الكتاب: أضواء البيان
المؤلف: الشنقيطي
الجزء: ٢
الوفاة: ١٣٩٣
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: مكتب البحوث والدراسات.
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤١٥ - ١٩٩٥م
المطبعة: بيروت. - دار الفكر للطباعة والنشر.
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر
ردمك:
ملاحظات:

((سورة الأعراف))
* (المص * كتاب أنزل إليك فلا يكن فى صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين * اتبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أوليآء قليلا ما تذكرون) * قوله تعالى: * (فلا يكن فى صدرك حرج منه) *.
قال مجاهد، وقتادة، والسدي: * (حرج) * أي شك. أي لا يكن في صدرك شك في كون هذا القرآن حقا، وعلى هذا القول فالآية، كقوله تعالى: * (الحق من ربك فلا تكونن من الممترين) * وقوله: * (الحق من ربك فلا تكن من الممترين) *، وقوله: * (فإن كنت في شك ممآ أنزلنآ إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جآءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين) *.
والممتري: هو الشاك. لأنه مفتعل من المرية وهي الشك، وعلى هذا القول فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
والمراد نهى غيره عن الشك في القرآن، كقول الراجز:
* إياك أعني واسمعي يا جارة
وكقوله تعالى: * (ولا تطع منهم ءاثما أو كفورا) *، وقوله: * (لئن أشركت ليحبطن عملك) *، وقوله: * (ولئن اتبعت أهوآءهم) *.
ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لا يفعل شيئا من ذلك، ولكن الله يخاطبه ليوجه الخطاب إلى غيره في ضمن خطابه صلى الله عليه وسلم.
وجمهور العلماء: على أن المراد بالحرج في الآية الضيق. أي لا يكن في صدرك ضيق عن تبليغ ما أمرت به لشدة تكذيبهم لك، لأن تحمل عدواة الكفار، والتعرض لبطشهم مما يضيق به الصدر، وكذلك تكذيبهم له صلى الله عليه وسلم مع وضوح صدقه بالمعجزات الباهرات مما يضيق به الصدر. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة)، أخرجه مسلم. والثلغ: الشدخ وقيل ضرب الرطب باليابس حتى ينشدخ، وهذا البطش
3

مما يضيق به الصدر.
ويدل لهذا الوجه الأخير في الآية قوله تعالى: * (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضآئق به صدرك) *، وقوله: * (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون) *، وقوله: * (فلعلك باخع نفسك علىءاثارهم إن لم يؤمنوا بهاذا الحديث أسفا) * وقوله: * (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) *.
ويؤيد الوجه الأخير في الآية أن الحرج في لغة العرب: الضيق. وذلك معروف في كلامهم، ومنه قوله تعالى: * (ليس على الا عمى حرج) *، وقوله: * (وما جعل عليكم فى الدين من حرج) *، وقوله: * (يجعل صدره ضيقا حرجا) * أي شديد الضيق إلى غير ذلك من الآيات، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة، أو جميل: يجعل صدره ضيقا حرجا) * أي شديد الضيق إلى غير ذلك من الآيات، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة، أو جميل:
* فخرجت خوف يمينها فتبسمت
* فعلمت أن يمينها لم تحرج
*
وقول العرجي: وقول العرجي:
* عوجي علينا ربة الهودج
* إنك إلا تفعلي تحرجي
*
والمراد بالإحراج في البيتين: الإدخال في الحرج. بمعنى الضيق كما ذكرنا.
قوله تعالى: * (لتنذر به وذكرى للمؤمنين) *.
لم يبين هنا المفعول به لقوله لتنذر، ولكنه بينه في مواضع أخر كقوله: * (وتنذر به قوما لدا) *، وقوله: * (لتنذر قوما مآ أنذر ءابآؤهم) *، إلى غير ذلك من الآيات. كما أنه بين المفعول الثاني للإنذار في آيات أخر، كقوله * (لينذر بأسا شديدا من لدنه) *، وقوله: * (فأنذرتكم نارا تلظى) *، وقوله: * (إنآ أنذرناكم عذابا قريبا) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد جمع تعالى في هذه الآية الكريمة بين الإنذار والذكرى في قوله: * (لتنذر به وذكرى للمؤمنين) * فالإنذار للكفار، والذكرى للمؤمنين، ويدل لذلك قوله تعالى: * (فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا) *، وقوله: * (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) *، وقوله: * (فذكر بالقرءان من يخاف وعيد) *.
4

ولا ينافي ما ذكرنا من أن الإنذار للكفار، والذكرى للمؤمنين. أنه قصر الإنذار على المؤمنين دون غيرهم في قوله تعالى: * (إنما تنذر من اتبع الذكر وخشى الرحمان بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم) *. لأنه لما كان الانتفاع بالإنذار مقصورا عليهم، صار الإنذار كأنه مقصور عليهم، لأن ما نفع فيه فهو كالعدم.
ومن أساليب اللغة العربية: التعبير عن قليل النفع بأنه لا شيء.
وحاصل تحرير المقام في هذا المبحث: أن الإنذار يطلق في القرآن إطلاقين.
أحدهما: عام لجميع الناس كقوله: * (ياأيها المدثر قم فأنذر) *، وقوله: * (تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) *.
وهذا الإنذار العام: هو الذي قصر على المؤمنين قصرا إضافيا في قوله: * (إنما تنذر من اتبع الذكر) * الآية. لأنهم هم المنتفعون به دون غيرهم.
والثاني: إنذار خاص بالكفار لأنهم هم الواقعون فيما أنذروا به من النكال والعذاب، وهو الذي يذكر في القرآن مبينا أنه خاص بالكفار دون المؤمنين كقوله: * (لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا) *، وقوله هنا: * (لتنذر به وذكرى للمؤمنين) * اه.
والإنذار في اللغة العربية: الإعلام المقترن بتهديد، فكل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذارا. * (وكم من قرية أهلكناها فجآءها بأسنا بياتا أو هم قآئلون * فما كان دعواهم إذ جآءهم بأسنآ إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين * فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين * فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غآئبين) * قوله تعالى: * (وكم من قرية أهلكناها فجآءها بأسنا بياتا أو هم قآئلون) *.
خوف الله تعالى في هذه الآية الكريمة الكفار الذين كذبوه صلى الله عليه وسلم، بأنه أهلك كثيرا من القرى بسبب تكذيبهم الرسل، فمنهم من أهلكها بياتا أي ليلا، ومنهم من أهلكها وهم قائلون، أي في حال قيلولتهم، والقيلولة: الاستراحة وسط النهار. يعني: فاحذروا تكذيب رسولي صلى الله عليه وسلم لئلا أنزل بكم مثل ما أنزلت بهم، وأوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله: * (ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون) *، وقوله: * (فكأين من قرية أهلكناها وهى ظالمة فهى خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد) *، وقوله: * (وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين) *، وقوله: * (أفلم يسيروا فى الا رض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم) *، ثم بين أنه
5

يريد تهديدهم بذلك بقوله: * (وللكافرين أمثالها) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقد هدد تعالى أهل القرى بأن يأتيهم عذابه ليلا في حالة النوم، أو ضحى في حالة اللعب، في قوله تعالى: * (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نآئمون أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون) *. وهدد أمثالهم من الذين مكروا السيئات بقوله تعالى: * (أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الا رض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم فى تقلبهم فما هم بمعجزين أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤوف رحيم) *.
قوله تعالى: * (فما كان دعواهم إذ جآءهم بأسنآ إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين) *.
وبين تعالى في هذه الآية الكريمة أن تلك القرى الكثيرة التي أهلكها في حال البيات، أو في حال القيلولة، لم يكن لهم من الدعوى إلا اعترافهم بأنهم كانوا ظالمين.
وأوضح هذا المعنى في قوله: * (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما ءاخرين فلمآ أحسوا بأسنآ إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى مآ أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون قالوا ياويلنآ إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين) *.
قال ابن جرير رحمه الله في هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم) حدثنا بذلك ابن حميد. حدثنا جرير عن أبي سنان عن عبد الملك بن ميسرة الزراد قال: قال عبد الله بن مسعود: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم) قال: قلت لعبد الله كيف يكون ذلك؟ قال: فقرأ هذه الآية * (فما كان دعواهم إذ جآءهم بأسنآ إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين) *.
قوله تعالى: * (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين) *.
لم يبين هنا الشيء المسؤول عنه المرسلون، ولا الشيء المسؤول عنه الذين أرسل إليهم.
وبين في مواضع أخر أنه يسأل المرسلين عما أجابتهم به أممهم، ويسأل الأمم عما أجابوا به رسلهم.
قال في الأول: * (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذآ أجبتم) *.
6

وقال في الثاني: * (ويوم يناديهم فيقول ماذآ أجبتم المرسلين) *.
وبين في موضع آخر أنه يسأل جميع الخلق عما كانوا يعلمون، وهو قوله تعالى: * (فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون) *.
وهنا إشكال معروف: وهو أنه تعالى قال هنا: * (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين) *، وقال أيضا: * (فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون) *، وقال: * (وقفوهم إنهم مسئولون) *، وهذا صريح في إثبات سؤال الجميع يوم القيامة، مع أنه قال: * (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) *، وقال: * (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جآن) *.
وقد بينا وجه الجمع بين الآيات المذكورة في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) وسنزيده إيضاحا هنا إن شاء الله تعالى.
اعلم أولا: أن السؤال المنفي في الآيات المذكورة. أخص من السؤال المثبت فيها. لأن السؤال المنفي فيها مقيد بكونه سؤالا عن ذنوب خاصة. فإنه قال: * (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) * فخصه بكونه عن الذنوب، وقال: * (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جآن) * فخصه بذلك أيضا. فيتضح من ذلك أن سؤال الرسل والمؤودة مثلا ليس عن ذنب فعلوه فلا مانع من وقوعه. لأن المنفي خصوص السؤال عن ذنب، ويزيد ذلك إيضاحا قوله تعالى: * (ليسأل الصادقين عن صدقهم) *، وقوله بعد سؤاله لعيسى المذكور في قوله: * (وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم أءنت قلت للناس اتخذونى وأمى إلاهين من دون الله) *. * (قال الله هاذا يوم ينفع الصادقين صدقهم) *، والسؤال عن الذنوب المنفي في الآيات: المراد به سؤال الاستخبار والاستعلام. لأنه جل وعلا محيط علمه بكل شيء، ولا ينافي نفي هذا النوع من السؤال ثبوت نوع آخر منه هو سؤال التوبيخ والتقريع. لأنه نوع من أنواع العذاب، ويدل لهذا أن سؤال الله للكفار في القرآن كله توبيخ وتقريع كقوله: * (وقفوهم إنهم مسئولون ما لكم لا تناصرون) *. وقوله: * (أفسحر هاذا أم أنتم لا تبصرون) *. إلى غير ذلك من الآيات وباقي أوجه الجمع مبين في كتابنا المذكور والعلم
عند الله تعالى.
قوله تعالى: * (فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غآئبين) *.
بين تعالى في هذه الآية
7

الكريمة أنه يقص على عباده يوم القيامة ما كانوا يعملونه في الدنيا، وأخبرهم بأنه جل وعلا لم يكن غائبا عما فعلوه أيام فعلهم له في دار الدنيا، بل هو الرقيب الشهيد على جميع الخلق، المحيط علمه بكل ما فعلوه من صغير وكبير، وجليل وحقير، وبين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله: * (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شىء عليم) *، وقوله: * (يعلم ما يلج فى الا رض وما يخرج منها وما ينزل من السمآء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم) * وقوله: * (منه من قرءان ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الا رض ولا فى السمآء ولا أصغر من ذالك ولا أكبر إلا فى كتاب مبين) *.
تنبيه
في هذه الآية الكريمة الرد الصريح على المعتزلة النافين صفات المعاني، القائلين: إنه تعالى عالم بذاته، لا بصفة قامت بذاته، هي العلم، وهكذا في قولهم: قادر مريد، حي سميع، بصير متكلم، فإنه هنا أثبت لنفسه صفة العلم بقوله: * (فلنقصن عليهم بعلم) * ونظيره قوله تعالى: * (أنزله بعلمه) *. وهي أدلة قرآنية صريحة في بطلان مذهبهم الذي لا يشك عاقل في بطلانه وتناقضه. قوله تعالى: * (والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولائك هم المفلحون * ومن خفت موازينه) *.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن وزنه للأعمال يوم القيامة حق أي لا جور فيه، ولا ظلم، فلا يزاد في سيئات مسيء، ولا ينقص من حسنات محسن.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: * (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) *، وقوله: * (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها) * إلى غير ذلك من الآيات.
* (والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولائك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك
8

الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون) * قوله تعالى: * (فمن ثقلت موازينه فأولائك هم المفلحون.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أن من ثقلت موازينهم أفلحوا، ومن خفت موازينهم خسروا بسبب ظلمهم، ولم يفصل الفلاح والخسران هنا.
وقد جاء في بعض المواضع ما يدل على أن المراد بالفلاح هنا كونه في عيشة راضية في الجنة، وأن المراد بالخسران هنا كونه في الهاوية من النار، وذلك في قوله: * (فأما من ثقلت موازينه فهو فى عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية ومآ أدراك ما نار حامية) *.
وبين أيضا خسران من خفت موازينة بقوله: * (ومن خفت موازينه فأولائك الذين خسروا أنفسهم فى جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون) * إلى غير ذلك من الآيات. * (ولقد مكناكم فى الا رض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون * ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين) * قوله تعالى: * (وجعلنا لكم فيها معايش) *. لم يبين هنا كيفية هذه المعايش التي جعل لنا في الأرض، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله: * (فلينظر الإنسان إلى طعامه) * * (ثم شققنا الا رض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدآئق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولانعامكم) *.
وقوله: * (أولم يروا أنا نسوق المآء إلى الا رض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون) *، وقوله: * (وأنزل من السمآء مآء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن فى ذالك لأيات لا ولى النهى) *.
وذكر كثيرا من ذلك في سورة النحل كقوله: * (والا نعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون) * إلى غير ذلك من الآيات. * (قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين * قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين * قال أنظرنى إلى يوم يبعثون * قال إنك من المنظرين * قال فبمآ أغويتنى لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمآئلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين * قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين * وياأادم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هاذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هاذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين * وقاسمهمآ إني لكما لمن الناصحين * فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهمآ ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكمآ إن الشيطان لكما عدو مبين * قالا ربنا ظلمنآ أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين * قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم فى الا رض مستقر ومتاع إلى حين * قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون * يابنى آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يوارى سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذالك خير ذالك من آيات الله لعلهم يذكرون) * قوله تعالى: * (قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) *.
قال بعض العلماء، معناه: ما منعك أن تسجد، و (لا) صلة، ويشهد لهذا قوله تعالى: في سورة (ص) * (قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى) * (ص: 57) الآية. وقد أوضحنا زيادة لفظة (لا) وشواهد ذلك من القرآن، ومن كلام العرب في سورة البلد. في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) والعلم عند الله تعالى.
9

قوله تعالى: * (قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) *.
ذكر في هذه الآية الكريمة: أن إبليس لعنه الله خلق من نار، وعلى القول بأن إبليس هو الجان الذي هو أبو الجن. فقد زاد في مواضع أخر أوصافا للنار التي خلقه منها. من ذلك أنها نار السموم. كما في قوله: * (والجآن خلقناه من قبل من نار السموم) *، ومن ذلك أنها خصوص المارج. كما في قوله: * (وخلق الجآن من مارج من نار) *، والمارج أخص من مطلق النار لأنه اللهب الذي لا دخان فيه.
وسميت نار السموم: لأنها تنفذ في مسام البدن لشدة حرها. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم) ورواه عنها أيضا الإمام أحمد.
قوله تعالى: * (قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين) *.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه عامل إبليس اللعين بنقيض قصده حيث كان قصده التعاظم والتكبر، فأخرجه الله صاغرا حقيرا ذليلا، متصفا بنقيض ما كان يحاوله من العلو والعظمة، وذلك في قوله: * (فاخرج إنك من الصاغرين) *، والصغار: أشد الذل والهوان، وقوله: * (اخرج منها مذءوما مدحورا) *، ونحو ذلك من الآيات، ويفهم من الآية أن المتكبر لا ينال ما أراد من العظمة والرفعة، وإنما يحصل له نقيض ذلك. وصرح تعالى بهذا المعنى في قوله: * (إن فى صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه) *. وبين في مواضع أخر كثيرا من العواقب السيئة التي تنشأ عن الكبر أعاذنا الله والمسلمين منه فمن ذلك أنه سبب لصرف صاحبه عن فهم آيات الله، والاهتداء بها كما في قوله تعالى: * (سأصرف عن ءاياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق) *. ومن ذلك أنه من أسباب الثواء في النار كما في قوله تعالى: * (أليس فى جهنم مثوى للمتكبرين) *، وقوله: * (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إلاه إلا الله يستكبرون) *، ومن ذلك أن صاحبه لا يحبه الله تعالى كما في قوله: * (لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين) *، ومن ذلك أن موسى استعاذ من المتصف به ولا يستعاذ إلا مما هو شر. كما في قوله: * (وقال موسى إنى عذت بربى وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب) * إلى غير ذلك من
10

نتائجه السيئة، وعواقبه الوخيمة، ويفهم من مفهوم المخالفة في الآية: أن المتواضع لله جل وعلا يرفعه الله.
وقد أشار تعالى إلى مكانة المتواضعين له عنده في مواضع أخر كقوله: * (وعباد الرحمان الذين يمشون على الا رض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) *، وقوله: * (تلك الدار الا خرة نجعلها للذين لا يريدون علوا فى الا رض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) * وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنه أوحي إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد)، وقد قال الشاعر: أنه قال: (إنه أوحي إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد)، وقد قال الشاعر:
* تواضع تكن كالبدر تبصر وجهه
* على صفحات الماء وهو رفيع
*
* ولا تك كالدخان يعلو بنفسه
* إلى صفحات الجو وهو وضيع
*
وقال أبو الطيب المتنبي: وقال أبو الطيب المتنبي:
* ولو لم يعل إلا ذو محل
* تعالى الجيش وانحط القتام
* قال أنظرنى إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين) *.
لم يبين هنا في سورة الأعراف الغاية التي أنظره إليها، وقد ذكرها في (الحجر) و (ص) مبينا أن غاية ذلك الإنظار هو يوم الوقت المعلوم. لقوله: في سورة (الحجر) و (ص) * (فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم) * فقد طلب الشيطان الإنظار إلى يوم البعث، وقد أعطاه الله الإنظار إلى يوم الوقت المعلوم.
وأكثر العلماء يقولون: المراد به وقت النفخة الأولى، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: * (ولا تجد أكثرهم شاكرين) *. هذا الذي ذكر إبليس أنه سيوقع بين آدم فيه قاله ظنا منه أنهم سيطيعونه فيما يدعوهم إليه حتى يهلكهم، وقد بين تعالى في سورة (سبأ) أن ظنه هذا صدق فيهم بقوله * (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه) *. كما تقدمت الإشارة إليه.
قوله تعالى: * (قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين) *.
بين في هذه الآية الكريمة أنه قال لإبليس: أخرج منها في حال كونك مذءوما مدحورا. والمذءوم: المعيب أو الممقوت، والمدحور: المبعد عن الرحمة، المطرود، وأنه أوعده بملء جهنم منه، وممن تبعه. وأوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله تعالى: * (قال فالحق والحق
11

أقول لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) * وقوله: * (قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزآؤكم جزاء موفورا واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم فى الا موال والا ولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) *، وقوله: * (فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون) * إلى
غير ذلك من الآيات. * (يابنى آدم لا يفتننكم الشيطان كمآ أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهمآ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أوليآء للذين لا يؤمنون * وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليهآ ءاباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشآء أتقولون على الله ما لا تعلمون * قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون) * قوله تعالى: * (يابنى آدم لا يفتننكم الشيطان كمآ أخرج أبويكم من الجنة) *.
حذر تعالى في هذه الآية الكريمة بني آدم أن يفتنهم الشيطان كما فتن أبويهم، وصرح في موضع آخر. أنه حذر آدم من مكر إبليس قبل أن يقع فيما وقع فيه، ولم ينجه ذلك التحذير من عدوه وهو قوله تعالى: * (فقلنا ياأادم إن هاذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) *.
قوله تعالى: * (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليهآ ءاباءنا) *.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن الكفار إذا فعلوا فاحشة. استدلوا على أنها حق وصواب، بأنهم وجدوا آباءهم يفعلونها، وأنهم ما فعلوها، إلا لأنها صواب ورشد.
وبين في موضع آخر: أن هذا واقع من جميع الأمم، وهو قوله تعالى: * (وكذلك مآ أرسلنا من قبلك فى قرية من نذير إلا قال مترفوهآ إنا وجدنآ ءابآءنا على أمة وإنا علىءاثارهم مقتدون) *.
ورد الله عليهم هذا التقليد الأعمى في آيات كثيرة، كقوله: * (أولو كان ءاباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) *، وقوله: * (أولو كان ءاباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون) *، وقوله: * (قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه ءابآءكم) *، وقوله: * (إنهم ألفوا ءابآءهم ضآلين فهم علىءاثارهم يهرعون) * إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: * (كما بدأكم تعودون.
في هذه الآية الكريمة للعلماء وجهان من التفسير:
الأول: أن معنى * (كما بدأكم تعودون) * أي كما سبق لكم في علم الله من سعادة أو شقاوة، فإنكم تصيرون إليه. فمن سبق له العلم بأنه سعيد صار إلى السعادة، ومن
12

سبق له العلم بأنه شقي صار إلى الشقاوة، ويدل لهذا الوجه قوله بعده: * (فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة) *. وهو ظاهر كما ترى، ومن الآيات الدالة عليه أيضا قوله تعالى: * (هو الذى خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) *، وقوله: * (ولذالك خلقهم) *، أي ولذلك الاختلاف إلى شقي، وسعيد خلقهم.
الوجه الثاني: أن معنى قوله: * (كما بدأكم تعودون) *، أي كما خلقكم أولا، ولم تكونوا شيئا، فإنه يعيدكم مرة أخرى. ويبعثكم من قبوركم أحياء بعد أن متم وصرتم عظاما رميما، والآيات الدالة على هذا الوجه كثيرة جدا، كقوله: * (كما بدأنآ أول خلق نعيده وعدا علينآ) *، وقوله: * (وهو الذى يبدأ الخلق ثم يعيده) *، وقوله: * (قل يحييها الذى أنشأهآ أول مرة) *، وقوله: * (ياأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أنه قد يكون في الآية وجهان، وكل واحد منهما حق، ويشهد له القرآن، فنذكر الجميع، لأنه كله حق، والعلم عند الله تعالى. * (فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أوليآء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون * يابنىءادم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين * قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هى للذين ءامنوا فى الحيواة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون * قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغى بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون * ولكل أمة أجل فإذا جآء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون * يابنى آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم ءاياتى فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كذبوا بأاياتنا واستكبروا عنهآ أولائك أصحاب النار هم فيها خالدون * فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بأاياته أولائك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جآءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين) * قوله تعالى: * (إنهم اتخذوا الشياطين أوليآء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون) *.
وبين تعالى في هذه الآية الكريمة، أن الكفار اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله، ومن تلك الموالاة طاعتهم لهم فيما يخالف ما شرعه الله تعالى، ومع ذلك يظنون أنفسهم على هدى.
وبين في موضع آخر: أن من كان كذلك فهو أخسر الناس عملا، والعياذ بالله تعالى، وهو قوله جل وعلا: * (قل هل ننبئكم بالا خسرين أعمالا الذين ضل سعيهم فى الحيواة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) *.
* *
تنبيه
هذه النصوص القرآنية تدل على أن الكافر لا ينفعه ظنه أنه على هدى، لأن الأدلة التي جاءت بها الرسل لم تترك في الحق لبسا ولا شبهة، ولكن الكافر لشدة تعصبه للكفر لا يكاد يفكر في الأدلة التي هي كالشمس في رابعة النهار لجاجا في الباطل، وعنادا،
13

فلذلك كان غير معذور. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: * (قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق) *.
أمر الله تعالى في هذه الآية الكريمة نبيه صلى الله عليه وسلم: (أن يسأل سؤال إنكار من حرم زينة الله التي أخرج لعباده، كاللباس في الطواف، والطيبات من الرزق
كالأنعام، والحرث التي حرمها الكفار، وكاللحم والودك الذي حرمه بعض العرب في الجاهلية في الحج.
وصرح في مواضع أخر: أن من قال ذلك على الله فهو مقتر عليه جل وعلا، كقوله: * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هاذا حلال وهاذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) *، وقوله: * (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افترآء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين) *، وقوله: * (قل أرأيتم مآ أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على الله تفترون * وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولاكن أكثرهم لا يشكرون * وما تكون فى شأن وما تتلوا منه من قرءان ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الا رض ولا فى السمآء ولا أصغر من ذالك ولا أكبر إلا فى كتاب مبين * ألا إن أوليآء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين ءامنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحيواة الدنيا وفى الا خرة لا تبديل لكلمات الله ذالك هو الفوز العظيم * ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم * ألا إن لله من فى السماوات ومن فى الا رض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركآء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون * هو الذى جعل لكم اليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن فى ذالك لآيات لقوم يسمعون * قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما فى السماوات وما فى الا رض إن عندكم من سلطان بهاذآ أتقولون على الله ما لا تعلمون * قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع فى الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون * واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه ياقوم إن كان كبر عليكم مقامى وتذكيرى بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركآءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلى ولا تنظرون * فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجرى إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين * فكذبوه فنجيناه ومن معه فى الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين * ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجآءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين * ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين * فلما جآءهم الحق من عندنا قالوا إن هاذا لسحر مبين * قال موسى أتقولون للحق لما جآءكم أسحر هاذا ولا يفلح الساحرون * قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه ءاباءنا وتكون لكما الكبريآء فى الا رض وما نحن لكما بمؤمنين * وقال فرعون ائتونى بكل ساحر عليم * فلما جآء السحرة قال لهم موسى ألقوا مآ أنتم ملقون * فلمآ ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين * ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون * فمآ ءامن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الا رض وإنه لمن المسرفين * وقال موسى ياقوم إن كنتم ءامنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين * فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين * ونجنا برحمتك من القوم الكافرين * وأوحينآ إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلواة وبشر المؤمنين * وقال موسى ربنآ إنك ءاتيت فرعون وملاه زينة وأموالا فى الحيواة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الا ليم * قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعآن سبيل الذين لا يعلمون * وجاوزنا ببنى إسراءيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذآ أدركه الغرق قال ءامنت أنه لا إلاه إلا الذىءامنت به بنوا إسراءيل وأنا من المسلمين * ءاأن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين * فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك ءاية وإن كثيرا من الناس عن ءاياتنا لغافلون * ولقد بوأنا بنى إسراءيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جآءهم العلم إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون * فإن كنت في شك ممآ أنزلنآ إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جآءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين * ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين) *، وطلبهم في موضع آخر طلب إعجاز أن يأتوا بالشهداء الذين يشهدون لهم أن الله حرم هذا، ونهى نبيه صلى الله عليه وسلم إن شهد لهم شهود زور أن يشهد معهم، وهو قوله تعالى: * (قل هلم شهدآءكم الذين يشهدون أن الله حرم هاذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم) * إلى غير ذلك من الآيات. * (قال ادخلوا فى أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس فى النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لا ولاهم ربنا هاؤلاء أضلونا فأاتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولاكن لا تعلمون * وقالت أولاهم لا خراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون * إن الذين كذبوا بأاياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السمآء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل فى سم الخياط وكذالك نجزى المجرمين * لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذالك نجزى الظالمين * والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولائك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) * قوله تعالى: * (حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لا ولاهم ربنا هاؤلاء أضلونا فأاتهم عذابا ضعفا من النار) *.
لم يبين هنا السبب الذي مكنهم من إضلالهم، ولكنه بين في موضع آخر: أن السبب الذي مكنهم من ذلك هو كونهم سادتهم وكبراءهم، ومعلوم أن الأتباع يطيعون السادة الكبراء فيما يأمرونهم به، وهو قوله تعالى: * (وقالوا ربنآ إنآ أطعنا سادتنا وكبرآءنا فأضلونا السبيلا ربنآ ءاتهم ضعفين من العذاب) *. وبسط ذلك في سورة (سبأ) بقوله: * (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جآءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر اليل والنهار إذ تأمروننآ أن نكفر بالله ونجعل له أندادا) *.
قوله تعالى: * (فأاتهم عذابا ضعفا من النار) *.
وبين تعالى في هذه الآية الكريمة، وأمثالها من الآيات: أن الأتباع يسألون الله يوم القيامة أن يضاعف العذاب للمتبوعين،
14

وبين في مواضع أخر: أن مضاعفة العذاب للمتبوعين لا تنفع الأتباع، ولا تخفف عنهم من العذاب، كقوله: * (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم فى العذاب مشتركون) *، وقوله هنا: * (قال لكل ضعف) *، وقوله: * (وقالت أولاهم لا خراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون) *، وقوله: * (قال الذين
استكبروا إنا كل فيهآ إن الله قد حكم بين العباد) * إلى غير ذلك من الآيات. * (ونزعنا ما فى صدورهم من غل تجرى من تحتهم الا نهار وقالوا الحمد لله الذى هدانا لهاذا وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله لقد جآءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون * ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين * الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالا خرة كافرون) * قوله تعالى: * (ونزعنا ما فى صدورهم من غل تجرى من تحتهم الا نهار) *.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه جل وعلا، ينزع ما في صدور أهل الجنة من الحقد، والحسد الذي كان في الدنيا، وأنهم تجري من تحتهم الأنهار في الجنة، وذكر في موضع آخر أن نزع الغل من صدورهم يقع في حال كونهم إخوانا على سرر متقابلين آمنين من النصب، والخروج من الجنة. وهو قوله تعالى في (الحجر): * (ونزعنا ما فى صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين) *.
قوله تعالى: * (وبينهما حجاب) *.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن بين أهل الجنة، وأهل النار حجابا يوم القيامة، ولم يبين هذا الحجاب هنا، ولكنه بينه في سورة الحديد بقوله: * (فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب) *. * (وبينهما حجاب وعلى الا عراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون * وإذا صرفت أبصارهم تلقآء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين) * قوله تعالى: * (يعرفون كلا بسيماهم) *.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن أصحاب الأعراف، يعرفون كلا من أهل الجنة، وأهل النار بسيماهم، ولم يبين هنا سيما أهل الجنة، ولا أهل النار، ولكنه أشار لذلك في مواضع أخر، كقوله: * (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) *.
فبياض الوجوه وحسنها. سيما أهل الجنة، وسوادها وقبحها، وزرقة العيون، سيما أهل النار، كما قال أيضا في سيما أهل الجنة: * (تعرف فى وجوههم نضرة النعيم) *، وقال: * (وجوه يومئذ ناضرة) *، وقال في سيما أهل النار: * (كأنما أغشيت وجوههم قطعا من اليل مظلما) *. وقال * (ووجوه يومئذ عليها غبرة) *، وقال: * (ونحشر المجرمين يومئذ زرقا) *. * (ونادى أصحاب الا عراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا مآ أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون * أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون * ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من المآء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين * الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحيواة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقآء يومهم هاذا وما كانوا بأاياتنا يجحدون * ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون) * قوله تعالى: * (قالوا مآ أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون) *.
ذكر تعالى في هذه
15

الآية الكريمة: أن أصحاب الأعراف قالوا لرجال من أهل النار: يعرفونهم بسيماهم لم ينفعكم ما كنتم تجمعونه في الدنيا من المال، ولا كثرة جماعتكم وأنصاركم، ولا استكباركم في الدنيا.
وبين في مواضع أخر وجه ذلك: وهو أن الإنسان يوم القيامة، يحشر فردا، لا مال معه، ولا ناصر، ولا خادم، ولا خول. وأن استكباره في الدنيا يجزئ به عذاب الهون في الآخرة، كقوله. * (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم) *، وقوله: * (ونرثه ما يقول ويأتينا فردا) *، وقوله: * (وكلهم ءاتيه يوم القيامة فردا) *، وقوله: * (فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون فى الا رض بغير الحق) *. * (هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتى تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جآءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعآء فيشفعوا لنآ أو نرد فنعمل غير الذى كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون) * قوله تعالى: * (يوم يأتى تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جآءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعآء فيشفعوا لنآ أو نرد فنعمل غير الذى كنا نعمل) *.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أن الكفار، إذا عاينوا الحقيقة يوم القيامة يقرون بأن الرسل جاءت بالحق، ويتمنون أحد أمرين: أن يشفع لهم شفعاء فينقذوهم، أو يردوا إلى الدنيا ليصدقوا الرسل، ويعملوا بما يرضي الله، ولم يبين هنا هل يشفع لهم أحد؟ وهل يردون؟ وماذا يفعلون لو ردوا؟ وهل اعترافهم ذلك بصدق الرسل ينفعهم؟ ولكنه تعالى بين ذلك كله في مواضع أخر، فبين: أنهم لا يشفع لهم أحد بقوله: * (فما لنا من شافعين) *، وقوله: * (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) *، وقوله: * (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) * مع قوله: * (ولا يرضى لعباده الكفر) *، وقوله: * (فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) *، وبين أنهم لا يردون في مواضع متعددة، كقوله: * (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنآ أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون ولو شئنا لاتينا كل نفس هداها ولاكن حق القول منى لاملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) * رضي الله عنه
فقوله: * (ولاكن حق القول منى لاملأن جهنم) *.
دليل على أن النار وجبت لهم، فلا يردون، ولا يعذرون، وقوله * (وهم يصطرخون فيها ربنآ أخرجنا نعمل صالحا غير الذى كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجآءكم النذير) *.
فصرح بأنه قطع عذرهم في الدنيا. بالإمهال مدة يتذكرون فيها. وإنذار الرسل،
16

وهو دليل على عدم ردهم إلى الدنيا مرة أخرى، وأشار إلى ذلك بقوله: * (أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال) * جوابا لقولهم: * (أخرنآ إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل) *، وقوله: * (ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا) * بعد قوله تعالى عنهم: * (فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من
سبيل) *، وقوله: * (وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفى) *، بعد قوله: * (ومن يضلل الله فما له من ولى من بعده وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل) *، وقوله هنا: * (قد خسروا أنفسهم) * بعد قوله: * (يحزنون) *.
فكل ذلك يدل على عدم الرد إلى الدنيا، وعلى وجوب العذاب، وأنه لا محيص لهم عنه.
وبين في موضع آخر أنهم لو ردوا لعادوا إلى الكفر والطغيان. وهو قوله: * (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) *، وفي هذه الآية الكريمة دليل واضح على أنه تعالى يعلم المعدوم الممكن الذي سبق في علمه أنه لا يوجد كيف يكون لو وجد، فهو تعالى يعلم أنهم لا يردون إلى الدنيا مرة أخرى ويعلم هذا الرد الذي لا يكون لو وقع كيف يكون كما صرح به في قوله: * (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) *، ويعلم أن المتخلفين من المنافقين عن غزوة تبوك لا يحضرونها لأنه هو الذي ثبطهم عنها لحكمة كما بينه بقوله: * (ولاكن كره الله انبعاثهم فثبطهم) *. وهو يعلم هذا الخروج الذي لا يكون لو وقع كيف يكون كما صرح به في قوله: * (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولاوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة) *، ونظير ذلك قوله تعالى: * (ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا فى طغيانهم يعمهون) * إلى غير ذلك من الآيات.
وبين في مواضع أخر أن اعترافهم هذا بقولهم: * (جآءت رسل ربنا بالحق ونودوا) * لا ينفعهم كقوله تعالى: * (فاعترفوا بذنبهم فسحقا لاصحاب السعير) *، وقوله: * (قالوا بلى ولاكن حقت كلمة العذاب على) *، ونحو ذلك من الآيات. * (إن ربكم الله الذى خلق السماوات والا رض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشى اليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والا مر تبارك الله رب العالمين * ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين) * قوله تعالى: * (إن ربكم الله الذى خلق السماوات والا رض في ستة أيام) *.
لم يفصل هنا ذلك، ولكنه فصله في سورة (فصلت) بقوله: * (قل أءنكم لتكفرون بالذى خلق
17

الا رض فى يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسى من فوقها وبارك فيها وقدر فيهآ أقواتها فى أربعة أيام سوآء للسآئلين ثم استوى إلى السمآء وهى دخان فقال لها وللا رض ائتيا طوعا أو كرها قالتآ أتينا طآئعين فقضاهن سبع سماوات فى يومين وأوحى فى كل سمآء أمرها) *.
قوله تعالى: * (ثم استوى على العرش يغشى اليل النهار) *.
هذه الآية الكريمة وأمثالها من آيات الصفات كقوله * (يد الله فوق أيديهم) * ونحو ذلك. أشكلت على كثير من الناس إشكالا ضل بسببه خلق لا يحصى كثرة، فصار قوم إلى التعطيل وقوم إلى التشبيه سبحانه وتعالى علوا كبيرا عن ذلك كله والله جل وعلا أوضح هذا غاية الإيضاح، ولم يترك فيه أي لبس ولا إشكال، وحاصل تحرير ذلك أنه جل وعلا بين أن الحق في آيات الصفات متركب من أمرين:
أحدهما: تنزيه الله جل وعلا عن مشابهة الحوادث في صفاتهم سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
والثاني: الإيمان بكل ما وصف الله به نفسه في كتابه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم. لأنه لا يصف الله أعلم بالله من الله * (ءأنتم أعلم أم الله) *، ولا يصف الله بعد الله أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى) * فمن نفى عن الله وصفا أثبته لنفسه في كتابه العزيز، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم زاعما أن ذلك الوصف يلزمه ما لا يليق بالله جل وعلا، فقد جعل نفسه أعلم من الله ورسوله بما يليق بالله جل وعلا. * (سبحانك هاذا بهتان عظيم) *.
ومن اعتقد أن وصف الله يشابه صفات الخلق، فهو مشبه ملحد ضال، ومن أثبت لله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم مع تنزيهه جل وعلا عن مشابهة الخلق، فهو مؤمن جامع بين الإيمان بصفات الكمال والجلال، والتنزيه عن مشابهة الخلق، سالم من ورطة التشبيه والتعطيل، والآية التي أوضح الله بها هذا. هي قوله تعالى: * (جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الا نعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شىء وهو السميع البصير) * فنفى عن نفسه جل وعلا مماثلة الحوادث بقوله: * (ليس كمثله شىء) * وأثبت لنفسه صفات الكمال والجلال بقوله: * (وهو السميع البصير) * فصرح في هذه الآية الكريمة بنفي المماثلة مع الاتصاف بصفات الكمال والجلال.
والظاهر أن السر في تعبيره بقوله: * (وهو السميع البصير) * دون أن يقول مثلا:
18

وهو العلي العظيم أو نحو ذلك من الصفات الجامعة. أن السمع والبصر يتصف بهما جميع الحيوانات. فبين أن الله متصف بهما، ولكن وصفه بهما على أساس نفي المماثلة بين وصفه تعالى، وبين صفات خلقه. ولذا جاء بقوله: * (وهو السميع البصير) * بعد قوله: * (ليس كمثله شىء) * ففي هذه الآية الكريمة إيضاح للحق في آيات الصفات لا لبس معه ولا شبهة البتة، وسنوضح إن شاء الله هذه المسألة إيضاحا تاما بحسب طاقتنا، وبالله جل وعلا التوفيق.
اعلم أولا: أن المتكلمين قسموا صفاته جل وعلا إلى ستة أقسام:
صفة نفسية، وصفة سلبية، وصفة معنى، وصفة معنوية، وصفة فعلية، وصفة جامعة، والصفة الإضافية تتداخل مع الفعلية. لأن كل صفة فعلية من مادة متعدية إلى المفعول كالخلق والإحياء والإماتة، فهي صفة إضافية، وليست كل صفة إضافية فعلية فبينهما عموم وخصوص من وجه، يجتمعان في نحو الخلق والإحياء والإماتة، وتتفرد الفعلية في نحو الاستواء، وتتفرد الإضافية في نحو كونه تعالى كان موجودا قبل كل شيء، وأنه فوق كل شيء، لأن القبلية والفوقية من الصفات الإضافية، وليستا من صفات الأفعال، ولا يخفى على عالم بالقوانين الكلامية والمنطقية أن إطلاق النفسية على شيء من صفاته جل وعلا أنه لا يجوز، وأن فيه من الجراءة على الله
جل وعلا ما الله عالم به، وإن كان قصدهم بالنفسية في حق الله الوجود فقط وهو صحيح، لأن الإطلاق الموهم للمحذور في حقه تعالى لا يجوز، وإن كان المقصود به صحيحا. لأن الصفة النفسية في الاصطلاح لا تكون إلا جنسا أو فصلا، فالجنس كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان، والفصل كالنطق بالنسبة إلى الإنسان، ولا يخفى أن الجنس في الاصطلاح قدر مشترك بين أفراد مختلفة الحقائق كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان والفرس والحمار، وأن الفصل صفة نفسية لبعض أفراد الجنس ينفصل بها عن غيره من الأفراد المشاركة له في الجنس كالنطق بالنسبة إلى الإنسان، فإنه صفته النفسية التي تفصله عن الفرس مثلا: المشارك له في الجوهرية والجسمية والنمائية والحساسية، ووصف الله جل وعلا بشيء يراد به اصطلاحا ما بينا لك. من أعظم الجراءة على الله تعالى كما ترى. لأنه جل وعلا واحد في ذاته وصفاته وأفعاله، فليس بينه وبين غيره اشتراك في شيء من ذاته، ولا من صفاته، حتى يطلق عليه ما يطلق على الجنس والفصل سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا لأن الجنس قدر مشترك بين حقائق مختلفة.
19

والفصل: هو الذي يفصل بعض تلك الحقائق المشتركة في الجنس عن بعض سبحان رب السماوات والأرض وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
وسنبين لك أن جميع الصفات على تقسيمهم لها جاء في القرآن وصف الخالق والمخلوق بها، وهم في بعض ذلك يقرون بأن الخالق موصوف بها، وأنها جاء في القرآن أيضا وصف المخلوق بها، ولكن وصف الخالق مناف لوصف المخلوق، كمنافاة ذات الخالق لذات المخلوق، ويلزمهم ضرورة فيما أنكروا مثل ما أقروا به لأن الكل من باب واحد، لأن جميع صفات الله جل وعلا من باب واحد، لأن المتصف بها لا يشبهه شيء من الحوادث.
فمن ذلك: الصفات السبع. المعروفة عندهم بصفات المعاني وهي: القدرة، والإدارة، والعلم، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام.
فقد قال تعالى في وصف نفسه بالقدرة: * (والله على كل شيء قدير) *.
وقال في وصف الحادث بها: * (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) * فأثبت لنفسه قدرة حقيقية لائقة بجلاله وكماله، وأثبت لبعض الحوادث قدرة مناسبة لحالهم من الضعف والافتقار والحدوث الفناء، وبين قدرته، وقدرة مخلوقه من المنافاة ما بين ذاته وذات مخلوقه. وقال في وصف نفسه بالإرادة: * (فعال لما يريد) *، * (إنمآ أمره إذآ أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) *، * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) *، ونحو ذلك من الآيات.
وقال في وصف المخلوق بها: * (تريدون عرض الدنيا) * * (إن يريدون إلا فرارا) *، * (يريدون ليطفئوا نور الله) *، ونحو ذلك من الآيات.
فله جل وعلا إرادة حقيقية لائقة بكماله وجلاله، وللمخلوق إرادة أيضا مناسبة لحاله، وبين إرادة الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.
وقال في وصف نفسه بالعلم: * (والله بكل شيء عليم) *، * (لاكن الله
20

يشهد بمآ أنزل إليك أنزله بعلمه) * * (فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غآئبين) *.
وقال في وصف الحادث به: * (قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم) *، وقال: * (وإنه لذو علم لما علمناه) * ونحو ذلك من الآيات.
فله جل وعلا علم حقيقي لائق بكماله وجلاله، وللمخلوق علم مناسب لحاله، وبين علم الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.
وقال في وصف نفسه بالحياة: * (الله لا إلاه إلا هو الحى القيوم) * * (هو الحى لا إلاه إلا هو) *. * (وتوكل على الحى الذى لا يموت) *، ونحو ذلك من الآيات.
وقال في وصف المخلوق بها: * (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا) *، * (وجعلنا من المآء كل شىء حى) *، * (يخرج الحى من الميت ويخرج الميت) *.
فله جل وعلا حياة حقيقية تليق بجلاله وكماله، وللمخلوق أيضا حياة مناسبة لحاله. وبين حياة الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.
وقال في وصف نفسه بالسمع والبصر: * (ليس كمثله شىء وهو السميع البصير) *، * (وأن الله سميع بصير) * ونحو ذلك من الآيات.
وقال في وصف الحادث بهما: * (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا) *، * (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا) * ونحو ذلك من الآيات.
فله جل وعلا سمع وبصر حقيقيان يليقان بكماله وجلاله، وللمخلوق سمع وبصر مناسبان لحاله. وبين سمع الخالق وبصره، وسمع المخلوق وبصره من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.
وقال في وصف نفسه بالكلام * (وكلم الله موسى تكليما) *، * (إنى اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) *، * (فأجره حتى يسمع كلام الله) * ونحو ذلك من الآيات.
21

وقال في وصف المخلوق به: * (فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين) *. * (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنآ أيديهم) * * (قالوا كيف نكلم من كان فى المهد صبيا) *، ونحو ذلك من الآيات.
فله جل وعلا كلام حقيقي يليق بكماله وجلاله. وللمخلوق كلام أيضا مناسب لحاله. وبين كلام الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.
وهذه الصفات السبع المذكورة يثبتها كثير ممن يقول بنفي غيرها من صفات المعاني.
والمعتزلة ينفونها ويثبتون أحكامها فيقولون: هو تعالى حي قادر، مريد عليم، سميع بصير، متكلم بذاته لا بقدرة قائمة بذاته، ولا إرادة قائمة بذاته هكذا فرارا منهم من تعدد القديم.
ومذهبهم الباطل لا يخفى بطلانه وتناقضه على أدنى عاقل. لأن من المعلوم أن الوصف الذي منه الاشتقاق إذا عدم فالاشتقاق منه مستحيل فإذا عدم السواد عن جرم مثلا استحال أن تقول هو أسود، إذ لا يمكن أن يكون أسود ولم يقم به سواد، وكذلك إذا لم يقم العلم والقدرة بذات، استحال أن تقول: هي عالمة قادرة لاستحالة اتصافها بذلك، ولم يقم بها علم ولا قدرة. قال في (مراقي السعود): ومذهبهم الباطل لا يخفى بطلانه وتناقضه على أدنى عاقل. لأن من المعلوم أن الوصف الذي منه الاشتقاق إذا عدم فالاشتقاق منه مستحيل فإذا عدم السواد عن جرم مثلا استحال أن تقول هو أسود، إذ لا يمكن أن يكون أسود ولم يقم به سواد، وكذلك إذا لم يقم العلم والقدرة بذات، استحال أن تقول: هي عالمة قادرة لاستحالة اتصافها بذلك، ولم يقم بها علم ولا قدرة. قال في (مراقي السعود):
* وعند فقد الوصف لا يشتق
* وأعوز المعتزلي الحق
*
وأما الصفات المعنوية عندهم: فهي الأوصاف المشتقة من صفات المعاني السبع المذكورة، وهي كونه تعالى: قادرا، مريدا عالما حيا، سميعا بصيرا، متكلما.
والتحقيق أنها عبارة عن كيفية الاتصاف بالمعاني، وعد المتكلمين لها صفات زائدة على صفات المعاني، مبني على ما يسمونه الحال المعنوية. زاعمين أنها أمر ثبوتي ليس بموجود، ولا معدوم. والتحقيق الذي لا شك فيه أن هذا الذي يسمونه الحال المعنوية لا أصل له، وإنما هو مطلق تخييلات يتخيلونها. لأن العقل الصحيح حاكم حكما لا يتطرقه شك بأنه لا واسطة بين النقيضين البتة. فالعقلاء كافة مطبقون على أن النقيضين لا يجتمعان، ولا يرتفعان، ولا واسطة بينهما البتة، فكل ما هو غير موجود، فإنه معدوم قطعا، وكل ما هو غير معدوم، فإنه موجود قطعا، وهذا مما لا شك فيه كما ترى.
22

وقد بينا في اتصاف الخالق والمخلوق بالمعاني المذكورة منافاة صفة الخالق للمخلوق، وبه تعلم مثله في الاتصاف بالمعنوية المذكورة لو فرضنا أنها صفات زائدة على صفات المعاني. مع أن التحقيق أنها عبارة عن كيفية الاتصاف بها.
وأما الصفات السلبية عندهم: فهي خمس، وهي عندهم: القدم، والبقاء، والوحدانية، والمخالفة للخلق، والغنى المطلق، المعروف عندهم بالقيام بالنفس.
وضابط الصفة السلبية عندهم: هي التي لا تدل بدلالة المطابقة على معنى وجودي أصلا، إنما تدل على سلب ما لا يليق بالله عن الله.
أما الصفة التي تدل على معنى وجودي: فهي المعروفة عندهم بصفة المعنى، فالقدم مثلا عندهم لا معنى له بالمطابقة، إلا سلب العدم السابق، فإن قيل: القدرة مثلا تدل على سلب العجز، والعلم يدل على سلب الجهل، والحياة تدل على سلب الموت، فلم لا يسمون هذه المعاني سلبية أيضا؟
فالجواب: أن القدرة مثلا تدل بالمطابقة على معنى وجودي قائم بالذات، وهو الصفة التي يتأتى بها إيجاد الممكنات وإعدامها على وفق الإرادة، وإنما سلبت العجز بواسطة مقدمة عقلية، وهي أن العقل يحكم بأن قيام المعنى الوجودي بالذات يلزمه نفي ضده عنها لاستحالة اجتماع الضدين عقلا، وهكذا في باقي المعاني.
أما القدم عندهم مثلا: فإنه لا يدل على شيء زائد على ما دل عليه الوجود، إلا سلب العدم السابق، وهكذا في باقي السلبيات، فإذا عرفت ذلك فاعلم أن القدم. والبقاء اللذين يصف المتكلمون بهما الله تعالى زاعمين، أنه وصف بهما نفسه في قوله تعالى: * (هو الا ول والا خر) *، جاء في القرآن الكريم وصف الحادث بهما أيضا، قال في وصف الحادث بالقدم: * (والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم) *، وقال: * (قالوا تالله إنك لفى ضلالك القديم) *، وقال: * (أفرءيتم ما كنتم تعبدون أنتم وءابآؤكم الا قدمون) *، وقال في وصف الحادث بالبقاء: * (وجعلنا ذريته هم الباقين) *، وقال: * (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) *، وكذلك وصف الحادث بالأولية والآخرية المذكورتين في الآية. قال: * (ألم نهلك الا ولين ثم نتبعهم الا خرين) *، ووصف نفسه بأنه واحد، قال: * (وإلاهكم إلاه واحد) *، وقال في وصف الحادث بذلك. * (يسقى بمآء
23

واحد) * وقال في وصف نفسه بالغني، * (والله هو الغنى الحميد) *، * (وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن فى الا رض جميعا فإن الله لغنى حميد) *، وقال في وصف الحادث بالغني: * (ومن كان غنيا فليستعفف) *، * (إن يكونوا فقرآء يغنهم الله) *، فهو جل وعلا موصوف بتلك الصفات حقيقة على الوجه اللائق بكماله وجلاله، والحادث موصوف بها أيضا على الوجه المناسب لحدوثه وفنائه، وعجزه وافتقاره، وبين صفات الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين الخالق والمخلوق، كما بيناه في صفات المعاني.
وأما الصفة النفسية عندهم: فهي واحدة، وهي الوجود، وقد علمت ما في إطلاقها على الله، ومنهم من جعل الوجود عين الذات فلم يعده صفة، كأبي الحسن الأشعري، وعلى كل حال، فلا يخفى أن الخالق موجود، والمخلوق موجود، ووجود الخالق ينافي وجود المخلوق، كما بينا.
ومنهم من زعم أن القدم والبقاء صفتان نفسيتان، زاعما أنهما طرفا الوجود الذي هو صفة نفسية في زعمهم.
وأما الصفات الفعلية، فإن وصف الخالق والمخلوق بها كثير في القرآن، ومعلوم أن فعل الخالق مناف لفعل المخلوق كمنافاة ذاته لذاته، فمن ذلك وصفه جل وعلا نفسه بأنه يرزق خلقه، قال: * (إن الله هو الرزاق) *، * (ومآ أنفقتم من شىء فهو يخلفه وهو خير الرازقين) *، وقال: * (وما من دآبة في الا رض إلا على الله رزقها) *. وقال في وصف الحادث بذلك: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه) *، وقال: * (وعلى المولود له رزقهن) *، ووصف نفسه بالعمل، فقال: * (أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينآ أنعاما) *، وقال في وصف الحادث به: * (جزآء بما كانوا يعملون) * ووصف نفسه بتعليم خلقه فقال: * (الرحمان علم القرءان خلق الإنسان علمه البيان) *.
وقال في وصف الحادث به: * (هو الذى بعث فى الأميين رسولا منهم يتلو عليهم ءاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) *.
وجمع المثالين في قوله تعالى: * (تعلمونهن مما علمكم الله) *، ووصف
24

نفسه بأنه ينبئ، ووصف المخلوق بذلك، وجمع المثالين في قوله تعالى: * (وإذ أسر النبى إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هاذا قال نبأنى العليم الخبير) *. ووصف نفسه بالإيتاء، فقال: * (ألم تر إلى الذى حاج إبراهيم فى ربه أن آتاه الله الملك) *، وقال: * (يؤتى الحكمة من يشاء) *، وقال: * (ويؤت كل ذي فضل فضله) *، وقال: * (ذالك فضل الله يؤتيه من يشآء) *.
وقال في وصف الحادث بذلك: * (وءاتيتم إحداهن قنطارا) *، * (وءاتوا اليتامى أموالهم) *، * (وءاتوا النسآء صدقاتهن نحلة) *. وأمثال هذا كثيرة جدا في القرآن العظيم.
ومعلوم أن ما وصف به الله من هذه الأفعال فهو ثابت له حقيقة على الوجه اللائق بكماله وجلاله. وما وصف به المخلوق منها فهو ثابت له أيضا، على الوجه المناسب لحاله، وبين وصف الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.
وأما الصفات الجامعة، كالعظم والكبر والعلو، والملك والتكبر والجبروت، ونحو ذلك. فإنها أيضا يكثر جدا وصف الخالق والمخلوق بها في القرآن الكريم.
ومعلوم أن ما وصف به الخالق منها مناف لما وصف به المخلوق، كمنافاة ذات الخالق لذات المخلوق. قال في وصف نفسه جلا وعلا بالعلو والعظم والكبر: * (ولا يؤوده حفظهما وهو العلى العظيم) *، * (إن الله كان عليا كبيرا) *، * (عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال) *.
وقال في وصف الحادث بالعظم: * (فكان كل فرق كالطود العظيم) * * (إنكم لتقولون قولا عظيما) *، * (ولها عرش عظيم) *، * (عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقال في وصف الحادث بالكبر: * (لهم مغفرة وأجر كبير) *، وقال: * (إن قتلهم كان خطئا كبيرا) *، وقال: * (إلا تفعلوه تكن فتنة فى الا رض وفساد كبير) *، وقال: * (وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله) *، وقال: * (وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) *.
25

وقال في وصف الحادث بالعلو: * (ورفعناه مكانا عليا) *، * (وجعلنا لهم لسان صدق عليا) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقال في وصف نفسه بالملك: * (يسبح لله ما فى السماوات وما فى الا رض الملك القدوس) * * (هو الله الذى لا إلاه إلا هو الملك القدوس) *.
وقال: * (فى مقعد صدق عند مليك مقتدر) *.
وقال في وصف الحادث به: * (وقال الملك إنى أرى سبع بقرات سمان) *، * (وقال الملك ائتونى به) *، * (وكان ورآءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا) *، * (أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه) *، * (تؤتى الملك من تشآء وتنزع الملك ممن تشآء) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقال في وصف نفسه بالعزة: * (فإن زللتم من بعد ما جآءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم) *، * (يسبح لله ما فى السماوات وما فى الا رض الملك القدوس العزيز الحكيم) *، * (أم عندهم خزآئن رحمة ربك العزيز الوهاب) *.
وقال في وصف الحادث العزة * (قالت امرأت العزيز) *، * (فقال أكفلنيها وعزنى فى الخطاب) *.
وقال في وصف نفسه جل وعلا بأنه جبار متكبر * (هو الله الذى لا إلاه إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر) *.
وقال في وصف الحادث بهما: * (كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار) *، * (أليس فى جهنم مثوى للمتكبرين) *، * (وإذا بطشتم بطشتم جبارين) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقال في وصف نفسه بالقوة: * (إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) * * (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز) *.
وقال في وصف الحادث بها: * (وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذى خلقهم) * * (ويزدكم قوة إلى قوتكم) * * (إن خير من استأجرت القوى الأمين) *. * (الله الذى خلقكم من ضعف ثم
26

جعل من بعد ضعف قوة) * إلى غير ذلك من الآيات.
وأمثال هذا من الصفات الجامعة كثيرة في القرآن، ومعلوم أنه جل وعلا متصف بهذه الصفات المذكورة حقيقة على الوجه اللائق بكماله، وجلاله. وإنما وصف به المخلوق منها مخالف لما وصف به الخالق، كمخالفة ذات الخالق جل وعلا لذوات الحوادث، ولا إشكال في شيء من ذلك، وكذلك الصفات التي اختلف فيها المتكلمون. هل هي من صفات المعاني أو من صفات الأفعال، وإن كان الحق الذي لا يخفى على من أنار الله بصيرته. أنها صفات معان أثبتها الله، جل وعلا، لنفسه، كالرأفة والرحمة.
قال في وصفه جل وعلا بهما: * (إن ربكم لرؤوف رحيم) * وقال في وصف نبينا صلى الله عليه وسلم بهما: * (لقد جآءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم) * وقال في وصف نفسه بالحلم: * (ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم) *.
وقال في وصف الحادث به: * (فبشرناه بغلام حليم) *. * (إن إبراهيم لأواه حليم) *.
وقال في وصف نفسه بالمغفرة: * (إن الله غفور رحيم) *. * (لهم مغفرة وأجر عظيم) * ونحو ذلك من الآيات.
وقال في وصف الحادث بها: * (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الا مور) *. * (قل للذين ءامنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله) *. * (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعهآ أذى) * ونحو ذلك من الآيات.
ووصف نفسه جل وعلا بالرضى ووصف الحادث به أيضا فقال: * (رضى الله عنهم ورضوا عنه) * ووصف نفسه جل وعلا بالمحبة، ووصف الحادث بها، فقال: * (فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون فى سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) *، * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله) *.
27

ووصف نفسه بأنه يغضب إن انتهكت حرماته فقال * (قل هل أنبئكم بشر من ذالك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه) *، * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزآؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه) *.
وقال في وصف الحادث بالغضب * (ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا) * وأمثال هذا كثير جدا.
والمقصود عندنا ذكر أمثلة كثيرة من ذلك، مع إيضاح أن كل ما اتصف به جل وعلا من تلك الصفات بالغ من غايات الكمال والعلو والشرف ما يقطع علائق جميع أوهام المشابهة بين صفاته جل وعلا، وبين صفات خلقه، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
فإذا حققت كل ذلك علمت ذلك أنه جل وعلا وصف نفسه بالاستواء على العرش، ووصف غيره بالاستواء على بعض المخلوقات، فتمدح جل وعلا في سبع آيات من كتابه باستوائه على عرشه، ولم يذكر صفة الاستواء إلا مقرونة بغيرها من صفات الكمال، والجلال. القاضية بعظمته وجلاله جل وعلا، وأنه الرب وحده، المستحق لأن يعبد وحده.
الموضع الأول: بحسب ترتيب المصحف الكريم. قوله هنا في سورة الأعراف * (إن ربكم الله الذى خلق السماوات والا رض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشى اليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والا مر تبارك الله رب العالمين) *.
الموضع الثاني: قوله تعالى في سورة يونس: * (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والا رض فى ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الا مر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذالكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده) *.
الموضع الثالث: قوله تعالى في سورة الرعد: * (الله الذى رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجرى لأجل مسمى يدبر الا مر يفصل الآيات لعلكم بلقآء ربكم توقنون وهو الذى مد الا رض وجعل فيها رواسى وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشى اليل النهار إن فى ذالك لآيات لقوم
28

يتفكرون وفى الا رض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بمآء واحد ونفضل بعضها على بعض فى الا كل إن فى ذالك لآيات لقوم يعقلون) *.
الموضع الرابع: قوله تعالى في سورة طه: * (مآ أنزلنا عليك القرءان لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى تنزيلا ممن خلق الا رض والسماوات العلى الرحمان على العرش استوى له ما في السماوات وما في الا رض وما بينهما وما تحت الثرى) *.
الموضع الخامس: قوله في سورة الفرقان * (وتوكل على الحى الذى لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا الذى خلق السماوات والا رض وما بينهما فى ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمان فاسأل به خبيرا) *.
الموضع السادس: قوله تعالى في سورة السجدة * (الله الذى خلق السماوات والا رض وما بينهما فى ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون يدبر الا مر من السمآء إلى الا رض) *.
الموضع السابع: قوله تعالى في سورة الحديد * (هو الذى خلق السماوات والا رض فى ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج فى الا رض وما يخرج منها وما ينزل من السمآء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم) *.
وقال جل وعلا في وصف الحادث بالاستواء على بعض المخلوقات: * (لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه) *، * (فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك) *، * (واستوت على الجودى) * ونحو ذلك من الآيات.
وقد علمت مما تقدم أنه لا إشكال في ذلك، وأن للخالق جل وعلا استواء لائقا بكماله وجلاله، وللمخلوق أيضا استواء مناسب لحاله، وبين استواء الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق. على نحو * (ليس كمثله شىء وهو السميع البصير) * كما تقدم إيضاحه.
وينبغي للناظر في هذه المسألة التأمل في أمور:
الأمر الأول: أن جميع الصفات من باب واحد، لأن الموصوف بها واحد، ول
29

ا يجوز في حقه مشابهة الحوادث في شيء من صفاتهم، فمن أثبت مثلا أنه: سميع بصير، وسمعه، وبصره مخالفان لأسماع الحوادث وأبصارهم، لزمه مثل ذلك في جميع الصفات. كالاستواء، واليد، ونحو ذلك من صفاته جل وعلا، ولا يمكن الفرق بين ذلك بحال.
الأمر الثاني: أن الذات والصفات من باب واحد أيضا، فكما أنه جل وعلا، له ذات مخالفة لجميع ذوات الخلق، فله تعالى صفات مخالفة لجميع صفات الخلق.
الأمر الثالث: في تحقيق المقام في الظاهر المتبادر السابق إلى الفهم من آيات الصفات. كالاستواء واليد مثلا.
اعلم أولا: أنه غلط في خلق لا يحصى كثرة من المتأخرين، فزعموا أن الظاهر المتبادر السابق إلى الفهم من معنى الاستواء واليد مثلا: في الآيات القرآنية. هو مشابهة صفات الحوادث. وقالوا: يجب علينا أن نصرفه عن ظاهره إجماعا، لأن اعتقاد ظاهرة كفر. لأن من شبه الخالق بالمخلوق فهو كافر، ولا يخفى على أدنى عاقل أن حقيقة معنى هذا القول. أن الله وصف نفسه في كتابه بما ظاهره المتبادر منه السابق إلى الفهم الكفر بالله والقول فيه بما لا يليق به جل وعلا.
والنبي صلى الله عليه وسلم الذي قيل له * (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) * لم يبين حرفا واحدا من ذلك مع إجماع من يعتد به من العلماء، على أنه صلى الله عليه وسلم: لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، وأحرى في العقائد ولا سيما ما ظاهره المتبادر منه الكفر والضلال المبين. حتى جاء هؤلاء الجهلة من المتأخرين، فزعموا أن الله أطلق على نفسه الوصف بما ظاهره المتبادر منه لا يليق، والنبي صلى الله عليه وسلم كتم أن ذلك الظاهر المتبادر كفر وضلال يجب صرف اللفظ عنه، وكل هذا من تلقاء أنفسهم من غير اعتماد على كتاب أو سنة، * (سبحانك هاذا بهتان عظيم) *.
ولا يخفى أن هذا القول من أكبر الضلال ومن أعظم الافتراء على الله جل وعلا، ورسوله صلى الله عليه وسلم، والحق الذي لا يشك فيه أدنى عاقل أن كل وصف وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم.
فظاهره المتبادر منه السابق إلى فهم من في قلبه شيء من الإيمان. هو التنزيه التام عن مشابهة شيء من صفات الحوادث
30

. فبمجرد إضافة الصفة إليه، جل وعلا، يتبادر إلى الفهم أنه لا مناسبة بين تلك الصفة الموصوف بها الخالق، وبين شيء من صفات المخلوقين، وهل ينكر عاقل، أن السابق إلى الفهم المتبادر لكل عاقل: هو منافاة الخالق للمخلوق في ذاته، وجميع صفاته، لا والله لا ينكر ذلك إلا مكابر.
والجاهل المفتري الذي يزعم أن ظاهر آيات الصفات، لا يليق بالله. لأنه كفر وتشبيه، إنما جر إليه ذلك تنجيس قلبه، بقدر التشبيه بين الخالق والمخلوق، فأداه شؤم التشبيه إلى نفي صفات الله جل وعلا، وعدم الإيمان بها. مع أنه جل وعلا، هو الذي وصف بها نفسه، فكان هذا الجاهل مشبها أولا، ومعطلا ثانيا. فارتكب ما لا يليق الله ابتداء وانتهاء، ولو كان قلبه عارفا بالله كما ينبغي، معظما لله كما ينبغي، طاهرا من أقذار التشبيه. لكان المتبادر عنده السابق إلى فهمه: أو وصف الله جل وعلا، بالغ من الكمال، والجلال ما يقطع أوهام علائق المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، فيكون قلبه مستعدا للإيمان بصفات الكمال، والجلال الثابتة لله في القرآن والسنة الصحيحة، مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق على نحو قوله: * (ليس كمثله شىء وهو السميع البصير) *، فلو قال منقطع: بينوا لنا كيفية الاتصاف بصفة الاستواء واليد، ونحو ذلك لنعقلها. قلنا: أعرفت كيفية الذات المقدسة المتصفة بتلك الصفات؟ فلا بد أن يقول: لا. فتقول: معرفة كيفية الاتصاف بالصفات متوقفة على معرفة كيفية الذات، فسبحان من لا يستطيع غيره أن يحصي الثناء عليه هو، كما أثنى على نفسه: * (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما) *، * (ليس كمثله شىء وهو السميع البصير) *، * (قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) *، * (فلا تضربوا لله الا مثال) *.
فتحصل من جميع هذا البحث أن الصفات من باب واحد، وأن الحق فيها متركب من أمرين:
الأول: تنزيه الله جل وعلا عن مشهابة الخلق.
والثاني: الإيمان بكل ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتا، أو نفيا. وهذا هو معنى قوله تعالى: * (ليس كمثله شىء وهو السميع البصير) *، والسلف الصالح، رضي الله عنهم ما كانوا يشكون في شيء من ذلك، ولا كان يشكل عليهم. ألا ترى إلى قول الفرزدق وهو شاعر فقط، وأما من جهة العلم، فهو عامي: ليس كمثله شىء وهو السميع البصير) *، والسلف الصالح، رضي الله عنهم ما كانوا يشكون في شيء من ذلك، ولا كان يشكل عليهم. ألا ترى إلى قول الفرزدق وهو شاعر فقط، وأما من جهة العلم، فهو عامي:
* وكيف أخاف الناس والله قابض
* على الناس والسبعين في راحة اليد
*
31

ومراده بالسبعين: سبع سماوات، وسبع أرضين. فمن علم مثل هذا من كون السماوات والأرضين في يده جل وعلا أصغر من حبة خردل، فإنه عالم بعظمة الله وجلاله لا يسبق إلى ذهنه مشابهة صفاته لصفات الخلق، ومن كان كذلك زال عنه كثير من الإشكالات التي أشكلت على كثير من المتأخرين، وهذا الذي ذكرنا من تنزيه الله جل وعلا عما لا يليق به، والإيمان بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم. هو معنى قول الإمام مالك رحمه الله: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والسؤال عنه بدعة.
ويروى نحو قول مالك هذا عن شيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وأم سلمة رضي الله عنها والعلم عند الله تعالى. * (ولا تفسدوا فى الا رض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين * وهو الذى يرسل الرياح بشرى بين يدى رحمته حتى إذآ أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به المآء فأخرجنا به من كل الثمرات كذالك نخرج الموتى لعلكم تذكرون * والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذى خبث لا يخرج إلا نكدا كذالك نصرف الآيات لقوم يشكرون * لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم * قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين * قال ياقوم ليس بى ضلالة ولكني رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربى وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون * أو عجبتم أن جآءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم
ترحمون) * قوله تعالى: * (إن رحمت الله قريب من المحسنين) *.
ذكر في هذه الآية الكريمة: أن رحمته جل وعلا قريب من عباده المحسنين، وأوضح في موضع آخر صفات عبيده الذين سيكتبها لهم في قوله: * (ورحمتى وسعت كل شىء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكواة) *.
ووجه تذكير وصف الرحمة مع أنها مؤنثة في قوله: * (قريب) * ولم يقل قريبة، فيه للعلماء أقوال تزيد على العشرة. نذكر منها إن شاء الله بعضا، ونترك ما يظهر لنا ضعفه أو بعده عن الظاهر.
منها: أن الرحمة مصدر بمعنى الرحم، فالتذكير باعتبار المعنى.
ومنها أن من أساليب اللغة العربية أن القرابة إذا كانت قرابة نسب تعين التأنيث فيها في الأنثى فتقول: هذا المرأة قريبتي أي في النسب ولا تقول: قريب مني. وإن كانت قرابة مسافة جاز التذكير والتأنيث. فتقول: داره قريب وقريبة مني، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: * (وما يدريك لعل الساعة قريب) *، وقوله تعالى: * (وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا) * وقول امرئ القيس: وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا) * وقول امرئ القيس:
* له الويل إن أمسى ولا أم هاشم
* قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا
*
ومنها: أن وجه ذلك إضافة الرحمة إلى الله جل وعلا.
ومنها: أن قوله * (قريب) * صفة موصوف محذوف أي شيء قريب من المحسنين.
32

ومنها: أنها شبهت بفعيل بمعنى مفعول الذي يستوي فيه الذكر والأنثى.
ومنها: أن الأسماء التي على فعيل ربما شبهت بالمصدر الآتي على فعيل، فأفردت لذلك. قال بعضهم: ولذلك أفرد الصديق في قوله: * (أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم) *، وقول الشاعر: وهن صديق لمن لم يشب اه
والظهير في قوله: * (والملائكة بعد ذالك ظهير) * إلى غير ذلك من الأوجه.
قوله تعالى: * (وهو الذى يرسل الرياح بشرى بين يدى رحمته) *.
قراءة عاصم * (بشرا) * بضم الباء الموحدة، وإسكان الشين: جمع بشير، لأنها تنتشر أمام المطر مبشرة به، وهذا المعنى يوضحه قوله تعالى: * (ومن ءاياته أن يرسل الرياح مبشرات) *، وقوله: * (بين يدى رحمته) *، يعني برحمته المطر كما جاء مبينا في غير هذا الموضع كقوله: * (وهو الذى ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته) *، وقوله: * (فانظر إلىءاثار رحمة الله كيف يحى الا رض بعد موتهآ) *. * (وهو الذى يرسل الرياح بشرى بين يدى رحمته حتى إذآ أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به المآء فأخرجنا به من كل الثمرات كذالك نخرج الموتى لعلكم تذكرون) *
قوله تعالى: * (حتى إذآ أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت) *.
بين في هذه الآية الكريمة أنه يحمل السحاب على الريح، ثم يسوقه إلى حيث يشاء من بقاع الأرض، وأوضح هذا المعنى بآيات كثيرة كقوله: * (والله الذى أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت) *. وقوله: * (أولم يروا أنا نسوق المآء إلى الا رض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون) * إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: * (أو عجبتم أن جآءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم) *.
أنكر تعالى في هذه السورة الكريمة على قوم نوح، وقوم هود عجبهم من إرسال رجل. وبين في مواضع أخر أن جميع الأمم عجبوا من ذلك. قال في عجب قوم نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك: * (أكان للناس عجبا أن أوحينآ إلى رجل منهم أن أنذر الناس) *، وقال: * (بل عجبوا أن جآءهم منذر منهم) *، وقال عن الأمم السابقة: * (ذالك بأنه كانت تأتيهم
33

رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غنى حميد) *، وقال: * (كذبت ثمود بالنذر) * * (كذبت قوم لوط بالنذر) *، وقال: * (ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون) *، وصرح بأن هذا العجب من إرسال بشر مانع للناس من الإيمان بقوله: * (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا) *.
ورد الله عليهم ذلك في آيات كثيرة كقوله: * (ومآ أرسلنا قبلك إلا رجالا) *، وقوله: * (ومآ أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام) *، وقوله: * (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا) *، إلى غير ذلك من الآيات. * (فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بأاياتنآ إنهم كانوا قوما عمين * وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره أفلا تتقون * قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين * قال ياقوم ليس بى سفاهة ولكنى رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربى وأنا لكم ناصح أمين * أو عجبتم أن جآءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفآء من بعد قوم نوح وزادكم فى الخلق بسطة فاذكروا ءالآء الله لعلكم تفلحون * قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد ءاباؤنا فأتنا بما تعدنآ إن كنت من الصادقين) * قوله
تعالى: * (وأغرقنا الذين كذبوا بأاياتنآ) *.
لم يبين هنا كيفية إغراقهم، ولكنه بينها في مواضع أخر كقوله: * (ففتحنآ أبواب السمآء بماء منهمر) *، وقوله: * (فأخذهم الطوفان وهم ظالمون) *. * (قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني فى أسمآء سميتموهآ أنتم وءابآؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إنى معكم من المنتظرين) * قوله تعالى: * (أتجادلونني فى أسمآء سميتموهآ أنتم وءابآؤكم) *.
لم يبين هنا شيئا من هذا الجدال الواقع بين هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وبين عاد. ولكنه أشار إليه في مواضع أخر كقوله: * (قالوا ياهود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركى ءالهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض ءالهتنا بسوء قال إنى أشهد الله واشهدوا أنى برىء مما تشركون من دونه فكيدونى جميعا ثم لا تنظرون إنى توكلت على الله ربى وربكم ما من دآبة إلا هو ءاخذ بناصيتهآ إن ربى على صراط مستقيم) *. * (فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بأاياتنا وما كانوا مؤمنين * وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره قد جآءتكم بينة من ربكم هاذه ناقة الله لكم ءاية فذروها تأكل فى أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم * واذكروا إذ جعلكم خلفآء من بعد عاد وبوأكم فى الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا ءالآء الله ولا تعثوا فى الا رض مفسدين * قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن ءامن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بمآ أرسل به مؤمنون * قال الذين استكبروا إنا بالذي ءامنتم به كافرون * فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا ياصاح ائتنا بما تعدنآ إن كنت من المرسلين) * قوله تعالى: * (وقطعنا دابر الذين كذبوا بأاياتنا) *.
لم يبين هنا كيفية قطعه دابر عاد، ولكنه بينه في مواضع أخر كقوله: * (وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية) *، وقوله: * (وفى عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم) *، ونحو ذلك من الآيات.
قوله تعالى: * (فعقروا الناقة) *.
ظاهر هذه الآية الكريمة أن عقرها باشرته جماعة، ولكنه تعالى بين في سورة القمر: أن المراد أنهم نادوا واحدا منهم. فباشر
34

عقرها، وذلك في قوله تعالى: * (فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر) *. * (فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا ياصاح ائتنا بما تعدنآ إن كنت من المرسلين) * قوله تعالى: * (وقالوا ياصاح ائتنا بما تعدنآ) *.
لم يبين هنا هذا الذي يعدهم به، ولكنه بين في مواضع أخر أنه العذاب كقوله: * (ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب) *، وقوله هنا * (بسوء فيأخذكم عذاب) *، وقوله: * (تمتعوا فى داركم ثلاثة أيام ذالك وعد غير مكذوب) *، ونحو ذلك من الآيات. * (فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين * فتولى عنهم وقال ياقوم لقد أبلغتكم رسالة ربى ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين) * قوله تعالى: * (فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين) *. لم يبين هنا سبب رجفة الأرض بهم، ولكنه بين في موضع آخر أن سبب ذلك صيحة الملك بهم، وهو قوله: * (وأخذ الذين ظلموا الصيحة) *. والظاهر أن الملك لما صاح بهم رجفت بهم الأرض من شدة الصيحة، وفارقت أرواحهم أبدانهم، والله جل وعلا أعلم.
قوله تعالى: * (فتولى عنهم وقال ياقوم لقد أبلغتكم رسالة ربى) *.
وبين تعالى هذه الرسالة التي أبلغها نبيه صالح إلى قومه في آيات كثيرة كقوله: * (وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره قد جآءتكم بينة من ربكم هاذه ناقة الله لكم ءاية فذروها تأكل فى أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم) *. * (ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النسآء بل أنتم قوم مسرفون * وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون * فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين * وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين * وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره قد جآءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا فى الا رض بعد إصلاحها ذالكم خير لكم إن كنتم مؤمنين) * قوله تعالى: * (أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين) *.
بين تعالى أن المراد بهذه الفاحشة اللواط بقوله بعده: * (إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النسآء) *، وبين ذلك أيضا بقوله: * (أتأتون الذكران من العالمين) *، وقوله: * (وتأتون فى ناديكم المنكر) *.
قوله تعالى: * (فأنجيناه وأهله) *.
ظاهر هذه الآية الكريمة أنه لم ينج مع لوط إلا خصوص أهله، وقد بين تعالى ذلك في (الذاريات) بقوله: * (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) *، وقوله هنا: * (إلا امرأته كانت من الغابرين) * أوضحه في مواضع أخر. فبين أنها خائنة، وأنها من أهل النار، وأنها واقعة فيما أصاب قومها من الهلاك، قال فيها: هي وامرأة نوح * (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنينا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين) *، وقال فيها وحدها: أعني امرأة لوط * (إلا امرأتك إنه مصيبها مآ أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح) *،
35

وقوله هنا في قوم لوط: * (وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين) *.
لم يبين هنا هذا المطر ما هو، ولكنه بين في مواضع أخر أنه مطر حجارة أهلكهم الله بها كقوله: * (وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل) * وأشار إلى أن السجيل الطين
بقوله في (الذاريات): * (لنرسل عليهم حجارة من طين) *، وبين أن هذا المطر مطر سوء لا رحمة بقوله: * (ولقد أتوا على القرية التى أمطرت مطر السوء) *، وقوله تعالى في (الشعراء): * (وأمطرنا عليهم مطرا فسآء مطر المنذرين) *. * (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من ءامن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين * وإن كان طآئفة منكم ءامنوا بالذى أرسلت به وطآئفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين * قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك ياشعيب والذين ءامنوا معك من قريتنآ أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين * قد افترينا على الله كذبا إن عدنا فى ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنآ أن نعود فيهآ إلا أن يشآء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين * وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون * فأخذتهم الرجفة فأصبحوا فى دارهم جاثمين * الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين) * قوله تعالى: * (وتصدون عن سبيل الله من ءامن به وتبغونها عوجا) *.
الضمير في قوله: * (وتبغونها) * راجع إلى السبيل وهو نص قرآني على أن السبيل مؤنثة، ولكنه جاء في موضع آخر ما يدل على تذكير السبيل أيضا. وهو قوله تعالى: في هذه السورة الكريمة * (وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغى يتخذوه سبيلا) *.
قوله تعالى: * (وإن كان طآئفة منكم ءامنوا بالذى أرسلت به وطآئفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين) *.
بين تعالى حكمه الذي حكم به بينهم بقوله: * (ولما جآء أمرنا نجينا شعيبا والذين ءامنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة) *: وقوله * (فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين) *، وقوله: * (الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين) *، وقوله: * (فأخذهم عذاب يوم الظلة) *. فإن قيل: الهلاك الذي أصاب قوم شعيب ذكر تعالى في الأعراف أنه رجفة، وذكر في هود أنه صيحة، وذكر في الشعراء أنه عذاب يوم الظلة.
فالجواب: ما قاله ابن كثير رحمه الله في تفسيره قال: وقد اجتمع عليهم ذلك كله أصابه عذاب يوم الظلة وهي سحابة أظلتهم فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم. ثم جاءتهم صيحة من السماء، ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم. فزهقت الأرواح، وفاضت النفوس، وخمدت الأجسام اه. منه. * (فتولى عنهم وقال ياقوم لقد أبلغتكم رسالات ربى ونصحت لكم فكيف ءاسى على قوم كافرين * ومآ أرسلنا فى قرية من نبى إلا أخذنا أهلها بالبأسآء والضرآء لعلهم يضرعون * ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس ءاباءنا الضرآء والسرآء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون * ولو أن أهل القرىءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السمآء والا رض ولاكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون * أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نآئمون * أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون * أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون * أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلهآ أن لو نشآء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون) * قوله تعالى: * (فتولى عنهم وقال ياقوم لقد أبلغتكم رسالات ربى ونصحت لكم فكيف ءاسى على قوم كافرين) *.
بين جل وعلا الرسالات التي أبلغها رسوله شعيب إلى قومه
36

في آيات كثيرة كقوله: * (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان) * ونحوها من الآيات، وبين نصحه لهم في آيات كثيرة كقوله: * (وياقوم لا يجرمنكم شقاقى أن يصيبكم مثل مآ أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد) *، وقوله تعالى: * (فكيف ءاسى على قوم كافرين) * أنكر نبي الله شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام الأسى أي الحزن على الكفار إذا أهلكهم الله بعد إبلاغهم، وإقامة الحجة عليهم مع تماديهم في الكفر والطغيان لجاجا وعنادا، وإنكاره لذلك يدل على أنه لا ينبغي، وقد صرح تعالى بذلك فنهى نبينا صلى الله عليه وسلم عنه في قوله: * (وليزيدن كثيرا منهم مآ أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين) * ومعنى لا تأس: لا تحزن، وقوله: * (ولا تحزن عليهم) *. * (تلك القرى نقص عليك من أنبآئها ولقد جآءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين * وما وجدنا لاكثرهم من عهد وإن وجدنآ أكثرهم لفاسقين) * قوله تعالى: * (تلك القرى نقص عليك من أنبآئها) *.
ذكر أنباءهم مفصلة في مواضع كثيرة. كالآيات التي ذكر فيها خبر نوح وهود، وصالح ولوط، وشعيب وغيرهم، مع أممهم صلوات الله وسلامه عليهم.
قوله تعالى: * (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل) *. في هذه الآية الكريمة للعلماء أوجه من التفسير: بعضها يشهد له القرآن.
منها: أن المعنى فما كانوا ليؤمنوا بما سبق في علم الله يوم أخذ الميثاق أنهم يكذبون به، ولم يؤمنوا به، لاستحالة التغير فيما سبق به العلم الأزلي، ويروى هذا عن أبي بن كعب وأنس، واختاره ابن جرير، ويدل لهذا الوجه لآيات كثيرة كقوله: * (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون) *، وقوله: * (وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) * ونحو ذلك من الآيات.
ومنها: أن المعنى الآية أنهم أخذ عليهم الميثاق، فآمنوا كرها، فما كانوا ليؤمنوا بعد ذلك طوعا. ويروى هذا عن السدي وهو راجع في المعنى إلى الأول.
ومنها: أن معنى الآية أنهم لو ردوا إلى الدنيا مرة لكفروا أيضا، فما كان ليؤمنوا في الرد إلى الدنيا بما كذبوا به من قبل أي في المرة الأولى.
ويروى هذا عن مجاهد. ويدل لمعنى هذا القول قوله تعالى: * (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) *. لكنه بعيد من ظاهر الآية.
37

ومنها: أن معنى الآية. فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد عليهم، وهذا القول حكاه ابن عطية، واستحسنه ابن كثير، وهو من أقرب الأقوال لظاهر الآية الكريمة. ووجهه ظاهر، لأن شؤم المبادرة إلى تكذيب الرسل سبب للطبع على القلوب والإبعاد عن الهدى، والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة. كقوله تعالى: * (بل طبع الله عليها بكفرهم) *، وقوله: * (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله) *، وقوله: * (فى قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) *،
وقوله: * (ذلك بأنهم ءامنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية قد تكون فيها أوجه من التفسير كلها يشهد له قرآن، وكلها حق. فنذكر جميعها والعلم عند الله تعالى. * (ثم بعثنا من بعدهم موسى بأاياتنآ إلى فرعون وملإيه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين * وقال موسى يافرعون إنى رسول من رب العالمين * حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معى بنى إسراءيل * قال إن كنت جئت بأاية فأت بهآ إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هى ثعبان مبين) *
قوله تعالى: * (ثم بعثنا من بعدهم موسى بأاياتنآ إلى فرعون وملإيه فظلموا بها) *.
بين تعالى هنا أن فرعون وملأه ظلموا بالآيات التي جاءهم بها موسى، وصرح في النمل بأنهم فعلوا ذلك جاحدين لها، مع أنهم مستيقنون أنها حق لأجل ظلمهم وعلوهم. وذلك في قوله: * (فلما جآءتهم ءاياتنا مبصرة قالوا هاذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتهآ أنفسهم ظلما وعلوا) *. * (ونزع يده فإذا هى بيضآء للناظرين) *
وقوله تعالى: * (ونزع يده فإذا هى بيضآء للناظرين) *.
ذكر تعالى هنا أن موسى نزع يده فإذا هي بيضاء، ولم يبين أن ذلك البياض خال من البرص، ولكنه بين ذلك في سورة (النمل) و (القصص) في قوله فيهما: * (تخرج بيضآء من غير سوء) * أي من غير برص. * (قال الملأ من قوم فرعون إن هاذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون * قالوا أرجه وأخاه وأرسل فى المدآئن حاشرين * يأتوك بكل ساحر عليم * وجآء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم لمن المقربين * قالوا ياموسى إمآ أن تلقى وإمآ أن نكون نحن الملقين * قال ألقوا فلمآ ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجآءو بسحر عظيم * وأوحينآ إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هى تلقف ما يأفكون * فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون * فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين * وألقى السحرة ساجدين * قالوا ءامنا برب العالمين * رب موسى وهارون * قال فرعون ءامنتم به قبل أن ءاذن لكم إن هاذا لمكر مكرتموه فى المدينة لتخرجوا منهآ أهلها فسوف تعلمون * لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين * قالوا إنآ إلى ربنا منقلبون * وما تنقم منآ إلا أن ءامنا بأايات ربنا لما جآءتنا ربنآ أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين * وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا فى الا رض ويذرك وءالهتك قال سنقتل أبنآءهم ونستحيى نسآءهم وإنا فوقهم قاهرون * قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشآء من عباده والعاقبة للمتقين * قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم فى الا رض فينظر كيف تعملون * ولقد أخذنآ ءال فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون * فإذا جآءتهم الحسنة قالوا لنا هاذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولاكن أكثرهم لا يعلمون * وقالوا مهما تأتنا به من ءاية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين * فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ءايات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين * ولما وقع عليهم الرجز قالوا ياموسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بنى إسراءيل * فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون * فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بأاياتنا وكانوا عنها غافلين) * قوله تعالى: * (قال الملأ من قوم فرعون إن هاذا لساحر عليم) *.
بين هنا أن موسى لما جاء بآية العصا واليد قال الملأ من قوم فرعون إنه ساحر، ولم يبين ماذا قال فرعون: ولكنه بين في (الشعراء) أن فرعون قال مثل ما قال الملأ من قومه، وذلك في قوله تعالى: * (قال للملإ حوله إن هاذا لساحر عليم) *.
قوله تعالى: * (فلمآ ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجآءو بسحر عظيم) *.
لم يبين هنا هذا السحر العظيم ما هو؟ ولم يبين هل أوجس موسى في نفسه الخوف منه؟ ولكنه بين كل ذلك في (طه) بقوله: * (فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس فى نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الا على وألق ما فى
38

يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى) * ولم يبين هنا أنهم تواعدوا مع موسى موعدا لوقت مغالبته مع السحرة، وأوضح ذلك في سورة (طه) في قوله عنهم: * (فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى) *.
قوله تعالى: * (ثم لأصلبنكم أجمعين) *.
لم يبين هنا الشيء الذي توعدهم بأنهم يصلبهم فيه، ولكنه بينه في موضع آخر. كقوله في (طه) * (ولأصلبنكم فى جذوع النخل) *.
قوله تعالى: * (وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه) *.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن فرعون وقومه إن أصابتهم سيئة أي قحط وجدب ونحو ذلك، تطيروا بموسى وقومه فقالوا: ما جاءنا هذا الجدب والقحط إلا من شؤمكم، وذكر مثل هذا عن بعض الكفار مع نبينا صلى الله عليه وسلم في قوله: * (وإن تصبهم حسنة يقولوا هاذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هاذه من عندك) *. وذكر نحوه أيضا عن قوم صالح مع صالح في قوله: * (قالوا اطيرنا بك وبمن معك) *. وذكر نحو ذلك أيضا عن القرية التي جاءها المرسلون في قوله: * (قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم) *. وبين تعالى أن شؤمهم من قبل كفرهم، ومعاصيهم. لا من قبل الرسل قال في (الأعراف): * (ألا إنما طائرهم عند الله) * وقال في سورة (النمل) في قوم صالح: * (قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون) * وقال في (يس): * (قالوا طائركم معكم) *. * (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الا رض ومغاربها التى باركنا فيها وتمت كلمت ربك الحسنى على بنى إسرءيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون * وجاوزنا ببنى إسرءيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا ياموسى اجعل لنآ إلاها كما لهم ءالهة قال إنكم قوم تجهلون * إن هاؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون * قال أغير الله أبغيكم إلاها وهو فضلكم على العالمين * وإذ أنجيناكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبنآءكم ويستحيون نسآءكم
وفي ذالكم بلاء من ربكم عظيم * وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لاخيه هارون اخلفنى فى قومى وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) * قوله تعالى: * (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الا رض ومغاربها) *.
لم يبين هنا من هؤلاء القوم، ولكنه صرح في سورة (الشعراء): بأن المراد بهم بنو إسرائيل لقوله في القصة بعينها * (كذلك وأورثناها بنى إسراءيل) *، وأشار إلى ذلك هنا بقوله بعده: * (وتمت كلمت ربك الحسنى على بنى إسرءيل) *.
قوله تعالى: * (وتمت كلمت ربك الحسنى على بنى إسرءيل) *.
لم يبين هنا هذه الكلمة الحسنى التي تمت عليهم، ولكنه بينها في القصص بقوله: * (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الا رض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم فى الا رض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) *.
39

* (ولما جآء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرنى أنظر إليك قال لن ترانى ولاكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف ترانى فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلمآ أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين * قال ياموسى إنى اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ مآ ءاتيتك وكن من الشاكرين * وكتبنا له فى الا لواح من كل شىء موعظة وتفصيلا لكل شىء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأوريكم دار الفاسقين * سأصرف عن ءاياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل ءاية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغى يتخذوه سبيلا ذالك بأنهم كذبوا بأاياتنا وكانوا عنها غافلين * والذين كذبوا بأاياتنا ولقآء الا خرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون) * قوله تعالى: * (قال رب أرنى أنظر إليك قال لن ترانى) *.
استدل المعتزلة النافون لرؤية الله بالأبصار يوم القيامة بهذه الآية على مذهبهم الباطل، وقد جاءت آيات تدل على أن نفي الرؤية المذكور، إنما هو في الدنيا، وأما في الآخرة فإن المؤمنين يرونه جل وعلا بأبصارهم. كما صرح به تعالى في قوله: * (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) *، وقوله في الكفار: * (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) * فإنه يفهم من مفهوم مخالفته أن المؤمنين ليسوا محجوبين عنه جل وعلا.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى: * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) * الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم، وذلك هو أحد القولين في قوله تعالى: * (ولدينا مزيد) *، وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم، وتحقيق المقام في المسألة: أن رؤية الله جل وعلا بالأبصار: جائزة عقلا في الدنيا والآخرة، ومن أعظم الأدلة على جوازها عقلا في دار الدنيا: قول موسى * (رب أرنى أنظر إليك) * لأن موسى لا يخفى عليه الجائز والمستحيل في حق الله تعالى، وأما شرعا فهي جائزة وواقعة في الآخرة كما دلت عليه الآيات المذكورة، وتواترت به الأحاديث الصحاح، وأما في الدنيا فممنوعة شرعا كما تدل عليه آية (الأعراف) هذه، وحديث (إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا) كما أوضحناه في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب). * (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين) * قوله تعالى: * (ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين) *. بين في هذه الآية الكريمة سخافة عقول عبدة العجل، ووبخهم على أنهم يعبدون ما لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا، وأوضح هذا في (طه) بقوله: * (أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا) *، وقد قدمنا في سورة (البقرة) أن جميع آيات اتخاذهم العجل إلاها حذف فيها المفعول الثاني في جميع القرآن كما في قوله هنا: * (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا) *. أي اتخذوه إلاها، وقد قدمنا أن النكتة في حذفه دائما التنبيه: على أنه لا ينبغي التلفظ بأن عجلا مصطنعا من جماد إله، وقد أشار تعالى إلى هذا المفعول المحذوف دائما في (طه) بقوله: * (فقالوا هاذآ إلاهكم وإلاه موسى) *. * (ولما سقط فى أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين) *
قوله تعالى: * (ولما سقط فى أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين) *.
40

بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن عبدة العجل اعترفوا بذنبهم، وندموا على ما فعلوا، وصرح في سورة (البقرة) بتوبتهم ورضاهم بالقتل وتوبة الله جل وعلا عليهم بقوله: * (وإذ قال موسى لقومه ياقوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذالكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم) *. * (ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتمونى من بعدى أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفونى وكادوا يقتلوننى فلا تشمت بى الأعدآء ولا تجعلنى مع القوم الظالمين * قال رب اغفر لى ولأخى وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين * إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة فى الحيواة الدنيا وكذالك نجزى المفترين * والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وءامنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم * ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الا لواح وفى نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون * واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياى أتهلكنا بما فعل السفهآء منآ إن هى إلا فتنتك تضل بها من تشآء وتهدى من تشآء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين * واكتب لنا فى هاذه الدنيا حسنة وفي الا خرة إنا هدنآ إليك قال عذابى أصيب به من أشآء ورحمتى وسعت كل شىء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكواة والذين هم بأاياتنا يؤمنون * الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والا غلال التى كانت عليهم فالذين ءامنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذى أنزل معه أولائك هم المفلحون) * قوله تعالى: * (ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتمونى من بعدى أعجلتم أمر ربكم) *.
أوضح الله ما ذكره هنا بقوله في (طه) * (قال ياقوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدى قالوا مآ
أخلفنا موعدك بملكنا) *.
قوله تعالى: * (وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفونى) *.
أشار تعالى في هذه الآية الكريمة إلى ما اعتذر به نبي الله هارون لأخيه موسى عما وجهه إليه من اللوم، وأوضحه في (طه) بقوله: * (قال يبنؤم لا تأخذ بلحيتى ولا برأسى إنى خشيت أن تقول فرقت بين بنى إسرءيل ولم ترقب قولى) *، وصرح الله تعالى ببراءته بقوله: * (ولقد قال لهم هارون من قبل ياقوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمان فاتبعونى وأطيعوا أمرى قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى) *.
قوله تعالى: * (قل ياأيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعا) *.
هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم رسول إلى جميع الناس، وصرح بذلك في آيات كثيرة كقوله: * (ومآ أرسلناك إلا كآفة للناس) *، وقوله: * (تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) * وقوله: * (ومن يكفر به من الا حزاب فالنار موعده) *، وقيد في موضع آخر: عموم رسالته ببلوغ هذا القرآن، وهو قوله تعالى: * (وأوحى إلى هاذا القرءان لا نذركم به ومن بلغ) *، وصرح بشمول رسالته لأهل الكتاب مع العرب بقوله: * (وقل للذين أوتوا الكتاب والا ميين ءأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد) * إلى غير ذلك من الآيات. * (قل ياأيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعا الذى له ملك السماوات والا رض لا إلاه إلا هو يحى ويميت فأامنوا بالله ورسوله النبى الأمى الذى يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون * ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون * وقطعناهم اثنتى عشرة أسباطا أمما وأوحينآ إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون * وإذ قيل لهم اسكنوا هاذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين * فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذى قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السمآء بما كانوا يظلمون * وسئلهم عن القرية التى كانت حاضرة البحر إذ يعدون فى السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذالك نبلوهم بما كانوا يفسقون * وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون * فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون * فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين * وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم * وقطعناهم في الا رض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذالك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون * فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هاذا الا دنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الا خرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون * والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلواة إنا لا نضيع أجر المصلحين * وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا مآ ءاتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون * وإذ أخذ ربك من بنىءادم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنآ أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هاذا غافلين * أو تقولوا إنمآ أشرك ءاباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون * وكذالك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون * واتل عليهم نبأ الذىءاتيناه ءاياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين) * قوله تعالى: * (فأامنوا بالله ورسوله النبى الأمى الذى يؤمن بالله وكلماته) *.
لم يبين هنا كثرة كلماته ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله: * (قل لو كان البحر مدادا
41

لكلمات ربى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى ولو جئنا بمثله مددا) *، وقوله: * (ولو أنما فى الا رض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله) *.
قوله تعالى: * (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق) *.
هذا الميثاق المذكور يبينه قوله تعالى: * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه ورآء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون) *.
قوله تعالى: * (وإذ أخذ ربك من بنىءادم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنآ أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هاذا غافلين أو تقولوا إنمآ أشرك ءاباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) *.
في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند العلماء:
أحدهما: أن معنى أخذه ذرية بني آدم من ظهورهم: هو إيجاد قرن منهم بعد قرن، وإنشاء قوم بعد آخرين كما قال تعالى: * (كمآ أنشأكم من ذرية قوم ءاخرين) *، وقال: * (هو الذى جعلكم خلائف فى الا رض) * وقال: * (ويجعلكم حلفآء) *، ونحو ذلك من الآيات: وعلى هذا القول فمعنى قوله: * (وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) * أن إشهادهم على أنفسهم إنما هو بما نصب لهم من الأدلة القاطعة بأنه ربهم المستحق منهم لأن يعبدوه، وحده، وعليه فمعنى قالوا بلى، أي قالوا ذلك: بلسان حالهم لظهور الأدلة عليه ونظيره من إطلاق الشهادة على شهادة لسان الحال قوله تعالى: * (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شهدين على أنفسهم بالكفر) * أي بلسان حالهم على القول بذلك، وقوله تعالى: * (إن الإنسان لربه لكنود وإنه على ذلك لشهيد) * أي بلسان حاله أيضا على القول بأن ذلك هو المراد في الآية أيضا.
واحتج من ذهب إلى هذا القول بأن الله جل وعلا جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك به جل وعلا في قوله: * (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هاذا غافلين أو
تقولوا إنمآ أشرك ءاباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم) *، قالوا: فلو كان الإشهاد المذكور الإشهاد عليهم يوم الميثاق، وهم في صورة الذر لما كان حجة عليهم،
42

لأنه لا يذكره منهم أحد عند وجوده في الدنيا، وما لا علم للإنسان به لا يكون حجة عليه. فإن قيل إخبار الرسل بالميثاق المذكور كاف في ثبوته قلنا: قال ابن كثير في تفسيره: (الجواب عن ذلك أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره، وهذا جعل حجة مستقلة عليهم، فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من التوحيد، ولهذا قال: * (أن تقولوا) * اه منه بلفظه.
فإذا علمت هذا الوجه الذي ذكرنا في تفسير الآية، وما استدل عليه قائله به من القرآن. فاعلم أن الوجه الآخر في معنى الآية: أن الله أخرج جميع ذرية آدم من ظهور الآباء في صورة الذر، وأشهدهم على أنفسهم بلسان المقال: * (ألست بربكم قالوا بلى) * ثم أرسل بعد ذلك الرسل مذكرة بذلك الميثاق الذي نسيه الكل ولم يولد أحد منهم وهو ذاكر له وإخبار الرسل به يحصل به اليقين بوجوده.
قال مقيده عفا الله عنه هذا الوجه الأخير يدل له الكتاب والسنة.
أما وجه دلالة القرآن عليه، فهو أن مقتضى القول الأول أن ما أقام الله لهم من البراهين القطعية كخلق السماوات والأرض، وما فيهما من غرائب صنع الله. الدالة على أنه الرب المعبود وحده، وما ركز فيهم من الفطرة التي فطرهم عليها تقوم عليهم به الحجة، ولو لم يأتيهم نذير والآيات القرآنية مصرحة بكثرة، بأن الله تعالى لا يعذب أحدا حتى يقيم عليه الحجة بإنذار الرسل، وهو دليل على عدم الاكتفاء بما نصب من الأدلة، وما ركز من الفطرة، فمن ذلك قوله تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * فإنه قال فيها: حتى نبعث رسولا، ولم يقل حتى نخلق عقولا، وننصب أدلة، ونركز فطرة.
ومن ذلك قوله تعالى: * (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) *، فصرح بأن الذي تقوم به الحجة على الناس، وينقطع به عذرهم: هو إنذار الرسل لا نصب الأدلة والخلق على الفطرة.
وهذه الحجة التي بعث الرسل لقطعها بينها في (طه) بقوله: * (ولو أنآ أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع ءاياتك من قبل أن نذل ونخزى) *، وأشار لها في (القصص) بقوله: * (ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع ءاياتك ونكون من المؤمنين) *، ومن ذلك أنه تعالى صرح بأن جميع أهل النار قطع عذرهم في الدنيا بإنذار الرسل، ولم يكتف في ذلك
43

بنصب الأدلة كقوله تعالى: * (كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتهآ ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جآءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شىء إن أنتم إلا فى ضلال كبير) *، وقوله تعالى: * (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جآءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتهآ ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم ءايات ربكم وينذرونكم لقآء يومكم هاذا قالوا بلى ولاكن حقت كلمة العذاب على الكافرين) *، ومعلوم أن لفظة كلما في قوله: * (كلما ألقى فيها فوج) * صيغة عموم، وأن لفظة الذين في قوله: * (وسيق الذين كفروا) * صيغة عموم أيضا، لأن الموصول يعم كلما تشمله صلته.
وأما السنة: فإنه قد دلت أحاديث كثيرة على أن الله أخرج ذرية آدم في صورة الذر فأخذ عليهم الميثاق كما ذكر هنا، وبعضها صحيح قال القرطبي في تفسير هذه الآية: قال أبو عمر يعني ابن عبد البر لكن معنى هذا الحديث قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة كثيرة من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين وغيرهم اه. محل الحاجة منه بلفظه، وهذا الخلاف الذي ذكرنا هل يكتفي في الإلزام بالتوحيد بنصب الأدلة، أو لا بد من بعث الرسل لينذروا؟ هو مبنى الخلاف المشهور عند أهل الأصول في أهل الفترة. هل يدخلون النار بكفرهم؟ وحكى القرافي عليه الإجماع وجزم به النووي في (شرح مسلم)، أو يعذرون بالفترة وهو ظاهر الآيات التي ذكرناها، وإلى هذا الخلاف أشار في (مراقي السعود) بقوله: من وجوه ثابتة كثيرة من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين وغيرهم اه. محل الحاجة منه بلفظه، وهذا الخلاف الذي ذكرنا هل يكتفي في الإلزام بالتوحيد بنصب الأدلة، أو لا بد من بعث الرسل لينذروا؟ هو مبنى الخلاف المشهور عند أهل الأصول في أهل الفترة. هل يدخلون النار بكفرهم؟ وحكى القرافي عليه الإجماع وجزم به النووي في (شرح مسلم)، أو يعذرون بالفترة وهو ظاهر الآيات التي ذكرناها، وإلى هذا الخلاف أشار في (مراقي السعود) بقوله:
* ذو فترة بالفرع لا يراع
* وفي الأصول بينهم نزاع
*
وقد حققنا هذه المسألة مع مناقشة أدلة الفريقين في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في سورة (بني إسرائيل) في الكلام على قوله تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * (الإسراء: 51)، ولذلك اختصرناها هنا. * (ولو شئنا لرفعناه بها ولاكنه أخلد إلى الا رض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذالك مثل القوم الذين كذبوا بثاياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون * سآء مثلا القوم الذين كذبوا بأاياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون * من يهد الله فهو المهتدى ومن يضلل فأولائك هم الخاسرون * ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم ءاذان لا يسمعون بهآ أولائك كالأنعام بل هم أضل أولائك هم الغافلون * ولله الأسمآء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون فى أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون * وممن خلقنآ أمة يهدون بالحق وبه يعدلون * والذين كذبوا بأاياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملى لهم إن كيدى متين * أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين * أولم
ينظروا فى ملكوت السماوات والا رض وما خلق الله من شىء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون * من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم فى طغيانهم يعمهون * يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتهآ إلا هو ثقلت فى السماوات والا رض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفى عنها قل إنما علمها عند الله ولاكن أكثر الناس لا يعلمون) * قوله تعالى: * (فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث) *.
ضرب الله تعالى المثل لهذا الخسيس الذي آتاه آياته فانسلخ منها بالكلب، ولم تكن حقارة الكلب مانعة من ضربه تعالى المثل به، وكذلك ضرب المثل بالذباب في قوله: * (ياأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب) *، وكذلك ضرب المثل ببيت
44

العنكبوت في قوله: * (مثل الذين اتخذوا من دون الله أوليآء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون) *، وكذلك ضرب المثل بالحمار في قوله: * (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بأايات الله والله لا يهدى القوم الظالمين) *، وهذه الآيات تدل على أنه تعالى لا يستحي من بيان العلوم النفيسة عن طريق ضرب الأمثال بالأشياء الحقيرة، وقد صرح بهذا المدلول في قوله: * (إن الله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها) *.
قوله تعالى: * (وذروا الذين يلحدون فى أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون) *.
هدد تعالى في هذه الآية الذين يلحدون في أسمائه بتهديدين:
الأول: صيغة الأمر في قوله: * (وذروا) * فإنها للتهديد.
والثاني: في قوله: * (سيجزون ما كانوا يعملون) *، وهدد الذين يلحدون في آياته في سورة حم (السجدة) بأنهم لا يخفون عليه في قوله: * (إن الذين يلحدون فىءاياتنا لا يخفون علينآ) *، ثم اتبع ذلك بقوله: * (أفمن يلقى فى النار) *. وأصل الإلحاد في اللغة: الميل. ومنه اللحد في القبر، ومعنى إلحادهم في أسمائه هو ما كاشتقاقهم اسم اللات من اسم الله، واسم العزى من اسم العزيز. واسم مناة من المنان، ونحو ذلك والعرب تقول لحد وألحد بمعنى واحد، وعليهما القراءتان يلحدون بفتح الياء والحاء من الأول، وبضمها وكسر الحاء من الثاني.
قوله تعالى: * (قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتهآ إلا هو) *.
هذه الآية الكريمة تدل على أن وقت قيام الساعة لا يعلمه إلا الله جل وعلا، وقد جاءت آيات أخر تدل على ذلك أيضا كقوله تعالى: * (يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاهآ) *، وقوله: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمهآ إلا هو) *، وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنها الخمس المذكورة في قوله تعالى: * (إن الله عنده علم الساعة) *. * (قل لا أملك لنفسى نفعا ولا ضرا إلا ما شآء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسنى السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون * هو الذى خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلمآ أثقلت دعوا الله ربهما لئن ءاتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين * فلمآ ءاتاهما صالحا جعلا له شركآء فيمآ ءاتاهما فتعالى الله عما يشركون * أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون * ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون * وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سوآء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون * إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين * ألهم أرجل يمشون بهآ أم لهم أيد يبطشون بهآ أم لهم أعين يبصرون بهآ أم لهم ءاذان يسمعون بها قل ادعوا شركآءكم ثم كيدون فلا تنظرون * إن وليى الله الذى نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين * والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون * وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) * قوله تعالى: * (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير) *.
وهذه الآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم من الغيب إلا ما علمه الله، وقد أمره تعالى أن يقول إنه لا يعلم الغيب في قوله في (الأنعام): * (قل لا أقول لكم عندى خزآئن الله ولا أعلم الغيب) *
45

، وقال: * (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول) *، وقال: * (قل لا يعلم من فى السماوات والا رض الغيب إلا الله) *. إلى غير ذلك من الآيات.
والمراد بالخير في هذه الآية الكريمة قيل: المال، ويدل على ذلك كثرة ورود الخير بمعنى المال في القرآن كقوله تعالى: * (وإنه لحب الخير لشديد) *، وقوله: * (إن ترك خيرا) *، وقوله: * (قل مآ أنفقتم من خير) *. إلى غير ذلك من الآيات.
وقيل: المراد بالخير فيها العمل الصالح كما قاله مجاهد وغيره، والصحيح الأول لأنه صلى الله عليه وسلم مستكثر جدا من الخير الذي هو العمل الصالح، لأن عمله صلى الله عليه وسلم كان ديمة، وفي رواية كان إذا عمل عملا أثبته.
قوله تعالى: * (وجعل منها زوجها ليسكن إليها) *.
ذكر في هذه الآية الكريمة أنه خلق حواء من آدم ليسكن إليها، أي: ليألفها ويطمئن بها، وبين في موضع آخر أنه جعل أزواج ذريته كذلك، وهو قوله: * (ومن ءاياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) *.
قوله تعالى: * (فلمآ ءاتاهما صالحا جعلا له شركآء فيمآ ءاتاهما فتعالى الله عما يشركون) *.
في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند العلماء، والقرآن يشهد لأحدهما.
الأول: أن حواء كانت لا يعيش لها ولد، فحملت. فجاءها الشيطان، فقال لها سمي هذا الولد عبد الحارث فإنه يعيش، والحارث من أسماء الشيطان، فسمته عبد الحارث فقال تعالى: * (فلمآ ءاتاهما صالحا) * أي ولدا إنسانا ذكرا جعلا له شركاء بتسميته عبد الحارث، وقد جاء بنحو هذا حديث مرفوع وهو معلول كما أوضحه ابن كثير في تفسيره.
الوجه الثاني: أن معنى الآية أنه لما آتى آدم وحواء صالحا كفر به بعد ذلك كثير من ذريتهما، وأسند فعل الذرية إلى آدم وحواء، لأنهما أصل لذريتهما كما قال: * (ولقد خلقناكم ثم صورناكم) * أي بتصويرنا لأبيكم آدم لأنه أصلهم بدليل قوله بعده: * (ثم قلنا للملائكة اسجدوا لأدم) *، ويدل لهذا الوجه الأخير أنه تعالى قال بعده: * (فتعالى الله
46

عما يشركون أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون) *، وهذا نص قرآني صريح في أن المراد المشركون من بني آدم، لا آدم وحواء، واختار هذا الوجه غير واحد لدلالة القرآن عليه، وممن ذهب إليه الحسن البصري، واختاره ابن كثير والعلم عند الله تعالى. * (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين * وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم * إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون * وإخوانهم يمدونهم فى الغى ثم لا يقصرون * وإذا لم تأتهم بأاية قالوا لولا اجتبيتها قل إنمآ أتبع ما يوحى إلى من ربى هاذا بصآئر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون * وإذا قرىء القرءان فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون * واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والا صال ولا تكن من الغافلين * إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون) * قوله تعالى: * (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم) *.
بين في هذه الآية الكريمة ما بنبغى أن يعامل به الجهلة من شياطين الإنس والجن. فبين أن شيطان الإنس يعامل باللين، وأخذ العفو، والإعراض عن جهله وإساءته. وأن شيطان الجن لا منجى منه إلا بالاستعاذة بالله منه. قال في الأول: * (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) * وقال في الثاني: * (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم) *، وبين هذا الذي ذكرنا في موضعين آخرين.
أحدهما: في سورة * (قد أفلح المؤمنون) * قال فيه في شيطان الإنس: * (ادفع بالتى هى أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون) * وقال في الآخر: * (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون) *.
والثاني: في حم (السجدة) قال فيه في شيطان الإنس: * (ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم) * وزاد هنا أن ذلك لا يعطاه كل الناس، بل لا يعطيه الله إلا لذي الحظ الكبير والبخت العظيم عنده فقال: * (وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاهآ إلا ذو حظ عظيم) * ثم قال في شيطان الجن: * (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم) *.
قوله تعالى: * (وإخوانهم يمدونهم فى الغى ثم لا يقصرون) *.
ذكر في هذه الآية الكريمة أن إخوان الإنس من الشياطين يمدون الإنس في الغي، ثم لا يقصرون، وبين ذلك أيضا في مواضع أخر كقوله: * (ألم تر أنآ أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا) *، وقوله: * (يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس) *، وبين في موضع آخر أن بعض الإنس إخوان للشياطين وهو قوله: * (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) *.
47

((سورة الأنفال))
* (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين) * قوله تعالى: * (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول) *.
اختلف العلماء في المراد بالأنفال هنا على خمسة أقوال:
الأول: أن المراد بها خصوص ما شذ عن الكافرين إلى المؤمنين، وأخذ بغير حرب كالفرس والبعير يذهب من الكافرين إلى المسلمين، وعلى هذا التفسير فالمراد بالأنفال هو المسمى عند الفقهاء فيئا، وهو الآتي بيانه في قوله تعالى: * (ومآ أفآء الله على رسوله منهم فمآ أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) *) وممن قال بهذا القول عطاء بن أبي رباح.
الثاني: أن المراد بها الخمس وهو قول مالك.
الثالث: أن المراد بها خمس الخمس.
الرابع: أنها الغنيمة كلها وهو قول الجمهور وممن قال به ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء، والضحاك وقتادة وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحد قاله ابن كثير.
الخامس: أن المراد بها أنفال السرايا خاصة وممن قال به الشعبي، ونقله ابن جرير عن علي بن صالح بن حي، والمراد بهذا القول: ما ينفله الإمام لبعض السرايا زيادة على قسمهم مع بقية الجيش، واختار ابن جرير أن المراد بها الزيادة على القسم. قال ابن كثير: ويشهد لذلك ما ورد في سبب نزول الآية. وهو ما رواه أحمد حيث قال: حدثنا أبو معاوية حدثنا أبو إسحاق الشيباني عن محمد بن عبيد الله الثقفي عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم بدر، وقتل أخي عمير قتلت سعيد بن العاص.
وأخذت سيفه وكان يسمى ذا الكتيفة، فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اذهب فاطرحه في القبض) قال: فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي. قال: فما جاوزت إلا يسيرا حتى تزلت سورة الأنفال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اذهب فخذ سلبك)، وقال الإمام أحمد أيضا:
48

حدثنا أسود بن عامر أخبرنا أبو بكر عن عاصم بن أبي النجود عن مصعب بن سعد عن سعد بن مالك قال: قلت يا رسول الله قد شفاني الله اليوم من المشركين فهب لي هذا السيف. فقال: (إن هذا السيف لا لك ولا لي ضعه)، قال: فوضعته، ثم رجعت فقلت: عسى أن يعطى هذا السيف من لا يبلى بلائي، قال: فإذا رجل يدعوني من ورائي قال: قلت قد أنزل الله في شيئا، قال: كنت سألتني السيف، وليس هو لي وإنه قد وهب لي فهو لك. قال: وأنزل الله هذه الآية: * (يسئلونك عن الانفال قل الانفال لله والرسول) * ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن أبي بكر بن عياش، وقال الترمذي: حسن صيح، وهكذا رواه أبو داود الطيالسي: أخبرنا شعبة أخبرنا سماك بن حرب قال: سمعت مصعب بن سعد يحدث عن سعد قال: نزلت في أربع آيات من القرآن أصبت سيفا يوم بدر فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: نفلنيه فقال: (ضعه من حيث أخذته مرتين)، ثم عاودته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ضعه من حيث أخذته) فنزلت هذه الآية * (يسألونك عن الأنفال) * الآية، وتمام الحديث في نزول * (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا) *، وقوله تعالى: * (إنما الخمر والميسر) *. وآية الوصية وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة به. وقال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر عن بعض بني ساعدة قال: سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة يقول: أصبت سيف ابن عائذ يوم بدر، وكان السيف يدعى بالمرزبان، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يردوا ما في أيديهم من النفل أقبلت به فألقيته في النفل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئا يسأله، فرآه الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إياه، ورواه ابن جرير من وجه آخر اه. كلام ابن كثير.
قال مقيده: عفا الله عنه جمهور العلماء على أن الآية نزلت في غنائم بدر لما اختلف الصحابة فيها، فقال بعضهم: نحن هم الذين حزنا الغنائم، وحويناها فليس لغيرنا فيها نصيب: وقالت المشيخة: إنا كنا لكم ردءا، ولو هزمتم للجأتم إلينا فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة عن عبادة بن الصامت: أنها نزلت في ذلك. وقال الترمذي: هذا حديث صحيح، ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك وقال، صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه. وروي نحو ذلك أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم، وابن جرير، وابن مروديه من طرق عن داود بن أبي هند، عن عكرمة عن ابن عباس. وعلى هذا القول الذي هو قول الجمهور، فالآية
49

مشكلة مع قوله تعالى: * (واعلموا أنما غنمتم من شىء) *.
وأظهر الأقوال التي يزول بها الإشكال في الآية: هو ما ذكره أبو عبيد ونسبه القرطبي في تفسيره لجمهور العلماء أن قوله تعالى: * (واعلموا أنما غنمتم) *. ناسخ لقوله: * (يسألونك عن الأنفال) *. إلا أن قول أبي عبيد: إن غنائم بدر لم تخمس، لأن آية الخمس لم تنزل إلا بعد قسم غنائم بدر غير صحيح، ويدل على بطلانه ما ثبت في صحيح مسلم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه (كان لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني شارفا من الخمس يومئذ) الحديث. فهذا نص صحيح في تخميس غنائم بدر، لأن قول علي في هذا الحديث الصحيح يومئذ صريح في أنه يعني يوم بدر كما ترى.
فالحاصل أن آية * (واعلموا أنما غنمتم) *. بينت أنه ليس المراد قصر الغنائم على الرسول المذكور في أول السورة، وأنها تعطى أربعة أخماس منها للغانمين، وقد ذكرنا آنفا أن أبا عبيد قال: إنها ناسخة لها، ونسبه القرطبي للجمهور، وسيأتي لهذا المبحث زيادة إيضاح إن شاء الله تعالى في الكلام على قوله: * (واعلموا أنما غنمتم) *. * (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم ءاياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلواة ومما رزقناهم ينفقون * أولائك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم * كمآ أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكرهون * يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون * وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين * ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون * إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين * وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم) * قوله تعالى: * (وإذا تليت عليهم ءاياته زادتهم إيمانا) *. في هذه الآية الكريمة التصريح بزيادة الإيمان، وقد صرح تعالى بذلك في مواضع أخر كقوله: * (وإذا مآ أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هاذه إيمانا فأما الذين ءامنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون) *، وقوله: * (هو الذى أنزل السكينة فى قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم) *، وقوله: * (ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين ءامنوا إيمانا) * وقوله: * (والذين اهتدوا زادهم هدى) *.
وتدل هذه الآيات بدلالة الالتزام على أنه ينقص أيضا. لأن كل ما يزيد ينقص، وجاء مصرحا به في أحاديث الشفاعة الصحيحة كقوله: (يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال حبة من إيمان) ونحو ذلك. * (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السمآء مآء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الا قدام * إذ يوحى ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين ءامنوا سألقى في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان * ذالك بأنهم شآقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب * ذالكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار * ياأيها الذين ءامنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار * ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد بآء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير * فلم تقتلوهم ولاكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولاكن الله رمى وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم * ذالكم وأن الله موهن كيد الكافرين) * قوله تعالى: * (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه) *.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه ألقى النعاس على المؤمنين ليجعل قلوبهم آمنة غير خائفة من عدوها، لأن الخائف الفزع لا يغشاه النعاس، وظاهر سياق هذه الآية أن
هذا النعاس ألقي عليهم يوم بدر، لأن الكلام
50

هنا في وقعة بدر، كما لا يخفى.
وذكر في سورة آل عمران أن النعاس غشيهم أيضا يوم أحد، وذلك في قوله تعالى في وقعة أحد: * (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا) *. * (إن تستفتحوا فقد جآءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغنى عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين * ياأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون * ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون * إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون * ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون * يأيها الذين ءامنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون * واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خآصة واعلموا أن الله شديد العقاب * واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون فى الا رض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون * يأيها الذين ءامنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون * واعلموا أنمآ أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم * ياأيها الذين ءامنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم * وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) * قوله تعالى: * (إن تستفتحوا فقد جآءكم الفتح) *.
المراد بالفتح هنا في هذه الآية عند جمهور العلماء: الحكم وذلك أن قريشا لما أرادوا الخروج إلى غزوة بدر تعلقوا بأستار الكعبة، وزعموا أنهم قطان بيت الله الحرام، وأنهم يسقون الحجيج، ونحو ذلك، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم: فرق الجماعة، وقطع الرحم، وسفه الآباء، وعاب الدين، ثم سألوا الله أن يحكم بينهم، وبين النبي صلى الله عليه وسلم، بأن يهلك الظالم منهم، وينصر المحق. فحكم الله بذلك وأهلكهم، ونصره، وأنزل الآية، ويدل على أن المراد بالفتح هنا الحكم. أنه تعالى أتبعه بما يدل على أن الخطاب لكفار مكة، وهو قوله: * (وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد) *، وبين ذلك إطلاق الفتح بمعنى الحكم في القرآن في قوله عن شعيب وقومه: * (على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) * أي احكم بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الحاكمين، ويدل لذلك قوله تعالى: عن شعيب في نفس القصة * (وإن كان طآئفة منكم ءامنوا بالذى أرسلت به وطآئفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين) *، وهذه لغة حمير لأنهم يسمون القاضي فتاحا والحكومة فتاحة، ومنه قول الشاعر: ومنه قول الشاعر:
* ألا أبلغ بني عمرو رسولا
* بأني عن فتاحتكم غني
*
أي عن حكومتكم وقضائكم، أما ما ذكره بعض أهل العلم من أن الخطاب في قوله: * (إن تستفتحوا) * للمؤمنين. أي تطلبوا الفتح والنصر من الله، وأن الخطاب في قوله بعده: * (وإن تنتهوا فهو خير لكم) * للكافرين. فهو غير ظاهر، كما ترى.
قوله تعالى: * (واعلموا أنمآ أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم) *.
أمر تعالى الناس في هذه الآية الكريمة أن يعلموا: أن أموالهم وأولادهم فتنة يختبرون بها، هل يكون المال والولد سببا للوقوع فيما لا يرضى الله؟ وزاد في مواضع آخر أن الأزواج فتنة أيضا، كالمال والولد، فأمر الانسان بالحذر منهم أن يوقعوه فيما لا يرضى الله. ثم أمره إن اطلع على ما يكره من أولئك الأعداء الذين هم أقرب الناس له، وأخصهم به، وهم الأولاد، والأزواج أن يعفو عنهم. ويصفح ولا يؤاخذهم. فيحذر منهم أولا، ويصفح
51

عنهم إن وقع منهم بعض الشيء، وذلك في قوله في التغابن: * (ياأيها الذين ءامنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم إنمآ أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم) *.
وصرح في موضع آخر بنهي المؤمنين عن أن تلهيهم الأموال والأولاد عن ذكره جل وعلا، وأن من وقع في ذلك فهو الخاسر المغبون في حظوظه، وهو قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولائك هم الخاسرون) *، والمراد بالفتنة في الآيات: الاختبار والابتلاء، وهو أحد معاني الفتنة في القرآن.
قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم) *.
قال ابن عباس، والسدي، ومجاهد وعكرمة، والضحاك وقتادة، ومقاتل بن حيان، وغير واحد: فرقانا مخرجا، زاد مجاهد في الدنيا والآخرة، وفي رواية عن ابن عباس فرقانا: نجاة، وفي رواية عنه: نصرا. وقال محمد بن إسحاق: فرقانا. أي فصلا بين الحق والباطل، قاله ابن كثير.
قال مقيده: عفا الله عنه قول الجماعة المذكورة: إن المراد بالفرقان المخرج يشهد له قوله تعالى: * (ومن يتق الله يجعل له مخرجا) * والقول بأنه النجاة أو النصر، راجع في المعنى إلى هذا، لأن من جعل الله له مخرجا أنجاه ونصره، لكن الذي يدل القرآن واللغة على صحته في تفسير الآية المذكورة هي قول ابن إسحاق، لأن الفرقان مصدر زيدت فيه الألف والنون، وأريد به الوصف أي الفارق بين الحق والباطل، وذلك هو معناه في قوله: * (تبارك الذى نزل الفرقان) *، أي الكتاب الفارق بين الحق والباطل، وقوله: * (وأنزل الفرقان) *، وقوله: * (وإذ ءاتينا موسى الكتاب والفرقان) *، وقوله: * (ولقد ءاتينا موسى وهارون الفرقان) *، ويدل على أن المراد بالفرقان هنا: العلم الفارق بين الحق والباطل. قوله تعالى في الحديد: * (ياأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وءامنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته
ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم) *.
لأن قوله هنا: * (ويجعل لكم نورا تمشون به) * يعني: علما وهدى تفرقون به بين الحق والباطل، ويدل على أن المراد بالنور هنا الهدى، ومعرفة الحق قوله تعالى فيمن كان
52

كافرا فهداه الله: * (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به فى الناس كمن) *. فجعل النور المذكور في الحديد: هو معنى الفرقان المذكور في الأنفال كما ترى. وتكفير السيئات والغفران المرتب على تقوى الله في آية الأنفال، كذلك جاء مرتبا أيضا عليها في آية الحديد، وهو بيان واضح كما ترى. * (وإذا تتلى عليهم ءاياتنا قالوا قد سمعنا لو نشآء لقلنا مثل هاذآ إن هاذآ إلا أساطير الأولين * وإذ قالوا اللهم إن كان هاذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السمآء أو ائتنا بعذاب أليم * وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون * وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أوليآءه إن أوليآؤه إلا المتقون ولاكن أكثرهم لا يعلمون * وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكآء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون * إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون * ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله فى جهنم أولائك هم الخاسرون * قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الا ولين * وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير * وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير * واعلموا أنما غنمتم من شىء فأن لله خمسه وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم ءامنتم بالله ومآ أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شىء قدير * إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولاكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة وإن الله لسميع عليم * إذ يريكهم الله فى منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم فى الا مر ولاكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور * وإذ يريكموهم إذ التقيتم فى أعينكم قليلا ويقللكم فى أعينهم ليقضى الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور * ياأيها الذين ءامنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون * وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين * ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئآء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط) * قوله تعالى: * (قالوا قد سمعنا لو نشآء لقلنا مثل هاذآ) *.
قد بينا قبل هذا الآيات المصرحة بكذبهم، وتعجيز الله لهم عن الإتيان بمثله. فلا حاجة إلى إعادتها هنا، وقوله هنا في هذه الآية عنهم: * (إن هاذآ إلا أساطير الأولين) * رد الله عليهم كذبهم وافتراءهم هذا في آيات كثيرة كقوله تعالى: * (وقالوا أساطير الا ولين اكتتبها فهى تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذى يعلم السر فى السماوات والا رض إنه كان غفورا رحيما) * وما أنزله عالم السر في السماوات والأرض فهو بعيد جدا من أن يكون أساطير الأولين، وكقوله: * (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذى يلحدون إليه أعجمى وهاذا لسان عربى مبين) * إلى غير ذلك من الآيات:
قوله تعالى: * (وإذ قالوا اللهم إن كان هاذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السمآء أو ائتنا بعذاب أليم) *.
ذكر هنا في هذه الآية الكريمة ما يدل على أن كفار مكة في غاية الجهل حيث قالوا: * (فأمطر علينا) *، ولم يقولوا فاهدنا إليه، وجاء في آيات أخر ما يدل على ذلك أيضا كقوله عنهم: * (وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب) *، وقوله: * (ويستعجلونك بالعذاب) *، وقوله: * (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه) * وذكر عن بعض الأمم السالفة شبه ذلك كقوله في قوم شعيب: * (فأسقط علينا كسفا من السمآء إن كنت من الصادقين) *، وقوله عن قوم صالح: * (ياصاح ائتنا بما تعدنآ إن كنت من المرسلين) *، وسيأتي لهذا إن شاء الله زيادة إيضاح في سورة (سأل سائل).
قوله تعالى: * (وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أوليآءه إن أوليآؤه إلا المتقون) *.
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بنفي ولاية الكفار على المسجد الحرام، وأثبتها لخصوص المتقين، وأوضح هذا المعنى في قوله: * (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شهدين على أنفسهم بالكفر
53

أولائك حبطت أعمالهم وفى النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من ءامن بالله واليوم الا خر وأقام الصلواة وءاتى الزكواة ولم يخش إلا الله فعسى أولائك أن يكونوا من المهتدين) *.
قوله تعالى: * (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكآء وتصدية) *.
المكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق، قال بعض العلماء: والمقصود عندهم بالصفير والتصفيق التخليط حتى لا يسمع الناس القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل لهذا قوله تعالى: * (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهاذا القرءان والغوا فيه لعلكم تغلبون) *.
قوله تعالى: * (واعلموا أنما غنمتم من شىء فأن لله خمسه وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) *.
ظاهر هذه الآية الكريمة أن كل شيء حواه المسلمون من أموال الكفار فإنه يخمس حسبما نص عليه في الآية، سواء أوجفوا عليه الخيل والركاب أولا، ولكنه تعالى في سورة (الحشر) أن ما أفاء الله على رسوله من غير إيجاف المسلمين عليه الخيل والركاب، أنه لا يخمس ومصارفه التي بين أنه يصرف فيها كمصارف خمس الغنيمة المذكورة هنا، وذلك في قوله تعالى: في فيء بني النضير * (ومآ أفآء الله على رسوله منهم فمآ أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) *، ثم بين شمول الحكم لكل ما أفاء الله على رسوله من جميع القرى بقوله: * (مآ أفآء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول) *.
اعلم أولا أن أكثر العلماء: فرقوا بين الفيء والغنيمة فقالوا: الفيء: هو ما يسره الله للمسلمين من أموال الكفار من غير انزاعه منهم بالقهر، كفيء بني النضير الذين نزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم ومكنوه من أنفسهم وأموالهم يفعل فيها ما يشاء لشدة الرعب الذي ألقاه الله في قلوبهم، ورضي لهم صلى الله عليه وسلم أن يرتحلوا بما يحملون على الإبل غير السلاح، وأما الغنيمة: فهي ما انتزعه المسلمون من الكفار بالغلبة والقهر، وهذا التفريق يفهم من قوله: * (واعلموا أنما غنمتم) * مع قوله: * (فمآ أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) * فإن قوله تعالى: * (فمآ أوجفتم عليه) *: ظاهر في أنه يراد به بيان الفرق بين ما أوجفوا عليه وما لم يوجفوا عليه كما ترى، والفرق المذكور بين الغنيمة والفيء عقده الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي بقوله:
في غزوة بني النضير في غزوة بني النضير
* وفيئهم والفيء في الأنفال
* ما لم يكن أخذ عن قتال
*
54

* أما الغنيمة فعن زحاف
* والأخذ عنوة لدى الزحاف
*
لخير مرسل الخ.
وقوله: وفيئهم مبتدأ خبره لخير مرسل، وقوله: والفيء في الأنفال إلخ كلام اعتراضي بين المبتدأ والخبر بين به الفرق بين الغنيمة والفيء، وعلى هذا القول فلا إشكال في الآيات، لأن آية * (واعلموا أنما غنمتم) * ذكر فيها حكم الغنيمة، وآية * (مآ أفآء الله على رسوله) * ذكر فيها حكم الفيء وأشير لوجه الفرق بين المسألتين بقوله: * (فمآ أوجفتم عليه من خيل ولا) * أي فكيف يكون غنيمة لكم، وأنتم لم تتعبوا فيه ولم تنتزعوه بالقوة من مالكيه.
وقال بعض العلماء: إن الغنيمة والفيء واحد، فجميع ما أخذ من الكفار على أي وجه كان غنيمة وفيء، وهذا قول قتادة رحمه الله وهو المعروف في اللغة، فالعرب تطلق اسم الفيء على الغنيمة، ومنه قول مهلهل بن ربيعة التغلبي: وقال بعض العلماء: إن الغنيمة والفيء واحد، فجميع ما أخذ من الكفار على أي وجه كان غنيمة وفيء، وهذا قول قتادة رحمه الله وهو المعروف في اللغة، فالعرب تطلق اسم الفيء على الغنيمة، ومنه قول مهلهل بن ربيعة التغلبي:
* فلا وأبي جليلة ما أفأنا
* من النعم المؤبل من بعير
*
* ولكنا نهكنا القوم ضربا
* على الأثباج منهم والنحور
*
يعني أنهم لم يشتغلوا بسوق الغنائم ولكن بقتل الرجال فقوله: أفأنا: يعني غنما، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: * (وما ملكت يمينك ممآ أفآء الله عليك) *، لأن ظاهر هذه الآية الكريمة شمول ذلك لجميع المسبيات ولو كن منتزعات قهرا، ولكن الاصطلاح المشهور عند العلماء هو ما قدمنا من الفرق بينهما، وتدل له آية الحشر المتقدمة. وعلى قول قتادة فآية الحشر مشكلة مع آية الأنفال هذه، ولأجل ذلك الإشكال قال قتادة، رحمه الله تعالى: إن آية * (واعلموا أنما غنمتم) *، ناسخة لآية * (ومآ أفآء الله على رسوله) *، وهذا القول الذي ذهب إليه رحمه الله باطل بلا شك، ولم يلجىء قتادة رحمه الله إلى هذا القول إلا دعواه اتحاد الفيء والغنيمة، فلو فرق بينهما كما فعل غيره لعلم أن آية الأنفال في الغنيمة، وآية الحشر في الفيء، ولا إشكال. ووجه بطلان القول المذكور: أن آية * (واعلموا أنما غنمتم من شىء) * نزلت بعد وقعة بدر، قيل قسم غنيمة بدر بدليل حديث على الثابت في صحيح مسلم، الدال على أن غنائم بدر خمست، وآية التخميس التي شرعه الله بها هي هذه، وأما آية الحشر فهي نازلة في غزوة بني النضير بإطباق العلماء، وغزوة بني النضير بعد غزوة بدر بإجماع
55

المسلمين، ولا منازعة فيه البتة، فظهر من هذا عدم صحة قتادة رحمه الله تعالى، وقد ظهر لك أنه على القول بالفرق بين الغنيمة والفيء لا إشكال في الآيات، وكذلك على قول من يرى أمر الغنائم والفيء راجعا إلى نظر الإمام، فلا منافاة على قوله بين آية الحشر، وآية التخميس إذا رآه الإمام، والله أعلم. * *
مسائل من أحكام هذه الآية الكريمة
المسألة الأولى: اعلم أن جماهير علماء المسلمين على أن أربعة أخماس الغنيمة للغزاة الذين غنموها، وليس للإمام أن يجعل تلك الغنيمة لغيرهم، ويدل لهذا قوله تعالى: * (غنمتم) *، فهو يدل على أنها غنيمة لهم فلما قال: * (فأن لله خمسه) * علمنا أن الأخماس الأربعة الباقية لهم لا لغيرهم، ونظير ذلك قوله تعالى: * (فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلا مه الثلث) * أي ولأبيه الثلثان الباقيان إجماعا، فكذلك قوله: * (فأن لله خمسه) * أي وللغانمين ما بقي، وهذا القول هو الحق الذي لا شك فيه، وحكى الإجماع عليه غير واحد من العلماء وممن حكى إجماع المسلمين عليه ابن المنذر وابن عبد البر، والداودي والمازري، والقاضي عياض وابن العربي،
والأخبار بهذا المعنى متظاهرة، وخالف في ذلك بعض أهل العلم، وهو قول كثير من المالكية، ونقله عنهم المازري رحمه الله أيضا قالوا: للإمام أن يصرف الغنيمة فيما يشاء من مصالح المسلمين، ويمنع منها الغزاة الغانمين.
واحتجوا لذلك بأدلة منها قوله تعالى: * (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول) *. قالوا: الأنفال: الغنائم كلها، والآية محكمة لا منسوخة، واحتجوا لذلك أيضا بما وقع في فتح مكة. وقصة حنين قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم فتح مكة عنوة بعشرة آلاف مقاتل، ومن على أهلها فردها عليهم، ولم يجعلها غنيمة ولم يقسمها على الجيش، فلو كان قسم الأخماس الأربعة على الجيش واجبا: لفعله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة. قالوا: وكذلك غنائم هوازن في غزوة حنين، أعطى منها عطايا عظيمة جدا، ولم يعط الأنصار منها مع أنهم من خيار المجاهدين الغازين معه صلى الله عليه وسلم، وقد أشار لعطاياه من غنائم هوازن في وقعة حنين الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي في غزوة حنين بقوله:
56

* أعطى عطايا شهدت بالكرم
* يومئذ له ولم تجمجم
*
* أعطى عطايا أخجلت دلح الديم
* إذا ملأت رحب الغضا من النعم
*
* زهاء ألفي ناقة منها وما
* ملأ بين جبلين غنما
*
* لرجل وبله ما لحلقه
* منها ومن رقيقه وورقه
*
الخ قالوا: لو كان يجب قسم الأخماس الأربعة على الجيش الذي غنمها، لما أعطى صلى الله عليه وسلم ألفي ناقة من غنائم هوزان لغير الغزاة، ولما أعطى ما ملأ بين جبلين من الغنم لصفوان بن أمية، وفي ذلك اليوم أعطى الأقرع بن حابس التميمي مائة من الإبل، وكذلك عيينة بن حصن الفزاري حتى غار من ذلك العباس بن مرداس السلمي وقال في ذلك شعره المشهور: ألفي ناقة من غنائم هوزان لغير الغزاة، ولما أعطى ما ملأ بين جبلين من الغنم لصفوان بن أمية، وفي ذلك اليوم أعطى الأقرع بن حابس التميمي مائة من الإبل، وكذلك عيينة بن حصن الفزاري حتى غار من ذلك العباس بن مرداس السلمي وقال في ذلك شعره المشهور:
* أتجعل نهبي ونهب العبيد
* بن عيينة والأقرع
*
* فما كان حصن ولا حابس
* يفوقان مرداس في مجمع
*
* وما كنت دون امرئ منهما
* ومن تضع اليوم لا يرفع
*
* وقد كنت في الحرب ذا تدرإ
* فلم أعط شيئا ولم أمنع
*
* إلا أباعير أعطيتها
* عديد قوائمه الأربع
*
* وكانت نهابا تلافيتها
* بكرى على المهر في الأجرع
*
* وإيقاظي القوم إن يرقدوا
* إذا هجع الناس لم أهجع
*
قالوا: فلو كان قسم الأخماس الأربعة على الجيش الغانمين واجبا، لما فضل الأقرع وعيينة في العطاء من الغنيمة على العباس بن مرداس في أول الأمر قبل أن يقول شعره المذكور. وأجيب من جهة الجمهور عن هذه الاحتجاجات: فالجواب عن آية * (يسألونك عن الأنفال) * هو ما قدمنا من أنها منسوخة بقوله تعالى: * (واعلموا أنما غنمتم من شىء) *، ونسبه القرطبي لجمهور العلماء، والجواب عما وقع في فتح مكة من أوجه:.
الأول: أن بعض العلماء زعموا أن مكة لم تفتح عنوة، ولكن أهلها أخذوا الأمان منه صلى الله عليه وسلم. وممن قال بهذا الشافعي رحمه الله.
واستدل قائلوا هذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن) وهو
57

ثابت في الصحيح، وهذا الخلاف في مكة هل أخذها النبي صلى الله عليه وسلم عنوة؟ وهو قول الجمهور، أو أخذ لها الأمان. والأمان شبه الصلح، عقده الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في مغازيه بقوله: في غزوة الفتح يعني مكة. عنوة؟ وهو قول الجمهور، أو أخذ لها الأمان. والأمان شبه الصلح، عقده الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في مغازيه بقوله: في غزوة الفتح يعني مكة.
* واختلفوا فيها فقيل أمنت
* وقيل عنوة وكرها أخذت
*
والحق أنها فتحت عنوة كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله. ومن أظهر الأجوبة عما وقع في فتح مكة، أن مكة ليست كغيرها من البلاد، لأنها حرام بحرمة الله من يوم خلق السماوات والأرض إلى يوم القيامة، وإنما أحلت له صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار، ولم تحل لأحد قبله ولا بعده، وما كان بهذه المثابة، فليس كغيره من البلاد التي ليست لها هذه الحرمة العظيمة.
وأما ما وقع في قصة حنين فالجواب عنه ظاهر، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم استطاب نفوس الغزاة عن الغنيمة ليؤلف بها قلوب المؤلفة قلوبهم لأجل المصلحة العامة للإسلام والمسلمين، ويدل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما سمع أن بعض الأنصال قال: يمنعنا ويعطي قريشا، وسيوفنا تقطر من دمائهم، جمعهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكلمهم كلامه المشهور البالغ في الحسن، ومن جملته أنه قال لهم: (ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم) إلى آخر كلامه، فرضي القوم، وطابت نفوسهم، وقالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسما وحظا، وهذا ثابت في الصحيح، ونوه الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في مغازيه بحسن هذا الكلام الذي خاطبهم به صلى الله عليه وسلم بقوله: في غزوة حنين. بقوله: في غزوة حنين.
* ووكل الأنصار خير العالمين
* لدينهم إذا ألف المؤلفين
*
* فوجدوا عليه أن منعهم
* فأرسل النبي من جمعهم
*
* وقال قولا كالفريد المؤنق
* عن نظمه ضعف سلك منطقي
*
فالحاصل أن أربعة أخماس الغنيمة التي أوجف الجيش عليها الخيل، والركاب للغزاة الغانمين على التحقيق، الذي لا شك فيه، وهو قول الجمهور.
وقد علمت الجواب عن حجج المخالفين في ذلك. ومن العلماء من يقول: لا يجوز للإمام أن ينفل أحدا شيئا من هذه الأخماس الأربعة، لأنها ملك للغانمين، وهو قول مالك.
58

وذهب بعض العلماء إلى أن للإمام أن ينفل منها بعض الشيء باجتهاده، وهو أظهر دليلا، وسيأتي له زيادة إيضاح إن شاء الله تعالى. * *
المسألة الثانية: هي تحقيق المقام في مصارف الخمس الذي يؤخذ من الغنيمة قبل القسمة. فظاهر الآية الكريمة أنه يجعل ستة أنصباء: نصيب لله جل وعلا، ونصيب
للرسول صلى الله عليه وسلم، ونصيب لذي القربى، ونصيب لليتامى، ونصيب للمساكين، ونصيب لابن السبيل.
وبهذا قال بعض أهل العلم: قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية الرياحي، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالغنيمة فيخمسها على خمسة تكون أربعة أخماس منها لمن شهدها، ثم يؤخذ الخمس فيضرب بيده فيه، فيأخذ الذي قبض كفه، فيجعله للكعبة وهو سهم الله، ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم، فيكون سهم للرسول صلى الله عليه وسلم وسهم لذي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل.
وعلى هذا القول فنصيب الله جل وعلا يجعل للكعبة، ولا يخفى ضعف هذا القول لعدم الدليل عليه.
وقال بعض من قال بهذا القول: إن نصيب الله جل وعلا يرد على ذوي الحاجة.
والتحقيق أن نصيب الله جل وعلا، ونصيب الرسول صلى الله عليه وسلم واحد، وذكر اسمه جل وعلا استفتاح كلام للتعظيم، وممن قال بهذا القول ابن عباس، كما نقله عنه الضحاك. وهو قول إبراهيم النخعي، والحسن بن محمد بن الحنفية، والحسن البصري، والشعبي، وعطاء بن أبي رباح، وعبد الله بن بريدة، وقتادة، ومغيرة وغير واحد كما نقله عنهم ابن كثير.
والدليل على صحة هذا القول ما رواه البيهقي بإسناد صحيح، عن عبد الله بن شقيق، عن رجل، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى، وهو يعرض فرسا، فقلت: يا رسول الله ما تقول في الغنيمة؟ فقال: (لله خمسها، وأربعة أخماسها للجيش) قلت: فما أحد أولى به من أحد، قال: (لا ولا السهم تستخرجه من جيبك لست أحق به من أخيك المسلم) وهذا دليل واضح على ما ذكرنا. ويؤيده أيضا ما رواه الإمام أحمد عن المقدام بن معد يكرب الكندي، أنه جلس مع عبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، والحارث بن معاوية الكندي رضي الله عنهم، فتذاكروا
59

حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو الدرداء لعبادة: يا عبادة كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو الدرداء لعبادة: يا عبادة كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس، فقال عبادة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم في غزوة إلى بعير من المغنم. فلما سلم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتناول وبرة بين أنملتيه، فقال: (إن هدى من غنائمكم، وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخيط والمخيط وأكبر من ذلك وأصغر، ولا تغلوا فإن الغلول عار ونار على أصحابه في الدنيا والآخرة، وجاهدوا الناس في الله القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم، وأقيموا حدود الله في السفر والحضر، وجاهدوا في الله، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة عظيم ينجي الله به من الهم والغم).
قال ابن كثير بعد أن ساق حديث أحمد. هذا عن عبادة بن الصامت، هذا حديث حسن عظيم، ولم أره في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه: ولكن روى الإمام أحمد أيضا، وأبو داود، والنسائي من حديث عمرو بن شعيب. عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحوه في قصة الخمس، والنهي عن الغلول.
وعن عمرو بن عبسة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم إلى بعير من المغنم، فلما سلم أخذ وبرة من هذا البعير. ثم قال: (ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذه إلا الخمس، والخمس مردود عليكم) رواه أبو داود، والنسائي.
فإذا عرفت أن التحقيق أن الخمس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. يقسم خمسة أسهم، لأن اسم الله ذكر للتعظيم، وافتتاح الكلام به، مع أن كل شيء مملوك له جل وعلا، فاعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصرف نصيبه، الذي هو خمس الخمس، في مصالح المسلمين. بدليل قوله في الأحاديث التي ذكرناها آنفا. (والخمس مردود عليكم)، وهو الحق.
ويدل له ما ثبت في الصحيح: من أنه كان يأخذ قوت سنته من فيء بني النضير، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وأما بعد وفاته، وانتقاله إلى الرفيق الأعلى صلوات الله وسلامه عليه. فإن بعض العلماء يقول بسقوط نصيبه بوفاته.
وممن قال بذلك: أبو حنيفة رحمه الله، واختاره بن جرير.
وزاد أبو حنيفة سقوط سهم ذوي القربى أيضا: بوفاته صلى الله عليه وسلم.
والصحيح أن نصيبه صلى الله عليه وسلم باق، وأن إمام المسلمين يصرفه فيما كان يصرفه فيه
60

رسول الله صلى الله عليه وسلم من مصالح المسلمين.
وقال بعض العلماء يكون نصيبه صلى الله عليه وسلم لمن يلي الأمر بعده، وروي عن أبي بكر، وعلي وقتادة، وجماعة، قال ابن كثير: وجاء فيه حديث مرفوع.
قالم مقيده: عفا الله عنه والظاهر أن هذا القول راجع في المعنى إلى ما ذكرنا أنه الصحيح، وأن معنى كونه لمن يلي الأمر بعده، أنه يصرفه فيما كان يصرفه فيه صلى الله عليه وسلم، والنبي قال: (الخمس مردود عليكم) وهو واضح كما ترى.
ولا يخفى أن كل الأقوال في نصيب النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته. راجعة إلى شيء واحد. وهو صرفه في مصالح المسلمين.
وقد كان الخلفاء الراشدون المهديون رضي الله عنهم يصرفونه فيما كان يصرفه فيه صلى الله عليه وسلم.
وكان أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما يصرفانه في الكراع والسلاح.
وجمهور العلماء على أن نصيب ذوي القربى باق، ولم يسقط بموته صلى الله عليه وسلم.
واختلف العلماء فيه من ثلاث جهات:
الأولى: هل يسقط بوفاته أو لا؟
وقد ذكرنا أن الصحيح عدم السقوط. خلافا لأبي حنيفة.
الثانية: في المراد بذي القربى.
الثالثة: هل يفضل ذكرهم على أنثاهم أو لا؟
أما ذوا القربى: فهم بنو هاشم، وبنو المطلب. على أظهر الأقوال دليلا، وإليه ذهب الشافعي، وأحمد بن حنبل، وأبو ثور، ومجاهد، وقتادة، وابن جريج، ومسلم بن خالد.
قال البخاري في صحيحه، في كتاب (فرض الخمس).
حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب. عن جبير بن مطعم. قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلنا: يا رسول الله أعطيت بني المطلب وتركتنا، ونحن وهم منك بمنزلة واحدة، فقال
61

رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما بنو المطلب، وبنو هاشم شيء واحد).
قال الليث: حدثني يونس وزاد قال جبير: ولم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم لبني عبد شمس، ولا لبني نوفل، اه.
وقال البخاري أيضا في المغازي: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، أن جبير بن مطعم أخبره. قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقلنا: أعطيت بني المطلب من خمس خيبر، وتركتنا، ونحن بمنزلة واحدة منك، فقال: (إنما بنو هاشم، وبنو المطلب شيء واحد)، قال جبير: لم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم لبني عبد شمس، وبني نوفل شيئا اه.
وإيضاح كونهم من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة واحدة: أن جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، وعثمان بن عفان بن أبي العاص بن عبد شمس بن عبد مناف.
فأولاد عبد مناف بن قصي أربعة:
هاشم، والمطلب، وعبد شمس.
وهم: أشقاء. أمهم: عاتكة، بنت مرة، بن هلال السلمية، إحدى عواتك سليم. اللاتي هن جدات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهن ثلاث:
هذه: التي ذكرنا.
والثانية: عمتها. وهي: عاتكة، بنت هلال التي هي أم عبد مناف.
والثالثة: بنت أخي الأولى. وهي عاتكة، بنت الأوقص، بن مرة، بن هلال، وهي أم وهب، والد آمنة، أم النبي صلى الله عليه وسلم.
ورابع أولاد عبد مناف: نوفل. بن عبد مناف، وأمه: واقدة، بنت أبي عدي، واسمه نوفل، بن عبادة بن مازن، بن صعصعة.
قال الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه عمود النسب: قال الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه عمود النسب:
* عبد مناف قمر البطحاء
* أربعة بنوه هؤلاء
*
* مطلب، وهاشم، ونوفل،
* وعبد شمس، هاشم لا يجهل
*
وقال في بيان عواتك سليم اللآتي هن جدات له صلى الله عليه وسلم::
* عواتك النبي: أم وهب،
* وأم هاشم، وأم الندب
*
* عبد مناف، وذه الأخيره
* عمة عمة الأولى الصغيرة
*
62

* وهن بالترتيب ذا لذي لرجال
* الأوقص بن مرة بن هلال
*
فبهذا الذي بينا يتضح أن الصحيح أن المراد بذي القربى في الآية: بنو هاشم، وبنو المطلب دون بني عبد شمس، وبني نوفل.
ووجهه أن بني عبد شمس، وبني نوفل عادوا الهاشميين، وظاهروا عليهم قريشا، فصاروا كالأباعد منهم. للعداوة، وعدم النصرة.
ولذا قال فيهم أبو طالب. في لاميته المشهورة: ولذا قال فيهم أبو طالب. في لاميته المشهورة:
* جزى الله عنا عبد شمس، ونوفلا
* عقوبة شر، عاجل، غير آجل
*
* بميزان قسط لا يخيس شعيرة
* له شاهد من نفسه، غير عائل
*
* لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا
* بني خلف قيضا بنا، والغياطل
*
* ونحن الصميم من ذؤابة هاشم
* وآل قصبي في الخطوب الأوائل
*
بهذا الحديث الصحيح الذي ذكرنا: يتضح عدم صحة قول من قال: بأنهم بنو هاشم فقط. وقول من قال: إنهم قريش كلهم.
وممن قال بأنهم بنو هاشم فقط: عمر بن عبد العزيز، وزيد بن أرقم، ومالك، والثوري، ومجاهد وعلي بن الحسين، والأوزاعي، وغيرهم.
وقد أخرج الشافعي، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، ومسلم، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في سننه: عن ابن عباس: أن نجدة الحروري كتب إليه: يسأله عن ذوي القربى الذين ذكر الله، فكتب إليه: إنا كنا نرى أناهم، فأبى ذلك علينا قومنا، وقالوا: قريش كلها ذوو قربى.
وزيادة قوله: وقالوا: (قريش كلها) تفرد بها أبو معشر، وفيه ضعف.
وما قدمنا من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وفعله الثابت في الصحيح: يعين أنهم بنو هاشم، والمطلب، وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل، وكثير من أهل العلم.
فإذا عرفت أنه صلى الله عليه وسلم قضى بخمس الخمس من غنائم خيبر لبني هاشم والمطلب، وأنهم هم ذوو القربى المذكورون في الآية.
فاعلم أن العلماء اختلفوا: هل يفضل ذكرهم على أنثاهم، أو يقسم عليهم بالسوية؟
فذهب بعض العلماء إلى أنه كالميراث، للذكر مثل حظ الأنثيين. وهذا هو مذهب
63

أحمد بن حنبل في أصح الروايتين.
قال صاحب الإنصاف: هذا المذهب جزم به الخرقي، وصاحب الهداية، والمذهب، ومسبوك الذهب، والعمدة، والوجيز، وغيرهم. وقدمه في الرعايتين، والحاويين، وغيرهم، وصححه في البلغة، والنظم، وغيرهما.
وعنه: الذكر والأنثى. سواء. قدمه ابن رزين في شرحه. وأطلقهما في المغني، والشرح، والمحرر، والفروع، اه من الإنصاف.
وتفضيل ذكرهم على أنثاهم الذي هو مذهب الإمام أحمد: هو مذهب الشافعي أيضا.
وحجة من قال بهذا القول: أنه سهم استحق بقرابة الأب شرعا. بدليل أن أولاد عماته صلى الله عليه وسلم، كالزبير بن العوام، وعبد الله بن أبي أمية. لم يقسم لهم في خمس الخمس، وكونه مستحقا بقرابة الأب خاصة يجعله كالميراث. فيفضل فيه الذكر على الأنثى.
وقال بعض العلماء: ذكرهم وأنثاهم سواء.
وممن قال به المزني: وأبو ثور، وابن المنذر.
قال مقيده: عفا الله عنه وهذا القول أظهر عندي، لأن تفضيل الذكر على الأنثى يحتاج إلى دليل، ولم يقم عليه في هذه المسألة دليل، ولم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه فضل ذكرهم على أنثاهم في خمس الخمس.
والدليل على أنه ليس كالميراث: أن الابن منهم يأخذ نصيبه مع وجود أبيه، وجده اه.
وصغيرهم، وكبيرهم سواء. وجمهور العلماء القائلين بنصب القرابة على أنه يقسم على جميعهم. ولم يترك منهم أحد خلافا لقوم.
والظاهر شمول غنيهم. خلافا لمن خصص به فقراءهم، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يخصص به فقراءهم، بخلاف نصيب اليتامى، والمساكين، وابن السبيل.
فالظاهر أنه يخصص به فقراؤهم، ولا شيء لأغنيائهم، فقد بان لك مما تقدم أن مذهب الشافعي، وأحمد رحمهما الله في هذه المسألة: أن سهم الله، وسهم رسوله صلى الله عليه وسلم واحد. وأنه بعد وفاته يصرف في مصالح المسلمين. وأن سهم القرابة لبني
64

هاشم، وبني المطلب. للذكر مثل حظ الأنثيين، وأنه لجميعهم. غنيهم وفقيرهم، قاتلوا أم لم يقاتلوا، وأن للذكر منهم مثل حظ الأنثيين، وأن الأنصباء الثلاثة الباقية لخصوص الفقراء من اليتامى، والمساكين، وابن السبيل.
ومذهب أبي حنيفة: سقوط سهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وسهم قرابته بموته، وأن الخمس يقسم على الثلاثة الباقية: التي هي اليتامى، والمساكين وابن السبيل.
قال: ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر، وبناء المساجد، وأرزاق القضاة، والجند، وروي نحو هذا عن الشافعي أيضا.
ومذهب الإمام مالك رحمه الله أن أمر خمس الغنيمة موكول إلى نظر الإمام واجتهاده. فيما يراه مصلحة، فيأخذ منه من غير تقدير، ويعطي القرابة باجتهاده، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين.
قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها: وبقول مالك هذا: قال الخلفاء الأربعة، وبه عملوا، وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم: (مالي مما أفاء الله عليكم إلا لخمس، والخمس مردود عليكم)، فإنه لم يقسمه أخماسا، ولا أثلاثا، وإنما ذكر في الآية من ذكر على وجه التنبيه عليهم. لأنهم من أهم من يدفع إليه.
قال الزجاج: محتجا لمالك، قال الله عز وجل: * (يسألونك ماذا ينفقون قل مآ أنفقتم من خير فللوالدين والا قربين واليتامى والمساكين وابن السبيل) *.
وللرجل جائز بإجماع العلماء أن ينفق في غير هذه الأصناف، إذا رأى ذلك، وذكر النسائي عن عطاء، قال: (خمس الله، وخمس رسوله واحد، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل منه، ويعطى منه، ويضعه حيث شاء) اه من القرطبي.
وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه: (وقال آخرون: إن الخمس يتصرف فيه الإمام بالمصلحة للمسلمين، كما يتصرف في مال الفيء.
وقال شيخنا العلامة ابن تيمية: رحمه الله وهذا قول مالك، وأكثر السلف، وهو أصح الأقوال اه من ابن كثير.
وهذا القول هو رأي البخاري بدليل قوله: باب قول الله تعالى: * (فأن لله خمسة وللرسول) * يعني للرسول قسم ذلك.
65

وقال رسول الله: (إنما أنا قاسم، وخازن، والله يعطي) ثم ساق البخاري أحاديث الباب، في كونه صلى الله عليه وسلم قاسما بأمر الله تعالى.
قال مقيده عفا الله عنه: وهذا القول قوي، وستأتي له أدلة إن شاء الله في المسألة التي بعد هذا، ولكن أقرب الأقوال للسلامة هو العمل بظاهر الآية، كما قال الشافعي، وأحمد رحمهما الله لأن الله أمرنا أن نعلم أن خمس ما غنمنا. لهذه المصارف المذكورة، ثم أتبع ذلك بقوله: * (فأن لله خمسه وللرسول) *، وهو واضح جدا، كما ترى.
وأما قول بعض أهل البيت. كعبد الله بن محمد بن علي، وعلي بن الحسين رضي الله عنهم: بأن الخمس كله لهم دون غيرهم، وأن المراد باليتامى، والمساكين: يتاماهم، ومساكينهم، وقول من زعم أنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، يكون لقرابة الخليفة الذي يوليه المسلمون، فلا يخفي ضعفهما، والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: أجمع العلماء على أن الذهب، والفضة، وسائر الأمتعة. كل ذلك داخل في حكم الآية: يخمس، ويقسم الباقي على الغانمين، كما ذكرنا.
المسألة الرابعة: أما أرضهم المأخوذة عنوة. فقد اختلف العلماء فيها، فقال بعض العلماء: يخير الإمام بين قسمتها، كما يفعل بالذهب، والفضة. ولا خراج عليها. بل هي أرض عشر مملوكة، للغانمين، وبين وقفها للمسلمين بصيغة.
وقيل بغير صيغة، ويدخل في ذلك تركها للمسلمين بخراج مستمر يؤخذ ممن تقر بيده، وهذا التخيير: هو مذهب الإمام أحمد.
وعلى هذا القول: إذا قسمها الإمام، فقيل: تخمس، وهو أظهر، وقيل: لا، واختاره بعض أجلاء العلماء قائلا: إن أرض خيبر لم يخمس ما قسم منها.
والظاهر أن أرض خيبر خمست، كما جزم به غير واحد، ورواه أبو داود بإسناد صحيح عن الزهري.
وهذا التخيير بين القسم، وإبقائها للمسلمين، الذي ذكرنا أنه مذهب الإمام أحمد: هو أيضا مذهب الإمام أبي حنيفة، والثوري.
وأما مالك رحمه الله فذهب إلى أنها تصير وقفا للمسلمين، بمجرد الاستيلاء عليها.
وأما الشافعي رحمه الله فذهب إلى أنها غنيمة يجب قسمها على المجاهدين، بعد
66

إخراج الخمس، وسنذكر إن شاء الله حجج الجميع، وما يظهر لنا رجحانه بالدليل.
أما حجة الإمام الشافعي رحمه الله فهي بكتاب وسنة.
أما الكتاب، فقوله تعالى: * (واعلموا أنما غنمتم من شىء) *، فهو يقتضي بعمومه شمول الأرض المغنومة.
وأما السنة: فما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم، قسم أرض قريظة، بعد أن خمسها، وبني النضير، ونصف أرض خيبر بين الغانمين.
قال: فلو جاز أن يدعي، إخراج الأرض، جاز أن يدعي إخراج غيرها، فيبطل حكم الآية.
قال مقيده عفا الله عنه، الاستدلال بالآية: ظاهر، وبالسنة غير ظاهر؛ لأنه لا حجة فيه على من يقول بالتخيير، لأنه يقول: كان مخيرا فاختار القسم، فليس القسم
واجبا، وهو واضح كما ترى.
وحجة من قال بالتخيير: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قسم نصف أرض خيبر، وترك نصفها، وقسم أرض قريظة، وترك قسمة مكة، فدل قسمه تارة، وتركه القسم أخرى، على التخيير.
ففي (السنن) و (المستدرك): (أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما ظهر على خيبر قسمها على ستة وثلاثين سهما، جمع كل سهم مائة سهم، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وللمسلمين؛ النصف من ذلك، وعزل النصف الباقي لمن ينزل به من الوفود، والأمور، ونوائب الناس)، هذا لفظ أبي داود.
وفي لفظ: (عزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سهما، وهو الشطر لنوائبه، وما ينزل به من أمر المسلمين، فكان ذلك: الوطيح، والكتيبة، والسلالم، وتوابعها).
وفي لفظ أيضا: (عزل نصفها لنوائبه، وما ينزل به؛ الوطيحة، والكتيبة، وما أحيز معهما، وعزل النصف الآخر: فقسمه بين المسلمين، الشق، والنطاة، وما أحيز معهما، وكان سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أحيز معهما).
ورد المخالف هذا الاحتجاج، بأن النصف المقسوم من خيبر: مأخوذ عنوة، والنصف الذي لم يقسم منها: مأخوذ صلحا، وجزم بهذا ابن حجر في (فتح الباري).
وقال النووي في (شرح مسلم) في الكلام على قول أنس عند مسلم: وأصبناها
67

عنوة ما نصه (قال القاضي: قال المازري: ظاهر هذا أنها كلها فتحت عنوة، وقد روى مالك، عن ابن شهاب، أن بعضها فتح عنوة، وبعضها صلحا، قال: وقد يشكل ما روي في سنن أبي داود، أنه قسمها نصفين: نصفا لنوائبه، وحاجته، ونصفا للمسلمين، قال: وجوابه، ما قال بعضهم: إنه كان حولها ضياع وقرى أجلى عنها أهلها، فكانت خالصة للنبي صلى الله عليه وسلم، وما سواها للغانمين، فكان قدر الذي جلوا عنه النصف، فلهذا قسم نصفين اه منه بلفظه.
وقال أبو داود في (سننه): حدثنا حسين بن علي العجلي، ثنا يحيى يعني ابن آدم، ثنا ابن أبي زائدة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، وعبد الله بن أبي بكر، وبعض ولد محمد بن مسلمة، قالوا: بقيت بقية من أهل خيبر تحصنوا، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يحقن دماءهم، ويسيرهم، ففعل، فسمع بذلك أهل فدك، فنزلوا على مثل ذلك، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، لأنها لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب.
حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، ثنا عبد الله بن محمد، عن جويرية، عن مالك، عن الزهري: أن سعيد بن المسيب، أخبره: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، افتتح بعض خيبر عنوة).
قال أبو داود: وقرئ على الحارث بن مسكين، وأنا شاهد؛ أخبرهم ابن وهب، قال: حدثني مالك، عن ابن شهاب: أن خيبر كان بعضها عنوة، وبعضها صلحا، والكتيبة أكثرها عنوة، وفيها صلح؛ قلت لمالك: وما الكتيبة؟ قال: أرض خيبر، وهي أربعون ألف عذق.
قال مقيده عفا الله عنه: وهذا الذي ذكرنا: يقدح في الاحتجاج لتخيير الإمام في القسم، والوقفية بقضية خيبر، كما ترى، وحجة قول مالك رحمه الله ومن وافقه في أن أرض العدو المفتوحة عنوة تكون وقفا للمسلمين، بمجرد الاستيلاء عليها أمور.
منها: قوله صلى الله عليه وسلم الثابت في (صحيح مسلم) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه: (منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم)، شهد على ذلك، لحم أبي هريرة ودمه.
ووجه الاستدلال عندهم بالحديث: أن: (منعت العراق... الخ) بمعنى
68

ستمنع؛ وعبر بالماضي إيذانا بتحقق الوقوع، كقوله تعالى: * (ونفخ فى الصور) *، وقوله: * (أتى أمر الله) *.
قالوا: فدل ذلك على أنها لا تكون للغانمين، لأن ما ملكه الغانمون لا يكون فيه قفيز، ولا درهم، ولحديث مسلم هذا؛ شاهد من حديث جابر عند مسلم أيضا، ومن حديث أبي هريرة أيضا عند البخاري.
وقال ابن حجر في (فتح الباري) في كتاب (فرض الخمس) ما نصه: وذكر ابن حزم: أن بعض المالكية احتج بقوله في حديث أبي هريرة: (منعت العراق درهمها) الحديث. على أن الأرض المغنومة: لا تباع، ولا تقسم، وأن المراد بالمنع: منع الخراج، ورده بأن الحديث: ورد في الإنذار بما يكون من سوء العاقبة، وأن المسلمين سيمنعون حقوقهم في آخر الأمر، وكذلك وقع.
واحتجوا أيضا بما ثبت في الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها، كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر).
وفي لفظ في الصحيح عن عمر: (أما والذي نفسي بيده، لولا أن أترك آخر الناس بيانا ليس لهم شيء؛ ما فتحت علي قرية إلا قسمتها، كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر، ولكني أتركها خزانة لهم يقتسمونها).
واحتج أهل هذا القول أيضا. بأن الأرض المغنومة لو كانت تقسم، لم يبق لمن جاء بعد الغانمين شيء، والله أثبت لمن جاء بعدهم شركة بقوله: * (والذين جآءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا) *، فإنه معطوف على قوله: * (للفقرآء المهاجرين الذين أخرجوا) * وقوله: * (والذين تبوءوا الدار والإيمان) *، وقول من قال. إن قوله تعالى: * (والذين جآءوا من بعدهم) * مبتدأ خبره * (يقولون) * غير صحيح. لأنه يقتضي أنه تعالى. أخبر بأن كل من يأتي بعدهم يقول: * (ربنا اغفر
لنا ولإخواننا) *. والواقع خلافه: لأن كثيرا ممن جاء بعدهم يسبون الصحابة ويلعنونهم، والحق أن قوله: * (والذين جآءوا) * معطوف على ما قبله، وجملة * (يقولون) * حال كما تقدم في (آل عمران)، وهي قيد لعاملها وصف لصاحبها.
69

قال مقيده عفا الله عنه: هذه الأدلة التي استدل بها المالكية، لا تنهض فيما يظهر، لأن الأحاديث المذكورة لا يتعين وجه الدلالة فيها، لأنه يحتمل أن يكون الإمام مخيرا، فاختار إبقاءها للمسلمين، ولم يكن واجبا في أول الأمر، كما قدمنا.
والاستدلال بآية الحشر المذكورة: واضح السقوط، لأنها في الفيء، والكلام في الغنيمة، والفرق بينهما معلوم كما قدمنا.
قال مقيده: عفا الله عنه أظهر الأقوال دليلا أن الإمام مخير، ويدل عليه كلام عمر في الأثر المار آنفا، وبه تنتظم الأدلة، ولم يكن بينها تعارض، والجمع واجب متى ما أمكن.
وغاية ما في الباب: أن تكون السنة دلت على تخصيص واقع في عموم قوله تعالى: * (واعلموا أنما غنمتم من شىء) *.
وتخصيص الكتاب بالسنة كثير.
قال القرطبي في تفسير هذه الآية التي نحن بصددها، بعد أن ذكر القول بالتخيير: ما نصه: (قال شيخنا أبو العباس رضي الله عنه: وكأن هذا جمع بين الدليلين، ووسط بين المذهبين، وهو الذي فهمه عمر رضي الله عنه قطعا.
ولذلك قال: (لولا آخر الناس) فلم يخبر بنسخ فعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولا بتخصيصه بهم.
فإن قيل: لا تعارض بين الأدلة على مذهب الشافعي: لأن ما وقع فيه القسم من خيبر مأخوذ عنوة، وما لم يقسم منها مأخوذ صلحا، والنضير فيء، وقريظة قسمت.
ولو قال قائل: إنها فيء أيضا؛ لنزولهم على حكم النبي صلى الله عليه وسلم، قبل أن يحكم فيهم سعدا، لكان غير بعيد؛ ولكن يرده: أن النبي صلى الله عليه وسلم خمسها، كما قاله مالك، وغيره.
ومكة مأخوذة صلحا؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن).
هذا ثابت في صحيح مسلم.
فالجواب: أن التحقيق أن مكة فتحت عنوة، ولذلك أدلة واضحة.
منها: أنه لم ينقل أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهلها زمن الفتح، ولا جاءه أحد منهم؛ فصالحه على البلد؛ وإنما جاءه أبو سفيان؛ فأعطاه الأمان لمن دخل داره، أو أغلق بابه،
70

أو دخل المسجد، أو ألقى سلاحه.
ولو كانت قد فتحت صلحا لم يقل (من دخل داره، أو أغلق بابه، أو دخل المسجد فهو آمن) فإن الصلح يقتضي الأمان العام.
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنه أذن لي فيها ساعة من نهار).
وفي لفظ: (إنها لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار).
وفي لفظ: (فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولوا: إن الله أذن لرسوله، ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس)، وهذا صريح في أنها فتحت عنوة.
ومنها: أنه ثبت في الصحيح، (أنه يوم فتح مكة جعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى، وجعل الزبير على المجنبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة على الحسر، فأخذوا بطن الوادي، ثم قال: يا أبا هريرة اهتف لي بالأنصار، فجاءوا يهرولون، فقال: يا معشر الأنصار، هل ترون إلى أوباش قريش؟ قالوا: نعم، قال: انظروا إذا لقيتوهم غدا أن تحصدوهم حصدا، وأحفى بيده، ووضع يمينه على شماله، وقال: موعدكم الصفا، وجاءت الأنصار، فأطافوا بالصفا، قال: فما أشرف يومئذ لهم أحد إلا أناموه، وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا، وجاءت الأنصار، فأطافوا بالصفا، فجاء أبو سفيان، فقال: يا رسول الله أبيدت خضراء قريش؛ لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن).
أخرجه مسلم في (صحيحه) من حديث أبي هريرة.
وذكر أهل المغازي تفصيل ما أجمل في حديث مسلم هذا، فبينوا أنه قتل من الكفار اثنا عشر، وقيل: قتل من قريش أربعة وعشرون، ومن هذيل أربعة، وقتل يومئذ من المسلمين ثلاثة، وهم سلمة بن الميلاء الجهني، وكرز بن جابر المحاربي نسبة إلى محارب بن فهر وخنيس بن خالد الخزاعي. أخو أم معبد، وقال كرز قبل أن يقتل في دفاعه عن خنيس:
71

وذكر أهل المغازي تفصيل ما أجمل في حديث مسلم هذا، فبينوا أنه قتل من الكفار اثنا عشر، وقيل: قتل من قريش أربعة وعشرون، ومن هذيل أربعة، وقتل يومئذ من المسلمين ثلاثة، وهم سلمة بن الميلاء الجهني، وكرز بن جابر المحاربي نسبة إلى محارب بن فهر وخنيس بن خالد الخزاعي. أخو أم معبد، وقال كرز قبل أن يقتل في دفاعه عن خنيس:
* قد علمت بيضاء من بني فهر
* نقية اللون نقية الصدر
*
* لأضربن اليوم عن أبي صخر * وفيه نقل الحركة في الوقف، ورجز حماس بن قيس المشهور يدل على القتال يوم الفتح، وذكره الشنقيطي في مغازيه بقوله: * لأضربن اليوم عن أبي صخر * وفيه نقل الحركة في الوقف، ورجز حماس بن قيس المشهور يدل على القتال يوم الفتح، وذكره الشنقيطي في مغازيه بقوله:
* وزعم ابن قيس أن سيحفدا
* نساءهم خلته وأنشدا
*
* إن يقبلوا اليوم فمالي عله
* هذا سلاح كامل وأله
*
وذو غرارين سريع السلة وذو غرارين سريع السلة
* وشهد المأزق فيه حطما
* رمزبب من قومه فانهزما
*
* وجاء فاستغلق بابها البتول
* فاستفهمته أينما كنت تقول
*
* فقال والفزع زعفر دمه
* إنك لو شهدت يوم الخندمه
*
* إذ فر صفوان وفر عكرمة
* وبو يزيد قائم كالمؤتمه
*
* واستقبلتنا بالسيوف المسلمة
* لهم نهيت خلفنا وهمهمه
*
* يقطعن كل ساعد وجمجمه
* ضربا فلا تسمع إلا غمغمه
*
* لم تنطقي باللوم أدنى كلمه * وهذا الرجز صريح في وقوع القتال والقتل يوم فتح مكة.
ومصداقه في الصحيح كما تقدم.
ومنها: أيضا؛ أن أم هانىء، بنت أبي طالب رضي الله عنها أجارت رجلا، فأراد علي بن أبي طالب رضي الله عنه قتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء)، وفي لفظ عنها: لما كان يوم فتح مكة، أجرت رجلين من أحمائي، فأدخلتهما بيتا؛ وأغلقت عليهما بابا، فجاء ابن أمي علي، فتفلت عليهما بالسيف) فذكرت حديث الأمان وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء) وذلك ضحى ببطن مكة بعد الفتح. وقصتها ثابتة في الصحيح.
فإجارتها له، وإرادة علي رضي الله عنه قتله، وإمضاء النبي صلى الله عليه وسلم إجارتها: صريح في أنها فتحت عنوة.
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم، أمر بقتل مقيس بن صبابة، وابن خطل، وجاريتين.
ولو كانت فتحت صلحا، لم يؤمر بقتل أحد من أهلها، ولكان ذكر هؤلاء مستثنى من
72

عقد الصلح.
وأمره صلى الله عليه وسلم بقتل من ذكر: ثابت عنه صلى الله عليه وسلم.
وفي السنن بإسناد صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما كان يوم فتح مكة، قال: أمنوا الناس إلا امرأتين وأربعة نفر؛ اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة) إلى غير ذلك من الأدلة.
فهذه أدلة واضحة على أن مكة حرسها الله فتحت عنوة.
وكونها فتحت عنوة: يقدح فيما ذهب إليه الشافعي من وجوب قسم الأرض المغنومة عنوة.
فالذي يتفق عليه جميع الأدلة، ولا يكون بينها أي تعارض: هو ما قدمنا من القول بالتخيير بين قسم الأرض، وإبقائها للمسلمين، مع ما قدمنا من الحجج، والعلم عند الله تعالى.
وإذا عرفت أن التحقيق أن مكة فتحت عنوة، فاعلم أن العلماء اختلفوا في رباع مكة: هل يجوز تملكها، وبيعها، وإيجارها؟ على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يجوز شيء من ذلك، وبه قال أبو حنيفة، والأوزاعي، والثوري، ومجاهد، وعطاء، وطاوس، وإبراهيم، والحسن، وإسحاق. وغيرهم.
وكرهه مالك رحمه الله.
وأجاز جميع ذلك الشافعي، وأبو يوسف.
وبه قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وجماعة من الصحابة ومن بعدهم..
وتوسط الإمام أحمد، فقال: تملك، وتورث، ولا تؤجر، ولا تباع، على إحدى الروايتين، جمعا بين الأدلة، والرواية الثانية كمذهب الشافعي.
وهذه المسألة: تناظر فيها الإمام الشافعي، وإسحاق بن راهويه في مسجد الخيف والإمام أحمد بن حنبل حاضر فأسكت الشافعي إسحاق بالأدلة، بعد أن قال له: ما أحوجني أن يكون غيرك في موضعك، فكنت آمر بفرك أذنيه، أنا أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: قال طاوس، والحسن، وإبراهيم، وهل لأحد مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة؟ في كلام طويل.
ونحن نذكر إن شاء الله أدلة الجميع، وما يقتضي الدليل رجحانه منها.
73

فحجة الشافعي رحمه الله ومن وافقه بأمور.
الأول: حديث أسامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله. أين تنزل غدا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟) وفي بعض الروايات (من منزل)، وفي بعضها (منزلا) أخرج هذا الحديث البخاري في كتاب (الحج) في باب (توريث دور مكة، وشرائها) الخ وفي كتاب (المغازي) في غزوة الفتح في رمضان في باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح، وفي كتاب الجهاد في باب (إذا أسلم قوم في دار الحرب، ولهم مال وأرضون فهي لهم) وأخرجه مسلم في كتاب (الحج) في باب (النزول بمكة للحاج وتوريث دورها. بثلاث روايات هي مثل روايات البخاري.
فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث المتفق عليه: (وهل ترك لنا عقيل من رباع) صريح في إمضائه صلى الله عليه وسلم بيع عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه تلك الرباع.
ولو كان بيعها، وتملكها لا يصح لما أقره النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يقر على باطل بإجماع المسلمين.
الثاني: أن الله تبارك وتعالى أضاف المهاجرين من مكة ديارهم، وذلك يدل على أنها ملكهم في قوله: * (للفقرآء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم) *.
قال النووي في (شرح المهذب): فإن قيل: قد تكون الإضافة لليد والسكنى، لقوله تعالى: * (وقرن فى بيوتكن) *.
فالجواب: أن حقيقة الإضافة تقتضي الملك، ولذلك لو قال: هذه الدار لزيد حكم بملكها لزيد، ولو قال: أردت به السكنى واليد، لم يقبل.
ونظير الآية الكريمة: ما احتج به أيضا. من الإضافة في قوله: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن) الحديث.
وقد قدمنا أنه في (صحيح مسلم).
الثالث: الأثر المشهور في سنن البيهقي وغيره. (أن نافع بن الحارث، اشترى من صفوان بن أمية، دار السجن لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، بأربعمائة). وفي رواية (بأربعة آلاف)، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة.
وروى الزبير بن بكار والبيهقي: أن حكيم بن حزام رضي الله عنه، باع دار الندوة بمكة من معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف، فقال له عبد الله بن الزبير: يا أبا خالد بعت مأثرة
74

قريش وكريمتها، فقال: هيهات ذهبت المكارم فلا مكرمة اليوم إلا الإسلام، فقال: اشهدوا أنها في سبيل الله تعالى يعني الدراهم التي باعها بها.
وعقده الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه عمود النسب بقوله يعني قصيا: وعقده الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه عمود النسب بقوله يعني قصيا:
* واتخذ الندوة لا يخترع
* في غيرها أمر ولا تدرع
*
* جارية أو يعذر الغلام
* إلا بأمره بها يرام
*
* وباعها بعد حكيم بن حزام
* وأنبوه وتصدق الهمام
*
* سيد ناديه بكل الثمن
* إذ العلى بالدين لا بالدمن
*
الرابع: أنها فتحت صلحا، فبقيت على ملك أهلها، وقد قدمنا ضعف هذا الوجه.
الخامس: القياس، لأن أرض مكة أرض حية ليست موقوفة، فيجوز بيعها قياسا على غيرها من الأرض.
واحتج من قال: بأن رباع مكة لا تملك ولا تباع. بأدلة:
منها قوله تعالى: * (والمسجد الحرام الذى جعلناه للناس سوآء العاكف فيه والباد) * قالوا: والمراد بالمسجد: جميع الحرم كله لكثرة إطلاقه عليه في النصوص، كقوله: * (سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام) *، وقوله: * (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) *، وقوله: * (هديا بالغ الكعبة) * مع أن المنحر الأكبر من الحرم (منى).
ومنها قوله تعالى: * (إنمآ أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذى حرمها) * قالوا: والمحرم لا يجوز بيعه.
ومنها: ما أخرجه البيهقي من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن أبيه عن عبد الله بن باباه، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مكة مناخ لا تباع رباعها، ولا تؤجر بيوتها).
ومنها: ما رواه أبو حنيفة، عن عبيد الله بن أبي زياد، عن أبي نجيح عن عبد الله بن عمرو، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مكة حرام، وحرام بيع رباعها، وحرام أجر بيوتها).
75

ومنها ما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قلت: يا رسول الله ألا نبني لك بيتا أو بناء يظلك من الشمس؟ قال: (لا. إنما هو مناخ من سبق إليه) أخرجه أبو داود.
ومنها: ما رواه البيهقي، وابن ماجة، عن عثمان بن أبي سليمان، عن علقمة بن نضلة الكناني، قال: كانت بيوت مكة تدعى السوائب، لم تبع رباعها في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبي بكر ولا عمر، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن.
ومنها: ما روى عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (منى مناخ لمن سبق).
قال النووي في (شرح المهذب) في الجنائز، في (باب الدفن) في هذا الحديث، رواه أبو محمد الدارمي، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وغيرهم، بأسانيد جيدة من رواية عائشة رضي الله عنها.
قال الترمذي: هو حديث حسن.
وذكر في البيوع، في الكلام على بيع دور مكة، وغيرها من أرض الحرم: أن هذا الحديث صحيح.
ومنها: ما رواه عبد الرزاق بن مجاهدعن ابن جريج، قال: كان عطاء ينهي عن الكراء في الحرم، وأخبرني أن عمر بن الخطاب، كان ينهي عن تبويب دور مكة لأن ينزل الحاج في عرصاتها، فكان أول من بوب داره، سهيل بن عمرو، فأرسل إليه عمر بن الخطاب في ذلك، فقال. أنظرني يا أمير المؤمنين إني كنت امرأ تاجرا، فأردت أن أتخذ بابين يحبسان لي ظهري، فقال: ذلك لك إذن.
وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن منصور، عن مجاهد: إن عمر بن الخطاب، قال: يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابا لينزل البادي حيث يشاء. اه، قاله ابن كثير: إلى غير ذلك من الأدلة.
قال مقيده عفا الله عنه: أقوى الأقوال دليلا فيما يظهر قول الشافعي ومن وافقه، لحديث أسامة بن زيد المتفق عليه، كما قدمنا، وللأدلة التي قدمنا غيره، ولأن جميع أهل مكة بقيت لهم ديارهم بعد الفتح يفعلون بها ما شاءوا من بيع، وإجارة، وغير ذلك.
وأجاب أهل هذا القول الصحيح عن أدلة المخالفين. فأجابوا عن قوله: * (سوآء
76

العاكف فيه والباد) * بأن المراد خصوص المسجد دون غيره من أرض الحرم، بدليل التصريح بنفس المسجد في قوله: * (والمسجد الحرام الذى جعلناه للناس سوآء) *، وعن قوله تعالى: * (هذه البلدة الذى حرمها) * بأن المراد: حرم صيدها، وشجرها، وخلاها، والقتال فيها، كما بينه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث
الصحيحة، ولم يذكر في شيء منها مع كثرتها النهي عن بيع دورها. وعن حديث إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن أبيه: بأنه ضعيف، قال النووي في (شرح المهذب): هو ضعيف باتفاق المحدثين، واتفقوا على تضعيف إسماعيل، وأبيه إبراهيم. اه.
وقال البيهقي في السنن الكبرى: إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر ضعيف، وأبوه غير قوي، واختلف عليه فروي عنه هكذا، وروي عنه عن أبيه، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو مرفوعا ببعض معناه، وعن حديث عائشة رضي الله عنها. بأنه محمول على الموات من الحرم.
قال النووي: وهو ظاهر الحديث.
وعن حديث أبي حنيفة: بأنه ضعيف من وجهين:
أحدهما: تضعيف إسناده بابن أبي زياد المذكور فيه.
والثاني: أن الصواب فيه عند الحفاظ أنه موقوف على عبد الله بن عمر وقالوا: رفعه وهم قاله: الدارقطني، وأبو عبد الرحمن السلمي، والبيهقي.
وعن حديث عثمان بن أبي سليمان بجوابين:
أحدهما: أنه منقطع، كما قاله البيهقي.
الثاني: ما قال البيهقي أيضا، وجماعة من الشافعية، وغيرهم: أن المراد في الحديث: الإخبار عن عادتهم الكريمة في إسكانهم ما استغنوا عنه من بيوتهم بالإعارة تبرعا، وجودا.
وقد أخبر من كان أعلم بشأن مكة منه عن جريان الإرث، والبيع فيها.
وعن حديث (منى مناخ من سبق) بأنه محمول على مواتها، ومواضع نزول الحجيج منها. قاله النووي اه.
واعلم أن تضعيف البيهقي لحديث إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، وحديث
77

عثمان بن أبي سليمان، عن علقمة بن نضلة تعقبه عليه محشيه صاحب (الجواهر النقي)، بما نصه: (ذكر فيه حديثا في سنده إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، فضعف إسماعيل، وقال عن أبيه غير قوي، ثم اسنده من وجه آخر، ثم قال: رفعه وهم، والصحيح موقوف قلت: أخرج الحاكم في (المستدرك) هذا الحديث من الوجهين اللذين ذكرهما البيهقي، ثم صحح الأول، وجعل الثاني شاهدا عليه، ثم ذكر البيهقي في آخره حديثا عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة بن نضلة. ثم قال: هذا منقطع.
قلت: هذا الحديث أخرجه ابن ماجة بسند على شرط مسلم، وأخرجه الدارقطني وغيره، وعلقمة هذا صحابي. كذا ذكره علماء هذا الشأن، وإذا قال الصحابي مثل هذا الكلام. كان مرفوعا على ما عرف به، وفيه تصريح عثمان بالسماع عن علقمة، فمن أين الانقطاع؟ اه كلام صاحب (الجوهر النقي).
قال مقيده عفا الله عنه لا يخفى سقوط اعتراض ابن التركماني هذا على الحافظ البيهقي. في تضعيفه الحديثين المذكورين.
أما في الأول: فلأن تصحيح الحاكم رحمه الله لحديث ضعيف لا يصيره صحيحا.
وكم من حديث ضعيف صححه الحاكم رحمه الله وتساهله رحمه الله في التصحيح معروف عند علماء الحديث، وإبراهيم بن مهاجر بن جابر البجلي قد يكون للمناقشة في تضعيف الحديث به وجه. لأن بعض العلماء بالرجال وثقه وهو من رجال مسلم.
وقال فيه ابن حجر، في (التقريب): (صدوق لين الحفظ)، أما ابنه إسماعيل فلم يختلف في أنه ضعيف. وتضعيف الحديث به ظاهر لا مطعن فيه.
وقال فيه ابن حجر في (التقريب). ضعيف، فتصحيح هذا الحديث لا وجه له.
وأما قوله في اعتراضه تضعيف البيهقي لحديث الثاني. فمن أين الانقطاع فجوابه: أن الانقطاع من حيث إن علقمة بن نضلة تابعي صغير، وزعم الشيخ ابن التركماني، أنه صحابي غير صحيح، وقد قال فيه ابن حجر في (التقريب). علقمة بن نضلة بفتح النون وسكون المعجمة المكي، كناني.
وقيل: كندي تابعي صغير مقبول، أخطأ من عده في الصحابة، وإذن فوجه انقطاعه ظاهر، فظهر أن الصواب مع الحافظ البيهقي، والنووي وغيرهما في تضعيف
78

الحديثين المذكورين.
ولا شك أن من تورع عن بيع رباع مكة، وإيجارها خروجا من الخلاف، أن ذلك خير له، لأن من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه.
تنبيه
أجمع جميع المسلمين على أن مواضع النسك من الحرم كموضع السعي، وموضع رمي الجمار حكمها حكم المساجد، والمسلمون كلهم سواء فيها.
والظاهر أن ما يحتاج إليه الحجيج من منى، ومزدلفة كذلك، فلا يجوز لأحد أن يضيقهما بالبناء المملوك حتى تضيقا بالحجيج، ويبقى بعضهم لم يجد منزلا، لأن المبيت بمزدلفة ليلة النحر، وبمنى ليالي أيام التشريق، من مناسك الحج.
فلا يجوز لأحد أن يضيق محل المناسك على المسلمين، حتى لا يبقى ما يسع الحجيج كله، ويدل له حديث: (منى مناخ لمن سبق) كما تقدم.
المسألة الخامسة: في تحقيق المقام فيما للإمام أن ينفله من الغنيمة، وسنذكر أقوال العلماء في ذلك، وأدلتهم، وما يقتضي الدليل رجحانه.
اعلم أن العلماء اختلفوا في هذه المسألة، كما أشرنا له في أول هذه السورة الكريمة، ووعدنا بإيضاحه هنا فذهب الإمام مالك رحمه الله إلى أن الإمام لا يجوز له أن ينفل أحدا شيئا إلا من الخمس، وهو قول سعيد بن المسيب، لأن الأخماس الأربعة. ملك للغانمين الموجفين عليها بالخيل، والركاب. هذا مشهور مذهبه، وعنه قول آخر:
أنها من خمس الخمس.
ووجه هذا القول: أن أخماس الخمس الأربعة، غير خمس الرسول صلى الله عليه وسلم لمصارف معينة في قوله: * (ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) * وأربعة الأخماس الباقية ملك للغانمين.
وأصح الأقوال عن الشافعي: أن الإمام لا ينفل إلا من خمس الخمس، ودليله: ما ذكرنا آنفا.
وعن عمرو بن شعيب أنه قال. لا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن قدامة في (المغني): ولعله يحتج بقوله تعالى: * (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله
79

والرسول) *. وذهب الإمام أحمد في طائفة من أهل العلم: إلى أن للإمام أن ينفل الربع بعد الخمس في بدأته، والثلث بعد الخمس في رجعته.
ومذهب أبي حنيفة. أن للإمام قبل إحراز الغنيمة أن ينفل الربع، أو الثلث، أو أكثر، أو أقل بعد الخمس، وبعد إحراز الغنيمة لا يجوز له التنفيل إلا من الخمس.
وقد قدمنا جملة الخلاف في هذه المسألة في أول هذه السورة الكريمة، ونحن الآن نذكر إن شاء الله ما يقتضي الدليل رجحانه.
اعلم أولا، أن التنفيل الذي اقتضى الدليل جوازه أقسام:
الأول: أن يقول الإمام لطائفة من الجيش. إن غنمتم من الكفار شيئا، فلكم منه كذا بعد إخراج خمسه، فهذا جائز، وله أن ينفلهم في حالة إقبال جيش المسلمين إلى الكفار الربع، وفي حالة رجوع جيش المسلمين إلى أوطانهم الثلث بعد إخراج الخمس.
ومالك وأصحابه يقولون. إن هذا لا يجوز. لأنه تسبب في إفساد نيات المجاهدين، لأنهم يصيرون مقاتلين من أجل المال الذي وعدهم الإمام تنفيله.
والدليل على جواز ذلك. ما رواه حبيب بن مسلمة بن مالك القرشي الفهري (أن النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع بعد الخمس في بدأته، ونفل الثلث بعد الخمس في رجعته) أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، وصححه ابن حبان، والحاكم، وابن الجارود.
واعلم أن التحقيق في حبيب المذكور. أنه صحابي، وقال فيه ابن حجر في (التقريب) مختلف في صحبته، والراجح ثبوتها لكنه كان صغيرا، وله ذكر في (الصحيح) في حديث ابن عمر مع معاوية اه.
وقد روى عنه أبو داود هذا الحديث من ثلاثة أوجه.
منها: عن مكحول بن عبد الله الشامي، قال: كنت عبدا بمصر لامرأة من بني هذيل، فأعتقتني فما خرجت من مصروبها علم إلا حويت عليه، فيما أرى، ثم أتيت الحجاز، فما خرجت منها وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت العراق فما خرجت منها وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت الشام فغربلتها، كل ذلك: أسأل عن النفل فلم أجد أحدا يخبرني فيه بشيء، حتى لقيت شيخا يقال له: زياد بن
80

جارية التميمي. فقلت له: هل سمعت في النفل شيئا؟ قال: نعم، سمعت حبيب بن مسلمة الفهري يقول: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البدأة، والثلث في الرجعة اه.
وقد علمت أن الصحيح أنه صحابي، وقد صرح في هذه الرواية بأنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع إلى آخر الحديث.
ومما يدل على ذلك أيضا: ما رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل في البدأة الربع، وفي الرجعة الثلث) أخرجه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجة، وصححه ابن حبان.
وفي رواية عند الإمام أحمد: كان إذا غاب في أرض العدو نفل الربع، وإذا أقبل راجعا وكل الناس نفل الثلث، وكان يكره لأنفال، ويقول: ليرد قوي المؤمنين على ضعيفهم.
وهذه النصوص تدل على ثبوت التنفيل من غير الخمس.
ويدل لذلك أيضا: ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود عن معن بن يزيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا نفل إلا بعد الخمس، قال الشوكاني: في (نيل الأوطار): هذا الحديث صححه الطحاوي اه.
والفرق بين البدأة والرجعة. أن المسلمين في البدأة: متوجهون إلى بلاد العدو، والعدو في غفلة. وأما في الرجعة: فالمسلمون راجعون إلى أوطانهم من أرض العدو، والعدو في حذر ويقظة، وبين الأمرين فرق ظاهر.
والأحاديث المذكورة تدل على أن السرية من العسكر إذا خرجت، فغنمت، أن سائر الجيش شركاؤهم، ولا خلاف في ذلك بين العلماء، كما قاله القرطبي.
الثاني: من الأقسام التي اقتضى الدليل جوازها: تنفيل بعض الجيش، لشدة بأسه، وغنائه، وتحمله ما لم يتحمله غيره، والدليل على ذلك ما ثبتت في (صحيح مسلم)، ورواه الإمام أحمد، وأبو داود عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، في قصة إغارة عبد الرحمن الفزاري، على سرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستنقاذه منه. قال سلمة: فلما أصبحنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير فرساننا اليوم، أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة قال: ثم أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمين: سهم الفارس، وسهم الراجل فجمعهما لي
81

جميعا. الحديث. هذا لفظ مسلم في صحيحه من حديث طويل.
وقد قدمنا أن هذه غزوة (ذي قرد) في سورة (النساء)، ويدل لهذا أيضا: حديث سعد بن أبي وقاص المتقدم في أول السورة، فإن فيه: أن سعدا رضي الله عنه قال: لعله يعطى هذا السيف لرجل لم يبل بلائي، ثم أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم لسعد رضي الله عنه لحسن بلائه، وقتله صاحب السيف كما تقدم.
الثالث: من أقسام التنفيل التي اقتضى الدليل جوازها: أن يقول الإمام: (من قتل قتيلا فله سلبه).
ومن الأدلة على ذلك: ما رواه الشيخان في صحيحيهما، عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، قال: فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين، فاستدرت إليه حتى أتيته من ورائه فضربته على حبل عاتقه. وأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت فأرسلني، فلحقت عمر بن الخطاب، فقال: ما للناس؟ فقلت: أمر الله، ثم إن الناس رجعوا، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه) قال: فقمت، ثم قلت: من يشهد لي؟، ثم جلست، ثم قال مثل ذلك، قال فقمت فقلت من يشهد لي؟، ثم جلست، ثم قال ذلك الثالثة، فقمت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما لك يا أبا قتادة؟) فقصصت عليه القصة، فقال رجل من القوم، صدق يا رسول الله سلب ذلك القتيل عندي. فأرضه من حقه، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لا ها الله إذن لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله، فيعطيك سلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صدق فأعطه إياه) فأعطاني، قال: فبعت الدرع فابتعت بها مخرفا في بني سلمة، فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام. والأحاديث بذلك كثيرة.
وروى أبو داود، وأحمد، عن أنس. أن أبا طلحة يوم حنين قتل عشرين رجلا، وأخذ أسلابهم، وفي رواية عنه عند أحمد، أحد وعشرين، وذكر أصحاب المغازي: أن أبا طلحة قال في قتله من ذكر: وروى أبو داود، وأحمد، عن أنس. أن أبا طلحة يوم حنين قتل عشرين رجلا، وأخذ أسلابهم، وفي رواية عنه عند أحمد، أحد وعشرين، وذكر أصحاب المغازي: أن أبا طلحة قال في قتله من ذكر:
* أنا أبو طلحة واسمي زيد
* وكل يوم في سلاحي صيد
*
والحق أنه لا يشترط في ذلك أن يكون في مبارزة، ولا أن يكون الكافر المقتول
82

مقبلا.
أما الدليل على عدم اشتراط المبارزة: فحديث أبي قتادة هذا المتفق عليه.
وأما الدليل على عدم اشتراط كونه قتله مقبلا إليه: فحديث سلمة بن الأكوع، قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن، فبينا نحن نتضحى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء رجل على جمل أحمر فأناخه، ثم انتزع طلقا من حقبه فقيد به الجمل، ثم تقدم يتغدى مع القوم، وجعل ينظر، وفينا ضعفة ورقة في الظهر، وبعضنا مشاة إذ خرج يشتد فأتى جمله، فأطلق قيده ثم أناخه، وقعد عليه فأثاره فاشتد به الجمل، فاتبعه رجل على ناقة ورقاء. قال سلمة: وخرجت أشتد فكنت عند ورك الناقة، ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل، ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل فأنخته، فلما وضع ركبته في الأرض اخترطت سيفي، فضربت به رأس الرجل فندر، ثم جئت بالجمل أقوده وعليه رحله وسلاحه، فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس معه. فقال: (من قتل الرجل؟) قالوا: ابن الأكوع، قال: (له سلبه أجمع) متفق عليه، واللفظ المذكور لمسلم في (كتاب الجهاد والسير) في باب (استحقاق القاتل سلب القتيل)، وأخرجه البخاري بمعناه (في كتاب الجهاد) في باب (الحربي إذا دخل دار الإسلام بغير أمان) وهو صريح في عدم اشتراط المبارزة، وعدم اشتراط قتله مقبلا لا مدبرا كما ترى.
ولا يستحق القاتل سلب المقتول، إلا أن يكون المقتول من المقاتلة الذين يجوز قتالهم.
فأما إن قتل امرأة، أو صبيا، أو شيخا فانيا، أو ضعيفا مهينا، أو مثخنا بالجراح لم تبق فيه منفعة، فليس له سلبه.
ولا خلاف بين العلماء: في أن من قتل صبيا، أو امرأة، أو شيخا فانيا، لا يستحق سلبهم، إلا قولا ضعيفا جدا يروى عن أبي ثور، وابن المنذر: في استحقاق سلب المرأة.
والدليل على أن من قتل مثخنا بالجراح لا يستحق سلبه، أن عبد الله بن مسعود، هو الذي ذفف على أبي جهل يوم بدر، وحز رأسه. وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح الذي أثبته، ولم يعط ابن مسعود شيئا.
وهذا هو الحق الذي جاء به الحديث المتفق عليه، فلا يعارض بما رواه الإمام
83

أحمد، وأبو داود عن ابن مسعود (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفله سيف أبي جهل يوم بدر). لأنه من رواية ابنه أبي عبيدة، ولم يسمع منه، وكذلك المقدم للقتل صبرا لا يستحق قاتله سلبه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم، أمر بقتل النضر بن الحارث، العبدري، وعقبة بن أبي معيط الأموي صبرا يوم بدر ولم يعط من قتلهما شيئا من سلبهما.
واختلفوا فيمن أسر أسيرا: هل يستحق سلبه إلحاقا للأسر بالقتل أو لا؟ والظاهر أنه لا يستحقه، لعدم الدليل. فيجب استصحاب عموم * (واعلموا أنما غنمتم) * حتى يرد مخصص من كتاب أو سنة صحيحة، وقد أسر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون، أسارى بدر، وقتل بعضهم صبرا كما ذكرنا، ولم يعط أحدا من الذين
أسروهم شيئا من أسلابهم، ولا من فدائهم بل جعل فداءهم غنيمة.
أما إذا قاتلت المرأة أو الصبي المسلمين: فالظاهر أن لمن قتل أحدهما سلبه، لأنه حينئذ ممن يجوز قتله، فيدخل في عموم (من قتل قتيلا) الحديث، وبهذا جزم غير واحد. والعلم عند الله تعالى.
واعلم أن العلماء اختلفوا في استحقاق القاتل السلب، هل يشترط فيه قول الإمام: (من قتل قتيلا فله سلبه) ا أو يستحقه مطلقا. قال الإمام ذلك أو لم يقله؟
وممن قال بهذا الأخير: الإمام أحمد، والشافعي، والأوزاعي، والليث، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، والطبري، وابن المنذر.
وممن قال بالأول: الذي هو أنه لا يستحقه إلا بقول الإمام: (من قتل قتيلا) الخ الإمام أبو حنيفة، ومالك، والثوري.
وقد قدمنا عن مالك وأصحابه: أن قول الإمام ذلك: لا يجوز قبل القتال، لئلا يؤدي إلى فساد النية، ولكن بعد وقوع الواقع، يقول الإمام: من قتل قتيلا... الخ.
واحتج من قال: باستحقاق القاتل سلب المقتول مطلقا. بعموم الأدلة لأن النبي صلى الله عليه وسلم. صرح بأن من قتل قتيلا فله سلبه، ولم يخصص بشيء. والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، كما علم في الأصول.
واحتج مالك، وأبو حنيفة، ومن وافقهما بأدلة:
منها: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سلمة بن الأكوع، المتفق عليه السابق ذكره، له سلبه
84

أجمع. قالوا: فلو كان السلب مستحقا له بمجرد قتله لما احتاج إلى تكرير هذا القول.
ومنها: حديث عبد الرحمن بن عوف، المتفق عليه في قصة قتل معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء الأنصاريين لأبي جهل يوم بدر. فإن فيه (ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبراه، فقال: أيكما قتله؟ ا، فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا، فنظر في السيفين، فقال: كلاكما قتله، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح اه.
قالوا: فتصريحه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، المتفق عليه، بأن كليهما قتله، ثم تخصيص أحدهما بسلبه، دون الآخر، صريح في أن القاتل لا يستحق السلب، إلا بقول الإمام: إنه له، إذ لو كان استحقاقه له بمجرد القتل لما كان لمنع معاذ بن عفراء وجه، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح بأنه قتله مع معاذ بن عمرو، ولجعله بينهما.
ومنها: ما رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، عن عوف بن مالك قال: قتل رجل من حمير، رجلا من العدو، فأراد سلبه، فمنعه خالد بن الوليد، وكان واليا عليهم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلم عوف بن مالك فأخبره. فقال لخالد: (ما منعك أن تعطيه سلبه؟) قال: استكثرته يا رسول الله، قال: (ادفعه إليه)، فمر خالد بعوف فجر بردائه، ثم قال: هل أنجزت لك ما ذكرت لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فاستغضب فقال: لا تعطه يا خالد، لا تعطه يا خالد، هل أنتم تاركون لي أمرائي، إنما مثلكم ومثلهم، كمثل رجل استرعى إبلا، أو غنما فرعاها، ثم تحين سقيها فأوردها حوضا فشرعت فيه، فشربت صفوه، وتركت كدره، فصفوة لكم وكدره عليهم.
وفي رواية عند مسلم أيضا: عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: خرجت مع من خرج مع زيد بن حارثة، في غزوة مؤتة، ورافقني مددي من اليمن، وساق الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، غير أنه قال في الحديث: قال عوف بن مالك: فقلت: يا خالد، أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل، قال بلى، ولكني استكثرته، هذا لفظ مسلم في صحيحه.
وفي رواية عن عوف أيضا، عند الإمام أحمد وأبي داود قال خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة، ورافقني مددي من أهل اليمن، ومضينا فلقينا جموع الروم، وفيهم رجل على فرس له، أشقر، عليه سرج مذهب. وسلاح مذهب. فجعل الرومي يفري في
85

المسلمين. فقعد له المددي خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه. فخر وعلاه فقتله. وحاز فرسه. وسلاحه. فلما فتح الله عز وجل للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد. فأخذ السلب. قال عوف: فأتيته. فقلت: يا خالد أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قضى بالسلب للقاتل. قال. بلى ولكن استكثرته. قلت: لتردنه إليه، أو لأعرفنكها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يرد عليه، قال عوف: فاجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقصصت عليه قصة المددي، وما فعل خالد، وذكر بقية الحديث بمعنى ما تقدم اه.
فقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح: (لا تعطه يا خالد) دليل على أنه لم يستحق السلب بمجرد القتل، إذ لو استحقه به، لما منعه منه النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها: ما ذكره ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن الأسود بن قيس، عن شبر بن علقمة قال: بارزت رجلا يوم القادسية، فقتلته، وأخذت سلبه، فأتيت سعدا، فخطب سعد أصحابه، ثم قال: هذا سلب بشر بن علقمة فهو خير من اثني عشر ألف درهم، وإنا قد نفلناه إياه.
فلو كان السلب للقاتل قضاء من النبي صلى الله عليه وسلم، لما أضاف الأمراء ذلك التنفيل إلى أنفسهم باجتهادهم، ولأخذه القاتل دون أمرهم، قاله القرطبي.
قال مقيده عفا الله عنه: أظهر القولين عندي دليلا، أن القاتل لا يستحق السلب إلا بإعطاء الإمام. لهذه الأدلة الصحيحة، التي ذكرنا فإن قيل: هي شاهدة لقول إسحاق: إن كان السلب يسيرا فهو للقاتل، ومن كان كثيرا خمس.
فالجواب: أن ظاهرها العموم مع أن سلب أبي جهل لم يكن فيه كثرة زائدة، وقد منع منه النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن عفراء.
تنبيه
جعل بعض العلماء منشأ الخلاف في سلب القاتل، هل يحتاج إلى تنفيذ الإمام أو لا، هو الاختلاف في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل قتيلا) الحديث، هل هو حكم؟ وعليه فلا يعم بل يحتاج دائما إلى تنفيذ الإمام، أو هو فتوى؟ فيكون حكما عاما غير محتاج إلى تنفيذ الإمام.
قال صاحب (نشر البنود) شرح (مراقي السعود) في شرح قوله
86

: قال صاحب (نشر البنود) شرح (مراقي السعود) في شرح قوله:
* وسائر حكاية الفعل بما
* منه العموم ظاهرا قد علما
*
ما نصه: (تنبيه)،: حكى ابن رشيد خلافا بين العلماء، في قوله صلى الله عليه وسلم: (من قتل قتيلا له عليه بينة، فله سلبه)، هل يحتاج سلب القتيل إلى تنفيذ الإمام، بناء على أن الحديث حكم فلا يعم، أو لا يحتاج إليه بناء على أنه فتوى، وكذا قوله الهند: (خذي ما يكفيك، وولدك بالمعروف) فيه خلاف. هل هو حكم فلا يعم، أو فتوى فيعم.
قال ميارة في التكميل: قال ميارة في التكميل:
* وفي حديث هند الخلاف هل
* حكم يخصها أو افتاء شمل
*
واعلم أن العلماء اختلفوا في السلب، هل يخمس أو لا؟ على ثلاثة أقوال:
الأول: لا يخمس.
الثاني: يخمس.
الثالث: إن كان كثيرا خمس، وإلا فلا.
وممن قال: إنه لا يخمس، الشافعي، وأحمد، وابن المنذر، وابن جرير، ويروى عن سعد بن أبي وقاص.
وممن روي عنه أنه يخمس: ابن عباس، والأوزاعي، ومكحول.
وممن فرق بين القليل والكثير: إسحاق، واحتج من قال: لا يخمس بما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن حبان، والطبراني، عن عوف بن مالك، وخالد بن الوليد رضي الله عنهما. أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخمس السلب.
وقال القرطبي في تفسيره، بعد أن ساق حديث عوف بن مالك الذي قدمنا عند مسلم ما نصه. (وأخرجه أبو بكر البرقاني بإسناده، الذي أخرجه به مسلم، وزاد بيانا أن عوف بن مالك، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يخمس السلب) اه.
وقال ابن حجر في (التلخيص) في حديث خالد وعوف المتقدم، ما لفظه: (وهو ثابت في (صحيح مسلم) في حديث طويل فيه قصة لعوف مع خالد بن الوليد، وتعقبه الشوكاني في (نيل الأوطار) بما نصه: وفيه نظر، فإن هذا اللفظ الذي هو محل الحجة لم يكن في صحيح مسلم، بل الذي فيه هو ما سيأتي قريبا، وفي إسناد هذا الحديث إسماعيل بن عياش، وفيه كلام معروف قد تقدم ذكره مرارا)، اه.
87

قال مقيده عفا الله عنه: وقد قدمنا حديث عوف المذكور بلفظ مسلم في صحيحه، وليس فيه ما ذكره الحافظ بن حجر، فهو وهم منه، كما نبه عليه الشوكاني رحمهما الله تعالى.
والتحقيق في إسماعيل بن عياش أن روايته عن غير الشاميين ضعيفة. وهو قوي في الشاميين، دون غيرهم.
قال مقيده عفا الله عنه: وهذا الحديث من رواية إسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك، وإسماعيل، وشيخه في هذا الحديث، الذي هو صفوان بن عمرو، كلاهما حمصي، فهو بلدي له:
وبه تعلم صحة الاحتجاج بالحديث المذكور، مع قوة شاهده، الذي قدمنا عن أبي بكر البرقاني، بسند على شرط مسلم.
واحتج من قال بأن السلب يخمس: بعموم قوله تعالى: * (واعلموا أنما غنمتم من شىء فأن لله خمسه) *.
واحتج من قال: يخمس الكثير دون اليسير: بما رواه أنس، عن البراء بن مالك (أنه قتل من المشركين مائة رجل، إلا رجلا مبارزة، وأنهم لما غزوا الزاره، خرج دهقان الزاره، فقال: رجل ورجل، فبرز البراء فاختلفا بسيفيهما، ثم اعتنقا فتوركه البراء فقعد على كبده، ثم أخذ السيف فذبحه، وأخذ سلاحه ومنطقته، وأتى به عمر، فنفله السلاح، وقوم المنطقة بثلاثين ألفا، فخمسها، وقال: إنها مال) اه بنقل القرطبي.
وقال قبل هذا: وفعله عمر بن الخطاب مع البراء بن مالك، حين بارز (المرزبان) فقتله. فكانت قيمة منطقته، وسواريه ثلاثين ألفا، فخمس ذلك اه.
وقال ابن قدامة في (المغني): وقال إسحاق: إن استكثر الإمام السلب، فذلك إليه، لما روى ابن سيرين أن البراء بن مالك بارز (مرزبان) الزاره بالبحرين فطعنه، فدق صلبه، وأخذ سواريه، وسلبه، فلما صلى عمر الظهر أتى أبا طلحة في داره، فقال: إنا كنا لا نخمس السلب، وإن سلب البراء قد بلغ مالا، وأنا خامسه. فكان أول سلب خمس في الإسلام سلب البراء. رواه سعيد في السنن.
وفيها أن سلب البراء بلغ ثلاثين ألفا.
88

قال مقيده عفا الله عنه: أظهر الأقوال دليلا عندي أن السلب لا يخمس لحديث عوف وخالد المتقدم، ويجاب عن أخذ الخمس من سلب البراء بن مالك، بأن الذي تدل عليه القصة أن السلب لا يخمس: لأن قول عمر إنا كنا لا نخمس السلب، وقول الراوي كان أول سلب خمس في الإسلام: يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم. وأبا بكر، وعمر صدرا من خلافته لم يخمسوا سلبا، واتباع ذلك أولى.
قال الجوزجاني: لا أظنه يجوز لأحد في شيء سبق فيه من الرسول صلى الله عليه وسلم شيء إلا اتباعه. ولا حجة في قول أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن قدامة في (المغني)، والأدلة التي ذكرنا يخصص بها عموم قوله تعالى: * (واعلموا أنما غنمتم) *.
واختلف العلماء فيما إذا ادعى أنه قتله، ولم يقم على ذلك بينة، فقال الأوزاعي: يعطاه بمجرد دعواه، وجمهور العلماء على أنه لا بد من بينة على أنه قتله، قال مقيده عفا الله عنه: لا ينبغي أن يختلف في اشتراط البينة لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (من قتل قتيلا له عليه بينة) الحديث، فهو يدل بإيضاح على أنه لا بد من البينة، فإن قيل: فأين البينة التي أعطى بها النبي صلى الله عليه وسلم أبا قتادة سلب قتيله السابق ذكره.
فالجواب من وجهين: الأول: ما ذكره القرطبي في تفسيره: قال: سمعت شيخنا الحافظ المنذري الشافعي أبا محمد عبد العظيم يقول: إنما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة الأسود بن خزاعي. وعبد الله بن أنيس، وعلى هذا يندفع النزاع، ويزول الإشكال، ويطرد الحكم اه.
الثاني: أنه أعطاه إياه بشهادة الرجل الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (صدق، سلب ذلك القتيل عندي)، الحديث، فإن قوله (صدق) شهادة صريحة لأبي قتادة أنه هو الذي قتله. والاكتفاء بواحد في باب الخبر، والأمور التي لم يقع فيها ترافع قال به كثير من العلماء، وعقده ابن عاصم المالكي في تحفته بقوله:: (صدق، سلب ذلك القتيل عندي)، الحديث، فإن قوله (صدق) شهادة صريحة لأبي قتادة أنه هو الذي قتله. والاكتفاء بواحد في باب الخبر، والأمور التي لم يقع فيها ترافع قال به كثير من العلماء، وعقده ابن عاصم المالكي في تحفته بقوله:
* وواحد يجزئ في باب الخبر
* واثنان أولى عند كل ذي نظر
*
وقال القرطبي في تفسيره: إن أكثر العلماء على إجزاء شهادة واحد، وقيل: يثبت ذلك بشاهد ويمين، والله أعلم.
وأما على قول من قال: إن السلب موكول إلى نظر الإمام، فللإمام أن يعطيه إياه،
89

ولو لم تقم بينة، وإن اشترطها فذلك له، قاله القرطبي، والظاهر عندي أنه لا بد من بينة لورود النص الصحيح بذلك.
واختلف العلماء في السلب ما هو؟
قال مقيده عفا الله عنه. لهذه المسألة طرفان، وواسطة.
طرف أجمع العلماء على أنه من السلب: وهو سلاحه، كسيفه، ودرعه، ونحو ذلك، وكذلك ثيابه.
وطرف أجمع العلماء على أنه ليس من السلب: وهو ما لو وجد في هميانه، أو منطقته دنانير. أو جواهر، أو نحو ذلك.
وواسطة اختلف العلماء فيها: منها فرسه الذي مات وهو يقاتل عليه، ففيه للعلماء قولان: وهما روايتان عن الإمام أحمد، أصحهما أنه منه، ومنها ما يتزين به للحرب، فقال الأوزاعي: ذلك كله من السلب، وقالت: فرقة ليس منه، وهذا مروي عن سحنون إلا المنطقة، فإنها عنده من السلب، وقال ابن حبيب في الواضحة، والسواران من السلب، والله أعلم.
واعلم أن حديث عبد الله بن عمر المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية قبل نجد. وفيهم ابن عمر، وأن سهمناهم بلغت اثني عشر بعيرا، ونفلوا بعيرا بعيرا، دليل واضح على بطلان قول من قال: (لا تنفيل إلا من خمس الخمس) لأن الحديث صريح في أنه نفلهم نصف السدس.
ولا شك أن نصف السدس أكثر من خمس الخمس، فكيف يصح تنفيل الأكثر من الأقل، وهو واضح كما ترى، وأما غير ذلك من الأقوال، فالحديث محتمل له.
والذي يسبق إلى الذهن، أن ما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عمر بلفظ (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسم عامة الجيش، والخمس في ذلك واجب كله اه.
يدل على أن ذلك التنفيل من الغنيمة بعد إخراج الخمس، وهو ما دل عليه حديث حبيب بن سلمة المتقدم، وهو الظاهر المتبادر خلافا لما قاله ابن حجر في (الفتح) من أنه محتمل لكل الأقوال المذكورة، والله تعالى أعلم
90

.
المسألة السادسة: الحق الذي لا شك فيه أن الفارس يعطى من الغنيمة ثلاثة أسهم: سهمان لفرسه، وسهم لنفسه، وأن الراجل يعطى سهما واحدا، والنصوص الصحيحة مصرحة بذلك، فمن ذلك حديث ابن عمر المتفق عليه، ولفظ البخاري عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: جعل للفرس سهمين، ولصاحبه سهما).
ولفظ مسلم، حدثنا نافع عن عبد الله بن عمر، (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم في النفل للفرس سهمين، وللرجل سهما) اه.
وأكثر الروايات بلفظ (وللرجل)، فرواية الشيخين صريحة فيما ذكرنا، وبذلك فسره راوية نافع، قال البخاري في صحيحه في غزوة خيبر: قال: فسره نافع، فقال: إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم، فإن لم يكن له فرس فله سهم اه. وذلك هو معناه الذي لا يحتمل غيره في رواية الصحيحين المذكورة.
ومنها ما رواه أبو داود، حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا أبو معاوية، حدثنا عبيد الله. عن نافع، عن ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم: سهما له، وسهمين لفرسه).
حدثنا أحمد بن حنبل، ثنا أبو معادية، ثنا عبد الله بن يزيد، حدثني المسعودي، حدثني أبو عمرة عن أبيه، قال: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة نفر، ومعنا فرس، فأعطى كل واحد منا سهما، وأعطى الفرس سهمين).
وممن قال بهذا الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وابن سيرين، وعمر بن عبد العزيز، والأوزاعي والثوري. والليث، وحسين بن ثابت، وأبي يوسف، ومحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وابن جرير، وأبي ثور.
وخالف أبو حنيفة رحمه الله الجمهور فقال: للفارس سهمان، وللراجل سهم. محتجا بما جاء في بعض الروايات (أنه صلى الله عليه وسلم، قسم يوم خيبر للفارس سهمين، وللراجل سهما) رواه أبو داود من حديث مجمع بن جارية الأنصاري رضي الله عنه، وكان أحد القراء الذين قرأوا القرآن، ويجاب عنه من وجهين:
الأول: أن المراد بسهمي الفارس خصوص السهمين الذين استحقهما بفرسه، كما يشعر به لفظ الفارس.
91

الثاني: أن النصوص المتقدمة أصح منه، وأولى بالتقديم، وقد قال أبو داود: حديث أبي معاوية أصح، والعمل عليه، وأرى الوهم في حديث مجمع أنه قال: ثلاثمائة فارس، وكانوا مائتي فارس اه.
وقال النووي في (شرح مسلم): لم يقل يقول أبي حنيفة هذا أحد، إلا ما روي عن علي، وأبي موسى اه.
وإن كان عند بعض الغزاة خيل فلا يسهم إلا لفرس واحد، وهذا مذهب الجمهور منهم مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، والحسن، ومحمد بن الحسن، وغيرهم.
واحتجوا بأنه لا يمكنه أن يقاتل إلا على فرس واحد، وقال الأوزاعي والثوري، والليث، وأبو يوسف: يسهم لفرسين دون ما زاد عليهما، وهو مذهب الإمام أحمد، ويروى عن الحسن. ومكحول، ويحيى الأنصاري، وابن وهب، وغيره من المالكيين.
واحتج أهل هذا القول بما روي عن الأوزاعي: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسهم للخيل، وكان لا يسهم للرجل فوق فرسين وإن كان معه عشرة أفراس)، وبما روي عن أزهر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح، أن يسهم للفرس من سهمين، وللفرسين أربعة أسهم ولصاحبهما سهم، فذلك خمسة أسهم، وما كان فوق الفرسين فهي جنائب، رواهما سعيد بن منصور، قاله ابن قدامة في (المغني).
واحتجوا أيضا بأنه محتاج إلى الفرس الثاني، لأن إدامة ركوب واحد تضعفه، وتمنع القتال عليه فيسهم للثاني، لأنه محتاج إليه كالأول، بخلاف الثالث فإنه مستغني عنه، ولم يقل أحد إنه يسهم لأكثر من فرسين، إلا شيئا روي عن سليمان بن موسى، قاله النووي في (شرح مسلم)، وغيره.
واختلف العلماء في البراذين والهجن على أربعة أقوال:
الأول: أنها يسهم لها كسهم الخيل العراب، وممن قال به مالك، والشافعي، وعمر بن عبد العزيز، والثوري، ونسبه الزرقاني في (شرح الموطأ) للجمهور، واختاره الخلال، وقال: رواه ثلاثة متيقظون عن أحمد، وحجة هذا القول ما ذكره مالك في موطأه، قال: لا أرى البراذين والهجن، إلا من الخيل، لأن الله تبارك وتعالى قال في كتابه: * (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة) *.
وقال عز وجل: * (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو
92

الله وعدوكم) *، فأنا أرى البراذين والهجن من الخيل إذا أجازها الوالي.
وقد قال سعيد بن المسيب، وسئل عن البراذين: هل فيها من صدقة؟ قال: وهل في الخيل من صدقة؟ اه.
وحاصل هذا الاستدلال أن اسم الخيل في الآيتين المذكورتين يشمل البراذين والهجن فيهما داخلان في عمومه، لأنهما ليسا في البغال ولا الحمير بل من الخيل.
القول الثاني: أنه يسهم للبرذون والهجين سهم واحد قدر نصف سهم الفرس، واحتج أهل هذا القول بما رواه الشافعي في (الأم) وسعيد بن منصور من طريق علي بن الأقمر الوادعي، قال: أغارت الخيل فأدركت العراب، وتأخرت البراذين، فقام ابن المنذر الوادعي، فقال: لا أجعل ما أدرك كما لم يدرك، فبلغ ذلك عمر فقال: هبلت الوادعي أمه لقد أذكرت به أمضوها على ما قال، فكان أول من أسهم للبراذين دون سهام العراب، وفي ذلك يقول شاعرهم: هبلت الوادعي أمه لقد أذكرت به أمضوها على ما قال، فكان أول من أسهم للبراذين دون سهام العراب، وفي ذلك يقول شاعرهم:
* ومنا الذي قدسن في الخيل سنة
* وكانت سواء قبل ذاك سهامها
*
وهذا منقطع كما ترى:
واحتجوا أيضا بما رواه أبو داود في المراسيل، وسعيد بن منصور عن مكحول: (أن النبي صلى الله عليه وسلم هجن الهجين يوم خيبر، وعرب العرب فجعل للعربي سهمين، وللهجين سهما)، وهو منقطع أيضا كما ترى، وبه أخذ الإمام أحمد في أشهر الروايات عنه.
واحتجوا أيضا بأن أثر الخيل العراب في الحرب أفضل من أثر البراذين وذلك يقتضي تفضيلها عليها في السهام.
القول الثالث: التفصيل بين ما يدرك من البراذين إدراك العراب، فيسهم له كسهامها، وبين ما لا يدرك إدراكها فلا يسهم له، وبه قال ابن أبي شيبة، وابن أبي خيثمة، وأبو أيوب. والجوزجاني.
ووجهه أنها من الخيل. وقد عملت عملها فوجب جعلها منها.
القول الرابع: لا يسهم لها مطلقا. وهو قول مالك بن عبد الله الخثعمي ووجهه أنها حيوان لا يعمل عمل الخيل فأشبه البغال.
قال ابن قدامة في (المغني): ويحتمل أن تكون هذه الرواية فيما لا يقارب العتاق
93

منها، لما روى الجوزجاني بإسناده عن أبي موسى، أنه كتب إلى عمر بن الخطاب: إنا وجدنا بالعراق خيلا عراضا دكنا، فما ترى يا أمير المؤمنين في سهمائها، فكتب إليه: تلك البراذين فما قارب العتاق منها، فاجعل له سهما واحدا، وألغ ما سوى ذلك. اه.
والبراذين: جمع برذون، بكسر الموحدة وسكون الراء وفتح المعجمة، والمراد: الجفاة الخلقة من الخيل، وأكثر ما تجلب من بلاد الروم، ولها جلد على السير في الشعاب والجبال والوعر بخلاف الخيل العربية.
والهجين: هو ما أحد أبويه عربي، وقيل: هو الذي أبوه عربي. وأما الذي أمه عريبة فيسمى المقرف، وعن أحمد: الهجين البرذون. ويحتمل أنه أراد في الحكم.
ومن إطلاق الإقراف على كون الأم عربية قول هند بنت النعمان بن بشير: ومن إطلاق الإقراف على كون الأم عربية قول هند بنت النعمان بن بشير:
* وما هند إلا مهرة عربية
* سليلة أفراس تحللها بغل
*
* فإن ولدت مهرا كريما فبالحري
* وإن يك اقراف فما أنجب الفحل
*
وقول جرير: وقول جرير:
* إذا آباؤنا وأبوك عدوا
* أبان المقرفات من العراب
*
واختلف العلماء فيمن غزا على بعير، هل يسهم لبعيره؟ فذهب أكثر العلماء إلى أنه لا يسهم للإبل. قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن من غزا على بعير فله سهم راجل، كذلك قال الحسن، ومكحول، والثوري، والشافعي، وأصحاب الرأي: واختاره أبو الخطاب من الحنابلة.
قال ابن قدامة في (المغني): وهذا هو الصحيح إنشاء الله تعالى. لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه أسهم لغير الخيل من البهائم وقد كان معه يوم (بدر) سبعون بعيرا، ولم تخل غزاة من غزواته من الإبل. هي كانت غالب دوابهم فلم ينقل عنه أنه أسهم لها، ولو أسهم لها لنقل، وكذلك من بعد النبي صلى الله عليه وسلم من خلفائه وغيرهم مع كثرة غزواتهم لم ينقل عن أحد منهم فيما علمناه أنه أسهم لبعير، ولو أسهم لبعير لم يخف ذلك، ولأنه لا يتمكن صاحبه من الكر والفر، فلم يسهم له كالبغل والحمار، اه.
وقال الإمام أحمد: من غزا على بعير، وهو لا يقدر على غيره قسم له ولبعيره سهمان، وظاهره أنه لا يسهم للبعير مع إمكان الغزو على فرس، وعن أحمد: أنه يسهم
94

للبعير سهم، ولم يشترط عجز صاحبه عن غيره، وحكي نحو هذا عن الحسن، قاله ابن قدامة في (المغني).
واحتج أهل هذا القول بقوله تعالى: * (فمآ أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) * قالوا: فذكر الركاب وهي الإبل مع الخيل، وبأنه حيوان تجوز المسابقة عليه بعوض فيسهم له كالفرس، لأن تجويز المسابقة بعوض إنما هو في ثلاثة أشياء، هي: النصل، والخف، والحافر. دون غيرها، لأنها آلات الجهاد، فأبيح أخذ الرهن في المسابقة بها. تحريضا على رياضتها، وتعلم الإتقان فيها.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي والله أعلم أنه لا يسهم للإبل لما قدمنا آنفا، وأما غير الخيل والإبل. من البغال والحمير والفيلة ونحوها، فلا يسهم لشيء منه، وإن عظم غناؤها وقامت مقام الخيل.
قال ابن قدامة: ولا خلاف في ذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقسم لشيء من ذلك، ولأنها مما لا تجوز المسابقة عليه بعوض فلم يسهم لها كالبقر.
المسألة الرابعة: اختلف العلماء في حرق رحل الغال من الغنيمة، والمراد بالغال من يكتم شيئا من الغنيمة، فلا يطلع عليه الإمام، ولا يضعه مع الغنيمة.
قال بعض العلماء: يحرق رحله كله إلا المصحف وما فيه روح، وهو مذهب الإمام أحمد. وبه قال الحسن وفقهاء الشام، منهم مكحول، والأوزاعي، والوليد بن هشام، ويزيد بن يزيد بن جابر، وأتى سعيد بن عبد الملك بغال فجمع ماله وأحرقه، وعمر بن عبد العزيز حاضر ذلك فلم يعبه.
وقال يزيد بن يزيد بن جابر: السنة في الذي يغل أن يحرق رحله، رواهما سعيد في سنته، قاله ابن قدامة في (المغني).
ومن حجج أهل هذا القول: ما رواه أبو داود في سننه، عن صالح بن محمد بن زائدة قال أبو داود وصالح: هذا أبو واقد قال: دخلت مع مسلمة أرض الروم، فأتي برجل قد غل، فسأل سالما عنه فقال: سمعت أبي يحدث، عن عمر بن الخطاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا وجدتم الرجل قد غل فاحرقوا متاعه واضربوه)، قال: فوجدنا في متاعه مصحفا فسأل سالما عنه، فقال: بعه وتصدق بثمنه. اه بلفظه من أبي داود.
وذكر ابن قدامة أنه رواه أيضا الأثرم، وسعيد، وقال أبو داود أيضا: حدثنا أبو صالح
95

محبوب بن موسى الأنطاكي، قال: أخبرنا أبو إسحاق عن صالح بن محمد، قال: غزونا مع الوليد بن هشام، ومعنا سالم بن عبد الله بن عمر، وعمر بن عبد العزيز فغل رجل متاعا، فأمر الوليد بمتاعه فأحرق وطيف به، ولم يعطه سهمه، قال أبو داود: وهذا أصح الحديثين رواه غير واحد، أن الوليد بن هشام أحرق رجل زياد بن سعد، وكان قد غل، وضربه.
حدثنا محمد بن عوف، قال: ثنا موسى بن أيوب، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ثنا زهير بن محمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه).
قال أبو داود: وزاد فيه علي بن بحر عن الوليد ولم أسمعه منه ومنعوه سهمه، قال أبو داود: وحدثنا به الوليد بن عتبة، وعبد الوهاب بن نجدة، قالا: ثنا الوليد عن زهير بن محمد، عن عمرو بن شعيب، قوله ولم يذكر عبد الوهاب بن نجدة الحوطي منع سهمه، اه من أبي داود بلفظه، وحديث صالح بن محمد الذي ذكرنا عند أبي داود أخرجه أيضا الترمذي، والحاكم، والبيهقي.
قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقال: سألت محمدا عن هذا الحديث، فقال: إنما روى هذا صالح بن محمد بن زائدة، الذي يقال له أبو واقد الليثي، وهو منكر الحديث.
قال المنذري: وصالح بن محمد بن زائدة: تكلم فيه غير واحد من الأئمة. وقد قيل: إنه تفرد به، وقال البخاري: عامة أصحابنا يحتجون بهذا في الغلول، وهو باطل ليس بشيء. وقال الدارقطني: أنكروا هذا الحديث على صالح بن محمد، قال: وهذا حديث لم يتابع عليه، ولا أصل لهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمحفوظ أن سالما أمر بذلك، وصحح أبو داود وقفه، فرواه موقوفا من وجه آخر، وقال: هذا أصح كما قدمنا، وحديث عمرو بن شعيب الذي ذكرنا عند أبي داود أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي، وزهير بن محمد الذي ذكرنا في إسناده الظاهر أنه هو الخراساني. وقد قال فيه ابن حجر في (التقريب) رواية أهل الشام عنه غير مستقيمة، فضعف بسببها، وقال البخاري عن أحمد: كان زهير الذي يروى عنه الشاميون آخر، وقال أبو حاتم: حدث بالشام من حفظه فكثر غلطه. اه.
وقال البيهقي: ويقال إنه غير الخراساني، وأنه مجهول. اه. وقد علمت فيما قدمنا
96

عن أبي داود، أنه رواه من وجه آخر موقوفا على عمرو بن شعيبا وقال ابن حجر: إن وقفه هو الراجح.
وذهب الأئمة الثلاثة، مالك، والشافعي، وأبو حنيفة: إلى أنه لا يحرق رحله، واحتجوا بأنه صلى الله عليه وسلم لم يحرق رحل غال، بما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في الناس، فيجيئون بغنائمهم، فيخمسه، ويقسمه، فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر، فقال: يا رسول الله هذا فيما كنا أصبناه من الغنيمة، فقال: (أسمعت بلالا ينادي ثلاثا)، قال: نعم، قال: (فما منعك أن تجيء به؟) فاعتذر إليه، فقال: كن أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله عنك، هذا لفظ أبي داود، وهذا الحديث سكت عنه أبو داود، والمنذري، وأخرجه الحاكم وصححه.
وقال البخاري: قد روي في غير حديث عن الغال، ولم يأمر بحرق متاعه. فقد علمت أن أدلة القائلين بعدم حرق رحل الغال أقوى، وهم أكثر العلماء.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي رجحانه في هذه المسألة: هو ما اختاره ابن القيم، قال في (زاد المعاد) بعد أن ذكر الخلاف المذكور في المسألة: والصواب أن هذا من باب التعزير والعقوبات المالية الراجعة إلى اجتهاد الأئمة، فإنه حرق وترك، وكذلك خلفاؤه من بعده، ونظير هذا قتل شارب الخمر في الثالثة أو الرابعة، فليس بحد. ولا منسوخ. وإنما هو تعزير يتعلق باجتهاد الإمام. اه.
وإنما قلنا: إن هذا القول أرجح عندنا. لأن الجمع واجب إذا أمكن، وهو مقدم على الترجيح بين الأدلة، كما علم في الأصول، والعلم عند الله تعالى.
أما لو سرق واحد من الغانمين من الغنيمة قبل القسم، أو وطئ جارية منها قبل القسم، فقال مالك وجل أصحابه: يحد حد الزنى والسرقة في ذلك، لأن تقرر الملك لا يكون بإحراز الغنيمة. بل بالقسم.
وذهب الجمهور منهم الأئمة الثلاثة إلى أنه لا يحد للزنى ولا للسرقة لأن استحقاقه بعض الغنيمة شبهة تدرأ عنه الحد. وبعض من قال بهذا يقول: إن ولدت فالولد حر يلحق نسبه به، وهو قول أحمد. والشافعي، خلافا لأبي حنيفة. وفرق بعض المالكية بين السرقة والزنى، فقال: لا يحد للزنى، ويقطع إن سرق أكثر من نصيبه بثلاثة دراهم.
97

وبهذا قال عبد الملك من المالكية، كما نقله عنه ابن المواز.
واختلف العلماء فيما إذا مات أحد المجاهدين قبل قسم الغنيمة، هل يورث عنه نصيبه؟ فقال مالك في أشهر الأقوال: والشافعي: إن حضر القتال: ورث عنه نصيبه وإن مات قبل إحراز الغنيمة، وإن لم يحضر القتال فلا سهم له.
وقال أبو حنيفة: إن مات قبل إحراز الغنيمة في دار الإسلام خاصة. أو قسمها في دار الحرب فلا شيء له. لأن ملك المسلمين لا يتم عليها عنده إلا بذلك.
وقال الأوزاعي: إن مات بعد ما يدرب قاصدا في سبيل الله قبل أو بعد أسهم له، وقال الإمام أحمد: إن مات قبل حيازة الغنيمة فلا سهم له، لأنه مات قبل ثبوت ملك المسلمين عليها، وسواء مات حال القتال أو قبله، وإن مات بعد إحراز الغنيمة فسهمه لورثته.
قال مقيده عفا الله عنه: وهذا أظهر الأقوال عندي، والله تعالى أعلم.
ولا يخفى أن مذهب الإمام مالك رحمه الله في هذه المسألة مشكل، لأن حكمه بحد الزاني والسارق: يدل على أنه لا شبهة للغانمين في الغنيمة قبل القسم، وحكمه بإرث نصيب من مات قبل إحراز الغنيمة إن حضر القتال. يدل على تقرر الملك بمجرد حضور القتال، وهو كما ترى، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثامنة: أصح الأقوال دليلا: أنه لا يقسم للنساء والصبيان الذين لا قدرة لهم على القتال، وما جرى مجراهم، ولكن يرضخ لهم من الغنيمة باجتهاد الإمام، ودليل ذلك ما رواه مسلم في صحيحه: عن ابن عباس، لما سأله نجدة عن خمس خلال.
منها: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟ وهل كان يضرب لهم بسهم؟ فيكتب إليه ابن عباس: كتبت تسألي: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء، وقد كان يغزو بهن، فيداوين الجرحى، ويحذين من الغنيمة، وأما بسهم فلم يضرب لهن. الحديث.
وهو صريح فيما ذكرنا، فيجب حمل ما ورد في غيره من أن النساء يسهم لهن على الرضخ المذكور في هذا الحديث المعبر عنه بقوله: (يحذين من الغنيمة). قال النووي: قوله (يحذين) هو بضم الياء وإسكان الحاء المهملة، وفتح الذال المعجمة، أي يعطين تلك العطية، وتسمى الرضخ، وفي هذا أن المرأة تستحق الرضخ،
98

ولا تستحق السهم، وبهذا قال أبو حنيفة، والثوري، والليث، والشافعي، وجماهير العلماء.
وقال الأوزاعي: تستحق السهم إن كانت تقاتل، أو تداوي الجرحى، وقال مالك: لا رضخ لها، وهذان المذهبان مردودان بهذا الحديث الصحيح الصريح اه. * *
المسألة التاسعة: اعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ نفقة سنته من فيء بني النضير، لا من المغانم.
ودليل ذلك: حديث مالك بن أوس بن الحدثان المتفق عليه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: دخلت على عمر، فأتاه حاجبه يرفأ، فقال: هل لك في عثمان، وعبد الرحمن، والزبير، وسعد؟ قال: نعم، فأذن لهم، ثم قال: هل لك في علي، وعباس؟ قال: نعم، قال عباس: يا أمير المؤمنين أقض بيني وبين هذا، قال: أنشدكم بالله، الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (لا نورث، ما تركنا صدقة) يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه؟ فقال: الرهط، قد قال ذلك، فأقبل على علي، وعباس، فقال: هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك؟ قالا: قد قال ذلك، قال عمر: فإني أحدثكم عن هذا الأمر، إن الله كان خص رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره، فقال عز وجل: * (ومآ أفآء الله على رسوله) * إلى قوله: * (الله يسلط رسله على من يشآء والله على كل شىء قدير) *، فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما احتازها دونكم، ولا استأثر بها عليكم، لقد أعطاكموه، وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله من هذا المال نفقة سنته، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله، فعمل بذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته. أنشدكم بالله، هل تعلمون ذلك؟ قالوا: نعم، ثم قال لعلي، وعباس: أنشدكما بالله، هل تعلمان ذلك؟ قالا: نعم، قال عمر: فتوفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبضها فعمل بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم توفى الله أبا بكر فقلت: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبضتها سنتين أعمل فيها ما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، ثم جئتماني، وكلمتكما واحدة، وأمركما جميع: جئتني تسألني نصيبك من ابن أخيك، وأتاني هذا يسألني نصيب امرأته من أبيها، فقلت: إن شئتما دفعتها إليكما بذلك فتلتمسان مني قضاء غير ذلك: فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عجزتما فادفعاها إلى اه.
هذا لفظ البخاري في (الصحيح) في بعض رواياته، ومحل الشاهد من الحديث
99

تصريح عمر بأنه صلى الله عليه وسلم كان ينفق على أهله نفقة سنته من فيء بني النضير، وتصديق الجماعة المذكورة له في ذلك، وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما من طرق متعددة بألفاظ متقاربة المعنى. وهو نص في أن نفقة أهله صلى الله عليه وسلم كانت في الفيء، لا من الغنيمة.
ويدل له أيضا الحديث المتقدم (مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم) فإن قيل ما وجه الجمع بين ما ذكرتم، وبين ما أخرجه أبو داود من طريق أسامة بن زيد عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا: (بنو النضير، وخيبر، وفدك. فأما بنو النضير فكانت حبسا لنوائبه، وأما فدك فكانت حبسا لأبناء السبيل. وأما خيبر فجزأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء: جزئين بين المسلمين، وجزءا نفقة لأهله،
فما فضل عن نفقة أهله جعله بين فقراء المهاجرين).
فالجواب والله تعالى أعلم أنه لا تعارض بين الروايتين، لأن (فدك) ونصيبه صلى الله عليه وسلم من (خيبر) كلاهما فيء كما قدمنا عليه الأدلة الواضحة، وكذلك (النضير)، فالجميع فيء كما تقدم إيضاحه، فحكم الكل واحد.
وفي بعض الروايات الثابتة في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، قالت: وكانت فاطمة رضي الله عنها تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، وفدك، وصدقته بالمدينة، فأبى أبو بكر عليها ذلك، وقال: لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ.
فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي، وعباس، وأما خيبر، وفدك فأمسكهما عمر، وقال: هما صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه، وأمرهما إلى من ولي الأمر، قال: فهما على ذلك إلى اليوم.
هذا لفظ البخاري في صحيحه.
وقال ابن حجر في (الفتح): وقد ظهر بهذا أن صدقة النبي صلى الله عليه وسلم تختص بما كان من بني النضير. وأما سهمه من خيبر، وفدك فكان حكمه إلى من يقوم بالأمر بعده، وكان أبو بكر يقدم نفقة نساء النبي صلى الله عليه وسلم مما كان يصرفه فيصرفه من خيبر، وفدك، وما فضل من ذلك جعله في المصالح، وعمل عمر بعده بذلك، فلما كان عثمان تصرف في فدك بحسب ما رآه، فروى أبو داود من طريق مغيرة بن مقسم، قال: جمع عمر بن عبد العزيز بني مروان، فقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفق من فدك على بني هاشم، ويزوج أيمهم،
100

وإن فاطمة سألته أن يجعلها لها فأبى، وكانت كذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر، ثم أقطعها مروان)، يعني في أيام عثمان.
قال الخطابي: إنما أقطع عثمان (فدك) لمروان، لأنه تأول أن الذي يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم يكون للخليفة بعده، فاستغنى عثمان عنها بأمواله، فوصل بها بعض قرابته، ويشهد لصنيع أبي بكر حديث أبي هريرة المرفوع الثابت في الصحيح بلفظ: (ما تركت بعد نفقة نسائي، ومؤونة عاملي فهو صدقة).
فقد عمل أبو بكر وعمر بتفصيل ذلك بالدليل الذي قام لهما، اه.
واعلم أن فيء (بني النضير) تدخل فيه أموال (مخيريق) رضي الله عنه، وكان يهوديا من (بني قينقاع) مقيما في بني النضير، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد، قال لليهود: ألا تنصرون محمدا صلى الله عليه وسلم، والله إنكم لتعلمون أن نصرته حق عليكم، فقالوا: اليوم يوم السبت، فقال: لا سبت، وأخذ سيفه ومضى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقاتل حتى أثبتته الجراحة، فلما حضره الموت قال: أموالي إلى محمد صلى الله عليه وسلم يضعها حيث شاء، وكان له سبع حوائط ببني النضير وهي (المثيب)، (والصائفة)، (والدلال)، (وحسنى)، (وبرقة)، (والأعواف)، (ومشربة أم إبراهيم).
وفي رواية الزبير بن بكار (الميثر) بدل (الميثب)، (والمعوان) عوض (الأعواف) وزاد (مشربة أم إبراهيم) الذي يقال له (مهروز).
وسميت (مشربة أم إبراهيم) لأنها كانت تسكنها (مارية) قاله بعض أصحاب المغازي، وعد الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي (مخيريق) المذكور من شهداء أحد، حيث قال في سردهم: وسميت (مشربة أم إبراهيم) لأنها كانت تسكنها (مارية) قاله بعض أصحاب المغازي، وعد الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي (مخيريق) المذكور من شهداء أحد، حيث قال في سردهم:
* وذو الوصايا الجم للبشير
* وهو مخيريق بني النضير
*
ولنكتف بما ذكرنا من الأحكام التي لها تعلق بهذه الآية الكريمة، خوف الإطالة المملة.
قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) *.
أمر الله تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة بالثبات عند لقاء العدو، وذكر الله كثيرا مشيرا إلى أن ذلك سبب للفلاح. والأمر بالشيء نهى عن ضده، أو مستلزم للنهي عن ضده، كما علم في الأصول، فتدل الآية الكريمة على النهي عن عدم الثبات.
101

أمام الكفار، وقد صرح تعالى بهذا المدلول في قوله: * (ياأيها الذين ءامنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار) * إلى قوله: * (وبئس المصير) *، وفي الأمر بالإكثار من ذكر الله تعالى في أضيق الأوقات. وهو وقت التحام القتال دليل واضح على أن المسلم ينبغي له الإكثار من ذكر الله على كل حال. ولا سيما في وقت الضيق، والمحب الصادق في حبه لا ينسى محبوبه عند نزول الشدائد.
قال عنترة في معلقته: قال عنترة في معلقته:
* ولقد ذكرتك والرماح نواهل
* مني وبيض الهند تفطر من دمي
*
وقال الآخر: وقال الآخر:
* ذكرتك والخطى يخطر بيننا
* وقد نهلت فينا المثقفة السمر
*
تنبيه
قال بعض العلماء: كل (لعل) في القرآن فهي للتعليل إلا التي في سورة الشعراء: * (وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون) * فهي بمعنى (كأنكم تخلدون).
قال مقيده عفا الله عنه: لفظة (لعل) قد ترد في كلام العرب مرادا بها التعليل، ومنه قوله: قال مقيده عفا الله عنه: لفظة (لعل) قد ترد في كلام العرب مرادا بها التعليل، ومنه قوله:
* فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا
* نكف ووثقتم لنا كل موثق
*
* فلما كففنا الحرب كانت عهودكم
* كشبه سراب بالملا متألق
*
فقوله (لعلنا نكف) يعني (لأجل أن نكف)، وكونها للتعليل لا ينافي (معنى الترجي)، لأن وجود المعلول يرجى عند وجود علته.
قوله تعالى: * (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) *.
نهى الله جل وعلا المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن التنازع، مبينا أنه سبب الفشل، وذهاب القوة، ونهى عن الفرقة أيضا في مواضع أخر، كقوله: * (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) *، ونحوها من الآيات، وقوله في هذه الآية: * (وتذهب ريحكم) * أي قوتكم.
وقال بعض العلماء: نصركم. كما تقول العرب الريح لفلان إذا كان غالبا، ومنه قوله
102

: وقال بعض العلماء: نصركم. كما تقول العرب الريح لفلان إذا كان غالبا، ومنه قوله:
* إذا هبت رياحك فاغتنمها
* فإن لكل عاصفة سكون
*
واسم (إن) ضمير الشأن.
وقال صاحب الكشاف: الريح: الدولة، شبهت في نفوذ أمرها، وتمشيه بالريح في هبوبها، فقيل: هبت رياح فلان، إذا دالت له الدولة، ونفذ أمره، ومنه قوله: وقال صاحب الكشاف: الريح: الدولة، شبهت في نفوذ أمرها، وتمشيه بالريح في هبوبها، فقيل: هبت رياح فلان، إذا دالت له الدولة، ونفذ أمره، ومنه قوله:
* يا صاحبي ألا لا حي بالوادي
* إلا عبيد قعود بني أذوادي
*
* أتنظران قليلا ريث غفلتهم
* أم تعدوان فإن الريح للعادي
* * (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما ترآءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني برىء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب * إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هاؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم * ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق * ذالك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد * كدأب ءال فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوى شديد العقاب * ذالك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم * كدأب ءال فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنآ ءال فرعون وكل كانوا ظالمين * إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون * الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون * فإما تثقفنهم فى الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون * وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سوآء إن الله لا يحب الخائنين * ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون * وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وءاخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شىء فى سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون * وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم * وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك
الله هو الذى أيدك بنصره وبالمؤمنين * وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما فى الا رض جميعا مآ ألفت بين قلوبهم ولاكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم) *
قوله تعالى: * (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس) * * (إني برىء منكم) *.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الشيطان غر الكفار، وخدعهم، وقال لهم: لا غالب لكم وأنا جار لكم.
وذكر المفسرون: أنه تمثل لهم في صورة (سراقة بن مالك بن جعشم) سيد بني مدلج بن بكر بن كنانة، وقال لهم ما ذكر الله عنه، وأنه مجيرهم من بني كنانة، وكانت بينهم عداوة، * (فلما ترآءت الفئتان نكص على عقبيه) *، عندما رأى الملائكة وقال لهم: * (إني برىء منكم إني أرى ما لا ترون) *، فكان حاصل أمره أنه غرهم، وخدعهم حتى أوردهم الهلاك، ثم تبرأ منهم.
وهذه هي عادة الشيطان مع الإنسان كما بينه تعالى في آيات كثيرة، كقوله: * (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إنى برىء منك) *. وقوله:
* (وقال الشيطان لما قضى الا مر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم) *، إلى قوله: * (إنى كفرت بمآ أشركتمون من قبل) *. وكقوله: * (يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) *، وقد قال حسان بن ثابت رضي الله عنه: يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) *، وقد قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
* سرنا وساروا إلى بدر لحينهم
* لو يعلمون يقين الأمر ما ساروا
*
* دلاهم بغرور ثم أسلمهم
* إن الخبيث لمن ولاه غرار
*
103

قوله تعالى: * (ذالك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم * كدأب ءال فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنآ ءال فرعون وكل كانوا ظالمين * إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون * الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون * فإما تثقفنهم فى الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون * وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سوآء إن الله لا يحب الخائنين * ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون * وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وءاخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شىء فى سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون * وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم * وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذى أيدك بنصره وبالمؤمنين * وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما فى الا رض جميعا مآ ألفت بين قلوبهم ولاكن الله ألف بينهم إنه) *.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه. وأوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله: * (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذآ أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال) *، وقوله: * (ومآ أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير) *، وقوله: * (مآ أصابك من حسنة فمن الله ومآ أصابك من سيئة فمن نفسك) * إلى غير ذلك من الآيات. * (ياأيها النبى حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين * ياأيها النبى حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون * اأان خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين * ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن في الا رض تريدون عرض الدنيا والله يريد الا خرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيمآ أخذتم عذاب عظيم * فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم * ياأيها النبى قل لمن فى أيديكم من الا سرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا ممآ أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم * وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم * إن الذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله والذين ءاووا ونصروا أولائك بعضهم أوليآء بعض والذين ءامنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شىء حتى يهاجروا وإن استنصروكم فى الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير * والذين كفروا بعضهم أوليآء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة فى الا رض وفساد كبير * والذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين ءاووا ونصروا أولائك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم * والذين ءامنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولائك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شىء عليم) * قوله تعالى: * (ياأيها النبى حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) *.
قال بعض العلماء: إن قوله: * (ومن اتبعك) * في محل رفع بالعطف على اسم الجلالة، أي حسبك الله، وحسبك أيضا من اتبعك من المؤمنين.
وممن قال بهذا. والحسن، واختاره النحاس وغيره، كما نقله القرطبي، وقال بعض العلماء: هو في محل خفض بالعطف على الضمير الذي هو الكاف في قوله: * (حسبك) * وعليه، فالمعنى حسبك الله أي كافيك وكافي من اتبعك من المؤمنين، وبهذا قال الشعبي، وابن زيد وغيرهما، وصدر به صاحب الكشاف، واقتصر عليه ابن كثير وغيره، والآيات القرآنية تدل على تعيين الوجه الأخير، وأن المعنى كافيك الله، وكافي من اتبعك من المؤمنين لدلالة الاستقراء في القرآن على أن الحسب والكفاية لله وحده، كقوله تعالى: * (ولو أنهم رضوا مآ ءاتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنآ إلى الله راغبون) *، فجعل الإيتاء لله ورسوله،
كما قال: * (ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه) *، وجعل الحسب له وحده، فلم يقل: وقالوا حسبنا الله ورسوله، بل جعل الحسب مختصا به وقال: * (أليس الله بكاف عبده) *؟ فخص الكفاية التي هي الحسب به وحده، وتمدح تعالى بذلك في قوله: * (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) *، وقال تعالى: * (وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذى أيدك بنصره وبالمؤمنين) * ففرق بين الحسب والتأييد، فجعل الحسب له وحده، وجعل التأييد له بنصره وبعباده.
وقد أثنى سبحانه وتعالى على أهل التوحيد والتوكل من عباده حيث أفردوه
104

بالحسب، فقال تعالى: * (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) * وقال تعالى: * (فإن تولوا فقل حسبى الله) *. إلى غير ذلك من الآيات، فإن قيل: هذا الوجه الذي دل عليه القرآن، فيه أن العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض، ضعفه غير واحد من علماء العربية، قال ابن مالك في (الخلاصة): فإن تولوا فقل حسبى الله) *. إلى غير ذلك من الآيات، فإن قيل: هذا الوجه الذي دل عليه القرآن، فيه أن العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض، ضعفه غير واحد من علماء العربية، قال ابن مالك في (الخلاصة):
* وعود خافض لدى عطف على
* ضمير خفض لازما قد جعلا
*
فالجواب من أربعة أوجه:
الأول: أن جماعة من علماء العربية صححوا جواز العطف من غير إعادة الخافض، قال ابن مالك في (الخلاصة): الأول: أن جماعة من علماء العربية صححوا جواز العطف من غير إعادة الخافض، قال ابن مالك في (الخلاصة):
* وليس عندي لازما إذ قد أتى
* في النظم والنثر الصحيح مثبتا
*
وقد قدمنا في (سورة النساء) في الكلام على قوله: * (وما يتلى عليكم فى الكتاب) * شواهده العربية، ودلالة قراءة حمزة عليه، في قوله تعالى: * (واتقوا الله الذى تسآءلون به والا رحام) *.
الوجه الثاني: أنه من العطف على المحل، لأن الكاف مخفوض في محل نصب، إذ معنى * (حسبك) * يكفيك، قال في (الخلاصة): الوجه الثاني: أنه من العطف على المحل، لأن الكاف مخفوض في محل نصب، إذ معنى * (حسبك) * يكفيك، قال في (الخلاصة):
* وجر ما يتبع ما جر ومن
* راعى في الاتباع المحل فحسن
*
الوجه الثالث: نصبه بكونه مفعولا معه، على تقدير ضعف وجه العطف، كما قال في (الخلاصة): الوجه الثالث: نصبه بكونه مفعولا معه، على تقدير ضعف وجه العطف، كما قال في (الخلاصة):
* والعطف إن يمكن بلا ضعف أحق
* والنصب مختار لدى ضعف النسق
*
الوجه الرابع: أن يكون * (ومن) * مبتدأ خبره محذوف، أي * (ومن اتبعك من المؤمنين) * فحسبهم الله أيضا، فيكون من عطف الجملة، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: * (والذين ءامنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولائك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شىء عليم) *.
لم يعين تعالى في هذه الآية الكريمة المراد بأولي الأرحام. واختلف العلماء في هذه الآية،
105

هل جاء في القرآن ما يبين المراد منها أو لا. فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنها بينتها آيات المواريث. كما قدمنا نظيره في قوله: * (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والا قربون) *.
قالوا: فلا إرث لأحد من أولي الأرحام غير من عينت لهم حقوقهم في آيات المواريث. وممن قال بهذا زيد بن ثابت، ومالك، والشافعي، والأوزاعي، وأبو ثور، وداود، وابن جرير وغيرهم. وقالوا: الباقي عن نصيب الورثة المنصوص على إرثهم لبيت مال المسلمين، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث) رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجة، والدارقطني، والبيهقي، من حديث عمرو بن خارجة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ورواه أيضا الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحسنه الترمذي وابن حجر، ولا
يضعف بأن في إسناده إسماعيل بن عياش، لما قدمنا مرارا أن روايته عن الشاميين قوية، وشيخه في حديث أبي أمامة هذا شرحبيل بن مسلم، وهو شامي ثقة، وقد صرح في روايته بالتحديث.
وقال فيه ابن حجر في (التقريب): صدوق فيه لين، فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الذي صححه الترمذي، من رواية عمرو بن خارجة، وحسنه الترمذي، وابن حجر من رواية أبي أمامة: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه) يدل بعمومه على أنه لم يبق في التركة حق لغير من عينت لهم أنصباؤهم في آيات المواريث.
وقد قال بعض أهل هذا القول: المراد بذوي الأرحام العصبة خاصة، قالوا: ومنه قول العرب وصلتك رحم، يعنون قرابة الأب دون قرابة الأم، ومنه قول قتيلة بن الحارث، أو بنت النضر بنت الحارث: وقد قال بعض أهل هذا القول: المراد بذوي الأرحام العصبة خاصة، قالوا: ومنه قول العرب وصلتك رحم، يعنون قرابة الأب دون قرابة الأم، ومنه قول قتيلة بن الحارث، أو بنت النضر بنت الحارث:
* ظلت سيوف بني أبيه تنوشه
* لله أرحام هناك تشقق
*
فأطلقت الأرحام على قرابة بني أبيه، والأظهر على القول بعدم التوريث، أن المراد بذوي الأرحام القرباء، الذين بينت حقوقهم بالنص مطلقا. واحتج أيضا من قال: لا يرث ذوو الأرحام بما روي عن عطاء بن يسار. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب إلى قباء يستخير في ميراث العمة والخالة فأنزل عليه (لا ميراث لهما) أخرجه أبو داود، في المراسيل والدارقطني، والبيهقي، من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء، مرسلا، وأخرجه النسائي في
106

(سننه)، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، من مرسل زيد بن أسلم، ليس فيه ذكر عطاء، ورد المخالف هذا بأنه مرسل.
وأجيب بأن مشهور مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد. الاحتجاج بالمرسل، وبأنه رواه البيهقي، والحاكم، والطبراني، موصولا من حديث أبي سعيد، وما ذكره البيهقي من وصله من طريقين.
إحداهما: من رواية ضرار بن صرد أبي نعيم.
والثانية: من رواية شريك بن أبي نمر، عن الحارث بن عبد، مرفوعا.
وقال محشية، صاحب (الجوهر النقي) في ضرار المذكور: إنه متروك. وعزا ذلك للنسائي، وعزا تكذيبه ليحيى بن معين.
وقال في ابن أبي نمر: فيه كلام يسير. وفي الحارث بن عبد: أنه لا يعرفه، ولا ذكر له إلا عند الحاكم في (المستدرك) في هذا الحديث.
قال مقيده عفا الله عنه: ما ذكره من أن ضرار بن صرد متروك غير صحيح. لأنه صدوق له بعض أوهام لا توجب تركه.
وقال فيه ابن حجر في (التقريب): صدوق له أوهام وخطأ، ورمي بالتشيع، وكان عارفا بالفرائض.
وأما ابن أبي نمر: فهو من رجال البخاري، ومسلم.
وأما إسناد الحاكم: فقال فيه الشوكاني، في (نيل الأوطار): إنه ضعيف وقال في إسناد الطبراني: فيه محمد بن الحارث المخزومي. قلت: قال فيه ابن حجر في (التقريب): مقبول، وقال الشوكاني أيضا، قالوا: وصله أيضا الطبراني من حديث أبي هريرة.
ويجاب: بأنه ضعفه بمسعدة بن اليسع الباهلي.
قالوا: وصله الحاكم أيضا من حديث ابن عمر، وصححه.
ويجاب: بأن في إسناده عبد الله بن جعفر المدني، وهو ضعيف.
قالوا: روى له الحاكم شاهدا من حديث شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن الحارث بن عبد، مرفوعا.
107

ويجاب: بأن في إسناده سليمان بن داود الشاذكوني، وهو متروك.
قالوا: أخرجه الدارقطني من وجه آخر عن شريك.
ويجاب: بأنه مرسل. اه.
قال مقيده عفا الله عنه: وهذه الطرق الموصولة والمرسلة يشد بعضها بعضا، فيصلح مجموعها للاحتجاج، ولا سيما أن منها ما صححه بعض العلماء، كالطريق التي صححها الحاكم، وتضعيفها بعبد الله بن جعفر المدني: فيه أنه من رجال مسلم، وأخرج له البخاري تعليقا، وقال فيه ابن حجر في (التقريب): ليس به بأس. اه.
واحتجوا أيضا بما رواه مالك في (الموطأ)، والبيهقي، عن محمد بن أبي بكر بن حزم، عن عبد الرحمن بن حنظلة الزرقي: أنه أخبره عن مولى لقريش كان قديما يقال له ابن موسى، أنه قال: كنت جالسا عند عمر بن الخطاب، فلما صلى الظهر، قال: (يا يرفأ) هلم ذلك الكتاب لكتاب كتبه في شأن العمة، فنسأل عنها، ونستخبر عنها فأتاه به (يرفأ) فدعا بتور أو قدح فيه ماء، فمحا ذلك الكتاب فيه، ثم قال: لو رضيك الله وارثة أقرك، لو رضيك الله أقرك.
وقال مالك في (الموطأ) عن محمد بن أبي بكر بن حزم: أنه سمع أباه: كثيرا يقول: كان عمر بن الخطاب يقول: عجبا للعمة ترث ولا تورث، والجميع فيه مقال، وقال جماعة من أهل العلم: لا بيان للآية من القرآن، بل هي باقية على عمومها، فأوجبوا الميراث لذوي الأرحام.
وضابطهم: أنهم الأقارب الذين لا فرض لهم ولا تعصيب.
وهم أحد عشر حيزا:
1 أولاد البنات.
2 وأولاد الأخوات.
3 وبنات الإخوة.
4 وأولاد الأخوة من الأم.
5 والعمات من جميع الجهات.
6 والعم من الأم.
108

7 والأخوال.
8 والخالات.
9 وبنات الأعمام.
01 والجد أبو الأم.
11 وكل جدة أدلت بأب بين أمين، أو بأب أعلى من الجد.
فهؤلاء، ومن أدلى لهم يسمون ذوي الأرحام. وممن قال بتوريثهم. إذا لم يوجد وارث بفرض أو تعصيب إلا الزوج والزوجة الإمام أحمد.
ويروى هذا القول، عن عمر، وعلي، وعبد الله، وأبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وأبي الدرداء رضي الله عنهم وبه قال شريح وعمر بن عبد العزيز، وعطاء، وطاوس، وعلقمة، ومسروق، وأهل الكوفة، وغيرهم.
نقله ابن قدامة في (المغني)، واحتجوا بعموم قوله تعالى: * (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) * وعموم قوله تعالى: * (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والا قربون) *، ومن السنة بحديث المقدام بن معد يكرب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (من ترك مالا فلورثته، وأنا وارث من لا وارث له، أعقل عنه. وأرث، والخال وارث من لا وارث له، يعقل عنه ويرثه) أخرجه الإمام أحمد وأبو داود، والنسائي وابن ماجة، وابن حبان، والحاكم وصححاه، وحسنه أبو زرعة الرازي، وأعله البيهقي بالاضطراب، ونقل عن يحيى بن معين، أنه كان يقول: ليس فيه حديث قوي، قاله في (نيل الأوطار).
واحتجوا أيضا بما رواه أبو أمامة بن سهل، أن رجلا رمى رجلا بسهم فقتله، وليس له وارث إلا خال، فكتب في ذلك أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر، فكتب إليه عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الله ورسوله مولى من لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له) رواه أحمد، وابن ماجة، وروى الترمذي المرفوع منه، وقال: حديث حسن.
قال الشوكاني رحمه الله: وفي الباب عن عائشة عند الترمذي والنسائي، والدارقطني، من رواية طاوس، عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الخال وارث من لا وارث له) قال الترمذي: حسن غريب، وأعله النسائي بالاضطراب، ورجح الدارقطني،
109

والبيهقي، وقفه.
قال الترمذي: وقد أرسله بعضهم ولم يذكر فيه عائشة.
وقال البزار: أحسن إسناد فيه حديث أبي أمامة بن سهل، وأخرجه عبد الرزاق، عن رجل من أهل المدينة، والعقيلي وابن عساكر، عن أبي الدرداء، وابن النجار، عن أبي هريرة، كلها مرفوعة. اه.
قال الترمذي: وإلى هذا الحديث ذهب أكثر أهل العلم في توريث ذوي الأرحام، واحتجوا أيضا بما رواه أبو داود، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه جعل ميراث ابن الملاعنة لأمه ولورثتها من بعدها: وفيه ابن لهيعة.
قال مقيده عفا الله عنه: أظهر الأقوال دليلا عندي، أن الخال يرث من لا وارث له، دون غيره من ذوي الأرحام، لثبوت ذلك فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم بالحديثين المذكورين دون غيره، لأن الميراث لا يثبت إلا بدليل، وعموم الآيتين المذكورتين لا ينهض دليلا. لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه) كما تقدم.
فإذا علمت أقوال العلماء، وحججهم في إرث ذوي الأرحام وعدمه، فاعلم أن القائلين بالتوريث: اختلفوا في كيفيته، فذهب المعروفون منهم بأهل التنزيل، إلى تنزيل كل واحد منهم منزلة من يدلى به من الورثة، فيجعل له نصيبه، فإن بعدوا نزلوا درجة درجة، إلى أن يصلوا من يدلون به، فيأخذون ميراثه، فإن كان واحدا. أخذ المال كله، وإن كانوا جماعة، قسم المال بين من يدلون به، فما حصل لكل وارث جعل لمن يدلى به، فإن بقي من سهام المسألة شيء، رد عليهم على قدر سهامهم.
وهذا، هو مذهب الإمام أحمد، وقو قول علقمة، ومسروق، والشعبي، والنخعي، وحماد، ونعيم، وشريك، وابن أبي ليلى، والثوري، وغيرهم؛ كما نقله عنهم ابن قدامة في (المغني).
وقال أيضا: قد روي عن علي، وعبد الله رضي الله عنهما: أنهما نزلا بنت البنت منزلة البنت، وبنت الأخ منزلة الأخ، وبنت الأخت منزلة الأخت، والعمة منزلة الأب، والخالة منزلة الأم، وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه في العمة، والخالة.
وعن علي أيضا: أنه نزل العمة منزلة العم، وروي ذلك عن علقمة، ومسروق، وهي الرواية الثانية عن أحمد، وعن الثوري وأبي عبيد: أنهما نزلاها منزلة الجد مع ولد
110

الأخوة والأخوات، ونزلها آخرون منزلة الجدة.
وإنما صار هذا الخلاف في العمة: لأنها أدلت بأربع جرت وارثاث: فالأب والعم أخواها، والجد والجدة أبواها، ونزل قوم الخالة منزلة جدة: لأن الجدة أمها، والصحيح من ذلك تنزيل العمة أبا، والخالة أما. اه. من (المغني).
وذهبت جماعة أخرى ممن قال بالتوريث منهم أبو حنيفة، وأصحابه إلى أنهم يورثون على ترتيب العصبات، فقالوا: يقدم أولاد الميت وإن سفلوا، ثم أولاد أبويه أو أحدهما وإن سفلوا، ثم أولاد أبوي أبويه وإن سفلوا، وهكذا أبدا لا يرث بنو أب أعلى وهناك بنو أب أقرب منه؛ وإن نزلت درجتهم.
وعن أبي حنيفة: أنه جعل أبا الأم وإن علا أولى من ولد البنات، ويسمى مذهب هؤلاء: مذهب أهل القرابة.
111

((سورة التوبة))
اعلم أولا أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكتبوا سطر * (بسم الله الرحمان الرحيم) * في سورة (براءة) هذه في المصاحف العثمانية، واختلف العلماء في سبب سقوط البسملة منها على أقوال:
منها: أن البسملة رحمة وأمان و (براءة) نزلت بالسيف. فليس فيها أمان، وهذا القول مروي عن علي رضي الله عنه، وسفيان بن عيينة.
ومنها: أن ذلك على عادة العرب إذا كتبوا كتابا فيه نقض عهد أسقطوا منه البسملة، فلما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه ليقرأها عليهم في الموسم. قرأها، ولم يبسمل على عادة العرب في شأن نقض العهد، نقل هذا القول بعض أهل العلم، ولا يخفى ضعفه.
ومنها: أن الصحابة لما اختلفوا: هل (براءة) و (الأنفال) سورة واحدة أو سورتان. تركوا بينهما فرجة لقول من قال: إنهما سورتان، وتركوا البسملة لقول من قال: هما سورة واحدة، فرضي الفريقان وثبتت حجتاهما في المصحف.
ومنها: أن سورة (براءة) نسخ أولها فسقطت معه البسملة، وهذا القول رواه ابن وهب، وابن القاسم، وابن عبد الحكم، عن مالك، كما نقله القرطبي.
وعن ابن عجلان، وسعيد بن جبير، أنها كانت تعدل سورة (البقرة). وقال القرطبي: والصحيح أن البسملة لم تكتب في هذه السورة. لأن جبريل لم ينزل بها فيها. قاله القشيري. اه.
قال مقيده: عفا الله عنه أظهر الأقوال عندي في هذه المسألة. أن سبب سقوط البسملة في هذه السورة. هو ما قاله عثمان رضي الله عنه لابن عباس.
فقد أخرج النسائي، والترمذي، وأبو داود، والإمام أحمد، وابن حبان، في (صحيحه) والحاكم في (المستدرك) وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي
112

من المثاني وإلى براءة وهي من المائين فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر * (بسم الله الرحمان الرحيم) * ووضعتموهما في السبع الطول فما حملكم على ذلك؟
فقال عثمان رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا أنزل عليه شيء يدعو بعض من يكتب عنده، فيقول: ضعوا هذا في السورة التي فيها كذا وكذا، وتنزل عليه الآيات فيقول: ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت (الأنفال) من أوائل ما أنزل بالمدينة، و (براءة) من آخر ما أنزل من القرآن، وكانت قصتهما شبيهة بقصتها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبين لنا أنها منها فظننت أنها منها، فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر * (بسم الله الرحمان الرحيم) *، ووضعتها في السبع الطول. اه.
تنبيهان
الأول: يؤخذ من هذا الحديث أن ترتيب آيات القرآن بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم. وهو كذلك بلا شك، كما يفهم منه أيضا: أن ترتيب سورة بتوقيف أيضا فيما عدى سورة (براءة)، وهو أظهر الأقوال، ودلالة الحديث عليه ظاهرة.
التنبيه الثاني: قال أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله تعالى: في هذا الحديث دليل على أن القياس أصل في الدين: ألا ترى إلى عثمان وأعيان الصحابة كيف لجئوا إلى قياس الشبه عند عدم النص، ورأوا أن قصة (براءة) شبيهة بقصة (الأنفال) فألحقوها بها، فإذا كان القياس يدخل في تأليف القرآن، فما ظنك بسائر الأحكام. * (برآءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا فى الا رض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزى الكافرين * وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الا كبر أن الله برىء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزى الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم * إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين) * قوله تعالى: * (برآءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم) * إلى قوله تعالى: * (أربعة أشهر) *.
ظاهر هذه الآية الكريمة العموم في جميع الكفار المعاهدين، وأنه بعد انقضاء أشهر الإمهال الأربعة المذكورة في قوله: * (فى الا رض أربعة أشهر) * لا عهد لكافر
.
وفي هذا اختلاف كثير بين العلماء. والذي يبينه القرآن، ويشهد له من تلك الأقوال، هو أن محل ذلك إنما هو في أصحاب العهود المطلقة غير الموقتة بوقت معين، أو من كانت مدة عهده الموقت أقل من أربعة أشهر، فتكمل له أربعة أشهر. أما أصحاب العهود الموقتة الباقي من مدتها أكثر من أربعة أشهر، فإنه يجب لهم إتمام مدتهم، ودليله المبين له من القرآن. هو قوله تعالى: * (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين) *
113

وهو اختيار ابن جرير، وروي عن الكلبي، ومحمد بن كعب القرظي، وغير واحد، قاله ابن كثير ويؤيده حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، بعثه حين أنزلت (براءة) بأربع: ألا يطوف بالبيت عريان. ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد عامهم هذا. ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته.
ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة.
قوله تعالى: * (فسيحوا فى الا رض أربعة أشهر) *.
قال بعض العلماء: كان ابتداء التأجيل بالأشهر الأربعة المذكورة من شوال. وآخره سلخ المحرم، وبه قال الزهري رحمه الله تعالى ولكن القرآن، يدل على أن ابتداءها من يوم النحر على الأصح من أنه يوم الحج الأكبر، أو يوم عرفة على القول بأنه هو يوم الحج الأكبر، وذلك في قوله تعالى: * (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الا كبر) *. وهو صريح في أن ابتداء الإعلام المذكور من يوم الحج الأكبر، وهو يوم النحر، ولا يخفى انتهاؤها في العشر من ربيع الثاني.
قال ابن كثير: في تفسير هذه الآية وقال الزهري: كان ابتداء التأجيل من شوال، وآخره سلخ المحرم، وهذا القول غريب، وكيف يحاسبون بمدة لم يبلغهم حكمها، وإنما ظهر لهم أمرها يوم النحر، حين نادى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ولهذا قال تعالى: * (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الا كبر) *.
قوله تعالى: * (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) *.
يفهم من مفهوم مخالفة هذه الآية: أن المشركين إذا نقضوا العهد جاز قتالهم، ونظير ذلك أيضا، قوله تعالى: * (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) * وهذا المفهوم في الآيتين صرح به جل وعلا في قوله: * (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا فى دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون) * * * *. * (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلواة وءاتوا الزكواة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم * وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذالك بأنهم قوم لا يعلمون * كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين * كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون * اشتروا بأايات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم سآء ما كانوا يعملون * لا يرقبون فى مؤمن إلا ولا ذمة وأولائك هم المعتدون * فإن تابوا وأقاموا الصلواة وءااتوا الزكواة فإخوانكم في الدين ونفصل الا يات لقوم يعلمون * وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا فى دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون * ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين * قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشآء والله عليم حكيم * أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون * ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شهدين على أنفسهم بالكفر أولائك حبطت أعمالهم وفى النار هم خالدون * إنما يعمر مساجد الله من ءامن بالله واليوم الا خر وأقام الصلواة وءاتى الزكواة ولم يخش إلا الله فعسى أولائك أن يكونوا من المهتدين * أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن ءامن بالله واليوم الا خر وجاهد فى سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدى القوم الظالمين * الذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولائك هم الفائزون * يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيهآ أبدا إن الله عنده أجر عظيم) * قوله تعالى: * (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) *.
اختلف العلماء في المراد بالأشهر الحرم في هذه الآية.
114

فقال ابن جرير: إنها المذكورة في قوله تعالى. * (منهآ أربعة حرم ذالك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) * قاله أبو جعفر الباقر.
ولكن قال ابن جرير: آخر الأشهر الحرم في حقهم المحرم، وحكى نحو قوله هذا علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، وإليه ذهب الضحاك.
ولكن السياق يدل على أن المراد بها أشهر الإمهال المذكورة في قوله: * (فسيحوا فى الا رض أربعة أشهر) *.
قال ابن كثير: في تفسير هذه الآية: والذي يظهر من حيث السياق، ما ذهب إليه ابن عباس، في رواية العوفي عنه، وبه قال مجاهد، وعمرو بن شعيب، ومحمد بن إسحاق، وقتادة، والسدي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أن المراد بها، الأشهر الأربعة المنصوص عليها بقوله: * (فسيحوا فى الا رض أربعة أشهر) * ثم قال: * (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) * أي: إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرمنا عليكم قتالهم فيها، وأجلناهم فيها، فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم لأن عود العهد على مذكور أولى من مقدر، مع أن الأشهر الأربعة المحرمة سيأتي بيان حكمها في آية أخرى اه.
قوله تعالى: * (وهموا بإخراج الرسول) *.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن كفار مكة هموا بإخراجه صلى الله عليه وسلم من مكة، وصرح في مواضع أخر بأنهم أخرجوه بالفعل، كقوله * (يخرجون الرسول وإياكم) *، وقوله: * (وكأين من قرية هى أشد قوة من قريتك التى أخرجتك) * وقوله: * (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا) *، وذكر في مواضع أخر: محاولتهم لإخراجه قبل أن يخرجوه، كقوله: * (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك) *، وقوله: * (وإن كادوا ليستفزونك من الا رض ليخرجوك منها) *. * (ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا ءابآءكم وإخوانكم أوليآء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولائك هم الظالمون * قل إن كان ءاباؤكم وأبنآؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونهآ أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين * لقد نصركم الله فى مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذالك جزآء الكافرين * ثم يتوب الله من بعد ذالك على من يشآء والله غفور رحيم * ياأيها الذين ءامنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هاذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شآء إن الله عليم حكيم * قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الا خر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون * وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذالك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون * اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم ومآ أمروا إلا ليعبدوا إلاها واحدا لا إلاه إلا هو سبحانه عما يشركون * يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون * هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) * قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا ءابآءكم وإخوانكم أوليآء إن استحبوا الكفر على الإيمان) *.
نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة عن موالاة الكفار، ولو كانوا قرباء، وصرح في موضع آخر: بأن الاتصاف بوصف الإيمان مانع من موادة الكفار ولو كانوا قرباء، وهو قوله: * (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الا خر يوآدون من حآد الله ورسوله ولو كانوا ءابآءهم أو أبنآءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) *.
قوله تعالى: * (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت
115

عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين) *.
ذكر تعالى ما أصاب المسلمين يوم حنين في هذه الآية الكريمة، وذكر ما أصابهم يوم أحد بقوله: * (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم فى أخراكم) *، وصرح بأنه تاب على من تولى يوم أحد بقوله: * (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم) *، وأشار هنا إلى توبته على من تولى يوم حنين بقوله: * (ثم يتوب الله من بعد ذالك على من يشآء والله غفور رحيم) * كما أشار بعض العلماء إليه. * (ياأيها الذين ءامنوا إن كثيرا من الا حبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم * يوم يحمى عليها فى نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هاذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون * إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والا رض منهآ أربعة حرم ذالك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كآفة كما يقاتلونكم كآفة واعلموا أن الله مع المتقين * إنما النسىء زيادة فى الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين * ياأيها الذين ءامنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا فى سبيل الله اثاقلتم إلى الا رض أرضيتم بالحيواة الدنيا من الا خرة فما متاع الحياة الدنيا فى الا خرة إلا قليل * إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شىء قدير * إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما فى الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هى العليا والله عزيز حكيم * انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم فى سبيل الله ذالكم خير لكم إن كنتم تعلمون * لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولاكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون * عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين * لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الا خر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين * إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الا خر وارتابت قلوبهم فهم فى ريبهم يترددون * ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولاكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين * لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولاوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين * لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جآء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون * ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتنى ألا فى الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين * إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون * قل لن يصيبنآ إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون * قل هل تربصون بنآ إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون * قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين * وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلواة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون * فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحيواة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون * ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولاكنهم قوم يفرقون * لو يجدون ملجئا أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون * ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون * ولو أنهم رضوا مآ ءاتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنآ إلى الله راغبون * إنما الصدقات للفقرآء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب والغارمين وفى سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم * ومنهم الذين يؤذون النبى ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين
ءامنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم * يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين * ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذالك الخزى العظيم * يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون * ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وءاياته ورسوله كنتم تستهزءون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طآئفة منكم نعذب طآئفة بأنهم كانوا مجرمين * المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون * وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هى حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم * كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولائك حبطت أعمالهم في الدنيا والا خرة وأولائك هم الخاسرون * ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون * والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أوليآء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلواة ويؤتون الزكواة ويطيعون الله ورسوله أولائك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم * وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة فى جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذالك هو الفوز العظيم * ياأيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير * يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما فى الدنيا والا خرة وما لهم فى الا رض من ولي ولا نصير * ومنهم من عاهد الله لئن ءاتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين * فلمآ ءاتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون * فأعقبهم نفاقا فى قلوبهم إلى يوم يلقونه بمآ أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون * ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب * الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم * استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذالك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين) * قوله تعالى: * (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) *.
أظهر الأقوال وأقربها للصواب في معنى * (يكنزون) * في هذه الآية الكريمة، أن المراد بكنزهم الذهب والفضة وعدم إنفاقهم لها في سبيل الله، أنهم لا يؤدون زكاتهما.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: وأما الكنز؟ فقال مالك: عن عبد الله بن دينار. عن ابن عمر. هو المال الذي لا تؤدى زكاته.
وروى الثوري، وغيره، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: ما أدى زكاته فليس بكنز وإن كان نحت سبع أرضين، وما كان ظاهرا لا تؤدى زكاته فهو كنز، وقد روي هذا عن ابن عباس، وجابر، وأبي هريرة، موقوفا ومرفوعا.
وقال عمر بن الخطاب نحوه: أيما مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا في الأرض، وأيما مال لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه، وإن كان على وجه الأرض اه.
وممن روى عنه هذا القول عكرمة، والسدي، ولا شك أن هذا القول أصوب الأقوال، لأن من أدى الحق الواجب في المال الذي هو الزكاة لا يكوى بالباقي إذا أمسكه، لأن الزكاة تطهره كما قال تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) * ولأن المواريث ما جعلت إلا في أموال تبقى بعد مالكيها.
ومن أصرح الأدلة في ذلك، حديث طلحة بن عبيد الله وغيره في قصة الأعرابي أخي بني سعد، من هوازن، وهو ضمام بن ثعلبة لما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم: بأن الله فرض عليه الزكاة، وقال: هل على غيرها، فإن النبي قال له: لا، إلا أن تطوع: وقوله تعالى: * (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) * وقد قدمنا في (البقرة) تحقيق أنه ما زاد
116

على الحاجة التي لا بد منها، وقوله: (ليس فيما دون خمسة أوسق) الحديث، لأن صدقة نكرة في سياق النفي فهي تعم نفي كل صدقة.
وفي الآية أقوال أخر:
منها: أنها منسوخة بآيات الزكاة كقوله: * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم) *.
وذكر البخاري هذا القول بالنسخ عن ابن عمر أيضا. وبه قال عمر بن عبد العزيز وعراك بن مالك. اه.
وعن علي أنه قال: أربعة آلاف فما دونها نفقة وما كان أكثر من ذلك فهو كنز، ومذهب أبي ذر رضي الله عنه في هذه الآية معروف، وهو أنه يحرم على الإنسان أن يدخر شيئا فاضلا عن نفقة عياله. اه ولا يخفى أن ادخار ما أديت حقوقه الواجبة لا بأس به، وهو كالضروري عند عامة المسلمين.
فإن قيل: ما الجواب عما رواه الإمام أحمد، عن علي رضي الله عنه، قال: مات رجل من أهل الصفة، وترك دينارين أو درهمين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيتان صلوا على صاحبكم) اه. وما رواه قتادة عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة. صدى بن عجلان قال: مات رجل من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كية) ثم توفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيتان): وما روى عبد الرزاق وغيره عن علي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تبا للذهب تبا للفضة يقولها ثلاثا فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: فأي مال نتخذ؟ فقال عمر رضي الله عنه: أنا أعلم لكم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إن أصحابك قد شق عليهم وقالوا: فأي المال نتخذ؟ فقال: (لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة تعين أحدكم على دينه). ونحو ذلك من الأحاديث.
فالجواب والله تعالى أعلم أن هذا التغليظ كان أولا ثم نسخ بفرض الزكاة كما ذكره البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما.
وقال ابن حجر في (فتح الباري): قال ابن عبد البر: وردت عن أبي ذر آثار كثيرة تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش. فهو كنز يذم فاعله. وأن آية الوعيد نزلت في ذلك.
وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم، وحملوا الوعيد على مانع الزكاة، إلى أن
117

قال: فكان ذلك واجبا في أول الأمر، ثم نسخ، ثم ذكر عن شداد بن أوس أنه قال: كان أبو ذر يسمع الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه الشدة ثم يخرج إلى قومه ثم يرخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يسمع الرخصة، ويتعلق بالأمر الأول. اه.
وقال بعض العلماء: هي في خصوص أهل الكتاب، بدليل افترانها مع قوله: * (إن كثيرا من الا حبار والرهبان) *.
فإذا علمت أن التحقيق أن الآية عامة، وأنها في من لا يؤدي الزكاة، فاعلم أن المراد بها هو المشار إليه في آيات الزكاة. وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك، أن البيان بالقرآن إذا كان غير واف بالمقصود نتمم البيان من السنة، من حيث إنها بيان للقرآن المبين به، وآيات الزكاة كقوله: * (خذ من أموالهم صدقة) *، وقوله: * (وآتوا الزكواة) * وقوله: * (أنفقوا من طيبات ما كسبتم وممآ أخرجنا لكم من الا رض) * لا تفي بالبيان فتبينه بالسنة، وقد قال ابن خويز منداد المالكي، تضمنت هذه الآية: زكاة العين، وهي تجب بأربعة شروط، حرية، وإسلام، وحول، ونصاب سليم من الدين. اه وفي بعض هذه الشروط خلاف. * *
مسائل من أحكام هذه الآية الكريمة
المسألة الأولى: في قدر نصاب الذهب والفضة، وفي القدر الواجب إخراجه منهما.
أما نصاب الفضة، فقد أجمع جميع العلماء على أنه مائتا درهم شرعي، ووزن الدرهم الشرعي ستة دوانق، وكل عشرة دراهم شرعية فهي سبعة مثاقيل، والأوقية أربعون درهما شرعيا.
وكل هذا أجمع عليه المسلمون فلا عبرة بقول المريسي، الذي خرق به الإجماع. وهو اعتبار العدد في الدراهم لا الوزن، ولا بما انفرد به السرخسي من الشافعية، زاعما أنه وجه في المذهب، من أن الدرهم المغشوشة إذا بلغت قدرا لو ضم إليه قيمة الغش من نحاس مثلا لبلغ نصابا أن الزكاة تجب فيه، كما نقل عن أبي حنيفة، ولا بقول ابن حبيب الأندلسي، إن أهل كل بلد يتعاملون بدراهمهم، ولا بما ذكره ابن عبد البر. من اختلاف الوزن بالنسبة إلى دراهم الأندلس وغيرها من دراهم البلاد، لأن النصوص الصحيحة
118

الصريحة التي أجمع عليها المسلمون مبينة أن نصاب الفضة مائتا درهم شرعي بالوزن الذي كان معروفا في مكة. اه.
وكل سبعة مثاقيل فهي عشرة دراهم، فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس فيما دون خمس أواق صدقة) ورواه مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه. وقد أجمع جميع المسلمين، وجمهور أهل اللسان العربي، على أن الأوقية أربعون درهما، وما ذكره أبو عبيد وغيره، من أن الدرهم كان مجهولا قدره حتى جاء عبد الملك بن مروان، فجمع العلماء فجعلوا كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل لا يخفى سقوطه وأنه لا يمكن أن يكون نصاب الزكاة وقطع السرقة مجهولا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم، حتى يحققه عبد الملك. والظاهر أن معنى ما نقل من ذلك: أنه لم يكن شيء منها من ضرب الإسلام، وكانت مختلفة الوزن بالنسبة إلى العدد: فعشرة مثلا وزن عشرة، وعشرة وزن ثمانية، فاتفق الرأي على أن تنقش بكتابة عربية ويصيرونها وزنا واحدا. وقد ذكرنا تحقيق وزن الدرهم في الأنعام، وقال بعض العلماء: يغتفر في نصاب الفضة النقص اليسير الذي تروج معه الدراهم رواج الكاملة.
وظاهر النصوص أنه لا زكاة إلا في نصاب كامل، لأن الناقص ولو بقليل يصدق عليه أنه دون خمس أواق، والنبي صلى الله عليه وسلم: صرح بأن ما دونها ليس فيه صدقة.
فإذا حققت النص والإجماع: على أن نصاب الفضة مائتا درهم شرعي، وهي وزن مائة وأربعين مثقالا من الفضة الخالصة، فاعلم أن القدر الواجب إخراجه منها ربع العشر بإجماع المسلمين، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وفي الرقة ربع العشر) والرقة: الفضة.
قال البخاري في صحيحه في باب (زكاة الغنم): حدثنا محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري، قال: حدثني أبي، قال: حدثني ثمامة بن عبد الله بن أنس. أن أنسا حدثه، أن أبا بكر رضي الله عنه، كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين (بسم الله الرحمان الرحيم، هذه فريضة الصدقة، التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله) الحديث: وفيه. وفي الرقة: ربع العشر، وهو نص صريح صحيح
119

أجمع عليه جميع المسلمين.
فتحصل أنه لا خلاف بين المسلمين في وجوب الزكاة في الفضة، ولا خلاف بينهم في أن نصابها مائتا درهم شرعي، ولا خلاف بينهم في أن اللازم فيها ربع العشر.
وجمهور العلماء: على أنها لا وقص فيها خلافا لأبي حنيفة، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وطاوس، والحسن البصري، والشعبي، ومكحول، وعمرو بن دينار، والزهري، القائلين: بأنه لا شيء في الزيادة على المائتين حتى تبلغ أربعين، ففيها درهم.
وأما الذهب: فجماهير علماء المسلمين، على أن نصابه عشرون دينارا والدينار: هو المثقال، فلا عبرة بقول من شذ وخالف جماهير علماء المسلمين، كما روي عن
الحسن في أحد قوليه: أن نصاب الذهب أربعون دينارا، وكقول طاوس، أن نصاب الذهب معتبر بالتقويم بالفضة، فما بلغ منه قيمة مائتي درهم وجبت فيه الزكاة. وجماهير علماء المسلمين أيضا، على أن الواجب فيه ربع العشر.
والدليل على ما ذكرنا عن جمهور علماء الأمة، أن نصاب الذهب عشرون دينارا، والواجب فيه ربع العشر، ما أخرجه أبو داود، في سننه، حدثنا سليمان بن داود المهري، أخبرنا ابن وهب، أخبرني جرير بن حازم، وسمى آخر، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، والحارث الأعور، عن علي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (فإذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء يعني في الذهب حتى يكون لك عشرون دينارا فإذا كان لك عشرون دينارا وحال عليها الحول، ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك) قال: فلا أدري أعلي يقول فبحساب ذلك، أو رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول، إلا أن جريرا قال: ابن وهب، يزيد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول) اه.
فإن قيل: هذا الحديث مضعف بالحارث الأعور، وعاصم بن ضمرة، لأنهما ضعيفان، وبأن الدارقطني، قال: الصواب وقفه على علي، وبأن ابن المواق قال: إن فيه علة خفية وهي، أن جرير بن حازم، لم يسمعه من أبي إسحاق، فقد رواه حفاظ أصحاب ابن وهب، سحنون، وحرملة، ويونس، وبحر بن نصر، وغيرهم، عن ابن وهب، عن جرير بن حازم والحارث بن نبهان، عن الحسن بن عمارة عن أبي إسحاق، فذكره، قال ابن المواق: الحمل فيه على سليمان، شيخ أبي داود، فإنه وهم في إسقاط
120

رجل اه.
وبأن الشافعي رحمه الله قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في الورق صدقة، وأخذ المسلمون بعده في الذهب صدقة، إما بخبر عنه لم يبلغنا، وإما قياسا، اه: وهو صريح عن الشافعي: بأنه يرى، أن الذهب لم يثبت فيه شيء في علمه، وبأن ابن عبد البر، قال: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في زكاة الذهب شيء من جهة نقل الآحاد الثقات.
لكن روى الحسن بن عمارة، عن أبي إسحاق، عن عاصم، والحارث، عن علي، فذكره، وكذا رواه أبو حنيفة: ولو صح عنه لم يكن فيه حجة لأن الحسن بن عمارة متروك.
وبأن ابن الحزم قال: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في نصاب الذهب، ولا في القدر الواجب فيه شيء.
وذكر: أن الحديث المذكور، من رواية الحارث الأعور مرفوع، والحارث، ضعيف لا يحتج به، وكذبه غير واحد، قال: وأما رواية عاصم بن ضمرة. فهي موقوفة على علي رضي الله عنه، قال: وكذلك رواه شعبة، وسفيان، ومعمر عن أبي إسحاق، عن عاصم، موقوفا: وكذا كل ثقة رواه عن عاصم.
فالجواب من أوجه:
الأول: أن بعض العلماء قال: إن هذا الحديث ثابت، قال الترمذي: وقد روى طرفا من هذا الحديث وروى هذا الحديث الأعمش، وأبو عوانة، وغيرهما، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، ورواه سفيان الثوري، وابن عيينة، وغير واحد، عن أبي إسحاق، عن الحارث عن علي، وسألت محمدا يعني البخاري عن هذا الحديث فقال: كلاهما عندي صحيح، اه.
فترى الترمذي، نقل عن البخاري، تصحيح هذا الحديث، وقال النووي في (شرح المهذب) وأما حديث عاصم عن علي رضي الله عنه، فرواه أبو داود وغيره بإسناد حسن، أو صحيح، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، اه.
وقال الشوكاني في (نيل الأوطار) وحديث علي هو من حديث أبي إسحاق، عن الحارث الأعور، وعاصم بن ضمرة، وقد تقدم أن البخاري قال: كلاهما عنده صحيح، وقد حسنه الحافظ، اه محل الغرض من كلام الشوكاني.
121

الوجه الثاني: أنه يعتضد بما رواه الدارقطني، من حديث محمد بن عبد الله بن جحش، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أمر معاذا، حين بعثه إلى اليمن، أن يأخذ من كل أربعين دينارا دينارا. الحديث ذكره ابن حجر، في (التلخيص) وسكت عليه. وبما رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا في أقل من عشرين مثقالا من الذهب شيء) قال النووي: غريب، اه.
الوجه الثالث: المناقشة بحسب صناعة علم الحديث والأصول، فنقول:
سلمنا أن الحارث الأعور ضعيف كما تقدم في المائدة، وإن وثقه ابن معين، فيبقى عاصم بن ضمرة، الذي روى معه الحديث، فإن حديثه حجة وقد وثقه ابن المديني.
وقال: النسائي: ليس به بأس.
وقال فيه ابن حجر في (التقريب): عاصم بن ضمرة السلولي الكوفي: صدوق وتعتضد روايته برواية الحارث، وإن كان ضعيفا. وبما ذكرنا عن محمد بن عبد الله بن جحش، وعمرو بن شعيب.
فبهذا تعلم أن تضعيف الحديث بضعف سنده مردود.
وقد قدمنا عن الترمذي، أن البخاري قال: كلاهما صحيح.
وقد قدمنا أن النووي قال فيه: حسن أو صحيح.
ونقل الشوكاني، عن ابن حجر: أنه حسنه.
أما ما أعله به ابن المواق، من أن جرير بن حازم لم يسمعه من أبي إسحاق. لأن بينهما الحسن بن عمارة وهو متروك، فهو مردود. لأن الحديث ثابت من طرق متعددة صحيحة إلى أبي إسحاق، وقد قدمنا أن الترمذي قال: وذكر طرفا منه، هذا الحديث، رواه الأعمش، وأبو عوانة وغيرهما، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، ورواه سفيان، الثوري، وابن عينية، وغير واحد، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي. اه.
فترى: أن أبا عوانة، والأعمش، والسفيانين، وغيرهم، كلهم رووه عن أبي إسحاق.
وبه تعلم بأن إعلال ابن المواق له بأن رواية عن أبي إسحاق الحسن بن عمارة وهو متروك إعلال ساقط. لصحة الحديث إلى أبي إسحاق، فإذا حققت رد تضعيفه بأن عاصما صدوق، ورد إعلال ابن المواق له، فاعلم أن إعلال ابن حزم له بأن المرفوع رواية
122

الحارث، وهو ضعيف: وأن رواية عاصم بن ضمرة، موقوفة على علي، مردود من وجهين:
الأول: أن قدر نصاب الزكاة، وقدر الواجب فيه، كلاهما أمر توقيفي لا مجال للرأي فيه والاجتهاد، والموقوف إن كان كذلك فله حكم الرفع، كما علم في علم الحديث والأصول.
قال العلوي الشنقيطي في (طلعة الأنوار): قال العلوي الشنقيطي في (طلعة الأنوار):
* وما أتى عن صاحب مما منع
* فيه مجال الرأي عندهم رفع
*
وقال العراقي في ألفيته: وقال العراقي في ألفيته:
* وما أتى عن صاحب بحيث لا
* يقال رأيا حكمه الرفع على
*
* ما قال في المحصول نحو من أتى
* فالحاكم الرفع لهذا أثبتا
*
الثاني: أن سند أبي داود الذي رواه به حسن، أو صحيح، كما قاله النووي، وغيره، والرفع من زيادات العدول، وهي مقبولة، قال في (مراقي السعود): الثاني: أن سند أبي داود الذي رواه به حسن، أو صحيح، كما قاله النووي، وغيره، والرفع من زيادات العدول، وهي مقبولة، قال في (مراقي السعود):
* والرفع والوصل وزيد اللفظ
* مقبولة عند إمام الحفظ
*
الخ...
الوجه الرابع: اعتضاد الحديث المذكور بإجماع الحجة من علماء المسلمين إلا من شذ عن السواد الأعظم على العمل بمقتضاه، وإجماع المسلمين إذا وافق خبر آحاد، فبعض العلماء يقول: يصير بمواقفة الإجماع له قطعيا كالمتواتر.
وأكثر الأصوليين يقولون: لا يصير قطعيا بذلك.
وفرق قوم، فقالوا: إن صرحوا بأن معتمدهم في إجماعهم هو ذلك الخبر. أفاد القطع، وإلا فلا، وأشار إلى ذلك في (مراقي السعود) بقوله: وفرق قوم، فقالوا: إن صرحوا بأن معتمدهم في إجماعهم هو ذلك الخبر. أفاد القطع، وإلا فلا، وأشار إلى ذلك في (مراقي السعود) بقوله:
* ولا يفيد القطع ما يوافق
* الإجماع والبعض يقطع ينطق
*
* وبعضهم يفيد حيث عولا
* عليه...... الخ
*
وعلى كل حال، فلا يخفى أنه يعتضد بعمل المسلمين به.
الخامس: دلالة الكتاب، والإجماع، على أن الزكاة واجبة في الذهب.
أما الكتاب: فقوله تعالى: * (لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولاكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون) * * (يوم يحمى عليها فى نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هاذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) *.
123

وأما السنة: فقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من صاحب ذهب، ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه، ووجهه، وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار)، الحديث. هذا لفظ مسلم في صحيحه، وهو صريح في وجوب الحق في الذهب، كالفضة، وقد أجمع على ذلك جميع العلماء، وإذن يكون الحديث المذكور بيانا لشيء ثابت قطعا، وقد تقرر في الأصول أن البيان يجوز بما هو دون المبين دلالة وسندا، كما أوضحناه في ترجمة هذا الكتاب.
فتحصل أن نصاب الذهب عشرون مثقالا، وما زاد فبحسابه، وأن الواجب فيه ربع العشر، كالفضة، وأن الذهب والفضة ليس فيهما وقص، بل كل ما زاد على النصاب فبحسابه، خلافا لمن شذ فخالف في بعض ذلك، والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
يجب اعتبار الوزن في نصاب الفضة والذهب بالوزن الذي كان معروفا عند أهل مكة، كما يجب اعتبار الكيل في خمسة الأوسق التي هي نصاب الحبوب والثمار بالكيل الذي كان معروفا عند أهل المدينة.
قال النسائي في سننه في (كتاب الزكاة): أخبرنا أحمد بن سليمان، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن حنظلة، عن طاوس عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المكيال مكيال أهل المدينة، والوزن وزن أهل مكة).
وقال أبو داود في سننه في (كتاب البيوع والإجارات): حدثنا عثمان بن أبي شيبة ثنا ابن دكين عن حنظلة، عن طاوس، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة)، وقال النووي في (شرح المهذب): وأما حديث (الميزان ميزان أهل مكة) إلى آخره فرواه أبو داود، والنسائي بأسانيد صحيحة على شرط البخاري ومسلم من رواية ابن عمر، رضي الله عنهما.
وقال أبو داود: روي من رواية ابن عباس، رضي الله عنهما. اه.
124

قال الخطابي: معنى هذا الحديث أن الوزن الذي يتعلق به حق الزكاة وزن أهل مكة، وهي دار الإسلام، قال ابن حزم: وبحثت عنه غاية البحث من كل من وثقت بتمييزه: وكل أتفق لي على أن دينار الذهب بمكة وزنه اثنتان وثمانون حبة، وثلاثة أعشار حبة من حب الشعير المطلق، والدرهم سبعة أعشار المثقال، فوزن الدرهم سبع، وخمسون، وستة أعشار حبة، وعشر عشر حبة، فالرطل مائة، وواحد، وثمانية، وعشرون درهما بالدرهم المذكور. اه.
وفي القاموس في مادة (م ك ك) والمثقال درهم، وثلاثة أسباع، والدرهم ستة دوانق، والدانق قيراطان، والقيراط طسوجان، والطسوج حبتان، والحبة: سدس ثمن درهم، وهو جزء من ثمانية وأربعين جزءا من الدرهم. اه.
وقد قدمنا الكلام على قدر خمسة الأوسق في سورة (الأنعام).
المسألة الثانية: هل يضم الذهب والفضة بعضهما إلى بعض في الزكاة أو لا؟ لم أر في ذلك نصا صريحا عن النبي صلى الله عليه وسلم، والعلماء مختلفون فيه، وقد توقف الإمام أحمد رحمه الله عن ضم أحدهما إلى الآخر في رواية الأثرم، وجماعة، وقطع في رواية حنبل بأنه لا زكاة عليه حتى يبلغ كل واحد منهما نصابا.
وممن قال بأن الذهب والفضة لا يضم بعضهما إلى بعض: الشافعي، وأبو ثور، وأبو عبيد وابن أبي ليلى، والحسن بن صالح، وشريك. قال ابن قدامة: في (المغني) واختاره أبو بكر عبد العزيز.
وممن قال: إن الذهب والفضة يضم بعضهما إلى بعض في تكميل النصاب: ومالك. والأوزاعي، والحسن، وقتادة، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه.
قال مقيده عفا الله عنه: والذي يظهر لي رجحانه بالدليل من القولين أن الذهب والفضة لا يضم أحدهما إلى الآخر لما ثبت في بعض الروايات الصحيحة كما رواه مسلم في صحيحه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس فيما دون خمسة أواق
125

من الورق صدقة) الحديث.
فلو كان عنده أربع أواق من الورق الذي هو: الفضة، وما يكمل النصاب من الذهب فإنه يصدق عليه بدلالة المطابقة أنه ليس عنده خمس أواق من الورق.
وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح أنه لا صدقة في أقل من خمس أواق من الورق. وظاهر نص الحديث على اسم الورق يدل على أنه: لا زكاة في أقل من خمس أواق من الفضة. ولو كان عنده ذهب كثير. ولا دليل من النصوص يصرف عن هذا الظاهر. والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثالثة: اختلف العلماء في زكاة الحلي المباح. فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا زكاة فيه. وممن قال به مالك، والشافعي وأحمد في أصح قوليهما، وبه قال عبد الله بن عمر بن الخطاب، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وعائشة، وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وقتادة،
وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، والشعبي، ومحمد بن علي، والقاسم بن محمد، وابن سيرين، والزهري، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد، وابن المنذر.
وممن قال بأن الحلي المباح تجب فيه الزكاة: أبو حنيفة رحمه الله، وروي عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، وبه قال ابن مسعود، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وميمون بن مهران، وجابر بن زيد، والحسن بن صالح، وسفيان الثوري، وداود، وحكاه ابن المنذر أيضا عن ابن المسيب، وابن جبير، وعطاء، ومجاهد، وابن سيرين، وعبد الله بن شداد، والزهري.
وسنذكر إن شاء الله تعالى حجج الفريقين، ومناقشة أدلتهما على الطرق المعروفة في الأصول، وعلم الحديث. ليتبين للناظر الراجح من الخلاف.
اعلم أن من قال بأن الحلي المباح لا زكاة فيه: تنحصر حجته في أربعة أمور:
الأول: حديث جاء بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: آثار صحيحة عن بعض الصحابة يعتضد بها الحديث المذكور.
الثالث: القياس.
الرابع: وضع اللغة.
أما الحديث: فهو ما رواه البيهقي في معرفة السنن والآثار من طريق عافية بن أيوب، عن الليث، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا زكاة في الحلي).
قال البيهقي: وهذا الحديث لا أصل له، إنما روي، عن جابر من قوله غير مرفوع، والذي يروى عن عافية بن أيوب، عن الليث، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعا لا أصل له، وعافية بن أيوب مجهول: فمن احتج به مرفوعا: كان مغررا بدينه، داخلا
126

فيما نعيب به المخالفين من الاحتجاج برواية الكذابين، والله يعصمنا من أمثال هذا.
قال مقيده: عفا الله عنه ما قاله الحافظ البيهقي، رحمه الله تعالى من أن الحكم برواية عافية المذكور لهذا الحديث مرفوعا من جنس الاحتجاج برواية الكذابين فيه نظر. لأن عافية المذكور لم يقل فيه أحد إنه كذاب، وغاية ما في الباب أن البيهقي ظن أنه مجهول، لأنه لم يطلع على كونه ثقة، وقد اطلع غيره على أنه ثقة فوثقه، فقد نقل ابن أبي حاتم توثيقه، عن أبي زرعة. قال ابن حجر في (التلخيص): عافية بن أيوب قيل ضعيف، وقال ابن الجوزي: ما نعلم فيه جرحا، وقال البيهقي، مجهول، ونقل ابن أبي حاتم توثيقه عن أبي زرعة.
ولا يخفى أن من قال إنه مجهول يقدم عليه من قال إنه ثقة: لأنه اطلع على ما لم يطلع عليه مدعي أنه مجهول، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، والتجريح لا يقبل مع الإجمال. فعافية هذا وثقه أبو زرعة، والتعديل والتجريح يكفي فيهما واحد على الصحيح في الرواية دون الشهادة. قال العراقي في ألفيته: ولا يخفى أن من قال إنه مجهول يقدم عليه من قال إنه ثقة: لأنه اطلع على ما لم يطلع عليه مدعي أنه مجهول، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، والتجريح لا يقبل مع الإجمال. فعافية هذا وثقه أبو زرعة، والتعديل والتجريح يكفي فيهما واحد على الصحيح في الرواية دون الشهادة. قال العراقي في ألفيته:
* وصححوا اكتفاءهم بالواحد
* جرحا، وتعديلا خلاف الشاهد
*
والتعديل يقبل مجملا بخلاف الجرح للاختلاف في أسبابه.
قال العراقي في ألفيته: قال العراقي في ألفيته:
* وصححوا قبول تعديل بلا
* ذكر لأسباب له أن تنقلا
*
* ولم يروا قبول جرح أبهما
* للخلف في أسبابه وربما
*
* استفسر الجرح فلم يقدح كما
* فسره شعبة بالركض فما
*
* هذا الذي عليه حفاظ الأثر
* كشيخي الصحيح مع أهل النظر
*
الخ...
وهذا هو الصحيح: فلا شك أن قول البيهقي في عافية: إنه مجهول أولى منه بالتقديم قول أبي زرعة. إنه ثقة. لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ، وإذا ثبت الاستدلال بالحديث المذكور، فهو نص في محل النزاع.
ويؤيد ما ذكر من توثيق عافية المذكور أن ابن الجوزي مع سعة اطلاعه، وشدة بحثه عن الرجال. قال: إنه لا يعلم فيه جرحا.
وأما الآثار الدالة على ذلك: فمنها ما رواه الإمام مالك في (الموطأ) عن
127

عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه (أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تلي بنات أخيها يتامى في حجرها لهن الحلي، فلا تخرج من حليهن الزكاة)، وهذا الإسناد عن عائشة في غاية الصحة، كما ترى.
ومنها ما رواه مالك في (الموطأ) أيضا، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أنه كان يحلي بناته وجواريه الذهب، ثم لا يخرج من حليهن الزكاة. وهذا الإسناد عن ابن عمر رضي الله عنهما في غاية الصحة كما ترى.
وما قاله بعض أهل العلم من أن المانع من الزكاة في الأول أنه مال يتيمة، وأنه لا تجب الزكاة على الصبي، كما لا تجب عليه الصلاة. مردود بأن عائشة ترى وجوب الزكاة في أموال اليتامى، فالمانع من إخراجها الزكاة. كونه حليا مباحا على التحقيق. لا كونه مال يتيمة، وكذلك دعوى أن المانع لابن عمر من زكاة الحلي أنه لجوار مملوكات. وأن المملوك لا زكاة عليه مردود أيضا بأنه كان لا يزكي حلي بناته مع أنه كان بزوج البنت له على ألف دينار يحليها منها بأربعمائة، ولا يزكي ذلك الحلي، وتركه لزكاته لكونه حليا مباحا على التحقيق.
ومن الآثار الواردة في ذلك ما رواه الشافعي، أنا سفيان، عن عمرو بن دينار سمعت رجلا يسأل جابر بن عبد الله عن الحلي فقال (زكاته عاريته) ذكره البيهقي في (السنن الكبرى)، وابن حجر في (التلخيص) وزاد البيهقي فقال: وإن كان يبلغ ألف دينار فقال جابر كثير.
ومنها ما رواه البيهقي عن علي بن سليم قال: سألت أنس بن مالك عن الحلي، فقال: ليس فيه زكاة.
ومنها ما رواه البيهقي، عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت تحلى بناتها الذهب ولا تزكيه نحوا من خمسين ألفا.
وأما القياس فمن وجهين:
الأول: أن الحلي لما كان لمجرد الاستعمال لا للتجارة والتنمية. الحق بغيره من الأحجار النفيسة كاللؤلؤ والمرجان، بجامع أن كلا معد للاستعمال لا للتنمية. وقد أشار إلى هذا الإلحاق مالك رحمه الله في (الموطأ) بقوله: فأما التبر والحلي المكسور الذي يريد أهله إصلاحه ولبسه، فإنما هو بمنزلة المتاع الذي يكون عند أهله،
128

فليس على أهله فيه زكاة، قال مالك: ليس في اللؤلؤ. ولا في المسك والعنبر زكاة.
الثاني من وجهي القياس: هو النوع المعروف بقياس العكس، وأشار له في (مراقي السعود) بقوله في كتاب الاستدلال. الثاني من وجهي القياس: هو النوع المعروف بقياس العكس، وأشار له في (مراقي السعود) بقوله في كتاب الاستدلال.
* منه قياس المنطقي والعكس
* ومنه فقد الشرط دون لبس
*
وخالف بعض العلماء في قبول هذا النوع من القياس، وضابطه: هو إثبات عكس حكم شيء لشيء آخر لتعاكسهما في العلة، ومثاله. حديث مسلم: (أيأتي أحدنا شهوته يكون وله فيها أجر؟ ا قال أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر) الحديث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: أثبت في الجماع المباح أجرا، وهو حكم عكس حكم الجماع الحرام، لأن فيه الوزر. لتعاكسهما في العلة. لأن علة الأجر في الأول إعفاف امرأته ونفسه. وعلة الوزر في الثاني كونه زنى.
ومن أمثلة هذا النوع من القياس عند المالكية: احتجاجهم على أن الوضوء لا يجب من كثير القيء. بأنه لما لم يجب من قليله لم يجب من كثيره عكس البول. لما وجب من قليله وجب من كثيره.
ومن أمثلته عند الحنفية. قولهم: لما لم يجب القصاص من صغير المثقل. لم يجب من كبيره عكس المحدد لما وجب من صغيره وجب من كبيره.
ووجه هذا النوع من القياس في هذه المسألة التي نحن بصددها. هو أن العروض لا تجب في عينها الزكاة، فإذا كانت للتجارة والنماء. وجبت فيها الزكاة، عكس العين: فإن الزكاة واجبة في عينها، فإذا صيغت حليا مباحا للاستعمال، وانقطع عنها قصد التنمية بالتجارة، صارت لا زكاة فيها، فتعاكست أحكامها لتعاكسهما في العلة، ومنع هذا النوع من القياس بعض الشافعية، وقال ابن محرز: إنه أضعف من قياس الشبه، ولا يخفى أن القياس يعتضد به ما سبق من الحديث المرفوع، والآثار الثابتة عن بعض الصحابة، لما تقرر في الأصول، من أن موافقة النص للقياس من المرجحات، وأما وضع اللغة، فإن بعض العلماء يقول: الألفاظ الواردة في الصحيح، في زكاة العين لا تشمل الحلي في لسان العرب.
قال أبو عبيد: الرقة عند العرب: الورق المنقوشة ذات السكة السائرة بين الناس، ولا تطلقها العرب على المصوغ، وكذلك قيل في الأوقية.
129

قال مقيده: عفا الله عنه ما قاله أبو عبيد هو المعروف في كلام العرب، قال الجوهري في صحاحه: الورق الدراهم المضروبة، وكذلك الرقة، والهاء، عوض عن الواو، وفي القاموس: الورق مثلثة، وككتف: الدراهم المضروبة، وجمعه أوراق ووراق كالرقة.
هذا هو حاصل حجة من قال: لا زكاة في الحلي.
وما ادعاه بعض أهل العلم من الاحتجاج لذلك بعمل أهل المدينة، فيه أن بعض أهل المدينة مخالف في ذلك، والحجة بعمل أهل المدينة عند من يقول بذلك، ك (مالك)، إنما هي في إجماعهم على أمر لا مجال للرأي فيه، لا إن اختلفوا، أو كان من مسائل الاجتهاد، كما أشار له في (مراقي السعود) بقوله: وما ادعاه بعض أهل العلم من الاحتجاج لذلك بعمل أهل المدينة، فيه أن بعض أهل المدينة مخالف في ذلك، والحجة بعمل أهل المدينة عند من يقول بذلك، ك (مالك)، إنما هي في إجماعهم على أمر لا مجال للرأي فيه، لا إن اختلفوا، أو كان من مسائل الاجتهاد، كما أشار له في (مراقي السعود) بقوله:
* وأوجبن حجية للمدني
* فيما على التوقيف أمره بني
*
وقيل مطلقا..! الخ.
لأن مراده بالمدني: الإجماع المدني الواقع من الصحابة، أو التابعين، لا ما اختلفوا فيه كهذه المسألة، وقيده بما بني على التوقيف دون مسائل الاجتهاد في القول الصحيح.
وأما حجة القائلين بأن الحلي تجب فيه الزكاة: فهي منحصرة في أربعة أمور أيضا:
الأول: أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أوجب الزكاة في الحلي.
الثاني: آثار وردت بذلك عن بعض الصحابة.
الثالث: وضع اللغة.
الرابع: القياس.
أما الأحاديث الواردة بذلك. فمنها ما رواه أبو داود في سننه، حدثنا أبو كامل، وحميد بن مسعدة. (المعنى) أن خالد بن الحارث حدثهم: ثنا حسين، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: (أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال لها: أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا، قال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ ا قال: فخلعتهما، فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: هما لله عز وجل ولرسوله).
وقال النسائي في سننه: أخبرنا إسماعيل بن مسعود، قال حدثنا خالد، عن حسين، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده (أن امرأة من أهل اليمن أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم
130

وبنت لها، في يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب فقال: (أتؤدين زكاة هذا؟) قالت: لا قال: (أيسرك أن يسورك الله عز وجل بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ ا) قال: فخلعتهما، فألقتهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هما لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
أخبرنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا المعتمر بن سليمان قال: سمعت حسينا قال: حدثني عمرو بن شعيب قال جاءت امرأة، ومعها بنت لها، وفي يد ابنتها مسكتان. نحوه مرسل. قال أبو عبد الرحمن: خالد أثبت من المعتمر. اه.
وهذا الحديث الذي أخرجه أبو داود والنسائي من طريق حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب: أقل درجاته الحسن، وبه تعلم أن قول الترمذي رحمه الله: لا يصح في الباب شيء. غير صحيح. لأنه لم يعلم برواية حسين المعلم له عن عمرو بن شعيب. بل جزم بأنه لم يرو عن عمرو بن شعيب إلا من طريق ابن لهيعة، والمثنى بن الصباح، وقد تابعهما حجاج بن أرطاة والجميع ضعاف.
ومنها ما رواه أبو داود أيضا، حدثنا محمد بن عيسى. ثنا عتاب يعني ابن بشير عن ثابت بن عجلان، عن عطاء، عن أم سلمة قالت: كنت ألبس أوضاحا من ذهب فقلت: يا رسول الله أكنز هو؟ فقال: (ما بلغ أن تؤدي زكاته، فزكي فليس بكنز)، وأخرج نحوه الحاكم، والدارقطني، والبيهقي. اه.
ومنها ما رواه أبو داود أيضا، حدثنا محمد بن إدريس الرازي، ثنا عمرو بن الربيع بن طارق، ثنا يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن أبي جعفر: أن محمد بن عمرو بن عطاء أخبره، عن عبد الله بن شداد بن الهاد أنه قال: دخلنا على عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في يدي فتخات من ورق، فقال: (ما هذا يا عائشة؟ ا) فقلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله، قال: (أتؤدين زكاتهن؟) قلت: لا، أو ما شاء الله، قال: (هو حسبك من النار).
حدثنا صفوان بن صالح، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا سفيان عن عمر بن يعلى، فذكر الحديث نحو حديث الخاتم، قيل لسفيان كيف تزكيه؟ قال: تضمه إلى غيره. اه.
وحديث عائشة هذا أخرج نحوه أيضا الحاكم، والدارقطني، والبيهقي. اه.
وأخرج الدارقطني، عن عائشة من طريق عمرو بن شعيب، عن عروة عنها قالت: لا بأس بلبس الحلي إذا أعطي زكاته. اه.
131

قال البيهقي رحمه الله: وقد انضم إلى حديث عمرو بن شعيب حديث أم سلمة. وحديث عائشة، وساقهما.
ومنها ما رواه الإمام أحمد، عن أسماء بنت يزيد بلفظ قالت: (دخلت أنا وخالتي على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلينا أساور من ذهب فقال لنا: (أتعطيان زكاته؟) فقلنا: لا، قال: (أما تخافان أن يسوركما الله بسوار من نار؟ ا أديا زكاته). اه.
وروى الدارقطني نحوه من حديث فاطمة بنت قيس، وفي سنده أبو بكر الهذلي، وهو متروك، اه. قاله ابن حجر في (التلخيص).
وأما الآثار: فمنها ما رواه ابن أبي شيبة، والبيهقي من طريق شعيب بن يسار قال: كتب عمر إلى أبي موسى: أن مر من قبلك من نساء المسلمين أن يصدقن من حليهن. اه.
قال البيهقي: هذا مرسل شعيب بن يسار لم يدرك عمر. اه.
وقال ابن حجر في (التلخيص): وهو مرسل. قاله البخاري، وقد أنكر الحسن ذلك فيما رواه ابن أبي شيبة قال: لا نعلم أحدا من الخلفاء قال: (في الحلي زكاة).
ومنها ما رواه الطبراني، والبيهقي، عن ابن مسعود: أن امرأته سألته، عن حلي لها، فقال: إذا بلغ مائتي درهم ففيه الزكاة، قالت: أضعها في بني أخ لي في حجري؟ قال: نعم.
قال البيهقي: وقد روي هذا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وليس بشيء، وقال: قال البخاري: مرسل، ورواه الدارقطني من حديث ابن مسعود مرفوعا، وقال: هذا وهم والصواب موقوف. قاله ابن حجر في (التلخيص).
ومنها ما رواه البيهقي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أنه كان يكتب إلى خازنه سالم، أن يخرج زكاة حلي بناته كل سنة، وما روي من ذلك عن ابن عباس، قال الشافعي. لا أدري أيثبت عنه أم لا؟ وحكاه ابن المنذر، والبيهقي، عن ابن عباس، وابن عمر. وغيرهما. قاله في (التلخيص) أيضا.
وأما القياس: فإنهم قاسوا الحلي على المسكوك والمسبوك، بجامع أن الجميع نقد.
وأما وضع اللغة: فزعموا أن لفظ الرقة، ولفظ الأوقية الثابت في الصحيح يشمل
132

المصوغ كما يشمل المسكوك، وقد قدمنا أن التحقيق خلافه.
فإذا علمت حجج الفريقين، فسنذكر لك ما يمكن أن يرجع به كل واحد منهما.
أما القول بوجوب زكاة الحلي. فله مرجحات:
منها: أن من رواه من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر، كما قدمنا روايته عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وعائشة، وأم سلمة، وأسماء بنت يزيد، رضي الله عنهم.
أما القول بعدم وجوب الزكاة فيه، فلم يرو مرفوعا إلا من حديث جابر، كما تقدم.
وكثرة الرواة، من المرجحات على التحقيق، كما قدمنا في سورة (البقرة) في الكلام على آية الربا.
ومنها: أن أحاديثه كحديث عمرو بن شعيب، ومن ذكر معه، أقوى سندا من حديث سقوط الزكاة الذي رواه عافية بن أيوب.
ومنها: أن ما دل على الوجوب مقدم على ما دل على الإباحة. للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب كما تقرر في الأصول، وإليه الإشارة بقول صاحب (مراقي السعود) في مبحث الترجيح باعتبار المدلول. ومنها: أن ما دل على الوجوب مقدم على ما دل على الإباحة. للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب كما تقرر في الأصول، وإليه الإشارة بقول صاحب (مراقي السعود) في مبحث الترجيح باعتبار المدلول.
* وناقل ومثبت والآمر
* بعد النواهي ثم هذا الآخر
*
على إباحة.... الخ.
ومعنى قوله: (ثم هذا الآخر على إباحة) أن ما دل على الأمر مقدم على ما دل على الإباحة كما ذكرنا.
ومنها: دلالة النصوص الصريحة على وجوب الزكاة في أصل الفضة، والذهب، وهي دليل على أن الحلي من نوع ما وجبت الزكاة في عينه، هذا حاصل ما يمكن أن يرجح به هذا القول.
وأما القول بعدم وجوب الزكاة في الحلي المباح، فيرجح بأن الأحاديث الواردة في التحريم إنما كانت في الزمن الذي كان فيه التحلي بالذهب محرما على النساء، والحلي المحرم تجب فيه الزكاة اتفاقا.
وأما أدلة عدم الزكاة فيه، فبعد أن صار التحلي بالذهب مباحا.
والتحقيق: أن التحلي بالذهب كان في أول الأمر محرما على النساء ثم أبيح، كما يدل له ما ساقه البيهقي من أدلة تحريمه أولا، وتحليله ثانيا، وبهذا يحصل الجمع بين
133

الأدلة، والجمع واجب إن أمكن كما تقرر في الأصول وعلوم الحديث، وإليه الإشارة بقول صاحب (مراقي السعود). والتحقيق: أن التحلي بالذهب كان في أول الأمر محرما على النساء ثم أبيح، كما يدل له ما ساقه البيهقي من أدلة تحريمه أولا، وتحليله ثانيا، وبهذا يحصل الجمع بين الأدلة، والجمع واجب إن أمكن كما تقرر في الأصول وعلوم الحديث، وإليه الإشارة بقول صاحب (مراقي السعود).
* والجمع واجب متى ما أمكنا
* إلا فللأخير نسخ بينا
*
ووجهه ظاهر، لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، ومعلوم أن الجمع إذا أمكن أولى من جميع الترجيحات.
فإن قيل: هذا الجمع يقدح فيه حديث عائشة المتقدم، فإن فيه (فرأى في يدي فتخات من ورق) الحديث:
والورق: الفضة، والفضة لم يسبق لها تحريم، فالتحلي بها لم يمتنع يوما ما.
فالجواب ما قاله الحافظ البيهقي رحمه الله تعالى قال. من قال: لا زكاة في الحلي، زعم أن الأحاديث والآثار الواردة في وجوب زكاته كانت حين كان التحلي بالذهب حراما على النساء. فلما أبيح لهن سقطت زكاته.
قال: وكيف يصح هذا القول مع حديث عائشة، إن كان ذكر الورق فيه محفوظا، غير أن رواية القاسم، وابن أبي مليكة، عن عائشة في تركها إخراج زكاة الحلي، مع ما ثبت من مذهبها من إخراج زكاة أموال اليتامى يوقع ريبة في هذه الرواية المرفوعة، فهي لا تخالف النبي صلى الله عليه وسلم فيما روته عنه، إلا فيما علمته منسوخا اه.
وقد قدمنا في سورة (البقرة) الكلام على مخالفة الصحابي، لما روي في آية الطلاق، وبالجملة فلا يخفى أنه يبعد أن تعلم عائشة أن عدم زكاة الحلي فيه الوعيد من النبي لها بأنه حسبها من النار ثم تترك إخراجها بعد ذلك عمن في حجرها، مع أنها معروف عنها القول: بوجوب الزكاة في أموال اليتامى.
ومن أجوبة أهل هذا القول: أن المراد بزكاة الحلي عاريته، ورواه البيهقي، عن ابن عمر، وسعيد بن المسيب، والشعبي، في إحدى الروايتين عنه.
هذا حاصل الكلام في هذه المسألة.
وأقوى الوجوه بحسب المقرر في الأصول وعلم الحديث، الجمع إذا أمكن، وقد أمكن، هنا:
قال مقيده عفا الله عنه: وإخراج زكاة الحلي أحوط لأن (من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) والعلم عند الله تعالى.
134

المسألة الرابعة: اعلم أن جماهير علماء المسلمين من الصحابة ومن بعدهم على وجوب الزكاة في عروض التجارة، فتقوم عند الحول، ويخرج ربع عشرها كزكاة العين، قال ابن المنذر: أجمع عامة أهل العلم على وجوب زكاة التجارة، قال: رويناه عن عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وابن عباس، والفقهاء السبعة، سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وخارجة بن زيد، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وسليمان بن يسار، والحسن البصري، وطاوس، وجابر بن زيد، وميمون بن مهران، والنخعي، ومالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، والنعمان، وأصحابه، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وأبي عبيد، اه: بواسطة نقل النووي في (شرح المهذب)، وابن قدامة، في (المغني)، ولمالك رحمه الله، تفصيل في عروض التجارة، لأن عروض التجارة عنده تنقسم إلى عرض تاجر مدير، وعرض تاجر محتكر، فالمدير هو الذي يبيع ويشتري دائما، والمحتكر هو الذي يشتري السلع ويتربص بها حتى يرتفع سعرها فيبيعها، وإن لم يرتفع سعرها لم يبعها ولم مكثت سنين.
فعروض المدير عنده وديونه التي يطالب بها الناس إن كانت مرجوة يزكيها عند كل حول: والدين الحال يزكيه بالعدد. والمؤجل بالقيمة.
أما عرض المحتكر فلا يقوم عنده ولا زكاة فيه حتى يباع بعين فيزكي العين على حول أصل العرض. وإلى هذا أشار ابن عاشر، في (المرشد المعين) بقوله: أما عرض المحتكر فلا يقوم عنده ولا زكاة فيه حتى يباع بعين فيزكي العين على حول أصل العرض. وإلى هذا أشار ابن عاشر، في (المرشد المعين) بقوله:
* والعرض ذو التجر ودين من أدار
* قيمتها كالعين ثم ذو احتكار
*
* زكى لقبض ثمن أو دين
* عينا بشرط الحول للأصلين
*
زاد مالك في مشهور مذهبه شرطا، وهو أنه يشترط في وجوب تقويم عروض المدير أن يصل يده شيء ناص من ذات الذهب أو الفضة، ولو كان ربع درهم أو أقل، وخالفه ابن حبيب من أهل مذهبه، فوافق الجمهور في عدم اشتراط ذلك.
ولا يخفى أن مذهب الجمهور هو الظاهر، ولم نعلم بأحد من أهل العلم خالف في وجوب زكاة عروض التجارة، إلا ما يروى عن داود الظاهري، وبعض أتباعه.
ودليل الجمهور، آية: وأحاديث: وآثار: وردت بذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم. ولم يعلم أن أحدا منهم خالف في ذلك، فهو إجماع سكوتي.
فمن الأحاديث الدالة على ذلك: ما رواه أبو ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه
135

قال: (في الإبل صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البز صدقته) الحديث: أخرجه الحاكم، والدارقطني، والبيهقي.
وقال النووي في (شرح المهذب) هذا الحديث رواه الدارقطني، في سننه والحاكم أبو عبد الله، في (المستدرك) والبيهقي، بأسانيدهم، ذكره الحاكم، بإسنادين: ثم قال: هذان الإسنادان صحيحان على شرط البخاري ومسلم، اه. قال مقيده: عفا الله عنه ما قاله الحافظ البيهقي، رحمه الله تعالى من أن الحكم برواية عافية المذكور لهذا الحديث مرفوعا من جنس الاحتجاج برواية الكذابين فيه نظر. لأن عافية المذكور لم يقل فيه أحد إنه كذاب، وغاية ما في الباب أن البيهقي ظن أنه مجهول، لأنه لم يطلع على كونه ثقة، وقد اطلع غيره على أنه ثقة فوثقه، فقد نقل ابن أبي حاتم توثيقه، عن أبي زرعة. قال ابن حجر في (التلخيص): عافية بن أيوب قيل ضعيف، وقال ابن الجوزي: ما نعلم فيه جرحا، وقال البيهقي، مجهول، ونقل ابن أبي حاتم توثيقه عن أبي زرعة.
ولا يخفى أن من قال إنه مجهول يقدم عليه من قال إنه ثقة: لأنه اطلع على ما لم يطلع عليه مدعي أنه مجهول، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، والتجريح لا يقبل مع الإجمال. فعافية هذا وثقه أبو زرعة، والتعديل والتجريح يكفي فيهما واحد على الصحيح في الرواية دون الشهادة. قال العراقي في ألفيته: ولا يخفى أن من قال إنه مجهول يقدم عليه من قال إنه ثقة: لأنه اطلع على ما لم يطلع عليه مدعي أنه مجهول، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، والتجريح لا يقبل مع الإجمال. فعافية هذا وثقه أبو زرعة، والتعديل والتجريح يكفي فيهما واحد على الصحيح في الرواية دون الشهادة. قال العراقي في ألفيته:
* وصححوا اكتفاءهم بالواحد
* جرحا، وتعديلا خلاف الشاهد
*
والتعديل يقبل مجملا بخلاف الجرح للاختلاف في أسبابه.
قال العراقي في ألفيته: قال العراقي في ألفيته:
* وصححوا قبول تعديل بلا
* ذكر لأسباب له أن تنقلا
*
* ولم يروا قبول جرح أبهما
* للخلف في أسبابه وربما
*
* استفسر الجرح فلم يقدح كما
* فسره شعبة بالركض فما
*
* هذا الذي عليه حفاظ الأثر
* كشيخي الصحيح مع أهل النظر
*
الخ...
وهذا هو الصحيح: فلا شك أن قول البيهقي في عافية: إنه مجهول أولى منه بالتقديم قول أبي زرعة. إنه ثقة. لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ، وإذا ثبت الاستدلال بالحديث المذكور، فهو نص في محل النزاع.
ويؤيد ما ذكر من توثيق عافية المذكور أن ابن الجوزي مع سعة اطلاعه، وشدة بحثه عن الرجال. قال: إنه لا يعلم فيه جرحا.
وأما الآثار الدالة على ذلك: فمنها ما رواه الإمام مالك في (الموطأ) عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه (أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تلي بنات أخيها يتامى في حجرها لهن الحلي، فلا تخرج من حليهن الزكاة)، وهذا الإسناد عن عائشة في غاية الصحة، كما ترى.
ومنها ما رواه مالك في (الموطأ) أيضا، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أنه كان يحلي بناته وجواريه الذهب، ثم لا يخرج من حليهن الزكاة. وهذا الإسناد عن ابن عمر رضي الله عنهما في غاية الصحة كما ترى.
وما قاله بعض أهل العلم من أن المانع من الزكاة في الأول أنه مال يتيمة، وأنه لا تجب الزكاة على الصبي، كما لا تجب عليه الصلاة. مردود بأن عائشة ترى وجوب الزكاة في أموال اليتامى، فالمانع من إخراجها الزكاة. كونه حليا مباحا على التحقيق. لا كونه مال يتيمة، وكذلك دعوى أن المانع لابن عمر من زكاة الحلي أنه لجوار
مملوكات. وأن المملوك لا زكاة عليه مردود أيضا بأنه كان لا يزكي حلي بناته مع أنه كان بزوج البنت له على ألف دينار يحليها منها بأربعمائة، ولا يزكي ذلك الحلي، وتركه لزكاته لكونه حليا مباحا على التحقيق.
ومن الآثار الواردة في ذلك ما رواه الشافعي، أنا سفيان، عن عمرو بن دينار سمعت رجلا يسأل جابر بن عبد الله عن الحلي فقال (زكاته عاريته) ذكره البيهقي في (السنن الكبرى)، وابن حجر في (التلخيص) وزاد البيهقي فقال: وإن كان يبلغ ألف دينار فقال جابر كثير.
ومنها ما رواه البيهقي عن علي بن سليم قال: سألت أنس بن مالك عن الحلي، فقال: ليس فيه زكاة.
ومنها ما رواه البيهقي، عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت تحلى بناتها الذهب ولا تزكيه نحوا من خمسين ألفا.
وأما القياس فمن وجهين:
الأول: أن الحلي لما كان لمجرد الاستعمال لا للتجارة والتنمية. الحق بغيره من الأحجار النفيسة كاللؤلؤ والمرجان، بجامع أن كلا معد للاستعمال لا للتنمية. وقد أشار إلى هذا الإلحاق مالك رحمه الله في (الموطأ) بقوله: فأما التبر والحلي المكسور الذي يريد أهله إصلاحه ولبسه، فإنما هو بمنزلة المتاع الذي يكون عند أهله، فليس على أهله فيه زكاة، قال مالك: ليس في اللؤلؤ. ولا في المسك والعنبر زكاة.
الثاني من وجهي القياس: هو النوع المعروف بقياس العكس، وأشار له في (مراقي السعود) بقوله في كتاب الاستدلال. الثاني من وجهي القياس: هو النوع المعروف بقياس العكس، وأشار له في (مراقي السعود) بقوله في كتاب الاستدلال.
* منه قياس المنطقي والعكس
* ومنه فقد الشرط دون لبس
*
وخالف بعض العلماء في قبول هذا النوع من القياس، وضابطه: هو إثبات عكس حكم شيء لشيء آخر لتعاكسهما في العلة، ومثاله. حديث مسلم: (أيأتي أحدنا شهوته يكون وله فيها أجر؟ ا قال أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر) الحديث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: أثبت في الجماع المباح أجرا، وهو حكم عكس حكم الجماع الحرام، لأن فيه الوزر. لتعاكسهما في العلة. لأن علة الأجر في الأول إعفاف امرأته ونفسه. وعلة الوزر في الثاني كونه زنى.
ومن أمثلة هذا النوع من القياس عند المالكية: احتجاجهم على أن الوضوء لا يجب من كثير القيء. بأنه لما لم يجب من قليله لم يجب من كثيره عكس البول. لما وجب من قليله وجب من كثيره.
136

ومن أمثلته عند الحنفية. قولهم: لما لم يجب القصاص من صغير المثقل. لم يجب من كبيره عكس المحدد لما وجب من صغيره وجب من كبيره.
ووجه هذا النوع من القياس في هذه المسألة التي نحن بصددها. هو أن العروض لا تجب في عينها الزكاة، فإذا كانت للتجارة والنماء. وجبت فيها الزكاة، عكس العين: فإن الزكاة واجبة في عينها، فإذا صيغت حليا مباحا للاستعمال، وانقطع عنها قصد التنمية بالتجارة، صارت لا زكاة فيها، فتعاكست أحكامها لتعاكسهما في العلة، ومنع هذا النوع من القياس بعض الشافعية، وقال ابن محرز: إنه أضعف من قياس الشبه، ولا يخفى أن القياس يعتضد به ما سبق من الحديث المرفوع، والآثار الثابتة عن بعض الصحابة، لما تقرر في الأصول، من أن موافقة النص للقياس من المرجحات، وأما وضع اللغة، فإن بعض العلماء يقول: الألفاظ الواردة في الصحيح، في زكاة العين لا تشمل الحلي في لسان العرب.
قال أبو عبيد: الرقة عند العرب: الورق المنقوشة ذات السكة السائرة بين الناس، ولا تطلقها العرب على المصوغ، وكذلك قيل في الأوقية.
قال مقيده: عفا الله عنه ما قاله أبو عبيد هو المعروف في كلام العرب، قال الجوهري في صحاحه: الورق الدراهم المضروبة، وكذلك الرقة، والهاء، عوض عن الواو، وفي القاموس: الورق مثلثة، وككتف: الدراهم المضروبة، وجمعه أوراق ووراق كالرقة.
هذا هو حاصل حجة من قال: لا زكاة في الحلي.
وما ادعاه بعض أهل العلم من الاحتجاج لذلك بعمل أهل المدينة، فيه أن بعض أهل المدينة مخالف في ذلك، والحجة بعمل أهل المدينة عند من يقول بذلك، ك (مالك)، إنما هي في إجماعهم على أمر لا مجال للرأي فيه، لا إن اختلفوا، أو كان من مسائل الاجتهاد، كما أشار له في (مراقي السعود) بقوله: وما ادعاه بعض أهل العلم من الاحتجاج لذلك بعمل أهل المدينة، فيه أن بعض أهل المدينة مخالف في ذلك، والحجة بعمل أهل المدينة عند من يقول بذلك، ك (مالك)، إنما هي في إجماعهم على أمر لا مجال للرأي فيه، لا إن اختلفوا، أو كان من مسائل الاجتهاد، كما أشار له في (مراقي السعود) بقوله:
* وأوجبن حجية للمدني
* فيما على التوقيف أمره بني
*
وقيل مطلقا..! الخ.
لأن مراده بالمدني: الإجماع المدني الواقع من الصحابة، أو التابعين، لا ما اختلفوا فيه كهذه المسألة، وقيده بما بني على التوقيف دون مسائل الاجتهاد في القول
الصحيح.
وأما حجة القائلين بأن الحلي تجب فيه الزكاة: فهي منحصرة في أربعة أمور أيضا:
الأول: أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أوجب الزكاة في الحلي.
الثاني: آثار وردت بذلك عن بعض الصحابة.
الثالث: وضع اللغة.
الرابع: القياس.
أما الأحاديث الواردة بذلك. فمنها ما رواه أبو داود في سننه، حدثنا أبو كامل، وحميد بن مسعدة. (المعنى) أن خالد بن الحارث حدثهم: ثنا حسين، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: (أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال لها: أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا، قال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ ا قال: فخلعتهما، فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: هما لله عز وجل ولرسوله).
وقال النسائي في سننه: أخبرنا إسماعيل بن مسعود، قال حدثنا خالد، عن حسين، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده (أن امرأة من أهل اليمن أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت لها، في يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب فقال: (أتؤدين زكاة هذا؟) قالت: لا قال: (أيسرك أن يسورك الله عز وجل بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ ا) قال: فخلعتهما، فألقتهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هما لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
أخبرنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا المعتمر بن سليمان قال: سمعت حسينا قال: حدثني عمرو بن شعيب قال جاءت امرأة، ومعها بنت لها، وفي يد ابنتها مسكتان. نحوه مرسل. قال أبو عبد الرحمن: خالد أثبت من المعتمر. اه.
وهذا الحديث الذي أخرجه أبو داود والنسائي من طريق حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب: أقل درجاته الحسن، وبه تعلم أن قول الترمذي رحمه الله: لا يصح في الباب شيء. غير صحيح. لأنه لم يعلم برواية حسين المعلم له عن عمرو بن شعيب. بل جزم بأنه لم يرو عن عمرو بن شعيب إلا من طريق ابن لهيعة، والمثنى بن الصباح، وقد تابعهما حجاج بن أرطاة والجميع ضعاف.
ومنها ما رواه أبو داود أيضا، حدثنا محمد بن عيسى. ثنا عتاب يعني ابن بشير عن ثابت بن عجلان، عن عطاء، عن أم سلمة قالت: كنت ألبس أوضاحا من ذهب فقلت: يا رسول الله أكنز هو؟ فقال: (ما بلغ أن تؤدي زكاته، فزكي فليس بكنز)، وأخرج نحوه الحاكم، والدارقطني، والبيهقي. اه.
ومنها ما رواه أبو داود أيضا، حدثنا محمد بن إدريس الرازي، ثنا عمرو بن الربيع بن طارق، ثنا يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن أبي جعفر: أن محمد بن عمرو بن عطاء أخبره، عن عبد الله بن شداد بن الهاد أنه قال: دخلنا على عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في يدي فتخات من ورق، فقال: (ما هذا يا عائشة؟ ا) فقلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله، قال: (أتؤدين زكاتهن؟) قلت: لا، أو ما شاء الله، قال: (هو حسبك من النار).
حدثنا صفوان بن صالح، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا سفيان عن عمر بن يعلى، فذكر الحديث نحو حديث الخاتم، قيل لسفيان كيف تزكيه؟ قال: تضمه إلى غيره. اه.
136

وحديث عائشة هذا أخرج نحوه أيضا الحاكم، والدارقطني، والبيهقي. اه.
وأخرج الدارقطني، عن عائشة من طريق عمرو بن شعيب، عن عروة عنها قالت: لا بأس بلبس الحلي إذا أعطي زكاته. اه.
قال البيهقي رحمه الله: وقد انضم إلى حديث عمرو بن شعيب حديث أم سلمة. وحديث عائشة، وساقهما.
ومنها ما رواه الإمام أحمد، عن أسماء بنت يزيد بلفظ قالت: (دخلت أنا وخالتي على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلينا أساور من ذهب فقال لنا: (أتعطيان زكاته؟) فقلنا: لا، قال: (أما تخافان أن يسوركما الله بسوار من نار؟ ا أديا زكاته). اه.
وروى الدارقطني نحوه من حديث فاطمة بنت قيس، وفي سنده أبو بكر الهذلي، وهو متروك، اه. قاله ابن حجر في (التلخيص).
وأما الآثار: فمنها ما رواه ابن أبي شيبة، والبيهقي من طريق شعيب بن يسار قال: كتب عمر إلى أبي موسى: أن مر من قبلك من نساء المسلمين أن يصدقن من حليهن. اه.
قال البيهقي: هذا مرسل شعيب بن يسار لم يدرك عمر. اه.
وقال ابن حجر في (التلخيص): وهو مرسل. قاله البخاري، وقد أنكر الحسن ذلك فيما رواه ابن أبي شيبة قال: لا نعلم أحدا من الخلفاء قال: (في الحلي زكاة).
ومنها ما رواه الطبراني، والبيهقي، عن ابن مسعود: أن امرأته سألته، عن حلي لها، فقال: إذا بلغ مائتي درهم ففيه الزكاة، قالت: أضعها في بني أخ لي في حجري؟ قال: نعم.
قال البيهقي: وقد روي هذا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وليس بشيء، وقال: قال البخاري: مرسل، ورواه الدارقطني من حديث ابن مسعود مرفوعا، وقال: هذا وهم والصواب موقوف. قاله ابن حجر في (التلخيص).
ومنها ما رواه البيهقي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أنه كان يكتب إلى خازنه سالم، أن يخرج زكاة حلي بناته كل سنة، وما روي من ذلك عن ابن عباس، قال الشافعي. لا أدري أيثبت عنه أم لا؟ وحكاه ابن المنذر، والبيهقي، عن ابن عباس، وابن عمر. وغيرهما. قاله في (التلخيص) أيضا.
وأما القياس: فإنهم قاسوا الحلي على المسكوك والمسبوك، بجامع أن الجميع نقد.
وأما وضع اللغة: فزعموا أن لفظ الرقة، ولفظ الأوقية الثابت في الصحيح يشمل المصوغ كما يشمل المسكوك، وقد قدمنا أن التحقيق خلافه.
فإذا علمت حجج الفريقين، فسنذكر لك ما يمكن أن يرجع به كل واحد منهما.
أما القول بوجوب زكاة الحلي. فله مرجحات:
منها: أن من رواه من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر، كما قدمنا روايته عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وعائشة، وأم سلمة، وأسماء بنت يزيد، رضي الله عنهم.
أما القول بعدم وجوب الزكاة فيه، فلم يرو مرفوعا إلا من حديث جابر، كما تقدم.
وكثرة الرواة، من المرجحات على التحقيق، كما قدمنا في سورة (البقرة) في الكلام على آية الربا.
ومنها: أن أحاديثه كحديث عمرو بن شعيب، ومن ذكر معه، أقوى سندا من حديث سقوط الزكاة الذي رواه عافية بن أيوب.
ومنها: أن ما دل على الوجوب مقدم على ما دل على الإباحة. للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب كما تقرر في الأصول، وإليه الإشارة بقول صاحب (مراقي السعود) في مبحث الترجيح باعتبار المدلول. ومنها: أن ما دل على الوجوب مقدم على ما دل على الإباحة. للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب كما تقرر في الأصول، وإليه الإشارة بقول صاحب (مراقي السعود) في مبحث الترجيح باعتبار المدلول.
* وناقل ومثبت والآمر
* بعد النواهي ثم هذا الآخر
*
على إباحة.... الخ.
ومعنى قوله: (ثم هذا الآخر على إباحة) أن ما دل على الأمر مقدم على ما دل على الإباحة كما ذكرنا.
ومنها: دلالة النصوص الصريحة على وجوب الزكاة في أصل الفضة، والذهب، وهي دليل على أن الحلي من نوع ما وجبت الزكاة في عينه، هذا حاصل ما يمكن أن يرجح به هذا القول.
وأما القول بعدم وجوب الزكاة في الحلي المباح، فيرجح بأن الأحاديث الواردة في التحريم إنما كانت في الزمن الذي كان فيه التحلي بالذهب محرما على النساء، والحلي المحرم تجب فيه الزكاة اتفاقا.
وأما أدلة عدم الزكاة فيه، فبعد أن صار التحلي بالذهب مباحا.
والتحقيق: أن التحلي بالذهب كان في أول الأمر محرما على النساء ثم أبيح، كما يدل له ما ساقه البيهقي من أدلة تحريمه أولا، وتحليله ثانيا، وبهذا يحصل الجمع بين الأدلة، والجمع واجب إن أمكن كما تقرر في الأصول وعلوم الحديث، وإليه الإشارة بقول صاحب (مراقي السعود). والتحقيق: أن التحلي بالذهب كان في أول الأمر محرما على النساء ثم أبيح، كما يدل له ما ساقه البيهقي من أدلة تحريمه أولا، وتحليله ثانيا، وبهذا يحصل الجمع بين الأدلة، والجمع واجب إن أمكن كما تقرر في الأصول وعلوم الحديث، وإليه الإشارة بقول صاحب (مراقي السعود).
* والجمع واجب متى ما أمكنا
* إلا فللأخير نسخ بينا
*
ووجهه ظاهر، لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، ومعلوم أن الجمع إذا أمكن أولى من جميع الترجيحات.
فإن قيل: هذا الجمع يقدح فيه حديث عائشة المتقدم، فإن فيه (فرأى في يدي فتخات من ورق) الحديث:
والورق: الفضة، والفضة لم يسبق لها تحريم، فالتحلي بها لم يمتنع يوما ما.
فالجواب ما قاله الحافظ البيهقي رحمه الله تعالى قال. من قال: لا زكاة في الحلي، زعم أن الأحاديث والآثار الواردة في وجوب زكاته كانت حين كان التحلي بالذهب حراما على النساء. فلما أبيح لهن سقطت زكاته.
قال: وكيف يصح هذا القول مع حديث عائشة، إن كان ذكر الورق فيه محفوظا، غير أن رواية القاسم، وابن أبي مليكة، عن عائشة في تركها إخراج زكاة الحلي، مع ما ثبت من مذهبها من إخراج زكاة أموال اليتامى يوقع ريبة في هذه الرواية المرفوعة، فهي لا تخالف النبي صلى الله عليه وسلم فيما روته عنه، إلا فيما علمته منسوخا اه.
136

وقد قدمنا في سورة (البقرة) الكلام على مخالفة الصحابي، لما روي في آية الطلاق، وبالجملة فلا يخفى أنه يبعد أن تعلم عائشة أن عدم زكاة الحلي فيه الوعيد من النبي لها بأنه حسبها من النار ثم تترك إخراجها بعد ذلك عمن في حجرها، مع أنها معروف عنها القول: بوجوب الزكاة في أموال اليتامى.
ومن أجوبة أهل هذا القول: أن المراد بزكاة الحلي عاريته، ورواه البيهقي، عن ابن عمر، وسعيد بن المسيب، والشعبي، في إحدى الروايتين عنه.
هذا حاصل الكلام في هذه المسألة.
وأقوى الوجوه بحسب المقرر في الأصول وعلم الحديث، الجمع إذا أمكن، وقد أمكن، هنا:
قال مقيده عفا الله عنه: وإخراج زكاة الحلي أحوط لأن (من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) والعلم عند الله تعالى.
المسألة الرابعة: اعلم أن جماهير علماء المسلمين من الصحابة ومن بعدهم على وجوب الزكاة في عروض التجارة، فتقوم عند الحول، ويخرج ربع عشرها كزكاة العين، قال ابن المنذر: أجمع عامة أهل العلم على وجوب زكاة التجارة، قال: رويناه عن عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وابن عباس، والفقهاء السبعة، سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وخارجة بن زيد، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وسليمان بن يسار، والحسن البصري، وطاوس، وجابر بن زيد، وميمون بن مهران، والنخعي، ومالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، والنعمان، وأصحابه، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وأبي عبيد، اه: بواسطة نقل النووي في (شرح المهذب)، وابن قدامة، في (المغني)، ولمالك رحمه الله، تفصيل في عروض التجارة، لأن عروض التجارة عنده تنقسم إلى عرض تاجر مدير، وعرض تاجر محتكر، فالمدير هو الذي يبيع ويشتري دائما، والمحتكر هو الذي يشتري السلع ويتربص بها حتى يرتفع سعرها فيبيعها، وإن لم يرتفع سعرها لم يبعها ولم مكثت سنين.
فعروض المدير عنده وديونه التي يطالب بها الناس إن كانت مرجوة يزكيها عند كل حول: والدين الحال يزكيه بالعدد. والمؤجل بالقيمة.
أما عرض المحتكر فلا يقوم عنده ولا زكاة فيه حتى يباع بعين فيزكي العين على حول أصل العرض. وإلى هذا أشار ابن عاشر، في (المرشد المعين) بقوله: أما عرض المحتكر فلا يقوم عنده ولا زكاة فيه حتى يباع بعين فيزكي العين على حول أصل العرض. وإلى هذا أشار ابن عاشر، في (المرشد المعين) بقوله:
* والعرض ذو التجر ودين من أدار
* قيمتها كالعين ثم ذو احتكار
*
* زكى لقبض ثمن أو دين
* عينا بشرط الحول للأصلين
*
زاد مالك في مشهور مذهبه شرطا، وهو أنه يشترط في وجوب تقويم عروض المدير أن يصل يده شيء ناص من ذات الذهب أو الفضة، ولو كان ربع درهم أو أقل، وخالفه ابن حبيب من أهل مذهبه، فوافق الجمهور في عدم اشتراط ذلك.
ولا يخفى أن مذهب الجمهور هو الظاهر، ولم نعلم بأحد من أهل العلم خالف في وجوب زكاة عروض التجارة، إلا ما يروى عن داود الظاهري، وبعض أتباعه.
ودليل الجمهور، آية: وأحاديث: وآثار: وردت بذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم. ولم يعلم أن أحدا منهم خالف في ذلك، فهو إجماع سكوتي.
فمن الأحاديث الدالة على ذلك: ما رواه أبو ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (في الإبل صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البز صدقته) الحديث: أخرجه الحاكم، والدارقطني، والبيهقي.
وقال النووي في (شرح المهذب) هذا الحديث رواه الدارقطني، في سننه والحاكم أبو عبد الله، في (المستدرك) والبيهقي، بأسانيدهم، ذكره الحاكم، بإسنادين: ثم قال: هذان الإسنادان صحيحان على شرط البخاري ومسلم، اه.
ثم قال: قوله: (وفي البز صدقته) هو بفتح الباء وبالزاي. هكذا رواه جميع الرواة، وصرح بالزاي الدارقطني، والبيهقي، وقال ابن حجر في (التلخيص): حديث أبي ذر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (في الإبل صدقتها وفي البز صدقته) أخرجه الدارقطني، عن أبي ذر من طريقين، وقال في آخره: وفي البز صدقته، قالها بالزاي، وإسناده غير صحيح مداره على موسى بن عبيدة الربذي، وله عنده طريق ثالث من رواية ابن جريج، عن عمران بن أبي أنس، عن مالك بن أوس، عن أبي ذر، وهو معلول لأن ابن جريج، رواه عن عمران: أنه بلغه عنه، ورواه الترمذي في العلل من هذا الوجه وقال: سألت البخاري عنه فقال: لم يسمعه ابن جريج من عمران، وله طريقة رابعة، رواه الدارقطني أيضا، والحاكم، من طريق سعيد بن سلمة بن أبي الحسام عن عمران، ولفظه (في الإبل صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي البز صدقته) ومن رفع دراهم أو دنانير لا يعدها لغريم. ولا ينفقها في سبيل الله، فهو كنز يكوى به يوم القيامة، وهذا إسناد لا بأس به، اه.
فترى ابن حجر قال: إن هذا الإسناد لا بأس به مع ما قدمنا عن الحاكم من صحة الإسنادين المذكورين، وتصحيح النووي لذلك والذي رأيته في سنن البيهقي: أن سعيد بن سلمة بن أبي الحسام يروي الحديث عن موسى المذكور، عن عمران، لا عن عمران مباشرة فانظره.
فإن قيل قال ابن دقيق العيد: الذي رأيته في نسخة من (المستدرك) في هذا الحديث: البر بضم الموحدة وبالراء المهملة، ورواية الدارقطني: التي صرح فيها بالزاي في لفظة البز في الحديث ضعيفة، وإذن فلا دليل في الحديث على تقرير صحته على وجوب زكاة عروض التجارة.
فالجواب هو ما قدمنا عن النووي، من أن جميع رواته رووه بالزاي، وصرح بأنه بالزاي البيهقي، والدارقطني، كما تقدم.
136

ومن الأحاديث الدالة على وجوب الزكاة في عروض التجارة، ما أخرجه أبو داود في (سننه) عن سمرة بن جندب الفزاري رضي الله عنه، قال: (أما بعد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يأمرنا أن نخرج الصدقة مما نعد للبيع)، وهذا الحديث سكت عليه أبو داود رحمه الله، ومعلوم من عادته أنه لا يسكت إلا عن حديث صالح للاحتجاج عنهد. وقد قال ابن حجر في (التلخيص) في هذا الحديث: رواه أبو داود والدارقطني والبزار، من حديث سليمان بن سمرة عن أبيه وفي إسناده جهالة، اه.
قال مقيده عفا الله عنه في إسناد هذا الحديث، عند أبي داود حبيب بن سليمان بن سمرة بن جندب. وهو مجهول. وفيه جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب، وهو ليس بالقوي، وفيه سليمان بن موسى الزهري أبو داود، وفيه لين، ولكنه يعتضد بما قدمنا من حديث أبي ذر، ويعتضد أيضا بما ثبت عن أبي عمرو بن حماس، أن أباه حماسا قال: مررت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعلى عنقي أدم أحملها، فقال: ألا تؤدي زكاتك يا حماس؟ فقال: ما لي غير هذا، وأهب في القرظ قال: ذلك مال فضع، فوضعها بين يديه، فحسبها فوجدت قد وجبت فيها الزكاة فأخذ منها الزكاة، قال ابن حجر في (التلخيص) في هذا الأثر، رواه الشافعي، عن سفيان، حدثنا يحيى عن عبد الله بن أبي سلمة، عن أبي عمرو بن حماس أن أباه قال: مررت بعمر بن الخطاب. فذكره، ورواه أحمد، وابن أبي شيبة وعبد الرزاق، وسعيد بن منصور، عن يحيى بن سعيد به، ورواه الدارقطني، من حديث حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن أبي عمرو بن حماس، عن أبيه نحوه، ورواه الشافعي أيضا عن سفيان، عن ابن عجلان، عن أبي الزناد، عن أبي عمرو بن حماس، عن أبيه، اه.
وحماس بكسر الحاء وتخفيف الميم وآخره سين مهملة، فقد رأيت ثبوت أخذ الزكاة من عروض التجارة عن عمر، ولم يعلم له مخالف من الصحابة. وهذا النوع يسمى إجماعا سكوتيا، وهو حجة عند أكثر العلماء، ويؤيده أيضا ما رواه البيهقي، عن ابن عمر: (أخبرنا أبو نصر عمر بن عبد العزيز بن عمر بن قتادة، من كتابه أنبأ أبو الحسن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن عبدة. حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي حدثنا أحمد بن حنبل. حدثنا حفص بن غياث. حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: ليس في العروض زكاة إلا ما كان للتجارة اه
137

. قال: وهذا قول عامة أهل العلم، فالذي روى عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: لا زكاة في العرض، قال فيه الشافعي: في كتاب القديم إسناد الحديث عن ابن عباس ضعيف، فكان اتباع حديث ابن عمر لصحته والاحتياط في الزكاة أحب إلي، والله أعلم. قال: وقد حكى ابن المنذر، عن عائشة وابن عباس مثل ما روينا عن ابن عمر، ولم يحك خلافهم عن أحد فيحتمل أن يكون معنى قوله (إن صح لا زكاة في العرض إذا لم يرد به التجارة) اه، من سنن البيهقي. ويؤيده ما رواه مالك في (الموطأ)، عن يحيى بن سعيد، عن زريق بن حيان. وكان زريق على جواز مصر في زمان الوليد بن عبد الملك وسليمان وعمر بن عبد العزيز. فذكر أن عمر بن عبد العزيز، كتب إليه أن انظر من يمر بك من المسلمين، فخذ مما ظهر من أموالهم مما يديرون من التجارات من كل أربعين دينارا دينارا، فما نقص فبحساب ذلك حتى يبلغ عشرين دينارا فإن نقصت ثلث دينار فدعها، ولا تأخذ منها شيئا.
وأما الآية: فهي قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم) * على ما فسرها به مجاهد رحمه الله تعالى قال: البيهقي، في (سننه) باب (زكاة التجارة) قال الله تعالى وجل ثناؤه: * (ياأيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم) *: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر بن الحسن القاضي، وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالوا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا الحسن بن علي بن عفان، ثنا يحيى بن آدم، ثنا ورقاء، عن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله تعالى: * (أنفقوا من طيبات ما كسبتم) * قال: التجارة * (وممآ أخرجنا لكم من الا رض) * قال: النخل، وقال البخاري في (صحيحه) (باب صدقة الكسب والتجارة) لقوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم) * إلى قوله: * (أن الله غني حميد) *. قال ابن حجر في (الفتح) هكذا: أورد هذه الترجمة مقتصرا على الآية بغير حديث.
وكأنه أشار إلى ما رواه شعبة، عن الحكم عن مجاهد في هذه الآية: * (ياأيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم) * قال: من التجارة الحلال. أخرجه الطبري وابن أبي حاتم من طريق آدم عنه، وأخرجه الطبري من طريق هشيم عن شعبة، ولفظه * (من طيبات ما كسبتم) * قال: من التجارة * (وممآ أخرجنا لكم من الا رض) * قال:
138

من الثمار.
ولا شك أن ما ذكره مجاهد، داخل في عموم الآية: فتحصل أن جميع ما ذكرناه من طرق حديث أبي ذر، وحديث سمرة بن جندب المرفوعين وما صح من أخذ عمر زكاة الجلود من حماس، وما روي عن أبي عمر، وعمر بن عبد العزيز. وظاهر عموم الآية الكريمة، وما فسرها به مجاهد، وإجماع عامة أهل العلم إلا من شذ عن السواد الأعظم، يكفي في الدلالة على وجوب الزكاة في عروض التجارة. والعلم عند الله تعالى.
المسألة الخامسة: في زكاة الدين. وهل الدين مسقط للزكاة عن المدين أو لا؟ ا
اختلف العلماء في ذلك، ومذهب مالك رحمه الله أن الدين الذي للإنسان على غيره يجري مجرى عروض التجارة في الفرق بين المدير وبين المحتكر، وقد أوضحنا ذلك
في المسألة التي قبل هذا.
ومذهبه رحمه الله: أن الدين مانع من الزكاة في العين، وعروض التجارة إن لم يفضل عن وفائه قدر ما تجب فيه الزكاة، قال في (موطئه): الأمر المجتمع عليه عندنا، أن الرجل يكون عليه دين وعنده من العروض ما فيه وفاء لما عليه من الدين، ويكون عنده من الناض سوى ذلك، ما تجب فيه الزكاة فإنه يزكي ما بيده من ناض تجب فيه الزكاة، وإن لم يكن عنده من العروض والنقد إلا وفاء دينه فلا زكاة عليه. حتى يكون عنده من الناض فضل عن دينه ما تجب فيه الزكاة، فعليه أن يزكيه.
وأما الماشية والزروع والثمار، فلا يسقط الدين وجوب زكاتها عنده. ومذهب الإمام الشافعي رحمه الله أن الدين إذا كان حالا على موسر مقر أو منكر وعليه بينة فزكاته واجبة إن كان عينا أو عرض تجارة، وهذا قوله الجديد. وأما القديم: فهو أن الزكاة لا تجب في الدين بحال.
أما إن كان الغريم معسرا أو جاحدا ولا بينة أو مماطلا أو غائبا، فهو عنده كالمغصوب، وفي وجوب الزكاة فيه خلاف، والصحيح الوجوب. ولكن لا تؤخذ منه بالفعل إلا بعد حصوله في اليد.
وإن كان الدين مؤجلا ففيه وجهان.
أحدهما: لأبي إسحاق: أنه كالدين الحال على فقير أو ملىء جاحد. فيكون على الخلاف الذي ذكرناه آنفا.
139

والثاني: لأبي علي بن أبي هريرة، لا تجب فيه الزكاة، فإذا قبضه استقبل به الحول والأول أصح، قاله صاحب المهذب.
أما إذا كان الدين ماشية كأربعين من الغنم، أو غير لازم كدين الكتابة. فلا تجب فيه الزكاة اتفاقا عندهم. وإن كان عليه دين مستغرق، أو لم يبق بعده كمال النصاب فقال الشافعي في (القديم): يسقط الدين المستغرق، أو الذي ينقص به المال عن النصاب وجوب الزكاة، لأن الملك فيه غير مستقر لأنه ربما أخذه الحاكم لحق الغرماء، وقال في (الجديد): تجب الزكاة ولا يسقطها الدين لاختلاف جهتهما، لأن الزكاة تتعلق بعين المال والدين يتعلق بالذمة، وإن حجر عليه ففيه خلاف كثير.
أصحه عند الشافعية: أنه يجري على حكم زكاة المغصوب، وقد قدمنا حكمه، وللشافعية قول ثالث، وهو أن الدين يمنع الزكاة في الأموال الباطنة وهي الذهب والفضة، وعروض التجارة، ولا يمنعها في الظاهرة وهي الزروع والثمار والمواشي والمعادن.
والفرق أن الأموال الظاهرة نامية بنفسها بخلاف الباطنة، وهذا هو مذهب مالك كما تقدم، ودين الآدمي ودين الله عندهم سواء في منع وجوب الزكاة، ومذهب الإمام أحمد رحمه الله: أن من كان له دين على ملىء مقربه غير مماطل فليس عليه إخراج زكاته حتى يقبضه، فإن قبضه أدى زكاته فيما مضى من السنين.
وروي نحوه عن علي رضي الله عنه، وبه قال: الثوري، وأبو ثور، وأبو حنيفة، وأصحابه، وقال: عثمان وابن عمر وجابر، رضي الله عنهم، وطاوس والنخعي وجابر بن زيد والحسن، وميمون بن مهران والزهري وقتادة، وحماد بن أبي سليمان وإسحاق وأبو عبيد، عليه إخراج زكاته في الحال، لأنه قادر على قبضه.
وقد قدمنا أنه قول مالك والشافعي، فإن كان الدين على معسر، أو جاحد، أو مماطل، فروايتان.
أحدهما: لا تجب فيه الزكاة، وهو قول قتادة، وإسحاق، وأبي ثور، وأهل العراق، لأنه غير مقدور على الانتفاع به.
والثانية: يزكيه إذا قبضه لما مضى، وهو قول الثوري، وأبي عبيد، وعن عمر بن عبد العزيز، والحسن، والليث، والأوزاعي، يزكيه إذا قبضه لعام واحد، وهذا هو قول مالك.
140

ومذهب أحمد رحمه الله: أن الدين يمنع الزكاة في الأموال الباطنة، التي هي الذهب والفضة، وعروض التجارة، وهذا لا خلاف فيه عنه، وهو قول عطاء، وسليمان بن يسار، وميمون بن مهران، والحسن، والنخعي، والليث، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق، وأبي ثور، وأصحاب الرأي، وقد قدمنا نحوه عن مالك رحمه الله.
وقال ربيعة، وحماد بن أبي سليمان: لا يمنع الدين الزكاة في الأموال الباطنة، وقد قدمناه عن الشافعي، في جديد قوليه.
وأما الأموال الظاهرة. وهي السائمة والثمار والحبوب، فقد اختلفت فيها الرواية، عن أحمد رحمه الله، فروي عنه. أن الدين يمنع الزكاة فيها أيضا كالأموال الباطنة، وعنه في رواية إسحاق بن إبراهيم، يبتدئ بالدين فيقضيه، ثم ينظر ما بقي عنده بعد إخراج النفقة، فيزكي ما بقي.
ولا يكون على أحد دينه أكثر من ماله صدقة في إبل أو بقر أو غنم أو زرع، ولا زكاة. وبهذا قال: عطاء، والحسن، وسليمان، وميمون بن مهران، والنخعي، والثوري، والليث، وإسحاق.
وروي أن الدين لا يمنع الزكاة في الأموال الظاهرة، وبه قال الأوزاعي، وقد قدمناه عن الشافعي في (الجديد) وهو قول مالك.
إذا عرفت أقوال العلماء في زكاة الدين، وهل هو مانع من الزكاة؟ ا
فاعلم أن اختلافهم في الدين، هل يزكي قبل القبض، وهل إذا لم يزكه قبل القبض يكفي زكاة سنة واحدة؟ ا أو لا بد من زكاته لما مضى من السنين؟ ا
الظاهر فيه أنه من الاختلاف في تحقيق المناط، هل القدرة على التحصيل كالحصول بالفعل أو لا؟ ا ونعلم في زكاة الدين نصا من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا كون الدين مانعا من وجوب الزكاة على المدين إن كان يستغرق أو ينقص النصاب، إلا آثارا وردت عن بعض السلف.
منها ما رواه مالك في (الموطأ) عن ابن شهاب، عن السائب بن يزيد، عن عثمان بن عفان: أنه كان يقول: هذا شهر زكاتكم. فمن كان عليه دين فليؤد دينه، حتى تحصل أموالكم فتؤدون منه الزكاة.
ومنها ما رواه مالك في (الموطأ) أيضا عن أيوب بن أبي تميمة السختياني، عن
141

عمر بن عبد العزيز: أنه كتب في مال قبضه بعض الولاة ظلما، يأمر برده إلى أهله، ويؤخذ زكاته لما مضى من السنين: ثم عقب بعد ذلك بكتاب ألا يؤخذ منه إلا زكاة واحدة، فإنه كان ضمارا اه: وهو بكسر الضاد: أي غائبا عن ربه لا يقدر على أخذه ولا يعرف موضعه.
المسألة السادسة: في زكاة المعادن والركاز.
اعلم أن العلماء أجمعوا على وجوب إخراج حق شرعي من المعادن في الجملة، لكن وقع بينهم الاختلاف في بعض الصور لذلك، فقال قوم: لا يجب في شيء من المعادن الزكاة، إلا الذهب والفضة خاصة، فإذا أخرج من المعدن عشرين مثقالا من الذهب، أو مائتي درهم من الفضة، وجب عليه إخراج ربع العشر من ذلك من حين إخراجه، ولا يستقبل به حولا.
وممن قال بهذا: مالك، والشافعي، ومذهب الإمام أحمد كمذهبهما. إلا أنه يوجب الزكاة في جميع المعادن من ذهب، وفضة، وزئبق، ورصاص، وصفر، وحديد، وياقوت، وزبرجد، ولؤلؤ، وعقيق وسبج، وكحل، وزجاج، وزرنيخ، ومغرة، ونحو ذلك، وكذلك المعادن الجارية، كالقار، والنفط، ونحوهما، ويقوم بمائتي درهم أو عشرين مثقالا، ما عدا الذهب والفضة، فجميع المعادن عنده تزكى، واللازم فيها ربع العشر.
وذهب أبو حنيفة رحمه الله، إلى أن المعدن من جملة الركاز. ففيه عنده الخمس، وهو عنده الذهب والفضة، وما ينطبع كالحديد والصفر والرصاص في أشهر الروايتين، ولا يشترط عنده النصاب في المعدن والركاز.
وممن قال بلزوم العشر في المعدن: عمر بن عبد العزيز، وحجة من قال بوجوب الزكاة في جميع المعادن، عموم قوله تعالى * (وممآ أخرجنا لكم من الا رض) *.
وحجة من قال بوجوبها في معدن الذهب والفضة فقط: أن الأصل عدم وجوب الزكاة، فلم تجب في غير الذهب والفضة للنص عليهما دون غيرهما، واحتجوا أيضا بحديث لا زكاة في حجر، وهو حديث ضعيف، قال فيه ابن حجر في (التلخيص) رواه ابن عدي، من حديث عمر بن أبي عمر الكلاعي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، ورواه البيهقي، من طريقه، وتابعه عثمان الوقاصي، ومحمد بن عبيد الله العرزمي، كلاهما عن عمرو بن شعيب، وهما متروكان. اه. وعمر بن أبي عمر الكلاعي ضعيف، من
142

شيوخ بقية المجهولين، قاله في (التقريب) واحتج لوجوب الزكاة في المعدن بما رواه مالك في (الموطأ) عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن غير واحد. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قطع لبلال بن الحارث المزني معادن القبلية، وهي من ناحية الفرع. فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلى اليوم إلا الزكاة. وقال ابن حجر، في (التلخيص): ورواه أبو داود، والطبراني، والحاكم، والبيهقي، موصولا، ليست فيه زيادة، وهي من ناحية الفرع. الخ. وقال الشافعي: بعد أن روى حديث مالك ليس هذا ما يثبته أهل الحديث ولم يثبتوه ولم يكن فيه رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا إقطاعه، وأما الزكاة دون الخمس فليست مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال البيهقي: وهو كما قال الشافعي في رواية مالك، وقد روي عن الداروردي، عن ربيعة، موصولا، ثم أخرجه عن الحاكم، والحاكم أخرجه في (المستدرك) وكذا ذكره أبو عبد البر، من رواية الدراوردي، قال: ورواه أبو سبرة المديني، عن مطرف، عن مالك، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن ابن عباس قلت: أخرجه أبو داود، من الوجهين. اه.
قال مقيده عفا الله عنه الاستدلال بهذه الزيادة على الحديث المرفوع التي ذكرها مالك في (الموطأ) فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم من نوع الاستدلال بالاستصحاب المقلوب، وهو حجة عند جماعة من العلماء من المالكية، والشافعية.
والاستصحاب المقلوب: هو الاستدلال بثبوت الأمر في الزمن الحاضر، على ثبوته في الزمن الماضي، لعدم ما يصلح للتغيير من الأول إلى الثاني.
قال صاحب (جمع الجوامع): أما ثبوته في الأول لثبوته في الثاني فمقلوب. وقد يقال فيه لو لم يكن الثابت اليوم، ثابتا أمس لكان غير ثابت فيقتضي استصحاب أمس أنه الآن غير ثابت، وليس كذلك، فدل على أنه ثابت.
وقال: في (نشر البنود) وقد يقال في الاستصحاب المقلوب ليظهر الاستدلال به، لو لم يكن الثابت اليوم ثابتا أمس، لكان غير ثابت أمس، إذ لا واسطة بين الثبوت وعدمه، فيقتضي استصحاب أمس الخالي عن الثبوت فيه، أنه الآن غير ثابت، وليس كذلك لأنه مفروض الثبوت الآن. فدل ذلك على أنه ثابت أمس أيضا، ومثل له بعض المالكية بالوقف، إذا جهل مصرفه ووجد على حالة فإنه يجري عليها، لأن وجوده على تلك الحالة
143

دليل على أنه كان كذلك في عقد الوقف. ومثل له المحلي، بأن يقال في المكيال الموجود. كان على عهده صلى الله عليه وسلم، باستصحاب الحال في الماضي. ووجهه في المسألة التي نحن بصددها؛ أن لفظ فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم يدل بالاستصحاب المقلوب؛ أنها كانت كذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لعدم ما يصلح للتغيير كما ذكرنا.
وقد أشار في (مراقي السعود) إلى مسألة الاستصحاب المذكور في (كتاب الاستدلال) بقوله: وقد أشار في (مراقي السعود) إلى مسألة الاستصحاب المذكور في (كتاب الاستدلال) بقوله:
* ورجحن كون الاستصحاب
* للعدم الأصلي من ذا الباب
*
* بعد قصارى البحث عن نص فلم
* يلف وهذا البحث وفقا منحتم
*
إلى أن قال وهو محل الشاهد: إلى أن قال وهو محل الشاهد:
* وما بماض مثبت للحال
* فهو مقلوب وعكس الخالي
*
* كجري ما جهل فيه المصرف
* على الذي الآن لذاك يعرف
*
وأما الركاز: ففيه الخمس بلا نزاع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم (وفي الركاز الخمس)؛ أخرجه الشيخان؛ وأصحاب السنن؛ والإمام أحمد؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، إلا أنهم اختلفوا في المراد بالركاز.
فذهب جمهور منهم مالك، والشافعي وأحمد، إلى أن الركاز هو دفن الجاهلية، وأنه لا يصدق على المعادن اسم الركاز.
واحتجوا بما جاء في حديث أبي هريرة المتفق عليه الذي ذكرنا بعضا منه آنفا؛ فإن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والمعدن جبار. وفي الركاز الخمس) ففرق بين المعدن والركاز بالعطف المقتضي للمغايرة.
وذهب أبو حنيفة والثوري وغيرهما إلى أن المعدن ركاز، واحتجوا بما رواه البيهقي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وفي الركاز الخمس، قيل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما الركاز؟ قال: الذهب والفضة المخلوقان في الأرض يوم خلق الله السماوات والأرض) ورده الجمهور بأن الحديث ضعيف، قال ابن حجر في (التلخيص) رواه: البيهقي من حديث أبي يوسف، عن عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن جده، عن أبي هريرة مرفوعا وتابعه حبان بن علي، عن عبد الله بن سعيد،
144

وعبد الله متروك الحديث، وحبان ضعيف.
وأصل الحديث ثابت في (الصحاح) وغيرها بدون الزيادة المذكورة. وقال الشافعي في (الجديد): يشترط في وجوب الخمس في الركاز أن يكون ذهبا أو فضة دون غيرهما. وخالفه جمهور أهل العلم، وقال بعض العلماء: إذا كان في تحصيل المعدن مشقة ففيه ربع العشر، وإن كان لا مشقة فيه فالواجب فيه الخمس. وله وجه من النظر والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: * (انفروا خفافا وثقالا) *.
لا يخفى ما في هذه الآية الكريمة من التشديد في الخروج إلى الجهاد على كل حال، ولكنه تعالى بين رفع هذا التشديد بقوله: * (ليس على الضعفآء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج) *. فهي ناسخة لها.
قوله تعالى: * (إنما الصدقات للفقرآء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب) *.
قال الشافعي، والليث: إن المراد بالرقاب: المكاتبون.
وروي نحوه عن أبي موسى الأشعري والحسن البصري، ومقاتل بن حيان، وعمر بن عبد العزيز، وسعيد بن جبير، والنخعي، والزهري، وابن زيد. ويدل لهذا القول قوله تعالى في المكاتبين: * (وءاتوهم من مال الله الذىءاتاكم) * وقال ابن عباس: الرقاب أعم من المكاتبين، فلا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة. وهو مذهب مالك وأحمد وإسحاق.
قوله تعالى: * (والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم) *.
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة، بأن من يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم له العذاب الأليم.
وذكر في (الأحزاب) أنه ملعون في الدنيا والآخرة، وأن له العذاب المهين، وذلك في قوله: * (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله فى الدنيا والا خرة وأعد لهم عذابا مهينا) *.
قوله تعالى: * (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة) * إلى قوله: * (ما تحذرون) *.
صرح في هذه الآية الكريمة بأن المنافقين يحذرون أن ينزل الله سورة تفضحهم وتبين ما تنطوي عليه ضمائرهم من الخبث. ثم بين أنه مخرج ما كانوا يحذرونه، وذكر في موضع آخر أنه فاعل ذلك، وهو قوله تعالى: * (أم حسب الذين فى قلوبهم مرض أن لن يخرج الله
145

أضغانهم) * إلى قوله: * (ولتعرفنهم فى لحن القول) *، وبين في موضع آخر شدة خوفهم، وهو قوله: * (يحسبون كل صيحة عليهم) *.
قوله تعالى: * (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) *.
صرح في هذه الآية الكريمة: أن المنافقين ما وجدوا شيئا ينقمونه أي يعيبونه وينتقدونه إلا أن الله تفضل عليهم فأغناهم بما فتح على نبيه صلى الله عليه وسلم من الخير والبركة.
والمعنى أنه لا يوجد شيء يحتمل أن يعاب أو ينقم بوجه من الوجوه، والآية كقوله: * (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد) * وقوله: * (وما تنقم منآ إلا أن ءامنا بأايات ربنا لما جآءتنا) *. وقوله: * (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) *.
ونظير ذلك من كلام العرب: قول نابغة ذبيان: ونظير ذلك من كلام العرب: قول نابغة ذبيان:
* ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
* بهن فلول من قراع الكتائب
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* ما نقموا من أمية إلا
* أنهم يضربون إن غضبوا
*
وقول الآخر:
* فما بك في من عيب فإني
* جبان الكلب مهزول الفصيل
* * (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله وقالوا لا تنفروا فى الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون * فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزآء بما كانوا يكسبون) *
قوله تعالى: * (قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون) *.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة شدة حر نار جهنم أعاذنا الله والمسلمين منها وبين ذلك في مواضع أخر كقوله: * (نارا وقودها الناس والحجارة) * وقوله: * (كلا إنها لظى نزاعة للشوى) *. وقوله: * (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها) *. وقوله: * (يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما فى بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد) *. وقوله: * (وإن يستغيثوا يغاثوا بمآء كالمهل يشوى الوجوه) *: وقوله: * (وسقوا مآء حميما فقطع أمعآءهم) * إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه
اختلف العلماء في وزن جهنم بالميزان الصرفي، فذهب بعض علماء العربية إلى أن
146

وزنه (فعنل) فالنون المضعفة زائدة، وأصل المادة: الجيم والهاء والميم. من تجهم إذا عبس وجهه، لأنها تلقاهم بوجه متجهم عابس. وتتجهم وجوههم وتعبس فيها لما يلاقون من ألم العذاب.
ومنه قوله مسلم بن الوليد الأنصاري: ومنه قوله مسلم بن الوليد الأنصاري:
* شكوت إليها حبها فتبسمت
* ولم أر شمسا قبلها تتبسم
*
* فقلت لها جودي فأبدت تجهما
* لتقتلني يا حسنها إذ تجهم
*
وتقول العرب: جهمه إذا استقبله بوجه كريه مجتمع، ومنه قول عمرو بن الفضفاض الجهني: وتقول العرب: جهمه إذا استقبله بوجه كريه مجتمع، ومنه قول عمرو بن الفضفاض الجهني:
* ولا تجهمينا أم عمرو فإنما
* بنا داء ظبي لم تخنه عوامله
*
وقال بعض العلماء جهنم فارسي معرب، والأصل كهنام وهو بلسانهم النار، فعربته العرب وأبدلوا الكاف جيما. * (فإن رجعك الله إلى طآئفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معى أبدا ولن تقاتلوا معى عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين * ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون * ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها فى الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون) * قوله تعالى: * (فإن رجعك الله إلى طآئفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معى أبدا) * إلى قوله * (الخالفين) *. عاقب الله.
في هذه الآية الكريمة: المتخلفين عن غزوة تبوك بأنهم لا يؤذن لهم في الخروج مع نبيه، ولا القتال معه صلى الله عليه وسلم لأن شؤم المخالفة يؤدي إلى فوات الخير الكثير.
وقد جاء مثل هذا في آيات أخر كقوله: * (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم) * إلى قوله: * (كذلكم قال الله من قبل) * وقوله: * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) * إلى غير ذلك من الآيات. والخالف هو الذي يتخلف عن الرجال في الغزو فيبقى مع النساء والصبيان، ومنه قول الشنفرى: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) * إلى غير ذلك من الآيات. والخالف هو الذي يتخلف عن الرجال في الغزو فيبقى مع النساء والصبيان، ومنه قول الشنفرى:
* ولا خالف داريه متربب
* يروح ويغدو داهنا يتكحل
* * (وإذآ أنزلت سورة أن ءامنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين * رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون * لاكن الرسول والذين ءامنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولائك لهم الخيرات وأولائك هم المفلحون * أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الا نهار خالدين فيها ذالك الفوز العظيم * وجآء المعذرون من الا عراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم * ليس على الضعفآء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم * ولا على الذين إذا مآ أتوك لتحملهم قلت لا أجد مآ أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون * إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنيآء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون * يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون * سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزآء بما كانوا يكسبون * يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين * الا عراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود مآ أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم * ومن الا عراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دآئرة السوء والله سميع عليم * ومن الا عراب من يؤمن بالله واليوم الا خر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله فى رحمته إن الله غفور رحيم * والسابقون الا ولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيهآ أبدا ذالك الفوز العظيم * وممن حولكم من الا عراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم * وءاخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وءاخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم * خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم والله سميع عليم * ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم * وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون * وءاخرون مرجون لا مر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم * والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون * لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين * أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به فى نار جهنم والله لا يهدى القوم الظالمين * لا يزال بنيانهم الذى بنوا ريبة فى قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم * إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرءان ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به وذالك هو الفوز العظيم * التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الا مرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين * ما كان للنبى والذين ءامنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم * وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدهآ إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم * وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم * إن الله له ملك السماوات والا رض يحى ويميت وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير * لقد تاب الله على النبى والمهاجرين والا نصار الذين اتبعوه فى ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم * وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم * يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين * ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الا عراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذالك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة فى سبيل الله ولا يطأون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين * ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون * وما كان المؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون
* ياأيها الذين ءامنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين * وإذا مآ أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هاذه إيمانا فأما الذين ءامنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأما الذين فى قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون * أولا يرون أنهم يفتنون فى كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون * وإذا مآ أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون) * قوله تعالى: * (وإذآ أنزلت سورة أن ءامنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين) *.
ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة، أنه إذا أنزل سورة فيها الأمر بالإيمان، والجهاد مع نبيه صلى الله عليه وسلم، أستأذن الأغنياء من المنافقين في التخلف عن الجهاد مع القدرة عليه، وطلبوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يتركهم مع القاعدين المتخلفين عن الغزو.
وبين في موضع آخر أن هذا ليس من صفات المؤمنين، وأنه من صفات الشاكين
147

الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، وذلك في قوله: * (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الا خر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الا خر وارتابت قلوبهم فهم فى ريبهم يترددون) *، وبين أن السبيل عليهم بذلك، وأنهم مطبوع على قلوبهم. بقوله: * (إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنيآء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم) *: وبين في مواضع أخر شدة جزعهم من الخروج إلى الجهاد، كقوله: * (فإذآ أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين فى قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشى عليه من الموت) *، وقوله: * (فإذا جآء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذى يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد) * إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: * (والسابقون الا ولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه) *.
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بأن الذين اتبعوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار بإحسان، أنهم داخلون معهم في رضوان الله تعالى، والوعد بالخلود في الجنات والفوز العظيم، وبين في مواضع أخر. أن الذين اتبعوا السابقين بإحسان يشاركونهم في الخير كقوله جل وعلا: * (وءاخرين منهم لما يلحقوا بهم) *، وقوله: * (والذين جآءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا) *، وقوله: * (والذين ءامنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولائك منكم) *.
ولا يخفى أنه تعالى صرح في هذه الآية الكريمة، أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وهو دليل قرآني صريح في أن من يسبهم ويبغضهم، أنه ضال مخالف لله جل وعلا، حيث أبغض من رضي الله عنه. ولا شك أن بغض من رضي الله عنه مضادة له جل وعلا، وتمرد وطغيان.
قوله تعالى: * (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم) *.
صرح في هذه الآية الكريمة أن من الأعراب، ومن أهل المدينة، منافقين لا يعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر تعالى نظير ذلك عن نوح في قوله عنه. * (قال وما علمى بما كانوا يعملون) *.
148

وذكر نظيره عن شعيب عليهم كلهم صلوات الله وسلامه في قوله: * (بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين ومآ أنا عليكم بحفيظ) * اه.
وقد أطلع الله نبيه على بعض المنافقين كما تقدم في الآيات الماضية، وقد أخبر صاحبه حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، بشيء من ذلك، كما هو معلوم.
قوله تعالى: * (وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدهآ إياه) *.
لم يبين هنا هذه الموعدة التي وعدها إياه، ولكنه بينها في سورة (مريم) بقوله: * (قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بى حفيا) *. * (لقد جآءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم * فإن تولوا فقل حسبى الله لا إلاه إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) * قوله تعالى: * (لقد جآءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم) *.
هذه الآية الكريمة تدل على أن بعث هذا الرسول الذي هو من أنفسنا الذي هو متصف بهذه الصفات المشعرة بغاية الكمال، وغاية شفقته علينا هو أعظم منن الله تعالى، وأجزل نعمه علينا، وقد بين ذلك في مواضع أخر، كقوله تعالى: * (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) *: وقوله: * (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار) * وقوله: * (ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين) * إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: * (عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) *.
أمر تعالى في هذه الآية الكريمة نبيه صلى الله عليه وسلم، بالتوكل عليه جل وعلا.
ولا شك أنه ممتثل ذلك، فهو سيد المتوكلين عليه صلوات الله وسلامه، والتوكل على الله تعالى، هو شأن إخوانه من المرسلين صلوات الله عليهم وسلامه.
كما بين تعالى ذلك في آيات أخر، كقوله عن هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام * (قال إنى أشهد الله واشهدوا أنى برىء مما تشركون من دونه فكيدونى جميعا ثم لا تنظرون إنى توكلت على الله ربى وربكم) *: وقوله تعالى عن نوح: * (واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه ياقوم إن كان كبر عليكم مقامى وتذكيرى بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركآءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلى ولا تنظرون) * وقوله تعالى عن جملة الرسل: * (وما لنآ ألا نتوكل على الله وقد هدانا
149

سبلنا ولنصبرن على مآ آذيتمونا) *:
ومن أوضح الأدلة على عظم توكل نبينا صلى الله عليه وسلم على الله، قوله يوم حنين، وهو على بغلة في ذلك الموقف العظيم. على الله، قوله يوم حنين، وهو على بغلة في ذلك الموقف العظيم.
* أنا النبي لا كذب
* أنا ابن عبد المطلب
*
150

((سورة يونس))
* (الر تلك ءايات الكتاب الحكيم * أكان للناس عجبا أن أوحينآ إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين ءامنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هاذا لساحر مبين * إن ربكم الله الذي خلق السماوات والا رض فى ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الا مر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذالكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون * إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزى الذين ءامنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون * هو الذى جعل الشمس ضيآء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذالك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون * إن فى اختلاف اليل والنهار وما خلق الله فى السماوات والا رض لآيات لقوم يتقون * إن الذين لا يرجون لقآءنا ورضوا بالحيواة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن ءاياتنا غافلون * أولائك مأواهم النار بما كانوا يكسبون * إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجرى من تحتهم الا نهار في جنات النعيم) * قوله تعالى: * (والذين كفروا لهم شراب من حميم) *:
ذكر في هذه الآية الكريمة: أن الذين كفروا يعذبون يوم القيامة بشرب الحميم، وبالعذاب الأليم، والحميم: الماء الحار، وذكر أوصاف هذا الحميم في آيات أخر، كقوله: * (يطوفون بينها وبين حميم ءان) *، وقوله: * (وسقوا مآء حميما فقطع أمعآءهم) *، وقوله: * (يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما فى بطونهم والجلود) *. وقوله: * (وإن يستغيثوا يغاثوا بمآء كالمهل يشوى الوجوه) *، وقوله: * (فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم) *.
وذكر في موضع آخر أن الماء الذي يسقون صديد أعاذنا الله وإخواننا المسلمين من ذلك بفضله ورحمته وذلك في قوله تعالى: * (من ورآئه جهنم ويسقى من مآء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه) *:
وذكر في موضع آخر أنهم يسقون مع الحميم الغساق، كقوله: * (هاذا فليذوقوه حميم وغساق وءاخر من شكله أزواج) *، وقوله: * (لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا) * والغساق: صديد أهل النار أعاذنا الله والمسلمين منها وأصله من غسقت العين سال دمعها. وقيل: هو لغة، البارد المنتن، والحميم الآني: الماء البالغ غاية الحرارة: والمهل دردي: الزيت أو المذاب من النحاس والرصاص: ونحو ذلك، والآيات المبينة لأنواع عذاب أهل النار كثيرة جدا. * (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وءاخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين * ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقآءنا فى طغيانهم يعمهون * وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قآئما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنآ إلى ضر مسه كذالك زين للمسرفين ما كانوا يعملون * ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجآءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذالك نجزي القوم المجرمين * ثم جعلناكم خلائف فى الا رض من بعدهم لننظر كيف تعملون * وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقآءنا ائت بقرءان غير هاذآ أو بدله قل ما يكون لى أن أبدله من تلقآء نفسى إن أتبع إلا ما يوحى إلى إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم) * قوله تعالى: * (وتحيتهم فيها سلام) *.
ذكر تعالى في هذه الآية: أن تحية أهل الجنة في الجنة سلام، أي يسلم بعضهم على بعض بذلك، ويسلمون على الملائكة، وتسلم عليهم الملائكة بذلك، وقد بين تعالى هذا في مواضع أخر، كقوله: * (تحيتهم يوم يلقونه سلام) *، وقوله: * (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم) *: وقوله: * (لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما) *:
151

وقوله: * (لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما) * * (إلا قيلا سلاما سلاما) * وقوله: * (سلام قولا من رب رحيم) * إلى غير ذلك من الآيات.
ومعنى السلام: الدعاء: بالسلامة من الآفات.
والتحية مصدر حياك الله بمعنى أطال حياتك.
قوله تعالى: * (وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قآئما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنآ إلى ضر مسه) *.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الإنسان في وقت الكرب، يبتهل إلى ربه بالدعاء في جميع أحواله. فإذا فرج الله كربه، أعرض عن ذكر ربه، ونسي ما كان فيه كأنه لم يكن فيه قط.
وبين هذا في مواضع أخر كقوله: * (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسى ما كان يدعو إليه من قبل) *: وقوله: * (فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنمآ أوتيته على علم) *: وقوله: * (وإذآ أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعآء عريض) * والآيات في مثل ذلك كثيرة.
إلا أن الله استثنى من هذه الصفات الذميمة عباده المؤمنين، بقوله في سورة هود: * (ولئن أذقناه نعمآء بعد ضرآء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولائك لهم مغفرة وأجر كبير) *، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (عجبا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء، إلا كان خيرا له، إن أصابته ضراء فصبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء فشكر فكان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن).
قوله تعالى: * (قل ما يكون لى أن أبدله من تلقآء نفسى) *.
أمر الله تعالى: في هذه الآية الكريمة نبيه صلى الله عليه وسلم. أن يقول: إنه ما يكون له أن يبدل شيئا من القرآن من تلقاء نفسه، ويفهم من قوله من تلقاء نفسي، أن الله تعالى يبدل منه ما شاء بما شاء.
وصرح بهذا المفهوم في مواضع أخر كقوله: * (وإذا بدلنآ ءاية مكان ءاية والله أعلم بما ينزل) *: وقوله: * (ما ننسخ من ءاية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) *: وقوله * (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شآء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى) *.
152

* (قل لو شآء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون * فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون * ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هاؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم فى السماوات ولا فى الا رض سبحانه وتعالى عما يشركون * وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون * ويقولون لولا أنزل عليه ءاية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إنى معكم من المنتظرين * وإذآ أذقنا الناس رحمة من بعد ضرآء مستهم إذا لهم مكر فىءاياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون * هو الذى يسيركم فى البر والبحر حتى إذا كنتم فى الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جآءتها ريح عاصف وجآءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هاذه لنكونن من الشاكرين * فلمآ أنجاهم إذا هم يبغون فى الا رض بغير الحق ياأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحيواة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون * إنما مثل الحيواة الدنيا كمآء أنزلناه من السمآء فاختلط به نبات الا رض مما يأكل الناس والا نعام حتى إذآ أخذت الا رض زخرفها وازينت وظن أهلهآ أنهم قادرون عليهآ أتاهآ أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالا مس كذالك نفصل الآيات لقوم يتفكرون * والله يدعو إلى دار السلام ويهدى من يشآء إلى صراط مستقيم * للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولائك أصحاب الجنة هم فيها خالدون * والذين كسبوا السيئات جزآء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من اليل مظلما أولائك أصحاب النار هم فيها خالدون * ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركآؤكم فزيلنا بينهم وقال شركآؤهم ما كنتم إيانا تعبدون * فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين * هنالك تبلوا كل نفس مآ أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون * قل من يرزقكم من السمآء والا رض أمن يملك السمع والا بصار ومن يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى ومن يدبر الا مر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون * فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون * كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون * قل هل من شركآئكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون * قل هل من شركآئكم من يهدى إلى الحق قل الله يهدى للحق أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدى إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون * وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغنى من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون) * قوله تعالى: * (فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون) *.
في هذه الآية الكريمة حجة واضحة على كفار مكة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث إليهم رسولا حتى لبث فيهم عمرا من الزمن. وقدر ذلك أربعون سنة، فعرفوا صدقه، وأمانته، وعدله، وأنه بعيد كل البعد من أن يكون كاذبا على الله تعالى، وكانوا في الجاهلية يسمونه الأمين، وقد ألقمهم الله حجرا بهذه الحجة في موضع آخر، وهو قوله: * (أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون) * ولذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان، ومن معه من صفاته صلى الله عليه وسلم، قال هرقل لأبي سفيان: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: فقلت: لا، وكان أبو سفيان في ذلك الوقت زعيم الكفار، ورأس المشركين ومع ذلك اعترف بالحق، والحق ما شهدت به الأعداء.
فقال له هرقل: فقد أعرف أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يذهب فيكذب على الله. اه.
ولذلك وبخهم الله تعالى بقوله هنا: * (أفلا تعقلون) *.
قوله تعالى: * (إنما مثل الحيواة الدنيا كمآء أنزلناه من السمآء) * إلى قوله: * (لقوم يتفكرون) *.
ضرب الله تعالى في هذه الآية الكريمة المثل للدنيا بالنبات الناعم المختلط بعضه ببعض، وعما قليل ييبس، ويكون حصيدا يابسا كأنه لم يكن قط، وضرب لها أيضا المثل المذكور في (الكهف) في قوله: * (واضرب لهم مثل الحيواة الدنيا كمآء أنزلناه من السماء) * إلى قوله: * (وكان الله على كل شىء مقتدرا) *، وأشار لهذا المثل بقوله في (الزمر): * (ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن فى ذلك لذكرى لا ولى الا لباب) *، وقوله في (الحديد): * (كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما) *:
تنبيه
التشبيه في الآيات المذكورة عند البلاغيين من التشبيه المركب، لأن وجه الشبه صورة منتزعة من أشياء، وهو كون كل من المشبه والمشبه به يمكث ما شاء الله، وهو في إقبال وكمال، ثم عما قليل يضمحل ويزول، والعلم عند الله تعالى:
قوله تعالى: * (ويوم نحشرهم جميعا) *:
ذكر في هذه الآية الكريمة، أنه يوم القيامة يجمع الناس جميعا، والآيات بمثل ذلك كثيرة.
153

وصرح في (الكهف) بأنه لا يترك منهم أحدا، بقوله: * (وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا) *.
قوله تعالى: * (هنالك تبلوا كل نفس مآ أسلفت) *:
صرح في هذه الآية الكريمة، بأن كل نفس يوم القيامة تبلو، أي تخبر وتعلم ما أسلفت، أي قدمت من خير وشر، وبين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله: * (ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر) * وقوله: * (يوم تبلى السرآئر) * وقوله: * (ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) * وقوله: * (ويقولون ياويلتنا ما لهاذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا) *:
وأما على قراءة تتلو بتاءين ففي معنى الآية وجهان:
أحدهما: أنها تتلو بمعنى تقرأ في كتاب أعمالها جميع ما قدمت، فيرجع إلى الأولى.
والثاني: أن كل أمة تتبع عملها، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لتتبع كل أمة ما كانت تعبده فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس) الحديث.
قوله تعالى: * (قل من يرزقكم من السمآء والا رض أمن يملك السمع والا بصار ومن يخرج الحى من الميت) * إلى قوله: * (فقل أفلا تتقون) *.
صرح الله تعالى في هذه الآية الكريمة، بأن الكفار يقرون بأنه جل وعلا، هو ربهم الرزاق المدبر للأمور المتصرف في ملكه بما يشاء، وهو صريح في اعترافهم بربوبيته، ومع هذا أشركوا به جل وعلا.
والآيات الدالة على أن المشركين مقرون بربوبيته جل وعلا. ولم ينفعهم ذلك لإشراكهم معه غيره في حقوقه جل وعلا كثيرة، كقوله: * (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) * وقوله: * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والا رض ليقولن خلقهن العزيز العليم) * وقوله: * (قل لمن الا رض ومن فيهآ إن كنتم تعلمون) * * (سيقولون لله) * إلى قوله: * (فأنى تسحرون) * إلى غير ذلك من الآيات، ولذا قال تعالى: * (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) *.
والآيات المذكورة صريحة في أن الاعتراف بربوبيته جل وعلا، لا يكفي في الدخول في دين الإسلام إلا بتحقيق معنى لا إله إلا الله نفيا وإثباتا، وقد أوضحناه في سورة
154

(الفاتحة) في الكلام على قوله تعالى: * (إياك نعبد) *.
أما تجاهل فرعون لعنه الله لربوبيته جل وعلا، في قوله: * (قال فرعون وما رب العالمين) * فإنه تجاهل عارف لأنه عبد مربوب، كما دل عليه قوله تعالى: * (قال لقد علمت مآ أنزل هاؤلاء إلا رب السماوات والا رض بصآئر) *: وقوله: * (وجحدوا بها واستيقنتهآ أنفسهم ظلما وعلوا) *.
قوله تعالى: * (قل هل من شركآئكم من يبدأ الخلق) * إلى قوله: * (فأنى تؤفكون) *.
ألقم الله تعالى المشركين في هذه الآيات حجرا، بأن الشركاء التي يعبدونها من دونه لا قدرة لها على فعل شيء، وأنه هو وحده جل وعلا الذي يبدؤ الخلق ثم يعيده بالإحياء مرة أخرى، وأنه يهدي من يشاء.
وصرح بمثل هذا في آيات كثيرة كقوله: * (الله الذى خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركآئكم من يفعل من ذلكم من شىء سبحانه وتعالى عما يشركون) *، وقوله تعالى: * (واتخذوا من دونه ءالهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حيواة ولا نشورا) * وقوله: * (ياأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السمآء والا رض) *. وقوله: * (أفمن يخلق كمن لا يخلق) *: وقوله: * (أم جعلوا لله شركآء خلقوا كخلقه) * وقوله: * (قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادنى الله بضر هل هن كاشفات ضره) *. وقوله: * (أمن هاذا الذى يرزقكم إن أمسك رزقه) *. وقوله: * (إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق) *.
والآيات: في مثل ذلك كثيرة، ومعلوم أن تسوية ما لا يضر ولا ينفع ولا يقدر على شيء، مع من بيده الخير كله المتصرف بكل ما شاء، لا تصدر إلا ممن لا عقل له، كما قال تعالى عن أصحاب ذلك: * (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا فى أصحاب السعير) *. * (وما كان هاذا القرءان أن يفترى من دون الله ولاكن تصديق الذى بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين * بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين * ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين * وإن كذبوك فقل لى عملى ولكم عملكم أنتم بريئون ممآ أعمل وأنا برىء مما تعملون * ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون * ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدى العمى ولو كانوا لا يبصرون * إن الله لا يظلم الناس شيئا ولاكن الناس أنفسهم يظلمون) * قوله تعالى: * (وما كان هاذا القرءان أن يفترى من دون الله ولاكن تصديق الذى بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين) *.
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة، أن هذا القرآن لا يكون مفتري من دون الله مكذوبا به عليه، وأنه لا شك في أنه من رب العالمين جل وعلا،
155

وأشار إلى أن تصديقه للكتب السماوية المنزلة قبله وتفصيله للعقائد والحلال والحرام ونحو ذلك. مما لا شك أنه من الله جل وعلا. دليل على أنه غير مفتري. وأنه لا ريب في كونه من رب العالمين، وبين هذا في مواضع أخر كقوله: * (لقد كان فى قصصهم عبرة لاولى الألباب ما كان حديثا يفترى ولاكن تصديق الذى بين يديه وتفصيل كل شىء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) *. وقوله: * (وما تنزلت به الشياطين وما ينبغى لهم وما يستطيعون) * وقوله: * (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) * والآيات في مثل ذلك كثيرة.
ثم إنه تعالى لما صرح هنا بأن هذا القرآن ما كان أن يفترى على الله، أقام البرهان القاطع على أنه من الله، فتحدى جميع الخلق بسورة واحدة مثله، ولا شك أنه لو كان من جنس كلام الخلق لقدر الخلق على الإتيان بمثله، فلما عجزوا عن ذلك كلهم حصل اليقين، والعلم الضروري أنه من الله جل وعلا، قال جل وعلا في هذه السورة:
* (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) * وتحداهم أيضا في سورة (البقرة) بسورة واحدة من مثله، بقوله: * (وإن كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) *: وتحداهم في (هود) يعشر سور مثله بقوله: * (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) *: وتحداهم في (الطور) به كله بقوله: * (فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين) *.
وصرح في سورة (بني إسرائيل) بعجز جميع الخلائق عن الإتيان بمثله بقوله: * (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هاذا القرءان لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) * كما قدمنا، وبين أنهم لا يأتون بمثله أيضا بقوله: * (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) *.
قوله تعالى: * (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله) *.
التحقيق أن تأويله هنا، هو حقيقة ما يؤول إليه الأمر يوم القيامة، كما قدمنا في أول (آل عمران)، ويدل لصحة هذا قوله في (الأعراف): * (هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتى تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جآءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعآء) *.
ونظير الآية قوله تعالى: * (بل هم فى شك من ذكرى بل لما يذوقوا عذاب) *.
156

قوله تعالى: * (وإن كذبوك فقل لى عملى ولكم عملكم أنتم بريئون ممآ أعمل وأنا برىء مما تعملون) *.
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة، أن يظهر البراءة من أعمال الكفار القبيحة إنكارا لها، وإظهارا لوجوب التباعد عنها، وبين هذا المعنى في قوله: * (قل ياأيها الكافرون) *، إلى قوله: * (ولى دين) *، ونظير ذلك، قول إبراهيم الخليل وأتباعه لقومه: * (إنا برءآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله) *.
وبين تعالى في موضع آخر أن اعتزال الكفار، والأوثان والبراءة منهم. من فؤائده تفضل الله تعالى بالذرية الطيبة الصالحة، وهو قوله في (مريم): * (فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب) * إلى قوله: * (ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا) *.
وقال ابن زيد، وغيره، إن آية: * (وإن كذبوك فقل لى عملى) *: منسوخة بآيات السيف.
والظاهر أن معناها محكم. لأن البراءة إلى الله من عمل السوء لا شك في بقاء مشروعيتها. * (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقآء الله وما كانوا مهتدين * وإما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون * ولكل أمة رسول فإذا جآء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون * ويقولون متى هاذا الوعد إن كنتم صادقين) * قوله تعالى: * (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار) *.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة، أن الكفار إذا حشروا استقلوا مدة مكثهم في دار الدنيا، حتى كأنها قدر ساعة عندهم، وبين هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله في آخر (الأحقاف). * (كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم) *، وقوله في آخر (النازعات): * (كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها) *، وقوله في آخر (الروم): * (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة) *.
وقد بينا بإيضاح في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)، وجه الجمع بين هذه الآيات المقتضية أن الدنيا عندهم كساعة، وبين الآيات المقتضية أنها عندهم كأكثر من ذلك، كقوله تعالى: * (يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا) * وقوله: * (قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العآدين) * فانظره فيه في سورة: * (قد أفلح المؤمنون) * في الكلام على قوله: * (قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العآدين) *.
قوله تعالى: * (يتعارفون بينهم) *.
صرح في هذه الآية الكريمة: أن أهل المحشر
157

يعرف بعضهم بعضا فيعرف الآباء الأبناء، كالعكس، ولكنه بين في مواضع أخر أن هذه المعارفة لا أثر لها، فلا يسأل بعضهم بعضا شيئا، كقوله: * (ولا يسأل حميم حميما يبصرونهم) *، وقوله: * (فإذا نفخ فى الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتسآءلون) *.
وقد بينا في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) أيضا: وجه الجمع بين قوله: * (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتسآءلون) *، وبين قوله: * (وأقبل بعضهم على بعض يتسآءلون) *، في سورة: * (قد أفلح المؤمنون) *: أيضا.
قوله تعالى: * (قد خسر الذين كذبوا بلقآء الله وما كانوا مهتدين) *. صرح تعالى في هذه الآية الكريمة: بخسران المكذبين بلقائه، وأنهم لم يكونوا مهتدين، ولم يبين هنا المفعول به لقوله خسر، وذكر في مواضع كثيرة أسبابا من أسباب الخسران، وبين في مواضع أخر المفعول المحذوف هنا، فمن الآيات المماثلة لهذه الآية، قوله تعالى في (الأنعام): * (قد خسر الذين كذبوا بلقآء الله حتى إذا جآءتهم الساعة بغتة قالوا ياحسرتنا على ما فرطنا فيها) *، وقوله تعالى في (البقرة): * (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون مآ أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الا رض أولئك هم الخاسرون) *، وقوله في (البقرة) أيضا: * (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولائك يؤمنون به ومن يكفر به فأولائك هم الخاسرون) *، وقوله في (الأعراف): * (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) *، وقوله في (الأعراف) أيضا: * (من يهد الله فهو المهتدى ومن يضلل فأولائك هم الخاسرون) *، وقوله في (الزمر): * (له مقاليد السماوات والا رض والذين كفروا بأايات الله أولائك هم الخاسرون) *.
والآيات في مثل هذا كثيرة، وقد أقسم تعالى على أن هذا الخسران لا ينجو منه إنسان إلا بأربعة أمور:
الأول: الإيمان.
الثاني: العمل الصالح.
الثالث: التواصي بالحق.
الرابع: التواصي بالصبر.
وذلك في قوله: * (والعصر إن الإنسان) * إلى آخر السورة الكريمة. وبين في مواضع أخر،
158

أن المفعول المحذوف الواقع عليه الخسران هو أنفسهم، كقوله في (الأعراف): * (ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون) *، وقوله في (المؤمنون): * (ومن خفت موازينه فأولائك الذين خسروا أنفسهم فى جهنم خالدون) * وقوله في (هود): * (أولائك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون) *.
وزاد في مواضع أخر خسران الأهل مع النفس، كقوله في (الزمر): * (قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين) *، وقوله في (الشورى): * (وقال الذين ءامنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين فى عذاب مقيم) *.
وبين في موضع آخر أن خسران الخاسرين قد يشمل الدنيا والآخرة، وهو قوله: * (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والا خرة ذالك هو الخسران المبين) *.
قوله تعالى: * (وإما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم) *.
بين الله تعالى في هذه الآية الكريمة لنبيه صلى الله عليه وسلم، إنه إما أن يريه في حياته بعض ما يعد الكفار من النكال والانتقام، أو يتوفاه قبل ذلك، فمرجعهم إليه جل وعلا لا يفوته شيء مما يريد أن يفعله بهم لكمال قدرته عليهم، ونفوذ مشيئته جل وعلا فيهم، وبين هذا المعنى أيضا في مواضع أخر، كقوله في سورة (المؤمن): * (فإما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون) *، وقوله في (الزخرف): * (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذى وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون) * إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه
لم يأت في القرآن العظيم فعل المضارع بعد إن الشرطية المدغمة في ما المزيدة لتوكيد الشرط، إلا مقترنا بنون التوكيد الثقيلة، كقوله هنا: * (وإما نرينك) *: * (فإما نذهبن) *: * (فإما تثقفنهم) *: * (وإما تخافن من قوم) *.
ولذلك زعم بعض العلماء العربية وجوب اقتران المضارع بالنون المذكورة في الحال
159

المذكورة، والحق أن عدم اقترانه بها جائز، كقول الشاعر: ولذلك زعم بعض العلماء العربية وجوب اقتران المضارع بالنون المذكورة في الحال المذكورة، والحق أن عدم اقترانه بها جائز، كقول الشاعر:
* فإما تريني ولي لمة
* فإن الحوادث أودى بها
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* زعمت تماضر أنني إما أمت
* يسدد أبينوها الأصاغر خلتي
*
قوله تعالى: * (ولكل أمة رسول) *.
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة: أن لكل أمة رسولا، وبين هذا في مواضع أخر، كقوله: * (ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا) * الآية، وقوله: * (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) *، وقوله: * (ولكل قوم هاد) * إلى غير ذلك من الآيات، وقد بين صلى الله عليه وسلم، أن عدد الأمم سبعون أمة في حديث معاوية بن حيدة القشيري، رضي الله عنه (أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها، وأكرمها على الله) وقد بينا هذه الآيات في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)، ووجه الجمع بينها وبين قوله: * (لتنذر قوما مآ أنذر ءابآؤهم) *. في سورة (الرعد) في الكلام على قوله تعالى: * (ولكل قوم هاد) *.
قوله تعالى: * (فإذا جآء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون) *.
أوضح الله تعالى معنى هذه الآية: الكريمة في سورة (الزمر) بقوله: * (وأشرقت الا رض بنور ربها ووضع الكتاب وجىء بالنبيين والشهدآء وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون) *. * (قل لا أملك لنفسى ضرا ولا نفعا إلا ما شآء الله لكل أمة أجل إذا جآء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون * قل أرءيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون * أثم إذا ما وقع ءامنتم به ءآأن وقد كنتم به تستعجلون * ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا
عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون * ويستنبئونك أحق هو قل إى وربى إنه لحق ومآ أنتم بمعجزين * ولو أن لكل نفس ظلمت ما فى الا رض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون * ألا إن لله ما فى السماوات والا رض ألا إن وعد الله حق ولاكن أكثرهم لا يعلمون * هو يحى ويميت وإليه ترجعون * ياأيها الناس قد جآءتكم موعظة من ربكم وشفآء لما فى الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين * قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون * قل أرأيتم مآ أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على الله تفترون * وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولاكن أكثرهم لا يشكرون * وما تكون فى شأن وما تتلوا منه من قرءان ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الا رض ولا فى السمآء ولا أصغر من ذالك ولا أكبر إلا فى كتاب مبين * ألا إن أوليآء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين ءامنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحيواة الدنيا وفى الا خرة لا تبديل لكلمات الله ذالك هو الفوز العظيم * ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم * ألا إن لله من فى السماوات ومن فى الا رض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركآء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون * هو الذى جعل لكم اليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن فى ذالك لآيات لقوم يسمعون * قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما فى السماوات وما فى الا رض إن عندكم من سلطان بهاذآ أتقولون على الله ما لا تعلمون * قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع فى الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون * واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه ياقوم إن كان كبر عليكم مقامى وتذكيرى بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركآءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلى ولا تنظرون * فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجرى إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين * فكذبوه فنجيناه ومن معه فى الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين * ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجآءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين * ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين * فلما جآءهم الحق من عندنا قالوا إن هاذا لسحر مبين * قال موسى أتقولون للحق لما جآءكم أسحر هاذا ولا يفلح الساحرون * قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه ءاباءنا وتكون لكما الكبريآء فى الا رض وما نحن لكما بمؤمنين * وقال فرعون ائتونى بكل ساحر عليم * فلما جآء السحرة قال لهم موسى ألقوا مآ أنتم ملقون * فلمآ ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين * ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون * فمآ ءامن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الا رض وإنه لمن المسرفين * وقال موسى ياقوم إن كنتم ءامنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين * فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين * ونجنا برحمتك من القوم الكافرين * وأوحينآ إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلواة وبشر المؤمنين * وقال موسى ربنآ إنك ءاتيت فرعون وملاه زينة وأموالا فى الحيواة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الا ليم * قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعآن سبيل الذين لا يعلمون * وجاوزنا ببنى إسراءيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذآ أدركه الغرق قال ءامنت أنه لا إلاه إلا الذىءامنت به بنوا إسراءيل وأنا من المسلمين * ءاأن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين * فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك ءاية وإن كثيرا من الناس عن ءاياتنا لغافلون * ولقد بوأنا بنى إسراءيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جآءهم العلم إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون * فإن كنت في شك ممآ أنزلنآ إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جآءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين * ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين * إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جآءتهم كل ءاية حتى يروا العذاب الا ليم * فلولا كانت قرية ءامنت فنفعهآ إيمانها إلا قوم يونس لمآ ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزى فى الحيواة الدنيا ومتعناهم إلى حين) * قوله تعالى: * (لكل أمة أجل إذا جآء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) *.
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بأن لكل أمة أجلا، وأنه لا يسبق أحد أجله المحدد له، ولا يتأخر عنه.
وبين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله: * (ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون) * وقوله: * (إن أجل الله إذا جآء لا يؤخر لو كنتم تعلمون) * وقوله: * (ولن يؤخر الله نفسا إذا جآء أجلهآ) *، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: * (أثم إذا ما وقع ءامنتم به ءآأن وقد كنتم به تستعجلون) *.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة، أن الكفار يطلبون في الدنيا تعجيل العذاب كفرا وعنادا، فإذا عاينوا العذاب آمنوا، وذلك الإيمان عند معاينة العذاب وحضوره لا يقبل منهم، وقد أنكر ذلك
160

تعالى عليهم هنا بقوله: * (أثم إذا ما وقع ءامنتم به) * ونفى أيضا قبول إيمانهم في ذلك الحين بقوله: * (ءآأن وقد كنتم به تستعجلون) *.
وأوضح هذا المعنى في آيات أخر، كقوله: * (فلما رأوا بأسنا قالوا ءامنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التى قد خلت فى عباده وخسر هنالك الكافرون) * وقوله: * (حتى إذآ أدركه الغرق قال ءامنت أنه لا إلاه إلا الذىءامنت به بنوا إسراءيل وأنا من المسلمين ءاأن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) * وقوله: * (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إنى تبت الا ن) *، إلى غير ذلك من الآيات، واستثنى الله تعالى قوم يونس دون غيرهم بقوله: * (فلولا كانت قرية ءامنت فنفعهآ إيمانها إلا قوم يونس لمآ ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزى فى الحيواة الدنيا ومتعناهم إلى حين) *.
قوله تعالى: * (إن الله سيبطله) *.
ذكر تعالى عن موسى في هذه الآية، أنه قال: إن الله سيبطل سحر سحرة فرعون.
وصرح في مواضع أخر بأن ذلك الذي قال موسى، إنه سيقع. من إبطال الله لسحرهم. أنه وقع بالفعل، كقوله: * (فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين) * ونحوها من الآيات:
قوله تعالى: * (ولقد بوأنا بنى إسراءيل مبوأ صدق) *.
ذكر تعالى في هذه الآية: أنه بوأ بني إسرائيل مبوأ صدق.
وبين ذلك في آيات أخر كقوله: * (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الا رض ومغاربها التى باركنا فيها) *، وقوله: * (فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم) * إلى قوله: * (كذلك وأورثناها بنى إسراءيل) * وقوله: * (كم تركوا من جنات وعيون) * * (وزروع ومقام كريم) * إلى قوله: * (كذلك وأورثناها قوما ءاخرين) * ومعنى * (بوأنا بنى إسراءيل مبوأ صدق) * أنزلناهم منزلا مرضيا حسنا.
قوله تعالى: * (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جآءتهم كل ءاية حتى يروا العذاب الا ليم) *.
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة، أن من حقت عليه كلمة
161

العذاب، وسبقت له في علم الله الشقاوة لا ينفعه وضوح أدلة الحق، وذكر هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله تعالى: * (وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) * وقوله: * (وإن يروا ءاية يعرضوا) *، وقوله: * (وما تأتيهم من ءاية من ءايات ربهم إلا كانوا عنها معرضين) * وقوله: * (وكأين من ءاية فى السماوات والا رض يمرون عليها وهم عنها معرضون) * وقوله: * (سوآء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) *.
والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا.
قوله تعالى: * (إلا قوم يونس لمآ ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزى فى الحيواة الدنيا ومتعناهم إلى حين) *.
ظاهر هذه الآية الكريمة أن إيمان قوم يونس ما نفعهم إلا في الدنيا دون الآخرة، لقوله: * (كشفنا عنهم عذاب الخزى فى الحيواة الدنيا) *.
ويفهم من مفهوم المخالفة في قوله: * (فى الحيواة الدنيا) * أن الآخرة ليست كذلك، ولكنه تعالى أطلق عليهم اسم الإيمان من غير قيد في سورة (الصافات) والإيمان منقذ من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، كما أنه بين في (الصافات) أيضا كثرة عددهم وكل ذلك في قوله تعالى: * (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فأامنوا فمتعناهم إلى حين) *. * (ولو شآء ربك لآمن من فى الا رض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين * وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون * قل انظروا ماذا فى السماوات والا رض وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون * فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إنى معكم من المنتظرين * ثم ننجى رسلنا والذين ءامنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين * قل ياأيها الناس إن كنتم فى شك من دينى فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولاكن أعبد الله الذى يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين * وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين * ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين * وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا رآد لفضله يصيب به من يشآء من عباده وهو الغفور الرحيم * قل ياأيها الناس قد جآءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ومآ أنا عليكم بوكيل * واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين) * قوله تعالى: * (ولو شآء ربك لآمن من فى الا رض كلهم جميعا) *.
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه لو شاء إيمان جميع أهل الأرض لآمنوا كلهم جميعا، وهو دليل واضح على أن كفرهم واقع بمشيئته الكونية القدرية. وبين ذلك أيضا في آيات كثيرة كقوله تعالى: * (ولو شآء الله مآ أشركوا) *، وقوله: * (ولو شئنا لاتينا كل نفس هداها) *، وقوله: * (ولو شآء الله لجمعهم على الهدى) * إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: * (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) *.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن من لم يهده الله فلا هادي له، ولا يمكن أحدا أن يقهر قلبه على الانشراح إلى الإيمان إلا إذا أراد الله به ذلك.
وأوضح ذلك المعنى في آيات كثيرة كقوله: * (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا) *، وقوله: * (إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدى من يضل) *
162

، وقوله: * (إنك لا تهدى من أحببت) *، وقوله: * (من يضلل الله فلا هادي له) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا كما تقدم، في (النساء).
والظاهر أنها غير منسوخة، وأن معناها أنه لا يهدي القلوب ويوجهها إلى الخير إلا الله تعالى: وأظهر دليل على ذلك أن الله أتبعه بقوله: * (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله) *.
قوله تعالى: * (قل انظروا ماذا فى السماوات والا رض) *.
أمر الله جل وعلا جميع عباده أن ينظروا ماذا خلق في السماوات والأرض من المخلوقات الدالة على عظم خالقها، وكماله، وجلاله، واستحقاقه لأن يعبد وحده جل وعلا.
وأشار لمثل ذلك بقوله: * (سنريهم ءاياتنا فى الا فاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) *، ووبخ في سورة (الأعراف) من لم يمتثل هذا الأمر وهدده بأنه قد يعاجله الموت فينقضي أجله قبل أن ينظر فيما أمره الله جل وعلا أن ينظر فيه لينبه بذلك على وجوب المبادرة في امتثال أمر الله جل وعلا وذلك في قوله تعالى: * (
أولم ينظروا فى ملكوت السماوات والا رض وما خلق الله من شىء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي) *.
163

تنبيه
آية (الأعراف) هذه التي ذكرنا تدل دلالة واضحة على أن الأمر يقتضي الفور، وهو الذي عليه جمهور الأصوليين، خلافا لجماعة من الشافعية وغيرهم.
قوله تعالى: * (وأن أقم وجهك للدين) *.
أوضح هذا المعنى في قوله: * (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها) *.
قوله تعالى: * (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك) *.
أوضح معناه أيضا بقوله: * (ولا تدع مع الله إلاها ءاخر لا إلاه إلا هو كل شىء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون) *.
قوله تعالى: * (واصبر حتى يحكم الله وهو خير) *.
لم يبين هنا ما حكم الله به بين نبيه وبين أعدائه، وقد بين في آيات كثيرة أنه حكم بنصره عليهم، وإظهار دينه على كل دين، كقوله: * (إذا جآء نصر الله والفتح) * إلى آخر السورة وقوله: * (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) * إلى آخرها، وقوله: * (أولم يروا أنا نأتى الا رض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه) *. إلى غير ذلك من الآيات.
164

((سورة هود))
* (الر كتاب أحكمت ءاياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) * قوله تعالى: * (الر كتاب أحكمت ءاياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) *. اعلم أن العلماء اختلفوا في المراد بالحروف المقطعة في أوائل السور اختلافا كثيرا، واستقراء القرآن العظيم يرجح واحدا من تلك الأقوال، وسنذكر الخلاف المذكور وما يرجحه القرآن منه بالاستقراء فنقول، وبالله جل وعلا نستعين:
قال بعض العلماء: هي مما استأثر الله تعالى بعلمه. كما بينا في (آل عمران) وممن روي عنه هذا القول: أبو بكر، وعمر، وعثمان. وعلي، وابن مسعود رضي الله عنهم وعامر والشعبي، وسفيان الثوري، والربيع بن خيثم، واختاره أبو حاتم بن حبان.
وقيل: هي أسماء للسور التي افتتحت بها. وممن قال بهذا القول: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. ويروى ما يدل لهذا القول عن مجاهد، وقتادة، وزيد بن أسلم. قال الزمخشري في تفسيره: وعليه إطباق الأكثر. ونقل عن سيبويه أنه نص عليه. ويعتضد هذا القول بما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة * (ألم) * السجدة، و * (هل أتى على الإنسان) *.
ويدل له أيضا قول قاتل محمد السجاد بن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما يوم الجمل، وهو شريح بن أبي أوفى العبسي. كما ذكره البخاري في صحيحه في أول سورة المؤمن: ويدل له أيضا قول قاتل محمد السجاد بن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما يوم الجمل، وهو شريح بن أبي أوفى العبسي. كما ذكره البخاري في صحيحه في أول سورة المؤمن:
* يذكرني حاميم والرمح شاجر
* فهلا تلا حاميم قبل التقدم
*
وحكى ابن إسحاق أن هذا البيت للأشتر النخعي قائلا: إنه الذي قتل محمد بن طلحة المذكور. وذكر أبو مخنف: أنه لمدلج بن كعب السعدي. ويقال كعب بن مدلج. وذكر الزبير بن بكار: أن الأكثر على أن الذي قتله عصام بن مقشعر. قال المرزباني: وهو الثبت، وأنشد له البيت المذكور وقبله: وحكى ابن إسحاق أن هذا البيت للأشتر النخعي قائلا: إنه الذي قتل محمد بن طلحة المذكور. وذكر أبو مخنف: أنه لمدلج بن كعب السعدي. ويقال كعب بن مدلج. وذكر الزبير بن بكار: أن الأكثر على أن الذي قتله عصام بن مقشعر. قال المرزباني: وهو الثبت، وأنشد له البيت المذكور وقبله:
* وأشعث قوام بآيات ربه
* قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
*
165

* هتكت له بالرمح جيب قميصه
* فخر صريعا لليدين وللفم
*
* على غير شيء غير أن ليس تابعا
* عليا ومن لا يتبع الحق يندم
*
يذكرني حاميم... البيت. اه من فتح الباري.
فقوله: (يذكرني حاميم)، بإعراب (حاميم) إعراب ما لا ينصرف فيه الدلالة على ما ذكرنا من أنه اسم للسورة.
وقيل: هي من أسماء الله تعالى. وممن قال بهذا: سالم بن عبد الله، والشعبي، وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير، وروي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما وعنه أيضا: أنها أقسام أقسم الله بها، وهي من أسمائه. وروي نحوه عن عكرمة.
وقيل: هي حروف، كل واحد منها من اسم من أسمائه جل وعلا. فالألف من (ألم) مثلا: مفتاح اسم الله، واللام مفتاح اسمه لطيف، والميم: مفتاح اسمه مجيد، وهكذا. ويروى هذا عن ابن عباس، وابن مسعود، وأبي العالية. واستدل لهذا القول بأن العرب قد تطلق الحرف الواحد من الكلمة، وتريد به جميع الكلمة كقول الراجز: وقيل: هي حروف، كل واحد منها من اسم من أسمائه جل وعلا. فالألف من (ألم) مثلا: مفتاح اسم الله، واللام مفتاح اسمه لطيف، والميم: مفتاح اسمه مجيد، وهكذا. ويروى هذا عن ابن عباس، وابن مسعود، وأبي العالية. واستدل لهذا القول بأن العرب قد تطلق الحرف الواحد من الكلمة، وتريد به جميع الكلمة كقول الراجز:
* قلت لها قفي فقالت لي قاف
* لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف
*
فقوله: (قاف) أي وقفت. وقول الآخر: فقوله: (قاف) أي وقفت. وقول الآخر:
* بالخير خيرات وإن شرا فا
* ولا أريد الشر إلا أن تا
*
يعني: وإن شرا فشر، ولا أريد الشر إلا أن تشاء. فاكتفى بالفاء والتاء عن بقية الكلمتين.
قال القرطبي: وفي الحديث (من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة) الحديث. قال سفيان: هو أن يقول في أقتل: أ ق. إلى غير ما ذكرنا من الأقوال في فواتح السور، وهي نحو ثلاثين قولا.
أما القول الذي يدل استقراء القرآن على رجحانه فهو: أن الحروف المقطعة ذكرت في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانا لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها. وحكى هذا القول الرازي في تفسيره عن المبرد، وجمع من المحققين، وحكاه القرطبي عن الفراء وقطرب، ونصره الزمخشري في الكشاف.
166

قال ابن كثير: وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس بن تيمية، وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي، وحكاه لي عن ابن تيمية.
ووجه شهادة استقراء القرآن لهذا القول: أن السور التي افتتحت بالحروف المقطعة يذكر فيها دائما عقب الحروف المقطعة الانتصار للقرآن وبيان إعجازه، وأنه الحق الذي لا شك فيه.
وذكر ذلك بعدها دائما دليل استقرائي على أن الحروف المقطعة قصد بها إظهار إعجاز القرآن، وأنه حق.
قال تعالى في البقرة: * (ألم) * واتبع ذلك بقوله * (ذالك الكتاب لا ريب فيه) * وقال في آل عمران * (ألم) * واتبع ذلك بقوله: * (الله لا إلاه إلا هو الحى القيوم نزل عليك الكتاب بالحق) *. وقال في الأعراف: * (المص) * ثم قال: * (كتاب أنزل إليك) * الآية. وقال في سورة يونس: * (الر) * ثم قال: * (تلك ءايات الكتاب الحكيم) * وقال في هذه السورة الكريمة التي نحن بصددها أعني سورة هود * (الر) * ثم قال: * (كتاب أحكمت ءاياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) *، وقال في يوسف: * (الر) * ثم قال: * (تلك ءايات الكتاب المبين) * * (إنآ أنزلناه قرآنا عربيا) *. وقال في الرعد: * (المر) * ثم قال: * (تلك آيات الكتاب والذى أنزل إليك من ربك الحق) *، وقال في سورة إبراهيم * (الر) * ثم قال: * (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) *. وقال في الحجر: * (الر) * ثم قال * (تلك ءايات الكتاب وقرءان مبين) * وقال في سورة طه * (طه) * ثم قال: * (مآ أنزلنا عليك القرءان لتشقى) * وقال في الشعراء: * (طسم) * ثم قال * (تلك ءايات الكتاب المبين لعلك باخع نفسك) *. وقال في النمل: * (طس) * ثم قال * (تلك ءايات القرءان وكتاب مبين) * وقال في القصص * (طسم) * ثم قال * (تلك ءايات الكتاب المبين) * * (نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون) *. وقال في لقمان * (ألم) * ثم قال * (تلك ءايات الكتاب الحكيم) * * (هدى ورحمة للمحسنين) * وقال في
167

السجدة * (ألم) * ثم قال * (تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين) * وقال في يس * (يس) * ثم قال * (والقرءان الحكيم) * وقال في ص * (والقرءان ذى الذكر) * وقال في سورة المؤمن * (حم) * ثم قال * (تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم) *. وقال في فصلت * (حم) * ثم قال * (تنزيل من الرحمان الرحيم كتاب فصلت ءاياته قرءانا عربيا لقوم يعلمون) * وقال في الشورى * (حم عسق) * ثم قال * (كذلك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك) * وقال في الزخرف * (حم) * ثم قال * (والكتاب المبين إنا جعلناه قرءانا عربيا) * وقال في الدخان * (حم) * ثم قال * (والكتاب المبين إنآ أنزلناه فى ليلة مباركة) * وقال في الجاثية
* (حم) * ثم قال * (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إن فى السماوات والا رض لايات للمؤمنين) * وقال في الأحقاف * (حم) * ثم قال: * (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ما خلقنا السماوات والا رض وما بينهمآ إلا بالحق) *. وقال في سورة ق * (ق) * ثم قال * (والقرءان المجيد) *.
وقد قدمنا كلام الأصوليين في الاحتجاج بالاستقراء بما أغنى عن إعادته هنا.
وإنما أخرنا الكلام على الحروف المقطعة مع أنه مرت سور مفتتحة بالحروف المقطعة كالبقرة، وآل عمران، والأعراف، ويونس. لأن الحروف المقطعة في القرآن المكي غالبا، والبقرة، وآل عمران مدنيتان والغالب له الحكم، واخترنا لبيان ذلك سورة هود. لأن دلالتها على المعنى المقصود في غاية الظهور والإيضاح. لأن قوله تعالى * (كتاب أحكمت ءاياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) * بعد قوله * (الر) * واضح جدا فيما ذكرنا، والعلم عند الله تعالى. * (ألا تعبدوا إلا الله إننى لكم منه نذير وبشير * وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير * إلى الله مرجعكم وهو على كل شىء قدير * ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور * وما من دآبة في الا رض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل فى كتاب مبين) * قوله تعالى: * (ألا تعبدوا إلا الله إننى لكم منه نذير وبشير) *. هذه الآية الكريمة فيها الدلالة الواضحة على أن الحكمة العظمى التي أنزل القرآن من أجلها: هي أن يعبد الله جل وعلا وحده، ولا يشرك به في عبادته شيء، لأن قوله جل وعلا: * (كتاب أحكمت ءاياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا إلا الله) * الآية صريح في أن
168

آيات هذا الكتاب فصلت من عند الحكيم الخبير لأجل أن يعبد الله وحده، سواء قلنا إن (أنه) هي المفسرة. أو أن المصدر المنسبك منها ومن صلتها مفعول من أجله، لأن ضابط (أن) المفسرة أن يكون ما قبلها متضمنا معنى القول، ولا يكون فيه حروف القول.
ووجهه في هذه الآية أن قوله: * (أحكمت ءاياته ثم فصلت) * فيه معنى قول الله تعالى لذلك الإحكام والتفصيل دون حروف القول، فيكون تفسير ذلك هو: * (ألا تعبدوا إلا الله) *.
وأما على القول بأن المصدر المنسبك من (أن) وصلتها مفعول له فالأمر واضح، فمعنى الآية: أن حاصل تفصيل القرآن هو أن يعبد الله تعالى وحده ولا يشرك به شيء. ونظير هذا المعنى قوله تعالى في سورة الأنبياء: * (قل إنمآ يوحى إلى أنمآ إلاهكم إلاه واحد فهل أنتم مسلمون) * ومعلوم أن لفظة (إنما) من صيغ الحصر، فكأن جميع ما أوحي إليه منحصر في معنى (لا إله إلا الله) وقد ذكرنا في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب). أن حصر الوحي في آية الأنبياء هذه في توحيد العبادة حصر له في أصله الأعظم الذي يرجع إليه جميع الفروع، لأن شرائع الأنبياء كلهم داخلة في ضمن معنى (لا إلاه إلا الله) لأن معناها. خلع جميع المعبودات غير الله جل وعلا في جميع أنواع العبادات، وإفراده جل وعلا وحده بجميع أنواع العبادات، فيدخل في ذلك جميع الأوامر والنواهي القولية والفعلية والاعتقادية.
والآيات الدالة على أن إرسال الرسل، وانزال الكتب لأجل أن يعبد الله وحده كثيرة جدا، كقوله: * (ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) *، وقوله: * (ومآ أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إلاه إلا أنا فاعبدون) *، وقوله: * (واسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنآ أجعلنا من دون الرحمان ءالهة يعبدون) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقد أشرنا إلى هذا البحث في سورة الفاتحة، وسنستقصي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في سورة (الناس)، لتكون خاتمة هذا الكتاب المبارك حسنى. قوله تعالى: * (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى) *. هذه الآية الكريمة تدل على أن الاستغفار والتوبة إلى الله تعالى من الذنوب سبب لأن يمتع الله من فعل ذلك متاعا حسنا إلى أجل مسمى. لأنه رتب ذلك على الاستغفار والتوبة ترتيب الجزاء
169

على شرطه.
والظاهر أن المراد بالمتاع الحسن. سعة الرزق، ورغد العيش، والعافية في الدنيا، وأن المراد بالأجل المسمى: الموت، ويدل لذلك قوله تعالى في هذه السورة الكريمة عن نبيه هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: * (وياقوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السمآء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم) * وقوله تعالى عن نوح: * (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السمآء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا) * وقوله تعالى: * (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حيواة طيبة) *. وقوله: * (ولو أن أهل القرىءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السمآء والا رض) *. وقوله: * (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ومآ أنزل إليهم من ربهم لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) * وقوله * (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور) *. يبين تعالى في هذه الآية الكريمة. أنه لا يخفى عليه شيء، وأن السر كالعلانية عنده، فهو عالم بما تنطوي عليه الضمائر وما يعلن وما يسر، والآيات المبينة لهذا كثيرة جدا، كقوله: * (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) * وقوله جل وعلا: * (إني) * وقوله: * (فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غآئبين) *، وقوله: * (وما تكون فى شأن وما تتلوا منه من قرءان ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الا رض ولا فى السمآء) *. ولا تقلب ورقة من المصحف الكريم إلا وجدت فيها آية بهذا المعنى.
تنبيه مهم
اعلم أن الله تبارك وتعالى ما أنزل من السماء إلى الأرض واعظا أكبر، ولا زاجرا أعظم مما تضمنته هذه الآيات الكريمة وأمثالها في القرآن، من أنه تعالى عالم بكل ما يعمله خلقه، رقيب عليهم، ليس بغائب عما يفعلون. وضرب العلماء لهذا الواعظ الأكبر. والزاجر الأعظم مثلا ليصير به كالمحسوس، فقالوا: لو فرضنا أن ملكا قتالا للرجال،
170

سفاكا للدماء شديد البطش والنكال على من انتهك حرمته ظلما، وسيافه قائم على رأسه، والنطع مبسوط للقتل، والسيف يقطر دما، وحول هذا الملك الذي هذه صفته جواريه وأزواجه وبناته، فهل ترى أن أحدا من الحاضرين يهتم بريبة أو بحرام يناله من بنات ذلك الملك وأزواجه، وهو ينظر إليه، عالم بأنه مطلع عليه؟ ا لا، وكلاا بل جميع الحاضرين يكونون خائفين، وجلة قلوبهم، خاشعة عيونهم، ساكنة جوارحهم خوفا من بطش ذلك الملك.
ولا شك (ولله المثل الأعلى) أن رب السماوات والأرض جل وعلا أشد علما، وأعظم مراقبة، وأشد بطشا، وأعظم نكالا وعقوبة من ذلك الملك، وحماه في أرضه محارمه. فإذا لاحظ الإنسان الضعيف أن ربه جل وعلا ليس بغائب عنه، وأنه مطلع على كل ما يقول وما يفعل وما ينوي لان قلبه، وخشي الله تعالى، وأحسن عمله لله جل وعلا.
ومن أسرار هذه الموعظة الكبرى أن الله تبارك وتعالى صرح بأن الحكمة التي خلق الخلق من أجلها هي أن يبتليهم أيهم أحسن عملا، ولم يقل: أيهم أكثر عملا، فالابتلاء في إحسان العمل، كما قال تعالى في هذه السورة الكريمة: * (وهو الذى خلق السماوات والا رض فى ستة أيام وكان عرشه على المآء ليبلوكم أيكم أحسن عملا) *.
وقال في الملك: * (الذى خلق الموت والحيواة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور) *.
ولا شك أن العاقل إذا علم أن الحكمة التي خلق من أجلها هي أن يبتلى أي يختبر: بإحسان العمل فإنه يهتم كل الاهتمام بالطريق الموصلة لنجاحه في هذا الاختبار، ولهذه الحكمة الكبرى سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا ليعلمه لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أخبرني عن الإحسان)، أي وهو الذي خلق الخلق لأجل الاختبار فيه، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الطريق إلى ذلك هي هذا الواعظ، والزاجر الأكبر الذي هو مراقبة الله تعالى، والعلم بأنه لا يخفى عليه شيء مما يفعل خلقه، فقال له: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
واختلف العلماء في المراد بقوله في هذه الآية الكريمة * (ألا إنهم يثنون صدورهم) * وقوله * (يستغشون ثيابهم) * وفي مرجع الضمير في قوله: * (منه) *.
171

فقال بعض العلماء: معنى * (يثنون صدورهم) * يزورون عن الحق، وينحرفون عنه، لأن من أقبل على الشيء استقبله بصدره، ومن أزور عنه وانحرف ثنى عنه صدره، وطوى عنه كشحه. بهذا فسره الزمخشري في الكشاف.
قال مقيده عفا الله عنه وهذا المعنى معروف في كلام العرب، فهم يعبرون باعوجاج الصدر عن العدول عن الشيء والميل عنه، ويعبرون بإقامة الصدر عن القصد إلى الشيء وعدم الميل عنه.
فمن الأول قوله ذي الرمة غيلان بن عقبة العدوي عدي الرباب: فمن الأول قوله ذي الرمة غيلان بن عقبة العدوي عدي الرباب:
* خليلي عوجا بارك الله فيكما
* على دارمي من صدور الركائب
*
* تكن عوجة يجزيكما الله عنده
* بها الأجر أو تقضي ذمامة صاحب
*
يعني: اثنيا صدور الركائب إلى دارمي.
ومن الثاني قول الشنفرى. ومن الثاني قول الشنفرى.
* أقيموا بني أمي صدور مطيكم
* فإني إلى قوم سواكم لأميل
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* أقول لأم زنباع أقيمي
* صدور العيش شطر بني تميم
*
وقيل: نزلت هذه الآية الكريمة في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة.
كان حلو المنطق، يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحب وينطوي له بقلبه على ما يسوء.
وقيل: نزلت في بعض المنافقين، كان إذا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وظهره، وطوطأ رأسه وغطى وجهه لكيلا يراه النبي صلى الله عليه وسلم فيدعوه إلى الإيمان. حكي معناه عن عبد الله بن شداد.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في قوم كانوا يكرهون أن يجامعوا أو يتغوطوا وليس بينهم وبين السماء حجاب، يستحيون من الله.
وقال بعض العلماء: معنى * (يستغشون ثيابهم) * يغطون رؤوسهم لأجل كراهتهم استماع كلام الله، كقوله تعالى عن نوح: * (وإنى كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم فىءاذانهم واستغشوا ثيابهم) *.
وقيل: كانوا إذا عملوا سوءا ثنوا صدورهم وغطوا رؤوسهم، يظنون أنهم إن فعلوا
172

ذلك أخفوا به عملهم على الله جل وعلا. ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: * (ليستخفوا منه) *.
وقرأ ابن عباس هذه الآية الكريمة ألا إنهم تثنوني صدورهم) وتثنوني مضارع اثنوني، ووزنه افعوعل من الثني كما تقول احلولى من الحلاوة وصدورهم (في قراءة ابن عباس بالرفع فاعل تثنوني، والضمير في قوله (منه) عائد إلى الله تعالى في أظهر القولين. وقيل: راجع إليه صلى الله عليه وسلم كما مر في الأقوال في الآية. * (وهو الذى خلق السماوات والا رض فى ستة أيام وكان عرشه على المآء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هاذآ إلا سحر مبين * ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون * ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور * ولئن أذقناه نعمآء بعد ضرآء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور * إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولائك لهم مغفرة وأجر كبير * فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضآئق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جآء معه ملك إنمآ أنت نذير والله على كل شىء وكيل * أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين * فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنمآ أنزل بعلم الله وأن لا إلاه إلا هو فهل أنتم مسلمون * من كان يريد الحيواة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولائك الذين ليس لهم فى الا خرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون * أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولائك يؤمنون به ومن يكفر به من الا حزاب فالنار موعده فلا تك فى مرية منه إنه الحق من ربك ولاكن أكثر الناس لا يؤمنون * ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولائك يعرضون على ربهم ويقول الا شهاد هاؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين * الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالا خرة هم كافرون) * قوله تعالى: * (وهو الذى خلق السماوات والا رض فى ستة أيام وكان عرشه على المآء ليبلوكم أيكم أحسن عملا) *. صرح في هذه الآية الكريمة أنه خلق السماوات والأرض لحكمة ابتلاء الخلق، ولم يخلقهما عبثا ولا باطلا. ونزه نفسه تعالى عن ذلك، وصرح بأن من ظن ذلك فهو من الذين كفروا وهددهم بالنار، قال تعالى: * (وما خلقنا السمآء والا رض وما بينهما باطلا ذالك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) * وقال تعالى: * (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إلاه إلا هو رب العرش الكريم) * وقال * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) *، وقال: * (الذى خلق الموت والحيواة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة) *. المراد بالأمة هنا: المدة من الزمن. ونظيره قوله تعالى: * (وقال الذى نجا منهما وادكر بعد أمة) *. أي تذكر بعد مدة.
تنبيه
استعمل لفظ * (الأمة) * في القرآن أربعة استعمالات:
الأول: هو ما ذكرنا هنا من استعمال الأمة في البرهة من الزمن.
الثاني: استعمالها في الجماعة من الناس، وهو الاستعمال الغالب، كقوله * (وجد عليه أمة من الناس يسقون) *، وقوله: * (ولكل أمة رسول) *، وقوله * (كان الناس أمة) *، إلى غير ذلك من الآيات.
الثالث: استعمال * (الأمة) * في الرجل المقتدى به. كقوله: * (إن إبراهيم كان أمة) *
173

.
الرابع: استعمال * (الأمة) * في الشريعة والطريقة. كقوله: * (إنا وجدنآ ءابآءنا على أمة) *، وقوله: * (إن هاذه أمتكم أمة واحدة) *، إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (من كان يريد الحيواة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون) *. صرح تعالى
174

في هذه الآية الكريمة: أن من عمل عملا يريد به الحياة الدنيا أعطاه جزاء عمله في الدنيا، وليس له في الآخرة إلا النار.
ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الشورى: * (ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له فى الا خرة من نصيب) * ولكنه تعالى يبين في سورة بني إسرائيل تعليق ذلك على مشيئته جل وعلا بقوله: * (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشآء لمن نريد) * وقد أوضحنا هذه المسألة غاية الإيضاح في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في الكلام على هذه الآية الكريمة، ولذلك اختصرناها هنا. قوله تعالى: * (ومن يكفر به من الا حزاب فالنار موعده) *. صرح تعالى في هذه الآية الكريمة: أن هذا القرآن لا يكفر به أحد كائنا من كان إلا دخل النار. وهو صريح في عموم رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق. والآيات الدالة على ذلك كثيرة، كقوله تعالى * (وأوحى إلى هاذا القرءان لا نذركم به ومن بلغ) *، وقوله: * (تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) *، وقوله: * (ومآ أرسلناك إلا كآفة للناس) *. وقوله: * (قل ياأيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعا) *. قوله تعالى: * (فلا تك فى مرية منه إنه الحق من ربك
) *. نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن الشك في هذا القرآن العظيم، وصرح أنه الحق من الله. والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة جدا كقوله * (ألم ذالك الكتاب لا ريب فيه) * وقوله: * (ألم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين) * ونحو ذلك من الآيات. والمرية: الشك. قوله تعالى: * (ولاكن أكثر الناس لا يؤمنون) *. صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بأن أكثر الناس لا يؤمنون، وبين ذلك أيضا في مواضع كثيرة، كقوله * (ومآ أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) * وقوله * (وإن تطع أكثر من فى الا رض يضلوك) *، وقوله: * (ولقد ضل قبلهم أكثر الا ولين) *، وقوله: * (إن في ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين) * إلى غير ذلك من الآيات. * (أولائك لم يكونوا معجزين فى الا رض وما كان لهم من دون الله من أوليآء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون * أولائك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون * لا جرم أنهم فى الا خرة هم الا خسرون * إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولائك أصحاب الجنة هم فيها خالدون * مثل الفريقين كالا عمى والا صم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون * ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إنى لكم نذير مبين * أن لا تعبدوا إلا الله إنى أخاف عليكم عذاب يوم أليم * فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين) * قوله تعالى: * (يضاعف لهم العذاب) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أن الكفار الذين يصدون الناس عن سبيل الله ويبغونها عوجا، يضاعف لهم العذاب يوم القيامة، لأنهم يعذبون على ضلالهم، ويعذبون أيضا على إضلالهم غيرهم، كما أوضحه تعالى بقوله: * (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون) *.
وبين في موضع آخر. أن العذاب يضاعف للأتباع والمتبوعين، وهو قوله في الأعراف * (حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لا ولاهم ربنا هاؤلاء أضلونا فأاتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف) *. قوله تعالى: * (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) *. في هذه الآية الكريمة للعلماء أوجه، بعضها يشهد له القرآن:
الأول وهو اختيار ابن جرير الطبري في تفسيره، ونقله عن ابن عباس وقتادة: أن معنى * (ما كانوا يستطيعون السمع) * أنهم لا يستطيعون أن يسمعوا الحق سماع منتفع، ولا أن يبصروه إبصار مهتد، لاشتغالهم بالكفر الذي كانوا عليه مقيمين عن استعمال جوارحهم في طاعة الله تعالى، وقد كانت لهم أسماع وأبصار.
ويدل لهذا قوله تعالى: * (وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فمآ أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شىء إذ كانوا يجحدون بأايات الله) *.
الثاني وهو أظهرها عندي: أن عدم الاستطاعة المذكور في الآية إنما هو للختم الذي ختم الله على قلوبهم وأسماعهم، والغشاوة التي جعل على أبصارهم.
ويشهد لهذا القول قوله تعالى: * (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة) *، وقوله: * (إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفىءاذانهم وقرا) * ونحو ذلك من الآيات.
وذلك الختم والأكنة على القلوب جزاء من الله تعالى لهم على مبادرتهم إلى الكفر
175

وتكذيب الرسل باختيارهم ومشيئتهم كما دلت عليه آيات كثيرة كقوله: * (بل طبع الله عليها بكفرهم) * وقوله * (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) * وقوله * (فى قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) *. وقوله: * (وأما الذين فى قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم) * وقوله * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) * إلى غير ذلك من الآيات.
الثالث أن المعنى ما كانوا يستطيعون السمع أي لشدة كراهيتهم لكلام الرسل على عادة العرب في قولهم: لا أستطيع أن أسمع كذا إذا كان شديد الكراهية والبغض له ويشهد لهذا القول قوله تعالى: * (وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات تعرف فى وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم ءاياتنا) * وقوله تعالى * (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهاذا القرءان) * وقوله * (وإنى كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم فىءاذانهم) *.
الرابع: أن (ما) مصدرية ظرفية، أي يضاعف لهم العذاب مدة كونهم يستطيعون أن يسمعوا ويبصروا، أي يضاعف لهم العذاب دائما.
الخامس: أن (ما) مصدرية في محل نصب بنزع الخافض، أي يضاعف لهم العذاب بسبب كونهم يستطيعون السمع والإبصار في دار الدنيا، وتركوا الحق مع أنهم يستطيعون إدراكه بأسماعهم وأبصارهم. وقد قدمنا في سورة النساء قول الأخفش الأصغر: بأن النصب بنزع الخافض مقيس مطلقا عند أمن اللبس.
السادس: أن قوله * (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) * من صفة الأصنام التي اتخذوها أولياء من دون الله، فيكون متصلا بقوله * (وما كان لهم من دون الله من أوليآء) * وتكون جملة * (يضاعف لهم العذاب) * اعتراضية. وتقرير المعنى على هذا القول: وما كان لهم من دون الله من أولياء ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون، أي الأصنام التي اتخذوها أولياء من دون الله. وما لا يسمع ولا يبصر لا يصح أن يكون وليا لأحد.
ويشهد لمعنى هذا القول قوله تعالى في الأعراف * (ألهم أرجل يمشون بهآ أم لهم أيد يبطشون بهآ أم لهم أعين يبصرون بهآ أم لهم ءاذان يسمعون بها) *، ونحوها من الآيات.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن الآية الكريمة قد تكون فيها أقوال،
176

وكلها يشهد له قرآن فنذكر الجميع، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (مثل الفريقين كالا عمى والا صم والبصير والسميع) *. ضرب الله تعالى في هذه الآية الكريمة المثل للكافر بالأعمى والأصم، وضرب المثل للمؤمن بالسميع والبصير، وبين أنهما لا يستويان، ولا يستوي الأعمى والبصير، ولا يستوي الأصم والسميع. وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة:
قوله * (وما يستوى الا عمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوى الا حيآء ولا الا موات إن الله يسمع من يشآء ومآ أنت بمسمع من فى القبور إن أنت إلا نذير) *.
وقوله: * (أفمن يعلم أنمآ أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى) *.
وقوله: * (إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعآء إذا ولوا مدبرين) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى) *. ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن الملأ من قوم نوح قالوا له: ما نراك اتبعك منا إلا الأسافل والأراذل. وذكر في سورة الشعراء، أن اتباع الأراذل له في زعمهم مانع لهم من اتباعه بقوله * (قالوا أنؤمن لك واتبعك الا رذلون) *.
وبين في هذه السورة الكريمة: أن نوحا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أبى أن يطرد أولئك المؤمنين الذين اتبعوه بقوله: * (ومآ أنا بطارد الذين ءامنوا إنهم ملاقو ربهم ولاكنى أراكم قوما تجهلون وياقوم من ينصرنى من الله إن طردتهم) *. وذكر تعالى عنه ذلك في الشعراء أيضا بقوله: * (إن حسابهم إلا على ربى لو تشعرون ومآ أنا بطارد المؤمنين) *. * (قال ياقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى وءاتانى رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) * قوله تعالى * (قال ياقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى وءاتانى رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) *. ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة عن نبيه نوح: أنه قال لقومه: * (قل أرءيتم) * أي أخبروني * (إن كنت على بينة من ربى) * أي على يقين ونبوة صادقة لا شك فيها، وأعطاني رحمة منه مما أوحى إلي من التوحيد والهدى، فخفي ذلك كله عليكم، ولم تعتقدوا أنه حق، أيمكنني أن ألزمكم به، وأجبر قلوبكم على الانقياد والإذعان لتلك البينة التي تفضل الله علي بها، ورحمني بإيتائها، والحال أنكم كارهون لذلك؟ يعني ليس بيدي توفيقكم إلى الهدى وإن كان واضحا جليا لا
177

لبس فيه، إن لم يهدكم الله جل وعلا إليه.
وهذا المعنى صرح به جل وعلا عن نوح أيضا في هذه السورة الكريمة بقوله: * (ولا ينفعكم نصحى إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم) *. * (وياقوم لا أسألكم عليه مالا إن أجرى إلا على الله ومآ أنا بطارد الذين ءامنوا إنهم ملاقو ربهم ولاكنى أراكم قوما تجهلون * وياقوم من ينصرنى من الله إن طردتهم أفلا تذكرون * ولا أقول لكم عندى خزآئن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إنى ملك ولا أقول للذين تزدرى أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما فى أنفسهم إنى إذا لمن الظالمين * قالوا يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنآ إن كنت من الصادقين * قال إنما يأتيكم به الله إن شآء ومآ أنتم بمعجزين * ولا ينفعكم نصحى إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون * أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلى إجرامى وأنا برىء مما تجرمون * وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد ءامن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون * واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبنى فى الذين ظلموا إنهم مغرقون * ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون * فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم) * قوله تعالى: * (وياقوم لا أسألكم عليه مالا إن أجرى إلا على الله) *. ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة عن نبيه نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: أنه أخبر قومه أنه لا يسألهم مالا في مقابلة ما جاءهم به من الوحي والهدى، بل يبذل لهم ذلك الخير العظيم مجانا من غير أخذ أجرة في مقابله.
وبين في آيات كثيرة: أن ذلك هو شأن الرسل عليهم صلوات الله وسلامه، كقوله في سبأ عن نبينا صلى الله عليه وسلم: * (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجرى إلا على الله) *.
وقوله فيه أيضا في آخر سورة ص: * (قل مآ أسألكم عليه من أجر ومآ أنآ من المتكلفين) *.
وقوله في الطور والقلم * (أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون) *.
وقوله في الفرقان * (قل مآ أسألكم عليه من أجر إلا من شآء أن يتخذ إلى ربه سبيلا) *.
وقوله في الأنعام: * (قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين) *.
وقوله عن هود في سورة هود: * (ياقوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجرى إلا على الذى فطرنى) *.
وقوله في الشعراء عن نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام: * (ومآ أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين) *.
وقوله تعالى عن رسل القرية المذكورة في يس * (اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا) *.
وقد بينا وجه الجمع بين هذه الآيات المذكورة وبين قوله تعالى: * (قل لا أسألكم
178

عليه أجرا إلا المودة فى القربى) * في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في سورة سبأ في الكلام على قوله تعالى * (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم) *.
ويؤخذ من هذه الآيات الكريمة: أن الواجب على أتباع الرسل من العلماء وغيرهم أن يبذلوا ما عندهم من العلم مجانا من غير أخذ عوض على ذلك، وأنه لا ينبغي أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله تعالى، ولا على تعليم العقائد والحلال والحرام.
ويعتضد ذلك بأحاديث تدل على نحوه، فمن ذلك ما رواه ابن ماجة والبيهقي والروياني في مسنده عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: علمت رجلا القرآن، فأهدى لي قوسا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن أخذتها أخذت قوسا من نار) فرددتها.
قال البيهقي وابن عبد البر في هذا الحديث: هو منقطع، أي بين عطية الكلاعي وأبي بن كعب، وكذلك قال المزي.
وتعقبه ابن حجر بأن عطية ولد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأعله ابن القطان بأن راويه عن عطية المذكور هو عبد الرحمن بن سلم وهو مجهول.
وقال فيه ابن حجر في التقريب. شامي مجهول.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار: وله طرق عن أبي. قال ابن القطان: لا يثبت منها شيء قال الحافظ وفيما قاله نظر.
وذكر المزي في الأطراف له طرقا منها: أن الذي أقرأه أبي هو الطفيل بن عمرو، ويشهد له ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن الطفيل بن عمرو الدوسي قال. أقرأني أبي بن كعب القرآن فأهديت له قوسا فغدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقلدها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تقلدها من جهنم) الحديث. وقال الشوكاني أيضا: وفي الباب عن معاذ عند الحاكم والبزار بنحو حديث أبي. وعن أبي الدرداء عند الدارمي بإسناد على شرط مسلم بنحوه أيضا.
ومن ذلك ما رواه أبو داود وابن ماجة عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال. علمت ناسا من أهل الصفة الكتاب والقرآن، فأهدى إلى رجل منهم قوسا فقلت ليست بمال أرمي بها في سبيل الله عز وجل، لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه، فأتيته فقلت. يا رسول الله، أهدى إلي رجل قوسا ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن وليست بمال أرمى عليها في سبيل الله؟ فقال: (إن كنت تحب أن تطوق طوقا من نار فاقبلها) وفي إسناده المغيرة بن زياد الموصلي قال الشوكاني: وثقه وكيع ويحيى بن معين وتكلم فيه جماعة.
179

وقال الإمام أحمد: ضعيف الحديث، حدث بأحاديث مناكير، وكل حديث رفعه فهو منكر. وقال أبو زرعة الرازي. لا يحتج بحديثه اه. وقال فيه ابن حجر في التقريب. المغيرة بن زياد البجلي أبو هشام أو هاشم الموصلي صدوق له أوهام. وهذا الحديث رواه أبو داود من طريق أخرى ليس فيها المغيرة المذكور. حدثنا عمرو بن عثمان وكثير بن عبيد قالا: ثنا بقية حدثني بشر بن عبد الله بن بشار قال عمرو: وحدثني عبادة بن نسي عن جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت نحو هذا الخبر، والأول أتم، فقلت: ما ترى فيها يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: (جمرة بين كتفيك تقلدتها أو تعلقتها) اه منه بلفظه. وفي سند هذه الرواية بقية بن الوليد وقد تكلم فيه جماعة، ووثقه آخرون إذا روي عن الثقات، وهو من رجال مسلم. وأخرج له البخاري تعليقا. وقال فيه ابن حجر في التقريب: صدوق، كثير التدليس عن الضعفاء، والظاهر أن أعدل الأقوال فيه أنه إن صرح بالسماع عن الثقات فلا بأس به، مع أن حديثه هذا معتضد بما تقدم وبما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد والترمذي عن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اقرؤوا القرآن واسألوا الله به، فإن من بعدكم قوما يقرؤون القرآن يسألون به الناس) قال الترمذي في هذا الحديث: ليس إسناده بذلك.
ومنها ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا وهب بن بقية، أخبرنا خالد عن حميد الأعرج، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ القرآن، وفينا الأعرابي والأعجمي: فقال: (اقرؤوا فكل حسن، وسيجئ أقوام يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه) حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو وابن لهيعة، عن بكر بن سوادة، عن وفاء بن شريح الصدفي، عن سهل بن سعد الساعدي قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نفتري فقال: (الحمد لله، كتاب الله واحد، وفيكم الأحمر وفيكم الأبيض وفيكم الأسود، اقرؤوا قبل أن يقرأه أقوام يقيمونه كما يقوم السهم يتعجل أجره ولا يتأجله) اه.
ومنها ما رواه الإمام أحمد، عن عبد الرحمن بن شبل، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقرؤوا القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به). قال الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار في هذا الحديث: قال في مجمع الزوائد رجال أحمد ثقات.
ومنها ما أخرجه الأثرم في سننه عن أبي رضي الله عنه قال: كنت أختلف إلى رجل مسن قد أصابته علة، قد احتبس في بيته أقرئه القرآن، فيؤتي بطعام لا آكل مثله بالمدينة،
180

فحاك في نفسي شيء فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن كان ذلك الطعام طعامه وطعام أهله فكل منه، وإن كان يتحفك به فلا تأكله) ا ه بواسطة نقل ابن قدامة في المغني والشوكاني في نيل الأوطار.
فهذه الأدلة ونحوها تدل على أن تعليم القرآن والمسائل الدينية لا يجوز أخذ الأجرة عليه.
وممن قال بهذا: الإمام أحمد في إحدى الروايتين، وأبو حنيفة والضحاك بن قيس وعطاء.
وكره الزهري وإسحاق تعليم القرآن بأجر.
وقال عبد الله بن شقيق: هذه الرغف التي يأخذها المعلمون من السحت.
وممن كره أجرة التعليم مع الشرط: الحسن وابن سيرين، وطاوس، والشعبي، والنخعي. قاله في المغني. وقال: إن ظاهر كلام الإمام أحمد جواز أخذ العلم ما أعطيه من غير شرط.
وذهب أكثر أهل العلم إلى جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وهو مذهب مالك، والشافعي.
وممن رخص في أجور المعلمين: أبو قلابة، وأبو ثور، وابن المنذر.
ونقل أبو طالب عن أحمد أنه قال: التعليم أحب إلي من أن يتوكل لهؤلاء السلاطين، ومن أن يتوكل لرجل من عامة الناس في ضيعة، ومن أن يستدين ويتجر لعله لا يقدر على الوفاء فيلقى الله تعالى بأمانات الناس، التعليم أحب إلي.
وهذا يدل على أن منعه منه في موضع منعه للكراهة لا للتحريم. قاله ابن قدامة في المغني.
واحتج أهل هذا القول بأدلة منها ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت: يا رسول الله، إني قد وهبت نفسي لك، فقامت قياما طويلا، فقام رجل فقال: يا رسول الله، زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة؟ فقال صلى الله عليه وسلم (هل عندك من شيء تصدقها إياه؟) فقال. ما عندي إلا إزاري. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك)، فالتمس شيئا فقال: ما أجد شيئا، فقال: (التمس ولا خاتما من حديد) فالتمس فلم يجد شيئا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (هل معك من القرآن شيء؟) قال نعم، سورة كذا وكذا يسميها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد
181

زوجتكها بما معك من القرآن) وفي رواية (قد ملكتكها بما معك من القرآن) فقالوا: هذا الرجل أباح له النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل تعليمه بعض القرآن لهذه المرأة عوضا عن صداقها. وهو صريح في أن العوض على تعليم القرآن جائز. وما رد به بعض العلماء الاستدلال بهذا الحديث من أنه صلى الله عليه وسلم زوجه إياها بغير صداق إكراما له لحفظه ذلك المقدار من القرآن، ولم يجعل التعليم صداقا لها مردود بما ثبت في بعض الروايات في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (انطلق فقد زوجتكها فعلمها من القرآن) وفي رواية لأبي داود (علمها عشرين آية وهي امرأتك).
واحتجوا أيضا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم الثابت في صحيح البخاري من حديث ابن عباس: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله) قالوا: الحديث وإن كان واردا في الجعل على الرقيا بكتاب الله فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب. واحتمال الفرق بين الجعل على الرقية وبين الأجرة على التعليم ظاهر.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي والله تعالى أعلم، أن الإنسان إذا لم تدعه الحاجة الضرورية فالأولى له ألا يأخذ عوضا على تعليم القرآن، والعقائد، والحلال والحرام للأدلة الماضية. وإن دعته الحاجة أخذ بقدر الضرورة من بيت مال المسلمين. لأن الظاهر أن المأخوذ من بيت المال من قبيل الإعانة على القيام بالتعليم لا من قبيل الأجرة.
والأولى لمن أغناه الله أن يتعفف عن أخذ شيء في مقابل التعليم للقرآن والعقائد والحلال والحرام. والعلم عند الله تعالى. * (حتى إذا جآء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن ءامن ومآ ءامن معه إلا قليل * وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربى لغفور رحيم * وهى تجرى بهم فى موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان فى معزل يابنى اركب معنا ولا تكن مع الكافرين * قال سآوى إلى جبل يعصمنى من المآء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين * وقيل ياأرض ابلعى مآءك وياسمآء أقلعى وغيض المآء وقضى الا مر واستوت على الجودى وقيل بعدا للقوم الظالمين * ونادى نوح ربه فقال رب إن ابنى من أهلى وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين * قال يانوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألنى ما ليس لك به علم إنى أعظك أن تكون من الجاهلين * قال رب إنى أعوذ بك أن أسألك ما ليس لى به علم وإلا تغفر لى وترحمنى أكن من الخاسرين * قيل يانوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم * تلك من أنبآء الغيب نوحيهآ إليك ما كنت تعلمهآ أنت ولا قومك من قبل هاذا فاصبر إن العاقبة للمتقين * وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره إن أنتم إلا مفترون * ياقوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجرى إلا على الذى فطرنى أفلا تعقلون * وياقوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السمآء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين * قالوا ياهود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركى ءالهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين * إن نقول إلا اعتراك بعض ءالهتنا بسوء قال إنى أشهد الله واشهدوا أنى برىء مما تشركون * من دونه فكيدونى جميعا ثم لا تنظرون * إنى توكلت على الله ربى وربكم ما من دآبة إلا هو ءاخذ بناصيتهآ إن ربى على صراط مستقيم * فإن تولوا فقد أبلغتكم مآ أرسلت به إليكم ويستخلف ربى قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربى على كل شىء حفيظ) * قوله تعالى: * (قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين) *. ذكر الله جل وعلا في هذه الكريمة أنه أمر نبيه نوحا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: أن يحمل في سفينته من كل زوجين اثنين. وبين في سورة * (قد أفلح المؤمنون) * أنه أمره أن يسلكهم أي يدخلهم فيها. فدل ذلك على أن فيها بيوتا يدخل فيها الراكبون. وذلك في قوله * (فإذا جآء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين) * ومعنى (اسلك) أدخل فيها من كل زوجين اثنين. تقول العرب: سلكت الشيء في الشيء: أدخلته فيه. وفيه لغة أخرى وهي: أسلكته فيه، رباعيا بوزن أفعل، والثلاثية لغة القرآن. كقوله: * (فاسلك فيها من كل زوجين اثنين) *. وقوله * (اسلك يدك فى جيبك) *. وقوله * (كذلك سلكناه في قلوب المجرمين) *. وقوله
182

* (كذلك نسلكه فى قلوب المجرمين) * وقوله * (ما سلككم فى سقر) *. ومنه قول الشاعر: ما سلككم فى سقر) *. ومنه قول الشاعر:
* وكنت لزاز خصمك لم أعرد
* وقد سلكوك في يوم عصيب
*
ومن الرباعية قول عبد مناف بن ربع الهذلي: ومن الرباعية قول عبد مناف بن ربع الهذلي:
* حتى إذا أسلكوهم في قتائدة
* شلا كما تطرد الجمالة الشردا
*
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر إلى أن أصل السلك الذي هو الخيط فعل بمعنى مفعول كذبح بمعنى مذبوح، وقتل بمعنى مقتول. لأن الخيط يسلك أي يدخل في الخرز لينظمه. كما قال العباس بن مرداس السلمي: قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر إلى أن أصل السلك الذي هو الخيط فعل بمعنى مفعول كذبح بمعنى مذبوح، وقتل بمعنى مقتول. لأن الخيط يسلك أي يدخل في الخرز لينظمه. كما قال العباس بن مرداس السلمي:
* عين تأوبها من شجوها أرق
* فالماء يغمرها طورا وينحدر
*
* كأنه نظم در عند ناظمة
* تقطع السلك منه فهو منتثر
*
والله تعالى أعلم. قوله تعالى: * (وأهلك إلا من سبق عليه القول) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أمر نوحا أن يحمل في السفينة أهله إلا من سبق عليه القول، أي سبق عليه من الله القول بأنه شقى، وأنه هالك مع الكافرين.
ولم يبين هنا من سبق عليه القول منهم، ولكنه بين بعد هذا أن الذي سبق عليه القول من أهله هو ابنه وامرأته.
قال في ابنه الذي سبق عليه القول: * (ونادى نوح ابنه وكان فى معزل يابنى اركب معنا ولا تكن مع الكافرين) * إلى قوله * (وحال بينهما الموج فكان من المغرقين) * وقال فيه أيضا: * (قال يانوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح) * وقال في امرأته: * (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح) * إلى قوله * (الداخلين) *. قوله تعالى: * (وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربى لغفور رحيم) *. ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة: أن نبيه نوحا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أمر أصحابه الذين قيل له احملهم فيها أن يركبوا فيها قائلا: * (بسم الله مجراها ومرساها) * أي بسم الله يكون جريها على وجه الماء، وبسم الله يكون منتهى سيرها وهو رسوها.
وبين في سورة الفلاح: أنه أمره إذا استوى على السفينة هو ومن معه أن يحمدوا
183

الله الذي نجاهم من الكفرة الظالمين، ويسألوه أن ينزلهم منزلا مباركا. وذلك في قوله: * (فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذى نجانا من القوم الظالمين) * * (وقل رب أنزلنى منزلا مباركا وأنت خير المنزلين) *.
وبين في سورة الزخرف ما ينبغي أن يقال عند ركوب السفن وغيرها بقوله * (والذى خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والا نعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذى سخر لنا هاذا وما كنا له مقرنين وإنآ إلى ربنا لمنقلبون) *. ومعنى قوله * (مقرنين) * أي مطيقين، ومنه قول عمرو بن معد يكرب: مقرنين) * أي مطيقين، ومنه قول عمرو بن معد يكرب:
* لقد علم القبائل ما عقيل
* لنا في النائبات بمقرنينا
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* ركبتم صعبتي أشر وجبن
* ولستم للصعاب بمقرنينا
*
وقول ابن هرمة: وقول ابن هرمة:
* وأقرنت ما حملتني ولقلما
* يطاق احتمال الصد يا دعد والهجر
* وهى تجرى بهم فى موج كالجبال) *. ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة: أن السفينة تجري بنوح ومن معه في ماء عظيم، أمواجه كالجبال.
وبين جريانها هذا في ذلك الماء الهائل في مواضع أخر. كقوله: * (إنا لما طغا المآء حملناكم فى الجارية لنجعلها لكم تذكرة وتعيهآ أذن واعية) * وقوله: * (ففتحنآ أبواب السمآء بماء منهمر وفجرنا الا رض عيونا فالتقى المآء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجرى بأعيننا جزآء لمن كان كفر ولقد تركناها ءاية فهل من مدكر) *.
وبين في موضع آخر: أن أمواج البحر الذي أغرق الله فيه فرعون وقومه كالجبال أيضا بقوله: * (فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم) * والطود: الجبل العظيم. * (ولما جآء أمرنا نجينا هودا والذين ءامنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ * وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد * وأتبعوا فى هاذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود * وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره هو أنشأكم من الا رض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربى قريب مجيب * قالوا ياصالح قد كنت فينا مرجوا قبل هاذا أتنهانآ أن نعبد ما يعبد ءاباؤنا وإننا لفى شك مما تدعونآ إليه مريب * قال ياقوم أرءيتم إن كنت على بينة من ربى وءاتانى منه رحمة فمن ينصرنى من الله إن عصيته فما تزيدوننى غير تخسير * وياقوم هاذه ناقة الله لكم ءاية فذروها تأكل فى أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب * فعقروها فقال تمتعوا فى داركم ثلاثة أيام ذالك وعد غير مكذوب * فلما جآء أمرنا نجينا صالحا والذين ءامنوا معه برحمة منا ومن خزى يومئذ إن ربك هو القوى العزيز * وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا فى ديارهم جاثمين * كأن لم يغنوا فيهآ ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود * ولقد جآءت رسلنآ إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جآء بعجل حنيذ * فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط * وامرأته قآئمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن ورآء إسحاق يعقوب * قالت ياويلتا ءألد وأنا عجوز وهاذا بعلى شيخا إن هاذا لشىء عجيب * قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد * فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجآءته البشرى يجادلنا فى قوم لوط * إن إبراهيم لحليم أواه منيب) * قوله تعالى: * (ولما جآء أمرنا نجينا هودا والذين ءامنوا معه برحمة منا) *. لم يبين هنا أمره الذي جاء الذي نجى منه هودا والذين آمنوا معه عند مجيئه. ولكنه بين في مواضع أخر: أنه الإهلاك المستأصل بالريح العقيم. التي أهلكهم الله بها فقطع دابرهم. كقوله: * (وفى عاد
184

إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شىء أتت عليه إلا جعلته كالرميم) *.
وقوله: * (وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما) *.
وقوله: * (إنآ أرسلنا عليهم ريحا صرصرا فى يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر) *.
وقوله: * (فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا فى أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزى) *. قوله تعالى: * (فلما جآء أمرنا نجينا صالحا) *. وبين هذا الأمر الذي جاء بقوله: * (وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا فى ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيهآ ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود) * ونحوها من الآيات. قوله تعالى: * (ولقد جآءت رسلنآ إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما) *. لم يبين هنا ما المراد بهذه البشرى التي جاءت بها رسل الملائكة إبراهيم ولكنه أشار بعد هذا إلى أنها البشارة بإسحاق ويعقوب في قوله: * (وامرأته قآئمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن ورآء إسحاق يعقوب) * لأن البشارة بالذرية الطيبة شاملة للأم والأب، كما يدل لذلك قوله: * (وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين) *.
وقوله: * (قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم) * وقوله: * (قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم) * وقيل: البشرى هي إخبارهم له بأنهم أرسلوا لإهلاك قوم لوط، وعليه فالآيات المبينة لها كقوله هنا في هذه السورة: * (قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط) *.
وقوله: * (قالوا إنآ أرسلنآ إلى قوم مجرمين إلا ءال لوط) *.
وقوله: * (قالوا إنآ أرسلنآ إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين) * وقوله: * (ولما جآءت رسلنآ إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هاذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين) *.
والظاهر القول الأول: وهذه الآية الأخيرة تدل عليه لأن فيها التصريح بأن إخبارهم بإهلاك قوم لوط بعد مجيئهم بالبشرى، لأنه مرتب عليه بأداة الشرط التي هي (لما) كما
185

ترى. قوله تعالى. * (فما لبث أن جآء بعجل حنيذ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم) *. ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن إبراهيم لما سلم على رسل الملائكة وكان يظنهم ضيوفا من الآدميين، أسرع إليهم بالإتيان بالقري وهو لحم عجل حنيذ أي منضج بالنار وأنهم لما لم يأكلوا أوجس منهم خفية فقالوا لا تخف وأخبروه بخبرهم.
وبين في الذاريات: أنه راغ إلى أهله أي مال إليهم فجاء بذلك العجل وبين أنه سمين، وأنه قربه إليهم، وعرض عليهم الأكل برفق فقال لهم: * (ألا تأكلون) * وأنه أوجس منهم خيفة وذلك في قوله: * (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجآء بعجل سمين فقربه إليهم قال ألا تأكلون فأوجس منهم خيفة) *.
تنبيه
يؤخذ من قصة إبراهيم مع ضيفه هؤلاء أشياء من آداب الضيافة. منها تعجيل القري لقوله * (فما لبث أن جآء بعجل حنيذ) *.
ومنها كون القري من أحسن ما عنده، لأنهم ذكروا أن الذي عنده البقر وأطيبه لحما الفتى السمين المنضح.
ومنها تقريب الطعام إلى الضيف.
ومنها ملاطفته بالكلام بغاية الرفق، كقوله * (ألا تأكلون) *.
ومعنى قوله * (نكرهم) * أي أنكرهم لعدم أكلهم، والعرب تطلق نكر وأنكر بمعنى واحد وقد جمعهما قول الأعشى: ومعنى قوله * (نكرهم) * أي أنكرهم لعدم أكلهم
، والعرب تطلق نكر وأنكر بمعنى واحد وقد جمعهما قول الأعشى:
* وأنكرتني وما كان الذي نكرت
* من الحوادث إلا الشيب والصلعا
*
وروي عن يونس: أن أبا عمرو بن العلاء حدثه: أنه صنع هذا البيت وأدخله في شعر الأعشى. والله تعالى أعلم. قوله تعالى: * (قالت ياويلتا ءألد وأنا عجوز وهاذا بعلى شيخا إن هاذا لشىء عجيب) *. بين الله جل وعلا في هذه السورة الكريمة ما قالته امرأة إبراهيم لما بشرت بالولد وهي
186

عجوز، ولم يبين هنا ما فعلت عند ذلك، ولكنه بين ما فعلت في الذاريات بقوله * (فأقبلت امرأته فى صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم) * وقوله * (فى صرة) * أي ضجة وصيحة. وقوله * (فصكت وجهها) * أي لطمته. قوله تعالى: * (وجآءته البشرى يجادلنا فى قوم لوط) *. لم يبين هنا ما جادل به إبراهيم الملائكة في قوم لوط، ولكنه أشار إليه في العنكبوت بقوله * (قالوا إنا مهلكو أهل هاذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته) *.
فحاصل جداله لهم أنه يقول: إن أهلكتم القرية وفيها أحد من المؤمنين أهلكتم ذلك المؤمن بغير ذنب، فأجابوه عن هذا بقولهم * (نحن أعلم بمن فيها) *.
ونظير ذلك قوله * (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) *. * (يإبراهيم أعرض عن هاذآ إنه قد جآء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود * ولما جآءت رسلنا لوطا سىء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هاذا يوم عصيب * وجآءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال ياقوم هاؤلاء بناتى هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون فى ضيفى أليس منكم رجل رشيد * قالوا لقد علمت ما لنا فى بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد * قال لو أن لى بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد * قالوا يالوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من اليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها مآ أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب * فلما جآء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود * مسومة عند ربك وما هى من الظالمين ببعيد * وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إنى أراكم بخير وإنى أخاف عليكم عذاب يوم محيط * وياقوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشيآءهم ولا تعثوا فى الا رض مفسدين * بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين ومآ أنا عليكم بحفيظ * قالوا ياشعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد ءاباؤنآ أو أن نفعل فى أموالنا ما نشؤا إنك لانت الحليم الرشيد) * قوله تعالى: * (يإبراهيم أعرض عن هاذآ إنه قد جآء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود) *. هذا العذاب الذي صرح هنا بأنه آت قوم لوط، لا محالة وأنه لا مرد له بينه في مواضع متعددة، كقوله في هذه السورة الكريمة * (فلما جآء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هى من الظالمين ببعيد) *.
وقوله في الحجر * (فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن فى ذلك لآيات للمتوسمين) *.
وقوله * (ولقد أتوا على القرية التى أمطرت مطر السوء) *.
وقوله * (ثم دمرنا الا خرين وأمطرنا عليهم مطرا فسآء مطر المنذرين) *.
وقوله * (لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (ولما جآءت رسلنا لوطا سىء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هاذا يوم عصيب) *. ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن لوطا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما جاءته رسل ربه من الملائكة حصلت له بسبب مجيئهم مساءة عظيمة ضاق صدره بها، وأشار في مواضع متعددة إلى أن سبب مساءته وكونه ضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب أنه ظن أنهم ضيوف من بني آدم كما ظنه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام. وظن أن قومه ينتهكون حرمة ضيوفه فيفعلون بهم فاحشة اللواط، لأنهم إن علموا بقدوم
187

ضيف فرحوا واستبشروا به ليفعلوا به الفاحشة المذكورة فمن ذلك قوله هنا * (وجآءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال ياقوم هاؤلاء بناتى هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون فى ضيفى أليس منكم رجل رشيد قالوا لقد علمت ما لنا فى بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد) *.
وقوله في الحجر: * (وجآء أهل المدينة يستبشرون قال إن هاؤلآء ضيفى فلا تفضحون واتقوا الله ولا تخزون قالوا أولم ننهك عن العالمين قال هاؤلآء بناتى إن كنتم فاعلين لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون) *.
وقوله * (ويهرعون) * أي يسرعون ويهرولون من فرحهم بذلك، ومنه قول مهلهل: وقوله * (ويهرعون) * أي يسرعون ويهرولون من فرحهم بذلك، ومنه قول مهلهل:
* فجاؤوا يهرعون وهم أسارى
* تقودهم على رغم الأنوف
*
وقوله: * (ولا تخزون) * أي لا تهينون ولا تذلون بانتهاك حرمة ضيفي. والاسم منه: الخزي بكسر الخاء وإسكان الزاي. ومنه قول حسان في عتبة بن أبي وقاص: ولا تخزون) * أي لا تهينون ولا تذلون بانتهاك حرمة ضيفي. والاسم منه: الخزي بكسر الخاء وإسكان الزاي. ومنه قول حسان في عتبة بن أبي وقاص:
* فأخزاك ربي يا عتيب بن مالك
* ولقاك قبل الموت إحدى الصواعق
*
وقال بعض العلماء: قوله * (ولا تخزون) * من الخزاية، وهي الخجل والاستحياء من الفضيحة. أي لا تفعلوا بضيفي ما يكون سببا في خجلي واستحيائي، ومنه قول ذي الرمة يصف ثورا وحشيا تطارده الكلاب في جانب حبل من الرمل. ولا تخزون) * من الخزاية، وهي الخجل والاستحياء من الفضيحة. أي لا تفعلوا بضيفي ما يكون سببا في خجلي واستحيائي، ومنه قول ذي الرمة يصف ثورا وحشيا تطارده الكلاب في جانب حبل من الرمل.
* حتى إذا دومت في الأرض راجعة
* كبر ولو شاء نجى نفسه الهرب
*
* خزاية أدركته بعد جولته
* من جانب الحبل مخلوطا بها الغضب
*
يعني أن هذا الثور لو شاء نجا من الكلاب بالهرب، ولكنه استحيا وأنف من الهرب فكر راجعا إليها. ومنه قوله الآخر: يعني أن هذا الثور لو شاء نجا من الكلاب بالهرب، ولكنه استحيا وأنف من الهرب فكر راجعا إليها. ومنه قوله الآخر:
* أجاعلة أم الثوير خزاية
* على فراري أن لقيت بني عبس
*
والفعل منه: خزى يخزي، كرضى يرضي. ومنه قول الشاعر: والفعل منه: خزى يخزي، كرضى يرضي. ومنه قول الشاعر:
* من البيض لا تخزي إذا الريح ألصقت
* بها مرطها أو زايل الحلي جيدها
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* وإني لا أخزى إذا قيل مملق
* سخى وأخزى أن يقال بخيل
*
188

وقوله: * (لعمرك) * معناه أقسم بحياتك. والله جل وعلا له أن يقسم بما شاء من خلقه، ولم يقسم في القرآن بحياة أحد إلا نبينا صلى الله عليه وسلم وفي ذلك من التشريف له صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى.
ولا يجوز لمخلوق أن يحلف بغير الله، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت).
وقوله: * (لعمرك) * مبتدأ خبره محذوف، أي لعمرك قسمي وسمع عن العرب تقديم الراء على اللام في لعمرك فتقول فيها: رعملك، ومنه قول الشاعر: لعمرك) * مبتدأ خبره محذوف، أي لعمرك قسمي وسمع عن العرب تقديم الراء على اللام في لعمرك فتقول فيها: رعملك، ومنه قول الشاعر:
* رعملك إن الطائر الواقع الذي
* تعرض لي من طائر لصدوق
*
وقوله: * (لفى سكرتهم) * أي عماهم وجهلهم وضلالهم. والعمه: عمى القلب، فمعنى * (يعمهون) * يترددون متحيرين لا يعرفون حقا من باطل، ولا نافعا من ضار، ولا حسنا من قبيح.
واختلف العلماء في المراد بقول لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: * (هاؤلاء بناتى) * في الموضعين على أقوال:
أحدها أنه أراد المدافعة عن ضيفه فقط، ولم يرد إمضاء ما قال، وبهذا قال عكرمة وأبو عبيدة.
الثاني أن المراد بناته لصلبه، وأن المعنى: دعوا فاحشة اللواط وأزوجكم بناتي. وعلى هذا فتزويج الكافر المسلمة كان جائزا في شرعه، كما كانت بنات نبينا صلى الله عليه وسلم تحت الكفار في أول الإسلام كما هو معروف. وقد أرسلت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عقدها الذي زفتها به أمها خديجة بنت خويلد رضي الله
عنها إلى زوجها أبي العاص بن الربيع، أرسلته إليه في فداء زوجها أبي العاص المذكور لما أسره المسلمون كافرا يوم بدر، والقصة مشهورة، وقد عقدها الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في مغازيه بقوله في غزوة بدر: عقدها الذي زفتها به أمها خديجة بنت خويلد رضي الله عنها إلى زوجها أبي العاص بن الربيع، أرسلته إليه في فداء زوجها أبي العاص المذكور لما أسره المسلمون كافرا يوم بدر، والقصة مشهورة، وقد عقدها الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في مغازيه بقوله في غزوة بدر:
* وابن الربيع صهر هادي الملة
* إذ في فداه زينب أرسلت
*
* بعقدها الذي به أهدتها
* له خديجة وزففتها
*
* سرحه بعقدها وعهدا
* إليه أن يردها له غدا الخ
*
القول الثالث أن المراد بالبنات: جميع نساء قومه، لأن نبي القوم أب ديني لهم
189

، كما يدل له قوله تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم: * (النبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم) * وفي قراءة أبي بن كعب: (وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم) وروي نحوها عن ابن عباس. وبهذا القول قال كثير من العلماء.
وهذا القول تقربه قرينة وتبعده أخرى. أما القرينة التي تقربه فهي: أن بنات لوط لا تسع جميع رجال قومه كما هو ظاهر، فإذا زوجهن لرجال بقدر عددهن بقي عامة رجال قومه لا أزواج لهم. فيتعين أن المراد عموم نساء قومه، ويدل للعموم قوله: * (أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم) * وقوله: * (لتأتون الرجال شهوة من دون النسآء) * ونحو ذلك من الآيات.
وأما القرينة التي تبعده: فهي أن النبي ليس أبا للكافرات، بل أبوة الأنبياء الدينية للمؤمنين دون الكافرين، كما يدل عليه قوله: * (النبى أولى بالمؤمنين) *.
وقد صرح تعالى في الذاريات: بأن قوم لوط ليس فيهم مسلم إلا أهل بيت واحد وهم أهل بيت لوط، وذلك في قوله * (فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) *. قوله تعالى: * (قال لو أن لى بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد قالوا يالوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك) *. ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن نبيه لوطا وعظ قومه ونهاهم أن يفضحوه في ضيفه، وعرض عليهم النساء وترك الرجال، فلم يلتفوا إلى قوله، وتمادوا فيما هم فيه من إرادة الفاحشة فقال لوط: * (لو أن لى بكم قوة) *. فأخبرته الملائكة بأنهم رسل ربه، وأن الكفار الخبثاء لا يصلون إليه بسوء.
وبين في القمر أنه تعالى طمس أعينهم، وذلك في قوله: * (ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنآ أعينهم فذوقوا عذابى ونذر) *. قوله تعالى: * (فأسر بأهلك بقطع من اليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها مآ أصابهم) *. ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه أمر نبيه لوطا أن يسري بأهله بقطع من الليل، ولم يبين هنا هل هو من آخر الليل، أو وسطه أو أوله، ولكنه بين في القمر أن ذلك من آخر الليل وقت السحر، وذلك في قوله: * (إلا آل لوط نجيناهم بسحر) *. ولم يبين هنا أنه أمره أن يكون من ورائهم وهم أمامه، ولكنه بين ذلك في
190

الحجر بقوله: * (فأسر بأهلك بقطع من اليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون) *. وقوله تعالى: * (ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها مآ أصابهم) *. قرأه جمهور القراء * (إلا امرأتك) * بالنصب، وعليه فالأمر واضح. لأنه استثناء من الأهل، أي أسر بأهلك إلا امرأتك فلا تسر بها، واتركها في قومها فإنها هالكة معهم.
ويدل لهذا الوجه قوله فيها في مواضع. * (كانت من الغابرين) * والغابر: الباقي، أي من الباقين في الهلاك.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير * (إلا امرأتك) * بالرفع على أنه بدل من * (عذابه أحد) * وعليه فالمعنى: أنه أمر لوطا أن ينهي جميع أهله عن الالتفات إلا امرأته فإنه أوحى إليه أنها هالكة لا محالة، ولا فائدة في نهيها عن الالتفات لكونها من جملة الهالكين.
وعلى قراءة الجمهور فهو لم يسر بها. وظاهر قراءة أبي عمرو وابن كثير: أنه أسرى بها والتفتت فهلكت.
قال بعض العلماء: لما سمعت هدة العذاب التفتت وقالت: واقوماه. فأدركها حجر فقتلها.
قال مقيده عفا الله عنه الظاهر أن وجه الجمع بين القراءتين المذكورتين أن السر في أمر لوط بأن يسري بأهله هو النجاة من العذاب الواقع صبحا بقوم لوط، وامرأة لوط مصيبها ذلك العذاب الذي أصاب قومها لا محالة، فنتيجة إسراء لوط بأهله لم تدخل فيها امرأته على كلا القولين، وما لا فائدة فيه كالعدم، فيستوي معنى أنه تركها ولم يسر بها أصلا، وأنه أسرى بها وهلكت مع الهالكين.
فمعنى القولين راجع إلى أنها هالكة وليس لها نفع في إسراء لوط بأهله. فلا فرق بين كونها بقيت معهم، أو خرجت وأصابها ما أصابهم.
فإذا كان الإسراء مع لوط لم ينجها من العذاب، فهي ومن لم يسر معه سواء والعلم عند الله تعالى.
وقوله * (فأسر بأهلك) * قرأه نافع وابن كثير (فاشر) بهمزة وصل. من سرى يسري، وقرأه جمهور القراء * (فأسر بأهلك) * بقطع الهمزة، من أسرى الرباعي على وزن أفعل. وسرى وأسرى: لغتان وقراءتان صحيحتان سبعيتان، ومن سرى الثلاثية، قوله تعالى: * (واليل إذا يسر) * فإن فتح ياء * (يسر) * يدل على أنه مضارع سرى
191

الثلاثية. وجمع اللغتين قول نابغة ذبيان: وجمع اللغتين قول نابغة ذبيان:
* أسرت عليه من الجوزاء سارية
* تزجى الشمال عليها جامد البرد
*
فإنه قال: أسرت، رباعية في أشهر روايتي البيت. وقوله: سارية. اسم فاعل سرى الثلاثية، وجمعهما أيضا قول الآخر: فإنه قال: أسرت، رباعية في أشهر روايتي البيت. وقوله: سارية. اسم فاعل سرى الثلاثية، وجمعهما أيضا قول الآخر:
* حتى النضيرة ربة الخدر
* أسرت إليك ولم تكن تسري
*
بفتح تاء (تسري) واللغتان كثيرتان جدا في كلام العرب. ومصدر الرباعية الإسراء على القياس، ومصدر الثلاثية السرى بالضم على وزن فعل بضم ففتح على غير قياس، ومنه قول عبد الله بن رواحة: بفتح تاء (تسري) واللغتان كثيرتان جدا في كلام العرب. ومصدر الرباعية الإسراء على القياس، ومصدر الثلاثية السرى بالضم على وزن فعل بضم ففتح على غير قياس، ومنه قول عبد الله بن رواحة:
* عند الصباح يحمد القوم السرى
* وتنجلي عنهم غيابات الكرى
* إن موعدهم الصبح) *. ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن موعد إهلاك قوم لوط وقت الصبح من تلك الليلة، وكذلك قال في الحجر في قوله: * (وقضينآ إليه ذلك الا مر أن دابر هاؤلآء مقطوع مصبحين) * وزاد في الحجر أن صبيحة العذاب وقعت عليهم وقت الإشراق وهو وقت طلوع الشمس بقوله: * (فأخذتهم الصيحة مشرقين) *. قوله تعالى: * (وأمطرنا عليها حجارة من سجيل) *. اختلف العلماء في المراد بحجارة السجيل اختلافا كثيرا، والظاهر أنها حجارة من طين في غاية الشدة والقوة. والدليل على أن المراد بالسجيل: الطين. قوله تعالى في الذاريات في القصة بعينها: * (لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين) *، وخير ما يفسر به القرآن: القرآن. والدليل على قوتها وشدتها: أن الله ما عذبهم بها في حالة غضبه عليهم إلا لأن النكال بها بالغ شديد. وأيضا فإن بعض العلماء قالوا: السجيل والسجين: أختان، كلاهما الشديد من الحجارة والضرب. ومنه قول ابن مقبل. مسومة عند ربك للمسرفين) *، وخير ما يفسر به القرآن: القرآن. والدليل على قوتها وشدتها: أن الله ما عذبهم بها في حالة غضبه عليهم إلا لأن النكال بها بالغ شديد. وأيضا فإن بعض العلماء قالوا: السجيل والسجين: أختان، كلاهما الشديد من الحجارة والضرب. ومنه قول ابن مقبل.
* ورجلة يضربون البيض ضاحية
* ضربا تواصى به الأبطال سجينا
*
وعلى هذا، فمعنى من سجيل: أي من طين شديد القوة. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (وما هى من الظالمين ببعيد) *. في هذه الآية الكريمة ثلاثة أوجه من التفسير للعلماء: اثنان منها كلاهما يشهد له القرآن، وواحد يظهر أنه ضعيف.
192

أما الذي يظهر أنه ضعيف فهو أن المعنى: أن تلك الحجارة ليست بعيدة من قوم لوط. أي لم تكن تخطئهم.
قاله القرطبي وغيره. لأن هذا يكفي عنه قوله تعالى: * (وأمطرنا عليها حجارة) * ونحوها من الآيات. أما الوجهان اللذان يشهد لكل واحد منهما قرآن فالأول منهما: أن ديار قوم لوط ليست ببعيدة من الكفار المكذبين لنبينا. فكان عليهم أن يعتبروا بما وقع لأهلها إذا مروا عليها في أسفارهم إلى الشام، ويخافوا أن يوقع الله بهم بسبب تكذيب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مثل ما وقع من العذاب بأولئك، بسبب تكذيبهم لوطا عليه الصلاة والسلام. والآيات الدالة على هذا كثيرة جدا. كقوله: * (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وباليل أفلا تعقلون) *، وقوله: * (وإنها لبسبيل مقيم إن فى ذلك لآية للمؤمنين) *، وقوله: * (وتركنا فيهآ ءاية للذين يخافون العذاب الا ليم) * وقوله: * (ولقد تركنا منهآ ءاية بينة لقوم يعقلون) * إلى غير ذلك من الآيات. وعلى هذا القول فالضمير في قوله * (وما هى) * راجع إلى ديار قوم لوط المفهومة من المقام.
الوجه الثاني أن المعنى: وما تلك الحجارة التي أمطرت على قوم لوط ببعيد من الظالمين للفاعلين مثل فعلهم، فهو تهديد لمشركي العرب كالذي قبله.
ومن الآيات الدالة على هذا الوجه قوله تعالى: * (أفلم يسيروا فى الا رض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها) * فإن قوله: * (وللكافرين أمثالها) * ظاهر جدا في ذلك، والآيات بنحو ذلك كثيرة.
تنبيه
اختلف العلماء في عقوبة من ارتكب فاحشة قوم لوط، وسنذكر إن شاء الله أقوال العلماء في ذلك وأدلتهم وما يظهر رجحانه بالدليل من ذلك فنقول وبالله جل وعلا نستعين:
قال بعض العلماء: الحكم في ذلك: أن يقتل الفاعل والمفعول به مطلقا سواء كانا محصنين أو بكرين، أو أحدهما محصنا والآخر بكرا.
وممن قال بهذا القول: مالك بن أنس وأصحابه، وهو أحد قولي الشافعي، وإحدى الروايتين عن أحمد. وحكى غير واحد إجماع الصحابة على هذا القول، إلا أن القائلين به اختلفوا في كيفية قتل من فعل تلك الفاحشة.
193

قال بعضهم: يقتل بالسيف.
وقال بعضهم: يرجم بالحجارة.
وقال بعضهم: يحرق بالنار.
وقال بعضهم: يرفع على أعلى بناء في البلد فيرمى منه منكسا ويتبع بالحجارة.
وحجة من قال بقتل الفاعل والمفعول به في اللواط مطلقا: ما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم والبيهقي عن عكرمة عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به).
قال ابن حجر: ورجاله موثقون، إلا أن فيه اختلافا اه. وما ذكره يحيى بن معين من أن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب ينكر عليه حديث عكرمة هذا عن ابن عباس، فيه أن عمرا المذكور ثقة، أخرج له الشيخان ومالك كما قدمناه مستوفى.
ويعتضد هذا الحديث بما رواه سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس في البكر يوجد على اللوطية: أنه يرجم. أخرجه أبو داود والنسائي والبيهقي.
وبما أخرجه الحاكم وابن ماجة عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أو لم يحصنا) قال الشوكاني وإسناده ضعيف.
قال ابن الطلاع في أحكامه: لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم في اللواط، ولا أنه حكم فيه، وثبت عنه أنه قال: (اقتلوا الفاعل والمفعول به) رواه عنه ابن عباس وأبو هريرة. اه.
قال الحافظ: وحديث أبي هريرة لا يصح، وقد أخرجه البزار من طريق عاصم بن عمر العمري عن سهيفل عن أبيه عنه وعاصم متروك. وقد رواه ابن ماجة من طريقه بلفظ: (فارجموا الأعلى والأسفل) اه.
وأخرج البيهقي عن علي رضي الله عنه: أنه رجم لوطيا، ثم قال: قال الشافعي: وبهذا نأخذ برجم اللوطي محصنا كان أو غير محصن.
وقال هذا قول ابن عباس قال: وسعيد بن المسيب يقول: السنة أن يرجم اللوطي أحصن أو لم يحصن.
وقال البيهقي أيضا: وأخبرنا أبو نصر بن قتادة، وأبو بكر محمد بن إبراهيم الفارسي
194

قالا: ثنا أبو عمرو بن مطر، ثنا إبراهيم بن علي، ثنا يحيى بن يحيى، أنبأ عبد العزيز بن أبي حازم، أنبأ داود بن بكر عن محمد بن المنكدر، عن صفوان بن سليم أن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما في خلافته يذكر له: أنه وجد رجلا في بعض نواحي العرب ينكح كما تنكح المرأة، وأن أبا بكر رضي الله عنه جمع الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم عن ذلك، فكان من أشدهم يومئذ قولا علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، قال: إن هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة صنع الله بها ما قد علمتم، نرى أن تحرقه بالنار. فاجتمع رأي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يحرقه بالنار. فكتب أبو بكر رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد رضي عنه يأمره أن يحرقه بالنار. هذا مرسل.
وروي من وجه آخر عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن علي رضي الله عنه في غير هذه القصة قال: يرجم ويحرق بالنار.
ويذكر عن ابن أبي ليلى عن رجل من همدان: أن عليا رضي الله عنه رجم رجلا محصنا في عمل قوم لوط. هكذا ذكره الثوري عنه مقيدا بالإحصان. وهشيم رواه عن ابن أبي ليلى مطلقا اه منه بلفظه.
فهذه حجج القائلين بقتل الفاعل والمفعول به في اللواط.
وحجة من قال: إن ذلك القتل بالنار هو ما ذكرناه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفا.
وحجة من قال: إن قتله بالسيف قوله صلى الله عليه وسلم: (فاقتلوا الفاعل والمفعول به) والقتل إذا أطلق انصرف إلى القتل بالسيف.
وحجة من قال: إن قتله بالرجم هو ما قدمنا من رواية سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس: أنه يرجم. وما ذكره البيهقي وغيره عن علي أنه رجم لوطيا، ويستأنس لذلك بأن الله رمى أهل تلك الفاحشة بحجارة السجيل.
وحجة من قال: يرفع على أعلى بناء أو جبل ويلقى منكسا ويتبع بالحجارة: أن ذلك هو الذي فعله الحكيم الخبير بقوم لوط، كما قال: * (جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا
عليها حجارة من سجيل) *.
قال مقيده عفا الله عنه: وهذا الأخير غير ظاهر، لأن قوم لوط لم يكن عقابهم على اللواط وحده، بل عليه، وعلى الكفر، وتكذيب نبيهم صلى الله عليه وسلم. فهم قد جمعوا إلى اللواط
195

ما هو أعظم من اللواط، وهو الكفر بالله، وإيذاء رسوله صلى الله عليه وسلم.
القول الثاني هو أن اللواط زنى فيجلد مرتكبه مائة إن كان بكرا ويغرب سنة، ويرجم إن كان محصنا. وهذا القول هو أحد قولي الشافعي.
وذكر البيهقي عن الربيع بن سليمان: أن الشافعي رجع إلى أن اللواط زنى، فيجري عليه حكم الزنى، وهو إحدى الروايتين عن أحمد رحمهم الله تعالى.
ورواه البيهقي عن عطاء وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، وهو قول أبي يوسف ومحمد وسعيد بن المسيب والحسن وقتادة والنخعي والثوري والأوزاعي وغيرهم.
واحتج أهل هذا القول بما رواه البيهقي عن محمد بن عبد الرحمن عن خالد الحذاء عن ابن سيرين عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان) أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس بن يعقوب، ثنا يحيى بن أبي طالب، ثنا أبو بدر، ثنا محمد بن عبد الرحمن فذكره. قال الشيخ: ومحمد بن عبد الرحمن هذا لا أعرفه، وهو منكر بهذا الإسناد. انتهى منه بلفظه.
وقال الشوكاني رحمه الله في (نيل الأوطار) في هذا الحديث، وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن كذبه أبو حاتم.
وقال البيهقي لا أعرفه، والحديث منكر بهذا الإسناد. ورواه أبو الفتح الأزدي في الضعفاء، والطبراني في الكبير من وجه آخر عن أبي موسى. وفيه بشر بن المفضل البجلي وهو مجهول. وقد أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عنه اه منه.
واستدل القائلون بهذا القول أيضا بقياس اللواط على الزنى بجامع أن الكل إيلاج فرج في فرج محرم شرعا، مشتهى طبعا.
ورد بأن القياس لا يكون في الحدود، لأنها تدرأ بالشبهات. والأكثرون على جواز القياس في الحدود، وعليه درج في مراقي السعود بقوله: ورد بأن القياس لا يكون في الحدود، لأنها تدرأ بالشبهات. والأكثرون على جواز القياس في الحدود، وعليه درج في مراقي السعود بقوله:
* والحد والكفارة التقدير
* جوازه فيها هو المشهور
*
إلا أن قياس اللائط على الزاني يقدح فيه بالقادح المسمى: (فساد الاعتبار)، لمخالفته لحديث ابن عباس المتقدم: أن الفاعل والمفعول به يقتلان مطلقا، أحصنا أو لم يحصنا، ولا شك أن صاحب الفطرة السليمة لا يشتهي اللواط، بل ينفر منه غاية النفور
196

بطبعه كما لا يخفى.
القول الثالث أن اللائط لا يقتل ولا يحد حد الزنى، وإنما يعزر بالضرب والسجن ونحو ذلك. وهذا قول أبي حنيفة.
واحتج أهل هذا القول بأن الصحابة اختلفوا فيه، واختلافهم فيه يدل على أنه ليس فيه نص صحيح، وأنه من مسائل الاجتهاد، والحدود تدرأ بالشبهات قالوا: ولا يتناوله اسم الزنى، لأن لكل منهما اسما خاصا به، كما قال الشاعر: واحتج أهل هذا القول بأن الصحابة اختلفوا فيه، واختلافهم فيه يدل على أنه ليس فيه نص صحيح، وأنه من مسائل الاجتهاد، والحدود تدرأ بالشبهات قالوا: ولا يتناوله اسم الزنى، لأن لكل منهما اسما خاصا به، كما قال الشاعر:
* من كف ذات حر في زي ذي ذكر
* لها محبان لوطي وزناء
*
قالوا: ولا يصح إلحاقه بالزنى لوجود الفارق بينهما. لأن الداعي في الزنى من الجانبين بخلاف اللواط، ولأن الزنى يفضي إلى الاشتباه في النسب وإفساد الفراش بخلاف اللواط. قال في مراقي السعود: قالوا: ولا يصح إلحاقه بالزنى لوجود الفارق بينهما. لأن الداعي في الزنى من الجانبين بخلاف اللواط، ولأن الزنى يفضي إلى الاشتباه في النسب وإفساد الفراش بخلاف اللواط. قال في مراقي السعود:
* والفرق بين الأصل والفرع قدح
* إبداء مختص بالأصل قد صلح
*
* أو مانع في الفرع...
* الخ......
*
واستدل أهل هذا القول أيضا بقوله تعالى: * (واللذان يأتيانها منكم فأاذوهما) *.
قالوا: المراد بذلك: اللواط. والمراد بالإيذاء: السبب أو الضرب بالنعال.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد * (واللذان يأتيانها منكم) * قال: الرجلان الفاعلان.
وأخرج آدم والبيهقي في سننه عن مجاهد في قوله: * (فأاذوهما) * يعني سبا، قاله صاحب (الدر المنثور). * (قال ياقوم أرءيتم إن كنت على بينة من ربى ورزقنى منه رزقا حسنا ومآ أريد أن أخالفكم إلى مآ أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقى إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب * وياقوم لا يجرمنكم شقاقى أن يصيبكم مثل مآ أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد * واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربى رحيم ودود) * قوله تعالى: * (ومآ أريد أن أخالفكم إلى مآ أنهاكم عنه) *. ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن نبيه شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، أنه أخبر قومه: أنه إذا نهاهم عن شيء انتهى هو عنه وأن فعله لا يخالف قوله.
ويفهم من هذه الآية الكريمة أن الإنسان يجب عليه أن يكون منتهيا عما ينهى عنه غيره، مؤتمرا بما يأمر به غيره.
وقد بين تعالى ذلك في مواضع أخر. كقوله: * (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) *. وقوله: * (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) *.
وفي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
197

(يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار، فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع عليه أهل النار فيقولون: أي فلان. ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ ا فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه).
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (فتندلق أقتابه) أي تتدلى أمعاؤه.
وأخرج وكيع وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وأبو نعيم في الحلية، وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلما قرضت رجعت. فقلت لجبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء من أمتك، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون) قاله صاحب (الدر المنثور). اه. وقد قال الشاعر:: (رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلما قرضت رجعت. فقلت لجبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء من أمتك، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون) قاله صاحب (الدر المنثور). اه. وقد قال الشاعر:
* لا تنه عن خلق وتأتي مثله
* عار عليك إذا فعلت عظيم
*
وقد أجاد من قال: وقد أجاد من قال:
* وغير تقي يأمر الناس بالتقى
* طبيب يداوي الناس وهو مريض
*
ومعلوم أن عمل الإنسان بما ينصح به غيره أدعى لقبول غيره منه. كما قال الشاعر: ومعلوم أن عمل الإنسان بما ينصح به غيره أدعى لقبول غيره منه. كما قال الشاعر:
* فإنك إذ ما تأت ما أنت آمر
* به تلف من إياه تأمر آتيا
* * (قالوا ياشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك ومآ أنت علينا بعزيز * قال ياقوم أرهطى أعز عليكم من الله واتخذتموه ورآءكم ظهريا إن ربى بما تعملون محيط * وياقوم اعملوا على مكانتكم إنى عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إنى معكم رقيب * ولما جآء أمرنا نجينا شعيبا والذين ءامنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا فى ديارهم جاثمين * كأن لم يغنوا فيهآ ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود * ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وملإيه فاتبعوا أمر فرعون ومآ أمر فرعون برشيد * يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود * وأتبعوا فى هاذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود * ذالك من أنبآء القرى نقصه عليك منها قآئم وحصيد * وما ظلمناهم ولاكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم ءالهتهم التى يدعون من دون الله من شىء لما جآء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب * وكذالك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهى ظالمة إن أخذه أليم شديد * إن فى ذالك لآية لمن خاف عذاب الا خرة ذالك يوم مجموع له الناس وذالك يوم مشهود * وما نؤخره إلا لاجل معدود * يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقى وسعيد * فأما الذين شقوا ففى النار لهم فيها زفير وشهيق * خالدين فيها ما دامت السماوات والا رض إلا ما شآء ربك إن ربك فعال لما يريد * وأما الذين سعدوا ففى الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والا رض إلا ما شآء ربك عطآء غير مجذوذ * فلا تك فى مرية مما يعبد هاؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد ءاباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص * ولقد ءاتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم وإنهم لفى شك منه مريب * وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير * فاستقم كمآ أمرت ومن
تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير * ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أوليآء ثم لا تنصرون * وأقم الصلواة طرفى النهار وزلفا من اليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذالك ذكرى للذاكرين * واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين * فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد فى الا رض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا مآ أترفوا فيه وكانوا مجرمين * وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون * ولو شآء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذالك خلقهم وتمت كلمة ربك لاملان جهنم من الجنة والناس أجمعين * وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجآءك فى هاذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين * وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون * وانتظروا إنا منتظرون * ولله غيب السماوات والا رض وإليه يرجع الا مر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون) * قوله تعالى: * (قالوا ياشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك ومآ أنت علينا بعزيز) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أن نبيه شعيبا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام منعه الله من الكفار، وأعز جانبه بسبب العواطف العصبية، والأواصر النسبية من قومه الذين هم كفار.
وهو دليل على أن المتمسك بدينه قد يعينه الله ويعزه بنصرة قريبه الكافر، كما بينه تعالى في مواضع أخر. كقوله في صالح وقومه: * (قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله) *.
ففي الآية دليل على أنهم لا قدرة لهم على أن يفعلوا السوء بصالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام إلا في حال الخفاء، وأنهم لو فعلوا به ذلك خفاء وسرقة لكانوا يحلفون لأوليائه الذين هم عصبته أنهم ما فعلوا به سوءا، ولا شهدوا ذلك ولا حضروره خوفا من عصبته. فهو عزيز الجانب بسبب عصبته الكفار. وقد قال تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم: * (ألم يجدك
198

يتيما فآوى) * أي آواك بأن ضمك إلى عمك أبي طالب.
وذلك بسبب العواطف العصبية، والأواصر النسبية، ولا صلة له بالدين البتة. فكونه جل وعلا يمتن على رسوله صلى الله عليه وسلم بإيواء أبي طالب له دليل على أن الله قد ينعم على المتمسك بدينه بنصرة قريبه الكافر.
ومن ثمرات تلك العصبية النسبية قول أبي طالب: ومن ثمرات تلك العصبية النسبية قول أبي طالب:
* والله لن يصلوا إليك بجمعهم
* حتى أوسد في التراب دفينا
*
* فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
* أبشر بذاك وقر منه عيونا
*
وقوله أيضا: وقوله أيضا:
* ونمنعه حتى نصرع حوله
* ونذهل عن أبنائنا والحلائل
*
ولهذا لما كان نبي الله لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ليس له عصبة في قومه الذين أرسل إليهم، ظهر فيه أثر عدم العصبة. بدليل قوله تعالى عنه: * (قال لو أن لى بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) *.
وهذه الآيات القرآنية تدل على أن المسلمين قد تنفعهم عصبية إخوانهم الكافرين.
ولما ناصر بنو المطلب بن عبد مناف بني هاشم ولم يناصرهم بنو عبد شمس بن عبد مناف وبنو نوفل بن عبد مناف عرف النبي صلى الله عليه وسلم لبني المطلب تلك المناصرة التي هي عصيبة نسبية لا صلة لها بالدين. فأعطاهم من خمس الغنيمة مع بني هاشم، وقال: (إنا وبني المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام) ومنع بني عبد شمس وبني نوفل من خمس الغنيمة، مع أن الجميع أولاد عبد مناف بن قصي.
وقال أبو طالب في بني عبد شمس وبني نوفل: وقال أبو طالب في بني عبد شمس وبني نوفل:
* جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا
* عقوبة شر عاجل غير آجل
*
* بميزان قسط لا يخيس شعيرة
* له شاهد من نفسه غير عائل
*
* لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا
* بني خلف قيضا بنا والغياطل
*
والغياطل (بالغين المعجمة) ومراد أبي طالب بهم: بنو سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي (القبيلة المشهورة من قبائل قريش) وإنما سموا الغياطل، لأن قيس بن عدي بن سعد بن سهم الذي هو من سادات قريش العظام، وهو الذي يعنيه عبد المطلب بقوله يرقص ابنه عبد الله وهو صغير: لأن قيس بن عدي بن سعد بن سهم الذي هو من سادات قريش العظام، وهو الذي يعنيه عبد المطلب بقوله يرقص ابنه عبد الله وهو صغير:
* كأنه في العز قيس بن عدي
* في دار سعد ينتدي أهل الندى
*
199

تزوج امرأة من كنانة تسمى (الغيطلة) وهي أم بعض أولاده. فسمي بنو سهم الغياطل. لأن قيس بن عدي المذكور سيدهم.
فهذه الآيات القرآنية تدل على أن الله قد يعين المؤمن بالكافر لتعصبه له، وربما كان لذلك أثر حسن على الإسلام والمسلمين. وقد يكون من منن الله على بعض أنبيائه المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم. وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) وفي المثل: (اجتن الثمار وألق الخشبة في النار).
فإذا عرفت دلالة القرآن على أن المسلم قد ينتفع برابطة نسب وعصيبة من كافر، فاعلم أن النداء بالروابط العصيبة لا يجوز. لإجماع المسلمين على أن المسلم لا يجوز له الدعاء بيا لبني فلان ونحوها.
وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في تلك الدعوة: (دعوها فإنها منتنة). وقوله صلى الله عليه وسلم: (دعوها) يدل على وجوب تركها. لأن صيغة أفعل للوجوب إلا لدليل صارف عنه، وليس هنا دليل صارف عنه. ويؤكد ذلك تعليله الأمر بتركها بأنها منتنة، وما صرح النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بتركه وأنه منتن لا يجوز لأحد تعاطيه، وإنما الواجب على المسلمين النداء برابطة الإسلام التي هي من شدة قوتها تجعل المجتمع الإسلامي كله كأنه جسد إنسان واحد. فهي تربطك بأخيك المسلم كربط أعضائك بعضها ببعض، قال صلى الله عليه وسلم: (إن مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
وإذا تأملت قوله تعالى: * (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الا خر يوآدون من حآد الله ورسوله ولو كانوا ءابآءهم أو أبنآءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) * تحققت أن الروابط النسبية تتلاشى مع الروابط الإسلامية، وقد قال تعالى: * (إنما المؤمنون إخوة) * وقال: * (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أوليآء بعض) *.
ولا يخفى أن أسلافنا معاشر المسلمين إنما فتحوا البلاد ومصروا الأمصار بالرابطة الإسلامية، لا بروابط عصبية، ولا بأواصر نسبية. قوله تعالى: * (وأما الذين سعدوا ففى الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والا رض إلا ما شآء) *. قيد تعالى خلود أهل الجنة وأهل النار بالمشيئة. فقال في كل منهما: * (السماوات والا رض إلا ما شآء) * ثم بين عدم الانقطاع في كل منهما، فقال في خلود أهل الجنة: * (وأما الذين سعدوا ففى الجنة خالدين فيها ما) * * (عطآء غير مجذوذ) *.
200

وقال في خلود أهل النار: * (كلما خبت زدناهم سعيرا) *.
ومعلوم أن * (كلما) * تقتضي التكرار بتكرر الفعل الذي بعدها.
وقد أوضحنا هذه المسألة إيضاحا تاما في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: * (قال النار مثواكم خالدين فيهآ إلا ما شآء الله) * وفي سورة النبأ في الكلام على قوله تعالى: * (لابثين فيهآ أحقابا) *.
201

((سورة يوسف))
* (الر تلك ءايات الكتاب المبين * إنآ أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون * نحن نقص عليك أحسن القصص بمآ أوحينآ إليك هاذا القرءان وإن كنت من قبله لمن الغافلين * إذ قال يوسف لابيه ياأبت إنى رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين * قال يابنى لا تقصص رءياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين * وكذالك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الا حاديث ويتم نعمته عليك وعلىءال يعقوب كمآ أتمهآ على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم * لقد كان فى يوسف وإخوته ءايات للسآئلين * إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفى ضلال مبين * اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين * قال قآئل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه فى غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين * قالوا ياأبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون * أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون * قال إنى ليحزننى أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون * قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنآ إذا لخاسرون) * قوله تعالى: * (إذ قال يوسف لابيه ياأبت إنى رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين) *.
لم يبين هنا تأويل هذه الرؤيا، ولكنه بينه في هذه السورة الكريمة في قوله: * (فلما دخلوا على يوسف ءاوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شآء الله ءامنين ورفع أبويه
على العرش وخروا له سجدا وقال ياأبت هاذا تأويل رؤياى من قبل قد جعلها ربى حقا) *.
ومن المعلوم أن رؤيا الأنبياء وحي. قوله تعالى: * (وكذالك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الا حاديث) *. بين الله جل وعلا أنه علم نبيه يوسف من تأويل الأحاديث، وصرح بذلك أيضا في قوله: * (وكذالك مكنا ليوسف فى الا رض ولنعلمه من تأويل الا حاديث) *.
وقوله: * (رب قد آتيتنى من الملك وعلمتنى من تأويل الا حاديث) *.
واختلف العلماء في المراد بتأويل الأحاديث.
فذهب جماعة من أهل العلم إلى أن المراد بذلك: تعبير الرؤيا، فالأحاديث على هذا القول هي الرؤيا، قالوا: لأنها إما حديث نفس أو ملك أو شيطان.
وكان يوسف أعبر الناس للرؤيا. ويدل لهذا الوجه الآيات الدالة على خبرته بتأويل الرؤيا، كقوله: * (ياصاحبى السجن أمآ أحدكما فيسقى ربه خمرا وأما الا خر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضى الا مر الذى فيه تستفتيان) * وقوله: * (قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه فى سنبله) * إلى قوله: * (يعصرون) *.
وقال بعض العلماء: المراد بتأويل الأحاديث معرفة معاني كتب الله وسنن الأنبياء، وما غمض وما اشتبه على الناس من أغراضها ومقاصدها، يفسرها لهم ويشرحها، ويدلهم على مودعات حكمها.
وسميت أحاديث، لأنها يحدث بها عن الله ورسله، فيقال: قال الله كذا، وقال رسوله كذا، ألا ترى إلى قوله تعالى: * (فبأي حديث بعده يؤمنون) *.
202

وقوله: * (الله نزل أحسن الحديث) *.
ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: * (ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما) * وقوله: * (قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذالكما مما علمنى ربى) *.
قال مقيده عفا الله عنه:
الظاهر أن الآيات المذكورة تشمل ذلك كله من تأويل الرؤيا، وعلوم كتب الله وسنن الأنبياء والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفى ضلال مبين) *. الظاهر أن مراد أولاد يعقوب بهذا الضلال الذي وصفوا به أباهم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في هذه الآية الكريمة إنما هو الذهاب عن علم حقيقة الأمر كما ينبغي.
ويدل لهذا ورود الضلال بهذا المعنى في القرآن وفي كلام العرب. فمنه بهذا المعنى قوله تعالى عنهم مخاطبين أباهم: * (قالوا تالله إنك لفى ضلالك القديم) * وقوله تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم: * (ووجدك ضآلا فهدى) * أي لست عالما بهذه العلوم التي لا تعرف إلا بالوحي، فهداك إليها وعلمكم بما أوحي إليك من هذا القرآن العظيم. ومنه بهذا المعنى قول الشاعر: ووجدك ضآلا فهدى) * أي لست عالما بهذه العلوم التي لا تعرف إلا بالوحي، فهداك إليها وعلمكم بما أوحي إليك من هذا القرآن العظيم. ومنه بهذا المعنى قول الشاعر:
* وتظن سلمى أنني أبغي بها
* بدلا أراها في الضلال تهيم
*
يعني: أنها غير عالمة بالحقيقة في ظنها أنه يبغي بها بدلا وهو لا يبغي بها بدلا.
وليس مراد أولاد يعقوب الضلال في الدين، إذ لو أرادوا ذلك لكانوا كفارا، وإنما مرادهم أن أباهم في زعمهم في ذهاب عن إدراك الحقيقة، وإنزال الأمر منزلته اللائقة به، حيث آثر اثنين على عشرة، مع أن العشرة أكثر نفعا له، وأقدر على القيام بشؤونه وتدبير أموره.
واعلم أن الضلال أطلق في القرآن إطلاقين آخرين:
أحدهما الضلال في الدين، أي الذهاب عن طريق الحق التي جاءت بها الرسل صلوات الله عليهم وسلامه. وهذا أشهر معانيه في القرآن. ومنه بهذا المعنى * (غير المغضوب عليهم ولا الضآلين) * وقوله: * (ولقد ضل قبلهم أكثر الا ولين) *، وقوله: * (ولقد أضل منكم جبلا كثيرا) * إلى غير ذلك من الآيات.
الثاني إطلاق الضلال بمعنى الهلاك والغيبة. من قول العرب: ضل السمن في
203

الطعام، إذا غاب فيه وهلك فيه، ولذلك تسمي العرب الدفن إضلالا. لأنه تغيب في الأرض يؤول إلى استهلاك عظام الميت فيها، لأنها تصير رميما وتمتزج بالأرض. ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: * (وقالوا أءذا ضللنا فى الا رض) *.
ومن إطلاق الضلال على الغيبة قوله تعالى: * (قبلك فأخذناهم بالبأسآء والضرآء لعلهم) * أي غاب واضمحل.
ومن إطلاق الضلال على الدفن قول نابغة ذبيان: ومن إطلاق الضلال على الدفن قول نابغة ذبيان:
* فآب مضلوه بعين جلية
* وغودر بالجولان حزم ونائل
*
فقوله: مضلوه، يعني دافنيه. وقوله: بعين جلية، أي بخبر يقين. والجولان: جبل دفن عنده المذكور.
ومن الضلال بمعنى الغيبة والاضمحلال قول الأخطل: ومن الضلال بمعنى الغيبة والاضمحلال قول الأخطل:
* كنت القذى في موج أكدر مزبد
* قذف الأتى به فضل ضلالا
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* ألم تسأل فتخبرك الديار
* عن الحي المضلل أين ساروا
* * (فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه فى غيابة الجب وأوحينآ إليه لتنبئنهم بأمرهم هاذا وهم لا يشعرون * وجآءوا أباهم عشآء يبكون * قالوا ياأبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب ومآ أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين * وجآءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون * وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يابشرى هاذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون * وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين * وقال الذى اشتراه من مصر لامرأته أكرمى مثواه عسى أن ينفعنآ أو نتخذه ولدا وكذالك مكنا ليوسف فى الا رض ولنعلمه من تأويل الا حاديث والله غالب على أمره ولاكن أكثر الناس لا يعلمون * ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذالك نجزى المحسنين * وراودته التى هو فى بيتها عن نفسه وغلقت الا بواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربى أحسن مثواى إنه لا يفلح الظالمون * ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذالك لنصرف عنه السوء والفحشآء إنه من عبادنا المخلصين * واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزآء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم * قال هى راودتنى عن نفسى وشهد شاهد من أهلهآ إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين * وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين * فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم * يوسف أعرض عن هاذا واستغفرى لذنبك إنك كنت من الخاطئين * وقال نسوة فى المدينة امرأت العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها فى ضلال مبين * فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا وءاتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هاذا بشرا إن هاذآ إلا ملك كريم * قالت فذالكن الذى لمتننى فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل مآ ءامره ليسجنن وليكونا من الصاغرين * قال رب السجن أحب إلى مما يدعوننى إليه وإلا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين * فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم * ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين * ودخل معه السجن فتيان قال أحدهمآ إنى أرانى أعصر خمرا وقال الآخر إنى أرانى أحمل فوق رأسى خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين * قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذالكما مما علمنى ربى إنى تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالا خرة هم كافرون * واتبعت ملة ءابآءي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنآ أن نشرك بالله من شىء ذالك من فضل الله علينا وعلى الناس ولاكن أكثر الناس لا يشكرون * ياصاحبى السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار * ما تعبدون من دونه إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وءابآؤكم مآ أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذالك الدين القيم ولاكن أكثر الناس لا يعلمون * ياصاحبى السجن أمآ أحدكما فيسقى ربه خمرا وأما الا خر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضى الا مر الذى فيه تستفتيان * وقال للذى ظن أنه ناج منهما اذكرنى عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث فى السجن بضع سنين * وقال الملك إنى أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ياأيها الملأ أفتونى فى رؤياى إن كنتم للرؤيا تعبرون * قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الا حلام بعالمين * وقال الذى نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون * يوسف أيها الصديق أفتنا فى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلى أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون * قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه فى سنبله إلا قليلا مما تأكلون * ثم يأتى من بعد ذالك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون * ثم يأتى من بعد ذالك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون * وقال الملك ائتونى به فلما جآءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة الاتى قطعن أيديهن إن ربى بكيدهن عليم * قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأت العزيز اأن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين * ذالك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدى كيد الخائنين * ومآ أبرىء نفسى إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربى إن ربى غفور رحيم * وقال الملك ائتونى به أستخلصه لنفسى فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين * قال اجعلنى على خزآئن الا رض إنى حفيظ عليم * وكذالك مكنا ليوسف فى الا رض يتبوأ منها حيث يشآء نصيب برحمتنا من نشآء ولا نضيع أجر المحسنين * ولاجر الا خرة خير للذين ءامنوا وكانوا يتقون * وجآء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون * ولما جهزهم بجهازهم قال ائتونى بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أنى أوفى الكيل وأنا خير المنزلين * فإن لم تأتونى به فلا كيل لكم عندى ولا تقربون * قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون * وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم فى رحالهم لعلهم يعرفونهآ إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون * فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا ياأبانا منع منا الكيل فأرسل معنآ أخانا نكتل وإنا له لحافظون * قال هل آمنكم عليه إلا كمآ أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين * ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا ياأبانا ما نبغى هاذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذالك كيل يسير * قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتننى به إلا
204

أن يحاط بكم فلمآ ءاتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل * وقال يابنى لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة ومآ أغنى عنكم من الله من شىء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون * ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغنى عنهم من الله من شىء إلا حاجة فى نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولاكن أكثر الناس لا يعلمون * ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إنى أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون * فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية فى رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون * قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون * قالوا نفقد صواع الملك ولمن جآء به حمل بعير وأنا به زعيم * قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد فى الا رض وما كنا سارقين * قالوا فما جزآؤه إن كنتم كاذبين * قالوا جزؤه من وجد فى رحله فهو جزاؤه كذالك نجزى الظالمين * فبدأ بأوعيتهم قبل وعآء أخيه ثم استخرجها من وعآء أخيه كذالك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه فى دين الملك إلا أن يشآء الله نرفع درجات من نشآء وفوق كل ذى علم عليم * قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف فى نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون * قالوا ياأيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين * قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنآ إذا لظالمون * فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم فى يوسف فلن أبرح الا رض حتى يأذن لى أبى أو يحكم الله لى وهو خير الحاكمين * ارجعوا إلى أبيكم فقولوا ياأبانا إن ابنك سرق وما شهدنآ إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين * واسئل القرية التى كنا فيها والعير التى أقبلنا فيها وإنا لصادقون * قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتينى بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم * وتولى عنهم وقال ياأسفا على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم * قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين * قال إنمآ أشكو بثى وحزنى إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون * يابنى اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تايأسوا من روح الله إنه لا يايأس من روح الله إلا القوم الكافرون * فلما دخلوا عليه قالوا ياأيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينآ إن الله يجزى المتصدقين * قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون * قالوا أءنك لانت يوسف قال أنا يوسف وهاذا أخى قد من الله علينآ إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين * قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين * قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين * اذهبوا بقميصى هاذا فألقوه على وجه أبى يأت بصيرا وأتونى بأهلكم أجمعين * ولما فصلت العير قال أبوهم إنى لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون * قالوا تالله إنك لفى ضلالك القديم * فلمآ أن جآء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إنى أعلم من الله ما لا تعلمون * قالوا ياأبانا استغفر لنا ذنوبنآ إنا كنا خاطئين * قال سوف أستغفر لكم ربى إنه هو الغفور الرحيم * فلما دخلوا على يوسف ءاوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شآء الله ءامنين * ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال ياأبت هاذا تأويل رؤياى من قبل قد جعلها ربى حقا وقد أحسن بى إذ أخرجنى من السجن وجآء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بينى وبين إخوتى إن ربى لطيف لما يشآء إنه هو العليم الحكيم * رب قد آتيتنى من الملك وعلمتنى من تأويل الا حاديث فاطر السماوات والا رض أنت ولى فى الدنيا والا خرة توفنى مسلما وألحقنى بالصالحين) * قوله تعالى: * (فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه فى غيابة الجب وأوحينآ إليه لتنبئنهم بأمرهم هاذا وهم لا يشعرون) *. أخبر الله تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أوحى إلى يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أنه سينبىء إخوته بهذا الأمر الذي فعلوا به في حال كونهم لا يشعرون. ثم صرح في هذه السورة الكريمة بأنه جل وعلا أنجز ذلك الوعد في قوله: * (قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون) *.
وصرح بعدم شعورهم بأنه يوسف في قوله: * (وجآء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون) *.
وهذا الذي ذكرنا أن العامل في الجملة الحالية هو قوله: * (لتنبئنهم) * أي لتخبرنهم * (بأمرهم هاذا) * في حال كونهم * (لا يشعرون) * بأنك يوسف هو الظاهر.
وقيل: إن عامل الحال هو قوله: * (وأوحينآ إليه) * وعليه فالمعنى: أن ذلك الإيحاء وقع في حال كونهم لا يشعرون بأنه أوحى إليه ذلك.
وقرأ هذه الآية جمهور القراء * (غيابة الجب) * بالإفراد، وقرأ نافع (غيابات الجب) بصيغة الجمع، وكل شيء غيب عنك شيئا فهو غيابة، ومنه قيل للقبر
204

غيابة، ومنه قول الشاعر: غيابة الجب) * بالإفراد، وقرأ نافع (غيابات الجب) بصيغة الجمع، وكل شيء غيب عنك شيئا فهو غيابة، ومنه قيل للقبر غيابة، ومنه قول الشاعر:
* وإن أنا يوما غيبتني غيابتي
* فسيروا بسيري في العشيرة والأهل
*
والجمع في قراءة نافع نظرا إلى تعدد أجزاء قعر الجب التي تغيب الداخل فيها عن العيان.
واختلف العلماء في جواب (لما) من قوله * (فلما ذهبوا به) * أمثبت هو أم محذوف؟
فقيل: هو مثبت، وهو قوله: * (قالوا ياأبانا إنا ذهبنا نستبق) *. أي لما كان كذا وكذا * (قالوا يأبانا أبانا) *، واستحسن هذا الوجه أبو حيان.
وقيل جواب (لما) هو قوله: * (أوحينا) * والواو صلة. وهذا مذهب الكوفيين، تزاد عندهم الواو في جواب (لما) وحتى، (وإذا) وعلى ذلك خرجوا قوله تعالى: * (فلما أسلما وتله للجبين وناديناه) *. وقوله: * (حتى إذا جآءوها فتحت أبوابها) *، وقول امرئ القيس: حتى إذا جآءوها فتحت أبوابها) *، وقول امرئ القيس:
* فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
* بنا بطن حقف ذي ركام عقنقل
*
أي لما أجزنا ساحة الحي انتحى.
وقيل: جواب (لما) محذوف، وهو قول البصريين. واختلف في تقديره. فقيل: إن تقديره فعلوا به ما فعلوا من الأذى.
وقدره بعضهم: فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب عظمت فتنتهم.
وقدره بعضهم: فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب جعلوه فيها.
واستظهر هذا الأخير أبو حيان. لأن قوله: * (وأجمعوا أن يجعلوه) * يدل على هذا المقدر. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذالك) *. ظاهر هذه الآية الكريمة قد يفهم منه أن يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام هم بأن يفعل مع تلك المرأة مثل ما همت هي به منه. ولكن القرآن العظيم بين براءته عليه الصلاة والسلام من الوقوع فيما لا ينبغي حيث بين شهادة كل من له تعلق بالمسألة ببراءته، وشهادة الله له بذلك واعتراف إبليس به.
أما الذين لهم تعلق بتلك الواقعة فهم: يوسف، والمرأة، وزوجها، والنسوة،
205

والشهود.
أما حزم يوسف بأنه بريء من تلك المعصية فذكره تعالى في قوله:
* (هى راودتنى عن نفسى) * وقوله: * (قال رب السجن أحب إلى مما يدعوننى إليه) *.
وأما اعتراف المرأة بذلك ففي قولها للنسوة: * (ولقد راودته عن نفسه فاستعصم) * وقولها: * (اأن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين) *.
وأما اعتراف زوج المرأة ففي قوله: * (قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هاذا واستغفرى لذنبك إنك كنت من الخاطئين) *.
وأما اعتراف الشهود بذلك ففي قوله: * (وشهد شاهد من أهلهآ إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين) *.
وأما شهادة الله جل وعلا ببراءته ففي قوله: * (كذالك لنصرف عنه السوء والفحشآء إنه من عبادنا المخلصين) *.
قال في الفخر الرازي في تفسيره: قد شهد الله تعالى في هذه الآية الكريمة على طهارته أربع مرات:
أولها * (لنصرف عنه السوء) * واللام للتأكيد والمبالغة.
والثاني قوله: * (والفحشآء) * أي وكذلك لنصرف عنه الفحشاء.
والثالث قوله: * (كذالك لنصرف عنه السوء والفحشآء إنه من عبادنا المخلصين) * مع أنه تعالى قال: * (وعباد الرحمان الذين يمشون على الا رض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) *.
والرابع قوله: * (المخلصين) * وفيه قراءتان: قراءة باسم الفاعل. وأخرى باسم المفعول.
فوروده باسم الفاعل يدل على كونه آتيا بالطاعات والقربات مع صفة الإخلاص.
ووروده باسم المفعول يدل على أن الله تعالى استخلصه لنفسه، واصطفاه لحضرته.
وعلى كلا الوجهين: فإنه من أدل الألفاظ على كونه منزها عما أضافوه إليه. اه من تفسير الرازي.
ويؤيد ذلك قوله تعالى: * (معاذ الله إنه ربى أحسن مثواى إنه لا يفلح الظالمون) *.
206

وأما إقرار إبليس بطهارة يوسف ونزاهته ففي قوله تعالى: * (قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) * فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين، ولا شك أن يوسف من المخلصين، كما صرح تعالى به في قوله: * (إنه من عبادنا المخلصين) * فظهرت دلالة القرآن من جهات متعددة على براءته مما لا ينبغي.
وقال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية ما نصه: وعند هذا نقول: هؤلاء الجهال الذين نسبوا إلى يوسف عليه السلام هذه الفضيحة، إن كانوا من أتباع دين الله تعالى فليقبلوا شهادة الله تعالى على طهارته، وإن كانوا من أتباع إبليس وجنوده فليقبلوا شهادة إبليس على طهارته. ولعلهم يقولون: كنا في أول الأمر تلامذة إبليس، إلى أن تخرجنا عليه فزدنا في السفاهة عليه. كما قال الخوارزمي: وقال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية ما نصه: وعند هذا نقول: هؤلاء الجهال الذين نسبوا إلى يوسف عليه السلام هذه الفضيحة، إن كانوا من أتباع دين الله تعالى فليقبلوا شهادة الله تعالى على طهارته، وإن كانوا من أتباع إبليس وجنوده فليقبلوا شهادة إبليس على طهارته. ولعلهم يقولون: كنا في أول الأمر تلامذة إبليس، إلى أن تخرجنا عليه فزدنا في السفاهة عليه. كما قال الخوارزمي:
* وكنت امرأ من جند إبليس فارتقى
* بي الدهر حتى صار إبليس من جندي
*
* فلو مات قبلي كنت أحسن بعده
* طرائق فسق ليس يحسنها بعدي
*
فثبت بهذه الدلائل: أن يوسف عليه السلام بريء مما يقول هؤلاء الجهال. ا ه كلام الرازي.
ولا يخفى ما فيه من قلة الأدب مع من قال تلك المقالة من الصحابة وعلماء السلف الصالحا وعذر الرازي في ذلك هو اعتقاده أن ذلك لم يثبت عن أحد من السلف الصالح.
وسترى في آخر هذا المبحث أقوال العلماء في هذه المسألة إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: قد بينتم دلالة القرآن على براءته عليه السلام مما لا ينبغي في الآيات المتقدمة. ولكن ماذا تقولون في قوله تعالى: * (وهم بها) *؟
فالجواب من وجهين:
الأول إن المراد بهم يوسف بها خاطر قلبي صرف عنه وازع التقوى. وقال بعضهم: هو الميل الطبيعي والشهوة الغريزية المزمومة بالتقوى، وهذا لا معصية فيه. لأنه أمر جبلي لا يتعلق به التكليف. كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول:
(اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك) يعني ميل القلب الطبيعي.
ومثال هذا ميل الصائم بطبعه إلى الماء البارد، مع أن تقواه تمنعه من الشرب وهو صائم. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة) لأنه ترك ما تميل
207

إليه نفسه بالطبع خوفا من الله، وامتثالا لأمره، كما قال تعالى: * (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى) *.
وهم بني حارثة وبني سلمة بالفرار يوم أحد، كهم يوسف هذا، بدليل قوله: * (إذ همت طآئفتان منكم أن تفشلا والله وليهما) * لأن قوله: * (والله وليهما) * يدل على أن ذلك الهم ليس معصية، لأن اتباع المعصية بولاية الله لذلك العاصي إغراء على المعصية.
والعرب تطلق الهم وتريد به المحبة والشهوة، فيقول الإنسان فيما لا يحبه ولا يشتهيه: هذا ما يهمني، ويقول فيما يحبه ويشتهيه: هذا أهم الأشياء إلي، بخلاف هم امرأة العزيز، فإنه هم عزم وتصميم، بدليل أنها شقت قميصه من دبر وهو هارب عنها، ولم يمنعها من الوقوع فيما لا ينبغي إلا عجزها عنه.
ومثل هذا التصميم على المعصية: معصية يؤاخذ بها صاحبها، بدليل الحديث الثابت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي بكرة: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) قالوا: يا رسول الله قد عرفنا القاتل فما بال المقتول؟ قال: (إنه كان حريصا على قتل صاحبه) فرح صلى الله عليه وسلم بأن تصميم عزمه على قتل صاحبه معصية أدخله الله بسببها النار.
وأما تأويلهم هم يوسف بأنه قارب الهم ولم يهم بالفعل، كقول العرب: قتلته لو لم أخف الله، أي قاربت أن أقتله، كما قاله الزمخشري.
وتأويل الهم بأنه هم بضربها، أو هم بدفعها عن نفسه، فكل ذلك غير ظاهر، بل بعيد من الظاهر ولا دليل عليه.
والجواب الثاني وهو اختيار أبي حيان: أن يوسف لم يقع منه هم أصلا، بل هو منفى عنه لوجود البرهان.
قال مقيده عفا الله عنه: هذا الوجه الذي اختاره أبو حيان وغيره هو أجرى الأقوال على قواعد اللغة العربية، لأن الغالب في القرآن وفي كلام العرب: أن الجواب المحذوف يذكر قبله ما يدل عليه، كقوله: * (فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين) * أي إن كنتم مسلمين فتوكلوا عليه، فالأول: دليل الجواب المحذوف لا نفس الجواب، لأن جواب الشروط وجواب * (لولا) * لا يتقدم، ولكن يكون المذكور قبله دليلا عليه كالآية
208

المذكورة. وكقوله: * (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) * أي إن كنتم صادقين فهاتوا برهانكم.
وعلى هذا القول: فمعنى الآية، وهم بها لولا أن رأى برهان ربه، أي لولا أن رآه هم بها. فما قبل * (لولا) * هو دليل الجواب المحذوف، كما هو الغالب في القرآن واللغة.
ونظير ذلك قوله تعالى: * (إن كادت لتبدى به لولا أن ربطنا على قلبها) * فما قبل * (لولا) * دليل الجواب. أي لولا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدي به.
واعلم أن جماعة من علماء العربية أجازوا تقديم جواب * (لولا) * وتقديم الجواب في سائر الشروط: وعلى هذا القول يكون جواب * (لولا) * في قوله: * (لولا أن رأى برهان ربه) * هو ما قبله من قوله: * (وهم بها) *.
وإلى جواز التقديم المذكور ذهب الكوفيون، ومن أعلام البصريين: أبو العباس المبرد، وأبو زيد الأنصاري.
وقال الشيخ أبو حيان في البحر المحيط ما نصه: والذي اختاره أن يوسف عليه السلام لم يقع منه هم بها البتة، بل هو منفى لوجود رؤية البرهان. كما تقول: لقد فارقت لولا أن عصمك الله. ولا نقول: إن جواب * (لولا) * متقدم عليها، وإن كان لا يقوم دليل على امتناع ذلك، بل صريح أدوات الشروط العاملة مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها. وقد ذهب إلى ذلك الكوفيون، ومن أعلام البصريين: أبو زيد الأنصاري، وأبو العباس المبرد.
بل نقول: إن جواب * (لولا) * محذوف لدلالة ما قبله عليه، كما يقول جمهور البصريين في قول العرب: أنت ظالم إن فعلت. فيقدرونه إن فعلت فأنت ظالم. ولا يدل قوله أنت ظالم على ثبوت الظلم. بل هو مثبت على تقدير وجود الفعل، وكذلك هنا التقدير: لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، فكان وجود الهم على تقدير انتفاء رؤية البرهان، لكنه وجد رؤية البرهان فانتفى الهم، ولا التفات إلى قول الزجاج. ولو كان الكلام: ولهم بها كان بعيدا، فكيف مع سقوط اللام؟ لأنه يوهم أن قوله: *
(هم * بها) * هو جواب * (لولا) * ونحن لم نقل بذلك، وإنما هو دليل الجواب. وعلى تقدير أن يكون نفس الجواب فاللام ليست بلازمة، لجواز أن يأتي جواب * (لولا) * إذا كان بصيغة الماضي
209

باللام. وبغير لام تقول: لولا زيد لأكرمتك. ولولا زيد أكرمتك. فمن ذهب إلى أن قوله: * (هم * بها) * نفس الجواب لم يبعد. ولا التفات لقول ابن عطية: إن قول من قال: إن الكلام قد تم في قوله: * (ولقد همت به) * وإن جواب * (لولا) * في قوله: * (وهم بها) * وإن المعنى: لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، فلم يهم يوسف عليه السلام.
قال: وهذا قول يرده لسان العرب وأقوال السلف اه.
أما قوله: يرده لسان العرب فليس كما ذكر. وقد استدل من ذهب إلى جواز ذلك بوجوده في لسان العرب، قال الله تعالى: * (إن كادت لتبدى به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين) * فقوله: * (إن كادت لتبدى به) *: إما أن يتخرج على أن الجواب على ما ذهب إليه ذلك القائل، وإما أن يتخرج على ما ذهبنا إليه من أنه دليل الجواب، والتقدير: لولا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدي به.
وأما أقوال السلف: فنعتقد أنه لا يصح عن أحد منهم شيء من ذلك، لأنها أقوال متكاذبة يناقض بعضها بعضا، مع كونها قادحة في بعض فساق المسلمين فضلا عن المقطوع لهم بالعصمة.
والذي روي عن السلف لا يساعد عليه كلام العرب. لأنهم قدروا جواب * (لولا) * محذوفا ولا يدل عليه دليل. لأنهم لم يقدروا لهم بها ولا يدل كلام العرب إلا على أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط. لأن ما قبل الشرط دليل عليه اه. محل الغرض من كلام أبي حيان بلفظه.
وقد قدمنا أن هذا القول هو أجري الأقوال على لغة العرب، وإن زعم بعض العلماء خلاف ذلك.
فبهذين الجوابين تعلم أن يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بريء من الوقوع فيما لا ينبغي، وأنه إما أن يكون لم يقع منه أصلا بناء على أن الهم معلق بأداة الامتناع التي هي * (لولا) * على انتفاء رؤية البرهان، وقد رأى البرهان فانتفى المعلق عليه، وبانتفائه ينتفي المعلق الذي هو همه بها كما تقدم إيضاحه في كلام أبي حيان.
وإما أن يكون همه خاطرا قلبيا صرف عنه وازع التقوى، أو هو الشهوة والميل الغريزي المزموم بالتقوى كما أوضحناه. فبهذا يتضح لك أن قوله: * (وهم بها) * لا يعارض ما قدمنا من الآيات على براءة يوسف من الوقوع فيما لا ينبغي.
210

فإذا علمت مما بينا دلالة القرآن العظيم على براءته مما لا ينبغي، فسنذكر لك أقوال العلماء الذين قالوا: إنه وقع منه بعض ما لا ينبغي، وأقوالهم في المراد (بالبرهان) فنقول:
قال صاحب الدر المنثور في التفسير بالمأثور: أخرج عبد الرازق، والفريابي، وسعيد بن منصور وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، عن ابن عباس
211

رضي الله عنهما قال: لما همت به تزينت ثم استلقت على فراشها، وهم بها جلس بين رجليها يحل تبانه نودي من السماء (يا ابن يعقوب، لا تكن كطائر ينتف ريشه فيبقى لا ريش له) فلم يتعظ على النداء شيئا، حتى رأى برهان ربه جبريل عليه السلام في صورة يعقوب عاضا على أصبعيه. ففزع فخرجت شهوته من أنامله، فوثب إلى الباب فوجده مغلقا، فرفع يوسف رجله فضرب بها الباب الأدنى فانفرج له، وأتبعته فأدركته، فوضعت يديها في قميصه فشقته حتى بلغت عضلة ساقه، فألفيا سيدها لدى الباب.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، وأبو نعيم في الحلية، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه سئل عن هم يوسف عليه السلام ما بلغ؟ قال: حل الهميان يعني السراويل وجلس منها مجلس الخاتن، فصيح به، يا يوسف لا تكن كالطير له ريش، فإذا زنى قعد ليس له ريشا!
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله: * (ولقد همت به وهم بها) * قال: طمعت فيه وطمع فيها، وكان من الطمع أن هم بحل التكة، فقامت إلى صنم مكلل بالدر واليواقيت في ناحية البيت فسترته بثوب أبيض بينها وبينه، فقال: أي شيء تصنعين؟ فقالت: استحيي من إلهي أن يراني على هذه الصورة. فقال يوسف عليه السلام: تستحيين من صنم لا يأكل ولا يشرب، ولا أستحي أنا من إلهي الذي هو قائم على كل نفس بما كسبتا ثم قال: لا تنالينها مني أبدا وهو البرهان الذي رأى.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: * (وهم بها) * قال: حل سراويله حتى بلغ ثنته، وجلس منها مجلس الرجل من امرأته، فمثل له يعقوب عليه السلام فضرب بيده على صدره فخرجت شهوته من أنامله.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: * (لولا أن رأى برهان ربه) * قال: رأى صورة أبيه يعقوب في وسط البيت عاضا على إبهامه، فأدبر هاربا وقال: وحقك يا أبت لا أعود أبدا.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عكرمة، وسعيد بن جبير في قوله: * (لولا أن رأى برهان ربه) * قالا: حل السراويل وجلس منها مجلس الخاتن، فرأى صورة فيها وجه يعقوب عاضا على أصابعه، فدفع صدره فخرجت الشهوة من أنامله، فكل ولد يعقوب قد ولد له اثنا عشر ولدا إلا يوسف عليه السلام، فإنه نقص بتلك الشهوة ولدا فلم يولد له غير أحد عشر ولدا.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: * (لولا أن رأى برهان ربه) * قال: تمثل له يعقوب عليه السلام فضرب في صدر يوسف فطارت شهوته من أطراف أنامله، فولد لكل ولد يعقوب اثنا عشر ذكرا، غير يوسف لم يولد له إلا غلامان.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن الحسن رضي الله عنه، في قوله: * (لولا أن رأى برهان ربه) * قال: رأى يعقوب عاضا على أصابعه يقول: يوسفا يوسفا.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه، في الآية قال: رأى آية من آيات ربه حجزه الله بها عن معصيته. ذكر لنا أنه مثل له يعقوب عاضا على أصبعيه، وهو يقول له: يا يوسفا أتهم بعمل السفهاء، وأنت مكتوب في الأنبياءا فذلك البرهان. فانتزع الله كل شهوة كانت في مفاصله.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن محمد بن سيرين رضي الله عنه، في قوله: * (لولا أن رأى برهان ربه) *. قال: مثل له يعقوب عليه السلام عاضا على أصبعيه يقول: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن، اسمك مكتوب في الأنبياء، وتعمل عمل السفهاء.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد رضي الله عنه، قال: رأى صورة يعقوب عليه السلام في الجدار.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن الحسن رضي الله عنه، قال: زعموا أن سقف البيت انفرج، فرأى يعقوب عاضا على أصبعيه.
212

وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، عن الحسن رضي الله عنه، في قوله: * (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه) *. قال: إنه لما هم قيل له ارفع رأسك يا يوسف، فرفع رأسه فإذا هو بصورة في سقف البيت تقول: يا يوسفا يا يوسفا أنت مكتوب في الأنبياء: فعصمه الله عز وجل.
وأخرج أبو عبيد، وابن جرير، وابن المنذر عن أبي صالح رضي الله عنه، قال: رأى صورة يعقوب في سقف البيت تقول: يوسفا يوسفا.
وأخرج ابن جرير من طريق الزهري: أن حميد بن عبد الرحمن أخبره أن البرهان الذي رأى يوسف عليه السلام هو يعقوب.
وأخرج ابن جرير، عن القاسم بن أبي بزة، نودي: يا ابن يعقوبا لا تكونن كالطير له ريش، فإذا زنى قعد ليس له ريشا فلم يعرض للنداء وقعد، فرفع رأسه، فرأى وجه يعقوب عاضا على أصبعه. فقام مرعوبا استحياء من أبيه.
وأخرج ابن جرير، عن علي بن بذيمة قال: كان يولد لكل رجل منهم اثنا عشر إلا يوسف عليه السلام ولد له أحد عشر من أجل ما خرج من شهوته.
وأخرج ابن جرير، عن شمر بن عطية قال: نظر يوسف إلى صورة يعقوب عاضا على أصبعه يقول: يا يوسفا فذاك حين كف وقام.
وأخرج ابن جرير، عن الضحاك رضي الله عنه، قال: يزعمون أنه مثل له يعقوب عليه السلام فاستحيا منه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الأوزاعي قال: كان ابن عباس رضي الله عنهما، يقول في قوله: * (لولا أن رأى برهان ربه) * قال: رأى آية من كتاب الله فنهته، مثلت له في جدار الحائط.
وأخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم، عن محمد بن كعب القرظي رضي الله عنه، قال: البرهان الذي رأى يوسف عليه السلام ثلاث آيات من كتاب الله: * (وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون) *، وقول الله تعالى: * (وما تكون فى شأن وما تتلوا منه من قرءان ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه) *، وقول الله تعالى: * (أفمن هو قآئم على كل نفس بما كسبت) *.
213

وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن محمد بن كعب قال: رأى في البيت في ناحية الحائط مكتوبا * (ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وسآء سبيلا) *. وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ، عن وهب بن منبه رضي الله عنه، قال: لما خلا يوسف وامرأة العزيز خرجت كف بلا جسد بينهما، مكتوب عليها بالعبرانية * (أفمن هو قآئم على كل نفس بما كسبت) *، ثم انصرفت الكف، وقاما مقامهما، ثم رجعت الكف مكتوبا عليها بالعبرانية * (وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون) *، ثم انصرفت الكف، وقاما مقامهما، فعادت الكف الثالثة مكتوبا عليها * (ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وسآء سبيلا) * وانصرفت الكف، وقاما مقامهما، فعادت الكف الرابعة مكتوبا عليها بالعبرانية * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) * فولى يوسف عليه السلام هاربا.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: * (لولا أن رأى برهان ربه) * قال: آيات ربه، أرى تمثال الملك.
وأخرج أبو الشيخ، وأبو نعيم في الحلية، عن جعفر بن محمد رضي الله عنه، قال: لما دخل يوسف معها البيت وفي البيت صنم من ذهب قالت: كما أنت، حتى أغطى الصنم. فإني أستحي منه. فقال يوسف: هذه تستحي من الصنما أنا أحق أن أستحيي من الله؟ فكف عنها وتركها. اه من الدر المنثور في التفسير بالمأثور.
قال مقيده عفا الله عنه:
هذه الأقوال التي رأيت نسبتها إلى هؤلاء العلماء منقسمة إلى قسمين:
قسم لم يثبت نقله عمن نقله عنه بسند صحيح، وهذا لا إشكال في سقوطه.
وقسم ثبت عن بعض من ذكر، ومن ثبت عنه منهم شيء من ذلك، فالظاهر الغالب على الظن، المزاحم للقين: أنه إنما تلقاه عن الإسرائيليات. لأنه لا مجال للرأي فيه، ولم يرفع منه قليل ولا كثير إليه صلى الله عليه وسلم.
وبهذا تعلم أنه لا ينبغي التجرؤ على القول في نبي الله يوسف بأنه جلس بين رجلي كافرة أجنبية، يريد أن يزني بها. اعتمادا على مثل هذه الروايات. مع أن في
الروايات
214

المذكورة ما تلوح عليه لوائح الكذب. كقصة الكف التي خرجت له أربع مرات، وفي ثلاث منهن لا يبالي بها، لأن ذلك على فرض صحته فيه أكبر زاجر لعوام الفساق. فما ظنك بخيار الأنبياءا مع أنا قدمنا دلالة القرآن على براءته من جهات متعددة، وأوضحنا أن الحقيقة لا تتعدى أحد أمرين:
إما أن يكون لم يقع منه هم بها أصلا، بناء على تعليق همه على عدم رؤية البرهان، وقد رأى البرهان.
وإما أن يكون همه الميل الطبيعي المزموم بالتقوى، والعلم عند الله تعالى.
واختلف العلماء في المراد بالسوء والفحشاء، اللذين ذكر الله في هذه الآية أنه صرفهما عن نبيه يوسف.
فروى ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر رضي الله عنه، في قوله: * (لنصرف عنه السوء والفحشآء إنه) * قال: الزنى. والثناء القبيح اه.
وقال بعض العلماء: السوء مقدمات الفاحشة، كالقبلة، والفاحشة الزنى.
وقيل: السوء جناية اليد، والفاحشة الزنى. وأظهر الأقوال في تقدير متعلق الكاف في قوله: * (كذالك لنصرف) *، أي فعلنا له ذلك من إراءة البرهان، كذلك الفعل * (لنصرف) * واللام لام كي.
وقوله: * (المخلصين) * قرأه نافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي، بفتح اللام بصيغة اسم المفعول. وقرأه ابن عامر، وابن كثير، وأبو عمرو، بكسر اللام بصيغة اسم الفاعل والعلم عند الله تعالى اه. قوله تعالى: * (وشهد شاهد من أهلهآ إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم) *. يفهم من هذه الآية لزوم الحكم بالقرينة الواضحة الدالة على صدق أحد الخصمين، وكذب الآخر. لأن ذكر الله لهذه القصة في معرض تسليم الاستدلال بتلك القرينة على براءة يوسف يدل على أن الحكم بمثل ذلك حق وصواب. لأن كون القميص مشقوقا من جهة دبره دليل واضح على أنه هارب عنها، وهي تنوشه من خلفه، ولكنه تعالى بين في موضع آخر أن محل العمل بالقرينة ما لم تعارضها
215

قرينة أقوى منها، فإن عارضتها قرينة أقوى منها أبطلتها، وذلك في قوله تعالى: * (وجآءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل) *. لأن أولاد يعقوب لما جعلوا يوسف في غيابة الجب، جعلوا على قميصه دم سخلة. ليكون وجود الدم على قميصه قرينة على صدقهم في دعواهم أنه أكله الذئب.
ولا شك أن الدم قرينة على افتراس الذئب له، ولكن يعقوب أبطل قرينتهم هذه بقرينة أقوى منها، وهي عدم شق القميص، فقال: سبحان الله متى كان الذئب حليما كيسا يقتل يوسف ولا يشق قميصه. ولذا صرح بتكذيبه لهم في قوله: * (بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) *.
وهذه الآيات المذكورة أصل في الحكم بالقرائن.
ومن أمثلة الحكم بالقرينة: الرجل يتزوج المرأة من غير أن يراها سابقا. فتزفها إليه ولائد لا يثبت بشهادتهن أن هذه هي فلانة التي وقع عليها العقد. فيجوز له جماعها من غير احتياج إلى بينة تشهد على عينها أنها هي التي وقع العقد عليها. اعتمادا على قرينة النكاح.
وكالرجل ينزل ضيفا عند قوم، فتأتيه الوليدة أو الغلام بالطعام. فيجوز له الأكل من غير احتياج إلى ما يثبت إذن مالك الطعام له في الأكل، اعتمادا على القرينة.
وكقول مالك، ومن وافقه: إن من شم في فيه ريح الخمر يحد حد الشارب، اعتمادا على القرينة، لأن وجود ريحها في فيه قرينة على أنه شربها، وكمسائل اللوث وغير ذلك.
وقد قدمنا في سورة المائدة صحة الاحتجاج بمثل هذه القرائن، وأوضحنا بالأدلة القرآنية. أن التحقيق أن شرع من قبلنا الثابت بشرعنا شرع لنا، إلا بدليل على النسخ غاية الإيضاح والعلم عند الله تعالى.
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: * (وجآءوا على قميصه بدم كذب) *.
استدل الفقهاء بهذه الآية في إعمال الأمارات في مسائل من الفقه، كالقسامة وغيرها.
وأجمعوا على أن يعقوب عليه السلام استدل على كذبهم بصحة القميص.
وهكذا يجب على الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت، فما ترجح منها قضى بجانب الترجيح، وهي قوة التهمة، ولا خلاف في الحكم بها، قاله ابن العربي. اه كلام القرطبي.
216

واختلف العلماء في الشاهد في قوله: * (وشهد شاهد من أهلها) *.
فقال بعض العلماء: هو صبي في المهد، وممن قال ذلك ابن عباس، والضحاك، وسعيد بن جبير.
وعن ابن عباس أيضا أنه رجل ذو لحية، ونحوه عن الحسين.
وعن زيد بن أسلم أنه ابن عم لها كان حكيما، ونحوه عن قتادة وعكرمة.
وعن مجاهد أنه ليس بإنسي ولا جان، هو خلق من خلق الله.
قال مقيده عفا الله عنه:
قول مجاهد هذا يرده قوله تعالى: * (من أهلها) *، لأنه صريح في أنه إنسي من أهل المرأة. وأظهر الأقوال: أنه صبي، لما رواه أحمد، وابن جرير، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تكلم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى ابن مريم) اه. قوله تعالى: * (إن كيدكن عظيم) *. هذه الآية الكريمة إذا ضمت، لها آية أخرى حصل بذلك بيان أن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان، والآية المذكورة هي قوله: * (إن كيد الشيطان كان ضعيفا) * لأن قوله في النساء * (إن كيدكن عظيم) *، وقوله في الشيطان * (إن كيد الشيطان كان ضعيفا) * يدل على أن كيدهن أعظم من كيده.
قال القرطبي: قال مقاتل عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان. لأن الله تعالى يقول: * (إن كيد الشيطان كان ضعيفا) *. وقال: * (إن كيدكن عظيم) * ا ه.
وقال الأديب الحسن بن أيه الحسني الشنقيطي: وقال الأديب الحسن بن أيه الحسني الشنقيطي:
* ما استعظم الإله كيدهنه
* إلا لأنهن هن هنه
* وقلن حاش لله ما هاذا بشرا إن هاذآ إلا ملك كريم قالت فذالكن الذى لمتننى فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم) *. بين الله تعالى في هذه الآية الكريمة ثناء هؤلاء النسوة على يوسف بهذه الصفات الحميدة فيما بينهن، ثم بين اعترافهن بذلك عند سؤال الملك لهن أمام الناس في قوله: * (قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأت العزيز اأن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه) *.
217

* (ذلك من أنبآء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون * ومآ أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين * وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين * وكأين من ءاية فى السماوات والا رض يمرون عليها وهم عنها معرضون * وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون * أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون * قل هاذه سبيلى أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى وسبحان الله ومآ أنا من المشركين * ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا فى الا رض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الا خرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون * حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جآءهم نصرنا فنجى من نشآء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين * لقد كان فى قصصهم عبرة لاولى الألباب ما كان حديثا يفترى ولاكن تصديق الذى بين يديه وتفصيل كل شىء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) * قوله تعالى: * (وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون) *. لم يبين هنا هذا الذي أجمعوا أمرهم عليه، ولم يبين هنا أيضا المراد بمكرهم. ولكنه بين في أول هذه السورة الكريمة أن الذي أجمعوا أمرهم عليه هو جعله في غيابة الجب، وأن مكرهم هو ما فعلوه بأبيهم يعقوب وأخيهم يوسف. وذلك في قوله: * (فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه فى غيابة الجب) * إلى قوله * (والله المستعان على ما تصفون) *.
وقد أشار تعالى في هذه الآية الكريمة إلى صحة نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم. لأنه أنزل عليه هذا القرآن، وفصل له هذه القصة. مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن حاضرا لدى أولاد يعقوب حين أجمعوا أمرهم على المكر به، وجعله في غيابة الجب. فلولا أن الله أوحى إليه ذلك ما عرفه من تلقاء نفسه.
والآيات المشيرة لإثبات رسالته، بدليل إخباره بالقصص الماضية التي لا يمكنه على حقائقها إلا عن طريق الوحي كثيرة. كقوله: * (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) *.
وقوله: * (وما كنت بجانب الغربى إذ قضينآ إلى موسى الا مر) *.
وقوله: * (ولكنآ أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا فى أهل مدين تتلو عليهم ءاياتنا ولكنا كنا مرسلين) *.
وقوله: * (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولاكن رحمة من ربك) *.
وقوله: * (ما كان لى من علم بالملإ الا على إذ يختصمون إن يوحى إلى إلا أنمآ أنا نذير مبين) *.
وقوله: * (تلك من أنبآء الغيب نوحيهآ إليك ما كنت تعلمهآ أنت ولا قومك من قبل هاذا) *. إلى غير ذلك من الآيات.
فهذه الآيات من أوضح الأدلة على أنه صلى الله عليه وسلم، رسول كريم، وإن كانت المعجزات الباهرة الدالة على ذلك أكثر من الحصر. قوله تعالى: * (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) *. قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعامر الشعبي، وأكثر المفسرين: إن معنى هذه الآية أن أكثر الناس، وهم الكفار ما كانوا يؤمنون بالله بتوحيدهم له في ربوبيته إلا وهم مشركون به غيره في عبادته.
فالمراد بإيمانهم اعترافهم بأنه ربهم الذي هو خالقهم ومدبر شؤونهم، والمراد بشركهم عبادتهم غيره معه، والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة جدا، كقوله: * (قل من يرزقكم من السمآء والا رض أمن يملك السمع والا بصار ومن يخرج الحى من الميت
218

ويخرج الميت من الحى ومن يدبر الا مر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون) *، وكقوله: * (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون) *، وقوله: * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والا رض ليقولن خلقهن العزيز العليم) *، وقوله: * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والا رض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون) *، وقوله: * (ولئن سألتهم من نزل من السمآء مآء فأحيا به الا رض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون) *، وقوله: * (قل لمن الا رض ومن فيهآ إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شىء
وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون) * إلى غير ذلك من الآيات.
ومع هذا فإنهم قالوا: * (أجعل الا لهة إلاها واحدا إن هاذا لشىء عجاب * وانطلق الملأ منهم أن) *.
وهذه الآيات القرآنية تدل على أن توحيد الربوبية لا ينقذ من الكفر إلا إذا كان معه توحيد العبادة، أي عبادة الله وحده لا شريك له، ويدل لذلك قوله تعالى: * (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) *.
وفي هذه الآية الكريمة إشكال: وهو أن المقرر في علم البلاغة أن الحال قيد لعاملها وصف لصاحبها وعليه. فإن عامل هذه الجملة الحالية الذي هو يؤمن مقيد بها، فيصير المعنى تقييد إيمانهم بكونهم مشركين، وهو مشكل لما بين الإيمان والشرك من المنافاة.
قال مقيده عفا الله عنه:
لم أر من شفي الغليل في هذا الإشكال، والذي يظهر لي والله تعالى أعلم أن هذا الإيمان المقيد بحال الشرك إنما هو إيمان لغوي لا شرعي. لأن من يعبد مع الله غيره لا يصدق عليه اسم الإيمان البتة شرعا. أما الإيمان اللغوي فهو يشمل كل تصديق، فتصديق الكافر بأن الله هو الخالق الرازق يصدق عليه اسم الإيمان لغة مع كفره بالله، ولا يصدق عليه اسم الإيمان شرعا.
وإذا حققت ذلك علمت أن الإيمان اللغوي يجامع الشرك فلا إشكال في تقييده به، وكذلك الإسلام الموجود دون الإيمان في قوله تعالى: * (قل لم تؤمنوا ولاكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان فى قلوبكم) * فهو الإسلام اللغوي. لأن الإسلام الشرعي لا يوجد ممن لم يدخل الإيمان في قلبه، والعلم عند الله تعالى.
219

وقال بعض العلماء: (نزلت آية * (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) * في قول الكفار في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك) وهو راجع إلى ما ذكرنا. قوله تعالى: * (لقد كان فى قصصهم عبرة لاولى الألباب) *. ذكر الله جل وعلا في هذه الآية أن في أخبار المرسلين مع أممهم، وكيف نجى الله المؤمنين وأهلك الكافرين عبرة لأولي الألباب، أي عظة لأهل العقول.
وبين هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله في قوم لوط: * (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وباليل أفلا تعقلون) *، كما تقدمت الإشارة إليه مرارا، والعلم عند الله تعالى.
220

((سورة الرعد))
* (المر تلك آيات الكتاب والذى أنزل إليك من ربك الحق ولاكن أكثر الناس لا يؤمنون * الله الذى رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجرى لأجل مسمى يدبر الا مر يفصل الآيات لعلكم بلقآء ربكم توقنون * وهو الذى مد الا رض وجعل فيها رواسى وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشى اليل النهار إن فى ذالك لآيات لقوم يتفكرون * وفى الا رض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بمآء واحد ونفضل بعضها على بعض فى الا كل إن فى ذالك لآيات لقوم يعقلون * وإن تعجب فعجب قولهم أءذا كنا ترابا أءنا لفى خلق جديد أولائك الذين كفروا بربهم وأولئك الا غلال فى أعناقهم وأولائك أصحاب النار هم فيها خالدون * ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب * ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنمآ أنت منذر ولكل قوم هاد * الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الا رحام وما تزداد وكل شىء عنده بمقدار * عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال) * قوله تعالى: * (الله الذى رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش) *. ظاهر هذه الآية الكريمة قد يفهم منه أن السماء مرفوعة على عمد، ولكننا لا نراها، ونظير هذه الآية قوله أيضا في أول سورة (لقمان): * (خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى فى الا رض رواسى أن تميد بكم) *.
واختلف العلماء في قوله: * (ترونها) * على قولين: أحدهما أن لها عمدا ولكننا لا نراها، كما يشير إليه ظاهر الآية، وممن روى عنه هذا القول ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وغير واحد، كما قاله ابن كثير.
وروي عن قتادة أيضا أن المعنى أنها مرفوعة بلا عمد أصلا، وهو قول إياس بن معاوية، وهذا القول يدل عليه تصريحه تعالى في سورة (الحج) أنه هو الذي يمسكها أن تقع على الأرض في قوله: * (ويمسك السمآء أن تقع على الا رض إلا بإذنه) *.
قال ابن كثير: فعلى هذا يكون قوله: * (ترونها) * تأكيدا لنفي ذلك، أي هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها كذلك، وهذا هو الأكمل في القدرة اه.
قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر أن هذا القول من قبيل السالبة لا تقتضي وجود الموضوع، والمراد أن المقصود نفى اتصاف المحكوم عليه بالمحكوم به، وذلك صادق بصورتين:
الأولى: أن يكون المحكوم عليه موجودا، ولكن المحكوم به منتف عنه، كقولك ليس الإنسان بحجر، فالإنسان موجود والحجرية منتفية عنه.
الثانية: أن يكون المحكوم عليه غير موجود فيعلم منه انتفاء الحكم عليه بذلك الأمر الموجودي، وهذا النوع من أساليب اللغة العربية، كما أوضحناه في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)، ومثاله في اللغة قول امرئ القيس: الثانية: أن يكون المحكوم عليه غير موجود فيعلم منه انتفاء الحكم عليه بذلك الأمر الموجودي، وهذا النوع من أساليب اللغة العربية، كما أوضحناه في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)، ومثاله في اللغة قول امرئ القيس:
* على لا حب لا يهتدى بمناره
* إذا سافه العود النباطي جرجوا
*
221

أي لا منار له أصلا حتى يهتدي به، وقوله: أي لا منار له أصلا حتى يهتدي به، وقوله:
* لا تفزع الأرنب أهوالها
* ولا ترى الضب بها ينجحر
*
يعني لا أرانب فيها ولا ضباب.
وعلى هذا فقوله * (بغير عمد ترونها) * أي لا عمد لها حتى تروها، والعمد: جمع عمود على غير قياس، ومنه قول نابغة ذبيان: بغير عمد ترونها) * أي لا عمد لها حتى تروها، والعمد: جمع عمود على غير قياس، ومنه قول نابغة ذبيان:
* وخيس الجن إني قد أذنت لهم
* يبنون تدمر بالصفاح والعمد
*
والصفاح بالضم والتشديد: الحجر العريض. قوله تعالى: * (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات) *. المراد بالسيئة هنا: العقوبة وإنزال العذاب قبل الحسنة، أي قبل العافية، وقيل الإيمان، وقد بين تعالى في هذه الآية أن الكفار يطلبون منه صلى الله عليه وسلم أن يعجل لهم العذاب الذي يخوفهم به إن تمادوا على الكفر، وقد بين هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله: * (ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده) *، وكقوله: * (ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجآءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون) *، وكقوله: * (يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) *، وقوله: * (سأل سآئل بعذاب واقع للكافرين) *، وقوله: * (وإذ قالوا اللهم إن كان هاذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السمآء) *.
وقوله: * (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين ءامنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق) *، وقوله: * (وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب) * إلى غير ذلك من الآيات.
وسبب طلبهم لتعجيل العذاب هو العناد، وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كاذب فيما يخوفهم به من بأس الله وعقابه، كما قال تعالى: * (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه) *، وكقوله: * (فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا ياصاح ائتنا بما تعدنآ إن كنت من المرسلين) *، وقوله: * (قالوا يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنآ إن كنت من الصادقين) *، كما تقدمت الإشارة إلى هذا.
والمثلاث: العقوبات واحدتها مثلة.
222

والمعنى: أنهم يطلبون تعجيل العذاب تمردا وطغيانا، ولم يتعظوا بما أوقع الله بالأمم السالفة من المثلاث أي العقوبات كما فعل بقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، وفرعون وقومه وغيرهم. قوله تعالى: * (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه ذو مغفرة للناس على ظلمهم، وأنه شديد العقاب. فجمع بين الوعد والوعيد ليعظم رجاء الناس في فضله، ويشتد خوفهم من عقابه وعذابه الشديد. لأن مطامع العقلاء محصورة في جلب النفع ودفع الضر، فاجتماع الخوف والطمع أدعى للطاعة وقد بين هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله تعالى: * (فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين) *، وقوله: * (إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم) *، وقوله جلا وعلا: * (نبىء عبادى أنى أنا الغفور الرحيم وأن عذابى هو العذاب الا ليم) *، وقوله: * (غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذى الطول) *. إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (إنمآ أنت منذر) *. أي إنما عليك البلاغ والإنذار، أما هداهم وتوفيقهم فهو بيد الله تعالى، كما أن حسابهم عليه جل وعلا.
وقد بين هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله: * (ليس عليك هداهم ولاكن الله يهدى من يشآء) *، وقوله: * (فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب) * ونحو ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (ولكل قوم هاد) *. أظهر الأقوال في هذه الآية الكريمة أن المراد بالقوم الأمة، والمراد بالهادي الرسول، كما يدل له قوله تعالى: * (ولكل أمة رسول) *. وقوله: * (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) *، وقوله: * (ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا) *. وقد أوضحنا أقوال العلماء وأدلتها في هذه الآية الكريمة في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب، عن آيات الكتاب). قوله تعالى: * (الله يعلم ما تحمل كل أنثى) *. لفظة ما في هذه الآية يحتمل أن تكون موصولة والعائد محذوف، أي يعلم الذي تحمله كل أنثى وعلى هذا فالمعنى: يعلم ما تحمله من الولد على أي حال هو من ذكورة وأنوثة، وخداج، وحسن، وقبح
223

، وطول وقصر، وسعادة وشقاوة إلى غير ذلك من الأحوال.
وقد دلت على هذا المعنى آيات من كتاب الله، كقوله: * (ويعلم ما فى الا رحام) *. لأن ما فيه موصولة بلا نزاع، وكقوله: * (هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الا رض وإذ أنتم أجنة فى بطون أمهاتكم) *، وقوله: * (هو الذي يصوركم في الا رحام كيف يشآء) *.
ويحتمل أيضا: أن تكون لفظة ما في الآية الكريمة مصدرية، أي يعلم حمل كل أنثى بالمعنى المصدري، وقد جاءت آيات تدل أيضا على هذا المعنى، كقوله: * (وما
تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا فى كتاب) *، وقوله: * (إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه) *.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية قد يكون لها وجهان كلاهما حق، وكلاهما يشهد له قرآن، فنذكر الجميع.
وأما احتمال كون لفظة ما في هذه الآية استفهامية، فهو بعيد فيما يظهر لي، وإن قال به بعض أهل العلم، وقد دلت السنة الصحيحة على أن علم ما في الأرحام المنصوص عليه في الآيات المذكورة مما استأثر الله به دون خلقه، وذلك هو ما ثبت في صحيح البخاري من أن المراد بمفاتح الغيب في قوله تعالى: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمهآ إلا هو) * الخمس المذكورة في قوله تعالى: * (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما فى الا رحام وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأى أرض تموت) *، والاحتمالان المذكوران في لفظة ما من قوله: * (يعلم ما تحمل) * الآية، جاريان أيضا في قوله: * (وما تغيض الا رحام وما تزداد) *، فعلى كونها موصولة فيهما، فالمعنى يعلم الذي تنقصه وتزيده، وعلى كونها مصدرية، فالمعنى يعلم نقصها وزيادتها. واختلف العلماء في المراد بقوله: * (وما تغيض الا رحام وما تزداد) * وهذه أقوالهم في الآية بواسطة نقل (صاحب الدر المنثور في التفسير بالمأثور): أخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله * (وما تغيض الا رحام وما تزداد) * قال: (هي المرأة ترى الدم في حملها).
224

وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله * (وما تغيض الا رحام) * قال: (خروج الدم) * (وما تزداد) * قال: (استمساكه).
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله * (وما تغيض الا رحام) * قال: (أن ترى الدم في حملها) * (وما تزداد) * قال: (في التسعة الأشهر).
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: * (وما تغيض الا رحام وما تزداد) * قال: (ما تزداد على التسعة وما تنقص من التسعة).
وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: * (وما تغيض الا رحام) * قال: (ما دون تسعة أشهر * (وما تزداد) * فوق التسعة).
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: * (وما تغيض الا رحام) * يعني (السقط) * (وما تزداد) * يقول: (ما زادت في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تماما وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر ومنهن من تحمل تسعة أشهر ومنهن من تزيد في الحمل ومنهن من تنقص فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله تعالى وكل ذلك بعلمه وتعالى).
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك رضي الله عنه قال: (ما دون التسعة أشهر فهو غيض وما فوقها فهو زيادة).
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة رضي الله عنه قال: (ما غاض الرحم بالدم يوما إلا زاد في الحمل يوما حتى تكمل تسعة أشهر طاهرا).
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن رضي الله عنه في قوله: * (وما تغيض الا رحام) * قال: (السقط) وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه في الآية قال: (إذا رأت الدم هش الولد وإذا لم تر الدم عظم الولد) اه (من الدر المنثور في التفسير بالمأثور).
225

وقيل الغيض والزيادة يرجعان إلى الولد كنقصان إصبع وغيرها وزيادة إصبع وغيرها.
وقيل الغيض: انقطاع دم الحيض وما تزداد بدم النفاس بعد الوضع.
ذكر هذين القولين القرطبي:
وقيل تغيض تشتمل على واحد وتزداد تشتمل على توأمين فأكثر.
قال مقيده عفا الله عنه: مرجع هذه الأقوال كلها إلى شيء واحد وهو أنه تعالى عالم بما تنقصه الأرحام وما تزيده لأن معنى تغيض تنقص وتزداد أي تأخذه زائدا فيشمل النقص المذكور نقص العدد ونقص العضو من الجنين ونقص جسمه إذا حاضت عليه فتقلص ونقص مدة الحمل بأن تسقطه قبل أمد حمله المعتاد، كما أن الازياد يشمل زيادة العضو وزيادة العدد وزيادة جسم الجنين إن لم تحض وهي حامل وزيادة أمد الحمل عن القدر المعتاد، والله جل وعلا يعلم ذلك كله والآية تشمله كله.
تنبيه
أخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة أن أقل أمد الحمل وأكثره وأقل أمد الحيض وأكثر مأخوذ من طريق الاجتهاد لأن الله استأثر بعلم ذلك لقوله: * (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الا رحام) *.
ولا يجوز أن يحكم في شيء من ذلك إلا بقدر ما أظهره الله لنا ووجد ظاهرا في النساء نادرا أو معتادا وسنذكر إن شاء الله أقوال العلماء في أقل الحمل وأكثره، وأقل الحيض، وأكثره، ونرجح ما يظهر رجحانه بالدليل.
فنقول وبالله تعالى نستعين.
اعلم أن العلماء أجمعوا على أن أقل أمد الحمل ستة أشهر وسيأتي بيان أن القرآن دل على ذلك لأن قوله تعالى: * (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) * إن ضممت إليه
قوله تعالى * (وفصاله فى عامين) * بقي عن مدة الفصال من الثلاثين شهرا لمدة الحمل ستة أشهر فدل ذلك على أنها أمد للحمل يولد فيه الجنين كاملا كما يأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى.
وقد ولد عبد الملك بن مروان لستة أشهر وهذه الأشهر الستة بالأهلة كسائر أشهر الشريعة لقوله تعالى * (يسألونك عن الأهلة قل هى مواقيت للناس) *.
قال القرطبي: (ولذلك قد روي في المذهب عن بعض أصحاب مالك وأظنه في كتاب
226

ابن حارث أنه إن نقص عن الأشهر الستة ثلاثة أيام فإن الولد يلحق لعلة نقص الأشهر وزيادتها حكاه ابن عطية اه).
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر والله تعالى أعلم أن الشهر المعدود من أوله يعتبر على حاله من كمال أو نقصان وأن المنكسر يتمم ثلاثين، أما أكثر أمد الحمل فلم يرد في تحديده شيء من كتاب ولا سنة والعلماء مختلفون فيه وكلهم يقول بحسب ما ظهر له من أحوال النساء.
فذهب الإمام أحمد والشافعي: إلى أن أقصى أمد الحمل أربع سنين وهو إحدى الروايتين المشهورتين عن مالك والرواية المشهورة الأخرى عن مالك خمس سنين وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن أقصاه سنتان وهو رواية عن أحمد وهو مذهب الثوري وبه قالت عائشة رضي الله عنها وعن الليث ثلاث سنين وعن الزهري ست وسبع وعن محمد بن الحكم سنة لا أكثر وعن داود تسعة أشهر.
وقال ابن عبد البر هذه مسألة لا أصل لها إلا الاجتهاد والرد إلى ما عرف من أمر النساء وقال القرطبي (روى الدارقطني عن الوليد بن مسلم قال قلت لمالك بن أنس إني حدثت عن عائشة أنها قالت لا تزيد المرأة في حملها على سنتين قدر ظل المغزل فقال: سبحان الله من يقول هذا هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان تحمل وتضع في أربع سنين وكانت تسمى حاملة الفيل).
وروي أيضا بينما مالك بن دينار يوما جالس إذ جاءه رجل فقال: (يا أبا يحيى ادع لامرأتي حبلى منذ أربع سنين قد أصبحت في كرب شديد) فغضب مالك وأطبق المصحف ثم قال: (ما يرى هؤلاء القوم إلا أنا أنبياء) ثم قرأ ثم دعا ثم قال: (اللهم هذه المرأة إن كان في بطنها ريح فأخرجه عنها وإن كان في بطنها جارية فأبدلها غلاما فإنك تمحو وتثبت وعندك أم الكتاب) ورفع مالك يده ورفع الناس أيديهم وجاء الرسول إلى الرجل فقال أدرك امرأتك فذهب الرجل فما حط مالك يده حتى طلع الرجل من باب المسجد على رقبته غلام جعد قطط ابن أربع سنين قد استوت أسنانه ما قطعت سراره.
وروي أيضا أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال يا أمير المؤمنين: (إني غبت عن امرأتي سنتين فجئت وهي حبلى) فشاور عمر الناس في رجمها فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (يا أمير المؤمنين إن كان لك عليها سبيل فليس لك
227

على ما في بطنها سبيل فاتركها حتى تضع) فتركها فوضعت غلاما قد خرجت ثنيتاه فعرف الرجل الشبه فقال: (أبني ورب الكعبة) فقال عمر: (عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ، لولا معاذ لهلك عمر).
وقال الضحاك: (وضعتني أمي وقد حملت بي في بطنها سنتين، فولدتني وقد خرجت سني).
ويذكر عن مالك أنه حمل به في بطن أمه سنتان وقيل ثلاث سنين، ويقال إن محمد بن عجلان مكث في بطن أمه ثلاث سنين فماتت به وهو يضطرب اضطرابا شديدا فشق بطنها وأخرج وقد نبتت أسنانه، وقال حماد بن سلمة إنما سمي هرم بن حيان هرما لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين.
وذكر الغزنوي أن الضحاك ولد لسنتين وقد طلعت سنه فسمي ضحاكا.
وعن عباد بن العوام قال: (ولدت جارة لنا لأربع سنين غلاما شعره إلى منكبيه فمر به طير فقال له كش) اه كلام القرطبي.
قال مقيده عفا الله عنه: أظهر الأقوال دليلا أنه لا حد لأكثر أمد الحمل وهو الرواية الثالثة عن مالك كما نقله عنه القرطبي لأن كل تحديد بزمن معين لا أصل له ولا دليل عليه وتحديد زمن بلا مستند صحيح لا يخفى سقوطه والعلم عند الله تعالى.
وأما أقل الحيض وأكثره فقد اختلف فيه العلماء أيضا فذهب مالك إلى أن أقل الحيض بالنسبة إلى العبادة كالصوم ووجوب الغسل لا حد له بل لو نزلت من المرأة قطرة دم واحدة لكانت حيضة بالنسبة إلى العبادة، أما بالنسبة إلى الاستبراء والعدة فقيل كذلك أيضا، والمشهور أنه يرجع في قدر ذلك للنساء العارفات بالقدر الذي يدل على براءة الرحم من الحيض قال خليل بن إسحاق في مختصره الذي قال فيه مبينا لما به الفتوى ورجع في قدر الحيض هنا هل هو يوم أو بعضه إلى قوله للنساء أي رجع في ذلك كله النساء اه.
والظاهر أنه عند مالك من قبيل تحقيق المناط والنساء أدرى بالمناط في ذلك.
أما أكثر الحيض عند مالك فهو بالنسبة إلى الحيضة الأولى التي لم تحض قبلها نصف شهر، ثم إن تمادى عليها الدم بعد نصف الشهر فهي مستحاضة وأما المرأة التي اعتادت الحيض فأكثر مدة حيضها عنده هو زيادة ثلاثة أيام استظهارا على أكثر أزمنة عادتها إن تفاوت زمن حيضها فإن حاضت مرة ستا ومرة خمسا ومرة سبعا استظهرت بالثلاثة على
228

السبعة لأنها أكثر عادتها ومحل هذا إذا لم يزد ذلك على نصف الشهر فإن زاد على نصف الشهر فهي طاهر عند مضي نصف الشهر وكل هذا في غير الحامل وسيأتي الكلام في هذا المبحث إن شاء الله على الدم الذي تراه الحامل.
هذا حاصل مذهب مالك في أقل الحيض وأكثره وأما أكثر الطهر فلا حد له ولا خلاف في ذلك بين العلماء وأقل الطهر في مذهب مالك لم يصرح به مالك بل قال يسأل
النساء عن عدد أيام الطهر.
وقال الشيخ أبو محمد في رسالته إنه نحو ثمانية أيام أو عشرة أيام. وقال ابن سراج: (ينبغي أن تكون الفتوى بذلك) لأن الشيخ أبا محمد استقرأ ذلك من (المدونة) وهو قول سحنون وقال ابن مسلمة (أقل الطهر في مذهب مالك خمسة عشر يوما) واعتمده صاحب (التلقين) وجعله ابن شاس المشهور وعليه درج خليل بن إسحاق في مختصره حيث قال وأكثره لمبتدئه نصف شهر كأقل الطهر.
وذهب الإمام الشافعي والإمام أحمد رحمهما الله في المشهور الصحيح عنهما أن أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما وهو قول عطاء وأبي ثور وأقل الطهر عند الشافعي باتفاق أصحابه خمسة عشر يوما ونقل الماوردي عن أكثر أهل العلم أن أقل الطهر خمسة عشر يوما وقال الثوري أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوما.
قال أبو ثور وذلك مما لا يختلفون فيه فيما نعلم.
وذهب الإمام أحمد إلى أن أقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوما. روى عنه ذلك الأثرم وأبو طالب. وقد قدمنا مرارا أن أكثر الطهر لا حد له إجماعا. قال النووي في شرح المهذب: ودليل الإجماع الاستقراء: لأن ذلك موجود مشاهد، ومن أظرفه ما نقله القاضي أبو الطيب في تعليقه قال: (أخبرتني امرأة عن أختها أنها تحيض في كل سنة يوما وليلة وهي صحيحة تحبل وتلد ونفاسها أربعون يوما).
وذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى أن أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثر عشرة. وعن أبي يوسف: أقله يومان وأكثر الثالث. وأقل الطهر عند أبي حنيفة وأصحابه: خمسة عشر يوما ولا حد لأكثره عنده، كما قدمنا حكاية الإجماع عليه مرارا، ويستثنى من ذلك مراعاة المعتادة المستحاضة لزمن طهرها وحيضها.
وعن يحيى بن أكثم: أقل الطهر تسعة عشر يوما. وحكى الماوردي عن مالك ثلاث
229

روايات في أكثر الحيض. إحداها: خمسة عشر، والثانية: سبعة عشر، والثالثة: غير محدودة.
وعن مكحول: أكثر الحيض سبعة أيام، وعن عبد الملك بن الماجشون: أقل الطهر خمسة أيام. ويحكى عن نساء الماجشون: أنهن كن يحضن سبع عشرة. قال أحمد: (وأكثر ما سمعنا سبع عشرة).
هذا حاصل أقوال العلماء في أقل الحيض وأكثره، وهذه أدلتهم. أما أبو حنيفة ومن وافقه، فاحتجوا لمذهبهم أن أقل الحيض ثلاثة وأكثره عشرة بحديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام).
وبما روي عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يكون الحيض أكثر من عشرة أيام ولا أقل من ثلاثة أيام) وبما روي ع * * * ن أنس رضي الله عنه قال: (الحيض ثلاث، أربع، خمس، ست، سبع، ثمان، تسع، عشر) قالوا: وأنس لا يقول هذا إلا توقيفا. قالوا: ولأن هذا تقدير، والتقدير لا يصح إلا بتوقيف أو اتفاق، وإنما حصل الاتفاق على ثلاثة، ورد الجمهور الاستدلال بالأحاديث المذكورة بأنها ضعيفة لا تثبت بمثلها حجة.
قال النووي في شرح المهذب ما نصه: (وأما حديث واثلة وأبي أمامة وأنس، فكلها ضعيفة متفق على ضعفها عند المحدثين. وقد أوضح ضعفها الدارقطني ثم البيهقي في كتاب الخلافيات ثم السنن الكبير) اه.
وقال ابن قدامة في المغني: حديث واثلة يرويه محمد بن أحمد الشامي وهو ضعيف عن حماد بن المنهال وهو مجهول. وحديث أنس يرويه الجلد بن أيوب وهو ضعيف. قال ابن عيينة هو حديث لا أصل له. وقال أحمد في حديث أنس: ليس هو شيئا هذا من قبل الجلد بن أيوب قيل إن محمد بن إسحاق رواه. قال ما أراه سمعه إلا من الحسن بن دينار وضعفه جدا. وقال يزيد بن زريع ذاك أبو حنيفة لم يحتج إلا بالجلد بن أيوب وحديث الجلد قد روي عن علي رضي الله عنه ما يعارضه، فإنه قال ما زاد على خمسة عشر استحاضة وأقل الحيض يوم وليلة. وقال البيهقي في السنن الكبرى فهذا حديث يعرف بالجلد بن أيوب، وقد أنكر عليه ذلك. وقال البيهقي أيضا قال ابن علية الجلد أعرابي لا يعرف الحديث. وقال أيضا قال الشافعي نحن وأنت لا نثبت مثل حديث
230

الجلد، ونستدل على غلط من هو أحفظ منه بأقل من هذا.
وقال أيضا قال سليمان بن حرب كان حماد يعني ابن زيد يضعف الجلد ويقول لم يكن يعقل الحديث. وروى البيهقي أيضا بإسناده عن حماد بن زيد قال ذهبت أنا وجرير بن حازم إلى الجلد بن أيوب فحدثنا بحديث معاوية بن قرة عن أنس في الحائض، فذهبنا نوقفه، فإذا هو لا يفصل بين الحائض والمستحاضة. وروي أيضا بإسناده عن أحمد بن سعيد الدارمي قال سألت أبا عاصم عن الجلد بن أيوب فضعفه جدا وقال كان شيخا من مشايخ العرب تساهل أصحابنا في الرواية عنه.
وروى البيهقي أيضا عن عبد الله بن المبارك أن أهل البصرة كانوا ينكرون حديث الجلد بن أيوب ويقولون شيخ من شيوخ العرب ليس بصاحب حديث. قال ابن المبارك وأهل مصره أعلم به من غيرهم. قال يعقوب وسمعت سليمان بن حرب وصدقة بن الفضل وإسحاق بن إبراهيم، وبلغني عن أحمد بن حنبل أنهم كانوا يضعفون الجلد بن أيوب ولا يرونه في موضع الحجة. وروي بإسناده أيضا عن ابن عيينة أنه كان يقول ما جلد ومن جلد ومن كان جلد.
وروي بإسناده أيضا عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال سمعت أبي ذكر الجلد بن أيوب فقال: ليس يسوي حديثه شيئا ضعيف الحديث اه. وإنما أطلنا الكلام في تضعيف هذا الأثر. لأنه أقوى ما جاء في الباب على ضعفه كما ترى. وقد قال البيهقي في السنن الكبرى (روي في أقل الحيض وأكثره أحاديث ضعاف قد بينت ضعفها في الخلافيات).
وأما حجة من قال إن أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر، كالشافعي وأحمد ومن وافقهما، فهي أنه لم يثبت في ذلك تحديد من الشرع فوجب الرجوع إلى المشاهد
في الوجود. والمشاهد أن الحيض لا يقل عن يوم وليلة ولا يزيد على نصف شهر. قالوا وثبت مستفيضا عن السلف من التابعين فمن بعدهم وجود ذلك عيانا، ورواه البيهقي وغيره عن عطاء والحسن وعبيد الله بن عمر ويحيى بن سعيد وربيعة وشريك والحسن بن صالح وعبد الرحمن بن مهدي رحمهم الله تعالى.
قال النووي (فإن قيل روى إسحاق بن راهويه عن بعضهم أن امرأة من نساء الماجشون حاضت عشرين يوما وعن ميمون بن مهران أن بنت سعيد بن جبير كانت تحته وكانت تحيض من السنة شهرين، فجوابه بما أجاب به المصنف في كتابه النكت أن هذين النقلين ضعيفان.
231

فالأول عن بعضهم وهو مجهول، وقد أنكره بعضهم، وقد أنكره الإمام مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة. والثاني رواه الوليد بن مسلم عن رجل عن ميمون، والرجل مجهول. والله أعلم) اه.
وأما حجة مالك في أكثر الحيض للمبتدئة، فكحجة الشافعي وأحمد وحجته في أكثره للمعتادة ما رواه الإمام مالك وأحمد والشافعي وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن أم سلمة رضي الله عنها أنها استفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة تهراق الدم فقال (لتنظر قدر الليالي والأيام التي كانت تحيضهن وقدرهن من الشهر فتدع الصلاة ثم لتغسل ولتستشفر ثم تصلي) اه.
وهذا الحديث نص في الرجوع إلى عادة الحائض.
قال ابن حجر في التلخيص (في هذا الحديث قال النووي إسناده على شرطهما) وقال البيهقي (هو حديث مشهور، إلا أن سليمان بن يسار لم يسمعه من أم سلمة) وفي رواية لأبي داود عن سليمان أن رجلا أخبره عن أم سلمة، وقال المنذري لم يسمعه سليمان منها. وقد رواه موسى بن عقبة عن نافع عن سليمان عن مرجانة عنها، وساقه الدارقطني من طريق صخر بن جويرة عن نافع عن سليمان أنه حدثه رجل عنها. اه.
وللحديث شواهد متعددة تقوي رجوع النساء إلى عادتهن في الحيض كحديث حمنة بنت جحش، وحديث عائشة في قصة فاطمة بنت أبي حبيش، وأما زيادة ثلاثة أيام، فهي لأجل الاستظهار والتحري في انقضاء الحيضة ولا أعلم لها مستندا من نصوص الوحي الثابتة، وأما حجة مالك في أقل الحيض بالنسبة إلى العبادات فهي التمسك بظاهر إطلاق النصوص ولم يرد نص صحيح في التحديد.
وأما أقله بالنسبة إلى العدة والاستبراء فحجته فيه أنه من قبيل تحقيق المناط لأن الحيض دليل عادي على براءة الرحم فلا بد فيما طلبت فيه بالحيض الدلالة على براءة الرحم من حيض يدل على ذلك بحسب العادة المطردة، ولذا جعل الرجوع في ذلك إلى النساء العارفات بذلك لأن تحقيق المناط يرجع فيه لمن هو أعرف به وإن كان لاحظ له من علوم الوحي، وحجة يحيى بن أكثم في قوله (إن أقل الطهر تسعة عشر) هي أنه يرى أن أكثر الحيض عشرة أيام وأن الشهر يشتمل على طهر وحيض، فعشرة منه للحيض والباقي
232

طهر. وقد يكون الشهر تسعا وعشرين فالباقي بعد عشرة الحيض تسعة عشر. هذا هو حاصل أدلتهم وليس على شيء منها دليل من كتاب ولا سنة يجب الرجوع إليه. وأقرب المذاهب في ذلك هو أكثرها موافقة للمشاهد ككون الحيض لا يقل عن يوم وليلة ولا يكثر عن نصف شهر، وكون أقل الطهر نصف شهر والله تعالى أعلم.
مسألة
اختلف العلماء في الدم الذي تراه الحامل هل هو حيض أو دم فساد فذهب مالك والشافعي في أصح قوليه إلى أنه حيض وبه قال قتادة والليث وروي عن الزهري وإسحاق وهو الصحيح عن عائشة. وذهب الإمام أبو حنيفة والإمام أحمد إلى أنه دم فساد وعلة، وأن الحامل لا تحيض وبه قال جمهور التابعين منهم سعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن، وجابر بن زيد وعكرمة ومحمد بن المنكدر، والشعبي ومكحول، وحماد والثوري والأوزاعي وابن المنذر وأبو عبيد وأبو ثور، واحتج من قال إن الدم الذي تراه الحامل حيض بأنه دم بصفات الحيض في زمن إمكانه، وبأنه متردد بين كونه فسادا لعلة أو حيضا، والأصل السلامة من العلة، فيجب استصحاب الأصل.
واحتج من قال بأنه دم فساد بأدلة منها: ما جاء في بعض روايات حديث ابن عمر في طلاقه امرأته في الحيض أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: (مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا). وهذه الرواية أخرجها أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة. قالوا: قد جعل صلى الله عليه وسلم الحمل علامة على عدم الحيض، كما جعل الطهر علامة لذلك.
ومنها: حديث (لا توطأ حامل حتى تصنع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة) رواه أحمد وأبو داود والحاكم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه وصححه الحاكم وله شواهد، قالوا: فجعل صلى الله عليه وسلم الحيض علامة على براءة الرحم فدل ذلك على أنه لا يجتمع مع الحمل.
ومنها أنه دم في زمن لا يعتاد فيه الحيض غالبا فكان غير حيض قياسا على ما تراه اليائسة بجامع غلبة عدم الحيض في كل منهما.
وقد قال الإمام أحمد رحمه الله (إنما يعرف النساء الحمل بانقطاع الدم). ومنها: أنه لو كان دم حيض ما انتفت عنه لوازم الحيض. فلما انتفت عنه دل ذلك على أنه غير حيض، لأن انتفاء اللازم يوجب انتفاء الملزوم، فمن لازم الحيض حرمة
233

الطلاق، ودم الحامل لا يمنع طلاقها، للحديث المذكور آنفا الدال على إباحة طلاق الحامل والطاهر، ومن لازم الحيض أيضا انقضاء العدة به ودم الحامل لا أثر له في انقضاء عدتها لأنها تعتد بوضع حملها لقوله تعالى: * (وأولات الا حمال أجلهن أن يضعن حملهن) * وفي هذه الأدلة مناقشات ذكر بعضها النووي في شرح المهذب.
واعلم أن مذهب مالك التفصيل في أكثر حيض الحامل فإن رأته في شهرها الثالث إلى انتهاء الخامس تركت الصلاة نصف شهر ونحوه وفسروا نحوه بزيادة خمسة أيام فتجلس عشرين يوما، فإن حاضت في شهرها السادس فما بعده تركت الصلاة عشرين يوما ونحوها، وفسروا نحوها بزيادة خمسة أيام فتجلس خمسا وعشرين. وفسره
بعضهم بزيادة عشرة، فتجلس شهرا، فإن حاضت الحامل قبل الدخول في الشهر الثالث. فقيل حكمه حكم الحيض في الثالث وقد تقدم.
وقيل حكمه حكم حيض غير الحامل، فتجلس قدر عادتها وثلاثة أيام استظهارا.
وإلى هذه المسألة أشار خليل بن إسحاق المالكي في مختصره بقوله: ولحامل بعد ثلاثة أشهر النصف ونحوه، وفي ستة فأكثر عشرون يوما ونحوه وهل ما قبل الثلاثة كما بعدها أو كالمعتادة: قولان.
هذا هو حاصل كلام العلماء في أقل الحيض وأكثره وأقل الطهر وأكثره وأدلتهم في ذلك ومسائل الحيض كثيرة، وقد بسط العلماء الكلام عليها في كتب الفروع.
مسألة
اختلف العلماء في أقل النفاس وأكثره أيضا فذهب مالك والشافعي إلى أن أكثره ستون يوما، وبه قال عطاء والأوزاعي والشعبي وعبيد الله بن الحسن العنبري والحجاج بن أرطاة وأبو ثور وداود، وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال أدركت الناس يقولون أكثر النفاس ستون يوما، وذهب الإمام أبو حنيفة وأحمد إلى أن أكثره أربعون يوما وعليه أكثر العلماء. قال أبو عيسى الترمذي أجمع أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوما إلا أن ترى الطهر قبل ذلك، فتغتسل وتصلي اه.
قال الخطابي وقال أبو عبيد وعلى هذا جماعة الناس وحكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب وابن عباس وأنس وعثمان بن أبي العاص وعائذ بن عمرو وأم سلمة وابن
234

المبارك وإسحاق وأبي عبيد اه.
وحكى الترمذي وابن المنذر وابن جرير وغيرهم عن الحسن البصري أنه خمسون. وروي عن الليث أنه قال: قال بعض الناس: إنه سبعون يوما. وذكر ابن المنذر عن الأوزاعي عن أهل دمشق: أن أكثر النفاس من الغلام ثلاثون يوما، ومن الجارية أربعون. وعن الضحاك: أكثره أربعة عشر يوما. قاله النووي. وأما أقل النفاس فهو عند مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة في أصح الروايات عنه لا حد له وهو قول جمهور العلماء. وعن أبي حنيفة: أقله أحد عشر يوما. وعنه أيضا. خمسة وعشرون. وحكى الماوردي عن الثوري أقله ثلاثة أيام. وقال المزني: أقله أربعة أيام، وأما أدلة العلماء في أكثر النفاس وأقله، فإن حجة كل من حدد أكثره بغير الأربعين هي الاعتماد على المشاهد في الخارج، وأكثر ما شاهدوه في الخارج ستون يوما، وكذلك حججهم في أقله فهي أيضا الاعتماد على المشاهد في الخارج، وقد يشاهد الولد يخرج ولا دم معه، ولذا كان جمهور العلماء على أن أقله لا حد له، وأما حجة من حدده بأربعين، فهي ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والدارقطني والحاكم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (كانت النفساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تجلس أربعين يوما) الحديث. روي هذا الحديث من طريق علي بن عبد الأعلى عن أبي سهل واسمه كثير بن زياد عن مسة الأزدية عن أم سلمة وعلي بن عبد الأعلى ثقة، وأبو سهل وثقه البخاري وضعفه ابن حبان. وقال ابن حجر: لم يصب في تضعيفه. وقال في التقريب في أبي سهل المذكور ثقة. وقال في التقريب في مسة المذكورة مقبولة. وقال النووي في شرح المهذب في حديث أم سلمة هذا حديث حسن رواه أبو داود والترمذي وغيرهما.
قال الخطابي: أثنى البخاري على هذا الحديث ويعتضد هذا الحديث بأحاديث بمعناه من رواية أبي الدرداء وأنس ومعاذ وعثمان بن أبي العاص وأبي هريرة رضي الله عنهم. وقال النووي أيضا بعد هذا الكلام: (واعتمد أكثر أصحابنا جوبا آخر وهو تضعيف الحديث. وهذا الجواب مردود، بل الحديث جيد كما سبق).
وأجاب القائلون بأن أكثر النفاس ستون عن هذا الحديث الدال على أنه أربعون بأجوبة أوجهها عندي أن الحديث إنما يدل على أنها تجلس أربعين ولا دلالة فيه على أن الدم إن تمادى بها لم تجلس أكثر من الأربعين فمن الممكن أن تكون النساء المذكورة في الحديث لم يتماد الحيض بها إلا أربعين فنص الحديث على أنها تجلس الأربعين ول
235

ا ينافي أن الدم لو تمادى عليها أكثر من الأربعين لجلست أكثر من الأربعين ويؤيده أن الأوزاعي رحمه الله قال: (عندنا امرأة ترى النفاس شهرين) وذلك مشاهد كثيرا في النساء. والعلم عند الله تعالى. * (سوآء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف باليل وسارب بالنهار * له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذآ أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال * هو الذى يريكم البرق خوفا وطمعا وينشىء السحاب الثقال * ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشآء وهم يجادلون فى الله وهو شديد المحال * له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشىء إلا كباسط كفيه إلى المآء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعآء الكافرين إلا فى ضلال) * قوله تعالى: * (سوآء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف باليل وسارب بالنهار) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أن السر والجهر عنده سواء، وأن الاختفاء والظهور عنده أيضا سواء: لأنه يسمع السر كما يسمع الجهر، ويعلم الخفي كما يعلم الظاهر، وقد أوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله: * (وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) * وقوله: * (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) * وقوله: * (ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور) * وقوله: * (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه) * إلى غير ذلك من الآيات.
وأظهر القولين في المستخفي بالليل والسارب بالنهار: أن المستخفي هو المختفي المستتر عن الأعين، والسارب هو الظاهر البارز الذاهب حيث يشاء. ومنه قول الأخنس بن شهاب التغلبي: وأظهر القولين في المستخفي بالليل والسارب بالنهار: أن المستخفي هو المختفي المستتر عن الأعين، والسارب هو الظاهر البارز الذاهب حيث يشاء. ومنه قول الأخنس بن شهاب التغلبي:
* وكل أناس قاربوا قيد فحلهم
* ونحن خلعنا قيده فهو سارب
*
أي ذاهب حيث يشاء ظاهر غير خاف.
وقول قيس بن الخطيم: وقول قيس بن الخطيم:
* أني سربت وكنت غير سروب
* وتقرب الأحلام غير قريب
*
وقيل السارب: الداخل في السرب ليتوارى فيه، والمستخفي الظاهر من خفاه يخفيه: إذا أظهره. ومنه قول امرئ القيس: وقيل السارب: الداخل في السرب ليتوارى فيه، والمستخفي الظاهر من خفاه يخفيه: إذا أظهره. ومنه قول امرئ القيس:
* خفاهن من أنفاقهن كأنما
* خفاهن ودق من عشى مجلب
* إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذآ أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه لا يغير ما بقوم من النعمة والعافية حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعة الله جل وعلا.
والمعنى: أنه لا يسلب قوما نعمة أنعمها عليهم حتى يغيروا ما كانوا عليه من الطاعة والعمل الصالح، وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: * (ذالك بأن الله لم يك
236

مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) *. وقوله: * (ومآ أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير) *.
وقد بين في هذه الآية أيضا: أنه إذا أراد قوما بسوء فلا مرد له، وبين ذلك أيضا في مواضع أخر كقوله: * (ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين) * ونحوها من الآيات. وقوله في هذه الآية الكريمة: * (حتى يغيروا ما بأنفسهم) * يصدق بأن يكون التغيير من بعضهم كما وقع يوم أحد بتغيير الرماة ما بأنفسهم فعم البلية الجميع، وقد سئل صلى الله عليه وسلم: (أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث) والله تعالى أعلم. قوله تعالى: * (هو الذى يريكم البرق خوفا وطمعا) *. ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي يرى خلقه البرق خوفا وطمعا. قال قتادة: خوفا للمسافر يخاف أذاه ومشقته، وطمعا للمقيم يرجو بركته ومنفعته ويطمع في رزق الله. وعن الحسن: الخوف لأهل البحر، والطمع لأهل البر. وعن الضحاك: الخوف من الصواعق والطمع في الغيث.
وبين في موضع آخر: أن إراءته خلقه البرق خوفا وطمعا من آياته جل وعلا، الدالة على أنه المستحق لأن يعبد وحده لا شريك له. وذلك في قوله: * (ومن ءاياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السمآء مآء) *. * (ولله يسجد من فى السماوات والا رض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والا صال * قل من رب السماوات والا رض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أوليآء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوى الا عمى والبصير أم هل تستوى الظلمات والنور أم جعلوا لله شركآء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شىء وهو الواحد القهار * أنزل من السمآء مآء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه فى النار ابتغآء حلية أو متاع زبد مثله كذالك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفآء وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الا رض كذالك يضرب الله الا مثال * للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما فى الا رض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولائك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد * أفمن يعلم أنمآ أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب * الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق * والذين يصلون مآ أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب * والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلواة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولائك لهم عقبى الدار * جنات عدن يدخلونها ومن صلح من ءابائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار * والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون مآ أمر الله به أن يوصل ويفسدون فى الا رض أولائك لهم اللعنة ولهم سوء الدار * الله يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر وفرحوا بالحيواة الدنيا وما الحيواة الدنيا فى الا خرة إلا متاع * ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه ءاية من ربه قل إن الله يضل من يشآء ويهدى إليه من أناب * الذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب * الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مأاب * كذلك أرسلناك فى أمة قد خلت من قبلهآ أمم لتتلو عليهم الذى أوحينآ إليك وهم يكفرون بالرحمان قل هو ربى لا إلاه إلا هو عليه توكلت وإليه متاب) * قوله تعالى: * (ولله يسجد من فى السماوات والا رض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والا صال) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه يسجد له أهل السماوات والأرض طوعا وكرها وتسجد له ظلالهم بالغدو والآصال. وذكر أيضا سجود الظلال، وسجود أهل السماوات والأرض في قوله * (أو لم يروا إلى ما خلق الله من شىء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمآئل سجدا لله وهم ولله يسجد ما فى السماوات وما فى الا رض من دآبة والملائكة وهم لا يستكبرون) * إلى قوله * (يؤمرون) * واختلف العلماء في المراد بسجود الظل وسجود غير المؤمنين فقال بعض العلماء سجود من في السماوات والأرض من العام المخصوص فالمؤمنون والملائكة يسجدون لله سجودا حقيقيا وهو وضع الجبهة على الأرض يفعلون ذلك طوعا والكفار يسجدون كرها أعني المنافقين لأنهم كفار في الباطن ولا يسجدون لله إلا كرها كما قال تعالى: * (وإذا قاموا إلى الصلواة قاموا كسالى يرآءون الناس) * وقال تعالى: * (وما
237

منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلواة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون) * والدليل على أن سجود أهل السماوات
والأرض من العام المخصوص، قوله تعالى في سورة الحج: * (ألم تر أن الله يسجد له من فى السماوات ومن فى الا رض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب) *. فقوله: * (وكثير من الناس) * دليل على أن بعض الناس غير داخل في السجود المذكور وهذا قول الحسن وقتادة وغيرهما وذكره الفراء وقيل الآية عامة والمراد بسجود المسلمين طوعا انقيادهم لما يريد الله منهم طوعا والمراد بسجود الكافرين كرها انقيادهم لما يريد الله منهم كرها لأن إرادته نافذة فيهم وهم منقادون خاضعون لصنعه فيهم ونفوذ مشيئته فيهم وأصل السجود في لغة العرب الذل والخضوع ومنه قول زيد الخيل: وكثير من الناس) * دليل على أن بعض الناس غير داخل في السجود المذكور وهذا قول الحسن وقتادة وغيرهما وذكره الفراء وقيل الآية عامة والمراد بسجود المسلمين طوعا انقيادهم لما يريد الله منهم طوعا والمراد بسجود الكافرين كرها انقيادهم لما يريد الله منهم كرها لأن إرادته نافذة فيهم وهم منقادون خاضعون لصنعه فيهم ونفوذ مشيئته فيهم وأصل السجود في لغة العرب الذل والخضوع ومنه قول زيد الخيل:
* بجمع تضل البلق في حجراته
* ترى الأكم فيها سجدا للحوافر
*
ومنه قول العرب أسجد إذا طأطأ رأسه وانحنى قال حميد بن ثور: ومنه قول العرب أسجد إذا طأطأ رأسه وانحنى قال حميد بن ثور:
* فلما لوين على معصم
* وكف خضيب وأسوارها
*
* فضول أزمتها أسجدت
* سجود النصارى لأحبارها
*
وعلى هذا القول فالسجود لغوي لا شرعي، وهذا الخلاف المذكور جار أيضا في سجود الضلال فقيل سجودها حقيقي والله تعالى قادر على أن يخلق لها إدراكا تدرك به وتسجد لله سجودا حقيقيا وقيل سجودها ميلها بقدرة الله أول النهار إلى جهة المغرب وآخره إلى جهة المشرق وادعى من قال هذا أن الظل لا حقيقة له لأنه خيال فلا يمكن منه الإدراك.
ونحن نقول: إن الله جل وعلا قادر على كل شيء فهو قادر على أن يخلق للظل إدراكا يسجد به لله تعالى سجودا حقيقيا والقاعدة المقررة عند علماء الأصول هي حمل نصوص الوحي على ظواهرها إلا بدليل من كتاب أو سنة ولا يخفى أن حاصل القولين:
أن أحدهما: أن السجود شرعي وعليه فهو في أهل السماوات والأرض من العام المخصوص:
والثاني: أن السجود لغوي بمعنى الانقياد والذل والخضوع وعليه فهو باق على عمومه والمقرر في الأصول عند المالكية والحنابلة وجماعة من الشافعية أن النص إن دار
238

بين الحقيقة الشرعية والحقيقة اللغوية حمل على الشرعية وهو التحقيق خلافا لأبي حنيفة في تقديم اللغوية ولمن قال يصير اللفظ مجملا لاحتمال هذا وذاك وعقد هذه المسألة صاحب مراقي السعود بقوله:
* واللفظ محمول على الشرعي
* إن لم يكن فمطلق العرفي
*
* فاللغوي على الجلي ولم يجب
* بحث عن المجاز في الذي انتخب
*
وقيل المراد بسجود الكفار كرها سجود ظلالهم كرها وقيل الآية في المؤمنين فبعضهم يسجد طوعا لخفة امتثال أوامر الشرع عليه وبعضهم يسجد كرها لثقل مشقة التكليف عليه مع أن إيمانه يحمله على تكلف ذلك والعلم عند الله تعالى:
وقوله تعالى: * (بالغدو) * يحتمل أن يكون مصدرا أو يحتمل أن يكون جمع غداة والآصال جمع أصل بضمتين وهو جمع أصيل وهو ما بين العصر والغروب ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي: وقوله تعالى: * (بالغدو) * يحتمل أن يكون مصدرا أو يحتمل أن يكون جمع غداة والآصال جمع أصل بضمتين وهو جمع أصيل وهو ما بين العصر والغروب ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي:
* لعمري لأنت البيت أكرم أهله
* وأقعد في أفيائه بالأصائل
* أم جعلوا لله شركآء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شىء وهو الواحد القهار) *. أشار تعالى: في هذه الآية الكريمة إلى أنه هو المستحق لأن يعبد وحده لأنه هو الخالق ولا يستحق من الخلق أن يعبدوه إلا من خلقهم وأبرزهم من العدم إلى الوجود لأن المقصود من قوله * (أم جعلوا لله شركآء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم) * إنكار ذلك وأنه هو الخالق وحده بدليل قوله بعده * (قل الله خالق كل شىء) * أي وخالق كل شيء هو المستحق لأن يعبد وحده ويبين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله: * (ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم) * وقوله * (واتخذوا من دونه ءالهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون) * وقوله * (أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون) * وقوله * (هاذا خلق الله فأرونى ماذا خلق الذين من دونه) * إلى غير ذلك من الآيات لأن المخلوق محتاج إلى خالقه فهو عبد مربوب مثلك يجب عليه أن يعبد من خلقه وحده كما يجب عليك ذلك فأنتما سواء بالنسبة إلى وجوب عبادة الخالق وحده لا شريك له: قوله تعالى: * (ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه ءاية من ربه) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار اقترحوا عليه صلى الله عليه وسلم الإتيان بآية ينزلها عليه ربه وبين هذ المعنى في
239

مواضع متعددة كقوله * (فليأتنا بأاية كمآ أرسل الا ولون) * إلى غير ذلك من الآيات وبين تعالى في موضع آخر أن في القرآن العظيم كفاية عن جميع الآيات في قوله: * (أولم يكفهم أنآ أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) * وبين في موضع آخر حكمة عدم إنزال آية كناقة صالح ونحوها بقوله * (وما منعنآ أن نرسل بالا يات إلا أن كذب بها الا ولون وءاتينا ثمود الناقة) * كما تقدمت الإشارة إليه. * (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الا رض أو كلم به الموتى بل لله الا مر جميعا أفلم يايأس الذين ءامنوا أن لو يشآء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتى وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد * ولقد استهزىء برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب * أفمن هو قآئم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركآء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم فى الا رض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد * لهم عذاب فى الحيواة الدنيا ولعذاب الا خرة أشق وما لهم من الله من واق * مثل الجنة التى وعد المتقون تجرى من تحتها الأنهار أكلها دآئم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار * والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بمآ أنزل إليك ومن الا حزاب من ينكر بعضه قل إنمآ أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب * وكذالك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جآءك من العلم ما لك من الله من ولى ولا واق * ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتى بأاية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب * يمحو الله ما يشآء ويثبت وعنده أم الكتاب * وإن ما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب * أولم يروا أنا نأتى الا رض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب * وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار * ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) * قوله تعالى: * (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الا رض أو كلم به الموتى) *.
جواب لو في هذه الآية محذوف قال بعض العلماء تقديره لكان هذا القرآن وقال بعضهم تقديره لكفرتم بالرحمن ويدل لهذا الأخير قوله قبله. * (وهم يكفرون بالرحمان) * وقد قومنا شواهد حذف جواب لو في سورة البقرة وقد قدمنا في سورة يوسف أن الغالب في اللغة العربية أن يكون الجواب المحذوف من جنس المذكور قبل الشرط ليكون ما قبل الشرط دليلا على الجواب المحذوف. قوله تعالى: * (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية) *. بين في هذه الآية الكريمة أن الرسل قبله صلى الله عليه وسلم من جنس البشر يتزوجون ويلدون وليسوا ملائكة وذلك أن الكفار استغربوا بعث آدمي من البشر كما قال تعالى: * (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا) * فأخبر أنه يرسل البشر الذين يتزوجون ويأكلون كقوله * (ومآ أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون فى الا سواق) * وقوله * (وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام) * إلى غير ذلك من الآيات كما تقدمت الإشارة إليه. قوله تعالى: * (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) *. الظاهر أن قوله ومن عنده علم الكتاب عطف على لفظ الجلالة وأن المراد به أهل العلم بالتوراة والإنجيل ويدل له قوله تعالى * (شهد الله أنه لا إلاه إلا هو والملائكة وأولوا العلم) * وقوله * (فإن كنت في شك ممآ أنزلنآ إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) * وقوله * (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) * إلى غير ذلك من الآيات.
240

((سورة إبراهيم))
* (الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد * الله الذى له ما فى السماوات وما فى الا رض وويل للكافرين من عذاب شديد * الذين يستحبون الحيواة الدنيا على الا خرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولائك فى ضلال بعيد * ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشآء ويهدى من يشآء وهو العزيز الحكيم * ولقد أرسلنا موسى بأاياتنآ أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن فى ذالك لآيات لكل صبار شكور * وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبنآءكم ويستحيون نسآءكم وفى ذالكم بلاء من ربكم عظيم * وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابى لشديد * وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن فى الا رض جميعا فإن الله لغنى حميد * ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جآءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم فى أفواههم وقالوا إنا كفرنا بمآ أرسلتم به وإنا لفى شك مما تدعوننآ إليه مريب * قالت رسلهم أفى الله شك فاطر السماوات والا رض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد ءابآؤنا فأتونا بسلطان مبين * قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولاكن الله يمن على من يشآء من عباده وما كان لنآ أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون * وما لنآ ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على مآ آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون * وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنآ أو لتعودن فى ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين * ولنسكننكم الا رض من بعدهم ذالك لمن خاف مقامى وخاف وعيد * واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد * من ورآئه
جهنم ويسقى من مآء صديد * يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورآئه عذاب غليظ * مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شىء ذالك هو الضلال البعيد * ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذالك على الله بعزيز * وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شىء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سوآء علينآ أجزعنآ أم صبرنا ما لنا من محيص) * قوله تعالى: * (الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب العظيم ليخرج به الناس من ظلمات الكفر والضلال إلى نور الإيمان والهدى وأوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله * (هو الذى ينزل على عبده ءايات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور) * وقوله * (الله ولي الذين ءامنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) * إلى غير ذلك من الآيات كما تقدمت الإشارة إليه وقد بين تعالى هنا أنه لا يخرج أحدا من الظلمات إلى النور إلا بإذنه جل وعلا في قوله: * (بإذن ربهم) * وأوضح ذلك في آيات أخر كقوله: * (ومآ أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) * وقوله: * (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشآء) *. بين الله تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لم يرسل رسولا إلا بلغة قومه لأنه لم يرسل رسولا إلا إلى قومه دون غيرهم ولكنه بين في مواضع أخر أن نبينا صلى الله عليه وسلم أرسل جميع الخلائق دون اختصاص بقومه ولا بغيرهم كقوله تعالى: * (قل ياأيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعا) * وقوله: * (تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) * وقوله: * (ومآ أرسلناك إلا كآفة للناس) * إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عموم رسالته لأهل كل لسان فهو صلى الله عليه وسلم يجب عليه إبلاغ أهل كل لسان وقد قدمنا في سورة البقرة قول ابن عباس رضي الله عنهما (إن الله فضل محمدا صلى الله عليه وسلم على الأنبياء وعلى أهل السماء فقالوا بم يا بن عباس فضله على أهل السماء، فقال إن الله تعالى قال: * (ومن يقل منهم إنى إلاه من دونه فذالك نجزيه جهنم كذلك نجزى الظالمين) *، وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: * (إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما) *
241

قالوا: فما فضله على الأنبياء قال: قال الله تعالى: * (ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) * وقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: * (ومآ أرسلناك إلا كآفة للناس) *، فأرسله إلى الجن والإنس)، ذكره أبو محمد الدارمي في مسنده كما تقدم وهو تفسير من ابن عباس للآية بما ذكرنا والعلم عند الله تعالى: قوله تعالى: * (فردوا أيديهم فى أفواههم) *. اختلف العلماء في معنى هذه الآية الكريمة فقال بعض العلماء معناها أن أولئك الكفار جعلوا أيدي أنفسهم في أفواههم ليعضوا عليها غيظا وحنقا لما جاءت به الرسل إذ كان فيه تسفيه أحلامهم وشتم أصنامهم وممن قال بهذا القول عبد الله بن مسعود وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم واختاره ابن جرير واستدل له بقوله تعالى * (وإذا خلوا عضوا عليكم الا نامل من الغيظ) * وهذا المعنى معروف في كلام العرب ومنه قول الشاعر:
* تردون في فيه غش الحسود
* حتى يعض على الأكف
*
يعني أنهم يغيظون الحسود حتى يعض على أصابعه وكفيه: قال القرطبي ومنه قول الآخر أيضا: يعني أنهم يغيظون الحسود حتى يعض على أصابعه وكفيه: قال القرطبي ومنه قول الآخر أيضا:
* قد أفنى أنامله أزمة
* فأضحى يعض على الوظيفا
*
أي أفنى أنامله عضا وقال الراجز: أي أفنى أنامله عضا وقال الراجز:
* لو أن سلمى أبصرت تخددي
* ودقة بعظم ساقي ويدي
*
* وبعد أهلي وجفاء عودي
* عضت من الوجد بأطراف اليد
*
وفي الآية الكريمة أقوال غير هذا منها: أنهم لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم من العجب. ويروى عن ابن عباس، ومنها: أنهم كانوا إذا قال لهم نبيهم أنا رسول الله إليكم أشاروا بأصابعهم إلى أفواههم أن اسكت تكذيبا له وردا لقوله. ويروى هذا عن أبي صالح ومنها: أن معنى الآية أنهم ردوا على الرسل قولهم وكذبوهم بأفواههم فالضمير الأول للرسل والثاني للكفار، وعلى هذا القول ففي بمعنى الباء ويروى هذا القول عن مجاهد وقتادة ومحمد بن كعب قال ابن جرير وتوجيهه أن في هنا بمعنى الباء قال وقد سمع من العرب أدخلك الله بالجنة يعنون في الجنة وقال الشاعر:
242

وفي الآية الكريمة أقوال غير هذا منها: أنهم لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم من العجب. ويروى عن ابن عباس، ومنها: أنهم كانوا إذا قال لهم نبيهم أنا رسول الله إليكم أشاروا بأصابعهم إلى أفواههم أن اسكت تكذيبا له وردا لقوله. ويروى هذا عن أبي صالح ومنها: أن معنى الآية أنهم ردوا على الرسل قولهم وكذبوهم بأفواههم فالضمير الأول للرسل والثاني للكفار، وعلى هذا القول ففي بمعنى الباء ويروى هذا القول عن مجاهد وقتادة ومحمد بن كعب قال ابن جرير وتوجيهه أن في هنا بمعنى الباء قال وقد سمع من العرب أدخلك الله بالجنة يعنون في الجنة وقال الشاعر:
* وأرغب فيها عن لقيط ورهطه
* ولكنني عن سنبس لست أرغب
*
يريد وأرغب بها: قال ابن كثير: ويؤيد هذا القول تفسير ذلك بتمام الكلام وهو قوله تعالى: * (وقالوا إنا كفرنا بمآ أرسلتم به وإنا لفى شك مما تدعوننآ إليه مريب) *.
قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر عندي خلاف ما استظهره ابن كثير رحمه الله تعالى، لأن العطف بالواو يقتضي مغايرة ما بعده لما قبله، فيدل على أن المراد بقوله: * (فردوا أيديهم) * الآية غير التصريح بالتكذيب بالأفواه والعلم عند الله تعالى. وقيل: المعنى أن الكفار جعلوا أيديهم في أفواه الرسل ردا لقولهم وعليه. فالضمير الأول للكفار والثاني للرسل، ويروى هذا عن الحسن وقيل جعل الكفار أيدي الرسل على أفواه الرسل ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم ويروى هذا عن مقاتل وقيل رد الرسل أيدي الكفار في أفواههم وقيل غير ذلك فقد رأيت الأقوال وما يشهد له القرآن منها والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
جمع الفم مكسرا على أفواه يدل على أن أصله فوه فحذفت الفاء والواو وعوضت عنهما الميم. قوله تعالى: * (إنا كفرنا بمآ أرسلتم به وإنا لفى شك مما تدعوننآ إليه مريب) *. صرح تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار صرحوا للرسل بأنهم كافرون بهم وأنهم شاكون فيما جاؤوهم به من الوحي وقد نص تعالى على بعضهم بالتعيين أنهم صرحوا بالكفر به وأنهم شاكون فيما يدعوهم إليه كقول قوم صالح له. * (أتنهانآ أن نعبد ما يعبد ءاباؤنا وإننا لفى شك مما تدعونآ إليه مريب) * وصرحوا بالكفر به في قوله: * (قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن ءامن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بمآ أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي ءامنتم به كافرون) * ونحو ذلك من الآيات وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر عموم في آية ثم يصرح في آية أخرى بدخول بعض أفراد ذلك العموم فيه كما هنا وكما
243

تقدم المثال له بقوله تعالى: * (ذالك ومن يعظم شعائر الله) * مع قوله: * (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله) *. قوله تعالى: * (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنآ أو لتعودن فى ملتنا) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار توعدوا الرسل بالإخراج من أرضهم والنفي من بين أظهرهم إن لم يتركوا ما جاءوا به من الوحي وقد نص في آيات أخر أيضا على بعض ذلك مفصلا كقوله من قوم شعيب * (لنخرجنك ياشعيب والذين ءامنوا معك من قريتنآ أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا فى ملتكم) * وقوله عن قوم لوط * (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا ءال لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) * وقوله عن مشركي قريش * (وإن كادوا ليستفزونك من الا رض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا) * وقوله: * (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الا رض من بعدهم ذالك لمن خاف مقامى وخاف وعيد) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أوحى إلى رسله أن العاقبة والنصر لهم على أعدائهم وأنه يسكنهم الأرض بعد إهلاك أعدائهم وبين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله: * (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون) * وقوله: * (كتب الله لاغلبن أنا ورسلى إن الله قوى عزيز) * وقوله * (إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا فى الحيواة الدنيا) *.
وقوله: * (قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشآء من عباده والعاقبة للمتقين) * وقوله: * (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الا رض ومغاربها التى باركنا فيها) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (وخاب كل جبار عنيد) *. لم يبين هنا كيفية خيبة الجبار العنيد ولكنه أشار إلى معنى خيبته وبعض صفاته القبيحة في قوله في سورة (ق) * (ألقيا فى جهنم كل كفار عنيد مناع للخير معتد مريب الذى جعل مع الله إلاها ءاخر فألقياه فى
244

العذاب الشديد) * والجبار المتجبر في نفسه والعنيد المعاند للحق، قاله ابن كثير. قوله تعالى: * (من ورآئه جهنم) *. وراء هنا بمعنى أمام كما هو ظاهر. ويدل له إطلاق وراء بمعنى إمام في القرآن وفي كلام العرب، فمنه في القرآن قوله تعالى: * (وكان ورآءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا) * أي أمامهم ملك. وكان ابن عباس يقرؤها وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا، ومن إطلاق وراء بمعنى أمام في كلام العرب قول لبيد: وكان ورآءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا) * أي أمامهم ملك. وكان ابن عباس يقرؤها وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا، ومن إطلاق وراء بمعنى أمام في كلام العرب قول لبيد:
* أليس ورائي إن تراخت منيتي
* لزوم العصا تحنى عليها الأصابع
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي
* وقومي تميم والفلاة ورائيا
*
وقوله الآخر: وقوله الآخر:
* ومن ورائك يوم أنت بالغه
* لا حاضر معجز عنه ولا باد
*
فوراء بمعنى أمام في الأبيات. وقال بعض العلماء. ومعنى من ورائه جهنم، أي من بعد هلاكه جهنم، وعليه فوراء في الآية بمعنى بعد، ومن إطلاق وراء بمعنى بعد قول النابغة: فوراء بمعنى أمام في الأبيات. وقال بعض العلماء. ومعنى من ورائه جهنم، أي من بعد هلاكه جهنم، وعليه فوراء في الآية بمعنى بعد، ومن إطلاق وراء بمعنى بعد قول النابغة:
* حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
* وليس وراء الله للمرء مذهب
*
أي ليس بعد الله مذهب، قاله القرطبي. والأول هو الظاهر وهو الحق. قوله تعالى: * (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف) *. ضرب الله تعالى لأعمال الكفار مثلا في هذه الآية الكريمة برماد اشتدت به الرياح في يوم عاصف، أي شديد الريح، فإن تلك الريح الشديدة العاصفة تطير ذلك الرماد ولم تبق له أثرا فكذلك أعمال الكفار كصلات الأرحام وقري الضيف والتنفيس عن المكروب وبر الوالدين ونحو ذلك يبطلها الكفر ويذهبها كما تطير تلك الريح ذلك الرماد وضرب أمثالا أخر في آيات أخر لأعمال الكفار بهذا المعنى كقوله: * (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن مآء حتى إذا جآءه لم يجده شيئا) * وقوله * (مثل ما ينفقون فى هاذه الحيواة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا
245

أنفسهم فأهلكته) * وقوله * (ياأيها الذين ءامنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والا ذى كالذى ينفق ماله رئآء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الا خر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شىء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين) * وقوله: * (وقدمنآ إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هبآء منثورا) * إلى غير ذلك من الآيات.
وبين في موضع آخر أن الحكمة في ضربه للأمثال أن يتفكر الناس فيها فيفهموا الشيء بنظرة وهو قوله: * (وتلك الا مثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) * ونظيره قوله * (ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون) * وبين في موضع آخر أن الأمثال لا يعقلها إلا أهل العلم وهو قوله تعالى: * (وتلك الا مثال نضربها للناس وما يعقلهآ إلا العالمون) * وبين في موضع آخر أن المثل المضروب بجعله الله سبب هداية لقوم فهموه وسبب ضلال لقوم لم يفهموا حكمته وهو قوله: * (فأما الذين ءامنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذآ أراد الله بهاذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين) * وبين في موضع آخر أنه تعالى لا يستحي أن يضرب مثلا ما ولو كان المثل المضروب بعوضة فما فوقها قيل فما هو أصغر منها لأنه يفوقها في الصغر وقيل فما فوقها أي فما هو أكبر منها هو قوله: * (إن الله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها) * ولذلك ضرب المثل بالعنكبوت في قوله * (مثل الذين اتخذوا من دون الله أوليآء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون) * وضربه بالحمار في قوله * (كمثل الحمار يحمل أسفارا) * وضربه. بالكلب في قوله * (ولو شئنا لرفعناه بها ولاكنه أخلد إلى الا رض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) * إلى غير ذلك والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شىء) *. هذه المحاجة التي ذكرها الله هنا عن الكفار بينها في مواضع أخر كقوله: * (وإذ يتحآجون فى النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيهآ إن الله قد حكم بين العباد) * كما تقدم إيضاحه.
246

* (وقال الشيطان لما قضى الا مر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى فلا تلومونى ولوموا أنفسكم مآ أنا بمصرخكم ومآ أنتم بمصرخى إنى كفرت بمآ أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم * وأدخل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام * ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها فى السمآء * تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون * ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الا رض ما لها من قرار * يثبت الله الذين ءامنوا بالقول الثابت فى الحيواة الدنيا وفى الا خرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشآء * ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها وبئس القرار * وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار * قل لعبادى الذين ءامنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتى يوم لا بيع فيه ولا خلال * الله الذى خلق السماوات والا رض وأنزل من السمآء مآء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجرى فى البحر بأمره وسخر لكم الأنهار * وسخر لكم الشمس والقمر دآئبين وسخر لكم اليل والنهار * وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار * وإذ قال إبراهيم رب اجعل هاذا البلد آمنا
واجنبنى وبنى أن نعبد الا صنام * رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعنى فإنه منى ومن عصانى فإنك غفور رحيم * ربنآ إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلواة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون * ربنآ إنك تعلم ما نخفى وما نعلن وما يخفى على الله من شىء فى الا رض ولا فى السمآء * الحمد لله الذى وهب لى على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربى لسميع الدعآء * رب اجعلنى مقيم الصلواة ومن ذريتى ربنا وتقبل دعآء * ربنا اغفر لى ولوالدى وللمؤمنين يوم يقوم الحساب) *) * قوله تعالى: * (وقال الشيطان لما قضى الا مر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم) *. بين في هذه الآية أن الله وعدهم وعد الحق وأن الشيطان وعدهم فأخلفهم ما وعدهم وبين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله في وعد الله * (وعد الله حقا) * وقوله: * (إن الله لا يخلف الميعاد) * وقوله في وعد الشيطان * (يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) * ونحو ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (تحيتهم فيها سلام) *. بين في هذه الآية الكريمة أن تحية أهل الجنة في الجنة سلام وبين في مواضع أخر أن الملائكة تحييهم بذلك وأن بعضهم يحيي بعضا بذلك فقال في تحية الملائكة لهم: * (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم) * وقال: * (وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم) * وقال: * (ويلقون فيها تحية وسلاما) * وقال في تحية بعضهم بعضا: * (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام) * كما تقدم إيضاحه. قوله تعالى: * (قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار) *. هذا تهديد منه تعالى لهم بأن مصيرهم إلى النار وذلك المتاع القليل في الدنيا لا يجدي من مصيره إلى النار وبين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله: * (قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار) * وقوله: * (نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ) * وقوله * (متاع فى الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون) * وقوله: * (لا يغرنك تقلب الذين كفروا فى البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم) * إلى ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (قل لعبادى الذين ءامنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتى يوم لا بيع فيه ولا خلال) *. أمر تعالى في هذه الآية الكريمة بالمبادرة إلى الطاعات كالصلوات والصدقات من قبل إتيان يوم القيامة الذي هو اليوم الذي لا بيع فيه ولا مخالة بين خليلين فينتفع أحدهما بخلة الآخر فلا يمكن أحدا أن تباع له نفسه فيفديها ولا خليل ينفع خليله يومئذ وبين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله: * (ياأيها الذين ءامنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتى يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة) *. وقوله: * (فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا) * وقوله: * (واتقوا يوما لا
247

تجزى نفس عن نفس شيئا) *. ونحو ذلك من الآيات والخلال في هذه الآية قبل: جمع خلة كقلة وقلال والخلة: المصادقة وقيل: هو مصدر خاله على وزن فاعل مخالة وخلالا ومعلوم أن فاعل ينقاس مصدرها على المفاعلة والفعال. وهذا هو الظاهر ومنه قول امرئ القيس: واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا) *. ونحو ذلك من الآيات والخلال في هذه الآية قبل: جمع خلة كقلة وقلال والخلة: المصادقة وقيل: هو مصدر خاله على وزن فاعل مخالة وخلالا ومعلوم أن فاعل ينقاس مصدرها على المفاعلة والفعال. وهذا هو الظاهر ومنه قول امرئ القيس:
* صرفت الهوى عنهن من خشية الردى
* ولست بمقلي الخلال ولا قال
*
أي ليست بمكروه المخالة. قوله تعالى: * (واجنبنى وبنى أن نعبد الا صنام) *. لم يبين هنا هل أجاب دعاء نبيه إبراهيم هذا ولكنه بين في مواضع أخر أنه أجابه في بعض ذريته دون بعض كقوله: * (ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين) * وقوله: * (وجعلها كلمة باقية فى عقبه) *. قوله تعالى: * (فمن تبعنى فإنه منى ومن عصانى فإنك غفور رحيم) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن نبيه إبراهيم قال: إن من تبعه فإنه منه وأنه رد أمر من لم يتبعه إلى مشيئة الله تعالى إن شاء الله غفر له لأنه هو الغفور الرحيم وذكر نحو هذا عن عيسى ابن مريم في قوله: * (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) * وذكر عن نوح وموسى التشديد في الدعاء على قومهما فقال عن نوح إنه قال: * (رب لا تذر على الا رض من الكافرين ديارا) * إلى قوله: * (فاجرا كفارا) * وقال عن موسى إنه قال: * (ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الا ليم) * والظاهر أن نوحا وموسى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام ما دعوا ذلك الدعاء على قومهما إلا بعد أن علما من الله أنهم أشقياء في علم الله لا يؤمنون أبدا، أما نوح فقد صرح الله تعالى له بذلك في قوله: * (وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد ءامن) * وأما موسى فقد فهم ذلك من قول قومه له: * (مهما تأتنا به من ءاية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين) * فإنهم قالوا هذا القول بعد مشاهدة تلك الآيات العظيمة المذكورة في الأعراف وغيرها. قوله تعالى: * (فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن نبيه إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام دعا لذريته الذين
248

أسكنهم بمكة المكرمة أن يرزقهم الله من الثمرات، وبين في سورة البقرة أن إبراهيم خص بهذا الدعاء المؤمنين منهم، وأن الله أخبره أنه رازقهم جميعا مؤمنهم وكافرهم ثم يوم القيامة يعذب الكافر وذلك بقوله: * (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هاذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من ءامن منهم بالله واليوم الا خر قال ومن كفر فأمتعه) *. قال بعض العلماء: سبب تخصيص إبراهيم المؤمنين في هذا الدعاء بالرزق أنه دعا لذريته أولا أن يجعلهم الله أئمة ولم يخصص بالمؤمنين فأخبره الله أن الظالمين من ذريته لا يستحقون ذلك. قال تعالى: * (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إنى جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتى قال لا ينال عهدي الظالمين) * فلما أراد أن يدعو لهم بالرزق خص المؤمنين بسبب ذلك فقال: وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر فأخبره الله أن الرزق ليس كالإمامة فالله يرزق الكافر من الدنيا ولا يجعله إماما. ولذا قال له في طلب الإمامة لا ينال عهدي الظالمين ولما خص المؤمنين بطلب الرزق قال له: * (ومن كفر فأمتعه قليلا) *. قوله تعالى: * (
ربنا اغفر لى ولوالدى) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن إبراهيم طلب المغفرة لوالديه وبين في آيات أخر أن طلبه الغفران لأبيه إنما كان قبل أن يعلم أنه عدو لله فلما علم ذلك تبرأ منه كقوله: * (وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدهآ إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) * ونحو ذلك من الآيات. * (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار * مهطعين مقنعى رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هوآء * وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنآ أخرنآ إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال * وسكنتم فى مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال * وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال * فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام * يوم تبدل الا رض غير الا رض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار * وترى المجرمين يومئذ مقرنين فى الا صفاد * سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار * ليجزى الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب * هاذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إلاه واحد وليذكر أولوا الألباب) * قوله تعالى: * (إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه يؤخر عقاب الكفار إلى يوم تشخص فيه الأبصار من شدة الخوف وأوضح ذلك في قوله تعالى: * (واقترب الوعد الحق فإذا هى شاخصة أبصار الذين كفروا) *. ومعنى شخوص الأبصار أنها تبقى منفتحة لا تغمض من الهول وشدة الخوف. قوله تعالى: * (مهطعين) *. الإهطاع في اللغة: الإسراع، وقد بين تعالى في مواضع أخر أنهم يوم القيامة يأتون مهطعين أي مسرعين إذا دعوا للحساب كقوله تعالى: * (يخرجون من الا جداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداع) *. وقوله: * (يوم يخرجون من الا جداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون) * وقوله: * (يوم تشقق الا رض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير) * إلى غير ذلك من الآيات.
249

ومن إطلاق الإهطاع في اللغة بمعنى الإسراع قول الشاعر: ومن إطلاق الإهطاع في اللغة بمعنى الإسراع قول الشاعر:
* بدجلة دارهم ولقد أراهم
* بدجلة مهطعين إلى السماع
*
أي مسرعين إليه. قوله تعالى: * (وترى المجرمين يومئذ مقرنين فى الا صفاد) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن المجرمين وهم الكفار يوم القيامة يقرنون في الأصفاد وبين تعالى هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: * (وإذآ ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا) * ونحو ذلك من الآيات.
والأصفاد: هي الأغلال والقيود، واحدها: صفد بالسكون وصفد بالتحريك. ومنه قول عمرو بن كلثوم: والأصفاد: هي الأغلال والقيود، واحدها: صفد بالسكون وصفد بالتحريك. ومنه قول عمرو بن كلثوم:
* فآبوا بالنهاب وبالسبايا
* وأبنا بالملوك مصفدينا
*
وقوله تعالى: * (والشياطين كل بنآء وغواص وءاخرين مقرنين فى الا صفاد) *. قوله تعالى: * (وتغشى وجوههم النار) *. بين في هذه الآية الكريمة أن النار يوم القيامة تغشى وجوه الكفار فتحرقها، وأوضح ذلك في مواضع أخر كقوله: * (تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون) * وقوله: * (لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم) *. إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (هاذا بلاغ للناس) *. بين في هذه الآية الكريمة أن هذا القرآن بلاغ لجميع الناس وأوضح هذا المعنى في قوله: * (وأوحى إلى هاذا القرءان لا نذركم به ومن بلغ) * وبين أن من بلغه ولم يؤمن به فهو في النار كائنا من كان في قوله: * (ومن يكفر به من الا حزاب فالنار موعده فلا تك فى مرية منه) *. قوله تعالى: * (وليعلموا أنما هو إلاه واحد وليذكر أولوا الألباب) *. بين في هذه الآية الكريمة أن من حكم إنزال القرآن العظيم العلم بأنه تعالى إله واحد، وأن من حكمه أن يتعظ أصحاب العقول. وبين هذا في مواضع أخر فذكر الحكمة الأولى في أول سورة هود في قوله: * (كتاب أحكمت ءاياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا إلا الله) *، كما تقدم إيضاحه، وذكر الحكمة الثانية في قوله: * (كتاب أنزلناه
250

إليك مبارك ليدبروا ءاياته وليتذكر أولو الا لباب) * وهم أصحاب العقول السليمة من شوائب الاختلال، واحد الألباب لب بالضم، والعلم عند الله تعالى.
251

((سورة الحجر))
* (الر تلك ءايات الكتاب وقرءان مبين * ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين * ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الا مل فسوف يعلمون * ومآ أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم * ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون * وقالوا ياأيها الذى نزل عليه الذكر إنك لمجنون * لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين * ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين * إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون * ولقد أرسلنا من قبلك فى شيع الا ولين * وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون * كذلك نسلكه فى قلوب المجرمين * لا يؤمنون به وقد خلت سنة الا ولين * ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون * ولقد جعلنا فى السماء بروجا وزيناها للناظرين * وحفظناها من كل شيطان رجيم * إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين * والا رض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شىء موزون * وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين * وإن من شىء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم * وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السمآء ماء فأسقيناكموه ومآ أنتم له بخازنين * وإنا لنحن نحى ونميت ونحن الوارثون * ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين * وإن ربك
هو يحشرهم إنه حكيم عليم) * قوله تعالى: * (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) *. ذكر في هذه الآية الكريمة أن الكفار إذا عرفوا حقيقة الأمر تمنوا أنهم كانوا في دار الدنيا مسلمين، وندموا على كفرهم، وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله * (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بأايات ربنا ونكون من المؤمنين) * وقوله: * (حتى إذا جآءتهم الساعة بغتة قالوا ياحسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا سآء ما يزرون) *، وقوله: * (ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتنى اتخذت مع الرسول سبيلا) * إلى غير ذلك من الآيات، وأقوال العلماء في هذه الآية راجعة إلى شيء واحد. لأن من يقول إن الكافر إذا احتضر وعاين الحقيقة تمنى أنه كان مسلما، ومن يقول إنه إذا عاين النار ووقف عليها تمنى أنه كان مسلما، ومن يقول إنهم إذا عاينوا إخراج الموحدين من النار تمنوا أنهم كانوا مسلمين، كل ذلك راجع إلى أن الكفار إذا عاينوا الحقيقة ندموا على الكفر وتمنوا أنهم كانوا مسلمين.
وقرأ نافع وعاصم * (ربما) * بتخفيف الباء، وقرأ الباقون بتشديدها، والتخفيف لغة أهل الحجاز، والتثقيل لغة تميم وقيس وربيعة، ومن الأول قول عدي بن الرعلاء الغساني: وقرأ نافع وعاصم * (ربما) * بتخفيف الباء، وقرأ الباقون بتشديدها، والتخفيف لغة أهل الحجاز، والتثقيل لغة تميم وقيس وربيعة، ومن الأول قول عدي بن الرعلاء الغساني:
* ربما ضربة بسيف صقيل
* بين بصرى وطعنة نجلاه
*
والثاني كثير جدا ومنه قول الآخر: والثاني كثير جدا ومنه قول الآخر:
* ألا ربما أهدت لك العين نظرة
* قصاراك منها أنها عنك لا تجدى
*
ورب في هذا الموضع قال بعض العلماء للتكثير أي يود الكفار في أوقات كثيرة لو كانوا مسلمين. ونقل القرطبي هذا القول عن الكوفيين قال ومنه قول الشاعر.
ألا ربما أهدت لك العين البيت
252

وقال بعض العلماء هي هنا للتقليل لأنهم قالوا ذلك في بعض المواضع لا في كلها لشغلهم بالعذاب. فإن قيل: ربما لا تدخل إلا على الماضي فما وجه دخولها على المضارع في هذا الموضع؟ فالجواب أن الله تعالى لما وعد بوقوع ذلك صار ذلك الوعد للجزم بتحقيق وقوعه كالواقع بالفعل ونظيره قوله تعالى * (أتى أمر الله) * ونحوها من الآيات، فعبر بالماضي تنزيلا لتحقيق الوقوع منزلة الوقوع بالفعل. قوله تعالى: * (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الا مل فسوف يعلمون) *. هدد الله تعالى الكفار في هذه الآية الكريمة بأمره نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتركهم يأكلون ويتمتعون، فسوف يعلمون حقيقة ما يؤول إليه الأمر من شدة تعذيبهم وإهانتهم. وهددهم هذا النوع من التهديد في مواضع أخر كقوله * (وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار 12) * وقوله: * (كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون) * وقوله: * (قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار) * وقوله: * (فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذى يوعدون) * وقوله * (فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذى فيه يصعقون) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقد تقرر في فن المعاني وفي مبحث الأمر عند الأصوليين أن من المعاني التي تأتي لها صيغة أفعل التهديد كما في الآية المذكورة وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (ذرهم) * يعني اتركهم، وهذا الفعل لم يستعمل منه إلا الأمر والمضارع، فماضية ترك، ومصدرة الترك، واسم الفاعل منه تارك، واسم المفعول منه متروك. وقال بعض العلماء: هذه الآية منسوخة بآيات السيف، والعلم عند الله تعالى. قال القرطبي: (والأمل الحرص على الدنيا والانكباب عليها والحب لها والإعراض عن الآخرة)، وعن الحسن رحمه الله أنه قال: (ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل)، وقد قدمنا علاج طول الأمل في سورة البقرة. قوله تعالى * (وقالوا ياأيها الذى نزل عليه الذكر إنك لمجنون) *. قد يقال في هذه الآية الكريمة كيف يقرون بأنه أنزل إليه الذكر وينسبونه للجنون مع ذلك والجواب أن قولهم يا أيها الذي نزل عليه الذكر يعنون في زعمه تهكما منهم به، ويوضح هذا المعنى ورود مثله من الكفار متهكمين بالرسل عليهم صلوات الله وسلامه في مواضع أخر كقوله تعالى عن فرعون مع موسى قال: * (إن رسولكم الذى أرسل إليكم لمجنون) *
253

وقوله عن قوم شعيب * (إنك لانت الحليم الرشيد) *. قوله تعالى * (لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين) *. * (لو ما) * في هذه الآية الكريمة للتحضيض وهو طلب الفعل طلبا حثيثا. ومعنى الآية: أن الكفار طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم طلب تخصيص أن يأتيهم بالملائكة ليكون إتيان الملائكة معه دليلا على صدقه أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبين طلب الكفار هذا في آيات أخر كقوله عن فرعون مع موسى: * (فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جآء معه الملائكة مقترنين) * وقوله: * (وقال الذين لا يرجون لقآءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا فى أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا) *، وقوله: * (وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الا مر) * وقوله: * (لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا) * وقوله * (تأتى بالله والملائكة قبيلا) * إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم أن لو تركب مع لا وما لمعنيين الأول منهما التحضيض ومثاله في لو ما في هذه الآية الكريمة ومثاله في لولا قول جرير: واعلم أن لو تركب مع لا وما لمعنيين
الأول منهما التحضيض ومثاله في لو ما في هذه الآية الكريمة ومثاله في لولا قول جرير:
* تعدون عقر النيب أفضل مجدكم
* بني ضو طري لولا الكمي المقنعا
*
يعني فلا تعدون الكمي المقنع، المعنى الثاني هو امتناع شيء لوجود غيره وهو في لولا كثير جدا كقول عامر بن الأكوع رضي الله عنه. يعني فلا تعدون الكمي المقنع، المعنى الثاني هو امتناع شيء لوجود غيره وهو في لولا كثير جدا كقول عامر بن الأكوع رضي الله عنه.
* تالله لولا الله ما اهتدينا
* ولا تصدقنا ولا صلينا
*
ومثاله في لو ما قول ابن مقبل: ومثاله في لو ما قول ابن مقبل:
* لو ما الحياء ولو ما الدين عبتكما
* ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري
*
وأما هل فلم تركب إلا مع لا وحدها للتحضيض.
تنبيه
قد ترد أدوات التحضيض للتوبيخ والتنديم، فتختص بالماضي أو ما في تأويله نحو * (فلولا كانت قرية ءامنت فنفعهآ إيمانها إلا قوم يونس) * وقوله: * (لولا جآءو عليه بأربعة شهدآء) * وقوله: * (فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا ءالهة) *، وجعل بعضهم منه قول جرير: فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا ءالهة) *، وجعل بعضهم منه قول جرير:
254

* تعدون عقر النيب:
* البيت المتقدم آنفا
*
قائلا إن مراده توبيخهم على ترك عد الكمي المقنع في الماضي. قوله تعالى: * (ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه ما ينزل الملائكة إلا بالحق أي بالوحي وقيل بالعذاب، وقال الزمخشري: (إلا تنزيلا متلبسا بالحكمة والمصلحة ولا حكمة في أن تأتيكم الملائكة عيانا تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم لأنكم حينئذ مصدقون عن اضطرار) قال: (ومثل هذا قوله تعالى: * (وما خلقنا السماوات والا رض وما بينهمآ إلا بالحق) * وبين تعالى في هذه الآية الكريمة أنهم لو نزلت عليهم الملائكة، ما كانوا منظرين وذلك في قوله: * (وما كانوا إذا منظرين) * لأن التنوين في قوله إذا عوض عن جملة، ففيه شرط وجزاء، وتقدير المعنى ولو نزلت عليهم الملائكة ما كانوا منظرين أي ممهلين بتأخير العذاب عنهم وقد بين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: * (يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين) * وقوله: * (ولو أنزلنا ملكا لقضى الا مر ثم لا ينظرون) * إلى غير ذلك من الآيات. وقوله: * (ما ننزل الملائكة) * قرأه حفص وحمزة والكسائي: ننزل بنونين، الأولى مضمومة والثانية مفتوحة مع كسر الزاي المشددة، والملائكة بالنصب مفعول به لننزل. وقرأ شعبة: ننزل بنون مضمومة ونون مفتوحة مع تشديد الزاي مفتوحة بالبناء للمفعول، والملائكة بالرفع نائب فاعل ننزل. وقرأ الباقون: تنزل بفتح التاء والنون والزاي المشددة أصله تتنزل فحذفت إحدى التاءين، والملائكة بالرفع فاعل تنزل كقوله: * (تنزل الملائكة والروح) *. قوله تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي نزل القرآن العظيم وأنه حافظ له من أن يزاد فيه أو ينقص أو يتغير منه شيء أو يبدل، وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: * (وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) * وقوله: * (لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرءانه) * إلى قوله: * (ثم إن علينا بيانه) * وهذا هو الصحيح في معنى هذه الآية أن الضمير في قوله: * (وإنا له
255

لحافظون) * راجع إلى الذكر الذي هو القرآن. وقيل الضمير راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم كقوله: * (والله يعصمك من الناس) * والأول هو الحق كما يتبادر من ظاهر السياق. قوله تعالى: * (ولقد جعلنا فى السماء بروجا) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه جعل في السماء بروجا ذكر هذا أيضا في مواضع أخر كقوله: * (تبارك الذى جعل فى السمآء بروجا) * وقوله تعالى: * (والسمآء ذات البروج) *، والبروج جمع برج.
واختلف العلماء في المراد بالبروج في الآيات المذكورة فقال بعضهم: البروج الكواكب، وممن روي عنه هذا القول مجاهد وقتادة. وعن أبي صالح: أنها الكواكب العظام، وقيل: هي قصور في السماء عليها الحرس. وممن قال به: عطية، وقيل: هي منازل الشمس والقمر قاله ابن عباس. وأسماء هذه البروج الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت.
قال مقيده عفا الله عنه: أطلق تعالى في سورة النساء البروج على القصور الحصينة في قوله: * (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم فى بروج مشيدة) * ومرجع الأقوال كلها إلى شيء واحد. لأن أصل البروج في اللغة الظهور ومنه تبرج المرأة بإظهار زينتها فالكواكب ظاهرة والقصور ظاهرة ومنازل القمر والشمس كالقصور بجامع أن الكل محل ينزل فيه، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (وزيناها للناظرين) *. صرح تعالى في هذه الآية الكريمة أنه زين السماء للناظرين وبين في مواضع أخر أنه زينها بالنجوم، وأنها السماء الدنيا كقوله: * (ولقد زينا السمآء الدنيا بمصابيح) *، وقوله: * (إنا زينا السمآء الدنيا بزينة الكواكب) *. قوله تعالى: * (وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين) *. صرح تعالى في هذه الآية الكريمة أنه حفظ السماء من كل شيطان رجيم وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: * (وحفظا من كل شيطان مارد) * وقوله: * (وجعلناها رجوما للشياطين) * وقوله: * (فمن يستمع الا ن يجد له شهابا رصدا) * وقوله: * (إنهم عن السمع لمعزولون) * وقوله: * (أم لهم
256

سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان) * إلى غير ذلك من الآيات. والاستثناء في هذه الآية الكريمة في قوله: * (إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين) *. قال بعض العلماء هو استثناء منقطع وجزم به الفخر الرازي أي لكن من استرق السمع أي الخطفة اليسيرة فإنه يتبعه شهاب فيحرقه كقوله تعالى: * (ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب) * وقيل: الاستثناء متصل أي حفظنا السماء من الشياطين أن تسمع شيئا من الوحي وغيره إلا من استرق السمع فإنا لم نحفظها من أن تسمع لخير من أخبار السماء سوى الوحي، فأما الوحي فلا تسمع منه شيئا لقوله تعالى: * (إنهم عن السمع لمعزولون) * قاله القرطبي، ونظيره * (إلا من خطف) * فإن استثناء من الواو في قوله تعالى: * (لا يسمعون إلى الملإ) *.
تنبيه
يؤخذ من هذه الآيات التي ذكرنا أن كل ما يتمشدق به أصحاب الأقمار الصناعية من أنهم سيصلون إلى السماء ويبنون على القمر، كله كذب وشقشقة لا طائل تحتها ومن اليقين الذي لا شك فيه أنهم سيقفون عند حدهم ويرجعون خاسئين أذلاء عاجزين * (ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير) * ووجه دلالة الآيات المذكورة على ذلك أن اللسان العربي الذي نزل به القرآن يطلق اسم الشيطان على كل عات متمرد من الجن والإنس والدواب ومنه قوله تعالى: * (وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون) *، وقوله: * (وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) * ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (الكلب الأسود شيطان) وقول جرير:: (الكلب الأسود شيطان) وقول جرير:
* أيام يدعونني الشيطان من غزلي
* وكن يهوينني إذ كنت شيطانا
*
ولا شك أن أصحاب الأقمار الصناعية يدخلون في اسم الشياطين دخولا أوليا لعتوهم وتمردهم. وإذا علمت ذلك فاعلم أنه تعالى صرح بحفظ السماء من كل شيطان كائنا من كان في عدد آيات من كتابه كقوله هنا: * (وحفظناها من كل شيطان رجيم) *
257

وقوله: * (أمرها وزينا السمآء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم) * إلى غير ذلك من الآيات.
وصرح بأن من أراد استراق السمع أتبعه شهاب راصد له في مواضع أخر كقوله: * (فمن يستمع الا ن يجد له شهابا رصدا) * وقوله: * (إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين) * وقوله: * (إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب) * وقال: * (إنهم عن السمع لمعزولون) * وقال: * (أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين) * وهو تعجيز دال على عجز البشر عن ذلك عجزا مطلقا، وقال: * (أم لهم م لك السماوات والا رض وما بينهما فليرتقوا فى الا سباب جند ما هنالك مهزوم من الا حزاب) * فقوله في هذه الآية الكريمة: * (فليرتقوا فى الا سباب) *، أي فليصعدوا في أسباب السماوات التي توصل إليها. وصيغة الأمر في قوله: * (فليرتقوا) * للتعجيز وإيرادها للتعجيز دليل على عجز البشر عن ذلك عجزا مطلقا. وقوله جل وعلا بعد ذلك التعجيز: * (جند ما هنالك مهزوم من الاحزاب) * يفهم منه أنه لو تنطع جند من الأحزاب للارتقاء في أسباب السماء أنه يرجع مهزوما صاغرا داخرا ذليلا، ومما يدل على أن الآية الكريمة يشار فيها إلى شيء ما كان يظنه الناس وقت نزولها إبهامه جل وعلا لذلك الجند بلفظة ما في قوله: * (فى ما) * وإشارته إلى مكان ذلك الجند أو مكان انهزامه إشارة البعيد في قوله: * (هنالك) * ولم يتقدم في الآية ما يظهر رجوع الإشارة إليه إلا الارتقاء في أسباب السماوات.
فالآية الكريمة يفهم منها ما ذكرنا، ومعلوم أنها لم يفسرها بذلك أحد من العلماء، بل عبارات المفسرين تدور على أن الجند المذكور الكفار الذين كذبوه صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم سوف يهزمهم، وأن ذلك تحقق يوم بدر أو يوم فتح مكة، ولكن كتاب الله لا تزال تظهر غرائبه وعجائبه متجددة على مر الليالي والأيام، ففي كل حين تفهم منه أشياء لم تكن مفهومة من قبل، ويدل لذلك حديث أبي جحيفة الثابت في الصحيح أنه لما سأل عليا رضي الله عنه هل خصهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ قال له علي رضي الله عنه: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يعطيه الله رجلا في كتاب الله وما في الصحيفة الحديث فقوله رضي الله عنه: إلا فهما يعطيه الله رجلا في كتاب الله يدل على أن فهم كتاب ال
258

له تتجدد به العلوم والمعارف التي لم تكن عند عامة الناس، ولا مانع من حمل الآية على ما حملها عليه المفسرون.
وما ذكرنا أيضا أنه يفهم منها لما تقرر عند العلماء من أن الآية إن كانت تحتمل معاني كلها صحيحة تعين حملها على الجميع كما حققه بأدلته الشيخ تقي الدين أبو العباس
بن تيمية رحمه الله في رسالته في علوم القرآن.
وصرح تعالى بأن القمر في السبع الطباق في قوله: * (ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا) * فعلم من الآيات أن القمر في السبع الطباق، وأن الله حفظها من كل شيطان رجيم، فلم يبق شك ولا لبس في أن الشياطين أصحاب الأقمار الصناعية سيرجعون داخرين صاغرين عاجزين عن الوصول إلى القمر والوصول إلى السماء، ولم يبق لبس في أن السماء التي فيها القمر ليس يراد بها مطلق ما علاك، وإن كان لفظ السماء قد يطلق لغة على كل ما علاك، كسقف البيت، ومنه قوله تعالى: * (فليمدد بسبب إلى السمآء) *. وقد قال الشاعر: فليمدد بسبب إلى السمآء) *. وقد قال الشاعر:
* وقد يسمى سماء كل مرتفع
* وإنما الفضل حيث الشمس والقمر
*
لتصريحه تعالى بأن القمر في السبع الطباق. لأن الضمير في قوله: * (وجعل القمر فيهن) * راجع إلى السبع الطباق وإطلاق المجموع مرادا بعضه كثير في القرآن وفي كلام العرب.
ومن أصرح أدلته: قراءة حمزة والكسائي * (فإن قاتلوكم فاقتلوهم) * من القتل في الفعلين. لأن من قتل بالبناء للمفعول لا يمكن أن يؤمر بعد موته بأن يقتل قاتله، ولكن المراد: فإن قتلوا بعضكم فليقتلهم بعضكم الآخر، كما هو ظاهر. وقال أبو حيان في البحر المحيط في تفسير قوله تعالى * (وجعل القمر فيهن نورا) *. وصح كون السماوات ظرفا للقمر. لأنه لا يلزم من الظرف أن يملأه المظروف. تقول: زيد في المدينة، وهو في جزء منها.
واعلم أن لفظ الآية صريح في أن نفس القمر في السبع الطباق. لأن لفظة * (جعل) * في الآية هي التي بمعنى صير، وهي تنصب المبتدأ والخبر، والمعبر عنه بالمبتدأ هو المعبر عنه بالخبر بعينه لا شيء آخر، فقولك: جعلت الطين خزفا، والحديد خاتما، لا يخفى فيه أن الطين هو الخزف بعينه، والحديد هو الخاتم، وكذلك قوله: * (وجعل القمر
259

فيهن نورا) * فالنور المجعول فيهن هو القمر بعينه، فلا يفهم من الآية بحسب الوضع اللغوي احتمال خروج نفس القمر عن السبع الطباق، وكون المجعول فيها مطلق نوره. لأنه لو أريد ذلك لقيل: وجعل نور القمر فيهن أما قوله: * (وجعل القمر فيهن نورا) * فهو صريح في أن النور المجعول فيهن هو عين القمر، ولا يجوز صرف القرآن عن معناه المتبادر بلا دليل يجب الرجوع إليه، وبوضح ذلك أنه تعالى صرح في سورة الفرقان بأن القمر في خصوص السماء ذات البروج بقوله: * (تبارك الذى جعل فى السمآء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا) * وصرح في سورة الحجر بأن ذات البروج المنصوص على أن القمر فيها هي بعينها المحفوظة من كل شيطان رجيم بقوله: * (ولقد جعلنا فى السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم) * وما يزعمه بعض الناس من أنه جل وعلا أشار إلى الاتصال بين أهل السماء والأرض في قوله: * (ومن ءاياته خلق السماوات والا رض وما بث فيهما من دآبة وهو على جمعهم إذا يشآء قدير) * يقال فيه: إن المراد جمعهم يوم القيامة في المحشر، كما أطبق عليه المفسرون. ويدل له قوله تعالى: * (وما من دآبة فى الا رض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا فى الكتاب من شىء ثم إلى ربهم يحشرون) *.
ويوضح ذلك تسمية يوم القيامة يوم الجمع في قوله تعالى: * (يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن) *. وكثرة الآيات الدالة على أن جمع جميع الخلائق كائن يوم القيامة، كقوله: * (إن فى ذالك لآية لمن خاف عذاب الا خرة ذالك يوم مجموع له الناس وذالك يوم مشهود) * وقوله: * (قل إن الا ولين والا خرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم) * وقوله: * (الله لا إلاه إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه) * وقوله: * (ويوم تشقق السمآء بالغمام ونزل الملئكة تنزيلا) * وقوله * (وجآء ربك والملك صفا صفا) * وقوله * (وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا) *.
مع أن بعض العلماء قال: المراد ما بث من الدواب في الأرض فقط، فيكون من إطلاق المجموع مرادا بعضه، وهو كثير من القرآن وفي لسان العرب، وبعضهم قال: المراد بدواب السماء الملائكة زاعما أن الدبيب يطلق على كل حركة.
قال مقيده عفا الله عنه: ظاهر الآية الكريمة أن الله بث في السماء دواب كما بث في
260

الأرض دواب. ولا شك أن الله قادر على جمع أهل السماوات وأهل الأرض وعلى كل شيء، ولكن الآيات القرآنية التي ذكرنا بينت أن المراد بجمعهم حشرهم جميعا يوم القيامة، وقد أطبق على ذلك المفسرون ولو سلمنا تسليما جدليا أنها تدل على جمعهم في الدنيا فلا يلزم من ذلك بلوغ أهل الأرض إلى أهل السماء بل يجوز عقلا أن ينحدر من في السماء إلى من في الأرض لأن الهبوط أهون من الصعود وما يزعمه من لا علم عنده بكتاب الله تعالى من أن قوله جل وعلا: * (يامعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والا رض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان) * يشير إلى الوصول إلى السماء بدعوى أن المراد بالسلطان في الآية هو هذا العلم الحادث الذي من نتائجه الصواريخ والأقمار الصناعية. وإذا فإن الآية قد تكون فيها الدلالة على أنهم ينفذون بذلك العلم من أقطار السماوات والأرض مردود من أوجه: الأول: أن معنى الآية الكريمة هو إعلام الله جل وعلا خلقه أنهم لا محيص لهم ولا مفر عن قضائه ونفوذ مشيئته فيهم وذلك عندما تحف بهم صفوف الملائكة يوم القيامة. فكلما فروا إلى جهة وجدوا صفوف الملائكة أمامهم، ويقال لهم في ذلك الوقت * (يامعشر الجن والإنس) * والسلطان: قيل الحجة والبينة، وقيل الملك والسلطنة وكل ذلك معدوم عندهم يوم القيامة فلا نفوذ لهم كما قال تعالى: * (وجآء ربك والملك صفا صفا) * وقال: * (إنى أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم
من الله من عاصم) *.
الوجه الثاني: أن الجن أعطاهم الله القدرة على الطيران والنفوذ في أقطار السماوات والأرض وكانوا يسترقون السمع من السماء كما صرح به تعالى في قوله عنهم وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع الآية وإنما منعوا من ذلك حين بعث صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: * (فمن يستمع الا ن يجد له شهابا رصدا) * فالجن كانوا قادرين على بلوغ السماء من غير حاجة إلى صاروخ ولا قمر صناعي فلو كان معنى الآية هو ما يزعمه أولئك الذين لا علم لهم بكتاب الله لم يقل جل وعلا يا معشر الجن لأنهم كانوا ينفذون إلى السماء قبل حدوث السلطان المزعوم.
الوجه الثالث: أن العلم المذكور الذي لا يجاوز صناعة يدوية أهون على الله جل وعلا من أن يطلق عليه اسم السلطان. لأنه لا يجاوز أغراض هذه الحياة الدنيا ولا نظر فيه
261

البتة لما بعد الموت. ولأن الدنيا كلها لا تزن عند الله جناح بعوضة. وقد نص تعالى على كمال حقارتها عنده في قوله جل وعلا: * (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمان لبيوتهم سقفا من فضة) * إلى قوله * (للمتقين) * وعلم هؤلاء الكفار نفي الله عنه اسم العلم الحقيقي وأثبت له أنه علم ظاهر من الحياة الدنيا وذلك في قوله: * (وعد الله لا يخلف الله وعده ولاكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرا من الحيواة الدنيا وهم عن الا خرة هم غافلون) * فحذف الكفار في الصناعات اليدوية كحذف بعض الحيوانات في صناعتها بإلهام الله لها ذلك، فالنحل تبني بيت عسلها على صورة شكل مسدس يحار فيه حذاق المهندسين. ولما أرادوا أن يتعلموا منها كيفية ذلك البناء وجعلوها في أجباح زجاج لينظروا إلى كيفية بنائها أبت أن تعلمهم فطلت الزجاج بالعسل قبل البناء كيلا يروا كيفية بنائها، كما أخبرتنا الثقة بذلك.
الوجه الرابع: أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن ذلك المعنى المزعوم كذبا هو معنى الآية فإن الله أتبع ذلك بقوله يرسل عليكما شواظ من نار الآية فهو يدل على ذلك التقدير على أنهم لو أرادوا النفوذ في أقطارها حرقهم ذلك الشواظ والنحاس والشواظ اللهب الخالص والنحاس الدخان ومنه قول النابغة: الوجه الرابع: أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن ذلك المعنى المزعوم كذبا هو معنى الآية فإن الله أتبع ذلك بقوله يرسل عليكما شواظ من نار الآية فهو يدل على ذلك التقدير على أنهم لو أرادوا النفوذ في أقطارها حرقهم ذلك الشواظ والنحاس والشواظ اللهب الخالص والنحاس الدخان ومنه قول النابغة:
* يضيء كضوء سراج السليط
* لم يجعل الله فيه نحاسا
*
وكذلك ما يزعمه بعض من لا علم له بمعنى كتاب الله من أن الله أشار إلى اتصال أهل السماوات وأهل الأرض بقوله تعالى: * (قال ربى يعلم القول فى السمآء والا رض) * بصيغة الأمر في لفظة قل على قراءة الجمهور وبصيغة الماضي * (قال ربى يعلم) * في قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم فإن الآية الكريمة لا تدل على ذلك لا بدلالة المطابقة ولا التضمن ولا الالتزام لأن غاية ما تفيده الآية الكريمة أن الله جل وعلا أمر نبيه أن يقول إن ربه يعلم كل ما يقوله أهل السماء وأهل الأرض على قراءة الجمهور وعلى قراءة الأخوين وحفص فمعنى الآية أنه صلى الله عليه وسلم أخبر قائلا إن ربه جل وعلا يعلم كل ما يقال في السماء والأرض وهذا واضح لا إشكال فيه ولا شك أنه جل وعلا عالم بكل أسرار أهل السماء والأرض وعلانياتهم لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين.
وكذلك ما يزعمه من لا علم عنده بمعنى كتاب الله جل وعلا من أنه تعالى أشار
262

إلى أهل الأرض سيصعدون إلى السماوات واحدة بعد أخرى بقوله: * (لتركبن طبقا عن طبق) * زاعما أن معنى الآية الكريمة لتركبن أيها الناس طبقا أي سماء عن طبق أي بعد سماء حتى تصعدوا فوق السماوات فهو أيضا جهل بكتاب الله وحمل له على غير ما يراد به.
اعلم أولا أن في هذا الحرف قراءتين سبعيتين مشهورتين إحداهما لتركبن بفتح الباء وبها قرأ من السبعة ابن كثير وحمزة والكسائي وعلى هذه القراءة ففي فاعل لتركبن ثلاثة أوجه معروفة عند العلماء الأول وهو أشهرها أن الفاعل ضمير الخطاب الواقع على النبي صلى الله عليه وسلم أي لتركبن أنت يا نبي الله طبقا عن طبق أي بعد طبق أي حالا بعد حال أي فترتقي في الدرجات درجة بعد درجة والطبق في لغة العرب الحال ومنه قول الأقرع بن حابس التميمي. أي لتركبن أنت يا نبي الله طبقا عن طبق أي بعد طبق أي حالا بعد حال أي فترتقي في الدرجات درجة بعد درجة والطبق في لغة العرب الحال ومنه قول الأقرع بن حابس التميمي.
* إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره
* وساقني طبق منها إلى طبق
*
وقول الآخر:
* كذلك المرء إن ينسأ له أجل
* يركب على طبق من بعده طبق
*
أي: حال بعد حال في البيتين وقال ابن مسعود والشعبي ومجاهد وابن عباس في إحدى الروايتين والكلبي وغيرهم لتركبن طبقا عن طبق أي لتصعدن يا محمد سماء بعد سماء وقد وقع ذلك ليلة الإسراء والثاني أن الفاعل ضمير السماء أي لتركبن هي أي السماء طبقا بعد طبق أي لتنتقلن السماء من حال إلى حال أي تصير تارة كالدهان وتارة كالمهل وتارة تتشقق بالغمام وتارة تطوى كطي السجل للكتب، والثالث أن الفاعل ضمير يعود إلى الإنسان المذكور في قوله * (ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا) * أي لتركبن أيها الإنسان حالا بعد حال من صغر إلى كبر ومن صحة إلى سقم كالعكس ومن غنى إلى فقر كالعكس ومن موت إلى حياة كالعكس ومن هول من أهوال القيامة إلى آخر وهكذا، والقراءة الثانية وبها قرأ من السبعة نافع وابن عامر وأبو عمرو وعاصم لتركبن بضم الباء وهو خطاب عام للناس
263

المذكورين في قوله: * (فأما من أوتى كتابه بيمينه) * إلى قوله * (وأما من أوتى كتابه ورآء ظهره) * ومعنى الآية لتركبن أيها الناس حالا بعد حال فتنتقلون في دار الدنيا من طور إلى طور وفي الآخرة من هول إلى هول فإن قيل يجوز بحسب وضع اللغة العربية التي نزل بها القرآن على قراءة ضم الباء أن يكون المعنى لتركبن أيها الناس طبقا بعد طبق أي سماء بعد سماء حتى تصعدوا فوق السماء السابعة كما تقدم نظيره في قراءة فتح الباء خطايا للنبي صلى الله عليه وسلم وإذا كان هذا جائزا في لغة القرآن فما المانع من حمل الآية عليه فالجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أن ظاهر القرآن يدل على أن المراد بالطبق الحال المنتقل إليها من موت ونحوه وهول القيامة بدليل قوله بعده مرتبا له عليه بالفاء * (فما لهم لا يؤمنون ويصلى سعيرا) * فهو قرينة ظاهرة على أن المراد إذا كانوا ينتقلون من حال إلى حال ومن هول إلى هول فما المانع لهم من أن يؤمنوا ويستعدوا لتلك الشدائد ويؤيده أن العرب تسمي الدواهي بنات طبق كما هو معروف في لغتهم.
الوجه الثاني: أن الصحابة رضي الله عنهم هم المخاطبون الأولون بهذا الخطاب وهم أولى الناس بالدخول فيه بحسب الوضع العربي ولم يركب أحد منهم سماء بعد سماء بإجماع المسلمين فدل ذلك على أن ذلك ليس معنى الآية ولو كان هو معناها لما خرج منه المخاطبون الأولون بلا قرينة على ذلك.
الوجه الثالث: هو ما قدمنا من الآيات القرآنية المصرحة بحفظ السماء وحراستها من كل شيطان رجيم كائنا من كان، فبهذا يتضح أن الآية الكريمة ليس فيها دليل على صعود أصحاب الأقمار الصناعية فوق السبع الطباق. والواقع المستقبل سيكشف حقيقة تلك الأكاذيب والمزاعم الباطلة، وكذلك ما يزعمه بعض من ليس له علم بمعنى كتاب الله جل وعلا من أن الله تعالى أشار إلى بلوغ أهل الأرض إلى السماوات بقوله: * (وسخر لكم ما فى السماوات وما فى الا رض جميعا منه) * فقالوا تسخيره جل وعلا ما في السماوات لأهل الأرض دليل على أنهم سيبلغون السماوات والآية الكريمة لا تدل على ذلك الذي زعموا أنها تدل عليه لأن القرآن بين في آيات كثيرة كيفية تسخير ما في السماء لأهل الأرض فبين أن تسخير الشمس والقمر لمنافعهم وانتشار الضوء عليهم ولكي يعلموا عدد السنين والحساب كما قال تعالى: * (وسخر لكم الشمس والقمر دآئبين وسخر لكم
264

اليل والنهار) * ومنافع الشمس والقمر اللذين سخرهما الله لأهل الأرض لا يحصيها إلا الله كما هو معروف وقال تعالى: * (هو الذى جعل الشمس ضيآء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب) *، وقال تعالى: * (وجعلنا اليل والنهار ءايتين فمحونآ ءاية اليل وجعلنآ ءاية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب) * إلى غير ذلك من الآيات المبينة لذلك التسخير لأهل الأرض. وكذلك سخر لأهل الأرض النجوم ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر كما قال تعالى: * (والنجوم مسخرات بأمره) * وقال تعالى: * (وهو الذى جعل لكم النجوم لتهتدوا بها فى ظلمات البر والبحر) * وقال: * (وعلامات وبالنجم هم يهتدون) * إلى غير ذلك من الآيات. فهذا هو تسخير ما في السماء لأهل الأرض وخير ما يفسر به القرآن. ومما ويوضح ما ذكرنا أن المخاطبين الأولين بقوله * (وسخر لكم ما فى السماوات وما فى الا رض) * وهم الصحابة رضي الله عنهم لم يسخر لهم شيء مما في السماوات إلا هذا التسخير الذي ذكرنا الذي بينه القرآن العظيم في آيات كثيرة. فلو كان يراد به التسخير المزعوم عن طريق الصواريخ والأقمار الصناعية لدخل فيه المخاطبون الأولون كما هو ظاهر، وكذلك قوله * (وكأين من ءاية فى السماوات والا رض يمرون عليها وهم عنها معرضون) *، فإن معنى مرورهم على ما في السماوات من الآيات نظرهم إليها كما بينه تعالى في آيات كثيرة كقوله: * (أولم ينظروا فى ملكوت السماوات والا رض وما) * وقوله: * (قل انظروا ماذا فى السماوات والا رض) * وقوله: * (سنريهم ءاياتنا فى الا فاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) * إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم وفقني الله وإياك أن التلاعب بكتاب الله جل وعلا وتفسيره بغير معناه لمحاولة توفيقه مع آراء كفرة الإفرنج ليس فيه شيء البتة من مصلحة الدنيا ولا الآخرة وإنما فيه فساد الدارين، ونحن إذ نمنع التلاعب بكتاب الله وتفسيره بغير معناه نحض جميع المسلمين على بذل الوسع في تعليم ما ينفعهم من هذه العلوم الدنيوية مع تمسكهم بدينهم، كما قال تعالى: * (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) * كما سترى بسطه إن شاء الله في سورة بني إسرائيل.
فإن قيل. هذه الآيات التي استدللتم بها على حفظ السماء من الشياطين واردة في
265

حفظها من استراق السمع وذلك إنما يكون من شياطين الجن فدل ذلك على اختصاص الآيات المذكورة بشياطين الجن؟ فالجواب:
أن الآيات المذكورة تشمل بدلالتها اللغوية شياطين الإنس من الكفار. قال في لسان العرب: والشيطان معروف وكل عات متمرد من الإنس والجن والدواب شيطان. وقال في القاموس والشيطان معروف وكل عات متمرد من إنس أو جن أو دابة اه.
ولا شك أن من أشد الكفار تمردا وعتوا الذين يحاولون بلوغ السماء فدخولهم في اسم الشيطان لغة لا شك فيه وإذا كان لفظ الشيطان يعم كل متمرد عات فقوله تعالى: * (
وحفظناها من كل شيطان رجيم) * صريح في حفظ السماء من كل متمرد عات كائنا من كان، وحمل نصوص الوحي على مدلولاتها اللغوية واجب إلا لدليل يدل على تخصيصها أو صرفها عن ظاهرها المتبادر منها كما هو مقرر في الأصول. وحفظ السماء من الشياطين معناه حراستها منهم، قال الجوهري في صحاحه: حفظت الشيء حفظا أي حرسته اه. وقال صاحب لسان العرب: وحفظت الشيء حفظا أي حرسته اه. وهذا معروف في كلام العرب، فيكون مدلول هذه الآية بدلالة المطابقة * (وحفظناها من كل شيطان رجيم) * أي وحرسناها أي السماء من كل عات متمرد.
ولا مفهوم مخالفة لقوله * (رجيم) * وقوله * (مارد) * لأن مثل ذلك من الصفات الكاشفة فكل شيطان يوصف بأنه رجيم وبأنه مارد وإن كان بعضهم أقوى تمردا من بعض وما حرسه الله جل وعلا من كل عات متمرد لا شك أنه لا يصل إليه عات متمرد كائنا من كان * (ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير) * والعلم عند الله تعالى اه. قوله تعالى: * (وأرسلنا الرياح لواقح) *. اللواقح لاقح وأصل اللاقح التي قبلت اللقاح فحملت الجنين، ومنه قول ذي الرمة: وأرسلنا الرياح لواقح) *. اللواقح لاقح وأصل اللاقح التي قبلت اللقاح فحملت الجنين، ومنه قول ذي الرمة:
* إذا قلت عاج أو تفتيت أبرقت
* بمثل الخوافي لاقحا أو تلقح
*
وأصل تلقح تتلقح حذفت إحدى التاءين أي توهم أنها لاقح وليس كذلك ووصف الرياح بكونها لواقح لأنها حوامل تحمل المطر كما قال تعالى * (حتى إذآ
266

أقلت سحابا ثقالا) * أي حملت سحابا ثقالا فاللواقح من الإبل حوامل الأجنة واللواقح من الريح حوامل المطر فالجميع يأتي بخير ولذا كانت الناقة التي لا تلد يقال لها عقيم كما أن الريح التي لا خير فيها يقال لها عقيم كما قال تعالى: * (وفى عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم) *، وقال بعض العلماء اللواقح بمعنى الملاقح أي التي تلقح غيرها من السحاب والشجر وعلى هذا ففيه وجهان:
أحدهما: أن المراد النسبة فقوله لواقح أي ذوات لقاح كما يقال سائف ورامح أي ذو سيف ورمح ومن هذا قول الشاعر: وغررتني وزعمت أنك لابن في الحي تأمر
أي ذو لبن وتمر، وعلى هذا فمعنى لواقح أي ذوات لقاح لأنها تلقح السحاب والشجر.
الوجه الثاني: أن لواقح بمعنى ملاقح جمع ملقحة وملقح اسم فاعل ألقحت السحاب والشجر كما يلقح الفحل الأنثى وغاية ما في هذا القول إطلاق لواقح وإرادة ملاقح ونظيره قول ضرار بن نهشل يرثي أخاه يزيد أو غيره: الوجه الثاني: أن لواقح بمعنى ملاقح جمع ملقحة وملقح اسم فاعل ألقحت السحاب والشجر كما يلقح الفحل الأنثى وغاية ما في هذا القول إطلاق لواقح وإرادة ملاقح ونظيره قول ضرار بن نهشل يرثي أخاه يزيد أو غيره:
* لبيك يزيد ضارع لخصومة
* ومختبط مما تطيح الطوائح
*
فإن الرواية تطيح بضم التاء من أطاح الرباعي والمناسب لذلك المطيحات لا الطوائح ولكن الشاعر أطلق الطوائح وأراد المطيحات، كما قيل هنا بإطلاق اللواقح وإرادة الملاقح أي الملقحات باسم الفاعل ومعنى إلقاح الرياح السحاب والشجر أن الله يجعلها لهما كما يجعل الذكر للأنثى فكما أن الأنثى تحمل بسبب ضراب الفحل فكذلك السحاب يمتلئ ماء بسبب مري الرياح له والشجر ينفتق عن أكمامه وأوراقه بسبب إلقاح الريح له. قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة * (وأرسلنا الرياح لواقح) * أي تلقح السحاب فتدر ماء وتلقح الشجر فتنفتح عن أوراقها وأكمامها وقال السيوطي في الدر المنثور: (وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والخرائطي في مكارم الأخلاق عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله * (وأرسلنا الرياح لواقح) * قال: يرسل الله الريح فتحمل الماء فتلقح به السحاب فيدر كما تدر اللقحة ثم يمطر). وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: يرسل الله الريح فتحمل الماء من السحاب فتمري به السحاب فيدر كما تدر
267

اللقحة. وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: * (وأرسلنا الرياح لواقح) *، قال: تلقح الشجرة وتمري السحاب: وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي رجاء رضي الله عنه قال قلت للحسن رضي الله عنه: * (وأرسلنا الرياح لواقح) * قال: لواقح للشجر، قلت: أو السحاب، قال: وللسحاب تمر به حتى يمطر. وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: * (وأرسلنا الرياح لواقح) * قال: تلقح الماء في السحاب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله: * (وأرسلنا الرياح لواقح) * قال: الريح يبعثها الله على السحاب فتلقحه فيمتلىء ماء. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب السحاب، وابن جرير وأبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه والديلمي في مسند الفردوس بسند ضعيف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (ريح الجنوب من الجنة) وهي الريح اللواقح التي ذكر الله في كتابه وفيها منافع للناس والشمال من النار تخرج فتمر بالجنة فيصيبها نفخة منها فبردها هذا من ذلك. وأخرج ابن أبي الدنيا عن قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور والجنوب من الجنة وهي الريح اللواقح).
هذا حاصل معنى كلام العلماء في الرياح اللواقح وقد قدمنا قول من قال إن اللواقح هي حوامل المطر وأن ذلك القول يدل له قوله تعالى: * (حتى إذآ أقلت سحابا ثقالا)
* أي حملتها وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يكون للشيء أوصاف فيذكر بعضها في موضع فإنا نبين بقية تلك الأوصاف المذكورة في مواضع أخر ومثلنا لذلك بظل أهل الجنة فإنه تعالى وصفه في سورة النساء بأنه ظليل في قوله: * (وندخلهم ظلا ظليلا) * وقد وصفه بأوصاف أخر في مواضع أخر وقد بينا صفات ظل أهل الجنة المذكورة في غير ذلك الموضع كقوله: * (أكلها دآئم وظلها) * وقوله: * (وظل ممدود) * إلى غير ذلك من أوصافه وإذا علمت ذلك فاعلم أنه تعالى وصف الرياح في هذه الآية بكونها لواقح وقد بينا معنى ذلك آنفا ووصفها في مواضع أخر بأوصاف أخر من ذلك وصفه لها بأنها تبشر بالسحاب في قوله: * (ومن ءاياته أن يرسل الرياح مبشرات) * وقوله: * (وهو الذى يرسل الرياح بشرى بين يدى رحمته) * على قراءة من قرأها بالباء ومن ذلك وصفه لها بإثارة السحاب كقوله: * (الله الذى يرسل
268

الرياح فتثير سحابا) * وقال صاحب الدر المنثور وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن عبيد بن عمير قال (يبعث الله المثيرة فتقم الأرض قما ثم يبعث المبشرة فتثير السحاب فيجعله كسفا ثم يبعث المؤلفة فتؤلف بينه فيجعله ركاما ثم يبعث اللواقح فتلقحه فيمطر) وأخرج ابن المنذر عن عبيد بن عمير قال: (الأرواح أربعة ريح تقم وريح تثير تجعله كسفا وريح تجعله ركاما وريح تمطر) اه.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة المسألة الأولى: أخذ مالك رحمه الله من هذه الآية الكريمة أن لقاح القمح أن يحبب ويسنبل. قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: روى ابن وهب وابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم عن مالك واللفظ لأشهب. قال مالك: قال الله تعالى * (وأرسلنا الرياح لواقح) * فلقاح القمح عندي أن يحبب ويسنبل ولا أدري ما ييبس في أكمامه ولكن يحبب حتى يكون لو يبس لم يكن فسادا لا خير فيه ولقاح الشجر كلها أن تثمر ثم يسقط منها ما يسقط ويثبت منها ما يثبت وليس ذلك بأن تورد. قال ابن العربي: إنما عول مالك في هذا التفسير على تشبيه لقاح الشجر بلقاح الحمل وأن الولد إذا عقد وخلق ونفخ فيه الروح كان بمنزلة تحبب الثمر وتسنبله لأنه سمي باسم مشترك فيه كل حاملة وعليه جاء الحديث: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحب حتى يشتد) اه من القرطبي.
قال مقيده عفا الله عنه: استنباط الإمام مالك المذكور من هذه الآية، لأن لقاح القمح أن يحبب ويسنبل، واستدلال ابن العربي له بالحديث المذكور ليس بظاهر عندي كل الظهور. * *
المسألة الثانية: اعلم أن تلقيح الثمار هو إبارها، وهو أن يؤخذ شيء من طلع ذكور النخل فيدخل بين ظهراني طلع الإناث، ومعنى ذلك سائر الثمار طلوع الثمار من التين وغيره حتى تكون الثمرة مرئية منظورا إليها. والمعتبر عند مالك وأصحابه فيما يذكر من الثمار التذكير، وفيما لا يذكر أن يثبت من نواره ما يثبت ويسقط ما يسقط، وحد ذلك في الزرع ظهوره من الأرض، قاله مالك. وقد روي عنه أن إباره أن يحبب اه، قاله القرطبي. وقال أيضا: لم يختلف العلماء أن الحائط إذا انشق طلع إناثه فأخر إباره وقد أبر غيره مما حاله مثل حاله أن حكمة حكم ما أبر، فإن أبر بعض الحائط كان ما لم يؤبر تبعا له، كما أن
269

الحائط إذا بدا صلاح بعضه كان سائر الحائط تبعا لذلك الصلاح في جواز بيعه اه. وسيأتي لهذا إن شاء الله زيادة إيضاح. * *
المسألة الثالثة: إذا بيع حائط نخل بعد أن أبر فثمرته للبائع إلا أن يشترطها المبتاع، فإن اشترطها المبتاع فهي له، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع الذي باعها إلا أن يشترطها المبتاع) متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. فإن بيعت النخل قبل التأبير فالثمرة للمشتري، واختلف في استثناء البائع لها، فمشهور مذهب مالك أنها كالجنين لا يجوز للبائع اشتراطها ولا استثناؤها بناء على أن المستثني مشتري خلافا لتصحيح اللخمي جواز استثناء البائع لها بناء على أن المستثنى مبقى وجواز استثنائها هو مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة رحمهم الله تعالى.
قال مقيده عفا الله عنه: وهو أظهر عندي لأن كون المستثني مبقي أظهر من كونه مشتري لأنه كان مملوكا للبائع، ولم يزل على ملكه لأن البيع لم يتناوله لاستثنائه من جملة المبيع كما ترى. وهذا الذي ذكرنا في هذه المسألة هو الحق إن شاء الله تعالى، فما أبر فهو للبائع إلا بشرط، وما لم يؤبر فهو للمشتري إلا بشرط خلافا لابن أبي ليلى القائل: هي للمشتري في الحالين لأنها متصلة بالأصل اتصال خلقة فكانت تابعة له كالأغصان. وهذا الاستدلال فاسد الاعتبار لمخالفته لحديث ابن عمر المتفق عليه المذكور آنفا، فقد صرح فيه النبي صلى الله عليه وسلم بأن البيع إن كان وقع بعد التأبير فالثمرة للبائع، وخلافا للإمام أبي حنيفة والأوزاعي رحمهما الله تعالى في قولهما: إنها للبائع في الحالين. والحديث المذكور يرد عليهما بدليل خطابه أعني مفهوم مخالفته لأن قوله صلى الله عليه وسلم (من ابتاع نخلا قد أبرت) الحديث يفهم منه أنها إن كانت غير مؤبرة فليس الحكم كذلك وإلا كان قوله (قد أبرت) وقوله (بعد أن تؤبر) في بعض الروايات لغوا لا فائدة فيه فيتعين أن ذكر وصف التأبير ليحترز به عن غيره، ومعلوم أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله لا يقول بحجته مفهوم المخالفة، فالجاري على أصوله أن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور نص على حكم الثمرة المؤبرة وسكت عن غير المؤبرة فلم يتعرض لها أصلا. وإن أبر بعض الثمرة التي بيعت أصولها وبعضها الآخر لم يؤبر فمذهب مالك أنه إن كان أحدهما أكثر فالأقل تابع له، وإن استويا فلكل حكمه، فالمؤبر للبائع وغيره للمشتري. ومذهب الإمام أحمد أن لكل واحد من المؤبر وغيره حكمه، وأبو حنيفة لا فرق عنده بين المؤبر وغيره فالجميع عنده للبائع إلا إذا اشترطه المبتاع، ومذهب الشافعي رحمه الله الصحيح من الخلاف أن ما لم يؤبر تبع للمؤبر
270

فيبقى الجميع للبائع دفعا لضرر اختلاف الأيدي. واعلم أن استثناء بعض الثمرة دون بعض يجوز في قول جمهور العلماء وفاقا لأشهب من أصحاب مالك وخالف بن القاسم فقال: لا يجوز استثناء بعض المؤبرة. وحجة الجمهور أن ما جاز استثناء جميعه جاز استثناء بعضه، وحجة ابن القاسم أن النص إنما ورد في اشتراط الجميع.
واعلم أن أكثر العلماء على أن الثمرة المؤبرة التي هي للبائع إن لم يستثنها المشتري فإنها تبقى إلى وقت الانتفاع المعتاد بها ولا يكلفه المشتري بقطعها في الحال، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد. وخالف في ذلك أبو حنيفة قائلا: يلزم قطعها في الحال وتفريغ النخل منها لأنه مبيع مشغول بملك البائع فلزم نقله وتفريغه منه كما لو باع
دارا فيها طعام أو قماش له. واحتج الجمهور بأن النقل والتفريغ للمبيع على حسب العرف والعادة كما لو باع دارا فيها طعام لم يجب نقله على حسب العادة في ذلك وهو أن ينقله نهارا شيئا بعد شيء ولا يلزمه النقل ليلا ولا جمع دواب البلد لنقله، كذلك ها هنا يفرغ النخل من الثمرة في أوان وهو وقت الجذاذ، قاله ابن قدامة في المغني. * *
المسألة الرابعة: لو اشتريت النخل وبقيت الثمرة للبائع فهل لمشتري الأصل أن يشتري الثمرة قبل بدو صلاحها؟
أولا: اختلف العلماء في ذلك، فمشهور مذهب مالك جواز ذلك لأن لها عنده حكم التبعية وإن أفردت بالعقد، وعنه في رواية أخرى: لا يجوز ذلك. وللشافعية والحنابلة وجهان بالمنع والجواز. قال ابن قدامة في المغني، ونسب القرطبي للشافعي وأبي حنيفة والثوري وأهل الظاهر وفقهاء الحديث القول بمنع ذلك ثم قال: وهو الأظهر من أحاديث النهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها. * *
المسألة الخامسة: إذا اشتريت الثمرة وحدها دون الأصل قبل بدو صلاحها فلها ثلاث حالات:
الأولى: أن يبيعها بشرط التبقية إلى وقت الجذاذ، وفي هذه الحالة لا يصح البيع إجماعا.
الثانية: أن يبيعها بشرط قطعها في الحال، وفي هذه الحالة يصح البيع إجماعا. الثالثة: أن يبيعها من غير شرط تبقية ولا قطع بل سكتا عن ذلك وعقدا البيع مطلقا دون شرط، وفي هذه الحالة لا يصح البيع عند جمهور العلماء منهم مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى. وأجاز أبو حنيفة رحمه الله البيع في هذه الحالة وأوجب قطع الثمرة حالا، قال: لأن إطلاق العقد يقتضي القطع فهو كما لو اشترطه، وحجة الجمهور إطلاق النصوص الواردة بذلك عنه صلى الله عليه وسلم. من ذلك ما أخرجه الشيخان
271

والإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمبتاع، وفي لفظ نهى عن بيع النخل حتى تزهو وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة رواه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجة. ومن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أنس رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى تزهى، قيل وما زهوتها؟ قال تحمار وتصفار) ومن ذلك أيضا ما رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تبايعوا الثمار حتى يبدو صلاحها) ومن ذلك ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححاه عن أنس رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب حتى يسود وعن بيع الحب حتى يشتد).
فإطلاقات هذه النصوص ونحوها تدل على منع بيع الثمرة قبل بدو صلاحها في حالة الإطلاق وعدم الاشتراط كما تقدم.
وقرأ هذه الآية الكريمة جماهير القراء * (وأرسلنا الرياح) * بصفة الجمع وقرأها حمزة * (وأرسلنا * الريح) * بالإفراد والألف على قراءة حمزة للجنس ولذلك صح الجمع في قوله * (لواقح) * قال أبو حيان في البحر المحيط ومن قرأ بإفراد الريح فعلى تأويل الجنس كما قالوا أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض اه. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى * (فأنزلنا من السمآء ماء فأسقيناكموه) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة عظيم منته بإنزال الماء من السماء وجعله إياه عذبا صالحا للسقيا وبين ذلك أيضا في مواضع أخر كقوله * (أفرءيتم المآء الذى تشربون أءنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشآء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون) * وقوله: * (هو الذى أنزل من السماء مآء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات) * وقوله * (وأنزلنا من السمآء مآء طهورا لنحيى به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنآ أنعاما وأناسى كثيرا) * إلى غير ذلك من الآيات.
والتحقيق أن أسقى وسقى لغتان معناهما واحد كأسرى وسرى والدليل على ذلك
272

القراءتان السبعيتان في قوله: * (وإن لكم فى الا نعام لعبرة نسقيكم مما فى بطونه) * فإنه قرأه بعض السبعة بضم النون من أسقى الرباعي وقرأه بعضهم بفتحها من سقى الثلاثي ويدل على ذلك أيضا قول لبيد: وإن لكم فى الا نعام لعبرة نسقيكم مما فى بطونه) * فإنه قرأه بعض السبعة بضم النون من أسقى الرباعي وقرأه بعضهم بفتحها من سقى الثلاثي ويدل على ذلك أيضا قول لبيد:
* سقى قومي بني مجد وأسقى
* نميرا والقبائل من هلال
* ومآ أنتم له بخازنين) *. فيه للعلماء وجهان من التفسير كلاهما يشهد له قرآن الأول: أن معنى * (ومآ أنتم له بخازنين) * أي ليست خزائنه عندكم بل نحن الخازنون له ننزله متى شئنا وهذا الوجه تدل عليه آيات كقوله * (وإن من شىء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) * وقوله: * (ولله خزآئن السماوات والا رض) * ونحو ذلك من الآيات، الوجه الثاني: أن معنى * (ومآ أنتم له بخازنين) * بعد أن أنزلناه عليكم أي لا تقدرون على حفظه في الآبار والعيون والغدران بل نحن الحافظون له فيها ليكون ذخيرة لكم عند الحاجة ويدل لهذا الوجه قوله تعالى * (وأنزلنا من السمآء مآء بقدر فأسكناه فى الا رض وإنا على ذهاب به لقادرون) * وقوله: * (قل أرءيتم إن أصبح مآؤكم غورا فمن يأتيكم بمآء معين) * وقوله: * (أو يصبح مآؤها غورا فلن تستطيع له طلبا) * وقوله: * (ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء فسلكه ينابيع فى الا رض) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (وإنا لنحن نحى ونميت) *. بين في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي يحيي ويميت وأوضح ذلك في آيات كثيرة كقوله: * (إنا نحن نحى ونميت وإلينا المصير) * وقوله تعالى: * (ربي الذى يحى ويميت) * وقوله * (لا إلاه إلا هو يحى ويميت
ربكم ورب ءابآئكم الا ولين) * وبين في مواضع أخر أنه أحياهم مرتين وأماتهم مرتين كقوله: * (قالوا ربنآ أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى) * والإماتة الأولى هي كونهم نطفا وعلقا ومضغا والإماتة الثانية هي موتهم عند انقضاء آجالهم في الدنيا والإحياءة الأولى نفخ الروح فيهم وإخراجهم أحياء من بطون أمهاتهم والإحياءة الثانية بعثهم من قبورهم أحياء يوم القيامة وسيأتي له إن شاء الله تعالى زيادة إيضاح
273

. قوله تعالى: * (ونحن الوارثون) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه الوارث ولم يبين الشيء الذي يرثه وبين في مواضع أخر أنه يرث الأرض ومن عليها كقوله: * (إنا نحن نرث الا رض ومن عليها وإلينا يرجعون) * وقوله: * (ونرثه ما يقول ويأتينا فردا) * ومعنى ما يقول أي نرثه الذي يقول إنه يؤتاه يوم القيامة من المال والولد كما ذكره الله عنه في قوله: * (أفرأيت الذى كفر بأاياتنا وقال لأوتين مالا وولدا) * ومعنى كونه يرث الأرض ومن عليها أنه يبقى بعد فناء خلقة متصفا بصفات الكمال والجلال يفعل ما يشاء كيف يشاء. * (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون * والجآن خلقناه من قبل من نار السموم * وإذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون) * قوله تعالى: * (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه خلق أبانا آدم من صلصال من حمأ مسنون والصلصال الطين اليابس الذي يصل أي يصوت من يبسه إذا ضربه شيء ما دام لم تمسه النار فإذا مسته النار فهو حينئذ فخار، وأصل الصليل والصلصلة واحد، والفرق بينهما أنك إذا توهمت في الصوت مدا فهو صليل، وإذا توهمت فيه ترجيعا فهو صلصلة، والحمأ: الطين الأسود المتغير والمسنون. قيل: المصور من سنة الوجه وهي صورته، ومنه قول ذي الرمة: ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه خلق أبانا آدم من صلصال من حمأ مسنون والصلصال الطين اليابس الذي يصل أي يصوت من يبسه إذا ضربه شيء ما دام لم تمسه النار فإذا مسته النار فهو حينئذ فخار، وأصل الصليل والصلصلة واحد، والفرق بينهما أنك إذا توهمت في الصوت مدا فهو صليل، وإذا توهمت فيه ترجيعا فهو صلصلة، والحمأ: الطين الأسود المتغير والمسنون. قيل: المصور من سنة الوجه وهي صورته، ومنه قول ذي الرمة:
* تريك سنة وجه غير مقرفة
* ملساء ليس بها خال ولا ندب
*
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لما سأله نافع بن الأزرق عن معنى المسنون وأجابه بأن معناه المصور قال له: وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال له ابن عباس: نعم، أما سمعت قول حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وهو يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم::
* أغر كأن البدر سنة وجهه
* جلا الغيم عنه ضوءه فتبددا
*
وقيل المسنون المصبوب المفرغ أي أفرغ صورة إنسان كما تفرغ الصور من الجواهر المذوبة في أمثلتها وقبل المسنون المنتن وقال بعض العلماء المسنون الأملس قال ومنه قول عبد الرحمن بن حسان: وقيل المسنون المصبوب المفرغ أي أفرغ صورة إنسان كما تفرغ الصور من الجواهر المذوبة في أمثلتها وقبل المسنون المنتن وقال بعض العلماء المسنون الأملس قال ومنه قول عبد الرحمن بن حسان:
* ثم خاصرتها إلى القبة الخضراء
* تمشي في مرمر مسنون
*
أي أملس صقيل قاله ابن كثير وقال مجاهد الصلصال هو المنتن وما قدمنا هو الحق بدليل قوله تعالى: * (خلق الإنسان من صلصال كالفخار) * إذا عرفت هذا فاعلم أن الله جل وعلا أوضح في كتابه أطوار هذا الطين الذي خلق منه آدم فبين أنه
274

أولا تراب بقوله: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب) * وقوله: * (ياأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب) * وقوله: * (هو الذى خلقكم من تراب ثم من نطفة) * إلى غير ذلك من الآيات ثم أشار إلى أن ذلك التراب بل فصار طينا يعلق بالأيدي في مواضع أخر كقوله: * (إنا خلقناهم من طين لازب) * وقوله * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) * وقوله: * (وبدأ خلق الإنسان من طين) * إلى غير ذلك من الآيات وبين أن ذلك الطين أسود وأنه متغير بقوله هنا * (من حمإ مسنون) * وبين أيضا أنه يبس حتى صار صلصالا أي تسمع له صلصلة من يبسه بقوله: * (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال) * وقوله: * (خلق الإنسان من صلصال كالفخار) * والعلم عند الله تعالى. * (إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين * قال ياإبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين * قال لم أكن لاسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون * قال فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين * قال رب فأنظرنى إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم * قال رب بمآ أغويتنى لأزينن لهم فى الا رض ولأغوينهم أجمعين) * وقوله تعالى * (إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين) *. بين في هذه الآية الكريمة أن إبليس أبى أن يسجد لآدم وبين في مواضع أخر أنه تكبر عن امتثال أمر ربه كقوله في البقرة: * (إلا إبليس أبى واستكبر) * وقوله في ص * (إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين) * وأشار إلى ذلك هنا بقوله: * (قال لم أكن لاسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون) *. كما تقدمت الإشارة
إليه. قوله تعالى * (قال ياإبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه سأل إبليس سؤال توبيخ وتقريع عن الموجب لامتناعه من السجود لآدم الذي أمره به ربه جل وعلا وبين أيضا في الأعراف وص أنه وبخه أيضا بهذا السؤال قال في الأعراف * (قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) * وقال في ص: * (قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى) * وناداه باسمه إبليس في الحجر وص ولم يناده به في الأعراف. قوله تعالى: * (قال لم أكن لاسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون) *. هذا القول الذي ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن إبليس لعنه الله أنه لم يكن ليسجد لبشر مخلوق من الطين مقصوده به أنه خير من آدم لأن آدم خلق من الطين وهو خلق من النار كما يوضحه قوله تعالى: * (قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) *.
275

قوله تعالى: * (قال فاخرج منها فإنك رجيم) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أمر إبليس بالخروج من الجنة مؤكدا أنه رجيم وبين في الأعراف أنه خروج هبوط وأنه يخرج متصفا بالصغار والذل والهوان بقوله: * (قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين) *. قوله تعالى: * (وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين) *. بين في هذه الآية الكريمة أن اللعنة على إبليس إلى يوم الدين وصرح في ص بأن لعنته جل وعلا في إبليس إلى يوم الدين بقوله: * (وإن عليك لعنتى إلى يوم الدين) * وقد قدمنا في الفاتحة بيان يوم الدين. قوله تعالى * (قال رب بمآ أغويتنى) *. قال بعض العلماء هذا قسم من إبليس بإغواء الله له على أنه يغوي بني آدم إلا عباد الله المخلصين ويدل له أنه أقسم بعزته تعالى على ذلك في قوله * (قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين) * وقيل الباء في قوله * (بمآ أغويتنى) * سببية. قوله تعالى: * (لأزينن لهم فى الا رض ولأغوينهم أجمعين) *. ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن إبليس أخبر أنه سيبذل جهده في إضلال بني آدم حتى يضل أكثرهم وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: * (لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمآئلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) * وقوله: * (وقال لاتخذن من عبادك نصيبا مفروضا) * وقوله: * (قال أرءيتك هاذا الذى كرمت على لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا) * وهذا قاله إبليس قبل أن يقع ظنا منه أنه يتمكن من إضلال أكثر بني آدم، وقد بين تعالى أنه صدق ظنه هذا بقوله * (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين) * وكل آية فيها ذكر إضلال إبليس لبني آدم بين فيها أن إبليس وجميع من تبعه كلهم في النار كما قال هنا * (وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب) *، وقال في الأعراف: * (قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين) * وقال في سورة بني إسرائيل: * (قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزآؤكم جزاء موفورا) * وقال في ص: * (قال فالحق والحق أقول لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) *.
276

* (إلا عبادك منهم المخلصين * قال هذا صراط على مستقيم * إن عبادى ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين * وإن جهنم لموعدهم أجمعين * لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم * إن المتقين فى جنات وعيون * ادخلوها بسلام ءامنين * ونزعنا ما فى صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين * لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين * نبىء عبادى أنى أنا الغفور الرحيم * وأن عذابى هو العذاب الا ليم * ونبئهم عن ضيف إبراهيم) *) * قوله تعالى: * (إلا عبادك منهم المخلصين) *. ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الشيطان لما أوعد بأنه سيضل أكثر بني آدم استثنى من ذلك عباد الله المخلصين معترفا بأنه لا قدرة له على إضلالهم ونظيره قوله في ص أيضا * (قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين * قال فالحق والحق أقول) * وعباد الله المخلصون هم المرادون بالاستثناء في قوله في بني إسرائيل * (لأحتنكن ذريته إلا قليلا) * وقوله في سبأ * (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين) * وهم الذين احترز منهم بقوله * (ولا تجد أكثرهم شاكرين) * وبين تعالى في مواضع أخر أن الشيطان لا سلطان له على أولئك المخلصين كقوله * (إن عبادى ليس لك عليهم سلطان) * وقوله: * (إنه ليس له سلطان على الذين ءامنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه) * وقوله * (وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالا خرة ممن هو منها فى شك) *. وقوله: * (وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى) * وقوله: * (المخلصين) * قرأه ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو بكسر اللام اسم فاعل وقرأه نافع والكوفيون بفتح اللام بصيغة اسم المفعول. قوله تعالى: * (إن المتقين فى جنات وعيون ادخلوها بسلام ءامنين) *. بين فيه هذه الآية الكريمة أن المتقين يوم القيامة في جنات وعيون، ويقال لهم يوم القيامة: * (ادخلوها بسلام ءامنين) * وذكر في مواضع أخر صفات ثوابهم وربما بين بعض تقواهم التي نالوا بها هذا الثواب الجزيل كقوله في الذاريات: * (إن المتقين فى جنات وعيون ءاخذين مآ ءاتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من اليل ما يهجعون وبالا سحار هم يستغفرون وفى أموالهم حق للسآئل والمحروم) * وقوله في الدخان: * (إن المتقين فى مقام أمين فى جنات وعيون يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين كذلك وزوجناهم بحور عين يدعون فيها بكل فاكهة ءامنين إن الله وملائكته يصلون على النبى ياأيها الذين ءامنوا صلوا فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم) * وقوله في الطور: * (إن المتقين فى جنات ونعيم فاكهين بمآ ءاتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون متكئين على سرر مصفوفة
277

وزوجناهم بحور عين) * وقوله في القمر: * (إن المتقين فى جنات ونهر فى مقعد صدق عند مليك مقتدر) * وقوله في المرسلات: * (إن المتقين فى ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقد بينا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن الشيء الذي له أوصاف متعددة في القرآن نبين أوصافه عند ذكر بعضها كما تقدم مثاله مرارا وكما هنا.
والمتقي اسم فاعل الاتقاء وأصل مادة الاتقاء (و ق ي) لفيف مفروق فاؤه واو وعينه قاف ولامه ياء فدخله تاء الافتعال فصارت وقي أو تقي فأبدلت الواو التي هي فاء الكلمة تاء للقاعدة المقررة في التصريف أن كل واو هي فاء الكلمة إذا دخلت عليها تاء الافتعال يجب إبدالها أعني الواو تاء وإدغامها في تاء الافتعال نحو اتصل من الوصل واتزن من الوزن واتحد من الوحدة واتقى من الوقاية وعقد هذه القاعدة ابن مالك في الخلاصة بقوله: والمتقي اسم فاعل الاتقاء وأصل مادة الاتقاء (و ق ي)
لفيف مفروق فاؤه واو وعينه قاف ولامه ياء فدخله تاء الافتعال فصارت وقي أو تقي فأبدلت الواو التي هي فاء الكلمة تاء للقاعدة المقررة في التصريف أن كل واو هي فاء الكلمة إذا دخلت عليها تاء الافتعال يجب إبدالها أعني الواو تاء وإدغامها في تاء الافتعال نحو اتصل من الوصل واتزن من الوزن واتحد من الوحدة واتقى من الوقاية وعقد هذه القاعدة ابن مالك في الخلاصة بقوله:
* ذو اللين فاتا في افتعال أبدلا
* وشذ في ذي الهمز نحو ائتكلا
*
والاتقاء في اللغة: اتخاذ الوقاية دون المكروه ومنه قول نابغة ذبيان: والاتقاء في اللغة: اتخاذ الوقاية دون المكروه ومنه قول نابغة ذبيان:
* سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
* فتناولته واتقتنا باليد
*
يعني استقبلتنا بيدها جاعلة إياها وقاية تقيها من أن ننظر إلى وجهها لأنها تستره بها وقول الآخر: يعني استقبلتنا بيدها جاعلة إياها وقاية تقيها من أن ننظر إلى وجهها لأنها تستره بها وقول الآخر:
* فألقت قناعا دونه الشمس واتقت
* بأحسن موصولين كف ومعصم
*
والتقوى في اصطلاح الشرع: هي اتخاذ الوقاية دون عذاب الله وسخطه وهي مركبة من أمرين هما امتثال أمر الله واجتناب نهيه. قوله تعالى: * (ونزعنا ما فى صدورهم من غل إخوانا) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه نزع ما في صدور أهل الجنة من الغل في حال كونهم إخوانا وبين هذا المعنى في الأعراف وزاد أنهم تجري من تحتهم الأنهار في نعيم الجنة وذلك في قوله: * (ونزعنا ما فى صدورهم من غل تجرى من تحتهم الا نهار وقالوا الحمد لله الذى هدانا لهاذا) *.
278

قوله تعالى: * (على سرر متقابلين) *. بين في هذه الآية الكريمة أن المتقين الذين هم أهل الجنة يوم القيامة يكونون على سرر وأنهم متقابلون ينظر بعضهم إلى وجه بعض ووصف سررهم بصفات جميلة في غير هذا الموضع منها أنها منسوجة بقضبان الذهب وهي الموضوعة قال في الواقعة: * (ثلة من الا ولين وقليل من الا خرين على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين) * وقيل الموضوعة المصفوفة كقوله: * (متكئين على سرر مصفوفة) * ومنها أنها مرفوعة كقوله في الغاشية: * (فيها سرر مرفوعة) * وقوله في الواقعة: * (وفرش مرفوعة) *، وقوله: * (متكئين على رفرف خضر وعبقرى حسان) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (لا يمسهم فيها نصب) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن أهل الجنة لا يمسهم فيها نصب وهو التعب والإعياء وقوله نصب نكرة في سياق النفي فتعم كل نصب فتدل الآية على سلامة أهل الجنة من جميع أنواع التعب والمشقة وأكد هذا المعنى في قوله تعالى: * (الذى أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب) * لأن اللغوب هو التعب والإعياء أيضا وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب). قوله تعالى: * (وما هم منها بمخرجين) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن أهل الجنة لا يخرجون منها وأكد نفي إخراجهم منها بالباء في قوله * (بمخرجين) * فيهم دائمون في نعيمها أبدا بلا انقطاع. وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: * (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا) * وقوله: * (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا) * وقوله: * (عطآء غير مجذوذ) * وقوله: * (إن هاذا لرزقنا ما له من نفاد) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (ونبئهم عن ضيف إبراهيم) *. بين في مواضع أخر أن ضيف إبراهيم المذكورين في هذه الآية أنهم ملائكة كقوله في هود: * (ولقد جآءت رسلنآ إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جآء بعجل حنيذ) * كما تقدم وقوله: * (قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنآ أرسلنآ إلى قوم مجرمين) *
279

إلى غير ذلك من الآيات. * (إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون * قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم * قال أبشرتمونى على أن مسنى الكبر فبم تبشرون * قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين * قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضآلون * قال فما خطبكم أيها المرسلون * قالوا إنآ أرسلنآ إلى قوم مجرمين * إلا ءال لوط إنا لمنجوهم أجمعين * إلا امرأته قدرنآ إنها لمن الغابرين * فلما جآء ءال لوط المرسلون * قال إنكم قوم منكرون * قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون * وآتيناك بالحق وإنا لصادقون * فأسر بأهلك بقطع من اليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون * وقضينآ إليه ذلك الا مر أن دابر هاؤلآء مقطوع مصبحين) *) * قوله تعالى: * (إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون) *. لم يبين تعالى في هذه الآية الكريمة هل رد إبراهيم السلام على الملائكة أو لا لأنه لم يذكر هنا رده السلام عليهم وإنما قال عنه إنه قال لهم إنا منكم وجلون وبين في هود والذاريات أنه رد عليهم السلام بقوله في هود * (قال سلام فما لبث أن جآء بعجل حنيذ) * وقوله في الذاريات: * (قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجآء بعجل سمين) * وبين أن الوجل المذكور هنا هو الخوف لقوله في القصة بعينها في هود: * (وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف) * وقوله في الذاريات: * (فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف) *. وقد قدمنا أن من أنواع البيان في هذا الكتاب بيان اللفظ بمرادف له
أشهر منه كما هنا لأن الخوف يرادف الوجل وهو أشهر منه، وبين أن سبب خوفه هو عدم أكلهم بقوله: * (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة) *. قوله تعالى: * (قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم) *. ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن أولئك الضيف الكرام الذين هم ملائكة بشروا إبراهيم بغلاف موصوف بالعلم ونظير ذلك قوله تعالى أيضا في الذاريات: * (قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم) * وهذا الغلام بين تعالى أنه هو إسحاق كما يوضح ذلك قوله في الذاريات * (وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته فى صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم) * لأن كونها أقبلت في صرة أي صيحة وضجة وصكت وجهها أي لطمته قائلة إنها عجوز عقيم يدل على أن الولد المذكور هي أمه كما لا يخفى ويزيده إيضاحا تصريحه تعالى ببشارتها هي بأنها تلده مصرحا باسمه واسم ولده يعقوب وذلك في قوله تعالى في هود في القصة بعينها: * (وامرأته قآئمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن ورآء إسحاق يعقوب قالت ياويلتا ءألد وأنا عجوز وهاذا بعلى شيخا إن هاذا لشىء عجيب) * وأما الغلام الذي بشر به إبراهيم الموصوف بالحلم المذكور في الصافات في قوله تعالى: * (وقال إنى ذاهب إلى ربى سيهدين رب هب لى من الصالحين فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعى قال يابنى إنى أرى فى المنام أنى أذبحك) * فهو إسماعيل وسترى إن شاء
280

الله تعالى في سورة الصافات دلالة الآيات القرآنية على أن الذبيح إسماعيل لا إسحاق على وجه قاطع للنزاع، والغلام يطلق في لغة العرب على العبد وعلى الصغير الذي لم يبلغ وعلى الرجل البالغ ومن إطلاقه على البالغ قول علي رضي الله يوم النهروان: فلما بلغ معه السعى قال يابنى إنى أرى فى المنام أنى أذبحك) * فهو إسماعيل وسترى إن شاء الله تعالى في سورة الصافات دلالة الآيات القرآنية على أن الذبيح إسماعيل لا إسحاق على وجه قاطع للنزاع، والغلام يطلق في لغة العرب على العبد وعلى الصغير الذي لم يبلغ وعلى الرجل البالغ ومن إطلاقه على البالغ قول علي رضي الله يوم النهروان:
* أنا الغلام القرشي المؤتمن
* أبو حسين فاعلمن والحسن
*
وقول صفوان بن المعطل السلمي لحسان رضي الله عنهما: وقول صفوان بن المعطل السلمي لحسان رضي الله عنهما:
* تلق ذباب السيف عني فإنني
* غلام إذا هوجيت لست بشاعر
*
وقول ليلى الأخيلية تمدح الحجاج بن يوسف: وقول ليلى الأخيلية تمدح الحجاج بن يوسف:
* إذا نزل الحجاج أرضا مريضة
* تتبع أقصى دائها فشفاها
*
* شفاها من الداء العضال الذي بها
* غلام إذا هز القناة سقاها
*
وربما قالوا للأنثى غلامة ومنه قول أوس بن غلفاء الهجيمي يصف فرسا: وربما قالوا للأنثى غلامة ومنه قول أوس بن غلفاء الهجيمي يصف فرسا:
* ومركضة صريحي أبوها
* يهان لها الغلامة والغلام
* قال أبشرتمونى على أن مسنى الكبر) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن نبيه إبراهيم قال: إنه وقت البشرى بإسحاق مسه الكبر. وصرح في هود بأن امرأته أيضا قالت إنه شيخ كبير في قوله عنها: * (وهاذا بعلى شيخا) * كما صرح عنها هي أنها وقت البشرى عجوز كبيرة السن وذلك كقوله في هود: * (قالت ياويلتا ءألد وأنا عجوز) *، وقوله في موضع آخر: * (فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم) *. وبين في موضع آخر عن نبيه إبراهيم أنه وقت هبة الله له ولده إسماعيل أنه كبير السن أيضا وذلك قوله تعالى: * (الحمد لله الذى وهب لى على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربى لسميع الدعآء) *. قوله تعالى: * (فبم تبشرون) *. الظاهر أن استفهام نبي الله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام للملائكة بقوله * (فبم تبشرون) * استفهام تعجب من كمال قدرة الله تعالى ويدل لذلك أنه تعالى ذكر أن ما وقع له وقع نظيره لامرأته حيث قالت * (وأنا عجوز وهاذا) * وقد بين تعالى أن ذلك الاستفهام لعجبها من ذلك الأمر الخارق للعادة في قوله: * (قالوا أتعجبين من أمر الله) * ويدل له أيضا وقوع مثله من نبي الله زكريا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لأنه لما قال: * (رب هب لى من لدنك ذرية
281

طيبة) * * (فنادته الملائكة وهو قائم يصلى فى المحراب أن الله يبشرك بيحيى) * عجب من كمال قدرة الله تعالى فقال: * (رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتى عاقر) * وقوله * (فبم تبشرون) * قرأه ابن عامر وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي بفتح النون مخففة وهي نون الرفع وقرأه نافع بكسر النون مخففة وهي نون الوقاية مع حذف ياء المتكلم لدلالة الكسرة عليها وقرأه ابن كثير بالنون المكسورة المشددة مع المد فعلى قراءة ابن كثير لم يحذف نون الرفع ولا المفعول به بل
نون الرفع مدغمة في نون الوقاية وياء المتكلم هي المفعول به وعلى قراءة الجمهور فنون الرفع ثابتة والمفعول به محذوف على حد قول ابن مالك.
* وحذف فضلة أجز إن لم يضر
* كحذف ما سيق جوابا أو حصر
*
وعلى قراءة نافع فنون الرفع محذوفة لاستثقال اجتماعها مع نون الوقاية.
تنبيه
حذف نون الرفع له خمس حالات ثلاث منها يجب فيها حذفها وواحدة يجوز فيها حذفها وإثباتها وواحدة يقصر فيها حذفها على السماع، أما الثلاث التي يجب فيها الحذف فالأولى منها إذا دخل على الفعل عامل جزم والثانية إذا دخل عليه عامل نصب والثالثة إذا أكد الفعل بنون التوكيد الثقيلة نحو لتبلون وأما الحالة التي يجوز فيها الإثبات والحذف فهي ما إذا اجتمعت مع نون الرفع نون الوقاية لكون المفعول ياء المتكلم فيجوز الحذف والإثبات ومن الحذف قراءة نافع في هذه الآية * (فبم تبشرون) * بالكسر وكذلك قوله تعالى: * (قال أتحاجونى فى الله وقد هدانى ولا أخاف ما) *. وقوله تعالى: * (ويقول أين شركآئى الذين كنتم تشاقون فيهم) * بكسر النون مع التخفيف في الجميع أيضا وقوله * (قل أفغير الله تأمرونى أعبد) * بالكسر مع التخفيف أيضا وكلها قرأها بعض القراء بالتشديد لإثبات نون الرفع وإدغامها في نون الوقاية وأما الحالة الخامسة المقصورة على السماع فهي حذفها لغير واحد من الأسباب الأربعة المذكورة كقول الراجز: قل أفغير الله تأمرونى أعبد) * بالكسر مع التخفيف أيضا وكلها قرأها بعض القراء بالتشديد لإثبات نون الرفع وإدغامها في نون الوقاية وأما الحالة الخامسة المقصورة على السماع فهي حذفها لغير واحد من الأسباب الأربعة المذكورة كقول الراجز:
* أبيت أسري وتبيت تدلكي
* وجهك بالعنبر والمسك الذكي
*
أما بقاء نون الرفع مع الجازم في قوله: أما بقاء نون الرفع مع الجازم في قوله:
282

* لولا فوارس من نعم وأسرتهم
* يوم الصليفاء لم يوفون بالجار
*
فهو نادر حملا للم على أختها لا النافية أو ما النافية وقيل هو لغة قوم كما صرح به في التسهيل وكذلك بقاء النون مع حرف النصب في قوله: فهو نادر حملا للم على أختها لا النافية أو ما النافية وقيل هو لغة قوم كما صرح به في التسهيل وكذلك بقاء النون مع حرف النصب في قوله:
* أن تقرأن على أسماء ويحكما
* مني السلام وألا تشعرا أحدا
*
فهو لغة قوم حملوا أن المصدرية على أختها ما المصدرية في عدم النصب بها كما أشار له في الخلاصة بقوله: فهو لغة قوم حملوا أن المصدرية على أختها ما المصدرية في عدم النصب بها كما أشار له في الخلاصة بقوله:
* وبعضهم أهمل أن حملا على
* ما أختها حيث استحقت عملا
*
ولا ينافي كون استفهام إبراهيم للتعجب من كمال قدرة الله قول الملائكة له فيما ذكر الله عنهم: * (قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين) * بدليل قوله: * (قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضآلون) * لأنه دليل على أن استفهامه ليس استفهام منكر ولا قانط والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضآلون) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن نبيه إبراهيم قال للملائكة إنه لا يقنط من رحمة الله جل وعلا إلا الضالون عن طريق الحق وبين أن هذا المعنى قاله أيضا يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم لبنيه في قوله: * (يابنى اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تايأسوا من روح الله إنه لا يايأس من روح الله إلا القوم الكافرون) * قال أبو حيان في البحر المحيط في تفسير قوله تعالى: * (إنه لا يايأس من روح الله) * وروح الله رحمته وفرجه وتنفيسه. قوله تعالى: * (قالوا إنآ أرسلنآ إلى قوم مجرمين إلا ءال لوط) *. أشار في هذه الآية الكريمة إلى أن المراد بهؤلاء القوم المجرمين قوم لوط الذين أرسل إليهم فكذبوه ووجه إشارته تعالى لذلك استثناء لوط وأهله غير امرأته في قوله: * (إلا ءال لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته) * وصرح بأنهم قوم لوط بقوله في هود في القصة بعينها: * (إنا أرسلنا إلى قوم لوط) * وصرح في الذاريات بأنهم أرسلوا إلى هؤلاء القوم المجرمين ليرسلوا عليهم حجارة من طين في قوله: * (قالوا إنآ أرسلنآ إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من
طين) * وصرح في العنكبوت أنهم قالوا إنهم مهلكوهم بسبب ظلمهم ومنزلون عليهم
283

رجزا من السماء بسبب فسقهم وذلك في قوله تعالى: * (ولما جآءت رسلنآ إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هاذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها) *، وقوله: * (وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين إنا منزلون على أهل هاذه القرية رجزا من السمآء بما كانوا يفسقون) * وقوله: * (إلا ءال لوط إنا لمنجوهم أجمعين) * بين في هذه الآية الكريمة أنه استثنى آل لوط من ذلك العذاب النازل بقومه وأوضح هذا المعنى في آيات أخر كما تقدم في هود في قوله: * (قالوا يالوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من اليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك) * وقوله في العنكبوت: * (وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك) * وقوله * (فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين) * وقوله: * (فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا فى الغابرين) * وقوله: * (فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين) * إلى غير ذلك من الآيات. وما ذكر في هذه الآية الكريمة من استثناء امرأته من أهله الناجين في قوله: * (إلا امرأته قدرنآ إنها لمن الغابرين) *، أوضحه في هذه الآيات التي ذكرنا آنفا ونحوها من الآيات، وبين في الذاريات أنه أنجى من كان في قوم لوط من المؤمنين وأنهم لم يكن فيهم من المسلمين إلا بيت واحد وهم آل لوط وذلك في قوله * (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) *.
تنبيه
في هذه الآية الكريمة دليل واضح لما حققه علماء الأصول من جواز الاستثناء من الاستثناء لأنه تعالى استثنى آل لوط من إهلاك المجرمين بقوله: * (إلا ءال لوط إنا لمنجوهم أجمعين) * ثم استثنى من هذا الاستثناء امرأة لوط بقوله: * (إلا امرأته قدرنآ إنها لمن الغابرين) * وبهذا تعلم أن قول ابن مالك في الخلاصة: * وحكمها في القصد حكم الأول
ليس صحيحا على إطلاقه. وأوضح مسألة تعدد الاستثناء بأقسامها صاحب مراقي
284

السعود في مبحث المخصص المتصل بقوله: ليس صحيحا على إطلاقه. وأوضح مسألة تعدد الاستثناء بأقسامها صاحب مراقي السعود في مبحث المخصص المتصل بقوله:
* وذا تعدد بعطف حصل
* بالاتفاق مسجلا للأول
*
* إلا فكل للذي به اتصل
* وكلها مع التساوي قد بطل
*
* إن كان غير الأول المستغرقا
* فالكل للمخرج منه حققا
*
* وحيثما استغرق الأول قط
* فألغ واعتبر بخلف في النمط
* فلما جآء ءال لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن لوطا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما جاءه الملائكة المرسلون لإهلاك قومه قال لهم إنكم قوم منكرون. وصرح في مواضع أخر أنه حصلت له مساءة بمجيئهم وأنه ضاق ذرعا بذلك كقوله في هود: * (ولما جآءت رسلنا لوطا سىء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هاذا يوم عصيب) * وقوله في العنكبوت: * (ولمآ أن جآءت رسلنا لوطا سىء بهم وضاق بهم ذرعا) *، وذكر تعالى في الذاريات أن نبيه إبراهيم قال لهم أيضا قوم منكرون كما ذكر عن لوط هنا وذلك في قوله: * (قال سلام قوم منكرون) * وقوله * (قوم منكرون) * قيل معناه أنهم غير معروفين والنكرة ضد المعرفة وقيل إنه رآهم في صفة شباب حسان الوجوه فخاف أن يفعل بهم قومه فاحشة اللواط فقال: * (إنكم قوم منكرون) * وقال الزمخشري في الكشاف: منكرون أي تنكركم نفسي وتفر منكم فأخاف أن تطرقوني بشر بدليل قوله: * (بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وآتيناك بالحق) * ويدل لهذا الوجه أنه بين في هود أن سبب إنكار إبراهيم لهم عدم أكلهم من لحم العجل الذي قدمه إليهم وذلك في قوله: * (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة) * لأن من استضاف وامتنع من الأكل خيف منه الشر. وقوله تعالى في هذه الآيات: * (إنا لمنجوهم) * قرأه حمزة والكسائي بإسكان النون بعد الميم المضمومة مخففا اسم فاعل أنجى على وزن أفعل وقرأه غيرهما من القراء بفتح النون وتشديد الجيم اسم فاعل نجي على وزن فعل بالتضعيف والإنجاء والتنجية معناهما واحد وقوله: * (قدرنآ إنها لمن الغابرين) * قرأه أبو بكر عن عاصم بتخفيف الدال وقرأه غيره بتشديدها وهما لغتان معناهما واحد وقوله: * (جآء ءال لوط) * قرأه قالون والبنري وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى وتحقيق الثانية مع
285

القصر والمد وقرأه ورش بتحقيق الأولى وإبدال الثانية ألفا مع القصر والمد وعن ورش أيضا تحقيق الأولى وتسهيل الثانية مع القصر والتوسط والمد وقرأه قنبل مثل قراءة ورش إلا أنه ليس له مع التسهيل إلا القصر وقرأ الباقون بتحقيق الهمزتين وكل على أصله من المد وما ذكر من قراءة ورش وقنبل هو التحقيق عنهما وإن قيل غيره والعلم عند الله تعالى. * (وجآء أهل المدينة يستبشرون * قال إن هاؤلآء ضيفى فلا تفضحون * واتقوا الله ولا تخزون * قالوا أولم ننهك عن العالمين * قال هاؤلآء بناتى إن كنتم فاعلين * لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون * فأخذتهم الصيحة مشرقين * فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل * إن فى ذلك لآيات للمتوسمين * وإنها لبسبيل مقيم * إن فى ذلك لآية للمؤمنين * وإن كان أصحاب الا يكة لظالمين * فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين) * قوله تعالى: * (وجآء أهل المدينة يستبشرون) *. سبب استبشار قوم لوط أنهم ظنوا الملائكة شبابا من بني آدم فحدثتهم أنفسهم بأن يفعلوا بهم فاحشة اللواط كما يشير لذلك قوله تعالى: * (إن هاؤلآء ضيفى فلا تفضحون) * وقوله تعالى: * (ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنآ أعينهم) * وقوله: * (وجآءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (إن فى ذلك لآيات للمتوسمين) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن فيما أوقع من النكال بقوم لوط آيات للمتأملين في ذلك تحصل لهم بها الموعظة والاعتبار والخوف من معصية الله أن ينزل بهم مثل ذلك العذاب الذي أنزل بقوم لوط لما عصوه وكذبوا رسوله. وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله في العنكبوت: * (ولقد تركنا منهآ ءاية بينة لقوم يعقلون) * وقوله في الذاريات: * (وتركنا فيهآ ءاية للذين يخافون العذاب الا ليم) * وقوله هنا: * (إن فى ذلك لآيات للمتوسمين) * وقوله في الشعراء بعد ذكر قصة قوم لوط: * (إن في ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين) *، كما صرح بمثل ذلك في إهلاك قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب في الشعراء وقوله: * (للمتوسمين) * أصل التوسم تفعل من الوسم وهو العلامة التي يستدل بها على مطلوب غيرها. يقال توسمت فيه الخير إذا رأيت ميسمه فيه أي علامته التي تدل عليه، ومنه قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه في النبي صلى الله عليه وسلم::
* إني توسمت فيك الخير أعرفه
* والله يعلم أني ثابت النظر
*
وقال الآخر: وقال الآخر:
* توسمته لما رأيت مهابة
* عليه وقلت المرء من آل هاشم
*
هذا أصل التوسم وللعلماء فيه أقوال متقاربة يرجع معناها كلها إلى شيء واحد
286

. فعن قتادة للمتوسمين أي المعتبرين، وعن مجاهد للمتوسمين أي المتفرسين، وعن ابن عباس والضحاك للمتوسمين أي للناظرين، وعن مالك عن بعض أهل المدينة للمتوسمين أي للمتأملين.
ولا يخفى أن الاعتبار والنظر والتفرس والتأمل معناها واحد، وكذلك قول ابن زيد ومقاتل للمتوسمين أي للمتفكرين، وقول أبي عبيدة للمتوسمين أي للمبتصرين، فمآل جميع الأقوال راجع إلى شيء واحد وهو أن ما وقع لقوم لوط فيه موعظة وعبرة لمن نظر في ذلك وتأمل فيه حق التأمل وإطلاق التوسم على التأمل والنظر، والاعتبار مشهور في كلام العرب ومنه قول زهير: فمآل جميع الأقوال راجع إلى شيء واحد وهو أن ما وقع لقوم لوط فيه موعظة وعبرة لمن نظر في ذلك وتأمل فيه حق التأمل وإطلاق التوسم على التأمل والنظر، والاعتبار مشهور في كلام العرب ومنه قول زهير:
* وفيهن ملهى للصديق ومنظر
* أنيق لعين الناظر المتوسم
*
أي المتأمل في ذلك الحسن، وقول طريق بن تميم العنبري: أي المتأمل في ذلك الحسن، وقول طريق بن تميم العنبري:
* أو كلما وردت عكاظ قبيلة
* بعثوا إلى عريفهم يتوسم
*
أي ينظر ويتأمل. وقال صاحب الدر المنثور وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: * (لآيات للمتوسمين) * قال: للناظرين. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن قتادة في قوله: * (لآيات للمتوسمين) *: قال للمعتبرين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: * (لآيات للمتوسمين) * قال: هم المتفرسون. وأخرج أبو نعيم في الحلية عن جعفر بن محمد في قوله: * (إن فى ذلك لآيات للمتوسمين) * قال: هم المتفرسون. وأخرج البخاري في تاريخه والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن السني وأبو نعيم معا في الطب وابن مردويه والخطيب عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) ثم قرأ * (إن فى ذلك لآيات للمتوسمين) * قال: (للمتفرسين).
وأخرج ابن جرير عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا فراسة المؤمن فإن المؤمن ينظر بنور الله). وأخرج ابن جرير عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إحذروا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله وينطق بتوفيق الله). وأخرج الحكيم الترمذي والبزار وابن السني وأبو نعيم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسم). اه. قوله تعالى: * (وإنها لبسبيل مقيم) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن ديار قوم
287

لوط وآثار تدمير الله لها بسبيل مقيم أي بطريق ثابت يسلكه الناس لم يندرس بعد، يمر بها أهل الحجاز في ذهابهم إلى الشام، والمراد أن آثار تدمير الله لهم التي تشاهدون في أسفاركم فيها لكم عبرة ومزدجر يوجب عليكم الحذر من أن تفعلوا كفعلهم لئلا ينزل الله بكم مثل ما أنزل بهم وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: * (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وباليل أفلا تعقلون) * وقوله: * (أفلم يسيروا فى الا رض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها) *. وقوله فيها وفي ديار أصحاب الأيكة: * (وإنهما لبإمام مبين) *، إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (وإن كان أصحاب الا يكة لظالمين فانتقمنا منهم) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية أن أصحاب الأيكة كانوا ظالمين وأنه جل وعلا انتقم منهم بسبب ظلمهم، وأوضح هذه القصة في مواضع أخر كقوله في الشعراء * (كذب أصحاب لأيكة المرسلين إذ قال لهم شعيب ألا تتقون إنى لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون ومآ أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشيآءهم ولا تعثوا فى الا رض مفسدين واتقوا الذى خلقكم والجبلة الا ولين قالوا إنمآ أنت من المسحرين ومآ أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين فأسقط علينا كسفا من السمآء إن كنت من الصادقين قال ربى أعلم بما تعملون فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين) * فبين في هذه الآية أن ظلمهم هو تكذيب رسولهم وتطفيفهم في الكيل وبخسهم الناس أشياءهم، وأن انتقامه منهم بعذاب يوم الظلة، وبين أن عذاب يوم عظيم، والظلة سحابة أظلتهم فأضرمها الله عليهم نارا فأحرقتهم والعلم عند الله تعالى.
قرأ نافع وابن عامر وابن كثير (ليكة). في (الشعراء) و (ص) بلام مفتوحة أول الكلمة وتاء مفتوحة آخرها من غير همز ولا تعريف على أنه اسم للقرية غير منصرف. وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي (الأيكة) بالتعريف والهمز وكسر التاء، وقرأ كذلك جميع القراء في (ق) و (الحجر). قال أبو عبيدة: ليكة والأيكة اسم مدينتهم كمكة وبكة، والأيكة في لغة العرب الغيضة وهي جماعة الشجر والجمع الأيك، وإنما سموا أصحاب الأيكة لأنهم كانوا أصحاب غياض
288

ورياض، ويروى أن شجرهم كان دوما وهو المقل، ومن إطلاق الأيكة على الغيضة قول النابغة: قرأ نافع وابن عامر وابن كثير (ليكة). في (الشعراء) و (ص) بلام مفتوحة أول الكلمة وتاء مفتوحة آخرها من غير همز ولا تعريف على أنه اسم للقرية غير منصرف. وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي (الأيكة) بالتعريف والهمز وكسر التاء، وقرأ كذلك جميع القراء في (ق) و (الحجر). قال أبو عبيدة: ليكة والأيكة اسم مدينتهم كمكة وبكة، والأيكة في لغة العرب الغيضة وهي جماعة الشجر والجمع الأيك، وإنما سموا أصحاب الأيكة لأنهم كانوا أصحاب غياض ورياض، ويروى أن شجرهم كان دوما وهو المقل، ومن إطلاق الأيكة على الغيضة قول النابغة:
* تجلو بقادمتي حمامة أيكة
* بردا أسف لثانه بالإثمد
*
وقال الجوهري في صحاحه: ومن قرأ أصحاب الأيكة فهي الغيضة، ومن قرأ ليكة فهي اسم القرية، ويقال: هما مثل بكة ومكة. وقال بعض العلماء: الأيكة الشجرة، والأيك هو الشجر الملتف. * (ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين * وءاتيناهم ءاياتنا فكانوا عنها معرضين * وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا ءامنين * فأخذتهم الصيحة مصبحين * فمآ أغنى عنهم ما كانوا يكسبون * وما خلقنا السماوات والا رض وما بينهمآ إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل) * قوله تعالى: * (ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين) *.
الحجر: منازل ثمود بين الحجاز والشام عند وادي القرى. فمعنى الآية الكريمة: * (كذبت ثمود المرسلين) *، وقد بين تعالى تكذيب ثمود لنبيه صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في مواضع أخر. كقوله: * (كذبت ثمود المرسلين إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون) * وقوله: * (فكذبوه فعقروها) * وقوله: * (كذبت ثمود بالنذر فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنآ إذا لفى ضلال وسعر) * وقوله: * (فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا ياصاح ائتنا بما تعدنآ إن كنت من المرسلين) * إلى غير ذلك من الآيات. وإنما قال إنهم كذبوا المرسلين مع أن الذي كذبوه هو صالح وحده لأن دعوة جميع الرسل واحدة، وهي تحقيق معنى (لا إله إلا الله) كما بينه تعالى بأدلة عمومية وخصوصية. قال معمما لجميعهم: * (ومآ أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إلاه إلا أنا فاعبدون) *. وقال: * (ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) * وقال: * (واسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنآ أجعلنا من دون الرحمان ءالهة يعبدون) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقال في تخصيص الرسل بأسمائهم: * (لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره إنى) * وقال: * (لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه) * وقال: * (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره) * إلى غير ذلك من الآيات.
فإذا حققت أن دعوة الرسل واحدة عرفت أن من كذب واحدا منهم فقد كذب جميعهم. ولذا صرح تعالى بأن من كفر ببعضهم فهو كافر حقا. قال: * (ويقولون نؤمن
289

ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذالك سبيلا أولائك هم الكافرون حقا) * وبين أنه لا تصح التفرقة بينهم بقوله: * (لا نفرق بين أحد منهم) * وقوله: * (لا نفرق بين أحد من رسله) * ووعد الأجر على عدم التفرقة بينهم في قوله: * (والذين ءامنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولائك سوف يؤتيهم أجورهم) *.
وقد بينا هذه المسألة في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب).
تنبيه
اعلم أنه صلى الله عليه وسلم مر بالحجر المذكور في هذه الآية في طريقه في غزوة تبوك، فقد أخرج البخاري في صحيحه في غزوة تبوك عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: (لا تدخلوا مسكان الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكين ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي). وهذا لفظ البخاري. وأخرج البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك، (أمرهم ألا يشربوا من بئرها ولا يستقوا منها. فقالوا قد عجنا منها واستقينا، فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين ويهرقو ذلك الماء). ثم قال البخاري: ويروى عن سبرة بن معبد وأبي الشموس: أن النبي صلى الله عليه وسلم (أمر بإلقاء الطعام) ثم قال: وقال أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من اعتجن بمائه).
ثم ساق بسنده عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أخبره: أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض ثمود الحجر واستقوا من بئرها واعتجنوا به فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن يهرقوا ما استقوا من بيارهم وأن يعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستسقوا من البئر التي تردها الناقة) ثم قال: تابعه أسامة عن نافع. ثم ساق بسنده عن سالم بن عبد الله عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بالحجر قال: (لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم. ثم تقنع بردائه وهو على الرحل).
ثم ساق أيضا بسنده عن سالم أن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابكم) هذا كله لفظ البخاري في صحيحه. وقال ابن حجر في الفتح: أما حديث سبرة بن معبد فوصله أحمد
290

والطبراني من طريق عبد العزيز بن الربيع بن سبرة بن معبد عن أبيه عن جده سبرة وهو بفتح السين المهملة وسكون الباء الموحدة الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين راح من الحجر: (من كان عجن منكم من هذا الماء عجينة أو حاس حيسا فليلقه) وليس لسبرة بن معبد في البخاري إلا هذا الموضع. وأما حديث أبي الشموس وهو بمعجمة ثم مهملة، وهو بكري لا يعرف اسمه فوصله البخاري في الأدب المفرد والطبراني وابن منده من طريق سليم بن مطير عن أبيه عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فذكر الحديث وفيه فألقى ذو العجين عجينة وذو الحيس حيسه) ورواه ابن أبي عاصم من هذا الوجه وزاد: (فقلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حست حيسة فألقمها راحلتي قال نعم).
وقال ابن حجر أيضا: قوله وقال أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم (من اعتجن بمائه) وصله البزار من طريق عبد الله بن قدامة عنه: (أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فآتوا على واد فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم (إنكم بواد ملعون فأسرعوا) وقال: (من اعتجن عجينة أو طبخ قدرا فليكبها) الحديث وقال: لا أعلمه إلا بهذا الإسناد. وأخرج البخاري في تفسير قوله تعالى * (ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين) * عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحاب الحجر: (لا تدخلوا على هؤلاء القوم إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم) وأخرج البخاري أيضا عن ابن عمر (في كتاب الصلاة) في (باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لا يصيبكم ما أصابهم) وبعض هذه الروايات الذي ذكرناها عن البخاري أخرجه مسلم أيضا في صحيحه، فقد اتفقا على النهي عن دخول ديارهم إلا في حال البكاء، وعلى إسراعه صلى الله عليه وسلم حتى جاوز ديارهم. وفي هذه الروايات الصحيحة النهي عن الدخول إلى مواضع الخسف والعذاب إلا في حالة البكاء، وفيها الإسراع بمجاوزتها وعدم الاستسقاء من مياهها، وعدم أكل الطعام الذي عجن بها، ومن هنا قال بعض العلماء: لا يجوز التطهر بمائها ولا تصح الصلاة فيها لأن ماءها لما لم يصلح للأكل والشرب علم أنه غير صالح للطهارة التي هي تقرب إلى الله تعالى. قال البخاري في صحيحه (باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب) ويذكر أن عليا رضي الله عنه كره الصلاة بخسف بابل. وقال ابن حجر في الفتح: هذا الأثر رواه ابن أبي شيبة من
291

طريق عبد الله بن أبي المحل وهو بضم الميم وكسر المهملة وتشديد اللام قال (كنا مع علي فمررنا على الخسف الذي ببابل فلم يصل حتى أجازه أي تعداه) ومن طريق أخرى عن علي قال: (ما كنت لأصلي بأرض خسف الله بها ثلاث مرار) والظاهر أن قوله ثلاث مرار ليس متعلقا بالخسف لأنه ليس فيها إلا خسف واحد. وإنما أراد أن عليا قال ذلك ثلاثا. ورواه أبو داود مرفوعا من وجه آخر عن علي ولفظه: (نهاني حبيبي صلى الله عليه وسلم أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة) في إسناده ضعف واللائق بتعليق المصنف ما تقدم والمراد بالخسف هنا ما ذكره الله تعالى في قوله: * (فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم) *، ذكر أهل التفسير والأخبار: أن المراد بذلك أن النمروذ بن كنعان بنى ببابل بنيانا عظيما يقال إن ارتفاعه كان خمسة آلاف ذراع فخسف الله بهم: قال الخطابي: (لا أعلم أحدا من العلماء حرم الصلاة في أرض بابل) انتهى محل الغرض من فتح الباري.
وقول الخطابي يعارضه ما رأيته عن علي رضي الله عنه، ولكنه يشهد له عموم الحديث الصحيح: (وجعلت لنا الأرض مسجدا وطهورا) وحديث أبي داود المرفوع عن علي الذي أشار له ابن حجر أن فيه ضعفا هو قوله: (حدثنا سليمان بن داود أخبرنا ابن وهب قال حدثني ابن لهيعة ويحيى بن أزهر عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري: أن عليا رضي الله عنه مر ببابل وهو يسير فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر. فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة فلما فرغ منها قال: (إن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي في المقبرة، ونهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة).
حدثنا أحمد بن صالح ثنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة عن الحجاج بن شداد عن أبي صالح الغفاري عن علي بمعنى سليمان بن داود قال: (فلما خرج) مكان (فلما برز) اه وقد يظهر للناظر في إسنادي هذا الحديث أنه لا يقل عن درجة القبول، ولكن فيه علة خفية نبه عليها ابن يونس أما كونه لا يقل عن درجة القبول فلأن طريقته الأولى أول طبقاتها سليمان بن داود ولا خلاف في كونه ثقة، وفي الثانية أحمد بن صالح مكان سليمان المذكور، وأحمد بن صالح ثقة حافظ. وكلام النسائي فيه غلط مردود عليه كما قال العراقي في ألفيته: حدثنا أحمد بن صالح ثنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة عن الحجاج بن شداد عن أبي صالح الغفاري عن علي بمعنى سليمان بن داود قال: (فلما خرج) مكان (فلما برز) اه وقد يظهر للناظر في إسنادي هذا الحديث أنه لا يقل عن درجة القبول، ولكن فيه علة خفية نبه عليها ابن يونس أما كونه لا يقل عن درجة القبول فلأن طريقته الأولى أول طبقاتها سليمان بن داود ولا خلاف في كونه ثقة، وفي الثانية أحمد بن صالح مكان سليمان المذكور، وأحمد بن صالح ثقة حافظ. وكلام النسائي فيه غلط مردود عليه كما قال العراقي في ألفيته:
* وربما رد كلام الجارح
* كالنسائي في أحمد بن صالح
*
وسبب غلطه في ذلك أن ابن معين كذب أحمد بن صالح الشموني. فظن النسائي أن
292

مراد ابن معين أحمد بن صالح هذا الذي هو أبو جعفر بن الطبري المصري وليس كذلك كما جزم به ابن حبان.
والطبقة الثانية في كلا الإسنادين: ابن وهب وهو عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم أبو محمد المصري ثقة حافظ عابد مشهور.
والطبقة الثالثة من الإسنادين: يحيى بن أزهر وعبد الله بن لهيعة ويحيى بن أزهر البصري مولى قريش صدوق، وعبد الله بن لهيعة صدوق خلط بعد احتراق كتبه. والظاهر أن اعتضاد أحدهما بالآخر لا يقل عن درجة الحسن. ويؤيد ذلك أن راوي الحديث ابن وهب ومعلوم أن رواية ابن وهب وابن المبارك عن ابن لهيعة أعدل من رواية غيرهما عنه.
والطبقة الرابعة في الإسناد الأول: عمار بن سعد المرادي. وفي الإسناد الثاني الحجاج بن شداد وعمار بن سعد المرادي ثم السلهمي والحجاج بن شداد الصنعاني نزيل مصر كلاهما مقبول كما قاله ابن حجر في التقريب، واعتضاد أحدهما بالآخر لا يقل عن درجة الحسن.
والطبقة الخامسة في كلا الإسنادين: أبو صالح الغفاري وهو سعيد بن عبد الرحمن وعداده في أهل مصر، وهو ثقة.
والطبقة السادسة في كليهما: أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، فالذي يظهر صلاحية الحديث للاحتجاج ولكنه فيه علة خفية ذكرها ابن يونس، وهي أن رواية أبي صالح الغفاري عن علي مرسلة كما ذكره ابن حجر في التقريب. وقال البيهقي في السنن الكبرى (باب من كره الصلاة في موضع الخسف والعذاب) أنبأ أبو علي الروذباري أنبأ أبو بكر بن داسة ثنا أبو داود، ثم ساق حديث أبي داود المذكور آنفا بلفظه في المتن والإسنادين. ثم قال: وروينا عن عبد الله بن أبي محل العمري قال: كنا مع علي بن أبي طالب فمر بنا على الخسف الذي ببابل فلم يصل حتى أجازه) وعن حجر الحضرمي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (ما كنت لأصلي بأرض خسف الله بها ثلاث مرات). ثم قال البيهقي: وهذا النهي عن الصلاة فيها إن ثبت مرفوعا ليس لمعنى يرجع إلى الصلاة. فلو صلى فيها لم يعد ثم ساق البيهقي بعض روايات حديث ابن عمر الذي قدمنا عن البخاري ومسلم ثم قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أحب الخروج من تلك المساكن، وكره المقام فيها إلا باكيا فدخل في ذلك المقام للصلاة وغيرها. اه.
293

وهذا الذي ذكرنا هو حاصل ما جاء في الصلاة في مواضع الخسف والتطهر بمياهها، فذهب بعض أهل العلم إلى أن صلاة بها صحيحة والتطهر بمائها مجزىء واستدلوا بعموم النصوص كقوله صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض كلها مسجدا) الحديث. وكعموم الأدلة على رفع الحدث وحكم الخبث بالماء المطلق. وذهب بعض أهل العلم إلى أنها لا تجوز الصلاة فيها ولا تصح الطهارة بمائها واستدلوا بحديث على المرفوع أن حبيبه صلى الله عليه وسلم (نهاه عن الصلاة في خسف بابل لأنها أرض ملعونة) قالوا: والنهي يقتضي الفساد لأن ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم ليس من أمرنا، ومن أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد كما ثبت في الحديث. واحتجوا لعدم الطهارة بمائها بأن النبي صلى الله عليه وسلم منع من استعماله في الأكل والشرب وهما ليسا بقربة. فدل ذلك على منع الطهارة به من باب أولى.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لنا رجحانه أن من مر عليها ينبغي له أن يسرع في سيره حتى يخرج منه كفعله صلى الله عليه وسلم وفعل صهره وابن عمه وأبي سبطيه رضي الله عنهم جميعا، وأنه لا يدخل إلا باكيا للحديث الصحيح. فلو نزل فيها وصلى فالظاهر صحة صلاته إذ لم يقم دليل صحيح بدلالة واضحة على بطلانها، والحكم ببطلان العبادة يحتاج إلى نص قوي المتن والدلالة والعلم عند الله تعالى.
مسائل لها تعلق بهذه الآية الكريمة
قد علمت أن الحجر المذكور في هذه الآية في قوله: * (ولقد كذب أصحاب الحجر) *: هو ديار ثمود، وأنه ورد النهي عن الصلاة في مواضع الخسف. فبهذه المناسبة نذكر الأماكن التي نهى عن الصلاة فيها ونبين، ما صح فيه النهي وما لم يصح.
والمواضع التي ورد النهي عن الصلاة فيها تسعة عشر موضعا ستأتي كلها عن زيد بن جبيرة عن داود بن حصين عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (نهى أن يصلى في سبعة مواطن: في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام وفي أعطان الإبل وفوق ظهر بيت الله) رواه عبد بن حميد في
مسنده والترمذي وابن ماجة. وقال الترمذي في إسناده: ليس بذاك. وقد روى الليث بن سعد هذا الحديث عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. والحديث ضعيف لا تقوم به حجة. لأن الإسناد الأول فيه زيد بن جبيرة وهو متروك، قال فيه ابن حجر في
294

التقريب متروك. وقال في تهذيب التهذيب: قال ابن معين هو لا شيء. وقال البخاري منكر الحديث. وقال في موضع آخر متروك الحديث. وقال النسائي ليس بثقة وقال أبو حاتم ضعيف الحديث، منكر الحديث جدا، متروك الحديث لا يكتب حديثه. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابعه عليه أحد. قلت وقال الساجي حدث عن داود بن الحصين بحديث منكر جدا، يعني حديث النهي عن الصلاة في سبع مواطن. وقال الفسوي ضعيف منكر الحديث. وقال الأزدي متروك وقال ابن حبان يروى المناكير عن المشاهير فاستحق التنكب عن روايته وقال الحاكم روى عن أبيه وداود بن الحصين وغيرهما المناكير وقال الدارقطني ضعيف. قال ابن عبد البر أجمعوا على أنه ضعيف اه كلام ابن حجر. وأحد إسنادي ابن ماجة فيه أبو صالح كاتب الليث وهو كثير الغلط، وفيه ابن عمر العمري ضعفه بعض أهل العلم وأخرج له مسلم. وقال ابن أبي حاتم في العلل: هما جميعا يعني الحديثين واهيان. وصحح الحديث المذكور ابن السكن وإمام الحرمين.
اعلم أولا أن المواضع التي ورد النهي عن الصلاة فيها هي السبعة المذكورة، والصلاة إلى المقبرة وإلى جدار مرحاض عليه نجاسة والكنيسة والبيعة وإلى التماثيل وفي دار العذاب وفي المكان المغصوب والصلاة إلى النائم والمتحدث وفي بطن الوادي وفي مسجد الضرار والصلاة إلى التنور، فالمجموع تسعة عشر موضعا. وسنبين أدلة النهي عنها مفصلة إن شاء الله تعالى أما في مواضع الخسف والعذاب فقد تقدم حكم ذلك قريبا.
وأما الصلاة في المقبرة والصلاة إلى القبر فكلاهما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عنه. أما الصلاة في المقابر فقد وردت أحاديث صحيحة في النهي عنها منها ما رواه الشيخان في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره صلى الله عليه وسلم غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا. وفي الصحيحين أيضا نحوه عن أبي هريرة وقد ثبت في الصحيح أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما وفي بعض الروايات. المتفق عليها (لعن الله اليهود والنصارى) وفي بعض الروايات الصحيحة الاقتصار على اليهود. والنبي صلى الله عليه وسلم لا يلعن إلا على فعل حرام شديد الحرمة. وعن جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو
295

يقول: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا. ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد. ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك). أخرجه مسلم في صحيحه بهذا اللفظ، رواه النسائي أيضا. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا) أخرجه الشيخان والإمام أحمد وأصحاب السنن إلا ابن ماجة وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث (ولا تتخذوها قبورا) دليل على أن القبور ليست محل صلاة وقال بعض العلماء: يحتمل أن يكون معنى الحديث صلوا ولا تكونوا كالأموات في قبورهم فإنهم لا يصلون. وأخرج الإمام أحمد بسند جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا: (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد) ورواه ابن أبي حاتم أيضا.
والأحاديث في هذا الباب كثيرة صحيحة لا مطعن فيها، وهي تدل دلالة واضحة على تحريم الصلاة في المقبرة. لأن كل موضع صلي فيه يطلق عليه اسم المسجد، لأن المسجد في اللغة مكان السجود، ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (وجعلت لي الأرض مسجدا) الحديث أي كل مكان منها تجوز الصلاة فيه. وظاهر النصوص المذكورة العموم سواء نبشت المقبرة واختلط ترابها بصديد الأموات أو لم تنبش. لأن علة النهي ليست بنجاسة المقابر كما يقوله الشافعية، بدليل اللعن الوارد من النبي صلى الله عليه وسلم على من اتخذ قبور الأنبياء مساجد. ومعلوم أن قبور الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ليست نجسة فالعلة للنهي سد الذريعة لأنهم إذا عبدوا الله عند القبور آل بهم الأمر إلى عبادة القبور. فالظاهر من النصوص المذكورة منع الصلاة عند المقابر مطلقا وهو مذهب الإمام أحمد وفي صحتها عنده روايتان وإن تحققت طهارتها. وذهب مالك إلى أن الصلاة فيها مكروهة. وذهب الشافعية إلى أنها إذا كانت نجسة لاختلاط أرضها بصديد الأموات لأجل النبش فالصلاة فيها باطلة، وإن كانت لم تنبش فالصلاة فيها مكروهة عندهم. وذكر النووي عن ابن المنذر أنه قال: روينا عن علي وابن عباس وابن عمر وعطاء والنخعي أنهم كرهوا الصلاة في المقبرة. قال: ولم يكرهها أبو هريرة وواثلة بن الأسقع والحسن البصري ونقل صاحب الحاوي عن داود أنه قال: تصح الصلاة وإن تحقق نبشها. وذكر ابن حزم النهي عن الصلاة في المقبرة عن خمسة من الصحابة: وهم عمر وعلي وأبو هريرة وأنس
296

وابن عباس. وقال: ما نعلم لهم مخالفا، وحكاه عن جماعة من التابعين إبراهيم النخعي ونافع بن جبير بن مطعم وطاوس وعمرو بن دينار وخيثمة وغيرهم. وقد حكى الخطابي في معالم السنن عن عبد الله بن عمر أنه رخص في الصلاة في المقبرة. وحكي أيضا عن الحسن أنه صلى في المقبرة. وعن ابن جريج قال قلت لنافع: أكان ابن عمر يكره أن يصلي وسط القبور قال: لقد صلينا على عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما وسط البقيع والإمام يوم صلينا على عائشة أبو هريرة رضي الله عنه، وحضر ذلك عبد الله بن عمر. رواه البيهقي وغيره. وممن كره الصلاة في المقبرة أبو حنيفة والثوري والأوزاعي. واحتج من قال بجواز الصلاة في المقبرة بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على المسكينة السوداء بالمقبرة. وسيأتي قريبا إن شاء الله حكم الصلاة إلى جهة القبر.
قال مقيده عفا الله عنه: أظهر الأقوال دليلا في هذه المسألة عندي قول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى لأن النصوص صريحة في النهي عن الصلاة في المقابر ولعن من اتخذ المساجد عليها، وهي ظاهره جدا في التحريم. أما البطلان فمحتمل، لأن النهي يقتضي الفساد لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث من أمرنا هذا ما
ليس منه فهو رد) والصلاة في المقابر منهي عنها، فليست من أمرنا فهي رد. ويحتمل أن يقال: الصلاة من أمرنا فليست ردا، وكونها في المكان المنهي عنه هو الذي ليس من أمرنا. كما علم الخلاف بين العلماء في كل منهي عنه له جهتان: إحداهما مأمور به منها ككونه صلاة، والأخرى منهي عنه منها ككونه في موضع نهي أو وقت نهي أو أرض مغصوبة أو بحرير أو ذهب ونحو ذلك فإنهم يقولون: إن انفكت جهة الأمر عن جهة النهي لم يقتض النهي الفساد، وإن لم تنفك عنها اقتضاه. ولكنهم عند التطبيق يختلفون، فيقول أحدهم: الجهة هنا منفكة. ويقول الآخر: ليست منفكة كالعكس، فيقول الحنبلي مثلا الصلاة في الأرض المغصوبة لا يمكن أن تنفك فيها جهة الأمر عن جهة النهي. لكون حركة أركان الصلاة كالركوع والسجود والقيام كلها يشغل المصلي به حيزا من الفراغ ليس مملوكا له، فنفس شغله له ببدنه أثناء الصلاة حرام، فلا يمكن أن يكون قربة بحال. فيقول المعترض كالمالكي والشافعي: الجهة منفكة هنا لأن هذا الفعل من حيث كونه صلاة قربة، ومن حيث كونه غضبا حرام، فله صلاته وعليه غصبه كالصلاة بالحرير. وإلى هذا المسألة وأقوال العلماء فيها أشار في مراقي السعود بقوله: كما علم الخلاف بين العلماء في كل منهي عنه له جهتان: إحداهما مأمور به منها ككونه صلاة، والأخرى منهي عنه منها ككونه في موضع نهي أو وقت نهي أو أرض مغصوبة أو بحرير أو ذهب ونحو ذلك فإنهم يقولون: إن انفكت جهة الأمر عن جهة النهي لم يقتض النهي الفساد، وإن لم تنفك عنها اقتضاه. ولكنهم عند التطبيق يختلفون، فيقول أحدهم: الجهة هنا منفكة. ويقول الآخر: ليست منفكة كالعكس، فيقول الحنبلي مثلا الصلاة في الأرض المغصوبة لا يمكن أن تنفك فيها جهة الأمر عن جهة النهي. لكون حركة أركان الصلاة كالركوع والسجود والقيام كلها يشغل المصلي به حيزا من الفراغ ليس مملوكا له، فنفس شغله له ببدنه أثناء الصلاة حرام، فلا يمكن أن يكون قربة بحال. فيقول المعترض كالمالكي والشافعي: الجهة منفكة هنا لأن هذا الفعل من حيث كونه صلاة قربة، ومن حيث كونه غضبا حرام، فله صلاته وعليه غصبه كالصلاة بالحرير. وإلى هذا المسألة وأقوال العلماء فيها أشار في مراقي السعود بقوله:
* دخول ذي كراهة فيما أمر
* به بلا قيد وفصل قد حظر
*
297

* فنفى صحة ونفى الأجر
* في وقت كره للصلاة يجري
*
* وإن يك النهي عن الأمر انفصل
* فالفعل بالصحة لا الأجر اتصل
*
* وذا إلى الجمهور ذو انتساب
* وقيل بالأجر مع العقاب
*
* وقد روى البطلان والقضاء
* وقيل ذا فقط له انتفاء
*
* مثل الصلاة بالحرير والذهب
* أو في مكان الغصب والوضو انقلب
*
* ومعطن ومنهج ومقبره
* كنيسة وذي حميم مجزره
*
وأما الصلاة إلى القبور فإنها لا تجوز أيضا، بدليل ما أخرجه مسلم في صحيحه والإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها) هذا لفظ مسلم. وفي لفظ له أيضا: (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها) والقاعدة المقررة في الأصول: أن النهي يقتضي التحريم. فأظهر الأقوال دليلا منع الصلاة في المقبرة وإلى القبر، لأن صيغة النهي المتجردة من القرائن تقتضي التحريم. أما اقتضاء النهي الفساد إذا كان للفعل جهة أمر وجهة نهي ففيه الخلاف الذي قدمناه آنفا وإن كانت جهته واحدة اقتضى الفساد. وقال صاحب المراقي في اقتضاء النهي الفساد:: (لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها) هذا لفظ مسلم. وفي لفظ له أيضا: (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها) والقاعدة المقررة في الأصول: أن
النهي يقتضي التحريم. فأظهر الأقوال دليلا منع الصلاة في المقبرة وإلى القبر، لأن صيغة النهي المتجردة من القرائن تقتضي التحريم. أما اقتضاء النهي الفساد إذا كان للفعل جهة أمر وجهة نهي ففيه الخلاف الذي قدمناه آنفا وإن كانت جهته واحدة اقتضى الفساد. وقال صاحب المراقي في اقتضاء النهي الفساد:
* وجاء في الصحيح للفساد
* إن لم يجى الدليل للسداد
*
وقد نهى صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح عن الصلاة إلى القبور وقد قال: (وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه) وقال تعالى: * (وما نهاكم عنه فانتهوا) * وقد قدمنا أن لعنه صلى الله عليه وسلم من اتخذ القبور مساجد يدل دلالة واضحة على التحريم. واحتج من قال بصحة الصلاة في المقابر وإلى القبور بأدلة منها عموم قوله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح: (وجعلت لي الأرض مسجدا) الحديث. قالوا عمومه يشمل المقابر ويجاب عن هذا الاستدلال من وجهين: أحدهما أن أحاديث النهي منه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في المقبرة وإلى القبر خاصة، وحديث (جعلت لي الأرض مسجدا) عام، والخاص يقضى به على العام كما تقرر في الأصول عند الجمهور. والثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى من عموم كون الأرض مسجدا المقبرة والحمام، فقد أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والشافعي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححاه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والأرض كلها مسجد
298

إلا المقبرة والحمام) قال ابن حجر في (فتح الباري) في الكلام على قول البخاري باب (كراهية الصلاة في المقابر) في حديث أبي سعيد هذا رواه أبو داود والترمذي ورجاله ثقات، لكن اختلف في وصله إرساله، وحكم مع ذلك بصحته الحاكم وابن حبان. وقال الشوكاني رحمه الله (في نيل الأوطار): صححه الحاكم في المستدرك وابن حزم الظاهري، وأشار ابن دقيق العيد إلى صحته. قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق أن الحديث إذا اختلف في وصله وإرساله، وثبت موصولا من طريق صحيحه حكم بوصله، ولا يكون الإرسال في الرواية الأخرى علة فيه. لأن الوصل زيادة وزيادات العدل مقبولة. وإليه الإشارة بقول صاحب (مراقي السعود): قال: (والأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام) قال ابن حجر في (فتح الباري) في الكلام على قول البخاري باب (كراهية الصلاة في المقابر) في حديث أبي سعيد هذا رواه أبو داود والترمذي ورجاله ثقات، لكن اختلف في وصله إرساله، وحكم مع ذلك بصحته الحاكم وابن حبان. وقال الشوكاني رحمه الله (في نيل الأوطار): صححه الحاكم في المستدرك وابن حزم الظاهري، وأشار ابن دقيق العيد إلى صحته. قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق أن الحديث إذا اختلف في وصله وإرساله، وثبت موصولا من طريق صحيحه حكم بوصله، ولا يكون الإرسال في الرواية الأخرى علة فيه. لأن الوصل زيادة وزيادات العدل مقبولة. وإليه الإشارة بقول صاحب (مراقي السعود):
* والرفع والوصل وزيد اللفظ
* مقبولة عند إمام الحفظ
*
من أدلة من قال: تصح الصلاة في القبور ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة: أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد وشابا فقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنها أو عنه فقالوا مات قال: (أفلا آذنتموني) قال: فكأنهم صغروا أمرها أو أمره. فقال: دلوني على قبره فدلوه فصلى عليها. ثم قال: (هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم). وليس للبخاري (إن هذه القبور مملوءة ظلمة) إلى آخر الخبر قالوا: فهذا الحديث يدل على مشروعية الصلاة إلى القبر.
ومن أدلتهم أيضا ما رواه الشيخان من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبر رطب فصلى عليه وصفوا خلفه وكبر أربعا.
ومن أدلتهم أيضا ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر.
ومن أدلتهم ما قدمنا من الصلاة على عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما وسط البقيع، وهذه الأدلة يستدل بها على جواز الصلاة إلى القبور وصحتها. لا مطلق صحتها دون الجواز.
ومن أدلتهم ما ذكره البخاري تعليقا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلفظ: (ورأى عمر أنس بن مالك رضي الله عنه يصلي عند قبر. فقال: القبر القبر ولم يأمره بالإعادة) اه. وقال ابن حجر في الفتح: أورد أثر عمر الدال على أن النهي في ذلك لا يقتضي فساد الصلاة. والأثر المذكور عن عمر رويناه موصولا في كتاب الصلاة لأبي
299

نعيم شيخ البخاري. ولفظه: (بينما أنس يصلي إلى قبر ناداه عمر: القبر القبرا فظن أنه يعني القمر. فلما رأى أنه يعني القبر جاوز القبر وصلى) وله طرق أخرى بينتها في تعليق التعليق. منها من طريق حميد عن أنس نحوه، زاد فيه: فقال بعض من يليني إنما يعني القبر فتنحيت عنه. وقوله القبر القبر بالنصب فيهما على التحذير. وقوله ولم يأمره بالإعادة استنبطه من تمادى أنس على الصلاة. ولو كان ذلك يقتضي فسادها لقطعها واستأنف اه منه بلفظه.
قال مقيده عفا الله عنه: هذه الأدلة يظهر للناظر أنها متعارضة، ومعلوم أن الجمع واجب إذا أمكن، وإن لم يمكن وجب الترجيح، وفي هذه المسألة يجب الجمع والترجيح معا. أما وجه الجمع فإن جميع الأدلة المذكورة في الصلاة إلى القبور كلها في الصلاة على الميت وليس فيها ركوع ولا سجود، وإنما هي دعاء للميت فهي
من جنس الدعاء للأموات عند المرور بالقبور. ولا يفيد شيء من تلك الأدلة جواز صلاة الفريضة أو الناقلة التي هي صلاة ذات ركوع وسجود. ويؤيده تحذير عمر لأنس من الصلاة عند القبر. نعم تتعارض تلك الأدلة مع ظاهر عموم (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها) فإنه يعم كل ما يصدق عليه اسم الصلاة، فيشمل الصلاة على الميت، فيتحصل أن الصلاة ذات الركوع والسجود لم يرد شيء يدل على جوازها إلى القبر أو عنده بل العكس. أما الصلاة على الميت فهي التي تعارضت فيها الأدلة. والمقرر في الأصول أن الدليل الدال على النهي مقدم على الدليل على الجواز، وللمخالف أن يقول: لا يتعارض عام وخاص. فحديث (لا تصلوا إلى القبور) عام في ذات الركوع والسجود والصلاة على الميت. والأحاديث الثابتة في الصلاة على قبر الميت خاصة والخاص يقضى به على العام. فأظهر الأقوال بحسب الصناعة الأصولية: منع الصلاة ذات الركوع والسجود عند القبر وإليه مطلقا للعنه صلى الله عليه وسلم لمتخذي القبور مساجد، وغير ذلك من الأدلة وأن الصلاة على قبر الميت التي هي للدعاء له الخالية من الركوع والسجود تصح لفعله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح من حديث أبي هريرة وابن عباس وأنس ويومىء لهذا الجمع حديث لعن متخذي القبور مساجد لأنها أماكن السجود. وصلاة الجنازة لا سجود فيها. فموضعها ليس بمسجد لغة لأنه ليس موضع سجود.
300

تنبيه
اعلم أن ما يزعمه بعض من لا علم عنده: من أن الكتاب والسنة دلا على اتخاذ القبور مساجد، يعني بالكتاب قوله تعالى: * (قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا) * ويعني بالسنة ما ثبت في الصحيح من أن موضع مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كان فيه قبور المشركين في غاية السقوط، وقائله من أجهل خلق الله.
أما الجواب عن الاستدلال بالآية فهو أن تقول: من هؤلاء القوم الذين قالوا لنتخذن عليهم مسجدا؟ أهم ممن يقتدى بها أم هم كفرة لا يجوز الاقتداء بهم؟ وقد قال أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله تعالى في هؤلاء القوم ما نصه: (وقد اختلف في قائل هذه المقالة، أهم الرهط المسلمون أم هم الكفار؟ فإذا علمت ذلك فاعلم أنهم على القول بأنهم كفار فلا إشكال في أن فعلهم ليس بحجة إذ لم يقل أحد بالاحتجاج بأفعال الكفار كما هو ضروري. وعلى القول بأنهم مسلمون كما يدل له ذكر المسجد لأن اتخاذ المساجد من صفات المسلمين، فلا يخفى على أدنى عاقل أن قول قوم من المسلمين في القرون الماضية إنهم سيفعلون كذا لا يعارض به النصوص الصحيحة الصريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من طمس الله بصيرته فقابل قولهم * (لنتخذن عليهم مسجدا) * بقوله صلى الله عليه وسلم في مرض موته قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى بخمس (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) الحديث يظهر لك أن من اتبع هؤلاء القوم في اتخاذهم المسجد على القبور ملعون على لسان الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم كما هو واضح، ومن كان ملعونا على لسانه صلى الله عليه وسلم فهو ملعون في كتاب الله كما صح عن ابن مسعود رضي الله عنه. لأن الله يقول: * (ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه) *. ولهذا صرح ابن مسعود رضي الله عنه بأن الواصلة والواشمة ومن ذكر معهما في الحديث كل واحدة منهن ملعونة في كتاب الله. وقال للمرأة التي قالت له: قرأت ما بين الدفتين فلم أجد إن كنت قرأته فقد وجدته، ثم تلا الآية الكريمة، وحديثه مشهور في الصحيحين وغيرهما، وبه تعلم أن من اتخذ المساجد على القبور ملعون في كتاب الله جل وعلا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وأنه لا دليل في آية: * (لنتخذن عليهم مسجدا) *.
وأما الاستدلال بأن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة مبنى في محل مقابر المشركين فسقوطه ظاهر. لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها فنبشت وأزيل ما فيها. ففي الصحيحين من حديث أنس رضي
301

الله عنه: (فكان فيه ما أقول لكم: قبور المشركين، وفيه خرب، وفيه نخل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين، فنبشب، ثم بالخرب فسويت، وبالنخل فقطع، فصفوا النخل قبلة المسجد، وجعلوا عضادتيه الحجارة). الحديث. هذا لفظ البخاري. ولفظ مسلم قريب منه بمعناه. فقبور المشركين لا حرمة لها، ولذلك أمر صلى الله عليه وسلم بنبشها وإزالة ما فيها. فصار الموضع كأن لم يكن فيه قبر أصلا لإزالته بالكلية. وهو واضح كما ترى اه.
والتحقيق الذي لا شك فيه: أنه لا يجوز البناء على القبور ولا تجصيصها. كما رواه مسلم في صحيحه وغيره عن أبي الهياج الأسدي: أن عليا رضي الله عنه قال له: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته).
ولما ثبت في صحيح مسلم وغيره أيضا عن جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه).
فهذا النهي ثابت عنه صلى الله عليه وسلم. وقد قال: (وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه). وقال جل وعلا: * (وما نهاكم عنه فانتهوا) *.
وقد تبين مما ذكرنا حكم الصلاة في مواضع الخسف، وفي المقبرة، وإلى القبر، وفي الحمام.
وأما أعطان الإبل فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا النهي عن الصلاة فيها، فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: (إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا توضأ) قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: (نعم توضأ من لحوم الإبل). قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: (نعم) قال: أصلي في (مبارك
302

الإبل): قال (لا) هذا لفظ مسلم في صحيحه.
وأخرج الإمام أحمد والترمذي وصححه، وابن ماجة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل).
وأخرج النسائي والبيهقي وابن ماجة من حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في أعطان الإبل.
وقال النووي في (شرح المهذب): إن الإسناد الذي أخرجه به البيهقي حسن. وأخرج أبو داود في سننه في (باب الوضوء) من لحوم الإبل وفي (باب النهي عن الصلاة في مبارك الإبل) عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: (لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين) وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم فقال: (صلوا فيها فإنها بركة).
وأخرج ابن ماجة عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صلوا في مراح الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل).
واخرج ابن ماجة عن سبرة بن معبد الجهني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يصلى في أعطان الإبل ويصلى في مراح الغنم).
وترجم البخاري رحمه الله في صحيحه لهذه المسألة فقال: (باب الصلاة في مواضع الإبل) ثم قال: حدثنا صدفة بن الفضل قال: أخبرنا سليمان بن حيان قال حدثنا عبيد الله عن نافع قال: رأيت ابن عمر يصلي إلى بعيره وقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله.
وقال ابن حجر في الفتح في الكلام على هذه الترجمة التي لم يأت البخاري بحديث يطابقها ما نصه: كأنه يشير إلى أن الأحاديث الواردة في التفرقة بين الإبل والغنم ليست على شرطه، ولكن لها طرق قوية، منها حديث جابر بن سمرة عند مسلم وحديث البراء بن عازب عند أبي داود وحديث أبي هريرة عند الترمذي، وحديث عبد الله بن مغفل عند النسائي، وحديث سبرة بن معبد عند ابن ماجة، وفي معظمها التعبير بمعاطن الإبل. ووقع في حديث جابر بن سمرة والبراء مبارك الإبل، ومثله في حديث سليك عند الطبراني، وفي حديث سبرة وكذا في حديث أبي هريرة عند الترمذي (أعطان الإبل). وفي حديث أسيد بن حضير عند الطبراني (مناخ الإبل) وفي حديث عبد الله بن عمرو، عند أحمد (مرابد الإبل) فعبر المصنف بالمواضع لأنها أشمل، والمعاطن أخص من المواضع، لأن المعاطن مواضع إقامتها عند الماء خاصة.
وقد ذهب بعضهم إلى أن النهي خاص بالمعاطن دون غيرها من الأماكن التي تكون فيها الإبل. وقيل مأواها مطلقا، نقله صاحب المغني عن أحمد اه كلام ابن حجر.
وقال ابن حزم: إن أحاديث النهي عن الصلاة في أعطان الإبل متواترة بنقل تواتر يوجب العلم.
فإذا علمت ذلك فاعلم أن العلماء اختلفوا في صحة الصلاة في أعطان الإبل.
فذهبت جماعة من أهل العلم إلى أنها لا تصح فيها، وهو الصحيح من مذهب الإمام أحمد وعليه جل أصحابه.
303

قال صاحب (الإنصاف): هذا المذهب وعليه الأصحاب. وفي الفروع هو أشهر وأصح في المذهب. وقال المصنف وغيره: هذا ظاهر المذهب وهو من المفردات.
وممن قال بهذا القوم (ابن حزم).
وذهب جمهور أهل العلم إلى أن النهي للكراهة، وأنه لو صلى فيها لصحت صلاته. وقد قدمنا كلام أهل الأصول في مثل هذه المسألة.
واعلم أن العلماء اختلفوا في علة النهي عن الصلاة في أعطان الإبل.
فقيل: لأنها خلقت من الشياطين كما تقدم في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا هو الصحيح في التعليل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها خلقت من الشياطين) وترتيبه كونها خلقت من الشياطين بالفاء على النهي، يدل على أنه هو علته كما تقرر في مبحث مسلك النص، ومسلك الإيماء، والتنبيه.
وقال جماعة من أهل العلم: معنى كونها (خلقت من الشياطين) أنها ربما نفرت وهو في الصلاة فتؤدي إلى قطع صلاته، أو أذاه، أو تشويش خاطره. وقد قدمنا أن كل عات متمرد تسميه العرب شيطانا. والإبل إذا نفرت فهي عاتية متمردة، فتسميتها باسم الشياطين مطابق للغة العرب.
والعرب تقول: خلق من كذا للمبالغة، كما يقولون: خلق هذا من الكرم، ومنه قوله * (خلق الإنسان من عجل) * على أصح التفسيرين.
وعلى هذا فيفرق بين كون الإبل في معاطنها، وبين غيبتها عنها إذ يؤمن نفورها حينئذ.
قال الشوكاني (في نيل الأوطار): ويرشد إلى صحة هذا حديث ابن مغفل عند أحمد بإسناد صحيح بلفظ: (لا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلقت من الجن، ألا ترون إلى عيونها وهيئاتها إذا نفرت).
وقد يحتمل أن علة النهي أن يجاء بها إلى معاطنها بعد شروعه في الصلاة فيقطعها، أو يستمر فيها مع شغل خاطره اه كلام الشوكاني.
ومن هذا التعليل المنصوص فهم العلماء القائلون بعدم بطلانها أنه لما كانت علة النهي ما ذكر دل ذلك على أن الصلاة إذا فعلها تامة أنها غير باطلة.
304

وقيل: العلة أن أصحاب الإبل يتغوطون في مباركها بخلاف أهل الغنم.
وقيل: العلة أن الناقة تحيض، والجمل يمني.
وكلها تعليلات لا معول عليها، والصحيح التعليل المنصوص عنه صلى الله عليه وسلم بأنها خلقت من الشياطين. والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
فإن قيل: ما حكم الصلاة في مبارك البقر؟
فالجواب أن أكثر العلماء يقولون: إنها كمرابض الغنم. ولو قيل: إنها كمرابض الإبل لكان لذلك وجه.
قال ابن حجر (في فتح الباري): وقع في مسند أحمد من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في مرابض الغنم ولا يصلي في مرابض الإبل والبقر اه. قال: وسنده ضعيف. فلو ثبت لأفاد أن حكم البقر حكم الإبل. بخلاف ما ذكره ابن المنذر أن البقر في ذلك كالغنم. اه كلام ابن حجر.
وما يقوله أبو داود رحمه الله من أن العمل بالحديث الضعيف خير من العمل بالرأي له وجه وجيه. والعلم عند الله تعالى.
وأما الصلاة في المزبلة، والمجزرة، وقارعة الطريق، وفوق ظهر بيت الله الحرام فدليل النهي عنها هو ما تقدم من حديث زيد بن جبيرة، عن داود بن حصين، عن نافع، عن ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم، وقد قدمنا ما في إسناده من الكلام.
وأما الصلاة إلى جدار مرحاض عليه نجاسة، فلما روي من النهي عن ذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم.
قال العلامة الشوكاني رحمه الله في (نيل الأوطار): وأما الصلاة إلى جدار مرحاض فلحديث ابن عباس في سبعة من الصحابة بلفظ (نهى عن الصلاة في المسجد تجاهه حش) أخرجه ابن عدي. قال العراقي ولم يصح إسناده.
وروى ابن أبي شيبة في المصنف عن عبد الله بن عمرو قال: لا يصلى إلى الحش.
وعن علي قال: لا يصلى تجاه حش.
305

وعن إبراهيم: كانوا يكرهون ثلاثة أشياء.. فذكر منها الحش.
وفي كراهة استقباله خلاف بين العلماء اه كلام الشوكاني.
والمراد بالحش بضم الحاء وفتحها بيت الخلاء.
وأما الصلاة في الكنيسة والبيعة والمراد بهما متعبدات اليهود والنصارى فقد كرهها جماعة من أهل العلم.
قال النووي (في شرح المذهب): حكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، ومالك رضي الله عنهم.
قال الشوكاني: وقد رويت الكراهة أيضا عن الحسن.
قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر أن ما روي من ذلك عن عمر وابن عباس ليس على إطلاقه، وإنما هو في الكنائس والبيع التي فيها الصور خاصة. ومما يدل على ذلك ما ذكره البخاري رحمه الله في صحيحه قال: (باب الصلاة في البيعة) وقال عمر رضي الله عنه: (إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها الصور). وكان ابن عباس يصلي في البيعة إلا بيعة فيها تماثيل.
وقال ابن حجر في (الفتح): إن الأثر الذي علقه البخاري عن عمر وصله عبد الرزاق من طريق أسلم مولى عمر. والأثر الذي علق عن ابن عباس وصله البغوي في الجعديات اه.
ومعلوم أن البخاري لا يعلق بصيغة الجزم إلا ما هو ثابت عنده.
ورخص في الصلاة في الكنيسة والبيعة جماعة من أهل العلم، منهم أبو موسى، وعمر بن عبد العزيز، والشعبي، وعطاء بن أبي رباح، وابن سيرين، والنخعي والأوزاعي، وغيرهم.
قال العلامة الشوكاني رحمه الله. ولعل وجه الكراهة هو ما تقدم من اتخاذ قبور أنبيائهم وصلحائهم مساجد، لأنه يصير جميع البيع والكنائس مظنة لذلك.
قال مقيده عفا الله عنه: ويحتمل أن تكون العلة أن الكنيسة والبيعة موضع يعصى الله فيه ويكفر به فيه، فهي بقعة سخط وغضب. وأما النهي عن الصلاة إلى التماثيل فدليله ثابت في الصحيح.
306

فمن ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه (في كتاب الصلاة قال: (باب إن صلى في ثوب مصلب، أو تصاوير. هل يفسد صلاته؟ وما ينهى عن ذلك) حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو قال: حدثنا عبد الوارث قال: حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس: كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أميطي عنا قرامك هذا إنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي).
وقال البخاري أيضا (في كتاب اللباس باب كراهية اللباس في التصاوير): حدثنا عمران بن ميسرة، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس رضي الله عنه قال: كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أميطي عني فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي).
وقال مسلم في صحيحه: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم قال: سمعت القاسم يحدث عن عائشة: أنه كان لها ثوب فيه تصاوير ممدود إلى سهوة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إليه فقال: (أخريه عني) قالت: فأخرته فجعلته وسائد.
والثوب في هذه الرواية هو القرام المذكور، والقرام بالكسر: ستر فيه رقم ونقوش، أو الستر الرقيق، ومنه قول لبيد في معلقته يصف الهودج: والثوب في هذه الرواية هو القرام المذكور، والقرام بالكسر: ستر فيه رقم ونقوش، أو الستر الرقيق، ومنه قول لبيد في معلقته يصف الهودج:
* من كل محفوف يظل عصيه
* زوج عليه كلة وقرامها
*
وقول الآخر يصف دارا: وقول الآخر يصف دارا:
* على ظهر جرعاء العجوز كأنها
* دوائر رقم في سراة قرام
*
والكلة في بيت لبيد: هي القرام إذا خيط فصار كالبيت.
فهذه النصوص الصحيحة تدل على أنه لا تجوز الصلاة إلى التماثيل. ومما يدل لذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة). اه هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري قريب منه اه.
أما بطلان صلاة من صلى إلى التماثيل ففيه اختلاف بين العلماء، وقد أشار له
307

البخاري بقوله الذي قدمنا عنه (باب إن صلى في ثوب مصلب، أو تصاوير هل تفسد صلاته) الخ.
وقد قدمنا أن منشأ الخلاف في البطلان هو الاختلاف في انفكاك جهة النهي عن جهة الأمر. والعلم عند الله تعالى.
وأما منع تصوير الحيوان وتعذيب فاعليه يوم القيامة أشد العذاب، وأمرهم بإحياء ما صوروا، وكون الملائكة لا تدخل محلا فيه صورة أو كلب، فكله معروف ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما الصلاة في المكان المغصوب فإنها لا تجوز بإجماع المسلمين، لأن اللبث فيها حرام في غير الصلاة، فلأن يحرم في الصلاة أولى.
وذهب جمهور أهل العلم: إلى أنه لو صلى في أرض مغصوبة فصلاته صحيحة لانفكاك الجهة أنه آثم بغصبه، مطيع بصلاته كالمصلي بحرير.
وذهب الإمام أحمد في أصح الروايات عنه، والجبائي وغيره من المعتزلة إلى أنها باطلة. لعدم انفكاك جهة الأمر عن جهة النهي كما قدمنا وقد قدمنا أقوال عامة العلماء في هذه المسألة في أبيات مراقي السعود التي استشهدنا بها. وأما النهي عن الصلاة إلى النائم والمتحدث فدليله ما أخرجه أبو داود في سننه قال: (باب الصلاة إلى المتحدثين والنيام) حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي، حدثنا عبد الملك بن محمد بن أيمن، عن عبد الله بن يعقوب بن إسحاق، عمن حدثه عن محمد بن كعب القرظي قال: قلت له يعني لعمر بن عبد العزيز حدثني عبد الله بن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث) اه.
وهذا الحديث لا يخفى ضعفه، لأن الراوي في هذا الإسناد عن محمد بن كعب لا يدري من هو كما ترى.
وقال ابن ماجة في سننه: حدثنا محمد بن إسماعيل، ثنا زيد بن الحباب، حدثني أبو المقدام، عن محمد بن كعب، عن ابن عباس قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى خلف المتحدث أو النائم)، وإسناد ابن ماجة هذا لا يحتج به أيضا، لأن الراوي فيه عن محمد بن كعب أبو المقدام وهو هشام بن زياد بن أبي يزيد، وهو هشام بن أبي هشام، ويقال له أيضا هشام بن أبي الوليد المدني، وهو لا يحتج بحديثه. قال فيه ابن حجر في التقريب:
308

متروك. وقال في تهذيب التهذيب: قال عبد الله بن أحمد، وأبو زرعة: ضعيف الحديث. وقال الدوري عن ابن معين: ليس بثقة. وقال في موضع آخر: ضعيف، ليس بشيء. وقال البخاري: يتكلمون فيه. وقال أبو داود: غير ثقة. وقال الترمذي: يضعف. وقال النسائي وعلي بن الجنيد الأزدي: متروك الحديث. وقال النسائي أيضا: ضعيف. وقال النسائي: ليس بثقه، ومرة ليس بشيء. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث ليس بالقوي، وكان جارا لأبي الوليد فلم يرو عنه وكان لا يرضاه. ويقال: إنه أخذ كتاب حفص المنقري عن الحسن فروى عن الحسن. وعنده عن الحسن أحاديث منكرة.
قلت: وقال ابن حبان يروى الموضوعات عن الثقات لا يجوز الاحتجاج به. وقال الدارقطني: ضعيف، وترك ابن المبارك حديثه. وقال ابن سعد: كان ضعيفا في الحديث. وقال أبو بكر بن خزيمة: لا يحتج بحديثه. وقال العجلي: ضعيف. وقال يعقوب بن سفيان: ضعيف لا يفرح بحديثه اه كلام ابن حجر. وبه تعلم أن الصلاة إلى النائم والمتحدث لم يثبت النهي عنها من طريق صحيح.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن الصلاة إلى النائم ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعلها. قال البخاري في صحيحه (باب الصلاة خلف النائم) حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى قال: حدثنا هشام قال: حدثني أبي عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا راقدة معترضة على فراشه، فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت.
وقال ابن حجر في الفتح: أورد فيه حديث عائشة أيضا من وجه آخر بلفظ آخر للإشارة إلى أنه قد يفرق مفرق بين كونها نائمة أو يقظى. وكأنه أشار أيضا إلى تضعيف الحديث الوارد في النهي عن الصلاة إلى النائم، فقد أخرجه أبو داود وابن ماجة من حديث ابن عباس اه. وقال أبو داود: طرقه كلها واهية يعني حديث ابن عباس وفي الباب عن ابن عمر أخرجه ابن عدي. وعن أبي هريرة أخرجه الطبراني في الأوسط، وهما واهيان أيضا. وكره مجاهد وطاوس ومالك الصلاة إلى النائم خشية أن يبدون منه ما يلهي المصلي عن صلاته وظاهر تصرف المصنف أن عدم الكراهة حيث يحصل الأمن من ذلك انتهى كلام ابن حجر في (فتح الباري).
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر والله تعالى أعلم أنه لم يثبت نص خاص في
309

النهي عن الصلاة إلى النائم والمتحدث، ولكن ذلك لا ينافي أخذ الكراهة من عموم نصوص أخر، كتعليل كراهة الصلاة إلى النائم بما ذكر من خشية أن يبدو منه ما يلهي المصلي عن صلاته، لأن النائم لا يدري عن نفسه.
وكتعليل كراهة الصلاة إلى المتحدث بأن الحديث يشوش على المصلي في صلاته، والله تعالى أعلم.
وأما كراهة الصلاة في بطن الوادي فيستدل لها بما جاء في بعض روايات حديث زيد بن جبيرة المتقدم في المواضع التي نهى عن الصلاة فيها (وبطن الوادي) بدل (
المقبرة) قال الشوكاني قال الحافظ: وهي زيادة باطلة لا تعرف.
وقال بعض العلماء: كراهة الصلاة في بطن الوادي مختصة بالوادي الذي حضر فيه الشيطان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فناموا عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يتأخروا عن ذلك الموضع الذي حضرهم فيه الشيطان.
ويجاب عن هذا: بأن الشيطان يمكن أن يكون ذهب عن الوادي. والله تعالى أعلم.
وأما النهي عن الصلاة في مسجد الضرار فدليله قوله تعالى: * (لا تقم فيه أبدا) * وقوله جل وعلا: * (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل) *. وقوله: * (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به فى نار جهنم والله لا يهدى القوم الظالمين لا يزال بنيانهم الذى بنوا ريبة فى قلوبهم) *. فهذه الآيات تدل على التباعد عن موضع ذلك المسجد وعدم القيام فيه كما هو ظاهر.
وأما كراهة الصلاة إلى التنور فلما رواه ابن أبي شيبة في المصنف عن محمد بن سيرين: أنه كره الصلاة إلى التنور، وقال: هو بيت نار.
وظاهر صنيع البخاري أن الصلاة إلى التنور عنده غير مكروهة، وأن عرض النار على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته يدل على عدم الكراهة. قال البخاري في صحيحه (باب من صلى وقدامه تنور أو نار، أو شيء مما يعبد فأراد به الله) وقال الزهري: أخبرني أنس قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي النار وأنا أصلي) حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عباس قال: (انخسفت الشمس فصلى
310

رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: (رأيت النار فلم أرى منظرا كاليوم قط أفظع) اه.
وعرض النار عليه صلى الله عليه وسلم وهو في صلاته دليل على عدم الكراهة، لأنه لم يقطع.
وقد دل بعض الروايات الثابتة في الصحيح على أن النار عرضت عليه من جهة وجهه لا من جهة اليمين ولا الشمال، ففي بعض الروايات الصحيحة أنهم قالوا له بعد أن انصرف: يا رسول الله، رأيناك تناولت شيئا في مقامك، ثم رأيناك تكعكعت أي تأخرت إلى خلف؟ وفي جوابه: أن ذلك بسبب كونه أرى النار.. إلخ.
فهذا هو حاصل كلام العلماء في الأماكن التي ورد نهي عن الصلاة فيها، التي لها مناسبة بآية الحجر التي نحن بصددها والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (وءاتيناهم ءاياتنا فكانوا عنها معرضين) *. ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه آتى أصحاب الحجر وهم ثمود آياته فكانوا عنها معرضين. والإعراض: الصدود عن الشيء وعدم الالتفات إليه. كأنه مشتق من العرض بالضم وهو الجانب. لأن المعرض لا يولي وجهه بل يثنى عطفه ملتفتا صادا.
ولم يبين جل وعلا هنا شيئا من تلك الآيات التي آتاهم، ولا كيفية إعراضهم عنها، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر. فبين أن من أعظم الآيات التي آتاهم: تلك الناقة التي أخرجها الله لهم. بل قال بعض العلماء: إن في الناقة المذكورة آيات جمة: كخروجها عشراء، وبراء، جوفاء من صخرة صماء، وسرعة ولادتها عند خروجها، وعظمها حتى لم تشبهها ناقة، وكثرة لبنها حتى يكفيهم جميعا، وكثرة شربها. كما قال تعالى: * (لها شرب ولكم شرب يوم معلوم) * وقال: * (ونبئهم أن المآء قسمة بينهم كل شرب محتضر) *.
فإذا علمت ذلك فاعلم أن مما يبين قوله تعالى: * (وءاتيناهم ءاياتنا) * قوله: * (فأت بأاية إن كنت من الصادقين قال هاذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم) *. وقوله: * (قد جآءتكم بينة من ربكم هاذه ناقة الله لكم ءاية فذروها تأكل فى أرض الله ولا تمسوها بسوء) *. وقوله: * (وءاتينا ثمود الناقة مبصرة) *. وقوله: * (إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر) * وقوله: * (وياقوم هاذه ناقة الله لكم ءاية فذروها تأكل فى أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب) * إلى غير ذلك من الآيات
311

.
وبين إعراض قوم صالح عن تلك الآيات في مواضع كثيرة. كقوله: * (فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا ياصاح ائتنا بما تعدنآ إن كنت من المرسلين) * وقوله * (فعقروها فقال تمتعوا فى داركم ثلاثة أيام) *. وقوله: * (كذبت ثمود بطغواهآ إذ انبعث أشقاها فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها) *. وقوله: * (فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر) *. وقوله: * (وءاتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها) *. وقوله: * (قالوا إنمآ أنت من المسحرين مآ أنت إلا بشر مثلنا فأت بأاية) *. إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا ءامنين) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن أصحاب الحجر وهم ثمود قوم صالح كانوا آمنين في أوطانهم، وكانوا ينحتون الجبال بيوتا.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله تعالى: * (أتتركون فى ما هاهنآ ءامنين فى جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين) * وقوله تعالى: * (واذكروا إذ جعلكم خلفآء من بعد عاد وبوأكم فى الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا ءالآء الله) *. وقوله: * (وثمود الذين جابوا الصخر بالواد) * أي قطعوا الصخر بنحته بيوتا. قوله تعالى: * (وما خلقنا السماوات والا رض وما بينهمآ إلا بالحق) *. ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق. أي ليدل بذلك على أنه المستحق لأن يعبد وحده، وأنه يكلف الخلق ويجازيهم على أعمالهم.
فدلت الآية على أنه لم يخلق عبثا ولا لعبا ولا باطلا. وقد أوضح ذلك في آيات كثيرة، كقوله: * (وما خلقنا السمآء والا رض وما بينهما باطلا ذالك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) *، وقوله * (ربنآ ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار) *، وقوله: * (وما خلقنا السماوات والا رض وما بينهما لاعبين ما خلقناهمآ إلا بالحق) *، وقوله: * (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إلاه إلا هو رب العرش الكريم) *،
312

وقوله: * (ولله ما فى السماوات وما فى الا رض ليجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى) *، وقوله: * (أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من منى يمنى) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (وإن الساعة لآتية) *. ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الساعة آتية، وأكد ذلك بحرف التوكيد الذي هو (إن) وبلام الابتداء التي تزحلقها إن المكسورة عن المبتدأ إلى الخبر. وذلك يدل على أمرين:
أحدهما إتيان الساعة لا محالة.
والثاني أن إتيانها أنكره الكفار، لأن تعدد التوكيد يدل على إنكار الخبر، كما تقرر في فن المعاني.
وأوضح هذين الأمرين في آيات أخر. فبين أن الساعة آتية لا محالة في مواضع كثيرة كقوله: * (إن الساعة ءاتية أكاد أخفيها لتجزى كل) * وقوله: * (وأن الساعة ءاتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من فى القبور) * وقوله: * (إن زلزلة الساعة شىء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عمآ أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها) *، وقوله: * (وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندرى ما الساعة) *، وقوله: * (ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون) *، وقوله: * (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة) *، وقوله: * (قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتهآ إلا هو ثقلت فى السماوات والا رض لا تأتيكم إلا بغتة) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا.
وبين جل وعلا إنكار الكفار لها في مواضع آخر. كقوله: * (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربى لتأتينكم) * وقوله: * (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا) * وقوله: * (إن هاؤلاء ليقولون إن هى إلا موتتنا الا ولى وما نحن بمنشرين) * والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا. قوله تعالى: * (فاصفح الصفح الجميل) *. أمر الله جل وعلا نبيه عليه الصلاة والسلام في هذه الآية الكريمة أن يصفح عمن أساء الصفح الجميل. أي بالحلم والإغضاء. وقال علي وابن عباس: الصفح الجميل: الرضا بغير عتاب. وأمره صلى الله يشمل حكمة الأمة. لأنه قدوتهم والمشرع لهم.
وبين تعالى ذلك المعنى في مواضع آخر. كقوله: * (فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون) * * (وإذا خاطبهم
313

الجاهلون قالوا سلاما) *، وقوله: * (سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنآ أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغى الجاهلين) *، وقوله: * (فاعفوا واصفحوا حتى يأتى الله بأمره) *. إلى غير ذلك من الآيات.
وقال بعض العلماء: هذا الأمر بالصفح منسوخ بآيات السيف. وقيل: هو غير منسوخ. والمراد به حسن المخالفة، وهي المعاملة بحسن الخلق.
قال الجوهري في صحاحه: والخلق والخلق: السجية، يقال: خالص المؤمن، وخالق الفاجر. * (إن ربك هو الخلاق العليم * ولقد ءاتيناك سبعا من المثاني والقرءان العظيم * لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين * وقل إنى أنا النذير المبين * كمآ أنزلنا على المقتسمين * الذين جعلوا القرءان عضين * فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون * فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) * قوله تعالى: * (إن ربك هو الخلاق العليم) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه الخلاق العليم. والخلاق والعليم: كلاهما صيغة مبالغة.
والآية تشير إلى أنه لا يمكن أن يتصف الخلاق بكونه خلاقا إلا وهو عليم بكل شيء، لا يخفى عليه شيء، إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه أن يخلقه.
وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله تعالى: * (قل يحييها الذى أنشأهآ أول مرة وهو بكل خلق عليم) *، وقوله: * (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) *، وقوله: * (ثم استوى إلى السمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شىء عليم) *، وقوله: * (الله الذى خلق سبع سماوات ومن الا رض مثلهن يتنزل الا مر بينهن لتعلموا أن الله على كل شىء قدير وأن الله قد أحاط بكل شىء علما) *، وقوله تعالى مجيبا للكفار لما أنكروا البعث وقالوا: * (أءذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد) * مبينا أن العالم بما تمزق في الأرض من أجسادهم قادر على إحيائهم: * (قد علمنا ما تنقص الا رض منهم وعندنا كتاب حفيظ) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (ولقد ءاتيناك سبعا من المثاني والقرءان العظيم) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه أتى نبيه صلى الله عليه وسلم سبعا من المثاني والقرآن العظيم. ولم يبين هنا المراد بذلك.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية الكريمة إن كان لها بيان في كتاب الله غير واف بالمقصود، أننا نتمم ذلك البيان من السنة، فنبين الكتاب بالسنة من حيث إنها بيان للقرآن المبين باسم الفاعل. فإذا علمت ذلك فاعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين في الحدث الصحيح: أن المراد بالسبع المثاني والقرآن العظيم في هذه الآية الكريمة: هو فاتحة الكتاب. ففاتحة الكتاب مبينة للمراد بالسبع المثاني والقرآن العظيم، وإنما بينت ذلك
314

بإيضاح النبي صلى الله عليه وسلم لذلك في الحديث الصحيح.
قال البخاري في صحيحه في تفسير هذه الآية الكريمة: حدثني محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي سعيد بن المعلى قال: مر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي، فدعاني فلم آته حتى صليت، ثم أتيت فقال: (ما منعك أن تأتيني) فقلت: كنت أصلي. فقال: (ألم يقل الله * (معرضون يأيها الذين ءامنوا استجيبوا لله وللرسول) * ثم قال: ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد) فذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج فذكرته فقال: * (الحمد لله رب العالمين) * هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيه). حدثنا آدم حدثنا ابن أبي ذئب، حدثنا سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم).
فهذا نص صحيح من النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد بالسبع المثاني والقرآن العظيم: فاتحة الكتاب، وبه تعلم أن قول من قال إنها السبع الطوال غير صحيح، إذ لا
كلام لأحد معه صلى الله عليه وسلم. ومما يدل على عدم صحة ذلك القول: أن آية الحجر هذه مكية، وأن السبع الطوال ما أنزلت إلا بالمدينة. والعلم عند الله تعالى.
وقيل لها (مثاني) لأنها تثنى قراءتها في الصلاة.
وقيل لها (سبع) لأنها سبع آيات.
وقيل لها (القرآن العظيم) لأنها هي أعظم سورة. كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المذكور آنفا.
وإنما عطف القرآن العظيم على السبع المثاني مع أن المراد بهما واحد وهو الفاتحة لما علم في اللغة العربية: من أن الشيء الواحد إذا ذكر بصفتين مختلفتين جاز عطف إحداهما على الأخرى تنزيلا لتغابر الصفات منزلة تغابر الذوات. ومنه قوله تعالى: * (سبح اسم ربك الاعلى الذى خلق فسوى والذى قدر فهدى والذى أخرج المرعى) *، وقول الشاعر: والذى أخرج المرعى) *، وقول الشاعر:
* إلى الملك القرم وابن الهمام
* وليث الكتيبة في المزدحم
* لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم) *. لما بين تعالى أنه آتى النبي صلى الله عليه وسلم السبع المثاني والقرآن العظيم، وذلك أكبر نصيب، وأعظم حظ عند الله تعالى،
315

نهاه أن يمد عينيه إلى متاع الحياة الدنيا الذي متع به الكفار. لأن من أعطاه ربه جل وعلا النصيب الأكبر والحظ الأوفر، لا ينبغي له أن ينظر إلى النصيب الأحقر الأخس، ولا سيما إذا كان صاحبه إنما أعطيه لأجل الفتنة والاختبار. وأوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع، كقوله في (طه): * (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن ءانآء اليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحيواة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى وأمر أهلك بالصلواة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى) * والمراد بالأزواج هنا: الأصناف من الذين متعهم الله بالدنيا. قوله تعالى: * (ولا تحزن عليهم) *. الصحيح في معنى هذه الآية الكريمة: أن الله نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن الحزن على الكفار إذا امتنعوا من قبول الإسلام. ويدل لذلك كثرة ورود هذا المعنى في القرآن العظيم. كقوله: * (ولا تحزن عليهم ولا تك فى ضيق مما يمكرون) *، وقوله: * (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) *، وقوله: * (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) *، وقوله: * (فلعلك باخع نفسك علىءاثارهم إن لم يؤمنوا بهاذا الحديث أسفا) *، وقوله: * (وليزيدن كثيرا منهم مآ أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين) * إلى غير ذلك من الآيات.
والمعنى: قد بلغت وليست مسؤولا عن شقاوتهم إذا امتنعوا من الإيمان، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب، فلا تحزن عليهم إذا كانوا أشقياء. قوله تعالى: * (واخفض جناحك للمؤمنين) *. أمر الله جل وعلا نبيه في هذه الآية الكريمة بخفض جناحه للمؤمنين. وخفض الجناح كناية عن لين الجانب والتواضع، ومنه قول الشاعر: واخفض جناحك للمؤمنين) *. أمر الله جل وعلا نبيه في هذه الآية الكريمة بخفض جناحه للمؤمنين. وخفض الجناح كناية عن لين الجانب والتواضع، ومنه قول الشاعر:
* وأنت الشهير بخفض الجناح
* فلاتك في رفعه أجدلا
*
وبين هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله في الشعراء: * (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) *، وكقوله: * (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الا مر) * إلى غير ذلك من الآيات.
316

ويفهم من دليل خطاب الآية الكريمة أعني مفهوم مخالفتها أن غير المؤمنين لا يخفض لهم الجناح، بل يعاملون بالشدة والغلظة.
وقد بين تعالى هذا المفهوم في مواضع أخر. كقوله تعالى: * (ياأيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) *، وقوله: * (أشدآء على الكفار رحمآء بينهم) * وقوله: * (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) * كما قدمناه في المائدة. قوله تعالى: * (كمآ أنزلنا على المقتسمين) *. في المراد بالمقتسمين أقوال للعلماء معروفة، وكل واحد منها يشهد له قرآن. إلا أن في الآية الكريمة قرينة تضعف بعض تلك الأقوال:
الأول أن المراد بالمقتسمين: الذين يحلفون على تكذيب الرسل ومخالفتهم، وعلى هذا القول فالاقتسام افتعال من القسم بمعنى اليمين، وهو بمعنى التقاسم.
ومن الآيات التي ترشد لهذا الوجه قوله تعالى عن قوم صالح: * (قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله) *. أي نقتلهم ليلا، وقوله: * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت) *، وقوله: * (أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال) *، وقوله: * (أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة) * إلى غير ذلك من الآيات. فكأنهم كانوا لا يكذبون بشيء إلا أقسموا عليه. فسموا مقتسمين.
القول الثاني أن المراد بالمقتسمين: اليهود والنصارى. وإنما وصفوا بأنهم مقتسمون لأنهم اقتسموا كتبهم فآمنوا ببعضها وكفروا ببعضها.
ويدل لهذا القول قوله تعالى: * (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) *، وقوله: * (ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض) *.
القول الثالث أن المراد بالمقتسمين: جماعة من كفار مكة اقتسموا القرآن بأقوالهم الكاذبة، فقال بعضهم: هو شعر. وقال بعضهم: هو سحر. وقال بعضهم: كهانة.
وقال بعضهم: أساطير الأولين. وقال بعضهم: اختلفه محمد، صلى الله عليه وسلم.
وهذا القول تدل له الآيات الدالة على أنهم قالوا في القرآن تلك الأقوال المفتراة
317

الكاذبة، كقوله تعالى: * (وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون) *، وقوله: * (فقال إن هاذآ إلا سحر يؤثر) *، وقوله: * (إن هاذا إلا اختلاق) *، وقوله: * (وإذا قيل لهم ماذآ أنزل ربكم قالوا أساطير الا ولين) *، وقوله: * (وقالوا أساطير الا ولين اكتتبها فهى تملى عليه بكرة وأصيلا) * إلى غير ذلك من الآيات. والقرينة في الآية الكريمة تؤيد هذا القول الثالث ولا تنافي الثاني بخلاف الأول. لأن قوله * (الذين جعلوا القرءان عضين) * أظهر في القول الثالث، لجعلهم له أعضاء متفرقة بحسب اختلاف أقوالهم الكاذبة، كقولهم: شعر، سحر، كهانة الخ.
وعلى أنهم أهل الكتاب فالمراد بالقرآن كتبهم التي جزؤوها فآمنوا ببعضها وكفروا ببعضها، أو القرآن لأنهم آمنوا بما وافق هواههم منه وكفروا بغيره.
وقوله * (عضين) * جمع عضة، وهي العضو من الشيء، أي جعلوه أعضاء متفرقة. واللام المحذوفة أصلها واو. قال بعض العلماء: اللام المحذوفة أصلها هاء، وعليه فأصل العضة عضهة. والعضه السحر. فعلى هذا القول فالمعنى جعلوا القرآن سحرا. كقوله: * (إن هاذآ إلا سحر يؤثر) *، وقوله: * (قالوا سحران تظاهرا) * إلى غير ذلك من الآيات.
والعرب تسمي الساحر عاضها، والساحرة عاضهة. والسحر عضها. ويقال: إن ذلك لغة قريش. ومنه قول الشاعر: والعرب تسمي الساحر عاضها، والساحرة عاضهة. والسحر عضها. ويقال: إن ذلك لغة قريش. ومنه قول الشاعر:
* أعوذ بربي من النافثا
* ت في عقد العاضه المعضه
*
تنبيه
فإن قيل: بم تتعلق الكاف في قوله * (كمآ أنزلنا على المقتسمين) *؟
فالجواب ما ذكره الزمخشري في كشافه قال: فإن قلت بم تعلق قوله * (كمآ أنزلنا) * قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يتعلق بقوله: * (ولقد ءاتيناك) * أي أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب، وهم المقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين، حيث قالوا بعنادهم وعدوانهم: بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل، وبعضه باطل مخالف لهما، فاقتسموه إلى حق وباطل وعضوه. وقيل: كانوا يستهزؤون به فيقول
318

بعضهم: (سورة البقرة) لي، ويقول الآخر: (سورة آل عمران) لي (إلى أن قال) الوجه الثاني أن يتعلق بقوله: * (وقل إنى أنا النذير المبين) * أي وأنذر قريشا مثل ما أنزلناه من العذاب على المقتسمين (يعني اليهود) وهو ما جرى على قريظة والنضير. جعل المتوقع بمنزلة الواقع وهو من الإعجاز، لأنه إخبار بما سيكون، وقد كان انتهى محل الغرض من كلام صاحب الكشاف.
ونقل كلامه بتمامه أبو حيان في (البحر المحيط) ثم قال أبو حيان:
أما الوجه الأول وهو تعلق * (كما) * ب * (ءاتيناك) * فذكره أبو البقاء على تقدير، وهو أن يكون في موضع نصب نعتا لمصدر محذوف تقديره: آتيناك سبعا من المثاني إيتاء كما أنزلنا، أو إنزالا كما أنزلنا. لأن (آتيناك) بمعنى أنزلنا عليك. قوله تعالى: * (فاصدع بما تؤمر) *. أي فاجهر به وأظهره. من قولهم: صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا، كقولك: صرح بها.
وهذه الآية الكريمة أمر الله فيها نبيه صلى الله عليه وسلم بتبليغ ما أمر به علنا في غير خفاء ولا مواربة. وأوضح هذا المعنى في مواضع كثيرة، كقوله * (يأيها الرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك) *.
وقد شهد له تعالى بأنه امتثل ذلك الأمر فبلغ على أكمل وجه في مواضع أخر. كقوله: * (والدم ولحم الخنزير ومآ أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ومآ أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالا زلام ذالكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم) *، وقوله: * (فتول عنهم فمآ أنت بملوم) * إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه
قوله: * (فاصدع) * قال بعض العلماء: أصله من الصدع بمعنى الإظهار، ومنه قولهم: انصدع الصبح: انشق عنه الليل. والصديع: الفجر لانصداعه، ومنه قول عمرو بن معد يكرب: فاصدع) * قال بعض العلماء: أصله من الصدع بمعنى الإظهار، ومنه قولهم: انصدع الصبح: انشق عنه الليل. والصديع: الفجر لانصداعه، ومنه قول عمرو بن معد يكرب:
* ترى السرحان مفترشا يديه
* كأن بياض لبته صديع
*
أي فجر والمعنى على هذا القول: أظهر ما تؤمر به وبلغه علنا على رؤوس الأشهاد وتقول العرب: صدعت الشيء: أظهرته. ومنه قول أبي ذؤيب
319

: أي فجر والمعنى على هذا القول: أظهر ما تؤمر به وبلغه علنا على رؤوس الأشهاد وتقول العرب: صدعت الشيء: أظهرته. ومنه قول أبي ذؤيب:
* وكأنهن ربابة وكأنه
* يسر يفيض على القداح ويصدع
*
قاله صاحب اللسان.
وقال بعض العلماء: أصله من الصدع بمعنى التفريق والشق في الشيء الصلب كالزجاج والحائط. ومنه بمعنى التفريق: قوله تعالى: * (من قبل أن يأتى يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون) * أي يتفرقون: فريق في الجنة وفريق في السعير. بدليل قوله تعالى: * (ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون) * ومنه قول غيلان ذي الرمة: ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون) * ومنه قول غيلان ذي الرمة:
* عشية قلبي في المقيم صديعه
* وراح جناب الظاعنين صديع
*
يعني أن قلبه افترق إلى جزءين: جزء في المقيم، وجزء في الطاعنين.
وعلى هذا القول * (فاصدع بما تؤمر) * أي فرق بين الحق والباطل بما أمرك الله بتبليغه. وقوله: * (بما تؤمر) * يحتمل أن تكون (ما) موصولة. ويحتمل أن تكون مصدرية، بناء على جواز سبك المصدر من أن والفعل المبني للمفعول، ومنع ذلك جماعة من علماء العربية. قال أبو حيان في (البحر): والصحيح أن ذلك لا يجوز. قوله تعالى: * (وأعرض عن المشركين) *. في هذه الآية الكريمة قولان معروفان للعلماء:
أحدهما أن معنى * (وأعرض عن المشركين) * أي لا تبال بتكذيبهم واستهزائهم، ولا يصعب عليك ذلك. فالله حافظك منهم.
والآية على هذا التأويل معناها: فاصدع بما تؤمر أي بلغ رسالة ربك، وأعرض عن المشركين، أي لا تبال بهم ولا تخشهم. وهذا المعنى كقوله تعالى: * (يأيها الرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) *.
الوجه الثاني وهو الظاهر في معنى الآية أنه كان في أول الأمر مأمورا بالإعراض عن المشركين، ثم نسخ ذلك بآيات السيف. ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: * (اتبع مآ أوحى إليك من ربك لا إلاه إلا هو وأعرض عن المشركين) *، وقوله: * (فأعرض عنهم وانتظر) *، وقوله: * (فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحيواة الدنيا) * وقوله: * (ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع
320

أذاهم) * إلى غير ذلك من الآيات. * (إنا كفيناك المستهزءين * الذين يجعلون مع الله إلاها ءاخر فسوف يعملون * ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون * فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين * واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) * قوله تعالى: * (إنا كفيناك المستهزءين) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه كفى نبيه صلى الله عليه وسلم المستهزئين الذين كانوا يستهزؤون به وهم قوم من قريش. وذكر في مواضع أخر أنه كفاه غيرهم. كقوله في أهل الكتاب: * (فسيكفيكهم الله) *، وقوله: * (أليس الله بكاف عبده) *، إلى غير ذلك من الآيات.
والمستهزؤون المذكورون: هم الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والحارث بن قيس السهمي والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب.
والآفات التي كانت سبب هلاكهم مشهورة في التاريخ. قوله تعالى: * (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه يعلم أن نبيه صلى الله عليه وسلم يضيق صدره بما يقول الكفار فيه: من الطعن والتكذيب، والطعن في القرآن. وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله: * (قد نعلم إنه ليحزنك الذى يقولون) *، وقوله: * (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضآئق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جآء معه) *، وقوله * (فلعلك باخع نفسك علىءاثارهم إن لم يؤمنوا بهاذا الحديث أسفا) * وقوله: * (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) * إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا شيئا من ذلك من الأنعام. قوله تعالى: * (فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين) *. أمر جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بأمرين: أحدهما قوله: * (فسبح بحمد ربك) *، والثاني قوله: * (وكن من الساجدين) *.
وقد تكرر تعالى في كتابة الأمر بالشيئين المذكورين في هذه الآية الكريمة، كقوله في الأول: * (فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا) *، وقوله: * (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) *، وقوله: * (فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشى والابكار) * والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وأصل التسبيح في اللغة: الإبعاد عن السوء. ومعناه في عرف الشرع: تنزيه الله
321

جل وعلا عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله. ومعنى سبح: نزه ربك جل وعلا عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله. وقوله * (بحمد ربك) * أي في حال كونك متلبسا بحمد ربك، أي بالثناء عليه بجميع ما هو أهله من صفات الكمال والجلال، لأن لفظة * (بحمد ربك) * أضيفت إلى معرفة فتعم جميع المحامد من كل وصف كمال
وجلال ثابت لله جل وعلا. فتستغرق الآية الكريمة الثناء بكل كمال، لأن الكمال يكون بأمرين: 15 أحدهما التخلي عن الرذائل، والتنزه عما لا يليق، وهذا معنى التسبيح.
والثاني التحلي بالفضائل والاتصاف بصفات الكمال، وهذا معنى الحمد، فتم الثناء بكل كمال.
ولأجل هذا المعنى ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)، وكقوله في الثاني وهو السجود: * (كلا لا تطعه واسجد واقترب) * * (ومن اليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا) * وقوله: * (واسجدوا لله الذى خلقهن إن كنتم إياه تعبدون) * ويكثر في القرآن العظيم إطلاق التسبيح على الصلاة.
وقالت جماعة من العلماء: المراد بقوله: * (فسبح بحمد ربك) * أي صل له، وعليه فقوله * (وكن من الساجدين) * من عطف الخاص على العام والصلاة تتضمن غاية التنزيه ومنتهى التقديس. وعلى كل حال فالمراد بقوله * (وكن من الساجدين) * أي من المصلين، سواء قلنا إن المراد بالتسبيح الصلاة، أو أعم منها من تنزيه الله عما لا يليق به. ولأجل كون المراد بالسجود الصلاة لم يكن هذا الموضع محل سجدة عند جمهور العلماء. خلافا لمن زعم أنه موضع سجود.
قال القرطبي في تفسيره: قال ابن العربي: ظن بعض الناس أن المراد بالأمر هنا السجود نفسه، فرأى هذا الموضع محل سجود في القرآن، وقد شاهدت الإمام بمحراب زكريا من البيت المقدس طهره الله يسجد في هذا الموضع، وسجدت معه فيه، ولم يره جماهير العلماء.
قلت: قد ذكر أبو بكر النقاش أن ههنا سجدة عند أبي حذيفة ويمان بن رئاب ورأى أنها واجبة انتهى كلام القرطبي.
وقد تقدم معنى السجود في سورة الرعد. وعلى أن المراد بالتسبيح الصلاة فالمسوغ لهذا الإطناب الذي هو عطف الخاص على العام هو أهمية السجود، لأن أقرب
322

ما يكون العيد من ربه في حال كونه في السجود.
قال مسلم في صحيحه: وحدثنا هارون بن معروف، وعمرو بن سواد قالا: حدثنا عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن عمارة بن غزية، عن سمي مولى أبي بكر، أنه سمع أبا صالح ذكوان يحدث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء).
تنبيه
اعلم أن ترتيبه جل وعلا الأمر بالتسبيح والسجود على ضيق صدره صلى الله عليه وسلم بسبب ما يقولون له من السوء دليل على أن الصلاة والتسبيح سبب لزوال ذلك المكروه، ولذا كان صلى الله عليه وسلم إذا حز به أمر بادر إلى الصلاة. وقال تعالى: * (واستعينوا بالصبر والصلواة) *.
ويؤيد هذا ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديث نعيم بن همار رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى: يا ابن آدم لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره) فينبغي للمسلم إذا أصابه مكروه أن يفزع إلى الله تعالى بأنواع الطاعات من صلاة وغيرها. قوله تعالى: * (واعبد ربك) *. أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يعبد ربه، أي يتقرب له على وجه الذل والخضوع والمحبة بما أمر أن يتقرب له به من جميع الطاعات على الوجه المشروع. وجل القرآن في تحقيق هذا الأمر الذي هو حظ الإثبات من لا إله إلا الله، مع حظ النفي منها. وقد بين القرآن أن هذا لا ينفع إلا مع تحقيق الجزء الثاني من كلمة التوحيد، الذي هو حظ النفي منها. وهو خلع جميع المعبودات سوى الله تعالى في جميع أنواع العبادات. قال تعالى: * (فاعبده وتوكل عليه) *، وقال * (فاعبده واصطبر لعبادته) *، وقال: * (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا) *، وقال * (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى) *، وقال: * (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) * والآيات في مثل ذلك كثيرة جدا. قوله تعالى: * (حتى يأتيك اليقين) *. قالت جماعة من أهل العلم، منهم سالم بن عبد الله بن عمر، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم:
323

اليقين: الموت، ويدل لذلك قوله تعالى: * (قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخآئضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين) * وهو الموت.
ويؤيد هذا ما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أم العلاء (امرأة من الأنصار) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على عثمان بن مظعون وقد مات، قالت أم العلاء: رحمة الله عليك أبا السائبا فشهادتي عليك لقد أكرمك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أن الله قد أكرمه)؟ فقالت: بأبي وأمي يا رسول الله فمن يكرمه الله؟ فقال: (أما هو فقد جاءه اليقين، وإني لأرجو له الخير..) الحديث. وهذا الحديث الصحيح يدل على أن اليقين الموت. وقول من قال: إن المراد باليقين انكشاف الحقيقة، وتيقن الواقع لا ينافي ما ذكرنا، لأن الإنسان إذا جاءه الموت ظهرت له الحقيقة يقينا. ولقد أجاد التهامي في قوله:: (وما يدريك أن الله قد أكرمه)؟ فقالت: بأبي وأمي يا رسول الله فمن يكرمه الله؟ فقال: (أما هو فقد جاءه اليقين، وإني لأرجو له الخير..) الحديث. وهذا الحديث الصحيح يدل على أن اليقين الموت. وقول من قال: إن المراد باليقين انكشاف الحقيقة، وتيقن الواقع لا ينافي ما ذكرنا، لأن الإنسان إذا جاءه الموت ظهرت له الحقيقة يقينا. ولقد أجاد التهامي في قوله:
* والعيش نوم والمنية يقظة
* والمرء بينهما خيال ساري
*
وقال صاحب الدر المنثور: أخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، والحاكم في التاريخ، وابن مردويه، والديلمي عن أبي مسلم الخولاني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين، ولكن أوحي إلي: أن (سبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين).
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين، ولكن أوحي إلي: أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين).
وأخرج ابن مردويه والديلمي عن أبي الدرداء رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أوحي إلي أن أكون تاجرا ولا أجمع المال متكاثرا، ولكن أوحي إلي: أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين).
تنبيهان الأول هذه الآية الكريمة تدل على أن الإنسان ما دام حيا وله عقل ثابت يميز به، فالعبادة واجبة عليه بحسب طاقته. فإن لم يستطع الصلاة قائما فليصل قاعدا، فإن لم
324

يستطع فعلى جنب. وهكذا قال تعالى عن نبيه عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: * (وأوصانى بالصلواة والزكواة ما دمت حيا) * وقال البخاري في صحيحه (باب إذا لم يطق قاعدا صلى على جنب) وقال عطاء: إن لم يقدر أن يتحول إلى القبلة صلى حيث كان وجهه حدثنا عبدان عن عبد الله، عن إبراهيم بن طهمان قال: حدثني الحسين المكتب، عن بريدة، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: كانت بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال: (صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب) اه ونحو هذا معلوم. قال تعالى: * (فاتقوا الله ما استطعتم) *، وقال تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) *، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم...) الحديث.
التنبيه الثاني اعلم أن ما يفسر به هذه الآية الكريمة بعض الزنادقة الكفرة المدعين للتصوف من أن معنى اليقين المعرفة بالله جل وعلا، وأن الآية تدل على أن العبد إذا وصل من المعرفة بالله إلى تلك الدرجة المعبر عنها باليقين أنه تسقط عنه العبادات والتكاليف. لأن ذلك اليقين هو غاية الأمر بالعبادة.
إن تفسير الآية بهذا كفر بالله وزندقة، وخروج عن ملة الإسلام بإجماع المسلمين. وهذا النوع لا يسمى في الاصطلاح تأويلا، بل يسمى لعبا كما قدمنا في آل عمران. ومعلوم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم هم وأصحابه هم أعلم الناس بالله، وأعرفهم بحقوقه وصفاته وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع ذلك أكثر الناس عبادة لله جل وعلا، وأشدهم خوفا منه وطمعا في رحمته. وقد قال جل وعلا: * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * والعلم عند الله تعالى.
325

((سورة النحل))
* (أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون * ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشآء من عباده أن أنذروا أنه لا إلاه إلا أنا فاتقون * خلق السماوات والا رض بالحق تعالى عما يشركون) * قوله تعالى: * (أتى أمر الله) *. أي قرب وقت إتيان القيامة.
وعبر بصيغة الماضي تنزيلا لتحقق الوقوع منزلة الوقوع. واقتراب القيامة المشار إليه هنا بينه جل وعلا في مواضع أخر، كقوله: * (اقترب للناس حسابهم وهم فى غفلة معرضون) *، وقوله جل وعلا: * (اقتربت الساعة وانشق القمر) *، وقوله: * (وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا) *، وقوله: * (وما يدريك لعل الساعة قريب) *، وقوله جل وعلا: * (أزفت الا زفة ليس لها من دون الله كاشفة) * إلى غير ذلك من الآيات.
والتعبير عن المستقبل بصيغة الماضي لتحقق وقوعه كثير في القرآن، كقوله: * (ونفخ فى الصور فصعق من فى السماوات) *، وقوله * (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار) *، وقوله: * (وأشرقت الا رض بنور ربها ووضع الكتاب وجىء بالنبيين والشهدآء وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون وسيق الذين كفروا) *.
فكل هذه الأفعال الماضية بمعنى الاستقبال، نزل تحقق وقوعها منزلة الوقوع. وقوله تعالى: * (فلا تستعجلوه) *. نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن استعجال ما وعد به من الهول والعذاب يوم القيامة. والاستعجال هو طلبهم أن يعجل لهم ما يوعدون به من العذاب يوم القيامة.
والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة، كقوله جل وعلا: * (ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجآءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) *، وقوله: * (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين ءامنوا مشفقون منها) *، وقوله: * (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه) *، وقوله: * (وقالوا ربنا عجل لنا
326

قطنا قبل يوم الحساب) *، وقوله: * (قل أرءيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون) * إلى غير ذلك من الآيات.
والضمير في قوله * (فلا تستعجلوه) * في مفسره وجهان:
أحدهما: أنه العذاب الموعد به يوم القيامة، المفهوم من قوله: * (أتى أمر الله) *.
والثاني: أنه يعود إلى الله. أي لا تطلبوا من الله أن يعجل لكم العذاب. قال معناه ابن كثير.
وقال القرطبي في تفسيره: قال ابن عباس: لما نزلت * (اقتربت الساعة وانشق القمر) * قال الكفار: إن هذا يزعم أن القيامة قد قربتا فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون، فأمسكوا فانتظروا فلم يروا شيئا، فقالوا: ما نرى شيئا! فنزلت * (اقترب للناس حسابهم) *، فأشفقوا وانتظروا قرب الساعة. فامتدت الأيام فقالوا: ما نرى شيئا، فنزلت * (أتى أمر الله) * فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وخافوا، فنزلت * (فلا تستعجلوه) * فاطمأنوا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم
: (بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بأصبعيه السبابة والتي تليها) اه محل الغرض من كلام القرطبي، وهو يدل على أن المراد بقوله * (فلا تستعجلوه) * أي لا تظنوه واقعا الآن عن عجل، بل هو متأخر إلى وقته المحدد له عند الله تعالى.
وقول الضحاك ومن وافقه: إن معنى: * (أتى أمر الله) * أي فرائضه وحدوده قول مردود ولا وجه له، وقد رده الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره قائلا: إنه لم يبلغنا أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استعجل فرائض قبل أن تفرض عليهم، فيقال لهم من أجل ذلك قد جاءتكم فرائض الله فلا تستعجلوها. أما مستعجلوا العذاب من المشركين فقد كانوا كثيرا اه.
والظاهر المتبادر من الآية الكريمة أنها تهديد للكفار باقتراب العذاب يوم القيامة مع نهيهم عن استعجاله.
قال ابن جرير في تفسيره: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: هو تهديد من الله لأهل الكفر به وبرسوله، وإعلام منه لهم قرب العذاب منهم والهلاك، وذلك
327

أنه عقب ذلك بقوله سبحانه وتعالى * (عما يشركون) * فدل بذلك على تقريعه المشركين به ووعيده لهم اه. قوله تعالى: * (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشآء من عباده) *. أظهر الأقوال في معنى الروح في هذه الآية الكريمة: أن المراد بها الوحي. لأن الوحي به حياة الأرواح، كما أن الغذاء به حياة الأجسام. ويدل لهذا قوله تعالى: * (وكذلك أوحينآ إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان) *، وقوله: * (رفيع الدرجات ذو العرش يلقى الروح من أمره على من يشآء من عباده لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شىء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) *.
ومما يدل على أن المراد بالروح الوحي إتيانه بعد قوله: * (ينزل الملائكة بالروح) * بقوله: * (أن أنذروا) * لأن الإنذار إنما يكون بالوحي، بدليل قوله: * (قل إنمآ أنذركم بالوحى) *، وكذلك إتيانه بعد قوله: * (يلقى الروح من أمره على من يشآء من عباده) * بقوله: * (إنا لننصر رسلنا) *. لأن الإنذار إنما يكون بالوحي أيضا. وقرأ هذا الحرف ابن كثير وأبو عمرو (ينزل) بضم الياء وإسكان النون وتخفيف الزاي. والباقون بالضم والتشديد. ولفظه (من) في الآية تبعيضية، أو لبيان الجنس.
وقوله: * (على من يشآء من عباده) * أي ينزل الوحي على من اختاره وعلمه أهلا لذلك. كما بينه تعالى بقوله: * (الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس) *، وقوله: * (الله أعلم حيث يجعل رسالته) *، وقوله: * (يلقى الروح من أمره على من يشآء من عباده) *، وقوله: * (بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بمآ أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشآء من عباده) *.
وهذه الآيات وأمثالها رد على الكفار في قولهم: * (لولا نزل هاذا القرءان على رجل من القريتين عظيم) *. قوله تعالى: * (أن أنذروا أنه لا إلاه إلا أنا فاتقون) *. الأظهر في (أن) من قوله: * (أن أنذروا) * أنها هي المفسرة. لأن إنزال الملائكة بالروح أي بالوحي فيه معنى القول دون حروفه. فيكون المعنى: أن الوحي الذي أنزلت به الملائكة مفسر بإنذار الناس
328

(بلا إله إلا الله) وأمرهم بتقواه.
وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى في آيات كثيرة. كقوله: * (ومآ أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إلاه إلا أنا فاعبدون) *، وقوله: * (ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) *، وقوله) * (واسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنآ أجعلنا من دون الرحمان ءالهة يعبدون) *، وقوله: * (قل إنمآ يوحى إلى أنمآ إلاهكم إلاه واحد فهل أنتم مسلمون) * إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا معنى الإنذار، ومعنى التقوى. قوله تعالى: * (خلق السماوات والا رض بالحق تعالى عما يشركون) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه هو خالق السماوات والأرض، وأن من يخلق هذه المخلوقات العظيمة يتنزه ويتعاظم أن يعبد معه ما لا يخلق شيئا، ولا يملك لنفسه شيئا.
فالآية تدل على أن من يبرز الخلائق من العدم إلى الوجود، لا يصح أن يعبد من لا يقدر على شيء. ولهذا أتبع قوله: * (خلق السماوات والا رض بالحق) * بقوله: * (تعالى عما يشركون) *.
وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة. كقوله: * (ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين) *. فدل على أن المعبود هو الخالق دون غيره، وقوله: * (أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون) * وقوله: * (أم جعلوا لله شركآء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شىء وهو الواحد القهار) *، وقوله: * (تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذى له ملك السماوات والا رض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك وخلق كل شىء فقدره تقديرا واتخذوا من دونه ءالهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حيواة ولا نشورا) *، وقوله جل وعلا: * (هاذا خلق الله فأرونى ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون فى ضلال مبين) *، وقوله: * (قل أرءيتم شركآءكم الذين تدعون من دون الله أرونى ماذا خلقوا من الا رض أم لهم شرك فى السماوات) *، وقوله: * (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أرونى ماذا خلقوا من الا رض أم لهم شرك فى السماوات ائتونى بكتاب من قبل هاذآ أو أثارة من علم إن كنتم صادقين) *، وقوله جل وعلا: * (أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون) *،
329

وقوله تعالى: * (ياأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له) *، وقوله: * (أم خلقوا من غير شىء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والا رض) *، وقوله: * (والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحيآء) *، إلى غير ذلك من الآيات.
فهذه الآيات تبين أن الذي يستحق أن يعبد هو من يخلق الخلق، ويبرزهم من العدم إلى الوجود. أما غيره فهو مخلوق مربوب، محتاج إلى من يخلقه، ويدبر شؤونه. * (خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين * والا نعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون * ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون * وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم * والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون) * قوله تعالى: * (خلق الإنسان من نطفة) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه خلق الإنسان من نطفة، وهي مني الرجل ومني المرأة. بدليل قوله تعالى: * (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج) * أي أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة.
وقال صاحب الدر المنثور بعد ذكر بعض الروايات في تفسير الأمشاج بالأخلاط: من ماء الرجل وماء المرأة. وأخرج الطستي عن ابن عباس: أن نافع بن الأزرق قال: أخبرني عن قوله * (من نطفة أمشاج) * قال: اختلاط ماء الرجل وماء المرأة إذا وقع في الرحم. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم. أما سمعت أبا ذؤيب وهو يقول: وقال صاحب الدر المنثور بعد ذكر بعض الروايات في تفسير الأمشاج بالأخلاط: من ماء الرجل وماء المرأة. وأخرج الطستي عن ابن عباس: أن نافع بن الأزرق قال: أخبرني عن قوله * (من نطفة أمشاج) * قال: اختلاط ماء الرجل وماء المرأة إذا وقع في الرحم. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم. أما سمعت أبا ذؤيب وهو يقول:
* كأن الريش والفوقين منه
* خلال النصل خالطه مشيج
*
ونسب في اللسان هذا البيت لزهير بن حرام الهذلي، وأنشده هكذا: ونسب في اللسان هذا البيت لزهير بن حرام الهذلي، وأنشده هكذا:
* كأن النصل والفوقين منها
* خلال الريش سيط به مشيج
*
قال: ورواه المبرد: قال: ورواه المبرد:
* كأن المتن والشرجين منه
* خلاف النصل سيط به مشيج
*
قال: ورواه أبو عبيدة: قال: ورواه أبو عبيدة:
* كأن الريش والفوقين منها
* خلال النصل سيط به المشيج
*
ومعنى (سيط به المشيج): خلط به الخلط.
إذا عرفت معنى ذلك، فاعلم أنه تعالى بين أن ذلك الماء الذي هو النطفة، منه ما هو خارج من الصلب، أي وهو ماء الرجل، ومنه ما هو خارج من الترائب وهو ماء المرأة، وذلك في قوله جل وعلا: * (فلينظر الإنسان مم خلق خلق من مآء دافق يخرج
330

من بين الصلب والترآئب) * لأن المراد بالصلب صلب الرجل وهو ظهره، والمراد بالترائب ترائب المرأة وهي موضع القلادة منها. ومنه قول امرئ القيس: يخرج من بين الصلب والترآئب) * لأن المراد بالصلب صلب الرجل وهو ظهره، والمراد بالترائب ترائب المرأة وهي موضع القلادة منها. ومنه قول امرئ القيس:
* مهفهفة بيضاء غير مفاضة
* ترائبها مصقولة كالسجنجل
*
واستشهد ابن عباس لنافع بن الأزرق على أن الترائب موضع القلادة بقول المخبل أو ابن أبي ربيعة: واستشهد ابن عباس لنافع بن الأزرق على أن الترائب موضع القلادة بقول المخبل أو ابن أبي ربيعة:
* والزعفران على ترائبها
* شرقا به اللبات والنحر
*
فقوله هنا (من بين الصلب والترائب) يدل على أن الأمشاج هي الأخلاط المذكورة. وأمر الإنسان بأن ينظر مم خلق في قوله: * (فلينظر الإنسان مم خلق) * تنبيه له
على حقارة ما خلق منه. ليعرف قدره، ويترك التكبر والعتو، ويدل لذلك قوله: * (ألم نخلقكم من مآء مهين) *.
وبين جل وعلا حقارته بقوله: * (أيطمع كل امرىء منهم أن يدخل جنة نعيم كلا إنا خلقناهم مما يعلمون) * والتعبير عن النطفة بما الموصولة في قوله: * (مما يعلمون) * فيه غاية تحقير ذلك الأصل الذي خلق منه الإنسان. وفي ذلك أعظم ردع، وأبلغ زجر عن التكبر والتعاظم.
وقوله جل وعلا: * (فإذا هو خصيم مبين) * أظهر القولين فيه: أنه ذم للإنسان المذكور. والمعنى: خلقناه ليعبدنا ويخضع لنا ويطبع. ففاجأ بالخصومة والتكذيب، كما تدل عليه (إذا) الفجائية. ويوضح هذا المعنى قوله: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * مع قوله جل وعلا: * (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم م بين وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحى العظام وهى رميم قل يحييها الذى أنشأهآ أول مرة وهو بكل خلق عليم) *، وقوله: * (وهو الذى خلق من المآء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا) *، وقوله: * (ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر إلإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا) * إلى غير ذلك من الآيات. وسيأتي إن شاء الله تعالى زيادة إيضاح لهذا المبحث في (سورة الطارق).
331

تنبيه
اختلف علماء العربية في (إذا) الفجائية. فقال بعضهم: هي حرف. وممن قال به الأخفش. قال ابن هشام في (المغني): ويرجح هذا القول قولهم: خرجت فإذا إن زيدا بالباب (بكسر إن) لأن (إن) المكسورة لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. وقال بعضهم: هي ظرف مكان. وممن قال به المبرد. وقال بعضهم: هي ظرف زمان. وممن قال به الزجاج. الخصيم: صيغة مبالغة، أي شديد الخصومة. وقيل الخصيم المخاصم. وإتيان الفعيل بمعنى المفاعل كثير في كلام العرب، كالقعيد بمعنى المقاعد، والجليس بمعنى المجالس، والآكيل بمعنى المؤاكل، ونحو ذلك.
وقوله: (مبين) الظاهر أنه اسم فاعل أبان اللازمة، بمعنى بان وظهر. أي بين الخصومة. ومن إطلاق أبان بمعنى بان قول جرير: وقوله: (مبين) الظاهر أنه اسم فاعل أبان اللازمة، بمعنى بان وظهر. أي بين الخصومة. ومن إطلاق أبان بمعنى بان قول جرير:
* إذا آباؤنا وأبوك عدوا
* أبان المقرفات من العراب
*
أي ظهر. وقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي: أي ظهر. وقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
* لو دب ذر فوق ضاحي جلدها
* لأبان من آثارهن حدود
*
يعني لظهر من آثارهن ورم في الجلد. وقيل: من أبان المتعدية والمفعول محذوف. أي مبين خصومته ومظهر لها. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (والا نعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه خلق الأنعام لبني آدم ينتفعون بها تفضلا منه عليهم. وقد قدمنا في (آل عمران) أن القرآن بين أن الأنعام هي الأزواج الثمانية التي هي الذكر والأنثى من الإبل، والبقر، والضأن، والمعز. والمراد بالدفء على أظهر القولين: أنه اسم لما يدفأ به، كالملء اسم لما يملأ به، وهو الدفاء من اللباس المصنوع من أصواف الأنعام وأوبارها وأشعارها..
ويدل لهذا قوله تعالى: * (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الا نعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارهآ أثاثا ومتاعا إلى حين) * وقيل: الدفء نسلها. والأول أظهر. والنسل داخل في قوله * (ومنافع) * أي من نسلها ودرها * (ومنها تأكلون) *.
332

ومنافع الأنعام التي بين الله جل وعلا امتنانه بها على خلقه في هذه الآية الكريمة، بينها لهم أيضا في آيات كثيرة، كقوله: * (وإن لكم فى الا نعام لعبرة نسقيكم مما فى بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون) *، وقوله: * (الله الذى جعل لكم الا نعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة فى صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون ويريكم ءاياته فأى ءايات الله تنكرون) *، وقوله: * (أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينآ أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون * (ولهم فيها منافع ومشارب) *، وقوله: * (والذى خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والا نعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذى سخر لنا هاذا وما كنا له مقرنين وإنآ إلى ربنا لمنقلبون) *، وقوله: * (وأنزل لكم من الا نعام ثمانية أزواج) * إلى غير ذلك من الآيات.
والأظهر في إعراب * (والانعام) * أن عامله وهو * (خلق) * اشتغل عنه بالضمير فنصب بفعل مقدر وجوبا يفسره (خلق) المذكور، على حد قول ابن مالك في الخلاصة: والأظهر في إعراب * (والانعام) * أن عامله وهو * (خلق) * اشتغل عنه بالضمير فنصب بفعل مقدر وجوبا يفسره (خلق) المذكور، على حد قول ابن مالك في الخلاصة:
* فالسابق انصبه بفعل أضمرا
* حتما موافق لما قد أظهر
*
وإنما كان النصب هنا أرجح من الرفع لأنه معطوف على معمول فعل، وهو قوله تعالى: * (خلق الإنسان من نطفة) *، فيكون عطف الجملة الفعلية على الجملة الفعلية أولى من عطف الإسمية على الفعلية لو رفع الاسم السابق. وإلى هذا أشار ابن مالك في الخلاصة بقوله عاطفا على ما يختار فيه النصب: خلق الإنسان من نطفة) *، فيكون عطف الجملة الفعلية على الجملة الفعلية أولى من عطف الإسمية على الفعلية لو رفع الاسم السابق. وإلى هذا أشار ابن مالك في الخلاصة بقوله عاطفا على ما يختار فيه النصب:
* وبعد عاطف بلا فصل على
* معمول فعل مستقر أولا
*
وقال بعض العلماء: إن قوله * (والانعام) * معطوف على * (الإنسان) * من قوله * (خلق الإنسان) * والأول أظهر كما ترى.
وأظهر أوجه الإعراب في قوله * (لكم فيها دفء) * أن قوله * (دفء) * مبتدأ خبره * (لكم فيها) * وسوغ الابتداء بالنكرة اعتمادها على الجار والمجرور قبلها وهو الخبر كما هو معروف. خلافا لمن زعم أن * (دفء) * فاعل الجار والمجرور الذي هو
333

* (لكم) *.
وفي الآية أوجه أخرى ذكرها بعض العلماء تركنا ذكرها لعدم اتجاهها عندنا، والعلم عند الله تعالى.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (ولكم فيها جمال) * يعني أن اقتناء هذه الأنعام وملكيتها فيه لمالكها عند الناس جمال. أي عظمة ورفعة، وسعادة في الدنيا لمقتنيها. وكذلك قال في الخيل والبغال والحمير * (لتركبوها وزينة) * فعبر في الأنعام بالجمال، وفي غيرها بالزينة. والجمال: مصدر جمل فهو جميل وهي جميلة. ويقال أيضا: هي جملاء. وأنشد لذلك الكسائي قول الشاعر: لتركبوها وزينة) * فعبر في الأنعام بالجمال، وفي غيرها بالزينة. والجمال: مصدر جمل فهو جميل وهي جميلة. ويقال أيضا: هي جملاء. وأنشد لذلك الكسائي قول الشاعر:
* فهي جملاء كبدر طالع
* بذت الخلق جميعا بالجمال
*
والزينة: ما يتزين به. وكانت العرب تفتخر بالخيل والإبل ونحو ذلك. كالسلاح. ولا تفتخر بالبقر والغنم. ويدل لذلك قول العباس بن مرداس يفتخر بمآثر قبيلته بني سليم: والزينة: ما يتزين به. وكانت العرب تفتخر بالخيل والإبل ونحو ذلك. كالسلاح. ولا تفتخر بالبقر والغنم. ويدل لذلك قول العباس بن مرداس يفتخر بمآثر قبيلته بني سليم:
* واذكر بلاء سليم في مواطنها
* ففي سليم لأهل الفخر مفتخر
*
* قوم هم نصروا الرحمن واتبعوا
* دين الرسول وأمر الناس مشتجر
*
* لا يغرسون فسيل النخل وسطهم
* ولا تخاور في مشتاهم البقر
*
* إلا سوابح كالعقبان مقربة
* في دارة حولها الأخطار والعكر
*
والسوابح: الخيل. والمقربة: المهيأة المعدة قريبا. والأخطار: جمع خطر بفتح فسكون، أو كسر فسكون وهو عدد كثير من الإبل على اختلاف في قدره. والعكر بفتحتين: جمع عكرة، وهي القطيع الضخم من الإبل أيضا على اختلاف في تحديد قدره. وقول الآخر: والسوابح: الخيل. والمقربة: المهيأة المعدة قريبا. والأخطار: جمع خطر بفتح فسكون، أو كسر فسكون وهو عدد كثير من الإبل على اختلاف في قدره. والعكر بفتحتين: جمع عكرة، وهي القطيع الضخم من الإبل أيضا على
اختلاف في تحديد قدره. وقول الآخر:
* لعمري لقوم قد ترى أمس فيهم
* مرابط للأمهار والعكر الدثر
*
* أحب إلينا من أناس بقنة
* يروح على آثار شائهم النمر
*
وقوله: (العكر الدثر) أي المال الكثير من الإبل. وبدأ بقوله: * (حين تريحون) * لأنها وقت الرواح أملأ ضروعا وبطونا منها وقت سراحها للمرعى.
وأظهر أوجه الإعراب في قوله: * (وزينة) * أنه مفعول لأجله، معطوف على ما قبله. أي لأجل الركوب والزينة. قوله تعالى: * (ويخلق ما لا تعلمون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه
334

يخلق ما لا يعلم المخاطبون وقت نزولها، وأبهم ذلك الذي يخلقه لتعبيره عنه بالموصول ولم يصرح هنا بشيء منه، ولكن قرينة ذكر ذلك في معرض الامتنان بالمركوبات تدل على أن منه ما هو من المركوبات، وقد شوهد ذلك في إنعام الله على عباده بمركوبات لم تكن معلومة وقت نزول الآية، كالطائرات، والقطارات، والسيارات.
ويؤيد ذلك إشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في الحديث الصحيح. قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث، عن سعيد بن أبي سعيد، عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله لينزلن ابن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية، ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد) اه.
ومحل الشاهد من هذا الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: (ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها) فإنه قسم من النبي صلى الله عليه وسلم أنه ستترك الإبل فلا يسعى عليها، وهذا مشاهد الآن للاستغناء عن ركوبها بالمراكب المذكورة.
وفي هذا الحديث معجزة عظمى، تدل على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم وإن كانت معجزاته صلوات الله عليه وسلامه أكثر من أن تحصر.
وهذه الدلالة التي ذكرنا تسمى دلالة الاقتران، وقد ضعفها أكثر أهل الأصول، كما أشار له صاحب مراقي السعود بقوله: وهذه الدلالة التي ذكرنا تسمى دلالة الاقتران، وقد ضعفها أكثر أهل الأصول، كما أشار له صاحب مراقي السعود بقوله:
* أما قران اللفظ في المشهور
* فلا يساوي في سوى المذكور
*
وصحح الاحتجاج بها بعض العلماء. ومقصودنا من الاستدلال بها هنا أن ذكر * (ما لا تعلمون) * في معرض الامتنان بالمركوبات لا يقل عن قرينة دالة على أن الآية تشير إلى أن من المراد بها بعض المركوبات، كما قد ظهرت صحة ذلك بالعيان.
وقد ذكر في موضع آخر: أنه يخلق ما لا يعلمه خلقه غير مقترن بالامتنان بالمركوبات، وذلك في قوله * (سبحان الذى خلق الا زواج كلها مما تنبت الا رض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون) *. قوله تعالى: * (وعلى الله قصد السبيل ومنها جآئر) *. اعلم أولا أن قصد السبيل: هو الطريق المستقيم القاصد، الذي لا اعوجاج فيه، وهذا المعنى معروف في كلام العرب. ومنه قول زهير بن أبي سلمى المزني: وعلى الله قصد السبيل ومنها جآئر) *. اعلم أولا أن قصد السبيل: هو الطريق المستقيم القاصد، الذي لا اعوجاج فيه، وهذا المعنى معروف في كلام العرب. ومنه قول زهير بن أبي سلمى المزني:
335

* صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله
* وعرى أفراس الصبا ورواحله
*
* وأقصرت عما تعلمين وسددت
* علي سوى قصد السبيل معادله
*
وقول امرئ القيس: وقول امرئ القيس:
* ومن الطريقة جائر وهدى
* قصد السبيل ومنه ذو دخل
*
فإذا علمت ذلك فاعلم: أن في معنى الآية الكريمة وجهين معروفين للعلماء، وكل منهما مصداق في كتاب الله، إلا أن أحدهما أظهر عندي من الآخر.
الأول منهما أن معنى * (وعلى الله قصد السبيل) *: أن طريق الحق التي هي قصد السبيل على الله، أي موصلة إليه، ليست حائدة، ولا جائرة عن الوصول إليه وإلى مرضاته. * (ومنها جآئر) *: أي من الطريق جائر لا يصل إلى الله، بل هو زائغ وحائد عن الوصول إليه. ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: * (وأن هاذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) *، وقوله: * (وأن اعبدونى هاذا صراط مستقيم) *.
ويؤيد هذا التفسير قوله بعده: * (ومنها جآئر) * وهذا الوجه أظهر عندي. واستظهره ابن كثير وغيره، وهو قول مجاهد.
الوجه الثاني أن معنى الآية الكريمة: * (وعلى الله قصد السبيل) * أي عليه جل وعلا أن يبين لكم طريق الحق على ألسنة رسله.
ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: * (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) *، وقوله: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) *، وقوله: * (فإنما على رسولنا البلاغ المبين) * إلى غير ذلك من الآيات.
وعلى هذا القول، فمعنى قوله: * (ومنها جآئر) * غير واضح، لأن المعنى: ومن الطريق جائر عن الحق، وهو الذي نهاكم الله عن سلوكه. والجائر: المائل عن طريق الحق. والوجهان المذكوران في هذه الآية جاريان في قوله: * (إن علينا للهدى) *. * (وعلى الله قصد السبيل ومنها جآئر ولو شآء لهداكم أجمعين * هو الذى أنزل من السماء مآء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون * ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن فى ذلك لآية لقوم يتفكرون * وسخر لكم اليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن فى ذلك لآيات لقوم يعقلون) * قوله تعالى: * (ولو شآء لهداكم أجمعين) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه لو شاء هداية جميع خلقه لهداهم أجمعين. وأوضح هذا المعنى في آيات أخر، كقوله:
336

* (ولو شآء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين) *، وقوله: * (ولو شئنا لاتينا كل نفس هداها) *، وقوله: * (ولو شآء الله مآ أشركوا) *، وقوله: * (ولو شآء ربك لآمن من فى الا رض كلهم جميعا) *، وقوله: * (ولو شآء ربك لجعل الناس أمة واحدة...) *، إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا هذا في سورة يونس. قوله تعالى: * (هو الذى أنزل من السماء مآء لكم منه شراب) *. تقدم الكلام على ما يوضح معنى هذه الآية الكريمة في سورة الحجر.
وقوله جل وعلا: * (ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن فى ذلك لآية لقوم يتفكرون) *.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن إنباته بالماء ما يأكله الناس من الحبوب والثمار، وما تأكله المواشي من المرعى من أعظم نعمه على بني آدم، ومن أوضح آياته الدالة على أنه هو المستحق لأن يعبد وحده. وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله: * (أولم يروا أنا نسوق المآء إلى الا رض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون) * وقوله: * (الذى جعل لكم الا رض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السمآء مآء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن فى ذالك لأيات لا ولى النهى) *، وقوله: * (والا رض بعد ذلك دحاها أخرج منها مآءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولانعامكم) *، وقوله: * (ونزلنا من السمآء مآء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد) *، وقوله: * (أمن خلق السماوات والا رض وأنزل لكم من السمآء مآء فأنبتنا به حدآئق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإلاه مع الله بل هم قوم يعدلون) * وقوله: * (وأنزلنا من المعصرات مآء ثجاجا لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا) * والآيات بمثل هذا كثيرة جدا.
تنبيهان
الأول اعلم أن النظر في هذه الآيات واجب، لما تقرر في الأصول (أن صيغة الأمر تقتضي الوجوب إلا لدليل يصرفها عن الوجوب). والله جل وعلا أمر الإنسان أن ينظر
337

إلى طعامه الذي به حياته، ويفكر في الماء الذي هو سبب إنبات حبه من أنزلها؟ ثم بعد إنزال الماء وري الأرض من يقدر على شق الأرض عن النبات وإخراجه منهاا؟ ثم من يقدر على إخراج الحب من ذلك النباتا؟ ثم من يقدر على تنميته حتى يصير صالحا للأكلا؟ * (انظروا إلى ثمره إذآ أثمر وينعه) *. وذلك في قوله تعالى: * (فلينظر الإنسان إلى طعامه * (ط * (أنا صببنا ثم شققنا الا رض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدآئق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولانعامكم) *.
وكذلك يجب على الإنسان النظر في الشيء الذي خلق منه، لقوله تعالى: * (فلينظر الإنسان مم خلق) * وظاهر القرآن: أن النظر في ذلك واجب، ولا دليل يصرف عن ذلك.
التنبيه الثاني: اعلم أنه جل وعلا أشار في هذه الآيات من أول سورة (النحل) إلى براهين البعث الثلاثة، التي قدمنا أن القرآن العظيم يكثر فيه الاستدلال بها على البعث. الأول خلق السماوات والأرض المذكور في قوله: * (خلق السماوات والا رض بالحق) *. والاستدلال بذلك على البعث كثير في القرآن، كقوله: * (أءنتم أشد خلقا أم السمآء بناها رفع سمكها) * إلى قوله: * (متاعا لكم ولانعامكم) *، وقوله: * (أولم يروا أن الله الذى خلق السماوات والا رض ولم يعى بخلقهن بقادر على أن يحى الموتى) *، وقوله: * (لخلق السماوات والا رض أكبر من خلق الناس) *، وقوله: * (أوليس الذى خلق السماوات والا رض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم) * إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم.
البرهان الثاني خلق الإنسان أولا المذكور في قوله: * (خلق الإنسان من نطفة) * لأن من اخترع قادر على الإعادة ثانيا. وهذا يكثر الاستدلال به أيضا على البعث، كقوله: * (قل يحييها الذى أنشأهآ أول مرة وهو بكل خلق عليم) *، وقوله: * (وهو الذى يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون) *، وقوله: * (ياأيها الناس إن كنتم فى
ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب) *، وقوله: * (أفعيينا بالخلق الا ول بل هم فى لبس من خلق جديد) * إلى غير ذلك من
338

الآيات كما تقدم.
البرهان الثالث إحياء الأرض بعد موتها المذكور هنا في قوله: * (ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب) *، فإنه يكثر في القرآن الاستدلال به على البعث أيضا، كقوله: * (فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت إن الذى أحياها لمحى الموتى) *، وقوله: * (وأحيينا به بلدة ميتا كذالك الخروج) * أي كذلك الإحياء خروجكم من قبوركم أحياء بعد الموت، وقوله: * (ويحى الا رض بعد موتها وكذلك تخرجون) * أي من قبوركم أحياء بعد الموت، وقوله: * (حتى إذآ أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به المآء فأخرجنا به من كل الثمرات كذالك نخرج الموتى لعلكم تذكرون) * وقوله: * (وترى الا رض هامدة فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ذالك بأن الله هو الحق وأنه يحى الموتى وأنه على كل شىء قدير) * إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم.
فهذه البراهين الثلاثة يكثر جدا الاستدلال بها على البعث في كتاب الله كما رأيت وكما تقدم.
وهناك برهان رابع يكثر الاستدلال به على البعث أيضا ولا ذكر له في هذه الآيات، وهو إحياء الله بعض الموتى في دار الدنيا، كما تقدمت الإشارة إليه في (سورة البقرة)، لأن من أحيا نفسا واحدة بعد موتها قادر على إحياء جميع النفوس: * (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) *.
وقد ذكر جل وعلا هذا البرهان في (سورة البقرة) في خمسة مواضع.
الأول قوله: * (ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون) *.
الثاني قوله: * (فقلنا اضربوه ببعضها كذالك يحى الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون) *.
الثالث قوله جل وعلا: * (فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم) *.
الرابع قوله: * (فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك ءاية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على
339

كل شيء قدير) *.
الخامس قوله تعالى: * (قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ومنه شجر فيه تسيمون) * أي ترعون مواشيكم السائمة في ذلك الشجر الذي هو المرعى. والعرب تطلق اسم الشجر على كل ما تنبته الأرض من المرعى. ومنه قول النمر بن تولب العكلي: ومنه شجر فيه تسيمون) * أي ترعون مواشيكم السائمة في ذلك الشجر الذي هو المرعى. والعرب تطلق اسم الشجر على كل ما تنبته الأرض من المرعى. ومنه قول النمر بن تولب العكلي:
* إنا أتيناك وقد طال السفر
* نقود خيلا ضمرا فيها صعر
*
والعرب تقول: سامت المواشي إذا رعت في المرعى الذي ينبته الله بالمطر. وأسامها صاحبها: أي رعاها فيه، ومنه قول الشاعر: والعرب تقول: سامت المواشي إذا رعت في المرعى الذي ينبته الله بالمطر. وأسامها صاحبها: أي رعاها فيه، ومنه قول الشاعر:
* مثل ابن بزعة أو كآخر مثله
* أولى لك ابن مسيمة الأجمال
*
يعني يا بن راعية الجمال التي تسميها في المرعى.
وقوله: * (ينبت لكم به الزرع) * قرأه شعبة عن عاصم (ننبت) بالنون والباقون بالياء التحتية. قوله تعالى: * (وسخر لكم اليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن فى ذلك لآيات لقوم يعقلون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه سخر لخلقه خمسة أشياء عظام، فيها من عظيم نعمته ما لا يعلمه إلا هو، وفيها الدلالات الواضحات لأهل العقول على أنه الواحد المستحق لأن يعبد وحده.
والخمسة المذكورة هي: الليل، والنهار، والشمس، والقمر، والنجوم.
وكرر في القرآن ذكر إنعامه بتسخير هذه الأشياء، وأنها من أعظم أدلة وحدانيته واستحقاقه للعبادة وحده. كقوله تعالى: * (إن ربكم الله الذى خلق السماوات والا رض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشى اليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والا مر تبارك الله رب العالمين) * وإغشاؤه الليل النهار: هو تسخيرهما، وقوله: * (وسخر لكم الشمس والقمر دآئبين وسخر لكم اليل والنهار) *، وقوله: * (وءاية لهم اليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون
340

والشمس تجرى لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم) *، وقوله: * (ولقد زينا السمآء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين) *، وقوله: * (وبالنجم هم يهتدون) * إلى غير ذلك من الآيات. وفي هذه الآية الكريمة ثلاث قراءات سبعيات في الأسماء الأربعة الأخيرة، التي هي
الشمس، والقمر، والنجوم، ومسخرات. فقرأ بنصبها كلها نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وعاصم في رواية شعبة. وقرأ برفع الأسماء الأربعة ابن عامر، على أن * (والشمس) * مبتدأ وما بعده معطوف عليه و * (مسخرات) * خبر المبتدأ. وقرأ حفص عن عاصم بنصب * (والشمس والقمر) * عطفا على * (اليل والنهار) * ورفع * (والنجوم مسخرات) * على أنه مبتدأ وخبر. وأظهر أوجه الإعراب في قوله * (مسخرات) * على قراءة النصب أنها حال مؤكدة لعاملها. والتسخير في اللغة: التذليل. قوله تعالى: * (وما ذرأ لكم فى الا رض مختلفا ألوانه إن فى ذلك لآية لقوم يذكرون) *. * (وما ذرأ لكم فى الا رض مختلفا ألوانه إن فى ذلك لآية لقوم يذكرون * وهو الذى سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون * وألقى فى الا رض رواسى أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون * وعلامات وبالنجم هم يهتدون * أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون) * قوله: * (وما) * في محل نصب عطفا على قوله * (وسخر لكم اليل والنهار) * أي وسخر لكم ما ذرأ لكم في الأرض، أي ما خلق لكم فيها في حال كونه مختلفا ألوانه.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة امتنانه على خلقه بما سخر لهم مما خلق لهم في الأرض منبها على أن خلقه لما خلق لهم في الأرض مع ما فيه من النعم العظام فيه الدلالة الواضحة لمن يذكر ويتعظ على وحدانيته واستحقاقه لأن يعبد وحده. وكرر هذا المعنى في مواضع كثيرة، كقوله: * (هو الذى خلق لكم ما فى الا رض جميعا) *، وقوله: * (وسخر لكم ما فى السماوات وما فى الا رض جميعا منه) *، وقوله: * (والا رض وضعها للا نام فيها فاكهة والنخل ذات الا كمام والحب ذو العصف والريحان فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *، وقوله: * (هو الذى جعل لكم الا رض ذلولا فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور) *.
وأشار في هذه الآية الكريمة إلى أن اختلاف ألوان ما خلق في الأرض من الناس والدواب وغيرهما من أعظم الأدلة على أنه خالق كل شيء، وأنه الرب وحده، المستحق
341

أن يعبد وحده.
وأوضح هذا في آيات أخر. كقوله في (سورة فاطر): * (ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدوآب والا نعام مختلف ألوانه كذلك) *، وقوله: * (ومن ءاياته خلق السماوات والا رض واختلاف ألسنتكم وألوانكم) * ولا شك أن اختلاف الألوان والمناظر والمقادير والهيئات وغير ذلك فيه الدلالة القاطعة على أن الله جل وعلا واحد، لا شبيه له ولا نظير ولا شريك، وأنه المعبود وحده.
وفيه الدلالة القاطعة على أن كل تأثير فهو بقدرة وإرادة الفاعل المختار، وأن الطبيعة لا تؤثر في شيء إلا بمشيئته جل وعلا.
كما أوضح ذلك في قوله: * (وفى الا رض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بمآء واحد ونفضل بعضها على بعض فى الا كل إن فى ذالك لآيات لقوم يعقلون) * فالأرض التي تنبت فيها الثمار واحدة. لأن قطعها متجاورة، والماء الذي تسقى به ماء واحد، والثمار تخريج متفاضلة، مختلفة في الألوان والأشكال والطعوم، والمقادير والمنافع.
فهذا أعظم برهان قاطع على وجود فاعل مختار، يفعل ما يشاء كيف يشاء، سبحانه جل وعلا عن الشركاء والأنداد.
ومن أوضح الأدلة على أن الطبيعة لا تؤثر في شيء إلا بمشيئته جل وعلا أن النار مع شدة طبيعة الإحراق فيها ألقى فيها الحطب وإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولا شك أن الحطب أصلب وأقسى وأقوى من جلد إبراهيم ولحمه. فأحرقت الحطب بحرها، وكانت على إبراهيم بردا وسلاما لما قال لها خالقها: * (قلنا يانار كونى بردا وسلاما على إبراهيم) * فسبحان من لا يقع شيء كائنا ما كان إلا بمشيئته جل وعلا، فعال لما يريد.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (يذكرون) * أصله يتذكرون، فأدغمت التاء في الذال. والأذكار: الاعتبار والاتعاظ. قوله تعالى: * (وهو الذى سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) *.
342

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه سخر البحر. أي ذلله لعباده حتى تمكنوا من ركوبه، والانتفاع بما فيه من الصيد والحلية، وبلوغ الأقطار التي تحول دونها البحار، للحصول على أرباح التجارات ونحو ذلك.
فتسخير البحر للركوب من أعظم آيات الله. كما بينه في مواضع أخر. كقوله: * (وءاية لهم أنا حملنا ذريتهم فى الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) *، وقوله: * (الله الذى سخر لكم البحر لتجرى الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) * إلى غير ذلك من الآيات.
وذكر في هذه الآية أربع نعم من نعمه على خلقه بتسخير البحر لهم:
الأولى قوله: * (لتأكلوا منه لحما طريا) * وكرر الامتنان بهذه النعمة في القرآن. كقوله: * (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة) *، وقوله: * (ومن كل تأكلون لحما طريا) *.
الثانية قوله: * (وتستخرجوا منه حلية تلبسونها) * وكرر الامتنان بهذه النعمة أيضا في القرآن. كقوله: * (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان) * واللؤلؤ والمرجان: هما الحلية التي يستخرجونها من البحر للبسها، وقوله: * (ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها) *.
الثالثة قوله تعالى: * (وترى الفلك مواخر فيه) * وكرر في القرآن الامتنان بشق أمواج البحر على السفن، كقوله: * (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) * * (وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون) *، وقوله: * (وسخر لكم الفلك لتجرى فى البحر بأمره) *.
الرابعة الابتغاء من فضله بأرباح التجارات بواسطة الحمل على السفن المذكور في قوله هنا: * (ولتبتغوا من فضله) * أي كأرباح التجارات. وكرر في القرآن الامتنان بهذه النعمة أيضا. كقوله في (سورة البقرة): * (والفلك التى تجرى فى البحر بما ينفع الناس) *، وقوله في (فاطر): * (وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) *، وقوله في (الجاثية): * (الله الذى سخر لكم البحر لتجرى الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) * إلى غير ذلك من الآيات.
343

مسائل
تتعلق بهذه الآية الكريمة:
المسألة الأولى لا مفهوم مخالفة لقوله * (لحما طريا) * فلا يقال: يفهم من التقييد بكونه طريا أن اليابس كالقديد مما في البحر لا يجوز أكله. بل يجوز أكل القديد مما في البحر بإجماع العلماء.
وقد تقرر في الأصول: أن من موانع اعتبار مفهوم المخالفة كون النص مسوقا للامتنان. فإنه إنما قيد بالطري لأنه أحسن من غيره، فالامتنان به أتم.
وقد أشار إلى هذا صاحب مراقي السعود بقوله عاطفا على موانع اعتبار مفهوم المخالفة: وقد أشار إلى هذا صاحب مراقي السعود بقوله عاطفا على موانع اعتبار مفهوم المخالفة:
* أو امتنان أو وفاق الواقع
* والجهل والتأكيد عند السامع
*
ومحل الشاهد قوله (أو امتنان) وقد قدمنا هذا في (سورة المائدة).
المسألة الثانية اعلم أن علماء المالكية قد أخذوا من هذه الآية الكريمة: أن لحوم ما في البحر كلها جنس واحد. فلا يجوز التفاضل بينها في البيع، ولا بيع طريها بيابسها لأنها جنس واحد.
قالوا: لأن الله عبر عن جميعها بلفظ واحد، وهو قوله في هذه الآية الكريمة: * (وهو الذى سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا) * وهو شامل لما في البحر كله.
ومن هنا جعل علماء المالكية، للحوم أربعة أجناس لا خامس لها:
الأول لحم ما في البحر كله جنس واحد، لما ذكرنا.
الثاني لحوم ذوات الأربع من الأنعام والوحوش كلها عندهم جنس واحد. قالوا: لأن الله فرق بين أسمائها في حياتها فقال: * (من الضأن اثنين ومن المعز اثنين) *، ثم قال: * (ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين) * أو بعد ذبحها فقد عبر عنها باسم واحد فقال: * (أحلت لكم بهيمة الا نعام) * فجمعها بلحم واحد. وقال كثير من العلماء: يدخل في بهيمة الأنعام الوحش كالظباء.
الثالث لحوم الطير بجميع أنواعها جنس واحد. لقوله تعالى: * (ولحم طير مما
344

يشتهون) * فجمع لحومها باسم واحد.
الرابع الجراد هو جنس واحد عندهم. وقد قدمنا في (سورة البقرة) الإشارة إلى الاختلاف في ربويته عندهم. ومشهور مذهب مالك عدم ربويته، بناء على أن غلبة العيش بالمطعوم من أجزاء العلة في الربا. لأن علة الربا في الربويات عند مالك: هي الاقتيات والادخار. قيل: وغلبة العيش. وقد قدمنا: أن الاختلاف في اشتراط غلبة العيش تظهر فائدته في أربعة أشياء: وهي الجراد، والبيض، والتين، والزيت. وقد قدمنا تفصيل ذلك في (سورة البقرة).
فإذا علمت ذلك فاعلم أن كل جنس من هذه الأجناس المذكورة يجوز بيعه بالجنس الآخر متفاضلا يدا بيد. ويجوز بيع طريه بيابسه يدا بيد أيضا في مذهب مالك رحمه الله تعالى.
ومذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله: أن اللحوم تابعة لأصولها، فكل لحم جنس مستقل كأصله فلحم الإبل عنده جنس مستقل، وكذلك لحم الغنم ولحم البقر، وهكذا. لأن اللحوم تابعة لأصولها وهي مختلفة كالأدقة والأدهان.
أما مذهب الشافعي وأحمد في هذه المسألة فكلاهما عنه فيها روايتان. أما الروايتان عن الشافعي فإحداهما أن اللحوم كلها جنس واحد، لاشتراكها في الاسم الخاص الذي هو اللحم. الثانية أنها أجناس كأصولها: كقول أبي حنيفة.
وقال صاحب المهذب: إن هذا قول المزني وهو الصحيح.
وأما الروايتان في مذهب الإمام أحمد فإحداهما أن اللحوم كلها جنس واحد. وهو ظاهر كلام الخرقي، فإنه قال: وسائر اللحمان جنس واحد. قال صاحب المغني: وذكره أبو الخطاب وابن عقيل رواية عن أحمد. ثم قال: وأنكر القاضي أبو يعلى كون هذا رواية عن أحمد، وقال: الأنعام والوحوش والطير ودواب الماء أجناس، يجوز التفاضل فيها رواية واحدة، وإنما في اللحم روايتان.
إحداهما أنه أربعة أجناس كما ذكرنا. الثانية أنه أجناس باختلاف أصوله. انتهى من المغني بتصرف يسير، بحذف ما لا حاجة له فهذه مذاهب الأربعة في هذه المسألة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: اختلاف العلماء في هذه المسألة من الاختلاف. في تحقيق مناط من نصوص الشرع، وذلك أنه ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث
345

عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد) فعلم أن الاختلاف الصنفين مناط جواز التفاضل. واتحادهما مناط منع التفاضل، واختلاف العلماء في تحقيق هذا المناط. فبعضهم يقول: اللحم جنس واحد يعبر عنه باسم واحد، فمناط تحريم التفاضل موجود فيه. وبعضهم يقول: هي لحوم مختلفة الجنس، لأنها من حيوانات مختلفة الجنس. فمناط منع التفاضل غير موجود. والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثالثة لا يجوز بيع اللحم بالحيوان الذي يجوز أكله من جنسه.
وهذا مذهب أكثر العلماء: منهم مالك والشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز بيع اللحم بالحيوان. لأن الحيوان غير ربوي، فأشبه بيعه باللحم بيع اللحم بالإثمان.
واحتج الجمهور بما رواه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان. وفي (الموطأ) أيضا عن مالك عن داود بن الحصين: أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: من ميسر أهل الجاهلية بيع الحيوان باللحم بالشاة والشاتين. وفي (الموطأ) أيضا عن مالك عن أبي الزناد عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: نهى عن بيع الحيوان باللحم. قال أبو الزناد: فقلت لسعيد بن المسيب: أرأيت رجلا اشترى شارفا بعشر شياه؟ فقال سعيد: إن كان اشتراها لينحرها فلا خير في ذلك. قال أبو الزناد: وكل من أدركت من الناس ينهون عن بيع الحيوان باللحم. قال أبو الزناد: وكان ذلك يكتب في عهود العمال في زمان أبان بن عثمان وهشام بن إسماعيل ينهون عن ذلك اه من الموطأ.
وقال ابن قدامة في المغني: لا يختلف المذهب أنه لا يجوز بيع اللحم بحيوان من جنسه، وهو مذهب مالك والشافعي، وقول فقهاء المدينة السبعة. وحكي عن مالك: أنه لا يجوز بيع اللحم بحيوان معد للحم ويجوز بغيره. وقال أبو حنيفة: يجوز مطلقا لأنه باع مال الربا بما لا ربا فيه. فأشبه بيع اللحم بالدراهم، أو بلحم من غير جنسه ولنا ما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع اللحم بالحيوان) رواه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم، عن سعيد بن المسيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن عبد البر: هذا أحسن أسانيده. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه نهى أن يباع حي بميت) ذكره الإمام أحمد. وروي عن ابن عباس: (أن جزورا نحرت فجاء رجل بعناق فقال أعطوني جزءا بهذه العناق فقال أبو بكر: لا يصلح
346

هذا قال الشافعي: لا أعلم مخالفا لأبي بكر في ذلك. وقال أبو الزناد: كل من أدركت ينهى عن بيع اللحم بالحيوان، ولأن اللحم نوع فيه الربا بيع بأصله الذي فيه مثله فلم يجز. كبيع السمسم بالشيرج اه.
وقال صاحب المهذب: ولا يجوز بيع حيوان يؤكل لحمه بلحمه، لما روى سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يباع حي بميت) وروى ابن عباس رضي الله عنهما: (أن جزورا نحرت على عهد أبي بكر رضي الله عنه. فجاء رجل بعناق فقال: أعطوني بها لحما فقال أبو بكر: لا يصلح هذا) ولأنه جنس فيه الربا بيع بأصله الذي فيه مثله فلم يجز كبيع الشيرج بالسمسم اه.
وقال ابن السبكي في تكملته لشرح المهذب: حديث سعيد بن المسيب رواه أبو داود من طريق الزهري عن سعيد كما ذكره المصنف، ورواه مالك في الموطأ، والشافعي في المختصر والأم، وأبو داود من طريق زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان) هذا لفظ الشافعي عن مالك، وأبي داود عن القعنبي عن مالك، وكذلك هو في موطأ ابن وهب. ورأيت في موطأ القعنبي عن بيع الحيوان باللحم، والمعنى واحد، وكلا الحديثين أعني رواية الزهري وزيد بن أسلم مرسل، ولم يسنده واحد عن سعيد. وقد روي من طرق أخر، منها عن الحسن عن سمرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع الشاة باللحم) رواه الحاكم في المستدرك وقال: رواته عن آخرهم أئمة حفاظ ثقات. وقد احتج البخاري بالحسن عن سمرة، وله شاهد مرسل في الموطأ، هذا كلام الحاكم. ورواه البيهقي في سننه الكبير وقال: هذا إسناد صحيح. ومن أثبت سماع الحسن عن سمرة عده موصولا. ومن لم يثبته فهو مرسل جيد انضم إلى مرسل سعيد. ومنها عن سهل بن سعد قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع اللحم بالحيوان) رواه الدارقطني وقال: تفرد به يزيد بن مروان عن مالك بهذا الإسناد ولم يتابع عليه. وصوابه في الموطأ عن ابن المسيب مرسلا. وذكره البيهقي في سننه الصغير، وحكم بأن ذلك من غلط يزيد بن مروان، ويزيد المذكور تكلم فيه يحيى بن معين. وقال ابن عدي: وليس هذا بذلك المعروف. ومنها عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع الحيوان باللحم) قال عبد الحق: أخرجه البزار في مسنده من رواية ثابت بن زهير عن نافع، وثابت رجل من أهل البصرة منكر الحديث لا يستقل به. ذكره أبو حاتم الرازي. انتهى محل الغرض من كلام صاحب تكملة المجموع.
347

قال مقيده عفا الله عنه: لا يخفى أن هذا الذي ذكرنا يثبت به منع بيع اللحم بالحيوان. أما على مذهب من يحتج بالمرسل كمالك وأبي حنيفة وأحمد فلا إشكال وأما على مهذب من لا يحتج بالمرسل فمرسل سعيد بن المسيب حجة عند كثير ممن لا يحتج بالمرسل، ولا سيما أنه اعتضد بحديث الحسن عن سمرة. فعلى قول من يصحح سماع الحسن عن سمرة فلا إشكال في ثبوت ذلك، لأنه حينئذ حديث صحيح متصل وأما على قول من لا يثبت سماع الحسن عن سمرة فأقل درجاته أنه مرسل صحيح، اعتضد بمرسل صحيح. ومثل هذا يحتج به من يحتج بالمرسل ومن لا يحتج به وقد قدمنا في (سورة المائدة) كلام العلماء في سماع الحسن عن سمرة، وقدمنا في (سورة الأنعام) أن مثل هذا المرسل يحتج به بلا خلاف عنه الأئمة الأربعة، فظهر بهذه النصوص أن بيع الحيوان باللحم من جنسه لا يجوز خلافا لأبي حنيفة. وأما إن كان من غير جنسه كبيع شاة بلحم حوت، أو بيع طير بلحم إبل فهو جائز عند مالك، لأن المزابنة تنتفي باختلاف الجنس، وحمل معنى الحديث على هذا وإن كان ظاهره العموم.
ومذهب الشافعي مع اختلاف الجنس فيه قولان: أحدهما جواز بيع اللحم بالحيوان إذا اختلف جنسهما. والثاني المنع مطلقا لعموم الحديث. ومذهب أحمد في المسألة ذكره ابن قدامة في المغني بقوله: وأما بيع اللحم بحيوان من غير جنسه فظاهر كلام أحمد والخرقي: أنه لا يجوز. فإن أحمد سئل عن بيع الشاة باللحم فقال: لا يصح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى أن يباع حتى بميت) واختار القاضي جوازه وللشافعي فيه قولان. واحتج من منعه بعموم الأخبار، وبأن اللحم كله جنس واحد ومن أجازه قال: مال الربا بيع بغير أصله ولا جنسه، فجاز كما لو باعه بالأثمان. وإن باعه بحيوان غير مأكول اللحم جاز في ظاهر قول أصحابنا، وهو قول عامة الفقهاء انتهى كلام صاحب المغني قال مقيده عفا الله عنه: قد عرفت مما تقدم أن بعض العلماء قال: إن اللحم كله جنس واحد. وبعضهم قال: إن اللحوم أجناس. فعلى أن اللحم جنس واحد فمنع بيع الحيوان باللحم هو الظاهر. وعلى أن اللحوم أجناس مختلفة فبيع اللحم بحيوان من غير جنسه الظاهر فيه الجواز. لقوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم) والعلم عند الله تعالى.
348

تنبيه
اشترط المالكية في منع بيع الحيوان باللحم من جنسه: ألا يكون اللحم مطبوخا. فإن كان مطبوخا جاز عندهم بيعه بالحيوان من جنسه، وهو معنى قول خليل في مختصره. وفسد منهي عنه إلا بدليل كحيوان بلحم جنسه إن لم يطبخ. واحتجوا لذلك بأن الطبخ ينقل اللحم عن جنسه فيجوز التفاضل بينه وبين اللحم الذي لم يطبخ. فبيعه بالحيوان من باب أولى هكذا يقولون والعلم عند الله تعالى.
المسألة الرابعة اعلم أن ظاهر هذه الآية الكريمة يدل على أنه يجوز للرجل أن يلبس الثوب المكلل باللؤلؤ والمرجان. لأن الله جل وعلا قال فيها في معرض الامتنان العام على خلقه عاطفا على الأكل * (وتستخرجوا منه حلية تلبسونها) * وهذا الخطاب خطاب الذكور كما هو معروف. ونظير ذلك قوله تعالى في سورة فاطر: * (ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها) * وقال القرطبي في تفسيره: امنن الله سبحانه على الرجال والنساء امتنانا عاما بما يخرج من البحر، فلا يحرم عليهم شيء منه، وإنما حرم تعالى على الرجال الذهب والحرير. وقال صاحب الإنصاف: يجوز للرجل والمرأة التحلي بالجوهر ونحوه، وهو الصحيح من المذهب: وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يجوز للرجل أن يلبس الثوب المكلل باللؤلؤ مثلا، ولا أعلم للتحريم مستندا إلا عموم الأحاديث الواردة بالزجر البالغ عن تشبه الرجال بالنساء، كالعكسا قال البخاري في صحيحه: (باب المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال): حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال). فهذا الحديث نص صريح في أن تشبه الرجال بالنساء حرام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يلعن أحدا إلا على ارتكاب حرام شديد الحرمة. ولا شك أن الرجل إذ لبس اللؤلؤ والمرجان فقد تشبه بالنساء. فإن قيل: يجب تقديم الآية على هذا الحديث، وما جرى مجراه من الأحاديث من وجهين:
الأول أن الآية نص متواتر، والحديث المذكور خبر آحاد، والمتواتر مقدم على الآحاد.
349

الثاني أن الحديث عام في كل أنواع التشبه بالنساء، والآية خاصة في إباحة الحلية المستخرجة من البحر، والخاص مقدم على العام؟ فالجواب: أنا لم نر من تعرض لهذا. والذي يظهر لنا والله تعالى أعلم: أن الآية الكريمة وإن كانت أقوى سندا وأخص في محل النزاع فإن الحديث أقوى دلالة على محل النزاع منها. وقوة الدلالة في نص صالح للاحتجاج على محل النزاع أرجح من قوة السند. لأن قوله: * (وتستخرجوا منه حلية تلبسونها) * يحتمل معناه احتمالا قويا: أن وجه الامتنان به أن نساءهم يتجملن لهم به، فيكون تلذذهم وتمتعهم بذلك الجمال والزينة الناشئ عن تلك الحلية من نعم الله عليهم. وإسناد اللباس إليهم لنفعهم به، وتلذذهم بلبس أزواجهم له. بخلاف الحديث فهو نص صريح غير محتمل في لعن من تشبه بالنساء. ولا شك أن المتحلي باللؤلؤ مثلا متشبه بهن. فالحديث يتناوله بلا شك. وقال ابن حجر في فتح الباري في الكلام على الحديث المذكور، واستدل به على أنه يحرم على الرجال لبس الثوب المكلل باللؤلؤ، وهو واضح، لو ورد علامات التحريم وهو لعن فعل ذلك: وأما قول الشافعي: ولا أكره للرجل لبس اللؤلؤ إلا لأنه من زي النساء فليس مخالفا لذلك. لأن مراده أنه لم يرد في النهي عنه بخصوصه شيء.
المسألة الخامسة لا يخفى أن الفضة والذهب يمنع الشرب في آنيتهما مطلقا، ولا يخفى أيضا أنه يجوز لبس الذهب والحرير للنساء ويمنع للرجال. وهذا مما لا خلاف فيه، لكثرة النصوص الصحيحة المصرحة به عن النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين على ذلك، ومن شذ فهو محجوج بالنصوص الصريحة وإجماع من يعتد به من المسلمين على ذلك. وسنذكر طرفا قليلا من النصوص الكثيرة الواردة في ذلك.
أما الشرب في آنيتهما فقد أخرج الشيخان والإمام أحمد وأصحاب السنن عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة). ولفظة (ولا تأكلوا في صحافها) في صحيح مسلم: وعن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) متفق عليه. وفي رواية لمسلم: (إن الذي يأكل أو يشرب في إناء الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جنهم) والأحاديث بمثل هذا كثيرة.
وأما لبس الحرير والديباج الذي هو نوع من الحرير فعن حذيفة رضي الله عنه
350

قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) أخرجه الشيخان وباقي الجماعة وعن عمر رضي الله عنه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تلبسوا الحرير فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) متفق عليه وعن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لبس الحرير في الدنيا فلن يلبسه في الآخرة) متفق عليه أيضا. والأحاديث بمثل هذا كثيرة جدا.
وأما لبس الذهب فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهاهم عن خاتم الذهب). قال البخاري في صحيحه: حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا أشعث بن سليم قال: سمعت معاوية بن سويد بن مقرن قال: سمعت البراء بن عازب رضي الله عنهما يقول: (نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن سبع: نهى عن خاتم الذهب أو قال حلقة الذهب وعن الحرير، والإستبرق، والديباج، والميثرة الحمراء، والقشي، وآنية الفضة، وأمرنا بسبع بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العطاس، ورد السلام، وإجابة الداعي، وإبرار المقسم، ونصر المظلوم) ولفظ مسلم في صحيحه قريب منه، إلا أن مسلما قدم السبع المأمور بها على السبع المنهي عنها. وقال في حديثه: (ونهانا عن خواتيم، أو عن تختم بالذهب) وهذا الحديث المتفق عليه يدل على أن لبس الذهب لا يحل للرجال. لأنه إذا منع الخاتم منه فغيره أولى، وهو كالمعلوم من الدين بالضرورة والأحاديث فيه كثيرة.
وأما جواز لبس النساء للحرير فله أدلة كثيرة، منها حديث علي رضي الله عنه: أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم حلة سيراء، فبعث بها إلي فلبستها فعرفت الغضب في وجهه، فقال: (إني لم أبعث بها إليك لتلبسها إنما بعثت بها إليك لتشقها خمرا بين نسائك) متفق عليه. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه رأى علي أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم برد حلة سيراء. أخرجه البخاري والنسائي وأبو داود والأحاديث بمثل ذلك كثيرة. وإباحة الحرير للنساء كالمعلوم بالضرورة. ومخالفة عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما في ذلك لا أثر لها، لأنه محجوج بالنصوص الصحيحة، واتفاق عامة علماء المسلمين.
وأما جواز لبس الذهب للنساء فقد وردت فيه أحاديث كثيرة. منها ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم وصححاه والطبراني من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي وحرم على ذكورها) وفي هذا الحديث كلام. لأن راويه عن أبي موسى وهو سعيد بن أبي هند، قال
351

بعض العلماء: لم يسمع من أبي موسى.
قال مقيده عفا الله عنه: ولو فرضنا أنه لم يسمع منه فالحديث حجة. لأنه مرسل معتضد بأحاديث كثيرة، منها ما هو حسن، ومنها ما إسناده مقارب، كما بينه الحافظ في التلخيص وبإجماع المسلمين وقد قال البيهقي رحمه الله في سننه الكبرى (باب سياق أخبار تدل على تحريم التحلي بالذهب) وساق أحاديث في ذلك ثم قال: (باب سياق أخبار تدل على إباحته للنساء) ثم ساق في ذلك أحاديث، وذكر منها حديث سعيد بن أبي هند المذكور عن أبي موسى، ثم قال: ورويناه من حديث علي بن أبي طالب وعقبة بن عامر وعبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر منها أيضا حديث عائشة قالت: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم حلية من عند النجاشي أهداها له، فيها خاتم من ذهب، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معرضا عنه أو ببعض أصابعه. ثم دعا أمامة بنت أبي العاصي بنت ابنته زينب فقال: (تحلي هذا يا بنية) وذكر منها أيضا حديث بنت أسعد بن زرارة رضي الله عنه: أنها كانت هي وأختاها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم. لأن أباهن أوصى إليه بهن، قالت: فكان صلى الله عليه وسلم يحلينا بالذهب واللؤلؤ وفي رواية (يحلينا رعاثا من ذهب ولؤلؤ) وفي رواية (يحلينا التبر واللؤلؤ) ثم قال البيهقي: قال أبو عبيد قال أبو عمرو: وواحد الرعاث رعثة ورعثة وهو القرط. ثم قال البيهقي: فهذه الأخبار وما ورد في معناها تدل على إباحة التحلي بالذهب للنساء، واستدللنا بحصول الإجماع على إباحته لهن على نسخ الأخبار الدالة على تحريمه فيهن خاصة. وقد قال بعض أهل العلم: إن موافقة الإجماع لخبر الآحاد تصيره قطيعا لاعتضاده بالقطعي وهو الإجماع. وقد تقدم ذلك في (سورة التوبة) والله أعلم.
فتحصل أنه لا شك في تحريم لبس الذهب والحرير على الرجال، وإباحته للنساء.
المسألة السادسة أما لبس الرجال خواتم الفضة فهو جائز بلا شك، وأدلته معروفة في السنة، ومن أوضحها خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضة المنقوش فيه (محمد رسول الله) الذي كان يلبسه بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان. حتى سقط في بئر أريس كما هو ثابت في الصحيحين. أما لبس الرجال لغير الخاتم من الفضة ففيه خلاف بين العلماء، وسنوضح هذه المسألة إن شاء الله.
اعلم أولا أن الرجل إذا لبس من الفضة مثل ما يلبسه النساء من الحلي كالخلخال والسوار والقرط والقلادة ونحو ذلك، فهذا لا ينبغي أن يختلف في منعه. لأنه تشبه
352

بالنساء، ومن تشبه بهن من الرجال فهو ملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما مر آنفا. وكل من كان ملعونا على لسانه صلى الله عليه وسلم فهو ملعون في كتاب الله، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه. لأن الله يقول: * (ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) *. وأما غير ذلك كجعل الرجل الفضة في الثوب، واستعمال الرجل شيئا محلى بأحد النقدين فجماهير العلماء منهم الأئمة الأربعة على أن ذلك ممنوع، مع الإجماع على جواز تختم الرجل بخاتم الفضة. والاختلاف في أشياء كالمنطقة وآلة الحرب ونحوه والمصحف. والاتفاق على جعل الأنف من الذهب وربط الأسنان بالذهب والفضة. وسنذكر بعض النصوص من فروع المذاهب الأربعة في ذلك.
قال خليل بن إسحاق المالكي في مختصره الذي قال في ترجمته مبينا لما به الفتوى ما نصه: وحرم استعمال ذكر محلى ولو منطقة وآلة حرب. إلا السيف والأنف، وربط سن مطلقا، وخاتم فضة. لا ما بعضه ذهب ولو قل، وإناء نقد واقتناؤه وإن لامرأة. وفي المغشي والمموه والمضبب وذي الحلقة وإناء الجوهر قولان. وجاز للمرأة الملبوس مطلقا ولو نعلا لا كسرير. انتهى الغرض من كلام خليل مع اختلاف في بعض المسائل التي ذكرها عند المالكية. وقال صاحب تبيين الحقائق في مذهب الإمام أبي حنيفة ما نصه: ولا يتحلى الرجل بالذهب والفضة إلا بالخاتم والمنطقة وحلية السيف من الفضة اه.
وقال النووي في شرح المهذب في مذهب الشافعي: (فصل فيما يحل ويحرم من الحلي) فالذهب أصله على التحريم في حق الرجال، وعلى الإباحة للنساء إلى أن قال
: وأما الفضة فيجوز للرجل التختم، بها وهل له ما سوى الخاتم من حلي الفضة كالدملج والسوار والطوق والتاج. فيه وجهان. قطع الجمهور بالتحريم. انتهى محل الغرض من كلام النووي. وقال ابن قدامة في المقنع في مذهب الإمام أحمد: ويباح للرجال من الفضة الخاتم، وفي حلية المنطقة روايتان، وعلى قياسها الجوشن والخوذة والخف والران والحمائل. ومن الذهب قبيعة السيف. ويباح للنساء من الذهب والفضة كل ما جرت عادتهن بلبسه قل أو كثر. انتهى محل الغرض من المقنع.
فقد ظهر من هذه النقول: أن الأئمة الأربعة في الجملة متفقون على منع استعمال المحلي بالذهب أو الفضة من ثوب أو آلة أو غير ذلك إلا في أشياء استثنوها على اختلاف بينهم في بعضها. وقال بعض العلماء: لا يمنع لبس شيء من الفضة. واستدل من قال بهذا بأمرين: أحدهما أنها لم يثبت فيها تحريم. قال صاحب الإنصاف في شرح قول صاحب
353

المقنع: وعلى قياسها الجوشن والخوذة الخ ما نصه: وقال صاحب الفروع فيه: ولا أعرف على تحريم الفضة نصا عن أحمد. وكلام شيخنا يدل على إباحة لبسها للرجال إلا ما دل الشرع على تحريمه انتهى. وقال الشيخ تقي الدين أيضا: لبس الفضة إذا لم يكن فيه لفظ عام لم يكن لأحد أن يحرم منه إلا ما قام الدليل الشرعي على تحريمه. فإذا أباحت السنة خاتم الفضة دل على إباحة ما في معناه، وما هو أولى منه بالإباحة، وما لم يكن كذلك فيحتاج إلى نظر في تحليله وتحريمه، والتحريم يفتقر إلى دليل، والأصل عدمه. ونصره صاحب الفروع ورد جميع ما استدل به الأصحاب. انتهى كلام صاحب الإنصاف.
الأمر الثاني حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على ذلك. قال أبو داود في سننه: حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد عن أسيد بن أبي أسيد البراد عن نافع بن عياش عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب أن يحلق حبيبه حلقة من نار فليحلقه حلقة من ذهب، ومن أحب أن يطوق حبيبه طوقا من نار فليطوقه طوقا من ذهب، ومن أحب أن يسور حبيبه سوارا من نار فليسوره سوارا من ذهب، ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها) هذا لفظ أبي داود.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي والله أعلم أن هذا الحديث لا دليل فيه على إباحة لبس الفضة للرجال. ومن استدل بهذا الحديث على جواز لبس الرجال للفضة فقد غلط. بل معنى الحديث: أن الذهب كان حراما على النساء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الرجال عن تحلية نسائهم بالذهب، وقال لهم: (العبوا بالفضة) أي حلوا نساءكم منها بما شئتم. ثم بعد ذلك نسخ تحريم الذهب على النساء. والدليل على هذا الذي ذكرنا أمور:
الأول أن الحديث ليس في خطاب الرجال بما يلبسونه بأنفسهم. بل بما يحلون به أحبابهم، والمراد نساؤهم. لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: (من أحب أن يحلق حبيبه)، (أن يطوق حبيبه)، (أن يسور حبيبه) ولم يقل: من أحب أن يحلق نفسه، ولا أن يطوق نفسه، ولا أن يسور نفسه. فدل ذلك دلالة واضحة لا لبس فيها على أن المراد بقوله: (فالعبوا بها) أي حلوا بها أحبابكم كيف شئتم. لارتباط آخر الكلام بأوله.
الأمر الثاني أنه ليس من عادة الرجال أن يلبسوا حلق الذهب، ولا أن يطوقوا بالذهب، ولا يتسوروا به في الغالب. فدل ذلك على أن المراد بذلك من شأنه لبس الحلقة
354

والطوق والسوار من الذهب وهن النساء بلا شك.
الأمر الثالث أن أبا داود رحمه الله قال بعد الحديث المذكور متصلا به: حدثنا مسدد ثنا أبو عوانة عن منصور عن ربعي بن خراش عن امرأته عن أخت لحذيفة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر النساء، أما لكن في الفضة ما تحلين به، أما إنه ليس منكن امرأة تحلى ذهبا تظهره إلا عذبت به).
حدثنا موسى بن إسماعيل ثنا أبان بن زيد يزيد العطار ثنا يحيى أن محمد بن عمرو الأنصاري حدثه أن أسماء بنت يزيد حدثته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيما امرأة تقلدت قلادة من ذهب قلدت في عنقها مثله من النار يوم القيامة. وأيما امرأة جعلت في أذنها خرصا من ذهب جعل في أذنها مثله من النار يوم القيامة).
فهذان الحديثان يدلان على أن المراد بالحديث الأول منع الذهب للنساء، وأن قوله: (فالعبوا بها). معناه: فخلوا نساءكم من الفضة بما شئتم كما هو صريح في الحديثين الأخيرين. وهذا واضح جدا كما ترى.
ويدل له أن الحافظ البيهقي رحمه الله ذكر الأحاديث الثلاثة المذكورة التي من جملتها (وعليكم بالفضة فالعبوا بها) في سياق الأحاديث الدالة على تحريم الذهب على النساء أولا دون الفضة. ثم بعد ذلك ذكر الأحاديث الدالة على النسخ ثم قال: واستدللنا بحصول الإجماع على إباحته لهن على نسخ الأخبار الدالة على تحريمه فيهن خاصة. والله أعلم انتهى.
ومن جملة تلك الأحاديث المذكورة حديث: (فالعبوا بها) وهو واضح جدا فيما ذكرنا. فإن قيل: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور (يحلق حبيبه)، (أن يطوق حبيبه)، (أن يسور حبيبه) يدل على أن المراد ذكر. لأنه لو أراد الأنثى لقال حبيبته بتاء الفرق بين الذكر والأنثى.
فالجواب أن إطلاق الحبيب على الأنثى باعتبار إرادة الشخص الحبيب مستفيض في كلام العرب لا إشكال فيه. ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه: فالجواب أن إطلاق الحبيب على الأنثى باعتبار إرادة الشخص الحبيب مستفيض في كلام العرب لا إشكال فيه. ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
* منع النوم بالعشاء الهموم
* وخيال إذا تغار النجوم
*
* من حبيب أصاب قلبك منه
* سقم فهو داخل مكتوم
*
ومراده بالحبيب أنثى. بدليل قوله بعده
355

: بدليل قوله بعده:
* لم تفتها شمس النهار بشيء
* غير أن الشباب ليس يدوم
*
وقول كثير عزة: وقول كثير عزة:
* لئن كان برد الماء هيمان صاديا
* إلى حبيبا إنها لحبيب
*
ومثل هذا كثير في كلام العرب فلا نطيل به الكلام.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي من كتاب الله جل وعلا وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم: أن لبس الفضة حرام على الرجال، وأن من لبسها منهم في الدنيا لم يلبسها في الآخرة. وإيضاح ذلك أن البخاري قال في صحيحه في باب: (لبس الحرير للرجال وقدر ما يجوز منه): حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن الحكم عن ابن أبي ليلى قال: كان حذيفة بالمدائن فاستسقى فأتاه دهقان بماء في إناء من فضة، فرماه به، وقال: إني أرمه إلا أني نهيته فلم ينتها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذهب والفضة والحرير والديباج هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة). فقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح: (الذهب والفضة والحرير والديباج هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) يدخل في عمومه تحريم لبس الفضة. لأن الثلاث المذكورات معها يحرم لبسها بلا خلاف. وما شمله عموم نص ظاهر من الكتاب والسنة لا يجوز تخصيصه إلا بنص صالح للتخصيص. كما تقرر في علم الأصول.
فإن قيل: الحديث وارد في الشرب في إناء الفضة لا في لبس الفضة؟
فالجواب أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، لا سيما أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في الحديث ما لا يحتمل غير اللبس كالحرير والديباج.
فإن قيل: جاء في بعض الروايات الصحيحة ما يفسر هذا، ويبين أن المراد بالفضة الشرب في آنيتها لا لبسها. قال البخاري في صحيحه (باب الشرب في آنية الذهب) حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن الحكم عن ابن أبي ليلى قال، كان حذيفة بالمدائن فاستسقي، فأتاه دهقان بقدح فضة فرماه به فقال: إني لم أرمه، إلا أني نهيته فلم ينته، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الحرير والديباج والشرب في آنية الذهب والفضة وقال: (هن لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) (باب آنية الفضة) حدثنا محمد بن المثنى حدثنا ابن أبي عدي عن ابن عون عن مجاهد عن ابن أبي ليلى قال: خرجنا مع حذيفة وذكر النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تلبسوا الحرير والديباج، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) انتهى.
356

فدل هذا التفصيل الذي هو النهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة، والنهي عن لبس الحرير والديباج على أن ذلك هو المراد بما في الرواية الأولى. وإذن فلا حجة في الحديث على منع لبس الفضة. لأنه تعين بهاتين الروايتين أن المراد الشرب في آنيتها لا لبسها، لأن الحديث حديث واحد.
فالجواب من ثلاثة أوجه:
الأول أن الرواية المتقدمة عامة بظاهرها في الشرب واللبس معا، والروايات المقتصرة على الشرب في آنيتها دون اللبس ذاكرة بعض أفراد العام، ساكتة عن بعضها. وقد تقرر في الأصول: (أن ذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه) وهو الحق كما بيناه في غير هذا الموضع. وإليه أشار في مراقي السعود بقوله عاطفا على ما لا يخصص به العموم على الصحيح: الأول أن الرواية المتقدمة عامة بظاهرها في الشرب واللبس معا، والروايات المقتصرة على الشرب في آنيتها دون اللبس ذاكرة بعض أفراد العام، ساكتة عن بعضها. وقد تقرر في الأصول: (أن ذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه) وهو الحق كما بيناه في غير هذا الموضع. وإليه أشار في مراقي السعود بقوله عاطفا على ما لا يخصص به العموم على الصحيح:
* وذكر ما وافقه من مفرد
* ومذهب الراوي على المعتمد
*
الوجه الثاني أن التفصيل المذكور لو كان هو مراد النبي صلى الله عليه وسلم لكان الذهب لا يحرم لبسه، وإنما يحرم الشرب في آنيته فقط، كما زعم مدعي ذلك التفصيل في الفضة. لأن الروايات التي فيها التفصيل المذكور (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة) فظاهرها عدم الفرق بين الذهب والفضة. ولبس الذهب حرام إجماعا على الرجال.
الوجه الثالث وهو أقواها، ولا ينبغي لمن فهمه حق الفهم أن يعدل عنه لظهور وجهه، هو: أن هذه الأربعة المذكورة في هذا الحديث، التي هي: الذهب، والفضة،
والحرير، والديباج صرح النبي صلى الله عليه وسلم أنها للكفار في الدنيا، وللمسلمين في الآخرة. فدل ذلك على أن من استمتع بها من الدنيا لم يستمع بها في الآخرة، وقد صرح جل وعلا في كتابه العزيز بأن أهل الجنة يتمتعون بالذهب والفضة من جهتين:
إحداهما الشراب في آنيتهما.
والثانية التحلي بهما. وبين أن أهل الجنة يتنعمون بالحرير والديباج من جهة واحدة وهي لبسها، وحكم الاتكاء عليهما داخل في حكم لبسهما. فتعين تحريم الذهب والفضة من الجهتين المذكورتين. وتحريم الحرير والديباج من الجهة الواحدة. لقوله صلى الله عليه وسلم الثابت في الروايات الصيحة في الأربعة المذكورة: (هي لهم في الدنيا، ولكم في
357

الآخرة) لأنه لو أبيح التمتع بالفضة في الدنيا والآخرة لكان ذلك معارضا لقوله صلى الله عليه وسلم: (هي لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة). وسنوضح ذلك إن شاء الله تعالى من كتاب الله جل وعلا.
اعلم أولا أن الديباج هو المعبر عنه في كتاب الله بالسندس والإستبرق. فالسندس: رقيق الديباج. والإستبرق: غليظه.
فإذا علمت ذلك فاعلم أن الله جل وعلا بين تنعم أهل الجنة بلبس الذهب والديباج الذي هو السندس والإستبرق في (سورة الكهف) في قوله: * (أولائك لهم جنات عدن تجرى من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق) *. فمن لبس الذهب والديباج في الدنيا منع من هذا التنعم بهما المذكور في (الكهف).
ذكر جل وعلا تنعم أهل الجنة بلبس الحرير والذهب في (سورة الحج) في قوله: * (إن الله يدخل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الا نهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد) *.
وبين أيضا تنعمهم بلبس الذهب والحرير في (سورة فاطر) في قوله: * (جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وقالوا الحمد لله الذى أذهب عنا الحزن) *. فمن لبس الذهب والحرير في الدنيا منع من هذا التنعم بهما المذكور في (سورة الحج وفاطر).
وذكر جل وعلا تنعمهم بلبس الحرير في (سورة الإنسان) في قوله: و * (وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا) * وفي (الدخان) بقوله * (إن المتقين فى مقام أمين فى جنات وعيون يلبسون من سندس وإستبرق) *. فمن لبس الحرير في الدنيا منع من هذا التنعم به المذكور في (سورة الإنسان والدخان).
وذكر جل وعلا تنعمهم بالاتكاء على الفرش التي بطائنها من إستبرق في (سورة الرحمن) بقوله: * (متكئين على فرش بطآئنها من إستبرق) *. فمن اتكأ على الديباج في الدنيا منع هذا التنعم المذكور في (سورة الرحمن).
وذكر جل وعلا تنعم أهل الجنة بلبس الديباج الذي هو السندس والإستبرق ولبس
358

الفضة في (سورة الإنسان) أيضا في قوله: * (عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا) *.
فمن لبس الديباج أو الفضة في الدنيا منع من التنعم بلبسهما المذكور في (سورة الإنسان)، لقوله صلى الله عليه وسلم: (هي لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة) فلو أبيح لبس الفضة في الدنيا مع قوله في نعيم أهل الجنة: * (وحلوا أساور من فضة) * لكان ذلك مناقضا لقوله صلى الله عليه وسلم: (هي لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة).
وذكر تنعم أهل الجنة بالشرب في آنية الذهب في (سورة الزخرف) في قوله تعالى: * (يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب) *. فمن شرب في الدنيا في أواني الذهب منع من هذا التنعم بها المذكور في (الزخرف).
وذكر جل وعلا تنعم أهل الجنة بالشرب في آنية الفضة في (سورة الإنسان) في قوله: * (ويطاف عليهم بأانية من فضة وأكواب كانت قواريرا قواريرا من فضة قدروها تقديرا ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا عينا فيها تسمى سلسبيلا) * فمن شرب في آنية الفضة في الدنيا منع هذا التنعم بها المذكور في (سورة الإنسان) فقد ظهر بهذا للمنصف دلالة القرآن والسنة الصحيحة على منع لبس الفضة. والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
فإن قيل: عموم حديث حذيفة المذكور الذي استدللتم به، وببيان القرآن أنه شامل للبس الفضة والشرب فيها، وقلتم: إن كونه واردا في الشرب في آنية الفضة لا يجعله خاصا بذلك. فما الدليل في ذلك على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؟
فالجواب أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عما معناه: هل العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب؟ فأجاب بما معناه: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
قال البخاري في صحيحه: حدثنا مسدد، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سليمان التيمي، عن أبي عثمان عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن رجلا أصاب من امرأة قبلة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فأنزلت عليه * (وأقم الصلواة طرفى النهار وزلفا من اليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذالك ذكرى للذاكرين) * قال الرجل:
359

ألي هذه؟ قال: (لمن عمل بها من أمتي) اه هذا لفظ البخاري في التفسير في (سورة هود) وفي رواية في الصحيح قال (لجميع أمتي كلهم) اه.
فهذا الذي أصاب القبلة من المرأة نزلت في خصوصه آية عامة اللفظ، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألي هذه؟ ومعنى ذلك: هل النص خاص بي لأني سبب وروده
؟ أو هو على عموم لفظه؟ وقول النبي صلى الله عليه وسلم له: (لجميع أمتي) معناه أن العبرة بعموم لفظ * (إن الحسنات يذهبن السيئات) * لا بخصوص السبب. والعلم عند الله تعالى.
وقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: * (وترى الفلك) * أي السفن. وقد دل القرآن على أن (الفلك) يطلق على الواحد وعلى الجمع، وأنه إن أطلق على الواحد ذكر، وإن أطلق على الجمع أنث. فأطلقه على المفرد مذكرا في قوله: * (وءاية لهم أنا حملنا ذريتهم فى الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) *. وأطلقه على الجمع مؤنثا في قوله: * (والفلك التى تجرى فى البحر بما ينفع الناس) *. وقوله: * (مواخر) * جمع ماخرة، وهو اسم فاعل، مخرت السفينة تمخر بالفتح وتمخر بالضم مخرا ومخورا: جرت في البحر تشق الماء مع صوت. وقيل: استقبلت الريح في جريتها. والأظهر في قوله * (ولتبتغوا من فضله) * أنه معطوف على قوله: * (لتأكلوا منه لحما طريا) * ولعل هنا للتعليل كما تقدم.
والشكر في الشرع: يطلق من العبد لربه. كقوله هنا * (ولعلكم تشكرون) * وشكر العبد لربه: هو استعماله نعمه التي أنعم عليه بها في طاعته. وأما من يستعين بنعم الله على معصيته فليس من الشاكرين. وإنما هو كنود كفور.
وشكر الرب لعبده المذكور في القرآن كقوله * (فإن الله شاكر عليم) * وقوله * (إن ربنا لغفور شكور) *: هو أن يثيب عبده الثواب الجزيل من العمل القليل. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (وألقى فى الا رض رواسى أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون وعلامات وبالنجم هم يهتدون) *. ذكر جل وعلا في هاتين الآيتين أربع نعم من نعمه على خلقه، مبينا لهم عظيم منته عليهم بها:
الأولى إلقاؤه الجبال في الأرض لتثبت ولا تتحرك، وكرر الامتنان بهذه النعمة في
360

القرآن كقوله: * (ألم نجعل الا رض مهادا والجبال أوتادا) *، وقوله: * (وجعلنا فى الا رض رواسى) *، وقوله: * (وجعلنا فيها رواسى شامخات) *، وقوله جل وعلا: * (خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى فى الا رض رواسى أن تميد بكم) *، وقوله: * (والجبال أرساها) * والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا.
ومعنى تميد: تميل وتضطرب.
وفي معنى قوله * (ءان) * وجهان معروفان للعلماء: أحدهما كراهة أن تميد بكم. والثاني أن المعنى: لئلا تميد بكم. وهما متقاربان.
الثانية إجراؤه الأنهار في الأرض المذكور هنا في قوله: * (وأنهارا) * وكرر تعالى في القرآن الامتنان بتفجيره الماء في الأرض لخلقه: كقوله: * (وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر...) *، وقوله: * (أفرءيتم المآء الذى تشربون أءنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشآء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون) *، وقوله: * (وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره) *، إلى غير ذلك من الآيات.
الثالثة جعله في الأرض سبلا يسلكها الناس، ويسيرون فيها من قطر إلى قطر في طلب حاجاتهم المذكور هنا في قوله: * (وسبلا) * وهو جمع سبيل بمعنى الطريق. وكرر الامتنان بذلك في القرآن. كقوله: * (وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون) *، وقوله: * (والله جعل لكم الا رض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا) *، وقوله: * (قال علمها عند ربى فى كتاب لا يضل ربى ولا ينسى الذى جعل لكم الا رض مهدا وسلك لكم فيها سبلا) *، وقوله: * (هو الذى جعل لكم الا رض ذلولا فامشوا فى مناكبها) *، وقوله: * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والا رض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذى جعل لكم الا رض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون) *، إلى غير ذلك من الآيات.
الرابعة جعله العلامات لبني آدم. ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر المذكور هنا في قوله: * (وعلامات وبالنجم هم يهتدون) *. وقد ذكر الامتنان بنحو ذلك في
361

القرآن في قوله: * (وهو الذى جعل لكم النجوم لتهتدوا بها فى ظلمات البر والبحر) *. قوله تعالى: * (أفمن يخلق كمن لا يخلق) *. تقدم بيان مثل هذه الآية في موضعين. * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوهآ إن الله لغفور رحيم * والله يعلم ما تسرون وما تعلنون * والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون * أموات غير أحيآء وما يشعرون أيان يبعثون * إلاهكم إلاه واحد فالذين لا يؤمنون بالا خرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون * لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين * وإذا قيل لهم ماذآ أنزل ربكم قالوا أساطير الا ولين * ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا سآء ما يزرون * قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون * ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركآئى الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزى اليوم والسوء على الكافرين * الذين تتوفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون * فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين * وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا فى هاذه الدنيا حسنة ولدار الا خرة خير ولنعم دار المتقين * جنات عدن يدخلونها تجرى من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشآءون كذلك يجزى الله المتقين) * قوله تعالى: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوهآ إن الله لغفور رحيم) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن بني آدم لا يقدرون على إحصاء نعم الله لكثرتها عليهم، وأتبع ذلك بقوله: * (إن الله لغفور رحيم) * فدل ذلك على تقصير بني آدم في شكر تلك النعم، وأن الله يغفر لمن تاب منهم، ويغفر لمن شاء أن يغفر له ذلك التقصير في شكر النعم. وبين هذا الفهوم المشار إليه هنا بقوله: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار) *.
وبين في موضع آخر: أن كل النعم على بني آدم منه جل وعلا، وذلك في قوله: * (وما بكم من نعمة فمن الله) *.
وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن المفرد إذا كان اسم جنس وأضيف إلى معرفة أنه يعم كما تقرر في الأصول. لأن (نعمة الله) مفرد أضيف إلى معرفة فعم النعم.
وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود عاطفا على صيغ العموم: وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن المفرد إذا كان اسم جنس وأضيف إلى معرفة أنه يعم كما تقرر في الأصول. لأن (نعمة الله) مفرد أضيف إلى معرفة فعم النعم. وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود عاطفا على صيغ العموم:
* أو بإضافة إلى معرف
* إذا تحقق الخصوص قد نفي
* وإذا قيل لهم ماذآ أنزل ربكم قالوا أساطير الا ولين) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار إذا سئلوا عما أنزل الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: لم ينزل عليه شيء. وإنما هذا الذي يتكلم به من أساطير الأولين، نقله من كتبهم. والأساطير: جمع أسطورة أو إسطارة، وهي الشيء المسطور في كتب الأقدمين من الأكاذيب والأباطيل. أصلها من سطر: إذا كتب. ومنه قوله تعالى: * (وكتاب مسطور) *. وقال بعض العلماء: الأساطير: الترهات والأباطيل. وأوضح هذا المعنى في آيات أخر. كقوله: * (وقالوا أساطير الا ولين اكتتبها فهى تملى عليه بكرة وأصيلا) *، وقوله: * (وإذا تتلى عليهم ءاياتنا قالوا قد سمعنا لو نشآء لقلنا مثل هاذآ إن هاذآ إلا أساطير الأولين) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله: * (ماذا) * يحتمل أن تكون (ذا) موصولة و (ما) مبتدأ، وجملة (أنزل)
362

صلة الموصول، والموصول وصلته خبر المبتدأ. ويحتمل أن يكون مجموعهما اسما واحدا في محل نصب، على أنه مفعول (أنزل) كما أشار له في الخلاصة بقوله: وقوله: * (ماذا) * يحتمل أن تكون (ذا) موصولة و (ما) مبتدأ، وجملة (أنزل) صلة الموصول، والموصول وصلته خبر المبتدأ. ويحتمل أن يكون مجموعهما اسما واحدا في محل نصب، على أنه مفعول (أنزل) كما أشار له في الخلاصة بقوله:
* ومثل ماذا بعد ما استفهام
* أو من إذا لم تلغ في الكلام
*
وبين جل وعلا كذب الكفار في دعواهم أن القرآن أساطير الأولين بقوله: * (قل أنزله الذى يعلم السر) *، وبقوله هنا: * (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة) *. قوله تعالى: * (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا سآء ما يزرون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن أولئك الكفار الذين يصرفون الناس عن القرآن بدعواهم أنه أساطير الأولين، تحملوا أوزارهم أي ذنوبهم كاملة، وبعض أوزار أتباعهم الذين اتبعوهم في الضلال، كما يدل عليه حرف التبعيض الذي هو (من) في قوله: * (ومن أوزار الذين يضلونهم) *.
وقال القرطبي: (من) لبيان الجنس. فهم يحملون مثل أوزار من أضلوهم كاملة.
وأوضح تعالى هذا المعنى في قوله: * (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون) * واللام في قوله (ليحملوا) تتعلق بمحذوف دل المقام عليه. أي قدرنا عليهم أن يقولوا في القرآن: أساطير الأولين. ليحملوا أوزارهم.
تنبيه
فإن قيل: ما وجه تحملهم بعض أوزار غيرهم المنصوص عليه بقوله: * (ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) *، وقوله: * (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) * مع أن الله يقول: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) *، ويقول جل وعلا: * (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) *، ويقول * (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) *، إلى غير ذلك من الآيات.
363

فالجواب والله تعالى أعلم أن رؤساء الضلال وقادته تحملوا وزرين: أحدهما وزر ضلالهم في أنفسهم.
والثاني وزر إضلالهم غيرهم. لأن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا. وإنما أخذ بعمل غيره لأنه هو الذي سنه وتسبب فيه، فعوقب عليه من هذه الجهة لأنه من فعله، فصار غير مناف لقوله * (ولا تزر وازرة) *.
وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثني زهير بن حرب، حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن الأعمش، عن موسى بن عبد الله بن يزيد، وأبي الضحى عن عبد الرحمن بن هلال العبسي عن جرير بن عبد الله قال: جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليههم الصوف فرأى سوء حالهم، قد أصابتهم حاجة فحث الناس على الصدقة فأبطؤوا عنه حتى رؤي ذلك في وجهه. قال: ثم إن رجلا من الأنصار جاء بصرة من ورق، ثم جاء آخر، ثم تتابعوا حتى عرف السرور في وجهه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده، كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء) اه.
أخرج مسلم في صحيحه هذا الحديث عن جرير بن عبد الله من طرق متعددة. وأخرجه نحوه أيضا من حديث أبي هريرة بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من دعى إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا) اه.
قال مقيده عفا الله عنه: هذه النصوص الصحيحة تدل على رفع الإشكال بين الآيات، كما تدل على أن جميع حسنات هذه الأمة في صحيفة النبي صلى الله عليه وسلم،
فله مثل أجور جميعهم. لأنه صلوات الله عليه وسلامه هو الذي سن لهم السنن الحسنة جميعها في الإسلام، نرجو الله له الوسيلة والدرجة الرفعية، وأن يصلي ويسلم عليه أتم صلاة وأزكى سلام.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (بعير * علم) * يدل على أن الكافر غير معذور بعد إبلاغ الرسل المؤيد بالمعجزات، الذي لا لبس معه في الحق، ولو كان يظن أن
364

كفره هدى، لأنه ما منعه من معرفة الحق مع ظهوره إلا شدة التعصب للكفر، كما قدمنا الآيات الدالة على ذلك في الأعراف. كقوله * (إنهم اتخذوا الشياطين أوليآء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون) *، وقوله: * (قل هل ننبئكم بالا خسرين أعمالا الذين ضل سعيهم فى الحيواة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) *، وقوله: * (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) * وحملهم أوزارهم هو اكتسابهم الإثم الذي هو سبب ترديهم في النار أعاذنا الله والمسلمين منها؟
وقال بعض العلماء: معنى حملهم أوزارهم: أن الواحد منهم عند خروجه من قبره يوم القيامة يستقبله شيء كأقبح صورة، وأنتنها ريحا. فيقول: من أنت؟ فيقول: أو ما تعرفنيا فيقول: لا والله، إلا أن الله قبح وجهكا وأنتن ريحكا فيقول: أنا عملك الخبيث، كنت في الدنيا خبيث العمل منتنة فطالما ركبتني في الدنياا هلم أركبك اليوم. فيركب على ظهره. اه.
وقوله: * (ألا سآء ما يزرون) * (ساء) فعل جامد. لإنشاء الذم بمعنى بئس. و (ما) فيها الوجهان المشار إليهما بقوله في الخلاصة: ألا سآء ما يزرون) * (ساء) فعل جامد. لإنشاء الذم بمعنى بئس. و (ما) فيها الوجهان المشار إليهما بقوله في الخلاصة:
* وما مميز وقيل فاعل
* في نحو نعم ما يقول الفاضل
*
وقوله: * (يزرون) * أي يحملون. وقال قتادة: يعملون. اه. قوله تعالى: * (قد مكر الذين من قبلهم) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار الذين كانوا قبل كفار مكة قد مكروا. وبين ذلك في مواضع أخر، كقوله: * (وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا) *، وقوله: * (وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) *.
وبين بعض مكر كفار مكة بقوله: * (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك) *.
وذكر بعض مكر اليهود بقوله: * (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) *.
وبين بعض مكر قوم صالح بقوله: * (ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين) *.
وذكر بعض مكر قوم نوح بقوله: * (ومكروا مكرا كبارا وقالوا لا تذرن
365

ءالهتكم) *.
وبين مكر رؤساء الكفار في قوله: * (بل مكر اليل والنهار إذ تأمروننآ أن نكفر بالله) *. والمكر: إظهار الطيب وإبطان الخبيث، وهو الخديعة. وقد بين جل وعلا أن المكر السئ لا يرجع ضرره إلا على فاعله. وذلك في قوله: * (ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله) *. قوله تعالى: * (فأتى الله بنيانهم من القواعد) *. أي اجتثه من أصله واقتلعه من أساسه. فأبطل عملهم وأسقط بنيانهم. وهذا الذي فعل بهؤلاء الكفار الذين هم نمروذ وقومه كما قدمنا في (سورة الحجر) فعل مثله أيضا بغيرهم من الكفار. فأبطل ما كانوا يفعلون ويدبرون. كقوله: * (ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون) * وقوله: * (كلمآ أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله) *، وقوله * (الله من حيث لم يحتسبوا وقذف فى قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدى المؤمنين فاعتبروا ياأولى الا بصار) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (ثم يوم القيامة يخزيهم) *. أي يفضحهم على رؤوس الأشهاد ويهينهم بإظهار فضائحهم، وما كانت تجنه ضمائرهم، فيجعله علانية.
وبين هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله: * (أفلا يعلم إذا بعثر ما فى القبور وحصل ما فى الصدور) * أي أظهر علانية ما كانت تكنه الصدور، وقوله: * (يوم تبلى السرآئر) *.
وقد بين جل وعلا في موضع آخر: أن من أدخل النار فقد ناله هذا الخزي المذكور، وذلك في قوله: * (ربنآ إنك من تدخل النار فقد أخزيته) * وقد قدمنا في سورة (هود) إيضاح معنى الخزي. قوله تعالى: * (ويقول أين شركآئى الذين كنتم تشاقون فيهم) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة. أنه يسأل المشركين يوم القيامة سؤال توبيخ، فيقول لهم: أين المعبودات التي كنتم تخاصمون رسلي وأتباعهم بسببها، قائلين: إنكم لا بد لكم أن تشركوها معي في عبادتيا
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله: * (ويوم يناديهم فيقول أين شركآئى الذين كنتم تزعمون) *، وقوله: * (وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون
366

من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون) *، وقوله: * (ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله قالوا ضلوا عنا) *، وقوله: * (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بأاياته أولائك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جآءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقرأ عامة القراء * (شركائى) * بالهمزة وياء المتكلم، ويروى عن ابن كثير من رواية البزي أنه قرأ (شركاي) بياء المتكلم دون همز، ولم تثبت هذه القراءة.
وقرأ الجمهور * (تشاقون) * بنون الرفع مفتوحة مع حذف المفعول.
وقرأ نافع (تشاقون) بكسر النون الخفيفة التي هي نون الوقاية، والمفعول به ياء المتكلم المدلول عليها بالكسرة مع حذف نون الرفع، لجواز حذفها من غير ناصب ولا
جازم إذا اجتمعت مع نون الوقاية، كما تقدم تحريره في (سورة الحجر) في الكلام على قوله * (فبم تبشرون) *. قوله تعالى: * (فألقوا السلم) *. أي الاستسلام والخضوع. والمعنى: أظهروا كمال الطاعة والانقياد، وتركوا ما كانوا عليه من الشقاق. وذلك عندما يعاينون الموت، أو يوم القيامة. يعني أنهم في الدنيا يشاقون الرسل: أي يخالفونهم ويعادونهم، فإذا عاينوا الحقيقة ألقوا السلم: أي خضعوا واستسلموا وانقادوا حيث لا ينفعهم ذلك.
ومما يدل من القرآن على أن المراد بإلقاء السلم: الخضوع والاستسلام قوله: * (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا) * على قراءة نافع وابن عامر وحمزة بلا ألف بعد اللام. بمعنى الانقياد والإذغان. وقوله: * (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم) *، وقوله: * (فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم) *.
والقول بأن السلم في الآيتين الأخيرتين: الصلح والمهادنة لا ينافي ما ذكرنا. لأن المصالح منقاد مذعن لما وافق عليه من ترك السوء. وقوله: * (وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون) * فكله بمعنى الاستسلام والخضوع والانقياد. والانقياد عند معاينة الموت لا ينفع، كما قدمنا، وكما دلت عليه آيات كثيرة. كقوله: * (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إنى تبت الا ن) *، وقوله: * (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) *
367

، وقوله: * (ءاأن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) *، إلى غير ذلك من الآيات. وقوله تعالى: * (ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون) *. يعني أن الذين تتوفاهم الملائكة في حال كونهم ظالمي أنفسهم إذا عاينوا الحقيقة ألقوا السلم وقالوا: ما كنا نعمل من سوء. فقوله * (ما كنا نعمل من سوء) * معمول قول محذوف بلا خلاف.
والمعنى: أنهم ينكرون ما كانوا يعملون من السوء، وهو الكفر وتكذيب الرسل والمعاصي. وقد بين الله كذبهم بقوله: * (بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون) *.
وبين في مواضع أخر: أنهم ينكرون ما كانوا عليه من الكفر والمعاصي كما ذكر هنا. وبين كذبهم في ذلك أيضا. كقوله: * (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون) *، وقوله: * (قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا كذلك يضل الله) *. وقوله: * (يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شىء ألا إنهم هم الكاذبون) *، وقوله: * (ويقولون حجرا محجورا) * أي حراما محرما أن تمسونا بسوء. لأنا لم نفعل ما نستحق به ذلك، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله هنا (بلى) تكذيب لهم في قولهم * (ما كنا نعمل من سوء) *.
تنبيه
لفظة (بلى) لا تأتي في اللغة العربية إلا لأحد معنيين لا ثالث لهما:
الأول أن تأتي لإبطال نفي سابق في الكلام، فهي نقيضة (لا). لأن (لا) لنفي الإثبات، و (بلى) لنفي النفي. كقوله هنا: * (ما كنا نعمل من سوء) * فهذا النفي نفته لفظة (بلى) أي كنتم تعملون السوء من الكفر والمعاصي. وكقوله: * (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربى لتبعثن) *، وكقوله: * (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربى لتأتينكم) * وقوله: * (وقالوا لن يدخل الجنة
368

إلا من كان هودا أو نصارى) * فإنه نفى هذا النفي بقوله جل وعلا * (بلى من أسلم وجهه لله) *، ومثل هذا كثير في القرآن وفي كلام العرب.
الثاني أن تكون جوابا لاستفهام مقترن بنفي خاصة. كقوله: * (ألست بربكم قالوا بلى) *، وقوله: * (أوليس الذى خلق السماوات والا رض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى) *، وقوله: * (قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى) *، وهذا أيضا كثير في القرآن وفي كلام العرب. أما إذا كان الاستفهام غير مقترن بنفي فجوابه ب (نعم) لا ب (بلى) وجواب الاستفهام المقترن بنفي و (نعم) مسموع غير قياسي. كقوله: قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى) *، وهذا أيضا كثير في القرآن وفي كلام العرب. أما إذا كان الاستفهام غير مقترن بنفي فجوابه ب (نعم) لا ب (بلى) وجواب الاستفهام المقترن بنفي و (نعم) مسموع غير قياسي. كقوله:
* أليس الليل يجمع أم عمرو
* وإيانا فذاك لنا تداني
*
* نعم، وترى الهلال كما أراه
* وبعلوها النهار كما علاني
*
فالمحل ل (بلى) لا ل (نعم) في هذا البيت.
فإن قيل: هذه الآيات تدل على أن الكفار يكتمون يوم القيامة ما كانوا عليه من الكفر والمعاصي، كقوله عنهم: * (والله ربنا ما كنا مشركين) *، وقوله: * (ما كنا نعمل من سوء) *، ونحو ذلك. مع أن الله صرح بأنهم لا يكتمون حديثا في قوله: * (ولا يكتمون الله حديثا) *.
فالجواب هو ما قدمنا من أنهم يقولون بألسنتهم: والله ربنا ما كنا مشركين. فيختم الله على أفواهم. وتتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون. فالكتم باعتبار النطق بالجحود وبالألسنة. وعدم الكتم باعتبار شهادة أعضائهم عليهم. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (فادخلوا أبواب جهنم) *. لم يبين هنا عدد أبوابها، ولكنه بين
ذلك في (سورة الحجر) في قوله جل وعلا: * (لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم) *، أرجو الله أن يعيذنا وإخواننا المسلمين منها ومن جميع أبوابهاا إنه رحيم كريم. قوله تعالى: * (وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المتقين إذا سئلوا عما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم قالوا: أنزل عليه خيرا. أي رحمة وهدى وبركة لمن اتبعه وآمن به. ويفهم من صفة أهل هذا الجواب
369

بكونهم متقين أن غير المتقين يجيبون جوابا غير هذا. وقد صرح تعالى بهذا المفهوم في قوله عن غير المتقين وهم الكفار: * (وإذا قيل لهم ماذآ أنزل ربكم قالوا أساطير الا ولين) * كما تقدم. قوله تعالى: * (للذين أحسنوا فى هاذه الدنيا حسنة) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من أحسن عمله في هذه الدار التي هي الدنيا كان له عند الله الجزاء الحسن في الآخرة. وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة. كقوله: * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) *. والحسنى: الجنة. والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم. وقوله: * (ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى) *، وقوله: * (هل جزآء الإحسان إلا الإحسان) *. وقوله: * (من جآء بالحسنة فله خير منها) *، وقوله في هذه الآية * (حسنة) * أي مجازاة حسنة بالجنة ونعيمها. والآيات في مثل ذلك كثيرة. قوله تعالى: * (ولدار الا خرة خير) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن دار الآخرة خير من دار الدنيا. وكرر هذا المعنى في مواضع كثيرة، كقوله: * (وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير) *، وقوله: * (وما عند الله خير للأبرار) *، وقوله: * (بل تؤثرون الحيواة الدنيا والا خرة خير وأبقى) *، وقوله: * (وللا خرة خير لك من الا ولى) *، وقوله: * (زين للناس حب الشهوات من النسآء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذالك متاع الحيواة الدنيا والله عنده حسن المأب قل أؤنبئكم بخير من ذالكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجرى من تحتها الا نهار خاالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله) *. وقوله * (خير) * صيغة تفضيل، حذفت همزتها لكثرة الاستعمال تخفيفا. وإليه أشار ابن مالك في الكافية بقوله: وإليه أشار ابن مالك في الكافية بقوله:
* وغالبا أغناهم خير وشر
* عن قولهم أخير منه وأشر
*
وإنما قيل لتلك الدار: الدار الآخرة. لأنها هي آخر المنازل، فلا انتقال عنها البتة إلى دار أخرى.
والإنسان قبل الوصول إليها ينتقل من محل إلى محل. فأول ابتدائه من التراب، ثم انتقل من أصل التراب إلى أصل النطفة، ثم إلى العلقة، ثم إلى المضغة، ثم إلى العظام، ثم
370

كسا الله العظام لحما، وأنشأها خلقا آخر، وأخرجه للعالم في هذه الدار، ثم ينتقل إلى القبر، ثم إلى المحشر، ثم يتفرقون * (يومئذ يصدر الناس أشتاتا) * فسالك ذات اليمين إلى الجنة، وسالك ذات الشمال إلى النار * (ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فهم فى روضة يحبرون وأما الذين كفروا وكذبوا بأاياتنا ولقآء الاخرة فأولائك فى العذاب محضرون) *.
فإذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار فعند ذلك تلقى عصا التسيار، ويذبح الموت، ويقال: يأهل الجنة خلود فلا موتا ويأهل الجنة خلود فلا موتا ويبقى ذلك دائما لا انقطاع له ولا تحول عنه إلى محل آخر.
فهذا معنى وصفها بالآخرة. كما أوضحه جل وعلا بقوله: * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا ءاخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذالك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) *.
تنبيه
أضاف جل وعلا في هذه الآية الكريمة الدار إلى الآخرة، مع أن الدار هي الآخرة بدليل قوله: * (ولدار الاخرة) * الآية، بتعريف الدار ونعتها بالآخرة في غير هذا الموضع. وعلى مقتضى قول ابن مالك في الخلاصة: أضاف جل وعلا في هذه الآية الكريمة الدار إلى الآخرة، مع أن الدار هي الآخرة بدليل قوله: * (ولدار الاخرة) * الآية، بتعريف الدار ونعتها بالآخرة في غير هذا الموضع. وعلى مقتضى قول ابن مالك في الخلاصة:
* ولا يضاف اسم لما به اتحد
* معنى وأول موهما إذا ورد
*
فإن لفظ (الدار) يؤول بمسمى الآخرة. وقد بينا في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في (سورة فاطر) في الكلام على قوله (ومكر السييء) أن الذي يظهر لنا أن إضافة الشيء إلى نفسه بلفظين مختلفين أسلوب من أساليب اللغة العربية. لتنزيل التغاير في اللفظ منزلة التغاير في المعنى. وبينا كثرته في القرآن، وفي كلام العرب. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ولنعم دار المتقين) *. مدح الله جل وعلا دار المتقين التي هي الجنة في هذه الآية الكريمة. لأن (نعم) فعل جامد لإنشاء المدح. وكرر الثناء عليها في آيات كثيرة. لأن فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. كما
371

قال تعالى: * (فلا تعلم نفس مآ أخفى لهم من قرة أعين) *، وقال: * (وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا. قوله تعالى: * (جنات عدن يدخلونها تجرى من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشآءون كذلك يجزى الله المتقين) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المتقين يدخلون يوم القيامة جنات
عدن. والعدن في لغة العرب: الإقامة. فمعنى جنات عدن: جنات إقامة في النعيم، لا يرحلون عنها، ولا يتحولون.
وبين في آيات كثيرة: أنهم مقيمون في الجنة على الدوام، كما أشار له هنا بلفظة (عدن)، كقوله: * (لا يبغون عنها حولا) *، وقوله: * (الذى أحلنا دار المقامة من فضله) *. والمقامة: الإقامة. وقد تقرر في التصريف: أن الفعل إذا زاد على ثلاثة أحرف فالمصدر الميمي منه، واسم الزمان، واسم المكان كلها بصيغة اسم المفعول. وقوله: * (إن المتقين فى مقام أمين) * على قراءة نافع وابن عامر بضم الميم من الإقامة. وقوله: * (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (تجرى من تحتها الأنهار) *.
بين أنواع تلك الأنهار في قوله: * (فيهآ أنهار من مآء غير ءاسن) * إلى قوله * (من عسل مصفى) *، وقوله هنا: * (لهم فيها ما يشآءون) * أوضحه في مواضع أخر. كقوله: * (لهم ما يشآءون فيها ولدينا مزيد) *، وقوله: * (وفيها ما تشتهيه الا نفس وتلذ الا عين وأنتم فيها خالدون) *، وقوله: * (لهم فيها ما يشآءون خالدين كان على ربك وعدا مسئولا) *، وقوله: * (لهم ما يشآءون عند ربهم ذلك جزآء المحسنين) *، وقوله: * (ولكم فيها ما تشتهى أنفسكم ولكم فيها ما تدعون) * * (نزلا من غفور رحيم) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية: * (كذلك يجزى الله المتقين) *.
يدل على أن تقوى الله هو السبب الذي به تنال الجنة.
وقد أوضح تعالى هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله: * (تلك الجنة التى نورث من عبادنا من كان تقيا) *، وقوله: * (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والا رض أعدت للمتقين) *، وقوله: * (إن المتقين فى جنات وعيون) *،
372

وقوله: * (إن المتقين فى جنات ونعيم) * إلى غير ذلك من الآيات. * (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون * هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتى أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون * فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون * وقال الذين أشركوا لو شآء الله ما عبدنا من دونه من شىء نحن ولا ءاباؤنا ولا حرمنا من دونه من شىء كذالك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين * ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا فى الا رض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين * إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدى من يضل وما لهم من ناصرين * وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولاكن أكثر الناس لا يعلمون * ليبين لهم الذى يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين * إنما قولنا لشىء إذآ أردناه أن نقول له كن فيكون * والذين هاجروا فى الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم فى الدنيا حسنة ولاجر الا خرة أكبر لو كانوا يعلمون * الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون * ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون * بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون * أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الا رض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون * أو يأخذهم فى تقلبهم فما هم بمعجزين * أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤوف رحيم * أو لم يروا إلى ما خلق الله من شىء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمآئل سجدا لله وهم داخرون * ولله يسجد ما فى السماوات وما فى الا رض من دآبة والملائكة وهم لا يستكبرون * يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون * وقال الله لا تتخذوا إلاهين اثنين إنما هو إلاه واحد فإياي فارهبون * وله ما فى السماوات والا رض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون * وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون * ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون * ليكفروا بمآ ءاتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون) * قوله تعالى: * (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المتقين الذين كانوا يمتثلون أوامر ربهم، ويجتنبون نواهيه تتوفاهم الملائكة: أي يقبضون أرواحهم في حال كونهم طيبين: أي طاهرين من الشرك والمعاصي على أصح الفسيرات ويبشرونهم بالجنة، ويسلمون عليهم.
وبين هذا المعنى أيضا في غير هذا الموضع. كقوله: * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون) *، وقوله: * (وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) *، وقوله: * (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) *. والبشارة عند الموت، وعند دخول الجنة من باب واحد. لأنها بشارة بالخير بعد الانتقال إلى الآخرة. ويفهم من صفات هؤلاء الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ويقولون لهم سلام عليكم أدخلوا الجنة أن الذين لم يتصفوا بالتقوى لم تتوفهم الملائكة على تلك الحال الكريمة، ولم تسلم عليهم، ولم تبشرهم.
وقد بين تعالى هذا المفهوم في مواضع أخر. كقوله: * (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم فألقوا السلم) *، وقوله: * (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم قالوا فيم كنتم) * إلى قوله * (وسآءت مصيرا) *، وقوله: * (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله: * (تتوفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم) *، وقوله: * (تتوفاهم الملائكة طيبين) * قرأهما عامة القراء غير حمزة (تتوفاهم) بتاءين فوقيتين. وقرأ حمزة (يتوفاهم) بالياء في الموضعين.
تنبيه
أسند هنا جل وعلا التوفي للملائكة في قوله: * (تتوفاهم الملائكة) *
373

وأسنده في (السجدة) لملك الموت في قوله: * (قل يتوفاكم ملك الموت) *، وأسنده في (الزمر) إلى نفسه جل وعلا في قوله: * (الله يتوفى الا نفس حين موتها
) *. وقد بينا في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في سورة (السجدة): أنه لا معارضة بين الآيات المذكورة. فإسناده التوفي لنفسه، لأنه لا يموت أحد إلا بمشيئته تعالى، كما قال: * (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا) *، وأسنده لملك الموت، لأنه هو المأمور بقبض الأرواح، وأسنده إلى الملائكة لأن لملك الموت أعوانا من الملائكة ينزعون الروح من الجسد إلى الحلقوم فيأخذها ملك الموت، كما قاله بعض العلماء. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه بعث في كل أمة رسولا بعبادة الله وحده، واجتناب عبادة ما سواه. وهذا هو معنى (لا إلاه إلا الله)، لأنها مركبة من نفي وإثبات، فنفيها هو خلع جميع المعبودات غير الله تعالى في جميع أنواع العبادات، وإثباتها هو إفراده جل وعلا بجميع أنواع العبادات بإخلاص، على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم صلوات الله وسلامه.
وأوضح هذا المعنى كثيرا في القرآن عن طريق العموم والخصوص. فمن النصوص الدالة عليه مع عمومها قوله تعالى: * (ومآ أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إلاه إلا أنا فاعبدون) *، وقوله: * (واسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنآ أجعلنا من دون الرحمان ءالهة يعبدون) *، ونحو ذلك من الآيات.
ومن النصوص الدالة عليه مع الخصوص في أفراد الأنبياء وأممهم قوله تعالى: * (لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره) *، وقوله تعالى: * (وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره) *، وقوله تعالى: * (وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره) *، وقوله: * (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره) *، إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم أن كل ما عبد من دون الله، فهو طاغوت. ولا تنفع عبادة الله إلا بشرط اجتناب عبادة ما سواه. كما بينه تعالى بقوله: * (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد
374

استمسك بالعروة الوثقى) *، وقوله: * (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) *، إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الأمم التي بعث فيها الرسل بالتوحيد منهم سعيد، ومنهم شقي. فالسعيد منهم يهديه الله إلى اتباع ما جاءت به الرسل، والشقي منهم يسبق عليه الكتاب فيكذب الرسل، ويكفر بما جاؤوا به. فالدعوة إلى دين الحق عامة، والتوفيق للهدى خاص. كما قال تعالى: * (والله يدعو إلى دار السلام ويهدى من يشآء إلى صراط مستقيم) *. فقوله: * (فمنهم) * أي من الأمم المذكورة في قوله: * (فى كل أمة رسولا) *، وقوله: * (من هدى الله) * أي وفقه لاتباع ما جاءت به الرسل. والضمير المنصوب الذي هو رابط الصلة بالموصول محذوف. أي فمنهم من هداه الله. على حد قوله في الخلاصة: من هدى الله) * أي وفقه لاتباع ما جاءت به الرسل. والضمير المنصوب الذي هو رابط الصلة بالموصول محذوف. أي فمنهم من هداه الله. على حد قوله في الخلاصة:
* والحذف عندهم كثير منجلي
* في عائد متصل إن انتصب
*
وقوله: * (ومنهم من حقت عليه الضلالة) * أي وجبت عليه ولزمته. لما سبق في علم الله من أنه يصير إلى الشقاوة. والمراد بالضلالة: الذهاب عن طريق الإسلام إلى الكفر.
وقد بين تعالى هذا المعنى في آيات أخر. كقوله: * (هو الذى خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) *، وقوله: * (فمنهم شقى وسعيد) *، وقوله: * (فريق فى الجنة وفريق فى السعير) *، إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدى من يضل وما لهم من ناصرين) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية: أن حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إسلام قومه لا يهدي من سبق في علم الله أنه شقي.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله: * (إنك لا تهدى من أحببت ولاكن الله يهدى من يشآء) *، وقوله: * (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولائك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم فى الدنيا خزى ولهم فى الا خرة عذاب عظيم) *، وقوله: * (من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم فى طغيانهم يعمهون) *،
375

وقوله: * (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد فى السمآء) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقرأ هذا الحرف نافع، وابن عامر، وابن كثير، وأبو عمر: * (فإن الله لا يهدى من يضل) * بضم الياء وفتح الدال. من (يهدى) مبينا للمفعول. وقوله: * (من) * نائب الفاعل. والمعنى: أن من أضله الله لا يهدى، أي لا هادي له.
وقرأه عاصم، وحمزة، والكسائي بفتح الياء وكسر الدال، من (يهدي) مبنيا للفاعل. وقوله: * (من) * مفعول به ليهدي، والفاعل ضمير عائد إلى الله تعالى. والمعنى: أن من أضله الله لا يهديه الله. وهي على هذه القراءة فيمن سبقت لهم الشقاوة في علم الله. لأن غيرهم قد يكون ضالا ثم يهديه الله كما هو معروف. وقال بعض العلماء: لا يهدي من يضل ما دام في إضلاله له. فإن رفع الله عنه الضلالة وهداه فلا مانع من هداه. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار حلفوا جهد أيمانهم أي اجتهدوا في الحلف وغلظوا الأيمان على أن الله لا يبعث من يموت. وكذبهم الله جل وعلا في ذلك بقوله: * (بلى وعدا عليه حقا) *، وكرر في آيات كثيرة هذا المعنى المذكور هنا من إنكارهم للبعث وتكذيبه لهم في ذلك، كقوله: * (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربى لتبعثن) *، وقوله: * (كما بدأنآ أول خلق نعيده وعدا علينآ إنا كنا فاعلين) *، وقوله: * (
وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحى العظام وهى رميم قل يحييها الذى أنشأهآ أول مرة وهو بكل خلق عليم) *، وقوله: * (فسيقولون من يعيدنا قل الذى فطركم أول مرة) * والآيات بمثل هذا كثيرة جدا.
وقوله: * (بلى) * نفي لنفيهم البعث كما قدمنا. وقوله: * (وعدا) * مصدر مؤكد لما دلت عليه (بلى). لأن (بلى) تدل على نفي قولهم: لا يبعث الله من يموت. ونفي هذا النفي إثبات، معناه: لتبعثن. وهذا البعث المدلول على إثباته بلفظة (بلى) فيه معنى وعد الله بأنه سيكون. فقوله: * (وعدا) * مؤكد له. وقوله: * (حقا) * مصدر أيضا. أي وعد الله بذلك وعدا، وحقه حقا، وهو
376

مؤكد أيضا لما دلت (بلى). واللام في قوله: * (ليبين لهم الذى يختلفون فيه) *، وفي قوله: * (وليعلم الذين كفروا) *، تتعلق بقوله: (بلى) أي يبعثهم ليبين لهم.. إلخ. والضمير في قوله: * (لهم) * عائد إلى من يموت. لأنه شامل للمؤمنين والكافرين.
وقال بعض العلماء: اللام في الموضعين تتعلق بقوله: * (ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا) *. أي بعثناه ليبين لهم.. إلخ والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (إنما قولنا لشىء إذآ أردناه أن نقول له كن فيكون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه لا يتعاصى على قدرته شيء، وإذ يقول للشيء (كن) فيكون بلا تأخير. وذلك أن الكفار لما * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت) *، ورد الله عليهم كذبهم بقوله: * (بلى وعدا عليه حقا) * بين أنه قادر على كل شيء، وأنه كلما قال لشيء (كن) كان.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله في الرد على من قال * (من يحى العظام وهى رميم) *: * (إنمآ أمره إذآ أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) *.
وبين أنه لا يحتاج أن يكرر قوله: (كن) بل إذا قال للشيء (كن) مرة واحدة، كان في أسرع من لمح البصر في قوله: * (ومآ أمرنآ إلا واحدة كلمح بالبصر) *، ونظيره قوله: * (ومآ أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شىء قدير) *، وقال تعالى: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) *، وقال: * (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وعبر تعالى عن المراد قبل وقوعه باسم الشيء. لأن تحقق وقوعه كالوقوع بالفعل. فلا تنافي الآية إطلاق الشيء على خصوص الموجود دون المعدوم. لأنه لما سبق في علم الله أنه يوجد ذلك الشيء، وأنه يقول له كن فيكون كان تحقق وقوعه بمنزلة وقوعه. أو لأنه أطلق عليه اسم الشيء باعتبار وجوده المتوقع، كتسمية العصير خمرا في قوله: * (إنى أرانى أعصر خمرا) * نظرا إلى ما يؤول إليه في ثاني حال. وقرأ هذا الحرف ابن عامر والكسائي (فيكون) بفتح النون منصوبا بالعطف على قوله: أن نقول
377

. وقيل: منصوب بأن المضمرة بعد الفاء في جواب الأمر. وقرأ الباقون بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي فهو يكون. ولقد أجاد من قال: إنى أرانى أعصر خمرا) * نظرا إلى ما يؤول إليه في ثاني حال. وقرأ هذا الحرف ابن عامر والكسائي (فيكون) بفتح النون منصوبا بالعطف على قوله: أن نقول. وقيل: منصوب بأن المضمرة بعد الفاء في جواب الأمر. وقرأ الباقون بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي فهو يكون. ولقد أجاد من قال:
* إذا ما أراد الله أمرا فإنما
* يقول له كن قولة فيكون
*
واللام في قوله: (لشيء) وقوله: (له) للتبليغ. قاله أبو حيان. قوله تعالى: * (ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه لم يرسل قبله صلى الله عليه وسلم من الرسل إلا رجالا، أي لا ملائكة. وذلك أن الكفار استغربوا جدا بعث الله رسلا من البشر، وقالوا: الله أعظم من أن يرسل بشرا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. فلو كان مرسلا أحدا حقا لأرسل ملائكة كما بينه تعالى في آيات كثيرة، كقوله: * (أكان للناس عجبا أن أوحينآ إلى رجل منهم أن أنذر الناس) *، وقوله: * (بل عجبوا أن جآءهم منذر منهم) *، وقوله: * (وقالوا ما لهاذا الرسول يأكل الطعام ويمشى فى الا سواق) *، وقوله: * (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا) *، وقوله: * (ذالك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله) *، وقوله * (أبشرا منا واحدا نتبعه) *، وقوله: * (فقال الملؤا الذين كفروا من قومه ما هاذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شآء الله لانزل ملائكة ما سمعنا بهاذا فىءابآئنا الا ولين) *، وقوله: * (وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقآء الا خرة وأترفناهم فى الحيواة الدنيا ما هاذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون) *، وقوله: * (قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد ءابآؤنا) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد بين الله جل وعلا في آيات كثيرة: أن الله ما أرسل لبني آدم إلا رسلا من البشر، وهم رجال يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، ويتزوجون، ونحو ذلك من صفات البشر. كقوله هنا: * (ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) * وقوله: * (ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم من أهل القرى) *، وقوله: * (ومآ أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون فى الا سواق) *، وقوله: * (ومآ أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحى إليهم
378

فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين) *، وقوله: * (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية) *،
وقوله: * (قل ما كنت بدعا من الرسل) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقرأ جمهور القراء هذا الحرف (يوحى إليهم) بالياء المثناة التحتية، وفتح الحاء مبنيا للمفعول. وقرأه حفص عن عاصم (نوحي إليهم) بالنون وكسر الحاء مبينا للفاعل. وكذلك قوله في آخر سورة يوسف (إلا رجالا يوحى إليهم من أهل القرى). وأول الأنبياء (إلا رجالا يوحى إليهم فاسألوا أهل الذكر..) الآية. كل هذه المواضع قرأ فيها حفص وحده بالنون وكسر الحاء. والباقون بالياء التحتية وفتح الحاء أيضا وأما الثانية في سورة الأنبياء وهي قوله: * (ومآ أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إلاه إلا أنا فاعبدون) *. فقد قرأه بالنون وكسر الحاء حمزة والكسائي وحفص. والباقون بالياء التحتية وفتح الحاء أيضا. وحصر الرسل في الرجال في الآيات المذكورة لا ينافي أن من الملائكة رسلا. كما قال تعالى: * (الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس) *، وقال: * (الحمد لله فاطر السماوات والا رض جاعل الملائكة رسلا) *. لأن الملائكة يرسلون إلى الرسل، والرسل ترسل إلى الناس. والذي أنكره الكفار هو إرسال الرسل إلى الناس، وهو الذي حصر الله فيه الرسل في الرجال من الناس. فلا ينافي إرسال الملائكة للرسل بالوحي، ولقبض الأرواح، وتستخير الرياح والسحاب، وكتب أعمال بني آدم، وغير ذلك. كما قال تعالى: * (فالمدبرات أمرا) *.
تنبيه
يفهم من هذه الآيات أن الله لم يرسل امرأة قط. لقوله: * (ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا) *. ويفهم من قوله: * (فاسألوا أهل الذكر) * أن من جهل الحكم: يجب عليه سؤال العلماء والعمل بما أفتوه به. والمراد بأهل الذكر في الآية: أهل الكتاب، وهذه الأمة أيضا يصدق عليها أنها أهل الذكر. لقوله: * (إنا نحن نزلنا الذكر) *. إلا أن المراد في الآية أهل الكتاب. والباء في قوله
379

* (بالبينات والزبر) * قيل: تتعلق ب (ما أرسلنا) داخلا تحت حكم الاستثناء مع (رجالا) أي وما أرسلنا إلا رجالا بالبينات، كقولك: ما ضربت إلا زيدا بالسوط. لأن أصله ضربت زيدا بالسوط. وقيل: تتعلق بقوله (رجالا) صفة له، أي رجالا متلبسين بالبينات. وقيل: تتعلق ب (أرسلنا) مضمرا دل عليه ما قبله. كأنه قيل: بم أرسلوا؟ قيل: بالبينات. وقيل: تتعلق ب (نوحي) أي نوحي إليهم بالبينات. قاله صاحب الكشاف. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) *. المراد بالذكر في هذه الآية: القرآن. كقوله: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) *.
وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية حكمتين من حكم إنزال القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم:
إحداهما أن يبين للناس ما نزل إليهم في هذا الكتاب من الأوامر والنواهي، والوعد والوعيد، ونحو ذلك. وقد بين هذه الحكمة في غير هذا الموضع أيضا. كقوله: * (ومآ أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذى اختلفوا فيه) *، وقوله * (إنآ أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس) *.
الحكمة الثانية هي التفكر في آياته والاتعاظ بها. كما قال هنا: * (ولعلهم يتفكرون) *. وقد بين هذه الحكمة في غير هذا الموضع أيضا. كقوله: * (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا ءاياته وليتذكر أولو الا لباب) *، وقوله: * (أفلا يتدبرون القرءان ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) *، وقوله: * (أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوب أقفالهآ) *، إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الا رض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون) *. أنكر الله جل وعلا على الذين يعملون السيئات من الكفر والمعاصي، ومع ذلك يأمنون عذاب الله ولا يخافون أخذه الأليم، وبطشه الشديد، وهو قادر على أن يخسف بهم الأرض، ويهلكهم بأنواع العذاب. والخسف: بلع الأرض المخسوف به وقعودها به إلى أسفل. كما فعل الله بقارون، قال الله تعالى فيه: * (فخسفنا به وبداره الا رض) *. وبين هذا المعنى في مواضع كثيرة. كقوله: * (أءمنتم من فى السمآء أن يخسف بكم الا رض فإذا هى تمور أم أمنتم من فى السمآء) *،
380

وقوله: * (أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا) * وقوله: * (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) * وقد قدمنا طرفا من هذه في أول (سورة الأعراف).
واختلف العلماء في إعراب (السيئات) في هذه الآية الكريمة. فقال بعض العلماء: نعت لمصدر محذوف. أي مكروا المكرات السيئات، أي القبيحات قبحا شديدا. كما ذكر الله عنهم في قوله: * (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك) *. وقال بعض العلماء: مفعول به ل (مكروا) على تضمين (مكروا) معنى فعلوا. وهذا أقرب أوجه الإعراب عندي. وقيل: مفعول به ل (أمن) أي أكمن الماكرون السيئات: أي العقوبات الشديدة التي تسوءهم عند نزولها بهم. ذكر الوجه الأول الزمخشري، والأخيرين ابن عطية. وذكر الجميع أبو حيان في (البحر المحيط).
تنبيه
كل ما جاء في القرآن من همزة استفهام بعدها واو العطف أوفاؤه. كقوله: * (أفنضرب عنكم الذكر صفحا) *، * (أفلم يروا إلى ما بين أيديهم) *، * (أفلم تكن ءاياتى تتلى عليكم) * الخ، وفيه وجهان معروفان عند علماء العربية: أحدهما أن الفاء والواو كلتاهما عاطفة ما بعدها على محذوف دل المقام عليه. كقولك مثلا: أنمهلكم فنضرب عنكم الذكر صفحا؟ ا أعموا فلم يروا إلى ما بين أيديهم؟ ا ألم تأتكم آياتي فلم تكن تتلى عليكم؟ ا وهكذا وإلى هذا الوجه أشار ابن مالك في الخلاصة بقوله: أفلم تكن ءاياتى تتلى عليكم) * الخ، وفيه وجهان معروفان عند علماء العربية: أحدهما أن الفاء والواو كلتاهما عاطفة ما بعدها على محذوف دل المقام عليه. كقولك مثلا: أنمهلكم فنضرب عنكم الذكر صفحا؟ ا أعموا فلم يروا إلى ما بين أيديهم؟ ا ألم تأتكم آياتي فلم تكن تتلى عليكم؟ ا وهكذا وإلى هذا الوجه أشار ابن مالك في
الخلاصة بقوله:
* وحذف متبوع بدا هنا استبح
* وعطفك الفعل على الفعل يصح
*
ومحل الشاهد في الشطر الأول دون الثاني.
الوجه الثاني أن الفاء والواو كلتاهما عاطفة للجملة المصدرة بهمزة الاستفهام على ما قبلها. إلا أن همزة الاستفهام تزحلقت عن محلها فتقدمت على الفاء والواو، وهي متأخرة عنهما في المعنى، وإنما تقدمت لفظا عن محلها معنى لأن الاستفهام له صدر الكلام.
381

فبهذا تعلم: أن في قوله تعالى في هذه الآية التي هي قوله: * (أفأمن الذين مكروا السيئات) * الوجهين المذكورين. فعلى الأول فالمعنى أجهل الذين مكروا السيئات وعيد الله بالعقاب؟ أفأمن الذين مكروا السيئات الخ. وعلى الثاني فالمعنى فأأمن الذين مكروا السيئات. فالفاء عاطفة للجملة المصدرة بالاستفهام. والأول هو الأظهر. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (أو لم يروا إلى ما خلق الله من) *. تقدم بيان هذه الآية وأمثالها من الآيات في (سورة الرعد). قوله تعالى: * (وقال الله لا تتخذوا إلاهين اثنين إنما هو إلاه واحد فإياي فارهبون) *. نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة جميع البشر عن أن يعبدوا إلها آخر معه، وأخبرهم أن المعبود المستحق لأن يعبد وحده واحد، ثم أمرهم أن يرهبوه أي يخافون وحده. لأنه هو الذي بيده الضر والنفع، لا نافع ولا ضار سواه.
وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة. كقوله: * (ففروا إلى الله إنى لكم منه نذير مبين ولا تجعلوا مع الله إلاها ءاخر إنء لكم منه نذير مبين) *، وقوله: * (الذى جعل مع الله إلاها ءاخر فألقياه فى العذاب الشديد) * وقوله: * (لا تجعل مع الله إلاها ءاخر فتقعد مذموما مخذولا) *، وقوله: * (ولا تجعل مع الله إلاها ءاخر فتلقى فى جهنم ملوما مدحورا) *.
وبين جل وعلا في مواضع أخر: استحالة تعدد الآلهة عقلا. كقوله: * (لو كان فيهمآ آلهة إلا الله لفسدتا) *، وقوله: * (وما كان معه من إله إذا لذهب كل إلاه بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون) * وقوله: * (قل لو كان معه ءالهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا) *. والآيات بعبادته وحده كثيرة جدا، فلا نطيل بها الكلام. وقدم المفعول في قوله: * (فإياي فارهبون) * للدلالة على الحصر. وقد تقرر في الأصول في مبحث (مفهوم المخالفة، وفي المعاني في مبحث القصر) (أن تقديم المعمول من صيغ الحصر) أي خافون وحدي ولا تخافوا سواي. وهذا الحصر المشار إليه هنا بتقديم المعمول بينه جل وعلا في (مواضع أخر. كقوله: * (فلا تخشوا الناس واخشون) *)، وقوله: * (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله) *.
382

وقوله: * (إنما يعمر مساجد الله من ءامن بالله واليوم الا خر وأقام الصلواة وءاتى الزكواة ولم يخش إلا الله) *، وقوله: * (إنما ذالكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) *. إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (وله الدين واصبا) *. الدين هنا: الطاعة. ومنه سميت أوامر الله ونواهيه دينا. كقوله: * (إن الدين عند الله الإسلام) *، وقوله: * (ورضيت لكم الأسلام دينا) *، وقوله: * (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) *.
والمراد بالدين في الآيات: طاعة الله بامتثال جميع الأوامر، واجتناب جميع النواهي. ومن الدين بمعنى الطاعة: قول عمرو بن كلثوم في معلقته: والمراد بالدين في الآيات: طاعة الله بامتثال جميع الأوامر، واجتناب جميع النواهي. ومن الدين بمعنى الطاعة: قول عمرو بن كلثوم في معلقته:
* وأياما لنا غرا كراما
* عصينا الملك فيها أن ندينا
*
أي عصيناه وامتنعنا أن ندين له. أي نطيعه. وقوله * (واصبا) * أي دائما. أي له جل وعلا: الطاعة والذل والخضوع دائما. لأنه لا يضعف سلطانه، ولا يعزل عن سلطانه، ولا يموت ولا يغلب، ولا يتغير له حال بخلاف ملوك الدنيا. فإن الواحد منهم يكون مطاعا له السلطنة والحكم، والناس يخافونه ويطعمون فيما عنده برهة من الزمن، ثم يعزل أو يموت، أو يذل بعد عز، ويتضع بعد رفعة. فيبقى لا طاعة له ولا يعبأ به أحد. فسبحان من لم يتخذ ولدا، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وكبره تكبيرا.
وهذا المعنى الذي أشار إليه مفهوم الآية بينه جل وعلا في مواضع أخر. كقوله: * (قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشآء وتنزع الملك ممن تشآء وتعز من تشآء وتذل من تشآء) *، وقوله تعالى: * (خافضة رافعة) * لأنها ترفع أقواما كانت منزلتهم منخفضة في الدنيا، وتخفض أقواما كانوا ملوكا في الدنيا، لهم المكانة الرفيعة وقوله: * (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) *.
ونظير هذه الآية المذكورة قوله: * (ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب) * أي دائم. وقيل: عذاب (وجمع مؤلم) والعرب تطلق الوصب على المرض، وتطلق الوصوب على الدوام. وروي عن ابن عباس أنه لما سأله نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: * (وله الدين واصبا) * قال له: الوصب الدائم، واستشهد له بقول أمية بن أبي الصلت الثقفي
383

: وله الدين واصبا) * قال له: الوصب الدائم، واستشهد له بقول أمية بن أبي الصلت الثقفي:
* وله الدين واصبا وله المل
* ك وحمد له على كل حال
*
ومنه قول الدؤلي: ومنه قول الدؤلي:
* لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه
* يوما بذم الدهر أجمع واصبا
*
وممن قال بأن معنى الواصب في هذه الآية الدائم: ابن عباس ومجاهد، وعكرمة وميمون بن مهران، والسدي وقتادة، والحسن والضحاك، وغيرهم. وروي عن ابن عباس أيضا واصبا: أي واجبا. وعن مجاهد أيضا: واصبا: أي خالصا. وعلى قول مجاهد هذا، فالخبر بمعنى الإنشاء. أي ارهبوا أن تشركوا بي شيئا، وأخلصوا لي الطاعة وعليه فالآية كقوله: * (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من فى السماوات والا رض طوعا وكرها وإليه يرجعون) *، وقوله: * (ألا لله الدين الخالص) *، وقوله: * (ومآ أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) *، وقوله: (واصبا) حال عمل فيه الظرف. وقوله تعالى: * (أفغير الله تتقون) *. أنكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة على من يتقي غيره، لأنه لا ينبغي أن يتقي إلا من بيده النفع كله والضر كله. لأن غيره لا يستطيع أن ينفعك بشيء لم يرده الله لك، ولا يستطيع أن يضرك بشيء لم يكتبه الله عليك.
وقد أشار تعالى هنا إلى أن إنكار اتقاء غير الله، لأجل أن الله هو الذي يرجى منه النفع، ويخشى منه الضر، ولذلك أتبع قوله: * (أفغير الله تتقون) * بقوله: * (وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون) *. ومعنى تجأرون: ترفعون أصواتكم بالدعاء والاستغاثة عند نزول الشدائد. ومنه قول الأعشى أو النابغة يصف بقرة: وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون) *. ومعنى تجأرون: ترفعون أصواتكم بالدعاء والاستغاثة عند نزول الشدائد. ومنه قول الأعشى أو النابغة يصف بقرة:
* فطافت ثلاثا بين يوم وليلة
* وكان النكير أن تضيف وتجأرا
*
وقول الأعشى:
* يراوح من صلوات المليك
* طورا سجودا وطورا جؤارا
*
ومنه قوله تعالى: * (حتى إذآ أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون) * وقد أشار إلى هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله: * (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شىء
384

قدير) *، وقوله: * (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا رآد لفضله يصيب به من يشآء من عباده) *، وقوله: * (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده) *، وقوله: * (قل لن يصيبنآ إلا ما كتب الله لنا هو مولانا) *، وقوله: * (قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادنى الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادنى برحمة هل هن ممسكات رحمته) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد). وفي حديث ابن عباس المشهور: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف). قوله تعالى: * (ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أن بني آدم إذا مسهم الضر دعوا الله وحده مخلصين له الدين. فإذا كشف عنهم الضر، وأزال عنهم الشدة: إذا فريق منهم وهم الكفار يرجعون في أسرع وقت إلى ما كانوا عليه من الكفر والمعاصي. وقد كرر جل وعلا هذا المعنى في القرآن. كقوله في (يونس): * (حتى إذا كنتم فى الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جآءتها ريح عاصف وجآءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين) * إلى قوله * (إذا هم يبغون فى الا رض بغير الحق) *، وقوله (في الإسراء) * (وإذا مسكم الضر فى البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا) *، وقوله في آخر (العنكبوت): * (فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) *، وقوله في (الأنعام): * (قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا هذا في (سورة الأنعام) في الكلام على قوله تعالى: * (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله) *. قوله تعالى: * (فتمتعوا فسوف تعلمون) *. صيغة الأمر في
قوله * (فتمتعوا) * للتهديد. وقد تقرر في (فن المعاني، في مبحث الإنشاء)، وفي (فن الأصول، في مبحث الأمر): أن من المعاني التي تأتي لها صيغة إفعل التهديد. كقوله هنا: * (فتمتعوا
385

فسوف تعلمون) * وتشهد لهذا المعنى آيات أخر. كقوله. * (قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار) *، وقوله: * (قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار) *، وقوله: * (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الا مل فسوف يعلمون) *، وقوله: * (فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذى يوعدون) * وقوله: * (كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون) *، وقوله: * (فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذى فيه يصعقون) *، إلى غير ذلك من الآيات. * (ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون * ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون * وإذا بشر أحدهم بالا نثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه فى التراب ألا سآء ما يحكمون * للذين لا يؤمنون بالا خرة مثل السوء ولله المثل الا على وهو العزيز الحكيم * ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دآبة ولاكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جآء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون * ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون * تالله لقد أرسلنآ إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطن أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم * ومآ أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذى اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون * والله أنزل من السمآء مآء فأحيا به الا رض بعد موتهآ إن فى ذالك لآية لقوم يسمعون * وإن لكم فى الا نعام لعبرة نسقيكم مما فى بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سآئغا للشاربين * ومن ثمرات النخيل والا عناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن فى ذالك لآية لقوم يعقلون * وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذى من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون * ثم كلى من كل الثمرات فاسلكى سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفآء للناس إن فى ذالك لآية لقوم يتفكرون * والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكى لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير * والله فضل بعضكم على بعض فى الرزق فما الذين فضلوا برآدى رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سوآء أفبنعمة الله يجحدون) * قوله تعالى: * (ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون) *. في ضمير الفاعل في قوله * (لما لا يعلمون) * وجهان: أحدهما أنه عائد إلى الكفار. أي ويجعل الكفار للأصنام التي لا يعلمون أن الله أمر بعبادتها، ولا يعلمون أنها تنفع عابدها أو تضر عاصيها نصيبا الخ. كقوله تعالى: * (ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير) * ونحو ذلك من الآيات.
وقال صاحب الكشاف: ومعنى كونهم لا يعلمونها: أنهم يسمونها آلهة، ويعتقدون فيها أنها تضر وتنفع، وتشفع عند الله. وليس كذلكا وحقيقتها أنها جماد، لا يضر ولا ينفع. فهم إذا جاهلون بها.
الوجه الثاني أن واو (يعلمون) واقعة على الأصنام. فهي جماد لا يعلم شيئا. أي ويجعلون للأصنام الذين لا يعلمون شيئا لكونهم جمادا نصيبا إلخ. وهذا الوجه كقوله: * (أموات غير أحيآء وما يشعرون أيان يبعثون) *، وقوله: * (فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين) *، وقوله: * (ألهم أرجل يمشون بهآ أم لهم أيد يبطشون بهآ أم لهم أعين يبصرون بهآ) *، إلى غير ذلك من الآيات. وعلى هذا القول فالواو راجعة إلى (ما) من قوله (لما لا يعلمون). وعبر عنهم ب (ما) التي هي لغير العاقل. لأن تلك المعبودات التي جعلوا لها من رزق الله نصيبا جماد لا تعقل شيئا. وعبر بالواو في (لا يعلمون) على هذا القول لتنزيل الكفار لها منزلة العقلاء في زعمهم أنها تشفع، وتضر وتنفع.
وإذا عرفت ذلك فاعلم أن هذا المعنى المذكور في هذه الآية الكريمة بينه تعالى في
386

غير هذا الموضع. كقوله: * (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والا نعام نصيبا فقالوا هاذا لله بزعمهم وهاذا لشركآئنا فما كان لشركآئهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركآئهم سآء ما يحكمون) * وذلك أن الكفار كانوا إذا حرثوا حرثا، أو كانت لهم ثمرة جعلوا الله منها جزءا، وللوثن جزءا. فما جعلوا من نصيب الأوثان حفظوه، وإن اختلط به شيء مما جعلوه لله ردوه إلى نصيب الأصنام، وإن وقع شيء مما جعلوه لله في نصيب الأصنام تركوه فيه. وقالوا: الله غني والصنم فقير. وقد أقسم جل وعلا: على أنه يسألهم يوم القيامة عن هذا الافتراء والكذبا وهو زعمهم أن نصيبا مما خلق الله للأوثان التي لا تنفع ولا تضر في قوله: * (تالله لتسألن عما كنتم تفترون) * وهو سؤال توبيخ وتقريع. قوله تعالى: * (ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالا نثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه فى التراب ألا سآء ما يحكمون) *. قوله: * (ويجعلون) * أي يعتقدون. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار يعتقدون أن لله بنات إناثا، وذلك أن خزاعة وكنانة كانوا يقولون: الملائكة بنات الله. كما بينه تعالى بقوله: * (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان إناثا) *. فزعمو الله الأولادا ومع ذلك زعموا له أخس الولدين وهو الأنثى، فالإناث التي جعلوها لله يكرهونها لأنفسهم ويأنفون منها كما قال تعالى عنهم: * (وإذا بشر أحدهم بالا نثى ظل وجهه مسودا) * أي لأن شدة الحزن والكآبة تسود لون الوجه * (وهو كظيم) * أي ممتلئ حزنا وهو ساكت. وقيل ممتلئ غيظا على امرأته التي ولدت له الأنثى. * (يتوارى من القوم من سوء ما بشر به) *: أي يختفي من أصحابه من أجل سوء ما بشر به لئلا يروا ما هو فيه من الحزن والكآبة. أو لئلا يشتموا به ويعيروه. ويحدث نفسه وينظر: * (أيمسكه) *، أي ما بشر به وهو الأنثى * (على هون) * أي هوان وذل. * (أم يدسه) * في التراب: أي يدفن المذكور الذي هو الأنثى حيا في التراب، يعني ما كانوا يفعلون بالبنات من الوأد وهو دفن البنت حية، كما قال تعالى: * (وإذا الموءودة سئلت بأى ذنب قتلت) *.
وأوضح جل وعلا هذه المعاني المذكورة في هذه الآيات في مواضع أخر، فبين أن
387

جعلهم الإناث لله، أو الذكور لأنفسهم قسمة غير عادلة، وأنها من أعظم الباطل.
وبين أنه لو كان متخذا ولدا سبحانه وتعالى عن ذلكا لاصطفى أحسن النصيبين. ووبخهم على أن جعلوا له أخس الولدين، وبين كذبهم في ذلك، وشدة عظم ما نسبوه إليه. كل هذا ذكره في مواضع متعددة. كقوله: * (ألكم الذكر وله الا نثى تلك إذا قسمة ضيزى) *، وقوله: * (ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون أصطفى البنات على البنين مالكم كيف تحكمون) *، وقوله: * (أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما) *، وقوله: * (أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين) *، وقوله: * (لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشآء سبحانه هو الله الواحد القهار) *، وقوله: * (أم له البنات ولكم البنون) * وقال جل وعلا: * (ويجعلون لله ما يكرهون) *، وقال: * (أومن ينشأ فى الحلية وهو فى الخصام غير مبين) *، وقال: * (وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمان مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم) *.
وبين شدة عظم هذا الافتراء بقوله: * (وقالوا اتخذ الرحمان ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الا رض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمان ولدا وما ينبغى للرحمان أن يتخذ ولدا إن كل من فى السماوات والا رض إلا آتى الرحمان عبدا) *، وقوله: * (إنكم لتقولون قولا عظيما) * إلى غير ذلك من الآيات. وقوله في هذه الآية * (ولهم ما يشتهون) * مبتدأ وخبر وذكر الزمخشري والفراء وغيرهما: أنه يجوز أن تكون (ما) في محل نص عطفا على (البنات) أي ويجعلون لله البنات، ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون. ورد إعرابه بالنصب الزجاج، وقال: العرب تستعمل في مثل هذا ويجعلون لأنفسهم. قاله القرطبي. وقال أبو حيان (في البحر المحيط). قال الزمخشري: ويجوز في (ما) فيما يشتهون الرفع على الابتداء، والنصب على أن يكون معطوفا على (البنات) أي وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون من الذكور. انتهى. وهذا الذي أجازه من النصب تبع فيه الفراء والحوفي وقال أبو البقاء وقد حكاه: وفيه نظر. وذهل هؤلاء عن قاعدة في النحو:
388

وهي أن الفعل الرافع لضمير الاسم المتصل لا يتعدى إلى ضميره المتصل المنصوب. فلا يجوز: زيد ضربه، أي زيدا. تريد ضرب نفسه. إلا في باب ظن وأخواتها من الأفعال القلبية، أو فقد وعدم. فيجوز: زيد ظنه قائما، وزيد فقده، وزيد عدمه. والضمير المجرور بالحرف كالمنصوب المتصل. فلا يجوز: زيد غضب عليه، تريد غضب على نفسه. فعلى هذا الذي تقرر لا يجوز النصب. إذ يكون التقدير: ويجعلون لهم ما يشتهون. فالواو ضمير مرفوع (ولهم) مجرور باللام. فهو نظير: زيد غضب عليه اه. والبشارة تطلق في العربية على الخبر مما يسر، وبما يسوء. ومن إطلاقها على الخبر بما يسوء قوله هنا: * (وإذا بشر أحدهم بالا نثى) *، ونظيره قوله تعالى: * (فبشرهم بعذاب أليم) *، ونحو ذلك من الآيات.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من بغضهم للبنات مشهور معروف في أشعارهم. ولما خطبت إلى عقيل بن علفة المري ابنته الجرباء قال: وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من بغضهم للبنات مشهور معروف في أشعارهم. ولما خطبت إلى عقيل بن علفة المري ابنته الجرباء قال:
* أني وإن سيق إلى المهر
* ألف وعبدان وذود عشر
*
ويروى لعبد الله بن طاهر قوله: ويروى لعبد الله بن طاهر قوله:
* لكل أبي بنت يراعى شؤونها
* ثلاثة أصهار إذا حمد الصهر
*
* فبعل يراعيها وخدر يكنها
* وقبر يواريها وخيرهم القبر
*
وهم يزعمون أن موجب رغبتهم في موتهن، وشدة كراهيتهم لولادتهن: الخوف من العار، وتزوج غير الأكفاء، وأن تهان بناتهم بعد موتهم. كما قال الشاعر في ابنة له تسمى مودة: وهم يزعمون أن موجب رغبتهم في موتهن، وشدة كراهيتهم لولادتهن: الخوف من العار، وتزوج غير الأكفاء، وأن تهان بناتهم بعد موتهم. كما قال الشاعر في ابنة له تسمى مودة:
* مودة تهوى عمر شيخ يسره
* لها الموت قبل الليل لو أنها تدري
*
* يخاف عليها جفوة الناس بعده
* ولا ختن يرجى أود من القبر
* ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دآبة ولاكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جآء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية
الكريمة: أنه لو عاجل الخلق بالعقوبة لأهلك جميع من في الأرض، ولكنه حليم لا يعجل بالعقوبة. لأن العجلة من شأن من يخاف فوات الفرصة، ورب السماوات والأرض لا يفوته شيء أراده. وذكر هذا المعنى في غير هذا الموضع. كقوله في (آخر سورة فاطر): * (ولو يؤاخذ
389

الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دآبة) *، وقوله: * (وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب) *. وأشار بقوله: * (ولاكن يؤخرهم إلى أجل مسمى) * إلى أنه تعالى يمهل ولا يهمل. وبين ذلك في غير هذا الموضع. كقوله: * (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار) *، وقوله: * (ولولا أجل مسمى لجآءهم العذاب) *.
وبين هنا: أن الإنسان إذا جاء أجله لا يستأخر عنه، كما أنه لا يتقدم عن وقت أجله. وأوضح ذلك في مواضع أخر. كقوله: * (إن أجل الله إذا جآء لا يؤخر) *، وقوله: * (ولن يؤخر الله نفسا إذا جآء أجلهآ) *، إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم أن قوله تعالى: * (ما ترك عليها من دآبة) * فيه وجهان من العلماء:
واعلم أنه خاص بالكفار. لأن الذنب ذنبهم، والله يقول: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) *. ومن قال هذا القول قال: (من دابة) أي كافرة. ويروى هذا عن ابن عباس. وقيل: المعنى أنه لو أهلك الآباء بكفرهم لم تكن الأبناء.
وجمهور العلماء، منهم ابن مسعود، وأبو الأحوص، وأبو هريرة، وقال الآخر: وجمهور العلماء، منهم ابن مسعود، وأبو الأحوص، وأبو هريرة، وقال الآخر:
* تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا
* والموت أكرم نزال على الحرم
*
وقد ولدت امرأة أعرابي أنثى، فهجرها لشدة غيظه من ولادتها أنثى فقالت: وقد ولدت امرأة أعرابي أنثى، فهجرها لشدة غيظه من ولادتها أنثى فقالت:
* ما لأبي حمزة لا يأتينا
* يظل بالبيت الذي يلينا
*
* غضبان ألا نلد البنينا
* ليس لنا من أمرنا ما شينا
*
وإنما نأخذ ما أعطينا
تنبيه
لفظة (جعل) تأتي في اللغة العربية لأربعة معان:
الأول بمعنى اعتقد. كقوله تعالى هنا: * (ويجعلون لله البنات) *
390

قال في الخلاصة: وجعل اللذ كاعتقد
الثاني بمعنى صير كما تقدم في الحجر. كقوله: * (وجعل القمر فيهن نورا) *. قال في الخلاصة: وجعل القمر فيهن نورا) *. قال في الخلاصة:
*.. والتي كصيرا
* وأيضا بها انصب مبتدأ وخبرا
*
الثالث بمعنى خلق. كقوله: * (الحمد لله الذى خلق السماوات والا رض وجعل الظلمات والنور) * أي خلق الظلمات والنور.
الرابع بمعنى شرع. كقوله: الرابع بمعنى شرع. كقوله:
* وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني
* ثوبي فأنهض نهض الشارب السكر
*
قال في الخلاصة: قال في الخلاصة:
* كأنشأ السائق يحدو وطفق
* كذا جعلت وأخذت وعلق
*
وقوله في هذه الآية الكريمة * (سبحانه) * أي تنزيها له جل وعلا عما لا يليق بكماله وجلاله، وهو ما ادعوا له من البنات سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا! وغيرهم كما نقله عنهم ابن كثير وغيره على أن الآية عامة. حتى إن ذنوب بني آدم لتهلك الجعل في حجره، والحبارى في وكرها، ونحو ذلك. لولا أن الله حليم لا يعجل بالعقوبة، ولا يؤاخذكم بظلمهم.
قال مقيده عفا الله عنه: وهذا القول هو الصحيح. لما تقرر في الأصول من: أن النكرة في سياق النفي إذا زيدت قبلها لفظة (من) تكون نصا صريحا في العموم. وعليه فقوله (من دابة) يشمل كل ما يطلق عليه اسم الدابة نصا.
وقال القرطبي في تفسيره: فإن قيل: فيكف يعم بالهلاك مع أن فيهم مؤمنا ليس بظالم؟ يجعل هلاك الظالم انتقاما وجزاء، وهلاك المؤمن معوضا بثواب الآخرة.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أراد الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم) اه محل الغرض منه بلفظه. والأحاديث بمثله كثيرة معروفة.
وإذا ثبت في الأحاديث الصحيحة: أن العذاب إذا نزل بقوم عم الصالح والطالح،
391

فلا إشكال في شمول الهلاك للحيوانات التي لا تعقل. وإذا أراد الله إهلاك قوم أمر نبيهم ومن آمن منهم أن يخرجوا عنهم. لأن الهلاك إذا نزل عم.
تنبيه
قوله: * (ما ترك عليها من دآبة) * الضمير في (عليها) راجع إلى غير مذكور وهو الأرض. لأن قوله * (من دابة) * يدل عليه، لأن من المعلوم: أن الدواب إنما تدب على الأرض. ونظيره قوله تعالى: * (ما ترك على ظهرها من دآبة) *، وقوله: * (حتى توارت بالحجاب) * أي الشمس ولم يجر لها ذكر، ورجوع الضمير إلى غير مذكور يدل عليه المقام كثير في كلام العرب. ومنه قول حميد بن ثور: حتى توارت بالحجاب) * أي الشمس ولم يجر لها ذكر، ورجوع الضمير إلى غير مذكور يدل عليه المقام كثير في كلام العرب. ومنه قول حميد بن ثور:
* وصهباء منها كالسفينة نضجت
* به الحمل حتى زاد شهرا عديدها
*
فقوله (صهباء منها) أي من الإبل، وتدل له قرينة (كالسفينة) مع أن الإبل لم يجر لها ذكر، ومنه أيضا قول حاتم الطائي: فقوله (صهباء منها) أي من الإبل، وتدل له قرينة (كالسفينة) مع أن الإبل لم يجر لها ذكر، ومنه أيضا قول حاتم الطائي:
* أماوى ما يغني الثراء عن الفتى
* إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
*
فقوله (حشرجت وضاق بها) يعني النفس، ولم يجر لها ذكر. كما تدل له قرينة (وضاق بها الصدر). ومنه أيضا لبيد في معلقته: فقوله (حشرجت وضاق بها) يعني النفس، ولم يجر لها ذكر. كما تدل له قرينة (وضاق بها الصدر). ومنه أيضا لبيد في معلقته:
* حتى إذا ألقت يدا في كافر
* وأجن عورات الثغور ظلامها
*
فقوله (ألقت) أي الشمس، ولم يجر لها ذكر، ولكن يدل له قوله: * وأجن عورات الثغور ظلامها
لأن قوله: (ألقت يدا في كافر) أي دخلت في الظلام. ومنه أيضا قول طرفة في معلقته: لأن قوله: (ألقت يدا في كافر) أي دخلت في الظلام. ومنه أيضا قول طرفة في معلقته:
* على مثلها أمضي إذا قال صاحبي
* ألا ليتني أفديك منها وأفتدي
*
فقوله: (أفديك منها) أي الفلاة، ولم يجر لها ذكر، ولكن قرينة سياق الكلام تدل عليها.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (يؤاخذ) * الظاهر أن المفاعلة فيه بمعنى الفعل المجرد. فمعنى آخذ الناس يؤاخذهم: أخذهم بذنوبهم. لأن المفاعلة
392

تقتضي الطرفين. ومجيئها بمعنى المجرد مسموع نحو: سافر وعافى. وقوله (يؤاخذ) إن قلنا إن المضارع فيه بمعنى الماضي فلا إشكال. وإن قلنا: إنه بمعنى الاستقبال فهو على إيلاء لو المستقبل وهو قليل. كقوله: * (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم) *، وقول قيس بن الملوح: وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم) *، وقول قيس بن الملوح:
* ولو تلتقي أصداؤنا بعد موتنا
* ومن دون رمسينا من الأرض سيسب
*
* لظل صدى صوتي وإن كنت رمة
* لصوت صدى ليلى يهش ويطرب
*
والجواب بحمله على المضي في الآية تكلف ظاهر، ولا يمكن بتاتا في البيتين، وأمثلته كثيرة في القرآن وفي كلام العرب. وقد أشار لذلك في الخلاصة بقوله: والجواب بحمله على المضي في الآية تكلف ظاهر، ولا يمكن بتاتا في البيتين، وأمثلته كثيرة في القرآن وفي كلام العرب. وقد أشار لذلك في الخلاصة بقوله:
* لو حرف شرط في مضي ويقل
* إيلاؤها مستقبلا لكن قبل
* ويجعلون لله ما يكرهون) *. أبهم جل وعلا في هذه الآية الكريمة هذا الذي يجعلونه لله ويكرهونه. لأنه عبر عنه ب (ما) الموصولة، وهي اسم مبهم، وصلة الموصول لن تبين من وصف هذا المبهم إلا أنهم يكرهونه. ولكنه بين في مواضع أخر: أنه البنات والشركاء وجعل المال الذي خلق لغيره، قال في البنات: * (ويجعلون لله البنات) * ثم بين كراهيتها لها في آيات كثيرة، كقوله: * (وإذا بشر أحدهم بالا نثى) *. وقال في الشركاء: * (وجعلوا لله شركآء) *، ونحوها من الآيات. وبين كراهيتهم للشركاء في رزقهم بقوله: * (ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركآء فى ما رزقناكم فأنتم فيه سوآء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الا يات لقوم يعقلون) * أي إذا كان الواحد منكم لا يرضى أن يكون عبده المملوك شريكا له مثل نفسه في جميع ما عنده. فيكف تجعلون الأوثان شركاء لله في عبادته التي هي حقه على عبادها وبين جعلهم بعض ما خلق الله من الرزق للأوثان في قوله: * (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والا نعام نصيبا) * إلى قوله * (سآء ما يحكمون) * وقوله: * (ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم) * كما تقدم. قوله تعالى: * (وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار يقولون بألسنتهم الكذب. فيزعمون أن لهم الحسنى والحسنى تأنيث الأحسن، قيل: المراد بها الذكور. كما تقدم في قوله: * (ولهم ما يشتهون) *.
393

والحق الذي لا شك فيه: أن المراد بالحسنى: هو زعمهم أنه إن كانت الآخرة حقا فسيكون لهم فيها أحسن نصيب كما كان لهم في الدنيا. ويدل على صحة هذا القول الأخير دليلان:
أحدهما كثرة الآيات القرآنية المبينة لهذا المعنى. كقوله تعالى عن الكافر: * (ولئن رجعت إلى ربى إن لى عنده للحسنى) *، وقوله: * (ولئن رددت إلى ربى لأجدن خيرا منها منقلبا) *، وقوله: * (وقال لأوتين مالا وولدا) *، وقوله: * (وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين) *. وقوله: * (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم فى الخيرات) *، إلى غير ذلك من الآيات.
والدليل الثاني أن الله أتبع قوله: * (أن لهم الحسنى) * بقوله: * (لا جرم أن لهم النار) *. فدل ذلك دلالة واضحة على ما ذكرنا، والعلم عند الله. والمصدر المنسبك من (أن) وصلتها في قوله * (أن لهم الحسنى) * في محل نصب، بدل من قوله * (الكذب) * ومعنى وصف ألسنتهم الكذب قولها للكذب صريحا لا خفاء به.
وقال الزمخشري في الكشاف في تفسير قوله تعالى: * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب) * ما نصه: فإن قلت: ما معنى وصف ألسنتهم الكذب؟ قلت: هو من فصيح الكلام وبليغه، جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه. فإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته، وصورته بصورته. كقولهم: وجهها يصف الجمال، وعينها تصف السحر اه. قوله تعالى: * (لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون) *. في هذا الحرف قراءتان سبعيتان، وقراءة ثالثة غير سبعية. قرأه عامة السبعة ما عدى نافعا * (مفرطون) * بسكون الفاء وفتح الراء بصيغة اسم المفعول. من أفرطه. وقرأ نافع بكسر الراء بصيغة اسم الفاعل. من أفرط. والقراءة التي ليست بسبعية بفتح الفاء وكسر الراء المشددة بصيغة اسم الفاعل من فرط المضعف، وتروى هذه القراءة عن أبي جعفر. وكل هذه القراءات له مصداق في كتاب الله.
أما على قراءة الجمهور * (مفرطون) * بصيغة المفعول فهو اسم مفعول أفرطه: إذا
394

نسيه وتركه غير ملتفت إليه. فقوله: * (مفرطون) * أي متروكون منسيون في النار. ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: * (فاليوم ننساهم كما نسوا لقآء يومهم هاذا) *، وقوله: * (فذوقوا بما نسيتم لقآء يومكم هاذآ إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد) *، وقوله: * (وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقآء يومكم هاذا ومأواكم النار) *، فالنسيان في هذه الآيات معناه: الترك في النار. أما النسيان بمعنى زوال العلم: فهو مستحيل على الله. كما قال تعالى: * (وما كان ربك نسيا) *، وقال: * (قال علمها عند ربى فى كتاب لا يضل ربى ولا ينسى) *.
وممن قال بأن معنى * (مفرطون) * منسيون متركون في النار: مجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن الأعرابي، وأبو عبيدة، والفراء، وغيرهم.
وقال بعض العلماء: معنى قوله * (مفرطون) * على قراءة الجمهور: أي مقدمون إلى النار معجلون. من أفرطت فلانا وفرطته في طلب الماء: إذا قدمته، ومنه
حديث: (أنا فرطكم على الحوض) أي متقدمكم. ومنه قول القطامي: وقال بعض العلماء: معنى قوله * (مفرطون) * على قراءة الجمهور: أي مقدمون إلى النار معجلون. من أفرطت فلانا وفرطته في طلب الماء: إذا قدمته، ومنه حديث: (أنا فرطكم على الحوض) أي متقدمكم. ومنه قول القطامي:
* فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا
* كما تقدم فراط لوراد
*
وقول الشنفرى: وقول الشنفرى:
* هممت وهمت فابتدرنا وأسبلت
* وشمر مني فارط متمهل
*
أي: متقدم إلى الماء. وعلى قراءة نافع فهو اسم فاعل أفرط في الأمر: إذا أسرف فيه وجاوز الحد. ويشهد لهذه القراءة قوله: * (وأن المسرفين هم أصحاب النار) * ونحوها من الآيات. وعلى قراءة أبي جعفر، فهو اسم فاعل، فرط في الأمر: إذا ضيعه وقصر فيه، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: * (أن تقول نفس ياحسرتى على ما فرطت فى جنب الله) *. فقد عرفت أوجه القراءات في الآية، وما يشهد له القرآن منها.
وقوله: * (لا جرم) * أي حقا أن لهم النار. وقال القرطبي في تفسيره: لا رد لكلامهم (وتم الكلام) أي ليس كما تزعمونا جرم أن لهم النارا حقا أن لهم النارا وقال بعض العلماء: (لا) صلة، و (جرم) بمعنى كسب. أي كسب لهم عملهم أن لهم النار. قوله تعالى: * (وإن لكم فى الا نعام لعبرة نسقيكم مما فى بطونه) *. بين جل وعلا في هذه الآية
395

الكريمة: أن في الأنعام عبرة دالة على تفرد من خلقها، وأخلص لبنها من بين فرث ودم بأنه هو وحده المستحق لأن يعبد، ويطاع ولا يعصى. وأوضح هذا المعنى أيضا في غير هذا الموضع. كقوله: * (وإن لكم فى الا نعام لعبرة نسقيكم مما فى بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون) *، وقوله: * (والا نعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون) *، وقوله: * (أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينآ أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون * (ولهم فيها منافع ومشارب) *، وقوله: * (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) *، إلى غير ذلك من الآيات. وقد دلت الآيات المذكورة على أن الأنعام يصح تذكيرها وتأنيثها. لأنه ذكرها هنا في قوله: * (نسقيكم مما فى بطونه) * وأنثها (في سورة * (قد أفلح المؤمنون) *) في قوله: * (نسقيكم مما فى بطونها ولكم فيها منافع كثيرة) * ومعلوم في العربية: أن أسماء الأجناس يجوز فيها التذكير نظرا إلى اللفظ، والتأنيث نظرا إلى معنى الجماعة الداخلة تحت اسم الجنس. وقد جاء في القرآن تذكير الأنعام وتأنيثها كما ذكرناه آنفا. وجاء فيه تذكير النخل وتأنيثها. فالتذكير في قوله: * (كأنهم أعجاز نخل منقعر) *. والتأنيث في قوله: * (كأنهم أعجاز نخل خاوية) *، ونحو ذلك. وجاء في القرآن تذكير السماء وتأنيثها. فالتذكير في قوله: * (السمآء منفطر به) *. والتأنيث في قوله: * (والسمآء بنيناها بأيد) *، ونحو ذلك من الآيات. وهذا معروف في العربية، ومن شواهده قول قيس بن الحصين الحارثي الأسدي وهو صغير في تذكير النعم: والسمآء بنيناها بأيد) *، ونحو ذلك من الآيات. وهذا معروف في العربية، ومن شواهده قول قيس بن الحصين الحارثي الأسدي وهو صغير في تذكير النعم:
* في كل عام نعم تحوونه
* يلقحه قوم وتنتجونه
*
وقرأ هذا الحرف نافع وابن عامر وشعبة عن عاصم (نسقيكم) بفتح النون. والباقون بضمها، كما تقدم بشواهده (في سورة الحجر).
مسائل
تتعلق بهذه الآية الكريمة:
المسألة الأولى استنبط القاضي إسماعيل من تذكير الضمير في قوله: * (مما فى
396

بطونه) *: أن لبن الفحل يفيد التحريم. وقال: إنما جيء به مذكرا لأنه راجع إلى ذكر النعم. لأن اللبن للذكر محسوب، ولذلك قضى النبي صلى الله عليه وسلم (أن لبن الفحل يحرم) حيث أنكرته عائشة في حديث أفلح أخي أبي القعيس، فللمرأة السقي، وللرجل اللقاح. فجرى الاشتراك فيه بينهما اه. بواسطة نقل القرطبي.
قال مقيده عفا الله عنه: أما اعتبار لبن الفحل في التحريم فلا شك فيه، ويدل له الحديث المذكور في قصة عائشة مع أفلح أخي أبي القعيس. فإنه متفق عليه مشهور. وأما استنباط ذلك من عود الضمير في الآية فلا يخلو عندي من بعد وتعسف. والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثانية استنبط النقاش وغيره من هذه الآية الكريمة: أن المني ليس بنجس، قالوا: كما يخرج اللبن من بين الفرث والدم سائغا خالصا، كذلك يجوز أن يخرج المني من مخرج البول طاهرا.
قال ابن العربي: إن هذا لجهل عظيم، وأخذ شنيعا اللبن جاء الخبر عنه مجيء النعمة والمنة الصادرة عن القدرة، ليكون عبرة. فاقتضى ذلك كله وصف الخلوص واللذة
. وليس المني من هذه الحالة حتى يكون ملحقا به، أو مقيسا عليه.
قال القرطبي بعد أن نقل الكلام المذكور: قلت: قد يعارض هذا بأن يقال: وأي منه أعظم وأرفع من خروج المني الذي يكون عنه الإنسان المكرم؟ وقد قال تعالى: * (يخرج من بين الصلب والترآئب) * وقال: * (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة) * وهذا غاية في الامتنان.
فإن قيل: إنه يتنجس بخروجه في مجرى البول.
قلنا: هو ما أردناه. فالنجاسة عارضة وأصله طاهر اه محل الغرض من كلام القرطبي.
قال مقيده عفا الله عنه: وأخذ حكم طهارة المني من هذه الآية الكريمة لا يخلو عندي من بعد. وسنبين إن شاء الله حكم المني: هل هو نجس أو طاهر، وأقوال العلماء في ذلك، مع مناقشة الأدلة. اعلم أن في مني الإنسان ثلاثة أقوال للعلماء: الأول أنه طاهر، وأن حكمه حكم النخامة والمخاط. وهذا هو مذهب الشافعي، وأصح الروايتين عن أحمد، وبه قال سعيد بن المسيب، وعطاء، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، وداود،
397

وابن المنذر، وحكاه العبدري وغيره عن سعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم. كما نقله النووي في (شرح المهذب) وغيره.
القول الثاني أنه نجس، ولا بد في طهارته من الماء سواء كان يابسا أو رطبا. وهذا هو مذهب مالك، والثوري، والأوزاعي.
القول الثالث أنه نجس، ورطبه لا بد له من الماء، ويابسه لا يحتاج إلى الماء بل يطهر بفركه من الثوب حتى يزول منه. وهذا هو مذهب أبي حنيفة. واختار الشوكاني في (نيل الأوطار): أنه نجس، وأن إزالته لا تتوقف على الماء مطلقا.
أما حجة من قال إنه طاهر كالمخلط فهي بالنص والقياس معا، ومعلوم في الأصول: أن القياس الموافق للنص لا مانع منه، لأنه دليل آخر عاضد للنص، ولا مانع من تعاضد الأدلة.
أما النص فهو ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يذهب فيصلي فيه). أخرجه مسلم في صحيحه، وأصحاب السنن الأربعة والإمام أحمد. قالوا: فركها له يابسا، وصلاته في الثوب من غير ذكر غسل دليل على الطهارة. وفي رواية عند أحمد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر، ثم يصلي فيه، ويحته من ثوبه يابسا ثم يصلي فيه. وفي رواية عن عائشة عند الدارقطني: (كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يابسا، وأغسله إذا كان رطبا) وعن إسحاق بن يوسف قال: حدثنا شريك، عن محمد بن عبد الرحمن، عن عطاء، عن ابن عباس قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المني يصيب الثوب فقال: (إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذخرة).
قال صاحب (منتقى الأخبار) بعد أن ساق هذا الحديث كما ذكرنا: رواه الدارقطني وقال: لم يرفعه غير إسحاق الأزرق عن شريك. قلت: وهذا لا يضر. لأن إسحاق إمام مخرج عنه في الصحيحين، فيقبل رفعه وزيادته.
قال مقيده عفا الله عنه: ما قاله الإمام المجد رحمه الله (في المنتقى) من قبول رفع العدل وزيادته، هو الصحيح عند أهل الأصول وأهل الحديث كما بيناه مرارا، إلى غير ذلك من الأحاديث في فرك المني وعدم الأمر بغسله.
وأما القياس العاضد للنص فهو من وجهين: أحدهما إلحاق المني بالبيض
398

. بجامع أن كلا منهما مائع يتخلق منه حيوان حي طاهر، والبيض طاهر إجماعا. فيلزم كون المني طاهرا أيضا.
قال مقيده عفا الله عنه: هذا النوع من القياس هو المعروف بالقياس الصوري، وجمهور العلماء لا يقبلونه، ولم يشتهر بالقول به إلا إسماعيل ابن علية. كما أشار له في مراقي السعود بقوله: قال مقيده عفا الله عنه: هذا النوع من القياس هو المعروف بالقياس الصوري، وجمهور العلماء لا يقبلونه، ولم يشتهر بالقول به إلا إسماعيل ابن علية. كما أشار له في مراقي السعود بقوله:
* وابن علية يرى للصوري
* كالقيس للخيل على الحمير
*
وصور القياس الصوري المختلف فيها كثيرة. كقياس الخيل على الحمير في سقوط الزكاة، وحرمة الأكل للشبه الصوري. وكقياس المني على البيض لتولد الحيوان الطاهر من كل منهما في طهارته. وكقياس أحد التشهدين على الآخر في الوجوب أو الندب لتشابههما في الصورة. وكقياس الجلسة الأولى على الثانية في الوجوب لتشبهها بها في الصورة. وكإلحاق الهرة الوحشية بالإنسية في التحريم. وكإلحاق خنزير البحر وكلبه بخنزير البر وكلبه، إلى غير ذلك من صوره الكثيرة المعروفة في الأصول. واستدل من قال بالقياس الصوري بأن النصوص دلت على اعتبار المشابهة في الصورة في الأحكام. كقوله: * (فجزآء مثل ما قتل من النعم) *. والمراد المشابهة في الصورة على قول الجمهور. وكبدل القرض فإنه يرد مثله في الصورة. وقد استسلف صلى الله عليه وسلم بكرا ورد رباعيا كما هو ثابت في الصحيح. وكسروه صلى الله عليه وسلم بقول القائف المدلجي في زيد بن حارثة وابنه أسامة: هذه الأقدام بعضها من بعض. لأن القيافة قياس صوري، لأن اعتماد القائف على المشابهة في الصورة.
الوجه الثاني من وجهي القياس المذكور إلحاق المني بالطين، بجامع أن كلا منهما مبتدأ خلق بشر. كما قال تعالى: * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه
نطفة) *.
فإن قيل: هذا القياس يلزمه طهارة العلقة، وهي الدم الجامد. لأنها أيضا مبتدأ خلق بشر، لقوله تعالى: * (ثم خلقنا النطفة علقة) * والدم نجس بلا خلاف.
فالجواب أن قياس الدم على الطين في الطهارة فاسد الاعتبار، لوجود النص بنجاسة الدم. أما قياس المني على الطين فليس بفاسد الاعتبار لعدم ورود النص بنجاسة المني.
399

وأما حجة من قال بأن المني نجس فهو بالنص والقياس أيضا. أما النص فهو ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أغسل المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يخرج إلى الصلاة وأثر الغسل في ثوبه بقع الماء). متفق عليه. قالوا: غسلها له دليل على أنه نجس. وفي رواية عند مسلم عن عائشة بلفظ: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغسل المني ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه).
قال مقيده عفا الله عنه: وهذه الرواية الثابتة في صحيح مسلم تقوي حجة من يقول بالنجاسة. لأن المقرر في الأصول: أن الفعل المضارع بعد لفظة (كان) يدل على المداومة على ذلك الفعل، فقول عائشة في رواية مسلم هذه: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغسل) تدل على كثرة وقوع ذلك منه، ومداومته عليه، وذلك يشعر بتحتم الغسل. وفي رواية عن عائشة في صحيح مسلم أيضا: أن رجلا نزل بها فأصبح يغسل ثوبه. فقالت عائشة: إنما كان يجزئك إن رأيته أن تغسل مكانه. فإن لم تر، نضجت حوله. ولقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركا فيصلي فيه. اه.
قالوا: هذه الرواية الثابتة في الصحيح عن عائشة صرحت فيها: بأنه إنما يجزئه غسل مكانه. وقد تقرر في الأصول (في مبحث دليل الخطاب) وفي المعاني (في مبحث القصر): أن (إنما) من أدوات الحصر. فعائشة صرحت بحصر الإجزاء في الغسل. فدل ذلك على أن الفرك لا يجزئ دون الغسل، إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على غسله.
وأما القياس فقياسهم المني على البول والحيض، قالوا: ولأنه يخرج من مخرج البول، ولأن المذي جزء من المني. لأن الشهوة تحلل كل واحد منهما فاشتركا في النجاسة.
وأما حجة من قال: إنه نجس، وإن يابسه يطهر بالفرك ولا يحتاج إلى الغسل فهي ظواهر نصوص تدل على ذلك، ومن أوضحها في ذلك حديث عائشة عند الدارقطني الذي قدمناه آنفا: (كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يابسا، وأغسله إذا كان رطبا).
وقال المجد (في منتقى الأخبار) بعد أن ساق هذه الرواية ما نصه: قلت: فقد بان من مجموع النصوص جواز الأمرين.
قال: مقيده عفا الله عنه: إيضاح الاستدلال بهذا الحديث لهذا القول: أن الحرص
400

على إزالة المني بالكلية دليل على نجاسته، والاكتفاء بالفرك في يابسه يدل على أنه لا يحتاج إلى الماء. ولا غرابة في طهارة متنجس بغير الماء. فإن ما يصيب الخفاف والنعال من النجاسات المجمع على نجاستها يطهر بالدلك حتى تزول عينه. ومن هذا القبيل قول الشوكاني: إنه يطهر مطلقا بالإزالة دون الغسل، لما جاء في بعض الروايات من سلت رطبه بإذخرة ونحوها. ورد من قال: إن المني طاهر احتجاج القائلين بنجاسته، بأن الغسل لا يدل على نجاسة الشيء، فلا ملازمة بين الغسل والتنجيس لجواز غسل الطاهرات كالتراب والطين ونحوه يصيب البدن أو الثوب. قالوا: ولم يثبت نقل بالأمر بغسله، ومطلق الفعل لا بدل على شيء زائد على الجواز.
قال ابن حجر (في التلخيص): وقد ورد الأمر بفركه من طريق صحيحة، رواه ابن الجارود (في المنتقى) عن محسن بن يحيى، عن أبي حذيفة عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن همام بن الحارث قال: كان عند عائشة ضيف فأجنب، فجعل يغسل ما أصابه. فقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بحته إلى أن قال: وأما الأمر بغسله فلا أصل له.
وأجابوا عن قول عائشة: (إنما يجزئك أن تغسل مكانه) لحمله على الاستحباب، لأنها احتجت بالفرك. قالوا: فلو وجب الغسل لكان كلامها حجة عليها لا لها، وإنما أرادت الإنكار عليه في غسل كل الثوب فقالت: (غسل كل الثوب بدعة منكرة، وإنما يجزئك في تحصيل الأفضل والأكمل أن تغسل مكانه...) الخ.
وأجابوا عن قياس المني على البول والدم بأن المني أصل الآدمي المكرم فهو بالطين أشبه، بخلاف البول والدم.
وأجابوا عن خروجه من مخرج البول بالمنع، قالوا: بل مخرجهما مختلف، وقد شق ذكر رجل بالروم، فوجد كذلك، فلا ننجسه بالشك. قالوا: ولو ثبت أنه يخرج من مخرج البول لم يلزم منه النجاسة. لأن ملاقاة النجاسة في الباطن لا تؤثر، وإنما تؤثر ملاقاتها في الظاهر.
وأجابوا عن دعوى أن المذي جزء من المني بالمنع أيضا قالوا: بل هو مخالف له في الاسم والخلقة وكيفية الخروج. لأن النفس والذكر يفتران بخروج المني، وأما المذي فعكسه، ولهذا من به سلس المذي لا يخرج منه شيء من المذي. وهذه المسألة فيها للعلماء مناقشات كثيرة، كثير منها لا طائل تحته. وهذا الذي ذكرنا فيها هو خلاصة أقوال
401

العلماء وحججهم.
قال مقيده عفا الله عنه: أظهر الأقوال دليلا في هذه المسألة عندي والله أعلم أن المني طاهر. لما قدمنا من حديث إسحاق الأزرق، عن شريك عن محمد بن عبد الرحمن، عن عطاء، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذخرة). وهذا نص في محل النزاع.
وقد قدمنا عن صاحب (المنتقى) أن الدارقطني قال: لم يرفعه غير إسحاق الأزرق عن شريك، وأنه هو قال: قلت: وهذا لا يضر لأن إسحاق إمام مخرج عنه في الصحيحين، فيقبل رفعه وزيادته. انتهى.
وقد قدمنا مرارا: أن هذا هو الحق. فلو جاء الحديث موقوفا من طريق، وجاء مرفوعا من طريق أخرى صحيحة حكم برفعه. لأن الرفع زيادة، وزيادات العدول مقبولة، قال في مراقي السعود: وقد قدمنا مرارا: أن هذا هو الحق. فلو جاء الحديث موقوفا من طريق، وجاء مرفوعا من طريق أخرى صحيحة حكم برفعه. لأن الرفع زيادة، وزيادات العدول مقبولة، قال في مراقي السعود:
* والرفع والوصل وزيد اللفظ
* مقبولة عند إمام الحفظ الخ
*
وبه تعلم صحة الاحتجاج برواية إسحاق المذكور المرفوعة، ولا سيما أن لها شاهدا من طريق أخرى.
قال ابن حجر (في التلخيص) ما نصه: فائدة
روى الدارقطني، والبيهقي من طريق إسحاق الأزرق، عن شريك، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عطاء، عن ابن عباس قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المني يصيب الثوب؟ قال: (إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق وقال إنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو إذخرة) ورواه الطحاوي من حديث حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مرفوعا، ورواه هو والبيهقي من طريق عطاء عن ابن عباس موقوفا، قال البيهقي: الموقوف هو الصحيح انتهى.
فقد رأيت الطريق الأخرى المرفوعة من حديث حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد عن ابن عباس، وهي مقوية لطريق إسحاق الأزرق المتقدمة.
واعلم أن قول البيهقي رحمه الله: والموقوف هو الصحيح ولا يسقط به الاحتجاج بالرواية المرفوعة. لأنه يرى أن وقف الحديث من تلك الطريق علة في الطريق المرفوعة. وهذا قول معروف لبعض العلماء من أهل الحديث والأصول، ولكن الحق: أن الرفع
402

زيادة مقبولة من العدل، وبه تعلم صحة الاحتجاج بالرواية المرفوعة عن ابن عباس في طهارة المني، وهي نص صريح في محل النزاع، ولم يثبت في نصوص الشرع شيء يصرح بنجاسة المني.
فإن قيل: أخرج البزار، وأبو يعلى الموصلي في مسنديهما، وابن عدي في الكامل، والدارقطني والبيهقي والعقيلي في الضعفاء، وأبو نعيم في المعرفة من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بعمار فذكر قصة، وفيه: (إنما تغسل ثوبك من الغائط البول والمني والدم والقيء يا عمار. ما نخامتك ودموع عينيك والماء الذي في ركوتك إلا سواء).
فالجواب أن في إسناده ثابت بن حماد، عن علي بن زيد بن جدعان، وضعفه الجماعة المذكورون كلهم إلا أبا يعلى بثابت بن حماد، واتهمه بعضهم بالوضع. وقال اللالكائي: أجمعوا على ترك حديثه. وقال البزار: لا نعلم لثابت إلا هذا الحديث. وقال الطبراني: تفرد به ثابت بن حماد، ولا يروى عن عمار إلا بهذا الإسناد. وقال البيهقي: هذا حديث باطل، إنما رواه ثابت بن حماد وهو متهم بالوضع. قاله ابن حجر في (التلخيص). ثم قال: قلت ورواه البزار، والطبراني من طريق إبراهيم بن زكريا العجلي، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، لكن إبراهيم ضعيف، وقد غلط فيه، إنما يرويه ثابت بن حماد. انتهى.
وبهذا تعلم أن هذا الحديث لا يصح الاحتجاج به على نجاسة المني والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثالثة قال القرطبي: في هذه الآية دليل على جواز الانتفاع بالألبان من الشرب وغيره. فأما لبن الميتة فلا يجوز الانتفاع به. لأنه مائع طاهر حصل في وعاء نجس. وذلك أن ضرع الميتة نجس، واللبن طاهر. فإذا حلب صار مأخوذا من وعاء نجس. فأما لبن المرأة الميتة فاختلف أصحابنا فيه. فمن قال: إن الإنسان طاهر حيا وميتا فهو طاهر. ومن قال: ينجس بالموت فهو نجس. وعلى القولين جميعا تثبت الحرمة. لأن الصبي قد يتغذى به كما يتغذى من الحية. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم) ولم يخص انتهى كلام القرطبي. قوله تعالى: * (ومن ثمرات النخيل والا عناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا) *. جمهور العلماء على أن المراد بالسكر في هذه الآية الكريمة: الخمر، لأن
403

العرب تطلق اسم السكر على ما يحصل به السكر، من إطلاق المصدر وإرادة الاسم. والعرب تقول: سكر (بالكسر) سكرا (بفتحتين) وسكرا (بضم فسكون).
وقال الزمخشري في الكشاف: والسكر: الخمر. سميت بالمصدر من سكر سكرا وسكرا، نحو رشد رشدا ورشدا. قال: وقال الزمخشري في الكشاف: والسكر: الخمر. سميت بالمصدر من سكر سكرا وسكرا، نحو رشد رشدا ورشدا. قال:
* وجاءونا بهم سكر علينا
* فأجلى اليوم والسكران صاحي اه
*
ومن إطلاق السكر على الخمر قول الشاعر: ومن إطلاق السكر على الخمر قول الشاعر:
* بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم
* إذا جرى فيهم المزاء والسكر
*
وممن قال: بأن السكر في الآية الخمر: ابن عباس، وابن مسعود، وابن عمر، وأبو رزين، والحسن، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، وابن أبي ليلى، والكلبي، وابن جبير، وأبو ثور، وغيرهم. وقيل: السكر: الخل. وقيل: الطعم وقيل: العصير الحلو.
وإذا عرفت أن الصحيح هو مذهب الجمهور، وأن الله امتن على هذه الأمة بالخمر قبل تحريمها فاعلم أن هذه الآية مكية، نزلت بعدها آيات مدنية بينت تحريم الخمر، وهي ثلاث آيات نزلت بعد هذه الآية الدالة على إباحة الخمر.
الأولى آية البقرة التي ذكر فيها بعض معائبها ومفاسدها، ولم يجزم فيها بالتحريم، وهي قوله تعالى: * (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهمآ إثم كبير ومنافع للناس وإثمهمآ أكبر من نفعهما) * وبعد نزولها تركها قوم للإثم الذي فيها، وشربها آخرون للمنافع التي فيها.
الثانية آية النساء الدالة على تحريمها في أوقات الصلوات، دون الأوقات التي يصحو فيها الشارب قبل وقت الصلاة، كما بين صلاة العشاء وصلاة الصبح، وما بين صلاة الصبح وصلاة الظهر، وهي قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلواة وأنتم سكارى) *.
الثالثة آية المائدة الدالة على تحريمها تحريما باتا، وهي قوله تعالى: * (يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والا نصاب والا زلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) * إلى قوله * (فهل أنتم منتهون) *.
404

وهذه الآية الكريمة تدل على تحريم الخمر أتم دلالة وأوضحها. لأنه تعالى صرح بأنها رجس، وأنها من عمل الشيطان، وأمر باجتنابها أمرا جازما في قوله * (فاجتنبوه) * واجتناب الشيء: هو التباعد عنه، بأن تكون في غير الجانب الذي هو فيه. وعلق رجاء الفلاج على اجتنابها في قوله: * (لعلكم تفلحون) * ويفهم منه أنه من لم يجتنبها لم يفلح، وهو كذلك.
ثم بين بعض مفاسدها بقوله: * (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضآء فى الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلواة) *. ثم أكد النهي عنها بأن أورده بصيغة الاستفهام في قوله: * (فهل أنتم منتهون) * فهو أبلغ في الزجز من صيغة الأمر التي هي (انتهوا) وقد تقرر في فن المعاني: أن من معاني صيغة الاستفهام التي ترد لها الأمر. كقوله: * (فهل أنتم منتهون) *، وقوله: * (وقل للذين أوتوا الكتاب والا ميين ءأسلمتم) *. أي أسلموا. والجار والمجرور في قوله: * (ومن ثمرات النخيل) * يتعلق ب * (تتخذون) * وكرر لفظ (من) للتأكيد، وأفرد الضمير في قوله (منه) مراعاة للمذكور. أي تتخذون منه، أي مما ذكر من ثمرات النخيل والأعناب. ونظيره قول رؤبة: ومن ثمرات النخيل) * يتعلق ب * (تتخذون) * وكرر لفظ (من) للتأكيد، وأفرد الضمير في قوله (منه) مراعاة للمذكور. أي تتخذون منه، أي مما ذكر من ثمرات النخيل والأعناب. ونظيره قول رؤبة:
* فيها خطوط من سواد وبلق
* كأنه في الجلد توليع البهق
*
فقوله (كأنه) أي ما ذكر من خطوط السواد والبلق. وقيل: الضمير راجع إلى محذوف دل المقام عليه. أي ومن عصير ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه، أي عصير الثمرات المذكورة وقيل: قوله * (ومن ثمرات النخيل) * معطوف على قوله * (مما فى بطونه) * أي نسقيكم مما في بطونه ومن ثمرات النخيل. وقيل: يتعلق ب * (نسقيكم) * محذوفة دلت عليها الأولى. فيكون من عطف الجمل. وعلى الأول يكون من عطف المفردات إذا اشتركا في العامل. وقيل: معطوف على (الأنعام) وهو أضعفها عندي.
وقال الطبري: التقدير: ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه سكرا. فحذف (ما).
قال أبو حيان (في البحر): وهو لا يجوز على مذهب البصريين. وقيل: يجوز أن يكون صفة موصوف محذوف، أي ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه.
405

ونظير هذا من كلام العرب قول الراجز: قال أبو حيان (في البحر): وهو لا يجوز على مذهب البصريين. وقيل: يجوز أن يكون صفة موصوف محذوف، أي ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه. ونظير هذا من كلام العرب قول الراجز:
* مالك عندي غير سوط وحجر
* وغير كبداء شديدة الوتر
*
أي بكفى رجل كان (الخ) ذكره الزمخشري وأبو حيان.
قال مقيده عفا الله عنه: أظهر هذه الأقوال عندي: أن قوله: * (ومن ثمرات) * يتعلق ب * (تتخذون) * أي تتخذون من ثمرات النخيل، وأن (من) الثانية توكيد للأولى. والضمير في قوله * (منه) * عائد إلى جنس الثمر المفهوم من ذكر الثمرات، والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
اعلم أن التحقيق على مذهب الجمهور: أن هذه الآية الكريمة التي هي قوله جل وعلا: * (ومن ثمرات النخيل والا عناب) * منسوخة بآية المائدة المذكورة. فما جزم به صاحب مراقي السعود فيه وفي شرحه (نشر البنود) من أن تحريم الخمر ليس نسخا لإباحتها الأولى بناء على أن إباحتها الأولى إباحة عقلية، والإباحة العقلية هي البراءة الأصلية، وهي بعينها استصحاب العدم الأصلي، وهي ليست من الأحكام الشرعية. فرفعها ليس بنسخ. وقد بين في المراقي: أنها ليست من الأحكام الشرعية بقوله: ومن ثمرات النخيل والا عناب) * منسوخة بآية المائدة المذكورة. فما جزم به صاحب مراقي السعود فيه وفي شرحه (نشر البنود) من أن تحريم الخمر ليس نسخا لإباحتها الأولى بناء على أن إباحتها الأولى إباحة عقلية، والإباحة العقلية هي البراءة الأصلية، وهي بعينها استصحاب العدم الأصلي، وهي ليست من الأحكام الشرعية. فرفعها ليس بنسخ. وقد بين في المراقي: أنها ليست من الأحكام الشرعية بقوله:
* وما من البراءة الأصلية
* قد أخذت فليست الشرعية
*
وقال أيضا في إباحة الخمر قبل التحريم: وقال أيضا في إباحة الخمر قبل التحريم:
* أباحها في أول الإسلام
* براءة ليست من الأحكام
*
كل ذلك ليس بظاهر، بل غير صحيح. لأن إباحة الخمر قبل التحريم دلت عليها هذه الآية الكريمة، التي هي قوله: * (ومن ثمرات النخيل والا عناب تتخذون منه سكرا) *، وما دلت على إباحته آية من كتاب الله لا يصح أن يقال: إن إباحته عقلية، بل هي إباحة شرعية منصوصة في كتاب الله، فرفعها نسخ. نعما على القول بأن معنى السكر في الآية: الخل أو الطعم أو العصير. فتحريم الخمر ليس نسخا لإباحتها، وإباحتها الأولى عقلية. وقد بينا هذا المبحث في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات
406

الكتاب).
فإن قيل: الآية واردة بصيغة الخبر، والأخبار لا يدخلها النسخ كما تقرر في الأصول:
فالجواب أن النسخ وارد على ما يفهم من الآية من إباحة الخمر، والإباحة حكم شرعي كسائر الأحكام قابل النسخ. فليس النسخ واردا على نفس الخبر، بل على الإباحة المفهومة من الخبر. كما حققه ابن العربي المالكي وغيره.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ورزقا حسنا) * أي التمر والرطب والعنب والزبيب، والعصير ونحو ذلك.
تنبيه آخر
اعلم أن النبيذ الذي يسكر منه الكثير لا يجوز أن يشرب منه القليل الذي لا يسكر لقلته. وهذا مما لا شك فيه.
فمن زعم جواز شرب القليل الذي لا يسكر منه كالحنفية وغيرهم فقط غلط غلطا فاحشا. لأن ما يسكر كثيره يصدق عليه بدلالة المطابقة أنه مسكر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل مسكر حرام) وقد ثبت عنه في الصحيح صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام). ولو حاول الخصم أن ينازع في معنى هذه الأحاديث فزعم أن القليل الذي لا يسكر يرتفع عنه اسم الإسكار فلا يلزم تحريمه. قلنا: صرح صلى الله عليه وسلم بأن (ما أسكر كثيره فقليله حرام). وهذا نص صريح في محل النزاع لا يمكن معه كلام. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام) رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي وقال: حديث حسن. وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) رواه أحمد وابن ماجة، والدارقطني وصححه. ولأبي داود وابن ماجة والترمذي مثله سواء من حديث جابر. وكذا لأحمد والنسائي وابن ماجة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وكذلك الدارقطني من حديث الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وعن سعد بن أبي وقاص: أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن قليل ما أسكر كثيره) رواه النسائي والدارقطني وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه قوم فقالوا: يا رسول الله، إنا ننبذ النبيذ فنشربه على غدائنا وعشائنا؟ فقال: (اشربوا فكل مسكر حرام). فقالوا: يا رسول الله، إنا نكسره بالماء؟
407

فقال: (حرام قليل ما أسكر كثيره) رواه الدارقطني. اه. بواسطة نقل المجد في (منتقي الأخبار).
فهذه الأحاديث لا لبس معها في تحريم قليل ما أسكر كثيره. وقال ابن حجر (في فتح الباري) في شرح قوله صلى الله عليه وسلم عند البخاري: (كل شراب أسكر فهو حرام) ما نصه: فعند أبي داود والنسائي وصححه ابن حبان من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر كثيره فقليله حرام). وللنسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مثله، وسنده إلى عمرو صحيح. ولأبي داود من حديث عائشة مرفوعا (كل مسكر حرام. وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام). ولابن حبان والطحاوي من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره) وقد اعترف الطحاوي بصحة هذه الأحاديث إلى أن قال: وجاء أيضا عن علي عند الدارقطني، وعن ابن عمر عند ابن إسحاق والطبراني، وعن خوات بن جبير عند الدارقطني
والحاكم والطبراني، وعن زيد بن ثابت عند الدارقطني. وفي أسانيدها مقال. لكنها تزيد الأحاديث التي قبلها قوة وشهرة.
قال أبو المظفر بن السمعاني (وكان حنفيا فتحول شافعيا): ثبتت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم المسكر.
ثم ساق كثيرا منها. ثم قال: والأخبار في ذلك كثيرة، ولا مساغ لأحد في العدول عنها والقول بخلافه. فإنها حجج قواطع. قال: وقد زل الكوفيون في هذا الباب، ورووا فيه أخبارا معلولة، لا تعارض هذه الأخبار بحال. ومن ظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب مسكرا فقد دخل في أمر عظيم، وباء بإثم كبير. وإنما الذي شربه كان حلوا ولم يكن مسكرا. وقد روى ثمامة بن حزن القشيري: أنه سأل عائشة عن النبيذ؟ فدعت جارية حبشية فقالت: سل هذه، فإنها كانت تنبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت الحبشية: كنت أنبذ له في سقاء من الليل، وأوكثه وأعلقه فإذا أصبح شرب منه. أخرجه مسلم.
وروى الحسن البصري عن أمه عن عائشة نحوه. ثم قال: فقياس النبيذ على الخمر بعلة الإسكار والاضطراب من أجل الأقيسة وأوضحها، والمفاسد التي توجد في الخمر توجد في النبيذ إلى أن قال: وعلى الجملة، فالنصوص المصرحة بتحريم كل مسكر قل أو كثر مغنية عن القياس. والله أعلم.
وقد قال عبد الله بن المبارك: لا يصح في حل النبيذ الذي يسكر كثيره عن الصحابة
408

شيء ولا عن التابعين. إلا عن إبراهيم النخعي. انتهى محل الغرض من (فتح الباري) بحذف ما لا حاجة إليه.
قال مقيده عفا الله عنه: تحريم قليل النبيذ الذي يسكر كثيره لا شك فيه. لما رأيت من تصريح النبي صلى الله عليه وسلم بأن (ما أسكر كثيره فقليله حرام).
واعلم أن قياس النبيذ المسكر كثيره على الخمر بجامع الإسكار لا يصح. لأن النبي صلى الله عليه وسلم صرح بأن (كل مسكر حرام) والقياس يشترط فيه ألا يكون حكم الفرع منصوصا عليه كحكم الأصل. كما أشار له في مراقي السعود بقوله: صرح بأن (كل مسكر حرام) والقياس يشترط فيه ألا يكون حكم الفرع منصوصا عليه كحكم الأصل. كما أشار له في مراقي السعود بقوله:
* وحيثما يندرج الحكمان
* في النص فالأمران قل سيان
*
وقال ابن المنذر: وجاء أهل الكوفة بأخبار معلولة، وإذا اختلف الناس في الشيء وجب رد ذلك إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم اه. قوله تعالى: * (وأوحى ربك إلى النحل) *. المراد بالإيحاء هنا: الإلهام. والعرب تطلق الإيحاء على الإعلام بالشيء في خفية. ولذا تطلقه على الإشارة، وعلى الكتابة، وعلى الإلهام. ولذلك قال تعالى: * (وأوحى ربك إلى النحل) * أي ألهمها. وقال: * (فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة) *. أي أشار إليهم. وسمى أمره للأرض إيحاء في قوله: * (يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها) * ومن إطلاق الوحي على الكتابة قول لبيد في معلقته: بأن ربك أوحى لها) * ومن إطلاق الوحي على الكتابة قول لبيد في معلقته:
* فمدافع الريان عرى رسمها
* خلقا كما ضمن الوحي سلامها
*
ف (الوحي) في البيت (بضم الواو وكسر الحاء وتشديد الياء) جمع وحي بمعنى الكتابة. وسيأتي لهذه المسألة إن شاء الله زيادة إيضاح. قوله تعالى: * (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكى لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من الناس من يموت قبل بلوغ أرذل العمر، ومنهم من يعمر حتى يرد إلى أرذل العمر. وأرذل العمر آخره الذي تفسد فيه الحواس، ويختل فيه النطق والفكر، وخص بالرذيلة لأنه حال لا رجاء بعدها لإصلاح ما فسد. بخلاف حال الطفولة، فإنها حالة ينتقل منها إلى القوة وإدراك الأشياء. وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله في سورة الحج. * (ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا) *، وقوله في الروم: * (الله الذى خلقكم من ضعف ثم جعل من
409

بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة) *. وأشار إلى ذلك أيضا بقوله: * (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا فى كتاب) *، وقوله في سورة المؤمن: * (ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون) *.
وقال البخاري في صحيحه في الكلام على هذه الآية الكريمة: باب قوله تعالى: * (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر) * حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا هارون بن موسى أبو عبد الله الأعور، عن شعيب، عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو (أعوذ بالله من البخل والكسل، وأرذل العمر، وعذاب القبر، وفتنة الدجال، وفتنة المحيا والممات) اه وعن علي رضي الله تعالى عنه: أن أرذل العمر خمس وسبعون سنة. وعن قتادة: تسعون سنة. والظاهر أنه لا تحديد له بالسنين. وإنما هو باعتبار تفاوت حال الأشخاص. فقد يكون ابن خمس وسبعين أضعف بدنا وعقلا، وأشد خرفا من آخر ابن تسعين سنة، وظاهر قول زهير في معلقته: كان يدعو (أعوذ بالله من البخل والكسل، وأرذل العمر، وعذاب القبر، وفتنة الدجال، وفتنة المحيا والممات) اه وعن علي رضي الله تعالى عنه: أن أرذل العمر خمس وسبعون سنة. وعن قتادة: تسعون سنة. والظاهر أنه لا تحديد له بالسنين. وإنما هو باعتبار تفاوت حال الأشخاص. فقد يكون ابن خمس وسبعين أضعف بدنا وعقلا، وأشد خرفا من آخر ابن تسعين سنة، وظاهر قول زهير في معلقته:
* سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
* ثمانين حولا لا أبالك يسأم
*
أن ابن الثمانين بالغ أرذل العمر، ويدل له قول الآخر: أن ابن الثمانين بالغ أرذل العمر، ويدل له قول الآخر:
* إن الثمانين وبلغتها
* قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
*
وقوله: * (لكى لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير) * أي يرد إلى أرذل العمر، لأجل أن يزول ما كان يعلم من العلم أيام الشباب، ويبقى لا يدري شيئا. لذهاب إدراكه بسبب الخرف. ولله في ذلك حكمة.
وقال بعض العلماء: إن العلماء العاملين لا ينالهم هذا الخرف، وضياع العلم والعقل من شدة الكبر. ويستروح لهذا المعنى من بعض التفسيرات في قوله تعالى: * (ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات) *. قوله تعالى: * (والله فضل بعضكم على بعض فى الرزق فما الذين فضلوا برآدى رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سوآء أفبنعمة الله يجحدون) *. أظهر التفسيرات في هذه الآية الكريمة: أن الله ضرب فيها مثلا للكفار، بأنه فضل بعض الناس على بعض في الرزق، ومن ذلك تفضيله المالكين على المملوكين في الرزق، وأن المالكين لا يرضون لأنفسهم أن يكون المملوكون شركاءهم فيما رزقهم الله من
410

الأموال والنساء وجميع نعم الله. ومع هذا يجعلون الأصنام شركاء لله في حقه على خلقه، الذي هو إخلاص العبادة له وحده، أي إذا كنتم لا ترضون بإشراك عبيدكم معكم في أموالكم ونسائكم فكيف تشركون عبيدي معي في سلطانيا.
ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: * (ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركآء فى ما رزقناكم فأنتم فيه سوآء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم) *. ويؤيده أن (ما) في قوله * (فما الذين فضلوا برآدى رزقهم على ما ملكت أيمانهم) * نافية. أي ليسوا برادي رزقهم عليهم حتى يسووهم مع أنفسهم اه.
فإذا كانوا يكرهون هذا لأنفسهم فكيف يشركون الأوثان مع الله في عبادتها مع اعترافهم بأنها ملكه، كما كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.
وهذه الآية الكريمة نص صريح في إبطال مذهب الاشتراكية القائل: بأنه لا يكون أحد أفضل من أحد من الرزق، ولله في تفضيل بعضهم على بعض في الرزق حكمة. قال تعالى: * (نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحيواة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) *، وقال: * (الله يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر) *، وقال: * (على الموسع قدره وعلى المقتر قدره) * إلى غير ذلك من الآيات.
وفي معنى هذه الآية الكريمة قولان آخران:
أحدهما أن معناها أنه جعلكم متفاوتين في الرزق. فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهو بشر مثلكم وإخوانكم. فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم، حتى تساووا في الملبس والمطعم. كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أمر مالكي العبيد (أن يطعموهم مما يطعمون، ويكسوهم مما يلبسون). وعلى هذا القول فقوله تعالى: * (فما الذين فضلوا برآدى رزقهم على ما ملكت أيمانهم) * لوم لهم، وتقريع على ذلك.
القول الثاني أن معنى الآية أنه جل وعلا هو رازق المالكين والمملوكين جميعا. فهم في رزقه سواء، فلا يحسبن المالكون أنهم يريدون على مماليكهم شيئا من الرزق، فإنما ذلك رزق الله يجريه لهم على أيديهم. والقول الأول هو الأظهر وعليه جمهور العلماء،
411

ويدل له القرآن كما بينا. والعلم عند الله تعالى.
وقوله * (أفبنعمة الله يجحدون) * إنكار من الله عليهم جحودهم بنعمته. لأن الكافر يستعمل نعم الله في معصية الله، فيستعين بكل ما أنعم به عليه على معصيته. فإنه يرزقهم ويعافيهم، وهم يعبدون غيره. وجحد: تتعدى بالباء في اللغة العربية. كقوله: * (وجحدوا بها) *، وقوله: * (فاليوم ننساهم كما نسوا لقآء يومهم هاذا وما كانوا بأاياتنا يجحدون) * والجحود بالنعمة هو كفرانها. * (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون * ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والا رض شيئا ولا يستطيعون * فلا تضربوا لله الا مثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون * ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شىء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون * وضرب الله مثلا رجلين أحدهمآ أبكم لا يقدر على شىء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم * ولله غيب السماوات والا رض ومآ أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شىء قدير * والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والا بصار والأفئدة لعلكم تشكرون * ألم يروا إلى الطير مسخرات فى جو السمآء ما يمسكهن إلا الله إن فى ذالك لآيات لقوم يؤمنون * والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الا نعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارهآ أثاثا ومتاعا إلى حين * والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون * فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين * يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون
* ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون * وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون * وإذا رءا الذين أشركوا شركآءهم قالوا ربنا هاؤلآء شركآؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون * وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون * الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون) * قوله تعالى: * (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه امتن على بني آدم أعظم منة بأن جعل لهم من أنفسهم أزواجا من جنسهم وشكلهم، ولو جعل الأزواج من نوع آخر ما حصل الائتلاف والمودة والرحمة، ولكن من رحمته خلق من بني آدم ذكورا وإناثا، وجعل الإناث أزواجا للذكور، وهذا من أعظم المنن، كما أنه من أعظم الآيات الدالة على أنه جل وعلا هو المستحق أن يعبد وحده.
وأوضح في غير هذا الموضع: أن هذه نعمة عظيمة، وأنها من آياته جل وعلا. كقوله: * (ومن ءاياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن فى ذلك لأيات لقوم يتفكرون) * وقوله: * (أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من منى يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والا نثى) *، وقوله تعالى: * (هو الذى خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها) *.
واختلف العلماء في المراد بالحفدة في هذه الآية الكريمة. فقال جماعة من العلماء الحفدة: أولاد الأولاد. أي وجعل لكم من أزواجكم بنين، ومن البنين حفدة. وقال بعض العلماء: الحفدة الأعوان والخدم مطلقا. ومنه قول جميل: واختلف العلماء في المراد بالحفدة في هذه الآية الكريمة. فقال جماعة من العلماء الحفدة: أولاد الأولاد. أي وجعل لكم من أزواجكم بنين، ومن البنين حفدة. وقال بعض العلماء: الحفدة الأعوان والخدم مطلقا. ومنه قول جميل:
* حفد الولائد حولهن وأسلمت
* بأكفهن أزمة الأجمال
*
أي أسرعت الولائد الخدمة، والولائد الخدم. الواحدة وليدة، ومنه قول الأعشى: أي أسرعت الولائد الخدمة، والولائد الخدم. الواحدة وليدة، ومنه قول الأعشى:
* كلفت مجهولها نوقا يمانية
* إذا الحداة على أكسائها حفدوا
*
أي أسرعوا في الخدمة.
412

ومنه قوله في سورة الحفد التي نسخت: وإليك نسعى ونحفد. أي نسرع في طاعتك. وسورة الخلع وسورة الحفد اللتان نسختا يسن عند المالكية القنوت بهما في صلاة الصبح كما هو معروف.
وقيل: الحفدة الأختان، وهم أزواج البنات، ومنه قول الشاعر: وقيل: الحفدة الأختان، وهم أزواج البنات، ومنه قول الشاعر:
* فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت
* لها حفد مما يعد كثير
*
* ولكنها نفس علي أبية
* عيوف لإصهار اللثام قذور
*
والقذور: التي تتنزه عن الوقوع فيما لا ينبغي، تباعدا عن التدنس بقذره.
قال مقيده عفا الله عنه: الحفدة: جمع حافد، اسم فاعل من الحفد وهو الإسراع في الخدمة والعمل. وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يكون في نفس الآية قرينة دالة على عدم صحة قول بعض العلماء في الآية. فنبين ذلك.
وفي هذه الآية الكريمة قرينة دالة على أن الحفدة أولاد الأولاد. لأن قوله * (وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة) * دليل ظاهر على اشتراك البنين والحفدة في كونهم من أزواجهم، وذلك دليل على أنهم كلهم من أولاد أزواجهم. ودعوى أن قوله (وحفدة) معطوف على قوله (أزواجا) غير ظاهرة. كما أن دعوى أنهم الأختان، وأن الأختان أزواج بناتهم، وبناتهم من أزواجهم، وغير ذلك من الأقوال كله غير ظاهر. وظاهر القرآن هو ما ذكر، وهو اختيار ابن العربي المالكي والقرطب وغيرهما. ومعلوم: أن أولاد الرجل، وأولاد أولاده: من خدمه المسرعين في خدمته عادة. والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
في قوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: * (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا) * رد على العرب التي كانت تعتقد أنها كانت تزوج الجن وتباضعها. حتى روي أن عمرو بن يربوع بن حنظلة بن مالك تزوج سعلاة منهم، وكان يخبؤوها عن سنا البرق لئلا تراه فتنفر. فلما كان في بعض الليالي لمع البرق وعاينته السعلاة، فقالت:
عمروا ونفرت. فلم يرها أبدا. ولذا قال علباء بن أرقم يهجو أولاد عمرو المذكور: حتى روي أن عمرو بن يربوع بن حنظلة بن مالك تزوج سعلاة منهم، وكان يخبؤوها عن سنا البرق لئلا تراه فتنفر. فلما كان في بعض الليالي لمع البرق وعاينته السعلاة، فقالت: عمروا ونفرت. فلم يرها أبدا. ولذا قال علباء بن أرقم يهجو أولاد عمرو المذكور:
* ألا لحى الله بني السعلاة
* عمرو بن يربوع لئام النات
*
413

ليسوا بأعفاف ولا أكيات
وقوله (النات) أصله (الناس) أبدلت فيه السين تاء. وكذلك قوله (أكيات) أصله (أكياس) جمع كيس، أبدلت فيه السين تاء أيضا. وقال المعري يصف مراكب إبل متغربة عن الأوطان، إذا رأت لمعان البرق تشتاق إلى أوطانها. فزعم أنه يستر عنها البرق لئلا يشوقها إلى أوطانها كما كان عمرو يستره عن سعلاته: وقوله (النات) أصله (الناس) أبدلت فيه السين تاء. وكذلك قوله (أكيات) أصله (أكياس) جمع كيس، أبدلت فيه السين تاء أيضا. وقال المعري يصف مراكب إبل متغربة عن الأوطان، إذا رأت لمعان البرق تشتاق إلى أوطانها. فزعم أنه يستر عنها البرق لئلا يشوقها إلى أوطانها كما كان عمرو يستره عن سعلاته:
* إذا لاح إيماض سترت وجوهها
* كأني عمرو والمطي سعالى
*
والسعلاة: عجوز الجن. وقد روي من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحد أبوي بلقيس كان جنيا).
قال صاحب الجامع الصغير: أخرجه أبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه في التفسير، وابن عساكر: وقال شارحه المناوي: في إسناده سعيد بن بشر قال في الميزان عن ابن معين: ضعيف. وعن ابن مسهر: لم يكن ببلدنا أحفظ منه، وهو ضعيف منكر الحديث، ثم ساق من مناكيره هذا الخبر. وبشير بن نهيك أورده الذهبي في الضعفاء. وقال أبو حاتم: لا يحتج به. ووثقه النسائي. انتهى.
وقال المناوي في شرح حديث (أحد أبوي بلقيس كان جنيا) قال قتادة: ولهذا كان مؤخر قدميها كحافر الدابة. وجاء في آثار: أن الجني الأم، وذلك أن أباها ملك اليمن خرج ليصيد فعطش، فرفع له خباء فيه شيخ فاستسقاه، فقال: يا حسنة اسقي عمك. فخرجت كأنها شمس بيدها كأس من ياقوت. فخطبها من أبيها، فذكر أنه جني، وزوجها منه بشرط أنه إن سألها عن شيء عملته فهو طلاقها. فأتت منه بولد ذكر، ولم يذكر قبل ذلك، فذبحته فكرب لذلك، وخاف أن يسألها فتبين منه. ثم أتت ببلقيس فأظهرت البشر فاغتم فلم يملك أن سألها، فقالت: هذا جزائي منكا باشرت قتل ولدي من أجلكا وذلك أن أبي يسترق السمع فسمع الملائكة تقول: إن الولد إذا بلغ الحلم ذبحك، ثم استرق السمع في هذه فسمعهم يعظمون شأنها، ويصفون ملكها، وهذا فراق بيني وبينك. فلم يرها بعد. هذا محصول ما رواه ابن عساكر عن يحيى الغساني اه من شرح المناوي للجامع الصغير.
وقال القرطبي في تفسير (سورة النحل): كان أبو بلقيس وهو السرح بن الهداهد بن شراحيل، ملكا عظيم الشأن، وكان يقول لملوك الأطراف: ليس أحد منكم كفأ لي. وأبى
414

أن يتزوج منهم. فزوجوه امرأة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن. فولدت له بلقمة وهي بلقيس، ولم يكن له ولد غيرها. وقال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كان أحد أبوي بلقيس جنيا) إلى أن قال: ويقال إن سبب تزوج أبيها من الجن أنه كان وزيرا لملك عات، يغتصب نساء الرعية، وكان الوزير غيورا فلم يتزوج. فصحب مرة في الطريق رجلا لا يعرفه فقال: هل لك من زوجة؟ فقال: لا أتزوج أبدا. فإن ملك بلدنا يغتصب النساء من أزواجهن. فقال: لئن تزوجت ابنتي لا يغتصبها أبدا. قال: بل يغتصبهاا قال: إنا قوم من الجن لا يقدر علينا. فتزوج ابنته فولدت له بلقيس إلى غير ذلك من الروايات.
وقال القرطبي أيضا: وروى وهيب بن جرير بن حازم، عن الخليل بن أحمد، عن عثمان بن حاضر قال: كانت أم بلقيس من الجن، يقال لها: بلعمة بنت شيصان.
قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر أن الحديث الوارد في كون أحد أبوي بلقيس جنيا ضعيف، وكذلك الآثار الواردة في ذلك ليس منها شيء يثبت.
مسألة
اختلف العلماء في جواز المناكحة بين بني آدم والجن. فمنعها جماعة من أهل العلم، وأباحها بعضهم.
قال المناوي (في شرح الجامع الصغير): ففي الفتاوى السراجية للحنفية: لا تجوز المناكحة بين الإنس والجن وإنسان الماء. لاختلاف الجنس. وفي فتاوى البارزي من الشافعية: لا يجوز التناكح بينهما. ورجح ابن العماد جوازه اه.
وقال الماوردي: وهذا مستنكر للعقول. لتباين الجنسين، واختلاف الطبعين. إذ الآدمي جسماني، والجني روحاني. وهذا من صلصال كالفخار، وذلك من مارج من نار، والامتزاج مع هذا التباين مدفوع، والتناسل مع هذا الاختلاف ممنوع اه.
وقال ابن العربي المالكي: نكاحهم جائز عقلا. فإن صح نقلا فبها ونعمت.
قال مقيده عفا الله عنه: لا أعلم في كتاب الله ولا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم نصا يدل على جواز مناكحة الإنس الجن، بل الذي يستروح من ظواهر الآيات عدم جوازه. فقوله في هذه الآية الكريمة: * (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا) *. ممتنا على
415

بني آدم بأن أزواجهم من نوعهم وجنسهم يفهم منه أنه ما جعل لهم أزواجا تباينهم كمباينة الإنس للجن، وهو ظاهر. ويؤيده قوله تعالى: * (ومن ءاياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) *. فقوله: * (أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا) * في معرض الامتنان يدل على أنه ما خلق لهم أزواجا من غير أنفسهم. ويؤيد ذلك ما تقرر في الأصول من (أن النكرة في سياق الامتنان تعم) فقوله: * (جعل لكم من أنفسكم أزواجا) * جمع منكر في سياق الامتنان فهو يعم، وإذا عم دل ذلك على حصر الأزواج المخلوقة لنا فيما هو من أنفسنا، أي من نوعنا وشكلنا. مع أن قوما من أهل الأصول زعموا (أن الجموع المنكرة في سياق الإثبات من صيغ العموم). والتحقيق أنها في سياق الإثبات لا تعم، وعليه درج في مراقي السعود حيث قال في تعداده للمسائل التي عدم العموم فيها أصح: جعل لكم من أنفسكم أزواجا) * جمع منكر في سياق الامتنان فهو يعم، وإذا عم دل ذلك على حصر الأزواج المخلوقة لنا فيما هو من أنفسنا، أي من نوعنا وشكلنا. مع أن قوما من أهل الأصول زعموا (أن الجموع المنكرة في سياق الإثبات من صيغ العموم). والتحقيق أنها في سياق الإثبات لا تعم، وعليه درج في مراقي السعود حيث قال في تعداده للمسائل التي عدم العموم فيها أصح:
* منه منكر الجموع عرفا
* وكان والذي عليه انعطفا
*
أما في سياق الامتنان فالنكرة تعم. وقد تقرر في الأصول (أن النكرة في سياق الامتنان تعم)، كقوله: * (وأنزلنا من السمآء مآء طهورا) * أي فكل ماء نازل من السماء طهور. وكذلك النكرة في سياق النفي أو الشرط أو النهي. كقوله: * (ما لكم من إلاه غيره) *، وقوله: * (وإن أحد من المشركين) *، وقوله: * (ولا تطع منهم ءاثما) *. ويستأنس لهذا بقوله: * (وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون) * فإنه يدل في الجملة على أن تركهم ما خلق الله لهم من أزواجهم، وتعديه إلى غيره يستوجب الملام، وإن كان أصل التوبيخ والتقريع على فاحشة اللواط. لأن أول الكلام * (أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم) * فإنه وبخهم على أمرين: أحدهما إتيان الذكور. والثاني ترك ما خلق لهم ربهم من أزواجهم.
وقد دلت الآيات المتقدمة على أن ما خلق لهم من أزواجهم، هو الكائن من أنفسهم. أي من نوعهم وشكلهم. كقوله: * (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا) *، وقوله: * (ومن ءاياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا) *، فيفيد أنه لم يجعل لهم أزواجا من غير أنفسهم. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والا رض شيئا ولا
416

يستطيعون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار يعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات بإنزال المطر، ولا من الأرض بإنبات النبات. وأكد عجز معبوداتهم عن ذلك بأنهم لا يستطيعون، أي لا يملكون أن يرزقوا. والاستطاعة منفية عنهم أصلا. لأنهم جماد ليس فيه قابلية استطاعة شيء.
ويفهم من الآية الكريمة: أنه لا يصح أن يعبد إلا من يرزق الخلق. لأن أكلهم رزقه، وعبادتهم غيره كفر ظاهر لكل عاقل. وهذا المعنى المفهوم من هذه الآية الكريمة بينه جل وعلا في مواضع أخر، كقوله: * (إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون) *، وقوله: * (أمن هاذا الذى يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا فى عتو ونفور) *، وقوله: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون مآ أريد منهم من رزق ومآ أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) * وقوله: * (قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والا رض وهو يطعم ولا يطعم) *، وقوله: * (وأمر أهلك بالصلواة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى) *، وقوله: * (هل من خالق غير الله يرزقكم من السمآء والا رض) *، وقوله: * (قل من يرزقكم من السمآء والا رض) *، إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه
في قوله * (شيئا) * في هذه الآية الكريمة ثلاثة أوجه من الإعراب:
الأول أن قوله * (رزقا) * مصدر، وأن * (شيئا) * مفعول به لهذا المصدر. أي ويعبدون من دون الله ما لا يملك أن يرزقهم شيئا من الرزق. ونظير هذا الإعراب قوله تعالى: * (أو إطعام فى يوم ذى مسغبة يتيما) * فقوله * (يتيما) * مفعول به للمصدر الذي هو إطعام. أي أن يطعم يتيما ذا مقربة. ونظيره من كلام العرب قول المرار بن منقذ التميمي: يتيما) * فقوله * (يتيما) * مفعول به للمصدر الذي هو إطعام. أي أن يطعم يتيما ذا مقربة. ونظيره من كلام العرب قول المرار بن منقذ التميمي:
* بضرب بالسيوف رؤوس قوم
* أزلنا هامهن عن المقيل
*
فقوله (رؤوس قوم) مفعول به للمصدر المنكر الذي هو قوله (بضرب) وإلى هذا أشار في الخلاصة بقوله
417

: فقوله (رؤوس قوم) مفعول به للمصدر المنكر الذي هو قوله (بضرب) وإلى هذا أشار في الخلاصة بقوله:
* بفعله المصدر ألحق في العمل
* مضافا أو مجردا أو مع ال
*
الوجه الثاني أن قوله * (شيئا) * بدل من قوله * (رزقا) * بناء على أن المراد بالرزق هو ما يرزقه الله عباده. لا المعنى المصدري.
الوجه الثالث أن يكون قوله * (شيئا) * ما ناب عن المطلق من قوله * (يملك) * أي لا يملك شيئا من الملك، بمعنى لا يملك ملكا قليلا أن يرزقهم. قوله تعالى: * (فلا تضربوا لله الا مثال) *. نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة خلقه أن يضربوا له الأمثال. أي يجعلوا له أشباها ونظراء من خلقه، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا!
وبين هذا المعنى غير هذا الموضع. كقوله: * (ليس كمثله شىء) *، وقوله: * (ولم يكن له كفوا أحد) *، إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (ومآ أمر الساعة إلا كلمح البصر) *. أظهر الأقوال فيها: أن المعنى أن الله إذا أراد الإتيان بها فهو قادر على أن يأتي بها في أسرع من لمح البصر. لأنه يقول للشيء كن فيكون. ويدل لهذا المعنى قوله تعالى: * (ومآ أمرنآ إلا واحدة كلمح بالبصر) *.
وقال بعض العلماء: المعنى هي قريب عنده تعالى كلمح البصر وإن كانت بعيدا عندكم. كما قال تعالى: * (إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا) *، وقال: * (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) *. واختار أبو حيان (في البحر المحيط): أن (أو) في قوله (أو هو أقرب) للإبهام على المخاطب، وتبع في ذلك الزجاج، قال: ونظيره * (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) *، وقوله: * (أتاهآ أمرنا ليلا أو) *. قوله تعالى: * (وجعل لكم السمع والا بصار والأفئدة لعلكم تشكرون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أخرج بني آدم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا، وجعل لهم الأسماع والأبصار والأفئدة. لأجل أن يشكروا له نعمه. وقد قدمنا: أن (لعل) للتعليل. ولم يبين هنا هل شكروا أو لم يشكروا. ولكنه بين في مواضع أخر: أن أكثرهم لم يشكروا. كما قال تعالى: * (الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولاكن أكثر الناس لا يشكرون) *، وقال: * (قل
418

هو الذى أنشأكم وجعل لكم السمع والا بصار والا فئدة قليلا ما تشكرون) *، إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه
لم يأت السمع في القرآن مجموعا، وإنما يأتي فيه بصيغة الإفراد دائما، مع أنه يجمع ما يذكر معه كالأفئدة والأبصار.
وأظهر الأقوال في نكتة إفراده دائما: أن أصله مصدر سمع سمعا، والمصدر إذا جعل اسما ذكر وأفرد. كما قال في الخلاصة: وأظهر الأقوال في نكتة إفراده دائما: أن أصله مصدر سمع سمعا، والمصدر إذا جعل اسما ذكر وأفرد. كما قال في الخلاصة:
* ونعتوا بمصدر كثيرا
* فالتزموا الإفراد والتذكيرا
* ألم يروا إلى الطير مسخرات فى جو السمآء ما يمسكهن إلا الله إن فى ذالك لآيات لقوم يؤمنون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن تسخيره الطير في جو السماء ما يمسكها إلا هو من آياته الدالة على قدرته، واستحقاقه لأن يعبد وحده. وأوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع. كقوله: * (أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمان إنه بكل شىء بصير) *.
تنبيه
لم يذكر علماء العربية الفعل (بفتح فسكون) من صيغ جموع التكسير. قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي من استقراء اللغة العربية: أن الفعل (بفتح السكون) جمع تكسير لفاعل وصفا لكثرة وروده في اللغة جمعا له. كقوله هنا: * (ألم يروا إلى الطير) * فالطير جمع طائر، وكالصحب فإنه جمع صاحب. قال امرؤ القيس: ألم يروا إلى الطير) * فالطير جمع طائر، وكالصحب فإنه جمع صاحب. قال امرؤ القيس:
* وقوفا بها صحبي على مطيهم
* يقولون لا تهلك أسى وتجمل
*
فقوله (صحبي) أي أصحابي. وكالركب فإنه جمع راكب. قال تعالى: * (والركب أسفل منكم) * وقال ذو الرمة: والركب أسفل منكم) * وقال ذو الرمة:
* أستحدث الركب عن أشياعهم خبرا
* أم راجع القلب من أطرابه طرب
*
فالركب جمع راكب. وقد رد عليه ضمير الجماعة في قوله (عن أشياعهم)
419

. وكالشرب فإنه جمع شارب. ومنه قول نابغة ذبيان: فالركب جمع راكب. وقد رد عليه ضمير الجماعة في قوله (عن أشياعهم). وكالشرب فإنه جمع شارب. ومنه قول نابغة ذبيان:
* كأنه خارجا من جنب صفحته
* سفود شرب نسوه عند مفتأد
*
فإنه رد على الشرب ضمير الجماعة في قوله (نسوه..) إلخ وكالسفر فإنه جمع سافر. ومنه حديث: (أتموا فإنا قوم سفر). وقول الشنفرى: فإنه رد على الشرب ضمير الجماعة في قوله (نسوه..) إلخ وكالسفر فإنه جمع سافر. ومنه حديث: (أتموا فإنا قوم سفر). وقول الشنفرى:
* كأن وغاها حجرتيه وجاله
* أضاميم من سفر القبائل نزل
*
وكالرجل جمع راجل. ومنه قراءة الجمهور * (وأجلب عليهم بخيلك ورجلك) * بسكون الجيم. وأما على قراءة حفص عن عاصم بكسر الجيم فالظاهر أن كسرة الجيم اتباع لكسرة اللام. فمعناه معنى قراءة الجمهور. ونحو هذا كثير جدا في كلام العرب، فلا نطيل به الكلام. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة منته على خلقه. بأنه جعل لهم سرابيل تقيهم الحر، أي والبرد. لأن ما يقي الحر من اللباس يقي البرد. والمراد بهذه السرابيل: القمصان ونحوها من ثياب القطن والكتان والصوف. وقد بين هذه النعمة الكبرى في غير هذا الموضع. كقوله: * (يابنى آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يوارى سوءاتكم وريشا) *، وقوله: * (يابنىءادم خذوا زينتكم عند كل مسجد) *. أي وتلك الزينة هي ما خلق الله لهم من اللباس الحسن. وقوله هنا * (وسرابيل تقيكم بأسكم) * المراد بها الدروع ونحوها، مما يقي لابسه وقع السلاح، ويسلمه من بأسه.
وقد بين أيضا هذه النعمة الكبرى، واستحقاق من أنعم بها لأن يشكر له في غير هذا الموضع. كقوله: * (وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون) *. وإطلاق السرابيل على الدروع ونحوها معروف. ومنه قول كعب بن زهير: وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون) *. وإطلاق السرابيل على الدروع ونحوها معروف. ومنه قول كعب بن زهير:
* شم العرانين أبطال لبوسهم
* من نسج داود في الهيجا سرابيل
* يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها) *. ذكر جل وعلا في هذة الآية الكريمة: أن الكفار يعرفون نعمة الله. لأنهم يعلمون أنه هو الذي يرزقهم ويعافيهم، ويدبر شؤونهم، ثم ينكرون هذه النعمة. فيبعدون معه غيره، ويسوونه بما لا ينفع ولا يضر، ولا يغني شيئا.
وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى في آيات كثيرة. كقوله: * (قل من يرزقكم من
420

السمآء والا رض أمن يملك السمع والا بصار ومن يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى ومن يدبر الا مر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون) *. فقوله: * (فسيقولون الله) * دليل على معرفتهم نعمته. وقوله: * (فقل أفلا تتقون) * دليل على إنكارهم لها. والآيات بمثل هذا كثيرة جدا.
وروي عن مجاهد: أن سبب نزول هذه الآية الكريمة: أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله. فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: * (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا) * فقال الأعرابي: نعما قال: * (وجعل لكم من جلود الا نعام بيوتا) *. قال الأعرابي: نعما ثم قرأ عليه كل ذلك يقول الأعرابي: نعما حتى بلغ * (كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون) * فولى الأعرابي. فأنزل الله: * (يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها) *. وعن السدي رحمه الله: * (يعرفون نعمت الله) * أي نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ثم ينكرونها. أي يكذبونه وينكرون صدقه.
وقد بين جل وعلا: أن بعثة نبيه صلى الله عليه وسلم فيهم من منن الله عليهم. كما قال تعالى: * (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) *. وبين في موضع آخر: أنهم قابلوا هذه النعمة بالكفران. وذلك في قوله: * (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار) *. وقيل: يعرفون نعمة الله في الشدة، ثم ينكرونها في الرخاء. وقد تقدمت الآيات الدالة على ذلك، كقوله: * (فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) *، ونحوها من الآيات إلى غير ذلك من الأقوال في الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وأكثرهم الكافرون) * قال بعض العلماء: معناه أنهم كلهم كافرون. أطلق الأكثر وأراد الكل. قاله القرطبي والشوكاني. وقال الشوكاني: أو أراد بالأكثر العقلاء دون الأطفال ونحوهم. أو أراد كفر الجحود، ولم يكن كفر كلهم كذلك، بل كان كفر بعضهم كفر جهل. قوله تعالى: * (ثم لا يؤذن للذين كفروا) *. لم يبين تعالى في هذه الآية الكريمة متعلق الإذن في قوله * (لا يؤذن) * ولكنه بين في (المرسلات) أن متعلق الإذن الاعتذار. أي لا يؤذن لهم في الاعتذار، لأنهم ليس لهم عذر يصح قبوله، وذلك في قوله: * (هاذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون) *.
421

فإن قيل: ما وجه الجمع بين نفي اعتذارهم المذكور هنا، وبين ما جاء في القرآن من اعتذارهم. كقوله تعالى عنهم: * (والله ربنا ما كنا مشركين) *، وقوله: * (ما
كنا نعمل من سوء) *، وقوله: * (بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا) *، ونحو ذلك من الآيات.
فالجواب من أوجه:
منها أنهم يتعذرون حتى إذا قيل لهم: أخسؤوا فيها ولا تكلمون، انقطع نطقهم ولم يبق إلا الزفير والشهيق. كما قال تعالى: * (ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون) *.
ومنها أن نفي اعتذارهم يراد به اعتذار فيه فائدة. أما الاعتذار الذي لا فائدة فيه فهو كالعدم، يصدق عليه في لغة العرب: أنه ليس بشيء، ولذا صرح تعالى بأن المنافقين بكم في قوله: * (صم بكم) * مع قوله عنهم: * (وإن يقولوا تسمع لقولهم) * أي لفصاحتهم وحلاوة ألسنتهم. وقال عنهم أيضا: * (فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد) * فهذا الذي ذكره جل وعلا من فصاحتهم وحدة ألسنتهم، مع تصريحه بأنهم بكم يدل على أن الكلام الذي لا فائدة فيه كلا شيء، كما هو واضح. وقال هبيرة بن أبي وهب المخزومي: فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد) * فهذا الذي ذكره جل وعلا من فصاحتهم وحدة ألسنتهم، مع تصريحه بأنهم بكم يدل على أن الكلام الذي لا فائدة فيه كلا شيء، كما هو واضح. وقال هبيرة بن أبي وهب المخزومي:
* وإن كلام المرء في غير كنهه
* لكالنبل تهوي ليس فيها نصالها
*
وقد بينا هذا في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في مواضع منه. والترتيب ب (ثم) في قوله في هذه الآية الكريمة: * (ثم لا يؤذن للذين كفروا) * على قوله: * (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا) * لأجل الدلالة على أن ابتلاءهم بالمنع من الاعتذار المشعر بالإقناط الكلي أشد من ابتلائهم بشهادة الأنبياء عليهم بكفرهم. قوله تعالى: * (ولا هم يستعتبون) *. اعلم أولا أن استعتب تستعمل في اللغة بمعنى طلب العتبى. أي الرجوع إلى ما يرضي العاتب ويسره. وتستعمل أيضا في اللغة بمعنى أعتب: إذا أعطى العتبى. أي رجع إلى ما يحب العاتب ويرضى، فإذا علمت ذلك فاعلم أن في قوله: * (ولا هم يستعتبون) * وجهين من التفسير متقاربي المعنى.
422

قال بعض أهل العلم: * (ولا هم يستعتبون) * أي لا تطلب منهم العتبى، بمعنى لا يكلفون أن يرضوا ربهم، لأن الآخرة ليست بدار تكليف، فلا يردون إلى الدنيا ليتوبوا.
وقال بعض العلماء: * (ولا هم يستعتبون) * أي يعتبون، بمعنى يزال عنهم العتب، ويعطون العتبى وهي الرضا. لأن الله لا يرضى عن القوم الكافرين. وهذا المعنى كقوله تعالى في قراءة الجمهور: * (وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين) * أي وإن يطلبوا العتبى وهي الرضا عنهم لشدة جزعهم فما هم من المعتبين. بصيغة اسم المفعول: أي المعطين العتبى وهي الرضا عنهم. لأن العرب تقول: أعتبه إذا رجع إلى ما يرضيه ويسره، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي: وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين) * أي وإن يطلبوا العتبى وهي الرضا عنهم لشدة جزعهم فما هم من المعتبين. بصيغة اسم المفعول: أي المعطين العتبى وهي الرضا عنهم. لأن العرب تقول: أعتبه إذا رجع إلى ما يرضيه ويسره، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي:
* أمن المنون وريبه تتوجع
* والدهر ليس بمعتب من يجزع
*
أي لا يرجع الدهر إلى مسرة من جزع ورضاه. وقول النابغة: أي لا يرجع الدهر إلى مسرة من جزع ورضاه. وقول النابغة:
* فإن كنت مظلوما فعبد ظلمته
* وإن كنت ذا عتبى فمثلك يعتب
*
وأما قول بشر بن أبي خازم: وأما قول بشر بن أبي خازم:
* غضبت تميم أن تقتل عامر
* يوم النسار فأعتبوا بالصيلم
*
يعني أعتبناهم بالسيف، أي أرضيناهم بالقتل. فهو من قبيل التهكم، كقول عمرو بن معدي كرب: يعني أعتبناهم بالسيف، أي أرضيناهم بالقتل. فهو من قبيل التهكم، كقول عمرو بن معدي كرب:
* وخيل قد دلفت لها بخيل
* تحية بينهم ضرب وجيع
*
لأن القتل ليس بإرضاء، والضرب الوجيع ليس بتحية.
وأما على قراءة من قرأ * (وإن يستعتبوا) * بالبناء للمفعول * (فما هم من المعتبين) * بصيغة اسم الفاعل، فالمعنى: أنهم لو طلبت منهم العتبى وردوا إلى الدنيا ليعملوا بطاعة الله وطاعة رسله، فما هم من المعتبين: أي الراجعين إلى ما يرضي ربهم، بل يرجعون إلى كفرهم الذي كانوا عليه أولا. وهذه القراءة كقوله تعالى: * (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) *. قوله تعالى: * (وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار إذا رأوا العذاب لا يخفف عنهم، ولا ينظرون أي لا يمهلون، وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. وبين أنهم يرون النار وأنها
423

تراهم، وأنها تكاد تتقطع من شدة الغيظ عليهم. كقوله تعالى: * (لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون) *، وقوله: * (ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا) *، وقوله: * (إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا) *، وقوله: * (إذآ ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهى تفور تكاد تميز من الغيظ) *، وقوله: * (ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (وإذا رءا الذين أشركوا شركآءهم قالوا ربنا هاؤلآء شركآؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المشركين يوم القيامة إذا رأوا معبوداتهم التي كانوا يشركونها بالله في عبادته قالوا لربهم: ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونكا وأن معبوداتهم تكذبهم في ذلك فيقولون لهم: كذبتما ما كنتم إيانا تعبدونا
وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة. كقوله: * (ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعآئهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعدآء وكانوا بعبادتهم كافرين) *، وقوله: * (واتخذوا من دون الله ءالهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا) *، وقوله: * (ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين) *، وقوله: * (وقيل ادعوا شركآءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم) *، وقوله: * (فزيلنا بينهم وقال شركآؤهم ما كنتم إيانا تعبدون) *، إلى غير ذلك من الآيات.
فإن قيل: كيف كذبتهم آلهتهم ونفوا أنهم عبدوهم، مع أن الواقع خلاف ما قالوا، وأنهم كانوا يعبدونهم في دار الدنيا من دون الله فالجواب أن تكذيبهم لهم منصب على زعمهم أنهم آلهة، وأن عبادتهم حق، وأنها تقربهم إلى الله زلفى. ولا شك أن كل ذلك من أعظم الكذب وأشنع الافتراء. ولذلك هم صادقون فيما ألقوا إليهم من القول، ونطقوا فيه بأنهم كاذبون. ومراد الكفار بقولهم لربهم: هؤلاء شركاؤنا، قيل ليحملوا شركاءهم تبعة ذنبهم. وقيل: ليكونوا
424

شركاءهم في العذاب، كما قال تعالى: * (ربنا هاؤلاء أضلونا فأاتهم عذابا ضعفا من النار) *، وقد نص تعالى على أنهم وما يعبدونه من دون الله في النار جميعا في قوله: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) *. وأخرج من ذلك الملائكة وعيسى وعزيرا بقوله: * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولائك عنها مبعدون) *، لأنهم ما عبدوهم برضاهم. بل لو أطاعوهم لأخلصوا العبادة لله وحده جل وعلا. قوله تعالى: * (وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون) *. إلقاؤهم إلى الله السلم: هو انقيادهم له، وخضوعهم. حيث لا ينفعهم ذلك كما تقدم في قوله: * (فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء) *. والآيات الدالة على ذلك كثيرة. كقوله: * (بل هم اليوم مستسلمون) * وقوله: * (وعنت الوجوه للحى القيوم) * ونحو ذلك من الآيات. وقد قدمنا طرفا من ذلك في الكلام على قوله: * (فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء) *.
وقوله: * (وضل عنهم ما كانوا يفترون) * أي غاب عنهم واضحمل ما كانوا يفترونه. من أن شركاءهم تشفع لهم وتقربهم إلى الله زلفى. كما قال تعالى: * (ويقولون هاؤلاء شفعاؤنا عند الله) *، وكقوله: * (ما نعبدهم إلا ليقربونآ إلى الله زلفى) *. وضلال ذلك عنهم مذكور في آيات كثيرة. كقوله تعالى: * (وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون) *، وقوله: * (فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون) *. وقد قدمنا معاني (الضلال) في القرآن وفي اللغة بشواهدها. قوله تعالى: * (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون) *. اعلم أولا أن (صد) تستعمل في اللغة العربية استعمالين: أحدهما أن تستعمل متعدية إلى المفعول، كقوله تعالى: * (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام) *، ومضارع هذه المتعدية (يصد) بالضم على القياس، ومصدرها (الصد) على القياس أيضا. والثاني أن تستعمل (صد) لازمة غير متعدية إلى المفعول، ومصدر هذه (الصدود) على القياس، وفي مضارعها الكسر على القياس، والضم على السماع. وعليهما القراءتان السبعيتان في قوله: * (إذا قومك منه يصدون) *
425

بالكسر والضم.
فإذا عرفت ذلك فاعلم أن قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وصدوا عن سبيل الله) * محتمل لأن تكون (صد) متعدية، والمفعول محذوف لدلالة المقام عليه. على حد قوله في الخلاصة: وصدوا عن سبيل الله) * محتمل لأن تكون (صد) متعدية، والمفعول محذوف لدلالة المقام عليه. على حد قوله في الخلاصة:
* وحذف فضلة أجز إن لم يضر
* كحذف ما سيق جوابا أو حصر
*
ومحتمل لأن تكون (صد) لازمة غير متعدية إلى المفعول، ولكن في الآية الكريمة ثلاث قرائن تدل على أن (صد) متعدية، والمفعول محذوف، أي وصدوا الناس
عن سبيل الله.
الأولى أنا لو قدرنا (صد) لازمة، وأن معناها: صدودهم في أنفسهم عن الإسلام لكان ذلك تكرارا من غير فائدة مع قوله * (الذين كفروا) * بل معنى الآية: كفروا في أنفسهم، وصدوا غيرهم عن الدين فحملوه على الكفار أيضا.
القرينة الثانية قوله تعالى: * (زدناهم عذابا فوق العذاب) * فإن هذه الزيادة من العذاب لأجل إضلالهم غيرهم، والعذاب المزيدة فوقه: هو عذابهم على كفرهم في أنفسهم. بدليل قوله في المضلين الذين أضلوا غيرهم: * (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) *، وقوله: * (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) *. كما تقدم إيضاحه.
القرينة الثالثة قوله: * (بما كانوا يفسدون) * فإنه يدل على أنهم كانوا يفسدون على غيرهم مع ضلالهم في أنفسهم، وقوله * (فوق العذاب) * أي الذي استحقوه بضلالهم وكفرهم. وعن ابن مسعود. أن هذا العذاب المزيد: عقارب أنيابها كالنخل الطوال، وحيات مثل أعناق الإبل، وأفاعي كأنها البخاتي تضربهم. أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منهاا والعلم عند الله تعالى. * (ويوم نبعث فى كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هاؤلآء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شىء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين * إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتآء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم تذكرون * وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الا يمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون * ولا تكونوا كالتى نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هى أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون * ولو شآء الله لجعلكم أمة واحدة ولاكن يضل من يشآء ويهدى من يشآء ولتسألن عما كنتم تعملون * ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم * ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون * ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) * قوله تعالى: * (ويوم نبعث فى كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هاؤلآء ونزلنا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه يوم القيامة يبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم يشهد عليهم بما أجابوا به رسولهم، وأنه يأتي بنبينا صلى الله عليه وسلم شاهدا علينا. وبين هذا المعنى في غير هذا الموضع. كقوله: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هاؤلاء شهيدا يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم
426

الا رض) *، وكقوله: * (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذآ أجبتم) *، وكقوله: * (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين) *، إلى غير ذلك من الآيات. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرأ علي) قال: فقلت يا رسول الله، أأقرأ عليك وعليك أنزل؟ ا قال: (نعم. إني أحب أن أسمعه من غيري) فقرأت (سورة النساء) حتى أتيت إلى هذه الآية: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هاؤلاء شهيدا) * فقال: (حسبك الآن) فإذا عيناه تذرفان اه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ويوم نبعث) * منصوب ب (اذكر) مقدرا. والشهيد في هذه الآية فعيل بمعنى (فاعل، أي شاهدا عليهم من أنفسهم. قوله تعالى: * (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شىء) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه نزل على رسوله هذا الكتاب العظيم تبيانا لكل شيء. وبين ذلك في غير هذا الموضع، كقوله: * (ما فرطنا فى الكتاب من شىء) * على القول بأن المراد بالكتاب فيها القرآن. أما على القول بأنه اللوح المحفوظ. فلا بيان بالآية. وعلى كل حال فلا شك أن القرآن فيه بيان كل شيء. والسنة كلها تدخل في آية واحدة منه. وهي قوله تعالى: * (ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) *.
وقال السيوطي في (الإكليل) في استنباط التنزيل) قال تعالى: * (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شىء) * وقال: * (ما فرطنا فى الكتاب من شىء) *، وقال صلى الله عليه وسلم: (ستكون فتن). قيل: وما المخرج منها؟ قال: (كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم). أخرجه الترمذي، وغيره وقال سعيد بن منصور في سننه: حدثنا خديج بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن مرة، عن ابن مسعود قال: من أراد العلم فعليه بالقرآن. فإن فيه خبر الأولين والآخرين. قال البيهقي: أراد به أصول العلم. وقال الحسن البصري: أنزل الله مائة وأربعة كتب، أودع علومها أربعة: التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان. ثم أودع علوم الثلاثة الفرقان، ثم أودع علوم القرآن: المفصل، ثم أودع علوم المفصل: فاتحة الكتاب. فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير الكتب المنزلة. أخرجه البيهقي (في الشعب).
427

وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة، وجميع شرح السنة شرح للقرآن.
وقال بعض السلف: ما سمعت حديثا إلا التمست له آية من كتاب الله.
وقال سعيد بن جبير: ما بلغني حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله. أخرجه ابن أبي حاتم.
وقال ابن مسعود: إذا حدثتكم بحديث أنبأتكم بتصديقه من كتاب الله. أخرجه ابن أبي حاتم.
وقال ابن مسعود أيضا: أنزل في القرآن كل علم، وبين لنا فيه كل شيء، ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن. أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم.
وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لو أغفل شيئا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة).
وقال الشافعي أيضا: جميع ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن.
قلت: ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه، ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه) رواه بهذا اللفظ الطبراني في الأوسط من
حديث عائشة.
وقال الشافعي أيضا: ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا في كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها. فإن قيل: من الأحكام ما ثبت ابتداء بالسنة؟ قلنا: ذلك مأخوذ من كتاب الله في الحقيقة. لأن كتاب الله أوجب علينا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وفرض علينا الأخذ بقوله.
وقال الشافعي مرة بمكة: سلوني عما شئتم، أخبركم عنه من كتاب الله. فقيل له: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟ فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: * (ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) * وحدثنا سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة بن اليمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر). وحدثنا سفيان، عن مسعر بن كدام، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن عمر بن الخطاب: أنه أمر بقتل المحرم الزنبور.
428

وروى البخاري عن ابن مسعود قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيرات لخلق الله، فقالت له امرأة في ذلك. فقال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله. فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول؟ ا قال: لئن قرأتيه لقد وجدتيها أما قرأت * (ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) *؟ قالت: بلى. قال: فإنه قد نهى عنه.
وقال ابن برجان: ما قال النبي صلى الله عليه وسلم من شيء فهو في القرآن، أو فيه أصله قرب أو بعد، فهمه من فهم، أو عمه عنه من عمه، وكذا كل ما حكم أو قضى به.
وقال غيره: ما من شيء إلا يمكن استخراجه من القرآن لمن فهمه الله تعالى. حتى إن بعضهم استنبط عمر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا وستين من قوله (في سورة المنافقين): * (ولن يؤخر الله نفسا إذا جآء أجلهآ) * فإنها رأس ثلاث وستين سورة، وعقبها (بالتغابن) ليظهر التغابن في فقده.
وقال المرسي: جمع القرآن علوم الأولين والآخرين، بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به، ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم، خلا ما استأثر الله به سبحانه، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم. مثل الخلفاء الأربعة، ومثل ابن مسعود، وابن عباس حتى قال: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله. ثم ورث عنهم التابعون لهم بإحسان، ثم تقاصرت الهمم، وفترت العزائم، وتضاءل أهل العلم، وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه. فنوعوا علومه، وقامت كل طائفة بفن من فنونه.
فاعتنى قوم بضبط لغاته، وتحرير كلماته، ومعرفة مخارج حروفه وعددها، وعد كلماته وآياته، وسوره وأجزائه، وأنصافه وأرباعه، وعدد سجداته، إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهة، والآيات المتماثلة. من غير تعرض لمعانيه، ولا تدبر لما أودع فيه. فسموا القراء.
واعتنى النحاة بالمعرب منه والمبني من الأسماء والأفعال، والحروف العاملة وغيرها. وأوسعوا الكلام في الأسماء وتوابعها، وضروب الأفعال، واللازم والمتعدي، ورسوم خط الكلمات، وجميع ما يتعلق به. حتى إن بعضهم أعرب مشكله. وبعضهم أعربه كلمة كلمة.
429

واعتنى المفسرون بألفاظه، فوجدوا منه لفظا يدل على معنى واحد، ولفظا يدل على معنيين، ولفظا يدل على أكثر. فأجروا الأول على حكمه، وأوضحوا الخفي منه، وخاضوا إلى ترجيح أحد محتمالات ذي المعنيين أو المعاني، وأعمل كل منهم فكره، وقال بما اقتضاه نظره.
واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة العقلية، والشواهد الأصلية والنظرية. مثل قوله: * (لو كان فيهمآ آلهة إلا الله لفسدتا) *، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. فاستنبطوا منه أدلة على وحدانية الله ووجوده، وبقائه وقدمه، وقدرته وعلمه، وتنزيهه عما لا يليق به. وسموا هذا العلم ب (أصول الدين).
وتأملت طائفة معاني خطابه. فرأت منها ما يقتضي العموم، ومنها ما يقتضي الخصوص، إلى غير ذلك. فاستنبطوا منه أحكام اللغة من الحقيقة والمجاز، وتكلموا في التخصيص والإضمار، والنص والظاهر، والمجمل والمحكم والمتشابه، والأمر والنهي والنسخ، إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة، واستصحاب الحال والاستقراء. وسموا هذا الفن (أصول الفقه).
وأحكمت طائفة صحيح النظر، وصادق الفكر فيما فيه من الحلال والحرام، وسائر الأحكام، فأسسوا أصوله وفروعه، وبسطوا القول في ذلك بسطا حسنا. وسموه ب (علم الفروع) وب (الفقه أيضا).
وتلمحت طائفة ما فيه من قصص القرون السابقة، والأمم الخالية، ونقلوا أخبارهم، ودونوا آثارهم ووقائعهم. حتى ذكروا بدء الدنيا، وأول الأشياء: وسموا ذلك ب (التاريخ والقصص).
وتنبه آخرون لما فيه من الحكم والأمثال، والمواعظ التي تقلقل قلوب الرجال، وتكاد تدكدك الجبال. فاستنبطوا مما فيه من الوعد والوعيد، والتحذير والتبشير، وذكر الموت والمعاد، والنشر والحشر، والحساب والعقاب، والجنة والنار فصولا من المواعظ، وأصولا من الزواجر. فسموا بذلك (الخطباء والوعاظ).
واستنبط قوم مما فيه من أصول التعبير. مثل ما ورد في قصة يوسف: من البقرات السمان، وفي منامي صاحبي السجن، وفي رؤية الشمس والقمر والنجوم ساجدات، وسموه (تعبير الرؤيا). واستنبطوا تفسير كل رؤيا من الكتاب. فإن عز عليهم إخراجها
430

منه، فمن السنة التي هي شارحة الكتاب، فإن عسر فمن الحكم والأمثال. ثم نظروا إلى اصطلاح العوام في مخاطباتهم، وعرف عاداتهم الذي أشار إليه القرآن بقوله: * (وأمر بالعرف) *.
وأخذ قوم مما في آيات المواريث من ذكر السهام وأربابها، وغير ذلك (علم الفرائض) واستنبطوا منها من ذكر النصف والثلث، والربع والسدس والثمن (حساب الفرائض)، ومسائل العول. واستخرجوا منه أحكام الوصايا.
ونظر قوم إلى ما فيه الآيات الدالات على الحكم الباهرة في الليل والنهار، والشمس والقمر ومنازله، والنجوم والبروج، وغير ذلك فاستخرجوا (علم المواقيت).
ونظر الكتاب والشعراء إلى ما فيه من جزالة اللفظ وبديع النظم، وحسن السياق والمبادىء، والمقاطيع والمخالص والتلوين في الخطاب، والإطناب والإيجاز، وغير ذلك. فاستنبطوا منه (علم المعاني والبيان والبديع).
ونظر فيه أرباب الإشارات وأصحاب الحقيقة. فلاح لهم من ألفاظه معان ودقائق، جعلوا لها أعلاما اصطلحوا عليها، مثل الغناء والبقاء، والحضور والخوف والهيبة، والأنس والوحشة، والقبض والبسط، وما أشبه ذلك.
هذه الفنون التي أخذتها الملة الإسلامية منه.
وقد احتوى على علوم أخر من علوم الأوائل، مثل: الطب والجدل والهيئة، والهندسة والجبر، والمقابلة والنجامة، وغير ذلك.
أما الطب فمداره على حفظ نظام الصحة، واستحكام القوة. وذلك إنما يكون باعتدال المزاج تبعا للكيفيات المتضادة، وقد جمع ذلك في آية واحدة وهي قوله: * (وكان بين ذلك قواما) *.
وعرفنا فيه بما يعيد نظام الصحة بعد اختلاله، وحدوث الشفاء للبدن بعد اعتلاله في قوله: * (شراب مختلف ألوانه فيه شفآء للناس) *.
ثم زاد على طب الأجساد بطب القلوب، وشفاء الصدور.
وأما الهيئة ففي تضاعيف سوره من الآيات التي ذكر فيها من ملكوت السماوات والأرض، وما بث في العالم العلوي والسفلي من المخلوقات.
431

وأما الهندسة ففي قوله: * (انطلقوا إلى ظل ذى ثلاث شعب لا ظليل ولا يغنى من اللهب) * فإن فيه قاعدة هندسية، وهو أن الشكل المثلث لا ظل له.
وأما الجدل فقد حوت آياته من البراهين والمقدمات والنتائج، والقول بالموجب، والمعارضة، وغير ذلك شيئا كثيرا، ومناظرة إبراهيم أصل في ذلك عظيم.
وأما الجبر والمقابلة فقد قيل: إن أوائل السور ذكر عدد وأعوام وأيام لتواريخ أمم سالفة، وإن فيها تاريخ بقاء هذه الأمة، وتاريخ مدة الدنيا، وما مضى وما بقي، مضروبا بعضها في بعض.
وأما النجامة ففي قوله: * (أو أثارة من علم) * فقد فسره ابن عباس بذلك.
وفيه من أصول الصنائع، وأسماء الآلات التي تدعو الضرورة إليها فمن الصنائع الخياطة في قوله: * (وطفقا يخصفان) *. والحدادة في قوله تعالى: * (ءاتونى زبر الحديد) *، وقوله: * (وألنا له الحديد) *. والبناء في آيات، والنجارة * (أن اصنع الفلك) *، والغزل * (نقضت غزلها) *، والنسج * (كمثل العنكبوت اتخذت بيتا) *، والفلاحة * (أفرءيتم ما تحرثون) * في آيات أخر، والصيد في آيات، والغوص * (والشياطين كل بنآء وغواص) *، * (وتستخرجون حلية) *، والصياغة * (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا) *، والزجاجة * (صرح ممرد من قوارير) *، * (المصباح فى زجاجة) *، والفخارة * (فأوقد لى ياهامان على الطين) *، والملاحة * (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون فى البحر) *، والكتابة * (علم بالقلم) * في آيات أخر، والخبز والطحن * (أحمل فوق رأسى خبزا تأكل الطير منه) *، والطبخ * (بعجل حنيذ) *، والغسل والقصارة * (وثيابك فطهر) *، * (قال الحواريون) * وهم القصارون، والجزارة * (إلا ما ذكيتم) *، والبيع والشراء في آيات كثيرة، والصبغ * (صبغة الله) *، * (جدد بيض وحمر) *، والحجارة * (وتنحتون من الجبال بيوتا) *، والكيالة والوزن
432

في آيات كثيرة، والرمي * (وما رميت إذ رميت) *، * (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) *.
وفيه من أسماء الآلات، وضروب المأكولات والمشروبات والمنكوحات، وجميع ما وقع ويقع في الكائنات ما يحقق معنى قوله: * (ما فرطنا فى الكتاب من شىء) * انتهى كلام المرسي ملخصا مع زيادات.
قلت: قد اشتمل كتاب الله على كل شيء. أما أنواع العلوم فليس منها باب ولا مسألة هي أصل، إلا وفي القرآن ما يدل عليها. وفيه علم عجائب المخلوقات، وملكوت السماوات والأرض، وما في الأفق الأعلى، وما تحت الثرى، وبدء الخلق، وأسماء مشاهير الرسل والملائكة، وعيون أخبار الأمم السالفة. كقصة آدم مع إبليس في إخراجه من الجنة، وفي الولد الذي سماه عبد الحارث، ورفع إدريس وإغراق قوم نوح، وقصة عاد الأولى والثانية، وثمود، والناقة، وقوم لوط، وقوم شعيب الأولين والآخرين فإنه أرسل مرتين. وقوم تبع، ويونس، وإلياس، وأصحاب الرس، وقصة موسى في ولادته وفي إلقائه في اليم، وقتله القبطي، ومسيره إلى مدين وتزوجه ابنة شعيب، وكلامه تعالى بجانب الطور، وبعثه إلى فرعون، وخروجه وإغراق عدوه، وقصة العجل، والقوم الذين خرج بهم وأخذتهم الصعقة، وقصة القتال وذبح البقرة، وقصته في قتال الجبارين، وقصته مع الخضر والقوم الذين ساروا في سرب من الأرض إلى الصين، وقصة طالوت وداود مع جالوت وقتله، وقصة سليمان وخبره مع ملكة سبأ وفتنته، وقصة القوم الذين خرجوا فرارا من الطاعون فأماتهم الله ثم أحياهم، وقصة إبراهيم في مجادلته قومه، ومناظرته النمروذ، ووضعه إسماعيل مع أمه بمكة، وبنائه البيت، وقصة الذبيح، وقصة يوسف وما أبسطها، وقصة مريم وولادتها عيسى وإرساله ورفعه، وقصة زكريا وابنه يحيى، وأيوب وذي الكفل، وقصة ذي القرنين ومسيره إلى مطلع الشمس ومغربها وبنائه السد، وقصة أصحاب الكهف والرقيم، وقصة بختنصر، وقصة الرجلين اللذين لأحدهما الجنة،
وقصة أصحاب الجنة الذين أقسموا ليصر منها مصبحين، وقصة مؤمن آل فرعون، وقصة أصحاب الفيل، وقصة الجبار الذي أراد أن يصعد إلى السماء. وفيه من شأن النبي صلى الله عليه وسلم دعوة إبراهيم به، وبشارة عيسى وبعثه وهجرته. ومن غزواته: غزوة بدر (في سورة الأنفال) وأحد (في آل عمران) وبدر الصغرى فيها، والخندق (في الأحزاب)، والنضير (في الحشر)، والحديبية (في الفتح)، وتبوك (في
433

براءة)، وحجة الوداع (في المائدة)، ونكاحه زينب بنت جحش، وتحريم سريته، وتظاهر أزواجه عليه، وقصة الإفك، وقصة الإسراء، وانشقاق القمر، وسحر اليهود إياه.
وفيه بدء خلق الإنسان إلى موته، وكيفية الموت، وقبض الروح وما يفعل بها بعد صعودها إلى السماء، وفتح الباب للمؤمنة وإلقاء الكافرة، وعذاب القبر والسؤال فيه، ومقر الأرواح، وأشراط الساعة الكبرى العشرة، وهي:
نزول عيسى، وخروج الدجال، ويأجوج ومأجوج، والدابة، والدخان، ورفع القرآن، وطلوع الشمس من مغربها، وإغلاق باب التوبة، والخسف.
وأحوال البعث: من نفخة الصور، والفزع، والصعق، والقيام، والحشر والنشر، وأهوال الموقف، وشدة حر الشمس، وظل العرش، والصراط، والميزان، والحوض، والحساب لقوم، ونجاة آخرين منه، وشهادة الأعضاء، وإيتاء الكتب بالأيمان والشمائل وخلف الظهور، والشفاعة، والجنة وأبوابها، وما فيها من الأشجار والثمار والأنهار، والحلي والألوان، والدرجات، ورؤيته تعالى، والنار وما فيها من الأودية، وأنواع العقاب، وألوان العذاب، والزقوم والحميم، إلى غير ذلك مما لو بسط جاء في مجلدات.
وفي القرآن جميع أسمائه تعالى الحسنى كما ورد في حديث. وفيه من أسمائه مطلقا ألف اسم، وفيه من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم جملة.
وفيه شعب الإيمان البضع والسبعون.
وفيه شرائع الإسلام الثلاثمائة وخمس عشرة.
وفيه أنواع الكبائر وكثير من الصغائر.
وفيه تصديق كل حديث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم هذه جملة القول في ذلك اه كلام السيوطي (في الإكليل).
وإنما أوردناه برمته مع طوله. لما فيه من إيضاح: أن القرآن فيه بيان كل شيء. وإن كانت في الكلام المذكور أشياء جديرة بالانتقاد تركنا مناقشتها خوف الإطالة المملة، مع كثرة الفائدة في الكلام المذكور في الجملة.
وفي قوله تعالى: * (تبيانا لكل شىء) * وجهان من الإعراب:
أحدهما أنه مفعول من أجله. والثاني أنه مصدر منكر واقع حالا. على حد قوله في الخلاصة:
434

أحدهما أنه مفعول من أجله. والثاني أنه مصدر منكر واقع حالا. على حد قوله في الخلاصة:
* ومصدر منكر حالا يقع
* بكثرة كبغتة زيد طلع
*
تنبيه
أظهر القولين: أن التبيان مصدر، ولم يسمع كسر تاء التفعال مصدرا إلا في التبيان والتلقاء. وقال بعض أهل العلم: التبيان اسم لا مصدر. قال أبو حيان (في البحر): والظاهر أن (تبيانا) مصدر جاء على تفعال، وإن كان باب المصادر يجيء على تفعال (بالفتح) كالترداد والتطواف. ونظير تبيان في كسر تائه: تلقاء، وقد جوز الزجاج فتحه في غير القرآن. وقال ابن عطية: (تبيانا) اسم وليس بمصدر. وهو قول أكثر النحاة. وروى ثعلب عن الكوفيين، والمبرد عن البصريين: أنه مصدر، ولم يجئ على تفعال من المصادر إلا ضربان: تبيان وتلقاء اه والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن هذا القرآن العظيم هدى ورحمة وبشرى للمسلمين. ويفهم من دليل خطاب هذه الآية الكريمة أي مفهوم مخالفتها: أن غير المسلمين ليسوا كذلك. وهذا المفهوم من هذه الآية صرح به جل وعلا في مواضع أخر. كقوله: * (قل هو للذين ءامنوا هدى وشفآء والذين لا يؤمنون فىءاذانهم وقر وهو عليهم عمى) *، وقوله: * (وننزل من القرءان ما هو شفآء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) *، وقوله جل وعلا: * (وإذا مآ أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هاذه إيمانا فأما الذين ءامنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين فى قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) *، وقوله: * (وليزيدن كثيرا منهم مآ أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا) * في الموضعين. قوله تعالى: * (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتآء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم تذكرون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن يأمر خلقه بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى. وأنه ينهاهم عن الفحشاء والمنكر والبغي. لأجل أن يتعظوا بأوامره ونواهيه، فيمتثلوا أمره، ويجتنبوا نهيه. وحذف مفعول (يأمر)، (وينهي) لقصد التعميم.
ومن الآيات التي أمر فيها بالعدل قوله تعالى: * (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا
435

تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) *، وقوله: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الاحمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به) *.
ومن الآيات التي أمر فيها بالإحسان قوله تعالى: * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) *، وقوله: * (وبالوالدين إحسانا) *، وقوله: * (وأحسن كمآ أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد فى الا رض) *، وقوله: * (وقولوا للناس حسنا) * وقوله: * (ما على المحسنين من سبيل) *.
ومن الآيات التي أمر فيها بإيتاء ذي القربى قوله تعالى: * (فأات ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولائك هم المفلحون) *، وقوله * (وءات ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا) * وقوله: * (وءاتى المال على حبه ذوى القربى) *، وقوله: * (أو إطعام فى يوم ذى مسغبة يتيما ذا مقربة) *، إلى غير ذلك من الآيات.
ومن الآيات التي نهى فيها عن الفحشاء والمنكر والبغي قوله: * (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن) *، وقوله: * (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغى بغير الحق) *، وقوله: * (وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون) * والمنكر وإن لم يصرح باسمه في هذه الآيات، فهو داخل فيها.
ومن الآيات التي جمع فيها بين الأمر بالعدل والتفضل بالإحسان قوله: * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) * فهذا عدل، ثم دعا إلى الإحسان بقوله: * (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) * وقوله * (وجزآء سيئة سيئة مثلها) * فهذا عدل. ثم دعا إلى الإحسان بقوله * (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) *.
وقوله: * (والجروح قصاص) * فهذا عدل. ثم دعا إلى الإحسان بقوله * (فمن تصدق به فهو كفارة له) *، وقوله * (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولائك ما
436

عليهم من سبيل) *، فهذا عدل. ثم دعا إلى الإحسان بقوله: * (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الا مور) *، وقوله * (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) * فهذا عدل. ثم دعا إلى الإحسان بقوله: * (إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا) * إلى غير ذلك من الآيات.
فإذا عرفت هذا، فاعلم أن العدل في اللغة: القسط والإنصاف، وعدم الجور. وأصله التوسط بين المرتبتين. أي الإفراط والتفريط. فمن جانب الإفراط والتفريط فقد عدل. والإحسان مصدر أحسن، وهي تستعمل متعدية بالحرف نحو: أحسن إلى والديك. ومنه قول تعالى عن يوسف: * (وقد أحسن بى إذ أخرجنى من السجن) *. وتستعمل متعدية بنفسها. كقولك: أحسن العامل عمله، أي أجاده وجاء به حسنا. والله جل وعلا يأمر بالإحسان بمعنييه المذكورين، فهما داخلان في الآية الكريمة، لأن الإحسان إلى عباد الله لوجه الله عمل أحسن فيه صاحبه. وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان في حديث جبريل بقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه. فإن لم تكن تراه فإنه يراك). وقد قدمنا إيضاح ذلك (في سورة هود).
فإذا عرفت هذا، فاعلم أن أقوال المفسرين في الآية الكريمة راجعة في الجملة إلى ما ذكرنا. كقول ابن عباس: العدل: لا إله إلا الله، والإحسان: أداء الفرائض. لأن عبادة الخالق دون المخلوق هي عين الإنصاف والقسط، وتجنب التفريط والإفراط. ومن أدى فرائض الله على الوجه الأكمل فقد أحسن. ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي حلف لا يزيد على الواجبات: (أفلح إن صدق). وكقول سفيان: العدل: استواء العلانية والسريرة. والإحسان: أن تكون السريرة أفضل من العلانية. وكقول علي رضي الله عنه: العدل: الإنصاف. والإحسان: التفضل. إلى غير ذلك من أقوال السلف. والعلم عند الله تعالى: وقوله * (يعظكم لعلكم تذكرون) *. الوعظ: الكلام الذي تلين له القلوب.
تنبيه
فإن قيل: يكثر في القرآن إطلاق الوعظ على الأوامر والنواهي. كقوله هنا * (يعظكم لعلكم تذكرون) * مع أنه ما ذكر إلا الأمر والنهي في قوله: * (إن الله
437

يأمر بالعدل) * إلى قوله * (وينهى عن الفحشاء) *، وكقوله في (سورة البقرة) بعد أن ذكر أحكام الطلاق والرجعة: * (ذالك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الا خر) *، وقوله (في الطلاق) في نحو ذلك أيضا: * (ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الا خر) *. وقوله في النهي عن مثل قذف عائشة: * (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا) *. مع أن المعروف عند الناس: أن الوعظ يكون بالترغيب والترهيب ونحو ذلك، لا بالأمر والنهي.
فالجواب أن ضابط الوعظ: هو الكلام الذي تلين له القلوب، وأعظم ما تلين له قلوب العقلاء أوامر ربهم نواهيه. فإنهم إذا سمعوا الأمر خافوا من سخط الله في عدم امتثاله، وطمعوا فيما عند الله من الثواب في امتثاله. وإذا سمعوا النهي خافوا من سخط الله في عدم اجتنابه، وطمعوا فيما عنده من الثواب في اجتنابه. فحداهم حادي الخوف والطمع إلى الامتثال، فلانت قلوبهم للطاعة خوفا وطمعا. والفحشاء في لغة العرب: الخصلة المتناهية في القبح. ومنه قيل لشديد البخل: فاحش. كما في قول طرفة في معلقته: فالجواب أن ضابط الوعظ: هو الكلام الذي تلين له القلوب، وأعظم ما تلين له قلوب العقلاء أوامر ربهم نواهيه. فإنهم إذا سمعوا الأمر خافوا من سخط الله في عدم امتثاله، وطمعوا فيما عند الله من الثواب في امتثاله. وإذا سمعوا النهي خافوا من سخط الله في عدم اجتنابه، وطمعوا فيما عنده من الثواب في اجتنابه. فحداهم حادي الخوف والطمع إلى الامتثال، فلانت قلوبهم للطاعة خوفا وطمعا. والفحشاء في لغة العرب: الخصلة المتناهية في القبح. ومنه قيل لشديد البخل: فاحش. كما في قول طرفة في معلقته:
* أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي
* عقيلة مال الفاحش المتشدد
*
والمنكر اسم مفعول أنكر. وهو في الشرع: ما أنكره الشرع ونهى عنه، وأوعد فاعله العقاب. والبعي: الظلم.
وقد بين تعالى: أن الباغي يرجع ضرر بغيه على نفسه في قوله: * (ياأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم) *، وقوله: * (ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله) *. وقوله: * (ذى القربى) *. أي صاحب القرابة من جهة الأب أو الأم، أو هما معا. لأن إيتاء ذي القربى صدقة وصلة رحم. والإيتاء: الإعطاء. وأحد المفعولين محذوف. لأن المصدر أضيف إلى المفعول الأول وحذف الثاني. والأصل وإيتاء صاحب القرابة. كقوله: * (وءاتى المال على حبه ذوى القربى) *. قوله تعالى: * (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم) *. أمر جل وعلا في هذه الآية الكريمة عباده أن يوفوا بعهد الله إذا عاهدوا. وظاهر الآية أنه شامل لجميع العهود فيما بين العبد وربه، وفيما بينه وبين الناس. وكرر هذا في مواضع أخر. كقوله (في الأنعام) * (وبعهد
438

الله أوفوا ذالكم وصاكم به) *، وقوله في (الإسراء): * (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا) *. وقد قدمنا هذا (في الأنعام).
وبين في مواضع أخر: أن من نقض العهد إنما يضر بذلك نفسه، وأن من أوفى به يؤتيه الله الأجر العظيم على ذلك. وذلك في قوله: * (فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما) *. وبين في مواضع آخر: أن نقض الميثاق يستوجب اللعن. وذلك في قوله: * (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم) *. قوله تعالى: * (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن ما عنده من نعيم الجنة باق لا يفنى. وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله: * (عطآء غير مجذوذ) *، وقوله: * (إن هاذا لرزقنا ما له من نفاد) *، وقوله: * (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) *. أقسم جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه سيجزي الذين صبروا أجرهم أي جزاء عملهم بأحسن ما كانوا يعلمون.
وبين في مواضع آخر: أنه جزاء بلا حساب. كما في قوله: * (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) *.
تنبيه
استنبط بعض العلماء من هذه الآية الكريمة: أن فعل المباح حسن. لأن قوله في هذه الآية * (بأحسن ما كانوا يعملون) * صيغة تفضيل تدل على المشاركة، والواجب أحسن من المندوب، والمندوب أحسن من المباح. فيجازون بالأحسن الذي هو الواجب والمندوب، دون مشاركهما في الحسن وهو المباح. وعليه درج في مراقي السعود في قوله: بأحسن ما كانوا يعملون) * صيغة تفضيل تدل على المشاركة، والواجب أحسن من المندوب، والمندوب أحسن من المباح. فيجازون بالأحسن الذي هو الواجب والمندوب، دون مشاركهما في الحسن وهو المباح. وعليه درج في مراقي السعود في قوله:
* ما ربنا لم ينه عنه حسن
* وغيره القبيح والمستهجن
*
إلا أن الحسن ينقسم إلى حسن وأحسن. ومن ذلك قوله تعالى لموسى * (فخذها
439

بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) *. فالجزاء المنصوص عليه في قوله: * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) * حسن. والصبر المذكور في قوله: * (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) * أحسن. وهكذا. وقرأ هذا الحرف ابن كثير وعاصم وابن ذكوان بخلف عنه (ولنجزين) بنون العظمة. وقرأه الباقون بالياء، وهو الطريق الثاني لابن ذكوان. * (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حيواة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون * فإذا قرأت القرءان فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم * إنه ليس له سلطان على الذين ءامنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون * وإذا بدلنآ ءاية مكان ءاية والله أعلم بما ينزل قالوا إنمآ أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون) * قوله تعالى: * (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حيواة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن كل عامل سواء كان ذكرا أو أنثى عمل عملا صالحا فإنه جل وعلا يقسم ليحيينه حياة طيبة، وليجزينه أجره بأحسن ما كان يعمل.
اعلم أولا أن القرآن العظيم دل على أن العمل الصالح هو ما استكمل ثلاثة أمور:
الأول موافقته لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. لأن الله يقول: * (ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) *.
الثاني أن يكون خالصا لله تعالى. لأن الله جل وعلا يقول: * (ومآ أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) *، * (قل الله أعبد مخلصا له دينى فاعبدوا ما شئتم من دونه) *.
الثالث أن يكون مبنيا على أساس العقيدة الصحيحة. لأن الله يقول: * (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن) * فقيد ذلك بالإيمان، ومفهوم مخالفته أنه لو كان غير مؤمن لما قبل منه ذلك العمل الصالح.
وقد أوضح جل وعلا هذا المفهوم في آيات كثيرة، كقوله في عمل غير المؤمن: * (وقدمنآ إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هبآء منثورا) *، وقوله: * (أولائك الذين ليس لهم فى الا خرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) *، وقوله: * (أعمالهم كسراب بقيعة) *، وقوله: * (أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف) *، إلى غير ذلك من الآيات.
واختلف العلماء في المراد بالحياة الطيبة في هذه الآية الكريمة.
فقال قوم: لا تطيب الحياة إلا في الجنة، فهذه الحياة الطيبة في الجنة. لأن الحياة
440

الدنيا لا تخلو من المصائب والأكدار، والأمراض والآلام والأحزان، ونحو ذلك. وقد قال تعالى: * (وإن الدار الا خرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون) *. والمراد بالحيوان: الحياة.
وقال بعض العلماء: الحياة الطيبة في هذه الآية الكريمة في الدنيا، وذلك بأن يوفق الله عبده إلى ما يرضيه، ويرزقه العافية والرزق الحلال. كما قال تعالى: * (ربنآ ءاتنا فى الدنيا حسنة وفي الا خرة حسنة وقنا عذاب النار) *.
قال مقيده عفا الله عنه: وفي الآية الكريمة قرينة تدل على أن المراد بالحياة الطيبة في الآية: حياته في الدنيا حياة طيبة. وتلك القرينة هي أننا لو قدرنا أن المراد بالحياة الطيبة: حياته في الجنة في قوله: * (فلنحيينه حيواة طيبة) * صار قوله: * (ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) * تكرارا معه. لأن تلك الحياة الطيبة هي أجر عملهم. بخلاف ما لو قدرنا أنها في الحياة الدنيا. فإنه يصير المعنى: فلنحيينه في الدنيا حياة طيبة، ولنجزينه في الآخرة بأحسن ما كان يعمل، وهو واضح.
وهذا المعنى الذي دل عليه القرآن تؤيده السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت. وقد روي عن ابن عباس وجماعة: أنهم فسروها بالرزق الحلال الطيب. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه فسرها بالقناعة، وكذا قال ابن عباس وعكرمة، ووهب بن منبه إلى أن قال وقال الضحاك: هي الرزق الحلال، والعبادة في الدنيا. وقال الضحاك: هي الرزق الحلال، والعبادة في الدنيا. وقال الضحاك أيضا هي العمل بالطاعة والانشراح بها.
والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله. كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، حدثني شرحبيل بن شريك، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قد أفلح من أسلم ورزق كفافا، وقنعه الله بما آتاه). ورواه مسلم من حديث عبد الله بن يزيد المقرى به. وروى الترمذي والنسائي من حديث أبي هانيء. عن أبي علي الجنبي، عن فضالة بن عبيد: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قد أفلح من هدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافا وقنع به) وقال الترمذي: هذا حديث صحيح.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا همام عن يحيى عن قتادة عن أنس بن
441

مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة. وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيرا) انفرد بإخراجه مسلم اه من ابن كثير.
وهذه الأحاديث ظاهرة في ترجيح القول: بأن الحياة الطيبة في الدنيا. لأن قوله صلى الله عليه وسلم: (أفلح) يدل على ذلك لأن من نال الفلاح نال حياة طيبة. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (يعطى بها في الدنيا) يدل على ذلك أيضا. وابن كثير إنما ساق الأحاديث المذكورة لينبه على أنها ترجح القول المذكور. والعلم عند الله تعالى.
وقد تقرر في الأصول: أنه إذا دار الكلام بين التوكيد والتأسيس رجح حمله على التأسيس: وإليه أشار في مراقي السعود جامعا له مع نظائر يجب فيها تقديم الراجح من الاحتمالين بقوله: وقد تقرر في الأصول: أنه إذا دار الكلام بين التوكيد والتأسيس رجح حمله على التأسيس: وإليه أشار في مراقي السعود جامعا له مع نظائر يجب فيها تقديم الراجح من الاحتمالين بقوله:
* كذاك ما قابل ذا اعتلال
* من التأصل والاستقلال
*
* ومن تأسس عموم وبقا
* الأفراد والإطلاق مما ينتقي
*
* كذاك ترتيب لإيجاب العمل
* بماله الرجحان مما يحتمل
*
ومعنى كلام صاحب المراقي: أنه يقدم محتمل اللفظ الراجح على المحتمل المرجوح، كالتأصل، فإنه يقدم على الزيادة: نحو: * (ليس كمثله شىء) * يحتمل كون الكاف زائدة، ويحتمل أنها غير زائدة. والمراد بالمثل الذات. كقول العرب: مثلك لا يفعل هذا. يعنون أنت لا ينبغي لك أن تفعل هذا. فالمعنى: ليس كالله شيء. ونظيره من إطلاق المثل وإرادة الذات * (وشهد شاهد من بنى إسراءيل على مثله) * أي على نفس القرآن لا شيء آخر مماثل له، وقوله: * (مثله في الظلمات ليس) * أي كمن هو في الظلمات. وكالاستقلال، فإنه يقدم على الإضمار. كقوله تعالى: * (أن يقتلوا أو يصلبوا) *. فكثير من العلماء يضمرون قيودا غير مذكورة فيقولون: أن يقتلو إذا قتلوا، أو يصلبوا إذا قتلوا وأخذوا المال، أو تقطع أيديهم وأرجلهم إذا أخذوا المال ولم يقتلوا.. الخ.
فالمالكية يرجحون أن الإمام مخير بين المذكورات مطلقا. لأن استقلال اللفظ أرجح من إضمار قيود غير مذكورة. لأن الأصل عدمها حتى تثبت بدليل. كما أشرنا إليه سابقا (في المائدة) وكذلك التأسيس يقدم على التأكيد وهو محل الشاهد. كقوله: * (فبأى
442

ءالاء ربكما تكذبان) * (في سورة الرحمن)، وقوله: * (ويل يومئذ للمكذبين) * (في المرسلات). قيل: تكرار اللفظ فيهما توكيد، وكونه تأسيسا أرجح لما ذكرنا. فتحمل الآلاء في كل موضع على ما تقدم. قيل: لفظ ذلك التكذيب فلا يتكرر منها لفظ. وكذا يقال (في سورة المرسلات) فيحمل على المكذبين بما ذكر، قيل كل لفظ الخ. فإذا علمت ذلك فاعلم أنا إن حملنا الحياة الطيبة في الآية على الحياة الدنيا كان ذلك تأسيسا. وإن حملناها على حياة الجنة تكرر ذلك مع قوله بعده: * (ولنجزينهم أجرهم) *. لأن حياة الجنة الطيبة هي أجرهم الذي يجزونه.
وقال أبو حيان (في البحر): والظاهر من قوله تعالى: * (فلنحيينه حيواة طيبة) * أن ذلك في الدنيا. وهو قول الجمهور. ويدل عليه قوله * (ولنجزينهم أجرهم) * يعني في الآخرة.
قوله تعالى: * (فإذا قرأت القرءان فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) *. أظهر القولين في هذه الآية الكريمة: أن الكلام على حذف الإرادة. أي فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله.. الآية. وليس المراد أنه إذا قرأ القرآن وفرغ من قراءته استعاذ بالله من الشيطان كما يفهم من ظاهر الآية، وذهب إليه بعض أهل العلم. والدليل على ما ذكرنا تكرر حذف الإرادة في القرآن وفي كلام العرب لدلالة المقام عليها. كقوله: * (ياأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلواة) *، أي أردتم القيام إليها كما هو ظاهر. وقوله: * (إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم) *. أي إذ أردتم أن تتناجوا فلا تتناجوا بالإثم. لأن النهي إنما هو عن أمر مستقبل يراد فعله، ولا يصح النهي عن فعل مضى وانقضى كما هو واضح.
وظاهر هذه الآية الكريمة: أن الاستعاذة من الشيطان الرجيم واجبة عند القراءة. لأن صيغة افعل للوجوب كما تقرر في الأصول.
وقال كثير من أهل العلم: إن الأمر في الآية للندب والاستحباب، وحكى عليه الإجماع أبو جعفر بن جرير وغيره من الأئمة، وظاهر الآية أيضا: الأمر بالاستعاذة عند القراءة في الصلاة لعموم الآية. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (إنه ليس له سلطان على الذين ءامنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما
443

سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الشيطان ليس له سلطان على المؤمنين المتوكلين على الله، وأن سلطانه إنما هو على أتباعه الذين يتولونه، والذين هم به مشركون.
وبين هذا المعنى في غير هذا الموضع، كقوله: * (إن عبادى ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) *، وقوله: * (لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) *، وقوله: * (إن عبادى ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا) *، وقوله: * (وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالا خرة ممن هو منها فى شك) *، وقوله: * (وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى) *.
واختلف العلماء في معنى السلطان في هذه الآية.
فقال أكثر أهل العلم: هو الحجة، أي ليس للشيطان عليهم حجة فيما يدعوهم إليه من عبادة الأوثان.
وقال بعضهم: ليس له سلطان عليهم. أي تسلط وقدرة على أن يوقعهم في ذنب لا توبة منه. وقد قدمنا هذا. والمراد: ب * (الذين يتولونه) * الذين يطيعونه فيوالونه بالطاعة.
وأظهر الأقوال في قوله: * (هم به مشركون) * أن الضمير عائد إلى الشيطان لا إلى الله. ومعنى كونهم مشركين به هو طاعتهم له في الكفر والمعاصي. كما يدل عليه قوله تعالى: * (ألم أعهد إليكم يابنىءادم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين) *، وقوله عن إبراهيم: * (ياأبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان) * إلى غير ذلك من الآيات. وأما سلطانه على الذين يتولونه فهو ما جعلوه له على أنفسهم من الطاعة والاتباع والموالاة، بغير موجب يستوجب ذلك.
تنبيه
فإنه قيل: أثبت الله للشيطان سلطانا على أوليائه في آيات. كقوله هنا * (إنما سلطانه
444

على الذين يتولونه) *، وقوله: * (إن عبادى ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) * فالاستثناء يدل على أن له سلطانا على من اتبعه من الغاوين: مع أنه نفى عنه السلطان عليهم في آيات أخر. كقوله: * (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين وما كان له عليهم من سلطان) *.
وقوله تعالى حاكيا عنه مقررا له: * (فأخلفتكم وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى) *.
فالجواب هو: أن السلطان الذي أثبته له عليهم غير السلطان الذي نفاه، وذلك من وجهين:
الأول أن السلطان المثبت له هو سلطان إضلاله لهم بتزيينه، والسلطان المنفي هو سلطان الحجة. فلم يكن لإبليس عليهم من حجة يتسلط بها، غير أنه دعاهم فأجابوه بلا حجة ولا برهان. وإطلاق السلطان على البرهان كثير في القرآن.
الثاني أن الله لم يجعل له عليهم سلطانا ابتداء البتة، ولكنهم هم الذين سلطوه على أنفسهم بطاعاته ودخولهم في حزبه، فلم يتسلط عليهم بقوة. لأن الله يقول: * (إن كيد الشيطان كان ضعيفا) *. وإنما تسلط عليهم بإرادتهم واختيارهم.
ذكر هذا الجواب بوجهيه العلامة ابن القيم رحمه الله. وقد بينا هذا في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب). قوله تعالى: * (وإذا بدلنآ ءاية مكان ءاية والله
أعلم بما ينزل قالوا إنمآ أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه إذا بدل آية مكان آية، بأن نسخ آية أو أنساها، وأتى بخير منها أو مثلها أن الكفار يجعلون ذلك سببا للطعن في الرسول صلى الله عليه وسلم. بادعاء أنه كاذب على الله، مفتر عليه. زعما منهم أن نسخ الآية بالآية يلزمه البداء، وهو الرأي المجدد، وأن ذلك مستحيل على الله. فيفهم عندهم من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم مفتر على الله، زاعمين أنه لو كان من الله لأقره وأثبته، ولم يطرأ له فيه رأي متجدد حتى ينسخه.
والدليل على أن قوله: * (بدلنآ ءاية مكان ءاية) * معناه: نسخنا آية وأنسيناها قوله تعالى: * (ما ننسخ من ءاية أو ننسها) *، وقوله: * (سنقرئك فلا
445

تنسى إلا ما شآء الله) * أي أن تنساه.
والدليل على أنه إن نسخ آية أو أنساها، لا بد أن يأتي ببدل خبر منها أو مثلها قوله تعالى: * (نأت بخير منها أو مثلها) *، وقوله هنا * (بدلنآ ءاية مكان ءاية) *.
وما زعمه المشركون واليهود: من أن النسخ مستحيل على الله لأنه يلزمه البداء، وهو الرأي المتجدد ظاهر السقوط، واضح البطلان لكل عاقل. لأن النسخ لا يلزمه البداء البتة، بل الله جل وعلا يشرع الحكم وهو عالم بأن مصلحته ستنقضي في الوقت المعين، وأنه عند ذلك الوقت ينسخ ذلك الحكم ويبدله بالحكم الجديد الذي فيه المصلحة. فإذا جاء ذلك الوقت المعين أنجز جل وعلا ما كان في علمه السابق من نسخ ذلك الحكم، الذي زالت مصلحته بذلك الحكم الجديد الذي فيه المصلحة. كما أن حدوث المرض بعد الصحة وعكسه، وحدوث الغنى بعد الفقر وعكسه، ونحو ذلك لا يلزم فيه البداء. لأن الله عالم بأن حكمته الإلهية تقتضي ذلك التغيير في وقته المعين له، على وفق ما سبق في العلم الأزلي كما هو واضح.
وقد أشار جل وعلا إلى علمه بزوال المصلحة من المنسوخ، وتمحضها في الناسخ بقوله هنا: * (والله أعلم بما ينزل) * وقوله: * (نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) *، وقوله: * (سنقرئك فلا تنسى إنه يعلم الجهر وما يخفى) * فقوله: * (إنه يعلم الجهر وما يخفى) * بعد قوله: * (إلا ما شآء الله) * يدل على أنه أعلم بما ينزل. فهو عالم بمصلحة الإنساء، ومصلحة تبديل الجديد من الأول المنسي.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة:
المسألة الأولى لا خلاف بين المسلمين في جواز النسخ عقلا وشرعا، ولا في وقوعه فعلا، ومن ذكر عنه خلاف في ذلك كأبي مسلم الأصفهاني فإنه إنما يعني أن النسخ تخصيص لزمن الحكم بالخطاب الجديد. لأن ظاهر الخطاب الأول استمرار الحكم في جميع الزمن. والخطاب الثاني دل على تخصيص الحكم الأول بالزمن الذي قبل النسخ. فليس النسخ عنده رفعا للحكم الأول. وقد أشار إليه في مراقي السعود بقوله في تعريف النسخ:
446

المسألة الأولى لا خلاف بين المسلمين في جواز النسخ عقلا وشرعا، ولا في وقوعه فعلا، ومن ذكر عنه خلاف في ذلك كأبي مسلم الأصفهاني فإنه إنما يعني أن النسخ تخصيص لزمن الحكم بالخطاب الجديد. لأن ظاهر الخطاب الأول استمرار الحكم في جميع الزمن. والخطاب الثاني دل على تخصيص الحكم الأول بالزمن الذي قبل النسخ. فليس النسخ عنده رفعا للحكم الأول. وقد أشار إليه في مراقي السعود بقوله في تعريف النسخ:
* رفع لحكم أو بيان الزمن
* بمحكم القرآن أو بالسنن
*
وإنما خالف فيه اليهود وبعض المشركين، زاعمين أنه يلزمه البداء كما بينا. ومن هنا قالت اليهود: إن شريعة موسى يستحيل نسخها.
المسألة الثانية لا يصح نسخ حكم شرعي إلا بوحي من كتاب أو سنة. لأن الله جل وعلا يقول: * (وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقآءنا ائت بقرءان غير هاذآ أو بدله قل ما يكون لى أن أبدله من تلقآء نفسى إن أتبع إلا ما يوحى إلى إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم) * وبه تعلم أن النسخ بمجرد العقل ممنوع، وكذلك لا نسخ بالإجماع. لأن الإجماع لا ينعقد إلا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم: لأنه ما دام حيا فالعبرة بقوله وفعله وتقريره صلى الله عليه وسلم، ولا حجة معه في قول الأمة، لأن اتباعه فرض على كل أحد ولذا لا بد في تعريف الإجماع من التقييد بكونه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، كما قال صاحب المراقي في تعريف الإجماع:، كما قال صاحب المراقي في تعريف الإجماع:
* وهو الاتفاق من مجتهدي
* الأمة من بعد وفاة أحمد
*
وبعد وفاته ينقطع النسخ. لأنه تشريع، ولا تشريع البتة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وإلى كون العقل والإجماع لا يصح النسخ بمجردهما أشار في مراقي السعود أيضا بقوله في النسخ:، وإلى كون العقل والإجماع لا يصح النسخ بمجردهما أشار في مراقي السعود أيضا بقوله في النسخ:
* فلم يكن بالعقل أو مجرد
* الإجماع بل ينمى إلى المستند
*
وقوله (بل ينمى إلى المستند) يعني أنه إذا وجد في كلام العلماء أن نصا منسوخ بالإجماع، فإنهم إنما يعنون أنه منسوخ بالنص الذي هو مستند الإجماع، لا بنفس الإجماع. لما ذكرنا من منع النسخ به شرعا. وكذلك لا يجوز نسخ الوحي بالقياس على التحقيق، وإليه أشار في المراقي بقوله: وقوله (بل ينمى إلى المستند) يعني أنه إذا وجد في كلام العلماء أن نصا منسوخ بالإجماع، فإنهم إنما يعنون أنه منسوخ بالنص الذي هو مستند الإجماع، لا بنفس الإجماع. لما ذكرنا من منع النسخ به شرعا. وكذلك لا يجوز نسخ الوحي بالقياس على التحقيق، وإليه أشار في المراقي بقوله:
* ومنه نسخ النص بالقياس
* هو الذي ارتضاه جل الناس
*
أي وهو الحق.
المسألة الثالثة اعلم أن ما يقوله بعض أهل الأصول من المالكية والشافعية وغيرهم: من جواز النسخ بلا بدل، وعزاه غير واحد للجمهور، وعليه درج في المراقي بقوله:
447

المسألة الثالثة اعلم أن ما يقوله بعض أهل الأصول من المالكية والشافعية وغيرهم: من جواز النسخ بلا بدل، وعزاه غير واحد للجمهور، وعليه درج في المراقي بقوله:
* وينسخ الخف بما له ثقل
* وقد يجيء عاريا من البدل
*
أنه باطل بلا شك. والعجب ممن قال به العلماء الأجلاء مع كثرتهم، مع أنه مخالف مخالفة صريحة لقوله تعالى: * (ما ننسخ من ءاية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) * فلا كلام البتة لأحد بعد كلام الله تعالى: * (أصدق من الله قيلا) *، * (ومن أصدق من الله حديثا) *، * (ءأنتم أعلم أم الله) * فقد ربط جل وعلا في هذه الآية الكريمة بين النسخ، وبين الإتيان ببدل المنسوخ على سبيل الشرط والجزاء. ومعلوم أن الصدق والكذب في الشرطية يتواردان على الربط. فيلزم أنه كلما وقع النسخ وقع الإتيان بخير من المنسوخ أو مثله كما هو ظاهر.
وما زعمه بعض أهل العلم من أن النسخ وقع في القرآن بلا بدل وذلك في قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدى نجواكم صدقة) * فإنه نسخ بقوله: * (أءشفقتم أن تقدموا بين يدى نجواكم صدقات) *، ولا بدل لهذا المنسوخ.
فالجواب أن له بدلا، وهو أن وجوب تقديم الصدقة أمام المناجاة لما نسخ بقي استحباب الصدقة وندبها، بدلا من الوجوب المنسوخ كما هو ظاهر.
المسألة الرابعة اعلم أنه يجوز نسخ الأخف بالأثقل، والأثقل بالأخف. فمثال نسخ الأخف بالأثقل: نسخ التخيير بين الصوم والإطعام المنصوص عليه في قوله تعالى: * (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) * بأثقل منه، وهو تعيين إيجاب الصوم في قوله: * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) *. ونسخ حبس الزواني في البيوت المنصوص عليه بقوله: * (فأمسكوهن فى البيوت) *، بأثقل منه وهو الجلد والرجم المنصوص على الأول منهما في قوله: * (الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) *، وعلى الثاني منهما بآية الرجم التي نسخت تلاوتها وبقي حكمها ثابتا، وهي قوله: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم) ومثال نسخ الأثقل بالأخف: نسخ وجوب مصابرة المسلم عشرة من الكفار المنصوص عليه في قوله: * (منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن) *، بأخف منه وهو مصابرة المسلم اثنين منهم المنصوص عليه في قوله: * (اأان خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) *
448

. وكنسخ قوله تعالى: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) *، بقوله: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) *. فإنه نسخ للأثقل بالأخف كما هو ظاهر. وكنسخ اعتداد المتوفى عنها بحول، المنصوص عليه في قوله: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لازواجهم متاعا إلى الحول) *، بأخف منه وهو الاعتداد بأربعة أشهر وعشر، المنصوص عليه في قوله: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) *.
تنبيه
اعلم أن في قوله جل وعلا: * (نأت بخير منها أو مثلها) * إشكالا من جهتين:
الأولى أن يقال: إما أن يكون الأثقل خيرا من الأخف. لأنه أكثر أجرا، أو الأخف خير من الأثقل لأنه أسهل منه، وأقرب إلى القدرة على الامتثال. وكون الأثقل خيرا يقتضي منع نسخه بالأخف، كما أن كون الأخف خيرا يقتضي منع نسخه بالأثقل. لأن الله صرح بأنه يأتي بما هو خير من المنسوخ أو مماثل له، لا ما هو دونه. وقد عرفت: أن الواقع جواز نسخ كل منهما بالآخر.
الجهة الثانية من جهتي الإشكال في قوله * (أو مثلها) * لأنه يقال: ما الحكمة في نسخ المثل ليبدل منه مثله؟ وأي مزية للمثل على المثل حتى ينسخ ويبدل منه؟
والجواب عن الإشكال الأول هو أن الخيرية تارة تكون في الأثقل لكثرة الأجر، وذلك فيما إذا كان الأجر كثيرا جدا والامثتال غير شديد الصعوبة، كنسخ التخيير بين الإطعام والصوم بإيجاب الصوم. فإن في الصوم أجرا كثيرا كما في الحديث القدسي (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)، والصائمون من خيار الصابرين. لأنهم
صبروا لله عن شهوة بطونهم وفروجهم. والله يقول: * (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) * ومشقة الصوم عادية ليس فيها صعوبة شديدة تكون مظنة لعدم القدرة على الامتثال، وإن عرض ما يقتضي ذلك كمرض أو سفر. فالتسهيل برخصة الإفطار منصوص بقوله * (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) *. وتارة تكون الخيرية في الأخف، وذلك فيما إذا كان الأثقل المنسوخ شديد الصعوبة بحيث يعسر فيه الامتثال. فإن الأخف يكون خيرا منه، لأن مظنة عدم الامتثال تعرض المكلف للوقوع فيما
449

لا يرضى الله، وذلك كقوله: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشآء ويعذب من يشآء والله على كل شيء) * فلو لم تنسخ المحاسبة بخطرات القلوب لكان الامتثال صعبا جدا، شاقا على النفوس، لا يكاد يسلم من الإخلال به، إلى من سلمه الله تعالى فلاشك أن نسخ ذلك بقوله: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * خير للمكلف من بقاء ذلك الحكم الشاق، وهكذا.
والجواب عن الإشكال الثاني هو أن قوله * (أو مثلها) * يراد به مماثلة الناسخ والمنسوخ في حد ذاتيهما. فلا ينافي أن يكون الناسخ يستلزم فوائد خارجة عن ذاته يكون يها خيرا من المنسوخ، فيكون باعتبار ذاته مماثلا للمنسوخ، وباعتبار ما يستلزمه من الفوائد التي لا توجد في المنسوخ خيرا من المنسوخ.
وإيضاحه أن عامة المفسرين يمثلون لقوله * (أو مثلها) * بنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال بيت الله الحرام. فإن هذا الناسخ والمنسوخ بالنظر إلى ذاتيهما متماثلان. لأن كل واحد منهما جهة من الجهات، وهي في حقيقة أنفسها متساوية، فلا ينافي أن يكون الناسخ مشتملا على حكم خارجة عن ذاته تصيره خيرا من المنسوخ بذلك الاعتبار. فإن استقبال بيت الله الحرام تلزمه نتائج متعددة مشار لها في القرآن ليست موجودة في استقبال بيت المقدس، منها أنه يسقط به احتجاج كفار مكة على النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم: تزعم أنك على ملة إبراهيم ولا تستقبل قبلتها وتسقط به حجة اليهود بقولهم: تعيب ديننا وتستقبل قبلتنا، وقبلتنا من دينناا وتسقط به أيضا حجة علماء اليهود فإنهم عندهم في التوراة: أنه صلى الله عليه وسلم سوف يؤمر باستقبال بيت المقدس، ثم يؤمر بالتحول عنه إلى استقبال بيت الله الحرام. فلو لم يؤمر بذلك لاحتجوا عليه بما عندهم في التوراة من أنه سيحول إلى بيت الله الحرام، والفرض أنه لم يحول.
وقد أشار تعالى إلى هذه الحكم التي هي إدحاض هذه الحجج الباطلة بقوله: * (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) * ثم بين الحكمة بقوله: * (لئلا يكون للناس عليكم حجة) *. وإسقاط هذه الحجج من الدواعي التي دعته صلى الله عليه وسلم إلى حب التحويل إلى بيت الله الحرام المشار إليه في قوله تعالى: * (قد نرى تقلب وجهك في السمآء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام) *.
المسألة الخامسة اعلم أن النسخ على ثلاثة أقسام:
450

الأول نسخ التلاوة والحكم معا، ومثاله ما ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن..) الحديث. فآية عشر رضعات منسوخة التلاوة والحكم إجماعا.
الثاني نسخ التلاوة وبقاء الحكم، ومثاله آية الرجم المذكورة آنفا، وآية خمس رضعات على قول الشافعي وعائشة ومن وافقهما.
الثالث نسخ الحكم وبقاء التلاوة، وهو غالب ما في القرآن من المنسوخ. كآية المصابرة، والعدة، والتخيير بين الصوم والإطعام، وحبس الزواني. كما ذكرنا ذلك كله آنفا.
المسألة السادسة اعلم أنه لا خلاف بين العلماء في نسخ القرآن بالقرآن، ونسخ السنة بمتواتر السنة. واختلفوا في نسخ القرآن بالسنة كعكسه، وفي نسخ المتواتر بأخبار الآحاد. وخلافهم في هذه المسائل معروف. وممن قال: بأن الكتاب لا ينسخ إلا بالكتاب، وأن السنة لا تنسخ إلا بالسنة الشافعي رحمه الله.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي والله تعالى أعلم هو أن الكتاب والسنة كلاهما ينسخ بالآخر. لأن الجميع وحي من الله تعالى. فمثال نسخ السنة بالكتاب: نسخ استقبال بيت المقدس باستقبال بيت الله الحرام. فإن استقبال بيت المقدس أولا إنما وقع بالسنة لا بالقرآن، وقد نسخه الله بالقرآن في قوله: * (فلنولينك قبلة ترضاها) *. ومثال نسخ الكتاب بالسنة: نسخ آية عشر رضعات تلاوة وحكما بالسنة المتواترة. ونسخ سورة الخلع وسورة الحفد تلاوة وحكما بالسنة المتواترة. وسورة الخلع وسورة الحفد: هما القنوت في الصبح عند المالكية. وقد أوضح صاحب (الدر المنثور) وغيره تحقيق أنهما كانتا سورتين من كتاب الله ثم نسختا.
وقد قدمنا (في سورة الأنعام) أن الذي يظهر لنا أنه الصواب: هو أن أخبار الآحاد الصحيحة يجوز نسخ المتواتر بها إذا ثبت تأخرها عنه، وأنه لا معارضة بينهما. لأن المتواتر حق، والسنة الواردة بعده إنما بينت شيئا جديدا لم يكن موجودا قبل، فلا معارضة بينهما البتة لاختلاف زمنهما.
فقوله تعالى: * (قل لا أجد فى مآ أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة) *.
451

يدل بدلالة المطابقة دلالة صريحة على إباحة لحوم الحمر الأهلية. لصراحة الحصر بالنفي والإثبات
452

في الآية في ذلك. فإذا صرح النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يوم خيبر في حديث صحيح (بأن لحوم الحمر الأهلية غير مباحة) فلا معارضة البتة بين ذلك الحديث الصحيح وبيت تلك الآية النازلة قبله بسنين. لأن الحديث دل على تحريم جديد، والآية ما نفت تجدد شيء في المستقبل كما هو واضح.
فالتحقيق إن شاء الله هو جواز نسخ المتواتر بالآحاد الصحيحة الثابت تأخرها عنه، وإن خالف فيه جمهور الأصوليين، ودرج على خلافه وفاقا الجمهور صاحب المراقي بقوله: فالتحقيق إن شاء الله هو جواز نسخ المتواتر بالآحاد الصحيحة الثابت تأخرها عنه، وإن خالف فيه جمهور الأصوليين، ودرج على خلافه وفاقا الجمهور صاحب المراقي بقوله:
* والنسخ بالآحاد للكتاب
* ليس بواقع على الصواب
*
ومن هنا تعلم أنه لا دليل على بطلان قول من قال: إن الوصية للوالدين والأقربين منسوخة بحديث (لا وصية لوارث). والعلم عند الله تعالى.
المسألة السابعة اعلم أن التحقيق هو جواز النسخ قبل التمكن من الفعل. فإن قيل: ما الفائدة في تشريع الحكم أولا إذا كان سينسخ قبل التمكن من فعله؟
فالجواب أن الحكمة ابتلاء المكلفين بالعزم على الامتثال. ويوضح هذا أن الله أمر إبراهيم أن يذبح ولده، وقد نسخ عنه هذا الحكم بفدائه بذبح عظيم قبل أن يتمكن من الفعل. وبين أن الحكمة في ذلك: الابتلاء بقوله: * (إن هاذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم) * ومن أمثلة النسخ قبل التمكن من الفعل: نسخ خمس وأربعين صلاة ليلة الإسراء، بعد أن فرضت الصلاة خمسين صلاة، كما هو معروف. وقد أشار إلى هذه المسألة في مراقي السعود بقوله: وفديناه بذبح عظيم) * ومن أمثلة النسخ قبل التمكن من الفعل: نسخ خمس وأربعين صلاة ليلة الإسراء، بعد أن فرضت الصلاة خمسين صلاة، كما هو معروف. وقد أشار إلى هذه المسألة في مراقي السعود بقوله:
* والنسخ من قبل وقوع الفعل
* جاء وقوعا في صحيح النقل
*
المسألة الثامنة اعلم أن التحقيق: أنه ما كل زيادة على النص تكون نسخا، وإن خالف في ذلك الإمام أبو حنيفة رحمه الله. بل الزيادة على النص قسمان: قسم مخالف النص المذكور قبله، وهذه الزيادة تكون نسخا على التحقيق. كزيادة تحريم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع مثلا، على المحرمات الأربعة المذكورة في آية: * (قل لا أجد فى مآ أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه) *. لأن الحمر الأهلية ونحوها لم يسكت عن حكمه في الآية، بل مقتضى الحصر بالنفي والإثبات في قوله: * (فى مآ أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون) * صريح في إباحة الحمر الأهلية وما ذكر معها. فكون زيادة تحريمها نسخا أمر ظاهر.
وقسم لا تكون الزيادة فيه مخالفة للنص، بل تكون زيادة شيء سكت عنه النص الأول، وهذا لا يكون نسخا، بل بيان حكم شيء كان مسكوتا عنه. كتغريب الزاني البكر، وكالحكم بالشاهد، واليمين في الأموال. فإن القرآن في الأول أوجب الجلد وسكت عما سواه، فزاد النبي حكما كان مسكوتا عنه، وهو التغريب. كما أن القرآن في الثاني فيه * (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) *. وسكت عن حكم الشاهد واليمين، فزاد النبي صلى الله عليه وسلم حكما كان مسكوتا عنه. وإلى هذا أشار في مراقي السعود بقوله: حكما كان مسكوتا عنه. وإلى هذا أشار في مراقي السعود بقوله:
* وليس نسخا كل ما أفادا
* فيما رسا بالنص إلا زديادا
*
وقد قدمنا (في الأنعام) في الكلام على قوله: * (قل لا أجد فى مآ أوحى إلى) *. * (قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين ءامنوا وهدى وبشرى للمسلمين * ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذى يلحدون إليه أعجمى وهاذا لسان عربى مبين * إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم * إنما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولائك هم الكاذبون * من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولاكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم * ذالك بأنهم استحبوا الحيواة الدنيا على الا خرة وأن الله لا يهدى القوم الكافرين * أولائك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولائك هم الغافلون * لا جرم أنهم فى الا خرة هم الخاسرون * ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم * يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون * وضرب الله مثلا قرية كانت ءامنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون * ولقد جآءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون * فكلوا مما رزقكم الله حللا طيبا واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون * إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم) * قوله تعالى: * (قل نزله روح القدس من ربك بالحق) *. أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة: أن يقول إن هذا القرآن الذي زعموا أنه افتراء بسبب تبديل الله آية مكان آية أنه نزله عليه روح القدس من ربه جل وعلا. فليس مفتريا له. وروح القدس: جبريل، ومعناه الروح المقدس. أي الطاهر من كل ما لا يليق.
وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله: * (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) *، وقوله: * (وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الا مين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربى مبين) *، وقوله: * (ولا تعجل بالقرءان من قبل إن يقضى إليك وحيه) *، وقوله: * (لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرءانه فإذا قرأناه فاتبع قرءانه) *، إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر) *. أقسم جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه يعلم أن الكفار يقولون: إن هذا القرآن الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ليس وحيا من الله، وإنما تعلمه من بشر من الناس.
وأوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع، كقوله: * (وقالوا أساطير الا ولين اكتتبها فهى تملى عليه بكرة وأصيلا) *، وقوله: * (إن هاذآ إلا سحر يؤثر) *
453

أي يرويه محمد صلى الله عليه وسلم عن غيره، وقوله: * (وليقولوا درست) *. كما تقدم (في الأنعام).
وقد اختلف العلماء في تعيين هذا البشر الذي زعموا أنه يعلم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد صرح القرآن بأنه أعجمي اللسان. فقيل: هو غلام الفاكه بن المغيرة، واسمه جبر، وكان نصرانيا فأسلم. وقيل: اسمه يعيش عبد لبني الحضرمي، وكان يقرأ الكتب الأعجمية. وقيل: غلام لبني عامر بن لؤي. وقيل: هما غلامان: اسم أحدهما يسار، واسم الآخر جبر، وكانا صيقليين يعملان السيوف، وكانا يقرآن كتابا لهم. وقيل: كانا يقرآن التوراة والإنجيل، إلى غير ذلك من الأقوال.
وقد بين جل وعلا كذبهم وتعنتهم في قولهم: * (إنما يعلمه بشر) * بقوله: * (لسان الذى يلحدون إليه أعجمى وهاذا لسان عربى مبين) *. أي كيف يكون تعلمه من ذلك البشر، مع أن ذلك البشر أعجمي اللسان. وهذا القرآن عربي مبين فصيح، لا شائبة فيه من العجمة. فهذا غير معقول.
وبين شدة تعنتهم أيضا بأنه لو جعل القرآن أعجميا لكذبوه أيضا وقالوا: كيف يكون هذا القرآن أعجميا مع أن الرسول الذي أنزل عليه عربي. وذلك في قوله * (ولو جعلناه قرءانا أعجميا لقالوا لولا فصلت ءاياته ءاعجمى وعربى) * أي أقرآن أعجمي، ورسول عربي. فكيف ينكرون أن القرآن أعجمي والرسول عربي، ولا ينكرون أن المعلم المزعوم أعجمي، مع أن القرآن المزعوم تعليمه له عربي.
كما بين تعنتهم أيضا، بأنه لو نزل هذا القرآن العربي المبين، على أعجمي فقرأه عليهم عربيا لكذبوه أيضا، مع ذلك الخارق للعادة. لشدة عنادهم وتعنتهم، وذلك في قوله: * (ولو نزلناه على بعض الا عجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين) *.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (يلحدون) * أي يميلون عن الحق. والمعنى لسان البشر الذي يلحدون، أي يميلون قولهم عن الصدق والاستقامة إليه أعجمي غير بين، وهذا القرآن لسان عربي مبين، أي ذو بيان وفصاحة. وقرأ هذا الحرف حمزة والكسائي * (يلحدون) * بفتح الياء والحاء، من لحد الثلاثي. وقرأه الباقون * (يلحدون) * بضم الياء والحاء، من لحد الثلائي. وقرأه الباقون * (يلحدون) * بضم الياء وكسر الحاء من ألحد الرباعي، وهما لغتان، والمعنى واحد. أي
454

يميلون عن الحق إلى الباطل. وأما * (يلحدون) * التي في (الأعراف، والتي في فصلت) فلم يقرأهما بفتح الياء والحاء إلا حمزة وحده دون الكسائي. وإنما وافقه الكسائي في هذه التي في (النحل) وأطلق اللسان على القرآن لأن العرب تطلق اللسان وتريد به الكلام. فتؤنثها وتذكرها. ومنه قول أعشى باهلة: وقوله في هذه الآية الكريمة: * (يلحدون) * أي يميلون عن الحق. والمعنى لسان البشر الذي يلحدون، أي يميلون قولهم عن الصدق والاستقامة إليه أعجمي غير بين، وهذا القرآن لسان عربي مبين، أي ذو بيان وفصاحة. وقرأ هذا الحرف حمزة والكسائي * (يلحدون) * بفتح الياء والحاء، من لحد الثلاثي. وقرأه الباقون * (يلحدون) * بضم الياء والحاء، من لحد الثلائي. وقرأه الباقون * (يلحدون) * بضم الياء وكسر الحاء من ألحد الرباعي، وهما لغتان، والمعنى واحد. أي يميلون عن الحق إلى الباطل. وأما * (يلحدون) * التي في (الأعراف، والتي في فصلت) فلم يقرأهما بفتح الياء والحاء إلا حمزة وحده دون الكسائي. وإنما وافقه الكسائي في هذه التي في (النحل) وأطلق اللسان على القرآن لأن العرب تطلق اللسان وتريد به الكلام. فتؤنثها وتذكرها. ومنه قول أعشى باهلة:
* إني أتتني لسان لا أسر بها
* من علو لا عجب فيها ولا سخر
*
وقول الآخر:
* لسان الشر تهديها إلينا
* وخنت وما حسبتك أن تخونا
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* أتتني لسان بني عامر
* أحاديثها بعد قول نكر
*
ومنه قوله تعالى: * (واجعل لى لسان صدق فى الا خرين) * أي ثناء حسنا باقيا. ومن إطلاق اللسان بمعنى الكلام مذكرا قول الحطيئة: واجعل لى لسان صدق فى الا خرين) * أي ثناء حسنا باقيا. ومن إطلاق اللسان بمعنى الكلام مذكرا قول الحطيئة:
* ندمت على لسان فات مني
* فليت بأنه في جوف عكم
* وضرب الله مثلا قرية كانت ءامنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ولقد جآءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون) *. قال بعض أهل العلم: (إن هذا مثل ضربه الله لأهل مكة)، وهو رواية العوفي عن ابن عباس، وإليه ذهب مجاهد وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وحكاه مالك عن الزهري رحمهم الله، نقله عنهم ابن كثير وغيره.
وهذه الصفات المذكورة التي اتصفت بها هذه القرية تتفق مع صفات أهل مكة المذكورة في القرآن. فقوله عن هذه القرية * (كانت ءامنة مطمئنة) * قال نظيره عن أهل مكة. كقوله: * (أولم نمكن لهم حرما ءامنا) *، وقوله: * (أولم يروا أنا جعلنا حرما ءامنا ويتخطف الناس من حولهم) *، وقوله: * (وءامنهم من خوف) *، وقوله: * (ومن دخله كان ءامنا) *، وقوله: * (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) *، وقوله: * (يأتيها رزقها رغدا من كل مكان) * قال نظيره عن أهل مكة أيضا. كقوله: * (يجبى إليه ثمرات كل شىء) *، وقوله: * (لإيلاف قريش إيلافهم رحلة
455

الشتآء والصيف فليعبدوا رب هاذا البيت الذى أطعمهم من جوع وءامنهم من خوف) * فإن رحلة الشتاء كانت إلى اليمن، ورحلة الصيف كانت إلى الشام، وكانت تأتيهم من كلتا الرحلتين أموال وأرزاق. ولذا أتبع الرحلتين بامتنانه عليهم: بأن أطعمهم من جوع. وقوله في دعوة إبراهيم: * (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هاذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات) *، وقوله: * (فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات) *.
وقوله: * (فكفرت بأنعم الله) * ذكر نظيره عن أهل مكة في آيات كثيرة. كقوله: * (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار) *.
وقد قدمنا طرفا من ذلك في الكلام على قوله تعالى * (يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها) *.
وقوله: * (فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) * وقع نظيره قطعا لأهل مكة. لما لجوا في الكفر والعناد، ودعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف) فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء، حتى أكلوا الجيف والعلهز (وهو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحروه)، وأصابهم الخوف الشديد بعد الأمن. وذلك الخوف من جيوش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغزواته وبعوثه وسراياه. وهذا الجوع والخوف أشار لهما القرآن على بعض التفسيرات. فقد فسر ابن مسعود آية (الدخان) بما يدل على ذلك.
قال البخاري في صحيحه: باب * (فارتقب يوم تأتى السمآء بدخان مبين) * فارتقب: فانتظر. حدثنا عبدان، عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عبد الله قال: مضى خمس: الدخان، والروم، والقمر، والبطشة، واللزام. * (يغشى الناس هاذا عذاب أليم) * حدثنا يحيى، حدثنا أبو معاوية. عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق قال: قال عبد الله: (إنما كان هذا لأن قريشا لما استعصوا على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف. فأصابهم قحط وجهد، حتى أكلوا العظام. فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد. فأنزل الله تعالى * (فارتقب يوم تأتى السمآء بدخان مبين يغشى الناس هاذا
456

عذاب أليم) * فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: يا رسول الله، استسق الله لمضرا إنك لجريءا) فاستسقى فسقوا. فنزلت * (إنكم عآئدون) * فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم حين أصابتهم الرفاهية. فأنزل الله عز وجل: * (يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون) * يعني يوم بدر.
باب قوله تعالى: * (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) * حدثنا يحيى، حدثنا وكيع عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: دخلت على عبد الله فقال: (إن من العلم أن تقول لما لا تعلم: والله أعلم، إن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم * (قل مآ أسألكم عليه من أجر ومآ أنآ من المتكلفين) *) إن قريشا لما غلبوا النبي صلى الله عليه وسلم واستعصوا عليه قال: (اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف) فأخذتهم سنة أكلوا فيها العظام والميتة من الجهد، حتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع قالوا. * (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) * فقيل له: إن كشفنا عنهم عادوا. فدعا ربه فكشف عنهم فعادوا، فانتقم الله منهم يوم بدر. فذلك قوله: * (يوم تأتى السمآء بدخان مبين) * إلى قوله جل ذكره * (إنا منتقمون) * انتهى بلفظه من صحيح البخاري.
وفي تفسير ابن مسعود رضي الله عنه لهذه الآية الكريمة ما يدل دلالة واضحة أن ما أذيقت هذه القرية المذكورة في (سورة النحل) من لباس الجوع أذيقه أهل مكة، حتى أكلوا العظام، وصار الرجل منهم يتخيل له مثل الدخان من شدة الجوع. وهذا التفسير من ابن مسعود رضي الله عنه له حكم الرفع. لما تقرر في علم الحديث: من أن تفسير الصحابي المتعلق بسبب النزول له حكم الرفع. كما أشار له صاحب طلعة الأنوار بقوله: وفي تفسير ابن مسعود رضي الله عنه لهذه الآية الكريمة ما يدل دلالة واضحة أن ما أذيقت هذه القرية المذكورة في (سورة النحل) من لباس الجوع أذيقه أهل مكة، حتى أكلوا العظام، وصار الرجل منهم يتخيل له مثل الدخان من شدة الجوع. وهذا التفسير من ابن مسعود رضي الله عنه له حكم الرفع. لما تقرر في علم الحديث: من أن تفسير الصحابي المتعلق بسبب النزول له حكم الرفع. كما أشار له صاحب طلعة الأنوار بقوله:
* تفسير صاحب له تعلق
* بالسبب الرفع له محقق
*
وكما هو معروف عند أهل العلم. وقد قدمنا ذلك في (سورة البقرة) في الكلام: على قوله تعالى: * (فأتوهن من حيث أمركم الله) *.
وقد ثبت في صحيح مسلم أن الدخان من أشراط الساعة. ولا مانع من حمل الآية الكريمة على الدخانين: الدخان الذي مضى، والدخان المستقبل جمعا بين الأدلة. وقد قدمنا أن التفسيرات المتعددة في الآية إن كان يمكن حمل الآية على جميعها فهو أولى. وقد قدمنا أن ذلك هو الذي حققه أبو العباس بن تيمية رحمه الله في رسالته، في علوم القرآن، بأدلته.
457

وأما الخوف المذكور في آية النحل فقد ذكر جل وعلا مثله عن أهل مكة أيضا على بعض تفسيرات الآية الكريمة التي هي * (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا
قارعة أو تحل قريبا من دارهم) * فقد جاء عن جماعة من السلف تفسير القارعة التي تصيبهم بسرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال صاحب الدر المنثور: أخرج الفريابي وابن جرير، وابن مردويه من طريق عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله * (تصيبهم بما صنعوا قارعة * قال) *. وأخرج الطيالسي وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، من طريق سعيد بن جبير رضي الله عنه، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: (* (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة) * قال: سرية * (قارعة أو تحل قريبا من دارهم) * قال: أنت يا محمد * (حتى يأتى وعد الله) * قال فتح مكة). وأخرج ابن مردويه، عن أبي سعيد رضي الله عنه في قوله (* (تصيبهم بما صنعوا قارعة) * قال: سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم * (أو تحل) * يا محمد * (قريبا من دارهم) *). وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير، وابن المنذر وأبو الشيخ، والبيهقي في الدلائل، عن مجاهد رضي الله عنه قال: (* (لخبير القارعة) * السرايا * (أو تحل قريبا من دارهم) * قال الحديبية * (حتى يأتى وعد الله) * قال: فتح مكة). وأخرج ابن جرير عن عكرمة رضي الله عنه في قوله: * (ولا يزال الذين كفروا) * نزلت بالمدينة في سرايا النبي صلى الله عليه وسلم. أو تحل أنت يا محمد قريبا من دراهم اه محل الغرض منه.
فهذا التفسير المذكور في آية (الرعد) هذه، والتفسير المذكور قبله في آية (الدخان) يدل على أن أهل مكة أبدلوا بعد سعة الرزق بالجوع، وبعد الأمن والطمأنينة بالخوف. كما قال في القرية المذكورة * (كانت ءامنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) *. وقوله في القرية المذكورة * (ولقد جآءهم رسول منهم فكذبوه) * لا يخفى أنه قال مثل ذلك عن قريش في آيات كثيرة. كقوله: * (لقد جآءكم رسول من أنفسكم) *، وقوله: * (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) *.
والآيات المصرحة بكفرهم وعنادهم كثيرة جدا. كقوله: * (أجعل الا لهة إلاها واحدا
458

إن هاذا لشىء عجاب) * * (وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا علىءالهتكم) *، وقوله: * (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهاذا الذى بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن ءالهتنا لولا أن صبرنا عليها) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا.
فمجموع ما ذكرنا يؤيد قول من قال: إن المراد بهذه القرية المضروبة مثلا في آية (النحل)، هذه: هي مكة. وروي عن حفصة وغيرها: (أنها المدينة، قالت ذلك لما بلغها قتل عثمان رضي الله عنه). وقال بعض العلماء: هي قرية غير معينة، ضربها الله مثلا للتخويف من مقابلة نعمة الأمن والاطمئنان والرزق، بالكفر والطغيان. وقال من قال بهذا القول: إنه يدل عليه تنكير القرية في الآية الكريمة في قوله: * (وضرب الله مثلا قرية) *.
قال مقيدة عفا الله عنه: وعلى كل حال، فيجب على كل عاقل أن يعتبر بهذا المثل، وألا يقابل نعم الله بالكفر والطغيان. لئلا يحل به ما حل بهذه القرية المذكورة. ولكن الأمثال لا يعقلها عن الله إلا من أعطاه الله علما. لقوله: * (وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) *.
وفي قوله في هذه الآية الكريمة * (قرية) * وجهان من الإعراب.
أحدهما أنه يدل من قوله * (مثلا) *. الثاني أن * (ضرب) * مضمن معنى جعل، وأن * (قرية) * هي المفعول الأول، و * (مثلا) * المفعول الثاني. وإنما أخرت قرية لئلا يقع الفصل بينها وبين صفاتها المذكورة في قوله: * (كانت ءامنة) * الخ.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (مطمئنة) * أي لا يزعجها خوف. لأن الطمأنينة مع الأمن، والانزعاج والقلق مع الخوف.
وقوله: * (رغدا) * أي واسعا لذيذا. والأنعام قيل جمع نعمة كشدة وأشد. أو على ترك الاعتداد بالتاء. كدرع وأدرع. أو جمع نعم كبؤس وأبؤس. كما تقدم في (سورة الأنعام) في الكلام على قوله: * (حتى يبلغ أشده) *.
وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف، هو أن يقال: كيف أوقع الإذاقة على اللباس في قوله * (فأذاقها الله لباس الجوع والخوف) *. وروي أن ابن الراوندي الزنديق قال لابن الأعرابي إمام اللغة الأدب: هل يذاق اللباس؟ ا يريد الطعن
459

في قوله تعالى: * (فأذاقها الله لباس الجوع) *. فقال له ابن الأعرابي: لا بأس أيها النسناسا هب أن محمدا صلى الله عليه وسلم ما كان نبيا! أما كان عربيا؟
قال مقيده عفا الله عنه: والجواب عن هذا السؤال ظاهر، وهو أنه أطلق اسم اللباس على ما أصابهم من الجوع والخوف. لأن آثار الجوع والخوف تظهر على أبدانهم، وتحيط بها كالباس. ومن حيث وجدانهم ذلك اللباس المعبر به عن آثار الجوع والخوف، أوقع عليه الإذاقة، فلا حاجة إلى ما يذكره البيانيون من الاستعارات في هذه الآية الكريمة وقد أوضحنا في رسالتنا التي سميناها (منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز): أنه لا يجوز لأحد أن يقول إن في القرآن مجازا، وأوضحنا ذلك بأدلته، وبينا أن ما يسميه البيانيون مجازا أنه أسلوب من أساليب اللغة العربية.
وقد اختلف أهل البيان في هذه الآية، فبعضهم يقول: فيها استعارة مجردة. يعنون أنها جيء فيها بما يلائم المستعار له. وذلك في زعمهم أنه استعار اللباس لما غشيهم من بعض الحوادث كالجوع والخوف، بجامع اشتماله عليهم كاشتمال اللباس على اللابس على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية التحقيقية، ثم ذكر الوصف، الذي هو الإذاقة ملائما للمستعار له، الذي هو الجوع والخوف. لأن إطلاق الذوق على وجدان الجوع والخوف جرى عندهم مجرى الحقيقة لكثرة الاستعمال. فيقولون: ذاق البؤس والضر، وأذاقه غيره إياهما. فكانت الاستعارة مجردة لذكر ما يلائم المستعار له، الذي هو المشبه في الأصل في التشبيه الذي هو أصل الاستعارة. ولو أريد ترشيح هذه الاستعارة في زعمهم لقيل: فسكاها. لأن الإتيان بما يلائم المستعار منه الذي هو المشبه به في التشبيه الذي هو أصل الاستعارة يسمى (ترشيحا) والكسوة
تلائم اللباس، فذكرها ترشيح للاستعارة. قالوا: وإن كانت الاستعارة المرشحة أبلغ من المجردة، فتجريد الاستعارة في الآية أبلغ. من حيث إنه روعي المستعار له الذي هو الخوف والجوع، وبذكر الإذاقة المناسبة لذلك ليزداد الكلام وضوحا.
وقال بعضهم: هي استعارة مبنية على استعارة. فإنه أولا استعار لما يظهر على أبدانهم من الاصفرار والذبول والنحول اسم اللباس، بجامع الإحاطة بالشيء والاشتمال عليه، فصار اسم اللباس مستعارا لآثار الجوع والخوف على أبدانهم، ثم استعار اسم الإذاقة لما يجدونه من ألم ذلك الجوع والخوف، المعبر عنه باللباس، بجامع التعرف والاختبار في كل من الذوق بالفم، ووجود الألم من الجوع والخوف. وعليه ففي اللباس
460

استعارة أصلية كما ذكرنا. وفي الإذاقة المستعارة لمس ألم الجوع، والخوف استعارة تبعية.
وقد ألممنا هنا بطرف قليل من كلام البيانيين هنا ليفهم الناظر مرادهم، مع أن التحقيق الذي لا شك فيه: أن كل ذلك لا فائدة فيه، ولا طائل تحته، وأن العرب تطلق الإذاقة على الذوق وعلى غيره من وجود الألم واللذة، وأنها تطلق اللباس على المعروف، وتطلقه على غيره مما فيه معنى اللباس من الاشتمال. كقوله: * (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) *، وقول الأعشى: هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) *، وقول الأعشى:
* إذا ما الضجيع ثنى عطفها
* تثنت عليه فكانت لباسا
*
وكلها أساليب عربية. ولا إشكال في أنه إذا أطلق اللباس على مؤثر مؤلم يحيط بالشخص إحاطة اللباس، فلا مانع من إيقاع الإذاقة على ذلك الألم المحيط المعبر باسم اللباس. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هاذا حلال وهاذا حرام لتفتروا على الله الكذب) *. نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة الكفار عن تحريم ما أحل الله من رزقه، مما شرع لهم عمرو بن لحي (لعنه الله) من تحريم ما أحل الله.
وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى في آيات كثيرة. كقوله: * (قل هلم شهدآءكم الذين يشهدون أن الله حرم هاذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم) *، وقوله: * (قل أرأيتم مآ أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على الله تفترون) *، وقوله: * (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افترآء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين) *، وقوله: * (وقالوا ما فى بطون هاذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا) *، وقوله: * (وقالوا هاذه أنعام وحرث حجر لا يطعمهآ إلا من نشآء بزعمهم) *. وقوله * (حجر) * أي حرام، إلى غير ذلك من الآيات، كما تقدم.
وفي قوله * (الكذب) * أوجه من الإعراب: أحدهما أنه منصوب ب * (تقولوا) * أي لا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من رزق الله بالحل والحرمة. كما ذكر في الآيات المذكورة آنفا من غير استناد ذلك الوصف إلى دليل. واللام مثلها في قولك: لا تقولوا لما أحل الله: هو حرام. وكقوله: * (ولا تقولوا لمن يقتل فى سبيل الله أموات) *. وجملة * (هاذا حلال وهاذا
461

حرام) * بدل من * (الكذب) * وقيل: إن الجملة المذكورة في محل نصب. * (تصف) * بتضمينها معنى تقول. أي ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم، فتقول هذا حلال وهذا حرام. وقيل: * (الكذب) * مفعول به ل * (تصف) *. و * (ما) * مصدرية، وجملة * (هاذا حلال وهاذا حرام) * متعلقة ب * (لا تقولوا) * أي لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لو صف ألسنتكم الكذب. أي لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم، ويجول في أفواهكم. لا لأجل حجة وبينة قاله صاحب الكشاف. وقيل: * (الكذب) * بدل من هاء المفعول المحذوفة. أي لما تصفه ألسنتكم الكذب.
تنبيه
كان السلف الصالح رضي الله عنهم يتورعون عن قولهم: هذا حلال وهذا حرام. خوفا من هذه الآيات.
قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: قال الدارمي أبو محمد في مسنده: أخبرنا هارون، عن حفص، عن الأعمش قال: (ما سمعت إبراهيم قط يقول: حلال ولا حرام، ولكن كان يقول: كانوا يكرهون، وكانوا يستحبون).
وقال ابن وهب: قال مالك: لم يكن من فتيا الناس أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام، ولكن يقولوا إياكم كذا وكذا، ولم أكن لأصنع هذا. انتهى.
وقال الزمخشري: واللام في قوله * (لتفتروا على الله الكذب) * من التعليل الذي لا يتضمن معنى الفرض اه. وكثير من العلماء يقولون: هي لام العاقبة. والبيانيون يزعمون أن حرف التعليل كاللام إذا لم تقصد به علة غائية. كقوله: * (فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم عدوا) *، وقوله هنا: * (لتفتروا على الله الكذب) * أن في ذلك استعارة تبعية في معنى الحرف.
قال مقيده عفا الله عنه: بل كل ذلك من أساليب اللغة العربية. فمن أساليبها: الإتيان بحرف التعليل للدلالة على العلة الغائية. كقوله: * (وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) *. ومن أساليبها الإتيان باللام للدلالة على ترتب أمر على أمر. كترتب المعلول على علته الغائية. وهذا الأخير كقوله: * (فالتقطه ءال فرعون
462

ليكون لهم عدوا وحزنا) *. لأن العلة الغائية الباعثة لهم على التقاطه ليست هي أن يكون لهم عدوا، بل ليكون لهم قرة عين. كما قالت امرأة فرعون: * (قرة عين لى ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا) * ولكن لما كان كونه عدوا لهم وحزنا يترتب على التقاطهم له. كترتب المعلول على علته الغائية عبر فيه باللام الدالة على ترتيب المعلول على العلة. وهذا أسلوب عربي، فلا حاجة إلى ما يطيل به البيانيون في مثل هذا المبحث. * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هاذا حلال وهاذا
حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع قليل ولهم عذاب أليم * وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون * ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم * إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين * شاكرا لانعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم * وءاتيناه فى الدنيا حسنة وإنه فى الا خرة لمن الصالحين * ثم أوحينآ إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين * إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون * ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين * وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين * واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك فى ضيق مما يمكرون * إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) * قوله تعالى: * (إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: إن الذين يفترون عليه الكذب أي يختلقونه عليه كدعواهم أنه حرم هذا وهو لم يحرمه. ودعواهم له الشركاء والأولاد لا يفلحون. لأنهم في الدنيا لا ينالون إلا متاعا قليلا لا أهمية له، وفي الآخرة يعذبون العذاب العظيم، الشديد المؤلم.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله في يونس: * (قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع فى الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون) *، وقوله: * (نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ) *، وقوله: * (قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله * (متاع قليل) * خبر مبتدإ محذوف. أي متاعهم في الدنيا متاع قليل. وقال الزمخشري: منفعتهم في الدنيا متاع قليل. وقوله * (لا يفلحون) * أي لا ينالون الفلاح، وهو يطلق على معنيين: أحدهما الفوز بالمطلوب الأكبر. والثاني البقاء السرمدي. كما تقدم بشواهده. قوله تعالى: * (وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل) *. هذا المحرم عليهم، المقصوص عليه من قبل المحال عليه هنا هو المذكور في (سورة الأنعام) في قوله: * (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهمآ إلا ما حملت ظهورهمآ أو الحوايآ أو ما اختلط بعظم ذالك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون) *.
وجملة المحرمات عليهم في هذه الآية الكريمة ظاهرة، وهو كل ذي ظفر: كالنعامة
463

والبعير، والشحم الخالص من البقر والغنم (وهو الثروب) وشحم الكلى. أما الشحم الذي على الظهر، والذي في الحوايا وهي الأمعاء، والمختلط بعظم كلحم الذنب وغيره من الشحوم المختلطة بالعظام فهو حلال لهم. كما هو واضح من الآية الكريمة. قوله تعالى: * (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لانعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم) *. أثنى الله جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين على نبيه إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: بأنه أمة. أي إمام مقتدى به، يعلم الناس الخير. كما قال تعالى: * (إنى جاعلك للناس إماما) *، وأنه قانت لله، أي مطيع له. وأنه لم يكن من المشركين، وأنه شاكر لأنعم الله، وأن الله اجتباه، أي اختاره واصطفاه. وأنه هداه إلى صراط مستقيم.
وكرر هذا الثناء عليه في مواضع أخر، كقوله: * (وإبراهيم الذى وفى) *، وقوله: * (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إنى جاعلك للناس إماما) *، وقوله: * (ولقد ءاتينآ إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين) *، وقوله: * (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والا رض وليكون من الموقنين) *، وقوله عنه: * (إنى وجهت وجهى للذى فطر السماوات والا رض حنيفا ومآ أنا من المشركين) *، وقوله: * (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين) *، وقوله: * (وإن من شيعته لإبراهيم إذ جآء ربه بقلب سليم) * إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في الثناء عليه.
وقد قدمنا معاني (الأمة) في القرآن. قوله تعالى: * (وءاتيناه فى الدنيا حسنة) *. قال بعض العلماء: الحسنة التي آتاه الله في الدنيا: الذرية الطيبة، والثناء الحسن. ويستأنس لهذا بأن الله بين أنه أعطاه بسبب إخلاصه لله، واعتزاله أهل الشرك: الذرية الطيبة. وأشار أيضا لأنه جعل له ثناء حسنا باقيا في الدنيا. قال تعالى: * (فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا) *، وقال: * (وجعلنا فى ذريته النبوة والكتاب) *، وقال: * (واجعل لى لسان صدق فى الا خرين) *. قوله تعالى: * (ثم أوحينآ إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) *.
464

ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أوحى إلى نبينا صلى الله عليه وسلم الأمر باتباع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين.
وبين هذا أيضا في غير هذا الموضع كقوله: * (قل إننى هدانى ربى إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) *، وقوله: * (ياأيها الذين ءامنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون) * إلى قوله * (الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون) *، وقوله: * (قد كانت لكم أسوة حسنة فى إبراهيم) *، إلى غير ذلك من الآيات. والملة: الشريعة. والحنيف: المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق. وأصله من الحنف: وهو اعوجاج الرجلين. يقال: برجله حنف أي اعوجاج. ومنه قول أم الأحنف بن قيس ترقصه وهو صبي: قد كانت لكم أسوة حسنة فى إبراهيم) *، إلى غير ذلك من الآيات. والملة: الشريعة. والحنيف: المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق. وأصله من الحنف: وهو اعوجاج الرجلين. يقال: برجله حنف أي اعوجاج. ومنه قول أم الأحنف بن قيس ترقصه وهو صبي:
* والله لولا حنف برجله
* ما كان في فتيانكم من مثله
*
وقوله * (حنيفا) * حال من المضاف إليه. على حد قول ابن مالك في الخلاصة: وقوله * (حنيفا) * حال من المضاف إليه. على حد قول ابن مالك في الخلاصة:
* ما كان جزء ما له أضيفا
* أو مثل جزئه فلا تحيفا
*
لأن المضاف هنا وهو * (ملة) * كالجزء من المضاف إليه وهو * (إبراهيم) * لأنه لو حذف لبقي المعنى تاما. لأن قولنا: أن اتبع إبراهيم، كلام تام المعنى كما هو ظاهر، وهذا هو مراده بكونه مثل جزئه. قوله تعالى: * (وجادلهم بالتى هى أحسن) *. أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة: أن يجادل خصومه بالطريق التي هي أحسن طرق المجادلة: من إيضاح الحق بالرفق واللين. وعن مجاهد * (وجادلهم بالتى هى أحسن) * قال: أعرض عن أذاهم. وقد أشار إلى هذا المعنى في قوله: * (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا ءامنا بالذى أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلاهنا وإلاهكم واحد ونحن له مسلمون 11) * أي إلا الذين نصبوا للمؤمنين الحرب فجادلهم بالسيف حتى يؤمنوا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
ونظير ما ذكر هنا من المجادلة بالتي هي أحسن: قوله لموسى وهارون في شأن فرعون * (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) *. ومن ذلك القول اللين: قول موسى له * (هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى) *. قوله تعالى: * (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أعلم بمن ضل عن سبيله. أي زاغ عن طريق الصواب
465

والحق، إلى طريق الكفر والضلال.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله (في أول القلم) * (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين فلا تطع المكذبين) *، وقوله (في الأنعام): * (إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) *، وقوله (في النجم): * (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى) * والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا.
والظاهر أن صيغة التفضيل التي هي * (أعلم) * في هذه الآيات يراد بها مطلق الوصف لا التفضيل. لأن الله لا يشاركه أحد في علم ما يصير إليه خلقه من شقاوة وسعادة. فهي كقول الشنفرى: والظاهر أن صيغة التفضيل التي هي * (أعلم) * في هذه الآيات يراد بها مطلق الوصف لا التفضيل. لأن الله لا يشاركه أحد في علم ما يصير إليه خلقه من شقاوة وسعادة. فهي كقول الشنفرى:
* وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن
* بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل
*
أي لم أكن بعجلهم. وقول الفرزدق: أي لم أكن بعجلهم. وقول الفرزدق:
* إن الذي سمك السماء بنى لنا
* بيتا دعائمه أعز وأطول
*
أي عزيزة طويلة. قوله تعالى: * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) *. نزلت هذه الآية الكريمة من سورة النحل بالمدينة، في تمثيل المشركين بحمزة ومن قتل معه يوم أحد. فقال المسلمون: لئن أظفرنا الله بهم لنمثلن بهم. فنزلت الآية الكريمة، فصبروا لقوله تعالى: * (لهو خير للصابرين) * مع أن سورة النحل مكية، إلا هذه الآيات الثلاث من آخرها. والآية فيها جواز الانتقام والإرشاد إلى أفضلية العفو. وقد ذكر تعالى هذا المعنى في القرآن. كقوله: * (وجزآء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله) *، وقوله: * (والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له) *، وقوله: * (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولائك ما عليهم من سبيل) * إلى قوله * (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الا مور) *، وقوله * (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) * إلى قوله * (أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا) * كما قدمنا.
466

مسائلبهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى يؤخذ من هذه الآية حكم مسألة الظفر، وهي أنك إن ظلمك إنسان: بأن أخذ شيئا من مالك بغير الوجه الشرعي ولم يمكن لك إثباته، وقدرت له على مثل ما ظلمك به على وجه تأمن معه الفضيحة والعقوبة. فهل لك أن تأخذ قدر حقك أو لا؟
أصح القولين، وأجراهما على ظواهر النصوص وعلى القياس: أن لك أن تأخذ قدر حقك من غير زيادة. لقوله تعالى في هذه الآية: * (فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) * الآية، وقوله: * (فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) *.
وممن قال بهذا القول: ابن سيرين وإبراهيم النخعي، وسفيان ومجاهد، وغيرهم.
وقالت طائفة من العلماء منهم مالك: لا يجوز ذلك. وعليه درج خليل بن إسحاق المالكي في مختصره بقوله في الوديعة: وليس له الأخذ منها لمن ظلمه بمثلها.
واحتج من قال بهذا القول بحديث (أد الأمانة إلى من ائتمنك. ولا تخن من خانك) اه. وهذا الحديث على فرض صحته لا ينهض الاستدلال به. لأن من أخذ قدر حقه ولم يزد عليه لم يخن من خانه، وإنما أنصف نفسه ممن ظلمه.
المسألة الثانية أخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة المماثلة في القصاص. فمن قتل بحديدة قتل بها، ومن قتل بحجر قتل به. ويؤيده (رضه صلى الله عليه وسلم رأس يهودي بين حجرين قصاصا لجارية فعل بها مثل ذلك).
وهذا قول أكثر أهل العلم خلافا لأبي حنيفة ومن وافقه، زاعما أن القتل بغير المحدد شبه عمد، لا عمد صريح حتى يجب فيه القصاص. وسيأتي لهذا إن شاء الله تعالى زيادة إيضاح في سورة الإسراء.
المسألة الثالثة: أطلق جل وعلا في هذه الآية الكريمة اسم العقوبة على الجناية الأولى في قوله: * (بمثل ما عوقبتم به) * والجناية الأولى ليست عقوبة. لأن القرآن بلسان عربي مبين. ومن أساليب اللغة العربية المشاكلة بين الألفاظ. فيؤدي لفظ بغير معناه الموضوع له مشاكلة للفظ آخر مقترن به في الكلام. كقول الشاعر: بمثل ما عوقبتم به) * والجناية الأولى ليست عقوبة. لأن القرآن بلسان عربي مبين. ومن أساليب اللغة العربية المشاكلة بين الألفاظ. فيؤدي لفظ بغير معناه الموضوع له مشاكلة للفظ آخر مقترن به في الكلام. كقول الشاعر:
* قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه
* قلت اطبخوا لي جبة وقميصا
*
467

أي خيطوا لي. وقال بعض العلماء: ومنه قول جرير: أي خيطوا لي. وقال بعض العلماء: ومنه قول جرير:
* هذي الأرامل قد قضيت حاجتها
* فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
*
بناء على القول بأن الأرامل لا تطلق في اللغة إلا على الإناث.
ونظير الآية الكريمة في إطلاق إحدى العقوبتين على ابتداء الفعل مشاكلة للفظ الآخر قوله تعالى: * (ذالك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه) *، ونحوه أيضا.
قوله: * (وجزآء سيئة سيئة مثلها) * مع أن القصاص ليس بسيئة وقوله: * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه) *. لأن القصاص من المعتدي أيضا ليس باعتداء كما هو ظاهر، وإنما أدى بغير لفظه للمشاكلة بين اللفظين: قوله تعالى: * (واصبر وما صبرك إلا بالله) *.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه صلى الله عليه وسلم مأمور بالصبر، وأنه لا يمتثل ذلك الأمر بالصبر إلا بإعانة الله وتوفيقه. لقوله: * (وما صبرك إلا بالله) * وأشار لهذا المعنى في غير هذا الموضع. كقوله: * (وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاهآ إلا ذو حظ عظيم) *، لأن قوله: * (وما يلقاهآ إلا ذو حظ) *، معناه أن خصلة الصبر لا يلقاها إلا من كان له عند الله الحظ الأكبر والنصيب الأوفر، بفضل الله عليه، وتيسر ذلك له. قوله تعالى: * (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه مع عباده المتقين المحسنين. وقد تقدم إيضاح معنى التقوى والإحسان.
وهذه المعية بعباده المؤمنين، وهي بالإعانة والنصر والتوفيق. وكرر هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله: * (إننى معكمآ أسمع وأرى) *، وقوله: * (إذ يوحى ربك إلى الملائكة أني معكم) *، وقوله: * (لا تحزن إن الله معنا) * وقوله: * (قال كلا إن معى ربى سيهدين) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وأما المعية العامة لجميع الخلق فهي بالإحاطة التامة والعلم، ونفوذ القدرة، وكون الجميع في قبضته جل وعلا: فالكائنات في يده جل وعلا أصغر من حبة خردل، وهذه هي
468

المذكورة أيضا في آيات كثيرة. كقوله: * (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم) *، وقوله: * (وهو معكم أين ما كنتم) *، وقوله: * (فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غآئبين) *، وقوله: * (وما تكون فى شأن وما تتلوا منه من قرءان ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه) *، إلى غير ذلك من الآيات.
فهو جل وعلا مستو على عرشه كما قال، على الكيفية اللائقة بكماله وجلاله، وهو محيط بخلقه، كلهم في قبضة يده، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين.
469