قال
بالخصوص أو بالوقف فقولهم في هذه الالفاظ مثل قولهم فيما مضى على السواء والذي
اذهب إليه هو الأول والذي يدل على ذلك حسن الاستثناء في جميع هذه الالفاظ
الا ترى انه يحسن ان يقال ان الانسان لفي خسرا الا زيدا وعمروا فيستثنى كل واحد من
الناس من اللفظ الأول وكذلك إذا قال رأيت الرجال يحسن ان يستثنى كل واحد منهم وكذلك
يحسن الاستثناء من قوله اقتلوا المشركين وقوله ان الفجار لفي جحيم ومن قوله ويقول
الكافر وما جرى مجرى ذلك من الالفاظ وقد بينا في الباب الأول ان من حق الاستثناء
ان يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله تحته وفي ذلك اقتضاء هذه الالفاظ الاستغراق
فان دفعوا حسن الاستثناء في هذه المواضع دفعهم أصحاب الخصوص والوقف عن دخوله
فيما مضى من الالفاظ فان قالوا يحسن دخوله ولا يدل على الاستغراق قال لهم أصحاب
الخصوص والوقف مثل ذلك في من وما وإذا كان الكلام مع أصحاب الخصوص والوقف
يكون (فيكون خ ل) الكلام على ما رتبناه في من وما على حد سواء فاما الذي اختاره أبو هاشم من
انهما يقتضيان تعريف الجنس فلسنا نمنع من ان ذلك قد يراد في بعض الأحوال كما لا
يمنع من ان يراد بهما المعهود على بعض الأحوال ولا يدل ذلك على انه يجب حملهما عليه ابدا
114

كما لا يجب ذلك في حمله على العهد ابدا فاما من دفع ابا هاشم عن ذلك وقال ان ذلك غير
معقول فباطل لأنا نحن نعلم ان القائل إذا قال اكلت اللحم ولبست الجباب أو الثياب أو
جاء وقت لبس الجباب لا يريد بذلك اكله لحما بعينه ولا انه اكل جميع اللحوم وانما
أراد تعريف هذا الجنس بعينه وكذلك لا يريد بذلك اكله لحما بعينه وكذلك لا يريد لبس جميع
الجبات ولا جبابا بأعيانها وانما يريد تعريف هذا الجنس والكلام في ذلك بين فمن دفعه
كان دافعا لما هو معلوم ويدل أيضا على ذلك ان أهل اللغة نصوا فقالوا ألفاظ الأجناس
تدل على القليل والكثير ولاجل ذلك قالوا ان لفظ الجنس لا يجوز ان يجمع لأنه بنفسه
يدل على القليل والكثير فجمعه عبث وانما يحسن جمعه إذا اختلفت الأجناس ولا يدل
بعضها على بعض فح يستفاد بالجمع أجناس مختلفة فاما في الجنس الواحد فلا يحسن
على حال ولا يجب من حيث ان الألف واللام يدخلان للعهد أو لتعريف الجنس على
ما ذهب إليه أبو هاشم ان لا يفيد الاستغراق كما لا يجب ذلك في من وما لأنهما قد يستعملان
في المعهود ولا يدل ذلك على انهما لا يستعملان في الاستغراق على حال واستدل أبو علي
على ان لفظ الجمع يقتضى الاستغراق إذا لم يدل دليل على انه أراد البعض بأن قال
انه قد ثبت انه حقيقة في الاستغراق كما انه حقيقة في أقل الجمع وإذا كان كذلك
ولا يكون هناك دلالة وجب حمله على الاستغراق وقال أيضا إذا كان الكلام صادرا
من حكيم فلو أراد أقل الجمع لبينه فلما لم يبين دل على انه أراد الاستغراق واعترض
على ذلك أبو هاشم وأصحاب الخصوص والوقف بان قالوا إذا كان ذلك حقيقة في
أقل الجمع كما هو حقيقة في الاستغراق وجب حمله على الأقل لأنه مقطوع به و
الاستغراق لابد من دلالة عليه فوجب أن لا يكون مرادا وقالوا إذا كان الكلام صادرا
من الحكيم ولا يدل على انه أراد الاستغراق دل على انه أراد أقل الجمع وتعارض القولان ووقف
الدليل والمعتمد عندي هو الأول واستدل أبو هاشم على ان لفظ الجمع لا يفيد الاستغراق
بان قال لو اقتضى ذلك لا اقتضاه (اقتضى خ ل) أكثر الاعداد وذلك يوجب أن يكون مقتضيا
لما لا يتناهى أو أن يكون حقيقة في كل عدد يوجد من الجموع (المجموع خ ل) وكل ذلك فاسد والكلام
115

على ذلك ان يقال أكثر ما في هذا ان يقتضى انه لا يجوز ان يفيد ما لا يتناهى لان ذلك
محال ولا يدل على انه لا يفيد استغراق ما يمكن ولو لزم هذا ههنا للزمه في من وما
بأن يقال لو أفاد الاستغراق لتعلق بما لا يتناهى وذلك باطل ولا جواب عن ذلك الا ما قلناه
من انه ينبغي أن يحمل على الاستغراق فيما يمكن فاما ما هو محال فكيف يحمل عليه واما استدلاله
على انه حقيقة في الثلاثة من حيث كان أقل الجمع فصحيح لا ينازع فيه وليس ذلك بمانع عند
من خالفه من ان يفيد الاستغراق أيضا حقيقة وانما يحمل على أحد الحقيقين لضرب من
الاعتبار واعلم ان الذي اعتبرناه من دليل الاستثناء في ألفاظ الجموع انما يدل على
انها تفيد الاستغراق حقيقة ردا على أصحاب الخصوص ولا يمكننا ان نقول انها لا تتناول
أقل الجمع أيضا حقيقة لان ذلك يكون مكابرة فإذا ثبت كونها حقيقة في الامرين و
صدر الكلام من حكيم ولم يقرن به ما يدل على انه أراد به أقل الجمع وجب حمله على انه أراد
الكل وليس لهم ان يقولوا اجعلوا فقد دلاله الاستغراق دلالة على انه أراد أقل الجمع
كما جعلتم فقد دلالة الأقل دلالة على انه أراد الاستغراق ويتعارض القولان وذلك
ان هذا انما يمكن ان يقال في ألفاظ الجموع الخالية من الألف واللام فاما إذا كانت فيهما (فيها خ ل)
الألف واللام فلا يفيدان الا استغراق لأنه لو أراد أقل الجمع لم يكن لادخالهما في الكلام
فائدة وكان اللفظ مع عدمهما يفيد أقل الجمع كما يفيد أكثر الجمع فإذا لابد من حمله على
الاستغراق والا كان ذلك لغوا فان عادوا إلى ان يقولوا ان ذلك يفيد العهد أو تعريف
الجنس قلنا نحن انما نتكلم في الموضع الذي لا نعلم انه أريد بهما العهد أو تعريف الجنس فاما إذا
علمنا انه أراد العهد أو تعريف الجنس وجب حمله عليه وذلك لا ينافي ما قلناه وهذه
جملة كافية في هذا الباب فصل في ان أقل الجمع ما هو ذهب المتكلمون وأكثر الفقهاء
إلى ان أقل الجمع ثلاثة وقال من شذ منهم ان أقل الجمع اثنان والصحيح هو الأول
والذي يدل على ذلك ان أهل اللغة فرقوا بين التثنية والجمع وخصوا كل واحد منهما بأمر
لا يشركه فيه الاخر فقالوا التثنية تكون بالألف والنون والياء والجمع يكون بالواو والألف
والياء كما فرقوا بين الواحد والاثنين فان جاز أن يدعى في التثنية انهما جمع جاز ان يدعى
116

في الواحد انه تثنية أو جمع وقد علمنا خلاف ذلك ويدل على ذلك أيضا انهم يقولون للاثنين
فعلا إذا أمروهما وللجماعة افعلوا ويثنون بالألف ويجمعون بالواو وعلى مذهب الخصم كان
يجب أن لا يكون بينهما فرق ويدل أيضا على ذلك انهم يفسرون بلفظ الجمع عدد الثلاثة فيقولون
ثلاثة رجال ولا يفسرون به الاثنين بل يقولون رجلان فعلم بجميع ذلك الفرق بينهما وأيضا فان
السامع إذا سمع المتكلم يقول رأيت رجالا لا يفهم من ذلك ولا يسبق إلى قلبه الا ثلاثة ولا يسبق
إلى قلبه اثنان أصلا فعلم ان الحقيقة ما قلناه فاما من خالف في ذلك فإنه يستدل
بأشياء منها ان الجمع مأخوذ من ضم شئ إلى شئ وذلك موجود في الاثنين فينبغي أن يكون
جمعا والجواب عن ذلك انا لا ننكر ان يكون أصل الاشتقاق ما ذكروه لكن صار بعرف اللغة
ومواضعتهم مخصوصا ببعض ذلك وهو إذا كانوا ثلاثة منضمين فهو جمع وجرى ذلك مجرى
قولهم دابة في انه موضوع في أصل اللغة لكل ما يدب ثم صار بعرف اللغة مخصوصا
لدابة بعينها فكذلك لفظ الجمع على انه انما (انا) نريد بقولنا أقل الجمع ثلاثة ان
احكام الثلاثة لا تجرى على الاثنين واحكام الاثنين لا تجرى على الثلاثة على ما بيناه فان
سلموا ذلك وقالوا مع ذلك الاثنان من حيث الاشتقاق كان ذلك خلافا في عبارة لا يعتد
بمثله واستدلوا أيضا بما روى عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال الاثنان فما فوقهما جماعة فسماهما جماعة
والجواب عن ذلك ان قوله (ع) ينبغي ان يحمل على الاحكام لأنها المستفادة من جهته (ع)
ولا يحمل على الأسماء لأنها مستفادة معلومة باللغة وقد قيل في معناه شيئان
أحدهما انه كان نهى عن خروج الرجل وحده في السفر ثم أباح ذلك في الاثنين فخرج
عند ذلك ان حكم الاثنين في جواز السفر حكم الثلاثة وما زاد على ذلك والوجه الاخر
انه أراد بذلك فضيلة الجماعة في الصلاة لان حكم الاثنين في انعقاد الجماعة بهما
وحصول الفضل لهما حكم الثلاثة وما زاد على ذلك فينبغي أن يحمل الخبر عليهما و
منها قوله تعالى وكنا لحكمهم شاهدين وعنى بذلك داود (ع) وسليمان وهما اثنان ومنها
قوله تعالى إذ دخلوا على داود وانما أراد به الخصمين والجواب عن ذلك من وجهين أحدهما
ان ذلك مجاز وكلامنا في الحقيقة وجرى ذلك مجرى قولنا انا نحن نزلنا الذكر وانا
117

له لحافظون ونحو قوله وكنا لحكمهم شاهدين ولا خلاف ان لفظ الجماعة في الواحد مجاز
فلو لزم ما قالوه للزم أن يكون ذلك حقيقة في الواحد وللزم في قوله وهل اتيك نبأ الخصم
إذ تسوروا المحراب لان لفظ الخصم لفظ الواحد ومع ذلك قد اخبر عنه بلفظ الجمع وذلك
مجاز بلا خلاف والوجه الثاني ان قوله وكنا لحكمهم شاهدين أراد به داود وسليمان والمحكوم
عليه والخصم وهم جماعة فلأجل ذلك اخبر عنهم بلفظ الجمع وكذلك قالوا في قوله تعالى خصمان
بغى بعضنا على بعض انه أراد به جنس الخصمين لان لفظة خصم لفظ المصدر ويقع (ويطلق) على
الواحد والجماعة والذكر والأنثى على حد واحد لأنهم يقولون رجل خصم وامرأة خصم و
نساء خصم كل ذلك بلفظ واحد وإذا ثبت ذلك كان قوله خصمان لا يختص بالاثنين
دون (من) ما زاد عليهما فلأجل ذلك اخبر عنهما بلفظ الجماعة وقووا ذلك بان قالوا قال
في أول الآية وهل اتيك نبأ الخصم إذا تسوروا المحراب فأخبر عن الخصم بكناية الجماعة
فعلم بذلك انه أراد الجنس دون الواحد وعلى الوجهين جميعا سقط التعلق بالآيات
فصل في معنى قولنا ان العموم مخصوص وان الله تعالى يجوز أن يريد بالعام الخاص معنى
قولنا العموم مخصوص هو انه استعمل في بعض ما وضع له دون بعض وذلك مجاز لان
حقيقة المجاز ثابتة فيه وشبه ذلك بالمخصوص الذي وضع في الأصل للمخصوص وإذا
استعمل في بعض ما وضع له في الأصل لا يصير حقيقة فيه لأنا قد دللنا على ان للعموم
صيغة وان حقيقتها الاستغراق فمتى استعمل في غير ذلك ينبغي أن يكون مجازا لان حقيقة
المجاز هو أن يستعمل اللفظة في غير ما وضعت له وهذا موجود في العموم إذا أريد به الخصوص
فينبغي أن يكون مجازا ولهذا لا يقولون لمن خاطب وأراد به بعض ما تناوله انه مخاطب بالخصوص
ولا انه خص الخطاب كما يقولون ذلك في الالفاظ الخاصة فعلم ان ذلك مجاز فاما إذا
قيل فلان خص العموم فالمراد بذلك انه علم من حالة المخصوص بدليل دله على ذلك ويقال
فيمن اعتقد ذلك أيضا فيه وان لم يكن اعتقاده علما وقد استعمل كثير من الفقهاء
لفظ التخصيص فيما ليس بعام إذا علم بالدليل انه عام مثل الافعال وغيرها ونحن نبين ذلك
فيما بعد ان شاء الله تعالى ويفارق قولنا ان العام مخصوص (امر افعال النبي صلى الله عليه وآله) لقولنا ان الخطاب منسوخ في
118

الحكم والحد جميعا وقد ظن بعضهم انهما سواء وذلك خطأ من وجوه لان حد التخصيص ما دل ان المراد باللفظ
بعض ما يتناوله دون بعض وحد النسخ ما دل على ان مثل الحكم الثابت بالخطاب زائل في المستقبل على وجه لولاه
لكان ثابتا بالخطاب الأول مع تراخيه عنه فحدهما مختلف على ما ترى ولان التخصيص يؤذن بان المراد بالعموم عند
الخطاب ما عداه والنسخ يحقق ان كل ما تناوله اللفظ كان مرادا في حال الخطاب وان كان غير
مراد في ما عداه وأيضا فان من حق التخصيص لا يصح الا فيما تناوله اللفظ والنسخ قد تصح فيما علم
بالدليل انه مراد منه وان لم يتناوله اللفظ وأيضا فان النسخ يدخل في النص على عين واحدة
والتخصيص لا يدخل فيه وأيضا فالنسخ في الشرع لا يقع بأشياء يقع التخصيص بها نحو أدلة
العقل والأدلة المتصلة بالخطاب من الاستثناء وغيرها من اخبار الآحاد والقياس
والأدلة المستنبطة عند من أجاز التخصيص بها والتخصيص قد لا يقع ببعض ما يقع به النسخ
فعلم بجميع ذلك ما مفارقة التخصيص النسخ ولا يجب من حيث شارك التخصيص النسخ في
بعض الاحكام ان يكونا بمعنى واحد كما ان مشاركة بيان المجمل للتخصيص في بعض الاحكام
لا يدل على ان معناهما واحد وكون النسخ في المعنى تخصيصا من حيث انه تخصيص للأوقات
لا يوجب انه تخصيص لأنه أخص منه والتخصيص أعم وكل ذلك يوجب افتراقهما في
الحد والحكم فإذا ثبت ذلك فالقديم تعالى يجوز أن يريد بالعام الخاص لان أهل اللغة
إذا كانوا استجازوا ذلك وتعارفوه وجرت عادتهم باستعماله وكان القديم تعالى
متكلما بلغتهم وجب أن يجوز أن يتكلم بذلك ويريد به الخصوص كما انه يجوز أن يتكلم
بالمجاز والحقيقة والإطالة تارة والايجاز أخرى ويؤكد كلامه تارة ولا يؤكد أخرى لما
كان ذلك من عادة أهل اللغة وكان تعالى متكلما بلغتهم فينبغي أن يتكلم على طريقتهم
الا انه متى تكلم بلفظ العام وأراد به الخاص فلابد من أن يدل عليه ويقولون به
ما يدل على تخصيصه والا كان موجبا لاعتقاد الجهل كما انه إذا أراد بالحقيقة المجاز فلابد
من أن يدل عليه وأيضا فإذا جاز أن يتكلم بالعام ويستثنى منه جاز أن يدل عليه دليلا
غير الاستثناء يعلم به انه أراد الخصوص لان الاستثناء دليل التخصيص كما ان غيره
من الأدلة كذلك ويدل على جواز ذلك أيضا ان الله تعالى تكلم في مواضع بلفظ العام
119

وقد علمنا انه الخصوص فلولا ان ذلك كان حسنا والا لم يحسن منه ذلك وليس لاحد أن يقول
كما لا يحسن منه الاخبار الا على القطع والامر الا على الشروط في بعض الوجوه وحسن ذلك فينا
فكذلك لا يمتنع استعمال العام في الخاص فينا وان لم يحسن فيه تعالى وذلك ان هذا أولا
باطل بما قلناه من وجودنا مواضع كثيرة من القران ظاهرها العموم وقد علمنا انه أراد بها
الخصوص بل أكثر القران كذلك ثم انه انما حسن منا الاخبار والأوامر بالشروط لما لم يكن
لنا طريق إلى العلم بما يمنع من الشروط ولم يحسن ذلك في القديم تعالى العالم بالعواقب
ولذلك لا يحسن منا ان يخبر عما يعلمه بشرط لما كان العلم حاصلا لنا وهذه جملة
كافية في هذا الباب فصل في ان العموم إذ خص كان مجازا وما به يعلم ذلك وحصر
أدلته ذهب كثير من أصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة إلى ان العموم مع الدليل الذي
خص به حقيقة فيما عدا ما خص منه سواء كان ذلك الدليل لفظا متصلا أو منفصلا أو
غير اللفظ وذهب أبو عبد الله البصري إلى أنه ان كان ذلك الدليل لفظا متصلا من استثناء
وغيره كان حقيقة فاما إذا لم يكن متصلا فإنه يصير مجازا وذهب أبو علي وأبو هاشم ومن
تبعهما وأكثر المتكلمين وباقي الفقهاء إلى أنه يصير مجازا بأي دليل خص وهو الصحيح والذي يدل
على ذلك انا قد بينا في هذا الكتاب ان حقيقة المجاز ان يستعمل اللفظ في غير ما وضع له
فإذا ثبت ذلك وقد دللنا على ان للعموم صفة مختصة تفيد الاستغراق فينبغي إذا
استعملت فيما دون الاستغراق أن يكون مجازا لثبوت الحقيقة فيه وهذا يبين أنه
يصير مجازا بأي دليل خص سواء كان لفظا متصلا أو منفصلا أو غير لفظ وليس لاحد
أن يقول ان العموم إذا خص فلم يتناول غير ما كان يتناوله بل ما يتناوله في حال الاستغراق
فكيف يكون مجازا وذلك انا لم نقل انه يصير مجازا لتناوله ما تناوله وانما صار مجازا لأنه لم
تتناول ما زاد عليه من الاستغراق فصار في ذلك كأنه استعمل في غير ما وضع له فان قيل
ليس الكلام إذا انهم بعضه إلى بعض تغير معناه ولا يكون ذلك مجازا وذلك بنحو الخبر إذا انضم
إلى المبتداء والحروف الداخلة على الجمل من حرف شرط أو استفهام أو نفى أو تمنى وما أشبه ذلك
فقولوا في العموم أيضا مثل ذلك إذا خص انه لا يصير مجازا بما قارنه من الدليل الذي اقتضى تخصيصه
120

قيل لهم أول ما في هذا ان الشبهة توجب أن لا يكون في الكلام مجاز أصلا لأنه يق ان اللفظ وما دل على انه
مجاز كلاهما حقيقة فيما أريد به وهذا إذا صح البطلان ثم ان هذه الأمثلة انما يمكن أن تكون شبهة
لمن قال إذا خص بدليل لفظي متصل لا يصير مجازا فاما إذا خص بدليل غير مقترن باللفظ أو بدليل
منفصل وان كان لفظيا فلا يكون ذلك نظيرا لهذه الأمثلة ونحن نجيب عن جميع ذلك ونفصل
بينه وبين العموم واما ما ذكروه من الخبر إذا انضاف إلى المبتداء فإنما كان كذلك لان المبتداء
بانفراده لا يفيد شيئا بل احتاج في الفايدة إلى الخبر الذي تكمل الفائدة به وجرى ذلك مجرى بعض
الاسم في انه لا يفيد حتى يتكامل جميع حروفه ولا يق ان انضمام بعض الحروف إلى بعض
لتكامل الفائدة مجاز وقيل تكاملها يكون حقيقة لان ذلك كله فاسد لان الفائدة
انما يتم عند اخر حرف منها فكذلك القول في المبتداء والخبر وليس كذلك القول في العموم لان
لفظ العموم مستقل بنفسه ويفيد فائدته الذي وضع له ولا يحتاج إلى امر اخر وانما دخل عليه
ما اقتضى استعماله في غير ما وضع له ينبغي ان يحكم بكونه مجازا فاما الحروف الداخلة على الجمل
فإنما تحدث فيها معنى من المعاني فتغير معناها ان كانت خبرية ودخل عليها حرف الاستفهام
احدث فيها معنى الاستخبار وكذلك لفظ المتمنى وحروف الشرط وغيره لم يغير هذه الحروف
احكام الجملة من الزيادة إلى نقصان أو نقل إلى غير ما وضع له فلا ينبغي أن يكون مجازا
وليس كذلك ألفاظ العموم لأنها بعد التخصيص لا يفيد ما كانت تفيده قبل التخصيص فينبغي
ان يكون مجازا على ان هذا يوجب الا يكون قول القائل رأيت سبعا ثم قال عقيب ذلك
انى أردت رجلا شجاعا أو قال رأيت حمارا أو حائطا ثم قال أردت بليدا مجازا لأنه قد وصل
بالكلام لفظا دل به على مراده وجرى ذلك مجرى الحروف الداخلة على الجمل حسب ما سئلنا (ما استثنا خ ل) في العموم
سواء وهذا لا تقوله أحد وإذا لم يلزم ذلك فكذلك ما يلزم في العموم إذا خص بدليل متصل به
أو منفصل إذا كان لفظيا فان تعاطوا الفرق بين ذلك فكل شئ أوردوه في ذلك أمكننا
ان نورد أمثلة فيما سئلنا عنه فاما ما به يصير العام خاصا فهو قصد المخاطب لان اللفظ
إذا كان موضوعا للاستغراق فإذا أراد استعماله فيها وضع له يحتاج أن يقصد إلى ذلك وكذلك
إذا أراد أن يستعمله في بعض ما وضع له يحتاج أن يقصد إلى ذلك وجرى ذلك مجرى اللفظ
121

الموضوع للامر في انه يحتاج أن يقصد به ما وضع من استدعاء الفعل فإذا أراد استعماله في التهديد
أو النهي يحتاج إلى القصد إلى ذلك فإذا ثبت هذا الجملة فالتخصيص في الحقيقة يقع بالقصد لا
بالأدلة الدالة على ذلك من الكتاب أو السنة أو الفعل لان هذه الأدلة للكشف عن غرض المتكلم
بالخطاب وهل قصد العموم أو الخصوص وليست موجبة لذلك وان قلنا ذلك لان التخصيص
مضاف إلى المتكلم فيقال انه مخصص بخطابه فينبغي أن يكون وقع ذلك بشئ من فعله
ولا يقع بالدليل الذي ربما كان من فعل غيره وجرى ذلك مجرى قصده إلى استعمال اللفظ
فيما ان وضع له في ان القصد يفيد تعلقه فيما وضع له أو غير ما وضع له في المجاز
دون الدليل الدال على ذلك وعلى هذا سقط قول من قال ان من شأن التخصيص الا
يقع الا بأمر متصل بالخطاب مجاز وله ولا يجوز أن يقع بالأدلة المنفصلة لان على هذا
التحرير الذي قلنا ان التخصيص يقع بالقصد قد أجبنا إلى ما قاله والقصد مقترن بالخطاب
غير منفصل منه فاما الأدلة الدلالة على ذلك فلا يجب ذلك فيها لأنها قد يكون
متصلة به وقد تكون متقدمة عليه الا ترى ان أدلة العقل يخص بها الخطاب العام
على بعض الوجوه ومع هذا فهي متقدمة لحال الخطاب وليست الأدلة الدالة على التخصيص
تجرى مجرى نفس التخصيص وقد يقال في الأدلة انها هي المخصصة وذلك تجوز والحقيقة
ما قلناه وانما يسوغ لهم ذلك من حيث يوصل بها إلى العلم بالخصوص فاطلق عليها
انها المخصصة وذلك مجاز على ما بينا فاما الأدلة الدالة التي يعلم بها التخصيص فعلى
ضربين أحدهما ما يتصل بالخطاب من الكلام والاخر ما ينفصل منه من الأدلة وما
يتصل بالخطاب ينقسم اقساما منها الاستثناء وله حكم نفرد له بابا ومنها الشرط وله أيضا
احكام سنبينه ومنها تقييد الخطاب بالصفات ولذلك أيضا باب مفرد نذكره وما
يتصل من الأدلة فعلى ضربين أحدهما دليل توجب العلم من دليل العقل أو الكتاب أو السنة
أو الاجماع وهذه الأدلة كلها لا خلاف بين أهل العلم في جواز تخصيص العموم بها وانما
قالوا ذلك لأنه لا يجوز القول بتكافئ الأدلة وإذا كان العام دليلا على الاستغراق
وما دل على الخصوص دل على تخصيصه فلابد من تخصيص العام به والا أدى إلى اسقاط أحد
122

الدليلين وابطاله أو ابطالهما معا والعدول إلى الاخر وكل ذلك فاسد والضرب الاخر وهو الذي لا يوجب
العلم وهو على ضربين خبر واحد وقياس فاما الخبر الواحد فنذكر ما عندنا في ذلك في باب مفرد
واما القياس فلا يجوز العمل به أصلا لا في تخصيص العام ولا غيره من الاحكام ونحن ندل
على ذلك فيما بعد ان شاء الله تعالى ومن خالفنا من الفقهاء الذين أوجبوا العمل بالخبر الواحد و
القياس اختلفوا في جواز تخصيص العموم به وسنذكر اختلافهم من ذلك فيما بعد ان شاء الله
تعالى وهذه جملة كافية شافية في هذا الباب فصل في ذكر جملة من احكام الاستثناء ذهب
المتكلمون بأجمعهم والفقهاء المحصلون إلى ان من شرط الاستثناء أن يكون متصلا بالكلام
ولا يجوز انفصاله عنه وحكى عن ابن عباس انه كان يذهب إلى انه كون ما خبره عن حال الخطاب
وذلك مستبعد من قوله والذي يدل على صحة ما قلناه أولا ان أهل اللغة لا يعدون
ما انفصل عن الكلام استثناء كما لا يعدون ما تقدم كذلك فلو جاز لاحد أن يخالف
في المتأخر فيسميه استثناء جاز لغيره أن يخالف في المتقدم فيسميه استثناء ويدل
أيضا على ذلك ان الاستثناء متى انفصل عن حال الخطاب لا يفيد أصلا فكيف يجوز أن
يكون استثناء من الكلام المتقدم فان قالوا الاستثناء متأخر ولا يستقل بنفسه فلا يفيد فإنه
يجوز أن يقرن به من الكلام ما يدل على انه متعلق بالكلام الأول فيفيد ويتعلق به قيل له إذا
كان لا يفيد بنفسه وانما يتعلق بالكلام الأول بلفظ يقترن به فقد صار المخصص للكلام
الأول اللفظ الذي اقترن بالاستثناء وإذا كان كذلك فلا معنى للاستثناء وكان استعماله لغوا
وليس لهم أن يقولوا ان القائل إذا قال رأيت القوم ثم قال بعد زمان الا زيدا وقال أردت بهذا
استثناؤه من اللفظ الذي أفاد انه غير داخل في الجملة الأول ولو لم يذكر الاستثناء أصلا و
اقتصر على هذا القول المقترن به لما أفاد ذلك فعلم بذلك ان التخصيص يقع بلفظ الاستثناء وانما
يعلم بالكلام المقترن به تعلقه بالأول وذلك ان هذا متى كان على ما ذكر يفيد غير انه لا يحسن
من وجهين أحدهما ان بيان تخصيص العموم لا يجوز ان يتأخر عن حال الخطاب على ما سنبينه فيما
بعد وإذا لم يجز ذلك لم يحسن (ذلك خ ل) هذا الوجه والثاني انه يؤدي إلى أنه لا يفهم بشئ من الكلام
امر أصلا ولا باخبار النبي (ع) إذا اخبر عن نفسه أو اخبار الله تعالى إذا اخبر عما يفعله لأنا لاناء من
123

أن يأتي بعد ذلك استثناء يدل على انه أراد بعض ما تناوله اللفظ الأول وكذلك لا يفهم بالكلام
حقيقة ما وضع بأن يأتي في المستقبل دليل يدل على انه أراد المجاز وهذا يؤدى إلى ما قدمناه
من ان لا يفهم بالكلام شئ أصلا وذلك فاسد على ان الذي ذكروه لو حسن تأخير الاستثناء
لحسن تأخير المبتداء عن المبتداء مثلا أن يقول القائل اليوم زيد ويقول غدا قائم ويقرن به
من الكلام ما يدل على انه متعلق بما تكلم به أمس فان ارتكبوا ذلك كان قبحه معلوما وان
راموا الفصل لم يجدوه وإذا ثبت ما قلناه عن وجوب اتصاله بالكلام فمن حقه أن يخرج
من الكلام ما لولاه لوجب دخوله تحته وقد دللنا على ذلك في باب ان العموم له صيغة بما
بيناه من ان الاستثناء في الاعداد يفيد ذلك فينبغي ان يكون ذلك حقيقة واستوفيا الكلام
فيه فاما استثناء الأكثر من اللفظ والأقل فذهب أكثر المحصلين من المتكلمين والفقهاء وأهل
اللغة إلى ان استثناء الأكثر من اللفظ يجوز وقال بعضهم انه انما يحسن استثناء الأقل
فاما استثناء الأكثر فلا يجوز لان ذلك لم يوجد مستعملا والذي يدل على صحة ذلك
ان الاستثناء يخصص للكلام الأول كما يجوز أن يخص اللفظ ويخرج منه الأكثر فكذلك حكم
الاستثناء لأنه بعض أدلة التخصيص وأيضا إذا كان من حقه ان يخرج من الكلام ما لولاه
لوجب دخوله تحته فلا فرق بين أن يخرج الأكثر والأقل في أنه على حد واحد فاما قول
من خالف في ذلك لم يستعمل فلا يبطل ما قلناه لأنه كلما قل استعماله لم يحسن ولو لزم
ذلك للزم أن لا يحسن استثناء النصف من الكلام وما يقارب النصف لان ذلك
أيضا غير مستعمل وذلك لا خلاف في جوازه فاما الاستثناء من غير الجنس فلا يمكن دفع استعماله
لأنهم قالوا ما في الدار أحد الا وتد وقالوا وبلدة ليس لها أنيس الا اليعافير والا العيس ووتد ليس
من أحد ولا اليعافير من جملة الأنيس وغير ذلك غير انه وان كان مستعملا فإنه مجاز وذهب
قوم إلى أنه حقيقة والذي يدل على ما قلناه انا قد بينا ان من حق الاستثناء أو يخرج من الكلام
ما لولاه لوجب دخوله تحته ونحن نعلم ان القائل لو قال ما في الدار أحد ولم يستثن لم يفهم
من ذلك الا نفي العقلاء ولا يفهم منه نفي الأوتاد فإذا قال الا وتد فينبغي ان لا يكون
استثناء حقيقة ويكون مجازا لأنه لم يدخل في الكلام الأول فكذلك لو قال بلدة
124

ليس لها أنيس وسكت لم يفهم من ذلك الا أنه ليس بها انسان ولم يفهم من ذلك انه ليس بها بهائم فكذلك
إذا قال الا اليعافير والا العيس يجب أن يكون مجازا وانما حسن عندهم هذا النوع من الاستثناء
لأنه فيه معنى من الكلام الأول لأنه إذا قال ما في الدار أحد أفاد انه ليس فيها أحد ثابت فلما كان
الوتد ثابتا في الدار حسن أن يستثنى من الثبوت لا من لفظ أحد وكذلك قالوا في قولهم وبلدة ليس
لها أنيس انه نفى كون الناس مقيمين فيها فلما كانت اليعافير والعيس مقيمة فيها حسن أن يستثنيها
من الإقامة وقال قوم انه لم يرد بالأنيس الناس وانما أراد ما يونس به ويسكن إليه ولما كانت
اليعافير والعيس مما يسكن إليها على بعض الوجوه ويستأنس بها حسن أن يستثنى منها وعلى هذا
الوجه فالاستثناء ما وقع الا من جنسه واما قوله تعالى فسجدوا الملائكة كلهم أجمعون
الا إبليس فقد قيل فيه وجهان أحدهما ان إبليس كان من جملة الملائكة الا انه عصى بترك
السجود فحسن أن يستثنيه من جملة الملائكة هذا على مذهب من جوز على جنس الملائكة المعاصي
ومن لم يجوز ذلك عليهم قال انما الاستثناء لأنه كان أيضا مأمورا بالسجود كما انهم كانوا
مأمورين كذلك واستثناه من جملة المأمورين جميعا لا من جملة الملائكة ويكون ذلك حملا على
المعنى الوجهان قريبان فاما قوله وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا الا خطأ فقد
قيل فيه ان المؤمن لا يقتله الا خطأ لأنه لو قتله متعمدا لم يكن مؤمنا لان الفسق يخرج
من اطلاق الايمان عليه ومن قال الفسق لا يخرج من الايمان قال قوله الا خطاء معناه بمعنى
لكنه ان قتل خطأ كان حكمه كذا وكذا وكذلك قوله لا عاصم اليوم من امر الله الا من رحم
منقطع عن الأول لان من رحم معصوم وهو ليس بمعصوم يدخل في الكلام الأول فاما من
خالف في ذلك وحمل الاستثناء على الاقرار وقال كما يحسن أن يستثنى في الاقرار من غير جنس ما
أقر به فكذلك في الاخبار وغيرها فقوله يبطل لان هذا طريقة القياس وليس يجوز أن يثبت
اللغة واحكام ألفاظها بالقياس ثم الصحيح في الاقرار ما نقوله في الاستثناء انه لا يحسن أن يستثنى
فيه من غير جنس فان دل دليل من اجماع وغيره على خلافه حكمنا بجوازه وعلمنا انه استثناء
منقطع كما قلناه فيما تقدم من الالفاظ فاما إذا تعقب جملا كثيرة فإلى أيها ترجع فسنذكره
في باب مفرد انشاء الله تعالى وحده فصل في ان الاستثناء إذا تعقب جملا كثيرة
125

هل يرجع إلى جميعها أو إلى ما يليه ذهب الشافعي وأصحابه إلى الاستثناء إذا تعقب جملا كثيرة وكان
يصح أن يرجع إلى كل واحد منها بانفرادها يجب أن يرجع إليها كلها وذهب أبو الحسن الكرخي
وأكثر أصحاب أبي حنيفة إلى أنه يرجع إلى ما يليه من المذكور وقال سيدنا المرتضى قدس الله روحه
انه يرجع إلى ما يليه قطعا ويجوز مع ذلك رجوعه إلى ما تقدمها من الجمل ويقف ذلك على البيان
ويقوى في نفسي المذهب الأول والذي يدل على ذلك ان الكلام الأول إذا عطف بعضه على بعض
بالواو الموضوعة للجمع صار كأنه مذكور بلفظ واحد الا ترى انه لا فرق بين أن يقول القائل
رأيت زيدا وعمروا وخالدا وبين أن يقول رأيتهم بلفظ يشملهم فإذا صح ذلك والاستثناء
لو ذكر عقيب الجملة المتناولة لجميعهم كان متعلقا بهم فكذلك إذا ذكر عقيب الجمل المعطوف
بعضها على بعض لأنها في حكم الجملة الواحدة ويدل أيضا على ذلك ان الشرط إذا تعقب جملا كثيرة
ولا خلاف في أنه يرجع إلى جميعها والعلة الجامعة بينهما ان كل واحد منهما لا يستقل بنفسه
ويحتاج إلى تعليقه بغيره ليفيد فلما اتفقا في هذا الحكم وجب اتفاقهما في وجوب رجوع
كل واحد منهما إلى ما تقدم فان قيل انما وجب ذلك في الشرط لان له صدر الكلام فهو وان
ذكر اخر الكلام فكأنه مذكورا في أوله في الجمل كلها معطوفة عليه وهو داخل عليها ووجب
تعلقه بها كلها وكذلك حكمه إذا تأخر قيل لهم لا نم ان له صدر الكلام حتى لا يجوز أن يؤخر
بل الوجود بخلافه وانما يستعمل تارة في صدر الكلام وتارة في اخره وليس مخالفته للاستثناء
في جواز تقدمه بموجب مخالفته في كل وجه الا ترى انه قد خالف الاستثناء أيضا في أنه لا
يدخل الا على افعال مستقبلة أو ما تقدر فيها الاستقبال وليس كذلك الاستثناء فإنه
يدخل على ما كان ماضيا أو مستقبلا أو يكون اسما وليس فيه معنى الفعل أصلا وكل ذلك
لا تصلح (لا تصح خ ل) في الشرط ولم يجب بذلك أن يكون حكم الاستثناء حكمه فكذلك فيما قلناه ويدل
أيضا على ما ذهبنا إليه ان الاستثناء بمشية الله إذا تعقب جملا كثيرة وجب رجوعه إلى
جميعها فكذلك يجب أن يكون حكم الاستثناء الاخر مثله والعلة الجامعة بينهما قدمناها
من افتقار كل واحد منهما إلى ما يتعلق به وكونه غير مستقل بنفسه واستدل من خالف
على صحة ما ذهب إليه بان قال ان الاستثناء انما وجب تعليقه بما تقدم لأنه لا يستقل
126

بنفسه لما وجب ذلك فيه فإذا علقناه بما يليه فقد أفاد واستقل بنفسه فلا معنى لرده إلى جميع
ما تقدم والجواب عن ذلك ان هذا ولا ينتقض بالشرط والاستثناء بمشية الله لأنهما
انما علقنا بما تقدم لأنهما لا يستقلان بأنفسهما ومع هذا لا يجب تعليقهما بما يليهما فحسب
دون ما تقدم وكذلك القول في الاستثناء ثم إذا وجب تعليقه بما تقدم لكونه غير مستقل
بنفسه فلم صار بان تعلق بما يليه من ان تعلق بما قبله وإذا لم يكن هناك ما يخصصه
بما يليه وجب تعليقه بجميع ما تقدم لفقد الاختصاص واستدلوا أيضا بان قالوا قد
ثبت ان الاستثناء من الاستثناء لا يرجع إلى الجملة الأولى فكذلك القول في الجمل
الكثيرة يجب أن يكون جملة ذلك الحكم في رجوعه إلى ما يليه والجواب عن ذلك من وجوه
أحدها انا انما أوجبنا في الجمل الكثيرة أن يرجع إلى جميعها لما تقدم بعضها على بعض بواو
العطف التي توجب الاشتراك وتصير الجمل الكثيرة في حكم الجملة الواحدة على ما بيناه
وليس هذا موجودا في الاستثناء من الاستثناء لأنه ليس هناك ما يوجب اشتراك
الجملة الثانية للجملة الأولى فلا يجب أن يرجع إلى الجملة الأول والثاني انه
لم يحسن ذلك لأنه لا يفيد شيئا لان القائل إذا قال لزيد عندي عشرة الا ثلاثة فقد
أقوله بالسبعة فإذا قال بعد ذلك الا واحدا فان رددناه إلى الجملتين معا لكان يجب
ان ينقص من الثلاثة واحدا فيصير المستثنى منه ثمانية وكان يجب ان ينقص من الجملة
الأولى أيضا واحدا فيرجع إلى السبعة فلا يفيد الا ما أفاد الاستثناء الأول ولا يكون
لدخول الاستثناء الثاني فائدة قولنا انه لابد أن يكون الاستثناء من الجملة التي يليها
فيصير اقرارا بالثمانية ويكون ذلك مفيدا وليس لاحد ان يقول هل أردتموه إلى الجملة
الأولى فحسب وجعلتم كأنه أقر بستة وذلك ان هذا لم يعتبره أحد لان أحدا لم يقل انه
يرجع إلى ما تقدم ولا يرجع إلى ما يليه مع امكان أن يرجع إليه لان الناس بين قائلين قائل
يقول انه يرجع إلى ما يليه وهو مقصور عليه وقائل يقول يرجع اليهما وليس ههنا من يقول
انه يرجع إلى ما تقدم ولا يرجع إلى ما يليه وذلك باطل بالاتفاق ولان ذلك لو كان مردودا
إليها لوجب دخول واو العطف فيه فيقول له عندي عشرة الا ثلاثة والا واحدا حتى يكون اقرارا
127

بالستة وقد أجاب بعض من نصر المذهب الذي اخترناه عن شبهة الاستثناء من الاستثناء بأن
قال الاستثناء من الايجاب نفى ومن النفي ايجاب ومحال أن يكون الشئ الواحد مثبتا منفيا
وهذا ليس بصحيح وذلك ان الحال هو أن ينفى الشئ عن الحد الذي أثبت وذلك ليس بموجود ههنا
لان الاستثناء من الجملة الأولى التي هي مثله نفى والاستثناء من الجملة المنفية اثبات وهما
جملتان متباينتان فلا تنافى بين ذلك فيهما والمعتمد ما قلناه من الوجهين وقد استدل
كل واحد من الفريقين بأشياء وجدوها موافقة لما يذهبون إليه اما من رجوع الاستثناء إلى
ما يليه أو رجوعه إلى جميع ما تقدم لا يمكن الاعتماد عليها لان لقائل أن يقول ان ذلك انما
علم بدليل اخر غير الوجود فالمقول (فالقول خ ل) على الوجود لا يمكن لأنه يعارض الوجود ومخالف له وهذه
شبهة من خالف وقال بالوقف في ذلك على ما قلناه فعلم بذلك لان المعول على ما قلناه
فصل في ذكر جملة من احكام الشرط وتخصيص العموم به اعلم ان من حكم الشرط
الا يدخل الا على المنتظر اما لفظا أو تقديرا لان ما وجد مما مضى أو وجد الحال لا يصح
دخول الشرط فيه ومن حقه أن يخص الشروط (المشروط) الا أن يقوم دليل على أنه دخل للتأكيد فيحمل
عليه ويخرج المعنى من أن يكون شرطا فاما ما يخص للشروط فنحو قوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا
صعيدا ونحو قوله تعالى فمن لم يستطع فاطعام ستين مسكينا ولا فرق بين أن يكون الشرط
متقدما أو متأخرا في أنه يخصص المشروط وذهب النحويون إلى أنه متى تأخر فالمراد به
المتقدم لان له صدر الكلام ويقوى في نفسي انه لا فرق بين تقدمه وتأخره ولا يمتنع
أن يجعل الشرط الواحد شرطا في أشياء كثيرة كما لا يمتنع أن يكون الشرط الواحد مشروطا
بشروط كثيرة وذلك مثل قول القائل من دخل دارى واكل طعامي وشرب شرابي فله درهم فإنه
يستحق الدرهم إذا دخل الدار واكل وشرب فاما بواحد منها فلا يستحق ذلك وكذلك يصح أن
يقول ان دخلت الدار فلك خلعة ودراهم وطعام فإنه متى دخل استحق لجميع ذلك فتارة
يكون الشرط واحد والمشروط أشياء وتارة يكون الشرط أشياء والمشروط واحدا وكل ذلك
جائز وقد الحق هذا الباب تعليق الحكم بغاية لأنها تصير بمنزلة الشرط في ثبوت ذلك أو
نفيه وذلك نحو قوله ولا تقربوهن حتى يطهرن لأنه جعل تعالى نفى التطهير شرطا في خطير قربهن
128

ووجوده مبيحا لذلك ونحو قوله قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر إلى قوله حتى يعطوا الجزية
عن يد وهم صاغرون فجعل اعطاء الجزية حدا يجب عنده الكف عن قتالهم وزواله شرطا في ثبوت
القتل وكذلك قوله وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر فجعل طلوع
الفجر حدا يجب عنه الكف عن الطعام والشراب لمن أراد الصوم وعدمه مبيحا لذلك ونظائر ذلك كثيرة
وقد يجعل للحكم الواحد غايتان وأكثر وقد يجعل غاية واحدة لاحكام كثيرة كما قلناه في الشرط
سواء والشرط والغاية جميعا يدخلان في جميع احكام الافعال من واجب وندب ومباح فينبغي
أن يجرى الكلام على ما قلناه ان شاء الله تعالى فصل في ذكر الكلام المطلق والمقيد
التقييد يخص العام ويخص المطلق الذي ليس بعام فمثاله تخصيصه للعام قول القائل من دخل
دارى راكبا أكرمته ولقيت الرجل الاشراف فقوله راكبا خص لفظة من لأنه لو لم يذكره لوجب عليه اكرام
كل من دخل داره سواء كان راكبا أو ماشيا وكذلك لو لم يقيد لفظة الرجال بالاشراف لكان
متناولا لجميع الرجال سواء كانوا أشرافا أو غير اشراف وأما تخصيصه المطلق وان لم يكن عاما
مثل قوله تعالى فتحرير رقبة مؤمنة فقوله مؤمنة قد خص رقبة لأنه لو لم يكن يذكر ذلك لكان
يجوز تحرير أي رقبة سواء كانت مؤمنة أو غير مؤمنة وكذلك قوله شهرين متتابعين لأنه لو لم يذكر
ذلك لكان يجوز متتابعين وغير متتابعين والتقييد لا يخلوا من أن يكون متصلا بالمطلق أو
منفصلا منه فما كان متصلا فلا خلاف في أنه يخص المطلق وإذا كان منفصلا فلا يخلو
من أن يكون ما اطلق في موضع اخر بعينه الذي قيد في موضع اخر أو غيره فان كان هو هو بعينه
فلا خلاف أيضا في انه يجب تخصيصه به وان كان غيره فلا يخلو من أن يكون من جنسه أو
من غير جنسه فلا خلاف أيضا في أنه لا يجب تخصيصه به وأنه ينبغي أن يحمل المطلق على اطلاقه
ويحمل المقيد على تقييده وبيان ذلك انه (ان خ ل) يرد تحرير الرقبة مقيدا بالايمان في كفارة قتل الخطأ
ويرد مطلقا في باب النذر أو العتق المتبرع به فان كل واحد منهما ينبغي أن يحمل على ظاهره
على ما بيناه وان كان من جنسه فلا يخلو من أن يكون من جنسه في موضع اخر مقيدا فحسب أو يكون
في موضع مقيدا وفي موضع اخر مطلقا فان وجد من جنسه مطلقا ومقيدا في موضعين
فلا خلاف أيضا في أنه لا ينبغي حمله على أحدهما لأنه ليس بأن يقيد لأجل ما قيد من جنسه
129

بأولى من أن يحمل ما على اطلاقه لاطلاق ما اطلق من جنسه ومثاله صوم كفارة اليمين قالوا ليس أن
يحمل على ما شرط فيه التتابع من كفارة الظهار بأولى من أن يحمل على ما شرط فيه التفريق
من صوم المتمتع ويجب أن يترك على ظاهره وان كان من جنسه ما هو مقيدا فحسب نحو اطلاق الله
تعالى الرقبة في الظهار وتقييده لها بالايمان في كفارة قتل الخطأ فاختلف العلماء في ذلك فمنهم
من قال ان المطلق على اطلاقه لا يؤثر تقييد المقيد فيه وهو مذهب أصحاب أبي حنيفة وبعض
أصحاب الشافعي ومنهم من قال ان المطلق يصير مقيدا لتقييد ما قيد من جنسه واختلفوا فمنهم
من قال يجب حمل المطلق على المقيد لغة وعرفا ولا يحتاج إلى قياس ومنهم من قال ان اللغة لا
يقتضى ذلك وانما تحمل عليه قياسا وهو قول جماعة من أصحاب الشافعي ومن ذهب إلى
القول الأول اختلفوا فمنهم من قال المطلق لا يجوز أن يقيد بأن يقاس على المقيد قالوا لان ذلك
يقتضى زيادة في النص وذلك نسخ ولا يصح النسخ بالقياس وهو المحكى عن المتقدمين من أصحاب
أبي حنيفة وعن أبي الحسن ومنهم من قال انه لا يجوز أن يقيد ثم اختلفوا فمنهم من قال يقتضي
تخصيص المطلق لا الزيادة فيه ومنهم من قال انه يقتضى الزيادة فيه وجوز الزيادة
بالقياس ولم يعده نسخا لهذه حمله الخلاف فيه والوفاق والذي اذهب إليه انه ينبغي
أن يحمل المطلق على اطلاقه والمقيد على تقييده ولا يخص أحدهما بالاخر وانما قلت ذلك
لان حمل أحدهما على الاخر قياسا انما يسوغ ذلك لمن جوز العمل به واما على ما نذهب إليه
في المنهى منه وخطر استعماله فلا يجوز لا في هذا الموضع ولا في غيره واما حمله المطلق على
المقيد من غير قياس فبعيد والذي يدل على ذلك ان مؤخر الكلام ان يحمل على ظاهره الا
أن يمتنع منه مانع وإذا كان المقيد غير المطلق وهما حكمان مختلفان فيؤثر أحدهما في الاخر
فان قالوا لان الله تعالى انما اطلق الشهادة في موضع وقيدها بالعدالة في موضع اخر عقل
من ذلك تقييدها بالعدالة في الموضع الذي أطلقها فيه فيجب أن يجعل ذلك غيره في أمثاله
قيل لهم ان المطلق من الشهادة انما قيد بالعدالة لدليل دل على ذلك من اجماع أو غيره ولم
يجعل بالعدالة شرطا في الشهادة لأنها قيدت في موضع اخر بالعدالة فمن ادعى ذلك فعليه
الدلالة ونحن لو خلينا والظاهر لما قيدها بالشهادة المطلقة وتركناها على اطلاقها فان قالوا
130

القران كالكلمة الواحدة وقد روى ذلك عن أمير المؤمنين فيجب أن يكون المقيد وان انفصل من
المطلق وكأنه يتصل به ويصير ذلك بمنزلة قوله والذاكرين الله كثيرا والذاكرات انه مقيد
بما تقدم كأنه قال والذاكرات الله كثيرا قيل لهم إذا سلمنا ما ذكرته لم يجب ما ذهبت إليه لان
المطلق والمقيد لو افترقا (اقترنا ظ) لما وجب تقييد المطلق بالمقيد إذا كانا حكمين مختلفين يدل
على ذلك انه لو قال من قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة والذين يظاهرون من نسائهم
ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة لما وجب أن يكون الثانية مقيدة لأجل كون الأولى
مقيدة فالتعليق بقولهم ان القران كالكلمة الواحدة لا معنى له فاما قوله تعالى والذاكرين
الله كثيرا والذاكرات انما حملناه على الأولى لأنه لا يستقل بنفسه ولا يفيد شيئا و
انما حذف منه لفظ الله لدلالة الأول عليه اختصار وليس كذلك المطلق لأنه مفيد
ومستقل بنفسه فلا يحتاج إلى حمله على المقيد بل يترك على حاله على أن الذي يلزم من خالف
فيما قلناه وجوز تخصيص المطلق لمكان المقيد ان يريد في كفارة القتل الاطعام لما كان ذلك
ثابتا في كفارة الظهار وفي التيمم مسح الرأس والرجلين لما كان ذلك ثابتا في الوضوء وغير
ذلك من المواضع وذلك لا يرتكبه أحد واما من حمل أحدهما على الاخر قياسا فعلى مذهب
من أوجب القياس قوله أولى من قول من منع ذلك وانما قلنا ذلك لان الرقبة المطلقة
وان كانت من جهة اللفظ ليست عامة فهي في المعنى عامة لأنها تقتضي دخول جميع الرقاب فيه
فإذا علم بالقياس ان من شرطها أن تكون مؤمنة عند من قال بالقياس صار المجزى منها أقل مما كان
بنفسه اطلاقها فصار تخصيصا من هذا الوجه فينبغي أن يسوغ استعمال القياس فيه وليس لهم
أن يقولوا ان ذلك زيادة لا تخصيص لان المعقول من الرقبة هو الشخص دون الايمان فإذا شرط
فيه الايمان فقد شرط فيها ما لا يقتضيه لفظها ومن حق التخصيص أن يكون متناولا لما
يتناوله لفظ المخصوص فيجب أن يكون زيادة وذلك ان الايمان وان لم يعقل من الرقبة
فقد عقل منها المؤمنة والكافرة كما عقل منها الصحيحة والسقيمة فإذا ثبت ذلك تقييده
بأنها مؤمنة يقتضى اخراج الكافرة التي كانت معقولة من الكلام لولا هذا التقييد فصح
ان ذلك تخصيص لا زيادة وقد يكون التخصيص على ضروب أحدها أن يكون التخصيص بلفظ
131

المخصوص منه وما يتناوله داخل تحت المخصوص منه لفظا نحو قوله تعالى فلبث فيهم الف سنة إلا خمسين
عاما وقد يكون التخصيص بأن يعلم ان اللفظ يتناول جنسا من غير اعتبار صفته (صفة خ ل) ويخص بعد ذلك
بذكر صفة من صفاته نحو قول القائل تصدق بالورق إذا كان صحاحا واستثنى منه ما ليس بصحاح
وان كان اللفظ الأول لم يتناول ذلك على التفصيل وقد علم ان الرقبة إذا ذكرت منكرة لم
يختص عينا دون عين فصح تخصيص الكافرة منها وتخصيص ذلك قد يكون بان يقترن
إلى الرقبة صفة يقتضى اخراج الكافرة وقد تكون ما استثنى الكافرة فلا فصل بين قوله
عز وجل فتحرير رقبة مؤمنة وبين قوله الا أن يكون كافرة وهذا بين ولو سلم ان ذلك
زيادة لكان لا يمتنع ان يقال به قياسا عند من قال به إذا لم يمكن نسخا وليس كل الزيادة
في النص تكون نسخا على ما سبيننه (ما سنبينه) في باب الناسخ والمنسوخ وهذه الزيادة مما لا توجب نسخا على
ما سنبينه وقد الزم القائلون بتقييد المطلق قياسا ما ألزمنا من قال ذلك من غير قياس من ايجاب
لمسح الرأس في التيمم والاطعام في كفارة قتل الخطأ وأجابوا عن ذلك بجوابين أحدهما
ان ذلك كان جائزا لكنه منع الاجماع منه وهذا انما يصح على مذهب من أجاز تخصيص
العلة فاما من لم يجز ذلك فلا يمكنه هذا الجواب والجواب الثاني قالوا القياس انما يصح
أن يستعمل في اثبات صفة الحكم وتقييده لا في اثبات نفس الحكم لان اثبات عدد الشهود
بالقياس لا يجوز ان اصابه اثبات عدالتهم قياسا واعترض هذا الجواب بان قالوا ان الامرين واحد
في جواز القول هما قياسا وقد استعمل الشافعي القياس في اثبات عبادات نحو اثبات الصوم
بدلا من الهدى المحصر وغير ذلك كما استعمله في التقييد وفي اثبات الصفات فلا يمكنه أن ينكر هذا
على مذهبه فالتعليق بما قالوه بعيد والأولى ما قالوه أولا وهذه جملة كافية وافية في هذا الباب
فصل في ذكر ما يدل على تخصيص العموم من الأدلة المنفصلة إلى توجب العلم تخصيص
العموم بأدلة العقل والكتاب والسنة والاجماع صحيح وافعال النبي صلى الله عليه وآله صحيح وذهب بعضهم إلى أن تخصيص
العموم لا يقع بأدلة العقل والذي يدل على صحة المذهب الأول ان هذه الأدلة التي ذكرناها
إذا كانت موجبة للعلم ومقتضية له وجب تخصيص العموم بها والا تناقصت الأدلة وذلك لا
يجوز ولهذه الجملة خصصنا قوله تعالى يا أيها الناس اتقوا ربكم وحملناه على العقلاء لما دل دليل
132

العقل على ان الأطفال والمجانين ومن لا عقل له لا يحسن تكليفه وكذلك خصصنا قوله تعالى الله خالق
كل شئ وقلنا ان المراد به افعال نفسه لما دل الدليل على ان الواحد منا فاعل ومحدث على ذلك
أيضا ان ظاهر الكتاب وحقيقة يترك إلى المجاز لدليل العقل كما تركنا ظاهر قوله وجاء ربك وقوله
هل ينظرون الا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام وقلنا ان المراد به امر ربك وامر الله لما دل
الدليل العقل على ان المجيئ لا يجوز على الله وإذا ثبت ذلك وقد دللنا على ان العموم إذا خص
كان مجازا فينبغي أن يجوز ذلك بأدلة العقل لان غاية ما في ذلك أن يترك حقيقة إلى المجاز
فان قالوا دليل العقل يجب تقدمه على الكتاب وما هذا حكمه لا يجوز أن يخص به العموم لان
ما يقتضى الخصوص يجب أن يكون مقارنا له قيل لهم نحن قد بينا ان الذي يخص العموم هو قصد
المخاطب إلى بعض ما تناوله اللفظ وذلك مقارن لحال الخطاب وأدلة العقل انما يتوصل بها
إلى معرفة القصد الذي وقع التخصيص به وعلى هذا يسقط هذا السؤال وليس لهم أن يقولوا ان
دليل العقل وان دل على قصده فقد تقدم وذلك لا يجوز أن الذي أنكروه جائز عندنا غير منكر
لان الدليل كما يتأخر ويقارن تارة كذلك قد يتقدم على بعض الوجوه فاستبعاد ذلك لا
معنى له ولاجل ما قلناه علمنا بالعقل ان الله تعالى يثيب المؤمن على طاعته ويعوضه على آلائه
وان كان ذلك متقدما له ثم يقال لمن خاف في ذلك ليس يخلو من أن يحمل قوله تعالى يا أيها الناس
على عمومه وشموله حق يحمله على العقلاء وغير العقلاء أو يحمله على العقلاء فان قال احمله على
جميعهم ظهر بطلان قوله بما دل الدليل على خلافه وان قال احمله على العقلاء خاصة غير انى لا اسمى
ذلك تخصيصا كان ذلك خلافا في عبارة لا معتبر بها ومن الناس من حال أن عموم الكتاب يترتب على
أدلة العقل فلا يصح ان يقال انه يخص به وجوز تخصيصه بالكتاب وان تقدمه وهذا غير صحيح لان الغرض
بقولنا انه مخصوص بالكتاب هو انه قد دل على ان المراد به الخصوص ولدليل العقل هذا الحظ فكيف
لا يقال انه مخصوص به فان قالوا لو جاز تخصيص العموم بدليل العقل جاز نسخه بدليل العقل فلما
اتفقنا على ان النسخ لا يجوز أن يقع به كان العموم مثله قيل لهم معنى النسخ يصح عندنا بأدلة العقل
لكنه لا يسمى نسخا يدل على ذلك ان الله تعالى إذا امر المكلف بفعل ثم عجز عنه المكلف علمنا انه قد
سقط عنه فرضه كما انه لو نهاه عنه في انه يسقط فرضه عنه فمعنى النسخ حاصل لكنه منع من اطلاق
133

هذه التسمية لان حد النسخ ليس بحاصل فيه على ما سنبينه فيما بعد ويسمى تخصيصا لان فائدة
التخصيص حاصلة ولا مانع يمنع من اطلاقه اما تخصيص الكتاب بالكتاب يدل على صحته ما دل على
صحة تخصيصه بأدلة العقل سواء فاما أمثلته فأكثر من أن تحصى نحو قوله تعالى اقتلوا المشركين وقوله
فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ثم قال في موضع اخر حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون
فخص بذلك من عدا أهل الكتاب ونحو قوله ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن نعم الخطر في نكاح جميع
المشركات ثم قال والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم فخص من ذلك بعضهم في نكاح الدوام
عند من خالفنا وعندنا في نكاح المتعة وملك اليمين ونحو قوله أيضا والذين يتوفون منهم و
يذرون أزواجا يتربصن بأنفسهم أربعة اشهر وعشرا ثم قال في مواضع اخر وأولات الأحمال
أجلهن ان يضعن حملهن فخص هذا الحكم المطلقات عندنا وعند بعض الفقهاء خص الآية
الأول ممن عدا الحوامل من النساء وله نظائر كثيرة ولو لم يرد له نظير لكنا نعلم ان ذلك جائز
لما قدمناه من الدليل وليس لاحد أن يقول ان الله تعالى وصف نبيه صلى الله عليه وآله بأنه يبين للناس
ما نزل إليهم فلا يجوز أن يثبت لغيره وذلك ان هذا يسقط من وجهين أحدهما انه ليس
في وصفه نبيه صلى الله عليه وآله بأنه يبين للناس ما يمنع من أن يبين هو أيضا بعض كلامه ببعض والثاني
انه كما وصف النبي صلى الله عليه وآله بذلك فقد وصف كتابه بأنه تبيان لكل شئ فإذا جاز تخصيص الكتاب
بالسنة وجب أن يخص بالكتاب أيضا فلا وجه توجب كون السنة تبيانا للكتاب ومخصصا
له الا وهو بعينه يوجب كون الكتاب تبيانا له ومخصصا فاما تخصيص الكتاب بالسنة
فلا خلاف فيه بين أهل العلم وقد وقع منه أيضا في مواضع كثيرة لان الله تعالى
قال يوصيكم الله في أولادكم وقال للرجال نصيب مما ترك الوالدان وغير ذلك من
الآيات المواريث وخصصنا من ذلك القاتل والكافر بقول النبي صلى الله عليه وآله لا يرث القاتل ولا يتوارث
أهل ملتين وغير ذلك فاما تخصيص بعض السنة ببعض أيضا جائز لمثل ما قدمناه من
الأدلة وقد وجد أيضا في مواضع لا تحصى كثرة وفي الناس من انكر ذلك وقال ان الله تعالى
جعله مبينا فلا يجوز أن يكون قوله يحتاج إلى بيان فأوجب فيه التعارض وأبطله وهذا
خطأ لان حال السنة مع السنة حال الكتاب مع الكتاب وكونه عليه السلام مبينا يقتضى
134

جواز تبيين سنة كما يقتضى جواز تبيين الكتاب وكما لا يمنع ذلك من أن يبين احكاما مبتداة فكذلك
لا يمنع من أن يبين سنة يحتاج إلى تبيينها بسنة أخرى واما تخصيص الكتاب بالاجماع فيصحح
أيضا بمثل ما قدمناه من الأدلة وقد وقع أيضا في مواضع كثيرة نحو اتفاقهم على ان العبد لا يرث
فخص بذلك اية المواريث ونحو اجماعهم على ان العبد كالأمة في تنصيف الحد فخص به قوله تعالى الزانية
والزاني وغير ذلك واما تخصيص الكتاب بأفعال النبي صلى الله عليه وآله فصحيح أيضا لان الدليل قد دل على ان فعله كقوله
في وجوب الرجوع إليه في معرفة الاحكام فإذا ورد الكتاب بتحريم أشياء ثم وجدناه (ع) فاعلا لبعضها
علمنا بفعله خصوص الكتاب ولذلك خص قوله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة
جلدة برجمه ماعزا؟ وتخصيص قوله صلى الله عليه وآله بفعله صحيح أيضا بمثل ما قلناه وسندل فيما بعد على ان فعله
ليس بمقصور عليه وانه كقوله وصحة ذلك يقتضى جواز التخصيص به وهذه الجملة كافية في
هذا الباب فصل في ذكر تخصيص العموم باخبار الآحاد اعلم ان من قال ان خبر الواحد
لا يجوز العمل به فقوله خارج عن هذا الباب وانما الخلاف في ذلك ممن أوجب العمل به اختلف
القائلون باخبار الآحاد في اثبات الاحكام في هذه المسألة فمنهم من أجاز تخصيص العموم
بها على كل حال ما لم يمنع من ذلك مانع وهو مذهب أكثر الفقهاء والمتكلمين وهو الظاهر عن
الشافعي وأصحابه وعن أبي الحسين وغيرهما ومنهم من قال يجوز تخصيصه بخبر الواحد إذا كان قد خص
لأنه قد صار مجملا ومجازا وإذا دخله التخصيص لا يجوز أن يخص بها وهو مذهب عيسى بن
ابان ومنهم من قال إذا خص العموم بدليل متصل مثل الاستثناء وما جرى مجراه لم يجز
تخصيص العموم به لان ذلك حقيقة على ما حكيناه فيما تقدم وإذا خص بدليل منفصل
جاز تخصيصه باخبار الآحاد لأنه قد صار مجازا والذي ذهب إليه لأنه لا يجوز تخصيص
العموم بها على كل حال سواء خص أو لم يخص بدليل متصل أو منفصل وكيف كان و
الذي يدل على ذلك ان عموم القرآن يوجب العلم وخبر الواحد يوجب غلبة الظن ولا يجوز
أن يترك العلم للظن على حال فوجب لذلك أن لا يخص العموم به فان قيل إذا دل الدليل
على وجوب العمل بخبر الواحد كان وجوب التخصيص معلوما وان كان نفس الخبر مظنونا ويجرى
ذلك مجرى قيام الدلالة على وجوب التنفيذ الحكم عند الشهادة وان كانت الشهادة
135

غير معلوم وكذلك إذا ظن كون القبلة في جهة من الجهات وجب علينا التوجه إليها وان كان ذلك
معلوما وان كان كون القبلة فيها مظنونا فما المنكر من أن يكون خبر الواحد مع العموم
يجرى هذا المجرى والجواب عن ذلك السائل عن السؤال لا يخلو من أن يكون مخالفا لنا في
الأصول أو موافقا فان كان مخالفا فلا يصح له هذا السؤال لأنه يضمن قيام الدلالة
على وجوب العمل بخبر الواحد ونحن قد أفسدنا ساير ما يدعيه مخالفونا من الدلالة (الأدلة خ ل) على وجوب العمل بخبر الواحد
فإذا فسد العمل بها بتلك الأدلة فلا يمكن أن يدعى جواز التخصيص وقد مضى الكلام على أدلتهم مستوفى
على انه لو سلم لهم العمل بخبر الواحد على غاية اقتراحهم لم يجز التخصيص العموم به لأنه ليس ما دل على وجوب
العمل بها يدل على جواز التخصيص كما ان ما دل على وجوب العمل بها لا يدل على وجوب النسخ بها بل احتاج
ذلك إلى دليل غير ذلك فكذلك التخصيص فلا فرق بينهما فان قالوا إذا دل الدليل على وجوب العمل
بخبر الواحد فينبغي أن يكون خبر الواحد دليلا في كل موضع الا من أن يمنع منه مانع والنسخ الذي
ذكرتموه قد كان يجوز أن يقع بخبر الواحد الا أنه منع الاجماع منه فبقى كونه دليلا فيما عدا النسخ
قيل لهم خبر الواحد دليل شرعي وليس بعموم يخص منه بعضه ويبقى ما عداه فإذا ثبت ذلك كان
الذي يدل على وجوب العمل به من الاجماع انما هو حاصل فيما طريقة العمل فحسب مما لا نص فيه
من (في خ ل) الكتاب فينبغي أن يحتاج في اثبات كونه دليلا في تخصيص العموم به إلى دليل فان قالوا
الصحابة الذين عملوا بخبر الواحد عملوا بها وان خص العموم قيل لهم هذا محض الدعوى ما الذي يدل
عليها فانا لا نم ذلك فان ذكروا انهم خصوا اية المواريث بالخبر الذي روى ان القاتل لا يرث
وكان خبر واحد وكذلك علموا بخبر أبي هريرة في نكاح المرأة على عمتها وخالتها وخصوا بذلك
قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم ونظائر ذلك كثيرة قيل لهم انما تركوا عموم اية الميراث بالخبر
الذي تضمن ان القاتل لا يرث لأنهم اجمعوا على صحته فلما اجمعوا على صحته وعلموه خصوا العموم به
فليس ذلك موجودا في الاخبار التي لا يعلم صحتها واما نكاح المرأة على عمتها وخالتها فعندنا
يجوز على وجه فلا نخصص العموم به ومن أجاز ذلك أيضا انما اجازه لان عنده انهم اجمعوا على صحة
هذا المخبر (الخبر) فلما اجمعوا عليه دل ذلك على صحته وليس هذا موجودا في اخبار الآحاد التي لا يعلم صحتها
على ان المعلوم من حال الصحابة انهم ردوا اخبارا كثيرة نافت عموم القرآن واقتضت تخصيصه نحو ما روى
136

وغيره انهم ردوا خبر فاطمة بنت قيس في انه لا نفقة لها ولا سكنى وقالوا لا ندع كتاب ربنا بقول امرأة
لا ندري صدقت أم كذبت وهذا تصريح بأنه لا يجوز تخصيص العموم بخبر الواحد وليس لهم أن يقولوا
انما ردوا الخبر إذا كان يخالف القرآن لا أنه يخصه وما يخص العموم به لا يقتضى ترك القرآن بل
يقتضى القول به فدل ذلك على سقوط ما ذكرتموه وذلك ان سقوط نفقة المثبوتة كفاطمة خاصة
يخصص القرآن لان عموم القرآن اقتضت النفقة لها ولغيرها ومع ذلك ردوا خبرها وسماه
عمر مع ذلك انه مخالف للقرآن من حيث كان منافيا لعموم الكتاب فان قالوا انما فعلوا ذلك
لأنهم علموا ان حكم فاطمة وغيرها من النساء حكم واحد وكان ذلك عندهم معلومة ولو قبلوا
خبرها لأدى عندهم إلى دفع القران فلذلك ردوه قيل لهم هذا محض الدعوى ومن اين علموا أن
حكم فاطمة وغيرها على حد واحد الا بعموم القران ولذلك صرح بهذا التعليل عمر ولو كان
ذلك معلوما بغير عموم القران لكان يقول قد علمنا ان حكمك في هذا الباب حكم غيرك من
النساء ولا يحتاج ان يقول لا ندع كتاب ربنا بقول امرأة لا ندري صدقت أم كذبت وذلك
يسقط هذا السؤال ثم يقال لهم أليس قد قيل أهل قبا خبر الواحد فيما طريقة النسخ وانتقلوا
بذلك عن القبلة التي كانوا عليها ولم يدل ذلك على جواز النسخ بخبر الواحد فان قالوا
انما قبلوا ذلك بدليل دلهم على ذلك دون مجرد الخبر قيل لهم مثل ذلك في الاخبار التي
تعلقوا بها فان قالوا أليس خبر الواحد قد قبل فيما يقتضى العقل خلافه فما المنكر من
أن يجوز قبوله فيما يقتضى عموم القران خلافه قيل لهم هذا انما يمكن أن يستدل به على
من لم يجوز تخصيص العموم به عقلا فيقال له إذا جاز الانتقال عما يقتضى العقل خلافه
بخبر الواحد جاز أن ينتقل عما يقتضيه العموم بمثل ذلك فاما من أجاز ذلك عقلا و
انما امتنع منه لفقد الدلالة عليه فهذا السؤال ساقط عنه وانما ينبغي أن يتشاغل
بان ههنا دليلا يدل على جواز تخصيص العموم به وهو نفس المسألة التي اختلفنا فيها
على ان مثل هذا يمكن أن يقال في جواز النسخ به لان الانتقال عن موجب العقل من خطر
إلى إباحة أو إباحة إلى خطر في معنى النسخ وان لم يسم نسخا فينبغي أن يجوز على موجب ذلك
النسخ بخبر الواحد وهذا لا يقوله أحد ولا جواب عن ذلك الا ما ذكرناه من أن ذلك دليل على
137

جواز ذلك لا على وجوبه بل وجوبه يحتاج إلى دليل مفرد وفي الناس من قال ان العموم ثبت اجتهادا فجاز
الانتقال عنه بخبر يوجب غلبة الظن وهذا القول باطل لان الدليل على القول بالعموم دليل يوجب
العلم وليس من باب الاجتهاد في شئ وقد دللنا على ذلك فكيف يجوز أن يترك بما طريقة غلبة
الظن ثم يقال لهم لا خلاف ان خبر الواحد لا يجوز قبوله فيما طريقة العلم والاعتقاد وإذا
ثبت ذلك فخبر الواحد إذا خص العموم اقتضى شيئين أحدهما العمل بمتضمنه وذلك
من باب العمل والثاني وجوب الاعتقاد في ظاهر العموم انه مخصوص وذلك لا يجوز لأنه اقدام
على مالا نأمن كونه جهلا فان قالوا انا نأمن كونه جهلا بما قام من الدليل على جواز قبوله
فيما خص العموم فقد مضى الكلام على ذلك وبينا ان ذلك محض الدعوى وصريح الاقتراح فاما
من قال لا يجوز تخصيص العموم به الا إذا خص على حسب اختلافهم في ذلك من تخصيصه
بدليل متصل أو منفصل أو استثناء وغير ذلك ومتى خص بشئ من ذلك جاز تخصيصه
فيما دللنا به من المنع من جواز تخصيصه بخبر الواحد يبطل هذا الفصل على انهم انما أجازوا
تخصيصه بخبر الواحد إذا خص لأنه يصير مجملا ومجازا وأما كونه مجازا فنحن نقول به ولا نم انه
يصير مجملا فيما عداه بل ما عداه ما خص منه معلوم كما انه لو لم يخص منه شئ كان الجميع
معلوما وذلك يبطل ما قالوه فاما إذا كان السائل عن السؤال الذي قدمناه من موافقينا
وسأل ذلك على طريقتنا التي اعتمدناها من جواز العمل بالاخبار التي تختص بنقلها الطائفة
المحققة فالكلام عليهم أيضا مثل ذلك بأن يقال ما دل على عمل الطائفة المحقة بهذه الاخبار
من اجماعهم على ذلك لم يدل على العمل بما يخص القران ويحتاج في ثبوت ذلك إلى دلالة بل قد ورد عنهم (ع)
ما لا خلاف فيه من قولهم إذا جائكم عنا حديث فاعرضوه على كتاب الله فان وافق كتاب الله
فخذوه وان خالفه فردوه أو فاضربوا به عرض الحائط على حسب اختلاف الالفاظ فيه وذلك
صريح بالمنع من العمل بما يخالف القران فان قالوا ليس قد عملت الطائفة باخبار كثيرة طريقها
الآحاد وعموم الكتاب بخلافها فهلا دل ذلك على جواز تخصيص العموم بها على كل حال قيل لهم
لا نم ان الطائفة عملت باخبار آحاد يقتضى تخصيص القران وعلى من ادعى ذلك ان يبينه
على انا قد بينا ان الاخبار الصادرة من جهتهم ضربين أحدهما أن يكون خبر أو ليس هناك
138

ما يخالفه ويكون فتيا الطائفة به فما هذا حكمه يكون مجمعا على صحته ويجوز العمل به وتخصيص
العموم به وان كان هناك ما يخالفه من الاخبار فالعمل بما يطابق العموم أيضا أولى لأنه يصير معلوما صحته
مثل العموم وبينا ان ذلك وجه يرجح به أحد الخبرين على الاخر وان كان خبر لا نعلم فتيا الطائفة أصلا
فيه وهناك عموم يقتضى خلافه فالعمل بما يقتضى العموم أولى بما قدمناه من الدلالة فصل
في ذكر تخصيص العموم بالقياس اعلم ان الكلام في هذه المسألة قد سقط عنا لأنا لا نجيز
العمل بالقياس لا ابتداء ولا فيما يخص العموم وانما الخلاف في ذلك بين من أثبت القياس فان فيهم
من أجاز تخصيص العموم به على كل حال إذا صح القياس بشروطه وهو مذهب أكثر الفقهاء وهو
مذهب الشافعي والمحكى عن أبي الحسن واليه ذهب أبو هاشم أخيرا ومنهم من أبي تخصيص العموم به
على كل وجه وهو مذهب أبي على وبه قال أبو هاشم أولا وقد قال به بعض الفقهاء ومنهم من
قال يخص بالقياس الجلى ولا يخص بالخفي وهو مذهب بعض أصحاب الشافعي ومنهم من قال انه يخص
بذلك إذا دخله التخصيص وسوغ فيه الاجتهاد ولا يجوز تخصيصه إذا كان باقيا على عمومه والأقوى
من هذه الأقاويل إذا فرضنا العبادة بالقياس قول أبي علي وهو أنه لا يجوز تخصيص العموم به
على كل حال والذي يدل على ذلك ان العموم دليل يوجب العلم والقياس عند من قال به يوجب
غلبة الظن ولا يجوز أن ينتقل عما طريقة العلم إلى ما يقتضى غلبة الظن فليس لهم أن يقولوا إذا
ثبت ان القياس دليل كان تخصيص العموم به معلوما وذلك انا قد بينا الجواب عن مثل هذا
السؤال في الباب الأول بأن قلنا خبر الواحد دليل شرعي وكذلك نقول ان القياس دليل شرعي
فينبغي أن يثبت في الموضع الذي استعملته الصحابة وقررته الشريعة وانما ثبت عنهم على
زعمهم استعمل القياس فيما لا نص فيه من احكام الحوادث ولا يمكنهم أن يدعوا انهم استعملوه فيما
يخص العموم لان هذه الدعوى لا برهان عليها ودون ذلك خرط القتاد ويدل أيضا على ذلك
ان النسخ قد ثبت انه لا يجوز به فكذلك يجب أن يكون حكمه حكم التخصيص وليس لهم ان
يقولوا انه كان يجوز النسخ بالقياس غير انه منع منه الاجماع وذلك انهم متى ارتكبوا ذلك
قيل لهم لا يجوز من الحكيم تعالى أن ينزل نصا ويجعل القول به والعمل بمقتضاه موقوفا على اجتهاده
وانما يسوغ الاجتهاد في صرفه إلى وجه دون وجه فان قالوا (وليس لهم ان يقولوا خ ل) هذا الذي ذكرتموه من الجواب عن
139

هذا السؤال يمكن أن يجعل فرقا بين النسخ وتخصيص العموم وسقط بذلك أصل الدليل وذلك انهم إذا
جعلوا ذلك فرقا بين التخصيص والنسخ قيل لهم لا فرق بين النسخ والتخصيص في المعنى لان التخصيص
هو اخراج بعض ما يتناوله لفظ العموم من الأعيان منه والنسخ اخراج بعض ما يتناوله دليل النص
من الأزمان منه فهما سواء في المعنى فما منع من أحدهما منع من الاخر على انه لا يمكن أن يجوز النسخ بالقياس
الا من يقول بتخصيص العلة ومن لم يجز تخصيص العلة لا يمكنه ارتكابه على حال وقد أجاب بعض
أصحاب الشافعي عما ألزمناهم بان النسخ انما لم يصح فيه لان كونه ناسخا للنص ينبئ عن ان النص
بخلافه والقياس لا يصح إذا دفعه النص وخصه فكان النسخ به يوجب النسخ بقياس فاسد وهذا
لا يجوز وهذا بعينه يمكن أن يقال في المنع من تخصيص العموم به لان العموم أيضا نص وما يؤدى إلى
تخصيصه ينبئ عن ان ظاهره بخلافه والقياس لا يصح إذا دفعه النص وكان التخصيص به يوجب
التخصيص بقياس فاسد وهذا ما لا فصل فيه ويدل أيضا على ذلك على ان القياس انما يسوغ
مع عدم النص للاضطرار إليه وعموم الكتاب نص يعنى عنه ولا يسوغ استعماله وخلافه نص حتى
يخص به وليس لهم ان يقولوا انه إذا خص العموم يكون مستعملا فيما لا نص عليه لأنه قد يبين
به انه لم يرد ذلك بالعموم إذا لم يكن مرادا به فقد استعمل القياس فيما لم يدخل تحت النص
وذلك ان الذي قالوه غير صحيح لأنه لو لم يستعمل ذلك القياس لكان ما يتناوله داخلا تحت
النص فيجب بطلانه لأنه قد استعمل فيما لولاه لدخل تحت النص فان قالوا النص انما يتناول
ذلك لو لم يصح القياس فاما إذا صح ذلك القياس لم يدخل تحته فقد حصل ان القياس إذا
استعمل فيما يخص به العموم لا يكون مستعملا فيما يتناوله قيل لهم ومن سلم ان القياس الذي
يوجب تخصيص العموم قياس صحيح وليس يعلم ان من قال بالمنع من تخصيص العموم به يقول ان بظاهر
العموم احكم بأن كل قياس يؤدى إلى تخصيصه قياس باطل ولو سلم ان ذلك قياس صحيح لكان
قد سلمت المسألة فعلم بجميع ذلك صحة ما نصرناه ويدل أيضا على صحة ما قدمناه خبر معاذ
وان النبي صلى الله عليه وآله لما بعثه إلى اليمن قال له بم تقضى قال بكتاب الله ثم سنة رسوله صلى الله عليه وآله فقال له (ع) فان لم تجد
قال اجتهد برأيي فصوبه رسول الله صلى الله عليه وآله في ذلك وهذا يقتضى ان القياس انما يسوغ استعماله
إذا لم يوجد في الكتاب ما يدل على الحكم الذي يستعمل فيه فمتى وجد فيه بطل استعماله وإذا بطل
140

استعماله لم يصح أن يخص به العموم لان القياس الفاسد لا خلاف انه لا يخص به العموم وليس لهم أن يقولوا
ان المراد بذلك ان لم أجد في كتاب الله نصا على المسألة اجتهدت برأيي فاما إذا كان فيه عموم فإنه
لا يمتنع اجتهاد الرأي معه لأنه إذا خص بالقياس كان ما استعمل فيه القياس غير موجود في الكتاب
وذلك ان هذا الذي ذكروه تخصيص للخبر لأنه انما صوبه في استعمال القياس إذا لم يكن الحكم
موجودا في الكتاب والسنة وقد يكون الحكم ثابتا فيهما بنص معين ويكون أيضا موجودا بأن يكون
داخلا في العموم فمن خص الخبر بأحدهما احتاج إلى دلالة وفي الناس من استدل على صحة ما ذهبنا
إليه بأن قال القياس فرع على النص من عموم وغيره فمتى اعترض به عليه كان قد اعترض على الأصل
بفرعه وهذا لا يجوز وهذا غير صحيح لان لهم ان يقولوا ان أصل القياس هو الذي ثبت صحته به
أو ما يحمل عليه الفرغ من الأصول وكلاهما لا يجب الاعتراض بالقياس عليه وانما يجوز أن
يقاس ما دخل تحت اية محرمة على ما دخل تحت اية محللة فتحلله وتخرجه من جملة ما
يقتضى التحريم نحو قياس العقد في الارف (الازر خ ل) في التحريم ويخص به قوله أحل الله البيع وفي ذلك
سقوط الاستدلال بهذه الطريقة وقد استدل من خالف ما اخترناه بان قال الذي دل على
اثبات القياس دليل مقطوع عليه وهو اجماع الصحابة فصار العمل بما يقتضيه معلوما وجوبه
كما ان العمل يما يقتضيه العموم معلوم وجوبه فإذا تساويا في هذا الوجه جاز تخصيص العموم
به وهذا الذي ذكروه غير صحيح لأنا إذا سلمنا اجماع الصحابة على العمل بالقياس انما نسلمه فيما
لا نص فيه من الكتاب من عموم وغيره فاما إذا كان ما يدل عليه من الكتاب فلا نم انهم استعملوا
فيه ولا يمكنهم ان يبينوا ان الصحابة استعملت القياس في تخصيص العموم وإذا لم يثبت ذلك
لم يجب من حيث استعملوا القياس في موضع أن يجوز استعماله في كل موضع لأنا قد بينا
انه دليل شرعي ينبغي أن لا يتجاوز به الموضع الذي قررته الشريعة كما ان ثبوته في الموضع
الذي ثبت لا يجوز أن يتجاوز به إلى أن ينسخ به لأنه لم يثبت ذلك فيه وكذلك القول في
التخصيص ولا فرق بينهما على حال واستدلوا أيضا بأن قالوا قد ثبت ان القياس يقبل فيما يقتضى
العقل خلافه وان كان دليل العقل يوجب العلم والقياس غلبة الظن وكذلك العمل به فيما
يخص الكتاب وان كان يوجب العلم يقال لهم هذا الدليل انما يمكن أن يستدل به على من
141

أبى تخصيص العموم بالقياس عقلا فيقال له إذا جاز العمل به فيما يقتضى العقل خلافه جاز العمل به فيما
يقتضى العموم خلافه فاما من جوز ذلك وانما امتنع من القول به لأنه لم يثبت ورود العبارة به فلا
يمكن أن يعتمد ذلك في هذا الباب بل يحتاج إلى أن يستعمل (يشغل) بالدلالة على ثبوت ما كان جائزا
لأنه ليس كل ما كان جائزا في العقل ثبت العمل به على كل حال فعلم بذلك سقوط هذا
الاستدلال وفي الناس من اعترض هذا الدليل فقال انا لا نعمل بالقياس إذا اقتضى العقل
خلافه بل انما يعمل به فيما يجوزه العقل دون ما يقتضى قبحه أو حسنه وهذا ليس بشئ لان
غرض القوم بذلك ان العقل إذا كان يقتضى تحليل شئ أو تحريمه ثم ثبت بالقياس في الشرع
تحريم ما كان مباحا أو إباحة ما كان محظورا فقد عملوا بخلاف ما كان يقتضيه العقل
ولا يمكن أن يقال ان دليل العقل يقتضى إباحة شئ أو خطره بشرط أن لا يرد الشرع بخلافه
فالقياس إذا استعمل في خلافه تبين انه ان العقل لم يقتضى ما أدى القياس إلى خلافه
وليس كذلك العموم لأنه اقتضى تحريم الشئ مطلقا بلا شرط فيه فلو قيل القياس في خلافه لكان
فيه اعتراض به عليه وهذا لا يجوز لان لهم ان يقولوا الحال فيهما واحد لان دليل العقل يقتضي
تحليل الأنبذة ما لم يقتضى دليل شرعي تحريمه والعموم أيضا يقتضى ذلك ما لم يحصل دليل
سمعي على خلافه فهما في هذا الباب من جهة المعنى سواء وانما الخلاف بينهما ان العموم
يدل على ما يدل عليه لفظا وليس كذلك دليل العقل وهذا لا يقتضى الفرق بينهما من جهة
المعنى فصل في تخصيص العموم بأقاويل الصحابة وبالعادات وبقول الراوي فالقول إذا ظهر
بين الصحابة واتفقوا كلهم انه يخص العموم فلا خلاف بين أهل العلم انه يخص به العموم
لان ذلك اجماع وقد بينا ان الاجماع يخص به العموم فاما إذا ظهر القول ولم يعرف له مخالف
فمن جعله اجماعا أو في حكم الاجماع خص أيضا العموم ومن لم يجعله اجماعا من حيث جواز أن يكون
الساكت لو استفتى لأفتى بخلافه اجرى ذلك مجرى القول المختلف فيه والقول المختلف
فيه بين الصحابة اختلفوا في جواز تخصيص العموم فذهب أبو على إلى أنه يجوز الاخذ بقول
بعضهم وان خالفه غيره فيه قال لان بعضهم كان يرجع إلى قول بعض من غير حجة وهو المحكى
عن محمد بن الحسن لأنه حكى عنه انه قال ما اجمعوا عليه واختلفوا فيه جاز القياس
142

عليه ويتخذ أصلا وجعل اختلافهم كاجتماعهم في انه أصل وقد حكى عنه انه قال الشافعي
قديما انه كان يقول ذلك ويرتب أقاويل الصحابة فيقدم أقاويل الخلفاء ثم قول أقدمهم في البلد
فعلى هذه الوجوه يمنعون من تخصيص الكتاب به لأنه حجة كالقياس وخبر الواحد عندهم واما من
قال ان قولهم ليس بحجة فإنه لا يخص العموم به وهو مذهب أكثر الفقهاء وقول الشافعي في الجديد لأنه
قدم القول بالعموم على القول بقول الصحابي إذا اختلف فيه والصحيح عندنا من هذه الأقاويل
انه لا يخص العموم الا بما كان اجماعا موجبا للعلم أو يكون من دل الدليل على صحة عصمته
فان ذلك يخص به العموم وما عدا ذلك لا يجوز تجويز تخصيصه به وسنبين فيما بعد ان ما ادعوه
اجماعا أو في حكم الاجماع من القول الذي لا يعرف له مخالف ليس باجماع ان شاء الله تعالى واما
العادات فعلى ضربين ضرب منها هي من جهة الافعال فما هذا حكمه لا يخص به العموم بل يجب على
المخاطبين أن ينتقلوا عن تلك العادات لأجل العموم واستدلوا به على تركها فكيف يخص به
العموم والضرب الاخر ان يكون العادة جابرة لاستعمال بعض العموم على بعض ما تناوله
فما هذا حكمه ينبغي أن يخصص به العموم لا ما قد بينا فيما تقدم ان الخطاب ينبغي أن يحمل على ما
تعورف ويترك ما كان موضوعا له لأنه بالعادة قد صار حقيقة فيما اعتيد فيه وقد استوفينا
ما يتعلق بذلك فيما مضى واما إذا روى الراوي الحديث العام ثم صرفه إلى بعض ما تناوله فمن الناس
من قال يجب حمله على الخصوص لأنه اعرف بمراد الرسول من غيره لمزية المشاهدة التي عندها يعرف
المقاصد وهو المحكى عن بعض أصحاب أبي حنيفة لأنه كان يحمل ما رواه أبي هريرة من خبر ولوغ
الكلب على أن السبع ليس على الوجوب من حيث كان ويذهب إلى جواز الاقتصار على ثلاثة
وحكى أبو عبد الله عن أبي الحسن أن التعلق بظاهر الخبر أولى ومنهم من قال انه يجب أن ينظر فيه
فان كان الراوي عدل عن ظاهر ما رواه وجب التمسك بما رواه من اللفظ وان كان قال بأحد
محتملاته حملت عليه وهذا الذي يدل عليه ظاهر قول الشافعي واليه يذهب كثير من أصحابه
لأنه حمل ما رواه ابن عمر في حديث الافتراق على الافتراق بالبدن لأنه ابن عمر حمله على ذلك وحمل
قوله في حديث النبي صلى الله عليه وآله يدا بيد على ان المراد به أن لا يفترق الا بعد التقابض من حيث حمله ابن
عمرو على ذلك ولم يصرف قوله (ع) من بدل دينه فاقتلوه إلى الرجال وان كان ابن عباس صرفه
143

إليهم والذي يجب أن يعول عليه في ذلك ان الراوي إذا روى الخبر العام وحمله على بعض ما تناوله وقال انه
علم ذلك من قصد النبي صلى الله عليه وآله ضرورة وجب حمله على ما ذهب إليه لان وجوب صلى الله عليه وآله الظاهر به في نفس الخبر يوجب
حسن الظن به في قوله انه علم ذلك ضرورة من قصد الرسول وان كان ما ذهب إليه انما قاله
لضرب من الاستدلال أو بخبر اخر أو قياس أو غير ذلك فينبغي أن يتمسك بظاهر الخبر ويترك ما
ذهب إليه لأنه يجوز أن يكون أخطأ في جميع ذلك بشبهة دخلت عليه ومتى لم يظهر لنا ما حمله
عليه وهل فعل ذلك لأنه علة ذلك لقصد الرسول أو بوجه اخر من الاستدلال وجب التمسك
بظاهر الخبر فان جاز أن يكون في الأصول ما لأجله حمله عليه ومتى كان ما رواه مجملا وصرفه
إلى أحد الوجهين فمن الناس من قال انه يجب عليه بان حسن الظن به يوجب ذلك الا أن يكون قد
حصل للرسول تخالف ذلك فيعتمد عليه ومنهم من قال ان الجميع بمنزلة سواء في انه يجب
التمسك بقول الرسول دون قول الراوي بأنه لو عرف قصد الرسول ضرورة لرواه ولا زال
عن نفسه ايهام مخالفة النبي صلى الله عليه وآله وهذا هو الأقوى فصل في تخصيص الاجماع وتخصيص
قول الرسول الاجماع لا يخرج من أن يكون على فعل أو على قول أو على رضى بالشئ فان كان الاجماع
فعلا فالتخصيص لا يسوغ فيه كما لا يسوغ في افعال النبي صلى الله عليه وآله وكذلك ان كان رضى بالشئ وان كان
اجماعهم على القول فان كان عاما تصرفه فان اضطررنا إلى قصدهم بذلك امتنع أيضا
التخصيص فيه وان لم نضطر إلى قصدهم جاز التخصيص كما يجوز في عموم الكتاب وان كان ذلك
القول (أيضا) رضى فالتخصيص فيه لا يجوز وان كان في حكم العموم من حيث كان حال غير المنصوص
عليه حاله واما قول الرسول إذا ورد عنه واقتضى تحريم أشياء على المكلفين ثم وجد فاعلا
لبعضها فمن الناس من قال انه مخصوص بذلك الا أن يدل دليل على خلافه فيخص به العموم
ومنهم من قال انه يخص به العموم لان الظاهر منه ان حاله كحال غيره الا أن يدل دليل على أنه
مخصوص به وهذا هو مذهب الشافعي ولذلك خص به نهيه صلى الله عليه وآله عن استقبال القبلة بغائط
أو بول بقعوده صلى الله عليه وآله على لنتبين مستقبل بيت المقدس ويقول ان فعله (ع) قد علم بدليل مساواة أمته له
فيصير كقول اخر عام في جواز التخصيص القول الأول به والقول الأول يحكى ان بعض أصحاب الشافعي وانه
حمل ما روى من تزويج ميمونة وهو محرم على انه مخصوص به وانه لا يعترض على نهيه عن نكاح المحرم وهو الذي
144

حكاه أبو عبد الله عن أبي الحسن لأنه حمل ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله من كشفه فخذه بحضرة بعض أصحابه وما روى انه
استقبل بيت المقدس على انه مخصوص به فلم يخص قوله به ودل على ذلك بأن قال ان فعله لا يتعداه
الا بدليل ولا يجوز أن يعترض به على القول الذي يقتضى تعدية الينا والصحيح هو الأول لان
الدلالة قد دلت على ان حكمنا وحكمه في فعل واحد على ما نبينه لما بعد فإذا فعل شيئا صار
كأنه قال لنا هو مباح وقد علمنا انه لو قال ذلك لوجب تخصيص العموم به فكذلك يخص بفعله
لأنه وقع هذا الموقع فصل في ان العموم إذا خرج على سبب خاص لا يجب قصره عليه
اختلف العلماء (الفقهاء خ ل) في ذلك فمنهم من قال انه يجب قصره عليه والى ذلك ذهب طائفة من أصحاب الشافعي
وان كان كلام الشافعي محتملا له ولغيره وذهب الباقون إلى ان الواجب حملا الكلام على ظاهره دون
السبب إذا أمكن ذلك فيه وهو مذهب جماعة من أصحاب الشافعي ومذهب أبي الحسن وقال انه
إذا لم يمكن حمله على ظاهره ولم يفد الا إذا علق به قصر عليه والذي نذهب إليه ان كلامه (ع) لا يخلو
من أن يكون مطابقا للسبب من غير زيادة عليه أو يكون أعم منه وان كان مطابقا له من
غير زيادة فلا خلاف انه يجب حمله عليه ومتى كان أعم منه وجب حمله على ظاهره ولا يقصر
على سببه وهو على ضربين أحدهما يكون أعم منه في الحكم الذي سئل عنه نحو ما روي
عنه (ع) انه سئل عن من ابتاع عبدا فاستشغله ثم وجد فيه عيبا فقال (ع) الخراج بالضمان
وذلك ليتناوله ما يتناول كل بيع وكل مضمون ومنه ما يكون عامة في ذلك الحكم وفي
حكم اخر لم يسئل عنه نحو ما روى عنه (ع) انه سئل عن ماء البحر يتوضأ به فقال هو الطهور
مائه والحل ميتته فأجاب بما يقتضى جواز التوضؤ به وبما يقتضى جواز سائر الاحكام
من الشراب وإزالة النجاسة وغير ذلك واما إذا كان كلامه متى لم يعلق بالسبب لم
يعد وجب تعليقه به على كل حال وذلك نحو ما روى عنه (ع) انه سئل عن بيع الرطب
بالتمر فقال أينقص إذا يبس قيل له نعم فقال فلا إذا فاما إذا سئل عن أشياء فلا تخلو ان
يكون الوقت وقت الحاجة أو لا يكون كذلك فإن كان وقت الحاجة فلا يجوز الا أن يجيب
عن جميعه في الحال وان كان قد تقدم منه بيان اخر يمكن الوصول إليه لأنه وقت الحاجة فلا
يجوز الا أن يجيب عن جميعه في الحال وان كان قد تقدم وقت الحاجة فلا يسوغ منه (ع)
145

الا بين له الوجوب عما سئل عنه الا ترى ان المستفتى إذا استفتى عن شئ مست الحاجة إليه لم
يسغ له الا يفتى فيه فالنبي صلى الله عليه وآله بذلك أولى وإذا لم يكن الوقت وقت الحاجة فلا يخلو السائل من ان
يكون من أهل الاجتهاد أولا يكون كذلك فان كان ممن يمكنه الوصول إلى ذلك وقد تقدم منه صلى الله عليه وآله
بيان ذلك جاز أن لا يجيب عنه ويحيله على ما تقدم من البيان ولذلك قال (ع) لعمر لما
سئل عن الكلالة فقال تكفيك اية السيف وقال له أيضا وقد سئله عن القبلة فقال أرأيت
لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان يضرك قال لا ففيم إذا فنبه على الجواب وان كان السائل عاميا
يجوز أيضا أن يحيله على بيان ظاهر ويكون في حكمه المجيب وذلك في نحو قوله صلى الله عليه وآله توضأ كما امرك
الله تعالى فاحاله على الآية والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه وجوه منها ما ذكره
أبو عبد الله البصري وهو ان كلامه عليه السلام هو الدلالة على الحكم ويجب أن يعتبر صفته في
الدلالة دون صفة غيره فإذا كان عاما دل على حسب دلالة العموم وكذلك ان كان خاصا
كما انه يعتبر صفة في كونه امرا ونهيا وإباحة ومنها ان العموم لو انفرد عن السبب لوجب حمله
على عمومه فكذلك إذا خرج عند السبب لان ذلك ممكن فيه لان السبب لم يؤثر فيه لأنه ليس
ينافي السبب بيانه (ع) بحكم غيره كما لا ينافي بيانه لحكمه فيجب حمله على جميعه ومنها انه لو ابتدأ (ع)
لكم النهى والسبب حاصل فخاطب بالقول ولما سئل عنه لوجب حمله عليه وكذلك إذا سئل
عنه لان قصده (ع) في الحالين لم يختلف وان كان مبتديا للحكم في أحدهما ومجيبا للاخر
وعلى ذلك حمل الفقهاء خطاب الله تعالى في اية اللعان وان خرجت على سب هلاك بن أمية
العجلاني على كل رام زوجته وآية القذف وردت فيمن تكلم في عائشة وحملت على الجميع و
كذلك اية الظهار وردت في مسلم بن صخر وحملت على كل مظاهر وهذا بين وانما حملناه على
السبب إذا لم يفد بنفسه لان الظاهر أوجب ذلك فليس يجيب حمل ما استقل بنفسه من الجواب على
ما لا يستقل بنفسه لمفارقته له في علته فاما تعلقهم بأنه لو لم يرد السبب لم يكن يتأخر
الخطاب إلى وقت حدوثه فلما اخره إلى ذلك الوقت علم انه المراد فبعيد لأنه لا يمتنع أن يكون
الصلاح في تأخره إلى ذلك الوقت ولا يمتنع ذلك من بيان حكم غير السبب معه ولو وجب حمل
الكلام على عين السائل وعلى ذلك الوقت والمكان لهذه العلة وذلك ظاهر الفساد وقولهم
146

ان من حق الجواب ان يطابق السؤال وان ذلك يوجب حمل الكلام على السبب فغلط لان من حق
الجواب أن ينتظم بيان ما سئل عنه وانه لا يقتضى غيره غلط لان فيه اخراجه من كونه جوابا فاما
إذا اقتضى بيان حكمه وحكم غيره فقد حصل جوابا له وزاد عليه ولا يمتنع هذه الزيادة من كونه
جوابا لما لو بين حكمه فقط لكان جوابا لأنه في الحالين حصل به بيان السؤال وهذه جملة كافية
في هذا الباب فصل في ذكر ما الحق بالعموم وليس منه وما اخرج منه وهو منه الافعال
لا يصح ادعاء العموم فيها لأنها لا تقع الا على وجه واحد فينبغي أن يراعى الوجه الذي وقع
عليه الفعل فان علم صح التعلق به وجرى ذلك مجرى النص على عين واحدة وان لم يعلم الوجه الحق
بالمجمل وإذا ثبت ذلك فلا يصح ان يتعلق بما روى أن النبي صلى الله عليه وآله قضى بالشاهد واليمين وقضى
ان الخراج بالضمان لان ذلك حكاية فعل ومن الناس من فرق فقال إذا روى انه قضى بكذا
وكذا لا يصح التعلق به لأنه ينبئ عن الفعل وإذا روى انه قضى ان كذا وكذا فيه كذا وكذا
صح التعلق به لأنه ينبئ عن انه قال ذلك ومن الناس من سوى بين اللفظين وقال لا فرق
بينهما في انه لا يصح التعلق به وقال لا يمتنع ان يقال في القضا ياء الذي هو الحكم في القضية
المقتضى (المقضى خ ل) فيها هذا القول والأولى عندي أن يكون بينهما فرق لأنه إذا قال قضى رسول الله صلى الله عليه وآله
بالشاهد واليمين فهم منه حكاية فعل لا غير وليس كذلك إذا روى انه قضى ان الخراج بالضمان
وان الشبعة للجار لأنه يسبق إلى الفهم انه قال ذلك قولا لا فعلا الا أنه وان كان كذلك لا
يقتضى صحة التعلق به لأنه لا يعلم انه قال ذلك بقول يقتضى العموم أو بقول يقتضى الخصوص
ويفيد الحكم في تلك العين وإذا كان كذلك صار مثل الأول في أنه ينبغي أن يلحق بالمجمل وإذا
ثبتت هذه الجمل فلا يصح التعلق بما روى انه قضى بالشاهد واليمين وان الخراج بالضمان
لما قلناه الا أن يدل دليل على الحاق غيره به فيحكم به على هذا لا يصح لأصحاب مالك
ان يحتجوا فيمن افطر في شهر رمضان بأي وجه كان فعليه الكفارة بما روى ان رجلا افطر
فأمره صلى الله عليه وآله بالكفارة لان الرجل انما سئله عن حكاية فعل ولم يسئله عن حكم من افطر
وأطلق القول فقال (ع) فعليه الكفارة لأنه لو كان كذلك لكان يصح التعلق به ولكان يجرى
مجرى أن يقول من افطر فعليه الكفارة فإذا قال ذلك أفاد العموم في كل ما يفطر به وكذلك لا يصح
147

التعلق بما روى عنه صلى الله عليه وآله انه جمع بين الصلاتين في السفر في جواز الجمع لان ذلك حكاية فعل ولمن خالف
في ذلك أن يحمله على جمع مخصوص في بعض الاسفار أو إلى أنه جمع بينهما بعرفة فلا يصح ادعاء العموم
فيه فاما إذا روى انه كان يجمع بين الصلاتين في السفر فيصح التعلق به لان ذلك يفيد تكرار
ذلك في حال السفر وان ذلك عادته فاما من ضعف هذا الوجه بان قال انما يفيد لفظة
كان انه فعل ذلك فيما مضى ولا يفيد التكرار فلا يصح التعلق به فغير صحيح لأنه وان أفاد
الاخبار عما مضى (ع) فإنه يفيد تكرار الفعل مع ذلك الا ترى ان القائل إذا قال كان فلان
القاضي يحكم بالشاهد واليمين لا يفهم من ذلك الا أنه كان ذلك عادته في جميع الاحكام
وكذلك إذا قال كان أبو حنيفة يقول بتحليل النبيذ وكان الشافعي يقول بتحريمه لم يفهم
من ذلك الا أن ذلك كان عادتهما وقولهما في جميع الأحوال ولا يسبق إلى قلب أحد انهما
قالا ذلك دفعه واحدة وانها كانت فيما مضى فعلم بذلك ان الأولى ما ذكرناه فاما إذا
سئل الرسول صلى الله عليه وآله عن امر وأجاب عنه يحتاج أن ينظر فيه فان كان عاما حمل على عمومه على
ما بيناه وان كان يفيد الحكم فيما سئل عنه نظر فيما سئل عنه فان كان واقعا على وجه
واحد فالجواب بحسبه وان كان ذلك غير معلوم من حاله كان الجواب في حكم العموم وذلك نحو
ان سئل (ع) عن رجل افطر في رمضان عليه الكفارة أولا ولا يعلم بماذا افطر فمتى أجاب بايجاب
الكفارة صار كأنه قال كل من افطر فعليه الكفارة واقتضى ذلك عموم وجوب الكفارة
على كل مفطر ومتى كان المعلوم للرسول صلى الله عليه وآله انه افطر بوجه واحد وكان سؤاله بنى عن ذلك لفظا
أو معنى فجوابه (ع) مصروف إليه ولا يتعدى به إلى غيره الا بدليل وعلى هذا إذا سئل (ع) عمن زنا فامر
برجمه كان قوله وان لم يكن عاما في اللفظ فهو في حكم العموم في انه يقتضى رجم زان وقد الحق
قوم بهذا الباب اثباته (ع) الحكم في عين وتعليله له العلة يقتضى التعدي إلى غيره نحو قوله (ع)
في الهر انها (قوله من الطوافين عليكم والطوافات اي تطوف عليكم بالليل وتحفظكم من كثير من الآفات
في مجمع البحرين ومطلع النيرين) من الطوافين عليكم والطوافات وقالوا هذه وان لم يمكن أن يرعى فيه العموم
فهو في حكمه في ذلك الحكم يتعلق بكل ما فيه تلك العلة حتى يصير بمنزلة تعليق الحكم باسم
يشتمل جميعه وهذا انما يمكن ان يعتبره من قال القياس فاما على مذهبنا في نفى القياس فلا يمكن اعتبار
ذلك أصلا على ان فيمن قال بالقياس من منع من ذلك وقال ان النبي (ع) لو نص على العلة في شئ بعينه لم
148

يجب الحاق غيره به الا بعد اثبات التعبد بالقياس فاما قبل ذلك العبادة فلا يصح ذلك فيه ولذلك
لو قال حرمت المسكر لأنه حلو لم يجب أن يحكم بتحريم كل حلو الا بعد العبادة بالقياس وكذلك ينبغي
أن يكون قوله فيما ذكرناه فاما ما روى عنه (ع) من قوله (ع) ان الزعيم غارم فإنه عام لان فيه الألف
واللام المقتضيين للاستغراق على ما بيناه وليس الامر فيه على ما ظن بعضهم من انه يفيد العموم
من جهة الدليل لأنه دل على ان عزمه انما كان لأجل كونه زعيما فيكون عاما في الحكم وان لم يكن
عاما في اللفظ لأنا قد بينا ان ذلك يفيد الاستغراق وكذلك القول في الأسماء المشتقة
التي دخل عليها الألف واللام نحو قوله السارق والسارقة والزانية والزاني في كل ذلك
يفيد الاستغراق على ما بيناه لفظا ولم يفد ذلك تعليلا على ما ذهب إليه قوم وإذا
روى عنه (ع) انه سهى فسجد بان علم ان سجوده كان لأجل السهو كان ذلك جاريا مجرى قوله (ع) من
سهى فليسجد لما دل الدليل على ان حكم غيره حكمه في الشرعيات ويلحق بهذا الباب فحوى الخطاب
ودليل الخطاب في انهما يفيدان العموم من جهة المعنى وان لم يفد ذلك لفظا الا ترى ان
قوله تعالى ولا تقل لهما أف يجرى مجرى قوله ولا تؤذهما وكذلك قوله ولا يظلمون فتيلا يفهم
منه انهم لا يظلمون القناطير فهو وان لم يفد ذلك لفظا فقد أفاد ذلك معنى على أبلغ
الوجوه وكذلك إذا قال في سايمة الغنم زكاة أفاد ان العلوفة لا زكاة فيها على ما نبينه فيما بعد
وجرى ذلك مجرى قوله لا زكاة في العاملة ومن قال ان تعليق الحكم من تحليل أو تحريم إذا
علق بالأعيان اقتضيا العموم في المعنى وان لم يكن عاما من جهة اللفظ فسنبين ما عندنا
في ذلك فيما بعد ان شاء الله وهذه الجملة كافية في هذا الباب انشاء الله فصل
في ذكر غاية ما يخص العموم إليها يجوز تخصيص العموم إلى أن لا يبقى من اللفظ الا واحد ولا فرق في
ذلك بين ألفاظ الجموع وبين لفظة من وما وغير ذلك إذا دل الدليل عليه وفي الناس من قال
يجوز أن يخص إلى أن يبقى ثلاثة ثم لا يجوز دخول التخصيص فيه نحو قوله اقتلوا المشركين لا يجوز
أن يزيد أقل من ثلاثة وفصل بين ذلك وبين من فأجاز تخصيص لفظة من إلى أن يبقى منها
واحد والذي يدل على ما اخترناه انا قد دللنا على ان لفظ العموم متى استعمل في غير الاستغراق
كان مجازا وإذا كان مجازا فلا فرق بين استعماله في الواحد وبين استعماله فيما هو أكثر منه
149

يبين ذلك انه لما جاز ذلك في لفظه من كان تجويز ذلك في ألفاظ الجمع مثله سواء وقد أجاز أحدهما
المخالف فينبغي أن يكون حكم الاخر مثله على ان استعمال ذلك لأهل اللغة ظاهر لأنهم استعملوا
لفظ العموم في الواحد كما استعملوه في الثلاثة وأكثر من ذلك قال الله تعالى انا نحن نزلنا الذكر و
انا له لحافظون فأخبر عن نفسه بنون الجمع وبالواو والنون وهو واحد وقال الشاعر انا وما
اعني سواي انى فعبر عن نفسه بلفظ الجمع وقد تجاوزوا ذلك إلى ان عبروا بلفظ الألف عن الواحد
كما روى عن عمر انه لما كتب إلى سعد بن أبي وقاص وقد انفذ إليه القعقاع بن شور مع الف
رجل وقد أنفذت إليك الفي رجل فعبر عن القعقاع وحده بعبارة الألف لما اعتقده
من انه يسد مسد الألف في الحرب وهذا واضح فصل في ذكر ما يخص في الحقيقة
وما يخص في المعنى وما لا يجوز دخول التخصيص فيه الأدلة على ثلاثة اضرب منها ما هو عام من
جهة اللفظ ومنها ما هو عام من جهة المعنى ومنها ما ليس بعام لا لفظا ولا معنى فاما
ما هو عام لفظا فالتخصيص يجوز أن يدخله بجميع الأدلة التي ذكرناها التي يخص بها
العموم وذلك لا خلاف فيه واما ما هو عام من جهة المعنى فعلى ضربين أحدهما قياس والاخر
استدلال فاما القياس فعندنا انه ليس بدليل أصلا ومن قال انه دليل وأجاز تخصيص العلة
جوز تخصيصه ومن لم يجز تخصيص العلة لم يجز ذلك فاما الاستدلال فنحو دليل الخطاب
وفحوى الخطاب ونحو ان ينص النبي عليه واله السلم على حكم في عين ثم علم بالدليل ان حكم غيره
حكمه فان التخصيص في جميع ذلك يجوز في المعنى وان لم يسم ذلك تخصيصا ومثل ذلك
استدلالنا بجواز وطى أم الولد على ان الملك باق وإذا كان الملك باقيا وجب أن يتبعه
جميع احكامه الا ما يخصه الدليل وغير ذلك من المسائل واما ما لا يدخله التخصيص
أصلا لأنه ليس بعام لا لفظا ولا معنى فنحو أن ينص (ع) على عين واحدة أو يقدم على فعل واحد
ويخص ذلك العين بذلك الحكم (فان خ ل) بان معنى التخصيص لا يسوغ فيه وذلك نحو تخصيصه (ع) ابا بردة
بجواز أضحية (أضحيته خ ل) وما شاكله فإذا ثبتت هذه الجملة فمتى ورد عام لفظا جاز تخصيصه لفظا
بالأدلة التي قدمناها وما ليس بعام فان كان المحتج به يحتج باللفظ منع من التعلق به
وان احتج به في المعنى جاز أن يعترض عليه بجميع ما يخص به العموم وان لم يسم ذلك مخصصا
150

وما كان خاصا بغير واحدة لا يتعداه التخصيص في المعنى واللفظ لا يصح فيه وهذه جملة كافية
في هذا الباب فصل في ان الشرط والاستثناء إذا تعلقا ببعض ما دخل تحت العموم لا يجب
أن يحكم ان ذلك هو المراد بالعموم لا غير إذا ورد اللفظ عام وتعقبه شرط علم انه راجع إلى بعضه
لا يجب أن يحمل اللفظ العام على ما تعلق ذلك الشرط به بل لا يمتنع أن يكون العام على عمومه و
ان ذكر بعده شرط يرجع إلى بعضه وذلك نحو قوله تعالى يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن
لعدتهن فان ذلك عام في الطلاق والمطلقات ثم قال بعد ذلك لعل الله يحدث بعد ذلك
امرا وذلك تخصيص الرجعى ولا يجب من ذلك حمل أول الآية عليه ومثل قوله لا جناح عليكم
ان طلقتم النساء ثم قال بعد ذلك الا أن يعفون فكان أول الآية عاما في جميع النسوة وان كان
جواز العفو مخصوصا بمن يملك امره منهن ويصح عفوهن دون من لا يصح ذلك منه ولا
يجب تخصيص أول الآية بهن بل كان عاما في سائر النساء وكذلك إذا ذكرت جملة عامة و
عطف عليها جملة خاصة لا يجب من ذلك حمل الأدلة عليها بل يجب حمل الأولى على عمومها
والثانية على خصوصها وذلك نحو قوله والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ثم قال
بعد عاطفا على ذلك وبعولتهن أحق بردهن وذلك يختص الرجعيات ولا يجب من ذلك
حمل أول الآية عليه بل كان عاما فيهن وفي غيرهن ممن لا يملك مراجعتهن ومثل ذلك قوله تعالى
واللائي يئسن من المحيض من نسائكم كان ذلك عاما في جميعهن ثم قال وأولات الأحمال ان
يضعن حملهن ولا يجب من ذلك حمل أول الآية عليهن ولذلك نظائر كثيرة والذي ينبغي
ان يحصل في هذا الباب انه إذا ورد لفظ عام ثم وصف بصفة أو شرط بشرط علم انه لا
يصح ذلك الشرط ولا تلك الصفة في جميع اللفظ العام وجب حمل اللفظ العام عليه إذا كان
الشرط أو الصفة متعلقين ببعض ما تناوله لم يجب ذلك وكان حكمه ما قدمناه في أول الباب
فاما إذا كان الكلام في جملتين قد عطفت أحدهما على الأخرى فينبغي أن ينظر في الجملة الثانية
فلا يخلو أن تكون متناولة لمثل ما تناوله الجملة الأولى أو لا تكون كذلك فان كانت متناولة
لمثل ما تناولته الأولى فلا يخلو أن تكون موافقة أو مخالفة فان كانت موافقة له في الحكم
فان ذلك يكون تأكيدا ويجب حملها على مثل ما حملت عليه الجملة الأولى وان كانت الجملة الثانية
151

متناولة لمثل ما تناولته الأولى وكانت مخالفة لها في الحكم فلا تعلق لها بالجملة الأولى وكانت
كأية أخرى يجب حملهما على ظاهرهما وان كانت متناولة لمثل ما تناولته الأولى وكانت متضادة
لها في الحكم فذلك لا يجوز وقوعه من الحكيم تعالى لأنه يؤدي إلى التناقض والبداء وهما منفيان عنه
تعالى فنظير الجملة المؤكدة ان نقول اقتلوا المشركين ثم بعطف على ذلك فيقول اقتلوا الكفار
ونظير الجملة المخالفة ان نقول اقتلوا المشركين وخذوا غنائمهم واسبوا ذراريهم وما يجرى
مجرى ذلك ونظير المتضادة نحو أن يقول اقتلوا المشركين ولا تقتلوا الكفار فان ذلك
ينفى ما أثبتته الجملة الأولى وذلك لا يجوز على الحكيم تعالى وإذا كانت الجملة الثانية
أخص من الجملة الأولى وأعم منها وان كانت تقتضي مثل حكم الأدلة كانت تأكيدا أو ذكرا
لتفخيم ما ذكر في الأولى وعلى ذلك يحمل قوله من كان عدوا لله وملئكته ورسله و
جبريل وكذلك قوله فيها فاكهة ونخل ورمان فان ذلك اما ان تحمله على التأكيد
أو على تفخيم سائر ما افرد بالذكر وعند من قال بدليل الخطاب من أصحاب الشافعي و
غيرهم ان افراد بعض ما تناوله لفظ العموم بالحكم يدل على انه أراد بالعموم الخصوص
وعلى هذا حمل قوله لا جناح عليكم ان طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن
فريضة ومتعوهن على الموسع قدره على ان المتعة يجب لغير المدخول بها إذا لم يسم
لها مهرا ومن خالفه قال تجب المتعة لكل مطلقة وسنذكر ما عندنا من دليل الخطاب
فيما بعد ان شاء الله تعالى والأقرب على مذهب من يقول بدليل الخطاب ان يقال ان العموم
في الأولى يمنع من دليل الخطاب في الثانية بأولى من أن يقال ان دليل الخطاب في الثانية يمنع
من حمل الأولى على العموم فإذا تساوى القولان وجب أن يوقف ذلك على البيان أو يكون مجملا
على ما بيناه وان كانت الجملة الثانية مخالفة للأولى في الحكم كانت كأية أخرى لا تعلق لها
بالجملة الأولى على ما بيناه في الجملتين المتماثلتين في العموم وان كانت ضدا للجملة الأولى
فان كانت الجملة الأولى أعم والثانية أخص وذلك على انه أراد بالجملة الأولى وما
عدا ما ذكر في الجملة الثانية وان كانت جملة الثانية أعم دل ذلك على انه أراد بالثانية
ما عدا ما ذكر في الجملة الأولى ونظير الأول ان تقول اقتلوا المشركين وتقول بعده ولا
152

تقتلوا اليهود والنصارى والا كانت متناقضة أو بداء وذلك لا يجوز ونظير الثاني ان تقول أولا لا
تقتلوا اليهود والنصارى ثم يقول بعده اقتلوا المشركين فان ذلك يدل على انه أراد بلفظ المشركين
الثانية ما عدا ما ذكر في الجملة الأولى ولولا ذلك لأدى إلى ما قدمناه وأبطلناه وليس
لاحد أن يقول هلا حملتم الثانية على انها ناسخة لان من شان النسخ أن يتأخر عن حال
الخطاب على ما نبينه وانما ذلك من أدلة التخصيص الذي يجب مقارنتها للخطاب على ما تقدم
القول فيه فعلى هذا ينبغي أن يجرى كل ما يرد من هذا الباب فصل في جواز تخصيص
الاخبار وانها تجرى مجرى الأوامر في ذلك الصحيح انه يجوز تخصيص الاخبار سواء كان معناها
معنى الامر أو لم يكن كذلك كما يجوز تخصيص الأوامر وفي الفقهاء من قال ان ذلك لا يجوز كما لا يجوز
نسخ الاخبار وأكثر الفقهاء والمتكلمين على المذهب الأول والذي يدل على ذلك ان التخصيص
هو ما دل على مراد المخاطب بالعموم وذلك لا يمتنع في الاخبار كما لا يمتنع في الأوامر فإنه
لا يمتنع ان يريد المخاطب باللفظ العام بعض ما وضع له كما لا يمتنع ان يأمر باللفظ العام
ويريد بعض ما يتناوله فالأمران سواء فاما ثبوت ذلك فأكثر من أن يحصى نحو الاخبار
المتضمنة للوعيد فإنها خاصة وكذلك آيات الوعد عند بعضهم وقوله تعالى والله على
كل شئ قدير وقد علمنا انه لا يقدر على ذات نفسه ولا مقدورات غيره وكذلك
قوله وأوتيت من كل شئ وقد علمنا انها ما أوتيت أشياء كثيرة وذلك أكثر
من أن يحصى على انا قد بنينا ان الامر والنهى في معنى الخبر فلا فرق بين أن يأمر بالشئ
في انا نعلم وجوبه وبين أن يخبرنا بان له صفة الوجوب في انا نعلم مثل ما علمناه بلفظ الامر
وقد روى عنه (ع) انه امتنع من دخول بيت فيه تصاوير وقال ان الملائكة لا تدخل بيتا فيه
تصاوير ثم خص ذلك بان دخل بيتا فيه تصاوير توطأ واما حملهم ذلك على النسخ
فالصحيح ان النسخ مجوز أن يدخل في الاخبار ونحن نبين ذلك في باب الناسخ و
المنسوخ فبطل بذلك تعلقهم به فصل في ذكر بناء الخاص على العام وحكم العمومين
إذا تعارضا اعلم انه إذا ورد عام يتناول اثبات حكم وورد خاص يتناول نفى
حكم؟؟؟ عن بعض ما تناوله العام نظر في تاريخهما فان كان أحدهما سابقا للاخر كان
153

المتأخر ناسخا والمتقدم منسوخا وسواء كان المتقدم عاما في ان الخاص الذي يجئ بعده و
يتأخر عنه يكون ناسخا له لان تأخير بيان العموم لا يجوز عن حال الخطاب على ما نبينه فيما
بعد وكذلك لو كان المتقدم خاصا والمتأخر عاما فإنه يكون ناسخا الا أن يدل دليل على انه
أريد به ما عدا ما تقدمه من الخاص وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم ومتى لم يعلم
تاريخهما فالصحيح انه يبنى العام على الخاص ويجمع بينهما وهو مذهب الشافعي وأصحابه
وأهل الظاهر وبعض أصحاب أبي حنيفة وفي الناس من قال إذا عدم التاريخ فالواجب ان
يرجع في الاخذ بأحدهما إلى دليل ويجريهما مجرى عامين تعارضا وهو مذهب عيسى بن
ابان وأبي الحسن الكرخي والذي يدل على صحة المذهب الأول ان من حق من ثبتت حكمته
أن لا يلغى كلامه إذا أمكن حمله على وجه بعيد وإذا صح ذلك فمتى أوجبنا استعمال
العام لأدى إلى الغاء الخاص ومتى استعملنا الخاص لم يوجب اطراح العام بل يوجب حمله
على ما يصح ان يريده الحكيم فوجب بهذه الجملة بناء العام على الخاص ونظير ذلك ما روى
عنه (ع) انه قال في السرقة ربع العشر فكان هذا عاما في قليلة وكثيرة ثم قال ليس فيما دون
خمس أواق من الورقة صدقة فأوجب هذا ان ما نقص عن خمس أواق ليس فيه صدقة وهو
أخص من الأول فلو عملنا بموجب الخبر الأول لاحتجنا إلى اسقاط الخبر الأخير ومتى استعملنا
الأخير أمكننا استعمال الأول على ما يطابقه فان قيل هلا حكمتم فيهما بالتعارض
كالعمومين لان ما تناوله الخاص قد تناوله الخبر العام وانما زاد عليه العام بتناوله
شيئا اخر لم يتناوله الخاص فكان الزايد على ذلك حكم خبر اخر وما تناوله العام مما
عارضه الخبر الخاص في حكم خبر اخر فوجب ان يعارض ذلك لما تناوله الخاص ويقف العمل
على أحدهما على الدليل قيل هذا لا يجوز لأنه يؤدى إلى ابطال أحد المخبرين (الخبرين) مع صحة حمله
على وجه ممكن وليس كذلك حكم العمومين إذا تعارضا لأنه لا يمكن الجمع بينهما على وجه
فاما قولهم ان ما تناوله العام في حكم الخبرين تناول أحدهما مثل ما تناول الخبر الخاص
والاخر يتناول ما زاد على ذلك وانه ينبغي أن يحكم بالتعارض فيهما ليس بصحيح لان
العام إذا كان جملة واحدة صح فيه من صرفه إلى ان المراد به بعضه ما لا يصح فيه إذا
154

خبرين فمتى قيل ان المراد ما تناوله أحدهما أدى ذلك إلى ابطال ما تناوله الخبر الاخر وذلك
لا يصح فإذا ثبت ذلك صح ما قلناه في بناء العام على الخاص وفارق حاله حال الخبرين
الذين يتناولان ما تناوله العام فان قيل هلا حملتم أحدهما على انه ناسخ للاخر
وتكونون قد استعملتم الخبرين على وجه الحقيقة ويكون ذلك أولى من بناء العام على
الخاص لان استعمال العام في الخاص يكون مجازا يقال انما يمكن حمل ذلك على النسخ إذا
علمنا تاريخهما وان أحدهما متقدم والاخر متأخر فيحمل ذلك على النسخ فاما مع عدم التاريخ
فلا يمكن حمل ذلك فيه ويدل على ذلك أيضا ان على مذهب الخصم لو ثبت بالقياس اخراج
بعض ما يتناوله العام من عمومه وجب أن يخرج منه وخص به العموم فالخبر الخاص إذا أوجب
اخراج بعض ما يتناوله العام بذلك أولى لان السنة أولى (أقوى خ ل) من القياس عنده ويدل على ذلك
أيضا ان العام والخاص لو وردا معا لعلمنا ان المراد بالعام ما تناوله الخاص لان ذلك
دليل التخصيص فإذا وردا مفترقين ولا دليل يدل على تقدم أحدهما وتأخر الاخر كانا في
حكم ما وردا في وقت واحد ويجرى مجرى الغرقى في انه وان جاز تقدم أحدهم على الاخر فمتى
عدم التاريخ في ذلك حكم بأنهم كانوا ماتوا في حالة واحدة على مذهب الخصم واستدل
بعض من نص على ما اخترناه بان قال ما تناوله الخاص مقطوع به وما تناوله العام
مشكوك فيه فلا ينبغي أن يزال اليقين بالشك وهذا انما يمكن أن يعتمده من قال ان
العموم ليس له صيغة تفيد الاستغراق فاما على ما ثبت عليه من ان له صيغة تفيد ذلك
فلا يمكن لان ما تناوله العام عندنا مقطوع مثل ما تناوله الخاص فلا فرق بينهما
على حال وقد استدل بوجوه اخر تضعف وما ذكرناه أقول ما يستدل به فاما المخالف
لذلك فإنما عول في ذلك على ان قال انما تضمنه العام في حكم ما تضمنه خبران أحدهما
ما تضمنه (تضمن) الخاص والاخر تضمن غيره فكان ما تضمنه الخاص معارضا له وقد أوردنا
في دليلنا ما هو جواب عنه فأغنى عن الإعادة وقد تعلق كل واحد منهما بوجود مواضع من العام
والخاص بنى أحدهما على الاخر أو حكم فيهما بالتعارض لا يمكن أن يعول عليه لان لمن يخالفه
أن يقول انما حكمت بذلك لدليل دل عليه لولا الدليل لما قلت به وينبغي أن يكون المعتمد
155

ما قدمناه من الأدلة وفيه كفاية ان شاء الله تعالى فاما العمومان إذا تعارضا فلا يخلو من ان
يكون طريق اثباتهما العلم أو لا يكون كذلك فان كان طريق اثباتهما العلم يصح وقوعهما من
حكيم على وجه ولا يصح على اخر فما يصح وقوعه منه بوجوه أحدها ان يقترن بهما التاريخ
وان أحدهما متقدم والاخر متأخر فيحكم بان المتأخر ناسخ والمتقدم منسوخ والثاني
أن يمكن الجميع بينهما على وجه من التأويل والثالث أن يكونا وردا مورد التخيير فهذه الوجوه
التي يصح أن يقع العمومان المعلومان عليه من الحكيم فمتى خلا من ذلك بان تقدم التاريخ ولا يصح
الجمع بينهما لتضادهما علم انه لم يرد التخيير فإنه لا يجوز وقوعهما من حكيم لأنه يؤدى إلى أن يدل
الدليل على خلاف ما هو دليل عليه وذلك لا يجوز على حال فاما إذا عارض كل واحد من العمومين
صاحبه من وجه ولا يعارضه من وجه نحو قوله تعالى أو ما ملكت ايمانكم وقوله وان تجمعوا
بين الأختين لان أحدهما يقتضى تحليل الجمع بين الأختين المملوكتين والاخر يقتضى خطره
ويصح أن يكون المراد باية الجمع ما عدا المماليك ويحتمل أن يراد باية المماليك ما عدا
الأختين فقد استويا في التعارض وفي صحة الاستعمال على وجه واحد فما هذه حالة
وجب الرجوع في العمل بأحدهما إلى دليل ولذلك روى عن أمير المؤمنين (ع) انه قال أحلتهما
آية وحرمتهما أخرى وانا انهى عنهما نفسي وولدي فأخبر ان ظاهرهما يقتضى التعارض
وانه عمل بأحدهما لعلمه بذلك وان العمل به هو الواجب وروى عن عثمان انه وقف في
ذلك وقال أحلتهما آية وحرمتهما أخرى وحكى انه رجح تحريمها فاما إذا كان طريق
اثباتهما الآحاد فإنه رجع في العمل إلى أحدهما بالترجيح وقد قدمنا ما يرجح به أحد
الخبرين على الاخر بما يرجع إلى اسناده أو متنه فأغنى عن الإعادة مثل ذلك ما
روى عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ونهى عن الصلاة
في الأوقات المخصوصة وكذلك روى عنه صلى الله عليه وآله انه قال من بدل دينه فاقتلوه فكان ذلك عاما
في النساء والرجال والصبيان ثم نهى عن قتل النساء والولدان والطريقة في الكلام على
ذلك ما قدمناه من الوقف والرجوع في العمل بأحدهما إلى دليل ومن الناس من رجح العمل بأحد
هذين الخبرين دون الاخر بأنه خرج على سبب فإذا عارضه الاخر وجب أن يقصر ذلك على
156

سببه ولا يعدى ذلك لان الاخر يمنع منه ولنا (لها خ ل) في عين هذه المسألة نظر وليس ذلك بمانع
مما قلناه لان (أما خ ل) هذا مثال ولو لم يرد هذا المثال لكان ما فرضناه صحيحا الكلام في البيان المجمل
فصل في ذكر حقيقة البيان والمجمل وما فيه (به خ ل) النص وغير ذلك البيان عبارة عن الأدلة
التي تبين بها الاحكام وعليه يدل كلام أبي علي وأبي هاشم واليه ذهب أكثر المتكلمين والفقهاء
ويعبر عنه بأنه هداية وبأنه ضلالة وبأنه بيان كل ذلك يراد به معنى واحد وذهب أبو عبد الله
البصري إلى أن البيان هو العلم الحادث الذي به يبين الشئ وفي الناس من جعل البيان هو الأدلة
من جهة القول والكلام دون ما عدا ذلك من الأدلة وذهب الصيرفي إلى ان البيان
هو ما اخرج الشئ من حد الاشكال إلى التجلي وقال الشافعي البيان اسم جامع لمعان متشعبة
الأصول متشعبة الفروع وأقل ما فيه انه بيان لمن نزل القران بلسانه وقال من فسر كلامه
ان غرض الشافعي بهذا كان إلى ذكر ما هو بيان في اللغة التي نزل بها القران لا ان يعينه
وذكر اقسام ذلك ولذلك قال انه متشعب ثم قال ان أقل ما فيه انه مما يتبين به من
نزل القران بلسانه المراد ويبين بذلك ان فيه ما يكون في باب الدلالة على ان المراد أقوى
واظهر من بعض وان كان جميعه قد اشترك فيما ذكرنا وقال هذا أقرب ما يحمل كلامه
والذي يدل على ما ذهبنا إليه من انه عبادة عن الدلالة على اختلاف اقسامها ان بالأدلة
يتوصل إلى معرف المدلول والبيان هو الذي يصح ان يبين ما هو بيان له ولاجل ذلك يقال
قد بين الله تعالى الاحكام والمراد بذلك انه دل عليها بان نصب عليها الأدلة فكان
بذلك في حكم مظهر لها فكما يقال لما قد ظهر بأن فكذلك يقال للمدلول عليه قد بان ويوصف
الدال بأنه مبين يعلم بصحة تصرفها في جميع المواضع ان المراد به ما قلناه وتجاوزوا ذلك
إلى ان قالوا في الامارات التي تقتضي عليه غلبة الظن انها بيان كما قالوا فيها انها أدلة على ضرب
من المجاز فان قيل ما أنكرتم أن يكون البيان عبارة عن العلم الحادث الذي يتبين به الحكم
دون الأدلة التي لا يتبين بها الحكم ولاجل ذلك لا يوصف الله تعالى بأنه متبين لما لم
يكن له علم حادث ولا يقال في الواحد منا فيما يعلمه ضرورة انه متبين له لما لم يكن علمه
حادثا وانما يوصف بما يتجدد له من العلوم التي تحدث حالا بعد حال قيل لا يجوز أن يكون
157

البيان عبارة عن العلم لأنه لو كان كذلك لكان من فعل هذه العلوم يكون هو المبين كما ان
الدال يكون من فعل الدلالة ونحن نعلم انما نصف الله تعالى بأنه قد بين لنا الاحكام فهو
مبين كما يقول انه دلنا فهو دال ويسمى الرسول صلى الله عليه وآله أيضا بذلك قال الله تعالى لتبين للناس
ما نزل إليهم فجعله (ع) لنا الاحكام وعلى ما سأل السائل كان يجب أن يكون نحن المبينين
لان العلوم الحادثة فينا هي من فعلنا وذلك لا يقوله أحد فعلم بذلك ان الأولى ما
قلناه واما التبيين (التبين خ ل) فلا يقع الا بالعلم على ما ذكره السائل ولاجل ذلك لم نصف الله تعالى
بأنه متبين وان كان في الناس من ارتكب ذلك ولم نسلم ان التبيين لا يقع الا بالعلم الحادث
وحد العالم انه متبين للشئ على ما هو به واجري ذلك على الله تعالى والواحد منا والأولى
ما قلناه ولا ينقص ذلك ما نصرناه من ان البيان عبارة عن الأدلة لأنا جعلنا
ذلك عبارة عما يمكن الاستدلال به لا ما يقع به التبيين وذلك حاصل في الأدلة
فينبغي أن يكون عبارة عنها وما أوردناه سؤالا هو شبهة أبي عبد الله من ان
البيان عبارة عن العلم وقد تكلمنا عليه فاما من حد البيان بأنه ما اخرج الشئ من حد
الاشكال إلى حد التجلي فقد حد البيان بعبارة هي أشكل منها وينبغي أن يحد الشئ ما
هو اظهر منه على ان ما ذكروه انما هو بعض البيان لان البيان قد يكون مبتدأ وان
لم يكن هناك مشكل يخرج به إلى التجلي فعلم بذلك ان الأولى ما اخترناه وهذه المسألة التي
هي الكلام فيها كلام في عبارة فلا معنى للإطالة فيه فاما المجمل فيستعمل على ضربين أحدهما
ما يتناول جملة من الأشياء وذلك مثل العموم وألفاظ الجموع وما أشبههما ويسمى ذلك
مجملا لأنه يتناول جملة من المسميات والضرب الاخر هو ما أنبأ عن الشئ على جهة المجملة دون
التفصيل ولا يمكن ان يعلم المراد به على التفصيل نحو قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة وقوله
وفي أموالهم حق معلوم وقوله واتوا حقه يوم حصاده وما أشبه ذلك مما سنبينه فيما
بعد واما النص فهو كل خطاب يمكن أن يعرف المراد به وحد الشافعي النص بأنه هو كل خطاب
علم ما أريد به من الحكم كان مستقلا بنفسه أو علم المراد به بغيره وكان يسمى المجمل نصا
والى ذلك ذهب أبو عبد الله البصري والذي يدل على صحة ما اخترناه ان النص انما
158

سمى نصا لأنه يظهر المراد ويكشف عن الغرض شبيها بالنص المأخوذ من الرفع نحو قولهم منصة العروس
إذا أظهرت ونحو ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله انه كان حين أفاض من عرفات إلى جمع يسير على هيئة فإذا وجد فجوة
نص يعنى انه إذا بلغ فيه الغاية فعلم بذلك صحة ما قلناه واما المفسر فهو ما يمكن معرفة المراد به وهو موضوع
في الأصل لماله تفسير لكنه لما كان ماله تفسير يعلم بتفسيره مراده وكان ما يعلم المراد به بنفسه
بمنزلته سمى مفسرا واما المحكم فهو ما لا يحتمل الا الوجه الواحد الذي أريد به ووصفه محكما لأنه
قد احكم في باب الإبانة عن المراد واما المتشابه فهو ما احتمل من وجهين فصاعدا فاما
وصف القران بأنه متشابه كله في قوله تعالى الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها فالمراد
به انه متماثل في باب الدلالة والهداية والرشاد والاعجاز وقد وصفه الله تعالى بأنه محكم بقوله
الر كتاب أحكمت آياته والمعنى بذلك انه أحكمه على وجه لا يقع فيه تفاوت ويحصل به
الغرض المقصود ولذلك وجب حمل المتشابه على المحكم ويجعل المحكم أصلا له وقد وصف
الله تعالى القرآن بان بعضه محكم وبعضه متشابه بقوله هو الذي انزل عليكم الكتاب
منه آيات محكمات هن أم الكتاب واخر متشابهات والمعنى بذلك ما قدمناه و
اما الظاهر فهو ما يظهر المراد به للسامع من حيث ظهر مراده وصف هو بأنه ظاهر
وقد بينا فيما تقدم معنى العام والخاص والامر والنهى فأغنى الإعادة ان شاء الله تعالى
فصل في ذكر جملة ما يحتاج إلى البيان وما لا يحتاج الخطاب على ضربين أحدهما
يستقل بنفسه ويمكن معرفة المراد به بظاهره وان لم يصف إليه امر اخر وثانيهما
لا يستقل بنفسه ولا يفهم المراد به بعينه الا أن يقترن به بيان يدل عليه فاما ما يستقل
بنفسه فعلى أربعة اقسام أولها ما وضع في أصل اللغة لما أريد به وكان صريحا
فيه سواء كان عاما أو خاصا امرا كان أو نهيا فان جميع هذه الالفاظ يمكن معرفة المراد
لظاهرها فمتى خاطب الحكيم بها وأراد به ذلك أمكن أن يعلم مراده بها ونظير ذلك قوله تعالى
ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق وقوله ولا يظلم ربك أحدا وقوله والله بكل
شئ عليم وغير ذلك وثانيها ما يفهم المراد به بفحواه لا بصريحه وذلك نحو قوله ولا تقل
لهما أف ولا تنهرهما فان فحواه يدل على المنع من أذاهما على كل وجه وكذلك قوله ولا يظلمون
159

فتيلا لأنه يقتضى فحواه نفى الظلم لهم بذلك وما زاد عليه وفي الفقهاء من الحق هذا الوجه بالقياس
وزعم ان جميع ذلك يفهم بضرب من الاعتبار وذلك خطأ لان دلالة ما قدمناه من
الالفاظ على ما قلناه أقوى من دلالة النص لان السامع لا يحتاج في معرفة المراد به إلى تأمل فهو
إذا كالأول والذي يكشف عما قلناه انه لو قال ولا تقل لهما أف واضربهما أو اقتلهما واضعفهما
يعد بذلك مناقضا وكذلك لو قال رجل لغيره انا لا أعطيك حبة ثم قال لكني أعطيك
الدراهم واخلع عليك لكان ذلك مناقضة ظاهرة ولو ان قائلا قال فلان يؤتمن على
قنطار ثم قال ونجوز فيما قدره دانق كان ذلك مناقضة فعلم بجميع ذلك صحة ما قلناه الا انه
بما كان بعضه أجلى من بعض وبعضه اظهر من بعض وبعضه أبهر من بعض حتى يظن فيما ليس منه انه منه وفيما هو
منه انه ليس منه ولاجل ذلك اعتقد أكثر الفقهاء في قوله تعالى فمن كان منكم مريضا أو
على سفر فعدة من أيام اخر فقال انه يعقل منه فأفطر فعدة من أيام اخر وهذا ليس
بصحيح لان عندنا ان وجوب القضاء في هذه الآية يتعلق بنفس السفر والمرض المخصوصين
وان لم يفطر الانسان فتقدير الافطار لا يحتاج إليه ومن قال من الفقهاء ان وجوب القضاء في
هذا الموضع متعلق بالافطار فالمحصلون منهم قالوا ان ذلك طريقة الدليل وليس هو من باب
فحوى الخطاب في شئ وثالثها تعليق الحكم بصفة الشئ فإنه يدل على ما عداه بخلافه
على ما تدل عليه وان كان فيه خلاف ورابعها ما ذهب إليه كثير من الفقهاء وهو ما
يدل فائدته عليه لا صريحه ولا فحواه ولا دليله وهو عندهم على ضروب منها ما يدل عليه تعليله
نحو قوله في الهر انها من الطوافين عليكم والطوافات لان اللفظ لا يتناول ما عدا الهر ولا يعقل
ذلك بفحواه ولا بدليله وانما يحكم ذلك بالتعليل ومنها قوله والسارق والسارقة والزانية
والزاني انه لما أفاد الزجر بالآيتين أفاد ان القطع تعلق بالسرقة والجلد بالزنا فعلم بذلك
في جميع السراق والزناة هذا عند من قال ان الألف واللام لا يستغرقان فاما من قال بذلك
فلا يحتاج إلى هذا التمحل بل يوجب ذلك بلفظ العموم ومنها ما قدمناه من ان الامر بالشئ
يقتضى الامر بما لا يتم الا به وان فائدة قولنا تدل على ذلك وقد قلنا ما عندنا في جميع هذه
الأمثلة بما اغنى عن الإعادة فاما ما لا يستقل بنفسه في إفادة المراد يحتاج إلى ما يقترن به
160

من البيان فعلى ضربين أحدهما يحتاج إلى بيان ما لم يرد به مما يقتضى ظاهره كونه مرادا ولا يحتاج إلى بيان
ما أريد به بل يعلم ذلك بظاهره وذلك نحو العام إذا علم انه دخله التخصيص فإنه يحتاج في معرفة ما اخرج
منه إلى دليل لا فيما أريد به علم ذلك باللفظ المتناول له ويحتاج إلى ان يعلم ما لم يرد منه وذلك نحو قوله
والسارق والسارقة والزاني والزانية واقتلوا المشركين فإنه لما علمنا ان في السراق من لا يجب قطعه
مثل أن يكون سارقا من غير حرز أو سرق ما دون النصاب أو لم يكن عاقلا أو كان هناك شبهة وغير ذلك
من الشرايط المراعاة في ذلك احتيج إلى بيان من لا يقطع لان عمومه يقتضى ان يقطع كل سارق من حصلت فيه
الصفات التي ذكرناها ومن لم يحصل فإذا دل الدليل على ان من لم تكمل هذه الصفات فيه لا يجب قطعه
اخرج من ذلك وقطع الباقون بظاهر الآية وكذلك القول في اية الزنا والشرك فالطريقة واحدة ومن الناس
من الحق هذا الباب بالمجمل الذي يحتاج إلى بيان المراد منه وقال لا يصح التعلق بظاهره وسنبين ما عندنا
في ذلك فيما بعد انشاء الله تعالى والضرب الثاني هو ما يحتاج إلى البيان في معرفة ما أريد به وهو على
ضروب منها ما وضع في أصل اللغة ليدل على المراد على طريق الجملة دون التفصيل وذلك نحو قوله
تعالى حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وقوله في أموالهم حق وقوله واتوا حقه يوم حصادة وقوله
لا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق ونحو قول النبي صلى الله عليه وآله عصموا منى دمائهم وأموالهم الا بحقها وغير
ذلك من الأمثلة ومنها ما وضع في اللغة محتملا لمعان نحو قوله تعالى ومن قتل مظلوما فقد جعلنا
لوليه سلطانا لان ذلك يحتمل وكذلك قوله يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء فان ذلك يحتمل الحيض والطهر
ومنها الأسماء الشرعية لأنها اجمع تحتاج إلى بيان ما أريد به بعض ما وضع له في اللغة نحو الصيام
والوضوء وغير ذلك ومنها ما وضع في اللغة لينبئ عن المراد به لكنه قد علم انه لم يرد به بعض ما تناوله
من غير تعيين لذلك البعض فهذا لا يعلم المراد به لأنه لا شئ يشار إليه مما يتناوله الا ويجوز أن يكون مخصوصا
منه وذلك نحو قوله تعالى وأوتيت من كل شئ فإنه لما علمنا انها لم تؤت أشياء كثيرة على طريق الجملة احتجنا في
معرفة ما أوتيت إلى دليل وقد الحق قوم بهذا الوجه قوله وافعلوا الخير وقالوا انه إذا لم يصح ان يريد بذلك
جميع الخير لان فيه مما ليس بواجب فالواجب اما ان يحتاج إلى بيان أو يراد بالامر الندب وهذا ليس
بصحيح لان الخير الذي قد علم نفى وجوبه معلوم وذلك هو الذي لم يرد فاما ما عداه فمعلوم وجوب
فعله بظاهر اللفظ كما تقول في ساير ألفاظ العموم الذي يخص بعضها ومنها ما وضع في اللغة ليدل على
المراد بظاهرة الا انه إذا تعقبه شرط أو استثناء مجمل يرجع إليه صار ما تقدمه مجملا وذلك نحو قوله تعالى وأحل
161

لكم ما وراء ذلكم فان ذلك يقتضى إباحة كل ما وراء المحرمات فلما قال بعد محصنين غير مسافحين وكان
ذلك مجملا افتقرت الآية إلى بيان وصارت مجملة ومثل ذلك قوله أحلت لكم بهيمة الانعام الا ما يتلى
عليكم لان ما يتلى لما كان مجملا فالأول بمنزلته ومنها لفظ العام إذا ورد واقتضى حكما والمعلوم
من حال ذلك الحكم انه لا يتم فعله الا بشئ اخر وذلك الشئ لا يعلم بالظاهر اقتضى ذلك اجمال العام لأنه لا
يمكن الاقدام على ذلك مع الجهل بما لا يتم الا به فهذه جملة مقنعة في ذكر ما يحتاج إلى البيان وما لا يحتاج
لان شرح ذلك طويل فاما الذي لأجله قلنا ان ما يمكن أن يعلم المراد بظاهره ولا يحتاج إلى بيان فهو
انه لو احتاج إلى بيان لكان يحتاج إليه فيما يقوم ويسد مسده فإذا كان هو بنفسه مع انه قام (مقام) لا يتبين به
المراد فكذلك بيانه وفي ذلك اخراج بيانه أيضا من أن يستقل بنفسه وايجاب إلى بيان اخر وذلك يوجب
اثبات ما لا يتناهى من البيان وذلك مح وانما قلنا ان القسم الأخير يحتاج لأنه لا يمكن معرفة المراد فكذلك
ذلك في حكم كل من لم يعرف حاله من الحاجة إلى بيانه ليتبين له المراد وذلك ظاهر والله
الموقف للصواب تم الجزء والأول من كتاب العدة للشيخ الطوسي طاب مرقده
وقد رمسه ويلحقه انشاء الله تعالى الجزء الثاني منه بتوفيق
الله وتأييده والصلاة على نبيه محمد وآله الطاهرين
فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك
هو الفوز العظيم
يباع هذه النسخ في كربلا عند الشيخ شيخ محمد مهدى الرئيس - وفي النجف الأشرف عند الشيخ شيخ احمد الكتبي
162