الكتاب: تفسير الآلوسي
المؤلف: الآلوسي
الجزء: ٦
الوفاة: ١٢٧٠
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

بسم الله الرحمن الرحيم
* (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما) *.
* (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول) * عدم محبته سبحانه لشيء كناية عن غضبه، والباء متعلقة بالجهر، وموضع الجار والمجرور نصب أو رفع، و * (من) * متعلقة بمحذوف وقع حالا من السوء، والجهر بالشيء الإعلان به والإظهار كما يفهم من " القاموس "، وفي " الصحاح " جهر بالقول رفع صوته به، ولعل المراد هنا الإظهار وإن لم يكن برفع صوت أي لا يحب الله سبحانه أن يعلن أحد بالسوء كائنا من القول * (إلا من ظلم) * أي إلا جهر من ظلم فإنه غير مسخوط عنده تعالى، وذلك بأن يدعو على ظالمه أو يتظلم منه ويذكره بما فيه من السوء؛ وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة: هو أن يدعو على من ظلمه، وعن مجاهد أن المراد لا يحب الله سبحانه أن يذم أحد أحدا أو يشكوه إلا من ظلم فيجوز له أن يشكو ظالمه ويظهر أمره ويذكره بسوء ما قد صنعه، وعن الحسن. والسدي - وهو المروي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه - المراد: لا يحب الله تعالى الشتم في الانتصار إلا من ظلم فلا بأس له أن ينتصر ممن ظلمه بما يجوز الانتصار به في الدين، وجوز الحسن للرجل إذا قيل له: يا زاني أن يقابل القائل له بمثل ذلك، وأخرج ابن جرير عن مجاهد أن رجلا ضاف قوما فلم يطعموه فاشتكاهم فعوتب عليه فنزلت، وأنت تعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبي وابن جبير والضحاك وعطاء أنهم قرءوا * (إلا من ظلم) * على البناء للفاعل، فالاستثناء منقطع، والمعنى لكن الظالم يحبه أو لكنه يفعل ما لا يحبه الله تعالى فيجهر بالسوء، والموصول في محل نصب، وجوز الزمخشري أن يكون مرفوعا بالإبدال من فاعل يحب كأنه قيل: لا يحب الجهر بالسوء إلا الظالم على لغة من يقول: ما جاءني زيد إلا عمرو بمعنى ما جاءني إلا عمرو، ومنه * (لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله) * (النمل: 65) وهي لغة تميمية، وعليها قول الشاعر: عشية ما تغنى الرماح مكانها * ولا النبل (إلا) المشرفي المصمم
وقد نقل هذه اللغة سيبويه وأنكرها البعض، وكفى بنقل شيخ الصناعة سندا للمثبت، ونقل عن أبي حيان أنه ليس البيت كالمثال لأنه قد يتخيل فيه عموم على معنى السلاح، وأما زيد فلا يتوهم فيه عموم ولا يمكن تصحيحه إلا على أن أصله ما جاءني زيد ولا غيره، فحذف المعطوف لدلالة الاستثناء وكذا الآية التي ذكرت، ورد - كما قال الشهاب - بأنه لو كان التقدير ما ذكره في المثال لكان الاستثناء متصلا والمفروض خلافه، وأن المراد - كما يفهمه كلام الطيبي - جعل المبدل منه بمنزلة غير المذكور حتى كأن الاستثناء مفرغ والنفي عام إلا أنه صرح بنفي بعض أفراد العام لزيادة اهتمام بالنفي عنه، أو لكونه مظنة توهم الإثبات، فيقولون: ما جاءني زيد إلا عمرو، والمعنى ما جاءني إلا عمرو فكذا ههنا المعنى - لا يحب الجهر بالسوء إلا الظالم - فأدخل لفظ * (الله) * تأكيدا لنفي
2

محبته تعالى يعني لله سبحانه اختصاص في عدم محبته ليس لأحد غيره ذلك.
فإن قيل: ما بعد * (إلا) * حينئذ لا يكون فاعلا وهو ظاهر فتعين البدل وهو غلط، أجيب بأنه إنما يكون غلطا لو لم يكن هذا الخاص في موقع العام، ولم يكن المعنى ما جاءني أحد إلا عمرو فإن قيل: فكيون لفظ * (الله) * مجازا عن أحد ولا سبيل إليه، أجيب بأن لا يحب الله مؤل بلا يحب أحد، وواقع موقعه من غير تجوز في لفظ * (الله) * كذا قيل، وتعقبه الشهاب بأن المستثنى منه إذا كان عاما، فإما بتقدير لفظ - كما ذكره أبو حيان - وإما بالتجوز في لفظ العلم، وكلاهما مر ما فيه، ولا طريق آخر للعموم، فما ذكره المجيب لا بد من بيان طريقه اللهم إلا أن يقال: إن الاستثناء من العلم يشترط فيه أن يكون صاحبه أحق بالحكم بحيث إذا نفى عنه يعلم نفيه عن غيره بالطريق الأولى من غير تقدير ولا تجوز فيقال هنا مثلا: إذا لم يحب الله سبحانه الجهر بالسوء وهو الغني عن جميع الأشياء فغيره لا يحبه بطريق من الطرق، وأنت تعلم أن هذا لا يشفي الغليل لأن الاشتراط المذكور مما لم يقم عليه دليل، على أن دعوى كون نفي حب الجهر بالسوء عنه تعالى يعلم منه نفيه عن غيره بالطريق الأولى في غاية الخفاء، فالأولى ماذكره بعد بأن يقال يقدر في الكلام ما ذكر لكنه عند الاستثناء منقطعا بحسب المتبادر، والنظر إلى الظاهر. وجوز على قراءة المعلوم أن يكون متعلقا بالسوء أي إلا سوء من ظلم فيجب الجهر به ويقبله، وقيل: إنه متعلق بقوله تعالى: * (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم) * (النساء: 147) فقد روي عن الضحاك بن مزاحم أنه كان يقول هذا على التقديم والتأخير، أي - ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم، إلا من ظلم - وكان يقرأها كذلك، ولا يكاد يقبل هذا في تخريج كلام الله تعالى العزيز.
* (وكان الله سميعا) * بجميع المسموعات فيندرج فيها كلام المظلوم والظالم * (عليما) * بجميع المعلومات التي من جملتها حال المظلوم والظالم، والجملة تذييل مقرر لما يفيده الاستثناء ولا يأبى ذلك التعميم كما توهم. ووجه ربط هذه الآية بما قبلها - على ما قاله العلامة الطيبي - أنه سبحانه لما فرغ من بيان إيراد رحمته وتقرير إظهار رأفته جاء بقوله جل وعلا: * (لا يحب الله الجهر بالسوء) * تتميما لذلك وتعليما للعباد التخلق بأخلاقه جل جلاله، وفيه أن هذا مما لا محصل له ولا تتم به المناسبة، وزعم أن الآية الأولى فيها أيضا إشارة إلى تعليم التخلق بالأخلاق العلية - كما قرره عصام الملة - ورجا أن يكون من الملهمات، وحينئذ يشتركان في أن كلا منهما متضمنا التعليم المذكور ليس بشيء كما لا يخفى، ومثل ذلك ما ذكره علي بن عيسى في وجه الاتصال وهو أنه تعالى شأنه لما ذكر أهل النفاق، وهو إظهار خلاف ما يبطن بين جل وعلا أن ما في النفس منه ما يجوز إبطانه ومنه ما يجوز إظهاره، وقال شهاب الدين: الظاهر أنه لما ذكر الشكر على وجه علم منه رضاه سبحانه ومحبة إظهاره تممه عز وجل بذكر ضده، فكأنه قيل: إنه يحب الشكر وإعلانه ويكره السوء وإعلانه، وفيه احتباك بديع..
* (إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا) *.
* (إن تبدوا) * أي تظهروا * (خيرا) * أي خير كان من الأقوال والأفعال، وقيل: المراد إن تبدوا جميلا حسنا من القول فيمن أحسن إليكم شكرا له على إنعامه
عليكم، وقيل: المراد بالخير المال والمعنى: إن تظهروا التصدق أو تخفوه أي تفعلوه سرا، وقيل: تعزموا على فعله. * (أو تعفوا عن سوء) * أي تصفحوا عمن أساء إليكم مع ما سوغ لكم من مؤاخذته وأذن فيها، والتنصيص على هذا مع اندراجه
3

في إبتداء الخير وإخفائه على أحد الأقوال للاعتداد به، والتنبيه على منزلته وكونه من الخير بمكان، وذكر إبداء الخير وإخفائه توطئة وتمهيدا له كما ينبىء عن ذلك قوله تعالى: * (فإن الله كان عفوا قديرا) * فإن إيراد العفو في معرض جواب الشرط يدل على أن العمدة العفو مع القدرة ولو كان إبداء الخير وإخفاؤه أيضا مقصودا بالشرط لم يحسن الاقتصار في الجزاء على كون الله تعالى عفوا قديرا أي يكثر العفو عن العصاة مع كمال قدرته على المؤاخذة، وقال الحسن: يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسنة الله تعالى، وقال الكلبي: هو أقدر على عفو ذنوبكم منكم على عفو ذنوب من ظلمكم، وقيل: عفوا عمن عفا * (قديرا) * على إيصال الثواب إليه، نقله النيسابوري وغيره..
* (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذالك سبيلا) *.
* (إن الذين يكفرون بالله ورسله) * أي على ما يؤدي إليه مذهبهم وتقتضيه آراؤهم لا أنهم يصرحون بذلك كما ينبىء عنه قوله تعالى: * (ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله) * في الإيمان بأن يؤمنوا به عز وجل ويكفروا برسله عليهم الصلاة والسلام، لكن لا يصرحون بالإيمان به تعالى وبالكفر بهم قاطبة، بل بطريق الاستلزام كما يحكيه قوله تعالى: * (ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض) * أي نؤمن ببعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ونكفر ببعضهم كما فعل أهل الكتاب، وما ذلك إلا كفر بالله تعالى وتفريق بين الله تعالى ورسله، لأنه عز وجل قد أمرهم بالإيمان بجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما من نبي إلا وقد أخبر قومه بحقية دين نبينا صلى الله عليه وسلم فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل وبالله تعالى أيضا من حيث لا يشعر * (ويريدون) * بهذا القول * (أن يتخذوا بين ذالك) * أي الإيمان والكفر * (سبيلا) * أي طريقا يسلكونه مع أنه لا واسطة بينهما قطعا، إذ الحق لا يختلف، * (فماذا بعد الحق إلا الضلال) * (يوسف: 32)! هذا ما ذهب إليه البعض في تفسير الآية وهو الذي تؤيده الآثار، فقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه قال فيها: أولئك أعداء الله تعالى اليهود والنصارى، آمنت اليهود بالتوراة وموسى وكفروا بالإنجيل وعيسى عليه السلام، وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى عليه السلام وكفروا بالقرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم، فاتخذوا اليهودية والنصرانية وهما بدعتان ليستا من الله عز وجل وتركوا الإسلام وهو دين الله تعالى الذي بعث به رسله، وأخرج ابن جرير عن السدي وابن جريج مثله، وقال بعضهم: الذين يكفرون بالله تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام هم الذين خلص كفرهم الصرف بالجميع فنفوا الصانع مثلا وأنكروا النبوات، والذين يفرقون بينه تعالى وبين رسله عليهم الصلاة والسلام هم الذين آمنوا بالله تعالى وكفروا برسله عليهم الصلاة والسلام لا عكسه، وإن قيل: إنه يتصور في النصارى لإيمانهم بعيسى عليه السلام وكفرهم بالله تعالى حيث قالوا: إنه ثالث ثلاثة، والكفر بالله سبحانه شامل للشرك والإنكار إذ لا يخفى ما فيه، والذي يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض هم الذين آمنوا ببعض الأنبياء عليهم السلام وكفروا ببعضهم كاليهود، فهذه أقسام متقابلة كان الظاهر عطفها - بأو - لكن أتى بالواو بدلها فهي بمعناها، وقيل: إن الموصول مقدر بناءا على جواز حذفه مع بقاء صلته، وقيل: إن قوله تعالى: * (ويريدون أن يفرقوا) * الخ عطف تفسيري على قوله سبحانه: * (يكفرون) * لأن هذه الإرادة عين الكفر بالله تعالى لأن من كفر برسل الله سبحانه فقد كفر بالله تعالى كالبراهمة، وأما قوله جل وعلا: * (ويقولون نؤمن ببعض) * الخ فعطف على صلة الموصول والواو بمعنى أو التنويعية، فالأولون
4

فرقوا بين الإيمان بالله تعالى ورسوله؛ والآخرون فرقوا بين رسل الله تعالى عليهم السلام فآمنوا ببعض وكفروا ببعض كاليهود، وعلى كل تقدير فخبر * (إن) * قوله تعالى:.
* (أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا) *.
* (أولئك) * أي الموصوفون بالصفات القبيحة * (هم الكافرون) * الكاملون في الكفر لا عبرة بما يدعونه ويسمونه إيمانا أصلا * (حقا) * مصدر مؤكد لغيره وعامله محذوف أي حق ذلك أي كونهم كاملين في الكفر حقا، وجوز أن يكون صفة لمصدر الكافرين، أي هم الذين كفروا كفرا حقا أي لا شك فيه ولا ريب، فالعامل مذكور؛ وحقا بمعنى اسم المفعول، وليس بمعنى مقابل الباطل، ولهذا صح وقوعه صفة صناعة ومعنى، واحتمال الحالية - ما زعم أبو البقاء - بعيد، والآية على ما زعمه البعض متعلقة بقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا آمنوا) * (النساء: 136) الخ على أنها كالتعليل له وما توسط بين العلة والمعلول من الجمل والآيات إما معترض أو مستطرد عند إمعان النظر * (وأعتدنا للكافرين) * أي لهم، ووضع المظهر موضع المضمر تذكيرا بوصف الكفر الشنيع المؤذن بالعلية، وقد يراد جميع الكفار وهم داخلون دخولا أوليا. * (عذابا مهينا) * يهينهم ويذلهم جزاء كفرهم الذي ظنوا به العزة..
* (والذين ءامنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أول‍ائك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما) *.
* (والذين ءامنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم) * بأن يؤمنوا ببعض ويكفروا بآخرين كما فعل الكفرة، ودخول بين على * (أحد) * قد مر الكلام فيه. والموصول مبتدأ خبره جملة قوله: * (أول‍ئك) * أي المنعوتون بهذه النعوت الجليلة * (سوف يؤتيهم) * أي الله تعالى * (أجورهم) * الموعودة لهم، فالإضافة للعهد. وزعم بعضهم أن الخبر محذوف أي أضدادهم ومقابلوهم، والاتيان بسوف لتأكيد الموعود الذي هو الإيتاء والدلالة على أنه كائن لا محالة وإن تأخر لا الإخبار بأنه متأخر إلى حين، فعن الزمخشري أن يفعل الذي للاستقبال موضوع لمعنى الاستقبال بصيغته؛ فإذا دخل عليه سوف أكد ما هو موضوع له من إثبات الفعل في المستقبل لا أن يعطي ماليس فيه من أصله فهو في مقابلة لن ومنزلته من يفعل منزلة لن من لا يفعل لأن لا لنفي المستقبل فإذا وضع لن موضعه أكد المعنى الثابت وهو نفي المستقبل فإذا كل واحد من - لن وسوف - حقيقته التوكيد، ولهذا قال سيبويه: لن يفعل نفي سوف يفعل وكأنه اكتفى سبحانه ببيان ما لهؤلاء المؤمنين عن أن يقال: أولئك
هم المؤمنون - حقا - مع استفادته مما دل على الضدية، وفي الآية التفات من التكلم إلى الغيبة. وقرأ نافع وابن كثير وكثير - نؤتيهم - بالنون فلا التفات.
* (وكان الله غفورا) * لمن هذه صفتهم ما سلف لهم من المعاصي والآثام * (رحيما) * بهم فيضاعف حسناتهم ويزيدهم على ما وعدوا..
* (يسألك أهل الكت‍ابأن تنزل عليهم كت‍ابا من السمآء فقد سألوا موسى أكبر من ذالك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الص‍اعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جآءتهم البين‍ات فعفونا عن ذالك وءاتينا موسى سلط‍انا مبينا) *.
* (يسألك) * يا محمد * (أهل الكت‍اب) * الذين فرقوا بين الرسل * (أن تنزل عليهم كتابا من السماء) * فقالوا: إن موسى عليه السلام جاء بالألواح من عند الله تعالى فأتنا بألواح من عنده تعالى فطلبوا أن يكون المنزل جملة، وأن يكون بخط سماوي، وروي ذلك عن محمد بن كعب القرظي والسدي. وعن قتادة أنهم سألوا أن ينزل عليهم كتابا خاصا لهم، وقريب منه ما أخرجه ابن جرير عن ابن جريج قال: إن اليهود قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: لن نبايعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عند الله تعالى من الله تعالى إلى فلان إنك رسول الله وإلى فلان إنك رسول الله، وما كان مقصدهم بذلك إلا التحكم والتعنت، قال الحسن: ولو
5

سألوه ذلك استرشادا لا عنادا لأعطاهم ما سألوا.
* (فقد سألوا موسى) * عليه السلام شيئا أو سؤالا. * (أكبر من ذالك) * المذكور وأعظم، والفاء في جواب شرط مقدر والجواب مؤل ليصح الترتيب أي إن استكبرت هذا وعرفت ما كانوا عليه تبين لك رسوخ عرقهم في الكفر، وقيل: إنها سببية والتقدير لا تبال ولا تستكبر فإنهم قد سألوا موسى عليه السلام ما هو أكبر، وهذه المسألة وإن صدرت عن أسلافهم لكنهم لما كانوا على سيرتهم في كل ما يأتون ويذرون أسند إليهم، وجعله بعض المحققين من قبيل إسناد ما للسبب للمسبب، وجوز أن يكون من إسناد فعل البعض إلى الكل بناءا على كمال الاتحاد نحو: قومي هم قتلوا أميم أخي * فإذا رميت يصيبني سهمي
فيكون المراد بضمير سألوا جميع أهل الكتاب لصدور السؤال عن بعضهم، وأن يكون المراد بأهل الكتاب أيضا الجميع فيكون إسناده يسألك إلى أهل الكتاب من ذلك الإسناد، وأن يكون المراد بهم هذا النوع، ويكون المراد بيان قبائح النوع فلا تكلف ولا تجوز لا في جانب الضمير ولا في المرجع. وأنت تعلم أن إسناد فعل البعض إلى الكل مما ألف في الكتاب العزيز، ووقع في نحو ألف موضع. وقرأ الحسن (أكثر) بالمثلثة.
* (فقالوا أرنا الله) * الذي أرسلك * (جهرة) * أي مجاهرين معاينين فهو في موضع الحال من المفعول الأول - كما قال أبو البقاء - ويحتمل الحالية من المفعول الثاني أي معاينا على صيغة المفعول ولا لبس فيه لاستلزام كل منهما للآخر، فلا يقال: إنه يتعين كونه حالا من الثاني لقربه منه. وجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف هو الرؤية لا الإراءة لأن الجهرة في كتب اللغة صفة للأول لا الثاني؛ فيقال: التقدير: أرنا نره رؤية جهرة، وقيل: يقدر المصدر الموصوف سؤالا أي سؤالا جهرة، وقيل: قولا أي قولا جهرة، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: إنهم إذا رأوه فقد رأوه إنما قالوا جهرة أرنا الله تعالى فهو مقدم ومؤخر - وفيه بعد - والفاء تفسيرية.
* (فأخذتهم) * أي أهلكتهم لما سألوا وقالوا ما قالوا * (الص‍اعقة) * وهي نار جاءت من السماء.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: الصاعقة: الموت أماتهم الله تعالى قبل آجالهم عقوبة بقولهم ما شاء الله تعالى أن يميتهم، ثم بعثهم، وفي ثبوت ذلك تردد. وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه - الصعقة - * (بظلمهم) * أي بسبب ظلمهم وهو تعنتهم وسؤالهم لما يستحيل في تلك الحالة التي كانوا عليها، وإنكار طلب الكفار للرؤية تعنتا لا يقتضي امتناعها مطلقا، واستدل الزمخشري بالآية على الامتناع مطلقا، وبنى ذلك على كون الظلم المضاف إليهم لم يكن إلا لمجرد أنهم طلبوا الرؤية ثم قال: ولو طلبوا أمرا جائزا لما سموا به ظالمين ولما أخذتهم الصاعقة، كما سأل إبراهيم عليه الصلاة والسلام إحياء الموتى فلم يسمه ظالما ولا رماه بالصواعق، ثم أرعد وأبرق ودعا على مدعي جواز الرؤية بما هو به أحق. وأنت تعلم أن الرجل قد استولى عليه الهوى فغفل عن كون اليهود إنما سألوا تعنتا ولم يعتبروا المعجز من حيث هو مع أن المعجزات سواسية الأقدام في الدلالة ويكفيهم ذلك ظلما، والتنظير بسؤال إبراهيم عليه الصلاة والسلام من العجب العجاب كما لا يخفى على ذوي الألباب.
* (ثم اتخذوا العجل) * وعبدوه.
6

* (من بعد ما جاءتهم البينات) * أي المعجزات التي أظهرها لفرعون من العصا واليد البيضاء وفلق البحر. وغيرها، أو الحجج الواضحة الدالة على ألوهيته تعالى ووحدته لا التوراة لأنها إنما نزلت عليهم بعد الاتخاذ * (فعفونا عن ذالك) * الاتخاذ حين تابوا، وفي هذا على ما قيل: استدعاء لهم إلى التوبة كأنه قيل: إن أولئك الذين أجرموا تابوا فعفونا عنهم فتوبوا أنتم أيضا حتى نعفو عنكم. * (وءاتينا موسى سلط‍انا مبينا) * أي تسلطا ظاهرا عليهم حين أمرهم أن يقتلوا أنفسهم توبة عن اتخاذهم، وهذا على ما قيل: وإن كان قبل العفو فإن الأمر بالقتل كان قبل التوبة لأن قبول القتل كان توبة لهم، لكن الواو لا تقتضي الترتيب، واستظهر أن لا يجعل التسلط ذلك التسلط بل تسلطا بعد العفو حيث انقادوا له ولم يتمكنوا بعد ذلك من مخالفته..
* (ورفعنا فوقهم الطور بميث‍اقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا فى السبت وأخذنا منهم ميث‍اقا غليظا) *.
* (ورفعنا فوقهم الطور) * وهو ما روي عن قتادة جبل كانوا في أصله فرفعه الله تعالى فجعله فوقهم كأنه ظلة، وكان كمعسكرهم قدر فرسخ في فرسخ وليس هو - على ما هو في " البحر " - الجبل المعروف بطور سيناء، والظرف متعلق - برفعنا - وجوز أن يكون حالا من الطور أي رفعنا الطور كائنا فوقهم * (بميثاقهم) * أي بسبب ميثاقهم ليعطوه - على ما روي - أنهم امتنعوا عن قبول شريعة التوراة فرفع عليهم فقبلوها، أو ليخافوا فلا ينقضوا الميثاق - على ما روي - أنهم هموا بنقضه
فرفع عليهم الجبل فخافوا وأقلعوا عن النقض، قيل: وهو الأنسب بقوله تعالى بعد: * (وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) *، وزعم الجبائي أن المراد بنقض ميثاقهم الذي أخذ عليهم بأن يعملوا بما في التوراة فنقضوه بعبادة العجل، وفيه إن التوراة إنما نزلت بعد عبادتهم العجل كما مر آنفا فلا يتأتى هذا، وقال أبو مسلم: إنما رفع الله تعالى الجبل فوقهم إظلالا لهم من الشمس جزاءا لعهدهم وكرامة لهم، ولا يخفى أن هذا خرق لإجماع المفسرين، وليس له مستند أصلا.
* (وقلنا لهم) * على لسان يوشع عليه السلام بعد مضي زمان التيه * (ادخلوا الباب) * قال قتادة فيما رواه ابن المنذر وغيره عنه: كنا نتحدث أنه باب من أبواب بيت المقدس، وقيل: هو إيلياء، وقيل: أريحاء، وقيل: هو اسم قرية أو: قلنا لهم على لسان موسى عليه السلام والطور مظل عليهم ادخلوا الباب المذكور إذا خرجتم من التيه، أو باب القبة التي كانوا يصلون إليها لأنهم لم يخرجوا من التيه في حياته عليه السلام والظاهر عدم القيد * (سجدا) * متطامنين خاضعين، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ركعا، وقيل: ساجدين على جباهكم شكرا لله تعالى.
* (وقلنا لهم) * على لسان داود عليه السلام * (لا تعدوا) * أي لا تتجاوزوا ما أبيح لكم، أو لا تظلموا باصطياد الحيتان * (في السبت) * ويحتمل - كما قال القاضي (البيضاوي) بيض الله تعالى غرة أحواله - أن يراد على لسان موسى عليه السلام حين ظلل الجبل عليهم فإنه شرع السبت لكن كان الاعتداء فيه، والمسخ في زمن داود عليه السلام، وقرأ ورش عن نافع * (لا تعدوا) * بفتح العين وتشديد الدال، وروي عن قالون تارة سكون العين سكونا محضا، وتارة إخفاء فتحة العين، فأما الأول فأصلها - تعتدوا - لقوله تعالى: * (اعتدوا منكم في السبت) * (البقرة: 65) فإنه يدل على أنه من الاعتداء وهو افتعال من العدوان. فأريد إدغام تائه في الدال فنقلت حركتها إلى العين وقلبت دالا وأدغمت، وأما السكون المحض فشيء لا يراه النحويون لأنه جمع بين ساكنين على غير حدهما، وأما الإخفاء والاختلاس فهو أخف من ذلك لما أنه قريب من الإتيان بحركة ما، وقرأ الأعمش - تعتدوا -
7

على الأصل، وأصل تعدوا في القراءة المشهورة - تعدووا - بواوين الأولى واو الكلمة والثانية ضمير الفاعل فاستثقلت الضمة على لام الكلمة فحذفت فالتقى ساكنان فحذف الأول - وهو الواو الأولى - وبقي ضمير الفاعل.
* (وأخذنا منهم ميث‍اقا غليظا) * أي عهدا وثيقا مؤكدا بأن يأتمروا بأوامر الله تعالى وينتهوا عن مناهيه، قيل: هو قولهم: سمعنا وأطعنا وكونه * (ميثاقا) * ظاهر، وكونه * (غليظا) * يؤخذ من التعبير بالماضي، أو من عطف الإطاعة على السمع بناءا على تفسيره بها، وفي أخذ ذلك مما ذكر خفاء لايخفى، وحكي أنهم بعد أن قبلوا ما كلفوا به من الدين أعطوا الميثاق على أنهم إن هموا بالرجوع عنه فالله تعالى يعذبهم بأي أنواع العذاب أراد، فإن صح هذا كانت وكادة الميثاق في غاية الظهور، وزعم بعضهم أن هذا الميثاق هو الميثاق الذي أخذه الله تعالى على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم والإيمان به، وهو المذكور في قوله تعالى: * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم) * (آل عمران: 81) الآية، وكونه * (غليظا) * باعتبار أخذه من كل نبي نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأخذ كل واحد واحد له من أمته فهو ميثاق مؤكد متكرر، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر الذي يقتضيه السياق..
* (فبما نقضهم ميث‍اقهم وكفرهم بااي‍ات الله وقتلهم الانبيآء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا) *.
* (فبما نقضهم ميثاقهم) * في الكلام مقدر والجار والمجرور متعلق بمقدر أيضا، والباء للسببية و (ما) مزيد لتوكيدها، والإشارة إلى أنها سببية قوية، وقد يفيد ذلك الحصر بمعونة المقام كما يفيده التقديم على العامل إن التزم هنا، وجوز أن تكون - ما - نكرة تامة، ويكون نقضهم بدلا منهما أي فخالفوا ونقضوا ففعلنا بهم مافعلنا بنقضهم، وإن شئت أخرت العامل. واختار أبو حيان عليه الرحمة تقدير لعناهم مؤخرا لوروده مصرحا به كذلك في قوله تعالى: * (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم) * (المائدة: 13) وجوز غير واحد تعلق الجار - بحرمنا - الآتي على أن قوله تعالى: * (فبظلم) * (النساء: 160) بدل من قوله سبحانه: * (فبما نقضهم) *، وإليه ذهب الزجاج، وتعقبه في " البحر " بأن فيه بعدا لكثرة الفواصل بين البدل والمبدل منه، ولأن المعطوف على السبب سبب فيلزم تأخر بعض أجزاء السبب الذي للتحريم عن التحريم، فلا يمكن أن يكون جزء سبب أو سببا إلا بتأويل بعيد، وبيان ذلك أن قولهم - على مريم بهتانا عظيما - وقولهم * (إنا قتلنا المسيح) * (النساء: 157) متأخر في الزمان عن تحريم الطيبات عليهم، واستحسنه السفاقسي، ثم قال: وقد يتكلف لحله بأن دوام التحريم في كل زمن كابتدائه، وفيه بحث، وجعل العلامة الثاني الفاء في فبظلم على هذا التقدير تكرارا للفاء في فبما نقضهم عطفا على * (أخذنا منهم) * (النساء؛ 154)، أو جزاء شرط مقدر، واستبعده أيضا من وجهين: لفظي ومعنوي، وبين الأول بطول الفصل وبكونه من إبدال الجار والمجرور مع حرف العطف، أو الجزاء مع القطع بأن المعمول هو الجار والمجرور فقط، والثاني: بدلالته على أن تحريم بعض الطيبات مسبب عن مثل هذه الجرائم العظيمة ومترتب عليه، ثم قال: ولو جعلت الفاء للعطف على * (فبما نقضهم) * كما في قولك: بزيد وبحسنه، أو فبحسنه أو ثم حسنه افتتنت لم يحتج إلى جعله بدلا، وجوز أبو البقاء وغيره التعلق بمحذوف دل عليه قوله تعالى: * (بل طبع الله عليها بكفرهم) * ورد بأن ذلك لا يصلح مفسرا ولا قرينة للمحذوف، أما الأول: فلتعلقه بكلام آخر لأنه رد وإنكار لقولهم * (قلوبنا غلف) *، وأما الثاني: فلأنه استطراد يتم الكلام دونه؛ وكونه قرينة لما هو عمدة في الكلام يوجب أن لا يتم دونه. والحاصل أنه لا بد للقرينة من التعلق المعنوي بسابقتها حتى تصلح لذلك، ومنه يعلم أنه لا مورد للنظر بأن الطبعين
8

متوافقان في العروض، أحدهما بالكفر، والآخر بالنقض، وقيل: هو متعلق بلا يؤمنون، والفاء زائدة، وقيل: بما دل عليه ولا يخفى رد ذلك.
* (وكفرهم بآيات الله) * أي حججه الدالة على صدق أنبيائه عليهم الصلاة والسلام والقرآن، أو ما في كتابهم لتحريفه وإنكاره وعدم العمل به.
* (وقتلهم الأنبياء بغير حق) * كزكريا ويحيى عليهما السلام * (وقولهم قلوبنا غلف) * جمع غلاف بمعنى الظرف، وأصله غلف بضمتين فخفف، أي أوعية للعلم
فنحن مستغنون بما فيها عن غيره، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعطاء، وقال الكلبي: يعنون إن قلوبنا بحيث لا يصل إليها شيء إلا وعته ولو كان في حديثك شيء لوعته أيضا، ويجوز أن يكون جمع أغلف أي هي مغشاة بأغشية خلقية لا يكاد يصل إليها ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فيكون كقوله تعالى: * (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه) * فصلت: 5).
* (بل طبع الله عليها بكفرهم) * كلام معترض بين المعطوفين جىء به على وجه الاستطراد مسارعة إلى رد زعمهم الفاسد، أي ليس الأمر كما زعمتم من أنها أوعية العلم فإنها مطبوع عليها محجوبة من العلم لم يصل إليها شيء منه كالبيت المقفل المختوم عليه، والباء للسببية، وجوز أن تكون للآلة، ويجوز أن يكون المعنى ليس عدم وصول الحق إلى قلوبكم لكونها في أكنة وحجب خلقية كما زعمتم بل لأن الله تعالى ختم عليها بسبب كفركم الكسبي، وهذا الطبع بمعنى الخذلان والمنع من التوفيق للتدبر في الآيات والتذكر بالمواعظ عند الكثير وطبع حقيقي عند البعض، وأيد بما أخرجه البزار عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الطابع معلق بقائمة العرش فإذا انتهكت الحرمة وعمل بالمعاصي واجترىء على الله تعالى بعث الله تعالى الطابع فطبع على قلبه فلا يعقل بعد ذلك شيئا " وأخرجه البيهقي أيضا في " الشعب " إلا أنه ضعفه. * (فلا يؤمنون إلا قليلا) * نصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي إلا إيمانا قليلا فهو كالتصديق بنبوة موسى عليه السلام وهو غير مفيد لأن الكفر بالبعض كفر بالكل كما مر، أو صفة لزمان محذوف أي زمانا قليلا، أو نصب على الاستثناء من ضمير (لا يؤمنون) أي إلا قليلا منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه، ورده السمين بأن الضمير عائد على المطبوع على قلوبهم، ومن طبع على قلبه بالكفر لا يقع منه إيمان، وأجيب بأن المراد بما مر الإسناد إلى الكل ما هو للبعض باعتبار الأكثر. وقال عصام الملة: كما يجب استثناء القليل من عدم الإيمان المتفرع على الطبع على قلوبهم يجب استثناء قليل من القلوب من قلوبهم، فكأن المراد بل طبع الله تعالى على أكثرها فليفهم..
* (وبكفرهم وقولهم على مريم بهت‍انا عظيما) *.
* (وبكفرهم) * عطف على - بكفرهم - الذي قبله، ولا يتوهم أنه من عطف الشيء على نفسه ولا فائدة فيه لأن المراد بالكفر المعطوف الكفر بعيسى عليه السلام؛ والمراد بالكفر المعطوف عليه، إما الكفر المطلق أو الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم لاقترانه بقوله تعالى: * (قلوبنا غلف) * (النساء: 551)، وقد حكى الله تعالى عنهم هذه المقالة في مواجهتهم له عليه الصلاة والسلام في مواضع، ففي العطف إيذان بصلاحية كل من الكفرين للسببية. وقد يعتبر في جانب المعطوف المجموع، ومغايرته للمفرد المعطوف عليه ظاهرة، أو عطف على * (فبما نقضهم) * (النساء: 551) ويجوز اعتبار عطف مجموع هذا وما عطف عليه على مجموع ما قبله، ولا يتوهم المحذور، وإن قلنا باتحاد الكفر أيضا لمغايرة المجموع للمجموع وإن لم يغاير بعض أجزائه بعضا، وقد يقال بمغايرة الكفر في المواضع الثلاثة
9

بحمله في الأخيرين على ما أشرنا إليه، وفي الأول على الكفر بموسى عليه السلام لاقترانه بنقض الميثاق، وتقدم حديث العدو في السبت.
* (وقولهم على مريم بهتانا عظيما) * لا يقادر قدره حيث نسبوها - وحاشاها - إلى ما هي عنه في نفسها بألف ألف منزل، وتمادوا على ذلك غير مكترثين بقيام المعجزة بالبراءة، والبهتان الكذب الذي يتحير من شدته وعظمه، ونصبه على أنه مفعول به - لقولهم - وجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف أي قولا بهتانا، وقيل: هو مصدر في موضع الحال أي مباهتين..
* (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ول‍اكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفى شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا) *.
* (وقولهم) * على سبيل التبجح. * (إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله) * ذكروه بعنوان الرسالة تهكما واستهزاءا كما في قوله تعالى حكاية عن الكفار: * (يا أيها الذي نزل عليه الذكر) * (الحجر: 6) الخ، ويحتمل أن يكون ذلك منهم بناءا على قوله عليه الصلاة والسلام وإن لم يعتقدوه، وقيل: إنهم وصفوه بغير ذلك من صفات الذم فغير في الحكاية، فيكون من الحكاية لا من المحكي، وقيل: هو استئناف منه مدحا له عليه الصلاة والسلام ورفعا لمحله وإظهارا لغاية جراءتهم في تصديهم لقتله ونهاية وقاحتهم في تبجحهم.
* (وما قتلوه وما صلبوه) * حال أو اعتراض * (ول‍اكن شبه لهم) * روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - أن رهطا من اليهود سبوه عليه السلام وأمه فدعا عليهم فمسخوا قردة وخنازير فبلغ ذلك يهوذا رأس اليهود فخاف فجمع اليهود فاتفقوا على قتله فساروا إليه ليقتلوه فأدخله جبريل عليه السلام بيتا ورفعه منه إلى السماء ولم يشعروا بذلك فدخل عليه طيطانوس ليقتله فلم يجده وأبطأ عليهم وألقى الله تعالى عليه شبه عيسى عليه السلام فلما خرج قتلوه وصلبوه. وقال وهب بن منبه في خبر طويل رواه عنه ابن المنذر: " أتى عيسى عليه السلام ومعه سبعة وعشرون من الحواريين في بيت فأحاطوا بهم فلما دخلوا عليهم صيرهم الله تعالى كلهم على صورة عيسى عليه السلام فقالوا لهم: سحرتمونا ليبرزن لنا عيسى عليه السلام أو لنقتلنكم جميعا فقال عيسى لأصحابه: من يشتري نفسه منكم اليوم بالجنة؟ فقال رجل منهم: أنا، فخرج إليهم فقال: أنا عيسى فقتلوه وصلبوه ورفع الله تعالى عيسى عليه السلام "، وبه قال قتادة والسدي ومجاهد وابن إسحاق، وإن اختلفوا في عدد الحواريين ولم يذكر أحد غير وهب أن شبهه عليه السلام ألقي على جميعهم بل قالوا: ألقي شبهه على واحد ورفع عيسى عليه السلام من بينهم. ورجح الطبري قول وهب وقال: إنه الأشبه، وقال أبو علي الجبائي: إن رؤساء اليهود أخذوا إنسانا فقتلوه وصلبوه على موضع عال ولم يمكنوا أحدا من الدنو منه فتغيرت حليته، وقالوا: إنا قتلنا عيسى ليوهموا بذلك على عوامهم لأنهم كانوا أحاطوا بالبيت الذي به عيسى عليه السلام فلما دخلوه ولم يجدوه فخافوا أن يكون ذلك سببا لإيمان اليهود ففعلوا ما فعلوا، وقيل: كان رجل من الحواريين ينافق عيسى عليه السلام فلما أرادوا قتله قال: أنا أدلكم عليه وأخذ على ذلك ثلاثين درهما فدخل بيت عيسى عليه السلام فرفع عليه السلام وألقى
شبهه على المنافق فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى عليه السلام، وقيل غير ذلك، و * (شبه) * مسند إلى الجار والمجرور، والمراد وقع لهم تشبيه بين عيسى عليه السلام ومن صلب، أو في الأمر - على قول الجبائي - أو هو مسند إلى ضمير المقتول الذي دل عليه * (إنا قتلنا) * أي شبه لهم من قتلوه بعيسى عليه السلام، أو الضمير للأمر و * (شبه) * من الشبهة أي التبس عليهم الأمر بناءا على ذلك القول، وليس المسند إليه ضمير المسيح عليه الصلاة والسلام لأنه مشبه به لا مشبه.
* (وإن الذين اختلفوا فيه) * أي في شأن عيسى عليه السلام فإنه لما وقعت تلك
10

الواقعة اختلف الناس فقال بعضهم: إنه كان كاذبا فقتلناه (حقا)، وتردد آخرون فقال بعضهم: إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان صاحبنا فأين عيسى؟! وقال بعضهم: الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا، وقال من سمع منه - إن الله تعالى يرفعني إلى السماء - إنه رفع إلى السماء، وقالت النصارى الذين يدعون ربوبيته عليه السلام: صلب الناسوت وصعد اللاهوت، ولهذا لا يعدون القتل نقيصة حيث لم يضيفوه إلى اللاهوت ويرد هؤلاء إن ذلك يمتنع عند اليعقوبية القائلين: إن المسيح قد صار بالاتحاد طبيعة واحدة إذ الطبيعة الواحدة لم يبق فيها ناسوت متميز عن لاهوت والشيء الواحد لا يقال: مات ولم يمت، وأهين ولم يهن. وأما الروم القائلون: بأن المسيح بعد الاتحاد باق على طبيعتين، فيقال لهم: فهل فارق اللاهوت ناسوته عند القتل؟ فإن قالوا: فارقه فقد أبطلوا دينهم، فلم يستحق المسيح الربوبية عندهم إلا بالاتحاد، وإن قالوا: لم يفارقه فقد التزموا ما ورد على اليعقوبية وهو قتل اللاهوت مع الناسوت، وإن فسروا الاتحاد بالتدرع وهو أن الإله جعله مسكنا وبيتا ثم فارقه عند ورود ما ورد على الناسوت أبطلوا إلهيته في تلك الحالة، وقلنا لهم: أليس قد أهين؟ وهذا القدر يكفي في إثبات النقيصة إذ لم يأنف اللاهوت لمسكنه أن تناله هذه النقائص، فإن كان قادرا على نفيها فقد أساء مجاورته ورضي بنقيصته وذلك عائد بالنقص عليه في نفسه، وإن لم يكن قادرا فذلك أبعد له عن عز الربوبية، وهؤلاء ينكرون إلقاء الشبه، ويقولون: لا يجوز ذلك لأنه إضلال، ورده أظهر من أن يخفى، ويكفي في إثباته أنه لو لم يكن ثابتا لزم تكذيب المسيح، وإبطال نبوته بل وسائر النبوات على أن قولهم في الفصل: إن المصلوب قال: إلهي إلهي لم تركتني وخذلتني، وهو ينافي الرضا بمر القضاء؛ ويناقض التسليم لأحكام الحكيم، وأنه شكى العطش وطلب الماء والإنجيل مصرح بأن المسيح كان يطوي أربعين يوما وليلة إلى غير ذلك مما لهم فيه إن صح مما ينادي على أن المصلوب هو الشبه كما لا يخفى. فالمراد من الموصول ما يعم اليهود والنصارى جميعا.
* (لفي شك منه) * أي لفي تردد، وأصل - الشك - أن يستعمل في تساوي الطرفين وقد يستعمل في لازم معناه، وهو التردد مطلقا وإن لم يترجح أحد طرفيه وهو المراد هنا ولذا أكده بنفي العلم الشامل لذلك أيضا بقوله سبحانه: * (ما لهم به من علم إلا اتباع الظن) * والاستثناء منقطع، أي لكنهم يتبعون الظن. وجوز أن يفسر الشك بالجهل، والعلم بالاعتقاد الذي تسكن إليه النفس جزما كان أو غيره؛ فالاستثناء حينئذ متصل، وإليه ذهب ابن عطية إلا أنه خلاف المشهور، وما قيل: إن اتباع الظن ليس من العلم قطعا فلا يتصور اتصاله فمدفوع بأن من قال به جعله بمعنى الظن المتبع.
* (وما قتلوه يقينا) * الضمير لعيسى عليه السلام كما هو الظاهر أي ما قتلوه قتلا يقينا، أو متيقنين، ولا يرد أن نفي القتل المتيقن يقتضي ثبوت القتل المشكوك لأنه لنفي القيد ولا مانع من أنه قتل في ظنهم فإنه يقتضي أنه ليس في نفس الأمر كذلك فلا حاجة إلى التزام جعل * (يقينا) * مفعولا مطلقا لفعل محذوف، والتقدير تيقنوا ذلك يقينا، وقيل: هو راجع إلى العلم؛ وإليه ذهب الفراء وابن قتيبة أي وما قتلوا العلم يقينا من قولهم: قتلت العلم والرأي، وقتلت كذا علما إذا تبالغ علمك فيه، وهو مجاز كما في " الأساس "، والمعنى ما علموه يقينا، وقيل: الضمير للظن أي ما قطعوا الظن يقينا ونقل ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والسدي، وحكى ابن الأنباري أن في الكلام تقديما وتأخيرا، وأن * (يقينا) *
11

متعلق بقوله تعالى:
* (بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما) *.
* (بل رفعه الله إليه) * أي بل رفعه سبحانه إليه يقينا، ورده في " البحر " بأنه قد نص الخليل على أنه لا يعمل ما بعد بل فيما قبلها، والكلام رد وإنكار لقتله وإثبات لرفعه عليه الصلاة والسلام، وفيه تقدير مضاف عند أبي حيان أي إلى سمائه، قال: " وهو حي في السماء الثانية على ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج، وهو هنالك مقيم حتى ينزل إلى الأرض يقتل الدجال ويملؤها عدلا كما ملئت جورا ثم يحيا فيها أربعين سنة " أو تمامها من سن رفعه، وكان إذ ذاك ابن ثلاث وثلاثين سنة ويموت كما تموت البشر ويدفن في حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، أو في بيت المقدس، وقال قتادة: رفع الله تعالى عيسى عليه السلام إليه فكساه الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فطار مع الملائكة فهو معهم حول العرش فصار إنسيا ملكيا سماويا أرضيا، وهذا الرفع على المختار كان قبل صلب الشبه، وفي إنجيل لوقا ما يؤيده؛ وأما رؤية بعض الحواريين له عليه السلام بعد الصلب فهو من باب تطور الروح، فإن للقدسيين قوة التطور في هذا العالم وإن رفعت أرواحهم إلى المحل الأسنى، وقد وقع التطور لكثير من أولياء هذه الأمة، وحكاياتهم في ذلك يضيق عنها نطاق الحصر.
* (وكان الله عزيزا) * لا يغالب فيما يريده * (حكيما) * في جميع أفعاله فيدخل فيه تدبيراته سبحانه في أمر عيسى عليه السلام وإلقاء الشبه على من ألقاه دخولا أوليا..
* (وإن من أهل الكت‍ابإلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القي‍امة يكون عليهم شهيدا) *.
* (وإن من أهل الكت‍اب) * أي اليهود خاصة كما أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو هم والنصارى كما ذهب إليه كثير من المفسرين و * (إن
) * نافية بمعنى ما، وفي الجار والمجرور وجهان: أحدهما: أنه صفة لمبتدأ محذوف، وقوله تعالى: * (إلا ليؤمنن به قبل موته) * جملة قسمية، والقسم مع جوابه خبر المبتدأ ولا يرد عليه أن القسم إنشاء لأن المقصود بالخبر جوابه وهو خبر مؤكد بالقسم، ولا ينافيه كون جواب القسم لا محل له لأن ذلك من حيث كونه جوابا فلا يمتنع كونه له محل باعتبار آخر لو سلم أن الخبر ليس هو المجموع، والتقدير: وما أحد من أهل الكتاب إلا والله ليؤمنن به، والثاني: أنه متعلق بمحذوف وقع خبرا لذلك المبتدأ، وجملة القسم صفة له لا خبر، والتقدير: وإن أحد إلا ليؤمنن به كائن من أهل الكتاب ومعناه كل رجل يؤمن به قبل موته من أهل الكتاب، وهو كلام مفيد، فالاعتراض على هذا الوجه - بأنه لا ينتظم من أحد، والجار والمجرور إسناد لأنه لا يفيد - لا يفيد لحصول الفائدة بلا ريب، نعم المعنى على الوجه الأول كل رجل من أهل الكتاب يؤمن به قبل موته، والظاهر أنه المقصود، وأنه أتم فائدة، والاستثناء مفرغ من أعم الأوصاف، وأهل الكوفة يقدرون موصولا بعد إلا، وأهل البصرة يمنعون حذف الموصول وإبقاء صلته، والضمير الثاني راجع للمبتدأ المحذوف أعني أحد، والأول لعيسى عليه السلام فمفاد الآية أن كل يهودي ونصراني يؤمن بعيسى عليه السلام قبل أن تزهق روحه بأنه عبد الله تعالى ورسوله، ولا ينفعه إيمانه حينئذ لأن ذلك الوقت لكونه ملحقا بالبرزخ لما أنه ينكشف عنده لكل الحق ينقطع فيه التكليف، ويؤيد ذلك أنه قرأ أبي - ليؤمنن به قبل موتهم - بضم النون وعود ضمير الجمع لأحد ظاهر لكونه في معنى الجمع، وعوده لعيسى عليه السلام غير ظاهر.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر الآية كذلك؛ فقيل له: أرأيت إن خر من فوق بيت؟ قال: يتكلم به في الهواء، فقيل: أرأيت إن ضرب عنقه؟ قال: يتلجلج بها لسانه.
وأخرج ابن المنذر أيضا عن شهر بن حوشب قال: قال لي الحجاج: يا شهر آية من كتاب الله تعالى
12

ما قرأتها إلا اعترض في نفسي منها شيء قال الله تعالى: * (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته) *، وإني أوتى بالأسارى فأضرب أعناقهم ولا أسمعهم يقولون شيئا فقلت: رفعت إليك على غير وجهها إن النصراني إذا خرجت روحه - أي إذا قرب خروجها كما تدل عليه رواية أخرى عنه - ضربته الملائكة من قبله ومن دبره، وقالوا: أي خبيث إن المسيح الذي زعمت أنه الله تعالى، وأنه ابن الله سبحانه، وأنه ثالث ثلاثة عبد الله وروحه وكلمته، فيؤمن به حين لا ينفعه إيمانه، وأن اليهودي إذا خرجت نفسه ضربته الملائكة من قبله ودبره، وقالوا: أي خبيث إن المسيح الذي زعمت أنك قتلته عبد الله وروحه فيؤمن به حين لا ينفعه الإيمان، فإذا كان عند نزول عيسى آمنت به أحياؤهم كما آمنت به موتاهم، فقال: من أين أخذتها؟ فقلت: من محمد بن علي (بن الحنفية)، قال: لقد أخذتها من معدنها، قال شهر: وأيم الله تعالى ما حدثنيه إلا أم سلمة، ولكني أحببت أن أغيظه، والإخبار بحالهم هذه وعيد لهم وتحريض إلى المسارعة إلى الإيمان به قبل أن يضطروا إليه مع انتفاء جدواه، وقيل: الضميران لعيسى عليه السلام، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا وأبي مالك والحسن وقتادة وابن زيد، واختاره الطبراني، والمعنى أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب الموجودين عند نزول عيسى عليه السلام إلا ليؤمنن به قبل أن يموت وتكون الأديان كلها دينا واحدا، وأخرج أحمد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الخنزير ويمحو الصليب وتجمع له الصلاة ويعطي المال حتى لا يقبل ويضع الخراج وينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر أو يجمعهما " قال: وتلا أبو هريرة رضي الله تعالى عنه * (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته) *، وقيل: الضمير الأول لله تعالى ولا يخفى بعده، وأبعد من ذلك أنه لمحمد صلى الله عليه وسلم، وروي هذا عن عكرمة، ويضعفه أنه لم يجر له عليه الصلاة والسلام ذكر هنا، ولا ضرورة توجب رد الكناية إليه، لا أنه - كما زعم الطبري - لو كان صحيحا لما جاز إجراء أحكام الكفار على أهل الكتاب بعد موتهم لأن ذلك الإيمان إنما هو في حال زوال التكليف فلا يعتد به.
* (ويوم القي‍امة يكون) * أي عيسى عليه السلام * (عليهم) * أي أهل الكتاب * (شهيدا) * فيشهد على اليهود بتكذيبهم إياه وعلى النصارى بقولهم فيه: إنه ابن الله تعالى، والظرف متعلق - بشهيدا - وتقديمه يدل على جواز تقديم خبر كان مطلقا، أو إذا كان ظرفا أو مجرورا لأن المعمول إنما يتقدم حيث يصح تقديم عامله، وجوز أبو البقاء كون العامل فيه يكون..
* (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيب‍ات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا) *.
* (فبظلم من الذين هادوا) * أي تابوا من عبادة العجل، والتعبير عنهم بهذا العنوان إيذان بكمال عظم ظلمهم بتذكير وقوعه بعد تلك التوبة الهائلة إثر بيان عظمه بالتنوين التفخيمي أي بسبب ظلم عظيم خارج عن حدود (الأشباه والأشكال) صادر عنهم * (حرمنا عليهم طيب‍ات أحلت لهم) * ولمن قبلهم لا لشيء غيره كما زعموا، فإنهم كانوا كلما ارتكبوا معصية من المعاصي التي اقترفوها يحرم عليهم نوع من الطيبات التي كانت محللة لهم ولمن تقدمهم من أسلافهم عقوبة لهم، ومع ذلك كانوا يفترون على الله تعالى الكذب ويقولون: لسنا بأول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعدهما عليهم الصلاة والسلام حتى انتهى الأمر إلينا فكذبهم الله تعالى في مواقع كثيرة وبكتهم بقوله سبحانه: * (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل) * (آل عمران: 93) الآية، وقد تقدم الكلام فيها، وذهب بعض المفسرين أن المحرم عليهم ما سيأتي إن شاء الله تعالى في الأنعام (146) مفصلا.
13

واستشكل بأن التحريم كان في التوراة ولم يكن حينئذ كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وبعيسى عليه السلام ولا ما أشار إليه قوله تعالى: * (وبصدهم عن سبيل الله كثيرا) * أي ناسا كثيرا، أو صدا أو زمانا كثيرا، وقيل في جوابه: إن المراد استمرار التحريم فتدبر ولا تغفل، وهذا معطوف على الظلم وجعله، وكذا ما عطف عليه في " الكشاف " بيانا له، وهو - كما قال بعض المحققين - لدفع ما يقال: إن العطف على المعمول المتقدم ينافي الحصر، ومن جعل الظلم بمعناه وجعل * (بصدهم) * متعلقا بمحذوف فلا إشكال عليه، ومن هذا يعلم تخصيص ما ذكره أهل المعاني من أنه مناف للحصر بما إذا لم يكن الثاني بيانا للأول كما إذا قلت: بذنب ضربت زيدا
وبسوء أدبه، فإن المراد فيه لا بغير ذنب، وكذا خصصوا ذلك بما إذا لم يكن الحصر مستفادا من غير التقديم.
[بم وأعيدت الباء هنا ولم تعد في قوله تعالى:
* (وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالب‍اطل وأعتدنا للك‍افرين منهم عذابا أليما) *.
* (وأخذهم الربوا وقد نهوا عنه) * لأنه فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما ليس معمولا للمعطوف عليه، وحيث فصل بمعموله لم تعد، وجملة (وقد نهوا) حالية، وفي الآية دلالة على أن الربا كان محرما عليهم كما هو محرم علينا، وأن النهي يدل على حرمة المنهى عنه، وإلا لما توعد سبحانه على مخالفته * (وأكلهم أموال الناس بالبطل) * بالرشوة وسائر الوجوه المحرمة * (وأعتدنا للكافرين منهم) * أي للمصرين على الكفر لا لمن تاب وآمن من بينهم - كعبدالله بن سلام وأضرابه - * (عذابا أليما) * سيذوقونه في الآخرة كما ذاقوا في الدنيا عقوبة التحريم، وذكر في " البحر " أن التحريم كان عاما للظالم وغيره، وأنه من باب (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) (الأنفال: 25) دون العذاب، ولذا قال سبحانه: (للكافرين) دون - لهم - وإلى ذلك ذهب الجبائي أيضا فتدبر.
* (ل‍اكن الراسخون فى العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك والمقيمين الصلواة والمؤتون الزكواة والمؤمنون بالله واليوم الاخر أول‍ائك سنؤتيهم أجرا عظيما) *.
* (لكن الراسخون في العلم منهم) * استدراك من قوله سبحانه: * (وأعتدنا) * (النساء: 161) الخ، وبيان لكون بعضهم على خلاف حالهم عاجلا وآجلا، و * (منهم) * في موضع الحال، أي لكن الثابتون المتقنون منهم في العلم المستبصرون فيه غير التابعين للظن كأولئك الجهلة، والمراد بهم عبد الله بن سلام وأسيد وثعلبة وأضرابهم، وفي المذكورين نزلت الآية كما أخرجه البيهقي في " الدلائل " عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: * (والمؤمنون) * أي منهم، وإليه يشير كلام قتادة، وقد وصفوا بالإيمان بعدما وصفوا بما يوجبه من الرسوخ في العلم بطريق العطف المبني على المغايرة بين المتعاطفين تنزيلا للاختلاف العنواني منزلة الاختلاف الذاتي كما مر، وقوله سبحانه: * (يؤمنون بما أنزل إليك) * من القرآن * (وما أنزل من قبلك) * من الكتب على الأنبياء والرسل حال من - المؤمنون - مبينة لكيفية إيمانهم، وقيل: اعتراض مؤكد لما قبله.
وقوله تعالى: * (والمقيمين الصل‍اوة) * قال سيبويه وسائر البصريين: نصب على المدح، وطعن فيه الكسائي بأن النصب على المدح إنما يكون بعد تمام الكلام، وهنا ليس كذلك لأن الخبر سيأتي، وأجيب بأنه لا دليل على أنه لا يجوز الاعتراض بين المبتدأ وخبره، وحكى ابن عطية عن قوم منع نصبه على القطع من أجل حرف العطف لأن القطع لا يكون في العطف وإنما يكون في النعوت، ومن ادعى أن هذا من باب القطع في العطف تمسك بما أنشده سيبويه للقطع مع حرف العطف من قوله: ويأوي إلى نسوة عطل * وشعثا مراضيع مثل السعالى
وقال الكسائي: هو مجرور بالعطف على (ما أنزل إليك) على أن المراد بهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام،
14

قيل: وليس المراد بإقامة الصلاة على هذا أداؤها بل إظهارها بين الناس وتشريعها ليكون وصفا خاصا، وقيل: المراد بالمقيمين الملائكة لقوله تعالى: * (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) * (الأنبياء: 20)، وقيل: المسلمون بتقدير مضاف أي وبدين المقيمين، وقال قوم: إنه معطوف على ضمير * (منهم) *، وقيل ضمير * (إليك) *، وقيل: ضمير * (قبلك) * والبصريون لا يجيزون هذه الأوجه الثلاثة لما فيها من العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، وقد تقدم الكلام في ذلك، وزعم بعض المتأخرين أن الأشبه نصبه على التوهم لكون السابق مقام - لكن - المثقلة وضع موضعها * (لكن) * المخففة، ولا يخفى ما فيه، وبالجملة لا يلتفت إلى من زعم أن هذا من لحن القرآن، وأن الصواب والمقيمون بالواو كما في مصحف عبد الله، وهي قراءة مالك بن دينار والجحدري وعيسى الثقفي إذ لا كلام في نقل النظم تواترا فلا يجوز اللحن فيه أصلا، وأما ما روي أنه لما فرغ من المصحف أتى به إلى عثمان رضي الله تعالى عنه فقال: قد أحسنتم وأجملتم أرى شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها، ولو كان المملي من هذيل والكاتب من قريش لم يوجد فيه هذا، فقد قال السخاوي: إنه ضعيف، والإسناد فيه اضطراب وانقطاع فإن عثمان رضي الله تعالى عنه جعل للناس إماما يقتدون به، فكيف يرى فيه لحنا ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها، وقد كتب عدة مصاحف وليس فيها اختلاف أصلا إلا فيما هو من وجوه القراءات، وإذا لم يقمه هو ومن باشر الجمع وهم هم كيف يقيمه غيرهم؟! وتأول قوم اللحن في كلامه على تقدير صحته عنه بأن المراد الرمز والإيماء كما في قوله: منطق رائع وتلحن أحيا * نا وخير الكلام ما كان لحنا
أي المراد به الرمز بحذف بعض الحروف خطا كألف الصابرين مما يعرفه القراء إذا رأوه، وكذا زيادة بعض الحروف وقد قدمنا لك ما ينفعك هنا فتذكر. ثم الظاهر أن المقيمين على قراءة الرفع معطوف على سابقه وينزل أيضا التغاير العنواني منزلة التغاير الذاتي، والعطف على ضمير * (يؤمنون) * ليس بشيء وكذا الحال في قوله تعالى:
* (والمؤتون الزكواة والمؤمنون بالله واليوم الآخر) * فإن المراد بالكل مؤمنو أهل الكتاب وصفوا أولا بكونهم راسخين في علم الكتاب لا يعترضهم شك ولا تزلزلهم شبهة إيذانا بأن ذلك موجب للإيمان وأن من عداهم إنما بقوا مصرين (على الكفر) لعدم رسوخهم فيه، بل هم كريشة في بيداء الضلال تقلبهم زعازع الشكوك والأوهام، ثم بكونهم مؤمنين بجميع ما أنزل من الكتب على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم بكونهم عاملين بما فيها من الأحكام، واكتفى من بينها بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة المستتبعين لسائر العبادات البدنية والمالية، ولما أن في إقامة الصلاة على وجهها انتصابا بين يدي الحق جل جلاله، وانقطاعا عن السوى، وتوجها إلى المولى كسى المقيمين حلة النصب ليهون عليهم النصب وقطعهم عن التبعية، فياما أحيلى قطع يشير إلى الاتصال بأعلى الرتب، ثم وصفهم بكونهم (مؤمنين) بالمبدأ والمعاد تحقيقا
لحيازتهم الإيمان بقطريه، وإحاطتهم به من طرفيه، وتعريضا بأن من عداهم من أهل الكتاب ليسوا مؤمنين بواحد منهما حقيقة لأنهم قد مزجوا الشهد سما وغدوا عن اتباع الحق الصرف عميا وصما.
* (أول‍ئك) * إشارة إلى الموصوفين بما تقدم من الصفات الجليلة الشأن المحكمة البنيان، وهو مبتدأ وقوله تعالى: * (سنؤتيهم أجرا عظيما) * خبره، والجملة خبر المبتدأ الذي هو
15

الراسخون، والسين لتوكيد الوعد كما قدمنا، وتنكير الأجر للتفخيم كما مر غير مرة، ولا يخفى ما في هذا من المناسبة التامة بين طرفي الاستدراك حيث أوعد الأولون بالعذاب الأليم، ووعد الآخرون بالأجر العظيم، وجوز غير واحد من المفسرين كون خبر المبتدأ الأول جملة * (يؤمنون) * وحمل المؤمنين على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ممن عدا أهل الكتاب والمناسبة عليه غير تامة، وذهب بعضهم إلى أن الاستدراك إنما هو من قوله تعالى: * (يسئلك أهل الكتاب) * (النساء: 153) الآية كأنه قيل: لكن هؤلاء لا يسألونك ما يسألك هؤلاء الجهال من إنزال كتاب من السماء لأنهم قد علموا صدق قولك فيما قرأوا من الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ووجوب اتباعك عليهم فلا حاجة بهم أن يسألوك معجزة أخرى إذ قد علموا من أمرك بالعلم الراسخ في قلوبهم ما يكفيهم عن ذلك، وروي هذا عن قتادة. وتجاوب طرفي الاستدراك عليه أتم منه على قول الجمهور. وقرأ حمزة * (سيؤتيهم) * بالياء مراعاة لظاهر قوله تعالى: * (المؤمنون بالله) *..
* (إنآ أوحينآ إليك كمآ أوحينآ إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينآ إلى إبراهيم وإسم‍اعيل وإسح‍اق ويعقوب والاسباط وعيسى وأيوب ويونس وه‍ارون وسليم‍ان وءاتينا داوود زبورا) *.
* (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده) * جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن ينزل عليهم) كتابا من السماء، واحتجاج عليهم بأن شأنه في الوحي كشأن سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين لا ريب في نبوتهم، وقيل: هو تعليل لقوله تعالى: * (الراسخون في العلم) * (النساء: 162). وأخرج ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال؛ " قال سكين وعدي بن زيد: يا محمد ما نعلم الله تعالى أنزل على بشر من شيء بعد موسى عليه السلام فأنزل الله تعالى هذه الآية " والكاف في محل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي إيحاءا مثل إيحائنا إلى نوح عليه السلام، أو حال من ذلك المصدر المقدر معرفا كما هو رأي سيبويه أي إنا أوحينا الإيحاء (حال كونه) (1) مشبها بإيحائنا الخ، و (ما) في الوجهين مصدرية. وجوز أبو البقاء أن تكون موصولة فيكون الكاف مفعولا به أي أوحينا إليك مثل الذي أوحيناه إلى نوح من التوحيد وغيره وليس بالمرضى، و (من بعده) متعلق - بأوحينا - ولم يجوزوا أن يكون حالا من النبيين لأن ظروف الزمان لا تكون أحوالا للجثث، وبدأ سبحانه بنوح عليه السلام تهديدا لهم لأنه أول نبي عوقب قومه، وقيل: لأنه أول من شرع الله تعالى على لسانه الشرائع والأحكام، وتعقب بالمنع، وقيل: لمشابهته بنبينا صلى الله عليه وسلم في عموم الدعوة لجميع أهل الأرض، ولا يخلو عن نظر لأن عموم دعوته عليه السلام اتفاقي لا قصدي، وعموم الفرق على القول به - وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه - ليس قطعي الدلالة على ذلك كما لا يخفى.
* (وأوحينا إلى إبراهيم) * عطف على * (أوحينا إلى نوح) * داخل معه في حكم التشبيه أي كما أوحينا إلى إبراهيم * (وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط) * وهم أولاد يعقوب عليه السلام في المشهور، وقال غير واحد: إن الأسباط في ولد إسحاق كالقبائل في أولاد إسماعيل، وقد بعث منهم عدة رسل، فيجوز أن يكون أراد سبحانه بالوحي إليهم الوحي إلى الأنبياء منهم كما تقول: أرسلت إلى بني تميم، وتريد أرسلت إلى وجوههم، ولم يصح أن الأسباط الذين هم أخوة يوسف عليه السلام كانوا أنبياء بل الذي صح عندي - وألف فيه الجلال السيوطي " رسالة " - خلافه * (وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان) * ذكروا مع ظهور انتظامهم في سلك النبيين تشريفا لهم وإظهارا لفضلهم على ما هو المعروف في ذكر الخاص بعد العام في مثل هذا المقام، وتكرير الفعل لمزيد تقرير الإيحاء والتنبيه على أنهم طائفة خاصة مستقلة بنوع مخصوص من الوحي، وبدأ بذكر إبراهيم بعد التكرير
16

لمزيد شرفه ولأنه الأب الثالث للأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما نص عليه الأجهوري وغيره. وقدم عيسى عليه السلام على من بعده تحقيقا لنبوته وقطعا لما رآه اليهود فيه، وقيل: ليكون الابتداء بواحد من أولي العزم بعد تغير صفة المتعاطفات إفرادا وجمعا وكل هذه الأسماء - على ما ذكره أبو البقاء - أعجمية إلا الأسباط، وفي ذلك خلاف معروف، وفي يونس لغات أفصحها ضم النون من غير همز، ويجوز فتحها وكسرها مع الهمز وتركه.
* (وءاتينا داود زبورا) * عطف على * (أوحينا) * داخل في حكمه لأن إيتاء الزبور من باب الإيحاء، وكما آتينا داود زبورا - وإيثاره على أوحينا إلى داود - لتحقق المماثلة في أمر خاص، وهو إيتاء الكتاب بعد تحققها في مطلق الإيحاء؛ والزبور بفتح الزاي عند الجمهور وهو فعول بمعنى مفعول - كالحلوب. والركوب - كما نص عليه أبو البقاء. وقرأ حمزة وخلف * (زبورا) * بضم الزاي حيث وقع، وهو جمع زبر بكسر فسكون بمعنى مزبور أي مكتوب، أو زبر بالفتح والسكون كفلس وفلوس، وقيل: إنه مصدر كالقعود والجلوس، وقيل: إنه جمع زبور على حذف الزوائد، وعلى العلات جعل اسما للكتاب المنزل على داود عليه السلام، وكان إنزاله عليه عليه السلام منجما وبذلك يحصل الإلزام، " وكان فيه - كما قال القرطبي - مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم من الأحكام، وإنما هي حكم ومواعظ " والتحميد والتمجيد والثناء على الله تعالى شأنه..
* (ورسلا قد قصصن‍اهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما) *.
* (ورسلا) * نصب بمضمر أي أرسلنا رسلا؛ والقرينة عليه قوله سبحانه: * (أوحينا) * (النساء: 163) السابق لاستلزامه الإرسال، وهو معطوف عليه داخل معه في حكم التشبيه، وقيل: القرينة قوله تعالى: * (قد قصصناهم عليك) * لا أنه منصوب - بقصصنا - بحذف مضاف أي قصصنا أخبار رسل، ولا أنه منصوب
بنزع الخافض أي كما أوحينا إلى نوح وإلى رسل - كما قيل - لخلوه عما في الوجه الأول من تحقيق المماثلة بين شأنه صلى الله عليه وسلم وبين شؤون من يعترفون بنبوته من الأنبياء عليهم السلام في مطلق الإيحاء، ثم في إيتاء الكتاب، ثم في الإرسال، فإن قوله سبحانه: * (إنا أوحينا إليك) * (النساء: 163) منتظم لمعنى * (آتيناك) * (طه: 99) و * (أرسلناك) * (البقرة: 119) حتما فكأنه قيل: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى فلان وفلان، وآتيناك مثل ما آتينا فلانا، وأرسلناك مثل ما أرسلنا الرسل الذي قصصناهم وغيرهم ولا تفاوت بينك وبينهم في حقيقة الإيحاء والإرسال فما للكفرة يسألونك شيئا لم يعطه أحد من هؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام؟ ومعنى قصهم عليه عليه الصلاة والسلام حكاية أخبارهم له وتعريف شأنهم وأمورهم * (من قبل) * أي من قبل هذه السورة أو اليوم، قيل: قصهم عليه صلى الله عليه وسلم بمكة في سورة الأنعام (83 - 86) وغيرها، وقال بعضهم: قصهم سبحانه عليه عليه الصلاة والسلام بالوحي في غير القرآن ثم قصهم عليهم بعد في القرآن.
* (ورسلا لم نقصصهم عليك) * أي من قبل فلا تنافي الآية ما ورد في الخبر من أن الرسل ثلثمائة وثلاثة عشر، والأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، وعن كعب أنهم ألف ألف وأربعمائة ألف وأربعة وعشرون ألفا لأن نفي قصهم من قبل لا يستلزم نفي قصهم مطلقا، فإن نفي الخاص لا يستلزم نفي العام، فيمكن أن يكون قصهم عليه صلى الله عليه وسلم بعد فعلمهم، فأخبر بما أخبر على أن القبلية تفهم من الكلام ولو لم تكن في القابل لأن * (لم) * في المشهور إذا دخلت على المضارع تقلب معناه للمضي على أن القص ذكر الأخبار، ولا يلزم من نفي ذكر أخبارهم له صلى الله عليه وسلم نفي ذكر عددهم مجردا من ذكر الأخبار والقصص، فيمكن أن يقال: لم يذكر سبحانه له صلى الله عليه وسلم أخبارهم أصلا لكن ذكر جل شأنه له عليه الصلاة والسلام أنهم كذا رجلا فاندفع ما توهمه بعض المعاصرين من أن الآية نص في عدم علمه وحاشاه عليه الصلاة والسلام
17

عدة المرسلين عليهم الصلاة والسلام فيأخذ بها ويرد الحديث وكأن الذي أوقعه في الوهم كلام بعض المحققين والأولى أن لا يقتصر على عدد الآية، فأخطأ في الفهم ومات في ربقة التقليد نسأل الله تعالى العافية.
* (وكلم الله موسى) * برفع الجلالة ونصب موسى، وعن إبراهيم ويحيى بن وثاب أنهما قرآ على القلب. * (تكليما) * مصدر مؤكد رافع لاحتمال المجاز على ما ذكره غير واحد، ونظر فيه الشهاب بأنه مؤكد للفعل فيرفع المجاز عنه، وأما رفعه المجاز عن الإسناد بأن يكون المكلم رسله من الملائكة، كما يقال: قال الخليفة كذا إذا قاله وزيره فلا، مع أنه أكد الفعل، والمراد به معنى مجازي كقول هند بنت النعمان في زوجها روح بن زنباع وزير عبد الملك بن مروان: بكى الخز من روح وأنكر جلده * وعجت عجيجا من جذام المطارف
فأكدت " عجت " مع أنه مجاز لأن الثياب لا تعج، وما نقل عن الفراء من أن العرب تسمي ما وصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر فإذا أكد به لم يكن إلا حقيقة الكلام لا يفي بالمقصود إذ نهاية ما فيه رفع المجاز عن الفعل في هذه المادة، ولا تعرض له لرفع المجاز عن الإسناد فللخصم أن يقول: التكليم حقيقة إلا أن إسناده إلى الله تعالى مجاز ولا تقوم الآية حجة عليه إلا بنفي ذلك الاحتمال، نعم إنها ظاهرة فيما ذهب إليه أهل السنة والجملة إما معطوفة على قوله تعالى: * (إنا أوحينا إليك) * (النساء: 163) عطف القصة على القصة لا على - * (آتينا) * - (النساء: 163) وما عطف عليه، وإما حال بتقدير قد كما ينبىء عنه تغيير الأسلوب بالالتفات، والمعنى أن التكليم بغير واسطة منتهى مراتب الوحي وأعلاها، وقد خص به من بين الأنبياء الذين اعترفتم بنبوتهم موسى عليه السلام ولم يقدح ذلك فيهم أصلا فكيف يتوهم أن نزول التوراة عليه جملة قادح في نبوة من أنزل عليه الكتاب مفصلا مع ظهور حكمة ذلك.
هذا وقد تقدم لك كيفية سماع موسى عليه السلام لكلام الله عز وجل، وقد وقع التكليم أيضا لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الإسراء مع زيادة رفعة، بل ما من معجزة لنبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم مثلها مع زيادة شرف له شرفه الله تعالى، بل ما من ذرة نور شعت في العالمين إلا تصدقت بها شمس ذاته صلى الله عليه وسلم، ولله سبحانه در البوصيري حيث يقول: وكل آي أتى الرسل الكرام بها * فإنما اتصلت من نوره بهم
فصلى الله تعالى عليه وسلم تسليما كثيرا..
* (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما) *.
* (رسلا مبشرين ومنذرين) * نصب على المدح، أو بإضمار أرسلنا أو على الحال من * (رسلا) * (النساء: 164) الذي قبله، أو ضميره وهي حال موطئة، والمقصود وصفها. وضعف هذا بأنه حينئذ لا وجه للفصل بين الحال وذيها، وجوز أن يكون نصبا على البدلية من * (رسلا) * الأول، وضعف بأن اتحاد البدل والمبدل منه لفظا بعيد، وإن كان المعتمد بالبدلية الوصف أي مبشرين من آمن وأطاع بالجنة والثواب ومنذرين من كفر وعصى بالنار والعقاب.
* (لئلا يكون للناس على الله حجة) * أي معذرة يعتذرون بها قائلين * (لولا أرسلت إلينا رسولا) * (طه: 134) فيبين لنا شرائعك ويعلمنا ما لم نكن نعلم من أحكامك لقصور القوى البشرية عن إدراك جزئيات المصالح، وعجز أكثر الناس عن إدراك كلياتها. فالآية ظاهرة في أنه لا بد من الشرع وإرسال الرسل؛ وأن العقل لا يغني عن ذلك، وزعم المعتزلة أن العقل كاف وأن إرسال الرسل إنما هو للتنبيه عن سنة الغفلة التي تعتري الإنسان من دون اختيار، فمعنى الآية عندهم لئلا يبقى للناس على الله حجة، وسيأتي
18

رد ذلك إن شاء الله تعالى مع تحقيق هذا المبحث.
وتسمية ما يقال عند ترك الإرسال حجة مع استحالة أن يكون لأحد عليه سبحانه حجة مجاز بتنزيل المعذرة في القبول عنده تعالى بمقتضى كرمه ولطفه منزلة الحجة
القاطعة التي لا مرد لها، فلا يبطل قول أهل السنة أنه لا اعتراض لأحد على الله تعالى في فعل من أفعاله بل له سبحانه أن يفعل بمن شاء ما شاء، واللام متعلقة - بأرسلنا - المقدر، أو - بمبشرين ومنذرين - على التنازع، وجوز أن تتعلق بما يدلان عليه، و * (حجة) * اسم كان وخبرها * (للناس) * و * (على الله) * حال من * (حجة) * ويجوز أن يكون الخبر * (على الله) * و * (للناس) * حال، ولا يجوز أن يتعلق على - بحجة - لأنها مصدر ومعموله لا يتقدم عليه، ومن جوزه في الظرف جوزه هنا.
وقوله تعالى: * (بعد الرسل) * - أي بعد إرسالهم وتبليغ الشريعة على ألسنتهم - ظرف لحجة، وجوز أن يكون صفة لها لأن ظرف الزمان يوصف به المصادر كما يخبر به عنها * (وكان الله عزيزا) * لا يغالب في أمر يريده. * (حكيما) * في جميع أفعاله، ومن قضية ذلك الامتناع عن إجابة مسألة المتعنتين، وقطع الحجة بإرسال الرسل وتنوع الوحي إليهم والإعجاز، وقيل: عزيزا في عقاب الكفار حكيما في الإعذار بعد تقدم الإنذار كأنه بعد أن سألوا إنزال كتاب الله تعالى..
* (ل‍اكن الله يشهد بمآ أنزل إليك أنزله بعلمه والمل‍ائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا) *.
* (ل‍اكن الله يشهد) * بتخفيف النون ورفع الجلالة. وقرأ السليمي بتشديد النون ونصب الجلالة، وهو استدراك عن مفهوم ما قبله كأنهم لما سألوه صلى الله عليه وسلم إنزال كتاب من السماء وتعنتوا ورد عليهم بقوله تعالى: * (إنا أوحينا إليك) * (النساء: 163) الخ قيل: إنهم لا يشهدون لكن الله يشهد. وحاصل ذلك إن لم تلزمهم الحجة ويشهدوا لك فالله تعالى يشهد، وقيل: إنه سبحانه لما شبه الإيحاء إليه صلى الله عليه وسلم بالإيحاء إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أوهم ذلك التشبيه مزية الإيحاء إليهم، فاستدرك عنه بأن للإيحاء إليك مزية شهادة الله تعالى * (بما أنزل إليك) * أي بحقية الذي أنزله إليك وهو القرآن، فالجار والمجرور متعلق - بيشهد - والباء صلة والمشهود به هو الحقية، ويجوز أن يكون المشهود به هو النبوة وتعلق بما أنزل تعلق الآلية أي يشهد بنبوتك بسبب ما أنزل إليك لدلالته بإعجازه على صدقك ونبوتك، ولعل مآل المعنى ومؤداه واحد فإن شهادته سبحانه بحقية ما أنزله من القرآن بإظهار المعجز المقصود منه إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم، وأخرج البيهقي في " الدلائل " وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: " دخل جماعة من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام لهم: إني والله أعلم أنكم تعلمون أني رسول الله فقالوا: ما نعلم ذلك فنزلت: * (لكن الله يشهد) * " وفي رواية ابن جرير عنه " أنه لما نزل * (إنا أوحينا إليك) * (النساء: 163) قالوا: ما نشهد لك فنزل * (لكن الله يشهد بما أنزل إليك) *، وقرىء * (أنزل) * على البناء للمفعول.
* (أنزله بعلمه) * ذكر فيه أربعة أوجه: الأول: أن يكون المعنى أنزله بعلمه الخاص به الذي لا يعلمه غيره سبحانه، وهو تأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان، واختاره جماعة من المفسرين، والثاني: أن يكون المعنى أنزله وهو عالم بأنك أهل لإنزاله إليك لقيامك فيه بالحق ودعائك الناس إليه، واختاره الطبرسي والثالث: أن يكون المعنى أنزله بما علم من مصالح العباد مشتملا عليه، والرابع: أن يكون المعنى أنزله وهو عالم به رقيب عليه حافظ له من الشياطين برصد من الملائكة، والعلم على الوجه الأول قيل: بمعنى المعلوم، والمراد به التأليف والنظم المخصوص وليس من جعل العلم
19

مجازا عن ذلك ولو جعل عليه العلم بمعناه المصدري، والباء للملابسة ويكون تأليفه بيانا لتلبسه لا للعلم نفسه صح لكن فيه تجوز من جهة أن التأليف ليس نفس التلبس بل أثره، ويحتمل على هذا أن تكون الباء للآلية كما يقال: فعله بعلمه إذا كان متقنا وعلى ما ينبغي، فيكون وصفا للقرآن بكمال الحسن والبلاغة، وأما على الوجه الثاني والثالث فالعلم بمعناه، أو هو في الثالث بمعنى المعلوم، والظرف حال من الفاعل أو المفعول، ومتعلق العلم مختلف وهو أنك أهل لإنزاله أو مصالح العباد، وظاهر كلام البعض أنه على الثاني حال من الفاعل، وعلى الثالث من المفعول، وجوز أن يكون مفعولا مطلقا مطلقا أي إنزالا متلبسا بعلمه، وموقع الجملة على الأول موقع الجملة المفسرة لأنه بيان للشهادة على ما نص عليه الزمخشري، وعلى الوجهين موقع التقرير والبيان للصلة، وقيل: إنها في الأوجه الثلاثة كالتفسير - لأنزل إليك - لأنها بيان لإنزاله على وجه مخصوص، وأما على الوجه الرابع فقد ضمن العلم بمعنى الرقيب والحافظ، والظرف حال من الفاعل، ويكون * (أنزله) * تكريرا ليعلق به ما علق أو كما قيل، ولم يعتبر بعضهم هذا الوجه لأنه لا مساس له بهذا المقام، وقيل: إن فيه تعظيما لأمر القرآن بحفظه من شياطين الجن المشعر بحفظه أيضا من شياطين الإنس فتكون الجملة حينئذ كالتفسير للشهادة أيضا، وقرىء نزله.
* (والملائكة يشهدون) * أيضا بما شهد الله تعالى به لأنهم تبع له سبحانه في الشهادة، والجملة عطف على ما قبلها، وقيل: حال من مفعول * (أنزله) * أي أنزله والملائكة يشهدون بصدقه وحقيته، وجعل بعضهم شهادة الملائكة على صدقه صلى الله عليه وسلم في دعواه بإتيانهم لإعانته عليه الصلاة والسلام في القتال ظاهرين كما كان في غزوة بدر، وأيا ما كان - فيشهدون - من الشهادة، وذكر أنه على الوجه الرابع من الشهود للحفظ * (وكفى بالله شهيدا) * على ما شهد به لك حيث نصب الدليل وأوضح السبيل وأزال الشبه وبالغ في ذلك على وجه لا يحتاج معه إلى شهادة غيره عز وجل. هذا ومن باب الإشارة في الآيات: * (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول) * أي لا يحب أن يهتك العبد ستره إذا صدرت منه هفوة أو اتفقت منه كبوة * (إلا من ظلم) * (النساء: 148) أي إلا جهر من ظلمته نفسه برسوخ الملكات الخبيثة فيه فإنه مأذون له بإظهار ما فيه من تلك الملكات وعرضها على أطباء القلوب ليصفوا له دواءها، وقيل: لا يحب الله تعالى إفشاء سر الربوبية وأظهار مواهب الألوهية، أو كشف القناع من مكنونات الغيب ومصونات غيب الغيب إلا من ظلم بغلبات الأحوال وتعاقب كؤوس الجلال والجمال فاضطر إلى المقال فقال باللسان الباقي لا باللسان الفاني أنا الحق وسبحاني ما أعظم شأني، وفي تسمية تلك الغلبة ظلما خفاء لا يخفى. وفي ظاهر الآية بشارة عظيمة للمذنبين حيث بين سبحانه أنه لا يرضى بهتك الستر إلا من المظلوم فكيف يرضى سبحانه من نفسه أن يهتك ستر العاصين وليسوا بظالميه جل جلاله، وإنما ظلموا أنفهسم كما نطق بذلك الكتاب * (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض) * هؤلاء قوم احتجبوا بالجمع عن التفصيل، فأنكروا الرسل لتوهمهم
وحدة منافية للكثرة وجمعا مباينا للتفصيل، ومن هنا عطلوا الشرائع وأباحوا المحرمات وتركوا الصلوات * (ويريدون أن يتخذوا بين ذلك) * أي الإيمان بالكل جمعا وتفصيلا والكفر بالكل * (سبيلا) * (النساء: 150) أي طريقا * (أولئك هم الكافرون) * المحجوبون * (حقا) * (النساء: 151) بذواتهم وصفاتهم لأن معرفتهم وهم وغلط، وتوحيدهم زندقة وضلال، ولقتل واحد منهم أنفع من قتل
20

ألف كافر حربي على ما أشار إليه حجة الإسلام الغزالي قدس سره * (والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم) * وهم المؤمنون جمعا وتفصيلا لا يحجبهم جمع عن تفصيل ولا تفصيل عن جمع كالسادة الصادقين من أهل الوحدة * (أولئك سوف يؤتيهم أجورهم) * من الجنات الثلاث * (وكان الله غفورا) * يستر ذواتهم وصفاتهم * (رحيما) * (النساء: 152) يرحمهم بالوجود الموهوب الحقاني والبقاء السرمدي * (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء) * أي علما يقينيا بالمكاشفة من سماء الروح * (فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة) * أي طلبوا المشاهدة ولا شك أنها أكبر وأعلى من المكاشفة * (فأخذتهم الصاعقة) * أي استولت عليهم نار الأنانية وأهلكت استعدادهم بظلمهم وهو طلبهم المشاهدة مع بقاء ذواتهم * (ثم اتخذوا العجل) * أي عجل الشهوات الذي صاغه لهم سامري النفس الأمارة * (من بعد ما جاءتهم البينات) * الرادعة لهم عن ذلك * (وآتينا موسى سلطانا مبينا) * (النساء: 153) وهو سطوع نور التجلي من وجهه حتى احتاج إلى أن يستر وجهه بالبرقع رحمة بخفافيش أمته * (ورفعنا فوقهم الطور) * أي جعلناه مستوليا عليهم * (بميثاقهم) * أي بسبب أن يعطوا الميثاق، وأشير بالطور إلى موسى عليه السلام، أو إلى العقل ورفعه فوقهم تأييده بالأنوار الإلهية * (وقلنا لهم ادخلوا الباب) * أي باب السير والسلوك الموصل إلى حضيرة القدس وملك الملوك * (سجدا) * (النساء: 154) خضعا متذللين، وقوله تعالى: * (بل رفعه الله إليه) * (النساء: 158) أشير به - على ما ذكره بعض القوم والعهدة عليه - إلى اتصال روحه عليه السلام بالعالم العلوي عند مفارقته للعالم السفلي، وذلك الرفع عندهم إلى السماء الرابعة لأن مصدر فيضان روحه عليه السلام روحانية فلك الشمس الذي هو بمثابة قلب العالم، ولما لم يصل إلى الكمال الحقيقي الذي هو درجة المحبة لم يكن له بد من النزول مرة أخرى في صورة جسدانية، يتبع الملة المحمدية لنيل تلك الدرجة العلية، وحينئذ يعرفه كل أحد فيؤمن به أهل الكتاب أي أهل العلم العارفين بالمبدأ والمعاد كلهم عن آخرهم قبل موته عليه السلام بالفناء بالله عز وجل، فإذا آمنوا به يكون يوم القيامة أي يوم بروزهم عن الحجب الجسمانية وانتباههم عن نوم الغفلة شهيدا، وذلك بأن يتجلى الحق عليهم في صورته * (فبظلم من الذين هادوا) * وهو عبادتهم عجل الشهوات واتخاذه إلها وامتناعهم عن دخول باب حضيرة القدس واعتدائهم في السبت بمخالفة الشرع الذي هو المظهر الأعظم والاحتجاب عن كشف توحيد الأفعال ونقضهم ميثاق الله تعالى واحتجابهم عن توحيد الصفات الذي هو كفر بآيات الله تعالى إلى غير ذلك من المساوي:
مساو لو قسمن على الغواني * لما أمهرن إلا بالطلاق
* (حرمنا عليهم طيبات) * عظيمة جليلة وهي ما في الجنات الثلاث * (أحلت لهم) * بحسب استعدادهم لولا هذه الموانع * (وبصدهم عن سبيل الله) * أي طريقه الموصلة إليه سبحانه * (كثيرا) * (النساء: 160) أي خلقا كثيرا وهي القوى الروحانية * (وأخذهم الربا) * وهو فضول العلم الرسمي الجدلي الذي هو كشجرة الخلاف لا ثمرة له، وكاللذات البدنية والحظوظ النفسانية * (وقد نهوا عنه) * لما أنه الحجاب العظيم * (وأكلهم أموال الناس بالباطل) * (النساء: 161) أي استعمال علوم القوى الروحانية في تحصيل الخسائس الدنيوية، أو أخذ ما في أيدي العباد برذيلة الحرص والطمع * (لكن الراسخون في العلم) * المستقيمون في السماع الخاص من الله سبحانه من غير معارضة النفوس واضطراب الأسرار * (والمؤمنون) * بالإيمان العياني حال كونهم * (يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) * من الأحكام الشرعية والأسرار الإلهية
21

* (والمقيمين الصلاة) * على أكمل وجه * (والمؤتون الزكاة) * ببذل قوامهم في أصناف الطاعة * (والمؤمنون بالله واليوم الآخر) * أي بالمبدأ والمعاد، والمراد من المتعاطفات طائفة واحدة كما قدمنا * (أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما) * (النساء: 162) لا يقادر قدره فيما أعد لهم من الجنات * (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح) * (النساء: 163) الآية التشبيه على حد التشبيه في قوله تعالى: * (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) * (البقرة: 183) على قول: * (رسلا مبشرين) * بتجليات اللطف * (ومنذرين) * بتجليات القهر * (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) * أي لئلا يكون لهم ظهور وسلطنة بعد ما محى ذلك بأمداد الرسل * (وكان الله عزيزا) * فيمحو صفاتهم ويفني ذواتهم * (حكيما) * (النساء: 165) فيفيض عليهم من صفاته ويبقيهم في ذاته حسبما تقتضيه الحكمة * (لكن الله يشهد بما أنزل إليك) * لتجليه فيه سبحانه * (أنزله بعلمه) * أي متلبسا بعلمه المحيط الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض. ومن هنا علم صلى الله عليه وسلم ما كان وما هو كائن * (والملائكة) * هم أصحاب النفوس القدسية * (يشهدون) * أيضا لعدم احتجابهم * (وكفى بالله شهيدا) * (النساء: 166) لأنه الجامع ولاموجود غيره، والله تعالى الموفق للصواب..
* (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضل‍الا بعيدا) *.
* (إن الذين كفروا) * بما أنزل إليك، أو بكل ما يجب الإيمان به ويدخل ذلك فيه دخولا أوليا، والمراد بهم اليهود، وكأن الجملة لبيان حكم الله سبحانه فيهم بعد بيان حالهم وتعنتهم * (وصدوا عن سبيل الله) * أي دين الإسلام من أراد سلوكه بإنكارهم نعت النبي صلى الله عليه وسلم وقولهم: لا نعرفه في كتابنا، وأن شريعة موسى عليه السلام لا تنسخ، وأن الأنبياء لا يكونون إلا من أولاد هارون وداود عليهما السلام. وقرىء * (صدوا) * بالبناء للمفعول * (قد ضلوا) * بالكفر والصد * (ضلالا بعيدا) * لأنهم جمعوا بين الضلال والإضلال ولأن المضل يكون أقوى وأدخل في الضلال وأبعد عن الانقلاب عنه..
* (إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا) *.
* (إن الذين كفروا) * بما ذكر آنفا * (وظلموا) * محمدا صلى الله عليه وسلم بإنكار نبوته وكتمان نعوته الجليلة، أو الناس بصدهم لهم عن الصراط المستقيم، والمراد إن الذين جمعوا بين الكفر وهذا النوع من الظلم. * (لم يكن الله ليغفر لهم) * لاستحالة تعلق المغفرة بالكافر، والآية في اليهود على الصحيح، وقيل: إنها في المشركين وما قبلها في اليهود، وزعم بعضهم أن المراد من الظلم ما ليس بكفر من سائر أنواع الكبائر، وحمل الآية على معنى إن الذين كان بعضهم كافرين، وبعضهم ظالمين أصحاب كبائر لم يكن الخ، ولا يخفى أن ذلك عدول عن الظاهر لم يدع إليه إلا اعتقاد أن العصاة مخلدون في النار تخليد الكفار، والآية تنبو عن هذا المعتقد، فإنه قد جعل فيها الفعلان كلاهما صلة للموصول فيلزم وقوع الفعلين جميعا من كل واحد من آحاده، الا تراك إذا قلت: الزيدون قاموا فقد أسندت القيام إلى كل واحد من آحاد الجمع، فكذلك لو عطفت عليه فعلا آخر لزم فيه ذلك ضرورة، وسياق الآية أيضا يأبى ذلك المعنى لكن لم يزل ديدن المعتزلة اتباع الهوى فلا يبالون بأي واد وقعوا * (ولا ليهديهم طريقا) *..
* (إلا طريق جهنم خ‍الدين فيهآ أبدا وكان ذالك على الله يسيرا) *.
* (إلا طريق جهنم) * لعدم استعدادهم للهداية إلى الحق والأعمال الصالحة التي هي طريق الجنة، والمراد من الهداية المفهومة من الاستثناء بطريق الإشارة كما قال غير واحد: خلقه سبحانه لأعمالهم السيئة المؤدية لهم إلى جهنم حسب استعدادهم، أو سوقهم إلى جهنم يوم القيامة بواسطة الملائكة، وذكر بعضهم أن التعبير بالهداية تهكم إن لم يرد بها مطلق الدلالة، والطريق على عمومه، والاستثناء متصل
22

كما اختاره أبو البقاء وغيره، وجوز السمين أن يراد بالطريق شيء مخصوص وهو العمل الصالح والاستثناء منقطع * (خ‍الدين فيهآ) * حال مقدرة من الضمير المنصوب لأن الخلود يكون بعد إيصالهم إلى جهنم، ولو قدر يقيمون خالدين لم يلتئم، وقيل: يمكن أن يستغني عن جعله حالا مقدرة بأن هذا من الدلالة الموصلة إلى جهنم، أو الدلالة إلى طريق يوصل إليها فهو حال عن المفعول باعتبار الإيصال لا الدلالة فتدبر، وقوله تعالى: * (أبدا) * نصب على الظرفية رافع احتمال أن يراد بالخلود المكث الطويل * (وكان ذالك) * أي انتفاء غفرانه وهدايته سبحانه إياهم وطرحهم في النار إلى الأبد * (على الله يسيرا) * سهلا لا صارف له عنه، وهذا تحقير لأمرهم وبيان لأنه تعالى لا يعبأ بهم ولا يبالي..
* (ياأيها الناس قد جآءكم الرسول بالحق من ربكم فاامنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما فى السم‍اوات والارض وكان الله عليما حكيما) *.
* (ي‍اا أيها الناس) * خطاب لجميع المكلفين بعد أن حكى سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم تعلل اليهود بالأباطيل واقتراحهم الباطل تعنتا، ورد جل شأنه عليهم بما رد وأكد ذلك بما أكد، وفي توجيه الخطاب إليهم وأمرهم بالإيمان مشفوعا بالوعد والوعيد بعد تنبيه على أن المحجة قد وضحت والحجة قد لزمت فلم يبق لأحد عذر في القبول، وقيل: الخطاب لأهل مكة لأن الخطاب - بيا أيها الناس - أينما وقع لهم، ولا يخفى أن التعميم أولى، وما ذكر في حيز الاستدلال وإن روى عن بعض السلف أغلبي، وقيل: هو للكفار مطلقا إبقاءا للأمر على ظاهره، ولم يحتج إلى حمله على ما يعم الأحداث والثبات.
* (قد جآءكم الرسول) * يعني به محمدا صلى الله عليه وسلم، وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة لتأكيد وجوب طاعته * (بالحق) * أي متلبسا به، وفسر بالقرآن. وبدين الإسلام. وبشهادة التوحيد، وجوز أن تكون الباء للتعدية أو للسببية متعلقة - بجاء - أي جاءكم بسبب إقامة الحق، وقوله سبحانه: * (من ربكم) * متعلق إما بالفعل أيضا، أو بمحذوف وقع حالا من (الحق)؛ أي جاءكم به من عند الله تعالى، أو كائنا منه سبحانه، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين للإيذان بأن ذلك لتربيتهم وتبليغهم إلى كمالهم اللائق بهم ترغيبا لهم في الامتثال لما بعد من الأمر كما أن في ذكر الجملة تمهيدا لما يعقبها من ذلك؛ وقيل: إنها تكرير للشهادة وتقرير للمشهود به وتمهيد لما ذكر.
* (فئامنوا) * أي بالرسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من الحق، والفاء للدلالة على إيجاب ما قبلها لما بعدها، وقوله سبحانه: * (خيرا لكم) * منصوب بفعل محذوف وجوبا تقديره وافعلوا أو ائتوا خيرا لكم، وإلى هذا ذهب الخليل وسيبويه، وذهب الفراء إلى أنه نعت لمصدر محذوف أي إيمانا خيرا لكم، وأورد عليه أنه يقتضي أن الإيمان ينقسم إلى خير وغيره ودفع بأنه صفة مؤكدة، وأن مفهوم الصفة قد لا يعتبر، وعلى القول باعتباره قد يقال: إن ذكره تعريض بأهل الكتاب فإن لهم إيمانا ببعض ما يجب الإيمان به كاليوم الآخر مثلا إلا أنه ليس خيرا حيث لم يكن على الوجه المرضي. وذهب الكسائي وأبو عبيدة إلى أنه خبر كان مضمرة، والتقدير يكن الإيمان خيرا لكم، ورد بأن كان لا تحذف مع اسمها دون خبرها إلا في مواضع اقتضته، وأن المقدر جواب شرط محذوف فيلزم حذف الشرط وجوابه إذ التقدير إن تؤمنوا يكن الإيمان خيرا، وأجيب بأن تخصيص حذف كان واسمها في مواضع لا يسلمه هذا القائل؛ وبأن لزوم حذف الشرط وجوابه مبني على أن الجزم بشرط مقدر، وإن قلنا: بأنه بنفس الأمر وأخواته كما هو مذهب لبعض النحاة لم يرد ذلك، ونقل مكي عن بعض الكوفيين أنه منصوب على
23

الحال وهو بعيد.
* (وإن تكفروا فإن لله ما في السم‍اوات والأرض) * من الموجودات سواء كانت داخلة في حقيقتهما وبذلك يعلم حال أنفسهما على أبلغ وجه وآكده، أو خارجة عنهما مستقرة فيهما من العقلاء وغيرهم ويدخل في ذلك المخاطبون دخولا أوليا أي كل ذلك له تعالى خلقا وملكا وتصرفا، ولا يخرج من ملكوته وقهره ذرة فما دونها، والجملة دليل الجواب أقيم مقامه لأن مضمونها مقرر قبل كفرهم فلا يصلح للجواب، والتقدير وإن تكفروا فهو سبحانه قادر على تعذيبكم بكفرهم لأن له جل شأنه ما في السموات والأرض، أو فهو غني عنكم لا يتضرر بكفركم كما لا ينتفع بإيمانكم، وقال بعضهم: التقدير وإن تكفروا فقد كابرتم عقولكم فإن لله سبحانه ما له مما يدل على ما ينافي حالكم واعتقادكم فكيف يتأتى الكفر به مع ذلك، وقيل: التقدير وإن تكفروا فإن عبيدا غيركم لا يكفرون بل يعبدونه وينقادون لأمره ولا يخلو عن بعد. * (وكان الله عليما
) * بأحوال كل ويدخل في ذلك كفرهم دخولا أوليا * (حكيما) * في جميع أفعاله وتدبيراته، ويدخل في ذلك كذلك تعذيب من كفر..
* (ياأهل الكت‍ابلا تغلوا فى دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألق‍اها إلى مريم وروح منه فاامنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثل‍اثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إل‍اه واحد سبح‍انه أن يكون له ولد له وما فى السم‍اوات وما فى الارض وكفى بالله وكيلا) *.
* (يا أهل الكتاب) * تجريد للخطاب وتخصيص له بالنصارى زجرا لهم عما هم عليه من الضلال البعيد، وإلى ذلك ذهب أبو علي الجبائي وأبو مسلم وجماعة من المفسرين، وعن الحسن أنه خطاب لهم ولليهود لأن الغلو أي مجاوزة الحد والإفراط المنهي عنه في قوله تعالى: * (لا تغلوا في دينكم) * وقع منهم جميعا، أما النصارى فقال بعضهم: عيسى عليه السلام ابن الله عز وجل، وبعضهم أنه الله سبحانه، وآخرون ثالث ثلاثة وأما اليهود فقالوا: إنه عليه السلام ولد لغير رشده، ورجح ما عليه الجماعة بأن قول اليهود قد نعى فيما سبق وبأنه أوفق بما بعد * (ولا تقولوا على الله إلا الحق) * أي لا تذكروا ولا تعتقدوا إلا القول الحق دون القول المتضمن لدعوى الاتحاد والحلول واتخاذ الصاحبة والولد والاستثناء مفرغ، وهو متصل عند الأكثرين. وادعى بعض أن المراد من الحق هنا تنزيهه تعالى عن الصاحبة والولد، والأشبه بالإستثناء الانقطاع لأن التنزيه لا يكون مقولا عليه بل له وفيه لأن معنى قال عليه افترى وهو مخالف لما عليه الأكثر في الاستثناء المفرغ فافهم.
* (إنما المسيح) * بالتخفيف، وقد مر معناه، وقرىء المسيح بكسر الميم وتشديد السين كالسكيت وهو مبتدأ، وقوله تعالى: * (عيسى) * بدل منه أو عطف بيان له - كما قال أبو البقاء وغيره - وقوله تعالى: * (ابن مريم) * صفة له مفيدة بطلان ما زعموه فيه من بنوته عليه السلام له عز وجل، وقوله سبحانه: * (رسول الله) * خبر المبتدأ والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل النهي عن القول الباطل المستلزم للأمر بضده أي أنه عليه السلام مقصور على رتبة الرسالة لا يتخطاها إلى ما تقولون * (وكلمته) * عطف على * (رسول الله) * ومعنى كونه (كلمة) أنه حصل بكلمة كن من غير مادة معتادة، وإلى ذلك ذهب الحسن وقتادة.
وقال الغزالي قدس سره: لكل مولود سبب قريب وبعيد، فالأول: المني والثاني: قول كن، ولما دل الدليل على عدم القريب في حق عيسى عليه السلام أضافه إلى البعيد، وهو قول كن إشارة إلى انتفاء القريب، وأوضحه بقوله سبحانه: * (ألقاها إلى مريم) * أي أوصلها إليها وحصلها فيها، فجعله كالمني الذي يلقى في الرحم فهو استعارة، وقيل: معناه أنه يهتدي بكلام الله تعالى، وروي ذلك عن أبي علي الجبائي، وقيل: معناه بشارة الله تعالى
24

التي بشر بها مريم عليها السلام على لسان الملائكة كما قال سبحانه: * (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة) * (آل عمران: 45) وجملة * (ألقاها) * حال على ما قيل: من الضمير المجرور في * (كلمته) * بتقدير قد والعامل فيها معنى الإضافة، والتقدير - وكلمته ملقيا إياها - وقيل: حال من ضميره عليه السلام المستكن فيما دل عليه * (وكلمته) * من معنى المشتق الذي هو العامل فيها، وقيل: حال من فاعل كان مقدرة مع إذ المتعلقة بالكلمة باعتبار أن المراد بها المكون، والتقدير إذ كان ألقاها إلى مريم.
* (وروح منه) * عطف على ما قبله وسمي عليه السلام روحا لأنه حدث عن نفخة جبرائيل عليه السلام في درع مريم عليها السلام بأمره سبحانه، وجاء تسمية النفخ روحا في كلامهم، ومنه قول ذي الرمة في نار (اقتدحها وأمر صاحبه بالنفخ فيها فقال). وأحيها بروحك
و - من - متعلقة بمحذوف وقع صفة لروح، وهي لابتداء الغاية مجازا لا تبعيضية كما زعمت النصارى. يحكى أن طبيبا نصرانيا حاذقا للرشيد ناظر علي بن الحسين الواقدي المروزي ذات يوم فقال له: إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه السلام جزء منه تعالى، وتلى هذه الآية، فقرأ الواقدي قوله تعالى: * (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه) * (الجاثية: 13) فقال: إذن يلزم أن يكون جميع الأشياء جزءا منه سبحانه وتعالى علوا كبيرا فانقطع النصراني فأسلم، وفرح الرشيد فرحا شديدا، ووصل الواقدي بصلة فاخرة، وقيل: سمي روحا لأن الناس يحيون به كما يحيون بالأرواح، وإلى ذلك ذهب الجبائي، وقيل: الروح هنا بمعنى الرحمة كما في قوله تعالى: * (وأيدهم بروح منه) * (المجادلة: 22) على وجه، وقيل: أريد بالروح الوحي الذي أوحى إلى مريم عليها السلام بالبشارة، وقيل: جرت العادة بأنهم إذا أرادوا وصف شيء بغاية الطهارة والنظافة قالوا: إنه روح فلما كان عيسى عليه السلام متكونا من النفخ لا من النطفة وصف بالروح، وقيل: أريد بالروح السر كما يقال: روح هذه المسألة كذا أي أنه عليه السلام سر من أسرار الله تعالى وآية من آياته سبحانه، وقيل: المراد ذو روح على حذف المضاف، أو استعمال الروح في معنى ذي الروح، والإضافة إلى الله تعالى للتشريف، ونظير ذلك ما في التوراة أن موسى عليه السلام رجل الله. وعصاه قضيب الله وأورشليم بيت الله، وقيل: المراد من الروح جبريل عليه السلام، والعطف على الضمير المستكن في ألقاها والمعنى ألقاها الله تعالى وجبريل إلى مريم، ولا يخفى بعده. وعلى العلات لا حجة للنصارى على شيء مما زعموا في تشريف عيسى عليه السلام بنسبة الروح إليه إذ لغيره عليه السلام مشاركة له في ذلك، ففي " إنجيل لوقا " قال يسوع لتلاميذه: إن أباكم السماوي يعطي روح القدس الذين يسألونه، وفي " إنجيل متى ": إن يوحنا المعمداني امتلأ من روح القدس وهو في بطن أمه، وفي " التوراة ": قال الله تعالى لموسى عليه السلام اختر سبعين من قومك حتى أفيض عليهم من الروح التي عليك فيحملوا عنك ثقل هذا النعت، ففعل فأفاض عليهم من روحه فتبنوا لساعتهم، وفيها في حق يوسف عليه السلام: يقول الملك: هل رأيتم مثل هذا الفتى الذي روح الله تعالى عز وجل حال فيه، وفيها أيضا: إن روح الله تعالى حلت على دانيال إلى غير ذلك.
ولعل الروح في جميع ذلك أمر قدسي وسر إلهي يفيضه الله تعالى على من يشاء من عباده حسبما يشاء وفي أي وقت يشاء، وإطلاق ذلك على عيسى عليه السلام من باب المبالغة على حد ما قيل في زيد: عدل، وليس المراد به الروح الذي به الحياة أصلا، وقد يظهر ذلك بصورة كما يظهر القرآن بصورة الرجل الشاحب، والموت بصورة الكبش، ويؤيد ذلك في الجملة ما في " إنجيل متى " في تمام الكلام على تعميد عيسى عليه السلام: إن يسوع لما تعمد وخرج من الماء انفتحت له أبواب السماء
ونظر روح الله تعالى جاءت له في صفة حمامة وإذا بصوت من السماء هذا
25

ابن الحبيب الذي سرت به نفسي فإنه على تقدير صحته يهدم ما يزعمه النصارى من أنه عليه السلام تجسد بروح القدس في بطن أمه. وما فيه من وصفه عليه السلام بالبنوة سيأتي إن شاء الله تعالى الجواب عنه. * (فآمنوا بالله) * وخصوه بالألوهية * (ورسله) * أجمعين ولا تخرجوا أحدا منهم إلى ما يستحيل وصفه به من الألوهية * (ولا تقولوا ثلاثة) * أي الآلهة ثلاثة: الله سبحانه والمسيح ومريم كما يبنىء عنه قوله تعالى: * (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) * (المائدة: 116) إذ معناه إلهين غير الله تعالى فيكونون معه ثلاثة. وحكي هذا التقدير عن الزجاج، أو الله سبحانه ثلاثة إن صح عنهم أنهم يقولون: الله تعالى جوهر واحد ثلاثة أقانيم، أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدس، وأنهم يريدون بالأول الذات أو الوجود، وبالثاني العلم أي الكلمة، وبالثالث الحياة كذا قيل.
وتحقيق الكلام في هذا المقام على ما ذكره بعض المحققين أن النصارى اتفقوا على أن الله تعالى جوهر بمعنى قائم بنفسه غير متحيز ولا مختص بجهة ولا مقدر بقدر ولا يقبل الحوادث بذاته ولا يتصور عليه الحدوث والعدم، وأنه واحد بالجوهرية، ثلاثة بالأقنومية، والأقانيم صفات للجوهر القديم، وهي الوجود والعلم والحياة، وعبروا عن الوجود بالأب والحياة بروح القدس والعلم بالكلمة. ثم اختلفوا فذهب الملكانية أصحاب ملكا الذي ظهر بالروم واستولى عليها إلى أن الأقانيم غير الجوهر القديم، وأن كل واحد منها إله، وصرحوا بإثبات التثليث، وقالوا: إن الله ثالث ثلاثة سبحانه وتعالى عما يشركون، وأن الكلمة اتحدت بجسد المسيح وتدرعت بناسوته وامتزجت به امتزاج الماء بالخمر وانقلبت الكثرة وحدة وأن المسيح ناسوت كلي لا جزئي وهو قديم أزلي، وأن مريم ولدت إلها أزليا مع اختلافهم في مريم أنها إنسان كلي أو جزئي، واتفقوا على أن اتحاد اللاهوت بالمسيح دون مريم، وأن القتل والصلب وقع على الناسوت واللاهوت معا، وأطلقوا لفظ الأب على الله تعالى، والابن على عيسى عليه السلام.
وذهب نسطور الحكيم - في زمان المأمون - إلى أن الله تعالى واحد والأقانيم الثلاثة ليست غير ذاته ولا نفس ذاته، وأن الكلمة اتحدت بجسد المسيح لا بمعنى الامتزاج بل بمعنى الإشراق أي أشرقت عليه كإشراق الشمس من كوة على بلور. ومن النسطورية من قال: إن كل واحد من الأقانيم الثلاثة حي ناطق موجود، وصرحوا بالتثليث كالملكانية، ومنهم من منع ذلك، ومنهم من أثبت صفات أخر كالقدرة والإرادة ونحوها لكن لم يجعلوها أقانيم، وزعموا أن الابن لم يزل متولدا من الأب وإنما تجسده وتوحده بجسد المسيح حين ولد، والحدوث راجع إلى الناسوت، فالمسيح إله تام وإنسان تام، وهما قديم وحادث، والاتحاد غير مبطل لقدم القديم ولا لحدوث الحادث، وقالوا: إن الصلب ورد على الناسوت دون اللاهوت.
وذهب بعض اليعقوبية إلى أن الكلمة انقلبت لحما ودما فصار الإله هو المسيح، وقالوا: إن الله هو المسيح عيسى ابن مريم، ورووا عن يوحنا الإنجيلي أنه قال في صدر " إنجيله ": إن الكلمة صارت جسدا وحلت فينا، وقال: في البدء كانت الكلمة والكلمة عند الله والله تعالى هو الكلمة، ومنهم من قال: ظهر اللاهوت بالناسوت بحيث صار هو هو وذلك كظهور الملك في الصورة المشار إليه بقوله تعالى: * (فتمثل لها بشرا سويا) * (مريم: 17) ومنهم من قال: جوهر الإله القديم وجوهر الإنسان المحدث تركبا تركب النفس الناطقة مع البدن وصارا جوهرا واحدا وهو المسيح وهو الإله، ويقولون صار الإله إنسانا وإن لم يصر الإنسان إلها كما يقال في الفحمة الملقاة في النار: صارت نارا ولا يقال: صارت النار فحمة، ويقولون: إن اتحاد اللاهوت بالإنسان الجزئي دون الكلي، وأن مريم ولدت إلها وأن القتل والصلب واقع على اللاهوت والناسوت جميعا إذ لو كان على
26

أحدهما بطل الاتحاد، ومنهم من قال: المسيح مع اتحاد جوهره قديم من وجه. محدث من وجه.
ومن اليعقوبية من قال: إن الكلمة لم تأخذ من مريم شيئا وإنما مرت بها كمرور الماء بالميزاب، ومنهم من زعم أن الكلمة كانت تداخل جسد المسيح فتصدر عنه الآيات التي كانت تظهر عنه وتفارقه تارة فتحله الآفات والآلام، ومن النصارى من زعم أن معنى اتحاد اللاهوت بالناسوت ظهور اللاهوت على الناسوت وإن لم ينتقل من اللاهوت إلى الناسوت شيء ولا حل فيه، وذلك كظهور نقش الطابع على الشمع والصورة المرئية في المرآة، ومنهم من قال: إن الوجود والكلمة قديمان والحياة مخلوقة. ومنهم من قال إن الله تعالى واحد وسماه أبا وأن المسيح كلمة الله تعالى وابنه على طريق الاصطفاء وهو مخلوق قبل العالم وهو خالق للأشياء كلها.
وحكى المؤرخون وأصحاب النقل أن أريوس أحد كبار النصارى كان يعتقد هو وطائفته توحيد الباري ولا يشرك معه غيره ولا يرى في المسيح ما يراه النصارى بل يعتقد رسالته وأنه مخلوق بجسمه وروحه ففشت مقالته في النصرانية فتكاتبوا أو اجتمعوا بمدينة نيقية عند الملك قسطنطين وتناظروا فشرح أريوس مقالته، فرد عليه الاكصيدروس بطريق الإسكندرية وشنع على مقالته عند الملك، ثم تناظروا فطال تنازعهم فتعجب الملك من انتشار مقالتهم وكثرة اختلافهم وقام لهم البترك وأمرهم أن يبحثوا عن القول المرضي فاتفق رأيهم على شيء فحرروه وسموه بالأمانة وأكثرهم اليوم عليها، وهي نؤمن بالله تعالى الواحد الأب (صانع كل شيء) مالك كل شيء صانع ما يرى وما لا يرى، (وبالرب) الواحد (يسوع) المسيح ابن الله تعالى الواحد بكر الخلائق كلها الذي ولد من أبيه قبل العوالم كلها وليس بمصنوع، إله حق من إله حق من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم؛ وخلق كل شيء الذي من أجلنا معاشر الناس، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس (ومريم) وصار إنسانا وحبل به وولد من مريم البتول (واتجع)، وصلب أيام فيلاطس ودفن وقام في اليوم الثالث - كما هو مكتوب - وصعد إلى السماء وجلس على يمين أبيه وهو مستعد للمجىء تارة أخرى (للقضاء) (1) بين الأموات والأحياء، ونؤمن بروح القدس الواحد روح الحق الذي يخرج من أبيه (وبعمودية) واحدة لغفران الخطايا، (وبجماعة) واحدة قدسية (مسيحية) (كاطولكية) (وبقيام أبداننا) وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين انتهى.
وهذه جملة الأقاويل وما لهؤلاء الكفرة من الأباطيل وهي مع مخالفتها للعقول ومزاحمتها للأصول مما لا مستند لها ولا معول لهم فيها غير التقليد لأسلافهم والأخذ بظواهر
ألفاظ لا يحيطون بها علما على أن ما سموه أمانة لا أصل له في شرع الإنجيل ولا مأخوذة من قول المسيح ولا من أقوال تلاميذه، وهو مع ذلك مضطرب متناقض متهافت يكذب بعضه بعضا ويعارضه ويناقضه، وإذ قد علمت ذلك فاستمع لما يتلى عليك في ردهم تتميما للفائدة وتأكيدا لإبطال تلك العقائد الفاسدة.
أما قولهم: بأن الله تعالى جوهر بالمعنى المذكور فلا نزاع لنا معهم فيه من جهة المعنى بل من جهة الإطلاق اللفظي سمعا، والأمر فيه هين، وأما حصرهم الأقانيم في ثلاثة؛ صفة الوجود، وصفة الحياة، وصفة العلم فباطل لأنه بعد تسليم أن صفة الوجود زائدة لو طولبوا بدليل الحصر لم يجدوا إليه سبيلا سوى قولهم: بحثنا فلم نجد غير ما ذكرناه وهو غير يقيني كما لا يخفى، ثم هو باطل بما تحقق في موضعه من وجوب صفة القدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، فإن قالوا: الأقانيم هي خواص الجوهر وصفات نفسه، ومن حكمها أن تلزم الجوهر ولا تتعداه إلى غيره وذلك متحقق في الوجود والحياة إذ لا تعلق لوجود الذات القديمة
27

وحياتها بغيرها، وكذلك العلم إذ العلم مختص بالجوهر من حيث هو معلوم به، وهذا بخلاف القدرة والإرادة فإنهما لا اختصاص لهما بالذات القديمة بل يتعلقان بالغير مما هو مقدور ومراد، والذات القديمة غير مقدورة ولا مرادة، وأيضا فإن الحياة تجزىء عن القدرة والإرادة من حيث إن الحي لا يخلو عنهما بخلاف العلم فإنه قد يخلو عنه، ولأنه يمتنع إجزاء الحياة عن العلم لاختصاص الحياة بامتناع جريان المبالغة والتفضيل بخلاف العلم، قلنا: أما قولهم: إن الوجود والحياة مختصة بذات القديم - ولا تعلق لهما بغيره - فمسلم، ولكن يلزم عليه أن لا يكون العلم أقنوما لتعلقه بغير ذات القديم إذ هو معلوم به فلئن قالوا: العلم إنما كان أقنوما من حيث كان متعلقا بذات القديم لا من حيث كان متعلقا بغيره فيلزمهم أن يكون البصر أقنوما لتعلقه بذات القديم من حيث إنه يرى نفسه ولم يقولوا به، ويلزمهم من ذلك أن يكون بقاء ذات الله تعالى أقنوما لاختصاص البقاء بنفسه وعدم تعلقه بغيره كما في الوجود والحياة، فلئن قالوا: البقاء هو نفس الوجود فيلزم أن يكون الموجود في زمان حدوثه باقيا وهو محال.
وقولهم: بأن الإرادة تجزىء عن القدرة والإرادة إما أن يريدوا به أن القدرة والإرادة نفس الحياة، أو أنهما خارجتان عنها لازمتان لها لا تفارقانها، فإن كان الأول فقد نقضوا مذهبهم حيث قالوا: إن الحياة أقنوم لاختصاصها بجوهر القديم والقدرة والإرادة غير مختصتين بذات القديم تعالى، وذلك مشعر بالمغايرة ولا اتحاد معها، وإن قالوا: إنها لازمة لها مع المغايرة فهو ممنوع فإنه كما يجوز خلو الحي عن العلم، فكذلك قد يجوز خلوه عن القدرة والإرادة كما في حالة النوم والإغماء مثلا، وقولهم: إنه يمتنع إجزاء الحياة عن العلم لاختصاص العلم بالمبالغة والتفضيل، فيلزم منه أن لا تكون مجزئة عن القدرة أيضا لاختصاصها بهذا النوع من المبالغة والتفضيل، وأما قولهم: بأن الكلمة حلت في المسيح وتدرعت به فهو باطل من وجهين. الأول: أنه قد تحقق امتناع حلول صفة القديم في غيره، الثاني: أنه ليس القول بحلول الكلمة أولى من القول بحلول الروح وهي الحياة، ولئن قالوا: إنما استدللنا على حلول العلم فيه لاختصاصه بعلوم لا يشاركه فيها غيره قلنا: أولا: لا نسلم ذلك فقد روى النصارى أنه عليه السلام سئل عن القيامة فلم يجب، وقال لا يعرفها إلا الله تعالى وحده، وثانيا: سلمنا لكنه قد اختص عندكم بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وبأمور لا يقدر عليها غيره من المخلوقين بزعمكم، والقدرة عندكم في حكم الحياة إما بمعنى أنها عينها أو ملازمة لها فوجب أن يقال بحلول الحياة فيه ولم تقولوا به.
وأما قول الملكانية بالتثليث في الآلهة، وأن كل أقنوم إله فلا يخلو إما أن يقولوا: إن كل واحد متصف بصفات الإله تعالى من الوجود والحياة والعلم والقدرة وغير ذلك من الصفات أو ألا يقولوا به، فإن قالوا به فهو خلاف أصلهم، وهو مع ذلك ممتنع لقيام الأدلة على امتناع إلهين، وأيضا فإنهم إما أن يقولوا: بأن جوهر القديم أيضا إله أو ألا يقولوا، فإن كان الأول فقد أبطلوا مذهبهم فإنهم مجمعون على الثالوث، وبقولهم هذا يلزم التربيع، وإن كان الثاني لم يجدوا إلى الفرق سبيلا مع أن جوهر القديم أصل والأقانيم صفات تابعة، فكان أولى أن يكون إل - اها، وإن قالوا بالثاني فحاصله يرجع إلى منازعة لفظية، والمرجع فيها إلى ورود الشرع بجواز إطلاق ذلك، وأما قولهم: بأن الكلمة امتزجت بجسد المسيح فيبطله امتناع حلول صفات القديم بغير ذات الله تعالى، ودعواهم الاتحاد ممتنعة من جهة الدلالة والإلزام، أما الأول فإنهما عند الاتحاد إما أن يقال: ببقائهما
28

أو بعدمهما أو ببقاء أحدهما وعدم الآخر، أما على التقدير الأول فهما إثنان كما كانا، وإن كان الثاني فالواحد الموجود غيرهما. وإن كان الثالث فلا اتحاد للإثنينية وعدم أحدهما، وأما على التقدير الثاني فمن أربعة أوجه: الأول: أنه إذا جاز اتحاد أقنوم الجوهر القديم بالحادث، فما المانع من اتحاد صفة الحادث بالجوهر القديم؟ فلئن قالوا: المانع أن اتحاد صفة الحادث بالجوهر القديم يوجب نقصه وهو ممتنع، واتحاد صفة القديم بالحادث يوجب شرفه، وشرف الحادث بالقديم غير ممتنع، قلنا: فكما أن ذات القديم تنقص باتحاد صفة الحادث بها فالأقنوم القديم ينقص باتحاده بالناسوت الحادث فليكن ذلك ممتنعا، الثاني: أنه قد وقع الاتفاق على امتناع اتحاد أقنوم الجوهر القديم بغير ناسوت المسيح فما الفرق بين ناسوت وناسوت؟ فلئن قالوا إنما اتحد بالناسوت الكلي دون الجزئي رددناه بما ستعلمه قريبا إن شاء الله تعالى، الثالث: أن مذهبهم أن الأقانيم زائدة على ذات الجوهر القديم مع اختصاصها به ولم يوجب قيامها به الاتحاد فأن لا يوجب اتحاد الأقنوم بالناسوت أولى. الرابع: أن الإجماع منعقد على أن أقنوم الجوهر القديم مخالف للناسوت كما أن صفة نفس الجوهر تخالف نفس العرض، وصفة نفس العرض تخالف الجوهر، فإن قالوا بجواز اتحاد صفة الجوهر بالعرض أو صفة العرض بالجوهر حتى أنه يصير الجوهر في حكم العرض والعرض في حكم الجوهر، فقد التزموا محالا مخالفا لأصولهم، وإن قالوا: بامتناع اتحاد صفة نفس الجوهر بالعرض ونفس العرض بالجوهر مع أن العرض والجوهر أقبل للتبدل والتغير فلأن يمتنع في القديم والحادث أولى.
وقولهم إن المسيح إنسان كلي باطل من أربعة أوجه: الأول: أن الإنسان الكلي لا اختصاص له بجزئي دون جزئي من الناس، وقد اتفقت النصارى أن المسيح مولود من مريم عليهما السلام، وعند ذلك فإما أن يقال: إن إنسان مريم أيضا كلي - كما حكي عن بعضهم - أو جزئي، فإن كان كليا فإما أن يكون هو عين إنسان المسيح أو غيره، فإن كان عينه لزم أن يولد الشيء من نفسه وهو محال، ثم يلزم أن يكون المسيح مريم ومريم المسيح ولم يقل به أحد، وإن كان غيره فالإنسان الكلي ما يكون عاما مشتركا بين جميع، وطبيعته جزء من معنى كل إنسان، ويلزم من ذلك أن يكون إنسان المسيح بطبيعته جزء من مفهوم إنسان مريم وبالعكس وذلك محال، وإن كان إنسان
مريم جزئيا فمن ضرورة كون المسيح مولودا عنها أن يكون الكلي الصالح لاشتراك الكثرة منحصرا في الجزئي الذي لا يصلح لذاته وهو ممتنع، الثاني: أن النصارى مجمعون على أن المسيح كان مرئيا ومشارا إليه، والكلي ليس كذلك. الثالث أنهم قائلون: إن الكلمة حلت في المسيح إما بجهة الاتحاد أو لا بجهة الاتحاد، فلو كان المسيح إنسانا كليا لما اختص به بعض أشخاص الناس دون البعض ولما كان المولود من مريم مختصا بحلول الكلمة دون غيره ولم يقولوا به، الرابع: أن الملكانية متفقون على أن القتل وقع على اللاهوت والناسوت، ولو كان ناسوت المسيح كليا لما تصور وقوع الجزئي عليه.
وأما ما ذهب إليه نسطور من أن الأقانيم ثلاثة، فالكلام معه في الحصر على طرز ما تقدم، وقوله: ليست عين ذاته ولا غير ذاته فإن أراد بذلك ما أراد به الأشعري في قوله: إن الصفات لا عين ولا غير فهو حق، وإن أراد غيره فغير مفهوم؛ وأما تفسيره العلم بالكلمة، فالنزاع معه - في هذا الإطلاق - لفظي، ثم لا يخلو إما أن يريد بالكلمة الكلام النفسي أو الكلام اللساني، والكلام في ذلك معروف؛ وقوله: إن الكلمة اتحدت بالمسيح بمعنى أنها أشرقت عليه لا حاصل له لأنه إما أن يريد بإشراق الكلمة عليه عليه السلام ما هو مفهوم من مثاله،
29

وهو أن يكون مطرحا لشعاعها عليه، أو يريد أنها متعلقة به كتعلق العلم القديم بالمعلومات، أو يريد غير ذلك فإن كان الأول يلزم أن تكون الكلمة ذات شعاع، وفي جهة من مطرح شعاعها، ويلزم من ذلك أن تكون جسما، وأن لا تكون صفة للجوهر القديم وهو محال، وإن كان الثاني فهو حق غير أن تعلق الأقنوم بالمسيح بهذا التفسير لا يكون خاصة، وإن كان الثالث فلا بد من تصويره ليتكلم عليه.
وأما قول بعض النسطورية: إن كل واحد من الأقانيم الثلاثة إله حي ناطق فهو باطل بأدلة إبطال التثليث، وأما من أثبت منهم لله تعالى صفات أخر كالقدرة والإرادة ونحوهما فقد أصاب خلا أن القول بإخراجها عن كونها من الأقانيم مع أنها مشاركة لها في كونها من الصفات تحكم بحت، والفرق الذي يستند إليه باطل كما علمت؛ وأما قولهم: إن المسيح إنسان تام وإله تام وهما جوهران: قديم وحادث، فطريق رده من وجهين: الأول: التعرض لإبطال كون الأقنوم المتحد بجسد المسيح إلها وذلك بأن يقال: إما أن يقولوا: بأن ما اتحد بجسد المسيح هو إله فقط أو أن كل أقنوم إله كما ذهبت إليه الملكانية، فإن كان الأول: فهو ممتنع لعدم الأولوية، وإن كان الثاني فهو ممتنع أيضا لما تقدم، الثاني: أنه إذا كان المسيح مشتملا على الأقنوم والناسوت الحادث، فإما أن يقولوا بالإتحاد أو بحلول الأقنوم في الناسوت، أو حلول الناسوت في الأقنوم، أو أنه لا حلول لأحدهما في الآخر، فإن كان الأول فهو باطل بما سبق في إبطال الاتحاد، وإن كان الثاني فهو باطل بما يبطل حلول الصفة القديمة في غير ذات الله تعالى وحلول الحادث في القديم، وإن كان الثالث فإما أن يقال بتجاورهما واتصالهما أو لا، فإن قيل: بالأول فإما أن يقال بانفصال الأقنوم القديم عن الجوهر الحادث أو لا يقال به، فإن قيل: بالانفصال فهو ممتنع لوجهين: الأول: ما يدل على إبطال انتقال الصفة عن الموصوف، الثاني: أنه يلزم منه قيام صفة حال مجاورتها للناسوت بنفسها وهو محال، وإن لم يقل بانفصال الأقنوم عن الجوهر القديم يلزم منه أن يكون ذات الجوهر القديم متصلة بجسد المسيح ضرورة اتصال أقنومها به، وعند ذلك فليس اتحاد الأقنوم بالناسوت أولى من اتحاد الجوهر القديم به ولم يقولوا بذلك، وإن لم يقل بتجاورهما واتصالهما فلا معنى للاتحاد بجسد المسيح، وليس القول بالاتحاد مع عدم الاتصال بجسد المسيح أولى من العكس، وأما قول من قال منهم: إن الإله واحد وإن المسيح ولد من مريم وإنه عبد صالح مخلوق إلا أن الله تعالى شرفه بتسميته ابنا فهو كما يقول الموحدون، ولا خلاف معهم في غير إطلاق اسم الابن، وأما قول بعض اليعقوبية: إن الكلمة انقلبت لحما ودما وصار الإله هو المسيح فهو أظهر بطلانا مما تقدم، وبيانه من وجهين: الأول: أنه لو جاز انقلاب الأقنوم لحما ودما مع اختلاف حقيقتيهما لجاز انقلاب المستحيل ممكنا والممكن مستحيلا والواجب ممكنا أو ممتنعا والممكن - أو الممتنع - واجبا، ولم يبق لأحد وثوق بشيء من القضايا البديهية، ولجاز انقلاب الجوهر عرضا والعرض جوهرا، واللحم والدم أقنوما، والأقنوم ذاتا والذات أقنوما، والقديم حادثا والحادث قديما، ولم يقل به أحد من العقلاء، الثاني: أنه لو انقلب الأقنوم لحما ودما، فإما أن يكون هو عين الدم واللحم اللذين كانا للمسيح، أو زائدا عليه منضما إليه، والأول: ظاهر الفساد، والثاني: لم يقولوا به؛ وأما ما نقل عن يوحنا من قوله: في البدء كانت الكلمة والكلمة عند الله والله هو الكلمة، فهو مما انفرد به ولم يوجد في شيء من الأناجيل، والظاهر أنه كذب، فإنه بمنزلة قول القائل: الدينار عند الصيرفي والصيرفي هو الدينار، ولا يكاد يتفوه به عاقل، وكذا قوله: إن الكلمة صارت جسدا وحلت فينا غير مسلم الثبوت، وعلى تقدير تسليمه يحتمل التقديم والتأخير
30

أي إن الجسد الذي صار بالتسمية كلمة حل فينا، وعنى بذلك الجسد عيسى عليه السلام، ويحتمل أنه أشار بذلك إلى بطرس كبير التلاميذ ووصي المسيح، فإنه أقام بعده عليه السلام بتدبير دينه وكانت النصارى تفزع إليه على ما تشهد به كتبهم، فكأنه يقول: إن ذهبت الكلمة أي عيسى الذي سماه الله تعالى بذلك من بيننا فإنها لم تذهب حتى صارت جسدا وحل فينا، يريد أن تدبيرها حاضر في جسد بيننا وهو بطرس. ومن الناس من خرج كلامه على إسقاط همزة الإنكار عند إخراجه من العبراني إلى اللسان العربي، والمراد أصارت وفيه بعد، ومن العجب العجيب أن يوحنا ذكر أن المسيح قال لتلاميذه: إن لم تأكلوا جسدي وتشربوا دمي فلا حياة لكم بعدي لأن جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق، ومن يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأثبت فيه، فلما سمع تلاميذه هذه الكلامة قالوا: ما أصعبها من يطيق سماعها فرجع كثير منهم عن صحبته، فإن هذا مع قوله: إن الله سبحانه هو الكلمة والكلمة صارت جسدا في غاية الإشكال إذ فيه أمر الحادث بأكل الله تعالى القديم الأزلي وشربه، والحق أن شيئا من الكلامين لم يثبت، فلا نتحمل مؤنة التأويل.
وأما قولهم: إن اللاهوت ظهر بالناسوت فصار هو هو، فإما أن يريدوا به أن اللاهوت صار عين الناسوت كما يصرح به قولهم: صار هو هو، فيرجع إلى تجويز انقلاب الحقائق وهو محال كما علمت وإما أن يريدوا به أن اللاهوت اتصف بالناسوت فهو أيضا محال لما ثبت من امتناع حلول الحادث بالقديم، أو أن الناسوت اتصف باللاهوت وهو أيضا محال لامتناع حلول القديم بالحادث، وأما من قال منهم: بأن جوهر الإله القديم وجوهر الإنسان المحدث تركبا وصارا جوهرا واحدا هو المسيح
فباطل من وجهين: الأول: ما ذكر من إبطال الاتحاد، الثاني: أنه ليس جعل الناسوت لاهوتا بتركبه مع اللاهوت أولى من جعل اللاهوت ناسوتا من جهة تركبه مع الناسوت ولم يقولوا به، وأما جوهر الفحمة إذا ألقيت في النار فلا نسلم أنه صار بعينه جوهر النار بل صار مجاورا لجوهر النار، وغايته أن بعض صفات جوهر الفحمة وأعراضها بطلت بمجاورة جوهر النار، أما إن جوهر أحدهما صار جوهر الآخر فلا.
وأما قولهم: إن الاتحاد بالناسوت الجزئي دون الكلي فمحال لأدلة إبطال الاتحاد وحلول القديم بالحادث، وبذلك يبطل قولهم: إن مريم ولدت إلها، وقولهم: القتل وقع على اللاهوت والناسوت معا على أنه يوجب موت الإله وهو بديهي البطلان، وأما قول من قال: إن المسيح مع اتحاد جوهره قديم من وجه محدث من وجه فباطل لأنه إذا كان جوهر المسيح متحدا لا كثرة فيه، فالحدوث إما أن يكون لعين ما قيل بقدمه، أو لغيره فإن كان الأول فهو محال وإلا لكان الشيء الواحد قديما لا أول له حادثا له أول وهو متناقض، وإن كان الثاني فهو خلاف المفروض، وأما قول من قال: إن الكلمة مرت بمريم كمرور الماء في الميزاب فيلزم منه انتقال الكلمة وهو ممتنع كما لا يخفى، وبه يبطل قول من قال: إن الكلمة كانت تدخل جسد المسيح تارة وتفارقه أخرى، وقولهم: إن ما ظهر من صورة المسيح في الناسوت لم يكن جسما بل خيالا كالصورة المرئية في المرآة باطل لأن من أصلهم أن المسيح إنما أحيا الميت وأبرأ الأكمه والأبرص بما فيه من اللاهوت، فإذا كان ما ظهر فيه من اللاهوت لا حقيقة له بل هو خيال محض لا يصلح لحدوث ما حدث عن الإله عنه، والقول: بأن أقنوم الحياة مخلوق حادث ليس كذلك لقيام الأدلة على قدم الصفات فهو قديم أزلي كيف وأنه لو كان حادثا لكان الإله قبله غير حي، ومن ليس بحي لا يكون عالما ولا ناطقا، وقول من قال: إن المسيح مخلوق قبل العالم وهو خالق لكل
31

شيء باطل لقيام الأدلة على أنه كان الله تعالى ولا شيء غيره.
وأما الأمانة التي هم بها متقربون وبما حوته متعبدون فبيان اضطرابها وتناقضها وتهافتها من وجوه: الأول أن قولهم: نؤمن بالواحد الأب صانع كل شيء، يناقض قولهم: وبالرب الواحد المسيح الخ مناقضة لا تكاد تخفى، الثاني أن قولهم: إن يسوع المسيح ابن الله تعالى بكر الخلائق مشعر بحدوث المسيح إذ لا معنى لكونه ابنه إلا تأخره عنه إذ الوالد والولد لا يكونان معا في الوجود وكونهما معا مستحيل ببداهة العقول لأن الأب لا يخلو إما أن يكون ولد ولدا لم يزل أو لم يكن، فإن قالوا: ولد ولدا لم يزل، قلنا: فما ولد شيئا إذ الابن لم يزل وإن ولد شيئا لم يكن، فالولد حادث مخلوق وذلك مكذب لقولهم: إله حق من إله حق من جوهر أبيه وأنه أتقن العوالم بيده وخلق كل شيء، الثالث أن قولهم: إله حق من إله حق من جوهر أبيه يناقضه قول المسيح في الإنجيل: وقد سئل عن يوم القيامة فقال: لا أعرفه ولا يعرفه إلا الأب وحده، فلو كان من جوهر الأب لعلم ما يعلمه الأب على أنه لو جاز أن يكون إله ثان من إله أول لجاز أن يكون إله ثالث من إله ثان ولما وقف الأمر على غاية وهو محال، الرابع أن قولهم: إن يسوع أتقن العوالم بيده وخلق كل شيء باطل مكذب لما في الإنجيل إذ يقول متى: هذا مولد يسوع المسيح بن داود، وأيضا خالق العالم لا بد وأن يكون سابقا عليه وأنى بسبق المسيح وقد ولدته مريم؟! وأيضا في الإنجيل إن إبليس قال للمسيح: أسجد لي وأعطيك جميع العالم وأملكك كل شيء ولا زال يسحبه من مكان إلى مكان ويحول بينه وبين مراده ويطمع في تعبده له فكيف يكون خالق العالم محصورا في يد بعض العالم؟! نعوذ بالله تعالى من الضلالة. الخامس أن قولهم: المسيح الإله الحق الذي نزل من السماء لخلاص الناس وتجسد من روح القدس وصار إنسانا وحبل به وولد، فيه عدة مفاسد: منها أن المسيح لا يخص مجرد الكلمة ولا مجرد الجسد بل هو اسم يخص هذا الجسد الذي ولدته مريم عليها السلام ولم تكن الكلمة في الأزل مسيحا فبطل أن يكون هو الذي نزل من السماء، ومنها أن الذي نزل من السماء لا يخلو إما أن يكون الكلمة أو الناسوت، فإن زعموا أن الذي نزل هو الناسوت فكذب صراح لأن ناسوته من مريم، وإن زعموا أنه اللاهوت فيقال: لا يخلو إما أن يكون الذات أو العلم المعبر عنه بالكلمة فإن كان الأول لزم لحوق النقائص للبارىء عز اسمه، وإن كان الثاني لزم انتقال الصفة وبقاء البارىء بلا علم وذلك باطل.
ومنها أن قولهم: إنما نزل لخلاص معشر الناس يريدون به أن آدم عليه السلام لما عصى أوثق سائر ذريته في حبالة الشيطان وأوجب عليهم الخلود في النار فكان خلاصهم بقتل المسيح وصلبه والتنكيل به وذلك دعوى لا دلالة عليها، هب أنا سلمناها لهم لكن يقال: أخبرونا مم هذا الخلاص الذي تعنى الإله الأزلي له وفعل ما فعل بنفسه لأجله؟ ولم خلصكم؟ وممن خلصكم؟ وكيف استقل بخلاصكم دون الأب والروح والربوبية بينهم؟ وكيف ابتذل وامتهن في خلاصكم دون الأب والروح؟ فإن زعموا أن الخلاص من تكاليف الدنيا وهمومها أكذبهم الحس، وإن كان من تكاليف الشرع وأنهم قد حط عنهم الصلاة والصوم مثلا أكذبهم المسيح. والحواريون بما وضعوه عليهم من التكاليف، وإن زعموا أنهم قد خلصوا من أحكام الدار الآخرة فمن ارتكب محرما منهم لم يؤاخذ أكذبهم الإنجيل والنبوات إذ يقول المسيح في الإنجيل إني أقيم الناس يوم القيامة عن يميني وشمالي فأقول لأهل اليمين:
32

فعلتم كذا وكذا فاذهبوا إلى النعيم المعد لكم قبل تأسيس الدنيا، وأقول لأهل الشمال: فعلتم كذا وكذا فاذهبوا إلى العذاب المعد لكم قبل تأسيس العالم، السادس - أن قولهم: وتجسد من روح القدس باطل بنص الإنجيل إذ يقول متى في الفصل الثاني منه: إن يوحنا المعمداني حين عمد المسيح جاءت روح القدس إليه من السماء في صفة حمامة وذلك بعد ثلاثين من عمره.
السابع أن قولهم: إن المسيح نزل من السماء وحملت به مريم وسكن في رحمها مكذب بقول لوقا الإنجيلي: إذ يقول في " قصص الحواريين " في الفصل الرابع عشر منه: إن الله تعالى هو خالق العالم بما فيه وهو رب السماء والأرض لا يسكن الهياكل ولا تناله أيدي الرجال ولا يحتاج إلى شيء من الأشياء لأنه الذي أعطى الناس الحياة، فوجودنا به وحياتنا وحركاتنا منه، فقد شهد لوقا بأن الباري وصفاته لا تسكن الهياكل ولا تناله الرجال بأيديها، وهذا ينافي كون الكلمة سكنت في هيكل مريم وتحولت إلى هيكل المسيح، الثامن أن قولهم: إنه بعد أن قتل وصلب قام من بين الأموات وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه من الكذب الفاحش المستلزم للحدوث، التاسع أن
قولهم: إن يسوع هذا الرب الذي صلب وقتل مستعد للمجيء تارة أخرى لفصل القضاء بين الأموات والأحياء بمنزلة قول القائل: لألفينك بعد الموت تندبني * وفي حياتي ما زودتني زادا
إذ زعموا أنه في المرة الأولى عجز عن خلاص نفسه حتى تم عليه من أعدائه ما تم فكيف يقدر على خلاصهم بجملتهم في المرة الثانية، العاشر أن قولهم: ونؤمن بمعمودية واحدة لغفران الذنوب فيه مناقضة لأصولهم، وذلك أن اعتقاد النصارى أنه لم تغفر خطاياهم بدون قتل المسيح، ولذلك سموه جمل الله تعالى الذي يحمل عليه الخطايا، ودعوه مخلص العالم من الخطيئة فإذا آمنوا بأن المعمودية الواحدة هي التي تغفر خطاياهم وتخلص من ذنوبهم فقد صرحوا بأنه لا حاجة إلى قتل المسيح لاستقلال المعمودية بالخلاص والمغفرة فإن كان التعميد كافيا للمغفرة فقد اعترفوا أن وقوع القتل عبث وإن كانت لا تحصل إلا بقتله فما فائدة التعميد وما هذا الإيمان؟ فهذه عشرة وجوه كاملة في رد تلك الأمانة وإظهار ما لهم فيها من الخيانة، ومن أمعن نظره ردها بأضعاف ذلك، وقال أبو الفضل المالكي بعد كلام: بطلت أمانتهم فمن مضمونها * ظهرت خيانتها خلال سطورها
بدأوا بتوحيد الإله وأشركوا * عيسى به، فالخلف في تعبيرها
قالوا: بأن إلههم عيسى الذي * ذر الوجود على الخليقة كلها
خلق أمه قبل الحلول ببطنها * ما كان أغنى ذاته عن مثلها
هل كان محتاجا لشرب لبانها * أو أن يربى في مواطن حجرها
جعلوه ربا جوهرا من جوهر * ذهبوا لما لا يرتضيه أولو النهى
قالوا: وجاء من السماء عناية * لخلاص آدم من لظاه وحرها
قد تاب آدم توبة مقبولة * فضلالهم جعل الفداء بغيرها
لو جاء في ظلل الغمام وحوله * شرفا ملائكة السماء بأسرها
وفدى الذي بيديه أحكم طينه * بالعفو عن كل الأمور وسترها
ثم اجتباه محببا ومفضلا * ووقاه من غي النفوس وشرها
33

كنتم تحلون الإله مقامه * فيما تراه نفوسكم من شركها
من غير أن يحتاج في تخليصه * كل الخلائق أن تبوء بضرها
ويشينه الأعدا بما لا يرتضي * من كيدها وبما دهى من مكرها
هذي أمانتهم وهذا شرحها * الله أكبر من معاني كفرها
ثم اعلم أنه لا حجة للنصارى القائلين بالتثليث بما روي عن متى التلميذ أنه قال: إن المسيح عندما ودعهم قال: اذهبوا وعمدوا الأمم باسم الأب والابن وروح القدس، ومن هنا جعلوا مفتتح الإنجيل ذلك كما أن مفتتح القرآن بسم الله الرحمن الرحيم، ويوهم كلام بعض منا أن هذه التسمية نزلت من السماء كالبسملة عندنا لأنا نقول - على تقدير صحة الرواية، ودونها خرط القتاد -: يحتمل أن يراد بالأب المبدأ، فإن القدماء كانوا يسمون المباديء بالآباء، ومن الابن الرسول، وسمي بذلك تشريفا وإكراما كما سمي إبراهيم عليه السلام خليلا، أو باعتبار أنهم يسمون الآثار أبناء، وقد رووا عن المسيح عليه السلام أنه قال: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم، وقال: لا تعطوا صدقاتكم قدام الناس لتتراءوهم فإنه لا يكون لكم أجر عند أبيكم الذي في السماء. وربما يقال: إن الابن بمعنى الحبيب أو نحوه، ويشير إلى ذلك ما رووه أنه عليه السلام قال عقيب وصية وصى بها الحواريين: لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء وتكونوا تامين كما أن أباكم الذي في السماء تام، ويراد بروح القدس جبريل عليه السلام، والمعنى عمدوا ببركة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والملك المؤيد للأنبياء عليهم الصلاة والسلام على تبليغ أوامر ربهم، وفي " كشف الغين عن الفرق بين البسملتين " للشيخ عبد الغني النابلسي قدس سره أن بسملة النصارى مشيرة إلى ثلاث حضرات للأمر الإلهي الواحد الأحد: الغيب المطلق، فالأب إشارة إلى الروح الذي هو أول مخلوق لله تعالى كما في الخبر وهو المسمى بالعقل والقلم والحقيقة المحمدية، ويضاف إلى الله تعالى فيقال: روح الله تعالى للتشريف والتعظيم ك‍ * (ناقة الله) * (الشمس: 13) تعالى، و * (روح القدس) * (النمل: 102) إشارة إليه أيضا باعتبار ظهوره بصورة البشر السوي النافخ في درع مريم عليها السلام، والابن إشارة إلى عيسى عليه السلام وهو ابن لذلك الروح باعتبار أن تكونه بسبب نفخه، والأب هو الابن، والابن هو روح القدس في الحقيقة، والغيب المطلق منزه مقدس عن هذه الثلاثة، فإنه سبحانه من حيث هو لا شيء معه ولا يمكن أن يكون معه شيء، فبسملة الإنجيل من مقام الصفات الإلهية والأسماء الربانية لا من مقام الذات الأقدسية. ثم لا يتوهمن متوهم أن كلمات ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم تدندن حول كلمات النصارى كما يزعمه من لا اطلاع له على تحقيق كلامهم ولا ذوق له في مشربهم، وذلك لأن القوم نفعنا الله تعالى بهم مبرؤون عما نسبه المحجوبون إليهم من اعتقاد التجسيم والعينية والاتحاد والحلول، أما إنهم لم يقولوا بالتجسيم فلما تقرر عندهم من أن الحق سبحانه هو الوجود المحض الموجود بذاته القائم بذاته المتعين بذاته، وكل جسم فهو صورة في الوجود المنبسط على الحقائق المعبر عنه بالعماء متعينة بمقتضى استعداد ماهية المعدومة ولا شيء من الوجود المجرد من الماهية المتعين بذاته بالصورة المتعينة في الوجود المنبسط بمقتضى الماهية المعدومة فلا شيء من الجسم بالوجود المجرد عن الماهية المتعين بذاته، وتنعكس إلى لا شيء من الوجود المجرد عن الماهية المتعين بذاته بجسم وهو المطلوب، وأما أنهم لم يقولوا بالعينية،
فلأن الحق تعالى هو ما علمت من الوجود المحض، الخ، والمخلوق هو الصورة الظاهرة في الوجود المنبسط على الحقائق المتعين بحسب ماهيته المعدومة ولا شيء من المجرد عن الماهية المتعين بذاته بالمقترن بالماهية المتعين
34

بحسبها، ومما يشهد لذلك قول الشيخ الأكبر قدس سره في الباب الثامن والخمسين وخمسمائة من " الفتوحات " في حضرة البديع بعد بسط: وهذا يدلك على أن العالم ما هو عين الحق وإنما ظهر في الوجود الحق إذ لو كان عين الحق ما صح كونه بديعا، وقوله في هذا الباب أيضا في قوله تعالى: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) * (الأنعام: 59) انفرد سبحانه بعلمها ونفى العلم عن كل ما سواه، فأثبتك في هذه الآية وأعلمك أنك لست هو إذ لو كنت هو لعلمت مفاتح الغيب بذاتك، وما لا تعلمه إلا بموقف فلست عين الموقف، وكذا قال غير واحد، وقال الشيخ شرف الدين إسماعيل بن سودكين في " شرح التجليات " نقلا عن الشيخ قدس سره أيضا: لما ظهرت الممكنات بإظهار الله تعالى لها وتحقق ذلك تحققا لا يمكن للممكن أن يزيل هذه الحقيقة أبدا فبقي متواضعا لكبرياء الله تعالى خاشعا له وهذه سجدة الأبد وهي عبارة عن معرفة العبد بحقيقته. ومن هنا يعلم حقيقة قوله سبحانه: " كنت سمعه وبصره " الحديث، ولما لاح من هذا المشهد لبعض الضعفاء لائح قال: أنا الحق فسكر وصاح ولم يتحقق لغيبته عن حقيقته انتهى، وأما أنهم لم يقولوا بالاتحاد فلأن الاتحاد إما بصيرورة الوجود المحض المجرد المتعين بذاته وجودا مقترنا بالماهية المعدومة متعينا بحسبها أو بالعكس، وذلك محال بوجهيه لأن التجرد عن الماهية ذاتي للحق تعالى والاقتران بها ذاتي للممكن وما بالذات لا يزول.
وفي كتاب " المعرفة " للشيخ الأكبر قدس سره: إذا كان الاتحاد مصير الذاتين واحدة فهو محال لأنه إن كان عين كل منهما موجودا في حال الاتحاد فهما ذاتان وإن عدمت العين الواحدة وثبتت الأخرى فليست إلا واحدة، وقال في كتاب الياء وهو كتاب الهو الاتحاد محال، وساق الكلام إلى أن قال: فلا اتحاد ألبتة لا من طريق المعنى ولا من طريق الصورة، وقال في الباب الخامس من " الفتوحات " خطابا من الحق تعالى للروح الكلي: وقد حجبتك عن معرفة كيفية إمدادي لك بالأسرار الإلهية إذ لا طاقة لك بحمل مشاهدتها، إذ لو عرفتها لاتحدت الأنية واتحاد الإنية محال، فمشاهدتك لذلك محال، هل ترجع إنية المركب إنية البسيط؟ لا سبيل إلى قلب الحقائق، وأما إنهم لم يقولوا بالحلول فلأنهم فسروا الحلول تارة بأنه الحصول على سبيل التبعية، وتارة بأنه كون الموجود في محل قائما به، ومن المعلوم أن الواجب تعالى - وهو الوجود المحض القائم بذاته المتعين كذلك - يستحيل عليه القيام بغيره. قال الشيخ الأكبر قدس سره في الباب الثاني والتسعين ومائتين من " الفتوحات ": نور الشمس إذا تجلى في البدر يعطي من الحكم ما لا يعطيه من الحكم بغير البدر لا شك في ذلك، كذلك الاقتدار الإلهي إذا تجلى في العبد يظهر الأفعال عن الخلق فهو وإن كان بالاقتدار الإلهي، لكن يختلف الحكم لأنه بواسطة هذا المجلى الذي كان مثل المرآة لتجليه، وكما يعلم عقلا أن القمر في نفسه ليس فيه من نور الشمس شيء وأن الشمس ما انتقلت إليها بذاتها وإنما كان لها مجلي، كذلك العبد ليس فيه من خالقه شيء ولا حل فيه وإنما هو مجلي له وخاصة ومظهر له انتهى.
وهذا نص في نفي الحلول ومنشأ غلط المحجوبين المنكرين عدم الفهم لكلام هؤلاء السادة نفعنا الله تعالى بهم على وجهه، وعدم التمييز بين الحلول والتجلي ولم يعلموا أن كون الشيء مجلي لشيء ليس كونه محلا له، فإن الظاهر في المرآة خارج عن المرآة بذاته قطعا بخلاف الحال في محل فإنه حاصل فيه فالظهور غير الحلول،
35

فإن الظهور في المظاهر للواسع القدوس يجامع التنزيه بخلاف الحلول، نعم وقع في كلامهم التعبير بالحلول ومرادهم به الظهور، ومن ذلك قوله:
يا قبلتي قابليني بالسجود فقد * رأيت شخصا لشخص في قد سجدا
لاهوته حل ناسوتي فقدسني * إني عجبت لمثلي كيف ما عبدا
وكان الأولى بحسب الظاهر عدم التعبير بمثل ذلك ولكن للقوم أحوال ومقامات لا تصل إليها أفهامنا، ولعل عذرهم واضح عند المنصفين، إذا علمت ذلك وتحققت اختلاف النصارى في عقائدهم، فاعلم أنه سبحانه إنما حكى في بعض الآيات قول بعض منهم، وفي بعض آخر قول آخرين، وحكاية دعواهم ألوهية مريم عليها السلام كدعواهم ألوهية عيسى عليه السلام مما نطق بها القرآن ولم يشع ذلك عنهم صريحا لكن يلزمهم ذلك بناءا على ما حققه الإمام الرازي رحمه الله تعالى، والنصارى اليوم ينكرونه والله تعالى أصدق القائلين، ويمكن أن يقال: إن مدعي ألوهيتها عليها السلام صريحا طائفة منهم هلكت قديما كالطائفة اليهودية التي تقول عزير ابن الله تعالى على ما قيل. ثم إنه سبحانه بالغ في زجر القائلين فأردف سبحانه النهي بقوله عز من قائل: * (انتهوا) * عن القول بالتثليث * (خيرا لكم) * قد مر الكلام في أوجه انتصابه * (إنما الله إل‍اه واحد) * أي بالذات منزه عن التعدد بوجه من الوجوه * (سبح‍انه أن يكون له ولد) * أي أسبحه تسبيحا عن، أو من أن يكون له ولد، أو سبحوه عن، أو من ذلك لأن الولد يشابه الأب ويكون مثله والله تعالى منزه عن التشبيه والمثل، وأيضا الولد إنما يطلب ليكون قائما مقام أبيه إذا عدم ولذا كان التناسل والله تعالى باق لا يتطرق ساحته العلية فناء فلا يحتاج إلى ولد ولا حكمة تقتضيه، وقد علمت ما أوقع النصارى في اعتقادهم أن عيسى عليه السلام ابن الله تعالى. ومن الاتفاقات الغريبة ما نقله مولانا راغب باشا رحمه الله تعالى ملخصا من " تعريفات أبي البقاء " قال: قال الإمام العلامة محمد بن سعيد الشهير بالبوصيري نور الله تعالى ضريحه: إن بعض النصارى انتصر لدينه وانتزع من البسملة الشريفة دليلا على تقوية اعتقاده في المسيح عليه السلام وصحة يقينه به فقلب حروفها ونكر معروفها وفرق مألوفها وقدم فيها وأخر وفكر وقدر فقتل كيف قدر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر، فقال: قد انتظم من البسملة المسيح ابن الله المحرر، فقلت له: حيث رضيت البسملة بيننا وبينك حكما وحزت منها أحكاما وحكما فلتنصرن البسملة منا الأخيار على الأشرار، ولتفضلن أصحاب الجنة على أصحاب النار إذ قد قالت لك البسملة بلسان حالها: إنما الله رب المسيح راحم النحر لأمم لها المسيح رب، ما برح الله راحم المسلمين، هل () ابن مريم أحل له الحرام، لا المسيح ابن الله المحرر، لا مرحم للئام أبناء السحرة رحم حر مسلم أناب إلى الله، لله نبي مسلم حرم الراح، ربح رأس مال كلمة الإيمان، فإن قلت: إنه عليه السلام رسول صدقتك، وقالت: إيل أرسل الرحمة بلحم، وإيل من أسماء الله تعالى بلسان كتبهم وترجمة بلحم ببيت لحم، وهو المكان الذي ولد فيه عيسى عليه السلام إلى غير ذلك مما يدل على إبطال مذهب النصارى، ثم انظر إلى
البسملة قد تخبر أن من وراء خلها خيولا وليوثا، ومن دون طلها سيولا وغيوثا، ولا تحسبني استحسنت كلمتك الباردة فنسجت على منوالها وقابلت الواحدة بعشر أمثالها بل أتيتك بما يغنيك فيبهتك ويسمعك ما يصمك عن الإجابة فيصمتك، فتعلم أن هذه البسملة مستقر لسائر العلوم والفنون ومستودع لجوهر سرها المكنون، ألا ترى أن البسملة
36

إذا حصلت جملتها كان عددها سبعمائة وستة وثمانين فوافق جملها إن مثل عيسى كآدم ليس لله من شريك بحساب الألف التي بعد لامي الجلالة ولا أشرك بربي أحدا، يهدي الله لنوره من يشاء، بإسقاط ألف الجلالة، فقد أجابتك البسملة بما لم تحط به خبرا، وجاءك ما لم تستطع عليه صبرا انتهى. وقد تقدم نظير ذلك في الباقي بعد إسقاط المكرر من حروف المعجم في أوائل السور حيث رتب الشيعي منه ما ظنه مقويا لما هو عليه أعني صراط علي حقا نمسكه وقابلناه بما يبهته مرتبا من هذا الحروف أيضا فتذكر، وقرأ الحسن * (إن يكون) * بكسر الهمزة ورفع النون أي سبحانه ما يكون له ولد على أن الكلام جملتان.
* (له ما في السم‍اوات وما في الأرض) * جملة مستأنفة مسوقة لتعليل التنزيه، وبيان ذلك أنه سبحانه مالك لجميع الموجودات علويها وسفليها لا يخرج من ملكوته شيء منها، ولو كان له ولد لكان مثله في المالكية فلا يكون مالكها لجميعها، وقوله تعالى: * (وكفى بالله وكيلا) * إشارة إلى دليل آخر لأن الوكيل بمعنى الحافظ فإذا استقل سبحانه وتعالى في الحفظ لم يحتج إلى الولد فإن الولد يعين أباه في حياته ويقوم مقامه بعد وفاته والله تعالى منزه عن كل هذا فلا يتصور له ولد عقلا ويكون افتراؤه حمقا وجهلا..
* (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا المل‍ائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا) *.
* (لن يستنكف المسيح) * استئناف مقرر لما سبق من التنزيه، وروي أن وفد نجران قالوا لنبينا صلى الله عليه وسلم: " يا محمد لم تعيب صاحبنا؟ قال: ومن صاحبكم؟ قالوا: عيسى عليه السلام، قال: وأي شيء أقول فيه؟ قالوا: تقول: إنه عبد الله ورسوله فنزلت " والاستنكاف استفعال من النكف، " وأصله - كما قال الراغب - من نكفت الشيء نحيته وأصله تنحية الدمع عن الخد بالأصبع، وقالوا: بحر لا ينكف أي لا ينزح "، ومنه قوله: فبانوا (ولولا) ما تذكر منهم * من (الخلف) لم ينكف لعينيك مدمع
وقيل: النكف قول السوء، ويقال: ما عليه في هذا الأمر نكف ولا وكف، واستفعل فيه للسلب قاله المبرد، وفي " الأساس " " استنكف (منه) ونكف امتنع وانقبض أنفا وحمية ". وقال الزجاج: الاستنكاف تكبر في تركه أنفة وليس في الاستكبار ذلك، والمعنى لن يأنف ولن يمتنع، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لن يستكبر المسيح.
* (أن يكون عبدا لله) * أي عن، أو من أن يكون عبدا لله تعالى مستمرا على عبادته تعالى وطاعته حسبما هو وظيفة العبودية كيف وأن ذلك أقصى مراتب الشرف، وقد أشار القاضي عياض إلى شرف العبودية بقوله: ومما زادني عجبا وتيها * وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك: يا عبادي * وجعلك خير خلقك لي نبيا
والاقتصار على ذكر عدم استنكافه عليه السلام عن ذلك مع أن شأنه عليه السلام المباهاة به كما تدل عليه أحواله وتفصح عنه أقواله لوقوعه في موضع الجواب عما قاله الكفرة كما علمت آنفا. وهو السر في جعل المستنكف منه كونه عليه السلام عبدا له تعالى دون أن يقال: عن عبادة الله تعالى ونحو ذلك مع إفادته - كما قيل - فائدة جليلة هي كمال نزاهته عليه السلام عن الاستنكاف بالكلية لاستمرار هذا الوصف واستتباعه وصف العبادة فعدم الاستنكاف عنه مستلزم لعدم استنكاف ذلك بخلاف وصف العبادة فإنها حالة متجددة غير مستلزمة للدوام يكفي في اتصاف موصوفها بها تحققها مرة، فعدم الاستنكاف عنها لا يستلزم عنها عدم الاستنكاف عن دوامها.
37

ومما يدل على عبوديته عليه السلام من كتب النصارى أن قولس قال في " رسالته الثانية ": أنظروا إلى هذا الرسول رئيس أحبارنا يسوع المؤتمن من عند من خلقه مثل موسى عليه السلام في جميع أحواله غير أنه أفضل من موسى عليه السلام، وقال مرقس في " إنجيله ": قال يسوع: إن نفسي حزينة حتى الموت، ثم خر على وجهه يصلي لله تعالى، وقال: أيها الأب كل شيء بقدرتك أخر عني هذا الكاس لكن كما تريد لا كما أريد، ثم خر على وجهه يصلي لله تعالى، ووجه الدلالة في ذلك ظاهر إذ هو سائل والله تعالى مسؤول، وهو مصل والله تعالى مصلى له، وأي عبودية تزيد على ذلك، ونصوص " الأناجيل " ناطقة بعبوديته عليه السلام في غير ما موضع، ولله تعالى در أبي الفضل حيث يقول فيه: هو عبد مقرب ونبي * ورسول قد خصه مولاه
طهر الله ذاته وحباه * ثم أتاه وحيه وهداه
وبكن خلقه بدا كلمة الل‍ * - ه إلى مريم البتول براه
هكذا شأن ربه خالق الخل‍ * - ق بكن خلقهم فنعم الإله
والأناجيل شاهدات وعنه * إنما الله ربه لا سواه
كان لله خاشعا مستكينا * راغبا راهبا يرجى رضاه
ليس يحيا وليس يخلق إلا * أن دعاه وقد أجاب دعاه
إنما فاعل الجميع هو الل‍ * - ه ولكن على يديه قضاه
ويكفي في إثبات عبوديته عليه السلام ما أشار الله تعالى إليه بقوله: * (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام) * (
المائدة: 75) وفي التعبير بالمسيح ما يشعر بالعبودية أيضا.
* (ولا المل‍ائكة المقربون) * عطف على * (المسيح) * كما هو الظاهر أي لا يستنكف الملائكة المقربون أن يكونوا عبيدا لله تعالى، وقيل: إنه عطف على الضمير المستتر في * (يكون) * أو * (عبدا) * لأنه صفة وليس بشيء، وتقدير متعلق الفعل لازم على ما ذهب إليه الأكثرون، وقيل: أريد - بالملائكة - كل واحد منهم فلا حاجة إلى التقدير، وزعم بعضهم أنه من عطف الجمل والتزم تقدير الفعل وهو كما ترى.
واحتج بالآية القاضي أبو بكر والحليمي والمعتزلة على أن الملائكة أفضل من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأن الذي يقتضيه السياق وقواعد المعاني وكلام العرب الترقي من الفاضل إلى الأفضل فيكون المعنى لا يستنكف المسيح ولا من هو فوقه، كما يقال: لن يستنكف من هذا الأمر الوزير ولا السلطان دون العكس، وأجيب بأن سوق الآية وإن كان ردا على النصارى لكنه أدمج فيه الرد على عبدة الملائكة المشاركين لهم في رفع بعض المخلوقين عن مرتبة العبودية إلى درجة المعبودية، وادعاء انتسابهم إلى الله تعالى بما هو من شوائب الألوهية، وخص * (المقربون) * لأنهم كانوا يعبدونهم دون غيرهم، ورد هذا الجواب بأن هذا لا ينفي فوقية الثاني كما هو مقتضى علم المعاني؛ قيل: ولا ورود له لأنه يعلم من التقرير دفعه لأن المقصود بالذات أمر المسيح فلذا قدم، ولو سلم أنه لا ينفي الفوقية فهو لا يثبتها كما إذا قلت: ما فعل هذا زيد ولاعمرو، وهو يكفي لدفع حجة الخصم، وأما كون السباق والسياق يخالفه فليس بشيء لأن المجيب قال: إنه إدماج واستطراد، وأجيب أيضا على تقدير تسليم اختصاص الرد بالنصارى بأن الملائكة المقربون صيغة جمع تتناول مجموع الملائكة، فهذا العطف يقتضي كون مجموع الملائكة أفضل من المسيح، ولا يلزم أن يكون
38

كل واحد منهم أفضل من المسيح، قال في " الانتصاف " " وفيه نظر لأن مورده إذا بني على أن المسيح أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة فقد يقال: يلزمه القول بأنه أفضل من الكل كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان أفضل من كل واحد من (آحاد) الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كان أفضل من كلهم، ولم يفرق بين التفضيل على التفضيل، والتفضيل على الجملة أحد ممن صنف في هذا المعنى. وقد كان (طار عن) بعض (الأئمة) (2) المعاصرين تفضيله بين التفضيلين، ودعوى أنه لا يلزم منه على التفضيل تفضيل على الجملة، ولم يثبت عنه هذا القول، ولو قاله فهو مردود بوجه لطيف، وهو أن التفضيل المراد جل أمارته رفع درجة الأفضل في الجنة، والأحاديث (متظافرة) بذلك، وحينئذ لا يخلو إما أن ترتفع درجة واحدة من المفضولين على من اتفق أنه أفضل من كل واحد منهم، أو لا ترتفع درجة أحد منهم عليه، لا سبيل إلى الأول لأنه يلزم منه رفع المفضول على (الفاضل) فيتعين الثاني وهو ارتفاع درجة الأفضل على درجات المجموع ضرورة فيلزم ثبوت أفضليته على المجموع من ثبوت أفضليته على كل واحد منهم قطعا " انتهى.
قلت: فما شاع من الخلاف بين الحنفية والشافعية في أن النبي صلى الله عليه وسلم هل هو أفضل من المجموع كما أنه أفضل من الجميع أم أنه أفضل من الجميع فقط دون المجموع؟ ليس في محله على هذا فتدبر، وقيل في الجواب: إن غاية ما تدل عليه الآية تفضيل المقربين من الملائكة وهم الكروبيون الذين حول العرش، أو من هم أعلى رتبة منهم من الملائكة على المسيح من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وذلك لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقا وفيه النزاع؛ ورد بأن المدعي أن في مثل هذا الكلام مقتضى قواعد المعاني الترقي من الأدنى إلى الأعلى دون العكس أو التسوية، وقد علم أن الحكم في الجمع المحلى بأل على الآحاد وأن المدعي ليس إلا دلالة الكلام على أن الملك المقرب أفضل من عيسى عليه السلام، وهذا كاف في إبطال القول بأن خواص البشر أفضل من خواص الملك؛ وزعم بعضهم أن عطف الملائكة على المسيح بالواو لا يقتضي ترتيبا، وما يورد من الأمثلة لكون الثاني أعلى مرتبة من الأول معارض بأمثلة لا تقتضي ذلك كقول القائل: ما (أعانني) على هذا الأمر زيد ولا عمرو، وكقولك: لا تؤذ مسلما ولا ذميا بل لو عكست في هذا المثال وجعلت الأعلى ثانيا لخرجت عن حد الكلام وقانون البلاغة - كما قال في " الانتصاف " - ثم قال فيه: " ولكن الحق أولى من المراء وليس بين المثالين تعارض، ونحن نمهد تمهيدا يرفع اللبس ويكشف الغطاء، فنقول: النكتة في الترتيب في المثالين الموهوم تعارضهما واحدة وهي توجب في مواضع تقديم الأعلى وفي مواضع تأخيره، وتلك النكتة أن مقتضى البلاغة التنائي عن التكرار والسلامة عن النزول فإذا اعتمدت ذلك فهما أدى إلى أن يكون آخر كلامك نزولا بالنسبة إلى أوله، أو يكون الآخر مندرجا في الأول قد أفاده، وأنت مستغن عن الآخر فاعدل عن ذلك إلى ما يكون ترقيا من الأدنى إلى الأعلى، واستئنافا لفائدة لم يشتمل عليها الأول، مثاله الآية المذكورة فإنك لو ذهبت فيها إلى أن يكون المسيح أفضل من الملائكة وأعلى رتبة لكان ذكر الملائكة بعده كالمستغنى عنه لأنه إذا كان الأفضل وهو المسيح على هذا التقدير عبدا (لله) غير مستنكف من العبودية لزم من ذلك أن ما دونه في الفضيلة أولى أن لا يستنكف عن كونه عبدا لله تعالى وهم الملائكة على هذا التقدير، فلم يتجدد إذن بقوله تعالى: * (ولا الملائكة المقربون) * إلا ما سلف أول الكلام، وإذا قدرت المسيح مفضولا بالنسبة إلى الملائكة فكأنك ترقيت من تعظيم الله تعالى بأن المفضول لا يستنكف عن كونه عبدا له تعالى إلى أن الأفضل لا يستنكف عن ذلك، وليس
39

يلزم من عدم استنكاف المفضول عدم استنكاف الأفضل، فالحاجة داعية إلى ذكر الملائكة إذ لم يستلزم الأول الآخر، فصار الكلام على هذا التقدير متجدد الفائدة متزائدها، ومتى كان كذلك تعين أن يحمل عليه الكتاب العزيز لأنه الغاية في البلاغة. وبهذه النكتة يجب أن تقول: لا تؤذ مسلما ولا ذميا، فتؤخر الأدنى على عكس الترتيب في الآية لأنك إذا نهيته عن أذى المسلم فقد يقال ذاك من خواصه احتراما لدين الإسلام، فلا يلزم من ذلك نهيه عن أذى الكافر المسلوبة عنه هذه الخصوصية، فإذا قلت: ولا ذميا فقد جددت فائدة لم تكن في الأول وترقيت من النهي عن بعض أنواع الأذى إلى النهي عن أكثر منه، ولو رتبت هذا المثال كترتيب الآية فقلت: لا تؤذ ذميا فهم المنهي أن أذى المسلم أدخل في النهي إذ يساوي الذمي في سبب الالتزام وهو الإنسانية مثلا، ويمتاز عنه بسبب هو أجل وأعظم وهو الإسلام، فيقنعه هذا النهي عن تجديد نهي آخر عن أذى المسلم، فإن قلت: ولا مسلما لم تجدد له فائدة ولم تعلمه غير ما أعلمته أولا، فقد علمت أنها نكتة واحدة توجب أحيانا تقديم الأعلى وأحيانا تأخيره، ولا يميز لك ذلك إلا السياق، وما أشك أن سياق الآية يقتضي تقديم الأدنى وتأخير الأعلى، ومن البلاغة المرتبة على هذه النكتة قوله تعالى: * (فلا تقل لهما
أف) * (الإسرار: 23) استغناءا عن نهيه عن ضربهما فما فوقه (بتقديم) الأدنى، ولم يلق ببلاغة الكتاب العزيز أن يريد نهيا عن أعلى من التأفيف والانتهار لأنه مستغنى عنه، وما يحتاج المتدبر لآيات القرآن مع التأييد شاهدا سواها، ولما اقتضى الإنصاف تسليم اقتضاء الآية لتفضيل الملائكة، (وكان القول بتفضيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام اعتقادا لأكثر أهل السنة والشيعة التزم) حمل التفضيل في الآية على غير محل الخلاف، وذلك تفضيل الملائكة في القوة وشدة البطش وسعة التمكن والاقتدار. وهذا النوع من الفضيلة هو المناسب لسياق الآية لأن المقصود الرد على النصارى في اعتقادهم ألوهية عيسى عليه السلام مستندين إلى كونه أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص، وصدرت على يديه آثار عظيمة خارقة، فناسب ذلك أن يقال: هذا الذي صدرت على يديه هذه الخوارق لا يستنكف عن عبادة الله تعالى بل من هو أكثر خوارقا وأظهر آثارا كالملائكة المقربين الذين من جملتهم جبريل عليه السلام، وقد بلغ من قوته وإقدار الله تعالى له أن اقتلع المدائن واحتملها على ريشة من جناحه فقلبها عاليها سافلها فيكون تفضيل الملائكة إذن بهذا الاعتبار، ولا خلاف في أنهم أقوى وأبطش وأن خوارقهم أكثر، وإنما الخلاف في التفضيل باعتبار مزيد الثواب والكرامات ورفع الدرجات في دار الجزاء، وليس في الآية عليه دليل، وقد يقال: لما كان أكثر ما لبس على النصارى في ألوهية عيسى عليه السلام كونه موجودا من غير أب أنبأ الله تعالى أن هذا الموجود من غير أب لا يستنكف من عبادة الله تعالى ولا الملائكة الموجودون من غير أب ولا أم، فيكون تأخير ذكرهم لأن خلقهم أغرب من خلق عيسى عليه السلام، ويشهد لذلك أن الله تعالى نظر عيسى بآدم عليهما السلام، فنظر الغريب بالأغرب وشبه العجيب من آثار قدرته بالأعجب إذ عيسى مخلوق من (آدم عليهما الصلاة والسلام) وآدم عليه السلام من غير أب ولا أم، ولذلك قال سبحانه: * (خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) * (آل عمران: 59) ومدار هذا البحث على النكتة التي أشير إليها، فمتى استقام اشتمال المذكور ثانيا على فائدة لم يشتمل عليها الأول بأي طريق كان من تفضيل أو غيره من الفوائد فقد طابق صيغة الآية انتهى.
40

وبالجملة المسألة سمعية - وتفصيل الأدلة والمذاهب فيها حشو الكتب الكلامية - والقطع فيها منوط بالنص الذي لا يحتمل تأويلا ووجوده عسر.
وقد ذكر الآمدي في " أبكار الأفكار " بعد بسط كلام ونقض وإبرام أن هذه المسألة ظنية لا حظ للقطع فيها نفيا وإثباتا، ومدارها على الأدلة السمعية دون الأدلة العقلية، وقال أفضل المعاصرين صالح أفندي الموصلي تغمده الله تعالى برحمته في " تعليقاته على البيضاوي ": الأولى عندي التوقف في هذه المسألة بالنسبة إلى غير نبينا صلى الله عليه وسلم إذ لا قاطع يدل على الحكم فيها وليس معرفة ذلك ما كلفنا به، والباب ذو خطر لا ينبغي المجاذفة فيه، فالوقف أسلم والله تعالى أعلم.
* (ومن يستنكف عن عبادته) * أي طاعته فيشمل جميع الكفرة لعدم طاعتهم له تعالى وإنما جعل المستنكف عنه ههنا عبادته تعالى لا ما سبق - كما قال شيخ الإسلام - لتعليق الوعيد بالوصف الظاهر الثبوت للكفرة فإن عدم طاعتهم له تعالى مما لا سبيل لهم إلى إنكار اتصافهم به، وعبر سبحانه عن عدم طاعتهم له بالاستنكاف مع أن ذلك كان منهم بطريق إنكار كون الأمر من جهته تعالى لا بطريق الاستنكاف لأنهم كانوا يستنكفون عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الاستنكاف عن طاعة الله تعالى إذ لا أمر له صلى الله عليه وسلم سوى أمره عز وجل * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * (النساء: 80). وقيل: التعبير بالاستنكاف من باب المشاكلة.
* (ويستكبر) * أي عن ذلك، وأصل الاستكبار طلب الكبر من غير استحقاق لا بمعنى طلب تحصيله مع اعتقاد عدم حصوله بل بمعنى عد نفسه كبيرا واعتقاده كذلك وإنما عبر عنه بما يدل على الطلب للإيذان بأن مآله محض الطلب بدون حصول المطلوب، ونظير ذلك على ما قيل: قوله تعالى: * (يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا) * (الأعراف: 45)، والاستكبار على ما أشار إليه الزجاج - وتقدم - دون الاستنكاف؛ وجاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقال رجل: يا رسول الله إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس ". وللناس في تأويل الحديث أقوال ذكرها الإمام النووي في " شرح مسلم "، منها أن المراد بالكبر المانع من دخول الجنة " هو التكبر على الإيمان "، واختاره مولانا أفضل المعاصرين، ثم قال: وعليه فالمنفي أصل الدخول كما هو الظاهر المتبادر، وتنكير الكبر للنوعية، والمعرف في آخر الحديث هو جنس الكبر لا هذا النوع بخصوصه وإن كان الغالب في إعادة النكرة معرفة إرادة عين الأول، إنما خص صلى الله عليه وسلم حكم ذلك النوع بالبيان ليكون أبلغ في الزجر عن الكبر فإن جنسا يبلغ بعض أنواعه بصاحبه من وخامة العاقبة وسوء المغبة، هذا المبلغ - أعني الشقاء المؤبد - جدير بأن يحترز عنه غاية الاحتراز، ثم عرف صلى الله عليه وسلم الكبر بما عرفه لئلا يتوهم انحصار الكبر المذموم في النوع المذكور. وبهذا التقرير اندفع استبعاد النووي رحمه الله تعالى لهذا التأويل بأن " الحديث ورد في سياق الزجر عن الكبر المعروف وهو إنكار الحق واحتقار الناس فحمل الكبر على ذلك خاصة خروج " عن مذاق الكلام ووجه اندفاعه غير خفي على ذوي الأفهام انتهى. والظاهر أن ما في الحديث تعريف باللازم للمعنى اللغوي.
* (فسيحشرهم إليه جميعا) * أي المستنكفين ومقابليهم المدلول عليهم بذكر عدم استنكاف المسيح والملائكة
41

المقربين عليهم السلام، وقد ترك ذكر أحد الفريقين في المفصل تعويلا على إنباء التفصيل عنه وثقة بظهور اقتضاء حشر أحدهما لحشر الآخر ضرورة عموم الحشر للخلائق أجمعين كما ترك ذكر أحد الفريقين في التفصيل عند قوله تعالى: * (فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به) * (النساء: 175) مع عموم الخطاب لهما ثقة بمثل ذلك فلا يقال: التفصيل غير مطابق للمفصل لأنه اشتمل على الفريقين والمفصل على فريق واحد، وقيل في توجيه المطابقة: إن المقصود من الحشر المجازاة [بم ويكون قوله تعالى:
* (فأما الذين ءامنوا وعملوا الص‍الح‍ات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا) *.
* (فأما الذين ءامنوا وعملوا الص‍الحات فيوفيهم أجورهم) * الخ تفصيلا للجزاء كأنه قيل: ومن يستنكف عن عبادته فسيعذب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين وبما يصيبه من عذاب الله تعالى، فالضمير راجع إلى المستنكفين المستكبرين لا غير وقد روعي لفظ من ومعناها. وتعقب العلامة التفتازاني ذلك بأنه غير مستقيم لأن دخول (أما) على الفريقين لا على قسمي الجزاء، وأورد هذا الفريق بعنوان الإيمان والعمل الصالح لا بوصف عدم الاستنكاف المناسب لما قبله وما بعده للتنبيه على أنه المستتبع لما يعقبه من الثمرات، ومعنى توفيتهم أجورهم إيتاؤهم إياها من غير أن ينقص منها شيئا أصلا، وقرىء * (فسيحشرهم) * بكسر الشين وهي لغة، وقرىء - فسنحشرهم - بنون العظمة، وفيه التفات.
* (ويزيدهم من فضله) * بتضعيف أجورهم أضعافا مضاعفة وبإعطائهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في " الحلية ". والإسماعيلي في " معجمه " بسند ضعيف عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يوفيهم أجورهم يدخلهم الجنة ويزيدهم من فضله الشفاعة فيمن وجبت لهم النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا " * (وأما الذين استنكفوا) * عن عبادة الله تعالى * (واستكبروا) * عنها * (فيعذبهم) * بسبب ذلك * (عذابا أليما) * لا يحيط به الوصف * (ولا يجدون لهم من دون الله وليا) * يلي أمورهم ويدبر مصالحهم * (ولا نصيرا) * ينصرهم من بأسه تعالى وينجيهم من عذابه سبحانه..
* (ي‍اأيها الناس قد جآءكم برهان من ربكم وأنزلنآ إليكم نورا مبينا) *.
* (يا أيها الناس) * خطاب لكافة المكلفين إثر بيان بطلان ما عليه الكفرة من فنون الكفر والضلال وإلزامهم (بالبراهين القاطعة) بما تخر له صم الجبال، وفيه تنبيه لهم على أن الحجة قد تمت فلم يبق بعد ذلك علة لمتعلل ولا عذر لمعتذر * (قد جاءكم) * أتاكم ووصل إليكم * (برهان من ربكم) * أي حجة قاطعة، والمراد بها المعجزات على ما قيل.
وأخرج ابن عساكر عن سفيان الثوري عن أبيه عن رجل لا يحفظ اسمه أن المراد بالبرهان هو النبي صلى الله عليه وسلم، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعبر عنه عليه الصلاة والسلام بذلك لما معه من المعجزات التي تشهد بصدقه صلى الله عليه وسلم، وقيل: المراد بذلك دين الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، والتنوين للتفخيم، و - من - لابتداء الغاية مجازا وهي متعلقة - بجاء - أو بمحذوف وقع صفة مشرفة - لبرهان - مؤكدة لما أفاده التنوين، وجوز أن تكون تبعيضية بحذف المضاف أي كائن من براهين ربكم، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإفاضة إلى ضمير المخاطبين لإظهار اللطف بهم والإيذان بأن مجىء ذلك لتربيتهم وتكميلهم. * (وأنزلنا إليكم) * بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عدم ذكر الواسطة إظهار لكمال اللطف بهم ومبالغة في الإعذار * (نورا مبينا) * وهو القرآن - كما قاله قتادة ومجاهد والسدي - واحتمال إرادة الكتب السابقة الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم بعيد غاية البعد، وإذا كان المراد من البرهان القرآن أيضا فقد سلك
42

به مسلك العطف المبني على تغاير الطرفين تنزيلا للمغايرة العنوانية منزلة المغايرة الذاتية، وإطلاق البرهان عليه لأنه أقوى دليل على صدق من جاء به، وإطلاق النور المبين لأنه بين بنفسه مستغن في ثبوت حقيته وكونه من الله تعالى بإعجازه غير محتاج إلى غيره، مبين لغيره من حقية الحق وبطلان الباطل، مهدي للخلق بإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وعبر عن ملابسته للمخاطبين تارة بالمجىء المسند إليه المنبىء عن كمال قوته في البرهانية كأنه يجىء بنفسه فيثبت ما ثبت من غير أن يجىء به أحد، ويجىء على شبه الكفرة بالإبطال والأخرى بالإنزال الموقع عليه الملائم لحيثية كونه نورا توقيرا له باعتبار كل واحد من عنوانيه حظه اللائق به، وإسناد إنزاله إليه تعالى بطريق الالتفات لكمال تشريفه - قاله مولانا شيخ الإسلام - والأمر على غير ذلك التقدير هين..
* (فأما الذين ءامنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم فى رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما) *.
* (فأما الذين ءامنوا بالله) * حسبما يوجبه البرهان الذي جاءهم * (واعتصموا به) * أي عصموا به سبحانه أنفسهم مما يرديها من زيغ الشيطان وغيره. وأخرج ابن جرير. وغيره عن ابن جريج أن الضمير راجع إلى القرآن أعني النور المبين، وهو خلاف الظاهر * (فسيدخلهم في رحمة منه) * أي ثواب عظيم قدره بإزاء إيمانهم وعملهم رحمة منه سبحانه لا قضاءا لحق واجب، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالرحمة الجنة، فعلى الأول: التجوز في كلمة * (في) * لتشبيه عموم الثواب وشموله بعموم الظرف، وعلى الثاني: التجوز في المجرور دون الجار - قاله الشهاب - والبحث في ذلك شهير ومنه متعلق بمحذوف وقع صفة مشرفة لرحمة * (وفضل) * أي إحسان لا يقادر قدره زائد على ذلك.
* (ويهديهم إليه) * أي إلى الله عز وجل، والمراد في المشهور إلى عبادته سبحانه، وقيل: الضمير عائد على جميع ما قبله باعتبار أنه موعود، وقيل: على الفضل * (صراطا مستقيما) * هو الإسلام والطاعة في الدنيا، وطريق الجنة في الأخرى، وتقديم ذكر الوعد بالإدخال في الرحمة الثواب أو الجنة على الوعد بهذه الهداية للمسارعة إلى التبشير بما هو المقصد الأصلي. وفي وجه انتصاب * (صراطا) * أقوال، فقيل: إنه مفعول ثان لفعل مقدر أي يعرفهم صراطا، وقيل: إنه مفعول ثان ليهديهم باعتبار تضمينه معنى يعرفهم، وقيل: مفعول ثان له بناءا على أن الهداية تتعدى إلى مفعولين حقيقة. ومن الناس من جعل * (إليه) * متعلقا بمقدر أي مقربين إليه، أو مقربا إياهم إليه على أنه حال من الفاعل أو المفعول، ومنهم من جعله حالا من صراطا ثم قال: ليس لقولنا: (يهديهم) طريق الإسلام إلى عبادته كبير معنى، فالأوجه أن يجعل * (صراطا) * بدلا من * (إليه) * وتعقبه عصام الملة والدين بأن قولنا: يهديهم طريق الإسلام موصلا إلى عبادته معناه واضح، ولا وجه لكون * (صراطا) * بدلا من الجار والمجرور فافهم..
* (يستفتونك قل الله يفتيكم فى الكل‍الة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثهآ إن لم يكن لهآ ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونسآء فللذكر مثل حظ الانثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شىء عليم) *.
* (يستفتونك) * أي - في الكلالة - استغنى عن ذكره لوروده في قوله تعالى: * (قل الله يفتيكم في الكل‍الة) * والجار متعلق ب * (يفتيكم) *، وقال الكوفيون: ب * (يستفتونك) * وضعفه أبو البقاء بأنه لو كان كذلك لقال يفتيكم فيها في الكلالة، وقد مر تفسير الكلالة في مطلع السورة، والآية نزلت في جابر بن عبد الله كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم وغيره.
43

وأخرج الشيخان وخلق كثير عنه قال: " دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل فتوضأ ثم صب علي فعقلت، فقلت: إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث؟ فنزلت آية الفرائض " وهي آخر آية نزلت، فقد أخرج الشيخان. وغيرهما عن البراء قال: آخر سورة نزلت كاملة براءة، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء، والمراد من الآيات المتعلقة بالأحكام - كما نص على ذلك المحققون، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى - وتسمى آية الصيف، أخرج مالك ومسلم عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: " ما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري، وقال: يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء ".
* (إن امرؤا هلك) * استئناف مبين للفتيا، وارتفع (امرؤ) بفعل يفسره المذكور على المشهور، وقوله تعالى: * (ليس له ولد) * صفة له ولا يضر الفصل بالمفسر لأنه تأكيد، وقيل: حال منه، واعترض بأنه نكرة، ومجىء الحال منها خلاف الظاهر إذ المتبادر في الجمل الواقعة بعد النكرات أنها صفات، وقال الحلبي: يصح كونه حالا منه؛ و * (هلك) * صفة له، وجعله أبو البقاء حالا من الضمير المستكن في * (هلك) *، وقيل عليه: إن المفسر غير مقصود حتى ادعى بعضهم أنه لا ضمير فيه لأنه تفسير لمجرد الفعل بلا ضمير، وإن رد بقوله تعالى: * (قل لو أنتم تملكون) * (الإسراء: 100)، وقال أبو حيان: " الذي يقتضيه النظر أن ذلك ممتنع، وذلك لأن المسند إليه في الحقيقة إنما هو الاسم الظاهر المعمول للفعل المحذوف فهو الذي ينبغي أن يكون التقييد له، أما الضمير فإنه في جملة مفسرة لا موضع لها من الإعراب فصارت كالمؤكدة لما سبق، وإذا دار الاتباع والتقييد بين مؤكد ومؤكد فالوجه أن يكون للمؤكد بالفتح إذ هو معتمد الإسناد الأصلي " ووافقه الحلبي، وقال السفاقسي: الأظهر أن هذا مرجح لا موجب، والمراد من - الولد - على ما اختاره البعض الذكر لأنه المتبادر ولأن الأخت وإن ورثت مع البنت - عند غير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والإمامية - لكنها لا ترث النصف بطريق الفرضية، وتعقبه بعض المحققين مختارا العموم بأنه تخصيص من غير مخصص، والتعليل بأن الابن يسقط الأخت دون البنت ليس بسديد لأن الحكم تعيين النصف، وهذا ثابت عند عدم الابن والبنت غير ثابت عند وجود أحدهما، أما الابن فلأنه يسقط الأخت، وأما البنت فلأنها تصيرها عصبة فلا يتعين لها فرض، نعم يكون نصيبها مع بنت واحدة النصف بحكم العصوبة لا الفرضية فلا حاجة إلى تفسير الولد بالابن لا منطوقا ولا مفهوما، وأيضا الكلام في الكلالة - وهو من لا يكون له ولد أصلا - وكذا ما لا يكون له والد إلا أنه اقتصر على عدم ذكر الولد ثقة بظهور الأمر والولد مشترك معنوي في سياق النفي فيعم، فلا بد للتخصيص من مخصص وأنى به؟ فليفهم.
وقوله تعالى: * (وله أخت) * عطف على * (ليس له ولد) * ويحتمل الحالية، والمراد بالأخت الأخت من الأبوين والأب لأن الأخت من الأم فرضها السدس، وقد مر بيانه في صدر السورة الكريمة (النساء: 12). * (فلها نصف ما ترك) * أي بالفرض والباقي للعصبة، أو لها بالرد إن لم يكن له عصبة، والفاء واقعة في جواب الشرط * (وهو) * أي المرء المفروض * (يرثها) * أي أخته المفروضة إن فرض هلاكها مع بقائه، والجملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب؛ وقد سدت - كما قال أبو البقاء - مسد جواب الشرط في قوله تعالى: * (إن لم يكن لها ولد) * ذكرا كان أو أنثى، فالمراد بإرثه لها إحراز جميع مالها إذ هو المشروط بانتفاء الولد بالكلية
44

لا إرثه لها في الجملة فإنه يتحقق مع وجود بنتها، والآية كما لم تدل على سقوط الأخوة بغير الولد لم تدل على عدم سقوطهم به، وقد دلت السنة على أنهم لا يرثون مع الأب إذ صح عنه صلى الله عليه وسلم: " ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ذكر " ولا ريب في أن الأب أولى من الأخ وليس ما ذكر بأول حكمين بين أحدهما بالكتاب والآخر بالسنة.
* (فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك) * عطف على الشرطية الأولى، والضمير لمن يرث بالأخوة، وتثنيته محمولة على المعنى وحكم ما فوق الاثنتين كحكمهما، واستشكل الإخبار عن ضمير التثنية بالاثنتين لأن الخبر لا بد أن يفيد غير ما يفيده المبتدأ، ولهذا لا يصح سيد الجارية مالكها، وضمير التثنية دال على الاثنينية فلا يفيد الإخبار عنه بما ذكر شيئا، وأجيب عن ذلك أن الاثنينية تدل على مجرد التعدد من غير تقييد بكبر أو صغر أو غير ذلك من الأوصاف فكأنه قيل: إنهما يستحقان ما ذكر بمجرد التعدد من غير اعتبار أمر آخر وهذا مفيد، وإليه ذهب الأخفش، ورد بأن ضمير التثنية يدل على ذلك أيضا فعاد الإشكال، وروى مكي عنه أنه أجاب بأن ذلك حمل على معنى من يرث، وأن الأصل والتقدير إن كان من يرث بالإخوة اثنين، وإن كان من يرث ذكورا وإناثا فيما يأتي؛ وإنما قيل: كانتا وكانوا لمطابقة الخبر كما قيل: من كانت أمك، ورد بأنه غير صحيح وليس نظير المثال، لأنه صرح فيه بمن وله لفظ ومعنى، فمن أنث راعى المعنى وهو الأم ولم يؤنث لمراعاة الخبر، ومدلول الخبر فيه مخالف لمدلول الاسم بخلاف ما نحن فيه فإن مدلولهما واحد. وذكر أبو حيان لتخريج الآية وجهين: الأول " أن ضمير كانتا لا يعود على الأختين بل على الوارثتين، وثم صفة محذوفة لاثنتين، والصفة مع الموصوف هو الخبر، والتقدير: فإن كانتا أي الوارثتان اثنتين من الأخوات (فلهما الثلثانمما ترك) فيفيد إذ ذاك الخبر ما لا يفيده الاسم، وحذف الصفة لفهم المعنى جائز، والثاني أن يكون الضمير عائدا على الأختين - كما ذكروا - ويكون خبر (كان) محذوفا لدلالة المعنى عليه
وإن كان حذفه قليلا، ويكون اثنتين حالا مؤكدة، والتقدير فإن كانتا أي الأختان له أي للمرء الهالك، ويدل على حذف (الخبر الذي هو) (2) له * (وله أخت) * ". * (وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين) * أصله وإن كانوا إخوة وأخوات فغلب المذكر بقرينة رجالا ونساء الواقع بدلا، وقيل: فيه اكتفاء.
* (يبين الله لكم) * حكم الكلالة أو أحكامه وشرائعه التي من جملتها حكمها، وإلى هذا ذهب أبو مسلم * (أن تضلوا) * أي كراهة أن تضلوا في ذلك وهو رأي البصريين وبه صرح المبرد. وذهب الكسائي والفراء وغيرهما من الكوفيين إلى تقدير اللام ولا في طرفي * (أن) * أي لئلا تضلوا، وقيل: ليس: هناك حذف ولا تقدير وإنما المنسبك مفعول * (يبين) * أي يبين لكم ضلالكم، ورجح هذا بأنه من حسن الختام والالتفات إلى أول السورة وهو * (يا أيها الناس اتقوا ربكم) * (النساء: 1) فإنه سبحانه أمرهم بالتقوى وبين لهم ما كانوا عليه في الجاهلية، ولما تم تفصيله قال عز وجل لهم: إني بينت لكم ضلالكم فاتقوني كما أمرتكم فإن الشر إذا عرف اجتنب، والخير إذا عرف ارتكب، واعترض بأن المبين صريحا هو الحق والضلال يعلم بالمقايسة، فكان الظاهر يبين لكم الحق إلا أن يقال: بيان الحق واضح وبيان الضلال خفي فاحتيج إلى التنبيه عليه، وفيه تأمل، وذكر الجلال السيوطي أن حسن الختام في هذه السورة أنها ختمت بآية الفرائض، وفيها أحكام
45

الموت الذي هو آخر أمر كل حي وهي أيضا آخر ما نزل من الأحكام * (والله بكل شيء) * من الأشياء التي من جملتها أحوالكم المتعلقة بمحياكم ومماتكم * (عليم) * مبالغ في العلم فيبين لكم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: * (إن الذين كفروا) * ستروا ما اقتضاه استعدادهم * (وصدوا) * ومنعوا غيرهم * (عن) * سلوك * (سبيل الله) * أي الطريق الموصلة إليه * (قد ضلوا ضلالا بعيدا) * (النساء: 167) لحرمانهم أنفسهم وغيرهم عما فيه النجاة * (إن الذين كفروا وظلموا) * منعوا استعدادهم عن حقوقها من الكمال بارتكاب الرذائل * (لم يكن الله ليغفر لهم) * لبطلان استعدادهم * (ولا ليهديهم طريقا) * (النساء: 168) لجهلهم المركب واعتقادهم الفاسد * (إلا طريق جهنم) * وهي نيران أشواق نفوسهم الخبيثة * (وكان ذلك على الله يسيرا) * (النساء: 169) لانجذابهم إليها بالطبيعة * (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم) * نهي لليهود والنصارى عند الكثيرين من ساداتنا، وقد غلا الفريقان في دينهم، أما اليهود فتعمقوا في الظواهر ونفي البواطن فحطوا عيسى عليه السلام عن درجة النبوة والتخلق بأخلاق الله تعالى، وأما النصارى فتعمقوا في البواطن ونفي الظواهر فرفعوا عيسى عليه السلام إلى درجة الألوهية * (ولا تقولوا على الله إلا الحق) * بالجمع بين الظواهر والبواطن والجمع والتفصيل كما هو التوحيد المحمدي * (إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله) * الداعي إليه * (وكلمته ألقاها إلى مريم) * أي حقيقة من حقائقه الدالة عليه * (وروح منه) * أي أمر قدسي منزه عن سائر النقائص، وذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن سبب تخصيص عيسى عليه السلام بهذا الوصف أن النافخ له من حيث الصورة الجبريلية هو الحق تعالى لا غيره فكان بذلك روحا كاملا مظهرا لاسم الله تعالى صادرا من اسم ذاتي ولم يكن صادرا من الأسماء الفرعية كغيره وما كان بينه وبين الله تعالى وسائط كما في أرواح الأنبياء غيره عليهم الصلاة والسلام فإن أرواحهم - وإن كانت من حضرة اسم الله تعالى - لكنها بتوسط تجليات كثيرة من سائر الحضرات الأسمائية فما سمي عيسى عليه السلام روح الله تعالى وكلمته إلا لكونه وجد من باطن أحدية جمع الحضرة الإلهية ولذلك صدرت منه الأفعال الخاصة بالله تعالى من إحياء الموتى وخلق الطير وتأثيره في الجنس العالي والجنس الدون، وكانت دعوته عليه السلام إلى الباطن والعالم القدسي فإن الكلمة إنما هي من باطن اسم الله تعالى وهويته الغيبية، ولذلك طهر الله تعالى جسمه من الأقذار الطبيعية لأنه روح متجسدة في بدن مثالي روحاني إلى آخر ما ذكره الإمام الشعراني في " الجواهر والدرر " * (فآمنوا بالله ورسله) * بالجمع والتفصيل * (ولا تقولوا ثلاثة) * لأن ذلك ينافي التوحيد الحقيقي، وعيسى عليه السلام في الحقيقة فان وجوده بوجود الله تعالى وحياته عليه السلام بحياته جل شأنه وعلمه عليه السلام بعلمه سبحانه * (إنما الله إله واحد) * وهو الوجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق * (سبحانه أن يكون له ولد) * أي أنزهه عن أن يكون موجود غيره متولد منه مجالس له في الوجود * (له ما في السموات وما في الأرض) * (النساء: 171) أي ما في سموات الأرواح وأرض الأجساد لأنها مظاهر أسمائه وصفاته عز شأنه * (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله) * في مقام التفصيل إذ كل ما ظهر فهو ممكن والممكن لا وجود له بنفسه فيكون عبدا محتاجا ذليلا مفتقرا غير مستنكف عن ذلة العبودية * (ولا الملائكة المقربون) * الذين هم أرواح مجردة وأنوار قدسية محضة، وأما في مقام الجمع فلا عيسى ولا ملك ولا قرب ولا بعد ولا ولا... * (ومن يستنكف عن عبادته) * بظهور أنانيته * (ويستكبر) * بطغيانه في الظهور بصفاته * (فسيحشرهم إليه جميعا) * (النساء: 172)
46

بظهور نور وجهه وتجليه بصفة القهر حتى يفنوا بالكلية في عين الجمع * (فأما الذين آمنوا) * الإيمان الحقيقي بمحو الصفات وطمس الذات * (وعملوا الصالحات) * وراعوا تفاصيل الصفات وتجلياتها * (فيوفيهم أجورهم) * من جنات صفاته * (ويزيدهم من فضله) * بالوجود الموهب لهم بعد الفناء * (وأما الذين استنكفوا) * وأظهروا الأنانية * (واستكبروا) * وطغوا فقال قائلهم: أنا ربكم الأعلى مع رؤيته نفسه * (فيعذبهم عذابا أليما) * (النساء: 173) باحتجابهم وحرمانهم * (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم) * وهو التوحيد الذاتي * (وأنزلنا إليكم نورا مبينا) * (النساء: 174) وهو التفصيل في عين الجمع؛ فالأول: إشارة إلى القرآن، والثاني: إلى الفرقان * (فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به) * ولم يلتفتوا إلى الأغيار من حيث أنها أغيار * (فسيدخلهم في رحمة منه) * وهي جنات الأفعال * (وفضل) * وهو جنات الصفات * (ويهديهم إليه صراطا مستقيما) * (النساء: 175) وهو الفناء في الذات، أو - الرحمة - جنات الصفات، و - الفضل - جنات الذات؛ و - الهداية إليه صراطا مستقيما - الاستقامة على الوحدة في تفاصيل الكثرة، ولا حجر على أرباب الذوق، فكتاب الله تعالى بحر لا تنزفه الدلاء، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل، ونسأله التوفيق لفهم كلامه، وشرح صدورنا بعوائد إحسانه وموائد إنعامه لا رب غيره ولا يرجى إلا خيره.
سورة المائدة
وتسمى أيضا العقود والمنقذة، قال ابن الفرس: لأنها تنقذ صاحبها من ملائكة العذاب. وهي مدنية في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة، وقال أبو جعفر بن بشر والشعبي: إنها مدنية إلا قوله تعالى: * (اليوم أكملت لكم دينكم) * (3) فإنه نزل بمكة. وأخرج أبو عبيد عن محمد القرظي قال: " نزلت سورة المائدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فيما بين مكة. والمدينة وهو على ناقته فانصدعت كتفها فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك من ثقل الوحي " وأخرج غير واحد عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: المائدة آخر سورة نزلت، وأخرج أحمد والترمذي عن ابن عمر أن آخر سورة المائدة. والفتح، وقد تقدم آنفا عن البراء أن آخر سورة نزلت براءة، ولعل كلا ذكر ما عنده، وليس في ذلك شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، نعم أخرج أبو عبيد عن ضمرة بن حبيب. وعطية بن قيس قالا: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المائدة من آخر القرآن تنزيلا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها " وهو غير واف بالمقصود لمكان " من ". واستدل قوم بهذا الخبر على أنه لم ينسخ من هذه السورة شيء، وممن صرح بعدم النسخ عمرو بن شرحبيل والحسن رضي الله تعالى عنهما، كما أخرج ذلك عنهما أبو داود، وأخرج عن الشعبي أنه لم ينسخ منها إلا قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدى ولا القلائد) * (2)، وأخرج ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: نسخ من هذه السورة آيتان آية القلائد وقوله سبحانه: * (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) * (42) وادعى بعضهم أن فيها تسع آيات منسوخات، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى.
47

وعدة آيها مائة وعشرون عند الكوفيين، وثلاث وعشرون عند البصريين، واثنان وعشرون عند غيرهم، ووجه اعتلاقها بسورة النساء - على ما ذكره الجلال السيوطي عليه الرحمة - أن سورة النساء قد اشتملت على عدة عقود صريحا وضمنا، فالصريح عقود الأنكحة. وعقد الصداق وعقد الحلف وعقد المعاهدة والأمان، والضمني عقد الوصية والوديعة، والوكالة والعارية والإجارة، وغير ذلك الداخل في عموم قوله تعالى: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) * (النساء: 58) فناسب أن تعقب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود فكأنه قيل: يا أيها الناس أوفوا بالعقود التي فرغ من ذكرها في السورة التي تمت، وإن كان في هذه السورة أيضا عقود، ووجه أيضا تقديم النساء وتأخير المائدة بأن أول تلك * (يا أيها الناس) * (النساء: 1) وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهو أشبه بتنزيل المكي، وأول هذه * (يا أيها الذين آمنوا) * (المائدة: 1) وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهو أشبه بخطاب المدني، وتقديم العام وشبه المكي أنسب. ثم إن هاتين السورتين في التلازم والاتحاد نظير البقرة وآل عمران، فتانك اتحدا في تقرير الأصول من الوحدانية والنبوة ونحوهما، وهاتان في تقرير الفروع الحكمية. وقد ختمت المائدة في صفة القدرة كما افتتحت النساء بذلك، وافتتحت النساء ببدء الخلق، وختمت المائدة بالمنتهى من البعث والجزاء، فكأنهما سورة واحدة اشتملت على الأحكام من المبدأ إلى المنتهى، ولهذه السورة أيضا اعتلاق بالفاتحة والزهراوين كما لا يخفى على المتأمل.
* (ي‍اأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الانعام إلا ما يتلى عليكم غير محلى الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد) *.
بسم الله الرحم‍ان الرحيم. * (يا أيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود) * الوفاء حفظ ما يقتضيه العقد والقيام بموجبه، ويقال: وفى ووفى وأوفى بمعنى، لكن في المزيد مبالغة ليست في المجرد، وأصل العقد الربط محكما، ثم تجوز به عن العهد الموثق، وفرق الطبرسي بين العقد والعهد " بأن العقد فيه معنى الاستيثاق والشد ولا يكون إلا بين اثنين، والعهد قد يتفرد به واحد " واختلفوا في المراد بهذه العقود على أقوال: أحدها: أن المراد به العهود التي أخذ الله تعالى على عباده بالإيمان به وطاعته فيما أحل لهم أو حرم عليهم وهو مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وثانيها: العقود التي يتعاقدها الناس بينهم كعقد الأيمان وعقد النكاح وعقد البيع ونحو ذلك، وإليه ذهب ابن زيد وزيد بن أسلم، وثالثها: العهود التي كانت تؤخذ في الجاهلية على النصرة والمؤازرة على من ظلم، وروي ذلك عن مجاهد والربيع وقتادة. وغيرهم؛ ورابعها: العهود التي أخذها الله تعالى على أهل الكتاب بالعمل بما في التوراة والإنجيل مما يقتضي التصديق بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وروي ذلك عن ابن جريج وأبي صالح، وعليه فالمراد من الذين آمنوا مؤمنو أهل الكتاب؛ وهو خلاف الظاهر، واختار بعض المفسرين أن المراد بها ما يعم جميع ما ألزمه الله تعالى عباده وعقد عليهم من التكاليف والأحكام الدينية، وما يعقدونه فيما بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوهما مما يجب الوفاء به، أو يحسن دينا، ويحمل الأمر على مطلق الطلب ندبا أو وجوبا، ويدخل في ذلك اجتناب المحرمات والمكروهات لأنه أوفق بعموم اللفظ إذ هو جمع محلى باللام وأوفى بعموم الفائدة.
واستظهر الزمخشري " كون المراد بها عقود الله تعالى عليهم في دينه من تحليل حلاله وتحريم حرامه " لما فيه - كما في " الكشف " - من براعة الاستهلال والتفصيل بعد الإجمال، لكن ذكر فيه أن مختار البعض أولى لحصول الغرضين وزيادة التعميم، وأن السور الكريمة مشتملة على أمهات التكاليف الدينية في الأصول والفروع، ولو لم يكن
48

إلا * (تعاونوا على البر والتقوى) * (المائدة: 2) و * (اعدلوا هو أقرب للتقوى) * (المائدة: 8) لكفى، وتعقب بما لا يخلو عن نظر. وزعم بعضهم أن فيه نزع الخف قبل الوصول إلى الماء، وما استظهره الزمخشري خال عن ذلك، والأمر فيه هين، وفي القول بالعموم رغب الراغب - كما هو الظاهر - فقد قال: العقود باعتبار المعقود، والعاقد ثلاثة أضرب، عقد بين الله تعالى وبين العبد، وعقد بين العبد ونفسه، وعقد بينه وبين غيره من البشر، وكل واحد باعتبار الموجب له ضربان: ضرب أوجبه العقل وهو ما ركز الله تعالى معرفته في الإنسان فيتوصل إليه إما ببديهة العقل، وإما بأدنى نظر دل عليه قوله تعالى: * (وإذ أخذ ربك من بني آدم) * (الأعراف: 172) الآية، وضرب أوجبه الشرع وهو ما دلنا عليه كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فذلك ستة أضرب، وكل واحد من ذلك إما أن يلزم ابتداء أو يلزم بالتزام الإنسان إياه، والثاني أربعة أضرب: فالأول: واجب الوفاء كالنذور المتعلقة بالقرب نحو أن يقول: علي أن أصوم إن عافاني الله تعالى، والثاني: مستحب الوفاء به ويجوز تركه كمن حلف على ترك فعل مباح فإن له أن يكفر عن يمينه ويفعل ذلك، والثالث: يستحب ترك الوفاء به، وهو ما قال صلى الله عليه
وسلم: " إذا حلف أحدكم على شيء فرأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير منه وليكفر عن يمينه "، والرابع: واجب ترك الوفاء به نحو أن يقول: علي أن أقتل فلانا المسلم، فيحصل من ضرب ستة في أربعة أربعة وعشرون ضربا، وظاهر الآية يقتضي كل عقد سوى ما كان تركه قربة أو واجبا فافهم ولا تغفل.
* (أحلت لكم بهيمة الأنعام) * شروع في تفصيل الأحكام التي أمر بإيفائها، وبدأ سبحانه بذلك لأنه مما يتعلق بضروريات المعاش، و - البهيمة - من ذوات الأرواح ما لا عقل له مطلقا، وإلى ذلك ذهب الزجاج، وسمي بهيمة لعدم تمييزه وإبهام الأمر عليه. ونقل الإمام الشعراني عن شيخه علي الخواص قدس سره أن سبب تسمية البهائم بهائم ليس إلا لكون أمر كلامها وأحوالها أبهم على غالب الخلق لا أن الأمر أبهم عليها، وذكر ما يدل على عقلها وعلمها، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى. وقال غير واحد: البهيمة اسم لكل ذي أربع من دواب البر والبحر، وإضافتها إلى الأنعام للبيان كثوب خز أي أحل لكم أكل البهيمة من الأنعام، وهي الأزواج الثمانية المذكورة في سورتها، واعترض بأن البهيمة اسم جنس، والأنعام نوع منه، فإضافتها إليه كإضافة حيوان إنسان وهي مستقبحة، وأجيب بأن إضافة العام إلى الخاص إذا صدرت من بليغ وقصد بذكره فائدة فحسنة - كمدينة بغداد - فإن لفظ بغداد لما كان غير عربي لم يعهد معناه أضيف إليه مدينة لبيان مسماه وتوضيحه - وكشجر الأراك - فإنه لما كان الأراك يطلق على قضبانه أضيف لبيان المراد وهكذا وإلا فلغو زائد مستهجن، وهنا لما كان الأنعام قد يختص بالإبل إذ هو أصل معناه على ما قيل، ولذا لا يقال: النعم إلا لها أضيف إليه بهيمة إشارة إلى ما قصد به، وذكر البهيمة وإفرادها لإرادة الجنس، وجمع الأنعام ليشمل أنواعها وألحق بهما الظباء وبقر الوحش، وقيل: هما المراد بالبهيمة ونحوهما مما يماثل الأنعام في الاجترار وعدم الأنياب، وروي ذلك عن الكلبي. والفراء، وإضافتها إلى الأنعام حينئذ لملابسة المشابهة بينهما، وجوز بعض المحققين في إضافة المشبه للمشبه به كونها بمعنى اللام على جعل ملابسة المشبه اختصاصا بينهما، أو بمعنى من البيانية على جعل المشبه نفسه المشبه به، وفائدة هذه الإضافة هنا الإشعار بعلة الحكم المشتركة بين المتضايفين كأنه قيل: أحلت لكم البهيمة المشبهة بالأنعام التي بين إحلالها فيما سبق لكم المماثلة لها في مناط الحكم، وقيل: المراد ببهيمة الأنعام ما يخرج من بطونها من الأجنة بعد ذكاتها
49

وهي ميتة، وروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر - وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهم - فيكون مفاد الآية صريحا حل أكلها، وبه قال الشافعي، واستدل عليه بغير ما خبر، ويفهم منها حل الأنعام، وتقديم الجار والمجرور على القائم مقام الفاعل لإظهار العناية بالمقدم لما فيه من تعجيل المسرة والتشويق إلى ذكر المؤخر.
وفي الآية رد على المجوس فإنهم حرموا ذبح الحيوانات وأكلها قالوا: لأن ذبحها إيلام والإيلام قبيح خصوصا إيلام من بلغ في العجز إلى حيث لا يقدر أن يدفع عن نفسه والقبيح لا يرضى به الإله الرحيم الحكيم. وزعموا لعنهم الله تعالى أن إيلام الحيوانات إنما يصدر من الظلمة دون النور، والتناسخية لم يجوزوا صدور الآلام منه تعالى ابتداءا بوجه من الوجوه إلا بطريق المجازاة على ما سبق من اقتراف الجرائم، والتزموا أن البهائم مكلفة عالمة بما يجري عليها من الآلام وأنها مجازاة على فعلها ولولا ذلك لما تصور انزجارها بالآلام عن العود إلى الجريمة بتقدير انتقالها إلى بدن أشرف. وزعم البعض منهم أنه ما من جنس من البهائم إلا وفيهم نبي مبعوث إليهم من جنسهم، بل زعم آخرون أن جميع الجمادات أحياء مكلفة وأنها مجازاة على ما تقترفه من الخير والشر، ونسب نحوا من ذلك الإمام الشعراني إلى السادة الصوفية، وأبى أهل الظاهر ذلك كل الإباء، ولما أشكل على البكرية من المسلمين الجواب عن هذه الشبهة على أصولهم واعتقدوا ورود الأمر بذبح الحيوانات من الله تعالى زعموا أن البهائم لا تتألم وكذلك الأطفال الذين لا يعقلون، ولايخفى أن ذلك مصادم للبديهة ولا يقصر عن إنكار حياة المذكورين وحركاتهم وحسهم وإدراكهم، وأجاب المعتزلة بما رده أهل السنة، وأجابوا بأن الإذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في خالص ملكه فلا اعتراض عليه، والتحسين والتقبيح العقليان قد طوي بساط الكلام فيهما في علم الكلام، وكذا القول بالنور والظلمة، وقال بعض المحققين: لما كان الإنسان أشرف أنواع الحيوانات وبه تمت نسخة العالم لم يقبح عقلا جعل شيء مما دونه غداءا له مأذونا بذبحه وإيلامه اعتناءا بمصلحته حسبما تقتضيه الحكمة التي لا يحلق إلى سرها طائر الأفكار، وقال بعض الناس: الآية مجملة لاحتمال أن يكون المراد إحلال الانتفاع بجلدها أو عظمها أو صوفها أو الكل، وفيه نظر لأن ظهور تقدير الأكل مما لا يكاد ينتطح فيه كبشان.
نعم ذكر ابن السبكي وغيره أن قوله تعالى: * (إلا ما يتلى عليكم) * مجمل للجهل بمعناه قبل نزول مبينه، ويسري الإجمال إلى ما تقدم، ولكن ذاك ليس محل النزاع، والاستثناء متصل من بهيمة بتقدير مضاف محذوف مما يتلي أي إلا محرم ما يتلى عليكم، وعنى بالمحرم الميتة وما أهل لغير الله به إلى آخر ما ذكر في الآية الثالثة من السورة، أو من فاعل يتلى أي إلا ما يتلى عليكم آية محرمة لتكون ما عبارة عن البهيمة المحرمة لا اللفظ المتلو، وجوز اعتبار التجوز في الإسناد من غير تقدير وليس بالبعيد؛ وأما جعله مفرغا من الموجب في موقع الحال أي إلا كائنة على الحالات المتلوة فبعيد - كما قال الشهاب - جدا؛ وذهب بعضم إلى أنه منقطع بناءا على الظاهر لأن المتلو لفظ، والمستثنى منه ليس من جنسه؛ والأكثرون على الأول، ومحل المستثنى النصب، وجوز الرفع على ما حقق في النحو.
* (غير محلي الصيد) * حال من الضمير في لكم على ما عليه أكثر المفسرين، والصيد يحتمل المصدر والمفعول، وقوله تعالى: * (وأنتم حرم) * حال عما استكن في محل
50

والحرم جمع حرام وهو المحرم، ومحصل المعنى أحلت لكم هذه الأشياء لا محلين الاصطياد، أو أكل الصيد في الإحرام، وفسر الزمخشري عدم إحلال الصيد في حالة الإحرام بالامتناع عنه وهم محرمون حيث قال: كأنه قيل: أحللنا لكم بعض الأنعام في حالة امتناعكم عن الصيد وأنتم حرم لئلا يكون عليكم حرج، ولم يحمل الإحلال على اعتقاد الحل ظنا منه أن تقييد الإحلال بعدم اعتقاد الحل غير موجه، وقد يقال: إن الأمر كذلك لو كان المراد مطلق اعتقاد الحل أما لو كان المراد عدم اعتقاد ناشيء من الشرع ومترتب منه فلا لأن حاله إن لم يكن عين حال الامتناع فليس بالأجنبي عنه كما لا يخفى على المتدبر، وأشار إليه شيخ مشايخنا جرجيس أفندي الإربلي رحمة
الله تعالى عليهم.
واعترض في " البحر " على ما ذهب إليه الأكثرون بأنه يلزم منه تقييد إحلال بهيمة الأنعام بحال انتفاء حل الصيد وهم حرم، وهي قد أحلت لهم مطلقا فلا يظهر له فائدة إلا إذا أريد ببهيمة الأنعام الصيود المشبهة بها كالظباء وبقر الوحش وحمره، ودفع بأنه مع عدم اطراد اعتبار المفهوم يعلم منه غيره بالطريق الأولى لأنها إذا أحلت في عدم الإحلال لغيرها وهم محرمون لدفع الحرج عنهم، فكيف في غير هذه الحال؟ فيكون بيانا لإنعام الله تعالى عليهم بما رخص لهم من ذلك وبيانا لأنهم في غنية عن الصيد وانتهاك حرمة الحرم. وعبارة الزمخشري كالصريحة في ذلك، ودفعه العلامة الثاني بأن المراد من الأنعام ما هو أعم من الإنسي والوحشي مجازا أو تغليبا أو دلالة أو كيفما شئت، وإحلالها على عمومها مختص بحال كونكم غير محلين الصيد في الإحرام إذ معه يحرم البعض وهو الوحش، ولا يخفى أنه توجيه وحشي لا ينبغي لحمزة - غابة التنزيل - أن يقصده من مراصد عباراته، وذهب الأخفش إلى أن انتصاب غير على الحالية من ضمير أوفوا وضعف بأن فيه الفصل من الحال وصاحبها بجملة ليست اعتراضية إذ هي مبينة، وتخلل بعض أجزاء المبين بين أجزاء المبين مع ما يجب فيه من تخصيص العقود بما هو واجب أو مندوب في الحج، وإلا فلا يبقى للتقييد بتلك الحال - مع أنهم مأمورون بمطلق العقود مطلقا - وجه.
وزعم العلامة أنه أقرب من الأول معنى وإن كان أبعد لفظا، واستدل عليه بما هو على طرف الثمام، ثم قال: ومنهم من جعله حالا من فاعل أحللنا المدلول عليه بقوله تعالى: * (أحلت لكم) * ويستلزم جعل * (وأنتم حرم) * أيضا حالا من مقدر أي حال كوننا غير محلين الصيد في حال إحرامكم وليس ببعيد إلا من جهة انتصاب حالين متداخلين من غير ظهور ذي الحال في اللفظ. وتعقبه أبوحيان " بأنه فاسد لأنهم نصوا على أن الفاعل المحذوف في مثل هذا يصير نسيا منسيا فلا يجوز وقوع الحال منه، قد قالوا لو قلت: أنزل الغيث مجيبا لدعائهم على أن مجيبا حال من فاعل الفعل المبني للمفعول لم يجز لا سيما على مذهب القائلين: بأن المبني للمفعول صيغة أصلية ليست محولة عن المعلوم على أن في التقييد أيضا مقالا، وجعله بعضهم حالا من الضمير المجرور في عليكم ويريده أن الذي يتلى لا يتقيد بحال انتفاء إحلالهم الصيد وهم حرم، بل هو يتلي عليهم في هذه الحال وفي غيرها "، ونقل العلامة البيضاوي عن بعض أن النصب على الاستثناء، وذكر أن فيه تعسفا، وبينه مولانا شيخ الكل في الكل صبغة الله أفندي الحيدري عليه الرحمة بأنه لو كان استثناءا لكان إما من الضمير في لكم أو في * (أوفوا) * إذ لا جواز لاستثنائه من بهيمة الأنعام وعلى الأول: يجب أن يخص البهيمة بما عدا الأنعام مما يماثلها، أو تبقى على العموم لكن
51

بشرط إدارة المماثل فقط في حيز الاستثناء، وأن يجعل قوله تعالى: * (وأنتم حرم) * من تتمة المستثنى بأن يكون حالا عما استكن في محلي ليصح الاستثناء إذ لا صحة له بدون هذين الاعتبارين، فسوق العبارة يقتضي أن يقال: وهم حرم لأن الاستثناء أخرج المحلين من زمرة المخاطبين، واعتبار الالتفات هنا بعيد لكونه رافعا فيما هو بمنزلة كلمة واحدة، وعلى الثاني: يجب تخصيص العقود بالتكاليف الواردة في الحج، وتأويل الكلام الطلبي بما يلزمه من الخبر مع ما يلزمه من الفصل بين المستثنى والمستثنى منه بالأجنبي، وكل ذلك تعسف أي تعسف انتهى، وكأنه رحمه الله تعالى لم يذكر احتمال كون الاستثناء من الاستثناء، مع أن القرطبي نقله عن البصريين لأن ذلك فاسد - كما قاله القرطبي. وأبو حيان - لا متعسف إذ يلزم عليه إباحة الصيد في الحرم لأن المستثنى من المحرم حلال، نعم ذكر أبو حيان أنه استثناء من بهيمة الأنعام على وجه عينه؛ وأنفه التكلف والتعسف فقد قال رحمه الله تعالى " إنما عرض الإشكال في الآية حتى اضطرب الناس في تخريجها من كون رسم محلي بالياء فظنوا أنه اسم فاعل من أحل، وأنه مضاف إلى الصيد إضافة اسم الفاعل المتعدي إلى المفعول، وأنه جمع حذف منه النون للإضافة، وأصل غير محلين الصيد. والذي يزول به الإشكال ويتضح المعنى أن يجعل قوله تعالى: * (غير محلي الصيد) * من باب قولهم: حسان النساء، والمعنى النساء الحسان، وكذا هذا أصله غير الصيد المحل، والمحل صفة للصيد لا للناس (ولا للفاعل المحذوف)، ووصف الصيد بأنه محل، إما بمعنى داخل في الحل كما تقول أحل الرجل أي دخل في الحل، وأحرم أي دخل في الحرم، أو بمعنى صار ذا حل أي حلالا بتحليل الله تعالى، ومجيء أفعل على الوجهين المذكورين كثير في لسان العرب، فمن الأول: أعرق وأشأم وأيمن وأنجد وأتهم، ومن الثاني: أعشبت الأرض وأبقلت، وأغد البعير، وإذا تقرر أن الصيد يوصف بكونه محلا باعتبار (أحد) (1) الوجهين اتضح كونه استثناءا ثانيا، ثم إن كان المراد ببهيمة الأنعام أنفسها فهو استثناء منقطع، أو الظباء ونحوها فمتصل على تفسير المحل بالذي يبلغ الحل في حال كونهم محرمين، فإن قلت: ما فائدة هذا الاستثناء بقيد بلوغ الحل والصيد الذي في الحرم لا يحل أيضا؟ قلت: الصيد الذي في الحرم لا يحل للمحرم ولا لغير المحرم، والقصد بيان تحريم ما يختص تحريمه بالمحرم. فإن قلت: ما ذكرته من هذا التوجيه الغريب يعكر عليه رسمه في المصحف بالياء والوقف عليه بها. قلت: قد كتبوا في المصحف أشياء تخالف النطق نحو * (لأذبحنه) * (النمل: 21) بالألف، والوقف اتبعوا فيه الرسم " انتهى.
وتعقبه السفاقسي بمثل ما قدمناه من حيث زيادة الياء، وفيها التباس المفرد بالجمع وهم يفرون من زيادة أو نقصان في الرسم، فكيف يزيدون زيادة ينشأ عنها لبس؟ ومن حيث إضافة الصفة للموصوف وهو غير مقيس، وقال الحلبي: إن فيه خرقا للإجماع فإنهم لم يعربوا * (غير) * إلا حالا، وإنما اختلفوا في صاحبها، ثم قال السفاقسي: ويمكن فيه تخريجان: أحدهما أن يكون * (غير) * استثناءا منقطعا، ومحلي جمع على بابه، والمراد به الناس الداخلون حل الصيد، أي لكن إن دخلتم حل الصيد فلا يجوز لكم الاصطياد، والثاني: أن يكون متصلا من بهيمة الأنعام وفي الكلام حذف مضاف، أي أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا صيد الداخلين حل الاصطياد وأنتم حرم فلا يحل، ويحتمل أن يكون على بابه من التحليل، ويكون الاستثناء متصلا والمضاف محذوف، أي إلا صيد محلى الاصطياد وأنتم حرم، والمراد بالمحلين الفاعلون فعل من يعتقد التحليل فلا يحل، ويكون معناه أن صيد الحرم كالميتة لا يحل أكله مطلقا، ويحتمل أن يكون حالا من ضمير * (لكم) * وحذف المعطوف
52

للدلالة عليه وهو كثير، وتقديره غير محلي الصيد محليه كما قال تعالى: * (تقيكم الحر) * (النحل: 81) أي والبرد، وهو تخريج حسن. هذا ولا يخفى أن يد الله
تعالى مع الجماعة، وأن ما ذكره غيرهم لا يكاد يسلم من الاعتراض.
* (إن الله يحكم ما يريد) * من الأحكام حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة التي تقف دونها الأفكار، فيدخل فيها ما ذكره من التحليل والتحريم دخولا أوليا، وضمن يحكم معنى يفعل، فعداه بنفسه وإلا فهو متعد بالباء..
* (ي‍اأيها الذين ءامنوا لا تحلوا شعآئر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدى ولا القل‍ائد ولاءامين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصط‍ادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد آلعقاب) *.
* (ي‍اا أيها الذين ءامنوا لا تحلوا شع‍اائر الله) * لما بين سبحانه حرمة إحلال الحرم الذي هو من شعائر الحج عقب جل شأنه ببيان (حرمة) إحلال سائر الشعائر، وهو جمع شعيرة، وهي اسم لما أشعر، أي جعل شعارا وعلامة للنسك من (مواقف) الحج ومرامي الجمار والطواف والمسعى، والأفعال التي هي علامات الحاج يعرف بها (من) (1) الإحرام والطواف والسعي والحلق والنحر، وإضافتها إلى الله تعالى لتشريفها وتهويل الخطب في إحلالها، والمراد منه التهاون بحرمتها، وأن يحال بينها وبني المتنسكين بها، وروي عن عطاء أنه فسر الشعائر بمعالم حدود الله تعالى وأمره ونهيه وفرضه، وعن أبي علي الجبائي أن المراد بها العلامات المنصوبة للفرق بين الحل والحرم، ومعنى إحلالها عنده مجاوزتها إلى مكة بغير إحرام، وقيل: هي الصفا والمروة، والهدي من البدن وغيرها، وروي ذلك عن مجاهد. * (ولا الشهر الحرام) * أي لا تحلوه بأن تقاتلوا فيه أعداءكم من المشركين - كما روي عن ابن عباس وقتادة - أو بالنسيء كما نقل عن القتيبي، والأول هو الأولى بحال المؤمنين. واختلف في المراد منه فقيل: رجب، وقيل: ذو القعدة، وروي ذلك عن عكرمة، وقيل: الأشهر الأربعة الحرم، واختاره الجبائي والبلخي، وإفراده لإرادة الجنس * (ولا الهدي) * بأن يتعرض له بالغصب أو بالمنع من أن يبلغ محله، والمراد به ما يهدى إلى الكعبة من إبل أو بقر أو شاء، وهو جمع هدية - كجدي وجدية - وهي ما يحشى تحت السرج والرحل، وخص ذلك بالذكر بناءا على دخوله في الشعائر لأن فيه نفعا للناس، ولأنه مال قد يتساهل فيه، وتعظيما له لأنه من أعظمها * (ولا القل‍ائد) * جمع قلادة وهي ما يقلد به الهدي من نعل أو لحاء شجر أو غيرهما ليعلم أنه هدي فلا يتعرض له، والمراد النهي عن التعرض لذوات القلائد من الهدي وهي البدن، وخصت بالذكر تشريفا لها واعتناءا بها، أو التعرض لنفس القلائد مبالغة في النهي عن التعرض لذواتها كما في قوله تعالى: * (ولا يبدين زينتهن) * (النور: 31) فإنهن إذا نهين عن إظهار الزينة كالخلخال والسوار علم النهي عن إبداء محلها بالطريق الأولى، ونقل عن أبي علي الجبائي أن المراد النهي عن إحلال نفس القلائد، وإيجاب التصدق بها إن كانت لها قيمة، وروي ذلك عن الحسن، وروى عن السدي أن المراد من القلائد: أصحاب الهدي فإن العرب كانوا يقلدون من لحاء شجر مكة يقيم الرجل بمكة حتى إذا انقضت الأشهر الحرم، وأراد أن يرجع إلى أهله قلد نفسه وناقته من لحاء الشجر فيأمن حتى يأتي أهله، وقال الفراء: أهل الحرم كانوا يتقلدون بلحاء الشجر، وغير أهل الحرم كانوا يتقلدون بالصوف والشعر وغيرهما، وعن الربيع. وعطاء أن المراد نهي المؤمنين أن ينزعوا شيئا من شجر الحرم يقلدون به كما كان المشركون يفعلونه في جاهليتهم.
* (ولا ءآمين البيت الحرام) * أي ولا تحلوا أقواما قاصدين البيت الحرام بأن تصدوهم عنه بأي وجه كان، وجوز أن يكون على حذف مضاف أي قتال قوم أو أذى قوم آمين.
53

وقرىء - ولا آمي البيت الحرام - بالإضافة، و (البيت) مفعول به لا ظرف، ووجه عمل اسم الفاعل فيه ظاهر، وقوله تعالى: * (يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا) * حال من المستكن في آمين، وجوز أن يكون صفة، وضعف بأن اسم الفاعل الموصوف لا يعمل لضعف شبهه بالفعل الذي عمل بالحمل عليه لأن الموصوفية تبعد الشبه بأنها من خواص الأسماء، وأجيب بأن الوصف إنما يمنع من العمل إذا تقدم المعمول، فلو تأخر لم يمنع لمجيئه بعد الفراغ من مقتضاه كما صرح به صاحب " اللب " وغيره، وتنكير (فضلا) و (رضوانا) للتفخيم، ومن ربهم متعلق بنفس الفعل، أو بمحذوف وقع صفة - لفضلا - مغنية عن وصف ما عطف عليه بها، أي فضلا كائنا من ربهم ورضوانا كذلك، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لتشريفهم والإشعار بحصول مبتغاهم، والمراد بهم المسلمون خاصة، والآية محكمة. وفي الجملة إشارة إلى تعليل النهي واستنكار النهي عنه كذا قيل، واعترض بأن التعرض للمسلمين حرام مطلقا سواء كانوا آمين أم لا، فلا وجه لتخصيصهم بالنهي عن الإحلال، ولذا قال الحسن وغيره: المراد بالآمين هم المشركون خاصة، والمراد من الفضل حينئذ الربح في تجاراتهم، ومن الرضوان ما في زعمهم، ويجوز إبقاء الفضل على ظاهره إذا أريد ما في الزعم أيضا لكنه لما أمكن حمله على ما هو في نفس الأمر كان حمله عليه أولى، ويؤيد هذا القول أن الآية نزلت - كما قال السدي وغيره - في رجل من بني ربيعة يقال له الحطيم بن هند، وذلك أنه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحده وخلف خيله خارج المدينة فقال: " إلى مه تدعو الناس؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة " فقال: حسن إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم، ولعلي أسلم وآتي بهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: " يدخل عليكم رجل يتكلم بلسان شيطان " ثم خرج من عنده، فلما خرج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبي غادر وما الرجل بمسلم "، فمر بسرح المدينة فاستاقه وانطلق به وهو يرتجز ويقول: قد لفها الليل بسواق حطم * ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بخوار على ظهر قطم * باتوا نياما وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم * مدملج الساقين ممسوح القدم
فطلبه المسلمون فعجزوا، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام قضاء العمرة التي أحصر عنها سمع تلبية حجاج اليمامة فقال صلى الله عليه وسلم: " هذا الحطيم وأصحابه فدونكموه " وكان قد قلد ما نهب من السرح وجعله هديا فلما توجهوا لذلك نزلت الآية فكفوا وروي عن ابن زيد أنها نزلت يوم فتح مكة في فوارس يؤمون
البيت من المشركين يهلون بعمرة فقال المسلمون: يا رسول الله هؤلاء المشركون مثل هؤلاء، دعنا نغير عليهم، فأنزل الله سبحانه الآية.
واختلف القائلون بأن المراد من الآمين: المشركون في النسخ وعدمه، فعن ابن جريج أنه لا نسخ لأنه يجوز أن يبتدىء المشركون في الأشهر الحرم بالقتال، وأنت تعلم أن الآية ليست نصا في القتال على تقدير تسليم ما في حيز التعليم، وقال أبو مسلم: إن الآية منسوخة بقوله تعالى: * (فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) * (التوبة: 28)، وقيل: بآية السيف، وقيل: بهما، وقيل: لم ينسخ من هذه الآية إلا القلائد، وروي ذلك عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وادعى بعضهم أن المراد بالآمين: ما يعم المسلمين والمشركين، وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ، والنسخ حينئذ في حق المشركين خاصة.
54

وبعض الأئمة يسمي مثل ذلك تخصيصا كما حقق في الأصول، ولا بد على هذا من تفسير الفضل والرضوان بما يناسب الفريقين، وقرأ حميد بن قيس الأعرج * (تبتغون) * بالتاء على خطاب المؤمنين، والجملة على ذلك حال من ضمير المخاطبين في * (لا تحلوا) * على أن المراد بيان منافاة حالهم هذه للمنهي عنه لا تقييد النهي بها، واعترض بأنه لو أريد خطاب المؤمنين لكان المناسب من ربكم وربهم، وأجيب بأن ترك التعبير بما ذكر للتخويف بأن ربهم يحميهم ولا يرضى بما فعلوه وفيه بلاغة لا تخفي وإشارة إلى ما مر من أن الله تعالى رب العالمين لا المسلمين فقط، وقال شيخ الإسلام: إن إضافة الرب إلى ضمير آمين على قراءة الخطاب للإيماء إلى اقتصار التشريف عليهم وحرمان المخاطبين عنه وعن نيل المبتغى، وفي ذلك من تعليل النهي وتأكيده والمبالغة في استنكار المنهي عنه ما لا يخفى.
* (وإذا حللتم) * من الإحرام المشار إليه بقوله سبحانه: * (وأنتم حرم) * * (فاصطادوا) * أي فلا جناح عليكم بالاصطياد لزوال المانع، فالأمر للإباحة بعد الحظر ومثله لا تدخلن هذه الدار حتى تؤدي ثمنها فإذا أديت فادخلها أي إذا أديت أبيح لك دخولها، وإلى كون الأمر للإباحة بعد الحظر ذهب كثير. وقال صاحب " القواطع ": إنه ظاهر كلام الشافعي في " أحكام القرآن "، ونقله ابن برهان (في " الوجيز ") عن أكثر الفقهاء والمتكلمين لأن سبق الحظر قرينة صارفة، وهو أحد ثلاثة مذاهب في المسألة، ثانيها: أنه للوجوب لأن الصيغة تقتضيه، ووروده بعد الحظر لا تأثير له، وهو اختيار القاضي أبي الطيب (الطبري في " شرح الكفاية ") (2) والشيخ أبي إسحاق و (ابن) (2) السمعاني والإمام في " المحصول "، ونقله الشيخ أبو حامد الإسفرايني في " كتابه " عن أكثر الشافعية، ثم قال: وهو قول كافة الفقهاء، وأكثر المتكلمين، وثالثها: الوقف بينهما، وهو قول إمام الحرمين مع كونه أبطل الوقف في لفظه ابتداءا من غير تقدم حظر، ولا يبعد - على ما قاله الزركشي - أن يقال هنا برجوع الحال إلى ما كان قبل، كما قيل في مسألة النهي الوارد بعد الوجوب. ومن قال: إن حقيقة الأمر المذكور للإيجاب قال: إنه مبالغة في صحة المباح حتى كأنه واجب، وقيل: إن الأمر في مثله لوجوب اعتقاد الحل فيكون التجوز في المادة كأنه قيل: اعتقدوا حل الصيد وليس بشيء، وقرىء - أحللتم - وهو لغة في حل، وعن الحسن أنه قرىء * (فاصطادوا) * بكسر الفاء بنقل حركة همزة الوصل عليها، وضعفت من جهة العربية بأن النقل إلى المتحرك مخالف للقياس، وقيل: إنه لم يقرأ بكسرة محضة بل أمال لإمالة الطاء، وإن كانت من المستعلية.
* (ولا يجرمنكم) * أي لا يحملنكم كما فسره به قتادة، ونقل عن ثعلب والكسائي وغيرهما، وأنشدوا له بقوله: ولقد طعنت أبا عيينة طعنة * (جرمت) فزارة بعدها أن تغضبا
فجرم على هذا يتعدى لواحد بنفسه، وإلى الآخر بعلى، وقال الفراء وأبو عبيدة: المعنى لا يكسبنكم، وجرم جار مجرى كسب في المعنى، والتعدي إلى مفعول واحد وإلى اثنين يقال: جرم ذنبا نحو كسبه، وجرمته ذنبا نحو كسبته إياه خلا أن جرم يستعمل غالبا في كسب ما لا خير فيه، وهو السبب في إيثاره ههنا على الثاني، ومنه الجريمة، وأصل مادته موضوعة لمعنى القطع لأن الكاسب ينقطع لكسبه، وقد يقال: أجرمته ذنبا على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين كما يقال: أكسبته ذنبا، وعليه قراءة عبد الله لا يجرمنكم بضم الياء * (شنآن قوم) * بفتح النون؛ وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم، وإسماعيل عن نافع بسكونها،
55

وفيهما احتمالان: الأول: أن يكونا مصدرين بمعنى البغض أو شدته شذوذا لأن فعلان بالفتح مصدر ما يدل على الحركة - كجولان - ولا يكون لفعل متعد كما قال: س، وهذا متعد إذ يقال: شنئته، ولا دلالة له على الحركة إلا على بعد، وفعلان بالسكون في المصادر قليل نحو - لويته ليانا - بمعنى مطلته، والثاني: أن يكون صفتين لأن فعلان في الصفات كثير كسكران، وبالفتح ورد فيها قليلا - كحمار قطوان عسر السير، وتيس عدوان كثير العدو - فإن كان مصدرا فالظاهر أن إضافته إلى المفعول أي إن تبغضوا قوما، وجوز أن تكون إلى الفاعل أي إن يبغضكم قوم، والأول أظهر كما في " البحر " وإن كان وصفا فهو بمعنى بغيض، وإضافته بيانية وليس مضافا إلى مفعوله أو فاعله كالمصدر أي البغيض من بينهم.
* (أن صدوكم) * بفتح الهمزة بتقدير اللام على أنه علة - للشنآن - أي لأن صدوكم عام الحديبية، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الهمزة على أن (أن) شرطية، وما قبلها دليل الجواب، أو الجواب على القول المرجوح بجواز تقدمه، وأورد على ذلك أنه لا صد بعد فتح مكة. وأجيب بأنه للتوبيخ على أن الصد السابق على فتح مكة مما لا يصح أن يكون وقوعه إلا على سبيل الفرض، وذلك كقوله تعالى: * (أن كنتم قوما مسرفين) * (الزخرف: 5) وجوز أن يكون بتقدير إن كانوا قد صدوكم، وأن يكون على ظاهره إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم بعد ظهور الإسلام وقوته، ويعلم منه النهي عن ذلك باعتبار الصد السابق بالطريق الأولى * (عن المسجد الحرام) * أي عن زيارته والطواط به للعمرة، وهذه - كما قال شيخ الإسلام - آية بينة في عموم آمين للمشركين قطعا، وجعلها البعض دليلا على تخصيصه بهم * (أن تعتدوا) * أي عليهم، وحذف تعويلا على الظهور، وإيماءا إلى أن المقصد الأصلي منع صدور الاعتداء من المخاطبين محافظة على تعظيم الشعائر لا منع وقوعه على القوم مراعاة لجانبهم، وأن على حذف الجار أي على أن تعتدوا، والمحل بعده إما جر، أو نصب على المذهبين أي لا يحملنكم بغض قوم لصدهم إياكم عن المسجد الحرام على اعتدائكم عليهم وانتقامكم منهم للتشفي، أو لا حذف، والمنسبك ثاني مفعولي يجرمنكم أي لا يكسبنكم ذلك اعتداؤكم، وهذا
على التقديرين وإن كان بحسب الظاهر نهيا للشنآن عما نسب إليه لكنه في الحقيقة نهي لهم عن الاعتداء على أبلغ وجه وآكده، فإن النهي عن أسباب الشيء ومباديه المؤدية إليه نهي عنه بالطريق البرهاني وإبطال للسببية، ويقال: لا أرينك ههنا والمقصود نهى المخاطب على الحضور.
ووجه العلامة الطيبي الاعتراض بقوله تعالى: * (وإذا حللتم فاصطادوا) * بين ما تقدم وبين هذا النهي المتعلق به ليكون إشارة وإدماجا إلى أن القاصدين ما داموا محرمين مبتغين فضلا من ربهم كانوا كالصيد عند المحرم فلا تتعرضوهم، وإذا حللتم أنتم وهم فشأنكم وإياهم لأنهم صاروا كالصيد المباح أبيح لكم تعرضهم حينئذ. وقال شيخ الإسلام: لعل تأخير هذا النهي عن ذلك مع ظهور تعلقه بما قبله للإيذان بأن حرمة الاعتداء لا تنتهي بالخروج عن الإحرام كانتهاء حرمة الاصطياد به بل هي باقية ما لم تنقطع علاقتهم عن الشعائر بالكلية، وبذلك يعلم بقاء حرمة التعرض لسائر الآمين بالطريق الأولى، ولعله الأولى.
* (وتعانوا على البر والتقوى) * عطف على * (ولا يجرمنكم) * من حيث المعنى كأنه قيل: لا تعتدوا على قاصدي المسجد الحرام لأجل أن صددتم عنه وتعاونوا على العفو والإغضاء. وقال بعضهم: هو استئناف والوقف على أن تعتدوا لازم، واختار غير واحد أن المراد بالبر متابعة الأمر مطلقا، وبالتقوى اجتناب الهوى لتصير الآية من جوامع الكلم وتكون
56

تذييلا للكلام، فيدخل في البر والتقوى جميع مناسك الحج، فقد قال تعالى: * (فإنها من تقوى القلوب) * (الحجج: 32) ويدخل العفو والإغضاء أيضا دخولا أوليا، وعلى العموم أيضا حمل قوله تعالى: * (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) * فيعم النهي كل ماهو من مقولة الظلم والمعاصي، ويندرج فيه النهي عن التعاون على الاعتداء والانتقام. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأبي العالية أنهما فسرا الإثم بترك ما أمرهم به وارتكاب ما نهاهم عنه، والعدوان بمجاوزة ما حده سبحانه لعباده في دينهم وفرضه عليهم في أنفسهم، وقدمت التحلية على التخلية مسارعة إلى إيجاب ما هو المقصود بالذات.
وقوله تعالى: * (واتقوا الله) * أمر بالاتقاء في جميع الأمور التي من جملتها مخالفة ما ذكر من الأوامر والنواهي، ويثبت وجوب الاتقاء فيها بالطريق البرهاني. * (إن الله شديد العقاب) * لمن لا يتفيه، وهذا في موضع التعليل لما قبله، وإظهار الاسم الجليل لما مر غير مرة.
* (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ومآ أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالازلام ذالكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الأسلام دينا فمن اضطر فى مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم) *.
* (حرمت عليكم الميتة) * شروع في بيان المحرمات التي أشير إليها بقوله سبحانه: * (إلا ما يتلى عليكم) * والمراد تحريم أكل الميتة، هي ما فارقه الروح حتف أنفه من غير سبب خارج عنه * (والدم) * أي المسفوح منه وكان أهل الجاهلية يجعلونه في المباعر ويشوونه ويأكلونه، وأما الدم غير المسفوح كالكبد فمباح، وأما الطحال فالأكثرون على إباحته، وأجمعت الإمامية على حرمته، ورويت الكراهة فيه عن علي كرم الله تعالى وجهه. وابن مسعود رضي الله تعالى عنه * (ولحم الخنزير) * إقحام اللحم لما مر، وأخذ داود. وأصحابه بظاهره فحرموا اللحم وأباحوا غيره، وظاهر العطف أنه حرام حرمة غيره، وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن قتادة أنه قال: " من أكل لحم الخنزير عرضت عليه التوبة فإن تاب وإلا قتل " وهو غيرب، ولعل ذلك لأن أكله صار اليوم من علامات الكفر كلبس الزنار، وفيه تأمل * (وما أهل لغير الله به) * أي رفع الصوت لغير الله تعالى عند ذبحه، والمراد بالاهلال هنا ذكر ما يذبح له - كاللات. والعزى * (والمنخنقة) * قال السدى: هي التي يدخل رأسها بين شعبتين من شجرة فتختنق فتموت، وقال الضحاك. وقتادة: هي التي تختنق بحبل الصائد فتموت.
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان أهل الجاهلية يخنقون البهيمة ويأكلونها فحرم ذلك على المؤمنين، والأولى أن تحمل على التي ماتت بالخنق مطلقا * (والموقوذة) * أي التي تضرب حتى تموت، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وقتادة. والسدى، وهو من وقذته بمعنى ضربته، وأصله أن تضربه حتى يسترخي، ومنه وقذه النعاس أي غلب عليه * (والمتردية) * أي التي تقع من مكان عال أو في بئر فتموت دو النطيحة) * أي التي ينطحها غيرها فتموت، وتاؤها للنقل فلا يرد أن فعيل بمعنى مفعول لا يدخله التاء، وقال بعض الكوفيين: إن ذلك حيث ذكر الموصوف مثل - كف خضيب. وعين كحيل - وأما إذا حذف فيجوز دخول التاء فيه، ولا حاجة إلى القول بأنها للنقل، وقرىء والمنطوحة * (وما أكل السبع) * أي ما أكل منه السبع فمات؛ وفسر بذلك لأن ما أكله كله لا يتعلق به حكم ولا يصح أن يستثنى منه قوله تعالى: * (إلا ما ذكيتم) * أي إلا ما أدركتموه وفيه بقية حياة يضطرب اضطراب المذبوح وذكيتموه، وعن السيدين السندين الباقر. والصادق رضي الله تعالى عنهما أن أدنى ما يدرك به الذكاة أن يدركه وهو يحرك الأذن. أو الذنب. أو الجفن، وبه قال الحسن. وقتادة.
57

وإبراهيم. وطاوس. والضحاك. وابن زيد، وقال بعضهم: يشترط الحياة المستقرة وهي التي لا تكون على شرف الزوال وعلامتها على ما قيل: أن يضطرب بعد الذبح لا وقته، وعن علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الاستثناء راجع إلى جميع ما تقدم ذكره من المحرمات سوى ما لا يقبل الذكاة من الميتة. والدم. والخنزير. وما أكل السبع على تقدير إبقائه على ظاهره، وقيل: هو استثناء من التحريم لا من المحرمات، والمعنى حرم عليكم سائر ما ذكر لكن ما ذكيتم مما أحله الله تعالى بالتذكية فإنه حلال لكم.
وروي ذلك عن مالك. وجماعة من أهل المدينة، واختاره الجبائي، والتذكية في الشرع قطع الحلقوم والمريء بمحدد، والتفصيل في الفقه، واستدل بالآية على أن جوارح الصيد إذا أكلت مما صادته لم يحل.
وقرأ الحسن: * (السبع) * بسكون الباء، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما - وأكيل السبع -.
* (وما ذبح على النصب) * جمع نصاب كحمر. وحمار، وقيل: واحد الأنصاب كطنب وأطناب، واختلف فيها فقيل هي حجارة كانت حول الكعبة وكانت ثلثمائة وستين حجرا، وكان أهل الجاهلية يذبحون عليها - فعلى - على أصلها، ولعل ذبحهم عليها كان علامة لكونه لغير الله تعالى؛ وقيل: هي الأصنام لأنها تنصب فتعبد من دون الله تعالى، و * (على) * إما بمعنى اللام، أو على أصلها بتقدير وما ذبح مسمى على الأصنام.
واعترض بأنه حينئذ يكون كالتكرار لقوله سبحانه: * (وما أهل لغير الله به) * والأمر في ذلك هين، والموصول معطوف على المحرمات، وقرىء * (النصب) * بضم النون وتسكين الصاد تخفيفا، وقرىء بفتحتين، وبفتح فسكون * (وأن تستقسموا بالأزل‍ام) * جمع زلم - كجمل - أو زلم - كصرد - وهو القدح، أي وحرم عليكم الاستقسام بالاقداح وذلك أنهم - كما روي عن الحسن. وغيره - إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة أقداح، مكتوب على أحدها أمرني ربي، وعلى الثاني نهاني ربي. وأبقوا الثالث غفلا لم يكتب عليه شيء فإن خرج الآمر مضوا لحاجتهم، وإن خرج الناهي تجنبوا، وإن خرج الغفل أجالوها ثانيا، فمعنى الاستقسام طلب معرفة ما قسم لهم دون ما لم يقسم بالأزلام، واستشكل تحريم ما ذكر بأنه من جملة التفاؤل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الفأل.
وأجيب بأنه كان استشارة مع الأصنام واستعانة منهم كما يشير إلى ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أنهم إذا أرادوا ذلك أتوا بيت أصنامهم وفعلوا ما فعلوا فلهذا صار حراما، وقيل: لأن فيه افتراء على الله تعالى إن أريد - بربي - الله تعالى، وجهالة وشركا إن أريد به الصنم، وقيل: لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر الله تعالى به، واعترض بأنا لا نسلم أن الدخول في علم الغيب حرام، ومعنى استئثار الله تعالى بعلم الغيب انه لا يعلم إلا منه، ولهذا صار استعلام الخير والشر من المنجمين والكهنة ممنوعا حراما بخلاف الاستخارة من القرآن فإنه استعلام من الله تعالى، ولهذا أطبقوا على جوازها. ومن ينظر في ترتيب المقدمات أو يرتاض فهو لا يطلب إلا علم الغيب منه سبحانه فلو كان طلب علم الغيب حراما لا نسد طريق الفكر والرياضة، ولا قائل به.
وقال الإمام رحمه الله تعالى: لو لم يجز طلب علم الغيب لزم أن يكون علم التعبير كفرا لأنه طلب للغيب، وأن يكون أصحاب الكرامات المدعون للالهامات كفارا، ومعلوم أن كل ذلك باطل، وتعقب القول - بجواز الاستخارة بالقرآن - بأنه لم ينقل فعلها عن السلف، وقد قيل: إن الإمام مالكا كرهها. وأما ما في فتاوي الصوفية نقلا عن الزندوستي من أنه لا بأس بها وأنه قد فعلها علي كرم الله تعالى وجهه. ومعاذ رضي الله تعالى عنه.
58

وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: - من أراد أن يتفاءل بكتاب الله تعالى فليقرأ * (قل هو الله أحد) * سبع مرات، وليقل ثلاث مرات: اللهم بكتابك تفاءلت، وعليك توكلت، اللهم أرني في كتابك ما هو المكتوم من سرك المكنون في غيبك، ثم يتفاءل بأول الصحيفة - ففي النفس منه شيء. وفي كتاب الأحكام للجصاص أن الآية تدل على بطلان القرعة في عتق العبيد لأنها في معنى ذلك بعينه إذا كان فيها إثبات ما أخرجته القرعة من غير استحقاق كما إذا أعتق أحد عبيده عند موته على ما بين في الفقه، ولا يرد أن القرعة في جازت في قسمة الغنائم مثلا، وفي إخراج النساء لأنا نقول: إنها فيما ذكر لتطييب النفوس والبراءة من التهمة في إيثار البعض ولو اصطلحوا على ذلك جاز من غير قرعة، وأما الحرية الواقعة على واحد من العبيد فيما نحن فيه فغير جائز نقلها عنه إلى غيره، وفي استعمال القرعة النقل، وخالف الشافعي في ذلك، فجوز القرعة في العتق كما جوزها في غيره، وظواهر الأدلة معه وتحقيق ذلك في موضعه.
والحق عندي أن الاستقسام الذي كان يفعله أهل الجاهلية حرام بلا شبهة كما هو نص الكتاب، وأن حرمته ناشئة من سوء الاعتقاد، وأنه لا يخلو عن تشاؤم، وليس بتفاؤل محض، وإن مثل ذلك ليس من الدخول في علم الغيب أصلا بل هو من باب الدخول في الظن، وأن الاستخارة بالقرآن مما لم يرد فيها شيء يعول عليه عن الصدر الأول، وتركها أحب إلي لا سيما وقد أغنى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عنها بما سن من الاستخارة الثابتة في غير ما خبر صحيح، وأن تصديق المنجمين فيما ليس من جنس الخسوف والكسوف مما يخبرون به من الحوادث المستقبلة محظور وليس من علم الغيب ولا دخولا فيه، وإن زعمه الزجاج لبنائه على الأسباب، ونقل الشيخ محيي الدين النووي في " شرح مسلم " عن القاضي كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب. أحدها: أن يكون للإنسان رئي من الجن يخبره به بما يسترقه من السمع من السماء، وهذا القسم بطل من حين بعث الله تعالى نبينا صلى الله عليه وسلم الثاني: أن يخبره بما يطرأ ويكون في أقطار الأرض وما خفي عنه مما قرب أو بعد، وهذا لا يبعد وجوده، ونفت المعتزلة. وبعض المتكلمين هذين الضربين وأحالوهما، ولا استحالة في ذلك ولا بعد في وجوده لكنهم يصدقون ويكذبون، والنهي عن تصديقهم والسماع منهم عام، الثالث: المنجمون وهذا الضرب بخلق الله تعالى في بعض الناس قوة ما لكن الكذب فيه أغلب، ومن هذا الفن العرافة فصاحبها عراف وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها بها - كالزجر. والطرق بالحصى - وهذه الأضرب كلها تسمى كهانة، وقد أكذبهم الشرع ونهى عن تصديقهم وإتيانهم انتهى.
ولعل النهي عن ذلك لغلبة الكذب في كلامهم ولأن في تصديقهم فتح باب يوصل إلى لظى إذ قد يجر إلى تعطيل الشريعة والطعن فيها لا سيما من العوام، واستثناء ما هو من جنس الكسوف والخسوف لندرة خطئهم فيه بل لعدمه إذا أمكنوا الحساب، ولا كذلك ما يخبرون به من الحوادث إذ قد بنوا ذلك على أوضاع السيارات بعضها مع بعض، أو مع بعض الثوابت ولا شك أن ذلك لا يكفي في الغرض والوقوف على جميع الأوضاع، وما تقتضيه مما يتعذر الوقوف عليه لغير علام الغيوب فليفهم، وقيل: المراد بالاستقسام استقسام الجزور بالأقداح على الأنصباء المعلومة أي طلب قسم من الجزور أو ما قسمه الله تعالى له منه، وهذا هو الميسر وقد تقدم بيانه، وروى ذلك علي بن إبراهيم عن الأئمة الصادقين رضي الله تعالى عنهم، ورجح بأنه يناسب ذكره مع محرمات الطعام، وروي عن مجاهد أنه فسر الأزلام بسهام العرب وكعاب فارس التي يتقامرون بها.
59

وعن وكيع أنها أحجار الشطرنج * (ذالكم) * أي الاستقسام بالأزلام، ومعنى البعد فيه الإشارة إلى بعد منزلته في الشر * (فسق) * أي ذنب عظيم وخروج عن طاعة
الله تعالى إلى معصيته لما أشرنا إليه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن * (ذلكم) * إشارة إلى تناول جميع ما تقدم من المحرمات المعلوم من السياق * (اليوم) * أي الزمان الحاضر وما يتصل به من الأزمنة الآتية، وقيل: يوم نزول الآية، وروي ذلك عن ابن جريج. ومجاهد. وابن زيد، وكان - كما رواه الشيخان عن عمر رضي الله تعالى عنه - عصر يوم الجمعة عرفة حجة الوداع، وقيل: يوم دخوله صلى الله عليه وسلم مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع، وقيل: سنة ثمان، وهو منصوب على الظرفية بقوله تعالى: * (يئسع الذين كفروا من دينكم) * والياس انقطاع الرجاء وهو ضد الطمع.
والمراد انقطع رجاؤهم من إبطال دينكم ورجوعكم عنه بتحليل هذه الخبائث وغيرها، أو من أن يعلبوكم عليه لما شاهدوا أن الله تعالى وفي بوعده حيث أظهره على الدين كله.
وروي أنه لما نزلت الآية نظر صلى الله عليه وسلم في الموقف فلم ير إلا مسلما، ورجح هذا الاحتمال بأنه الأنسب بقوله سبحانه: * (فلا تخشوهم) * أن يظهروا عليكم وهو متفرع عن اليأس * (واخشون) * أن أحل بكم عقابي إن خالفتم أمري وارتكبتم معصيتي * (اليوم أكملت لكم دينكم) * بالنصر والإظهار لأنهم بذلك يجرون أحكام الدين من غير مانع وبه تمامه، وهذا كما تقول: تم لي الملك إذا كفيت ما تخافه، وإلى ذلك ذهب الزجاج، وعن ابن عباس. والسدى أن المعنى اليوم أكملت لكم حدودي. وفرائضي. وحلالي. وحرامي بتنزيل ما أنزلت. وبيان ما بينت لكم فلا زيادة في ذلك ولا نقصان منه بالنسخ بعد هذا اليوم، وكان يوم عرفة عام حجة الوداع، واختاره الجبائي. والبلخي. وغيرهما، وادعوا أنه لم ينزل بعد ذلك شيء من الفرائض على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحليل ولا تحريم، وأنه عليه الصلاة والسلام لم يلبث بعد سوى أحد وثمانين يوما، ومضى - روحي فداه - إلى الرفيق الأعلى صلى الله عليه وسلم.
وفهم عمر رضي الله تعالى عنه لما سمع الآية نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن عنترة " أن عمر رضي الله تعالى عنه لما نزلت الآية بكى فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء قط إلا نقص فقال عليه الصلاة والسلام: صدقت " ولا يحتج بها على هذا القول على إبطال القياس - كما زعم بعضهم - لأن المراد إكمال الدين نفسه بيان ما يلزم بيانه، ويستنبط منه غيره والتنصيص على قواعد العقائد، والتوقيف على أصول الشرع وقوانين الاجتهاد، وروي عن سعيد بن جبير. وقتادة أن المعنى * (اليوم أكملت لكم) * حجكم وأقررتكم بالبلد الحرام تحجونه دون المشركين - واختاره الطبري - وقال: يرد على ما روي عن ابن عباس. والسدي رضي الله تعالى عنهم أن الله تعالى أنزل بعد ذلك آية الكلالة وهي آخر آية نزلت، واعترض بالمنع، وتقديم الجار للإيذان من أول الأمر بأن الإكمال لمنفعتهم ومصلحتهم، وفيه أيضا تشويق إلى ذكر المؤخر كما في قوله تعالى: * (وأتممت عليكم نعمتي) * وليس الجار فيه متعلقا - بنعمتي - لأن المصدر لا يتقدم عليه معموله، وقيل: متعلق به ولا بأس بتقدم معمول المصدر إذا كان ظرفا، وإتمام النعمة على المخاطبين بفتح مكة، ودخولها
60

آمنين ظاهرين، وهدم منار الجاهلية ومناسكها، والنهي عن حج المشركين وطواف العريان، وقيل: بإتمام الهداية والتوفيق باتمام سببهما، وقيل: بإكمال الدين، وقيل: بإعطائهم من العلم والحكمة ما لم يعطه أحدا قبلهم، وقيل: معنى * (أتممت عليكم نعمتي) * أنجزت لكم وعدي بقوله سبحانه: * (وأتممت عليكم نعمتي) * * (ورضيت لكم الاسلام دينا) * أي اخترته لكم من بين الأديان، وهو الدين عند الله تعالى لا غير وهو المقبول وعليه المدار.
وأخرج ابن جبير عن قتادة قال: " ذكر لنا أنه يمثل لأهل كل دين دينهم يوم القيامة، فأما الإيمان فيبشر أصحابه وأهله ويعدهم في الخير حتى يجيء الإسلام فيقول: رب أنت السلام وأنا الإسلام، فيقول: إياك اليوم أقبل وبك اليوم أجزي " وقد نظر في الرضا معنى الاختيار ولذي عدى باللام، ومنهم من جعل الجار - صفة لدين - قدم عليه فانتصب حالا، و * (الإسلام) * و * (دينا) * مفعولا * (رضيت) * إن ضمن معنى صير، أو * (دينا) * منصوب على الحالية من الإسلام، أو تميين من * (لكم) * والجملة - على ما ذهب إليه الكرخي - مستأنفة لا معطوفة على * (أكملت) * وإلا كان مفهوم ذلك أنه لم يرضى لهم الإسلام قبل ذلك اليوم دينا، وليس كذلك إذ الإسلام لم يزل دينا مرضيا لله تعالى. وللنبي صلى الله عليه وسلم. وأصحابه رضي الله تعالى عنهم منذ شرع. والجمهور على العطف، وأجيب عن التقييد بأن المراد برضاه سبحانه حكمه جل وعلا باختياره حكما أبديا لا ينسخ وهو كان في ذلك اليوم، وأخرج الشيعة عن أبي سعيد الخدري أن هذه الآية نزلت بعد أن قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله تعالى وجهه في غدير خم: من كنت مولاه فعلى مولاه فلما نزلت قال عليه الصلاة والسلام: الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضاء الرب برسالتي وولاية علي كرم الله تعالى وجهه بعدي، ولا يخفى أن هذا من مفترياتهم، وركاكة الخبر شاهدة على ذلك في مبتدأ الأمر، نعم ثبت عندنا أنه صلى الله عليه وسلم قال في حق الأمير كرم الله تعالى وجهه هناك: من كنت مولاه فعلى مولاه وزاد على ذلك - كما في بعض الروايات - لكن لا دلالة في الجميع على ما يدعونه من الإمامة الكبرى والزعامة العظمى كما سيأتي إن شاء الله تعالى غير بعيد.
وقد بسطنا الكلام عليه في كتابنا النفحات القدسية في رد الإمامية ولم يتم إلى الآن ونسأل الله تعالى إتمامه، ورواياتهم في هذا الفصل ينادي لفظها على وضعها، وقد أكثر منها يوسف إلا والى عليه ما عليه * (فمن اضطر) * متصل بذكر المحرمات وما بينهما، وهو سبع جمل - على ما قال الطيبي - اعتراض بما يوجب التجنب عنها، وهو أن تناولها فسق عظيم، وحرمتها في جملة الدين الكامل. والنعمة التامة. والإسلام المرضى، والاضطرار الوقوع في الضرورة، أي فمن وقع في ضرورة تناول شيء من هذه المحرمات * (في مخمصة) * أي مجاعة تخمص لها البطون أن تضمر يخاف معها الموت أو مباديه * (غير متجانف لإثم) * أي غير مائل ومنحرف إليه ومختار له بأن يأكل منها زائدا على ما يمسك رمقه، فإن ذلك حرام كما روي عن ابن عباس. ومجاهد. وقتادة رضي الله تعالى عنهم - وبه قال أهل العراق، وقال أهل المدينة: يجوز أن يشبع عند الضرورة، وقيل: المراد غير عاص بأن يكون باغيا، أو عاديا بأن ينتزعها من مضطر آخر أو خارجا في معصيته، وروي هذا أيضا
عن قتادة
61

* (فإن الله غفور رحيم) * لا يؤاخذه بأكله وهو الجواب في الحقيقة، وقد أقيم سببه مقامه، وقيل: إنه مقدر في الكلام..
* (يسألونك ماذآ أحل لهم قل أحل لكم الطيب‍ات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا ممآ أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب) *.
* (يسئلونك ماذا أحل لهم) * شروع في تفصيل المحللات التي ذكر بعضها على وجه الإجمال إثر بيان المحرمات، أخرج ابن جرير. والبيهقي في سننه. وغيرهما عن أبي رافع قال: " جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن عليه فأذن له فأبطأ فأخذ رداءه فخرج إليه وهو قائم بالباب فقال عليه الصلاة والسلام: قد أذنا لك قال: أجل ولكنا لا ندخل بيتا فيه صورة ولا كلب فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو، قال أبو رافع: فأمرني صلى الله عليه وسلم أن أقتل كل كلب بالمدينة ففعلت، وجاء الناس فقالوا: يا رسول الله ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى يسألونك الآية ".
وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن السائل عاصم بن عدي. وسعد بن خيثمة. وعويم بن ساعدة، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن السائل عدي بن حاتم. وزيد بن المهلهل الطائيان، وقد ضمن السؤال معنى القول، ولذا حكيت به الجملة كما تحكى بالقول، وليس معلقا لأنه وإن لم يكن من أفعال القلوب لكنه سبب للعلم وطريق له، فيعلق كما يعلق خلافا لأبي حيان، فاندفع ما قيل: إن السؤال ليس مما يعمل في الجمل ويتعدى بحرف الجر، فيقال: سئل عن كذا، وادعى بعضهم لذلك أنه بتقدير مضاف أي جواب ماذا، والأول مختار الأكثرين، وضمير الغيبة دون ضمير المتكلم الواقع في كلامهم لما أن يسألون بلفظ الغيبة كما تقول: أقسم زيد ليضربن، ولو قلت: لأضربن جاز، والمسؤول نظرا للكلام السابق ما أحل من المطاعم والمآكل، وقيل: إن المسؤول ما أحل من الصيد والذبائح * (قل أحل لكم الطيب‍ات) * أي ما لم تستخبثه الطباع السليمة ولم تنفر عنه، وإلى ذلك ذهب البلخي، وعن أبي علي الجبائي. وأبي مسلم هي ما أذن سبحانه في أكله من المأكولات والذبائح والصيحد، وقيل: ما لم يرد بتحريمه نص أو قياس، ويدخل في ذلك الإجماع إذ لا بد من استناده لنص وإن لم نقف عليه، والطيب - على هذين القولين - بمعنى الحلال، وعلى الأول بمعنى المستلذ، وقد جاء بالمعنيين * (وما علمتم من الجوارح) * عطف على الطيبات بتقدير مضاف على أن * (ما) * موصولة، والعائد محذوف أي وصيد ما علمتموه، قيل: والمراد مصدره لأنه الذي أحل بعطفه على * (الطيبات) * من عطف الخاص على العام، وقيل: الظاهر أنه لا حاجة إلى جعل الصيد بمعنى المصيد لأن الحل والحرمة مما يتعلق بالفعل، ويحتمل أن تكون * (ما) * شرطية مبتدأ، والجواب فكلوا، والخبر الجواب، والشرط على المختار، والجملة عطف على جملة * (أحل لكم) * ولا يحتاج إلى تقدير مضاف.
ونقل عن الزمخشري أنه قال بالتقدير فيه، وقال تقديره لا يبطل كون * (ما) * شرطية لأن المضاف إلى اسم الشرط في حكم المضاف إليه - كما تقول - غلام من يضرب أضرب - كما تقول - من يضرب أضرب، وتعقب بأنه على ذلك التقدير يصير الخبر خاليا عن ضمير المبتدأ إلا أن يتكلف بجعل * (ما أمسكن) * من وضع الظاهر موضع ضمير دما علمتم) * فافهم، وجوز كونها مبتدأ على تقدير كونها موصولة أيضا، والخبر كلوا، والفاء إنما دخلت تشبيها للموصول باسم الشرط لكنه خلاف الظاهر، و * (من الجوارح) * حال من الموصول، أو من ضميره المحذوف، و * (الجوارح) * جمع جارحة، والهاء فيها - كما قال أبو البقاء - للمبالغة، وهي صفة غالبة إذ لا يكاد يذكر
62

معها الموصوف، وفسرت بالكواسب من سباع البهائم والطير، وهو من قولهم: جرح فلان أهله خيرا إذا أكسبهم، وفلان جارحة أهله أي كاسبهم، وقيل: سميت جوارح لأنها تجرح الصيد غابا.
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما. والسدى. والضحاك - وهو المروي عن أئمة أهل البيت بزعم الشيعة - أنها الكلاب فقط * (مكلبين) * أي معلمين لها الصيد، والمكلب مؤدب الجوارح؛ ومضربها بالصيد، وهو مشتق من الكلب لهذا الحيوان المعروف لأن التأديب كثيرا ما يقع فيه؛ أو لأن كل سبع يسمى كلبا على ما قيل، فقد أحرج الحاكم في المستدرك - وقال: صحيح الإسناد - من حديث أبي نوفل قال: " كان لهب بن أبي لهب يسب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم سلط عليه كلبا من كلابك - أو كلبك - فخرج في قافلة يريد الشام فنزلوا منزلا فيه سباع فقال: إني أخاف دعوة محمد صلى الله عليه وسلم فجعلوا متاعه حوله وقعدوا يحرسونه فجاء أسد فانتزعه وذهب به "، ولا يخفى أن في شمول ذلك لسباع الطير نظرا، ولا دلالة في تسمية الأسد كلبا عليه.
وجوز أن يكون مشتقا من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة، يقال: هو كلب بكذا إذا كان ضاريا به، وانتصابه على الحالية من فاعل * (علمتم) *، وفائدتها المبالغة في التعليم لما أن المكلب لا يقع إلا على النحرير في علمه، وعن ابن عباس. وابن مسعود. والحسن رضي الله تعالى عنهم أنهم قرأوا * (مكلبين) * بالتخفيف من أكلب، وفعل وأفعل قد يستعملان بمعنى واحد * (تعلمونهن) * حال من ضمير * (مكلبين) * أو استئنافية إن لم تكن * (ما) * شرطية وإلا فهي معترضة، وجوز أن تكون حالا ثانية من ضمير * (علمتم) * ومنع ذلك أبو البقاء بأن العامل الواحد لا يعمل في حالين وفيه نظر، ولم يستحسن جعلها حالا من * (الجوارح) * للفصل بينهما.
* (مما علمكم الله) * من الحيل وطرق التعليم والتأديب، وذلك إما بالإلهام منه سبحانه، أو بالعقل الذي خلقه فيهم جل وعلا، وقيل: المراد مما عرفكم سبحانه أن تعلموه من اتباع الصيد بأن يسترسل بارسال صاحبه. وينزجر بزجره. وينصرف بدعائه. ويمسك عليه الصيد ولا يأكل منه.
ورجح بدلالته على أن المعلم ينبغي أن يكون مكلبا فقيها أيضا، و - من - أجلية، وقيل: تبعيضية أي بعض ما علمكم الله * (فكلوا مما أمسكن عليكم) * جملة متفرعة
على بيان حل صيد الجوارح المعلمة مبينة للمضاف المقدر ومشيرة إلى نتيجة التعليم وأثره، أو جواب للشرط، أو خبر للمبتدأ، و - من - تبعيضية إذ من الممسك ما لا يؤكل كالجلد والعظم وغير ذلك، وقيل: زائدة على رأي الأخفش؛ وخروج ما ذكر بديهي؛ و * (ما) * موصولة أو موصوفة، والعائد محذوف أي أمسكنه، وضمير المؤنث للجوارح، و * (عليكم) * متعلق بأمسكن، والاستعلاء مجازي؛ والتقييد بذلك لا خراج ما أمسكنه على أنفسهن، وعلامته أن يأكلن منه فلا يؤكل منه؛ وقد أشار إلى ذلك صلى الله عليه وسلم، روي أصحاب السنن عن عدي بن حاتم قال: " سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن صيد الكلب المعلم فقال عليه الصلاة والسلام: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله تعالى فكل مما أمسك عليك، فإن أكل منه فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه " وإلى هذا ذهب أكثر الفقهاء، وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه. والشعبي. وعكرمة، وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه. وأصحابه: إذا أكل الكلب من الصيد فهو غير معلم لا يؤكل صيده، ويؤكل صيد البازي ونحوه وإن أكل، لأن تأديب سباع الطير إلى حيث لا تؤكل متعذر، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج عبد بن حميد
63

عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: إذا أكل الكلب فلا تأكل وإذا أكل الصقر فكل، لأن الكلب تستطيع أن تضربه، والصقر لا تستطيع أن تضربه، وعليه إمام الحرمين من الشافعية؛ وقال مالك. والليث: يؤكل وإن أكل الكلب منه، وقد روي عن سلمان. وسعد بن أبي وقاص. وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم أنه إذا أكل الكلب ثلثيه وبقي ثلثه وقد ذكرت اسم الله تعالى عليه فكل * (واذكرا اسم الله عليه) * الضمير - لما علمتم - كما يدل عليه الخبر السابق، والمعنى سموا عليه عند إرساله؛ وروي ذلك عن ابن عباس. والحسن. والسدي، وقيل: - لما أمسكن - أي سموا عليه إذا أدركتم ذكاته، وقيل: للمصدر المفهوم من - كلوا - أي سموا الله تعالى على الأكل - وهو بعيد - وإن استظهره أبو حيان، والأمر للوجوب عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وللندب عند الشافعي، وهو على القول الأخير للندب بالاتفاق * (واتقوا الله) * في شأن محرماته، ومنها أكل صيد الجوارح الغير المعلمة * (إن الله سريع الحساب) * أي سريع إتيان حسابه، أو سريع إتمامه إذا شرع فيه، فقد جاء - أنه سبحانه يحاسب الخلق كلهم في نصف يوم - والمراد على التقديرين أنه جل شأنه يواخذكم على جميع الأفعال حقيرها وجليلها، وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة وتعليل الحكم، ولعل ذكر هذا إثر بيان حكم الصيد لحث متعاطية على التقوى لما أنه مظنة التهاون والغفلة عن طاعة الله تعالى فقد رأينا أكثر من يتعاطى ذلك يترك الصلاة ولا يبالي بالنجاسة، والمحتاجون للصيد - الحافظون لدينهم - أعز من الغراب الأبيض وهم مثابون فيه.
فقد أخرج الطبراني عن صفوان بن أمية " أن عرطفة بن نهيك التميمي قال: يا رسول الله إني وأهل بيتي مرزوقون من هذا الصيد ولنا فيه قسم وبركة وهو مشغلة عن ذكر الله تعالى، وعن الصلاة في جماعة، وبنا إليه حاجة أفتحله أم تحرمه؟ قال صلى الله عليه وسلم: أحله لأن الله تعالى قد أحله، نعم العمل والله تعالى أولى بالعذر قد كانت قبلى رسل كلهم يصطاد أو يطلب الصيد ويكفيك من الصلاة في جماعة إذا غبت عنها في طلب الرزق حبك الجماعة وأهلها وحبك ذكر الله تعالى وأهله وابتغ على نفسك وعيالك حلالها فإن ذلك جهاد في سبيل الله تعالى " واعلم أن عون الله تعالى في صالح التجار، واستدل بالآية على جواز تعليم الحيوان وضربه للمصلحة لأن التعليم قد يحتاج لذلك، وعلى إباحة اتخاذ الكلب للصيد وقيس به الحراسة، وعلى أنه لا يحل صيد الكلب المجوس، وإلى هذا ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقد روي عنه في المسلم يأخذ كلب الجوسي. أو بازه. أو صقره. أو عقابه فيرسله أنه قال: لا تأكله وإن سميت لأنه من تعليم المجوسي، وإنما قال الله تعالى: * (تعلمونهن مما علمكم الله) *..
* (اليوم أحل لكم الطيب‍ات وطعام الذين أوتوا الكت‍ابحل لكم وطعامكم حل لهم والمحصن‍ات من المؤمن‍ات والمحصن‍ات من الذين أوتوا الكت‍ابمن قبلكم إذآ ءاتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذىأخدان ومن يكفر بالإيم‍ان فقد حبط عمله وهو فى الاخرة من الخ‍اسرين) *.
* (اليوم أحل لكم الطيب‍ات) * إعادة هذا الحكم للتأكيد والتوطئة لما بعده، وسبب ذكر اليوم يعلم مما ذكر أمس.
وقال النيسابوري: فائدة الإعاذة أن يعلم بقاء هذا الحكم عند إكمال الدين واستقراره، والأول أولى. * (وطعام الذين أوتوا الكت‍ابحل لكم) * أي حلال، والمراد بالموصول اليهود والنصارى حتى نصارى العرب عندنا، وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه استثنى نصارى بني تغلب، وقال: ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر، وإلى ذلك ذهب ابن جبير، وحكاه الربيع عن الشافعي رضي الله تعالى عنه؛ والمراد بطعامهم ما يتناول ذبائحهم وغيرها من الأطعمة - كما روي عن ابن عباس. وأبي الدرداء. وإبراهيم. وقتادة. والسدى. والضحاك. ومجاهد رضوان الله عليهم أجمعين - وبه قال الجبائي. والبلخي. وغيرهم.
64

وفي " البخاري " عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد به الذبائح لأن غيرها لم يختلف في حله، وعليه أكثر المفسرين، وقيل: إنه مختص بالحبوب وما لا يحتاج فيه إلى التذكية وهو المروي عند الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه، وبه قال جماعة من الزيدية، فلا تحل ذبائحهم عند هؤلاء، وحكم الصابئين حكم أهل الكتاب عند الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، وقال صاحباه: الصابئة صنفان: صنف يقرأون الزبور ويعبدون الملائكة، وصنف لا يقرأون كتابا ويعبدون النجوم، فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب، وأما المجوس فقد سن بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم لما روى عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي من طريق الحسن بن محمد بن علي قال: " كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام فمن أسلم قبل ومن أصر ضربت عليه الجزية غير ناكحي نسائهم " وهو وإن كان مرسلا وفي إسناده قيس بن الربيع - وهو ضيعف - إلا أن إجماع أكثر المسلمين - كما قال البيهقي - عليه يؤكده، واختلف العلماء في حل ذبيحة اليهودي والنصراني إذا ذكر عليها اسم غير الله تعالى - كعزير وعيسى عليهما السلام - فقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: لا تحل وهو قول ربيعة، وذهب أكثر أهل العلم إلى أنها تحل - وهو قول الشعبي. وعطاء - قالا: فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون. وقال الحسن: إذا ذبح اليهودي والنصراني فذكر اسم غير الله تعالى وأنت تسمع يفلا تأكل، فإذا غاب عنك فكل فقد أحل الله تعالى لك.
* (وطعامكم حل لهم) * قال الزجاج وكثير من المتأخرين: إن هذا خطاب للمؤمنين، والمعنى لا جناح عليكم أيها المؤمنون أن تطعموا أهل الكتاب من طعامكم، فلا تصلح الآية دليلا لمن يرى أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة لأن التحليل حكم، وقد علقه سبحانه بهم فيها كما علق الحكم بالمؤمنين، واعترض على ظاهره بأنه إنما يتأتى لو كان الإطعام بدل الطعام، فإن زعموا أن الطعام يقوم مقام الإطعام توسعا ورد الفصل بين المصدر وصلته بخبر المبتدأ، وهو ممتنع فقد صرحوا بأنه لا يجوز إطعام زيد حسن للمساكين وضربك شديد زيدا فكيف جاز * (وطعامكم حل لهم) *؟ وعن بعضهم فإن قيل: ما الحكمة في هذه الجملة وهم كفار لا يحتاجون إلى بياننا؟ أجيب بأن المعنى انظروا إلى ما أحل لكم في شريعتكم فإن أطعموكموه فكلوه ولا تنظروا إلى ما كان محرما عليهم، فإن لحوم الإبل ونحوها كانت محرمة عليهم، ثم نسخ ذلك في شريعتنا، فالآية بيان لنا لا لهم أي اعلموا أن ما كان محرما عليهم مما هو حلال لكم قد أحل لكم أيضا ولذلك لو أطعمونا خنزيرا أو نحوه وقالوا: هو حلال في شريعتنا، وقد أباح الله تعالى لكم طعامنا كذبناهم وقلنا: إن الطعام الذي يحل لكم هو الذي يحل لنا لا غيره، فحاصل المعنى طعامهم حل لكم إذا كان الطعام الذي أحللته لكم، وهذا التفسير معنى قول السدي وغيره فافهمه فقد أشكل على بعض المعاصرين.
* (والمحصن‍ات من المؤمن‍ات) * عطف على * (الطيبات) *. أو مبتدأ والخبر محذوف لدلالة ما تقدم عليه أي حل لكم أيضا، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من المحصنات، أو من الضمير فيها على ما قاله أبو البقاء، والمراد بهن عند الحسن والشعبي وإبراهيم: العفائف، وعند مجاهد: الحرائر، واختاره أبو علي، وعند جماعة العفائف والحرائر، وتخصيصهن بالذكر للبعث على ما هو أولى لا لنفي ما عداهن، فإن نكاح الإماء المسلمات بشرطه صحيح بالاتفاق، وكذا نكاح غير العفائف منهن، وأما الإماء الكتابيات فهن كالمسلمات عند الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه.
* (والمحصن‍ات من الذين أوتوا الكت‍ابمن قبلكم) *
65

وإن كن حربيات كما هو الظاهر، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لا يجوز نكاح الحربيات، وخص الآية بالذميات، واحتج له بقوله تعالى: * (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) * (المجادلة: 22) والنكاح مقتض للمودة لقوله تعالى: * (خلق لكم من أنفسكم أزواجا... وجعل بينكم مودة ورحمة) * (الرزم: 21) قال الجصاص: وهذا عندنا إنما يدل على الكراهة، وأصحابنا يكرهون مناكحة أهل الحرب، وذهبت الإمامية إلى أنه لا يجوز عقد نكاح الدوام على الكتابيات لقوله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * (البقرة: 221) ولقوله سبحانه: * (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) * (الممتحنة: 10) وأولوا هذه الآية بأن المراد من المحصنات من الذين أوتوا الكتاب اللاتي أسلمن منهن، والمراد من المحصنات من المؤمنات اللاتي كن في الأصل مؤمنات، وذلك أن قوما كانوا يتحرجون من العقد على من أسلمت عن كفر فبين الله تعالى أنه لا حرج في ذلك، وإلى تفسير المحصنات بمن أسلمن ذهب ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أيضا، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر ويأباه النظم، ولذلك زعم بعضهم أن المراد هو الظاهر إلا أن الحل مخصوص بنكاح المتعة وملك اليمين، ووطؤهن حلال بكلا الوجهين عند الشيعة، وأنت تعلم أن هذا أدهى وأمر، ولذلك هرب بعضهم إلى دعوى أن الآية منسوخة باآيتين المتقدمتين آنفا احتجاجا بما رواه الجارود عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه في ذلك، ولا يصح ذلك من طريق أهل السنة، نعم أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات وحرم كل ذات دين غير الإسلام ". أخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن جابر بن عبد الله " أنه سئل عن نكاح المسلم اليهودية والنصرانية فقال: تزوجناهن زمن الفتح ونحن لا نكاد نجد المسلمات كثيرا فلما رجعنا طلقناهن. وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه سئل أيتزوج الرجل المرأة من أهل الكتاب؟ فقال: ما له ولأهل الكتاب وقد أكثر الله تعالى المسلمات فإن كان لا بد فاعلا فليعمد إليها حصانا غير مسافحة، قال الرجل: وما المسافحة؟ قال: هي التي إذا لمح الرجل إليها بعينه اتبعته ".
* (إذا ءاتيتموهن أجورهن) * أي مهورهن وهي عوض الاستمتاع بهن - كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره - وتقييد الحل بإيتائها لتأكيد وجوبها لا للاحتراز، ويجوز أن يراد بالإيتاء التعهد والالتزام مجازا، ولعله أقرب من الأول، وإن كان المآل واحدا، و * (إذا) * ظرف لحل المحذوف، ويحتمل أن تكون شرطية حذف جوابها أي إذا آتيتموهن أجورهن حللن لكم. * (محصنين) * أي أعفاء بالنكاح وهو منصوب على الحال من فاعل * (آتيتموهن) * وكذا قوله تعالى: * (غير مسافحين) *، وقيل: هو حال من ضمير * (محصنين) *، وقيل: صفة - لمحصنين - أي غير مجاهرين بالزنا، * (ولا متخذيأخدان) * أي ولا مسرين به، والخدن الصديق يقع على الذكر والأنثى، وقيل: الأول: نهى عن الزنا، والثاني: نهى عن مخالطتهن، و * (متخذي) * يحتمل أن يكون مجرورا عطفا على * (مسافحين) * وزيدت لا لتأكيد النفي المستفاد من * (غير) *، ويحتمل أن يكون منصوبا عطفا على * (غير مسافحين) * باعتبار أوجهه الثلاثة.
* (ومن يكفر بالايمان) * أي من ينكر المؤمن به، وهو شرائع الإسلام التي من جملتها ما بين هنا من الأحكام المتعلقة بالحل والحرمة، ويمتنع عن قبولها * (فقد حبط عمله) * أي الذي عمله واعتقد أنه قربة له إلى الله تعالى.
66

* (وهو في الآخرة من الخ‍اسرين) * أي الهالكين، والآية تذييل لقوله تعالى: * (اليوم أحل لكم الطيبات) * الخ تعظيما لشأن ما أحله الله تعالى وما حرمه، وتغليظا على من خالف ذلك، فحمل الإيمان على المعنى المصدري وتقدير مضاف - كما قيل أي بموجب الإيمان وهو الله تعالى - ليس بشيء، وإن أشعر به كلام مجاهد، وضمير الرافع مبتدأ، و * (من الخاسرين) * خبره، و * (في) * متعلقة بما تعلق به الخبر من الكون المطلق، وقيل: بمحذوف دل عليه المذكور أي خاسرين في الآخرة، وقيل: بالخاسرين على أن أل معرفة لا موصولة لأن ما بعدها لا يعمل فيما قبلها، وقيل: يغتفر في الظرف ما لا يغتفر في غيره كما في قوله:
ربيته حتى إذا ما تمعددا * كان جزائي بالعصا أن أجلدا
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: * (يا أيها الذين آمنوا) * بالإيمان العلمي * (أوفوا بالعقود) * أي بعزائم التكليف، وقال أبو الحسن الفارسي: أمر الله تعالى عباده بحفظ النيات في المعاملات، والرياضات في المحاسبات، والحراسة في الخطرات، والرعاية في المشاهدات، وقال بعضهم: * (أوفوا بالعقود) * عقد القلب بالمعرفة، وعقد اللسان بالثناء، وعقد الجوارح بالخضوع، وقيل: أول عقد عقد على المرء عقد الإجابة له سبحانه بالربوبية وعدم المخالفة بالرجوع إلى ما سواه، والعقد الثاني عقد تحمل الأمانة وترك الخيانة * (أحلت لكم بهيمة الأنعام) * أي أحل لكم جميع أنواع التمتعات والحظوظ بالنفوس السليمة التي لا يغلب عليها السبعية والشره * (إلا ما يتلى عليكم) * من التمتعات المنافية للفضيلة والعدالة * (غير محلي الصيد وأنتم حرم) * أي لا متمتعين بالحظوظ في حال تجردكم للسلوك وقصدكم كعبة الوصال وتوجهكم إلى حرم صفات الجمال والجلال * (إن الله يحكم ما يريد) * (المائدة: 1) فليرض السالك بحكمه ليستريح، ويهدي إلى سبيل رشده * (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله) * من المقامات والأحوال التي يعلم بها السالك إلى حرم ربه سبحانه من الصبر والتوكل والشكر ونحوها أي لا تخرجوا عن حكمها * (ولا الشهر الحرام) * وهو وقت الحج الحقيقي وهو وقت السلوك إلى ملك الملوك، وإحلاله بالخروج عن حكمه والاشتغال بما ينافيه * (ولا الهدي) * وهو النفس المستعدة المعدة للقربان عند الوصول إلى الحضرة، وإحلالها باستعمالها بما يصرفها، أو تكليفها بما يكون سبب مللها * (ولا القلائد) * وهي ما قلدته النفس من الأعمال الشرعية التي لا يتم الوصول إلا بها، وإحلالها بالتطفيف بها وعدم إيقاعها على الوجه الكامل * (ولا آمين البيت الحرام) * وهم السالكون، وإحلالهم بتنفيرهم وشغلهم بما يصدهم أو يكسلهم * (يبتغون فضلا من ربهم) * بتجليات الأفعال * (ورضوانا) * بتجليات الصفات، * (وإذا حللتم فاصطادوا) * أي إذا رجعتم إلى البقاء بعد الفناء فلا جناح عليكم في التمتع * (ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا) * أي لا يكسبنكم بغض القوى النفسانية بسبب صدها إياكم عن السلوك أن تعتدوا عليها، وتقهروها بالكلية فتتعطل أو تضعف عن منافعها، أو لا يكسبنكم بغض قوم من أهاليكم أو أصدقائكم بسبب صدهم إياكم أن تعتدوا عليهم بمقتهم وإضرارهم وإرادة الشر لهم * (وتعاونوا على البر والتقوى) * بتدبير تلك القوى وسياستها، أو بمراعاة الأهل والأصدقاء والإحسان إليهم * (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) * فإن ذلك يقطعكم عن الوصول، وعن سهل أن البر
الايمان (والتقوى) السنة (والإثم) الكفر (والعدوان) البدعة، وعن الصادق رضي الله تعالى عنه البر
67

الإيمان والتقوى الإخلاص والإثم الكفر والعدوان المعاصي، وقيل: البر ما توافق عليه العلماء من غير خلاف والتقوى مخالفة الهوى والإثم طلب الرخص * (والعدوان) * التخطي إلى الشبهات * (واتقوا الله) * في هذه الأمور * (إن الله شديد العقاب) * (المائدة: 2) فيعاقبكم بما هو أعلم * (حرمت عليكم الميتة) * وهي خمود الشهوة بالكلية فإنه رذيلة التفريط المنافية للعفة * (والدم) * وهو التمتع بهوى النفس * (ولحم الخنزير) * أي وسائر وجوه التمتعات بالحرص والشره وقلة الغيرة * (وما أهل لغير الله به) * من الأعمال التي فعلت رياءا وسمعة * (والمنخنقة) * وهي الأفعال الحسنة صورة مع كمون الهوى فيها، * (والموقوذة) * وهي الأفعال التي أجبر عليها الهوى (والمتردية) وهي الأفعال المائلة إلى التفريط والنقصان (والنطيحة) وهي الأفعال التي تصدر خوف الفضيحة وزجر المحتسب مثلا * (وما أكل السبع) * وهي الأفعال التي هي من ملائمات القوة الغضبية من الأنفة والحمية النفسانية * (إلا ما ذكيتم) * من الأفعال الحسنة التي تصدر بإرادة قلبية لم يمازجها ما يشينها * (وما ذبح على النصب) * وهو ما يفعله أبناء العادات لا لغرض عقلي أو شرعي * (وأن تستقسموا بالأزلام) * بأن تطلبوا السعادة والكمال بالحظوظ والطوالع وتتركوا العمل وتقولوا: لو كان مقدرا لنا لعملنا فإنه ربما كان القدر معلقا بالسعي * (ذلكم فسق) * خروج عن الدين الحق لأن فيه الأمر والنهي، والإتكال على المقدر بجعلهما عبثا * (اليوم) * وهو وقت حصول الكمال * (يئس الذين كفروا من دينكم) * بأن يصدوكم عن طريق الحق * (فلا تخشوهم) * فإنهم لا يستولون عليكم بعد * (واخشون) * لتنالوا ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر * (اليوم أكملت لكم دينكم) * ببيان ما بينت * (وأتممت عليكم نعمتي) * بذلك أو بالهداية إلي * (ورضيت لكم الإسلام) * أي الانقياد للانمحاء * (دينا فمن اضطر) * إلى تناول لذة في * (مخمصة) *، وهي الهيجان الشديد للنفس * (غير متجانف لإثم) * غير منحرف لرذيلة * (فإن الله غفور رحيم) * (المائدة: 3) فيستر ذلك ويرحم بمدد التوفيق. * (يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات) * من الحقائق التي تحصل لكم بعقولكم وقلوبكم وأرواحكم * (وما علمتم من الجوارح) * وهي الحواس الظاهرة والباطنة وسائر القوى والآلات البدنية * (مكلبين) * معلمين لها على اكتساب الفضائل * (تعلمونهن مما علمكم الله) * من علوم الأخلاق والشرائع * (فكلوا مما أمسكن عليكم) * مما يؤدي إلى الكمال * (واذكروا اسم الله عليه) * (المائدة: 4) بأن تقصدوا أنه أحد أسباب الوصول إليه عز شأنه لا أنه لذة نفسانية * (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) * وهو مقام الفرق والجمع * (وطعامكم حل لهم) * فلا عليكم أن تطعموهم منه بأن تضموا لأهل الفرق جمعا، ولأهل الجمع فرقا * (والمحصنات من المؤمنات) * وهي النفوس المهذبة الكاملة * (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن) * أي حقوقهن من الكمال اللائق بهن وألحقتموهن بالمحصنات من المؤمنات * (محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان) * بل قاصدين تكميلهن واستيلاء الآثار النافعة منهن لا مجرد الصحبة وإفاضة ماء المعارف من غير ثمرة * (ومن يكفر بالإيمان) * بأن ينكر الشرائع والحقائق ويمتنع من قبولها * (فقد حبط عمله) * بإنكاره الشرائع * (وهو في الآخرة من الخاسرين) * (المائدة: 5) بإنكاره الحقائق، والظاهر عدم التوزيع، والله تعالى أعلم بمراده، وهو الموفق للصواب..
* (ي‍اأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلواة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضىأو على سفر أو جآء أحد منكم من الغائط أو ل‍امستم النسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ول‍اكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) *.
* (يا أيها الذين ءامنوا) * شروع في بيان الشرائع المتعلقة بدينهم بعد بيان ما يتعلق بدنياهم، ووجه التقديم والتأخير ظاهر * (إذا قمتم إلى الصلواة) * أي إذا أردتم القيام إليها والاشتغال بها، فعبر عن إرادة الفعل بالفعل المسبب عنها مجازا، وفائدته الإيجاز والتنبيه
68

على أن من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة، وقيل: يجوز أن يكون المراد إذا قصدتم الصلاة، فعبر عن أحد لازمي الشيء بلازمه الآخر. وظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثا نظرا إلى عموم * (الذين آمنوا) * من غير اختصاص بالمحدثين، وإن لم يكن في الكلام دلالة على تكرار الفعل، وإنما ذلك من خارج على الصحيح، لكن الإجماع على خلاف ذلك، وقد أخرج مسلم وغيره " أنه صلى الله عليه وسلم صلى الخمس بوضوء واحد يوم الفتح فقال عمر رضي الله تعالى عنه: صنعت شيئا لم تكن تصنعه، فقال عليه الصلاة والسلام: عمدا فعلته يا عمر، " يعني بيانا للجواز، فاستحسن الجمهور كون الآية مقيدة، والمعنى: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين بقرينة دلالة الحال، ولأنه اشترط الحدث في البدل وهو التيمم فلو لم يكن له مدخل في الوضوء مع المدخلية في التيمم لم يكن البدل بدلا، وقوله تعالى: * (فلم تجدوا ماءا) * صريح في البدلية، وبعض المتأخرين أن في الكلام شرطا مقدرا أي: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا الخ إن كنتم محدثين لأنه يلائمه كل الملاءمة عطف * (وإن كنتم جنبا فاطهروا) * عليه، وقيل: الأمر للندب، ويعلم الوجوب للمحدث من السنة؛ واستبعد لإجماعهم على أن وجوب الوضوء مستفاد من هذه الآية مع الاحتياج إلى التخصيص بغير المحدثين من غير دليل، وأبعد منه أنه ندب بالنسبة إلى البعض، ووجوب بالنسبة إلى آخرين، وقيل: هو للوجوب، وكان الوضوء واجبا على كل قائم أول الأمر ثم نسخ، فقد أخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي والحاكم عن عبد الله بن حنظلة الغسيل " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر فلما شق ذلك عليه صلى الله عليه وسلم أمر بالسواك عند كل صلاة ووضع عنه الوضوء إلا من حدث " ولا يعارض ذلك خبر أن المائدة آخر القرآن نزولا الخ لأنه ليس في القوة مثله حتى قال العراقي: لم أجده مرفوعا، نعم الاستدلال على الوجوب على كل الأمة أولا، ثم نسخ الوجوب عنهم آخرا بما يدل على الوجوب عليه عليه الصلاة والسلام أولا؛ ونسخه عنه آخرا لا يخلو عن شيء كما لا يخفى. وأخرج مالك والشافعي وغيرهما عن زيد بن أسلم أن تفسير الآية إذا قمتم من المضاجع يعني النوم إلى الصلاة والأمر عليه ظاهر، ويحكى عن داود أنه أوجب الوضوء لكل صلاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده كانوا يتوضؤون كذلك، وكان علي كرم الله تعالى وجهه يتوضأ كذلك ويقرأ هذه الآية، وفيه أن حديث عمر رضي الله تعالى عنه يأبى استمرار النبي عليه الصلاة والسلام على ما ذكر، والخبر عن علي كرم الله تعالى وجهه لم يثبت، وفعل الخلفاء لا يدل على أكثر من الندب والاستحباب، وقد ورد " من توضأ على طهر كتب الله تعالى له عشر حسنات ".
* (فاغسلوا وجوهكم) * أي أسيلوا عليها الماء، وحد الإسالة أن يتقاطر الماء ولو قطرة عندهما، وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى لا يشترط التقاطر، وأما الدلك فليس من حقيقة الغسل خلافا لمالك فلا يتوقف حقيقته عليه، قيل: ومرجعهم فيه قول العرب: غسل المطر الأرض، وليس في ذلك إلا الإسالة، ومنع بأن وقعه من علو خصوصا مع الشدة والتكرر دلك أي دلك، وهم لا يقولونه إلا إذا نظفت الأرض، وهو إنما يكون بدلك، وبأنه غير مناسب للمعنى المعقول من شرعية الغسل، وهو تحسين هيئة الأعضاء الظاهرة للقيام بين يدي الرب سبحانه وتعالى الذي لا يتم بالنسبة إلى سائر
69

المتوضئين إلا بالدلك. وحكي عنه أن الدلك ليس واجبا لذاته، وإنما هو واجب لتحقق وصول الماء فلو تحقق لم يجب - كما قاله ابن (أمير) الحاج في " شرح المنية " - ومن الغريب أنه قال باشتراط الدلك في الغسل ولم يشترط السيلان فيما لو أمر المتوضىء الثلج على العضو فإنه قال: يكفي ذلك وإن لم يذب الثلج ويسيل، ووافقه عليه الأوزاعي مع أن ذلك لا يسمى غسلا أصلا ويبعد قيامه مقامه. وحد الوجه عندنا طولا من مبدأ سطح الجبهة إلى أسفل اللحيين، وعرضا ما بين شحمتي الأذن لأن المواجهة تقع بهذه الجملة وهو مشتق منها، واشتقاق الثلاثي من المزيد - إذا كان المزيد أشهر في المعنى الذي يشتركان فيه - شائع، وقال العلامة أكمل الدين: إن ما ذكروا من منع اشتقاق الثلاثي من المزيد إنما هو في الاشتقاق الصغير، وأما في الاشتقاق الكبير وهو أن يكون بين كلمتين تناسب في اللفظ والمعنى فهو جائز، ويعطى ظاهر التحديد وجوب إدخال البياض المعترض بين العذار والأذن بعد نباته، وهو قولهما خلافا لأبي يوسف، ويعطى أيضا وجوب الإسالة على شعر اللحية، وقد اختلفت الروايات فيه عن الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه وغيره، فعنه يجب مسح ربعها، وعنه مسح ما يلاقي البشرة وعنه لا يتعلق به شيء، وهو رواية عن أبي يوسف، وعن أبي يوسف يجب استيعابها، وعن محمد أنه يجب غسل الكل، قيل: - وهو الأصح - وفي " الفتاوى الظهيرية "، وعليه الفتوى لأنه قام مقام البشرة فتحول الفرض إليه كالحاجب. وقال في " البدائع " عن ابن شجاع: إنهم رجعوا عما سوى هذا. وكل هذا في الكثة، أما الخفيفة التي ترى بشرتها فيجب إيصال الماء إلى ما تحتها ولو أمر الماء على شعر الذقن ثم حلقه لا يجب غسل الذقن، وفي البقال: لو قص الشارب لا يجب تخليله، وإن طال وجب تخليله، وإيصال الماء إلى الشفتين وكأن وجهه أن قطعه مسنون فلا يعتبر قيامه في سقوط ما تحته بخلاف اللحية فإن إعفاءها هو المسنون، وعد شيخ الإسلام المرغيناني في " التجنيس " إيصال الماء إلى منابت شعر الحاجبين والشارب من الآداب من غير تفصيل، وأما الشفة فقيل: تبع للفم، وقال أبو جعفر: ما انكتم عند انضمامه تبع له وما ظهر فللوجه، وروي هذا التحديد عن ابن عباس، وابن عمر والحسن وقتادة والزهري رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وغيرهم، وقيل: الوجه كل ما دون منابت الشعر من الرأس إلى منقطع الذقن طولا، ومن الأذن إلى الأذن عرضا ما ظهر من ذلك لعين الناظر، وما بطن كداخل الأنف والفم، وكذا ما أقبل من الأذنين، وروي عن أنس بن مالك وأم سلمة وعمار ومجاهد وابن جبير وجماعة فأوجبوا غسل ذلك كله ولم أر لهم نصا في باطن العين، والظاهر عدم وجوب غسله عندهم لمزيد الحرج وتوقع الضرر، ولهذا صرح البعض بعدم سنية الغسل أيضا، بل قال بعضهم: يكره، نعم يخطر في الذهن رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يوجب غسل باطن العين في الغسل ويفعله، وأنه كان سببا في كف بصره رضي الله تعالى عنه.
* (وأيديكم إلى المرافق) * جمع مرفق بكسر ففتح أفصح من عكسه، وهو موصل الذراع في العضد، ولعل وجه تسميته بذلك أنه يرتفق به أي يتكأ عليه من اليد، وجمهور الفقهاء على دخولها. وحكي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال: لا أعلم خلافا في أن المرافق يجب غسلها، ولذلك قيل * (إلى) * بمعنى مع كما في قوله تعالى: * (ويزدكم قوة إلى قوتكم) * (هود: 52) و * (من أنصاري إلى الله) * (آل عمران: 52)، وقيل: هي إنما تفيد معنى الغاية،
70

ومن الأصول المقررة أن ما بعد الغاية إن دخل في المسمى لولا ذكرها دخل وإلا فلا، ولا شك أن المرافق داخلة في المسمى فتدخل، وما أورد على هذا الأصل من أنه لو حلف لا يكلم فلانا إلى غد لا يدخل مع أنه يدخل لو تركت الغاية غير قادح فيه لأن الكلام هنا في مقتضى اللغة، والأيمان تبنى على العرف، وجاز أن يخالف العرف اللغة.
وذكر بعض المحققين أن * (إلى) * جاءت وما بعدها داخل في الحكم فيما قبلها، وجاءت وما بعدها غير داخل، فمنهم من حكم بالاشتراك، ومنهم من حكم بظهور الدخول، ومنهم من حكم بظهور انتفاء الدخول وعليه النحويون، ودخول المرافق ثابت بالسنة، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه أدار الماء عليها. ونقل أصحابنا حكاية عدم دخولها عن زفر، واستدل بتعارض الأشباه وبأن في الدخول في المسمى اشتباها أيضا فلا تدخل بالشك، وحديث الإدارة لا يستلزم الافتراض لجواز كونه على وجه السنة كالزيادة في مسح الرأس إلى أن يستوعبه، وأجيب بأنه لا تعارض مع غلبة الاستعمال في الأصل المقرر، وأيضا على ما قال يثبت الإجمال في دخولها فيكون اقتصاره صلى الله عليه وسلم على المرفق وقع بيانا للمراد من اليد، فيتعين دخول ما أدخله - واغسل يدك للأكل - من إطلاق اسم الكل على البعض اعتمادا على القرينة.
وقال العلامة ابن حجر: دل على دخولها الإتباع والإجماع، بل والآية أيضا بجعل * (إلى) * غاية للترك المقدر بناءا على أن اليد حقيقة إلى المنكب كما هو الأشهر لغة، وكأنه عنى بالإجماع إجماع أهل الصدر الأول وإلا فلا شك في وجود المخالف بعد، وعدوا داود - وكذا الإمام مالك رضي الله تعالى عنه من ذلك - ولي في عد الأخير تردد، فقد نقل ابن هبيرة إجماع الأئمة الأربعة على فرضية غسل اليدين مع المرفقين، قيل: ويترتب على هذا الخلاف أن فاقد اليد من المرفق يجب عليه إمرار الماء على طرف العظم عند القائل بالدخول، ولا يجب عند المخالف لأن محل التكليف لم يبق أصلا كما لو فقد اليد مما فوق المرفق، نعم يندب له غسل ما بقي من العضد محافظة على التحجيل.
هذا واستيعاب غسل المأمور به من الأيدي فرض كما هو الظاهر من الآية، فلو لزق بأصل ظفره طين يابس أو نحوه، أو بقي قدر رأس إبرة من موضع الغسل لم يجز ولا يجب نزع الخاتم وتحريكه إذا كان واسعا، والمختار في الضيق الوجوب، وفي " الجامع الأصغر " إن كان وافر الأظفار وفيها درن أو طين أو عجين جاز في القروي والمدني على الصحيح المفتى به - كما قال الدبوسي - وقيل: يجب إيصال الماء إلى ما تحتها إلا الدرن لتولده منه. وقال الصفار: يجب الإيصال مطلقا إن طال الظفر، واستحسنه ابن الهمام لأن الغسل وإن كان مقصورا على الظواهر لكن إذا طال الظفر يصير بمنزلة عروض الحائل كقطرة شمعة، وفي " النوازل " يجب في المصري لا القروي لأن دسومة أظفار المصري مانعة من وصول الماء بخلاف القروي، ولو طالت أظفاره حتى خرجت عن رؤوس الأصابع وجب غسلها قولا واحدا، ولو خلق له يدان على المنكب فالتامة هي الأصلية يجب غسلها، والأخرى زائدة فما حاذى منها محل الفرض وجب غسله وما لا فلا، ومن الغريب أن بعضا من الناس أوجب البداية في غسل الأيدي من المرافق، فلو غسل من رؤوس الأصابع لم يصح وضوؤه. وقد حكى ذلك الطبرسي في " مجمع البيان "، والظاهر أن هذا البعض من الشيعة، ولا أجد لهم في ذلك متمسكا.
* (وامسحوا برءوسكم) *، قيل: الباء زائدة لتعدي الفعل بنفسه؛ وقيل: للتبعيض، وقد نقل ابن مالك عن أبي علي في " التذكرة " أنها تجىء لذلك، وأنشد:
71

شربن بماء البحر ثم ترفعت * متى لجج خضر لهن نئيج
وقيل: إن العرف نقلها إلى التبعيض في المتعدي، والمفروض في المسح عندنا مقدار الناصية، وهو ربع الرأس من أي جانب كان فوق الأذنين لما روى مسلم عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته؛ والكتاب مجمل في حق الكمية فالتحق بيانا له، والشافعي رضي الله تعالى عنه يمنع ذلك، ويقول: هو مطلق لا مجمل فإنه لم يقصد إلى كمية مخصوصة أجمل فيها، بل إلى الإطلاق فيسقط عنده بأدنى ما يطلق عليه مسح الرأس، على أن في حديث المغيرة روايتان: على ناصيته. وبناصيته، والأولى لا تقتضي استيعاب الناصية لجواز كون ذكرها لدفع توهم أنه مسح على الفود، أو القذال، فلا يدل على مطلوبكم ولو دل مثل هذا على الاستيعاب لدل - مسح على الخفين - عليه أيضا، ولا قائل به هناك عندنا وعندكم، وإذا رجعنا إلى الثانية كان محل النزاع في الباء كالآية، ويعود التبعيض، ومن هنا قال بعضهم: الأولى أن يستدل برواية أبي داود عن أنس رضي الله تعالى عنه: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه " وسكت عليه أبو داود فهو حجة، وظاهره استيعاب تمام المقدم، وتمام مقدم الرأس هو الربع المسمى بالناصية، ومثله ما رواه البيهقي عن عطاء " أنه صلى الله عليه وسلم توضأ فحسر العمامة ومسح مقدم رأسه، أو قال: ناصيته " فإنه حجة وإن كان مرسلا عندنا، وكيف وقد اعتضد بالمتصل؟ بقي شيء وهو أن ثبوت الفعل كذلك لا يستلزم نفي جواز الأقل فلا بد من ضم الملازمة القائلة لو جاز الأقل لفعله مرة تعليما للجواز، وقد يمنع بأن الجواز إذا كان مستفادا من غير الفعل لم يحتج إليه فيه، وهنا كذلك نظرا إلى الآية فإن الباء فيها للتبعيض وهو يفيد جواز الأقل فيرجع البحث إلى دلالة الآية، فيقال حينئذ: إن الباء للإلصاق وهو المعنى المجمع عليه لها بخلاف التبعيض، فإن الكثير من محققي أئمة العربية ينفون كونه معنى مستقلا للباء بخلاف ما إذا كان في ضمن الإلصاق كما فيما نحن فيه، فإن إلصاق الآلة بالرأس الذي هو المطلوب لا يستوعب الرأس، فإذا ألصق فلم يستوعب خرج عن العهدة بذلك البعض، وحينئذ فتعين الربع لأن اليد إنما تستوعب قدره غالبا
فلزم. وفي بعض الروايات إن المفروض مقدار ثلاث أصابع، وصححها بعض المشايخ نظرا إلى أن الواجب إلصاق اليد والأصابع أصلها، ولذا يلزم كمال دية اليد بقطعها والثلاث أكثرها، وللأكثر حكم الكل، ولا يخفى ما فيه، وإن قيل: إنه ظاهر الرواية.
وذهب الإمام مالك رضي الله تعالى عنه والإمام أحمد في أظهر الروايات عنه إلى أنه يجب استيعاب الرأس بالمسح، والإمامية إلى ما ذهب إليه الشافعي رضي الله تعالى عنه، ولو أصاب المطر قدر الفرض سقط عندنا، ولا يشترط إصابته باليد لأن الآلة لم تقصد إلا للإيصال إلى المحل فحيث وصل استغنى عن استعمالها، ولو مسح ببل في يده لم يأخذه من عضو آخر جاز، وإن أخذه لا يجوز، ولو مسح بإصبع واحدة مدها قدر الفرض، وكذا بإصبعين - على ما قيل - لا يجوز خلافا لزفر، وعللوه بأن البلة صارت مستعملة وهو على إشكاله بأن الماء لا يصير مستعملا قبل الانفصال ليستلزم عدم جواز مد الثلاث على القول بأنه لا يجزىء أقل من الربع، والمشهور في ذلك الجواز، واختار شمس الأئمة أن المنع في مد الأصبع والاثنتين غير معلل باستعمال البلة بدليل أنه لو مسح بإصبعين في التيمم لا يجوز مع عدم شيء يصير مستعملا خصوصا إذا تيمم على الحجر الصلد، بل الوجه عنده أنا مأمورون بالمسح باليد والإصبعان منها لا تسميان يدا بخلاف الثلاث لأنها أكثر ما هو الأصل فيها، وهو حسن - كما قال ابن الهمام -
72

لكنه يقتضي تعين الإصابة باليد وهو منتف بمسألة المطر، وقد يدفع بأن المراد تعينها أو ما يقول مقامها من الآلات عند قصد الإسقاط بالفعل اختيارا غير أن لازمه كون تلك الآلة التي هي غير اليد مثلا قدر ثلاث أصابع من اليد حتى لو كان عودا مثلا لا يبلغ ذلك القدر قلنا: بعدم جواز مده، وقد يقال: عدم الجواز بالإصبع بناءا على أن البلة تتلاشى وتفرغ قبل بلوغ قدر الفرض بخلاف الإصبعين، فإن الماء يتحمل بين الإصبعين المضمومتين فضل زيادة تحتمل الامتداد إلى قدر الفرض وهذا مشاهد أو مظنون، فوجب إثبات الحكم باعتباره، فعلى اعتبار صحة الاكتفاء بقدر ثلاث أصابع يجوز مد الإصبعين لأن ما بينهما من الماء يمتد قدر إصبع ثالثة، وعلى اعتبار توقف الإجزاء على الربع لا يجوز لأن ما بينهما لا يغلب على الظن إيعابه الربع إلا أن هذا يعكر عليه عدم جواز التيمم بإصبعين فلو أدخل رأسه إناء ماء ناويا للمسح جاز، والماء طهور عند أبي يوسف لأنه لا يعطى له حكم الاستعمال إلا بعد الانفصال والذي لاقى الرأس من أجزائه لصق به فطهره، وغيره لم يلاقه فلا يستعمل.
واتفقت الأئمة على أن المسح على العمامة غير مجزىء إلا أحمد فإنه أجاز ذلك بشرط أن يكون من العمامة شيء تحت الحنك رواية واحدة، وهل يشترط أن يكون قد لبسها على طهارة؟ فيه روايتان، واختلفت الرواية عنه أيضا في مسح المرأة على قناعها المستدير تحت حلقها، فروي عنه جواز المسح كعمامة الرجل ذات الحنك وروي عنه المنع، ونقل عن الأوزاعي والثوري جواز المسح على العمامة، ولم أر حكاية الاشتراط ولا عدمه عنهما، وقد ذكرنا دليل الجواز في كتاب الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية ".
* (وأرجلكم إلى الكعبين) * وهما العظمان الناتئان من الجانبين عند مفصل الساق والقدم، ومنه الكاعب - وهي الجارية التي تبدو ثديها للنهود - وروى هشام عن محمد أن الكعب هو المفصل الذي في وسط القدم عند معترك الشراك لأن الكعب اسم للمفصل، ومنه كعوب الرمح والذي في وسط القدم مفصل دون ما على الساق، وهذا صحيح في المحرم إذا لم يجد نعلين فإنه يقطع خفيه أسفل من الكعبين، ولعل ذلك مراد محمد، فأما في الطهارة فلا شك أنه ما ذكرنا، وفي الأرجل ثلاث قراآت: واحدة شاذة واثنتان متواترتان؛ أما الشاذة فالرفع - وهي قراءة الحسن - وأما المتواترتان فالنصب، وهي قراءة نافع وابن عامر وحفص والكسائي ويعقوب والجر وهي قراءة ابن كثير وحمزة وأبي عمرو وعاصم، وفي رواية أبي بكر عنه، ومن هنا اختلف الناس في غسل الرجلين ومسحهما، قال الإمام الرازي: " فنقل القفال في " تفسيره " عن ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي وأبي جعفر محمد بن علي الباقر رضي الله تعالى عنهم أن الواجب فيها المسح وهو مذهب الإمامية (من الشيعة)، وقال جمهور الفقهاء والمفسرين: فرضهما الغسل، وقال داود: يجب الجمع بينهما، وهو قول الناصر للحق من الزيدية، وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري: المكلف مخير بين المسح والغسل. وحجة القائلين بالمسح قراءة الجر فإنها تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس فكما وجب المسح فيها وجب فيها والقول إنه جر بالجوار كما في قولهم: هذا جحر ضب خرب، وقوله: (كان ثبيرا في عرانين وبله) * كبير أناس في بجاد مزمل
باطل من وجوه: أولها: أن الكسر على الجوار معدود في اللحن الذي قد يتحمل لأجل الضرورة في الشعر، وكلام الله تعالى يجب تنزيهه عنه، وثانيها: أن الكسر إنما يصار إليه حيث حصل الأمن من الالتباس كما فيما استشهدوا به،
73

وفي الآية الأمن من الالتباس غير حاصل، وثالثها: أن (الجر) بالجوار إنما يكون بدون حرف العطف، وأما مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب، وردوا قراءة النصب إلى قراءة الجر فقالوا: إنها تقتضي المسح أيضا لأن العطف حينئذ على محل الرؤوس لقربه فيتشاركان في الحكم؛ وهذا مذهب مشهور للنحاة، ثم قالوا (ولا يجوز دفع) ذلك بالأخبار لأنها بأسرها من باب الآحاد، ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز، ثم قال الإمام: واعلم أنه لا يمكن الجواب عن هذا إلا من وجهين: الأول: أن الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل، والغسل مشتمل على المسح ولا ينعكس، فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط، فوجب المصير إليه، وعلى هذا الوجه يجب القطع بأن غسل الأرجل يقوم مقام مسحها، والثاني: أن فرض الأرجل محدود إلى الكعبين، والتحديد إنما جاء في الغسل لا في المسح، والقوم أجابوا عنه من وجهين: الأول: أن الكعب عبارة عن العظم الذي تحت مفصل القدم، وعلى هذا التقدير يجب المسح على ظهر القدمين، والثاني: أنهم سلموا أن الكعبين عبارة عن العظمين الناتئين من جانبي الساق، إلا أنهم التزموا أنه يجب أن يمسح ظهور القدمين إلى هذين الموضعين وحينئذ لا يبقى هذا السؤال انتهى ".
ولايخفى أن بحث الغسل والمسح مما كثر فيه الخصام، وطالما زلت فيه أقدام، وما ذكره الإمام رحمه الله تعالى يدل على أنه راجل في هذا الميدان، وضالع لا يطيق العروج إلى شاوي ضليع تحقيق تبتهج به الخواطر والأذهان، فلنبسط الكلام في تحقيق ذلك رغما لأنوف الشيعة السالكين من السبل كل سبيل حالك، فنقول وبالله تعالى
التوفيق، وبيده أزمة التحقيق: إن القراءتين متواترتان بإجماع الفريقين بل بإطباق أهل الإسلام كلهم، ومن القواعد الأصولية عند الطائفتين أن القراءتين المتواترتين إذا تعارضتا في آية واحدة فلهما حكم آيتين، فلا بد لنا أن نسعى ونجتهد في تطبيقهما أولا مهما أمكن لأن الأصل في الدلائل الإعمال دون الإهمال كما تقرر عند أهل الأصول؛ ثم نطلب بعد ذلك الترجيح بينهما، ثم إذا لم يتيسر لنا الترجيح بينهما نتركهما ونتوجه إلى الدلائل الأخر من السنة، وقد ذكر الأصوليون أن الآيات إذا تعارضت بحيث لا يمكن التوفيق، ثم الترجيح بينهما يرجع إلى السنة فإنها لما لم يمكن لنا العمل بها صارت معدومة في حقنا من حيث العمل وإن تعارضت السنة كذلك نرجع إلى أقوال الصحابة وأهل البيت، أو نرجع إلى القياس عند القائلين بأن قياس المجتهد يعمل به عند التعارض، فلما تأملنا في هاتين القراءتين في الآية وجدنا التطبيق بينهما بقواعدنا من وجهين: الأول: أن يحمل المسح على الغسل كما صرح به أبو زيد الأنصاري وغيره من أهل اللغة، فيقال للرجل إذا توضأ: تمسح ويقال: مسح الله تعالى ما بك أي أزال عنك المرض، ومسح الأرض المطر إذا غسلها فإذا عطفت الأرجل على الرؤوس في قراءة الجر لا يتعين كونها ممسوحة بالمعنى الذي يدعيه الشيعة. واعترض ذلك من وجوه: أولها: أن فائدة اللفظين في اللغة والشرع مختلفة، وقد فرق الله تعالى بين الأعضاء المغسولة والممسوحة، فكيف يكون معنى الغسل والمسح واحدا؟! وثانيها: أن الأرجل إذا كانت معطوفة على الرؤوس - وكان الفرض في الرؤوس المسح الذي ليس بغسل بلا خلاف - وجب أن يكون حكم الأرجل كذلك، وإلا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، وثالثها: أنه لو كان المسح بمعنى الغسل يسقط الاستدلال على الغسل بخبر " أنه صلى الله عليه وسلم غسل رجليه " لأنه على هذا يمكن أن يكون مسحها فسمي المسح غسلا. ورابعها: أن استشهاد أبي زيد بقولهم: تمسحت للصلاة لا يجدي نفعا لاحتمال أنهم لما أرادوا أن يخبروا
74

عن الطهور بلفظ موجز، ولم يجز أن يقولوا: تغسلت للصلاة لأن ذلك يوهم الغسل، قالوا بدله: تمسحت لأن المغسول من الأعضاء ممسوح أيضا، فتجوزوا بذلك تعويلا على فهم المراد، وذلك لا يقتضي أن يكونوا جعلوا المسح من أسماء الغسل، وأجيب عن الأول: بأنا لا ننكر اختلاف فائدة اللفظين لغة وشرعا ولا تفرقة الله تعالى بين المغسول والممسوح من الأعضاء، لكنا ندعي أن حمل المسح على الغسل في بعض المواضع جائز وليس في اللغة والشرع ما يأباه، على أنه قد ورد ذلك في كلامهم، وعن الثاني: بأنا نقدر لفظ امسحوا قبل أرجلكم أيضا وإذا تعدد اللفظ فلا بأس بأن يتعدى المعنى ولا محذور فيه، فقد نقل شارح " زبدة الأصول " من الإمامية أن هذا القسم من الجمع بين الحقيقة والمجاز جائز بحيث يكون ذلك اللفظ في المعطوف عليه بالمعنى الحقيقي وفي المعطوف بالمعنى المجازي، وقالوا في آية * (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل) * (النساء: 43): إن الصلاة في المعطوف عليه بالمعنى الحقيقي الشرعي - وهو الأركان المخصوصة - وفي المعطوف بالمعنى المجازي - وهو المسجد - فإنه محل الصلاة، وادعى ذلك الشارح أن هذا نوع من الاستخدام، وبذلك فسر الآية جمع من مفسري الإمامية وفقهائهم، وعليه فيكون هذا العطف من عطف الجمل في التحقيق، ويكون المسح المتعلق بالرؤوس بالمعنى الحقيقي، والمسح المتعلق بالأرجل بالمعنى المجازي، على أن من أصول الإمامية - كالشافعية - جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز، وكذا استعمال المشترك في معنييه، ويحتمل هنا إضمار الجار تبعا للفعل فتدبر؛ ولا يشكل أن في الآية حينئذ إبهاما؛ ويبعد وقوع ذلك في التنزيل لأنا نقول: إن الآية نزلت بعد ما فرض الوضوء وعلمه عليه الصلاة والسلام روح القدس إياه في ابتداء البعثة بسنين فلا بأس أن يستعمل فيها هذا القسم من الإبهام، فإن المخاطبين كانوا عارفين بكيفية الوضوء ولم تتوقف معرفتهم بها على الاستنباط من الآية، ولم تنزل الآية لتعليمهم بل سوقها لإبدال التيمم من الوضوء والغسل في الظاهر، وذكر الوضوء فوق التيمم للتمهيد؛ والغالب فيما يذكر لذلك عدم البيان المشبع، وعن الثالث: بأن حمل المسح على الغسل لداع لا يستلزم حمل الغسل على المسح بغير داع، فكيف يسقط الاستدلال؟! سبحان الله تعالى هذا هو العجب العجاب. وعن الرابع: بأنا لا نسلم أن العدول عن تغسلت لإيهامه الغسل فإن تمسحت يوهم ذلك أيضا بناءا على ما قاله من أن المغسول من الأعضاء ممسوح أيضا سلمنا ذلك لكنا لم نقتصر في الاستشهاد على ذلك، ويكفي - مسح الأرض المطر - في الفرض.
والوجه الثاني: أن يبقى المسح على الظاهر، وتجعل الأرجل على تلك القراءة معطوفة على المغسولات كما في قراءة النصب، والجر للمجاورة، واعترض أيضا من وجوه، الأول والثاني والثالث: ما ذكره الإمام من عد الجر بالجوار لحنا وأنه إنما يصار إليه عند أمن الالتباس ولا أمن فيما نحن فيه، وكونه إنما يكون بدون حرف العطف، والرابع: أن في العطف على المغسولات سواء كان المعطوف منصوب اللفظ أو مجروره الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة أجنبية ليست اعتراضية وهو غير جائز عند النحاة، على أن الكلام حينئذ من قبيل ضربت زيدا، وأكرمت خالدا وبكرا بجعل بكر عطفا على زيد، أو إرادة أنه مضروب لا مكرم، وهو مستهجن جدا تنفر عنه الطباع ولا تقبله الأسماع، فكيف يجنح إليه أو يحمل كلام الله تعالى عليه؟! وأجيب عن الأول: بأن إمام النحاة الأخفش وأبا البقاء وسائر مهرة العربية وأئمتها جوزوا جر الجوار، وقالوا بوقوعه في الفصيح كما ستسمعه إن شاء الله تعالى، ولم ينكره إلا الزجاج - وإنكاره مع
75

ثبوته في كلامهم - يدل على قصور تتبعه، ومن هنا قالوا: المثبت مقدم على النافي، وعن الثاني: بأنا لا نسلم أنه إنما يصار إليه عند أمن الالتباس ولا نقل في ذلك عن النحاة في الكتب المعتمدة، نعم قال بعضهم: شرط حسنه عدم الالتباس مع تضمن نكتة وهو هنا كذلك لأن الغاية دلت على أن هذا المجرور ليس بممسوح إذ المسح لم يوجد مغيا في كلامهم، ولذا لم يغي في آية التيمم، وإنما يغيا الغسل، ولذا غيي في الآية حين احتيج إليه فلا يرد أنه لم يغي غسل الوجه لظهور الأمر فيه، ولا قول المرتضى: إنه لا مانع من تغييه، والنكتة فيه الإشارة إلى تخفيف الغسل حتى كأنه مسح، وعن الثالث: بأنهم صرحوا بوقوعه في النعت كما سبق من الأمثلة، وقوله تعالى: * (عذاب يوم محيط) * (هود: 84) بجر * (محيط) * مع أنه نعت للعذاب، وفي التوكيد كقوله: ألا بلغ ذوي الزوجات (كلهم) * أن ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب
بجر - كلهم - على ما حكاه الفراء، وفي العطف كقوله تعالى: * (وحور عين * كأمثال اللؤلؤ المكنون) * (الواقعة: 22، 23) على قراءة حمزة والكسائي. وفي
رواية المفضل عن عاصم فإنه مجرور بجوار أكواب وأباريق ومعطوف على * (ولدان مخلدون) * (الواقعة: 17)، وقول النابغة: لم يبق إلا أسير غير منفلت * (وموثق) في حبال القد مجنوب
بجر - موثق - مع أن العطف على أسير، وقد عقد النحاة لذلك بابا على حدة لكثرته ولما فيه من المشاكلة؛ وقد كثر في الفصيح حتى تعدوا عن اعتباره في الإعراب إلى التثنية والتأنيث وغير ذلك، وكلام ابن الحاجب في هذا المقام لا يعبأ به، وعن الرابع: بأن لزوم الفصل بالجملة إنما يخل إذا لم تكن جملة * (وامسحوا برءوسكم) * متعلقة بجملة المغسولات فإن كان معناها. وامسحوا الأيدي بعد الغسل برؤوسكم فلا إخلال - كما هو مذهب كثير من أهل السنة - من جواز المسح ببقية ماء الغسل، واليد المبلولة من المغسولات، ومع ذلك لم يذهب أحد من أئمة العربية إلى امتناع الفصل بين الجملتين المتعاطفتين، أو معطوف ومعطوف عليه، بل صرح الأئمة بالجواز، بل نقل أبو البقاء إجماع النحويين على ذلك، نعم توسط الأجنبي في كلام البلغاء يكون لنكتة وهي هنا ما أشرنا إليه، أو الإيماء إلى الترتيب، وكون الآية من قبيل ما ذكر من المثال في حيز المنع، وربما تكون كذلك لو كان النظم - وامسحوا رؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين - والواقع ليس كذلك.
وقد ذكر بعض أهل السنة أيضا وجها آخر في التطبيق، وهو أن قراءة الجر محمولة على حالة التخفف، وقراءة النصب على حال دونه، واعترض بأن الماسح على الخف ليس ماسحا على الرجل حقيقة ولا حكما، لأن الخف اعتبر مانعا سراية الحدث إلى القدم فهي طاهرة، وما حل بالخف أزيل بالمسح فهو على الخف حقيقة وحكما، وأيضا المسح على الخف لا يجب إلى الكعبين اتفاقا، وأجيب بأنه يجوز أن يكون لبيان المحل الذي يجزىء عليه المسح لأنه لا يجزىء على ساقه، نعم هذا الوجه لا يخلو عن بعد، والقلب لا يميل إليه، وإن ادعى الجلال السيوطي أنه أحسن ما قيل في الآية، وللإمامية في تطبيق القراءتين وجهان أيضا - لكن الفرق بينهما وبين ما سبق من الوجهين اللذين عند أهل السنة - أن قراءة النصب التي هي ظاهرة في الغسل عند أهل السنة، وقراءة الجر تعاد إليها، وعند الإمامية بالعكس، الوجه الأول: أن تعطف الأرجل في قراءة النصب على محل * (برؤوسكم) * فيكون حكم الرؤوس والأرجل كليهما مسحا، الوجه الثاني: أن الواو فيه بمعنى مع من قبيل استوى الماء والخشبة، وفي كلا الوجهين بحث لأهل السنة من وجوه: الأول: أن العطف على المحل خلاف الظاهر بإجماع الفريقين، والظاهر العطف على المغسولات
76

والعدول عن الظاهر إلى خلافه بلا دليل لا يجوز وإن استدلوا بقراءة الجر، قلنا: إنها لا تصلح دليلا لما علمت، والثاني إنه لو عطف * (وأرجلكم) * على محل * (برؤوسكم) * جاز أن نفهم منه معنى الغسل، إذ من القواعد المقررة في العلوم العربية أنه إذا اجتمع فعلان متغايران في المعنى - ويكون لكل منهما متعلق - جاز حذف أحدهما وعطف متعلق المحذوف على متعلق المذكور كأنه متعلقه، ومن ذلك قوله: يا ليت بعلك قد غدا * متقلدا سيفا ورمحا
فإن المراد وحاملا رمحا، ومنه قوله: إذا ما الغانيات برزن يوما * وزججن الحواجب والعيونا
فإنه أراد وكحلن العيونا، وقوله: تراه كان مولاه يجدع أنفه * وعينيه إن مولاه كان له وفر
أي يفقىء عينيه إلى ما لا يحصى كثرة، والثالث: أن جعل الواو بمعنى مع بدون قرينة مما لا يكاد يجوز، ولا قرينة ههنا على أنه يلزمه كما قيل: فعل المسحين معا بالزمان، ولا قائل به بالاتفاق، بقي لو قال قائل: لا أقنع بهذا المقدار في الاستدلال على غسل الأرجل بهذه الآية ما لم ينضم إليها من خارج ما يقوي تطبيق أهل السنة فإن كلامهم وكلام الإمامية في ذلك عسى أن يكون فرسا رهان، قيل له: إن سنة خير الورى صلى الله عليه وسلم وآثار الأئمة رضي الله تعالى عنهم شاهدة على ما يدعيه أهل السنة وهي من طريقهم أكثر من أن تحصى، وأما من طريق القوم، فقد روى العياشي عن علي عن أبي حمزة قال: " سألت أبا هريرة عن القدمين فقال: تغسلان غسلا " وروى محمد بن النعمان عن أبي بصير عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: " إذا نسيت مسح رأسك حتى غسلت رجليك فامسح رأسك ثم اغسل رجليك " وهذا الحديث رواه أيضا الكلبي وأبو جعفر الطوسي بأسانيد صحيحة بحيث لا يمكن تضعيفها ولا الحمل على التقية لأن المخاطب بذلك شيعي خاص، وروى محمد بن الحسن الصفار عن زيد بن علي عن أبيه عن جده أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه أنه قال: " جلست أتوضأ فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما غسلت قدمي قال: " يا علي خلل بين الأصابع ". ونقل الشريف الرضي عن أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه في " نهج البلاغة " حكاية وضوئه صلى الله عليه وسلم وذكر فيه غسل الرجلين، وهذا يدل على أن مفهوم الآية كما قال أهل السنة، ولم يدع أحد منهم النسخ ليتكلف لإثباته كما ظنه من لا وقوف له، وما يزعمه الإمامية من نسبة المسح إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأنس بن مالك وغيرهما كذب مفترى عليهم، فإن أحدا منهم ما روي عنه بطريق صحيح أنه جوز المسح، إلا أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فإنه قال بطريق التعجب: " لا نجد في كتاب الله تعالى إلا المسح ولكنهم أبوا إلا الغسل " ومراده أن ظاهر الكتاب يوجب المسح على قراءة الجر التي كانت قراءته، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يفعلوا إلا الغسل، ففي كلامه هذا إشارة إلى قراءة الجر مؤلة متروكة الظاهر بعمل الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله تعالى عنهم، ونسبة جواز المسح - إلى أبي العالية وعكرمة والشعبي - زور وبهتان أيضا، وكذلك نسبة الجمع بين الغسل والمسح، أو التخيير بينهما إلى الحسن البصري عليه الرحمة، ومثله نسبة التخيير إلى محمد بن جرير الطبري صاحب " التاريخ " الكبير
77

" والتفسير " الشهير، وقد نشر رواة الشيعة هذه الأكاذيب المختلفة، ورواها بعض أهل السنة ممن لم يميز الصحيح والسقيم من الأخبار بلا تحقق ولا سند، واتسع الخرق على الراقع، ولعل محمد بن جرير القائل بالتخيير هو محمد بن جرير بن رستم الشيعي صاحب " الإيضاح للمترشد في الإمامة " لا أبو جعفر محمد بن جرير بن (يزيد بن كثيرين) غالب الطبري الشافعي الذي هو من أعلام أهل السنة، والمذكور في تفسير هذا هو الغسل فقط لا المسح ولا الجمع ولا التخيير الذي نسبه الشيعة إليه، ولا حجة لهم في دعوى المسح بما روي عن أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه " أنه مسح وجهه ويديه، ومسح رأسه ورجليه، وشرب فضل طهوره قائما، وقال: إن الناس يزعمون أن الشرب قائما لا يجوز، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع مثل ما صنعت " وهذا وضوء من لم يحدث لأن الكلام في وضوء
المحدث لا في مجرد التنظيف بمسح الأطراف كما يدل عليه ما في الخبر من مسح المغسول اتفاقا، وأما ما روي عن عباد بن تميم عن عمه بروايات ضعيفة أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على قدميه فهو كما قال الحفاظ: شاذ منكر لا يصلح للاحتجاج مع احتمال حمل القدمين على الخفين ولو مجازا؛ واحتمال اشتباه القدمين المتخففين بدون المتخففين من بعيد، ومثل ذلك عند من اطلع على أحوال الرواة ما رواه الحسين بن سعيد الأهوازي عن فضالة عن حماد بن عثمان عن غالب بن هذيل قال: " سألت أبا جعفر رضي الله تعالى عنه عن المسح على الرجلين فقال: هو الذي نزل به جبريل عليه السلام " وما روي عن أحمد بن محمد قال: " سألت أبا الحسن موسى بن جعفر رضي الله تعالى عنه عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع بكفيه على الأصابع ثم مسحهما إلى الكعبين فقلت له: لو أن رجلا قال بإصبعين من أصابعه هكذا إلى الكعبين أيجزىء؟ قال: لا إلا بكفه كلها " إلى غير ذلك مما روته الإمامية في هذا الباب، ومن وقف على أحوال رواتهم لم يعول على خبر من أخبارهم. وقد ذكرنا نبذة من ذلك في كتابنا - " النفحات القدسية في رد الإمامية " - على أن لنا أن نقول: لو فرض أن حكم الله تعالى المسح على ما يزعمه الإمامية من الآية فالغسل يكفي عنه ولو كان هو الغسل لا يكفي عنه فبالغسل يلزم الخروج عن العهدة بيقين دون المسح، وذلك لأن الغسل محصل لمقصود المسح من وصول البلل وزيادة، وهذا مراد من عبر بأنه مسح وزيادة، فلا يرد ما قيل: من أن الغسل والمسح متضادان لا يجتمعان في محل واحد كالسواد والبياض، وأيضا كان يلزم الشيعة الغسل لأنه الأنسب بالوجه المعقول من الوضوء وهو التنظيف للوقوف بين يدي رب الأرباب سبحانه وتعالى لأنه الأحوط أيضا لكون سنده متفقا عليه للفريقين كما سمعت دون المسح للاختلاف في سنده، وقال بعض المحققين: قد يلزمهم - بناءا على قواعدهم - أن يجوزوا الغسل والمسح ولا يقتصروا على المسح فقط، وزعم الجلال السيوطي أنه لا إشكال في الآية بحسب القراءتين عند المخيرين إلا أنه يمكن أن يدعى لغيرهم أن ذلك كان مشروعا أولا ثم نسخ بتعيين الغسل، وبقيت القراءتان ثابتتين في الرسم كما نسخ التخيير بين الصوم والفدية بتعيين الصوم وبقي رسم ذلك ثابتا، ولا يخفى أنه أوهن من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت. هذا وأما قراءة الرفع فلا تصلح في الاستدلال للفريقين إذ لكل أن يقدر ما شاء، ومن هنا قال الزمخشري فيها: * (إنها على معنى وأرجلكم مغسولة أو ممسوحة) *، لكن ذكر الطيبي أنه لا شك أن تغيير الجملة من الفعلية إلى الإسمية وحذف خبرها يدل على إرادة ثبوتها وظهورها، وأن مضمونها مسلم الحكم ثابت لا يلتبس، وإنما يكون
78

كذلك إذا جعلت القرينة ما علم من منطوق القراءتين ومفهومهما، وشوهد وتعورف من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم، وسمع منهم واشتهر فيما بينهم. وقد قال عطاء: والله ما علمت أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على القدمين، وكل ذلك دافع لتفسيره هذه القراءة بقوله: * (وأرجلكم) * مغسولة أو ممسوحة على الترديد لا سيما العدول من الإنشائية إلى الإخبارية المشعر بأن القوم كأنهم سارعوا فيه وهو يخبر عنه انتهى، فالأولى أن يقدر ما هو من جنس الغسل على وجه يبقى معه الإنشاء. وبمجموع ما ذكرنا يعلم ما في كلام الإمام الرازي قدس الله تعالى سره، ونقله مما قدمناه، فاعرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
ثم اعلم أنهم اختلفوا في أن الآية هل تقتضي وجوب النية أم لا؟ فقال الحنفية: إن ظاهره لا يقتضي ذلك والقول بوجوبها يقتضي زيادة في النص، والزيادة فيه تقتضي النسخ، ونسخ القرآن بخبر الواحد غير واقع بل غير جائز عند الأكثرين، وكذا بالقياس على المذهب المنصور للشافعي رضي الله تعالى عنه - كما قاله المروزي - فإذن لا يصح إثبات النية، وقال بعض الشافعية: إن الآية تقتضي الإيجاب لأن معنى قوله تعالى: * (إذا قمتم) * إذا أردتم القيام وأنتم محدثون، والغسل وقع جزاءا لذلك، والجزاء مسبب عن الشرط فيفيد وجوب الغسل لأجل إرادة الصلاة، وبذلك يثبت المطلوب، وقال آخرون - وعليه المعول عندهم - وجه الاقتضاء أن الوضوء مأمور به فيها وهو ظاهر، وكل مأمور به يجب أن يكون عبادة وإلا لما أمر به، وكل عبادة لا تصح بدون النية لقوله تعالى: * (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين) * (البينة: 5) والإخلاص لا يحصل إلا بالنية، وقد جعل حالا للعابدين، والأحوال شروط فتكون كل عبادة مشروطة بالنية، وقاسوا أيضا الوضوء على التيمم في كونهما طهارتين للصلاة، وقد وجبت النية في المقيس عليه فكذا في المقيس.
ولنا القول بموجب العلة يعني سلمنا أن كل عبادة بنية، والوضوء لا يقع عبادة بدونها لكن ليس كلامنا في ذلك بل في أنه إذا لم ينو حتى لم يقع عبادة سببا للثواب فهل يقع الشرط المعتبر للصلاة حتى تصح به أو لا؟ ليس في الآية ولا في الحديث المشهور الذي يوردونه في هذا المقام دلالة على نفيه ولا إثباته، فقلنا: نعم لأن الشرط مقصود التحصيل لغيره لا لذاته، فكيف حصل المقصود وصار كستر العورة؟! وباقي شروط الصلاة التي لا يفتقر اعتبارها إلى أن ينوى، ومن ادعى - أن الشرط وضوء هو عبادة - فعليه البيان، والقياس المذكور على التيمم فاسد، فإن من المتفق عليه أن شرط القياس أن لا يكون شرعية حكم الأصل متأخرة عن حكم الفرع، وإلا لثبت حكم الفرع بلا دليل وشرعية التيمم متأخرة عن الوضوء فلا يقاس الوضوء على التيمم في حكمه، نعم إن قصد الاستدلال بآية التيمم بمعنى أنه لما شرع التيمم بشرط النية ظهر وجوبها في الوضوء وكان معنى القياس أنه لا فارق لم يرد ذلك.
وذكر بعض المحققين في الفرق بين الوضوء والتيمم وجهين، الأول: أن التيمم ينبىء لغة عن القصد فلا يتحقق بدونه بخلاف الوضوء، والثاني: أن التراب جعل طهورا في حالة مخصوصة والماء طهور بنفسه كما يستفاد من قوله تعالى: * (ماءا طهورا) * (الفرقان: 48) وقوله سبحانه: * (ليطهركم به) * (الأنفال: 11) فحينئذ يكون القياس فاسدا أيضا. واعترض الوجه الأول: بأن النية المعتبرة ليست نية نفس الفعل بل أن ينوي المقصود به الطهارة والصلاة ولو صلاة الجنازة وسجدة التلاوة على ما بين في محله، وإذا كان كذلك فإنما ينبىء عن قصد هو غير المعتبر نية
79

فلا يكون النص بذلك موجبا للنية المعتبرة، ومن هنا يعلم ما في استدلال - بعد الشافعية بآية الوضوء على وجوب النية فيه - السابق آنفا، وذلك لأن المفاد بالتركيب المقدر إنما هو وجوب الغسل لأجل إرادة الصلاة مع الحدث لا إيجاب أن يغسل لأجل الصلاة إذ عقد الجزاء الواقع طلبا بالشرط يفيد طلب مضمون الجزاء إذا تحقق
مضمون الشرط، وأن وجوبه اعتبر مسببا عن ذلك، فأين طلبه على وجه مخصوص هو فعله على قصد كونه لمضمون الشرط فتأمل، فقد خفي هذا على بعض الأجلة حتى لم يكافئه بالجواب، والوجه الثاني: بأنه إن أريد بالحالة المخصوصة حالة الصلاة فهو مبني على أن الإرادة مرادة في الجملة المعطوفة عليها جملة التيمم. وأنت قد علمت الآن أن لا دلالة فيها على اشتراط النية، وإن أريد حالة عدم القدرة على استعمال الماء فظاهر أن ذلك لا يقتضي إيجاب النية ولا نفيها، واستفاد كون الماء طهورا بنفسه مما ذكر بأن كون المقصود من إنزاله التطهير به، وتسميته طهورا لا يفيد اعتباره مطهرا بنفسه أي رافعا للأمر الشرعي بلا نية، وهو المطلوب بخلاف إزالته الخبث لأن ذلك محسوس أنه مقتضى طبعه ولا تلازم بين إزالته حسا صفة محسوسة وبين كونه يرتفع عند استعماله اعتبار شرعي، والمفاد من * (ليطهركم) * كون المقصود من إنزاله التطهير به، وهذا يصدق مع اشتراط النية - كما قال الشافعي رضي الله تعالى عنه - وعدمه كما قلنا ولا دلالة للأعم على أخص بخصوصه كما هو المقرر فتدبر.
واختلفوا أيضا في أنها هل تقتضي وجوب الترتيب أم لا؟ فذهب الحنفية إلى الثاني لأن المذكور فيها الواو وهي لمطلق الجمع على الصحيح المعول عليه عندهم، والشافعية إلى الأول لأن الفاء في - اغسلوا - للتعقيب فتفيد تعقيب القيام إلى الصلاة بغسل الوجه، فيلزم الترتيب بين الوجه وغيره، فيلزم في الكل لعدم القائل بالفصل. وأجيب بأنا لا نسلم إفادتها تعقيب القيام به بل جملة الأعضاء وتحقيقه أن المعقب طلب الغسل وله متعلقات وصل إلى أولها ذكرا بنفسه وإلى الباقي بواسطة الحرف المشترك فاشتركت كلها فيه من غير إفادة طلب تقديم تعليقه ببعضها على بعض في الوجود؛ فصار مؤدى التركيب طلب إعقاب غسل جملة الأعضاء، وهذا نظير قولك: ادخل السوق فاشتر لنا خبزا ولحما حيث كان المفاد أعقاب الدخول بشراء ما ذكر كيفما وقع. وزعم بعضهم أن إفادة النظم للترتيب لأنه لو لم يرد ذلك لأوجب تقديم الممسوح أو تأخيره عن المغسول، ولأنهم يقدمون الأهم فالأهم، وفيه نظر لأن قصارى ما يدل عليه النظم أولوية الترتيب ونحن لا ننكر ذلك، وقال آخرون: الدليل على الترتيب فعله صلى الله عليه وسلم فقد توضأ عليه الصلاة والسلام مرتبا، ثم قال: " هذا وضوء لا يقبل الله تعالى الصلاة إلا به " وفيه أن الإشارة كانت لوضوء مرتب موالى فيه. فلو دل على فرضية الترتيب لدل على فرضية الموالاة ولا قائل بها عند الفريقين، نعم أقوى دليل لهم قوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: " ابدأوا بما بدأ الله تعالى به " بناءا على أن الأمر للوجوب، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأجيب عن ذلك بما أجيب إلا أن الاحتياط لا يخفى، وهذا المقدار يكفي في الكلام على هذه الآية، والزيادة - على ذلك ببيان سنن الوضوء ونواقضه وما يتعلق به - مما لا تفهمه الآية كما فعل بعض المفسرين - فضول لا فضل، وإظهار علم يلوح من خلاله الجهل.
* (وإن كنتم جنبا) * أي عند القيام إلى الصلاة * (فاطهروا) * أي فاغتسلوا على أتم وجه، وقرىء * (فاطهروا) * أي فطهروا أبدانكم، والمضمضة والاستنشاق هنا فرض كغسل سائر البدن لأنه سبحانه أضاف التطهير إلى مسمى الواو، وهو جملة بدن كل مكلف، فيدخل كل ما يمكن إليه
80

إلا ما فيه حرج كداخل العينين فيسقط للحرج ولا حرج في داخل الفم والأنف فيشملهما نص الكتاب من غير معارض كما شملها قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود: " تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشرة " وكونهما من الفطرة كما جاء في الخبر لا ينفي الوجوب لأنها الدين، وهو أعم منه، وتشعر الآية بأنه لا يجب الغسل على الجنب فورا ما لم يرد فعل ما لا يجوز بدونه؛ ويؤيد ذلك ما صح أنه صلى الله عليه وسلم خرج لصلاة الفجر ناسيا أنه جنب حتى إذا وقف تذكر فانصرف راجعا فاغتسل وخرج ورأسه الشريف يقطر ماءا.
* (وإن كنتم مرضى) * مرضا تخافون به الهلاك، أو ازدياده باستعمال الماء. * (أو على سفر) * أي مستقرين عليه. * (أو جاء أحد منكم من الغائط أو ل‍امستم النساء فلم تجدوا ماءا فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) * - من - لابتداء الغاية، وقيل: للتبعيض وهو متعلق - بامسحوا - وقرأ عبد الله - فأموا صعيدا - وقد تقدم تفسير الآية في سورة النساء (43) فليراجع، ولعل التكرير ليتصل الكلام في بيان أنواع الطهارة، ولئلا يتوهم النسخ - على ما قيل - بناءا على أن هذه السورة من آخر ما نزل. * (ما يريد الله) * بما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى الصلاة والغسل من الجنابة، أو بالأمر بالتيمم * (ليجعل عليكم من حرج) * أي ضيق في الامتثال، و - الجعل - يحتمل أن يكون بمعنى الخلق والإيجاد فيتعدى لواحد وهو * (من حرج) * و * (من) * زائدة، و * (عليكم) * حينئذ متعلق - بالجعل - وجوز أن يتعلق - بحرج - وإن كان مصدرا متأخرا، ويحتمل أن يكون بمعنى التصيير، فيكون * (عليكم) * هو المفعول الثاني * (ول‍اكن يريد) * أي بذلك * (ليطهركم) * أي لينظفكم، فالطهارة لغوية، أو ليذهب عنكم دنس الذنوب، فإن الوضوء يكفر الله تعالى به الخطايا، فقد أخرج مالك ومسلم وابن جرير عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا توضأ العبد المسلم فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء - أو مع آخر قطر الماء - فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء - أو مع آخر قطر الماء - فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء - أو مع آخر قطر الماء - حتى يخرج نقيا من الذنوب " فالطهارة معنوية بمعنى تكفير الذنوب لا بمعنى إزالة النجاسة، لأن الحدث ليس نجاسة بلا خلاف، وإطلاق ذلك عليه باعتبار أنه نجاسة حكمية بمعنى كونه مانعا من الصلاة لا بمعنى كونه بحيث يتنجس الطعام أو الشراب الرطب بملاقاة المحدث أو تفسد الصلاة بحمله، وأما تنجس الماء فيما شاع عن الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه - وروي رجوعه عنه - فلانتقال المانعية والآثام إليه حكما، وقيل: المراد تطهير القلب عن دنس التمرد عن طاعة الله تعالى. وجوز أن يكون المراد ليطهركم بالتراب إذا أعوزكم التطهر بالماء، والمراد بالتطهر رفع الحدث والمانع الحكمي، وأما ما نقل عن بعض الشافعية - كإمام الحرمين - من أن القول بأن التراب مطهر قول ركيك، فمراده به: منع الطهارة الحسية فلا يرد عليه أنه مخالف للحديث الصحيح " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " والإرادة صفة ذات، وقد شاع تفسيرها، ومفعولها في الموضعين محذوف كما أشير إليه، واللام للعلة، وإلى ذلك ذهب بعض المحققين، وقيل: هي مزيدة
والمعنى ما يريد الله أن يجعل عليكم من حرج حتى لا يرخص لكم في التيمم ولكن يريد أن يطهركم وضعف بأن ألا تقدر بعد المزيدة، وتعقب بأن هذا مخالف لكلام النحاة، فقد قال الرضي:
81

الظاهر أن تقدر أن بعد اللام الزائدة التي بعد فعل الأمر والإرادة، وكذا في " المغني " (لابن هشام) وغيره، ووقوع هذه اللام بعد الأمر والإرادة في القرآن. وكلام العرب شائع مقيس، وهو من مسائل " الكتاب " (لسيبويه) (1) قال فيه: سألته - أي الخليل - عن معنى أريد لأن يفعل فقال: إنما تريد أن تقول: أريد لهذا كما قال تعالى: * (وأمرت لأن أكون أول المسلمين) * (الزمر: 12) انتهى، واختلف فيه النحاة فقال السيرافي: فيه وجهان: أحدهما: - ما اختاره البصريون - أن مفعوله مقدر أي أريد ما أريد لأن تفعل، فاللام تعليلية غير زائدة، الثاني: أنها زائدة لتأكيد المفعول، وقال أبو علي في " التعليق " عن المبرد: إن الفعل دال على المصدر فهو مقدر أي أردت وإرادتي لكذا فحذف إرادتي واللام زائدة وهو تكلف بعيد، والمذاهب ثلاثة: أقربها الأول، وأسهلها الثاني - وهو من بليغ الكلام القديم - كقوله:
أريد (لأنسي) ذكرها فكأنما * تمثل لي ليلى بكل سبيل
البلاغة فيه مما يعرفه الذوق السليم قاله الشهاب * (وليتم) * بشرعه ما هو مطهرة لأبدانكم * (نعمته عليكم) * في الدين، أو ليتم برخصة إنعامه عليكم بالعزائم * (لعلكم تشكرون) * نعمته بطاعتكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه.
ومن لطائف الآية الكريمة - كما قال بعض المحققين - أنها مشتملة على سبعة أمور كلها مثنى: طهارتان أصل وبدل، والأصل إثنان: مستوعب وغير مستوعب، وغير المستوعب - باعتبار الفعل - غسل ومسح، وباعتبار المحل محدود وغير محدود، وأن آلتهما مائع وجامد، وموجبهما حدث أصغر وأكبر، وأن المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر، وأن الموعود عليهما التطهير وإتمام النعمة، وزاد البعض مثنيات أخر، فإن غير المحدود وجه ورأس، والمحدود يد ورجل، والنهاية كعب ومرفق، والشكر قولي وفعلي..
* (واذكروا نعمة الله عليكم وميث‍اقه الذى واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور) *.
* (واذكروا نعمة الله عليكم) * وهي نعمة الإسلام، أو الأعم على إرادة الجنس، وأمروا بذلك ليذكرهم المنعم ويرغبهم في شكره * (وميثاقه الذي واثقكم به) * أي عهده الذي أخذه عليكم وقوله تعالى: * (إذ قلتم سمعنا وأطعنا) * ظرف - لواثقكم به - أو لمحذوف وقع حالا من الضمير المجرور في * (به) * أو من ميثاقه أي كائنا وقت قولكم: سمعنا وأطعنا وفائدة التقييد به تأكيد وجوب مراعاته (بتذكير قبولهم) والتزامهم بالمحافظة عليه، والمراد به الميثاق الذي أخذه على المسلمين حين بايعهم النبي صلى الله عليه وسلم في العقبة الثانية سنة ثلاث عشرة من النبوة على السمع والطاعة في حال اليسر والعسر والمنشط والمكره كما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبادة بن الصامت، وقيل: هو الميثاق الواقع في العقبة الأولى سنة إحدى عشرة، أو بيعة الرضوان بالحديبية، فإضافة الميثاق إليه تعالى مع صدوره عنه صلى الله عليه وسلم لكون المرجع إليه سبحانه كما نطق به قوله تعالى: * (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) * (الفتح: 10).
وأخرج ابن جرير وابن حميد عن مجاهد قال: هو الميثاق الذي واثق به بني آدم حين أخرجهم من صلب أبيهم عليه السلام وفيه بعد.
* (واتقوا الله) * في نسيان نعمته ونقض ميثاقه، أو في كل ما تأتون وتذرون فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا * (إن الله عليم بذات الصدور) * أي مخفياتها الملابسة لها ملابسة تامة مصححة لإطلاق الصاحب عليها فيجازيكم عليها، فما ظنكم بجليات الأعمال؟ والجملة اعتراض وتعليل للأمر وإظهار الاسم
82

الجليل لما مر غير مرة..
* (ياأيهآ الذين ءامنوا كونوا قوامين لله شهدآء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم علىألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) *.
* (يا أيها الذين ءامنوا) * شروع في بيان الشرائع المتعلقة لما يجري بينهم وبين غيرهم إثر (بيان) ما يتعلق بأنفسهم * (كونوا قوامين لله) * أي كثيري القيام له بحقوقه اللازمة، وقيل: أي ليكن من عادتكم القيام بالحق في أنفسكم بالعمل الصالح، وفي غيركم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ابتغاء مرضاة الله تعالى * (شهداء بالقسط) * أي بالعدل، وقيل: دعاة لله تعالى مبينين عن دينه بالحجج الحقة * (ولا يجرمنكم) * أي لا يحملنكم * (شنئان قوم) * أي شدة بغضكم لهم * (على ألا تعدلوا) * فلا تشهدوا في حقوقهم بالعدل، أو فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل * (اعدلوا) * أيها المؤمنون في أوليائكم وأعدائكم، واقتصر بعضهم على الأعداء بناءا على ما روي أنه لما فتحت مكة كلف الله تعالى المسلمين بهذه الآية أن لا يكافئوا كفار مكة بما سلف منهم، وأن يعدلوا في القول والفعل * (هو) * راجع إلى العدل الذي تضمنه الفعل، وهو إما مطلق العدل فيندرج فيه العدل الذي أشار إليه سبب النزول، وإما العدل مع الكفار * (أقرب للتقوى) * أي أدخل في مناسبتها لأن التقوى نهاية الطاعة وهو أنسب الطاعات بها، فالقرب بينهما على هذا مناسبة الطاعة للطاعة، ويحتمل أن يكون أقربيته على التقوى باعتبار أنه لطف فيها فهي مناسبة إفضاء السبب إلى المسبب وهو بمنزلة الجزء الأخير من العلة، واللام مثلها في قولك: هو قريب لزيد للاختصاص لا مكملة فإنه بمن أو إلى. وتكلف الراغب في توجيه الآية فقال: فإن قيل: كيف ذكر سبحانه * (أقرب للتقوى) *، وأفعل إنما يقال في شيئين اشتركا في أمر واحد لأحدهما مزية وقد علمنا أن لا شيء من التقوى ومن فعل الخير إلا وهو من العدالة؟ قيل: إن أفعل وإن كان كما ذكرت فقد يستعمل على تقدير بناء الكلام على اعتقاد المخاطب في الشيء في نفسه قطعا لكلامه وإظهارا لتبكيته فيقال لمن اعتقد مثلا في زيد فضلا - وإن لم يكن فيه فضل ولكن لا يمكنه أن ينكر أن عمرا أفضل منه -: اخدم عمرا فهو أفضل من زيد، وعلى ذلك جاء قوله تعالى: * (آلله خير أما يشركون) * (النحل: 59) وقد علم أن لا خير فيما يشركون.
والجملة في موضع التعليل للأمر بالعدل، وصرح لهم به تأكيدا وتشديدا، وأمر سبحانه بالتقوى بقوله جل وعلا: * (واتقوا الله) * إثر ما بين أن العدل أقرب لها اعتناءا بشأنها وتنبيها على أنها ملاك الأمر كله * (إن الله خبير بما تعملون) * من الأعمال فيجازيكم بذلك، وقد تقدم نظير هذه الآية في النساء (135)، ولم يكتف بذلك لمزيد الاهتمام بالعدل والمبالغة في إطفاء ثائرة الغيظ، وقيل: لاختلاف السبب، فإن الأولى نزلت في المشركين وهذه في اليهود، وذكر بعض المحققين وجها لتقديم القسط هناك وتأخيره هنا، وهو أن آية النساء جيء بها في معرض الإقرار على نفسه ووالديه وأقاربه فبدأ فيها بالقسط الذي هو العدل من غير محاباة نفس ولا والد ولا قرابة، والتي هنا جيء بها في معرض ترك العداوة فبدأ فيها بالقيام لله تعالى لأنه أردع للمؤمنين، ثم ثنى بالشهادة بالعدل فجىء في كل معرض بما يناسبه..
* (وعد الله الذين ءامنوا وعملوا الص‍الح‍ات لهم مغفرة وأجر عظيم) *.
* (وعد الله الذين ءامنوا وعملوا الص‍الح‍ات) * من الواجبات والمندوبات ومن جملتها العدل والتقوى * (لهم مغفرة وأجر عظيم) * جملة مستأنفة مبينة لثاني مفعولي * (وعد) * المحذوف كأنه قيل: أي شيء وعده؟
83

فقيل: لهم مغفرة الخ. ويحتمل أن يكون المفعول متروكا والمعنى قدم لهم وعدا وهو ما بين بالجملة المذكورة، وجوز أن تكون مفعول وعد باعتبار كونه بمعنى قال، أو المراد حكايته لأنه يحكي بما هو في معنى القول عند الكوفيين، ويحتمل أن يكون القول مقدرا أي وعدهم قائلا ذلك لهم أي في حقهم فيكون إخبارا بثبوته لهم وهو أبلغ، وقيل: إن هذا القول يقال لهم عند الموت تيسيرا لهم وتهوينا لسكرات الموت عليهم..
* (والذين كفروا وكذبوا بااي‍اتنآ أول‍ائك أصح‍ابالجحيم) *.
* (والذين كفروا وكذبوا بآي‍اتنآ) * القرآنية التي من جملتها ما تليت من النصوص الناطقة بالأمر بالعدل والتقوى، وحمل بعضهم الآيات على المعجزات التي أيد الله تعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم * (أول‍ئك) * الموصوفون بما ذكر * (أصح‍ابالجحيم) * أي ملابسوا النار الشديدة التأجج ملابسة مؤبدة، والموصول مبتدأ أول، واسم الإشارة مبتدأ ثان وما بعده خبره، والجملة خبر الأول، ولم يؤت بالجملة في سياق الوعيد كما أتى بالجملة قبلها في سياق الوعد قطعا لرجائهم، وفي ذكر حال الكفرة بعد حال المؤمنين كما هو السنة السنية القرآنية وفاءا بحق الدعوة، وتطييبا لقلوب المؤمنين بجعل أصحاب النار أعداءهم دونهم..
* (ي‍اأيهآ الذين ءامنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون) *.
* (يا أيها الذين ءامنوا اذكروا نعمت الله عليكم) * تذكير لنعمة الإنجاء من الشر إثر تذكير نعمة إيصال الخير الذي هو نعمة الإسلام وما يتبعها من الميثاق، أو تذكير نعمة خاصة بعد تذكير النعمة العامة اعتناءا بشأنها، و * (عليكم) * متعلق - بنعمة الله - أو بمحذوف وقع حالا منها، وقوله تعالى: * (إذ هم قوم) * على الأول: ظرف لنفس النعمة، وعلى الثاني: لما تعلق به الظرف، ولا يجوز أن يكون ظرفا - لاذكروا - لتنافي زمنيهما فإن * (إذ) * للمضي، و * (اذكروا) * للمستقبل، أي اذكروا إنعامه تعالى عليكم، أو اذكروا نعمته تعالى كائنة عليكم وقت قصد قوم * (أن يبسطوا إليكم أيديهم) * أي بأن يبطشوا بكم بالقتل والإهلاك، يقال: بسط إليه يده إذا بطش به، وبسط إليه لسانه إذا شتمه، والبسط في الأصل مطلق المد، وإذا استعمل في اليد واللسان كان كناية عما ذكر، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للمسارعة إلى بيان رجوع ضرر البسط وغائلته إليهم حملا لهم من أول الأمر على الاعتداد بنعمة دفعه.
* (فكف أيديهم عنكم) * عطف على * (هم) * وهو النعمة التي أريد تذكيرها، وذكر - الهم - للإيذان بوقوعها عند مزيد الحاجة إليها، والفاء للتعقيب المفيد لتمام النعمة وكمالها، وإظهار الأيدي لزيادة التقرير وتقديم المفعول الصريح على الأصل أي منع أيديهم أن تمد إليكم عقيب همهم بذلك وعصمكم منهم، وليس المراد أنه سبحانه كفها عنكم بعد أن مدوها إليكم، وفي ذلك ما لا يخفى من إكمال النعمة ومزيد اللطف.
والآية إشارة إلى ما أخرجه مسلم وغيره من حديث جابر أن المشركين رأوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم بعسفان قاموا إلى الظهر معا فلما صلوا ندموا ألا كانوا أكبوا عليهم، وهموا أن يوقعوا بهم إذا قاموا إلى صلاة العصر، فرد الله تعالى كيدهم بأن أنزل صلاة الخوف، وقيل: إشارة إلى ما أخرجه أبو نعيم في " الدلائل " من طريق عطاء والضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما " أن عمرو بن أمية الضمري حيث انصرف من بئر معونة لقي رجلين كلابيين معهما أمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلهما ولم يعلم أن معهما أمانا فوداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومضى إلى بني النضير ومعه أبو بكر رضي الله تعالى عنه وعمر وعلي فتلقوه
84

فقالوا: مرحبا يا أبا القاسم لماذا جئت؟ قال: رجل من أصحابي قتل رجلين من كلاب معهما أمان مني طلب مني ديتهما فأريد أن تعينوني قالوا: نعم اقعد حتى نجمع لك فقعد تحت الحصن وأبو بكر وعمر وعلي، وقد تآمر بنو النضير أن يطرحوا عليه عليه الصلاة والسلام حجرا فجاء جبريل عليه السلام فأخبره فقام ومن معه ". وقيل: إشارة إلى ما أخرجه غير واحد من حديث جابر " أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلا فتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها فعلق النبي صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة فجاء أعرابي إلى سيفه فأخذه فسله، ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يمنعك مني؟ قال: الله تعالى - قالها الأعرابي مرتين، أو ثلاثا - والنبي صلى الله عليه وسلم في كل ذلك يقول: الله تعالى، فشام الأعرابي السيف فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم بصنيع الأعرابي وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه "، ولا يخفى أن سبب النزول يجوز تعدده، وأن القوم قد يطلق على الواحد كالناس في قوله تعالى: * (الذين قال لهم الناس) * (آل عمران: 173) وأن ضرر الرئيس ونفعه يعودان إلى المرؤوس.
* (واتقوا الله) * عطف على * (اذكروا) * أي اتقوه في رعاية حقوق نعمته ولا تخلوا بشكرها، أي في الأعم من ذلك ويدخل هو دخولا أوليا. * (وعلى الله) *
خاصة دون غيره استقلالا أو اشتراكا * (فليتوكل المؤمنون) * فإنه سبحانه كاف في درء المفاسد وجلب المصالح، والجملة تذييل مقرر لما قبله، وإيثار صيغة أمر الغائب وإسنادها للمؤمنين لإيجاب التوكل على المخاطبين بطريق برهاني ولإظهار ما يدعو إلى الامتثال، ويزع عن الإخلال مع رعاية الفاصلة، وإظهار الاسم الجليل لتعليل الحكم وتقوية استقلال الجملة التذييلية - وقد مرت نظائره - وهذه الآية كما نقل عن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه - تقرأ سبعا صباحا - وسبعا مساءا لدفع الطاعون..
* (ولقد أخذ الله ميث‍اق بنىإسراءيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا وقال الله إنى معكم لئن أقمتم الصلواة وءاتيتم الزكواة وءامنتم برسلى وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئ‍اتكم ولادخلنكم جن‍ات تجرى من تحتها الانه‍ار فمن كفر بعد ذالك منكم فقد ضل سوآء السبيل) *.
* (ولقد أخذ الله ميث‍اق بنيإسراءيل) * كلام مستأنف مشتمل على بيان بعض ما صدر من بني إسرائيل مسوق لتقرير المؤمنين على ذكر نعمة الله تعالى ومراعاة حق الميثاق، وتحذيرهم من نقضه، أو لتقرير ما ذكر من الهم بالبطش، وتحقيقه بناءا على أنه كان صادرا من أسلافهم ببيان أن الغدر والخيانة فيهم شنشنة أخزمية، وإظهار الاسم الجليل هنا لتربية المهابة وتفخيم الميثاق وتهويل الخطب في نقضه مع ما فيه من رعاية حق الاستئناف المستدعي للانقطاع عما قبله، والالتفات في قوله تعالى: * (وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا) * للجري على سنن الكبرياء، وتقديم المفعول الغير الصريح على الصريح لما مر غير مرة من الاهتمام والتشويق، و - النقيب - قيل: فعيل بمعنى فاعل مشتقا من النقب بمعنى التفتيش، ومنه * (فنقبوا في البلاد) * (ق: 36) وسمي بذلك لتفتيشه عن أحوال القوم وأسرارهم، وقيل: بمعنى مفعول كأن القوم اختاروه على علم منهم، وتفتيش على أحوالهم. قال الزجاج: وأصله من النقب وهو الثقب الواسع والطريق في الجبل، ويقال: فلان حسن النقيبة أي جميل الخليقة، ونقاب: للعالم بالأشياء الذكي القلب الكثير البحث عن الأمور، وهذا الباب كله معناه التأثير في الشيء الذي له عمق، ومن ذلك نقبت الحائط أي بلغت في النقب آخره.
روي أن بني إسرائيل لما فرغوا من أمر فرعون أمرهم الله تعالى بالمسير إلى أريحاء أرض الشام وكان يسكنها الجبابرة الكنعانيون، وقال سبحانه لهم: إني كتبتها لكم دارا وقرارا فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها فإني ناصركم، وأمر جل شأنه موسى عليه السلام أن يأخذ من كل سبط كفيلا عليهم بالوفاء فيما أمروا به فأخذ عليهم الميثاق،
85

واختار منهم النقباء وسار بهم فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون الأخبار ونهاهم أن يحدثوا قومهم فرأوا أجراما عظاما وبأسا شديدا فهابوا، فرجعوا وحدثوا قومهم إلا كالب بن يوقنا من سبط يهوذا ويوشع بن نون من سبط إفرائيم بن يوسف عليه السلام، وعند ذلك قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: * (فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) * (المائدة: 24).
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد أن النقباء لما دخلوا على الجبارين وجدوهم يدخل في كم أحدهم اثنان منهم، ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمس أنفس بينهم في خشبة، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمس أنفس أو أربع، وذكر البغوي أنه لقيهم رجل من أولئك يقال له عوج بن عنق، وكان طوله ثلاثة آلاف وثلثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعا وثلث ذراع وكان يحتجز بالسحاب ويشرب منه ويتناول الحوت من قرار البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها ثم يأكله، ويروى أن الماء طبق ما على الأرض من جبل وما جاوز ركبتي عوج، وعاش ثلاثة آلاف سنة حتى أهلكه الله تعالى على يد موسى عليه السلام، وذلك أنه جاء وقور صخرة من الجبل على قدر عسكر موسى عليه السلام وكان فرسخا في فرسخ وحملها ليطبقها عليهم فبعث الله تعالى الهدهد فقور الصخرة بمنقاره فوقعت في عنقه فصرعته فأقبل موسى عليه السلام وهو مصروع فقتله. وكانت أمه عنق إحدى بنات آدم عليه السلام، وكان مجلسها جريبا من الأرض، فلما لقوا عوجا وعلى رأسه حزمة حطب أخذهم جميعا وجعلهم في حزمته، وانطلق بهم إلى امرأته وقال: انظري إلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا وطرحهم بين يديها، وقال: ألا أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته: لا بل خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا ففعل انتهى.
وأقول: قد شاع أمر عوج عند العامة ونقلوا فيه حكايات شنيعة، وفي " فتاوى العلامة ابن حجر " قال الحافظ العماد بن كثير: قصة عوج وجميع ما يحكون عنه هذيان لا أصل له، وهو من مختلقات أهل الكتاب، ولم يكن قط على عهد نوح عليه السلام ولم يسلم من الكفار أحد، وقال ابن القيم: من الأمور التي يعرف بها كون الحديث موضوعا أن يكون مما تقوم الشواهد الصحيحة على بطلانه - كحديث عوج الطويل - وليس العجب من جرأة من وضع هذا الحديث وكذب على الله تعالى إنما العجب ممن يدخل هذا الحديث في كتب العلم من التفسير وغيره ولا يبين أمره، ثم قال: ولا ريب في أن هذا وأمثاله من وضع زنادقة أهل الكتاب الذين قصدوا الاستهزاء والسخرية بالرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم انتهى. وأورد ابن المنذر عن ابن عمر من قصته شيئا عجيبا، وتعقبه بعض المصنفين بأن هذا مما يستحي الشخص من نسبته إلى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، ومشى صاحب " القاموس " على أن أخباره موضوعة، وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن حبان في كتاب " العظمة " فيه آثارا قال الحفاظ في أطولها المشتمل على غرائب من أحواله: إنه باطل كذب، وقال الحافظ السيوطي: والأقرب في خبر عوج أنه من بقية عاد، وأنه كان له طول في الجملة مائة ذراع أو شبه ذلك، وأن موسى عليه الصلاة والسلام قتله بعصاه، وهذا هو القدر الذي يحتمل قبوله انتهى، ونعم ما قال، فإن بقاءه في الطوفان مع كفره الظاهر إذ لم ينقل إيمانه، ودعوة نوح عليه السلام التي عمت الأرض مما لا يكاد يقبله المنصف، وكذا بقاؤه بعد الطوفان مع قوله تعالى: * (وجعلنا ذريته هم الباقين) * (الصافات: 77) مما لا يسوغه العارف، وشيه الحوت بعين الشمس، مما لا يكاد يعقل - على ما ذكره الحكماء - فقد ذكر الخلخالي أنهم ذهبوا إلى أن الشمس ليست حارة وإلا لكان قلل الجبال أحر من الوهاد لقرب القلل
86

إلى الشمس - وبعد الوهاد عنها - بل الحرارة تحدث من وصول شعاع الشمس إلى وجه الأرض وانعكاسه عنه ولذلك يرى الوهاد أحر لتراكم الأشعة المنعكسة فيها فما وصل إليه الشعاع من وجه الأرض يصير حارا وإلا فلا، وذكر نحو ذلك شارح " حكمة العين "، ولا يرد على هذا أن بعض الناس روى أن كذا ملائكة ترمي الشمس بالثلج إذا طلعت، ولولا ذلك لأحرقت أهل الأرض لأن ذلك مما لم يثبت عند الحفاظ، وهو إلى الوضع أقرب منه إلى الصحة، ثم كان القائل بوجود عوج هذا من الناس لا يقول بالطبقة الزمهرية التي هي الطبقة الثالثة من طبقات العناصر السبع، ولا بما فوقها وإلا فكيف يكون الاحتجاز بالسحاب وهو كالرعد والبرق، والصاعقة إنما ينشأ من تلك الطبقة الباردة التي لا يصل إليها أثر شعاع الشمس بالانعكاس من وجه الأرض، وقد ذكروا أيضا أن فوقها طبقتين: الأولى: ما يمتزج مع النار وهي التي يتلاشى فيها الأدخنة المرتفعة عن السفل، ويتكون فيها الكواكب ذوات الأذناب والنيازك، والثانية: ما يقرب من الخلوص إذ لا يصل إليه حرارة ما فوقه ولا برودة ما تحته من الأرض والماء، وهي التي يحدث فيها الشهب، فإذا احتجز هذا الرجل بالسحاب وصل رأسه على زعمهم إلى إحدى تينك الطبقتين، فكيف يكون حاله مع ذلك البرد والحر؟! ولا أظن بشرا - كيف كان - يقوى على ذلك، على أن أصل الاحتجاز مما لا يمكن بناءا على كلام الحكماء إذ قد علمت أن منشأ السحب الطبقة الزمهريرية.
وفي كتاب " نزهة القلوب " - نقلا عن الحكيم أبي نصر - أن غاية ارتفاعها اثني عشر فرسخا وستمائة ذراع، وعن المتقدمين أنها ثمانية عشر فرسخا، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع انتهى. واختلفوا أيضا في غاية انحطاطها، ولم يذكر أحد منهم أنها تنحط إلى ما يتصور معه احتجاز الرجل الذي ذكروا من طوله ما ذكروا بالسحاب، اللهم إلا أن يراد به سحاب لم يبلغ هذا الارتفاع ومع هذا كله قد أخطأوا في قولهم: ابن عنق، وإنما هو ابن عوق - كنوح - كما نص على ذلك في " القاموس "، وهو أيضا اسم والده لا والدته كما ذكر هناك أيضا فليحفظ. وأخرج ابن حميد وابن جرير عن أبي العالية أنه قال في الآية: أخذ الله تعالى ميثاق بني إسرائيل أن يخلصوا له ولا يعبدوا غيره؛ وبعث منهم اثني عشر كفيلا كفلوا عليهم بالوفاء لله تعالى بما واثقوه عليه من العهود فيما أمرهم به ونهاهم عنه، واختاره الجبائي، - والنقباء - حينئذ يجوز أن يكونوا رسلا، وأن يكونوا قادة - كما قال البلخي - واختار أبو مسلم أنهم بعثوا أنبياء ليقيموا الدين ويعلموا الأسباط التوراة ويأمروهم بما فرضه الله تعالى عليهم، وأخرج الطيبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا وزراء وصاروا أنبياء بعد ذلك.
* (وقال الله) * أي - للنقباء - عند الربيع، ورجحه السمين للقرب، وعند أكثر المفسرين - لبني إسرائيل - ورجحه أبو حيان إذ هم المحتاجون إلى ما ذكر من الترغيب والترهيب كما ينبىء عنه الإلتفات مع ما فيه من تربية المهابة وتأكيد ما يتضمنه الكلام من الوعد * (إني معكم) * أسمع كلامكم وأرى أعمالكم وأعلم ضمائركم فأجازيكم بذلك، وقيل: معكم بالنصرة، وقيل: بالعلم، والتعميم أولى.
* (لئن أقمتم الصلواة وءاتيتم الزكواة وءامنتم برسلي) * أي بجميعهم، واللام موطئة للقسم المحذوف، وتأخير الإيمان عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع كونهما من الفروع المترتبة عليه لما أنهم - كما قال غير واحد - كانوا معترفين
87

بوجوبهما حسبما يراد منهم مع ارتكابهم تكذيب بعض الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولمراعاة المقارنة بينه وبين قوله تعالى: * (وعزرتموهم) *، وقال بعضهم: إن جملة * (وآمنتم برسلي) * إلى آخره كناية إيمائية عن المجاهدة، ونصرة دين الله تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام والإنفاق في سبيله كأنه قيل: لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وجاهدتم في سبيل الله يدل عليه قوله تعالى: * (ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين) * (المائدة: 21) فإن المعنى لا ترتدوا على أدباركم في دينكم لمخالفتكم أمر ربكم وعصيانكم نبيكم عليه الصلاة والسلام، وإنما وقع الاهتمام بشأن هذه القرينة دون الأولين، وأبرزت في معرض الكناية لأن القوم كانوا يتقاعدون عن القتال ويقولون لموسى عليه السلام إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون انتهى، ولا يخلو عن نظر. وقيل: إنما قدم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لأنها الظاهر من أحوالهم الدالة على إيمانهم، و - التعزير - أصل معناه المنع والذب، وقيل: التقوية من العزر، وهو والأزر من واد واحد، ولا يخفى أن في التقوية منعا لمن قويته عن غيره فهما متقاربان، ثم تجوز فيه عن النصرة لما فيها من ذلك وعن التأديب، وهو في الشرع ما كان دون الحد لأنه رادع ومانع عن ارتكاب القبيح، ولذا سمي في الحديث نصرة، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: " انصر أخاك ظالما أو مظلوما، فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوما أفرأيت إن كان ظالما كيف أنصره؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تحجزه - أو تمنعه - عن الظلم فإن ذلك نصره "، وقال الراغب: " التعزير النصرة مع التعظيم "، وبالنصرة فقط - فسره الحسن. ومجاهد، وبالتعظيم فقط فسره ابن زيد. وأبو عبيدة، وقرىء - عزرتموهم - بالتخفيف.
* (وأقرضتم الله) * أي بالإنفاق في سبيل الخير، وقيل: بالتصدق بالصدقات المندوبة وأيا ما كان فهو استعارة لأنه سبحانه لما وعد بجزائه والثواب عليه شبه بالقرض الذي يقضى بمثله، وفي كلام العرب قديما الصالحات قروض * (قرضا حسنا) * وهو ما كان عن طيب نفس على ما قال الأخفش، وقيل: ما لا يتبعه من ولا أذى، وقيل: ما كان من حلال. وذكر غير واحد أن قرضا يحتمل المصدر والمفعول به.
* (لأكفرن عنكم سيئاتكم) * دال على جواب الشرط المحذوف وساد مسده معنى، وليس هو الجواب له خلافا لأبي البقاء بل هو جواب للقسم، فقد تقرر أنه إذا اجتمع شرط وقسم أجيب السابق منهما إلا أن يتقدمه ذو خبر، وجوز أن يكون هذا جوابا لما تضمنه قوله تعالى: * (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل) * من القسم، وقيل: إن جوابه * (لئن أقمتم) * فلا تكون اللام موطئة، أو تكون ذات وجهين - وهو غريب - وجملة القسم المشروط وجوابه مفسرة لذلك الميثاق المتقدم. * (ولأدخلنكم جن‍ات تجري من تحتها الأنه‍ار) * عطف على ما قبله داخل معه في حكمه متأخر عنه في الحصول ضرورة تقدم التخلية على التحلية.
* (فمن كفر) * أي برسلي أو بشيء مما عدد في حيز الشرط، والفاء لترتيب بيان حكم من كفر على بيان حكم من آمن تقوية للترغيب بالترهيب * (بعد ذلك) *
الشرط المؤكد المعلق به الوعد العظيم أعني لأكفرن، وقيل: بعد الشرط المؤكد المعلق بالوعد العظيم أعني أني معكم بناءا على حمل المعية على المعية بالنصرة والإعانة، أو التوفيق للخير فإن الشرط معلق به من حيث المعنى نحو أنا معتن بشأنك إن خدمتني رفعت محلك، وقيل: المراد بعد ما شرطت هذا الشرط ووعدت هذا الوعد وأنعمت هذا الإنعام،
88

وقوله تعالى: * (منكم) * متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل كفر، ولعل تغيير السبك حيث لم يقل وإن كفرتم عطفا على الشرطية السابقة - كما قال شيخ الإسلام - لإخراج كفر الكل عن حيز الاحتمال وإسقاط من كفر عن رتبة الخطاب، ثم ليس المراد بالكفر إحداثه بعد الإيمان، بل ما يعم الاستمرار عليه أيضا كأنه قيل: فمن اتصف بالكفر بعد ذلك إلا أنه قصد بإيراد ما يدل على الحدوث بيان ترقيهم في مراتب الكفر فإن الاتصاف بشيء بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه، وإن كان استمرارا عليه لكن بحسب العنوان فعل جديد وصنع حادث. * (فقد ضل سواء السبيل) * أي وسط الطريق وحاقه ضلالا لا شبهة فيه ولا عذر معه بخلاف من كفر قبل ذلك إذ ربما يمكن أن يكون له شبهة ويتوهم عذر.
* (فبما نقضهم ميث‍اقهم لعن‍اهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خآئنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين) *.
* (فبما نقضهم ميث‍اقهم) * أي بسبب نقضهم ميثاقهم المؤكد لا بشيء آخر استقلالا وانضماما، فالباء سببية، و (ما) مزيدة لتوكيد الكلام وتمكينه في النفس، أو بمعنى شيء كما قال أبو البقاء، والجار متعلق بقوله تعالى: * (لعن‍اهم) * أي طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا عقوبة لهم - قاله عطاء وجماعة - وعن الحسن ومقاتل أن المعنى مسخناهم قردة وخنازير، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عذبناهم بضرب الجزية عليهم، ولا يخفى أن ما قاله عطاء أقرب إلى المعنى الحقيقي لأن حقيقة اللعن في اللغة الطرد والابعاد فاستعماله في المعنيين الأخيرين مجاز باستعماله في لازم معناه، وهو الحقارة بما ذكر لكنه لا قرينة في الكلام عليه، وتخصيص البيان بما ذكر مع أن حقه أن يبين بعد بيان تحقق (نفس) اللعن والنقض بأن يقال مثلا: فنقضوا ميثاقهم فلعناهم ضرورة تقدم هيئة الشيء البسيطة على هيئته المركبة - كما قال شيخ الإسلام - للإيذان بأن تحققهما أمر جلي غني عن البيان، وإنما المحتاج إلى ذلك ما بينهما من السببية والمسببية.
* (وجعلنا قلوبهم ق‍اسية) * يابسة غليظة تنبو عن قبول الحق ولا تلين - قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما -. وقيل: المراد سلبناهم التوفيق واللطف الذي تنشرح به صدورهم حتى - ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون - وهذا كما تقول لغيرك: أفسدت سيفك إذا ترك تعاهده حتى صدىء، وجعلت أظافيرك سلاحك إذا لم يقصها، وقال الجبائي المعنى: بينا عن حال قلوبهم وما هي عليه من القساوة وحكمنا بأنهم لا يؤمنون ولا تنفع فيهم موعظة، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر وما دعا إليه إلا الاعتزال، وقرأ حمزة والكسائي (قسية)، وهي إما مبالغة قاسية لكونه على وزن فعيل، أو بمعنى ردية من قولهم: درهم قسى إذا كان مغشوشا، وهو أيضا من القسوة، فإن المغشوش فيه يبس وصلابة، وقيل: إن قسى غير عربي بل معرب، وقرىء، - قسية - بكسر القاف للاتباع.
* (يحرفون الكلم عن مواضعه) * استئناف لبيان مرتبة قساوة قلوبهم فإنه لا مرتبة أعظم مما ينشأ عنه الاجتراء على تحريف كلام رب العالمين والافتراء عليه عز وجل، والتعبير بالمضارع للحكاية واستحضار الصورة، وللدلالة على التجدد والاستمرار، وجوز أن يكون حالا من مفعول * (لعناهم) *، أو من المضاف إليه في قلوبهم وضعف بما ضعف، وجعله حالا من القلوب، أو من ضميره في * (قاسية) * كما قيل، لا يصح لعدم العائد منه إلى ذي الحال، وجعل القلوب بمعنى أصحابها مما لا يلتفت إليه أصحابها * (ونسوا حظا) * أي وتركوا نصيبا وافيا، واستعمال النسيان بهذا المعنى كثير * (مما ذكروا به) * من التوراة أو مما أمروا به فيها من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم،
89

وقيل: حرفوا التوراة فسقطت بشؤم ذلك أشياء منها عن حفظهم، وأخرج ابن المبارك وأحمد في " الزهد " عن ابن مسعود قال: إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها، وفي معنى ذلك قول الشافعي رضي الله تعالى عنه:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي * فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور * ونور الله لا يهدى لعاصي
* (ولا تزال تطلع على خائنة منهم) * أي خيانة كما قرىء به على أنها مصدر على وزن فاعلة - كالكاذبة، واللاغية - أو فعلة خائنة أي ذات خيانة، وإلى ذلك يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو فرقة خائنة، أو نفس خائنة، أو شخص خائنة على أنه وصف، والتاء للمبالغة لكنها في فاعل قليلة، و * (منهم) * متعلق بمحذوف وقع صفة لها، خلا أن - من - على الوجهين الأولين ابتدائية أي على خيانة، أو فعلة ذات خيانة كائنة منهم صادرة عنهم، وعلى الأوجه الأخر تبعيضية، والمعنى إن الغدر والخيانة عادة مستمرة لهم ولأسلافهم كما يعلم من وصفهم بالتحريف وما معه بحيث لا يكادون يتركونها أو يكتمونها فلا تزال ترى ذلك منهم * (إلا قليلا منهم) * استثناء من الضمير المجرور في * (منهم) *؛ والمراد بالقليل عبد الله بن سلام وأضرابه الذين نصحوا لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وجعله بعضهم استثناء من * (خائنة) * على الوجه الثاني، فالمراد بالقليل الفعل القليل: و * (من) * ابتدائية كما مر أي إلا فعلا قليلا كائنا منهم، وقيل: الاستثناء من قوله تعالى: * (وجعلنا قلوبهم قاسية) *.
* (فاعف عنهم واصفح) * أي إذا تابوا أو بذلوا الجزية - كما روي عن الحسن وجعفر بن مبشر - واختاره الطبري، فضمير عنهم راجع إلى ما رجع إليه نظائره، وعن أبي مسلم أنه عائد على القليل المستثنى أي فاعف عنهم ما داموا على عهدك ولم يخونوك، وعلى القولين فالآية محكمة، وقيل: الضمير عائد على ما اختاره
الطبري، وهي مطلقة إلا أنها نسخت بقوله تعالى: * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله) * (التوبة: 29) الآية. وروي ذلك عن قتادة، وعن الجبائي أنها منسوخة بقوله تعالى: * (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء) * (الأنفال: 58) * (إن الله يحب المحسنين) * تعليل للأمر وحث على الامتثال وتنبيه على أن العفو على الإطلاق من باب الإحسان.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات * (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) * أمر بالتطهير لمن أراد الوقوف بين يدي الملك الكبير جل شأنه وعظم سلطانه، وبدأ بالوجه - لأنه سبحانه وتعالى نقشه بنقش خاتم صفاته، وفي " الفتوحات " لا خلاف في أن غسل الوجه فرض وحكمة في الباطن المراقبة والحياء من الله تعالى مطلقا، ثم اختلف الحكم في الظاهر في أن تحديد غسل الوجه في الوضوء في ثلاثة مواضع: منها البياض الذي بين العذار والأذن، والثاني: ما سدل من اللحية، والثالث: تخليل اللحية، فأما البياض المذكور فمن قائل: إنه من الوجه، ومن قائل: إنه ليس من الوجه، وأما ما انسدل من اللحية فمن قائل: بوجوب إمرار الماء عليه، ومن قائل: بأنه لا يجب، وكذلك تخليل اللحية، فمن قائل: بوجوبه، ومن قائل: بأنه لا يجب، وحكم ذلك في الباطن أما غسل الوجه مطلقا من غير نظر إلى تحديد الأمر في ذلك فإن فيه ما هو فرض، وفيه ما هو ليس بفرض، فأما الفرض فالحياء من الله تعالى أن يراك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك، وأما السنة
90

منه فالحياء من الله تعالى أن تنظر إلى عورتك أو عورة امرأتك، وإن كان ذلك قد أبيح لك، ولكن استعمال الحياء فيها أفضل وأولى فما يتعين منه فهو فرض عليك، وما لا يتعين ففعلته فهو سنة واستحباب، فيراقب الإنسان أفعاله ظاهرا وباطنا، ويراقب ربه في باطنه، فإن وجه قلبه هو المعتبر، ووجه الإنسان على الحقيقة ذاته يقال: وجه الشيء أي حقيقته وعينه وذاته، فالحياء خير كله، و - الحياء من الإيمان - ولا يأتي إلا بخير، وأما البياض الذي بين العذار والأذن، وهو الحد الفاصل بين الوجه والأذن فهو الحد بين ما كلف الإنسان من العمل في وجهه والعمل في سماعه، فالعمل في ذلك إدخال الحد في المحدود، فالأولى بالإنسان أن يصرف حياءه في سمعه كما صرفه في بصره، فكما أن الحياء غض البصر كما قال تعالى: * (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) * (النور: 30) كذلك يلزم الحياء من الله تعالى أن لا يسمع ما لا يحل له من غيبة؛ وسوء قول من متكلم بما لا ينبغي فإن ذلك البياض هو بين العذار والأذن - وهو محل الشبهة - وهو أن يقول: أصغيت إليه لأرد عليه، وهذا معنى العذار فإنه من العذر أي الإنسان يعتذر إذا قيل له: لم أصغيت إلى هذا القول بأذنك؟ فيقول: إني أردت أن أحقق سماع ما قال حتى أنهاه عنه، فكنى عنه بالعذار فمن رأى وجوب ذلك عليه غسله، ومن لم ير وجوب ذلك إن شاء غسل وإن شاء ترك، وأما غسل ما استرسل من اللحية وتخليلها فهي الأمور العوارض، فإن اللحية شيء يعرض في الوجه وليست من أصله، فكل ما يعرض لك في وجه ذلك من المسائل فأنت فيها بحكم ذلك العارض، فإن تعين عليك طهارة ذلك العارض فهو قول من يقول بوجوب غسله، وإن لم يتعين عليك طهارته فطهرته استحبابا أو تركته لكونه ما تعين عليك فهو قول من لم يقل بوجوب الطهارة فيه، وقد بين أن حكم الباطن يخالف الظاهر بأن فيه وجها إلى الفريضة، ووجها إلى السنة والاستحباب، فالفرض من ذلك لا بد من إتيانه، وغير الفرض عمله أولى من تركه، وذلك سار في جميع العبادات انتهى.
وقال بعض العارفين: هذا خطاب للمؤمنين بالإيمان العلمي إذا قاموا عن نوم الغفلة وقصدوا صلاة الحضور والمناجاة الحقيقية والتوجه إلى الحق أن يطهروا وجوه قواهم بماء العلم النافع الطاهر المطهر من علم الشرائع والأخلاق والمعاملات الذي يتعلق بإزالة الموانع عن لوث صفات النفس، وأول هذا الأيدي في قوله تعالى: * (وأيديكم) * بالقوى والقدر أي طهروا أيضا قواكم وقدركم عن دنس تناول الشهوات والتصرفات في مواد الرجس * (إلى المرافق) * أي قدر الحقوق والمنافع، وقال الشيخ الأكبر قدس سره: أجمع الناس على غسل اليدين والذراعين، واختلفوا في إدخال المرافق في هذا الغسل، فمن قائل: بوجوب إدخالهما، ومن قائل: بعدم الوجوب، لكن لم ينازع بالاستحباب، وحكم الباطن في ذلك أن غسل اليدين والذراعين إشارة إلى غسلهما بالكرم والجود والسخاء والهباة والاعتصام والتوكل، فإن هذا وشبهه من نعوت اليدين والمعاصم للمناسبة، بقي غسل المرافق وهي رؤية الأسباب التي يرتفق العبد ويأنس بها لنفسه، فمن رأى إدخال المرافق في نفسه رأى أن الأسباب إنما وضعها الله تعالى حكمة منه في خلقه فلا يرد أن تعطل حكمة الله تعالى لا على طريق الاعتماد عليها فإن ذلك يقدح في اعتماده على الله تعالى، ومن رأى عدم إيجابها في الغسل رأى سكون النفس إلى الأسباب، وأنه لا يخلص له مقام الاعتماد على الله تعالى مع وجود رؤية الأسباب، وكل من يقول: بأنه لا يجب غسلها يقول: يستحب كذلك رؤية الأسباب مستحبة عند الجميع وإن اختلفت أحكامهم فيها، فإن الله تعالى ربط الحكمة في وجودها: * (وامسحوا برؤوسكم) * قال بعض العارفين: أي بجهات أرواحكم عن قتام كدورة القلب وغبار تغيره بالتوج
91

إلى العالم السفلي ومحبة الدنيا بنور الهدى، فإن الروح لا يتكدر بالتعلق بل يحتجب نوره عن القلب فيسود القلب ويظلم ويكفى في انتشار نوره صقل الوجه العالي الذي يتوجه إليه، فإن القلب ذو وجهين: أحدهما: إلى الروح - والرأس - هنا إشارة إليه، والثاني: إلى النفس وقواها، وأحرى - بالرجل - أن تكون إشارة إليه. وقال الشيخ الأكبر قدس الله سره بعد أن بين اختلاف العلماء في القدر الذي يجب مسحه: وأما حكم مسح الرأس في الباطن فأصله من الرياسة وهي العلو والارتفاع، ولما كان أعلا ما في البدن في ظاهر العين وجميع البدن تحته سمي رأسا، فإن الرئيس فوق المرؤوس وله جهة فوق، وقد وصف الله تعالى نفسه بالفوقية على عباده بصفة القهر، فقال سبحانه: * (وهو القاهر فوق عباده) * (الأنعام: 18) فكان الرأس أقرب عضو في الجسد إلى الحق تعالى لمناسبة الفوقية، ثم له الشرف الآخر في المعنى الذي به رأس على البدن كله، وهو أنه محل جميع القوى كلها الحسية والمعنوية، فلما كانت له هذه الرياسة من هذه الجهة سمي رأسا، ثم إن العقل الذي جعله الله تعالى أشرف ما في الإنسان جعل محله اليافوخ وهو أعلى موضع في الرأس فجعله سبحانه مما يلي جانب الفوقية، ولما كان محلا لجميع القوى الظاهرة والباطنة ولكل قوة حكم وسلطان وفخر يورثها ذلك عزة على غيرها، وكان محل هذه القوى من الرأس مختلفة فعمت الرأس كله وجب مسح كله في هذه العبارة لهذه الرياسة السارية فيه
كله من جهة هذه القوى بالتواضع والاقناع، فيكون لكل قوة مسح مخصوص من مناسبة دعواها، وهذا ملحظ من يرى وجوب مسح جميع الرأس؛ ومن رأى تفاوت القوى بالرياسة فإن القوة المصورة مثلا لها سلطان على القوة الخيالية فهي الرئيسة عليها، وإن كانت للقوة الخيالية رياسة قال: الواجب عليه مسح بعض الرأس وهو المقسم بالأعلى، ثم اختلفوا في هذا البعض، فكل عارف قال بحسب ما أعطاه الله تعالى من الإدراك في مراتب هذه القوة فيمسح بحسب ما يرى، ومعنى المسح هو التذلل وإزالة الكبرياء والشموح بالتواضع والعبودية لأن المتوضىء بصدد مناجاة ربه وطلب وصلته، والعزيز الرئيس إذا دخل على من ولاه تلك العزة ينعزل عن عزته ورياسته بعز من دخل عليه فيقف بين يديه وقوف العبيد في محل الإذلال لا بصفة الإذلال فمن غلب على خاطره رياسة بعض القوى على غيرها وجب عليه مسح ذلك البعض من أجل الوصلة التي تطلب بهذه العبادة ولهذا لم يشرع مسح الرأس في التيمم لأن وضع التراب على الرأس من علامات الفراق، فترى الفاقدحبيبه بالموت يضع التراب على رأسه، وتفصيل رياسات القوى معلوم عند أهل هذا الشأن، وأما التبعيض في اليد الممسوح بها، واختلافهم في ذلك فاعمل فيه كما تعمل في الممسوح سواء، فإن المزيل لهذه الرياسة أسباب مختلفة في القدرة على ذلك، ومحل ذلك اليد، فمن مزيل بصفة القهر ومن مزيل بسياسة وترغيب إلى آخر ما قال: * (وأرجلكم) * أشير بها إلى القوى الطبيعية البدنية المنهمكة في الشهوات والإفراط باللذات، وغسلها بماء علم الأخلاق وعلم الرياضيات حتى ترجع إلى الصفاء الذي يستعد به القلب للحضور والمناجاة.
وفي " الفتوحات " اختلفوا في صفة طهارتها بعد الاتفاق على أنها من أعضاء الوضوء هل ذلك بالغسل أو بالمسح أو بالتخيير بينهما؟ ومذهبنا التخيير، والجمع أولى، وما من قول إلا وبه قائل، والمسح بظاهر الكتاب، والغسل بالسنة، ومحتمل الآية بالعدول عن الظاهر منها، وأما حكم ذلك في الباطن فاعلم أن السعي إلى الجماعات وكثرة الخطا إلى المساجد والثبات يوم الزحف مما تطهر به الأقدام فلتكن طهارة
92

رجليك بما ذكرناه وأمثاله، ولا تتمثل بالنميمة بين الناس ولا تمش مرحا واقصد في مشيك واغضض من صوتك، ومن هذا ما هو فرض بمنزلة المرة الواحدة في غسل عضو الوضوء الرجل وغيره، ومنه ما هو سنة وهو ما زاد على الفرض، وهو مشيك فيما ندبك الشرع إليه وما أوجبه عليك، فالواجب عليك نقل الأقدام إلى مصلاك، والمندوب والمستحب والسنة وما شئت فقل من ذلك نقل الأقدام إلى المساجد من قرب وبعد، فإن ذلك ليس بواجب فإن كان الواجب من ذلك عند بعض الناس مسجدا لا بعينه وجماعة لا بعينها فعلى هذا يكون غسل رجليك في الباطن من طريق المعنى، واعلم أن الغسل يتضمن المسح فمن غسل فقد أدرج المسح فيه كاندراج نور الكواكب في نور الشمس، ومن مسح لم يغسل إلا في مذهب من يرى، وينقل عن العرب أن المسح لغة في الغسل فيكون من الألفاظ المترادفة، والصحيح في المعنى في حكم الباطن أن يستعمل المسح فيما يقتضي الخصوص من الأعمال، والغسل فيما يقتضي العموم، ولهذا كان مذهبنا التخيير بحسب الوقت، فإن الشخص قد يسعى لفضيلة خاصة في حاجة شخص بعينه فذلك بمنزلة المسح، وقد يسعى للملك في حاجة تعم الرعية فيدخل ذلك الشخص في هذا العموم فذلك بمنزلة الغسل الذي اندرج فيه المسح انتهى.
* (وإن كنتم جنبا فاطهروا) * الجنابة غربة العبد عن موطنه الذي يستحقه، وليس إلا العبودية وتغريب صفة ربانية عن موطنها وكل ذلك يوجب التطهير، وقوله تعالى: * (وإن كنتم مرضى) * الخ قد تقدم نظيره. وفي " الفتوحات " اختلف في حد الأيدي المذكورة في هذه الطهارة، فمن قائل: حدها مثل حدها في الوضوء ومن قائل: هو الكف فقط - وبه أقول - ومن قائل: إن الاستحباب إلى المرفقين والفرض الكفان، ومن قائل: إن الفرض إلى المناكب، والاعتبار في ذلك أنه لما كان التراب في الأرض أصل نشأة الإنسان وهو تحقيق عبوديته وذلته أمر بطهارة نفسه من التكبر بالتراب، وهو حقيقة عبوديته ويكون ذلك بنظره في أصل خلقه، ولما كان من جملة ما يدعيه الاقتدار والعطاء مع أنه مجبول على العجز والبخل، وهذه الصفات من صفات الأيدي قيل له عند هذه الدعوة ورؤية نفسه في الاقتدار الظاهر منه، والكرم والعطاء: طهر نفسك من هذه الصفة بنظرك فيما جبلت عليه من ضعفك ومن بخلك فقد قال تعالى: * (خلقكم من ضعف) * (الروم: 54) * (ومن يوق شح نفسه) * (الحشر: 9) * (وإذا مسه الخير منوعا) * (المعارج: 21) فإذا نظر إلى هذا الأصل زكت نفسه وتطهرت من الدعوى، واختلفوا في عدد الضربات على الصعيد للتيمم، فمن قائل: واحدة، ومن قائل: اثنتان، والقائلون بذلك، منهم من قال: ضربة للوجه وضربة لليدين، ومنهم من قال: ضربتان لليد وضربتان للوجه، ومذهبنا أنه من ضرب واحدة أجزأه، ومن ضرب اثنتين اجزأه وحديث الضربة الواحدة أثبت، والاعتبار في ذلك التوجه إلى ما يكون به هذه الطهارة، فمن غلب التوحيد في الأفعال قال: بالضربة الواحدة، ومن غلب حكم السبب الذي وضعه الله تعالى ونسب الفعل إلى الله تعالى مع تعريته عنه مثل قوله تعالى: * (والله خلقكم وما تعملون) * (الصافات: 96) فأثبت ونفى قال: بالضربتين ومن قال: إن ذلك في كل فعل قال: بالضربتين لكل عضو انتهى. وقد أطال الشيخ قدس سره الكلام في أنواع الطهارة وأتى فيه بالعجب العجاب. * (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) * أي من ضيق ومشقة بكثرة المجاهدات * (ولكن يريد ليطهركم) * من الصفات الخبيثة، وعن سهل: الطهارة على سبعة أوجه: طهارة العلم من الجهل وطهارة الذكر من النسيان وطهارة اليقين من الشك وطهارة العقل من الحمق وطهارة الظن من التهمة وطهارة الإيمان مما دونه وطهارة القلب من
93

الإرادات، وقال: إسباغ طهارة الظاهر تورث طهارة الباطن، وإتمام الصلاة يورث الفهم عن الله تعالى، والطهارة تكون في أشياء: في صفاء المطعم ومباينة الأنام وصدق اللسان وخشوع السر، وكل واحد من هذه الأربع مقابل لما أمر الله تعالى بتطهيره وغسله من الأعضاء الظاهرة.
وقال ابن عطاء: البواطن مواضع نظر الحق سبحانه فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم "، فموضع نظر الحق جل وعلا أحق بالطهارة، وذلك إنما يكون بإزالة أنواع الخيانات والمخالفات وفنون الوساوس والغش والحقد والرياء والسمعة وغير ذلك من المناهي
، وليس شيء على العارفين أشد من جمع الهم وطهارة السر، وفي إضافة التطهير إليه تعالى ما لا يخفى من اللطف * (وليتم نعمته عليكم) * بالتكميل، وقال بعض العارفين: إتمام النعمة لقوم نجاتهم بتقواهم، وعلى آخرين نجاتهم عن تقواهم فشتان بين قوم وقوم و * (لعلكم تشكرون) * (المائدة: 6) نعمة الكمال بالاستقامة والقيام بحق العدالة عند البقاء بعد الفناء * (واذكروا نعمة الله عليكم) * بالهداية إلى طريق الوصول إليه، * (وميثاقه الذي واثقكم به) * وهو عقود عزائمه المذكورة * (إذ قلتم سمعنا وأطعنا) * (المائدة: 7) أي إذا قبلتموها من معدن النبوة بصفاء الفطرة، وقال بعضهم: المراد بنعمة الله تعالى هدايته سبحانه السابقة في الأزل لأهل السعادة، وبالميثاق الميثاق الذي واثق الله تعالى به عباده أن لا يشتغلوا بغيره عنه سبحانه، وقال أبو عثمان: النعم كثيرة وأجلها المعرفة به سبحانه، والمواثيق كثيرة وأجلها الإيمان * (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم) * أي من قوى نفوسكم المحجوبة وصفاتها * (أن يبسطوا إليكم أيديهم) * بالاستيلاء والقهر لتحصيل مآربها وملاذها * (فكف أيديهم عنكم) * أي فمنعها عنكم بما أراكم من طريق التطهير والتنزيه * (واتقوا الله) * واجعلوه سبحانه وقاية في قهرها ومنعها * (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * (امائدة: 11) برؤية الأفعال كلها منه عز وجل: * (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا) * وهم في الأنفس الحواس الخمس الظاهرة، والخمس الباطنة والقوة العاقلة النظرية والقوة العملية، وذكر غير واحد من ساداتنا الصوفية أن النقباء أحد أنواع: الأولياء: نفعنا الله تعالى ببركاتهم، ففي " الفتوحات ": ومنهم النقباء وهم إثنا عشر نقيبا في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون على عدد بروج الفلك الإثنى عشر برجا، كل نقيب عالم بخاصية كل برج، وبما أودع الله تعالى في مقامه من الأسرار والتأثيرات، وما يعطى للنزلاء فيه من الكواكب السيارة والثوابت، فإن للثوابت حركات وقطعا في البروج لا يشعر به في الحس لأنه لا يظهر ذلك إلا في آلاف من السنين، وأعمار الرصد تقصر عن مشاهدة ذلك؛ واعلم أن الله تعالى قد جعل بأيدي هؤلاء النقباء علوم الشرائع المنزلة، ولهم استخراج خبايا النفوس وغوائلها ومعرفة مكرها وخداعها، وإبليس مكشوف عندهم يعرفون منه ما لا يعرفه من نفسه وهم من العلم بحيث إذا رأى أحدهم أثر وطأة شخص في الأرض علم أنها وطأة سعيد أو شقي مثل العلماء بالآثار والقيافة، وبالديار المصرية منهم كثير يخرجون الأثر في الصخور، وإذا رأوا شخصا يقولون: هذا الشخص هو صاحب ذلك الأثر وليسوا بأولياء، فما ظنك بما يعطيه الله تعالى لهؤلاء النقباء من علوم الآثار؟ انتهى.
وقد عد الشيخ قدس سره فيها أنواعا كثيرة، والسلفيون ينكرون أكثر تلك الأسماء، ففي بعض " فتاوي ابن تيمية "، وأما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل الغوث الذي بمكة والأوتاد الأربعة
94

والأقطاب السبعة، والأبدال الأربعين والنجباء الثلثمائة، فهي ليست موجودة في كتاب الله تعالى ولا هي مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل إلا لفظ الأبدال، فقد روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن فيهم - يعني أهل الشام - الأبدال أربعين رجلا كلما مات رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلا " ولا توجد أيضا في كلام السلف انتهى، وأنا أقول:
وما أنا إلا من غزية إن غوت * غويت وإن ترشد غزية أرشد
* (وقال الله) * تعالى * (إني معكم) * بالتوفيق والإعانة * (لئن أقمتم الصلاة) * وتحليتم بالعبادات البدنية * (وآتيتم الزكاة) * وتخليتم عن الصفات الذميمة من البخل والشح فزهدتم وآثرتم * (وآمنتم برسلي) * جميعهم من العقل والإلهامات والأفكار الصائبة والخواطر الصادقة من الروح والقلب وإمداد الملكوت * (وعزرتموهم) * أي وعظتموهم بأن سلطتموهم على شياطين الوهم وقويتموهم ومنعتموهم من الوساوس وإلقاء الوهميات والخيالات والخواطر النفسانية * (وأقرضتم الله قرضا حسنا) * بأن تبرأتم من الحول والقوة والعلم والقدرة، وأسندتم كل ذلك إليه عز شأنه، بل ومن الأفعال والصفات جميعها، بل ومن الذات بالمحو والفناء وإسلامها إلى باريها جل وعلا * (لأكفرن عنكم سيآتكم) * التي هي الحجب والموانع لكم * (ولأدخلنكم جنات) * مما عندي * (تجري من تحتها الأنهار) * وهي أنهار علوم التوكل والرضاء والتسليم والتوحيد، وتجليات الأفعال والصفات والذات * (فمن كفر بعد ذلك) * العهد وبعث النقباء منكم * (فقد ضل سواء السبيل) * (المائدة: 12) وهلك مع الهالكين * (فبما نقضهم ميثاقهم) * الذي وثقوه * (لعناهم) * وطردناهم عن الحضرة * (وجعلنا قلوبهم قاسية) * باستيلاء صفات النفس عليها وميلها إلى الأمور الأرضية * (يحرفون الكلم عن مواضعه) * حيث حجبوا عن أنوار الملكوت والجبروت التي هي كلمات الله تعالى واستبدلوا قوى أنفسهم بها واستعملوا وهمياتهم وخيالاتهم بدل حقائقها * (ونسوا حظا) * نصيبا وافرا * (مما ذكروا به) * في العهد اللاحق وهو ما أوتوه في العهد السابق من الكمالات الكامنة في استعداداتهم الموجودة فيها بالقوة * (ولا تزال تطلع على خائنة منهم) * من نقض عهد ومنع أمانة لاستيلاء شيطان النفس عليهم وقساوة قلوبهم * (إلا قليلا منهم) * وهو من جره استعداده إلى ما فيه صلاحه * (فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين) * (المائدة: 13) إلى عباده باللطف والمعاملة الحسنة جعلنا الله تعالى وإياكم من المحسنين.
* (ومن الذين قالوا إنا نص‍ارى أخذنا ميث‍اقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضآء إلى يوم القي‍امة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون) *.
* (ومن الذين قالوا إنا نص‍ارىأخذنا ميث‍اقهم) * شروع في بيان قبائح النصارى وجناياتهم إثر بيان قبائح وجنايات إخوانهم اليهود، و * (من) * متعلقة - بأخذنا -، وتقديم الجار للاهتمام، ولأن ذكر (حال) إحدى الطائفتين مما يوقع في ذهن السامع أن حال الأخرى ماذا؟ كأنه قيل: ومن الطائفة الأخرى أيضا أخذنا ميثاقهم والضمير المجرور راجع إلى الموصول، أو عائد على بني إسرائيل الذين عادت إليهم الضمائر السابقة، وهو نظير قولك: أخذت من زيد ميثاق عمرو أي مثل ميثاقه. وجوز أن يكون الجار متعلقا بمحذوف وقع خبرا لمبتدأ محذوف أيضا، وجملة * (أخذنا) * صفة أي - ومن الذين قالوا إنا نصارى قوم أخذنا منهم ميثاقهم - وقيل: المبتدأ المحذوف * (من) * الموصولة، أو الموصوفة، ولا يخفى أن جواز حذف الموصول وإبقاء صلته لم يذهب إليه سوى الكوفيين.
وإنما قال سبحانه: * (قالوا إنا نصارى) * ولم يقل جل وعلا - ومن النصارى - كما هو الظاهر بدون إطناب للإيماء كما قال بعضهم: إلى أنهم على دين النصرانية بزعمهم
95

وليسوا عليها في الحقيقة لعدم عملهم بموجبها ومخالفتهم لما في الإنجيل من التبشير بنبينا صلى الله عليه وسلم، وقيل: للإشارة إلى أنهم لقبوا بذلك أنفسهم على معنى أنهم أنصار الله تعالى، وأفعالهم تقتضي نصرة الشيطان، فيكون العدول عن الظاهر ليتصور تلك الحال في ذهن السامع ويتقرر أنهم ادعوا نصرة الله تعالى وهم منها بمعزل، ونكتة تخصيص هذا الموضع بإسناد النصرانية إلى دعواهم أنه لما كان المقصود في هذه الآية ذمهم بنقض الميثاق المأخوذ عليهم في نصرة الله تعالى ناسب ذلك أن يصدر الكلام بما يدل على أنهم لم ينصروا الله تعالى ولم يفوا بما واثقوا عليه من النصرة وما كان حاصل أمرهم إلا التفوه بالدعوى وقولها دون فعلها، ولا يخفى أن هذا مبني على أن وجه تسميتهم نصارى كونهم أنصار الله تعالى وهو وجه مشهور، ولهذا يقال لهم أيضا: أنصار، وفي غير ما موضع أن عيسى عليه السلام ولد في سنة أربع وثلثمائة لغلبة الإسكندر في بيت لهم من المقدس، ثم سارت به أمه عليها السلام إلى مصر، ولما بلغ اثنتي عشرة سنة عادت به إلى الشام فأقام ببلدة تسمى الناصرة، أو " نصورية وبها سميت النصارى ونسبوا إليها، وقيل: إنهم جمع نصران كندامى. وندمان - أو جمع نصري - كمهري. ومهاري - والنصرانية والنصرانة واحدة النصارى، والنصرانية أيضا دينهم، ويقال لهم: نصارى وأنصار، وتنصر دخل في دينهم ".
* (فنسوا) * على إثر أخذ الميثاق * (حظا) * نصيبا وافرا * (مما ذكروا به) * في تضاعيف الميثاق من الإيمان بالله تعالى وغير ذلك من الفرائض، وقيل: هو ما كتب عليهم في الإنجيل من الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم فنبذوه وراء ظهورهم واتبعوا أهواءهم وتفرقوا إلى اثنتين وسبعين فرقة * (فأغرينا) * أي ألزمنا وألصقنا، وأصله اللصوق يقال: غريت بالرجل غرى إذا لصقت به قاله الأصمعي، وقال غيره: غريت به غراءا بالمد، وأغريت زيدا بكذا حتى غرى به، ومنه الغراء الذي يلصق به الأشياء، وقوله تعالى: * (بينهم) * ظرف - لأغرينا - أو متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعوله أي أغرينا * (العداوة والبغضاء) * كائنة بينهم. قال أبو البقاء: ولا سبيل إلى جعله ظرفا لهما لأن المصدر لا يعمل فيما قبله، وأنت تعلم أن منهم من أجاز ذلك إذا كان المعمول ظرفا، وقوله تعالى: * (إلى يوم القيامة) * إما غاية للإغراء، أو للعداوة والبغضاء أي يتعادون ويتباغضون إلى يوم القيامة حسبما تقتضيه أهواؤهم المختلفة وآراؤهم الزائغة المؤدية إلى التفرق إلى الفرق الكثيرة، ومنها النسطورية واليعقوبية والملكانية، وقد تقدم الكلام فيهم، فضمير * (بينهم) * إلى النصارى كما روي عن الربيع، واختاره الزجاج. والطبري، وعن الحسن. وجماعة من المفسرين أنه عائد على اليهود والنصارى.
* (وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون) * في الدنيا من نقض الميثاق ونسيان الحظ الوافر مما ذكروا به، والكلام مساق للوعيد الشديد بالجزاء والعقاب؛ فالإنباء مجاز عن وقوع ذلك وانكشافه لهم، لا أن ثمت أخبارا حقيقة، والنكتة في التعبير بالإنباء الإنباء بأنهم لا يعلمون حقيقة ما يعملونه من الأعمال السيئة واستتباعها للعذاب، فيكون ترتيب العذاب عليها في إفادة العلم بحقيقة حالها بمنزلة الإخبار بها، والالتفات إلى ذكر الاسم الجليل لما مر مرارا، والتعبير عن العمل بالصنع للإيذان برسوخهم فيه و * (سوف) * لتأكيد الوعيد.
* (ي‍اأهل الكت‍ابقد جآءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكت‍ابويعفوا عن كثير قد جآءكم من الله نور وكت‍ابمبين) *.
* (يا أهل الكت‍اب) * التفات إلى خطاب الفريقين من اليهود والنصارى على أن الكتاب جنس صادق بالواحد
96

والاثنين وما فوقهما، والتعبير عنهم بعنوان أهلية الكتاب للتشنيع، فإن أهلية الكتاب من موجبات مراعاته والعمل بمقتضاه وبيان ما فيه من الأحكام، وقد فعلوا ما فعلوا وهم يعلمون * (قد جاءكم رسولنا) * محمد صلى الله عليه وسلم، والتعبير عنه بذلك مع الإضافة إلى ضمير العظمة للتشريف والإيذان بوجوب اتباعه عليه الصلاة والسلام * (يبين لكم) * حال من * (رسولنا) * وإيثار الفعلية للدلالة على تجدد البيان أي حال كونه مبينا لكم على سبيل التدريج حسبما تقتضيه المصلحة * (كثيرا مما كنتم تخفون من الكت‍اب) * أي التوراة والإنجيل، وذلك كنعت النبي صلى الله عليه وسلم وآية الرجم وبشارة عيسى بأحمد عليهما الصلاة والسلام، وأخرج ابن جرير عن عكرمة أنه قال: إن نبي الله تعالى صلى الله عليه وسلم أتاه اليهود يسألونه عن الرجم فقال عليه الصلاة والسلام: " أيكم أعلم؟ فأشاروا إلى ابن صوريا فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى عليه السلام والذي رفع الطور وبالمواثيق التي أخذت عليهم حتى أخذه أفكل فقال: إنه لما كثر فينا جلدنا مائة وحلقنا الرؤوس فحكم عليهم بالرجم فأنزل الله تعالى هذه الآية " وتأخير * (كثيرا) * عن الجار والمجرور لما مر غير مرة، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرارهم على الكتم والإخفاء، و * (مما) * متعلق بمحذوف وقع صفة - لكثيرا - وما موصولة اسمية وما بعدها صلتها، والعائد محذوف، و * (من الكتاب) * حال من ذلك المحذوف أي يبين لكم كثيرا من الذي تخفونه على الاستمرار حال كونه من الكتاب الذي أنتم أهله والعاكفون عليه * (ويعفوا عن كثير) * أي ولا يظهر كثيرا مما تخفونه إذا لم تدع إليه داعية دينية صيانة لكم عن زيادة الافتضاح، وقال الحسن: أي يصفح عن كثير منكم ولا يؤاخذه إذا تاب واتبعه، وأخرج ابن حميد عن قتادة مثله، واعترض أنه مخالف للظاهر لأن الظاهر أن يكون هذا الكثير كالكثير السابق، وفيه نظر - كما قال الشهاب - لأن النكرة إذا أعيدت نكرة فهي متغايرة، نعم اختار الأول الجبائي وجماعة من المفسرين، والجملة معطوفة على الجملة الحالية داخلة في حكمها.
* (قد جاءكم من الله نور) * عظيم وهو نور الأنوار والنبي المختار صلى الله عليه وسلم، وإلى هذا ذهب قتادة واختاره الزجاج، وقال أبو علي الجبائي: عنى بالنور القرآن لكشفه وإظهاره طرق الهدى واليقين واقتصر على ذلك الزمخشري، وعليه فالعطف في قوله تعالى: * (وكت‍ابمبين) * لتنزيل المغايرة بالعنوان منزلة المغايرة بالذات، وأما على الأول: فهو ظاهر، وقال الطيبي: إنه أوفق لتكرير قوله سبحانه: * (قد جاءكم) * بغير عاطف فعلق به أولا وصف الرسول والثاني: وصف
الكتاب، وأحسن منه ما سلكه الراغب حيث قال: بين في الآية الأولى والثانية النعم الثلاث التي خص بها العباد النبوة والعقل والكتاب، وذكر في الآية الثالثة ثلاثة أحكام يرجع كل واحد إلى نعمة مما تقدم ف * (يهدي به) * (المائدة: 16) إلى آخره يرجع إلى قوله سبحانه: * (قد جاءكم رسولنا) * و * (يخرجهم) * الخ يرجع إلى قوله تعالى: * (قد جاءكم نور) * * (ويهديهم) * رجع إلى قوله عز شأنه: * (وكتاب مبين) * كقوله: * (هدى للمتقين) * (البقرة: 2) انتهى.
وأنت تعلم أنه لا دليل لهذا الإرجاع سوى اعتبار الترتيب اللفظي، ولو أرجعت الأحكام الثلاثة إلى الأول لم يمتنع، ولا يبعد عندي أن يراد بالنور والكتاب المبين النبي صلى الله عليه وسلم، والعطف عليه كالعطف على ما قاله الجبائي، ولا شك في صحة إطلاق كل عليه عليه الصلاة والسلام، ولعلك تتوقف في قبوله من باب
97

العبارة فليكن ذلك من باب الإشارة، والجار والمجرور متعلق بجاء، و * (من) * لابتداء الغاية مجازا، أو متعلق بمحذوف وقع حالا من نور، وتقديم ذلك على الفاعل للمسارعة إلى بيان كون المجىء من جهته تعالى العالية والتشويق إلى الجائي، ولأن فيه نوع طول يخل تقديمه بتجاوب النظم الكريم، والمبين من بان اللازم بمعنى ظهر فمعناه الظاهر الإعجاز، ويجوز أن يكون من المتعدي فمعناه المظهر للناس ما كان خافيا عليهم..
* (يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السل‍ام ويخرجهم من الظلم‍ات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) *.
* (يهدي به الله) * توحيد الضمير لاتحاد المرجع بالذات، أو لكونهما في حكم الواحد، أو لكون المراد يهدي بما ذكر، وتقديم المجرور للاهتمام نظرا إلى المقام وإظهار الاسم الجليل لإظهار كمال الاعتناء بأمر الهداية، ومحل الجملة الرفع على أنها صفة ثانية لكتاب، أو النصب على الحالية منه لتخصيصه بالصفة. جوز أبو البقاء أن تكون حالا من * (رسولنا) * بدلا من * (يبين) * (المائدة: 15) وأن تكون حالا من الضمير في * (يبين) *، وأن تكون حالا من الضمير في * (مبين) *، وأن تكون صفة لنور * (من اتبع رضوانه) * أي من علم الله تعالى أنه يريد اتباع رضا الله تعالى بالإيمان به، و * (من) * موصولة أو موصوفة * (سبل السلام) * أي طرق السلامة من كل مخافة - قاله الزجاج - فالسلام مصدر بمعنى السلامة. وعن الحسن والسدي أنه اسمه تعالى، ووضع المظهر موضع المضمر ردا على اليهود والنصارى الواصفين له سبحانه بالنقائص تعالى عما يقولون علوا كبيرا، والمراد حينئذ بسبله تعالى شرائعه سبحانه التي شرعها لعباده عز وجل، ونصبها قيل: على أنها مفعول ثان ليهدي على إسقاط حرف الجر نحو * (واختار موسى قومه) * (الأعراف: 551). وقيل: إنها بدل من - رضوان - بدل كل من كل، أو بعض من كل أو اشتمال، والرضوان بكسر الراء وضمها لغتان، وقد قرىء بهما، و - السبل - بضم الباء والتسكين لغة، وقد قرىء به.
* (ويخرجهم) * الضمير المنصوب عائد إلى * (من) * والجمع باعتبار المعنى كما أن إفراد الضمير المرفوع في * (اتبع) * باعتبار اللفظ. * (من الظلم‍ات إلى النور) * أي من فنون الكفر والضلال إلى الإيمان * (بإذنه) * أي بإرادته أو بتوفيقه. * (ويهديهم إلى صراط مستقيم) * وهو دين الإسلام الموصل إلى الله تعالى - كما قال الحسن - وفي " إرشاد العقل السليم "، " وهذه الهداية عين الهداية إلى * (سبل السلام) * وإنما عطفت عليها تنزيلا للتغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي كما في قوله تعالى: * (ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ) * " (هود: 58).
وقال الجبائي: المراد بالصراط المستقيم طريق الجنة..
* (لقد كفر الذين قآلوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن فى الارض جميعا ولله ملك السم‍اوات والارض وما بينهما يخلق ما يشآء والله على كل شىء قدير) *.
* (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) * لا غير المسيح كما يقال: الكرم هو التقوى، وأن الله تعالى هو الدهر أي الجالب للحوادث لا غير الجالب، فالقصر هنا للمسند إليه على المسند بخلاف قولك: زيد هو المنطلق فإن معناه لا غير زيد، والقائلون لذلك - على ما هو المشهور - هم اليعقوبية المدعون بأن الله سبحانه قد يحل في بدن إنسان معين أو في روحه. وقيل: لم يصرح بهذا القول أحد من النصارى، ولكن لما زعموا أن فيه لاهوتا مع تصريحهم بالوحدة، وقولهم: لا إله إلا واحد لزمهم أن الله سبحانه هو المسيح، فنسب إليهم لازم قولهم توضيحا لجهلهم وتفضيحا لمعتقدهم، وقال الراغب: فإن قيل: إن أحدا لم يقل الله تعالى هو المسيح وإن قالوا المسيح هو الله تعالى وذلك أن عندهم أن المسيح من لاهوت وناسوت فيصح أن يقال المسيح هو اللاهوت وهو ناسوت كما صح أن يقال: الإنسان
98

هو حيوان مع تركبه من العناصر، ولا يصح أن يقال: اللاهوت هو المسيح كما لا يصح أن يقال: الحيوان هو الإنسان، قيل: إنهم قالوا: هو المسيح على وجه آخر غير ما ذكرت، وهو ما روي عن محمد بن كعب القرظي أنه لما رفع عيسى عليه الصلاة والسلام اجتمع طائفة من علماء بني إسرائيل فقالوا: ما تقولون في عيسى عليه الصلاة والسلام؟ فقال أحدهم: أو تعلمون أحدا يحيي الموتى إلا الله تعالى؟ فقالوا: لا، فقال: أو تعلمون أحدا يبرىء الأكمه والأبرص إلا الله تعالى؟ قالوا: لا، قالوا: فما الله تعالى إلا من هذا وصفه أي حقيقة الآلهية فيه، وهذا كقولك: الكريم زيد أي حقيقة الكرم في زيد، وعلى هذا قولهم: إن الله تعالى هو المسيح انتهى، وأنت تعلم أنه مع دعوى أن القائلين بالاتحاد يقولون بانحصار المعبود في المسيح كما هو ظاهر النظم لا يرد شيء. * (قل) * يا محمد تبكيتا لهم وإظهارا لبطلان قولهم الفاسد وإلقاما لهم الحجر، وقد يقال: الخطاب لكل من له أهلية ذلك، والفاء في قوله تعالى: * (فمن يملك من الله شيئا) * عاطفة على مقدر، أو جواب شرط محذوف، و * (من) * استفهامية للإنكار والتوبيخ، والملك الضبط والحفظ التام عن حزم، والمراد هنا - فمن يمنع أو يستطيع - كما في قوله: أصبحت لا أحمل السلاح ولا * أملك رأس البعير إن نفرا
و * (من الله) * متعلق به على حذف مضاف أي ليس الأمر كذلك، أو إن كان كما تزعمون فمن يمنع من قدرته تعالى وإرادته شيئا * (إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا) * ومن حق من يكون إلها أن لا يتعلق به ولا بشأن من شؤونه، بل بشيء من الموجودات قدرة غيره فضلا عن أن يعجز عن دفع
شيء منها عند تعلقها بهلاكه، فلما كان عجزه بينا لا ريب فيه ظهر كونه بمعزل عما تقولون فيه. والمراد بالإهلاك الإماتة والإعدام مطلقا لا عن سخط وغضب، وإظهار المسيح على الوجه الذي نسبوا إليه الألوهية حيث ذكرت معه الصفة في مقام الإضمار لزيادة التقرير والتنصيص على أنه من تلك الحيثية بعينها داخل تحت قهره تعالى وملكوته سبحانه، وقيل: وصفه بذلك للتنبيه على أنه حادث تعلقت به القدرة بلا شبهة لأنه تولد من أم، وتخصيص الأم بالذكر مع اندراجها في عموم المعطوف لزيادة تأكيد عجز المسيح، ولعل نظمها في سلك من فرض (إرادة) إهلاكهم مع تحقق هلاكها قبل لتأكيد التبكيت وزيادة تقرير مضمون الكلام بجعل حالها أنموذجا لحال بقية من فرض إهلاكه، وتعميم إرادة الإهلاك مع حصول الغرض بقصرها على عيسى عليه الصلاة والسلام لتهويل الخطب وإظهار كمال العجز ببيان أن الكل تحت قهره وملكوته تعالى لا يقدر (أحد) (1) على دفع ما أريد به فضلا عما أريد بغيره، وللإيذان بأن المسيح أسوة لسائر المخلوقات في كونه عرضة للهلاك كما أنه أسوة لهم في العجز وعدم استحقاق الألوهية. قاله المولى أبو السعود، و * (جميعا) * حال من المتعاطفات، وجوز أن يكون حالا من * (من) * فقط لعمومها.
وقوله تعالى: * (ولله ملك السم‍اوات والأرض وما بينهما) * أي ما بين طرفي العالم الجسماني فيتناول ما في السموات من الملائكة وغيرها، وما في أعماق الأرض والبحار من المخلوقات، قيل: تنصيص على كون الكل تحت قهره تعالى وملكوته إثر الإشارة إلى كون البعض كذلك أي له تعالى وحده ملك جميع الموجودات والتصرف المطلق فيها إيجادا وإعداما، وإحياءا وإماتة لا لأحد سواه استقلالا ولا اشتراكا، فهو تحقيق لاختصاص الألوهية به تعالى إثر بيان انتفائها عما سواه، وقيل: دليل آخر على نفي ألوهية عيسى عليه الصلاة والسلام لأنه لو كان إلها كان
99

له ملك السموات والأرض وما بينهما، وقيل: دليل على نفي كونه عليه الصلاة والسلام ابنا ببيان أنه مملوك لدخوله تحت العموم، ومن المعلوم أن المملوكية تنافي البنوة.
وقوله تعالى: * (يخلق ما يشاء) * جملة مستأنفة مسوقة لبيان بعض أحكام الملك والألوهية على وجه يزيح ما اعتراهم من الشبه في أمر المسيح عليه السلام لولادته من غير أب وخلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، و * (ما) * نكرة موصوفة محلها النصب على المصدرية أي يخلق أي خلق يشاؤه، فتارة يخلق من غير أصل - كخلق السموات والأرض - مثلا، وأخرى من أصل - كخلق بعض ما بينهما - وذلك متنوع أيضا، فطورا ينشىء من أصل ليس من جنسه كخلق آدم، وكثير من الحيوانات - وتارة من أصل يجانسه إما من ذكر وحده - كخلق حواء - أو من أنثى وحدها - كخلق عيسى عليه الصلاة والسلام - أو منهما - كخلق سائر الناس، ويخلق بلا توسط شيء من المخلوقات - ككثير من المخلوقات - وقد يخلق بتوسط مخلوق آخر - كخلق الطير - على يد عيسى عليه السلام معجزة له. وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، فينبغي أن ينسب كل ذلك إليه تعالى لا من أجرى على يده قاله غير واحد. وقيل: إن الجملة جيء بها ههنا مبينة لما هو المراد من قوله تعالى: * (ولله ملك السموات والأرض) * الخ بحسب اقتضاء المقام، و * (ما) * نصب على المصدرية أيضا، وقيل: يجوز أن تكون موصولة ومحلها النصب على المفعولية أي يخلق الذي يشاء أن يخلقه، والجملة مسوقة لبيان أن قدرته تعالى أوسع من عالم الوجود، وعلى كل تقدير فقوله سبحانه: * (والله على كل شيء قدير) * تذييل مقرر لمضمون ما قبله وإظهار الاسم الجليل لما مر من التعليل وتقوية استقلال الجملة..
* (وقالت اليهود والنص‍ارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشآء ويعذب من يشآء ولله ملك السم‍اوات والارض وما بينهما وإليه المصير) *.
* (وقالت اليهود والنص‍ارى نحن أبناء الله وأحب‍اؤه) * حكاية لما صدر من الفريقين من الدعوى الباطلة لأنفسهم، وبيان لبطلانها إثر ذكر ما صدر عن أحدهما من الدعوى الباطلة لغيره وبيان بطلانها أي قال كل من الطائفتين هذا القول الباطل، ومرادهم - بالأبناء المقربون - أي نحن مقربون عند الله تعالى قرب الأولاد من والدهم، و - بالأحباء - جمع حبيب بمعنى محب أو محبوب، ويجوز أن يكون أرادوا من الأبناء الخاصة كما يقال: أبناء الدنيا، وأبناء الآخرة، وأن يكون أرادوا أشياع من وصف بالبنوة أي قالت اليهود نحن أشياع ابنه عزير، وقالت النصارى: نحن أشياع ابنه المسيح عليهما السلام، وأطلق الأبناء على الأشياع مجازا إما تغليبا أو تشبيها لهم بالأبناء في قرب المنزلة، وهذا كما يقول أتباع الملك: نحن الملوك، وكما أطلق على أشياع أبي خبيب عبد الله بن الزبير الخبيبون في قوله: قدني من نصر الخبيبين قدي
على رواية من رواه بالجمع، فقد قال ابن السكيت: يريد أبا خبيب ومن كان معه، فحيث جاز جمع خبيب وأشياع أبيه فأولى أن يجوز جمع ابن الله - عز اسمه - وأشياع الابن بزعم الفريقين، فاندفع ما قيل: إنهم لا يقولون ببنوة أنفسهم ولم يحمل على التوزيع بمعنى أنفسنا الأحباء وأبناؤنا الأبناء بجمع الإبنين لمشاكلة الأحباء لأن خطاب * (بل أنتم بشر) * يأباه ظاهرا ويدل على ادعائهم البنوة بأي معنى كان. وقيل: الكلام على حذف المضاف أي نحن أبناء أنبياء الله تعالى وهو خلاف الظاهر، وقائل ذلك من اليهود بعضهم، ونسب إلى الجميع لما مر غير مرة، فقد أخرج ابن جرير. والبيهقي في " الدلائل " عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: " أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن آص وبحرى بن عمرو وشاش
100

ابن عدي فكلموه وكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله تعالى وحذرهم نقمته فقالوا: ما تخوفنا يا محمد نحن والله أبناء الله وأحباؤه، وقالت النصارى ذلك قبلهم، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية " وعن الحسن أن النصارى تأولوا ما في الإنجيل من قول المسيح: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم فقالوا ما قالوا.
وعندي أن إطلاق ابن الله تعالى على المطيع قد كان في الزمن القديم، ففي التوراة قال الله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام: اذهب إلى فرعون وقل له يقول لك الرب إسرائيل ابني بكري أرسله يعبدني فإن أبيت أن ترسل ابني بكري قتلت ابنك بكرك، وفيها أيضا في قصة الطوفان أنه لما نظر بنو الله تعالى إلى بنات الناس وهم حسان
جدا شغفوا بهن فنكحوا منهن ما أحبوا واختاروا فولدوا جبابرة فأفسدوا فقال الله تعالى: لا تحل عنايتي على هؤلاء القوم، وأريد بأبناء الله تعالى أولاد هابيل، وبأبناء الناس أبناء قابيل، وكن حسانا جدا فصرفن قلوبهن عن عبادة الله تعالى إلى عبادة الأوثان، وفي المزامير أنت ابني سلني أعطك، وفيها أيضا أنت ابني وحبيبي، وقال شعيا في نبوته عن الله تعالى: تواصوا بي في أبنائي وبناتي يريد ذكور عباد الله تعالى الصالحين وإناثهم، وقال يوحنا الإنجيلي في الفصل الثاني من " الرسالة الأولى " - انظروا إلى محبة الأب لنا أن أعطانا أن ندعى أبناء - وفي الفصل الثالث - أيها الأحباء الآن صرنا أبناء الله تعالى فينبغي لنا أن ننزله في الإجلال على ما هو عليه فمن صح له هذا الرجاء فليزك نفسه بترك الخطيئة والإثم، واعلموا أن من لابس الخطيئة فإنه لم يعرفه - وقال متى: قال المسيح: أحبوا أعداءكم، وباركوا على لاعنيكم، وأحسنوا إلى من يبغضكم، وصلوا على من طردكم، كيما تكونوا بني أبيكم المشرق شمسه على الأخيار والأشرار، والممطر على الصديقين والظالمين، وقال يوحنا التلميذ في " قصص الحواريين ": يا أحبائي إنا أبناء الله تعالى سمانا بذلك، وقال بولس الرسول في " رسالته إلى ملك الروم ": إن الروح تشهد لأرواحنا أننا أبناء الله تعالى وأحباؤه، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة، وقد جاء أيضا إطلاق الابن على العاصي ولكن بمعنى الأثر ونحوه، ففي " الرسالة الخامسة لبولس " إياكم والسفه والسب واللعب فإن الزاني والنجس كعابد الوثن لا نصيب له في ملكوت الله تعالى واحذروا هذه الشرور فمن أجلها يأتي رجز الله على الأبناء الذين لا يطيعونه، وإياكم أن تكونوا شركاء لهم فقد كنتم قبل في ظلمة فاسعوا الآن سعي أبناء النور.
ومقصود الفريقين ب * (نحن أبناء الله وأحباؤه) * هو المعنى المتضمن مدحا، وحاصل دعواهم أن لهم فضلا ومزية عند الله تعالى على سائر الخلق، فرد سبحانه عليهم ذلك، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: * (قل) * إلزاما لهم وتبكيتا * (فلم يعذبكم بذنوبكم) * أي إن صح ما زعمتم فلأي شيء يعذبكم يوم القيامة بالنار أياما بعدد أيام عبادتكم العجل، وقد اعترفتم بذلك في غير ما موطن، وهذا ينافي دعواكم القرب ومحبة الله تعالى لكم أو محبتكم له المستلزمة لمحبته لكم كما قيل: ما جزاء من يحب إلا يحب، أو فلأي شيء أذنبتم بدليل أنكم ستعذبون، وأبناء الله تعالى إنما يطلق إن أطلق في مقام الافتخار على المطيعين كما نطقت به كتبكم، أو إن صح ما زعمتم فلم عذبكم بالمسخ الذي لا يسعكم إنكاره، وعد بعضهم من العذاب البلايا والمحن كالقتل والأسر، واعترض ذلك بأنه لا يصلح للإلزام فإن البلايا والمحن قد كثرت في الصلحاء، وقد ورد " أشد الناس بلاءا الأنبياء - عليهم السلام - ثم الأمثل فالأمثل "، وقال الشاعر: ولكنهم أهل الحفائظ والعلا * فهم لملمات الزمان خصوم
101

وقوله تعالى: بل أنتم بشر عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي ليس الأمر كذلك * (بل أنتم بشر) * وإن شئت قدرت مثل هذا في أول الكلام وجعلت الفاء عاطفة، وقوله سبحانه: * (ممن خلق) * متعلق بمحذوف وقع صفة * (بشر) * أي بشر كائن من جنس من خلقه الله تعالى من غير مزية لكم عليهم.
* (يغفر من يشآء) * أن يغفر له من أولئك المخلوقين وهم المؤمنون به تعالى وبرسله عليهم الصلاة والسلام * (ويعذب من يشآء) * أن يعذبه وهم الذين كفروا به سبحانه وبرسله عليهم السلام مثلكم، والذي دل على التخصيص قوله تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به) * (النساء: 48) إن قلنا بعمومه كما هو المعروف المشهور، ومن الغريب ما في " شرح مسلم " للنووي أنه يحتمل أن يكون مخصوصا بهذه الأمة وفيه نظر. هذا وأورد بعض المحققين هنا إشكالا ذكر أنه قوي وهو أنه إذا كان معنى * (نحن أبناء الله) * تعالى أشياع بنيه فغاية الأمر أن يكونوا على طريقة الابن تحقيقا للتبعية لكن من أين يلزم أن يكونوا من جنس الأب كما صرح به الزمخشري في انتفاء فعل القبائح، وانتفاء البشرية والمخلوقية ليحسن الرد عليهم بأنهم بشر ممن خلق، نعم ما ذكروه في هذا المقام من استلزام المحبة عدم العصيان والمعاقبة ربما يتمشى لأن من شأن المحب أن لا يعصي الحبيب ولا يستحق منه المعاقبة، ومن هنا قيل: تعصي الإله وأنت تظهر حبه * هذا لعمري في الفعال بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته * إن المحب لمن يحب مطيع
وفيه مناقشة لأن هذا شأن المحبين والأحباء هم المحبون، وأجاب عن إشكال إثبات البشرية بأنه ليس إثباتا لمطلق البشرية ليجب أن يكون رد الدعوى بانتفائه بل هو إثبات أنهم بشر مثل سائر البشر، ومن جنس سائر المخلوقين منهم العاصي والمطيع والمستحق للمغفرة والعذاب لا كما ادعوا من أنهم الأشياع المخصوصون بمزيد قرب واختصاص لا يوجد في سائر البشر ولذا وصف بشرا بقوله سبحانه: * (ممن خلق) * حتى لا يبعد أن يكون * (يغفر لمن يشاء) * أيضا في موقع الصفة على حذف العائد أي لمن يشاء منهم، وأما إشكال الجنسية فقيل في جوابه: المراد أنكم لو كنتم أشياع بني الله تعالى لكنتم على صفتهم في ترك القبائح وعدم استحقاق العذاب لأن من شأن الأشياع والأتباع أن يكونوا على صفة المتبوعين، والمتبوعون هنا هم الأبناء بالزعم، ومن شأن الأبناء أن يكونوا على صفة الأب فمن شأن الأتباع أن يكونوا على صفة الأب بالواسطة، وقيل: كلام من قال: يلزم أن يكونوا من جنس الأب على حذف مضاف، أي لو كنتم أشياع بني الله تعالى لكنتم من جنس أشياع الأب يعني أهل الله تعالى الذين لا يفعلون القبائح ولا يستوجبون العقاب.
وفي " الكشف " أن قولهم: * (نحن أبناء الله) * تعالى فيه إثبات الإبن، وأنهم من أشياعه مستوجبون محبة الأب لذلك فينبغي أن يكون الرد مشتملا على هدم القولين فقيل: من أسندتم إليه البنوة لا يصلح لها لإمكان القبيح عليه وصدوره هفوة ومؤاخذته بالزلة ودعواكم المحبة كاذبة وإلا لما عذبتم، وأيضا إذا بطل أن يكون له تعالى ابن بطل أن يكون أشياعه، وكذلك المحبة المبنية على ذلك، ثم قال: وجاز أن يقال: إنه لإبطال أن يكونوا أبناءا حقيقة كما يفهم من ظاهر اللفظ أو مجازا كما فسره الزمخشري اه‍.
وأنت تعلم أن كل ما ذكره ليس بشيء كما لا يخفى على من له أدنى تأمل، وما ذكرناه كاف في الغرض.
102

نعم ذكر الشهاب عليه الرحمة توجيها لا بأس به، وهو أن اللائق أن يكون مرادهم بكونهم أبناء الله تعالى أنه لما أرسل إليهم الابن على زعمهم وأرسل لغيرهم رسل عباده دل ذلك على امتيازهم عن سائر الخلق، وأن لهم مع الله تعالى مناسبة تامة وزلفى تقتضي كرامة لا كرامة فوقها، كما أن الملك إذا أرسل لدعوة قوم أحد جنده ولآخرين
ابنه علموا أنه مريد لتقريبهم وأنهم آمنون من كل سوء يطرق غيرهم، ووجه الرد أنكم لا فرق بينكم وبين غيركم عند الله تعالى، فإنه لو كان كما زعمتم لما عذبكم وجعل المسخ فيكم، وكذا على كونه بمعنى المقربين المراد قرب خاص فيطابقه الرد ويتعانق الجوابان فافهمه انتهى، والجواب عن المناقشة التي فعلها البعض يعلم مما أشرنا إليه سابقا فلا تغفل.
* (ولله ملك السم‍اوات والأرض وما بينهما) * من تتمة الرد أي كل ذلك له تعالى لا ينتمي إليه سبحانه شيء منه إلا بالمملوكية والعبودية والمقهورية تحت ملكوته يتصرف فيه كيف يشاء إيجادا وإعداما، إحياءا وإماتة، إثابة وتعذيبا فأنى لهؤلاء ادعاء ما زعموا؟! وربما يقال: إن هذا مع ما تقدم رد لكونهم أبناء الله تعالى بمعنى أشياع بنيه، فنفى أولا كونهم أشياعا وثانيا وجود بنين له عز شأنه * (وإليه المصير) * أي الرجوع في الآخرة لا إلى غيره استقلالا أو اشتراكا فيجازي كلا من المحسن والمسيء بما يستدعيه عمله من غير صارف يثنيه ولا عاطف يلويه..
* (يأهل الكت‍ابقد جآءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جآءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شىء قدير) *.
* (ياأهل الكت‍اب) * تكرير للخطاب بطريق الإلتفات ولطف في الدعوة، وقيل: الخطاب هنا لليهود خاصة * (قد جاءكم رسولنا يبين لكم) * على التدريج حسبما تقتضيه المصلحة - الشرائع والأحكام النافعة معادا ومعاشا - المقرونة بالوعد والوعيد، وحذف هذا المفعول اعتمادا على الظهور إذ من المعلوم أن ما يبينه الرسول هو الشرائع والأحكام، ويجوز أن ينزل الفعل منزلة اللازم أي يفعل البيان ويبذله لكم في كل ما تحتاجون فيه من أمور الدين، وأما إبقاؤه متعديا مع تقدير المفعول * (كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب) * كما قيل، فقد قيل فيه: مع كونه تكريرا من غير فائدة يرده قوله سبحانه: * (على فترة من الرسل) * فإن فتور الإرسال وانقطاع الوحي إنما يحوج إلى بيان الشرائع والأحكام لا إلى بيان ما كتموه، و * (على فترة) * متعلق - بجاءكم - على الظرفية كما في قوله تعالى: * (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) * (البقرة: 102) أي جاءكم على حين فتور من الإرسال وانقطاع الوحي ومزيد الاحتياج إلى البيان. وجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من ضمير * (يبين) * أو من ضمير * (لكم) * أي يبين لكم حال كونه على فترة، أو حال كونكم على فترة. و * (من الرسل) * صفة * (فترة) * و * (من) * ابتدائية، أي فترة كائنة من الرسل مبتدأة من جهتهم، والفترة فعلة من فتر عن عمله يفتر فتورا إذا سكن، والأصل فيها الإنقطاع عما كان عليه من الجد في العمل، وهي عند جميع المفسرين انقطاع ما بين الرسولين.
واختلفوا في مدتها بين نبينا صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام، فقال قتادة: كان بينهما عليهما الصلاة والسلام خمسمائة سنة وستون سنة، وقال الكلبي: خمسمائة وأربعون سنة، وقال ابن جريج: خمسمائة سنة، وقال الضحاك: أربعمائة سنة وبضع وثلاثون سنة، وأخرج ابن عساكر عن سلمان رضي الله تعالى عنه أنها ستمائة سنة، وقيل: كان بين نبينا صلى الله عليه وسلم وأخيه عيسى عليه السلام ثلاثة أنبياء هم المشار إليهم بقوله تعالى: * (أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث) * (يس: 14)، وقيل: بينهما عليهما الصلاة والسلام أربعة: الثلاثة المشار إليهم، وواحد من
103

العرب من بني عبس - وهو خالد بن سنان عليه السلام - الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: " ذلك نبي ضيعه قومه " ولا يخفى أن الثلاثة الذين أشارت إليهم الآية رسل عيسى عليه السلام ونسبة إرسالهم إليه تعالى بناءا على أنه كان بأمره عز وجل، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك؛ وأما خالد بن سنان العبسي فقد تردد فيه الراغب في " محاضراته "، وبعضهم لم يثبته، وبعضهم قال: إنه كان قبل عيسى عليهما الصلاة والسلام لأنه ورد في حديث " لا نبي بيني وبين عيسى " صلى الله تعالى عليهما وسلم، لكن في التواريخ إثباته، وله قصة في " كتب الآثار " مفصلة، وذكر أن بنته أتت النبي صلى الله عليه وسلم وآمنت به، ونقش الشيخ الأكبر قدس سره له فصا في كتابه " فصوص الحكم "، وصحح الشهاب أنه عليه السلام من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأنه قبل عيسى عليهما الصلاة والسلام، وعلى هذا فالمراد ببنته الجائية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن صح الخبر - بنته بالواسطة لا البنت الصلبية إذ بقاؤهما إلى ذلك الوقت مع عدم ذكر أحد أنها من المعمرين بعيد جدا، وكان بين موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ألف وسبعمائة سنة في المشهور، لكن لم يفتر فيها الوحي، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى بعث فيها ألف نبي من بني إسرائيل سوى من بعث من غيرهم.
* (أن تقولوا) * تعليل لمجىء الرسول بالبيان أي كراهة أن تقولوا - كما قدره البصريون - أو لئلا تقولوا - كما يقدر الكوفيون - معتذرين من تفريطكم في أحكام الدين يوم القيامة * (ما جاءنا من بشير ولا نذير) * وقد انطمست آثار الشريعة السابقة وانقطعت أخبارها، وزيادة * (من) * في الفاعل للمبالغة في نفي المجىء، وتنكير بشير - و - نذير على ما قال شيخ الإسلام: للتقليل؛ وتعقيب * (قد جاءكم) * (المائدة: 15) الخ بهذا يقتضي أن المقدر، أو المنوي فيما سبق هو الشرائع والأحكام لا كيفما كانت بل مشفوعة بذكر الوعد والوعيد، والفاء في قوله تعالى: * (فقد جاءكم بشير ونذير) * تفصح عن محذوف ما بعدها علة له، والتقدير هنا لا تعتذروا فقد جاءكم وتسمى الفاء الفصيحة، وتختلف عبارة المقدر قبلها، فتارة يكون أمرا أو نهيا، وتارة يكون شرطا كما في قوله تعالى: * (فهذا يوم البعث) *، وقول الشاعر: فقد جئنا خراسانا
وتارة معطوفا عليه كما في قوله تعالى: * (فانفجرت) * وقد يصار إلى تقدير القول - كما في الفرقان (19) - في قوله تعالى: * (فقد كذبوكم) *، وإن شئت قدرت هنا أيضا فقلنا: لا تعتذروا فقد الخ، وقد صرح بعض علماء العربية أن حقيقة هذه الفاء أنها تتعلق بشرط محذوف، ولا ينافي ذلك إضمار القول لأنه إذا ظهر المحذوف لم يكن بد من إضمار ليرتبط بالسابق فيقال: في البيت مثلا، وقلنا، أو فقلنا: إن صح ما ذكرتم فقد جئنا خراسانا، وكذلك ما نحن فيه فقلنا: لا تعتذروا فقد جاءكم، ثم إنه في المعنى جواب شرط مقدر سواء صرح بتقديره أم لا لأن الكلام إذا اشتمل على مترتبين أحدهما على الآخر ترتب العلية كان في معنى الشرط والجزاء،
فلا تنافي بين التقادير. والتقادير المختلفة، ولو سلم التنافي فهما وجهان ذكروا أحدهما في موضع والآخر في آخر - كما حققه في " الكشف " - وقد مرت الإشارة من بعيد إلى أمر هذه الفاء فتذكر، وتنوين بشير وونذير) للتفخيم * (والله على كل شيء قدير) * فيقدر على إرسال الرسل تترى، وعلى الإرسال بعد الفترة.
* (وإذ قال موسى لقومه ي‍اقوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبيآء وجعلكم ملوكا وءات‍اكم ما لم يؤت أحدا من الع‍المين) *.
* (وإذ قال موسى لقومه) * جملة مستأنفة مسوقة لبيان ما فعلت بنو إسرائيل بعد أخذ الميثاق منهم، وتفصيل كيفية نقضهم له مع الإشارة إلى انتفاء فترة الرسل عليهم الصلاة والسلام فيما بينهم؛ و * (إذ) * نصب على أنه
104

مفعول لفعل محذوف خوطب به سيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم بطريق تلوين الخطاب وصرفه عن أهل الكتاب ليعدد عليهم ما سلف من بعضهم من الجنايات، أي واذكر لهم يا محمد وقت قول موسى عليه السلام (لقومه) ناصحا ومستميلا لهم بإضافتهم إليه * (ي‍اقوم اذكروا نعمة الله عليكم) * وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت أبلغ من توجيهه إلى ما وقع فيه، وإن كان هو المقصود بالذات كما مرت الإشارة إليه، و * (عليكم) * متعلق إما بالنعمة إن جعلت مصدرا، وإما بمحذوف وقع حالا منها إذا جعلت اسما أي اذكروا إنعامه عليكم بالشكر، واذكروا نعمته كائنة عليكم، وكذا * (إذ) * في قوله تعالى: * (إذ جعل فيكم أنبياء) * متعلقة بما تعلق به الجار والمجرور أي اذكروا إنعامه عليكم في وقت جعله، أو اذكروا نعمته تعالى كائنة عليكم في وقت جعله فيما بينكم من أقرابئكم أنبياء، وصيغة الكثرة على حقيقتها كما هو الظاهر، والمراد بهم موسى وهارون ويوسف وسائر أولاد يعقوب على القول بأنهم كانوا أنبياء، أو الأولون، والسبعون الذين اختارهم موسى لميقات ربه، فقد قال ابن السائب ومقاتل: إنهم كانوا أنبياء. وقال الماوردي وغيره: المراد بهم الأنبياء الذين أرسلوا من بعد في بني إسرائيل؛ والفعل الماضي مصروف عن حقيقته، وقيل: المراد بهم من تقدم ومن تأخر ولم يبعث من أمة من الأمم ما بعث من بني إسرائيل من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
* (وجعلكم ملوكا) * عطف على * (جعل فيكم) * وغير الأسلوب فيه لأنه لكثرة الملوك فيهم أو منهم صاروا كلهم كأنهم ملوك لسلوكهم مسلكهم في السعة والترفه، فلذا تجوز في إسناد الملك إلى الجميع بخلاف النبوة فإنها وإن كثرت لا يسلك أحد مسلك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنها أمر إلهي يخص الله تعالى به من يشاء، فلذا لم يتجوز في إسنادها، وقيل: لا مجاز في الإسناد، وإنما هو في لفظ الملوك فإن القول كانوا مملوكين في أيدي القبط فأنقذهم الله تعالى، فسمى ذلك الإنقاذ ملكا، وقيل: لا مجاز أصلا بل جعلوا كلهم ملوكا على الحقيقة، والملك من كان له بيت وخادم كما جاء عن زيد بن أسلم مرفوعا. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا ". وأخرج ابن جرير عن الحسن هل الملك إلا مركب وخادم ودار، وأخرج البخاري عن عبد الله بن عمرو أنه سأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال عبد الله: ألك زوجة تأوي إليها؟ قال؛ نعم، قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم، قال: فأنت من الأغنياء، قال: فإن لي خادما، قال: فأنت من الملوك، وقيل: الملك من له مسكن واسع فيه ماء جار، وقيل: من له مال لا يحتاج معه إلى تكلف الأعمال وتحمل المشاق، وإليه ذهب أبو علي الجبائي، وأنت تعلم أن الظاهر هنا القول بالمجاز وما ذكر في معرض الاستدلال محتمل له أيضا.
* (وءات‍اكم ما لم يؤت أحدا من الع‍المين) * من فلق البحر وإغراق العدو وتظليل الغمام وانفجار الحجر وإنزال المن والسلوى وغير ذلك مما آتاهم الله تعالى من الأمور المخصوصة، والخطاب لقوم موسى عليه السلام كما هو الظاهر، وأل في * (العالمين) * للعهد، والمراد عالمي زمانهم، أو للاستغراق، والتفضيل من وجه لا يستلزم التفضيل من جميع الوجوه، فإنه قد يكون للمفضول ما ليس للفاضل، وعلى التقديرين لا يلزم تفضيلهم على هذه الأمة المحمدية على نبيها أفضل الصلاة وأكمل التحية، وإيتاء ما لم يؤت أحد وإن لم يلزم منه التفضيل لكن المتبادر من استعماله ذلك، ولذا أول بما أول، وعن سعيد بن جبير وأبي مالك أن الخطاب
105

هنا لهذه الأمة وهو خلاف الظاهر جدا ولا يكاد يرتكب مثله في الكتاب المجيد لأن الخطابات السابقة واللاحقة لبني إسرائيل فوجود خطاب في الأثناء لغيرهم مما يخل بالنظم الكريم، وكأن الداعي للقول به ظن لزوم التفضيل مع عدم دافع له سوى ذلك، وقد علمت أنه من بعض الظن..
* (ياقوم ادخلوا الارض المقدسة التى كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدب‍اركم فتنقلبوا خ‍اسرين) *.
* (ي‍اقوم ادخلوا الأرض المقدسة) * كرر النداء مع الإضافة التشريفية اهتماما بشأن الأمر، ومبالغة في حثهم على الامتثال به، والأرض المقدسة هي - ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والسدي. وابن زيد - بيت المقدس، وقال الزجاج: دمشق وفلسطين والأردن، وقال مجاهد هي أرض الطور وما حوله، وعن معاذ بن جبل هي ما بين الفرات وعريش مصر، والتقديس: التطهير، ووصفت تلك الأرض بذلك إما لأنها مطهرة من الشرك حيث جعلت مسكن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو لأنها مطهرة من الآفات، وغلبة الجبارين عليها لا يخرجها عن أن تكون مقدسة، أو لأنها طهرت من القحط والجوع، وقيل: سميت مقدسة لأن فيها المكان الذي يتقدس فيه من الذنوب.
* (التي كتب الله لكم) * أي قدرها وقسمها لكم، أو كتب في اللوح المحفوظ أنها تكون مسكنا لكم. روي أن الله تعالى أمر الخليل عليه الصلاة والسلام أن يصعد جبل لبنان فما انتهى بصره إليه فهو له ولأولاده فكانت تلك الأرض مدى بصره، وعن قتادة والسدي أن المعنى التي أمركم الله تعالى بدخولها وفرضه عليكم، فالكتب هنا مثله في قوله تعالى: * (كتب عليكم الصيام) * (البقرة: 183) وذهب إلى الاحتمالين الأولين كثير من المفسرين، والكتب على أولهما مجاز، وعلى ثانيهما حقيقة، وقيدوه بإن آمنتم وأطعتم لقوله تعالى لهم بعدما عصوا: * (فإنها محرمة عليهم) * (المائدة: 26).
وقوله سبحانه: * (ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خ‍اسرين) * فإن ترتيب الخيبة والخسران على الارتداد يدل على اشتراط الكتب بالمجاهدة المترتبة على الإيمان قطعا، والأدبار جمع دبر وهو ما خلفهم من الأماكن من مصر وغيرها، والجار والمجرور حال من فاعل * (ترتدوا) * أي لا ترجعوا عن مقصدكم منقلبين خوفا من
الجبابرة، وجوز أن يتعلق بنفس الفعل، ويحتمل أن يراد بالارتداد صرف قلوبهم عما كانوا عليه من الاعتقاد صرفا غير محسوس أي لا ترجعوا عن دينكم بالعصيان وعدم الوثوق بالله تعالى وإليه ذهب أبو علي الجبائي، وقوله تعالى: * (فتنقلبوا) * إما مجزوم بالعطف وهو الأظهر، وإما منصوب في جواب النهي، قال الشهاب: على أنه من قبيل لا تكفر تدخل النار وهو ممتنع خلافا للكسائي، وفيه نظر لا يخفى، والمراد بالخسران خسران الدارين..
* (قالوا ياموسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون) *.
* (قالوا ي‍اموسى إن فيها قوما جبارين) * شديدي البطش متغلبين لا تتأتى مقاومتهم ولا تجز لهم ناصية، والجبار صيغة مبالغة من جبر الثلاثي على القياس لا من أجبره على خلافه - كالحساس - من الإحساس وهو الذي يقهر الناس ويكرههم كائنا من كان على ما يريده كائنا ما كان، ومعناه في البخل ما فات اليد طولا، وكان هؤلاء القوم من العمالقة بقايا قوم عاد وكانت لهم أجسام ليست لغيرهم، أخرج ابن عبد الحكم في " فتوح مصر " عن ابن حجيرة قال: استظل سبعون رجلا من قوم موسى عليه السلام في قحف رجل من العمالقة، وأخرج البيهقي في " شعب الإيمان " عن زيد بن أسلم قال: بلغني أنه رؤيت ضبع وأولادها رابضة في فجاج عين رجل منهم إلى غير ذلك من الأخبار، وهي عندي كأخبار عوج بن عنق وهي حديث خرافة.
* (وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها) * بقتال غيرنا، أو بسبب يخرجهم الله تعالى به فإنه لا طاقة لنا بإخراجهم منها، وهذا امتناع عن القتال على أتم وجه
106

* (فإن يخرجوا منها) * بسبب من الأسباب التي لا تعلق لنا بها * (فإنا داخلون) * فيها حينئذ، وأتوا بهذه الشرطية - مع كون مضمونها مفهوما مما تقدم - تصريحا بالمقصود وتنصيصا على أن امتناعهم من دخولها ليس إلا لمكانهم فيها، وأتوا في الجزاء بالجملة الإسمية المصدرة - بإن - دلالة على تقرر الدخول وثباته عند تحقق الشرط لا محالة وإظهارا لكمال الرغبة فيه وفي الامتثال بالأمر..
* (قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غ‍البون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) *.
* (قال رجلان من الذين يخافون) * أي يخافون الله تعالى وبه قرىء، والمراد رجلان من المتقين وهما - كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد والسدي والربيع - يوشع بن نون وكالب بن يوقنا، وفي وصفهم بذلك تعريض بأن من عداهما من القوم لا يخافونه تعالى بل يخافون العدو، وقيل: المراد بالرجلين ما ذكر، و * (من الذين يخافون) * بنو إسرائيل؛ والمراد يخافون العدو، ومعنى كون الرجلين منهم أنهما منهم في النسب لا في الخوف، وقيل: في الخوف أيضا، والمراد: أنهما لم يمنعهما الخوف عن قول الحق، وأخرج ابن المنذر عن ابن جبير أن الرجلين كانا من الجبابرة أسلما وصارا إلى موسى عليه السلام، فعلى هذا يكون * (الذين) * عبارة عن الجبابرة، والواو ضمير بني إسرائيل، وعائد الموصول محذوف أي يخافونهم، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير * (يخافون) * بضم الياء، وجعلها الزمخشري شاهدة على أن الرجلين من الجبارين كأنه قيل: من المخوفين أي يخافهم بنو إسرائيل، وفيها احتمالان آخران: الأول: أن يكون من الإخافة، ومعناه من الذين يخوفون من الله تعالى بالتذكير والموعظة؛ أو يخوفهم وعيد الله تعالى بالعقاب، والثاني: أن معنى * (يخافون) * يهابون ويوقرون، ويرجع إليهم لفضلهم وخيرهم؛ ومع هذين الاحتمالين لا ترجيح في هذه القراءة لكونهما من الجبارين، وترجيح ذلك بقوله تعالى: * (أنعم الله عليهما) * أي بالإيمان والتثبيت غير ظاهر أيضا لأنه صفة مشتركة بين يوشع وكالب وغيرهما، وكونه إنما يليق أن يقال لمن أسلم من الكفار لا لمن هو مؤمن في حيز المنع، والجملة صفة ثانية - لرجلين - أو اعتراض، وقيل: حال بتقدير قد من ضمير * (يخافون) * أو من * (رجلان) * لتخصيصه بالصفة، أو من الضمير المستتر في الجار والمجرور أي قالا مخاطبين لهم ومشجعين.
* (ادخلوا عليهم الباب) * أي باب مدينتهم وتقديم * (عليها) * عليه للاهتمام به لأن المقصود إنما هو دخول الباب وهم في بلدهم أي فاجئوهم وضاغطوهم في المضيق ولا تمهلوهم ليصحروا ويجدوا للحرب مجالا * (فإذا دخلتموه) * عليهم الباب * (فإنكم غ‍البون) * من غير حاجة (إلى) القتال فإنا قد رأيناهم وشاهدناهم أن قلوبهم ضعيفة وإن كانت أجسامهم عظيمة فلا تخشوهم واهجموا عليهم في المضايق فإنهم لا يقدرون على الكر والفر، وقيل: إنما حكما بالغلبة لما علماها من جهة موسى عليه السلام، و (من) (2) قوله: * (التي كتب الله لكم) * (المائدة: 21)، وقيل: من جهة غلبة الظن، وما تبينا من عادة الله تعالى في نصرة رسله، وما عهدا من صنع الله تعالى لموسى عليه السلام في قهر أعدائه، قيل: والأول: أنسب بتعليق الغلبة بالدخول.
* (وعلى الله) * تعالى خاصة * (فتوكلوا) * بعد ترتيب الأسباب ولا تعتمدوا عليها فإنها لا تؤثر من دون إذنه إن * (كنتم مؤمنين) * بالله تعالى، والمراد بهذا الإلهاب والتهييج وإلا فإيمانهم محقق، وقد يراد بالإيمان التصديق بالله تعالى وما يتبعه من التصديق بما وعده أي: إن كنتم مؤمنين به تعالى مصدقين لوعده فإن ذلك مما يوجب التوكل عليه حتما..
* (قالوا ي‍اموسىإنا لن ندخلهآ أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلاإنا ه‍اهنا ق‍اعدون) *.
* (قالوا) * غير مبالين بهما وبمقالتهما مخاطبين لموسى عليه السلام إظهارا لإصرارهم
107

على القول الأول وتصريحا بمخالفتهم له عليه السلام * (ي‍اموسى إنا لن ندخلها) * أي أرض الجبابرة فضلا عن الدخول عليهم وهم في بلدهم * (أبدا) * أي دهرا طويلا، أو فيما يستقبل من الزمان كله * (ما داموا فيها) * أي في تلك الأرض، وهو بدل من * (أبدا) * بدل البعض؛ وقيل: بدل الكل من الكل، أو عطف بيان لوقوعه بين النكرتين؛ ومثله في الابدال قوله: وأكرم أخاك الدهر (ما دمتما) معا * كفى بالممات فرقة وتنائيا
فإن قوله: " ما دمتما " بدل من الدهر.
* (فاذهب) * أي إذا كان الأمر كذلك فاذهب * (أنت وربك فقاتلا) * أي فقاتلاهم وأخرجاهم حتى ندخل الأرض؛ وقالوا ذلك استهانة واستهزاءا به سبحانه وبرسوله عليه الصلاة والسلام وعدم مبالاة، وقصدوا ذهابهما حقيقة كما ينبىء عنه غاية جهلهم وقسوة قلوبهم، والمقابلة بقوله تعالى: * (إنا ه‍اهنا ق‍اعدون) *، وقيل: أرادوا إرادتهما وقصدهما كما تقول: كلمته فذهب يجيبني كأنهم قالوا: فأريدا قتالهم واقصداهم، وقال البلخي: المراد: فاذهب أنت وربك يعينك، فالواو للحال، و * (أنت) * مبتدأ حذف خبره وهو خلاف الظاهر، ولا يساعده * (فقاتلا) * ولم يذكروا أخاه هارون عليهما السلام ولا الرجلين اللذين قالا كأنهم لم يجزموا بذهابهم أو لم يعبأوا بقتالهم، وأرادوا بالقعود عدم التقدم لا عدم التأخر أيضا..
* (قال رب إنى لاأملك إلا نفسى وأخى فافرق بيننا وبين القوم الف‍اسقين) *.
* (قال) * موسى عليه السلام لما رأى منهم ما رأى من العناد على طريق البث والحزن والشكوى إلى الله تعالى مع رقة القلب التي بمثلها تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة. فليس القصد إلى الإخبار وكذا كل خبر يخاطب به علام الغيوب يقصد به معنى سوى إفادة الحكم أو لازمه، فليس قوله ردا لما أمر الله تعالى به ولا اعتذارا عن عدم الدخول * (رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي) * هارون عليه السلام وهو عطف على * (نفسي) * أي لا يجيبني إلى طاعتك ويوافقني على تنفيذ أمرك سوى نفسي وأخي ولم يذكر الرجلين اللذين أنعم الله تعالى عليهما وإن كانا يوافقانه إذا دعا لما رأى من تلون القوم وتقلب آرائهم فكأنه لم يثق بهما ولم يعتمد عليهما. وقيل: ليس القصد إلى القصر بل إلى بيان قلة من يوافقه تشبيها لحاله بحال من لا يملك إلا نفسه وأخاه، وجوز أن يراد - بأخي - من يؤاخيني في الدين فيدخلان فيه ولا يتم إلا بالتأويل بكل مؤاخ له في الدين، أو بجنس الأخ وفيه بعد، ويجوز في * (أخي) * وجوها أخر من الإعراب: الأول: أنه منصوب بالعطف على اسم - إن -، الثاني: أنه مرفوع بالعطف على فاعل * (أملك) * للفصل، الثالث: أنه مبتدأ خبره محذوف، الرابع: أنه معطوف على محل اسم - إن - البعيد لأنه بعد استكمال الخبر، والجمهور على جوازه حينئذ، الخامس: أنه مجرور بالعطف على الضمير المجرور على رأي الكوفيين، ثم لا يلزم على بعض الوجوه الاتحاد في المفعول بل يقدر للمعطوف مفعول آخر أي وأخي إلا نفسه، فلا يرد ما قيل: إنه يلزم من عطفه على اسم - إن - أو فاعل * (أملك) * أن موسى وهارون عليهما السلام لا يملكان إلا نفس موسى عليه السلام فقط، وليس المعنى على ذلك كما لا يخفى، وليس من عطف الجمل بتقدير ولا يملك أخي إلا نفسه كما توهم، وتحقيقه أن العطف على معمول الفعل لا يقتضي إلا المشاركة في مدلول ذلك. ومفهومه الكلي لا الشخص المعين بمتعلقاته المخصوصة فإن ذلك إلى القرائن.
* (فافرق بيننا) * يريد نفسه وأخاه عليهما الصلاة والسلام، والفاء لترتيب الفرق
108

والدعاء به على ما قبله، وقرىء * (فافرق) * بكسر الراء * (وبين القوم الف‍اسقين) * أي الخارجين عن طاعتك بأن تحكم لنا بما نستحقه، وعليهم بما يستحقونه كما هو المروي عن ابن عباس والضحاك رضي الله تعالى عنهم، وقال الجبائي: سأل عليه السلام ربه أن يفرق بالتبعيد في الآخرة بأن يجعله وأخاه في الجنة ويجعلهم في النار، وإلى الأول ذهب أكثر المفسرين، ويرجحه تعقيب الدعا [بم بقوله تعالى:
* (قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون فى الارض فلا تأس على القوم الف‍اسقين) *.
* (قال فإنها) * فإن الفاء فيه لترتيب ما بعدها على ما قبلها من الدعاء فكان ذلك إثر الدعاء ونوع من المدعو به، وقد أخرج ابن جرير عن السدي قال: إن موسى عليه السلام غضب حين قال له القوم ما قالوا فدعا - وكان ذلك عجلة منه عليه السلام عجلها - فلما ضرب عليهم التيه ندم فأوحى الله تعالى عليه * (فلا تأس على القوم الفاسقين) * والضمير المنصوب عائد إلى الأرض المقدسة أي فإنها لدعائك * (محرمة عليهم) * لا يدخلونها ولا يملكونها، والتحريم تحريم منع لا تحريم تعبد، ومثله قول امرىء القيس يصف فرسه: جالت لتصرعني فقلت لها اقصري * إني امرؤ صرعي عليك (حرام)
يريد إني فارس لا يمكنك أن تصرعيني، وجوز أبو علي الجبائي - وإليه يشير كلام البلخي - أن يكون تحريم تعبد والأول أظهر * (أربعين سنة) * متعلق - بمحرمة - فيكون التحريم مؤقتا لا مؤبدا فلا يكون مخالفا لظاهر قوله تعالى: * (كتب الله لكم) * (المائدة: 21) والمراد بتحريمها عليهم أنه لا يدخلها أحد منهم هذه المدة لكن - لا - بمعنى أن كلهم يدخلونها بعدها، بل بعضهم ممن بقي حسبما روي أن موسى عليه السلام سار بمن بقي من بني إسرائيل إلى الأرض المقدسة، وكان يوشع بن نون على مقدمته ففتحها وأقام بها ما شاء الله تعالى ثم قبض عليه السلام، وروى ذلك عن الحسن ومجاهد، وقيل: لم يدخلها أحد ممن قال: * (لن ندخلها أبدا) * (المائدة: 24) وإنما دخلها مع موسى عليه السلام النواشي من ذرياتهم، وعليه فالمؤقت بالأربعين في الحقيقة تحريمها على ذرياتهم وإنما جعل تحريمها عليهم لما بينهما من العلاقة التامة.
وقوله تعالى: * (يتيهون في الأرض) * استئناف لبيان كيفية حرمانهم، وقيل: حال من ضمير * (عليهم) *، والتيه: الحيرة، ويقال: تاه يتيه ويتوه، وهو أتوه وأتيه، فهو مما تداخل فيه الواو والياء، والمعنى يسيرون متحيرين وحيرتهم عدم اهتدائهم للطريق. وقيل: الظرف متعلق * (يتيهون) *، وروى ذلك عن قتادة فكيون التيه مؤقتا والتحريم مطلقا يحتمل التأبيد وعدمه، وكان مسافة الأرض التي تاهوا فيها ثلاثين فرسخا في عرض تسعة فراسخ كما قال مقاتل، وقيل: اثني عشر فرسخا في عرض ستة فراسخ، وقيل: ستة في عرض تسعة، وقيل: كان طولها ثلاثين ميلا في عرض ستة فراسخ وهي ما بين مصر والشام، وذكر أنهم كانوا ستمائة ألف مقاتل وكانوا يسيرون فيصبحون حيث يمسون ويمسون حيث يصبحون - كما قاله الحسن. ومجاهد - قيل: وحكمة ابتلائهم بالتيه أنهم لما قالوا: * (إنا ههنا قاعدون) * (المائدة: 24) عوقبوا بما يشبه القعود، وكان أربعين سنة لأنها غاية زمن يرعوي فيه الجاهل. وقيل: لأنهم عبدوا العجل أربعين يوما فجعل عقاب كل يوم سنة في التيه وليس بشيء، وكان ذلك من خوارق العادات إذ التحير في مثل تلك المسافة على عقلاء كثيرين هذه المدة الطويلة مما تحيله العادة، ولعل ذلك كان بمحو العلامات
التي يستدل بها، أو بأن ألقي شبه بعضها على بعض. وقال أبو علي الجبائي: إنه كان بتحول الأرض التي هم عليها وقت نومهم ويغني الله تعالى عن قبوله.
109

وروي أنه كان الغمام يظلهم من حر الشمس وينزل عليهم المن والسلوى، وجعل معهم حجر موسى عليه السلام يتفجر منه الماء دفعا لعطشهم، قيل: ويطلع بالليل عمود من نور يضيء لهم ولا يطول شعرهم ولا تبلى ثيابهم كما روي عن الربيع بن أنس، وكانت تشب معهم إذا شبوا كما روى عن طاوس.
وذكر غير واحد من القصاص أنهم كانوا إذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر يطول بطوله ولا يبلى إلى غير ذلك مما ذكروه.
والعادة تبعد كثيرا منه فلا يقبل إلا ما صح عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولقد سألت بعض أحبار اليهود عن لباس بني إسرائيل في التيه فقال: إنهم خرجوا من مصر ومعهم الكثير من ثياب القبط وأمتعتهم، وحفظها الله تعالى لكبارهم وصغارهم فذكرت له حديث الظفر، فقال لم نظفر به وأنكره فقلت له: هي فضيلة فهلا أثبتها لقومك؟ فقال: لا أرضى بالكذب ثوبا، واستشكل معاملتهم بهذه النعم مع معاقبتهم بالحيرة، وأجيب بأن تلك المعاقبة من كرمه تعالى، وتعذيبهم إنما كان للتأديب كما يضرب الرجل ولده مع محبته له ولا يقطع عنه معروفه، ولعلهم استغفروا من الكفر إذا كان قد وقع منهم، وأكثر المفسرين على أن موسى وهرون عليهما السلام كانا معهم في التيه لكن لم ينلهما من المشقة ما نالهم، وكان ذلك لهما روحا وسلامة كالنار لإبراهيم عليه السلام، ولعل الرجلين أيضا كانا كذلك.
وروي أن هارون مات في التيه واتهم به موسى عليهما السلام فقالوا: قتله لحبنا له فأحياه الله تعالى بتضرعه، فبرأه مما يقولون، وعاد إلى مضجعه، ومات موسى عليه السلام بعده بسنة، وقيل: بستة أشهر ونصف، وقيل: بثمانية أعوام، ودخل يوشع أريحاء بعده بثلاثة أشهر، وقال قتادة: بشهرين، وكان قد نبىء قبل بمن بقي من بني إسرائيل ولم يبق المكلفون وقت الأمر منهم، قيل - ولا يساعده النظم الكريم - فإنه بعدما قبل دعوته عليه السلام على بني إسرائيل وعذبهم بالتيه بعيد أن ينجو من نجا، ويقدر وفاة النبيين عليهما السلام في محل العقوبة ظاهرا، وإن كان ذلك لهما منزل روح وراحة، وأنت تعلم أن الأخبار بموتهما عليهما السلام بالتيه كثيرة لا سيما الأخبار بموت هارون عليه السلام، ولا أرى للاستبعاد محلا، ولعل ذلك أنكى لبني إسرائيل. وقيل: إنهما عليهما السلام لم يكونا مع بني إسرائيل في التيه، وأن الدعاء - وقد أجيب - كان بالفرق بمعنى المباعدة في المكان بالدنيا، وأرى هذا القول مما لا يكاد يصح، فإن كثيرا من الآيات كالنص في وجود موسى عليه السلام معهم فيه كما لا يخفى.
* (فلا تأس) * أي فلا تحزن لموتهم، أو لما أصابهم فيه من الأسى - وهو الحزن - * (على القوم الف‍اسقين) * الذين استجيب لك في الدعاء عليهم لفسقهم؛ فالخطاب لموسى عليه السلام كما هو الظاهر، وإليه ذهب أجلة المفسرين. وقال الزجاج: إنه للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد - بالقوم الفاسقين - معاصروه عليه الصلاة والسلام من بني إسرائيل كأنه قيل: هذه أفعال أسلافهم فلا تحزن أنت بسبب أفعالهم الخبيثة معك وردهم عليك فإنهم ورثوا ذلك عنهم..
* (واتل عليهم نبأ ابنى ءادم بالحق إذ قربا قرب‍انا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الاخر قال لاقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين) *.
* (واتل عليهم) * عطف على مقدر تعلق به قوله تعالى: * (وإذ قال موسى) * (المائدة: 20) الخ، وتعلقه به قيل: من حيث إنه تمهيد لما سيأتي إن شاء الله تعالى من جنايات بني إسرائيل بعدما كتب عليهم ما كتب وجاءتهم الرسل بما جاءتهم به من البينات. وقيل: من حيث إن في الأول الجبن عن القتل، وفي هذا الإقدام عليه مع كون كل منهما
110

معصية، وضمير * (عليهم) * يعود على بني إسرائيل كما هو الظاهر إذ هم المحدث عنهم أولا، وأمر صلى الله عليه وسلم بتلاوة ذلك عليهم إعلاما لهم بما هو في غامض كتبهم الأول الذي لا تعلق للرسول عليه الصلاة والسلام بها إلا من جهة الوحي لتقوم الحجة بذلك عليهم، وقيل: الضمير عائد على هذه الأمة أي: أتل يا محمد على قومك * (نبأ ابني ءادم) * هابيل عليه الرحمة وقابيل عليه ما يستحقه، وكانا بإجماع غالب المفسرين ابني آدم عليه السلام لصلبه. وقال الحسن: كانا رجلين من بني إسرائيل - ويد الله تعالى مع الجماعة - وكان من قصتهما ما أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين أنه كان لا يولد لآدم عليه السلام مولود إلا ولد معه جارية فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر، جعل افتراق البطون بمنزلة افتراق النسب للضرورة إذ ذاك حتى ولد له ابنان يقال لهما هابيل وقابيل، وكان قابيل صاحب زرع، وهابيل صاحب ضرع، وكان قابيل أكبرهما، وكانت له أخت واسمها إقليما أحسن من أخت هابيل، وأن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل فأبى عليه، وقال: هي أختي ولدت معي وهي أحسن من أختك وأنا أحق أن أتزوج بها فأمره أبوه أن يزوجها هابيل فأبى، فقال لهما: قربا قربانا فمن أيكما قبل تزوجها، وإنما أمر بذلك لعلمه أنه لا يقبل من قابيل لا أنه لو قبل جاز، ثم غاب عليه السلام عنهما آتيا مكة ينظر إليها فقال آدم للسماء: احفظي ولدي بالأمانة فأبت، وقال للأرض: فأبت، وقال للجبال: فأبت، فقال لقابيل: فقال نعم تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك فلما انطلق آدم عليه السلام قربا قربانا؛ فقرب هابيل جذعة، وقيل: كبشا، وقرب قابيل حزمة سنبل فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركها وأكلها فنزلت النار فأكلت قربان هابيل، وكان ذلك علامة القبول، وكان أكل القربان غير جائز في الشرع القديم وتركت قربان قابيل فغضب، وقال: لأقتلنك فأجابه بما قص الله تعالى * (بالحق) * متعلق بمحذوف وقع صفة لمصدر * (اتل) * أي أتل تلاوة متلبسة بالحق والصحة، أو حال من فاعل * (اتل) * أو من مفعوله أي متلبسا أنت أو نبأهما بالحق والصدق موافقا لما في زبر الأولين.
وقوله تعالى: * (إذ قربا قربانا) * ظرف لنبأ، وعمل فيه لأنه مصدر في الأصل، والظرف يكفي فيه رائحة الفعل، وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا منه، ورد بأنه حينئذ يكون قيدا في عامله وهو * (اتل) * المستقبل، و * (إذ) * لما مضى فلا يتلاقيان، ولذا لم يتعلق به مع ظهوره، وقد يجاب بالفرق بين الوجهين فتأمل. وقيل: إنه بدل من * (نبأ) * على حذف المضاف ليصح كونه متلوا أي اتل عليهم نبأهما نبأ ذلك الوقت، ورده في " البحر " بأن * (إذ) * لا يضاف إليها إلا
الزمان نحو يومئذ وحينئذ و * (نبأ) * ليس بزمان، وأجيب بالمنع، ولا فرق بين * (نبأ) * ذلك الوقت ونبأ * (إذ) * وكل منهما صحيح معنى وإعرابا، ودعوى - جواز الأول سماعا دون الثاني - دون إثباتها خرط القتاد، والقربان اسم لما يتقرب به إلى الله تعالى من ذبيحة أو غيرهما - كالحلوان - اسم لما يحلى أي يعطى، وتوحيده لما أنه في الأصل مصدر، وقيل: تقديره إذ قرب كل منهما قربانا * (فتقبل من أحدهما) * وهو هابيل * (ولم يتقبل من الآخر) * لأنه سخط حكم الله تعالى، وهو عدم جواز نكاح التوأمة * (قال) * استئناف سؤال نشأ من الكلام السابق كأنه قيل: فماذا قال من لم يتقبل قربانه؟ فقيل: قال لأخيه لفرط الحسد على قبول قربانه ورفعة شأنه عند ربه عز وجل كما يدل عليه الكلام الآتي، وقيل: على ما سيقع من أخذ أخته الحسناء
111

* (لأقتلنك) * أي والله تعالى لأقتلنك بالنون المشدة، وقرىء بالمخففة.
* (قال) * استئناف كالذي قبله أي قال الذي تقبل قربانه لما رأى حسد أخيه * (إنما يتقبل الله) * أي القربان والطاعة * (من المتقين) * في ذلك بإخلاص النية فيه لله تعالى لا من غيرهم، وليس المراد من التقوى التقوى من الشرك التي هي أول المراتب كما قيل، ومراده من هذا الجواب إنك إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها عن لباس التقوى لا من قبلي، فلم تقتلني ومالك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله تعالى التي هي السبب في القبول؟! وهو جواب حكيم مختصر جامع لمعان.
وفيه إشارة إلى أن الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره ويجتهد في تحصيل ما به صار المحسود محظوظا لا في إزالة حظه ونعمته، فإن اجتهاده فيما ذكر يضره ولا ينفعه، وقيل: مراده الكناية عن أن لا يمتنع عن حكم الله تعالى بوعيده لأنه متق والمتقي يؤثر الامتثال على الحياة، أو الكناية عن أنه لا يقتله دفعا لقتله لأنه متق فيكون ذلك كالتوطئة لما بعده، ولا يخفى بعده؛ وما أنعى هذه الآية على العاملين أعمالهم، وعن عامر بن عبد الله أنه بكى حين حضرته الوفاة، فقيل له: ما يبكيك، فقد كنت وكنت؟ قال: إني أسمع الله تعالى يقول: * (إنما يتقبل الله من المتقين) *..
* (لئن بسطت إلى يدك لتقتلنى مآ أنا بباسط يدى إليك لاقتلك إنىأخاف الله رب الع‍المين) *.
* (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك) * قيل: كان هابيل أقوى منه ولكن تحرج عن قتله واستسلم له خوفا من الله تعالى لأن المدافعة لم تكن جائزة في ذلك الوقت، وفي تلك الشريعة - كما روي عن مجاهد - وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج - قال: كانت بنو إسرائيل قد كتب عليهم إذا الرجل بسط يده إلى الرجل لا يمتنع منه حتى يقتله أو يدعه، أو تحريا لما هو الأفضل الأكثر ثوابا وهو كونه مقتولا لا قاتلا بالدفع عن نفسه بناءا على جوازه إذ ذاك، قال بعض المحققين: واختلف في هذا الآن على ما بسطه الإمام الجصاص فالصحيح من المذهب أنه يلزم الرجل دفع الفساد عن نفسه وغيره وإن أدى إلى القتل، ولذا قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره: إن المعنى في الآية لئن بسطت إلي يدك على سبيل الظلم والابتداء لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك على وجه الظلم والإبتداء، وتكون الآية على ما قاله مجاهد وابن جريج: منسوخة، وهل نسخت قبل شريعتنا أم لا؟ فيه كلام، والدليل عليه قوله تعالى: * (فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء) * (الحجرات: 9) وغيره من الآيات والأحاديث، وقيل: إنه لا يلزم ذلك بل يجوز، واستدل بما أخرجه ابن سعد في " الطبقات " عن خباب بن الأرت عنه صلى الله عليه وسلم أنه ذكر " فتنة القاعدة فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي فإن أدركت ذلك فكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل " وأولوه بترك القتال في الفتنة واجتنابها وأول الحديث يدل عليه، وأما من منع ذلك الآن مستدلا بحديث " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار " فقد رد بأن المراد به أن يكون كل منهما عزم على قتل أخيه وإن لم يقاتله وتقابلا بهذا القصد انتهى بزيادة.
وعن السيد المرتضى أن الآية ليست من محل النزاع لأن اللام الداخلة على فعل القتل لام كي وهي منبئة عن الإرادة والغرض، ولا شبهة في قبح ذلك أولا وآخرا لأن المدافع إنما يحسن منه المدافعة للظالم طلبا للتخلص من غير أن يقصد إلى قتله، فكأنه قال له: لئن ظلمتني لم أظلمك وإنما قال سبحانه: * (ما أنا بباسط يدي) * في جواب * (لئن بسطت) * للمبالغة في أنه ليس من شأنه ذلك ولا ممن يتصف به، ولذلك أكد النفي
112

بالباء ولم يقل وما أنا بقاتل بل قال: * (بباسط) * للتبري عن مقدمات القتل فضلا عنه، وقدم الجار والمجرور المتعلق - ببسطت - إيذانا على ما قيل من أول الأمر برجوع ضرر البسط وغائلته إليه، ويخطر لي أنه قدم لتعجيل تذكيره بنفسه المنجر إلى تذكيره بالأخوة المانعة عن القتل.
وقوله تعالى: * (إني أخاف الله رب الع‍المين) * تعليل للامتناع عن بسط يده ليقتله، وفيه إرشاد قابيل إلى خشية الله تعالى على أتم وجه، وتعريض بأن القاتل لا يخاف الله تعالى..
* (إنىأريد أن تبوء بإثمى وإثمك فتكون من أصح‍ابالنار وذلك جزآء الظ‍المين) *.
* (إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك) * تعليل آخر لامتناعه عن البسط، ولما كان كل منهما علة مستقلة لم يعطف أحدهما على الآخر إيذانا بالاستقلال ودفعا لتوهم أن يكون جزء علة لاعلة تامة، * (وأصل البوء اللزوم، وفي " النهاية ": أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي أي ألتزم وأرجع وأقر) *، والمعنى إني أريد باستسلامي وامتناعي عن التعرض لك أن ترجع بإثمي أي تتحمله لو بسطت يدي إليك حيث كنت السبب له، وأنت الذي علمتني الضرب والقتل، وإثمك حيث بسطت إلي يدك، وهذا نظير ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة مرفوعا * (المستبان ما قالا فعلى البادىء ما لم يعتد المظلوم " أي على البادىء إثم سبه، ومثل إثم سب صاحبه لأنه كان سببا فيه إلا أن الإثم محطوط عن صاحبه معفو عنه لأنه مكافىء مدافع عن عرضه، ألا ترى إلى قوله: " ما لم يعتد المظلوم " لأنه إذا خرج من حد المكافأة واعتدى لم يسلم) * كذا في " الكشاف "، قيل: وفيه نظر لأن حاصل ما قرره أن على البادىء إثمه ومثل إثم صاحبه إلا أن يتعدى الصاحب فلا يكون هذا المجموع على البادىء، ولا دلالة فيه على أن المظلوم إذ لم يتعد كان إثمه المخصوص بسببه ساقطا عنه اللهم إلا بضميمة تنضم إليه، وليس في اللفظ ما يشعر بها، ورده في " الكشف " بأنه كيف لا يدل على
سقوطه عنه، وقوله عليه الصلاة والسلام: " فعلى البادىء " مخصص ظاهر، وقول " الكشاف ": " إلا أن الإثم محطوط " نفسير لقوله: " فعلى البادىء " وقوله: فعليه إثم سبه، ومثل إثم سب صاحبه تفسير لقوله: ما قالا، فكما يدل على أن عليه إثما مضاعفا يدل على أن إثم صاحبه ساقط. هذا ثم قال: ولعل الأظهر في الحديث أن لا يضمر المثل، والمعنى إثم سبابهما على البادىء، وكان ذلك لئلا يلتزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، والقول: بأنه إذا لم يكن لما قاله غير البادىء إثم، فيكف يقال: إثم سبابهما، وكيف يضاف إليه الإثم مشترك الإلزام؟ وتحقيقه أن لما قاله غير البادىء إثما وليس على البادىء، وليس بمناف لقوله تعالى: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * (الأنعام: 164) لأنه بحمله عليه عد جانيا، وهذا كما ورد فيمن سن سنة حسنة أو سنة سيئة، نعم فيما نحن فيه العامل لا إثم له إنما هو للحامل، والحاصل أن سب غير البادىء يترتب عليه شيئان، أحدهما بالنسبة إلى فاعله وهو ساقط إذا كان على وجه الدفع دون اعتداء، والثاني: بالنسبة إلى حامله عليه وهو غير ساقط أعني أنه يثبت ابتداءا لا أنه لا يعفى، وأورد في " التحقيق " أن ما ذكره من حط الإثم من المظلوم لأنه مكافىء غير صحيح لأنه إذا سب شخص لم يستوف الجزاء إلا بالحاكم، والجواب أن صريح الحديث يدل على ما ذكر في " الكشاف "، والجمع بينه وبين الحكم الفقهي أن السب إما أن يكون بلفظ يترتب عليه الحد شرعا فذلك سبيله الرفع إلى الحاكم، أو بغير ذلك وحينئذ لا يخلو إما أن يكون كلمة إيحاش أو امتنان أو تفاخر بنسب ونحوه مما يتضمن إزراء بنسب صاحبه من دون شتم - كنحو الرمي بالكفر والفسق - فله أن يعارضه بالمثل، ويدل عليه حديث زينب وعائشة رضي الله تعالى عنهما، وقوله عليه الصلاة والسلام لعائشة:
113

" دونك فانتصري " أو يتضمن شتما فذلك أيضا يرفع إلى الحاكم ليعزره، والحديث محمول على القسم الذي يجري فيه الانتصار، وقوله صلى الله عليه وسلم: " ما لم يعتد المظلوم " يدل عليه لأنه إذا كان حقه الرفع إلى الحاكم فاشتغل بالمعارضة عد متعديا انتهى، وهو تفصيل حسن.
وقيل: معنى * (بإثمي) * بإثم قتلي، ومعنى * (بإثمك) * إثمك الذي كان قبل قتلي، وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما وقتادة ومجاهد والضحاك، وأطلق هؤلاء الإثم الذي كان قبل، وعن الجبائي والزجاج أنه الإثم الذي من أجله لم يتقبل القربان وهو عدم الرضا بحكم الله تعالى كما مر، وقيل: معناه بإثم قتلي وإثمك الذي هو قتل الناس جميعا حيث سننت القتل، وإضافة الإثم على جميع هذه الأقوال إلى ضمير المتكلم لأنه نشأ من قلبه، أو هو على تقدير مضاف ولا حاجة إلى تقدير مضاف إليه كما قد قيل به أولا إلا أنه لا خفاء في عدم حسن المقابلة بين التكلم والخطاب على هذا لأن كلا الإثمين إثم المخاطب، والأمر فيه سهل، والجار والمجرور مع المعطوف عليه حال من فاعل * (تبوء) * أي ترجع متلبسا بالإثمين حاملا لهما، ولعل مراده بالذات: إنما هو عدم ملابسته للإثم لا ملابسة أخيه إذ إرادة الإثم من آخر غير جائزة، وقيل: المراد بالإثم: ما يلزمه ويترتب عليه من العقوبة، ولا يخفى أنه لا يتضح حينئذ تفريع قوله تعالى: * (فتكون من أصحاب النار) * على تلك الإرادة، فإن كون المخاطب من أصحاب النار إنما يترتب على رجوعه بالإثمين لا على ابتلاء بعقوبتهما وهو ظاهر، وحمل العقوبة على نوع آخر يترتب عليه العقوبة النارية يرده - كما قال شيخ الإسلام - قوله سبحانه: * (وذالك جزاؤا الظ‍المين) * فإنه صريح في أن كونه من أصحاب النار تمام العقوبة وكمالها، والجملة تذييل مقرر لما قبله، وهي من كلام هابيل على ما هو الظاهر، وقيل: بل هي إخبار منه تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم.
* (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخ‍اسرين) *.
* (فطوعت له نفسه قتل أخيه) * فسهلته له ووسعته من طاع له المرتع إذا اتسع، وترتيب التطويع على ما قبله من مقالات هابيل مع تحققه قبل كما يفصح عنه قوله: * (لأقتلنك) * (المائدة: 27) لما أن بقاء الفعل بعد تقرر ما يزيله - وإن كان استمرارا عليه بحسب الظاهر - لكنه في الحقيقة أمر حادث وصنع جديد، أو لأن هذه المرتبة من التطويع لم تكن حاصلة قبل ذلك بناءا على تردده في قدرته على القتل لما أن أخاه كان أقوى منه، وأنها حصلت بعد وقوفه على استسلامه وعدم معارضته له، والتصريح بأخوته لكمال تقبيح ما سولته نفسه، وقرأ الحسن - فطاوعت - وفيها وجهان: الأول: أن فاعل بمعنى فعل كما ذكره سيبويه وغيره، وهو أوفق بالقراءة المتواترة، والثاني: أن المفاعلة مجازية يجعل القتل يدعو النفس إلى الإقدام عليه وجعلت النفس تأباه، فكل من القتل والنفس كأنه يريد من صاحبه أن يطيعه إلى أن غلب القتل النفس فطاوعته، و * (له) * للتأكيد والتبيين كما في قوله تعالى: * (ألم نشرح لك صدرك) * (الشرح: 1). والقول بأنه للاحتراز عن أن يكون طوعت لغيره أن يقتله ليس بشيء.
* (فقتله) * أخرج ابن جرير عن ابن مجاهد وابن جريج أن قابيل لم يدر كيف يقتل هابيل فتمثل له إبليس اللعين في هيئة طير فأخذ طيرا فوضع رأسه بين حجرين فشدخه فعلمه القتل فقتله كذلك وهو مستسلم، وأخرج عن ابن مسعود وناس من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن قابيل طلب أخاه ليقتله فراغ منه في رؤوس الجبال فأتاه يوما من الأيام وهو يرعى غنما له وهو نائم فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات فتركه بالعراء ولا يعلم كيف يدفن إلى أن بعث الله تعالى الغراب، وكان لهابيل لما قتل عشرون سنة، واختلف في موضع قتله، فعن عمرو الشعباني عن كعب الأخبار أنه قتل على
114

جبل دير المران، وفي رواية عنه أنه قتل على جبل قاسيون، وقيل: عند عقبة حراء، وقيل: بالبصرة في موضع المسجد الأعظم، وأخرج نعيم بن حماد عن عبد الرحمن بن فضالة أنه لما قتل قابيل هابيل مسخ الله تعالى عقله وخلع فؤاده فلم يزل تائها حتى مات، وروي أنه لما قتله أسود جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه، فقال: ما كنت عليه وكيلا، قال: بل قتلته ولذلك اسود جسدك.
وأخرج ابن عساكر وابن جرير عن سالم بن أبي الجعد قال: إن آدم عليه السلام لما قتل أحد ابنيه الآخر مكث مائة عام لا يضحك حزنا عليه فأتى على رأس المائة، فقيل له: حياك الله تعالى وبياك وبشر بغلام، فعند ذلك ضحك، وذكر محيي السنة أنه عليه السلام ولد له بعد قتل ولده بخمسين سنة شيث عليه السلام، وتفسيره - هبة الله - يعني أنه خلف من هابيل، وعلمه الله تعالى ساعات الليل والنهار وعبادة الخلق من كل ساعة منها وأنزل عليه خمسين صحيفة وصار وصي آدم وولي عهده، وأخرج
ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: لما قتل ابن آدم عليه السلام أخاه بكى آدم عليه السلام ورثاه بشعر، وأخرج نحو ذلك الخطيب وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو مشهور. وروي عن ميمون بن مهران عن الحبر رضي الله تعالى عنه أنه قال: من قال: إن آدم عليه السلام قال شعرا فقد كذب إن محمدا صلى الله عليه وسلم والأنبياء كلهم عليهم الصلاة والسلام في النهي عن الشعر سواء، ولكن لما قتل قابيل هابيل رثاه آدم بالسرياني فلم يزل ينقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان، وكان يتكلم بالعربية والسريانية، فنظر فيه فقدم وأخر وجعله شعرا عربيا، وذكر بعض علماء العربية أن في ذلك الشعر لحنا أو إقواءا أو ارتكاب ضرورة، والأولى عدم نسبته إلى يعرب أيضا لما فيه من الركاكة الظاهرة.
* (فأصبح من الخ‍اسرين) * دنيا وآخرة، أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل "، وأخرج ابن جرير والبيهقي في " شعب الإيمان " عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: " إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم " وورد أنه أحد الأشقياء الثلاثة، وهذا ونحوه صريح في أن الرجل مات كافرا. وأصرح من ذلك ما روي أنه لما قتل أخاه هرب إلى عدن من أرض اليمن فأتاه إبليس عليهما اللعنة فقال: إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يخدمها ويعبدها فإن عبدتها أيضا حصل مقصودك فبنى بيت نار فعبدها فهو أول من عبد النار، والظاهر أن عليه أيضا وزر من يعبد النار بل لا يبعد أن يكون عليه وزر من يعبد غير الله تعالى إلى يوم القيامة، واستدل بعضهم بقوله سبحانه: * (فأصبح) * على أن القتل وقع ليلا - وليس بشيء - فإن من عادة العرب أن يقولوا: أصبح فلان خاسر الصفقة إذا فعل أمرا ثمرته الخسران، ويعنون بذلك الحصول مع قطع النظر عن وقت دون وقت، وإنما لم يقل سبحانه - فأصبح خاسرا - للمبالغة وإن لم يكن حينئذ خاسر سواه..
* (فبعث الله غرابا يبحث فى الارض ليريه كيف يوارى سوءة أخيه قال ي‍اويلتا أعجزت أن أكون مثل ه‍اذا الغراب فأواري سوءة أخى فأصبح من الن‍ادمين) *.
* (فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه) * أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عطية قال: لما قتله ندم فضمه إليه حتى أروح وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكله، وكره أن يأتي به آدم عليه الصلاة والسلام فيحزنه؛ وتحير في أمره إذ كان أول ميت من بني آدم عليه السلام، فبعث الله تعالى غرابين قتل أحدهما الآخر وهو ينظر إليه ثم حفر له بمنقاره وبرجله حتى مكن له ثم دفعه
115

برأسه حتى ألقاه في الحفرة ثم بحث عليه برجله حتى واراه، وقيل: إن أحد الغرابين كان ميتا. والغراب: طائر معروف، قيل: والحكمة في كونه المبعوث دون غيره من الحيوان كونه يتشاءم به في الفراق والاغتراب وذلك مناسب لهذه القصة، وقال بعضهم: إنه كان ملكا ظهر في صورة الغراب والمستكن في - يريه - لله تعالى أو للغراب، واللام على الأول متعلقة - ببعث حتما، وعلى الثاني - بيبحث - ويجوز تعلقها ببعث أيضا، و * (كيف) * حال من الضمير في * (يواري) * قدم عليه لأن له الصدر، وجملة * (كيف يواري) * في محل نصب مفعول ثان - ليرى - البصرية المتعدية بالهمزة لاثنين وهي معلقة عن الثاني، وقيل: إن - يريه - بمعنى يعلمه إذ لو جعل بمعنى الإبصار لم يكن لجملة * (كيف يواري) * موقع حسن، وتكون الجملة في موقع مفعولين له وفيه نظر، و - البحث - في الأصل التفتيش عن الشيء مطلقا أو في التراب، والمراد به هنا الحفر، والمراد - بالسوأة - جسد الميت وقيده الجبائي بالمتغير، وقيل: العورة لأنها تسوء ناظرها، وخصت بالذكر مع أن المراد مواراة جميع الجسد للاهتمام بها لأن سترها آكد، والأول أولى، ووجه التسمية مشترك، وضمير * (أخيه) * عائد على المبحوث عنه لا على الباحث كما توهم، وبعثة الغراب كانت من باب الإلهام إن كان المراد منه المتبادر، وبعثة حقيقة إن كان المراد منه ملكا ظهر على صورته، وعلى التقديرين ذهب أكثر العلماء إلى أن الباحث وارى جثته وتعلم قابيل، ففعل مثل ذلك بأخيه، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وابن مسعود وغيرهما، وذهب الأصم إلى أن الله تعالى بعث من بعثه فبحث في الأرض ووارى هابيل، فلما رأى قابيل ما أكرم الله تعالى به أخاه:
* (قال يا ويلتا) * كلمة جزع وتحسر، والويلة - كالويل - الهلكة كأن المتحسر ينادي هلاكه وموته ويطلب حضوره بعد تنزيله منزلة من ينادي، ولا يكون طلب الموت إلا ممن كان في حال أشد منه، والألف بدل من ياء المتكلم أي - يا ويلتى -، وبذلك قرأ الحسن احضري فهذا أوانك * (أعجزت أن أكون مثل ه‍اذا الغراب) * تعجب من عجزه عن كونه مثله لأنه لم يهتد إلى ما اهتدى إليه مع كونه أشرف منه * (فأواري سوءة أخي) * عطف على * (أكون) * وجعله في " الكشاف " منصوبا في جواب الاستفهام، واعترضه كثير من المعربين، وقال أبو حيان: * (إنه خطأ فاحش لأن شرط هذا النصب أن ينعقد من الجملة الاستفهامية، والجواب جملة شرطية نحو أتزورني فأكرمك، فإن تقديره إن تزرني أكرمك، ولو قيل ههنا: إن - أعجز أن أكون مثل هذا الغراب أوارى سوأة أخي - لم يصح المعنى لأن المواراة تترتب على عدم العجز لا عليه) *، وأجاب في " الكشف " بأن الاستفهام للإنكار التوبيخي، ومن باب أتعصي ربك فيعفو عنك، بالنصب لينسحب الإنكار على الأمرين، وفيه تنبيه على أنه في العصيان وتوقع العفو مرتكب خلاف المعقول، فإذا رفع كان كلاما ظاهريا في انسحاب الإنكار، وإذا نصب جاءت المبالغة للتعكيس حيث جعل سبب العقوبة سبب العفو، وفيما نحن فيه نعى على نفسه عجزها فنزلها منزلة من جعل العجز سبب المواراة دلالة على التعكيس المؤكد للعجز والقصور عما يهتدي إليه غراب، ثم قال: فإن قلت: الإنكار التوبيخي إنما يكون على واقع أو متوقع، فالتوبيخ على العصيان والعجز له وجه، أما على العفو والمواراة فلا قلت: التوبيخ على جعل كل واحد سببا، أو تنزيله منزلة من جعله سببا لا على العفو والمواراة فافهم انتهى، ولعل الأمر بالفهم إشارة إلى ما فيه من البعد، وقيل: في توجيه ذلك أن الاستفهام للإنكار - وهو بمعنى النفي - وهو سبب، والمعنى إن لم أعجز واريت، واعترض بأنه غير صحيح لأنه
116

لا يكفي في النصب سببية النفي بل لا بد من سببية المنفي قبل دخول النفي، ألا ترى أن ما تأتينا فتحدثنا مفسر عندهم بأنه لا يكون منك إتيان فتحديث، قال الشهاب: والجواب عنه أنه فرق بين ما نصب في جواب النفي وما نصب في جواب الاستفهام، والكلام في الثاني، فكيف يرد الأول نقضا، ولو جعل في جواب النفي لم يرد ما
ذكره أيضا لأنه لا حاجة إلى أخذ النفي من الاستفهام الإنكاري مع وضوح تأويل - عجزت - بلم اهتد، وقد قال في التسهيل: إنه ينتصب في جواب النفي الصريح والمؤول، وما نحن فيه من الثاني حكمه فتأمل انتهى.
ولعل الأمر بالتأمل الإشارة إن ما في دعوى الفرق بين الاستفهام الإنكاري الذي هو بمعنى النفي، والنفي من الخفاء، وكذا في تأويل - عجزت - بلم أهتد هنا فليفهم، وقرىء * (أعجزت) * بكسر الجيم وهو لغة شاذة في عجز، وقرىء - فأواري - بالسكون على أنه مستأنف وهم يقدرون المبتدأ لإيضاح القطع عن العطف، أو معطوف إلا أنه سكن للتخفيف كما قاله غير واحد، واعترضه في " البحر " * (بأن الفتحة لا تستثقل حتى تحذف تخفيفا، وتسكين المنصوب عند النحويين ليس بلغة كما زعم ابن عطية، وليس بجائز إلا في الضرروة فلا تحمل القراءة عليها مع وجود محمل صحيح، وهو الاستئناف لها) * انتهى، وعلى دعوى الضرورة منع ظاهر، فإن تسكين المنصوب في كلامهم كثير، وادعى المبرد أن ذلك من الضرورات الحسنة التي يجوز مثلها في النثر.
* (فأصبح من النادمين) * أي صار معدودا من عدادهم، وكان ندمه على قتله لما كابد فيه من التحير في أمره. وحمله على رقبته أربعين يوما أو سنة أو أكثر على ما قيل وتلمذة الغراب فإنها إهانة ولذا لم يلهم من أول الأمر ما ألهم واسوداد وجهه وتبرىء أبويه منه لا على الذنب إذ هو توبة..
* (من أجل ذالك كتبنا على بنىإسراءيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد فى الارض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحي‍اها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جآءتهم رسلنا بالبين‍ات ثم إن كثيرا منهم بعد ذالك فى الارض لمسرفون) *.
* (من أجل ذلك) * أي ما ذكر في تضاعيف القصة، و * (من) * ابتدائية متعلقة بقوله تعالى: * (كتبنا) * أي قضينا، وقيل: بالنادمين وهو ظاهر ما روي عن نافع، و * (كتبنا) * استئناف، واستبعده أبو البقاء وغيره. و - الأجل بفتح الهمزة وقد تكسر، وقرىء به - لكن بنقل الكسرة إلى النون كما قرىء بنقل الفتحة إليها في الأصل - الجناية يقال: أجل عليهم شرا إذا جنى عليهم جناية، وفي معناه جر عليهم جريرة، ثم استعمل في تعليل الجنايات، ثم اتسع فيه فاستعمل لكل سبب أي من ذلك ابتداء الكتب ومنه نشأ لا من غيره. * (على بني إسرائيل) * وتخصيصهم بالذكر لما أن الحسد كان منشأ لذلك الفساد وهو غالب عليهم. وقيل: إنما ذكروا دون الناس لأن التوراة أول كتاب نزل فيه تعظيم القتل، ومع ذلك كانوا أشد طغيانا فيه وتماديا حتى قتلوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكأنه قيل: بسبب هذه العظيمة كتبنا في التوراة تعظيم القتل، وشددنا عليهم وهم بعد ذلك لا يبالون. ومن هنا تعلم أن هذه الآية لا تصلح - كما قال الحسن والجبائي وأبو مسلم - على أن ابني آدم عليه السلام كانا من بني إسرائيل، على أن بعثة الغراب الظاهر في التعليم المستغني عنه في وقتهم لعدم جهلهم فيه بالدفن - تأبى ذلك * (أنه) * أي الشأن * (من قتل نفسا) * واحدة من النفوس الإنسانية * (بغير نفس) * أي بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص، والباء للمقابلة متعلقة بقتل، وجوز أن تتعلق بمحذوف وقع حالا أي متعديا ظالما * (أو فساد في الأرض) * أي فساد فيها يوجب هدر الدم كالشرك مثلا، وهو عطف على ما أضيف إليه
117

- غير - والنفي هنا وارد على الترديد لأن إباحة القتل مشروطة بأحد ما ذكر من القتل والفساد، ومن ضرورته اشتراط حرمته بانتفائهما معا فكأنه قيل: من قتل بغير أحدهما:
* (فكأنما قتل الناس جميعا) * لاشتراك الفعلين في هتك حرمة الدماء والاستعصاء على الله تعالى والتجبر على القتل في استتباع القود واستجلاب غضب الله تعالى العظيم. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود أن هذا التشبيه عند المقتول كما أن التشبيه الآتي عند المستنقذ، والأول أولى وأنسب للغرض المسوق له التشبيه، وقرىء - أو فسادا - بالنصب بتقدير أو عمل فسادا - أو فسد فسادا * (ومن أحياها) * أي تسبب لبقاء نفس واحدة موصوفة بعدم ما ذكر من القتل والفساد إما بنهي قاتلها عن قتلها. أو استنقاذها من سائر أسباب الهلكة بوجه من الوجوه * (فكأنما أحيا الناس جميعا) *، وقيل: المراد ومن أعان على استيفاء القصاص فكأنما الخ، و * (ما) * في الموضعين كافة مهيئة لوقوع الفعل بعدها، و * (جميعا) * حال من * (الناس) * أو تأكيد، وفائدة التشبيه الترهيب والردع عن قتل نفس واحدة بتصويره بصورة قتل جميع الناس، والترغيب والتحضيض على إحيائها بتصويره بصورة إحياء جميع الناس. * (ولقد جاءتهم رسلنا بالبين‍ات) * أي الآيات الواضحة الناطقة بتقرير ما كتبنا عليهم تأكيدا لوجوب مراعاته وتأييدا لتحتم المحافظة عليه. والجملة مستقلة غير معطوفة على * (كتبنا) * وأكدت بالقسم لكمال العناية بمضمونها، وإنما لم يقل ولقد أرسلنا إليهم الخ للتصريح بوصول الرسالة إليهم فإنه أدل على تناهيهم في العتو والمكابرة. * (ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك) * المذكور من الكتب وتأكيد الأمر بالإرسال، ووضع اسم الإشارة موضع الضمير للإيذان بكمال تميزه وانتظامه بسبب ذلك في سلك الأمور المشاهدة، وما فيه من معنى البعد للإيماء إلى علو درجته وبعد منزلته في عظم الشأن، و * (ثم) * للتراخي في الرتبة والاستبعاد * (في الأرض) * متعلق بقوله تعالى: * (لمسرفون) * وكذا بعد فيما قبل، ولا تمنع اللام المزحلقة من ذلك، والإسراف في كل أمر التباعد عن حد الاعتدال مع عدم مبالاة به، والمراد مسرفون في القتل غير مبالين به ولما كان إسرافهم في أمر القتل مستلزما لتفريطهم في شأن الإحياء وجودا وعدما وكان هو أقبح الأمرين وأفظعهما اكتفى في ذكره في مقام التشنيع المسوق له الآي، وعن الكلبي أن المراد مجاوزون حد الحق بالشرك، وقيل: إن المراد ما هو أعم من الإسراف بالقتل والشرك وغيرهما، وإنما قال سبحانه: * (وإن كثيرا منهم) * لأنه عز شأنه على ما في الخازن علم أن منهم من يؤمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وهم قليل من كثير، وذكر الأرض مع أن الإسراف لا يكون إلا فيها للإيذان بأن إسراف ذلك الكثير ليس أمرا مخصوصا بهم بل انتشر شره في الأرض وسرى إلى غيرهم، ولما بين سبحانه عظم شأن القتل بغير حق استأنف بيان حكم نوع من أنواع القتل وما يتعلق به من الفساد بأخذ المال ونظائره وتعيين موجبه، وأدرج فيه بيان ما أشير إليه إجمالا من الفساد المبيح للقتل [بم فقال جل شأنه:
* (إنما جزآء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الارض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خل‍افأو ينفوا من الارض ذالك لهم خزى فى الدنيا
ولهم فى الاخرة عذاب عظيم) *.
* (إنما جزاؤا الذين يحاربون الله ورسوله) * ذهب أكثر المفسرين - كما قال الطبرسي، وعليه جملة الفقهاء - إلى أنها نزلت في قطاع الطريق، والكلام - كما قال الجصاص - على حذف مضاف أي يحاربون أولياء الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فهو كقوله تعالى: * (إن الذين يؤذون الله ورسوله) * (الأحزاب: 57)
118

ويدل على ذلك أنهم لو حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لكانوا مرتدين بإظهار محاربته ومخالفته عليه الصلاة والسلام، وقيل: المراد يحاربون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الله تعالى للتمهيد والتنبيه على رفعة محله عليه الصلاة والسلام عنده عز وجل، ومحاربة أهل شريعته وسالكي طريقته من المسلمين محاربة له صلى الله عليه وسلم فيعم الحكم من يحاربهم بعد الرسول عليه الصلاة والسلام ولو بأعصار كثيرة بطريق العبارة لا بطريق الدلالة أو القياس كما يتوهم، لأن ورود النص ليس بطريق خطاب المشافهة حتى يختص بالمكلفين حين النزول ويحتاج في تعميمه إلى دليل آخر على ما تحقق في الأصول، وقيل: ليس هناك مضاف محذوف وإنما المراد محاربة المسلمين إلا أنه جعل محاربتهم محاربة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم تعظيما له وترفيعا لشأنهم، وجعل ذكر الرسول على هذا تمهيدا على تمهيد، وفيه ما لا يخفى، والحرب في الأصل السلب والأخذ، يقال: حربه إذا سلبه، والمراد به ههنا قطع الطريق؛ وقيل: الهجوم جهرة بالصوصية وإن كان في مصر * (ويسعون) * عطف على يحاربون، وبه يتعلق قوله تعالى: * (في الأرض) *، وقيل: بقوله سبحانه: * (فسادا) * وهو إما حال من فاعل * (يسعون) * بتأويله بمفسدين. أو ذوي فساد. أو لا تأويل قصدا للمبالغة كما قيل، وإما مفعول له أي لأجل الفساد، وإما مصدر مؤكد - ليسعون - لأنه في معنى يفسدون، و * (فسادا) * إما مصدر حذف منه الزوائد أو اسم مصدر، وقوله تعالى: * (إنما جزاء) * مبتدأ خبره المنسبك من قوله تعالى: * (أن يقتلوا) * أي حدا من غير صلب إن أفردوا القتل، ولا فرق بين أن يكون بآلة جارحة أولا، والاتيان بصيغة التفعيل لما فيه من الزيادة على القصاص من أنه لكونه حق الشرع لا يسقط بعفو الولي، وكذا التصليب في قوله سبحانه: * (أو يصلبوا) * لما فيه من القتل أي يصلبوا مع القتل إن جمعوا بين القتل والأخذ وقيل: صيغة التفعيل في الفعلين للتكثير، والصلب قبل القتل بأن يصلبوا أحياءا وتبعج بطونهم برمح حتى يموتوا، وأصح قولي الشافعي عليه الرحمة أن الصلب ثلاثا بعد القتل، قيل: إنه يوم واحد.
وقيل: حتى يسييل صديده، والأولى أن يكون على الطريق في ممر الناس ليكون ذلك زجرا للغير عن الاقدام على مثل هذه المعصية.
وفي ظاهر الرواية أن الإمام مخير إن شاء اكتفى بذلك وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقتلهم وصلبهم * (أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف) * أي تقطع مختلفة بأن تقطع أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى إن اقتصروا على أخذ المال من مسلم أو ذمي إذ له ما لنا وعليه ما علينا وكان في المقدار بحيث لو قسم عليهم أصاب كلا منهم عشرة دراهم أو ما يساويها قيمة، وهذا في أول مرة فإن عادوا قطع منهم الباقي، وقطع الأيدي لأخذ المال، وقطع الأرجل لإخافة الطريق وتفويت أمنه * (أو ينفوا من الأرض) * إن لم يفعلوا غير الاخافة والسعي للفساد، والمراد بالنفي عندنا هو الحبس والجسن؛ والعرب تستعمل النفي بذلك المعنى لأن الشخص به يفارق بيته وأهله، وقد قال بعض المسجونين: خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها * فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا
إذا جاءنا السجان يوما لحاجة * عجبنا، وقلنا: جاء هذا من الدنيا
ويعزرون أيضا لمباشرتهم إخافة الطريق وإزالة أمنه، وعند الشافعي عليه الرحمة المراد به النفي من بلد
119

إلى بلد ولا يزال يطلب وهو هارب فرقا إلى أن يتوب ويرجع. وبه قال ابن عباس. والحسن. والسدى رضي الله تعالى عنهم. وابن جبير، وغيرهم، وإليه ذهب الإمامية، وعن عمر بن عبد العزيز. وابن جبير في رواية أخرى أنه ينفي عن بلده فقط، وقيل: إلى بلد أبعد، وكانوا ينفونهم إلى - دهلك - وهو بلد في أقصى تهامة - وناصع - وهو بلد من بلاد الحبشة، واستدل للأول بأن المراد بنفي قاطع الطريق زجره ودفن شره فإذا نفي إلى بلد آخر لم يؤمن ذلك منه، وإخراجه من الدنيا غير ممكن، ومن دار الإسلام غير جائز فإن حبس في بلد آخر فلا فائدة فيه إذ بحبسه في بلده يحصل المقصود وهو ؤشد عليه.
هذا ولما كانت المحاربة والفساد على مراتب متفاوتة ووجوه شتى شرعت لكل مرتبة من تلك المراتب عقوبة معينة بطريق كما أشرنا إليه - فأو - للتقسيم واللف والنشر المقدر على الصحيح، وقيل: إنها تخييرية والإمام مخير بين هذه العقوبات في كل قاطع طريق، والأول علم بالوحي وإلا فليس في اللفظ ما يدل عليه دون التخيير، ولأن في الآية أجزية مختلفة غلظا وخفة فيجب أن تقع في مقابلة جنايات مختلفة ليكون جزاء كل سيئة سيئة مثلها، ولأنه ليس للتخيير في الأغلظ والأهون في جناية واحدة كبير معنى، والظاهر أنه أوحى إليه صلى الله عليه وسلم هذا التنويع والتفصيل، ويشهد له ما أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وزعم بعضهم أن التخيير أقرب وكونه بين الأغلظ والأهون بالنظر إلى الأشخاص والأزمنة فإن العقوبات للانزجار وإصلاح الخلق، وربما يتفاوت الناس في الانزجار فوكل ذلك إلى رأي الإمام، وفيه تأمل فتأمل * (ذلك) * أي ما فصل من الأحكام والأجزية، وهو مبتدأ، وقوله تعالى: * (لهم خزي) * جملة من خبر مقدم ومبتدأ في محل رفع خبر للمبتدأ، وقوله سبحانه: * (في الدنيا) * متعلق بمحذوف وقع صفة لخزي، أو متعلق به على الظرفية، وقيل: * (خزي) * خبر - لذلك - و * (لهم) * متعلق بمحذوف وقع حالا من * (خزي) * خبر - لذلك - و * (لهم) * متعلق بمحذوف وقع حالا من * (خزي) * لأنه في الأصل صفة له فلما قدم انتصب حالا، و * (في الدنيا) * إما صفة - لخزي - أو متعلق به كما مر آنفا، والخزي الذل والفضيحة * (ولهم في الأخرة عذاب عظيم) * لا يقادر قدره وذلك لغاية عظم جنايتهم، واقتصر في الدنيا على الخزي مع أن لهم فيها عذابا أيضا، وفي الآخرة على العذاب مع أن لهم فيها خزيا أيضا لأن الخزي في الدنيا أعظم من عذابها، والعذاب في الآخرة أشد من خزيها، والآية أقوى دليل لمن يقول إن الحدود لا تسقط العقوبة في الآخرة، والقائلون بالإسقاط يستدلون بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " من ارتكب شيئا فعوقب به كان كفارة له " فإنه يقتضي سقوط الإثم عنه وأن لا يعاقب في الآخرة، وهو مشكل مع هذه الآية، وأجاب النووي بأن
الحد يكفر به عنه حق الله تعالى، وأما حقوق العباد فلا، وههنا حقان لله تعالى والعباد، ونظر فيه..
* (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم) *.
* (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) * استثناء مخصوص بما هو من حقوق الله تعالى كما ينبىء عنه قوله تعالى: * (فاعلموا أن الله غفور رحيم) * وأما ما هو من حقوق العباد - كحقوق الأولياء من القصاص ونحوه - فيسقط بالتوبة وجوبه على الإمام من حيث كونه حدا، ولا يسقط جوازه بالنظر إلى الأولياء من حيث كونه قصاصا، فانهم إن شاءوا عفوا، وإن أحبوا استوفوا.
وقال ناصر الدين البيضاوي: إن القتل قصاصا يسقط بالتوبة وجوبه لا جوازه، وشنع عليه لضيق عبارة العلامة ابن حجر في كتابه التحفة، وأفرد له تنبيها فقال - بعد نقله - وهو عجيب، أعجب منه سكوت شيخنا عليه في حاشيته
120

مع ظهور فساده لأن التوبة لا دخل لها في القصاص أصلا إذ لا يتصور بقيد كونه قصاصا حالتا وجوب وجواز لأنا إن نظرنا إلى الولي فطلبه جائز له ولا واجب مطلقاف، أو للإمام فإن طلبه منه الولي وجب وإلا لم يجب من حيث كونه قصاصا، وإن جاز أو وجوب من حيث كونه حدا فتأمله انتهى.
وتعقبه ابن قاسم فقال: ادعاؤه الفساد ظاهر الفساد فإنه لم يدع ما ذكر وإنما ادعى أن لها دخلا في صفة القتل قصاصا وهي وجوبه، وقوله: إذ لا يتصور الخ قلنا: لم يدع أن له حالتي وجوب وجواز بهذا القيد بل ادعى أن له حالتين في نفسه - وهو صحيح - على أنه يمكن أن يكون له حالتان بذلك القيد لكن باعتبارين، اعتبار الولي واعتبار الإمام إذا طلب منه، وقوله: لأنا إذا نظرنا الخ كلام ساقط، ولا شك أن النظر إليهما يقتضي ثبوت الحالتين قصاصا، وقوله: فتأمله تأملنا فوجدنا كلامه ناشئا من قلة التأمل انتهى.
وجعل مولانا شيخ الكل في الكل صبغة الله تعالى الحيدري منشأ تشنيع العلامة ما يتبادر من العبارة من كونها بيانا لتفويض القصاص إلى الأولياء أما لو جعلت بيانا لسقوط الحد في قتل قاطع الطريق بالتوبة قبل القدرة دون القتل قصاصا فلا يرد التشنيع فتدبر، وتقييد التوبة بالتقدم على القدرة يدل على أنها بعد القدرة لا تسقط الحد وإن أسقطت العذاب، وذهب أناس إلى أن الآية في المرتدين لا غير لأن محاربة الله تعالى ورسوله إنما تستعمل في الكفار، وقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أنس " أن نفرا من عكل قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا واجتووا المدينة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها فقتلوا راعيها واستاقوها فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم قافة فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ولم يحسمهم وتركهم حتى ماتوا، فأنزل الله تعالى: * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) * الآية، وأنت تعلم أن القول بالتخصيص قول ساقط مخالف لإجماع من يعتد به من السلف والخلف، ويدل على أن المراد قطاع الطريق من أهل الملة قوله تعالى: * (إلا الذين تابوا) * الخ، ومعلوم أن المرتدين لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسقطها عنهم قبل القدرة، وقد فرق الله تعالى بين توبتهم قبل القدرة وبعدها، وأيضا إن الإسلام لا يسقط الحد عمن وجب عليه. وأيضا ليست عقوبة المرتدين كذلك، ودعوى أن المحاربة إنما تستعمل في الكفار يردها أنه ورد في الأحاديث إطلاقها على أهل المعاصي أيضا، وسبب النزول لا يصلح مخصصا فإن العبرة - كما تقرر - بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وغيرهما عن الشعبي قال: كان حارثة بن بدر التيمي من أهل البصرة قد أفسد في الأرض وحارب، فكلم رجالا من قريش أن يستأمنوا له عليا فأبوا فأتى سعيد بن قيس الهمداني فأتى عليا فقال: يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ويسعون في الأرض الفساد؟ قال: أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ثم قال: * (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) * فقال سعيد: وإن كان حارثة بن بدر؟ قال: وإن كان حارثة بن بدر، فقال: هذا حارثة بن بدر قد جاء تائبا فهو آمن؟ قال: نعم، فجاء به إليه فبايعه، وقبل ذلك منه وكتب له أمانا، وروي عن أبي موسى الأشعري ما هو بمعناه، ثم إن السمل الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعله في غير أولئك، وأخرج مسلم والبيهقي عن أنس أنه قال: إنما سمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاء، وأخرج ابن جرير
121

عن الوليد بن مسلم قال: ذاكرت الليث بن سعد ما كان من سمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعينهم وتركه حسمهم حتى ماتوا، فقال: سمعت محمد بن عجلان يقول: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتبة في ذلك وعلمه صلى الله عليه وسلم عقوبة مثلهم من القتل والصلب والقطع والنفي، ولم يسمل بعدهم غيرهم، قال: وكان هذا القول ذكره لأبي عمر فأنكر أن تكون نزلت معاتبة، وقال: بل كانت تلك عقوبة أولئك النفر بأعيانهم، ثم نزلت هذه الآية عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم فرفع عنهم السمل. هذا ومن باب الإشارة في الآيات: * (ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء) * أي ألزمناهم ذلك لتخالف دواعي قواهم باحتجابهم عن نور التوحيد وبعدهم عن العالم القدسي * (إلى يوم القيامة) * أي إلى وقت قيامهم بظهور نور الروح، أو القيامة الكبرى بظهور نور التوحيد * (وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون) * (المائدة: 14) وذلك عند الموت وظهور الخسران بظهور الهيئات القبيحة المؤذية الراسخة فيهم * (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم) * بحسب الدواعي والمقتضيات * (كثيرا مما كنتم تخفون) * عن الناس في أنفسكم * (من الكتاب ويعفو عن كثير) * إذا لم تدع إليه داعية * (قد جاءكم من الله نور) * أبرزته العناية الإلهية من مكامن العماء * (وكتاب) * (المائدة: 15) خطه قلم الباري في صحائف الإمكان جامعا لكل كمال، وهما إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك وحد الضمير في قوله سبحانه: * (يهدي به الله) * أي بواسطته * (من اتبع رضوانه) * أي من أراد ذلك * (سبل السلام) * وهي الطرق الموصلة إليه عز وجل. وقد قال بعض العارفين: الطرق إلى الله تعالى مسدودة إلا على من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم * (ويخرجهم من الظلمات) * وهي ظلمات الشك والاعتراضات النفسانية والخطرات الشيطانية * (إلى النور) * وهو نور الرضا والتسليم * (ويهديهم إلى
صراط مستقيم) * (المائدة: 16) وهو طريق الترقي في المقامات العلية، وقد يقال: الجملة الأولى: إشارة إلى توحيد الأفعال، والثانية: إلى توحيد الصفات، والثالثة: إلى توحيد الذات * (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) * فحصروا الألوهية فيه وقيدوا الإله بتعينه - وهو الوجود المطلق - حتى عن قيد الإطلاق * (قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا) * فإن كل ذلك من التعينات والشؤون والله من ورائهم محيط * (ولله ملك السموات والأرض وما بينهما) * أي عالم الأرواح وعالم الأجساد وعالم الصور * (يخلق ما يشاء) * (المائدة: 17) ويظهر ما أراد من الشؤون * (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه) * فادعوا بنوة الإسرار والقرب من حضرة نور الأنوار، وقد قال ذلك قوم من المتقدمين كما مرت الإشارة إليه، وقال ما يقرب من ذلك بعض المتأخرين، فقال الواسطي: ابن الأزل والأبد لكن هؤلاء القوم لم يعرفوا الحقائق ولم يذوقوا طعم الدقائق فرد الله تعالى دعواهم بقوله سبحانه: * (قل فلم يعذبكم بذنوبكم) * والأبناء والأحباب لا يذنبون فيعذبون، أو لا يمتحنون إذ قد خرجوا من محل الامتحان من حيث الأشباح * (بل أنتم بشر ممن خلق) * كسائر عباد الله تعالى لا امتياز لكم عليهم بشيء كما تزعمون * (يغفر لمن يشاء) * منهم فضلا * (ويعذب من يشاء) * (المائدة: 18) منهم عدلا * (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا) * بالولاية ومعرفة الصفات، أو بسلطنة الوجد وقوة الحال وعزة علم المعرفة، أو مالكين أنفسكم بمنعها عن غير طاعتي، والملوك عندنا الأحرار من رق الكونين وما فيه * (وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين) * (المائدة: 20) أي عالمي زمانكم، ومنه اجتلاء نور التجلي من وجه موسى عليه السلام * (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة) * وهي حضرة القلب
122

* (التي كتب الله لكم) * في القضاء السابق حسب الاستعداد * (ولا ترتدوا على أدباركم) * في الميل إلى مدينة البدن، والإقبال عليه بتحصيل لذاته * (فتنقلبوا خاسرين) * (المائدة: 21) لتفويتكم أنوار القلب وطيباته * (قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين) * وهي صفات النفس * (وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها) * بأن يصرفهم الله تعالى بلا رياضة منا ولا مجاهدة، أو يضعفوا عن الاستيلاء بالطبع * (فإن يخرجوا منها فإنا داخلون) * (المائدة: 22) حينئذ * (قال رجلان من الذين يخافون) * سوء عاقبة ملازمة الجسم * (أنعم الله عليهما) * بالهداية إلى الصراط السوي - وهما العقل النظري والعقل العملي - * (ادخلوا عليهم الباب) * أي باب قرية القلب - وهو التوكل بتجلي الأفعال - كما أن باب قرية الروح هو الرضا * (فإذا دخلتموه فإنكم غالبون) * بخروجكم عن أفعالكم وحولكم، ويدل على أن الباب هو التوكل قوله تعالى: * (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) * (المائدة: 23) بالحقيقة وهو الإيمان عن حضور، وأقل درجاته تجلي الأفعال * (قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا) * أولئك الجبارين عنا وأزيلاهم لتخلو لنا الأرض * (إنا ههنا قاعدون) * (المائدة: 24) أي ملازمون مكاننا في مقام النفس معتكفون على الهوى واللذات * (قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض) * (المائدة: 26) أي أرض الطبيعة، وذلك مدة بقائهم في مقام النفس، وكان ينزل عليهم من سماء الروح نور عقد المعاش فينتفعون بضوئه * (واتل عليهم نبأ ابني آدم) * القلب اللذين هما هابيل العقل؛ وقابيل الوهم * (إذ قربا قربانا) * وذلك كما قال بعض العارفين: إن توأمة العقل البوذا العاقلة العملية المدبرة لأمر المعاش والمعاد بالآراء الصالحة المقتضية للأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة المستنبطة لأنواع الصناعات والسياسات، وتوأمة الوهم إقليميا القوة المتخيلة المتصرفة في المحسوسات والمعاني الجزئية لتحصيل الآراء الشيطانية، فأمر آدم القلب بتزوج الوهم توأمة العقل لتدبره بالرياضات الإذعانية والسياسات الروحانية وتصاحبه بالقياسات العقلية البرهانية فتسخره للعقل، وتزويج لعقل توأمة الوهم ليجعلها صالحة ويمنعها عن شهوات التخيلات الفاسدة وأحاديث النفس الكاذبة ويستعمل فيما ينفع فيستريح أبوها وينتفع، فحسد قابيل الوهم هابيل العقل لكون توأمته أجمل عنده وأحب إليه لمناسبتها إياه فأمرا عند ذلك بالقربان، فقربا قربانا * (فتقبل من أحدهما) * وهو هابيل العقل بأن نزلت نار من السماء فأكلته، والمراد بها العقل الفعال النازل من سماء عالم الأرواح، وأكله إفاضته النتيجة على الصورة القياسية التي هي قربان العقل وعمله الذي يتقرب به إلى الله تعالى * (ولم يتقبل من الآخر) * وهو قابيل الوهم إذ يمتنع قبول الصورة الوهمية لأنها لا تطابق ما في نفس الأمر * (قال لأقتلنك) * لمزيد حسده بزيادة قرب العقل من الله تعالى وبعده عن رتبة الوهم في مدركاته وتصرفاته، وقتله إياه إشارة إلى منعه عن فعله وقطع مدد الروح ونور الهداية الإلهية - الذي به الحياة - عنه بإيراد التشكيكات الوهمية والمعارضات في تحصيل المطالب النظرية * (قال إنما يتقبل الله من المتقين) * (المائدة: 27) الذين يتخذون الله تعالى وقاية، أو يحذرون الهيئات المظلمة البدنية والأهواء المردية والتسويلات المهلكة * (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك) * أي إني لا أبطل أعمالك التي هي سديدة في مواضعها * (إني أخاف الله رب العالمين) * (المائدة: 28) أي لأني أعرف الله سبحانه فأعلم أنه خلقك لشأن وأوجدك لحكمة، ومن جملة ذلك أن أسباب المعاش لا تحصل إلا بالوهم ولولا الأمل بطل العمل * (إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك) * أي بإثم قتلي وإثم عملك من الآراء الباطلة * (فتكون من أصحاب النار) * وهي نار الحجاب والحرمان * (وذلك جزاء الظالمين) * (المائدة: 29) الواضعين للأشياء في غير موضعها كما وضع الأحكام الحسية موضع المعقولات * (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله) * بمنعه عن أفعاله الخاصة
123

وحجبه عن نور الهداية * (فأصبح من الخاسرين) * (المائدة: 30) لتضرره باستيلائه على العقل فإن الوهم إذا انقطع عن معاضده العقل حمل النفس على أمور تتضرر منها * (فبعث الله غرابا) * وهو غراب الحرص * (يبحث في الأرض) * أي أرض النفس * (ليريه كيف يوارى سوأة أخيه) * وهو العقل المنقطع عن حياة الروح المشوب بالوهم والهوى المحجوب عن عالمه في ظلمات أرض النفس * (قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي) * بإخفائها في ظلمة النفس فأنتفع بها * (فأصبح من النادمين) * (المائدة: 31) عند ظهور الخسران وحصول الحرمان * (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا) * (المائدة: 32) لأن الواحد مشتمل على ما يشتمل عليه جميع أفراد النوع، وقيام النوع بالواحد كقيامه بالجميع
في الخارج، ولا اعتبار بالعدد فإن حقيقة النوع لا تزيد بزيادة الأفراد ولا تنقص بنقصها، ويقال في جانب الأحياء مثل ذلك * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) * أي أولياءهما * (ويسعون في الأرض فسادا) * بتثبيط السالكين * (أن يقتلوا) * بسيف الخذلان * (أو يصلبوا) * بحبل الهجران على جذع الحرمان * (أو تقطع أيديهم) * عن أذيال الوصال * (وأرجلهم من خلاف) * عن الاختلاف والتردد إلى السالكين * (أو ينفوا من الأرض) * أي أرض القربة والائتلاف فلا يلتفت إليهم السالك ولا يتوجه لهم * (ذلك لهم خزي) * وهوان * (في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) * (المائدة: 33) لعظم جنايتهم، وقد جاء - أن الله تعالى يغضب لأوليائه كما يغضب الليث الحرب، ومن آذى وليا فقد آذنته بالمحاربة - نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة..
* (ي‍اأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وج‍اهدوا فى سبيله لعلكم تفلحون) *.
* (يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله) * لما ذكر سبحانه جزاء المحارب وعظم جنايته - وأشار في تضاعيف ذلك إلى مغفرته تعالى لمن تاب - أمر المؤمنين بتقواه عز وجل في كل ما يأتون ويذرون بترك ما يجب اتقاؤه من المعاصي التي من جملتها المحاربة والفساد، وبفعل الطاعة التي من عدادها التوبة والاستغفار ودفع الفساد * (وابتغوا إليه) * أي اطلبوا لأنفسكم إلى ثوابه والزلفى منه * (الوسيلة) * هي فعيلة بمعنى ما يتوسل به ويتقرب إلى الله عز وجل من فعل الطاعات وترك المعاصي من وسل إلى كذا أي تقرب إليه بشيء، والظرف متعلق بها وقدم عليها للاهتمام وهي صفة لا مصدر حتى يمتنع تقدم معموله عليه، وقيل: متعلق بالفعل قبله، وقيل: بمحذوف وقع حالا منها أي كائنة إليه، ولعل المراد بها الاتقاء المأمور به كما يشير إليه كلام قتادة، فإنه ملاك الأمر كله. والذريعة لكل خير والمنجاة من كل ضير، والجملة حينئذ جارية مما قبلها مجرى البيان والتأكيد، وقيل: الجملة الأولى أمر بترك المعاصي، والثانية أمر بفعل الطاعات، وأخرج ابن الأنباري وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الوسيلة الحاجة، وأنشد له قول عنترة: إن الرجال لهم إليك (وسيلة) * إن يأخذوك تكحلي وتخضبي
وكأن المعنى حينئذ اطلبوا متوجهين إليه حاجتكم فإن بيده عز شأنه مقاليد السموات والأرض ولا تطلبوها متوجهين إلى غيره فتكونوا كضعيف عاذ بقرملة، وفسر بعضهم - الوسيلة - بمنزلة في الجنة، وكونها بهذا المعنى غير ظاهر لاختصاصها بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام بناءا على ما رواه مسلم وغيره " إنها منزلة في الجنة جعلها الله تعالى لعبد من عباده وأرجو أن أكون أنا فاسألوا لي الوسيلة " وكون الطلب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم مما لا يكاد يذهب إليه ذهن سليم، وعليه يمتنع تعلق الظرف بها كما لا يخفى.
واستدل بعض الناس بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة بالصالحين وجعلهم وسيلة بين الله تعالى وبين العباد والقسم على الله تعالى
124

بهم بأن يقال: اللهم إنا نقسم عليك بفلان أن تعطينا كذا، ومنهم من يقول للغائب أو الميت من عباد الله تعالى الصالحين: يا فلان ادع الله تعالى ليرزقني كذا وكذا، ويزعمون أن ذلك من باب ابتغاء الوسيلة، ويروون عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال - إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور، أو فاستغيثوا بأهل القبور - وكل ذلك بعيد عن الحق بمراحل.
وتحقيق الكلام في هذا المقام أن الاستغاثة بمخلوق وجعله وسيلة بمعنى طلب الدعاء منه لا شك في جوازه إن كان المطلوب منه حيا ولا يتوقف على أفضليته من الطالب بل قد يطلب الفاضل من المفضول، فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله تعالى عنه لما استأذنه في العمرة: " لا تنسنا يا أخي من دعائك " وأمره أيضا أن يطلب من أويس القرني رحمة الله تعالى عليه أن يستغفر له، وأمر أمته صلى الله عليه وسلم بطلب الوسيلة له كما مر آنفا وبأن يصلوا عليه، وأما إذا كان المطلوب منه ميتا أو غائبا فلا يستريب عالم أنه غير جائز وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من السلف، نعم السلام على أهل القبور مشروع ومخاطبتهم جائزة؛ فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون يرحم الله تعالى المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله تعالى لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم " ولم يرد عن أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم - وهم أحرص الخلق على كل خير - أنه طلب من ميت شيئا، بل قد صح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول إذا دخل الحجرة النبوية زائرا: السلام عليك يا رسول الله؛ السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف ولا يزيد على ذلك ولا يطلب من سيد العالمين صلى الله عليه وسلم أو من ضجيعيه المكرمين رضي الله تعالى عنهما شيئا - وهم أكرم من ضمته البسيطة وأرفع قدرا من سائر من أحاطت به الأفلاك المحيطة - نعم الدعاء في هاتيك الحضرة المكرمة والروضة المعظمة أمر مشروع فقد كانت الصحابة تدعوا الله تعالى هناك مستقبلين القبلة ولم يرد عنهم استقبال القبر الشريف عند الدعاء مع أنه أفضل من العرش، واختلف الأئمة في استقباله عند السلام، فعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا يستقبل بل يستدبر ويستقبل القبلة، وقال بعضهم: يستقبل وقت السلام، وتستقبل القبلة ويستدبر وقت الدعاء، والصحيح المعول عليه أنه يستقبل وقت السلام وعند الدعاء تستقبل القبلة، ويجعل القبر المكرم عن اليمين أو اليسار، فإذا كان هذا المشروع في زيارة سيد الخليقة وعلة الإيجاد على الحقيقة صلى الله عليه وسلم، فماذا تبلغ زيارة غيره بالنسبة إلى زيارته عليه الصلاة والسلام ليزاد فيها ما يزاد، أو يطلب من المزور بها ما ليس من وظيفة العباد؟؟!
وأما القسم على الله تعالى بأحد من خلقه مثل أن يقال: اللهم إني أقسم عليك أو أسألك بفلان إلا ما قضيت لي حاجتي، فعن ابن عبد السلام جواز ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم لأنه سيد ولد آدم، ولا يجوز أن يقسم على الله تعالى بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء لأنهم ليسوا في درجته، وقد نقل ذلك عنه المناوي في " شرحه الكبير للجامع الصغير "، ودليله في ذلك ما رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح عن عثمان بن حنيف رضي الله تعالى عنه أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله تعالى أن يعافيني فقال: إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك، قال: فادعه فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويدعو بهذا الدعاء "
اللهم إني أسألك وأتوجه بنبيك صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة يا رسول الله
125

إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي لي اللهم فشفعه في "، ونقل عن أحمد مثل ذلك. ومن الناس من منع التوسل بالذات والقسم على الله تعالى بأحد من خلقه مطلقا وهو الذي يرشح به كلام المجد ابن تيمية؛ ونقله عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وأبي يوسف وغيرهما من العلماء الأعلام، وأجاب عن الحديث بأنه على حذف مضاف أي بدعاء أو شفاعة نبيك صلى الله عليه وسلم، ففيه جعل الدعاء وسيلة - وهو جائز - بل مندوب، والدليل على هذا التقدير قوله في آخر الحديث: " اللهم فشفعه في " بل في أوله أيضا ما يدل على ذلك، وقد شنع التاج السبكي - كما هو عادته - على المجد، فقال: ويحسن التوسل والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه ولم ينكر ذلك أحد من السلف والخلف حتى جاء ابن تيمية فأنكر ذلك وعدل عن الصراط المستقيم وابتدع ما لم يقله عالم وصار بين الأنام مثلة انتهى.
وأنت تعلم أن الأدعية المأثورة عن أهل البيت الطاهرين وغيرهم من الأئمة ليس فيها التوسل بالذات المكرمة صلى الله عليه وسلم، ولو فرضنا وجود ما ظاهره ذلك فمؤل بتقدير مضاف كما سمعت؛ أو نحو ذلك - كما تسمع إن شاء الله تعالى - ومن ادعى النص فعليه البيان، وما رواه أبو داود في " سننه " وغيره من " أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نستشفع بك إلى الله تعالى ونستشفع بالله تعالى عليك، فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رؤي ذلك في وجوه أصحابه، فقال: ويحك أتدري ما الله تعالى؟ إن الله تعالى لا يشفع به على أحد من خلقه شأن الله تعالى أعظم من ذلك " لا يصلح دليلا على ما نحن فيه حيث أنكر عليه قوله: " إنا نستشفع بالله تعالى عليك " ولم ينكر عليه الصلاة والسلام قوله: " نستشفع بك إلى الله تعالى " لأن معنى الاستشفاع به صلى الله عليه وسلم طلب الدعاء منه، وليس معناه الإقسام به على الله تعالى، ولو كان الإقسام معنى للاستشفاع فلم أنكر النبي صلى الله عليه وسلم مضمون الجملة الثانية دون الأولى؟ وعلى هذا لا يصلح الخبر ولا ما قبله دليلا لمن ادعى جواز الإقسام بذاته صلى الله عليه وسلم حيا وميتا، وكذا بذات غيره من الأرواح المقدسة مطلقا قياسا عليه عليه الصلاة والسلام بجامع الكرامة وإن تفاوت قوة وضعفا، وذلك لأن ما في الخبر الثاني استشفاع لا إقسام، وما في الخبر الأول ليس نصا في محل النزاع، وعلى تقدير التسليم ليس فيه إلا الإقسام بالحي والتوسل به، وتساوي حالتي حياته ووفاته صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن يحتاج إلى نص، ولعل النص على خلافه، ففي " صحيح البخاري " عن أنس أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه - كان إذا قحطوا استسقى بالعباس رضي الله تعالى عنه، فقال: " اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك صلى الله عليه وسلم فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون " - فإنه لو كان التوسل به عليه الصلاة والسلام بعد انتقاله من هذه الدار لما عدلوا إلى غيره، بل كانوا يقولون: اللهم إنا نتوسل إليك بنبينا فاسقنا، وحاشاهم أن يعدلوا عن التوسل بسيد الناس إلى التوسل بعمه العباس، وهم يجدون أدني مساغ لذلك، فعدولهم هذا - مع أنهم السابقون الأولون، وهم أعلم منا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبحقوق الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، وما يشرع من الدعاء وما لا يشرع، وهم في وقت ضرورة ومخمصة يطلبون تفريج الكربات وتيسير العسير، وإنزال الغيث بكل طريق - دليل واضح على أن المشروع ما سلكوه دون غيره.
وما ذكر من قياس غيره من الأرواح المقدسة عليه صلى الله عليه وسلم مع التفاوت في الكرامة
126

- الذي لا ينكره إلا منافق - مما لا يكاد يسلم، على أنك قد علمت أن الإقسام به عليه الصلاة والسلام على ربه عز شأنه حيا وميتا مما لم يقم النص عليه لا يقال: إن في خبر البخاري دلالة على صحة الإقسام به صلى الله عليه وسلم حيا وكذا بغيره كذلك، أما الأول فلقول عمر رضي الله تعالى عنه فيه: كنا نتوسل بنبيك صلى الله عليه وسلم، وأما الثاني فلقوله: إنا نتوسل بعم نبيك لما قيل: إن هذا التوسل ليس من باب الإقسام بل هو من جنس الاستشفاع، وهو أن يطلب من الشخص الدعاء والشفاعة، ويطلب من الله تعالى أن يقبل دعاءه وشفاعته، ويؤيد ذلك أن العباس كان يدعو وهم يؤمنون لدعائه حتى سقوا، وقد ذكر المجد أن لفظ التوسل بالشخص والتوجه إليه وبه فيه إجمال واشتراك بحسب الاصطلاح، فمعناه في لغة الصحابة أن يطلب منه الدعاء والشفاعة فيكون التوسل والتوجه في الحقيقة بدعائه وشفاعته، وذلك مما لا محذور فيه، وأما في لغة كثير من الناس فمعناه أن يسأل الله تعالى بذلك ويقسم به عليه - وهذا هو محل النزاع - وقد علمت الكلام فيه. وجعل من الإقسام الغير المشروع قول القائل - اللهم أسألك بجاه فلان - فإنه لم يرد عن أحد من السلف أنه دعا كذلك، وقال: إنما يقسم به تعالى وبأسمائه وصفاته فيقال: أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت يا الله، المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك الحديث، ونحو ذلك من الأدعية المأثورة، وما ذكره بعض العامة من قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا كانت لكم إلى الله تعالى حاجة فاسألو الله تعالى بجاهي فإن جاهي عند الله تعالى عظيم " لم يروه أحد من أهل العلم، ولا هو شيء في كتب الحديث، وما رواه القشيري عن معروف الكرخي قدس سره - أنه قال لتلامذته: إن كانت لكم إلى الله تعالى حاجة فأقسموا عليه بي فإني الواسطة بينكم وبينه جل جلاله - الآن لو يوجد له سند يعول عليه عند المحدثين، وأما ما رواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الخارج إلى الصلاة " اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياءا ولا سمعة ولكن خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أن تنقذني من النار وأن تدخلني الجنة "، ففي سنده العوفي - وفيه ضعف - وعلى تقدير أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم يقال فيه: إن حق السائلين عليه تعالى أن يجيبهم، وحق الماشين في طاعته أن يثيبهم، والحق بمعنى الوعد الثابت المتحقق الوقوع فضلا لا وجوبا كما في قوله تعالى: * (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) * (الروم: 47)، وفي " الصحيح " من حديث معاذ " حق الله تعالى على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحقهم عليه إن فعلوا ذلك أن لا يعذبهم " فالسؤال حينئذ بالإثابة والإجابة وهما من صفات الله تعالى الفعلية، والسؤال بها مما لا نزاع فيه فيكون هذا السؤال كالاستعاذة في قوله صلى الله عليه وسلم: " أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك " فمتى صحت الاستعاذة
بمعافاته صح السؤال بإثابته وإجابته.
وعلى نحو ذلك يخرج سؤال الثلاثة لله عز وجل بأعمالهم، على أن التوسل بالأعمال معناه التسبب بها لحصول المقصود، ولا شك أن الأعمال الصالحة سبب لثواب الله تعالى لنا، ولا كذلك ذوات الأشخاص أنفسها، والناس قد أفرطوا اليوم في الإقسام على الله تعالى، فأقسموا عليه عز شأنه بمن ليس في العير ولا النفير وليس عنده من الجاه قدر قطمير، وأعظم من ذلك أنهم يطلبون من أصحاب القبور نحو إشفاء المريض وإغناء الفقير ورد الضالة وتيسير كل عسير، وتوحي إليهم شياطينهم خبر - " إذا أعيتكم الأمور " - الخ، وهو حديث مفترى
127

على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه، لم يروه أحد من العلماء، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم: عن - اتخاذ القبور مساجد ولعن على ذلك - فكيف يتصور منه عليه الصلاة والسلام الأمر بالاستغاثة والطلب من أصحابها؟! سبحانك هذا بهتان عظيم. وعن أبي يزيد البسطامي قدس سره أنه قال: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون، ومن كلام السجاد رضي الله تعالى عنه أن طلب المحتاج من المحتاج سفه في رأيه وضلة في عقله، ومن دعاء موسى عليه السلام - وبك المستغاث - وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: " إذا استعنت فاستعن بالله تعالى " الخبر، وقال تعالى: * (إياك نعبد وإياك نستعين) * (الفاتحة: 5).
وبعد هذا كله أنا لا أرى بأسا في التوسل إلى الله تعالى بجاه النبي صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى حيا وميتا، ويراد من الجاه معنى يرجع إلى صفة من صفاته تعالى، مثل أن يراد به المحبة التامة المستدعية عدم رده وقبول شفاعته، فيكون معنى قول القائل: إلهي أتوسل بجاه نبيك صلى الله عليه وسلم أن تقضي لي حاجتي، إلهي اجعل محبتك له وسيلة في قضاء حاجتي، ولا فرق بين هذا وقولك: إلهي أتوسل برحمتك أن تفعل كذا إذ معناه أيضا إلهي اجعل رحمتك وسيلة في فعل كذا، بل لا أرى بأسا أيضا بالإقسام على الله تعالى بجاهه صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى، والكلام في الحرمة كالكلام في الجاه، ولا يجري ذلك - في التوسل والإقسام بالذات - البحت، نعم لم يعهد التوسل بالجاه والحرمة عن أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم. ولعل ذلك كان تحاشيا منهم عما يخشى أن يعلق منه في أذهان الناس إذ ذاك - وهم قريبو عهد بالتوسل بالأصنام - شيء، ثم اقتدى بهم من خلفهم من الأئمة الطاهرين، وقد ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم هدم الكعبة وتأسيسها على قواعد إبراهيم لكون القوم حديثي عهد بكفر كما ثبت ذلك في " الصحيح "، وهذا الذي ذكرته إنما هو لدفع الحرج عن الناس والفرار من دعوى تضليلهم - كما يزعمه البعض - في التوسل بجاه عريض الجاه صلى الله عليه وسلم لا للميل إلى أن الدعاء كذلك أفضل من استعمال الأدعية المأثورة التي جاء بها الكتاب وصدحت بها ألسنة السنة، فإنه لا يستريب منصف في أن ما علمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. ودرج عليه الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وتلقاه من بعدهم بالقبول أفضل وأجمع وأنفع وأسلم، فقد قيل ما قيل إن حقا وإن كذبا.
بقي ههنا أمران: الأول: إن التوسل بجاه غير النبي صلى الله عليه وسلم لا بأس به أيضا إن كان المتوسل بجاهه مما علم أن له جاها عند الله تعالى كالمقطوع بصلاحه وولايته، وأما من لا قطع في حقه بذلك فلا يتوسل بجاهه لما فيه من الحكم الضمني على الله تعالى بما لم يعلم تحققه منه عز شأنه، وفي ذلك جرأة عظيمة على الله تعالى، الثاني: إن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء الأحياء منهم والأموات وغيرهم، مثل يا سيدي فلان أغثني، وليس ذلك من التوسل المباح في شيء، واللائق بحال المؤمن عدم التفوه بذلك وأن لا يحوم حول حماه، وقد عده أناس من العلماء شركا وأن لا يكنه، فهو قريب منه ولا أرى أحدا ممن يقول ذلك إلا وهو يعتقد أن المدعو الحي الغائب أو الميت المغيب يعلم الغيب أو يسمع النداء ويقدر بالذات أو بالغير على جلب الخير ودفع الأذى وإلا لما دعاه ولا فتح فاه، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم، فالحزم التجنب عن ذلك وعدم الطلب إلا من الله تعالى القوي الغني الفعال لما يريد ومن وقف على سر ما رواه الطبراني في " معجمه " من أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين فقال الصديق
128

رضي الله تعالى عنه: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق فجاءوا إليه، فقال: " إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله تعالى " لم يشك في أن الاستغاثة بأصحاب القبور - الذين هم بين سعيد شغله نعيمه وتقلبه في الجنان عن الالتفات إلى ما في هذا العالم، وبين شقي ألهاه عذابه وحبسه في النيران عن إجابة مناديه والإصاخة إلى أهل ناديه - أمر يجب اجتنابه ولا يليق بأرباب العقول ارتكابه، ولا يغرنك أن المستغيث بمخلوق قد تقضى حاجته وتنجح طلبته فإن ذلك ابتلاء وفتنة منه عز وجل، وقد يتمثل الشيطان للمستغيث في صورة الذي استغاث به فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به، هيهات هيهات إنما هو شيطان أضله وأغواه وزين له هواه، وذلك كما يتكلم الشيطان في الأصنام ليضل عبدتها الطغام، وبعض الجهلة يقول: إن ذلك من تطور روح المستغاث به، أو من ظهور ملك بصورته كرامة له ولقد ساء ما يحكمون، لأن التطور والظهور وإن كانا ممكنين لكن لا في مثل هذه الصورة وعند ارتكاب هذه الجريرة، نسأل الله تعالى بأسمائه أن يعصمنا من ذلك، ونتوسل بلطفه أن يسلك بنا وبكم أحسن المسالك.
* (وجاهدوا في سبيله) * مع أعدائكم بما أمكنكم. * (لعلكم تفلحون) * بنيل نعيم الأبد والخلاص من كل نكد..
* (إن الذين كفروا لو أن لهم ما فى الارض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القي‍امة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم) *.
* (إن الذين كفروا) * كلام مبتدأ مسوق لتأكيد وجوب الامتثال بالأوامر السابقة، وترغيب المؤمنين في المسارعة إلى تحصيل الوسيلة إليه عز شأنه قبل انقضاء أوانه، ببيان استحالة توسل الكفار يوم القيامة بما هو من أقوى الوسائل إلى النجاة من العذاب فضلا عن نيل الثواب * (لو أن لهم) * أي لكل واحد منهم كقوله سبحانه: * (ولو أن لكل نفس ظلمت) * (يونس: 54) الخ، وفيه من تهويل الأمر وتفظيع الحال ما ليس في قولنا لجميعهم * (ما في الأرض) * أي من أصناف أموالها
وذخائرها وسائر منافعها قاطبة، وهو اسم * (أن) * و * (لهم) * خبرها ومحلها الرفع (عندهم) خلا أنه عند سيبويه رفع على الابتداء (و) لا حاجة فيه إلى الخبر لاشتمال صلتها على المسند والمسند إليه، وقد اختصت من بين سائر ما يؤول بالاسم بالوقوع بعد * (لو) *، وقيل: الخبر محذوف ويقدر مقدما أو مؤخرا قولان، وعند الزجاج والمبرد والكوفيين رفع على الفاعلية أي لو ثبت (أن) (3) لهم ما في الأرض، وقوله تعالى: * (جميعا) * توكيد للموصول أو حال منه، وقوله سبحانه: * (ومثله) * بالنصب عطف عليه، وقوله عز وجل: * (معه) * ظرف وقع حالا من المعطوف، والضمير راجع إلى الموصول، وفائدته التصريح بفرض كينونتهما لهم بطريق المعية لا بطريق التعاقب تحقيقا لكمال فظاعة الأمر.
واللام في قوله تعالى: * (ليفتدوا به) * متعلقة بما تعلق به خبر * (أن) * وهو الاستقرار المقدر في * (لهم) * وبالخبر المقدر عند من يراه، وبالفعل المقدر بعد * (لو) * عند الزجاج ومن نحا نحوه، قيل: ولا ريب في أن مدار الإفتداء بما ذكر هو كونه لهم لا ثبوت كونه لهم وإن كان مستلزما له، والباء في * (به) * متعلقة بالافتداء، والضمير راجع إلى الموصول * (ومثله معه) * وتوحيده لكونهما بالمعية شيئا واحدا، أو لإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة كما مرت الإشارة إلى ذلك، وقيل: هو راجع إلى الموصول، والعائد إلى المعطوف - أعني مثله - مثله، وهو محذوف كما حذف الخبر من قيار في قوله: ومن يك أمسى بالمدينة رحله * فإني وقيار بها لغريب
وقد جوز أن يكون نصب، ومثله على أنه مفعول * (معه) * ناصبه الفعل المقدر بعد * (لو) * تفريعا على رأي الزجاج
129

ومن رأى رأيه، وأمر توحيد الضمير حينئذ ظاهر إذ حكم الضمير بعد المفعول معه الإفراد، وأجاز الأخفش أن يعطى حكم المتعاطفين فيثني الضمير، وقال بعض النحاة: الصحيح جوازه على قلة. واعترض هذا الوجه أبو حيان بأنه يصير التقدير: مع مثله معه وإذا كان ما في الأرض مع مثله كان مثله معه ضرورة، فلا فائدة في ذكر * (معه) * معه لملازمة معية كل منهما للآخر، وأجاب الطيبي بأن * (معه) * على هذا تأكيد، وقال السفاقسي: جوابه أن التقدير ليس كالتصريح، و - الواو - متضمنة معنى مع، وإنما يقبح لو صرح - بمع - وكثيرا ما يكون التقدير بخلاف التصريح، كقولهم: رب شاة وسخلتها، ولو صرحت - برب - فقلت: ورب سخلتها لم يجز، وأجاب الحلبي بأن الضمير في * (معه) * عائد على * (مثله) * ويصير المعنى مع مثلين وهو أبلغ من أن يكون مع مثل واحد، نعم إن كون العامل ثبت ليس بصحيح لأن العامل في المفعول معه هو العامل في المصاحب له كما صرحوا به، وهو هنا * (ما) * أو ضميرها، وشيء منهما ليس عاملا فيه ثبت المقدر، وأما صحته على تقدير جعله لهم، أو متعلقه على ما قيل، فممتنع أيضا على ما نقل عن سيبويه أنه قال: وأما هذا لك وأباك فقبيح، لأنه لم يذكر فعل ولا حرف فيه معنى فعل حتى يصير كأنه قد تكلم بالفعل، فإن فيه تصريحا بأن اسم الإشارة وحرف الجرف والظرف لا تعمل في المفعول معه، وقوله تعالى: * (من عذاب يوم القي‍امة) * متعلق بالافتداء أيضا أي لو أن ما في الأرض ومثله ثابت لهم ليجعلوه فدية لأنفسهم من العذاب الواقع ذلك اليوم.
* (ما تقبل منهم) * ذلك، وهو جواب * (لو) * وترتيبه - ما قال شيخ الإسلام - على (كون) ذلك لهم لأجل افتدائهم به من غير ذكر الافتداء بأن يقال: وافتدوا به، مع أن الرد والقبول إنما يترتب عليه لا على مباديه للإيذان بأنه أمر محقق الوقوع غني عن الذكر، وإنما المحتاج إلى الفرض قدرتهم على ما ذكر، أو للمبالغة في تحقق الرد، وتخييل أنه وقع قبل الإفتداء على منهاج ما في قوله تعالى: * (أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده) * (النمل: 40) حيث لم يقل فأتى به (فرآه) فلما رآه الخ، وما في قوله سبحانه: * (وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه) * (يوسف: 31) من غير ذكر خروجه عليه السلام عليهن ورؤيتهن له، وقال بعض الأفاضل: إنما لم يكتف بقوله: إن الذين كفروا لو يفتدون بما في الأرض جميعا من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم، لأن ما في النظم الكريم يفيد أنهم لو حصلوا ما في الأرض ومثله معه لهذه الفائدة وكانوا خائفين من الله تعالى وحفظوا الفدية وتفكروا في الافتداء ورعاية أسبابه - كما هو شأن من هو بصدد أمر - ما تقبل منهم فضلا عن أن يكونوا غافلين عن تحصيل الفدية وقصدوا الفدية فجأة، ولهذا لم يقل لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ويفتدون به ما تقبل الخ، والجملة الامتناعية بحالها خبر * (إن الذين كفروا) * وهي كناية عن لزوم العذاب لهم وأنه لا سبيل لهم إلى الخلاص منه، فإن لزوم العذاب من لوازمه أن ما في الأرض جميعا ومثله معه لو افتدوا به لم يتقبل منهم، فلما كانت هذه الجملة، بل هذه الملازمة لازمة للزوم العذاب عبر عنها بها، وأطلق بعضهم على هذه الجملة تمثيلا، ولعل مراده - على ما ذكره القطب - ما ذكره، وقال بعض المحققين: لا يريد به الاستعارة التمثيلية بل إيراد مثال وحكم يفهم منه لزوم العذاب لهم، أي لم يقصد بهذا الكلام إثبات هذه الشرطية بل انتقال الذهن منه إلى هذا المعنى، وبهذا الاعتبار يقال له: كناية، ويمكن تنزيله على التمثيل الإصطلاحي بأن يقال: إن حالهم في حال التفصي عن العذاب بمنزلة حال من يكون له ذلك الأمر الجسيم ويحاول به التخلص من العذاب فلا يتقبل منه ولا يتخلص.
130

* (ولهم عذاب أليم) * قيل: محله النصب على الحالية، وقيل: الرفع عطفا على خبر * (إن) * وقيل: إنه معطوف على * (إن الذين) * فلا محل له من الإعراب مثله، وفائدة الجملة التصريح بالمقصود من الجملة الأولى لزيادة تقريره وبيان هوله وشدته، وقيل: إن المقصود بها الإيذان بأنه كما لا يندفع بذلك عذابهم لا يخفف بل لهم بعد عذاب في كمال الإيلام [بم وكذلك قوله تعالى:
* (يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخ‍ارجين منها ولهم عذاب مقيم) *.
* (يريدون أن يخرجوا من النار) * فإنه لإفادة أنه كما لا يندفع بذلك الافتداء عذابهم لا يندفع دوامه ولا ينفصل، وهو على ما تقدم استئناف مسوق لبيان حالهم في أثناء مكابدة العذاب مبني على سؤال نشأ مما قبله، كأنه قيل: فكيف يكون حالهم، أو ماذا يصنعون؟ فقيل: * (يريدون) * الخ، وقد بين في تضاعيفه أن عذابهم عذاب النار، والإرادة قيل: على معناها الحقيقي المشهور، وذلك أنهم يرفعم لهب النار فيريدون الخروج وأنى به، وروي ذلك عن الحسن، وقال الجبائي: الإرادة بمعنى
التمني أي يتمنون ذلك. وقيل: المعنى يكادون يخرجون منها لقوتها وزيادة رفعها إياهم، وهذا كقوله تعالى: * (فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض) * (الكهف: 77) أي يكاد ويقارب، لا يقال: كيف يجوز أن يريدوا الخروج من النار مع علمهم بالخلود؟ لأنا نقول: الهول يومئذ ينسيهم ذلك، وعلى تقدير عدم النسيان يقال: العلم بعدم حصول الشيء لا يصرف عن إرادته كما أن العلم بالحصول كذلك، فإن الداعي إلى الإرادة حسن الشيء والحاجة إليه.
* (وما هم بخارجين منها) * إما حال من فاعل * (يريدون) * أو اعتراض، وأيا ما كان فإيثار الجملة الاسمية على الفعلية مصدرة - بما - الحجازية الدالة بما في حيزها من الباء على تأكيد النفي لبيان كمال سوء حالهم باستمرار عدم خروجهم منها، فإن الجملة الاسمية الإيجابية - كما مرت الإشارة إليه - كما تفيد بمعونة المقام دوام الثبوت، تفيد السلبية أيضا بمعونة دوام النفي لا نفي الدوام، وقرأ أبو واقد * (أن يخرجوا) * بالبناء لما لم يسم فاعله من الإخراج، ويشهد لقراءة الجمهور قوله تعالى: * (بخارجين) * دون بمخرجين، وهذه الآية كما ترى في حق الكفار، فلا تنافي القول بالشفاعة لعصاة المؤمنين في الخروج منها كما لا يخفى على من له أدنى إيمان. وقد أخرج مسلم وابن المنذر وابن مردويه عن جابر بن عبد الله " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة "، قال يزيد الفقير: فقلت لجابر: يقول الله تعالى: * (يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها) * قال: أتل أول الآية * (إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به) * (المائدة: 36) ألا إنهم الذين كفروا، وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: تزعم أن قوما يخرجون من النار وقد قال الله تعالى: * (وما هم بخارجين منها) * فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ويحك اقرأ ما فوقها هذه للكفار، ورواية أنه قال له: يا أعمى البصر أعمى القلب تزعم الخ حكاها الزمخشري وشنع إثرها على أهل السنة ورماهم بالكذب والافتراء، فحقق ما قيل: رمتني بدائها وانسلت، ولسنا مضطرين لتصحيح هذه الرواية ولا وقف الله تعالى صحة العقيدة على صحتها، فكم لنا من حديث صحيح شاهد على حقيقة ما نقول وبطلان ما يقول المعتزلة تبا لهم.
* (ولهم عذاب مقيم) * تصريح بما أشير إليه من عدم تناهي مدة العذاب بعد بيان شدته أي عذاب دائم ثابت لا يزول ولا ينتقل أبدا..
* (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نك‍الا من الله والله عزيز حكيم) *.
* (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * شروع في بيان حكم السرقة الصغرى بعد بيان أحكام الكبرى، وقد تقدم بيان اقتضاء الحال لإيراد ما توسط بينهما من المقال، والكلام جملتان - عند سيبويه - إذ التقدير
131

فيما يتلى عليكم - السارق والسارقة - أي حكمهما، وجملة عند المبرد، وقرأ عيسى بن عمر بالنصب، وفضلها سيبويه على قراءة العامة لأجل الأمر - لأن زيدا فأضربه أحسن من زيد فأضربه - قاله الزمخشري، واتبعه من تبعه ومنهم ابن الحاجب. وتعقبه العلامة أحمد في " الانتصاف " بكلام كله محاسن فلا بأس في نقله برمته، فنقول. قال فيه: " المستقرأ من وجوه القراآت أن العامة لا تتفق فيها أبدا على العدول عن الأفصح، وجدير بالقرآن أن (يحرز) أفصح الوجوه وأن لا يخلو من الأفصح و (ما) يشتمل عليه كلام العرب الذي لم يصل أحد منهم إلى ذروة فصاحته ولم يتعلق بأهدابها، وسيبويه يحاشى من اعتقاد عراء القرآن عن الأفصح واشتمال الشاذ الذي لا يعد من القرآن عليه، ونحن نورد الفصل من كلام سيبويه على هذه الآية ليتضح لسامعه براءة سيبويه من عهدة هذا النقل، قال سيبويه في ترجمة باب الأمر والنهي بعد أن ذكر المواضع التي يختار فيها النصب وملخصها: أنه متى بني الاسم على فعل الأمر فذاك موضع اختيار النصب، ثم قال كالموضح لامتياز هذه الآية عما اختار (فيه) النصب: وأما قوله عز وجل: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * وقوله تعالى: * (الزانية والزاني فاجلدوا) * (النور: 2) فإن هذا لم يبن على الفعل ولكنه جاء على مثال قوله عز وجل: * (مثل الجنة التي وعد المتقون) * ثم قال سبحانه بعد: * (فيها أنهار) * (محمد: 15) منها كذا، يريد سيبويه تمييز هذه الآي عن المواضع التي بين اختيار النصب فيها، ووجه التمييز أن الكلام حيث يختار النصب يكون الاسم فيه مبنيا على الفعل، وأما في هذه الآي فليس بمبني عليه فلا يلزم فيه اختيار النصب، ثم قال: وإنما وضع المثل للحديث الذي ذكره بعده فذكر أخبارا وقصصا، فكأنه قال: ومن القصص - مثل الجنة - فهو محمول على هذا الإضمار والله تعالى أعلم، وكذلك الزانية والزاني لما قال جل ثناؤه: * (سورة أنزلناها وفرضناها) * (النور: 1) قال جل وعلا في جملة الفرائض: * (الزانية والزاني) * ثم جاء * (فاجلدوا) * (النور: 2) بعد أن مضى فيهما الرفع - يريد سيبويه - لم يكن الاسم مبنيا على الفعل المذكور بعد، بل بني على محذوف متقدم، وجاء الفعل طارئا، ثم قال: كما جاء - وقائلة خولان فانكح فتاتهم، فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه المضمر، وكذلك * (والسارق والسارقة) * (كأنه قال) فيما فرض عليكم السارق والسارقة وإنما (دخلت هذه الأسماء) بعد قصص وأحاديث، وقد قرأ أناس * (السارق والسارقة) * بالنصب وهو في العربية على ما ذكرت لك من القوة، ولكن أبت العامة إلا الرفع، يريد إن قراءة النصب جاء الاسم فيها مبنيا على الفعل غير معتمد على متقدم، فكان النصب قويا بالنسبة إلى الرفع، حيث يبنى الاسم على الفعل لا على متقدم، وليس يعني أنه قوي بالنسبة إلى الرفع، حيث يعتمد الاسم على المحذوف المتقدم، فإنه قد بين أن ذلك يخرجه عن الباب الذي يختار فيه النصب، فكيف يفهم عنه ترجيحه عليه، والباب مع (القرائن) مختلف، وإنما يقع الترجيح بعد التساوي في الباب، فالنصب أرجح من الرفع حيث يبنى الاسم على الفعل، والرفع متعين - لا أقول أرجح - حيث يبنى الاسم على كلام متقدم، وإنما التبس على الزمخشري كلام سيبويه من حيث اعتقد أنه باب واحد عنده، ألا ترى إلى قوله: لأن زيدا فأضربه أحسن من زيد فأضربه، كيف رجح النصب على الرفع، حيث يبنى الكلام في الوجهين على الفعل، وقد صرح سيبويه بأن الكلام في الآية مع الرفع مبني على كلام متقدم، ثم حقق (سيبويه) هذا المقدار بأن الكلام واقع بعد قصص وأخبار، ولو كان كما ظنه الزمخشري لم يحتج سيبويه إلى تقدير، بل كان يرفعه على الابتداء، ويجعل الأمر خبره - كما أعربه الزمخشري - فالملخص - على
132

هذا - أن النصب على وجه واحد، وهو بناء الاسم على فعل الأمر، والرفع على وجهين، أحدهما: ضعيف وهو الابتداء، وبناء الكلام على الفعل، والآخر: قوي
بالغ كوجه النصب، وهو رفعه على خبر ابتداء محذوف دل عليه السياق، وإذا تعارض لنا وجهان في الرفع، أحدهما قوي والآخر ضعيف تعين حمل القراءة على القوي كما أعربه سيبويه رحمه الله تعالى ورضي عنه " انتهى.
والفاء إذا بني الكلام على جملتين سببية لا عاطفة، وقيل: زائدة وكذا على الوجه الضعيف، فإن المبتدأ متضمن معنى الشرط إذ المعنى والذي سرق والتي سرقت، وزعم بعض المحققين أن مثل هذا التركيب لا يتوجه إلا بأحد أمرين: زيادة الفاء كما نقل عن الأخفش، أو تقدير إما لأن دخول الفاء في خبر المبتدأ إما لتضمنه معنى الشرط، وإما لوقوع المبتدأ بعد أما، ولما لم يكن الأول وجب الثاني ولا يخفى ما فيه، وعلى قراءة عيسى بن عمر يكون النصب على إضمار فعل يفسره الظاهر، والفاء أيضا - كما قال ابن جني - لما في الكلام من معنى الشرط، ولذا حسنت مع الأمر لأنه بمعناه، ألا تراه جزم جوابه لذلك إذ معنى أسلم تدخل الجنة إن تسلم تدخل الجنة، والمراد كما يشير إليه بعض شروح " الكشاف " إذ أردتم حكم السارق والسارقة فاقطعوا الخ، ولذا لم يجز زيدا فضربته لأن الفاء لا تدخل في جواب الشرط إذا كان ماضيا، وتقديره إن أردتم معرفة الخ أحسن من تقديره إن قطعتم لأنه لا يدل على الوجوب المراد، وقال أبو حيان: إن الفاء في جواب أمر مقدر أي تنبه لحكمهما فاقطعوا، وقيل: إنما دخلت الفاء لأن حق المفسر أن يذكر عقب المفسر كالتفصيل بعد الإجمال في قوله تعالى: * (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم) * (البقرة: 54) وليس بشيء، وبما ذكر صاحب " الانتصاف " يعلم فساد ما قيل: إن سبب الخلاف السابق في مثل هذا التركيب أن سيبويه والخليل يشترطان في دخول الفاء الخبر كون المبتدأ موصولا بما يقبل مباشرة أداة الشرط، وغيرهما لا يشترط ذلك، والظاهر أن سبب هذا عدم الوقوف على المقصود فليحفظ.
والسرقة أخذ مال الغير خفية، وإنما توجب القطع إذا كان الأخذ من حرز، والمأخوذ يساوي عشرة دراهم فما فوقها، مع شروط تكفلت ببيانها الفروع، ومذهب الشافعي والأوزاعي وأبي ثور والإمامية رضي الله تعالى عنهم أن القطع فيما يساوي ربع دينار فصاعدا، وقال بعضهم: لا تقطع الخمس إلا بخمسة دراهم، واختاره أبو علي الجبائي، قيل: يجب القطع في القليل والكثير - وإليه ذهب الخوارج - والمراد بالأيدي الأيمان - كما روي عن ابن عباس والحسن والسدي وعامة التابعين رضوان الله عليهم أجمعين - ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه - أيمانهما - ولذلك ساغ وضع الجمع موضع المثنى كما في قوله: * (فقد صغت قلوبكما) * (التحريم: 4) اكتفاءا بتثنية المضاف إليه كذا قالوا قال الزجاج: وحقيقة هذا الباب أن ما كان في الشيء منه واحد لم يثن، ولفظ به على الجمع لأن الإضافة تبينه، فإذا قلت: أشبعت بطونهما علم أن للإثنين بطنين فقط. وفرع الطيبي عليه عدم استقامة تشبيه ما في الآية هنا بما في الآية الأخرى لأن لكل من السارق يدين فيجوز الجمع، وأن تقطع الأيدي كلها من حيث ظاهر اللغة وكذا قال أبو حيان، وفيه نظر لأن الدليل قد دل على أن المراد من اليد يد مخصوصة وهي اليمين فجرت مجرى القلب والظهر؛ واليد اسم لتمام العضو، ولذلك ذهب الخوارج إلى أن المقطع هو المنكب، والإمامية على أنه يقطع من أصول الأصابع ويترك له الإبهام والكف، ورووه عن علي كرم الله تعالى وجهه، واستدلوا عليه أيضا بقوله تعالى: * (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) * (البقرة: 79) إذ لا شك في أنهم إنما يكتبونه بالأصابع، وأنت تعلم أن هذا لا يتم به الاستدلال على ذلك المدعي، وحال روايتهم
133

أظهر من أن تخفى، والجمهور على أن المقطع هو الرسغ، فقد أخرج البغوي وأبو نعيم في " معرفة الصحابة " من حديث الحرث بن أبي عبد الله بن أبي ربيعة " أنه عليه الصلاة والسلام أتي بسارق فأمر بقطع يمينه منه " والمخاطب بقوله سبحانه: * (فاقطعوا) * على ما في " البحر " الرسول صلى الله عليه وسلم أو ولاة الأمور كالسلطان ومن أذن له في إقامة الحدود، أو القضاة والحكام، أو المؤمنون أقوال أربعة، ولم تدرج السارقة في السارق تغليبا كما هو المعروف في أمثاله لمزيد الاعتناء بالبيان والمبالغة في الزجر.
* (جزآء) * نصب على أنه مفعول له أي فاقطعوا للجزاء، أو على أنه مصدر - لاقطعوا - من معناه، أو لفعل مقدر من لفظه، وجوز أن يكون حالا من فاعل - اقطعوا - مجازين لهما * (بما كسبا) * بسبب كسبهما، أو ما كسباه من السرقة التي تباشر بالأيدي وقوله تعالى: * (نك‍الا) * مفعول له أيضا - ما قال أكثر المعربين - وقال السمين: منصوب كما نصب * (جزاء) *، واعترض الوجه الأول بأنه ليس بجيد لأن المفعول له لا يتعدد بدون عطف واتباع لأنه على معنى اللام، فيكون كتعلق حرفي جر بمعنى بعامل واحد وهو ممنوع، ودفع بأن النكال نوع من الجزاء فهو بدل منه، وقال الحلبي وبعض المحققين: إنه إنما ترك العطف إشعارا بأن القطع للجزاء والجزاء للنكال والمنع عن المعاودة، وعليه يكون مفعولا له متداخلا كالحال المتداخلة، وبه أيضا يندفع الاعتراض وهو حسن، وقال عصام الملة: إنما لم يعطف لأن العلة مجموعهما - كما في هذا خلو حامض - والجزاء إشارة إلى أن فيه حق العبد، والنكال إشارة إلى أن فيه حق الله تعالى، ولا يخفى ما فيه فتأمل، ونقل عن بعض النحاة أنه أجاز تعدد المفعول له بلا اتباع وحينئذ لا يرد السؤال رأسا، وقوله تعالى: * (من الله) * متعلق بمحذوف وقع صفة لنكالا أي نكالا كائنا منه تعالى * (والله عزيز) * في شرع الردع * (حكيم) * في إيجاب القطع، أو عزيز في انتقامه من السارق وغيره من أهل المعاصي حكيم في فرائضه وحدوده، والإظهار في مقام الإضمار لما مر غير مرة.
ومن الغريب أنه نقل عن أبي رضي الله تعالى عنه أنه قرأ - والسرق والسرقة - بترك الألف وتشديد الراء، فقال ابن عطية: إن هذه القراءة تصحيف لأن السارق والسارقة قد كتبا في المصحف بدون الألف، وقيل: في توجيهها أنهما جمع سارق وسارقة، لكن قيل: إنه لم ينقل هذا الجمع في جمع المؤنث؛ فلو قيل: إنهما صيغة مبالغة لكان أقرب، واعترض - الملحد - المعري على وجوب قطع اليد بسرقة القليل فقال: يد بخمس مئين عسجد وديت * ما بالها قطعت في ربع دينار
تحكم ما لنا إلا السكوت له * وأن نعوذ بمولانا من النار
فأجابه - ولله دره - علم الدين السخاوي بقوله: عز الأمانة: أغلاها وأرخصها * ذل الخيانة فافهم حكمة الباري
وفي " الأحكام " لابن عربي (2 / 618) " أنه كان جزاء السارق في شرع من قبلنا استرقاقه، وقيل: كان ذلك إلى زمن موسى عليه الصلاة والسلام ونسخ، فعلى الأول: شرعنا ناسخ لما قبله، وعلى الثاني: مؤكد للنسخ "..
* (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم) *.
* (فمن تاب) * من السراق إلى الله تعالى * (من بعد ظلمه) * الذي هو سرقته، والتصريح بذلك لبيان عظم نعمته تعالى بتذكير عظم جنايته * (وأصلح) * أمره بالتفصي عن التبعات بأن يرد مال السرقة إن أمكن. أو يستحل لنفسه من مالكه
134

أو ينفقه في سبيل الله تعالى إن جهله، وقيل: المعنى وفعل الفعل الصالح الجميل بأن استقام على التوبة كما هو المطلوب منه * (فإن الله يتوب عليه) * يقبل توبته فلا يعذبه في الآخرة، وأما القطع فلا يسقطه التوبة عندنا لأن فيه حق المسروق منه، ويسقطه عند الشافعي رضي الله تعالى عنه في أحد قوليه، ولا يخفى ما في هذه الجملة من ترغيب العاصي بالتوبة، وأكد ذلك بقوله سبحانه: * (إن الله غفور رحيم) * وهو في موضع التعليل لما قبله، وفيه إشارة إلى أن قبول التوبة تفضل منه تعالى..
* (ألم تعلم أن الله له ملك السم‍اوات والارض يعذب من يشآء ويغفر لمن يشآء والله على كل شىء قدير) *.
* (ألم تعلم أن الله له ملك السم‍اوات والأرض) * الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد يصلح له، واتصاله بما قبله على ما قاله الطبرسي: " اتصال الحجاج والبيان عن صحة ما تقدم من الوعد والوعيد ". وقال شيخ الإسلام: المراد به الاستشهاد بذلك على قدرته تعالى - على ما سيأتي - من التعذيب والمغفرة على أبلغ وجه وأتمه أي ألم تعلم أن الله تعالى له السلطان القاهر والاستيلاء الباهر المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهما وفيما اشتملا عليه إيجادا وإعداما إحياءا وإماتة إلى غير ذلك حسبما تقتضيه مشيئته، والجار والمجرور خبر مقدم، و * (ملك السموات) * مبتدأ، والجملة خبر * (أن) * وهي مع ما في حيزها ساد مسد مفعولي * (تعلم) * عند الجمهور؛ وتكرير الإسناد لتقوية الحكم.
وقوله تعالى: * (يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء) * إما تقرير لكون ملكوت السموات والأرض له سبحانه، وإما خبر آخر - لأن - وكان الظاهر لحديث " سبقت رحمتي غضبي " تقديم المغفرة على التعذيب، وإنما عكس هنا لأن التعذيب للمصر على السرقة، والمغفرة للتائب منها، وقد قدمت السرقة في الآية أولا ثم ذكرت التوبة بعدها فجاء هذا اللاحق على ترتيب السابق، أو لأن المراد بالتعذيب القطع، وبالمغفرة التجاوز عن حق الله تعالى، والأول: في الدنيا، والثاني: في الآخرة، فجيء به على ترتيب الوجود، أو لأن المقام مقام الوعيد، أو لأن المقصود وصفه تعالى بالقدرة، والقدرة في تعذيب من يشاء أظهر من القدرة في مغفرته لأنه لا إباء في المغفرة من المغفور، وفي التعذيب إباء بين * (والله على كل شيء قدير) * فيقدر على ما ذكر من التعذيب والمغفرة، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها، ووجه الإظهار كالنهار..
* (ياأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر من الذين قالوا ءامنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سم‍اعون للكذب سم‍اعون لقوم ءاخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم ه‍اذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أول‍ائك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم فى الدنيا خزى ولهم فى الاخرة عذاب عظيم) *.
* (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يس‍ارعون في الكفر) * خوطب صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة للتشريف والإشعار بما يوجب عدم الحزن، والمراد بالمسارعة في الشيء الوقوع فيه بسرعة ورغبة، وإيثار كلمة * (في) * على - إلى - للإيذان بأنهم مستقرون في الكفر لا يبرحون، وإنما ينتقلون بالمسارعة عن بعض فنونه وأحكامه إلى بعض آخر منها، كإظهار موالاة المشركين وإبراز آثار الكيد للإسلام ونحو ذلك. والتعبير عنهم بالموصول للإشارة بما في حيز صلته إلى مدار الحزن، وهذا وإن كان بحسب الظاهر نهيا للكفرة عن أن يحزنوه صلى الله عليه وسلم بمسارعتهم في الكفر - لكنه في الحقيقة نهي له عليه الصلاة والسلام عن التأثر من ذلك والمبالاة، والغرض منه مجرد التسلية على أبلغ وجه وآكده، فإن النهي عن أسباب الشيء ومباديه المؤدية إليه نهي عنه بالطريق البرهاني وقطع له من أصله. وقرىء * (يحزنك) * بضم الياء وكسر الزين من أحزن وهي لغة، وقرىء - يسرعون - يقال أسرع فيه الشيب أي وقع فيه سريعا أي لا تحزن ولا تبال بتهافتهم في الكفر بسرعة حذرا - ما قيل - من شرهم وموالاتهم للمشركين
135

فإن الله تعالى ناصرك عليهم، أو شفقة عليهم حيث لم يوفقوا للهداية فإن الله تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
* (من الذين قالوا ءامنا بأفواههم) * بيان للمسارعين في الكفر، وقال أبو البقاء: إنه متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل * (يسارعون) * أو من الموصول أي كائنين من الذين الخ، والباء متعلقة - بقالوا - لا - بآمنا - لظهور فساده وتعلقها به على معنى - بذي أفواههم - أي يؤمنون بما يتفوهون به من غير أن تلتف به قلوبهم مما لا ينبغي أن يلتفت إليه من له أدنى تمييز * (ولم تؤمن قلوبهم) * جملة حالية من ضمير * (قالوا) *، وقيل: عطف على * (قالوا) *.
وقوله سبحانه وتعالى: * (ومن الذين هادوا) * عطف على * (من الذين قالوا) * وبه تم تقسيم المسارعين إلى قسمين: منافقين ويهود، فقوله سبحانه وتعالى: * (سماعون للكذب) * خبر مبتدأ محذوف أي هم سماعون والضمير للفريقين أو للذين يسارعون، وجوز أن يكون - للذين هادوا - واعترض بأنه مخل بعموم الوعيد الآتي ومباديه للكل - كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى - وكذا جعل غير واحد * (ومن الذين) * الخ خبرا على أن * (سماعون) * صفة لمبتدأ محذوف، أي ومنهم قوم سماعون لأدائه إلى اختصاص ما عدد من القبائح وما يترتب عليها من الغوائل الدنيوية والأخروية بهم، على أنه قد قرىء - سماعين - بالنصب على الذم وهو ظاهر في
أرجحية العطف، فالوجه ذلك، واللام للتقوية كما في قوله تعالى: * (فعال لما يريد) * (البروج: 16)، وقيل: لتضمين السماع معنى القبول أي قابلون لما يفتريه الأحبار من الكذب على الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام وتحريف كتابه، واعترضه الشهاب بأن هذا يقتضي أنه إنما فسر بالقبول ليعديه اللام. وقد قال الزجاج: يقال: لا تسمع من فلان أي لا تقبل، ومنه سمع الله لمن حمده أي تقبل منه حمده، وكلام الجوهري يخالفه أيضا، ويقتضي أنه ليس مبنيا على التضمين، وقال عصام الملة: إن القبول أيضا متعد بنفسه ففي " القاموس " قبله - كعمله - وتقبله بمعنى أخذه، نعم يتعدى السماع بمعنى القبول باللام بمعنى من، كما في - سمع الله لمن حمده - أي قبل الله تعالى ممن حمده، لكن هذه اللام تدخل على المسموع منه لا المسموع. وجوز أن تكون اللام للعلة، والمفعول محذوف أي سماعون كلامك ليكذبوا عليك فيه بأن يمسخوه بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير، أو كلام الناس الدائر فيما بينهم ليكذبوا بأن يرجفوا بقتل المؤمنين وانكسار سراياهم، أو نحو ذلك مما فيه ضرر بهم، وأيا ما كان فالجملة مستأنفة جارية - على ما قيل - مجرى التعليل للنهي، أو مسوقة لمجرد الذم كما يقتضيه قراءة النصب.
وقوله تعالى شأنه: * (سم‍اعون لقوم ءاخرين لم يأتوك) * خبر ثان للمبتدأ المقدر (مقرر) للأول، ومبين لما هو المراد بالكذب على تقدير التقوية والتضمين، واللام هنا مثلها في - سمع الله لمن حمده - والمعنى مبالغون في قبول كلام قوم آخرين، واختاره شيخ الإسلام. وجوز كونها لام التعليل أي سماعون كلامه صلى الله عليه وسلم الصادر منه ليكذبوا عليه لأجل قوم آخرين، والمراد أنهم عيون عليه عليه الصلاة والسلام لأولئك القوم، وروي ذلك عن الحسن. والزجاج، واختاره أبو علي الجبائي، وليس في النظم ما يأباه ولا بعد فيه، نعم ما قيل: من أنه يجوز أن تتعلق اللام بالكذب على أن * (سماعون) * الثاني مكرر للتأكيد بمعنى سماعون ليكذبوا لقوم آخرين بعيد، و * (آخرين) * صفة * (لقوم) * وجملة * (لم يأتوك) * صفة أخرى، والمعنى لم يحضروا عندك، وقيل: هو كناية عن أنهم لم يقدروا أن ينظروا إليك، وفيه دلالة على شدة بغضهم له صلى الله عليه وسلم وفرط عداوتهم، واحتمال كونها صفة
136

* (سماعون) * أي سماعون لم يقصدوك بالإتيان بل قصدوا السماع للإنهاء إلى قوم آخرين مما لا ينبغي أن يلتفت إليه.
وقوله سبحانه وتعالى: * (يحرفون الكلم من بعد مواضعه) * صفة أخرى لقوم وصفوا أولا بمغايرتهم للسماعين تنبيها على استقلالهم وأصالتهم في الرأي، ثم بعدم حضورهم مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إيذانا بكمال طغيانهم في الضلال، أو بعدم قدرتهم على النظر إليه عليه الصلاة والسلام إيذانا بما تقدم ثم باستمرارهم على التحريف بيانا لإفراطهم في العتو والمكابرة والاجتراء على الله تعالى، وتعيينا للكذب الذي سمعه السماعون على بعض الوجوه كما هو الظاهر، وقيل: الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب ناعية عليهم شنائعهم، وقيل: خبر مبتدأ محذوف راجع إلى القوم، وقيل: إلى الفريقين، والمعنى يميلون ويزيلون التوراة، أو كلام الرسول صلى الله عليه وسلم أو كليهما أو مطلق الكلم في قول عن المواضع التي وضع ذلك فيها إما لفظا بإهماله، أو تغيير وضعه، وإما معنى بحمله على غير المراد وإجرائه في غير مورده.
ومن هنا يعلم توجيه قوله تعالى: * (من بعد مواضعه) * دون عن مواضعه، وقال عصام الملة: إن إدراج لفظ * (بعد) * للتنبيه على تنزيل الكلم منزلة هي أدنى مما وضعت فيه لأنه إبطال النافع بالضار لا بالنافع أو الأنفع، فكأن المحرف واقف في موضع هو أدنى من موضع الكلمة يحرفها إلى موضعه، ولا يخفى بعده، وقال بعضهم: إن * (من) * للابتداء، ولفظ * (بعد) * للإشارة إلى أن التحريف مما بعد إلى موضع أبعد، وفيه من المبالغة في التشنيع ما لا يخفى، وقرأ إبراهيم - يحرفون الكلام عن مواضعه -.
وقوله سبحانه وتعالى: * (يقولون) * كالجملة السابقة في الوجوه (المذكورة)، ويجوز أن تكون حالا من ضمير * (يحرفون) * وجوز كونها كالتي قبلها صفة - لسماعون - أو حالا من الضمير فيه، وتعقبه شيخ الإسلام بأنه مما لا سبيل إليه أصلا كيف لا وأن مقول القول ناطق بأن قائله ممن لا يحضر مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم والمخاطب به ممن يحضره، فكيف يمكن أن يقوله السماعون المترددون إليه عليه الصلاة والسلام لمن لا يحوم حول حضرته قطعا، وادعاء قول السماعين لأعقابهم المخالطين للمسلمين تعسف ظاهر مخل بجزالة النظم الكريم، فالحق الذي لا محيد عنه - وعليه درج غالب المفسرين - أن المحرفين والقائلين هم القوم الآخرون أي يقولون لأتباعهم السماعين لهم * (إن أوتيتم) * من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم كما هو الظاهر * (هذا فخذوه) * واعملوا بموجبه فإنه موافق للحق * (وإن لم تؤتوه) * من جهته بل أوتيتم غيره * (فاحذروا) * قبوله وإياكم وإياه، أو فاحذروا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي ترتيب الأمر بالحذر على مجرد عدم إيتاء المحرف من المبالغة والتحذير ما لا يخفى، أخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إن طائفتين من اليهود قهرت إحداهما الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق، فكانوا على ذلك حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فذلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ لم يظهر عليهم، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا، وأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا إلينا بمائة وسق، فقالت الذليلة: وهل كان هذا في حيين قط دينهما واحد. ونسبهما واحد. وبلدهما واحد، ودية بعضهم نصف دية بعض إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم
137

لنا وقوة منكم، فأما إذا قدم محمد صلى الله عليه وسلم فلا نعطيكم ذلك، فكادت الحرب تهيج بينهما ثم ارتضوا على أن جعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ففكرت العزيزة فقالت: والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم ولقد صدقوا ما أعطونا هذا إلا ضيما وقهرا لهم، فدسوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم من يخبر لكم رأيه فإن أعطاكم ما تريدون حكمتموه وإن لم يعطكموه حذرتموه فلم تحكموه، فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من المنافقين ليختبروا لهم رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام بأمرهم كله وماذا أرادوا فأنزل * (يا أيها الرسول
) * الآية، وعلى هذا يكون أمر التحريف غير ظاهر الدخول في القصة.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في " سننه " عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن أحبار يهود اجتمعوا في بيت المدراس حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة - وقد زنى رجل بعد إحصانه بامرأة من يهود وقد أحصنت - فقالوا: ابعثوا بهذا الرجل وبهذه المرأة إلى محمد صلى الله عليه وسلم فاسألوه كيف الحكم فيهما وولوه الحكم فيهما، فإن عمل فيهما عملكم من التجبية - وهي الجلد بحبل من ليف مطلي بقار - ثم تسود وجوههما، ثم يحملان على حمارين وجوههما من قبل دبر الحمار فاتبعوه، فإنما هو ملك سيد قوم وإن حكم فيهما بغيره فإنه نبي فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكم إياه، فأتوه فقالوا: يا محمد هذا رجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت فاحكم فيهما فقد وليناك الحكم فيهما؛ فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى أحبارهم في بيت المدراس فقال: " يا معشر يهود أخرجوا إلي علماءكم "؛ فأخرجوا إليه عبد الله بن صوريا وأبا ياسر بن أخطب ووهب بن يهوذا، فقالوا: هؤلاء علماؤنا، فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حصل أمرهم إلى أن قالوا لعبد الله بن صوريا: هذا أعلم من بقي بالتوراة، فخلا به رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان غلاما شابا من أحدثهم سنا - فألظ به رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة يقول: " يا ابن صوريا أنشدك الله تعالى وأذكرك أيامه عند بني إسرائيل هل تعلم أن الله تعالى حكم فيمن زنى بعد إحصانه بالرجم في التوراة "؟ فقال: اللهم نعم، أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعرفون أنك نبي مرسل ولكنهم يحسدونك، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بهما فرجما عند باب مسجده، ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا وجحد نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: * (يا أيها الرسول) * الخ.
وأخرج الحميدي في " مسنده ". وأبو داود وابن ماجه عن جابر بن عبد الله أنه قال: " زنى رجل من أهل فدك فكتبوا إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمدا صلى الله عليه وسلم عن ذلك فإن أمركم بالجلد فخذوه عنه وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه، فسألوه عن ذلك فقال: ارسلوا إلي أعلم رجلين منكم، فجاؤوا برجل أعور يقال له ابن صوريا وآخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما: أليس عندكما التوراة فيها حكم الله تعالى؟ قالا: بلى، قال: فأنشدكم بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وظلل عليكم الغمام ونجاكم من آل فرعون وأنزل التوراة على موسى عليه السلام وأنزل المن والسلوى على بني إسرائيل ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقال أحدهما للآخر: ما أنشدت بمثله قط قالا: نجد ترداد النظر ريبة والاعتناق ريبة والقبل ريبة، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يبدي ويعيد كما يدخل الميل في المكحلة فقد وجب الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم فهو كذلك فأمر به فرجم.
138

وفي جريان الإحصان الشرعي الموجب للرجم في الكافر ما هو مذكور في الفروع، ولعل هذا عند من يشترط الإسلام - كالإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه - كان على اعتبار شريعة موسى عليه الصلاة والسلام، أو كان قبل نزول الجزية فليتدبر.
* (ومن يرد الله فتنته) * أي عذابه كما روي عن الحسن وقتادة واختاره الجبائي وأبو مسلم، أو إهلاكه كما روي عن السدي والضحاك، أو خزيه وفضيحته بإظهار ما ينطوي عليه كما نقل عن الزجاج، أو اختياره بما يبتليه به من القيام بحدوده فيدفع ذلك ويحرفه - كما قيل - وليس بشيء، والمراد العموم ويندرج فيه المذكورون اندراجا أوليا، وعدم التصريح بكونهم كذلك للإشعار بظهوره واستغنائه عن الذكر * (فلن تملك له) * فلن تستطيع له * (من الله شيئا) * في دفع تلك الفتنة، والفاء جوابية، و * (من الله) * متعلق - بتملك - أو بمحذوف وقع حالا من * (شيئا) * لأنه صفته في الأصل أي شيئا كائنا من لطف الله تعالى؛ أو بدل الله عز اسمه، و * (شيئا) * مفعول به - لتملك - وجوز بعض المعربين أن يكون مفعولا مطلقا، والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها، أو مبينة لعدم انفكاك أولئك عن القبائح المذكورة أبدا.
* (أولئك) * أي المذكورون من المنافقين واليهود، و * (ما) * في اسم الإشارة من معنى البعد لما مرت الإشارة إليه مرارا، وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه: * (الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم) * من رجس الكفر وخبث الضلالة، والجملة استئنافية مبينة لكون إرادته تعالى لفتنتهم منوطة بسوء اختيارهم المقتضي لها لا واقعة منه سبحانه ابتداءا، وفيها - كالتي قبلها على أحد التفاسير - دليل على فساد قول المعتزلة: إن الشرور ليست بإرادة الله تعالى وإنما هي من العباد، وقول بعضهم: إن المراد لم يرد تطهير قلوبهم من الغموم بالذم والاستخفاف والعقاب، أو لم يرد أن يطهرها من الكفر بالحكم عليها بأنها بريئة منه ممدوحة بالإيمان - كما قال البلخي - لا يقدم عليه من له أدنى ذوق بأساليب الكلام.
ومن العجيب أن الزمخشري لما رأى ما ذكر خلاف مذهبه قال: " معنى * (من يرد الله فتنته) * من يرد تركه مفتونا وخذلانه * (فلن تملك له من الله شيئا) * فلن تستطيع له من لطف الله تعالى وتوفيقه شيئا، ومعنى * (لم يرد الله أن يطهر قلوبهم) * لم يرد أن يمنحهم من ألطافه ما يطهر به قلوبهم لأنهم ليسوا من أهلها لعلمه أن ذلك لا ينجع فيهم ولا ينفع " انتهى.
وقد تعقبه ابن المنير بقوله: " كم يتلجلج والحق أبلج، هذه الآية كما تراها منطبقة على عقيدة أهل السنة في أن الله تعالى أراد الفتنة من المفتونين ولم يرد أن يطهر قلوبهم من دنس الفتنة ووضر الكفر، لا كما تزعم المعتزلة من أن الله تعالى ما أراد الفتنة من أحد، وأراد من كل أحد الإيمان وطهارة القلب، وأن الواقع من الفتن على خلاف إرادته سبحانه وأن غير الواقع من طهارة قلوب الكفار مراد ولكن لم يقع، فحسبهم هذه الآية وأمثالها لو أراد الله تعالى أن يطهر قلوبهم من وضر البدع * (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) * (محمد: 24)، وما أبشع صرف الزمخشري هذه الآية عن ظاهرها بقوله: لم يرد الله تعالى أن يمنحهم ألطافه لعلمه أن ألطافه لا تنجع، تعالى الله سبحانه عما يقول الظالمون، وإذا لم تنجع ألطاف الله تعالى ولم تنفع، فلطف من ينفع وإرادة من تنجع؟!. وليس وراء الله للعبد مطمع "
انتهى، وتقصيهم عن ذلك عسير.
* (لهم في الدنيا خزي) * أما المنافقون فخزيهم فضيحتهم وهتك سترهم بظهور نفاقهم بين المسلمين، وازدياد غمهم بمزيد انتشار الإسلام وقوة شوكته وعلو كلمته، وأما خزي اليهود فالذل والجزية والافتضاح بظهور كذبهم في كتمان نص التوراة وإجلاء بني النضير من ديارهم، وتنكير * (خزي) * للتفخيم وهو مبتدأ و * (لهم) * خبره، و * (في الدنيا) * متعلق بما تعلق
139

به الخبر من الاستقرار، والجملة استئناف مبني على سؤال نشأ من أحوالهم الموجبة للعقاب، كأنه قيل: فما لهم على ذلك من العقوبة؟ فقيل: لهم في الدنيا خزي وكذا الحال في قوله تعالى: * (ولهم في الآخرة) * أي مع الخزي الدنيوي * (عذاب عظيم) * لا يقادر قدره وهو الخلود في النار مع ما أعد لهم فيها، وضمير * (لهم) * في الجملتين - لأولئك - من المنافقين واليهود جميعا، وقيل: لليهود خاصة، وقيل: * (لهم) * إن استأنفت بقوله سبحانه: * (ومن الذين هادوا) * وإلا فللفريقين، والتكرير مع اتحاد المرجع لزيادة التقرير والتأكيد [بم ولذلك كرر قوله سبحانه:
* (سم‍اعون للكذب أك‍الون للسحت فإن جآءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين) *.
* (سم‍اعون للكذب) *، وقيل: إن الظاهر أنه تعليل لقوله تعالى: * (لهم في الدنيا خزي) * (المائدة: 41) الخ أو توطئة لما بعده، أو المراد بالكذب هنا الدعوى الباطلة، وفيما مر ما يفتريه الأحبار، ويؤيده الفصل بينهما. * (أك‍الون للسحت) * أي الحرام من سحته إذا استأصلته، وسمي الحرام سحتا - عند الزجاج - لأنه يعقب عذاب الاستئصال والبوار، وقال الجبائي: لأنه لا بركة فيه لأهله فيهلك هلاك الاستئصال غالبا، وقال الخليل: لأن في طريق كسبه عارا فهو يسحت مروءة الإنسان، والمراد به هنا - على المشهور -: الرشوة في الحكم، وروي ذلك عن ابن عباس والحسن.
وأخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن عمر قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به، قيل: يا رسول الله وما السحت؟ قال: الرشوة في الحكم " وأخرج عبد الرزاق عن جابر بن عبد الله قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هدايا الأمراء سحت " وأخرج ابن المنذر عن مسروق قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: أرأيت الرشوة في الحكم أمن السحت هي؟ قال: لا ولكن كفر، إنما السحت أن يكون للرجل عند السلطان جاه ومنزلة، ويكون للآخر إلى السلطان حاجة فلا يقضي حاجته حتى يهدي إليه هدية، وأخرج عبد بن حميد عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه سئل عن السحت فقال: الرشا، فقيل له في الحكم قال: ذاك الكفر، وأخرج البيهقي في " سننه " عن ابن مسعود نحو ذلك، وأخرج ابن مردويه والديلمي عن أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ست خصال من السحت: رشوة الإمام - وهي أخبث ذلك كله - وثمن الكلب وعسب الفحل ومهر البغي وكسب الحجام وحلوان الكاهن "، وعد ابن عباس رضي الله تعالى عنه في رواية ابن منصور والبيهقي عنه أشياء أخر.
قيل: ولعظم أمر الرشوة اقتصر عليها من اقتصر، وجاء من طرق عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه لعن الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما ". ولتفاقم الأمر في هذه الأزمان بالارتشاء صدر الأمر من حضرة مولانا - ظل الله تعالى على الخليقة ومجدد نظام رسوم الشريعة والحقيقة - السلطان العدلي محمود خان لا زال محاطا بأمان الله تعالى - حيثما كان في السنة الرابعة والخمسين بعد الألف والمائتين - بمؤاخذة المرتشي وأخويه على أتم وجه، وحد للهدية حدا لئلا يتوصل بها إلى الإرتشاء كما يفعله اليوم كثير من الأمراء، فقد أخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ستكون من بعدي ولاة يستحلون الخمر بالنبيذ والنجش بالصدقة، والسحت بالهدية، والقتل بالموعظة يقتلون البرىء ليوطئوا العامة يملى لهم فيزدادوا إثما ".
هذا وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب * (السحت) * بضمتين، وهما لغتان - كالعنق والعنق -.
140

وقرىء * (السحت) * بفتح السين على لفظ المصدر أريد به المسحوت كالصيد بمعنى المصيد، و * (السحت) * بفتحتين و * (السحت) * بكسر السين.
* (فإن جاءوك) * خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والفاء فصيحة أي إذا كان حالهم كما شرح فإن جاءوك متحاكمين إليك فيما شجر بينهم من الخصومات * (فاحكم بينهم) * بما أراك الله تعالى * (أو أعرض عنهم) * غير مبال بهم ولا مكترث، وهذا كما ترى تخيير له صلى الله عليه وسلم بين الأمرين، وهو معارض لقوله تعالى: * (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) * (المائدة: 49) وتحقيق المقام على ما ذكر الجصاص - في كتاب " الأحكام " - أن العلماء اختلفوا، فذهب قوم إلى أن التخيير منسوخ بالآية الأخرى وروي ذلك عن ابن عباس وإليه ذهب أكثر السلف، قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم كان أولا مخيرا، ثم أمر عليه الصلاة والسلام بإجراء الأحكام عليهم، ومثله لا يقال من قبل الرأي، وقيل: إن هذه الآية فيمن لم يعقد له ذمة، والأخرى في أهل الذمة فلا نسخ، وأثبته بعضهم بمعنى التخصيص لأن من أخذت منه الجزية تجري عليه أحكام الإسلام، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أيضا. وقال أصحابنا: أهل الذمة محمولون على أحكام الإسلام في البيوع والمواريث وسائر العقود إلا في بيع الخمر والخنزير فإنهم يقرون عليه، ويمنعون من الزنا كالمسلمين فإنهم نهوا عنه، ولا يرجمون لأنهم غير محصنين، وخبر الرجم السابق سبق توجيهه، واختلف في مناكحتهم، فقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: يقرون عليها، وخالفه - في بعض ذلك - محمد وزفر، وليس له عليهم اعتراض قبل التراضي بأحكامنا، فمتى تراضوا بها وترافعوا إلينا وجب إجراء الأحكام عليهم، وتمام التفصيل في الفروع.
* (وإن تعرض عنهم) * بيان لحال الأمرين بعد تخييره صلى الله عليه وسلم بينهما، وتقديم حال الإعراض للمسارعة إلى بيان أنه لا ضرر فيه حيث كان مظنة لترتب العداوة المقتضية للتصدي للضرر، فمآل المعنى إن تعرض عنهم ولم تحكم بينهم فعادوك وقصدوا ضررك * (فلن يضروك) * بسبب ذلك * (شيئا) * من الضرر فإن الله تعالى يحفظك من ضررهم * (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط) * أي بالعدل الذي أمرت به، وهو ما تضمنه القرآن واشتملت عليه شريعة الإسلام، وما روي عن
علي كرم الله تعالى وجهه من أنه قال: - لو ثنيت لي الوسادة لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم وأهل الإنجيل بإنجيلهم - إن صح يراد منه لازم المعنى * (إن الله يحب المقسطين) * أي العادلين فيحفظهم عن كل مكروه ويعظم شأنهم..
* (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذالك ومآ أول‍ائك بالمؤمنين) *.
* (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله) * تعجيب من تحكيمهم من لا يؤمنون به، والحال أن الحكم منصوص عليه في كتابهم الذي يدعون الإيمان به، وتنبيه على أن ذلك التحكيم لم يكن لمعرفة الحق وإنما هو لطلب الأهون، وإن لم يكن ذلك حكم الله تعالى بزعمهم فقوله سبحانه: * (وعندهم التوراة) * حال من فاعل * (يحكمونك) *، وقوله تعالى: * (فيها حكم الله) * حال من التوراة إن جعلت مرتفعة بالظرف وكون ذلك ضعيفا لعدم اعتماد الظرف سهو لأنه معتمد - كما قال السمين - على ذي الحال لكن قال: جعل التوراة - مرفوعا بالظرف المصدر بالواو - محل نظر،، ولعل وجهه أنها تجعله جملة مستقلة غير معتمدة، أو أنه لا يقرن بالواو، وإن جعلت مبتدأ فهو حال من ضميرها المستكن في الخبر لأنه لا يصح مجىء الحال من المبتدأ عن سيبويه.
141

وقيل: استئناف مسوق لبيان أن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم، وأنثت التوراة معاملة لها - بعد التعريب - معاملة الأسماء العربية الموازنة لها - كموماة ودوداة -.
* (ثم يتولون) * عطف على * (يحكمونك) * داخل في حكم التعجيب لأن التحكيم مع وجود ما فيه الحق المغني عن التحكيم، وإن كان محلا للتعجب والاستبعاد لكن مع الإعراض عن ذلك أعجب، و * (ثم) * للتراخي في الرتبة، وجوز الأجهوري كون الجملة مستأنفة غير داخلة في حكم التعجيب أي ثم هم يتولون أي عادتهم فيما إذا وضح لهم الحق أن يعرضوا ويتولوا، والأول أولى. وقوله سبحانه: * (من بعد ذلك) * أي من بعد أن يحكموك تصريح بما علم لتأكيد الاستبعاد والتعجب، وقوله عز وجل: * (وما أول‍ئك بالمؤمنين) * تذييل مقرر لفحوى ما قبله، ووضع اسم الإشارة موضع ضميرهم قصدا إلى إحضارهم في الذهن بما وصفوا به من القبائح إيماءا إلى علة الحكم مع الإشارة إلى أنهم قد تميزوا بذلك عن غيرهم أكمل تميز حتى انتظموا في سلك الأمور المشاهدة، أي: وما أولئك الموصوفون بما ذكر بالمؤمنين بكتابهم لإعراضهم عنه المنبىء عن عدم الرضا القلبي به أولا وعن حكمك الموافق له ثانيا، أو بك وبه، وقيل: هذا إخبار منه تعالى عن أولئك اليهود أنهم لا يؤمنون بالنبي صلى الله عليه وسلم وبحكمه أصلا. وقيل: المعنى - وما أولئك بالكاملين في الإيمان - تهكما بهم..
* (إنآ أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كت‍ابالله وكانوا عليه شهدآء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بااي‍اتى ثمنا قليلا ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأول‍ائك هم الك‍افرون) *.
* (إنا أنزلنا التوراة) * كلام مستأنف سيق لتقرير مزيد فظاعة حال أولئك اليهود ببيان علو شأن التوراة على أتم وجه * (فيها هدى) * أي إرشاد للناس إلى الحق * (ونور) * أي ضياء يكشف به ما تشابه عليهم وأظلم - قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه -. وقال الزجاج: * (فيها هدى) * أي بيان للحكم الذي جاؤوا يستفتون فيه النبي صلى الله عليه وسلم * (ونور) * أي بيان أن أمر النبي عليه الصلاة والسلام حق، ولعل تعميم المهدي إليه كما في كلام ابن عباس أولى، ويندرج فيه اندراجا أوليا ما ذكره الزجاج من الحكم، وإطلاق النور على ما في التوراة مجاز، ولعل إطلاقه على ذلك دون إطلاقه على القرآن بناءا على أن النور مقول بالتشكيك، وقد يقال: إن إطلاقه على ما به بيان أمر النبي صلى الله عليه وسلم - بناءا على ما قال الزجاج - باعتبار كون الأمر المبين متعلقا بأول الأنوار الذي لولاه ما خلق الفلك الدوار صلى الله عليه وسلم، وحينئذ يكون الفرق بين الإطلاقين مثل الصبح ظاهرا، والظرف خبر مقدم، و * (هدى) * مبتدأ، والجملة حال من * (التوراة) * أي كائنا فيها ذلك، وكذلك جملة * (يحكم بها النبيون) * في قول إلا أنها حال مقدرة، والأكثرون على أنها مستأنفة مبينة لرفعة رتبة التوراة وسمو طبقتها، والمراد من النبيين من كان منهم من لدن موسى إلى عيسى عليهما الصلاة والسلام على ما رواه ابن أبي حاتم عن مقاتل، وكان بين النبيين عليهما السلام ألف نبي. وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن المراد بهم نبينا صلى الله عليه وسلم ومن قبله من أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام، وعلى هذا بنى الإستدلال بالآية من قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ، وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر غير مرة، والمراد: يحكم بأحكامها النبيون.
* (الذين أسلموا) * صفة أجريت على النبيين - كما قيل - على سبيل المدح، والظاهر لهم، ونظر فيه ابن المنير " بأن المدح إنما يكون غالبا بالصفات الخاصة التي يتميز بها الممدوح عمن دونه، والإسلام أمر عام يتناول أمم الأنبياء ومتبعيهم كما يتناولهم، ألا ترى أنه لا يحسن في مدح النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتصر على كونه رجلا مسلما؛ فإن أقل متبعيه كذلك، ثم قال: فالوجه - والله تعالى أعلم -
142

أن الصفة قد تذكر لتعظم في نفسها، ولينوه بها إذا وصف بها عظيم القدر، كما تذكر تنويها بقدر موصوفها،... وعلى هذا الأسلوب جرى وصف الأنبياء عليهم السلام بالصلاح في غير ما آية تنويها بمقدار الصلاح إذ جعل صفة للأنبياء عليهم السلام، وبعثا لآحاد الناس على الدأب في تحصيل صفته، وكذلك قيل في قوله تعالى: * (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا) * (غافر: 7)، فأخبر سبحانه عن الملائكة المقربين بالإيمان تعظيما لقدره، وبعثا للبشر على الدخول فيه ليساووا الملائكة المقربين في هذه الصفة، وإلا فمن المعلوم أن الملائكة مؤمنون ليس إلا، كيف لا؟! وهم - عند ربهم - كما في الخبر، ثم قال جل وعلا: * (ويستغفرون للذين آمنوا) * يعني من البشر لثبوت حق الأخوة في الإيمان بين القبيلتين، فلذلك - والله تعالى أعلم - جرى وصف الأنبياء في هذه الآية بالإسلام تنويها به، ولقد أحسن القائل: أوصاف الأشراف أشراف الأوصاف، وحسان الناظم في مدحه عليه الصلاة والسلام بقوله: ما إن مدحت محمدا بمقالتي * لكن مدحت مقالتي بمحمد
والإسلام - وإن كان من أشرف الأوصاف، إذ حاصله معرفة الله تعالى بما يجب له ويستحيل عليه ويجوز في حقه - إلا أن النبوة أشرف وأجل لاشتمالها على عموم
الإسلام مع خواص المواهب التي لا تسعها العبارة؛ فلو لم نذهب إلى الفائدة المذكورة في ذكر الإسلام بعد النبوة (في سياق المدح) لخرجنا عن قانون البلاغة المألوف في الكتاب العزيز وفي كلام العرب الفصيح، وهو الترقي من الأدنى إلى الأعلى لا النزول على العكس، ألا ترى أن أبا الطيب كيف تزحزح عن هذا المهيع في قوله: شمس ضحاها هلال ليلتها * در مقاصيرها زبرجدها
فنزل عن الشمس إلى الهلال، وعن الدر إلى الزبرجد (في سياق المدح) (6) فمضغت الألسن عرض بلاغته ومزقت أديم صنعته فعلينا أن نتدبر الآيات المعجزات حتى يتعلق فهمنا بأهداب علوها في البلاغة المعهودة لها، والله تعالى الموفق للصواب " انتهى. وفي " المفتاح " و " التخليص " إشارة إلى ما ذكره، وإيراد الطيبي عليه ما أورده غير طيب، نعم قد يقال: إن القائل بكونها مادحة لمن جرت عليه نفسه قد يدعي أن ذلك مما لا بأس به إذا قصد مع المدح فوائد أخر كالتنويه بعلو مرتبة المسلمين هنا والتعريض باليهود بأنهم بمعزل عن الإسلام، على أنه قد ورد في الفصيح - بل في الأفصح - ذكر غير الأبلغ بعد الأبلغ من الصفات، ومن ذلك * (الرحمن الرحيم) * (الفاتحة: 3) حيث كان متضمنا نكتة، وقال عصام الملة: إن الإسلام للنبي كمال المدح لأن الانقياد من المقتدي للخلائق التي لا تحصى وصف لا وصف فوقه، ويمكن أن يكون الوصف به هنا إشعارا بمنشأ الحكم ليحافظ عليه الأمة ولا يخرم، ولا يتوهم أن الحكم للنبوة، فغير النبي صلى الله عليه وسلم خارج عن هذا المسلك انتهى، وفيه تأمل، إذ الترقي من الأدنى إلى الأعلى لم يظهر بعد، ونهاية الأمر الرجوع إلى نحو ما تقدم فافهم.
* (للذين هادوا) * أي تابوا من الكفر - كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه - والمراد بهم: اليهود - كما قال الحسن - والجار إما متعلق - بيحكم - أي يحكمون فيما بينهم، واللام إما لبيان اختصاص الحكم بهم أعم من أن يكون لهم أو عليهم، كأنه قيل: لأجل الذين هادوا، وإما للإيذان بنفعه للمحكوم عليه أيضا بإسقاط التبعة عنه، وإما للإشعار بكمال رضاهم به وانقيادهم له كأنه أمر نافع لكلا الفريقين ففيه تعريض بالمحرفين، وقيل: من باب * (سرابيل
143

تقيكم الحر) * (النحل: 81) وإما متعلق - بأنزلنا - ولعل الفاصل ليس بالأجنبي ليضر، وقيل: بأنزل على صيغة المبني للمفعول، وحذف لدلالة الكلام عليه، وتكون الجملة حينئذ معترضة، وعلى هذا تكون الآية نصا في تخصيص النبيين بأنبياء بني إسرائيل لأنه لا يلزم من إنزالها لهم اختصاصها بهم، وقيل: الجار متعلق - بهدى ونور - وفيه فصل بين المصدر ومعموله، وقيل: متعلق بمحذوف وقع صفة لهما أي هدى ونور كائنان لهما، وكلام الزجاج يحتمل هذا وما قبله.
* (والربانيون والأحبار) * أي العباد والعلماء قاله قتادة، وقال مجاهد: الربانيون العلماء الفقهاء وهم فوق الأحبار، وعن ابن زيد الربانيون الولاة، والأحبار العلماء، والواحد: حبر بالفتح والكسر، قال الفراء: وأكثر ما سمعت فيه الكسر، وهو مأخوذ من التحبير والتحسين، فإن العلماء يحبرون العلم ويزينونه ويبينونه، ومن ذلك الحبر - بكسر الحاء لا غير - لما يكتب به، وهذا عطف على * (النبيون) * أي هم أيضا يحكمون بأحكامها، وتوسيط المحكوم لهم - كما قال شيخ الإسلام - بين المتعاطفين للإيذان بأن الأصل في الحكم بها، وحمل الناس على ما فيها هم النبيون، وإنما الربانيون والأحبار خلفاء ونواب لهم في ذلك كما ينبىء عنه قوله تعالى: * (بما استحفظوا) * أي بالذي استحفظوه من جهة النبيين وهو التوراة حيث سألوهم أن يحفظوها من التغيير والتبديل على الإطلاق، ولا ريب في أن ذلك منهم عليهم السلام مشعر باستخلافهم في إجراء أحكامها من غير إخلال بشيء منها، والجار متعلق بيحكم، و (ما) موصولة، وضمير الجمع عائد إلى الربانيين والأحبار.
وقوله تعالى: * (من كت‍ابالله) * بيان - لما - وفي الإبهام والبيان بذلك ما لا يخفى من تفخيم أمر التوراة ذاتا وإضافة، وفيه أيضا تأكيد إيجاب حفظها والعمل بما فيها، والباء الداخلة على الموصول سببية فلا يلزم تعلق حرفي جر متحدي المعنى بفعل واحد أي ويحكم الربانيون والأحبار أيضا بالتوراة بسبب ما حفظوه من كتاب الله حسبما وصاهم به أنبياؤهم وسألوهم أن يحفظوه، وليس المراد بسببيته لحكمهم ذلك سببيته من حيث الذات بل من حيث كونه محفوظا، فإن تعليق حكمهم بالموصول مشعر بسببية الحفظ المترتب لا محالة على ما في حيز الصلة من الاستحفاظ له، وتوهم بعضهم أن ما بمعنى أمر، و * (من) * لتبيين مفعول محذوف - لاستحفظوا - والتقدير بسبب أمر استحفظوا به شيئا من كتاب الله وهو مما لا ينبغي أن يخرج عليه كتاب الله تعالى، وقيل: الأولى أن تجعل (ما) مصدرية ليستغنى عن تقدير العائد، وحينئذ لا يتأتى القول بأن * (من) * بيان لها، ومن الناس من جوز كون * (بما) * بدلا من بها، وأعيد الجار لطول الفصل وهو جائز أيضا وإن لم يطل، ومنهم من أرجع الضمير المرفوع للنبيين ومن عطف عليهم، فالمستحفظ حينئذ هو الله تعالى، وحديث الأبناء لا يتأتى إذ ذاك، وقيل: إن * (الربانيون) * فاعل بفعل محذوف والباء صلة له، والجملة معطوفة على ما قبلها، أي ويحكم الربانيون والأحبار بحكم كتاب الله تعالى الذي سألهم أنبياؤهم أن يحفظوه من التغيير.
* (وكانوا عليه شهداء) * عطف على * (استحفظوا) * ومعنى شهداء رقباء يحمونه من أن يحوم حول حماه التغيير والتبديل بوجه من الوجوه، أو شهداء عليه أنه حق. ورجح على الأول بأنه يلزم عليه أن يكون * (الربانيون والأحبار) * رقباء على أنفسهم لا يتركونها أن تغير وتحرف التوراة لأن المحرف لا يكون إلا منهم لا من العامة، وهو كما ترى ليس فيه مزيد معنى، وإرجاع ضمير * (كانوا) * للنبيين مما لا يكاد يجوز، وقيل: عطف على * (يحكم) * المحذوف المراد منه حكاية الحال الماضية أي حكم الربانيون والأحبار بكتاب الله تعالى.
144

وكانوا شهداء عليه، ويجوز على هذا - بلا خفاء - أن تكون الشهادة مستعارة للبيان أي مبينين ما يخفي منه، وأمر التعدي بعلى سهل، ولعل المراد به شيء وراء الحكم، وقيل: الضمير المرفوع هنا كسابقه عائد على النبيين وما عطف عليه، والعطف إما على * (استحفظوا) * أو على * (يحكم) * وتوهم عبارة البعض - حيث قال وبسبب كونهم شهداء - أن العطف على - ما - الموصولة فيؤول * (كانوا) * بالمصدر، وكأن المقصود منه تلخيص المعنى لكون ما ذكر ضعيفا فيما لا يكون المعطوف عليه حدثا، وأما العطف على كتاب الله بتقدير حرف مصدري ليكون المعطوف داخلا تحت الطلب فكما ترى، وإرجاع ضمير * (عليه) * إلى حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالرجم كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه مما تأباه العربية في بعض الاحتمالات، وهو وإن جاز عربية في البعض الآخر لكنه خلاف
الظاهر ولا قرينة عليه، ولعل مراد الحبر بيان بعض ما تضمنه الكتاب الذي هم شهداء عليه، وبالجملة احتمالات هذه الآية كثيرة.
* (فلا تخشوا الناس) * خطاب لرؤساء اليهود وعلمائهم بطريق الالتفات كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه والسدى والكلبي، ويتناول النهي غير أولئك المخاطبين بطريق الدلالة، والفاء لجواب شرط محذوف أي إذا كان الشأن كما ذكر يا أيها الأحبار فلا تخشوا الناس كائنا من كان، واقتدوا في مراعاة أحكام التوراة وحفظها بمن قبلكم من النبيين والربانيين والأحبار، ولا تعدلوا عن ذلك ولا تحرفوا خشية من أحد * (واخشون) * في ترك أمري فإن النفع والضر بيدي، أو في الإخلال بحقوق مراعاتها فضلا عن التعرض لها بسوء * (ولا تشتروا بئاي‍اتي) * أي لا تستبدلوا بآياتي التي فيها بأن تخرجوها منها أو تتركوا العمل بها وتأخذوا لأنفسكم * (ثمنا قليلا) * من الرشوة والجاه وسائر الحظوظ الدنيوية، فإنها وإن جلت قليلة مسترذلة في نفسها لا سيما بالنسبة إلى ما يفوتهم بمخالفة الأمر، وذهب الحسن البصري إلى أن الخطاب للمسلمين وهو الذي ينبىء عنه كلام الشعبي. وعن ابن مسعود - وهو الوجه كما في " الكشف " - أنه عام، والفاء على الوجهين فصيحة أي وحين عرفتم ما كان عليه النبيون والأحبار، وما تواطأ عليه الخلوف من أمر التحريف والتبديل للرشوة والخشية، فلا تخشوا الناس ولا تكونوا أمثال هؤلاء الخالفين، والذي يقتضيه كلام بعض أئمة العربية أنها على الوجه فصيحة أيضا، وقد تقدم الكلام على مثل هذا التركيب فتذكر.
* (ومن لم يحكم بما أنزل الله) * من الأحكام * (فأول‍ائك) * إشارة إلى * (من) * والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في سابقه باعتبار لفظها، وهو مبتدأ خبره جملة قوله سبحانه: * (هم الك‍افرون) * ويجوز أن يكون * (هم) * ضمير فصل، و * (الكافرون) * هو الخبر، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها أبلغ تقرير وتحذير عن الإخلال به أشد تحذير.
واحتجت الخوارج بهذه الآية على أن الفاسق كافر غير مؤمن، ووجه الاستدلال بها أن كلمة * (من) * فيها عامة شاملة لكل من لم يحكم بما أنزل الله تعالى، فيدخل (الفاسق) المصدق أيضا لأنه غير حاكم وعامل بما أنزل الله تعالى، وأجيب بأن الآية متروكة الظاهر، فإن الحكم وإن كان شاملا لفعل القلب والجوارح لكن المراد به هنا عمل القلب وهو التصديق، ولا نزاع في كفر من لم يصدق بما أنزل الله تعالى، وأيضا إن المراد عموم النفي بحمل (ما) على الجنس، ولا شك أن من لم يحكم بشيء مما أنزل الله تعالى لا يكون إلا غير مصدق ولا نزاع في كفره، وأيضا أخرج ابن منصور وأبو الشيخ
145

وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إنما أنزل الله تعالى - * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) *. و * (الظالمون) * و * (الفاسقون) * - في اليهود خاصة، وأخرج ابن جرير عن أبي صالح قال: الثلاث الآيات التي في المائدة * (ومن لم يحكم بما أنزل) * الخ ليس في أهل الإسلام منها شيء هي في الكفار، وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة وابن جرير عن الضحاك نحو ذلك، ولعل وصفهم بالأوصاف الثلاث باعتبارات مختلفة، فلانكارهم ذلك وصفوا - بالكافرين - ولوضعهم الحكم في غير موضعه وصفوا - بالظالمين - ولخروجهم عن الحق وصفوا - بالفاسقين - أو أنهم وصفوا بها باعتبار أطوارهم وأحوالهم المنضمة إلى الامتناع عن الحكم، فتارة كانوا على حال تقتضي الكفر، وتارة على أخرى تقتضي الظلم أو الفسق، وأخرج أبو حميد وغيره عن الشعبي أنه قال: الثلاث الآيات التي في المائدة أولها: لهذه الأمة. والثانية: في اليهود. والثالثة: في النصارى، ويلزم على هذا أن يكون المؤمنون أسوأ حالا من اليهود والنصارى إلا أنه قيل: إن الكفر إذا نسب إلى المؤمنين حمل على التشديد والتغليظ، والكافر إذا وصف بالفسق والظلم أشعر بعتوه وتمرده فيه. ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في " سننه " عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الكفر الواقع في أولى الثلاث: إنه ليس بالكفر الذي تذهبون إليه إنه ليس كفرا ينقل عن الملة كفر دون كفر، والوجه أن هذا كالخطاب عام لليهود وغيرهم، وهو مخرج مخرج التغليظ، أو يلتزم أحد الجوابين، واختلاف الأوصاف لاختلاف الاعتبارات، والمراد من الأخيرين منها الكفر أيضا عند بعض المحققين، وذلك بحملهما على الفسق والظلم الكاملين، وما أخرجه الحاكم وصححه. وعبد الرزاق وابن جرير عن حذيفة رضي الله تعالى عنه - أن الآيات الثلاثة ذكرت عنده فقال رجل: إن هذا في بني إسرائيل فقال حذيفة: نعم الأخوة لكم بنو إسرائيل إن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة، كلا والله لتسلكن طريقهم قد الشراك - يحتمل أن يكون ذلك ميلا منه إلى القول بالعموم، ويحتمل أن يكون كما قيل: ميلا إلى القول بأن ذلك في المسلمين، وروي الأول عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما إلا أنه قال: كفر ليس ككفر الشرك وفسق ليس كفسق الشرك وظلم ليس كظلم الشرك.
هذا وقد تكلم بعض العارفين على ما في بعض هذه الآيات من الإشارة فقال: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) * أي اتقوه سبحانه بتزكية نفوسكم من الأخلاق الذميمة * (وابتغوا إليه الوسيلة) * أي واطلبوا إليه تعالى الزلفى بتحليتها بالأخلاق المرضية * (وجاهدوا في سبيله) * بمحو الصفات والفناء في الذات * (لعلكم تفلحون) * (المائدة: 35) أي لكي تفوزوا بالمطلوب، وقيل: ابتغاء الوسيلة التقرب إليه بما سبق من إحسانه وعظيم رحمته وهو على حد قوله: أيا جود معن ناج معنا بحاجتي * فليس إلى معن سواه شفيع
* (إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض) * أي ما في الجهة السفلية * (جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة) * الكبرى * (ما تقبل منهم) * (المائدة: 36) لأنه سبب زيادة الحجاب والبعد ولا ينجع ثمة إلا ما في الجهة العلوية من المعارف والحقائق النورية * (والسارق والسارقة) * أي المتناول من الأنفس والمتناولة من القوى النفسانية للشهوات التي حرمت عليها * (فاقطعوا أيديهما) * أي امنعوهما بحسم قدرتهما بسيف المجاهدة وسكين الرياضة * (جزاءا بما كسبا) * من تناول ما لا يحل تناوله لها * (نكالا) * (المائدة: 38) أي عقوبة من الله عز وجل * (سماعون للكذب) * ووساوس شيطان النفس * (سماعون لقوم آخرين) * وهم القوى النفسانية * (لم يأتوك) * أي ينقادوا لكم،
146

أو * (سماعون لقوم) * يسنون السنن السيئة * (يحرفون الكلم) * وهي التعينات الالهية * (من بعد مواضعه) * فيزيلونها عما هي من الدلالة على الوجود الحقاني
، أو يغيرون قوانين الشريعة بتمويهات الطبيعة - كمن يؤول القرآن والأحاديث على وفق هواه - وليس ما نحن فيه من هذا القبيل كما يزعمه المحجوبون لأن ذلك إنما يكون بإنكار أن يكون الظاهر مرادا لله تعالى، وقصر مراده سبحانه على هذه التأويلات، ونحن نبرأ إلى الله عز وجل من ذلك فإنه كفر صريح، وإنما نقول: المراد هو الظاهر وبه تعبد الله تعالى خلقه لكن فيه إشارة إلى أشياء أخر لا يكاد يحيط بها نطاق الحصر يوشك أن يكون ما ذكر بعضا منها * (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا) * قال ابن عطاء: من يحجبه الله تعالى عن فوائد أوقاته لم يقدر أحد إيصاله إليه * (أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم) * (المائدة: 41) أي بالمراقبة والمراعاة، وقال أبو بكر الوراق: طهارة القلب في شيئين: إخراج الحسد والغش، وحسن الظن بجماعة المسلمين * (أكالون للسحت) * وهو ما يأكلونه بدينهم * (فإن جاءوك فاحكم بينهم) * مداويا لدائهم إن رأيت التداوي سببا لشفائهم * (أو أعرض عنهم) * إن تيقنت إعواز الشفاء لشقائهم * (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط) * (المائدة: 42) أي داوهم على ما يستحقون ويقتضيه داؤهم، والكلام في باقي الآيات ظاهر والله تعالى الموفق..
* (وكتبنا عليهم فيهآ أن النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأول‍ائك هم الظ‍المون) *.
* (وكتبنا) * عطف على * (أنزلنا التوراة) * (المائدة: 44) والمعنى قدرنا وفرضنا * (عليهم) * أي على الذين هادوا، وفي مصحف أبي (وأنزلنا على بني إسرائيل) * (فيها) * أي في التوراة، والجار متعلق بكتبنا، وقيل: بمحذوف وقع حالا أي فرضنا هذه الأمور مبينة فيها، وقيل: صفة لمصدر محذوف أي كتبنا كتابة مبينة فيها. * (أن النفس بالنفس) * أي مأخوذة أو مقتولة أو مقتصة بها إذا قتلتها بغير حق، ويقدر في كل مما في قوله تعالى: * (والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن) * ما يناسبه كالفقء. والجدع والصلم والقلع، ومنهم من قدر الكون المطلق وقال: إنه مرادهم أي يستقر أخذها بالعين ونحو ذلك. وقرأ الكسائي: * (العين) * وما عطف عليه بالرفع، ووجهه أبو علي الفارسي بأن الكلام حينئذ جمل معطوفة على جملة * (أن النفس بالنفس) * لكن من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، فإن معنى - كتبنا عليهم أن النفس بالنفس - قلنا لهم: النفس بالنفس، فالجملة مندرجة تحت ما كتب على بني إسرائيل، وجعله ابن عطية على هذا القول من العطف على التوهم وهو غير مقيس، وقيل: إنه محمول على الاستئناف بمعنى أن الجمل إسمية معطوفة على الجملة الفعلية، ويكون هذا ابتداء تشريع وبيان حكم جديد غير مندرج فيما كتب في التوراة، وقيل: إنه مندرج فيه أيضا على هذا، والتقدير وكذلك - العين بالعين - الخ لتتوافق القراءتان. وقال الخطيب: لا عطف، والاستئناف بمعناه المتبادر منه، والكلام جواب سؤال كأنه قيل: ما حال غير النفس؟ فقال سبحانه: * (العين بالعين) * الخ، وقيل: إن العين وكذا سائر المرفوعات معطوفة على الضمير المرفوع المستتر في الجار والمجرور الواقع خبرا، والجار والمجرور بعدها حال مبينة للمعنى، وضعف هذا بأنه يلزمه العطف على الضمير المرفوع المتصل من غير فصل ولا تأكيد، وهو لا يجوز عند البصريين إلا ضرورة. وأجيب بأنه مفصول تقديرا إذ أصله النفس مأخوذة أو مقتصة هي بالنفس إذ الضمير مستتر في المتعلق المقدم على الجار والمجرور بحسب الأصل وإنما تأخر بعد الحذف وانتقاله إلى الظرف كذا قيل، وهو يقتضي
147

أن الفصل المقدر يكفي للعطف وفيه نظر، ويقدر المتعلق على هذا عاما ليصح العطف إذ لو قدر النفس مقتولة بالنفس والعين لم يستقم المعنى كما لا يخفى فليفهم.
واعلم أن النفس في كلامهم إذا أريد منها الإنسان بعينه مذكر، ويقال: ثلاثة أنفس على معنى ثلاثة أشخاص، وإذا أريد بها الروح فهي مؤنثة لا غير، وتصغيرها نفيسة لا غير، والعين بمعنى الجارحة المخصوصة مؤنثة، وإطلاق القول بالتأنيث لا يظهر له وجه إذ لا يصح أن يقال: هذه عين هؤلاء الرجال، وأنت تريد الخيار، والأذن مثلها، والأنف مذكر لا غير، والسن تؤنث ولا تذكر وإن كانت السن من الكبر لكن ذكر ابن الشحنة أن السن تطلق على الضرس والناب، وقد نصوا على أنهما مذكران وكذا الناجذ والضاحك والعارض، ونص ابن عصفور على أن الضرس يجوز فيه الأمران، ونظم ما يجوز فيه ذلك بقوله: وهاك من الأعضاء ما قد عددته * تؤنث أحيانا وحينا تذكر
لسان الفتى والإبط والعنق والقفا * وعاتقه والمتن والضرس يذكر
وعندي الذراع. والكراع مع المعى * وعجز الفتى ثم القريض المحبر
كذا كل نحوي حكى في كتابه * سوى سيبويه وهو فيهم مكبر
يرى أن تأنيث الذراع هو الذي * أتى وهو للتذكير في ذلك منكر
وقد شاع أن ما منه اثنان في البدن كاليد والضلع والرجل مؤنث، وما منه واحد كالرأس والفم والبطن مذكر، وليس ذاك بمطرد، فإن الحاجب والصدغ والخد والمرفق والزند كل منها مذكر مع أن في البدن منه اثنين، والكبد والكرش فإنهما مؤنثان وليس منهما في البدن إلا واحد، وتفصيل ما يذكر ولا يؤنث وما يؤنث ولا يذكر من الأعضاء يفضي إلى بسط يد المقال، والكف أولى بمقتضى الحال هذا.
* (والجروح قصاص) * بالنصب عطف على اسم أن، و * (قصاص) * هو الخبر، ولكونه مصدرا كالقتال، وليس عين المخبر عن يؤول بأحد التأويلات المعروفة في أمثاله، والكسائي كما قرأ بالرفع فيما قبل قرأ به هنا أيضا، وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وإن نصبوا فيما تقدم رفعوا هنا على أنه إجمال لحكم الجراح بعد ما فصل حكم غيرها من الأعضاء، وهذا الحكم فيما إذا كانت بحيث تعرف المساواة كما فصل في الكتب الفقهية.
واستدل بعموم * (أن النفس بالنفس) * من قال: يقتل المسلم بالكافر والحر بالعبد والرجل بالمرأة، ومن خالف استدل بقوله تعالى: * (الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى) * (البقرة: 178) وبقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يقتل مؤمن بكافر " وأجاب بعض أصحابنا بأن النص تخصيص بالذكر فلا يدل على نفي ما عداه،
والمراد بما روى الحربي لسياقه " ولا ذوعهد في عهده "، والعطف يقتضي المغايرة، وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قتل مسلما بذمي، وذكر ابن الفرس أن الآية في الأحرار المسلمين لأن اليهود المكتوب عليهم ذلك في التوراة كانوا ملة واحدة ليسوا منقسمين إلى مسلم وكافر، وكانوا كلهم أحرارا لا عبيد فيهم، لأن عقد الذمة والاستعباد إنما أبيح للنبي صلى الله عليه وسلم من بين سائر الأنبياء لأن الاستبعاد من الغنائم، ولم تحل لغيره عليه الصلاة والسلام، وعقد الذمة لبقاء الكفار ولم يقع ذلك في عهد نبي بل كان المكذبون يهلكون جميعا بالعذاب، وأخر ذلك في هذه الأمة رحمة انتهى.
148

وأنت تعلم أن اللفظ ظاهر في العموم لكن لم يبقوه على ذلك، فقد قال الأصحاب: لا يقتل المسلم بالمستأمن ولا الذمي به لأنه غير محقون الدم على التأبيد، وكذا كفره باعث على الحراب لأنه على قصد الرجوع، ولا المستأمن بالمستأمن استحسانا لقيام المبيح، ويقتل قياسا للمساواة، ولا الرجل بابنه لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يقاد الوالد بولده " وهو باطلاقه حجة على مالك في قوله: يقاد إذا ذبحه ذبحا، ولأنه سبب لإحيائه، فمن المحال أن يستحق له إفناؤه، ولهذا لا يجوز له قتله وإن وجده في صف الأعداء مقاتلا أو زانيا وهو محصن، والقصاص يستحقه المقتول أولا ثم يخلفه وارثه، والجد من قبل الرجال والنساء وإن علا في هذا بمنزلة الأب، وكذا الوالدة والجدة من قبل الأم أو الأب قربت أو بعدت لما بينا، ولا الرجل بعبده ولا مدبره، ولا مكاتبه ولا بعبد ولده لأنه لا يستوجب لنفسه على نفسه القصاص ولا ولده عليه، وكذا لا يقتل بعبد ملك بعضه لأن القصاص لا يتجزأ فليفهم، واستدل بها على ما روي عن الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه من أنه لا يقتل الجماعة بالواحد لقوله تعالى فيها: * (أن النفس بالنفس) * بالإفراد، وأجيب بأن حكمة القصاص - وهو صون الدماء والأحياء - اقتضت القتل، وصرف الآية عما ذكر فإنه لو كان كذلك قتلوا مجتمعين حتى يسقط عنهم القصاص، وحينئذ تهدر الدماء ويكثر الفساد كذا قيل.
* (فمن تصدق) * أي من المستحقين للقصاص * (به) * أي بالقصاص أي فمن عفا عنه، والتعبير عن ذلك بالتصدق للمبالغة في الترغيب * (فهو) * أي التصدق المذكور * (كفارة له) * للمتصدق كما أخرجه ابن أبي شيبة عن الشعبي وعليه أكثر المفسرين، وأخرج الديلمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ الآية فقال: " هو الرجل يكسر سنه أو يجرح من جسده فيعفو فيحط عنه من خطاياه بقدر ما عفا عنه من جسده، إن كان نصف الدية فنصف خطاياه، وإن كان ربع الدية فربع خطاياه، وإن كان ثلث الدية فثلث خطاياه، وإن كان الدية كلها فخطاياه كلها ".
وأخرج سعيد بن منصور وغيره عن عدي بن ثابت " أن رجلا هتم فم رجل على عهد معاوية رضي الله تعالى عنه فأعطي دية فأبى إلا أن يقتص فأعطى ديتين فأبى فأعطى ثلاثا فحدث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: من تصدق بدم فما دونه فهو كفارة له من يوم ولد إلى يوم يموت " وقيل: الضمير عائد إلى الجاني، وإلى ذلك ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما أخرجه عنه ابن جرير ومجاهد وجابر فيما أخرجه عنهما ابن أبي شيبة، ومعنى كون ذلك كفارة له على هذا التقدير أنه يسقط به ما لزمه ويتعين عليه أن يكون خبر المبتدأ مجموع الشرط والجزاء حيث لم يكن العائد إلا في الشرط، وإليه ذهب العلامة الثاني، وقيل: إن في الجزاء عائدا أيضا باعتبار أن هو بمعنى تصدقه فيشتمل بحسب المعنى على ضمير المبتدأ، فالتعين ليس بمسلم، وقال بعضهم: إنه يحتمل أن يكون معنى الآية أن كل من تصدق واعترف بما يجب عليه من القصاص، وانقاد له فهو كفارة لما جناه من الذنب، ويلائمه كل الملاءمة قوله تعالى:
* (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأول‍ئك هم الظ‍المون) * فضمير * (له) * حينئذ عائد إلى المتصدق مرادا به الجاني نفسه، وفيه بعد ظاهر، وقرأ أبي (فهو كفارته له)، فالضمير المرفوع حينئذ للمتصدق لا للتصدق، وكذا الضميران المجروران والإضافة للاختصاص واللام مؤكدة لذلك، أي فالمتصدق كفارته التي يستحقها بالتصدق له لا ينقص منها شيء لأن بعض الشيء لا يكون ذلك الشيء، وهو تعظيم لما فعل حيث جعل مقتضيا للاستحقاق اللائق من غير نقصان، وفيه ترغيب في العفو، والآية نزلت - كما قال غير واحد - لما اصطلح اليهود على أن
149

لا يقتلوا الشريف بالوضيع والرجل بالمرأة، فلم ينصفوا المظلوم من الظالم، وعن السيد السند أن القصاص كان في شريعتهم متعينا عليهم فيكون التصدق مما زيد في شريعتنا، وقال الضحاك: لم يجعل في التوراة دية في نفس ولا جرح، وإنما كان العفو أو القصاص وهو الذي يقتصيه ظاهر الآية..
* (وقفينا على ءاث‍ارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وءاتين‍اه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين) *.
* (وقفينا على ءاث‍ارهم) * شروع في بيان أحكام الإنجيل - كما قيل - إثر بيان أحكام التوراة، وهو عطف على * (أنزلنا التوراة) * (المائدة: 44) وضمير الجمع المجرور - للنبيين الذين أسلموا - كما قاله أكثر المفسرين، واختاره علي بن عيسى والبلخي، وقيل: للذين فرض عليهم الحكم الذي مضى ذكره، وحكي ذلك عن الجبائي - وليس بالمختار - والتقفية الاتباع، ويقال: قفا فلان إثر فلان إذا تبعه، وقفيته بفلان إذا أتبعته إياه، والتقدير هنا أتبعناهم على آثارهم * (بعيسى ابن مريم) * فالفعل كما قيل: متعد لمفعولين أحدهما بنفسه والآخر بالباء، والمفعول الأول محذوف، و * (على آثارهم) * كالساد مسده لأنه إذا قفا به على آثارهم فقد قفاهم به، واعترض بأن الفعل قبل التضعيف كان متعديا إلى واحد، وتعدية المتعدي إلى واحد لثان بالباء لا تجوز سواء كان بالهمزة أو التضعيف، ورد بأن الصواب أنه جائز لكنه قليل، وقد جاء منه ألفاظ قالوا: صك الحجر الحجر، وصككت الحجر بالحجر، ودفع زيد عمرا ودفعت زيدا بعمرو أن جعلته دافعا له. وذهب بعض المحققين إلى أن التضعيف فيما نحن فيه ليس للتعدية، وأن تعلق الجار بالفعل لتضمينه معنى المجيء أي جئنا بعيسى ابن مريم على آثارهم قافيا لهم فهو متعد لواحد لا غير بالباء، وحاصل المعنى أرسلنا عيسى عليه السلام عقيبهم * (مصدقا لما بين يديه من التوراة) * حال من عيسى مؤكدة فإن ذلك من لازم الرسول عليه الصلاة والسلام.
* (وءاتين‍اه الاإنجيل) * عطف على * (قفينا) *، وقرأ الحسن بفتح الهمزة، ووجه صحة ذلك أنه اسم أعجمي فلا بأس بأن يكون على ما ليس في أوزان العرب، وهو بأفعيل أو فعليل بالفتح، وإما إفعيل بالكسر فله نظائر - كإبزيم وإحليل - وغير ذلك * (فيه هدى ونور) * كما في التوراة، والجملة في موضع النصب على أنها
حال من الإنجيل، وقوله تعالى: * (ومصدقا لما بين يديه من التوراة) * عطف على الحال وهو حال أيضا، وعطف الحال المفردة على الجملة الحالية وعكسه جائز لتأويلها بمفرد وتكرير هذا لزيادة التقرير، وقوله عز وجل: * (وهدى وموعظة للمتقين) * عطف على ما تقدم منتظم معه في سلك الحالية، وجعل كله هدى - بعد ما جعل مشتملا عليه - مبالغة في التنويه بشأنه لما أن فيه البشارة بنبينا صلى الله عليه وسلم أظهر، وتخصيص المتقين بالذكر لأنهم المهتدون بهداه والمنتفعون بجدواه، وجوز نصب * (هدى وموعظة) * على المفعول لها عطفا على مفعول له آخر مقدر أي إثباتا لنبوته وهدى الخ، ويجوز أن يكونا معللين لفعل محذوف عامل فيه أي: وهدى وموعظة للمتقين آتيناه ذلك..
* (وليحكم أهل الإنجيل بمآ أنزل الله فيه ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأول‍ائك هم الف‍اسقون) *.
* (وليحكم أهل الاإنجيل بما أنزل الله فيه) * أمر مبتدأ لهم بأن يحكموا ويعملوا بما فيه من الأمور التي من جملتها دلائل رسالته صلى الله عليه وسلم وما قررته شريعته الشريفة من أحكامه، وأما الأحكام المنسوخة فليس الحكم بها حكما بما أنزل الله تعالى بل هو إبطال وتعطيل له إذ هو شاهد بنسخها وانتهاء وقت العمل بها لأن شهادته بصحة ما ينسخها من الشريعة الأحمدية شاهدة بنسخها، وأن أحكامه ما قررته تلك الشريعة التي تشهد بصحتها - كما قرره شيخ الإسلام قدس سره - واختار كونه أمرا
150

مبتدأ الجبائي، وقيل: هو حكاية للأمر الوارد عليهم بتقدير فعل معطوف على - * (آتيناه) * - (المائدة: 46) أي وقلنا ليحكم أهل الإنجيل؛ وحذف القول - لدلالة ما قبله عليه - كثير في الكلام، ومنه قوله تعالى: * (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم) * (الرعد: 23، 24) واختار ذلك علي بن عيسى.
وقرأ حمزة * (وليحكم) * بلام الجر ونصب الفعل بأن مضمرة، والمصدر معطوف على * (هدى وموعظة) * (المائدة: 46) على تقدير كونهما معللين، وأظهرت اللام فيه لاختلاف الفاعل، فإن فاعل الفعل المقدر ضمير الله تعالى، وفاعل هذا أهل الكتاب، وهو متعلق بمحذوف على الوجه الأول في * (هدى وموعظة) * أي وآتيناه ليحكم الخ، وإنما لم يعطف لعدم صحة عطف العلة على الحال، ومنهم من جوز العطف بناءا على أن الحال هنا في معنى العلة وهو ضعيف، وقدر بعضهم في الكلام على تقدير التعليل عليه متعلقا - بأنزل - ليصح كونه علة لايتاء عيسى عليه الصلاة والسلام ما ذكر. وعن أبي علي أنه قرأ - وأن ليحكم - على أن - أن - موصولة بالأمر كما في قولك: أمرته بأن قم، ومعنى الوصل أن - أن - تتم بما بعدها جزء كلام كالذي وأخواته، ووصل - أن - المصدرية بفعل الأمر مما تكرر القول به في " الكشاف "، وذكر فيه نقلا عن سيبويه وقدر هنا أمرنا، كأنه قيل: وآتيناه الإنجيل وأمرنا بأن يحكم، وأورد على سيبويه ما دقق صاحب " الكشف " في الجواب عنه، وأتى بما يندفع به كثير من الأسئلة على أن المصدرية والتفسيرية.
* (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأول‍ئك هم الف‍اسقون) * أي المتمردون الخارجون عن حكمه أو عن الإيمان، وقد مر تحقيقه، والجملة تذييل مقرر لمضمون الجملة السابقة ومؤكدة لوجوب الامتثال بالأمر، والآية تدل على أن الإنجيل مشتمل على الأحكام، وأن عيسى عليه السلام كان مستقلا بالشرع مأمورا بالعمل بما فيه من الأحكام قلت أو كثرت لا بما في التوراة خاصة، ويشهد لذلك أيضا حديث البخاري " أعطي أهل التوراة التوراة فعملوا بها وأهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به " وخالف في ذلك بعض الفضلاء، ففي " الملل والنحل " للشهرستاني: " جميع بني إسرائيل كانوا متعبدين بشريعة موسى عليه السلام مكلفين التزام أحكام التوراة والإنجيل النازل على المسيح عليه السلام لا يحتضن أحكاما ولا يستبطن حلالا وحراما، ولكنه رموز وأمثال ومواعظ وما سواها من الشرائع والأحكام محال على التوراة ولهذا لم تكن اليهود لتنقاد لعيسى عليه الصلاة والسلام "، وحمل المخالف هذه الآية على: وليحكموا بما أنزل الله تعالى فيه إيجاب العمل بأحكام التوراة، وهو خلاف الظاهر كتخصيص ما أنزل فيه نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم..
* (وأنزلنآ إليك الكت‍ابب الحق مصدقا لما بين يديه من الكت‍ابومهيمنا عليه فاحكم بينهم بمآ أنزل الله ولا تتبع أهوآءهم عما جآءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنه‍اجا ولو شآء الله لجعلكم أمة واحدة ول‍اكن ليبلوكم فى مآ ءات‍اكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) *.
* (وأنزلنا إليك الكت‍اب) * أي الفرد الكامل الحقيق بأن يسمى كتابا على الإطلاق لتفوقه على سائر الكتب السماوية - وهو القرآن العظيم - فاللام للعهد، والجملة عطف على * (أنزلنا) * (المائدة: 44) وما عطف عليه، وقوله تعالى: * (بالحق) * حال مؤكدة من الكتاب أي متلبسا بالحق والصدق، وجوز أن يكون حالا من فاعل * (أنزلنا) *، وقيل: حال من الكاف في * (إليك) * وقوله تعالى: * (مصدقا لما بين يديه) * حال من * (الكتاب) * أي حال كونه مصدقا لما تقدمه، وقد تقدم الكلام في كيفية تصديقه لذلك، وزعم أبو البقاء عدم جواز كونه حالا مما ذكر إذ لا يكون حالان لعامل واحد، وأوجب كونه حالا من الضمير المستكن في الجار والمجرور قبله، وقوله سبحانه: * (من الكت‍اب) * بيان * (لما) * واللام فيه للجنس بناءا على ادعاء أن ما عدا الكتب
151

السماوية ليست كتابا بالنسبة إليها. ويجوز - كما قال غير واحد - أن تكون للعهد نظرا إلى أنه لم يقصد إلى جنس مدلول لفظ الكتاب بل إلى نوع مخصوص منه هو بالنظر إلى مطلق الكتاب معهود بالنظر إلى وصف كونه سماويا غايته أن عهديته ليست إلى حد الخصوصية الفردية بل إلى خصوصية نوعية أخص من مطلق الكتاب وهو ظاهر، ومن الكتاب السماوي أيضا حيث خص بما عدا القرآن.
* (ومهيمنا عليه) * قال الخليل وأبو عبيدة: أي رقيبا على سائر الكتب السماوية المحفوظة عن التغيير حيث يشهد لها بالصحة والثبات ويقرر أصول شرائعها وما يتأبد من فروعها ويعين أحكامها المنسوخة. وقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة رضي الله تعالى عنهم: أي شاهدا عليه بأنه الحق، والعطف حينئذ للتأكيد؛ وهاؤه أصلية، وفعله هيمن، وله نظائر - بيطر وخيمر وسيطر - وزاد الزجاج: بيقر، ولا سادس لها، وقيل: إنها مبدلة من الهمزة ومادته من الأمن - كهراق - وقال المبرد وابن قتيبة: إن المهيمن أصله مؤمن وهو من أسمائه تعالى، فصغر وأبدلت همزته هاءا، وتعقبه السمين وغيره بأن ذلك خطأ بل كفر أو شبيه به لأن أسماء الله تعالى لا
تصغر، وكذا كل اسم معظم شرعا، وعن ابن محيصن ومجاهد أنهما قرآ * (مهيمنا) * بفتح الميم على بنية المفعول فضمير * (عليه) * على هذا يعود على الكتاب الأول، والمعنى أنه حوفظ من التحريف والتبديل، والحافظ له هو الله تعالى كما قال سبحانه: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * (الحجر: 9).
* (فاحكم بينهم) * أي بين أهل الكتاب - كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإن كون القرآن العظيم بذلك الشأن من موجبات الحكم المأمور به أي إذا كان شأن القرآن كما ذكر فاحكم بينهم * (بما أنزل الله) * أي بما أنزله إليك فإنه الحق الذي لا محيص عنه، والمشتمل على جميع الأحكام الشرعية الباقية في الكتب الإلهية، وتقديم * (بينهم) * للاعتناء بتعميم الحكم لهم، ووضع الموصول موضع الضمير تنبيها على علية ما في حيز الصلة للحكم، وترهيبا عن المخالفة، والالتفات بإظهار الاسم الجليل لما مر مرارا.
* (ولا تتبع أهوآءهم) * الزائغة. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يريد ما حرفوا وبدلوا من أمر الرجم * (عما جاءك من الحق) * الذي لا محيد عنه، و (عن) متعلقة بلا تتبع على تضمين معنى العدول ونحوه كأنه قيل: لا تعدل عما جاءك من الحق متبعا لأهوائهم، وقيل: بمحذوف وقع حالا من فاعله أي لا تتبع أهواءهم عادلا عما جاءك، أو من مفعوله أي لا تتبع أهواءهم عادلة عما جاءك، واعتراض ذلك بأن ما وقع حالا لا بد أن يكون فعلا عاما، ولعل القائل لا يسلم ذلك، و * (من) * كما قال أبو البقاء: متعلقة بمحذوف وقع حالا من مرفوع * (جاءك) * أو من (ما)، ووضع الموصول موضع ضمير الموصول الأول للإيماء بما في حيز الصلة (من مجيء الحق) إلى ما يوجب كمال الاجتناب عن اتباع الاهواء، والنهي يجوز أن يكون لمن لا يتصور منه وقوع المنهي عنه، فلا يقال: كيف نهى صلى الله عليه وسلم عن اتباع أهوائهم وهو عليه الصلاة والسلام معصوم عن ارتكاب ما دون ذلك، وقيل: الخطاب له صلى الله عليه وسلم والمراد سائر الأحكام.
* (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) * استئناف جيء به لحمل أهل الكتاب من معاصريه صلى الله عليه وسلم على الانقياد لحكمه عليه الصلاة والسلام بما أنزل الله تعالى إليه من الحق ببيان أنه هو الذي كلفوا العمل به دون غيره
152

مما في كتابهم، وإنما الذين كلفوا العمل به من مضى قبل النسخ، والخطاب - كما قال جماعة من المفسرين - للناس كافة الموجودين والماضين بطريق التغليب، و - الشرعة - بكسر الشين، وقرأ يحيى بن وثاب بفتحها الشريعة، وهي في الأصل الطريق الظاهر الذي يوصل منه إلى الماء، والمراد بها الدين، واستعمالها فيه نكونه سبيلا موصلا إلى ما هو سبب للحياة الأبدية كما أن الماء سبب للحياة الفانية، أو لأنه طريق إلى العمل الذي يطهر العامل عن الأوساخ المعنوية كما أن الشريعة طريق إلى الماء الذي يطهر مستعمله عن الأوساخ الحسية. وقال الراغب " سمي الدين شريعة تشبيها بشريعة الماء من حيث إن من شرع في ذلك على الحقيقة (المصدوقة) روي وتطهر، (قال:) (4) وأعني بالري ما قال بعض الحكماء: كنت أشرب فلا أروى فلما عرفت الله تعالى رويت بلا شرب، وبالتطهر ما قال تعالى: * (ويطهركم تطهيرا) * (الأحزاب: 33) " والمنهاج الطريق الواضح في الدين من نهج الأمر إذا وضح، والعطف باعتبار جمع الأوصاف، وقال المبرد: الشرعة ابتداء الطريق، والمنهاج الطريق المستقيم، وقيل: هما بمعنى واحد وهو الطريق، والتكرير للتأكيد، والعطف مثله في قول الحطيئة:
وهند أتى من دونها النأي والبعد
وقول عنترة: حييت من طلل تقادم عهده * أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
وقيل: الشرعة الطريق مطلقا سواء كان واضحا أم لا، وقيل: المنهاج الدليل، وقيل: الشرعة النبي صلى الله عليه وسلم والمنهاج الكتاب، وقيل: الشرعة الأحكام الفرعية، والمنهاج الأحكام الاعتقادية وليس بشيء، واللام متعلقة - بجعلنا - المتعدية لواحد، وهوإخبار بجعل ماض لا إنشاء، وتقديمها عليه للتخصيص، و * (منكم) * متعلق بمحذوف وقع صفة لما عوض عنه تنوين - كل - أي: ولكل أمة كائنة منكم أيها الأمم الباقية، والخالية عينا ووضعنا شرعة ومنهاجا خاصين بتلك الأمة لا تكاد أمة تتخطى شرعتها، والأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما الصلاة والسلام شرعتهم ما في التوراة، والتي كانت من مبعث عيسى عليه السلام إلى مبعث أحمد عليه الصلاة والسلام شرعتهم ما في الإنجيل، وأما أنتم أيها الموجودون فشرعتكم ما في الفرقان ليس إلا فآمنوا به واعملوا بما فيه، وأوجب أبو البقاء تعلق * (منكم) * بمحذوف تقديره أعني، ولم يجوز الوصفية لما أن ذلك يوجب الفصل بين الصفة والموصوف بالأجنبي الذي لا تسديد فيه للكلام، ويوجب أيضا أن يفصل بين * (جعلنا) * ومعموله وهو شرعة، وقال شيخ الإسلام: لا ضير في توسط * (جعلنا) * بين الصفة والموصوف كما في قوله تعالى: * (أغير الله اتخذ وليا فاطر السموات والأرض) * (الأنعام: 14) الخ، والفصل بين الفعل ومفعوله لازم على كل حال، وما ذكر من كون الخطاب للأمم هو الظاهر، وقيل: إنه للأنبياء الذين أشير إليهم في الآيات قبل ولا يخفى بعده، وأبعد منه جعل الخطاب لهذه الأمة المحمدية ولا يساعده السباق ولا اللحاق.
واستدل بالآية من ذهب إلى أنا غير متعبدين بشرائع من قبلنا لأن الخطاب كما علمت يعم الأمم، واللام للاختصاص، فيكون لكل أمة دين يخصها، ولو كان متعبدا بشريعة أخرى لم يكن ذلك الاختصاص. وأجاب العلامة التفتازاني بعد تسليم دلالة اللام على الاختصاص الحصري بمنع الملازمة لجواز أن نكون متعبدين بشريعة من قبلنا مع زيادة خصوصيات في ديننا بها يكون الاختصاص، وفيه أنه لا حاجة في إفادة الحصر لما ذكر مع تقدم المتعلق، وأيضا إن الخصوصيات المذكورة لا تنافي تعبدنا بشرع من قبلنا لأن القائلين به يدعون أنه فيما لم يعلم نسخه ومخالفة ديننا له لا مطلقا إذ لم يقل به أحد على الإطلاق، ولذا جمع المحققون بين أضراب هذه الآية الدالة على اختلاف الشرائع، وبين ما يخالفها نحو قوله تعالى: * (شرع لكم من الدين ما وصى
153

به نوحا) * (الشورى: 13) الخ، وقوله تعالى: * (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) * (الأنعام: 90) بأن كل آية دلت على عدم الاختلاف محمولة على أصول الدين ونحوها، والتحقيق في هذا المقام أنا متعبدون بأحكام الشرائع الباقية من حيث إنها أحكام شرعتنا لا من حيث إنها شرعة للأولين.
* (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) * أي جماعة متفقة على دين واحد في جميع الأعصار، أو ذي ملة واحدة من غير اختلاف بينكم في وقت من الأوقات في شيء من الأحكام الدينية ولا نسخ ولا تحويل - قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - ومفعول * (شاء) * محذوف تعويلا على دلالة الجزاء عليه، أي لو شاء الله تعالى أن يجعلكم أمة واحدة لجعلكم الخ، وقيل: المعنى ولو شاء الله تعالى اجتماعكم على الإسلام لأجبركم عليه، وروي عن الحسن نحو ذلك، وقال الحسين بن علي المغربي: المعنى لو شاء الله تعالى لم يبعث إليكم نبيا فتكونون متعبدين بما في العقل وتكونون أمة واحدة * (ول‍اكن ليبلوكم) * متعلق بمحذوف يستدعيه النظام أي ولكن لم يشأ ذلك الجعل بل شاء غيره ليعاملكم سبحانه معاملة من يبتليكم. * (في ماءات‍اكم) * من الشرائع المختلفة لحكم إلهية يقتضيها كل عصر هل تعملون بها مذعنين لها معتقدين أن في اختلافها مايعود نفعه لكم في معاشكم ومعادكم، أو تزيغون عنها. وتبتغون الهوى. وتشترون الضلالة بالهدى، وبهذا - كما قال شيخ الإسلام - اتضح أن مدار عدم المشيئة المذكورة ليس مجرد الابتلاء، بل العمدة في ذلك ما أشير إليه من انطواء الاختلاف على ما فيه مصلحتهم معاشا ومعادا كما ينبىء عنه قوله عز وجل: * (فاستبقوا الخيرات) * أي إذا كان الأمر كما ذكر فسارعوا إلى ما هو خير لكم في الدارين من العقائد الحقة والأعمال الصالحة المندرجة في القرآن الكريم وابتدروها انتهازا للفرصة وإحرازا لفضل السبق والتقدم، فالسابقون السابقون أولئك المقربون. وقوله تعالى: * (إلى الله مرجعكم جميعا) * استئناف مسوق مساق التعليل لاستباق الخيرات بما فيه من الوعد والوعيد، و * (جميعا) * حال من الضمير المجرور، والعامل فيه إما المصدر المضاف المنحل إلى فعل مبني للفاعل، أو لما لم يسم فاعله، وإما الاستقرار المقدر في الجار، وقيل - وفيه بعد - إن الجملة واقعة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: كيف ما في ذلك من الحكم؟ فأجيب بأنكم سترجعون إلى الله تعالى وتحشرون إلى دار الجزاء التي تنكشف فيها الحقائق وتتضح الحكم * (فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) * أي فيفعل بكم من الجزاء الفاصل بين الحق والباطل ما لا يبقى لكم معه شائبة شك فيما كنتم فيه تختلفون في الدنيا من أمر الدين، فالإنباء هنا مجاز عن المجازاة لما فيها من تحقق الأمر..
* (وأن احكم بينهم بمآ أنزل الله ولا تتبع أهوآءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض مآ أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لف‍اسقون) *.
* (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) * عطف على * (الكتاب) * (المائدة: 48)، كأنه قيل: وأنزلنا إليك الكتاب وقولنا احكم أي الأمر بالحكم لا الحكم لأن المنزل الأمر بالحكم لا الحكم، ولئلا يلزم إبطال الطلب بالكلية، ولك أن تقدر الأمر بالحكم من أول الأمر من دون إضمار القول كما حققه في " الكشف "، وجوز أن يكون عطفا على * (الحق) * (المائدة: 48)، وفي المحل وجهان: الجر والنصب على الخلاف المشهور، وقيل: يجوز أن يكون الكلام جملة اسمية بتقدير مبتدأ أي وأمرنا أن احكم، وزعم بعضهم أن * (أن) * هذه تفسيرية، ووجه أبو البقاء بأن يكون التقدير وأمرناك، ثم فسر هذا الأمر باحكم، ومنع أبو حيان من تصحيحه بذلك بأنه لم يحفظ من لسانهم حذف المفسر بأن والأمر كما ذكر، وقال الطيبي: ولو جعل هذا الكلام عطفا على * (فاحكم) * (المائدة: 42)
154

من حيث المعنى ليكون التكرير لإناطة قوله سبحانه: * (واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) * كان أحسن، ورد بأن * (أن) * هي المانعة من ذلك العطف، وأمر الإناطة ملتزم على كل حال، وقال بعضهم: إنما كرر الأمر بالحكم لأن الإحتكام إليه صلى الله عليه وسلم كان مرتين: مرة في زنا المحصن ومرة في قتيل كان بينهم، فجاء كل أمر في أمر، وحكي ذلك عن الجبائي والقاضي أبي يعلى، ونون * (أن) * فيها الضم والكسر، والمنسبك من * (أن يفتنوك) * بدل من ضمير المفعول بدل اشتمال، أي: واحذر فتنتهم لك وأن يصرفوك عن بعض ما أنزل الله - تعالى - إليك ولو كان أقل قليل بتصوير الباطل بصورة الحق؛ وقال ابن زيد: بالكذب على التوراة في أن ذلك الحكم ليس فيها، وجوز أن يكون مفعولا من أجله، أي احذرهم مخافة أن يفتنوك وإعادة * (ما أنزل الله - تعالى - إليك) * لتأكيد التحذير بتهويل الخطب، ولعل هذا لقطع أطماعهم قاتلهم الله تعالى، أخرج ابن أبي حاتم، والبيهقي في " الدلائل " عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أحبار اليهود قالوا: اذهبوا بنا إلى محمد صلى الله عليه وسلم لعلنا نفتنه عن دينه فقالوا: يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأنا إن اتبعناك اتبعتنا اليهود كلهم. وأن بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت.
* (فإن تولوا) * أي أعرضوا عن قبول الحكم بما أنزل الله تعالى إليك وأرادوا غيره * (فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم) * وهو ذنب التولي والإعراض، فهو بعض مخصوص والتعبير عنه بذلك للإيذان بأن لهم ذنوبا كثيرة، وهذا مع كمال عظمه واحد من جملتها، وفي هذا الإبهام تعظيم للتولي كما في قوله: تراك أمكنة إذا لم أرضها * أو يرتبط بعض النفوس حمامها
يريد بالبعض نفسه أي نفسا كبيرة ونفسا أي نفس، وقال الجبائي: ذكر البعض وأريد الكل كما يذكر العموم ويراد به الخصوص، وقيل: المراد بعض مبهم تغليظا للعقاب كأنه أشير إلى أنه يكفي أن يؤخذوا ببعض ذنوبهم أي بعض كان، ويهلكوا ويدمر عليهم بذلك، وزعم بعضهم أنه لا يصح إرادة الكل لأن المراد بهذه الإصابة عقوبة الدنيا وهي تختص ببعض الذنوب دون بعض، والذي يعم إنما هو عذاب الآخرة وهذه الإصابة - على ما روي عن الحسن - إجلاء بني النضير، وقيل: قتل بني قريظة، وقيل: هي أعم من ذلك، وما عرى بني قينقاع وأهل خيبر وفدك، ولعله الأولى.
* (وإن كثيرا من الناس لفساقون) * أي متمردون في الكفر مصرون عليه خارجون من الحدود المعهودة، وهو اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله، وفيه من التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى، وقيل: إنه عطف على قوله تعالى: * (وكتبنا عليهم فيها) * (المائدة: 45) يعني كتبنا حكم القصاص في التوراة وقررناه في الإنجيل، وأنزلنا عليك الكتاب مصدقا لما فيهما وإن كثيرا من الناس لفاسقون من الأحكام الإلهية المقررة في الأديان ولا يخفى بعده، والمراد من الناس: العموم، وقيل: اليهود..
* (أفحكم الج‍اهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) *.
وقوله سبحانه: * (أفحكم الج‍اهلية يبغون) * إنكار وتعجيب من حالهم وتوبيخ لهم، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام، أي أيتولون عن قبول حكمك بما أنزل الله تعالى إليك فيبغون حكم الجاهلية؟ وقيل: محل الهمزة بعد الفاء، وقدمت أن لها الصدارة، وتقديم المفعول للتخصيص المفيد لتأكيد الإنكار والتعجب لأن التولي عن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب حكم آخر منكر عجيب، وطلب حكم الجاهلية أقبح وأعجب،
155

والمراد بالجاهلية الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى الموجبة للميل والمداهنة في الأحكام، أو الأمة الجاهلية، وحكمهم: ما كانوا عليه من التفاضل فيما بين القتلى، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي أهل الجاهلية، وحكمهم: ما ذكر، فقد روي أن بني النضير لما تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في خصومة قتيل وقعت بينهم وبين بني قريظة طلب بعضهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما كان عليه أهل الجاهلية من التفاضل، فقال عليه الصلاة والسلام: " القتلى بواء فقال بنو النضير: نحن لا نرضى بذلك " فنزلت، وقرأ ابن عامر - تبغون - بالتاء، وهي إما على الالتفات لتشديد التوبيخ، وإما بتقدير القول أي قل لهم أفحكم الخ، وقرأ ابن وثاب والأعرج وأبو عبد الرحمن وغيرهم * (أفحكم) * بالرفع على أنه مبتدأ، و * (يبغون) * خبره، والعائد محذوف، وقيل: الخبر محذوف، والمذكور صفته أي حكم يبغون، واستضعف حذف العائد من الخبر، وذكر ابن جني أنه جاء الحذف منه كما جاء الحذف من الصلة والصفة كقوله: قد أصبحت أم الخيار تدعي * علي ذنبا كله لم أصنع
وقال أبو حيان وحسن الحذف في الآية شبه * (يبغون) * برأس الفاصلة فصار كالمشاكلة، وزعم - أن القراءة المذكورة خطأ - خطأ كما لا يخفى، وقرأ قتادة * (أفحكم) * بفتح الفاء والحاء والكاف، أي أفحاكما كحكام الجاهلية يبغون وكانت الجاهلية تسمى من قبل - كما أخرج ابن أبي حاتم عن عروة - عالمية حتى جاءت امرأة فقالت يا رسول الله كان في الجاهلية كذا وكذا فأنزل الله تعالى ذكر الجاهلية وحكم عليهم بهذا العنوان.
* (ومن أحسن من الله حكما) * إنكار لأن يكون أحد حكمه أحسن من حكم الله تعالى، أو مساو له كما يدل عليه الاستعمال وإن كان ظاهر السبك غير متعرض لنفي المساواة وإنكارها * (لقوم يوقنون) * أي عند قوم، فاللام بمعنى عند، وإليه ذهب الجبائي، وضعفه في " الدر المصون "، وصحح أنها للبيان متعلقة بمحذوف كما في * (هيت لك) * (يوسف: 23) وسقيا لك، أي تبين وظهر مضمون هذا الاستفهام الإنكاري لقوم يتدبرون الأمور ويتحققون الأشياء بأنظارهم وأما غيرهم فلا يعلمون أنه لا أحسن حكما من الله تعالى، ولعل من فسر بعند أراد بيان محصل المعنى، وقيل: إن اللام على أصلها، وأنها صلة أي حكم الله تعالى للمؤمنين على الكافرين أحسن الأحكام وأعدلها، وهذه الجملة حالية مقررة لمعنى الإنكار السابق..
* (ي‍اأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنص‍ارى أوليآء بعضهم أوليآء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدى القوم الظ‍المين) *.
* (يا أيها الذين ءامنوا) * خطاب يعم حكمه كافة المؤمنين من المخلصين وغيرهم، وإن كان سبب وروده بعضا - كما ستعرفه إن شاء الله تعالى - ووصفهم بعنوان الإيمان لحملهم من أول الأمر على الانزجار عما نهوا عنه بقوله سبحانه: * (لا تتخذوا اليهود والنص‍ارى أولياء) * فإن تذكير اتصافهم بضد صفات الفريقين من أقوى الزواجر عن مولاتهما أي لا يتخذ أحد منكم أحدا منهم وليا بمعنى لا تصافوهم مصافاة الأحباب ولا تستنصروهم.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: لما كانت وقعة أحد اشتد على طائفة من الناس وتخوفوا أن تدال عليهم الكفار، فقال رجل لصاحبه: أما أنا فألحق بذلك اليهودي فآخذ منه أمانا وأتهود معه فإني أخاف أن تدال علينا اليهود، وقال الآخر: أما أنا فألحق بفلان النصراني ببعض أرض الشام فآخذ منه أمانا وأتنصر معه، فأنزل الله تعالى فيهما ينهاهما * (يا أيها الذين آمنوا) * الخ.
156

وأخرج ابن جرير وابن أبي شيبة عن عطية بن سعد قال: " جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم وإني أبرأ إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من ولاية يهود وأتولى الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، فقال عبد الله بن أبي: إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي " فنزلت.
* (بعضهم أولياء بعض) * أي بعض اليهود أولياء لبعض منهم، وبعض النصارى أولياء لبعض منهم، وأوثر الإجمال لوضوح المراد بظهور أن اليهود لا يوالون النصارى كالعكس، والجملة مستأنفة تعليلا للنهي قبلها وتأكيدا لإيجاب اجتناب المنهي عنه أي بعضهم أولياء بعض متفقون على كلمة واحدة في كل ما يأتون وما يذرون، ومن ضرورة ذلك إجماع الكل على مضادتكم ومضارتكم بحيث يسومونكم السوء ويبغونكم الغوائل، فكيف يتصور بينكم وبينهم موالاة، وزعم الحوفي أن الجملة في موضع الصفة لأولياء، والظاهر هو الأول.
وقوله تعالى: * (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) * أي من جملتهم، وحكمه حكمهم كالمستنتج مما قبله، وهو مخرج مخرج التشديد والمبالغة في الزجر لأنه لو كان المتولي منهم حقيقة لكان كافرا وليس بمقصود، وقيل: المراد ومن يتولهم منكم فإنه كافر مثلهم حقيقة، وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ولعل ذلك إذا كان توليهم من حيث كونهم يهودا أو نصارى، وقيل: لا بل لأن الآية نزلت في المنافقين، والمراد أنهم بالموالاة يكونون كفارا مجاهرين.
وقوله سبحانه: * (إن الله لا يهدي القوم الظ‍المين) * أنفسهم بموالاة الكفار أو المؤمنين بموالاة أعدائهم، تعليل آخر على ما قيل: يتضمن عدم نفع موالاة الكفرة بل ترتب الضرر عليها، وقيل: هو تعليل لكون من يتولاهم منهم أي لا يهديهم إلى الإيمان بل يخليهم وشأنهم فيقعون في الكفر والضلالة، وإنما وضع المظهر موضع ضميرهم تنبيها على أن توليهم ظلم لما أنه تعريض للنفس للعذاب الخالد ووضع للشيء في غير موضعه..
* (فترى الذين فى قلوبهم مرض يس‍ارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دآئرة فعسى الله أن يأتى بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على مآ أسروا فىأنفسهم ن‍ادمين) *.
وقوله تعالى: * (فترى الذين في قلوبهم مرض) * أي نفاق - كعبد الله بن أبي وأضرابه - كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بيان لكيفية توليتهم وإشعار بسببه؛ وبما يؤول إليه أمرهم، والفاء للإيذان بترتبه على عدم الهداية وهي للسببية المحضة. وجوز الكرخي كونها للعطف على * (إن الله) * (المائدة: 51) الخ من حيث المعنى، والخطاب إما للرسول صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين، وإما لكل من له أهلية، والإتيان بالموصول دون ضمير القوم ليشار بما في حيز الصلة إلى أن ما ارتكبوه من التولي بسبب ما (كمن من المرض). والرؤية إما بصرية.
وقوله تعالى: * (يس‍ارعون فيهم) * حال من (المفعول) وهو الأنسب بظهور نفاقهم، وإما قلبية والجملة في موضع المفعول الثاني، والمراد على التقديرين مسارعين في موالاتهم إلا أنه قيل فيهم مبالغة في بيان رغبتهم فيها وتهالكهم عليها، وإيثار كلمة * (في) * على كلمة - إلى - للدلالة على أنهم مستقرون في الموالاة، وإنما مسارعتهم من بعض مراتبها إلى بعض آخر منها. وفسر الزمخشري المسارعة بالانكماش لكثرة استعماله بفي، وعدل عنه بعض المحققين لكونه تفسيرا بالأخفى. واختير أن تعدى المسارعة هنا بإلى لتضمنها معنى الدخول، وقرىء - فيرى - بياء الغيبة على أن الضمير - كما قال أبو البقاء - لله تعالى، وقيل: لمن يصح منه الرؤية، وقيل: الفاعل هو الموصول، والمفعول هو الجملة على حذف أن المصدرية، والرؤية قلبية أي فيرى القوم الذين في قلوبهم مرض أن يسارعوا فيهم فلما حذفت
157

أن انقلب الفعل مرفوعا كما في قوله:
ألا أي هذا الزاجري احضر الوغى
وقوله عز وجل: * (يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) * حال من فاعل * (يسارعون) *، و - الدائرة - من الصفات الغالبة التي لا يذكر معها موصوفها، وأصلها داورة لأنها من دار يدور، ومعناها لغة - على ما في " القاموس " - ما أحاط بالشيء، وفي " شرح الملخص " إن الدائرة سطح مستو يحيط به خط مستدير يمكن أن يفرض في داخله نقطة يكون البعد بينها وبينه واحدا في جميع الجهات، وقد تطلق الدائرة على ذلك الخط المحيط أيضا انتهى، واختلف في أن أي المعنيين حقيقة؟ فقيل: إنها حقيقة في الأول مجاز في الثاني، وقيل: بالعكس، قال البرجندي: وتحقيق ذلك أنه إذا ثبت أحد طرفي خط مستقيم وأدير دورة تامة يحصل سطح دائرة يسمى بها لأن هيئة هذا السطح ذات دور، على أن صيغة الفاعل للنسبة، وإذا توهم حركة نقطة حول نقطة ثابتة دورة تامة بحيث لا يختلف بعد النقطة المتحركة عن النقطة الثابتة يحصل محيط دائرة يسمى بها لأن النقطة كانت دائرة؛ فسمى ما حصل من دورانها دائرة فإن اعتبر الأول ناسب أن يكون إطلاق الدائرة على السطح حقيقة وعلى المحيط مجازا، وإذا اعتبر الثاني ناسب أن يكون الأمر بالعكس انتهى. وتعقبه بعض الفضلاء بأنه لا يخفى ما فيه، لأن إطلاقها بالاعتبار الثاني على المحيط أيضا مجاز لأنه من باب تسمية المسبب باسم السبب اللهم إلا أن يقال: إنه أراد بكون إطلاقها على المحيط حقيقة أن إطلاقها عليه ليس مجازا بالوجه الذي كان به مجازا في الاعتبار الأول، فإن وجه المجاز فيه التسمية للمحيط باسم المحاط، وههنا ليس كذلك كما سمعت لكن هذا تكلف بعيد، ولو قال في وجه التسمية في اللاحق لأن هيئة الخط ذات دور على وفق قوله في وجه التسمية السابق لم يرد عليه هذا فتدبر، وكيفما كان فقد استعيرت لنوائب الزمان بملاحظة إحاطتها، وقولهم هذا كان اعتذارا عن الموالاة أي نخشى أن تدور علينا دائرة من دوائر الدهر ودولة من دوله بأن ينقلب الأمر للكفار وتكون الدولة لهم على المسلمين فنحتاج إليهم قاله مجاهد وقتادة والسدي. وعن الكلبي أن المعنى نخشى أن يدور الدهر علينا بمكروه - كالجدب والقحط - فلا يميروننا ولا يقرضوننا، ولا يبعد من المنافقين أنهم يظهرون للمؤمنين أنهم يريدون بالدائرة ما قاله الكلبي، ويضمرون في دوائر قلوبهم ما قاله الجماعة المنبىء عن الشك في أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد رد الله تعالى عليهم عللهم الباطلة وقطع أطماعهم الفارغة وبشر المؤمنين بحصول أمنيتهم بقوله سبحانه: * (فعسى الله أن يأتي بالفتح) * فإن - عسى - منه عز وجل وعد محتوم لما أن الكريم إذا أطمع أطعم فما ظنك بأكرم الأكرمين، والمراد بالفتح فتح مكة - كما روي عن السدي - وقيل: فتح بلاد الكفار واختاره الجبائي، وقال قتادة ومقاتل: هو القضاء الفصل بنصره عليه الصلاة والسلام على من خالفه وإعزاز الدين، وأن يأتي في تأويل المصدر، وهو خبر - لعسى - على رأي الأخفش، ومفعول به على رأي سيبويه لئلا يلزم الإخبار بالحدث عن الذات، والأمر في ذلك عند الأخفش سهل * (أو أمر من عنده) * وهو القتل وسبي الذراري لبني قريظة، والجلاء لبني النضير عند مقاتل، وقيل: إظهار نفاق المنافقين مع الأمر بقتلهم، وروي عن الحسن والزجاج، وقيل: موت رأس النفاق، وحكى ذلك عن الجبائي.
* (فيصبحوا) * أي أولئك المنافقون، وهو عطف على * (يأتي) * داخل معه في حيز
158

خبر عسى، وفاء السببية لجعلها الجملتين كجملة واحدة مغنية عن الضمير العائد على الاسم، والمراد فيصيروا * (على ما أسروا في أنفسهم) * من الكفر والشك في أمر النبي صلى الله عليه وسلم * (ن‍ادمين) * خبر - يصبح - وبه يتعلق * (على ما أسروا) * وتخصيص الندامة به لا بما كانوا يظهرونه من موالاة الكفرة لما أنه الذي كان يحملهم على تلك الموالاة ويغريهم عليها، فدل ذلك على أن ندامتهم على التولي بأصله وسببه. وأخرج ابن منصور وابن أبي حاتم عن عمرو أنه سمع ابن الزبير يقرأ - عسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبح الفساق على ما أسروا في أنفسهم نادمين - قال عمرو: لا أدري أكان ذلك منه قراءة أم تفسيرا..
* (ويقول الذين ءامنوا أه‍اؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيم‍انهم إنهم لمعكم حبطت أعم‍الهم فأصبحوا خ‍اسرين) *.
* (ويقول الذين ءامنوا) * كلام مستأنف مسوق لبيان كمال سوء حال الطائفة المذكورة. وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر بغير واو على أنه استئناف بياني كأنه قيل: فماذا يقول المؤمنون حينئذ؟ وقرأ أبو عمرو ويعقوب * (ويقول) * بالنصب عطفا على * (فيصبحوا) * (المائدة: 52)، وقيل: على * (أن يأتي) * (المائدة: 52) بحسب المعنى كأنه قيل: عسى أن يأتي الله بالفتح ويقول الذين آمنوا بإسناد يأتي إلى الاسم الجليل دون ضميره، واعتبر ذلك لأن العطف على خبر - عسى - أو
مفعولها يقتضي أن يكون فيه ضمير الله تعالى ليصح الإخبار به أو ليجري على استعماله، ولا ضمير فيه هنا ولا ما يغني عنه، وفي صورة العطف باعتبار المعنى تكون - عسى - تامة لإسنادها إلى * (أن) * (المائدة: 52) وما في حيزها فلا حاجة حينئذ إلى ضمير، وهذا كما قيل: قريب من عطف التوهم، وكأنهم عبروا عنه بذلك دونه تأدبا، وجوز بعضهم أن يكون * (أن يأتي) * بدلا من الاسم الجليل، والعطف على البدل، و - عسى - تامة أيضا كما صرح به الفارسي، وبعضهم يجعل العطف على خبر - عسى - ويقدر ضميرا أي: ويقول الذين آمنوا به وذهب ابن النحاس إلى أن العطف على الفتح وهو نظير: ولبس عباءة وتقر عيني
واعترض بأن فيه الفصل بين أجزاء الصلة وهو لا يجوز وبأن المعنى حينئذ: عسى الله تعالى أن يأتي بقول المؤمنين وهو ركيك، وأجيب عن الأول: بالفرق بين الإجزاء بالفعل والإجزاء بالتقدير، وعن الثاني: بأن المراد عسى الله سبحانه أن يأتي بما يوجب قول المؤمنين من النصرة المظهرة لحالهم. واختار شيخ الإسلام قدس سره ما قدمناه، ولا يحتاج إلى تكلف مؤونة تقدير الضمير لأن * (فيصبحوا) * (المائدة: 52) كما علمت معطوف على يأتي والفاء كافية فيه عن الضمير، فتكفي عن الضمير في المعطوف عليه أيضا لأن المتعاطفين كالشيء الواحد، ولا حاجة مع هذا إلى القول بأن العطف عليه بناءا على أنه منصوب في جواب الترجي إجراءا له مجرى التمني - كما قال ابن الحاجب - لأن هذا إنما يجيزه الكوفيون فقط بخلاف الوجه الذي ذكرناه، والمعنى ويقول الذين آمنوا مخاطبين لليهود مشيرين إلى المنافقين الذين كانوا يوالونهم ويرجون دولتهم ويظهرون لهم غاية المحبة وعدم المفارقة عنهم في السراء والضراء عند مشاهدتهم تخيبة رجائهم وانعكاس تقديرهم لوقوع ضد ما كانوا يترقبونه، ويتعالون به تعجيبا للمخاطبين من حالهم وتعريضا بهم. * (أه‍اؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيم‍انهم إنهم لمعكم) * أي بالنصرة والمعونة - كما قالوه - فيما حكي عنهم * (وإن قوتلتم لننصرنكم) * (الحشر: 11)، فاسم الإشارة مبتدأ وما بعده خبره، والمعنى إنكار ما فعلوه واستبعاده وتخطئتهم في ذلك - قاله شيخ الإسلام وغيره، واختار غير واحد - أن المعنى يقول المؤمنون الصادقون بعضهم لبعض أهؤلاء الذين أقسموا بالله تعالى لليهود إنهم لمعكم والخطاب على التقديرين لليهود إلا أنه على الأول: من
159

جهة المؤمنين، وعلى الثاني: من جهة المقسمين، وفي " البحر " (3 / 509) أن الخطاب على التقدير الثاني للمؤمنين أي " يقول الذين آمنوا بعضهم لبعض تعجبا من حال المنافقين إذ أغلظوا بالأيمان لهم وأقسموا أنهم معكم وأنهم معاضدوكم على أعدائكم اليهود فلما حل باليهود ما حل أظهروا ما كانوا يسرونه من موالاتهم والتمالؤ على المؤمنين "، وإليه يشير كلام عطاء وليس بشيء كما لا يخفى، وجملة * (إنهم لمعكم) * لا محل لها من الإعراب لأنها تفسير وحكاية لمعنى أقسموا لكن لا بألفاظهم وإلا لقيل: إنا معكم، وذكر السمين وغيره أنه يجوز أن يقال: حلف زيد لأفعلن وليفعلن، و * (جهد أيمانهم) * منصوب على أنه مصدر - لأقسموا - من معناه، والمعنى أقسموا إقساما مجتهدا فيه، أو هو حال بتأويل مجتهدين، وأصله يجتهدون جهد أيمانهم، فالحال في الحقيقة الجملة، ولذا ساغ كونه حالا كقولهم: افعل ذلك جهدك مع أن الحال حقها التنكير لأنه ليس حالا بحسب الأصل. وقال غير واحد: لا يبالى بتعريف الحال هنا لأنها في التأويل نكرة وهو مستعار من جهد نفسه إذا بلغ وسعها، فحاصل المعنى أهؤلاء الذين أكدوا الأيمان وشددوها.
* (حبطت أعم‍الهم فأصبحوا خ‍اسرين) * يحتمل أن يكون هذا جملة مستأنفة مسوقة من جهته تعالى لبيان مآل ما صنعوه من ادعاء الولاية والقسم على المعية في كل حال إثر الإشارة إلى بطلانه بالاستفهام، وأن يكون من جملة مقول المؤمنين بأن يجعل خبرا ثانيا لاسم الإشارة، وقد قال بجواز نحو ذلك بعض النحاة، ومنه قوله سبحانه: * (فإذا هي حية تسعى) * (طه: 20)، أو يجعل هو الخبر والموصول مع ما في حيز صلته صفة للمبتدأ، فالاستفهام حينئذ للتقرير، وفيه معنى التعجيب كأنه قيل: ما أحبط أعمالهم فما أخسرهم، والمعنى بطلت أعمالهم التي عملوها في شأن موالاتكم وسعوا في ذلك سعيا بليغا حيث لم تكن لكم دولة كما ظنوا فينتفعوا بما صنعوا من المساعي وتحملوا من مكابدة المشاق، وفيه من الاستهزاء بالمنافقين والتقريع للمخاطبين ما لا يخفى - قاله شيخ الإسلام - وذهب بعضهم إلى أنه إذا كانت من جملة المقول فهي في محل نصب بالقول بتقدير أن قائلا يقول: ماذا قال المؤمنون بعد كلامهم ذلك؟ فقيل: قالوا: حبطت أعمالهم) * الخ، والجملة إما إخبارية، وشهادة المؤمنين بمضمونها على تقدير أن يكون المراد به خسران دنيوي وذهاب الأعمال بلا نفع يترتب عليها هو ما أملوه من دولة اليهود مما لا إشكال فيه، وعلى تقدير أن يكون المراد أمرا أخرويا فيحتمل أن يكون باعتبار ما يظهر من حال المنافقين في ارتكاب ما ارتكبوا، وأن تكون باعتبار إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وإما جملة دعائية ولا ضير في الدعاء بمثل ذلك على ما مرت الإشارة إليه، وأشعر كلام البعض أن في الجملة معنى التعجب مطلقا سواء كانت من جملة المقول أو من قول الله تعالى، ولعله غير بعيد عنه من يتدبر..
* (ياأيها الذين ءامنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الك‍افرين يج‍اهدون فى سبيل الله ولا يخ‍افون لومة لائم ذالك فضل الله يؤتيه من يشآء والله واسع عليم) *.
* (يا أيها الذين ءامنوا من يرتد منكم عن دينه) * شروع في بيان حال المرتدين على الإطلاق بعد أن نهى سبحانه فيما سلف عن موالاة اليهود والنصارى، وبين أن موالاتهم مستدعية للارتداد عن الدين، وفصل مصير (أمر) من يواليهم من المنافقين قيل: وهذا من الكائنات التي أخبر عنها القرآن قبل وقوعها، فقد روى أنه ارتد عن الإسلام إحدى عشرة فرقة، ثلاث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بنو مدلج. ورئيسهم ذو الخمار - وهو الأسود العنسي - كان كاهنا تنبأ باليمن واستولى على بلاده فأخرج منها عمال النبي صلى الله عليه وسلم، فكتب عليه الصلاة والسلام إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن، فأهلكه الله تعالى على يدي فيروز الديلمي
160

بيته فقتله، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله ليلة قتل فسر به المسلمون وقبض عليه الصلاة والسلام من الغد، وأتى خبره في شهر ربيع الأول، وبنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب بن حبيب تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام عليك، أما بعد: فإني
قد أشركت في الأمر معك وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوم يعتدون، فقدم عليه عليه الصلاة والسلام رسولان له بذلك فحين قرأ صلى الله عليه وسلم كتابه، قال لهما: " فما تقولان أنتما؟ قالا: نقول كما قال، فقال صلى الله عليه وسلم: أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما "، ثم كتب إليه: " بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين "، وكان ذلك في سنة عشر فحاربه أبو بكر رضي الله تعالى عنه بجنود المسلمين وقتل على يدي وحشي قاتل حمزة رضي الله تعالى عنهما وكان يقول: قتلت في جاهليتي خير الناس وفي إسلامي شر الناس، وقيل: اشترك في قتله هو وعبد الله بن زيد الأنصاري طعنه وحشي وضربه عبد الله بسيفه، وهو القائل: يسائلني الناس عن قتله * فقلت: ضربت وهذا طعن
في أبيات، وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد تنبأ فبعث إليه أبو بكر رضي الله تعالى عنه خالد بن الوليد فانهزم بعد القتال إلى الشام، فأسلم وحسن إسلامه، وارتدت سبع في عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه فزارة قوم عيينة بن حصين وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد ياليل وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة وبعض بني تميم قوم سجاح بنت المنذر الكاهنة تنبأت وزوجت نفسها من مسيلمة في قصة شهيرة، وصح أنها أسلمت بعد وحسن إسلامها. وكندة قوم الأشعث بن قيس وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد، وكفى الله تعالى أمرهم على يدي أبي بكر رضي الله تعالى عنه. وفرقة واحدة في عهد عمر رضي الله تعالى عنه - وهم غسان - قوم جبلة بن الأيهم تنصر ولحق بالشام ومات على ردته، وقيل: إنه أسلم، ويروى أن عمر رضي الله تعالى عنه كتب إلى أحبار الشام لما لحق بهم كتابا فيه: إن جبلة ورد إلي في سراة قومه فأسلم فأكرمته ثم سار إلى مكة فطاف فوطىء إزاره رجل من بني فزارة فلطمه جبلة فهشم أنفه وكسر ثناياه، وفي رواية قلع عينه فاستعدى الفزاري على جبلة إلي، فحكمت إما بالعفو وإما بالقصاص، فقال: أتقتص مني وأنا ملك وهو سوقة؟! فقلت: شملك وإياه الإسلام فما تفضله إلا بالعافية، فسأل جبلة التأخير إلى الغد فلما كان من الليل ركب مع بني عمه ولحق بالشام مرتدا، وروي أنه ندم على ما فعله وأنشد: تنصرت بعد الحق عارا للطمة * ولم يك فيها لو صبرت لها ضرر
فأدركني منها لجاج حمية * فبعت لها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني * صبرت على القول الذي قاله عمر
هذا واعترض القول بأن هذا من الكائنات التي أخبر الله تعالى عنها قبل وقوعها بأن * (من) * شرطية، والشرط لا يقتضي الوقوع إذ أصله أن يستعمل في الأمور المفروضة، وأجيب بأن الشرط قد يستعمل في الأمور المحققة تنبيها على أنها لا يليق وقوعها بل كان ينبغي أن تدرج في الفرضيات وهو كثير، وقد علم من وقوع ذلك بعد هذه الآية أن المراد هذا، وقرأ نافع وابن عامر - ومن يرتدد - بفك الإدغام وهو الأصل لسكون
161

ثاني المثلين وهو كذلك في بعض مصاحف الإمام.
وقوله تعالى: * (فسوف يأتي الله) * جواب * (من) * الشرطية الواقعة مبتدأ، واختلف في خبرها فقيل: مجموع الشرط والجزاء، وقيل: الجزاء فقط فعلى الأول: لا يحتاج الجزاء وحده إلى ضمير يربطه، وعلى الثاني: يحتاج إليه وهو هنا مقدر أي فسوف يأتي الله تعالى مكانهم بعد إهلاكهم * (بقوم يحبهم) * محبة تليق بشأنه تعالى على المعنى الذي أراده * (ويحبونه) * أي يميلون إليه جل شأنه ميلا صادقا فيطيعونه في امتثال أوامره واجتناب مناهيه، وهو معطوف على * (يحبونه) *، وجوز أن يكون حالا من الضمير المنصوب فيه أي وهم يحبونه، وفي " الكشاف " محبة العباد لربهم طاعته وابتغاء مرضاته وأن لا يفعلوا ما يوجب سخطه وعقابه، ومحبة الله تعالى لعباده أن يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم ويعظمهم ويثني عليهم ويرضى عنهم، وأما ما يعتقده أجهل الناس - وأعداهم للعلم وأهله وأمقتهم للشرع وأسوأهم طريقة - وإن كانت طريقتهم عند أمثالهم من الجهلة والسفهاء - شيئا، وهم (الفرقة المفتعلة المنفعلة) من الصوف وما يدينون به من المحبة والعشق والتغني على كراسيهم خربها الله تعالى وفي مراقصهم عطلها الله تعالى بأبيات الغزل المقولة في المردان الذين يسمونهم شهداء وصعقاتهم التي أين منها صعقة موسى عليه السلام، (ثم) دك الطور فتعالى الله عنه علوا كبيرا، ومن كلماتهم كما أنه بذاته يحبهم كذلك يحبون ذاته فإن الهاء راجعة إلى الذات دون النعوت والصفات، ومنها الحب شرطه أن تلحقه سكرات المحبة فإذا لم يكن ذلك لم يكن فيه حقيقة " انتهى كلامه.
" وقد خلط فيه الغث بالسمين فأطلق القول بالقدح الفاحش في المتصوفة ونسب إليهم ما لا يعبأ بمرتكبه ولا يعد في البهائم فضلا عن خواص البشر، ولا يلزم من تسمى طائفة بهذا الاسم غاصبين له من أهله ثم ارتكابهم ما نقل عنهم - بل وزيادة أضعاف أضعافه مما نعلمه من هذه الطائفة في زماننا - مما ينافي حال المسمين به حقيقة أن نؤاخذ الصالح بالطالح ونضرب رأس البعض بالبعض فلا تزر وازرة وزر أخرى ".
وتحقيق هذا المقام على ما ذكره ابن المنير في " الانتصاف " " أنه لا شك أن تفسير محبة العبد لله تعالى بطاعته له سبحانه على خلاف الظاهر وهو من المجاز الذي يسمى فيه المسبب باسم السبب، والمجاز لا يعدل إليه عن الحقيقة إلا بعد تعذرها فليمتحن حقيقة المحبة لغة بالقواعد لننظر أهي ثابتة للعبد متعلقة بالله تعالى أم لا؟ فالمحبة لغة ميل المتصف بها إلى أمر ملذ واللذات الباعثة على المحبة منقسمة إلى مدرك (بالحس) كلذة الذوق في المطعوم ولذة النظر في الصور المستحسنة إلى غير ذلك، وإلى لذة مدركة بالعقل كلذة الجاه والرياسة والعلوم وما يجري مجراها، فقد ثبت أن في اللذات الباعثة على المحبة ما لا يدركه إلا العقل دون الحس، ثم تتفاوت المحبة ضرورة بحسب تفاوت البواعث عليها فليس اللذة برياسة الإنسان على أهل قرية كلذته بالرياسة على أقاليم معتبرة، وإذا تفاوتت المحبة بحسب تفاوت البواعث فلذات العلوم أيضا متفاوتة بحسب تفاوت المعلومات، وليس معلوم أكمل ولا أجل من المعبود الحق، فاللذة الحاصلة من معرفته ومعرفة جلاله وكماله تكون أعظم، والمحبة
المنبعثة عنها تكون أمكن، وإذا حصلت هذه المحبة بعثت على الطاعات والموافقات، فقد تحصل من ذلك أن محبة العبد لربه سبحانه ممكنة بل واقعة من كل مؤمن فهي من لوازم الإيمان وشروطه، والناس فيها متفاوتون بحسب تفاوت إيمانهم، وإذا كان كذلك وجب تفسير محبة العبد لله عز وجل بمعناها الحقيقي لغة وكانت الطاعات والموافقات كالمسبب عنها والمغاير لها، ألا ترى إلى الأعرابي الذي سأل عن الساعة فقال النبي
162

صلى الله عليه وسلم: " ما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها كبير عمل ولكن حب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: المرء مع من أحب " فهذا ناطق بأن المفهوم من المحبة لله تعالى غير الأعمال والتزام الطاعات لأن الأعرابي نفاها وأثبت الحب وأقره صلى الله عليه وسلم على ذلك، ثم إذا ثبت إجراء محبة العبد لله تعالى على حقيقتها لغة والمحبة إذا تأكدت سميت عشقا، فهو المحبة البالغة المتأكدة، (والقول بأنه عبارة عن المحبة فوق قدر المحبوب فيكفر من قال: أنا عاشق لله تعالى أو لرسوله صلى الله عليه وسلم - كما قاله بعض ساداتنا الحنفية - في حيز المنع عندي)، والمعترفون بتصور محبة العبد لله عز شأنه بالمعنى الحقيقي ينسبون المنكرين إلى أنهم جهلوا فأنكروا كما أن الصبي ينكر على من يعتقد أن وراء اللعب لذة من جماع أو غيره، والمنهمك في الشهوات والغرام بالنساء يظن أن ليس وراء ذلك لذة من رياسة أو جاه أو نحو ذلك، وكل طائفة تسخر مما فوقها وتعتقد أنهم مشغولون في غير شيء. قال حجة الإسلام الغزالي روح الله تعالى روحه: والمحبون لله تعالى يقولون لمن أنكر عليهم ذلك: * (إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون) * (هود: 38) انتهى " مع أدنى زيادة.
ولم يتكلم على معنى محبة الله تعالى للعبد، وأنت تعلم أن ذلك من المتشابه والمذاهب فيه مشهورة، وقد قدمنا طرفا من الكلام في هذا المقام فتذكر. والمراد بهؤلاء القوم في المشهور أهل اليمن، فقد أخرج ابن أبي شيبة في " مسنده. والطبراني والحاكم وصححه من حديث عياض بن عمر الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت أشار إلى أبي موسى الأشعري - وهو من صميم اليمن - وقال: هم قوم هذا، وعن الحسن وقتادة والضحاك أنهم أبو بكر وأصحابه رضي الله تعالى عنهم الذين قاتلوا أهل الردة، وعن السدي أنهم الأنصار، وقيل: هم الذين جاهدوا يوم القادسية ألفان من النخع وخمسة آلاف من كندة وبجيلة وثلاثة آلاف من أفناء الناس، وقد حارب هناك سعد بن أبي وقاص رستم الشقي صاحب جيش يزدجر، وقال الإمامية: هم علي كرم الله تعالى وجهه وشيعته يوم وقعة الجمل وصفين، وعنهم أنهم المهدي ومن يتبعه، ولا سند لهم في ذلك إلا مروياتهم الكاذبة، وقيل: هم الفرس لأنه صلى الله عليه وسلم سئل عنهم فضرب يده على عاتق سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، وقال: هذا وذووه، وتعقبه العراقي قائلا: لم أقف على خبر فيه، وهو هنا وهم، وإنما ورد ذلك في قوله تعالى: * (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم) * (محمد: 38) كما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه فمن ذكره هنا فقد وهم.
* (أذلة على المؤمنين) * عاطفين عليهم متذللين لهم، جمع ذليل لا ذلول فإن جمعه ذلل، وكان الظاهر أن يقال: أذلة للمؤمنين كما يقال تذلل له، ولا يقال: تذلل عليه للمنافاة بين التذلل والعلو لكنه عدى بعلى لتضمينه معنى العطف والحنو المتعدي بها، وقيل: للتنبيه على أنهم مع علو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم. ولعل المراد بذلك أنه استعيرت على لمعنى اللام ليؤذن بأنهم غلبوا غيرهم من المؤمنين في التواضع حتى علوهم بهذه الصفة، لكن في استفادة هذا من ذاك خفاء، وكون المراد به أنه ضمن الوصف معنى الفضل والعلو - يعني أن كونهم أذلة ليس لأجل كونهم أذلاء في أنفسهم بل لإرادة أن يضموا إلى علو منصبهم وشرفهم فضيلة التواضع - لا يخفى ما فيه، لأن قائل ذلك قابله بالتضمين فيقتضي أن يكون وجها آخر لا تضمين فيه، وكون الجار على ذلك متعلقا بمحذوف وقع صفة أخرى - لقوم - ومع علو طبقتهم الخ تفسير لقوله سبحانه: * (على المؤمنين) * وخافضون الخ تفسير - لأذلة - مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، وقيل: عديت الذلة بعلى لأن
163

العزة في قوله تعالى: * (أعزة على الك‍افرين) * عديت بها كما يقتضيه استعمالها، وقد قارنتها فاعتبرت المشاكلة، وقد صرحوا أنه يجوز فيها التقديم والتأخير، وقيل: لأن العزة تتعدى بعلى والذلة ضدها، فعوملت معاملتها لأن النظير كما يحمل على النظير يحمل الضد على الضد كما صرح به ابن جني وغيره، وجر أذلة - و - أعزة على أنهما صفتان - لقوم - كالجملة السابقة، وترك العطف بينهما للدلالة على استقلالهم بالاتصاف بكل منهما، وفيه دليل على صحة تأخير الصفة الصريحة عن غير الصريحة، وقد جاء ذلك في غير ما آية، ومن لم يجوزه جعل الجملة هنا معترضة ولا يخفى أنه تكلف، ومعنى كونهم أعزة على الكافرين أنهم أشداء متغلبون عليهم من عزه إذا غلبه، ونص العلامة الطيبي أن هذا الوصف جىء به للتكميل لأن الوصف قبله يوهم أنهم أذلاء محقرون في أنفسهم، فدفع ذلك الوهم بالإتيان به على حد قوله:
جلوس في مجالسهم رزان * وإن ضيف ألم فهم خفوف
وقرىء أذلة - و - أعزة بالنصب على الحالية من - قوم - لتخصيصه بالصفة.
* (يج‍اهدون في سبيل الله) * بالقتال لإعلاء كلمته سبحانه وإعزاز دينه جل شأنه، وهو صفة أخرى - لقوم - مترتبة على ما قبلها مبينة مع ما بعدها لكيفية عزتهم، وجوز أبو البقاء أن يكون حالا من الضمير في * (أعزة) * أي يعزون مجاهدين، وأن يكون مستأنفا.
* (ولا يخافون لومة لائم) * فيما يأتون من الجهاد أو في كل ما يأتون ويذرون، وهو عطف على * (يجاهدون) * بمعنى أنهم جامعون بين المجاهدة والتصلب في الدين، وفيه تعريض بالمنافقين، وجوز أن يكون حالا من فاعل * (يجاهدون) * أي يجاهدون وحالهم غير حال المنافقين، والتعريض فيه حينئذ أظهر، وقيل: إنه على الأول لا تعريض فيه بل هو تتميم لمعنى * (يجاهدون) * مفيد للمبالغة والاستيعاب وليس بشيء، واعترض القول بالحالية بأنهم نصوا على أن المضارع المنفي - بلا أو - ما - كالمثبت في عدم جواز دخول الواو عليه، وأجيب بأن ذلك مبني على مذهب الزمخشري القائل بجواز اقتران المضارع المنفي - بلا، وما - بالواو، فإن النحاة جوزوه في المنفي - بلم، ولما - ولا فرق بينهما، و - اللومة - المرة من اللوم أي الاعتراض وهو مضاف لفاعله، وأصل لائم لاوم فاعل كقائم، وفي اللومة
مع تنكير لائم مبالغتان على ما قيل، ووجه ذلك العلامة الطيبي بأنه ينتفي بانتفاء الخوف من اللومة الواحدة خوف جميع اللومات لأن النكرة في سياق النفي تعم، ثم إذا انضم إليها تنكير فاعلها يستوعب انتفاء خوف جميع اللوام، فيكون هذا تتميما في تتميم أي لا يخافون شيئا من اللوم من أحد من اللوام. وقيل عليه: بأنه كيف يكون لومة أبلغ من لوم مع ما فيها من معنى الوحدة، فلو قيل: لوم لائم كان أبلغ وأجيب بأنها في الأصل للمرة لكن المراد بها هنا الجنس، وأتى بالتاء للإشارة إلى أن جنس اللوم عندهم بمنزلة لومة واحدة، وتعقب بأنه لا يدفع السؤال لأنه لا قرينة على هذا التجوز مع بقاء الإبهام فيه، وقد يقال: إن مقام المدح قرينة قوية على ذلك.
* (ذلك) * إشارة إلى ما تقدم من الأوصاف لا بعضها كما قيل، والإفراد لما تقدم، وكذاك ما فيه من معنى البعد * (فضل الله) * أي لطفه وإحسانه * (يؤتيه من يشاء) * إيتاءه إياه لا أنهم مستقلون في الاتصاف به * (والله واسع) * كثير الفضل، أو جواد لا يخاف نفاد ما عنده سبحانه * (عليم) *
164

مبالغ في تعلق العلم في جميع الأشياء التي من جملتها من هو أهل الفضل ومحله، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله، وإظهار الاسم الجليل للإشعار بالعلة وتأكيد استقلال الجملة الاعتراضية كما مر غير مرة. هذا ومن باب الإشارة في الآيات على ما قاله بعض العارفين: * (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب) * يحتمل أن يكون الكتاب الأول إشارة إلى علم الفرقان، والثاني إشارة إلى علم القرآن، والأول هو ظهور تفاصيل الكمال، والثاني هو العلم الإجمالي الثابت في الاستعداد، ومعنى كونه مهيمنا عليه حافظا عليه بالإظهار، ويحتمل أن يكون الأول إشارة إلى ما بين أيدينا من المصحف، والثاني إشارة إلى الجنس الشامل للتوراة التي دعوتها للظاهر والإنجيل الذي دعوته للباطن، وكتابنا مشتمل على الأمرين حافظ لكل من الكتابين * (فاحكم بينهم بما أنزل الله) * من العدل الذي هو ظل المحبة التي هي ظل الوحدة التي انكشفت عليك * (ولا تتبع أهواءهم) * في تغليب أحد الجانبين إما الظاهر وإما الباطن * (لكل جعلنا منكم شرعة) * موردا كمورد النفس ومورد القلب ومورد الروح * (ومنهاجا) * (المائدة: 47) طريقا كعلم الأحكام والمعارف التي تتعلق بالنفس وسلوك طريق الباطن الموصل إلى جنة الصفات وعلم التوحيد والمشاهدة الذي يتعلق بالروح وسلوك طريق الفناء الموصل إلى جنة الذات، وقال بعضهم: إن لله سبحانه بحارا للأرواح وأنهارا للقلوب وسواقي للعقول، ولكل واحد منها شرعة في ذلك ترد منها كشرعة العلم وشرعة القدرة وشرعة الصمدية وشرعة المحبة إلى غير ذلك، وله عز وجل طرق بعدد أنفاس الخلائق كما قال أبو يزيد قدس سره، والمراد بها الطرق الشخصية لا مطلقا وكلها توصل إليه سبحانه، وهذا إشارة إلى اختلاف مشارب القوم وعدم اتحاد مسالكهم، وقد قال جل وعلا: * (قد علم كل أناس مشربهم) * (البقرة: 60) وفرق سبحانه بين الأبرار والمقربين في ذلك، وقلما يتفق اثنان في مشرب ومنهج، ومن هنا ينحل الإشكال فيما حكي عن حضرة الباز الأشهب مولانا الشيخ محيي الدين عبد القادر الكيلاني قدس سره أنه قال: - لا زلت أسير في مهامه القدس حتى قطعت الآثار فلاح لي أثر قدم من بعيد فكادت روحي تزهق فإذا النداء هذا أثر قدم نبيك محمد صلى الله عليه وسلم - فإن ظاهره يقتضي سبقه للأنبياء والرسل أرباب التشريع عليهم الصلاة والسلام ونحوهم من الكاملين وهو كما ترى، ووجهه أنه قدس سره قطع الآثار في الطريق الذي هو فيه، وذلك يقتضي السبق على سالكي ذلك الطريق لا غير، فيجوز أن يكون مسبوقا بمن ذكرنا من السالكين طريقا آخر غير ذلك الطريق، وهذا أحسن ما يخطر لي في الجواب عن ذلك الإشكال نظرا إلى مشربي، ومشارب القوم شتى * (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) * متفقين في المشرب والطريق * (ولكن ليبولكم فيما آتاكم) * أي ليظهر عليكم ما آتاكم بحسب استعداداتكم على قدر قبول كل واحد منكم * (فاستبقوا الخيرات) * أي الأمور الموصلة لكم إلى كمالكم الذي قدر لكم بحسب الاستعدادات المقربة إياكم إليه بإخراجه إلى الفعل * (إلى الله مرجعكم) * في عين جمع الوجود على حسب المراتب * (فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) * (المائدة: 48) وذلك بإظهار آثار ما يقتضيه ذلك الاختلاف * (وأن احكم بينهم) * حسب ما تقتضيه الحكمة ويقبله الاستعداد * (بما أنزل الله) * إليك من القرآن الجامع للظاهر والباطن * (ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتونك عن بعض ما أنزل الله) * فتقصر على الظاهر البحت أو الباطن المحض وتنفي الآخر * (فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم) * كذنب حجب الأفعال لليهود. وذنب حجب الصفات للنصارى * (وإن كثيرا من الناس لفاسقون) * (المائدة: 49) وأنواع الفسق مختلفة، ففسق اليهود خروجهم عن حكم تجليات الأفعال الإلهية برؤية
165

النفس أفعالها، وفسق النصارى خروجهم عن حكم تجليات الصفات الحقانية برؤية النفس صفاتها، والفسق الذي يعتري بعض هذه الأمة الالتفات إلى ذواتهم والخروج عن حكم الوحدة الذاتية * (أفحكم الجاهلية يبغون) * (المائدة: 50) وهو الحكم الصادر عن مقام النفس بالجهل لا عن علم إلهي * (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه) * الحق فيحتجب ببعض الحجب * (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم) * في الأزل لا لعلة * (ويحبونه) * كذلك ومرجع المحبة التي لا تتغير عند الصوفية الذات دون الصفات كما قاله الواسطي، وطعن فيه - كما قدمنا - الزمخشري، وحيث أحبهم - ولم يكونوا إلا في العلم - كان المحب والمحبوب واحدا في عين الجمع. وقال السلمي: إنهم بفضل حبه لهم أحبوه وإلا فمن أين لهم المحبة لله تعالى وما للتراب ورب الأرباب؟! وشرط الحب - كما قال - أن يلحقه سكرات المحبة، وإلا فليس بحب حقيقة، وقالت أعرابية في صفة الحب: خفي أن يرى وجل أن يخفى فهو كامن ككمون النار في الحجر إن قدحته أورى وإن تركته توارى وإن لم يكن شعبة من الجنون فهو عصارة السحر، وهذا شأن حب الحادث فكيف شأن حب القديم جل شأنه، والكلام في ذلك طويل * (أذلة على المؤمنين) * لمكان الجنسية الذاتية ورابطة المحبة الأزلية والمناسبة الفطرية بينهم * (أعزة على الكافرين) * المحجوبين لضد ما ذكر * (يجاهدون في سبيل الله) * بمحو صفاتهم وإفناء ذواتهم التي هي حجب المشاهدة * (ولا يخافون لومة لائم) * لفرط حبهم الذي هو الرشاد الأعظم للمتصف به:
وإذا الفتى عرف الرشاد لنفسه * هانت عليه ملامة العزال
بل إذا صدقت المحبة التذ المحب بالملامة كما قيل: أجد الملامة في هواك لذيذة * حبا لذكرك فليلمني اللوم
* (ذلك فضل الله) * الذي لا يدرك شأواه * (يؤتيه من يشاء) * من عباده الذين سبقت لهم العناية الإلهية * (والله واسع) * الفضل * (عليم) * (المائدة: 54)
حيث يجعل فضله، نسأل الله تعالى أن يمن علينا بفضله الواسع وجوده الذي ليس له مانع..
* (إنما وليكم الله ورسوله والذين ءامنوا الذين يقيمون الصلواة ويؤتون الزكواة وهم راكعون) *.
ثم إنه سبحانه لما قال: * (لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) * (المائدة: 51) وعلله بما علله، ذكر عقب ذلك من هو حقيق بالموالاة بطريق القصر، فقال عز وجل:
* (إنما وليكم الله ورسوله والذين ءامنوا) * فكأنه قيل: لا تتخذوا أولئك أولياء لأن بعضهم أولياء بعض وليسوا بأوليائكم إنما أولياؤكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون فاختصوهم بالموالاة ولا تتخطوهم إلى الغير، وأفرد الولي مع تعدده ليفيد كما قيل: أن الولاية لله تعالى بالأصالة وللرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بالتبع، فيكون التقدير إنما وليكم الله سبحانه وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا، فيكون في الكلام أصل وتبع لا أن وليكم مفرد استعمل استعمال الجمع كما ظن صاحب " الفرائد "؛ فاعترض بأن ما ذكر بعيد عن قاعدة الكلام لما فيه من جعل ما لا يستوي الواحد والجمع جمعا، ثم قال: ويمكن أن يقال: التقدير إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا أولياؤكم فحذف الخبر لدلالة السابق عليه، وفائدة الفصل في الخبر هي التنبيه على أن كونهم أولياء بعد كونه سبحانه وليا، ثم بجعله إياهم أولياء، ففي الحقيقة هو الولي انتهى. ولا يخفى على المتأمل أن المآل متحد والمورد واحد، ومما تقرر يعلم أن قول الحلبي ويحتمل وجها آخر وهو أن وليا زنة فعيل، وقد نص أهل اللسان أنه يقع للواحد والاثنين والجمع تذكيرا وتأنيثا بلفظ واحد - كصديق - غير واقع موقعه لأن الكلام في سر بياني وهو نكتة العدول من لفظ إلى لفظ، ولا يرد على ما قدمنا أنه لو كان التقدير كذلك لنا في حصر الولاية في الله تعالى ثم إثباتها للرسول صلى الله عليه وسلم
166

وللمؤمنين، لأن الحصر باعتبار أنه سبحانه الولي أصالة وحقيقة، وولاية غيره إنما هي بالإسناد إليه عز شأنه.
* (الذين يقيمون الصلواة ويؤتون الزكواة) * بدل من الموصول الأول، أو صفة له باعتبار إجرائه مجرى الأسماء لأن الموصول وصلة إلى وصف المعارف بالجمل والوصف لا يوصف إلا بالتأويل، ويجوز أن يعتبر منصوبا على المدح، ومرفوعا عليه أيضا، وفي قراءة عبد الله * (- و - الذين يقيمون الصلاة) * بالواو * (وهم راكعون) * حال من فاعل الفعلين أي يعملون ما ذكر من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهم خاشعون ومتواضعون لله تعالى. وقيل: هو حال مخصوصة بإيتاء الزكاة، والركوع ركوع الصلاة، والمراد بيان كمال رغبتهم في الإحسان ومسارعتهم إليه.
وغالب الأخباريين على أنها نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه، فقد أخرج الحاكم وابن مردويه وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بإسناد متصل قال: " أقبل ابن سلام ونفر من قومه آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إن منازلنا بعيدة وليس لنا مجلس ولا متحدث دون هذا المجلس وأن قومنا لما رأونا آمنا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وصدقناه رفضونا وآلوا على نفوسهم أن لا يجالسونا ولا يناكحونا ولا يكلمونا فشق ذلك علينا، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: إنما وليكم الله ورسوله، ثم إنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى المسجد والناس بين قائم وراكع فبصر بسائل فقال: هل أعطاك أحد شيئا؟ فقال: نعم خاتم من فضة، فقال: من أعطاكه؟ فقال: ذلك القائم، وأومأ إلى علي كرم الله تعالى وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على أي حال أعطاك؟ فقال: وهو راكع، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم ثم تلا هذه الآية " فأنشأ حسان رضي الله تعالى عنه يقول: أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي * وكل بطيء في الهدى ومسارع
أيذهب مدحيك المحبر ضائعا * وما المدح في جنب الإله بضائع
فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعا * زكاة فدتك النفس يا خير راكع
فأنزل فيك الله خير ولاية * وأثبتها أثنا كتاب الشرائع
واستدل الشيعة بها على إمامته كرم الله تعالى وجهه، ووجه الاستدلال بها عندهم أنها بالإجماع أنها نزلت فيه كرم الله تعالى وجهه، وكلمة * (إنما) * تفيد الحصر، ولفظ الولي بمعنى المتولي للأمور والمستحق للتصرف فيها، وظاهر أن المراد هنا التصرف العام المساوي للإمامة بقرينة ضم ولايته كرم الله تعالى وجهه بولاية الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فثبتت إمامته وانتفت إمامة غيره وإلا لبطل الحصر، ولا إشكال في التعبير عن الواحد بالجمع، فقد جاء في غير ما موضع؛ وذكر علماء العربية أنه يكون لفائدتين: تعظيم الفاعل وأن من أتى بذلك الفعل عظيم الشأن بمنزلة جماعة كقوله تعالى: * (إن إبراهيم كان أمة) * (النحل: 120) ليرغب الناس في الإتيان بمثل فعله، وتعظيم الفعل أيضا حتى أن فعله سجية لكل مؤمن، وهذه نكتة سرية تعتبر في كل مكان بما يليق به.
وقد أجاب أهل السنة عن ذلك بوجوه: الأول: النقض بأن هذا الدليل كما يدل بزعمهم على نفي إمامة الأئمة المتقدمين كذلك يدل على سلب الإمامة عن الأئمة المتأخرين كالسبطين رضي الله تعالى عنهما وباقي الاثني عشر رضي الله تعالى عنهم أجمعين بعين ذلك التقرير، فالدليل يضر الشيعة أكثر مما يضر أهل السنة كما لا يخفى، ولا يمكن أن يقال: الحصر إضافي بالنسبة إلى من تقدمه لأنا نقول: إن حصر ولاية من استجمع
167

تلك الصفات لا يفيد إلا إذا كان حقيقيا، بل لا يصح لعدم استجماعها فيمن تأخر عنه كرم الله تعالى وجهه، وإن أجابوا عن النقض بأن المراد حصر الولاية في الأمير كرم الله تعالى وجهه في بعض الأوقات أعني وقت أمامته لا وقت إمامة السبطين ومن بعدهم رضي الله تعالى عنهم قلنا: فمرحبا بالوفاق إذ مذهبنا أيضا أن الولاية العامة كانت له وقت كونه إماما لا قبله وهو زمان خلافة الثلاثة، ولا بعده وهو زمان خلافة من ذكر.
فإن قالوا: إن الأمير كرم الله تعالى وجهه لو لم يكن صاحب ولاية عامة في عهد الخلفاء يلزمه نقص بخلاف وقت خلافة أشباله الكرام رضي الله تعالى عنهم فإنه لما لم يكن حيا لم تصر إمامة غيره موجبة لنقص شرفه الكامل لأن الموت رافع لجميع الأحكام الدنيوية يقال: هذا فرار وانتقال إلى استدلال آخر ليس مفهوما من الآية إذ مبناه
على مقدمتين: الأولى: أن كون صاحب الولاية العامة في ولاية الآخر - ولو في وقت من الأوقات - غير مستقل بالولاية نقص له، والثانية: أن صاحب الولاية العامة لا يلحقه نقص ما بأي وجه وأي وقت كان، وكلتاهما لا يفهمان من الآية أصلا كما لا يخفى على ذي فهم، على أن هذا الاستدلال منقوض بالسبطين زمن ولاية الأمير كرم الله تعالى وجهه، بل وبالأمير أيضا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني: أنا لا نسلم الإجماع على نزولها في الأمير كرم الله تعالى وجهه، فقد اختلف علماء التفسير في ذلك، فروى أبو بكر النقاش صاحب " التفسير المشهور " عن محمد الباقر رضي الله تعالى عنه أنها نزلت في المهاجرين والأنصار، وقال قائل: نحن سمعنا أنها نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه، فقال: هو منهم يعني أنه كرم الله تعالى وجهه داخل أيضا في المهاجرين والأنصار ومن جملتهم. وأخرج أبو نعيم في " الحلية " عن عبد الملك بن أبي سليمان وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الباقر رضي الله تعالى عنه أيضا نحو ذلك، وهذه الرواية أوفق بصيغ الجمع في الآية، وروى جمع من المفسرين عن عكرمة أنها نزلت في شأن أبي بكر رضي الله تعالى عنه، والثالث: أنا لا نسلم أن المراد بالولي المتولي للأمور والمستحق للتصرف فيها تصرفا عاما، بل المراد به الناصر لأن الكلام في تقوية قلوب المؤمنين وتسليها وإزالة الخوف عنها من المرتدين وهو أقوى قرينة على ما ذكره، ولا يأباه الضم كما لا يخفى على من فتح الله تعالى عين بصيرته، ومن أنصف نفسه علم أن قوله تعالى فيما بعد: * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء) * (المائدة: 57) آب عن حمل الولي على ما يساوي الإمام الأعظم لأن أحدا لم يتخذ اليهود والنصارى والكفار أئمة لنفسه وهم أيضا لم يتخذ بعضهم بعضا إماما، وإنما اتخذوا أنصارا وأحبابا، وكلمة * (إنما) * المفيدة للحصر تقتضي ذلك المعنى أيضا لأن الحصر يكون فيما يحتمل اعتقاد الشركة والتردد والنزاع، ولم يكن بالإجماع وقت نزول هذه الآية تردد ونزاع في الإمامة وولاية التصرف؛ بل كان في النصرة والمحبة، والرابع: أنه لو سلم أن المراد ما ذكروه فلفظ الجمع عام، أو مساو له - كما ذكره المرتضى في " الذريعة ". وابن المطهر في " النهاية - والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب كما اتفق عليه الفريقان، فمفاد الآية حينئذ حصر الولاية العامة لرجال متعددين يدخل فيهم الأمير كرم الله تعالى وجهه، وحمل العام على الخاص خلاف الأصل لا يصح ارتكابه بغير ضرورة ولا ضرورة.
فإن قالوا: الضرورة متحققة ههنا إذ التصدق على السائل في حال الركوع لم يقع من أحد غير الأمير كرم الله تعالى وجهه قلنا: ليست الآية نصا في كون التصدق واقعا في حال ركوع الصلاة لجواز أن يكون
168

الركوع بمعنى التخشع والتذلل لا بالمعنى المعروف في عرف أهل الشرع كما في قوله: لا تهين الفقير علك أن * (تركع) يوما والدهر قد رفعه
وقد استعمل بهذا المعنى في القرآن أيضا كما قيل في قوله سبحانه: * (واركعي مع الراكعين) * (آل عمران: 43) إذ ليس في صلاة من قبلنا من أهل الشرائع ركوع هو أحد الأركان بالإجماع، وكذا في قوله تعالى: * (وخر راكعا) * (ص: 24) وقوله عز وجل: * (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون) * (المرسلات: 48) على ما بينه بعض الفضلاء، وليس حمل الركوع في الآية على غير معناه الشرعي بأبعد من حمل الزكاة المقرونة بالصلاة على مثل ذلك التصدق، وهو لازم على مدعي الإمامية قطعا. وقال بعض منا أهل السنة: إن حمل الركوع على معناه الشرعي وجعل الجملة حالا من فاعل * (يؤتون) * يوجب قصورا بينا في مفهوم * (يقيمون الصلاة) * إذ المدح والفضيلة في الصلاة كونها خالية عما لا يتعلق بها من الحركات سواء كانت كثيرة أو قليلة، غاية الأمر أن الكثيرة مفسدة للصلاة دون القليلة ولكن تؤثر قصورا في معنى إقامة الصلاة ألبتة، فلا ينبغي حمل كلام الله تعالى الجليل على ذلك انتهى.
وبلغني أنه قيل لابن الجوزي رحمه الله تعالى: كيف تصدق علي كرم الله تعالى وجهه بالخاتم وهو في الصلاة والظن فيه - بل العلم الجازم - أن له كرم الله تعالى وجهه شغلا شاغلا فيها عن الالتفات إلى ما لا يتعلق بها، وقد حكى مما يؤيد ذلك كثير؟ فأنشأ يقول: يسقي ويشرب لا تلهيه سكرته * عن النديم ولا يلهو عن الناس
أطاعه سكره حتى تمكن من * فعل الصحاة فهذا واحد الناس وأجاب الشيخ إبراهيم الكردي قدس سره عن أصل الاستدلال بأن الدليل قائم في غير محل النزاع، وهو كون علي كرم الله تعالى وجه إماما بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير فصل لأن ولاية * (الذين آمنوا) * على زعم الإمامية غير مرادة في زمان الخطاب، لأن ذلك عهد النبوة، والإمامة نيابة فلا تتصور إلا بعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يكن زمان الخطاب مرادا تعين أن يكون المراد الزمان المتأخر عن زمن الانتقال ولا حد للتأخير فليكن ذلك بالنسبة إلى الأمير كرم الله تعالى وجهه بعد مضي زمان الأئمة الثلاثة فلم يحصل مدعى الإمامية، ومن العجائب أن " صاحب إظهار " الحق قد بلغ سعيه الغاية القصوى في تصحيح الاستدلال بزعمه، ولم يأت بأكثر مما يضحك الثكلى وتفزع من سماعه الموتى، فقال: إن الأمر بمحبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم يكون بطريق الوجوب لا محالة، فالأمر بمحبة المؤمنين المتصفين بما ذكر من الصفات وولايتهم أيضا كذلك إذ الحكم في كلام واحد يكون موضعه متحدا أو متعددا أو متعاطفا لا يمكن أن يكون بعضه واجبا وبعضه مندوبا وإلا لزم استعمال اللفظ بمعنيين، فإذا كانت محبة أولئك المؤمنين وولايتهم واجبة وجوب محبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم امتنع أن يراد منهم كافة المسلمين وكل الأمة باعتبار أن من شأنهم الاتصاف بتلك الصفات لأن معرفة كل منهم ليحب ويوالي مما لا يمكن لأحد من المكلفين بوجه من الوجوه، وأيضا قد تكون معاداة المؤمنين لسبب من الأسباب مباحة بل واجبة فتعين أن يراد منهم البعض، وهو علي المرتضى كرم الله تعالى وجهه انتهى.
ويرد عليه أنه مع تسليم المقدمات أين اللزوم بين الدليل والمدعى؟ وكيف استنتاج المتعين من المطلق، وأيضا لا يخفى على من له أدنى تأمل أن موالاة المؤمنين من جهة الإيمان أمر عام بلا قيد ولا جهة، وترجع إلى موالاة
169

إيمانهم في الحقيقة، والبغض لسبب غير ضار فيها، وأيضا ماذا يقول في قوله سبحانه: * (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) * (التوبة: 71) الآية،
وأيضا ماذا يجاب عن معاداة الكفار وكيف الأمر فيها وهم أضعاف المؤمنين؟ ومتى كفت الملاحظة الإجمالية هناك فلتكف هنا، وأنت تعلم أن ملاحظة الكثرة بعنوان الوحدة مما لا شك في وقوعها فضلا عن إمكانها، والرجوع إلى علم الوضع يهدي لذلك، والمحذور كون الموالاة الثلاثة في مرتبة واحدة وليس فليس إذ الأولى: أصل. والثانية: تبع. والثالثة: تبع التبع، فالمحمول مختلف، ومثله الموضوع إذ الموالاة من الأمور العامة وكالعوارض المشككة، والعطف موجب للتشريك في الحكم لا في جهته، فالموجود في الخارج الواجب والجوهر والعرض مع أن نسبة الوجود إلى كل غير نسبته إلى الآخر، والجهة مختلفة بلا ريب، وهذا قوله سبحانه: * (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) * (يوسف: 108) مع أن الدعوة واجبة على الرسول صلى الله عليه وسلم مندوبة في غيره، ولهذا قال الأصوليون: القران في النظم لا يوجب القران في الحكم، وعدوا هذا النوع من الاستدلال من المسالك المردودة، ثم إنه أجاب عن حديث عدم وقوع التردد مع اقتضاء * (إنما) * له بأنه يظهر من بعض أحاديث أهل السنة أن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم التمسوا من حضرة النبي صلى الله عليه وسلم الاستخلاف، فقد روى الترمذي عن حذيفة " أنهم قالوا: يا رسول الله لو استخلفت؟ قال: لو استخلفت عليكم فعصيتموه عذبتم ولكن ما حدثكم حذيفة فصدقوه وما أقرأكم عبد الله فاقرأوه " وأيضا استفسروا منه عليه الصلاة والسلام عمن يكون إماما بعده صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج أحمد عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: " قيل: يا رسول الله من نؤمر بعدك؟ قال: إن تؤمروا أبا بكر رضي الله تعالى عنه تجدوه أمينا زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة، وإن تؤمروا عمر رضي الله تعالى عنه تجدوه قويا أمينا لا يخاف في الله لومة لائم، وإن تؤمروا عليا - ولا أراكم فاعلين - تجدوه هاديا مهديا يأخذ بكم الصراط المستقيم " وهذا الالتماس والاستفسار يقتضي كل منهما وقوع التردد في حضوره صلى الله عليه وسلم عند نزول الآية، فلم يبطل مدلول * (إنما) * انتهى، وفيه أن محض السؤال والاستفسار لا يقتضي وقوع التردد، نعم لو كانوا شاوروا في هذا الأمر ونازع بعضهم بعضا بعدما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم جواب ما سألوه لتحقق المدلول، وليس فليس، ومجرد السؤال والاستفسار غير مقتض - لإنما - ولا من مقاماته بل هو من مقامات - إن - والفرق مثل الصبح ظاهر، وأيضا لو سلمنا التردد، ولكن كيف العلم بأنه بعد الآية أو قبلها منفصلا أو متصلا سببا للنزول أو اتفاقيا، ولا بد من إثبات القبلية والاتصال والسببية، وأين ذلك؟ والاحتمال غير مسموع ولا كاف في الاستدلال. وبعد هذا كله الحديث الثاني ينافي الحصر صريحا لأنه صلى الله عليه وسلم في مقام السؤال عن المستحق للخلافة ذكر الشيخين، فإن كانت الآية متقدمة لزم مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن أو بالعكس لزم التكذيب، والنسخ لا يعقل في الأخبار على ما قرر، ومع ذا تقدم كل على الآخر مجهول فسقط العمل.
فإن قالوا: الحديث خبر الواحد وهو غير مقبول في باب الإمامة قلنا: وكذلك لا يقبل في إثبات التردد والنزاع الموقوف عليه التمسك بالآية، والحديث الأول يفيد أن ترك الاستخلاف أصلح فتركه - كما تفهمه الآية بزعمهم - تركه، وهم لا يجوزونه فتأمل، وذكر الطبرسي في " مجمع البيان " وجها آخر غير ما ذكره صاحب " إظهار الحق " في " أن الولاية مختصة، وهو أنه سبحانه قال: * (إنما وليكم الله) * فخاطب جميع المؤمنين، ودخل في الخطاب
170

النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، ثم قال تعالى: * (ورسوله) * فأخرج نبيه عليه الصلاة والسلام من جملتهم لكونهم مضافين إلى ولايته، ثم قال جل وعلا: * (والذين آمنوا) * فوجب أن يكون الذي خوطب بالآية غير الذي جعلت له الولاية، وإلا لزم أن يكون المضاف هو المضاف إليه بعينه، وأن يكون كل واحد من المؤمنين ولي نفسه وذلك محال " انتهى.
وأنت تعلم أن المراد ولاية بعض المؤمنين بعضا لا أن يكون كل واحد منهم ولي نفسه، وكيف يتوهم من قولك مثلا: أيها الناس لا تغتابوا الناس إنه نهي لكل واحد من الناس أن يغتاب نفسه، وفي الخبر أيضا " صوموا يوم يصوم الناس " ولا يختلج في القلب أنه أمر لكل أحد أن يصوم يوم يصوم الناس، ومثل ذلك كثير في كلامهم، وما قدمناه في سبب النزول ظاهر في أن المخاطب بذلك ابن سلام وأصحابه، وعليه لا إشكال إلا أن ذلك لا يعتبر مخصصا كما لا يخفى، فالآية على كل حال لا تدل على خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه على الوجه الذي تزعمه الإمامية، وهو ظاهر لمن تولى الله تعالى حفظ ذهنه عن غبار العصبية..
* (ومن يتول الله ورسوله والذين ءامنوا فإن حزب الله هم الغ‍البون) *.
* (ومن يتول الله ورسوله والذين ءامنوا) * أي ومن يتخذهم أولياء، وأوثر الإظهار على الإضمار رعاية لما مر (في الآية السابقة) من نكتة بيان أصالته تعالى في الولاية كما ينبىء عنه قوله تعالى: * (فإن حزب الله هم الغ‍البون) * حيث أضيف الحزب - أي الطائفة والجماعة مطلقا أو الجماعة التي فيها شدة - إليه تعالى خاصة؛ وفي هذا - على رأي وضع الظاهر موضع الضمير أيضا العائد إلى * (من) * أي فإنهم الغالبون لكنهم جعلوا حزب الله تعالى - تعظيما لهم وإثباتا لغلبتهم بالطريق البرهاني كأنه قيل: ومن يتول هؤلاء فإنهم حزب الله تعالى وحزب الله تعالى هم الغالبون. والجملة دليل الجواب عند كثير من المعربين..
* (ي‍اأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكت‍ابمن قبلكم والكفار أوليآء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين) *.
* (يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا) * أخرج ابن إسحاق وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحرث قد أظهرا الإسلام ونافقا، وكان رجال من المسلمين يوادونهما فأنزل الله تعالى هذه الآية، ورتب سبحانه النهي على وصف يعمهما وغيرهما تعميما للحكم وتنبيها على العلة وإيذانا بأن من هذا شأنه جدير بالمعاداة فكيف بالموالاة، والهزؤ - كما في " الصحاح " - السخرية، تقول: هزئت منه، وهزئت به - عن الأخفش - واستهزأت به وتهزأت وهزأت به أيضا هزؤا ومهزأة - عن أبي زيد - ورجل هزأة بالتسكين أي يهزأ به، وهزأة بالتحريك يهزأ بالناس، وذكر الزجاج أنه يجوز في * (هزوا) * أربعة أوجه: الأول: - هزؤ - بضم الزاي مع الهمزة وهو الأصل والأجود، والثاني: - هزو - بضم الزاي مع إبدال الهمزة واوا لانضمام ما قبلها، والثالث: - هزأ - بإسكان الزاي مع الهمزة، والرابع: - هزى - كهدى، ويجوز القراءة بما عدا الأخير، و - اللعب - بفتح أوله وكسر ثانيه كاللعب،
واللعب بفتح اللام وكسرها مع سكون العين، والتلعاب مصدر لعب كسمع، وهو ضد الجد كما في " القاموس " وفي " مجمع البيان " " هو الأخذ على غير طريق (الجد)، ومثله العبث، وأصله من لعاب الصبي يقال: لعب (كسمع ومنع) إذا سال لعابه وخرج إلى غير جهة "، والمصدران: إما بمعنى اسم المفعول، أو الكلام على حذف مضاف أو قصد المبالغة.
وقوله تعالى: * (من الذين أوتوا الكت‍ابمن قبلكم) * في موضع الحال من * (الذين) * قبله، أو من فاعل - اتخذوا - والتعرض لعنوان إيتاء الكتاب لبيان كمال شناعتهم وغاية ضلالتهم لما أن إيتاء الكتاب وازع لهم عن اتخاذ دين المؤمنين المصدقين بكتابهم هزوا ولعبا * (والكفار) *
171

أي المشركين، وقد ورد بهذا المعنى في مواضع من القرآن وخصوا به لتضاعف كفرهم، وهو عطف على الموصول الأول، وعليه لا تصريح باستهزائهم هنا، وإن أثبت لهم في آية * (إنا كفيناك المستهزئين) * (الحجر: 95) إذ المراد بهم مشركو العرب، ولا يكون النهي حينئذ بالنظر إليهم معللا بالاستهزاء بل نهوا عن موالاتهم ابتداءا، وقرأ الكسائي وأهل البصرة * (والكفار) * بالجر عطفا على الموصول الأخير، ويعضد ذلك قراءة أبي - ومن الكفار - وقراءة عبد الله - ومن الذين أشركوا - فهم أيضا من جملة المستهزئين صريحا، وقوله تعالى: * (أولياء) * مفعول ثان - للاتتخذوا - والمراد جانبوهم كل المجانبة * (واتقوا الله) * في ذلك بترك موالاتهم، أو بترك المناهي على الإطلاق فيدخل فيه ترك موالاتهم دخولا أوليا * (إن كنتم مؤمنين) * حقا فإن قضية الإيمان توجب الاتقاء لا محالة..
* (وإذا ن‍اديتم إلى الصلواة اتخذوها هزوا ولعبا ذالك بأنهم قوم لا يعقلون) *.
* (وإذا ناديتم) * أي دعا بعضكم بعضا * (إلى الصلواة اتخذوها) * أي الصلاة، أو المناداة إليها * (هزوا ولعبا) *. أخرج البيهقي في " الدلائل " من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نادى بالصلاة فقام المسلمون إليها قالت اليهود: قد قاموا لا قاموا، فإذا رأوهم ركعا وسجدا استهزأوا بهم وضحكوا منهم، وأخرج ابن جرير وغيره عن السدي قال: كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي - أشهد أن محمدا رسول الله - قال: (حرق) الكاذب، فدخلت خادمه ذات ليلة بنار وهو نائم وأهله نيام فسقطت شرارة فأحرقت البيت وأحرق هو وأهله، والكلام مسوق لبيان استهزائهم بحكم خاص من أحكام الدين بعد بيان استهزائهم بالدين على الإطلاق إظهارا لكمال شقاوتهم * (ذالك) * أي الاتخاذ المذكور * (بأنهم) * أي بسبب أنهم * (قوم لا يعقلون) * فإن السفه يؤدي إلى الجهل بمحاسن الحق والهزء به، ولو كان لهم عقل في الجملة لما اجترأوا على تلك العظيمة.
قيل: وفي الآية دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده، واعترض بأن قوله سبحانه: * (وإذا ناديتم) * لا يدل على الأذان اللهم إلا أن يقال: حيث ورد بعد ثبوته كان إشارة إليه فيكون تقريرا له، قال في " الكشف " أقول فيه: إن اتخاذ المناداة هزؤا منكر من المناكير لأنها من معروفات الشرع، فمن هذه الحيثية دل على أن المناداة التي كانوا عليها حق مشروع منه تعالى، وهو المراد بثبوته بالنص بعد أن ثبت ابتداءا بالسنة ومنام عبد الله بن زيد الأنصاري الحديث بطوله، ولا ينافيه أن ذلك كان أول ما قدموا المدينة، والمائدة من آخر القرآن نزولا، وقوله: لا بالمنام وحده ليس فيه ما يدل على أن السنة غير مستقلة في الدلالة لأن الأدلة الشرعية معرفات وأمارات لا مؤثرات وموجبات؛ وترادف المعرفات لا ينكر انتهى، ولأبي حيان في هذا المقام كلام لا ينبغي أن يلتفت إليه لما فيه من المكابرة الظاهرة، وسمي الأذان مناداة لقول المؤذن فيه: حي على الصلاة حي على الفلاح..
* (قل ي‍اأهل الكت‍ابهل تنقمون منآ إلا أن ءامنا بالله ومآ أنزل إلينا ومآ أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون) *.
* (قل يا أهل الكت‍اب) * أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق تلوين الخطاب بعد نهي المؤمنين عن تولي المستهزئين بأن يخاطبهم ويبين أن الدين منزه عما يصحح صدور ما صدر منهم من الاستهزاء ويظهر لهم سبب ما ارتكبوه ويلقمهم الحجر، ووصفوا بأهلية الكتاب تمهيدا لما سيذكر سبحانه من تبكيتهم وإلزامهم بكفرهم بكتابهم أي قل يا محمد لأولئك الفجرة * (هل تنقمون منا) * أي هل تنكرون وتعيبون منا، وهو من نقم منه كذا إذا أنكره وكرهه من حد ضرب، وقرأ الحسن * (تنقمون) *
172

بفتح القاف من حد علم، وهي لغة قليلة، وقال الزجاج: يقال: نقم بالفتح والكسر، ومعناه بالغ في كراهة الشيء، وأنشد لعبد الله بن قيس:
(ما نقموا) من بني أمية * إلا أنهم يحلمون إن غضبوا
وفي " النهاية " " يقال: نقم ينقم إذا بلغت به الكراهة حد السخط، ويقال: نقم من فلان الإحسان إذا جعله مما يؤديه إلى كفر النعمة، ومنه حديث الزكاة " ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله تعالى " أي ما ينقم شيئا من منع الزكاة إلا أن يكفر النعمة، فكأن غناه أداه إلى كفر نعمة الله تعالى "، وعن الراغب إن تفسير نقم بأنكر وأعاب لأن " النقمة معناها الإنكار باللسان أو بالعقوبة " لأنه لا يعاقب إلا على ما ينكر فيكون على حد قوله: ونشتم بالأفعال لا بالتكلم
وهو كما قال الشهاب: مما يعدي - بمن، وعلى - وقال أبو حيان (3 / 517): " أصله أن يتعدى بعلى، ثم افتعل المبني منه يعدى بمن لتضمنه معنى الإصابة بالمكروه، وهنا فعل بمعنى افتعل " ولم يذكر له مستندا في ذلك.
* (إلا أن ءامنا بالله وما أنزل إلينا) * من القرآن المجيد. * (وما أنزل من قبل) * أي من قبل إنزاله من التوراة والإنجيل وسائر الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
* (وأن أكثرهم فاسقون) * أي متمردون خارجون عن دائرة الإيمان بما ذكر، فإن الكفر بالقرآن العظيم مستلزم للكفر بسائر الكتب كما لا يخفى، والواو للعطف وما بعدها عطف على * (أن آمنا) *. واختار بعض أجلة المحققين أنه مفعول له - لتنقمون - والمفعول به الدين، وحذف ثقة بدلالة ما قبل وما بعد عليه دلالة واضحة،
فإن اتخاذ الدين هزوا ولعبا عين نقمه وإنكاره، والإيمان بما فصل عين الدين الذي نقموه، خلا أنه (أبرز) في معرض علة نقمهم له تسجيلا عليهم بكمال المكابرة والتعكيس حيث جعلوه موجبا لنقمه مع كونه في نفسه موجبا لقبوله وارتضائه، فالاستثناء على هذا من أعم العلل أي ما تنقمون منا ديننا لعلة من العلل إلا لإيماننا بالله تعالى وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل من كتبكم ولأن أكثركم متمردون غير مؤمنين بشيء مما ذكر حتى لو كنتم مؤمنين بكتابكم الناطق بصحة كتابنا لآمنتم به، وقدر بعضهم المفعول المحذوف شيئا ولا أرى فيه بأسا، وقيل: العطف على * (أن آمنا) * باعتبار كونه المفعول به لكن لا على أن المستثنى مجموع المعطوفين إذ لا يعترفون أن أكثرهم فاسقون حتى ينكروه بل هو ما يلزمهما من المخالفة، فكأنه قيل: هل تنكرون منا إلا أنا على حال يخالف حالكم حيث دخلنا في الإسلام وخرجتم منه بما خرجتم، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي واعتقاد أن أكثركم فاسقون، وقيل: العطف على المؤمن به أي هل تنقمون منا إلا إيماننا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وبأن أكثركم كافرون، وهذا في المعنى كالوجه الذي قبله. وقيل: العطف على علة محذوفة، وقد حذف الجار في جانب المعطوف، ومحله إما جر أو نصب على الخلاف المشهور أي هل تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم ولأن أكثركم فاسقون، وقيل: هو منصوب بفعل مقدر منفي دل عليه المذكور أي ولا تنقمون أن أكثركم فاسقون، وقيل: هو مبتدأ خبره محذوف، ويقدر مقدما عند بعض لأن * (أن) * المفتوحة لا يقع ما معها مبتدأ إلا إذا تقدم الخبر.
وقال أبو حيان (3 / 517): " إن * (أن) * لا يبتدأ بها متقدمة إلا بعد أما فقط "، وخالف الكثير من النحاة في هذا الشرط على أنه يغتفر في الأمور التقديرية ما لا يغتفر في غيرها، والجملة على التقديرين حالية، أو معترضة أي وفسقكم
173

ثابت أو معلوم، وقيل: الواو بمعنى مع أي هل تنقمون منا إلا الإيمان مع أن أكثركم الخ؟ وتعقبه العلامة التفتازاني بأن هذا لا يتم على ظاهر كلام النحاة من أنه لا بد في المفعول معه من المصاحبة في معمولية الفعل، وحينئذ يعود المحذور وهو أنهم نقموا كون أكثرهم فاسقين، نعم يصح على مذهب الأخفش حيث اكتفى في المفعول معه بالمقارنة في الوجود مستدلا بقولهم: سرت والنيل وجئتك وطلوع الشمس، وبحث فيه بأن ذلك الاشتراط في المفعول معه لا يوجب الاشتراط في كل واو بمعنى مع، فليكن الواو بمعنى مع من غير أن يكون مفعولا معه لانتفاء شرطه وهو مصاحبته معمول الفعل بل يكون للعطف. وقيل: الواو زائدة * (وأن أكثركم) * الخ في موضع التعليل أي هل تنقمون منا إلا الإيمان لأن أكثركم فاسقون. وقرأ نعيم بن ميسرة وإن أكثركم بكسر الهمزة، والجملة حينئذ مستأنفة مبينة لكون أكثرهم متمردين، والمراد بالأكثر من لم يؤمن * (وما آمن منهم إلا قليل) *..
* (قل هل أنبئكم بشر من ذالك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الط‍اغوت أول‍ائك شر مكانا وأضل عن سوآء السبيل) *.
* (قل هل أنبئكم بشر من ذالك) * تبكيت لأولئك الفجرة أيضا ببيان أن الحقيق بالنقم والعيب حقيقة ماهم عليه من الدين المحرف، وفيه نعي عليهم على سبيل التعريض بجناياتهم وما حاق بهم من تبعاتها وعقوباتها، ولم يصرح سبحانه لئلا يحملهم التصريح بذلك على ركوب متن المكابرة والعناد، وخاطبهم قبل البيان بما ينبىء عن عظم شأن المبين، ويستدعي إقبالهم على تلقيه من الجملة الاستفهامية المشوقة إلى المخبر به، والتنبئة المشعرة بكونه أمرا خطرا لما أن النبأ هو الخبر الذي له شأن وخطر، والإشارة إلى الدين المتقوم لهم، واعتبرت الشرية بالنسبة إليه - مع أنه خير محض منزه عن شائبة الشرية بالكلية - مجاراة معهم على زعمهم الباطل المنعقد على كمال شريته، وحاشاه ليثبت أن دينهم شر من كل شر، ولم يقل سبحانه بأنقم تنصيصا على مناط الشرية لأن مجرد النقم لا يفيدها ألبتة لجواز كون العيب من جهة العائب: فكم من عائب قولا صحيحا * وآفته من الفهم السقيم
وفي ذلك تحقيق لشرية ما سيذكر وزيادة تقرير لها، وقيل: إنما قال: * (بشر) * لوقوعه في عبارة المخاطبين، فقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم نفر من يهود فيهم أبو ياسر بن أخطب ونافع بن أبي نافع وغازي بن عمرو وزيد وخالد وإزار بن أبي إزار فسألوه عليه الصلاة والسلام عمن يؤمن به من الرسل قال: أومن بالله تعالى وما أنزل إلى إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى. وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون، فلما ذكر عيسى عليه الصلاة والسلام جحدوا نبوته، وقالوا: لا نؤمن بعيسى ولا نؤمن بمن آمن به، ثم قالوا - كما في رواية الطبراني - لا نعلم دينا شرا من دينكم، فأنزل الله تعالى الآية، وبهذا الخبر انتصر من ذهب إلى أن المخاطبين - بأنبئكم - هم أهل الكتاب. وقال بعضهم: المخاطب هم الكفار مطلقا، وقيل: هم المؤمنون، وكما اختلف في الخطاب اختلف في المشار إليه بذلك، فالجمهور على ما قدمناه، وقيل الإشارة إلى الأكثر الفاسقين، ووحد الاسم إما لأنه يشار به إلى الواحد وغيره، وليس كالضمير، أو لتأويله بالمذكور ونحوه. وقيل: الإشارة إلى الأشخاص المتقدمين الذين هم أهل الكتاب، والمراد أن السلف شر من الخلف.
* (مثوبة عند الله) * أي جزاءا ثابتا عنده تعالى، وهو مصدر ميمي بمعنى الثواب، ويقال في الخير والشر لأنه
174

ما رجع إلى الإنسان من جزاء أعماله سمي به بتصور أن ما عمله يرجع إليه كما يشير إليه قوله تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * (الزلزلة: 7) حيث لم يقل سبحانه - ير جزاءه - إلا أن الأكثر المتعارف استعماله في الخير، ومثله في ذلك المثوبة واستعمالها هنا في الشر على طريقة التهكم كقوله: تحية بينهم ضرب وجيع
ونصبها على التمييز من * (بشر) *، وقيل: يجوز أن تجعل مفعولا له - لأنبئكم - أي هل أنبئكم لطلب مثوبة عند الله تعالى في هذا الإنباء، ويحتمل أن يصير سبب مخافتكم ويفضي إلى هدايتكم، وعليه فالمثوبة في المتعارف من استعمالها، وهو وإن كان له وجه لكنه خلاف الظاهر، وقرىء * (مثوبة) * بسكون الثاء وفتح الواو، ومثلها مشورة ومشورة خلافا للحريري في إيجابه مشورة كمعونة.
وقوله سبحانه: * (من لعنه الله وغضب عليه) * خبر لمبتدأ محذوف بتقدير مضاف قبله مناسب لما أشير إليه بذلك أي دين من لعنه الله الخ، أو بتقدير مضاف قبل اسم الإشارة مناسب لمن أي بشر من أهل ذلك، والجملة على التقديرين استئناف وقع جوابا لسؤال نشأ من الجملة الاستفهامية - كما قال الزجاج - إما على حالها - أو باعتبار التقدير فيها فكأنه قيل: ما الذي هو شر من ذلك؟ فقيل: هو دين من لعنه الخ، أو من الذي هو شر من أهل ذلك؟ فقيل: هو من لعنه الله الخ. وجوز - ولا ينبغي أن يجوز عند التأمل - أن يكون بدلا من شر، ولا بد من تقدير مضاف أيضا على نحو ما سبق آنفا، والاحتياج إليه ههنا - ليخرج من كونه بدل - غلط، وهو لا يقع في فصيح الكلام، وأما في الوجه الأول فأظهر من أن يخفى، وإذا جعل ذلك إشارة إلى الأشخاص لم يحتج الكلام إلى ذلك التقدير كما هو ظاهر، ووضع الاسم الجليل موضع الضمير لتربية المهابة وإدخال الروعة وتهويل أمر اللعن وما تبعه والموصول عبارة عن أهل الكتاب حيث أبعدهم الله تعالى عن رحمته وسخط عليهم بكفرهم وانهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات وسطوع البينات. * (وجعل منهم القردة والخنازير) * أي مسخ بعضهم قردة - وهم أصحاب السبت - وبعضهم خنازير - وهم كفار مائدة عيسى عليه الصلاة والسلام - وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المسخين كانا في أصحاب السبت، مسخت شبانهم قردة وشيوخهم خنازير، وضمير * (منهم) * راجع إلى - من - باعتبار معناه كما أن الضميرين الأولين له باعتبار لفظه، وكذا الضمير في قوله سبحانه: * (وعبد الط‍اغوت) * فإنه عطف على صلة - من - كما قال الزجاج، وزعم الفراء أن في الكلام موصولا محذوفا أي ومن عبد، وهو معطوف على منصوب * (جعل) * أي وجعل منهم من عبد الخ، ولا يخفى أنه لا يصلح إلا عند الكوفيين، والمراد بالطاغوت - عند الجبائي - العجل الذي عبده اليهود، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن أنه الشيطان، وقيل: الكهنة وكل من أطاعوه في معصية الله تعالى.
والعبادة فيما عدا القول الأول مجاز عن الإطاعة، قال شيخ الإسلام (3 / 55): " وتقديم أوصافهم المذكورة بصدد إثبات شرية دينهم على وصفهم هذا مع أنه الأصل المستتبع لها في الوجود وأن دلالته على شريته بالذات لأن عبادة الطاغوت عين دينهم البين البطلان، ودلالتها عليها بطريق الاستدلال بشرية الآثار على شرية ما يوجبها من الاعتقاد، والعمل إما للقصد إلى تبكيتهم من أول الأمر بوصفهم بما لا سبيل لهم إلى الجحود لا بشريته وفظاعته ولا باتصافهم به، وإما للإيذان باستقلال كل من المقدم والمؤخر بالدلالة على ما ذكر من الشرية ولو روعي ترتيب الوجود، وقيل: من عبد الطاغوت ولعن الله وغضب عليه الخ لربما فهم أن عليه الشرية هو المجموع " انتهى.
175

وأنت تعلم أن كون هذا الوصف أصلا غير ظاهر على ما ذهب إليه الجبائي، وأن كون الاتصاف - باللعن والغضب مما لا سبيل لهم إلى الجحود بة - في حيز المنع، كيف وهم يقولون: * (نحن أبناء الله وأحباؤه) * (المائدة: 18) إلا أن يقال: إن الآثار المترتبة على ذلك الدالة عليه في غاية الظهور بحيث يكون إنكار مدلولها مكابرة، وقيل: قدم وصفي اللعن والغضب لأنهما صريحان في أن القوم منقومون، ومشيران إلى أن ذلك الأمر عظيم؛ وعقبهما بالجعل المذكور ليكون كالاستدلال على ذلك، وأردفه بعبادة الطاغوت الدالة على شرية دينهم أتم دلالة ليتمكن في الذهن أتم تمكن لتقدم ما يشير إليها إجمالا، وهذا أيضا غير ظاهر على مذهب الجبائي، ولعل رعايته غير لازمة لانحطاط درجته في هذا المقام، والظاهر من عبارة شيخ الإسلام أنه بنى كلامه على هذا المذهب حيث قال بعدما قال: والمراد من الطاغوت العجل، وقيل: الكهنة وكل من أطاعوه في معصية الله تعالى، فيعم الحكم دين النصارى أيضا، ويتضح وجه تأخير عبادته عن العقوبات المذكورة إذ لو قدمت عليها لزم اشتراط الفريقين في تلك العقوبات انتهى، فتدبر حقه.
وفي الآية كما قال جمع: عدة قراآت اثنتان من السبعة وما عداهما شاذ، فقرأ الجمهور غير حمزة * (عبد) * على صيغة الماضي المعلوم، والطاغوت بالنصب وهي القراءة التي بني التفسير عليها، وقرأ حمزة * (وعبد الطاغوت) * بفتح العين وضم الباء وفتح الدال وخفض الطاغوت على أن عبد واحد مراد به الجنس وليس بجمع لأنه لم يسمع مثله في أبنيته بل هو صيغة مبالغة، ولذا قال الزمخشري: " معناه الغلو في العبودية، وأنشد عليه قول طرفة: أبني لبيني إن أمكم * أمة وإن أباكم عبد "
أراد عبدا، وقد ذكر مثله ابن الأنباري والزجاج فقالا: ضمت الباء للمبالغة كقولهم للفطن والحذر: فطن وحذر، بضم العين، فطعن أبي عبيدة والفراء في هذه القراءة، ونسبة قارئها إلى الوهم وهم، والنصب بالعطف على القردة والخنازير وقرىء * (وعبد) * بفتح العين وضم الباء وكسر الدال وجر الطاغوت بالإضافة، والعطف على - من - بناءا على أنه مجرور بتقدير المضاف، أو البدلية على ما قيل، ولم يرتض.
وقرأ أبي (عبدوا) بضمير الجمع العائد على من باعتبار معناها، والعطف مثله في قراءة الجمهور، وقرأ الحسن - عباد - جمع عبد وعبد بالإفراد بجر * (الطاغوت) * ونصبه، والجر بالإضافة، والنصب إما على أن الأصل * (عبد) * بفتح الباء، أو * (عبد) * بالتنوين فحذف كقوله: ولا ذاكرا الله إلا قليلا
بنصب الاسم الجليل والعطف ظاهر، وقرأ الأعمش والنخعي وأبان * (عبد) * على صيغة الماضي المجهول مع رفع * (الطاغوت) * على أنه نائب الفاعل، والعطف على صلة - من - وعائد الموصول محذوف أي: عبد فيهم أو بينهم وقرأ بعض كذلك إلا أنه أنث، فقرأ - عبدت - بتاء التأنيث الساكنة، والطاغوت: يذكر ويؤنث كما مر؛ وأمر العطف والعائد على طرز القراءة قبل.
وقرأ ابن مسعود * (عبد) * بفتح العين وضم الباء وفتح الدال مع رفع الطاغوت على الفاعلية - لعبد - وهو كشرف كأن العبادة صارت سجية له، أو أنه بمعنى صار معبودا كأمر أي صار أميرا، والعائد على الموصول على هذا أيضا محذوف، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما * (عبد) * بضم العين والباء وفتح الدال، وجر * (الطاغوت) * فعن الأخفش أنه جمع عبيد جمع عبد فهو جمع الجمع أو جمع عابد - كشارف وشرف - أوجمع عبد كسقف وسقف أو جمع عباد - ككتاب وكتب - فهو جمع الجمع أيضا مثل ثمار وثمر.
176

وقرأ الأعمش أيضا * (عبد) * بضم العين وتشديد الباء المفتوحة وفتح الدال وجر * (الطاغوت) * جمع عابد وعبد - كحطم وزفر - منصوبا مضافا للطاغوت مفردا وقرأ ابن مسعود أيضا * (عبد) * بضم العين وفتح الباء المشددة وفتح الدال، ونصب * (الطاغوت) * على حد: ولا ذاكر الله إلا قليلا
بنصب الاسم الجليل، وقرىء - وعابد الشيطان - بنصب عابد، وجر الشيطان بدل الطاغوت، وهو تفسير عند بعض لا قراءة. وقرىء - عباد - كجهال - وعباد - كرجال جمع عابد أو عبد، وفيه إضافة العباد لغير الله تعالى وقد منعه بعضهم، وقرىء - عابد - بالرفع على أنه خبر مبتدأ مقدر، وجر * (الطاغوت) *، وقرىء - عابدوا - بالجمع والإضافة، وقرىء (عابد) منصوبا، وقرىء * (عبد الطاغوت) * بفتحات مضافا على أن أصله عبدة ككفرة فحذفت تاؤه للإضافة كقوله: وأخلفوك عدا الأمر الذي وعدوا
أي عدته كإقام الصلاة، أو هو جمع أو اسم جمع لعابد - كخادم وخدم - وقرىء - أعبد - كأكلب، وعبيد جمع أو اسم جمع، وعابدي جمع بالياء، وقرأ ابن مسعود أيضا - ومن عبدوا -
* (أول‍ئك) * أي الموصوفون بتلك القبائح والفضائح وهو مبتدأ، وقوله سبحانه: * (شر) * خبره، وقوله تعالى: * (مكانا) * تمييز محول عن الفاعل، وإثبات الشرارة لمكانهم ليكون أبلغ في الدلالة على شرارتهم، فقد صرحوا أن إثبات الشرارة لمكان الشيء كناية عن إثباتها له كقولهم: سلام على المجلس العالي والمجد بين برديه، فكأن شرهم أثر في مكانهم، أو عظم حتى صار مجسما. وجوز أن يكون الإسناد مجازيا كجري النهر، وقيل: يجوز أن يكون المكان بمعنى محل الكون والقرار الذي يكون أمرهم إلى التمكن فيه أي شر منصرفا، والمراد به جهنم وبئس المصير، والجملة مستأنفة مسوقة منه تعالى شهادة عليهم بكمال الشرارة والضلال، وداخلة تحت الأمر تأكيدا للإلزام وتشديدا للتبكيت، وجعلها - جوابا للسؤال الناشىء من الجملة الاستفهامية ليستقيم احتمال البدلية السابق - مما لا يكاد يستقيم.
* (وأضل عن سوآء السبيل) * أي أكثر ضلالا عن طريق الحق المعتدل، وهو دين الإسلام والحنيفية، وهو عطف على * (شر) * مقرر له، وفيه دلالة على كون دينهم شرا محضا بعيدا عن الحق لأن ما يسلكونه من الطريق دينهم، فإذا كانوا أضل كان دينهم ضلالا مبينا لا غاية وراءه، والمقصود من صيغتي التفضيل الزيادة مطلقا من غير نظر إلى مشاركة غير في ذلك، وقيل: للتفضيل على زعمهم، وقيل: إنه بالنسبة إلى غيرهم من الكفار. وقال بعضهم: لا مانع أن يقال: إن مكانهم في الآخرة شر من مكان المؤمنين في الدنيا لما لحقهم فيه من مكاره الدهر وسماع الأذى والهضم من جانب أعدائهم..
* (وإذا جآءوكم قالوا ءامنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون) *.
وإذا جاءوكم قالوا ءامنا) * نزلت - كما قال قتادة والسدى - في ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيظهرون له الإيمان والرضا بما جاء به نفاقا، فالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، والجمع للتعظيم، أو له عليه الصلاة وللسلام مع من عنده من أصحابه رضي الله تعالى عنهم أي إذا جاءوكم أظهروا لكم الإسلام. * (وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به) * أي يخرجون من عندك كما دخلوا لم ينتفعوا بحضورهم بين يديك ولم يؤثر فيهم ما سمعوا منك، والجملتان في موضع الحال من ضمير * (قالوا) * على الأظهر. وجوز أبو البقاء أن يكونا حالين من الضمير في * (آمنا) *، وباء بالكفر، و * (به) * للملابسة، والجار والمجرور
177

حالان من فاعل دخلوا - و - خرجوا والواو الداخلة على الجملة الاسمية الحالية للحال، ومن منع تعدد الجملة الحالية من غير عطف يقول: إنها عاطفة والمعطوف على الحال حال أيضا، ودخول * (قد) * في الجملة الحالية الماضوية - كما قال العلامة الثاني - لتقرب الماضي إلى الحال فتكسر سورة استبعاد ما بين الماضي والحال في الجملة، وإلا - فقد - إنما تقرب إلى حال التكلم، وهذا إشارة إلى ما أوضحه السيد السند في " حاشية المتوسط " من أنه قيل: إن الماضي إنما يدل على انقضاء زمان قبل زمان التكلم، والحال الذي يبين هيئة الفاعل أو المفعول قيد لعامله، فإن كان العامل ماضيا كان الحال أيضا ماضيا بحسب المعنى، وإن كان حالا كان حالا، وإن كان مستقبلا كان مستقبلا، فما ذكروه غلط نشأ من اشتراك لفظ الحال بين الزمان الحاضر - وهو الذي يقابل الماضي - وبين ما يبين الحالة المذكورة، ثم قال: ويمكن أن يقال: إن الفعل إذا وقع قيدا لشيء يعتبر كونه ماضيا أو حالا أو مستقبلا بالنظر إلى ذلك المقيد، فإذا قيل: جاءني زيد ركب يفهم منه أن الركوب كان متقدما على المجيء فلا بد من قد حتى يقربه إلى زمان المجيء فيقارنه، وذكر نحو ذلك العلامة الكافيجي في " شرح القواعد "، ثم قال: وأما الاعتذار بأن تصدير الماضي المثبت بلفظة قد لمجرد استحسان لفظي فإنما هو تسليم لذلك الاعتراض فليس بمقبول ولا مرضي انتهى. ولذلك زيادة تفصيل في محله، وقد ذكر لها معنى آخر في الآية غير التقريب وهو التوقع فتفيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوقع دخول أولئك الفجرة وخروجهم من خضيلة حضرته - أفرغ من يد تفت البر - مع لم يعلق بهم شيء مما سمعوا من تذكيره عليه الصلاة والسلام بآيات الله عز وجل لظنه بما يرى من الأمارات اللائحة عليهم نفاقهم الراسخ، ولذلك قال سبحانه:
* (والله أع‍الم بما كانوا يكتمون) * وفيه من الوعيد ما لا يخفى، وفي " الكشاف " " إن أمارات النفاق كانت لائحة عليهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متوقعا لإظهار الله تعالى ما كتموه، فدخل حرف التوقع لذلك "، واعترضه الطيبي بأن قد موضوعة لتوقع مدخولها وهو ههنا عين النفاق، فكيف يقال: لإظهار الله تعالى ما كتموه؟ وأجاب بأنه لا شك أن المتوقع ينبغي أن لا يكون حاصلا، وكونهم منافقين كان معلوما عنده صلوات الله تعالى وسلامه عليه بدليل قوله: " إن أمارات النفاق " الخ فيجب المصير إلى المجاز والقول بإظهار الله تعالى ما كتموه، وقال في " الكشف " معرضا به: إن الدخول في الكفر والخروج به إظهار له، فلذلك أدخل عليه حرف التوقع لا أنه عين النفاق ليحتاج إلى تجوز في رجوع التوقع إلى إظهاره، وإن ظهور أماراته غير إظهار الله تعالى إياه بإخباره سبحانه عنهم وأنهم متلبسون بالكفر متقلبون فيه خروجا ودخولا انتهى فليتأمل، وإنما لم يقل سبحانه: وقد خرجوا على طرز الجملة الأولى إفادة لتأكيد الكفر حال الخروج لأنه خلاف الظاهر إذ كان الظاهر بعد
تنور أبصارهم برؤية مطلع شمس الرسالة وتشنف أسماعهم بلآلىء كلمات بحر البسالة عليه الصلاة والسلام أن يرجعوا عما هم عليه من الغواية ويحلوا جياد قلوبهم العاطلة عن حلي الهداية، وأيضا إنهم إذا سمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم وأنكروه ازداد كفرهم وتضاعف ضلالهم..
* (وترى كثيرا منهم يس‍ارعون فى الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون) *.
* (وترى كثيرا منهم) * أي من أولئك اليهود - كما روي عن ابن زيد - والخطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح للخطاب، والرؤية بصرية، وقيل: قلبية، وقوله تعالى: * (يس‍ارعون في الإثم والعدوان) * في موضع الحال من
178

* (كثيرا) * الموصوف بالجار والمجرور، وقيل: مفعول ثان - لترى - والمسارعة مبادرة الشيء بسرعة، وإيثار * (في) * على إلى للإشارة إلى تمكنهم فيما يسارعون إليه تمكن المظروف في ظرفه وإحاطته بأعمالهم، وقد مرت الإشارة إلى ذلك. والمراد بالإثم الحرام، وقيل: الكذب مطلقا، وقيل: الكذب بقولهم: * (آمنا) * (المائدة: 61) لأنه إما إخبار أو إنشاء متضمن الإخبار بحصول صفة الإيمان لهم، واستدل على التخصيص بقوله تعالى الآتي: * (عن قولهم الإثم) * (المائدة: 63)، وأنت تعلم أنه لا يقتضيه، وقيل: المراد به الكفر، وروي ذلك عن السدي، ولعل الداعي لتخصيصه به كونه الفرد الكامل، والمراد من العدوان: الظلم أو مجاوزة الحد في المعاصي، وقيل: الإثم ما يختص بهم، والعدوان ما يتعدى إلى غيرهم، والكلام مسوق لوصفهم بسوء الأعمال بعد وصفهم لسوء الاعتقاد * (وأكلهم السحت) * أي الحرام مطلقا، وقال الحسن: الرشوة في الحكم والتنصيص على ذلك بالذكر مع اندراجه في المتقدم للمبالغة في التقبيح.
* (لبئس ما كانوا يعملون) * أي لبئس شيئا يعملونه هذه الأمور - فما - نكرة موصوفة وقعت تمييزا لضمير الفاعل المستتر في - بئس - والمخصوص بالذم محذوف كما أشرنا إليه، وجوز جعل * (ما) * موصولة فاعل - بئس - والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار..
* (لولا ينهاهم الربانيون والاحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون) *.
* (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار) * قال الحسن: الربانيون علماء الإنجيل والأحبار علماء التوراة، وقال غيره: كلهم في اليهود لأنه يتصل بذكرهم، و * (لولا) * الداخلة على المضارع - كما قرره ابن الحاجب وغيره - للتحضيض، والداخلة على الماضي للتوبيخ، والمراد هنا تحضيض الذين يقتدي بهم أفناؤهم، ويعلمون قباحة ما هم فيه وسوء مغبته على نهي أسافلهم. * (عن قولهم الاثم وأكلهم السحت) * مع علمهم بقبحهما واطلاعهم على مباشرتهم لهما، وفي " البحر " إن هذا التحضيض يتضمن توبيخهم على السكوت وترك النهي.
* (لبئس ما كانوا يصنعون) * الكلام فيه كالكلام السابق في نظيره خلا أن هذا أبلغ مما تقدم في حق العامة لما تقرر في اللغة والاستعمال أن الفعل ما صدر عن الحيوان مطلقا، فإن كان عن قصد سمي عملا ثم إن حصل بمزاولة وتكرر حتى رسخ وصار ملكة له سمي صنعا وصنعة وصناعة، فلذا كان الصنع أبلغ لاقتضائه الرسوخ، ولذا يقال للحاذق: صانع، وللثوب الجيد النسج: صنيع - كما قاله الراغب - ففي الآية إشارة إلى أن ترك النهي أقبح من الارتكاب، ووجهه بأن المرتكب له في المعصية لذة وقضاء وطر بخلاف المقر له، ولذا ورد إن جرم الديوث أعظم من الزانيين.
واستشكل ذلك بأنه يلزم عليه أن ترك النهي عن الزنا والقتل أشد إثما منهما وهو بعيد، وأجيب بأنه لا يبعد أن يكون إثم ترك النهي ممن يؤثر نهيه كف المنهي عن فعل المنهي عنه أشد من إثم المرتكب كيفما كان مرتكبه قتلا أو زنا أو غيرهما، وقال الشهاب: إن قيد الأشدية يختلف بالاعتبار، فكونه أشد باعتبار ارتكاب ما لا فائدة له فيه لا ينافي كون المباشرة أكثر إثما منه فتأمل، وفي الآية - مما ينعى على العلماء توانيهم في النهي عن المنكرات - ما لا يخفى، ومن هنا قال الضحاك: ما أخوفني من هذه الآية، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ما في القرآن آية أشد توبيخا من هذه الآية، وقرىء (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم العدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون)..
* (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشآء وليزيدن كثيرا منهم مآ أنزل إليك من ربك طغي‍انا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضآء إلى يوم القي‍امة كلمآ أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون فى الارض فسادا والله لا يحب المفسدين) *.
* (وقالت اليهود) * عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعكرمة والضحاك قالوا: إن الله تعالى قد بسط لليهود الرزق فلما عصوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
179

كف عنهم ما كان بسط لهم، فعند ذلك قال فنحاص بن عازوراء رأس يهود قينقاع، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما النباش بن قيس * (يد الله) * عز وجل * (مغلولة) * وحيث لم ينكر على القائل الآخرون ورضوا به نسبت تلك العظيمة إلى الكل، ولذلك نظائر تقدم كثير منها، وأرادوا بذلك - لعنهم الله تعالى - أنه سبحانه ممسك ما عنده بخيل به تعالى عما يقولون علوا كبيرا فإن كلا من غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود، أو كناية عن ذلك، وقد استعمل حيث لا تصح يد كقوله: جاد الحمى بسط (اليدين) بوابل * شكرت نداه تلاعه ووهاده
ولقد جعلوا للشمال يدا كما في قوله: أضل صواره وتضيفته * نطوف أمرها بيد (الشمال)
وقول لبيد: وغداة ريح قد كشفت وقرة * إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
ويقال: بسط اليأس كفيه في صدر فلان، فيجعل لليأس الذي هو من المعاني لا من الأعيان كفان، قال الشاعر: وقد رابني وهن المنى وانقباضها * وبسط جديد اليأس كفيه في صدري
وقيل: معناه إنه سبحانه فقير، كقوله تعالى: * (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) * (آل عمران: 181)، وقيل: اليد هنا بمعنى النعمة أي إن نعمته مقبوضة عنا، وعن الحسن أن المعنى أن يد الله تعالى مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلا بما يبر به قسمه قدر ما عبد آباؤنا العجل، وكأنه حمل اليد على القدرة، والغل على عدم التعلق. وقيل: لا يبعد أن يقصدوا اليد الجارحة فانهم مجسمة، وقد حكي عنهم أنهم زعموا أن ربهم أبيض الرأس واللحية قاعد على كرسي، وأنه فرغ من خلق السموات والأرض يوم الجمعة واستلقى على ظهره واضعا إحدى رجليه على الأخرى وإحدى يديه على صدره للاستراحة مما عراه من النصب في خلق ذلك تعالى الله سبحانه عما يقولون علوا كبيرا.
والأقوال كلها كما ترى، وكل العجب من الحسن رضي الله تعالى عنه من قوم ذلك وليته لم يقل غير الحسن، ولعل نسبته إليه غير صحيحة، والذي تقتضيه البلاغة ويشهد له مساق الكلام القول الأول، ولا يبعد من قول قالوا لموسى عليه الصلاة والسلام - * (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) * (الأعراف: 138) وعبدوا العجل - أن يعتقدوا اتصاف الله عز وجل بالبخل ويقولوا ما قالوا، وقال أبو القاسم البلخي: يجوز أن يكون اليهود قالوا قولا واعتقدوا مذهبا يؤدي معناه إلى أن الله تعالى عز شأنه يبخل في حال ويجود في حال آخر، فحكى عنهم على وجه التعجب منهم والتكذيب لهم. وقال آخر: إنهم قالوا ذلك على وجه الهزء حيث لم يوسع سبحانه على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى أصحابه؛ ولا يخفى أن ما روي في سبب النزول لا يساعد ذلك، وقيل: إنهم قالوا ذلك على سبيل الاستفهام والاستغراب، والمراد يد الله سبحانه مغلولة عنا حيث قتر المعيشة علينا، ولا يخفي بعده.
* (غلت أيديهم) * دعاء عليهم بالبخل المذموم - كما قال الزجاج - ودعاؤه بذلك عبارة عن خلقه الشح في قلوبهم والقبض في أيديهم، ولا استحالة في ذلك على مذهب أهل الحق، ويجوز أن يكون دعاء عليهم بالفقر والمسكنة، وقيل: تغل الأيدي حقيقة، يغلون في الدنيا أسارى، وفي الآخرة معذبين في أغلال جهنم، ومناسبة هذا لما قبله حينئذ من حيث
180

اللفظ فقط فيكون تجنيسا، وقيل: هي من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز كما تقول: سبني سب الله تعالى دابره، أي قطعه لأن السب أصله القطع، وإلى هذا ذهب الزمخشري، واستطيبه الطيبي، وقال: إن هذه مشاكلة لطيفة بخلاف قوله: قالوا: اقترح شيئا نجد لك طبخه * قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا
واختار أبو علي الجبائي أن ذلك إخبار عن حالهم يوم القيامة أي شدت أيديهم إلى أعناقهم في جهنم جزاء هذه الكلمة العظيمة، وحكاه الطبرسي عن الحسن، ثم قال: " فعلى هذا يكون الكلام بتقدير الفاء أو الواو، فقد تم كلامهم واستؤنف بعده كلام آخر، ومن عادتهم أن يحذفوا فيما يجري هذا المجرى، ومن ذلك قوله: * (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا) * (البقرة: 67) "، وأنت تعلم أن مثل هذا على الاستئناف البياني، ولا حاجة فيه إلى تجشم مؤونة التقدير، على أن كلام الحسن - فيما نرى - ليس نصا في كون الجملة إخبارية إذ قصارى ما قال: * (غلت أيديهم) * في جهنم وهو محتمل لأن يكون دعاء عليهم بذلك.
* (ولعنوا) * أي أبعدوا عن رحمة الله تعالى وثوابه * (بما قالوا) * أي بسبب قولهم، أو بالذي قالوه من ذلك القول الشنيع، وهذا دعاء ثان معطوف على الدعاء الأول، والقائل بخبريته قائل بخيريته، وقرىء * (ولعنوا) * بسكون العين. * (بل يداه مبسوطتان) * عطف على مقدر يقتضيه المقام أي كلا ليس الشأن كما زعموا بل في غاية ما يكون من الجود، وإليه - كما قيل - أشير بتثنية اليد، فإن أقصى ما تنتهي إليه همم الأسخياء أن يعطوا بكلتا يديهم، وقيل: اليد هنا أيضا بمعنى النعمة، وأريد بالتثنية نعم الدنيا ونعم الآخرة، أو النعم الظاهرة والنعم الباطنة أو ما يعطى للاستدراج وما يعطى للإكرام، وقيل: وروي عن الحسن أنها بمعنى القدرة كاليد الأولى، وتثنيتها باعتبار تعلقها بالثواب وتعلقها بالعقاب، وقيل: المراد من التثنية: التكثير كما في * (ثم ارجع البصر كرتين) * (الملك: 4) والمراد من التكثير: مجرد المبالغة في كمال القدرة وسعتها لا أنها متعددة، ونظير ذلك قول الشاعر:
فسرت أسرة طرتيه فغورت * في الخصر منه وأنجدت في نجده
فإنه لم يرد أن لذلك الرشا طرتين إذ ليس للإنسان إلا طرة واحدة وإنما أراد المبالغة. وقال سلف الأمة رضي الله تعالى عنهم: إن هذا من المتشابه، وتفويض تأويله إلى الله تعالى هو الأسلم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أثبت لله عز وجل يدين، وقال: " وكلتا يديه يمين " ولم يرو عن أحد من أصحابه صلى الله عليه وسلم أنه أول ذلك بالنعمة، أو بالقدرة بل أبقوها كما وردت وسكتوا، ولئن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب لا سيما في مثل هذه المواطن، وفي مصحف عبد الله - بل يداه بسطان - يقال: يد بسط بالمعروف، ونحوه مشية سجح وناقة سرح.
* (ينفق كيف يشاء) * جملة مستأنفة واردة لتأكيد كمال جوده سبحانه لما فيها من الدلالة على تعميم الأحوال المستفاد من (كيف) وفيها تنبيه على سر ما ابتلوا به من الضيق الذي اتخذوه من غاية جهلهم وضلالهم ذريعة إلى الاجتراء على كلمة ملأ الفضاء قبحها، والمعنى أن ذلك ليس لقصور في فيضه بل لأن إنفاقه تابع لمشيئته المبنية على الحكم الدقيقة التي عليها تدور أفلاك المعاش والمعاد، وقد اقتضت الحكمة - إذ كفروا بآيات الله تعالى وكذبوا رسوله صلى الله عليه وسلم - أن يضيق عليهم، و * (كيف) * ظرف - ليشاء - والجملة في موضع نصب على الحالية من ضمير * (ينفق) * أي ينفق كائنا
181

على أي حال يشاء أي على مشيئته أي مريدا، وقيل: إن جملة * (ينفق) * في موضع الحال من الضمير المجرور في * (يداه) * واعترض بأن فيه الفصل بالخبر وبأنه مضاف إليه، والحال لا يجيء منه، ورد بأن الفصل بين الحال وذيها ليس بممتنع كما في قوله تعالى حكاية: * (هذا بعلى شيخا) * (هود: 72) إذ قيل: إن شيخا حال من اسم الإشارة، والعامل فيه التنبيه، وأن الممنوع مجيء الحال من المضاف إليه إذا لم يكن جزءا أو كجزء أو عاملا، وههنا المضاف جزء من المضاف
إليه، أو كجزء فليس بممتنع، وجوز أن تكون في موضع الحال من اليدين أو من ضميرهما، ورد بأنه لاضمير لهما فيها، وأجيب بأنه لا مانع من تقدير ضمير لهما أن ينفق بهما، ومن هنا قيل: بجواز كونها خبرا ثانيا للمبتدأ، نعم التقدير خلاف الأصل والظاهر، وهو إنما يقتضي المرجوحية لا الامتناع، وترك سبحانه ذكر ما ينفقه لقصد التعميم.
* (وليزيدن كثيرا منهم) * وهم علماؤهم ورؤساؤهم، أو المقيمون على الكفر منهم مطلقا * (ما أنزل إليك) * من القرآن المشتمل على هذه الآيات، وتقديم المفعول للاعتناء به * (من ربك) * متعلق - بأنزل - كما أن إليك كذلك، وتأخيره عنه مع أن حق المبدأ أن يقدم على المنتهي لاقتضاء المقام - كما قال شيخ الإسلام - الاهتمام ببيان المنتهى لأن مدار الزيادة هو النزول إليه صلى الله عليه وسلم، وفي التعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى من التشريف، والموصول فاعل - ليزيدن - والاسناد مجازي، و * (كثيرا) * مفعوله الأول، و * (منهم) * صفته.
وقوله تعالى: * (طغي‍انا وكفرا) * مفعوله الثاني أي ليزيدنهم طغيانا على طغيانهم وكفرا على كفرهم القديمين، لأن الزيادة تقتضي وجود المزيد عليه قبلها، وهذه الزيادة إما من حيث الشدة والغلو، وإما من حيث الكم والكثرة إذ كلما نزلت آية كفروا بها فيزداد طغيانهم وكفرهم بحسب المقدار، وهذا كما أن الطعام الصالح للأصحاء يزيد المرض مرضا، ويحتمل أن يراد - بما أنزل - النعم التي منحها الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام أي أنهم كفروا وتمادوا على الكفر وقالوا ما قالوا حيث ضيق الله تعالى عليهم وكف عنهم ما بسط لهم، فمتى رأوا مع ذلك بسط نعمائه وتواتر آلائه على نبيه صلى الله عليه وسلم الذي هو أعدى أعدائهم ازدادوا غيظا وحنقا على ربهم سبحانه، فضموا إلى طغيانهم الأول طغيانا وإلى كفرهم كفرا وحينئذ تلائم الآية ما قبلها أشد ملائمة إلا أن ذلك لا يخلو عن بعد، ولم أر من ذكره.
* (وألقينا بينهم) * أي اليهود. وقال في " البحر ": " الضمير لليهود والنصارى لأنه قد جرى ذكرهم في قوله سبحانه: * (لا تتخذوا اليهود والنصارى) * (المائدة: 51) ولشمول قوله عز وجل: * (يا أهل الكتاب) * (المائدة: 59) للفريقين، وروي ذلك عن الحسن ومجاهد ". * (العداوة والبغضاء) * فلا تكاد تتوافق قلوبهم ولا تتحد كلمتهم، فمن اليهود جبرية ومنهم قدرية ومنهم مرجئة ومنهم مشبهة، والعداوة والبغضاء بين فرقة وفرقة قائمتان على ساق، وكذا من النصارى الملكانية واليعقوبية والنسطورية، وحالهم حالهم في ذلك، وحال اليهود مع النصارى أظهر من أن تخفى، ورجح عود الضمير إلى اليهود بأن الكلام فيهم، وفائدة هذا الإخبار هنا إزاحة ما عسى أن يتوهم من ذكر طغيانهن وكفرهم من الاجتماع على أمر يؤدي إلى الإضرار بالمسلمين، وقال أبو حيان (في البحر " 3 / 525) بعد أن أرجع الضمير للطائفتين: " إن المعنى لا يزال اليهود والنصارى متباغضين متعادين قلما توافق إحدى الطائفتين الأخرى، ولا تجتمعان على قتالك وحربك، وفي ذلك إخبار بالغيب فإنه لم يجتمع لحرب المسلمين جيش يهود ونصارى منذ سل سيف الإسلام ".
182

وفرق السمين بين العداوة والبعضاء بأن العداوة أخص من البغضاء لأن كل عدو مبغض وقد يبغض من ليس بعدو * (إلى يوم القي‍امة) * متعلق - بألقينا - وجوز أن يتعلق بالبغضاء أي إن التباغض بينهم مستمر ما داموا، وليست حقيقة الغاية مرادة، ولم يجوز أن يتعلق - بالعداوة - لئلا يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي.
* (كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله) * تصريح بما أشير إليه من عدم وصول غائلة ما هم فيه إلى المسلمين، والمراد كلما أرادوا محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم ورتبوا مباديها ردهم الله تعالى وقهرهم بتفرق آرائهم وحل عزائمهم وإلقاء الرعب في قلوبهم، فإيقاد النار كناية عن إرادة الحرب، وقد كانت العرب إذا تواعدت للقتال جعلوا علامتهم إيقاد نار على جبل أو ربوة ويسمونها نار الحرب، وهي إحدى نيران مشهورة عندهم، وإطفاؤها عبارة عن دفع شرهم، وحكى في " البحر " قولين في الآية: " فعن قوم أن الإيقاد حقيقة، وكذا الإطفاء أي أنهم كلما أوقدوا نارا للمحاربة ألقى عليهم الرعب فتقاعدوا وأطفأوها، وإضافة الإطفاء إليه تعالى إضافة المسبب إلى السبب الأصلي. وعن الجمهور إن الكلام مخرج مخرج الاستعارة، والمراد من إيقاد النار: إظهار الكيد بالمؤمنين الشبيه بالنار في الإضرار، ومن إطفائها صرف ذلك عن المؤمنين، ولعل القول بالكناية ألطف منهما، وكون المراد من الحرب محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم هو المروي عن الحسن ومجاهد، وقيل: هو أعم من ذلك أي كلما أرادوا حرب أحد غلبوا، فإن اليهود لما خالفوا حكم التوراة سلط الله تعالى عليهم بختنصر، ثم أفسدوا فسلط سبحانه عليهم فطرس الرومي، ثم أفسدوا فسلط جل شأنه عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط عليهم عز وجل رسوله عليه الصلاة والسلام "، فأباد خضراءهم. واستأصل شأفتهم وفرق جمعهم وأذلهم فأجلى بني النضير وبني قينقاع، وقتل بني قريظة وأسر أهل خيبر، وغلب على فدك، ودان له أهل وادي القرى، وضرب على أهل الذمة الجزية وأبقاهم الله تعالى في ذل لا يعزون بعده أبدا، وإطفاء النار - على هذا - عبارة عن الغلبة عليهم قاتلهم الله تعالى، و * (للحرب) * متعلق - بأوقدوا - واللام للتعليل، أو متعلق بمحذوف وقع صفة لنار، وهو الأوفق بالتسمية.
* (ويسعون في الأرض فسادا) * أي يجتهدون في الكيد للاسلام وأهله وإثارة الشر والفتنة فيما بينهم مما يغاير ما عبر عنه بإيقاد نار الحرب؛ كتغيير صفة النبي صلى الله عليه وسلم وإدخال الشبه على ضعفاء المسلمين والمشي بالنميمة مع الافتراء ونحو ذلك، و * (فسادا) * إما مفعول له، وعليه اقتصر أبو البقاء، أو في موضع المصدر، أو حال من ضمير * (يسعون) * أي يسعون للفساد، أو سعي فساد أو مفسدين. * (والله لا يحب المفسدين) * بل يبغضهم، ولذلك أطفأ (نائرة فسادهم)، واللام إما للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا، وإما للعهد، ووضع المظهر موضع ضميرهم للتعليل وبيان كونهم راسخين في الإفساد. والجملة ابتدائية مسوقة لإزاحة ما عسى أن يتوهم من تأثير اجتهادهم شيئا من الضرر، وجعلها بعضهم في موضع الحال، وفائدتها مزيد تقبيح حالهم وتفظيع شأنهم..
* (ولو أن أهل الكتاب ءامنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولادخلناهم جنات النعيم) *.
* (ولو أن أهل الكتاب) * أي اليهود والنصارى على أن المراد بالكتاب الجنس الشامل للتوراة والإنجيل ويمكن أن يراد بهم اليهود فقط، وذكر الإنجيل ليس نصا في
اقتضاء العموم إلا أن الذي عليه عامة المفسرين العموم، وذكروا بذلك العنوان تأكيدا للتشنيع عليهم، والمراد بهم معاصرو رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ولو أنهم مع صدور ما صدر منهم من فنون الجنايات
183

قولا وفعلا * (ءامنوا) * بما نفى عنهم الإيمان، فيندرج فيه فرض إيمانهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وحذف المتعلق ثقة بظهوره مما سبق من قوله تعالى: * (هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله) * (المائدة: 59) الخ، وما لحق من قوله سبحانه: * (ولو أنهم أقاموا التوراة) * (المائدة: 66) الخ. وتخصيص المفعول بالإيمان به عليه الصلاة والسلام يأباه - كما قال شيخ الإسلام - المقام لأن ما ذكر فيما سبق وما لحق من كفرهم به عليه الصلاة والسلام إنما ذكر مشفوعا بكفرهم بكتابهم أيضا قصدا إلى الإلزام والتبكيت ببيان أن الكفر به صلى الله عليه وسلم مستلزم للكفر بكتابهم، فحمل الإيمان ههنا على الإيمان به عليه الصلاة والسلام مخل بتجاوب النظم الكريم، وقدر قتادة فيما أخرجه عن ابن حميد وغيره المتعلق ب * (ما أنزل الله) * (المائدة: 49)، وهو ميل إلى التعميم، وكذا عمم في قوله تعالى: * (واتقوا) * فقال: أي ما حرم الله تعالى. وقال شيخ الإسلام: ما عددنا من معاصيهم التي من جملتها مخالفة كتابهم * (لكفرنا عنهم سيئاتهم) * التي اقترفوها وسارعوا فيها وإن كانت في غاية العظمة ولم نؤاخذهم بها، وجمعها جمع قلة إما باعتبار الأنواع وإما باعتبار أنها وإن كثرت قليلة بالنسبة إلى كرم الله تعالى، وقد أشرنا فيما تقدم أن جمع القلة قد يقوم مقام جمع الكثرة إذا اقتضاه المقام * (ولأدخلن‍اهم) * مع ذلك * (جن‍ات النعيم) *، وجعل أبو حيان تكفير السيئآت في مقابلة الإيمان، وإدخال جنات النعيم في مقابلة التقوى، وفسرها بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، فالآية من باب التوزيع والظاهر عدمه، وتكرير اللام لتأكيد الوعد، وفيه تنبيه على كمال عظم ذنوبهم وكثرة معاصيهم، وأن الإسلام يجب ما قبله وإن جل وجاوز الحد، وفي إضافة الجنات إلى النعيم تنبيه على ما يستحقونه من العذاب لو لم يؤمنوا ويتقوا. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مالك بن دينار أنه قال: * (جنات النعيم) * بين جنات الفردوس وجنات عدن، وفيها جوار خلقن من ورد الجنة، قيل: فمن يسكنها؟ قال: الذين هموا بالمعاصي فلما ذكروا عظمة الله تعالى شأنه راقبوه، ولا يخفى أن مثل هذا لا يقال من قبل الرأي، والذي يقتضيه الظاهر أن يقال لسائر الجنات: جنات النعيم وإن اختلفت مراتب النعيم فيها..
* (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ومآ أنزل إليهم من ربهم لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم سآء ما يعملون) *.
* (ولو أنهم أقاموا التوراة والاإنجيل) * أي وفوا حقهما بمراعاة ما فيهما من الأحكام التي من جملتها شواهد نبوته صلى الله عليه وسلم ومبشرات بعثته، وليس المراد مراعاة جميع ما فيهما من الأحكام منسوخة كانت أو غيرها، فإن ذلك ليس من الإقامة في شيء * (وما أنزل إليهم من ربهم) * من القرآن المجيد المصدق لما بين يديه - كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - واختاره الجبائي وغيره، وقيل: المراد بالموصول كتب أنبياء بني إسرائيل - ككتاب شعيا وكتاب حزقيل وكتاب حبقوق وكتاب دانيال - فإنها مملوءة بالبشائر بمبعثه صلى الله عليه وسلم، واختاره أبو حيان، ويجوز أن يراد به ما يعم ذلك والقرآن العظيم، وإنزال الكتاب إلى أحد مجرد وصوله إليه، وإيجاب العمل به وإن لم يكن الوحي نازلا عليه، والتعبير عن القرآن بذلك العنوان للإيذان بوجوب إقامته عليهم لنزوله اليهم وللتصريح ببطلان ما كانوا يدعونه من عدم نزوله إلى بني إسرائيل، وتقديم * (إليهم) * لما مر آنفا، وفي إضافة الرب إلى ضميرهم مزيد لطف بهم في الدعوة إلى الإقامة.
184

* (لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) * أي لأعطتهم السماء مطرها وبركتها والأرض نباتها وخيرها، كما قال سبحانه: (لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) (الأعراف: 96) قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد، وقيل: المراد لانتفعوا بكثرة ثمار الأشجار وغلال الزروع، وقيل: بما يهدل من الثمار من رءوس الأشجار وما يتساقط منها على الأرض، وقيل: بما يأتيهم من كبرائهم وملوكهم وما يعطيه لهم سفلتهم وعوامهم، وقيل: المراد المبالغة في شرح السعة والخصب لا تعيين الجهتين كأنه قيل: لأكلوا من كل جهة، وجعله الطبرسي نظير قولك: فلان في الخير من قرنه إلى قدمه أي يأتيه الخير من كل جهة يلتمسه منها، والمراد بالأكل الانتفاع مطلقا، وعبر عن ذلك به لكونه أعظم الانتفاعات ويستتبع سائرها، ومفعول - أكلوا - محذوف لقصد التعميم أو للقصد إلى نفس الفعل كما في قولك: فلان يعطي ويمنع، و (من) في الموضعين لابتداء الغاية.
وسنشير إن شاء الله تعالى في باب الإشارة إلى سر ذكر الأرجل، وفي الشرطية الأولى ترغيب بأمر أخروي، وفي الثانية ترغيب بأمر دنيوي وتنبيه على أن ما أصاب أولئك الفجرة من الضنك والضيق إنما هو من شؤم جناياتهم لا لقصور في فيض الفياض، وتقديم الترغيب بالأمر الأخروي لأنه أهم إذ به النجاة السرمدية والنعيم المقيم، وخولف بين العبارتين، فقيل: أولا: * (آمنوا واتقوا) * (المائدة: 65) وثانيا: * (أقاموا) * ذا وذا سلوكا لطريق البلاغة قيل: ويشبه أن يكون * (ما) * في الشرطية الثانية إشارة إلى ما جرى على بني قريظة. وبني النضير من قطع نخيلهم وإفساد زروعهم وإجلائهم عن أوطانهم، فكأنه قيل في حقهم: لو أنهم أقاموا لأقاموا في ديارهم وانتفعوا بنخيلهم وزروعهم لكنهم تعدوا عن الإقامة فحرموا وتاهوا في مهامه الضنك إذ ظلموا، وفرق بعضهم بين الشرطيتين بأن الأولى متحققة اللزوم في أهل الكتاب إلى يوم القيامة إذ لا شبهة في أنه إذا آمن كتابي واتقى كفر الله تعالى عنه سيئاته وأدخله جل شأنه في رحمته سواء في ذلك معاصر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، ولا كذلك الشرطية الثانية فإن الظاهر اختصاص تحقق اللزوم في المعاصر إذ نرى كثيرا من أهل الكتاب اليوم بمعزل عن الإقامة المذكورة قد وسع عليه أكثر مما وسع على كثير ممن أقام، ونرى الكثير أيضا منهم يقيم التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ويؤمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه اللائق وهو في ضنك من العيش قبل ولا يتغير حاله، وربما كان في رفاهية حتى إذا أقام وقفت به سفينة العيش فوقع في حيص بيص، وجعلها كالشرطية الأولى، وحمل التوسعة على ما هو أعم من التوسعة الصورية الظاهرة والتوسعة المعنوية الباطنية - كأن يرزقهم سبحانه القناعة والرضا بما في أيديهم فيكون عندهم كالكثير وإن كان قليلا - لا أظنه يأخذ محلا من فؤادك ولا أحسبه حاسما لما يقال، والقول - بأنها كالأولى إلا أن الملازمة بين إقامتهم بأسرهم ما تقدم وانتفاعهم كذلك أي لو أنهم كلهم
أقاموا التوراة الخ لأكلوا كلهم من فوقهم الخ لا لو أقام بعضهم - لا أراه إلا منكرا من القول وزورا. وذكر بعض المحققين أن بعضا فسر قوله سبحانه: * (لأكلوا) * الخ بقوله: لوسع عليهم الرزق، وفسر التوسعة بأوجه ذكرها، ولم يجعله شاملا لرزق الدارين، ولو حمل على الترقي، وتفصيل ما أجمل في الأول شرطا وجزاءا لكان وجها انتهى، وبهذا الوجه أقول وإليه أتوجه، وإني أراه كالمتعين إلا أن الشرطيتين عليه ليستا سواء، والإشكال فيه باق من وجه ولا مخلص عنه على ما أرى إلا بالذهاب إلى اختلاف الشرطيتين، ولعل النوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى تحقيق ما يتعلق بهذا المقام فتدبر
* (منهم أمة مقتصدة) * أي طائفة عادلة غير غالية ولا مقصرة
185

- كما روي عن الربيع - وهم الذين أسلموا منهم وتابعوا النبي صلى الله عليه وسلم - كما قال مجاهد والسدي وابن زيد - واختاره الجبائي، وأولئك - كعبد الله بن سلام وأضرابه من اليهود - وثمانية وأربعون من النصارى، وقيل: المراد بهم النجاشي وأصحابه رضي الله تعالى عنهم، والجملة مستأنفة مبنية على سؤال نشأ من مضمون الشرطيتين المصدرتين بحرف الامتناع الدالتين على انتفاء الإيمان والإتقاء والإقامة المذكورات كأنه قيل: هل كلهم مصرون على عدم الإيمان وأخويه؟ فقيل: * (منهم) * الخ، وتفسير الاقتصاد بالتوسط في العداوة بعيد، * (وكثير منهم) * وهم الأجلاف المتعصبون - ككعب بن الأشرف وأشباهه والروم -. * (ساء ما يعملون) * من العناد والمكابرة وتحريف الحق والإعراض عنه. وقيل: من الإفراط في العداوة * (وكثير) * مبتدأ، و * (منهم) * صفته، و * (ساء) * كبئس للذم.
وعن بعض النحاة أن فيها معنى التعجب - كقضو زيد - أي ما أقضاه، فالمعنى هنا ما أسوأ عملهم، وبعضهم يقول: هي لمجرد الذم والتعجب مأخوذ من المقام، وتمييزها محذوف، و * (ما) * موصولة فاعل لها أي ساء عملا الذي يعملونه، ويجوز أن تكون * (ما) * نكرة في موضع التمييز، والجملة الإنشائية خبر للمبتدأ، والكلام في ذلك شهير. هذا ومن باب الإشارة في الآيات: * (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة) * أي صلاة الشهود والحضور الذاتي * (ويؤتون الزكاة) * أي زكاة وجودهم * (وهم راكعون) * (المائدة: 55) أي خاضعون في البقاء بالله. والآية عند معظم المحدثين نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه، والإمامية - كما علمت - يستدلون بها على خلافته بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا فصل، وقد علمت منا ردهم - والحمد لله سبحانه - رد كلام، وكثير من الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم يشير إلى القول بخلافته كرم الله تعالى وجهه بعد الرسول عليه الصلاة والسلام بلا فصل أيضا إلا أن تلك الخلافة عندهم هي الخلافة الباطنة التي هي خلافة الإرشاد والتربية والإمداد والتصرف الروحاني لا الخلافة الصورية التي هي عبارة عن إقامة الحدود الظاهرة وتجهيز الجيوش والذب عن بيضة الإسلام ومحاربة أعدائه بالسيف والسنان، فإن تلك عندهم على الترتيب الذي وقع كما هو مذهب أهل السنة، والفرق عندهم بين الخلافتين كالفرق بين القشر واللب، فالخلافة الباطنة لب الخلافة الظاهرة، وبها يذب عن حقيقة الإسلام، وبالظاهرة يذب عن صورته، وهي مرتبة القطب في كل عصر، وقد تجتمع مع الخلافة الظاهرة كما اجتمعت في علي كرم الله تعالى وجهه أيام أمارته، وكما تجتمع في المهدي أيام ظهوره، وهي والنبوة رضيعا ثدي، وإلى ذلك الإشارة بما يروونه عنه عليه الصلاة والسلام من قوله: " خلقت أنا وعلى من نور واحد " وكانت هذه الخلافة فيه كرم الله تعالى وجهه على الوجه الأتم. ومن هنا كانت سلاسل أهل الله عز وجل منتهية إليه إلا ما هو أعز من بيض الأنوق، فإنه ينتهي إلى الصديق رضي الله تعالى عنه كسلسلة ساداتنا النقشبندية نفعنا الله تعالى بعلومهم، ومع هذا ترد عليه كرم الله تعالى وجهه أيضا، وبتقسيم الخلافة إلى هذين القسمين جمع بعض العارفين بين الأحاديث المشعرة أو المصرحة بخلافة الأئمة الثلاثة رضي الله تعالى عنهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الترتيب المعلوم، وبين الأحاديث المشعرة أو المصرحة بخلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه بعده عليه الصلاة والسلام بلا فصل، فحمل الأحاديث الواردة في خلافة الخلفاء
186

الثلاثة على الخلافة الظاهرة، والأحاديث الواردة في خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه على الخلافة الباطنة ولم يعطل شيئا من الأخبار، وقال بحقيقة خلافة الأربع رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وأنت تعلم أن هذا مشعر بأفضلية الأمير كرم الله تعالى وجهه على الخلفاء الثلاثة، وبعضهم يصرح بذلك، ويقول: بجواز خلافة المفضول خلافة صورية مع وجود الفاضل لكن قد قدمنا عن الشيخ الأكبر قدس الله تعالى سره أنه قال: ليس بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه رجل، وليس مقصوده سوى بيان المرتبة في الفضل فافهم * (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا) * فإنه من حزب الله تعالى أي أهل خاصته القائمين معه على شرائط الاستقامة * (فإن حزب الله هم الغالبون) * (المائدة: 56) على أعدائهم الأنفسية والأفاقية، وقد صح " لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله سبحانه لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تعالى وهم على ذلك " * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم) * أي حالكم الذي أنتم عليه في السير والسلوك * (هزوا ولعبا) * فطعنوا فيه * (من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) * وهم المقتصرون على الظاهر فقط - كاليهود - أو على الباطن فقط - كالنصارى - * (والكفار) * الذين حجبوا بأنفسهم عن الحق * (أولياء) * للمباينة في الأحوال * (واتقوا الله إن كنتم مؤمنين) * (المائدة: 57) به عز شأنه * (وإذا ناديتم إلى الصلاة) * أي الحضور في حضرة الرب * (اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) * (المائدة: 58) الأسرار ولم يفهموا ما في الصلاة من بلوغ الأوطار، فقد صح " حبب لي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة " * (قل يا أهل الكتاب هل تنقمون) * وتنكرون * (منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل) * (المائدة: 59) فجمعنا بين الظاهر والباطن وطرنا بهذين الجناحين إلى الحضرة القدسية * (وجعل منهم القردة والخنازير) * أي بدلنا صفاتهم بصفات هاتيك الحيوانات من الحيل والحرص والشهوة وقلة الغيرة * (وعبد الطاغوت) * وهو كل ما يطغى مما سوى الله تعالى أي أنهم انقادوا إليه وخضعوا له، ومن أولئك من هو عابد الدرهم والدينار * (أولئك شر مكانا) * (المائدة: 60) لأنهم أبطلوا استعدادهم الفطري وضلوا ضلالا بعيدا * (وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت) * (المائدة: 62) أي يقدمون بسرعة على جميع الرذائل لاعتيادهم لها وتدربهم فيها وكونها ملكات لنفوسهم، فالإثم رذيلة القوة النطقية
والعدوان رذيلة القوى الغضبية، وأكل السحت رذيلة القوى الشهوية * (وقالت اليهود) * لحرمانهم من الأسرار التي لا يطلع عليها أهل الظاهر * (يد الله) * تعالى عما يقولون * (مغلولة) * فلا يفيض غير ما نحن فيه من العلوم الظاهرة * (غلت أيديهم) * وحرموا إلى يوم القيامة عن تناول ثمار أشجار الأسرار * (ولعنوا) * أي أبعدوا عن الحضرة الإلهية * (بما قالوا) * من تلك الكلمة العظيمة * (بل يداه مبسوطتان ينفق) * بهما * (كيف يشاء) * (المائدة: 64) فيفيض حسب الحكمة من أنواع العلوم الظاهرة والباطنة على من وجده أهلا لذلك، وإلى الظاهر والباطن أشار صلى الله عليه وسلم " بالليل والنهار " فيما أخرجه البخاري وغيره " يد الله تعالى ملآى لا يغيضها سخاء الليل والنهار " * (ولو أن أهل الكتاب آمنوا) * الإيمان الحقيقي * (واتقوا) * شرك أفعالهم وصفاتهم وذواتهم، ولو أنهم آمنوا بالعلوم الظاهرة * (واتقوا) * الإنكار والاعتراض على من روي من العلوم الباطنة وسلموا لهم أحوالهم كما قيل: وإذا لم تر الهلال فسلم
لأناس رأوه بالأبصار
* (لكفرنا عنهم سيآتهم) * التي ارتكبوها * (ولأدخلناهم جنات النعيم) * (المائدة: 56) في مقابلة إيمانهم واتقائهم * (ولو أنهم
187

أقاموا التوراة) * بتحقق علوم الظاهر والقيام بحقوق تجليات الأفعال والمحافظة على أحكامها في المعاملات * (والإنجيل) * بتحقق علوم الباطن والقيام بحقوق تجليات الصفات والمحافظة على أحكامها في المكاشفات * (وما أنزل إليهم من ربهم) * من علم المبدأ والمعاد وتوحيد الملك والملكوت من عالم الربوبية الذي هو عالم الأسماء * (لأكلوا من فوقهم) * أي لرزقوا من العالم الروحاني العلوم الإلهية والحقائق العقلية والمعارف الحقانية * (ومن تحت أرجلهم) * أي من العالم السفلي الجسماني العلوم الطبيعية والإدراكات الحسية، وبالأول: يهتدون إلى معرفة الله تعالى ومعرفة الملك والجبروت، وبالثاني: يهتدون إلى معرفة عالم الملك، فيعرفون الله تعالى إذا تم لهم الأمران باسمه الباطن والظاهر بل بجميع الأسماء والصفات، وللطيبي هنا كلام طيب يصلح لهذا الباب، فإنه قال بعد أن حكى عن البعض أنه قال في * (لأكلوا) * الخ: أي لوسع عليهم خير الدارين، وقلت: هذا في حق من عدد سيآتهم من أهل الكتاب إذا أقاموا مجرد حدود التوراة والإنجيل، فما ظنك بالعارف السالك إذا قمع هوى النفس وانكمش من هذا العالم إلى معالم القدس معتصما بحبل الله تعالى وسنة حبيبه صلى الله عليه وسلم فإنه تعالى يفيض على قلبه سجال فضائله وسحائب بركاته، فكمن فيه كمون الأمطار في الأرض، فتظهر ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه. وفي تعليق الأكل من فوق ومن تحت الأرجل على الإقامة بما ذكر، واختصاص * (من) * الابتدائية ما يلوح إلى معنى قوله عليه الصلاة والسلام: " من عمل بما علم ورثه الله تعالى علم ما لم يعلم " لأنهم إذا أقاموا العمل بكتاب الله سبحانه استنزل ذلك من فوقهم البركات، فإذا استجدوا العمل لتلك البركات المنزلة وقاموا عليها بثبات أقدامهم الراسخة استنزل ذلك لهم من الله عز وجل بركات هي أزكى من الأولى، فلا يزال العلم والعمل يتناوبان إلى أن ينتهي السالك إلى مقام القرب ومنازل العارفين، وفي ذكر الأرجل إشارة إلى حصول ثبات القدم ورسوخ العلم، وفي اقترانها مع تحت دلالة على مزيد الثبات وأنهم من الراسخين المقتبسين علومهم من مشكاة النبوة دون المتزلزلين الذين أخذوا علومهم من الأوهام، ولذا كتب بعض العارفين بهذه الآية إلى الإمام إرشادا له إلى معرفة طريق أهل الله عز شأنه انتهى. وقد وجه بعض أهل العبارة ممن هو مني في موضع التاج من الرأس لا زال باقيا ذكر الأرجل هنا بأنه للإشارة إلى أن المراد بقوله سبحانه: * (من تحت أرجلهم) * الأمور السفلية الحاصلة بالسعي والاكتساب كما أن المراد بقوله تعالى: * (من فوقهم) * الأمور الحاصلة بمجرد الفيض، وحينئذ يقوى الطباق بين المتعاطفين. ولعلك تستنبط مما ذكره الطيبي غير هذا الوجه مما يوافق أيضا مشرب أهل الظاهر، فتدبر * (منهم أمة مقتصدة) *، قيل: عادلة واصلة إلى توحيد الأسماء والصفات * (وكثير منهم ساء ما يعملون) * (المائدة: 66) وهم المحجوبون بالكلية الذين لن يصلوا إلى توحيد الأفعال بعد فضلا عن توحيد الصفات، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل..
* (ي‍اأيها الرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدى القوم الك‍افرين) *.
* (يا أيها الرسول) * إلى الثقلين كافة وهو نداء تشريف لأن الرسالة منة الله تعالى العظمى وكرامته الكبرى، وفي هذا العنوان إيذان أيضا بما يوجب الإتيان بما أمر به صلى الله عليه وسلم من تبليغ ما أوحي إليه. * (بلغ) * أي أوصل الخلق * (ما أنزل إليك) * أي " جميع ما أنزل كائنا ما كان * (من ربك) * أي مالك أمرك ومبلغك إلى كمالك اللائق بك، وفيه عدة ضمنية بحفظه عليه الصلاة والسلام وكلاءته أي بلغه غير مراقب في ذلك أحدا ولا خائف أن ينالك مكروه أبدا وإن لم تفعل أي ما أمرت به من تبليغ الجميع.
188

* (فما بلغت رسالته) * أي فما أديت شيئا من رسالته لما أن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض، فإذا لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعا كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها لإدلاء كل منها بما يدليه غيرها وكونها كذلك في حكم شيء واحد، والشيء الواحد لا يكون مبلغا غير مبلغ، مؤمنا به غير مؤمن به "، ولأن كتمان بعضها يضيع ما أدى منها كترك بعض أركان الصلاة فإن غرض الدعوة ينتقض به، واعترض القول بنفي أولوية بعضها من بعض بالأداء بأن الأولوية ثابتة باعتبار الوجوب قطعا وظنا وجلاءا وخفاءا أصلا وفرعا، وأجاب في " الكشف " بأنه نفي الأولوية نظرا إلى أصل الوجوب، وأيضا إن ذلك راجع إلى المبلغ، والكلام في التبليغ وهو غير مختلف الوجوب لأنه شيء واحد نظرا إلى ذاته، ثم كتمان البعض يدل على أنه لم ينظر إلى أنه مأمور بالتبليغ بل إلى ما في المبلغ من المصلحة، فكأنه لم يمتثل هذا الأمر أصلا فلم يبلغ، وإن أعلم الناس لم ينفعه لأنه مخبر إذ ذاك لا مبلغ، ونوقش في التعليل الثاني بأن الصلاة اعتبرها الشارع أمرا واحدا بخلاف التبليغ، وهي مناقشة غير واردة لأنه تعالى ألزمه عليه الصلاة والسلام تبليغ الجميع، فقد جعلها كالصلاة بلا ريب.
ومما ذكرنا في تفسير الشرطية يعلم أن لا اتحاد بين الشرط والجزاء، ومن ادعاه بناءا على أن المآل " إن لم تبلغ الرسالة لم تبلغ الرسالة - جعله نظير: أنا أبو النجم وشعري شعري
حيث جعل فيه الخبر عين المبتدأ بلا مزيد في اللفظ، وأراد - وشعري شعري - المشهور بلاغته والمستفيض فصاحته، ولكنه أخبر بالسكوت عن هذه الصفات التي بها تحصل الفائدة أنها من لوازم شعره في أفهام الناس السامعين لاشتهاره بها، وأنه غني عن ذكرها لشهرتها وذياعها، وكذلك - كما قال ابن المنير - أريد في الآية لأن عدم تبليغ الرسالة أمر معلوم عند الناس مستقر في الأفهام أنه عظيم شنيع ينقم على مرتكبه، ألا ترى أن عدم نشر العلم من العالم أمر فظيع فكيف كتمان الرسالة من الرسول؟! فاستغنى عن ذكر الزيادات التي يتفاوت بها الشرط والجزاء للصوقها بالجزاء في الأفهام، وأن كل من سمع عدم تبليغ الرسالة فهم ما وراءه من الوعيد والتهديد، وحسن هذا الأسلوب في الكتاب العزيز بذكر الشرط عاما حيث قال سبحانه: * (وإن لم تفعل) * ولم يقل: وإن لم تبلغ الرسالة فما بلغت الرسالة ليتغايرا لفظا وإن اتحدا معنى، وهذا أحسن رونقا وأظهر طلاوة من تكرار اللفظ الواحد في الشرط والجزاء، وهذه الذروة انحط عنها أبو النجم بذكر المبتدأ بلفظ الخبر، وحق له أن تتضاءل فصاحته عند فصاحة المعجز، فلا معاب عليه في ذلك، وقيل: إن المراد فإن لم تفعل فلك ما يوجبه كتمان الوحي كله، فوضع السبب موضع المسبب، ويعضده ما أخرجه إسحاق بن راهويه في " مسنده " من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وأخرجه أبو الشيخ وابن حبان في تفسيره من مرسل الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " بعثني الله تعالى بالرسالة فضقت بها ذرعا، فأوحى الله تعالى إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك وضمن لي العصمة فقويت ". وقيل: إن المراد إن تركت تبليغ ما أنزل إليك حكم عليك بأنك لم تبلغ أصلا، وقيل - وليته ما قيل - المراد بما أنزل القرآن، وبما في الجواب بقية المعجزات، وقيل: غير ذلك واستدل بالآية على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكتم شيئا من الوحي، ونسب إلى الشيعة أنهم يزعمون أنه عليه الصلاة والسلام كتم البعض تقية. وعن بعض الصوفية أن المراد تبليغ ما يتعلق به مصالح العباد من الأحكام، وقصد بإنزاله اطلاعهم عليه، وأما ما خص به من الغيب ولم يتعلق به مصالح أمته فله بل عليه كتمانه، وروى السلمي عن جعفر رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: * (فأوحى إلى عبده ما أوحى) * (النجم: 10) قال: أوحى بلا واسطة فيما بينه وبينه سرا إلى قلبه،
189

ولا يعلم به أحد سواه إلا في العقبى حين يعطيه الشفاعة لأمته، وقال الواسطي - ألقى إلى عبده ما ألقى - ولم يظهر ما الذي أوحى لأنه خصه سبحانه به صلى الله عليه وسلم، وما كان مخصوصا به عليه الصلاة والسلام كان مستورا، وما بعثه الله تعالى به إلى الخلق كان ظاهرا، قال الطيبي: وإلى هذا ينظر معنى ما روينا في " صحيح البخاري " عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع مني هذا البلعوم - أراد عنقه - وأصل معناه مجرى الطعام، وبذلك فسره البخاري، ويسمون ذلك علم الأسرار الإلهية وعلم الحقيقة، وإلى ذلك أشار رئيس العارفين علي زين العابدين حيث قال: إني لأكتم من علمي جواهره * كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا
وقد تقدم في هذا أبو حسن * إلى الحسين، وأوصى قبله الحسنا
فرب جوهر علم لو أبرح به * لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي
يرون أقبح ما يأتونه حسنا
ومن ذلك علم وحدة الوجود، وقد نصوا على أنه طور ما وراء طور العقل، وقالوا: إنه مما تعلمه الروح بدون واسطة العقل، ومن هنا قالوا بالعلم الباطن على معنى أنه باطن بالنسبة إلى أرباب الأفكار، وذوي العقول المنغمسين في أوحال العوائق والعلائق لا المتجردين العارجين إلى حضائر القدس ورياض الأنوار.
وقد ذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني روح الله تعالى روحه في كتابه " الدرر المنثورة في بيان زبد العلوم المشهورة " ما نصه: وأما زبدة علم التصوف الذي وضع القوم فيه رسائلهم فهو نتيجة العمل بالكتاب والسنة، فمن عمل بما علم تكلم كما تكلموا وصار جميع ما قالوه بعض ما عنده، لأنه كلما ترقى العبد في باب الأدب مع الله تعالى دق كلامه على الأفهام حتى قال بعضهم لشيخه: إن كلام أخي فلان يدق على فهمي، فقال: لأن ذلك قميصين وله قميص واحد فهو أعلى مرتبة منك، وهذا هو الذي دعا الفقهاء ونحوهم من أهل الحجاب إلى تسمية علم الصوفية بعلم الباطن، وليس ذلك بباطن إذ الباطن إنما هو علم الله تعالى، وأما جميع ما علمه الخلق على اختلاف طبقاتهم فهو من علم الظاهر لأنه ظهر للخلق، فاعلم ذلك انتهى.
وقد فهم بعضهم كون المراد تبليغ الأحكام وما يتعلق بها من المصالح دون ما يشمل علم الأسرار من قوله سبحانه: * (ما أنزل إليك) * دون ما تعرفنا به إليك، وذكر أن علم الأسرار لم يكن منزلا بالوحي بل بطريق الإلهام والمكاشفة، وقيل: يفهم ذلك من لفظ الرسالة، فإن الرسالة ما يرسل إلى الغير، وقد أطال بعض الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم الكلام في هذا المقام، والتحقيق عندي أن جميع ما عند النبي صلى الله عليه وسلم من الأسرار الإلهية وغيرها من الأحكام الشرعية قد اشتمل عليه القرآن المنزل فقد قال سبحانه: * (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء) * (النحل: 89) وقال تعالى: * (ما فرطنا في الكتاب من شيء) * الأنعام: 38)، وقال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الترمذي وغيره: " ستكون فتن، قيل: وما المخرج منها؟ قال: كتاب الله تعالى فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما فيكم "، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: أنزل في هذا القرآن كل علم وبين لنا فيه كل شيء ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: جميع ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن، ويؤيد ذلك ما رواه الطبراني في " الأوسط " من حديث
190

عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني لا أحل إلا ما أحل الله تعالى في كتابه ولا أحرم إلا ما حرم الله تعالى في كتابه "، وقال المرسي: جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به، ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا ما استأثر به سبحانه، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأعلامهم مثل الخلفاء الأربعة ومثل ابن مسعود وابن عباس رضي الله تعالى عنهما، حتى قال: لو ضاع لي عقال بعير
لوجدته في كتاب الله تعالى، ثم ورث عنهم التابعون بإحسان، ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه، فنوعوا علومه، وقامت كل طائفة بفن من فنونه.
وقال بعضهم: ما من شيء إلا يمكن استخراجه من القرآن لمن فهمه الله تعالى حتى أن البعض استنبط عمر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا وستين سنة من قوله سبحانه في سورة المنافقين (11) * (ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها) * فإنها رأس ثلاث وستين سورة، وعقبها - بالتغابن - ليظهر التغابن في فقده بنفس ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مما لا يكاد ينتطح فيه كبشان، فإذا ثبت أن جميع ذلك في القرآن كان تبليغ القرآن تبليغا له، غاية ما في الباب أن التوقيف على تفصيل ذلك سرا سرا وحكما حكما لم يثبت بصريح العبارة لكل أحد، وكم من سر وحكم نبهت عليهما الإشارة ولم تبينهما العبارة، ومن زعم أن هناك أسرارا خارجة عن كتاب الله تعالى تلقاها الصوفية من ربهم بأي وجه كان، فقد أعظم الفرية وجاء بالضلال ابن السبهلل بلا مرية.
وقول بعضهم: أخذتم علمكم ميتا عن ميت ونحن أخذناه عن الحي الذي لا يموت، لا يدل على ذلك الزعم لجواز أن يكون ذلك الأخذ من القرآن بواسطة فهم قدسي أعطاه الله تعالى لذلك الآخذ، ويؤيد هذا ما صح عن أبي جحيفة، قال: قلت لعلي كرم الله تعالى وجهه: هل عندكم كتاب خصكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا إلا كتاب الله تعالى أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة - وكانت متعلقة بقبضة سيفه - قال: قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر. " ويفهم منه - كما قال القسطلاني - جواز استخراج العالم من القرآن بفهمه ما لم يكن منقولا عن المفسرين إذا وافق أصول الشريعة "، وما عند الصوفية - على ما أقول - كله من هذا القبيل إلا أن بعض كلماتهم مخالف ظاهرها لما جاءت به الشريعة الغراء، لكنها مبنية على اصطلاحات فيما بينهم إذا علم المراد منها يرتفع الغبار، وكونهم ملامين على تلك الاصطلاحات لقول علي كرم الله تعالى وجهه كما في " صحيح البخاري " - " حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم " - أو غير ملامين لوجود داع لهم إلى ذلك على ما يقتضيه حسن الظن بهم بحث آخر لسنا بصدده. وقريب من خبر أبي جحيفة ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عنترة قال كنت عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فجاءه رجل فقال: إن ناسا يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئا لم يبده رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس فقال: ألم تعلم أن الله تعالى قال: * (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) *؟ والله ما ورثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء في بيضاء، وحمل - وعاء أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الذي لم يبثه على علم الأسرار - غير متعين لجواز أن يكون المراد منه إخبار الفتن وأشراط الساعة وما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من فساد الدين على أيدي أغيلمة من سفهاء قريش، وقد كان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: لو شئت أن أسميهم بأسمائهم لفعلت،
191

أو المراد الأحاديث التي فيها تعيين أسماء أمراء الجور وأحوالهم وذمهم، وقد كان رضي الله تعالى عنه يكني عن بعض ذلك ولا يصرح خوفا على نفسه منهم بقوله: " أعوذ بالله سبحانه من رأس الستين وإمارة الصبيان "، يشير إلى خلافة يزيد الطريد لعنه الله تعالى على رغم أنف أوليائه لأنها كانت سنة ستين من الهجرة، واستجاب الله تعالى دعاء أبي هريرة رضي الله تعالى عنه فمات قبلها بسنة، وأيضا قال القسطلاني: لو كان كذلك لما وسع أبي هريرة كتمانه مع ما أخرج عنه البخاري أنه قال: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة الحديث، ولولا آيتان في كتاب الله تعالى ما حدثت حديثا ثم يتلو * (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى) * إلى قوله تعالى: * (الرحيم) * (البقرة: 159، 160) إلى آخر ما قال، فإن ما تلاه دال على ذم كتمان العلم لا سيما العلم الذي يسمونه علم الأسرار؛ فإن الكثير منهم يدعي أنه لب ثمرة العلم، وأيضا إن أبا هريرة نفى بث ذلك الوعاء على العموم من غير تخصيص، فكيف يستدل به لذلك، وأبو هريرة لم يكشف مستوره فيما أعلم؟ فمن أين علم أن الذي علمه هو هذا؟! ومن ادعى فعليه البيان، ودونه قطع الأعناق.
فالاستدلال بالخبر لطريق القوم فيه ما فيه، ومثله ما روي عن زين العابدين رضي الله تعالى عنه، نعم للقوم متمسك غير هذا مبين في موضعه لكن لا يسلم لأحد كائنا من كان أن ما هم عليه مما خلا عنه كتاب الله تعالى الجليل، أو أنه أمر وراء الشريعة، ومن برهن على ذلك بزعمه فقد ضل ضلالا بعيدا، فقد قال الشعراني قدس سره في " الأجوبة المرضية عن الفقهاء والصوفية ": سمعت سيدي عليا المرصفي يقول: لا يكمل الرجل في مقام المعرفة والعلم حتى يرى الحقيقة مؤيدة للشريعة، وأن التصوف ليس بأمر زائد على السنة المحمدية، وإنما هو عينها. وسمعت سيدي عليا الخواص يقول مرارا: من ظن أن الحقيقة تخالف الشريعة أو عكسه فقد جهل لأنه ليس عند المحققين شريعة تخالف حقيقة أبدا حتى قالوا: شريعة بلا حقيقة عاطلة وحقيقة بلا شريعة باطلة، خلاف ما عليه القاصرون من الفقهاء والفقراء، وقد يستند من زعم المخالفة بين الحقيقة والشريعة إلى قصة الخضر مع موسى عليهما السلام، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك على وجه لا يستطيع المخالف معه على فتح شفة.
ومما نقلنا عن القسطلاني في خبر أبي جحيفة يعلم الجواب عما قيل في الاعتراض على الصوفية: من أن ما عندهم إن كان موافقا للكتاب والسنة فهما بين أيدينا، وإن كان مخالفا لهما فهو رد عليهم، وما بعد الحق إلا الضلال، والجواب باختيار الشق الأول وكون الكتاب والسنة بين أيدينا لا يستدعي عدم إمكان استنباط شيء منهما بعد، ولا يقتضي انحصار ما فيهما فيما علمه العلماء قبل، فيجوز أن يعطي الله تعالى لبعض خواص عباده فهما يدرك به منهما ما لم يقف عليه أحد من المفسرين والفقهاء المجتهدين في الدين، وكم ترك الأول للآخر، وحيث سلم للأئمة الأربعة مثلا اجتهادهم واستنباطهم من الآيات والأحاديث مع مخالفة بعضهم بعضا، فما المانع من أن يسلم للقوم ما فتح لهم من معاني كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإن خالف ما عليه بعض الأئمة، لكن لم يخالف ما انعقد عليه الإجماع الصريح من الأمة المعصومة، وأرى التفرقة بين الفريقين مع ثبوت علم كل في القبول والرد تحكما بحتا كما لا يخفى على المنصف.
وزعمت الشيعة أن المراد: ب * (ما أنزل إليك) * خلافة علي كرم الله تعالى وجهه، فقد رووا بأسانيدهم عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستخلف عليا كرم الله تعالى وجهه، فكان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه فأنزل الله تعالى هذه الآية تشجيعا له
عليه الصلاة والسلام بما أمره بأدائه.
192

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: نزلت هذه الآية في علي كرم الله تعالى وجهه حيث أمر سبحانه أن يخبر الناس بولايته فتخوف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقولوا حابى ابن عمه وأن يطعنوا في ذلك عليه، فأوحى الله تعالى إليه هذه الآية فقام بولايته يوم غدير خم، وأخذ بيده فقال عليه الصلاة والسلام: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وأخرج الجلال السيوطي في " الدر المنثور " عن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر راوين عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم في علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه، وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم * (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) * إن عليا ولي المؤمنين * (وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) * وخبر الغدير عمدة أدلتهم على خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه، وقد زادوا فيه إتماما لغرضهم زيادات منكرة، ووضعوا في خلاله كلمات مزورة ونظموا في ذلك الأشعار وطعنوا على الصحابة رضي الله تعالى عنهم بزعمهم أنهم خالفوا نص النبي المختار صلى الله عليه وسلم، فقال إسماعيل بن محمد الحميري - عامله الله تعالى بعدله - من قصيدة طويلة: عجبت من قوم أتوا أحمدا * بخطة ليس لها موضع
قالوا له: لو شئت أعلمتنا * إلى من الغاية والمفزع
إذا توفيت وفارقتنا * وفيهم في الملك من يطمع؟
فقال: لو أعلمتكم مفزعا * كنتم عسيتم فيه أن تصنعوا
كصنع أهل العجل إذ فارقوا * هرون فالترك له أورع
ثم أتته بعده عزمة * من ربه ليس لها مدفع
أبلغ وإلا لم تكن مبلغا * والله منهم عاصم يمنع
فعندها قام النبي الذي * كان بما يأمره يصدع
يخطب مأمورا وفي كفه * كف علي نورها يلمع
رافعها، أكرم بكف الذي * يرفع، والكف التي ترفع
من كنت مولاه فهذا له * مولى فلم يرضوا ولم يقنعوا
وظل قوم غاظهم قوله * كأنما آنافهم تجدع
حتى إذا واروه في لحده * وانصرفوا عن دفنه ضيعوا
ما قال بالأمس وأوصى به * واشتروا الضر بما ينفع
وقطعوا أرحامهم بعده * فسوف يجزون بما قطعوا
وأزمعوا مكرا بمولاهم * تبا لما كانوا به أزمعوا
لا هم عليه يردوا حوضه * غدا، ولا هو لهم يشفع
إلى آخر ما قال لا غفر الله تعالى له عثرته ولا أقال، وأنت تعلم أن أخبار الغدير التي فيها الأمر بالاستخلاف غير صحيحة عند أهل السنة ولا مسلمة لديهم أصلا، ولنبين ما وقع هناك أتم تبيين ولنوضح الغث منه والسمين، ثم نعود على استدلال الشيعة بالإبطال ومن الله سبحانه الاستمداد وعليه الاتكال،
193

فنقول:
" إن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في مكان بين مكة والمدينة عند مرجعه من حجة الوداع قريب من الجحفة يقال له: غدير خم، فبين فيها فضل علي كرم الله تعالى وجهه وبراءة عرضه مما كان تكلم فيه بعض من كان معه بأرض اليمن بسبب ما كان صدر منه (إليهم) من المعدلة التي ظنها بعضهم جورا وتضييقا وبخلا، والحق مع علي كرم الله تعالى وجهه في ذلك، وكانت يوم الأحد ثامن عشر ذي الحجة تحت شجرة هناك... فروى محمد بن إسحق عن يحيى بن عبد الله عن يزيد بن طلحة قال: لما أقبل علي كرم الله تعالى وجهه من اليمن ليلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة تعجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف على جنده الذين معه رجلا من أصحابه، فعمد ذلك الرجل فكسا كل رجل حلة من البز الذي كان مع علي كرم الله تعالى وجهه، فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم فإذا عليهم الحلل، قال: ويلك ما هذا؟ قال: كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس، قال: ويلك انتزع قبل أن ننتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فانتزع الحلل من الناس فردها في البز (قال) (1) وأظهر الجيش شكواه لما صنع لهم.
وأخرج عن زينب بنت كعب - وكانت عند أبي سعيد الخدري - عن أبي سعيد قال: اشتكى الناس عليا كرم الله تعالى وجهه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيبا فسمعته يقول: أيها الناس لا تشكوا عليا فوالله إنه لأخشن في ذات الله تعالى - أو في سبيل الله تعالى، ورواه الإمام أحمد، وروى أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن بريدة الأسلمي قال: غزوت مع علي اليمن فرأيت منه جفوة، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت عليا كرم الله تعالى وجهه (فتنقصته) (1)، فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تغير، فقال (يا) (1) بريدة: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى يا رسول الله قال: من
كنت مولاه فعلي مولاه، وكذا رواه النسائي بإسناد جيد قوي رجاله كلهم ثقات، وروي بإسناد آخر تفرد به، وقال الذهبي: إنه صحيح عن زيد بن أرقم قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فغممن، ثم قال: " كأني قد دعيت فأجبت إني قد تركت فيكم الثقلين كتاب الله تعالى وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، الله تعالى مولاي وأنا ولي كل مؤمن، ثم أخذ بيد علي كرم الله تعالى وجهه فقال: من كنت مولاه فهذا وليه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه "، فما كان في الدوحات أحد إلا رآه بعينيه وسمعه بأذنيه.
وروى ابن جرير عن علي بن زيد وأبي هارون العبيدي وموسى بن عثمان عن البراء قال: " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فلما أتينا على غدير خم كشح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرتين ونودي في الناس الصلاة جامعة، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا كرم الله تعالى وجهه وأخذ بيده وأقامه عن يمينه، فقال: ألست أولى بكل امرىء من نفسه؟ قالوا: بلى، قال: فإن هذا مولى من أنا مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، فلقيه عمر بن الخطاب فقال رضي الله تعالى عنه: هنيئا لك أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة - وهذا ضعيف - فقد نصوا أن علي بن زيد وأبا هارون وموسى ضعفاء لا يعتمد على روايتهم "، وفي السند أيضا - أبو إسحق - وهو شيعي مردود الرواية.
وروى ضمرة بإسناده عن أبي هريرة قال: لما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يد علي كرم الله تعالى وجهه قال: من كنت مولاه، فأنزل الله تعالى * (اليوم أكملت لكم دينكم) * (المائدة: 3) ثم قال أبو هريرة:
194

وهو يوم غدير خم، ومن صام يوم ثماني عشرة من ذي الحجة كتب الله تعالى له صيام ستين شهرا، وهو حديث منكر جدا، ونص في " البداية والنهاية " على أنه موضوع " وقد اعتنى بحديث الغدير أبو جعفر بن جرير الطبري فجمع فيه مجلدين أورد فيهما سائر طرقه وألفاظه، وساق الغث والسمين والصحيح والسقيم على ما جرت به عادة كثير من المحدثين، فإنهم يوردون ما وقع لهم في الباب من غير تمييز بين صحيح وضعيف، وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم ابن عساكر أورد أحاديث كثيرة في هذه الخطبة "، والمعول عليه فيها ما أشرنا إليه، ونحوه مما ليس فيه خبر الاستخلاف كما يزعمه الشيعة، وعن الذهبي أن " من كنت مولاه فعلي مولاه " متواتر يتيقن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله، وأما اللهم وال من والاه، فزيادة قوية الإسناد، وأما صيام ثماني عشرة ذي الحجة فليس بصحيح - ولا والله نزلت تلك الآية إلا يوم عرفة قبل غدير خم بأيام.
والشيخان لم يرويا خبر الغدير في " صحيحيهما " لعدم وجدانهما له على شرطهما، وزعمت الشيعة أن ذلك لقصور وعصبية فيهما وحاشاهما من ذلك، ووجه استدلال الشيعة بخبر - من كنت مولاه فعلي مولاه - أن المولى بمعنى الأولى بالتصرف، وأولوية التصرف عين الإمامة، ولا يخفى أن أول الغلط في هذا الاستدلال جعلهم المولى بمعنى الأولى، وقد أنكر ذلك أهل العربية قاطبة بل قالوا: لم يجىء مفعل بمعنى أفعل أصلا، ولم يجوز ذلك إلا أبو زيد اللغوي متمسكا بقول أبي عبيدة في تفسير قوله تعالى: * (هي مولاكم) * (الحديد: 15) أي أولى بكم. ورد بأنه يلزم عليه صحة فلان مولى من فلان كما يصح فلان أولى من فلان، واللازم باطل إجماعا فالملزوم مثله، وتفسير أبي عبيدة بيان لحاصل المعنى، يعني النار مقركم ومصيركم والموضع اللائق بكم، وليس نصا في أن لفظ المولى ثمة بمعنى الأولى، والثاني أنا لو سلمنا أن المولى بمعنى الأولى لا يلزم أن يكون صلته بالتصرف، بل يحتمل أن يكون المراد أولى بالمحبة وأولى بالتعظيم ونحو ذلك، وكم قد جاء الأولى في كلام لا يصح معه تقدير التصرف كقوله تعالى: * (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا) * (آل عمران: 68) على أن لنا قرينتين على أن المراد من الولاية من لفظ المولى أو الأولى: المحبة، إحداهما ما رويناه عن محمد بن إسحق في شكوى الذين كانوا مع الأمير كرم الله تعالى وجهه في اليمن - كبريدة الأسلمي وخالد بن الوليد وغيرهما - ولم يمنع صلى الله عليه وسلم الشاكين بخصوصهم مبالغة في طلب موالاته وتلطفا في الدعوة إليها كما هو الغالب في شأنه صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك، وللتلطف المذكور افتتح الخطبة صلى الله عليه وسلم بقوله: " ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم "، وثانيهما قوله عليه الصلاة والسلام على ما في بعض الروايات: " اللهم وال من والاه وعاد من عاداه "، فإنه لو كان المراد من المولى المتصرف في الأمور أو الأولى بالتصرف لقال عليه الصلاة والسلام: اللهم وال من كان في تصرفه وعاد من لم يكن كذلك، فحيث ذكر صلى الله عليه وسلم المحبة والعداوة فقد نبه على أن المقصود إيجاب محبته كرم الله تعالى وجهه والتحذير عن عداوته وبغضه لا التصرف وعدمه، ولو كان المراد الخلافة لصرح صلى الله عليه وسلم بها. ويدل لذلك ما رواه أبو نعيم عن الحسن المثنى بن الحسن السبط رضي الله تعالى عنهما أنهم سألوه عن هذا الخبر، هل هو نص على خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه؟ فقال: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم أراد خلافته لقال: أيها الناس هذا ولي أمري والقائم عليكم بعدي فاسمعوا وأطيعوا، ثم قال الحسن: أقسم بالله سبحانه أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم (لو آثرا) عليا لأجل هذا الأمر - ولم يقدم
195

علي كرم الله تعالى وجهه عليه - لكان أعظم الناس خطأ، وأيضا ربما يستدل على أن المراد بالولاية المحبة بأنه لم يقع التقييد بلفظ بعدي، والظاهر حينئذ اجتماع الولايتين في زمان واحد، ولا يتصور الاجتماع على تقدير أن يكون المراد أولوية التصرف بخلاف ما إذا كان المراد المحبة.
وتمسك الشيعة في إثبات أن المراد بالمولى الأولى بالتصرف باللفظ الواقع في صدر الخبر على إحدى الروايات، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم " ونحن نقول: المراد من هذا أيضا الأولى بالمحبة يعني ألست أولى: بالمؤمنين من أنفسهم بالمحبة، بل قد يقال: الأولى ههنا مشتق من الولاية بمعنى المحبة، والمعنى ألست أحب إلى المؤمنين من أنفسهم؟ ليحصل تلاؤم أجزاء الكلام ويحسن الانتظام، ويكون حاصل المعنى هكذا: يا معشر المؤمنين إنكم تحبوني أكثر من أنفسكم، فمن يحبني يحب عليا اللهم أحب من أحبه وعاد من عاداه، ويرشد إلى أنه ليس المراد بالأولى - في تلك الجملة - الأولى بالتصرف أنها مأخوذة من
قوله تعالى: * (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) * (الأحزاب: 6) وهو مسوق لنفي نسب الأدعياء ممن يتبنونهم، وبيانه أن زيد بن حارثة لا ينبغي أن يقال: إنه ابن محمد صلى الله عليه وسلم لأن نسبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى جميع المؤمنين كالأب الشفيق بل أزيد، وأزواجه عليه والسلام أمهاتهم، والأقرباء في النسب أحق وأولى من غيرهم، وإن كانت الشفقة والتعظيم للأجانب أزيد لكن مدار النسب على القرابة وهي مفقودة في الأدعياء لا على الشفقة والتعظيم، وهذا ما في كتاب الله تعالى أي في حكمه، ولا دخل لمعنى الأولى بالتصرف في المقصود أصلا، فالمراد فيما نحن فيه هو المعنى الذي أريد في المأخوذ منه، ولو فرضنا كون الأولى في صدر الخبر بمعنى الأولى بالتصرف فيحتمل أن يكون ذلك لتنبيه المخاطبين بذلك الخطاب ليتوجهوا إلى سماع كلامه صلى الله عليه وسلم كمال التوجه ويلتفتوا إليه غاية الإلتفات، فيقرر ما فيه من الإرشاد أتم تقرر، وذلك كما يقول الرجل لأبنائه في مقام الوعظ والنصيحة: ألست أباكم؟ وإذا اعترفوا بذلك يأمرهم بما قصده منهم ليقبلوا بحكم الأبوة والنبوة ويعملوا على طبقهما، فقوله عليه الصلاة والسلام في هذا المقام: " ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ " مثل " ألست رسول الله صلى الله عليه وسلم تعالى إليكم؟ " " أو ألست نبيكم "، ولا يمكن إجراء مثل ذلك فيما بعده تحصيلا للمناسبة، ومن الشيعة من أورد دليلا على نفي معنى المحبة، وهو أن محبة الأمير كرم الله تعالى وجهه أمر ثابت في ضمن آية * (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) * (التوبة: 71) فلو أفاد هذا الحديث ذلك المعنى أيضا كان لغوا ولا يخفى فساده، ومنشؤه أن المستدل لم يفهم أن إيجاب محبة أحد في ضمن العموم شيء، وإيجاب محبته بالخصوص شيء آخر، والفرق بينهما مثل الشمس ظاهر، ومما يزيد ذلك ظهورا أنه لو آمن شخص بجميع أنبياء الله تعالى، ورسله عليهم الصلاة والسلام، ولم يتعرض لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بخصوصه بالذكر لم يكن إيمانه معتبرا، وأيضا لو فرضنا اتحاد مضمون الآية والخبر لا يلزم اللغو، بل غاية ما يلزم التقرير والتأكيد، وذلك وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان عليه الصلاة والسلام كثيرا ما يؤكد مضامين القرآن ويقررها، بل القرآن نفسه قد تكررت فيه المضامين لذلك، ولم يقل أحد إن ذلك من اللغو - والعياذ بالله تعالى - وأيضا التنصيص على إمامة الأمير كرم الله تعالى وجهه تكرر مرارا عند الشيعة، فيلزم على تقدير صحة ذلك القول اللغوي، ويجل كلام الشارع عنه، ثم إن ما أشار إليه الحميري في قصيدته التي أسرف فيها من أن الصحابة
196

رضي الله تعالى عنهم بهذه الهيئة الاجتماعية جاءوا النبي صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه تعيين الإمام بعده مما لم يذكره المؤرخون وأهل السير من الفريقين فيما أعلم، بل هو محض زور وبهتان نعوذ بالله تعالى منه.
ومن وقف على تلك القصيدة الشنيعة بأسرها وما يرويه الشيعة فيها، وكان له أدنى خبرة رأى العجب العجاب وتحقق أن قعاقع القوم كصرير باب أو كطنين ذباب، ثم إن الأخبار الواردة من طريق أهل السنة الدالة على أن هذه الآية نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه - على تقدير صحتها وكونها بمرتبة يستدل بها - ليس فيها أكثر من الدلالة على فضله كرم الله تعالى وجهه وأنه ولي المؤمنين بالمعنى الذي قررناه، ونحن لا ننكر ذلك وملعون من ينكره، وكذا ما أخرجه ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ليس فيه أكثر من ذلك، والتنصيص عليه كرم الله تعالى وجهه بالذكر لما قدمنا، وقال بعض أصحابنا على سبيل التنزيل: إن الآية على خبر ابن مسعود وكذا خبر الغدير - على الرواية المشهورة - على تقدير دلالتهما على أن المراد الأولى بالتصرف لا بد أن يقيدا بما يدل على ذلك في المآل، وحينئذ فمرحبا بالوفاق لأن أهل السنة قائلون بذلك حين إمامته، ووجهه تخصيص الأمير كرم الله تعالى وجهه حينئذ بالذكر ما علمه عليه الصلاة والسلام بالوحي من وقوع الفساد والبغي في زمن خلافته، وإنكار بعض الناس لإمامته الحقة، وكون ذلك بعد الوفاة من غير فصل مما لا دليل عليه، والخبر المصدر - بكأني قد دعيت فأجبت - ليس نصا في المقصود كما لا يخفى، ومما يبعد دعوى الشيعة من أن الآية نزلت في خصوص خلافة علي كرم الله تعالى وجهه، وأن الموصول فيها خاص. قوله تعالى: * (والله يعصمك من الناس) * فإن الناس فيه وإن كان عاما إلا أن المراد بهم الكفار، ويهديك إليه * (إن الله لا يهدي القوم الك‍افرين) * فإنه في موضع التعليل لعصمته عليه الصلاة والسلام، وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر أي لأن الله تعالى لا يهديهم إلى أمنيتهم فيك، ومتى كان المراد بهم الكفار بعد إرادة الخلافة، بل لو قيل: لم تصح لم يبعد لأن التخوف الذي تزعمه الشيعة منه صلى الله عليه وسلم - وحاشاه في تبليغ أمر الخلافة - إنما هو من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، حيث إن فيهم - معاذ الله تعالى - من يطمع فيها لنفسه، ومتى رأى حرمانه منها لم يبعد منه قصد الإضرار برسول الله صلى الله عليه وسلم، والتزام القول - والعياذ بالله عز وجل - بكفر من عرضوا بنسبة الطمع في الخلافة إليه مما يلزمه محاذير كلية أهونها تفسيق الأمر كرم الله تعالى وجهه وهو هو، أو نسبة الجبن إليه - وهو أسد الله تعالى الغالب - أو الحكم عليه بالتقية - وهو الذي لا تأخذه في الله تعالى لومة لائم ولا يخشى إلا الله سبحانه - أو نسبة فعل الرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل الأمر الإلهي إلى العبث والكل كما ترى، لا يقال: إن عندنا أمرين يدلان على أن المراد بالموصول الخلافة، أحدهما: أنه صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بأبلغ عبارة بتبليغ الأحكام الشرعية التي يؤمر بها حيث قال سبحانه مخاطبا له عليه الصلاة والسلام: * (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) * (الحجر: 94) فلو لم يكن المراد هنا فرد هو أهم الأفراد وأعظمها شأنا - وليس ذلك إلا الخلافة إذ بها ينتظم أمر الدين والدنيا - لخلا الكلام عن الفائدة، وثانيهما: أن ابن إسحق ذكر في " سيرته " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس في حجة الوداع خطبته التي بين فيها ما بين، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: " أيها الناس اسمعوا قولي فإن لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا، أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألنكم عن أعمالكم، وقد بلغت، ثم أوصى
197

صلى الله عليه وسلم بالنساء، ثم قال عليه الصلاة والسلام: فاعقلوا قولي فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله تعالى وسنة نبيه
صلى الله عليه وسلم - إلى أن قال: بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم - اللهم هل بلغت؟ قال ابن إسحق: فذكر لي أن الناس قالوا: اللهم نعم، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: اللهم اشهد " انتهى. فإن هذه الرواية ظاهرة في أن الخطبة كانت يوم عرفة يوم الحج الأكبر - كما في رواية يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير - ويوم الغدير كان اليوم الثامن عشر من ذي الحجة بعد أن فرغ صلى الله عليه وسلم من شأن المناسك وتوجه إلى المدينة المنورة، وحينئذ يكون المأمور بتبليغه أمرا آخر غير ما بلغه صلى الله عليه وسلم قبل، وشهد الناس على تبليغه، وأشهد الله تعالى على ذلك، وليس هذا إلا الخلافة الكبرى والإمامة العظمى، فكأنه سبحانه يقول: يا أيها الرسول بلغ كون علي كرم الله تعالى وجهه خليفتك وقائما مقامك بعدك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته وإن قال لك الناس حين قلت: اللهم هل بلغت؟ اللهم نعم، لأنا نقول: إن الشرطية في الأمر الأول - بعد غمض العين عما فيه - ممنوعة لجواز أن يراد بالموصول في الآيتين الأحكام الشرعية المتعلقة بمصالح العباد في معاشهم ومعادهم، ولا يلزم الخلو عن الفائدة إذ كم آية تكررت في القرآن، وأمر ونهى ذكر مرارا للتأكيد والتقرير، على أن بعضهم ذكر أن فائدة الأمر هنا إزالة توهم أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك أو يترك تبليغ شيء من الوحي تقية، ويرد على الأمر الثاني أمران: الأول: أن كون يوم الغدير بعد يوم عرفة مسلم، لكن لا نسلم أن الآية نزلت فيه ليكون المأمور بتبليغه أمرا آخر، بل الذي يقتضيه ظاهر الخطبة وقول النبي صلى الله عليه وسلم فيها - اللهم هل بلغت - أن الآية نزلت قبل يومي الغدير وعرفة، وما ورد في غير ما أثر - من أن سورة المائدة نزلت بين مكة. والمدينة في حجة الوداع لا يصلح دليلا للبعدية ولا للقبلية إذ ليس فيه ذكر الإياب ولا الذهاب، وظاهر حاله صلى الله عليه وسلم في تلك الحجة - من إراءة المناسك ووضع الربا ودماء الجاهلية وغير ذلك مما يطول ذكره، وقد ذكره أهل السير - يرشد إلى أن النزول كان في الذهاب، والثاني: أنا لو سلمنا كون النزول يوم الغدير، فلا نسلم أن المأمور بتبليغه أمر آخر، وغاية ما يلزم حينئذ لزوم التكرار، وقد علمت فائدته وكثرة وقوعه، سلمنا أن المأمور بتبليغه أمر آخر لكنا لا نسلم أنه ليس إلا الخلافة، وكم قد بلغ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك غير ذلك من الآيات المنزلة عليه عليه الصلاة والسلام، والذي يفهم من بعض الروايات أن هذه الآية قبل حجة الوداع، فقد أخرج ابن مردويه والضياء في " مختاره " عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي آية أنزلت من السماء أشد عليك؟ فقال: " كنت بمنى أيام موسم واجتمع مشركو العرب وأفناء الناس في الموسم فأنزل علي جبريل عليه السلام فقال: * (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) * الآية، قال: فقمت عند العقبة فناديت: يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالات ربي ولكم الجنة، أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله وأنا رسول الله إليكم تفلحوا وتنجحوا ولكم الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: فما بقي رجل ولا امرأة ولا أمة ولا صبي إلا يرمون علي بالتراب والحجارة، ويقولون: كذاب صابىء، فعرض على عارض فقال: يا محمد إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون وانصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه "
198

قال الأعمش: فبذلك تفتخر بنو العباس، ويقولون فيهم نزلت * (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) * (القصص: 56) هوى النبي صلى الله عليه وسلم أبا طالب، وشاء الله تعالى عباس بن عبد المطلب، وأصرح من هذا ما أخرجه أبو الشيخ وأبو نعيم في " الدلائل " وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس وكان يرسل معه عمه أبو طالب كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت * (والله يعصمك من الناس) * فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه، فقال: يا عم إن الله عز وجل قد عصمني " فإن أبا طالب مات قبل الهجرة، وحجة الوداع بعدها بكثير، والظاهر اتصال الآية، وعن بعضهم أن الآية نزلت ليلا بناءا على ما أخرج عبد بن حميد والترمذي والبيهقي وغيرهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت * (والله يعصمك من الناس) * فأخرج رأسه من القبة فقال: " أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله تعالى " ولا يخفى أنه ليس بنص في المقصود، والذي أميل إليه جمعا بين الأخبار أن هذه الآية ما تكرر نزوله، والله تعالى أعلم، والمراد بالعصمة من الناس حفظ روحه عليه الصلاة والسلام من القتل والإهلاك، فلا يرد أنه صلى الله عليه وسلم شج وجهه الشريف وكسرت رباعيته يوم أحد، ومنهم من ذهب إلى العموم وادعى أن الآية إنما نزلت بعد أحد، واستشكل الأمران بأن اليهود سموه عليه الصلاة والسلام حتى قال: " لا زالت أكلة خيبر تعاودني وهذا أوان قطعت أبهري " وأجيب بأنه سبحانه وتعالى ضمن له العصمة من القتل ونحوه بسبب تبليغ الوحي، وأما ما فعل به صلى الله عليه وسلم وبالأنبياء عليهم الصلاة والسلام فللذب عن الأموال والبلاد والأنفس، ولا يخفى بعده.
وقال الراغب: عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حفظهم بما خصوا به من صفاء الجوهر، ثم بما أولاهم من الأخلاق والفضائل، ثم بالنصرة وتثبيت أقدامهم، ثم بإنزال السكينة عليهم وبحفظ قلوبهم وبالتوفيق، وقيل: المراد بالعصمة الحفظ من صدور الذنب، والمعنى: بلغ والله تعالى يمنحك الحفظ من صدور الذنب من بين الناس أي يعصمك بسبب ذلك دونهم، ولا يخفى أن هذا توجيه لم يصدر إلا ممن لم يعصمه الله تعالى من الخطأ، ومثله ما نقل عن علي بن عيسى في قوله سبحانه: * (إن الله لا يهدي القوم الكافرين) * حيث قال لا يهديهم بالمعونة والتوفيق والألطاف إلى الكفر بل إنما يهديهم إلى الإيمان، وزعم أن الذين دعاه إلى هذا التفسير أن الله تعالى هدى الكفار إلى الإيمان بأن دلهم عليه ورغبهم فيه وحذرهم من خلافه، وأنت قد علمت المراد بالآية على أن في كلامه ما لا يخفى من النظر، وقال الجبائي: المراد لا يهديهم إلى الجنة والثواب، وفيه غفلة عن كون الجملة في موضع التعليل، وزعم بعضهم أن المراد إن عليك البلاغ لا الهداية، فمن قضيت عليه بالكفر والوفاة عليه لا يهتدي أبدا - وهو كما ترى - فليفهم جميع ما ذكرناه في هذه الآية وليحفظ فإني لا أظن أنك تجده في كتاب. وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم - رسالاته - على الجمع.
* (قل ياأهل الكتاب لستم على شىء حتى تقيموا التوراة والإنجيل ومآ أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم مآ أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين) *.
وإيراد الآية في تضاعيف الآية الواردة في أهل الكتاب لما أن الكل قوارع يسوء الكفار سماعها ويشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم مشافهتهم بها، وخصوصا ما يتلوها من النص الناعي عليهم كمال ضلالهم، ولذلك أعيد الأمر فقال سبحانه:
* (قل يا أهل الكت‍اب) *، والمراد بهم: اليهود والنصارى - كما قال بعض المفسرين - وقال آخرون: المراد بهم اليهود، فقد أخرج ابن إسحق وابن جرير وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: " جاء رافع بن حارثة وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف ورافع بن حريملة فقالوا: يا محمد ألست تزعم أنك على
199

ملة إبراهيم ودينه وتؤمن بما عندنا من التوراة وتشهد أنها من الله تعالى حق؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بلى ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ عليكم من الميثاق وكتمتم منها ما أمرتم أن تبينوه للناس فبرئت من إحداثكم. قالوا: فإنا نأخذ بما في أيدينا فإنا على الهدى والحق ولا نؤمن بك ولا نتبعك " فأنزل الله تعالى فيهم * (قل يا أهل الكتاب) *.
* (لستم على شيء) * أي دين يعتد به ويليق بأن يسمى شيئا لظهور بطلانه ووضوح فساده، وفي هذا التعبير ما لا يخفى من التحقير، ومن أمثالهم أقل من لا شيء * (حتى تقيموا التوراة والإنجيل) * أي تراعوهما وتحافظوا على ما فيهما، من الأمور التي من جملتها دلائل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وشواهد نبوته، فإن إقامتهما وتوفية حقوقهما إنما تكون بذلك لا بالعمل بجميع ما فيهما منسوخا كان أو غيره، فإن مراعاة المنسوخ تعطيل لهما ورد لشهادتهما * (وما أنزل إليكم من ربكم) * أي القرآن المجيد، وإقامته بالإيمان به، وقدمت إقامة الكتابين على إقامته - مع أنها المقصودة بالذات - رعاية لحق الشهادة واستنزالا لهم عن رتبة الشقاق. وقيل: المراد بالموصول كتب أنبياء بني إسرائيل عليهم الصلاة والسلام، وقيل: الكتب الإلهية، فإنها كلها ناطقة بوجوب الإيمان بمن ادعى النبوة وأظهر المعجزة ووجوب طاعة من بعث إليهم له، وقد مر تمام الكلام على مثل هذا النظم الكريم وكذا على قوله تعالى: * (وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغي‍انا وكفرا) * والجملة مستأنفة - كما قال شيخ الإسلام - مبينة لشدة شكيمتهم وغلوهم في المكابرة والعناد وعدم إفادة التبليغ نفعا، وتصديرها بالقسم لتأكيد مضمونها وتحقيقه، ونسبة الإنزال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - مع نسبته فيما مر إليهم - للإنباء عن انسلاخهم عن تلك النسبة، وإذا أريد بالموصول النعم التي أعطيها صلى الله عليه وسلم فأمر النسبة ظاهر جدا.
* (فلا تأس على القوم الكافرين) * أي لا تأسف ولا تحزن عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم، فإن غائلة ذلك موصولة بهم وتبعته عائدة إليهم، وفي المؤمنين غنى لك عنهم، ووضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالرسوخ في الكفر، وقيل: المراد لا تحزن على هلاكهم وعذابهم، ووضع الظاهر موضع الضمير للتنبيه على العلة الموجبة لعدم الأسى، ولا يخلو عن بعد..
* (إن الذين ءامنوا والذين هادوا والص‍ابئون والنص‍ارى من ءامن بالله واليوم الاخر وعمل ص‍الحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *.
* (إن الذين ءامنوا) * كلام مستأنف مسوق للترغيب في الإيمان والعمل الصالح. وقد تقدم في آية البقرة (62) الاختلاف في المراد - من الذين آمنوا - والمروي عن الثوري أنهم الذين آمنوا بألسنتهم - وهم المنافقون - وهو الذي اختاره الزجاج، واختار القاضي أن المراد بهم المتدينون بدين محمد صلى الله عليه وسلم مخلصين كانوا أو منافقين، وقيل: غير ذلك * (والذين هادوا) * أي دخلوا في اليهودية * (والصائبون) *، " وهم كما قال حسن جلبي وغيره: قوم خرجوا عن دين اليهود والنصارى وعبدوا الملائكة، وقد تقدم الكلام على ذلك، " وفي حسن المحاضرة في أخبار مصر القاهرة " للجلال السيوطي ما لفظه: ذكر أئمة التاريخ أن آدم عليه الصلاة والسلام أوصى لابنه شيث - وكان فيه وفي بنيه النبوة والدين - وأنزل عليه تسع وعشرون صحيفة وأنه جاء إلى أرض مصر، وكانت تدعى باب لون فنزلها هو وأولاد أخيه، فسكن شيث فوق الجبل، وسكن أولاد قابيل أسفل الوادي، واستخلف شيث ابنه أنوش واستخلف أنوش ابنه قينان. واستخلف قينان ابنه مهليائيل،
200

واستخلف مهليائيل ابنه يرد، ودفع الوصية إليه وعلمه جميع العلوم وأخبره بما يحدث في العالم، ونظر في النجوم وفي الكتاب الذي أنزل على آدم عليه الصلاة والسلام، وولد ليرد أخنوخ - وهو إدريس عليه الصلاة والسلام - ويقال له: هرمس، وكان الملك في ذلك الوقت محويل بن أخنوخ بن قابيل، وتنبأ إدريس عليه الصلاة والسلام وهو ابن أربعين سنة، وأراد به الملك سوءا فعصمه الله تعالى وأنزل عليه ثلاثين صحيفة، ودفع إليه أبوه وصية جده والعلوم التي عنده وكان قد ولد بمصر وخرج منها، وطاف الأرض كلها (ورجع فدعا الخلق إلى الله تعالى فأجابوه حتى عمت ملته الأرض)، وكانت ملته الصابئة، وهي توحيد الله تعالى والطهارة (والصلاة) والصوم وغير ذلك من رسوم التعبدات، وكان في رحلته إلى المشرق قد أطاعه جميع ملوكها، وابتنى مائة وأربعين مدينة أصغرها الرها، ثم عاد إلى مصر وأطاعه ملكها وآمن به " - إلى آخر ما قاله - ونقله عن التيفاشي، ويفهم منه قول في الصابئة غير الأقوال المتقدمة. وفي " شذرات الذهب " لعبد الحي بن أحمد بن العماد الحنبلي في ترجمة أبي إسحق الصابىء ما نصه: " والصابىء بهمز آخره، قيل: نسبة إلى صابىء بن متوشلخ بن إدريس عليه الصلاة والسلام، وكان على الحنيفية الأولى، وقيل: الصابىء بن ماوى، وكان في عصره الخليل عليه الصلاة والسلام، وقيل: الصابىء عند العرب من خرج عن دين قومه " انتهى.
* (والنص‍ارى) * جمع نصران، وقد مر تفصيله، ورفع * (الصابئون) * على الابتداء وخبره محذوف لدلالة خبر - إن - عليه، والنية فيه التأخير عما في خبر * (إن) *، والتقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كيت وكيت والصابئون كذلك بناءا على أن المحذوف في إن زيدا، وعمرو قائم خبر الثاني لا الأول كما هو مذهب بعض النحاة واستدل عليه بقول صابىء بن الحرث البرجمي: فمن يك أمسى بالمدينة رحله * فإني، وقيار بها (لغريب)
فإن قوله: " لغريب " خبر إن، ولذا دخلت عليه اللام لأنها تدخل على خبر (إن) لا على خبر المبتدأ إلا شذوذا، وقيل: إن " غريب " فيه خبر عن الإسمين جميعا لأن فعيلا يستوي فيه الواحد وغيره نحو * (والملائكة بعد ذلك ظهير) * (التحريم: 4)، ورده الخلخالي بأنه لم يرد للإثنين، وإن ورد للجمع، وأجاب عنه ابن هشام
بأنهم قالوا في قوله تعالى: * (عن اليمين وعن الشمال قعيد) * (ق: 17): إن المراد قعيدان، وهذا يدل على إطلاقه على الإثنين أيضا، فالصواب منع هذا الوجه بأنه يلزم عليه توارد عاملين على معمول واحد، ومثله لا يصح على الأصح خلافا للكوفيين، وبقول بشر بن أبي حازم: إذا جزت نواصي آل بدر * فأدوها وأسرى في الوثاق
وإلا فاعلموا أنا وأنتم * بغاة ما بقينا في شقاق
فإن قوله: " بغاة ما بقينا " خبر إن ولو كان خبر - أنتم - لقال: ما بقيتم، و - بغاة - جمع باغ بمعنى طالب، وقيل: إنه جمع باغي من البغي والتعدي - وأنتم بغاة - جملة معترضة لأنه لا يقول في قومه إنهم بغاة و - ما بقينا في شقاق - خبر إن، وحينئذ لا يصلح البيت شاهدا لما ذكر لأن ضمير المتكلم مع الغير في محله، وإنما وسطت الجملة هنا بين إن وخبرها مع اعتبار نية التأخير ليسلم الكلام عن الفصل بين الاسم والخبر، وليعلم أن الخبر ماذا دلالة - كما قيل - على أن الصابئين - مع ظهور ضلالهم وزيغهم عن الأديان كلها حيث قبلت توبتهم - إن صح منهم
201

الإيمان والعمل الصالح فغيرهم أولى بذلك، ومن هنا قيل: إن الجملة كاعتراض دل به على ما ذكر، وإنما لم تجعل اعتراضا حقيقة لأنها معطوفة على جملة * (إن الذين) * وخبرها، وأورد عليه ما قاله ابن هشام من أن فيه تقديم الجملة المعطوفة على بعض الجملة المعطوف عليها، وإنما يتقدم المعطوف على المعطوف عليه في الشعر، فكذا ينبغي أن يكون تقديمه على بعض المعطوف عليه بل هو أولى منه بالمنع، وأما ما أجاب به عنه بأن الواو واو الاستئناف التي تدخل على الجمل المعترضة، كقوله تعالى: * (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار) * (البقرة: 24) الخ، وهذه الجملة معترضة لا معطوفة، فلا يتمشى فيما نحن فيه لأنه يفوت نكتة التقديم من تأخير التي أشير إليها لأنها إذا كانت معترضة لا تكون مقدمة من تأخير، وبعض المحققين صرف الخبر المذكور إلى قوله تعالى: * (والصابئون) * وجعل خبر * (إن) * محذوفا، وهو القول الآخر للنحاة في مثل هذا التركيب، وهو موافق للاستعمال أيضا كما في قوله: نحن بما عندنا وأنت بما * عندك (راض) والرأي مختلف
فإن قوله: - راض - خبر - أنت - وخبر - نحن - محذوف، ورجح بأن الإلحاق بالأقرب أقرب، وبأنه خال عما يلزم على التوجيه الأول، نعم غاية ما يرد عليه أن الأكثر الحذف من الثاني لدلالة الأول، وعكسه قليل لكنه جائز، وعورض بأن الكلام فيما نحن فيه مسوق لبيان حال أهل الكتاب، فصرف الخبر إليهم أولى، وفي توسيط بيان حال الصابئين ما علمت من التأكيد، وأيضا في صرف الخبر إلى الثاني فصل للنصارى عن اليهود وتفرقة بين أهل الكتاب لأنه حينئذ عطف على قوله سبحانه: * (والصابئون) * قطعا، نعم لو صح أن المنافقين واليهود أوغل المعدودين في الضلال، والصابئين والنصارى أسهل حسن تعاطفهما وجعل المذكور خبرا عنهما، وترك كلمة التحقيق المذكورة في الأولين دليلا على هذا المعنى، وقيل: إن * (الصابئون) * عطف على محل * (إن) * واسمها، وقد أجازه بعضهم مطلقا، وبعضهم منعه مطلقا، وفصل آخرون فقالوا: يمتنع قبل مضي الخبر ويجوز بعده. وذهب الفراء إلى أنه إن خفى إعراب الاسم جاز لزوال الكراهة اللفظية نحو: إنك وزيد ذاهبان وإلا امتنع، والمانع عند الجمهور لزوم توارد عاملين، وهما (إن) والإبتداء أو المبتدأ على معمول واحد وهو الخبر، ولهذا ضعفوا هذا القول في الآية، وبنوا على مذهب الكوفيين، وكون خبر المعطوف فيها محذوفا - وحينئذ لا يلزم التوارد - ليس بشيء لأن الجملة حينئذ تكون معطوفة على الجملة، ولم يكن ذلك من العطف على المحل في شيء، ومن قال: إن خبر * (إن) * مرفوع بما كان مرفوعا به قبل دخولها لم يلزم عليه حديث التوارد. ونقل عن الكسائي إن العطف على الضمير في * (هادوا) * وخطأه الزجاج بأنه لا يعطف على الضمير المرفوع المتصل من غير فصل، وبأنه لو عطف على الفاعل لكان التقدير - وهاد الصابئون - فيقتضي أنهم هود - وليس كذلك - ولعل الكسائي يرى صحة العطف من غير فاصل فلا يرد عليه الاعتراض الأول، وقيل: * (إن) * بمعنى نعم الجوابية ولا عمل لها حينئذ، فما بعدها مرفوع المحل على الابتداء والمرفوع معطوف عليه، وضعفه أبو حيان بأن ثبوت * (إن) * بمعنى نعم فيه خلاف بين النحويين. وعلى تقدير ثبوته فيحتاج إلى شيء يتقدمها تكون تصديقا له ولا يجيىء أول الكلام، والجواب بأن ثمة سؤالا مقدرا بعيد ركيك، وقيل: إن - الصابئين - عطف على الصلة بحذف الصدر أي الذين هم الصابئون، ولا يخفى
202

بعده، وإن عد أحسن الوجوه، وقيل: إنه منصوب بفتحة مقدرة على الواو والعطف حينئذ مما لا خفاء فيه، واعترض بأن لغة - بلحارث وغيرهم - الذين جعلوا المثنى دائما بالألف نحو - رأيت الزيدان ومررت بالزيدان - وأعربوه بحركات مقدرة، إنما هي في المثنى خاصة، ولم ينقل نحو ذلك عنهم في الجمع خلافا لما تقتضيه عبارة أبي البقاء، والمسألة مما لا يجري فيها القياس فلا ينبغي تخريج القرآن العظيم على ذلك، وقرأ أبي وكذا ابن كثير - والصابئين - وهو الظاهر - والصابيون - بقلب الهمزة ياءا على خلاف القياس - والصابون - بحذفها من صبا بإبدال الهمزة ألفا فهو كرامون من رمى. وقرأ عبد الله - يا أيها الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون -.
وقوله سبحانه وتعالى: * (من ءامن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا) * إما في محل رفع على أنه مبتدأ خبره قوله تعالى: * (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، وجمع الضمائر الأخيرة باعتبار معنى الموصول كما أن إفراد ما في صلته باعتبار لفظه، والجملة خبر * (إن) * أو خبر المبتدأ، وعلى كل لا بد من تقدير العائد أي من آمن منهم، وإما في محل النصب على أنه بدل من اسم * (إن) * وما عطف عليه، أو ما عطف عليه فقط، وهو بدل بعض، ولا بد فيه من الضمير كما تقرر في العربية فيقدر أيضا، وقوله تعالى: * (فلا خوف) * الخ خبر، والفاء كما في قوله عز وجل: * (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم) * (البروج: 10) الآية، والمعنى - كما قال غير واحد - على تقدير كون المراد - بالذين آمنوا - المؤمنين بألسنتهم وهم المنافقون من أحدث من هؤلاء الطوائف إيمانا خالصا بالمبدأ والمعاد على الوجه اللائق لا كما يزعمه أهل الكتاب فإنه بمعزل عن ذلك، وعمل عملا صالحا حسبما يقتضيه
الإيمان فلا خوف عليهم حين يخاف الكفار العقاب ولا هم يحزنون حين يحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب، والمراد بيان (دوام) انتفاء الأمرين لا (بيان) (1) انتفاء دوامهما على ما مرت الإشارة إليه غير مرة، وأما على تقدير كون المراد - بالذين آمنوا - المتدينين بدين النبي صلى الله عليه وسلم مخلصين كانوا أو منافقين، فالمراد بمن آمن من اتصف منهم بالإيمان الخالص بما ذكر على الإطلاق سواء كان ذلك بطريق الثبات والدوام - كما في المخلصين - أو بطريق الإحداث والإنشاء - كما هو حال من عداهم من المنافقين، وسائر الطوائف - وليس هناك الجمع بين الحقيقة والمجاز كما لا يخفى لأن الثبات على الإيمان والإحداث فردان من مطلق الإيمان إلا أن في هذا الوجه ضم المخلصين إلى الكفرة، وفيه إخلال بتكريمهم، وربما يقال: إن فائدة ذلك المبالغة في ترغيب الباقين في الإيمان ببيان أن تأخرهم في الاتصاف به غير مخل بكونهم أسوة لأولئك الأقدمين الأعلام؛ وتمام الكلام قد مر في آية البقرة فليراجع..
* (لقد أخذنا ميثاق بنىإسراءيل وأرسلنآ إليهم رسلا كلما جآءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون) *.
* (لقد أخذنا ميث‍اق بني إسرائيل) * كلام مبتدأ مسوق لبيان بعض آخر من جناياتهم المنادية باستبعاد الإيمان منهم، وجعله بعضهم متعلقا بما افتتح الله تعالى به السورة، وهو قوله سبحانه: * (أوفوا بالعقود) * (المائدة: 1) ولا يخفى بعده. والمراد بالميثاق المأخوذ العهد المؤكد الذي أخذه أنبياؤهم عليهم في الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واتباعه فيما يأتي ويذر، أو في التوحيد وسائر الشرائع والأحكام المكتوبة عليهم في التوراة. * (وأرسلنا إليهم رسلا) * ذوي عدد كثير وأولي شأن خطير، يعرفونهم ذلك. ويتعهدونهم بالعظة والتذكير ويطلعونهم على ما يأتون ويذرون في دينهم.
* (كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم) * أي بما لا تميل إليه من
203

الشرائع ومشاق التكاليف، والتعبير بذلك دون بما تكرهه أنفسهم للمبالغة في ذمهم، وكلمة * (كلما) * كما قال أبو حيان: منصوبة على الظرفية لإضافتها إلى (ما) المصدرية الظرفية وليست كلمة شرط، وقد أطلق ذلك عليها الفقهاء وأهل المعقول، ووجه ذلك السفاقسي بأن تسميتها شرطا لاقتضائها جوابا كالشرط الغير الجازم فهي مثل - إذا - ولا بعد فيه، وجوابها - كما قيل - قوله تعالى: * (فريقا كذبوا وفريقا يقتلون) *. وقيل: الجواب محذوف دل عليه المذكور، وقدره ابن المنير استكبروا لظهور ذلك في قوله تعالى: * (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا) * (البقرة: 87) الخ، والبعض ناصبوه لأنه أدخل في التوبيخ على ما قابلوا به مجيء الرسول الهادي لهم، وأنسب بما وقع في التفصيل مستقبحا غاية الاستقباح، وهو القتل على ما سنشير إليه إن شاء الله تعالى، فإن الاستكبار إنما يفضى إليه بواسطة المناصبة، وأما في الآية الأخرى فقد قصد إلى استقباح الاستكبار نظرا إليه في نفسه لاقتضاء المقام، وادعى بعضهم أن في الإتيان بالفاء في آية الاستكبار إشارة إلى اعتبار الواسطة كأنه قيل: استكبرتم فناصبتم (ففريقا) الخ، وفيه نظر، والجملة حينئذ استئناف لبيان الجواب، وجعل الزمخشري هذا القول متعينا لأن الكلام تفصيل لحكم أفراد جمع الرسل الواقع قبل، أي - كلما جاءهم رسول من الرسل - والمذكور بقوله سبحانه: * (فريقا كذبوا) * الخ يقتضي أن الجائي في كل مرة فريقان فبينهما تدافع، وعلى تقدير قطع النظر عن هذا لا يحسن في مثل هذا المقام تقديم المفعول مثل - إن أكرمت أخي، أخاك أكرمت - لأنه يشعر بالاختصاص المستلزم للجزم بوقوع أصل الفعل مع النزاع في المفعول، وتعليقه بالشرط يشعر بالشك في أصل الفعل، ولأن تقديم المفعول على ما قيل: يوجب الفاء إما لجعله الفعل بعيدا عن المؤثر فيحوجه إلى رابط، وإما لأنه بتقديم المفعول أشبه الجملة الاسمية المفتقرة إلى الفاء، وقيل: فيه مانع آخر لأن المعنى على أنهم كلما جاءهم رسول وقع أحد الأمرين لا كلاهما، فلو كان جوابا لكان الظاهر أو بدل الواو، ومن جعل الجملة جوابا لم ينظر إلى هذه الموانع، قال بعض المحققين: أما الأول: فلأنه لقصد التغليظ جعل قتل واحد كقتل فريق، وقيل: المراد بالرسول جنسه الصادق بالكثير؛ ويؤيده * (كلما) * الدالة على الكثرة، وأما الثاني: فلأنه لا يقتضي قواعد العربية مثله، وما ذكر من الوجوه أوهام لا يلتفت إليها، ولا يوجد مثله في كتب النحو، ومنه يعلم دفع الأخير، وتعقب ذلك مولانا شهاب الدين بأنه عجيب من المتبحر الغفلة عن مثل هذا، وقد قال في " شرح التسهيل " ويجوز أن ينطلق خيرا يصب - خلافا للفراء - فقال شراحه: أجاز سيبويه والكسائي تقديم المنصوب بالجواب مع بقاء جزمه، وأنشد الكسائي: وللخير أيام فمن يصطبر لها * ويعرف لها أيامها (الخير يعقب)
تقديره يعقب الخير، ومنع ذلك الفراء مع بقاء الجزم، وقال: بل يجب الرفع على التقديم والتأخير أو على إضمار الفاء، وتأول البيت بأن الخير صفة للأيام، كأنه قال: أيامها الصالحة. واختار ابن مالك هذا المذهب في بعض كتبه، ولما رأى الزمخشري اشتراك المانع بين الشرط الجازم وما في معناه مال إليه خصوصا، وقول المعنى تقتضيه فهو الحق انتهى.
والجملة الشرطية صفة * (رسلا) * والرابط محذوف أي رسول منهم، وإلى هذا ذهب جمهور المعربين. واختار مولانا شيخ الإسلام أن الجملة الشرطية مستأنفة وقعت جوابا عن سؤال نشأ من الإخبار بأخذ الميثاق إرسال الرسل كأنه قيل: فماذا فعلوا بالرسل؟ فقيل: كلما جاءهم رسول من أولئك الرسل بما لا تحبه أنفسهم
204

المنهمكة في الغي والفساد من الأحكام الحقة والشرائع عصوه وعادوه، واعترض رحمه الله تعالى على ما ذهب إليه الجمهور من القول بالوصفية بأنه لا يساعده المقام لأن الجملة الخبرية إذا جعلت صفة أو صلة ينسخ ما فيها من الحكم، ويجعل عنوانا للموصوف وتتمة له، ولذا وجب أن تكون معلومة الانتساب له، ومن هنا قالوا: إن الصفات قبل العلم بها إخبار والإخبار بعد العلم بها أوصاف، ولا ريب في أن ما سيق له النظم إنما هو بيان أنهم جعلوا كل من جاءهم من الرسول عرضة للقتل والتكذيب حسبما يفيده جعلها استئنافا على أبلغ وجه وآكده لا بيان أنه أرسل إليهم رسلا موصوفين بكون كل منهم كذلك كما هو مقتضى جعلها صفة انتهى.
وتعقبه الشهاب بأنه تخيل لا طائل تحته، فإن قوله سبحانه: * (لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل) * الخ مسوق لبيان جناياتهم والنعي عليهم بذلك كما اعترف به المعترض وهو لا يفيده إلا بالنظر إلى الصفة التي هي مرمى النظر كما في سائر القيود، وأما كونها معلومة فلا ضير فيه فإنك إذا وبخت شخصا، وقلت له: فعلت كيت وكيت
وهو أعلم بما فعل لا يضر ذلك في تقريعه وتعييره بل هو أقوى - كما لا يخفى - على الخبير بأساليب الكلام، فلا تلتفت إلى مثل هذه الأوهام انتهى، ولا يخفى ما في قوله، وهو لا يفيده إلا بالنظر إلى الصفة الخ من المنع الظاهر، وكذا جعل ما نحن فيه نظير قولك لشخص تريد توبيخه فعلت كيت وكيت - وهو أعلم بما فعل - فيه خفاء، والذي يحكم به الانصاف بعد التأمل جواز الأمرين، وأن ما ذهب إليه شيخ الإسلام أولى فتأمل وانصف.
والتعبير - بيقتلون - مع أن الظاهر قتلوا ككذبوا لاستحضار الحال الماضية من أسلافهم للتعجيب منها ولم يقصد ذلك في التكذيب لمزيد الاهتمام بالقتل، وفي ذلك أيضا رعاية الفواصل، وعلل بعضهم التعبير بصيغة المضارع فيه، بالتنبيه على أن ذلك ديدنهم المستمر فهم بعد يحومون حول قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، واقتصر البعض على قصد حكاية الحال لقرينة ضمائر الغيبة، وتقدم * (فريقا) * في الموضعين للاهتمام وتشويق السامع إلى ما فعلوا به لا للقصر..
* (وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون) *.
* (وحسبوا ألا تكون فتنة) * أي ظن بنو إسرائيل أن لا يصيبهم من الله تعالى بما فعلوا بلاء وعذاب لزعمهم - كما قال الزجاج - أنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه أو لإمهال الله تعالى لهم أو لنحو ذلك، وعن مقاتل تفسير الفتنة بالشدة والقحط، والأولى حملها على العموم، وعلى التقديرين ليس المراد منها معناها المعروف. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب * (أن لا تكون) * بالرفع على * (أن) * هي المخففة من الثقيلة، وأصله أنه لا تكون فخفف * (أن) * وحذف ضمير الشأن - وهو اسمها - وتعليق فعل الحسبان بها، وهي للتحقيق لتنزيله منزلة العلم لكمال قوته. و * (أن) * بما في حيزها ساد مسد مفعوليه، وقيل: إن حسب هنا بمعنى علم، و * (أن) * لا تخفف إلا بعدما يفيد اليقين، وقيل: إن المفعول الثاني محذوف أي وحسبوا عدم الفتنة كائنا، ونقل ذلك عن الأخفش، و * (تكون) * على كل تقدير تامة.
وقوله تعالى: * (فعموا) * عطف على * (حسبوا) * والفاء للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها أي أمنوا بأس الله تعالى فتمادوا في فنون الغي والفساد وعموا عن الدين بعدما هداهم الرسل إلى معالمه وبينوا لهم مناهجه * (وصموا) * عن استماع الحق الذي ألقوه إليهم، وهذا إشارة إلى المرة الأولى من مرتي إفساد بني إسرائيل حين خالفوا أحكام التوراة وركبوا المحارم وقتلوا شعيا، وقيل: حبسوا أرميا عليهما السلام.
* (ثم تاب الله عليهم) * حين تابوا ورجعوا عما كانوا عليه
205

من الفساد بعدما كانوا ببابل دهرا طويلا تحت قهر بختنصر أسارى في غاية الذل والمهانة، فوجه الله عز وجل ملكا عظيما من ملوك فارس إلى بيت المقدس فعمره ورد من بقي من بني إسرائيل في أسر بختنصر إلى وطنهم وتراجع من تفرق في الأكناف فاستقروا وكثروا وكانوا كأحسن ما كانوا عليه، وقيل: لما ورث بهمن بن أسفنديار الملك من جده كستاسف ألقى الله تعالى في قلبه شفقة عليهم فردهم إلى الشام، وملك عليهم دانيال عليه السلام فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختنصر فقامت فيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه من الحال، وذلك قوله تعالى: * (ثم رددنا لكم الكرة عليهم) * (الإسراء: 6) ولم يسند سبحانه التوبة إليهم كسائر أحوالهم من الحسبان والعمى والصمم تجافيا عن التصريح بنسبة الخير إليهم، وإنما أشير إليها في ضمن بيان توبة الله تعالى عليهم تمهيدا لبيان نقضهم إياها بقوله سبحانه: * (ثم عموا وصموا) * وهو إشارة إلى المرة الآخرة من مرتي إفسادهم وهو اجتراؤهم على قتل زكريا ويحيى وقصدهم قتل عيسى عليهم السلام، وجعل الزمخشري العمى والصمم أولا: إشارة إلى ما صدر منهم من عبادة العجل، وثانيا: إشارة إلى ما وقع منهم من طلبهم الرؤية، وفيه أن عبادة العجل وإن كانت معصية عظيمة ناشئة عن كمال العمى والصمم لكنها في عصر موسى عليه السلام، ولا تعلق لها بما حكي عنهم بما فعلوا بالرسل الذين جاءوهم بعده عليه السلام بأعصار، وكذا القول - على زعمه - في طلب الرؤية على أن طلب الرؤية كان من القوم الذين مع موسى عليه السلام حين توجه للمناجاة، وعبادة العجل كانت من القوم المتخلفين فلا يتحقق تأخره عنها، وحمل * (ثم) * للتراخي الرتبي دون الزماني مما لا ضرورة إليه، وقيل: إن العمى والصمم أولا: إشارة إلى ما كان في زمن زكريا ويحيى عليهما السلام، وثانيا: إشارة إلى ما كان في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم من الكفر والعصيان، وبدأ بالعمى لأنه أول ما يعرض للمعرض عن الشرائع فلا يبصر من أتى بها من عند الله تعالى ولا يلتفت إلى معجزاته، ثم لو أبصره لم يسمع كلامه فيكون عروض الصمم بعد عروض العمى، وقرىء * (عموا وصموا) * بالضم على تقدير عماهم الله تعالى وصمهم أي رماهم وضربهم بالعمى والصمم، كما يقال: نزكته إذا ضربته بالنيزك، وركبته إذا ضربته بركبتك.
وقوله تعالى: * (كثير منهم) * بدل من الضمير في الفعلين، وقيل: هو فاعل والواو علامة الجمع لا ضمير، وهذه لغة لبعض العرب يعبر عنها النحاة - بأكلوني البراغيث - أو هو خبر مبتدأ محذوف أي العمى والصمم كثير منهم. وقيل: أي العمى والصمم كثير منهم أي صادر ذلك منهم كثيرا وهو خلاف الظاهر، وجوز أن يكون مبتدأ والجملة قبله خبره، وضعف بأن الخبر للفعلي لا يتقدم على المبتدأ لالتباسه بالفاعل، ورد بأن منع التقديم مشروط بكون الفاعل ضميرا مستترا إذ لا التباس فيما إذا كان بارزا، والتباسه بالفاعل في لغة - أكلوني البراغيث - لم يعتبروه مانعا لأن تلك اللغة ضعيفة لا يلتفت إليها، ومن هنا صرح النحاة بجواز التقديم في مثل الزيدان قاما لكن صرحوا بعدم جواز تقديم الخبر فيما يصلح المبتدأ أن يكون تأكيدا للفاعل، نحو - أنا قمت - فإن أنا لو أخر لالتبس بتأكيد الفاعل، وما نحن فيه مثله إلا أن الالتباس فيه بتابع آخر أعني البدل فتدبر، وإنما قال سبحانه: * (كثير منهم) * لأن بعضا منهم لم يكونوا كذلك.
* (والله بصير بما يعملون) * أي بما عملوا وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضارا لصورتها الفظيعة مع ما في ذلك من رعاية الفواصل، والجملة تذييل أشير به إلى بطلان حسبانهم المذكور؛ ووقوع العذاب من حيث لم يحتسبوا إشارة إجمالية اكتفى بها تعويلا
206

على ما فصل نوع تفصيل في سورة بني إسرائيل، ولا يخفى موقع * (بصير) * هنا مع قوله سبحانه: * (عموا) *..
* (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يابنىإسراءيل اعبدوا الله ربى وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظ‍المين من أنصار) *.
* (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) * شروع في تفصيل قبائح النصارى، وإبطال أقوالهم الفاسدة بعد تفصيل قبائح اليهود، وقائل ذلك: طائفة منهم كما روي عن مجاهد، وقد أشبعنا الكلام على تفصيل أقوالهم وطوائفهم فيما تقدم فتذكر * (وقال المسيح) * حال من فاعل * (قالوا) * بتقدير قد مفيدة لمزيد تقبيح حالهم ببيان تكذيبهم للمسيح وعدم انزجارهم عما أصروا عليهم بما أوعدهم به، أي قالوا ذلك، (وقد قال المسيح) عليه السلام مخاطبا لهم * (ي‍ابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم) * فإني (عبد) مربوب مثلكم فاعبدوا خالقي وخالقكم.
* (إنه) * أي الشأن * (من يشرك بالله) * أي شيئا في عبادته سبحانه أو فيما يختص به من الصفات والأفعال - كنسبة علم الغيب. وإحياء الموتى بالذات - إلى عيسى عليه السلام * (فقد حرم الله عليه الجنة) * لأنها دار الموحدين، والمراد يمنع من دخولها كما يمنع المحرم عليه من المحرم، فالتحريم مجاز مرسل أو استعارة تبعية للمنع إذ لا تكليف ثمة، وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لتهويل الآمر وتربية المهابة * (ومأواه النار) * فإنها المعدة للمشركين وهذا بيان لابتلائهم بالعقاب إثر بيان حرمانهم الثواب، ولا يخفى ما في هذه الجملة من الإشارة إلى قوة المقتضى لإدخاله النار * (وما للظالمين من أنصار) * أي ما لهم من أحد ينصرهم بإنقاذهم من النار وإدخالهم الجنة، إما بطريق المغالبة أو بطريق الشفاعة، والجمع لمراعاة المقابلة بالظالمين. وقيل: ليعلم نفي الناصر من باب أولى لأنه إذا لم ينصرهم الجم الغفير، فكيف ينصرهم الواحد منهم؟! وقيل: إن ذلك جار على زعمهم أن لهم أنصارا كثيرة، فنفى ذلك تهكما بهم، واللام إما للعهد والجمع باعتبار معنى (من) كما أن إفراد الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها، وإما للجنس وهم يدخلون فيه دخولا أوليا، ووضعه على الأول: موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بأنهم ظلموا بالإشراك وعدلوا عن طريق الحق، والجملة تذييل مقرر لما قبله، وهو إما من تمام كلام عيسى عليه السلام، وإما وارد من جهته تعالى تأكيدا لمقالته عليه السلام وتقريرا لمضمونها..
* (لقد كفر الذين قالوا إن الله ث‍الث ثل‍اثة وما من إل‍اه إلا إل‍اه واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم) *.
* (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) * شروع في بيان كفر طائفة أخرى منهم، وقد تقدم لك من هم، و * (ثالث ثلاثة) * لا يكون إلا مضافا كما قال الفراء، وكذا - رابع أربعة - ونحوه، ومعنى ذلك أحد تلك الأعداد لا الثالث والرابع خاصة، ولو قلت: ثالث اثنين ورابع ثلاثة مثلا جاز الأمران: الإضافة والنصب. وقد نص على ذلك الزجاج أيضا، وعنوا بالثلاثة - على ما روى عن السدي - الباري عز اسمه وعيسى وأمه عليهما السلام فكل من الثلاثة إله بزعمهم، والإلهية مشتركة بينهم، ويؤكده قوله تعالى للمسيح عليه السلام: * (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) * (المائدة: 116)، وهو المتبادر من ظاهر قوله تعالى: * (وما من إله إلا إله واحد) * أي والحال أنه ليس في الموجودات ذات واجب مستحق للعبادة - لأنه مبدأ جميع الموجودات - إلا إله موصوف بالوحدة متعال عن قبول الشركة بوجه، إذ التعدد يستلزم انتفاء الألوهية - كما يدل عليه برهان التمانع - فإذا نافت الألوهية مطلق التعدد، فما ظنك بالتثليث؟! و * (من) * مزيدة للاستغراق كما نص على ذلك النحاة، وقالوا في وجهه: لأنها في الأصل (من) الإبتدائية حذف مقابلها إشارة إلى عدم التناهي، فأصل لا رجل: لا من رجل إلى ما لا نهاية له.
207

وهذا حاصل ما ذكره صاحب الإقليد في ذلك، وقيل إنهم يقولون الله سبحانه جوهر واحد، ثلاثة أقانيم، أقنوم الأب وأقنوم الإبن وأقنوم روح القدس، ويعنون بالأول: الذات، وقيل: الوجود. وبالثاني: العلم. وبالثالث: الحياة، وإن منهم من قال بتجسمها، فمعنى قوله تعالى: * (وما من إله إلا إله واحد) * لا إله بالذات منزه عن شائبة التعدد بوجه من الوجوه التي يزعمونها، وقد مر تحقيق هذا المقام بما لا مزيد عليه، فارجع إن أردت ذلك إليه.
* (وإن لم ينتهوا عما يقولون) * أي إن لم يرجعوا عما هم عليه إلى خلافه وهو التوحيد والإيمان * (ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم) * جواب قسم محذوف ساد مسد جواب الشرط - على ما قاله أبو البقاء - والمراد من الذين كفروا إما الثابتون على الكفر - كما اختاره الجبائي والزجاج - وإما النصارى كما قيل، ووضع الموصول موضع ضميرهم لتكرير الشهادة عليهم بالكفر، و * (من) * على هذا بيانية، وعلى الأول: تبعيضية، وإنما جيء بالفعل المنبىء عن الحدوث تنبيها على أن الاستمرار عليه - بعد ورود ما ورد مما يقتضي القلع عنه - كفر جديد وغلو زائد على ما كانوا عليه من أصل الكفر..
* (أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم) *.
والاستفهام في قوله تعالى: * (أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه) * للإنكار، وفيه تعجيب من إصرارهم أو عدم مبادرتهم إلى التوبة، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام، أي ألا ينتهون عن تلك العقائد الزائغة والأقوال الباطلة فلا يتوبون إلى الله تعالى الحق ويستغفرونه بتنزيهه تعالى عما نسبوه إليه عز وجل، أو يسمعون هذه الشهادات المكررة والتشديدات المقررة فلا يتوبون عقيب ذلك * (والله غفور رحيم) * فيغفر لهم ويمنحهم من فضله إن تابوا، والجملة في موضع الحال، وهي مؤكدة للإنكار والتعجيب، والإظهار في موضع الإضمار لما مر غير مرة..
* (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الاي‍ات ثم انظر أنى يؤفكون) *.
* (ما المسيح ابن مريم إلا رسول) * استئناف مسوق لتحقيق الحق الذي لا محيد عنه، وبيان حقيقة حاله عليه السلام وحال أمه بالإشارة أولا: إلى ما امتازا به من نعوت الكمال حتى صارا من أكمل أفراد الجنس، وآخرا إلى الوصف المشترك بينهما وبين أفراد البشر، بل أفراد الحيوانات، وفي ذلك استنزال لهم بطريق التدريج عن رتبة الإصرار، وإرشاد إلى التوبة والاستغفار أي هو عليه السلام مقصور على الرسالة لا يكاد يتخطاها إلى ما يزعم النصارى فيه عليه الصلاة والسلام، وهو قوله سبحانه: * (قد خلت من قبله الرسل) * صفة رسول منبئة عن اتصافه بما ينافي الألوهية، فإن خلو الرسل قبله منذر بخلوه، وذلك مقتض لاستحالة الألوهية أي ما هو
إلا رسول كالرسل الخالية قبله خصه الله تعالى ببعض الآيات كما خص كلا منهم ببعض آخر منها، ولعل ما خص به غيره أعجب وأغرب مما خصه به، فإنه عليه الصلاة والسلام إن أحيا من مات من الأجسام التي من شأنها الحياة، فقد أحيا موسى عليه الصلاة والسلام الجماد، وإن كان قد خلق من غير أب، فآدم عليه الصلاة والسلام قد خلق من غير أب وأم، فمن أين لكم وصفه بالألوهية؟!
* (وأمه صديقة) * أي وما أمه أيضا إلا كسائر النساء اللواتي يلازمن الصدق أو التصديق ويبالغن في الاتصاف به، فمن أين لكم وصفها بما عري عنه أمثالها؟! والمراد بالصدق هنا صدق حالها مع الله تعالى، وقيل: صدقها في براءتها مما رمتها به اليهود، والمراد بالتصديق تصديقها بما حكى الله تعالى عنها بقوله سبحانه: * (وصدقت بكلمات ربها وكتبه) * (التحريم: 12).
وروي هذا عن الحسن واختاره الجبائي، وقيل: تصديقها بالأنبياء، والصيغة كيفما كانت للمبالغة - كشريب -
208

ورجح كونها من الصدق بأن القياس في صيغة المبالغة الأخذ من الثلاثي لكن ما حكي ربما يؤيد أنها من المضاعف، والحصر الذي أشير إليه مستفاد من المقام والعطف - كما قال العلامة الثاني - وتوقف في ذلك بعضهم، وليس في محله، واستدل بالآية من ذهب إلى عدم نبوة مريم عليها السلام، وذلك أنه تعالى شأنه إنما ذكر في معرض الإشارة إلى بيان أشرف ما لها الصديقية، كما ذكر الرسالة لعيسى عليه الصلاة والسلام في مثل ذلك المعرض، فلو كان لها عليها السلام مرتبة النبوة لذكرها سبحانه دون الصديقية لأنها أعلى منها بلا شك، نعم الأكثرون على أنه ليس بين النبوة والصديقية مقام، وهذا أمر آخر لا ضرر له فيما نحن بصدده.
* (كانا يأكلان الطعام) * استئناف لا موضع له من الإعراب مبين لما أشير إليه من كونهما كسائر أفراد البشر، بل أفراد الحيوان في الاحتياج إلى ما يقوم به البدن من الغذاء، فالمراد من - أكل الطعام - حقيقته، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وقيل: هو كناية عن قضاء الحاجة لأن من أكل الطعام احتاج إلى النفض، وهذا أمر ذوقا في أفواه مدعي ألوهيتهما لما في ذلك مع الدلالة على الاحتياج المنافي للألوهية بشاعة عرفية، وليس المقصود سوى الرد على النصارى في زعمهم المنتن واعتقادهم الكريه، قيل: والآية في تقديم ما لهما من صفات الكمال، وتأخير ما لأفراد جنسهما من نقائص البشرية على منوال قوله تعالى: * (عفا الله عنك لم أذنت لهم) * (التوبة: 43) حيث قدم سبحانه العفو على المعاتبة له صلى الله عليه وسلم لئلا توحشه مفاجأته بذلك.
وقوله تعالى: * (انظر كيف نبين لهم الآيات) * تعجيب من حال الذين يدعون لهما الربوبية ولا يرعوون عن ذلك بعدما بين لهم حقيقة الحال بيانا لا يحوم حوله شائبة ريب، والخطاب إما لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام، أو لكل من له أهلية ذلك، و * (كيف) * معمول - لنبين - والجملة في موضع النصب معلقة للفعل قبلها، والمراد من الآيات الدلائل أي - انظر كيف نبين لهم الدلائل - القطعية الصادعة ببطلان ما يقولون.
* (ثم انظر أنى يؤفكون) * أي كيف يصرفون عن الإصاخة إليها والتأمل فيها لسوء استعدادهم وخباثة نفوسهم، والكلام فيه كما مر فيما قبله، وتكرير الأمر بالنظر للمبالغة في التعجيب، و * (ثم) * لاظهار ما بين العجبين من التفاوت، أي إن بياننا للآيات أمر بديع في بابه بالغ لأقصى الغايات من التحقيق والإيضاح، وإعراضهم عنها - مع انتفاء ما يصححه بالمرة وتعاضد ما يوجب قبولها - أعجب وأبدع، ويجوز أن تكون على حقيقتها، والمراد منها بيان استمرار زمان بيان الآيات وامتداده، أي أنهم مع طول زمان ذلك لا يتأثرون، ويؤفكون..
* (قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم) *.
* (قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا) * أمر بتبكيتهم إثر التعجيب من أحوالهم، والمراد بما لا يملك عيسى، أو هو وأمه عليهما الصلاة والسلام، والمعنى أتعبدون شيئا لا يستطيع مثل ما يستطيعه الله تعالى من البلايا والمصائب، والصحة والسعة، أو أتعبدون شيئا لا استطاعة له أصلا، فإن كل ما يستطيعه البشر بإيجاد الله تعالى وإقداره عليه لا بالذات، وإنما قال سبحانه: * (ما) * نظرا إلى ما عليه المحدث عنه في ذاته، وأول أمره وأطواره توطئة لنفي القدرة عنه رأسا، وتنبيها على أنه من هذا الجنس، ومن كان بينه وبين غيره مشاركة وجنسية كيف يكون إلها، وقيل: إن المراد بما كل ما عبد من دون الله تعالى - كالأصنام وغيرها - فغلب
209

ما لا يعقل على من يعقل تحقيرا، وقيل: أريد بها النوع كما في قوله تعالى: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * (النساء: 3). وقيل: يمكن أن يكون المراد الترقي من توبيخ النصارى على عبادة عيسى عليه الصلاة والسلام إلى توبيخهم على عبادة الصليب - فما - على بابها، ولا يخفى بعده وتقديم الضر على النفع لأن التحرز عنه أهم من تحري النفع ولأن أدنى درجات التأثير دفع الشر ثم جلب الخير، وتقديم المفعول الغير الصريح على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر.
وقوله سبحانه وتعالى: * (والله هو السميع العليم) * في موضع الحال من فاعل * (أتعبدون) * مقرر للتوبيخ متضمن للوعيد، والواو هو الواو، أي أتعبدون غير الله تعالى وتشركون به سبحانه ما لا يقدر على شيء ولا تخشونه، والحال أنه سبحانه وتعالى المختص بالإحاطة التامة بجميع المسموعات والمعلومات التي من جملتها ما أنتم عليه من الأقوال الباطلة والعقائد الزائغة، وقد يقال: المعنى أتعبدون العاجز والله هو الذي يصح أن يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم، ولن يكون كذلك إلا وهو حي قادر على كل شيء، ومنه الضر والنفع والمجازاة على الأقوال والعقائد إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وفرق بين الوجهين بأن * (ما) * على هذا الوجه للتحقير، والوصفية على هذا الوجه على معنى أن العدول إلى المبهم استحقار إلا أن * (ما) * للوصف والحال مقررة لذلك، وعلى الأول للتحقير المجرد، والحال كما علمت فافهم..
* (قل ي‍اأهل الكت‍ابلا تغلوا فى دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهوآء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سوآء السبيل) *.
* (قل يا أهل الكت‍اب) * تلوين للخطاب وتوجيه له لفريقي أهل الكتاب بارادة الجنس من المحلى بأل على لسان النبي صلى الله عليه وسلم. واختار الطبرسي كونه خطابا للنصارى خاصة لأن الكلام معهم * (لا تغلوا في دينكم) * أي لا تجاوزوا الحد، وهو نهي للنصارى عن رفع عيسى عليه الصلاة والسلام عن رتبة الرسالة إلى ما تقولوا في حقه من العظيمة، وكذا عن رفع أمه عن رتبة الصديقية إلى ما انتحلوه لها عليها السلام، ونهي لليهود على تقدير دخولهم في الخطاب عن وضعهم له عليه السلام، وكذا لأمه عن الرتبة العلية إلى ما افتروه من الباطل والكلام الشنيع، وذكرهم بعنوان أهل الكتاب للإيماء إلى أن في كتابهم ما ينهاهم عن الغلو في دينهم * (غير الحق) * نصب على أنه صفة مصدر محذوف أي غلو غير الحق - أي باطلا - وتوصيفه به للتوكيد فإن الغلو لا يكون إلا غير الحق على ما قاله الراغب، وقال بعض المحققين: إنه للتقييد، وما ذكره الراغب غير مسلم، فإن الغلو قد يكون غير حق، وقد يكون حقا كالتعمق في المباحث الكلامية. وفي " الكشاف " " الغلو في الدين غلوان: (غلو) حق - وهو أن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه ويجتهد في تحصيل حججه كما يفعله المتكلمون من أهل العدل والتوحيد - وغلو باطل - وهو أن يجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه كما يفعله أهل الاهواء والبدع " - انتهى، وقد يناقش فيه على ما فيه من الغلو في التمثيل بأن الغلو المجاوزة عن الحد، ولا مجاوزة عنه ما لم يخرج عن الدين، وما ذكر ليس خروجا عنه حتى يكون غلوا، وجوز أن يكون * (غير) * حالا من ضمير الفاعل أي: لا تغلوا مجاوزين الحق، أو من دينكم أي: لا تغلوا في دينكم حال كونه باطلا منسوخا ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو نصب على الاستثناء المتصل أو المنقطع.
* (ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل) * وهم أسلافهم وأئمتهم الذين قد ضلوا من الفريقين أو من النصارى قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم في شريعتهم،
210

- والأهواء - جمع هوى وهو الباطل الموافق للنفس، والمراد لا توافقوهم في مذاهبهم الباطلة التي لم يدع إليها سوى الشهوة ولم تقم عليها حجة * (وأضلوا كثيرا) * أي أناسا كثيرا ممن تابعهم ووافقهم فيما دعوا إليه من البدعة والضلالة، أو إضلالا كثيرا، والمفعول به حينئذ محذوف * (وضلوا) * عند بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ووضوح محجة الحق وتبين مناهج الإسلام * (عن سواء السبيل) * أي قصد السبيل الذي هو الإسلام، وذلك حين حسدوا النبي صلى الله عليه وسلم، وكذبوه وبغوا عليه، فلا تكرار بين * (ضلوا) * هنا و * (ضلوا من قبل) *، والظاهر أن * (عن) * متعلقة بالأخير، وجوز أن تكون متعلقة بالأفعال الثلاثة، ويراد - بسواء السبيل - الطريق الحق، وهو بالنظر إلى الأخير دين الإسلام، وقيل: في الإخراج عن التكرار أن الأول: إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل، والثاني: إلى ضلالهم عما جاء به الشرع، وقيل: إن ضمير * (ضلوا) * الأخير عائد على - الكثير - لا على * (قوم) * والفعل مطاوع للإضلال، أي - إن أولئك القوم أضلوا كثيرا من الناس، وأن أولئك الكثير قد ضلوا بإضلال أولئك هم - فلا تكرار، وقيل: أيضا قد يراد - بالضلال - الأول الضلال بالغلو في الرفع والوضع مثلا وكذا بالإضلال، ويراد - بالضلال عن سواء السبيل - الضلال عن واضحات دينهم وخروجهم عنه بالكلية، وقال الزجاج: المراد بالضلال الأخير ضلالهم في الإضلال أي - إن هؤلاء ضلوا في أنفسهم وضلوا بإضلالهم لغيرهم - كقوله تعالى: * (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) * (النحل: 25)، ونقل هذا - كالقيل الأول - عن الراغب، وجوز أيضا أن يكون قوله سبحانه وتعالى: * (عن سواء) * متعلقا ب * (قد ضلوا من قبل) * إلا أنه لما فصل بينه وبين ما يتعلق به أعيد ذكره، كقوله تعالى: * (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب) * (آل عمران: 188) ولعل ذم القوم على ما ذهب إليه الجمهور أشنع من ذمهم على ما ذهب إليه غيرهم، والله تعالى أعلم بمراده..
* (لعن الذين كفروا من بنىإسراءيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذالك بما عصوا وكانوا يعتدون) *.
* (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل) * أي لعنهم الله تعالى، وبناء الفعل لما لم يسم فاعله للجري على سنن الكبرياء، والجار متعلق بمحذوف وقع حالا من الموصول أو من فاعل * (كفروا) * وقوله سبحانه وتعالى، * (على لسان داود وعيسى ابن مريم) * متعلق - بلعن - أي لعنهم جل وعلا في الإنجيل والزبور على لسان هذين النبيين عليهما السلام بأن أنزل سبحانه وتعالى فيهما - ملعون من يكفر من بني إسرائيل بالله تعالى أو أحد من رسله عليهم السلام، وعن الزجاج إن المراد: أن داود وعيسى عليهما الصلاة والسلام أعلما بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبشرا به وأمرا باتباعه، ولعنا من كفر به من بني إسرائيل، والأول أولى، وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: إن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت قال داود عليه الصلاة والسلام: اللهم ألبسهم اللعن مثل الرداء ومثل المنطقة على الحقوين، فمسخهم الله تعالى قردة، وأصحاب المائدة لما كفروا قال عيسى عليه الصلاة والسلام: اللهم عذب من كفر بعد ما أكل من المائدة عذابا لم تعذبه أحدا من العالمين والعنهم كما لعنت أصحاب السبت، فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي وروي هذا القول عن الحسن ومجاهد وقتادة، وروي مثله عن الباقر رضي الله تعالى عنه، واختاره غير واحد، والمراد باللسان الجارحة، وإفراده أحد الاستعمالات الثلاث المشهورة في مثل ذلك،
211

وقيل: المراد به اللغة.
* (ذلك) * أي اللعن المذكور، وإيثار الإشارة على الضمير للإشارة إلى كمال ظهوره وامتيازه عن نظائره وانتظامه بسببه في سلك الأمور المشاهدة، وما في ذلك من البعد للإيذان بكمال فظاعته وبعد درجته في الشناعة والهول * (بما عصوا) * أي بسبب عصيانهم، والجار متعلق بمحذوف وقع خبرا عن المبتدأ قبله، والجملة استئناف واقع موقع الجواب عما نشأ من الكلام، كأنه قيل: بأي سبب وقع ذلك؟ فقيل: ذلك اللعن الهائل الفظيع بسبب عصيانهم، وقوله تعالى: * (وكانوا يعتدون) * يحتمل أن يكون معطوفا على * (عصوا) * فيكون داخلا في حيز السبب، أي وبسبب اعتدائهم المستمر، وينبىء عن إرادة الاستمرار الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل.
وادعى الزمخشري إفادة الكلام حصر السبب فيما ذكر، أي بسبب ذلك لا غير، ولعله - كما قيل - استفيد من العدول عن الظاهر، وهو تعلق * (بما عصوا) * بلعن
دون ذكر اسم الإشارة، فما جيء به استحقارا لذلك اللعن وجوابا عن سؤال الموجب دل على أن مجموعه بهذا السبب لا بسبب آخر، وقيل: استفيد من السببية لأن المتبادر منها ما في ضمن السبب التام وهو يفيد ذلك، ولا يرد على الحصر أن كفرهم سبب أيضا - كما يشعر به أخذه في حيز الصلة - لأن ما ذكر في حيز السببية هنا مشتمل على كفرهم أيضا، ويحتمل أن يكون استئناف إخبار من الله تعالى بأنه كان شأنهم وأمرهم الاعتداء، وتجاوز الحد في العصيان..
* (كانوا لا يتن‍اهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) *.
وقوله تعالى * (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه) * مؤذن باستمرار الاعتداء فإنه استئناف مفيد لاستمرار عدم التناهي عن المنكر، ولا يمكن استمراره إلا باستمرار تعاطي المنكرات، وليس المراد بالتناهي أن ينهى كل منهم الآخر عما يفعله من المنكر - كما هو المعنى المشهور لصيغة التفاعل - بل مجرد صدور النهي عن أشخاص متعددة من غير أن يكون كل واحد منهم ناهيا ومنهيا معا، كما في تراؤا الهلال، وقيل: التناهي بمعنى الانتهاء من قولهم: تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع، فالجملة حينئذ مفسرة لما قبلها من المعصية والاعتداء، ومفيدة لاستمرارهما صريحا، وعلى الأول: إنما تفيد استمرار انتفاء النهي عن المنكر ومن ضرورته استمرار فعله، وعلى التقديرين لا تقوى هذه الجملة احتمال الاستئناف فيما سبق خلافا لأبي حيان.
والمراد بالمنكر قيل: صيد السمك يوم السبت، وقيل: أخذ الرشوة في الحكم، وقيل: أكل الربا وأثمان الشحوم، والأولى أن يراد به نوع المنكر مطلقا، وما يفيده التنوين وحدة نوعية لا شخصية، وحينئذ لا يقدح وصفه بالفعل الماضي في تعلق النهي به لما أن متعلق الفعل إنما هو فرد من أفراد ما يتعلق به النهي، أو الانتهاء عن مطلق المنكر باعتبار تحققه في ضمن أي فرد كان من أفراده على أنه لو جعل المضي في * (فعلوه) * بالنسبة إلى زمن الخطاب لا زمان النهي لم يبق في الآية إشكال، ولما غفل بعضهم عن ذلك قال: إن الآية مشكلة لما فيها من ذم القوم بعدم النهي عما وقع مع أن النهي لا يتصور فيه أصلا، وإنما يكون عن الشيء قبل وقوعه، فلا بد من تأويلها بأن المراد النهي عن العود إليه، وهذا إما بتقدير مضاف قبل * (منكر) * أي معاودة منكر، أو بفهم من السياق، أو بأن المراد فعلوا مثله، وبحمل * (فعلوه) * على أرادوا فعله، كما في قوله سبحانه: * (فإذا قرأت القرآن فاستعذ) * (النحل: 98). واعترض الأول بأن المعاودة كالنهي لا تتعلق بالمنكر المفعول، فلا بد من المصير إلى أحد الأمرين الأخيرين، وفيهما من التعسف ما لا يخفى، وقيل: إن الإشكال إنما يتوجه لو لم يكن الكلام على حد قولنا: كانوا لا ينهون يوم الخميس عن منكر فعلوه يوم الجمعة مثلا، فإنه لا خفاء في صحته، وليس في الكلام ما يأباه،
212

فليحمل على نحو ذلك.
وقوله سبحانه: * (لبئس ما كانوا يفعلون) * تقبيح لسوء فعلهم وتعجيب منه، والقسم لتأكيد التعجيب، أو للفعل المتعجب منه، وفي هذه الآية زجر شديد لمن يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أخرج أحمد والترمذي وحسنه عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله تعالى أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم "، وأخرج أحمد عن عدي بن عميرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله تعالى لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله تعالى الخاصة والعامة "، وأخرج الخطيب من طريق أبي سلمة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " والذي نفس محمد صلى الله عليه وسلم بيده ليخرجن من أمتي أناس من قبورهم في صورة القردة والخنازير بما داهنوا أهل المعاصي وكفوا عن نهيهم وهم يستطيعون " والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وفيها ترهيب عظيم، فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المناكير وقلة عبئهم به..
* (ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفى العذاب هم خ‍الدون) *.
* (ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا) * خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من تصح منه الرؤية، وهي هنا بصرية، والجملة الفعلية بعدها في موضع الحال من مفعولها لكونه موصوفا، وضمير * (منهم) * لأهل الكتاب أو لبني إسرائيل، واستظهره في " البحر " والمراد من الكثير - كعب بن الأشرف وأصحابه - ومن * (الذين كفروا) * مشركو مكة؛ وقد روي أن جماعة من اليهود خرجوا إلى مكة ليتفقوا مع مشركيها على محاربة النبي صلى الله عليه وسلم ؤمنين فلم يتم لهم ذلك. وروي عن الباقر رضي الله تعالى عنه أن المراد من * (الذين كفروا) * الملوك الجبارون؛ أي ترى كثيرا منهم - وهم علماؤهم - يوالون الجبارين ويزينون لهم أهواءهم ليصيبوا من دنياهم، وهذا في غاية البعد، ولعل نسبته إلى الباقر رضي الله تعالى عنه غير صحيحة؛ وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه والحسن ومجاهد أن المراد من - الكثير - منافقو اليهود، ومن * (الذين كفروا) * مجاهروهم، وقيل: المشركون.
* (لبئس ما قدمت لهم أنفسهم) * أي لبئس شيئا فعلوه في الدنيا ليردوا على جزائه في العقبى * (أن سخط الله عليهم) * هو المخصوص بالذم على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه تنبيها على كمال التعلق والارتباط بينهما كأنهما شيء واحد، ومبالغة في الذم أي بئس ما قدموا لمعادهم موجب سخط الله تعالى عليهم، وإنما اعتبروا المضاف لأن نفس سخط الله تعالى شأنه باعتبار إضافته إليه سبحانه ليس مذموما بل المذموم ما أوجبه من الأسباب على أن نفس السخط مما لم يعمل في الدنيا ليرى جزاؤه في العقبى كما لا يخفى، وفي إعراب المخصوص بالذم أو المدح أقوال شهيرة للمعربين، واختار أبو البقاء كون المخصوص هنا خبر مبتدأ محذوف تنبىء عنه الجملة المتقدمة، كأنه قيل: ما هو؟ أو أي شيء هو؟ فقيل: هو أن سخط الله عليهم ونقل عن سيبويه أن * (أن سخط الله) * مرفوع على البدل من المخصوص بالذم وهو محذوف، وجملة * (قدمت) * صفته، و * (ما) * اسم تام معرفة في محل رفع بالفاعلية لفعل الذم، والتقدير لبئس الشيء شيء قدمته لهم أنفسهم سخط الله تعالى، وقيل: إنه في محل رفع بدل من * (ما) * إن قلنا: إنها معرفة فاعل لفعل الذم، أو في محل نصب منها إن كانت تمييزا، واعترض بأن فيه إبدال المعرفة
من النكرة، وقيل: إنه على تقدير الجار، والمخصوص محذوف أي لبئس شيئا ذلك لأن سخط الله تعالى عليهم.
* (وفي العذاب) * أي عذاب جهنم * (هم خالدون) * أبد الآبدين، والجملة في موضع الحال وهي متسببة عما قبلها، وليست
213

داخلة في حيز الحرف المصدري إعرابا كما توهمه عبارة البعض، وتعسف لها عصام الملة بجعل - أن - مخففة عاملة في ضمير الشأن بتقدير أنه سخط الله تعالى عليهم * (وفي العذاب هم خالدون) *، وجوز أيضا أن تكون هذه الجملة معطوفة على ثاني مفعولي * (ترى) * بجعلها علمية أي تعلم كثيرا منهم * (يتولون الذين كفروا) * ويخلدون في النار، وكل ذلك مما لا حاجة إليه..
(ولو كانوا يؤمنون بالله والنبى وما أنزل إليه ما اتخذوهم أوليآء ول‍اكن كثيرا منهم فاسقون) *.
* (ولو كانوا) * أي الذين يتولون المشركين * (يؤمنون بالله والنبي) * أي نبيهم موسى عليه السلام * (وما أنزل إليه) * من التوراة، وقيل: المراد - بالنبي - نبينا محمد وبما أنزل القرآن، أي لو كان المنافقون يؤمنون بالله تعالى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم إيمانا صحيحا * (ما اتخذوهم) * أي المشركين أو اليهود المجاهرين * (أوليآء) *، فإن الإيمان المذكور وازع عن توليهم قطعا * (ولكن كثيرا منهم فاسقون) * أي خارجون عن الدين، أو متمردون في النفاق مفرطون فيه.
214