الكتاب: أضواء البيان
المؤلف: الشنقيطي
الجزء: ٤
الوفاة: ١٣٩٣
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: مكتب البحوث والدراسات.
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤١٥ - ١٩٩٥م
المطبعة: بيروت. - دار الفكر للطباعة والنشر.
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر
ردمك:
ملاحظات:

((سورة طه))
* (طه * مآ أنزلنا عليك القرءان لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى * تنزيلا ممن خلق الا رض والسماوات العلى * الرحمان على العرش استوى * له ما في السماوات وما في الا رض وما بينهما وما تحت الثرى * وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) * قوله تعالى: * (طه) *. أظهر الأقوال فيه عندي أنه من الحروف المقطعة في أوائل السور، ويدل لذلك أن الطاء والهاء المذكورتين في فاتحة هذه السورة، جاءتا في مواضع أخر لا نزاع فيها في أنهما من الحروف المقطعة، أما الطاء ففي فاتحة (الشعراء) * (طسم) * وفاتحة (النمل) * (طس) *. وفاتحة (القصص) وأما الهاء ففي فاتحة (مريم) في قوله تعالى * (كهيعص) * وقد قدمنا الكلام مستوفي على الحروف المقطعة في أول سورة (هود) وخير ما يفسر به القرآن القرآن.
وقال بعض أهل العلم: قوله طه: معناه يا رجل. قالوا: وهي لغة بني عك بن عدنان، وبني عكل، قالوا: لو قلت لرجل من بني عك: يا رجل، لم يفهم أنك تناديه حتى تقول طه، ومنه قول متمم بن نويرة التميمي: وقال بعض أهل العلم: قوله طه: معناه يا رجل. قالوا: وهي لغة بني عك بن عدنان، وبني عكل، قالوا: لو قلت لرجل من بني عك: يا رجل، لم يفهم أنك تناديه حتى تقول طه، ومنه قول متمم بن نويرة التميمي:
* دعوت بطه في القتال فلم يجب
* فخفت عليه أن يكون موائلا
*
ويروى مزايلا، وقال عبد الله بن عمرو: معنى (طه) بلغة عك يا حبيبي، ذكره الغزنوي. وقال قطرب: هو بلغة طيىء، وأنشد ليزيد بن المهلهل. ويروى مزايلا، وقال عبد الله بن عمرو: معنى (طه) بلغة عك يا حبيبي، ذكره الغزنوي. وقال قطرب: هو بلغة طيىء، وأنشد ليزيد بن المهلهل.
* إن للسفاهة طه في شمائلكم
* لا بارك الله في القوم الملاعين
*
ويروى: ويروى:
* إن السفاهه طه من خلائقكم
* لا قدس الله أرواح الملاعين
*
وممن روي عنه أن معنى (طه): يا رجل، ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء ومحمد بن كعب وأبو مالك وعطية العوفي والحسن وقتادة والضحاك والسدي وابن أبزى وغيرهم، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره. وذكر القاضي عياض في الشفاء عن الربيع بن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى، فأنزل الله (طه) يعني طأ الأرض بقدميك يا محمد. وعلى هذا القول فالهاء مبدلة من الهمزة، والهمزة حففت بإبدالها أن ألفا كقول في الفرزدق: إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى، فأنزل الله (طه) يعني طأ الأرض بقدميك يا محمد. وعلى هذا القول فالهاء مبدلة من الهمزة، والهمزة حففت بإبدالها أن ألفا كقول في الفرزدق:
3

* راحت بمسلمة البغال عشية
* فارعى فزارة لا هناك المرتع
*
ثم بني عليه الأمر والهاء للسكت. ولا يخفى ما في هذا القول من التعسف والبعد عن الظاهر.
وفي قوله * (طه) * أقوال أخر ضعيفة، كالقول بأنه من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم. والقول بأن الطاء من الطهارة، والهاء من الهداية يقول لنبيه: يا طاهرا من الذنوب، يا هادي الخلق إلى علام الغيوب، وغير ذلك من الأقوال الضعيفة. والصواب إن شاء الله في الآية هو ما صدرنا به، ودل عليه القرآن في مواضع أخر. قوله تعالى: * (مآ أنزلنا عليك القرءان لتشقى) *. في قوله تعالى: * (مآ أنزلنا عليك القرءان لتشقى) * وجهان من التفسير، وكلاهما يشهد له قرآن:
الأول أن المعنى: ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى. أي لتتعب التعب الشديد بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم. وتحسرك على أن يؤمنوا. وهذا الوجه جاءت بنحوه آيات كثيرة، كقوله تعالى: * (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) *، وقوله تعالى * (فلعلك باخع نفسك علىءاثارهم إن لم يؤمنوا بهاذا الحديث أسفا) * وقوله * (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) *. والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا، وقد قدمنا كثيرا منها في مواضع من هذا الكتاب المبارك.
الوجه الثاني أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالليل حتى تورمت قدماه، فأنزل الله * (مآ أنزلنا عليك القرءان لتشقى) * أي تنهك نفسك بالعبادة وتذيقها المشقة الفادحة. وما بعثناك إلا بالحنيفية السمحة. وهذا الوجه تدل له ظواهر آيات من كتاب الله، كقوله: * (وما جعل عليكم فى الدين من حرج) *، وقوله * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) *. والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ويفهم من قوله: * (لتشقى) * أنه أنزل عليه ليسعد. كما يدل له الحديث الصحيح: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) وقد روي الطبراني عن ثعلبة بن الحكم رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله يقول للعلماء يوم القيامة: (إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي) وقال ابن كثير: إن إسناده جيد، ويشبه معنى الآية على هذا القول الأخير قوله تعالى: * (فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا) *
4

. وأصل الشقاء في لغة العرب: العناء والتعب، ومنه قول أبي الطيب: فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا) *. وأصل الشقاء في لغة العرب: العناء والتعب، ومنه قول أبي الطيب:
* ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
* وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
*
ومنه قوله تعالى: * (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) *. وقوله تعالى: * (إلا تذكرة لمن يخشى) *. أظهر الأقوال فيه: أنه مفعول لأجله، أي ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة، أي إلا لأجل التذكرة لمن يخشى الله ويخاف عذابه. والتذكرة: الموعظة التي تلين لها القلوب. فتمتثل أمر الله، وتجتنب نهيه. وخص بالتذكرة من يخشى دون غيرهم، لأنهم هم المنتفعون بها، كقوله تعالى: * (فذكر بالقرءان من يخاف وعيد) *، وقوله: * (إنما تنذر من اتبع الذكر وخشى الرحمان بالغيب) * وقوله: * (إنمآ أنت منذر من يخشاها) *. فالتخصيص المذكور في الآيات ب * (من) * تنفع فيهم الذكرى لأنهم هم المنتفعون بها دون غيرهم. وما ذكره هنا من أنه ما أنزل القرآن إلا للتذكرة بينه في غير هذا الموضع كقوله: * (إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شآء منكم أن يستقيم) *، وقوله تعالى: * (قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين) *، إلى غير ذلك من الآيات. وإعراب * (إلا تذكرة) * بأنه بدل من * (لتشقى) * لا يصح، لأن التذكرة ليست بشقاء. وإعرابه مفعولا مطلقا أيضا غير ظاهر. وقال الزمخشري في الكشاف: * (مآ أنزلنا عليك القرءان لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى) *: ما أنزلنا عليك هذا المتعب الشاق إلا ليكون تذكرة. وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون * (تذكرة) * حالا ومفعولا له. قوله تعالى: * (تنزيلا ممن خلق الا رض والسماوات العلى) *. في قوله * (تنزيلا) * أوجه كثيرة من الإعراب ذكرها المفسرون. وأظهرها عندي أنه مفعول مطلق، منصوب بنزل مضمرة دل عليها قوله، * (مآ أنزلنا عليك القرءان لتشقى) * أي نزله الله * (تنزيلا ممن خلق الا رض) *، أي فليس بشعر ولا كهانة، ولا سحر ولا أساطير الأولين، كما دل لهذا المعنى قوله تعالى: * (وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين) * والآيات المصرحة بأن القرآن منزل من رب العالمين كثيرة جدا معروفة،
5

كقوله * (وإنه لتنزيل رب العالمين) *، وقوله: * (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم) * وقوله: * (تنزيل من الرحمان الرحيم) * والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا. قوله تعالى: * (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) *. خاطب الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة بأنه: إن يجهر بالقول أي يقله جهرة في غير خفاء، فإنه جل وعلا يعلم السر وما هو أخفى من السر. وهذا المعنى الذي أشار إليه هنا ذكره في مواضع أخر، كقوله: * (وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور) *، وقوله: * (والله يعلم ما تسرون وما تعلنون) *، وقوله تعالى: * (والله يعلم إسرارهم) *، وقوله تعالى: * (قل أنزله الذى يعلم السر فى السماوات والا رض) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وفي المراد بقوله في هذه الآية * (وأخفى) * أوجه معروفة كلها حق ويشهد لها قرآن. قال بعض أهل العلم * (يعلم السر) *: أي ما قاله العبد سرا * (وأخفى) * أي ويعلم ما هو أخفى من السر، وهو ما توسوس به نفسه. كما قال تعالى: * (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) *. وقال بعض أهل العلم: * (فإنه يعلم السر) *: أي ما توسوس به نفسه * (وأخفى) * من ذلك، وهو ما علم الله أن الإنسان سيفعله قبل أن يعلم الإنسان أنه فاعله، كما قال تعالى: * (ولهم أعمال من دون ذالك هم لها عاملون) *، وكما قال تعالى: * (هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الا رض وإذ أنتم أجنة فى بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) * فالله يعلم ما يسره الإنسان اليوم. وما سيسره غدا. والعبد لا يعلم ما في غد كما قال زهير في معلقته: هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الا رض وإذ أنتم أجنة فى بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) * فالله يعلم ما يسره الإنسان اليوم. وما سيسره غدا. والعبد لا يعلم ما في غد كما قال زهير في معلقته:
* وأعلم علم اليوم والأمس قبله
* ولكنني عن علم ما في غد عم
*
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وأخفى) * صيغة تفضيل كل بينا، أي
6

ويعلم ما هو أخفى من السر. وقول من قال: إن (أخفى) فعل ماض بمعنى أنه يعلم سر الخلق، وأخفى عنهم ما يعلمه هو. كقوله: * (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما) * ظاهر السقوط كما لا يخفى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر) * أي فلا حاجة لك إلى الجهر بالدعاء ونحوه، كما قال تعالى: * (ادعوا ربكم تضرعا وخفية) *، وقال تعالى: * (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول) *. ويوضح هذا المعنى الحديث الصحيح. لأن النبي صلى الله عليه وسلم
لما سمع أصحابه رفعوا أصواتهم بالتكبير قال صلى الله عليه وسلم: (اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون سميعا بصيرا. إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته).
* (وهل أتاك حديث موسى * إذ رأى نارا فقال لاهله امكثوا إنىءانست نارا لعلى آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى * فلمآ أتاها نودى ياموسى * إنى أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى * وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى * إننى أنا الله لا إلاه إلا أنا فاعبدنى وأقم الصلواة لذكرى * إن الساعة ءاتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى * فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى * وما تلك بيمينك ياموسى * قال هى عصاى أتوكؤا عليها وأهش بها على غنمى ولى فيها مأرب أخرى * قال ألقها ياموسى * فألقاها فإذا هى حية تسعى * قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الا ولى * واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضآء من غير سوء ءاية أخرى * لنريك من ءاياتنا الكبرى * اذهب إلى فرعون إنه طغى * قال رب اشرح لى صدرى * ويسر لى أمرى) * قوله تعالى: * (الله لا إلاه إلا هو له الا سمآء الحسنى) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه المعبود وحده، وأن له الأسماء الحسنى. وبين أنه المعبود وحده في آيات لا يمكن حصرها لكثرتها، كقوله: * (الله لا إلاه إلا هو الحى القيوم) *، وقوله: * (فاعلم أنه لا إلاه إلأ الله) *.
وبين في مواضع أخر أن له الأسماء الحسنى، وزاد في بعض المواضع الأمر بدعائه بها، كقوله تعالى: * (ولله الأسمآء الحسنى فادعوه بها) *، وقوله: * (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أيا ما تدعوا فله الا سمآء) * وزاد في موضع آخر تهديد من ألحد في أسمائه. وهو قوله: * (وذروا الذين يلحدون فى أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون) *.
قال بعض العلماء: ومن إلحادهم في أسمائه أنهم اشتقوا العزى من اسم العزيز، واللات من اسم الله وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة) وقد دل بعض الأحاديث على أن من أسمائه جل وعلا ما استأثر به ولم يعلمه خلقه، كحديث: (أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) الحديث. وقوله: * (الحسنى) * تأنيث الأحسن، وإنما وصف أسماءه جل وعلا بلفظ المؤنث المفرد، لأن جمع التكسير مطلقا وجمع المؤنث السالم يجريان مجرى المؤنثة الواحدة
7

المجازية التأنيث، كما أشار له في الخلاصة بقوله: (إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة) وقد دل بعض الأحاديث على أن من أسمائه جل وعلا ما استأثر به ولم يعلمه خلقه، كحديث: (أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) الحديث. وقوله: * (الحسنى) * تأنيث الأحسن، وإنما وصف أسماءه جل وعلا بلفظ المؤنث المفرد، لأن جمع التكسير مطلقا وجمع المؤنث السالم يجريان مجرى المؤنثة الواحدة المجازية التأنيث، كما أشار له في الخلاصة بقوله:
* والتاء مع جمع سوى السالم من
* مذكر كالتاء من إحدى اللبن
*
ونظير قوله هنا * (الا سمآء الحسنى) * من وصف الجمع بلفظ المفرد المؤنث قوله: * (من ءاياتنا الكبرى) *، وقوله: * (مأرب أخرى) *.
وقوله تعالى: * (وهل أتاك حديث موسى) *.
الآيات. قد بينا الآيات الموضحة لها في سورة (مريم) في الكلام على قوله تعالى: * (وناديناه من جانب الطور الا يمن وقربناه نجيا) * فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
* (واحلل عقدة من لسانى * يفقهوا قولي * واجعل لى وزيرا من أهلى * هارون أخى * اشدد به أزرى * وأشركه فى أمرى * كى نسبحك كثيرا * ونذكرك كثيرا * إنك كنت بنا بصيرا * قال قد أوتيت سؤلك ياموسى * ولقد مننا عليك مرة أخرى * إذ أوحينآ إلى أمك ما يوحى * أن اقذفيه فى التابوت فاقذفيه فى اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لى وعدو له وألقيت عليك محبة منى ولتصنع على عينى * إذ تمشى أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كى تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين فى أهل مدين ثم جئت على قدر ياموسى * واصطنعتك لنفسى * اذهب أنت وأخوك بأاياتى ولا تنيا فى ذكرى * اذهبآ إلى فرعون إنه طغى * فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى * قالا ربنآ إننا نخاف أن يفرط علينآ أو أن يطغى * قال لا تخافآ إننى معكمآ أسمع وأرى * فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بنى إسراءيل ولا تعذبهم قد جئناك بأاية من ربك والسلام على من اتبع الهدى) * قوله تعالى: * (واحلل عقدة من لسانى يفقهوا قولي) *. قال بعض العلماء: دل قوله * (عقدة من لسانى) * بالتنكير والإفراد، واتباعه لذلك بقوله * (يفقهوا قولي) * على أنه لم يسأل إزالة جميع ما بلسانه من العقد، بل سأل إزالة بعضها الذي يحصل بإزالته فهم كلامه مع بقاء بعضها. وهذا المفهوم دلت عليه آيات أخر، كقوله تعالى عنه: * (وأخى هرون هو أفصح منى لسانا) *، وقوله تعالى عن فرعون * (أم أنآ خير من هاذا الذى هو مهين ولا يكاد يبين) * والاستدلال بقول فرعون في موسى، فيه أن فرعون معروف بالكذب والبهتان. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ولقد مننا عليك مرة أخرى إذ أوحينآ إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه فى التابوت فاقذفيه فى اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لى وعدو له) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة. أنه من على موسى مرة أخرى قبل منه عليه بالرسالة ورسالة أخيه معه، وذلك بإنجائه من فرعون وهو صغير، إذ أوحى إلى أمه أي ألهمها وقذف في قلبها، وقال بعضهم: هي رؤيا منام. وقال بعضهم: أوحى إليها ذلك بواسطة ملك كلمها بذلك. ولا يلزم من الإيحاء في أمر خاص أن يكون الموحي إليه نبيا، و (أن) في قوله * (أن اقذفيه) * هي المفسرة، لأن الإيحاء فيه معنى القول دون حروفه. والتعبير بالموصول في قوله * (ما يوحى) * للدلالة
على تعظيم شأن الأمر المذكور، كقوله: * (فغشيهم من اليم ما غشيهم) *، وقوله * (فأوحى إلى عبده مآ أوحى) * والتابوت: الصندوق. واليم: البحر. والساحل: شاطىء البحر. والبحر المذكور: نيل مصر. والقذف: الإلقاء والوضع، ومنه قوله تعالى: * (وقذف فى قلوبهم الرعب) * ومعنى * (اقذفيه فى التابوت) * أي ضعيه في الصندوق.
8

والضمير في قوله * (أن اقذفيه) * راجع إلى موسى بلا خلاف. وأما الضمير في قوله * (فاقذفيه فى اليم) * وقوله * (فليلقه) * فقيل: راجع إلى التابوت. والصواب رجوعه إلى موسى في داخل التابوت، لأن تفريق الضمائر غير حسن، وقوله * (يأخذه عدو لى وعدو له) * هو فرعون، وصيغة الأمر في قوله * (فليلقه اليم بالساحل) * فيها وجهان معروفان عند العلماء:
أحدهما أن صيغة الأمر معناها الخبر، قال أبو حيان في البحر المحيط: و * (فليلقه) * أمر معناه الخبر، وجاء بصيغة الأمر مبالغة، إذا الأمر أقطع الأفعال وأوجبها.
الوجه الثاني أن صيغة الأمر في قوله * (فليلقه) * أريد بها الأمر الكوفي القدري، كقوله * (إنمآ أمره إذآ أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) * فالبحر لا بد أن يلقيه بالساحل، لأن الله أمره بذلك كوفا وقدرا. وقد قدمنا ما يشبه هذين الوجهين في الكلام على قوله تعالى: * (فليمدد له الرحمان مدا) *.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآيات أوضحه في غير هذا الموضع، كقوله في (القصص): * (وأوحينآ إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه فى اليم ولا تخافى ولا تحزنى إنا رآدوه إليك وجاعلوه من المرسلين فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) * وقد بين تعالى شدة جزع أمه عليه لما ألقته في البحر، وألقاه اليم بالساحل، وأخذه عدوه فرعون في قوله تعالى: * (وأصبح
9

فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدى به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين) *. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (يأخذه) * مجزوم في جواب الطلب الذي هو * (فليلقه اليم بالساحل) * وعلى أنه بمعنى الأمر الكوفي فالأمر واضح. وعلى أنه بمعنى الخبر فالجزم مراعاة لصيغة اللفظ. والعلم عند الله تعالى. وذكر في قصتها أنها صنعت له التابوت وطلته بالقار وهو الزفت لئلا يتسرب منه الماء إلى موسى في داخل التابوت، وحشته قطنا محلوجا. وقيل: إن التابوت المذكور من شجر الجميز، وأن الذي نجره لها هو مؤمن آل فرعون، قيل: واسمه حزقيل. وكانت عقدت في التابوت حبلا فإذا خافت على موسى من عيون فرعون أرسلته في البحر وأمسكت طرف الحبل عندها، فإذا أمنت جذبته إليها بالحبل. فذهبت مرة لتشد الحبل في منزلها فانفلت منها وذهب البحر بالتابوت الذي فيه موسى فحصل لها بذلك من الغم والهم ما ذكره الله تعالى في قوله * (وأصبح فؤاد أم موسى فارغا) *.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من مننه المتتابعة على موسى حيث قال * (ولقد مننا عليك مرة أخرى) * أشار إلى ما يشبهه في قوله: * (ولقد مننا على موسى وهارون) *. قوله تعالى: * (وألقيت عليك محبة منى) *. من آثار هذه المحبة التي ألقاها الله على عبده ونبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ما ذكره جل وعلا في (القصص) في قوله: * (وقالت امرأت فرعون قرة عين لى ولك لا تقتلوه) *، قال ابن عباس * (وألقيت عليك محبة منى) *: أي أحبه الله وحببه إلى خلقه. وقال ابن عطية: جعل عليه مسحة من جمال. لا يكاد يصبر عنه من رآه. وقال قتادة: كانت في عيني موسى ملاحة، ما رآه أحد إلا أحبه وعشقه. قاله القرطبي. قوله تعالى * (إذ تمشى أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كى تقر عينها ولا تحزن) *. اختلف في العامل الناصب للظرف الذي هو (إذ) من قوله * (إذ تمشى أختك) * فقيل: هو (ألقيت) أي ألقيت عليك محبة مني حين تمشي أختك. وقيل: هو (تصنع) أي تصنع على عيني حين تمشي أختك. وقيل: هو بدل من (إذ) في قوله * (إذ أوحينآ إلى أمك) *.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف يصح البدل والوقتان مختلفان متباعدان؟ قلت: كما يصح وإن اتسع الوقت وتباعد طرفاء أن يقول لك الرجل: لقيت فلانا سنة كذا. فتقول: وأنا لقيته إذ ذاك. وربما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها.
وهذا الذي ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من كون أخته مشت إليهم، وقالت لهم * (هل أدلكم على من يكفله) * أوضحه جل وعلا في سورة (القصص) فبين أن أخته المذكورة مرسلة من قبل أمها لتتعرف خبره بعد ذهابه في البحر، وأنها أبصرته من بعد وهم لا يشعرون بذلك. وأن الله حرم عليه المراضع غير أمه تحريما كونيا قدريا. فقالت لهم أخته * (هل أدلكم على من يكفله) * أي على مرضع يقيل هو ثديها وتكفله لكم بنصح وأمانة وذلك في قوله تعالى: * (وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم
10

له ناصحون فرددناه إلى أمه كى تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولاكن أكثرهم لا يعلمون) * فقوله تعالى في آية (القصص) هذه * (وقالت لاخته) * أي قالت أم موسى لأخته وهي ابنتها * (قصيه) * أي اتبعي أثره، وتطلبي خبره حتى تطلعي على حقيقة أمره.
وقوله: * (فبصرت به عن جنب) * أي رأته من بعيد كالمعرضة عنه، تنظر إليه وكأنها لا تريده * (وهم لا يشعرون) * بأنها أخته جاءت لتعرف خبره فوجدته ممتنعا من أن يقبل ثدي مرضعة، لأن الله يقول: * (وحرمنا عليه المراضع) * أي تحريما كونيا قدريا، أي منعناه منها ليتيسر بذلك رجوعه إلى أمه، لأنه لو قبل غيرها أعطوه لذلك الغير الذي قبله ليرضعه ويكفله فلم يرجع إلى أمه. وعن ابن عباس: أنه لما قالت لهم * (هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون) * أخذوها وشكوا في أمرها وقالوا لها: ما يدريك بنصحهم له وشفقتهم عليه؟ ا فقالت لهم: نصحهم له، وشفقتهم عليه رغبة في سرور الملك، ورجاء منفعته، فأرسلوها. فلما قالت لهم ذلك وخلصت من أذاهم، ذهبوا معها إلى منزلهم فدخلوا به على أمه فأعطته ثديها فالتقمه ففرحوا بذلك فرحا شديدا وذهب البشير إلى امرأة الملك
فاستدعت أم موسى، وأحسنت إليها، وأعطتها عطاء جزيلا وهي لا تعرف أنها أمه في الحقيقة، ولكن لكونه قبل ثديها. ثم سألتها (آسية) أن تقيم عندها فترضعه فأبت عليها وقالت: إن لي بعلا وأولادا، ولا أقدر على المقام عندك، ولكن إن أحببت أن أرضعه في بيتي فعلت فأجابتها امرأة فرعون إلى ذلك، وأجرت عليها النفقة والصلات والكساوى والإحسان الجزيل. فرجعت أم موسى بولدها قد أبدلها الله بعد خوفها أمنا في عز وجاه، ورزق دار (ا ه) عن ابن كثير.
وقوله تعالى في آية (القصص): * (ولتعلم أن وعد الله حق) * وعد الله المذكور هو قوله: * (ولا تخافى ولا تحزنى إنا رآدوه إليك وجاعلوه من المرسلين) * والمؤرخون يقولون: إن أخت موسى المذكورة اسمها (مريم) وقوله * (كى تقر عينها) * إن قلنا فيه: إن (كي) حرف مصدري فاللام محذوفة، أي لكي تقر. وإن قلنا: إنها تعليلية، فالفعل منصوب بأن مضمرة. وقوله * (تقر عينها) * قيل: أصله من القرار. لأن ما يحبه الإنسان تسكن عينه عليه، ولا تنظر إلى غيره: كما قال أبو الطيب: كى تقر عينها) * إن قلنا فيه: إن (كي) حرف مصدري فاللام محذوفة، أي لكي تقر. وإن قلنا: إنها تعليلية، فالفعل منصوب بأن مضمرة. وقوله * (تقر عينها) * قيل: أصله من القرار. لأن ما يحبه الإنسان تسكن عينه عليه، ولا تنظر إلى غيره: كما قال أبو الطيب:
* وخصر تثبت الأبصار فيه
* كأن عليه من حدق نطاقا
*
11

وقيل: أصله من القر بضم القاف وهو البرد، تقول العرب: يوم قر بالفتح أي بارد، ومنه قول امرئ القيس: وقيل: أصله من القر بضم القاف وهو البرد، تقول العرب: يوم قر بالفتح أي بارد، ومنه قول امرئ القيس:
* تميم بن مر وأشياعها
* وكندة حولي جميعا صبر
*
* إذا ركبوا الخيل واستلأموا
* تحرقت الأرض واليوم قر
*
ومنه أيضا قول حاتم الطائي الجواد: ومنه أيضا قول حاتم الطائي الجواد:
* أوقد فإن الليل قر
* والريح يا واقد ريح صر
*
* عل يرى نارك من يمر
* إن جلبت ضيفا فأنت حر
*
وعلى هذا القول: فقرة العين من بردها. لأن عين المسرور باردة، ودمع البكاء من السرور بارد جدا، بخلاف عين المحزون فإنها حارة، ودمع البكاء من الحزن حار جدا. ومن أمثال العرب: أحر من دمع المقلات. وهي التي لا يعيش لها ولد، فيشتد حزنها لموت أولادها فتشتد حرارة دمعها لذلك. قوله تعالى: * (تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك) *. لم يبين هنا جل وعلا في هذه الآية الكريمة سبب قتله لهذه النفس، ولا ممن هي، ولم يبين السبب الذي نجاه به من ذلك الغم، ولا للفتون الذي فتنه، ولكنه بين في سورة (القصص) خبر القتيل المذكور في قوله تعالى: * (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هاذا من شيعته وهاذا من عدوه فاستغاثه الذى من شيعته على الذى من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هاذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إنى ظلمت نفسى فاغفر لى فغفر له إنه هو الغفور الرحيم) * وأشار إلى القتيل المذكور في قوله: * (قال رب إنى قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون) * وهو المراد بالذنب في قوله تعالى عن موسى: * (فأرسل إلى هارون ولهم على ذنب فأخاف أن يقتلون) * وهو مراد فرعون بقوله لموسى فيما ذكره الله عنه: * (وفعلت فعلتك التى فعلت) *. وقد أشار تعالى في (القصص) أيضا إلى غم موسى، وإلى السبب الذي أنجاه الله به منه في قوله: * (وجآء رجل من أقصى المدينة يسعى قال ياموسى إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إنى لك من الناصحين فخرج منها خآئفا يترقب قال رب نجنى من القوم الظالمين ولما توجه تلقآء
12

مدين قال عسى ربى أن يهدينى سوآء السبيل) * إلى قوله * (قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين) *. وقوله * (الغم وفتناك) * قال بعض أهل العلم: الفتون مصدر، وربما جاء مصدر الثلاثي المتعدي على فعول. وقال بعضهم: هو جمع فتنة. وقال الزمخشري في الكشاف * (فتونا) * يجوز أن يكون مصدرا على فعول في المتعدي كالثبور والشكور والكفور. وجمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداء بتاء التأنيث كحجوز وبدور في حجزه وبدرة أي فتناك ضروبا من الفتن. وقد جاء في تفسير الفتون المذكور حديث معروف عند أهل العلم بحديث (الفتون)، أخرجه النسائي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وساقه ابن كثير في تفسيره عن النسائي بسنده
. وهو حديث طويل يقتضي: أن الفتون يشمل كل ما جرى: على موسى من المحن من فرعون في صغره وكبره، كالخوف عليه من الذبح وهو صغير، ومن أجل ذلك ألقي في التابوت وقذف في اليم فألقاه اليم بالساحل. وكخوفه وهو كبير من أن يقتله فرعون بالقبطي الذي قتله. وعلى هذا فالآيات التي ذكرت فيها تلك المحن مبينة للفتون على تفسير ابن عباس للفتون المذكور. وقال ابن كثير رحمه الله بعد أن ساق حديث الفتون بطوله: هكذا رواه النسائي في السنن الكبرى. وأخرجه أبو جعفر بن جرير، وابن أبي حاتم في تفسيريهما كلهم من حديث يزيد بن هارون به، وهو موقوف من كلام ابن عباس، وليس فيه مرفوع إلا قليل منه، وكأنه تلقاه ابن عباس رضي الله عنه مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار أو غيره. والله أعلم. وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضا ا ه. قوله تعالى: * (فتونا فلبثت سنين فى أهل مدين ثم جئت على قدر) *. السنين التي لبثها في مدين هي المذكورة في قوله تعالى: * (قال إنى أريد أن أنكحك إحدى ابنتى هاتين على أن تأجرنى ثمانى حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك) * وقد قدمنا في سورة (مريم) أنه أتم العشر، وبينا دليل ذلك من السنة. وبه تعلم أن الأجل في قوله: * (فلما قضى موسى الا جل) * أنه عشر سنين لاثمان. وقال بعض أهل العلم: لبث موسى في مدين ثمان وعشرين سنة، عشر منها مهر ابنة صهره، وثمان عشرة أقامها هو اختيارا، والله تعالى أعلم.
وأظهر الأقوال في قوله تعالى: * (ثم جئت على قدر ياموسى) * أي جئت على القدر الذي قدرته وسبق في علمي أنك تجيء فيه فلم تتأخر عنه ولم تتقدم، كما قال تعالى: * (إنا كل شىء خلقناه بقدر) * وقال: * (وكل شىء عنده بمقدار) *
13

، وقال * (وكان أمر الله قدرا مقدورا) *. وقال جرير يمدح عمر بن عبد العزيز. وكان أمر الله قدرا مقدورا) *. وقال جرير يمدح عمر بن عبد العزيز.
* نال الخلافة أو كانت له قدرا
* كما أتى ربه موسى على قدر
* اذهب أنت وأخوك بأاياتى ولا تنيا فى ذكرى اذهبآ إلى فرعون إنه طغى) *. قال بعض أهل العلم: المراد بالآيات في قوله هنا: * (اذهب أنت وأخوك بأاياتى) * الآيات التسع المذكورة في قوله تعالى: * (ولقد ءاتينا موسى تسع ءايات بينات) *، وقوله: * (وأدخل يدك فى جيبك تخرج بيضآء من غير سوء فى تسع ءايات) *. والآيات التسع المذكورة هي: العصا واليد البيضاء... إلى آخرها. وقد قدمنا الكلام عليها مستوفي في سورة (بني إسرائيل). وقوله تعالى: * (إنه طغى) *. أصل الطغيان: مجاوزة الحد، ومنه: * (إنا لما طغا المآء حملناكم فى الجارية) * وقد بين تعالى شدة طغيان فرعون ومجاوزته الحد في قوله عنه: * (فقال أنا ربكم الا على) *، وقوله عنه * (ما علمت لكم من إلاه غيرى) *، وقوله عنه أيضا: * (لئن اتخذت إلاها غيرى لأجعلنك من المسجونين) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة، * (ولا تنيا) * مضارع ونى يني، على أحد قول ابن مالك في الخلاصة: ولا تنيا) * مضارع ونى يني، على أحد قول ابن مالك في الخلاصة:
* فا أمرا ومضارع من كوعد
* احذف وفي كعدة ذاك اطرد
*
والونى في اللغة: الضعف، والفتور، والكلال والإعياء، ومنه قول امرئ القيس في معلقته: والونى في اللغة: الضعف، والفتور، والكلال والإعياء، ومنه قول امرئ القيس في معلقته:
* مسح إذا ما السابحات على الونى
* أثرن غبارا بالكديد المركل
*
وقول العجاج: وقول العجاج:
* فما ونى محمد مذ أن غفر
* له الإله ما مضى وما غبر
*
فقوله: * (ولا تنيا فى ذكرى) * أي لا تضعفا ولا تفترا في ذكري. وقد أثنى الله على من يذكره في جميع حالاته في قوله: * (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم) *، وأمر بذكر الله عند لقاء العدو في قوله * (إذا لقيتم فئة فاثبتوا
14

واذكروا الله كثيرا) * كما تقدم إيضاحه.
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره هذه الآية الكريمة: والمراد أنهما لا يفتران في ذكر الله في حال مواجهة فرعون. ليكون ذكر الله عونا لهما عليه، وقوة لهما وسلطانا كاسرا له، كما جاء في الحديث: (إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو مناجز قرنه) اه منه.
وقال بعض أهل العلم: * (ولا تنيا فى ذكرى) * لا تزالا في ذكري. واستشهد لذلك بقول طرفة: وقال بعض أهل العلم: * (ولا تنيا فى ذكرى) * لا تزالا في
ذكري. واستشهد لذلك بقول طرفة:
* كأن القدور الراسيات أمامهم
* قباب بنوها لا تني أبدا تغلي
*
أي لا تزال تغلي. ومعناه راجع إلى ما ذكرنا. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) *. أمر الله جل وعلا نبيه موسى وهارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام: أن يقولا لفرعون في حال تبليغ رسالة الله إليه (قولا لينا) أي كلاما لطيفا سهلا رقيقا، ليس فيه ما يغضب وينفر. وقد بين جل وعلا المراد بالقول اللين في هذه الآية بقوله: * (اذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى) * وهذا والله غاية لين الكلام ولطافته ورقته كما ترى. وما أمر به موسى وهارون في هذه الآية الكريمة أشار له تعالى في غير هذا الموضع، كقوله * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن) *.
مسألة
يؤخذ من هذه الآية الكريمة: أن الدعوة إلى الله يجب أن تكون بالرفق واللين. لا بالقسوة والشدة والعنف. كما بيناه في سورة (المائدة) في الكلام على قوله تعالى: * (عليكم أنفسكم) *. وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: قال يزيد الرقاشي عند قوله * (فقولا له قولا لينا) *: يا من يتحبب إلى من يعاديه، فكشف بمن يتولاه ويناديه؟ اه ولقد صدق من قال: فقولا له قولا لينا) *: يا من يتحبب إلى من يعاديه، فكشف بمن يتولاه ويناديه؟ اه ولقد صدق من قال:
* ولو أن فرعون لما طغى
* وقال على الله إفكا وزورا
*
* أناب إلى الله مستغفرا
* لما وجد الله إلا غفورا
*
15

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (لعله يتذكر أو يخشى) * قد قدمنا قول بعض العلماء: إن (لعل) في القرآن بمعنى التعليل، إلا التي في سورة (الشعراء): * (وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون) * فهي بمعنى كأنكم. وقد قدمنا أيضا أن (لعل) تأتي في العربية للتعليل. ومنه قوله: وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون) * فهي بمعنى كأنكم. وقد قدمنا أيضا أن (لعل) تأتي في العربية للتعليل. ومنه قوله:
* فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا
* نكف ووثقتم لنا كل موثقى
*
* فلما كففنا الحرب كانت عهودكم
* كشبه سراب بالملا متألق
*
فقوله: (لعلنا نكف) أي لأجل أن نكف.
وقال بعض أهل العلم: * (لعله يتذكر أو يخشى) * معناه على رجائكما وطمعكما، فالترجي والتوقع المدلول عليه بلعل راجع إلى جهة البشر. وعزا القرطبي هذا القول لكبراء النحويين كسيبويه وغيره. قوله تعالى: * (فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بنى إسراءيل ولا تعذبهم قد جئناك بأاية من ربك والسلام على من اتبع الهدى) *. ألف الاثنين في قوله (فأتياه) راجعة إلى موسى وهارون. والهاء راجعة إلى فرعون. أي فأتيا فرعون (فقولا) له: (إنا رسولان إليك من ربك فأرسل معنا بني إسرائيل) أي خل عنهم وأطلقهم لنا يذهبون معنا حيث شاؤوا، ولا تعذبهم.
العذاب الذي نهى الله فرعون أن يفعله ببني إسرائيل: هو المذكور في سورة (البقرة) في قوله: * (وإذ نجيناكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبنآءكم ويستحيون نسآءكم وفى ذالكم بلاء من ربكم عظيم) *، وفي سورة (إبراهيم) في قوله تعالى: * (وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبنآءكم ويستحيون نسآءكم) *، وفي سورة (الأعراف) في قوله تعالى: * (وإذ أنجيناكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبنآءكم ويستحيون نسآءكم) *. وفي سورة (الدخان) في قوله: * (ولقد نجينا بنى إسراءيل من العذاب المهين من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين) * وفي سورة (الشعراء) في قوله: * (وتلك نعمة تمنها على أن عبدت بنى إسراءيل) *.
16

وما أمر به الله موسى وهارون في آية (طه) هذه من أنهما يقولان لفرعون إنهما رسولا ربه إليه، وأنه يأمره بإرسال بني إسرائيل ولا يعذبهم أشار إليه تعالى في غير
هذا الموضع، كقوله في سورة (الشعراء): * (فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بنى إسراءيل) *.
تنبيه
فإن قيل، ما وجه الإفراد في قوله * (إنا رسول رب العالمين) * في (الشعراء)؟ مع أنهما رسولان؟ كما جاء الرسول مثنى في (طه) فما وجه التثنية في (طه) والإفراد في (الشعراء)، وكل واحد من اللفظين: المثنى والمفرد يراد به موسى وهارون؟
فالذي يظهر لي والله تعالى أعلم أن لفظ الرسول أصله مصدر وصف به، والمصدر إذا وصف به ذكر وأفرد كما قدمنا مرارا. فالإفراد في (الشعراء) نظرا إلى أن أصل الرسول مصدر. والتثنية في (طه) اعتدادا بالوصفية العارضة وإعراضا عن الأصل، ولهذا يجمع الرسول اعتدادا بوصفيته العارضة، ويفرد مرادا به الجمع نظرا إلى أن أصله مصدر. ومثال جمعه قوله تعالى: * (تلك الرسل) *، وأمثالها في القرآن. ومثال إفراده مرادا به الجمع قول أبي ذؤيب الهذلي: تلك الرسل) *، وأمثالها في القرآن. ومثال إفراده مرادا به الجمع قول أبي ذؤيب الهذلي:
* ألكنى إليها وخير الرسول
* أعلمهم بنواحي الخبر
*
ومن إطلاق الرسول مرادا به المصدر على الأصل قوله: ومن إطلاق الرسول مرادا به المصدر على الأصل قوله:
* لقد كذب الواشون ما فهت عندهم
* بقول ولا أرسلتهم برسول
*
أي برسالة. وقول الآخر: أي برسالة. وقول الآخر:
* ألا بلغ بني عصم رسولا
* بأني عن فتاحتكم غني
*
يعني أبلغهم رسالة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (قد جئناك بأاية) * يراد به جنس الآية الصادق بالعصا واليد وغيرهما. لدلالة آيات أخر على ذلك.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (والسلام على من اتبع الهدى) * يدخل فيه السلام على فرعون إن اتبع الهدى. ويفهم من الآية: أن من لم يتبع الهدى لا سلام عليه، وهو كذلك. ولذا كان في أول الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم
17

(بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام) إلى آخر كتابه صلى الله عليه وسلم.
* (إنا قد أوحى إلينآ أن العذاب على من كذب وتولى * قال فمن ربكما ياموسى * قال ربنا الذى أعطى كل شىء خلقه ثم هدى * قال فما بال القرون الا ولى * قال علمها عند ربى فى كتاب لا يضل ربى ولا ينسى * الذى جعل لكم الا رض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السمآء مآء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى * كلوا وارعوا أنعامكم إن فى ذالك لأيات لا ولى النهى * منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) * قوله تعالى: * (إنا قد أوحى إلينآ أن العذاب على من كذب وتولى) *. ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن موسى وهارون. أن الله أوحى إليهما أن العذاب على من كذب وتولى أشير إلى نحوه في آيات كثيرة من كتاب الله تعالى. كقوله: * (فأما من طغى وءاثر الحيواة الدنيا فإن الجحيم هى المأوى) *، وقوله تعالى: * (فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاهآ إلا الا شقى الذى كذب وتولى) *. وقوله تعالى: * (فلا صدق ولا صلى ولاكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (قال فمن ربكما ياموسى قال ربنا الذى أعطى كل شىء خلقه ثم هدى) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن موسى وهارون لما بلغا فرعون ما أمرا بتبليغه إياه قال لهما: من ربكما الذي تزعمان أنه أرسلكما إليا؟ زاعما أنه لا يعرفه. وأنه لا يعلم لهما إلاها غير نفسه، كما قال: * (ما علمت لكم من إلاه غيرى) *، وقال: * (لئن اتخذت إلاها غيرى لأجعلنك من المسجونين) *. وبين جل وعلا في غير هذا الموضع أن قوله * (من * ربكما) * تجاهل عارف بأنه عبد مربوب لرب العالمين، وذلك في قوله تعالى: * (قال لقد علمت مآ أنزل هاؤلاء إلا رب السماوات والا رض بصآئر) *، وقوله: * (فلما جآءتهم ءاياتنا مبصرة قالوا هاذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتهآ أنفسهم ظلما وعلوا) * كما تقدم إيضاحه. وسؤال فرعون عن رب موسى، وجواب موسى له جاء موضحا في سورة (الشعراء) بأبسط مما هنا، وذلك في قوله: * (قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والا رض وما بينهمآ إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب ءابآئكم الا ولين قال إن رسولكم الذى أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهمآ إن كنتم تعقلون قال لئن اتخذت إلاها غيرى لأجعلنك من المسجونين قال أولو جئتك بشىء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هى ثعبان مبين ونزع يده فإذا هى بيضآء للناظرين) * إلى آخر القصة.
18

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (قال ربنا الذى أعطى كل شىء خلقه ثم هدى) * فيه للعلماء أوجه لا يكذب بعضها بعضا، وكلها حق، ولا مانع من شمول الآية لجميعها. منها أن معنى * (أعطى كل شىء خلقه ثم هدى) * أنه أعطى كل شيء نظير خلقه في الصورة والهيئة، كالذكور من بني آدم أعطاهم نظير خلقهم من الإناث أزواجا. وكالذكور من البهائم أعطاها نظير خلقها في صورتها وهيئتها من الإناث أزواجا. فلم يعط الإنسان خلاف خلقه فيزوجه بالإناث من البهائم، ولا البهائم بالإناث من الإنس، ثم هدى الجميع لطريق المنكح الذي منه النسل والنماء، كيف يأتيه، وهدى الجميع لسائر منافعهم من المطاعم والمشارب وغير ذلك.
وهذا القول مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما من طريق علي بن أبي طلحة، وعن السدي وسعيد بن جبير، وعن ابن عباس أيضا: * (ثم هدى) * أي هداه إلى الألفة والاجتماع والمناكحة.
وقال بعض أهل العلم * (أعطى كل شىء خلقه ثم هدى) * أي: أعطى كل شيء صلاحه ثم هداه إلى ما يصلحه، وهذا مروي عن الحسن وقتادة. وقال بعض أهل العلم * (أعطى كل شىء خلقه ثم هدى) *: أي أعطى كل شيء صورته المناسبة له. فلم يجعل الإنسان في صورة البهيمة، ولا البهيمة في صورة الإنسان، ولكنه خلق كل شيء على الشكل المناسب له فقدره تقديرا، كما قال الشاعر: أعطى كل شىء خلقه ثم هدى) *: أي أعطى كل شيء صورته المناسبة له. فلم يجعل الإنسان في صورة البهيمة، ولا البهيمة في صورة الإنسان، ولكنه خلق كل شيء على الشكل المناسب له فقدره تقديرا، كما قال الشاعر:
* وله في كل شيء خلقة
* وكذاك الله ما شاء فعل
*
يعني بالخلقة: الصورة، وهذا القول مروي عن مجاهد ومقاتل وعطية وسعيد بن جبير * (ثم هدى) * كل صنف إلى رزقه وإلى زوجه.
وقال بعض أهل العلم * (أعطى كل شىء خلقه) *: أي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به، كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع. وكذلك الأنف والرجل واللسان وغيرها، كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة غير ناب عنه. وهذا القول روي عن الضحاك. وعلى جميع هذه الأقوال المذكورة فقوله تعالى * (كل شىء) * هو المفعول الأول ل (أعطى)، و (خلقه) هو المفعول الثاني.
وقال بعض أهل العلم: إن (خلقه) هو المفعول الأول، و (كل شيء) هو
19

المفعول الثاني. وعلى هذا القول فالمعنى: أنه تعالى أعطى الخلائق كل شيء يحتاجون إليه، ثم هداهم إلى طريق استعماله. ومعلوم أن المفعول من مفعولي باب كسا ومنه (أعطى) في الآية لا مانع من تأخيره وتقديم المفعول الأخير إن أمن اللبس، ولم يحصل ما يوجب الجري على الأصل كما هو معلوم في علم النحو. وأشار له في الخلاصة بقوله: وقال بعض أهل العلم: إن (خلقه) هو المفعول الأول، و (كل شيء) هو المفعول الثاني. وعلى هذا القول فالمعنى: أنه تعالى أعطى الخلائق كل شيء يحتاجون إليه، ثم هداهم إلى طريق استعماله. ومعلوم أن المفعول من مفعولي باب كسا ومنه (أعطى) في الآية لا مانع من تأخيره وتقديم المفعول الأخير إن أمن اللبس، ولم يحصل ما يوجب الجري على الأصل كما هو معلوم في علم النحو. وأشار له في الخلاصة بقوله:
* ويلزم الأصل لموجب عرا
* وترك ذاك الأصل حتما قد يرى
*
قال مقيده عفا الله عنه: ولا مانع من شمول الآية الكريمة لجميع الأقوال المذكورة. لأنه لا شك أن الله أعطى الخلائق كل شيء يحتاجون إليه في الدنيا، ثم هداهم إلى طريق الانتفاع به. ولا شك أنه أعطى كل صنف شكله وصورته المناسبة له، وأعطى كل ذكر وأنثى الشكل المناسب له من جنسه في المناكحة والألفة والاجتماع. وأعطى كل عضو شكله الملائم للمنفعة المنوطة به فسبحانه جل وعلا؟ ما أعظم شأنه وأكمل قدرته؟ ا
وفي هذه الأشياء المذكورة في معنى هذه الآية الكريمة براهين قاطعة على أنه جل وعلا رب كل شيء، وهو المعبود وحده جل وعلا: * (لا إلاه إلا هو كل شىء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون) *.
وقد حرر العلامة الشيخ تقي الدين أبو العباس بن تيمية رحمه الله في رسالته في علوم القرآن: أن مثل هذا الاختلاف من اختلاف السلف في معاني الآيات ليس اختلافا حقيقيا متضادا يكذب بعضه بعضا، ولكنه اختلاف تنوعي لا يكذب بعضه بعضا، والآيات تشمل جميعه، فينبغي حملها على شمول ذلك كله، وأوضح أن ذلك هو الجاري على أصول الأئمة الأربعة رضي الله عنهم، وعزاه لجماعة من خيار أهل المذاهب الأربعة. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (الذى جعل لكم الا رض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السمآء مآء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن فى ذالك لأيات لا ولى النهى) *. قرأ هذا الحرف عاصم وحمزة والكسائي (مهدا) بفتح الميم وإسكان الهاء من غير ألف. وقرأ الباقون من السبعة بكسر الميم وفتح الهاء بعدها ألف. والمهاد: الفراش. والمهد بمعناه. وكون أصله مصدرا لا ينافي أن يستعمل اسما للفراش.
وقوله في هذه الآية: * (الذى جعل لكم الا رض) * في محل رفع نعت ل (ربي)
20

من قوله قبله * (قال علمها عند ربى فى كتاب لا يضل ربى ولا ينسى) * أي لا يضل ربي الذي جعل لكم الأرض مهدا. ويجوز أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف. أي
هو الذي جعل لكم الأرض. ويجوز أن ينصب على المدح، وهو أجود من أن يقدر عامل النصب لفظة أعني، كما أشار إلى هذه الأوجه من الإعراب في الخلاصة بقوله: قال علمها عند ربى فى كتاب لا يضل ربى ولا ينسى) * أي لا يضل ربي الذي جعل لكم الأرض مهدا. ويجوز أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف. أي هو الذي جعل لكم الأرض. ويجوز أن ينصب على المدح، وهو أجود من أن يقدر عامل النصب لفظة أعني، كما أشار إلى هذه الأوجه من الإعراب في الخلاصة بقوله:
* وارفع أو انصب إن تطلعت مضمرا
* مبتدأ أو ناصبا لن يظهرا
*
هكذا قال غير واحد من العلماء. والتحقيق أنه يتعين كونه خبر مبتدأ محذوف. لأنه كلام مستأنف من كلام الله. ولا يصح تعلقه بقول موسى * (لا يضل ربى) * لأن قوله * (فأخرجنا) * يعين أنه من كلام الله، كما نبه عليه أبو حيان في البحر، والعلم عند الله تعالى.
وقد بين جل وعلا في هاتين الآيتين أربع آيات من آياته الكبرى الدالة على أنه المعبود وحده. ومع كونها من آيات على كمال قدرته واستحقاقه العبادة وحده دون غيره فهي من النعم العظمى على بني آدم.
الأولى: فرشه الأرض على هذا النمط العجيب.
الثانية: جعله فيها سبلا يمر معها بنو آدم ويتوصلون بها من قطر إلى قطر.
الثالثة: إنزاله الماء من السماء على هذا النمط العجيب.
الرابعة: إخراجه أنواع النبات من الأرض.
أما الأولى التي هي جعله الأرض مهدا فقد ذكر الامتنان بها مع الاستدلال بها على أنه المعبود وحده في مواضع كثيرة من كتابه. كقوله تعالى: * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والا رض ليقولن
21

خلقهن العزيز العليم الذى جعل لكم الا رض مهدا) *، وقوله تعالى: * (ألم نجعل الا رض مهادا والجبال أوتادا) *، وقوله تعالى: * (والا رض فرشناها فنعم الماهدون) *، وقوله تعالى: * (وهو الذى مد الا رض وجعل فيها رواسى وأنهارا) * والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا.
وأما الثانية التي هي جعله فيها سبلا فقد جاء الامتنان والاستدلال بها في آيات كثيرة. كقوله في (الزخرف): * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والا رض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذى جعل لكم الا رض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون) *، وقوله تعالى: * (وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون) * وقد قدمنا الآيات الدالة على هذا في سورة (النحل) في الكلام على قوله: * (وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون) *.
وأما الثالثة والرابعة وهما إنزال الماء من السماء وإخراج النبات به من الأرض فقد تكرر ذكرهما في القرآن على سبيل الامتنان والاستدلال معا. كقوله تعالى: * (هو الذى أنزل من السماء مآء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب) *. وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وأنزل من السمآء مآء فأخرجنا) * التفات من الغيبة إلى التكلم بصيغة التعظيم. ونظيره في القرآن قوله تعالى في (الأنعام): * (وهو الذى أنزل من السمآء مآء فأخرجنا به نبات كل شىء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا) *، وقوله في (فاطر): * (ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها) *، وقوله في (النمل): * (أمن خلق السماوات والا رض وأنزل لكم من السمآء مآء فأنبتنا به حدآئق ذات بهجة) *.
وهذا الالتفات من الغيبة إلى التكلم بصيغة التعظيم في هذه الآيات كلها في إنبات النبات يدل على تعظيم شأن إنبات النبات لأنه لو لم ينزل الماء ولم ينبت شيئا لهلك الناس جوعا وعطشا. فهو يدل على عظمته جل وعلا، وشدة احتياج الخلق إليه ولزوم طاعتهم له جل وعلا.
وقوله في هذه الآية: * (أزواجا من نبات شتى) * أي أصنافا مختلفة من أنواع النبات. فالأزواج: جمع زوج، وهو هنا الصنف من النبات، كما قال تعالى في سورة (الحج): * (وترى الا رض هامدة فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج) * أي من كل صنف حسن من أصناف النبات، وقال تعالى في سورة (لقمان): * (خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى فى الا رض رواسى أن تميد بكم وبث فيها من كل دآبة وأنزلنا من السمآء مآء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم) * أي من كل نوع حسن من أنواع النبات، وقال تعالى في سورة (يس): * (سبحان الذى خلق
22

الا زواج كلها مما تنبت الا رض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون) * إلى غير ذلك من الآيات. وقوله * (شتى) * نعت لقوله: * (أزواجا) *. ومعنى قوله: * (نبات شتى) * أي أصنافا مختلفة الأشكال والمقادير، والمنافع والألوان، والروائح والطعوم. وقيل * (شتى) * جمع ل (نبات) أي نبات مختلف كما بينا. والأظهر الأول، وقوله * (شتى) * جمع شتيت. كمريض ومرضى. والشتيت: المتفرق. ومنه قول رؤبة يصف إبلا جاءت مجتمعة ثم تفرقت، وهي تثير غبارا مرتفعا: كمريض ومرضى. والشتيت: المتفرق. ومنه قول رؤبة يصف إبلا جاءت مجتمعة ثم تفرقت، وهي تثير غبارا مرتفعا:
* جاءت معا وأطرقت شتيتا
* وهي تثير الساطع السختيتا
*
وثغر شتيت: أي متفلج لأنه متفرق الأسنان. أي ليس بعضها لاصقا ببعض.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وسلك لكم فيها سبلا) * قد قدمنا أن معنى السلك: الإدخال. وقوله * (سلك) * هنا معناه أنه جعل في داخل الأرض بين أوديتها وجبالها سبلا فجاجا يمر الخلق معها. وعبر عن ذلك هنا بقوله: * (وسلك لكم فيها سبلا) * وعبر في مواضع أخر عن ذلك بالجعل، كقوله في (الأنبياء): * (وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون) * وقوله في (الزخرف): * (الذى جعل لكم الا رض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون) * وعبر في بعض المواضع عن ذلك بالإلقاء كقوله في (النحل): * (وألقى فى الا رض رواسى أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون) * لأن عطف السنبل على الرواسي ظاهر في ذلك.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (كلوا وارعوا أنعامكم) * أي كلوا أيها الناس من الثمار والحبوب التي أخرجناها لكم من الأرض بالماء الذي أنزلنا من جميع ما هو غذاء لكم من الحبوب والفواكه ونحو ذلك، وارعوا أنعامكم. أي أسيموها وسرحوها في المرعى الذي يصلح لأكلها. تقول: رعت الماشية الكلأ، ورعاها صاحبها: أي أسلمها وسرحها. يلزم ويتعدى. والأمر في قوله * (كلوا وارعوا) * للإباحة. ولا يخفى ما تضمنه من الامتنان والاستدلال على استحقاق المنعم بذلك العبادة وحده.
وما ذكره في هذه الآية الكريمة: من الامتنان على بني آدم بأرزاقهم وأرزاق أنعامهم جاء موضحا في مواضع أخر. كقوله في سورة (السجدة): * (فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون) *، وقوله في (النازعات): * (أخرج منها مآءها
23

ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولانعامكم) *، وقوله في (عبس): * (ثم شققنا الا رض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدآئق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولانعامكم) * وقوله في (النحل): * (هو الذى أنزل من السماء مآء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (لا ولى النهى) * أي لأصحاب العقول. فالنهي: جمع نهية بضم النون، وهي العقل. لأنه ينهي صاحبه عما لا يليق. تقول العرب: نهو الرجل بصيغة فعل بالضم: إذا كملت نهيته أي عقله. وأصله نهي بالياء فأبدلت الياء واوا لأنها لام فعل بعد ضم. كما أشار له في الخلاصة بقوله: لا ولى النهى) * أي لأصحاب العقول. فالنهي: جمع نهية بضم النون، وهي العقل. لأنه ينهي صاحبه عما لا يليق. تقول العرب: نهو الرجل بصيغة فعل بالضم: إذا كملت نهيته أي عقله. وأصله نهي بالياء فأبدلت الياء واوا لأنها لام فعل بعد ضم. كما أشار له في الخلاصة بقوله:
* وواوا إثر الضم رد اليا متى
* ألفي لام فعل أو من قبل تا
* منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) *. الضمير في قوله (منها) معا، وقوله * (وأنزلنا فيها) * راجع إلى (الأرض) المذكورة في قوله * (الذى جعل * الارض مهادا) *.
وقد ذكر في هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل:
الأولى: أنه خلق بني آدم من الأرض.
الثانية: أنه يعيدهم فيها.
الثالثة: أنه يخرجهم منها مرة أخرى. وهذه المسائل الثلاث المذكورة في هذه الآية جاءت موضحة في غير هذه الموضع.
أما خلقه إياهم من الأرض فقد ذكره في مواضع من كتابه. كقوله * (ياأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب) *، وقوله تعالى: * (ومن ءاياته أن خلقكم من تراب) *، وقوله في سورة (المؤمن): * (هو الذى خلقكم من تراب) *، إلى غير ذلك من الآيات.
والتحقيق أن معنى خلقه الناس من تراب أنه خلق أباهم آدم منها. كما قال تعالى: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب) *. ولما خلق أباهم من تراب وكانوا تبعا له في الخلق صدق عليهم أنهم خلقوا من تراب. وما يزعمه
24

بعض أهل العلم من أن معنى خلقهم من تراب أن النطفة إذا وقعت في الرحم انطلق الملك الموكل بالرحم فأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذره على النطفة فيخلق الله النسمة من النطفة والتراب معا فهو خلاف التحقيق. لأن القرآن يدل على أن مرحلة النطفة بعد مرحلة التراب بمهلة. فهي غير مقارنة لها بدليل الترتيب بينهما ب (ثم) في قوله تعالى: * (ياأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة) *، وقوله تعالى: * (هو الذى خلقكم من تراب ثم من نطفة) *، وقوله تعالى: * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين) *، وقوله تعالى: * (ذالك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذى أحسن كل شىء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من مآء مهين) * وكذلك ما يزعمه بعض المفسرين من أن معنى خلقهم من تراب أن المراد أنهم خلقوا من الأغذية التي تتولد من الأرض فهو ظاهر السقوط كما ترى.
وأما المسألة الثانية فقد ذكرها تعالى أيضا في غير هذا الموضع. وذلك في قوله تعالى: * (ألم نجعل الا رض كفاتا أحيآء وأمواتا) * فقوله * (وجعلنا) * أي موضعهم الذي يكفتون فيه أي يضمون فيه: أحياء على ظهرها، وأمواتا في بطنها. وهو معنى قوله * (وفيها نعيدكم) *.
وأما المسألة الثالثة وهي إخراجهم من الأرض أحياء يوم القيامة فقد جاءت موضحة في آيات كثيرة. كقوله: * (ويحى الا رض بعد موتها وكذلك تخرجون) * أي من
قبوركم أحياء بعد الموت، وقوله تعالى: * (وأحيينا به بلدة ميتا كذالك الخروج) * أي من القبور بالبعث يوم القيامة، وقوله تعالى: * (ثم إذا دعاكم دعوة من الا رض إذآ أنتم تخرجون) *، وقوله تعالى: * (حتى إذآ أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به المآء فأخرجنا به من كل الثمرات كذالك نخرج الموتى لعلكم تذكرون) *، وقوله تعالى: * (يوم يخرجون من الا جداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون) *، وقوله تعالى: * (يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (منها خلقناكم) *، كقوله تعالى: * (قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون) *. والتارة في قوله * (تارة أخرى) * بمعنى
25

المرة. وفي حديث السنن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر جنازة، فلما أرادوا دفن الميت أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر وقال (منها خلقناكم) ثم أخذ أخرى وقال (وفيها نعيدكم) ثم أخرى وقال (ومنها نخرجكم تارة أخرى).
* (ولقد أريناه ءاياتنا كلها فكذب وأبى * قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك ياموسى * فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى * قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى * فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى * قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى * فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى * قالوا إن هاذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى * فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى) * قوله تعالى: * (ولقد أريناه ءاياتنا كلها فكذب وأبى) *. أظهر القولين أن الإضافة في قوله * (ءاياتنا) * مضمنة معنى العهد كالألف واللام. والمراد بآياتنا المعهودة لموسى كلها وهي التسع المذكورة في قوله: * (ولقد ءاتينا موسى تسع ءايات بينات) *، وقوله تعالى: * (وأدخل يدك فى جيبك تخرج بيضآء من غير سوء فى تسع ءايات إلى فرعون وقومه) *. وقال بعضهم: الآيات التسع المذكورة هي: العصا، واليد البيضاء، وفلق البحر، والحجر الذي انفجرت منه اثنتا عشرة عينا، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، ونتق الجبل فوقهم كأنه ظلة. وقد قدمنا كلام أهل العلم في الآيات التسع في سورة (الإسراء). وقال بعض أهل العلم: العموم على ظاهره، وإن الله أرى فرعون جميع الآيات التي جاء بها موسى، والتي جاء بها غيره من الأنبياء، وذلك بأن عرفه موسى جميع معجزاته ومعجزات سائر الأنبياء. والأول هو الظاهر.
وقد بين جل وعلا في غير هذا الموضع: أن الآيات التي أراها فرعون وقومه بعضها أعظم من بعض، كما قال تعالى في سورة (الزخرف): * (وما نريهم من ءاية إلا هى أكبر من أختها) *، وقوله: * (لنريك من ءاياتنا الكبرى) *، وقوله: * (فأراه الا ية الكبرى) * لأن الكبرى في الموضعين تأنيث الأكبر، وهي صيغة تفضيل تدل على أنها أكبر من غيرها.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (فكذب وأبى) * يعني أنه مع ما أراه الله من الآيات المعجزات الدالة على صدق نبيه موسى، كذب رسول ربه موسى، وأبى عن قبول الحق. وقد أوضح جل وعلا في غير هذا الموضع شدة إبائه وعناده وتكبره على موسى في مواضع كثيرة من كتابه. كقوله: * (وقالوا مهما تأتنا به من ءاية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين) *، وقوله تعالى: * (فلما جآءهم بأاياتنآ إذا هم منها يضحكون) * وقوله: * (لئن اتخذت إلاها غيرى لأجعلنك من المسجونين) *، وقوله تعالى: * (ونادى فرعون فى قومه قال ياقوم أليس لى ملك مصر وهاذه الا نهار تجرى
26

من تحتى أفلا تبصرون أم أنآ خير من هاذا الذى هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جآء معه الملائكة مقترنين) *. ومقصوده بذلك كله تعظيم أمر نفسه وتحقير أمر موسى، وأنه لا يمكن أن يتبع الفاضل المفضول.
وقد بين جل وعلا: أن فرعون كذب وأبى، وهو عالم بأن ما جاء به موسى حق. وأن الآيات التي كذب بها وأبى عن قبولها ما أنزلها إلا الله، وذلك في قوله تعالى: * (وجحدوا بها واستيقنتهآ أنفسهم ظلما وعلوا) *. وقوله * (قال لقد علمت مآ أنزل هاؤلاء إلا رب السماوات والا رض بصآئر وإنى لأظنك يافرعون مثبورا) * إلى غير ذلك من الآيات. وقوله * (أريناه) * أصله من رأى البصرية على الصحيح. قوله تعالى: * (قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك ياموسى) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه لما أرى فرعون آياته على يد نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قال: إن الآيات التي جاء بها موسى سحر، وأنه يريد بها إخراج فرعون وقومه من أرضهم.
أما دعواه هو وقومه أن موسى ساحر فقد ذكره الله جل وعلا في مواضع كثيرة من كتابه. كقوله: * (فلما جآءتهم ءاياتنا مبصرة قالوا هاذا سحر مبين) *، وقوله: * (فلما جآءهم الحق من عندنا قالوا إن هاذا لسحر مبين) *، وقوله: * (إنه لكبيركم الذى علمكم السحر) *، وقوله: * (وقالوا ياأيه الساحر ادع لنا ربك) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وأما ادعاؤهم أنه يريد إخراجهم من أرضهم بالسحر فقد ذكره الله جل وعلا أيضا في مواضع من كتابه. كقوله تعالى في هذه السورة: * (أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك ياموسى) *، وقوله في (الأعراف): * (قال الملأ من قوم فرعون إن هاذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون) *، وقوله في (الشعراء): * (قال للملإ حوله إن هاذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون) *، وقوله في (يونس): * (قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه ءاباءنا وتكون لكما الكبريآء فى الا رض) *، وقال سحرة فرعون: * (إن هاذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى) *
27

. قوله تعالى: * (فلنأتينك بسحر مثله) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن فرعون لعنه الله، لما رأى آيات الله ومعجزاته الباهرة، وادعى أنها سحر أقسم ليأتين موسى بسحر مثل آيات الله التي يزعم هو أنها سحر. وقد بين في غير هذا الموضع: أن إتيانهم بالسحر وجمعهم السحرة كان عن اتفاق ملئهم على ذلك. كقوله في
(الأعراف): * (قال الملأ من قوم فرعون إن هاذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وأرسل فى المدآئن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم) *. وقوله في (الشعراء): * (قال للملإ حوله إن هاذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وابعث فى المدآئن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم) *، لأن قوله * (فماذا تأمرون) * في الموضعين يدل على أن قول فرعون * (فلنأتينك بسحر مثله) * وقع بعد مشاورة واتفاق الملأ منهم على ذلك. قوله تعالى: * (فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن فرعون لما وعد موسى بأنه يأتي بسحر مثل ما جاء به موسى في زعمه قال لموسى * (فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت) * والإخلاف: عدم إنجاز الوعد. وقرر أن يكون مكان الاجتماع المناظرة والمغالبة في السحر في زعمه مكانا سوى. وأصح الأقوال في قوله * (سوى) * على قراءة الكسر والضم: أنه مكان وسط تستوي أطراف البلد فيه. لتوسطها بينها، فلم يكن أقرب للشرق من الغرب، ولا الجنوب من الشمال. وهذا هو معنى قول المفسرين * (مكانا سوى) * أي نصفا وعدلا ليتمكن جميع الناس أن يحضروا. وقوله: * (سوى) * أصله من الاستواء. لأن المسافة من الوسط إلى الطرفين لا تفاوت فيها بل هي مستوية. وقوله * (سوى) * فيه ثلاث لغات: الضم، والكسر مع القصر، وفتح السين مع المد. والقراءة بالأوليين دون الثالثة هنا ومن القراءة بالثالثة * (إلى كلمة سوآء بيننا وبينكم) * ومن إطلاق العرب * (مكانا سوى) * على المكان المتوسط بين الفريقين قول موسى بن جابر الحنفي، وقد أنشده أبو عبيدة شاهدا لذلك: مكانا سوى) * على المكان المتوسط بين الفريقين قول موسى بن جابر الحنفي، وقد أنشده أبو عبيدة شاهدا لذلك:
* وإن أبانا كان حل ببلدة
* سوى بين قيس قيس عيلان والفزر
*
28

والفزر: سعد بن زيد مناة بن تميم. يعني حل ببلدة مستوية مسافتها بين قيس عيلان والفزر. وأن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أجاب فرعون إلى ما طلب منه من الموعد، وقرر أن يكون وقت ذلك يوم الزينة. وأقوال أهل العلم في يوم الزينة راجعة إلى أنه يوم معروف لهم، يجتمعون فيه ويتزينون. سواء قلنا: إنه يوم عيد لهم، أو يوم عاشوراء، أو يوم النيروز، أو يوم كانوا يتخذون فيه سوقا ويتزينون فيه بأنواع الزينة. قال الزمخشري: وإنما واعدهم موسى ذلك اليوم ليكون علو كلمة الله وظهور دينه، وكبت الكافر وزهوق الباطل على رؤوس الأشهاد في المجمع الغاص لتقوي رغبة من رغب في اتباع الحق، ويكل حد المبطلين وأشياعهم، ويكثر المحدث بذلك الأمر. ليعلم في كل بدو وحضر، ويشيع في جميع أهل الوبر والحضر اه منه. والمصدر المنسبك من (أن) وصلتها في قوله * (وأن يحشر الناس ضحى) * في محل جر عطفا على * (الزينة) * أي موعدكم يوم الزينة وحشر الناس، أو في محل رفع عطفا على قوله * (يوم الزينة) * على قراءة الجمهور بالرفع. والحشر: الجمع والضحى: من أول النهار حين تشرق الشمس. والضحى يذكر ويؤنث. فمن أنثه ذهب إلى أنه جمع ضحوة. ومن ذكره ذهب إلى أنه اسم مفرد جاء على فعل بضم ففتح كصرد وزفر. وهو منصرف إذا لم ترد ضحى يوم معين بلا خلاف. وإن أردت ضحى يومك المعين فقيل يمنع من الصرف كسحر. وقيل لا.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من كون المناظرة بين موسى والسحرة عين لوقتها يوم معلوم يجتمع الناس فيه. ليعرفوا الغالب من المغلوب أشير له في غير هذا الموضع. كقوله تعالى في (الشعراء): * (فجمع السحرة لميقات يوم معلوم وقيل للناس هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين) *. فقوله تعالى: * (لميقات يوم معلوم) *. اليوم المعلوم: هو يوم الزينة المذكور هنا. وميقاته وقت الضحى منه المذكور في قوله * (وأن يحشر الناس ضحى) *.
تنبيه
اعلم أن في تفسير هذه الآية الكريمة أنواعا من الإشكال معروفة عند العلماء، وسنذكر إن شاء الله تعالى أوجه الإشكال فيها، ونبين إزالة الإشكال عنها.
اعلم أولا أن الفعل الثلاثي إن كان مثالا أعني واوي الفاء كوعد ووصل،
29

فالقياس في مصدره الميمي واسم مكانه وزمانه كلها المفعل (بفتح الميم وكسر العين) ما لم يكن معتل اللام. فإن كان معتلها فالقياس فيه المفعل (بفتح الميم والعين) كما هو معروف في فن الصرف.
فإذا علمت ذلك، فاعلم أن قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (أجعل * بيننا وبينك موعدا) * صالح بمقتضى القياس الصرفي لأن يكون مصدرا ميميا بمعنى الوعد، وأن يكون اسم زمان يراد به وقت الوعد، وأن يكون اسم مكان يراد به مكان الوعد. ومن إطلاق الموعد في القرآن اسم زمان قوله تعالى: * (إن موعدهم الصبح) * أي وقت وعدهم بالإهلاك الصبح. ومن إطلاقه في القرآن اسم مكان قوله تعالى: * (وإن جهنم لموعدهم أجمعين) * أي مكان وعدهم بالعذاب.
وأوجه الإشكال في هذا أن قوله: * (لا نخلفه نحن ولا أنت) * يدل على أن الموعد مصدر. لأن الذي يقع عليه الإخلاف هو الوعد لا زمانه ولا مكانه. وقوله تعالى: * (مكانا سوى) *. يدل على أن الموعد في الآية اسم مكان.
وقوله: * (قال موعدكم يوم الزينة) * يدل على أن الموعد في الآية اسم زمان. فإن قلنا إن الموعد في الآية مصدر أشكل على ذلك ذكر المكان في قوله: * (مكانا سوى) *، والزمان في قوله: * (يوم الزينة) * وإن قلنا: إن الموعد اسم مكان أشكل عليه قوله * (لا نخلفه) * لأن نفس المكان لا يخلف وإنما يخلف الوعد، وأشكل عليه أيضا قوله: * (قال موعدكم يوم الزينة) *. وإن قلنا: إن الموعد اسم زمان أشكل عليه أيضا قوله: * (لا نخلفه) *، وقوله * (مكانا سوى) * هذه
هي أوجه الإشكال في هذه الآية الكريمة. وللعلماء عن هذا أجوبة منها ما ذكره الزمخشري في الكشاف قال: لا يخلو الموعد في قوله * (فاجعل بيننا وبينك موعدا) * من أن يجعل زمانا أو مكانا أو مصدرا. فإن جعلته زمانا نظرا في أن قوله * (موعدكم يوم الزينة) * مطابق له لزمك شيئان: أن تجعل الزمان مخلفا وأن يعضل عليك ناصب * (مكانا) * وإن جعلته مكانا لقوله تعالى * (مكانا سوى) * لزمك أيضا أن توقع الإخلاف على المكان، ولا يطابق قوله * (موعدكم يوم الزينة) * إلى أن قال: فبقي أن يجعل مصدرا بمعنى الوعد ويقدر مضاف محذوف، أي مكان الوعد، ويجعل الضمير في * (نخلفه) * للموعد و * (مكانا) * بدل من المكان المحذوف.
30

فإن قلت: كيف طابقه قوله * (موعدكم يوم الزينة) * ولا بد من أن تجعله زمانا والسؤال واقع عن المكان لا عن الزمان؟
قلت: هو مطابق معنى وإن لم يطابق لفظا. لأنهم لا بد لهم من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان بعينه مشتهر باجتماعهم فيه في ذلك اليوم. فبذكر الزمان علم المكان. انتهى محل الغرض منه. ولا يخفى ما في جوابه هذا من التعسف والحذف والإبدال من المحذوف.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر ما أجيب به عما ذكرنا من الإشكال عندي في هذه الآية الكريمة أن فرعون طلب من موسى تعيين مكان الموعد، وأنه يكون مكانا سوى. أي وسطا بين أطراف البلد كما بينا. وأن موسى وافق على ذلك وعين زمان الوعد وأنه يوم الزينة ضحى. لأن الوعد لا بد له من مكان وزمان. فإذا علمت ذلك فاعلم أن الذي يترجح عندي المصير إليه هو قول من قال في قوله * (أجعل * بيننا وبينك موعدا) * إنه اسم مكان أي مكان الوعد، وقوله * (مكانا) * بدل من قوله موعدا. لأن الموعد إذا كان اسم مكان صار هو نفس المكان فاتضح كون * (مكانا) * بدلا. ولا إشكال في ضمير * (نخلفه) * على هذا. ووجه إزالة الإشكال عنه أن المعروف في فن الصرف: أن اسم المكان مشتق من المصدر كاشتقاق الفعل منه، فاسم المكان ينحل عن مصدر ومكان. فالمنزل مثلا مكان النزول، والمجلس مكان الجلوس، والموعد مكان الوعد. فإذا اتضح لك أن المصدر كامن في مفهوم اسم المكان فالضمير في قوله * (لا نخلفه) * راجع إلى المصدر الكامن في مفهوم اسم المكان، كرجوعه للمصدر الكامن في مفهوم الفعل في قوله * (اعدلوا هو أقرب للتقوى) *: فقوله * (هو) * أي العدل المفهوم من * (اعدلوا) * وكذلك قوله تعالى: * (لا نخلفه) * أي الوعد الكامن في مفهوم اسم المكان الذي هو الموعد. لأنه مكان الوعد، فمعناه مركب إضافي وآخر جزأيه لفظ الوعد وهو مرجع الضمير في * (لا نخلفه) *.
فإذا عرفت معنى هذا الكلام الذي أخبر الله أن فرعون قاله لموسى فاعلم أن قوله عن موسى * (قال موعدكم يوم الزينة) * يدل على أنه وافق على طلب فرعون ضمنا، وزاد تعيين زمان الوعد بقوله * (قال موعدكم يوم) * ولا إشكال في ذلك. هذا هو الذي ظهر لنا صوابه. وأقرب الأوجه التي ذكرها العلماء بعد هذا عندي قول من قال: إن
31

الموعد في الآية مصدر وعليه ف * (لا نخلفه) * راجع للمصدر، و * (مكانا) * منصوب بفعل دل عليه الموعد. أي عدنا مكانا سوى. ونصب المكان بأنه مفعول المصدر الذي هو * (موعدا) * أو أحد مفعولي * (أجعل) * غير صواب فيما يظهر لي والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (مكانا سوى) * قرأه ابن عامر وعاصم وحمزة (سوى) بضم السين والباقون بكسرها. ومعنى القراءتين واحد كما تقدم. قوله تعالى: * (فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى) *. قوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (فتولى فرعون) * قال بعض العلماء: معناه فتولى فرعون، انصرف مدبرا من ذلك المقام ليهيىء ما يحتاج إليه مما تواعد عليه هو وموسى. ويدل لهذا الوجه قوله تعالى في سورة (النازعات) في القصة بعينها * (ثم أدبر يسعى فحشر فنادى) * وقوله * (فحشر) * أي جمع السحرة.
وقال بعض العلماء: معنى قوله * (فتولى فرعون) * أي أعرض عن الحق الذي جاء به موسى. ومن معنى هذا الوجه قوله تعالى: * (إنا قد أوحى إلينآ أن العذاب على من كذب وتولى) *.
وقوله تعالى: * (فجمع كيده) * الظاهر أن المراد ب * (كيده) * ما جمعه من السحر ليغلب به موسى في زعمه. وعليه فالمراد بقوله * (فجمع كيده) * هو جمعه للسحرة من أطراف مملكته، ويدل على هذا أمران: أحدهما تسمية السحر في القرآن كيدا. كقوله * (إنما صنعوا كيد ساحر) *، وقوله تعالى عن السحرة: * (فأجمعوا كيدكم) * وكيدهم سحرهم. الثاني أن الذي جمعه فرعون هو السحرة كما دلت عليه آيات من كتاب الله. كقوله تعالى في (الأعراف): * (وأرسل فى المدآئن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم) *. وقوله * (حاشرين) * أي جامعين يجمعون السحرة من أطراف مملكته، وقوله في (الشعراء): * (وابعث فى المدآئن حاشرين) * * (يأتوك بكل سحار عليم فجمع السحرة لميقات يوم معلوم) *، وقوله في (يونس): * (وقال فرعون ائتونى بكل ساحر عليم) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ثم أتى) * أي جاء فرعون بسحرته للميعاد ليغلب نبي الله موسى بسحره في زعمه.
32

* (قالوا ياموسى إمآ أن تلقى وإمآ أن نكون أول من ألقى * قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى * فأوجس فى نفسه خيفة موسى * قلنا لا تخف إنك أنت الا على * وألق ما فى يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى * فألقى السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى) * قوله تعالى: * (قالوا ياموسى إمآ أن تلقى وإمآ أن نكون أول من ألقى) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن السحرة لما جمعهم فرعون واجتمعوا مع موسى للمغالبة قالوا له متأدبين معه: * (إمآ أن تلقى وإمآ أن نكون أول من ألقى) * وقد بين تعالى مقالتهم هذه في غير هذا الموضع. كقوله في (الأعراف): * (قالوا ياموسى إمآ أن تلقى وإمآ أن نكون نحن الملقين) *. وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يحذف مفعول فعل في موضع، ثم
يبين في موضع آخر، فإنا نبين ذلك، وقد حذف هنا في هذه الآية مفعول * (نلقي) *، ومفعول أول من * (من ألقى) * وقد بين تعالى في مواضع أخر أن مفعول إلقاء موسى هو عصاه وذلك في قوله في (الأعراف): * (وأوحينآ إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هى تلقف ما يأفكون) *، وقوله في (الشعراء): * (فألقى موسى عصاه فإذا هى تلقف ما يأفكون) *، وقوله هنا: * (وألق ما فى يمينك تلقف ما صنعوا) *. وما في يمينه هو عصاه. كما قال تعالى: * (وما تلك بيمينك ياموسى قال هى عصاى) *.
وقد بين تعالى أيضا في موضع آخر: أن مفعول إلقائهم هو حبالهم وعصيهم، وذلك في قوله في (الشعراء): * (فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون) *. وقد أشار تعالى إلى ذلك أيضا بقوله هنا * (قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) *، لأن في الكلام حذفا دل المقام عليه، والتقدير: قال بل ألقوا فألقوا حبالهم وعصيهم فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى. والمصدر المنسبك من (أن) وصلتها في قوله * (أن تلقى) * وفي قوله * (أن نكون) * فيه وجهان من الإعراب: الأول أنه في محل نصب بفعل محذوف دل المقام عليه، والتقدير: إما أن تختار أن تلقي أي تختار إلقاءك أولا، أو تختار إلقاءنا أولا. وتقدير المصدر الثاني: وإما أن تختار أن نكون أي كوننا أول من ألقي، والثاني أنه في محل رفع، وعليه فقيل هو مبتدأ والتقدير إما إلقاؤك أول، أو إلقاؤنا أول. وقيل خبر مبتدأ محذوف، أي إما الأمر إلقاؤنا أو إلقاؤك. قوله تعالى: * (قال بل ألقوا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما خيره سحرة فرعون أن يلقي قبلهم أو يلقوا قبله قال لهم: * (ألقوا) * يعني ألقوا
33

ما أنتم ملقون كما صرح به في (الشعراء) في قوله تعالى: * (قال لهم موسى ألقوا مآ أنتم ملقون) * وذلك هو المراد أيضا بقوله في (الأعراف) * (قال ألقوا فلمآ ألقوا سحروا أعين الناس) *.
تنبيه
قول موسى للسحرة: ألقوا المذكور في (الأعراف، وطه، والشعراء) فيه سؤال معروف، وهو أن يقال: كيف قال هذا النبي الكريم للسحرة ألقوا. أي ألقوا حبالكم وعصيكم، يعني اعملوا السحر وعارضوا به معجزة الله التي أيد بها رسوله، وهذا أمر بمنكر؟ والجواب هو أن قصد موسى بذلك قصد حسن يستوجبه المقام، لأن إلقاءهم قبله يستلزم إبراز ما معهم من مكائد السحر، واستنفاد أقصى طرقهم ومجهودهم. فإذا فعلوا ذلك كان في إلقائه عصاه بعد ذلك وابتلاعها لجميع ما ألقوا من إظهار الحق وإبطال الباطل ما لا جدال بعده في الحق لأدنى عاقل. ولأجل هذا قال لهم: ألقوا، فلو ألقى قبلهم وألقوا بعده لم يحصل ما ذكرنا، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) *. قرأ هذا الحرف ابن ذكوان عن ابن عامر * (تخيل) * بالتاء، أي تخيل هي أي الحبال والعصي أنها تسعى. والمصدر في (أنها تسعى) بدل من ضمير الحبال والعضي الذي هو نائب فاعل * (تخيل) * بدل اشتمال. وقرأ الباقون بالياء التحتية. والمصدر في * (سحرهم أنها تسعى) * نائب فاعل * (يخيل) *.
وفي هذه الآية الكريمة حذف دل المقام عليه، والتقدير: قال بل ألقوا فألقوا حبالهم وعصيهم، فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى. وبه تعلم أن الفاء في قوله * (فإذا حبالهم) * عاطفة على محذوف كما أشار لنحو ذلك ابن مالك في الخلاصة بقوله: * وحذف متبوع بدا هنا استبح
و (إذا) هي الفجائية، وقد قدمنا كلام العلماء فيها فأغنى ذلك عن إعادته هنا. والحبال: جمع حبل، وهو معروف. و (العصي) جمع عصا، وألف العصا منقلبة عن واو، ولذا ترد إلى أصلها في التثنية: ومنه قول غيلان ذي الرمة:
34

و (إذا) هي الفجائية، وقد قدمنا كلام العلماء فيها فأغنى ذلك عن إعادته هنا. والحبال: جمع حبل، وهو معروف. و (العصي) جمع عصا، وألف العصا منقلبة عن واو، ولذا ترد إلى أصلها في التثنية: ومنه قول غيلان ذي الرمة:
* فجاءت بنسج العنكبوت كأنه
* على عصوبها سابري مشبرق
*
وأصل العصي عصوو على وزن فعول جمع عصا. فأعل بإبدال الواو التي في موضع اللام ياء فصار عصويا، فأبدلت الواو ياء وأدغمت في الياء، فالياء أن أصلهما واوان. وإلى جواز هذا النوع من الإعلال في واوي اللام مما جاء على فعول أشار في الخلاصة بقوله: وأصل العصي عصوو على وزن فعول جمع عصا. فأعل بإبدال الواو التي في موضع اللام ياء فصار عصويا، فأبدلت الواو ياء وأدغمت في الياء، فالياء أن أصلهما واوان. وإلى جواز هذا النوع من الإعلال في واوي اللام مما جاء على فعول أشار في الخلاصة بقوله:
* كذاك ذا وجهين جا الفعول من
* ذي الواو لام جمع أو فرد يعن
*
وضمة الصاد في * (وعصيهم) * أبدلت كسرة لمجانسة الياء، وضمة عين (عصيهم) أبدلت كسرة لاتباع كسرة الصاد. والتخيل في قوله * (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) * هو إبداء أمر لا حقيقة له، ومنه الخيال. وهو الطيف الطارق في النوم. قال الشاعر: يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) * هو إبداء أمر لا حقيقة له،
ومنه الخيال. وهو الطيف الطارق في النوم. قال الشاعر:
* ألا يا لقومي للخيال المشوق
* وللدار تنأى بالحبيب ونلتقي
*
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) * يدل على أن السحر الذي جاء به سحرة فرعون تخييل لا حقيقة له في نفس الأمر. وهذا الذي دلت عليه آية (طه) هذه دلت عليه آية (الأعراف) وهي قوله تعالى: * (فلمآ ألقوا سحروا أعين الناس) *، لأن قوله: * (سحروا أعين الناس) * يدل على أنهم خيلوا لأعين الناظرين أمرا لا حقيقة له. وبهاتين الآيتين احتج المعتزلة ومن قال بقولهم على أن السحر خيال لا حقيقة له.
والتحقيق الذي عليه جماهير العلماء من المسلمين: أن السحر منه ما هو أمر له حقيقة لا مطلق تخييل لا حقيقة له، ومما يدل على أن منه ما له حقيقة قوله تعالى: * (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) * فهذه الآية تدل على أنه شيء موجود له حقيقة تكون سببا للتفريق بين الرجل وامرأته وقد عبر الله عنه بما الموصولة وهي تدل على أنه شيء له وجود حقيقي. ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى: * (ومن شر النفاثات فى العقد) * يعني السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن وينفثن في عقدهن. فلولا أن السحر حقيقة لم يأمر الله بالاستعاذة منه. وسيأتي إن شاء الله أن السحر أنواع: منها ما هو أمر له حقيقة، ومنها ما هو تخييل لا حقيقة له. وبذلك يتضح عدم التعارض بين الآيات الدالة على أن له حقيقة، والآيات الدالة على أنه خيال.
35

فإن قيل: قوله في (طه): * (يخيل إليه من سحرهم) *، وقوله في (الأعراف): * (سحروا أعين الناس) * الدالان على أن سحر سحرة فرعون خيال لا حقيقة له، يعارضهما قوله في (الأعراف): * (وجآءو بسحر عظيم) * لأن وصف سحرهم بالعظم يدل على أنه غير خيال. فالذي يظهر في الجواب والله أعلم أنهم أخذوا كثيرا من الحبال والعصي، وخيلوا بسحرهم لأعين الناس أن الحبال والعصي تسعى وهي كثيرة. فظن الناظرون أن الأرض ملئت حيات تسعى، لكثرة ما ألقوا من الحبال والعصي فخافوا من كثرتها، وبتخييل سعي ذلك العدد الكثير وصف سحرهم بالعظم. وهذا ظاهر لا إشكال فيه. وقد قال غير واحد: إنهم جعلوا الزئبق على الحبال والعصي، فلما أصابها حر الشمس تحرك الزئبق فحرك الحبال والعصي، فخيل للناظرين أنها تسعى. وعن ابن عباس: أنهم كانوا اثنين وسبعين ساحرا، مع كل ساحر منهم حبال وعصي. وقيل: كانوا أربعمائة. وقيل كانوا اثني عشر ألفا. وقيل أربعة عشر ألفا. وقال ابن المنكدر: كانوا ثمانين ألفا. وقيل: كانوا مجمعين على رئيس يقال له شمعون. وقيل: كان اسمه يوحنا معه اثني عشر نقيبا، مع كل نقيب عشرون عريفا، مع كل عريف ألف ساحر. وقيل: كانوا ثلاثمائة ألف ساحر من الفيوم، وثلاثمائة ألف ساحر من الصعيد وثلاثمائة ألف ساحر من الفيوم، وثلاثمائة ألف ساحر من الصعيد وثلاثمائة ألف ساحر من الريف فصاروا تسعمائة ألف، وكان رئيسهم أعمى ا ه. وهذه الأقوال من الإسرائيليات، ونحن نتجنبها دائما، ونقلل من ذكرها، وربما ذكرنا قليلا منها منبهين عليه. قوله تعالى: * (وألق ما فى يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر) *. قرأ هذا الحرف نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وقنبل عن ابن كثير، وهشام عن ابن عامر، وشعبة عن عاصم بتاء مفتوحة مخففة بعدها لام مفتوحة ثم قاف مفتوحة مشددة بعدها فاء ساكنة، وهو مضارع تلقف وأصله تتلقف بتاءين فحذفت إحداهما تخفيفا، كما أشار له في الخلاصة بقوله: وألق ما فى يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر) *. قرأ هذا الحرف نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وقنبل عن ابن كثير، وهشام عن ابن عامر، وشعبة عن عاصم بتاء مفتوحة مخففة بعدها لام مفتوحة ثم قاف مفتوحة مشددة بعدها فاء ساكنة، وهو مضارع تلقف وأصله تتلقف بتاءين فحذفت إحداهما تخفيفا، كما أشار له في الخلاصة بقوله:
* وما بتاءين ابتدى قد يقتصر
* فيه على تاكتبن العبر
*
والمضارع مجزوم، لأنه جزاء الطلب في قوله * (وألق) * وجمهور علماء العربية على أن الجزم في نحو ذلك بشرط مقدر دلت عليه صيغة الطلب، وتقديره هنا: إن تلق ما في يمينك تلقف ما صنعوا. وقرأه البزي عن ابن كثير كالقراءة التي ذكرنا، إلا أنه يشدد
36

تاء تلقف وصلا. ووجه تشديد التاء هو إدغام إحدى التاءين في الأخرى، وهو جائز في كل فعل بدئ بتاءين كما هنا، وأشار إليه في الخلاصة بقوله: وتقديره هنا: إن تلق ما في يمينك تلقف ما صنعوا. وقرأه البزي عن ابن كثير كالقراءة التي ذكرنا، إلا أنه يشدد تاء تلقف وصلا. ووجه تشديد التاء هو إدغام إحدى التاءين في الأخرى، وهو جائز في كل فعل بدئ بتاءين كما هنا، وأشار إليه في الخلاصة بقوله:
* وحيي افكك وادغم دون حذر
* كذاك نحو تتجلى واستتر
*
ومحل الشاهد منه أوله نحو (تتجلى) ومثاله في الماضي قوله: ومحل الشاهد منه أوله نحو (تتجلى) ومثاله في الماضي قوله:
* تولى الضجيج إذا ما التذها خصرا
* عذب المذاق إذا ما أتابع القبل
*
أصله تتابع، وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر كالقراءة المذكورة للجمهور إلا أنه يضم الفاء، فالمضارع على قراءته مرفوع، ووجه رفعه أن جملة الفعل حال، أي ألق بما في يمينك في حال كونها متلقفة ما صنعوا. أو مستأنفة، وعليه فهي خبر مبتدأ محذوف، أي فهي تلقف ما صنعوا. وقرأ حفص عن عاصم * (تلقف) * بفتح التاء وسكون اللام وفتح القاف مخففة مع الجزم، مضارع لقفه بالكسر يلقفه بالفتح ومعنى القراءتين واحد، لأن معنى تلقفه ولقفه إذا تناوله بسرعة، والمراد بقوله * (تلقف ما صنعوا) * على جميع القراءات أنها تبتلع كل ما زوروه وافتعلوه من الحبال والعصي التي خيلوا للناس أنها تسعى وصنعهم في قوله تعالى: * (ما صنعوا) * واقع في الحقيقة على تخييلهم إلى الناس بسحرهم أن الحبال والعصي تسعى، لا على قفس الحبال والعصي لأنها من صنع الله تعالى. ومن المعلوم أن كل شيء كائنا ما كان بمشيئته تعالى الكونية القدرية.
وهذا المعنى الذي ذكره جل وعلا هنا في هذه الآية الكريمة: من كونه أمر نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أن يلقي ما في يمينه أي يده اليمنى، وهو عصاه فإذا هي تبتلع ما يأفكون من الحبال والعصي التي خيلوا إليه أنها تسعى أوضحه في غير هذا الموضع، كقوله في (الأعراف): * (وأوحينآ إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هى تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين) *، وقوله تعالى في (الشعراء): * (فألقى موسى عصاه فإذا هى تلقف ما يأفكون) * فذكر العصا في (الأعراف، والشعراء) يوضح أن المراد بما في يمينه في (طه) أنه عصاه كما لا يخفى. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ما يأفكون) * أي يختلقونه ويفترونه من الكذب، وهو زعمهم أن الحبال والعصي تسعى حقيقة، وأصله من قولهم: أفكه عن شيء يأفكه عنه (من باب ضرب): إذا صرفه عنه وقلبه. فأصل الأفك بالفتح
37

القلب والصرف عن الشيء. ومنه قيل لقرى قوم لوط * (والمؤتفكات) *. لأن الله أفكها أي قلبها. كما قال تعالى: * (فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا) *. ومنه قوله تعالى: * (يؤفك عنه من أفك) * أي يصرف عنه من صرف، وقوله: * (قالوا أجئتنا لتأفكنا عن ءالهتنا) * أي لتصرفنا عن عبادتها، وقول عمرو بن أذينة: قالوا أجئتنا لتأفكنا عن ءالهتنا) * أي لتصرفنا عن عبادتها، وقول عمرو بن أذينة:
* إن تك عن أحسن المروءة مأ
* فوكا ففي آخرين قد أفكوا
*
وأكثر استعمال هذه المادة في الكذب. لأنه صرف وقلب للأمر عن حقيقته بالكذب والافتراء. كما قال تعالى: * (ويل لكل أفاك أثيم) *، وقال تعالى: * (وذلك إفكهم وما كانوا يفترون) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (إنما صنعوا كيد ساحر) * (ما) موصولة وهي اسم (إن)، و (كيد) خبرها، والعائد إلى الموصول محذوف. على حد قوله في الخلاصة: إنما صنعوا كيد ساحر) * (ما) موصولة وهي اسم (إن)، و (كيد) خبرها، والعائد إلى الموصول محذوف. على حد قوله في الخلاصة:
*......
* والحذف عندهم كثير منجلي
*
* في عائد متصل إن انتصب
* بفعل أو وصف كمن نرجو يهب
*
والتقدير: إن الذي صنعوه كيد ساحر. وأما على قراءة من قرأ * (كيد ساحر) * بالنصب ف (ما) كافة و (كيد) مفعول (صنعوا) وليست سبعية، وعلى قراءة حمزة والكسائي (كيد سحر) بكسر السين وسكون الحاء، فالظاهر أن الإضافة بيانية. لأن الكيد المضاف إلى السحر هو المراد بالسحر. وقد بسطنا الكلام في نحو ذلك في غير هذا الموضع. والكيد: هو المكر. قوله تعالى: * (ولا يفلح الساحر حيث أتى) *. وقد قدمنا في سورة (بني إسرائيل) أن الفعل في سياق النفي من صيغ العموم. لأنه ينحل عند بعض أهل العلم عن مصدر وزمان، وعند بعضهم عن مصدر وزمان ونسبة. فالمصدر كامن في مفهومه إجماعا، وهذا المصدر الكاهن في مفهوم الفعل في حكم النكرة فيرجع ذلك إلى النكرة في سياق النفي وهي صيغة عموم عند الجمهور. فظهر أن الفعل في سياق النفي من صيغ العموم، وكذلك الفعل في سياق الشرط. لأن النكرة في سياق الشرط أيضا صيغة عموم. وأكثر أهل العلم على ما ذكرنا من أن الفعل في سياق النفي أو الشرط من صيغ العموم، خلافا لبعضهم فيما إذا لم يؤكد الفعل المذكور بمصدر. فإن أكد به فهو
38

صيغة عموم بلا خلاف، كما أشار إلى ذلك في مراقي السعود بقوله عاطفا على صيغ العموم: ولا يفلح الساحر حيث أتى) *. وقد قدمنا في سورة (بني إسرائيل) أن الفعل في سياق النفي من صيغ العموم. لأنه ينحل عند بعض أهل العلم عن مصدر وزمان، وعند بعضهم عن مصدر وزمان ونسبة. فالمصدر كامن في مفهومه إجماعا
، وهذا المصدر الكاهن في مفهوم الفعل في حكم النكرة فيرجع ذلك إلى النكرة في سياق النفي وهي صيغة عموم عند الجمهور. فظهر أن الفعل في سياق النفي من صيغ العموم، وكذلك الفعل في سياق الشرط. لأن النكرة في سياق الشرط أيضا صيغة عموم. وأكثر أهل العلم على ما ذكرنا من أن الفعل في سياق النفي أو الشرط من صيغ العموم، خلافا لبعضهم فيما إذا لم يؤكد الفعل المذكور بمصدر. فإن أكد به فهو صيغة عموم بلا خلاف، كما أشار إلى ذلك في مراقي السعود بقوله عاطفا على صيغ العموم:
* ونحو لا شربت أو إن شربا
* واتفقوا إن مصدر قد جلبا
*
والتحقيق في هذه المسألة: أنها لا تختص بالفعل المتعدي دون اللازم، خلافا لمن زعم ذلك، وأنه لا فرق بين التأكيد بالمصدر وعدمه. لإجماع النحاة على أن ذكر المصدر بعد الفعل تأكيد للفعل، والتأكيد لا ينشأ به حكم، بل هو مطلق تقوية لشيء ثابت قبل ذلك كما هو معروف. وخلاف العلماء في عموم الفعل المذكور هل هو بدلالة المطابقة أو الالتزام معروف. وإذا علمت ذلك فاعلم أن قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ولا يفلح الساحر) * يعم نفي جميع أنواع الفلاح عن الساحر، وأكد ذلك بالتعميم في الأمكنة بقوله: * (حيث أتى) * وذلك دليل على كفره. لأن الفلاح لا ينفي بالكلية نفيا عاما إلا عمن لا خير فيه وهو الكافر. ويدل على ما ذكرنا أمران:
الأول هو ما جاء من الآيات الدالة على أن الساحر كافر. كقوله تعالى: * (وما كفر سليمان ولاكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) *. فقوله * (وما كفر سليمان) * يدل على أنه لو كان ساحرا وحاشاه من ذلك لكان كافرا. وقوله * (ولاكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) * صريح في كفر معلم السحر، وقوله تعالى عن هاروت وماروت مقررا له: * (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) *، وقوله: * (ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له فى الا خرة من خلاق) * أي من نصيب، ونفي النصيب في الآخرة بالكلية لا يكون إلا للكافر عياذا بالله تعالى. وهذه الآيات أدلة واضحة على أن من السحر ما هو كفر بواح، وذلك مما لا شك فيه.
الأمر الثاني أنه عرف باستقراء القرآن أن الغائب فيه أن لفظة * (لا يفلح) * يراد بها الكافر، كقوله تعالى في سورة (يونس): * (قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما فى السماوات وما فى الا رض إن عندكم من سلطان بهاذآ أتقولون على الله ما لا تعلمون قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع فى الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون) *، وقوله في (يونس) أيضا: * (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون) *، وقوله
39

في (الأنعام): * (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بأاياته إنه لا يفلح الظالمون) *. إلى غير ذلك من الآيات.
ويفهم من مفهوم مخالفة الآيات المذكورة: أن من جانب تلك الصفات التي استوجبت نفي الفلاح عن السحرة والكفرة غيرهم أنه ينال الفلاح، وهو كذلك، كما بينه جل وعلا في آيات كثيرة. كقوله: * (أولائك على هدى من ربهم وأولائك هم المفلحون) *، وقوله تعالى: * (قد أفلح المؤمنون) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة.
ووقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ولا يفلح الساحر) * مضارع أفلح بمعنى نال الفلاح. والفلاح يطلق في العربية على الفوز بالمطلوب. ومنه قول لبيد: ولا يفلح الساحر) * مضارع أفلح بمعنى نال الفلاح. والفلاح يطلق في العربية على الفوز بالمطلوب. ومنه قول لبيد:
* فاعقلي إن كنت لما تعقلي
* ولقد أفلح من كان عقل
*
فقوله (ولقد أفلح من كان عقل) يعني أن من رزقه الله العقل فاز بأكبر مطلوب. ويطلق الفلاح أيضا على البقاء والدوام في النعيم. ومنه قول لبيد: فقوله (ولقد أفلح من كان عقل) يعني أن من رزقه الله العقل فاز بأكبر مطلوب. ويطلق الفلاح أيضا على البقاء والدوام في النعيم. ومنه قول لبيد:
* لو أن حيا مدرك الفلاح
* لناله ملاعب الرماح
*
فقوله (مدرك الفلاح) يعني البقاء. وقول الأضبط بن قريع السعدي، وقيل كعب بن زهير: فقوله (مدرك الفلاح) يعني البقاء. وقول الأضبط بن قريع السعدي، وقيل كعب بن زهير:
* لكل هم من الهموم سعة
* والمسى والصبح لا فلاح معه
*
يعني أنه ليس مع تعاقب الليل والنهار بقاء. وبكل واحد من المعنيين فسر بعض أهل العلم (حي على الفلاح) في الأذان والإقامة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (حيث أتى) * حيث كلمة تدل على المكان، كما تدل حين على الزمان، ربما ضمنت معنى الشرط. فقوله: * (ولا يفلح الساحر حيث أتى) * أي حيث توجه وسلك. وهذا أسلوب عربي. معروف يقصد به التعميم. كقولهم: فلان متصف بكذا حيث سير، وأية سلك، وأينما كان. ومن هذا القبيل قول زهير: ولا يفلح الساحر حيث أتى) * أي حيث توجه وسلك. وهذا أسلوب عربي. معروف يقصد به التعميم. كقولهم: فلان متصف بكذا حيث سير، وأية سلك، وأينما كان. ومن هذا القبيل قول زهير:
* بان الخليط ولم يأووا لمن تركوا
* وزودوك اشتياقا أية سلكوا
*
وقال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: * (ولا يفلح الساحر حيث أتى) * أي لا يفوز ولا ينجو حيث أتى من الأرض. وقيل: حيث احتال. والمعنى في الآية هو
40

ما بينا والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى اعلم أن السحرة يطلق في اللغة على كل شيء خفي سببه ولطف ودق. ولذلك تقول العرب في الشيء الشديد الخفاء: أخفى من السحر. ومنه قول مسلم بن الوليد الأنصاري: المسألة الأولى اعلم أن السحرة يطلق في اللغة على كل شيء خفي سببه ولطف ودق. ولذلك تقول العرب في الشيء الشديد الخفاء: أخفى من السحر. ومنه قول مسلم بن الوليد الأنصاري:
* جعلت علامات المودة بيننا
* مصائد لحظ من أخفى من السحر
*
* فأعرف منها الوصل في لين طرفها
* وأعرف منها الهجر في النظر الشزر
*
ولهذا قيل لملاحة العينين: سحر. لأنها تصيب القلوب بسهامها في خفاء. ومنه قول المرأة التي شببت بنصر بن حجاج السلمي: ولهذا قيل لملاحة العينين: سحر. لأنها تصيب القلوب بسهامها في خفاء. ومنه قول المرأة التي شببت بنصر بن حجاج السلمي:
* وانظر إلى السحر يجري في لواحظه
* وانظر إلى دعج في طرفه الساجي
* المسألة الثانية اعلم أن السحر في الاصطلاح لا يمكن حده بحد جامع مانع. لكثرة الأنواع المختلفة الداخلة تحته، ولا يتحقق قدر مشترك بينها يكون جامعا لها مانعا لغيرها. ومن هنا اختلفت عبارات العلماء في حده اختلافا متباينا.
المسألة الثالثة اعلم أن الفخر الرازي في تفسيره قسم السحر إلى ثمانية أقسام:
القسم الأول سحر الكلدانيين والكسدائيين الذين كانوا في قديم الدهر يعبدون الكواكب، ويزعمون أنها هي المدبرة لهذا العالم، ومنها تصدر الخيرات والشرور، والسعادة والنحوسة، وهم الذين بعث الله تعالى إبراهيم عليه السلام مبطلا لمقالتهم ورادا عليهم. وقد أطال الكلام في هذا النوع من السحر.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ومعلوم أن هذا النوع من السحر كفر بلا خلاف. لأنهم كانوا يتقربون فيه للكواكب كما يتقرب المسلمون إلى الله، ويرجون الخير من قبل الكواكب ويخافون الشر من قبلها كما يرجو المسلمون ربهم ويخافونه. فهم كفرة يتقربون إلى الكواكب في سحرهم بالكفر البواح.
41

النوع الثاني من السحر سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية. ثم استدل على تأثير الوهم بأن الإنسان يمكنه أن يمشي على الجسر الموضوع على وجه الأرض، ولا يمكنه المشي عليه إذا كان ممدودا على نهر أو نحوه قال: وما ذاك إلا أن تخيل السقوط متى قوي أوجبه. وقال: واجتمعت الأطباء على نهي المرعوف عن النظر إلى الأشياء الحمر، والمصروع عن النظر إلى الأشياء القوية اللمعان والدوران. وما ذاك إلا أن النفوس خلقت مطيعة للأوهام. قال: وحكى صاحب الشفاء عن أرسطو في طبائع الحيوان: أن الدجاجة إذا تشبهت كثيرا بالديكة في الصوت وفي الحراب مع الديكة نبت على ساقها مثل الشيء النابت على ساق الديك، قال: ثم قال صاحب الشفاء: وهذا يدل على أن الأحوال الجهمانية تابعة للأحوال النفسانية. قال: واجتمعت الأمم على أن الدعاء اللساني الخالي عن الطلب النفساني قليل العمل عديم الأثر. فدل ذلك على أن للهمم والنفوس آثارا.. إلى آخر كلامه في هذا النوع من أنواع السحر، وقد أطال فيه الكلام.
ومعلوم أن النفوس الخبيثة لها آثار بإذن الله تعالى، ومن أصرح الأدلة الشرعية في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (العين حتى ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين
). وهذا الحديث الصحيح يدل على أن همة العائن وقوة نفسه في الشر جعلها الله سببا للتأثير في المصاب بالعين.
وقال الرازي في هذا النوع من أنواع السحر: إذا عرفت هذا فنقول: النفوس التي تفعل هذه الأفاعيل قد تكون قوية جدا فتستغني في هذه الأفعال عن الاستعانة بالآلات والأدوات، وقد تكون ضعيفة فتحتاج إلى الاستعانة بهذه الآلات. وتحقيقه: أن النفس إذا كانت مستعلية على البدن شديدة الانجذاب إلى عالم السماء كانت كأنها روح من الأرواح السماوية، فكانت قوية على التأثير في مواد هذا العالم، أما إذا كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه الذات البدنية فحينئذ لا يكون لها تصرف البتة إلا في هذا البدن. إلى آخر كلامه. ولا يخفى ما فيه على من نظره.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره في سورة (البقرة) بعد أن ساق كلام الرازي الذي ذكرناه آنفا ما نصه: ثم أرشد إلى مداواة هذا الداء بتقليل الغذاء والانقطاع عن الناس. قلت: وهذا الذي يشير إليه هو التصرف بالحال وهو على قسمين: تارة يكون حالا صحيحة شرعية، يتصرف بها فيما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويترك ما نهى الله تعالى عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم: فهذه الأحوال مواهب من الله تعالى، وكرامات للصالحين من هذه
42

الأمة، ولا يسمى هذا سحرا في الشرع. وتارة تكون الحال فاسدة لا يمتثل صاحبها ما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يتصرف بها في ذلك. فهذه حال الأشقياء المخالفين للشريعة، ولا يدل إعطاء الله إياهم هذه الأحوال على محبته لهم. كما أن الدجال له من خوارق العادات ما دلت عليه الأحاديث الكثيرة، مع أنه مذموم شرعا لعنه الله. وكذلك من شابهه من مخالفي الشريعة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام انتهى كلام ابن كثير رحمه الله تعالى.
النوع الثالث من أنواع السحر المذكورة الاستعانة بالأرواح الأرضية، يعني تسخير الجن واستخدامهم. قال:
واعلم أن القول بالجن مما أنكره بعض المتأخرين من الفلاسفة والمعتزلة. أما أكابر الفلاسفة فلم ينكروا القول بها. إلا أنهم سموها بالأرواح الأرضية. والجن المذكورون قسمان: مؤمنون، وكافرون وهم الشياطين.
قال الرازي في كلامه على هذا النوع من السحر: واتصال النفوس الناطقة بها أسهل من اتصالها بالأرواح السماوية لما بينهما من المناسبة والقرب. ثم إن أصحاب الصنعة وأصحاب التجربة شاهدوا بأن الاتصال بهذه الأرواح الأرضية يحصل بأعمال سهلة من الرقى والدخن والتجريد. وهذا النوع هو المسمى بالعزائم، وعمل تسخير الجن. وقد أطال الرازي أيضا الكلام في هذا النوع من أنواع السحر.
النوع الرابع من أنواع السحر هو التخيلات والأخذ بالعيون. ومبنى هذا النوع منه على أن القوة الباصرة قد ترى الشيء على خلاف ما هو عليه في الحقيقة لبعض الأسباب العارضة. ولأجل هذا كانت أغلاط البصر كثيرة. ألا ترى أن راكب السفينة إذا نظر إلى الشط رأى السفينة واقفة والشط متحركا، وذلك يدل على أن الساكن يرى متحركا. والمتحرك ساكنا. والقطرة النازلة ترى خطا مستقيما. إلى آخر كلام الرازي. وقد أطال الكلام أيضا في هذا النوع.
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره في سورة (البقرة) مختصرا كلام الرازي المذكور: ومبناه على أن البصر قد يخطئ ويشتغل بالشيء المعين دون غيره. ألا ترى ذا الشعبذة الحاذق يظهر عمل شيء يذهل أذهان الناظرين به، وبأخذ عيوبهم إليه، حتى إذا استغرقهم الشغل بذلك الشيء بالتحديق ونحوه عمل شيئا آخر عملا بسرعة شديدة، وحينئذ، يظهر لهم شيء غير ما انتظروه فيتعجبون منه جدا، ولو أنه سكت ولم يتكلم بما
43

يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن يعمله، ولم تتحرك النفوس والأوهام إلى غير ما يريد إخراجه لفطن الناظرون لكل ما يفعله. قال: وكلما كانت الأحوال تفيد حس البصر نوعا من أنواع الخلل أشد، كان العمل أحسن. مثل أن يجلس المشعبذ في موضع مضيء جدا أو مظلم، فلا تقف القوة الناظرة على أحوالها والحالة هذه. ا ه منه. ولا يخفى أن يكون سحر سحرة فرعون من هذا النوع. فهو تخييل وأخذ بالعيون كما دل عليه قوله تعالى: * (فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) * فإطلاق التخييل في الآية على سحرهم نص صريح في ذلك. وقد دل على ذلك أيضا قوله في (الأعراف): * (فلمآ ألقوا سحروا أعين الناس) *. لأن إيقاع السحر على أعين الناس في الآية يدل على أن أعينهم تخيلت غير الحقيقة الواقعة، والعلم عند الله تعالى.
النوع الخامس من أنواع السحر الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركبة على النسب الهندسية، كفارس على فرس في يده بوق، كلما مضت ساعة من النهار ضرب بالبوق من غير أن يمسه أحد. ومنها الصور التي يصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان، حتى إنهم يصورونها ضاحكة وباكية، حتى يفرق فيها بين ضحك السرور، وبين ضحك الخجل، وضحك الشامت.
فهذه الوجوه من لطيف أمور المخايل. قال الرازي: وكان سحر سحرة فرعون من هذا الضرب. ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات. ويندرج في هذا الباب علم جر الأثقال، وهو أن يجر ثقيلا عظيما بآلة خفيفة سهلة، وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعد من باب السحر لأن لها أسبابا معلومة نفيسة، من اطلع عليها قدر عليها، إلا أن الاطلاع عليها لما كان عسير أعد أهل الظاهر ذلك من باب السحر لخفاء مأخذه ا ه.
وقد علمت أن الرازي يرى أن سحر سحرة فرعون من هذا النوع الأخير، لأن السحرة جعلوا الزئبق على الحبال والعصي فحركته حرارة الشمس فتحركت الحبال والعصي فظنوا أنها حركة طبيعية حقيقة. والذي يظهر لنا أنه من النوع الذي قبله كما قدمنا، ولا مانع من أن يتوارد نوعان على شيء واحد فيكون داخلا في هذا وفي هذا. والله تعالى أعلم.
وقال ابن كثير رحمه الله بعد أن ذكر كلام الرازي الذي ذكرنا في هذا النوع من السحر. قلت: ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم بما يرونهم إياه من الأنوار، كقضية قمامة الكنيسة التي لهم ببيت المقدس، وما يحتالون به من إدخال النار خفية إلى
44

الكنيسة، وإشعال ذلك القنديل بصنعة لطيفة تروج على الطغام منهم، وأما الخواص منهم فمعترفون بذلك، ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم، فيرون ذلك سائغا لهم، وفيهم شبه من الجهلة الأغبياء من متعبدي الكرامية الذين يرون جواز وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب، فيدخلون في عداد من قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)، وقوله: (حدثوا عني ولا تكذبوا علي، فإنه من يكذب علي يلج النار). ثم ذكرها هنا يعني الرازي حكاية عن بعض الرهبان، وهي أنه سمع صوت طائر حزين الصوت، ضعيف الحركة، فإذا سمعته الطيور ترق له فتذهب في وكره من ثمر الزيتون ليتبلغ به، فعمد هذا الراهب إلى صنعة طائر على شكله وتوصل إلى أن جعله أجوف، فإذا دخلته الريح سمع منه صوت كصوت ذلك الطائر. وانقطع في صومعة ابتناها، وزعم أنها على قبر بعض صالحيهم، وعلق ذلك الطائر في مكان منها، فإذا كان زمان الزيتون فتح بابا من ناحيته فتدخل الريح إلى داخل هذه الصورة فيسمع صوتها كل طائر في شكله أيضا، فتأتي الطيور فتحمل من الزيتون شيئا كثيرا فلا ترى النصارى إلا ذلك الزيتون في هذه الصومعة ولا يدرون ما سببه. ففتنهم بذلك وأوهمهم أن هذا من كرامات صاحب ذلك القبر، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة انتهى كلام ابن كثير.
وذكر الرازي في هذه المسألة التي نقلها عنه ابن كثير: أن ذلك الطائر المذكور يسمى البراصل، وأن الذي عمل صورته يسمى أرجعيانوس الموسيقار، وأنه جعل ذلك على هيكل أورشليم العتيق عند تجديده إياه، وأن الذي قام بعمارة ذلك الهيكل أولا أسطرخس الناسك.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: وهذا النوع الخامس الذي عده الرازي من أنواع السحر، الذي هو الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركبة على النسب الهندسية. الخ لا ينبغي عده اليوم من أنواع السحر. لأن أسبابه صارت واضحة متعارفة عند الناس، بسبب تقدم العلم المادي. والواضح الذي صار عاديا لا يدخل في حد السحر، وقد كانت أمور كثيرة خفية الأسباب فصارت اليوم ظاهرتها جدا. والله تعالى أعلم.
النوع السادس من أنواع السحر الاستعانة بخواص الأدوية، مثل مثل أن يجعل في طعامه بعض الأدوية المبلدة المزيلة للعقل والدخن المسكرة نحو دماغ الحمار إذا تناوله
45

الإنسان تبلد عقله، وقلت فطنته، قاله الرازي. ثم قال: واعلم أنه لا سبيل إلى إنكار الخواص: فإن أثر المغناطيس مشاهد إلا أن الناس قد أكثروا فيه وخلطوا الصدق بالذكب، والباطل بالحق ا ه كلام الرازي.
وقال ابن كثير رحمه الله بعد أن ذكر هذا النوع من السحر نقلا عن الرازي: قلت: يدخل في هذا القبيل كثير ممن يدعي الفقر، ويتحيل على جهلة الناس بهذه الخواص مدعيا أنها أحوال له: من مخالطة النيران: ومسك الحيات إلى غير ذلك من المحاولات انتهى كلام ابن كثير.
النوع السابع من أنواع السحر المذكور تعليق القلب، وهو أن يدعي الساحر أنه قد عرف الاسم الأعظم، وأن الجن يطيعون وينقادون له في أكثر الأحوال: فإذا اتفق أن كان السامع لذلك ضعيف العقل قليل التمييز اعتقد أنه حق: وتعلق قلبه بذلك: حصل في نفسه نوع من الرعب والمخافة: وإذا حصل الخوف ضعفت القوى الحساسة: فحينئذ يتمكن الساحر من أن يفعل ما يشاء. قال الرازي: وإن من جرب الأمور وعرف أحوال أهل العلم علم أن لتعلق القلب أثرا عظيما في تنفيذ الأعمال وإخفاء الأسرار. وقال ابن كثير بعد أن نقل هذا النوع من السحر عن الرازي: هذا النمط يقال له التنبلة، وإنما يروج على ضعفاء العقول من بني آدم. وفي علم الفراسة ما يرشد إلى معرفة كامل العقل من ناقصه. فإذا كان النبيل حاذقا في علم الفراسة عرف من ينقاد له من الناس من غيره.
النوع الثامن من أنواع السحر السعي بالنميمة والتضريب من وجوه لطيفة خفية وذلك شائع في الناس ا ه. والتضريب بين القوم: إغراء بعضهم على بعض. وقال ابن كثير رحمه الله بعد أن نقل هذا النوع الأخير عن الرازي قلت: النميمة على قسمين: تارة تكون على وجه التحريش بين الناس، وتفريق قلوب المؤمنين. فهذا حرام متفق عليه. فأما إن كانت على وجه الإصلاح بين الناس، وائتلاف كلمة المسلمين كما جاء في الحديث (ليس الكذاب من ينم خيرا) أو يكون على وجه التخذيل والتفريق بين جموع الكفرة، فهذا أمر مطلوب كما جاء في الحديث (الحرب خدعة)، وكما فعل نعيم بن مسعود في تفريقه بين كلمة الأحزاب وبين قريظة، جاء إلى هؤلاء ونمى إليهم عن هؤلاء، ونقل من هؤلاء إلى أولئك شيئا آخر، ثم لأم بين ذلك فتناكرت النفوس وافترقت. وإنما يحذو على مثل هذا الذكاء ذو البصيرة النافذة. والله المستعان.
46

ثم قال الرازي: فهذه جملة الكلام في أقسام السحر وشرح أنواعه وأصنافه.
قلت: وإنما أدخل كثيرا من هذه الأنواع المذكورة في فن السحر للطافة مداركها. لأن السحر في اللغة عبارة عما لطف وخفي سببه، ولهذا جاء في الحديث (إن من البيان لسحرا) وسمي السحور سحورا لكونه يقع خفيا آخر الليل. والسحر: الرئة وهي محل الغذاء، وسميت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن وغضونه، كما قال أبو جهل يوم بدر لعتبة: انتفخ سحره، أي انتفخت رئته من الخوف. وقالت عائشة رضي الله عنها: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري. وقال تعالى: * (سحروا أعين الناس) * أي أخفوا عنهم عملهم انتهى كلام ابن كثير رحمه الله تعالى.
هذا هو حاصل الأقسام الثمانية التي ذكر الفخر الرازي في تفسيره في سورة (البقرة) انقسام السحر إليها. ولأهل العلم فيه تقسيمات متعددة يرجع غالبها إلى هذه الأقسام المذكورة وقد قسمه الشيخ سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي الشنقيطي صاحب التآليف العديدة المفيدة في نظمه المسمى (رشد الغافل) وشرحه له، الذي بين فيه أنواع علوم الشر لتتقي وتجتنب إلى أقسام متعددة:
(منها) قسم يسمى (بالهيماء) بسكر الهاء بعدها مثناة تحتية فميم فياء بعدها ألف التأنيث الممدودة، على وزن كبرياء. قال: وهو ما تركب من خواص سماوية تضاف لأحوال الأفلاك، يحصل لمن عمل له شيء من ذلك أمور معلومة عند السحرة، وقد يبقى له إدراك، وقد يسلبه بالكلية فتصير أحواله كحالات النائم من غير فرق، حتى يتخيل مرور السنين الكثيرة في الزمن اليسير. وحدوث الأولاد وانقضاء الأعمار وغير ذلك في ساعة ونحوها من الزمن اليسير. ومن لم يعمل له ذلك لا تجد شيئا مما
ذكر. وهذا تخييل لا حقيقة له اه.
(ومنها) نوع يسمى (بالسيمياء) بكسر السين المهملة وبقية حروفه كحروف ما قبله. قال: وهو عبارة عما تركب من خواص أرضية كدهن خاص، أو مائعات خاصة يبقى معها إدراك، وقد يسلب بالكلية إلى آخر ما تقدم في الهيمياء.
(ومنها) نوع هو رقى ضارة. قال: كرقى الجاهلية وأهل الهند، وربما كانت كفرا. قال: ولهذا نهى مالك رحمه الله عن الرقى بالعجمية. وقال ابن زكري في شرح (النصيحة): ولا يقال لما يحدث ضررا رقى، بل ذلك يقال له سحر.
47

(ومنها) قسم يسمى خصائص بعض الحقائق التي لها تسلط على النفوس. كالمشط والمشاقة وجف طلع الذكر من النخل، وقصة جعل اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر في سحره مشهورة. وسيأتي إيضاح ذلك إن شاء الله تعالى.
ومن أمثله هذا النوع عند أهله: أن بعض أنواع الكلاب من شأنه إذا رمي بحجر أن يعضه، فإذا رمي بسبع حجارة وعض كل واحدة منها وطرحت تلك الحجارة في ماء فمن شرب منه فإن السحرة يزعمون أن تظهر فيه آثار مخصوصة معروفة عندهم. قبحهم الله تعالى.
(ومنها) نوع يسمى (بالطلاسم) وهو عبارة عن نقش أسماء خاصة لها تعلق بالأفلاك والكواكب على زعم أهلها في جسم من المعادن أو غيرها، تحدث بها خاصية ربطت في مجاري العادات، ولا بد مع ذلك من نفس صالحة لهذه الأعمال. فإن بعض النفوس لا تجري الخاصة المذكورة على يده.
(ومنها) نوع يسمى (بالعزائم) وهم يزعمون أن لكل نوع من الملائكة أسماء أمروا بتعظيمها، ومتى أقسم عليهم بها أطاعوا وأجابوا وفعلوا ما طلب منهم ا ه ولا يخفى ما في هذا الزعم من الفساد.
(ومنها) نوع يسمونه الاستخدام للكواكب والجن. وأهل الاستخدمات يزعمون أن للكواكب إدراكات روحانية. فإذا قوبلت الكواكب ببخور خاص ولباس خاص على الذي يباشر البخور، كانت روحانية فلك الكواكب مطيعة له، متى ما أراد شيئا فعلته له على زعمهم لعنهم الله تعالى. وهذا النوع من سحر الكلدانيين المتقدم. وكذلك ملوك الجان يزعمون أنهم إذا عملوا لهم أشياء خاصة بكل ملك من ملوكهم أطاعوا وفعلوا لهم ما أرادوا. قال: وشروط هذه الأمور مستوعبة في كتبهم. وذكر رحمه الله من علوم الشر أنواعا كثيرة: كالخط، والأشكال، والموالد، والقرعة، والفأل، وعلم الكتف، والموسيقى، والرعدي، والكهانة، وغير ذلك.
والخط الرملي معروف. والأشكال جمع شكل، ويسمى علمها علم الجداول وعلم الأوفاق، وهي معروفة وهي من الباطل.
والموالد جمع مولد، وهي أن يدعي من معرفة النجم الذي كان طالعا عند ولادة الشخص أنه يكون سلطانا أو عالما، أو غنيا أو فقيرا، أو طويل العمر أو قصيره، ونحو ذلك.
48

والقرعة ما يسمونه قرعة الأنبياء، وحاصلها جدول مرسوم في بيوته أسماء الأنبياء وأسماء الطيور. وبعد الجدول تراجم لكل اسم ترجمة خاصة به، ويذكر فيها أمور من المنافع والمضار، يقال للشخص غمض عينيك وضع أصبعك في الجدول. فإذا وضعها على اسم قرئت له ترجمته ليعتقد أنه يكون له ذلك المذكور منها. قال: وقد عدها العلماء من باب الاستفهام بالأزلام.
ومراده بالفأل: الفأل المكتسب. كأن يريد إنسان التزوج أو السفر مثلا، فيخرج ليسمع ما يفهم منه الإقدام أو الإحجام، ويدخل فيه النظر في المصحف لذلك: ولا يخفى أن ذلك من نوع الاستقسام بالأزلام. أما ما يعرض من غير اكتساب كأن يسمع قائلا يقول: ما مفلح، فليس من هذا القبيل كما جاءت به الأحاديث الصحيحة.
وعلم الكتف: علم يزعم أهل الشر والضلال أن من علمه يكون إذا نظر في أكتاف الغنم اطلع على أمور من الغيب، وربما زعم المشتغل به أن السلطان يموت في تاريخ كذا، وأنه يطرأ رخص أو غلاء أو موت الأعيان كالعلماء والصالحين، وقد يذكر شأن الكنوز أو الدقائن، ونحو ذلك. والموسيقى معروفه، وكلها من الباطل كما لا يخفى على من له إلمام بالشرع الكريم.
والرعديات: علم يزعم أهله أن الرعد إذا كان في وقت كذا من السنة والشهر فهو علامة على أمور غيبية من جدب وخصب، وكثرة الرواج في الأسواق وقلته، وكثرة الموت وهلاك الماشيه، وانقراض المالك ونحو ذلك. والفرق بين العرافة وللكهانة مع أنهما يشتركان في دعوى الاطلاع على الغيب: أن العرافة مختصة بالأمور الماضية، والكهانة مختصة بالأمور المستقبلة ا ه منه.
وعلوم الشر كثيرة، وقصدنا بذكر ما ذكرنا منها التنبيه على خستها وقبحها شرعا، وأن منها ما هو كفر بواح، ومنها ما يؤدي إلى الكفر، وأقل درجاتها التحريم الشديد. وقد دل بعض الأحاديث والآثار على أن العيافة والطرق والطيرة من السحر. وقد قدمنا معنى ذلك في (الأنعام) وعنه صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنه: (من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد) رواه أبو داود بإسناد صحيح. وللنسائي من حديث أبي هريرة (من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئا وكل إليه)
49

.
المسألة الرابعة
اختلف العلماء في السحر هل هو حقيقة أو هو تخييل لا حقيقة له. والتحقيق أن منه ما هو حقيقة كما قدمنا، ومنه ما هو تخييل كما تقدم إيضاحه. وهو مفهوم من أقسام السحر المتقدمة في كلام الرازي وغيره.
المسألة الخامسة
اختلف العلماء فيمن يتعلم السحر ويستعمله فقال بعضهم: إنه يكفر بذلك، وهو قول جمهور العلماء منهم مالك وأبو حنيفة وأصحاب أحمد وغيرهم. وعن أحمد ما يقتضى عدم كفره. وعن الشافعي أنه إذا تعلم السحر قيل له صف لنا سحرك. فإن وصف ما يستوجب الكفر مثل سحر أهل بابل من التقرب للكواكب، وأنها تفعل ما يطلب منها فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر، وإلا فلا. وأقوال أهل العلم في ذلك كثيرة معروفة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: التحقيق في هذه المسألة هو التفصيل. فإن كان السحر مما يعظم فيه غير الله كالكواكب والجن وغير ذلك مما يؤدي إلى الكفر فهو كفر بلا نزاع، ومن هذا النوع سحر هاروت وماروت المذكور في سورة (البقرة) فإنه كفر بلا نزاع. كما دل عليه قوله تعالى: * (وما كفر سليمان ولاكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) *، وقوله تعالى: * (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) *، وقوله: * (ولقد علموا لمن اشتراه ما له فى الا خرة من خلاق) *، وقوله تعالى: * (ولا يفلح الساحر حيث أتى) * كما تقدم إيضاحه. وإن كان السحر لا يقتضي الكفر كالاستعانة بخواص بعض الأشياء من دهانات وغيرها فهو حرام حرمة شديدة ولكنه لا يبلغ بصاحبه الكفر. هذا هو التحقيق إن شاء الله تعالى في هذه المسألة التي اختلف فيها العلماء.
المسألة السادسة
اعلم أن العلماء اختلفوا في الساحر هل يقتل بمجرد فعله للسحر واستعماله له أولا؟ قال ابن كثير في تفسيره: قال ابن هبيرة: وهل يقتل بمجرد فعله واستعماله له؟ فقال مالك وأحمد: نعم. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا. فأما إن قتل بسحره إنسانا فإنه
50

يقتل عند مالك والشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة: لا يقتل حتى يتكرر منه ذلك. أو يقر بذلك في حق شخص معين. وإذا قتل فإنه يقتل حدا عندهم إلا الشافعي فإنه قال: يقتل والحالة هذه قصاصا.
وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته؟ فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنهم: لا تقبل. وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى: تقبل التوبة.
وأما ساحر أهل الكتاب فعند أبي حنيفة أنه يقتل كما يقتل الساحر المسلم. وقال مالك والشافعي وأحمد: لا يقتل. يعني لقصة لبيد بن الأعصم.
واختلفوا في المسلمة الساحرة. فعند أبي حنيفة أنها لا تقتل، ولكن تحبس. وقال الثلاثة: حكمها حكم الرجل. وقال أبو بكر الخلال: أخبرنا أبو بكر المروزي قال: قرأ على أبي عبد الله يعني أحمد بن حنبل عمر بن هارون أخبرنا يونس عن الزهري قال: يقتل ساحر المسلمين ولا يقتل ساحر المشركين. لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحرته امرأة من اليهود فلم يقتلها. وقد نقل القرطبي عن مالك رحمه الله أنه قال في الذمي: يقتل إن قتل بسحره. وحكى ابن خويز منداد عن مالك روايتين في الذمي إذا سحر: إحداهما أنه يستتاب فإن أسلم وإلا قتل: والثانية أنه يقتل وإن أسلم.
وأما الساحر المسلم فإن تضمن سحره كفرا كفر عند الأئمة الأربعة وغيرهم، لقوله تعالى: * (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) * لكن قال مالك: إذا ظهر عليه لم تقبل توبته. لأنه كالزنديق فإن تاب قبل أن يظهر عليه وجاء تائبا قبلناه. فإن قتل سحره قتل. قال الشافعي فإن قال لم أتعمد القتل فهو مخطىء تجب عليه الدية انتهى كلام ابن كثير رحمه الله تعالى.
وقال النووي في شرح مسلم: وأما تعلمه وتعليمه فحرام، فإن تضمن ما يقتضي الكفر كفر وإلا فلا. وإذا لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر واستتيب منه ولا يقتل عندنا، فإن تاب قبلت توبته. وقال مالك: الساحر كافر يقتل بالسحر ولا يستتاب، ولا تقبل توبته بل يتحتم قتله: والمسألة مبنية على الخلاف في قبول توبة الزنديق، لأن الساحر عنده كافر كما ذكرنا، وعندنا ليس بكافر، وعندنا تقبل توبة المنافق والزنديق. وقال القاضي عياض: وبقول مالك قال أحمد بن حنبل، وهو مروي عن جماعة من الصحابة والتابعين. قال أصحابنا: فإذا قتل الساحر بسحره إنسانا واعترف أنه مات بسحره وأنه يقتل غالبا لزمه القصاص. وإن قال مات به ولكنه قد يقتل وقد لا يقتل فلا قصاص، وتجب الدية في ماله
51

لا على عاقلته. لأن العاقلة لا تحمل ما ثبت باعتراف الجاني. وقال أصحابنا: ولا يتصور القتل بالسحر بالبينة، وإنما يتصور باعتراف الساحر، والله أعلم. انتهى كلام النووي.
وقال ابن حجر في فتح الباري في الكلام على قول البخاري رحمه الله: (باب السحر) وقول الله تعالى: * (ولاكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) *: وقد استدل بهذه الآية على أن السحر كفر ومتعلمه كافر، وهو واضح في بعض أنواعه التي قدمتها، وهو التعبد للشياطين أو الكواكب. وأما النوع الآخر الذي هو من باب الشعوذة فلا يكفر من تعلمه أصلا.
قال النووي. عمل السحر حرام، وهو من الكبائر بالإجماع، وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات، ومنه ما يكون كفرا. ومنه ما لا يكون كفرا، بل معصية كبيرة. فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر وإلا فلا. وأما تعلمه وتعليمه فحرام إلى آخر كلام النووي الذي ذكرناه عنه آنفا. ثم إن ابن حجة لما نقله عنه قال: وفي المسألة اختلاف كبير وتفاصيل ليس هذا موضع بسطها ا ه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: التحقيق في هذه المسألة إن شاء الله تعالى أن السحر نوعان كما تقدم؟ منه ما هو كفر، ومنه ما لا يبلغ بصاحبه الكفر، فإن كان الساحر استعمل السحر الذي هو كفر فلا شك في أنه يقتل كفرا؟ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه). وأظهر القولين عندي في استتابته أنه يستتاب، فإن تاب قبلت توبته. وقد بينت في كتابي (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في سورة (آل عمران) أن أظهر القولين دليلا أن الزنديق تقبل توبته؟ لأن الله لم يأمر نبيه
ولا أمته صلى الله عليه وسلم بالتنقيب عن قلوب الناس؟ بل بالاكتفاء بالظاهر. وما يخفونه في سرائرهم أمره إلى الله تعالى. خلافا للإمام مالك رحمه الله وأصحابه القائلين بأن الساحر له حكم الزنديق. لأنه مستمر بالكفر والزنديق لا تقبل توبته عنده إلا إذا جاء تائبا قبل الاطلاع عليه. وأظهر القولين عندي: أن المرأة الساحرة حكمها حكم الرجل الساحر وأنها إن كفرت بسحرها قتلت كما يقتل الرجل. لأن لفظة (من) في قوله: (من بدل دينه فاقتلوه) تشمل الأنثى على أظهر القولين وأصحهما إن شاء الله تعالى. ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: * (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى) *. فأدخل الأنثى في لفظة (من)، وقوله تعالى: * (يانسآء النبى من يأت منكن) *، وقوله: * (ومن يقنت منكن لله) *، إلى غير ذلك من الآيات. وإلى هذه المسألة التي هي شمول لفظة (من) في الكتاب والسنة
52

للأنثى أشار في مراقي السعود بقوله: ومن يقنت منكن لله) *، إلى غير ذلك من الآيات. وإلى هذه المسألة التي هي شمول لفظة (من) في الكتاب والسنة للأنثى أشار في مراقي السعود بقوله:
* وما شمول من للأنثى جنف
* وفي شبيه المسلمين اختلفوا
*
وأما إن كان الساحر عمل السحر الذي لا يبلغ بصاحبه الكفر، فهذا هو محل الخلاف بين العلماء. فالذين قالوا يقتل ولو لم يكفر بسحره قال أكثرهم: يقتل حدا ولو قتل إنسانا بسحره، وانفرد الشافعي في هذه الصورة بأنه يقتل قصاصا لا حدا.
وهذه حجج الفريقين ومناقشتها:
أما الذين قالوا مطلقا إذا عمل بسحره ولو لم يقتل به أحدا فاستولوا بآثار عن الصحابة رضي الله عنهم، وبحديث جاء بذلك إلا أنه لم يصح. فمن الآثار الدالة على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه في كتاب (الجهاد في باب الجزية): حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان قال: سمعت عمرا قال: كنت جالسا مع جابر بن زيد وعمرو بن أوس فحدثهما بجالة سنة سبعين عام حج مصعب بن الزبير بأهل البصرة عند درج زمزم قال: كنت كاتبا لجزء بن معاوية عم الأحنف، فأتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة: اقتلوا كل ساحر، وفرقوا بين كل ذي محرم من المجوس قال: فقتلنا في يوم واحد ثلاث سواحر وفرقنا بين المحارم منهم. ورواه أيضا أحمد وأبو داود. واعلم أن لفظة (اقتلو كل ساحر) الخ في هذا الأثر ساقطة في بعض روايات البخاري، ثابتة في بعضها، وهي ثابتة في رواية مسدد وأبي يعلى. قاله في الفتح. ومن الآثار الدالة على ذلك أيضا ما رواه مالك في الموطأ عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة أنه بلغه أن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قتلت جارية لها سحرتها، وقد كانت دبرتها فأمرت بها فقتلت. قال مالك: الساحر الذي يعمل السحر ولم يعمل ذلك له غيره هو مثل الذي قال الله تبارك وتعالى في كتابه: * (ولقد علموا لمن اشتراه ما له فى الا خرة من خلاق) * فأرى أن يقتل ذلك إذا عمل ذلك من نفسه انتهى من الموطأ. ونحوه أخرجه عبد الرزاق. ومن الآثار الدالة على ذلك ما رواه البخاري في تاريخه الكبير: حدثنا إسحاق. حدثنا خالد الواسطي، عن خالد الحذاء، عن أبي عثمان: كان عند الوليد رجل يلعب فذبح إنسانا وأبان رأسه، فجاء جندب الأزدي فقتله. حدثني عمرو بن محمد، حدثنا هشيم عن خالد عن أبي عثمان عن جندب البجلي: أنه قتله. حدثنا موسى قال حدثنا عبد الواحد عن عاصم عن أبي عثمان: قتله جندب بن كعب. وفي (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد) للعلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعالى بعد أن أشار لكلام البخاري في
53

التاريخ الذي ذكرنا، ورواه البيهقي في الدلائل مطولا، وفيه: فأمر به الوليد فسجن. فذكر القصة بتمامها ولها طرق كثيرة انتهى منه.
فهذه آثار عن ثلاثة من الصحابة في قتل الساحر: وهم عمر وابنته أم المؤمنين حفصة رضي الله عنهم جميعا، وجندب ولم يعلم لهم مخالف من الصحابة رضي الله عنهم. ويعتضد ذلك بما رواه للترمذي والدارقطني عن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حد الساحر ضربه بالسيف). وضعف الترمذي إسناد هذا الحديث وقال: الصحيح عن جندب موقوف، وتضعيفه بأن في إسناده إسماعيل بن مسلم المكي وهو يضعف في الحديث. وقال في (فتح المجيد) أيضا في الكلام على حديث جندب المذكور: روى ابن السكن من حديث بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يضرب ضربة واحدة فيكون أمة وحده) ا ه منه.
وقال ابن كثير في تفسيره بعد أن ذكر تضعيفه بإسماعيل المذكور: قلت قد رواه الطبراني من وجه آخر، عن الحسن عن جندب مرفوعا ا ه. وهذا يقويه كما ترى.
فهذه الآثار التي لم يعلم أن أحدا من الصحابة أنكرها على من عمل بها مع اعتضادها بالحديث المرفوع المذكور هي حجة من قال بقتله مطلقا. والآثار المذكورة والحديث فيهما الدلالة على أنه يقتل ولو لم يبلغ به سحره الكفر. لأن الساحر الذي قتله جندب رضي الله عنه كان سحره من نحو الشعوذة والأخذ بالعيون، حتى إنه يخيل إليهم أنه أبان رأس الرجل، والواقع بخلاف ذلك. وقول عمر (اقتلوا كل ساحر) يدل على ذلك لصيغة العموم. وممن قال بمقتضى هذه الآثار وهذا الحديث: مالك، وأبو حنيفة، وأحمد في أصح الروايتين، وعمر، وعثمان، وابن عمر، وحفصة، وجندب بن عبد الله، وجندب بن كعب، وقيس بن سعد، وعمر بن عبد العزيز. وغيرهم، كما نقله عنهم ابن قدامة في (المغني) خلافا للشافعي، وابن المنذر ومن وافقهما.
واحتج من قال: بأنه إن كان سحره لم يبلغ به الكفر لا يقتل بحديث ابن مسعود المتفق عليه (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث...) الحديث، وقد قدمناه مرارا. وليس السحر الذي لم يكفر صاحبه من الثلاث المذكورة. قال القرطبي منتصرا لهذا القول: وهذا صحيح، ودماء المسلمين محظورة لا تستباح إلا بيقين، ولا يقين مع الاختلاف، والله أعلم.
واحتجوا أيضا بأن عائشة رضي الله عنها باعت مدبرة لها سحرتها، ولو وجب قتلها
54

لما حل بيعها. قاله ابن المنذر وغيره. وما حاوله بعضهم من الجمع بين الأدلة المذكورة بحمل السحر على الذي يقتضي الكفر في قول من قال بالقتل، وحمله على الذي لا يقتضي الكفر في قول من قال بعدم القتل لا يصح. لأن الآثار الواردة في قتله جاءت بقتل الساحر الذي سحره من نوع الشعوذة كساحر جندب الذي قتله، وليس ذلك مما يقتضي الكفر المخرج من ملة الإسلام، كما تقدم إيضاحه. فالجمع غير ممكن. وعليه فيجب الترجيح، فبعضهم يرجح عدم القتل بأن دماء المسلمين حرام إلا بيقين. وبعضهم يرجح القتل بأن أدلته خاصة ولا يتعارض عام وخاص. لأن الخاص يقضي على العام عند أكثر أهل الأصول كما هو مقرر في محله. قال مقيده عفا الله عنه: والأظهر عندي أن الساحر الذي لم يبلغ به سحره الكفر ولم يقتل به إنسانا أنه لا يقتل. لدلالة النصوص القطعية، والإجماع على عصمة دماء المسلمين عامة إلا بدليل واضح. وقتل الساحر الذي لم يكفر بسحره لم يثبت فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتجرؤ على دم مسلم من غير دليل صحيح من كتاب أو سنة مرفوعة غير ظاهر عندي. والعلم عند الله تعالى، مع أن القول بقتله مطلقا قوي جدا لفعل الصحابة له من غير نكير.
المسألة السابعة
اعلم أن الناس اختلفوا في تعلم السحر من غير عمل به. هل يجوز أو لا؟ والتحقيق وهو الذي عليه الجمهور: هو أنه لا يجوز، ومن أصرح الأدلة في ذلك تصريحه تعالى بأنه يضر ولا ينفع في قوله: * (ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم) * وإذا أثبت الله أن السحر ضار ونفى أنه نافع فكيف يجوز تعلم ما هو ضرر محض لا نفع فيها؟
وجزم الفخر الرازي في تفسيره في سورة (البقرة) بأنه جائز بل واجب قال ما نصه:
(المسألة الخامسة) في أن العلم بالسحر غير قبيح ولا محظور، اتفق المحققون على ذلك لأن العلم لذاته شريف، وأيضا لعموم قوله تعالى: * (هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون) *، ولأن السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة، والعلم بكون المعجز معجزا واجب، وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب، فهذا
55

يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجبا، وما يكون واجبا كيف يكون حراما وقبيحا. انتهى منه بلفظه. ولا يخفى سقوط هذا الكلام وعدم صحته. وقد تعقبه ابن كثير رحمه الله في تفسيره بعد أن نقله عنه بلفظه الذي ذكرنا بما نصه: وهذا الكلام فيه نظر من وجوه: أحدها قوله: (العلم بالسحر ليس بقبيح) إن عنى به ليس بقبيح عقلا فمخالفوه من المعتزلة يمعنون هذا، وإن عنى أنه ليس بقبيح شرعا ففي هذه الآية الكريمة يعني قوله تعالى * (ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم) * تبشيع لعلم السحر. وفي السنن (من أتى عرافا أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد)، وفي السنن (من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر) وقوله (ولا محظور، اتفق المحققون على ذلك) كيف لا يكون محظورا مع ما ذكرنا من الآية والحديث، واتفاق المحققين يقتضي أن يكون قد نص على هذه المسألة أئمة العلماء أو أكثرهم. وأين نصوصهم على ذلكا!
ثم إدخاله علم السحر في عموم قوله تعالى: * (قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون) * فيه نظر. لأن هذه الآية إنما دلت على مدح العالمين العلم الشرعي، ولم قلت إن هذا منها! ثم ترقيه إلى وجوب تعلمه بأنه لا يحصل العلم بالمعجز إلا به ضعيف بل فاسد. لأن أعظم معجزات رسولنا عليه الصلاة والسلام هي القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
ثم إن العلم بأنه معجز لا يتوقف على علم السحر أصلا. ثم من المعلوم بالضرورة أن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وعامتهم كانوا يعلمون المعجز، ويفرقون بينه وبين غيره، ولم يكونوا يعلمون السحر ولا تعلموه ولا علموه، والله أعلم. انتهى.
ولا يخفى أن كلام ابن كثير هذا صواب، وأن رده على الرازي واقع موقعه، وأن تعلم السحر لا ينبغي أن يختلف في منعه. لقوله جل وعلا: * (ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم) *. وقول ابن كثير في كلامه المذكور: وفي الصحيح (من أتى عرافا أو كاهنا.. الخ) إن كان يعني أن الحديث بذلك صحيح فلا مانع، وإن كان يعني أنه في الصحيحين أو أحدهما فليس كذلك. وبذلك كله تعلم أن قول ابن حجر في (فتح الباري). وقد أجاز بعض العلماء تعلم السحر لأمرين: إما لتمييز ما فيه كفر من غيره. وإما لإزالته عمن وقع فيه.
فأما الأول: فلا محذور فيه إلا من جهة الاعتقاد، فإذا سلم الاعتقاد فمعرفة الشيء
56

بمجرده لا تستلزم منعا. كمن يعرف كيفية عبادة أهل الأوثان للأوثان. لأن كيفية ما يعلمه الساحر إنما هي حكاية قول أو فعل، بخلاف تعاطيه والعمل به.
وأما الثاني فإن كان لا يتم كما زعم بعضهم إلا بنوع من أنواع الكفر أو الفسق فلا يحل أصلا، وإلا جاز للمعنى المذكور ا ه خلاف التحقيق، إذ ليس لأحد أن يبيح ما صرح الله بأنه يضر ولا ينفع، مع أن تعلمه قد يكون ذريعة العمل به، والذريعة إلى الحرام يجب سدها كما قدمناه. قال في المراقي: وأما الثاني فإن كان لا يتم كما زعم بعضهم إلا بنوع من أنواع الكفر أو الفسق فلا يحل أصلا، وإلا جاز للمعنى المذكور ا ه خلاف التحقيق، إذ ليس لأحد أن يبيح ما صرح الله بأنه يضر ولا ينفع، مع أن تعلمه قد يكون ذريعة العمل به، والذريعة إلى الحرام يجب سدها كما قدمناه. قال في المراقي:
* سد الذرائع إلى المحرم
* حتم كفتحها إلى المنحتم
*
هذا هو الظاهر لنا. والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثامنة
اعلم أن العلماء اختلفوا في حل السحر عن المسحور. فأجازه بعضهم، ومنعه بعضهم. وممن أجازه سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى. قال البخاري في صحيحه (باب هل يستخرج السحر): وقال قتادة: قلت لسعيد بن المسيب: رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته، أيحل عنه، أو ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح. فأما ما ينفع فلم ينه عنه ا ه. ومال إلى هذا المزني. وقال الشافعي: لا بأس بالنشرة. قاله القرطبي. وقال أيضا: قال ابن بطال: وفي كتاب وهب بن منبه: أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين، ثم يضربه بالماء ويقرأ عليه آية الكرسي ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل. فإنه يذهب عنه كل ما به إن شاء الله تعالى، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله انتهى منه.
وممن أجاز النشرة وهي حل السحر عن المسحور: أبو جعفر الطبري، وعامر الشعبي وغيرهما. وممن كره ذلك: الحسن. وفي الصحيح عن عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم لما سحره لبيد بن الأعصم: هلا تنشرت؟ فقالت: (أما الله فقد شفاني وكرهت أن أثير على الناس شرا).
قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق الذي لا ينبغي العدول عنه في هذه المسألة: أن استخراج السحر إن كان بالقرآن كالمعوذتين، وآية الكرسي ونحو ذلك مما تجوز الرقيا به فلا مانع من ذلك. وإن كان بسحر أو بألفاظ عجمية، أو بما لا يفهم معناه، أو بنوع آخر مما لا يجوز فإنه ممنوع. وهذا واضح وهو الصواب إن شاء الله تعالى كما ترى.
57

وقال ابن حجر في فتح الباري ما نصه: (تكميل) قال ابن القيم رحمه الله: من أنفع الأدوية، وأقوى ما يوجد من النشرة مقاومة السحر الذي هو من تأثيرات الأرواح الخبيثة بالأدوية الإلهية: من الذكر، والدعاء، والقراءة. فالقلب إذا كان ممتلئا من الله، معمورا بذكره، وله ورد من الذكر والدعاء والتوجه، لا يخل به كان ذلك من أعظم الأسباب المانعة من إصابة السحر له. قال: وسلطان تأثير السحر هو في القلوب الضعيفة. ولهذا غالب ما يؤثر فيه النساء والصبيان والجهال. لأن الأرواح الخبيثة إنما تنشط على الأرواح، تلقاها مستعدة لما يناسبها انتهى ملخصا. ويعكر عليه حديث الباب، وجواز السحر على النبي صلى الله عليه وسلم، مع عظيم مقامه، وصدق توجهه، وملازمة ورده ولكن يمكن الانفصال عن ذلك بأن الذي ذكره محمول على الغالب، وإنما وقع به صلى الله عليه وسلم لبيان تجويز ذلك، والله أعلم انتهى من فتح الباري.
المسألة التاسعة
اعلم أن العلماء اختلفوا في تحقيق القدر الذي يمكن أن يبلغه تأثير السحر في المسحور، واعلم أن لهذه المسألة واسطة وطرفين: طرف لا خلاف في أن تأثير السحر يبلغه كالتفريق بين الرجل وامرأته، وكالمرض الذي يصيب المسحور من السحر ونحو ذلك، ودليل ذلك القرآن والسنة الصحيحة. أما القرآن فقوله تعالى: * (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) * فصرح جل وعلا في هذه الآية الكريمة بأن من تأثير السحر التفريق بين المرء وزوجه. وأما السنة فما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها بألفاظ متعددة متقاربة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن. فقال: (يا عائشة أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند دجلي، فقال الذي عند رأسي للآخر: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب، قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم رجل من بني زريق حليف اليهودي كان منافقا، قال: وفيم؟ قال: في مشط ومشاطة؟ قال: وأين؟ قال: في جف طلعة ذكر تحت راعوفة في بئر ذروان) قالت: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم البئر حتى استخرجه، فقال: (هذه البئر التي أربتها، وكأن ماءها نقاعة الحناء، وكان نخلها رؤوس الشياطين، فاستخرج) قالت فقلت: أفلا أي تنشرت؟ فقال: (أما الله فقد شفاني وأكره أن أثير على أحد من الناس شرا) ا ه هذا لفظ البخاري في بعض رواياته لهذا الحديث. والقصة مشهورة صحيحة. ففي هذا الحديث الصحيح: أن تأثير السحر فيه صلى الله عليه وسلم سبب له
58

المرض. بدليل قوله (أما الله فقد شفاني) وفي بعض الروايات الثابتة في صحيح البخاري وغيره بلفظ: فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال مطبوب. أي مسحور. وهو تصريح بأن السحر سبب له وجعا. ونفي بعض الناس لهذه القصة مستدلا بأنها لا تجوز في حقه صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى عن الكفار منكرا عليهم. * (إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) * ساقط. لأن الروايات الصحيحة الثابتة لا يمكن ردها بمثل هذه الدعاوى. وسترى في آخر بحث هذه المسألة إن شاء الله تعالى إيضاح وجه ذلك. وطرف لا خلاف في أن تأثير السحر لا يمكن أن يبلغه. كإحياء الموتى، وفلق البحر ونحو ذلك.
قال القرطبي في تفسيره: أجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عنده إنزال الجراد والقمل والضفادع، وفلق البحر، وقلب العصا، وإحياء الموتى، وإنطاق العجماء، وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم الصلاة والسلام. فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون لا يفعله الله عند إرادة الساحر. قال القاضي أبو بكر بن الطيب: وإنما منعنا ذلك بالإجماع ولولاه لأجزناه انتهى كلام القرطبي.
وأما الواسطة فهي محل خلاف بين العلماء، وهي هل يجوز أن ينقلب بالسحر الإنسان حمارا مثلا، والحمار إنسانا؟ وهل يصح أن يطير الساحر في الهواء، وأن يستدق حتى يدخل من كوة ضيقة. وينتصب على رأس قصبة، ويجري على خيط مستدق، ويمشي على الماء، ويركب الكلب ونحو ذلك. فبعض الناس يجيز هذا. وجزم بجوازه الفخر الرازي في تفسيره، وكذلك صاحب رشد الغافل وغيرهما. وبعضهم يمنع مثل هذا.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أما بالنسبة إلى أن الله قادر على أن يفعل جميع ذلك، وأنه يسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب وإن لم تكن هناك مناسبة
عقلية بين السبب والمسبب كما قدمناه مستوفى في سورة (مريم) فلا مانع من ذلك، والله جل وعلا يقول * (وما هم بضآرين به من أحد إلا بإذن) *. وأما بالنسبة إلى ثبوت وقوع مثل ذلك بالفعل فلم يقم عليه دليل مقنع. لأن غالب ما يستدل عليه به قائله حكايات لم تثبت عن عدول، ويجوز أن يكون ما وقع منها من جنس الشعوذة والأخذ بالعيون، لا قلب الحقيقة مثلا إلى حقيقة أخرى. وهذا هو الأظهر عندي، والله تعالى أعلم.
59

تنبيه
اعلم أن ما وقع من تأثير السحر في رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستلزم نقصا ولا محالا شرعيا حتى ترد بذلك الروايات الصحيحة. لأنه من نوع الأعراض البشرية، كالأمراض المؤثرة في الأجسام، ولم يؤثر البتة فيما يتعلق بالتبليغ. واستدلال من منع ذلك زاعما أنه محال في حقه صلى الله عليه وسلم بآية * (إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) * مردود كما سنوضحه إن شاء الله في آخر هذا البحث.
قال ابن حجر في الفتح: قال المازري: أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث، وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها. قالوا: وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل. وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع، إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ثم، وأنه يوحى إليه بشيء ولم يوح إليه شيء. قال المازري: هذا كله مردود. لأن الدليل قد قام على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن الله تعالى، وعلى عصمته في التبليغ. والمعجزات شاهدات بتصديقه. فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل. وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها، ولا كانت الرسالة من أجلها، فهو في ذلك عرضة لما يعتري البشر كالأمراض. فغير بعيد أن يخيل الله في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين. قال: وقد قال بعض الناس: إن المراد بالحديث: أنه كان صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه وطئ زوجاته ولم يكن وطئهن وهذا كثيرا ما يقع تخيله للإنسان في المنام. فلا يبعد أن يخيل إليه في اليقظة.
قلت: وهذا قد ورد صريحا في رواية ابن عيينة في الباب الذي يلي هذا، ولفظه: (حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن) وفي رواية الحميدي (أنه يأتي أهله ولا يأتيهم) قال الداودي: (يرى) بضم أوله أي يظن. وقال ابن التين: ضبطت (يرى) بفتح أوله. قلت: وهو من الرأي لا من الرؤية فيرجع إلى معنى الظن. وفي مرسل يحيى بن يعمر عند عبد الرزاق: سحر النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة، حتى أنكر بصره. وعنده في مرسل سعيد بن المسيب: حتى كاد ينكر بصره. قال عياض فظهر بهذا أن السحر إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه، لا على تمييزه ومعتقده. قلت: ووقع في مرسل عبد الرحمن بن كعب عند ابن سعد: فقالت أخت لبيد بن الأعصم: إن يكن نبينا فسيخبر، وإلا فسيذهله هذا السحر حتى يذهب عقله: قلت: فوقع الشق الأول كما في هذا الحديث الصحيح. وقد
60

قال بعض العلماء: لا يلزم من أنه كان يظن أنه فعل الشيء ولم يكن فعله أن يجزم بفعله ذلك، وإنما يكون ذلك من جنس الخاطر يخطر ولا يثبت. فلا يبقى على هذا للملحد حجة.
وقال عياض: يحتمل أن يكون المراد بالتخيل المذكور أنه يظهر له من نشاطه ما ألفه من سابق عادته م الاقتدار على الوطء، فإذا دنا من المرأة فتر من ذلك كما هو شأن المعقود: ويكون قوله في الرواية الأخرى (حتى كاد ينكر بصره) أي صار كالذي أنكر بصره بحيث إنه إذا رأى الشيء يخيل إليه أنه على غير صفته. فإذا تأمله عرف حقيقته. ويؤيد جميع ما تقدم أنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم في خبر من الأخبار أنه قال قولا فكان بخلاف ما أخبر به. وقال المهلب: صون النبي صلى الله عليه وسلم من الشياطين لا يمنع إرادتهم كيده، فقد مضى في الصحيح: أن شيطانا أراد أن يفسد عليه صلاته، فأمكنه الله منه. فكذلك السحر ما ناله من ضرره ما يدخل نقصا على ما يتعلق بالتبليغ، بل هو من جنس ما كان يناله من ضرر سائر الأمراض: من ضعف عن الكلام، أو عجز عن بعض الفعل، أو حدوث تخيل لا يستمر بل يزول. ويبطل الله كيد الشياطين.
واستدل ابن القصار على أن الذي أصابه كان من جنس المرض بقوله في آخر الحديث: (أما أنا فقد شفاني الله) وفي الاستدلال به نظر. لكن يؤيد المدعي أن في رواية عمرة عن عائشة عند البيهقي في الدلائل: فكان يدور ولا يدري ما وجعه. وفي حديث ابن عباس عند ابن سعد: مرض النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ عن النساء والطعام والشراب. فهبط عليه ملكان. الحديث انتهى من (فتح الباري).
وعلى كل حال فهو صلى الله عليه وسلم معصوم بالإجماع من كل ما يؤثر خللا في التبليغ والتشريع. وأما بالنسبة إلى الأعراض البشرية: كأنواع الأمراض والآلام، ونحو ذلك فالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يعتريهم من ذلك ما يعتري البشر. لأنهم بشر كما قال تعالى عنهم: * (إن نحن إلا بشر مثلكم ولاكن الله يمن على من يشآء من عباده) * ونحو ذلك من الآيات.
وأما قوله تعالى: * (إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) * فمعناه أنهم يزعمون أنه صلى الله عليه وسلم مسحور أو مطبوب، قد خبله السحر فاختلط عقله فالتبس عليه أمره. يقولون ذلك لينفروا الناس عنه. وقال مجاهد: (مسحورا) أي مخدوعا. مثل قوله * (فأنى تسحرون) * أي من أين تخدعون. ومعنى هذا راجع إلى
61

ما قبله. لأن المخدوع مغلوب في عقله. وقال أبو عبيدة * (مسحورا) * معناه أن له سحرا أي رئة فهو لا يستغني عن الطعام والشراب، فهو مثلكم وليس بملك. كقولهم * (ما لهاذا الرسول يأكل الطعام ويمشى فى الا سواق) *، وقوله عن الكفار * (ما هاذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون) * ونحو ذلك من الآيات. ويقال لكل من أكل أو شرب من آدمي أو غيره: مسحور ومسحر. ومنه قول لبيد: ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون) * ونحو ذلك من الآيات. ويقال لكل من أكل أو شرب من آدمي أو غيره: مسحور ومسحر. ومنه قول لبيد:
* فإن تسألينا فيم نحن فإننا
* عصافير من هذا الأنام المسحر
*
وقال امرؤ القيس: وقال امرؤ القيس:
* أرانا موضعين لأمر غيب
* ونسحر بالطعام وبالشراب
*
أي نغذي ونعلل.
وإذا علمت أن أقوال العلماء في قوله (مسحورا) راجعة إلى دعواهم اختلال عقله بالسحر أو الخديعة، أو كونه بشرا علمت أنه لا دليل في الآية على منع بعض التأثيرات العرضية التي لا تعلق لها بالتبليغ والتشريع كما ترى، والعلم عند الله تعالى.
وقد أشرنا فيما تقدم لحكم ساحر أهل الذمة، واختلاف العلماء في قتله، واستدلال من قال بأنه لا يقتل بعدم قتله صلى الله عليه وسلم لبيد بن الأعصم الذي سحره. والقول بأنه قتله ضعيف، ولم يثبت أنه قتله. وأظهر الأقوال عندنا أنه لا يكون أشد حزمة من ساحر المسلمين، بل يقتل كما يقتل ساحر المسلمين. وأما عدم قتله صلى الله عليه وسلم لابن الأعصم فقد بينت الروايات الصحيحة أنه ترك قتله اتقاء إثارة فتنة، فدل على أنه لولا ذلك لقتله. وقد ترك المنافقن لئلا يقول الناس محمد يقتل أصحابه. فيكون في ذلك تنفير عن دين الإسلام مع اتفاق العلماء على قتل الزنديق وهو عبارة عن المنافق والله تعالى أعلم. قوله تعالى: * (فألقى السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن سحرة فرعون لما عاينوا عصا موسى تبتلع جميع حبالهم وعصيهم خروا سجدا لله تعالى قائلين: آمنا بالله الذي هو رب هارون وموسى. فهداهم الله بذلك البرهان الإلهي، هذه الهداية العظيمة. وقد أوضح تعالى هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله في (الأعراف): * (وأوحينآ إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هى تلقف ما يأفكون وألقى السحرة ساجدين قالوا ءامنا برب العالمين رب موسى
62

وهارون) *، وقوله في (الشعراء): * (فألقى موسى عصاه فإذا هى تلقف ما يأفكون فألقى السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون) *، وقوله: * (فألقى) * يدل على قوة البرهان الذي عاينوه. كأنهم أمسكهم إنسان وألقاهم ساجدين بالقوة لعظم المعجزة التي عاينوها. وذكر في قصتهم أنهم عاينوا منازلهم في الجنة في سجودهم. والظاهر أن ذلك من نوع الإسرائيليات، وأطلق عليهم اسم السحرة في حال سجودهم لله مؤمنين به نظرا إلى حالهم الماضية. كقوله: * (وءاتوا اليتامى أموالهم) * فأطلق عليهم اسم اليتم بعد البلوغ نظرا إلى الحال الماضية كما هو معروف في محله.
والظاهر أن تقديم هارون على موسى في هذه الآية لمراعاة فواصل الآيات.
واعلم أن علم السحر مع خسته، وأن الله صرح بأنه لا يضر ولا ينفع، قد كان سببا لإيمان سحرة فرعون. لأنهم لمعرفتهم بالسحر عرفوا معجزة العصا خارجة عن طور السحر، وأنها أمر إلهي فلم يداخلهم شك في ذلك. فكان ذلك سببا لإيمانهم الراسخ الذي لا يزعزعه الوعيد والتهديد. ولو كانوا غير عالمين بالسحر جدا، لأمكن أن يظنوا أن مسألة العصا من جنس الشعوذة. والعلم عند الله تعالى.
* (قال ءامنتم له قبل أن ءاذن لكم إنه لكبيركم الذى علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم فى جذوع النخل ولتعلمن أينآ أشد عذابا وأبقى * قالوا لن نؤثرك على ما جآءنا من البينات والذى فطرنا فاقض مآ أنت قاض إنما تقضى هاذه الحيواة الدنيآ * إنآ آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا ومآ أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى * إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى * ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولائك لهم الدرجات العلى * جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها وذالك جزآء من تزكى * ولقد أوحينآ إلى موسى أن أسر بعبادى فاضرب لهم طريقا فى البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى * فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم * وأضل فرعون قومه وما هدى) * قوله تعالى: * (قال ءامنتم له قبل أن ءاذن لكم إنه لكبيركم الذى علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم فى جذوع النخل ولتعلمن أينآ أشد عذابا وأبقى) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن سحرة فرعون لما آمنوا برب هارون وموسى قال لهم فرعون منكرا عليهم: * (ءامنتم له) * أي صدقتموه في أنه نبي مرسل من الله، وآمنتم بالله قبل أن آذن لكم. يعني أنهم لم يكفوا عن الإيمان حتى يأذن لهم، لأنه يزعم أنهم لا يحق لهم أن يفعلوا شيئا إلا بعد إذنه هو لهم. وقال لهم أيضا: إن موسى هو كبيرهم. أي كبير السحرة وأستاذهم الذي علمهم السحر. ثم هددهم مقسما على أنه يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف: يعني اليد اليمنى والرجل اليسرى مثلا. لأنه أشد على الإنسان من قطعهما من جهة واحدة. لأنه إن كان قطعهما من جهة واحدة يبقى عنده شق كامل صحيح، بخلاف قطعهما من خلاف. فالجنب الأيمن يضعف بقطع اليد، والأيسر يضعف بقطع الرجل كما هو معلوم. وأنه يصلبهم في جذوع النخل، وجذع النخلة هو أخشن جذع من جذوع الشجر، والتصليب عليه أشد من التصليب على غيره من
63

الجذوع كما هو معروف. وما ذكره جل وعلا عنه هنا أوضحه في غير هذا الموضع أيضا. كقوله في سورة (الشعراء): * (قال ءامنتم له قبل أن ءاذن لكم إنه لكبيركم الذى علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين) *. وذكر هذا أيضا في سورة (الأعراف) وزاد فيها التصريح بفاعل قال: وادعاء فرعون أن موسى والسحرة تمالؤوا على أن يظهروا أنه غلبهم مكرا ليتعاونوا على إخراج فرعون وقومه من مصر. وذلك في قوله: * (قال فرعون
ءامنتم به قبل أن ءاذن لكم إن هاذا لمكر مكرتموه فى المدينة لتخرجوا منهآ أهلها فسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين) * (وقوله في (طه): * (ولأصلبنكم فى جذوع النخل) * يبين أن التصليب في جذوع النخل هو مراده بقوله في (الأعراف، والشعراء): * (معيشة ضنكا) *. أي في جذوع النخل وتعدية التصليب ب (في) أسلوب عربي معروف، ومنه قول سويد بن أبي كاهل: معيشة ضنكا) *. أي في جذوع النخل وتعدية التصليب ب (في) أسلوب عربي معروف، ومنه قول سويد بن أبي كاهل:
* هم صلبوا العبدي في جذع نخلة
* فلا عطصت شيبان إلا بأجدعا
*
ومعلوم عند علماء البلاغة: أن في مثل هذه الآية استعارة تبعية في معنى الحرف كما سيأتي إن شاء الله تعالى إيضاح كلامهم في ذلك ونحوه في سورة (القصص). وقد أوضحنا في كتابنا المسمى (منع جواز المجاز في المنزل التعبد والإعجاز). أن ما يسميه البلاغيون من أنواع المجاز مجازا كلها أساليب عربية نطقت بها العرب في لغتها. وقد بينا وجه عدم جواز المجاز في القرآن وما يترتب على ذلك من المحذور.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (ولتعلمن أينآ أشد عذابا وأبقى) * قال بعض أهل العلم: * (ولتعلمن أينآ) *: يعني أنا، أم رب موسى أشد عذابا وأبقى. واقتصر على هذا القرطبي. وعليه ففرعون يدعي أن عذابه أشد وأبقى من عذاب الله. وهذا كقوله: * (أنا ربكم الا على) *، وقوله: * (ما علمت لكم من إلاه غيرى) *، وقوله: * (لئن اتخذت إلاها غيرى لأجعلنك من المسجونين) *. وقال بعضهم: * (ولتعلمن أينآ) * أنا، أم موسى أشد عذابا وأبقى. وعلى هذا فهو كالتهكم بموسى لاستضعافه له، وأنه لا يقدر على أن يعذب من لم يطعه. كقوله: * (أم أنآ خير من هاذا الذى هو مهين) *. والله جل وعلا أعلم.
64

واعلم أن العلماء اختلفوا: هل فعل بهم فرعون ما توعدهم به، أو لم يفعله بهم؟ فقال قوم: قتلهم وصلبهم. وقوم أنكروا ذلك، وأظهرهما عندي: أنه لم يقتلهم، وأن الله عصمهم منه لأجل إيمانهم الراسخ بالله تعالى. لأن الله يقول لموسى وهارون: * (أنتما ومن اتبعكما الغالبون) * والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (قالوا لن نؤثرك على ما جآءنا من البينات والذى فطرنا فاقض مآ أنت قاض إنما تقضى هاذه الحيواة الدنيآ) *. قوله: * (لن نؤثرك) * أي لن نختار اتباعك وكوننا من حزبك، وسلامتنا من عذابك على ما جاءنا من البينات. كمعجزة العصا التي أتتنا وتيقنا صحتها. والواو في قوله * (والذى فطرنا) * عاطفة على (ما) من قوله: * (على ما جآءنا) * أي لن نختارك * (على ما جآءنا من البينات) * ولا على * (والذى فطرنا) * أي خلقنا وأبرزنا من العدم إلى الوجود. وقيل: هي واو القسم والمقسم عليه محذوف دل عليه ما قبله. أي * (والذى فطرنا) * لا تؤثرك * (على ما جآءنا من البينات) *، * (فاقض مآ) * أي اصنع ما أنت صانع. فلسنا راجعين عما نحن عليه * (إنما تقضى هاذه الحيواة الدنيآ) * أي إنما ينفذ أمرك فيها. ف (هذه) منصوب على الظرف على الأصح. أي وليس فيها شيء يهم لسرعة زوالها وانقضائها.
وما ذكره جل وعلا عنهم في هذا الموضع: من ثباتهم على الإيمان، وعدم مبالاتهم بتهديد فرعون ووعيده رغبة فيما عند الله قد ذكره في غير هذا الموضع. كقوله في (الشعراء) عنهم في القصة بعينها: * (قالوا لا ضير إنآ إلى ربنا منقلبون) *. وقوله في (الأعراف): * (قالوا إنآ إلى ربنا منقلبون وما تنقم منآ إلا أن ءامنا بأايات ربنا لما جآءتنا ربنآ أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين) *. وقوله: * (فاقض مآ أنت قاض) * عائد الصلة محذوف، أي ما أنت قاضيه لأنه مخفوض بالوصف، كما أشار له في الخلاصة بقوله: فاقض مآ أنت قاض) * عائد الصلة محذوف، أي ما أنت قاضيه لأنه مخفوض بالوصف، كما أشار له في الخلاصة بقوله:
* كذاك حذف ما يوصف خفضا
* كأنت قاض بعد أمر من قضى
*
ونظيره من كلام العرب قول سعد بن ناشب المازني: ونظيره من كلام العرب قول سعد بن ناشب المازني:
* ويصغر في عيني تلادي إذا انثنت
* يميني بإدراك الذي كنت طالبا
*
65

أي طالبه. قوله تعالى: * (إنآ آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا ومآ أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن فرعون لعنة الله لما قال للسحرة ما قال لما آمنوا، قالوا له: * (إنآ آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا) * يعنون ذنوبهم السالفة كالكفر وغيره من المعاصي * (ومآ أكرهتنا عليه من السحر) * أي ويغفر لنا ما أكرهتنا عليه من السحر. وهذا الذي ذكره عنهم هنا أشار له في غير هذا الموضع. كقوله تعالى في (الشعراء) عنهم: * (إنآ إلى ربنا منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانآ أن كنآ أول المؤمنين) *، وقوله عنهم في (الأعراف): * (ربنآ أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين) *. وفي آية (طه) هذه سؤال معروف، وهو أن يقال: قولهم * (ومآ أكرهتنا عليه من السحر) * يدل على أنهم أكرههم عليه، مع أنه دلت آيات أخر على أنهم فعلوه طائعين غير مكرهين، كقوله في (طه): * (فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى قالوا إن هاذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا
صفا وقد أفلح اليوم من استعلى) *. فقولهم: * (فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا) * صريح في أنهم غير مكرهين. وكذلك قوله عنهم في (الشعراء): * (قالوا لفرعون أإن لنا لاجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين) *، وقوله في (الأعراف): * (قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين) * فتلك الآيات تدل على أنهم غير مكرهين.
وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة معروفة:
(منها) أنهم أكرههم على الشخوص من أماكنهم ليعارضوا موسى بسحرهم، فلما أكرهوا على القدوم وأمروا بالسحر أتوه طائعين، فإكراههم بالنسبة إلى أول الأمر، وطوعهم بالنسبة إلى آخر الأمر، فانفكت الجهة وبذلك ينتفي التعارض، ويدل لهذا قوله: * (وابعث فى المدآئن حاشرين) *، وقوله: * (وأرسل فى المدآئن حاشرين) *.
(ومنها) أنه كان يكرههم على تعليم أولادهم السحر في حال صغرهم، وأن ذلك هو مرادهم بإكراههم على السحر. ولا ينافي ذلك أنهم فعلوا ما فعلوا من السحر بعد تعلمهم وكبرهم طائعين.
66

(ومنها) أنهم قالوا لفرعون: أرنا موسى نائما: ففعل فوجدوه قرب عصاه، فقالوا: ما هذا بسحر الساحرا لأن الساحر إذا نام بطل سحره. فأبى ألا أن يعارض، وألزمهم بذلك. فلما لم يجدوا بدا من ذلك فعلوه طائعين. وأظهرها عندي الأول، والعلم عند الله تعالى.
وقوله: في هذه الآية الكريمة * (خطايانا) * جمع خطيئة، وهي الذنب العظيم. كالكفر ونحوه. والفعلية تجمع على فعائل، والهمزة في فعائل مبدلة من الياء في فعلية، ومثلها الألف والواو، كما أشار له في الخلاصة بقوله: خطايانا) * جمع خطيئة، وهي الذنب العظيم. كالكفر ونحوه. والفعلية تجمع على فعائل، والهمزة في فعائل مبدلة من الياء في فعلية، ومثلها الألف والواو، كما أشار له في الخلاصة بقوله:
* والمد زيد ثالثا في الواحد
* همزا يرى في مثل كالقلائد
*
فأصل خطايا خطائي بياء مكسورة، وهي ياء خطيئة، وهمزة بعدها هي لام الكلمة. ثم أبدلت الياء همزة على حد الإبدال في صحائفا فصارت خطائي بهمزتين، ثم أبدلت الثانية ياء المزوم إبدال الهمزة المتطرفة بعد الهمزة المكسورة ياء، فصارت خطائي، ثم فتحت الهمزة الأولى تخفيفا فصار خطاءي، ثم أبدلت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصار خطاءا بألفين بينهما همزة، والهمزة تشبه الألف، فاجتمع شبه ثلاثة ألفات، فأبدلت الهمزة ياء فصار خطايا بعد خمسة أعمال، وإلى ما ذكرنا أشار في الخلاصة بقوله: فأصل خطايا خطائي بياء مكسورة، وهي ياء خطيئة، وهمزة بعدها هي لام الكلمة. ثم أبدلت الياء همزة على حد الإبدال في صحائفا فصارت خطائي بهمزتين، ثم أبدلت الثانية ياء المزوم إبدال الهمزة المتطرفة بعد الهمزة المكسورة ياء، فصارت خطائي، ثم فتحت الهمزة الأولى تخفيفا فصار خطاءي، ثم أبدلت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصار خطاءا بألفين بينهما همزة، والهمزة تشبه الألف، فاجتمع شبه ثلاثة ألفات، فأبدلت الهمزة ياء فصار خطايا بعد خمسة أعمال، وإلى ما ذكرنا أشار في الخلاصة بقوله:
* وافتح ورد الهمزة يا فيما أعل
* لاما وفي مثل هراوة جعل
*
واوا... الخ.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (والله خير وأبقى) * ظاهره المتبادر منه: أن المعنى خير من فرعون وأبقى منه. لأنه باق لا يزول ملكه، ولا يذل ولا يموت، ولا يعزل. كما أوضحنا هذا المعنى في سورة (النحل) في الكلام على قوله تعالى: * (وله الدين واصبا) *. أي بخلاف فرعون وغيره من ملوك الدنيا فإنه لا يبقى، بل يموت أو يعزل، أو يذل بعد العز. وأكثر المفسرين على أن المعنى: أن ثوابه خير مما وعدهم فرعون في قوله: * (قالوا لفرعون أإن لنا لاجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين) *. وأبقى: أي أدوم. لأن ما وعدهم به فرعون زائل، وثواب الله باق. كما قال تعالى: * (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) *، وقال تعالى: * (بل تؤثرون الحيواة الدنيا) * * (والا خرة خير وأبقى) *. وقال بعض العلماء: * (وأبقى) * أي أبقى عذابا من عذابك، وأدوم منه. وعليه فهو رد لقول فرعون * (ولتعلمن أينآ أشد
67

عذابا وأبقى) * ومعنى * (أبقى) * أكثر بقاء. قوله تعالى: * (إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى) *. ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: * (أنه) * أي الأمر والشأن * (إنه من يأت) * يوم القيامة في حال كونه * (مجرما) * أي مرتكبا الجريمة في الدنيا حتى مات على ذلك كالكافر عياذا بالله تعالى * (فإن له) * عند الله * (جهنم) * يعذاب فيها ف * (لا يموت) * فيستريح * (ولا يحيى) * حياة فيها راحة.
وهذا الذي ذكره هنا أوضحه في غير هذا الموضع: كقوله: * (والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزى كل كفور) *، وقوله تعالى: * (واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد من ورآئه جهنم ويسقى من مآء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن
ورآئه عذاب غليظ) *، وقوله تعالى: * (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب) *، وقوله تعالى: * (ويتجنبها الا شقى الذى يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيا) *، وقوله تعالى: * (ونادوا يامالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون) * إلى غير ذلك من الآيات. ونظير ذلك من كلام العرب قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد فقهاء المدينة السبعة: ونادوا يامالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون) * إلى غير ذلك من الآيات. ونظير ذلك من كلام العرب قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد فقهاء المدينة السبعة:
* ألا من لنفس لا تموت فينقضي
* شقاها ولا تحيا حياة لها طعم
* ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولائك لهم الدرجات العلى) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: (أن) * (ومن يأته) * يوم القيامة في حال كونه * (مؤمنا قد عمل الصالحات) * أي في الدنيا حتى مات على ذلك * (فأولائك لهم) * عند الله * (الدرجات العلى) * والعلى: جمع عليا وهي تأنيث الأعلى. وقد أشار إلى هذا المعنى في غير هذا الموضع. كقوله تعالى: * (وللا خرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا) *، وقوله: * (ولكل درجات مما عملوا) * ونحو ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (ولقد أوحينآ إلى موسى أن أسر بعبادى فاضرب لهم طريقا فى البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة. أنه أوحى إلى نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة
68

والسلام: أن يسري بعباده، وهم بنو إسرائيل فيخرجهم من قبضة فرعون ليلا، وأن يضرب لهم طريقا في البحر يبسا، أي يابسا لا ماء فيه ولا بلل، وأنه لا يخاف دركا من فرعون وراءه أن يناله بسوء. ولا يخشى من البحر أمامه أن يغرق قومه. وقد أوضح هذه القصة في غير هذا الموضع، كقوله في سورة (الشعراء): * (وأوحينآ إلى موسى أن أسر بعبادى إنكم متبعون فأرسل فرعون فى المدآئن حاشرين إن هاؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغآئظون وإنا لجميع حاذرون فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بنى إسراءيل فأتبعوهم مشرقين فلما ترآءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معى ربى سيهدين فأوحينآ إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم) *. فقوله في (الشعراء): * (أن اضرب بعصاك البحر فانفلق) * أي فضربه فانفلق يوضح معنى قوله: * (فاضرب لهم طريقا فى البحر يبسا) *، وقوله: * (قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معى ربى سيهدين) * يوضح معنى قوله: * (لا تخاف دركا ولا تخشى) * وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله في (الدخان): * (فدعا ربه أن هاؤلاء قوم مجرمون فأسر بعبادى ليلا إنكم متبعون واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون) * إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا طرفا من ذلك في سورة (البقرة) والقصة معروفة واضحة من القرآن العظيم. وقرأ نافع وابن كثير * (أن أسر) * بهمزة وصل وكسر نون * (ءان) * لالتقاء الساكنين والباقون قرؤوا * (أن أسر) * بهمزة قطع مفتوحة مع إسكان نون (أن) وقد قدمنا في سورة (هود) أن أسري وسرى لغتان وبينا شواهد ذلك العربية. وقرأ حمزة * (لا تخف) * بسكون الفاء بدون ألف بين الخاء والفاء، وهو مجزوم لأنه جزاء الطلب، أي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخف. وقد قدمنا أن نحو ذلك من الجزم بشرط محذوف تدل عليه صيغة الطلب، أي أن تضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخف. وعلى قراءة الجمهور (لا تخاف) بالرفع، فلا إشكال في قوله * (ولا) * لأنه فعل مضارع مرفوع بضمة مقدرة على الألف، معطوف على فعل مضارع مرفوع هو قوله: * (يبسا لا تخاف) *. وأما على قراءة حمزة * (لا تخف) * بالجزم ففي قوله * (ولا تخشى) * إشكال معروف، وهو أنه معطوف على مضارع مجزوم، وذلك يقتضي جزمه، ولو جزم لحذفت
69

الألف من * (تخشى) * على حد قوله في الخلاصة: واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون) * إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا طرفا من ذلك في سورة (البقرة) والقصة معروفة واضحة من القرآن العظيم. وقرأ نافع وابن كثير * (أن أسر) * بهمزة وصل وكسر نون * (ءان) * لالتقاء الساكنين والباقون قرؤوا * (أن أسر) * بهمزة قطع مفتوحة مع إسكان نون (أن) وقد قدمنا في سورة (هود) أن أسري وسرى لغتان وبينا شواهد ذلك العربية. وقرأ حمزة * (لا تخف) * بسكون الفاء بدون ألف بين الخاء والفاء، وهو مجزوم لأنه جزاء الطلب، أي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخف. وقد قدمنا أن نحو ذلك من الجزم بشرط محذوف تدل عليه صيغة الطلب، أي أن تضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخف. وعلى قراءة الجمهور (لا تخاف) بالرفع، فلا إشكال في قوله * (ولا) * لأنه فعل مضارع مرفوع بضمة مقدرة على الألف، معطوف على فعل مضارع مرفوع هو قوله: * (يبسا لا تخاف) *. وأما على قراءة حمزة * (لا تخف) * بالجزم ففي قوله * (ولا تخشى) * إشكال معروف، وهو أنه معطوف على مضارع مجزوم، وذلك يقتضي جزمه، ولو جزم لحذفت الألف من * (تخشى) * على حد قوله في الخلاصة:
* والرفع فيهما انو واحذف جازما
* ثلاثهن تقض حكما لازما
*
والألف لم تحذف فوقع الإشكال بسبب ذلك.
وأحب عنه من ثلاثة أوجه:
الأول أن * (ولا تخشى) * مستأنف خبر مبتدأ محذوف، تقديره: وأنت لا تخشى، أي ومن شأنك أنك آمن لا تخشى.
والثاني أن الفعل مجزوم، والألف ليست هي الألف التي في موضع لام الكلمة، ولكنها زيدت للاطلاق من أجل الفاصلة، كقوله: * (فأضلونا السبيلا) *، وقوله: * (وتظنون بالله الظنونا) *.
والثالث أن إشباع الحركة بحرف مد يناسبها أسلوب معروف من أساليب اللغة العربية، كقول عبد يغوث بن وقاص الحارثي: والثالث أن إشباع الحركة بحرف مد يناسبها أسلوب معروف من أساليب اللغة العربية، كقول عبد يغوث بن وقاص الحارثي:
* وتضحك مني شيخة عبشمية
* كأن لم ترا قبلي أسيرا يمانيا
*
وقول الراجز: وقول الراجز:
* إذا العجوز غضبت فطلق
* ولا ترضاها ولا ثملق
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* وقلت وقد خرت على الكلكال
* يا ناقتي ما جلت من مجال
*
وقول عنترة في معلقته: وقول عنترة في معلقته:
* ينباع من ذفرى غضوب جسرة
* زيافة مثل الفنيق المكدم
*
فالأصل في البيت الأول: كأن لم تر، ولكن الفتحة أشبعت. والأصل في الثاني ولا ترضها، ولكن الفتحة أشبعت. والأصل في الثالث على الكلكال يعني الصدر، ولكن الفتحة أشبعت. والأصل في الرابع ينبع يعني أن العرق ينبع من عظم الذفرى من ناقته على التحقيق، ولكن الفتحة أشبعت، وإشباع الفتحة بألف في هذه الأبيات وأمثالها مما لم نذكره ليس لضرورة للشعر لتصريح علماء العربية بأنه أسلوب عربي معروف. ويؤيد ذلك أنه مسموع في النثر، كقولهم في النثر: كلكال، وخاتام، وداناق، يعنون كلكلا، وخاتما، ودانقا. وقد أوضحنا هذه المسألة، وأكثرنا من شواهدها العربية في كتابن
70

ا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في سورة (البلد) في الكلام على قوله: * (لا أقسم بهاذا البلد) * مع قوله: * (وهاذا البلد الا مين) * وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية * (فاضرب لهم طريقا) *: فاجعل لهم طريقا، من قولهم: ضرب له في ماله سهما، وضرب اللبن عمله ا ه. والتحقيق أن * (يبسا) * صفة مشبهة جاءت على فعل بفتحتين كبطل وحسن. ونال الزمخشري: اليبس مصدر وصف به. يقال: يبس يبسا ويبسا، ونحوهما العدم والعدم، ومن ثم وصف به المؤنث فقيل: شاتنا يبس، وناقتنا يبس. إذا جف لبنها.
وقوله: * (لا تخاف دركا) * الدرك: اسم مصدر بمعنى الإدراك، أي لا يدرك فرعون وجنوده، ولا يلحقونك من ورائك، ولا تخشى من البحر أمامك. وعلى قراءة الجمهور * (لا تخاف) * فالجملة حال من الضمير في قوله * (فاضرب) * أي فاضرب لهم طريقا في حال كونك غير خائف دركا ولا خاش. وقد تقرر في علم النحو أن الفعل المضارع المنفي بلا إذا كانت جملته حالية وجب الربط فيها بالضمير وامتنع بالواو. كقوله هنا: * (فاضرب لهم طريقا) * أي في حال كونك لا تخاف دركا، وقوله * (مالي لا أرى الهدهد) * وقوله: * (وما لنا لا نؤمن بالله) * ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر: وما لنا لا نؤمن بالله) * ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر:
* ولو أن قوما لارتفاع قبيله
* دخلوا السماء دخلتها لا أحجب
*
يعني دخلتها في حال كوني غير محجوب، وبذلك تعلم أن قوله في الخلاصة: يعني دخلتها في حال كوني غير محجوب، وبذلك تعلم أن قوله في الخلاصة:
* وذات بدء بمضارع ثبت
* حوت ضميرا ومن الواو خلت
*
في مفهومه تفصيل كما هو معلوم في علم النحو. قوله تعالى: * (فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم) *. التحقيق أن أتبع واتبع بمعنى واحد. فقوله: ف * (أتبعهم) * أي اتبعهم، ونظيره قوله تعالى: * (فأتبعه شهاب ثاقب) *، وقوله: ف * (فأتبعه الشيطان) *. والمعنى: أن موسى لما أسرى ببني إسرائيل ليلا أتبعهم فرعون وجنوده * (فغشيهم من اليم) * أي البحر * (ما غشيهم) * أي أغرق الله فرعون وجنوده في البحر فهلكوا عن آخرهم. وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن فرعون أتبع بني إسرائيل هو وجنوده، وأن الله أغرقهم في البحر أوضحه في غير هذا
71

الموضع. وقد بين تعالى أنهم اتبعوهم في أول النهار عند إشراق الشمس، فمن الآيات الدالة على اتباعه لهم قوله تعالى في (الشعراء): * (وأوحينآ إلى موسى أن أسر بعبادى إنكم متبعون) * يعني سيتبعكم فرعون وجنوده. ثم بين كيفية اتباعه لهم فقال * (فأرسل فرعون فى المدآئن حاشرين إن هاؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغآئظون وإنا لجميع حاذرون فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بنى إسراءيل فأتبعوهم مشرقين فلما ترآءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معى ربى سيهدين) *.
وقوله في هذه الآية: * (إسراءيل فأتبعوهم مشرقين) * أي أول النهار عند إشراق الشمس. ومن الآيات الدالة على ذلك أيضا قوله تعالى في (يونس): * (وجاوزنا ببنى إسراءيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا) *، وقوله في (الدخان): * (فأسر بعبادى ليلا إنكم متبعون) * إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اتباعه لهم. وأما غرقه هو وجميع قومه المشار إليه بقوله هنا: * (فغشيهم من اليم ما غشيهم) * فقد أوضحه تعالى في مواضع متعددة من كتابه العزيز. كقوله في (الشعراء): * (فأوحينآ إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم وأزلفنا ثم الا خرين وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الا خرين إن فى ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين) *، وقوله في (الأعراف): * (فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم) *، وقوله في (الزخرف): * (فلمآ ءاسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين) *، وقوله في (البقرة): * (وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا ءال فرعون وأنتم تنظرون) *، وقوله في (يونس): * (حتى إذآ أدركه الغرق قال ءامنت أنه لا إلاه إلا الذىءامنت به بنوا إسراءيل وأنا من المسلمين) *، وقوله في (الدخان): * (واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون) * إلى غير ذلك من الآيات. والتعبير بالاسم المبهم الذي هو الموصول في قوله * (فغشيهم من اليم ما غشيهم) * يدل على تعظيم الأمر وتفخيم شأنه، ونظيره في القرآن قوله: * (إذ يغشى السدرة ما يغشى) *، وقوله: * (والمؤتفكة أهوى) * * (فغشاها ما غشى) *، وقوله: * (فأوحى إلى عبده مآ أوحى) *. واليم: البحر. والمعنى: فأصابهم من البحر ما أصابهم وهو الغرق والهلاك المستأصل.
72

قوله تعالى: * (وأضل فرعون قومه وما هدى) *. يعني أن فرعون أضل قومه عن طريق الحق وما هداهم إليها. وهذه الآية الكريمة بين الله فيها كذب فرعون في قوله: * (قال فرعون مآ أريكم إلا مآ أرى ومآ أهديكم إلا سبيل الرشاد) * ومن الآيات الموضحة لذلك قوله تعالى: * (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملإيه فاتبعوا أمر فرعون ومآ أمر فرعون برشيد يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود) * والنكتة البلاغية في حذف المفعول في قوله * (وما هدى) * ولم يقل وما هداهم، هي مراعاة فواصل الآيات، ونظيره في القرآن قوله تعالى: * (ما ودعك ربك وما قلى) *.
* (يابنى إسراءيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الا يمن ونزلنا عليكم المن والسلوى * كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبى ومن يحلل عليه غضبى فقد هوى * وإنى لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى * ومآ أعجلك عن قومك ياموسى * قال هم أولاء على أثرى وعجلت إليك رب لترضى * قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامرى * فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال ياقوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدى * قالوا مآ أخلفنا موعدك بملكنا ولاكنا حملنآ أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامرى * فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هاذآ إلاهكم وإلاه موسى فنسى * أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا * ولقد قال لهم هارون من قبل ياقوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمان فاتبعونى وأطيعوا أمرى * قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى) * قوله تعالى: * (يابنى إسراءيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الا يمن ونزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم) *. وذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: امتنانه على بني إسرائيل بإنجائه إياهم من عدوهم فرعون، وأنه واعدهم جانب الطور الأيمن، وأنه نزل عليهم المن والسلوى، وقال لهم: كلوا من طيبات ما رزقناكم. ولا تطغوا فيغضب عليكم ربكم. وما ذكره هنا أوضحه في غير هذا الموضع. كقوله في امتنانه عليهم بإنجائهم من عدوهم فرعون في (سورة البقرة): * (وإذ نجيناكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبنآءكم ويستحيون نسآءكم وفى ذالكم بلاء من ربكم عظيم) *، وقوله في (الأعراف): * (وإذ أنجيناكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبنآءكم ويستحيون نسآءكم وفي ذالكم بلاء من ربكم عظيم) *، وقوله في (الدخان): * (ولقد نجينا بنى إسراءيل من العذاب المهين من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين) *، وقوله في سورة (إبراهيم): * (وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبنآءكم ويستحيون نسآءكم وفى ذالكم بلاء من ربكم عظيم) *، وقوله في (الشعراء) * (كذلك وأورثناها بنى إسراءيل) *، وقوله في (الدخان) * (كذلك وأورثناها قوما ءاخرين) *، وقوله في (الأعراف): * (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الا رض ومغاربها) *، وقوله في (القصص): * (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الا رض ونجعلهم أئمة) * إلى قوله * (يحذرون) * إلى غير ذلك من الآيات.
73

وقوله هنا: * (وواعدناكم جانب الطور الا يمن) * الأظهر أن ذلك الوعد هو المذكور في قوله: * (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر) *، وقوله: * (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة) *، وقوله: * (ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا) * وهو الرعد بإنزال التوراة. وقيل فيه غير ذلك.
وقوله هنا: * (ونزلنا عليكم المن والسلوى) * قد أوضح امتنانه عليهم بذلك في غير هذا الموضع. كقوله في (البقرة): * (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى) * وقوله في (الأعراف) * (فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى) * وأكثر العلماء على أن المن: الترنجبين، وهو شيء ينزل من السماء كنزول الندى ثم يتجمد، وهو يشبه العسل الأبيض. والسلوى: طائر يشبه السمانى. وقيل هو السمانى. وهذا قول الجمهور في المن والسلوى. وقيل: السلوى العسل. وأنكر بعضهم إطلاق السلوى على العسل. والتحقيق: أن (السلوى) يطلق على العسل لغة. ومنه قول خالد بن زهير الهذلي: فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى) * وأكثر العلماء على أن المن: الترنجبين، وهو شيء ينزل من السماء كنزول الندى ثم يتجمد، وهو يشبه العسل الأبيض. والسلوى: طائر يشبه السمانى. وقيل هو السمانى. وهذا قول الجمهور في المن والسلوى. وقيل: السلوى العسل. وأنكر بعضهم إطلاق السلوى على العسل. والتحقيق: أن (السلوى) يطلق على العسل لغة. ومنه قول خالد بن زهير الهذلي:
* وقاسمها بالله جهدا لأنتم ألذ
* من السلوى إذا ما نشورها
*
يعني ألذ من العسل إذا ما نستخرجها. لأن النشور: استخراج العسل. قال مؤرج بن عمر السدوسي: إطلاق السلوى على العسل لغة كنانة. سمي به لأنه يسلي. قاله القرطبي. إلا أن أكثر العلماء على أن ذلك ليس هو المراد في الآية. واختلفوا في السلوى. هل هو جمع أو مفرد؟ فقال بعضهم: هو جمع، واحده سلواة، وأنشد الخليل لذلك قول الشاعر: يعني ألذ من العسل إذا ما نستخرجها. لأن النشور: استخراج العسل. قال مؤرج بن عمر السدوسي: إطلاق السلوى على العسل لغة كنانة. سمي به لأنه يسلي. قاله القرطبي. إلا أن أكثر العلماء على أن ذلك ليس هو المراد في الآية. واختلفوا في السلوى. هل هو جمع أو مفرد؟ فقال بعضهم: هو جمع، واحده سلواة، وأنشد الخليل لذلك قول الشاعر:
* وإني لتعروني لذكراك هزة
* كما انتفض السلواة من بلل القطر
*
ويروى هذا البيت: * كما انتفض العصفور بلله القطر
وعليه فلا شاهد في البيت. وقال الكسائي: السلوى مفرد وجمعه سلاوى. وقال الأخفش: هو جمع لا واحد له من لفظه. مثل الخير والشر، وهو يشبه أن يكون واحده سلوى مثل جماعته. كما قالوا: دفلى وسماني وشكاعى في الواحد والجمع. والدفلى كذكرى: شجر أخضر مر حسن المنظر، يكون في الأودية. والشكاعى كحبارى وقد تفتح: نوع من دقيق النبات صغيرا أخضر، دقيق العيدان يتداوى به. والسمانى: طائر معروف.
74

قال مقيده عفا الله عنه: والأظهر عندي في المن: أنه اسم جامع لما يمن الله به على عبده من غير كد ولا تعب، فيدخل فيه الترنجبين الذي من الله بل على بني إسرائيل في التيه. ويشمل غير ذلك مما يماثله. ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيحين: (الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين).
والأظهر عندي في السلوى: أنه طائر، سواء قلنا إنه السمانى، أو طائر يشبهه، لإطباق جمهور العلماء من السلف والخلف على ذلك. مع أن السلوى، يطلق لغة على العسل، كما بينا.
وقوله في آية (طه) هذه: * (كلوا من طيبات ما رزقناكم) * أي من المن والسلوى، والأمر فيه للإباحة والامتنان.
وقد ذكر ذلك أيضا في غير هذا الموضع، كقوله في (البقرة) * (وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون) *، وقوله في (الأعراف): * (وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون) *، وقوله: * (كلوا) * في هذه الآيات مقول قول محذوف، أي وقلنا لهم كلوا، والضمير المجرور في قوله: * (ولا تطغوا فيه) * راجع إلى الموصول الذي هو (ما) أي كلوا من طيبات الذي رزقناكم * (ولا تطغوا فيه) * أي فيما رزقناكم. ونهاهم عن الطغيان فيما رزقهم، وهو أن يتعدوا حدود الله فيه بأن يكفروا نعمته به، ويشغلهم اللهو والنعيم عن القيام بشكر نعمه، وأن ينفقوا رزقه الذي أنعم عليهم به في المعاصي، أو يستعينوا به على المعصية، أو يمنعوا الحقوق الواجبة عليهم فيه، ونحو ذلك.
وبين أن ذلك يسبب لهم أن يحل عليهم غضبه جل وعلا، لأن الفاء في قوله * (فيحل) * سببية، والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها، لأنه بعد النهي وهو طلب محض، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله: فيحل) * سببية، والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها، لأنه بعد النهي وهو طلب محض، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله:
* وبعد فا جواب نفي أو طلب
* محضين أن وسترها حتم نصب
*
وقرأ هذا الحرف الكسائي * (فيحل) * بضم الحاء * (ومن يحلل) * بضم اللام. والباقون قرؤوا * (يحل) * بكسر الحاء و * (يحلل) * بكسر اللام. وعلى
قراءة الكسائي * (فيحل) * بالضم أي ينزل بكم غضبي. وعلى قراءة الجمهور فهو من حل يحل بالكسر
75

: إذا وجب، ومنه حل دينه إذا وجب أداؤه. ومنه * (ثم محلهآ إلى البيت العتيق) *. وقوله: * (فقد هوى) * أي هلك وصار إلى الهاوية، وأصله أن يسقط من جبل أو نحوه فيهوي إلى الأرض فيهلك، ومنه قول الشاعر: فقد هوى) * أي هلك وصار إلى الهاوية، وأصله أن يسقط من جبل أو نحوه فيهوي إلى الأرض فيهلك، ومنه قول الشاعر:
* هوى من رأس مرقبة
* ففتت تحتها كبده
*
ويقولون: هوت أمه، أي سقط سقوطا لا نهوض بعده. ومنه قول كعب بن سعد الغنوي: ويقولون: هوت أمه، أي سقط سقوطا لا نهوض بعده. ومنه قول كعب بن سعد الغنوي:
* هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا
* وماذا يرد الليل حين يؤوب
*
ونحو هذا هو أحد التفسيرات في قوله تعالى: * (فأمه هاوية) * وعن شفى بن مانع الأصبحي قال: إن في جهنم جبلا يدعى صعودا يطلع فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يرقاه. قال الله تعالى: * (سأرهقه صعودا) * وإن في جهنم قصرا يقال له هوى، يرمى الكافر من أعلاه فيهوي أربعين خريفا قبل أن يبلغ أصله، قال الله تعالى: * (ومن يحلل عليه غضبى فقد هوى) * قال القرطبي وابن كثير، والله تعالى أعلم.
واعلم أن الغضب صفة وصف الله بها نفسه إذا انتهكت حرماته، تظهر آثارها في المغضوب عليهم. نعوذ بالله من غضبه جل وعلا. ونحن معاشر المسلمين نمرها كما جاءت فنصدق ربنا في كل ما وصف به نفسه، ولا نكذب بشيء من ذلك. مع تنزيهنا التام له جل وعلا عن مشابهة المخلوقين سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا. كما أوضحنا ذلك غاية الإيضاح في سورة (الأعراف) وقرأ حمزة والكسائي في هذه الآية * (قد) * بتاء المتكلم فيهما. وقرأه الباقون * (وواعدناكم) * بالنون الدالة على العظمة، فصيغة الجمع في قراءة الجمهور للتعظيم. وقرأ أبو عمرو * (ووعدناكم) * بلا ألف بعد الواو الثانية بصيغة الفعل المجرد، من الوعد لا من المواعدة مع نون التعظيم. قوله تعالى: * (وإنى لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) *.
ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه غفار أي كثير المغفرة لمن تاب إليه من معاصيه وكفره، وآمن به وعمل صالحا ثم اهتدى. وقد أوضح هذا المعنى في مواضع متعددة من كتابه، كقوله: * (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) *. وقوله في الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة: * (أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه
76

والله غفور رحيم) *، وقوله تعالى: * (قل ياعبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له) *، إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا معنى التوبة والعمل الصالح.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (ثم اهتدى) * أي استقام وثبت على ما ذكر من التوبة والإيمان والعمل الصالح ولم ينكث. ونظير ذلك قوله تعالى: * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) *، وفي الحديث: (قل آمنت بالله ثم استقم). وقال تعالى: * (فاستقم كمآ أمرت) *. قوله تعالى: * (ومآ أعجلك عن قومك ياموسى قال هم أولاء على أثرى وعجلت إليك رب لترضى) *. أشار جل وعلا في هذه الآية الكريمة إلى قصة مواعدته موسى أربعين ليلة وذهابه إلى الميقات، واستعجاله إليه قبل قومه. وذلك أنه لما واعده ربه وجعل له الميقات المذكور، وأوصى أخاه هارون أن يخلفه في قومه، استعجل إلى الميقات فقال له ربه * (ومآ أعجلك عن قومك) *. وهذه القصة التي أجملها هنا أشار لها في غير هذا الموضع. كقوله في (الأعراف): * (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لاخيه هارون اخلفنى فى قومى وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ولما جآء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرنى أنظر إليك) *.
وفي هذه الآية سؤال معروف: وهو أن جواب موسى ليس مطابقا للسؤال الذي سأله ربه، لأن السؤال عن السبب الذي أعجله عن قومه، والجراب لم يأت مطابقا لذلك. لأنه أجاب بقوله: * (هم أولاء على أثرى وعجلت إليك) *.
وأجيب عن ذلك بأجوبة: (منها) أن قوله: * (هم أولاء على أثرى) * يعني هم قريب وما تقدمتهم إلا بيسير يغتفر مثله، فكأني لم أتقدمهم ولم أعجل عنهم لقرب ما بيني وبينهم. (ومنها) أن الله جل وعلا لما خاطبه بقوله * (ومآ أعجلك عن قومك) * داخله من الهيبة والإجلال والتعظيم لله جل وعلا ما أذهله عن الجواب المطابق. والله أعلم.
77

وقوله * (هم أولاء) * المد فيه لغة الحجازيين. ورجحها ابن مالك في الخلاصة بقوله:
والمد أولى..
ولغة التميميين (أولا) بالقصر، ويجوز دخول اللام على لغة التميميين في البعد، ومنه قول الشاعر: ولغة التميميين (أولا) بالقصر، ويجوز دخول اللام على لغة
التميميين في البعد، ومنه قول الشاعر:
* أولا لك قومي لم يكونوا أشابة
* وهل يعظ الضليل إلا أولالكا
*
وأما على لغة الحجازيين بالمد فلا يجوز دخول اللام عليها. قوله تعالى: * (قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامرى) *. الظاهر أن الفتنة المذكورة هي عبادتهم العجل. فهي فتنة إضلال. كقوله: * (إن هى إلا فتنتك تضل بها من تشآء وتهدى من تشآء) *. وهذه الفتنة بعبادة العجل جاءت مبينة في آيات متعددة. كقوله: * (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون) * ونحو ذلك من الآيات.
قوله هنا: * (وأضلهم السامرى) * أوضح كيفية إضلاله لهم في غير هذا الموضع. كقوله: * (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار) * إلى قوله * (اتخذوه وكانوا ظالمين) * أي اتخذوه إلها وقد صنعه السامري لهم من حلي القبط فأضلهم بعبادته. وقوله هنا * (فكذلك ألقى السامرى فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هاذآ إلاهكم وإلاه موسى فنسى) * والسامري: قيل اسمه هارون، وقيل اسمه موسى بن ظفر، وعن ابن عباس: أنه من قوم كانوا يعبدون البقر. وقيل: كان رجلا من القبط. وكان جارا لموسى آمن به وخرج معه. وقيل: كان عظيما من عظماء بني إسرائيل من قبيلة تعرف بالسامرة وهم معروفون بالشام. قال سعيد بن جبير: كان من أهل كرمان. والفتنة أصلها في اللغة: وضع الذهب في النار ليتبين أهو خالص أم زائف. وقد أطلقت في القرآن إطلاقات متعددة: (منها) الوضع في النار، كقوله * (يوم هم على النار يفتنون) * أي يحرقون بها، وقوله * (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات) *. أي أحرقوهم بنار الأخدود
78

. (ومنها) الاختبار وهو الأغلب في استعمال الفتنة. كقوله * (أنمآ أموالكم وأولادكم فتنة) *، وقوله * (وألو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم مآء غدقا لنفتنهم فيه) *. (ومنها) نتيجة الاختيار إذا كانت سيئة. ومن هنا أطلقت الفتنة على الشرك، كقوله * (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) *، وقوله هنا * (فإنا قد فتنا قومك) *. (ومنها) الحجة، كقوله * (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) * أي لم تكن حجتهم.
وقوله تعالى في هذه الآية: * (وأضلهم السامرى) * أسند إضلالهم إليه، لأنه هو الذي تسبب فيه بصياغته لهم العجل من حلي القبط ورميه عليه التراب الذي مسه حافر الفرس التي جاء عليها جبريل، فجعله الله بسبب ذلك عجلا جسدا له خوار، كما قال تعالى في هذه السورة الكريمة: * (فكذلك ألقى السامرى فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار) *، وقال في (الأعراف) * (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار) *. والخوار: صوت البقر. قال بعض العلماء: جعل الله بقدرته ذلك الحلي المصوغ جسدا من لحم ودم، وهذا هو ظاهر قوله * (عجلا جسدا) *. وقال بعض العلماء: لم تكن تلك الصورة لحما ولا دما، ولكن إذا دخلت فيها الريح صوتت كخوار العجل. والأول أقرب لظاهر الآية، والله تعالى قادر على أن يجعل الجماد لحما ودما، كما جعل آدم لحما ودما وكان طينا. قوله تعالى: * (فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن موسى رجع إلى قومه بعد مجيئه للميقات في حال كونه في ذلك الرجوع غضبان أسفا على قومه من أجل عبادتهم العجل.
وقوله * (الحديث أسفا) * أي شديد الغضب. فالأسف هنا: شدة الغضب، وعلى هذا فقوله * (غضبان أسفا) * أي غضبان شديد الغضب. ومن إطلاق الأسف على الغضب في القرآن قوله تعالى في (الزخرف) * (فلمآ ءاسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين) * أي فلما أغضبونا بتماديهم في الكفر مع توالي الآيات عليهم انتقمنا منهم. وقال بعض العلماء: الأسف هنا الحزن والجزع. أي رجع موسى في حال كونه غضبان
79

حزينا جزعا لكفر قومه بعبادتهم للعجل. وقيل: أسفا أي مغتاظا. وقائل هذا يقول: الفرق بين الغضب والغيظ: أن الله وصف نفسه بالغضب، ولم يجز وصفه بالغيظ. حكاه الفخر الرازي. ولا يخفى عدم اتجاهه في تفسير هذه الآية، لأنه راجع إلى القول الأول، ولا حاجة في ذلك إلى التفصيل المذكور.
وقوله * (غضبان أسفا) * حالان. وقد قدمنا فيما مضى أن التحقيق جواز تعدد الحال من صاحب واحد مع كون العامل واحدا. كما أشار له في الخلاصة بقوله: غضبان أسفا) * حالان. وقد قدمنا فيما مضى أن التحقيق جواز تعدد الحال من صاحب واحد مع كون العامل واحدا. كما أشار له في الخلاصة بقوله:
* والحال قد يجيء ذا تعدد
* لمفرد فاعلم وغير مفرد
*
وما ذكره جل وعلا في آية (طه) هذه من كون موسى رجع إلى قومه * (غضبان أسفا) * ذكره في غير هذا الموضع، وذكر أشياء من آثار غضبه المذكور، كقوله في (الأعراف): * (ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتمونى من بعدى) *. وقد بين تعالى أن من آثار غضب موسى إلقاءه الألواح التي فيها التوراة، وأخذه برأس أخيه يجره إليه، كما قال في (الأعراف): * (وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه) *، وقال في (طه) مشيرا لأخذه برأس أخيه: * (قال يبنؤم لا تأخذ بلحيتى ولا برأسى) *. وهذه الآيات فيها الدلالة على أن الخبر ليس كالعيان، لأن الله لما أخبر موسى بكفر قومه بعبادتهم العجل كما بينه في قوله: * (قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامرى) * وهذا خبر من الله يقين لا شك فيه لم يلق الألواح، ولكنه لما عاين قومه حول العجل يعبدونه أثرت فيه معاينة ذلك أثرا لم يؤثره فيه الخبر اليقين بذلك، فألقى الألواح حتى تكسرت، وأخذ برأس أخيه يجره إليه لما أصابه من شدة الغضب من انتهاك حرمات الله تعالى.
وقال ابن كثير في تفسيره في سورة (الأعراف): وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا عفان، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر، أخبره ربه عز وجل أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح، فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح). قوله تعالى: * (قال ياقوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدى قالوا مآ أخلفنا موعدك بملكنا) *
80

. ذكر جل في هذه الآية الكريمة: أن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما رجع إلى قومه، ووجدهم قد عبدوا العجل من بعده قال لهم: * (ياقوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا) *.
وأظهر الأقوال عندي في المراد بهذا الوعد الحسن: أنه وعدهم أن ينزل على نبيهم كتابا فيه كل ما يحتاجون إليه من خير الدنيا والآخرة. وهذا الوعد الحسن المذكور هنا هو المذكور في قوله تعالى: * (وواعدناكم جانب الطور الا يمن) *، وفيه أقوال غير ذلك.
وقوله: * (أفطال عليكم العهد) * الاستفهام فيه للإنكار، يعني لم يطل العهد. كما يقال في المثل: (وما بالعهد من قدم). لأن طول العهد مظنة النسيان، والعهد قريب لم يطل فكيف نسيتم؟
وقوله: * (أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم) * قال بعض العلماء: (أم) هنا هي المنقطعة، والمعنى: بل أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم، ومعنى إرادتهم حلول الغضب: أنهم فعلوا ما يستوجب غضب ربهم بإرادتهم. فكأنهم أرادوا الغضب لما أرادوا سببه، وهو الكفر بعبادة العجل.
وقوله: * (فأخلفتم موعدى) * كانوا وعدوه أن يتبعوه لما تقدمهم إلى الميقات، وأن يثبتوا على طاعة الله تعالى. فعبدوا العجل وعكفوا عليه ولم يتبعوا موسى. فأخلفوا موعده بالكفر وعدم الذهاب في أثره، * (قالوا مآ أخلفنا موعدك بملكنا) * قرأنه نافع وعاصم (بملكنا) بفتح الميم. وقرأه حمزة والكسائي (بملكنا) بضم الميم، وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو (بملكنا) بكسر الميم. والمعنى على جميع القراءات: ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا أمرنا، فلو ملكنا أمرنا ما أخلفنا موعدك. وهو اعتذار منهم بأنهم ما أخلفوا الموعد باختيارهم، ولكنهم مغلوبون على أمرهم من جهة السامري وكيده. وهو اعتذار بارد ساقط كما ترى! ولقد صدق من قال: قالوا مآ أخلفنا موعدك بملكنا) * قرأنه نافع وعاصم (بملكنا) بفتح الميم. وقرأه حمزة والكسائي (بملكنا) بضم الميم، وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو (بملكنا) بكسر الميم. والمعنى على جميع القراءات: ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا أمرنا، فلو ملكنا أمرنا ما أخلفنا موعدك. وهو اعتذار منهم بأنهم ما أخلفوا الموعد باختيارهم، ولكنهم مغلوبون على أمرهم من جهة السامري وكيده. وهو اعتذار بارد ساقط كما ترى! ولقد صدق من قال:
* إذا كان وجه العذر ليس ببين
* فإن اطراح العذر خير من العذر
*
وأما على قول من قال: إن الذين قالوا لموسى: * (مآ أخلفنا موعدك بملكنا) * هم الذين لم يعبدوا العجل. لأنهم وعدوه أن يتبعوه، ولما وقع ما وقع من عبادة أكثرهم للعجل تأخروا عن اتباع موسى بسبب ذلك، ولم يتجرؤوا على مفارقتهم خوفا من الفرقة
81

فالعذر له وجه في الجملة، كما يشير إليه قوله تعالى في القصة في هذه السورة الكريمة * (قال ياهارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أفعصيت أمرى قال يبنؤم لا تأخذ بلحيتى ولا برأسى إنى خشيت أن تقول فرقت بين بنى إسرءيل ولم ترقب قولى) *. والمصدر في قوله * (بملكنا) * مضاف إلى فاعله ومفعوله محذوف، أي بملكنا أمرنا. وقال القرطبي: كأنه قال بملكنا الصواب بل أخطأنا. فهو اعتراف منهم بالخطأ. وقال الزمخشري: * (أفطال عليكم العهد) *: الزمان، يريد مدة مفارقته لهم.
تنبيه
كل فعل مضارع في القرآن مجزوم ب (لم) إذا تقدمتها همزة استفهام. كقوله هنا: * (ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا) * فيه وجهان معروفان عند العلماء:
الأول أن مضارعته تنقلب ماضوية، ونفيه ينقلب إثبانا. فيصير قوله: * (ألم يعدكم) * بمعنى وعدكم، وقوله: * (ألم نشرح لك صدرك) * بمعنى شرحنا، وقوله: * (ألم نجعل له عينين) *، جعلنا له عينين. وهكذا. ووجه انقلاب المضارعة ماضوية ظاهر، لأن (لم) حرف قلب تقلب المضارع من معنى الاستقبال إلى معنى المضي كما هو معروف. ووجه انقلاب النفي إثباتا أن الهمزة إنكارية، فهي مضمنة معنى النفي، فيتسلط النفي الكامن فيها على النفي الصريح في (لم) فينفيه، ونفي النفي إثبات فيؤول إلى معنى الإثبات.
الوجه الثاني أن الاستفهام في ذلك التقرير، وهو حمل المخاطب على أن يقر فيقول (بلى) وعليه فالمراد من قوله * (ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا) * حملهم على أن يقروا بذلك فيقولوا بلى هكذا. ونظير هذا من كلام العرب قول جرير: ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا) * حملهم على أن يقروا بذلك فيقولوا بلى هكذا. ونظير هذا من كلام العرب قول جرير:
* ألستم خير من يركب المطايا
* وأندى العالمين بطون راح
*
فإذا عرفت أن قوله هنا * (فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا) * إلى قوله * (بملكنا) * قد بين الله فيه أن موسى لما رجع إليهم في شدة غضب مما فعلوا وعاتبهم قال لهم في ذلك العتاب * (ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد) * فاعلم أن بعض عتابه لهم لم يبينه هنا، وكذلك بعض فعله، ولكنه بينه في غير هذا الموضع. كقوله في (الأعراف) في القصة بعينها: * (ولما رجع موسى إلى قومه
82

غضبان أسفا قال بئسما خلفتمونى من بعدى أعجلتم أمر ربكم) *، وبين بعض ما فعل بقوله في (الأعراف): * (وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه) *، وقد أشار إلى ذلك هنا في (طه) في قوله: * (قال يبنؤم لا تأخذ بلحيتى ولا برأسى) *. قوله تعالى: * (ولاكنا حملنآ أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامرى فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هاذآ إلاهكم وإلاه موسى فنسى) *. قرأ هذا الحرف أبو عمرو وشعبة عن عاصم، وحمزة والكسائي * (حملنا) * بفتح الحاء والميم المخففة مبينا للفاعل مجردا. وقرأه نافع وابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم (حملنا) بضم الحاء وكسر الميم المشددة مبينا للمفعول. و (نا) على القراءة الأولى فاعل (حمل) وعلى الثانية نائب فاعل (حمل) بالتضعيف. والأوزار في قوله * (أوزارا) * قال بعض العلماء: معناها الأثقال. وقال بعض العلماء: معناها الآثام. ووجه القول الأول أنها أحمال من حلي القبط الذي استعاروه منهم. ووجه الثاني أنها آثام وتبعات. لأنهم كانوا معهم في حكم المستأمنين في دار الحرب، وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي، ولأن الغنائم لم تكن تحل لهم. والتعليل الأخير أقوى.
وقوله: * (من زينة القوم) * المراد بالزينة الحلي، كما يوضحه قوله تعالى: * (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم) * أي ألقياناها وطرحناها في النار التي أوقدها السامري في الحفرة، وأمرنا أن نطرح الحلي فيها. وأظهر الأقوال عندي في ذلك: هو أنهم جعلوا جميع الحلي في النار ليذوب فيصير قطعة واحدة. لأن ذلك أسهل لحفظه حتى يرى نبي الله موسى فيه رأيه. والسامري يريد تدبير خطة لم يطلعوا عليها. وذلك أنه لما جاء جبريل ليذهب بموسى إلى الميقات وكان على فرس، أخذ السامري ترابا مسه حافر تلك الفرس، ويزعمون في القصة أنه عاين موضع أثرها ينبت فيه النبات، فتفرس أن الله جعل فيها خاصية الحياة، فأخذ تلك القبضة من التراب واحتفظ بها، فلما أرادوا أن يطرحوا الحلي في النار ليجعلوه قطعة واحدة أو لغير ذلك من الأسباب وجعلوه فيها، ألقى السامري عليه تلك القبضة من التراب المذكورة، وقال له: كن عجلا جسدا له خوار. فجعله الله عجلا جسدا له خوار. فقال لهم: هذا العجل هو إلهكم وإله موسى، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى عن موسى: * (قال فما خطبك ياسامري قال
83

بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذالك سولت لى نفسى) *.
وقوله في هذه الآية: * (ولاكنا حملنآ أوزارا من زينة القوم) * هو من بقية اعتذارهم الفاسد البارد، وهو يدل على أن ذلك الاعتذار من الذين عبدوا العجل لا من غيرهم، ولا يبعد معه احتمال أنه من غيرهم. لأنه ليس فيه ما يعين كون الاعتذار منهم تعينا غير محتمل. ومعلوم أن هذا العذر عذر لا وجه له على كل حال.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (فنسى) * أي نسي موسى إلهه هنا وذهب يطلبه في محل آخر. قاله ابن عباس في حديث الفتون. وهو قول مجاهد. وعن ابن عباس أيضا من طريق عكرمة * (فنسى) * أي نسي أن يذكركم به. وعن ابن عباس أيضا * (فنسى) * أي السامري ما كان عليه من الإسلام، وصار كافرا بادعاء ألوهية العجل وعبادته. قوله تعالى: * (أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا) *. بين الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة سخافة عقول الذين عبدوا العجل، وكيف عبدوا ما لا يقدر على رد الجواب لمن سأله، ولا يملك نفعا لمن عبده، ولا ضرا لمن عصاه. وهذا يدل على أن المعبود لا يمكن أن يكون عاجرا عن النفع والضرر ورد الجواب. وقد بين هذا المعنى في غير هذا الموضع. كقوله في (الأعراف) في القصة بعينها: * (ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين) * ولا شك أن من اتخذ من لا يكلمه ولا يهديه سبيلا إلها أنه من أظلم الظالمين. ونظير ذلك قوله تعالى عن إبراهيم: * (ياأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا) *، وقوله تعالى عنه أيضا: * (قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون) *، وقوله تعالى: * (ألهم أرجل يمشون بهآ أم لهم أيد يبطشون بهآ أم لهم أعين يبصرون بهآ أم لهم ءاذان يسمعون بها) * وقوله تعالى: * (ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعآئهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعدآء وكانوا بعبادتهم كافرين) *، وقوله تعالى: * (ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعآءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير) *. وقد قدمنا
84

الكلام مستوفى في همزة الاستفهام التي بعدها أداة عطف كالفاء والواو، كقوله هنا: * (أفلا يرون) * فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وقرأ هذا الحرف جماهير القراء * (ألا يرجع) * بالرفع لأن (أن) مخففة من الثقيلة. والدليل على أنها مخففة من الثقيلة تصريحه تعالى بالثقيلة في قوله في المسألة بعينها في (الأعراف): * (ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم) *، ورأى في آية (طه، والأعراف) علمية على التحقيق، لأنهم يعلمون علما يقينا أن ذلك العجل المصوغ من الحلي لا ينفع ولا يضر ولا يتكلم.
واعلم أن المقرر في علم النحو أن: (أن) لها ثلاث حالات: الأولى أن تكون مخففة من الثقيلة قولا واحدا. ولا يحتمل أن تكون (أن) المصدرية الناصبة للفعل المضارع. وضابط هذه: أن تكون بعد فعل العلم وما جرى مجراه من الأفعال الدالة على اليقين. كقوله تعالى: * (أن سيكون منكم مرضى وءاخرون) *، وقوله: * (ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم) *، ونحو ذلك من الآيات، وقول الشاعر: ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم) *، ونحو ذلك من الآيات، وقول الشاعر:
* واعلم فعلم المرء ينفعه
* أن سوف يأتي كل ما قدرا
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* في فتية كسيوف الهند قد علموا
* أن هالك كل من يحفى وينتعل
*
وإذا جاء بعد هذه المخففة من الثقيلة فعل مضارع فإنه يرفع ولا ينصب كقوله: وإذا جاء بعد هذه المخففة من الثقيلة فعل مضارع فإنه يرفع ولا ينصب كقوله:
* علموا أن يؤملون فجادوا
* قبل أن يسألوا بأعظم سؤل
*
و (أن) هذه المخففة من الثقيلة يكون اسمها مستكنا غالبا، والأغلب أن يكون ضمير الشأن. وقيل لا يكون إلا ضمير الشأن، وخبرها الجملة التي بعدها، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله: و (أن) هذه المخففة من الثقيلة يكون اسمها مستكنا غالبا، والأغلب أن يكون ضمير الشأن. وقيل لا يكون إلا ضمير الشأن، وخبرها الجملة التي بعدها، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله:
* وإن تخفف أن فاسمها استكن
* والخبر اجعل جملة من بعد أن
*
وما سمع في شعر العرب من بروز اسمها في حال كونه غير ضمير الشأن فمن ضرورة الشعر. كقول جنوب أخت عمر عمرو ذي الكلب: وما سمع في شعر العرب من بروز اسمها في حال كونه غير ضمير الشأن فمن ضرورة الشعر. كقول جنوب أخت عمر عمرو ذي الكلب:
* لقد علم الضيف والمرملون
* إذا اغبر أفق وهبت شمالا
*
* بأن ربيع وغيث مربع
* وأنك هناك تكون الثمالا
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* فلو أنك في يوم الرخاء سألتني
* طلاقك لم أبخل وأنت صديق
*
85

الحالة الثانية أن تكون محتملة لكونها المصدرية الناصبة للمضارع. ومحتملة لأن تكون هي المخففة من الثقيلة. وإن جاء بعدها فعل مضارع جاز نصبه للاحتمال الأول، ورفعه للاحتمال الثاني، وعليه القراءتان السبعيتان في قوله * (وحسبوا ألا تكون فتنة) * بنصب (تكون) ورفعه، وضابط (أن) هذه أن تكون بعد فعل يقتضي الظن ونحوه من أفعال الرجحان. وإذا لم يفصل بينها وبين الفعل فاصل فالنصب أرجح، ولذا اتفق القراء على النصب في قوله تعالى * (أحسب الناس أن يتركوا) *. وقيل: إن (أن) الواقعة بعد الشك ليس فيها إلا النصب. نقله الصبان في حاشيته عن أبي حيان بواسطة نقل السيوطي.
الحالة الثالثة أن تكون (أن) ليست بعد ما يقتضي اليقين ولا الظن ولم يجر مجراهما، فهي المصدرية الناصبة للفعل المضارع قولا واحدا. وإلى الحالات الثلاث المذكورة أشار بقوله في الخلاصة: الحالة الثالثة أن تكون (أن) ليست بعد ما يقتضي اليقين ولا الظن ولم يجر مجراهما، فهي المصدرية الناصبة للفعل المضارع قولا واحدا. وإلى الحالات الثلاث المذكورة أشار بقوله في الخلاصة:
* وبان انصبه وكى كذا بأن
* لا بعد علم والتي من بعد ظن
*
* فانصب بها والرفع صحح واعتقد
* تخفيفها من أن فهو مطرد
*
تنبيه
قال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة: وليس المقصود من هذا أن العجل لو كان يكلمهم لكان إلها. لأن الشيء يجوز أن يكون مشروطا بشروط كثيرة، ففوات واحد منها يقتضي فوات المشروط، ولكن حصول الواحد فيها لا يقتضي حصول المشروط انتهى كلامه. وما ذكره مقرر في الأصول. فكل ما توقف على شرطين فصاعدا لا يحصل إلا بحصول جميع الشروط. فلو قلت لعبدك: إن صام زيد وصلى وحج فأعطه دينارا. لم يجز له إعطاؤه الدينار إلا بالشروط الثلاثة. ومحل هذا ما لم يكن تعليق الشروط على سبيل البدل فإنه يكفي فيه واحد. فلو قلت لعبدك: إن صام زيد أو صلى فأعطه درهما. فإنه يستوجب إعطاء الدرهم بأحد الأمرين. وإلى هذه المسألة أشار في مراقي السعود في مبحث المخصصات المتصلة بقوله: قال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة: وليس المقصود من هذا أن العجل لو كان يكلمهم لكان إلها. لأن الشيء يجوز أن يكون مشروطا بشروط كثيرة، ففوات واحد منها يقتضي فوات المشروط، ولكن حصول الواحد فيها لا يقتضي حصول المشروط انتهى كلامه. وما ذكره مقرر في الأصول. فكل ما توقف على شرطين فصاعدا لا يحصل إلا بحصول جميع الشروط. فلو قلت لعبدك: إن صام زيد وصلى وحج فأعطه دينارا. لم يجز له إعطاؤه الدينار إلا بالشروط الثلاثة. ومحل هذا ما لم يكن تعليق الشروط على سبيل البدل فإنه يكفي فيه واحد. فلو قلت لعبدك: إن صام زيد أو صلى فأعطه درهما. فإنه يستوجب إعطاء الدرهم بأحد الأمرين. وإلى هذه المسألة أشار في مراقي السعود في مبحث المخصصات المتصلة بقوله:
* وإن تعلق على شرطين
* شيء فبالحصول للشرطين
*
* وما على البدل قد تعلقا
* فبحصول واحد تحققا
*
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: وقد تقدم في حديث الفتون عن
86

الحسن البصري: أن هذا العجل اسمه يهموت. وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة: أنهم تورعوا عن زينة القبط فألقوها عنهم وعبدوا العجل، فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير، كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر: أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض إذا أصاب الثوب. يعني هل يصلي فيه أم لا؟ فقال ابن عمر رضي الله عنهما: انظروا إلى أهل العراق قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم (يعني الحسين رضي الله عنه) وهم يسألون عن دم البعوضة انتهى منه. قوله تعالى: * (ولقد قال لهم هارون من قبل ياقوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمان فاتبعونى وأطيعوا أمرى قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى) *. بين جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين: أن بني إسرائيل لما فتهم السامري وأضلهم بعبادة العجل، نصحهم نبي الله هارون عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وبين لهم عبادتهم العجل فتنة فتنوا بها. أي كفر وضلال ارتكبوه بذلك، وبين لهم أن ربهم الرحمن خالق كل شيء جل وعلا، وأن عجلا مصطنعا من حلي لا يعبده إلا مفتون ضال كافر. وأمرهم باتباعه في توحيد الله تعالى، والوفاء بموعد موسى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام وأن يطيعوه في ذلك. فصارحوه بالنمرد والعصيان والديمومة على الكفر حتى يرجع موسى. وهذا يدل على أنه بلغ معهم غاية جهده وطاقته، وأنهم استضعفوه وتمردوا عليه ولم يطيعوه.
وقد أوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع، كقوله في (الأعراف): * (قال ابن أم إن القوم استضعفونى وكادوا يقتلوننى فلا تشمت بى الأعدآء ولا تجعلنى مع القوم الظالمين) *. فقوله عنهم في خطابهم له * (لن نبرح عليه عاكفين) * يدل على استضعافهم له وتمردهم عليه المصرح به في (الأعراف) كما بينا. وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآيات الكريمات ما نصه. وسئل الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله: ما يقول سيدنا الفقيه في مذهب الصوفية؟ واعلم حرس الله مدته: أنه اجتمع جماعة من رجال فيكثرون من ذكر الله تعالى وذكر محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من الأديم، ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشيا عليه، ويحضرون شيئا يأكلونه. هل الحضور معهم جائز أم لا؟ أفتونا مأجورين. وهذا القول الذي يذكرونه:، ثم إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من الأديم، ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشيا عليه، ويحضرون شيئا يأكلونه. هل الحضور معهم جائز أم لا؟ أفتونا مأجورين. وهذا القول الذي يذكرونه:
* يا شيخ كف عن الذنوب
* قبل التفرق والزلل
*
87

* واعمل لنفسك صالحا
* ما دام ينفعك العمل
*
* أما الشباب فقد مضى
* ومشيب رأسك قد نزل
*
وفي مثل هذا ونحوه الجواب يرحمك الله: مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وأما الرقص والتواجد: فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار، قاموا يرقصون حواليه، ويتواجدون، فهو دين الكفار وعبادة العجل. وأما القضيب: فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى. وإنما كان يجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار. فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من حضور المساجد وغيرها. ولا يحل لأحد أن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، ولا أن يعينهم على باطلهم. هذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم من أئمة المسلمين وبالله التوفيق انتهى منه بلفظه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: قد قدمنا في سورة (مريم) ما يدل على أن بعض الصوفية على الحق. ولا شك أن منهم ما هو على الطريق المستقيم من العمل بكتاب الله وسنة ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبذلك عالجوا أمراض قلوبهم وحرسوها، وراقبوها وعرفوا أحوالها، وتكلموا على أحوال القلوب كلاما مفصلا كما هو معلوم، كعبد الرحمن بن عطية، أو ابن أحمد بن عطية، أو ابن عسكر أعني أبا سليمان الداراني، وكعون بن عبد الله الذي كان يقال له حكم الأمة، وأضرابهما، وكسهل بن عبد الله التستري، أبي طالب المكي، وأبي عثمان النيسابوري، ويحيى بن معاذ الرازي، والجنيد بن محمد، ومن سار على منوالهم، لأنهم عالجوا أمراض أنفسهم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يحيدون عن العمل بالكتاب والسنة ظاهرا وباطنا، ولم تظهر منهم أشياء تخالف الشرع. فالحكم بالضلال على جميع الصوفية لا ينبغي ولا يصح على إطلاقه، والميزان الفارق بين الحق والباطل في ذلك هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فمن كان منهم متبعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله، وهديه وسمته، كمن ذكرنا وأمثالهم، فإنهم من جملة العلماء العاملين، ولا يجوز الحكم عليهم بالضلال. وأما من كان على خلاف ذلك فهو الضال.
نعم، صار المعروف في الآونة الأخيرة، وأزمنة كثيرة قبلها بالاستقراء، أن عاملة الذين يدعون التصوف في أقطار الدنيا إلا من شاء الله منهم دجاجلة يتظاهرون بالدين ليضلوا العوام الجهلة وضعاف العقول من طلبة العلم، ليتخذوا بذلك أتباعا وخدما،
88

وأموالا وجاها، وهم بمعزل عن مذهب الصوفية الحق، لا يعلمون بكتاب الله ولا بسنة نبيه، واستعمارهم لأفكار ضعاف القول أشد من استعمار كل طوائف المستعمرين. فيجب التباعد عنهم، والاعتصام من ضلالتهم بكتاب الله وسنة نبيه، ولو ظهر على أيديهم بعض الخوارق، ولقد صدق من قال: نعم، صار المعروف في الآونة الأخيرة، وأزمنة كثيرة قبلها بالاستقراء، أن عاملة الذين يدعون التصوف في أقطار الدنيا إلا من شاء الله منهم دجاجلة يتظاهرون بالدين ليضلوا العوام الجهلة وضعاف العقول من طلبة العلم، ليتخذوا بذلك أتباعا وخدما، وأموالا وجاها، وهم بمعزل عن مذهب الصوفية الحق، لا يعلمون بكتاب الله ولا بسنة نبيه، واستعمارهم لأفكار ضعاف القول أشد من استعمار كل طوائف المستعمرين. فيجب التباعد عنهم، والاعتصام من ضلالتهم بكتاب الله وسنة نبيه، ولو ظهر على أيديهم بعض الخوارق، ولقد صدق من قال:
* إذا رأيت رجلا يطير
* وفوق ماء البحر قد يسير
*
* ولم يقف عند حدود الشرع
* فإنه مستدرج أو بدعي
*
والقول الفصل في ذلك هو قوله تعالى: * (ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولائك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا) *، فمن كان عمله مخالفا للشرع كمتصوفة آخر الزمان فهو الضال. ومن كان عمله موافقا لما جاء به نبينا عليه الصلاة والسلام فهو المهتدي. نرجو الله تعالى أن يهدينا وإخواننا المؤمنين، وألا يزيغنا ولا يضلنا عن العمل بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم التي هي حجة بيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
* (قال ياهارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * ألا تتبعن أفعصيت أمرى * قال يبنؤم لا تأخذ بلحيتى ولا برأسى إنى خشيت أن تقول فرقت بين بنى إسرءيل ولم ترقب قولى * قال فما خطبك ياسامري * قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذالك سولت لى نفسى * قال فاذهب فإن لك فى الحيواة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلاهك الذى ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه فى اليم نسفا * إنمآ إلاهكم الله الذى لا إلاه إلا هو وسع كل شىء علما * كذالك نقص عليك من أنبآء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا * من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا * خالدين فيه وسآء لهم يوم القيامة حملا * يوم ينفخ فى
الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا * يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا * نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما * ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربى نسفا) * قوله تعالى: * (قال ياهارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن) *. قال بعض أهل العلم: (ا) في قوله: * (ألا تتبعن) * زائدة للتوكيد. واستدل من قال ذلك بقوله تعالى في (الأعراف): * (قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) * قال لأن المراد: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك. بدليل قوله في القصة بعينها في سورة (ص): * (قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى) *. فحذف لفظة (لا) في (ص) مع ثبوتها في (الأعراف) والمعنى واحد. فدل ذلك على أنها مزيدة للتوكيد.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: قد عرف في اللغة العربية أن زيادة لفظة (لا) في الكلام الذي فيه معنى الجحد لتوكيده مطردة. كقوله هنا: * (ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن) * أي ما منعك أن تتبعني، وقوله: * (ما منعك أن تسجد) * بدليل قوله في (ص): * (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى) *، وقوله تعالى: * (لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شىء من فضل الله) *. أي ليعلم أهل الكتاب، وقوله * (فلا وربك لا يؤمنون) * إي فوربك لا يؤمنون، وقوله: * (ولا تستوى
89

الحسنة ولا السيئة) * أي والسيئة، وقوله: * (وحرام على قرية أهلكناهآ أنهم لا يرجعون) * على أحد القولين، وقوله: * (وما يشعركم أنهآ إذا جآءت لا يؤمنون) * على أحد القولين، وقوله: * (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا) * على أحد الأقوال فيها. ونظير ذلك من كلام العرب قول امرئ القيس: ونظير ذلك من كلام العرب قول امرئ القيس:
* فلا وأبيك ابنة العامري
* لا يدعي القوم أني أفر
*
يعني فو أبيك. وقول أبي النجم: يعني فو أبيك. وقول أبي النجم:
* فما ألوم البيض ألا تسخرا
* لما رأين الشمط القفندرا
*
يعني أن تسخر، وقول الآخر: يعني أن تسخر، وقول الآخر:
* ما كان يرضى رسول الله دينهم
* والأطيبان أبو بكر ولا عمر
*
يعني وعمر. وقول الآخر: يعني وعمر. وقول الآخر:
* وتلحينني في اللهو ألا أحبه
* وللهو داع دائب غير غافل
*
يعني أن أحبه، و (لا) مزيدة في جميع الأبيات لتوكيد الجحد فيها. وقال الفراء: إنها لا تزاد إلا في الكلام الذي فيه معنى الجحد كالأمثلة المتقدمة. والمراد بالجحد النفي وما يشبه كالمنع في قوله: * (ما منعك) * ونحو ذلك. والذي يظهر لنا والله تعالى أعلم. أن زيادة لفظة (لا) لتوكيد الكلام وتقويته أسلوب من أساليب اللغة العربية، وهو في الكلام الذي فيه معنى الجحد أغلب مع أن ذلك مسموع في غيره. وأنشد الأصمعي لزيادة (لا) قول ساعدة الهذلي: ما منعك) * ونحو ذلك. والذي يظهر لنا والله تعالى أعلم. أن زيادة لفظة (لا) لتوكيد الكلام وتقويته أسلوب من أساليب اللغة العربية، وهو في الكلام الذي فيه معنى الجحد أغلب مع أن ذلك مسموع في غيره. وأنشد الأصمعي لزيادة (لا) قول ساعدة الهذلي:
* أفعنك لا برق كان وميضه
* غاب تسنمه ضرام مثقب
*
ويروى (أفمنك) بدل (أفعنك) و (تشيمه) بدل (تسنمه) يعني أعنك برق ب (لا) زائدة للتوكيد والكلام ليس فيه معنى الجهد. ونظيره قول الآخر: ويروى (أفمنك) بدل (أفعنك) و (تشيمه) بدل (تسنمه) يعني أعنك برق ب (لا) زائدة للتوكيد والكلام ليس فيه معنى الجهد. ونظيره قول الآخر:
* تذكرت ليلى فاعترتني صبابة
* وكاد صميم القلب لا يتقطع
*
يعني كاد يتقطع. وأنشد الجوهري لزيادة (لا) قول العجاج: يعني كاد يتقطع. وأنشد الجوهري لزيادة (لا) قول العجاج:
* في بئر لا حور سرى وما شعر
* بإفكه حتى رأى الصبح جشر
*
والحور الهلكة. يعني في بئر هلكة ولا زائدة للتوكيد. قاله أبو عبيدة وغيره.
90

والكلام ليس فيه معنى الجهد. وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في سورة (البلد). قوله تعالى: * (أفعصيت أمرى) *. الظاهر أن أمره المذكور في هذه الآية هو المذكور في قوله تعالى: * (وقال موسى لاخيه هارون اخلفنى فى قومى وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) *.
وهذه الآية الكريمة تدل على اقتضاء الأمر للوجوب. لأنه أطلق اسم المعصية على عدم امتثال الأمر، والنصوص الدالة على ذلك كثيرة: كقوله تعالى: * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) *، وقوله: * (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) * فجعل أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم مانعا من الاختيار، موجبا للامتثال. وقوله تعالى: * (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) * فوبخه هذا التوبيخ الشديد على عدم امتثال الأمر المدلول عليه بصيغة أفعل في قوله تعالى: * (اسجدوا لادم) *. وجماهير الأصوليين على أن صيغة الأمر المجردة عن القرائن تقتضي الوجوب للأدلة التي ذكرنا وغيرها مما هو مماثل لها. وإلى ذلك أشار في مراقي السعود بقوله:
* وافعل لدى الأكثر للوجوب
* وقيل للندب أو المطلوب
*
الخ. قوله تعالى: * (قال يبنؤم لا تأخذ بلحيتى ولا برأسى إنى خشيت أن تقول فرقت بين بنى إسرءيل ولم ترقب قولى) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن هارون قاله لأخيه موسى * (يبنؤم لا تأخذ بلحيتى ولا برأسى) * وذلك يدل على أنه لشدة غضبه أراد أن يمسك برأسه ولحيته. وقد بين تعالى في (الأعراف) أنه أخذ برأسه يجره إليه. وذلك في قوله: * (أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن) *. وقوله: * (ولم ترقب قولى) * من بقية كلام هارون. أي خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل، وأن تقول لي لم ترقب قوليا أي لم تعمل بوصيتي وتمتثل أمري.
91

تنبيه
هذه الآية الكريمة بضميمة آية (الأنعام) إليها تدل على لزوم إعفاء اللحية، فهي دليل قرآني على إعفاء اللحية وعدم حلقها. وآية الأنعام المذكورة هي قوله تعالى: * (ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون) *. ثم إنه تعالى قال بعد أن عد الأنبياء الكرام المذكورين * (أولائك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) * فدل ذلك على أن هارون من الأنبياء الذين أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم، وأمره صلى الله عليه وسلم بذلك أمر لنا. لأن أمر القدوة أمر لأتباعها كما بينا إيضاحه بالأدلة القرآنية في هذا الكتاب المبارك في سورة (المائدة) وقد قدمنا هناك: أنه ثبت في صحيح البخاري: أن مجاهدا سأل ابن عباس: من أين أخذت السجدة في (ص) قال: أو ما تقرأ * (ومن ذريته داوود) * * (أولائك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) * فسجدها داود فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا علمت بذلك أن هارون من الأنبياء الذين أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم في سورة (الأنعام)، وعلمت أن أمره أمر لنا. لأن لنا فيه الأسوة الحسنة، وعلمت أن هارون كل موفرا شعر لحيته بدليل قوله لأخيه: * (لا تأخذ بلحيتى) * لأنه لو كان حالقا لما أراد أخوه الأخذ بلحيته تبين لك من ذلك بإيضاح: أن إعفاء اللحية من السمت الذي أمرنا به في القرآن العظيم، وأنه كان سمت الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم. والعجب من الذين مضخت ضمائرهم، واضمحل ذوقهم، حتى صاروا يفرون من صفات الذكورية، وشرف الرجولة، إلى خنوثة الأنوثة، ويمثلون بوجوههم بحلق أذقانهم، ويتشبهون بالنساء حيث يحاولون القضاء على أعظم الفوارق الحسية بين الذكر والأنثى وهو اللحية. وقد كان صلى الله عليه وسلم كث اللحية، وهو أجمل الخلق وأحسنهم صورة. والرجال الذين أخذوا كنوز كسرى وقيصر، ودانت لهم مشارق الأرض ومغاربها: ليس فيهم حالق. نرجو الله أن يرينا وإخواننا المؤمنين الحق حقا، ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه.
أما الأحاديث النبوية الدالة على إعفاء اللحية، فلسنا بحاجة إلى ذكرها لشهرتها بين الناس، وكثرة الرسائل المؤلفة في ذلك. وقصدنا هنا أن نبين دليل ذلك من القرآن. وإنما قال هارون لأخيه * (قال يبنؤم) * لأن قرابة الأم أشد عطفا وحنانا من قرابة الأب. وأصله. يا بنؤمي بالإضافة إلى ياء المتكلم، ويطرد حذف الياء وإبدالها ألفا وحذف الألف المبدلة منها كما هنا، وإلى ذلك أشار في الخلاصة بقوله: وأصله. يا بنؤمي بالإضافة إلى ياء المتكلم، ويطرد حذف الياء وإبدالها ألفا وحذف الألف المبدلة منها كما هنا، وإلى ذلك أشار في الخلاصة بقوله:
* وفتح أو كسر وحذف اليا استمر
* في يا بنؤم يا بن عم لا مفر
*
92

وأما ثبوت ياء المتكلم فيقول حرملة بن المنذر: وأما ثبوت ياء المتكلم فيقول حرملة بن المنذر:
* يا بنؤمي وياء شقيق نفسي
* أنت خليتني لدهر شديد
*
فلغة قليلة. وقال بعضهم: هو لضرورة الشعر. وقوله (يا بنؤم) قرأه ابن عامر وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي بكسر الميم. وقرأه الباقون بفتحها. وكذلك قوله في (الأعراف): * (قال ابن أم إن القوم) * الآية. قوله تعالى: * (إنمآ إلاهكم الله الذى لا إلاه إلا هو وسع كل شىء علما) *. بين جل وعلا في هذه الآية: أن العجل الذي صنعه السامري من حلي القبط لا يمكن أن يكون إلها؟ وذلك لأنه حصر الإله أي المعبود بحق ب * (إنما) * التي هي أداة حصر على التحقيق في خالق السماوات والأرض. الذي لا إله إلا هو. أي لا معبود بالحق إلا هو وحده جل وعلا، وهو الذي وسع كل شيء علما. وقوله * (علما) * تمييز محول عن الفاعل، أي وسع علمه كل شيء.
وما ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة: من أنه تعالى هو الإله المعبود بحق دون غيره، وأنه وسع كل شيء علما ذكره في آيات كثيرة من كتابه تعالى. كقوله تعالى: * (الله لا إلاه إلا هو) *، وقوله: * (فاعلم أنه لا إلاه إلأ الله) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في إحاطة علمه بكل شيء: * (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الا رض ولا فى السمآء ولا أصغر من ذالك ولا أكبر إلا فى كتاب مبين) *، وقوله تعالى: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمهآ إلا هو ويعلم ما فى البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة فى ظلمات الا رض ولا رطب ولا يابس إلا فى كتاب مبين) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا. قوله تعالى: * (كذالك نقص عليك من أنبآء ما قد سبق) *. الكاف في قوله * (كذالك) * في محل نصب على أنه نعت لمصدر محذوف، أي نقص عليك من أنباء ما سبق قصصا مثل ذلك القصص الحسن الحق الذي قصصنا عليك عن موسى وهارون، وعن موسى وقومه والسامري. والظاهر أن (من) في قوله * (من أنبآء ما قد سبق) * للتبعيض، ويفهم من ذلك أن بعضهم لم يقصص عليه خبره ويدل لهذا
93

المفهوم قوله تعالى في سورة (النساء): * (ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك) *، وقوله في سورة (المؤمن): * (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك) *، قوله في سورة (إبراهيم) * (ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جآءتهم رسلهم بالبينات) *. والأنباء: جمع نبأ وهو الخبر الذي له شأن.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من أنه قص على نبيه صلى الله عليه وسلم أخبار الماضين. أي ليبين بذلك صدق نبوته، لأنه أمي لا يكتب ولا يقرأ الكتب، ولم يتعلم أخبار الأمم وقصصهم. فلولا أن الله أوحى إليه ذلك لما علمه بينه أيضا في غير هذا الموضع، كقوله في (آل عمران): * (ذالك من أنبآء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون) * أي فلولا أن أن الله أوحى إليك ذلك لما كان لك علم به. وقوله تعالى في سورة (هود) * (تلك من أنبآء الغيب نوحيهآ إليك ما كنت تعلمهآ أنت ولا قومك من قبل هاذا فاصبر إن العاقبة للمتقين) *، وقوله في (هود) أيضا: * (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك) *. وقوله تعالى في سورة (يوسف): * (ذلك من أنبآء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون) *، وقوله في (يوسف) أيضا: * (نحن نقص عليك أحسن القصص بمآ أوحينآ إليك هاذا القرءان وإن كنت من قبله لمن الغافلين) *، وقوله في (القصص): * (وما كنت بجانب الغربى إذ قضينآ إلى موسى الا مر) *، وقوله فيها: * (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا) *، وقوله: * (وما كنت ثاويا فى أهل مدين تتلو عليهم ءاياتنا) *، إلى غير ذلك من الآيات. يعني لم تكن حاضرا يا نبي الله لتلك الوقائع، فلولا أن الله أوحى إليك ذلك لما علمته. وقوله * (من أنبآء ما قد سبق) * أي أخبار ما مضى من أحوال الأمم والرسل. وقوله تعالى: * (وقد آتيناك من لدنا ذكرا) *. أي أعطيناك من عندنا ذكرا وهو هذا القرآن العظيم، وقد دلت على ذلك آيات من كتاب الله. كقوله: * (طسم) *، وقوله تعالى: * (ذالك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم) *، وقوله تعالى: * (ما
94

يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون) * وقوله: * (وقالوا ياأيها الذى نزل عليه الذكر إنك لمجنون) *، وقوله تعالى: * (ص والقرءان ذى الذكر) *، وقوله تعالى: * (وإنه لذكر لك ولقومك) *، وقوله: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة: ثم في تسمية القرآن بالذكر وجوه:
أحدها أنه كتاب فيه ذكر ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم ودنياهم.
وثانيها أنه يذكر أنواع آلاء الله ونعمائه تعالى. ففيه التذكير والمواعظ.
وثالثها أنه فيه الذكر والشرف لك ولقومك على ما قال: * (وإنه لذكر لك ولقومك) *.
واعلم أن الله تعالى سمى كل كتبه ذكرا فقال: * (فاسألوا أهل الذكر) * ا ه المراد من كلام الرازي.
ويدل للوجه الثاني في كلامه قوله تعالى: * (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا ءاياته وليتذكر أولو الا لباب) *، وقوله تعالى: * (وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا) *. قوله تعالى: * (من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا خالدين فيه وسآء لهم يوم القيامة حملا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من أعرض عن هذا الذكر الذي هو القرآن العظيم، أي صد وأدبر عنه، ولم يعمل بما فيه من الحلال والحرام، والآداب والمكارم، ولم يعتقد ما فيه من
العقائد ويعتبر بما فيه من القصص والأمثال، ونحو ذلك فإنه يحمل يوم القيامة وزرا، قال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة: يريد بالوزر العقوبة الثقيلة الباهظة. سماها وزرا تشبيها في ثقلها على المعاقب وصعوبة احتمالها، بالحمل الذي يفدح الحامل وينقض ظهره، ويلقي عليه بهره. أو لأنها جزاء الوزر وهو الإثم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: قد دلت آيات كثيرة من كتاب الله: على أن المجرمين يأتون يوم القيامة يحملون أوزارهم. أي أثقال ذنوبهم. أي أثقال ذنوبهم على ظهورهم. كقوله
95

في سورة (الأنعام): * (قد خسر الذين كذبوا بلقآء الله حتى إذا جآءتهم الساعة بغتة قالوا ياحسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا سآء ما يزرون) *، وقوله في (النحل): * (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا سآء ما يزرون) *، وقوله في (العنكبوت): * (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون) *، وقوله في (فاطر): * (ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شىء ولو كان ذا قربى) *.
وبهذه الآيات التي ذكرنا وأمثالها في القرآن تعلم أن معنى قوله تعالى: * (فإنه يحمل يوم القيامة وزرا) *، وقوله: * (وسآء لهم يوم القيامة حملا) * أن المراد بذلك الوزر المحمول أثقال ذنوبهم وكفرهم يأتون يوم القيامة يحملونها: سواء قلنا إن أعمالهم السيئة تتجسم في أقبح صورة وأنتنها، أو غبر ذلك كما تقدم إيضاحه. والعلم عند الله. وقد قدمنا عمل (ساء) التي بمعنى يئس مرارا. فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وقوله تعالى: * (خالدين فيه) *. قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: * (خالدين فيه) * يريد مقيمين فيه، أي في جزائه، وجزاؤه جهنم.
تنبيه
إفراد الضمير في قوله: * (أعرض) *، وقوله: * (فإنه) * وقوله: * (يحمل) * باعتبار لفظ (من) وأما جمع * (خالدين) * وضمير لهم * (يوم القيامة) * فباعتبار معنى من كقوله: * (ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجرى من تحتها الا نهار خالدين فيهآ) *، وقوله: * (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيهآ أبدا) *.
وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة: فإن قلت: اللام في (لهم) ما هي؟ وبم تتعلق؟ قلت: هي للبيان كما في * (هيت لك) *. قوله تعالى: * (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربى نسفا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنهم يسألونه عن الجبال، وأمره أن يقول لهم:
96

إن ربه ينسفها نسفا، وذلك بأن يقلعها من أصولها، ثم يجعلها كالرمل المتمايل الذي يعيل، وكالصوف المنفوش تطيرها الرياح هكذا وهكذا.
واعلم أنه جل وعلا بين الأحوال التي تصير إليها الجبال يوم القيامة في آيات من كتابه. فبين أنه ينزعها من أماكنها. ويحملها فيدكها دكا. وذلك في قوله: * (فإذا نفخ فى الصور نفخة واحدة وحملت الا رض والجبال فدكتا دكة واحدة) *.
ثم بين أنه يسيرها في الهواء بين السماء والأرض. وذلك في قوله * (ويوم ينفخ فى الصور ففزع من فى السماوات ومن فى الا رض إلا من شآء الله وكل أتوه داخرين وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب صنع الله الذى أتقن كل شىء إنه خبير بما تفعلون) *، وقوله: * (ويوم نسير الجبال وترى الا رض بارزة) *، وقوله: * (وإذا الجبال سيرت) *، وقوله تعالى: * (وسيرت الجبال فكانت سرابا) *، وقوله تعالى: * (يوم تمور السمآء مورا وتسير الجبال سيرا) *.
ثم بين أنه يفتنها ويدقها كقوله * (وبست الجبال بسا) * أي فتت حتى صارت كالبسيسة، وهي دقيق ملتوت بسمن أو نحوه على القول بذلك، وقوله: * (وحملت الا رض والجبال فدكتا دكة واحدة) *.
ثم بين أنه يصيرها كالرمل المتهايل، وكالعن المنفوش؟ وذلك في قوله: * (يوم ترجف الا رض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا) *، وقوله تعالى: * (يوم تكون السمآء كالمهل وتكون الجبال كالعهن) * في (المعارج، والقارعة). والعهن: الصوف المصبوغ. ومنه قول زهير بن أبي سلمى في معلقته: وتكون الجبال كالعهن) * في (المعارج، والقارعة). والعهن: الصوف المصبوغ. ومنه قول زهير بن أبي سلمى في معلقته:
* كأن فتات العهن في كل منزل
* نزلن به حب الفنا لم يحطم
*
ثم بين أنها تصير كالهباء المنبث في قوله: * (وبست الجبال بسا فكانت هبآء منبثا) * ثم بين أنها تصير سرابا، وذلك في قوله: * (وسيرت الجبال فكانت سرابا) * وقد بين في موضع آخر: أن السراب لا شيء. وذلك قوله تعالى: * (حتى إذا جآءه لم يجده شيئا) * وبين أنه ينسفها نسفا في قوله هنا: * (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربى نسفا) *.
97

تنبيه
جرت العادة في القرآن: أن الله إذا قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (يسئلونك) * قال له * (قل) * بغير فاء. كقوله: * (ويسألونك عن الروح قل الروح) *، وقوله تعالى: * (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهمآ إثم كبير) *، وقوله: * (يسألونك ماذا ينفقون قل مآ أنفقتم من خير) *، وقوله * (يسألونك ماذآ أحل لهم قل أحل لكم الطيبات) *، وقوله: * (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير) * إلى غير ذلك من الآيات، أما في آية (طه) هذه فقال فيها: * (فقل
ينسفها) * بالفاء. وقد أجاب القرطبي رحمه الله عن هذا في تفسير هذه الآية بما نصه: * (ويسألونك عن الجبال) * أي عن حال الجبال يوم القيامة، فقل. جاء هذا بفاء، وكل سؤال في القرآن (قل) بغير فاء إلا هذا. لأن المعنى: إن سألوك عن الجبال فقل، فتضمن الكلام معنى الشرط، وقد علم الله أنهم يسألونه عنها فأجابهم قبل السؤال. وتلك أسئلة تقدمت، سألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم فجاء الجواب عقب السؤال. فلذلك كان بغير فاء. وهذا سؤال لم يسألوه عنه بعد فتفهمه انتهى منه. وما ذكره يحتاج إلى دليل، والعلم عند الله تعالى.
* (فيذرها قاعا صفصفا * لا ترى فيها عوجا ولا أمتا * يومئذ يتبعون الداعى لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمان فلا تسمع إلا همسا * يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمان ورضى له قولا * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما * وعنت الوجوه للحى القيوم وقد خاب من حمل ظلما * ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما * وكذالك أنزلناه قرءانا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا) * قوله تعالى: * (فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا) *. الضمير في قوله: * (فيذرها) * فيه وجهان معروفان عند العلماء:
أحدهما أنه راجع إلى الأرض وإن لم يجر لها ذكر. ونظير هذا القول في هذه الآية قوله تعالى: * (ما ترك على ظهرها من دآبة) *، وقوله: * (ما ترك عليها من دآبة) * فالضمير فيهما راجع إلى الأرض ولم يجر لها ذكر. وقد بينا شواهد ذلك من العربية والقرآن بإيضاح في سورة (النحل) فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
والثاني أنه راجع إلى منابت الجبال التي هي مراكزها ومقارها لأنها مفهومة من ذكر الجبال. والمعنى: فيذر مواضعها التي كانت مستقرة فيها من الأرض قاعا صفصفا. والقاع: المستوى من الأرض. وقيل: مستنقع الماء. والصفصف: المستوى الأملس
98

الذي لا نبات فيه ولا بناء، فإنه على صف واحد في استوائه. وأنشد لذلك سيبويه قول الأعشي: والثاني أنه راجع إلى منابت الجبال التي هي مراكزها ومقارها لأنها مفهومة من ذكر الجبال. والمعنى: فيذر مواضعها التي كانت مستقرة فيها من الأرض قاعا صفصفا. والقاع: المستوى من الأرض. وقيل: مستنقع الماء. والصفصف: المستوى الأملس الذي لا نبات فيه ولا بناء، فإنه على صف واحد في استوائه. وأنشد لذلك سيبويه قول الأعشي:
* وكم دون بيتك من صفصف
* ودكداك ومل وأعقادها
*
ومنه قول الآخر: ومنه قول الآخر:
* وملمومة شهباء لو قذفوا بها
* شماريخ من رضوى إذا عاد صفصفا
*
وقوله: * (لا ترى فيها عوجا ولا أمتا) * أي لا اعوجاج فيها ولا أمت. والأمت: النتوء اليسير. أي ليس فيها اعوجاج ولا ارتفاع بعضها على بعض، بل هي مستوية، ومن إطلاق الأمت بالمعنى المذكور قول لبيد: لا ترى فيها عوجا ولا أمتا) * أي لا اعوجاج فيها ولا أمت. والأمت: النتوء اليسير. أي ليس فيها اعوجاج ولا ارتفاع بعضها على بعض، بل هي مستوية، ومن إطلاق الأمت بالمعنى المذكور قول لبيد:
* فاجرمزت ثم سارت وهي لاهية
* في كافر به أمت ولا شرف
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* فأبصرت لمحة من رأس عكرشة
* في كافر ما به أمت ولا عوج
*
والكافر في البيتين: قيل الليل. وقيل المطر، لأنه يمنع العين من رؤية الارتفاع والانحدار في الأرض.
وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة: فإن قلت: قد فرقوا بين العوج والعوج فقالوا. العوج بالكسر في المعاني والعوج بالفتح في الأعيان. والأرض عين، فكيف صح فيها المكسور العين؟
قلت اختيار هذا اللفظ له موقع حسن بديع في وصف الأرض بالاستواء والملاسة، ونفي الاعوجاج عنها على أبلغ ما يكون. وذلك أنك لو عمدت إلى قطعة أرض فسويتها، وبالغت في التسوية على عينك وعيون البصراء من الفلاحة، واتفقتم على أنه لم يبق فيها اعوجاج قط، ثم استطلعت رأي المهندس فيها، وأمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسية لعثر فيها على عوج في غير موضع لا يدرك ذلك بحاسة البصر، ولكن بالقياس الهندسي، فنفى الله عز وجل ذلك العوج الذي دق ولطف عن الإدراك، اللهم إلا بالقياس الذي يعرفه صاحب التقدير والهندسة، وذلك الاعوجاج لما لم يدرك إلا بالقياس دون الإحساس لحق بالمعاني فقيل فيه: عوج
بالكسر، والأمت: النتوه اليسير، يقال: مد حبله حتى ما فيه أمت. انتهى منه. وقد قدمنا في أول سورة الكهف ما يغني عن هذا الكلام الذي ذكره، والعلم عند الله تعالى
99

. قوله تعالى: * (يومئذ يتبعون الداعى لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمان فلا تسمع إلا همسا) *. قوله * (يومئذ) * أي يوم إذ نسفت الجبال يتبعون الداعي. والداعي: هو الملك الذي يدعوهم إلى الحضور للحساب. قال بعض أهل العلم: يناديهم أيتها العظام النخرة، والأوصال المتفرقة، واللحوم المتمزقة، قومي إلى ربك للحساب والجزاء، فيسمعون الصوت ويتبعونه. ومعنى * (لا عوج له) *: أي لا يحيدون عنه، ولا يميلون يمينا ولا شمالا. وقيل: لا عوج لدعاء الملك عن أحد، أي لا يعدل بدعائه عن أحد، بل يدعوهم جميعا. وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من اتباعهم للداعي للحساب، وعدم عدو لهم عنه بينه في غير هذا الموضع، وزاد أنهم يسرعون إليه كقوله تعالى * (فتول عنهم يوم يدعو الداع إلى شىء نكر خشعا أبصارهم يخرجون من الا جداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هاذا يوم عسر والإهطاع: الإسراع: وقوله تعالى: * (واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج) *، وقوله تعالى: * (يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وخشعت الأصوات للرحمان) * أي خفضت وخفتت، وسكنت هيبة لله، وإجلالا وخوفا * (فلا تسمع) * في ذلك اليوم صوتا عاليا، بل لا تسمع * (إلا همسا) * أي صوتا خفيا خافتا من شدة الخوف. أو * (إلا همسا) * أي إلا صوت خفق الأقدام ونقلها إلى المحشر والهمس يطلق في اللغة على الخفاء، فيشمل خفض الصوت وصوت الأقدام. كصوت أخفاف الإبل في الأرض التي فيها يابس النبات، ومنه قول الراجز: وخشعت الأصوات للرحمان) * أي خفضت وخفتت، وسكنت هيبة لله، وإجلالا وخوفا * (فلا تسمع) * في ذلك اليوم صوتا عاليا، بل لا تسمع * (إلا همسا) * أي صوتا خفيا خافتا من شدة الخوف. أو * (إلا همسا) * أي إلا صوت خفق الأقدام ونقلها إلى المحشر والهمس يطلق في اللغة على الخفاء، فيشمل خفض الصوت وصوت الأقدام. كصوت أخفاف الإبل في الأرض التي فيها يابس النبات، ومنه قول الراجز:
* وهن يمشين بنا هميسا
* إن تصدق الطير ننك لميسا
*
وما ذكره جل وعلا هنا أشار له في غير هذا الموضع، كقوله: * (رب السماوات والا رض وما بينهما الرحمان لا يملكون منه خطابا يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمان وقال صوابا) *:
وقوله هنا: * (يومئذ لا تنفع الشفاعة) *، قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في (مريم) وغيرها، فأغنى ذلك عن إعادته هنا
100

. قوله تعالى: * (وعنت الوجوه للحى القيوم وقد خاب من حمل ظلما) *. قوله: * (عنت) * أي ذلت وخضعت. تقول العرب: عنا يعنو عنوا وعناء: إذ ذل وخضع، وخشع. ومنه قليل للأسير عان. لذله وخضوعه لمن أسره. ومنه قول أمية بن أبي الصلت الثقفي:
* مليك على عرش السماء مهيمن
* لعزته تعنو الوجوه وتسجد
*
وقوله أيضا: وقوله أيضا:
* وعنا له وجهي وخلقي كله
* في الساجدين لوجهه مشكورا
*
واعلم أن العلماء اختلفوا في هذه الآية الكريمة، فقال بعضهم: المراد بالوجوه التي ذلت وخشعت للحي القيوم: وجوه العصاة خاصة وذلك يوم القيامة: وأسند الذل والخشوع لوجوههم، لأن الوجه تظهر فيه آثار الذل والخشوع. ومما يدل على هذا المعنى من الآيات القرآنية قوله تعالى: * (فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا) *، وقوله: * (ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة) *، وقوله تعالى: * (وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية) *، وعلى هذا القول انتصر الزمخشري واستدل له ببعض الآيات المذكورة.
وقال بعض العلماء * (وعنت الوجوه) *: أي ذلت وخضعت وجوه المؤمنين لله في دار الدنيا، وذلك بالسجود والركوع. وظاهر القرآن يدل على أن المراد الذل والخضوع لله يوم القيامة، لأن السياق في يوم القيامة، وكل الخلائق تظهر عليهم في ذلك اليوم علامات الذل والخضوع لله جل وعلا.
وقوله في هذه الآية: * (وقد خاب من حمل ظلما) * قال بعض العلماء: أي خسر من حمل شركا. وتدل لهذا القول الآيات القرآنية الدالة على تسمية الشرك ظلما. كقوله: * (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يابنى لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) *، وقوله: * (والكافرون هم الظالمون) *، وقوله: * (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين) *، وقوله: * (الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) *، إلى غير ذلك من الآيات، والأظهر أن الظلم
في قوله: * (وقد خاب من حمل ظلما) * يعم الشرك وغيره من المعاصي. وخيبة كل ظالم بقدر ما حل من الظلم، والعلم عند الله تعالى.
101

وقوله في هذه الآية الكريمة: * (للحى القيوم) * الحي: المتصف بالحياة الذي لا يموت أبدا. والقيوم صيغة مبالغة. لأنه جل وعلا هو القائم بتدبير شؤون جميع الخلق. وهو القائم على كل نفس بما كسبت. وقيل: القيوم الدائم الذي لا يزول. قوله تعالى: * (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من يعمل من الصالحات وهو مؤمن بربه فإنه لا يخاف ظلما ولا هضما. وقد بين هذا المعنى في غير هذا الموضع. كقوله تعالى: * (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما) *، وقوله: * (إن الله لا يظلم الناس شيئا ولاكن الناس أنفسهم يظلمون) *، وقوله تعالى: * (ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا) * إلى غير ذلك من الآيات، كما قدمنا ذلك.
وفرق بعض أهل العلم بين الظلم والهضم: بأن الظلم المنع من الحق كله. والهضم: النقص والمنع من بعض الحق. فكل هضم ظلم، ولا ينعكس. ومن إطلاق الهضم على ما ذكر قول المتوكل الليثي: وفرق بعض أهل العلم بين الظلم والهضم: بأن الظلم المنع من الحق كله. والهضم: النقص والمنع من بعض الحق. فكل هضم ظلم، ولا ينعكس. ومن إطلاق الهضم على ما ذكر قول المتوكل الليثي:
* إن الأذلة واللئام لمعشر
* مولاهم المتهضم المظلوم
*
فالمتهضم: اسم مفعول تهضمه إذا اهتضمه في بعض حقوقه وظلمه فيها. وقرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا ابن كثير * (بربه فلا يخاف) * بضم الفاء وبألف بعد الخاء مرفوعا ولا نافية. أي فهو لا يخاف، أو فإنه لا يخاف. وقرأه ابن كثير (فلا يخف) بالجزم من غير ألف بعد الخاء. وعليه ف (لا) ناهية جازمة المضارع. وقول القرطبي في تفسيره: إنه على قراءة ابن كثير مجزوم. لأنه جواب لقوله * (ومن يعمل) * غلط منه رحمه الله. لأن الفاء في قوله * (فلا يخاف) * مانعة من ذلك. والتحقيق هو ما ذكرنا من أن (لا) ناهية على قراءة ابن كثير، والجملة الطلبية جزاء الشرط، فيلزم اقترانها بالفاء. لأنها لا تصلح فعلا للشرط كما قدمناه مرارا.
وقوله تعالى: * (وكذالك أنزلناه قرءانا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد) *.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الكهف) فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
* (فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرءان من قبل إن يقضى إليك وحيه وقل رب زدنى علما * ولقد عهدنآ إلىءادم من قبل فنسى ولم نجد له عزما * وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس أبى * فقلنا ياأادم إن هاذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى * إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى * فوسوس إليه الشيطان قال ياأادم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) * قوله تعالى: * (ولا تعجل بالقرءان من قبل إن يقضى إليك وحيه وقل رب زدنى علما) *
102

. كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه جبريل بالوحي كلما قال جبريل آية قالها معه صلى الله عليه وسلم من شدة حرصه على حفظ القرآن. فأرشده الله في هذه الآية إلى ما ينبغي. فنهاه عن العجلة بقراءة القرآن مع جبريل، بل أمره أن ينصت لقراءة جبريل حتى ينتهي، ثم يقرؤه هو بعد ذلك، فإن الله ييسر له حفظه. وهذا المعنى المشار إليه في هذه الآية أوضحه الله في غير هذا الموضع. كقوله في (القيامة): * (لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرءانه فإذا قرأناه فاتبع قرءانه ثم إن علينا بيانه) * وقال البخاري في صحيحه: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا أبو عوانة قال: حدثنا موسى بن أبي عائشة قال: حدثنا سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: * (لا تحرك به لسانك لتعجل به) * قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه، فقال ابن عباس: فأنا أحركهما لكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما. وقال سعيد: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه. فأنزل الله تعالى: * (لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرءانه) * قال: جمعه لك في صدرك، ونقرأه * (فإذا قرأناه فاتبع قرءانه) * قال: فاستمع له وأنصت * (ثم إن علينا بيانه) * ثم علينا أن نقرأه. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع. فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه ا ه. قوله تعالى: * (ولقد عهدنآ إلىءادم من قبل فنسى ولم نجد له عزما) *. قوله: * (ولقد عهدنآ إلىءادم) * أي أوصيناه ألا يقرب تلك الشجرة. وهذا العهد إلى آدم الذي أجمله هنا بينه في غير هذا الموضع، كقوله في سورة (البقرة): * (وقلنا ياءادم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هاذه الشجرة فتكونا من الظالمين) * فقوله: * (ولا تقربا هاذه الشجرة) * هو عهده إلى آدم المذكور هنا. وقوله في (الأعراف): * (وياأادم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هاذه الشجرة فتكونا من الظالمين) *.
وقوله تعالى: * (فنسى) * فيه للعلماء وجهان معروفان: أحدهما أن المراد بالنسيان الترك، فلا ينافي كون الترك عمدا. والعرب تطلق النسيان وتريد به الترك ولو عمدا، ومنه قوله تعالى: * (قال كذالك أتتك آياتنا فنسيتها وكذالك اليوم تنسى) * فالمراد في هذه الآية: الترك قصدا. وكقوله تعالى: * (فاليوم ننساهم كما
103

نسوا لقآء يومهم هاذا وما كانوا بأاياتنا يجحدون) *، وقوله تعالى: * (فذوقوا بما نسيتم لقآء يومكم هاذآ إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون) *، وقوله تعالى: * (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولائك هم الفاسقون) *، وقوله تعالى: * (وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقآء يومكم هاذا ومأواكم النار وما لكم
من ناصرين) *. وعلى هذا فمعنى قوله: * (فنسى) * أي ترك الوفاء بالعهد، وخالف ما أمره الله به من ترك الأكل من تلك الشجرة، لأن النهي عن الشيء يستلزم الأمر بضده.
والوجه الثاني هو أن المراد بالنسيان في الآية: النسيان الذي هو ضد الذكر، لأن إبليس لما أقسم له بالله أنه له ناصح فيما دعاه إليه من الأكل من الشجرة التي نهاه ربه عنها غره وخدعه بذلك، حتى أنساه العهد المذكور. كما يشير إليه قوله تعالى: * (وقاسمهمآ إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور) *. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي رواه عنه ابن أبي حاتم ا ه. ولقد قال بعض الشعراء: فدلاهما بغرور) *. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي رواه عنه ابن أبي حاتم ا ه. ولقد قال بعض الشعراء:
* وما سمي الإنسان إلا لنسيه
* ولا القلب إلا أنه يتقلب
*
أما على القول الأول فلا إشكال في قوله: * (وعصىءادم ربه فغوى) * وأما على الثاني ففيه إشكال معروف. لأن الناسي معذور فكيف يقال فيه * (وعصىءادم ربه فغوى) *. وأظهر أوجه الجواب عندي عن ذلك: أن آدم لم يكن معذورا بالنسيان. وقد بينت في كتابي (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) الأدلة الدالة على أن العذر بالنسيان والخطأ والإكراه من خصائص هذه الأمة. كقوله هنا * (فنسى) * مع قوله * (وعصى) * فأسند إليه النسيان والعصيان، فدل على أنه غير معذور بالنسيان. ومما يدل على هذا ما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس وأبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ * (ربنا لا تؤاخذنآ إن نسينآ أو أخطأنا) * قال الله نعم قد فعلت. فلو كان ذلك معفوا عن جميع الأمم لما كان لذكره على سبيل الامتنان وتعظيم المنة عظيم موقع. ويستأنس لذلك بقوله: * (كما حملته على الذين من قبلنا) * ويؤيد ذلك حديث: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه). فقوله (تجاوز لي عن أمتي) يدل على الاختصاص بأمته. وليس مفهوم لقب. لأن مناط
104

التجاوز عن ذلك هو ما خصه الله به من التفضيل على غيره من الرسل. والحديث المذكور وإن أعله الإمام أحمد وابن أبي حاتم فله شواهد ثابتة في الكتاب والسنة. ولم يزل علماء الأمة قديما وحديثا يتلقونه بالقبول. ومن الأدلة على ذلك حديث طارق بن شهاب المشهور في الذي دخل النار في ذباب قربه مع أنه مكره وصاحبه الذي امتنع من تقريب شيء للصنم ولو ذبابا قتلوه. فدل ذلك على أن الذي قربه مكره. لأنه لو لم يقرب لقتلوه كما قتلوا صاحبه، ومع هذا دخل النار فلم يكن إكراهه عذرا. ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى عن أصحاب الكهف: * (إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم فى ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا) * فقوله: * (يرجموكم أو يعيدوكم فى ملتهم) * دليل على الإكراه، وقوله: * (ولن تفلحوا إذا أبدا) * دليل على عدم العذر بذلك الإكراه. كما أوضحنا ذلك في غير هذا الموضع.
واعلم أن في شرعنا ما يدل على نوع من التكليف بذلك في الجملة، كقوله تعالى: * (ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة) *. فتحرير الرقبة هنا كفارة لذلك القتل خطأ. والكفارة تشعر بوجود الذنب في الجملة. كما يشير إلى ذلك قوله في كفارة القتل خطأ * (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما) * فجعل صوم الشهرين بدلا من العتق عند العجز عنه. وقوله بعد ذلك * (توبة من الله) * يدل على أن الله هناك مؤاخذه في الجملة بذلك الخطأ، مع قوله: * (وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به) * وما قدمنا من حديث مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ * (لا تؤاخذنآ إن نسينآ أو أخطأنا) * قال الله نعم قد فعلت، فالمؤاخذة التي هي الإثم مرفوعة والكفارة المذكورة. قال بعض أهل العلم: هي بسبب التقصير في التحفظ والحذر من وقوع الخطأ والنسيان، والله جل وعلا أعلم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وعصىءادم ربه فغوى) * هو ونحوه من الآيات مستند من قال من أهل الأصول بعدم عصمة الأنبياء من الصغائر التي لا تتعلق بالتبليغ. لأنهم يتدراكونها بالتوبة والإنابة إلى الله حتى تصير كأنها لم تكن.
واعلم أن جميع العلماء أجمعوا على عصمة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في كل ما يتعلق بالتبليغ. واختلفوا في عصمتهم من الصغائر التي لا تعلق لها بالتبليغ اختلافا مشهورا معروفا في الأصول. ولا شك أنهم صلوات الله عليهم وسلامه إن وقع
105

منهم بعض الشيء فإنهم يتداركونه بصدق الإنابة إلى الله حتى يبلغوا بذلك درجة أعلا من درجة من لم يقع منه ذلك. كما قال هنا: * (وعصىءادم ربه فغوى) * ثم أتبع ذلك بقوله: * (ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ولم نجد له عزما) * يدل على أن أبانا آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ليس من الرسل الذين قال الله فيهم * (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل) * وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: هم جميع الرسل. وعن ابن عباس وقتادة * (ولم نجد له عزما) * أي لم نجد له صبرا عن أكل الشجرة ومواظبة على التزام الأمر. وأقوال العلماء راجعة إلى هذا، والوجود في قوله: * (لم * نجد) * قال أبو حبان في البحر: يجوز أن يكون بمعنى العلم، ومفعولاه * (له عزما) * وأن يكون نقيض العدم. كأنه قال: وعند مناله عزما ا ه منه. والأول أظهر، والله تعالى أعلم. قوله تعالى: * (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس أبى) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أمر الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى. أي أبى أن يسجد. فذكر عنه هنا الإباء ولم يذكر عنه هنا الاستكبار. وذكر عنه الإباء أيضا في (الحجر) في قوله: * (إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين) *. وقوله في آية (الحجر) هذه * (أبى أن يكون مع الساجدين) * يبين معمول (أبى) المحذوف في آية (طه) هذه التي هي قوله * (إلا إبليس أبى) * أي أبى أن
يكون مع الساجدين، كما صرح به في (الحجر) وكما أشار إلى ذلك في (الأعراف) في قوله: * (إلا إبليس لم يكن من الساجدين) * وذكر عنه في سورة (ص) الاستكبار وحده في قوله: * (إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين) *، وذكر عنه الإباء والاستكبار معا في سورة (البقرة) في قوله: * (إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين) *. وقد بينا في سورة (البقرة) سبب استكباره في زعمه وأدلة بطلان شبهته في زعمه المذكور. وقد بينها في سورة (الكهف) كلام العلماء فيه. هل أصله ملك من الملائكة أولا؟
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (فسجدوا إلا إبليس) * صرح في غير هذا الموضع أن السجود المذكور سجده الملائكة كلهم أجمعون لا بعضهم، وذلك في قوله
106

تعالى: * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس) *. قوله تعالى: * (فقلنا ياأادم إن هاذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى) *. قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (إن هاذا عدو لك ولزوجك) * قد قدمنا الآيات الموضحة له في (الكهف) فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (فتشقى) * أي فتتعب في طلب المعيشة بالكد والاكتساب. لأنه لا يحصل لقمة العيش في الدنيا بعد الخروج من الجنة حتى يحرث الأرض، ثم يزرعها، ثم يقوم على الزرع حتى يدرك، ثم يدرسه، ثم ينقيه، ثم يطحنه، ثم يعجنه، ثم يخبره. فهذا شقاؤه المذكور.
والدليل على أن المراد بالشقاء في هذه الآية: التعب في اكتساب المعيشة قوله تعالى بعده: * (إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى) * يعني احذر من عدوك أن يخرجك من دار الراحة التي يضمن لك فيها الشبع والري، والكسورة والسكن. قال الزمخشري: وهذه الأربعة هي الأقطاب التي يدور عليها كفاف الإنسان، فذكره استجماعها له في الجنة، وأنه مكفي لا يحتاج إلى كفاية كاف، ولا إلى كسب كاسب كما يحتاج إلى ذلك أهل الدنيا. وذكرها بلفظ النفي لنقائضها التي هي الجوع والعري والظمأ والضحو ليطرق سمعه بأسامي أصناف الشقوة التي حذره منها، حتى يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها ا ه.
فقوله في هذه الآية الكريمة: * (إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى) * قرينة واضحة على أن الشقاء المحذر منه تعب الدنيا في كد المعيشة ليدفع به الجوع والظمأ والعري والضحاء. والجوع معروف، والظمأ: العطش. والعري بالضم: خلاف اللبس.
وقوله: * (ولا تضحى) * أي لا تصير بارزا للشمس، ليس لك ما تستكن فيه من حرها. تقول العرب: ضحى يضحى، كرضى يرضى. وضحى يضحى كسعى يسعى إذا كان بارزا لحر الشمس ليس له ما يكنه منه. ومن هذا المعنى قول عمر بن أبي ربيعة: ولا تضحى) * أي لا تصير بارزا للشمس، ليس لك ما تستكن فيه من حرها. تقول العرب: ضحى يضحى، كرضى يرضى. وضحى يضحى كسعى يسعى إذا كان بارزا لحر الشمس ليس له ما يكنه منه. ومن هذا المعنى قول عمر بن أبي ربيعة:
* رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت
* فيضحي وأما بالعشي فينحصر
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* ضحيت له كي أستظل بظله
* إذا الظل أضحى في القيامة قالصا
*
107

وقرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا نافعا وشعبة عن عاصم * (وأنك لا تظمؤا) * بفتح همزة (أن)، والمصدر المنسبك من (أن) وصلتها معطوف على المصدر المنسبك من (أن) وصلتها في قوله: * (إن لك ألا تجوع) * أي وإن لك أنك لا تظمأ فيها ولا تضحى. ويجوز في المصدر المعطوف المذكور النصب والرفع، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله: إن لك ألا تجوع) * أي وإن لك أنك لا تظمأ فيها ولا تضحى. ويجوز في المصدر المعطوف المذكور النصب والرفع، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله:
* وجائز رفعك معطوفا على
* منصوب إن بعد أن تستكملا
*
وإيضاح تقدير المصدرين المذكورين: إن لك عدم الجوع فيها، وعدم الظمأ.
تنبيه
أخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة وجوب نفقة الزوجة على زوجها لأن الله لما قال * (إن هاذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة) * بخطاب شامل لآدم وحواء، ثم خص آدم بالشقاء دونها في قوله * (فتشقى) * دل ذلك على أنه هو المكلف بالكد عليها وتحصيل لوازم الحياة الضرورية لها: من مطعم، ومشرب، وملبس، ومسكن.
قال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه: وإنما خصه بذكر الشقاء ولم يقل فتشقيا يعلمنا أن نفقة الزوجة على الزوج، فمن يومئذ جرت نفقة النساء على الأزواج. فلما كانت نفقة حواء على آدم كذلك نفقات بناتها على بني آدم بحق الزوجية. وأعلمنا في هذه الآية: أن النفقة التي تجب للمرأة على زوجها هذه الأربعة: الطعام، والشراب، والكسوة، والمسكن. فإذا أعطاها هذه الأربعة فقد خرج إليها من نفقتها، فإن تفضل بعد ذلك فهو مأجور. فأما هذه الأربعة فلا بد منها. لأن بها إقامة المهجة ا ه منه.
وذكر في قصة آدم: أنه لما أهبط إلى الأرض أهبط إليه ثور أحمر وحبات من الجنة، فكان يحرث على ذلك الثور ويمسح للعرق عن جبينه وذلك من الشقاء المذكور في الآية.
والظاهر أن الذي في هذه الآية الكريمة من البديع المعنوي في اصطلاح البلاغيين، هو ما يسمى (مراعاة النظير)، ويسمى (التناسب والائتلاف. والتوفيق والتلفيق). فهذه كلها أسماء لهذا النوع من البديع المعنوي. وضابطه: أنه جمع أمر وما يناسبه لا بالتضاد. كقوله تعالى: * (الشمس والقمر بحسبان) * فإن الشمس والقمر متناسبان
108

لا بالتضاد. وكقول البحتري يصف الإبل الأنضاء المهازيل، أي الرماح: الشمس والقمر بحسبان) * فإن الشمس والقمر متناسبان لا بالتضاد. وكقول البحتري يصف الإبل الأنضاء المهازيل، أي الرماح:
* كالقسي المعطفات بل الأسهم
* مبرية بل الأوتار
*
وبين الأسهم والقسي المعطفات والأوتار مناسبة في الرقة وإن كان بعضها أرق من بعض، وهي مناسبة لا بالتضاد. وكقول ابن رشيق: وهي مناسبة لا بالتضاد. وكقول ابن رشيق:
* أصح وأقوى ما سمعناه في الندى
* من الخبر المأثور منذ قديم
*
* أحاديث ترويها السيول عن الحيا
* عن البحر عن كف الأمير تميم
*
فقد ناسب بين الصحة والقوة، والسماع والخبر المأثور، والأحاديث والرواية، وكذا ناسب بين السيل والحيا وهو المطر، والبحر وكف الأمير تميم، وكقول أسيد بن عنقاء الفزاري: فقد ناسب بين الصحة والقوة، والسماع والخبر المأثور، والأحاديث والرواية، وكذا ناسب بين السيل والحيا وهو المطر، والبحر وكف الأمير تميم، وكقول أسيد بن عنقاء الفزاري:
* كأن للثريا علقت في جبينه
* وفي خده الشعري وفي جهة البدر
*
فقد ناسب بين الثريا والشعري والبدر، كما ناسب بين الجبين والوجنة والوجه. وأمثلة هذا النوع كثيرة معروفة في فن البلاغة.
وإذا علمت هذا فاعلم أنه جل وعلا ناسب في هذه الآية الكريمة في قوله * (إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى) * بين نفي الجوع المتضمن لنفي الحرارة الباطنية والألم الباطني الوجداني، وبين نفي العري المتضمن لنفي الألم الظاهري من أذى الحر والبرد، وهي مناسبة لا بالتضاد. كما أنه تعالى ناسب فيقوله * (وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى) * بين نفي الظمأ المتضمن لنفي الألم الباطني الوجداني الذي يسببه الظمأ. وبين نفي الضحى المتضمن لنفي الألم الظاهري الذي يسببه حر الشمس ونحوه كما هو واضح.
بما ذكرنا تعلم أن قول من قال: إن في هذه الآية المذكورة ما يسمع قطع النظير عن النظير، وأن الغرض من قطع النظير عن النظير المزعوم تحقيق تعداد هذه النعم وتكثيرها. لأن لو قرن النظير بنظيره لأوهم أن المعدودات نعمة واحدة، ولهذا قطع الظمأ عن الجوع، والضخو عن الكسوة، مع ما بين ذلك من التناسب. وقالوا: ومن قطع النظير عن النظير المذكور قول امرئ القيس: بما ذكرنا تعلم أن قول من قال: إن في هذه الآية المذكورة ما يسمع قطع النظير عن النظير، وأن الغرض من قطع النظير عن النظير المزعوم تحقيق تعداد هذه النعم وتكثيرها. لأن لو قرن النظير بنظيره لأوهم أن المعدودات نعمة واحدة، ولهذا قطع الظمأ عن الجوع، والضخو عن الكسوة، مع ما بين ذلك من التناسب. وقالوا: ومن قطع النظير عن النظير المذكور قول امرئ القيس:
* كأني لم أركب جوادا للذة
* ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
*
* ولم أسبا الزق الروي ولم أقل
* لخيل كرى كرة بعد إجفال
*
ففطع ركوب الجواد من قوله (فخيل كرى كرة) وقطع (تبطن الكاعب) عن
109

شرب (الزق الروي) مع التناسب في ذلك. وغرضه أن يعدد ملاذه ومفاخره ويكثرها. كله كلام لا حاجة له لظهور المناسبة بين المذكورات في الآية كما أوضحنا، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (فوسوس إليه الشيطان قال ياأادم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) *. الوسوسة والوسواس: الصوت الخفي. ويقال لهمس الصائد والكلاب، وصوت الحلي: وسواس. والوسوس بكسر الواو الأول مصدر، وبفتحها الاسم، وهو أيضا من أسماء الشيطان، كما في قوله تعالى: * (من شر الوسواس الخناس) * ويقال لحديث النفس: وسواس ووسوسة. ومن إطلاق الوسواس على صوت الحلي قول الأعشى: من شر الوسواس الخناس) * ويقال لحديث النفس: وسواس ووسوسة. ومن إطلاق الوسواس على صوت الحلي قول الأعشى:
* تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت
* كما استعان بريح عشرق زجل
*
ومن إطلاقه على همس الصائد قول ذي الرمة: ومن إطلاقه على همس الصائد قول ذي الرمة:
* فبات يشئزه ثأد ويسهره
* تذؤب الريح والوسواس والهضب
*
وقول رؤبة: وقول رؤبة:
* وسوس يدعو مخلصا رب الفلق
* سرا وقد أون تأوين العقق
*
وإذا علمت ذلك فاعلم أن قوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (فوسوس إليه الشيطان) * أي كلمه كلاما خفيا فسمعه منه آدم وفهمه. والدليل على أن الوسوسة المذكورة في هذه الآية الكريمة كلام من إبليس سمعه آدم وفهمه أنه فسر الوسوسة في هذه الآية بأنها قول، وذلك في قوله * (فوسوس إليه الشيطان قال ياأادم هل أدلك على شجرة الخلد) *. فالقول المذكور هو الوسوسة المذكورة. وقد أوضح هذا في سورة (الأعراف) وبين أنه وسوس إلى حواء أيضا مع آدم، وذلك في قوله: * (فوسوس لهما الشيطان) * إلى قوله * (وقاسمهمآ إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور) * لأن تصريحه تعالى في آية (الأعراف) هذه بأن إبليس قاسمهما أي حلف لهما على أنه ناصح لهما فيما ادعاه من الكذب دليل واضح على أن الوسوسة المذكورة كلام مسموع. واعلم أن في وسوسة الشيطان إلى آدم إشكالا
110

معروفا، وهو أن يقال: إبليس قد أخرج من الجنة صاغرا مذموما مدحورا، فكيف أمكنه الرجوع إلى الجنة حتى وسوس لآدم؟ والمفسرون يذكرون في ذلك قصة الحية، وأنه دخل فيها فأدخلته الجنة، والملائكة الموكلون بها لا يشعرون بذلك. وكل ذلك من الإسرائيليات. والواقع أنه لا إشكال في ذلك، لإمكان أن يقف إبليس خارج الجنة قريبا من طرفها بحيث يسمع آدم كلامه وهو في الجنة، وإمكان أن يدخله الله إياها لامتحان آدم وزوجه، لا لكرامة إبليس. فلا محال عقلا في شيء من ذلك. والقرآن قد جاء بأن إبليس كلم آدم، وحلف له حتى غره وزوجه بذلك. وقوله في هذه الآية الكريمة * (على شجرة الخلد) * أضاف الشجرة إلى الخلد وهو الخلود. لأن من أكل منها يكون في زعمه الكاذب خالدا لا يموت ولا يزول، وكذلك يكون له في زعمه ملك لا يبلى أي لا ينفى ولا ينقطع. وقد قدمنا أن قوله هنا * (وملك لا يبلى) * يدل لمعنى قراءة من قرأ * (إلا أن تكونا ملكين) *) بكسر اللام. وقوله * (أو تكونا من الخالدين) * هو معنى قوله في (طه): * (هل أدلك على شجرة الخلد) *.
والحاصل أن إبليس لعنه الله كان من جملة ما وسوس به إلى آدم وحواء: أنهما إلى أن أكلا من الشجرة التي نهاهما الله عنها نالا الخلود والملك، وصارا ملكين، وحلف لهما أنه ناصح لهما في ذلك، يريد لهما الخلود والبقاء والملك فدلاهما بغرور. وفي القصة: أن آدم لما سمعه يحلف بالله اعتقد من شدة تعظيمه لله أنه لا يمكن أن يحلف به أحد على الكذب، فأنساه ذلك العهد بالنهي عن الشجرة.
تنبيه
في هذه الآية الكريمة سؤال معروف، وهو أن يقال: كيف عدى فعل الوسوسة في (طه) بإلى في قوله * (فوسوس إليه الشيطان) * مع أنه عداه في (الأعراف)
باللام في قوله * (فوسوس لهما الشيطان) *. وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة.
أحدها أن حروف الجر يخلف بعضها بعضا. فاللام تأتي بمعنى إلى كعكس ذلك.
قال الجوهري في صحاحه: وقوله تعالى: * (فوسوس إليه الشيطان) * يريد إليهما، ولكن العرب توصل بهذه الحروف كلها الفعل ا ه. وتبعه ابن منظور في اللسان. ومن الأجوبة عن ذلك: إرادة التضمين، قال الزمخشري في تفسير هذه الآية
111

: فإن قلت كيف عدى (وسوس) تارة باللام في قوله * (فوسوس لهما الشيطان) * وأخرى بإلى؟ قلت: وسوسة الشيطان كولولة الثكلى، ووعوعة الذئب، ووقوقة الدجاجة، في أنها حكايات للأصوات، وحكمها حكم صوت وأجرس. ومنه وسوس المبرسم وهو موسوس بالكسر والفتح لحن. وأنشد ابن الأعرابي: وأنشد ابن الأعرابي:
* وسوس يدعو مخلصا رب الفلق
*......
*
فإذا قلت: وسوس له. فمعناه لأجله. كقوله: فإذا قلت: وسوس له. فمعناه لأجله. كقوله:
* أجرس لها يا ابن أبي كباش
* فما لها الليلة من إنفاش
*
ومعنى * (فوسوس إليه) * أنهى إليه الوسوسة. كقوله: حدث إليه وأسر إليه ا ه منه. وهذا الذي أشرنا إليه هو معنى الخلاف المشهور بين البصريين والكوفيين في تعاقب حروف البحر. وإتيان بعضها مكان بعض هل هو بالنظر إلى التضمين، أو لأن الحروف يأتي بعضها بمعنى بعض؟ وسنذكر مثالا واحدا من ذلك يتضح به المقصود. فقوله تعالى مثلا: * (ونصرناه من القوم الذين كذبوا بأاياتنا) *، على القول بالتضمين. فالحرف الذي هو (من) وارد في معناه لكن (نصر) هنا مضمنة معنى الإنجاء والتخليص، أي أنجيناه وخلصناه من الذين كذبوا بآياتنا. والإنجاء مثلا يتعدى بمن. وعلى القول الثاني ف (نصر) وارد في معناه، لكن (من) بمعنى على، أي نصرناه على القوم الذين كذبوا الآية، وهكذا في كل ما يشاكله.
وقد قدمنا في سورة (الكهف) أن اختلاف العلماء في تعيين الشجرة التي نهى الله آدم عن الأكل منها اختلاف لا طائل تحته، لعدم الدليل على تعيينها، وعدم الفائدة في معرفة عينها. وبعضهم بقول: هي السنبلة. وبعضهم يقول: هي شجرة الكرم. وبعضهم يقول: هي شجرة التين، إلى غير ذلك من الأقوال. قوله تعالى: * (فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) *. الفاء في قوله * (فأكلا) * تدل على أن سبب أكلهما هو وسوسة الشيطان المذكورة قبله في قوله: * (فوسوس إليه الشيطان) * أي فأكلا منها بسبب تلك الوسوسة. وكذلك الفاء في قوله: * (فبدت لهما سوءاتهما) * تدل على أن سبب ذلك هو أكلهما من الشجرة
112

المذكورة، فكانت وسوسة الشيطان سببا للأكل من تلك الشجرة. وكان الأكل منها سببا لبدو سوءاتهما. وقد تقرر في الأصول في مسلك (الإيماء والتنبيه): أن الفاء تدل على التعليل كقولهم: سها فسجد، أي لعلة سهوه. وسرق فقطعت يده، أي لعلة سرقته. كما قدمناه مرارا. وكذلك قوله هنا: * (فوسوس إليه الشيطان قال ياأادم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فأكلا منها) * أي بسبب تلك الوسوسة فبدت لهما سوءاتها، أي بسبب ذلك الأكل، ففي الآية ذكر السبب وما دلت عليه الفاء هنا كما بينا من أن وسوسة الشيطان هي سبب ما وقع من آدم وحواء جاء مبينا في مواضع من كتاب الله، كقوله تعالى: * (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه) * فصرح بأن الشيطان هو الذي أزلهما. وفي القراءة الأخرى (فأزالهما) وأنه هو الذي أخرجهما مما كانا فيه، أي من نعيم الجنة، وقوله تعالى: * (يابنى آدم لا يفتننكم الشيطان كمآ أخرج أبويكم من الجنة) *، وقوله: * (فدلاهما بغرور) * إلى غير ذلك من الآيات.
وما ذكره جل وعلا في آية (طه) هذه من ترتب بدو سوءاتهما على أكلهما من تلك الشجرة أوضحه في غير هذا الموضع، كقوله في (الأعراف): * (فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما) *، وقوله فيها. أيضا: * (أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهمآ) *.
وقد دلت الآيات المذكورة على أن آدم وحواء كانا في ستر من الله يستر به سوءاتهما، وأنهما لما أكلا من الشجرة التي نهاهما ربهما عنهما الكشف ذلك الستر بسبب تلك الزلة. فبدت سوءاتهما أي عوراتهما. وسميت العورة سوءة لأن انكشافها يسوء صاحبها، وصارا يحاولان ستر العورة بورق شجر الجنة، كما قال هنا: * (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) *، وقال في (الأعراف): * (فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) *.
وقوله * (وطفقا) * أي شرعا. فهي من أفعال الشروع، ولا يكون خير أفعال الشروع إلا فعلا مضارعا غير مقترن ب (أن) وإلى ذلك أشار في الخلاصة بقوله: وقوله * (وطفقا) * أي شرعا. فهي من أفعال الشروع، ولا يكون خير أفعال الشروع إلا فعلا مضارعا غير مقترن ب (أن) وإلى ذلك أشار في الخلاصة بقوله:
*......
* وترك أن مع ذي الشروع وجبا
*
* كأنشأ السائق يحدو وطفق
* وكذا جعلت وأخذت وعلق
*
113

فمعنى قوله * (وطفقا يخصفان) * أي شرعا يلزقان عليهما من ورق الجنة بعضه ببعض ليسترا به عوراتهما. والعرب تقول: خصف النعل يخصفها: إذا خرزها: وخصف الورق على بدنه: إذا ألزقها وأطبقها عليه ورقة ورقة. وكثير من المفسرين يقولون: إن ورق الجنة التي طفق آدم وحواء يخصفان عليهما منه إنه ورق التين. والله تعالى أعلم.
واعلم أن الستر الذي كان على آدم وحواء، وانكشف عنهما لما ذاقا الشجرة اختلف العلماء في تعيينه.
فقالت جماعة من أهل العلم: كان عليهما لباس من جنس الظفر. فلما أكلا من الشجرة أزاله الله عنهما إلا ما أبقى على رؤوس الأصابع. وقال بعض أهل العلم: كان لباسهما نورا يستر الله به سوءاتهما. وقيل: لباس من ياقوت، إلى غير ذلك من الأقوال. وهو من الاختلاف الذي لا طائل تحته، ولا دليل على الواقع فيه كما قدمنا كثيرا من أمثلة ذلك في سورة (الكهف). وغاية ما دل عليه القرآن: أنهما كان عليهما لباس يسترهما الله به. فلما أكلا من الشجرة نزع عنهما فبدت لهما سوءاتهما. ويمكن أن يكون اللباس المذكور الظفر أو النور، أو لباس التقوى، أو غير ذلك من الأقوال المذكورة فيه.
وأسند جل وعلا إبداء ما وورى عنهما من سوءاتهما إلى الشيطان قوله: * (ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما) * كما أسند له نزع اللباس عنهما في قوله تعالى: * (كمآ أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهمآ) * لأنه هو المتسبب في ذلك بوسوسته وتزيينه كما قدمناه قريبا. وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف، وهو أن يقال: كيف جعل سبب الزلة في هذه الآية وهو وسوسة الشيطان مختصا بآدم دون حواء قوله: * (فوسوس لهما الشيطان) * مع أنه ذكر أن تلك الوسوة سببت الزلة لهما معا كما أوضحناه.
والجواب ظاهر، وهو أنه بين في (الأعراف) أنه وسوس لحواء أيضا مع آدم في القصة بعينها في قوله: * (فوسوس لهما الشيطان) * فبينت آية (الأعراف) ما لم تبينه آية (طه) كما ترى، والعلم عند الله تعالى. مسألة
أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية الكريمة: وجوب ستر العورة، لأن قوله: * (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) * يدل على قبح انكشاف العورة، وأنه ينبغي بذل
114

الجهد في سترها. قال القرطبي رحمه الله في تفسيره في سورة (الأعراف) ما نصه: وفي الآية دليل على قبح كشف العورة، وأن الله أوجب عليهما الستر، ولذلك ابتدرا إلى سترها، ولا يمتنع أن يؤمرا بذلك في الجنة كما قيل لهما * (حيث شئتما ولا تقربا هاذه الشجرة) *. وقد حكى صاحب البيان عن الشافعي: أن من لم يجد ما يستر به عورته إلا ورق الشجر لزمه أن يستقر بذلك. لأنه سترة ظاهرة، عليه التستر بها كما فعل آدم في الجنة. والله أعلم انتهى كلام القرطبي.
ووجوب ستر العورة في الصلاة مجمع عليه بين المسلمين. وقد دلت عليه نصوص من الكتاب والسنة، كقوله تعالى: * (يابنىءادم خذوا زينتكم عند كل مسجد) *، وكبعثه صلى الله عليه وسلم من ينادي عام حج أبي بكر بالناس عام تسع: (إلا يحج بعد هذا العام مشرك، وألا يطوف بالبيت عريان). وكذلك لا خلاف بين العلماء في منع كشف العورة أمام الناس. وسيأتي بعض ما يتعلق بهذا إن شاء الله في سورة (النور).
فإن قيل: لم جمع السوءات في قوله * (سوءاتهما) * مع أنهما سوأتان فقط؟ فالجواب من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول أن آدم وحواء كل واحد منهما له سوءتان: القبل والدبر، فهي أربع، فكل منهما يرى قبل نفسه وقبل الآخر، ودبره. وعلى هذا فلا إشكال في الجمع.
الوجه الثاني أن المثنى إذا أضيف إليه شيئان هما جزاءه جاز في ذلك المضاف الذي هو شيئان الجمع والتثنية، والإفراد، وأفصحها الجمع، فالإفراد، فالتثنية على الأصح، سواء كانت الإضافة لفظا أو معنى. ومثال اللفظ: شوبت رؤوس الكبشين أو رأسهما، أو رأسيهما. ومثال المعنى: قطعت من الكبشين الرؤوس، أو الرأس، أو الرأسين. فإن فرق المثنى المضاف إليه فالمختار في المضاف الإفراد، نحو: على لسان داود وعيسى ابن مريم. ومثال جمع المثنى المضاف المذكور الذي هو الأفصح قوله تعالى * (فقد صغت قلوبكما) *، وقوله تعالى: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) *، ومثال الإفراد قول الشاعر: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) *، ومثال الإفراد قول الشاعر:
* حمامة بطن الواديين ترنمي
* سقاك من الغر الغوادي مطيرها
*
ومثال التثنية قول الراجز: ومثال التثنية قول الراجز:
* ومهمهين قذفين مرتين
* ظهراهما مثل ظهور الترسين
*
115

وللضمائر الراجعة إلى المضاف المذكور المجموع لفظا وهو مثنى معنى يجوز فيها الجمع نظرا إلى اللفظ، والتثنية نظرا إلى المعنى، فمن الأول قوله: وللضمائر الراجعة إلى المضاف المذكور المجموع لفظا وهو مثنى معنى يجوز فيها الجمع نظرا إلى اللفظ، والتثنية نظرا إلى المعنى، فمن الأول قوله:
* خليلي لا تهلك نفوسكما أسى
* فإن لهما فيما به دهيت أسى
*
ومن الثاني قوله: ومن الثاني قوله:
* قلوبكما يغشاهما الأمن عادة
* إذا منكما الأبطال يغشاهم الذعر
*
الوجه الثالث ما ذهب مالك بن أنس من أن أقل الجمع اثنان. قال في مراقي السعود: الوجه الثالث ما ذهب مالك بن أنس من أن أقل الجمع اثنان. قال في مراقي السعود:
* أقل معنى الجمع في المشتهر
* الاثنان في رأي الإمام الحميري
*
وأما إن كان الاثنان المضافان منفصلين عن المثنى المضاف إليه، أي كانا غير جزأيه فالقياس الجمع وفاقا للفراء، كقولك: ما أخرجكما من بيوتكما، وإذا أويتما إلى مضاجعكما، وضرباه بأسيافهما، وسألتا عن إنفاقهما على أزواجهما، ونحو ذلك.
* (فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصىءادم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى * قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتنى أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذالك أتتك آياتنا فنسيتها وكذالك اليوم تنسى * وكذالك نجزى من أسرف ولم يؤمن بأايات ربه ولعذاب الا خرة أشد وأبقى * أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون فى مساكنهم إن فى ذلك لأيات لا ولى النهى * ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى * فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن ءانآء اليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى * ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحيواة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى * وأمر أهلك بالصلواة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى) * قوله تعالى: * (وعصىءادم ربه فغوى) *. المعصية خلاف الطاعة. فقوله * (وعصىءادم ربه فغوى) * أي لم يطعه في اجتناب ما نهاه عنه من قربان تلك الشجرة.
وقوله: * (فغوى) * الغي: الضلال، وهو الذهاب عن طريق الصواب. فمعنى الآية: لم يطع آدم ربه فأخطأ طريق الصواب بسبب عدم الطاعة، وهذا العصيان والغي بين الله جل وعلا في غير موضع من كتابه أن المراد به: أن الله أباح له أن يأكل هو وامرأته من الجنة رغدا حيث شاءا، ونهاهما أن يقربا شجرة معينة من شجرها. فلم يزل الشيطان يوسوس لهما ويحلف لهما بالله إنه لهما الناصح، وإنهما إن أكلا منهما نالا الخلود والملك الذي لا يبلى. فخدعهما بذلك كما نصر الله على ذلك في قوله: * (وقاسمهمآ إني لكما لمن الناصحين) * * (فدلاهما بغرور) * فأكلا منها. وكان بعض أهل العلم يقول: من خادعنا بالله خدعنا. وهو مروي عن عمر. وفي حديث أبي هريرة عند أبي داود والترمذي والحاكم: (المؤمن غر كريم، والفاجر خب لئيم). وأنشد لذلك نفطويه: فدلاهما بغرور) * فأكلا منها. وكان بعض أهل العلم يقول: من خادعنا بالله خدعنا. وهو مروي عن عمر. وفي حديث أبي هريرة عند أبي داود والترمذي والحاكم: (المؤمن غر كريم، والفاجر خب لئيم). وأنشد لذلك نفطويه:
* إن الكريم إذا تشاء خدعته
* وترى اللئيم مجربا لا يخدع
*
116

فآدم عليه الصلاة والسلام ما صدرت منه الزلة إلا بسبب غرور إبليس له. وقد قدمنا قول بعض أهل العلم: إن آدم من شدة تعظيمه لله اعتقد أنه لا يمكن أن يحلف به أحد وهو كاذب فأنساه حلف إبليس بالله العهد بالنهي عن الشجرة. وقول بعض أهل العلم: إن معنى قوله * (فغوى) * أي فسد عليه عيشه بنزوله إلى الدنيا.
قالوا: والغي. الفساد، خلاف الظاهر وإن حكاه النقاش واختاره القشيري واستحسنه القرطبي. وكذلك قول من قال * (فغوى) * أي بشم من كثرة الأكل. والبشم: التخمة، فهو قول باطل. وقال فيه الزمخشري في الكشاف: وهذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسورة ما قبلها ألفا فيقول في فني وبقي، فنا وبقا، وهم بنو طيىء تفسير خبيث، ا ه منه. وما أشار إليه الزمخشري من لغة طيىء معروف. فهم يقولون للجارية: جاراة، وللناصية ناصاة، ويقولون في بقي بقي كرمى. ومن هذا اللغة قول الشاعر: وكذلك قول من قال * (فغوى) * أي بشم من كثرة الأكل. والبشم: التخمة، فهو قول باطل. وقال فيه الزمخشري في الكشاف: وهذا وإن
صح على لغة من يقلب الياء المكسورة ما قبلها ألفا فيقول في فني وبقي، فنا وبقا، وهم بنو طيىء تفسير خبيث، ا ه منه. وما أشار إليه الزمخشري من لغة طيىء معروف. فهم يقولون للجارية: جاراة، وللناصية ناصاة، ويقولون في بقي بقي كرمى. ومن هذا اللغة قول الشاعر:
* لعمرك لا أخشى التصعلك ما بقي
* على الأرض قيسي يسوق الأباعرا
*
وهذه اللغة التي ذكرها الزمخشري لا حاجة لها في التفسير الباطل المذكور، لأن العرب تقول: غوى الفصيل كرضى وكرمى: إذا بشم من اللبن.
وقوله تعالى في هذه الآية: * (وعصى * ءادم) * يدل على أن معنى (غوى) ضل عن طريق الصواب كما ذكرنا. وقد قدمنا أن هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن هي حجة من قال بأن الأنبياء غير معصومين من الصغائر. وعصمة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم مبحث أصولي لعلماء الأصول فيه كلام كثير واختلاف معروف، وسنذكر هنا طرفا من كلام أهل الأصول في ذلك. قال ابن الحاجب في مختصره في الأصول: مسألة
الأكثر على أنه لا يمتنع عقلا على الأنبياء معصية. وخالف الروافض، وخالف المعتزلة إلا في الصغائر. ومعتمدهم التقبيح العقلي. والإجماع على عصمتهم بعد الرسالة من تعمد الكذب في الأحكام. لدلالة المعجزة على الصدق. وجوزه القاضي غلطا وقال: دلت على الصدق اعتقادا. وأما غيره من المعاصي فالإجماع على عصمتهم من الكبائر والصغائر الخسيسة. والأكثر على جواز غيرهما ا ه منه بلفظه.
وحاصل كلامه: عصمتهم من الكبائر، ومن صغائر الخسة دون غيرها من الصغائر.
117

وقال العلامة العلوي الشنقيطي في (نشر البنود شرح مراقي السعود) في الكلام على قوله: وحاصل كلامه: عصمتهم من الكبائر، ومن صغائر الخسة دون غيرها من الصغائر. وقال العلامة العلوي الشنقيطي في (نشر البنود شرح مراقي السعود) في الكلام على قوله:
* والأنبياء عصموا مما نهوا
* عنه ولم يكن لهم تفكه
*
* بجائز بل ذاك للتشريع
* أو نية الزلفى من الرفيع
*
ما نصه: فقد أجمع أهل الملل والشرائع كلها على وجوب عصمتهم من تعمد الكذب فيما دل المعجز القاطع على صدقهم فيه. كدعوى الرسالة، وما يبلغونه عن الله تعالى الخلائق. وصدور الكذب عنهم فيما ذكر سهوا أو نسيانا منعه الأكثرون وما سوى الكذب في التبليغ. فإن كان كفرا فقد أجمعت الأمة على عصمتهم منه قبل النبوة وبعدها، وإن كان غيره فالجمهور على عصمتهم من الكبائر عمدا. ومخالف الجمهور الحشوية.
واختلف أهل الحق: هل المانع لوقوع الكبائر منهم عمدا العقل أو السمع؟ وأما المعتزلة فالعقل، وإن كان سهوا فالمختار العصمة منها. وأما الصغائر عمدا أو سهوا فقد جوزها الجمهور عقلا. لكنها لا تقع منهم غير صغائر الخسة فلا لا يجوز وقوعها منهم لا عمدا ولا سهوا انتهى منه.
وحاصل كلامه: عصمتهم من الكذب فيما يبلغونه عن الله ومن الكفر والكبائر وصغائر الخسة. وأن الجمهور على جواز وقوع الصغائر الأخرى منهم عقلا. غير أن ذلك لم يقع فعلا. وقال أبو حيان في البحر في سورة (البقرة) وفي المنتخب للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي ما ملخصه: منعت الأمة وقوع الكفر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إلا الفضيلية من الخوارج قالوا: وقد وقع منهم ذنوب والذنب عندهم كفر. وأجاز الإمامية إظهار الكفر منهم على سبيل التقية. واجتمعت الأمة على عصمتهم من الكذب والتحريف فيما يتعلق بالتبليغ، فلا يجوز عمدا ولا سهوا. ومن الناس من جوز ذلك سهوا. وأجمعوا على امتناع خطئهم في الفتيا عمدا. واختلفوا في السهو. وأما أفعالهم فقالت الحشوية: يجوز وقوع الكبائر منهم على جهة العمد. وقال أكثر المعتزلة: بجواز الصغائر عمدا إلا في القول كالكذب. وقال الجبائي: يمتنعان عليهم إلا على جهة التأويل. وقيل: يمتنعان عليهم إلا على جهة السهو والخطأ، وهم مأخوذون بذلك وإن كان موضوعا عن أمتهم. وقالت الرافضة يمتنع ذلك على كل جهة.
واختلف في وقت العصمة. فقالت الرافضة: من وقت مولدهم. وقال كثير من المعتزلة: من وقت النبوة. والمختار عندنا أنه لم يصدر عنهم ذنب حالة النبوة البتة لا الكبيرة ولا الصغيرة. لأنهم لو صدر عنهم الذنب لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة
118

لعظيم شرفهم وذلك محال، ولئلا يكونوا غير مقبولي الشهادة، ولئلا يجب زجرهم وإيذاؤهم، ولئلا يقتدى بهم في ذلك. ولئلا يكونوا مستحقين للعقاب، ولئلا يفعلوا ضد ما أمروا به لأنهم مصطفون، ولأن إبليس استثناهم في الإغواء انتهى ما لخصناه من (المنتخب)، والقول في الدلائل لهذه المذاهب. وفي إبطال ما ينبغي إبطاله منها مذكور في كتب أصول الدين. انتهى كلام أبي حيان.
وحاصل كلام الأصوليين في هذه المسألة: عصمتهم من الكفر وفي كل ما يتعلق بالتبليغ، ومن الكبائر وصغائر الخسة كسرقة لقمة وتطفيف حبة، وأن أكثر أهل الأصول
على جواز وقوع الصغائر غير الصغائر الخسة منهم. ولكن جماعة كثيرة من متأخري الأصوليين اختاروا أن ذلك وإن جاز عقلا لم يقع فعلا، وقالوا: إنما جاء في الكتاب والسنة من ذلك أن ما فعلوه بتأويل أو نسيانا أو سهوا، أو نحو ذلك.
قال مقيده عفا الله وغفر له: الذي يظهر لنا أنه الصواب في هذه المسألة أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لم يقع منهم ما يزري بمراتبهم العلية، ومناصبهم السامية. ولا يستوجب خطأ منهم ولا نقصا فيهم صلوات الله وسلامه عليهم، ولو فرضنا أنه وقع منهم بعض الذنوب لأنهم يتداركون ما وقع منهم بالتوبة، والإخلاص، وصدق الإنابة إلى الله حتى ينالوا بذلك أعلى درجاتهم فتكون بذلك درجاتهم أعلى من درجة من لم يرتكب شيئا من ذلك. ومما يوضح هذا قوله تعالى: * (وعصىءادم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) *. فانظر أي أثر يبقى للعصيان والغي بعد توبة الله عليه، واجتبائه أي اصطفائه إياه، وهدايته له، ولا شك أن بعض الزلات ينال صاحبها بالتوبة منها درجة أعلى من درجته قبل ارتكاب ذلك الزلة. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) *. الاجتباء: الاصطفاء والاختيار. أي ثم بعد ما صدر من آدم بمهلة اصطفاه ربه واختاره فتاب عليه وهداه إلى ما يرضيه. ولم يبين هنا السبب لذلك، ولكنه بين في غير هذا الموضع أنه تلقى من ربه كلمات فكانت سبب توبة ربه عليه، وذلك في قوله: * (فتلقىءادم من ربه كلمات فتاب عليه) * أي بسبب تلك الكلمات كما تدل عليه الفاء. وقد قدمنا في سورة (البقرة): أن الكلمات المذكورة هي المذكورة في سورة (الأعراف) في قوله تعالى: * (قالا ربنا ظلمنآ أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) *
119

وخير ما يفسر به القرآن القرآن. قوله تعالى: * (قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو) *. الظاهر أن ألف الاثنين في قوله * (اهبطا) * راجعة إلى آدم وحواء المذكورين في قوله * (فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما) *، خلافا لمن زعم أنها راجعة إلى إبليس وآدم، وأمره إياهما بالهبوط من الجنة المذكور في آية (طه) هذه جاء مبينا في غير هذا الموضع. كقوله في سورة (البقرة): * (وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم فى الأرض مستقر ومتاع إلى حين) *، وقوله فيها أيضا: * (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *، وقوله في (الأعراف): * (قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم فى الا رض مستقر ومتاع إلى حين) *. وفي هذه الآيات سؤال معروف، وهو أن يقال: كيف جيء بصيغة الجمع في قوله * (اهبطوا) * في (البقرة) و (الأعراف) وبصيغة التثنية في (طه) في قوله: * (اهبطا) * مع أنه أتبع صيغة التثنية في (طه) بصيغة الجمع في قوله * (فإما يأتينكم منى هدى) * وأظهر الأجوبة عندي عن ذلك: أن التثنية باعتبار آدم وحواء فقط، والجمع باعتبارهما مع ذريتهما. خلافا لمن زعم أن التثنية باعتبار آدم وإبليس، والجمع باعتبار معهم ذريتهما معهما، وخلافا لمن زعم أن الجمع في قوله: * (اهبطوا) * مراد به آدم وحواء وإبليس والحية. والدليل على أن الحية ليست مرادة في ذلك هو أنها لا تدخل في قوله * (فإما يأتينكم منى هدى) * لأنها غير مكلفة.
واعلم أن المفسرين يذكرون قصة الحية، وأنها كانت ذات قوائم أربع كالبختية من أحسن خلقها الله، وأن إبليس دخل في فمها فأدخلته الجنة، فوسوس لآدم وحواء بعد أن عرض نفسه على كثير من الدواب فلم يدخله إلا الحية. فأهبط هو إلى الأرض ولعنت هي وردت قوائمها في جوفها، وجعلت العداوة بينها وبين بني آدم، ولذلك أمروا بقتلها. وبهذه المناسبة ذكر القرطبي رحمه الله في تفسيره في سورة (البقرة) جملا من أحكام قتل الحيات. فذكر عن ساكنة بنت الجعد أنها روت عن سري بنت نبهان الغنوية أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بقتل الحيات صغيرها وكبيرها، وأسودها وأبيضها، ويرغب في ذلك. ثم ذكر عن ابن جريج عن عمرو بن دينار عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود حديثا فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بقتل حية فسبقتهم إلى جحرها. فأمرهم أن يضرموا عليها
120

نارا. وذكر عن علماء المالكية أنهم خصصوا بذلك النهي عن الاحراق بالنار، وعن أن يعذب أحد بعذاب الله. ثم ذكر عن إبراهيم النخعي: أنه كره أن تحرق العقرب بالنار، وقال: هو مثله. وأجاب عن ذلك بأنه يحتمل أنه لم يبلغه الخبر المذكور. ثم ذكر حديث عبد الله بن مسعود الثابت في الصحيحين قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار، وقد أنزلت عليه * (والمرسلات عرفا) * فنحن نأخذها من فيه رطبة، إذ خرجت علينا حية فقال (اقتلوها)، فابتدرناها لنقتلها، فسبقتنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وقاها الله شركم كما وقاكم شرها) فلم يضرم نارا، ولا احتمال في قتلها، وأجاب هو عن ذلك، بأنه يحتمل أنه لم يجد نارا في ذلك الوقت، أو لم يكن الجحر بهيئة ينتفع بالنار هناك، مع ضرر الدخان وعدم وصوله إلى الحية. ثم ذكر أن الأمر بقتل الحيات من الإرشاد إلى دفع المضرة المخرفة من الحيات ثم ذكر أن الأمر بقتل الحيات عام في جميع أنواعها إن كانت غير حيات البيوت، ثم ذكر فيما خرجه أبو داود من حديث عبد الله بن مسعود: (اقتلوا الحيات كلهن، فمن خاف ثأرهن فليس مني) ثم ذكر أن حيات البيوت لا تقتل حتى تؤذن ثلاثة أيام. لحديث: (إن بالمدينة جنا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام) ثم ذكر أن بعض العلماء خص ذلك بالمدينة دون غيرها. لحديث: (إن بالمدينة جنا قد أسلموا). قالوا: ولا نعلم هل أسلم من جن غير المدينة أحدا ولا. قاله ابن نافع. ثم ذكر عن مالك النهي عن قتل جنان البيوت في جميع البلاد. ثم قال: وهو الصحيح. لأن الله عز وجل قال: * (وإذ صرفنآ إليك نفرا من الجن يستمعون القرءان) *. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن وفيه سألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة) وسيأتي بكماله في سورة (الجن) إن شاء الله تعالى. وإذا ثبت هذا فلا يقتل شيء منها حتى يخرج عليه وينذر، على ما يأتي بيانه إن شاء الله.
(ثم قال): روى الأئمة عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة: أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته، قال: فوجدته يصلي فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، فسمعت تحريكا في عراجين ناحية البيت، فالتفت فإذا حية فوثبت لأقتلها فأشار إلي أن أجلس فجلست، فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال: أترى هذا البيت؟ فقلت نعم. قال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس، قال: فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه
وسلم بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله، فاستأذنه يوما
121

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذ عليك سلاحك، فإنني أخشى عليك قريظة) فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة، فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به وأصابته غيرة. فقالت له: اكفف عليك رمحك، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني، فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به، ثم خرج فركزه في الدار فاضطربت عليه، فما يدري أيهما كان أسرع موتا الحية أم الفتى. قال: فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، وقلنا: أدع الله يحيه لنا: فقال: (استغفروا لأخيكم ثم قال إن بالمدينة جنا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئا فأذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فأقتلوه فإنما هو شيطان). وفي طريق أخرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لهذه البيوت عوامر، فإذا رأيتم شيئا منهم فحرجوا عليها ثلاثا، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر وقال لهم: اذهبوا فادفنوا صاحبكم). ثم قال: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: لا يفهم من هذا الحديث أن هذا الجان الذي قتله الفتى كان مسلما، وأن الجن قتلته به قصاصا. لأنه لو سلم أن القصاص مشروع بيننا وبين الجن لكان إنما يكون في العمد المحض، وهذا الفتى لم يقصد ولم يتعمد قتل نفس مسلمة إذ لم يكن عنده علم من ذلك، وإنما قصد إلى قتل ما سوغ قتل نوعه شرعا، فهذا قتل خطأ ولا قصاص فيه. فالأولى أن يقال: إن كفار الجن أو فسقتهم قتلوا الفتى بصاحبهم عدوا وانتقاما. وقد قتلت سعد بن عبادة رضي الله عنه، وذلك أنه وجد ميتا في مغتسله وقد أخضر جسده، ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلا يقول ولا يرون أحدا:: (إن لهذه البيوت عوامر، فإذا رأيتم شيئا منهم فحرجوا عليها ثلاثا، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر وقال لهم: اذهبوا فادفنوا صاحبكم). ثم قال: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: لا يفهم من هذا الحديث أن هذا الجان الذي قتله الفتى كان مسلما، وأن الجن قتلته به قصاصا. لأنه لو سلم أن القصاص مشروع بيننا وبين الجن لكان إنما يكون في العمد المحض، وهذا الفتى لم يقصد ولم يتعمد قتل نفس مسلمة إذ لم يكن عنده علم من ذلك، وإنما قصد إلى قتل ما سوغ قتل نوعه شرعا، فهذا قتل خطأ ولا قصاص فيه. فالأولى أن يقال: إن كفار الجن أو فسقتهم قتلوا الفتى بصاحبهم عدوا وانتقاما. وقد قتلت سعد بن عبادة رضي الله عنه، وذلك أنه وجد ميتا في مغتسله وقد أخضر جسده، ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلا يقول ولا يرون أحدا:
* قد قتلنا سيد الخز
* رج سعد بن عباده
*
* ورميناه بسهمين
* فلم تخط فؤاده
*
وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بالمدينة جنا قد أسلموا) ليبين طريقا يحصل به التحرز من قتل المسلم منهم، ويتسلط به على قتل الكافر منهم. وروي من وجوه: أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قتلت جانا. فأريت في المنام أن قائلا يقول لها: لقد قتلت مسلما. فقالت: لو كان مسلما لم يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. قال: ما دخل عليك إلا وعليك ثيابك. فأصبحت فأمرت باثني عشر ألف درهم فجعلت في سبيل الله. وفي رواية: ما دخل عليك إلا وأنت مستترة. فتصدقت وأعتقت رقابا. وقال الربيع بن بدر: الجان من الحيات التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها هي التي تمشي ولا تلتوي. وعن علقمة نحوه. ثم ذكر صفة إنذار حيات البيوت فقال: قال مالك: أحب إلي أن ينذروا ثلاثة أيام. وقاله عيسى بن دينار:
122

وإن ظهر في اليوم مرارا، ولا يتقصر على إنذاره ثلاث مرات في يوم واحد حتى يكون في ثلاثة أيام. وقيل: يكفي ثلاث مرار. لقوله صلى الله عليه وسلم: (فليؤذنه ثلاثا)، وقوله (حرجوا عليه ثلاثا) ولأن ثلاثا للعدد المؤنث، فظهر أن المراد ثلاث مرات. وقول مالك أولى لقوله صلى الله عليه وسلم (ثلاثة أيام) وهو نص صحيح مقيد لتلك المطلقات، ويحمل ثلاثا على إرادة ليالي الأيام الثلاث، فغلب الليلة على عادة العرب في باب التاريخ، فإنها تغلب فيها التأنيث. قال مالك: ويكفي في الإنذار أن يقول: أحرج عليك بالله واليوم الآخر ألا تبدو لنا ولا تؤذونا. وذكر ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه ذكر عنده حيات البيوت فقال: إذا رأيتم منها شيئا في مساكنكم فقولوا: أنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم نوح عليه السلام، وأنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم سليمان عليه السلام، فإذا رأيتم منهن شيئا بعد فاقتلوه. ثم قال: وقد حكى ابن حبيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقال: (أنشدكن بالعهد الذي أخذ عليكن سليمان عليه السلام ألا تؤذونا ولا تظهرن علينا) انتهى كلام القرطبي ملخصا قريبا من لفظه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: التحقيق في هذه المسألة أن ما لم يكن من الحيات في البيوت فإنه يقتل كالحيات التي توجد في الفيافي، وأن حيات البيوت لا تقتل إلا بعد الإنذار. وأظهر القولين عندي عموم الإنذار في المدينة وغيرها، وأنه لا بد من الإنذار ثلاثة أيام، ولا تكفي ثلاث مرات في يوم أو يومين، كما تقدمت أدلة ذلك في كلام القرطبي. وأن الأبتر وذا الطفيتين يقتلان في البيوت بلا إنذار. لما ثبت في بعض روايات مسلم بلفظ: فقال أبو لبابة: إنه قد نهي عنهن (يريد عوامر البيوت) وأمر بقتل الأبترو ذي الطفيتين. وفي رواية في صحيح البخاري عن أبي لبابة: (لا تقتلوا الجنان إلا كل أبتر ذي طفيتين، فإنه يسقط الولد، ويذهب البصر فاقتلوه).
والدليل على قتل الحيات وإنذار حيات البيوت ثابت في الصحيحين وغيرهما.
قال البخاري في صحيحه: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا هشام بن يوسف حدثنا معمر عن الزهري، عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه سمع النبي صلى الله
عليه وسلم يخطب على المنبر يقول: (اقتلوا الحيات واقتلوا ذا الطفيتين والأبتر. فإنها يطمسان البصر، ويستسقطان الحبلى) قال عبد الله: فبينا أنا أطارد حية لأقتلها فناداني أبو لبابة: لا يقتلها. فقلت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل الحيات؟ فقال: إنه نهى بعد ذلك عن ذوات البيوت، وهي العوامر. وقال عبد الرزاق عن معمر: فرآني أبو لبابة أو زيد بن
123

الخطاب، وتابعه يونس وابن عيينه وإسحاق الكلبي والزبيدي، وقال صالح وابن أبي حفصة وابن مجمع عن الزهري عن سالم عن ابن عمر: فرآني أبو لبابة وزيد بن الخطاب ا ه من صحيح البخاري رحمه الله تعالى. وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: وحدثني عمرو بن محمد الناقد، حدثنا سفيان بن أبي عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم (اقتلوا الحيات وذا الطفيتين والأبتر، فإنهما يستسقطان الحبل ويلتمسان البصر) قال: فكان ابن عمر يقتل كل حية وجدها. فأبصره أبو لبابة بن عبد المنذر، أو زيد بن الخطاب وهو يطارد حية فقال: إنه قد نهى عن ذوات البيوت. ثم ذكره من طرق متعددة. وفي كلها التصريح بالنهي عن قتل جنان البيوت يعني إلا بعد الإنذار ثلاثا. وعن مالك رحمه الله: يقتل ما وجد منها بالمساجد. وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث (وذا الطفيتين) هو بضم الطاء المهملة وإسكان الفاء بعدها ياء. وأصل الطفية خوصة المقل وهو شجر الدوم. وقيل: المقل ثمر شجر الدوم. وجمعها طفى بضم ففتح على القياس. والمراد بالطفيتين في الحديث: خطان أبيضان. وقيل: أسودان على ظهر الحية المذكورة، يشبهان في صورتها خوص المقل المذكور. والأبتر: قصير الذنب من الحيات: وقال النضير بن شميل: هو صنف من الحيات أزرق مقطوع الذنب، لا تنظر إليه حامل إلا ألقت ما في بطنها. وقال الداودي: هو الأفعى التي تكون قدر شبر أو أكثر قليلا وقوله في هذا الحديث: (يستسقطان الحبل) معناها أن المرأة الحامل إذا نظرت إليهما وخافت أسقطت جنينها غالبا. وقد ذكر مسلم عن الزهري ما يدل على أن إسقاط الحبل المذكور خاصية فيهما من سمهما. والأظهر في معنى (يلتمسان البصر) أن الله جعل فيهما من شدة سمهما خاصية يخطفان بها البصر، ويطمسانه بها بمجرد نظرهما إليه. والقول: بأن معناه أنهما يقصدان البصر باللسع والنهش ضعيف. والعلم عند الله تعالى.
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (اقتلوا الحيات) يدل على وجوب قتلها. لما قدمنا من أن صيغة الأمر المجردة عن القرائن تدل على الوجوب.
والجمهور على أن الأمر بذلك القتل المذكور للندب والاستحباب، والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (بعضكم لبعض عدو) * على ما ذكرنا أنه الأظهر. فالمعنى: أن بعض بني آدم عدو لبعضهم. كما قال تعالى: * (أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض) * ونحوها من الآيات. وعلى أن المراد
124

بقوله * (اهبطا) * آدم وإبليس، فالمعنى أن إبليس وذريته أعداء لآدم وذريته. كما قال تعالى: * (أفتتخذونه وذريته أوليآء من دونى وهم لكم عدو) * ونحوها من الآيات.
والظاهر أن ما ذكره القرطبي: من إحراق الحية بالنار لم يثبت، وأنه لا ينبغي أن يعذب بعذاب الله، فلا ينبغي أن تقتل بالنار، والله أعلم.
فإن قيل: الحديث المذكور يدل على أن ذا الطفيتين غير الأبتر لعطفه عليه في الحديث، ورواية البخاري التي قدمنا عن أبي لبابة: (لا تقتلوا الجنان إلا كل أبتر ذي طفيتين) يقتضي أنهما واحد؟ فالجواب: أن ابن حجر في الفتح أجاب عن هذا. بأن الرواية المذكورة ظاهرها اتحادهما، ولكنها لا تنفي المغايرة ا ه. والظاهر أن مراده بأنها لا تنفي المغايرة: أن الأبتر وإن كان ذا طفيتين فلا ينافي وجود ذي طفيتين فلا ينافي وجود ذي طفيتين غير الأبتر. والله تعالى أعلم. قوله تعالى: * (فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى) *. الظاهر أن الخطاب لبني آدم. أي فإن يأتكم مني هدى أي رسول أرسله إليكم، وكتاب يأتي به رسول، فمن اتبع منكم هداي أي من آمن برسلي وصدق بكتبي، وامتثل ما أمرت به، واجتنب ما نهيت عنه على ألسنة رسلي. فإنه لا يضل في الدنيا، أي لا يزيغ عن طريق الحق لاستمساكه العروة الوثقى، ولا يشقى في الآخرة لأنه كان في الدنيا عاملا بما يستوجب السعادة من طاعة الله تعالى وطاعة رسله. وهذا المعنى المذكور هنا ذكر في غير هذا الموضع. كقوله في (البقرة): * (فإما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * ونحو ذلك من الآيات. وفي هذه الآيات دليل على أن الله بعد أن أخرج أبوينا من الجنة لا يرد إليهما أحدا منا إلا بعده الابتلاء والامتحان بالتكاليف من الأوامر والنواهي، ثم يطيع الله فيما ابتلاه به. كما تقدمت الإشارة إليه في سورة (البقرة). قوله تعالى: * (ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا) *. قد قدمنا في سورة (الكهف) في الكلام على قوله: * (ومن أظلم ممن ذكر بأايات ربه فأعرض عنها) * الآيات الموضحة نتائج الإعراض عن ذكر الله تعالى الوخيمة. فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وقد قدمنا هناك أن منها المعيشة الضنك. واعلم
125

أن الضنك في اللغة: الضيق. ومنه قول عنترة: ومن أظلم ممن ذكر بأايات ربه فأعرض عنها) * الآيات الموضحة نتائج الإعراض عن ذكر الله تعالى الوخيمة. فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وقد قدمنا هناك أن منها المعيشة الضنك. واعلم أن الضنك في اللغة: الضيق. ومنه قول عنترة:
* إن يلحقوا أكرر وإن يستلحموا
* أشدد وإن يلفوا بضنك أنزل
*
وقوله أيضا: وقوله أيضا:
* إن المنية لو تمثل مثلت
* مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل
*
وأصل الضنك مصدر وصف به، فيستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والجمع. وبه تعلم أن معنى قوله * (معيشة ضنكا) * أي عيشا ضيقا والعياذ بالله تعالى.
واختلف العلماء في المراد بهذا العيش الضيق على أقوال متقاربة، لا يكذب بعضها بعضا. وقد قدمنا مرارا: أن الأولى في مثل ذلك شمول الآية لجميع الأقوال المذكورة. ومن الأقوال في ذلك: أن معنى ذلك أن الله عز وجل جعل مع الدين التسليم والقناعة، والتوكل على الله، والرضا بقسمته فصاحبه ينفق مما رزقه الله بسماح وسهولة، فيعيش عيشا هينئا. ومما يدل على هذا المعنى من القرآن قوله تعالى: * (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حيواة طيبة) *، وقوله تعالى: * (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى) *، كما تقدم إيضاح ذلك كله.
وأما المعرض عن الدين فإنه يستولي عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق، فعيشة ضنك، وحاله مظلمة. ومن الكفرة من ضرب الله عليه الذلة والمسكنة بسبب كفره، كما قال تعالى: * (وضربت عليهم الذلة والمسكنة وبآءوا بغضب من الله ذالك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله) *. وذلك من العيش الضنك بسبب الإعراض عن ذكر الله. وبين في مواضع أخر أنهم لو تركوا الإعراض عن ذكر الله فأطاعوه تعالى أن عيشهم يصيروا واسعا وغدا لا ضنكا، كقوله تعالى: * (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ومآ أنزل إليهم من ربهم لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) *، وقوله تعالى: * (ولو أن أهل القرىءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السمآء والا رض) *، وكقوله تعالى عن نوح: * (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السمآء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا) *، وقوله تعالى عن هود: * (وياقوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السمآء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى
126

قوتكم) *، وقوله تعالى: * (وألو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم مآء غدقا لنفتنهم فيه) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وعن الحسن أن المعيشة الضنك: هي طعام الضريع والزقوم يوم القيامة وذلك مذكور في آيات من كتاب الله تعالى، كقوله: * (ليس لهم طعام إلا من ضريع) *، وقوله: * (إن شجرة الزقوم * طعام الاثيم) * الآية ونحو ذلك من الآيات. وعن عكرمة والضحاك ومالك بن دينار: المعيشة الضنك: الكسب الحرام، والعمل السيىء. وعن أبي سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة: المعيشة الضنك: عذاب القبر وضغطته. وقد أشار تعالى إلى فتنة القبر وعذابه في قوله * (يثبت الله الذين ءامنوا بالقول الثابت فى الحيواة الدنيا وفى الا خرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشآء) *.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة: أن المعيشة الضنك في الآية: عذاب القبر. وبعض طرقه بإسناد جيد كما قاله ابن كثير في تفسير هذه الآية. ولا ينافي ذلك شمول المعيشة الضنك لمعيشته في الدنيا. وطعام الضريع والزقوم. فتكون معيشته ضنكا في الدنيا والبرزخ والآخرة، والعياذ بالله تعالى. قوله تعالى: * (ونحشره يوم القيامة أعمى) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من أعرض عن ذكره يحشره يوم القيامة في حال كونه أعمى. قال مجاهد وأبو صالح والسدي: أعمى أي لا حجة له. وقال عكرمة: عمى عليه كل شيء إلا جهنم. وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البنان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا، ويكون في نفس الآية قرينة تدل على خلاف ذلك القول. وقد ذكرنا أمثلة متعددة لذلك. فإذا علمت ذلك فاعلم أن في هذه الآية الكريمة قرينة دالة على خلاف قول مجاهد وأبي صالح والسدي وعكرمة. وأن المراد بقوله * (أعمى) * أي أعمى البصر لا يرى شيئا. والقرينة المذكورة هي قوله تعالى: * (قال رب لم حشرتنى أعمى وقد كنت بصيرا) * فصرح بأن عماه هو العمى المقابل للبصر وهو بصر العين، لأن الكافر كان في الدنيا أعمى القلب كما دلت على ذلك آيات كثيرة من كتاب الله، وقد زاد جل وعلا في سورة (بني إسرائيل) أنه مع ذلك العمى يحشر أصم أبكم أيضا، وذلك في قوله تعالى: * (ومن يهد الله فهو المهتد ومن
127

يضلل فلن تجد لهم أوليآء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا) *.
تنبيه
في آية (طه) هذه وآية (الإسراء) المذكورتين إشكال معروف. وهو أن يقال: إنهما قد دلتا على أن الكافر يحشر يوم القيامة أعمى، وزادت آية (الإسراء) أنه يحشر أبكم أصم أيضا، مع أنه دلت آيات من كتاب الله على أن الكفار يوم القيامة يبصرون ويسمعون ويتكلمون. كقوله تعالى: * (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا) *، وقوله تعالى: * (ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها) *، وقوله تعالى: * (ربهم ربنآ أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا) *، إلى غير ذلك من الآيات. وقد ذكرنا في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب. عن آيات الكتاب) الجواب عن هذا الإشكال من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول واستظهره أبو حيان أن المراد بما ذكر من العمى والصمم والبكم حقيقته. ويكون ذلك في مبدأ الأمر ثم يرد الله تعالى إليهم أبصارهم ونطقهم وسمعهم فيرون النار ويسمعون زفيرها، وينطقون بما حكى الله تعالى عنهم في غير موضع. الوجه الثاني أنهم لا يرون شيئا يسرهم، ولا يسمعون كذلك، ولا ينطقون بحجة، كما أنهم كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ولا يسمعونه. وأخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس وروي أيضا عن الحسن كما ذكره الألوسي وغيره. وعلى هذا القول فقد نزل ما يقولونه ويسمعونه ويبصرونه منزلة العدم لعدم الانتفاع به. كما أوضحنا في غير هذا الموضع. ومن المعلوم أن العرب تطلق لا شيء على ما لا نفع فيه. ألا ترى أن الله يقول في المنافقين: * (صم بكم عمى) *، مع أنه يقول فيهم: * (فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد) *، ويقول فيهم: * (وإن يقولوا تسمع لقولهم) * أي لفصاحتهم وحلاوة ألسنتهم. ويقول فيهم: * (ولو شآء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم) * وما ذلك إلا لأن الكلام ونحوه الذي لا فائدة فيه كلا
شيء: فيصدق على صاحبه أنه أعمى وأصم وأبكم، ومن ذلك قول قعنب بن أم صاحب: ولو شآء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم) * وما ذلك إلا لأن الكلام ونحوه الذي لا فائدة فيه كلا شيء: فيصدق على صاحبه أنه أعمى وأصم وأبكم، ومن ذلك قول قعنب بن أم صاحب:
* صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به
* وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
*
128

وقول الآخر: وقول الآخر:
* أصم عن الأمر الذي لا أريده
* وأسمع خلق الله حين أريد
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* قل ما بدا لك من زور ومن كذب
* حلمي أصم وأذني غير صماء
*
ونظائر هذا كثيرة في كلام العرب من إطلاق الصمم على السماع الذي لا فائدة فيه. وكذلك الكلام الذي لا فائدة فيه، والرؤية التي لا فائدة فيها.
الوجه الثالث أن الله إذا قال لهم: * (اخسئوا فيها ولا تكلمون) * وقع بهم ذلك العمى والصمم والبكم من شدة الكرب واليأس من الفرج قال تعالى: * (ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون) * وعلى هذا القول تكون الأحوال الخمسة مقدرة: أعني قوله في (طه): * (ونحشره يوم القيامة أعمى) *، وقوله فيها: * (لم حشرتنى أعمى) *، وقوله في (الإسراء: * (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما) *، وأظهرها عندي الأول: والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (فنسيتها وكذالك اليوم تنسى) * من النسيان بمعنى الترك عمدا كما قدمنا الآيات الموضحة له في هذه السورة الكريمة في الكلام على قوله: * (فنسى ولم نجد له عزما) *. قوله تعالى: * (وكذالك نجزى من أسرف) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه يجازي المسرفين ذلك الجزاء المذكور. وقد دل مسلك الإيماء والتنبيه على أن ذلك الجزاء لعلة إسرافهم على أنفسهم في الطغيان والمعاصي، وبين في غير هذا الموضع أن جزاء الإسراف النار، وذلك في قوله تعالى: * (وأن المسرفين هم أصحاب النار) * وبين في موضع آخر: أن محل ذلك إذا لم ينيبوا إلى الله ويتوبوا إليه، وذلك في قوله: * (قل ياعبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) * إلى قوله: * (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب) *. قوله تعالى: * (ولعذاب الا خرة أشد وأبقى) *
129

. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن عذاب الآخرة أشد وأبقى. أي أشد ألما وأدوم من عذاب الدنيا، ومن المعيشة الضنك التي هي عذاب القبر. وقد أوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع. كقوله تعالى: * (ولعذاب الا خرة أشق وما لهم من الله من واق) *، وقوله تعالى * (ولعذاب الا خرة أخزى وهم لا ينصرون) *، وقوله تعالى: * (ولعذاب الا خرة أكبر لو كانوا يعلمون) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله * (أفلم يهد لهم) *.
تقدم بعض الآيات الموضحة له في سورة (مريم) وسيأتي له بعد هذا إن شاء الله زيادة إيضاح.
* (وقالوا لولا يأتينا بأاية من ربه أولم تأتهم بينة ما فى الصحف الا ولى * ولو أنآ أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع ءاياتك من قبل أن نذل ونخزى * قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى) * قوله تعالى: * (وقالوا لولا يأتينا بأاية من ربه أولم تأتهم بينة ما فى الصحف الا ولى) *. أظهر الأقوال عندي في معنى هذه الآية الكريمة: أن الكفار اقترحوا على عادتهم في التعنت آية على النبوة كالعصا واليد من آيات موسى، وكناقة صالح، واقتراحهم لذلك بحرف التحضيض الدال على شدة الحض في طلب ذلك في قوله: * (لولا يأتينا) * أي هلا يأتينا محمد بآية: كناقة صالح، وعصا موسى، أي نطلب ذلك منه بحض وحث. فأجابهم الله بقوله: * (أولم تأتهم بينة ما فى الصحف الا ولى) * وهي هذا القرآن العظيم، لأنه آية هي أعظم الآيات وأدلها على الإعجاز. وإنما عبر عن هذا القرآن العظيم بأنه بينة ما في الصحف الأولى. لأن القرآن برهان قاطع على صحة جميع الكتب المنزلة من الله تعالى، فهو بينة واضحة على صدقها وصحتها: كما قال تعالى: * (وأنزلنآ إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه) *، وقال تعالى: * (إن هاذا القرءان يقص على بنى إسراءيل أكثر الذى هم فيه يختلفون) *، وقال تعالى: * (التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم) * إلى غير ذلك من الآيات.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية على هذا التفسير الذي هو الأظهر أوضحه جل وعلا في سورة (العنكبوت) في قوله تعالى: * (وقالوا لولا أنزل عليه ءايات من ربه قل إنما الا يات عند الله وإنمآ أنا نذير مبين أولم يكفهم أنآ أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن فى ذالك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون) *. فقوله في (العنكبوت): * (أولم يكفهم أنآ أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن) * هو معنى قوله في (طه): * (أو
130

لم تأتهم بينة ما فى الصحف الا ولى) * كما أوضحنا. والعلم عند الله تعالى. ويزيد ذلك إيضاحا الحديث المتفق عليه: (ما من نبي من الأنبياء إلا أوتي ما آمن البشر على مثله، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة) وفي الآية أقوال أخر غير ما ذكرنا. قوله تعالى: * (ولو أنآ أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع ءاياتك من قبل أن نذل ونخزى) *. قد قدمنا في سورة (النساء) أن آية (طه) هذه تشير إلى معناها آية (القصص) التي هي قوله تعالى: * (ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع ءاياتك ونكون من المؤمنين) * وأن تلك الحجة التي يحتجون بها لو لم يأتهم نذير هي المذكورة في قوله تعالى: * (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) *. فقوله تعالى: * (قل كل متربص فتربصوا) *. أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة: أن يقول للكفار الذين يقترحون عليه الآيات عنادا وتعنتا: كل منا ومنكم متربص، أي منتظر ما يحل بالآخر من الدوائر كالموت والغلبة. وقد أوضح في غير هذا الموضع أن ما ينتظره النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والمسلمون كله خير، بعكس ما ينتظره ويتربص الكفار. كقوله تعالى: * (قل هل تربصون بنآ إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون) *، وقوله: * (ومن الا عراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دآئرة) *، إلى غير ذلك من الآيات. والتربص: الانتظار. قوله تعالى: * (فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار سيعلمون في ثاني حال من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى. أي وفق لطريق الصواب والديمومة على ذلك. وأمر نبيه أن يقول ذلك للكفار. والمعنى: سيتضح لكم أنا مهتدون، وأنا على صراط مستقيم، وأنكم على ضلال وباطل. وهذا يظهر لهم يوم القيامة إذا عاينوا الحقيقة، ويظهر لهم في الدنيا لما يرونه من نصر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم.
131

وهذا المعنى الذي ذكره هنا بينه في غير هذا الموضع. كقوله: * (وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا) *، وقوله: * (سيعلمون غدا من الكذاب الا شر) *، وقوله: * (ولتعلمن نبأه بعد حين) * إلى غير ذلك من الآيات والصراط في لغة العرب: الطريق الواضح. والسوي: المستقيم، وهو الذي لا اعوجاج فيه. ومنه قول جرير: ولتعلمن نبأه بعد حين) * إلى غير ذلك من الآيات والصراط في لغة العرب: الطريق الواضح. والسوي: المستقيم، وهو الذي لا اعوجاج فيه. ومنه قول جرير:
* أمير المؤمنين على صراط
* إذا اعوج الموارد مستقيم
*
و (من) في قوله * (من أصحاب) * قال بعض العلماء: هي موصولة مفعول به ل (تعلمون). وقال بعضهم: هي استفهامية معلقة لفعل العلم، كما قدمنا إيضاحه في (مريم) والعلم عند الله تعالى.
132

((سورة الأنبياء))
* (اقترب للناس حسابهم وهم فى غفلة معرضون * ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون * لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هاذآ إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون * قال ربى يعلم القول فى السمآء والا رض وهو السميع العليم * بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بأاية كمآ أرسل الا ولون * مآ ءامنت قبلهم من قرية أهلكناهآ أفهم يؤمنون * ومآ أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحى إليهم فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون * وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين * ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشآء وأهلكنا المسرفين * لقد أنزلنآ إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون) * قوله تعالى: * (اقترب للناس حسابهم) *. قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في أول سورة (النحل) فأغنى ذلك عن إعادته هنا. قوله تعالى: * (وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هاذآ إلا بشر مثلكم) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار أخفوا النجوى فيما بينهم، قائلين: إن النبي صلى الله عليه وسلم ما هو إلا بشر مثلهم، فيكف يكون رسولا إليهم؟ والنجوى: الإسرار بالكلام وإخفاؤه عن الناس. وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من دعواهم: أن بشرا مثلهم لا يمكن أن يكون رسولا، وتكذيب الله لهم في ذلك جاء في آيات كثيرة، وقد قدمنا كثيرا من ذلك، كقوله: * (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا) *، وقوله: * (فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله) *، وقوله: * (أبشرا منا واحدا نتبعه إنآ إذا لفى ضلال وسعر) * وقوله: * (ما هاذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون) *، وقوله تعالى: * (ما لهاذا الرسول يأكل الطعام ويمشى فى الا سواق) *، وقوله تعالى: * (قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد ءابآؤنا) *. والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا، كما تقدم إيضاح ذلك.
وقد رد الله عليهم هذه الدعوى الكاذبة التي هي منع إرسال البشر، كقوله هنا في هذه السورة الكريمة: * (ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا) *، وقوله تعالى: * (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية) *، وقوله تعالى: * (ومآ أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون
133

الطعام ويمشون فى الا سواق) *، وقوله هنا: * (وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين) *، إلى غير ذلك من الآيات. وجملة * (هل هاذآ إلا بشر مثلكم) *. قيل بدل من (النجوى). أي أسروا النجوى التي هي هذا الحديث الخفي الذي هو قولهم: هل هذا إلا بشر مثلكم. وصدر به الزمخشري، وقيل: مفعول به للنجوى. لأنها بمعنى القول الخفي. أي قالوا في خفية: * (هل هاذآ إلا بشر مثلكم) *. وقيل: معمول قول محذوف. أي قالوا هل هذا إلا بشر مثلكم. وهو أظهرها. لأطراد حذف القول مع بقاء مقولة. وفي قوله: * (الذين ظلموا) * أوجه كثيرة من الإعراب معروفة، وأظهرها عندي: أنها بدل من الواو في أوله: * (
وأسروا) * بدل بعض من كل، وقد تقرر في الأصول: أن بدل البعض من الكل من المخصصات المتصلة، كقوله تعالى: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) *. فقوله * (من) * بدل من (الناس): بدل بعض من كل، وهي مخصصه لوجوب الحج بأنه لا يجب إلا على من استطاع إليه سبيلا. كما قدمنا هذا في سورة (المائدة). قوله تعالى: * (أفتأتون السحر وأنتم تبصرون) *. إعراب هذه الجملة جار مجرى اعراب الجملة التي قبلها، التي هي * (هل هاذآ إلا بشر مثلكم) *، والمعنى: أنهم زعموا أن ما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم سحر، وبناء على ذلك الزعم الباطل أنكروا على أنفسهم إتيان السحر وهم يبصرون. يعنون بذلك تصديق النبي صلى الله عليه وسلم، أي لا يمكن أن نصدقك ونتبعك، ونحن نبصر أن ما جئت به سحر. وقد بين جل وعلا في غير هذا الموضع أنهم ادعوا أن ما جاء به صلى الله عليه وسلم سحر، كقوله عن بعضهم: * (إن هاذآ إلا سحر يؤثر) *، وقوله تعالى: * (كذلك مآ أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون) *. وقد رد الله عليهم دعواهم أن القرآن سحر بقوله هنا: * (قال ربى يعلم القول فى السمآء والا رض وهو السميع العليم) * يعني أن الذي يعلم القول في السماء والأرض الذي هو السميع العليم، المحيط علمه بكل شيء، هو الذي أنزل هذا القرآن العظيم، وكون من أنزله هو العالم بكل شيء يدل على كمال صدقه في الأخبار وعدله في الأحكام، وسلامته من جميع العيوب والنقائص، وأنه ليس بسحر. وقد أوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع: كقوله تعالى: * (قل أنزله الذى يعلم السر فى السماوات والا رض) *، وقوله تعالى: * (لاكن الله يشهد بمآ أنزل
134

إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا) * إلى غير ذلك من الآيات. وقرأ هذا الحرف حمزة والكسائي وحفص عن عاصم * (قال ربى يعلم القول) * بألف بعد القاف وفتح اللام بصيغة الفعل الماضي، وقرأه الباقون * (قل) * بضم القاف وإسكان اللام بصيغة الأمر. قوله تعالى: * (بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر) *. الظاهر أن الإضراب في قوله هنا * (بل قالوا أضغاث أحلام) * إلخ، إضراب انتقالي لا إبطالي، لأنهم قالوا ذلك كله، وقال بعض العلماء: كل هذه الأقوال المختلفة التي حكاها الله عنهم صدرت من طائفة متفقة لا يثبتون على قول، بل تارة يقولون هو ساحر، وتارة شاعر، وهكذا، لأن المبطل لا يثبت على قول واحد. وقال بعض أهل العلم: كل واحد من تلك الأقوال قالته طائفه: كما قدمنا الإشارة إلى هذا في سورة (الحجر) في الكلام على قوله تعالى: * (الذين جعلوا القرءان عضين) * وقد رد الله عليهم هذه الدعاوى الباطلة في آيات من كتابه: كرده دعواهم أنه شاعر أو كاهن في قوله تعالى: * (وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين ولو تقول علينا بعض الا قاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين) *، وقوله تعالى: * (وما علمناه الشعر وما ينبغى له إن هو إلا ذكر وقرءان مبين لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين) *، وقوله في رد دعواهم إنه افتراه: * (وما كان هاذا القرءان أن يفترى من دون الله ولاكن تصديق الذى بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) *، وقوله تعالى: * (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) *، وقوله تعالى: * (ما كان حديثا يفترى ولاكن تصديق الذى بين يديه وتفصيل كل شىء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) * إلى غير ذلك من الآيات، وكقوله في رد دعواهم إنه كاهن أو مجنون: * (مآ أنت بنعمة ربك بمجنون) *، وقوله تعالى: * (وما صاحبكم بمجنون) *، وقوله تعالى: * (قل إنمآ أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدى عذاب شديد) *
135

، وقوله: * (أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون أم يقولون به جنة بل جآءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون) * إلى غير ذلك من الآيات المبينة إبطال كل ما ادعوه في النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن. وقوله * (أضغاث أحلام) * أي أخلاط كالأحلام المختلفة التي يراها النائم ولا حقيقة لها كما قال الشاعر: أضغاث أحلام) * أي أخلاط كالأحلام المختلفة التي يراها النائم ولا حقيقة لها كما قال الشاعر:
* أحاديث طسم أو سراب بفدفد
* ترقرق للساري وأضغاث حالم
*
وعن اليزيدي: الأضغاث ما لم يكن له تأويل. قوله تعالى: * (فليأتنا بأاية كمآ أرسل الا ولون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار اقترحوا على نبينا أن يأتيهم بآية كآيات الرسل قبله. نحو ناقة صالح، وعصى موسى، وريح سليمان، وإحياء عيسى للأموات وإبرائه الأكمه والأبرص، ونحو ذلك. وإيضاح وجه التشبيه في قوله * (كمآ أرسل الا ولون) * هو أنه في معنى: كما أتى الأولون بالآيات. لأن إرسال الرسل متضمن للإتيان بالآيات. فقولك أرسل محمد صلى الله عليه وسلم بالمعجزة. وقد بين تعالى أن الآيات التي اقترحوها لو جاءتهم ما آمنوا وأنها لو جاءتهم وتمادوا على كفرهم أهلكهم الله بعذاب مستأصل. كما أهلك قوم صالح لما عقروا الناقة. كقوله تعالى: * (وما منعنآ أن نرسل بالا يات إلا أن كذب بها الا ولون وءاتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها) *، وكقوله تعالى: * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جآءتهم ءاية ليؤمنن بها قل إنما الا يات عند الله وما يشعركم أنهآ إذا جآءت لا يؤمنون) *. وأشار إلى ذلك هنا في قوله: * (مآ ءامنت قبلهم من قرية أهلكناهآ أفهم يؤمنون) * يعني أن الأمم الذين اقترحوا الآيات من قبلهم وجاءتهم رسلهم بما اقترحوا، لم يؤمنوا بل تمادوا فأهلكهم الله وأنتم أشد منهم عتوا وعنادا. فلو جاءكم ما اقترحتم، ما آمنتم، فهلكتم كما هلكوا. وقال تعالى: * (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جآءتهم كل ءاية) * إلى غير ذلك من الآيات.
وبين أنهم جاءتهم آية هي أعظم الآيات، فيستحق من لم يكتف بها التقريع والتوبيخ، وذلك في قوله: * (وقالوا لولا أنزل عليه ءايات من ربه قل إنما الا يات عند الله وإنمآ أنا نذير مبين أولم يكفهم أنآ أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن) *. وقد ذكرنا أن هذا المعنى يشير إليه قوله: * (وقالوا لولا يأتينا بأاية من ربه أولم تأتهم بينة ما
فى
136

الصحف الا ولى) *، وقوله: * (ومآ أرسلنا قبلك إلا رجالا) * إلى قوله * (وما كانوا خالدين) * قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. قوله تعالى: * (ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشآء وأهلكنا المسرفين) *. بين جل وعلا في هذه الآيات: أنه أرسل الرسل إلى الأمم فكذبوهم، وأنه وعد الرسل بأن لهم النصر والعاقبة الحسنة، وأنه صدق رسله ذلك الوعد فأنجاهم. وأنجى معهم ما شاء أن ينجيه.. والمراد به من آمن بهم من أممهم، وأهلك المسرفين وهم الكفار المكذبون الرسل، وقد أوضح هذا المعنى في مواضع كثيرة من كتابه، كقوله تعالى * (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جآءهم نصرنا فنجى من نشآء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين) *، وقوله: * (فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام) *، وقوله تعالى: * (فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الا رض من بعدهم) *، وقوله: * (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون) *، وقوله تعالى: * (ولما جآء أمرنا نجينا هودا والذين ءامنوا معه برحمة منا) *، وقوله تعالى: * (فلما جآء أمرنا نجينا صالحا والذين ءامنوا معه برحمة منا) *، وقوله: * (ولما جآء أمرنا نجينا شعيبا والذين ءامنوا معه برحمة منا) *، إلى غير ذلك من الآيات. والظاهر أن (صدق) تتعدى بنفسها وبالحرف، تقول: صدقته الوعد، وصدقته في الوعد. كقوله هنا: * (ثم صدقناهم الوعد) *، وقوله: * (ولقد صدقكم الله وعده) *. فقول الزمخشري (صدقناهم الوعد) كقوله: (واختار موسى قومه سبعين رجلا) لا حاجة إليه، والله أعلم. والإسراف: مجاوزة الحد في المعاصي كالكفر، ولذلك يكثر في القرآن إطلاق المسرفين على الكفار.
* (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما ءاخرين * فلمآ أحسوا بأسنآ إذا هم منها يركضون * لا تركضوا وارجعوا إلى مآ أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون * قالوا ياويلنآ إنا كنا ظالمين * فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين * وما خلقنا السمآء والا رض وما بينهما لاعبين * لو أردنآ أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنآ إن كنا فاعلين * بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون * وله من فى السماوات والا رض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون * يسبحون الليل والنهار لا يفترون * أم اتخذوا آلهة من الا رض هم ينشرون * لو كان فيهمآ آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون * لا يسأل عما يفعل وهم يسألون * أم اتخذوا من دونه ءالهة قل هاتوا برهانكم هاذا ذكر من معى وذكر من قبلى بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون * ومآ أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إلاه إلا أنا فاعبدون * وقالوا اتخذ الرحمان ولدا سبحانه بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون * ومن يقل منهم إنى إلاه من دونه فذالك نجزيه جهنم كذلك نجزى الظالمين) * قوله تعالى: * (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما ءاخرين) *. (كم) هنا للإخبار بعدد كثير، وهي في محل نصب لأنها مفعول (قصمنا) أي قصمنا كثير من القرى التي كانت ظالمة، وأنشأنا بعدها قوما آخرين. وهذا المعنى المذكور هنا جاء مبينا في مواضع كثيرة من كتاب الله. كقوله تعالى: * (وكم أهلكنا من
137

القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا) *، وقوله: * (فكأين من قرية أهلكناها وهى ظالمة فهى خاوية على عروشها) *، وقوله: * (وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (وكم قصمنا) * أصل القصم: أفظع الكسر لأنه الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء، بخلاف الفصم بالفاء فهو كسر لا يبين تلاؤم الأجزاء بالكلية. والمراد بالقصم في الآية: الإهلاك الشديد. قوله تعالى: * (وما خلقنا السمآء والا رض وما بينهما لاعبين) *. قد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة (الحجر) فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وكذلك قوله: * (بل نقذف بالحق على الباطل) * الآية. قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة (بني إسرائيل)، وكذلك الآيات التي بعد هذا قد قدمنا في مواضع متعددة ما يبينها من كتاب الله. قوله تعالى: * (وقالوا اتخذ الرحمان ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار لعنهم الله قالوا عليه أنه اتخذ ولدا. وقد بينا ذلك فيما مضى بيانا شافيا في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك. سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وبين هنا بطلان ما ادعوه على ربهم من اتخاذ الأولاد وهم في زعمهم الملائكة بحرف الإضراب الإبطالي الذي هو (بل) مبينا: أنهم عباده المكرمون، والعبد لا يمكن أن يكون ولدا لسيده. ثم أثنى على ملائكته بأنهم عباد مكرمون، لا يسبقون ربهم بالقول أي لا يقولون إلا ما أمرهم أن يقولوه لشدة طاعتهم له * (وهم بأمره يعملون) *. وما أشار إليه في هذه الآية الكريمة من أن الملائكة عبيده وملكه، والعبد لا يمكن أن يكون ولدا لسيده أشار له في غير هذا الموضع. كقوله في (البقرة): * (وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والا رض كل له قانتون) *، وقوله في (النساء): * (إنما الله إلاه واحد سبحانه أن يكون له ولد له وما فى السماوات وما فى الا رض وكفى بالله وكيلا) * أي والمالك بكل شيء لا يمكن أن يكون له ولد. لأن الملك ينافي الولدية، ولا يمكن أن يوجد شيء سواه إل
138

ا وهو ملك له جل وعلا.
وما ذكره في هذه الآية الكريمة: من الثناء الحسن على ملائكته عليهم صلوات الله وسلامه بينه في غير هذا الموضع. كقوله تعالى. * (عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله مآ أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) *، وقوله تعالى: * (وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون) *، وقوله تعالى: * (وله من فى السماوات والا رض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون) * إلى غير ذلك من الآيات.
مسألة
أخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن: أن الأب إذا ملك ابنة عتق عليه بالملك. ووجه ذلك واضح. لأن الكفار زعموا أن الملائكة بنات الله. فنفى
الله تلك الدعوى بأنهم عباده وملكه. فدل ذلك على منافاة الملك الولدية، وأنهما لا يصح اجتماعهما. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ومن يقل منهم إنى إلاه من دونه فذالك نجزيه جهنم كذلك نجزى الظالمين) *. الضمير في قوله * (منهم) * عائد إلى الملائكة المذكورين في قوله: * (بل عباد مكرمون) * والمعنى: أنهم مع كرامتهم على الله لو ادعى أحد منهم أن له الحق في صرف شيء من حقوق الله الخاصة به إليه فكان مشركا، وكان جزاؤه جهنم. ومعلوم أن التعليق يصح فيما لا يمكن ولا يقع فقوله: * (قل إن كان للرحمان ولد) *، وقوله: * (لو كان فيهمآ آلهة إلا الله لفسدتا) * والمراد بذلك تعظيم أمر الشرك. وهذا الفرض والتقدير الذي ذكره جل وعلا هنا في شأن الملائكة، ذكره أيضا في شأن الرسل على الجميع صلوات الله وسلامه قال تعالى: * (ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) * ولما ذكر جل وعلا من ذكر من الأنبياء في سورة (الأنعام) في قوله: * (ومن ذريته داوود) * إلى آخر من ذكر منهم قال بعد ذلك * (ذالك هدى الله يهدى به من يشآء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) *.
139

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ومن يقل منهم إنى إلاه من دونه فذالك نجزيه جهنم) * الآية دليل قاطع على أن حقوق الله الخالصة له من جميع أنواع العبادة لا يجوز أن يصرف شيء منها لأحد ولو ملكا مقربا، أو نبيا مرسلا. ومما يوضح ذلك قوله تعالى: * (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لى من دون الله ولاكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) *، وقوله تعالى مخاطبا لسيد الحق صلوات الله وسلامه عليه: * (قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سوآء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) *. * (أولم ير الذين كفروا أن السماوات والا رض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من المآء كل شىء حى أفلا يؤمنون * وجعلنا فى الا رض رواسى أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون * وجعلنا السمآء سقفا محفوظا وهم عن ءاياتها معرضون * وهو الذى خلق اليل والنهار والشمس والقمر كل فى فلك يسبحون * وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإين مت فهم الخالدون * كل نفس ذآئقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون * وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهاذا الذى يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمان هم كافرون * خلق الإنسان من عجل سأوريكم ءاياتى فلا تستعجلون * ويقولون متى هاذا الوعد إن كنتم صادقين) * قوله تعالى: * (أولم ير الذين كفروا أن السماوات والا رض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا) *. قرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا ابن كثير (أولم ير) بواو بعد الهمزة: وقرأه ابن كثير (ألم ير الذين كفروا) بدون واو، وكذلك هو في مصحف مكة. والاستفهام لتوبيخ الكفار وتقريعهم، حيث يشاهدون غرائب صنع الله وعجائبه، ومع هذا يعبدون من دونه ما لا ينفع من عبده، ولا يضر من عصاه، ولا يقدر على شيء.
وقوله * (كانتا) * التثنية باعتبار النوعين اللذين هما نوع السماء، ونوع الأرض. كقوله تعالى: * (إن الله يمسك السماوات والا رض أن تزولا) * ونظيره قول عمر بن شيبم: إن الله يمسك السماوات والا رض أن تزولا) * ونظيره قول عمر بن شيبم:
* ألم يحزنك أن جبال قيس
* وتغلب قد تباينتا انقطاعا
*
والرتق مصدر رتقه رتقا: إذا سده. ومنه الرتقاء. وهي التي انسد فرجها، ولكن المصدر وصف به هنا ولذا أفرده ولم يقل كانتا رتقين. والفتق: الفصل بين الشيئين المتصلين. فهو ضد الرتق. ومنه قول الشاعر: والرتق مصدر رتقه رتقا: إذا سده. ومنه الرتقاء. وهي التي انسد فرجها، ولكن المصدر وصف به هنا ولذا أفرده ولم يقل كانتا رتقين. والفتق: الفصل بين الشيئين المتصلين. فهو ضد الرتق. ومنه قول الشاعر:
* يهون عليهم إذا يغضبو
* ن سخط العداة وإرغامها
*
* ورتق الفتوق وفتق الرتو
* ق ونقض الأمور وإبرامها
*
واعلم أن العلماء اختلفوا في المراد بالرتق والفتق في هذه الآية على خمسة أقوال، بعضها في غاية السقوط، وواحد منها تدل له قرائن من القرآن العظيم:
140

الأول أن معنى * (رتقا ففتقناهما) * أي كانت السماوات والأرض متلاصقة بعضها مع بعض، ففتقها الله وفصل بين السماوات والأرض، فرفع السماء إلى مكانها، وأقر الأرض في مكانها، وفصل بينهما بالهواء الذي بينهما كما ترى.
القول الثاني أن السماوات السبع كانت رتقا. أي متلاصقة بعضها ببعض، ففتقها الله وجعلها سبع سماوات، كل اثنتين منها بينهما فصل، والأرضون كذلك كانت رتقا ففتقها، وجعلها سبعا بعضها منفصل عن بعض.
القول الثالث أن معنى * (رتقا ففتقناهما) * أن السماء كانت لا ينزل منها مطر، والأرض كانت لا ينبت فيها نبات، ففتق الله السماء بالمطر، والأرض بالنبات.
القول الرابع * (رتقا ففتقناهما) * أي في ظلمة لا يرى من شدتها شيء ففتقهما الله بالنور. وهذا القول في الحقيقة يرجع إلى القول الأول، والثاني.
الخامس وهو أبعدها لظهور سقوطه. أن الرتق يراد به العدم. والفتق يراد به الإيجاد. أي كانتا عدما فأوجدناهما. وهذا القول كما ترى.
فإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذه الآية، فاعلم أن القول الثالث منها وهو كونهما كانتا رتقا بمعنى أن السماء لا ينزل منها مطر، والأرض لا تنبت شيئا ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات قد دلت عليه قرائن من كتاب الله تعالى.
الأولى أن قوله تعالى: * (أولم ير الذين كفروا أن) * يدل على أنهم رأوا ذلك. لأن الأظهر في رأى أنها بصرية، والذي يرونه بأبصارهم هو أن السماء تكون لا ينزل منها مطر، والأرض ميتة هامدة لا نبات فيها. فيشاهدون بأبصارهم إنزال الله المطر، وإنباته به أنواع النبات.
القرينة الثانية أنه أتبع ذلك بقوله: * (من) *. والظاهر اتصال هذا الكلام بما قبله. أي وجعلنا من الماء الذي أنزلناه بفتقنا السماء، وأنبتنا به أنواع النبات بفتقنا الأرض كل شيء حي.
القرينة الثالثة أن هذا المعنى جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى: * (والسمآء ذات الرجع والارض ذات الصدع) * لأن المراد بالرجع نزول المطر منها تارة بعد أخرى، والمراد بالصدع: انشقاق الأرض عن النبات. وكقوله تعالى: * (فلينظر الإنسان إلى طعامه) * * (ثم شققنا الا رض شقا) *
141

. واختار هذا القول ابن جرير وابن عطية وغيرهما للقرائن التي ذكرنا. ويؤيد ذلك كثرة ورود الاستدلال بإنزال المطر، وإنبات النبات في القرآن العظيم على كمال قدرة الله تعالى، وعظم منته على خلقه، وقدرته على البعث. والذين قالوا: إن المراد بالرتق والفتق أنهما كانتا متلاصقتين ففتقهما الله وفصل بعضهما عن بعض قالوا في قوله * (أو لم ير) * أنها من رأي العلمية لا البصرية، وقالوا: وجه تقريرهم بذلك أنه جاء في القرآن، وما جاء في القرآن فهو أمر قطعي لا سبيل للشك فيه. والعلم عند الله تعالى.
وأقرب الأقوال في ذلك هو ما ذكرنا دلالة القرآئن القرآنية عليه، وقد قال فيه الفخر الرازي في تفسيره: ورجحوا هذا الوجه على سائر الوجوه بقوله بعد ذلك: * (من المآء كل شىء حى أفلا) * وذلك لا يليق إلا وللماء تعلق بما تقدم، ولا يكون كذلك إلا إذا كان المراد ما ذكرنا.
فإن قيل: هذا الوجه مرجوح. لأن المطر لا ينزل من السماوات بل من سماء واحدة وهي سماء الدنيا.
قلنا: إنما أطلق عليه لفظ الجمع لأن كل قطعة منها سماء. كما يقال ثوب أخلاق، وبرمة أعشار ا ه منه. قوله تعالى: * (وجعلنا من المآء كل شىء حى أفلا يؤمنون) *. الظاهر أن (جعل) هنا بمعنى خلق. لأنها متعدية لمفعول واحد. ويدل لذلك قوله تعالى في سورة (النور): * (والله خلق كل دآبة من مآء) *.
واختلف العلماء في معنى خلق كل شيء من الماء. قال بعض العلماء: الماء الذي خلق منه كل شيء هو النطفة. لأن الله خلق جميع الحيوانات التي تولد عن طريق التناسل من النطف، وعلى هذا فهو من العام المخصوص.
وقال بعض العلماء: هو الماء المعروف، لأن الحيوانات إما مخلوقة منه مباشرة كبعض الحيوانات التي تتخلق من الماء. وإما غير مباشرة لأن النطف من الأغذية، والأغذية كلها ناشئة عن الماء، وذلك في الحبوب والثمار ونحوها ظاهر، وكذلك هو في اللحوم والألبان والأسمان ونحوها: لأنه كله ناشىء بسبب الماء.
وقال بعض أهل العلم: معنى خلقه كل حيوان من ماء: أنه كأنما خلقه من الماء
142

لفرط احتياجه إليه، وقلة صبره عنه. كقوله: * (خلق الإنسان من عجل) * إلى غير ذلك من الأقوال. وقد قدمنا المعاني الأربعة التي تأتي لها لفظة (جعل) وما جاء منها في القرآن وما لم يجئ فيه في سورة (النحل).
وقال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه: لقائل أن يقول: كيف قال وخلقنا من الماء كل حيوان؟ وقد قال * (والجآن خلقناه من قبل من نار السموم) * وجاء في الأخبار: أن الله تعالى خلق الملائكة من النور، وقال تعالى في حق عيسى عليه السلام: * (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذنى فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذنى) *، وقال في حق آدم * (خلقه من تراب) *.
والجواب: اللفظ وإن كان عاما إلا أن القرينة المخصصة قائمة، فإن الدليل لا بد وأن يكون مشاهدا محسوسا ليكون أقرب إلى المقصود. وبهذا الطريق تخرج عنه الملائكة والجن وآدم وقصة عيسى وعليهم السلام، لأن الكفار لم يروا شيئا من ذلك ا ه منه.
ثم قال الرازي أيضا: اختلف المفسرون، فقال بعضهم: المراد من قوله * (كل شىء حى) * الحيوان فقط. وقال آخرون: بل يدخل فيه النبات والشجر، لأنه من الماء صار ناميا، وصار فيه الرطوبة والخضرة، والنور والثمر. وهذا القول أليق بالمعنى المقصود، كأنه تعالى قال: ففتقنا السماء لإنزال المطر، وجعلنا منه كل شيء في الأرض من النبات وغيره حيا. حجة القول الأول: أن النبات لا يسمى حيا. قلنا: لا نسلم، والدليل عليه قوله تعالى * (كيف يحى الا رض بعد موتهآ) * انتهى منه أيضا. قوله تعالى: * (وجعلنا فى الا رض رواسى أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة (النحل) فأغنى ذلك عن إعادته هنا. قوله تعالى: * (وجعلنا السمآء سقفا محفوظا وهم عن ءاياتها معرضون) *. تضمنت هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل:
الأولى أن الله جل وعلا جعل السماء سقفا، أي لأنها للأرض كالسقف للبيت.
الثانية أنه جعل ذلك السقف محفوظا.
143

الثالثة أن الكفار معرضون عما فيها (أي السماء) من الآيات، لا يتعظون به ولا يتذكرون. وقد أوضح هذه المسائل الثلاث في غير هذا الموضع:
أما كونه جعلها سقفا فقد ذكره في سورة (الطور) أنه مرفوع وذلك في قوله: * (والطور وكتاب مسطور فى رق منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع.
وأما كون ذلك السقف محفوظا فقد بينه في مواضع من كتابه، فبين أنه محفوظ من السقوط في قوله: * (ويمسك السمآء أن تقع على الا رض إلا بإذنه) *، وقوله: * (ومن ءاياته أن تقوم السمآء والا رض بأمره) *، وقوله تعالى: * (إن الله يمسك السماوات والا رض أن تزولا) *، وقوله: * (وسع كرسيه السماوات والا رض ولا يؤوده حفظهما وهو العلى العظيم) *، وقوله * (ولقد خلقنا فوقكم سبع طرآئق وما كنا عن الخلق غافلين) * على قول من قال: وما كنا عن الخلق غافلين. إذ لو كنا نغفل لسقطت عليهم السماء فأهلكتهم. وبين أنه محفوظ من التشقق والتفطر، لا يحتاج إلى ترميم ولا إصلاح كسائر السقوف إذا طال زمتها. كقوله تعالى: * (فارجع البصر هل ترى من فطور) *، وقوله تعالى: * (أفلم ينظروا إلى السمآء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج) * أي ليس فيها من شقوق ولا صدوع. وبين أن ذلك السقف المذكور محفوظ من كل شيطان رجيم. كقوله: * (وحفظناها من كل شيطان رجيم) *، وقد بينا الآيات الدالة على حفظها من جميع الشياطين في سورة (الحجر). وأما كون الكفار معرضين عما فيها من الآيات فقد بينه في مواضع من كتابه. كقوله تعالى: * (وكأين من ءاية فى السماوات والا رض يمرون عليها وهم عنها معرضون) *، وقوله: * (وإن يروا ءاية يعرضوا) *، وقوله: * (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جآءتهم كل ءاية) *، وقوله: * (وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) *. قوله تعالى: * (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإين مت فهم الخالدون كل نفس ذآئقة الموت) *. قال بعض أهل العلم: كان المشركون ينكرون نبوته صلى الله عليه وسلم ويقولون: هو شاعر يتربص به ريب المنون، ولعله يموت كما مات شاعر بني فلان. فقال الله تعالى: قد مات
144

الأنبياء من قبلك، وتولى دينه بالنصر والحياطة، فهكذا نحفظ دينك وشرعك.
وقال بعض أهل العلم: لما نعى جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه قال: (فمن لأمتي)؟ فنزلت * (وما جعلنا لبشر من قبلك) * والأول أظهر. لأن السورة مكية: ومعنى الآية: أن الله لم يجعل لبشر قبل نبيه الخلد. أي دوام البقاء في الدنيا، بل كلهم يموت.
وقوله: * (وما جعلنا لبشر من) * استفهام، إنكاري معناه النفي. والمعنى: أنك إن مت فهم لن يخلدوا بعدك، بل سيموتون. ولذلك أتبعه بقوله: * (كل نفس ذآئقة الموت) *. وما أشار إليه جل وعلا في هذه الآية من أنه صلى الله عليه وسلم سيموت، وأنهم سيموتون، وأن الموت ستذوقه كل نفس أوضحه في غير هذا الموضع. كقوله تعالى: * (وإنهم ليصدونهم عن السبيل) *، وكقوله: * (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) *، وقوله في سورة (آل عمران): * (كل نفس ذآئقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) *، وقوله في سورة (العنكبوت): * (ياعبادى الذين ءامنوا إن أرضى واسعة فإياى فاعبدون كل نفس ذآئقة الموت ثم إلينا ترجعون) *، وقوله تعالى في سورة (النساء): * (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم فى بروج مشيدة) * إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا في سورة (الكهف) استدلال بعض أهل العلم بهذه الآية الكريمة على موت الخضر عليه السلام. وقال بعض أهل العلم في قوله: * (فهم الخالدون) *: هو استفهام حذفت أداته. أي أفهم الخالدون. وقد تقرر في علم النحو أن حذف همزة الاستفهام إذا دل المقام عليها جائز، وهو قياسي عند الأخفش مع (أم) ودونها ذكر الجواب أم لا: فمن أمثلته دون (أم) ودون ذكر الجواب قول الكميت: فهم الخالدون) *: هو استفهام حذفت أداته. أي أفهم الخالدون. وقد تقرر في علم النحو أن حذف همزة الاستفهام إذا دل المقام عليها جائز، وهو قياسي عند الأخفش مع (أم) ودونها ذكر الجواب أم لا: فمن أمثلته دون (أم) ودون ذكر الجواب قول الكميت:
* طربت وما شوقا إلى البيض أطرب
* ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب
*
يعني: أو ذو الشيب يلعب. وقول أبي خراش الهذلي واسمه خويلد: يعني: أو ذو الشيب يلعب. وقول أبي خراش الهذلي واسمه خويلد:
* وفوني وقالوا يا خويلد لم ترع
* فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
*
يعني: أهم هم على التحقيق. ومن أمثلته دون (أم) مع ذكر الجواب قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي: يعني: أهم هم على التحقيق. ومن أمثلته دون (أم) مع ذكر الجواب قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
* ثم قالوا تحبها قلت بهرا
* عدد النجم والحصى والتراب
*
145

يعني: أتحبها على الصحيح. وهو مع (أم) كثير جدا، وأنشد له سيبويه قول الأسود يعفر التميمي: يعني: أتحبها على الصحيح. وهو مع (أم) كثير جدا، وأنشد له سيبويه قول الأسود يعفر التميمي:
* لعمرك ما أدري وإن كنت داريا
* شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر
*
يعني: أشعيث بن سهم، ومنه قول أبي ربيعة المخزومي: يعني: أشعيث بن سهم، ومنه قول أبي ربيعة المخزومي:
* بدا لي منها معصم يوم جمرت
* وكف خضيب زينت ببنان
*
* فوالله ما أدري وإني لحاسب
* بسبع رميت الجمر أم بثمان
*
يعني: أبسبع. وقول الأخطل: يعني: أبسبع. وقول الأخطل:
* كذبتك عينك أم رأيت بواسط
* غلس الظلام من الرباب خيالا
*
يعني: أكذبتك عينك. كما نص سيبوبه في كتابه على جواز ذلك في بيت الأخطل هذا، وإن خالف في ذلك الخليل قائلا: إن (كذبتك) صيغة خبرية ليس فيها استفهام محذوف، وإن (أم) بمعنى بل. ففي البيت على قول الخليل نوع من أنواع البديع المعنوي يسمى (الرجوع). وقد أوضحنا هذه المسألة وأكثرنا من شواهدها العربية في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في سورة (آل عمران) وذكرنا أن قوله تعالى في آية (الأنبياء) هذه * (فهم الخالدون) * من أمثلة ذلك. والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (أفإين مت) * قرأه نافع وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي (مت) بكسر الميم. والباقون بضم الميم. وقد أوضحنا في سورة (مريم) وجه كسر الميم. وقوله في هذه الآية الكريمة * (أفإين مت فهم الخالدون) * يفهم منه أنه لا ينبغي للإنسان أن يفرح بموت أحد لأجل أمر دنيوي يناله بسبب موته. لأنه هو ليس مخلدا بعده.
وروي عن الشافعي رحمه الله أنه أنشد هذين البيتين مستشهدا بهما: وروي عن الشافعي رحمه الله أنه أنشد هذين البيتين مستشهدا بهما:
* تمنى أن رجال أموت وإن أمت
* فتلك سبيل لست فيها بأوحد
*
* فقل للذي يبقى خلاف الذي مضى
* تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد
*
ونظير هذا قول الآخر:
* فقل للشامتين بنا أفيقوا
* سيلقى الشامتون كما لقينا
* ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) *
146

. المعنى: وتختبركم بما يجب فيه الصبر من البلايا، ومما يجب فيه الشكر من النعم، وإلينا مرجعكم فنجازيكم على حسب ما يوجد منكم من الصبر أو الشكر، وقوله * (فتنة) * مصدر مؤكد ل * (ونبلوكم) * من غير لفظة.
وما ذكره جل وعلا: من أنه يبتلي خلقه أي يختبرهم بالشر والخير قد بينه في غير هذا الموضع، كقوله تعالى: * (وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون) *، وقوله تعالى: * (ولقد أرسلنآ إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأسآء والضرآء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جآءهم بأسنا تضرعوا ولاكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شىء حتى إذا فرحوا بمآ أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) *، وقوله تعالى: * (ومآ أرسلنا فى قرية من نبى إلا أخذنا أهلها بالبأسآء والضرآء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس ءاباءنا الضرآء والسرآء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآيات الكريمة: * (ونبلوكم بالشر والخير) * يدل على أن بلا يبلو تستعمل في الاختبار بالنعم، وبالمصائب والبلايا. وقال بعض العلماء: أكثر
ما يستعمل في الشر بلا يبلو، وفي الخير أبلى يبلي. وقد جمع اللغتين في الخير قول زهير بن أبي سلمى: ونبلوكم بالشر والخير) * يدل على أن بلا يبلو تستعمل في الاختبار بالنعم، وبالمصائب والبلايا. وقال بعض العلماء: أكثر ما يستعمل في الشر بلا يبلو، وفي الخير أبلى يبلي. وقد جمع اللغتين في الخير قول زهير بن أبي سلمى:
* جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم
* وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
*
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله * (ونبلوكم بالشر والخير) * قال: أي نبتليكم بالشر والخير فتنة بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال. قوله تعالى: * (وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهاذا الذى يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمان هم كافرون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار إذا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم ما يتخذونه إلا هزوا، أي مستهزأ به مستخفا به. والهزؤ: السخرية، فهو مصدر وصف به. ويقولون: أهذا الذي يذكر آلهتكم أي يعيبها وينفي أنها تشفع لكم وتقربكم إلى الله زلفى،
147

ويقول: إنها لا تنفع من عبدها، ولا تضر من لم يعبدها، وهم مع هذا كله كافرون بذكر الرحمان. فالخطاب في قوله * (وإذا رآك) * للنبي صلى الله عليه وسلم. و (إن) في قوله * (إن يتخذونك) * نافية. والاستفهام في قوله * (أهاذا الذى يذكر آلهتكم) * قال فيه أبو حيان في البحر: إنه للإنكار والتعجيب. والذي يظهر لي أنهم يريدون بالاستفهام المذكور التحقير بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما تدل عليه قرينة قوله * (إن يتخذونك إلا هزوا) *. وقد تقرر في فن المعاني: أن من الأغراض التي تؤدي بالاستفهام التحقير. وقال القرطبي في تفسير هذه الآية: إن جواب (إذا) هو القول المحذوف، وتقديره: وإذا رءاك الذين كفروا يقولون أهذا الذي يذكر آلهتكم. وقال: إن جملة * (إن يتخذونك إلا هزوا) * جملة معترضة بين إذا وجوابها. واختار أبو حيان في البحر أن جواب (إذا) هو جملة * (إن يتخذونك) * وقال: إن جواب إذا بجملة مصدرة ب (إن) أو ما النافيتين لا يحتاج إلى الاقتران بالفاء. وقوله * (يذكر آلهتكم) * أي يعيبها. ومن إطلاق الذكر بمعنى العيب قوله تعالى: * (قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) * أي يعيبهم. وقول عنترة: قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) * أي يعيبهم. وقول عنترة:
* لا تذكري مهري وما أطعمته
* فيكون جلدك مثل جلد الأجرب
*
أي لا تعيبي مهري، قاله القرطبي.
وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة: الذكر يكون بخير وبخلافه. فإذا دلت الحال على أحدهما أطلق ولم يقيد، كقولك للرجل: سمعت فلانا يذكرك، فإذا كان الذاكر صديقا فهو ثناء. وإن كان عدوا فذم، ومنه قوله تعالى: * (سمعنا فتى يذكرهم) *، وقوله: * (أهاذا الذى يذكر آلهتكم) * انتهى محل الغرض منه. والجملة في قوله: * (وهم بذكر الرحمان هم كافرون) * حالية. وقال بعض أهل العلم: معنى كفرهم بذكر الرحمن هو الموضح في قوله تعالى * (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا) *، وقولهم: ما نعرف الرحمن إلا رحمان، اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب. وقد بين ابن جرير الطبري وغيره: أن إنكارهم لمعرفتهم الرحمن تجاهل منهم ومعاندة مع أنهم يعرفون أن الرحمن من أسماء الله تعالى. قال: وقال بعض شعراء الجاهلية الجهلاء: وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا) *، وقولهم: ما نعرف الرحمن إلا رحمان، اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب. وقد بين ابن جرير الطبري وغيره: أن إنكارهم لمعرفتهم الرحمن تجاهل منهم ومعاندة مع أنهم يعرفون أن الرحمن من أسماء الله تعالى. قال: وقال بعض شعراء الجاهلية الجهلاء:
* ألا ضربت تلك الفتاة هجينها
* ألا قطع الرحمن ربي يمينها
*
وقال سلامة بن جندل الطهوي:
148

وقال سلامة بن جندل الطهوي:
* عجلتم علينا عجلتينا عليكم
* وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق
*
وفي هذه الآية الكريمة دلالة واضحة على سخافة عقول الكفار. لأنهم عاكفون على ذكر أصنام لا تنفع ولا تضر، ويسوءهم أن تذكر بسوء، أو يقال إنها لا تشفع ولا تقرب إلى الله. وأما ذكر الله وما يجب أن يذكر به من الوحدانية فهم به كافرون لا يصدقون به، فهم أحق بأن يتخذوا هزؤا من النبي صلى الله عليه وسلم الذي اتخذوه هزؤا، فإنه محق وهم مبطلون. فإذا عرفت معنى هذه الآية الكريمة فاعلم أن هذا المعنى الذي دلت عليه جاء أيضا مبينا في سورة (الفرقان) في قوله تعالى: * (وإذا
رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهاذا الذى بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن ءالهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا) * فتحقيرهم لعنهم الله له صلى الله عليه وسلم المذكور في قوله في (الأنبياء) في قوله: * (أهاذا الذى يذكر آلهتكم) * هو المذكور في قوله في (الفرقان): * (أهاذا الذى بعث الله رسولا) *. وذكره لآلهتهم بالسوء المذكور في (الأنبياء) في قوله: * (يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمان) * هو المذكور في (الفرقان) في قوله: * (إن كاد ليضلنا عن ءالهتنا لولا أن صبرنا عليها) * أي لما يبين من معائبها، وعدم فائدتها، وعظم ضرر عبادتها. قوله تعالى: * (خلق الإنسان من عجل سأوريكم ءاياتى فلا تستعجلون) *. قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر بعض العلماء في الآية قولا ويكون في نفس الآية قرينة تدل على خلاف ذلك القول. فإذا علمت ذلك فاعلم أن في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (من عجل) * فيه للعلماء قولان معروفان، وفي نفس الآية قرينة تدل على عدم صحة أحدهما. أما القول الذي دلت القرينة المذكورة على عدم صحته: فهو قول من قال: العجل الطين وهي لغة حميرية. كما قال شاعرهم: من عجل) * فيه للعلماء قولان معروفان، وفي نفس الآية قرينة تدل على عدم صحة أحدهما. أما القول الذي دلت القرينة المذكورة على عدم صحته: فهو قول من قال: العجل الطين وهي لغة حميرية. كما قال شاعرهم:
* البيع في الصخرة الصماء منبته
* والنخل ينبت بين الماء والعجل
*
يعني: بين الماء والطين. وعلى هذا القول فمعنى الآية: خلق الإنسان من طين، كقوله تعالى * (أءسجد لمن خلقت طينا) *، وقوله: * (وبدأ خلق الإنسان من طين) *. والقرينة المذكورة الدالة على أن المراد بالعجل في الآية ليس الطين قوله بعده: * (فلا تستعجلون) *، وقوله: * (ويقولون متى هاذا الوعد إن كنتم صادقين) *
149

. فهذا يدل على أن المراد بالعجل هو العجلة التي هي خلاف التأني والتثبت. والعرب تقول: خلق من كذا. يعنون بذلك المبالغة في الإنصاف. كقولهم: خلق فلان من كرم، وخلقت فلانة من الجمال. ومن هذا المعنى قوله تعالى: * (الله الذى خلقكم من ضعف) * على الأظهر. ويوضح هذا المعنى قوله تعالى: * (ويدع الإنسان بالشر دعآءه بالخير وكان الإنسان عجولا) * أي ومن عجلته دعاؤه على نفسه أو ولده بالشر. قال بعض العلماء: كانوا يستعجلون عذاب الله وآياته الملجئة إلى العلم والاقرار، ويقولون متى هذا الوعد. فنزل قوله: * (خلق الإنسان من عجل) * للزجر عن ذلك. كأنه يقول لهم: ليس ببدع منكم أن تستعجلوا. فإنكم مجبولون على ذلك، وهو طبعكم وسجيتكم. ثم وعدهم بأنه سيريهم آياته، ونهاهم أن يستعجلوا بقوله: * (سأوريكم ءاياتى فلا تستعجلون) *. كما قال تعالى: * (سنريهم ءاياتنا فى الا فاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) *. وقال بعض أهل العلم: المراد بالإنسان في قوله: * (خلق الإنسان من عجل) * آدم. وعن سعيد بن جبير والسدي: لما دخل الروح في عيني آدم نظر في ثمار الجنة، فلما دخل جوفه اشتهى الطعام، فوثب من قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة. فذلك قوله: * (خلق الإنسان من عجل) *. وعن مجاهد والكلبي وغيرهما: خلق آدم يوم الجمعة في آخر النهار، فلما أحيا الله رأسه استعجل وطلب تتميم نفخ الروح فيه قبل غروب الشمس. والظاهر أن هذه الأقوال ونحوها من الإسرائيليات. وأظهر الأقوال أن معنى الآية: أن جنس الإنسان من طبعه العجل وعدم التأني كما بينا، والعلم عند الله تعالى.
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: والحكمة في ذكر عجلة الإنسان ها هنا أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول صلى الله عليه وسلم، وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم، واستعجلت ذلك. فقال الله تعالى: * (خلق الإنسان من عجل) * لأنه تعالى يملي الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، يؤجل ثم يعجل، وينظر ثم لا يؤخر. ولهذا قال: * (سأوريكم ءاياتى) * أي نقمي وحكمي، واقتداري على من عصاني فلا تستعجلون. انتهى منه.
* (لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون * بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون * ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون * قل من يكلؤكم باليل والنهار من الرحمان بل هم عن ذكر ربهم معرضون * أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون * بل متعنا هاؤلاء وءابآءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتى الا رض ننقصها من أطرافهآ أفهم الغالبون * قل إنمآ أنذركم بالوحى ولا يسمع الصم الدعآء إذا ما ينذرون * ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن ياويلنآ إنا كنا ظالمين * ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين * ولقد ءاتينا موسى وهارون الفرقان وضيآء وذكرا للمتقين * الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون * وهاذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون) * قوله تعالى: * (لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون) *. جواب (لو) في هذه الآية محذوف، وقد قدمنا أدلة ذلك وشواهده من (العربية)
150

في سورة (البقرة)، وأشرنا إليه في سورة (إبراهيم) وسورة (يوسف). ومعنى الآية الكريمة: لو يعلم الكفار الوقت الذي يسألون عنه بقولهم: متى هذا الوعد؟ وهو وقت صعب شديد، تحيط بهم فيه النار من وراء وقدام. فلا يقدرون على منعها ودفعها عن أنفسهم، ولا يجدون ناصرا ينصرهم، لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال، ولكن جهلهم بذلك هو الذي هونه عليهم. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من المعاني جاء مبينا في مواضع أخر من كتاب الله تعالى.
أما إحاطة النار بهم في ذلك اليوم فقد جاءت موضحة في آيات متعددة، كقوله تعالى: * (إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بمآء كالمهل
يشوى الوجوه بئس الشراب وسآءت مرتفقا) *، وقوله تعالى: * (لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش) *، وقوله تعالى: * (لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذالك يخوف الله به عباده ياعباد فاتقون) *، وقوله تعالى: * (سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار) *. وقوله تعالى: * (تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون) * إلى غير ذلك من الآيات. نرجو الله الكريم العظيم أن يعيذنا منها ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل، إنه قريب مجيب. وما تضمنته من كونهم في ذلك اليوم ليس لهم ناصر ولا قوة يدفعون بها عن أنفسهم جاء مبينا في مواضع أخر. كقوله تعالى: * (فما له من قوة ولا ناصر) *، وقوله تعالى: * (ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون) * والآيات في ذلك كثيرة.
وما أشارت إليه هذه الآية من أن الذي هون عليهم ذلك اليوم العظيم حتى استعجلوه واستهزءوا بمن يخوفهم منه إنما هو جهلهم به جاء مبينا أيضا في مواضع أخر. كقوله تعالى: * (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين ءامنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق) *، وقوله تعالى: * (قل أرءيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (لو يعلم) * قال بعض أهل العلم: هو فعل متعد، والظاهر أنها عرفانية، فهي تتعدى إلى مفعول واحد. كما أشار له في الخلاصة بقوله: وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (لو يعلم) * قال بعض أهل العلم: هو فعل متعد، والظاهر أنها عرفانية، فهي تتعدى إلى مفعول واحد. كما أشار له في الخلاصة بقوله:
* لعلم عرفان وظن تهمه
* تعدية لواحد ملتزمه
*
151

وعلى هذا فالمفعول هذا قوله: * (حين) * أي لو يعرفون حين وقوع العذاب بهم وما فيه من الفظائع لما استخفوا به واستعجلوه. وعلى هذا فالحين مفعول به لا مفعول فيه. لأن العلم الذي هو بمعنى المعرفة واقع على نفس الحين المذكور. وقال بعض أهل العلم: فعل العلم في هذه الآية منزل منزلة اللازم، فليس واقعا على مفعول. وعليه فالمعنى: لو كان لهم علم ولم يكونوا جاهلين لما كانوا مستعجلين. وعلى هذا فالآية كقوله تعالى: * (قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون) * والمعنى: لا يستوي من عنده علم ومن لا علم عنده. وقد تقرر في فن المعاني: أنه إذا كان الغرض إثبات الفعل لفاعله في الكلام المثبت، أو نفيه عنه في الكلام المنفي مع قطع النظر عن اعتبار تعلق الفعل بمن وقع عليه، فإنه يجري مجرى اللازم، كقوله: * (قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون) * لأنه يراد منه أن من ثبتت له صفة العلم لا يستوي هو ومن انتفت عنه، ولم يعتبر هنا ونوع العلم على معلومات من اتصف بذلك العلم. وعلى هذا القول فقوله: * (حين لا يكفون) * منصوب بمضمر. أي حين لا يكفون عن وجههم النار يعلمون أنهم كانوا على الباطل. والأول هو الأظهر. واستظهر أبو حيان أن مفعول (يعلم) محذوف، وأنه هو العامل في الظرف الذي هو (حين)، والتقدير: لو يعلم الذين كفروا مجيء الموعود الذي استعجلوه حين لا يكفون لما كفروا واستعجلوا واستهزءوا.
واعلم أنه لا إشكال في قوله تعالى: * (خلق الإنسان من عجل) * مع قوله * (فلا تستعجلون) * فلا يقال: كيف يقول: إن الإنسان خلق من العجل وجبل عليه، ثم ينهاه عما خلق منه وجبل عليه، لأنه تكليف بمحالا؟ لأنا نقول: نعم هو جبل على العجل، ولكن في استطاعته أن يلزم نفسه بالتأني. كما أنه جبل على حب الشهوات مع أنه في استطاعته أن يلزم نفسه بالكف عنها. كما قال تعالى: * (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى) *. قوله تعالى: * (ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون) *. في هذه الآية الكريمة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأن إخوانه من الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم استهزأ بهم الكفار، كما استهزءوا به صلى الله عليه وسلم. يعني: فاصبر كما صبروا، ولك
152

العاقبة الحميدة، والنصر النهائي كما كان لهم. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من ذلك جاء موضحا في مواضع من كتاب الله. كقوله تعالى: * (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك) *، وقوله تعالى: * (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضآئق به صدرك أن) *، وقوله تعالى: * (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جآءك من نبإ المرسلين) *، وقوله تعالى: * (وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جآءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير) *، وقوله تعالى: * (وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الا مور) * والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (فحاق بهم) * أي أحاط بهم. ومادة حاق يائية العين. بدليل قوله في المضارع: * (ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله) * ولا تستعمل هذه المادة إلا في إحاطة المكروه خاصة. فلا تقول: حاق به الخير بمعنى أحاط به. والأظهر في معنى الآية: أن المراد: وحاق بهم العذاب الذي كانوا يكذبون به في الدنيا ويستهزؤون به، وعلى هذا اقتصر ابن كثير. وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: * (فحاق) * أي أحاط ودار * (بالذين) * كفروا و * (سخروا منهم) * وهزءوا بهم * (ما كانوا به يستهزءون) * أي جزاء استهزائهم. والأول أظهر، والعلم عند الله تعالى. والآية تدل على أن السخرية من الاستهزاء وهو معروف. قوله تعالى: * (قل من يكلؤكم باليل والنهار من الرحمان) *. أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة: أن يقول للمعرضين عن ذكر ربهم: * (من يكلؤكم) * أي من هو الذي يحفظكم ويحرسكم * (باليل) * في حال نومكم * (والنهار) * في حال تصرفكم في أموركم. والكلاءة بالكسر: الحفظ والحراسة. يقال: اذهب في كلاءة الله. أي في حفظه، واكتلأت منهم: احترست. ومنه قول ابن هرمة: والنهار) * في حال تصرفكم في أموركم. والكلاءة
بالكسر: الحفظ والحراسة. يقال: اذهب في كلاءة الله. أي في حفظه، واكتلأت منهم: احترست. ومنه قول ابن هرمة:
* إن سليمى والله يكلؤها
* ضنت بشيء ما كان يرزؤها
*
وقول كعب بن زهير: وقول كعب بن زهير:
* أنخت بعيري واكتلأت بعينه
* وآمرت نفسي أي أمري أفعل
*
153

و (من) في قوله * (من الرحمان) * فيها للعلماء وجهان معروفان: أحدهما وعليه اقتصر ابن كثير: أن (من) هي التي بمعنى بدل. وعليه فقوله * (من الرحمان) * أي بدل الرحمان، يعني غيره. وأنشد ابن كثير لذلك قول الراجز: من الرحمان) * أي بدل الرحمان، يعني غيره. وأنشد ابن كثير لذلك قول الراجز:
* جارية لم تلبس المرققا
* ولم تذق من البقول الفستقا
*
أي لم تذق بدل البقول الفستق. وعلى هذا القول فالآية كقوله تعالى: * (أرضيتم بالحيواة الدنيا من الا خرة) * أي بدلها ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر. أرضيتم بالحيواة الدنيا من الا خرة) * أي بدلها ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر.
* أخذوا المخاض من الفصيل غلبة
* ظلما ويكتب للأمير أفيلا
*
يعني أخذوا في الزكاة المخاض من بدل الفصيل. والوجه الثاني أن المعنى * (من يكلؤكم) * أي يحفظكم * (من الرحمان) * أي من عذابه وبأسه. وهذا هو الأظهر عندي. ونظيره من القرآن قوله تعالى: * (فمن ينصرنى من الله إن عصيته) * أي من ينصرني منه فيدفع عني عذابه. والاستفهام في قوله تعالى: * (من يكلؤكم) * قال أبو حيان في البحر: هو استفهام تقريع وتوبيخ. وهو عندي يحتمل الإنكار والتقرير. فوجه كونه إنكاريا أن المعنى: لا كالىء لكم يحفظكم من عذاب الله البتة إلا الله تعالى. أي فكيف تعبدون غيره. ووجه كونه تقريريا أنهم إذا قيل لهم: من يكلؤكم؟ اضطروا إلى أن يقروا بأن الذي يكلؤهم هو الله. لأنهم يعلمون أنه لا نافع ولا ضار إلا هو تعالى، ولذلك يخلصون له الدعاء عند الشدائد والكروب، ولا يدعون معه غيره، كما قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة (الإسراء) وغيرها. فإذا أقروا بذلك توجه إليهم التوبيخ والتقريع، كيف يصرفون حقوق الذي يحفظهم بالليل والنهار إلى ما لا ينفع ولا يضر. وهذا المعنى الذي أشارت إليه هذه الآية الكريمة: أنه لا أحد يمنع أحدا من عذاب الله، ولا يحفظه ولا يحرسه من الله، وأن الحافظ لكل شيء هو الله وحده جاء مبينا في مواضع أخر. كقوله تعالى: * (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) * على أظهر التفسيرات، وقوله تعالى: * (قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا) *، وقوله تعالى: * (قل من ذا الذى يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا) *، وقوله تعالى: * (قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح
154

ابن مريم وأمه ومن فى الا رض جميعا) *، وقوله تعالى: * (وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون) *. قوله في هذه الآية الكريمة * (أم) * هي المنقطعة، وهي بمعنى بل والهمزة، فقد اشتملت على معنى الإضراب والإنكار، والمعنى: ألهم لآلهة تجعلهم في منعة وعز حتى لا ينالهم عذابنا. ثم بين أن الهتهم التي يزعمون لا تستطيع نفع أنفسها، فكيف تنفع غيرها بقوله: * (لا يستطيعون نصر أنفسهم) *. وقوله * (من دوننا) * فيه وجهان: أحدهما أنه متعلق. * (آلهة) * أي ألهم آلهة * (من دوننا) * أي سوانا * (تمنعهم) * مما نريد أن نفعله بهم من العذابا كلاا ليس الأمر كذلك. الوجه الثاني أنه متعلق. * (تمنعهم) * لقول العرب: منعت دونه، أي كففت أذاه. والأظهر عند الأول. ونحوه كثير في القرآن كقوله: * (ومن يقل منهم إنى إلاه من دونه) * وقوله: * (واتخذوا من دونه ءالهة) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة: من كون الآلهة التي اتخذوها لا تستطيع نصر أنفسها فكيف تنفع غيرها جاء مبينا في غير هذا الموضع؟ كقوله تعالى: * (أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سوآء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ألهم أرجل يمشون بهآ أم لهم أيد يبطشون بهآ أم لهم أعين يبصرون بهآ أم لهم ءاذان يسمعون بها قل ادعوا شركآءكم ثم كيدون فلا تنظرون) *، وقوله تعالى: * (والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) *، وقوله تعالى: * (ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعآءكم ولو سمعوا ما
استجابوا لكم) *، وقوله تعالى: * (ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعآئهم غافلون) *، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن تلك الآلهة المعبودة من دون الله ليس فيها نفع البتة.
155

وقوله في هذه الآية الكريمة: * (ولا هم منا يصحبون) * أي يجارون: أي ليس لتلك الآلهة مجير يجيرهم منا. لأن الله يجير ولا يجار عليه كما صرح بذلك في سورة * (قد أفلح المؤمنون) * في قوله: * (قل من بيده ملكوت كل شىء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون) *. والعرب تقول: أنا جار لك وصاحب من فلان. أي مجير لك منه. ومنه قول الشاعر: قل من بيده ملكوت كل شىء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون) *. والعرب تقول: أنا جار لك وصاحب من فلان. أي مجير لك منه. ومنه قول الشاعر:
* ينادى بأعلى صوته متعوذا
* ليصحب منا والرماح دواني
*
يعني ليجار ويغاث منا. وأغلب أقوال العلماء في الآية راجعة إلى ما ذكرنا. كقول بعضهم * (يصحبون) * يمنعون. وقول بعضهم ينصرون. وقول بعضهم * (ولا هم منا يصحبون) * أي لا يصحبهم الله بخير، ولا يجعل الرحمة صاحبا لهم. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (بل متعنا هاؤلاء وءابآءهم حتى طال عليهم العمر) *. الظاهر أن الإضراب. * (بل) * في هذه الآية الكريمة انتقالي. والإشارة في قوله * (هؤلاء) * راجعة إلى المخاطبين من قبل في قوله: * (قل من يكلؤكم باليل والنهار من الرحمان) *، وهم كفار قريش، ومن اتخذ آلهة من دون الله. والمعنى: أنه متع هؤلاء الكفار وآباءهم قبلهم بما رزقهم من نعيم الدنيا حتى طالت أعمارهم في رخاء ونعمة، فحملهم ذلك على الطغيان واللجاج في الكفر.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة: من أنه تعالى يمهل الكفار ويملي لهم في النعمة، وأن ذلك يزيدهم كفرا وضلالا جاء موضحا في مواضع كثيرة من كتاب الله تعالى، كقوله: * (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملى لهم خير لانفسهم إنما نملى لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين) *، وقوله تعالى: * (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملى لهم إن كيدى متين) *، وقوله تعالى: * (قالوا سبحانك ما كان ينبغى لنآ أن نتخذ من دونك من أوليآء ولاكن متعتهم وءابآءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا) *، وقوله تعالى: * (بل متعت هاؤلاء وءابآءهم حتى جآءهم الحق ورسول مبين ولما جآءهم الحق قالوا هاذا سحر وإنا به كافرون) * والآيات بمثل ذلك كثيرة. والعمر يطلق على مدة العيش. قوله تعالى: * (أفلا يرون أنا نأتى الا رض ننقصها من أطرافهآ أفهم الغالبون) *.
156

في معنى إتيان الله الأرض ينقصها من أطرافها في هذه الآية الكريمة أقوال معروفة للعلماء: وبعضها تدل له قرينة قرآنية:
قال بعض العلماء: نقصها من أطرافها: موت العلماء، وجاء في ذلك حديث مرفوع عن أبي هريرة. وبعد هذا القول عن ظاهر القرآن بحسب دلالة السياق ظاهر كما ترى.
وقال بعض أهل العلم: نقصها من أطرافها خرابها عند موت أهلها.
وقال بعض أهل العلم: نقصها من أطرافها هو نقص الأنفس والثمرات، إلى غير ذلك من الأقوال، وأما القول الذي دلت عليه القرينة القرآنية: فهو أن معنى * (ننقصها من أطرافهآ) * أي ننقص أرض الكفر ودار الحرب، ونحذف أطرافها بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها، وردها دار إسلام. والقرينة الدالة على هذا المعنى هي قوله بعده * (أفهم الغالبون) *. والاستفهام لإنكار غلبتهم. وقيل: لتقريرهم بأنهم مغلوبون لا غالبون، فقوله: * (أفهم الغالبون) * دليل على أن نقص الأرض من أطرافها سبب لغلبة المسلمين للكفار، وذلك إنما يحصل بالمعنى المذكور. ومما يدل لهذا الوجه قوله تعالى: * (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتى وعد الله) * على قول من قال: إن المراد بالقارعة التي تصيبهم ضرايا النبي صلى الله عليه وسلم تفتح أطراف بلادهم، أو تحل أنت يا نبي الله قريبا من دارهم. وممن يروي عنه هذا القول: ابن عباس وأبو سعيد وعكرمة ومجاهد وغيرهم. وهذا المعنى الذي ذكر الله هنا ذكره في آخر سورة (الرعد) أيضا في قوله: * (أولم يروا أنا نأتى الا رض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب) *. وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير آية (الأنبياء) هذه: إن أحسن ما فسر به قوله تعالى: * (أفلا يرون أنا نأتى الا رض ننقصها من أطرافهآ) * هو قوله تعالى: * (ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الا يات لعلهم يرجعون) *.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ما ذكره ابن كثير رحمه الله صواب، واستقراء القرآن العظيم يدل عليه. وعليه فالمعنى: أفلا يرى كفار مكة ومن سار سيرهم في تكذيبك يا نبي الله، والكفر بما جئت به * (أنا نأتى الا رض ننقصها من أطرافهآ) * أي بإهلاك الذين كذبوا الرسل كما أهلكنا قوم صالح وقوم لوط، وهم يمرون بديارهم. وكما
157

أهلكنا قوم هود، وجعلنا سبأ أحاديث ومزقناهم كل ممزق كل ذلك بسبب تكذيب الرسل، والكفر بما جاءوا به. وهذا هو معنى قوله: * (ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى) * كقوم صالح وقوم لوط وقوم هود وسبأ، فاحذروا من تكذيب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. لئلا ننزل بكم مثل ما أنزلنا بهم. وهذا الوجه لا ينافي قوله بعده * (أفهم الغالبون) * والمعنى: أن الغلبة لحزب الله القادر على كل شيء، الذي أهلك ما حولكم من القرى بسبب تكذيبهم رسلهم، وأنتم لستم بأقوى منهم، ولا أكثر أموالا ولا أولادا. كما قال تعالى: * (أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم) *. وقال تعالى: * (أفلم يسيروا فى الا رض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم
كانوا أكثر منهم وأشد قوة وءاثارا فى الا رض فمآ أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) *، وقال تعالى: * (أولم يسيروا فى الا رض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الا رض وعمروهآ أكثر مما عمروها) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وإنذار الذين كذبوه صلى الله عليه وسلم بما وقع لمن كذب من قبله من الرسل كثير جدا في القرآن. وبه تعلم اتجاه ما استحسنه ابن كثير رحمه الله من تفسير آية (الأنبياء) هذه بآية (الأحقاف) المذكورة كما بينا.
وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة: فإن قلت: أي فائدة في قوله * (نأتى الا رض) *؟ قلت: فيه تصوير ما كان الله يجريه على أيدي المسلمين، وأن عساكرهم وسراياهم كانت تغزو أرض المشركين، وتأتيها غالبة عليها ناقصة من أطرافها (ا ه منه). والله جل وعلا أعلم. قوله تعالى: * (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه يضع الموازين القسط ليوم القيامة. فتوزن أعمالهم وزنا في غاية العدالة والإنصاف: فلا يظلم الله أحدا شيئا، وأن عمله من الخير والشر، وإن كان في غاية القلة والدقة كمثقال حبة من خردل، فإن الله يأتي به. لأنه لا يخفى عليه شيء وكفى به جل وعلا حاسبا. لأحاطة علمه بكل شيء.
وبين في غير هذا الموضع: أن الموازين عند ذلك الوزن منها ما يخف، ومنها ما يثقل. وأن من خفت موازينه هلك، ومن ثقلت موازيه نجا. كقوله تعالى: * (والوزن
158

يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولائك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون) * وقوله تعالى: * (فإذا نفخ فى الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتسآءلون فمن ثقلت موازينه فأولائك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولائك الذين خسروا أنفسهم فى جهنم خالدون) *، وقوله تعالى: * (فأما من ثقلت موازينه فهو فى عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية) * إلى غير ذلك من الآيات.
وما ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من أن موازين يوم القيامة موازين قسط ذكره في (الأعراف) في قوله: * (والوزن يومئذ الحق) * لأن الحق عدل وقسط. وما ذكره فيها: من أنه لا تظلم نفس شيئا بينه في مواضع أخر كثيرة، كقوله: * (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما) *، وقوله تعالى: * (إن الله لا يظلم الناس شيئا ولاكن الناس أنفسهم يظلمون) *، وقوله تعالى: * (ولا يظلم ربك أحدا) * وقد قدمنا الآيات الدالة على هذا في سورة (الكهف).
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من كون العمل وإن كان مثقال ذرة من خير أو شر أتى به جل وعلا أوضحه في غير هذا الموضع، كقوله عن لقمان مقررا له: * (يابنى إنهآ إن تك مثقال حبة من خردل فتكن فى صخرة أو فى السماوات أو فى الا رض يأت بها الله إن الله لطيف خبير) *، وقوله تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (ونضع الموازين) * جمع ميزان. وظاهر القرآن تعدد الموازين لكل شخص، لقوله: * (فمن ثقلت موازينه) *، وقوله: * (ومن خفت موازينه) * فظاهر القرآن يدل على أن للعامل الواحد موازين يوزن بكل واحد منها صنف من أعماله، كما قال الشاعر: ومن خفت موازينه) * فظاهر القرآن يدل على أن للعامل الواحد موازين يوزن بكل واحد منها صنف من أعماله، كما قال الشاعر:
* ملك تقوم الحادثات لعدله
* فلكل حادثة لها ميزان
*
والقاعدة المقررة في الأصول: أن ظاهر القرآن لا يجوز العدول عنه إلا بدليل يجب الرجوع إليه. وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة: الأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه. وقد قدمنا في آخر سورة (الكهف)
159

كلام العلماء في كيفية وزن الأعمال، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وقوله في هذه الآية * (القسط) * أي العدل، وهو مصدر، وصف به، ولذا لزم إفراده، كما قال في الخلاصة: القسط) * أي العدل، وهو مصدر، وصف به، ولذا لزم إفراده، كما قال في الخلاصة:
* ونعتوا بمصدر كثيرا
* فالتزموا الإفراد والتذكيرا
*
كما قدمناه مرارا. ومعلوم أن النعت بالمصدر يقول فيه بعض العلماء: إنه المبالغة. وبعضهم يقول: هو بنية المضاف المحذوف، فعلى الأول كأنه بالغ في عدالة الموازين حتى سماها القسط الذي هو العدل. وعلى الثاني فالمعنى: الموازين ذوات القسط.
واللام في قوله: * (ليوم القيامة) * فيها أوجه معروفة عند العلماء:
(منها) أنها للتوقيت، أي الدلالة على الوقت، كقول العرب: جئت لخمس ليال بقين من الشهر، ومنه قول نابغة ذبيان: (منها) أنها للتوقيت، أي الدلالة على الوقت
، كقول العرب: جئت لخمس ليال بقين من الشهر، ومنه قول نابغة ذبيان:
* توهمت آيات لها فعرفتها
* لستة أعوام وذا العام سابع
*
(ومنها) أنها لام كي، أي نضع الموازين القسط لأجل يوم القيامة، أي لحساب الناس فيه حسابا في غاية العدالة والإنصاف.
(ومنها) أنها بمعنى في، أي نضع الموازين القسط في يوم القيامة.
والكوفيون يقولون: إن اللام تأتي بمعنى في، ويقولون: إن من ذلك قوله تعالى: * (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) * أي في يوم القيامة، وقوله تعالى: * (لا يجليها لوقتهآ إلا هو) * أي في وقتها. ووافقهم في ذلك ابن قتيبة من المتقدمين، وابن مالك من المتأخرين، وأنشد مستشهدا لذلك قول مسكين الدارمي: لا يجليها لوقتهآ إلا هو) * أي في وقتها. ووافقهم في ذلك ابن قتيبة من المتقدمين، وابن مالك من المتأخرين، وأنشد مستشهدا لذلك قول مسكين الدارمي:
* أولئك قومي قد مضوا لسبيلهم
* كما قد مضى من قبل عاد وتبع
*
يعني مضوا في سبيلهم. وقول الآخر: يعني مضوا في سبيلهم. وقول الآخر:
* وكل أب وابن وإن عمرا معا
* مقيمين مفقود لوقت وفاقد
*
أي في وقت.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (فلا تظلم نفس شيئا) * يجوز أن يكون * (شيئا) * هو المفعول الثاني ل * (تظلم) * ويجوز أن يكون ما ناب عن المطلق. أي شيئا من الظلم لا قليلا ولا كثيرا. ومثقال الشيء: وزنه. والخردل: حب في غاية الصغر
160

والدفة. وبعض أهل العلم يقول: هو زريعة الجرجير. وأنث الضمير في قوله * (بها) * هو راجع إلى المضاف الذي هو * (مثقال) * وهو مذكر لاكتسابه التأنيث من المضاف إليه الذي هو * (حبة من خردل) * على حد قوله في الخلاصة: حبة من خردل) * على حد قوله في الخلاصة:
* وربما أكسب ثان أولا
* تأنيثا إن كان لحذف مؤهلا
*
ونظير ذلك من كلام العرب قول عنترة في معلقته: ونظير ذلك من كلام العرب قول عنترة في معلقته:
* جاء عليه كل عين ثرة
* فتركن كل قرارة كالدرهم
*
وقول الراجز: وقول الراجز:
* طول الليالي أسرعت في نقضي
* نقضن كلي ونقضن بعضي
*
وقول الأعشى: وقول الأعشى:
* وتشرق بالقول الذي قد أذعته
* كما شرقت صدر القناة من الدم
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* مشين كما اهتزت رماح تسفهت
* أعاليها مر الرياح النواسم
*
فقد أنث في البيت الأول لفظة (كل) لإضافتها إلى (عين). وأنث في البيت الثاني لفظة (طول) لإضافتها إلى (الليالي) وأنث في البيت الثالث الصدر لإضافته إلى (القناة) وأنث في البيت الرابع (مر) لإضافته إلى (الرياح). والمضافات المذكورة لو حذفت لبقي الكلام مستقيما. كما قال في الخلاصة: فقد أنث في البيت الأول لفظة (كل) لإضافتها إلى (عين). وأنث في البيت الثاني لفظة (طول) لإضافتها إلى (الليالي) وأنث في البيت الثالث الصدر لإضافته إلى (القناة) وأنث في البيت الرابع (مر) لإضافته إلى (الرياح). والمضافات المذكورة لو حذفت لبقي الكلام مستقيما. كما قال في الخلاصة:
* *......
* إن كان لحذف مؤهلا *
*
وقرأ هذا الحرف عامة القراء ما عدا نافعا * (وإن كان مثقال حبة) * بنصب * (مثقال) * على أنه خبر * (كان) * أي وإن كان العمل الذي يراد وزنه مثقال حبة من خردل. وقرأ نافع وحده * (وإن كان مثقال) * بالرفع فاعل * (كان) * على أنها تامة. كقوله تعالى: * (وإن كان ذو عسرة) *. قوله تعالى: * (وهاذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن هذا
161

القرآن العظيم * (ذكر مبارك) * أي كثير البركات والخيرات. لأن فيه خير الدنيا والآخرة. ثم وبخ من ينكرونه منكرا عليهم بقوله * (أفأنتم له منكرون) *. وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من أن هذا القرآن مبارك بينه في مواضع متعددة من كتابه. كقوله تعالى في (الأنعام): * (وهاذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون) *، وقوله فيها أيضا: * (وهاذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذى بين يديه) *. وقوله تعالى في (ص) * (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا ءاياته وليتذكر أولو الا لباب) *، إلى غير ذلك من الآيات. فنرجو الله تعالى القريب المجيب: أن تغمرنا بركات هذا الكتاب العظيم المبارك بتوفيق الله تعالى لنا لتدبر آياته، والعمل بما فيها من الحلال والحرام، والأوامر والنواهي. والمكارم والآداب: امتثالا واجتنابا، إنه قريب مجيب.
* (ولقد ءاتينآ إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين * إذ قال لابيه وقومه ما هاذه التماثيل التى أنتم لها عاكفون * قالوا وجدنآ ءابآءنا لها عابدين * قال لقد كنتم أنتم وءابآؤكم فى ضلال مبين * قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين * قال بل ربكم رب السماوات والا رض الذى فطرهن وأنا على ذالكم من الشاهدين * وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين * فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون * قالوا من فعل هاذا بأالهتنآ إنه لمن الظالمين * قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم * قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون * قالوا ءأنت فعلت هاذا بأالهتنا ياإبراهيم * قال بل فعله كبيرهم هاذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون * فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون * ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هاؤلاء ينطقون * قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم * أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون * قالوا حرقوه وانصروا ءالهتكم إن كنتم فاعلين * قلنا يانار كونى بردا وسلاما على إبراهيم * وأرادوا به كيدا فجعلناهم الا خسرين * ونجيناه ولوطا إلى الا رض التى باركنا فيها للعالمين * ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين) * قوله تعالى: * (ولقد ءاتينآ إبراهيم رشده من قبل) *. قد قدمنا ما يوضح هذه الآيات إلى آخر القصة من القرآن في سورة (مريم) فأغنى ذلك عن إعادته هنا. قوله تعالى * (قالوا حرقوه وانصروا ءالهتكم إن كنتم فاعلين) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن نبيه إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما أفحم قومه الكفرة بالبراهين والحجج القاطعة، لجؤوا إلى استعمال القوة فقالوا: * (حرقوه وانصروا ءالهتكم إن كنتم فاعلين) * أي اقتلوا عدوها إبراهيم شر قتلة، وهي الإحراق بالنار.
ولم يذكر هنا أنهم أرادوا قتله بغير التحريق: ولكنه تعالى ذكر في سورة (العنكبوت) أنهم * (قالوا اقتلوه أو حرقوه) * وذلك في قوله: * (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه) *.
وقد جرت العادة بأن المبطل إذا أفحم بالدليل لجأ إلى عنده من القوة ليستعملها ضد الحق.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (إن كنتم فاعلين) * أي إن كنتم ناصرين آلهتكم نصرا مؤزرا. فاختاره له أفظع قتلة، وهي الإحراق بالنار. وإلا فقد فرطتم في نصرها. قوله تعالى: * (قلنا يانار كونى بردا وسلاما على إبراهيم وأرادوا به كيدا فجعلناهم الا خسرين) *. في الكلام حذف دل المقام عليه، وتقديره: قالوا حرقوه فرموه في النار، فلما فعلوا
162

ذلك * (قلنا يانار كونى بردا وسلاما) * وقد بين في (الصافات) أنهم لما أرادوا أن يلقوه في النار بنوا له بنيانا ليلقوه فيه.
وفي القصة: أنهم ألقوه من ذلك البنيان العالي بالمنجنيق بإشارة رجل من أعراب فارس (يعنون الأكراد)، وأن الله خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، قال تعالى: * (قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه فى الجحيم) *. والمفسرون يذكرون من شدة هذه النار وارتفاع لهبها، وكثرة حطبها شيئا عظيما هائلا. وذكروا عن نبي الله إبراهيم أنهم لما كتفوه مجردا ورموه إلى النار، قال له جبريل: هل لك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما الله فنعما قال: لم لا تسأله؟ قال: علمه بحالي كاف عن سؤالي.
وما ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من أنه أمر النار بأمره الكوني القدري أن تكون بردا وسلاما على إبراهيم يدل على أنه أنجاه من تلك النار. لأن قوله تعالى: * (كونى بردا) * يدل على سلامته من حرها. وقوله: * (وسلاما) *. يدل على سلامته من شر بردها الذي انقلبت الحرارة إليه. وانجاؤه إياه منها الذي دل
عليه أمره الكوني القدري هنا جاء مصرحا به في (العنكبوت) في قوله تعالى: * (فأنجاه الله من النار) * وأشار إلى ذلك هنا بقوله: * (ونجيناه ولوطا) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وأرادوا به كيدا فجعلناهم الا خسرين) * يوضحه ما قبله. فالكيد الذي أرادوه به إحراقه بالنار نصرا منهم لآلهتهم في زعمهم، وجعله تعالى إياهم الأخسرين. أي الذين هم أكثر خسرانا لبطلان كيدهم وسلامته من نارهم.
وقد أشار تعالى إلى ذلك أيضا في سورة (الصافات) في قوله: * (فأرادوا به كيدا فجعلناهم الا سفلين) * وكونهم الأسفلين واضح لعلوه عليهم وسلامته من شرهم. وكونهم الأخسرين لأنهم خسروا الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين. وفي القصة: أن الله سلط عليهم خلقا من أضعف خلقه فأهلكهم وهو البعوض. وفيها أيضا: أن كل الدواب تطفئ عن إبراهيم النار، إلا الوزغ فإنه ينفخ النار عليه.
وقد قدمنا الأحاديث الواردة بالأمر بقتل الأوزاغ في سورة (الأنعام) وعن أبي العالية: لو لم يقل الله * (وسلاما) * لكان بردها أشد عليه من حرها. ولو لم يقل على (إبراهيم) لكان بردها باقيا إلى الأبد. وعن علي وابن عباس رضي الله
163

عنهم لو لم يقل (وسلاما) لمات إبراهيم من بردها. وعن السدي: لم تبق في ذلك اليوم نار إلا طفئت. وعن كعب وقتادة: لم تحرق النار من إبراهيم إلا وثاقه. وعن المنهال بن عمرو: قال إبراهيم ما كنت أياما قط أنعم مني في الأيام التي كنت فيها في النار. وعن شعيب الحماني: أنه ألقي في النار وهو ابن ست عشر سنة. وعن ابن جريج: ألقي فيها وهو ابن ست وعشرين. وعن الكلبي بردت نيران الأرض جميعا، فما أنضجت ذلك اليوم كراعا. وذكروا في القصة: أن نمروذ أشرف على النار من الصرح فرأى إبراهيم جالسا على السرير يؤنسه ملك الظل، فقال: نعم الرب ربك، لأقرين له أربعة آلاف بقرة وكف عنه. وكل هذا من الإسرائيليات. والمفسرون يذكرون كثيرا منها في هذه القصة وغيرها من قصص الأنبياء.
وقال البخاري في صحيحه: حدثنا أحمد بن يونس، أراه قال: حدثنا أبو بكر عن أبي حصين عن أبي الضحى عن ابن عباس (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: * (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) * حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا إسرائيل عن أبي حصين عن أبي الضحى عن ابن عباس قال: كان آخرهم قول إبراهيم حين ألقي في النار: (حسبي الله ونعم الوكيل) انتهى.
قوله تعالى: * (ونجيناه ولوطا إلى الا رض التى باركنا فيها للعالمين) *.
الضمير في قوله: * (ونجيناه) * عائد إلى إبراهيم. قال أبو حيان في البحر المحيط: وضمن قوله * (ونجيناه) * معنى أخرجناه بنجاتنا إلى الأرض. ولذلك تعدى (نجيناه) بإلى. ويحتمل أن يكون (إلى) متعلقا بمحذوف. أي منتهيا إلى الأرض، فيكون في موضع الحال. ولا تضمين في (ونجيناه) على هذا. والأرض التي خرجا منها: هي كوثى من أرض العراق، والأرض التي خرجا إليها: هي أرض الشام ا ه منه. وهذه الآية الكريمة تشير إلى هجرة إبراهيم ومعه لوط من أرض العراق إلى الشام فرارا بدينهما.
وقد أشار تعالى إلى ذلك في غير هذا الموضع. كقوله في (العنكبوت) * (فأامن له لوط وقال إنى مهاجر إلى ربى) *، وقوله في (الصافات:) * (وقال إنى ذاهب إلى ربى سيهدين) * على أظهر القولين. لأنه فار إلى ربه بدينه من الكفار. وقال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: * (وقال إنى ذاهب إلى ربى سيهدين) *: هذه
164

الآية أصل في الهجرة والعزلة، وأول من فعل ذلك إبراهيم عليه السلام، وذلك حين خلصه الله من النار قال: * (إنى ذاهب إلى ربى) * أي مهاجر من بلد قومي ومولدي، إلى حيث أتمكن من عبادة ربي * (فإنه سيهدين) * فيما نويت إلى الصواب. وما أشار إليه جل وعلا من أنه بارك العالمين في الأرض المذكورة، التي هي الشام على قول الجمهور في هذه الآية بقوله: * (إلى الا رض التى باركنا فيها للعالمين) * بينه في غير الموضع. كقوله: * (ولسليمان الريح عاصفة تجرى بأمره إلى الا رض التى باركنا فيها) *، وقوله تعالى: * (سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الا قصى الذى باركنا حوله) *. ومعنى كونه (بارك فيها). هو ما جعل فيها من الخصب والأشجار والأنهار والثمار. كما قال تعالى: * (لفتحنا عليهم بركات من السمآء والا رض) * ومن ذلك أنه بعث أكثر الأنبياء منها.
وقال بعض أهل العلم: ومن ذلك أن كل ماء عذب أصل منبعه من تحت الصخرة التي عند بيت المقدس. وجاء في ذلك حديث مرفوع، والظاهر أنه لا يصح. وفي قوله تعالى: * (إلى الا رض التى باركنا فيها) * أقوال أخر تركناها لضعفها في نظرنا.
وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن الفرار بالدين من دار الكفر إلى بلد يتمكن فيه الفار بدينه من إقامته دينه واجب. وهذا النوع من الهجرة وجوبه باق بلا خلاف بين العلماء في ذلك. قوله تعالى: * (ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه وهب لإبراهيم ابنه إسحاق، وابن ابنه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وأنه جعل الجميع صالحين. وقد أوضح البشارة بهما في غير هذا الموضع، كقوله تعالى: * (وامرأته قآئمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن ورآء إسحاق يعقوب) *، وقوله: * (وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين) *. وقد أشار تعالى في سورة (مريم) إلى أنه لما هجر الوطن والأقارب عوضه الله من ذلك قرة العين بالذرية الصالحة، وذلك في قوله: * (فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا) *.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (نافلة) * قال فيه ابن كثير: قال عطاء ومجاهد: نافلة عطية. وقال ابن عباس وقتادة والحكم بن عتيبة: النافلة: ولد الولد، يعني أن
165

يعقوب ولد إسحاق.
قال مقيده عفا لله عنه وغفر له: أصل النافلة في اللغة: الزيادة على الأصل، ومنه النوافل في العبادات، لأنها زيادات على الأصل الذي هو الفرض. وولد الولد زيادة على لأصل، الذي هو ولد الصلب، ومن ذلك قول أبي ذؤيب الهذلي: قال مقيده عفا لله عنه وغفر له: أصل النافلة في اللغة: الزيادة على الأصل، ومنه النوافل في العبادات، لأنها زيادات على الأصل الذي هو الفرض. وولد الولد زيادة على لأصل، الذي هو ولد الصلب، ومن ذلك قول أبي ذؤيب الهذلي:
* فإن تك أنثى من معد كريمة
* علينا فقد أعطيت نافلة الفضل
*
أي أعطيت الفضل عليها والزيادة في الكرامة علينا، كما هو التحقيق في معنى بيت أبي ذؤيب هذا، وكما شرحه به أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري في شرحه لأشعار الهذليين. وبه تعلم أن إيراد صاحب اللسان بيت أبي ذؤيب المذكور مستشهدا به لأن النافلة الغنيمة غير صواب، بل هو غلظ. مع أن الأنفال التي هي الغنائم راجعة في المعنى إلى معنى الزيادة، لأنها زيادة تكريم أكرم الله بها هذا النبي الكريم فأحلها له ولأمته. أو لأن الأموال المغنومة أموال أخذوها زيادة على أموالهم الأصلية بلا تمن.
وقوله: * (نافلة) * فيه وجهان من الإعراب، فعلى قول من قال: النافلة العطية فهو ما ناب عن المطلق من (وهبنا) أي وهبنا له إسحاق ويعقوب هبة. وعليه النافلة مصدر جاء بصيغة اسم الفاعل كالعاقبة والعافية. وعلى أن النافلة بمعنى الزيادة فهو حال من (يعقوب) أي وهبنا له يعقوب في حال كونه زيادة على إسحاق.
* (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينآ إليهم فعل الخيرات وإقام الصلواة وإيتآء الزكواة وكانوا لنا عابدين * ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التى كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين * وأدخلناه فى رحمتنآ إنه من الصالحين * ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم * ونصرناه من القوم الذين كذبوا بأاياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين * وداوود وسليمان إذ يحكمان فى الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين) * قوله تعالى: * (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينآ إليهم فعل الخيرات وإقام الصلواة وإيتآء الزكواة وكانوا لنا عابدين) *. الضمير في قوله * (جعلناهم) * يشمل كل المذكورين: إبراهيم، ولوطا وإسحاق، ويعقوب، كما جزم به أبو حيان في البحر المحيط، وهو الظاهر.
وقد دلت هذه الآية الكريمة على أن الله جعل إسحاق ويعقوب من الأئمة، أي جعلهم رؤساء في الدين يقتدى بهم في الخيرات وأعمال الطاعات وقوله (بأمرنا) أي بما أنزلنا عليهم من الوحي والأمر والنهي، أو يهدون الناس إلى ديننا بأمرنا إياهم، بإرشاد الخلق ودعائهم إلى التوحيد.
وهذه الآية الكريمة تبين أن طلب إبراهيم الإمامة لذريته المذكور في سورة (البقرة) أجابه فيه بالنسبة إلى بعض ذريته دون بعضها، وضابط ذلك: أن الظالمين من ذريته لا ينالون الإمامة بخلاف غيرهم. كإسحاق ويعقوب فإنهم ينالونها كما صرح به تعالى
166

في قوله هنا * (وجعلناهم أئمة) *. وطلب إبراهيم هو المذكور في قوله تعالى: * (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إنى جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتى قال لا ينال عهدي الظالمين) *. فقوله: * (ومن ذريتى) * أي واجعل من ذريتي أئمة يقتدى بهم في الخير. فأجابه الله بقوله * (لا ينال عهدي الظالمين) * أي لا ينال الظالمين عهدي بالإمامة. على الأصوب. ومفهوم قوله * (الظالمين) * أن غيرهم يناله عهده بالإمامة، كما صرح به هنا. وهذا التفصيل المذكور في ذرية إبراهيم أشار له تعالى في (الصافات) بقوله: * (ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين) * وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وأوحينآ إليهم فعل الخيرات) * أي أن يفعلوا الطاعات، ويأمروا الناس بفعلها. وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة من جملة الخيرات، فهو من عطف الخاص على العام. وقد قدمنا مرارا النكتة البلاغية المسوغة للاطناب في عطف الخاص على العام. وعكسه في القرآن. فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وقوله: * (وكانوا لنا عابدين) * أي مطيعين باجتناب النواهي وامتثال الأوامر بإخلاص. فهم يفعلون ما يأمرون الناس به، ويجتنبون ما ينهونهم عنه. كما قال نبي الله شعيب: * (ومآ أريد أن أخالفكم إلى مآ أنهاكم عنه) *. وقوله: * (أئمة) * معلوم أنه جمع إمام، والإمام: هو المقتدى به، ويطلق في الخير كما هنا، وفي للشر كما في قوله: * (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) *. وما ظنه الزمخشري من الإشكال في هذه الآية ليس بواقع: كما نبه عليه أبو حيان. والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وإقام الصلواة) * لم تعوض هنا تاء عن العين الساقطة بالاعتلال على القاعدة التصريفية المشهورة. لأن عدم تعويضها عنه جائز كما هنا، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله: وإقام الصلواة) * لم تعوض هنا تاء عن العين الساقطة بالاعتلال على القاعدة التصريفية المشهورة. لأن عدم تعويضها عنه جائز كما هنا، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله:
*......
* وألف بالإفعال واستفعال
*
* أزل لذا الإعلال والتا الزم عوض
* وحذفها بالنقل ربما عرض
*
وقد أشار في أبنية المصادر إلى أن تعويض التاء المذكورة من العين هو الغالب بقوله: وقد أشار في أبنية المصادر إلى أن تعويض التاء المذكورة من العين هو الغالب بقوله:
* واستعذ استعاذة ثم أقم
* إقامة وغالبا ذا التا لزم
*
وما ذكره من أن التاء المذكورة عوض عن العين أجود من قول من قال: إن العين
167

باقية وهي الألف الباقية، وأن التاء عوض عن ألف الإفعال. قوله تعالى: * (ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التى كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين وأدخلناه فى رحمتنآ إنه من الصالحين) *. قوله * (ولوطا) * منصوب بفعل مضمر وجوبا يفسر * (ءاتيناه) * كما قال في الخلاصة: وأدخلناه فى رحمتنآ إنه من الصالحين) *. قوله * (ولوطا) * منصوب بفعل مضمر وجوبا يفسر * (ءاتيناه) * كما قال في الخلاصة:
* فالسابق انصبه بفعل أمضرا
* حتما موافق لما قد أظهرا
*
قال القرطبي في تفسير هذه الآية: الحكم: النبوة. والعلم: المعرفة بأمر الدين، وما يقع به الحكم بين الخصوم. وقيل: علما فهما. وقال الزمخشري: حكما: حكمة، وهو ما يجب فعله، أو فصلا بين الخصوم، وقيل: هو النبوة.
قال مقيده عفا الله عنه: أصل الحكم في اللغة: المنع كما هو معروف. فمعنى الآيات: أن الله آتاه من النبوة والعلم ما يمنع أقواله وأفعاله من أن يعتريها الخلل. والقرية التي كانت تعمل الخبائث: هي سدوم وأعمالها، والخبائث التي كانت تعملها جاءت موضحة في آيات من كتاب الله: * (منها) * اللواط، وأنهم هم أول من فعله من الناس، كما قال تعالى * (أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين) *، وقال * (أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون) *. ومن الخبائث المذكورة إتيانهم المنكر في ناديهم، وقطعهم الطريق، كما قال تعالى: * (أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون فى ناديكم المنكر) *. ومن أعظم خبائثهم: تكذيب نبي الله لوط وتهديدهم له بالإخراج من الوطن. كما قال تعالى عنهم: * (قالوا لئن لم تنته يالوط لتكونن من المخرجين) *، وقال تعالى: * (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا ءال لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) * إلى غير ذلك من الآيات. وقد بين الله في مواضع متعددة من كتابه: أنه أهلكهم فقلب بهم بلدهم، وأمطر عليهم حجارة من سجيل، كما قال تعالى: * (فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل) * والآيات بنحو ذلك كثيرة. والخبائث: جمع خبيثة، وهي الفعلة السيئة كالكفر واللواط وما جرى مجرى ذلك.
168

وقوله * (قوم سوء) * أي أصحاب عمل سيىء، ولهم عند الله جزاء يسوءهم: وقوله: * (فاسقين) * أي خارجين عن طاعة الله. وقوله * (وأدخلناه) * يعني لوطا * (فى رحمتنا) * شامل لنجاته من عذابهم الذي أصابهم، وشامل لإدخاله إياه في رحمته التي هي الجنة، كما في الحديث الصحيح: (تحاجت النار والجنة). الحديث. وفيه: (فقال للجنة أنت رحمتي أرحم بها من أشاء من عبادي). قوله تعالى: * (ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم اقترب للناس حسابهم وهم فى غفلة معرضون) *. قوله: * (ونوحا) * منصوب ب (اذكر) مقدرا، أي واذكر نوحا حين نادى من قبل، أي من قبل إبراهيم ومن ذكر معه. ونداء نوح هذا المذكور هنا هو المذكور في قوله تعالى: * (ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ونجيناه وأهله من الكرب العظيم وجعلنا ذريته هم الباقين) * وقد أوضح الله هذا النداء بقوله: * (وقال نوح رب لا تذر على الا رض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) *، وقوله تعالى: * (كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربه أنى مغلوب فانتصر ففتحنآ أبواب السمآء بماء منهمر) *. والمراد بالكرب العظيم في الآية: الغرق بالطوفان الذي تتلاطم أمواجه كأنها الجبال العظام، كما قال تعالى: * (وهى تجرى بهم فى موج كالجبال) *، وقال تعالى: * (فأنجيناه وأصحاب السفينة) *، إلى غير ذلك من الآيات. والكرب: هو أقصى الغم، والأخذ بالنفس.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (فنجيناه وأهله) * يعني إلا من سبق عليه القول من أهله بالهلاك مع الكفرة الهالكين، كما قال تعالى: * (قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول) *. ومن سبق عليه القول منهم: ابنه المذكور في قوله: * (وحال بينهما الموج فكان من المغرقين) * وامرأته المذكورة في قوله * (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح) * إلى قوله * (ادخلا النار مع الداخلين) *. قوله تعالى: * (وداوود وسليمان إذ يحكمان فى الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا ءاتينا حكما وعلما) *.
169

قوله تعالى: * (وداود) * منصوب ب (اذكر) مقدرا. وقيل: معطوف قوله: * (ونوحا إذ نادى من قبل) * أي واذكر نوحا إذا نادى من قبل * (وداوود وسليمان إذ يحكمان فى الحرث) *، وقوله: * (المرسلين إذ) * بدل من (داود وسليمان) بدل اشتمال كما أوضحنا في سورة (مريم) وذكرنا بعض المناقشة فيه، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ويكون في نفس الآية قرينة تدل على خلاف ذلك القول. وذكرنا
في هذا الكتاب مسائل كثيرة من ذلك. فإذا علمت ذلك فاعلم أن جماعة من العلماء قالوا: إن حكم داود وسليمان في الحرث المذكور في هذه الآية كان بوحي: إلا أن ما أوحى إلى سليمان كان ناسخا لما أوحى إلى داود.
وفي الآية قرينتان على أن حكمهما كان باجتهاد لا بوحي، وأن سليمان أصاب فاستحق الثناء باجتهاده، وإصابته، وأن داود لم يصب فاستحق الثناء باجتهاده، ولم يستوجب لوما ولا ذما بعدم إصابته. كما أثنى على سليمان بالإصابة في قوله: * (ففهمناها سليمان) *، وأثنى عليهما في قوله: * (وكلا ءاتينا حكما وعلما) * فدل قوله * (وكلا ءاتينا) * على أنهما حكما فيها معا، كل منهما بحكم مخالف لحكم الآخر، ولو كان وحيا لما ساغ الخلاف. ثم قال: * (ففهمناها سليمان) * فدل ذلك على أنه لم يفهمها داود، ولو كان حكمه فيها بوحي لكان مفهما إياها كما ترى. فقوله * (وكلا ءاتينا) * مع قوله * (ففهمناها سليمان) * قرينة على أن الحكم لم يكن بوحي بل باجتهاد، وأصاب فيه سليمان دون داود بتفهيم الله إياه ذلك.
والقرينة الثانية هي أن قوله تعالى: * (ففهمناها) * يدل على أنه فهمه إياها من نصوص ما كان عندهم من الشرع. لا أنه أنزل عليه فيها وحيا جديدا ناسخا. لأن قوله تعالى: * (ففهمناها) * أليق بالأول من الثاني، كما ترى.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى اعلم أن هذا الذي ذكرنا أن القرينة تدل عليه في هذه الآية من أنهما حكما فيها باجتهاد، وأن سليمان أصاب في اجتهاده جاءت السنة الصحيحة بوقوع مثله منهما في غير هذه المسألة. فدل ذلك على إمكانه في هذه المسألة، وقد دلت القرينة القرآنية على
170

وقوعه، قال البخاري في صحيحه (باب إذا ادعت المرأة ابنا) حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت لصاحبتها: إنما ذهب بابنك. فقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك. فتحاكمتا إلى داود عليه السلام، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام، فأخبرتاه فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما. فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها. فقضى به للصغرى. قال أبو هريرة: والله إن سمعت بالسكين قط إلا يومئذ، وما كنا نقول إلا المدية) انتهى من صحيح البخاري. وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثني زهير بن حرب، حدثني شبابة) حدثني ورقاء عن أبي الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما امرأتان معهما إبناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما. فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك أنت. وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود فقضى به للكبرى. فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام. فأخبرتاه فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما. فقالت الصغرى: لا يرحمك الله) انتهى منه فهذا الحديث الصحيح يدل دلالة واضحة على أنهما قضيا معا بالاجتهاد في شأن الولد المذكور، وأن سليمان أصاب في ذلك، إذ لو كان قضاء داود بوحي لما جاز نقضه بحال. وقضاء سليمان واضح أنه ليس بوحي، لأنه أوهم المرأتين أنه يشقه بالسكين، ليعرف أمه بالشفقة عليه، ويعرف الكاذبة برضاها بشقه لتشاركها أمه في المصيبة لعرف الحق بذلك. وهذا شبيه جدا بما دلت عليه الآية حسبما ذكرنا، وبينا دلالة القرينة القرآنية عليه. ومما يشبه ذلك من قضائهما القصة التي أوردها الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في ترجمة (سليمان) عليه السلام من تاريخه، من طريق الحسن بن سفيان، عن صفوان بن صالح، عن الوليد بن مسلم، وعن سعيد بن بشر، عن قتادة عن مجاهد عن ابن عباس فذكر قصة مطولة، ملخصها: أن امرأة حسناء في زمان بني إسرائيل راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم، فامتنعت على كل منهم، فاتفقوا فيما بينهم عليها. فشهدوا عند داود عليه السلام أنها مكنت من نفسها كلبا لها، قد عودته ذلك منها، فأمر برجمها فلما كان عشية ذلك اليوم جلس سليمان، واجتمع معه ولدان مثله. فانتصب حاكما وتزيا أربعة منهم بزي أولئك، وآخر بزي المرأة، وشهدوا عليها بأنها مكنت من نفسها كلبا، فقال سليمان: فرقوا بينهم. فسأل أولهم: ما كان لون الكلب؟ فقال أسود، فعزله. واستدعى الآخر فسأله عن لونه؟ فقال أحمر. وقال
171

الآخر أغبش. وقال الآخر أبيض، فأمر عند ذلك بقتلهم، فحكى ذلك لداود عليه السلام، فاستدعى من فوره بأولئك الأربعة فسألهم متفرقين عن لون ذلك الكلب فاختلفوا عليه، فأمر بقتلهم انتهى بواسطة نقل ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة. وكل هذا مما يدل على صحة ما فسرنا به الآية، لدلالة القرينة القرآنية عليه. وممن يسرها بذلك الحسن البصري رحمه الله كما ذكره البخاري وغيره عنه. قال البخاري رحمه الله في صحيحه (باب متى يستوجب الرجل القضاء): وقال الحسن: أخذ الله على الحكام أن لا يتبعوا الهوى ولا يخشوا الناس، ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا إلى أن قال وقرأ * (وداوود وسليمان إذ يحكمان فى الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا ءاتينا حكما وعلما) * فحمد سليمان ولم يلم داود. ولولا ما ذكره الله من أمر هذين لرأيت أن القضاة ملكوا، فإنه أثنى على هذا بعلمه، وعذر هذا باجتهاده انتهى محل الغرض منه. وبه تعلم أن الحسن رحمه الله يرى أن معنى الآية الكريمة كما ذكرنا، ويزيد هذا إيضاحا ما قدمناه في سورة (بني إسرائيل) من الحديث المتفق عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة رضي الله عنهما (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) كما قدمنا إيضاحه.
المسألة الثانية
اعلم أن الاجتهاد في الأحكام في الشرع دلت عليه أدلة من الكتاب والسنة؟ منها هذا الذي ذكرنا هنا. وقد قدمنا في سورة بني (إسرائيل) طرفا من ذلك، ووعدنا بذكره مستوفى في هذه السورة الكريمة، وسورة (الحشر)، وهذا أوان الوفاء بذلك الوعد في هذه السورة الكريمة. وقد علمت مما مر في سورة (بني إسرائيل) أنا ذكرنا طرفا من الأدلة على الاجتهاد فبينا إجماع العلماء على العمل بنوع الاجتهاد المعروف بالإلحاق بنفي الفارق الذي يسميه الشافعي القياس في معنى الأصل، وهو تنقيح
المناط. وأوضحنا أنه لا ينكره إلا مكابر، وبينا الإجماع أيضا على العمل بنوع الاجتهاد المعروف بتحقيق المناط، وأنه لا ينكره إلا مكابر، وذكرنا أمثلة له في الكتاب والسنة، وذكرنا أحاديث دالة على الاجتهاد، منها الحديث المتفق عليه المتقدم ومنها حديث معاذ حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمين، وقد وعدنا بأن نذكر طرقه هنا إلى آخر ما ذكرنا هناك.
172

اعلم أن جميع روايات هذا الحديث المذكورة في المسند والسنن، كلها من طريق شعبة عن أبي عون عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة عن أناس من أصحاب معاذ، عن معاذ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما الرواية المتصلة الصحيحة التي ذكرنا سابقا عن ابن قدامة في (روضة الناظر) أن عبادة بن نسي رواه عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ، فهذا الإسناد وإن كان متصلا ورجاله معرفون بالثقة، فإني لم أقف على من خرج هذا الحديث من هذه الطريق، إلا ما ذكره العلامة بن القيم رحمه الله في (إعلام الموقعين) عن أبي بكر الخطيب بلفظ: وقد قيل، إن عبادة بن نسي رواه عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ ا ه منه. ولفظة (قيل) صيغة تمريض كما هو معروف. وإلا ما ذكره ابن كثير في تاريخه، فإنه لما ذكره فيه حديث معاذ المذكور باللفظ الذي ذكرنا بالإسناد الذي أخرجه به الإمام أحمد قال: وأخرجه أبو داود، والترمذي من حديث شعبة به. وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس إسناده عندي بمتصل. ثم قال ابن كثير: وقد رواه ابن ماجة من وجه آخر عنه، إلا أنه من طريق محمد بن سعيد بن حسان وهو المصلوب أحد الكذابين، عن عبادة بن نسي عن عبد الرحمن عن معاذ به نحوه.
واعلم أن النسخة الموجودة بأيدينا من تاريخ ابن كثير التي هي من الطبعة الأولى سنة 1531 فيها تحريف مطبعي في الكلام الذي ذكرنا. ففيها محمد بن سعد بن حسان، والصواب محمد بن سعيد لا سعد. وفيها: عن عياذ بن بشر، والصواب عن عبادة بن نسي.
وما ذكره ابن كثير رحمه الله من إخراج ابن ماجة لحديث معاذ المذكور من طريق محمد بن سعيد المصلوب، عن عبادة نسي، عن عبد الرحمن وهو ابن غنم عن معاذ لم أره في سنن ابن ماجة، والذي في سنن ابن ماجة بالإسناد المذكور من حديث معاذ غير المتن المذكور، وهذا لفظه: حدثنا الحسن بن حماد سجادة، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، عن محمد بن سعيد بن حسان، عن عبادة بن نسي، عن عبد الرحمن بن غنم، حدثنا معاذ بن جبل قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال: (لا تقضين ولا تفصلن إلا بما تعلم، وإن أشكل عليك أمر فقف حتى تبينه أو تكتب إلى فيه) ا ه منه. وما أدري أو هم الحافظ ابن كثير فيما ذكر؟ أو هو يعتقد أن معنى (تنبيه) في الحديث أي تعلمه باجتهادك في استخراجه من المنصوص، فيرجع إلى معنى الحديث المذكور وعلى كل حال
173

فالرواية المذكورة من طريق عبادة بن نسي عن ابن غنم عن معاذ فيها كذاب وهو محمد بن سعيد المذكور الذي قتله أبو جعفر المنصور في الزندقة وصلبه. وقال أحمد بن صالح: وضع أربعة آلاف حديث. فإذا علمت بهذا انحصار طرق الحديث المذكور الذي فيه أن معاذا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه إن لم يجد المسألة في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتهد فيها رأيه. وأقره للنبي صلى الله عليه وسلم على ذلك في الطريقتين المذكورتين علمت وجه تضعيف الحديث ممن ضعفه، وأنه يقول طريق عبادة بن نسي عن ابن غنم لم تسندوها ثابتة من وجه صحيح إليه. والطريق الأخرى التي في المسند والسنن فيها الحارث بن أخي المغيرة وهو مجهول، والرواة فيها أيضا عن معاذ مجاهيل. فمن أين قلتم بصحتها؟ وقد قدمنا أن ابن كثير رحمه الله قال في مقدمة تفسيره: إن الطريقة المذكورة في المسند والسنن بإسناد جيد. وقلنا: لعله يرى أن الحرث المذكور ثقة، وقد وثقه ابن حبان، وأن أصحاب معاذ لا يعرف فيهم كذاب ولا متهم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ويؤيد ما ذكرنا عن مراد ابن كثير بجودة الإسناد المذكور ما قاله العلامة ابن القيم رحمه الله في (إعلام الموقعين)، قال فيه: وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم معاذا على اجتهاد رأيه فيما لم يجد فيه نصا عن الله ورسوله، فقال شعبة: حدثني أبو عون عن الحارث بن عمرو، عن أناس من أصحاب معاذ: أن رسوله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن قال: (كيف تصنع إن عرض لك قضاء)؟ قال: أقضى بما في كتاب الله. قال: (فإن لم يكن في كتاب الله)؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال (فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم)؟ قال: أجتهد رأي، لا آلو. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري ثم قال: (الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضى رسول الله). فهذا حديث إن كان عن غير مسمين فهم أصحاب معاذ فلا يضره ذلك. لأنه يدل على شهرة الحديث. وأن الذي حدث له الحرث بن عمرو عن جماعة من أصحاب معاذ لا واحد منهم، وهذا أبلغ في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم ولو سمي، كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى، ولا يعرف في أصحابه متهم ولا كذاب، ولا مجروح. بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم، ولا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك، كيف وشعبة حامل لواء هذا الحديث؟؟ وقال بعض أئمة الحديث: إذا رأيت شعبة في إسناد حديث فاشدد يديك به. قال أبو بكر الخطيب: وقد قيل إن عبادة بن نسي رواه عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ، وهذا إسناد متصل، ورجاله معروفون بالثقة على أن أهل
174

العلم قد نقلوه، واحتجوا به. فوقفنا بذلك على صحته عندهم، كما وقفنا بذلك على صحة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا وصية لوارث). وقوله في البحر: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتة) وقوله: (إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة قائمة تحالفا وترادا البيع)، وقوله: (الدية على العاقلة). وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد ولكن لما تلقتها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها. فكذلك حديث معاذا لما احتجوا به جميعا غنوا عن طلب الإسناد له انتهى منه. وحديث عمرو بن العاص وأبي هريرة الثابت في الصحيحين شاهد له كما قدمنا، وله شواهد غير ذلك ستراها إن شاء الله تعالى.
المسألة الثالثة
اعلم أن الاجتهاد الذي دلت عليه نصوص الشرع أنواع متعددة:
(منها) الاجتهاد في تحقيق المناط، وقد قدمنا كثيرا من أمثلته في (الإسراء).
(ومنها) الاجتهاد في تنقيح المناط، ومن أنواعه: السبر، والتقسيم، والإلحاق بنفي الفارق.
واعلم أن الاجتهاد بإلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به قسمان:
الأول الإلحاق بنفي الفارق، وهو قسم من تنقيح المناط كما ذكرناه آنفا. ويسمى عند الشافعي القياس في معنى الأصل، وهو بعينه مفهوم الموافقة. ويسمى أيضا للقياس الجلي.
والثاني من نوعي الإلحاق هو القياس المعروف بهذا الاسم في اصطلاح أهل الأصول.
أما القسم الأول الذي هو الإلحاق بنفي الفارق فلا يحتاج فيه إلى وصف جامع بين الأصل والفرع وهو العلة. بل يقال فيه: لم يوجد بين هذا المنطوق به وهذا المسكوت عنه فرق فيه يؤثر في الحكم البتة فهو مثله في الحكم. وأقسامه أربعة: لأن المسكوت عنه إما أن يكون مساويا للمنطق به في الحكم، أولى به منه، وفي كل منهما إما أن يكون نفي الفارق بينهما مقطوعا به أو مظنونا. فالمجموع أربعة:
(الأول منها) أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به مع القطع بنفي
175

الفارق كقوله تعالى: * (فلا تقل لهمآ أف) * فالضرب المسكوت عنه أولى بالحكم الذي هو التحريم من التأفيف المنطوق به مع القطع بنفي الفارق، وكقوله تعالى: * (وأشهدوا ذوى عدل منكم) * فشهادة أربعة عدول المسكوت عنها أولى بالحكم وهو القبول من المنطوق به وهو شهادة العدلين مع القطع بنفي الفارق.
(والثاني منها) أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به أيضا، إلا أن نفي الفارق بينهما ليس قطعيا بل مظنونا ظنا قويا مزاحما لليقين. ومثاله نهيه صلى الله عليه وسلم عن التضحية بالعوراء. فالتضحية بالعمياء المسكوت عنها أولى بالحكم وهو المنع من التضحية بالعوراء المنطوق بها، إلا أن نفي الفارق بينهما ليس قطعيا بل منظونا ظنا قويا. لأن علة النهي عن التضحية بالعوراء كونها ناقصة ذاتا وثمنا وقيمة، وهذا هو الظاهر. وعليه فالعمياء أنقص منها ذاتا وقيمة. وهناك احتمال آخر: هو الذي منع من القطع بنفي الفارق، وهو احتمال أن تكون علة النهي عن التضحية بالعوراء: أن العور مظنة الهزال. لأن العوراء ناقصة البصر، وناقصة البصر تكون ناقصه الرعي لأنها لا ترى إلا ما يقابل عينا واحدة، ونقص الرعي مظنة للهزال. وعلى هذا الوجه فالعمياء ليست كالعوراء. لأن العمياء يختار لها أحسن العلف. فيكون ذلك مظنة لسمنها.
(والثالث منها) أن يكون المسكوت عنه مساويا للمنطوق به في الحكم مع القطع بنفي الفارق. كقوله تعالى: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) *. فإحراق أموال اليتامى وإغراقها المسكوت عنه مساو للأكل المنطوق به في الحكم الذي هو التحريم والوعيد بعذاب النار مع القطع بنفي الفارق. (والرابع منها) أن يكون المسكوت عنه مساويا المنطوق به في الحكم أيضا: إلا أن نفي الفارق بينهما مظنون ظنا قويا مزاحما لليقين، ومثاله الحديث الصحيح (من أعتق شركا له في عبد..) الحديث المتقدم في (الإسراء والكهف) فإن المسكوت عنه وهو عتق بعض الأمة مساو للمنطوق به وهو عتق بعض العبد في الحكم الذي هو سراية العتق المبينة في الحديث المتقدم مرارا. إلا أن نفي الفارق بينهما مظنون ظنا قويا، لأن الذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق وصفان طرديان لا يناط بهما حكم من أحكام العتق. كما قدمناه مستوفى في سورة (مريم) وهناك احتمال آخر هو الذي منع من القطع بنفي الفارق، وهو احتمال أن يكون الشارع نص على سراية العتق في خصوص العبد الذكر، مخصصا له بذلك الحكم دون الأنثى. لأن عتق الذكر يترتب عليه من الآثار الشرعية ما لا يترتب على عتق
176

الأنثى، كالجهاد والإمامة والقضاء. ونحو ذلك من المناصب المختصة بالذكور دون الإناث. وقد أكثرنا من أمثلة هذا النوع الذي هو الإلحاق بنفي الفارق في سورة (بني إسرائيل).
(وأما النوع الثاني من أنواع الإلحاق) فهو القياس المعروف في الأصول، وهو المعروف بقياس التمثيل. وسنعرفه هنا لغة واصطلاحا، ونذكر أقسامه، وما ذكره بعض أهل العلم من أمثلته في القرآن:
اعلم أن القياس في اللغة: التقدير والتسوية. يقال: قاس الثوب بالذراع، وقاس الجرح بالميل (بالكسر) وهو المرود: إذا قدر عمقه به: ولهذا سمي الميل مقياسا، ومن هذا المعنى البعيث بن بشر يصف جراحة أو شجة: اعلم أن القياس في اللغة: التقدير والتسوية. يقال: قاس الثوب بالذراع، وقاس الجرح بالميل (بالكسر) وهو المرود: إذا قدر عمقه به: ولهذا سمي الميل مقياسا، ومن هذا المعنى البعيث بن بشر يصف جراحة أو شجة:
* إذا قاسها الآسي النطاسي أدبرت
* غثيثتها وازداد وهيا هزومها
*
فقوله (قاسها) يعني قدر عمقها بالميل. والآسي: الطبيب، والنطاسي (بكسر النون وفتحها): الماهر بالطب: والغثيثة (بثاءين مثلثتين): مدة الجرح وقيحه، وما فيه من لحم ميت. والوهي: التخرق والتشقق. والهزوم: غمز الشيء باليد فيصير فيه حفرة كما يقع في الورم الشديد.
وتعريف القياس المذكور في اصطلاح أهل الأصول كثرت فيه عبارات الأصوليين، مع مناقشات معروفة في تعريفاتهم له. واختار غير واحد منهم تعريفه بأنه: حمل
معلوم على معلوم. أي إلحاقه به في حكمه لمساواته له في علة الحكم. وهذا التعريف إنما يشمل القياس الصحيح دون الفاسد. والتعريف الشامل للفاسد: هو أن تزيد على تعريف الصحيح لفظة عند الحامل. فتقول: هو إلحاق معلوم في حكمه لمساواته له في علة الحكم عند الحامل، فيدخل الفاسد في الحد مع الصحيح، كما أشار إليه صاحب مراقي السعود بقوله معرفا للقياس: وتعريف القياس المذكور في اصطلاح أهل الأصول كثرت فيه عبارات الأصوليين، مع مناقشات معروفة في تعريفاتهم له. واختار غير واحد منهم تعريفه بأنه: حمل معلوم على معلوم. أي إلحاقه به في حكمه لمساواته له في علة الحكم. وهذا التعريف إنما يشمل القياس الصحيح دون الفاسد. والتعريف الشامل للفاسد: هو أن تزيد على تعريف الصحيح لفظة عند الحامل. فتقول: هو إلحاق معلوم في حكمه لمساواته له في علة الحكم عند الحامل، فيدخل الفاسد في الحد مع الصحيح، كما أشار إليه صاحب مراقي السعود بقوله معرفا للقياس:
* بحمل معلوم على ما قد علم
* للاستوا في علة الحكم وسم
*
* وإن ترد شموله لما فسد
* فزد لدى الحامل والزيد أسد
*
ومعلوم أن أركان القياس المذكور أربعة: وهي الأصل المقيس عليه، والفرع المقيس، والعلة الجامعة بينهما، وحكم الأصل المقيس عليه.
فلو قسنا النبيذ على الخمر فالأصل الخمر، والفرع النبيذ، والعلة الإسكار
177

، وحكم الأصل الذي هو الخمر التحريم. وشروط هذه الأركان الأربعة، والبحث فيها مستوفى في أصول الفقه، فلا نطيل به الكلام هنا.
واعلم أن القياس المذكور ينقسم بالنظر إلى الجامع بين الفرع والأصل إلى ثلاثة أقسام:
الأول قياس العلة.
والثاني قياس الدلالة.
والثالثة قياس الشبه.
أما قياس العلة فضابطه: أن يكون الجمع بين الفرع والأصل بنفس علة الحكم، فالجمع بين النبيذ والخمر بنفس العلة التي هي الإسكار. والقصد مطلق التمثيل، لأنا قد قدمنا أن قياس النبيذ على الخمر لا يصح، لوجود النص على أن (كل مسكر خمر، وأن ما أسكر كثيره فقليله حرام). والقياس لا يصح مع التنصيص على أن حكم الفرع المذكور كحكم الأصل، إلا أن المثال يصح بالتقدير والفرض ومطلق الاحتمال كما تقدم. وكالجمع بين البر والذرة بنفس العلة التي هي الكيل مثلا عند من يقول بذلك، وإلى هذا أشار في المراقي بقوله: أما قياس العلة فضابطه: أن يكون الجمع بين الفرع والأصل بنفس علة الحكم، فالجمع بين النبيذ والخمر بنفس العلة التي هي الإسكار. والقصد مطلق التمثيل، لأنا قد قدمنا أن قياس النبيذ على الخمر لا يصح، لوجود النص على أن (كل مسكر خمر، وأن ما أسكر كثيره فقليله حرام). والقياس لا يصح مع التنصيص على أن حكم الفرع المذكور كحكم الأصل، إلا أن المثال يصح بالتقدير والفرض ومطلق الاحتمال كما تقدم. وكالجمع بين البر والذرة بنفس العلة التي هي الكيل مثلا عند من يقول بذلك، وإلى هذا أشار في المراقي بقوله:
* وما بذات علة قد جمعا
* فيه فقيس علة قد سمعا
*
وأما قياس الدلالة فضابطه: أن يكون الجمع فيه بدليل العلة لا بنفس العلة، كأن يجمع بين الفرع والأصل بملزوم العلة أو أثرها أو حكمها. فمثال الجمع بملزوم العلة أن يقال: النبيذ حرام كالخمر بجامع الشدة المطربة، وهي ملزوم للإسكار، بمعنى أنها يلزم من وجود الإسكار. ومثال الجمع بأثر العلة أن يقال: القتلى بالمثقل يوجب القصاص كالقتل بمحدد يجامع الإثم، وهو أثر العلة وهي للقتل العمد العدوان. ومثال الجمع بحكم العلة أن يقال: تقطع الجماعة بالواحد كما يقتلون به، يجامع وجوب الدية عليهم في ذلك حيث كان غير عمد، وهو حكم العلة التي هي القطع منهم في الصورة الأولى، والقتل منهم في الثانية. وإلى تعريف قياس الدلالة المذكور أشار في مراقي السعود بقوله: وأما قياس الدلالة فضابطه: أن يكون الجمع فيه بدليل العلة لا بنفس العلة، كأن يجمع بين الفرع والأصل بملزوم العلة أو أثرها أو حكمها. فمثال الجمع بملزوم العلة أن يقال: النبيذ حرام كالخمر بجامع الشدة المطربة، وهي ملزوم للإسكار، بمعنى أنها يلزم من وجود الإسكار. ومثال الجمع بأثر العلة أن يقال: القتلى بالمثقل يوجب القصاص كالقتل بمحدد يجامع الإثم، وهو أثر العلة وهي للقتل العمد العدوان. ومثال الجمع بحكم العلة أن يقال: تقطع الجماعة بالواحد كما يقتلون به، يجامع وجوب الدية عليهم في ذلك حيث كان غير عمد، وهو حكم العلة التي هي القطع منهم في الصورة الأولى، والقتل منهم في الثانية. وإلى تعريف قياس الدلالة المذكور أشار في مراقي السعود بقوله:
* جامع ذي الدلالة الذي لزم
* فأثر فحكمها كما رسم
*
وقوله: (الذي لزم) بالبناء للفاعل يعني اللازم، وتعبيره هنا باللازم تبعا لغيره غلط منه رحمه الله، وممن تبعه هو لأن وجود اللازم لا يكون دليلا على وجود الملزوم بإطباق
178

العقلاء. لاحتمال كون اللازم أعم من الملزوم، ووجود الأعم لا يقتضي وجود الأخص كما هو معروف. ولذا أجمع النظار على استثناء عين التالي في الشرطي المتصل لا ينتج عين المقدم. لأن وجود اللازم لا يقتضي وجود الملزوم. والصواب ما مثلنا به من الجمع بملزوم العلة، لأن الملزوم هو الذي يقتضي وجوده وجود اللام كما هو معروف. فالشدة المطربة والإسكار متلازمان، ودلالة الشدة المطربة على الإسكار إنما هي من حيث إنها ملزوم له لا لازم، لما عرفت من أن وجود اللازم لا يقتضي وجود الملزم. واقتضاؤه له هنا إنما هو للملازمة بين الطرفين. لأن كلا منهما لازم للآخر وملزوم له للملازمة بينهما من الطرفين.
وأما قياس الشبه فقد اختلفت فيه عبارات أهل الأصول. فعرف بعضهم الشبه بأنه منزلة بين المناسب والطرد. وعرفه بعضهم بأنه المناسب بالتبع بالذات. ومعنى هذا كمعنى تعريف من عرفه بأنه المستلزم المناسب.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: عبارات أهل الأصول في الشبه الذي هو المسلك السادس من مسالك العلة عند المالكية والشافعية، كلها تدور حول شيء واحد، وهو أن الوصف الجامع في قياس الشبه يشبه المناسب من وجهه، ويشبه الوصف الطردي من جهة أخرى. وقد قدمنا في سورة (مريم) أن المناسب هو الوصف الذي تتضمن إناطة الحكم به مصلحة من جلب نفع أو دفع ضر، والطردي هو ما ليس كذلك، إما في جميع الأحكام وإما في بعضها: ولا خلاف بين أهل الأصول في أن ما يسمى بغلبة الأشباه لا يخرج عن قياس الشبه. لأن بعضهم يقول إنه داخل فيه، وهو الظاهر. وبعضهم يقول هو بعينه لا شيء آخر. وغلبة الأشياء هو إلحاق فرع متردد بين أصلين بأكثرهما شبها به. كالعبد فإنه متردد بين أصلين لشبهه بكل واحد منهما. فهو يشبه المال لكونه يباع ويشترى ويوهب ويورث إلى غير ذلك من أحوال المال. ويشبه الحر من حيث إنه إنسان ينكح ويطلق ويثاب ويعاقب، وتلزمه أوامر الشرع ونواهيه. وأكثر أهل العلم يقولون: إن شبهه بالمال أكثر من شبهه بالحر. لأنه يشبه المال في الحكم والصفة معا أكثر مما يشبه الحر فيهما.
فمن شبهه بالمال في الحكم كونه يباع ويشترى ويورث، ويوهب ويعار، ويدفع في الصداق والخلع، ويرهن إلى غير ذلك من التصرفات المالية.
ومن شبهه بالمال في الصفة كونه تتفاوت قيمته بحسب تفاوت أوصافه جودة
179

ورداءة. كسائر الأموال. فلو قتل إنسان عبدا لآخر لزمته قيمته نظرا إلى أن شبهه بالمال أغلب. وقال بعض أهل العلم: تلزمه ديته كالحر زعما منه أن شبهه بالحر أغلب، فإن قيل: بأي طريق يكون هذا النوع الذي هو غلبة الأشباه من الشبه. لأنكم قررتم أنه مرتبة بين المناسب والطردي، فما وجه كونه مرتبة بين المناسب والطردي؟ فالجواب: أن إيضاح ذلك فيه أن أوصافه المشابهة للمال ككونه يباع ويشترى إلخ طردية بالنسبة إلى لزوم الدية، لأن كونه كالمال ليس صالحا لأن يناط به لزوم ديته إذا قتل، وكذلك أوصافه المشابهة للحر ككونه مخاطبا يثاب ويعاقب إلخ. فهي طردية بالنسبة إلى لزوم القيمة: لأن كونه كالحر ليس صالحا لأن يناط به لزوم القيمة، فهو من هذه الحيثية يشبه الطردي كما ترى. أما ترتب القيمة على أوصافه المشابهة لأوصاف المال فهو مناسب كما ترى. وكذلك ترتب الدية على أوصافه المشابهة لأوصاف الحر مناسب، وبهذين الاعتبارين يتضح كونه مرتبة بين المناسب والطردي.
ومن أمثلة أنواع الشبه غير غلبة الأشباه الشبه الذي الوصف الجامع فيه لا يناسب لذاته، ولكنه يستلزم المناسب لذاته، وقد شهد الشرع بتأثير جنسه القريب في جنس الحكم القريب. كقولك في الخل مائع لا تبنى القنطرة على جنسه، فلا يرفع به الحدث، ولا حكم الخبث قياسا على الدهن. فقولك (لا تبنى القنطرة على جنسه) ليس مناسبا في ذاته. لأن بناء القنطرة على المائع في حد ذاته وصف طردي إلا أنه مستلزم للمناسب: لأن العادة المطردة أن القنطرة لا تبنى على المائع القليل، بل على الكثير كالأنهار، والقلة مناسبة، لعدم مشروعية المتصف بها من المائعات للطهارة العامة. فإن الشرع العام يقتضي أن تكون أسبابه عامة الوجود. أما تكليف الجميع بما لا يجده إلا البعض فبعيد من القواعد. فصار قولك (لا تبنى القنطرة على جنسه) ليس بمناسب، وهو مستلزم للمناسب. وقد شهد الشرع بتأثير جنس القلة والتعذر في عدم مشروعية الطهارة، بدليل أن الماء إذا قل واشتدت إليه الحاجة فإنه يسقط الأمر بالطهارة به وينتقل إلى التيمم.
وأما الشبه الصوري فقد قدمنا الكلام عليه مستوفى في سورة (النحل) في الكلام على قوله تعالى: * (وإن لكم فى الا نعام لعبرة نسقيكم مما فى بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سآئغا للشاربين) * وقد قدمنا في أول سورة (براءة) كلام ابن العربي الذي قال فيه: ألا ترى إلى عثمان وأعيان الصحابة كيف لجؤوا إلى قياس النسبة عند عدم النص، ورأوا أن قصة (براءة) شبيهة بقصة (الأنفال) فألحقوا بها، فإذا كان القياس
180

يدخل في تأليف القرآن: فما ظنك بسائر الأحكام؟ وإلى الشبه المذكور أشار في مراقي السعود بقوله: وإن لكم فى الا نعام لعبرة نسقيكم مما فى بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سآئغا للشاربين) * وقد قدمنا في أول سورة (براءة) كلام ابن العربي الذي قال فيه: ألا ترى إلى عثمان وأعيان الصحابة كيف لجؤوا إلى قياس النسبة عند عدم النص، ورأوا أن قصة (براءة) شبيهة بقصة (الأنفال) فألحقوا بها، فإذا كان القياس يدخل في تأليف القرآن: فما ظنك بسائر الأحكام؟ وإلى الشبه المذكور أشار في مراقي السعود بقوله:
* والشبه المستلزم المناسبا
* مثل الوضو يستلزم التقربا
*
* مع اعتبار جنسه القريب
* في مثله للحكم لا للغريب
*
* صلاحه لم يدر دون الشرع
* ولم ينط مناسب بالسمع
*
* وحيثما أمكن قيس العلة
* فتركه بالاتفاق أثبت
*
* إلا ففي قبوله تردد
* غلبة الأشباه هو الأجود
*
* في الحكم والصفة ثم الحكم
* فصفة فقط لدى ذي العلم
*
* وابن علية يرى للصوري
* كالقيس للخيل على الحمير
*
واعلم أن قياس الطرد يصدق بأمرين. لأن الطرد يطلق إطلاقين: يطلق يطلق على الوصف الطردي الذي لا يصلح لإناطة حكم به لخلوه من الفائدة. كما لو ظن بعض القائلين بنقض الوضوء بلحم الجزور: أن علة النقض به الحرارة فألحق به لحم الظبي قائلا: إنه ينقض الوضوء قياسا على لحم الجزور بجامع الحرارة. فهذا القياس باطل. لأنه الوصف الجامع فيه طردي. ومثله كل ما كان الوصف الجامع فيه طردنا وهو أحد الأمرين للذين يطلق عليهما قياس الطرد.
والأمر الثاني منهما هو القياس الذي الوصف الجامع فيه مستنبطا بالمسلك الثامن المعروف (بالطرد) وهو الدوري الوجودي، وإيضاحه. أنه مقارنة الحكم للوصف في جميع صورة غير الصورة التي فيها النزاع في الوجود فقط دون العدم. والاختلاف في إفادته العلة معروف في الأصول.
واعلم أن القياس وما يتعلق به موضح في فن أصول الفقه والأدلة التي تدل على أن الوصف المعين علة للحكم المعين هي المعروفة بمسالك العلة، وهي عشرة عند من يعد منها إلغاء الفارق، وتسعة عند من لا يعده منها، وهي: النص، والإجماع، والإيماء، والسبر والتقسيم، والمناسبة، والشبه، والدوران، والطرد، وتنقيح المناط، وإلغاء الفارق، والتحقيق أنه نوع من تنقيح المناط كما قدمنا. وقد نظمها بعضهم بقوله: وقد نظمها بعضهم بقوله:
* مسالك علة رتب فنص
* فإجماع فإيماء فبر
*
* مناسبة كذا مشبه فيتلو
* له الدوران طرد يستمر
*
* فتنقيح المناط فألغ فرقا
* وتلك لمن أراد الحصر عشر
*
181

ومحل إيضاحها فن أصول الفقه، وقد أوضحناها في غير هذا المحل.
وأما القوادح في الدليل من قياس وغيره، فهي معروفة في فن الأصول وقد نظمها باختصار الشيخ عمر الفاسي بقوله: وأما القوادح في الدليل من قياس وغيره، فهي
معروفة في فن الأصول وقد نظمها باختصار الشيخ عمر الفاسي بقوله:
* القدح بالنقض وبالكسر معا
* نخلف العكس وبالقلب اسمعا
*
* وعدم التأثير بالوصف وفي
* أصل وفرع ثم حكم فاقتفي
*
* والمنع والفرق وبالتقسيم
* وباختلاف الضابط المعلوم
*
* وفقد الانضباط والظهور
* والخدش في تناسب المذكور
*
* وكون ذاك الحكم لا يفضي إلى
* مقصود ذي الشرع العزيز فاقبلا
*
* والخدش في الوضع والاعتبار
* والقول بالموجب ذو اعتبار
*
* وابدأ باستفسار في الإجمال
* أو الغرابة بلا إشكال
*
وإنما لم نوضح هنا المسالك والقوادح. لأن ذلك يفضي إلى الإطالة المملة، مع أن الجميع موضح في أصول الفقه، وقد أوضحناه في غير هذا الموضع، وقصدنا هنا التنبيه عليه في الجملة من غير تفصيل. فإذا علمت ذلك فاعلم أن العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى شفى الغليل بما لا مزيد عليه في هذه المسائل في كتابه (إعلام الموقعين عن رب العالمين) وسنذكر هنا إن شاء الله جملا وافية مفيدة من كلامه في هذا الموضوع الذي نحن بصدده. قال رحمه الله في كلامه على قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رسالته المشهورة إلى أبي موسى: (ثم الفهم الفهم فيما أدلى إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، لم قايس بين الأمور عند ذلك، واعرف الأمثال، ثم اعمد فيها ترى إلى أحبها إلى الله، وأشبهها بالحق) ما نصه:
هذا أحد ما اعتمد عليه القياسيون في الشريعة، قالوا: هذا كتاب عمر إلى أبي موسى ولم ينكره أحد من الصحابة، بل كانوا متفقين على القول بالقياس وهو أحد أصول الشريعة، ولا يستغنى عنه فقيه. وقد أرشد الله تعالى عباده إليه في غير موضع من كتابه، فقاس النشأة الثانية على النشأة الأولى في الإمكان، وجعل النشأة الأولى أصلا، والثانية فرعا عليها، وقاس حياة الأموات على حياة الأرض بعد موتها بالنبات، وقاس الخلق الجديد الذي أنكره أعداؤه على خلق السماوات والأرض، وجعله من قياس الأولى، كما جعل قياس النشأة الثانية على الأولى من قياس الأولى، وقاس الحياة بعد الموت على اليقظة بعد النوم. وضرب الأمثال وصرفها في الأنواع المختلفة، وكلها أقيسة عقلية ينبه بها
182

عباده على أن حكم الشيء حكم مثله، فإن الأمثال كلها قياسات يعلم منها حكم الممثل من الممثل به. وقد اشتمل القرآن على بضعة وأربعين مثلا تتضمن تشبيه الشيء بنظيره والتسوية بينهما في الحكم، وقال تعالى: * (وتلك الا مثال نضربها للناس وما يعقلهآ إلا العالمون) * بالقياس في ضرب الأمثال من خاصة العقل، وقد ركز الله في فطر الناس وعقولهم التسوية بين المتماثلين وإنكار التفريق بينهما، والفرق بين المختلفين وإنكار الجمع بينهما قالوا: ومدار الاستدلال جمعية على التسوية بين المتمائلين، والفرق بين المختلفين: فإنه إما استدلال بمعين على معين، أو بمعين على عام، أو بعام على معين، أو بعام على عام. فهذه الأربعة هي مجامع ضروب الاستدلال. فالاستدلال بالمعين على المعين هو الاستدلال بالملزوم على لازمه، بكل ملزوم دليل على لازمه، فإن كان التلازم من الجانبين كان كل منهما دليلا على الآخر ومدلولا له. وهذا النوع ثلاثة أقسام: أحدها الاستدلال بالمؤثر على الأثر، والثاني الاستدلال بالأثر على المؤثر. والثالث الاستدلال بأحد الأثرين على الآخر. فالأول كالاستدلال بالنار على الحريق. والثاني كالاستدلال بالحريق على الناس. والثالث كالاستدلال بالحريق على الدخان. ومدار ذلك كله على التلازم: ولتسوية بين المماثلين
هو الاستدلال بثبوت أحد الأثرين على الآخر وقياس الفرق هو استدلال بانتفاء أحد الأثرين على انتفاء الآخر، أو بانتفاء اللازم على انتفاء ملزومه: فلو جاز التفريق بين المتماثلين لانسدت طريق الاستدلال، وغلقت أبوابه.
قالوا: وأما الاستدلال بالمعين على العام فلا يتم إلا بالتسوية بين المتماثلين، إذ لو جاز الفرق لما كان هذا المعين دليلا على الأمر العام المشترك بين الأفراد. ومن هذا أدلة القرآن بتعذيب المعينين الذين عذبهم على تكذيب رسله وعصيان أمره، على أن هذا الحكم عام شامل على من سلك سبيلهم، واتصف بصفتهم، وهو سبحانه قد نبه عباده على نفس هذا الاستدلال، وتعدية هذا الخصوص إلى العموم، كما قال تعالى عقب إخباره عن عقوبات الأمم المكذبة لرسلهم وما حل بهم: * (أكفاركم خير من أولائكم أم لكم برآءة فى الزبر) * فهذا محض تعدية الحكم إلى من عدا المذكورين بعموم العلة، وإلا فلو لم يكن حكم الشيء حكم مثله لما لزمت التعدية. ولا تمت الحجة. ومثل هذا قوله تعالى عقيب إخباره عن عقوبة قوم هود حين رأوا العارض في السماء: * (هاذا عارض ممطرنا) * فقال تعالى: * (بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب
183

أليم تدمر كل شىء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزى القوم المجرمين) * ثم قال: * (ولقد مكناهم فيمآ إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فمآ أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شىء إذ كانوا يجحدون بأايات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون) * فتأمل قوله: * (ولقد مكناهم فيمآ إن مكناكم فيه) * تجد المعنى: أن حكمكم كحكمهم، وأنا إذا كنا قد أهلكناهم بمعصية رسولنا ولم يدفع عنهم ما مكنوا فيه من أسباب العيش. فأنتم كذلك تسوية بين المتماثلين. وأن هذا محض عدل الله بين عباده. ومن ذلك قوله تعالى: * (أفلم يسيروا فى الا رض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها) * فأخبر أن حكم الشيء حكم مثله. وكذلك كل موضع أمر الله سبحانه فيه بالمسير في الأرض سواء كان السير الحسي على الأقدام والدواب، أو السير المعنوي بالتفكير والاعتبار، أو كان اللفظ يعمهما وهو الصواب، فإنه يدل على الاعتبار والحذر أن يحل بالمخاطبين ما حل بأولئك ولهذا أمر سبحانه أولي الأبصار باعتبار بما حل بالمكذبين، ولولا أن حكم النظير حكم نظيره حتى تعبر العقول منه إليه لما حصل الاعتبار، وقد نفى الله سبحانه عن حكمه وحكمته التسوية بين المختلفين في الحكم، فقال تعالى: * (أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون) * وأخبر أن هذا حكم باطل في الفطر والعقول، لا تليق نسبته إلى سبحانه. وقال تعالى: * (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين ءامنوا وعملوا الصالحات سوآء محياهم ومماتهم سآء ما يحكمون) *، وقال تعالى: * (أم نجعل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين فى الا رض أم نجعل المتقين كالفجار) * أفلا تراه كيف ذكر العقول، ونبه الفطر بما أودع فيها من إعطاء النظير حكم نظيره، وعدم التسوية بين الشيء ومخالفه في الحكم. وكل هذا من الميزان الذي أنزله الله مع كتابه، وجعله قرينه ووزيره. فقال تعالى: * (الله الذى أنزل الكتاب بالحق والميزان) *، وقال: * (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) *، وقال تعالى: * (الرحمان علم القرءان) * فهذا الكتاب ثم قال: * (والسمآء رفعها ووضع الميزان) * والميزان يراد به العدل، والآلة التي يعرف بها العدل وما يضاده. والقياس الصحيح الميزان، فالأولى تسميته بالاسم الذي سماه الله به. فإنه
184

يدل على العدل، وهو اسم مدح واجب على كل واحد في كل حال بحسب الإمكان. بخلاف اسم القياس فإنه ينقسم إلى حق وباطل، وممدوح ومذموم، ولهذا لم يجئ في القرآن مدحه ولا ذمه، ولا الأمر به ولا النهي عنه، فإنه مورد تقسيم إلى صحيح وفاسد. فالصحيح هو الميزان الذي أنزله الله مع كتابه، والفاسد ما يضاده كقياس الذين قاسوا البيع على الربا بجامع ما يشتركان فيه من التراضي بالمعاوضة المالية، وقاس الذين قاسوا الميتة على المذكي في جواز أكلها بجامع ما يشتركان فيه من إزهاق الروح، هذا بسبب من الآدميين، وهذا بفعل الله. ولهذا تجد في كلام السلف ذم القياس، وأنه ليس من الدين، وتجد في كلامهم استعماله والاستدلال به، وهذا حق وهذا حق. كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
والأقيسة المستعملة في الاستدلال ثلاثة: قياس علة، وقياس دلالة، وقياس شبه، وقد وردت كلها في القرآن. فأما قياس العلة فقد جاء في كتاب الله عز وجل في مواضع. منها قوله تعالى، * (إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) * فأخبر تعالى أن عيسى نظير آدم في التكوين، بجامع ما يشتركان فيه من المعنى إلي تعلق به وجود سائر المخلوقات، وهو مجيئها طوعا لمشيئته وتكوينه، فكيف يستنكر وجود عيسى من غير أب من يقر بوجود آدم من غير أب ولا أم، ووجود حواء من غير أم. فآدم وعيسى نظيران يجمعهما الذي يصح تعليق الإيجاد والخلق به.
ومنها قوله تعالى: * (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا فى الا رض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) * أي قد كان من قبلكم أمم أمثالكم، فانظروا إلى عواقبهم السيئة، واعلموا أن سبب ذلك ما كان من تكذيبهم بآيات الله ورسله، وهم الأصل وأنتم الفرع، والعلة الجامعة التكذيب، والحكم الهلاك.
ومنها قوله تعالى: * (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم فى الا رض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السمآء عليهم مدرارا وجعلنا الا نهار تجرى من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا ءاخرين) * فذكر سبحانه إهلاك من قبلنا من القرون، وبين أن ذلك كان لمعنى القياس وهو ذنوبهم، فهم الأصل ونحن الفرع، والذنوب العلة الجامعة، والحكم الهلاك. فهذا محض قياس العلة، وقد أكده سبحانه بضرب من الأولى
185

، وهو أن من قبلنا كانوا أقوى منا فلم تدفع عنهم قوتهم وشدتهم ما حل بهم. ومنه قوله تعالى: * (كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولائك حبطت أعمالهم في الدنيا والا خرة وأولائك هم الخاسرون) * وقد اختلف في محل هذا الكاف وما يتعلق به، فقيل: هو رفع خبر مبتدأ محذوف، أي أنتم كالذين من قبلكم. وقيل نصب بفعل محذوف تقديره: فعلتم كفعل الذين من قبلكم. والتشبيه على هذين القولين في أعمال الذين من قبل، وقيل التشبيه في العذاب. ثم قيل: العامل محذوف. أي لعنهم وعذبهم كما لعن ابن من قبلهم. وقيل بل العامل ما تقدم. أي
وعد الله المنافقين كوعد الذين من قبلكم، ولعنهم كلعنهم، ولهم عذاب مقيم كالعذاب الذي لهم.
والمقصود أنه سبحانه ألحقهم بهم في الوعيد، وسوى بينهم فيه كما تساووا في الأعمال، وكونهم كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا فرق غير مؤثر، فعلق الحكم بالوصف الجامع المؤثر، وألغى الوصف الفارق، ثم نبه على أن مشاركتهم في الأعمال اقتضت مشاركتهم في الجزاء فقال: * (فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا) * فهذه هي العلة المؤثرة والوصف الجامع، وقوله: * (أولائك حبطت أعمالهم) * هو الحكم، والذين من قبلهم الأصل، والمخاطبون الفرع.
قال عبد الرزاق في تفسيره: أنا معمر عن الحسن في قوله * (فاستمتعوا بخلاقهم) * قال بدينهم. ويروى عن أبي هريرة.
وقال ابن عباس: استمتعوا بنصيبهم من الآخرة في الدنيا. وقال آخرون: بنصيبهم من الدنيا. وحقيقة الأمر: أن الخلاق هو النصيب والحظ، كأنه الذي خلق للإنسان وقدر له، كما يقال: قسمه الذي قسم له، ونصيبه الذي نصب له أي أثبت. وقطه الذي قط له أي قطع، ومنه قوله تعالى: * (وما له فى الا خرة من خلاق) * وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة). والآية تتناول ما ذكره السلف كله، فإنه سبحانه قال: * (كانوا أشد منهم قوة) * فبتلك القوة التي كانت فيهم كانوا يستطيعون أن يعملوا للدنيا والآخرة، وكذلك الأموال والأولاد، وتلك القوة
186

والأموال والأولاد هي الخلاق، فاستمتعوا بقوتهم وأموالهم في الدنيا، ونفس الأعمال التي عملوها بهذه القوة من الخلاق الذي استمتعوا به. ولو أرادوا بذلك الله والدار الآخرة لكان لهم خلاق في الآخرة، فتمتعهم بها أخذ حظوظهم العاجل، وهذا حال من لم يعمل إلا لدنياه سواء كان عمله من جنس العبادات أو غيرها. ثم ذكر سبحانه حال الفروع فقال: * (فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم) * فدل هذا على أن حكمهم حكمهم، وأنهم ينالهم ما ينالهم، لأن حكم النظير حكم نظيره. ثم قال: * (وخضتم كالذي خاضوا) *. فقيل (الذي) صفة لمصدر محذوف، أي كالمخوض الذي خاضوا وقيل: لموصوف محذوف. أي كخوض القوم الذي خاضوا وهو فاعل الخوض.
وقيل: (الذي) مصدرية (ما) أي كخوضهم. وقيل: هي موضع الذين. والمقصود أنه سبحانه جمع بين الاستمتاع بالخلاف وبين الخوض بالباطل. لأن فساد الدين إما أن يقع بالاعتقاد بالباطل والتكلم به وهو الخوض، أو يقع بالعمل، بخلاف الحق والصواب وهو الاستمتاع بالخلاق. فالأول البدع. والثاني اتباع الهوى، وهذان هما أصل كل شر وفتنة وبلاء، وبهما كذبت الرسل وعصى الرب، ودخلت النار وحلت العقوبات.
فالأول من جهة الشبهات، والثاني من جهة الشهوات، ولهذا كان السلف يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى فتنه هواه، وصاحب دنيا أعجبته دنياها وكانوا يقولون: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون، فهذا يشبه المغضوب عليهم الذين يعلمون الحق ويعملون بخلافه، وهذا يشبه الضالين الذين يعملون بغير علم.
وفي صفة الإمام أحمد رحمه الله عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهها أتته البدع فنفاها، والدنيا فأباها. وهذه حال أئمة المتقين، الذين وصفهم الله تعالى في كتابه بقوله: * (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بأاياتنا يوقنون) * فبالصبر تترك الشهوات، وباليقين تدفع الشبهات، كما قال تعالى: * (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) *، وقوله تعالى: * (واذكر عبادنآ إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولى الا يدى والا بصار) *
187

.
وفي بعض المراسيل: (إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات. فقوله تعالى: * (فاستمتعتم بخلاقكم) * إشارة إلى اتباع الشهوات، وهوداء العصاة. وقوله: * (وخضتم كالذي خاضوا) * إشارة إلى الشبهات، وهو داء المبتدعة وأهل الأهواء والخصومات، وكثيرا ما يجتمعان. فقل من تجده فاسد الاعتقاد إلا وفساد اعتقاده يظهر في عمله. والمقصود أن الله أخبر أن في هذه الأمة من يستمتع بخلافه كما استمتع الذين من قبله بخلاقهم، ويخوض كخوضهم، وأن لهم من الذم والوعيد كما للذين من قبلهم، ثم حضهم على القياس والاعتبار بمن قبلهم فقال: * (ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون) * فتأمل صحة هذا القياس وإفادته لما علق عليه من الحكم، وأن الأصل والفرع قد تساويا في المعنى الذي علق به العقاب وأكده كما تقدم بضرب من الأولى وهو شدة القوة وكثرة الأموال والأولاد، فإذا لم يتعذر على الله عقاب الأقوى منهم بذنبه فكيف يتعذر عليه عقاب من هو دونه. ومنه قوله تعالى: * (وربك الغنى ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشآء كمآ أنشأكم من ذرية قوم ءاخرين) *. فهذا قياس جلي، يقول سبحانه: إن شئت أذهبتكم واستخلفت غيركم، كما أذهبت من قبلكم واستخلفتكم، بذكر أركان القياس الأربعة: علة الحكم وهي عموم مشيئته وكمالها، والحكم وهو إذهابه إياهم وإتيانه بغيرهم، والأصل وهو ما كان من قبل والفرع وهم المخاطبون، ومنه قوله تعالى: * (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين) * فأخبر أن من قبل المكذبين أصل يعتبر به، والفرع نفوسهم. فإذا ساووهم في المعنى ساووهم في العاقبة، ومنه قوله تعالى: * (إنآ أرسلنآ إليكم رسولا شاهدا عليكم كمآ أرسلنآ إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا) * فأخبر سبحانه أنه أرسل موسى إلى فرعون، وأن فرعون عصى رسوله فأخذه أخذا وبيلا. فهكذا من عصى منكم محمدا صلى الله عليه وسلم. وهذا في القرآن كثير جدا فقد فتح لك بابه.
فصل
وأما قياس الدلالة فهو الجمع بين الأصل والفرع، بدليل العلة وملزومها، ومنه
188

قوله تعالى: * (ومن ءاياته أنك ترى الا رض خاشعة فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت إن الذى أحياها لمحى الموتى إنه على كل شىء قدير) * فدل سبحانه عباده بما أراهم من الإحياء الذي تحققوه وشاهدوه، على الإحياء الذي استبعدوه، وذلك قياس إحياء على إحياء، واعتبار الشيء فنظيره، والعلة الموجبة هي عموم قدرته سبحانه وكمال حكمته، وإحياء الأرض دليل العلة، ومنه قوله تعالى: * (يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى ويحى الا رض بعد موتها وكذلك تخرجون) *.
فدل بالنظير على النظير، وقرب أحدهما من الآخر جدا بلفظ الإخراج، أي يخرجون من الأرض أحياء كما يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ومنه قوله تعالى: * (أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من منى يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والا نثى أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى) * فبين سبحانه كيفية الخلق واختلاف أحوال الماء في الرحم إلى أن صار منه الزوجان الذكر والأنثى، وذلك أمارة وجود صانع قادر على ما يشاء، ونبه سبحانه عباده بما أحدثه في النطفة المهينة الحقيرة من الأطوار، وسوقها في مراتب الكمال، من مرتبة إلى مرتبة أعلى منها، حتى صارت بشرا سويا في أحسن خلقة وتقويم، على أنه لا يحسن به أن يترك هذا البشر سدى مهملا معطلا. لا يأمره ولا ينهاه، ولا يقيمه في عبوديته، وقد ساقه في مراتب الكمال من حين كان نطفة إلى أن صار بشرا سويا، فكذلك يسوقه في مراتب كماله طبقا بعد طبق، وحالا بل حال، إلى أن يصير جاره في داره يتمتع بأنواع النعيم، وينظر إلى وجهه، ويسمع كلامه إلى آخر كلام ابن القيم رحمه الله تعالى، فإنه أطال في ذكر الأمثلة على النحو المذكور، ولم نذكر جميع كلامه خوفا من الإطالة المملة، وفيما ذكرنا من كلامه تنبيه على ما لم نذكره، وقد تكلم على قياس الشبه فقال فيه:
وأما قياس الشبه فلم يحكه الله سبحانه إلا عن المبطلين. فمنه قوله تعالى إخبارا عن إخوة يوسف أنهم قالوا لما وجدوا الصواع في رحل أخيهم. * (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) * فلم يجمعوا بين الفرع والأصل بعلة ولا دليلها، وإنما ألحقوا أحدهما بالآخر من غير دليل جامع سوى مجرد الشبه الجامع بينه وبين يوسف، فقالوا هذا مقيس على أخيه بينهما شبه من وجوه عديدة، وذلك قد سرق فكذلك هذا، وهذا هو الجمع بالشبه الفارغ والقياس بالصورة المجردة عن العلة المقتضية للتساوي، وهو قياس فاسد، والتساوي في قرابة الآخوة ليس بعلة للتساوي في السرقة لو كان حقا ولا دليل على
189

التساوي فيها فيكون الجمع لنوع شبه خال من العلة ودليلها.
ثم ذكر رحمه الله لقياس الشبه الفاسد أمثلة أخرى في الآيات الدالة على أن الكفار كذبوا الرسل بقياس الشبه حيث شبهوهم بالبشر، وزعموا أن ذلك الشبه مانع من رسالتهم. كقوله تعالى عن الكفار أنهم قالوا: * (ما نراك إلا بشرا مثلنا) *، وقوله تعالى عنهم: * (ما هاذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه) *. إلى غير ذلك من الآيات. فالمشابهة بين الرسل وغيرهم في كون الجميع بشرا لا تقتضي المساواة بينهم في انتقاء الرسالة عنهم جميعا، ولما قالوا للرسل * (مآ أنتم إلا بشر مثلنا) * أجابوهم بقولهم: * (إن نحن إلا بشر مثلكم ولاكن الله يمن على من يشآء من عباده) *. وقياس الكفار الرسل على سائر البشر في عدم الرسالة قياس ظاهر البطلان. لأن الواقع من التخصيص والتفضيل، وجعل بعض البشر شريفا وبعضه دنيا وبعضه مرؤوسا وبعضه رئيسا وبعضه ملكا. وبعضه سوقا يبطل هذا القياس. كما أشار إليه جواب الرسل المذكور آنفا، يشير إليه قوله تعالى: * (أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحيواة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون) * وهذه الأمثلة من قياس الشبه ليس فيها وصف مناسب بالذات ولا بالتبع. فلذلك كانت باطلة.
ثم ذكر ابن القيم رحمه الله: أن جميع الأمثال في القرآن كلها قياسات شبه صحيحة. لأن حقيقة المثل تشبيه شيء بشيء في حكمه، وتقريب المعقول من المحسوس أو أحد المحسوسين من الآخر واعتبار أحدهما بالآخر. ثم سرد الأمثال القرآنية ذلك فيها واحدا واحدا، وأطال الكلام في ذلك فأجاد وأفاد.
وقال في آخر كلامه: قالوا فهذا بعض ما اشتمل عليه القرآن من التمثيل والقياس، والجمع والفرق، واعتبار العلل والمعاني وارتباطها بأحكامها تأثيرا واستدلالا. قالوا: وقد ضرب الله سبحانه الأمثال، وصرفها قدرا وشرعا، ويقظة ومناما، ودل عباده على الاعتبار بذلك. وعبورهم من الشيء إلى نظيره، واستدلالهم بالنظير على النظير. بل هذا أصل عبارة الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة، ونوع من أنواع الوحي. فإنها مبنية على القياس والتمثيل، واعتبار المعقول بالمحسوس.
ألا ترى أن الثياب في التأويل كالقمص تدل على الدينا فما كان فيها من طول أو
190

قصر، أو نظافة أو دنس فهو في الدين. كما أول النبي صلى الله عليه وسلم القميص بالدين والعلم، والقدر المشترك بينهما أن كلا منهما يستر صاحبه ويجمله بين الناس.
ومن هذا تأويل اللبن بالفطرة لما في كل منهما من التغذية الموجبة للحياة وكمال النشأة، وأن الطفل إذا خلى وفطرته لم يعدل عن اللبن. فهو مفطور على إيثاره على ما سواه، وكذلك فطرة الإسلام التي فطر الله عليها الناس.
ومن هذا تأويل البقر بأهل الدين والخير الذين بهم عمارة الأرض، كما أن البقر كذلك، مع عدم شرها وكثرة خيرها، وحاجة الأرض وأهلها إليها. ولهذا لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم بقرا تنحر كان ذلك نحرا في أصحابه.
ومن ذلك تأويل الزرع والحرث بالعمل. لأن العامل زارع للخير والشر، ولا بد أن يخرج له ما بذره كما يخرج للباذر زرع ما بذره، فالدنيا مزرعة، والأعمال البذر، ويوم القيامة يوم طلوع الزرع وحصاده.
ومن ذلك تأويل الخشب المقطوع المتساند بالمنافقين، والجامع بينهما أن المنافق لا روح فيه ولا ظل ولا ثمر، فهو بمنزلة الخشب الذي هو كذلك. ولهذا شبه تعالى المنافقين بالخشب المسندة. لأنهم أجسام خالية عن الإيمان والخير. وفي كونها مسندة نكتة أخرى: وهي أن الخشب إذا انتفع به جعل في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع، وما دام متروكا فارغا غير منتفع به جعل مسندا بعضه إلى بعض. فشبه المنافقين بالخشب في الحالة التي لا ينتفع فيها بها إلى آخر كلامه رحمه الله. وقد ذكر أشياء كثيرة من عبارة الرؤيا فأجاد وأفاد رحمه الله، وكلها راجعة إلى اعتبار النظير بنظيره، وذلك كله يدل دلالة واضحة على أن نظير الحق حق، ونظير الباطل باطل.
ثم قال ابن القيم رحمه الله: فهذا شرع الله وقدره ووحيه، وثوابه وعقابه، كله قائم بهذا الأصل وهو إلحاق النظير بالنظير، واعتبار المثل بالمثل: ولهذا يذكر الشارع العلل والأوصاف المؤثرة. والمعاني المعتبرة في الأحكام القدرية والشرعية والجزائية. ليدل بذلك على تعلق الحكم بها أين وجدت، واقتضائها لأحكامها، وعدم تخلفها عنها إلا لمانع يعارض اقتضاءها ويوجب تخلف آثارها عنها، كقوله تعالى: * (ذلك بأنهم شآقوا الله ورسوله) *، * (ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم) *، * (ذلكم بأنكم اتخذتم ءايات الله هزوا) *، * (ذلكم بما كنتم تفرحون فى الا رض بغير الحق وبما
191

كنتم تمرحون) *، * (ذلك بأنهم اتبعوا مآ أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم) *، * (ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم فى بعض الا مر) *، * (وذلكم ظنكم الذى ظننتم بربكم أرداكم) *.
وقد جاء التعليل في الكتاب العزيز بالباء تارة، وباللام تارة، وب (أن) تارة وبمجموعهما تارة، وب (كي) تارة و (من أجل) تارة، وترتيب الجزاء على الشرط تارة ا وبالفاء المؤذية بالسببية تارة، وترتيب الحكم على الوصف المقتضى له تارة، وب (لما) تارة، وب (أن) المشددة تارة وب (لعل) تارة، وبالمفعول له تارة. فالأول كما تقدم. واللام كقوله: * (ذالك لتعلموا أن الله يعلم ما فى السماوات وما فى الا رض) *، وأن كقوله: * (أن تقولوا إنمآ أنزل الكتاب على طآئفتين من قبلنا) *. ثم قيل: التقدير لئلا تقولوا، وقيل كراهة أن تقولوا. وأن واللام كقوله: * (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) * وغالب ما يكون هذا النوع في النفي فتأمله. وكي كقوله: * (كى لا يكون دولة) * والشرط والجزاء كقوله: * (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا) *، والفاء كقوله: * (فكذبوه فأهلكناهم) *، * (فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية) *، * (فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا) *، وترتيب الحكم على الوصف كقوله: * (يهدى به الله من اتبع رضوانه) *، وقوله: * (يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) *، وقوله: * (إنا لا نضيع أجر المصلحين) *، * (ولا نضيع أجر المحسنين) *، * (الله لا يهدى كيد الخائنين) *، ولما كقوله: * (فلمآ ءاسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم) *. * (فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) *. وإن المشددة كقوله: * (إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين) *، * (إنهم كانوا قوم سوء فاسقين) *. ولعل كقوله: * (لعله يتذكر أو يخشى) *، * (لعلكم تعقلون) *، * (لعلكم تذكرون) * والمفعول له كقوله: * (وما لاحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغآء وجه ربه الا على ولسوف يرضى) * أي لم يفعل ذلك جزاء نعمة أحد من الناس: وإنما فعله ابتغاء وجه ربه الأعلى. ومن أجل كقوله: * (من أجل ذالك كتبنا على بنى إسراءيل) *.
192

وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم علل الأحكام والأوصاف المؤثرة فيها ليدل على ارتباطها بها: وتعديها بتعدي أوصافها وعللها كقوله في نبيذ التمر (تمرة طيبة. وماء طهور): وقوله (إنما جعل الاستئذان من أجل البصرة) وقوله: (إنما نهيتكم من أجل الدافة): وقوله في الهرة (ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات)، ونهيه عن تغطية رأس المحرم الذي وقصته ناقته وتقريبه الطيب: وقوله (فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا). وقوله (إنكم إذا فعلتم ذلكم قطعتم أرحامكم) ذكره تعليلا لنهيه عن نكاح المرأة على عمتها وخالتها. وقوله تعالى: * (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النسآء في المحيض) *، وقوله في الخمر والميسر: * (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء فى الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلواة فهل أنتم) * وقوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر (أينقص الرطب إذا جف)؟ قالوا نعم. فنهى عنه. وقوله: (لا يتناجى اثنان دون الثالث فإن ذلك يحزنه). وقوله: (إذا وقع الذئاب في إناء أحدكم فامقلوه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء. وإنه يتقي بالجناح الذي فيه الداء) وقوله: (إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس) وقال وقد سئل عن مس الذكر هل ينقض الوضوء (هل هو إلا بضعة منك) وقوله في ابنه حمزة (إنها لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة)، وقوله في الصدقة: (إنها لا تحل لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس). وقد قرب النبي صلى الله عليه وسلم الأحكام لأمته بذكر نظائرها وأسبابها، وضرب لها الأمثال. إلى آخر كلامه رحمه الله.
وقد ذكر فيه أقيسة فعلها النبي صلى الله عليه وسلم. منها قياس القبلة على المضمضة في حديث عمر المتقدم. وقياس دين الله على دين الآدمي في وجوب القضاء. وقد قدمنا مستوفي كما قبله في سورة (بني إسرائيل).
ومنها قياس العكس في حديث: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: (أرأيتم لوضعها في حرام أيكون عليه وزر) وقد قدمناه مستوفى في سورة (التوبة).
ومنها قصة الذي ولدت امرأته غلاما أسود، وقد قدمنا ذلك مستوفى في سورة (بني إسرائيل).
ومنها حديث المستحاضة الذي قاس فيه النبي صلى الله عليه وسلم دم العرق الذي هو دم الاستحاضة على غيره من دماء العروق التي لا تكون حيضا. وكل ذلك يدل على أن إلحاق
193

النظير بالنظير من الشرع، لا مخالف له كما يزعمه الظاهرية ومن تبعهم.
المسألة الرابعة
اعلم أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يجتهدون في مسائل الفقه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليهم، وبعد وفاته من غير نكير. وسنذكر هنا إن شاء الله تعالى أمثلة كثيرة لذلك.
فمن ذلك أمره صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يصلوا العصر في بني قريظة، فاجتهد بعضهم وصلاحا في الطريق وقال: لم يرد منا تأخير العصر، وإنما أراد سرعة النهوض. فنظروا إلى المعنى. واجتهد آخرون وأخروها إلى بني قريظة فصلوها ليلا. وقد نظروا إلى اللفظ، وهؤلاء سلف أهل الظاهر. وأولئك سلف أصحاب المعاني والقياس.
ومنها أن عليا رضي الله عنه لما كان باليمن أتاه ثلاثة نفر يختصمون في غلام. فقال كل منهم: هو ابني. فأقرع بينهم، فجعل الولد للقارع وجعل عليه الرجلين الآخرين ثلثي الدية. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت تواجذه من قضاء علي رضي الله عنه. ومنها اجتهاد سعد بن معاذ رضي الله عنه في حكمه في بني قريظة، وقد صوبه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات).
ومنها اجتهاد الصالحين اللذين خرجا في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فصليا ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر. فصوبهما النبي صلى الله عليه وسلم، وقال للذي لم يعد (أصبت السنة وأجزأنك صلاتك)، وقال للآخر: (لك الأجر مرتين).
ومنها اجتهاد مجزز المدلجي بالقيامة، وقال: إن أقدام زيد وأسامة بعضها من بعض، وقد سر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك حتى برقت أسارير وجهه. وذلك دليل على صحة إلحاق ذلك القائف الفرع بالأصل، مع أن زيدا أبيض وأسامة أسود. فألحلق هذا القائف الفرع بنظيره وأصله، وألغى وصف السواد والبياض الذي لا تأثير له في الحكم.
ومنها اجتهاد أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الكلالة قال: أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان (أراه ما خلا الوالد والولد) فلما استخلف عمر قال: إني لأستحيي من الله أن أرد شيئا قاله أبو بكر.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ومن أغرب الأشياء عندي ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. من أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار له إلى معنى الكلالة إشارة واضحة
194

جدا. ولم يفهمها عنه مع كمال فهمه وعلمه، وأن الوحي ينزل مطابقا لقوله مرارا. وذلك أنه رضي الله عنه قال: ما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر ما سألته عن الكلام حتى طعن بأصبعه في صدري وقال: (تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء). وهذا الإرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم واضح كل الوضوح في أنه يريد: أن الكلالة هي ما عدا الولد بالوالد. لأن آية الصيف المذكورة التي أخبره أنها تكفيه دلت على ذلك دلالة كافية واضحة فقوله تعالى فيها: * (إن امرؤ هلك ليس له ولد) * صريح في أن الكلالة لا يكون فيها ولد. وقوله فيها: * (وله أخ أو أخت) * يدل بالالتزام على أنها لا أب فيها، لأن الإخوة والأخوات لا يرثون مع الأب. وذلك مما لا نزاع فيه. فظهر أن آية الصيف المذكورة تدل بكل وضوح على أن الكلالة ما عدا الولد والوالد، ولم يفهم عمر رضي الله عنه الإشارة النبوية المذكورة، فالكمال التام له جل وعلا وحده، سبحانه وتعالى علوا كبيرا.
ومنها اجتهاد ابن مسعود رضي الله عنه في المرأة التي توفي زوجها ولم يفرض لها صداقا ولم يدخل بها. فقال: أقول فيها برأيي، فإن كان صوابا فمن الله: لها كمهر نسائها لا وكس ولا شطط، ولها الميراث وعليها العدة. وقد شهد لابن مسعود بعض الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بنحو ذلك في بروع بنت واشق، ففرح بذلك.
ومنها اجتهاد الصحابة في أن أبا بكر رضي الله عنه أولى من غيره بالإمامة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدمه على غيره في إمامة الصلاة.
ومنها اجتهاد أبي بكر في العهد بالخلافة إلى عمر، سواء قلنا إنه من المصالح المرسلة، أو قلنا إنه قاس العهد بالولاية على العقد لها. ومن ذلك اجتهادهم في جمع المصحف بالكتابة. ومن ذلك اجتهادهم في الجد والإخوة، والمشتركة المعروفة بالحمارية واليمية.
ومنها اجتهاد أبي بكر في التسوية بين الناس في العطاء، واجتهاد عمر في تفضيل بعضهم على بعض فيه.
ومنها اجتهادهم في جلد السكران ثمانين، قالوا: إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى فمدوه حد الفرية. وأمثال هذا كثيرة جدا. وهي تدل على أن اجتهاد الصحابة في مسائل الفقه متواتر معنى، فإن الوقائع منهم في ذلك وإن لم تتواتر آحادها فمجموعها يفيد العلم
195

اليقيني لتواترها معنى، كما لا يخفى على من ذلك. ورسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى المتضمنة لذلك مشهورة. وقال ابن القيم في (إعلام الموقعين): وقال الشعبي عن شريح قال لي عمر: اقض بما استبان لك من كتاب الله، فإن لم تعلم كل كتاب الله فاقض بما استبان لك من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما استبان لك من أئمة المهتدين، فإن لم تعلم كل ما قضت به أئمة المهتدين فاجتهد رأيك، واستشر أهل العلم والصلاح.. إلى أن قال: وقايس علي بن أبي طالب رضي الله عنه زيد بن ثابت في المكاتب، وقايسه في الجد والإخوة، وقاس ابن عباس الأضراس بالأصابع وقال: عقلها سواء، اعتبروها بها. قال المزني: الفقهاء من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وهلم جرا استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم، وأجمعوا بأن نظير الحق حق، ونظير الباطل باطل، فلا يجوز لأحد إنكار القياس لأنه التشبيه بالأمور والتمثيل عليها.
قال أبو عمر بعد حكاية ذلك عنه: ومن القياس المجمع عليه صيد ما عدا الكلب من الجوارح قياسا على الكلاب بقوله: * (وما علمتم من الجوارح مكلبين) *، وقال
عز وجل: * (والذين يرمون المحصنات) * فدخل في ذلك المحصنون قياسا. وكذلك قوله في الإماء * (فإذآ أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) * فدخل في ذلك العبد قياسا عند الجمهور إلا من شذ ممن لا يكاد يعد قوله خلافا. وقال في جزاء الصيد المقتول في الإحرام: * (ومن قتله منكم متعمدا) * فدخل فيه قتل الخطأ قياسا عند الجمهور إلا من شذ وقال: * (ياأيها الذين ءامنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) * فدخل في ذلك الكتابيات قياسا:
وقال في الشهادة في المداينات: * (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهدآء) * فدخل في معنى إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى قياسا للمواريث والودائع والغصوب وسائر الأموال. وأجمعوا على توريث البنتين الثلثين قياسا على الأختين. وقال عمن أعسر بما عليه من الربا: * (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) * فدخل في ذلك كل معسر بدين حلال، وثبت ذلك قياسة.
ومن هذا الباب توريث الذكر ضعفي ميراث الأنثى منفردا، وإنما ورد النص في
196

اجتماعهما بقوله: * (يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الا نثيين) *، وقال: * (وإن كانوا إخوة رجالا ونسآء فللذكر مثل حظ الا نثيين) *.
ومن هذا الباب قياس التظاهر بالبنت على التظاهر بالأم فيم لو قال لزوجته: أنت علي كظهر بنتي. وقياس الرقبة في الظهار على الرقبة في القتل بشرط الإيمان. وقياس تحريم الأختين وسائر القرابات من الإماء على الحرائر في الجمع في التسري. قال: وهذ لو تقصيته لطال به الكتاب.
قلت. بعض هذه المسائل فيها نزاع، وبعضها لا يعرف فيها نزاع بين السلف. وقد رام بعض نفاة القياس إدخال هذه المسائل المجمع عليها في العمومات اللفظية، فأدخل قذف الرجال في قذف المحصنات، وجعل المحصنات صفة للفروج لا للنساء. وأدخل صيد الجوارح كلها في قوله: * (وما علمتم من الجوارح) * وقوله: * (مكلبين) * وإن كان من لفظ الكلب فمعناه مغرين لها على الصيد. قاله مجاهد والحسن، وهو رواية عن ابن عباس. وقال أبو سليمان الدمشقي * (مكلبين) * معناه معلمين، وإنما قيل لهم * (مكلبين) * لأن الغالب من صيدهم إنما يكون بالكلاب. وهؤلاء وإن أمكنهم ذلك في بعض المسائل، كما جزموا بتحريم أجزاء الخنزير لدخوله في قوله: * (فإنه رجس) * وأعادوا الضمير إلى المضاف إليه دون المضاف فلا يمكنهم ذلك في كثير من المواضع، وهم يضطرون فيها ولا بد إلى القياس أو القول بما لم يقل به غيرهم ممن تقدمهم. فلا يعلم أحد من أئمة الفتوى يقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن فأرة وقعت بالسمن: (ألقوها وما حولها وكلوه) إن ذلك يختص بالسمن دون سائر الأدهان والمائعات. هذا مما يقطع بأن الصحابة والتابعين وأئمة الفتيا لا يفرقون فيه بين السمن والزيت والشيرج والدبس. كما لا يفرق بين الفأرة والهرة في ذلك.
وكذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الرطب بالتمر، لا يفرق عالم يفهم عن الله رسوله بين ذلك وبين العنب بالزبيب. ومن هذا أن الله سبحانه قال في المطلقة ثلاثا: * (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهمآ أن يتراجعآ إن ظنآ أن يقيما حدود الله) * أي إن طلقها الثاني فلا جناح عليها وعلى الزوج الأول أن يتراجعا. والمراد به تجديد العقد، وليس ذلك مختصا بالصورة التي يطلق فيها الثاني فقط، بل متى تفارقا بموت أو خلع أو فسخ أو طلاق حلت للأول قياسا على الطلاق.
197

ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تأكلوا في آنية الذهب والفضة ولا تشربوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة). وقوله: (الذي يشرب في آنية الذهب والفضة: إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) وهذا التحريم لا يختص بالأكل والشرب، بل يعم سائر وجوه الانتفاع، فلا يحل له أن يغتسل بها، ولا يتوضأ بها، ولا يكتحل منها وهذا أمر لا يشك فيه عالم.
ومن ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم المحرم عن لبس القميص والسراويل والعامة والخفين، ولا يختص ذلك بهذه الأشياء فقط، بل يتعدى النهي إلى الجباب والأقبية والطيلسان والقلنسوة، وما جرى مجرى ذلك من الملبوسات.
ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار) فلو ذهب معه بخرقة تنظيف أكثر من الأحجار، أو بطن أو صوف أو خز ونحو ذلك جاز. وليس للشارع غرض في غير التنظيف والإزالة، فما كان أبلغ في ذلك كان مثل الأحجار في الجواز أو أولى.
ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى أن يبيع الرجل على بيع أخيه أو يخطب على خطبته). معلوم أن المفسدة التي نهى عنها في البيع والخطبة موجودة في الإجارة. فلا يحل له أن يؤجر على إجارته. وإن قدر دخول الإجارة في لفظ البيع العام وهو بيع المنافع فحقيقتها غير حقيقة البيع، وأحكامها غير أحكامه.
ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى في آية التيمم: * (وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من الغائط أو لامستم النسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا) * فألحقت الأمة أنواع الحدث الأصغر على اختلافها في نقضها بالغائط. والآية لم تنص من أنواع الحدث الأصغر إلا عليه وعلى اللمس، على قول من فسره بما دون الجماع. وألحقت الاحتلام بملامسة النساء، وألحقت واجد ثمن الماء بواجده. وألحقت من خاف على نفسه أو بهائمه من العطش إذا توضأ بعادم الماء. فجوزت له التيمم وهو واجد للماء. وألحقت من خشي المرض من شدة برد الماء بالمريض في العدول عنه إلى البدل. وإدخال هذه الأحكام وأمثالها في العمومات المعنوية التي لا يستريب من له فهم عن الله ورسوله في قصد عمومها وتعليق الحكم به، وكونه متعلقا بمصلحة العبد أولى من إدخالها في عمومات لفظية بعيدة التناول لها ليست بحرية الفهم
198

مما لا ينكر تناول العموميين لها. فمن الناس من يتنبه لهذا، ومنهم من يتفطن لتناول العموميين لها.
ومن ذلك قوله تعالى: * (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة) * قاست الأمة الرهن في الحضر على الرهن في السفر مع وجود الكاتب على الرهن مع عدمه. فإن استدل على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه في الحضر فلا عموم في ذلك. فإنما رهنها على شعير استقرضه من يهودي فلا بد من القياس: إما على الآية، وإما على السنة.
ومن ذلك أن سمرة بن جندب لما باع خمر أهل الذمة وأخذ ثمنها في العشور التي عليهم. فبلغ ذلك عمر قال: قاتل الله سمرة؟ أما علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجعلوها وباعوها وأكلوا أثمانها) وهذا محض القياس من عمر رضي الله عنه. فإن تحريم الشحوم على اليهود كتحريم الخمر على المسلمين. وكما يحرم ثمن الشحوم المحرمة فكذلك يحرم ثمن الخمر الحرام.
ومن ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم جعلوا العبد على النصف من الحر في النكاح والطلاق والعدة، قياسا على ما نص الله عليه من قوله: * (فإذآ أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) * ثم ذكر رحمه الله آثارا دالة على أن الصحابة جعلوا العبد على النصف من الحر فيما ذكر قياسا على ما نص الله عليه من تنصيف الحد على الأمة.
ومن ذلك توريث عثمان بن عفان رضي الله عنه المبتوتة في مرض الموت برأيه، ووافقه الصحابة على ذلك.
ومن ذلك قول ابن عباس رضي الله عنهما في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه، قال: أحسب كل شيء بمنزلة الطعام.
ومن ذلك أن عمر وزيدا رضي الله عنهما لما قالا: إن الأم ترث ما بقي بعد أحد الزوجين في مسألة زوج أو زوجة مع الأبوين، قاسا وجود أحد الزوجين مع الأبوين على ما إذا لم يكن هناك زوج ولا زوجة، فإنه حينئذ يكون للأب ضعف ما للأم، فقدرا أن الباقي بعد الزوج أو الزوجة كل المال. وهذا من أحسن القياس. فإن قاعدة الفرائض: أن الذكر والأنثى إذا اجتمعا وكانا في درجة واحدة، فإما أن يأخذ الذكر ضعف ما تأخذه الأنثى
199

كالأولاد وبني الأب، وإما أن تساويه كولد الأم. وأما أن الأنثى تأخذ ضعف ما يأخذ مع مساواته لها في درجته فلا عهد به في الشريعة. فهذا من أحسن الفهم عن الله ورسوله.
ومن ذلك أخذ الصحابة رضي الله عنهم في الفرائض بالعول، وإدخال النقص على جميع ذوي الفرائض قياسا على إدخال النقص على الغرماء إذا ضاق مال المفلس عن توفيتهم. ولا شك أن العول الذي أخذ به الصحابة رضي الله عنهم أعدل من توفية بعض المستحقين حقه كاملا ونقص بعضهم بعض حقه، فهذا ظلم لا شك فيه، وأمثال هذا كثيرة، فلو تقصيناها لطال الكلام جدا. وهذه الوقائع التي ذكرنا وأمثالها مما لم نذكر تدل دلالة قطعية على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستعملون القياس في الأحكام، ويعرفونها بالأمثال والأشباه والنظائر، ولا يلتفت إلى من يقدح في كل سند من أسانيدها، فإنها في كثرة طرقها واختلاف مخارجها وأنواعها جارية مجرى التواتر المعنوي الذي لا شك فيه وإن لم يثبت كل فرد فرد من الإخبار بها كما هو معروف في أصول الفقه وعلى الحديث.
المسألة الخامسة
اعلم أن القياس جاءت على منعه في الجملة أدلة كثيرة، وبها تمسك الظاهرية ومن تبعهم، وسنذكر هنا إن شاء الله جملا وافية من ذلك ثم نبين الصواب فيه إن شاء الله تعالى.
قالوا: فمن ذلك قوله تعالى: * (فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الا خر) * وأجمع المسلمون على أن الرد إلى الله سبحانه هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه هو الرد إليه في حضوره وحياته، وإلى سنته في غيبته وبعد مماته، والقياس ليس بهذا ولا هذا، ولا يقال الرد إلى القياس هو من الرد إلى الله ورسوله. لدلالة الكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام كما تقدم تقريره. لأن الله سبحانه إنما ردنا إلى كتابه وسنة رسوله، ولم يردنا إلى قياس عقولنا وآرائنا فقط. بل قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (وأن احكم بينهم بمآ أنزل الله) *، وقال: * (إنآ أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بمآ أراك الله) * ولم يقل بما رأيت أنت. وقال: * (ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولائك هم الكافرون) *، * (ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولائك هم الظالمون) *،
200

* (ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولائك هم الفاسقون) *، وقال تعالى: * (اتبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم) *، وقال تعالى: * (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شىء) *، وقال: * (أولم يكفهم أنآ أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن فى ذالك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون) *، وقال: * (قل إن ضللت فإنمآ أضل على نفسى وإن اهتديت فبما يوحى إلى ربى) * فلو كان القياس هدى لم ينحصر الهدى في الوحي. وقال: * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) * فنفي الإيمان حتى يوجد تحكيمه وحده، وهو تحكيمه في حال حياته وتحكم سنته فقط بعد وفاته، وقال تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا لا تقدموا بين يدى الله ورسوله) * أي لا تقولوا حتى يقول: قال نفاة القياس: والإخيار عنه بأنه حرم ما سكت عنه، أو أوجبه قياسا على ما تكلم بتحريمه أو إيجابه تقدم بين يديه. فإنه إذا قال: حرمت عليكم الربا في البر، فقلنا: ونحن نقيس على قولك البلوط، فهذا محض التقدم، قالوا: وقد حرم سبحانه أن نقول عليه ما لا نعلم. فإذا قلنا ذلك فقد واقعنا هذا المحرم يقينا، فإنا غير عالمين بأنه أراد من تحريم الربا في الذهب والفضة تحريمه في القديد من اللحوم، وهذا قفو منا ما ليس لنا به علم، وتعد لما حد لنا ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه. والواجب أن نقف عند حدوده، ولا نتجاوزها ولا نقصر بها. ولا يقال: فإبطال القياس وتحريمه والنهي عنه تقدم بين يدي الله ورسوله، وتحريم لما لم ينص على تحريمه، وقفو منكم لما ليس لكم به علم. لأنا نقول: الله سبحانه وتعالى أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا، وأنزل علينا كتابه، وأرسل إلينا رسوله يعلمنا الكتاب
والحكمة. فما علمناه وبينه لنا فهو من الدين، وما لم يعلمناه ولا بين لنا أنه من الدين فليس من الدين ضرورة، وكل ما ليس من الدين فهو باطل، فليس بعد الحق إلا الضلال. وقال تعالى: * (اليوم أكملت لكم دينكم) * فالذي أكمله الله سبحانه، وبينه هو ديننا لا دين لنا سواه. فأين فيما أكمله لنا. قيسوا ما سكت عنه على ما تكلمت بإيجابه أو تحريمه أو إباحته، سواء كان الجامع بينهما علة أو دليل علة، أو وصفا شبيها. فاستعملوا ذلك كله، وانسبوه إلي وإلى رسولي وإلى ديني، وأحكموا به علي.
قالوا: وقد أخبر سبحانه أن الظن لا يغني من الحق شيئا، وأخبر رسوله (أن الظن أكذب الحديث) ونهى عنه، ومن أعظم الظن ظن القياسيين. فإنهم ليسوا على يقين أن الله سبحانه وتعالى حرم بيع السمسم بالشيرج، والحلوى بالعنب، والنشا بالبر، وإنما هي
201

ظنون مجردة لا تغني من الحق شيئا.
قالوا: وإن لم يكن قياس الضراط على السلام عليكم من الظن الذي نهينا عن اتباعه وتحكيمه، وأخبرنا أنه لا يغني من الحق شيئا فليس في الدنيا ظن باطل. فأين الضراط من السلام عليكم. وإن لم يكن قياس الماء الذي لاقى الأعضاء الطاهرة الطيبة عند الله في إزالة الحدث على الماء الذي لاقى أخبث العذرات والميتات والنجاسات ظنا. فلا ندري ما الظن الذي حرم الله سبحانه القول به، وذمه في كتابه، وسلخه من الحلق، وإن لم يكن قياس أعداء الله ورسوله من عباد الصلبان واليهود الذين هم أشد الناس عداوة للمؤمنين على أوليائه وخيار خلقه، وسادات الأمة وعلمائها وصلحائها في تكاثر دمائهم وجريان القصاص بينهم ظنا. فليس في الدنيا ظن يذم اتباعه.
قالوا من العجب أنكم قستم أعداء الله على أوليائه في جريان القصاص بينهم، فقتلتم ألف ولي لله تعالى قتلوا نصرانيا واحدا، ولم تقيسوا من ضرب رجلا بدبوس فنثر دماغه بين يديه على من طعنه بمسلة فقتله.
قالوا: وسنبين لكن من تناقض أقيستكم واختلافها رشدة اضطرابها ما يبين أنها من عند غير الله. قالوا: والله تعالى لم يكل بيان شريعته إلى آرائنا وأقيستنا واستنباطنا، وإنما وكلها إلى رسوله المبين عنه، فما بينه عنه وجب اتباعه، وما لم يبينه فليس من الدين، ونحن نناشدكم الله هل اعتمادكم في هذه الأقيسة الشبيهة والأوصاف الحدسية التخمينية على بيان الرسول، أو على آراء الرجال، وظنونهم وحدسهم. قال الله تعالى: * (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) * فأين بين النبي صلى الله عليه وسلم؟ إني إذا حرمت شيئا أو أوجبته أو أبحته، فاستخرجوا وصفا ما شبيها جامعا بين ذلك وبين جميع ما سكت عنه فألحقوه به وقيسوه عليه. قالوا: والله تعالى قد نهى عن ضرب الأمثال له، فكما لا تضرب له الأمثال لا تضرب لدينه، وتمثيل ما لم ينص على حكمه بما نص عليه لشبه ما ضرب الأمثال لدينه. قالوا: وما ضربه الله ورسوله من الأمثال فهو حق، خارج عما نحن بصدده من إثباتكم الأحكام بالرأي والقياس من غير دليل من كتاب ولا سنة. وذكروا شيئا كثيرا من الأمثال التي ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم معترفين بأنها حق. قالوا: ولا تفيدكم في محل النزاع، قالوا: فالأمثال التي ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هي لتقريب المراد، وتفهيم المعنى وإيصاله إلى ذهن السامع. وإحضاره في نفسه بصورة المثال الذي مثل به. فإنه قد يكون أقرب إلى
202

تعقله وفهمه، وضبطه واستحضاره له باستحضار نظيره. فإن النفس تأنس بالنظائر والأشباه الأنس الظتام، وتنفر من الغربة والوحدة وعدم النظير. ففي الأمثال من تأنيس النفس وسرعة قبولها وانقيادها لما ضرب لها مثله من الحق أمر لا يجحده أحد ولا ينكره. وكلما ظهرت لها الأمثال ازداد المعنى ظهورا ووضوحا. فالأمثال شواهد المعنى المراد، وتزكية له. وهي كزرع أخرج شطأة فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه، وهي خاصة العقل ولبه وثمرته، ولكن أين في الأمثال التي ضربها الله ورسوله على هذا الوجه؟ فهمنا أن الصداق لا يكون أقل من ثلاثة دراهم أو عشرة، قياسا وتمثيلا على أقل ما يقطع فيه السارق. هذا بالألغاز والأحاجي أشبه منه بالأمثال المضروبة للفهم. كما قال الإمام الحديث محمد بن إسماعيل البخاري في جامعه الصحيح: (باب من شبه أصلا معلوما بأصل مبين قد بين الله حكمهما ليفهم السامع).
قالوا: فنحن لا ننكر هذه الأمثال التي ضربها الله ورسوله، ولا نجهل ما أريد بها، وإنما ننكر أن يستفاد وجوب الدم على من قطع من جسده أو رأسه ثلاث شعرات أو أربعا من قوله تعالى: * (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) * وأن الآية تدل على ذلك. وأن قوله صلى الله عليه وسلم في صدقة الفطر: صاع من تمر أوصاع من شعير أو صاع من أقط أو صاع من بر أو (صاع من زبيب) يفهم منه أنه لو أعطى صاعا من إهليج جاز، وأنه يدل على ذلك بطريق التمثيل والاعتبار. وأن قوله صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش) يستفاد منه ومن دلالته أنه لو قال الولي بحضرة الحاكم: زوجتك ابنتي وهو بأقصى الشرق وهي بأقصى الغرب، فقال: قبلت هذا التزويج وهي طالق ثلاثا، ثم جاءت بعد ذلك يولد لأكثر من ستة أشهر أنه ابنه، وقد صارت فراشا بمجرد قبوله قبلت هذا التزويج، ومع هذا لو كانت له سرية يطؤها ليلا ونهارا لم تكن فراشا له ولو أتت بولد لم يلحقه نسبه إلا أن يدعيه ويستلحقه، فإن لم يستلحقه فليس بولده؟.
وأين يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم: (إن في قتل الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل) أنه لو ضربه بحجر المنجنيق أو بكور الحداد أو بمرازب الحدد العظام، حتى خلط دماغه بلحمه وعظمه أن هذا خطأ شبه عمد لا يوجب تودا.
وأين يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن لم يكن له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام إن يخطيء في العفو خير له من أن يخطيء في العقوبة)
203

أن من عقد على أمه أو ابنته أو أخته ووطئها فلا حد عليه. وأن هذا المفهوم من قوله (ادرءوا الحدود بالشبهات) فهذا في معنى الشبهة التي تدرأ بها الحدود، وهي
الشبهة في المحل أو في الفاعل أو في الاعتقاد. ولو عرض هذا على فهم من فرض من العالمين لم يفهمه من هذا اللفظ بوجه من الوجوه. وأن من يطأ خالته أو عمته بملك اليمين فلا حد عليه مع علمه بأنها خالته أو عمته وتحريم الله لذلك، ويفهم هذا من (ادرءوا الحدود بالشبهات)، وأضعاف أضعاف هذا مما لا يكاد ينحصر.
قالوا: فهذا التمثيل والتشبيه هو الذي ننكره، وننكر أن يكون في كلام الله ورسوله دلالة على فهمه بوجه ما.
قالوا: ومن أين يفهم من قوله: * (وإن لكم فى الا نعام لعبرة) *، ومن قوله: * (ياأولى) * تحريم بيع الكشك باللبن. وبيع الخل بالعنب، ونحو ذلك. قالوا: وقد قال تعالى: * (وما اختلفتم فيه من شىء فحكمه إلى الله) * ولم يقل إلى قياساتكم وآرائكم. ولم يجعل الله آراء الرجال وأقيستها حاكمة بين الأمة أبدا.
قالوا: وقد قال تعالى: * (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) * فإنما منعهم من الخيرة عند حكمه وحكم رسوله. لا عند آراء الرجال وأقيستهم وظنونهم.
وقد أمر سبحانه رسوله باتباع ما أوحاه إليه خاصة، وقال: * (إن أتبع إلا ما يوحى إلى) *، وقال: * (وأن احكم بينهم بمآ أنزل الله) *، وقال تعالى: * (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) * قالوا: فدل هذا النص على أن ما لم يأذن به الله من الدين فهو شرع غيره بالباطل.
قالوا: وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى: أن كل ما سكت عن إيجابه أو تحريمه فهو عفو عفا عنه لعباده، مباح إباحة العفو، فلا يجوز تحريمه ولا إيجابه قياسا على ما أوجبه أو حرمه بجامع بينهما، فإن ذلك يستلزم رفع هذا القسم بالكلية وإلغاءه، إذا المسكوت عنه لا بد أن يكون بينه وبين المحرم شبه ووصف جامع، وبينه وبين الواجب. فلو جاز إلحاقه به لم يكن هناك قسم قد عفا عنه. ولم يكن ما سكت عنه قد عفا عنه بل يكون ما سكت عنه قد حرمه قياسا على ما حرمه، وهذا لا سبيل إلى دفعه، وحينئذ فيكون
204

تحريم ما سكت عنه تبديلا لحكمه. وقد ذم الله تعالى من بدل غير القول الذي أمر به فمن بدل غير الحكم الذي شرع له فهو أولى بالذم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من أعظم المسلمين في المسلمين جرما: من سأل عن شيء لم يحرم فحرم على الناس من أجل مسألته) فإذا كان هذا فيمن تسبب إلى تحريم الشارع صريحا بمسألته عن حكم ما سكت عنه، فكيف بمن حرم المسكوت عنه بقياسه ورأيها! يوضحه أن المسكوت عنه لما كان عفوا عفا الله لعباده عنه، وكان البحث عنه سببا لتحريم الله إياه لما فيه من مقتضى التحريم لا لمجرد السؤال عن حكمه، وكان الله قد عفا عن ذلك وسامح به عباده كما يعفو عما فيه مفسدة من أعمالهم وأقوالهم. فمن المعلوم أن سكوته عن ذكر لفظ عام يحرمه يدل على أن عفو منه، فمن حرمه بسؤاله عن علة التحريم وقياسه على المحرم بالنص، كان أدخل في الذم ممن سأله عن حكمه لحاجته إليه، فحرم من أجل مسألته، بل كان الواجب عليه ألا يبحث عنه. ولا يسأل عن حكمه اكتفاء بسكوت الله عن عفوه عنه. فهكذا الواجب عليه ألا يحرم المسكوت عنه بغير النص الذي حرم أصله الذي يلحق به.
قالوا: وقد دل على هذا كتاب الله حيث يقول: * (ياأيها الذين ءامنوا لا تسألوا عن أشيآء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرءان تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين) *. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين من قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استعطتم) فأمرهم أن يتركوه من السؤال ما تركهم. ولا فرق في هذا بين حياته وبين مماته. فنحن مأمورون أن نتركه صلى الله عليه وسلم وما نص عليه، فلا نقول له لم حرمت كذا لنلحق به ما سكت عنه بل هذا أبلغ في المعصية من أن نسأله عن حكم شيء لم يحكم فيه فتأمله فإنه واضح، ويدل عليه قوله في نفس الحديث: (وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم) فجعل الأمور ثلاثة لا رابع لها: (مأمور به) فالفرض عليهم فعله بحسب الاستطاعة (ومنهي عنه) فالفرض عليهم اجتنابه بالكلية. (ومسكوت عنه) فلا يتعرض للسؤال والتفتيش عليه.
وهذا حكم لا يختص بحياته فقط، ولا يخص الصحابة دون من بعدهم، بل فرض علينا نحن امتثال أمره، واجتناب نهيه، وترك البحث والتفتيش عما سكت عنه. وليس ذلك الترك جهلا وتجهيلا لحكمه، بل إثبات لحكم العفو وهي الإباحة العامة، ورفع الحرج عن فاعله.
205

فقد استوعب الحديث أقسام الدين كلها، فإنها: إما واجب، وإما حرام، وإما مباح. والمكروه والمستحب فرعان على هذه الثلاثة غير خارجين عن المباح. وقد قال تعالى: * (فإذا قرأناه فاتبع قرءانه ثم إن علينا بيانه) * فوكل بيانه إليه سبحانه لا إلى القياسيين والآرائيين.
وقال تعالى: * (قل أرأيتم مآ أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على الله تفترون) * فقسم الحكم إلى قسمين: قسم أذن فيه وهو الحق، وقسم افترى عليه وهو ما لم يأذن فيه. فأين إذا لنا أن نقيس البلوط على التمر في جريان الربا فيه، وأن نقيس القزدير على الذهب والفضة، والخردل على البر: فإن كان الله ورسوله وصانا بهذا فسمعا وطاعة لله ورسوله، وإلا فإنا قائلون لمنازعينا * (أم كنتم شهدآء إذ وصاكم الله بهاذا) * فما لم تأتونا به وصية من عند الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فهو عين الباطل، وقد أمرنا الله برد ما تنازعنا فيه إليه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فلم يبح لنا قط أن نرد ذلك إلى رأي ولا قياس، ولا تقليد إمام ولا منام، ولا كشوف ولا إلهام، ولا حديث قلب ولا استحسان، ولا معقول ولا شريعة الديوان، ولا سياسة الملوك، ولا عوائد الناس التي ليس على شرائع المرسلين أضر منها. فكل هذه طواغيتا من تحاكم إليها أو دعا منازعه إلى التحاكم إليها فقد حاكم إلى الظاغوتا وقال تعالى: * (فلا تضربوا لله الا مثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون) *.
قالوا: ومن تأمل هذه الآية حق التأمل تبين له أنها نص على إبطال القياس وتحريمه، لأن القياس كله ضرب الأمثال للدين وتمثيل ما لا نص فيه بما فيه نص. ومن مثل
ما لم ينص الله سبحانه على تحريمه أو إيجابه بما حرمه أو أوجبه فقد ضرب لله الأمثال، ولو علم سبحانه أن الذي سكت عنه مثل الذي نص عليه لأعلمنا بذلك، ولما أغفله سبحانه، وما كان ربك نسيا وليبين لنا ما نتقي كما أخبر عن نفسه بذلك إذ يقول سبحانه: * (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) *. ولما وكله إلى آرائنا ومقابيسنا التي ينقض بعضها بعضا، فهذا يقبس ما يذهب إليه على ما يزعم أنه نظيره، فيجيىء منازعه فيقيس ضد قياسه من كل وجه، ويبدى من الوصف الجامع مثل ما أبداه منازعه أو أظهر منه، ومحال أن يكون القياسان معا من عند الله، وليس أحدهما أولى من الآخر فليسا من عنده، وهذا وحده كاف في إبطال القياس، وقد قال
206

تعالى: * (ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) *، وقال: * (لتبين للناس ما نزل إليهم) *. فكل ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن ربه سبحانه، بينه بأمره وإذنه. وقد علمنا يقينا وقوع اسم في اللغة على مسماه فيها، وأن اسم البر لا يتناول الخردل، واسم التمر لا يتناول البلوط، واسم الذهب والفضة لا يتناول القزدير، وأن تقدير نصاب السرقة لا يدخل فيه تقدير المهر، وأن تحريم أكل الميتة لا يدل على أن المؤمن الطيب عند الله حيا وميتا إذا مات صار نجسا خبيثا. وأن هذا عن اللسان الذي ولاه الله رسوله وبعثه به أبعد شيء وأشده منافاة له. فليس هو مما بعث به الرسول قطعا، فليس إذا من الدين. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم) ولو كان الرأي والقياس خيرا لهم لدلهم عليه، وأرشدهم إليه) ولقال لهم إذا أوجبت عليكم شيئا أو حرمته فقيسوا عليه ما كان بينه وصف جامع، أو ما أشبهه. أو قال ما يدل على ذلك أو يستلزمه، ولما حذرهم من ذلك أشد الحذر. وقد أحكم اللسان كل اسم على مسماه لا على غيره. وإنما بعث الله سبحانه محمدا صلى الله عليه وسلم بالعربية التي يفهمها العرب من لسانها، فإذا نص سبحانه في كتابه أو نص رسوله على اسم من الأسماء، وعلق عليه حكما من الأحكام وجب ألا يوقع ذلك الحكم إلا على ما اقتضاه ذلك الاسم، ولا يتعدى به الوضع الذي وضعه الله ورسوله فيه، ولا يخرج عن ذلك الحكم شيء، مما يقتضيه الاسم، فالزيادة عليه زيادة في الدين، والنقص منه نقص في الدين. فالأول القياس، والثاني التخصيص الباطل، وكلاهما ليس من الدين. ومن لم يقف مع النصوص فإنه تارة يزيد في النص ما ليس منه، ويقول هذا قياس. ومرة ينقص منه بعض ما يقتضيه ويخرجه عن حكمه ويقول هذا تخصيص. ومرة يترك النص جملة ويقول ليس العمل عليه. أو يقول هذا خلاف القياس، أو خلاف الأصول.
قالوا: ولو كان القياس من الدين لكان أهله أتبع الناس للأحاديث، وكان كلما توغل فيه الرجل كان أشد اتباعا للأحاديث والآثار. قالوا: ونحن نرى أن كلما اشتد توغل الرجل فيه اشتدت مخالفته للسنن ولا ترى خلاف السنن والآثار إلا عند أصحاب الرأي والقياس. فلله كم من سنة صحيح صريحة قد عطلت به، وكم من أثر درس حكمه بسببه فالسنن والآثار عند الآرائيين والقياسيين خلوية على عروشها، معطلة أحكامها، معزولة عن سلطانها وولايتها، لها الاسم ولغيرها الحكم، لها السكة والخطبة ولغيرها الأمر والنهي. وإلا فلماذا ترك حديث العرايا، وحديث قسم الابتداء، وأن للزوجة حق العقد سبع ليال إن
207

كانت بكرا، أو ثلاثا إن كانت ثيبا. ثم يقسم بالسوية، وحديث تغريب الزاني غير المحصن، وحديث الاشتراط في الحج، وجواز التحلل بالشرط، وحديث المسح على الجوربين، وحديث عمران بن حصين وأبي هريرة في أن كلام الناس والجاهل لا يبطل الصلاة، وحديث دفع اللقطة إلى من جاء فوصف وعاءها ووكاءها وعفاصها، وحديث المصراة. وحديث القرعة بين العبيد إذا أعتقوا في المرض ولم يحملهم الثلث. وحديث خيار المجلس. وحديث إتمام الصوم لمن أكله ناسا. وحديث إتمام الصبح لمن طلعت عليه فالشمس وقد صلى منها ركعة. وحديث الصوم عن الميت. وحديث الحج عن المريض المأيوس من برئه. وحديث الحكم بالقافة. وحديث (من وجد متاعه عند رجل قد أفلس). وحديث النهي عن بيع الرطب بالتمر. وحديث بيع المدبر. وحديث القضاء بالشاهد مع اليمين، وحديث (الولد للفراش إذا كان من أمة) وهو سبب الحديث تخيبر الغلام بين أبويه إذا افترقا. وحديث قطع السارق في ربع دينار. وحديث رجم الكتابيبن في الزنى، وحديث (من تزوج امرأة أبيه أمر بضرب عنقه وأخذ ماله)، وحديث (لا يقتل مؤمن بكافر)، وحديث (لعن الله المحلل والمحلل له) وحديث (لا نكاح إلا بولي) وحديث (المطلقة ثلاثا لا سكنى لها ولا نفقة)، وحديث عتق صفية وجعل عتقها صداقها، وحديث (اصدقوا ولو خاتما من حديد)، وحديث (إباحة لحوم الخيل)، وحديث (كل مسكر حرام)، وحديث (ليس فيها دون خمسة أوسق صداقة). وحديث المزارعة والمساقاة، وحديث (ذكاة الجنين ذكاة أمه) وحديث (الرهن مركوب ومحلوب)، وحديث النهي عن تخليل الخمر، وحديث قسمة الغنيمة (للراجل سهم وللفارس ثلاثة)، وحديث (لا تحرم المصة والمصتان)، وأحاديث حرمة المدينة، وحديث إشعار الهدى وحديث (إذا لم يجد المحرم الإزار فليلبس السراويل)، وحديث الوضوء من لحوم الإبل، وأحاديث المسح على العمامة، وحديث الأمر بإعادة الصلاة لمن صلى خلف الصف وحده، وحديث السراويل، وحديث منع الرجل من تفضيل بعض ولده على بعض. وأنه جور لا تجوز الشهادة عليه، وحديث (أنت ومالك لأبيك) وحديث (من دخل والإمام يخطب يصلي تحية المسجد)، وحديث الصلاة على الغائب، وحديث الجهر ب (آمين) في الصلاة، وحديث جواز رجوع الأب فيما وهبه لولده ولا يرجع غيره، وحديث (الكلب الأسود يقطع الصلاة) وحديث الخروج إلى العيد من الغد إذا علم بالعيد بعد الزوال، وحديث نضج بول الغلام الذي لم يأكل الطعام، وحديث الصلاة على
208

القبر، وحديث (من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته)، وحديث بيع جابر بعيره واشتراط ظهره، وحديث النهي عن جلود السباع، وحديث (لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره)، وحديث (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج)، وحديث (من باع عبدا وله مال فما له للبائع) وحديث (إذا أسلم وتحته أختان اختار أيتهما شاء)، وحديث الوتر على الراحلة، وحديث (كل ذي ناب من السباع حرام)، وحديث (من السنة وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة، وحديث (لا تجزىء صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه من ركوعه وسجوده)، وأحاديث رفع اليدين في الصلاة عند الركوع والرفع منه،
وأحاديث الاستفتاح، وحديث: كان النبي صلى الله عليه وسلم سكتتان في الصلاة، وحديث (تحريمها التكبير وتحليلها التسليم)، وحديث حمل الصبية في الصلاة، وأحاديث القرعة، وأحاديث العقيقة، وحديث (لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذنك)، وحديث (أيدع يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحل)، وحديث (إن بلالا يؤذن بليل)، وحديث النهي عن صوم يوم الجمعة، وحديث النهي عن الذبح بالسن والظفر، وحديث صلاة الكسوف والاستسقاء، وحديث النهي عن عسيب الفحل، وحديث (المحرم إذا مات لم يخمر رأسه، ولم يقرب طيبا) إلى أضعاف ذلك من الأحاديث التي كان تركها من أجل القول بالقياس والرأي.
فلو كان القياس حقا لكان أهله أتبع الأمة للأحاديث، ولا حفظ لهم ترك حديث واحد إلا لنص ناسخ له: فحيث رأينا كل من كان أشد توغلا في القياس والرأي كان أشد مخالفة للأحاديث الصحيحة الصريحة علمنا أن القياس من عند الله لطابق السنة أعظم مطابقة، ولم يخالف أصحاب حديثا واحدا منها، ولكانوا أسعد بها من أهل الحديث. فليروا أهل الحديث والأثر حديثا واحدا صحيحا قد خالفوه. كما أريناهم آنفا ما خالفوه من السنة بجريرة القياس.
قالوا: وقد أخذ الله الميثاق على أهل الكتاب وعلينا بعدهم: ألا تقول على الله إلا بالحق. فلو كانت هذه الأقيسة المتعارضة المتناقضة التي ينقض بعضها بعضا بحيث لا يدري الناظر فيها أيها الصواب حقا لكانت متفقة بصدق بعضها بعضا كالسنة التي يصدق بعضها بعضا، وقال تعالى: * (ويحق الله الحق بكلماته) * لا بآرئنا ولا مقاييسنا، وقال: * (قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو) * فما لم يقله سبحانه
209

ولا هدى إليه فليس من الحق، وقال تعالى: * (فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهوآءهم) * فقسم الأمور إلى قسمين لا ثالث لهما: اتباع لما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، واتباع الهوى.
قالوا: والرسول صلى الله عليه وسلم لم يدع أمته إلى القياس قط، بل قد صح عنه بأنه أنكر على عمر وأسامة محض القياس في شأن الحلتين اللتين أرسل بهما إليهما فلبسها أسامة قياسا للبس على التملك والانتفاع والبيع، وكسوتها لغيره، وردها عمر قياسا لتملكها على لبسها. فأسامة أباح، وعمر حرم قياسا. فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم كل واحد من القياسين. وقال لعمر: (إنما بعثت بها إليك لتستمتع بها). وقال لأسامة: (إني لم أبعث إليك بها لتلبسها ولكن بعثتها إليك لتشقها خمرا لنسائك)، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما تقدم إليهم في الحرير بالنص على تحريم لبسه فقط. لقاسا قياسا أخطأ فيه. فأحدهما قاس اللبس على الملك، وعمر قاس التملك على اللبس، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أن ما حرمه من اللبس لا يتعدى إلى غيره، وما أباحه من التملك لا يتعدى إلى اللبس.
قالوا: وهذا عين إبطال القياس. وقالوا: وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي ثعلبة الخشني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها)، قالوا: وهذا الخطاب عام لجميع الأمة أولها وآخرها.
قالوا: وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد جيد من حديث سلمان رضي الله قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء فقال: (الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرم الله، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه). قالوا: وكل ذلك يدل على أن المسكوت عنه معفو عنه. فلا يجوز تحريمه ولا إيجابه بإلحاقه بالمنطوق به. قالوا: وقال عبد الله بن المبارك: ثنا عيسى بن يونس، عن جرير بن عثمان، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه عن عوض بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بن تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم. فيحلون الحرام ويحرمون الحلال). قال قاسم بن أصبغ: حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي، ثنا نعيم بن حماد، حدثنا عبد الله.. فذكره وهؤلاء كلهم أئمة ثقات حفاظ. إلا جرير بن عثمان فإنه كان منحرفا عن علي رضي الله عنه، ومع ذلك فقد احتج به البخاري في صحيحه، وقد روي عنه أنه تبرأ مما نسب إليه من الانحراف
210

عن علي، ونعيم بن حماد إمام جليل، وكان سيفا على الجهمية، روى عنه البخاري في صحيحه.
قالوا: وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم صحة تقرب من التواتر أنه قال: (ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين من قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم، ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم). وقد قدمنا إيضاح مرادهم بالاستدلال بالحديث.
وقد ذكروا عن الصحابة والتابعين آثارا كثيرة في ذم الرأي والقياس، والتحذير من ذلك. وذلك كثير معروف عن الصحابة فمن بعدهم. وذكروا كثيرا من أقيسة الفقهاء التي يزعمون أنها باطلة، وعارضوها بأقيسة تماثلها في زعمهم. وذكروا أشياء كثيرة يزعمون أن الفقهاء فرقوا فيها بين المجتمع، وجمعوا فيها بين المفترق، إلى غير ذلك من أدلتهم الكثيرة على إبطال الرأي والقياس.
وقد ذكرنا في هذا الكلام جملا وافية من أدلتهم على ذلك بواسطة نقل العلامة ابن القيم رحمه الله في (إعلام الموقعين عن رب العالمين) ولم نتتبع جميع أدلتهم لئلا يؤدي ذلك إلى الإطالة المملة. وقد رأيت فيما ذكرنا حجج القائلين بالقياس والاجتهاد فيما لا نص فيه، وحجج المانعين لذلك.
المسألة السادسة
اعلم أن تحقيق المقام في هذه المسألة التي وقع فيها من الاختلاف ما رأيت أن القياس قسمان: قياس صحيح، وقياس فاسد.
أما القياس الفاسد فهو الذي ترد عليه الأدلة التي ذكرها الظاهرية وتدل على بطلانه، ولا شك أنه باطل، وأنه ليس من الدين كما قالوا، وكما هو الحق.
وأما القياس الصحيح فلا يرد عليه شيء من تلك الأدلة، ولا يناقض بعضه بعضا، ولا يناقض البتة نصا صحيحا من كتاب أو سنة. فكما لا تتناقض دلالة النصوص الصحيحة، فإنه لا تتناقض دلالة الأقيسة الصحيحة، ولا دلالة النص الصريح والقياس الصحيح، بل كلها متصادقة متعاضدة متناصرة، يصدق بعضها بعضا، ويشهد
بعضها لبعض. فلا يناقض القياس الصحيح النص الصحيح أبدا.
وضابط القياس الصحيح هو أن تكون العلة التي علق الشارع بها الحكم وشرعه
211

من أجلها موجودة بتمامها في الفرع من غير معارض في الفرع يمنع حكمها فيه. وكذلك القياس المعروف ب (القياس في معنى الأصل) الذي هو الإلحاق بنفي الفارق المؤثر في الحكم. فمثل ذلك لا تأتي الشريعة بخلافه، ولا يعارض نصا، ولا يتعارض هو في نفسه. وسنضرب لك أمثلة من ذلك. تستدل بها على جهل الظاهرية القادح الفاضح، وقولهم على الله وعلى رسوله وعلى دينه أبطل الباطل، الذي لا يشك عاقل في بطلانه، وعظم ضرره على الدين. بدعوى أنهم واقفون مع النصوص، وأن كل ما لم يصرح بلفظه في كتاب أو سنة فهو معفو عنه، ولو صرح بعلة الحكم المشتملة على مقصود الشارع من حكمة التشريع، فأهدروا المصالح المقصودة من التشريع.
وقالوا على الله ما يقتضي أنه يشرع المضار الظاهرة لخلقه. فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي بكرة رضي الله عنه: من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان) فالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح نهى عن الحكم في وقت الغضب، ولا يشك عاقل أنه خص وقت الغضب بالنهي دون وقت الرضا. لأن الغضب يشوش الفكر فيمنع من استيفاء النظر في الحكم. فيكون ذلك سببا لضياع حقوق المسلمين. فيلزم على قول الظاهرية كما قدمنا إيضاحه: أن النهي يختص بحالة الغضب ولا يتعداها إلى غيرها من حالات تشويش الفكر المانعة من استيفاء النظر في الحكم. فلو كان القاضي في حزن مفرط يؤثر عليه تأثيرا أشد من تأثير الغضب بأضعاف، أو كان في جوع أو عطش مفرط يؤثر عليه أعظم من تأثير الغضب. فعلى قول الظاهرية فحكمه بين الناس في تلك الحالات المانعة من استيفاء النظر في الحكم عفو جائز. لأن الله سكت عنه في زعمهم، فيكون الله قد عفا للقاضي عن التسبب في إضاعة حقوق المسلمين التي نصبه الإمام من أجل صيانتها وحفظها من الضياع، مع أن تنصيص النبي صلى الله عليه وسلم على النهي عن الحكم في حالة الغضب دليل واضح على المنع من الحكم في حالة تشويش الفكر تشويشا كتشويش الغضب أو أشد منه كما لا يخفى على عاقلا! فانظر عقول الظاهرية وقولهم على الله ما يقتضي أنه أباح للقضاة الحكم في حقوق المسلمين في الأحوال المانعة من القدرة على استيفاء النظر في الأحكام، مع نهي النبي صلى الله عليه وسلم الصريح عن ذلك في صورة من صوره وهي الغضب يزعمهم أنهم واقفون مع النصوص. ومن ذلك قوله تعالى: * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهدآء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولائك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذالك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) *
212

فالله جل وعلا في هذه الآية الكريمة نص على أن الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء يجلدون ثمانين جلدة، وترد شهادتهم ويحكم بفسقهم. ثم استثنى من ذلك من تاب من القاذفين من بعد ذلك وأصلح. ولم يتعرض في هذا النص لحكم الذين يرمون المحصنين الذكور.
فيلزم على قول الظاهرية أن من قذف محصنا ذكرا ليس على أئمة المسلمين جلده ولا رد شهادته، ولا الحكم بفسقه. لأن الله سكت عن ذلك في زعمهم، وما سكت عنه فهو عفوا
فانظر عقول الظاهرية، وما يقولون على الله ورسوله من عظائم الأمور، بدعوى الوقوف مع النصا! ودعوى بعض الظاهرية: أن آية * (والذين يرمون المحصنات) * شاملة للذكور بلفظها، بدعوى أن المعنى: يرمون الفروج المحصنات من فروج الإناث والذكور، من تلاعبهم وجهلهم بنصوص الشرع؟ وهل تمكن تلك الدعوى في قوله تعالى: * (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات) *. فهل يمكنهم أن يقولوا إن الفروج هي الغافلات المؤمنات. وكذلك قوله تعالى: * (والمحصنات من النسآء) *. وقوله تعالى: * (محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان) * كما هو واضح؟؟
ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الراكد: فإنه لا يشك عاقل أن علة نهيه عنه أن البول يستقر فيه لركوده فيقذره. فيلزم على قول الظاهرية: أنه لو ملأ آنية كثيرة من البول ثم صبها في الماء الراكد، أو تغوط فيه أن كل ذلك عفو لأنه مسكوت عنه. فيكون الله على قولهم ينهى عن جعل قليل من البول فيه إذا باشر البول فيه، ويأذن في جعل أضعاف ذلك من البول فيه بصبه فيه من الآنية. وكذلك يأذن في التغوط فيها.
وهذا لو صدر من أدنى عاقل لكان تناقضا معيبا عند جميع العقلاء. فكيف بمن ينسب ذلك إلى الله ورسوله عياذا بالله تعالى بدعوى الوقوف مع النصوصا! وربما ظن الإنسان الأجر والقربة فيما هو إلى الإثم والمعصية أقرب. كما قيل: وهذا لو صدر من أدنى عاقل لكان تناقضا معيبا عند جميع العقلاء. فكيف بمن ينسب ذلك إلى الله ورسوله عياذا بالله تعالى بدعوى الوقوف مع النصوصا! وربما ظن الإنسان الأجر والقربة فيما هو إلى الإثم والمعصية أقرب. كما قيل:
* أمنفقة الأيتام من كد فرجها
* لك الويل لا تزني ولا تتصدقي
*
ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن التضحية بالعوراء مع سكوته عن حكم التضحية بالعمياء. فإنه يلزم على قول الظاهرية: أن يناط ذلك الحكم بخصوص لفظ العور خاصة. فتكون
213

العمياء مما سكت الله عن حكم التضحية به فيكون ذلك عفوا. وإدخال العمياء في اسم العوراء لغة غير صحيح. لأن المفهوم من العور غير المفهوم من العمى. لأن العور لا يطلق إلا في صورة فيها عين تبصر. بخلاف العمى فلا يطلق في ذلك. وتفسير العور: بأنه عمى إحدى العينين لا ينافي المغايرة. لأن العمى المقيد بإحدى
العينين غير العمى الشامل للعينين معا. وبالجملة فالمعنى المفهوم من لفظ العور غير المعنى المفهوم من لفظ العمى. فوقوف الظاهرية مع لفظ النص يلزمه جواز التضحية بالعمياء لأنها مسكوت عنها وأمثال هذا منهم كثيرة جدا. وقصدنا التنبيه على بطلان أساس دعواهم، وهو الوقوف مع اللفظ من غير نظر إلى معاني التشريع والحكم والمصالح التي هي مناط الأحكام، وإلحاق النظير بنظيره الذي لا فرق بينه وبينه يؤثر في الحكم.
واعلم أن التحقيق الذي لا شك فيه: أن الله تعالى يشرع الأحكام لمصالح الخلق. فأفعاله وتشريعاته كلها مشتملة على الحكم والمصالح من جلب المنافع، ودفع المضار. فما يزعمه كثير من متأخري المتكلمين تقليدا لمن تقدمهم: من أن أفعاله جل وعلا لا تعلل بالعلل الغائية، زاعمين أن التعليل بالأغراض يستلزم الكمال بحصول الغرض المعلل به، وأن الله جل وعلا منزه من ذلك لاستلزامه النقص كله كلام باطلا ولا حاجة إليه البتة ا لأنه من المعلوم بالضرورة من الدين: أن الله جل وعلا غني لذاته الغني المطلق، وجميع الخلق فقراء إليه غاية الفقر والفاقة والحاجة: * (ياأيها الناس أنتم الفقرآء إلى الله والله هو الغنى الحميد) *، ولكنه جل وعلا يشرع ويفعل لأجل مصالح الخلق المحتاجين الفقراء إليه. لا لأجل مصلحة تعود إليه هو سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
وادعاء كثير من أهل الأصول: أن العلل الشرعية مطلق أمارات وعلامات للأحكام ناشىء عن ذلك الظن الباطل. فالله جل وعلا يشرع الأحكام لأجل العلل المشتملة على المصالح التي يعود نفعها إلى خلقه الفقراء إليه. لا إلى الله جل وعلا * (إن تكفروا أنتم ومن فى الا رض جميعا فإن الله لغنى حميد) *. وقد صرح تعالى وصرح رسوله صلى الله عليه وسلم: بأنه يشرع الأحكام من أجل الحكم المنوطة بذلك التشريع. وأصرح لفظ في ذلك لفظة (من أجل) وقد قال تعالى: * (من أجل ذالك كتبنا على بنى إسراءيل) *، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر).
وقد قدمنا أمثلة متعددة لحروف التعليل في الآيات القرآنية الدالة على العلل الغائية المشتملة على مصالح العباد، وهو أمر معلوم عند من له علم بحكم التشريع الإسلامي.
214

وقال العلامة ابن القيم رحمه الله في (إعلام الموقعين عن رب العالمين) بعد أن ذكر قول من منع القياس مطلقا، وقول من غلا فيه، وذكر أدلة الفريقين ما نصه:
وقال المتوسطون بين الفريقين: قد ثبت أن الله سبحانه قد أنزل الكتاب والميزان. فكلاهما في الإنزال أخوان، وفي معرفة الإحكام شقيقان، وكما لا يتناقض الكتاب في نفسه، فالميزان الصحيح لا يتناقض في نفسه، ولا يتناقض الكتاب والميزان، فلا تتناقض دلالة النصوص الصحيحة ولا دلالة الأقيسة الصحيحة، ولا دلالة النص الصريح والقياس الصحيح. بل كلما متصادقة متعاضدة متناصرة، يصدق بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض. فلا يناقض القياس الصحيح، النص الصحيح أبدا.
ونصوص الشارع نوعان: أخبار، وأوامر، فكما أن أخباره لا تخالف العقل الصحيح، بل هي نوعان: نوع يوافقه ويشهد على ما يشهد به جملة، أو جملة وتفصيلا. ونوع يعجز عن الاستقلال بإدراك تفصيله وإن أدركه من حيث الجملة. فهكذا أوامر سبحانه نوعان: نوع يشهد به القياس والميزان، ونوع لا يستقل بالشهادة به ولكن لا يخالفه
وكما أن القسم الثالث في الأخبار محال وهو ورودها بما يرده العقل الصحيح، فكذلك الأوامر ليس فيها ما يخالف القياس والميزان الصحيح. وهذه الجملة إنما تنفصل بتمهيد قاعدتين عظيمتين.
إحداهما أن الذكر الأمري محيط بجميع أفعال المكلفين أمرا ونهيا، وإذنا وعفوا. كما أن الذكر القدري محيط بجميعها علما وكتابة وقدرا. فعلمه وكتابته وقدره قد أحصى جميع أفعال عباده الواقعة تحت التكليف وغيرها. وأمره نهيه وإباحته وعفوه قد أحاط بجميع أفعالهم التكليفية. فلا يخرج فعل من أفعالهم عن أحد الحكمين: إما الكوني، وإما الشرعي الأمري. فقد بين الله سبحانه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بكلامه وكلام رسوله جميع ما أمر به، وجميع ما نهى عنه، وجميع ما أحله، وجميع ما حرمه، وجميع ما عفا عنه. وبهذا يكون دينه كاملا كما قال تعالى: * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى) * ولكن قد يقصر فهم أكثر الناس عن فهم ما دلت عليه النصوص، وعن وجه الدلالة وموقعها، وتفاوت الأمة في مراتب الفهم عن الله ورسوله لا يحصيه إلا الله جل وعلا. ولو كانت الأفهام متساوية لتساوت أقسام العلماء في العلم، ولما خص سبحانه سليمان بفهم الحكومة في الحرث، وقد أثنى عليه وعلى داود بالحكم والعلم. وقد قال عمر لأبي
215

موسى في كتابه إليه: الفهم الفهم فيما أدلى إليك. وقال علي رضي الله عنه: إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه. وقال أبو سعيد: كان أبو بكر رضي الله عنه: أعلمنا برسول الله صلى الله عليه وسلم. ودعا النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس: (أن يفقهه في الدين ويعلمه التأويل) والفرق بين الفقه والتأويل: أن الفقه هو فهم المعنى المراد والتأويل إدراك الحقيقة التي يؤول إليها المعنى التي هي آخيته وأصله، وليس كل من فقه في الدين عرف التأويل. فمعرفة التأويل يختص بها الراسخون في العلم، وليس المراد به تأويل التحريف وتبديل المعنى، فإن الراسخين في العلم يعلمون بطلانه، والله يعلم بطلانه إلى أن قال رحمه الله:
وكل فرقة من هؤلاء الفرق الثلاث: يعني نفاة القياس بالكلية، والغالين فيه. والقائلين بأن العلل الشرعية أمارات وعلامات فقط، لا مصالح أنيطت بها الأحكام وشرعت من أجلها سدوا على أنفسهم طريقا من طرق الحق. فاضطروا إلى توسعة طريق أخرى أكثر مما تحتمله. فنفاه القياس لما سدوا على نفوسهم باب التمثيل والتعليل، واعتبار الحكم والمصالح، وهو من الميزان والقسط الذي أنزله الله احتاجوا إلى توسعة الظاهر والاستصحاب، فحملوهما فوق الحاجة، ووسعوهما أكثر مما يسعانه. فحيث فهموا من النص حكما أثبتوه ولم يبالوا مما وراءه، وحيث لم يفهموه منه نفوه وحملوا الاستصحاب. وأحسنوا في اعتنائهم بالنصوص ونصرها. والمحافظة عليها، وعدم تقديم غيرها عليها من رأي أو قياس أو تقليد. وأحسنوا في رد الأقيسة الباطلة، وبيانهم تناقض أهلها في نفس القياس، وتركهم له، وأخذوا بقياس تركهم وما هو أولى منه. ولكن أخطؤوا من أربعة أوجه:
أحدها رد القياس الصحيح، ولا سيما المنصوص على علته التي يجري النص عليها مجرى التنصيص على التعميم باللفظ، ولا يتوقف عاقل في أن قول النبي صلى الله
عليه وسلم لما لعن عبد الله خمارا على كثرة شربه للخمر: (لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله) بمنزلة قوله: لا تلعنوا كل من يحب الله ورسوله. وفي قوله: (إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس) بمنزلة قوله: ينهيانكم عن كل رجس. وفي أن قوله تعالى: * (إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس) *: نهى عن كل رجس. وفي أن قوله في الهرة: (ليست بنجس لأنها من الطوافين عليكم والطوافات). بمنزلة قوله: كل ما هو من الطوافين عليكم والطوافات فإنه ليس بنجس، ولا يستريب أحد في أن من قال لغيره: لا تأكل من هذا الطعام فإنه مسموم نهى له عن كل طعام كذلك،
216

وإذا قال: لا تشرب هذا الشراب فإنه مسكر فهو نهي له عن كل مسكر. ولا تتزوج هذه المرأة فإنها فاجرة، وأمثال ذلك الخطأ.
الثاني تقصيرهم في فهم النصوص. فكم من حكم دل عليه النص ولم يفهموا دلالته عليه. وسبب هذا الخطأ حصرهم الدلالة في مجرد ظاهر اللفظ دون إيمائه وتنبيهه، وإشارته وعرفه عند المخاطبين. فلم يفهموا من قوله تعالى: * (فلا تقل لهمآ أف) * ضربا ولا سبا ولا إهانة غير لفظة: (أف) فقصروا في فهم الكتاب كما قصروا في اعتبار الميزان الخطأ.
الثالث تحميل الاستصحاب فوق ما يستحقه، وجزمهم بموجبه لعدم علمهم بالناقل. وليس عدم العلم علما بالعدم.
وقد تنازع الناس في الاستصحاب، ونحن نذكر أقسامه، ثم شرع رحمه الله يبين أقسام الاستصحاب، وقد ذكرنا بعضها في سورة (براءة) وجعلها هو رحمه الله ثلاثة أقسام، وأطال فيها الكلام.
والمعروف في الأصول أن الاستصحاب أربعة أقسام:
الأول استصحاب العدم الأصلي حتى يرد النافل عنه وهو البراءة الأصلية والإباحة العقلية. كقولنا: الأصل براءة الذمة من الدين فلا تعمر بدين إلا بدليل نافل عن الأصل يثبت ذلك. والأصل براءة الذمة من وجوب صوم شهر آخر غير رمضان فيلزم استصحاب هذا العدم حتى يرد ناقل عنه، وهكذا.
النوع الثاني استصحاب الوصف المثبت للحكم حتى يثبت خلافه، كاستصحاب بقاء النكاح وبقاء الملك وبقاء شغل الذمة حتى يثبت خلافه.
الثالث استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع، والأكثر على أن هذا الأخير ليس بحجة. وهو رحمه الله يرى أنه حجة. وكلا الأولين حجة بلا خلاف في الجملة.
الرابع الاستصحاب المقلوب، وقد قدمنا إيضاحه وأمثلته في سورة (التوبة).
الخطأ الرابع لهم هو اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على الباطل حتى يقوم دليل على الصحة، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة شرط أو عقد أو معاملة استصحبوا بطلانه. فأفسدوا بذلك كثيرا من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من الله. بناء على هذا الأصل وجمهور الفقهاء على خلافه، وأن
217

الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه. وهذا القول هو الصحيح. فإن الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم. ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله. كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله: ولا دين إلا ما شرعه الله، فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر. والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم. والفرق بينهما: أن الله سبحانه لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله. فإن العبادة حقه على عباده، وحقه الذي أحقه هو ورضي به وشرعه. وأما العقود والشروط والمعاملات فهي عفو حتى يحرمها، ولذا نعى الله سبحانه على المشركين مخالفة هذين الأصلين: وهو تحريم ما لم يحرمه، والتقرب إليه بما لم يشرعه، وهو سبحانه لو سكت عن إباحة ذلك وتحريمه لكان ذلك عفوا لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله. فإن الحلال ما أحل الله، والحرام ما حرمه الله، وما سكت عنه فهو عفو. فكل شرط وعقد ومعاملة سكت عنها، فإنه لا يجوز القول بتحريمها. فإنه سكت عنها رحمة منه من غير نسيان وإهمال. فكيف وقد صرحت النصوص بأنها على الإباحة فيما عدا ما حرمها وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود والعهود كلها فقال: * (وأوفوا بالعهد) *، وقال: * (ياأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود) *، وقال: * (والذين هم لاماناتهم وعهدهم راعون) *، وقال تعالى: * (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا) *، وقال تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) *، وقال: * (بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين) *، وقال: * (إن الله لا يحب الخائنين) * وهذا كثير في القرآن.
وفي صحيح مسلم من حديث الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر). وفيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من علامات المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان). وفي رواية: إن صام وصلى وزعم أنه مسلم.
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة
218

بقدر غدرته فيقال: هذه غدرة فلان ابن فلان) وفيهما من حديث عقبة بن عن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج). وفي سنن أبي داود عن أبي رافع قال: بعثتني قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأيته ألقي في قلبي الإسلام فقلت: يا رسول الله والله إني لا أرجح إليهم أبدا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البرد، ولكن ارجع فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع) قال: فذهبت ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت. وفي صحيح مسلم عن حذيفة قال: ما منعني أن أشهد بدرا إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل وقال: فأخذنا كفار قريش قالوا: إنكم تريدون محمدا؟ فقلنا: ما نريده. ما نريد إلا المدينة. فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه. فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر فقال: (انصرفا. نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم) إلى آخر كلامه رحمه الله في هذا المبحث. والمقصود عنده دلالة النصوص على الوفاء بالعهود
والشروط، ومنع الإخلاف في ذلك، إلا ما دل عليه دليل خاص، وذلك واضح من النصوص التي ساقها كما ترى.
ثم بين رحمه الله أن المخالفين في ذلك يجيبون عن الحجج المذكورة تارة بنسخها، وتارة بتخصيصها ببعض العهود والشروط، وتارة بالقدح في سند ما يمكنهم القدح فيه، وتارة بمعارضتها بنصوص أخر، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط. كتاب الله أحق وشرط الله أوثق). وكقوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد).
وكقوله تعالى: * (ومن يتعد حدود الله فأولائك هم الظالمون) *. وأمثال ذلك في الكتاب والسنة. قال: وأجاب الجمهور عن ذلك بأن دعوى النسخ والتخصيص تحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه ولا دليل عليها، وبأن القدح في بعضها إلا يقدح في سائرها، ولا يمنع من الاستشهاد بالضعيف وإن لم يكن عمدة لاعتضاده بالصحيح، وبأنها لا تعارض بينها وبين ما عارضوها به من النصوص.
ثم بين أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وما كان من شرط ليس في كتاب الله) أي في حكمه وشرعه، كقوله تعالى: * (كتاب الله عليكم) *، وقوله صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص) في كسر السن. قال: فكتابه سبحانه يطلق على كلامه وعلى حكمه الذي حكم به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أن كل شرط ليس في حكم الله فهو مخالف له، فيكون
219

باطلا. فإذا كان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حكم بأن الولاء للمعتق، فشرط خلاف ذلك يكون شرطا مخالفا لحكم الله. ولكن أين في هذا: أن ما سكت عن تحريمه من العقود والشروط يكون باطلا حراما، وتعدي حدود الله هو تحريم ما أحله، أو إباحة ما حرمه، أو إسقاط ما أوجبه لا إباحة ما سكت عنه، وعفا عنه، بل تحريمه هو نفس تعدي حدوده. إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
ثم بين رحمه الله: أن دلالة النصوص عامة في جميع الأحكام، إلا أن الناس يتفاوتون في ذلك تفاوتا كثيرا. وبين مسائل كثيرة مما فهم فيه بعض الصحابة من النصوص خلاف المراد.
قال: وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على عمر فهمه إتيان البيت الحرام عام الحديبية من إطلاق قوله: (فإنك آتيه ومطوف به) فإنه لا دلالة في هذا اللفظ على تعيين العام الذي يأتونه فيه.
وأنكر على عدي بن حاتم فهمه من الخيط الأبيض والخيط الأسود نفس العقالين.
وأنكر على من فهم من قوله: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة خردلة من كبر) شمول لفظه لحسن الثوب وحسن النعل. وأخبرهم أنه (بطر الحق وغمط الناس). وأنكر على من فهم من قوله: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه. ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه) أنه كراهة الموت، وأخبرهم أن هذا للكافر إذا احتضر وبشر بالعذاب، فإنه حينئذ يكره لقاء الله والله يكره لقاءه. وأن المؤمن إذا احتضر وبشر بكرامة الله أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه.
وأنكر على عائشة إذ فهمت من قوله تعالى: * (فسوف يحاسب حسابا يسيرا) * معارضته لقوله صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عذب). وبين لها أن الحساب اليسير هو العرض، أي حساب العرض لا حساب المناقشة.
وأنكر على من فهم من قوله تعالى: * (من يعمل سوءا يجز به) * أن هذا الجزاء إنما هو في الآخرة، وأنه لا يسلم أحد من عمل السوء. وبين أن هذا هذا الجزاء قد يكون في الدنيا بالهم والحزن، والمرض والنصب، وغير ذلك من مصائبها، وليس في اللفظ تقييد الجزاء بيوم القيامة.
وأنكر على من فهم من قوله تعالى: * (الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولائك لهم الا من وهم مهتدون) * أنه ظلم النفس بالمعاصي، وبين أنه الشرك، وذكر
220

قول لقمان لابنه: * (إن الشرك لظلم عظيم) * وأوضح رحمه الله وجه ذلك بسياق القرآن.
قال: ثم سأله عمر بن الخطاب عن الكلالة وراجعه فيها مرارا فقال: (يكفيك آية الصيف) واعترف عمر رضي الله عنه بأنه خفي عليه فهمها، وفهمها الصديق.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية، ففهم بعض الصحابة من نهيه أنه لكونها لم تخمس. وفهم بعضهمم أن النهي لكونها كانت حمولة القوم وظهرهم. وفهم بعضهم أنه لكونها كانت جوال القرية. وفهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكبار الصحابة ما قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي وصرح بعلته لكونها رجسا.
وفهمت المرأة من قوله تعالى: * (وءاتيتم إحداهن قنطارا) * جواز المغالاة في الصداق، فذكرته لعمر فاعترف به.
وفهم ابن عباس من قوله تعالى: * (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) * مع قوله: * (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) * أن المرأة قد تلد لستة أشهر، ولم يفهمه عثمان فهم برجم امرأة ولدت لها، حتى ذكره ابن عباس فأقر به.
ولم يفهم عمر من قوله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقهم) قتال مانعي الزكاة، حتى بين له الصديق فأقر به.
وفهم قدامة بن مظعون من قوله تعالى: * (ليس على الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وءامنوا) * رفع الجناح عن الخمر، حتى بين له عمر أنه لا يتناول الخمر، ولو تأمل سياق الآية لفهم المراد منها، فإنه إنما رفع الجناح عنهم فيما طعموه متقين له فيه، وذلك إنما يكون باجتناب ما حرمه من المطاعم. فالآية لا تتناول المحرم بوجه.
وقد فهم من فهم من قوله تعالى: * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * انغماس الرجل في العدو. حتى بين له أبو أيوب الأنصاري أن هذا ليس من الإلقاء بيده إلى التهلكة، بل هو من بيع الرجل نفسه ابتغاء مرضاة الله، وأن الإلقاء بيده إلى التهلكة هو ترك الجهاد والإقبال على الدنيا وعمارتها.
وقال الصديق رضي الله عنه: أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على
221

غير مواضعها: * (ياأيها الذين ءامنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) * وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بالعقاب من عنده) فأخبرهم أنهم يضعونها على غير مواضعها في فهمهم منها خلاف ما أريد بها. وأشكل على ابن عباس أمر الفرقة الساكتة التي لم ترتكب ما نهيت عنه من اليهود، هل عذبوا أو نجوا حتى بين له مولاه عكرمة دخولهم في الناجين دون المعذبين، وهذا هو الحق، لأنه سبحانه قال عن الساكتين. * (وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا) * فأخبر أنهم أنكروا فعلهم وغضبوا عليهم، وإن لم يواجهوهم بالنهي، فقد واجههم به من أدى الواجب عنهم. فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، فلما قام به أولئك سقط عن الباقين فلم يكونوا ظالمين بسكوتهم.
وأيضا فإنه سبحانه إنما عذب الذين نسوا ما ذكروا به، وعتوا عما نهوا عنه، وهذا لا يتناول الساكتين قطعا. فلما بين عكرمة لابن عباس أنهم لم يدخلوا في الظالمين المعذبين كساه برده وفرح به.
وقد قال عمر بن الخطاب للصحابة: ما تقولون في * (إذا جآء نصر الله والفتح) * السورة؟ قالوا: أمر الله نبيه إذا فتح عليه أن يستغفر. فقال لابن عباس: ما تقول أنت؟ قال: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه إياه. فقال: ما أعلم منها غير ما تعلم. إلى أن قال رحمه الله:
والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص. وأن منهم من يفهم في الآية حكما أو حكمين. ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر من ذلك. ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره. وأخص من هذا وألطف ضمه إلى نص آخر متعلق به، فيفهم من اقترانه به قدرا زائدا على ذلك اللفظ بمفرده.
وهذا باب عجيب من فهم القرآن، لا يتنبه له إلا النادر من أهل العلم، فإن الذهن قد لا يشعر بارتباط هذا بهذا وتعلقه به: كما فهم ابن عباس من قوله تعالى: * (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) * مع قوله: * (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) * أن المرأة قد تلد لستة أشهر.. إلى آخر كلامه رحمه الله.
وإنما أكثرنا في هذه المباحث من نقل كلام ابن القيم رحمه الله كما رأيت. لأنه جاء فيها بما
222

لم يأت به من تقدمه ولا من تأخر عنه تغمده الله برحمته الواسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا. وقد تركنا كثيرا من نفائس كلامه في هذه المواضيع خشية الإطالة الكثيرة.
المسألة السابعة
اعلم أن استهزاء للظاهرية وسخريتهم بالأئمة المجتهدين رحمهم الله، ودعواهم أن قياساتهم متناقضة ينقض بعضها بعضا، وأن ذلك دليل على أنها كلها باطلة وليست من الدين في شيء إذا تأمل فيه المنصف العارف وجد الأئمة رحمهم الله أقرب في أغلب ذلك إلى الصواب، والعمل بما دلت عليه النصوص من الظاهرية الساخرين المستهزئين. وسنضرب لك بعض الأمثلة لذلك لتستدل به على غيره.
اعلم أن من أعظم المسائل التي قال فيها الظاهرية بتناقض أقيسة الأئمة، وتكذيب بعضها لبعض، وأن ذلك يدل على بطلان كل قياس من أقيستهم، هي مسألة الربا التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (الذهب الذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدا بيد. فمن زاد أو استزاد فقد أربى).
قال الظاهرية: فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما حرم الربا في الستة المذكورة. فتحريمه في شيء غيرها قول على الله وعلى رسوله، وتشريع زائد على ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: والذين زادوا على النص أشياء يحرم فيها الربا اختلفت أقوالهم، وتناقضت أقيستهم. فبعضهم يقول: التمر، والبلوط ثمر شجر يؤكل ويدبغ بقشره. وبعضهم يقول هي الكبل. وبعضهم يقول هي الافتيات والادخار الخ.
فهذه أقيسة متضاربة متناقضة فليست من عند الله، وإذا تأملت في هذه المسألة التي سخروا بسببها من الأئمة، وادعوا عليهم أنهم حرموا الربا في أشياء لا دليل على تحريمه فيها كالتفاح عند من يقول العلة الطعم كالشافعي، وكالأشنان عند من يقول العلة الكيل علمت أن الأئمة أقرب إلى العمل بالنص في ذلك من الظاهرية المدعين الوقوف مع ظاهر النص. أما الشافعي الذي قال: العلة في تحريم الربا الطعم فقد استدل لذلك بما رواه مسلم في صحيحه: حدثنا هارون بن معروف، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو (ح) وحدثني أبو الطاهر، أخبرنا ابن وهب عن عمرو بن الحرث: أن أبا النضر حدثه أن بسر بن سعيد حدثه عن معمر بن عبد الله: أنه أرسل غلامه بصاع قمح.. الحديث، وفيه. فإني كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الطعام بالطعام مثلا بمثل) وكان طعامنا
223

يومئذ الشعير فهذا حديث صحيح صرح فيه النبي صلى الله عليه وسلم بأن الطعام إذا بيع بالطعام بيع مثلا بمثل. والطعام في اللغة العربية: اسم لكل ما يؤكل. قال تعالى: * (كل الطعام كان حلا لبنى إسراءيل) *، وقال: * (فلينظر الإنسان إلى طعامه * (ط * (أنا صببنا ثم شققنا الا رض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا) *، وقال تعالى: * (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) * ولا خلاف في ذبائحهم في ذلك. وفي صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في زمزم: (إنها طعام طعم) وقال لبيد في معلقته: قال في زمزم: (إنها طعام طعم) وقال لبيد في معلقته:
* لمعقر فهد تنازع شلوه
* غبس كواسب ما يمن طعامها
*
يعني بطعامها فريستها. كما قدمنا هذا مستوفى في سورة (البقرة).
فالشافعي رحمه الله وإن سخر الظاهرية منه في تحريمه الربا في التفاح فهو متمسك في ذلك بظاهر حديث صحيح، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (الطعام بالطعام مثلا بمثل). فما المانع الظاهرية من القول بظاهر هذا الحديث الصحيح على عادتهم التي يزعمون فيحكمون على الطعام بأنه مثل بمثل؟ وما مستندهم في مخالفة ظاهر هذا الحديث الصحيح؟ وحكمهم بالربا في البر والشعير والتمر والملح دون غيرها من سائر المطعومات، مع أن لفظ الطعام في الحديث المذكور عام للأربعة المذكورة وغيرها كما ترى، فهل الشافعي في تحريم الربا في التفاح أقرب إلى ظاهر النص أو الظاهرية؟ وكذلك سخريتهم من الإمام أبي حنيفة وأحمد رحمهما الله في قولهما بدخول الربا في كل مكيل وموزون، مستهزئين بمن يقول بالربا في الأشنان قياسا على التمر. إذا تأملت فيه وجدت الإمامين رحمهما الله أقرب في ذلك إلى ظاهر النص من الظاهرية.
قال الحاكم في (المستدرك): حدثنا أبو بكر أحمد بن سليمان الفقيه، ثنا الحسن بن مكرم، ثنا روح بن عبادة، ثنا حيان بن عبيد الله العدوي قال: سألت أبا مجلز عن الصرف فقال: كان ابن عباس رضي الله عنهما لا يرى به بأسا زمانا من عمره ما كان منه عينا يعني يدا بيد، فكان يقول: إنما الربا في النسيئة. فلقيه أبو سعيد الخدري فقال: يا ابن عباس، ألا تتقي الله إلى متى تؤكل الناس الربا؟ أما بلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم وهو عند زوجته أم سلمة: (إني لأشتهي تمر عجوة) فبعثت صاعين من تمر إلى رجل من الأنصار فجاء بدل صاعين صاع من تمر عجوة. فقامت فقدمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه أعجبه، فتناول تمرة ثم أمسك فقال: (من أين لكم هذا)؟
224

فقالت أم سلمة: بعثت صاعين من تمر إلى رجل من الأنصار فأتانا بدل صاعين هذا الصاع الواحد، وها هو، كل، فألقى التمرة بين يديه فقال: (ردوه لا حاجة له فيه. التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير والشعير، والذهب بالذهب، والفضة بالفضة، يدا بيد، عينا بعين، مثلا بمثل فمن زاد فهو ربا) ثم قال (كذلك ما يكال ويوزن أيضا) إلى آخره.
ثم قال الحاكم رحمه الله: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه بهذه السياقة. وهذا الحديث الذي قال الحاكم إنه صحيح الإسناد، فيه التصريح بأن ما يكال ويوزن يباع مثلا بمثل، يدا بيد. وقد قدمنا مرارا أن الموصولات من صيغ العموم لعمومها في كل ما تشمله صلاتها. فأبو حنيفة مثلا القائل بالربا في الأشنان متمسك بظاهر هذا الحديث. فهو أقرب إلى ظاهر النص من الظاهرية المستهزئين به الزاعمين أنه بعيد في ذلك عن النص.
فإن قيل: هذا الحدث لا يحتج به لضعفه، وقد قال الذهبي متعقبا على الحاكم تصحيحه للحديث المذكور ما نصه: قلت: حيان فيه ضعف وليس بالحجة، وقد أشار البيهقي إلى تضعيف هذا الحديث، وأعله ابن حزم من ثلاثة أوجه: الأول زعمه أنه منقطع. لأن أبا مجلز لم يسمع من أبي سعيد ولا من ابن عباس. الثاني أن في الحديث أن ابن عباس رجع عن القول بإباحة ربا الفضل. واعتقاد ابن حزم أن ذلك باطل لقول سعيد بن جبير إن ابن عباس لم يرجع عن ذلك. والثالث أن حيان بن عبيد الله المذكور في سند هذا الحديث مجهول.
فالجواب عن ذلك كله هو ما ستراه الآن إن شاء الله، وهو راجع إلى شيئين: الأول مناقشة من ضعف الحديث، وبيان أنه ليس بضعيف. والثاني أنا لو سلمنا ضعفه تسليما جدليا فهو معتضد بما يثبت الاحتجاج به من الشواهد.
أما المناقشة في تضعيفه، فقول الذهبي: إن حيان فيه ضعف وليس بالحجة معارض بقول أبي حاتم فيما ذكره عن ابنه في كتاب الجرح والتعديل: إنه صدوق، ومعلوم أن الصحيح أن التعديل يقبل مجملا، والتجريح لا يقبل إلا مبينا مفصلا كما هو مقرر في علوم الحديث. وقد ترجم له البخاري في تاريخه الكبير ولم يذكر فيه جرحا. وإعلال ابن حزم له بأنه منقطع. وأن حيان مجهول قد قدمنا مناقشته فيه في سورة (البقرة) لأن أبا مجلز أدرك ابن عباس وسمع عنه.
قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل في أبي مجلز المذكور: وهو لاحق ابن حميد
225

السدوسي البصري، توفي أيام عمر بن عبد العزيز، وروى عن ابن عمر وابن عباس وأنس وجندب الخ، وتصريحه بروايته عن ابن عباس يدل على عدم صحة قول ابن حزم: إنه لم يسمع من ابن عباس، وقال البخاري في تاريخه الكبير في لاحق بن حميد المذكور: أبو مجلز السدوسي البصري مات قبل الحسن بقليل، ومات الحسن سنة عشر ومائة، سمع ابن عمر وابن عباس وأنس بن مالك الخ. وفيه تصريح البخاري بسماع أبي مجلز من ابن عباس، ومع هذا فابن حزم يقول: هو منقطع لعدم سماعه منه. وأما أبو سعيد فلا شك أنه أدركه أبو مجلز المذكور، والمعاصرة تكفي ولا يشترط ثبوت اللقي على التحقيق. كما أوضحه مسلم بن الحجاج رحمه الله في مقدمه صحيحه.
وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب في أبي مجلز المذكور: روى عن أبي موسى الأشعري، والحسن بن علي، ومعاوية. وعمران بن حصين، وسمرة بن جندب، وابن عباس، والمغيرة بن شعبة، وحفصة، وأم سلمة، وأنس، وجندب بن عبد الله، وسلمة بن كهيل، وقيس بن عباد وغيرهم. وأرسل عن عمر بن الخطاب. وحذيفة الخ. ومما يوضح معاصرة أبي مجلز لأبي سعيد: أن جماعة من هؤلاء الصحابة الذين ذكر ابن حجر أنه روى عنهم ماتوا قبل أبي سعيد رضي الله عنهم. فأبو سعيد رضي
الله عنه توفي سنة ثلاث أو أربع أو خمس بعد الستين، وقد مات قبله الحسن بن علي، وأبو موسى الأشعري، وعمران بن حصين، ومعاوية وسمرة بن جندب كما هو معلوم.
وأما قول ابن حزم: إنه مجهول فقد قدمنا مناقشة السبكي له في تكملة المجموع، وأنه قال: فإن أراد ابن حزم أنه مجهول العين فليس بصحيح، بل هو رجل مشهور، روي عنه حديث الصرف هذا روح بن عبادة، ومن جهته أخرجه الحاكم، وذكره ابن حزم وإبراهيم بن الحجاج الشامي، ومن جهته رواه ابن عدي ويونس بن محمد، ومن جهته رواه البيهقي وهو حيان بن عبيد الله بن حيان بن بشر بن عدي بصري، سمع أبا مجلز لاحق بن حميد والضحاك وعن أبيه، وروى عن عطاء وابن بريدة، روى عنه موسى بن إسماعيل ومسلم بن إبراهيم، وأبو داود وعبيد الله بن موسى، عقد له البخاري وابن أبي حاتم ترجمة فذكر كل منهما بعض ما ذكرته. وله ترجمة في كتاب ابن عدي كما أشرت إليه، فزال عنه جهالة العين. وإن أراد جهالة الحال فهو قد رواه من طريق إسحاق بن راهويه فقال في إسناده: أخبرنا روح قال: حدثنا حيان بن عبيد الله، وكان رجل صدق. فإن كانت هذه الشهادة له بالصدق من روح بن عبادة فروح محدث نشأ في الحديث، عارف به، مصنف
226

متفق على الاحتجاج به، بصري بلدي للمشهود له فتقبل شهادته له. وإن كان هذا القول من إسحاق بن راهويه فناهيك به، ومن يثني عليه إسحاقا وقد ذكر ابن أبي حاتم حيان بن عبيد الله هذا، وذكر جماعة من المشاهير ممن رووا عنه وممن روي عنهم، قال: إنه سأل أباه عنه فقال: صدوق ا ه من تكلمة المجموع كما قدمناه في سورة (البقرة). والذي رأيت في سنن البيهقي الكبرى: أن الراوي عن حيان المذكور في إسناده له إبراهيم بن الحجاج، وقال صاحب الجوهر النقي: وحيان هذا ذكره ابن حيان في الثقات من أتباع التابعين. وقال الذهبي في الضعفاء: جائز الحديث. وقال عبد الحق في أحكامه: قال أبو بكر البزار: حيان رجل من أهل البصرة مشهور وليس به بأس. وقال فيه أبو حاتم: صدوق. وقال بعض المتأخرين فيه: مجهول. ولعله اختلط عليه بحيان بن عبيد الله المروي، وبما ذكر تعلم أن دعوى ابن حزم أن الحديث منقطع، وأن حيان المذكور مجهول ليست بصحيحة. وأما دعواه عدم رجوع ابن عباس لقول سعيد بن جبير: إنه لم يرجع عن القول بإباحة ربا الفضل فقد قدمنا الروايات الواردة برجوعه مستوفاة في سورة (البقرة) عن جماعة من أصحابه، ولا شك أنها أولى من قول سعيد بن جبير. لأنهم جماعة وهو واحد، ولأنهم مثبتون رجوعه وهو نافيه، والمثبت مقدم على النافي. وأما شواهد حديث حيان المذكور الدال على أن الربا في كل ما يكال ويوزن فمنها ما قدمنا في سورة (البقرة) من حديث أنس وعبادة بن الصامت عند الدارقطني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما وزن مثل بمثل إذا كان نوعا واحد، وما كيل فمثل ذلك. فإذا اختلف النوعان فلا بأس به) وقد قدمنا في سورة (البقرة) قول الشوكاني: إن حديث أنس وعبادة هذا أشار إليه ابن حجر في التلخيص ولم يتكلم عليه، وفي إسناده الربيع بن صبيح وثقه أبو زرعة وغيره، وضعفه جماعة، وقد أخرج هذا الحديث البزار أيضا. ويشهد لصحته حديث عبادة المذكور أولا وغيره من الأحاديث انتهى منه كما تقدم. وفي هذا الحديث المذكور دليل واضح على أن كل ما يكال أو يوزن فيه الربا وإن سخر الظاهرية ممن يقول بذلك، ومن شواهد حديث حيان المذكور الحديث المتفق عليه. قال البخاري في صحيحه في (كتاب الوكالة): حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك عن عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف، عن سعيد بن المسيب، عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر فجاءهم بتمر جنيب، فقال: (أكل تمر خيبر هكذا)؟ فقال: إنا
227

لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة. فقال: (لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا)، وقال في الميزان مثل ذلك. انتهى منه.
ومحل الشاهد منه قوله: وقال في الميزان مثل ذلك، ومعناه ظاهرا جدا في أن ما يوزن بالميزان مثل ذلك في منع الربا. وقد قدمنا أقوال من أول هذا الحديث وصرفه عن المعنى المذكور في سورة (البقرة). وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا عبد الله بن مسلمة بن تعنب، حدثنا سليمان يعني ابن بلال، عن عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن: أنه سمع سعيد بن المسيب يحدث أن أبا هريرة وأبا سعيد حدثاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أخا بني عدي الأنصاري فاستعمله على خيبر، فقدم بتمر جنيب. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكل تمر خيبر هكذا؟). قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنشتري الصاع بالصاعين من الجمع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تفعلوا ولكن مثلا بمثل، أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا، وكذلك الميزان) انتهى منه. وقوله في هذه الحديث المتفق عليه (وكذلك الميزان) ظاهر جدا في أن ما يوزن كما يكال، وأن في ذلك كله الربا. ولا شك أن هذه الأحاديث التي عمل بها بعض الأئمة وإن استهزأ بهم الظاهرية في ذلك أقرب إلى ظاهر النص من قول الظاهرية: إنه لا ربا إلا في الستة المذكورة قبل. والمقصود التمثيل لأحوالهم مع الأئمة المجتهدين رحمهم الله.
تنبيه
اعلم أنا نقول بموجب الأحاديث التي استدل بها الظاهرية، على أن ما سكت عنه الشارع فهو عفو، ونقول مثلا: إن صوم شهر آخر غير رمضان لم يوجب علينا فهو عفو. ولكن لا نسلم أن آية: * (فلا تقل لهمآ أف) * ساكتة عن تحريم ضرب الوالدين. بل نقول هي دالة عليه، وادعاء أنها لم تتعرض لذلك باطل كما ترى. ولا نقول: إن آية * (فمن يعمل مثقال ذرة) * ساكتة عن مؤاخذة من عمل مثقال جبل. بل هي دالة على المؤاخذة بذلك. وهكذا إلى آخر ما ذكرنا من أمثلة ذلك في هذه المباحث، وفي سورة (بني إسرائيل). وما ذكرنا سابقا من أن الصواب في مسألة القياس أنه قسمان. صحيح، وفاسد. كما بينا وكما أوضحه ابن القيم رحمه الله في كلامه الذي نقلنا اعتمده صاحب مراقي السعود في قوله في القياس: فمن يعمل مثقال ذرة) * ساكتة عن مؤاخذة من عمل مثقال جبل. بل هي دالة على المؤاخذة بذلك. وهكذا إلى آخر ما ذكرنا من أمثلة ذلك في هذه المباحث، وفي سورة (بني إسرائيل). وما ذكرنا سابقا من أن الصواب في مسألة القياس أنه قسمان. صحيح، وفاسد. كما بينا وكما أوضحه ابن القيم رحمه الله في كلامه الذي نقلنا اعتمده صاحب مراقي السعود في قوله في القياس:
* وما روي من ذمه فقد عني
* به الذي على الفساد قد بني
*
228

المسألة الثامنة
اعلم أن جماهير القائلين بالقياس يقولون: إنه إن خالف النص فهو باطل، ويسمون القدح فيه بمخالفته للنص فساد الاعتبار. كما أشار إليه صاحب مراقي السعود بقوله: اعلم أن جماهير القائلين بالقياس يقولون: إنه إن خالف النص فهو باطل، ويسمون القدح فيه بمخالفته للنص فساد الاعتبار. كما أشار إليه صاحب مراقي السعود بقوله:
* والخلف للنص أو إجماع دعا
* فساد الاعتبار كل من رعى
*
كما قدمناه في سورة (البقرة).
واعلم أن ما يذكره بعض علماء الأصول من المالكية وغيرهم من الإمام مالك رحمه الله: من أنه يقدم القياس على أخبار الآحاد خلاف التحقيق. والتحقيق: أنه رحمه الله يقدم أخبار الآحاد على القياس. واستقراء مذهبه يدل على ذلك دلالة واضحة، ولذلك أخذ بحديث المصراة في دفع صاع التمر عوض اللبن. ومن أصرح الأدلة التي لا نزاع بعدها في ذلك: أنه رحمه الله يقول: إن في ثلاثة أصابع من أصابع المرأة ثلاثين من الإبل، وفي أربعة أصابع من أصابعها عشرين من الإبل. كما قدمناه مستوفى في سورة (بني إسرائيل). ولا شيء أشد مخالفة للقياس من هذا كما قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن لسعيد بن المسيب حين عظم جرحها، واشتدت مصيبتها: نقص عقلها. ومالك خالف القياس في هذا لقول سعيد بن المسيب: إنه السنة كما تقدم. وبعد هذا فلا يمكن لأحد أن يقول: إن مالكا يقدم القياس على النص، ومسائل الاجتهاد والتقليد مدونة في أصول الفقه، ولأجل ذلك نكتفي بما ذكرنا من ذلك هنا.
المسألة التاسعة
اعلم أن أكثر أهل العلم قالوا: إن الحرث الذي حكم فيه سليمان وداود إذ نقشت فيه غنم القوم بستان عنب: والنفش: رعي الغنم ليلا خاصة. ومنه قول الراجز: اعلم أن أكثر أهل العلم قالوا: إن الحرث الذي حكم فيه سليمان وداود إذ نقشت فيه غنم القوم بستان عنب: والنفش: رعي الغنم ليلا خاصة. ومنه قول الراجز:
* بدلن بعد النفش الوجيفا
* وبعد طول الجرة الصريفا
*
وقيل: كان الحرث المذكور زرعا، وذكروا أن داود حكم بدفع الغنم لأهل الحرث عوضا من حرثهم الذي نفشت فيه فأكلته. وقال بعض أهل العلم: اعتبر قيمة الحرث فوجد الغنم بقدر القيمة فدفعها إلى أصحاب الحرث. إما لأنه لم يكن لهم دراهم أو تعذر بيعها، ورضوا بدفعها ورضي أولئك بأخذها بدلا من القيمة. وأما سليمان فحكم بالضمان على
229

أصحاب الغنم، وأن يضمنوا ذلك بالمثل بأن يعمروا البستان حتى يعود كما كان حين نفشت فيه غنمهم. ولم يضيع عليهم غلته من حين الإتلاف إلى حين العود، بل أعطى أصحاب البستان ماشية أولئك ليأخذوا من نمائها بقدر نماء البستان فيستوفوا من نماء غنمهم نظير ما فاتهم من نماء حرثهم. وقد اعتبر النماءين فوجدهما سواء، قالوا: وهذا هو العلم الذي خصه الله به، وأثنى عليه بإدراكه. هكذا يقولون، والله تعالى أعلم.
المسألة العاشرة
اعلم أن العلماء اختلفوا في مثل هذه القصة. فلو نفشت غنم قوم في حرث آخرين فتحاكموا إلى حاكم من حكام المسلمين فماذا يفعل؟ اختلف العلماء في ذلك. فذهب أكثر أهل العلم إلى أن ما أفسدته البهائم ليلا يضمنه أرباب الماشية بقيمته، وهو المشهور من مذهب مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله. وقيل: يضمنونه بمثله كقضية سليمان. قال ابن القيم: وهذا هو الحق. وهو أحد القولين في مذهب أحمد، ووجه الشافعية والمالكية، والمشهور عنهم خلافه. والآية تشير إلى اختصاص الضمان بالليل. لأن النفش لا يطلق لغة إلا على الرعي بالليل كما تقدم. واحتج الجمهور لضمان أصحاب البهائم ما أفسدته ليلا بحديث حرام بن محيصة: أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطا فأفسدت فيه. فقضي نبي الله صلى الله عليه وسلم: (أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها) رواه الأئمة: مالك، والشافعي، وأحمد وأبو داود، وابن داود، وابن ماجة والدارقطني، وابن حبان. وصححه الحاكم فقال بعد أن ساق الحديث المذكور: هذا حديث صحيح الإسناد على خلاف فيه بين معمر والأوزاعي: فإن معمرا قال: عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه، وأقره الذهبي على تصحيحه ولم يتعقبه.
وقال الشوكاني رحمه الله في (نيل الأوطار) في الحديث المذكور: صححه الحاكم والبيهقي. قال الشافعي: أخذنا به لثبوته واتصاله ومعرفة رجاله ا ه منه. والاختلاف على الزهري في رواية هذا الحديث كثير معروف.
وقال ابن عبد البر: وهذا الحديث وإن كان مرسلا فهو حديث مشهور، أرسله الأئمة، وحدث به الثقات، واستعمله فقهاء الحجاز وتلقوه بالقبول، وجرى في المدينة العمل به، وحسبك باستعمال أهل المدينة وسائر أهل الحجاز لهذا الحديث، وعلى كل حال فالحديث المذكور احتج به جمهور العلماء، منهم الأئمة الثلاثة المذكورون
على أن
230

ما أفسدته البهائم بالليل على أربابها، وفي النهار على أهل الحوائط حفظها. ومشهور مذهب مالك وأحمد والشافعي أنه يضمن بقيمته كما تقدم. وأبو حنيفة يقول: لا ضمان مطلقا في جناية البهائم، ويستدل بالحديث الصحيح: (العجماء جبار) أي جرحها هدر. والجمهور يقولون: إن الحديث المذكور عام وضمان ما أفسدته ليلا مخصص له. وذهب داود ومن وافقه إلى أن ما أتلفته البهائم بغير علم مالكها ولو ليلا ضمان فيه، وأما إذا رعاها صاحبها باختياره في حرث غيره فهو ضامن بالمثل.
واعلم أن القائلين بلزوم قيمة ما أفسدته البهائم ليلا يقولون: يضمنه أصحابها ولو زاد على قيمتها. خلافا لليث القائل: لا يضمنون ما زاد على قيمتها. وفي المسألة تفاصيل مذكورة في كتب الفروع. وصيغة الجمع في الضمير في قوله * (لحكمهم) * الظاهر أنها مراد بها سليمان وداود وأصحاب الحرث وأصحاب الغنم، وأضاف الحكم إليهم لأن منهم حاكما ومحكوما له ومحكوما عليه.
وقوله: * (ففهمناها) * أي القضية أو الحكومة المفهومة من قوله: * (إذ يحكمان فى الحرث) * وقوله: * (وكلا ءاتينا) * أي أعطينا كلا من داود وسليمان حكما وعلما. والتنوين في قوله: * (وكلا) * عوض عن كلمة أي كل واحد منهما.
* (ففهمناها سليمان وكلا ءاتينا حكما وعلما وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين * وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون * ولسليمان الريح عاصفة تجرى بأمره إلى الا رض التى باركنا فيها وكنا بكل شىء عالمين * ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذالك وكنا لهم حافظين * وأيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين * فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وءاتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين * وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين * وأدخلناهم فى رحمتنا إنهم من الصالحين * وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى فى الظلمات أن لا إلاه إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذالك ننجى المؤمنين * وزكريآ إذ نادى ربه رب لا تذرنى فردا وأنت خير الوارثين * فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون فى الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين * والتى أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنهآ ءاية للعالمين * إن هاذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون * وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون * فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون * وحرام على قرية أهلكناهآ أنهم لا يرجعون * حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون * واقترب الوعد الحق فإذا هى شاخصة أبصار الذين كفروا ياويلنا قد كنا فى غفلة من هاذا بل كنا ظالمين * إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان هاؤلاء ءالهة ما وردوها وكل فيها خالدون * لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون * إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولائك عنها مبعدون * لا يسمعون حسيسها وهم فى ما اشتهت أنفسهم خالدون) * قوله تعالى: * (وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه سخر الجبال أي ذللها، وسخر الطير تسبح مع داود. وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من تسخيره الطير، والجبال تسبح مع نبيه داود بينه في غير هذا الموضع. كقوله تعالى: * (ولقد ءاتينا داوود منا فضلا ياجبال أوبى معه والطير وألنا له الحديد) *. وقوله: * (أوبى معه) * أي رجعي معه التسبيح. * (والطير) * أي ونادينا الطير بمثل ذلك من ترجيح التسبيح معه. وقوله من قال * (أوبى معه) *: أي سيري معه، وأن التأويب سير النهار ساقط كما ترى. وكقوله تعالى: * (واذكر عبدنا داوود ذا الا يد إنه أواب إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والإشراق والطير محشورة كل له أواب) *.
والتحقيق: أن تسبيح الجبال والطير مع داود المذكور تسبيح حقيقي. لأن الله جل وعلا يجعل لها إدراكات تسبح بها، يعلمها هو جل وعلا ونحن لا نعلمها. كما قال:
231

* (وإن من شىء إلا يسبح بحمده ولاكن لا تفقهون تسبيحهم) *، وقال تعالى: * (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه المآء وإن منها لما يهبط من خشية الله) *، وقال تعالى: * (إنا عرضنا الا مانة على السماوات والا رض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها) *. وقد ثبت في صحيح البخاري: أن الجذع الذي كان يخطب عليه النبي صلى الله عليه وسلم لما انتقل عنه بالخطبة إلى المنبر سمع له حنين. وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث. إني لأعرفه الآن) وأمثال هذا كثيرة. والقاعدة المقررة عند العلماء: أن نصوص الكتاب والسنة لا يجوز صرفها عن ظاهرها المتبادر منها إلا بدليل يجب الرجوع إليه. والتسبيح في اللغة: الإبعاد عن السوء، وفي اصطلاح الشرع: تنزيه الله جل وعلا عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله.
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية * (وسخرنا مع داوود الجبال) * أي جعلناها بحيث تطيعه إذا أمرها بالتسبيح والظاهر أن قوله * (وكنا فاعلين) * مؤكد لقوله: * (وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير) * والموجب لهذا التأكيد: أن تسخير الجبال وتسبيحها أمر عجب خارق العادة، مظنة لأن يكذب به الكفرة الجهلة.
وقال الزمخشري * (وكنا فاعلين) * أي قادرين على أن نفعل هذا. وقيل: كنا نفعل بالأنبياء مثل ذلك. وكلا القولين اللذين قال ظاهر السقوط. لأن تأويل * (وكنا فاعلين) * بمعنى كنا قادرين بعيد، ولا دليل عليه كما لا دليل على الآخر كما ترى.
وقال أبو حيان * (وكنا فاعلين) * أي فاعلين هذه الأعاجيب من تسخير الجبال وتسبيحهن، والطير لمن نخصه بكرامتنا ا ه، وأظهرها عندي هو ما تقدم، والعلم عند الله تعالى. وقوله تعالى: * (وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون) *. الضمير في قوله * (علمناه) * راجع إلى داود، والمراد بصيغة اللبوس: صنعة الدروع ونسجها. والدليل على أن المراد باللبوس في الآية الدروع: أنه أتبعه بقوله * (لتحصنكم من بأسكم) * أي لتحرز وتقي بعضكم من بأس بعض، لأن الدرع تقيه ضرر الضرب بالسيف، والرمي بالرمح والسهم، كما هو معروف. وقد أوضح
232

هذا المعنى بقوله: * (وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر فى السرد) * فقوله * (أن اعمل سابغات) * أي أن اصنع دروعا سابغات من الحديد الذي ألناه لك. والسرد: نسج الدرع. ويقال فيه الزرد، ومن الأول قول أبي ذؤيب الهذلي: والسرد: نسج الدرع. ويقال فيه الزرد، ومن الأول قول أبي ذؤيب الهذلي:
* وعليهما مسرودتان قضاهما
* داود أو صنع السوابغ تبع
*
ومن الثاني قول الآخر: ومن الثاني قول الآخر:
* نقريهم لهذميات نقد بها
* ما كان خاط عليهم كل زراد
*
ومراده بالزراد: ناسج الدرع. وقوله * (وقدر فى السرد) * أي اجعل الحلق والمسامير في نسجك الدرع بأقدار متناسبة. فلا تجعل المسمار دقيقا لئلا ينكسر، ولا يشد بعض الحلق ببعض، ولا تجعله غليظا غلظا زائدا فيفصم الحلقة. وإذا عرفت أن اللبوس في الآية الدروع فاعلم أن العرب تطلق اللبوس على الدروع كما في الآية. ومنه قول الشاعر: ومراده بالزراد: ناسج الدرع. وقوله * (وقدر فى السرد) * أي اجعل الحلق والمسامير في نسجك الدرع بأقدار متناسبة. فلا تجعل المسمار دقيقا لئلا ينكسر، ولا يشد بعض الحلق ببعض، ولا تجعله غليظا غلظا زائدا فيفصم الحلقة. وإذا عرفت أن اللبوس في الآية الدروع فاعلم أن العرب تطلق اللبوس على الدروع كما في الآية. ومنه قول الشاعر:
* عليها أسود ضاويات لبوسهم
* سوابغ بيض لا يخرقها النبل
*
فقوله (سوابغ) أي دروع سوابغ، وقول كعب بن زهير: فقوله (سوابغ) أي دروع سوابغ، وقول كعب بن زهير:
* شم العرانيين أبطال لبوسهم
* من نسج داود في الهيجا سرابيل
*
ومراده باللبوس التي عبر عنها بالسرابيل: الدروع. والعرب تطلق اللبوس أيضا على جميع السلاح درعا كان أو جوشنا أو سيفا أو رمحا. ومن إطلاقه على الرمح قول أبي كبير الهذلي يصف رمحا: ومراده باللبوس التي عبر عنها بالسرابيل: الدروع. والعرب تطلق اللبوس أيضا على جميع السلاح درعا كان أو جوشنا أو سيفا أو رمحا. ومن إطلاقه على الرمح قول أبي كبير الهذلي يصف رمحا:
* ومعي لبوس للبئيس كأنه
* روق بجبهة نعاج مجفل
*
وتطلق اللبوس أيضا على كل ما يلبس. ومنه قول بيهس: وتطلق اللبوس أيضا على كل ما يلبس. ومنه قول بيهس:
* البس كل حالة لبوسها
* إما نعيمها وإما بوسها
*
وما ذكره هنا من الامتنان على الخلق بتعليمه صنعة الدروع ليقيهم بها من بأس السلاح تقديم إيضاحه في سورة (النحل) في الكلام على قوله تعالى * (وسرابيل تقيكم بأسكم) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (فهل أنتم شاكرون) * الظاهر فيه أن صيغة الاستفهام هنا يراد بها الأمر، ومن إطلاق الاستفهام بمعنى الأمر في القرآن قوله
233

تعالى: * (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضآء فى الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلواة فهل أنتم منتهون) * أي انتهوا. ولذا قال عمر رضي الله عنه: انهيتنا يا رب. وقوله تعالى: * (وقل للذين أوتوا الكتاب والا ميين ءأسلمتم فإن أسلموا) *، أي اسلموا. وقد تقرر في فن المعاني: أن في المعاني التي تؤدي بصيغة الاستفهام: الأمر، كما ذكرنا.
وقوله * (شاكرون) * شكر العبد لربه: هو أن يستعين بنعمه على طاعته، وشكر الرب لعبده: هو أن يثيبه الثواب الجزيل من عمله القليل. ومادة (شكر) لا تتعدى غالبا إلا باللام، وتعديتها بنفسها دون اللام قليلة، ومنه قول أبي نخيلة: وقوله * (شاكرون) * شكر العبد لربه: هو أن يستعين بنعمه على طاعته، وشكر الرب لعبده
: هو أن يثيبه الثواب الجزيل من عمله القليل. ومادة (شكر) لا تتعدى غالبا إلا باللام، وتعديتها بنفسها دون اللام قليلة، ومنه قول أبي نخيلة:
* شكرتك إن الشكر حبل من التقى
* وما كل من أوليته نعمة يقضى
*
وفي قوله * (لتحصنكم) * ثلاث قراءات سبعية: قرأه عامة السبعة ما عدا ابن عامر وعاصما * (لتحصنكم) * بالياء المثناة التحتية، وعلى هذه القراءة فضمير الفاعل عائد إلى داود، أبو إلى اللبوس، لأن تذكيرها باعتبار معنى ما يلبس من الدروع جائز. وقرأه ابن عامر وحفص عن عاصم * (لتحصنكم) * بالتاء المثناة الفوقية، وعلى هذه القراءة فضمير الفاعل راجع بالى اللبوس وهي مؤنثة، أو إلى الصنعة المذكورة في قوله: * (صنعة لبوس) *، وقرأه شعبة عن عاصم * (لنحصنكم) * بالنون الدالة على العظمة وعلى هذه القراءة فالأمر واضح. قوله تعالى: * (ولسليمان الريح عاصفة تجرى بأمره إلى الا رض التى باركنا فيها وكنا بكل شىء عالمين) *. قوله: * (ولسليمان الريح) * معطوف على معمول (سخرنا)، في قوله: * (وسخرنا مع داوود الجبال) * أي وسخرنا لسليمان الريح في حال كونها عاصفة. أي شديدة الهبوب. يقال عصفت الريح أي اشتدت، فهي ريح عاصف وعصوف، وفي لغة بني أسد (أعصفت) فهي معصف ومعصفة، وقد قدمنا بعض شواهده العربية في سورة (الإسراء).
وقوله * (تجرى بأمره) * أي تطيعه وتجري إلى المحل الذي يأمرها به، وما ذكره في هذه الآية: من تسخير الريح لسليمان، وأنها تجري بأمره بينه في غير هذا الموضع وزاد بيان قدر سرعتها، وذلك في قوله * (ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر) *
234

، وقوله: * (فسخرنا له الريح تجرى بأمره رخآء حيث أصاب) *.
تنبيه
اعلم أن في هذه الآيات التي ذكرنا سؤالين معروفين:
الأول أن يقال: إن الله وصف الريح المذكورة هنا في سورة (الأنبياء) بأنها عاصفة. أي شديد الهبوب، ووصفها في سورة (ص) بأنها تجري بأمره رخاء. والعاصفة غير التي تجري رخاء.
والسؤال الثاني هو أنه هنا في سورة (الأنبياء) خص جريها به بكونه إلى الأرض التي بارك فيها للعالمين، وفي سورة (ص) قال: * (تجرى بأمره رخآء حيث أصاب) *، وقوله * (حيث أصاب) *، يدل على التعميم في الأمكنة التي يريد الذهاب إليها على الريح. فقوله: * (حيث أصاب) * أي حيث أراد. قاله مجاهد. وقال ابن الأعرابي: العرب تقول: أصاب الصواب، وأخطأ الجواب: أي أراد الصواب وأخطأ الجواب. ومنه قول الشاعر: حيث أصاب) * أي حيث أراد. قاله مجاهد. وقال ابن الأعرابي: العرب تقول: أصاب الصواب، وأخطأ الجواب: أي أراد الصواب وأخطأ الجواب. ومنه قول الشاعر:
* أصاب الكلام فلم يستطع
* فأخطأ الجواب لدى المفصل
*
قاله القرطبي. وعن رؤبة: أن رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن معنى (أصاب). فخرج إليهما فقال: أين تصيبان؟ فقالا: هذه طلبتنا. ورجعا.
أما الجواب عن السؤال الأول فمن وجهين: الأول أنها عاصفة في بعض الأوقات، ولينة رخاء في بعضها بحسب الحاجة. كأن تعصف ويشتد هبوبها في أول الأمر حتى ترفع البساط الذي عليه سليمان وجنوده، فإذا ارتفع سارت به رخاء حيث أصاب.
الجواب الثاني هو ما ذكره الزمخشري قال: فإن قلت: وصفت هذه الريح بالعصف تارة بالرخاء أخرى، فما التوفيق بينهما؟ قلت: كانت في نفسها رخية طيبة كالنسيم، فإذا مرت بكرسيه أبعدت به في مدة يسيرة، على ما قال * (غدوها شهر ورواحها شهر) *. فكان جمعها بين الأمرين: أن تكون رخاء في نفسها، وعاصفة في عملها مع طاعتها لسليمان، وهبوبها على حسب ما يريد ويحتكم ا ه محل الغرض منه.
وأما الجواب عن السؤال الثاني فهو أن قوله * (رخاء حيث أصاب) * يدل على أنها تجري بأمره حيث أراد من أقطار الأرض. وقوله * (تجرى بأمره إلى الا رض التى باركنا
235

فيها وكنا) * لأن مسكنه فيها وهي الشام، فترده إلى الشام. وعليه فقوله: * (حيث أصاب) * في حالة الذهاب. وقوله: * (إلى الا رض التى باركنا فيها) * في حالة الإياب إلى محل السكنى. فانفكت الجهة فزال الإشكال. وقد قال نابغة ذبيان: إلى الا رض التى باركنا فيها) * في حالة الإياب إلى محل السكنى. فانفكت الجهة فزال الإشكال. وقد قال نابغة ذبيان:
* إلا سليمان إذ قال الإله له
* قم في البرية فاحددها عن الفند
*
* وخيس الجن إني قد أذنت لهم
* يبنون تدمر بالصفاح والعمد
*
وتدمر: بلد بالشام. وذلك مما يدل على أن الشام هو محل سكناه كما هو معروف. قوله تعالى: * (وشاهد ومشهود) *. الأظهر في قوله * (من) * أنه في محل نصب عطفا على معمول * (إنا سخرنا) * أي وسخرنا له من يغوصون له من الشياطين. وقيل: (من) مبتدأ، والجار والمجرور قبله خبره. وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه سخر لسليمان من يغوصون له من الشياطين. أي يغوصون له في البحار فيستخرجون له منها الجواهر النفيسة. كاللؤلؤ، والمرجان. والغوص: النزول تحت الماء. والغواص: الذي يغوص البحر ليستخرج منه اللؤلؤ ونحوه. ومنه قول نابغة ذبيان: وشاهد ومشهود) *. الأظهر في قوله * (من) * أنه في محل نصب عطفا على معمول * (إنا سخرنا) * أي وسخرنا له من يغوصون له من الشياطين. وقيل: (من) مبتدأ، والجار والمجرور قبله خبره. وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه سخر لسليمان من يغوصون له من الشياطين. أي يغوصون له في البحار فيستخرجون له منها الجواهر النفيسة. كاللؤلؤ، والمرجان. والغوص: النزول تحت الماء. والغواص: الذي يغوص البحر ليستخرج منه اللؤلؤ ونحوه. ومنه قول نابغة ذبيان:
* أو درة صدفية غواصها
* بهج متى يراها يهل ويسجد
*
وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أيضا. أن الشياطين المسخرين له يعملون له عملا دون ذلك. أي سوى ذلك الغوص المذكور. أي كبناء المدائن والقصور، وعمل المحاريب والتماثيل، والجفان والقدور الراسيات، وغير ذلك من اختراع الصنائع العجيبة.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (وكنا لهم حافظين) * أي من أن يزيغوا عن أمره، أو يبدلوا أو يغيروا، أو يوجد منهم فساد فيما هم مسخرون فيه. وهذه المسائل الثلاث التي تضمنتها هذه الآية الكريمة جاءت مبينة في غير هذا الموضع. كقوله في الغوص والعمل سواء: * (والشياطين كل بنآء وغواص) *، وقوله في العمل غير الغوص: * (ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه) *، وقوله: * (يعملون له ما يشآء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات) *، وكقوله في حفظهم من أن يزيغوا عن أمره: * (ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير) *
236

، وقوله: * (وءاخرين مقرنين فى الا صفاد) *.
وصفة البساط، وصفة حمل الريح له، وصفة جنود سليمان من الجن والإنس والطير كل ذلك مذكور بكثرة في كتب التفسير، ونحن لم نطل به الكلام في هذا الكلام المبارك. قوله تعالى: * (وأيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وءاتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين) *. الظاهر أن قوله * (وأيوب) * منصوب باذكر مقدرا، ويدل على ذلك قوله تعالى في (ص) * (واذكر عبدنآ أيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب) *.
وقد أمر جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين نبيه صلى الله عليه وسلم: أن يذكر أيوب حين نادى ربه قائلا: * (أنى مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين) * وأن ربه استجاب له فكشف عنه جميع ما به من الضر، وأنه آتاه أهله، وآتاه مثلهم معهم رحمة منه جل وعلا به، وتذكيرا للعابدين أي الذين يعبدون الله لأنهم هم المنتفعون بالذكرى.
وهذا المعنى الذي ذكره هنا ذكره أيضا في سورة (ص) في قوله: * (واذكر عبدنآ أيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب) * إلى قوله * (لا ولى الا لباب) * والضر الذي مس أيوب، ونادى ربه ليكشفه عنه كان بلاء أصابه في بدنه وأهله وماله. ولما أراد الله إذهاب الضر عنه أمره أن يركض برجله ففعل، فنبعت له عين ماء فاغتسل منها فزال كل ما بظاهر بدنه من الضر، وشرب منها فزال كل ما بباطنه. كما أشار تعالى إلى ذلك في قوله: * (اركض برجلك هاذا مغتسل بارد وشراب) *.
وما ذكره في (الأنبياء): من أنه آتاه أهله ومثلهم معهم رحمة منه وذكرى لمن يعبده بينه في (ص) في قوله، * (ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لا ولى الا لباب) *، وقوله في (الأنبياء)، * (وذكرى للعابدين) * مع قوله في (ص)، * (وذكرى لا ولى الا لباب) * فيه الدلالة الواضحة على أن أصحاب العقول السليمة من شوائب الاختلال، هم الذين يعبدون الله وحده ويطيعونه. وهذا يؤيد قول من قال من أهل العلم، إن من أوصى بشيء من ماله لأعقل الناس أن تلك الوصية تصرف لأتقى الناس وأشدهم طاعة لله تعالى. لأنهم هم أولو الألباب. أي العقول
237

الصحيحة السالمة من الاختلال.
تنبيه
في هذه الآيات المذكورة سؤال معروف، وهو أن يقال: إن قول أيوب المذكور في (الأنبياء) في قوله، * (إذ نادى ربه أنى مسنى الضر) * وفي (ص) في قوله، * (إذ نادى ربه أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب) * يدل على أنه ضجر من المرض فشكا منه. مع أن قوله تعالى، * (إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب) *
يدل على كمال صبره؟
والجواب أن ما صدر من أيوب دعاء وإظهار فقر وحاجة إلى ربه، لا شكوى ولا جزع.
قال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة، ولم يكن قوله * (مسنى الضر) * جزعا. لأن الله تعالى قال: * (إنا وجدناه صابرا) * بل كان ذلك دعاء منه. والجزع في الشكوى إلى الخلق لا إلى الله تعالى، والدعاء لا ينافي الرضا. قال الثعلبي: سمعت أستاذنا أبا القاسم بن حبيب يقول: حضرت مجلسا غاصا بالفقهاء والأدباء في دار السلطان. فسئلت عن هذه الآية الكريمة بعد اجتماعهم على أن قول أيوب كان شكاية وقد قال الله تعالى: * (إنا وجدناه صابرا) * فقلت: ليس هذا شكاية، وإنما كان دعاء. بيانه * (فاستجبنا له) * والإجابة تتعقب الدعاء لا الاشتكاء. فاستحسنوه وارتضوه. وسئل الجنيد عن هذه الآية الكريمة فقال: عرفه فاقة السؤال ليمن عليه بكرم النوال انتهى منه.
ودعاء أيوب المذكور ذكره الله في سورة (الأنبياء) من غير أن يسند مس الضر أيوب إلى الشيطان في قوله: * (أنى مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين) * وذكره في سورة (ص) وأسند ذلك الشيطان في قوله: * (أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب) * والنصب على جميع القراءات معناه: التعب والمشقة، والعذاب: الألم. وفي نسبة ما أصابه من المشقة والألم إلى الشيطان في سورة (ص) هذه إشكال قوي معروف. لأن الله ذكر في آيات من كتابه: أن الشيطان ليس له سلطان على مثل أيوب من الأنبياء الكرام. كقوله: * (إنه ليس له سلطان على الذين ءامنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) *، وقوله تعالى: * (وما كان له
238

عليهم من سلطان) *، وقوله تعالى مقررا له: * (وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى) *، وقوله تعالى: * (إن عبادى ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) *.
وللعلماء عن هذا الإشكال أجوبة. منها ما ذكره الزمخشري قال:
فإن قلت: لم نسبه إلى الشيطان، ولا يجوز أن يسلطه على أنبيائه ليقضي إن إتعابهم وتعذيبهم وطره، ولو قدر على ذلك لم يدع صالحا إلا وقد نكبه وأهلكه، وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب؟
قلت: لما كانت وسوسته إليه، وطاعته له فيما وسوس سببا فيما مسه الله به من النصب والعذاب نسبه إليه، وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه، مع أنه فاعله ولا يقدر عليه إلا هو. وقيل: أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء، ويغريه على الكراهة والجزع، فالتجأ إلى الله تعالى في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء، أو بالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل.
وروي أنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين. فارتد أحدهم فسأل عنه، فقيل: ألقى إليه الشيطان أن الله لا يبتلي الأنبياء الصالحين. وذكر في سبب بلائه: أن رجلا استغاثه على ظالم فلم يغثه. وقيل: كانت مواشيه في ناحية ملك كافر فداهنه ولم يغزه. وقيل. أعجب بكثرة ماله انتهى منه.
ومنها ما ذكره جماعة من المفسرين: أن الله سلط الشيطان على ماله وأهله ابتلاء لأيوب. فأهلك الشيطان ماله وولده، ثم سلطه على بدنه ابتلاء له فنفخ في جسده نفخة اشتعل منها، فصار في جده ثآليل، فحكها بأظافره حتى دميت، ثم بالفخار حتى تساقط لحمه، وعصم الله قلبه ولسانه. (وغالب ذلك من الإسرائيليات) وتسليطه للابتلاء على جسده، وماله وأهله ممكن، وهو أقرب من تسليطه عليه بحمله على أن يفعل ما لا ينبغي. كمداهنة الملك المذكور، وعدم إغاثة الملهوف، إلى غير ذلك من الأشياء التي يذكرها المفسرون. وقد ذكروا هنا قصة طويلة تتضمن البلاء الذي وقع فيه، وقدر مدته (وكل ذلك من الإسرائيليات) وقد ذكرنا هنا قليلا.
وغاية ما دل عليه القرآن: أن الله ابتلى نبيه أيوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأنه ناداه فاستجاب له وكشف عنه كل ضر، ووهبه أهله ومثلهم معهم، وأن أيوب نسب
239

ذلك في (ص) إلى الشيطان. ويمكن أن يكون سلطه الله على جسده وماله وأهله. ابتلاء ليظهر صبره الجميل، وتكون له العافية الحميدة في الدنيا والآخرة، ويرجع له كل ما أصيب فيه، والعلم عند الله تعالى وهذا لا ينافي أن الشيطان لا سلطان له على مثل أيوب، لأن التسليط على الأهل والمال والجسد من جنس الأسباب التي تنشأ عنها الأعراض البشرية كالمرض، وذلك يقع للأنبياء، فإنهم يصيبهم المرض، وموت الأهل، وهلاك المال لأسباب متنوعة. ولا مانع من أن يكون جملة تلك الأسباب تسليط الشيطان على ذلك للابتلاء وقد أوضحنا جواز وقوع الأمراض والتأثيرات البشرية على الأنبياء في سورة (طه) وقول الله لنبيه أيوب في سورة (ص): * (وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث) *، قال المفسرون فيه: إنه حلف في مرضه ليضربن زوجه مائة سوط، فأمره الله أن يأخذ ضغثا فيضربها به ليخرج من يمينه، والضغث: الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو نحو ذلك. والمعنى: أنه يأخذ حزمة فيها مائة عود فيضربها بها ضربة واحدة، فيخرج بذلك من يمينه. وقد قدمنا في سورة (الكهف) الاستدلال بآية * (ولا تحنث) * على أن الاستثناء المتأخر لا يفيد. إذ لو كان يفيد لقال الله لأيوب قل إن شاء الله. ليكون ذلك استثناء في يمينك. قوله تعالى: * (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى فى الظلمات أن لا إلاه إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذالك ننجى المؤمنين) *. أي واذكر ذا النون. والنون: الحوت. (وذا) بمعنى صاحب. فقوله * (ذا * النون) * معناه صاحب الحوت. كما صرح الله بذلك في (القلم) في قوله * (ولا تكن كصاحب الحوت) *. وإنما أضافه إلى الحوت لأنه النقمة كما قال تعالى: * (فالتقمه الحوت وهو مليم) *.
وقوله: * (فظن أن لن نقدر عليه) * فيه وجهان من التفسير لا يكذب أحدهما الآخر:
الأول أن المعنى * (فظن أن لن نقدر عليه) * أي لن نضيق عليه في بطن الحوت. ومن إطلاق (قدر) بمعنى (ضيق) في القرآن قوله تعالى: * (الله يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر) * أي ويضيق الرزق على من يشاء، وقوله تعالى: * (لينفق ذو سعة
240

من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق ممآ ءاتاه الله) *. فقوله: * (ومن قدر عليه رزقه) * أي ومن ضيق عليه رزقه.
الوجه الثاني أن معنى * (لن نقدر عليه) * لن نقضي عليه ذلك. وعليه فهو من القدر والقضاء. (وقدر) بالتخفيف تأتي بمعنى (قدر) المضعفة: ومنه قوله تعالى: * (فالتقى المآء على أمر قد قدر) * أي قدره الله. ومنه قول الشاعر وأنشده ثعلب شاهدا لذلك: فالتقى المآء على أمر قد قدر) * أي قدره الله. ومنه قول الشاعر وأنشده ثعلب شاهدا لذلك:
* فليست عشيات الحمى برواجع
* لنا أبدا ما أورق السلم النضر
*
* ولا عائذ ذاك الزمان الذي مضى
* تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر
*
والعرب تقول: قدر الله لك الخير يقدره قدرا، كضرب بضرب، ونصر ينصر، بمعنى قدره لك تقديرا. ومنه على أصح القولين (ليلة القدر) لأن الله يقدر فيها الأشياء. كما قال تعالى: * (فيها يفرق كل أمر حكيم) * والقدر بالفتح، والقدر بالسكون: ما يقدره الله من القضاء. ومنه قول هدبة بن الخشرم: فيها يفرق كل أمر حكيم) * والقدر بالفتح، والقدر بالسكون: ما يقدره الله من القضاء. ومنه قول هدبة بن الخشرم:
* ألا يا لقومي للنوائب والقدر
* وللأمر يأتي المرء من حيث لا يدري
*
أما قول من قال: إن * (لن نقدر عليه) * من القدرة فهو قول باطل بلا شك. لأن نبي الله يونس لا يشك في قدرة الله على كل شيء، كما لا يخفى.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (مغاضبا) * أي في حال كونه مغاضبا لقومه. ومعنى المفاعلة فيه: أنه أغضبهم بمفارقته وتخوفهم حلول العذاب بهم، وأغضبوه حين دعاهم إلى الله مدة فلم يجيبوه، فأوعدهم بالعذاب. ثم خرج من بينهم على عادة الأنبياء عند نزول العذاب قبل أن يأذن الله له في الخروج. قاله أبو حيان في البحر. وقال أيضا: وقيل معنى (مغاضبا) غضبان، وهو من المفاعلة التي لا تقتضي اشتراكا. نحو عاقبت اللص، وسافرت اه.
واعلم أن قول من قال * (مغاضبا) * أي مغاضبا لربه كما روي عن ابن مسعود، وبه قال الحسن والشعبي وسعيد بن جبير، واختاره الطبري والقتبي، واستحسنه المهدوي يجب حمله على معنى القول الأول. أي مغاضبا من أجل ربه. قال القرطبي بعد أن ذكر هذا القول عمن ذكرنا: وقال النحاس: وربما أنكر هذا من لا يعرف اللغة، وهو قول صحيح، والمعنى: مغاضبا من أجل ربه كما تقول: غضبت لك أي من
241

أجلك، والمؤمن يغضب لله عز وجل إذا عصى انتهى منه. والمعنى على ما ذكر: مغاضبا قومه من أجل ربه، أي، من أجل كفرهم به، وعصيانهم له. وغير هذا لا يصح في الآية. وقوله تعالى: * (فنادى فى الظلمات) *. أي ظلمة البحر، وظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت. (وأن) في قوله * (أن لا إلاه إلا أنت) * مفسرة، وقد أوضحنا فيما تقدم معنى (أن لا إله)، ومعنى (سبحانك)، ومعنى الظلم، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وقوله: * (فاستجبنا له) * أي أجبناه ونجيناه من الغم الذي هو فيه في بطن الحوت، وإطلاق استجاب بمعنى أجاب معروف في اللغة، ومنه قول كعب بن سعد الغنوي: فاستجبنا له) * أي أجبناه ونجيناه من الغم الذي هو فيه في بطن الحوت، وإطلاق استجاب بمعنى أجاب معروف في اللغة، ومنه قول كعب بن سعد الغنوي:
* وداع دعا يا من يجيب إلى الندى
* فلم يستجبه عند ذاك مجيب
*
وما ذكره الله جل وعلا في هذه الآية: من نداء نبيه يونس في تلك الظلمات هذا النداء العظيم، وأن الله استجاب له ونجاه من الغم أوضحه في غير هذا الموضع.
وبين في بعض المواضع: أنه لو لم يسبح هذا التسبيح العظيم للبث في بطن الحوت إلى يوم البعث ولم يخرج منه. وبين في بعضها أنه طرحه بالعراء وهو سقيم.
وبين في بعضها: أنه خرج بغير إذن كخروج العبد الآبق، وأنهم اقترعوا على من يلقى في البحر فوقعت القرعة على يونس أنه هو الذي يلقى فيه.
وبين في بعضها: أن الله تداركه برحمته. ولو لم يتداركه بها لنبذ بالعراه في حال كونه مذموما، ولكنه تداركه بها فنبذ غير مذموم، قال تعالى في (الصافات): * (وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت وهو مليم فلولا أنه كان من المسبحين للبث فى بطنه إلى يوم يبعثون فنبذناه بالعرآء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فأامنوا فمتعناهم إلى حين) *. فقوله في آيات (الصافات) المذكورة * (إذ أبق) *
أي حين أبق، وهو من قول العرب: عبد آبق، لأن يونس خرج قبل أن يأذن له ربه، ولذلك أطلق عليه اسم الإباق. واستحقاق الملامة في قوله: * (وهو مليم) * لأن المليم اسم فاعل ألام إذا فعل ما يستوجب
242

الملام. وقوله: * (فساهم) * أي قارع بمعنى أنه وضع مع أصحاب السفينة سهام القرعة ليخرج سهم من يلقى في البحر. وقوله: * (فكان من المدحضين) * أي المغلوبين في القرعة. لأنه خرج له السهم الذي يلقى صاحبه في البحر. ومن ذلك قول الشاعر: لأنه خرج له السهم الذي يلقى صاحبه في البحر. ومن ذلك قول الشاعر:
* قتلنا المدحضين بكل فج
* فقد قرت بقتلهم العيون
*
وقوله * (فنبذناه) * أي طرحناه، بأن أمرنا الحوت أن يلقيه بالساحل. والعراء: الصحراء. وقول من قال: العراء الفضاء أو المتسع من الأرض، أو المكان الخالي أو وجه الأرض راجع إلى ذلك، ومنه قول الشاعر وهو رجل من خزاعة: وقوله * (فنبذناه) * أي طرحناه، بأن أمرنا الحوت أن يلقيه بالساحل. والعراء: الصحراء. وقول من قال: العراء الفضاء أو المتسع من الأرض، أو المكان الخالي أو وجه الأرض راجع إلى ذلك، ومنه قول الشاعر وهو رجل من خزاعة:
* ورفعت رجلالا أخاف عثارها
* ونبذت بالبلد العراء ثيابي
*
وشجرة اليقطين: هي الدباء. وقوله: * (وهو سقيم) * أي مريض لما أصابه من التقام الحوت إياه، وقال تعالى في (القلم). * (ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعرآء وهو مذموم فاجتباه ربه فجعله من الصالحين) * فقوله في آية (القلم) هذه: * (إذ نادى) * أي نادى أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، وقوله: * (وهو مكظوم) * أي مملوء غما، كما قال تعالى: * (ونجيناه من الغم) * وهو قول ابن عباس ومجاهد. وعن عطاء وأبي مالك * (مكظوم) *: مملوء كربا. قال الماوردي: والفرق بين الغم والكرب: أن الغم في القلب. والكرب في الأنفاس. وقيل * (مكظوم) * محبوس. والكظم: الحبس. ومنه قولهم: كظم غيظه، أي حبس غضبه، قاله ابن بحر. وقيل: المكظوم المأخوذ بكظمه، وهو مجرى النفس، قاله المبرد انتهى من القرطبي.
وآية (القلم) المذكورة تدل على أن نبي الله يونس عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام عجل بالذهاب ومغاضبة قومه، ولم يصبر الصبر اللازم بدليل قوله مخاطبا نبينا صلى الله عليه وسلم فيها: * (فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت) *. فإن أمره لنبينا صلى الله عليه وسلم بالصبر ونهيه إياه أن يكون كصاحب الحوت دليل على أن صاحب الحوت لم يصبر كما ينبغي. وقصة يونس، وسبب ذهابه ومغاضبته قومه مشهورة مذكورة في كتب التفسير. وقد بين تعالى في سورة (يونس): أن قوم يونس آمنوا فنفعهم إيمانهم دون غيرهم من سائر القرى التي بعثت إليهم الرسل، وذلك في قوله: * (فلولا كانت قرية ءامنت فنفعهآ إيمانها إلا
243

قوم يونس لمآ ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزى فى الحيواة الدنيا ومتعناهم إلى حين) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وكذالك ننجى المؤمنين) * يدل على أنه ما من مؤمن يصيبه الكرب والغم فيبتهل إلى الله داعيا بإخلاص، إلا نجاه الله من ذلك الغم، ولا سيما إذا دعا بدعاء يونس هذا. وقد جاء في حديث مرفوع عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في دعاء يونس المذكور: (لم يدع به مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له) رواه أحمد والترمذي وابن أبي حاتم وابن جرير وغيرهم. والآية الكريمة شاهدة لهذا الحديث شهادة قوية كما ترى، لأنه لما ذكر أنه أنجى يونس شبه بذلك إنجاءه المؤمنين. وقوله * (ننجى المؤمنين) * صيغة عامة في كل مؤمن كما ترى. وقرأ عامة القراء السبعة غير ابن عامر وشعبة عن عاصم * (وكذالك ننجى المؤمنين) * بنونين أولاهما مضمومة، والثانية ساكنة بعدها جيم مكسورة مخففة فياء ساكنة، وهو مضارع أنجى الرباعي على صيغة أفعل، والنون الأولى دالة على العظمة، وقرأ ابن عامر وشعبة عن عاصم * (وكذالك ننجى المؤمنين) * بنون واحدة مضمومة بعدها جيم مكسورة مشددة فياء ساكنة. وهو على هذه القراءة بصيغة فعل ماض مبني للمفعول من نجى المضعفة على وزن فعل بالتضعيف. وفي كلتا القراءتين إشكال معروف. أما قراءة الجمهور فهي من جهة القواعد العربية واضحة لا إشكال فيها، ولكن فيها إشكال من جهة أخرى، وهي: أن هذا الحرف إنما كتبه الصحابة في المصاحف العثمانية بنون واحدة، فيقال: كيف تقرأ بنونين وهي في المصاحف بنون واحدة؟ وأما على قراءة ابن عامر وشعبة بالإشكال من جهة القواعد العربية، لأن نجى على قراءتهما بصيغة ماض مبني للمفعول، فالقياس رفع * (المؤمنين) * بعده على أنه نائب الفاعل، وكذلك القياس فتح باء (نجى) لا إسكانها.
وأجاب العلماء عن هذا بأجوبة: منها ما ذكره بعض الأئمة، وأشار إليه ابن هشام في باب الإدغام من توضيحه: أن الأصل في قراءة ابن عامر وشعبة (ننجي) بفتح النون الثانية مضارع نجى مضعفا، فحذفت النون الثانية تخفيفا. أو ننجي بسكونها مضارع أنجى وأدغمت النون في الجيم لاشتراكهما في الجهر والانفتاح والتوسط بين القوة والضعف، كما أدغمت في (إجاصة وإجابة) بتشديد الجيم فيهما، أو الأصل (إنجاصة وإنجانة) فأدغمت النون فيهما. والإجاصة: واحدة الإجاص، قال في القاموس: الإجاص بالكسر مشددا: ثمر معروف دخيل، لأن الجيم والصاد لا يجتمعان في كلمة، الواحدة بهاء. ول
244

ا تقل انجاص، أو لغية ا ه. والإجانة. واحدة الأجاجين. قال في التصريح: وهي بفتح الهمزة وكسرها. قال صاحب الفصيح: قصربة يعجن فيها ويغسل فيها. ويقال
: إنجانة كما يقال إنجاصة، وهي لغة يمانية فيهما أنكرها الأكثرون ا ه. فهذا وجهان في توجيه قراءة ابن عامر وشعبة، وعليهما فلفظة (المؤمنين) مفعول به ل (ننجي).
ومن أجوبة العلماء عن قراءة ابن عامر وشعبة: أن (نجى) على قراءتهما فعل ماض مبني للمفعول، والنائب عن الفاعل ضمير المصدر، أي نجى هو أي الإنجاء، وعلى هذا الوجه فالآية كقراءة من قرأ * (ليجزى قوما) *، ببناء (يجزي) للمفعول والنائب ضمير المصدر، أي ليجزي هو أي الجزاء ونيابة المصدر عن الفاعل في حال كون الفعل متعديا للمفعول ترد بقلة، كما أشار له في الخلاصة بقوله: ليجزى قوما) *، ببناء (يجزي) للمفعول والنائب ضمير المصدر، أي ليجزي هو أي الجزاء ونيابة المصدر عن الفاعل في حال كون الفعل متعديا للمفعول ترد بقلة، كما أشار له في الخلاصة بقوله:
* وقابل من ظرف أو من مصدر
* أو حرف جر بنيابة حرى
*
* ولا ينوب بعض هذا إن وجد
* في اللفظ مفعول به وقد يرد
*
ومحل الشاهد منه قوله: (وقد يرد) وممن قال بجوار ذلك الأخفش والكوفيون وأبو عبيد. ومن أمثلة ذلك في كلام العرب قول جرير يهجو أم الفرزدق: ومحل الشاهد منه قوله: (وقد يرد) وممن قال بجوار ذلك الأخفش والكوفيون وأبو عبيد. ومن أمثلة ذلك في كلام العرب قول جرير يهجو أم الفرزدق:
* ولو ولدت قفيرة جرو كلب
* لسب بذلك الجرو الكلابا
*
يعني لسب هو أي السب. وقول الراجز: يعني لسب هو أي السب. وقول الراجز:
* لم يعن بالعلياء إلا سيدا
* ولا شفى ذا الغي إلا ذو هدى
*
وأما إسكان ياء (نجي) على هذا القول فهو على لغة من يقول من العرب: رضي، وبقي بإسكان الياء تخفيفا. ومنه قراءة الحسن * (وذروا ما بقى من الربواا) * بإسكان ياء (بقي) ومن شواهد تلك اللغة قول الشاعر: وذروا ما بقى من الربواا) * بإسكان ياء (بقي) ومن شواهد تلك اللغة قول الشاعر:
* خمر الشيب لمنى تخميرا
* وحدا بي إلى القبور البعيرا
*
* ليت شعري إذ القيامة قامت
* ودعى بالحساب أين المصيرا
*
وأما الجواب عن قراءة الجمهور فالظاهر فيه أن الصحابة حذفوا النون في المصاحف لتمكن موافقة قراءة ابن عامر وشعبة للمصاحف لخفائها، أما قراءة الجمهور فوجهها ظاهر ولا إشكال فيها، فغاية الأمر أنهم حذفوا حرفا من الكلمة لمصلحة مع تواتر الرواية لفظا بذكر الحرف المحذوف والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (إن هاذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا
245

أمرهم بينهم كل إلينا راجعون) *. قد قدمنا معاني (الأمة) في القرآن في سورة (هود). والمراد بالأمة هنا: الشريعة والملة. والمعنى: وأن هذه شريعتكم شريعة واحدة، وهي توحيد الله على الوجه الأكمل من جميع الجهات، وامتثال أمره، واجتناب نهيه بإخلاص في ذلك. على حسب ما شرعه لخلقه * (وأنا ربكم فاعبدون) * أي وحدي. والمعنى دينكم واحد وربكم واحد، فلم تختلفون * (وتقطعوا أمرهم بينهم) * أي تفرقوا في الدين وكانوا شيعا. فمنهم يهودي، ومنهم نصراني، ومنهم عابد وثن إلى غير ذلك من الفرق المختلفة.
ثم بين بقوله: * (كل إلينا راجعون) * أنهم جميعهم راجعون إليه يوم القيامة، وسيجازيهم بما فعلوا. وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة * (وتقطعوا أمرهم بينهم) * المعنى: جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا كما يتوزع الجماعة الشيء ويقتسمونه. فيصير لهذا نصيب ولذلك نصيب. تمثيلا لاختلافهم فيه، وصيرورتهم فرقا شتى ا ه.
وظاهر الآية أن (تقطع) متعدية إلى المفعول ومفعولها (أمرهم) ومعنى تقطعوه. أنهم جعلوه قطعا كما ذكرنا. وقال القرطبي قال الأزهري: * (وتقطعوا أمرهم) * أي تفرقوا في أمرهم فنصب (أمرهم) بحذف (في) ومن إطلاق الأمة بمعنى الشريعة والدين كما في هذه الآية: قوله تعالى عن الكفار: * (إنا وجدنآ ءابآءنا على أمة) * أي على شريعة وملة ودين. ومن ذلك قول نابغة ذبيان: إنا وجدنآ ءابآءنا على أمة) * أي على شريعة وملة ودين. ومن ذلك قول نابغة ذبيان:
* حلفت فلم أترك في نفسك ريبة
* وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع
*
ومعنى قوله: (وهل يأثمن ذو أمة.. الخ) أن صاحب الدين لا يرتكب الإثم طائعا.
وما ذكره جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين: من أن الدين واحد والرب واحد فلا داعي للاختلاف. وأنهم مع ذلك اختلفوا أو صاروا فرقا أوضحه في سورة * (قد أفلح المؤمنون) * وزاد أن كل حزب من الأحزاب المختلفة فرحون بما عندهم. وذلك في قوله تعالى: * (ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إنى بما تعملون عليم وإن هاذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم
246

فرحون فذرهم فى غمرتهم حتى حين) *. وقوله في هذه الآية * (زبرا) * أي قطعا كزبر الحديد والفضة، أي قطعها. وقوله * (كل حزب بما لديهم فرحون) * أي كل فرقة من هؤلاء الفرق الضالين المختلفين المتقطعين دينهم قطعا فرحون بباطلهم، مطمئنون إليه، معتقدون أنه هو الحق.
وقد بين جل وعلا في غير هذا الموضع: أن ما فرحوا به، واطمئنوا إليه باطل، كما قال تعالى في سورة (المؤمن): * (فلما جآءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون فلما رأوا بأسنا قالوا ءامنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين) *، وقال: * (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم فى شىء إنمآ أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (إن هاذه) * (هذه) اسم (إن) وخبرها * (أمتكم) *. وقوله * (أمة واحدة) * حال هو ظاهر. قوله تعالى: * (لهم فيها زفير) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن أهل النار لهم فيها زفير والعياذ بالله تعالى. وأظهر الأقوال في الزفير: أنه كأول صوت الحمار، وأن الشهيق كآخره وقد بين تعالى أن أهل النار لهم فيها زفير في غير هذا الموضع وزاد على ذلك الشهيق والخلود، كقوله في (هود): * (فأما الذين شقوا ففى النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها) *. قوله تعالى: * (وهم فيها لا يسمعون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن أهل النار لا يسمعون فيها. وبين في غير هذا الموضع: أنهم لا يتكلمون ولا يبصرون، كقوله في (الإسراء): * (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما) *، وقوله: * (ونحشره يوم القيامة أعمى) *، وقوله: * (ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون) * مع أنه جلا وعلا ذكر في آيات أخر ما يدل على أنهم يسمعون ويبصرون ويتكلمون، كقوله تعالى: * (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا) *، وقوله: * (ربهم ربنآ أبصرنا وسمعنا) *، وقوله: * (ورأى المجرمون النار) *. وقد بينا أوجه الجمع بين الآيات المذكورة في (طه) فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
247

قوله تعالى: * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولائك عنها مبعدون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة. إن الذين سبقت لهم منه في علمه الحسنى وهي تأنيث الأحسن، وهي الجنة أو السعادة مبعدون يوم القيامة عن النار. وقد أشار إلى نحو ذلك في غير هذا الموضع، كقوله: * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) *، وقوله: * (هل جزآء الإحسان إلا الإحسان) *، ونحو ذلك من الآيات.
* (لا يحزنهم الفزع الا كبر وتتلقاهم الملائكة هاذا يومكم الذى كنتم توعدون * يوم نطوى السمآء كطى السجل للكتب كما بدأنآ أول خلق نعيده وعدا علينآ إنا كنا فاعلين * ولقد كتبنا فى الزبور من بعد الذكر أن الا رض يرثها عبادى الصالحون * إن فى هاذا لبلاغا لقوم عابدين * ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين * قل إنمآ يوحى إلى أنمآ إلاهكم إلاه واحد فهل أنتم مسلمون * فإن تولوا فقل ءاذنتكم على سوآء وإن أدرى أقريب أم بعيد ما توعدون * إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون * وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين * قال رب احكم بالحق وربنا الرحمان المستعان على ما تصفون) * قوله تعالى: * (وتتلقاهم الملائكة هاذا يومكم الذى كنتم توعدون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن عباده المؤمنين الذين سبقت لهم منه الحسنى * (وتتلقاهم الملائكة) * أي تستقبلهم بالبشارة، وتقول لهم: * (هاذا يومكم الذى كنتم توعدون) * أي توعدون فيه أنواع الكرامة والنعيم. قيل: نستقبلهم على أبواب الجنة بذلك. وقيل: عند الخروج من القبور كما تقدم.
وما ذكره جل وعلا من استقبال الملائكة لهم بذلك بينه في غير هذا الموضع، كقوله في (فصلت): * (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلى الكبير نحن أوليآؤكم فى الحيواة الدنيا وفى الا خرة ولكم فيها ما تشتهى أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم) * وقوله في (النحل): * (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (يوم نطوى السمآء كطى السجل للكتب) *. قوله * (يوم نطوى السمآء) * منصوب بقوله: * (لا يحزنهم الفزع) *، أو بقوله * (وتتلقاهم) *. وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه يوم القيامة يطوي السماء كطي السجل الكتب. وصرح في (الزمر) بأن الأرض جميعا قبضته يوم القيامة، وأن السماوات مطويات بيمينه، وذلك في قوله: * (وما قدروا الله حق قدره والا رض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون) *. وما ذكره من كون السماوات مطويات بيمينه في هذه الآية جاء في الصحيح أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد قدمنا مرارا أن الواجب في ذلك إمراره كما جاء، والتصديق به مع اعتقاد أن صفة الخالق أعظم من أن تمائل صفة
المخلوق. وأقوال العلماء في معنى قوله
248

* (كطى السجل للكتب) * راجعة إلى أمرين:
الأول أن السجل الصحيفة: والمراد بالكتب: ما كتب فيها، واللام بمعنى علي، أي كطي السجل على الكتب، أي كطي الصحيفة على ما كتب فيها، وعلى هذا فطي السجل مصدر مضاف إلى مفعوله، لأن السجل على هذا المعنى مفعول الطي.
الثاني أن السجل ملك من الملائكة، وهو الذي يطوي كتب أعمال بني آدم إذا رفعت إليه، ويقال: إنه في السماء الثالثة، ترفع إليه الحفظة الموكلون بالخلق أعمال بني آدم في كل خميس واثنين، وكان من أعوانه (فيما ذكروا) هاروت وماروت، وقيل، إنه لا يطوي الصحيفة حتى يموت صاحبها فيرفعها ويطويها إلى يوم القيامة، وقول من قال: إن السجل صحابي، كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم ظاهر السقوط كما ترى.
وقوله في هذه الآية الكريمة (للكتاب) قرأه عامة السبعة غير حمزة والكسائي وحفص عن عاصم (للكتاب) بكسر الكاف وفتح التاء بعدها ألف بصيغة الإفراد. وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم (للكتب) بضم الكاف والتاء بصيغة الجمع. ومعنى القراءتين واحد. لأن المراد بالكتاب على قراءة الإفراد جنس الكتاب، فيشمل كل الكتب. قوله تعالى: * (ولقد كتبنا فى الزبور من بعد الذكر أن الا رض يرثها عبادى الصالحون) *. أظهر الأقوال عندي في هذه الآية الكريمة: أن الزبور الذي هو الكتاب يراد به جنس الكتاب فيشمل الكتب المنزلة، كالتوراة والإنجيل، وزبور داود، وغير ذلك. وأن المراد بالذكر: أم الكتاب، وعليه فالمعنى: ولقد كتبنا في الكتب المنزلة على الأنبياء أن الأرض يرثها عبادي الصالحون بعد أن كتبنا ذلك في أم الكتاب. وهذا المعنى واضح لا إشكال فيه. وقيل الزبور في الآية: زبور داود، والذكر: التوراة. وقيل غير ذلك. وأظهرها هو ما ذكرنا واختاره غير واحد.
واعلم أن قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن الآية قد يكون فيها قولان للعلماء، وكلاهما حق ويشهد له قرآن فنذكر الجميع. لأنه كله حق داخل في الآية. ومن ذلك هذه الآية الكريمة، لأن المراد بالأرض في قوله هنا * (أن الا رض يرثها عبادى الصالحون) * فيه للعلماء وجهان:
249

الأول أنها أرض الجنة يورثها الله يوم القيامة عبادة الصالحين. وهذا القول يدل له قوله تعالى: * (وقالوا الحمد لله الذى صدقنا وعده وأورثنا الا رض نتبوأ من الجنة حيث نشآء فنعم أجر العاملين) * وقد قدمنا معنى إيراثهم الجنة مستوفى في سورة (مريم).
الثاني أن المراد بالأرض: أرض العدو يورثها الله المؤمنين في الدنيا: ويدل لهذا قوله تعالى: * (وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شىء قديرا) *، وقوله: * (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الا رض ومغاربها) *، وقوله تعالى: * (قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشآء من عباده والعاقبة للمتقين) *، وقوله تعالى: * (وعد الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الا رض كما استخلف الذين من قبلهم) *، وقوله تعالى * (فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الا رض من بعدهم) * إلى غير ذلك من الآيات. وقرأ هذا الحرف عامة القراء غير حمزة * (فى الزبور) * بفتح الزاي ومعناه الكتاب. وقرأ حمزة وحده (في الزبور) بضم الزاي. قال القرطبي: وعلى قراءة حمزة فهو جمع زبر. والظاهر أنه يريد الزبر بالكسر بمعنى الزبور أي المكتوب. وعليه فمعنى قراءة حمزة: ولقد كتبنا في الكتب: وهي تؤيد أن المراد بالزبور على قراءة الفتح جنس الكتب لا خصوص زبور وداود كما بينا. وقرأ حمزة (يرثها عبادي) بإسكان الياء، والباقون بفتحها. قوله تعالى: * (إن فى هاذا لبلاغا لقوم عابدين) *. الإشارة في قوله * (هاذا) * للقرآن العظيم، الذي منه هذه السورة الكريمة. والبلاغ: الكفاية، وما تبلغ به البغية. وما ذكره هنا من أن هذا القرآن فيه الكفاية للعابدين، وما يبلغون به بغيتهم، أي من خير الدنيا والآخرة ذكره في غير هذا الموضع. كقوله: * (هاذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إلاه واحد وليذكر أولوا الألباب) * وخص القوم العابدين بذلك لأنهم هم المنتفعون به. قوله تعالى: * (ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه ما أرسل هذا النبي الكريم صلوات ال
250

له وسلامه عليه إلى الخلائق إلا رحمة لهم. لأنه جاءهم بما يسعدهم وينالون به كل خير من خير الدنيا والآخرة إن اتبعوه. ومن خالف ولم يتبع فهو الذي ضيع على نفسه نصيبه من تلك الرحمة العظمى. وضرب بعض أهل العلم لهذا مثلا قال: لو فجر الله عينا للخلق غزيرة الماء، سهلة التنازل. فسقى الناس زروعهم ومواشيهم بمائها. فتتابعت عليهم النعم بذلك، وبقي أناس مفرطون كسالى عن العمل. فضيعوا نصيبهم من تلك العين، فالعين المفجرة في نفسها رحمة من الله، ونعمة للفريقين. ولكن الكسلان محنة على نفسه حيث حرمها ما ينفعها. ويوضح ذلك قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار) *. وقيل: كونه رحمة للكفار من حيث إن عقوبتهم أخرت بسببه، وأمنوا به عذاب الاستئصال. والأول أظهر.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من أنه ما أرسله إلا رحمة للعالمين يدل على أنه جاء بالرحمة للخلق فيما تضمنه هذا القرآن العظيم. وهذا المعنى جاء موضحا في مواضع من كتاب الله، كقوله تعالى: * (أولم يكفهم أنآ أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن فى ذالك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون) *، وقوله: * (وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك) *.
وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك في سورة (الكهف) في موضعين منها. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله قال: قيل: يا رسول الله، ادع على المشركين. قال: (إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة). قوله تعالى: * (فإن تولوا فقل ءاذنتكم على سوآء) *. قوله * (فإن تولوا) * أي أعرضوا وصدوا عما تدعوهم إليه * (فقل ءاذنتكم على سوآء) * أي أعلمتكم أني حرب لكم كما أنكم حرب لي، بريء منكم كما أنتم برآء مني. وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية أشارت إليه آيات أخر، كقوله: * (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سوآء) * أي ليكن علمك وعلمهم بنبذ العهود على السواء. وقوله تعالى: * (وإن كذبوك فقل
لى عملى ولكم عملكم أنتم بريئون ممآ أعمل وأنا برىء مما تعملون) *. وقوله: * (ءاذنتكم) * الأذان: الإعلام. ومنه الأذان الصلاة. وقوله تعالى: * (وأذان من الله) *، أي إعلام منه، قوله: * (فأذنوا بحرب من الله) *، أي اعلموا. ومنه قول
251

الحرث بن حلزة: فأذنوا بحرب من الله) *، أي اعلموا. ومنه قول الحرث بن حلزة:
* آذنتنا ببينها أسماء
* رب ثاو يمل منه الثواء
*
يعني أعلمتنا ببينها. قوله تعالى: * (إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه علم ما يجهر به خلقه من القول، ويعلم ما يكتمونه. وقد أوضح هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله تعالى: * (وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور) *، وقوله: * (والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) * في الموضعين، وقوله: * (ما تبدون وما كنتم تكتمون) *، وقوله تعالى: * (ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والا رض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) *، وقوله تعالى: * (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) *، وقوله: * (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (قال رب احكم بالحق) *. قرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير حفص عن عاصم * (قال رب) * بضم القاف وسكون اللام بصيغة الأمر. وقرأه حفص وحده * (قال) * بفتح القاف واللام بينهما ألف بصيغة الماضي. وقراءة الجمهور تدل على أنه صلى الله عليه وسلم أمر أن يقول ذلك. وقراءة حفص تدل على أنه امتثل الأمر بالفعل. وما أمره أن يقوله هنا قاله نبي الله شعيب كما ذكره الله عنه في قوله: * (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) *. وقوله * (افتح) * أي احكم كما تقدم. وقوله: * (وربنا الرحمان المستعان على ما تصفون) * أي تصفونه بألسنتكم من أنواع الكذب بادعاء الشركاء والأولاد وغير ذلك. كما قال تعالى: * (وتصف ألسنتهم الكذب) *، وقال: * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب) *. وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قاله يعقوب لما علم أن أولاده فعلوا بأخيهم يوسف شيئا غير ما أخبروه به. وذلك في قوله: * (قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) * والمستعان: المطلوب منه العون. والعلم عند الله تعالى.
252

((سورة الحج))
* (ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شىء عظيم * يوم ترونها تذهل كل مرضعة عمآ أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولاكن عذاب الله شديد * ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد * كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير) * قوله تعالى: * (ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شىء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عمآ أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولاكن عذاب الله شديد) *. أمر جل وعلا في أول هذه السورة الكريمة: الناس بتقواه جل وعلا، بامتثال أمره، واجتناب نهيه، وبين لهم أن زلزلة الساعة شيء عظيم، تذهل بسببه المراضع عن أولادها، وتضع بسببه الحوامل أحمالها، من شدة الهول والفزع، وأن الناس يرون فيه كأنهم سكارى من شدة الخوف، وما هم بسكارى من شرب الخمر، ولكن عذابه شديد.
وما ذكره تعالى هنا من الأمر بالتقوى، وذكره في مواضع كثيرة جدا من كتابه، كقوله في أول سورة النساء * (ياأيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة) * إلى قوله * (واتقوا الله الذى تسآءلون به والا رحام) * والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا.
وما بينه هنا من شدة أهوال الساعة، وعظم زلزلتها، بينه في غير هذا الموضع كقوله تعالى * (إذا زلزلت الا رض زلزالها * وأخرجت الأرض أثقالها * وقال الإنسان ما لها * يومئذ تحدث أخبارها) * وقوله تعالى * (وحملت الا رض والجبال فدكتا دكة واحدة) * وقوله تعالى * (إذا رجت الا رض رجا * وبست الجبال بسا) * وقوله تعالى * (يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة * قلوب يومئذ واجفة * أبصارها خاشعة) * وقوله تعالى * (ثقلت فى السماوات والا رض لا تأتيكم إلا بغتة) * إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عظم هول الساعة.
وقوله في هذه الآية الكريمة * (اتقوا ربكم) * قد أوضحنا فيما مضى معنى التقوى بشواهده العربية، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. والزلزلة: شدة التحريك والإزعاج، ومضاعفة زليل الشيء عن مقره ومركزه: أي تكرير انحرافه وتزحزحه عن موضعه، لأن
254

الأرض إذا حركت حركة شديدة تزلزل كل شيء عليها زلزلة قوية.
وقوله * (يوم ترونها) * منصوب بتذهل، والضمير عائد إلى الزلزلة. والرؤية: بصرية، لأنهم يرون زلزلة الأشياء بأبصارهم، وهذا هو الظاهر، وقيل: إنها من رأي العلمية.
وقوله * (تذهل كل مرضعة) * أي بسبب تلك الزلزلة، والذهول: الذهاب عن الأمر مع دهشة، ومنه قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: تذهل كل مرضعة) * أي بسبب تلك الزلزلة، والذهول: الذهاب عن الأمر مع دهشة، ومنه قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه:
* ضربا يزيل الهام عن مقيله
* ويذهل الخليل عن خليله
*
وقال قطرب: ذهل عن الأمر: اشتغل عنه. وقيل: ذهل عن الأمر: غفل عنه لطرو شاغل، من هم أو مرض، أو نحو ذلك، والمعنى واحد، وبقية الأقوال راجعة إلى ما ذكرنا.
وقوله * (كل مرضعة) * أي كل أنثى ترضع ولدها، ووجه قوله: مرضعة، ولم يقل: مرضع: هو ما تقرر في علم العربية، من أن الأوصاف المختصة بالإناث إن أريد بها الفعل لحقها التاء، وإن أريد بها النسب جردت من التاء، فإن قلت: هي مرضع تريد: أنها ذات رضاع، جردته من التاء كقول امرئ القيس: كل مرضعة) * أي كل أنثى ترضع ولدها، ووجه قوله: مرضعة، ولم يقل: مرضع: هو ما تقرر في علم العربية، من أن الأوصاف المختصة بالإناث إن أريد بها الفعل لحقها التاء، وإن أريد بها النسب جردت من التاء، فإن قلت: هي مرضع تريد: أنها ذات رضاع، جردته من التاء كقول امرئ القيس:
* فمثلك حبلى قد طرقت ومرضعا
* فألهيتها عن ذي تمائم مغيل
*
وإن قلت: هي مرضعة بمعنى، أنها تفعل الرضاع: أي تلقم الولد الثدي، قلت: هي مرضعة بالتاء ومنه قوله: وإن قلت: هي مرضعة بمعنى، أنها تفعل الرضاع: أي تلقم الولد الثدي، قلت: هي مرضعة بالتاء ومنه قوله:
* كمرضعة أولاد أخرى وضيعت
* بني بطنها هذا الضلال عن القصد
*
كما أشار له بقوله: كما أشار له بقوله:
* وما من الصفات بالأنثى يخص
* عن تاء استغنى لأن اللفظ نص
*
* وحيث معنى الفعل يعني التاء زد
* كذي غدت مرضعة طفلا ولد
*
وما زعمه بعض النحاة الكوفيين: من أن أم الصبي مرضعة بالتاء والمستأجرة للإرضاع: مرضع بلا هاء باطل، قاله أبو حيان في البحر. واستدل عليه بقوله: كمرضعة أولاد أخرى البيت: فقد أثبت التاء لغير الأم، وقول الكوفيين أيضا: إن الوصف المختص بالأنثى لا يحتاج فيه إلى التاء، لأن المراد منها الفرق بين الذكر والأنثى: والوصف المختص بالأنثى لا يحتاج إلى فرق لعدم مشاركة الذكر لها فيه مردود أيضا، قاله
255

أبو حيان في البحر أيضا مستدلا بقول العرب: مرضعة، وحائضة، وطالقة: والأظهر في ذلك هو ما قدمنا، من أنه إن أريد الفعل جيء بالتاء، وإن أريد النسبة جرد من التاء، ومن مجيء التاء للمعنى المذكور قول الأعشى: وما زعمه بعض النحاة الكوفيين: من أن أم الصبي مرضعة بالتاء والمستأجرة للإرضاع: مرضع بلا هاء باطل، قاله أبو حيان في البحر. واستدل عليه بقوله: كمرضعة أولاد أخرى البيت: فقد أثبت التاء لغير الأم، وقول الكوفيين أيضا: إن الوصف المختص بالأنثى لا يحتاج فيه إلى التاء، لأن المراد منها الفرق بين الذكر والأنثى: والوصف المختص بالأنثى لا يحتاج إلى فرق لعدم مشاركة الذكر لها فيه مردود أيضا، قاله أبو حيان في البحر أيضا مستدلا بقول العرب: مرضعة، وحائضة، وطالقة: والأظهر في ذلك هو ما قدمنا، من أنه إن أريد الفعل جيء بالتاء، وإن أريد النسبة جرد من التاء، ومن مجيء التاء للمعنى المذكور قول الأعشى:
* أجارتنا بيني فإنك طالقه
* كذاك أمور الناس غاد وطارقه
*
وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة: فإن قلت: لم قيل: مرضعة دون مرضع؟
قلت: المرضعة التي هي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبي. والمرضع: التي شأنها أن ترضع، وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به، فقيل: مرضعة، ليدل على أن ذلك الهول، إذا فوجئت به هذه، وقد ألقمت الرضيع ثديها: نزعته عن فيه، لما يلحقها من الدهشة. وقوله تعالى * (عمآ أرضعت) * الظاهر أن ما: موصولة، والعائد محذوف: أي أرضعته على حد قوله في الخلاصة: * والحذف عندهم كثير منجلي * عمآ أرضعت) * الظاهر أن ما: موصولة، والعائد محذوف: أي أرضعته على حد قوله في الخلاصة: * والحذف عندهم كثير منجلي
* في عائد متصل إن انتصب
* بفعل أو وصف كمن نرجو يهب
*
وقال بعض العلماء: هي مصدرية: أي تذهل كل مرضعة عن إرضاعها.
قال أبو حيان في البحر: ويقوي كونها موصولة تعدي وضع إلى المفعول به في قوله: حملها لا إلى المصدر.
وقوله * (وتضع كل ذات حمل حملها) * أي كل صاحبة حمل تضع جنينها، من شدة الفزع، والهول، والحمل بالفتح: ما كان في بطن من جنين، أو على رأس شجرة من ثمر * (وترى الناس سكارى) * جمع سكران: أي يشبههم من رآهم بالسكارى، من شدة الفزع * (وما هم بسكارى) * من الشراب * (ولاكن عذاب الله شديد) * والخوف منه هو الذي صير من رآهم يشبههم بالسكارى، لذهاب عقولهم، من شدة الخوف، كما يذهب عقل السكران من الشراب. وقرأ حمزة والكسائي * (وترى الناس سكارى وما هم بسكارى) * بفتح السين، وسكون الكاف في الحرفين على وزن فعلى بفتح فسكون. وقرأه الباقون * (سكارى) * بضم السين، وفتح الكاف بعدها ألف في الحرفين أيضا، وكلاهما جمع سكران على التحقيق. وقيل: إن سكرى بفتح فسكون: جمع سكر بفتح فكسر بمعنى:
256

السكران، كما يجمع الزمن على الزمنى، قاله أبو علي الفارسي، كما نقله عنه أبو حيان في البحر. وقيل: إن سكرى مفرد، وهو غير صواب.
واستدلال المعتزلة بهذه الآية الكريمة على أن المعدوم يسمى شيئا، لأنه وصف زلزلة الساعة، بأنها شيء في حال عدمها قبل وجودها. قد بينا وجه رده في سورة مريم، فأغنى عن إعادته هنا.
مسألة
اختلف العلماء في وقت هذه الزلزلة المذكورة هنا، هل هي بعد قيام الناس من قبورهم يوم نشورهم إلى عرصات القيامة، أو هي عبارة عن زلزلة الأرض قبل قيام الناس من القبور؟
فقالت جماعة من أهل العلم: هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر الدنيا، وأول أحوال الساعة، وممن قال بهذا القول: علقمة، والشعبي، وإبراهيم، وعبيد بن عمير، وابن جريج. وهذا القول من حيث المعنى له وجه من النظر، ولكنه لم يثبت ما يؤيده من النقل، بل الثابت من النقل يؤيد خلافه. وهو القول الآخر.
وحجة من قال بهذا القول حديث مرفوع، جاء بذلك، إلا أنه ضعيف لا يجوز الاحتجاج به.
قال ابن جرير الطبري في تفسيره مبينا دليل من قال: إن الزلزلة المذكورة في آخر الدنيا قبل يوم القيامة: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا عبد الرحمان بن محمد المحاربي، عن إسماعيل بن رافع المدني، عن يزيد بن أبي زياد، عن رجل من الأنصار، عن محمد بن كعب القرظي، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لما فرغ الله من خلق السموات والأرض خلق الصور فأعطى إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى السماء ينظر متى يؤمر:) قال أبو هريرة: يا رسول الله، وما الصور؟ قال: (قرن)، قال: وكيف هو؟ قال: (قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات، الأولى: نفخة الفزع، والثانية: نفخة الصعق: والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين)، يأمر الله عز وجل إسرافيل بالنفخة الأولى: انفخ نفخة الفزع فتفزع أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله ويأمره الله فيديمها ويطولها فلا يفتر، وهي التي يقول الله * (وما ينظر هاؤلآء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق) * فيسير الله الجبال فتكون سرابا، وترج الأرض بأهلها رجا، وهي التي يقول الله * (يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة * قلوب يومئذ واجفة) *
257

فتكون الأرض كالسفينة الموبقة في البحر، تضربها الأمواج تكفأ بأهلها، أو كالقنديل المعلق بالعرش، ترججه الأرواح، فتميد الناس على ظهرها، فتذهل المراضع، وتضع الحوامل، وتشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار، فتلقاها الملائكة، فتضرب وجوهها، ويولي الناس مدبرين، ينادي بعضهم بعضا، وهو الذي يقول الله * (يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد) * فبينما هم على ذلك، إذ تصدعت الأرض من قطر إلى قطر فرأوا أمرا عظيما، وأخذهم لذلك من الكرب ما الله أعلم به، ثم نظروا إلى السماء، فإذا هي كالمهل، ثم خسفت شمسها، وخسف قمرها، وانتثرت نجومها، ثم كشطت عنهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والأموات لا يعلمون بشيء من ذلك) فقال أبو هريرة: فمن استثنى الله حين يقول * (ففزع من فى السماوات ومن فى الا رض إلا من شآء الله) * قال: (أولئك الشهداء، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء، أولئك أحياء عند ربهم يرزقون، وقاهم الله فزع ذلك اليوم، وأمنهم، وهو عذاب الله يبعثه على شراء خلقه، وهو الذي يقول * (ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شىء عظيم) * إلى قوله * (ولاكن عذاب الله شديد) *) انتهى منه. ولا يخفى ضعف الإسناد المذكور كما ترى. وابن جرير رحمه الله قبل أن يسوق الإسناد المذكور قال ما نصه: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ما قال هؤلاء خبر في إسناده نظر، وذلك ما حدثنا أبو كريب إلى آخر الإسناد، كما سقناه عنه آنفا.
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: وقد أورد الإمام أبو جعفر بن جرير مستند من قال ذلك في حديث الصور، من رواية إسماعيل بن رافع، عن يزيد بن أبي زياد، عن رجل من الأنصار، عن محمد بن كعب القرظي، عن رجل، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ساق الحديث نحو ما ذكرناه بطوله، ثم قال: هذا الحديث قد رواه الطبراني وابن جرير، وابن أبي حاتم، وغير واحد مطولا جدا.
والغرض منه: أنه دل على أن هذه الزلزلة كائنة قبل يوم القيامة أضيفت إلى الساعة لقربها منها، كما يقال: أشراط الساعة، ونحو ذلك والله أعلم. انتهى منه. وقد
علمت ضعف الإسناد المذكور.
وأما حجة أهل القول الآخر القائلين: بأن الزلزلة المذكورة كائنة يوم القيامة بعد البعث من القبور، فهي ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من تصريحه بذلك. وبذلك تعلم
258

أن هذا القول هو الصواب كما لا يخفى.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه في التفسير في باب قوله * (وترى الناس سكارى) * حدثنا عمر بن حفص، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، حدثنا أبو صالح، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم، فيقول: لبيك ربنا وسعديك، فينادى بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار، قال: يا رب، وما بعث النار؟ قال: من كل ألف أراه، قال تسعمائة وتسعة وتسعين، فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد. فشق ذلك على الناس، حتى تغيرت وجوههم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين، ومنكم واحد، وأنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض، أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبرنا ثم قال: ثلث أهل الجنة، فكبرنا ثم قال: شطر أهل الجنة، فكبرنا).
وقال أبو أسامة، عن الأعمش * (وترى الناس سكارى وما هم بسكارى) * قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين: وقال جرير، وعيسى بن يونس، وأبو معاوية * (سكارى وما هم بسكارى) * انتهى من صحيح البخاري.
وفيه تصريح النبي صلى الله عليه وسلم بأن الوقت الذي تضع فيه الحامل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى: هو يوم القيامة لا آخر الدنيا.
وقال البخاري في صحيحه أيضا في كتاب: الرقاق في باب: * (إن زلزلة الساعة شىء عظيم) *: حدثني يوسف بن موسى، حدثنا جرير عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد قال (يقول الله يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، قال يقول: أخرج بعث النار قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فذلك حين يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى. ولكن عذاب الله شديد. فاشتد ذلك عليهم فقالوا: يا رسول الله أينا ذلك الرجل: قال: (أبشروا، فإن من يأجوج ومأجوج ألفا، ومنكم رجل، ثم قال: والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فحمدنا الله وكبرنا. ثم قال: والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة، إن مثلكم في الأمم كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالرقمة في ذراع الحمار) انتهى منه. ودلالته على المقصود ظاهرة.
259

وقال البخاري أيضا في صحيحه في كتاب: بدء الخلق في أحاديث الأنبياء في باب قول الله تعالى: * (ويسألونك عن ذى القرنين) * إلى قوله: * (سببا) * حدثنا إسحاق بن نصر، حدثنا أبو أسامة، عن الأعمش، حدثنا أبو صالح، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: يا آدم، فيقول: لبيك، وسعديك، والخير في يديك، فيقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فعنده يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد) إلى آخر الحديث نحو ما تقدم.
وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: في آخر كتاب الإيمان بكسر الهمزة في باب: بيان كون هذه الأمة: نصف أهل الجنة: حدثنا عثمان بن أبي شيبة العبسي، حدثنا جرير عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل: يا آدم، فيقول: لبيك، وسعديك، والخير في يديك، قال: يقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، قال: فذلك حين يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد) إلى آخر الحديث نحو ما تقدم.
فحديث أبي سعيد هذا الذي اتفق عليه الشيخان كما رأيت، فيه التصريح من النبي صلى الله عليه وسلم بأن الوقت الذي تضع فيه كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، بعد القيام من القبور كما ترى، وذلك نص صحيح صريح في محل النزاع.
فإن قيل: هذا النص فيه إشكال، لأنه بعد القيام من القبور لا تحمل الإناث، حتى تضع حملها من الفزع، ولا ترضع، حتى تذهل عما أرضعت.
فالجواب عن ذلك من وجهين:
الأول: هو ما ذكره بعض أهل العلم، من أن من ماتت حاملا تبعث حاملا، فتضع حملها من شدة الهول والفزع، ومن ماتت مرضعة بعثت كذلك، ولكن هذا يحتاج إلى دليل.
الوجه الثاني: أن ذلك كناية عن شدة الهول كقوله تعالى * (يوما يجعل الولدان شيبا) * ومثل ذلك من أساليب اللغة العربية المعروفة.
260

تنبيه
اعلم أن هذا الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة التي ذكرنا بعضها يرد عليه سؤال، وهو أن يقال: إذا كانت الزلزلة المذكورة بعد القيام من القبور، فما معناها؟
والجواب: أن معناها: شدة الخوف، والهول، والفزع، لأن ذلك يسمى زلزالا، بدليل قوله تعالى فيما وقع بالمسلمين يوم الأحزاب من الخوف * (إذ جآءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الا بصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا) * أي وهو زلزال فزع وخوف، لا زلزال حركة الأرض، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شىء عظيم) * يدل على أن عظم الهول يوم القيامة موجب واضح
للاستعداد لذلك الهول. بالعمل الصالح، في دار الدنيا، قبل تعذر الإمكان لما قدمنا مرارا من أن إن المشددة المكسورة تدل على التعليل، كما تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه، ومسلك النص الظاهر: أي اتقوا الله، لأن أمامكم أهوالا عظيمة، لا نجاة منها إلا بتقواه جل وعلا. قوله تعالى: * (ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد * كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من الناس بعضا يجادل في الله بغير علم: أي يخاصم في الله بأن ينسب إليه ما لا يليق بجلاله وكماله، كالذي يدعي له الأولاد والشركاء، ويقول إن القرآن أساطير الأولين، ويقول: لا يمكن. أن يحيي الله العظام الرميم، كالنضر بن الحارث، والعاص بن وائل، وأبي جهل بن هشام وأمثالهم من كفار مكة الذين جادلوا في الله ذلك الجدال الباطل بغير مستند، من علم عقلي، ولا نقلي، ومع جدالهم في الله ذلك الجدال الباطل يتبعون كل شيطان مريد: أي عات طاغ من شياطين الإنس والجن * (كتب عليه) * أي كتب الله عليه كتابه قدر وقضاء * (أنه من تولاه) * أي كل من صار وليا له: أي للشيطان المريد المذكور، فإنه يضله عن طريق الجنة إلى النار، وعن طريق الإيمان إلى الكفر، ويهديه إلى عذاب السعير: أي النار الشديدة الوقود.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآ.. ية الكريمة من أن بعض الجهال كالكفار يجادل في
261

الله بغير علم: أي يخاصم فيه بغير مستند من علم بينه في غير هذا الموضع كقوله في هذه السورة الكريمة * (ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) * * (ثانى عطفه ليضل عن سبيل الله) * الآية وقوله تعالى في لقمان * (ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير وإذا قيل لهم اتبعوا مآ أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه ءابآءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير) * فقوله في آية لقمان هذه: * (أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير) *، كقوله في الحج * (كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير) * وهذه الآية الكريمة التي هي قوله: * (ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم) * الآية يدخل فيما تضمنته من الوعيد والدم: أهل البدع والضلال، المعرضين عن الحق، المتبعين للباطل، يتركون ما أنزل الله على رسوله من الحق المبين، ويتبعون أقوال رؤساء الضلالة الدعاة إلى البدع والأهواء والآراء، بقدر ما فعلوا من ذلك، لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.
ومن الآيات الدالة على مجادلة الكفار في الله بغير علم قوله تعالى: * (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم م بين * وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحى العظام وهى رميم) * وقوله في أول النحل * (خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين) * وقوله تعالى * (ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق) *. وقوله تعالى: * (والذين يحآجون فى الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد) * وقوله تعالى: * (ءأالهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون) * وقوله تعالى: * (وإن يروا كل ءاية لا يؤمنوا بها حتى إذا جآءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هاذآ إلا أساطير الا ولين) * والآيات بمثل ذلك كثيرة، وما ذكره الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة، من أنه قدر وقضى أن من تولى الشيطان، فإن الشيطان يضله ويهديه إلى عذاب السعير، بينه في غير هذا الموضع كقوله تعالى: * (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير) * وقوله تعالى: * (أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير) * وقوله تعالى عن نبيه وخليله إبراهيم: * (ياأبت إنى أخاف أن يمسك عذاب من الرحمان فتكون للشيطان وليا) * وقوله
262

تعالى: * (ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشآء والمنكر) * إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم أنه يفهم من دليل خطاب هذه الآية الكريمة، أعني مفهوم مخالفتها: أنه من يجادل بعلم على ضوء هدى كتاب منير، كهذا القرآن العظيم، ليحق الحق، ويبطل الباطل بتلك المجادلة الحسنة أن ذلك سائغ محمود لأن مفهوم قوله * (بغير علم) * أنه إن كان بعلم، فالأمر بخلاف ذلك، وليس في ذلك اتباع للشيطان، ويدل لهذا المفهوم المذكور قوله تعالى * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن) * وقوله تعالى * (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن) *.
وقال الفخر الرازي في تفسيره: هذه الآية بمفهومها تدل على جواز المجادلة الحقة، لأن تخصيص المجادلة مع عدم العلم بالدلائل، يدل على أن المجادلة مع العلم جائزة، فالمجادلة الباطلة: هي المراد من قوله * (ما ضربوه لك إلا جدلا) * والمجادلة الحقة هي المراد من قوله * (وجادلهم بالتى هى أحسن) * ا ه. منه. وقوله تعالى في هذه الآية * (عذاب السعير) * يعني عذاب النار، فالسعير النار أعاذنا الله، وإخواننا المسلمين منها. والظاهر أن أصل السعير: فعيل، بمعنى: مفعول من قول العرب: سعر النار، يسعرها كمنع يمنع إذا أوقدها، وكذلك سعرها بالتضعيف، وعلى لغة التضعيف والتخفيف القراءتان السبعيتان في قوله * (وإذا الجحيم سعرت) * فقد قرأه من السبعة نافع وابن عامر في رواية ابن ذكوان، وعاصم في رواية حفص: سعرت بتشديد العين وقرأه الباقون بتخفيف العين، ومما جرى من كلام العرب على نحو قراءة نافع، وابن ذكوان، وحفص قول بعض شعراء الحماسة: وإذا الجحيم سعرت) * فقد قرأه من السبعة نافع وابن عامر في رواية ابن ذكوان، وعاصم في رواية حفص: سعرت بتشديد العين وقرأه الباقون بتخفيف العين، ومما جرى من كلام العرب على نحو قراءة نافع، وابن ذكوان، وحفص قول بعض شعراء الحماسة:
* قالت له عرسه يوما لتسمعني
* مهلا فإن لنا في أمنا أربا
*
* ولو رأتني في نار مسعرة
* ثم استطاعت لزادت فوقها حطبا
*
إذ لا يخفى أن قوله: مسعرة: اسم مفعول سعرت بالتضعيف، وبما ذكرنا يظهر أن أصل السعير: فعيل بمعنى اسم المفعول: أي النار المسعرة: أي الموقدة إيقادا شديدا لأنها بشدة الإيقاد يزداد حرها عياذا بالله منها، ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل، وفي ذلك لغة ثالثة، إلا أنها ليست في القرآن: وهي أسعر النار بصيغة أفعل، بمعنى: أوقدها.
263

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (ويهديه إلى عذاب السعير) * ويدل على أن الهدى كما أنه يستعمل في الإرشاد والدلالة على الخير، يستعمل أيضا في الدلالة على الشر، لأنه قال: * (ويهديه إلى عذاب السعير) * ونظير في ذلك القرآن قوله تعالى * (فاهدوهم إلى صراط الجحيم) * وقوله تعالى * (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) * لأن الإمام هو من يقتدى به في هديه وإرشاده.
وإطلاق الهدى في الضلال كما ذكرنا أسلوب عربي معروف وكلام البلاغيين في مثل ذلك، بأن فيه استعارة عنادية، وتقسيمهم العنادية إلى تهكمية وتمليحية، معروف كما أشار إليه سابقا وقوله تعالى * (كل شيطان مريد) * قد أوضحنا معنى الشيطان في سورة الحجر، والمريد والمارد في اللغة العربية: العاتي، تقول: مرد الرجل بالضم يمرد، فهو مارد، ومريد إذا كان عاتيا. والظاهر أن الشيطان في هذه الآية، يشمل كل عات يدعو إلى عذاب السعير، ويضل عن الهدى، سواء كان من شياطين الجن أو الإنس، والله تعالى أعلم.
* (ياأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر فى الا رحام ما نشآء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الا رض هامدة فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج * ذالك بأن الله هو الحق وأنه يحى الموتى وأنه على كل شىء قدير * وأن الساعة ءاتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من فى القبور * ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير * ثانى عطفه ليضل عن سبيل الله له فى الدنيا خزى ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق) * قوله تعالى: * (ياأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر فى الا رحام ما نشآء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا) *. هذه الآية الكريمة والآيات التي بعدها، تدل على أن جدال الكفار المذكور في قوله * (ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم) * يدخل فيه جدالهم في إنكار البعث، زاعمين أنه جل وعلا لا يقدر أن يحيي العظام الرميم، سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا، كما قال تعالى * (وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحى العظام وهى رميم) * وكقوله تعالى عنهم * (وما نحن بمبعوثين) * * (وما نحن بمنشرين) * ونحو ذلك من الآيات كما قدمنا الإشارة إليه قريبا.
ولأجل ذلك أقام تعالى البراهين العظيمة على بعث الناس من قبورهم أحياء إلى عرصات القيامة للحساب، والجزاء فقال جل وعلا * (ياأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب) * فمن أوجدكم الإيجاد الأول، وخلقكم من التراب لا شك أنه قادر على إيجادكم، وخلقكم مرة ثانية، بعد أن بليت عظامكم،
264

واختلطت بالتراب، لأن الإعادة لا يمكن أن تكون أصعب من ابتداء الفعل، وهذا البرهان القاطع على القدرة على البعث: الذي هو خلقه تعالى للخلائق المرة الأولى المذكور هنا، جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله * (وهو الذى يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) * وقوله * (قل يحييها الذى أنشأهآ أول مرة وهو بكل خلق عليم) * وقوله تعالى * (كما بدأنآ أول خلق نعيده وعدا علينآ إنا كنا فاعلين) * وقوله * (فسيقولون من يعيدنا قل الذى فطركم أول مرة) * وقوله تعالى * (أفعيينا بالخلق الا ول بل هم فى لبس من خلق جديد) * وقوله تعالى * (ولقد علمتم النشأة الا ولى فلولا تذكرون) * وقوله * (ألم يك نطفة من منى يمنى) * إلى قوله * (أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى) * والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا، وقد أوضحنا ذلك في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك في سورة البقرة، وسورة النحل، وغيرهما، ولأجل قوة دلالة هذا البرهان المذكور على البعث بين جل وعلا أن من أنكر البعث فهو ناس للإيجاد الأول كقوله * (وضرب لنا مثلا ونسى خلقه) *، إذ لو تذكر الإيجاد الأول، على الحقيقة، لما أمكنه إنكار الإيجاد الثاني، وكقوله * (ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا * أولا يذكر إلإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا) * إذ لو تذكر ذلك تذكرا حقيقيا لما أنكر الخلق الثاني، وقوله في هذه الآية الكريمة * (إن كنتم فى ريب من البعث) * أي في شك من أن الله يبعث الأموات، فالريب في القرآن يراد به الشك، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (فإنا خلقناكم من تراب) * قد قدمنا في سورة طه: أن التحقيق في معنى خلقه للناس من تراب، أنه خلق أباهم آدم منها، ثم خلق منه زوجه، ثم خلقهم منهما عن طريق التناسل، كما قال تعالى * (إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب) *، فلما كان أصلهم الأول من تراب، أطلق عليهم أنه خلقهم من تراب. لأن الفروع تبع للأصل.
وقد بينا في طه أيضا أن قول من زعم أن معنى خلقه إياهم من تراب: أنه خلقهم من النطف، والنطف من الأغذية، والأغذية راجعة إلى التراب غير صحيح، وقد بينا هناك الآيات الدالة على بطلان هذا القول.
وقد ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أطوار خلق الإنسان، فبين أن ابتداء خلقه من
265

تراب كما أوضحنا آنفا، فالتراب هو الطور الأول.
والطور الثاني هو النطفة، والنطفة في اللغة: الماء القليل، ومنه قول الشاعر وهو رجل من بني كلاب: والطور الثاني هو النطفة، والنطفة في اللغة: الماء القليل،
ومنه قول الشاعر وهو رجل من بني كلاب:
* وما عليك إذا أخبرتني دنفا
* وغاب بعلك يوما أن تعوديني
*
* وتجعلي نطفة في القعب باردة
* وتغمسي فاك فيها ثم تسقيني
*
فقوله: وتجعلي نطفة: أي ماء قليلا في العقب، والمراد بالنطفة في هذه الآية الكريمة: نطفة المني، وقد قدمنا في سورة النحل: أن النطفة مختلطة من ماء الرجل، وماء المرأة، خلافا لمن زعم: أنها من ماء الرجل وحده.
الطور الثالث: العلقة: وهي القطعة من العلق، وهو الدم الجامد فقوله * (ثم من علقة) * أي قطعة دم جامدة، ومن إطلاق العلق على الدم المذكور قول زهير: ثم من علقة) * أي قطعة دم جامدة، ومن إطلاق العلق على الدم المذكور قول زهير:
* إليك أعملتها فتلا مرافقها
* شهرين يجهض من أرحامها العلق
*
الطور الرابع: المضغة: وهي القطعة الصغيرة من اللحم، على قدر ما يمضغه الآكل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله) الحديث.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (مخلقة وغير مخلقة) * في معناه أوجه معروفة عند العلماء، سنذكرها هنا إن شاء الله، ونبين ما يقتضي الدليل رجحانه.
منها أن قوله * (مخلقة وغير مخلقة) * صفة للنطفة وأن المخلقة: هي ما كان خلقا سويا، وغير المخلقة: هي ما دفعته الأرحام من النطف، وألقته قبل أن يكون خلقا، وممن روي عنه هذا القول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نقله عنه ابن جرير وغيره، ولا يخفى بعد هذا القول، لأن المخلقة وغير المخلقة من صفة المضغة، كما هو ظاهر.
ومنها: أن معنى مخلقة: تامة، وغير مخلقة: أي غير تامة، والمراد بهذا القول عند قائله: أن الله جل وعلا يخلق المضغ متفاوتة، منها: ما هو كامل الخلقة، سالم من العيوب، ومنها: ما هو على عكس ذلك، فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس، في خلقهم، وصورهم، وطولهم. وقصرهم، وتمامهم، ونقصانهم.
وممن روى عنه هذا القول: قتادة كما نقله عنه ابن جرير وغيره، وعزاه الرازي لقتادة والضحاك. ومنها: أن معنى مخلقة مصورة إنسانا، وغير مخلقة: أي غير مصورة إنسانا كالسقط الذي هو مضغة، ولم يجعل له تخطيط وتشكيل، وممن نقل عنه هذا القول، مجاهد، والشعبي، وأبو العالية كما نقله
266

عنهم ابن جرير الطبري. ومنها: أن المخلقة: هي ما ولد حيا، وغير المخلقة: هي ما كان من سقط.
وممن روى عنه هذا القول: ابن عباس رضي الله عنهما. وقال صاحب الدر المنثور: إنه أخرجه عنه ابن أبي حاتم وصححه ونقله عنه القرطبي وأنشد لذلك قول الشاعر: وممن روى عنه هذا القول: ابن عباس رضي الله عنهما. وقال صاحب الدر المنثور: إنه أخرجه عنه ابن أبي حاتم وصححه ونقله عنه القرطبي وأنشد لذلك قول الشاعر:
* أفي غير المخلقة البكاء
* فأين الحزم ويحك والحياء
*
وقال أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: المخلقة: المصورة خلقا تاما. وغير المخلقة: السقط قبل تمام خلقه، لأن المخلقة، وغير المخلقة من نعت المضغة، والنطفة بعد مصيرها مضغة لم يبق لها حتى تصير خلقا سويا إلا التصوير. وذلك هو المراد بقوله * (مخلقة وغير مخلقة) * خلقا سويا، وغير مخلقة: بأن تلقيه الأم مضغة ولا تصوير، ولا ينفخ الروح. انتهى منه.
وهذا القول الذي اختاره ابن جرير، اختاره أيضا غير واحد من أهل العلم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: هذا القول الذي اختاره الإمام الجليل الطبري رحمه الله تعالى، لا يظهر صوابه، وفي نفس الآية الكريمة قرينة تدل على ذلك وهي قوله جل وعلا في أول الآية * (فإنا خلقناكم من تراب) * لأنه على القول المذكور الذي اختاره الطبري يصير المعنى: ثم خلقناكم من مضغة مخلقة، وخلقناكم من مضغة غير مخلقة. وخطاب الناس بأن الله خلق بعضهم من مضغة غير مصورة، فيه من التناقض، كما ترى فافهم.
فإن قيل: في نفس الآية الكريمة قرينة تدل على أن المراد بغير المخلقة: السقط، لأن قوله * (ونقر فى الا رحام ما نشآء إلى أجل مسمى) * يفهم منه أن هناك قسما
آخر لا يقره الله في الأرحام، إلى ذلك الأجل المسمى، وهو السقط.
فالجواب: أنه لا يتعين فهم السقط من الآية، لأن الله يقر في الأرحام ما يشاء أن يقره إلى أجل مسمى، فقد يقره ستة أشهر، وقد يقره تسعة، وقد يقره أكثر من ذلك كيف شاء.
أما السقط: فقد دلت الآية على أنه غير مراد بدليل قوله * (فإنا خلقناكم) *، لأن السقط الذي تلقيه أمه ميتا، ولو بعد التشكيل والتخطيط، لم يخلق الله منه إنسانا واحدا من المخاطبين بقوله * (فإنا خلقناكم من تراب) *. فظاهر القرآن يقتضي أن كلا من
267

المخلقة، وغير المخلقة: يخلق منه بعض المخاطبين في قوله * (ياأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة) *.
وبذلك تعلم أن أولى الأقوال في الآية، هو القول الذي لا تناقض فيه، لأن القرآن أنزل ليصدق بعضه بعضا، لا ليتناقض بعضه مع بعض، وذلك هو القول الذي قدمنا عن قتادة والضحاك، وقد اقتصر عليه الزمخشري في الكشاف ولم يحك غيره: وهو أن المخلقة: هي التامة، وغير المخلقة: هي غير التامة.
قال الزمخشري في الكشاف: والمخلقة المسواة الملساء من النقصان والعيب، يقال: خلق السواك والعود: إذا سواه وملسه. من قولهم صخرة خلقاء، إذا كانت ملساء، كأن الله تعالى يخلق المضغ متفاوتة. منها: ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب. ومنها: ما هو على عكس ذلك، فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم. انتهى منه.
وهذا المعنى الذي ذكره الزمخشري معروف في كلام العرب، تقول العرب: حجر أخلق: أي أملس مصمت لا يؤثر فيه شيء، وصخرة خلقاء بينة الخلق: أي ليس فيها وصم، ولا كسر، ومنه قول الأعشى: وهذا المعنى الذي ذكره الزمخشري معروف في كلام العرب، تقول العرب: حجر أخلق: أي أملس مصمت لا يؤثر فيه شيء، وصخرة خلقاء بينة الخلق: أي ليس فيها وصم، ولا كسر، ومنه قول الأعشى:
* قد يترك في خلقاء راسية
* وهيا وينزل منها الأعصم الصدعا
*
والدهر في البيت: فاعل يترك، والمفعول به: وهيا. يعني: أن صرف الدهر قد يؤثر في الحجارة الصم السالمة من الكسر والوصم، فيكسرها، ويوهيها، ويؤثر في العصم من الأوعال برؤوس الجبال، فينزلها من معاقلها، ومن ذلك أيضا قول ابن أحمر يصف فرسا، وقد أنشده صاحب اللسان للمعنى المذكور: والدهر في البيت: فاعل يترك، والمفعول به: وهيا. يعني: أن صرف الدهر قد يؤثر في الحجارة الصم السالمة من الكسر والوصم، فيكسرها، ويوهيها، ويؤثر في العصم من الأوعال برؤوس الجبال، فينزلها من معاقلها، ومن ذلك أيضا قول ابن أحمر يصف فرسا، وقد أنشده صاحب اللسان للمعنى المذكور:
* بمقلص درك الطريدة متنه
* كصفا الخليقة بالفضاء الملبد
*
فقوله: كصفا الخليقة، يعني: أن متن الفرس المذكور كالصخرة الملساء التي لا كسر فيها، ولا وصم، وهو من إضافة الموصوف إلى صفته. والسهم المخلق: هو الأملس المستوي.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: وهذا القول هو أولى الأقوال بالصواب فيما يظهر لي لجريانه على اللغة التي نزل بها القرآن وسلامته من التناقض، والله جل وعلا
268

أعلم.
وقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة * (لنبين لكم) *: أي لنبين لكم بهذا النقل من طور إلى طور، كمال قدرتنا على البعث بعد الموت، وعلى كل شيء، لأن من قدر على خلق البشر من تراب أولا، ثم من نطفة ثانيا، مع ما بين النطفة والتراب من المنافاة والمغايرة وقدر على أن يجعل النطفة علقة، مع ما بينهما من التباين والتغاير، وقدر على أن يجعل العلقة مضغة، والمضغة عظاما، فهو قادر بلا شك على إعادة ما بدأه من الخلق، كما هو واضح وقوله * (لنبين) * الظاهر أنه متعلق بخلقناكم، في قوله * (ياأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب) *: أي خلقناكم خلقا من بعد خلق على التدريج المذكور: لنبين لكم قدرتنا على البعث وغيره.
وقال الزمخشري مبينا نكتة حذف مفعول: لنبين لكم ما نصه: وورود الفعل غير معدي إلى المبين إعلام بأن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وعلمه ما لا يكتنهه بالذكر، ولا يحيط به الوصف. انتهى منه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (ونقر فى الا رحام ما نشآء إلى أجل مسمى) * أي نقر في أرحام الأمهات ما نشاء إقراره فيها، من الأحمال، والأجنة إلى أجل مسمى: أي معلوم معين في علمنا، وهو الوقت الذي قدره الله لوضع الجنين، والأجنة تختلف في ذلك حسبما يشاؤه الله جل وعلا، فتارة تضعه أمه لستة أشهر، وتارة لتسعة، وتارة لأكثر من ذلك. وما لم يشأ الله إقراره من الحمل مجته الأرحام وأسقطته، ووجه رفع: ونقر أن المعنى: ونحن نقر في الأرحام، ولم يعطف على قوله * (لنبين لكم) * لأنه ليس علة لما قبله، فليس المراد: خلقناكم من تراب، ثم من نطفة، لنقر في الأرحام ما نشاء، وبذلك يظهر لك رفعه، وعدم نصبه، وقراءة من
قرأ: ونقر بالنصب عطفا على: لنبين، على المعنى الذي نفيناه على قراءة الرفع، ويؤيد معنى قراءة النصب قوله بعده * (ثم لتبلغوا أشدكم) * وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (ثم نخرجكم طفلا) * أي وذلك بعد أن يخلق الله المضغة عظاما، ثم يكسو العظام لحما، ثم ينشئ ذلك الجنين خلقا آخر، فيخرجه من بطن أمه في الوقت المعين لوضعه في حال كونه طفلا: أي ولدا بشرا سويا.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (ثم لتبلغوا أشدكم) * أي لتبلغوا كمال قوتكم، وعقلكم، وتمييزكم بعد إخراجكم من بطون أمهاتكم في غاية الضعف وعدم علم شيء.
269

وقد قدمنا أقوال العلماء في المراد بالأشد، وهل هو جمع أو مفرد مع بعض الشواهد العربية في سورة الأنعام، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وقوله تعالى في هذه الآية * (ومنكم من يتوفى) * أي ومنكم أيها الناس من يتوفى من قبل: أي من قبل بلوغه أشده، ومنكم من ينسأ له في أجله، فيعمر حتى يهرم فيرد من بعد شبابه وبلوغه غاية أشده إلى أرذل العمر، وهو الهرم، حتى يعود كهيئته في حال صباه من الضعف، وعدم العلم.
وقد أوضحنا كلام العلماء في أرذل العمر ومعنى * (لكيلا يعلم من بعد علم شيئا) * في سورة النحل، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وهذا الذي ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من الاستدلال على كمال قدرته، على بعث الناس بعد الموت، وعلى كل شيء ينقله الإنسان من طور إلى طور، من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة إلى آخر الأطوار المذكورة، ذكره جل وعلا في مواضع من كتابه مبينا أنه من البراهين القطعية على قدرته، على البعث وغيره.
فمن الآيات التي ذكر فيها ذلك من غير تفصيل لتلك الأطوار قوله تعالى * (كلا إنا خلقناهم مما يعلمون) * وقوله تعالى * (ما لكم لا ترجون لله وقارا * وقد خلقكم أطوارا) * أي طورا بعد طور كما بينا قوله تعالى * (خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الا نعام ثمانية أزواج يخلقكم فى بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق فى ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إلاه إلا هو فأنى تصرفون) * وقوله في آية الزمر هذه في ظلمات ثلاث: أي ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة. فقد ركب تعالى عظام الإنسان بعضها ببعض وكساها اللحم، وجعل فيها العروق والعصب، وفتح مجاري البول والغائط، وفتح العيون والآذان والأفواه وفرق الأصابع وشد رؤوسها بالأظفار إلى غير ذلك من غرائب صنعه، وعجائبه، وكل هذا في تلك الظلمات الثلاث، لم يحتج إلى شق بطن أمه وإزالة تلك الظلمات.
سبحانه جل وعلا ما أعظم شأنه وما أكمل قدرته هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إلاه إلا الله هو العزيز الحكيم، ولأجل هذه الغرائب والعجائب من صنعه تعالى قال بعد التنبيه عليها * (ذلكم الله ربكم له الملك لا إلاه إلا هو فأنى تصرفون) * ومن
270

الآيات التي أوضح فيها تلك الأطوار على التفصيل قوله تعالى * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا ءاخر فتبارك الله أحسن الخالقين * ثم إنكم بعد ذالك لميتون * ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) * وقد ذكر تعالى تلك الأطوار مع حذف بعضها في قوله في سورة المؤمن * (هو الذى خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون) * وقوله تعالى في الكهف * (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذى خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا) * وقوله تعالى * (خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين) * وقوله: * (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم م بين) * وقوله تعالى * (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج) * وقوله تعالى * (خلق الإنسان من علق) * وقوله تعالى * (منها خلقناكم) * إلى غير ذلك من الآيات وقد بينت السنة الصحيحة القدر الذي تمكثه النطفة قبل أن تصير علقة، والقدر الذي تمكثه العلقة، قبل أن تصير مضغة، والقدر الذي تمكثه المضغة مضغة.
قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية ووكيع ح، وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني واللفظ له، حدثنا أبي وأبو معاوية، ووكيع قالوا: حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما
271

ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد) الحديث. ففي هذا الحديث الصحيح تصريحه صلى الله عليه وسلم بأن الجنين يمكث أربعين يوما نطفة، ثم يصير علقة، ويمكث كذلك أربعين يوما، ثم يصير مضغة ويمكث كذلك أربعين يوما ثم ينفخ فيه الروح، فنفخ الروح إذا في أول الشهر الخامس من أشهر الحمل.
وقال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك حدثنا شعبة، أنبأني سليمان الأعمش، قال: سمعت زيد بن وهب، عن عبد الله قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال (إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ثم علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع: برزقه وأجله وشقي أو سعيد) الحديث، وهذه الرواية في البخاري ينقص منها ذكر العمل، وهو مذكور في روايات أخر صحيحة معروفة. وقد قدمنا وجه الدلالة المقصودة من الحديث المذكور والله أعلم.
وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف: وهو أن يقال: ما وجه الإفراد في قوله * (يخرجكم طفلا) * مع أن المعنى نخرجكم أطفالا. وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة.
منها ما ذكره ابن جرير الطبري قال: ووحد الطفل وهو صفة للجمع، لأنه مصدر مثل عدل وزور وتبعه غيره في ذلك.
ومنها قول من قال * (نخرجكم طفلا) * أي نخرج كل واحد منكم طفلا، ولا يخفى عدم اتجاه هذين الجوابين. قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي من استقراء اللغة العربية التي نزل بها القرآن، هو أن من أساليبها أن المفرد إذا كان اسم جنس يكثر إطلاقه مرادا به الجمع مع تنكيره كما في هذه الآية، وتعريفه بالألف
واللام، وبالإضافة فمن أمثلته في القرآن مع التنكير قوله تعالى * (إن المتقين فى جنات ونهر) * أي وأنهار بدليل قوله تعالى * (فيهآ أنهار من مآء غير ءاسن) * وقوله * (واجعلنا للمتقين إماما) * أي أئمة وقوله تعالى * (فإن طبن لكم عن شىء منه نفسا) * أي أنفسا وقوله تعالى * (مستكبرين به سامرا تهجرون) * أي سامرين وقوله تعالى * (لا نفرق بين أحد منهم) * أي بينهم وقوله تعالى * (وحسن أولائك رفيقا) * أي رفقاء وقوله تعالى * (وإن كنتم جنبا فاطهروا) * أي جنبين أو أجنابا وقوله تعالى * (والملائكة بعد ذالك ظهير) * أي مظاهرون ومن أمثلة ذلك مع التنكير في كلام العرب قول عقيل بن علفة المري:
* وكان بنو فزارة شر عم
* وكنت لهم كشر بني الأخينا
*
يعني شر أعمام: وقول قعنب ابن أم صاحب: يعني شر أعمام: وقول قعنب ابن أم صاحب:
* ما بال قوم صديق ثم ليس لهم
* دين وليس لهم عقل إذا ائتمنوا
*
272

يعني ما بال قوم أصدقاء: وقول جرير: يعني ما بال قوم أصدقاء: وقول جرير:
* نصبن الهوى ثم ارتمين قلوبنا
* بأعين أعداء وهن صديق
*
يعني صديقات: وقول الآخر: يعني صديقات: وقول الآخر:
* لعمري لئن كنتم على النأي والنوى
* بكم مثل ما بي إنكم لصديق
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* يا عاذلاتي لا تزدن ملامة
* إن العواذل ليس لي بأمير
*
أي لسن لي بأمراء.
ومن أمثلته في القرآن واللفظ مضاف قوله تعالى * (أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم) * أي أصدقائكم: وقوله * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) * أي أوامره: وقوله * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * أي نعم الله: وقوله * (إن هاؤلآء ضيفى) *: أي أضيافي، ونظير ذلك من كلام العرب قول علقمة بن عبدة التميمي: إن هاؤلآء ضيفى) *: أي أضيافي، ونظير ذلك من كلام العرب قول علقمة بن عبدة التميمي:
* بها جيف الحسرى فأما عظامها
* فبيض وأما جلدها فصليب
*
أي وأما جلودها فصليبة: وقول الآخر: أي وأما جلودها فصليبة: وقول الآخر:
* كلوا في بعض بطنكم تعفوا
* فإن زمانكم زمن خميص
*
أي بطونكم. وهذا البيت والذي قبله أنشدهما سيبويه في كتابه مستشهدا بهما لما ذكرنا.
ومن أمثلة ذلك قول العباس بن مرادس السلمي: ومن أمثلة ذلك قول العباس بن مرادس السلمي:
* فقلنا أسلموا إنا أخوكم
* وقد سلمت من الإحن الصدور
*
أي إنا إخوانكم: وقول جرير: أي إنا إخوانكم: وقول جرير:
* إذا آباؤنا وأبوك عدوا
* أبان المقرفات من العراب
*
أي إذا آباؤنا وآباؤك عدوا، وهذا البيت، والذي قبله يحتمل أن يراد بهما جمع التصحيح للأب وللأخ، فيكون الأصل: أبون وأخون فحذفت النون للإضافة، فصار كلفظ المفرد.
273

ومن أمثلته جمع التصحيح في جمع الأخ بيت عقيل بن علفة المذكور آنفا، حيث قال فيه: كشر بني الأخينا. ومن أمثلة تصحيح جمع الأب قول الآخر: ومن أمثلته جمع التصحيح في جمع الأخ بيت عقيل بن علفة المذكور آنفا، حيث قال فيه: كشر بني الأخينا. ومن أمثلة تصحيح جمع الأب قول الآخر:
* فلما تبين أصواتنا
* بكين وفديننا بالأبينا
*
ومن أمثلة ذلك في القرآن: واللفظ معرف بالألف واللام قوله تعالى: * (وتؤمنون بالكتاب كله وإذا) * أي بالكتب كلها، بدليل قوله * (كل ءامن بالله وملائكته وكتبه) * الآية، وقوله * (وقل ءامنت بمآ أنزل الله من كتاب) * وقوله تعالى * (أولائك يجزون الغرفة بما صبروا) * أي الغرف بدليل قوله * (لهم غرف من فوقها غرف مبنية) * وقوله * (وهم فى الغرفات ءامنون) *: وقوله تعالى * (وجآء ربك والملك صفا) *: أي الملائكة بدليل قوله: * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة) *: وقوله تعالى * (سيهزم الجمع ويولون الدبر) *: أي الأدبار بدليل قوله تعالى: * (فلا تولوهم الأدبار) * وقوله تعالى: * (أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النسآء) *: أي الأطفال: وقوله تعالى * (هم العدو فاحذرهم) * أي الأعداء، ونحو هذا كثير في القرآن، وفي كلام العرب: وهو في النعت بالمصدر مطرد، كما تقدم مرارا.
ومن أمثلة ذلك قول زهير: ومن أمثلة ذلك قول زهير:
* متى يشتجر قوم يقل سرواتهم
* هم بيننا هم رضى وهم عدل
*
أي عدول مرضيون.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى: إذا مجت الرحم النطفة في طورها الأول، قبل أن تكون علقة، فلا يترتب على ذلك حكم من أحكام إسقاط الحمل، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء.
المسألة الثانية: إذا سقطت النطفة في طورها الثاني، أعني في حال كونها علقة: أي قطعة جامدة من الدم، فلا خلاف بين العلماء في أن تلك العلقة لا يصلى عليها ولا تغسل ولا تكفن ولا ترث.
ولكن اختلف في أحكام أخر متعددة من أحكامها:
274

منها: ما إذا كان سقوطها بسبب ضرب إنسان بطن المرأة التي ألقتها، هل تجب فيها غرة أو لا؟
فذهب مالك رحمه الله: إلى أن من ضرب بطن حامل، فألقت حملها علقة فهو ضامن دية العلقة ضمان الجنين، فتلزمه غرة، أو عشر دية الأم.
وفي المدونة: ما علم أنه حمل، وإن كان مضغة أو علقة أو مصورا.
وذهب جمهور أهل العلم: إلى أن الجنين لا ضمان فيه حتى تظهر فيه صورة الآدمي. وممن قال به الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد رحمهم الله. وظهور بعض الصورة كظهور كلها في الأظهر، واحتجوا بأنه لا يتحقق أنه حمل حتى يصور، والمالكية قالوا: الحمل تمكن معرفته في حال العلقة فما بعدها، فاختلافهم هذا من قبيل الاختلاف في تحقيق المناط.
ومنها: ما إذا كانت المرأة معتدة من طلاق، أو وفاة وكانت حاملا، فألقت حملها علقة، هل تنقضي بذلك عدتها أو لا؟
فمذهب مالك رحمه الله: أنها تنقضي عدتها بإسقاط العلقة المذكورة. واحتج المالكية: بأن العلقة المذكورة يصدق عليها أنها حمل، فتدخل في عموم قوله تعالى * (وأولات الا حمال أجلهن أن يضعن حملهن) * وقال ابن العربي المالكي: لا يرتبط بالجنين شيء من هذه الأحكام إلا أن يكون مخلقا يعني مصورا، وذهب جمهور أهل العلم منهم الأئمة الثلاثة وغيرهم: إلى أن وضع العلقة لا تنقضي به العدة، قالوا: لأنها دم جامد ولا يتحقق كونه جنينا.
ومنها: ما إذا ألقت العلقة المذكورة أمة هي سرية لسيدها، هل تكون أم ولد بوضع تلك العلقة أو لا؟
فذهب مالك رحمه الله وأصحابه: إلى أنها تصير أم ولد بوضع تلك العلقة، لأن العلقة مبدأ جنين، ولأن النطفة لما صارت علقة صدق عليها أنها خلقت علقة، بعد أن
كانت نطفة، فدخلت في قوله تعالى * (خلقا من بعد خلق) * فيصدق عليها أنها وضعت جنينا من سيدها، فتكون به أم ولد، وهذا رواية عن أحمد وبه قال إبراهيم النخعي.
وذهب جمهور أهل العلم منهم الأئمة الثلاثة: إلى أنها لا تكون أم ولد بوضعها العلقة المذكورة. وقد قدمنا توجيههم لذلك.
275

المسألة الثالثة: إذا أسقطت المرأة النطفة في طورها الثالث: أعني كونها مضغة: أي قطعة من لحم، فلذلك أربع حالات:
الأولى: أن يكون ظهر في تلك المضغة شيء من صورة الإنسان، كاليد والرجل، والرأس ونحو ذلك، فهذا تنقضي به العدة، وتلزم فيه الغرة، وتصير به أم ولد، وهذا لا خلاف فيه بين من يعتد به من أهل العلم.
الحالة الثانية: أن تكون المضغة المذكورة لم يتبين فيها شيء من خلق الإنسان، ولكن شهدت ثقات من القوابل أنهن اطلعن فيها على تخطيط، وتصوير خفي، والأظهر في هذه الحالة: أن حكمها كحكم التي قبلها لأنه قد تبين بشهادة أهل المعرفة، أن تلك المضغة جنين لما اطلعوا عليه فيها من الصورة الخفية.
الحالة الثالثة: هي أن تكون تلك المضغة المذكورة، ليس فيها تخطيط، ولا تصوير ظاهر، ولا خفي، ولكن شهدت ثقات من القوابل أنها مبدأ خلق آدمي.
وهذه الصورة فيها للعلماء خلاف. فقال بعض أهل العلم: لا تنقضي عدتها بها، ولا تصير أم ولد، ولا يجب على الضارب المسقط لها الغرة.
قال ابن قدامة في المغني: وهذا ظاهر كلام الخرقي والشافعي، وظاهر ما نقله الأثرم عن الإمام أحمد رحمه الله، وظاهر كلام الحسن والشعبي، وسائر من اشترط أن يتبين فيه شيء من خلق الإنسان، لأنه لم يتبين فيه شيء من خلق الآدمي، فأشبه النطفة والعلقة.
وقال بعض أهل العلم: تنقضي عدتها بوضع المضغة المذكورة، وتصير به أم ولد، وتجب فيها الغرة، وهو رواية عن الإمام أحمد.
وقال بعض أهل العلم: لا تنقضي بها العدة، وتصير به أم ولد.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي والله تعالى أعلم: أنه إذا شهد ثقات من القوابل العارفات، بأن تلك المضغة مبدأ جنين، وأنها لو بقيت لتخلقت إنسانا، أنها تنقضي بها العدة، وتصير بها الأمة أم ولد، وتجب بها الغرة على الجاني. والله تعالى أعلم.
الحالة الرابعة: أن تكون تلك المضغة، ليس فيها تصوير ظاهر، ولا خفي، ولم تشهد القوابل بأنها مبدأ إنسان، فحكم هذه كحكم العلقة: وقد قدمناه قريبا مستوفى.
المسألة الرابعة: إذا أسقطت المرأة جنينها ميتا بعد أن كملت فيه صورة الآدمي، فلا
276

خلاف بين أهل العلم في انقضاء العدة بوضعه، وكونها أم ولد، ووجوب الغرة فيه، ولكن العلماء اختلفوا في الصلاة عليه، وغسله وتكفينه. فذهب مالك رحمه الله: إلى أنه لا يصلى عليه، ولا يغسل، ولا يحنط، ولا يسمى، ولا يورث، ولا يرث حتى يستهل صارخا، ولا عبرة بعطاسه، ورضاعه، وبوله فلو عطس، أو رضع، أو بال لم يكن ذلك موجبا للصلاة عليه في قول مالك، وعليه جمهور أصحابه. وقال المازري: رضاعه تتحقق به حياته فتجب به الصلاة عليه، وغيرها من الأحكام.
قال مقيده عفا الله وغفر له: الظاهر أن الصواب في هذه المسألة أنه إن علمت حياته، ولو بسبب آخر غير أن يستهل صارخا، فإنه يصلى عليه. وقد علمت أن مشهور مذهب الإمام مالك أن المدار على أن يستهل صارخا، فإن لم يستهل صارخا غسل دمه، ولف بخرقة، ووري، ومذهب الشافعي: أنه إن استهل صارخا أو تحرك حركة تدل على الحياة ثم مات صلي عليه، وورث وإن لم يستهل، ولم يتحرك، فإن لم يكن له أربعة أشهر، لم يصل عليه، ولكنه يلف بخرقة، ويدفن، وإن كان له أربعة أشهر فقولان: قال في القديم: يصلى عليه، وقال في الأم: لا يصلى عليه، وهو الأصح، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة، وأصحابه وجابر بن زيد التابعي، والحكم وحماد، والأوزاعي ومالك: أنه إذا لم يستهل صارخا لا يصلى عليه. وعن ابن عمر: أنه يصلى عليه، وإن لم يستهل. وبه قال ابن سيرين وابن المسيب وإسحاق. انتهى بواسطة نقل النووي في شرح المهذب، ومذهب الإمام أحمد رحمه الله: أنه إذا لم يستهل صارخا، ولم يتحرك، فإن كان له أربعة أشهر: غسل، وصلي عليه، وإلا فلا، أما إذا استهل صارخا، فلا خلاف بينهم في الصلاة عليه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: اعلم أن اختلاف الأئمة في هذه المسألة من قبيل الاختلاف في تحقيق المناط، لأن مناط الأمر بالصلاة عليه، هو أن يعلم أنه تقدمت له حياة. ومناط عدم الصلاة عليه: هو أن يعلم أنه لم تتقدم له حياة، فمالك ومن وافقه رأوا أنه إن استهل صارخا، أو طالت مدته حيا علم بذلك أنه مات بعد حياة، فيغسل ويصلى عليه، وقالوا: إن مطلق الحركة لا يدل على الحياة، لأن المذبوح قد يتحرك حركة قوية، وقالوا: إنه إن رضع لم يدل ذلك على حياته. قالوا: قد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما طعنه عدو الله معدودا في الأموات لو مات له مورث في ذلك الوقت ما ورثه، وهو قول ابن القاسم. ولو قتل رجل عمر في ذلك الوقت لما قتل به، لأنه في حكم الميت، وإن كان
277

عمر في ذلك الوقت يتكلم ويعهد.
والذين خالفوا هؤلاء قالوا: لا نسلم ذلك فكل حركة قوية تدل على الحياة، وعمر ما دام قادرا على الحركة القوية الدالة على الحياة، فهو حي تجري عليه أحكام الحياة.
والذين قالوا: يغسل إن سقط بعد أربعة أشهر، استندوا في ذلك إلى حديث ابن مسعود المتفق عليه الذي قدمناه في هذا المبحث نحو ما ساقه البخاري ومسلم، فإنه يدل على أنه بعد الأربعين الثالثة. ينفخ فيه الروح، وانتهاء الأربعين الثالثة: هو انتهاء أربعة أشهر، فقد دل الحديث على نفخ الروح فيه بعد انتهاء الأشهر الأربعة، ونفخ الروح فيه في ذلك الحين مشعر بأنه مات بعد حياة والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (وترى الا رض هامدة فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج) *. هذا برهان قاطع آخر على البعث: وقوله * (وترى) * أي يا نبي الله. وقيل: وترى أيها الإنسان المخاطب: وهي رؤية بصرية تتعدى إلى مفعول
واحد. فقوله * (هامدة) * حال من الأرض، لا مفعول ثان لترى. وقوله: هامدة أي يابسة قاحلة لا نبات فيها.
وقال بعض أهل العلم، هامدة: أي دارسة الآثار من النبات، والزرع. قالوا: وأصل الهمود الدروس والدثور. ومنه قول الأعشى ميمون بن قيس: وقال بعض أهل العلم، هامدة: أي دارسة الآثار من النبات، والزرع. قالوا: وأصل الهمود الدروس والدثور. ومنه قول الأعشى ميمون بن قيس:
* قالت قتيلة ما لجسمك شاحبا
* وأرى ثيابك باليات همدا
*
أي وأرى ثيابك باليات دارسات * (فإذآ أنزلنا عليها المآء) * أي سواء كان من المطر، أو الأنهار أو العيون أو السواني: * (اهتزت) *: أي تحركت بالنبات. ولما كان النبات نابتا فيها متصلا بها، كان اهتزازه كأنه اهتزازها فأطلق عليها بهذا الاعتبار، أنها اهتزت بالنبات. وهذا أسلوب عربي معروف.
وقال أبو حيان في البحر المحيط: واهتزازها تخلخلها واضطراب بعض أجسامها لأجل خروج النبات، وقوله: * (وربت) * أي زادت وارتفعت: وقال بعض أهل العلم: وربت: انتفخت، لأجل خروج النبات، وقال ابن جرير الطبري: وربت: أي أضعفت النبات بمجيء الغيث.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أصل المادة التي منها ربت: الزيادة، والظاهر
278

أن معنى الزيادة الحاصلة في الأرض: هي أن النبات لما كان نابتا فيها متصلا بها صار كأنه زيادة حصلت في نفس الأرض.
وقال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة: والاهتزاز: الحركة على سرور، فلا يكاد يقال: اهتز فلان لكيت وكيت، إلا إذا كان الأمر من المحاسن والمنافع ا ه منه.
والاهتزاز أصله: شدة الحركة: ومنه قوله: والاهتزاز أصله: شدة الحركة: ومنه قوله:
* تثني إذا قامت وتهتز إن مشت
* كما اهتز غصن البان في ورق خضر
*
وقوله: * (وأنبتت) * أي أنبت الله فيها * (من كل زوج) * أي صنف من أصناف النبات، والزرع، والثمار: * (بهيج) * أي حسن، والبهجة: الحسن. ومنه قوله تعالى: * (فأنبتنا به حدآئق ذات بهجة) * تقول: بهج بالضم بهاجة فهو بهيج، إذا كان حسنا، وقرأ عامة السبعة: وربت، وهو من قولهم: ربا يربو إذا نما وزاد، وقرأ من الثلاثة أبو جعفر يزيد بن القعقاع: وربأت بهمزة مفتوحة بعد الباء: أي ارتفعت، كأنه من الربيئة أو الربيئي، وهو الرقيب الذي يعلو على شيء مشرف يحرس القوم ويحفظهم.
ومنه قول امرئ القيس: ومنه قول امرئ القيس:
* بعثنا ربيئا قبل ذاك مخملا
* كذئب الغضا يمشي الضراء ويتقي
*
وما أشار إليه جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من أن إحياء الأرض بعد موتها، برهان قاطع على قدرة من فعل ذلك على إحياء الناس بعد موتهم. لأن الجميع أحياء بعد موت، وإيجاد بعد عدم بينه في آيات كثيرة، وقد قدمنا في سورة البقرة والنحل، كثرة الاستدلال بهذا البرهان في القرآن على البعث، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك كقوله تعالى * (ومن ءاياته أنك ترى الا رض خاشعة فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت إن الذى أحياها لمحى الموتى إنه على كل شىء قدير) * وقوله تعالى * (ويحى الا رض بعد موتها وكذلك تخرجون) * أي من قبوركم أحياء، بعد الموت: وقوله تعالى * (وأحيينا به بلدة ميتا كذالك الخروج) * أي خروجكم من القبور أحياء بعد الموت وقوله تعالى * (حتى إذآ أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به المآء فأخرجنا به من كل الثمرات كذالك نخرج الموتى لعلكم تذكرون) * وقوله * (فانظر إلىءاثار رحمة الله كيف يحى الا رض بعد موتهآ إن ذلك لمحى الموتى وهو على كل شىء قدير) * وقوله تعالى * (فأحيينا به الا رض بعد موتها كذلك النشور) *
279

وقوله تعالى * (فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون) * ومن ذلك قوله هنا * (وترى الا رض هامدة فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت) * بدليل قوله بعده:
قوله تعالى: * (ذالك بأن الله هو الحق وأنه يحى الموتى) * إلى قوله * (وأن الله يبعث من فى القبور) *.
قوله تعالى: * (ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير * ثانى عطفه ليضل عن سبيل الله له فى الدنيا خزى ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق) *. قال بعض أهل العلم: الآية الأولى التي هي * (ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد) * نازلة في الأتباع الجهلة الذين يجادلون بغير علم، اتباعا لرؤسائهم، من شياطين الإنس والجن، وهذه الآية الأخيرة في الرؤساء الدعاة إلى الضلال المتبوعين في ذلك، ويدل لهذا أنه قال في الأولى * (ويتبع كل شيطان) * وقال في هذه * (ثانى عطفه ليضل عن سبيل الله) * فتبين بذلك أنه مضل لغيره، متبوع في الكفر والضلال، على قراءة الجمهور بضم ياء يضل. وأما على
قراءة ابن كثير، وأبي عمرو: بفتح الياء، فليس في الآية دليل على ذلك، وقد قدمنا معنى جدال الكفرة في الله بغير علم، فأغنى عن إعادته هنا.
وقال بعض العلماء في قوله في هذه الآية الكريمة * (بغير علم) * أي بدون علم ضروري، حاصل لهم بما يجادلون به * (ولا هدى) * أي استدلال، ونظر عقلي، يهتدي به العقل للصواب * (ولا كتاب منير) * أي وحي نير واضح، يعلم به ما يجادل به، فليس عنده علم ضروري ولا علم مكتسب بالنظر الصحيح العقلي، ولا علم من وحي، فهو جاهل محض من جميع الجهات، وقوله * (ثانى عطفه) * حال من ضمير الفاعل المستكن في: يجادل: أي يخاصم بالباطل في حال كونه ثاني عطفه: أي لاوي عنقه عن قبول الحق استكبارا وإعراضا. فقوله: ثاني اسم فاعل ثنى الشيء إذا لواه، وأصل العطف الجانب، وعطفا الرجل: جانباه من لدن رأسه إلى وركيه، تقول العرب: ثنى فلان عنك عطفه: تعني أعرض عنك. وإنما عبر العلماء هنا بالعنق فقالوا: ثاني عطفه: لاوي عنقه: مع أن العطف يشمل العنق وغيرها، لأن أول ما يظهر فيه الصدود عنق الإنسان، يلويها، ويصرف وجهه عن الشيء بليها. والمفسرون يقولون: إن اللام في قوله * (ليضل عن سبيل الله) * ونحوها من الآيات مما لم تظهر فيه
280

العلة الغائية، كقوله * (فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) *. ونحو ذلك لام العاقبة، والبلاغيون يزعمون أن في ذلك استعارة تبعية، في معنى الحرف. وقد وعدنا بإيضاح ذلك في سورة القصص.
ونقول هنا: إن الظاهر في ذلك: أن الصواب فيه غير ما ذكروا، وأن اللام في الجميع لام التعليل، والمعنى واضح لا إشكال فيه كما نبه عليه الحافظ ابن كثير رحمه الله في مواضع من تفسيره.
وإيضاح ذلك: أن الله هو الذي قدر على الكافر في أزله أن يجادل في الله بغير علم في حال كونه لاوي عنقه إعراضا عن الحق، واستكبارا. وقد قدر عليه ذلك ليجعله ضالا مضلا. وله الحكمة البالغة في ذلك، كقوله * (إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه) * أي لئلا يفقهوه. وكذلك * (فالتقطه ءال فرعون) *: أي قدر الله عليهم أن يلتقطوه، لأجل أن يجعله لهم عدوا وحزنا. وهذا واضح لا إشكال فيه كما ترى. وما ذكره جل وعلا في هذه الآية: من إعراض بعض الكفار عن الحق واستكبارهم أوضحه في آيات أخر من كتاب الله، كقوله تعالى * (وإذا تتلى عليه ءاياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها) * وقوله تعالى * (وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون) * وقوله تعالى * (وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا) * وقوله تعالى عن لقمان في وصيته لابنه * (ولا تصعر خدك للناس) * أي لا تمل وجهك عنهم، استكبارا عليهم. وقوله تعالى عن فرعون * (وفى موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين فتولى بركنه) * فقوله * (فتولى بركنه) * بمعنى: ثنى عطفه. وقوله تعالى * (وإذآ أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه) * إلى غير ذلك من الآيات: وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (له فى الدنيا خزى) * أي ذل وإهانة. وقد أذل الله الذين جادلوا في الله بغير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير: كأبي جهل بن هشام، والنضر بن الحارث بالقتل يوم بدر.
ويفهم من هذه الآية الكريمة أن من ثنى عطفه استكبارا عن الحق وإعراضا عنه عامله
281

الله بنقيض قصده فأذله وأهانه. وذلك الذل والإهانة نقيض ما كان يؤمله من الكبر والعظمة.
وهذا المفهوم من هذه الآية دلت عليه آيات أخر كقوله تعالى * (إن فى صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه) * وقوله في إبليس لما استكبر * (فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين) * والصغار: الذل والهوان، عياذا بالله من ذلك، كما قدمنا إيضاحه. وقوله * (ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق) * أي نحرقه بالنار، ونذيقه ألم حرها يوم القيامة: وسمى يوم القيامة: لأن الناس يقومون فيه له جل وعلا، كما قال تعالى * (ألا يظن أولائك أنهم مبعوثون * ليوم عظيم * يوم يقوم الناس لرب العالمين) *.
* (ذالك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد * ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والا خرة ذالك هو الخسران المبين * يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذالك هو الضلال البعيد * يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير * إن الله يدخل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الا نهار إن الله يفعل ما يريد * من كان يظن أن لن ينصره الله فى الدنيا والا خرة فليمدد بسبب إلى السمآء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ * وكذالك أنزلناه ءايات بينات وأن الله يهدى من يريد * إن الذين ءامنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شىء شهيد * ألم تر أن الله يسجد له من فى السماوات ومن فى الا رض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشآء * هاذان خصمان اختصموا فى ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم * يصهر به ما فى بطونهم والجلود * ولهم مقامع من حديد * كلمآ أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق * إن الله يدخل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الا نهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير * وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد * إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذى جعلناه للناس سوآء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) *
قوله تعالى: * (ذالك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد) *. المعنى: أن الكافر إذا أذيق يوم القيامة عذاب الحريق، يقال له ذلك: أي هذا العذاب الذي نذيقكه بسبب ما قدمت يداك: أي قدمته في الدنيا من الكفر والمعاصي: * (وأن الله ليس بظلام للعبيد) * فلا يظلم أحدا مثقال ذرة. * (وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من
لدنه أجرا عظيما) * والظاهر أن المصدر المنسبك من أن وصلتها في قوله * (وأن الله ليس بظلام للعبيد) * في محل خفض عطفا على ما المجرورة بالباء.
والمعنى: هذا العذاب الذي يذيقكه الله حصل لك بسببين، وهما ما قدمته يداك، من عمل السوء من الكفر والمعاصي وعدالة من جازاك، ذلك الجزاء الوفاق، وعدم ظلمه. وقد أوضحنا فيما مضى إزالة الإشكال المعروف في نفي صيغة المبالغة، في قوله * (ليس بظلام) * فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وفي هذه الآية الكريمة ثلاثة أسئلة:
الأول: هو ما ذكرنا آنفا أنا أوضحنا الجواب عنه سابقا، وهو: أن المعروف في علم العربية، أن النفي إذا دخل على صيغة المبالغة، لم يقتض نفي أصل الفعل.
فلو قلت: ليس زيد بظلام للناس، فمعناه المعروف: أنه غير مبالغ في الظلم، ولا ينافي ذلك حصول مطلق الظلم فيه. وقد قدمنا إيضاح هذا.
282

والسؤال الثاني: أنه أسند كل ما قدم إلى يديه في قوله * (بما قدمت يداك) * وكفره الذي هو أعظم ذنوبه، ليس من فعل اليد، وإنما هو من فعل القلب واللسان، وإن كان بعض أنواع البطش باليد، يدل على الكفر، فهو في اللسان والقلب أظهر منه في اليد. وزناه لم يفعله بيده، بل بفرجه، ونحو ذلك من المعاصي التي تزاول بغير اليد.
والجواب عن هذا ظاهر: وهو أن من أساليب اللغة العربية، التي نزل بها القرآن إسناد جميع الأعمال إلى اليد، نظرا إلى أنها الجارحة التي يزاول بها أكثر الأعمال فغلبت على غيرها، ولا إشكال في ذلك.
والسؤال الثالث: هو أن يقال: ما وجه إشارة البعد في قوله * (ذالك بما قدمت يداك) * مع أن العذاب المشار إليه قريب منه حاضر؟.
والجواب عن هذا: أن من أساليب اللغة العربية: وضع إشارة البعد موضع إشارة القرب. وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا: (دفع إيهام الاضطراب. عن آيات الكتاب) في الكلام على قوله تعالى في أول سورة البقرة: * (ألم ذالك الكتاب) *: أي هذا الكتاب.
ومن شواهد ذلك في اللغة العربية قول خفاف بن ندبة السلمي: ومن شواهد ذلك في اللغة العربية قول خفاف بن ندبة السلمي:
* فإن تك خيلي قد أصيب صميمها
* فعمدا على عيني تيممت مالكا
*
* أقول له والرمح يأطر متنه
* أمل خفافا إنني أنا ذلكا
*
يعني أنا هذا، وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من أن الكافر يقال له يوم القيامة * (ذالك بما قدمت يداك) * الآية لا يخفى أنه توبيخ، وتفريع، وإهانة له، وأمثال ذلك القول في القرآن كثيرة: كقوله تعالى: * (خذوه فاعتلوه إلى سوآء الجحيم * ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم * ذق إنك أنت العزيز الكريم * إن هاذا ما كنتم به تمترون) * وقوله تعالى: * (يوم يدعون إلى نار جهنم دعا * هاذه النار التى كنتم بها تكذبون * أفسحر هاذا أم أنتم لا تبصرون * اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سوآء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون) * والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا.
قوله تعالى: * (يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذالك هو الضلال البعيد) *.
283

ضمير الفاعل في قوله * (يدعو من دون الله ما لا يضره) * راجع إلى الكافر المشار إليه في قوله * (وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والا خرة ذالك هو الخسران المبين) * أي يدعو ذلك الكافر المذكور من دون الله، ما لا يضره، إن ترك عبادته، وكفر به، وما لا ينفعه، إن عبده وزعم أنه يشفع له.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن الأوثان، لا تضر من كفر بها، ولا تنفع من عبدها بينه في غير هذا الموضع كقوله تعالى: * (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هاؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم فى السماوات ولا فى الا رض سبحانه وتعالى عما يشركون) * وقوله تعالى عن نبيه إبراهيم * (قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنآ ءابآءنا كذلك يفعلون) *.
إذ المعنى: أنهم اعترفوا بأنهم لا يسمعون، ولا ينفعون ولا يضرون، ولكنهم عبدوهم تقليدا لآبائهم. والآيات بمثل ذلك كثيرة.
تنبيه
فإن قيل: ما وجه الجمع بين نفيه تعالى النفع والضر معا، عن ذلك المعبود من دون الله في قوله * (ما لا يضره وما لا ينفعه) * مع إثباتهما في قوله:
* (يدعو لمن ضره أقرب من نفعه) *. لأن صيغة التفضيل في قوله: أقرب دلت على أن هناك نفعا، وضرا، ولكن الضر أقرب من النفع.
فالجواب: أن للعلماء أجوبة عن ذلك.
منها: ما ذكره الزمخشري: قال: فإن قلت: الضر والنفع منفيان عن الأصنام، مثبتان لها في الآيتين، وهذا تناقض.
قلت: إذا حصل المعنى ذهب هذا الوهم. وذلك أن الله تعالى سفه الكافر، بأنه يعبد جمادا لا يملك ضرا، ولا نفعا، وهو يعتقد فيه بجهله وضلاله، أنه يستنفع به، حين يستشفع به، ثم قال يوم القيامة: يقول هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ودخوله النار بعبادتها، ولا يرى أثر الشفاعة التي ادعاها لها: * (لمن
ضره أقرب
284

من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير) * وكرر يدعو كأنه قال: يدعو يدعو من دون الله ما لا يضره، وما لا ينفعه. ثم قال لمن ضره بكونه معبودا: أقرب من نفعه، بكونه شفيعا: لبئس المولى، ولبئس العشير ا ه منه.
ولا يخفى أن جواب الزمخشري هذا غير مقنع، لأن المعبود من دون الله، ليس فيه نفع البتة، حتى يقال فيه: إن ضره أقرب من نفعه وقد بين أبو حيان عدم اتجاه جوابه المذكور.
ومنها: ما أجاب به أبو حيان في البحر.
وحاصله: أن الآية الأولى في الذين يعبدون الأصنام، فالأصنام. لا تنفع من عبدها، ولا تضر من كفر بها: ولذا قال فيها: ما لا يضره وما لا ينفعه: والقرينة على أن المراد بذلك الأصنام، هي التعبير بلفظة (ما) في قوله * (ما لا يضره وما لا ينفعه) * لأن لفظة (ما) تأتي لما لا يعقل، والأصنام لا تعقل.
أما الآية الأخرى فهي فيمن عبد بعض الطغاة المعبودين من دون الله، كفرعون القائل * (ما علمت لكم من إلاه غيرى) *، * (لئن اتخذت إلاها غيرى لأجعلنك من المسجونين) *، * (أنا ربكم الا على) * فإن فرعون ونحوه من الطغاة المعبودين قد يغدقون نعم الدنيا على عابديهم: ولذا قال له القوم الذين كانوا سحرة * (أإن لنا لاجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين) * فهذا النفع الدنيوي بالنسبة إلى ما سيلاقونه، من العذاب، والخلود في النار كلا شيء، فضر هذا المعبود بخلود عابده في النار، أقرب من نفعه. بعرض قليل زائل من حطام الدنيا، والقرينة على أن المعبود في هذه الآية الأخيرة: بعض الطغاة الذين هم من جنس العقلاء: هي التعبير بمن التي تأتي لمن يعقل في قوله * (يدعو لمن ضره أقرب من نفعه) * هذا هو خلاصة جواب أبي حيان وله اتجاه، والله تعالى أعلم.
واعلم أن اللام في * (يدعو لمن ضره أقرب من نفعه) * فيها إشكال معروف. وللعلماء عن ذلك أجوبة.
ذكر ابن جرير الطبري رحمه الله منها ثلاثة:
أحدها: أن اللام متزحلقة عن محلها الأصلي، وأن ذلك من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن، والأصل: يدعو من لضره أقرب من نفعه، وعلى هذا فمن الموصولة
285

في محل نصب مفعول به ليدعوا، واللام موطئة للقسم، داخلة على المبتدأ، الذي هو وخبره صلة الموصول، وتأكيد المبتدأ في جملة الصلة باللام، وغيرها لا إشكال فيه.
قال ابن جرير وحكي عن العرب سماعا: منها عندي لما غيره خير منه: أي عندي ما لغيره خير منه، وأعطيتك لما غيره خير منه: أي ما لغيره خير منه.
والثاني: منها: أن قوله: يدعوا تأكيد ليدعوا في الآية التي قبلها: وعليه فقوله * (لمن ضره) * في محل رفع بالابتداء، وجملة * (ضره أقرب من نفعه) * صلة الموصول الذي هو من والخبر هو جملة * (لبئس المولى) *. وهذا المعنى كقول العرب: لما فعلت لهو خير لك.
قال ابن جرير: لما ذكر هذا الوجه: واللام الثانية في * (لبئس المولى) * جواب اللام الأولى: قال: وهذا القول على مذهب أهل العربية أصح، والأول إلى مذهب أهل التأويل أقرب ا ه.
والثالث: منها: أن * (من) * في موضع نصب بيدعوا، وأن اللام دخلت على المفعول به، وقد عزا هذا لبعض البصريين مع نقله عمن عزاه إليه أنه شاذ. وأقربها عندي الأول.
وقال القرطبي رحمه الله: ولم ير منه نفعا أصلا، ولكنه قال * (ضره أقرب من نفعه) * ترفيعا للكلام: كقوله * (وإنآ أو إياكم لعلى هدى أو فى ضلال مبين) * وباقي الأقوال في اللام المذكورة تركناه، لعدم اتجاهه في نظرنا، والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى: * (لبئس المولى) *.
المولى: هو كل ما انعقد بينك وبينه سبب، يواليك، وتواليه به. والعشير: هو المعاشر، وهو الصاحب والخليل.
والتحقيق: أن المراد بالمولى والعشير المذموم في هذه الآية الكريمة، هو المعبود الذي كانوا يدعونه من دون الله، كما هو الظاهر المتبادر من السياق.
وقوله * (ذالك هو الضلال البعيد) * أي البعيد عن الحق والصواب:
قوله تعالى: * (من كان يظن أن لن ينصره الله فى الدنيا والا خرة فليمدد بسبب إلى السمآء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ) *. في هذه الآية الكريمة أوجه من التفسير معروفة عند العلماء، وبعضها يشهد لمعناه
286

قرآن.
الأول: أن المعنى: من كان من الكفرة الحسدة له صلى الله عليه وسلم، يظن أن لن ينصره الله: أي أن لن ينصر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم * (فليمدد بسبب) * أي بحبل إلى السماء: أي سماء بيته، والمراد به السقف: لأن العرب تسمى كل ما علاك سماء كما قال:
* وقد يسمى سماء كل مرتفع
* وإنما الفضل حيث الشمس والقمر
*
كما أوضحناه في سورة الحجر.
والمعنى: فليعقد رأس الحبل في خشبة السقف * (ثم ليقطع) * أي ليختنق بالحبل، فيشده في عنقه، ويتدلى مع الحبل المعلق في السقف حتى يموت، وإنما أطلق القطع على الاختناق، لأن الاختناق يقطع النفس بسبب حبس مجاريه، ولذا قيل للبهر وهو تتابع النفس: قطع، فلينظر إذا اختنق * (هل يذهبن كيده) * أي هل يذهب فعله ذلك ما يغيظه من نصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم، في الدنيا والآخرة.
والمعنى: لا يذهب ذلك الذي فعله ذلك الكافر الحاسد ما يغيظه ويغضبه من نصر الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
قال الزمخشري: وسمي فعله كيدا، لأنه وضعه موضع الكيد، حيث لم يقدر على غيره، أو على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده، إنما كاد به نفسه، والمراد: ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظه ا ه منه.
وحاصل هذا القول: أن الله يقول لحاسديه صلى الله عليه وسلم، الذين يتربصون به الدوائر، ويظنون أن ربه لن ينصره: موتوا بغيظكم، فهو ناصره لا محالة على رغم أنوفكم، وممن قال بهذا القول: مجاهد، وقتادة، وعكرمة، وعطاء، وأبو الجوزاء، وغيرهم. كما نقله عنهم ابن كثير، وهو أظهرها عندي.
ومما يشهد لهذا المعنى من القرآن: قوله تعالى. * (وإذا خلوا عضوا عليكم الا نامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم) *.
الوجه الثاني: أن المعنى: من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، والحال أن النصر يأتيه صلى الله عليه وسلم من السماء، فليمدد بسبب إلى السماء فيرتقي بذلك السبب، حتى يصعد إلى السماء، فيقطع نزول الوحي من السماء، فيمنع النصر عنه صلى الله عليه وسلم.
والمعنى: أنه وإن غاظه نصر الله لنبيه. فليس له حيلة، ولا قدرة على منع النصر،
287

لأنه لا يستطيع الارتقاء إلى السماء ومنع نزول النصر منها عليه صلى الله عليه وسلم: وعلى هذا القول: فصيغة الأمر في قوله * (فليمدد) * وقوله * (ثم ليقطع) * للتعجيز * (ليقطع فلينظر) * ذلك الحاسد العاجز عن قطع النصر عنه صلى الله عليه وسلم: هل يذهب كيده إذا بلغ غاية جهده في كيد النبي صلى الله عليه وسلم، ما يغيظه من نصر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم.
والمعنى: أنه إن أعمل كل ما في وسعه، من كيد النبي صلى الله عليه وسلم ليمنع عنه نصر الله، فإنه لا يقدر على ذلك، ولا يذهب كيده ما يغيظه من نصر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم.
ومما يشهد لهذا القول من القرآن قوله تعالى * (أم لهم م لك السماوات والا رض وما بينهما فليرتقوا فى الا سباب * جند ما هنالك مهزوم من الا حزاب) * وقد أوضحنا معنى هذه الآية في سورة الحجر.
ولبعض أهل العلم قول ثالث في معنى الآية الكريمة: وهو أن الضمير في * (لن ينصره) * عائد إلى من في قوله تعالى * (من كان يظن) * وأن النصر هنا بمعنى الرزق، وأن المعنى: من كان يظن أن لن ينصره الله أي لن يرزقه، فليختنق، وليقتل نفسه، إذ لا خير في حياة ليس فيها رزق الله وعونه، أو فليختنق، وليمت غيظا وغما، فإن ذلك لا يغير شيئا مما قضاه الله وقدره، والذين قالوا هذا القول قالوا: إن العرب تسمي الرزق نصرا، وعن أبي عبيدة قال: وقف علينا سائل من بني بكر، فقال: من ينصرني نصره الله، يعني: من يعطيني أعطاه الله، قالوا: ومن ذلك قول العرب: أرض منصورة: أي ممطورة، ومنه قول رجل من بني فقعس: وليمت غيظا وغما، فإن ذلك لا يغير شيئا مما قضاه الله وقدره، والذين قالوا هذا القول قالوا: إن العرب تسمي الرزق نصرا، وعن أبي عبيدة قال: وقف علينا سائل من بني بكر، فقال: من ينصرني نصره الله، يعني: من يعطيني أعطاه الله، قالوا: ومن ذلك قول العرب: أرض منصورة: أي ممطورة، ومنه قول رجل من بني فقعس:
* وإنك لا تعطي امرأ فوق حقه
* ولا تملك الشق الذي ألغيت ناصره
*
أي معطيه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: وهذا القول الأخير ظاهر السقوط، كما ترى، والذين قالوا: إن الضمير في قوله * (أن لن ينصره الله) * راجع إلى الدين، أو الكتاب، لا يخالف قولهم قول من قال: إن الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم، لأن نصر الدين، والكتاب هو نصره صلى الله عليه وسلم كما لا يخفى، ونصر الله له صلى الله عليه وسلم في الدنيا، بإعلائه كلمته، وقهره أعداءه، وإظهار دينه، وفي الآخرة بإعلاء درجته، والانتقام ممن كذبه، ونحو ذلك كما قال تعالى * (إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا فى الحيواة الدنيا ويوم يقوم الا شهاد) * فإن قيل: قررتم أن الضمير في ينصره، عائد إليه صلى الله عليه وسلم، وهو لم يجر له ذكر، فكيف قررتم رجوع
288

الضمير إلى غير مذكور.
فالجواب: هو ما قاله غير واحد: من أنه صلى الله عليه وسلم، وإن لم يجر له ذكر، فالكلام دال عليه، لأن الإيمان في قوله في الآية التي قبلها تليها * (إن الله يدخل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جنات) *. هو الإيمان بالله، وبمحمد صلى الله عليه وسلم، والانقلاب عن الدين المذكور في قوله * (انقلب على وجهه) * انقلاب
عما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (ثم ليقطع) * قرأه أبو عمرو، وابن عامر، وورش، عن نافع بكسر اللام على الأصل في لام الأمر، وقرأه الباقون بإسكان اللام تخفيفا.
قوله تعالى: * (ألم تر أن الله يسجد له من فى السماوات ومن فى الا رض) * إلى قوله * (إن الله يفعل ما يشآء) *. قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في مواضع من هذا الكتاب المبارك، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى: * (فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما فى بطونهم والجلود * ولهم مقامع من حديد) *. ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة، من أنواع عذاب أهل النار، أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منها، ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل، جاء مبينا في آيات أخر من كتاب الله، فقوله هنا * (قطعت لهم ثياب من نار) * أي قطع الله لهم من النار ثيابا، وألبسهم إياها تنقد عليهم كقوله فيهم * (سرابيلهم من قطران) * والسرابيل: هي الثياب التي هي القمص، كما قدمنا إيضاحه، وكقوله * (لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش) * والغواشي: جمع غاشية: وهي غطاء كاللحاف، وذلك هو معنى قوله هنا * (قطعت لهم ثياب من نار) * وقوله تعالى هنا * (يصب من فوق رءوسهم الحميم) * ذكره أيضا في غير هذا الموضع كقوله * (ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم * ذق إنك أنت العزيز الكريم) * والحميم: الماء البالغ شدة الحرارة، وكقوله تعالى * (وإن يستغيثوا يغاثوا بمآء كالمهل يشوى الوجوه) *. وقوله هنا * (يصهر به ما فى بطونهم) * أي يذاب
289

بذلك الحميم، إذا سقوه فوصل إلى بطونهم، كل ما في بطونهم من الشحم والأمعاء وغير ذلك، كقوله تعالى * (وسقوا مآء حميما فقطع أمعآءهم) * والعرب تقول: صهرت الشيء فانصهر، فهو صهير: أي أذبته فذاب، ومنه قول ابن أحمر يصف تغذية قطاة لفرخها في فلاة من الأرض: وسقوا مآء حميما فقطع أمعآءهم) * والعرب تقول: صهرت الشيء فانصهر، فهو صهير: أي أذبته فذاب، ومنه قول ابن أحمر يصف تغذية قطاة لفرخها في فلاة من الأرض:
* تروي لقي ألقى في صفصف
* تصهره الشمس فما ينصهر
*
أي تذيبه الشمس، فيصبر على ذلك، ولا يذوب، وقوله: والجلود الظاهر أنه معطوف على (ما) من قوله * (يصهر به ما فى بطونهم) * التي هي نائب فاعل يصهر، وعلى هذا الظاهر المتبادر من الآية، فذلك الحميم يذيب جلودهم، كما يذيب ما في بطونهم. لشدة حرارته.
إذ المعنى: يصهر به ما في بطونهم، وتصهر به الجلود. أي جلودهم، فالألف واللام قامتا مقام الإضافة، وقال بعض أهل العلم: والجلود مرفوع بفعل محذوف معطوف على تصهر، وتقديره: وتحرق به الجلود، ونظير ذلك في تقدير العامل المحذوف الرافع الباقي معموله مرفوعا بعد الواو قول لبيد في معلقته: إذ المعنى: يصهر به ما في بطونهم، وتصهر به الجلود. أي جلودهم، فالألف واللام قامتا مقام الإضافة، وقال بعض أهل العلم: والجلود مرفوع بفعل محذوف معطوف على تصهر، وتقديره: وتحرق به الجلود، ونظير ذلك في تقدير العامل المحذوف الرافع الباقي معموله مرفوعا بعد الواو قول لبيد في معلقته:
* فعلا فروع الأيهقان وأطفلت
* بالجلهتين ظباؤها ونعامها
*
يعني: وباض نعامها، لأن النعامة لا تلد الطفل، وإنما تبيض، بخلاف الظبية فهي تلد الطفل، ومثاله في المنصوب قول الآخر: يعني: وباض نعامها، لأن النعامة لا تلد الطفل، وإنما تبيض، بخلاف الظبية فهي تلد الطفل، ومثاله في المنصوب قول الآخر:
* إذا ما الغانيات برزن يوما
* وزججن الحواجب والعيونا
*
* ترى منا الأيور إذا رأوها
* قياما راكعين وساجدينا
*
يعني زججن الحواجب، وأكحلن العيون وقوله: يعني زججن الحواجب، وأكحلن العيون وقوله:
* ورأيت زوجك في الوغى
* متقلدا سيفا ورمحا
*
أي وحاملا رمحا، لأن الرمح لا يتقلد، وقول الآخر:
290

أي وحاملا رمحا، لأن الرمح لا يتقلد، وقول الآخر:
* تراه كأن الله يجدع أنفه
* وعينيه إن مولاه ثاب له وفر
*
يعني: ويفقأ عينيه، ومن شواهده المشهورة قول الراجز. يعني: ويفقأ عينيه، ومن شواهده المشهورة قول الراجز.
* علفتها تبنا وماء باردا
* حتى شتت همالة عيناها
*
يعني: وسقيتها ماء باردا، ومن أمثلة ذلك في القرآن قوله تعالى * (والذين تبوءوا الدار والإيمان) *: أي وأخلصوا الإيمان، أو ألفوا الإيمان، ومثال ذلك في المخفوض قولهم: ما كل بيضاء شحمة، ولا سوداء تمرة: أي ولا كل سوداء تمرة، وإلى هذه المسألة أشار في الخلاصة بقوله: * وهي انفردت * والذين تبوءوا الدار والإيمان) *: أي وأخلصوا الإيمان، أو ألفوا الإيمان، ومثال ذلك في المخفوض قولهم: ما كل بيضاء شحمة، ولا سوداء تمرة: أي ولا كل سوداء تمرة، وإلى هذه المسألة أشار في الخلاصة بقوله: * وهي انفردت
* بعطف عامل مزال قد بقي
* معموله دفعا لوهم اتقى
*
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (ولهم مقامع من حديد) * المقامع: جمع مقمعة بكسر الميم الأولى، وفتح الميم الأخيرة، ويقال: مقمع بلا هاء، وهو في اللغة: حديدة كالمحجن يضرب بها على رأس الفيل: وهي في الآية مرازب عظيمة من حديد تضرب بها خزنة النار رؤوس أهل النار، وقال بعض أهل العلم: المقامع: سياط من نار، ولا شك أن المقامع المذكورة في الآية من الحديد لتصريحه تعالى بذلك، وقوله تعالى * (هاذان خصمان اختصموا فى ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار) * نزل في المبارزين يوم بدر، وهم: حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث بن المطلب، وفي أقرانهم المبارزين من الكفار وهم: عتبة بن ربيعة، وابنه الوليد بن عتبة، وأخوه شيبة بن ربيعة، كما ثبت في الصحيحين، وغيرهما.
قوله تعالى: * (كلمآ أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق) *. وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من أن أهل النار كلما أرادوا الخروج منها، لما يصيبهم من الغم فيها عياذا بالله منها، أعيدوا فيها، ومنعوا من الخروج منها بينه في غير هذا الموضع، كقوله في المائدة * (إن الذين كفروا لو أن لهم ما فى الا رض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم * يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم) * وقوله في السجدة
291

* (كلمآ أرادوا أن يخرجوا منهآ أعيدوا فيها) *، وقوله في آية الحج هذه * (وذوقوا عذاب الحريق) * حذف فيه القول.
والمعنى: أعيدوا فيها، وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق، وهذا القول المحذوف في الحج صرح به في السجدة في قوله تعالى * (كلمآ أرادوا أن يخرجوا منهآ أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون) * والمفسرون يقولون: إن لهب النار يرفعهم، حتى يكاد يرميهم خارجها، فتضربهم خزنة النار بمقامع الحديد، فتردهم في قعرها، نعوذ بالله منها، ومن كل ما يقرب إليها من قول وعمل.
قوله تعالى: * (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذى جعلناه للناس سوآء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) *. اعلم أن خبر إن في قوله هنا * (إن الذين كفروا) * محذوف كما ترى.
والذي تدل عليه الآية أن التقدير: إن الذين كفروا، ويصدون عن سبيل الله، نذيقهم من عذاب أليم. كما دل على هذا قوله في آخر الآية * (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) * وخير ما يفسر به القرآن القرآن.
فإن قيل: ما وجه عطف الفعل المضارع على الفعل الماضي، في قوله * (إن الذين كفروا ويصدون) *.
فالجواب: من أربعة أوجه: واحد منها ظاهر السقوط.
الأول: هو ما ذكره بعض علماء العربية من أن المضارع، قد لا يلاحظ فيه زمان معين من حال، أو استقبال، فيدل إذ ذاك على الاستمرار، ومنه * (ويصدون عن سبيل الله) * وقوله * (الذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله) * قاله أبو حيان وغيره.
الثاني: أن يصدون خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: إن الذين كفروا، وهم يصدون، وعليه فالجملة المعطوفة اسمية لا فعلية، وهذا القول استحسنه القرطبي.
الثالث: أن يصدون مضارع أريد به الماضي: أي كفروا، وصدوا وليس بظاهر.
الرابع: أن الواو زائدة، وجملة يصدون خبر إن: أي إن الذين كفروا يصدون
292

الآية. وهذا هو الذي قدمنا أنه ظاهر السقوط، وهو كما ترى، وما ذكره جل وعلا في هذه الآية من أن من أعمال الكفار الصد عن سبيل الله، وعن المسجد الحرام بينه في غير هذا الموضع كقوله تعالى * (وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله) *. وقوله تعالى * (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدى معكوفا أن يبلغ محله) * وقوله تعالى * (ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا) * إلى غير ذلك من الآيات، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (سوآء العاكف فيه والباد) * قرأه عامة السبعة غير حفص عن عاصم: سواء، بضم الهمزة، وفي إعرابه على قراءة الجمهور هذه برفع سواء وجهان.
الأول: أن قوله: العاكف: مبتدأ، والباد: معطوف عليه، وسواء خبر مقدم، وهو مصدر أطلق وأريد به الوصف.
فالمعنى: العاكف والبادي سواء، أي مستويان فيه، وهذا الإعراب أظهر الوجه.
الثاني: أن سواء مبتدأ والعاكف فاعل سد مسد الخبر، والظاهر أن مسوغ الابتداء بالنكرة التي هي سواء، على هذا الوجه: هو عملها في المجرور الذي هو فيه، إذ المعنى: سواء فيه العاكف والبادي، وجملة المبتدأ وخبره في محل المفعول الثاني: لجعلنا، وقرأ حفص عن عاصم: سواء بالنصب، وهو المفعول الثاني: لجعلنا التي بمعنى صيرنا. والعاكف فاعل سواء: أي مستويا فيه العاكف والبادي، ومن كلام العرب: مررت برجل سواء هو والعدم، ومن قال: إن (جعل) في الآية تتعدى إلى مفعول واحد قال: إن سواء حال من الهاء في جعلناه: أي وضعناه للناس في حال كونه سواء العاكف فيه والبادي كقوله * (إن أول بيت وضع للناس) * وقال بعض أهل العلم: إن المراد بالمسجد الحرام في هذه الآية الكريمة: يشمل جميع الحرم. ولذلك أخذ بعض العلماء من هذه الآية، أن رباع مكة لا تملك، وقد قدمنا الكلام مستوفى في هذه المسألة، وأقوال أهل العلم فيها، ومناقشة أدلتهم في سورة الأنفال، فأغنى ذلك عن إعادته هنا، والعاكف: هو المقيم في الحرم، والبادي: الطارىء عليه من البادية، وكذلك غيرها من أقطار الدنيا.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: والبادي قرأه أبو عمرو وورش، عن نافع بإثبات الياء، بعد الدال في الوصل، وإسقاطها في الوقف، وقرأه ابن كثير بإثباتها وصلا ووقفا،
293

وقرأه باقي السبعة بإسقاطها، وصلا ووقفا.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) * قد أوضحنا إزالة الإشكال عن دخول الباء على المفعول في قوله: بإلحاد، ونظائره في القرآن، وأكثرنا على ذلك من الشواهد العربية في الكلام على قوله تعالى * (وهزى إليك بجذع النخلة) * فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
والإلحاد في اللغة أصله: الميل، والمراد بالإلحاد في الآية: أن يميل، ويحيد عن دين الله الذي شرعه، ويعم ذلك كل ميل وحيدة عن الدين، ويدخل في ذلك دخولا أوليا الكفر بالله، والشرك به في الحرم، وفعل شيء مما حرمه وترك شيء مما أوجبه. ومن أعظم ذلك: انتهاك حرمات الحرم. وقال بعض أهل العلم: يدخل في ذلك احتكار الطعام بمكة، وقال بعض أهل العلم: يدخل في ذلك قول الرجل: لا والله، وبلى والله، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان له فسطاطان: أحدهما: في طرف الحرم، والآخر: في طرف الحل، فإذا أراد أن يعاتب أهله، أو غلامه فعل ذلك في الفسطاط الذي ليس في الحرم، يرى أن مثل ذلك يدخل في الإلحاد فيه بظلم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر في هذه المسألة، أن كل مخالفة بترك واجب، أو فعل محرم تدخل في الظلم المذكور، وأما الجائزات كعتاب الرجل امرأته، أو عبده، فليس من الإلحاد، ولا من الظلم.
مسألة
قال بعض أهل العلم: من هم أن يعمل سيئة في مكة، أذاقه الله العذاب الأليم بسبب همه بذلك، وإن لم يفعلها، بخلاف غير الحرم المكي من البقاع، فلا يعاقب فيه بالهم. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لو أن رجلا أراد بإلحاد فيه بظلم وهو بعدن أبين، لاذاقه الله من العذاب الأليم، وهذا ثابت عن ابن مسعود، ووقفه عليه أصح من رفعه، والذين قالوا هذا القول: استدلوا له بظاهر قوله تعالى * (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) * لأنه تعالى رتب إذاقة العذاب الأليم، على إرادة الإلحاد بالظلم فيه ترتيب الجزاء على شرطه، ويؤيد هذا قول بعض أهل العلم: إن الباء في قوله: بإلحاد، لأجل أن الإرادة مضمنة معنى الهم: أي ومن يهمم فيه بإلحاد، وعلى هذا الذي قاله ابن مسعود وغيره.
294

فهذه الآية الكريمة مخصصة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم (ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة) الحديث، وعليه فهذا التخصيص لشدة التغليظ في المخالفة في الحرم المكي، ووجه هذا ظاهر.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ويحتمل أن يكون معنى الإرادة في قوله * (ومن يرد فيه بإلحاد) * العزم المصمم على ارتكاب الذنب فيه، والعزم المصمم على الذنب ذنب يعاقب عليه في جميع بقاع الله مكة وغيرها.
والدليل على أن إرادة الذنب إذا كانت عزما مصمما عليه أنها كارتكابه حديث أبي بكرة الثابت في الصحيح إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله، قد عرفنا القاتل فما بال المقتول؟ قال: (إنه كان حريصا على قتل صاحبه) فقولهم: ما بال المقتول: سؤال عن تشخيص عين الذنب الذي دخل بسببه
النار مع أنه لم يفعل القتل، فبين النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنه كان حريصا على قتل صاحبه) أن ذنبه الذي أدخله النار، هو عزمه المصمم وحرصه على قتل صاحبه المسلم. وقد قدمنا مرارا أن إن المكسورة المشددة: تدل على التعليل كما تقرر في مسلك الإيماء والتنبيه.
ومثال المعاقبة على العزم المصمم على ارتكاب المحظور فيه، ما وقع بأصحاب الفيل من الإهلاك المستأصل، بسبب طير أبابيل * (ترميهم بحجارة من سجيل) * لعزمهم على ارتكاب المناكر في الحرم، فأهلكهم الله بذلك العزم قبل أن يفعلوا ما عزموا عليه، والعلم عند الله تعالى. والظاهر أن الضمير في قوله * (فيه) * راجع إلى المسجد الحرام، ولكن حكم الحرم كله في تغليظ الذنب المذكور كذلك. والله تعالى أعلم.
* (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بى شيئا وطهر بيتى للطآئفين والقآئمين والركع السجود * وأذن فى الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق * ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الا نعام فكلوا منها وأطعموا البآئس الفقير * ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق * ذالك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الا نعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الا وثان واجتنبوا قول الزور * حنفآء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السمآء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح فى مكان سحيق) *
قوله تعالى: * (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بى شيئا وطهر بيتى للطآئفين والقآئمين والركع السجود) *. أي اذكر حين بوأنا، تقول العرب: بوأت له منزلا، وبوأته منزلا، وبوأته في منزل بمعنى واحد كلها بمعنى: هيأته له، ومكنت له فيه، وأنزلته فيه، فتبوأه: أي نزله، وتبوأت له منزلا أيضا هيأته له، وأنزلته فيه فبوأه المتعدي بنفسه، كقوله تعالى * (والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا) * وقوله * (والذين هاجروا فى الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم فى الدنيا حسنة) * ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي:
295

والذين هاجروا فى الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم فى الدنيا حسنة) * ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي:
* كم من أخ لي ماجد
* بوأته بيدي لحدا
*
أي هيأته له، وأنزلته فيه، وبوأت له كقوله هنا * (وإذ بوأنا لإبراهيم) *، وبوأته فيه كقول الشاعر: وإذ بوأنا لإبراهيم) *، وبوأته فيه كقول الشاعر:
* وبوئت في صميم معشرها
* وتم في قومها مبوؤها
*
أي نزلت من الكرم في صميم النسب، وتبوأت له منزلا كقوله تعالى * (وأوحينآ إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا) * وتبوأه كقوله * (وأورثنا الا رض نتبوأ من الجنة حيث نشآء) *. وقوله تعالى * (وكذالك مكنا ليوسف فى الا رض يتبوأ منها حيث يشآء) * وقوله تعالى * (والذين تبوءوا الدار والإيمان) *. وأصل التبوء. من المباءة: وهي منزل القوم في كل موضع، فقوله * (بوأنا لإبراهيم مكان البيت) * أي هيأناه له، وعرفناه إياه، ليبنيه بأمرنا على قواعده الأصلية المندرسة، حين أمرنا ببنائه، كما يهيأ المكان لمن يريد النزول فيه.
والمفسرون يقولون: بوأه له، وأراه إياه بسبب ريح تسمى الخجوج كنست ما فوق الأساس، حتى ظهر الأساس الأول الذي كان مندرسا، فبناه إبراهيم وإسماعيل عليه. وقيل: أرسل له مزنة فاستقرت فوقه، فكان ظلها على قدر مساحة البيت، فحفرا عن الأساس، فظهر لهما فبنياه عليه. وهم يقولون أيضا: إنه كان مندرسا من زمن طوفان نوح، وأن محله كان مربض غنم لرجل من جرهم، والله تعالى أعلم.
وغاية ما دل عليه القرآن: أن الله بوأ مكانه لإبراهيم، فهيأه له، وعرفه إياه ليبنيه في محله، وذهبت جماعة من أهل العلم إلى أن أول من بناه إبراهيم ولم يبن قبله. وظاهر قوله: حين ترك إسماعيل، وهاجر في مكة * (ربنآ إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم) * يدل على أنه كان مبنيا، واندرس، كما يدل عليه قوله هنا * (مكان البيت) * لأنه يدل على أن له مكانا سابقا، كان معروفا. والله أعلم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (أن لا تشرك بى شيئا وطهر بيتى للطآئفين) * متعلق بمحذوف، وقد دلت على تقدير المحذوف المذكور آية البقرة وهي قوله تعالى * (وعهدنآ إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتى للطآئفين) * فدلت آية البقرة المذكورة على أن معنى آية الحج هذه * (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) * وعهدنا إليه: أي أوصيناه، أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين، وزادت آية
296

البقرة: أن إسماعيل مأمور بذلك أيضا مع أبيه إبراهيم، وإذا عرفت أن المعنى: وعهدنا إلى إبراهيم ألا تشرك بي شيئا، وطهر بيتي. الآية.
فاعلم أن في (أن) وجهين:
أحدهما: أنها هي المفسرة، وعليه فتطهير البيت من الشرك، وغيره هو تفسير العهد إلى إبراهيم: أي والعهد هو إيصاؤه بالتطهير المذكور.
والثاني: أنها مصدرية بناء على دخول (أن) المصدرية على الأفعال الطلبية.
فإن قيل: كيف تكون مفسرة للعهد إلى إبراهيم، وهو غير مذكور هنا؟
فالجواب: أنه مذكور في سورة البقرة في المسألة بعينها، والقرآن يفسر بعضه بعضا، فالمذكور هناك كأنه مذكور هنا، لأن كلام الله يصدق بعضه بعضا، والتطهير هنا في قوله * (طهرا بيتى) * يشمل التطهير المعنوي والحسي، فيطهره الطهارة الحسية من الأقذار، والمعنوية: من الشرك والمعاصي، ولذا قال * (لا تشرك بى شيئا) * وكانت قبيلة جرهم تضع عنده الأصنام تعبدها من دون الله، وقد قدمنا في سورة الإسراء الكلام مستوفى فيما كان عند الكعبة من الأصنام عام الفتح، وطهرها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنجاس الأوثان وأقذارها. كما أمر الله بذلك إبراهيم هنا وقال لنبينا صلى الله عليه وسلم * (ثم أوحينآ إليك أن اتبع ملة إبراهيم) * والمراد بالطائفين في هذه الآية: الذين يطوفون حول البيت، والمراد بالقائمين والركع السجود: المصلون أي طهر بيتي للمتعبدين، بطواف، أو صلاة، والركع: جمع راكع، والسجود: جمع ساجد.
وقوله تعالى في هذه الآية * (لا تشرك بى شيئا) * لفظة (شيئا) مفعول به: للا تشرك: أي لا تشرك بي من الشركاء كائنا ما كان، ويحتمل أن تكون ما ناب عن المطلق، من لا تشرك: أي لا تشرك بي شيئا من الشرك، لا قليلا، ولا كثيرا.
فالمعنى على هذا: لا تشرك بي شركا قليلا، ولا كثيرا، وقرأ نافع وعاصم في رواية حفص، وابن عامر في رواية هشام. بيتي بفتح الياء، وقرأ باقي السبعة بإسكانها.
واعلم أن المؤرخين لهم كلام كثير في قصة بناء إبراهيم، وإسماعيل للبيت، ومن جملة ما يزعمون، أن البيت الحرام رفعه الله إلى السماء أيام الطوفان، وأنه كان من ياقوتة حمراء ودرج على ذلك ناظم عمود النسب فقال: ومن جملة ما يزعمون، أن البيت الحرام رفعه الله إلى السماء أيام الطوفان، وأنه كان من ياقوتة حمراء ودرج على ذلك ناظم عمود النسب فقال:
* ودلت إبراهيم مزنة عليه
* فهي على قدر المساحة تريه
*
297

* وقيل دلته خجوج كنست
* ما حوله حتى بدا ما أسست
*
* قبل الملائك من البناء
* قبل ارتفاعه إلى السماء
*
ومعلوم أن هذا ونحوه شبيه بالإسرائيليات لا يصدق منه إلا ما قام دليل من كتاب، أو سنة على صدقه، ولذلك نقلل من ذكر مثل ذلك في الغالب.
مسألة
يؤخذ من هذه الآية الكريمة: أنه لا يجوز أن يترك عند بيت الله الحرام قذر من الأقذار، ولا نجس من الأنجاس المعنوية، ولا الحسية، فلا يترك فيه أحد يرتكب ما لا يرضي الله، ولا أحد يلوثه بقذر من النجاسات.
ولا شك أن دخول المصورين في المسجد الحرام حول بيت الله الحرام بآلات التصوير يصورون بها الطائفين والقائمين والركع السجود: أن ذلك مناف لما أمر الله به من تطهير بيته الحرام للطائفين والقائمين والركع السجود، فانتهاك حرمة بيت الله بارتكاب حرمة التصوير عنده لا يجوز. لأن تصوير الإنسان دلت الأحاديث الصحيحة على أنه حرام، وظاهرها العموم في كل أنواع التصوير. ولا شك أن ارتكاب أي شيء حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من الأقذار، والأنجاس المعنوية التي يلزم تطهير بيت الله منها. وكذلك ما يقع في المسجد من الكلام المخل بالدين والتوحيد لا يجوز إقرار شيء منه، ولا تركه.
ونرجو الله لنا ولمن ولاه الله أمرنا، ولإخواننا المسلمين التوفيق إلى ما يرضيه في حرمه، وسائر بلاده، إنه قريب مجيب.
قوله تعالى: * (وأذن فى الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) *. الأذان في اللغة: الإعلام: ومنه قوله تعالى * (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الا كبر) * وقول الحرث بن حلزة: وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الا كبر) * وقول الحرث بن حلزة:
* آذنتنا ببينها أسماء
* رب ثاو يمل منه الثواء
*
والحج في اللغة: القصد، وكثرة الاختلاف، والتردد: تقول العرب: حج بنو فلان فلانا: إذا قصدوه، وأطالوا الاختلاف إليه، والتردد عليه. ومنه قول المخبل السعدي: والحج في اللغة: القصد، وكثرة الاختلاف، والتردد: تقول العرب: حج بنو فلان فلانا: إذا قصدوه، وأطالوا الاختلاف إليه، والتردد عليه. ومنه قول المخبل السعدي:
* ألم تعلمي يا أم أسعد أنما
* تخاطأني ريب المنون لأكبرا
*
298

* وأشهد من عوق حلولا كثيرة
* يحجون سب الزبرقان المزعفرا
*
قوله: يحجون يعني: يكثرون قصده، والاختلاف إليه، والتردد عليه. والسب بالكسر: العمامة. وعنى بكونهم يحجون عمامته: أنهم يحجونه، فكنى عنه بالعمامة. والرجال في الآية: جمع راجل، وهو الماشي على رجليه، والضامر: البعير ونحوه. المهزول: الذي أتعبه السفر. وقوله (يأتين) يعني: الضوامر المعبر عنها بلفظ كل ضامر، لأنه في معنى: وعلى ضوامر يأتين من كل فج عميق، لأن لفظة (كل) صيغة عموم، يشمل ضوامر كثيرة: والفج: الطريق، وجمعه: فجاج: ومنه قوله تعالى * (وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون) * والعميق: البعيد، ومنه قول الشاعر: وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون) * والعميق: البعيد، ومنه قول الشاعر:
* إذا الخيل جاءت من فجاج عميقة
* يمد بها في السير أشعث شاحب
*
وأكثر ما يستعمل العمق في البعد سفلا، تقول: بئر عميقة: أي بعيدة القعر: والخطاب في قوله * (وأذن فى الناس بالحج) * لإبراهيم كما هو ظاهر من السياق. وهو قول الجمهور، خلافا لمن زعم أن الخطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم، وعلى إبراهيم وسلم، وممن قال بذلك: الحسن، ومال إليه القرطبي، فقوله تعالى * (وأذن فى الناس بالحج) * أي وأمرنا إبراهيم أن أذن في الناس بالحج: أي أعلمهم، وناد فيهم بالحج: أي بأن الله أوجب عليهم حج بيته الحرام.
وذكر المفسرون أنه لما أمره ربه، أن يأذن في الناس بالحج قال: يا رب، كيف أبلغ الناس، وصوتي لا ينفذهم، فقال: ناد وعلينا البلاغ، فقام على مقامه. وقيل: على الحجر. وقيل: على الصفا. وقيل: على أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس، إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه، فيقال: إن الجبال تواضعت، حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك.
قال ابن كثير رحمه الله بعد أن ذكر هذا الكلام: هذا مضمون ما ورد عن ابن عباس ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وغير واحد من السلف والله أعلم، وأوردها ابن جرير وابن أبي حاتم مطولة. انتهى منه.
وقوله تعالى: * (يأتوك رجالا) * مجزوم في جواب الطلب، وهو عند علماء العربية
299

مجزوم بشرط مقدر، دل عليه الطلب على الأصح: أي إن تؤذن في الناس بالحج يأتوك. وإنما قال (يأتوك) لأن المدعو يتوجه نحو الداعي، وإن كان إتيانهم في الحقيقة للحج، لأن نداء إبراهيم للحج: أي يأتوك ملبين دعوتك، حاجين بيت الله الحرام، كما ناديتهم لذلك، وعلى قول الحسن الذي ذكر عنه: أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
ففي هذه الآية دليل على وجوب الحج، وعلى قول الجمهور، فوجوب الحج بها على هذه الأمة، مبني على أن شرع من قبلنا شرع لنا، كما أوضحناه في سورة المائدة، مع أنه دلت آيات أخر، على أن الإيجاب المذكور على لسان إبراهيم وقع مثله أيضا على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين) * وقوله تعالى: * (وأتموا الحج والعمرة لله) * وقوله تعالى: * (إن الصفا والمروة من شعآئر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم) *.
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية. وقوله: * (يأتوك رجالا وعلى كل ضامر) *. قد يستدل بهذه الآية من ذهب من العلماء. إلى أن الحج ماشيا لمن قدر عليه أفضل من الحج راكبا، لأنه قدمهم في الذكر، فدل على الاهتمام بهم وقوة هممهم: وقال وكيع، عن أبي العميس، عن أبي حلحلة، عن محمد بن كعب، عن ابن عباس قال: ما آسى على شيء إلا أني وددت أني كنت حججت ماشيا، لأن الله يقول * (يأتوك رجالا) *.
والذي عليه الأكثرون: أن الحج راكبا أفضل اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه حج راكبا مع كمال قوته صلى الله عليه وسلم. انتهى منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: اعلم أنه قد تقرر في الأصول: أن منشأ الخلاف في هذه المسألة، التي هي: هل الركوب في الحج. أفضل، أو المشي؟ ونظائرها كون أفعال النبي صلى الله عليه وسلم بالنظر إلى الجبلة والتشريع ثلاثة أقسام:
القسم الأول: هو الفعل الجبلي المحض: أعني الفعل الذي تقتضيه الجبلة البشرية بطبيعتها، كالقيام، والقعود، والأكل، والشرب، فإن هذا لم يفعل التشريع والتأسي، فلا يقول أحد: أنا أجلس وأقوم تقربا لله، واقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم، لأنه كان يقوم ويجلس لأنه لم يفعل ذلك للتشريع والتأسي. وبعضهم يقول: فعله الجبلي يقتضي الجواز، وبعضهم
300

يقول: يقتضي الندب. والظاهر ما ذكرنا من أنه لم يفعل للتشريع، ولكنه يدل على الجواز. القسم الثاني: هو الفعل التشريعي المحض. وهو الذي فعل لأجل التأسي، والتشريع كأفعال الصلاة، وأفعال الحج مع قوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي). وقوله: (خذوا عني مناسكم).
القسم الثالث: وهو المقصود هنا هو الفعل المحتمل للجبلي والتشريعي. وضابطه: أن تكون الجبلة البشرية تقضيه بطبيعتها، ولكنه وقع متعلقا بعبادة بأن وقع فيها، أو في وسيلتها كالركوب في الحج، فإن ركوبه صلى الله عليه وسلم في حجه محتمل للجبلة، لأن الجبلة البشرية تقتضي الركوب، كما كان يركب صلى الله عليه وسلم في أسفاره غير متعبد بذلك الركوب، بل لاقتضاء الجبلة إياه: ومحتمل للشرعي لأنه صلى الله عليه وسلم فعله في حال تلبسه بالحج وقال: (خذوا عني مناسككم). ومن فروع هذه المسألة: جلسة الاستراحة في الصلاة والرجوع من صلاة العيد في طريق أخرى غير الذي ذهب فيها إلى صلاة العيد. والضجعة على الشق الأيمن، بين ركعتي الفجر، وصلاة الصبح، ودخول مكة من كداء بالفتح والمد، والخروج من كدى بالضم والقصر. والنزول بالمحصب بعد النفر من منى ونحو ذلك.
ففي كل هذه المسائل خلاف بين أهل العلم لاحتمالها للجبلي والتشريعي. وإلى هذه المسألة أشار في مراقي السعود بقوله: ففي كل هذه المسائل خلاف بين أهل العلم لاحتمالها للجبلي والتشريعي. وإلى هذه المسألة أشار في مراقي السعود بقوله:
* وفعله المركوز في الجبلة
* كالأكل والشرب فليس مله
*
* من غير لمح الوصف والذي احتمل
* شرعا ففيه قل تردد حصل
*
* فالحج راكبا عليه يجري
* كضجعة بعد صلاة الفجر
*
ومشهور مذهب مالك: أن الركوب في الحج أفضل، إلا في الطواف والسعي، فالمشي فيهما واجب.
وقال سند واللخمي من المالكية: إن المشي أفضل للمشقة، وركوبه صلى الله عليه وسلم جبلي لا تشريعي.
وما ذكرنا عن مالك من أن الركوب في الحج أفضل من المشي، هو قول أكثر أهل العلم، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي وغيرهما.
قال النووي في شرح المهذب: قد ذكرنا أن الصحيح في مذهبنا أن الركوب أفضل.
301

قال العبدري: وبه قال أكثر الفقهاء، وقال داود: ماشيا أفضل، واحتج بحديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: (ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية صحيحة (على قدر عنائك ونصبك) وروى البيهقي بإسناده، عن ابن عباس قال: ما آسى على شيء ما آسى أني لم أحج ماشيا، وعن عبيد بن عمير قال ابن عباس: ما ندمت على شيء فاتني في شبابي، إلا أني لم أحج ماشيا، ولقد حج الحسن بن علي خمسا وعشرين حجة ماشيا. وإن النجائب لتقاد معه، ولقد قاسم الله تعالى ماله ثلاث مرات، حتى كان يعطي الخف، ويمسك النعل. انتهى محل الغرض منه، والحديث المرفوع عن ابن عباس في فضل الحج ماشيا: ضعيف، وحديث عائشة المتفق عليه الذي أشار إليه النووي يقوي حجة من قال: بأن المشي في الحج أفضل من الركوب، لأنه أكثر نصبا وعناء. ولفظ البخاري (ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك) ولفظ مسلم (ولكنها على قدر نصبك) أو قال (نفقتك) والنصب: التعب، والمشقة.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى: قد دل الكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين: على وجوب الحج مرة واحدة في العمر، وهو إحدى الدعائم الخمس، التي بني عليها الإسلام إجماعا.
أما دليل وجوبه من كتاب الله: فقوله تعالى * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين) *.
وأما السنة فالأحاديث في ذلك كثيرة، ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ قال (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا)، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو قلت: نعم لوجبت ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) انتهى منه.
ومحل الشاهد من هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا)، ونحوه أخرجه الإمام أحمد والنسائي، واستدل بهذا الحديث على أن الأمر المجرد من القرائن، لا يقتضي التكرار كما هو مقرر في الأصول.
302

والدليل على أنه إحدى الدعائم الخمس التي بني عليها الإسلام: حديث ابن عمر المتفق عليه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إلاه إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان) هذا لفظ البخاري.
وقد وردت في فضل الحج والترغيب فيه أحاديث كثيرة: فمن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال (إيمان بالله ورسوله قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل ثم ماذا؟ قال: حج مبرور) متفق عليه. وعنه رضي الله عنه أيضا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) متفق عليه أيضا: وعنه أيضا رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما: والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) متفق عليه أيضا، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: (لكن أفضل من الجهاد: حج مبرور) رواه البخاري: وعنها أيضا رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء) أخرجه مسلم بهذا اللفظ. والأحاديث في الباب كثيرة. وفضل الحج وكونه من الدعائم الخمس معروف.
واعلم: أن وجوب الحج المذكور تشترط له شروط: وهي: العقل، والبلوغ، والإسلام، والحرية، والاستطاعة. ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم، أما العقل فكونه شرطا في وجوب كل تكليف واضح، لأن غير العاقل لا يصح تكليفه بحال. وأما اشتراط البلوغ فواضح، لأن الصبي مرفوع عنه القلم، حتى يحتلم، فالبلوغ والعقل كلاهما: شرط وجوب وأما الإسلام: فالظاهر أنه على القول، بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، فهو شرط صحة لا شرط وجوب، وعلى أنهم غير مخاطبين بها، فهو شرط وجوب، والأصح خطاب الكفار بفروع الشريعة كما أوضحنا أدلته في غير هذا الموضع، فيكون الإسلام شرط صحة في حقهم، ومعلوم أنه على أنه شرط وجوب، فهو شرط صحة أيضا، لأن بعض شروط الوجوب، يكون شرطا في الصحة أيضا: كالوقت للصلاة. فإنه شرط لوجوبها وصحتها أيضا، وقد يكون شرط الوجوب ليس شرطا في الصحة كالبلوغ، والحرية، فإن الصبي لا يجب عليه الحج، مع أنه يصح منه لو فعله، وكذلك العبد إلا أنه لا يجزئ عن
303

حجة الإسلام، إلا إذا كان كان بعد البلوغ وبعد الحرية. وأما الحرية: فهي شرط وجوب، فلا يجب الحج على العبد، واستدل العلماء على عدم وجوب الحج على العبد بأمرين:
الأول: إجماع أهل العلم على ذلك. ولكنه إذا حج صح حجه، ولم يجزئه عن حجة الإسلام، فإن عتق بعد ذلك فعليه حجة الإسلام.
قال النووي في شرح المهذب: أجمعت الأمة على أن العبد لا يلزمه الحج، لأن منافعه مستحقة لسيده، فليس هو مستطيعا. ويصح منه الحج بإذن سيده، وبغير إذنه بلا خلاف عندنا. قال القاضي أبو الطيب: وبه قال الفقهاء كافة، وقال داود: لا يصح بغير إذنه انتهى محل الغرض منه.
الأمر الثاني: حديث جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على ذلك: وهو أنه صلى الله عليه وسلم جاء عنه من حديث ابن عباس أنه قال: (أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام، وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة الإسلام) قال ابن حجر في التلخيص في هذا الحديث: رواه ابن خزيمة، والإسماعيلي في مسند الأعمش والحاكم، والبيهقي، وابن حزم، وصححه، والخطيب في التاريخ من حديث محمد بن المنهال، عن يزيد بن زريع، عن شعبة، عن الأعمش عن أبي ظبيان عنه قال ابن خزيمة: الصحيح موقوف، بل خرجه كذلك من رواية ابن أبي عدي عن شعبة، وقال البيهقي: تفرد برفعه محمد بن المنهال، ورواه الثوري عن شعبة موقوفا.
قلت: لكن هو عند الإسماعيلي، والخطيب، عن الحارث بن سريح، عن يزيد بن زريع متابعة لمحمد بن المنهال. ويؤيد صحة رفعه ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه: نا أبو معاوية، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس قال: احفظوا عني ولا تقولوا: قال ابن عباس. فذكره، وهذا ظاهر أنه أراد أنه مرفوع، فلذا نهاهم عن نسبته إليه. وفي الباب عن جابر أخرجه ابن عدي بلفظ (لو حج صغير حجة لكانت عليه حجة إذا بلغ) الحديث، وسنده ضعيف، وأخرجه أبو داود في المراسيل عن محمد بن كعب القرظي نحو حديث ابن عباس مرسلا، وفيه راو مبهم انتهى من التلخيص.
وقال البيهقي في سننه: وأخبرنا أبو الحسن المقري: ثنا الحسن بن محمد بن إسحاق: ثنا يوسف بن يعقوب: ثنا محمد بن المنهال: ثنا يزيد بن زريع ثنا شعبة عن سليمان الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى، وأيما أعرابي حج ثم هاجر فعليه حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة أخرى) ثم ساق الحديث بسند آخر موقوفا على
304

ابن عباس، وسكت ولم يبين هل الموقوف أصح أو المرفوع؟ وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث:
رواه البيهقي في الباب الأول من كتاب الحج بإسناد جيد؟ ورواه أيضا موقوفا، ولا يقدح ذلك فيه. ورواية المرفوع قوية، ولا يضر تفرد محمد بن المنهال بها، فإنه ثقة مقبول ضابط. روى عنه البخاري ومسلم في صحيحيهما ا ه.
وقد علمت من كلام ابن حجر: أن ابن المنهال تابعه على رفع الحديث المذكور الحارث بن سريج فقد زال التفرد. والظاهر: أن الحارث المذكور هو ابن سريج النقال، ولا يحتج به لضعفه. وبما ذكرنا تعلم أن الحديث المذكور لا يقل عن درجة الاحتجاج، ووجه الدلالة منه، على أن الحرية شرط في وجوب الحج أنه لو حج وهو مملوك ثم أعتق بعد ذلك لزمته حجة الإسلام، فلو كان واجبا عليه في حال كونه مملوكا أجزأه حجة عن حجة الإسلام كما هو ظاهر، والعلم عند الله تعالى.
وقال أبو عيسى الترمذي رحمه الله ما نصه: وقد أجمع أهل العلم: أن الصبي إذا حج قبل أن يدرك، فعليه الحج، إذا أدرك لا تجزىء عنه تلك الحجة عن حجة الإسلام، وكذلك المملوك إذا حج في رقه ثم أعتق فعليه الحج إذا وجد إلى ذلك سبيلا، ولا يجزئ عنه ما حج في حال رقه، وهو قول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق.
وأما الاستطاعة: فقد نص تعالى على اشتراطها في قوله: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * ومعنى الاستطاعة في اللغة العربية معروف، وتفسير الاستطاعة في الآية اختلف فيه العلماء.
فالاستطاعة في مشهور مذهب مالك الذي به الفتوى: هي إمكان الوصول، بلا مشقة عظيمة زائدة على مشقة السفر العادية، مع الأمن على النفس، والمال. ولا يشترط عندهم الزاد والراحلة، بل يجب الحج عندهم على القادر على المشي، إن كانت له صنعة يحصل منها قوته في الطريق: كالجمال، والخراز، والنجار، ومن أشبههم.
قال الشيخ الحطاب في كلامه على قول خليل في مختصره: ووجب باستطاعة بإمكان الوصول، بلا مشقة عظمت، وأمن على نفس، ومال ما نصه: وقال مالك في كتاب محمد، وفي سماع أشهب لما سئل عن قوله تعالى * (من استطاع إليه سبيلا) * أذلك الزاد، والراحلة؟ قال: لا والله، ما ذلك إلا طاقة الناس، الرجل يجد
305

الزاد والراحلة، ولا يقدر على المسير، وآخر يقدر أن يمشي على رجليه ولا صفة في هذا أبين مما قال الله تعالى * (من استطاع إليه سبيلا) * وزاد في كتاب محمد: ورب صغير أجلد من كبير، ونقل في المقدمات كلام مالك ثم قال بعده: فمن قدر على الوصول إلى مكة، إما راجلا بغير كبير مشقة، أو راكبا بشراء أو كراء. فقد وجب عليه الحج، ونقله في التوضيح. انتهى من الحطاب.
واعلم: أن بعض المالكية يشترطون في الصنعة المذكورة، ألا تكون مرزية به.
واعلم أن المالكية: اختلفوا في الفقير الذي عادته سؤال الناس في بلده، وعادة الناس إعطاؤه، وذلك السؤال هو الذي منه عيشته إذا علم أنه إن خرج حاجا، وسأل أعطاه الناس ما يعيش به، كما كانوا يعطونه في بلده، هل سؤاله الناس وإعطاؤهم إياه يكون بسببه مستطيعا لقدرته على الزاد بذلك، فيجب عليه الحج بذلك، أو لا يجب عليه بذلك؟
فذهب بعضهم: إلى أن ذلك لا يجب عليه به الحج، ولا يعد استطاعة، وبهذا القول جزم خليل بن إسحاق رحمه الله في مختصره الذي قال في ترجمته مبينا لما به الفتوى، وذلك في قوله: فيما لا تحصل به الاستطاعة لا بدين أو عطية أو سؤال مطلقا.
ومعنى كلامه: أن من لم يمكنه الوصول إلى مكة، إلا بتحمل دين في ذلك، أو قبول عطية ممن أعطاه مالا أو سؤال الناس مطلقا، أنه لا يعد بذلك مستطيعا، ولا يجب عليه الحج، وقوله: أو سؤال مطلقا يعني بالإطلاق، سواء كان السؤال عادته في بلده أو لا وسواء كانت عادة الناس إعطاءه أو لا، أما إذا كانت عادة الناس عدم إعطائه، فالحج حرام عليه، لأنه إلقاء باليد إلى التهلكة، سواء كان السؤال عادته في بلده أو لا، وأما إن كانت عادة الناس إعطاءه، ولم يكن السؤال عادته في بلده، فلا خلاف في أنه لا يعد مستطيعا ولا يجب عليه الحج، وأما إن كانت عادته السؤال في بلده، ومنه عيشته، وعادة الناس إعطاؤه، فهو محل الخلاف، وقد ذكرنا آنفا قول خليل في مختصره: أنه لا يجب عليه الحج، ولا يعد مستطيعا بسؤال الناس، وذلك في قوله: أو بسؤال مطلقا، وقال الشيخ المواق في شرحه لقول خليل: وسؤال مطلقا، وقال خليل في منسكه: وظاهر المذهب أنه لا يجب على من عادته السؤال، إذا كانت العادة إعطاءه، ويكره له المسير، فإن لم تكن عادته السؤال، أو لم تكن العادة إعطاءه سقط الحج بالاتفاق، وقال الشيخ الحطاب في كلامه على قول خليل: أو سؤال مطلقا ما نصه: وأما الصورة الرابعة: وهي، ما إذا كانت عادته في بلده السؤال، ومنه عيشه والعادة إعطاؤه، فقال المصنف في توضيحه ومنسكه: إن
306

ظاهر المذهب أنه لا يجب عليه الحج، ويكره له الخروج، وجزم به هنا، وقال في الشامل: إنه المشهور وأقر في شروحه كلام المؤلف على إطلاقه، وكذلك البساطي والشيخ زروق، ولم ينبه عليه ابن غازي. انتهى محل الغرض منه، وقال الحطاب أيضا: وذكر ابن الحاجب القولين من غير ترجيح، وقبلهما ابن عبد السلام، والمصنف في التوضيح وابن فرجون، وصاحب الشامل، ومن بعدهم، ورجحوا القول بالسقوط، وصرح بعضهم بتشهيره، وكذلك شراح المختصر ا ه محل الغرض منه.
ومعنى قوله: ورجحوا القول بالسقوط يعني: سقوط وجوب الحج عن عادته السؤال والإعطاء.
القول الثاني من قولي المالكية: أن الفقير الذي عادته السؤال في بلده وعادة الناس إعطاءه، إذا كانت عادتهم إعطاءه في سفر الحج كما كانوا يعطونه في بلده، أنه يعد بذلك مستطيعا، وأن تحصيله زاده بذلك السؤال، يعد استطاعة، وعلى هذا القول أكثر المالكية.
وقال الحطاب في كلامه على قول خليل في مختصره: أو سؤال مطلقا بعد أن ذكر القول بأن ذلك السؤال والإعطاء، لا يعد استطاعة، ولا يجب به الحج، بل يكره الخروج في تلك الحال ما نصه:
قلت: ونصوص أهل المذهب التي وقفت عليها مصرحة بخلاف ذلك، وأن الحج واجب على من عادته السؤال، إذا كانت العادة إعطاءه، ثم سرد كثيرا من نقول علماء المالكية مصرحة بوجوب الحج عليه، وأهل هذا القول من علماء المالكية، وهم الأكثرون وجهوه بأنه محمول على الفقير الذي يباح له السؤال لعدم قدرته على كسب ما يعيش به، وأن ذلك السؤال لما كان جائزا له، وصار عيشه منه في الحضر، فهو بذلك السؤال والإعطاء قادر على الوصول إلى مكة. قالوا: ومن قدر على ذلك بوجه جائز لزمه الحج.
قال مقيده، عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي رجحانه بالدليل من قولي المالكية في هذه المسألة: هو القول الأول، وهو أن الحج لا يجب على من يعيش في طريقه بتكفف الناس، وأن سؤال الناس لا يعد استطاعة.
ومن الأدلة الدالة على ذلك عموم قوله جل وعلا * (ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج) *. وقد قدمنا في هذا الكتاب المبارك مرارا: أن العبرة بعموم
307

الألفاظ، لا بخصوص الأسباب، وبينا أدلة ذلك من السنة الصحيحة، فقد صرح تعالى في هذه الآية الكريمة، برفع الحرج عن الذين لا يجدون ما ينفقون. ولا شك أن الذي يتكفف الناس لشدة فقره، داخل في عموم الذين لا يجدون ما ينفقون. وقد صرح تعالى بنفي الحرج عنهم، فيلزم من ذلك نفي الحرج عنه في وجوب الحج، وهو
واضح. وقد استدل الشيخ ابن القاسم رحمه الله بهذه الآية المذكورة على ما ذكرنا.
ولكن كثيرا من متأخري علماء المالكية حملوا قول ابن القاسم الذي احتج عليه بالآية المذكورة، على من ليس عادته السؤال في بلده، قالوا: فلم يتناول قوله محل النزاع.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ظاهر الآية الكريمة العموم في جميع الذين لا يجدون ما ينفقون، فتخصيصها بمن ليس عادته السؤال، بدون دليل من كتاب، أو سنة لا يصح ولا يعول عليه. وقد تقرر في الأصول أنه لا يمكن تخصيص العام إلا بدليل يجب الرجوع إليه. سواء كان من المخصصات المتصلة، أو المنفصلة.
ومما يؤيد هذا في الجملة ما ثبت في صحيح البخاري. حدثنا يحيى بن بشر، حدثنا شبابة، عن ورقاء، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل اليمن يحجون، ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا المدينة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى * (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) * ورواه ابن عيينة، عن عكرمة مرسلا. انتهى من صحيح البخاري.
وقال ابن حجر في الفتح في الكلام على هذا الحديث: قال المهلب: في هذا الحديث من الفقه: أن ترك السؤال من التقوى، ويؤيده أن الله مدح من لم يسأل الناس إلحافا، فإن قوله * (فإن خير الزاد التقوى) * أي تزودوا، واتقوا أذى الناس بسؤالكم إياهم والإثم في ذلك. انتهى محل الغرض منه.
وفيه دليل ظاهر: على حرمة خروج الإنسان حاجا، بلا زاد، ليسأل الناس وظاهرها العموم في كل حاج يسأل الناس فقيرا كان، أو غنيا كانت عادته السؤال في بلده أو لا، وحمل النصوص على ظواهرها واجب إلا بدليل يجب الرجوع إليه، ومما يؤيد هذا أن الذين مدحهم الله في كتابه، بتركهم سؤال الناس، كانوا من أفقر الفقراء كما هو معلوم، وقد صرح تعالى بأنهم فقراء وأشار لشدة فقرهم، وذلك في قوله تعالى * (للفقرآء الذين أحصروا فى سبيل الله لا يستطيعون ضربا فى الا رض يحسبهم الجاهل أغنيآء من التعفف
308

تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا) * فصرح بأنهم فقراء وأثنى عليهم بالتعفف وعدم السؤال.
ووجه إشارة الآية، إلى شدة فقرهم، هو ما فسرها به بعض أهل العلم، من أن معنى قوله * (تعرفهم بسيماهم) * أي بظهور آثار الفقر والحاجة عليهم.
وقال ابن جرير في تفسيره، بعد أن ذكر القول: بأن المراد بسيماهم: علامة فقرهم من ظهور آثار الجوع، والفاقة عليهم، والقول الآخر: أن المراد بسيماهم: علامتهم التي هي: التخشع، والتواضع ما نصه:
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله عز وجل أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يعرفهم بعلاماتهم، وآثار الحاجة فيهم. انتهى محل الغرض منه.
وقال صاحب الدر المنثور في التفسير بالمأثور: وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الربيع * (تعرفهم بسيماهم) * يقول: تعرف في وجوههم الجهد من الحاجة. وأخرج بن جرير، عن ابن زيد * (تعرفهم بسيماهم) * قال: رثاثة ثيابهم. انتهى. ومثل هذا كثير في كلام المفسرين.
فالآية الكريمة: تدل بمنطوقها على الثناء على الفقير الصابر المتعفف عن مسألة الناس، وتدل بمفهومها على ذم سؤال الناس، والأحاديث الواردة في ذم السؤال مطلقا كثيرة جدا. وبذلك كله: تعلم أن سؤال الناس ليس استطاعة على ركن من أركان الإسلام، وأن قول بعض المالكية: إنه لا يعد استطاعة هو الصواب. وهو قول جمهور أهل العلم. وممن ذهب إليه: الشافعي، وأحمد، وأبو حنيفة، ونقله ابن المنذر عن الحسن البصري، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأحمد، وإسحاق. وبه قال بعض أصحاب مالك. قال البغوي: وهو قول العلماء ا ه.
قاله النووي. والاستطاعة عند أبي حنيفة. الزاد، والراحلة. فلو كان يقدر على المشي، وعادته سؤال الناس، لم يجب عليه الحج عنده كما قدمناه قريبا.
والاستطاعة في مذهب الشافعي: الزاد والراحلة، بشرط أن يجدهما بثمن المثل، فإن لم يجدهما إلا بأكثر من المثل سقط عنه وجوب الحج. ويشترط عند الشافعية أيضا: وجود الماء في أماكن النزول، وهذا شرط لا ينبغي أن يختلف فيه، لأنه إن لم يجد الماء
309

هلك، ويشترط عند الشافعية أيضا: أن يكون صحيحا لا مريضا، ولا ينبغي أن يختلف في أن المرض القوي الذي يشق معه السفر مشقة فادحة. مسقط لوجوب الحج. ويشترط عند الشافعي أيضا: أن يكون الطريق آمنا من غير خفارة. والخفارة مثلثة الخاء: هي المال الذي يؤخذ على الحاج. ويشترط عند الشافعي أيضا: أن يكون عليه من الوقت، ما يتمكن فيه من السير والأداء. وهذه الشروط في المستطيع بنفسه لا فيما يسمونه المستطيع بغيره، فإن كان بينه، وبين مكة مسافة تقصر فيها الصلاة وكان قادرا على المشي على رجليه، ولم يجد راحلة، أو وجدها بأكثر من ثمن المثل، أو أجرة المثل. لم يجب عليه الحج عندهم، ولا يعد قدرته على المشي استطاعة عندهم، لحديث: الزاد والراحلة في تفسير الاستطاعة، وإن لم يجد ما يصرفه في الزاد والماء، ولكنه كسوب ذو صنعة يكتسب بصنعته ما يكفيه، ففي ذلك عند الشافعي تفصيل حكاه إمام الحرمين عن العراقيين من الشافعية، وهو: أنه إن كان لا يكتسب في اليوم إلا كفاية يوم واحد. لم يجب عليه الحج: لأنه ينقطع عن الكسب في أيام الحج، وإن كان يكتسب في اليوم كفاية أيام لزمه الحج. قال الإمام: وفيه احتمال، فإن القدرة على الكسب يوم العيد، لا تجعل كملك الصاع في وجوب الفطرة، هكذا ذكره الإمام وحكاه الرافعي، وسكت عليه انتهى من النووي، ومراده بالإمام: إمام الحرمين.
وقوله: وفيه احتمال يعني: أنه يحتمل عدم وجوب الحج بذلك مطلقا.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: وهذا الذي ذكره مبني على القاعدة المعروفة المختلف فيها: وهي هل القدرة على التحصيل بمنزلة التحصيل أولا، والأظهر أن القدرة على التحصيل بمنزلة التحصيل بالفعل. والعلم عند الله تعالى.
والاستطاعة عند أحمد وأصحابه: هي الزاد والراحلة. قال ابن قدامة في المغني: والاستطاعة المشترطة: ملك الزاد والراحلة، وبه قال الحسن، ومجاهد، وسعيد بن
جبير، والشافعي، وإسحاق. قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم. وقال عكرمة: هي الصحة. انتهى محل الغرض منه.
وإذا علمت أقوال أهل العلم في معنى الاستطاعة المذكورة في قوله تعالى: * (من استطاع إليه سبيلا) * فهذه أدلتهم.
أما الأكثرون الذين فسروا الاستطاعة: بالزاد والراحلة، فحجتهم الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، بتفسير الاستطاعة في الآية: بالزاد والراحلة. وقد روي عنه ذلك من حديث ابن عمر، ومن حديث ابن عباس، ومن حديث أنس، ومن حديث عائشة،
310

ومن حديث جابر، ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، ومن حديث ابن مسعود ا ه.
أما حديث ابن عمر فقد أخرجه الترمذي، وابن ماجة من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي، عن محمد بن عباد بن جعفر المخزومي، عن ابن عمر وقال الترمذي بعد أن ساقه: هذا حديث حسن والعمل عليه عند أهل العلم: أن الرجل إذا ملك زادا وراحلة وجب عليه الحج. وإبراهيم بن يزيد هو الخوزي المكي، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه. انتهى من الترمذي.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: تحسين الترمذي رحمه الله لهذا الحديث لا وجه له. لأن إبراهيم الخوزي المذكور متروك لا يحتج بحديثه، كما جزم به غير واحد. وقد نقل الزيلعي في نصب الراية عن الترمذي: أنه لما ساق الحديث المذكور، قال فيه: حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن يزيد الخوزي. وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه ا ه.
ومقتضى ما نقل الزيلعي عنه أنه لم يحسنه، وإنما وصفه بالغرابة، وهذا الذي ذكره الزيلعي ذكره الترمذي في موضع آخر، وقد علمت أن إبراهيم الخوزي لا يحتج به. فلا يكون حديث هو في إسناده حسنا.
قال صاحب نصب الراية: وله طريق آخر عند الدارقطني في سننه أخرجه محمد بن الحجاج المصفر، ثنا جرير بن حازم، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن ابن عمر مرفوعا، ومحمد بن الحجاج المصفر ضعيف ا ه. وهو كما قال الزيلعي ضعيف. قال في الميزان فيه: روى عباس، عن يحيى ليس بثقة. وقال أحمد: قد تركنا حديثه. وقال البخاري عن شعبة: سكتوا عنه، وقال النسائي: متروك. ثم ذكر بعض عجائبه وعلى كل حال فهو لا يحتج به.
واعلم: أن إبراهيم بن يزيد الخوزي كما تابعه في هذه الرواية جرير بن حازم من طريق محمد بن الحجاج المصفر الذي ذكرنا آنفا، أنه لا يحتج به، فقد تابعه أيضا فيها غيره من الضعفاء.
قال الزيلعي في نصب الراية بعد أن ذكر حديث إبراهيم الخوزي المذكور، عند الترمذي، وابن ماجة: ورواه الدارقطني، ثم البيهقي في سننهما.
قال الدارقطني: وقد تابع إبراهيم بن يزيد عليه محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي،
311

فرواه عن محمد بن عباد، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك انتهى. وهذا الذي أشار إليه رواه ابن عدي في الكامل وأعله بمحمد بن عبد الله الليثي، وأسند تضعيفه عن النسائي، وابن معين ثم قال: والحديث معروف بإبراهيم بن يزيد الخوزي، وهو من هذه الطريق غريب. ثم ذكر عن البيهقي تضعيف إبراهيم المذكور. قال: وروي من أوجه أخر كلها ضعيفة. وروي عن ابن عباس من قوله: ورويناه من أوجه صحيحة، عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وفيه قوة لهذا السند انتهى. ثم قال الزيلعي بعد هذا الكلام الذي نقلناه عنه: قال الشيخ في الإمام قوله: فيه قوة فيه نظر. لأن المعروف عندهم: أن الطريق إذا كان واحدا، ورواه الثقات مرسلا، وانفرد ضعيف برفعه، أن يعللوا المسند بالمرسل، ويحملوا الغلط على رواية الضعيف. فإذا كان ذلك موجبا لضعف المسند، فكيف يكون تقوية له ا ه. وهو كما قال: كما هو معروف في الأصول وعلم الحديث. ثم قال الزيلعي: قال: يعني الشيخ في الإمام: والذي أشار إليه من قول ابن عباس: رواه أبو بكر بن المنذر، حدثنا علان بن المغيرة، ثنا أبو صالح عبد الله بن صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: والمرسل رواه سعيد بن منصور في سننه، حدثنا هشام، ثنا يونس: عن الحسن قال: لما نزلت * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * قال رجل: يا رسول الله، وما السبيل؟ قال صلى الله عليه وسلم (زاد وراحلة) انتهى.
حدثنا الهيثم، ثنا منصور، عن الحسن مثله.
حدثنا خالد بن عبد الله عن يونس عن الحسن مثله. قال: وهذه أسانيد صحيحة إلا أنها مرسلة. وقال ابن المنذر: لا يثبت الحديث الذي فيه ذكر الزاد والراحلة مسندا والصحيح: رواية الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وأما المسند فإنما رواه إبراهيم بن يزيد، وهو متروك ضعفه ابن معين وغيره ا ه من نصب الراية.
وبهذا تعلم: أن حديث ابن عمر المذكور لم يسند من وجه صحيح، ولم يثبت. لأن إبراهيم الخوزي متروك، ومحمد بن الحجاج المصفر الذي ذكرنا أن إبراهيم تابعه عليه جرير بن حازم من طريقه لا يحتج به، كما بيناه، وقد بينا أن متابعة محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي، لا تقويه، لأنه ضعيف، ضعفه النسائي وأعل الحديث به ابن عدي في الكامل. وقال الذهبي في الميزان: ضعفه ابن معين، وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: متروك. ا ه منه.
312

وأما مرسل الحسن البصري المذكور، وإن كان إسناده صحيحا إلى الحسن، فلا يحتج به، لأن مراسيل الحسن رحمه الله لا يحتج بها.
قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: وقال الدارقطني: مراسيل الحسن فيها ضعف. وقال في تهذيب التهذيب أيضا: وقال محمد بن سعد: كان الحسن جامعا عالما رفيعا فقيها ثقة، مأمونا، عابدا، ناسكا، كثير العلم، فصيحا، جميلا، وسيما، وكان ما أسند من حديثه. وروى عمن سمع منه، فهو حجة، وما أرسل فليس بحجة.
وقال صاحب تدريب الراوي، في شرح تقريب النواوي: وقال أحمد بن حنبل: مرسلات سعيد بن المسيب أصح المرسلات، ومرسلات إبراهيم النخعي لا بأس بها،
وليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن، وعطاء فإنهما كانا يأخذان عن كل واحد انتهى. ثم قال بعد هذا الكلام وقال العراقي: مراسيل الحسن عندهم شبه الريح، وعدم الاحتجاج بمراسيل الحسن هو المشهور عند المحدثين. وقال بعض أهل العلم: هي صحاح إذا رواها عنه الثقات. قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: وقال ابن المديني: مرسلات الحسن إذا رواها عنه الثقات صحاح، ما أقل ما يسقط منها. وقال أبو زرعة: كل شيء يقول الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وجدت له أصلا ثابتا ما خلا أربعة أحاديث ا ه.
فهذا هو جملة الكلام في حديث ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم أنه فسر الاستطاعة: بالزاد والراحلة، وقد علمت أنه لم يثبت من وجه صحيح، بحسب صناعة علم الحديث، وأما حديث ابن عباس، فرواه ابن ماجة في سننه: حدثنا سويد بن سعيد، ثنا هشام بن سليمان القرشي، عن ابن جريج قال: وأخبرنيه أيضا، عن ابن عطاء، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (الزاد والراحلة) يعني قوله * (من استطاع إليه سبيلا) * وهذا الإسناد فيه هشام بن سليمان بن عكرمة بن خالد بن العاص القرشي المخزومي قال فيه: أبو حاتم مضطرب الحديث، ومحله الصدق، ما أرى به بأسا. وقال العقيلي في حديثه عن غير ابن جريج: وهم، وقال فيه ابن حجر في التقريب: مقبول ا ه.
وقد أخرج له مسلم، وقال البخاري في صحيحه في البيوع: وقال لي إبراهيم بن المنذر: أنبأنا هشام، أخبرنا ابن جريج، سمعت ابن أبي مليكة، عن نافع مولى ابن عمر
313

قال (أيما ثمرة بيعت، ثم أبرت) وذكر الحديث من قوله: وهذا يدل على أنه أيضا من رجال البخاري. وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب بعد أن ذكر هذا الكلام الذي ذكرنا: وأما كون المتقدمين، لم يذكروه في رجال البخاري، فلأن البخاري لم يخرج له سوى هذا الموضع في المتابعات وأورده بألفاظ الشواهد. انتهى منه.
وبما ذكرنا: تعلم أن حديث ابن عباس هذا عن ابن ماجة لا يقل عن درجة الحسن، مع أنه معتضد بما تقدم، وبما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقال الزيلعي في نصب الراية: وأخرج حديث ابن عباس المذكور الدارقطني في سننه، عن داود بن الزبرقان، عن عبد الملك، عن عطاء عن ابن عباس، وأخرج أيضا عن حصين بن المخارق، عن محمد بن خالد، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قيل يا رسول الله الحج كل عام؟ قال (لا بل حجة)، قيل: (فما السبيل إليه؟ قال: الزاد والراحلة) انتهى.
ثم قال: وداود وحصين كلاهما ضعيفان ا ه. وداود بن الزبرقان المذكور قال فيه ابن حجر في التقريب: متروك، وكذبه الأزدي، وحصين بن مخارق المذكور قال فيه الذهبي في الميزان: قال الدارقطني: يضع الحديث، ونقل ابن الجوزي أن ابن حبان قال: لا يجوز الاحتجاج به ا ه.
وهذا حاصل ما في حديث ابن عباس المذكور. وأما حديث أنس فقد أخرجه الحاكم في المستدرك: حدثنا أبو بكر محمد بن حازم الحافظ بالكوفة، وأبو سعيد إسماعيل بن أحمد التاجر، قالا: ثنا علي بن عباس بن الوليد البجلي، ثنا علي بن سعيد بن مسروق الكندي، ثنا ابن أبي زائدة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتاد، عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تبارك وتعالى * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * قال قيل: يا رسول الله ما السبيل؟ قال (الزاد والراحلة) ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقد تابع حماد بن سلمة سعيدا على روايته، عن قتادة: حدثناه أبو نصر أحمد بن سهل بن حمدويه الفقيه ببخارى، ثنا صالح بن محمد بن حبيب الحافظ، ثنا أبو أمية عمرو بن هشام الحراني، ثنا أبو قتادة، ثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله * (من استطاع إليه سبيلا) * فقيل: ما السبيل؟ قال (الزاد والراحلة) ثم قال هذا حديث صحيح على شرط مسلم. ولم يخرجاه انتهى من المستدرك. وأقره على
314

تصحيح الطريقين المذكورتين: الحافظ الذهبي، فحديث أنس هذا صحيح كما ترى، وقال صاحب نصب الراية: ورواه الدارقطني في سننه بالإسنادين ا ه.
وأما حديث عائشة فقد قال صاحب نصب الراية: أخرجه الدارقطني في سننه عن عتاب بن أعين، عن سفيان الثوري، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن أمه عن عائشة قالت: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * قال (السبيل: الزاد والراحلة) انتهى. رواه العقيلي في كتاب الضعفاء، وأعله بعتاب وقال: إن في حديثه وهما. انتهى.
وقال البيهقي في كتاب المعرفة: وليس بمحفوظ، ثم أخرجه البيهقي، عن أبي داود الحفري، عن سفيان، عن يونس، عن الحسن، قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن السبيل؟ فقال (الزاد والراحلة) ا ه.
وقد علمت مما ذكرنا: أن حديث عائشة المذكور أعله العقيلي بعتاب بن أعين، وقال: إن في حديثه وهما، وأن البيهقي قال: ليس بمحفوظ. وقد قال الذهبي في الميزان في عتاب المذكور، قال العقيلي في حديثه وهم. روى عنه هشام بن عبيد الله حديثا خولف في سنده. انتهى منه.
وأما مرسل الحسن الذي أشار له، فقد قدمنا الكلام عليه مستوفى قريبا.
وأما حديث جابر، فقد قال صاحب نصب الراية: أخرجه الدارقطني، عن محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن أبي الزبير أو عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما بلفظ: حديث عائشة، ومحمد بن عبد الله بن عبيد الله الليثي تركوه، وأجمعوا على ضعفه، وقد تقدم وقد قدمنا أن محمدا المذكور لا يحتج به. وبهذا تعلم أن حديث جابر المذكور لا يصلح للاحتجاج.
وأما حديث ابن مسعود فقد قال صاحب نصب الراية: أخرجه الدارقطني، عن بهلول بن عبيد، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة عن عبد الله بن
مسعود بنحوه. وبهلول بن عبيد، قال أبو حاتم: ذاهب الحديث ا ه.
وقال الذهبي في الميزان: في بهلول المذكور، قال أبو حاتم: ضعيف الحديث ذاهب. وقال أبو زرعة: ليس بشيء وقال ابن حبان: يسرق الحديث. انتهى منه.
وبما ذكر تعلم أن حديث ابن مسعود المذكور، ليس بصالح للاحتجاج، وأما حديث
315

عبد الله بن عمرو بن العاص، فقد قال صاحب نصب الراية أيضا: أخرجه الدارقطني أيضا، عن ابن لهيعة، ومحمد بن عبيد الله العرزمي، عن أبيه، عن جده بنحوه. وابن لهيعة والعرزمي ضعيفان. قال الشيخ في الإمام: وقد أخرج الدارقطني هذا الحديث، عن جابر، وأنس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن مسعود، وعائشة، وليس فيها إسناد يحتج به انتهى منه.
هذا هو حاصل روايات الأحاديث الواردة بتفسير السبيل في الآية: بالزاد، والراحلة. وقال غير واحد: إن هذا الحديث لا يثبت مسندا، وأنه ليس له طريق صحيحة، إلا الطريق التي أرسلها الحسن.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي والله تعالى أعلم: أن حديث الزاد والراحلة، المذكور ثابت لا يقل عن درجة الاحتجاج، لأن الطريقين اللتين أخرجهما به الحاكم في المستدرك عن أنس قال: كلتاهما صحيحة الإسناد، وأقر تصحيحهما الحافظ الذهبي، ولم يتعقبه بشيء والدعوى على سعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة في روايتهما الحديث، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها غلط، وأن الصحيح عن قتادة عن الحسن مرسلا دعوى لا مستند لها، بل هي تغليط وتوهيم، للعدول المشهورين من غير استناد إلى دليل.
والصحيح عند المحققين من الأصوليين والمحدثين: أن الحديث إذا جاء من طريق صحيحة، وجاء من طرق أخرى غير صحيحة، فلا تكون تلك الطرق علة في الصحيحة، إذا كان رواتها لم يخالفوا جميع الحفاظ، بل انفراد الثقة العدل بما لم يخالف فيه غيره مقبول عند المحققين.
فرواية سعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة: الحديث المذكور عن قتادة من أنس مرفوعا لم يخالفوا فيها غيرهم، بل حفظوا ما لم يحفظه غيرهم، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، فادعاء الغلط عليهما بلا دليل غلط، وقول النووي في شرح المهذب، وروى الحاكم حديث أنس، وقال: وهو صحيح، ولكن الحاكم متساهل كما سبق بيانه مرات. والله أعلم.
يجاب عنه: بأنا لو سلمنا أن الحاكم متساهل في التصحيح، لا يلزم من ذلك أنه لا يقبل له تصحيح مطلقا. ورب تصحيح للحاكم مطابق للواقع في نفس الأمر، وتصحيحه لحديث أنس المذكور لم يتساهل فيه، ولذا لم يبد النووي وجها لتساهله فيه، ولم يتكلم
316

في أحد من رواته بل هو تصحيح مطابق.
فإن قيل: متابعة حماد بن سلمة لسعيد بن أبي عروبة المذكورة راويها عن حماد، هو أبو قتادة عبد الله بن واقد الحراني، وهو متروك، لا يحتج بحديثه، كما جزم به غير واحد من العلماء بالرجال. وقال فيه ابن حجر في التقريب: متروك فقد تساهل الحاكم في قوله: إن هذه الطريق على شرط مسلم، مع أن في إسنادها أبا قتادة المذكور.
فالجواب: أن أبا قتادة المذكور، وإن ضعفه الأكثرون، فقد وثقه الإمام أحمد وأثنى عليه، وناهيك بتوثيق الإمام أحمد وثنائه، وذكر ابن حجر والذهبي: أن عبد الله بن أحمد قال لأبيه: إن يعقوب بن إسماعيل بن صبيح ذكر أن أبا قتادة المذكور كان يكذب، فمعظم ذلك عنده جدا، وأثنى عليه وقال: إنه يتحرى الصدق. قال: ولقد رأيته يشبه أصحاب الحديث. وقال أحمد في موضع آخر: ما به بأس، رجل صالح، يشبه أهل النسك ربما أخطأ. وفي إحدى الروايتين عن ابن معين أنه قال: أبو قتادة الحراني ثقة. ذكرها عنه ابن حجر والذهبي، وقول من قال: لعله كبر فاختلط تخمين وظن لا يثبت به اختلاطه، ومعلوم أن المقرر في الأصول وعلوم الحديث: أن الصحيح أن التعديل يقبل مجملا، والتجريح لا يقبل إلا مفصلا، مع أن رواية سعيد بن أبي عروبة، عن أنس ليس في أحد من رواتها كلام.
ومما يؤيد ذلك موافقة الحافظ النقادة الذهبي للحاكم على تصحيح متابعة حماد، مع أن حديث أنس الصحيح المذكور معتضد بمرسل الحسن، ولا سيما على قول من يقول: إن مراسيله صحاح، إذا روتها عنه الثقات كابن المديني وغيره، كما قدمناه.
ويؤيد ذلك أن مشهور مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد الاحتجاج بالمرسل كما قدمناه مرارا، ويؤيده أيضا: الأحاديث المتعددة التي ذكرنا، وإن كانت ضعافا لأنها تقوي غيرها، ولا سيما حديث ابن عباس، فإنا قد ذكرنا سنده، وبينا أنه لا يقل عن درجة الاحتجاج.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار: ولا يخفى أن هذه الطرق يقوي بعضها بعضا، فتصلح للاحتجاج.
ومما يؤيد الحديث المذكور أن أكثر أهل العلم على العمل به، كما قدمنا عن أبي عيسى الترمذي أنه قال في حديث: الزاد والراحلة، والعمل عليه عند أهل العلم، وقد بينا أنه
317

قول لأكثرين منهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد.
فالحاصل: أن حديث: الزاد والراحلة، لا يقل بمجموع طرقه عن درجة القبول والاحتجاج.
وأظهر قولي أهل العلم عندي أن المعتبر في ذلك ما يبلغه ذهابا وإيابا. قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي والله تعالى أعلم: أن حديث: الزاد والراحلة وإن كان صالحا للاحتجاج لا يلزم منه أن القادر على المشي على رجليه بدون مشقة فادحة: لا يلزمه الحج، إن كان عاجزا عن تحصيل الراحلة بل يلزمه الحج لأنه يستطيع
إليه سبيلا، كما أن صاحب الصنعة التي يحصل منها قوته في سفر الحج، يجب عليه الحج، لأن قدرته على تحصيل الزاد في طريقه كتحصيله بالفعل.
فإن قيل: كيف قلتم بوجوبه على القادر على المشي على رجليه، دون الراحلة مع اعترافكم بقبول تفسير النبي صلى الله عليه وسلم السبيل: بالزاد، والراحلة وذلك يدل على أن المشي على الرجلين ليس من السبيل المذكور في الآية.
فالجواب من وجهين:
الأول: أن الظاهر المتبادر أنه صلى الله عليه وسلم فسر الآية بأغلب حالات الاستطاعة، لأن الغالب أن أكثر الحجاج آفاقيون، قادمون من بلاد بعيدة، والغالب عجز الإنسان عن المشي على رجليه في المسافات الطويلة وعدم إمكان سفره بلا زاد، ففسر صلى الله عليه وسلم الآية بالأغلب، والقاعدة المقررة في الأصول: أن النص إذا كان جاريا على الأمر الغالب، لا يكون له مفهوم مخالفة، ولأجل هذا منع جماهير العلماء تزويج الرجل ربيبته التي لم تكن في حجره قائلين: إن قوله تعالى * (اللاتى فى حجوركم) * جرى على الغالب، فلا مفهوم مخالفة له كما قدمناه مرارا، وإذا كان أغلب حالات الاستطاعة: الزاد والراحلة، وجرى الحديث على ذلك فلا مفهوم مخالفة له فيجب الحج على القادر على المشي على رجليه، إما لعدم طول المسافة، وإما لقوة ذلك الشخص على المشي، وكذلك يجب على ذي الصنعة التي يحصل منها قوته في سفره، لأنه في حكم واجد الزاد في المعنى، والعلم عند الله تعالى.
الوجه الثاني: أن الله جل وعلا سوى في كتابه بين الحاج الراكب، والحاج الماشي على رجليه. وقدم الماشي على الراكب، وذلك في قوله تعالى * (وأذن فى الناس بالحج
318

يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) *.
وقد قدمنا الكلام على هذه الآية الكريمة مستوفى، هذا هو حاصل ما يتعلق بالمستطيع بنفسه.
وأما ما يسمونه المستطيع بغيره فهو نوعان:
الأول منهما: هو من لا يقدر على الحج بنفسه، لكونه زمنا، أو هرما ونحو ذلك، ولكنه له مال يدفعه إلى من يحج عنه، فهل يلزمه الحج نظرا إلى أنه مستطيع بغيره، فيدخل في عموم * (من استطاع إليه سبيلا) *؟ أو لا يجب عليه الحج، لأنه عاجز غير مستطيع بالنظر إلى نفسه، فلا يدخل في عموم الآية.
وبالقول الأول قال الشافعي وأصحابه. فيلزمه عندهم أجرة أجير يحج عنه بشرط: أن يجد ذلك بأجرة المثل. قال النووي: وبه قال جمهور العلماء، منهم علي بن أبي طالب، والحسن البصري، والثوري، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر، وداود. وقال مالك: لا يجب عليه ذلك، ولا يجب إلا أن يقدر على الحج بنفسه، واحتج مالك بقوله تعالى: * (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) * وبقوله تعالى * (من استطاع إليه سبيلا) *، وهذا لا يستطيع بنفسه، فيصدق عليه اسم غير المستطيع وبأنها عبادة لا تصح فيها النيابة مع القدرة، فكذلك مع العجز، كالصلاة واحتج الأكثرون القائلون بوجوب الحج عليه بأحاديث رواها الجماعة.
منها: ما رواه البخاري في صحيحه: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريح، عن ابن شهاب، عن سليمان بن يسار، عن ابن عباس، عن الفضل بن عباس رضي الله عنهم: أن امرأة ح، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، حدثنا ابن شهاب عن سليمان بن يسار، عن ابن عباس رضي الله عنهما. قال: جاءت امرأة من خثعم عام حجة الوداع قالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن فريضة الله أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة، فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟ قال: (نعم) وفي رواية في صحيح البخاري عن ابن عباس فقالت: إن فريضة الله أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: (نعم) وذلك في حجة الوداع.
وفي لفظ في صحيح البخاري، عن ابن عباس: إن فريضة الله على عباده في الحج
319

أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: (نعم) وذلك في حجة الوداع ا ه.
وقال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن ابن شهاب، عن سليمان بن يسار، عن عبد الله بن عباس (أنه كان الفضل رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت امرأة من خثعم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، قالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه قال (نعم) وذلك في حجة الوداع.
وفي لفظ لمسلم قالت: يا رسول الله: إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج، وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره. قال النبي صلى الله عليه وسلم (فحجي عنه) ا ه.
وهذا الحديث الذي اتفق عليه الشيخان أخرجه باقي الجماعة، إلا أن بعضهم يرويه عن ابن عباس وهو عبد الله، وبعضهم يرويه عن أخيه الفضل بن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو داود في سننه: حدثنا حفص بن عمر، ومسلم بن إبراهيم بمعناه قالا: حدثنا شعبة، عن النعمان بن سالم، عن عمرو بن أوس، عن أبي رزين قال حفص في حديثه رجل من بني عامر أنه قال. يا رسول الله: إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج، ولا العمرة، ولا الظعن، قال (احجج عن أبيك واعتمر) وقال أبو عيسى الترمذي: حدثنا يوسف بن عيسى، نا وكيع عن شعبة، عن النعمان بن سالم، عن عمرو بن أوس، عن أبي زرين العقيلي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا
رسول الله: إن أبي شيخ كبير إلى آخر الحديث كلفظ أبي داود الذي ذكرنا ثم قال: قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وإنما ذكرت العمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: أن يعتمر الرجل عن غيره، وأبو رزين العقيلي اسمه لقيط بن عامر. انتهى منه.
وحديث أبي رزين هذا أخرجه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعن علي بن محمد قال: حدثنا وكيع، عن شعبة به نحو ما تقدم. وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وقال الترمذي بعد ذكره الحديث المتفق عليه في قصة استفتاء الخثعمية: ما نصه: وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب غير حديث. والعمل على هذا عند أهل العلم من
320

أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم وبه يقول الثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق: يرون أن يحج عن الميت.
وقال مالك: إذا أوصى أن يحج عنه حج عنه، وقد رخص بعضهم: أن يحج عن الحي، إذا كان كبيرا أو بحال لا يقدر أن يحج، وهو قول ابن المبارك والشافعي. انتهى من سنن الترمذي.
وقال النسائي في سننه: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنبأنا وكيع، قال: حدثنا شعبة، عن النعمان بن سالم إلى آخر السند والمتن كما ذكرناه آنفا عند الترمذي ا ه.
وعن علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة شابة من خثعم فقالت: إن أبي كبير، وقد أفند وأدركته فريضة الله في الحج، ولا يستطيع أداءها فيجزىء عنه أن أؤديها عنه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (نعم) رواه أحمد والترمذي، وصححه. انتهى منهما بواسطة نقل المجد في المنتقى والنووي في شرح المهذب.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار: وحديث علي أخرجه أيضا البيهقي ا ه. وقوله في هذا الحديث: وقد أفند: أي خرف وضعف عقله من الهرم.
وقال النسائي في سننه: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنبأنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن يوسف بن الزبير، عن عبد الله بن الزبير، قال: جاء رجل من خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الركوب، وأدركته فريضة الله في الحج فهل يجزئ أن أحج عنه؟ قال (آنت أكبر ولده؟ قال: نعم، قال: أرأيت لو كان عليه دين أكنت تقضيه؟ قال: نعم. قال: فحج عنه) وفي لفظ للنسائي، عن ابن عباس قال: قال رجل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبي مات ولم يحج، أفأحج عنه؟ قال (أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟) قال: نعم، قال: فدين الله أحق) وفي لفظ عند النسائي، عن ابن عباس: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: إن أبي أدركه الحج، وهو شيخ كبير لا يثبت على راحلته، فإن شددته خشيت أن يموت، أفأحج عنه؟ قال (أرأيت لو كان عليه دين فقضيته، أكان مجزئا؟ قال: نعم. قال: فحج عن أبيك) ا ه من سنن النسائي.
وحديث ابن الزبير الذي ذكرناه آنفا عند النسائي قال المجد في المنتقى: رواه الإمام أحمد والنسائي بمعناه.
وقال الشوكاني: قال الحافظ: إن إسناده صالح. انتهى. والأحاديث بمثل هذا كثيرة.
321

وأما النوع الثاني من نوعي المستطيع بغيره، فهو من لا يقدر على الحج بنفسه، وليس له مال يدفعه لمن يحج عنه، ولكن له ولد يطيعه إذا أمره بالحج والولد مستطيع. فهل يجب الحج على الوالد، ويلزمه أمر الولد بالحج عنه لأنه مستطيع بغيره؟ فيه خلاف بين أهل العلم.
قال النووي في شرح المهذب: فرع في مذاهبهم في المعضوب إذا لم يجد ما لا يحج به غيره، فوجد من يطيعه قد ذكرنا: أن مذهبنا: وجوب الحج عليه. وقال مالك، وأبو حنيفة وأحمد: لا يجب عليه، وقد علمت أن مالكا احتج في مسألة العاجز الذي له مال بقوله تعالى * (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) * وبأنه عاجز بنفسه فهو غير مستطيع إلى الحج سبيلا، إلى آخر ما تقدم، وبأن سعيد بن منصور وغيره رووا عن ابن عمر بإسناد صحيح: أنه لا يحج أحد عن أحد، ونحوه عن الليث ومالك، وأن الذين خالفوه احتجوا بالأحاديث التي ذكرنا وفيها ألفاظ ظاهرها الوجوب، كتشبيهه بدين الآدمي وكقول السائل: يجزئ عنه أن أحج عنه. والإجزاء دليل المطالبة، وفي بعض رواياتها أن السائل يقول: إن عليه فريضة الحج، ويستأذن النبي في الحج عنه، وهو صلى الله عليه وسلم لم يبين له أن الحج سقط عنه بزمانته وعجزه عن الثبوت على الراحلة، وبقوله للولد (أنت أكبر ولده) وأمره بالحج عنه.
وأما الذين فرقوا بين وجود المعضوب مالا فأوجبوا عليه الحج، وبين وجوده ولدا يطيعه فلم يوجبوه عليه، فلأن المال ملكه، فعليه أن يستأجر به، والولد مكلف آخر ليس ملزما بفرض على شخص آخر، ولأنه وإن كان له ولد فليس بمستطيع ببدن، ولا بزاد وراحلة، ولو وجد إنسانا غير الولد يطيعه في الحج عنه، فهل يكون حكمه حكم الولد؟ فيه خلاف معروف. وفي فروع الشافعية توجيه كل قول منها، فانظره في النووي في شرح المهذب وأظهرها أنه كالولد.
تنبيه
إذا مات الشخص، ولم يحج، وكان الحج قد وجب عليه لاستطاعته بنفسه، أو بغيره عند من يقول بذلك، وكان قد ترك مالا، فهل يجب أن يحج ويعتمر عنه من ماله؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم، فقال بعضهم: يجب أن يحج عنه، ويعتمر عنه من تركته، سواء مات مفرطا أو غير مفرط لكون الموت عاجله عن الحج فورا. وبهذا قال الشافعي وأحمد
322

.
قال ابن قدامة في المغني: وبهذا قال الحسن، وطاوس، والشافعي. وقال أبو حنيفة، ومالك: يسقط بالموت، فإن أوصى بذلك، فهو في الثلث وبهذا قال الشعبي
والنخعي لأنه عبادة بدنية، فتسقط بالموت كالصلاة، واحتجوا أيضا: بأن ظاهر القرآن كقوله * (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) * مقدم على ظاهر الأحاديث. بل على صريحها: لأنه أصح منها. وأجاب المخالفون: بأن الأحاديث مخصصة لعموم القرآن، وبأن المعضوب وجب عليه الحج بسعيه، بتقديم المال، وأجرة من يحج عنه. فهذا من سعيه، وأجابوا عن قياسه على الصلاة، بأنها لا تدخلها النيابة، بخلاف الحج، والذين قالوا: يجب أن يحج عنه، من رأس ماله استدلوا بأحاديث جاءت في ذلك، تقتضي أن من مات وقد وجب عليه الحج قبل موته، أنه يحج عنه. منها: ما رواه البخاري في صحيحه: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج، حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: (نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته، اقضوا الله فالله أحق بالوفاء) ا ه.
والحج في هذا الحديث وإن كان منذورا فإيجاب الله له على عباده في كتابه، أقوى من إيجابه بالنذر. واستدل بالحديث المذكور بعض أهل العلم على صحة نذر الحج، ممن لم يحج.
قال ابن حجر في الفتح: فإذا حج أجزأه عن حجة الإسلام، عند الجمهور، وعليه الحج عن النذر. وقيل: يجزئ عن النذر، ثم يحج حجة الإسلام. وقيل: يجزئ عنهما.
وقال البخاري أيضا في كتاب: الأيمان والنذور: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إن أختي نذرت أن تحج، وإنها ماتت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم. (لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟) قال: نعم، (قال: فاقض الله فهو أحق بالقضاء) ا ه.
وقال المجد في المنتقى بعد أن أشار لحديث البخاري: هذا وهو يدل على صحة الحج، عن الميت من الوارث وغيره، حيث لم يستفصله أوارث هو أو لا؟ وشبهه بالدين انتهى.
323

وقد تقرر في الأصول: أن عدم الاستفصال من النبي صلى الله عليه وسلم أي طلب التفصيل في أحوال الواقعة، ينزل منزلة العموم القولي وإليه أشار في مراقي السعود بقوله: أي طلب التفصيل في أحوال الواقعة، ينزل منزلة العموم القولي وإليه أشار في مراقي السعود بقوله:
* ونزلن ترك الاستفصال
* منزلة العموم في الأقوال
*
وخالف في هذا الأصل، أبو حنيفة رحمه الله كما هو مقرر في الأصول، مع بيان الخلاف في المسائل الفقهية، تبعا للخلاف في هذا الأصل المذكور.
ومنها: ما رواه النسائي في سننه، أخبرنا محمد بن بشار قال: حدثنا محمد قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر قال: سمعت سعيد بن جبير، يحدث عن ابن عباس: أن امرأة نذرت أن تحج فماتت، فأتى أخوها النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك؟ فقال (أرأيت لو كان على أختك دين أكنت قاضيه؟) قال: نعم قال (فاقضوا الله، فهو أحق بالوفاء) انتهى.
وهذه الأحاديث، التي ذكرنا في نذر الحج، وقد بينا أن إيجاب الله فريضة الحج أعظم من إيجابها بالنذر، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقضائها وشبهها بدين الآدمي. وسنذكر أيضا إن شاء الله أحاديث ليس فيها نذر الحج.
قال النسائي في سننه: أخبرنا أبو عاصم خشيش بن أصرم النسائي، عن عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رجل: يا رسول الله إن أبي مات ولم يحج، أفأحج عنه؟ قال (أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟) قال: نعم. (قال: فدين الله أحق) ا ه.
ورجال هذا الإسناد ثقات معروفون، لا كلام في أحد منهم، إلا الحكم بن أبان العدني. وقد قال فيه ابن معين، والنسائي: ثقة. وقال أبو زرعة: صالح. وقال العجلي: ثقة صاحب سنة. قال ابن عيينة: أتيت عدن، فلم أر مثل الحكم بن أبان، وعده ابن حبان في الثقات. وقال: ربما أخطأ. وإنما وقع المناكير في روايته، من رواية ابنه إبراهيم عنه، وإبراهيم ضعيف. وحكى ابن خلفون: توثيقه عن ابن نمير، وابن المديني وأحمد بن حنبل ا ه. وقال ابن عدي: فيه ضعف. وقال ابن خزيمة في صحيحه: تكلم أهل المعرفة بالحديث في الاحتجاج بخبره وبما ذكر تعلم صحة الاحتجاج بالحديث المذكور، وليس فيه نذر الحج.
وقال النسائي في سننه أيضا: أخبرنا عمران بن موسى قال: حدثنا عبد الوارث قال: حدثنا أبو التياح، قال: حدثني موسى بن سلمة الهذلي، أن ابن عباس قال: أمرت
324

امرأة سنان بن سلمة الجهني، أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أمها ماتت، ولم تحج، أفيجزىء عن أمها أن تحج عنها؟ قال: (نعم لو كان على أمها دين فقضته عنها ألم يكن يجزئ عنها فلتحج عن أمها) وهذا الإسناد صحيح. وفي لفظ عند النسائي أيضا، عن ابن عباس، بإسناد آخر: أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم، عن أبيها، مات ولم يحج. قال (حجي عن أبيك) وإسناده صحيح أيضا. وأخرج ابن ماجة نحوه من حديث ابن عباس بإسناد آخر صحيح.
وقال المجد في المنتقى: وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: إن أبي مات، وعليه حجة الإسلام، أفأحج عنه؟ قال (أرأيت لو أن أباك ترك دينا عليه أقضيته عنه؟) قال: نعم قال: (فاحجج عن أبيك) رواه الدارقطني. انتهى من المنتقى.
وقال الترمذي في سننه: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، نا عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن عطاء عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: جاءت امرأة إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي ماتت، ولم تحج، أفأحج عنها؟ قال (نعم حجي عنها) ا ه. ثم قال: قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح ا ه. وأخرج البيهقي نحوه بإسناد صحيح.
وقال الشافعي في مسنده: أخبرنا سعيد بن سالم، عن حنظلة، سمعت طاوسا يقول: أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة، فقالت: إن أمي ماتت، وعليها حج قال (حجي عن أمك) ولا يخفى أن حديث الشافعي هذا مرسل، ولكنه معتضد بما تقدم من الأحاديث وبما سيأتي إن شاء الله.
وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: وحدثني علي بن حجر السعدي، حدثنا علي بن مسهر أبو الحسن، عن عبد الله بن عطاء، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه، قال: بينا أنا جالس، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أتته امرأة فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية، وإنها ماتت قال: فقال (وجب أجرك وردها عليك الميراث، قالت: يا رسول الله، إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال: صومي عنها، قالت: إنها لم تحج قط، أفأحج عنها؟ قال: حجي عنها) انتهى من صحيح مسلم.
فهذه الأحاديث وأمثالها: هي حجة من قال: إن من وجب عليه الحج في الحياة، وترك مالا وجب أن يحج عنه، وليست كلها ظاهرة في ذلك. ولكن بعضها ظاهر فيه
325

كتشبيهه بدين الآدمي، ونحو ذلك مما تقدم. وأجاب المخالفون: بأن الحج أعمال بدنية، وإن كانت تحتاج إلى مال. والأعمال البدنية: تسقط بالموت، فلا وجوب لعمل بعد الموت، والذي يحج عنه متطوع، وفاعل خيرا قالوا: ووجه تشبيهه بالدين انتفاع كل منهما بذلك الفعل، فالمدين ينتفع بقضاء الدين عنه، والميت ينتفع بالحج عنه، ولا يلزم من قضاء الدين عن أحد، أن القضاء عنه واجب، بل يجوز أن يكون قضاؤه عنه غير واجب عليه.
واحتجوا أيضا بأن جميع الأحاديث الورادة بالحج عن الميت: واردة بعد الاستئذان في الحج عنه، قالوا: والأمر بعد الاستئذان كالأمر بعد الخطر، فهو للإباحة، لأن الاستئذان والحظر الأول كلاهما قرينة على صرف الأمر عن الوجوب إلى الإباحة.
قال ابن السبكي في جمع الجوامع في مبحث الأمر: فإن ورد بعد حظر قال الإمام: أو استئذان فللإباحة. وقال أبو الطيب، والشيرازي، والسمعاني والإمام: للوجوب، وتوقف إمام الحرمين انتهى منه. فتراه صدر بأن الأمر بعد الاستئذان للإباحة، والخلاف في المسألة معروف، وقد ذكرنا فيه أقوال أهل العلم، في أبيات مراقي السعود في أول سورة المائدة.
ومن أمثلة كون الأمر بعد الاستئذان للإباحة: أن الصحابة رضي الله عنهم، لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، عما اصطادوه بالجوارح، واستأذنوه في أكله، نزل في ذلك قوله تعالى * (فكلوا ممآ أمسكن عليكم) * فصار هذا الأمر بالأكل للإباحة لأنه وارد بعد سؤال، واستئذان.
ومن أمثلته من السنة: حديث مسلم: أأصلي في مرابض الغنم؟ قال (نعم) الحديث، فإن معنى نعم هنا: صل فيها. وهذا الأمر بالصلاة فيها للإباحة لأنه بعد الاستئذان، وخلاف أهل الأصول في مسألة الأمر بعد الحظر، أو الاستئذان معروف.
هذا هو حاصل كلامهم في المستطيع بغيره، ووجوب الحج عمن وجب عليه في الحياة، ومات قبل أن يحج وترك مالا، وقد علمت أدلتهم ومناقشتها.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الأحاديث التي ذكرنا، تدل قطعا على مشروعية الحج عن المغصوب، والميت. وقد قدمنا أن الأظهر عندنا وجوب الحج فورا، وعليه فلو فرط، وهو قادر على
326

الحج، حتى مات مفرطا مع القدرة، أنه يحج عنه من رأس ماله، إن ترك مالا، لأن فريضة الحج ترتبت في ذمته، فكانت دينا عليه، وقضاء دين الله صرح النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث المذكورة بأحقيته حيث قال (فدين الله أحق أن يقضى).
أما من عاجله الموت قبل التمكن، فمات غير مفرط، فالظاهر لنا أنه لا إثم عليه، ولا دين الله عليه، لأنه لم يتمكن من أداء الفعل حتى يترتب في ذمته، ولن يكلف الله نفسا إلا وسعها، وقد دلت الأحاديث المذكورة على جواز حج الرجل عن المرأة، وعكسه، وعليه عامة العلماء، ولم يخالف فيه إلا الحسن بن صالح بن حي.
والأحاديث المذكورة حجة عليه، وقد قدمنا أن مالكا رحمه الله ومن وافقوه، لم يعملوا بظاهر هذه الأحاديث التي ذكرنا مع كثرتها وصحتها، لأنها مخالفة عندهم، لظاهر القرآن في قوله: * (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) *. وقوله * (من استطاع إليه سبيلا) * والمعضوب والميت، ليس واحد منهما بمستطيع، لصدق قولك: إنه غير مستطيع بنفسه.
واعلم: أن ما اشتهر عن مالك من أنه يقول: لا يحج أحد عن أحد: معناه عنده: أن الصحيح القادر لا يصح الحج عنه في الفرض. والمعضوب عنده ليس بقادر، وأحرى الميت فالحج عنهما من مالهما لا يلزم عنده إلا بوصية، فإن أوصى به صح من الثلث وتطوع وليه بالحج عنه، خلاف الأولى عنده بل مكروه.
والأفضل عنده أن يجعل ذلك المال الذي يحج به عنه في غير الحج، كأن يتصدق به عنه أو يعتق به عنه ونحو ذلك، فإن أحرم بالحج عنه انعقد إحرامه وصح حجه عنه.
والحاصل: أن النيابة عن الصحيح في الفرض عنده ممنوعة، وفي غير الفرض مكروهة، والعاجز عنده لا فرض عليه أصلا للحج.
قال خليل بن إسحاق في مختصره: ومنع استنابة صحيح في فرض، وإلا كره ا ه.
وقال شارحه الخطاب: ويدخل في قول المصنف: وإلا كره بحسب الظاهر ثلاث صور: استنابة الصحيح في النفل، واستنابة العاجز في الفرض، وفي النفل، لكن في التحقيق ليس هنا إلا صورتان، لأن العاجز لا فريضة عليه ا ه.
واعلم: أن بعض المالكية حمل الكراهة المذكورة على التحريم، والأحاديث التي ذكرنا حجة على مالك، ومن وافقه، والعلم عند الله تعالى.
327

تنبيه
اعلم أن ما عليه جمهور العلماء من جواز الحج، عن المعضوب، والميت محله فيما إذا كان الذي يحج عنهما قد حج عن نفسه حجة الإسلام، خلافا لمن لم يشترط ذلك، واحتج الجمهور القائلون: بأن النائب عن غيره في الحج، لا بد أن يكون حج عن نفسه حجة الإسلام بحديث جاء في ذلك.
قال أبو داود في سننه: حدثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني، وهناد بن السري: المعنى واحد، قال إسحاق: ثنا عبدة بن سليمان، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة عن عزرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: لبيك عن شبرمة قال (من شبرمة؟ قال: أخ لي، أو قريب لي، قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: حج عن نفسك، ثم عن شبرمة) وقال ابن ماجة في سننه: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، ثنا عبدة بن سليمان، عن سعيد، عن قتادة، عن عزرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: لبيك عن شبرمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من شبرمة؟ قال: قريب لي، قال: هل حججت قط؟ قال: لا، قال: فاجعل هذه عن نفسك، ثم حج عن شبرمة) وإسناد هذا الحديث عند أبي داود وابن ماجة، رجاله كلهم ثقات، معروفون، إلا عزرة الذي رواه عنه قتادة، وقتادة روى عن ثلاثة كلهم اسمه: عزرة، وعزرة المذكور في إسناد هذا الحديث، عند أبي داود، وابن ماجة ذكراه غير منسوب، وجزم البيهقي بأنه عزرة بن يحيى، وعزرة بن يحيى لم يذكره البخاري في التاريخ، ولا ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، ولم يخصه ابن حجر في تهذيب التهذيب بترجمة، ولم يذكره الذهبي في الميزان، وقد ذكره ابن حجر في التقريب، وقال فيه: مقبول، وقد روى هذا الحديث أيضا: الدارقطني، وابن حبان في صحيحه وروى البيهقي من طريق عبدة بن سليمان الكلابي، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عزرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: هذا إسناد صحيح، ليس في هذا الباب أصح منه، أخرجه أبو داود في السنن عن إسحاق بن إسماعيل، وهناد بن السري، عن عبدة وقال: يحيى بن معين، أثبت الناس سماعا، عن سعيد عبدة بن سليمان، ثم قال: قال الشيخ وكذلك رواه أبو يوسف القاضي، عن سعيد، ثم ساق بإسناده رواية أبي يوسف، وأورد متن الحديث كما سبق، ثم قال: وكذلك روي عن محمد بن عبد الله الأنصاري ومحمد بن بشر، عن ابن أبي عروبة، ورواه غندر عن سعيد بن أبي عروبة موقوفا على ابن عباس، ومن رواه مرفوعا حافظ ثقة، فلا يضره خلاف من خالفه، وعزرة هذا: هو عزرة بن
328

يحيى، أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا علي الحافظ يقول: ذلك، وقد روى قتادة أيضا عن عزرة بن تميم، وعن عزرة بن عبد الرحمان ا ه من البيهقي، وقد أورد روايات أخر عن ابن عباس تؤيد الحديث المذكور، وذكره ابن حجر في التلخيص وأطال فيه الكلام، وذكر كلام البيهقي في تصحيحه، وكلام من لم يصححه وذكر طرقه ثم قال: ما نصه: فيجتمع من هذا صحة الحديث. ا ه محل الغرض منه.
وقال النووي في شرح المهذب: وأما حديث ابن عباس في قصة شبرمة فرواه أبو داود، والدارقطني، والبيهقي، وغيرهم بأسانيد صحيحة، ثم ذكر لفظ أبي داود كما قدمنا، ثم قال: وإسناده على شرط مسلم، والظاهر أن النووي يظن أن عزرة المذكور في إسناده هو ابن عبد الرحمان، وذلك من رجال مسلم والواقع خلاف ذلك، وهو عزرة بن يحيى كما جزم به البيهقي، ثم قال النووي: ورواه البيهقي بإسناد صحيح، عن ابن عباس، ثم ذكر بعض ما ذكرنا سابقا من تصحيح البيهقي للحديث، وأن رفعه أصح من وقفه.
فتحصل من هذا كله: أن الحديث صالح للاحتجاج، وفيه دليل على أن النائب في الحج، لا بد أن يكون قد حج عن نفسه. وقاس العلماء: العمرة على الحج في ذلك، وهو قياس ظاهر، والعلم عند الله تعالى.
وخالف في ذلك بعض العلماء كأبي حنيفة ومن وافقه، فقالوا: يصح حج النائب عن غيره، وإن لم يحج عن نفسه، واستدلوا بظواهر الأحاديث التي ذكرناها في الحج عن المعضوب والميت، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيها: (حج عن أبيك، حج عن أمك)، ونحو ذلك من العبارات، ولم يسأل أحدا منهم هل حج عن نفسه أو لا. وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال كما تقدم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الأظهر تقديم الحديث الخاص الذي فيه قصة شبرمة، لأنه لا يتعارض عام وخاص، فلا يحج أحد عن أحد، حتى يحج عن نفسه حجة الإسلام، والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
قد علمت مما مر أن الحج واجب مرة في العمر، وهل ذلك الوجوب على سبيل الفور أو التراخي؟
اختلف أهل العلم في ذلك وسنبين هنا إن شاء الله أقوالهم، وحججهم، وما
329

يرجحه الدليل عندنا من ذلك: فممن قال إن وجوبه على التراخي: الشافعي وأصحابه. قال النووي: وبه قال الأوزاعي، والثوري، ومحمد بن الحسن، ونقله الماوردي عن ابن عباس، وأنس، وجابر، وعطاء، وطاوس، وممن قال إنه على الفور: الإمام أحمد، وأبو يوسف، وجمهور أصحاب أبي حنيفة والمزني. قال النووي: ولا نص في ذلك لأبي حنيفة وقال صاحب تبيين الحقائق في الفقه الحنفي: إن القول بأنه على الفور قول أبي يوسف، وعن أبي حنيفة ما يدل عليه فإن ابن شجاع روى عنه أن الرجل إذا وجد ما يحج به وقد قصد التزوج، قال: يحج، ولا يتزوج، لأن الحج فريضة أوجبها الله على عبده، وهذا يدل على أنه على الفور انتهى.
وأما مذهب مالك فعنه في المسألة قولان مشهوران، كلاهما شهره بعض علماء المالكية.
أحدهما: أنه على الفور، والثاني: أنه على التراخي، ومحل الخلاف المذكور ما لم يحسن الفوات بسبب من أسباب الفوات، فإن خشية وجب عندهم فورا اتفاقا.
قال خليل بن إسحاق في مختصره في الفقه المالكي: وفي فوريته وتراخيه لخوف الفوات خلاف. اه.
وقد ذكر في ترجمته أنه إن قال في مختصره: خلاف، فهو يعني بذلك اختلافهم في تشهير القول.
وقال الشيخ المواق في كلامه على قول خليل المذكور ما نصه الجلاب: من لزمه فرض الحج لم يجز له تأخيره، إلا من عذر وفرضه على الفور دون التراخي، والتسويف، وعن ابن عرفة هذا للعراقيين، وعزا لابن محرز والمغاربة وابن العربي، وابن رشد: أنه على التراخي ما لم يخف فواته. وإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة فهذه حججهم.
أما الذين قالوا: إنه على التراخي فاحتجوا بأدلة.
منها: أنهم قالوا: إن الحج فرض عام ست من الهجرة، ولا خلاف أن آية * (وأتموا الحج والعمرة لله) * نزلت عام ست من الهجرة في شأن ما وقع في الحديبية من إحصار المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وهم محرومون بعمرة، وذلك في ذي القعدة من عام ست بلا خلاف، ويدل عليه ما تقدم في حديث كعب بن عجرة الذي نزل فيه * (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) *
330

وذلك متصل بقوله: * (وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله فمن كان منكم مريضا) *، ولذا جزم الشافعي، وغيره: بأن الحج فرض عام ست قالوا: وإذا كان الحج فرض عام ست، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا عام عشر، فذلك دليل على أنه على التراخي، إذ لو كان على الفور لما أخره عن أول وقت للحج، بعد نزول الآية. قالوا ولا سيما أنه عام ثمان من الهجرة فتح مكة في رمضان، واعتمر عمرة الجعرانة في ذي القعدة من عام ثمان، ثم رجع إلى المدينة، ولم يحج، قالوا: واستخلف عتاب بن أسيد، فأقام للناس الحج سنة ثمان، بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيما بالمدينة هو وأزواجه وعامة أصحابه، ولم يحجوا، قالوا: ثم غزا غزوة تبوك في عام تسع، وانصرف عنها قبل الحج، فبعث أبا بكر رضي الله تعالى عنه، فأقام للناس الحج سنة تسع، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأزواجه وعامة أصحابه قادرون على الحج، غير مشتغلين بقتال، ولا غيره، ولم يحجوا ثم حج صلى الله عليه وسلم هو وأزواجه وأصحابه كلهم سنة عشر حجة الوداع، قالوا: فتأخيره الحج المذكور إلى سنة عشر، دليل على أن الحج ليس وجوبه على الفور. بل على التراخي.
واستدلوا لذلك أيضا بما جاء في صحيح مسلم في قصة ضمام بن ثعلبة السعدي رضي الله عنه: حدثني عمرو بن محمد بن بكير الناقد، حدثنا هاشم بن القاسم أبو النضر، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء، الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله، ونحن نسمع. فجاءه رجل من أهل البادية فقال: يا محمد صلى الله عليه وسلم أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك قال (صدق، قال: فمن خلق السماء؟ قال: الله، قال: فمن خلق الأرض؟ قال: الله، قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال: الله، قال: فبالذي خلق السماء، وخلق الأرض، ونصب هذه الجبال الله أرسلك؟ قال: نعم، قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا، قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قال: وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا، قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قال: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا، قال: صدق قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا، قال: صدق، ثم ولى قال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن، ولا أنقص منهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لئن
331

صدق، ليدخلن الجنة) انتهى من صحيح مسلم، قالوا: هذا الحديث الصحيح جاء فيه وجوب الحج، وقد زعم الواقدي وغيره: أن قدوم الرجل المذكور وهو ضمام بن ثعلبة كان عام خمس، قالوا: وقد رواه شريك بن أبي نمر عن كريب فقال فيه: بعث بنو سعد ضماما في رجب سنة خمس، فدل ذلك على أن الحج كان مفروضا عام خمس، فتأخيره صلى الله عليه وسلم الحج إلى عام عشر دليل على أنه على التراخي، لا على الفور.
ومن أدلتهم على أنه على التراخي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أمر المحرمين بالحج أن يفسخوه في عمرة) فدل ذلك على جواز تأخير الحج، وهو دليل على أنه على التراخي.
ومن أدلتهم أيضا: أنه إن أخر الحج من سنة إلى أخرى، أو إلى سنين ثم فعله فإنه يسمى مؤديا للحج لا قاضيا له بالإجماع، قالوا: ولو حرم تأخيره لكان قضاء لا أداء.
ومن أدلتهم على أنه على التراخي: ما هو مقرر في أصول الشافعية: وهو أن المختار عندهم أن الأمر المجرد عن القرائن، لا يقتضي الفور، وإنما المقصود منه الامتثال المجرد. فوجوب الفور يحتاج إلى دليل خاص زائد على مطلق الأمر.
ومن أدلتهم: أنهم قاسوا الحج على الصلاة الفائتة قالوا: فهي على التراخي، ويقاس الحج عليها، بجامع أن كلا منهما واجب ليس له وقت معين.
ومنها: أنهم قاسوه على قضاء رمضان في كونهما على التراخي، بجامع أن كليهما واجب، ليس له وقت معين: قالوا: ولكن ثبتت آثار: أن قضاء رمضان غاية زمنه مدة السنة، هذا هو حاصل أدلة القائلين: بأن وجوب الحج على التراخي لا على الفور. وأما الذين قالوا إنه على الفور فاحتجوا أيضا بأدلة، ومنعوا أدلة المخالفين.
فمن أدلتهم على أن وجوب الحج على الفور آيات من كتاب الله تعالى يفهم منها ذلك، وهي على قسمين:
قسم منها: فيه الدلالة على وجوب المبادرة إلى امتثال أوامره جل وعلا، والثناء على من فعل ذلك.
والقسم الثاني: يدل على توبيخ من لم يبادر، وتخويفه من أن يدركه الموت قبل أن يمتثل، لأنه قد يكون اقترب أجله، وهو لا يدري.
أما آيات القسم الأول فكقوله * (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها
332

السماوات والا رض أعدت للمتقين) * وقوله تعالى * (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السمآء والا رض) *، فقوله * (وسارعوا) * وقوله * (سابقوا إلى مغفرة) * فيه الأمر بالمسارعة، والمسابقة إلى مغفرته، وجنته جل وعلا، وذلك بالمبادرة، والمسابقة إلى امتثال أوامره، ولا شك أن المسارعة والمسابقة كلتاهما على الفور، لا التراخي وكقوله * (فاستبقوا الخيرات) *، ويدخل فيه الاستباق إلى الامتثال وصيغ الأمر في قوله * (وسارعوا) * وقوله: * (سابقوا) *، وقوله * (فاستبقوا) * تدل على الوجوب، لأن الصحيح المقرر في الأصول: أن صيغة أفعل إذا تجردت عن القرائن، اقتضت الوجوب، وإليه أشار في المراقي بقوله: * وأفعل لدى الأكثر للوجوب * الخ
وذلك لأن الله تعالى يقول * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) * وقال جل وعلا * (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) * فصرح جل وعلا، بأن أمره قاطع للاختيار، موجب للامتثال، وقد سمى نبيه موسى عليه، وعلى نبينا الصلاة والسلام مخالفة الأمر معصية، وذلك في قوله * (أفعصيت أمرى) * يعني قوله له: * (اخلفنى فى قومى وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) * وإنما قال موسى لأخيه هارون، قبل أن يعلم حقيقة الحال، فلما علمها قال: * (رب اغفر لى ولأخى وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين) * ومما يدل على اقتضاء الأمر الوجوب: أن الله جل وعلا، عنف إبليس، لما خالف الأمر بالسجود، وذلك في قوله * (قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) * والنصوص بمثل هذا كثيرة، وقد أجمع أهل اللسان العربي: أن السيد لو قال لعبده: اسقني ماء مثلا، فلم يمتثل أمره فأدبه على ذلك، أن ذلك التأديب واقع موقعه، لأنه عصاه بمخالفة أمره، فلو قال العبد: ليس لك أن تؤدبني، لأن أمرك لي بقولك: اسقني ماء لا يقتضي الوجوب لقال له أهل اللسان: كذبت، بل الصيغة ألزمتك، ولكنك عصيت سيدك، فدل ما ذكر على أن الشرع واللغة، دلا على اقتضاء الأمر المجرد الوجوب، وذلك يدل على أن قوله: * (سابقوا) * وقوله * (وسارعوا) * يدل على وجوب المبادرة إلى امتثال أوامر الله فورا.
ومن الآيات التي فيها الثناء على المبادرين إلى امتثال أوامر ربهم قوله تعالى
333

* (إنهم كانوا يسارعون فى الخيرات) *. وقوله تعالى * (أولائك يسارعون فى الخيرات وهم لها سابقون) *.
وأما القسم الدال على التخويف من الموت، قبل الامتثال المتضمن الحث على الامتثال: فهو أن الله جل وعلا، أمر خلقه أن ينظروا في غرائب صنعه، وعجائبه كخلقه للسماوات والأرض، ونحو ذلك من الآيات من كتابه كقوله * (قل انظروا ماذا فى السماوات والا رض) *. وقوله تعالى * (أفلم ينظروا إلى السمآء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج) * وقوله * (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السمآء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الا رض كيف سطحت) *. ثم ذكر في آية أخرى ما يدل على أن ذلك النظر مع لزومه يجب معه النظر في اقتراب الأجل، فقد يقترب أجله، ويضيع عليه أجر الامتثال بمعالجة الموت، وذلك في قوله تعالى * (أولم ينظروا فى ملكوت السماوات والا رض وما خلق الله من شىء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم) * إذ المعنى: أو لم ينظروا في أنه عسى أن يكون أجلهم قد اقترب، فيضيع عليهم الأجر بعدم المبادرة قبل الموت، وفي الآية دليل واضح، على أن الإنسان يجب عليه أن يبادر إلى امتثال الأمر، خشية أن يعالجه الموت قبل ذلك.
ومن أدلتهم على أن وجوب الحج على الفور، أحاديث جاءت دالة على ذلك، ولا يخلو شيء منها من مقال، إلا أنها تعتضد بالآيات المذكورة، وبما سنذكره إن شاء الله بعدها.
منها ما أخرجه أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا الثوري، عن إسماعيل وهو أبو إسرائيل الملائي، عن فضيل، يعني: ابن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تعجلوا إلى الحج) يعني الفريضة. فقوله في هذا الحديث: تعجلوا يدل على الفور، وقد نقل حديث أحمد هذا المجد في المنتقى بحذف الإسناد على عادته، فقال: عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (تعجلوا إلى الحج) يعني الفريضة (فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له) رواه أحمد انتهى منه. وقد سكت على هذا الحديث، وسكت عليه أيضا شارحه الشوكاني في نيل الأوطار، وظاهر سكوتهما عليه: أنه صالح للاحتجاج عندهما، والظاهر عدم صلاحية هذا الحديث بانفراده
334

للاحتجاج، لأن في سنده إسماعيل بن خليفة أبو إسرائيل الملائي، وهو لا يحتج بحديثه، لأنه ضعفه أكثر أهل العلم بالحديث، وكان شيعيا من غلاتهم، وكان ممن يكفر أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقال فيه ابن حجر في التقريب: صدوق، سىء الحفظ، نسب إلى الغلو في التشيع.
والحاصل: أن أكثر أهل العلم لا يحتجون بحديثه، وانظر إن شئت أقوال أهل العلم في تهذيب التهذيب، والميزان وغيرهما.
ومن أدلتهم أيضا على ذلك: ما رواه الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الحسن بن عمرو الفقيمي، عن مهران أبي صفوان، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أراد الحج فليتعجل) ا ه. ورواه أبو داود: حدثنا مسدد، ثنا معاوية محمد بن خازم، عن الأعمش، عن الحسن بن عمرو، عن مهران أبي صفوان، عن ابن عباس قال (من أراد الحج فليتعجل) ا ه. وقال الحاكم في المستدرك: حدثنا أبو بكر بن إسحاق، أنبأنا أبو المثنى، ثنا أبو معاوية محمد بن خازم،
عن الحسن بن عمرو الفقيمي، عن أبي صفوان، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أراد الحج فليتعجل) ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وأبو صفوان هذا سماه غيره مهران مولى لقريش، ولا يعرف بالجرح انتهى منه. وأقره الحافظ الذهبي على تصحيحه لهذا الإسناد، ولا يخلو هذا السند من مقال، لأن فيه مهران أبا صفوان، قال فيه ابن حجر في التقريب: كوفي مجهول، وقال صاحب الميزان، لا يدري من هو. وقال فيه في تهذيب التهذيب. روي عن ابن عباس (من أراد الحج فليتعجل) وعنه الحسن بن عمرو الفقيمي، قال أبو زرعة: لا أعرفه إلا في هذا الحديث وذكره ابن حبان في الثقات. قلت: وقال الحاكم لما أخرج حديثه هذا في المستدرك لا يعرف بجرح انتهى منه، وهو دليل على أن حديث مهران المذكور معتبر به، فيعتضد بما قبله، وبما بعده، مع أن ابن حبان عده في الثقات، وصحح حديثه الحاكم وأقره الذهبي على ذلك ا ه.
وقال ابن ماجة في سننه: حدثنا علي بن محمد، وعمرو بن عبد الله، قالا: ثنا وكيع ثنا إسماعيل وأبو إسرائيل، عن فضيل بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن الفضل أو أحدهما عن الآخر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة) ا ه. وفي سنده: إسماعيل بن خليفة أبو إسرائيل الملائي، وقد قدمنا قريبا: أن الأكثرين ضعفوه.
335

ومن أدلتهم على ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من لم يحبسه مرض، أو مشقة ظاهرة أو سلطان جائر فلم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا) قال ابن حجر في التلخيص: هذا الحديث ذكره ابن الجوزي في الموضوعات. وقال العقيلي، والدارقطني: لا يصح فيه شيء.
قلت: وله طرق.
أحدها: أخرجه سعيد بن منصور في السنن: وأحمد، وأبو يعلى، والبيهقي من طرق عن شريك عن ليث بن أبي سليم، عن ابن سابط، عن أبي أمة بلفظ (من لم يحبسه مرض أو حاجة ظاهرة أو سلطان جائر فلم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا) لفظ البيهقي، ولفظ أحمد (من كان ذا يسار فمات ولم يحج) الحديث. وليث ضعيف، وشريك سيىء الحفظ، وقد خالفه سفيان الثوري، فأرسله ورواه أحمد في كتاب: الإيمان له عن وكيع، عن سفيان، عن ليث، عن ابن سابط قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من مات ولم يحج ولم يمنعه من ذلك مرض حابس أو سلطان ظالم أو حاجة ظاهرة) فذكره مرسلا. وكذا ذكره ابن أبي شيبة، عن أبي الأحوص، عن ليث مرسلا، وأورده أبو يعلى من طريق أخرى، عن شريك مخالفة للإسناد الأول، وراويها عن شريك: عمار بن مطر ضعيف. وقال الذهبي في الميزان، بعد أن ذكر طريق أبي يعلى: هذه في ترجمة عمار بن مطر الرهاوي المذكور الراوي، عن شريك هذا منكر عن شريك.
الثاني: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرفوعا (من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا، وذلك لأن الله تعالى قال في كتابه * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) *) رواه الترمذي، وقال: غريب، وفي إسناده مقال، والحارث يضعف، وهلال بن عبد الله الراوي له عن أبي إسحاق مجهول، وسئل إبراهيم الحربي عنه؟ فقال: من هلال. وقال ابن عدي: يعرف بهذا الحديث، وليس الحديث بمحفوظ. وقال العقيلي: لا يتابع عليه، وذكر في الميزان حديث على هذا في ترجمة هلال بن عبد الله المذكور، وقال: قال البخاري: منكر الحديث. وقال الترمذي: مجهول، وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه ا ه. وقال فيه في التقريب: متروك. وقد روي عن علي موقوفا، ولم يرو مرفوعا من طريق أحسن من هذا، وقال المنذري: طريق أبي أمامة على ما فيها أصلح من هذه.
الثالث: عن أبي هريرة رفعه (من مات ولم يحج حجة الإسلام في غير وجع حابس
336

أو حاجة ظاهرة أو سلطان جائر فليمت أي الميتتين شاء. إما يهوديا أو نصرانيا) رواه ابن عدي، من طريق عبد الرحمان الغطفاني، عن أبي المهزم، وهما متروكان عن أبي هريرة، وله طريق صحيحة إلا أنها موقوفة رواها سعيد بن منصور والبيهقي، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال (لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فتنظر كل من كانت له جدة ولم يحج فيضربوا عليه الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين) لفظ سعيد، ولفظ البيهقي أن عمر قال: ليمت يهوديا أو نصرانيا يقولها ثلاث مرات: رجل مات ولم يحج وجد لذلك سعة، وخليت سبيله.
قلت: وإذا انضم هذا الموقوف إلى مرسل ابن سابط، علم أن لهذا الحديث أصلا، ومحمله على من استحل الترك، وتبين بذلك خطأ من ادعى أنه موضوع والله أعلم ا ه من التلخيص الحبير بلفظه. وقول ابن حجر ومحمله على من استحل الترك هو قول من قال من المفسرين: إن الكفر في قوله تعالى * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين) * يحمل على مستحل الترك، ولا دليل عليه، ووجه الدلالة من الأحاديث المذكورة على ما فيها من المقال أنها تصرح أنه لا يمنعه من الإثم إلا مانع يمنعه من المبادرة إلى الحج، كالمرض، أو الحاجة الظاهرة، أو السلطان الجائر. فلو كان تراخيه لغير العذر المذكور لكان قد مات، وهو آثم بالتأخير. فدل على أن وجوب الحج على الفور، وأنه لا يجوز التراخي فيه إلا لعذر، وقال الشوكاني في نيل الأوطار، بعد أن ساق الطرق التي ذكرناها عن صاحب التلخيص، وهذه الطرق يقوي بعضها بعضا؟ وبذلك تتبين مجازفة ابن الجوزي في عده لهذا الحديث من الموضوعات، فإن مجموع تلك الطرق لا يقصر عن كون الحديث حسنا لغيره، وهو محتج به عند الجمهور، ولا يقدح في ذلك. قول العقيلي والدارقطني، لا يصح في الباب شيء، لأن نفي الصحة لا يستلزم نفي الحسن ا ه محل الغرض منه.
ومن أدلتهم أيضا على أن وجوب الحج على الفور ما قدمناه في سورة البقرة، من حديث الحجاج بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل) قال عكرمة: سألت ابن عباس، وأبا هريرة عن ذلك؟ يعني: حديث الحجاج بن عمر والمذكور فقالا
: صدق. وقد قدمنا أن هذا الحديث ثابت من رواية الحجاج بن عمرو الأنصاري. وابن عباس وأبي هريرة، وقد قدمنا أنه رواه الإمام أحمد، وأصحاب السنن، وابن خزيمة والحاكم، والبيهقي، وقد
337

قدمنا: أنه سكت عليه أبو داود والمنذري وحسنه الترمذي، وأن النووي قال فيه: رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة والبيهقي، وغيرهم بأسانيد صحيحة، ومحل الشاهد من الحديث المذكور قوله صلى الله عليه وسلم في بعض روايات الحديث، عند أبي داود، وابن ماجة (فقد حل وعليه الحج من قابل) لأن قوله: من قابل دليل على أن الوجوب على الفور، وقد قدمنا هناك، ما يدل على أن ذلك القضاء الواجب على المحصر بمرض أو نحوه إنما هو في حجة الإسلام، وأنه لا قضاء على المحصر في غيرها، وبينا أدلة ذلك هناك في الكلام على قوله تعالى: * (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى) * والرواية التي ذكرنا هناك: فقد حل وعليه حجة أخرى، وهذه الرواية قد بينتها رواية (وعليه الحج من قابل) وهي ثابتة: وهي دالة على الفور مفسرة للرواية التي ذكرنا هناك.
فهذه الأحاديث مع تعددها واختلاف طرقها، تدل على أن وجوب الحج على الفور، وتعتضد بالآيات القرآنية التي قدمناها، وتعتضد بما سنذكره إن شاء الله من كلام أهل الأصول.
واعلم أن المخالفين قالوا: إن هذه الأحاديث لم يثبت منها شيء، وأن حديث (من أراد أن يحج فليتعجل) مع ضعفه حجة لهم لا عليهم، لأنه وكل الأمر إلى إرادته. فدل على أنه ليس على الفور، ولا يخفى أن الأحاديث التي ذكرنا لا يقل مجموعها عن درجة الاحتجاج، على أن وجوب الحج على الفور.
ومن أدلتهم على أن وجوب الحج على الفور: هو أن الله أمر به، وأن جماعة من أهل الأصول قالوا: إن الشرع واللغة والعقل كلها دال على اقتضاء الأمر الفور. أما الشرع فقد قدمنا الآيات القرآنية الدالة على المبادرة فورا، لامتثال أوامر الله كقوله * (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) *، وكقوله * (سابقوا إلى مغفرة من ربكم) *، وبينا دلالة تلك الآيات وأمثالها على اقتضاء الأمر الفور، وأوضحنا ذلك.
وأما اللغة: فإن أهل اللسان العربي، مطبقون على أن السيد لو قال لعبده: اسقني ماء، فلم يفعل، فأدبه، فليس للعبد أن يقول له: صيغة أفعل في قولك: اسقني ماء، تدل على التراخي، وكنت سأمتثل بعد زمن متراخ عن الأمر بل يقولون: إن الصيغة ألزمتك فورا، ولكنك عصيت أمر سيدك بالتواني والتراخي.
338

وأما العقل: فإنا لو قلنا: إن وجوب الحج على التراخي، فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون ذلك التراخي له غاية معين ينتهي عندها، وإما ألا والقسم الأول ممنوع، لأن الحج لم يعين له زمن يتحتم فيه، دون غيره من الأزمنة، بل العمر كله تستوي أجزاؤه بالنسبة إليه. إن قلنا: إنه ليس على الفور.
والحاصل: أنه ليس لأحد تعيين غاية له لم يعينها الشرع.
والقسم الثاني الذي هو: أن تراخيه، ليس له غاية، يقتضي عدم وجوبه، لأن ما جاز تركه جوازا، لم تعين له غاية ينتهي إليها، فإن تركه جائز إلى غير غاية، وهذا يقتضي عدم وجوبه والمفروض وجوبه.
فإن قيل: غايته الوقت الذي يغلب على الظن بقاؤه إليه.
فالجواب: أن البقاء إلى زمن متأخر، ليس لأحد أن يظنه؟ لأن الموت يأتي بغتة، فكم من إنسان يظن أنه يبقى سنين فيخترمه الموت فجأة، وقد قدمنا قوله تعالى في ذلك * (وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم) * ولا ينتهي إلى حالة يتيقن الموت فيها، إلا عند عجزه عن العبادات، ولا سيما العبادات الشاقة كالحج. والإنسان طويل الأمل، يهرم، ويشب أمله وتحديد وجوبه بستين سنة تحديد لا دليل عليه.
فهذه جملة أدلة القائلين: بأن وجوب الحج على الفور، ومنعوا أدلة المخالفين قالوا إن قولكم: إن الحج فرض سنة خمس بدليل قصة ضمام بن ثعلبة المتقدمة، فإن قدومه سنة خمس، وقد ذكر له النبي صلى الله عليه وسلم وجوب الحج، وأن قوله تعالى * (وأتموا الحج والعمرة لله) *. نزلت عام ست في عمرة الحديبية. دلت على أن الحج مفروض عام ست، وأنه صلى الله عليه وسلم أخره بعد فرضه إلى عام عشر، كل ذلك مردود، بل الحج إنما فرض عام تسع، قالوا: والصحيح أن قدوم ضمام بن ثعلبة السعدي كان سنة تسع.
وقال ابن حجر في الإصابة في ترجمة ضمام المذكور ما نصه: وزعم الواقدي أن قدومه كان في سنة خمس، وفيه نظر. وذكر ابن هشام عن أبي عبيد: أن قدومه كان سنة تسع، وهذا عندي أرجح ا ه. منه، وانظر ترجيح ابن حجر لكون قدومه عام تسع.
وذكر ابن كثير: قدوم ضمام المذكور في حوادث سنة تسع، مع أنه ذكر قول من قال: إن قدومه كان قبل عام خمس، هذا وجه ردهم للاحتجاج بقصة ضمام، وأما وجه ردهم للاحتجاج بآية * (وأتموا الحج والعمرة لله) * فهو أنه لم يذكر فيها إلا
339

وجوب الإتمام بعد الشروع، فلا دليل فيها على ابتداء الوجوب. وقد أجمع أهل العلم على أن من أحرم بحج أو عمرة، وجب عليه الإتمام، ووجوب الإتمام بعد الشروع لا يستلزم ابتداء الوجوب.
قال ابن القيم في زاد المعاد ما نصه: وأما قوله تعالى: * (وأتموا الحج والعمرة لله) *، فإنها وإن نزلت سنة ست عام الحديبية فليس فيها فرضية الحج، وإنما فيها الأمر بإتمامه، وإتمام العمرة بعد الشروع فيهما، وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء.
فإن قيل: فمن أين لكم تأخر نزول فرضه إلى التاسعة أو العاشرة.
قيل: لأن صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود، وفيه: قدم وفد بحران على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصالحهم على أداء الجزية، والجزية: إنما نزلت عام
340

تبوك سنة تسع، وفيها نزل صدر سورة آل عمران، وناظر أهل الكتاب ودعاهم إلى التوحيد والمباهلة، ويدل عليه أن أهل مكة، وجدوا في نفوسهم على ما فاتهم من التجارة من المشركين، لما أنزل الله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هاذا) * فأعاضهم الله تعالى من ذلك الجزية، ونزول هذه الآيات، والمناداة بها إما كان عام تسع، وبعث الصديق رضي الله عنه بذلك في مكة في موسم الحج، وأردفه بعلي رضي الله عنه، وهذا الذي ذكرناه قد قاله غير واحد من السلف والله أعلم. انتهى من زاد المعاد.
فتحصل: أن آية * (وأتموا الحج والعمرة لله) *، لم تدل على وجوب الحج ابتداء، وإنما دلت على وجوب إتمامه بعد الشروع فيه كما هو ظاهر اللفظ، ولو كان يتعين كونه يدل على ابتداء الوجوب لما حصل خلاف بين أهل العلم في وجوب العمرة، والخلاف في وجوبها معروف، وسيأتي إن شاء الله إيضاحه.
بل الذي أجمعوا عليه: هو وجوب إتمامها بعد الشروع فيها، كما هو ظاهر الآية، وأن قصة ضمام بن ثعلبة، كانت عام تسع كما رجحه ابن حجر وغيره، فظهر سقوط الاستدلال بها وبالآية الكريمة، وأن الحج إنما فرض عام تسع كما أوضحه ابن القيم في كلامه المذكور آنفا، لأن آية * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * هي الآية التي فرض بها الحج: وهي من صدر سورة آل عمران، وقد نزل عام الوفود وفيه قدم وفد نجران، وصالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على أداء الجزية، والجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع كما تقدم قريبا، وعلى كون الحج إنما فرض عام تسع غير واحد من العلماء، وهو الصواب إن شاء الله تعالى.
وبه تعلم أنه لا حجة في تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الحج عام فتح مكة، لأنه انصرف من مكة والحج قريب، ولم يحج. لأنه لم يفرض.
فإن قيل: سلمنا تسليما جدليا أن سبب تأخيره الحج عام فتح مكة، مع تمكنه منه، وقدرته عليه أن الحج لم يكن مفروضا في ذلك الوقت، وقد اعترفتم بأن الحج فرض عام تسع، وهو صلى الله عليه وسلم لم يحج عام تسع، بل أخر حجه إلى عام عشر، وهذا يكفينا في الدلالة على أن وجوبه على التراخي، إذ لو كان على الفور لما أخره بعد فرضه إلى عام عشر.
فالجواب والله تعالى أعلم: أن عام تسع لم يتمكن فيه النبي، وأصحابه من منع المشركين من الطواف بالبيت، وهم عراة، وقد بين الله تعالى في كتابه أن منعهم من قربان المسجد الحرام، إنما هو بعد ذلك العام الذي هو عام تسع وذلك في قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هاذا) *، وعامهم هذا هو عام تسع، فدل على أنه لم يمكن منعهم عام تسع، ولذا أرسل عليا رضي الله عنه بعد أبي بكر ينادي ببراءة: وأن لا يحج بعد العام مشرك، ولا عريان، فلو بادر صلى الله عليه وسلم إلى الحج عام تسع لأدى ذلك إلى رؤيته المشركين يطوفون بالبيت، وهم عراة وهو لا يمكنه أن يحضر ذلك، ولا سيما في حجة الوداع التي يريد أن يبين للناس فيها مناسك حجهم، فأول وقت أمكنه فيه الحج صافيا من الموانع والعوائق بعد وجوبه عام عشر، وقد بادر بالحج فيه والعلم عند الله تعالى، وأجابوا عن قولهم: كونه صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي، أن يفسخوا حجهم في عمرة، دليل على تأخير الحج، لأنهم بعد ما أحرموا فيه فسخوه في عمرة، وحلوا منه بأن هذا ليس فيه تأخير الحج لعزمهم على أن يحجوا في تلك السنة بعينها، وتأخير الحج: إنما هو بتأخيره من سنة إلى أخرى، وذلك ليس بواقع هنا، فلا تأخير للحج في الحقيقة، لأنهم حجوا في عين الوقت الذي حج فيه من لم يفسخ حجه في عمرة، فلا تأخير كما ترى، وأجابوا عن قولهم: إنه لو أخره من سنة إلى أخرى، أو سنين، ثم فعله بعد ذلك فإنه يسمى مؤديا لا قاضيا بالإجماع، ولو حرم التأخير، لكان قضاء بأن القضاء لا يكون إلا في العبادة الموقتة بوقت معين. ثم خرج ذلك الوقت المعين لها كما هو مقرر في الأصول، والحج لم يوقت بزمن معين والعمر كله وقت له، وذلك لا ينافي وجوب المبادرة خوفا من طرو العوائق، أو نزول الموت قبل
341

الأداء كما تقدم إيضاحه.
وأجابوا عن قولهم: إن من تمكن من أداء الحج، ثم أخره، ثم فعله لا ترد شهادته فيما بين فعله وتأخيره. ولو كان التأخير حراما لردت شهادته لارتكابه ما لا يجوز بأنه ما كل من ارتكب ما لا يجوز ترد شهادته، بل لا ترد إلا بما يؤدي إلى الفسق، وهنا قد يمنع من الحكم بتفسيقه مراعاة الخلاف، وقول من قال: إنه لم يرتكب حراما وشبهة الأدلة التي أقاموها على ذلك، هذا هو حاصل أدلة الفريقين.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين عندي وأليقهما بعظمة خالق السماوات والأرض هو: أن وجوب أوامره جل وعلا كالحج على الفور، لا على التراخي، لما قدمنا من النصوص الدالة على الأمر بالمبادرة، وللخوف من مباغتة الموت كقوله: * (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) *، وما قدمنا معها من الآيات وكقوله: * (أولم ينظروا فى ملكوت السماوات والا رض وما خلق الله من شىء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم) * 7 ولما قدمنا من أن الشرع واللغة والعقل كلها يدل على أن أوامر الله تجب على الفور، وقد بينا أوجه الجواب عن كونه صلى الله عليه وسلم لم يحج حجة الإسلام إلا سنة عشر، والعلم عند الله تعالى، وأشار في مراقي السعود إلى أن مذهب مالك أن وجوب الأمر على الفور بقوله: لم يحج حجة الإسلام إلا سنة عشر، والعلم عند الله تعالى، وأشار في مراقي السعود إلى أن مذهب مالك أن وجوب الأمر على الفور بقوله:
* وكونه للفور أصل المذهب
* وهو لدى القيد بتأخير أبى
*
المسألة الثانية: اعلم أن من أراد الحج له أن يحرم مفردا الحج وله أن يحرم متمتعا بالعمرة إلى الحج، وله أن يحرم قارنا بين الحج والعمرة، وإنما الخلاف بين العلماء
، فيما هو الأفضل من الثلاثة المذكورة.
والدليل على التخيير بين الثلاثة ما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع. فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحجة وعمرة، ومنا من أهل بالحج الحديث. وهو نص صريح متفق عليه في جواز الثلاثة المذكورة. وقال النووي في شرح المهذب: وجواز الثلاثة قال به العلماء، وكافة الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلا ما ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما: أنهما كان ينهيان عن التمتع. انتهى محل الغرض من كلامه.
342

وقال أيضا في شرح مسلم: وقد أجمع العلماء على جواز الأنواع الثلاثة:
وقال ابن قدامة في المغني: وأجمع أهل العلم على جواز الإحرام، بأي الأنساك الثلاثة شاء. واختلفوا في أفضلها.
وفي رواية في الصحيح عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل، قالت عائشة رضي الله عنها: فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج وأهل به ناس معه، وأهل ناس بالعمرة والحج، وأهل ناس بعمرة، وكنت فيمن أهل بالعمرة) هذا لفظ مسلم في صحيحه: وهو صريح في جواز الثلاثة المذكورة.
وبه تعلم أن ادعاء بعض المعاصرين أن إفراد الحج ممنع مخالف لما صح باتفاق مسلم والبخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأطبق عليه جماهير أهل العلم. وحكى غير واحد عليه الإجماع، وسنذكر إن شاء الله كلام أهل العلم في التفضيل بينها مع مناقشة الأدلة.
المسألة الثالثة: اعلم أن ممن قال: إن الأفراد أفضل من التمتع والقران: مالك، وأصحابه، والشافعي في الصحيح من مذهبه وأصحابه.
قال النووي: في شرح المهذب: وبه قال عمر بن الخطاب، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وجابر، وعائشة، ومالك، والأوزاعي، وأبو ثور، وداود. واحتج من قال: بتفضيل إفراد للحج على غيره بأدلة متعددة.
الأول: أحاديث صحيحة جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم، بأنه أفرد في حجة الوداع من رواية جابر، عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة رضي الله عنهم وغيرهم. أما حديث عائشة فقد ذكرناه آنفا.
قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحجة وعمرة، ومنا من أهل بالحج، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج الحديث. هذا لفظ البخاري، ومسلم، وهو صريح في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بالحج. ولا يحتمل لفظ عائشة هذا غير إفراد الحج لأنها ذكرت معه التمتع والقران، وأن بعض الناس تمتع وبعضهم قرن، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بالحج فهو الحج المفرد، ولا يحتمل غيره.
وفي رواية في الصحيح عنها رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
343

فقال (من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل. ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل). قالت عائشة رضي الله عنها: (فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج، وأهل به ناس معه وأهل ناس بالعمرة والحج، وأهل ناس بعمرة، وكنت فيمن أهل بالعمرة) هذا لفظ مسلم في صحيحه. وهو لا يحتمل غير الإفراد بحال، لأنها ذكرت القران، والتمتع، والإفراد، وصرحت بأنه صلى الله عليه وسلم أهل بالحج، فدل على أنها لا تريد القران ولا غيره. وفي رواية عنها في الصحيح قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نرى إلا الحج، وفي رواية عنها في الصحيح أيضا، ولا نذكر إلا الحج. وفي رواية عنها في الصحيح أيضا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج. وفي رواية عنها رضي الله عنها في الصحيح: ولا نرى إلا أنه الحج. كل هذه الألفاظ في صحيح مسلم. وبعضها في البخاري.
وأما حديث جابر فقد روى عنه عطاء قال: حدثني جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنه حج من النبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه، وقد أهلوا بالحج مفردا الحديث: هذا لفظ البخاري ومسلم، وفي رواية عنه رضي الله عنه في الصحيح: قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقول: لبيك اللهم لبيك بالحج. هذا لفظ البخاري، ومسلم أيضا وفي رواية في الصحيح عن عطاء: حدثني جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل وأصحابه بالحج الحديث. هذا لفظ البخاري في صحيحه. وفي حديثه أعني جابرا رضي الله عنه الطويل المشهور في صحيح مسلم الذي بين فيه حجة النبي صلى الله عليه وسلم أكمل بيان، وساقها أحسن سياقة من أولها إلى آخرها. وقد دل ذلك على ضبطه لها، وحفظه، وإتقانه ما نصه: قال جابر رضي الله عنه: لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة الحديث، وهو تصريح منه رضي الله عنه بالإفراد، دون التمتع، والقران لقوله: لسنا نعرف العمرة.
وفي رواية عنه في الصحيح قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج الحديث.
وفي رواية عنه في الصحيح أيضا قال: أهللنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالحج خالصا هذه وحده. وكلا الروايتين عنه بلفظ مسلم في الصحيح. وفي صحيح مسلم أيضا عنه: قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج. الحديث. وفي رواية في صحيح مسلم عنه أيضا: أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج.
وأما حديث ابن عمر: فقد قال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن أيوب، وعبد الله بن عون الهلالي، قالا: حدثنا عباد بن عباد المهلبي، حدثنا عبيد الله بن عمر،
344

عن نافع عن ابن عمر في رواية يحيى قال: أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردا. وفي رواية ابن عون: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بالحج
مفردا، وحدثنا سريج بن يونس، حدثنا هشيم، حدثنا حميد، عن بكر، عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعا: قال بكر: فحدثت بذلك ابن عمر، فقال: لبى بالحج وحده، فلقيت أنسا فحدثته بقول ابن عمر فقال أنس: ما تعدوننا إلا صبيانا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لبيك عمرة وحجا) وحدثني أمية بن بسطام العيشي، حدثنا يزيد يعني ابن زريع، حدثنا حبيب بن الشهيد، عن بكر بن عبد الله، حدثنا أنس رضي الله عنه: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم جمع بينهما بين الحج والعمرة، قال: فسألت ابن عمر؟ فقال: أهللنا بالحج، فرجعت إلى أنس فأخبرته ما قال ابن عمر، فقال: كأنما كنا صبيانا. انتهى منه.
وحديث ابن عمر هذا لا يحتمل غير إفراد الحج، فلا يحتمل القران ولا التمتع بحال، لأن فيه أن بكرا قال لابن عمر: إن أنسا يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قرن بين الحج والعمرة، فرد ابن عمر على أنس دعواه القران قائلا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج وحده، وهذا صريح في الإفراد كما ترى. وحديث ابن عمر المذكور أخرجه البخاري أيضا ا ه.
وفي رواية: أن رجلا أتى ابن عمر رضي الله عنهما فقال: بم أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال ابن عمر: أهل بالحج، فانصرف ثم أتاه من العام المقبل، فقال: بم أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ألم تأتني عام أول؟ قال: بلى، ولكن أنس بن مالك يزعم أنه قرن: قال ابن عمر رضي الله عنهما: إن أنس بن مالك كان يدخل على النساء، وهن منكشفات الرؤوس، وإني كنت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها أسمعه: يلبي بالحج. رواه البيهقي بإسناده. وقال النووي في شرح المهذب: إن إسناده صحيح.
وأما حديث ابن عباس، فهو ما رواه عنه البخاري ومسلم قال: كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفرا ويقولون: إذا برأ الدبر، وعفا الأثر وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر. فقدم للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج الحديث هذا لفظ البخاري ومسلم.
وفي رواية في الصحيح عنه رضي الله عنه: أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج: لفظ مسلم وفي رواية عنه في الصحيح: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نهل بالحج وفي رواية عنه رضي الله عنه في الصحيح: ثم ركب راحلته، فلما استوت به على البيداء أهل بالحج. كل هذه الألفاظ في صحيح مسلم رحمه الله تعالى.
345

وفي صحيح مسلم أيضا من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما. قالت: قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج. الحديث.
قالوا: فهذه الأحاديث الصحاح دالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم مفردا، ورواتها من أضبط الصحابة وأتقنهم، قالوا: فمنهم: جابر الذي عرف ضبطه وحفظه وخصوصا ضبطه لحجته صلى الله عليه وسلم. ومنهم: ابن عمر الذي رد على أنس، وذكر أن لعاب ناقة النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسه. ومنهم: عائشة رضي الله عنها وحفظها وضبطها واطلاعها على أحوال النبي صلى الله عليه وسلم كل ذلك معروف. ومنهم: ابن عباس رضي الله عنهما. ومكانته في العلم والحفظ معروفة.
الأمر الثاني من الأمور التي احتج بها القائلون: بأفضلية الإفراد على التمتع، والقران: هو إجماع أهل العلم، على أن المفرد إذا لم يفعل شيئا من محظورات الإحرام، ولم يخل بشيء من النسك، أنه لا دم عليه، وانتفاء الدم عنه مع لزومه في التمتع والقران: يدل على أنه أفضل منهما، لأن الكامل بنفسه الذي لا يحتاج إلى الجبر بالدم أفضل من المحتاج إلى الجبر بالدم.
وأجاب المخالفون عن هذا: بأن دم التمتع والقران، ليس دم جبر لنقص فيهما. وإنما هو دم نسك محض ألزم في ذلك النسك. واحتجوا على أنه دم نسك. بجواز أكل القارن، والمتمتع من دم قرانه، وتمتعه. قالوا: لو كان جبرا لما جاز الأكل منه كالكفارات، وبأن الجبر في فعل ما لا يجوز والتمتع والقران جائزان، فلا جبر في مباح.
ورد هذا من يخالف في ذلك قائلا: إنه دم جبر لا دم نسك، بدليل أن الصوم يقوم مقامه عند العجز عنه. قالوا: والنسك المحض كالأضاحي والهدايا لا يكون الصوم بدلا منه عند العجز عنه، فلا يكون الصوم بدلا من دم، إلا إذا كان دم جبر. قالوا: ولا مانع من الأمر بعبادة مع ما يجبرها ويكملها، ولا مانع من أن يرد دليل خاص على جواز الأكل من بعض دماء الجبر.
قالوا: والدليل على وقوع الجبر في المباح: لزوم فدية الأذى المنصوص في آية * (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية) *: ولا شك أنه جبر في فعل مباح. وكذلك من لبس لمرض أو حر، أو برد شديدين، أو أكل صيدا للضرورة المبيحة للميتة، أو احتاج للتداوي بطيب.
قالوا: ومن الأدلة على أنه دم جبر لا نسك سقوطه عن أهل مكة المنصوص عليه في
346

قوله * (ذالك لمن لم يكن أهله حاضرى المسجد الحرام) * فلو كان دم نسك محض، لكان على الجميع من حاضري المسجد الحرام، وغيرهم لاستوائهم جميعا في حكم النسك المحض. وهذا على قول الجمهور: إن الإشارة في قوله: ذلك راجعة إلى لزوم دم التمتع: أي وأما من كان أهله حاضري المسجد الحرام، فلا دم عليه، إن تمتع بالعمرة إلى الحج خلافا لابن عباس، ومن وافقه من الحنفية وغيرهم في قولهم: إن الإشارة في قوله * (ذالك لمن لم يكن أهله حاضرى المسجد الحرام) * راجعة إلى التمتع بالعمرة إلى الحج، وأن أهل مكة لا تمتع لهم، لأنه على قول الجمهور لا فرق بين الآفاقي، وحاضري المسجد الحرام موجبا لوجوب دم التمتع على الأول وسقوطه عن الثاني، إلا أن الأول: تمتع بالترفه بسقوط أحد السفرين لأحد النسكين: ولذلك قال مالك، وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وأحمد وأصحابه، وأبو
حنيفة وأصحابه: إنه إن سافر بعد إحلاله من العمرة وأحرم للحج في سفر جديد أنه لا دم تمتع عليه لزوال العلة مع اختلافهم في قدر السفر المسقط للدم المذكور: فبعضهم يكتفي بسفر مسافة القصر، وهو مذهب أحمد، وهو مروي عن عطاء وإسحاق والمغيرة، كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني. وبعضهم: يكتفي بالرجوع إلى الميقات، وهو مذهب الشافعي، وبعضهم يشترط الرجوع إلى محله الذي جاء منه، وعزاه في المغني لأبي حنيفة وأصحابه. وبعضهم: يشترط ذلك أو سفر مسافة بقدره: أعني قدر مسافة المحل الذي جاء منه وهو مذهب مالك وأصحابه. وهذا يدل على أن دم التمتع دم جبر لنقص السفر المذكور، بدليل أن السفر إن حصل عندهم سقط الدم لزوال علة وجوبه.
الأمر الثالث: من الأمور التي استدل بها القائلون: بأفضلية الإفراد بعض الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن التمتع والقران.
قال البيهقي في السنن الكبرى: أخبرنا أبو علي الروذباري، أنبأنا أبو بكر بن داسة، ثنا أبو داود، ثنا أحمد بن صالح، ثنا ابن وهب، أخبرني حيوة، أخبرني أبو عيسى الخراساني، عن عبد الله بن القاسم الخراساني، عن سعيد بن المسيب: أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى عمر بن الخطاب، فشهد عنده: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي قبض فيه ينهي عن العمرة قبل الحج.
أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك، أنبأ عبد الله بن جعفر، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا هشام، عن قتادة، عن أبي شيخ الهنائي واسمه
347

خيوان بن خالد: أن معاوية قال لنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صفف النمور؟ قالوا: اللهم نعم. قال: وأنا أشهد قال: أتعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الذهب إلا مقطعا؟ قالوا: اللهم نعم، قال: أتعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقرن بين الحج والعمرة؟ قالوا: اللهم لا، قال: والله إنها لمعهن وكذلك رواه حماد بن سلمة والأشعث بن بزاز عن قتادة، وحماد بن سلمة في حديثه، ولكنكم نسيتم ورواه مطر الوراق، عن أبي شيخ في متعة الحج انتهى من البيهقي.
وقد ذكر النووي في شرح المهذب، عن البيهقي: أنه ذكر بإسناده الحديثين الذين سقناهما عنه آنفا، ثم قال في الأول منهما: ورواه أبو داود في سننه. وقد اختلفوا في سماع سعيد بن المسيب عن عمر، لكنه لم يرو هنا عن عمر، بل عن صحابي غير مسمى والصحابة كلهم عدول.
ثم قال في الثاني منهما: رواه البيهقي بإسناد حسن انتهى.
وقال أبو داود رحمه الله في سننه: حدثنا أحمد بن صالح، ثنا عبد الله بن وهب، أخبرنا حيوة، أخبرني أبو عيسى الخراساني، عن عبد الله بن القاسم، عن سعيد بن المسيب: أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتى عمر بن الخطاب، فشهد عنده: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي قبض فيه ينهي عن العمرة قبل الحج.
حدثنا موسى أبو سلمة ثنا حماد، عن قتادة عن أبي شيخ الهنائي خيوان بن خلدة ممن قرأ على أبي موسى الأشعري من أهل البصرة: أن معاوية بن أبي سفيان قال لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كذا وكذا، وعن ركوب جلود النمور؟ قالوا: نعم، قال: فتعلمون أنه نهى أن يقرن بين الحج والعمرة؟ فقالوا: أما هذا فلا، فقال: أما إنها معهن، ولكنكم نسيتم. انتهى منه.
الأمر الرابع: من الأمور التي استدل بها القائلون: بأفضلية الإفراد على غيره، أنه هو الذي كان الخلفاء الراشدون يفعلونه بعده صلى الله عليه وسلم، وهم أفضل الناس وأتقاهم، وأشدهم اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد حج أبو بكر رضي الله عنه بالناس مفردا، وحج عمر بن الخطاب عشر سنين بالناس مفردا، وحج عثمان رضي الله عنه بهم مدة خلافته مفردا قالوا: فمدة هؤلاء الخلفاء الراشدين الثلاثة حول أربع وعشرين سنة وهم يحجون بالناس مفردين، ولو لم يكن الإفراد أفضل من غيره، لما واظبوا عليه هذه المدة الطويلة.
348

قال النووي في شرح المهذب، وشرح مسلم في أدلة من فضل الإفراد: ومنها: أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أفردوا الحج، وواظبوا عليه، كذلك فعل أبو بكر وعمر وعثمان. واختلف فعل علي رضي الله عنهم أجمعين. وقد حج عمر بالناس عشر حجج مدة خلافته كلها مفردا، ولو لم يكن هذا هو الأفضل عندهم، وعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم حج مفردا لم يواظبوا على الإفراد مع أنهم الأئمة الأعلام، وقادة الإسلام ويقتدى بهم في عصرهم وبعدهم، وكيف يظن بهم المواظبة على خلاف فعل النبي صلى الله عليه وسلم، أو أنهم خفي عليهم جميعهم فعله صلى الله عليه وسلم. وأما الخلاف عن علي وغيره، فإنما فعلوه لبيان الجواز، وقد قدمنا عنهم ما يوضح هذا انتهى منه.
الأمر الخامس: من الأمور التي استدل بها القائلون. بأفضلية الإفراد: هو ما ذكره النووي في شرح المهذب قال: ومنها: أن الأمة أجمعت على جواز الإفراد من غير كراهة، وكره عمر وعثمان وغيرهما ممن ذكرناه قبل هذا التمتع، وبعضهم كره التمتع والقران وإن كانوا يجوزونه على ما سبق تأويله، فكان ما أجمعوا على أنه لا كراهة فيه أفضل. انتهى منه.
وقال البيهقي في السنن الكبرى: فثبت بالسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جواز التمتع والقران والإفراد، وثبت بمضي النبي صلى الله عليه وسلم في حج مفرد ثم باختلاف الصدر الأول في كراهية التمتع والقران دون الإفراد كون إفراد الحج عن العمرة أفضل. والله أعلم. انتهى منه.
وقال البيهقي في السنن الكبرى أيضا: أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي وأبو بكر بن الحارث الفقيه قالا: ثنا علي بن عمر الحافظ، ثنا الحسين بن إسماعيل، ثنا أبو هشام، ثنا أبو بكر بن عياش، ثنا أبو حصين عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه قال: حججت مع أبي بكر رضي الله عنه فجرد، ومع عمر رضي الله عنه فجرد، ومع
عثمان رضي الله عنه فجرد.
أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران، أنبأ إسماعيل بن محمد الصفار، ثنا عبد الكريم بن الهيثم، ثنا أبو اليمان، أخبرني شعيب، أنبأ نافع: أن ابن عمر كان يقول: إن عمر رضي الله عنه كان يقول: أن تفصلوا بين الحج والعمرة، وتجعلوا العمرة في غير أشهر الحج أتمم لحج أحدكم، وأتم لعمرته انتهى منه.
ثم ساق البيهقي بسنده عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي بن أبي طالب رضي
349

الله عنهم عن أبيهما عن علي أنه قال: يا بني افرد الحج، فإنه أفضل ا ه، وساق بسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: جردوا الحج. وفي رواية له عنه: أنه أمر بإفراد الحج قال فكان أحب أن يكون لكل واحد منهما شعث وسفر. انتهى من البيهقي.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تاريخه، قال الحافظ أبو الحسن الدارقطني، ثنا الحسين بن إسماعيل، ثنا أبو هشام، ثنا أبو بكر بن عياش، ثنا أبو حصين، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه قال: حججت مع أبي بكر فجرد، ومع عمر فجرد، ومع عثمان فجرد. تابعه الثوري، عن أبي حصين، وهذا إنما ذكرناه ها ههنا، لأن الظاهر أن هؤلاء الأئمة رضي الله عنهم: إنما يفعلون هذا عن توقيف. والمراد بالتجريد ها هنا: الإفراد والله أعلم.
وقال الدارقطني: ثنا أبو عبيد الله القاسم بن إسماعيل، ومحمد بن مخلد قالا: ثنا علي بن محمد بن معاوية البزار، ثنا عبد الله بن نافع، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل عتاب بن أسيد على الحج، فأفرد، ثم استعمل أبا بكر سنة تسع فأفرد الحج، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر فأفرد الحج، ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر، فبعث عمر فأفرد الحج، ثم حج أبو بكر فأفرد الحج، ثم توفي أبو بكر واستخلف عمر، فبعث عبد الرحمن بن عوف فأفرد الحج. ثم حج فأفرد الحج ثم حج عمر سنيه كلها فأفرد الحج في إسناده عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف. لكن قال الحافظ البيهقي: له شاهد بإسناد صحيح. انتهى من البداية والنهاية لابن كثير.
وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثني هارون بن سعيد الإبلي، حدثنا أبو وهب، أخبرني عمرو وهو ابن الحرث، عن محمد بن عبد الرحمن: أن رجلا من أهل العراق قال له: سل لي عروة بن الزبير، عن رجل يهل بالحج، فإذا طاف بالبيت أيحل أم لا؟ فإن قال لك: لا يحل، فقل له: إن رجلا يقول ذلك، قال: فسألته فقال: لا يحل من أهل بالحج إلا بالحج، قلت: فإن رجلا كان يقول ذلك. قال: بئسما قال فتصداني الرجل، فسألني فحدثته فقال: فقل له فإن رجلا كان يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك وما شأن أسماء والزبير فعلا ذلك؟ قال: فجئنه، فذكرن له ذلك فقال من هذا؟ فقلت: لا أدري، قال: فما باله لا يأتيني بنفسه، يسألني، أظنه عراقيا؟ فقلت: لا أدري قال: فإنه قد كذب قد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتني عائشة رضي الله عنها: أن
350

أول شيء بدأ به حين قدم مكة، أنه توضأ ثم طاف بالبيت، ثم حج أبو بكر، فكان أول
351

شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم يكن غيره، ثم عمر مثل ذلك، ثم حج عثمان فرأيته أول شيء بدأ به: الطواف بالبيت، ثم لم يكن غيره، ثم معاوية، وعبد الله بن عمر، ثم حججت مع أبي الزبير بن العوام، فكان أول شيء بدأ به. الطواف بالبيت ثم لم يكن غيره، ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلون ذلك، ثم لم يكن غيره ثم آخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر، ثم لم ينقضها بعمرة، وهذا ابن عمر عندهم أفلا يسألونه؟ ولا أحد ممن مضى كانوا يبدؤون بشيء حين يضعون أقدامهم أول من الطواف بالبيت ثم لا يحلون، وقد رأيت أمي وخالتي حين تقدمان لا تبتدآن بشيء أول من البيت تطوفان به ثم لا تحلان، وقد أخبرتني أمي أنها أقبلت هي وأختها والزبير وفلان وفلان بعمرة قط، فلما مسحوا الركن حلوا، وقد كذب فيما ذكر من ذلك. انتهى من صحيح مسلم. وفيه التصريح من عروة بن الزبير رضي الله عنهما بأن الخلفاء الراشدين والمهاجرين، والأنصار كانت عادتهم أن يأتوا مفردين بالحج، ثم يتمونه كما رأيت.
وقال النووي في شرح الحديث المذكور وقوله: ثم لم يكن غيره وكذا قال فيما بعده، ولم يكن غيره هكذا هو في جميع النسخ غيره بالغين المعجمة والياء، قال القاضي عياض: كذا هو في جميع النسخ قال: وهو تصحيف وصوابه: ثم لم تكن عمرة بضم العين المهملة وبالميم، وكان السائل لعروة إنما سأله عن فسخ الحج إلى العمرة على مذهب من رأى ذلك، واحتج بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك في حجة الوداع، فأعلمه عروة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك بنفسه، ولا من جاء بعده. هذا كلام القاضي.
قلت: هذا الذي قاله من أن قول غيره تصحيف ليس كما قال، بل هو صحيح في الرواية وصحيح في المعنى، لأن قوله غيره يتناول العمرة وغيرها.
ويكون تقدير الكلام: ثم حج أبو بكر فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم يكن غيره: أي لم يغير الحج، ولم ينقله، ويفسخه إلى غيره لا عمرة ولا قران، والله أعلم، انتهى كلام النووي، وهو صواب.
وقال البخاري في صحيحه: حدثنا أحمد بن عيسى، حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل القرشي: أنه سأل عروة بن الزبير، فقال: قد حج النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرتني عائشة رضي الله عنها: أنه أول شيء بدأ به حين قدم: أنه توضأ، ثم طاف بالبيت، ثم لم تكن عمرة، ثم حج أبو بكر رضي الله عنه، فكان أول شيء بدأ به: الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة، ثم عمر رضي الله عنه مثل ذلك، ثم حج عثمان رضي الله عنه، فرأيته أول شيء بدأ به: الطواف بالبيت، ثم لم تكن عمرة، ثم معاوية وعبد الله بن عمر، ثم حججت مع أبي الزبير بن العوام، فكان أول شيء بدأ به: الطواف بالبيت، ثم لم تكن عمرة، ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلون ذلك، ثم لم تكن عمرة، ثم آخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر، ثم لم ينقصها عمرة، وهذا ابن عمر عندهم فلا يسألونه ولا أحد ممن مضى، ما كانوا يبدأون بشيء، حتى يضعوا أقدامهم من الطواف بالبيت، ثم لا يحلون. وقد رأيت أمي وخالتي حين تقدمان لا تبتدئان بشيء أول من البيت
تطوفان به ثم لا تحلان، وقد أخبرتني أمي: أنها أهلت، هي وأختها والزبير، وفلان، وفلان بعمرة. فلما مسحوا الركن حلوا. انتهى منه. وقال البخاري رحمه الله في صحيحه أيضا: حدثنا أصبغ، عن ابن وهب: أخبرني عمرو عن محمد بن عبد الرحمن ذكرت لعروة قال: فأخبرتني عائشة رضي الله عنها: أن أول شيء بدأ به حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم: أنه توضأ، ثم طاف، ثم لم تكن عمرة، ثم حج أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما مثله، ثم حججت مع أبي الزبير رضي الله عنه، فأول شيء بدأ به الطواف، ثم رأيت المهاجرين، والأنصار يفعلونه، وقد أخبرتني أمي: أنها أهلت هي وأختها والزبير وفلان وفلان بعمرة، فلما مسحوا الركن حلوا. انتهى منه.
قالوا: وجواب ابن عباس رضي الله عنهما عن حديث عروة المذكور لا يدفع احتجاج عروة بما ذكر، وكذلك جواب ابن حزم، وقد أجاب عروة ابن عباس فأسكته.
أما جواب ابن عباس الذي ذكروه، فهو ما رواه الأعمش، عن فضيل بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عروة: نهى أبو بكر، وعمر عن المتعة، فقال ابن عباس: أراكم مستهلكون، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: قال أبو بكر وعمر، وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر، عن أيوب قال: قال عروة لابن عباس: ألا تتقي الله ترخص في المتعة، فقال ابن عباس: سل أمك يا عرية، فقال عروة: أما أبو بكر وعمر فلم يفعلا. فقال ابن عباس: والله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله أحدثكم عن رسول الله، وتحدثوننا عن أبي بكر وعمر، فقال عروة: لهما أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأتبع لها منك ا ه. قالوا: فترى عروة أجاب ابن عباس بجواب أسكته به.
ولا شك أن الخلفاء الراشدين أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، كانوا أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتبع لها لا يمكن ابن عباس أن ينكر ذلك.
352

وأما جواب ابن حزم فهو قوله: إن ابن عباس أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وعمر من عروة، وأنه يعني ابن عباس خير من عروة وأولى منه بالنبي، والخلفاء الراشدين، ثم ساق آثارا من طريق البزار وغيره عن ابن عباس، يذكر فيها التمتع، عن أبي بكر، وعمر وأن أول من نهى عنه معاوية، ولا يخفى سقوط كلام ابن حزم المذكورة رده على عروة بن الزبير رضي الله عنهما. أما قوله: إن ابن عباس أعلم من عروة، وأفضل فلا يرد رواية عروة بسند صحيح عن الخلفاء الراشدين: أنهم كانوا يفردون كما ثبت في صحيح مسلم. وابن عباس لم يعارض عروة: بأن فعلهما كان مخالفا لما ذكره عروة من الإفراد، وإنما احتج بأن أمر النبي أولى بالاتباع من أمرهما، وقد أجابه عروة بأنهما ما فعلا إلا ما علما من النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أكمل وأتبع لسنته صلى الله عليه وسلم. وأما الآثار التي رواها من طريق ليث وغيره فلا يخفى أنها لا تعد شيئا مع ما ثبت في الصحيحين عنهم من الروايات التي لا مطعن فيها أنهم كانوا يفضلون الإفراد.
ومن فهم كلامهم حق الفهم أعني الخلفاء الراشدين علم أنهم رضي الله عنهم يعلمون جواز التمتع والقران علما لا يخالجه شك، ولكنهم يرون أنه أتم للحج والعمرة أن يفصل بينهما كما لا يخفى والمعنى غير خاف، بل هو ظاهر من سياق السؤال والجواب لمن تأمل ذلك، ومما يدل على صحة ما ذكره عروة بن الزبير في حديث مسلم المذكور من أن الخلفاء كانوا يفردون ما ثبت في الصحيحين من نحو ذلك، عن عمر، وعثمان رضي الله عنهما.
قال البخاري في صحيحه: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوم باليمن، فجئت وهو بالبطحاء، فقال: بما أهللت؟ قلت: أهللت كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، قال: هل معك من هدي؟ قلت: لا، فأمرني فطفت بالبيت، وبالصفا والمروة، ثم أمرني فأحللت فأتيت امرأة من قومي فمشطتني، أو غسلت رأسي، فقدم عمر رضي الله عنه فقال: إن نأخذ بكتاب الله، فإنه يأمر بالتمام قال الله * (وأتموا الحج والعمرة) * وإن نأخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يحل حتى نحر الهدي. انتهى منه ونحوه أخرجه مسلم أيضا.
وقال ابن حجر في فتح الباري في الكلام على الحديث المذكور: محصل جواب عمر في منعه الناس من التحلل بالعمرة، أن كتاب الله دال على منع التحلل لأمره بالإتمام،
353

فيقتضي استمرار الإحرام إلى فراغ الحج، وأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا دالة على ذلك، لأنه لم يحل، حتى بلغ الهدي محله، لكن الجواب عن ذلك: هو ما أجاب به هو صلى الله عليه وسلم حيث قال (ولولا أن معي الهدي لأحللت) فدل على جواز الإحلال لمن لم يكن معه هدي، وتبين من مجموع ما جاء عن عمر أنه منع منه سدا للذريعة، وقال المازري: قيل: إن المتعة التي نهى عنها عمر: فسخ الحج إلى العمرة، وقيل: العمرة في أشهر الحج، ثم الحج من عامه. وعلى الثاني: إنما نهى عنها ترغيبا في الإفراد الذي هو أفضل، لا أنه يعتقد بطلانها وتحريمها. وقال عياض: الظاهر أنه نهى عن الفسخ، ولهذا كان يضرب الناس عليه، كما رواه مسلم بناء على معتقده: أن الفسخ كان خاصا بتلك السنة.
قال النووي: والمختار أنه نهى عن المتعة المعروفة التي هي الاعتمار في أشهر الحج ثم الحج من عامه، وهو على التنزيه للترغيب في الإفراد، كما يظهر من كلامه، ثم انعقد الإجماع على جواز التمتع من غير كراهة، وبقي الاختلاف في الأفضل انتهى الغرض من كلام ابن حجر في الفتح وهو واضح في أن عمر رضي الله عنه ما كان يرى إلا تفضيل الإفراد على غيره، وشاهد لصحة قول من قال: إنه حج بالناس عشر حجج مفردا، وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا محمد بن المثنى، وابن بشار، قال ابن المثنى: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة يحدث، عن أبي نضرة قال: كان ابن عباس يأمر بالمتعة، وكان ابن الزبير ينهى عنها قال: فذكرت ذلك لجابر بن عبد الله فقال: على يدي دار الحديث: تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قام عمر قال: إن الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء، وإن القرآن قد نزل منازله. فأتموا الحج والعمرة لله كما أمركم الله وأبتوا نكاح هذه النساء، فلن أوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة، وحدثنيه زهير بن حرب، حدثنا عفان، حدثنا همام، حدثنا قتادة بهذا الإسناد وقال في الحديث. فافصلوا حجكم من عمرتكم فإنه أتم لحجكم، وأتم لعمرتكم ا ه منه.
وهو دليل على ما ذكرنا من أن عمر رضي الله عنه: يرى أن الإفراد أفضل، ويدل على صدق من قال: إنه حج عشر حجج بالناس مفردا كما تقدم.
وقال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن علي بن حسين، عن مروان بن الحكم قال: شهدت عثمان، وعليا رضي الله عنهما، وعثمان ينهي عن المتعة، وأن يجمع بينهما الحديث. وفيه
354

التصريح، بأن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يرى أفضلية الإفراد على غيره لنهيه عن التمتع والقران الثابت في الصحيح كما رأيت.
وقال مسلم في صحيحه: حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قال ابن المثنى: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن قتادة قال: قال عبد الله بن شقيق: كان عثمان ينهى عن المتعة، وكان علي يأمر بها الحديث. وفيه التصريح بنهي عثمان رضي الله عنه، عن التمتع، وبما ذكرنا كله تعلم: أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كلهم كانوا يرون الإفراد أفضل، وكان هو الذي يفعلونه كما رأيت. الروايات الصحيحة بذلك، وهو المعروف عنهم رضي الله عنهم فما ورد مما يخالف ذلك فهو مردود بما رأيت.
تنبيه
فإن قيل: هؤلاء الذين يفضلون الإفراد، كمالك، والشافعي، وأصحابهما، وكأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ومن ذكرنا سابقا ممن يقول: بأفضلية الإفراد على غيره، من أنواع النسك بأي جواب يجيبون عن الأحاديث الصحيحة الواردة: بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا والأحاديث الصحيحة الواردة، بأنه كان متمتعا والأحاديث الصحيحة الواردة بأنه أمر كل من لم يسق هديا من أصحابه، بأن يتحلل من إحرامه بعمرة، فالذين أحرموا بالإفراد أمرهم بفسخ الحج في عمرة، والتحلل التام من تلك العمرة وتأسف هو صلى الله عليه وسلم على أنه ساق الهدي الذي صار سببا لمنعه من التحلل بعمرة وقال (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة) مع أنه صلى الله عليه وسلم لا يتأسف على فوات العمرة، إلا وهي أفضل من غيرها والقرآن الذي اختاره الله له لا يكون غيره أفضل منه، لأن الله لا يختار لنبيه في نسكه إلا ما هو الأفضل.
فالجواب: أن المالكية والشافعية يقولون: إن التمتع الذي أمر به صلى الله عليه وسلم من كان مفردا وذلك بفسخ الحج في العمرة، لا شك أنه في ذلك الوقت، وفي تلك السنة أفضل من غيره، ولكن لا يلزم من أفضليته في ذلك الوقت، أن يكون أفضل فيما سواه.
وإيضاح ذلك: أنه دلت أدلة سيأتي قريبا تفصيلها إن شاء الله، على أن تحتم فسخ الحج المذكور في العمرة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه به خاص بذلك الركب وبتلك السنة، وأنه ما أمر بذلك لأفضلية ذلك في حد ذاته، ولكن لحكمة أخرى خارجة عن ذاته: وهي أن يبين للناس، أن العمرة في أشهر الحج جائزة، وما فعله صلى الله عليه وسلم، أو أمر به للبيان والتشريع،
355

فهو قربة في حقه، وإن كان مكروها، أو مفضولا، فقد يكون الفعل بالنظر إلى ذاته مفضولا أو مكروها، ويفعله النبي صلى الله عليه وسلم، أو يأمر به لبيان الجواز فيصير قربة في حقه، وأفضل مما هو دونه بالنظر إلى ذاته كما هو مقرر في الأصول، وإليه أشار صاحب مراقي السعود بقوله:، أو يأمر به لبيان الجواز فيصير قربة في حقه، وأفضل مما هو دونه بالنظر إلى ذاته كما هو مقرر في الأصول، وإليه أشار صاحب مراقي السعود بقوله:
* وربما يفعل للمكروه
* مبينا أنه للتنزيه
*
* فصار في جانبه من القرب
* كالنهي أن يشرب من فم القرب
*
وقال في نشر البنود في شرحه للبيتين المذكورتين: يعني، أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يفعل المكروه المنهي عنه، مبينا بذلك الفعل، أن النهي للتنزيه لا للتحريم، فصار ذلك الفعل في حقه قربة يثاب عليها لما فيه من البيان، كنهيه عن الشرب من أفواه القرب، وقد شرب منها انتهى منه.
وليس قصدنا أن التمتع والقران مكروهان، بل لا كراهة في واحد منهما يقينا، ولكن المقصود بيان أن الفعل الذي فعله صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز، يكون بهذا الاعتبار أفضل من غيره، وإن كان غيره أفضل منه، بالنظر إلى ذاته وهذه هي الأدلة الدالة، على أنه فعل ذلك لبيان الجواز ولذلك يختص بذلك الركب، وتلك السنة.
الأول: منها حديث ابن عباس المتفق عليه، الذي قدمناه قال: كانوا يرون العمرة في أشهر الحج، من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفرا، ويقولون: إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول الله أي الحل؟ قال (الحل كله) قالوا: فقوله في هذا الحديث المتفق عليه: كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، وترتيبه بالفاء على ذلك قوله: فأمرهم أن يجعلوها عمرة ظاهر كل الظهور في أن السبب الحامل له صلى الله عليه وسلم على أمرهم: أن يجعلوا حجهم عمرة، هو أن يزيل من نفوسهم بذلك اعتقادهم أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، فالفسخ لبيان الجواز كما دل عليه هذا الحديث المتفق عليه، لا لأن الفسخ في حد ذاته أفضل، وقد تقرر في مسلك النص، ومسلك الإيماء والتنبيه أن الفاء من حروف: التعليل، كما قدمناه مرارا قالوا: فقول من زعم أن قوله في
الحديث المذكور كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، لا ارتباط بينه، وبين قوله: فأمرهم أن يجعلوها عمرة ظاهر السقوط كما ترى، لأنه لو لم يقصد به ذلك، لكان ذكره قليل الفائدة.
356

ومما يدل على ذلك ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا هناد بن السري، عن ابن أبي زائدة، ثنا ابن جرير، ومحمد بن إسحاق، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: والله ما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك، فإن هذا الحي من قريش، ومن دان دينهم، كانوا يقولون: إذا عفا الوبر وبرأ الدبر ودخل صفر، فقد حلت العمرة لمن اعتمر. فكانوا يحرمون العمرة، حتى ينسلخ ذو الحجة والمحرم ا ه.
وقد بين الحافظ البيهقي رحمه الله تعالى في السنن الكبرى: أن حديث ابن عباس المتفق عليه المذكور، دال على ذلك، ولا ينافي ذلك أن ابن عباس رضي الله عنهما يرى فسخ الحج في العمرة لازما، لأنه لا مانع من أن يكون يعلم أن الفسخ لبيان الجواز المذكور، كما دل عليه حديثه، وهو يرى بقاء حكمه، ولو كان سببه الأول بيان الجواز ولكن غيره من الخلفاء الراشدين وغيرهم من المهاجرين والأنصار خالفوه في رأيه ذلك.
الدليل الثاني من أدلتهم: على أن فسخ الحج في العمرة المذكور لبيان الجواز، وأنه خاص بذلك الركب، وتلك السنة، هو ما جاء من الأحاديث دالا على ذلك، قال أبو داود في سننه: حدثنا النفيلي، ثنا عبد العزيز يعني ابن محمد، أخبرني ربيعة بن أبي عبد الرحمان، عن الحارث بن بلال بن الحارث، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أو لمن بعدنا؟ قال: (بل لكم خاصة) ا ه.
وقال النسائي في سننه: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنبأنا عبد العزيز، وهو الدراوردي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمان، عن الحارث بن بلال، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله أفسخ الحج لنا خاصة، أم للناس عامة؟ قال (بل لنا خاصة) ا ه.
وقال ابن ماجة في سننه: حدثنا أبو مصعب، ثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمان، عن الحارث بن بلال بن الحارث، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت فسخ الحج في العمرة لنا خاصة أم للناس عامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بل لنا خاصة).
وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه: وحدثنا سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب قالوا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش عن إبراهيم التيمي، عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة.
357

وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الرحمان بن مهدي، عن سفيان، عن عياش العامري، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: كانت لنا رخصة يعني: المتعة في الحج. وحدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن فضيل، عن زبيد، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: قال أبو ذر رضي الله عنه: لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة، يعني متعة النساء، ومتعة الحج، حدثنا قتيبة، حدثنا جرير، عن بيان، عن عبد الرحمان بن أبي الشعثاء، قال: أتيت إبراهيم النخعي، وإبراهيم التيمي فقلت: إني أهم أن أجمع العمرة والحج العام، فقال إبراهيم النخعي: لكن أبوك لم يكن ليهم بذلك، قال قتيبة: حدثنا جرير، عن بيان، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه: أنه مر بأبي ذر رضي الله عنه بالربذة فذكر ذلك له فقال: إنما كانت لنا خاصة دونكم. وقال البيهقي وغيره من الأئمة: مراد أبي ذر بالمتعة المذكورة: المتعة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها أصحابه رضي الله عنهم وهي فسخ الحج في العمرة. واستدلوا على أن الفسخ المذكور: هو مراد أبي ذر رضي الله عنه بما رواه أبو داود في سننه: حدثنا هناد، يعني ابن السري، عن ابن أبي زائدة: أخبرنا محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمان بن الأسود، عن سلم بن الأسود: أن أبا ذر كان يقول فيمن حج ثم فسخها بعمرة: لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: فهذه الرواية التي في سنن أبي داود فيها التصريح من أبي ذر رضي الله عنه، بفسخ الحج في العمرة وهي تفسر مراده بالمتعة في رواية مسلم، وضعفت رواية أبي داود هذه، بأن ابن إسحاق المذكور فيها مدلس. وقد قال عن عبد الرحمان بن الأسود: وعنعنة المدلس لا تقبل عند أهل الحديث، حتى يصح السماع من طريق أخرى. ويجاب عن تضعيف هذه الرواية من جهتين:
الأولى: أن مشهور مذهب مالك، وأحمد، وأبي حنيفة رحمهم الله: صحة الاحتجاج بالمرسل، ومعلوم أن من يحتج بالمرسل يحتج بعنعنة المدلس من باب أولى، كما قدمناه مرارا.
والثانية: أن المقصود من رواية أبي داود المذكورة بيان المراد برواية مسلم، والبيان يقع بكل ما يلزم الإبهام ولو قرينة أو غيرها، كما هو مقرر في الأصول. وقد قدمناه مرارا أيضا.
وما ذكره عن أبي ذر من الخصوصية المذكورة قاله عثمان بن عفان رضي الله عنه ورد المخالفون الاستدلال بالحديثين المذكورين من جهتين:
358

الأولى منهما: تضعيف الحديثين المذكورين، قالوا: حديث بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه المذكور عند أبي داود، والنسائي، وابن ماجة فيه ابنه الحارث بن بلال، وهو مجهول، قالوا: وقال الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله في حديث بلال المذكور: هذا الحديث لا يثبت عندي، ولا أقول به، قال: وقد روي فسخ الحج في العمرة أحد عشر صحابيا، أين يقع الحارث بن بلال منهم؟ قالوا: وحديث أبي ذر، عند مسلم موقوف عليه، وليس بمرفوع، وإذا كان الأول في سنده مجهول، والثاني موقوفا تبين عدم صلاحيتهما للاحتجاج.
الجهة الثانية: من جهتي رد الحديثين المذكورين: هي أنهما معارضان بأقوى منهما، وهو حديث جابر المتفق عليه: أن سراقة بن مالك بن جعشم، سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال في تمتعهم المذكور: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم (بل للأبد) وفي رواية في الصحيح فشبك رسول الله صلى الله
عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى، وقال (دخلت العمرة في الحج مرتين لا بل لأبد أبد) ورد المانعون تضعيف الحديثين المذكورين، قالوا: حديث بلال المذكور سكت عليه أبو داود، ومعلوم من عادته أنه لا يسكت إلا عن حديث صالح للاحتجاج، قالوا: ولم يثبت في الحارث بن بلال جرح. وقد قال ابن حجر في التقريب فيه: هو مقبول، قالوا: واعتضد حديث بما رواه مسلم عن أبي ذر، كما رأيته آنفا قالوا: إن قلنا إن الخصوصية التي ذكرها أبو ذر بذلك الركب مما لا مجال للرأي فيه، فهو حديث صحيح له حكم الرفع، وقائله اطلع على زيادة علم خفيت على غيره، وإن قلنا إنه مما للرأي فيه مجال، كما يدل عليه كلام عمران بن حصين الآتي. وحكمنا بأنه موقوف على أبي ذر فصدق لهجة أبي ذر المعروف وتقاه، وبعده من الكذب يدلنا على أنه ما جزم بالخصوصية المذكورة، إلا وهو عارف صحة ذلك، وقد تابعه في ذلك عثمان رضي الله عنه قالوا: ويعتضد حديث الحرث بن بلال المذكور أيضا بمواظبة الخلفاء الراشدين في زمن أبي بكر، وعمر، وعثمان على الإفراد، ولو لم يعلموا أن فسخ الحج في العمرة خاص بذلك الركب لما عدلوا عنه إلى غيره، لما هو معلوم من تقاهم، وورعهم، وحرصهم على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فمواظبتهم على إفراد الحج نحو أربع وعشرين سنة يقوي حديث الحارث بن بلال المذكور. وقد رأيت الرواية عنهم بذلك في صحيح البخاري ومسلم، وكذلك غيرهم من المهاجرين والأنصار، كما أوضحه عروة بن الزبير رضي الله عنهما في حديثه المتقدم عند مسلم. قالوا: ورد حديث الحارث بن بلال بأنه مخالف
359

لحديث جابر المتفق عليه في سؤال سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي النبي صلى الله عليه وسلم، وإجابته له بقوله: بل للأبد لا يستقيم، لأنه لا معارضة بين الحديثين لإمكان الجمع بينهما، والمقرر في علم الأصول، وعلم الحديث: أنه إذا أمكن الجمع بين الحديثين وجب الجمع بينهما إجماعا، ولا يرد غير الأقوى منهما بالأقوى، لأنهما صادقان، وليسا بمتعارضين، وإنما أجمع أهل العلم على وجوب الجمع بين الدليلين إن أمكن، لأن إعمال الدليلين معا أولى من إلغاء أحدهما كما لا يخفى، ووجه الجمع بين الحديثين المذكورين: أن حديث بلال بن الحارث المزني، وأبي ذر رضي الله عنهما محمولان على أن معنى الخصوصية المذكورة: التحتم والوجوب، فتحتم فسخ الحج في العمرة، ووجوبه خاص بذلك الركب، لأمره صلى الله عليه وسلم لهم بذلك، ولا ينافي ذلك بقاء جوازه ومشروعيته إلى أبد الأبد. وقوله في حديث جابر: بل للأبد، محمول على الجواز، وبقاء المشروعية إلى الأبد. فاتفق الحديثان. قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لنا صوابه في حديث (بل للأبد) وحديث الخصوصية بذلك الركب المذكورين: هو ما اختاره العلامة الشيخ تقي الدين أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى: وهو الجمع المذكور بين الأحاديث بحمل الخصوصية المذكورة على الوجوب والتحتم، وحمل التأييد المذكور على المشروعية والجواز أو السنة، ولا شك أن هذا هو مقتضى الصناعة الأصولية والمصطلحية، كما لا يخفى.
واعلم: أن الشافعية والمالكية، ومن وافقهم يقولون: إن قوله صلى الله عليه وسلم (بل للأبد) لا يراد به فسخ الحج في العمرة، بل يراد به جواز العمرة في أشهر الحج، وقال بعضهم: المراد به دخول أفعالها في أفعال الحج في حالة القران.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: هذا المعنى الذي حملت عليه المالكية، والشافعية قول النبي لسراقة (بل للأبد) ليس هو معناه، بل معناه: بقاء مشروعية فسخ الحج في العمرة، وبعض روايات الحديث ظاهرة في ذلك ظهورا بينا لا يجوز العدول عنه، إلا بدليل يجب الرجوع إليه، بل صريح في ذلك.
وسنمثل هنا لبعض تلك الروايات فنقول: ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه ما لفظه: فقال صلى الله عليه وسلم (لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة.) فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه
360

واحدة في الأخرى وقال: (دخلت العمرة في الحج مرتين، لا بل لأبد أبد) انتهى المراد منه. وهو صريح في أن سؤال سراقة عن الفسخ المذكور، وجواب النبي له: يدل على تأييد مشروعيته كما ترى، لأن الجواب مطابق للسؤال، فقول المالكية، والشافعية، ومن وافقهم: بأن الفسخ ممنوع لغير أهل حجة الوداع، لا يستقيم مع هذا الحديث الصحيح المصرح، بخلافه كما ترى.
ودعواهم أن المراد بقوله (بل لأبد أبد) جواز العمرة في أشهر الحج، أو اندراج أعمالها فيه في حال القران بعيد من ظاهر اللفظ المذكور كما ترى، وأبعد من ذلك دعوى من ادعى أن المعنى: أن العمرة اندرجت في الحج: أي اندرج وجوبها في وجوبه، فلا تجب العمرة: وإنما تجب على المكلف حجة الإسلام دون العمرة، وبعد هذا القول وظهور سقوطه كما ترى.
والصواب إن شاء الله: هو ما ذكرنا من الجمع بين الأدلة، ووجهه ظاهر لا إشكال فيه.
وقال النووي في شرح المهذب في الجواب عن قول الإمام أحمد: أين يقع الحارث بن بلال من أحد عشر صحابيا رووا الفسخ عنه صلى الله عليه وسلم ما نصه قلت: لا معارضة بينهم، وبينه، حتى يقدموا عليه، لأنهم أثبتوا الفسخ للصحابة، ولم يذكروا حكم غيرهم، وقد وافقهم الحارث في إثبات الفسخ للصحابة، ولكنه زاد زيادة لا تخالفهم وهي اختصاص الفسخ بهم ا ه.
وإذا عرفت مما ذكرنا أدلة الذين ذهبوا إلى تفضيل الإفراد على غيره من أنواع النسك، وعلمت أن جوابهم عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج في العمرة، أنه لإزالة ما كان في نفوسهم من أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، وأن الفعل المفعول لبيان الجواز، قد يكون أفضل بذلك الاعتبار من غيره، وإن كان غيره أفضل منه بالنظر إلى ذاته.
فاعلم أنهم ادعوا الجمع بين الأحاديث الصحيحة المصرحة بأنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا والأحاديث الصحيحة المصرحة بأنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعا وكلها
ثابتة في الصحيحين، وغيرهما في حجة الوداع مع الأحاديث المصرحة، بأنه كان مفردا التي هي معتمدهم في تفضيل الإفراد بأنه صلى الله عليه وسلم أحرم أولا مفردا، ثم بعد ذلك أدخل العمرة على الحج، فصار قارنا، فأحاديث الإفراد يراد بها عندهم، أنه هو الذي أحرم به أول إحرامه، وأحاديث القران
361

عندهم حق، إلا أنه عندهم أدخل العمرة على الحج فصار قارنا وصيرورته قارنا في آخر الأمر هي معنى أحاديث القران، فلا منافاة. أما الأحاديث الدالة على أنه كان متمتعا، فلا إشكال فيها، لأن السلف يطلقون اسم التمتع على القران من حيث إن فيه عمرة في أشهر الحج مع الحج، وكذلك أمره لأصحابه بالتمتع وتمنيه له، وتأسفه على فواته بسبب سوق الهدي في قوله: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي وجعلتها عمرة) كفعله له قالوا: وبهذا تتفق الأحاديث، ويكون التمتع المذكور بفسخ الحج في العمرة لبيان الجواز، وهو بهذا الاعتبار أفضل من غيره فلا ينافي أن الإفراد أفضل منه بالنظر إلى ذاته، كما سار عليه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، قالوا: ولما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج في العمرة أسفوا، لأنهم أحلوا وهو باق على إحرامه، فأدخل العمرة على الحج لتطيب نفوسهم، بأنه صار معتمرا مع حجه لما أمرهم بالعمرة والمانع له من أن يحل كما أحلوا هو سوق الهدي، قالوا فعمرتهم لبيان الجواز، وعمرته التي بها صار قارنا لمواساتهم لما شق عليهم أنه خالفهم، فصار تمتعهم وقرانه بهذا الاعتبار أولى من غيرهما، ولا يلزم من ذلك أفضليتهما في كل الأحوال، بعد زوال الموجب الحامل على ذلك.
قالوا: وهذا هو الذي لاحظه الخلفاء الراشدون: أبو بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم، فواظبوا على الإفراد نحو أربع وعشرين سنة، كلهم يأخذ بسنة الخليفة الذي قبله في ذلك.
قالوا: وما قاله جماعة من أجلاء العلماء، من أن بيان جواز العمرة في أشهر الحج عام حجة الوداع لا داعي له، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك بيانا متكررا في سنين متعددة: وذلك لأنه اعتمر عمرة الحديبية عام ست، وعمرة القضاء عام سبع، وعمرة الجعرانة عام ثمان وكل هذه العمر الثلاث في ذي القعدة من أشهر بالحج.
قالوا: وهذا البيان المتكرر سنة بعد سنة كاف غاية الكفاية، فلا حاجة إلى بيان ذلك بأمر الصحابة بفسخ الحج في العمرة. وكذلك قوله (ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل) المتقدم في حديث عائشة.
وإذا كان بيان ذلك لا حاجة إليه تعين أن الأمر بالفسخ المذكور لأفضلية التمتع على غيره لا بشيء آخر. لا شك في أنه ليس بصحيح، وأن بيان ذلك محتاج إليه غاية الاحتياج في حجة الوداع، ولشدة الاحتياج إلى ذلك البيان أمرهم صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج في العمرة، والدليل على ذلك: هو ما ثبت في حديث ابن عباس المتفق عليه، وقد ذكرناه في أول هذا المبحث.
362

قال: كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض الحديث. وفيه: فقدم النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول الله أي الحل؟ قال (الحل كله): وفي البخاري قال (حله كله) فقول ابن عباس في هذا الحديث الصحيح: فتعاظم ذلك عندهم، دليل على أنه في ذلك الوقت، لم يزل عظيما عندهم. ولو كانت العمر الثلاث المذكورة أزالت من نفوسهم ذلك إزالة كلية، لما تعاظم الأمر عندهم، فتعاظم ذلك الأمر عندهم المصرح به في حديث متفق عليه بعد صبح رابعة من ذي الحجة عام عشر، دليل على أن العمرة عام ست، وعام سبع، وعام ثمان ما أزالت ما كان في نفوسهم لشدة استحكامه فيها. وكذلك: إذنه لمن شاء أن يهل بعمرة السابق في حديث عائشة. والنبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، مودع حريص على إتمام البيان، وحجة الوداع اجتمع فيها جمع من المسلمين، لم يجتمع مثله في موطن من المواطن في حياته صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن حجر في فتح الباري في الكلام على الحديث المذكور: فتعاظم عندهم: أي لما كانوا يعتقدونه أولا، وفي رواية إبراهيم بن الحجاج: فكبر ذلك عندهم انتهى منه.
قالوا: ولشدة عظمه عندهم، لم يمتثلوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج في العمرة أولا، حتى غضب عليهم بسبب ذلك. وبذلك كله يتضح لك أنما كان مستحكما في نفوسهم، من أن العمرة في أشهر الحج، من أفجر الفجور في الأرض، لم يزل بالكلية إلى صبح رابعة ذي الحجة سنة عشر.
قالوا: وبه تعلم أن بيان جواز ذلك في حجة الوداع بعمل كل الصحابة الذين لم يسوقوا هديا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، واعتماره هو مع حجته، أعني قرانه بينهما أمر محتاج إليه جدا للبيان المذكور.
ومما يدل من الأحاديث الصحيحة على أن ما كان في نفوسهم من ذلك لم ينزل بالكلية: ما ثبت في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ (وأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه أن يجعلوها عمرة يطوفوا بالبيت ثم يقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي، فقالوا: ننطلق إلى
363

منى وذكر أحدنا يقطر؟ فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لأحللت) الحديث. هذا لفظ البخاري رحمه الله، فقولهم في هذا الحديث الصحيح بعد أن أمرهم صلى الله عليه وسلم، أن يحلوا ننطلق إلى منى، وذكر أحدنا يقطر: يدل على شدة نفرتهم من الإحلال بعمرة في زمن الحج كما ترى. وذلك يؤكد الاحتياج إلى تأكيد بيان الجواز. وهذا الحديث الصحيح يدفع الاحتمال الذي في حديث ابن عباس المتقدم: لأن قوله (فتعاظم ذلك عندهم) يحتمل أن يكون موجب التعاظم، أنهم كانوا أولا محرمين بحج، ويدل لهذا الاحتمال حديث جابر الثابت في الصحيح: أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه، وقد أهلوا بالحج مفردا، فقال لهم: (أحلوا من إحرامكم بطواف البيت). الحديث. وفيه فقالوا: كيف نجعلها متعة، وقد سمينا الحج إلى آخر الحديث
، فهذا الحديث يدل على أنهم إنما صعب عليهم الإحلال بالعمرة، لأنهم قد سموا الحج، لا لأن ما كان في نفوسهم من أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، لم يزل باقيا إلى ذلك الوقت، لأن حديث جابر المذكور، أعني قوله: فقالوا ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر، لا يحتمل هذا الاحتمال، بل معناه: أن تعاظم الإحلال بعمرة عندهم، لأنه في وقت الحج كما بينا، وهو يدل على أن ذلك هو المراد من هذا الحديث الأخير، وأنه ليس المراد الاحتمال المذكور، كما جزم به ابن حجر في الفتح في كلامه على الحديث الذي ذكرناه عنه آنفا.
الأول: منها حديث ابن عباس المتفق عليه، الذي قدمناه قال: كانوا يرون العمرة في أشهر الحج، من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفرا، ويقولون: إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول الله أي الحل؟ قال (الحل كله) قالوا: فقوله في هذا الحديث المتفق عليه: كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، وترتيبه بالفاء على ذلك قوله: فأمرهم أن يجعلوها عمرة ظاهر كل الظهور في أن السبب الحامل له صلى الله عليه وسلم على أمرهم: أن يجعلوا حجهم عمرة، هو أن يزيل من نفوسهم بذلك اعتقادهم أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، فالفسخ لبيان الجواز كما دل عليه هذا الحديث المتفق عليه، لا لأن الفسخ في حد ذاته أفضل، وقد تقرر في مسلك النص، ومسلك الإيماء والتنبيه أن الفاء من حروف: التعليل، كما قدمناه مرارا قالوا: فقول من زعم أن قوله في الحديث المذكور كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، لا ارتباط بينه، وبين قوله: فأمرهم أن يجعلوها عمرة ظاهر السقوط كما ترى، لأنه لو لم يقصد به ذلك، لكان ذكره قليل الفائدة.
ومما يدل على ذلك ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا هناد بن السري، عن ابن أبي زائدة، ثنا ابن جرير، ومحمد بن إسحاق، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: والله ما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك، فإن هذا الحي من قريش، ومن دان دينهم، كانوا يقولون: إذا عفا الوبر وبرأ الدبر ودخل صفر، فقد حلت العمرة لمن اعتمر. فكانوا يحرمون العمرة، حتى ينسلخ ذو الحجة والمحرم ا ه.
وقد بين الحافظ البيهقي رحمه الله تعالى في السنن الكبرى: أن حديث ابن عباس المتفق عليه المذكور، دال على ذلك، ولا ينافي ذلك أن ابن عباس رضي الله عنهما يرى فسخ الحج في العمرة لازما، لأنه لا مانع من أن يكون يعلم أن الفسخ لبيان الجواز المذكور، كما دل عليه حديثه، وهو يرى بقاء حكمه، ولو كان سببه الأول بيان الجواز ولكن غيره من الخلفاء الراشدين وغيرهم من المهاجرين والأنصار خالفوه في رأيه ذلك.
الدليل الثاني من أدلتهم: على أن فسخ الحج في العمرة المذكور لبيان الجواز، وأنه خاص بذلك الركب، وتلك السنة، هو ما جاء من الأحاديث دالا على ذلك، قال أبو داود في سننه: حدثنا النفيلي، ثنا عبد العزيز يعني ابن محمد، أخبرني ربيعة بن أبي عبد الرحمان، عن الحارث بن بلال بن الحارث، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أو لمن بعدنا؟ قال: (بل لكم خاصة) ا ه.
وقال النسائي في سننه: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنبأنا عبد العزيز، وهو الدراوردي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمان، عن الحارث بن بلال، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله أفسخ الحج لنا خاصة، أم للناس عامة؟ قال (بل لنا خاصة) ا ه.
وقال ابن ماجة في سننه: حدثنا أبو مصعب، ثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمان، عن الحارث بن بلال بن الحارث، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت فسخ الحج في العمرة لنا خاصة أم للناس عامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بل لنا خاصة).
وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه: وحدثنا سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب قالوا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش عن إبراهيم التيمي، عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة. وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الرحمان بن مهدي، عن سفيان، عن عياش العامري، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: كانت لنا رخصة يعني: المتعة في الحج. وحدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن فضيل، عن زبيد، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: قال أبو ذر رضي الله عنه: لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة، يعني متعة النساء، ومتعة الحج، حدثنا قتيبة، حدثنا جرير، عن بيان، عن عبد الرحمان بن أبي الشعثاء، قال: أتيت إبراهيم النخعي، وإبراهيم التيمي فقلت: إني أهم أن أجمع العمرة والحج العام، فقال إبراهيم النخعي: لكن أبوك لم يكن ليهم بذلك، قال قتيبة: حدثنا جرير، عن بيان، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه: أنه مر بأبي ذر رضي الله عنه بالربذة فذكر ذلك له فقال: إنما كانت لنا خاصة دونكم. وقال البيهقي وغيره من الأئمة: مراد أبي ذر بالمتعة المذكورة: المتعة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها أصحابه رضي الله عنهم وهي فسخ الحج في العمرة. واستدلوا على أن الفسخ المذكور: هو مراد أبي ذر رضي الله عنه بما رواه أبو داود في سننه: حدثنا هناد، يعني ابن السري، عن ابن أبي زائدة: أخبرنا محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمان بن الأسود، عن سلم بن الأسود: أن أبا ذر كان يقول فيمن حج ثم فسخها بعمرة: لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: فهذه الرواية التي في سنن أبي داود فيها التصريح من أبي ذر رضي الله عنه، بفسخ الحج في العمرة وهي تفسر مراده بالمتعة في رواية مسلم، وضعفت رواية أبي داود هذه، بأن ابن إسحاق المذكور فيها مدلس. وقد قال عن عبد الرحمان بن الأسود: وعنعنة المدلس لا تقبل عند أهل الحديث، حتى يصح السماع من طريق أخرى. ويجاب عن تضعيف هذه الرواية من جهتين:
364

الأولى: أن مشهور مذهب مالك، وأحمد، وأبي حنيفة رحمهم الله: صحة الاحتجاج بالمرسل، ومعلوم أن من يحتج بالمرسل يحتج بعنعنة المدلس من باب أولى، كما قدمناه مرارا.
والثانية: أن المقصود من رواية أبي داود المذكورة بيان المراد برواية مسلم، والبيان يقع بكل ما يلزم الإبهام ولو قرينة أو غيرها، كما هو مقرر في الأصول. وقد قدمناه مرارا أيضا.
وما ذكره عن أبي ذر من الخصوصية المذكورة قاله عثمان بن عفان رضي الله عنه ورد المخالفون الاستدلال بالحديثين المذكورين من جهتين:
الأولى منهما: تضعيف الحديثين المذكورين، قالوا: حديث بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه المذكور عند أبي داود، والنسائي، وابن ماجة فيه ابنه الحارث بن بلال، وهو مجهول، قالوا: وقال الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله في حديث بلال المذكور: هذا الحديث لا يثبت عندي، ولا أقول به، قال: وقد روي فسخ الحج في العمرة أحد عشر صحابيا، أين يقع الحارث بن بلال منهم؟ قالوا: وحديث أبي ذر، عند مسلم موقوف عليه، وليس بمرفوع، وإذا كان الأول في سنده مجهول، والثاني موقوفا تبين عدم صلاحيتهما للاحتجاج.
الجهة الثانية: من جهتي رد الحديثين المذكورين: هي أنهما معارضان بأقوى منهما، وهو حديث جابر المتفق عليه: أن سراقة بن مالك بن جعشم، سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال في تمتعهم المذكور: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم (بل للأبد) وفي رواية في الصحيح فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى، وقال (دخلت العمرة في الحج مرتين لا بل لأبد أبد) ورد المانعون تضعيف الحديثين المذكورين، قالوا: حديث بلال المذكور سكت عليه أبو داود، ومعلوم من عادته أنه لا يسكت إلا عن حديث صالح للاحتجاج، قالوا: ولم يثبت في الحارث بن بلال جرح. وقد قال ابن حجر في التقريب فيه: هو مقبول، قالوا: واعتضد حديث بما رواه مسلم عن أبي ذر، كما رأيته آنفا قالوا: إن قلنا إن الخصوصية التي ذكرها أبو ذر بذلك الركب مما لا مجال للرأي فيه، فهو حديث صحيح له حكم الرفع، وقائله اطلع على زيادة علم خفيت على غيره، وإن قلنا إنه مما للرأي فيه مجال، كما يدل عليه كلام عمران بن حصين الآتي. وحكمنا بأنه موقوف على أبي ذر فصدق لهجة أبي ذر المعروف وتقاه، وبعده من الكذب يدلنا على أنه ما جزم بالخصوصية المذكورة، إلا وهو عارف صحة ذلك، وقد تابعه في ذلك عثمان رضي الله عنه قالوا: ويعتضد حديث الحرث بن بلال المذكور أيضا بمواظبة الخلفاء الراشدين في زمن أبي بكر، وعمر، وعثمان على الإفراد، ولو لم يعلموا أن فسخ الحج في العمرة خاص بذلك الركب لما عدلوا عنه إلى غيره، لما هو معلوم من تقاهم، وورعهم، وحرصهم على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فمواظبتهم على إفراد الحج نحو أربع وعشرين سنة يقوي حديث الحارث بن بلال المذكور. وقد رأيت الرواية عنهم بذلك في صحيح البخاري ومسلم، وكذلك غيرهم من المهاجرين والأنصار، كما أوضحه عروة بن الزبير رضي الله عنهما في حديثه المتقدم عند مسلم. قالوا: ورد حديث الحارث بن بلال بأنه مخالف لحديث جابر المتفق عليه في سؤال سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي النبي صلى الله عليه وسلم، وإجابته له بقوله: بل للأبد لا يستقيم، لأنه لا معارضة بين الحديثين لإمكان الجمع بينهما، والمقرر في علم الأصول، وعلم الحديث: أنه إذا أمكن الجمع بين الحديثين وجب الجمع بينهما إجماعا، ولا يرد غير الأقوى منهما بالأقوى، لأنهما صادقان، وليسا بمتعارضين، وإنما أجمع أهل العلم على وجوب الجمع بين الدليلين إن أمكن، لأن إعمال الدليلين معا أولى من إلغاء أحدهما كما لا يخفى، ووجه الجمع بين الحديثين المذكورين: أن حديث بلال بن الحارث المزني، وأبي ذر رضي الله عنهما محمولان على أن معنى الخصوصية المذكورة: التحتم والوجوب، فتحتم فسخ الحج في العمرة، ووجوبه خاص بذلك الركب، لأمره صلى الله عليه وسلم لهم بذلك، ولا ينافي ذلك بقاء جوازه ومشروعيته إلى أبد الأبد. وقوله في حديث جابر: بل للأبد، محمول على الجواز، وبقاء المشروعية إلى الأبد. فاتفق الحديثان. قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لنا صوابه في حديث (بل للأبد) وحديث الخصوصية بذلك الركب المذكورين: هو ما اختاره العلامة الشيخ تقي الدين أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى: وهو الجمع المذكور بين الأحاديث بحمل الخصوصية المذكورة على الوجوب والتحتم، وحمل التأييد المذكور على المشروعية والجواز أو السنة، ولا شك أن هذا هو مقتضى الصناعة الأصولية والمصطلحية، كما لا يخفى.
364

واعلم: أن الشافعية والمالكية، ومن وافقهم يقولون: إن قوله صلى الله عليه وسلم (بل للأبد) لا يراد به فسخ الحج في العمرة، بل يراد به جواز العمرة في أشهر الحج، وقال بعضهم: المراد به دخول أفعالها في أفعال الحج في حالة القران.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: هذا المعنى الذي حملت عليه المالكية، والشافعية قول النبي لسراقة (بل للأبد) ليس هو معناه، بل معناه: بقاء مشروعية فسخ الحج في العمرة، وبعض روايات الحديث ظاهرة في ذلك ظهورا بينا لا يجوز العدول عنه، إلا بدليل يجب الرجوع إليه، بل صريح في ذلك.
وسنمثل هنا لبعض تلك الروايات فنقول: ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه ما لفظه: فقال صلى الله عليه وسلم (لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة.) فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال: (دخلت العمرة في الحج مرتين، لا بل لأبد أبد) انتهى المراد منه. وهو صريح في أن سؤال سراقة عن الفسخ المذكور، وجواب النبي له: يدل على تأييد مشروعيته كما ترى، لأن الجواب مطابق للسؤال، فقول المالكية، والشافعية، ومن وافقهم: بأن الفسخ ممنوع لغير أهل حجة الوداع، لا يستقيم مع هذا الحديث الصحيح المصرح، بخلافه كما ترى.
ودعواهم أن المراد بقوله (بل لأبد أبد) جواز العمرة في أشهر الحج، أو اندراج أعمالها فيه في حال القران بعيد من ظاهر اللفظ المذكور كما ترى، وأبعد من ذلك دعوى من ادعى أن المعنى: أن العمرة اندرجت في الحج: أي اندرج وجوبها في وجوبه، فلا تجب العمرة: وإنما تجب على المكلف حجة الإسلام دون العمرة، وبعد هذا القول وظهور سقوطه كما ترى.
والصواب إن شاء الله: هو ما ذكرنا من الجمع بين الأدلة، ووجهه ظاهر لا إشكال فيه.
وقال النووي في شرح المهذب في الجواب عن قول الإمام أحمد: أين يقع الحارث بن بلال من أحد عشر صحابيا رووا الفسخ عنه صلى الله عليه وسلم ما نصه قلت: لا معارضة بينهم، وبينه، حتى يقدموا عليه، لأنهم أثبتوا الفسخ للصحابة، ولم يذكروا حكم غيرهم، وقد وافقهم الحارث في إثبات الفسخ للصحابة، ولكنه زاد زيادة لا تخالفهم وهي اختصاص الفسخ بهم ا ه.
وإذا عرفت مما ذكرنا أدلة الذين ذهبوا إلى تفضيل الإفراد على غيره من أنواع النسك، وعلمت أن جوابهم عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج في العمرة، أنه لإزالة ما كان في نفوسهم من أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، وأن الفعل المفعول لبيان الجواز، قد يكون أفضل بذلك الاعتبار من غيره، وإن كان غيره أفضل منه بالنظر إلى ذاته.
فاعلم أنهم ادعوا الجمع بين الأحاديث الصحيحة المصرحة بأنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا والأحاديث الصحيحة المصرحة بأنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعا وكلها ثابتة في الصحيحين، وغيرهما في حجة الوداع مع الأحاديث المصرحة، بأنه كان مفردا التي هي معتمدهم في تفضيل الإفراد بأنه صلى الله عليه وسلم أحرم أولا مفردا، ثم بعد ذلك أدخل العمرة على الحج، فصار قارنا، فأحاديث الإفراد يراد بها عندهم، أنه هو الذي أحرم به أول إحرامه، وأحاديث القران عندهم حق، إلا أنه عندهم أدخل العمرة على الحج فصار قارنا وصيرورته قارنا في آخر الأمر هي معنى أحاديث القران، فلا منافاة. أما الأحاديث الدالة على أنه كان متمتعا، فلا إشكال فيها، لأن السلف يطلقون اسم التمتع على القران من حيث إن فيه عمرة في أشهر الحج مع الحج، وكذلك أمره لأصحابه بالتمتع وتمنيه له، وتأسفه على فواته بسبب سوق الهدي في قوله: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي وجعلتها عمرة) كفعله له قالوا: وبهذا تتفق الأحاديث، ويكون التمتع المذكور بفسخ الحج في العمرة لبيان الجواز، وهو بهذا الاعتبار أفضل من غيره فلا ينافي أن الإفراد أفضل منه بالنظر إلى ذاته، كما سار عليه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، قالوا: ولما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج في العمرة أسفوا، لأنهم أحلوا وهو باق على إحرامه، فأدخل العمرة على الحج لتطيب نفوسهم، بأنه صار معتمرا مع حجه لما أمرهم بالعمرة والمانع له من أن يحل كما أحلوا هو سوق الهدي، قالوا فعمرتهم لبيان الجواز، وعمرته التي بها صار قارنا لمواساتهم لما شق عليهم أنه خالفهم، فصار تمتعهم وقرانه بهذا الاعتبار أولى من غيرهما، ولا يلزم من ذلك أفضليتهما في كل الأحوال، بعد زوال الموجب الحامل على ذلك.
قالوا: وهذا هو الذي لاحظه الخلفاء الراشدون: أبو بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم، فواظبوا على الإفراد نحو أربع وعشرين سنة، كلهم يأخذ بسنة الخليفة الذي قبله في ذلك.
قالوا: وما قاله جماعة من أجلاء العلماء، من أن بيان جواز العمرة في أشهر الحج عام حجة الوداع لا داعي له، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك بيانا متكررا في سنين متعددة: وذلك لأنه اعتمر عمرة الحديبية عام ست، وعمرة القضاء عام سبع، وعمرة الجعرانة عام ثمان وكل هذه العمر الثلاث في ذي القعدة من أشهر بالحج.
قالوا: وهذا البيان المتكرر سنة بعد سنة كاف غاية الكفاية، فلا حاجة إلى بيان ذلك بأمر الصحابة بفسخ الحج في العمرة. وكذلك قوله (ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل) المتقدم في حديث عائشة.
وإذا كان بيان ذلك لا حاجة إليه تعين أن الأمر بالفسخ المذكور لأفضلية التمتع على غيره لا بشيء آخر. لا شك في أنه ليس بصحيح، وأن بيان ذلك محتاج إليه غاية الاحتياج في حجة الوداع، ولشدة الاحتياج إلى ذلك البيان أمرهم صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج في العمرة، والدليل على ذلك: هو ما ثبت في حديث ابن عباس المتفق عليه، وقد ذكرناه في أول هذا المبحث.
364

قال: كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض الحديث. وفيه: فقدم النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول الله أي الحل؟ قال (الحل كله): وفي البخاري قال (حله كله) فقول ابن عباس في هذا الحديث الصحيح: فتعاظم ذلك عندهم، دليل على أنه في ذلك الوقت، لم يزل عظيما عندهم. ولو كانت العمر الثلاث المذكورة أزالت من نفوسهم ذلك إزالة كلية، لما تعاظم الأمر عندهم، فتعاظم ذلك الأمر عندهم المصرح به في حديث متفق عليه بعد صبح رابعة من ذي الحجة عام عشر، دليل على أن العمرة عام ست، وعام سبع، وعام ثمان ما أزالت ما كان في نفوسهم لشدة استحكامه فيها. وكذلك: إذنه لمن شاء أن يهل بعمرة السابق في حديث عائشة. والنبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، مودع حريص على إتمام البيان، وحجة الوداع اجتمع فيها جمع من المسلمين، لم يجتمع مثله في موطن من المواطن في حياته صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن حجر في فتح الباري في الكلام على الحديث المذكور: فتعاظم عندهم: أي لما كانوا يعتقدونه أولا، وفي رواية إبراهيم بن الحجاج: فكبر ذلك عندهم انتهى منه.
قالوا: ولشدة عظمه عندهم، لم يمتثلوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج في العمرة أولا، حتى غضب عليهم بسبب ذلك. وبذلك كله يتضح لك أنما كان مستحكما في نفوسهم، من أن العمرة في أشهر الحج، من أفجر الفجور في الأرض، لم يزل بالكلية إلى صبح رابعة ذي الحجة سنة عشر.
قالوا: وبه تعلم أن بيان جواز ذلك في حجة الوداع بعمل كل الصحابة الذين لم يسوقوا هديا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، واعتماره هو مع حجته، أعني قرانه بينهما أمر محتاج إليه جدا للبيان المذكور.
ومما يدل من الأحاديث الصحيحة على أن ما كان في نفوسهم من ذلك لم ينزل بالكلية: ما ثبت في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ (وأن النبي صلى الله
عليه وسلم أذن لأصحابه أن يجعلوها عمرة يطوفوا بالبيت ثم يقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي، فقالوا: ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر؟ فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لأحللت) الحديث. هذا لفظ البخاري رحمه الله، فقولهم في هذا الحديث الصحيح بعد أن أمرهم صلى الله عليه وسلم، أن يحلوا ننطلق إلى منى، وذكر أحدنا يقطر: يدل على شدة نفرتهم من الإحلال بعمرة في زمن الحج كما ترى. وذلك يؤكد الاحتياج إلى تأكيد بيان الجواز. وهذا الحديث الصحيح يدفع الاحتمال الذي في حديث ابن عباس المتقدم: لأن قوله (فتعاظم ذلك عندهم) يحتمل أن يكون موجب التعاظم، أنهم كانوا أولا محرمين بحج، ويدل لهذا الاحتمال حديث جابر الثابت في الصحيح: أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه، وقد أهلوا بالحج مفردا، فقال لهم: (أحلوا من إحرامكم بطواف البيت). الحديث. وفيه فقالوا: كيف نجعلها متعة، وقد سمينا الحج إلى آخر الحديث، فهذا الحديث يدل على أنهم إنما صعب عليهم الإحلال بالعمرة، لأنهم قد سموا الحج، لا لأن ما كان في نفوسهم من أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، لم يزل باقيا إلى ذلك الوقت، لأن حديث جابر المذكور، أعني قوله: فقالوا ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر، لا يحتمل هذا الاحتمال، بل معناه: أن تعاظم الإحلال بعمرة عندهم، لأنه في وقت الحج كما بينا، وهو يدل على أن ذلك هو المراد من هذا الحديث الأخير، وأنه ليس المراد الاحتمال المذكور، كما جزم به ابن حجر في الفتح في كلامه على الحديث الذي ذكرناه عنه آنفا.
ويبين أيضا: أن ذلك هو معنى حديث جابر عند مسلم، حيث قال رحمه الله في صحيحه: حدثنا ابن نمير، حدثني أبي، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة فكبر ذلك علينا، وضاقت به صدورنا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فما ندري أشيء بلغه من السماء، أم شيء من قبل الناس؟ فقال (أيها الناس أحلوا فلولا أن معي الهدي فعلت كما فعلتم) الحديث.
فقول جابر رضي الله عنه في هذا الحديث الصحيح: فكبر ذلك علينا، وضاقت به صدورنا، يدل على أن ما كان في نفوسهم من كراهة العمرة في أشهر الحج، لم يزل ولولا ذلك لما كبر عليهم، ولا ضاقت صدورهم بالإحلال بعمرة في أشهر الحج، كما أوضحه حديثه المذكور أيضا. وعلى هذا الذي ذكروه، فالذي استدبره من أمره، ولو استقبله لم يسق الهدي: هو ملاحظة البيان المذكور، وإن كان قد بين ذلك سابقا لاحتياجه إلى تأكيد البيان في مثل ذلك الجمع، وهو مودع، ولا ينافي ذلك أنه أمر القارنين بالفسخ المذكور مع أن العمرة المقرونة مع الحج فيها البيان المذكور، لأن العمرة المفردة عن الحج أبلغ في البيان، لأنها ليست مع الحج، فهي مستقلة عنه فلا يحتمل أنها إنما جازت تبعا له. وقد
364

أوضحنا في هذا الكلام حجة من قال من أهل العلم: بتفضيل الإفراد على غيره، من أنواع النسك، وجوابهم عما جاء من الأحاديث دالا على أفضلية القران أو التمتع، ووجه جمعهم بين الأحاديث الصحيحة التي ظاهرها الاختلاف في حجة النبي صلى الله عليه وسلم.
المسألة الرابعة
ذهب جماعة من أهل العلم، إلى أن القران هو أفضل أنواع النسك، وممن قال بهذا: أبو حنيفة، وأصحابه، وسفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه، والمزني، وابن المنذر، وأبو إسحاق المروزي، كما نقله عنهم النووي في شرح المهذب، واحتج أهل هذا القول بأحاديث كثيرة، دالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا في حجته.
منها: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال (تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة، ثم أهل الحج) الحديث أخرجاه بهذا اللفظ.
ومنها: ما أخرجه الشيخان متصلا بحديث ابن عمر هذا من طريق عروة بن الزبير، عن عائشة: أنها أخبرته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث ابن عمر المذكور سواء.
ومنها: ما رواه مسلم والبخاري في صحيحيهما، من حديث قتيبة، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر (أنه قرن الحج إلى العمرة، وطاف لهما طوافا واحدا) ثم قال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنها: ما رواه الشيخان، عن عمران بن حصين الخزاعي رضي الله عنهما، قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله، يعني متعة الحج، وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج، ولم ينه عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، قال رجل برأيه ما شاء الحديث، هكذا لفظ مسلم في صحيحه في بعض رواياته لهذا الحديث، ولفظ البخاري قريب منه بمعناه في التفسير، وفي الحج. ومراد عمران بن حصين رضي الله عنهما بالتمتع المذكور: القران بدليل الروايات الصحيحة الثابتة في صحيح مسلم، وغيره المصرحة بذلك.
قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: وحدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن حميد بن هلال، عن مطرف قال: قال لي عمران بن حصين:
365

أحدثك حديثا عسى الله أن ينفعك به: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حجة وعمرة، ثم لم ينه عنه، حتى مات، ولم ينزل فيه قرآن يحرمه، وقد كان يسلم علي حتى اكتويت فتركت، ثم تركت الكي فعاد.
حدثناه محمد بن المثنى وابن بشار، قالا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن حميد بن هلال، قال: سمعت مطرفا قال: قال لي عمران بن حصين: بمثل حديث
معاذ.
وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار. قال ابن المثنى: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن قتادة، عن مطرف: قال: بعث إلى عمران بن حصين في مرضه الذي توفي فيه، فقال: إني كنت محدثك بأحاديث لعل الله أن ينفعك بها بعدي، فإن عشت فاكتم عني، وإن مت فحدث بها إن، شئت إنه قد سلم علي، واعلم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد جمع بين حج وعمرة، ثم لم ينزل فيها كتاب الله، ولم ينه عنها نبي الله صلى الله عليه وسلم، قال رجل برأيه ما شاء.
وحدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جمع بين حج وعمرة، ثم لم ينزل فيها كتاب، ولم ينهنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فيها رجل برأيه ما شاء. انتهى منه.
وهذه الروايات تبين أن مراده بالتمتع: القران، ومعروف عن الصحابة رضي الله عنهم، أنهم يطلقون اسم التمتع على القران، لأن فيه عمرة في أشهر الحج مع الحج.
ومنها: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين حج وعمرة) ففي بعض روايات حديثه، قال (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن معه بالمدينة الظهر أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين، ثم بات بها حتى أصبح، ثم ركب حتى استوت به على البيداء حمد الله وسبح وكبر، ثم أهل بحج وعمرة، وأهل الناس بهما) الحديث، هذا لفظ البخاري في صحيحه، وقد قدمنا بعض ألفاظ مسلم في حديث أنس في القران، ومخالفة ابن عمر له في ذلك، قائلا: إنه أفرد، وفي بعض روايات حديث أنس عند مسلم عن يحيى بن أبي إسحاق، وعبد العزيز بن صهيب، وحميد، أنهم سمعوا أنسا رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهل بهما جميعا: (لبيك عمرة وحجا، لبيك عمرة وحجا)، وقد روي عن أنس رضي الله عنه حديث قران النبي هذا ستة عشر رجلا، كما بينه العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد، وهم الحسن البصري وأبو قلابة، وحميد بن هلال وحميد بن عبد الرحمان الطويل، وقتادة ويحيى بن سعيد الأنصاري، وثابت
366

البناني، وبكر بن عبد الله المزني، وعبد العزيز بن صهيب، وسليمان التيمي، ويحيى بن أبي إسحاق، وزيد بن أسلم، ومصعب بن سليم، وأبو أسماء وأبو قدامة عاصم بن حسين، وأبو قزعة، وهو سويد بن حجر الباهلي.
ومنها: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها، وعن أبيها، قالت: يا رسول الله، ما شأن الناس حلوا بعمرة، ولم تحلل أنت من عمرتك؟ قال (إني لبدت رأسي وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر) انتهى منهما بلفظه. وهذه العمرة المذكورة في هذا الحديث المتفق عليه عمرة مقرونة مع الحج بلا شك في ذلك، كما جزم به النووي في شرح مسلم.
ومنها: ما رواه البخاري في صحيحه، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق، يقول: (أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة) ا ه. وقوله في هذا الحديث وقل عمرة في حجة يدل على القران، والمحتملات الأخر التي حمله عليها بعض المالكية والشافعية وغيرهم لا تظهر كل الظهور: بل معناه القران كما ذكرنا، وجزم به غير واحد والله تعالى أعلم، والأحاديث بمثل مما ذكرنا كثيرة.
وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد: منها بضعة وعشرين حديثا، عن سبعة عشر صحابيا وهم جابر، وعائشة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعمران بن حصين، والبراء بن عازب، وحفصة أم المؤمنين، وأبو قتادة، وابن أبي أوفى وأبو طلحة، والهرماس بن زياد، وأم سلمة، وأنس بن مالك، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن عفان رضي الله عنهم جميعا وعده لعثمان رضي الله عنه في جملة من روى القران، مع ما ثبت عنه من النهي عنه يعني به تقريره لعلي رضي الله عنه على القران.
وبالجملة: فثبوت كون النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا بالأحاديث الصحيحة، التي ذكرنا طرفا منها لا مطعن فيه، وقد قدمنا أن القائلين بأفضلية الإفراد معترفون بقرانه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، إلا أنهم جمعوا بين الأحاديث، بأنه أحرم أولا مفردا، ثم أدخل العمرة على الحج فصار قارنا. والذين قالوا: بأفضلية القران جزموا بأنه صلى الله عليه وسلم أحرم قارنا في ابتداء إحرامه، واستدلوا لذلك بأحاديث صحيحة.
منها: حديث ابن عمر المتفق عليه، وقد قدمناه في هذا المبحث، وفيه: وبدأ
367

رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج وهو تصريح منه رضي الله عنه، بأنه أهل بالعمرة قبل الحج ومنها: حديث عمر رضي الله عنه عند البخاري، وقد قدمناه أيضا وفيه (وقل عمرة في حجة) وكان ذلك بالعقيق قبل إحرامه، وأهل هذا القول جمعوا بين الأحاديث الواردة بالإفراد، والأحاديث الواردة بالقران، والأحاديث الواردة بالتمتع، بغير الجمع الذي ذكرناه عن القائلين بأفضلية الإفراد، وهو أن وجه الجمع أن المراد بالإفراد: إفراد أعمال الحج، لأن القارن يفعل في أعمال الحج كما يفعله الحاج المفرد، فيطوف لهما طوافا واحدا، ويسعى لهما سعيا واحدا، على أصح الأقوال، وأقواها دليلا. وأما جوابهم عن أحاديث التمتع فواضح لأن الصحابة يطلقون التمتع على القراآن كما قدمنا في حديث عمران بن حصين، وكما يدل له ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما، عن سعيد بن المسيب قال: اجتمع عثمان وعلي رضي الله عنهما، وكان عثمان ينهي عن المتعة فقال علي ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه فقال عثمان: دعنا منك فقال: إني لا أستطيع أن أدعك، فلما رأى ذلك علي أهل بهما جميعا. فهذا يبين: أن من جمع بينهما كان متمتعا عندهم، وأن هذا هو الذي فعله صلى الله عليه وسلم، وأقره عثمان، على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، لكن الخلاف بينهما في الأفضل من ذلك.
ومما يدل على أن القارن متمتع عندهم حديث ابن عمر المتفق عليه الذي قدمناه في هذا المبحث فإن في لفظه عند الشيخين (تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى، فساق الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج) فتراه صرح بأن مراده بالتمتع القران. المسألة الخامسة
اعلم: أن حجة من قال: بأن التمتع أفضل مطلقا، ومن قال: بأنه أفضل لمن لم يسق الهدي، وكلاهما مروي عن الإمام أحمد هي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر جميع أصحابه، الذين لم يسوقوا هديا أن يفسخوا حجهم في عمرة. كما هو ثابت عن جماعة من الصحابة بروايات صحيحة لا مطعن فيها، وتأسف هو صلوات الله وسلامه عليه، على سوقه للهدي الذي كان سببا لعدم تحلله بالعمرة معهم. قالوا: لو لم يكن التمتع هو أفضل الأنساك، لما أمر به أصحابه، ولما تأسف على أنه لم يفعله في قوله (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة).
368

تنبيهات
الأول: اعلم أن دعوى من ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعا التمتع المعروف، وأنه حل من عمرته، ثم أحرم للحج باطلة بلا شك. وقد ثبت بالروايات الصحيحة التي لا مطعن فيها: أنه كان قارنا، وأنه لم يحل حتى نحر هديه، كما قدمناه في هذا المبحث في حديث أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها، وعن أبيها.
فإن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم في حديثها المتفق عليه قال (إني لبدت رأسي، وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر) والأحاديث بمثله كثيرة. وسبب غلط من ادعى الدعوى الباطلة المذكورة، هو ما أخرجه مسلم في صحيحه:
حدثنا عمرو الناقد، حدثنا سفيان بن عيينة، عن هشام بن حجير، عن طاوس قال: قال ابن عباس: قال معاوية: أعلمت أني قصرت من رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، عند المروة بمشقص قلت له: لا أعلم هذا إلا حجة عليك. وحدثني محمد بن حاتم، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، حدثني الحسن بن مسلم، عن طاوس، عن ابن عباس: أن معاوية بن أبي سفيان أخبره قال: قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص وهو على المروة، أو رأيته يقصر عنه بمشقص، وهو على المروة. انتهى منه وأخرج البخاري هذا الحديث عن معاوية بلفظ: قال قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص، فالاستدلال بهذا الحديث، على أن النبي أحل بعمرة في حجة الوداع غلط فاحش مردود من وجهين.
الأول: أنه ليس في الحديث المتفق عليه ذكر حجة الوداع، ولا شيء يدل على أن ذلك التقصير كان فيها.
الثاني: ورود الرواية الصحيحة التي لا مطعن فيها أنه لم يحل إلا بعد الرجوع من عرفات، بعد أن نحر هديه. وقال النووي في كلامه على حديث معاوية هذا، وهذا الحديث محمول على أنه قصر عن النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الجعرانة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان قارنا كما سبق إيضاحه، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم حلق بمنى، وفرق أبو طلحة رضي الله عنه شعره بين الناس فلا يجوز حمل تقصير معاوية على حجة الوداع، ولا يصح حمله أيضا على عمرة القضاء
369

الواقعة سنة سبع من الهجرة، لأن معاوية لم يكن يومئذ مسلما، إنما أسلم يوم الفتح سنة ثمان، هذا هو الصحيح المشهور، ولا يصح قول من حمله على حجة الوداع، وزعم أنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعا، لأن هذا غلط فاحش فقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة السابقة في مسلم وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت؟ قال (إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر الهدي) وفي رواية (حتى أحل من الحج) والله تعالى أعلم انتهى كلام النووي ولا شك أن حمل حديث معاوية على حجة الوداع، لا يصح بحال والعلم عند الله تعالى.
التنبيه الثالث
اعلم أن دعوى من ادعى كنه لم يحل بعمرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، إلا من أحرم بالعمرة وحدها، وأن من أهل بحج، أو جمع الحج والعمرة لم يحل أحد منهم، حتى كان يوم النحر دعوى باطلة أيضا لأن الروايات الصحيحة التي لا مطعن فيها عن جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم متظاهرة، بكل الوضوح والصراحة أن النبي صلى الله عليه وسلم، أمر كل من لم يكن معه هدي، أن يحل بعمرة، سواء كان مفردا أو قارنا، ومستند من ادعى تلك الدعوى الباطلة، هو ما أخرجه مسلم رحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمان بن نوفل، عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بالحج، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج. فأما من أهل بعمرة فحل، وأما من أهل بحج أو جمع الحج والعمرة فلم يحلوا، حتى كان يوم النحر انتهى منه لأن الذين لم يحلوا من القارنين، والمفردين في هذا الحديث ونحوه من الأحاديث يجب حملهم، على أن معهم الهدي لأجل الروايات الصحيحة المصرحة بذلك وبأن من لم يكن معهم هدي فسخوا حجهم في عمرة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
التنبيه الرابع
اعلم أن دعوى من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، أحرم إحراما مطلقا، ولم يعين نسكا، وأنه لم يزل ينتظر القضاء، حتى جاءه القضاء بين الصفا والمروة أنها دعوى غير صحيحة، وإن قال الإمام الشافعي: في اختلاف الحديث، إن ذلك ثابت عن
370

النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الروايات المتواترة المصرحة، بأنه صلى الله عليه وسلم عين ما أحرم به من ذي الحليفة، من إفراد، أو قران، أو تمتع، لا تمكن معارضتها لقوتها، وتواترها، واتفاق جميعها على تعيين الإحرام من ذي الحليفة، وإن اختلف في نوعه، ومستند من ادعى تلك الدعوى أحاديث جاءت يفهم من ظاهرها ذلك منها حديث عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نذكر حجا، ولا عمرة. وفي لفظ يلبي. ولا يذكر حجا ولا عمرة، ونحو ذلك من الأحاديث، وهذا لا تعارض به تلك الروايات الصحيحة المتواترة. وقد أجاب العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد عن الأحاديث التي استدل بها من ادعى الدعوى المذكورة، فأفاد وأجاد، والعلم عند الله تعالى.
تنبيه الخامس
اعلم أن الأحاديث الواردة بأنه كان مفردا والواردة بأنه كان قارنا والواردة بأنه كان متمتعا لا يمكن الجمع البتة بينها إلا الواردة منها بالتمتع، والواردة بالقران، فالجمع بينهما واضح، لأن الصحابة كانوا يطلقون اسم التمتع على القران، كما هو معروف عنهم، ولا يمكن النزاع فيه، مع أن أمره صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتمتع، قد يطلق عليه أنه تمتع لأن أمره بالشيء كفعله إياه أما الواردة بالإفراد فلا يمكن الجمع بينها بحال، مع الأحاديث الواردة بالتمتع والقران فادعاء إمكان الجمع بينها غلط، وإن قال به خلق لا يحصى من أجلاء العلماء.
ويبين أيضا: أن ذلك هو معنى حديث جابر عند مسلم، حيث قال رحمه الله في صحيحه: حدثنا ابن نمير، حدثني أبي، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة فكبر ذلك علينا، وضاقت به صدورنا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فما ندري أشيء بلغه من السماء، أم شيء من قبل الناس؟ فقال (أيها الناس أحلوا فلولا أن معي الهدي فعلت كما فعلتم) الحديث.
فقول جابر رضي الله عنه في هذا الحديث الصحيح: فكبر ذلك علينا، وضاقت به صدورنا، يدل على أن ما كان في نفوسهم من كراهة العمرة في أشهر الحج، لم يزل ولولا ذلك لما كبر عليهم، ولا ضاقت صدورهم بالإحلال بعمرة في أشهر الحج، كما أوضحه حديثه المذكور أيضا. وعلى هذا الذي ذكروه، فالذي استدبره من أمره، ولو استقبله لم يسق الهدي: هو ملاحظة البيان المذكور، وإن كان قد بين ذلك سابقا لاحتياجه إلى تأكيد البيان في مثل ذلك الجمع، وهو مودع، ولا ينافي ذلك أنه أمر القارنين بالفسخ المذكور مع أن العمرة المقرونة مع الحج فيها البيان المذكور، لأن العمرة المفردة عن الحج أبلغ في البيان، لأنها ليست مع الحج، فهي مستقلة عنه فلا يحتمل أنها إنما جازت تبعا له. وقد أوضحنا في هذا الكلام حجة من قال من أهل العلم: بتفضيل الإفراد على غيره، من أنواع النسك، وجوابهم عما جاء من الأحاديث دالا على أفضلية القران أو التمتع، ووجه جمعهم بين الأحاديث الصحيحة التي ظاهرها الاختلاف في حجة النبي صلى الله عليه وسلم.
المسألة الرابعة
ذهب جماعة من أهل العلم، إلى أن القران هو أفضل أنواع النسك، وممن قال بهذا: أبو حنيفة، وأصحابه، وسفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه، والمزني، وابن المنذر، وأبو إسحاق المروزي، كما نقله عنهم النووي في شرح المهذب، واحتج أهل هذا القول بأحاديث كثيرة، دالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا في حجته.
منها: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال (تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة، ثم أهل الحج) الحديث أخرجاه بهذا اللفظ.
ومنها: ما أخرجه الشيخان متصلا بحديث ابن عمر هذا من طريق عروة بن الزبير، عن عائشة: أنها أخبرته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث ابن عمر المذكور سواء.
ومنها: ما رواه مسلم والبخاري في صحيحيهما، من حديث قتيبة، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر (أنه قرن الحج إلى العمرة، وطاف لهما طوافا واحدا) ثم قال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنها: ما رواه الشيخان، عن عمران بن حصين الخزاعي رضي الله عنهما، قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله، يعني متعة الحج، وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج، ولم ينه عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، قال رجل برأيه ما شاء الحديث، هكذا لفظ مسلم في صحيحه في بعض رواياته لهذا الحديث، ولفظ البخاري قريب منه بمعناه في التفسير، وفي الحج. ومراد عمران بن حصين رضي الله عنهما بالتمتع المذكور: القران بدليل الروايات الصحيحة الثابتة في صحيح مسلم، وغيره المصرحة بذلك.
قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: وحدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن حميد بن هلال، عن مطرف قال: قال لي عمران بن حصين: أحدثك حديثا عسى الله أن ينفعك به: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حجة وعمرة، ثم لم ينه عنه، حتى مات، ولم ينزل فيه قرآن يحرمه، وقد كان يسلم علي حتى اكتويت فتركت، ثم تركت الكي فعاد.
حدثناه محمد بن المثنى وابن بشار، قالا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن حميد بن هلال، قال: سمعت مطرفا قال: قال لي عمران بن حصين: بمثل حديث معاذ.
وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار. قال ابن المثنى: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن قتادة، عن مطرف: قال: بعث إلى عمران بن حصين في مرضه الذي توفي فيه، فقال: إني كنت محدثك بأحاديث لعل الله أن ينفعك بها بعدي، فإن عشت فاكتم عني، وإن مت فحدث بها إن، شئت إنه قد سلم علي، واعلم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد جمع بين حج وعمرة، ثم لم ينزل فيها كتاب الله، ولم ينه عنها نبي الله صلى الله عليه وسلم، قال رجل برأيه ما شاء.
وحدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جمع بين حج وعمرة، ثم لم ينزل فيها كتاب، ولم ينهنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فيها رجل برأيه ما شاء. انتهى منه.
وهذه الروايات تبين أن مراده بالتمتع: القران، ومعروف عن الصحابة رضي الله عنهم، أنهم يطلقون اسم التمتع على القران، لأن فيه عمرة في أشهر الحج مع الحج.
ومنها: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين حج وعمرة) ففي بعض روايات حديثه، قال (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن معه بالمدينة الظهر أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين، ثم بات بها حتى أصبح، ثم ركب حتى استوت به على البيداء حمد الله وسبح وكبر، ثم أهل بحج وعمرة، وأهل الناس بهما) الحديث، هذا لفظ البخاري في صحيحه، وقد قدمنا بعض ألفاظ مسلم في حديث أنس في القران، ومخالفة ابن عمر له في ذلك، قائلا: إنه أفرد، وفي بعض روايات حديث أنس عند مسلم عن يحيى بن أبي إسحاق، وعبد العزيز بن صهيب، وحميد، أنهم سمعوا أنسا رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهل بهما جميعا: (لبيك عمرة وحجا، لبيك عمرة وحجا)، وقد روي عن أنس رضي الله عنه حديث قران النبي هذا ستة عشر رجلا، كما بينه العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد، وهم الحسن البصري وأبو قلابة، وحميد بن هلال وحميد بن عبد الرحمان الطويل، وقتادة ويحيى بن سعيد الأنصاري، وثابت البناني، وبكر بن عبد الله المزني، وعبد العزيز بن صهيب، وسليمان التيمي، ويحيى بن أبي إسحاق، وزيد بن أسلم، ومصعب بن سليم، وأبو أسماء وأبو قدامة عاصم بن حسين، وأبو قزعة، وهو سويد بن حجر الباهلي.
ومنها: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها، وعن أبيها، قالت: يا رسول الله، ما شأن الناس حلوا بعمرة، ولم تحلل أنت من عمرتك؟ قال (إني لبدت رأسي وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر) انتهى منهما بلفظه. وهذه العمرة المذكورة في هذا الحديث المتفق عليه عمرة مقرونة مع الحج بلا شك في ذلك، كما جزم به النووي في شرح مسلم.
ومنها: ما رواه البخاري في صحيحه، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق، يقول: (أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة) ا ه. وقوله في هذا الحديث وقل عمرة في حجة يدل على القران، والمحتملات الأخر التي حمله عليها بعض المالكية والشافعية وغيرهم لا تظهر كل الظهور: بل معناه القران كما ذكرنا، وجزم به غير واحد والله تعالى أعلم، والأحاديث بمثل مما ذكرنا كثيرة.
وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد: منها بضعة وعشرين حديثا، عن سبعة عشر صحابيا وهم جابر، وعائشة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعمران بن حصين، والبراء بن عازب، وحفصة أم المؤمنين، وأبو قتادة، وابن أبي أوفى وأبو طلحة، والهرماس بن زياد، وأم سلمة، وأنس بن مالك، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن عفان رضي الله عنهم جميعا وعده لعثمان رضي الله عنه في جملة من روى القران، مع ما ثبت عنه من النهي عنه يعني به تقريره لعلي رضي الله عنه على القران.
وبالجملة: فثبوت كون النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا بالأحاديث الصحيحة، التي ذكرنا طرفا منها لا مطعن فيه، وقد قدمنا أن القائلين بأفضلية الإفراد معترفون بقرانه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، إلا أنهم جمعوا بين الأحاديث، بأنه أحرم أولا مفردا، ثم أدخل العمرة على الحج فصار قارنا. والذين قالوا: بأفضلية القران جزموا بأنه صلى الله عليه وسلم أحرم قارنا في ابتداء إحرامه، واستدلوا لذلك بأحاديث صحيحة.
371

منها: حديث ابن عمر المتفق عليه، وقد قدمناه في هذا المبحث، وفيه: وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج وهو تصريح منه رضي الله عنه، بأنه أهل بالعمرة قبل الحج ومنها: حديث عمر رضي الله عنه عند البخاري، وقد قدمناه أيضا وفيه (وقل عمرة في حجة) وكان ذلك بالعقيق قبل إحرامه، وأهل هذا القول جمعوا بين الأحاديث الواردة بالإفراد، والأحاديث الواردة بالقران، والأحاديث الواردة بالتمتع، بغير الجمع الذي ذكرناه عن القائلين بأفضلية الإفراد، وهو أن وجه الجمع أن المراد بالإفراد: إفراد أعمال الحج، لأن القارن يفعل في أعمال الحج كما يفعله الحاج المفرد، فيطوف لهما طوافا واحدا، ويسعى لهما سعيا واحدا، على أصح الأقوال، وأقواها دليلا. وأما جوابهم عن أحاديث التمتع فواضح لأن الصحابة يطلقون التمتع على القراآن كما قدمنا في حديث عمران بن حصين، وكما يدل له ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما، عن سعيد بن المسيب قال: اجتمع عثمان وعلي رضي الله عنهما، وكان عثمان ينهي عن المتعة فقال علي ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه فقال عثمان: دعنا منك فقال: إني لا أستطيع أن أدعك، فلما رأى ذلك علي أهل بهما جميعا. فهذا يبين: أن من جمع بينهما كان متمتعا عندهم، وأن هذا هو الذي فعله صلى الله عليه وسلم، وأقره عثمان، على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، لكن الخلاف بينهما في الأفضل من ذلك.
ومما يدل على أن القارن متمتع عندهم حديث ابن عمر المتفق عليه الذي قدمناه في هذا المبحث فإن في لفظه عند الشيخين (تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى، فساق الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج) فتراه صرح بأن مراده بالتمتع القران. المسألة الخامسة
اعلم: أن حجة من قال: بأن التمتع أفضل مطلقا، ومن قال: بأنه أفضل لمن لم يسق الهدي، وكلاهما مروي عن الإمام أحمد هي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر جميع أصحابه، الذين لم يسوقوا هديا أن يفسخوا حجهم في عمرة. كما هو ثابت عن جماعة من الصحابة بروايات صحيحة لا مطعن فيها، وتأسف هو صلوات الله وسلامه عليه، على سوقه للهدي الذي كان سببا لعدم تحلله بالعمرة معهم. قالوا: لو لم يكن التمتع هو أفضل الأنساك، لما أمر به أصحابه، ولما تأسف على أنه لم يفعله في قوله (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة).
تنبيهات
الأول: اعلم أن دعوى من ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعا التمتع المعروف، وأنه حل من عمرته، ثم أحرم للحج باطلة بلا شك. وقد ثبت بالروايات الصحيحة التي لا مطعن فيها: أنه كان قارنا، وأنه لم يحل حتى نحر هديه، كما قدمناه في هذا المبحث في حديث أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها، وعن أبيها.
فإن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم في حديثها المتفق عليه قال (إني لبدت رأسي، وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر) والأحاديث بمثله كثيرة. وسبب غلط من ادعى الدعوى الباطلة المذكورة، هو ما أخرجه مسلم في صحيحه:
حدثنا عمرو الناقد، حدثنا سفيان بن عيينة، عن هشام بن حجير، عن طاوس قال: قال ابن عباس: قال معاوية: أعلمت أني قصرت من رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، عند المروة بمشقص قلت له: لا أعلم هذا إلا حجة عليك. وحدثني محمد بن حاتم، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، حدثني الحسن بن مسلم، عن طاوس، عن ابن عباس: أن معاوية بن أبي سفيان أخبره قال: قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص وهو على المروة، أو رأيته يقصر عنه بمشقص، وهو على المروة. انتهى منه وأخرج البخاري هذا الحديث عن معاوية بلفظ: قال قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص، فالاستدلال بهذا الحديث، على أن النبي أحل بعمرة في حجة الوداع غلط فاحش مردود من وجهين.
الأول: أنه ليس في الحديث المتفق عليه ذكر حجة الوداع، ولا شيء يدل على أن ذلك التقصير كان فيها.
الثاني: ورود الرواية الصحيحة التي لا مطعن فيها أنه لم يحل إلا بعد الرجوع من عرفات، بعد أن نحر هديه. وقال النووي في كلامه على حديث معاوية هذا، وهذا الحديث محمول على أنه قصر عن النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الجعرانة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان قارنا كما سبق إيضاحه، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم حلق بمنى، وفرق أبو طلحة رضي الله عنه شعره بين الناس فلا يجوز حمل تقصير معاوية على حجة الوداع، ولا يصح حمله أيضا على عمرة القضاء الواقعة سنة سبع من الهجرة، لأن معاوية لم يكن يومئذ مسلما، إنما أسلم يوم الفتح سنة ثمان، هذا هو الصحيح المشهور، ولا يصح قول من حمله على حجة الوداع، وزعم أنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعا، لأن هذا غلط فاحش فقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة السابقة في مسلم وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت؟ قال (إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر الهدي) وفي رواية (حتى أحل من الحج) والله تعالى أعلم انتهى كلام النووي ولا شك أن حمل حديث معاوية على حجة الوداع، لا يصح بحال والعلم عند الله تعالى.
التنبيه الثالث
اعلم أن دعوى من ادعى كنه لم يحل بعمرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، إلا من أحرم بالعمرة وحدها، وأن من أهل بحج، أو جمع الحج والعمرة لم يحل أحد منهم، حتى كان يوم النحر دعوى باطلة أيضا لأن الروايات الصحيحة التي لا مطعن فيها عن جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم متظاهرة، بكل الوضوح والصراحة أن النبي صلى الله عليه وسلم، أمر كل من لم يكن معه هدي، أن يحل بعمرة، سواء كان مفردا أو قارنا، ومستند من ادعى تلك الدعوى الباطلة، هو ما أخرجه مسلم رحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمان بن نوفل، عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بالحج، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج. فأما من أهل بعمرة فحل، وأما من أهل بحج أو جمع الحج والعمرة فلم يحلوا، حتى كان يوم النحر انتهى منه لأن الذين لم يحلوا من القارنين، والمفردين في هذا الحديث ونحوه من الأحاديث يجب حملهم، على أن معهم الهدي لأجل الروايات الصحيحة المصرحة بذلك وبأن من لم يكن معهم هدي فسخوا حجهم في عمرة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
التنبيه الرابع
اعلم أن دعوى من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، أحرم إحراما مطلقا، ولم يعين نسكا، وأنه لم يزل ينتظر القضاء، حتى جاءه القضاء بين الصفا والمروة أنها دعوى غير صحيحة، وإن قال الإمام الشافعي: في اختلاف الحديث، إن ذلك ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الروايات المتواترة المصرحة، بأنه صلى الله عليه وسلم عين ما أحرم به من ذي الحليفة، من إفراد، أو قران، أو تمتع، لا تمكن معارضتها لقوتها، وتواترها، واتفاق جميعها على تعيين الإحرام من ذي الحليفة، وإن اختلف في نوعه، ومستند من ادعى تلك الدعوى أحاديث جاءت يفهم من ظاهرها ذلك منها حديث عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نذكر حجا، ولا عمرة. وفي لفظ يلبي. ولا يذكر حجا ولا عمرة، ونحو ذلك من الأحاديث، وهذا لا تعارض به تلك الروايات الصحيحة المتواترة. وقد أجاب العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد عن الأحاديث التي استدل بها من ادعى الدعوى المذكورة، فأفاد وأجاد، والعلم عند الله تعالى.
تنبيه الخامس
اعلم أن الأحاديث الواردة بأنه كان مفردا والواردة بأنه كان قارنا والواردة بأنه كان متمتعا لا يمكن الجمع البتة بينها إلا الواردة منها بالتمتع، والواردة بالقران، فالجمع بينهما واضح، لأن الصحابة كانوا يطلقون اسم التمتع على القران، كما هو معروف عنهم، ولا يمكن النزاع فيه، مع أن أمره صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتمتع، قد يطلق عليه أنه تمتع لأن أمره بالشيء كفعله إياه أما الواردة بالإفراد فلا يمكن الجمع بينها بحال، مع الأحاديث الواردة بالتمتع والقران فادعاء إمكان الجمع بينها غلط، وإن قال به خلق لا يحصى من أجلاء العلماء.
واختلفوا في وجه الجمع على قولين كما أوضحناه، فمنهم من جمع بأن أحاديث الإفراد، يراد بها: أنه أحرم أولا مفردا، وأحاديث القران يراد بها: أنه بعد إحرامه مفردا أدخل العمرة على الحج، فصار قارنا فصدق هؤلاء باعتبار أول الأمر، وصدق هؤلاء باعتبار آخره، مع أن أكثرهم يقولون: إن إدخال العمرة على الحج خاص به صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز لغيره، وهذا الجمع قال به أكثر المالكية، والشافعية. وقال النووي: لا يجوز العدول عنه، ومنهم من جمع بأن أحاديث الإفراد يراد بها: إفراد أعمال الحج، والقارن يعمل في سعيه وطوافه، كعمل المفرد على أصح الأقوال وأقواها دليلا وكلا الجميعين غلط، مع كثرة وجلالة من قال به من العلماء. وإنما قلنا: إنهما كليهما غلط لأن المعروف في أصول الفقه، وعلم الحديث أن الجمع لا يمكن بين نصين متناقضين تناقضا صريحا، بل الواجب بينهما الترجيح، وإنما يكون الجمع بين نصين، لم يتناقضا تناقضا صريحا فيحمل كل منهما على محمل، ليس في الآخر التصريح بنقيضه، فيكونان صادقين، ولأجل هذا
371

فجميع العلماء يقولون: يجب الجمع إن أمكن، ومفهوم قولهم: إن أمكن أنهما، إن كانا متناقضين تناقضا صريحا، لا يمكن الجمع بينهما، بل يجب المصير إلى الترجيح. فإذا علمت هذا فاعلم أن أحاديث الإفراد صريحة في نفي القران، والتمتع لا يمكن الجمع بينهما أبدا وبين أحاديثهما فابن عمر رضي الله عنهما في حديثه الصحيح المتقدم يكذب أنسا في دعواه القران تكذيبا صريحا المرة بعد المرة، كما رأيته سابقا، فكيف يمكن الجمع بين خبرين والمخبران بهما كل منهما يكذب الآخر تكذيبا صريحا، فالجمع في مثل هذا محال ومن ادعى إمكانه، فقد غلط كائنا من كان، بالغا ما بلغ من العلم والجلالة. وعائشة رضي الله عنها في حديثها الصحيح المتقدم تقول: فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بحج، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج فذكرها الأقسام الثلاثة وتصريحها بأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بواحد معين منها، لا يمكن الجمع بينه، وبين خبر من قال: إنه أحرم بقسم من القسمين الآخرين كما ترى، وفي بعض الروايات: أحرم بالحج خالصا، وفي بعضها: أحرم بالحج وحده، وفي بعضها: لا نعرف العمرة الخ. وأحاديث القران فيها التصريح بأنه يقول: لبيك حجا وعمرة فالجمع بينها لا يمكن بحال إلا على قول من قال: إنه كان قارنا يلبي بهما معا، وسمع بعضهم الحج والعمرة معا وسمع بعضهم الحج دون العمرة، وبعضهم العمرة دون الحج، فرويى كل ما سمع وعلى أن الجمع غير ممكن فالمصير إلى الترجيح واجب، ولا شك عند من جمع بين العلم والإنصاف أن أحاديث القران أرجح من جهات متعددة، منها كثرة من رواها من الصحابة، وقد قدمنا عن ابن القيم أنها رواها سبعة عشر صحابيا، وأحاديث الإفراد لم يروها إلا عدد قليل، وهم: عائشة، وابن عمر، وجابر، وابن عباس، وأسماء، وكثرة الرواة من المرجحات قال في مراقي السعود في مبحث الترجيح باعتبار حال المروي: أحرم بواحد معين منها، لا يمكن الجمع بينه، وبين خبر من قال: إنه أحرم بقسم من القسمين الآخرين كما ترى، وفي بعض الروايات: أحرم بالحج خالصا، وفي بعضها: أحرم بالحج وحده، وفي بعضها: لا نعرف العمرة الخ. وأحاديث القران فيها التصريح بأنه يقول: لبيك حجا وعمرة فالجمع بينها لا يمكن بحال إلا على قول من قال: إنه كان قارنا يلبي بهما معا، وسمع بعضهم الحج والعمرة معا وسمع بعضهم الحج دون العمرة، وبعضهم العمرة دون الحج، فرويى كل ما سمع وعلى أن الجمع غير ممكن فالمصير إلى الترجيح واجب، ولا شك عند من جمع بين العلم والإنصاف أن أحاديث القران أرجح من جهات متعددة، منها كثرة من رواها من الصحابة، وقد قدمنا عن ابن القيم أنها رواها سبعة عشر صحابيا، وأحاديث الإفراد لم يروها إلا عدد قليل، وهم: عائشة، وابن عمر، وجابر، وابن عباس، وأسماء، وكثرة الرواة من المرجحات قال في مراقي السعود في مبحث الترجيح باعتبار حال المروي:
* وكثرة الدليل والرواية
* مرجح لدى ذوي الدراية
*
كما قدمناه في البقرة ومنها: أن من روى عنهم الإفراد، روى عنهم القران أيضا، ويكفي في أرجحية أحاديث القران: أن الذين قالوا: بأفضلية الإفراد معترفون بأن من رووا القران صادقون في ذلك، وأنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا باتفاق الطائفتين، إلا أن بعضهم يقولون: إنه لم يكن قارنا في أول الأمر، وإنما صار قارنا في آخره، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد: أن أحاديث القران أرجح من خمسة عشر وجها فلينظره من أراد الوقوف عليها.
وقد علمت مما تقدم: أن القائلين بأفضلية الإفراد، يقدحون في دلالة أحاديث القران
372

على أفضليته على الإفراد بالقادح المعروف في الأصول بالقول بالموجب، فيقولون: سلمنا أنه كان قارنا مع بقاء نزاعنا في أفضلية القران على الإفراد، لأن قرانه، وأمره أصحابه بالتمتع، لم يكن لأفضلية القران والتمتع في حد ذاتيهما على الإفراد، بل هما في ذلك الوقت أفضل لسبب منفصل، وإن كان الإفراد أفضل منهما في حد ذاته لما قدمنا من أن الفعل المفضول أو المكروه، إذا كان لبيان الجواز كان أفضل بهذا الاعتبار من الفعل الذي هو أفضل منه في حد ذاته كما قدمنا إيضاحه.
وقد قدمنا أدلة من قال بهذا كحديث بلال بن الحارث المزني في السنن، وحديث أبي ذر في مسلم أن ذلك كان خاصا بذلك الركب في حجة الوداع، وعمل الخلفاء
الراشدين نحو أربع وعشرين سنة، وغيرهم من المهاجرين، والأنصار من أفاضل الصحابة، كما ثبت في الصحيحين عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما وثبت عن الخلفاء الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان في الصحيحين وغيرهما ذلك وقد قدمنا أن الآثار والأحاديث التي ذكرها ابن حزم عنهم مخالفة لذلك لا يلتفت إليها مع الروايات الثابتة في الصحيحين، القاضية بخلافها، فإن قيل سلمنا تسليما جدليا أن القران من النبي صلى الله عليه وسلم، والتمتع الواقع من الصحابة بأمره في حجة الوداع، كانا لأجل بيان الجواز فاللازم أن تكون مشروعية أفضليتهما باقية كالرمل في الطواف في الأشواط الثلاثة الأولى، فإنه صلى الله عليه وسلم فعله، وأمر به لسبب خاص، وهو أن يرى المشركين قوة الصحابة، وأنهم لم يضعفهم مرض، ومع كون ذلك لهذا السبب فمشروعية سنيته باقية فليكن قرانه، وتمتع أصحابه بأمره لذلك السبب كذلك.
فالجواب: أن الرمل المذكور لم يرد فيه دليل، يدل على خصوصه بذلك الوقت، بل ثبت ما يدل على بقاء مشروعيته، وهو رمله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بعد زوال السبب، والتمتع والقران المذكوران وردت فيهما أدلة تدل على خصوصهما بذلك الركب كحديث بلال بن الحارث المزني، وحديث أبي ذر إلى آخر ما تقدم. وقد قدمنا مناقشة من ضعف الأول، بأن الحارث بن بلال راوي الحديث، عن أبيه مجهول، وأن حديث أبي ذر موقوف.
وبالجملة: فإنه يبعد كل البعد أن أبا بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم يتواطؤون واحدا بعد واحد في نحو أربع وعشرين سنة على إفراد الحج متعمدين لمخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم وجميع الصحابة حاضرون، ولم ينكر منهم أحد، فهذه دعوى باطلة ومقتضاها:
373

أن الأمة جميعها، وخلفاءها الراشدين مكثت هذا الزمن الطويل، وهي على باطل، فهذا باطل بلا شك.
واعلم أن قول عمران بن حصين رضي الله عنه في حديثه المتقدم، معرضا بعمر رضي الله عنه قال رجل برأيه ما شاء، يعني به: نهى عمر عن التمتع أما إفراده الحج في زمن خلافته، فلم ينكره هو ولا غيره. ومذهب ابن عباس رضي الله عنهما في أن من طاف حل بعمرة شاء أو أبى مذهب مهجور خالفه فيه الصحابة والتابعون، فمن بعدهم فهو كقوله: ينفي العول وبأن الأم لا يحجبها من الثلث إلى السدس، أقل من ثلاثة.
فإن قيل: مذهبه هذا ليس كذلك لأنه دلت عليه نصوص.
فالجواب: هو ما ذكرنا من حجج من خالفوه وهم عامة علماء الأمة والعلم عند الله تعالى.
قال مقيده عفا الله وغفر له: الأظهر عندي في هذه المسألة، هو ما اختاره العلامة أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في منسكه، وهو: إفراد الحج بسفر ينشأ له مستقلا، وإنشاء سفر آخر مستقل للعمرة.
فقد قال رحمه الله في منسكه: إن عمر رضي الله عنه لم ينه عن المتعة البتة، وإنما قال: إن أتم لحجكم، وعمرتكم أن تفصلوا بينهما فاختار عمر لهم أفضل الأمور، وهو إفراد كل واحد منهما بسفر ينشئه له من بلده، وهذا أفضل من القران، والتمتع الخاص بدون سفرة أخرى. وقد نص على ذلك أحمد، وأبو حنيفة، ومالك والشافعي وغيرهم وهذا هو الإفراد الذي فعله أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما وكان عمر يختاره للناس، وكذلك علي، وقال عمر وعلي في قوله تعالى * (وأتموا الحج والعمرة لله) * قالا: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم لعائشة في عمرتها (أجرك على قدر نصبك) فإذا رجع الحاج إلى دويرة أهله، فأنشأ العمرة منها، واعتمر قبل أشهر الحج، وأقام حتى يحج أو اعتمر في أشهره، ورجع إلى أهله، ثم حج فها هنا قد أتى بكل واحد من النسكين من دويرة أهله. وهذا إتيان بهما على الكمال فهو أفضل من غيره انتهى منه بواسطة نقل تلميذه ابن القيم في الزاد فترى هذا العلامة المحقق صرح بأن إفراد كل منهما بسفر أفضل من التمتع والقران، وأن الأئمة الأربعة متفقون على ذلك، وأن عمر، وعليا يريان ذلك عملا بنص القرآن العظيم، وبذلك تعلم أن قول بعض المتأخرين بمنع الإفراد مطلقا مخالف للصواب كما ترى، والعلم عند الله تعالى.
374

المسألة السادسة:
اعلم أن العلماء اختلفوا في طواف القارن والمتمتع إلى ثلاثة مذاهب.
الأول: أن على القارن طوافا واحدا وسعيا واحدا، وأن ذلك يكفيه لحجه، وعمرته، وأن على المتمتع طوافين وسعيين، وهذا مذهب جمهور العلماء منهم مالك، والشافعي، وأحمد في أصح الروايات.
الثاني: أن على كل واحد منهما سعيين وطوافين وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه.
الثالث: أنهما معا يكفيهما طواف واحد، وسعي واحد وهو مروي عن الإمام أحمد. أما الجمهور المفرقون بين القارن والمتمتع القائلون: بأن القارن يكفيه لحجه وعمرته طواف زيارة واحد، وهو طواف الإفاضة، وسعي واحد فاحتجوا بأحاديث صحيحة ليس مع مخالفيهم ما يقاومها.
منها: ما ثبت في صحيح مسلم بن الحجاج رحمه الله: حدثني محمد بن حاتم، حدثنا بهز، حدثنا وهب، حدثنا عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: أنها أهلت بعمرة، فقدمت ولم تطف بالبيت، حتى حاضت، فنسكت المناسك كلها، وقد أهلت بالحج فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم، يوم النفر (يسعك طوافك لحجك وعمرتك) الحديث ففي هذا الحديث الصحيح التصريح بأنها كانت محرمة أولا، ومنعها الحيض من الطواف فلم يمكنها أن تحل بعمرة فأهلت بالحج مع عمرتها الأولى فصارت قارنة، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح. بأنها قاربة حيث قال (لحجك وعمرتك) ومع ذلك صرح، بأنها يكفيها لهما طواف واحد.
وقال مسلم رحمه الله أيضا في صحيحه: وحدثني حسن بن علي الحلواني، حدثنا زيد بن الحباب، حدثني إبراهيم بن نافع، حدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن عائشة رضي الله عنها: أنها حاضت بسرف فتطهرت بعرفة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم (يجزىء عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك) ا ه منه.
فهذا الحديث الصحيح صريح في أن القارن يكفيه لحجه وعمرته طواف واحد وسعي واحد.
ومنها: حديث ابن عمر المتفق عليه الذي قدمناه، قال البخاري رحمه الله في
375

صحيحه في بعض رواياته لهذا الحديث: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، عن أيوب عن نافع: أن ابن عمر رضي الله عنهما دخل ابنه عبيد الله بن عبد الله وظهره في الدار فقال: إني لا آمن أن يكون العام بين الناس فقال: فيصدوك عن البيت، فلو أقمت؟ فقال: قد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فإن حيل بيني وبينه أفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم * (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة) * ثم قال: أشهدكم أني أوجبت مع عمرتي حجا، قال: ثم قدم فطاف لهما طوافا واحدا.
حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن نافع: أن ابن عمر رضي الله عنهما أراد الحاج عام نزل الحجاج بابن الزبير فقيل له: إن الناس كائن بينهم قتال، وإنا نخاف أن يصدوك؟ فقال: * (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة) * إذا أصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أشهدكم أني قد أوجبت عمرة، ثم خرج إذا كان بظاهر البيداء قال: ما شأن الحج والعمرة إلا واحد، أشهدكم أني قد أوجبت حجا مع عمرتي، وأهدى هديا اشتراه بقديد، ولم يزد على ذلك فلم ينحر: ولم يحل من شيء حرم منه، ولم يحلق، ولم يقصر حتى كان يوم النحر فنحر وحلق، ورأى أن قد قضى طواف الحج، والعمرة بطوافه الأول، وقال ابن عمر رضي الله عنهما كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى منه، وفي هذا الحديث الصحيح التصريح من ابن عمر باكتفاء القارن بطواف واحد وأن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فعل. وبعض العلماء حمل الطواف المذكور، على طواف الإفاضة، وبعضهم حمله على الطواف بين الصفا والمروة. أما حمله على طواف القدوم فباطل بلا شك، لأن النبي لم يكتف بطواف القدوم، بل طاف طواف الإفاضة الذي هو ركن الحج بإجماع المسلمين.
وقال الكرماني في شرح الحديث المذكور، فإن قلت: ما المقصود من الطواف الأول إذ لا يجوز أن يراد به طواف القدوم؟
قلت: يعني أنه لم يكرر الطواف للقران، بل اكتفى بطواف واحد، وقد أخرج حديث ابن عمر هذا مسلم في صحيحه من طرق متعددة، وفي لفظ منها: أشهدكم أني قد أوجبت حجة مع عمرة، فانطلق حتى ابتاع بقديد هديا، ثم طاف لهما طوافا واحدا بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم لم يحل منهما حتى حل منهما بحجة يوم النحر ا ه.
وقال النووي معناه: حتى حل منهما يوم النحر بعمل حجة مفردة. وفي بعض الروايات مسلم لحديث ابن عمر هذا: أشهدكم أني أوجبت حجا مع عمرتي، وأهدى هديا اشتراه بقديد، ثم انطلق يهل بهما جميعا حتى قدم مكة فطاف بالبيت وبالصفا والمروة، ولم
376

يزد على ذلك، ولم ينحر، ولم يحلق، ولم يقصر، ولم يحلل من شيء حرم منه حتى كان يوم النحر فنحر وحلق ورأى أنه قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول. وقال ابن عمر: كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى منه، وهو صريح في أن القارب يكفيه لحجه وعمرته طواف واحد.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي والله تعالى أعلم: أن مراد ابن عمر في قوله: ورأى أنه قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول، في مسلم والبخاري، هو الطواف بين الصفا والمروة، ويدل على ذلك أمران: الأول منهما: هو ما قدمنا في بعض روايات مسلم في صحيحه مما لفظه: ثم طاف لهما طوافا واحدا بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم لم يحل منهما، حتى حل منهما بحجة، ومعلوم أن الحل بحجة لا يمكن بدون طواف الإفاضة. أما السعي في الحجة، فيكفي فيه السعي الأول بعد طواف القدوم، فيتعين أن الطواف الأول الذي رأى إجزاءه عن حجه وعمرته، هو الطواف بين الصفا والمروة، بدليل الرواية الصحيحة، بأنه لم يحل منهما إلا بحجة يوم النحر، وحجة يوم النحر أعظم أركانها طواف الإفاضة، فبدونه لا تسمى حجة لأنه ركنها الأكبر المنصوص على الأمر به في كتاب الله في قوله تعالى: * (وليطوفوا بالبيت العتيق) *.
الأمر الثاني: الدال على ذلك، هو: أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم الثابت عنه في الروايات الصحيحة، أنه اكتفى بسعيه بين الصفا والمروة، بعد طواف القدوم لحجه وعمرته، وأنه بعد إفاضته من عرفات، طاف طواف الإفاضة يوم النحر على التحقيق، فحديث ابن عمر هذا نص صحيح متفق عليه، على أن القارن يعمل كعمل المفرد، وعلى هذا يحمل الطواف الواحد في حديث عائشة الآتي فيفسر بأنه الطواف بين الصفا والمروة، لأن القارن لا يسعى لحجه وعمرته إلا مرة واحدة.
وقال ابن حجر في الفتح في كلامه على الروايتين اللتين أخرج بهما البخاري حديث ابن عمر المذكور أعني اللتين سقناهما آنفا ما نصه: والحديثان ظاهران في أن القارب لا يجب عليه إلا طواف واحد كالمفرد، وقد رواه سعيد بن منصور من وجه آخر عن نافع عن ابن عمر أصرح من سياق حديثي الباب في الرفع، ولفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من جمع بين الحج والعمرة كفاه لهما طواف واحد وسعي واحد) وأعله الطحاوي بأن
377

الدراوردي أخطأ فيه، وأن الصواب أنه موقوف، وتمسك في تخطئته بما رواه أيوب، والليث، وموسى بن عقبة وغير واحد عن نافع نحو سياق ما في الباب، من أن ذلك وقع لابن عمر، وأنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، لا أنه روي هذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إعلال مردود، فالدراوردي صدوق، وليس ما رواه مخالفا لما رواه غيره، فلا مانع من أن يكون الحديث عند نافع على الوجهين انتهى كلام ابن حجر في الفتح.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: هذا الحديث الذي نحن بصدده ليس بموقوف على كلا التقديرين، لأن ابن عمر لما طاف لهما طوافا واحدا، أخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل كذلك وهذا عين الرفع، فلا وقف البتة كما ترى، وحديث ابن عمر هذا الذي ذكر ابن حجر في الفتح: أن سعيد بن منصور أخرجه أصرح من حديثي الباب عند البخاري قال فيه المجد في المنتقى: رواه أحمد وابن ماجة، وفي لفظ: من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد منهما حتى يحل منهما جميعا رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب. وفيه دليل على وجوب السعي، ووقوف التحلل عليه.
ومنها: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل منهما جميعا) الحديث، وفيه: وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا انتهى. وهو نص صريح متفق عليه دال على اكتفاء القارن بطواف واحد لحجه وعمرته.
وقال بعض أهل العلم: إن المراد بالطواف في حديث عائشة، هذا هو الطواف بين الصفا والمروة، وله وجه من النظر، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى.
ومنها: حديث جابر الذي قدمناه عند مسلم، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (دخلت العمرة في الحج مرتين) وتصريحه صلى الله عليه وسلم بدخولها فيه، يدل على دخول أعمالها في أعماله حالة القران، وإن أوله جماعات من أهل العلم بتأويلات أخر متعددة.
والأحاديث الدالة على أن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد كفعل المفرد كثيرة، وفيما ذكرنا هنا من الأحاديث الصحيحة كفاية لمن يريد الحق وهذا الذي ذكرناه بعض أدلة القائلين بالفرق بين القران والتمتع، وأن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد لعمرته وحجه. وقد رأيت ما ذكر من أدلتهم على أن القارن يكفيه طواف واحد، وسعي واحد.
378

أما أدلة هذه الطائفة على أن المتمتع لا بد له من طوافين وسعيين، طواف وسعي لعمرته، وطواف وسعي لحجه. فمنها: ما رواه البخاري في صحيحه قال: وقال أبو كامل فضيل بن حسين البصري: حدثنا أبو معشر، حدثنا عثمان بن غياث، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه سئل عن متعة الحج؟ فقال: أهل المهاجرون، والأنصار، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وأهللنا فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي) طفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب وقال (من قلد الهدي فإنه لا يحل له حتى يبلغ الهدي محله) ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج، فإذا فرغنا من المناسك، جئنا فطفنا بالبيت، وبالصفا والمروة، وقد تم حجنا وعلينا الهدي. الحديث.
فهذا الحديث الثابت في صحيح البخاري فيه الدلالة الواضحة على أن الذين تمتعوا، وأحلوا من عمرتهم طافوا وسعوا لعمرتهم، وطافوا وسعوا مرة أخرى لحجهم، وهو نص في محل النزاع.
واعلم أن دعوى من ادعى من العلماء أن رواية البخاري في هذا الإسناد، عن أبي كامل فضيل بن حسين البصري بلفظ: وقال أبو كامل لها حكم التعليق غير مسلمة، بل الذي عليه الجمهور من المتأخرين أو الراوي إذا قال: قال: فلان، فحكم ذلك كحكم عن فلان ونحو ذلك، فالرواية بذلك متصلة، لا معلقة إن كان الراوي غير مدلس، وكان معاصرا لمن روى عنه بقال ونحوها، ولذا غلطوا ابن حزم في حديث المعازف حيث قال: إن قول البخاري في أول الإسناد: وقال هشام بن عمار تعليق وليس الحديث بمتصل، فغلطوه وحكموا للحديث بالاتصال، لأن هشام بن عمار من شيوخ البخاري والبخاري غير مدلس، فقوله: عن شيخه، قال فلان: كقوله عن فلان، وكل ذلك موصول لا معلق.
واعلم أن قول ابن حجر في تهذيب التهذيب: إن البخاري روى عن فضيل المذكور تعليقا، مخالف لمذهب الجمهور من المتأخرين، لأن قوله: وقال أبو كامل في حكم ما لو قال: عن أبي كامل، وكل ذلك يحكم بوصله عند المحققين، فقول ابن حجر في الفتح أقرب إلى الصواب من قوله في التهذيب. وقد قال في فتح الباري في كلامه على الحديث المذكور، ويحتمل أن يكون البخاري أخذه عن أبي كامل نفسه، فإنه أدركه وهو من الطبقة الوسطى من شيوخه، ولم نجد له ذكرا في كتابه غير هذا الموضع انتهى منه.
379

ومعلوم أن أبا كامل مات سنة سبع وثلاثين ومائتين. وله أكثر من ثمانين سنة والبخاري مات سنة ست وخمسين ومائتين، وله اثنان وستون سنة، وبذلك تعلم معاصرتهما زمنا طويلا، وقد قال العراقي في ألفيته: ومعلوم أن أبا كامل مات سنة سبع وثلاثين ومائتين. وله أكثر من ثمانين سنة والبخاري مات سنة ست وخمسين ومائتين، وله اثنان وستون سنة، وبذلك تعلم معاصرتهما زمنا طويلا، وقد قال العراقي في ألفيته:
* وإن يكن أول الإسناد حذف
* مع صيغة الجزم فتعليقا ألف
*
* ولو إلى آخره أما الذي
* لشيخه عزا بقال فكذى
*
* عنعنة كخبر المعازف
* لا تصغ لابن حزم المخالف
*
وإذا علمت أنه في هذه الأبيات صرح بأن قوله: قال فلان: كقوله: عن فلان، تبين لك أن كل ذلك من قبيل المتصل، لا من قبيل المعلق، وقد قال العراقي في ألفيته أيضا: وإذا علمت أنه في هذه الأبيات صرح بأن قوله: قال فلان: كقوله: عن فلان، تبين لك أن كل ذلك من قبيل المتصل، لا من قبيل المعلق، وقد قال العراقي في ألفيته أيضا:
* وصححوا وصل معنعن سلم
* من دلسه راويه واللقا علم
*
* وبعضهم حكى بذا إجماعا
* ومسلم لم يشرط اجتماعا
*
* لكن تعاصرا وقيل يشترط
* طول صحابة وبعضهم شرط
*
* معرفة الراوي بالأخذ عنه
* وقيل كل ما أتانا منه
*
* منقطع حتى يبين الوصل
* وحكم أن حكم عن فالجل
*
* سووا وللقطع نحا البرديجي
* حتى يبين الوصل في التخريج
*
* قال ومثله رأي ابن شيبه
* كذا له ولم يصوب صوبه
*
* قلت الصواب أن من أدرك ما
* رواه بالشرط الذي تقدما
*
* يحكم له بالوصل كيفما روى
* بقال أو عن أو بأن فوا
*
* وما حكي عن أحمد بن حنبل
* وقول يعقوب على ذا نزل
*
* وكثر استعمال عن في ذا الزمن
* إجازة وهو بوصل ما قمن
*
انتهى منه.
فترى العراقي رحمه الله جزم في الأبيات المذكورة، باستواء قال: فلان، وعن فلان، وأن فلانا قال كذا: وأن الجميع من قبيل الوصل، لا من قبيل العلق بالشروط المذكورة. وحكى مقابله بصيغة التمريض في قوله: وقيل كل ما أتانا عنه منقطع الخ.
وبه تعلم أن قول البخاري: وقال أبو كامل فضيل بن حسين الخ من قبيل المتصل لا من قبيل المعلق.
380

وقال صاحب تدريب الراوي: أما ما عزاه البخاري لبعض شيوخه بصيغة: قال فلان، وزاد فلان ونحو ذلك، فليس حكمه حكم التعليق عن شيوخ شيوخه، ومن فوقهم، بل حكمه حكم العنعنة من الاتصال بشرط اللقاء والسلامة من التدليس، كذا جزم به ابن الصلاح، قال: وبلغني عن بعض المتأخرين من المغاربة أنه جعله قسما من التعليق ثانيا، وأضاف إليه قول البخاري، وقال فلان، وزاد فلان فوسم كل ذلك بالتعليق، قال العراقي: وما حزم به ابن الصلاح ها هنا هو الصواب، وقد خالف ذلك في نوع الصحيح فجعل من أمثلة التعليق قال عفان. كذا، وقال القعنبي كذا، وهما من شيوخ البخاري. والذي عليه عمل غير واحد من المتأخرين كابن دقيق العيد، والمزي، أن لذلك حكم العنعنة، قال ابن الصلاح هنا: وقد قال أبو جعفر بن حمدان النيسابوري، وهو أعرف بالبخاري: كل ما قال البخاري: قال لي فلان أو قال لنا فلان: فهو عرض ومناولة. انتهى محل الغرض منه. والنيسابوري المذكور هو المراد بالحيرى في قول العراقي في ألفيته: وقال صاحب تدريب الراوي: أما ما عزاه البخاري لبعض شيوخه بصيغة: قال فلان، وزاد فلان ونحو ذلك، فليس حكمه حكم التعليق عن شيوخ شيوخه، ومن فوقهم، بل حكمه حكم العنعنة من الاتصال بشرط اللقاء والسلامة من التدليس، كذا جزم به ابن الصلاح، قال: وبلغني عن بعض المتأخرين من المغاربة أنه جعله قسما من التعليق ثانيا، وأضاف إليه قول البخاري، وقال فلان، وزاد فلان فوسم كل ذلك بالتعليق، قال العراقي: وما حزم به ابن الصلاح ها هنا هو الصواب، وقد خالف ذلك في نوع الصحيح فجعل من أمثلة التعليق قال عفان. كذا، وقال القعنبي كذا، وهما من شيوخ البخاري. والذي عليه عمل غير واحد من المتأخرين كابن دقيق العيد، والمزي، أن لذلك حكم العنعنة، قال ابن الصلاح هنا: وقد قال أبو جعفر بن حمدان النيسابوري، وهو أعرف بالبخاري: كل ما قال البخاري: قال لي فلان أو قال لنا فلان: فهو عرض ومناولة. انتهى محل الغرض منه. والنيسابوري المذكور هو المراد بالحيرى في قول العراقي في ألفيته:
* وفي البخاري قال لي فجعله
*) خيريهم للعرض والمناوله
*
واعلم أن البخاري رحمه الله تعالى قد يقول: قال فلان مع سماعه منه لغرض غير التعليق.
قال ابن حجر في فتح الباري في شرح حديث المعازف المذكور ناقلا عن ابن الصلاح، ولا التفات إلى أبي محمد بن حزم الظاهري الحافظ في رد ما أخرجه البخاري من حديث أبي عامر، أو أبي مالك الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف) من جهة أن البخاري أورده قائلا: قال هشام بن عمار وساقه بإسناده، فزعم ابن حزم أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام، وجعله جوابا عن الاحتجاج به على تحريم المعازف، وأخطأ في ذلك في وجوه. والحديث صحيح معروف الاتصال، بشرط الصحيح، والبخاري قد يفعل مثل ذلك لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضع آخر من كتابه مسندا متصلا، وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب التي لا يصحبها خلل الانقطاع انتهى منه.
وكون البخاري رحمه الله يعبر بقال فلان لأسباب كثيرة غير التعليق، يدل دلالة واضحة على أن الجزم في مثل ذلك بالتعليق بلا مستند، دعوى لم يعضدها دليل.
وقال ابن حجر في الفتح أيضا في شرح الحديث المذكور: وحكى ابن الصلاح في
381

موضع آخر: أن الذي يقول البخاري فيه قال فلان، يسمى شيخا من شيوخه، يكون من قبيل الإسناد المعنعن. وحكى عن بعض الحفاظ أو يفعل ذلك فيما تحمله عن شيخه مذاكرة. وعن بعضهم أنه فيما يرويه مناولة ا ه، وهو صريح في أن قوله: قال فلان: لا يستلزم التعليق.
فإن قيل: توجد في صحيح البخاري أحاديث يرويها عن بعض شيوخه بصيغة: قال فلان، ثم يوردها في موضع آخر بواسطة بينه، وبين ذلك الشيخ.
فالجواب من وجهين:
الأول: أنه لا مانع عقلا ولا عادة، ولا شرعا من أن يكون روي ذلك الحديث عن الشيخ مباشرة ورواه عنه أيضا بواسطة مع كون روايته عنه مباشرة تشتمل على سبب من الأسباب المؤدية للتعبير بلفظة: قال المشار إليها آنفا، والرواية عن الواسطة سالمة من ذلك.
الوجه الثاني: أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن الصيغة المذكورة تقتضي التعليق، ولا تقتضي الاتصال، فتعليق البخاري بصيغة الجزم، حكمه عند علماء الحديث حكم الصحيح، كما هو معروف.
وقد قال ابن حجر في الفتح في الكلام على حديث المعازف ما نصه: وقد تقرر عند الحفاظ أن الذي يأتي به البخاري من التعليق كلها بصيغة الجزم، يكون صحيحا إلى من علق عنه، ولو لم يكن من شيوخه. انتهى محل الغرض منه.
فتبين بما ذكرنا أن حديث ابن عباس المذكور الدال على أن المتمتع يسعى، ويطوف لحجه بعد الوقوف بعرفة، ولا يكتفي بطواف العمرة السابق، وسعيها نص صحيح على كل تقدير في محل النزاع.
ومنها: ما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها مما يدل على أن المتمتع يطوف لحجه بعد رجوعه من منى، قال البخاري في صحيحه: حدثنا عبد الله بن مسلمة،
حدثنا مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا) الحديث، وفيه قالت: فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافا واحدا بعد أن رجعوا من منى، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافا واحدا. ا ه منه.
وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي، قال: قرأت على مالك عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع. الحديث، وفيه: فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت، وبالصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافا
382

آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم: وأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافا واحدا. انتهى منه.
فهذا نص صريح متفق عليه، يدل على الفرق بين القارن والمتمتع، وأن القارن يفعل كفعل المفرد والمتمتع يطوف لعمرته، ويطوف لحجه فلا وجه للنزاع في هذه المسألة بعد هذا الحديث، وحديث ابن عباس المذكور قبله عند البخاري. وقول من قال: إن المراد بالطواف الواحد في حديث عائشة هذا السعي، له وجه من النظر واختاره ابن القيم، وهو وجيه عندي.
فهذه النصوص تدل على صحة هذا القول المفرق بين القارن والمتمتع، وهو قول جمهور أهل العلم، وهو الصواب إن شاء الله تعالى.
أما من قال: إن المتمتع كالقارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد، وهو رواية عن الإمام أحمد، فقد استدل بما رواه مسلم في صحيحه، قال: وحدثني محمد بن حاتم، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، ح. وحدثنا عبد ابن حميد، أخبرنا محمد بن بكر، أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه بين الصفا والمروة، إلا طوافا واحدا زاد في حديث محمد بن بكر طوافه الأول. انتهى منه.
قال: من تمسك بهذا الحديث، هذا نص صحيح، صرح فيه جابر بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطف هو ولا أصحابه إلا طوافا واحدا، ومعلوم أن أصحابه فيهم القارن، وهو من كان معه الهدي، وفيهم المتمتع، وهو من لم يكن معه هدي، وأذن ففي هذا الحديث الصحيح الدال على استواء القارن والمتمتع في لزوم طواف واحد وسعي واحد.
وأجاب المخالفون عن هذا بأجوبة:
الأول: هو أن الجمع واجب إن أمكن، قالوا: وهو هنا ممكن بحمل حديث جابر
383

هذا على أن المراد بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين لم يطوفوا إلا طوافا واحدا للعمرة والحج، خصوص القارنين منهم، كالنبي صلى الله عليه وسلم، لأنه كان قارنا بلا شك، وإن حمل حديث جابر على هذا كان موافقا لحديث عائشة، وحديث ابن عباس المتقدمين، وهذا واضح كما ترى. قال في مراقي السعود: لأنه كان قارنا بلا شك، وإن حمل حديث جابر على هذا كان موافقا لحديث عائشة، وحديث ابن عباس المتقدمين، وهذا واضح كما ترى. قال في مراقي السعود:
* والجمع واجب متى ما أمكنا
* إلا فللأخير نسخ بينا
*
وإنما كان قول العلماء كافة: أن الجمع إن أمكن وجب المصير إليه لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، كما هو معروف في الأصول.
الجواب الثاني: أنا لو سلمنا أن الجمع غير ممكن هنا في حديث جابر المذكور مع حديث عائشة، وحديث ابن عباس كما جاء في بعض الروايات، عن جابر عند مسلم بلفظ، لا يمكن فيه الجمع المذكور، وذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا أبو الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج معنا النساء والولدان، فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت وبالصفا والمروة، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (من لم يكن معه هدي فليحلل، قال: قلنا: أي الحل؟ قال: الحل كله. قال: فأتينا النساء ولبسنا الثياب ومسنا الطيب، فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج وكفانا الطواف الأول بين الصفا والمروة، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر، كل سبعة منا في بدنة) انتهى.
ولفظ جابر في حديث مسلم هذا في هذه الرواية، لا يمكن حمله على القارنين بحال، لأنه صرح بأنهم حلوا الحل كله، وأتوا النساء ولبسوا الثياب ومسوا الطيب، وأنهم أهلوا يوم التروية بحج، ومع هذا كله صرح بأنهم كفاهم طوافهم الأول بين الصفا والمروة، فإن حديث جابر ينفي طواف المتمتع بعد رجوعه من منى، وحديث عائشة وحديث ابن عباس يثبتانه.
وقد تقرر في الأصول وعلوم الحديث أن المثبت مقدم على النافي، فيجب تقديم حديث ابن عباس وعائشة، لأنهما مثبتان على حديث جابر النافي.
الجواب الثالث: أن عدم طواف المتمتع بعد رجوعه من منى الثابت في الصحيح رواه جابر وحده، وطوافه بعد رجوعه من منى رواه في الصحيح ابن عباس، وعائشة، وما رواه اثنان أرجح مما رواه واحد.
384

قال في مراقي السعود، في مبحث الترجيح باعتبار حال المروي: قال في مراقي السعود، في مبحث الترجيح باعتبار حال المروي:
* وكثرة الدليل والرواية
* مرجح لدى ذوي الدراية
*
وأما من قالوا: إن القارن والمتمتع يلزم كل واحد منهما طوافان وسعيان، طواف وسعي للعمرة، وطواف وسعي للحج كأبي حنيفة ومن وافقه، فقد استدلوا لذلك بأحاديث، ونحن نذكرها إن شاء الله هنا، ونبين وجه رد المخالفين لها من وجهين.
فمن الأدلة التي استدلوا بها على أن القارن يسعى سعيين ويطوف طوافين لحجه وعمرته، ما أخرجه النسائي في سننه الكبرى، ومسند علي عن حماد بن عبد الرحمان الأنصاري، عن إبراهيم بن محمد ابن الحنفية قال: طفت مع أبي، وقد جمع بين الحج والعمرة فطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين، وحدثني أن عليا فعل ذلك، وحدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك. انتهى بواسطة نقل صاحب نصب الراية، ثم قال بعد أن ساق الحديث كما ذكرنا.
قال صاحب التنقيح: وحماد هذا ضعفه الأزدي، وذكره ابن حبان في الثقات. قال بعض الحفاظ: هو مجهول، والحديث من أجله لا يصح. انتهى.
ومن أدلتهم على الطوافين والسعيين للمتمتع والقارن معا: ما أخرجه الدارقطني عن الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عمر: أنه جمع بين حجته وعمرته معا، وقال سبيلهما واحد، قال: فطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين. وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت. انتهى وأخرجه عن الحسن بن عمارة، عن الحكم عن ابن أبي
385

ليلى، عن علي قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قرن وطاف طوافين، وسعى سعيين. انتهى منه بواسطة نقل صاحب نصب الراية. ثم قال بعد أن ساقهما كما ذكرنا.
قال الدارقطني: لم يروهما غير الحسن بن عمارة، وهو متروك ثم هو قد روى عن ابن عباس ضد هذا ثم أخرجه عن الحسن بن عمارة، عن سلمة بن كهيل، عن طاوس قال: سمعت ابن عباس يقول: لا والله ما طاف لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا طوافا واحدا، فهاتوا من هذا الذي يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف لهما طوافين. انتهى. وبالسند الثاني رواه العقيلي في كتاب الضعفاء فقال: حدثنا عبد الله بن محمد بن صالح السمرقندي، ثنا يحيى بن حكيم المقوم قال: قلت لأبي داود الطيالسي: إن محمد بن الحسن صاحب الرأي، حدثنا عن الحسن بن عمارة، عن الحكم عن ابن أبي ليلى، عن علي قال: فذكره. فقال: أبو داود من هذا كان شعبة يشق بطنه من الحسن بن عمارة، وأطال العقيلي في تضعيف الحسن بن عمارة، وأخرجه الدارقطني أيضا عن حفص بن أبي داود عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن عبد الرحمان بن أبي ليلى، عن علي بنحوه، قال: وحفص هذا ضعيف، وابن أبي ليلى رديء الحفظ كثير الوهم. وأخرجه أيضا عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي، حدثني أبي، عن أبيه عن جده، عن علي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا، فطاف طوافين، وسعى سعيين. انتهى. قال: وعيسى بن عبد الله، يقال له: مبارك، وهو متروك الحديث. انتهى من نصب الراية لأحاديث الهداية للزيلعي رحمه الله.
ومن أدلتهم على ذلك: ما أخرجه الدارقطني عن أبي بردة عمرو بن يزيد، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرته. وحجه، طوافين وسعى سعيين، وأبو بكر وعمر، وعلي وابن مسعود. قال الدارقطني: وأبو بردة متروك، ومن دونه في الإسناد ضعفاء.
ومن أدلتهم أيضا: ما أخرجه الدارقطني أيضا، عن محمد بن يحيى الأزدي، ثنا عبد الله بن داود، عن شعبة، عن حميد بن هلال، عن مطرف عن عمران بن الحصين: أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طوافين وسعى سعيين. انتهى. قال الدارقطني: يقال إن محمد بن يحيى الأزدي حدث بهذا من حفظه، فوهم في متنه، والصواب بهذا الإسناد: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قرن الحج، والعمرة، وليس فيه ذكر الطواف ولا السعي، ويقال: إنه رجع عن ذكر الطواف والسعي، وحدث به على الصواب. كما حدثنا به محمد بن إبراهيم بن نيروز، ثنا محمد بن يحيى الأزدي به: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن. انتهى قال: وقد خالفه غيره فلم يذكر فيه الطواف، ولا السعي، كما حدثنا به أحمد بن عبد الله بن محمد بن الوكيل، ومحمد بن مخلد قالا: ثنا القاسم بن محمد بن عباد المهلبي، ثنا عبد الله بن داود، عن شعبة بهذا الإسناد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن ا ه. انتهى كله من نصب الراية.
وقد علمت منه أن جميع هذه الأحاديث الدالة على طوافين وسعيين للقارن، ليس فيها حديث قائم كما رأيت.
وقال ابن حجر في فتح الباري: واحتج الحنفية بما روي عن علي: أنه جمع بين الحج والعمرة، فطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل، وطرقه عن علي عند عبد الرزاق، والدارقطني، وغيرهما ضعيفة،
386

وكذا أخرج من حديث ابن مسعود بإسناد ضعيف نحوه، وأخرج من حديث ابن عمر نحو ذلك، وفيه الحسن بن عمارة، وهو متروك، والمخرج في الصحيحين، وفي السنن عنه من طرق كثيرة الاكتفاء بطواف واحد. وقال البيهقي: إن ثبتت الرواية أنه طاف طوافين، فيحمل على طواف القدوم، وطواف الإفاضة. وأما السعي مرتين فلم يثبت، وقال ابن حزم: لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه شيء في ذلك أصلا. انتهى محل الغرض منه.
واعلم أن دعوى من ادعى من العلماء أن رواية البخاري في هذا الإسناد، عن أبي كامل فضيل بن حسين البصري بلفظ: وقال أبو كامل لها حكم التعليق غير مسلمة، بل الذي عليه الجمهور من المتأخرين أو الراوي إذا قال: قال: فلان، فحكم ذلك كحكم عن فلان ونحو ذلك، فالرواية بذلك متصلة، لا معلقة إن كان الراوي غير مدلس، وكان معاصرا لمن روى عنه بقال ونحوها، ولذا غلطوا ابن حزم في حديث المعازف حيث قال: إن قول البخاري في أول الإسناد: وقال هشام بن عمار تعليق وليس الحديث بمتصل، فغلطوه وحكموا للحديث بالاتصال، لأن هشام بن عمار من شيوخ البخاري والبخاري غير مدلس، فقوله: عن شيخه، قال فلان: كقوله عن فلان،
وكل ذلك موصول لا معلق.
واعلم أن قول ابن حجر في تهذيب التهذيب: إن البخاري روى عن فضيل المذكور تعليقا، مخالف لمذهب الجمهور من المتأخرين، لأن قوله: وقال أبو كامل في حكم ما لو قال: عن أبي كامل، وكل ذلك يحكم بوصله عند المحققين، فقول ابن حجر في الفتح أقرب إلى الصواب من قوله في التهذيب. وقد قال في فتح الباري في كلامه على الحديث المذكور، ويحتمل أن يكون البخاري أخذه عن أبي كامل نفسه، فإنه أدركه وهو من الطبقة الوسطى من شيوخه، ولم نجد له ذكرا في كتابه غير هذا الموضع انتهى منه.
ومعلوم أن أبا كامل مات سنة سبع وثلاثين ومائتين. وله أكثر من ثمانين سنة والبخاري مات سنة ست وخمسين ومائتين، وله اثنان وستون سنة، وبذلك تعلم معاصرتهما زمنا طويلا، وقد قال العراقي في ألفيته: ومعلوم أن أبا كامل مات سنة سبع وثلاثين ومائتين. وله أكثر من ثمانين سنة والبخاري مات سنة ست وخمسين ومائتين، وله اثنان وستون سنة، وبذلك تعلم معاصرتهما زمنا طويلا، وقد قال العراقي في ألفيته:
* وإن يكن أول الإسناد حذف
* مع صيغة الجزم فتعليقا ألف
*
* ولو إلى آخره أما الذي
* لشيخه عزا بقال فكذى
*
* عنعنة كخبر المعازف
* لا تصغ لابن حزم المخالف
*
وإذا علمت أنه في هذه الأبيات صرح بأن قوله: قال فلان: كقوله: عن فلان، تبين لك أن كل ذلك من قبيل المتصل، لا من قبيل المعلق، وقد قال العراقي في ألفيته أيضا: وإذا علمت أنه في هذه الأبيات صرح بأن قوله: قال فلان: كقوله: عن فلان، تبين لك أن كل ذلك من قبيل المتصل، لا من قبيل المعلق، وقد قال العراقي في ألفيته أيضا:
* وصححوا وصل معنعن سلم
* من دلسه راويه واللقا علم
*
* وبعضهم حكى بذا إجماعا
* ومسلم لم يشرط اجتماعا
*
* لكن تعاصرا وقيل يشترط
* طول صحابة وبعضهم شرط
*
* معرفة الراوي بالأخذ عنه
* وقيل كل ما أتانا منه
*
* منقطع حتى يبين الوصل
* وحكم أن حكم عن فالجل
*
* سووا وللقطع نحا البرديجي
* حتى يبين الوصل في التخريج
*
* قال ومثله رأي ابن شيبه
* كذا له ولم يصوب صوبه
*
* قلت الصواب أن من أدرك ما
* رواه بالشرط الذي تقدما
*
* يحكم له بالوصل كيفما روى
* بقال أو عن أو بأن فوا
*
* وما حكي عن أحمد بن حنبل
* وقول يعقوب على ذا نزل
*
* وكثر استعمال عن في ذا الزمن
* إجازة وهو بوصل ما قمن
*
انتهى منه.
فترى العراقي رحمه الله جزم في الأبيات المذكورة، باستواء قال: فلان، وعن فلان، وأن فلانا قال كذا: وأن الجميع من قبيل الوصل، لا من قبيل العلق بالشروط المذكورة. وحكى مقابله بصيغة التمريض في قوله: وقيل كل ما أتانا عنه منقطع الخ.
وبه تعلم أن قول البخاري: وقال أبو كامل فضيل بن حسين الخ من قبيل المتصل لا من قبيل المعلق.
وقال صاحب تدريب الراوي: أما ما عزاه البخاري لبعض شيوخه بصيغة: قال فلان، وزاد فلان ونحو ذلك، فليس حكمه حكم التعليق عن شيوخ شيوخه، ومن فوقهم، بل حكمه حكم العنعنة من الاتصال بشرط اللقاء والسلامة من التدليس، كذا جزم به ابن الصلاح، قال: وبلغني عن بعض المتأخرين من المغاربة أنه جعله قسما من التعليق ثانيا، وأضاف إليه قول البخاري، وقال فلان، وزاد فلان فوسم كل ذلك بالتعليق، قال العراقي: وما حزم به ابن الصلاح ها هنا هو الصواب، وقد خالف ذلك في نوع الصحيح فجعل من أمثلة التعليق قال عفان. كذا، وقال القعنبي كذا، وهما من شيوخ البخاري. والذي عليه عمل غير واحد من المتأخرين كابن دقيق العيد، والمزي، أن لذلك حكم العنعنة، قال ابن الصلاح هنا: وقد قال أبو جعفر بن حمدان النيسابوري، وهو أعرف بالبخاري: كل ما قال البخاري: قال لي فلان أو قال لنا فلان: فهو عرض ومناولة. انتهى محل الغرض منه. والنيسابوري المذكور هو المراد بالحيرى في قول العراقي في ألفيته: وقال صاحب تدريب الراوي: أما ما عزاه البخاري لبعض شيوخه بصيغة: قال فلان، وزاد فلان ونحو ذلك، فليس حكمه حكم التعليق عن شيوخ شيوخه، ومن فوقهم، بل حكمه حكم العنعنة من الاتصال بشرط اللقاء والسلامة من التدليس، كذا جزم به ابن الصلاح، قال: وبلغني عن بعض المتأخرين من المغاربة أنه جعله قسما من التعليق ثانيا، وأضاف إليه قول البخاري، وقال فلان، وزاد فلان فوسم كل ذلك بالتعليق، قال العراقي: وما حزم به ابن الصلاح ها هنا هو الصواب، وقد خالف ذلك في نوع الصحيح فجعل من أمثلة التعليق قال عفان. كذا، وقال القعنبي كذا، وهما من شيوخ البخاري. والذي عليه عمل غير واحد من المتأخرين كابن دقيق العيد، والمزي، أن لذلك حكم العنعنة، قال ابن الصلاح هنا: وقد قال أبو جعفر بن حمدان النيسابوري، وهو أعرف بالبخاري: كل ما قال البخاري: قال لي فلان أو قال لنا فلان: فهو عرض ومناولة. انتهى محل الغرض منه. والنيسابوري المذكور هو المراد بالحيرى في قول العراقي في ألفيته:
* وفي البخاري قال لي فجعله
*) خيريهم للعرض والمناوله
*
واعلم أن البخاري رحمه الله تعالى قد يقول: قال فلان مع سماعه منه لغرض غير التعليق.
قال ابن حجر في فتح الباري في شرح حديث المعازف المذكور ناقلا عن ابن الصلاح، ولا التفات إلى أبي محمد بن حزم الظاهري الحافظ في رد ما أخرجه البخاري من حديث أبي عامر، أو أبي مالك الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف) من جهة أن البخاري أورده قائلا: قال هشام بن عمار وساقه بإسناده، فزعم ابن حزم أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام، وجعله جوابا عن الاحتجاج به على تحريم المعازف، وأخطأ في ذلك في وجوه. والحديث صحيح معروف الاتصال، بشرط الصحيح، والبخاري قد يفعل مثل ذلك لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضع آخر من كتابه مسندا متصلا، وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب التي لا يصحبها خلل الانقطاع انتهى منه.
وكون البخاري رحمه الله يعبر بقال فلان لأسباب كثيرة غير التعليق، يدل دلالة واضحة على أن الجزم في مثل ذلك بالتعليق بلا مستند، دعوى لم يعضدها دليل.
وقال ابن حجر في الفتح أيضا في شرح الحديث المذكور: وحكى ابن الصلاح في موضع آخر: أن الذي يقول البخاري فيه قال فلان، يسمى شيخا من شيوخه، يكون من قبيل الإسناد المعنعن. وحكى عن بعض الحفاظ أو يفعل ذلك فيما تحمله عن شيخه مذاكرة. وعن بعضهم أنه فيما يرويه مناولة ا ه، وهو صريح في أن قوله: قال فلان: لا يستلزم التعليق.
فإن قيل: توجد في صحيح البخاري أحاديث يرويها عن بعض شيوخه بصيغة: قال فلان، ثم يوردها في موضع آخر بواسطة بينه، وبين ذلك الشيخ.
فالجواب من وجهين:
الأول: أنه لا مانع عقلا ولا عادة، ولا شرعا من أن يكون روي ذلك الحديث عن الشيخ مباشرة ورواه عنه أيضا بواسطة مع كون روايته عنه مباشرة تشتمل على سبب من الأسباب المؤدية للتعبير بلفظة: قال المشار إليها آنفا، والرواية عن الواسطة سالمة من ذلك.
الوجه الثاني: أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن الصيغة المذكورة تقتضي التعليق، ولا تقتضي الاتصال، فتعليق البخاري بصيغة الجزم، حكمه عند علماء الحديث حكم الصحيح، كما هو معروف.
وقد قال ابن حجر في الفتح في الكلام على حديث المعازف ما نصه: وقد تقرر عند الحفاظ أن الذي يأتي به البخاري من التعليق كلها بصيغة الجزم، يكون صحيحا إلى من علق عنه، ولو لم يكن من شيوخه. انتهى محل الغرض منه.
فتبين بما ذكرنا أن حديث ابن عباس المذكور الدال على أن المتمتع يسعى، ويطوف لحجه بعد الوقوف بعرفة، ولا يكتفي بطواف العمرة السابق، وسعيها نص صحيح على كل تقدير في محل النزاع.
ومنها: ما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها مما يدل على أن المتمتع يطوف لحجه بعد رجوعه من منى، قال البخاري في صحيحه: حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا) الحديث، وفيه قالت: فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافا واحدا بعد أن رجعوا من منى، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافا واحدا. ا ه منه.
387

وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي، قال: قرأت على مالك عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع. الحديث، وفيه: فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت، وبالصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم: وأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافا واحدا. انتهى منه.
فهذا نص صريح متفق عليه، يدل على الفرق بين القارن والمتمتع، وأن القارن يفعل كفعل المفرد والمتمتع يطوف لعمرته، ويطوف لحجه فلا وجه للنزاع في هذه المسألة بعد هذا الحديث، وحديث ابن عباس المذكور قبله عند البخاري. وقول من قال: إن المراد بالطواف الواحد في حديث عائشة هذا السعي، له وجه من النظر واختاره ابن القيم، وهو وجيه عندي.
فهذه النصوص تدل على صحة هذا القول المفرق بين القارن والمتمتع، وهو قول جمهور أهل العلم، وهو الصواب إن شاء الله تعالى.
أما من قال: إن المتمتع كالقارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد، وهو رواية عن الإمام أحمد، فقد استدل بما رواه مسلم في صحيحه، قال: وحدثني محمد بن حاتم، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، ح. وحدثنا عبد ابن حميد، أخبرنا محمد بن بكر، أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه بين الصفا والمروة، إلا طوافا واحدا زاد في حديث محمد بن بكر طوافه الأول. انتهى منه.
قال: من تمسك بهذا الحديث، هذا نص صحيح، صرح فيه جابر بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطف هو ولا أصحابه إلا طوافا واحدا، ومعلوم أن أصحابه فيهم القارن، وهو من كان معه الهدي، وفيهم المتمتع، وهو من لم يكن معه هدي، وأذن ففي هذا الحديث الصحيح الدال على استواء القارن والمتمتع في لزوم طواف واحد وسعي واحد.
وأجاب المخالفون عن هذا بأجوبة:
الأول: هو أن الجمع واجب إن أمكن، قالوا: وهو هنا ممكن بحمل حديث جابر هذا على أن المراد بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين لم يطوفوا إلا طوافا واحدا للعمرة والحج، خصوص القارنين منهم، كالنبي صلى الله عليه وسلم، لأنه كان قارنا بلا شك، وإن حمل حديث جابر على هذا كان موافقا لحديث عائشة، وحديث ابن عباس المتقدمين، وهذا واضح كما ترى. قال في مراقي السعود: لأنه كان قارنا بلا شك، وإن حمل حديث جابر على هذا كان موافقا لحديث عائشة، وحديث ابن عباس المتقدمين، وهذا واضح كما ترى. قال في مراقي السعود:
* والجمع واجب متى ما أمكنا
* إلا فللأخير نسخ بينا
*
وإنما كان قول العلماء كافة: أن الجمع إن أمكن وجب المصير إليه لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، كما هو معروف في الأصول.
الجواب الثاني: أنا لو سلمنا أن الجمع غير ممكن هنا في حديث جابر المذكور مع حديث عائشة، وحديث ابن عباس كما جاء في بعض الروايات، عن جابر عند مسلم بلفظ، لا يمكن فيه الجمع المذكور، وذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا أبو الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج معنا النساء والولدان، فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت وبالصفا والمروة، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (من لم يكن معه هدي فليحلل، قال: قلنا: أي الحل؟ قال: الحل كله. قال: فأتينا النساء ولبسنا الثياب ومسنا الطيب، فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج وكفانا الطواف الأول بين الصفا والمروة، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر، كل سبعة منا في بدنة) انتهى.
ولفظ جابر في حديث مسلم هذا في هذه الرواية، لا يمكن حمله على القارنين بحال، لأنه صرح بأنهم حلوا الحل كله، وأتوا النساء ولبسوا الثياب ومسوا الطيب، وأنهم أهلوا يوم التروية بحج، ومع هذا كله صرح بأنهم كفاهم طوافهم الأول بين الصفا والمروة، فإن حديث جابر ينفي طواف المتمتع بعد رجوعه من منى، وحديث عائشة وحديث ابن عباس يثبتانه.
وقد تقرر في الأصول وعلوم الحديث أن المثبت مقدم على النافي، فيجب تقديم حديث ابن عباس وعائشة، لأنهما مثبتان على حديث جابر النافي.
الجواب الثالث: أن عدم طواف المتمتع بعد رجوعه من منى الثابت في الصحيح رواه جابر وحده، وطوافه بعد رجوعه من منى رواه في الصحيح ابن عباس، وعائشة، وما رواه اثنان أرجح مما رواه واحد.
قال في مراقي السعود، في مبحث الترجيح باعتبار حال المروي: قال في مراقي السعود، في مبحث الترجيح باعتبار حال المروي:
* وكثرة الدليل والرواية
* مرجح لدى ذوي الدراية
*
وأما من قالوا: إن القارن والمتمتع يلزم كل واحد منهما طوافان وسعيان، طواف وسعي للعمرة، وطواف وسعي للحج كأبي حنيفة ومن وافقه، فقد استدلوا لذلك بأحاديث، ونحن نذكرها إن شاء الله هنا، ونبين وجه رد المخالفين لها من وجهين.
فمن الأدلة التي استدلوا بها على أن القارن يسعى سعيين ويطوف طوافين لحجه وعمرته، ما أخرجه النسائي في سننه الكبرى، ومسند علي عن حماد بن عبد الرحمان الأنصاري، عن إبراهيم بن محمد ابن الحنفية قال: طفت مع أبي، وقد جمع بين الحج والعمرة فطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين، وحدثني أن عليا فعل ذلك، وحدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك. انتهى بواسطة نقل صاحب نصب الراية، ثم قال بعد أن ساق الحديث كما ذكرنا.
قال صاحب التنقيح: وحماد هذا ضعفه الأزدي، وذكره ابن حبان في الثقات. قال بعض الحفاظ: هو مجهول، والحديث من أجله لا يصح. انتهى.
ومن أدلتهم على الطوافين والسعيين للمتمتع والقارن معا: ما أخرجه الدارقطني عن الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عمر: أنه جمع بين حجته وعمرته معا، وقال سبيلهما واحد، قال: فطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين. وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت. انتهى وأخرجه عن الحسن بن عمارة، عن الحكم عن ابن أبي ليلى، عن علي قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قرن وطاف طوافين، وسعى سعيين. انتهى منه بواسطة نقل صاحب نصب الراية. ثم قال بعد أن ساقهما كما ذكرنا.
قال الدارقطني: لم يروهما غير الحسن بن عمارة، وهو متروك ثم هو قد روى عن ابن عباس ضد هذا ثم أخرجه عن الحسن بن عمارة، عن سلمة بن كهيل، عن طاوس قال: سمعت ابن عباس يقول: لا والله ما طاف لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا طوافا واحدا، فهاتوا من هذا الذي يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف لهما طوافين. انتهى. وبالسند الثاني رواه العقيلي في كتاب الضعفاء فقال: حدثنا عبد الله بن محمد بن صالح السمرقندي، ثنا يحيى بن حكيم المقوم قال: قلت لأبي داود الطيالسي: إن محمد بن الحسن صاحب الرأي، حدثنا عن الحسن بن عمارة، عن الحكم عن ابن أبي ليلى، عن علي قال: فذكره. فقال: أبو داود من هذا كان شعبة يشق بطنه من الحسن بن عمارة، وأطال العقيلي في تضعيف الحسن بن عمارة، وأخرجه الدارقطني أيضا عن حفص بن أبي داود عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن عبد الرحمان بن أبي ليلى، عن علي بنحوه، قال: وحفص هذا ضعيف، وابن أبي ليلى رديء الحفظ كثير الوهم. وأخرجه أيضا عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي، حدثني أبي، عن أبيه عن جده، عن علي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا، فطاف طوافين، وسعى سعيين. انتهى. قال: وعيسى بن عبد الله، يقال له: مبارك، وهو متروك الحديث. انتهى من نصب الراية لأحاديث الهداية للزيلعي رحمه الله.
ومن أدلتهم على ذلك: ما أخرجه الدارقطني عن أبي بردة عمرو بن يزيد، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرته. وحجه، طوافين وسعى سعيين، وأبو بكر وعمر، وعلي وابن مسعود. قال الدارقطني: وأبو بردة متروك، ومن دونه في الإسناد ضعفاء.
ومن أدلتهم أيضا: ما أخرجه الدارقطني أيضا، عن محمد بن يحيى الأزدي، ثنا عبد الله بن داود، عن شعبة، عن حميد بن هلال، عن مطرف عن عمران بن الحصين: أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طوافين وسعى سعيين. انتهى. قال الدارقطني: يقال إن محمد بن يحيى الأزدي حدث بهذا من حفظه، فوهم في متنه، والصواب
بهذا الإسناد: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قرن الحج، والعمرة، وليس فيه ذكر الطواف ولا السعي، ويقال: إنه رجع عن ذكر
387

الطواف والسعي، وحدث به على الصواب. كما حدثنا به محمد بن إبراهيم بن نيروز، ثنا محمد بن يحيى الأزدي به: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن. انتهى قال: وقد خالفه غيره فلم يذكر فيه الطواف، ولا السعي، كما حدثنا به أحمد بن عبد الله بن محمد بن الوكيل، ومحمد بن مخلد قالا: ثنا القاسم بن محمد بن عباد المهلبي، ثنا عبد الله بن داود، عن شعبة بهذا الإسناد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن ا ه. انتهى كله من نصب الراية.
وقد علمت منه أن جميع هذه الأحاديث الدالة على طوافين وسعيين للقارن، ليس فيها حديث قائم كما رأيت.
وقال ابن حجر في فتح الباري: واحتج الحنفية بما روي عن علي: أنه جمع بين الحج والعمرة، فطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل، وطرقه عن علي عند عبد الرزاق، والدارقطني، وغيرهما ضعيفة، وكذا أخرج من حديث ابن مسعود بإسناد ضعيف نحوه، وأخرج من حديث ابن عمر نحو ذلك، وفيه الحسن بن عمارة، وهو متروك، والمخرج في الصحيحين، وفي السنن عنه من طرق كثيرة الاكتفاء بطواف واحد. وقال البيهقي: إن ثبتت الرواية أنه طاف طوافين، فيحمل على طواف القدوم، وطواف الإفاضة. وأما السعي مرتين فلم يثبت، وقال ابن حزم: لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه شيء في ذلك أصلا. انتهى محل الغرض منه.
وقال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد: وأما من قال: إنه حج قارنا قرانا طاف له طوافين وسعى سعيين، كما قاله كثير من فقهاء الكوفة، فعذره ما رواه. الدارقطني من حديث مجاهد، عن ابن عمر: أنه جمع بين حج وعمرة معا وقال: سبيلهما واحد، قال: وطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع، كما صنعت. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه جمع بينهما، وطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت. وعن علي رضي الله عنه أيضا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا، فطاف طوافين، وسعى سعيين، وعن علقمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجته وعمرته طوافين، وسعى سعيين، وأبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود. وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طوافين، وسعى سعيين، وما أحسن هذا العذر لو كانت هذه الأحاديث صحيحة، بل لا يصح منها حرف واحد. أما حديث ابن عمر ففيه الحسن بن عمارة، وقال الدارقطني: لم يروه عن الحكم، غير الحسن بن عمارة، وهو متروك الحديث. وأما حديث علي الأول ففيه حفص بن أبي داود، وقال أحمد ومسلم: حفص متروك الحديث. وقال ابن خراش: هو كذاب يضع الحديث، وفيه محمد بن عبد الرحمان بن أبي ليلى ضعيف. وأما حديثه الثاني: فيرويه عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده قال الدارقطني: عيسى بن عبد الله يقال له مبارك، وهو متروك الحديث. وأما حديث علقمة، عن عبد الله فيرويه أبو بردة عمرو بن يزيد عن حماد عن إبراهيم، عن علقمة. قال الدارقطني وأبو بردة ضعيف، ومن دونه في الإسناد ضعفاء. انتهى. وفيه عبد العزيز بن أبان. قال يحيى: هو كذاب خبيث، وقال الرازي والنسائي: متروك الحديث. وأما حديث عمران بن حصين: فهو مما غلط فيه محمد بن يحيى الأزدي وحدث به من حفظه فوهم فيه، وقد حدث به على الصواب مرارا، ويقال: إنه رجع عن ذكر الطواف والسعي. انتهى محل الغرض من كلام ابن القيم.
فإذا عرفت أن أحاديث السعيين والطوافين ليس فيها شيء قائم كما رأيت، فاعلم أن الذين قالوا: بأن القارن يطوف طوافا، ويسعى سعيا كفعل المفرد، أجابوا عن الأحاديث المذكورة من وجهين.
الأول: هو ما بيناه الآن بواسطة نقل الزيلعي وابن حجر وابن القيم عن الدارقطني، وغيره من أوجه ضعفها.
والثاني: أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن بعضها يصلح للاحتجاج وضعافها يقوي بعضها بعضا، فلا يقل مجموع طرقها عن درجة القبول فهي معارضة بما هو أقوى منها، وأصح، وأرجح، وأولى بالقبول من الأحاديث الثابتة في الصحيح، الدالة على أن النبي لم يفعل في قرانه. إلا كما يفعل المفرد كحديث عائشة المتفق عليه، وحديث ابن عباس عند البخاري وكالحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة (يكفيك طوافك بالبيت وبالصفا والمروة لحجك وعمرتك) كما قدمناه واضحا، وقد اتضح من جميع ما كتبناه في هذه المسألة: أن التحقيق فيها أن القارن يفعل كفعل المفرد لاندراج أعمال العمرة في أعمال الحج، وأن المتمتع يطوف، ويسعى لعمرته، ثم يطوف ويسعى لحجته، ومما يوضح من جهة المعنى: أنه يطوف ويسعى لحجه بعد رجوعه من منى أنه يهل بالحج بالإجماع، والحج يدخل في معناه دخولا مجزوما به الطواف والسعي، فلو كان يكفيه طواف العمرة التي حل منها، وسعيها، لكان إهلاكه بالحج إهلالا بحج، لا طواف فيه ولا سعي، وهذا ليس بحج في العرف ولا في الشرع، والعلم عند الله تعالى.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: اعلم أن صفة الطواف بالبيت هي أن يبتدئ طوافه من الركن الذي فيه الحجر الأسود، فيستقبله، ويستلمه، ويقبله إن لم يؤذ الناس بالمزاحمة، فيحاذي بجميع بدنه جميع الحجر فيمر جميع بدنه على جميع الحجر وذلك بحيث يصير جميع الحجر عن يمينه ويصير منكبه الأيمن عند طرف الحجر، ويتحقق أنه لم يبق وراءه جزء من الحجر ثم يبتدئ طوافه مارا بجميع بدنه على جميع الحجر، جاعلا يساره إلى جهة البيت، ثم يمشي طائفا بالبيت، ثم يمر وراء الحجر بكسر الحاء ويدور بالبيت. فيمر على الركن اليماني، ثم ينتهي إلى ركن الحجر الأسود، وهو المحل الذي بدأ منه طوافه، فتتم له بهذا طوافة واحدة، ثم
388

يفعل كذلك، حتى يتمم سبعا.
وأصح أقوال أهل العلم فيما يظهر لنا والله أعلم: أنه لا بد من أن يكون خارجا جميع بدنه، حال طوفه عن شاذروان الكعبة، لأنه منها، وكذلك لا بد أن يكون خارجا جميع بدنه حال طوافه عن جدار الحجر، لأن أصله من البيت، ولكن لم تبنه قريش على قواعد إبراهيم، ولأجل ذلك لم يشرع استلام الركنين الشاميين، لأن أصلهما من وسط البيت، لأن قريشا لم تبن ما كان عن شمالهما من البيت، وهو الحجر الذي عليه الجدار وأصله من البيت كما بينا، ومما يدل على ذلك ما رواه الشيخان في صحيحيهما، عن عائشة رضي الله عنها. قال البخاري في صحيحه: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر أخبر عبد الله بن عمر، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: (ألم تري قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟ فقلت: يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ قال: لولا حدثان قومك بالكفر، لفعلت) قال عبد الله رضي الله عنه: لئن كانت عائشة رضي الله عنها سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم. وفي رواية عنها في صحيح البخاري قالت: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الجدر، أمن البيت هو؟ قال: نعم، قلت: فما لهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: ألم ترى قومك قصرت بهم النفقة، قلت: فما شأن بابه مرتفعا؟ قال: فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا ولولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية، فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض) ا ه. والمراد بالجدر بفتح الجيم، وسكون الدال المهملة هنا: الحجر. وفي رواية عنها رضي الله عنها في صحيح البخاري أيضا قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (لولا حداثة قومك بالكفر، لنقضت البيت، ثم لبنيته على أساس إبراهيم عليه السلام، فإن قريشا استقصرت بناءه، وجعلت له خلفا) قال أبو معاوية: حدثنا هشام خلفا يعني: بابا. وفي رواية عنها فيه أيضا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (يا عائشة لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية، لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين، بابا شرقيا، وبابا غربيا فبلغت به أساس إبراهيم) فذلك الذي حمل ابن الزبير رضي الله عنهما على هدمه قال يزيد: وشهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه، وأدخل فيه من الحجر، وقد رأيت أساس إبراهيم حجارة كأسنمة الإبل قال جرير: فقلت له أين
389

موضعه؟ قال: أريكه الآن، فدخلت معه الحجر، فأشار إلى مكان، فقال: ها هنا، قال جرير: فحزرت من الحجر ستة أذرع أو نحوها. انتهى من صحيح البخاري وزيد المذكور هو ابن رومان وجرير هو ابن حازم، وهما مذكوران في سند الحديث المذكور. وقال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة. عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (لولا حداثة عهد قومك بالكفر، لنقضت الكعبة، ولجعلتها على أساس إبراهيم، فإن قريشا حين بنت البيت استقصرت ولجعلت لها خلفا). ا ه وقال النووي خلفا: أي بابا من خلفها، وفي رواية عنها فيه أيضا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ألم ترى أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟) قالت: فقلت: يا رسول الله أفلا تردها على قواعد إبراهيم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت) فقال عبد الله بن عمر: لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر، إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم. وفي رواية عنها فيه أيضا قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية أو قال: بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها من الحجر). وفي رواية عنها فيه قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض، وجعلت لها بابين، بابا شرقيا، وبابا غربيا وستة فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشا اقتصرتها حين بنت الكعبة) انتهى من صحيح مسلم. وحديثها هذا المتفق عليه الذي ذكرنا بعض رواياته في الصحيحين، نص صريح فيما ذكرنا وبه تعلم أن قول من زعم من أهل العلم أن من سلك نفس الحجر في طوافه، ثم رجع إلى بلده، لزمه دم مع صحة طوافه غير صحيح لما رأيت من أن الحجر من البيت، وأن الطواف فيه ليس طوافا بالبيت. والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثاني: يسن الرمل في الأشواط الثلاثة الأول من أول طواف يطوفه القادم، إلى مكة، سواء كان طواف عمرة، أو طواف قدوم في حج، وأما الأشواط الأربعة الأخيرة فإنه يمشي فيها، ولا يرمل، وذلك ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد هو ابن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه فقال المشركون: إنه يقدم عليكم وقد وهنتهم حمى يثرب،
390

فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بينالركنين، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها، إلا الإبقاء عليهم. ثم قال البخاري رحمه الله: حدثنا أصبغ بن الفرج، أخبرني ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقدم مكة إذا استلم الركن الأسود، أول ما يطوف يخب ثلاثة أطواف من السبع. ثم قال البخاري رحمه الله: حدثني محمد، حدثنا سريج بن النعمان، حدثنا فليح، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سعى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشواط، ومشى أربعة في الحج والعمرة، تابعه الليث. قال: حدثني كثير بن فرقد عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم. حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا محمد بن جعفر، قال: أخبرني زيد بن أسلم: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للركن: أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم استلمك ما استلمتك، فاستلمه ثم قال: فما لنا وللرمل إنما كنا رأينا المشركين، وقد أهلكهم الله ثم قال شيء صنعه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا نحب أن نتركه. انتهى منه، وفي حديث جابر الطويل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، عند مسلم: حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن، فرمل ثلاثا، ومشى أربعا الحديث. وفي صحيح البخاري من حديث ابن
عمر رضي الله عنهما بلفظ: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول، يخب ثلاثة أطواف، ويمشي أربعة، وأنه كان يسعى بطن المسيل، إذا طاف بين الصفا والمروة) وفي لفظ عند البخاري، ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طاف الطواف الأول، خب ثلاثا ومشى أربعا، وكان يسعى بطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة) زاد مسلم: وكان ابن عمر يفعل ذلك.
وبهذه النصوص الصحيحة يتبين أن الرمل في الأشواط الثلاثة في طواف العمرة وطواف القدوم مما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ذلك عامة أهل العلم إلا من شذ، وإن ترك الرمل في الأشواط الأول لم يقضه في الأشواط الأخيرة على الصواب. ولا يلزم بتركه دم على الأظهر، لعدم الدليل، خلافا لمن أوجب فيه الدم.
تنبيهان
الأول: إن قيل ما الحكمة في الرمل بعد زوال علته التي شرع من أجلها، والغالب اطراد العلة وانعكاسها، بحيث يدور معها المعلل بها، وجودا وعدما؟
391

فالجواب: أن بقاء حكم الرمل مع زوال علته، لا ينافي أن لبقائه علة أخرى، وهي أن يتذكر به المسلمون نعمة الله عليهم حيث كثرهم وقواهم بعد القلة والضعف، كما قال تعالى * (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون فى الا رض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره) * وقال تعالى عن نبيه شعيب * (واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم) *.
وصيغة الأمر في قوله: اذكروا في الآيتين المذكورتين تدل على تحتم ذكر النعمة بذلك، وإذا فلا مانع من كون الحكمة في بقاء حكم الرمل، هي تذكر نعمة الله بالقوة بعد الضعف. والكثرة بعد القلة، وقد أشار إلى هذا ابن حجر في الفتح، ومما يؤيده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل في حجة الوداع بعد زوال العلة المذكورة، فلم يمكن بعد ذلك تركه لزوالها، والعلم عند الله تعالى.
التنبيه الثاني: اعلم أن الروايات الثابتة في الصحيح في الرمل ظاهرها الاختلاف، لأن في بعضها أن الرمل ليس في الشوط كله بل ما بين الركنين اليمانيين لا رمل فيه، وقد قدمنا في حديث ابن عباس عند البخاري ما لفظه: فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها، إلا الإبقاء عليهم. ولفظه عند مسلم، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حمى يثرب. قال المشركون: إنه يقدم عليكم غدا قوم قد وهنتهم الحمى ولقوا منها شدة، فجلسوا مما يلي الحجر، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا ما بين الركنين ليرى المشركون جلدهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا. قال ابن عباس: ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم. فحديث ابن عباس هذا الذي أخرجه الشيخان: فيه التصريح بأنهم لم يرملوا فيما بين الركنين، وقد بين ابن عباس علة ذلك وهي قوله: فجلسوا مما يلي الحجر، يعني: أن المشركين جلسوا في جهة البيت الشمالية مما يلي الحجر بكسر الحاء، وإذا فالذي بين الركنين اليمانيين لا يرونه لأن الكعبة تحول بينهم وبينه، وإذا كانوا لا يرونهم مشوا فإذا ظهروا لهم عند ركن الحجر رملوا، مع أن في بعض الروايات الثابتة في الصحيح: أنه صلى الله عليه وسلم رمل الأشواط الثلاثة كلها، من الحجر إلى الحجر.
ففي صحيح مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ما لفظه: قال: (رمل
392

رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجر إلى الحجر ثلاثا، ومشى أربعا) وفي لفظ في صحيح مسلم أيضا عن نافع: أن ابن عمر رمل من الحجر إلى الحجر، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله. وفي لفظ عند مسلم أيضا من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر الأسود، حتى انتهى إليه ثلاثة أطواف، وفيه عن جابر أيضا بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أطواف من الحجر إلى الحجر.
والجواب عن هذا الذي ذكرنا من اختلاف الروايات: أن حديث ابن عباس الذي فيه أنهم مشوا ما بين الركنين كان في عمرة القضاء في ذي القعدة عام سبع، وما في الروايات الأخرى من الرمل في كل شوط من الحجر إلى الحجر في حجة الوداع، كما أجاب بهذا غير واحد.
وقال النووي في شرح مسلم: إن رمله صلى الله عليه وسلم في كل الشوط من الحجر إلى الحجر في حجة الوداع، ناسخ للمشي بين الركنين الثابت في حديث ابن عباس لأنه متأخر عنه، والمتأخر ينسخ المتقدم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: لا يتعين النسخ الذي ذكره النووي، لما تقرر في الأصول عن جماعة من العلماء، أن الأفعال لا تعارض بينها، فلا يلزم نسخ الآخر منها للأول، بناء على أن الفعل لا عموم له، فلا يقع في الخارج إلا شخصيا لا كليا، حتى ينافي فعلا آخر، فجائز أن يقع الفعل واجبا في وقت، وفي وقت آخر بخلافه. قال ابن الحاجب في مختصره الأصولي: مسألة الفعلان لا يتعارضان كصوم وأكل، لجواز تحريم الأكل في وقت، وإباحته في آخر. الخ، ومحل عدم تعارض الفعلين المذكور ما لم يقترن بالفعلين، قول يدل على ثبوت الحكم، وإلا كان آخر الفعلين ناسخا للأول عند قوم، وعند آخرين لا يكون ناسخا، كما لو لم يقترن بهما قول، وعن مالك والشافعي يصار إلى الترجيح بين الفعلين، إن اقترن بهما القول وإن لم يترجح أحدهما، فالتخيير بينهما مثال الفعلين اللذين لم يقترن بهما قول يدل على ثبوت الحكم مشيه صلى الله عليه وسلم بين الركنين اليمانيين ورمله في غير ذلك من الأشواط الثلاثة الأول في عمرة القضاء، مع رمله في الجميع في حجة الوداع، ومثال الفعلين اللذين اقترن بهما قول يدل على ثبوت الحكم صلاته صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف على صفات متعددة، مختلفة كما أوضحناه في سورة النساء، مع أن تلك الأفعال المختلفة اقترنت بقول يدل على ثبوت الحكم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي) فالجاري على الأصول حسبما ذكرنا عن جماعة منهم: ابن
393

الحاجب، والعضد، والرهوني، وغيرهم أن طواف الأشواط كلها ليس ناسخا للمشي بين الركنين، وأن صيغة صلاة الخوف فيها الأقوال المارة قيل كل صورة بعد أخرى، فهي ناسخة لها، وقيل كلها صحيحة لم ينسخ منها شيء وقيل: بالترجيح بين صورها، وإن لم يترجح واحد، فالتخيير. وإلى هذه المسألة أشار صاحب مراقي السعود بقوله: وإلى هذه المسألة أشار صاحب مراقي السعود بقوله:
* ولم يكن تعارض الأفعال
* في كل حالة من الأحوال
*
* وإن يك القول بحكم لامعا
* فآخر الفعلين كان رافعا
*
* والكل عند بعضهم صحيح
* ومالك عنه روى الترجيح
*
* وحيثما قد عدم المصير
* إليه فالأولى هو التخيير
*
وقال صاحب الضياء اللامع شرح جمع الجوامع: تنبيه: لم يتعرض المصنف للتعارض بين الفعلين، وصرح الرهوني وغيره، بأنه لا تعارض بينهما في الحقيقة سواء تماثل الفعلان، أو اختلفا، وسواء أمكن الجمع بينهما، أو لم يمكن لأن الفعل لا عموم له من حيث هو إذ لا يقع في الأعيان، إلا مشخصا فلا يكون كليا حتى ينافي فعلا آخر، فجاز أن يكون واجبا في وقت مباحا في آخر، وهذا ما لم يقترن بالفعل قول: يدل على ثبوت الحكم كقوله عليه الصلاة والسلام (صلوا كما رأيتموني أصلي) ورأوه صلى صلاة الخوف على صفات متعددة فقال الأبياري: هذا كاختلاف القولين على الصحيح، والمتأخر ناسخ، وقيل: يصح إيقاعها على كل وجه من تلك الوجوه، وبه قال القاضي: وللشافعي ميل إليه وقيل يطلب الترجيح، كما قال مالك والشافعي. انتهى محل الغرض منه.
والرمل: مصدر رمل بفتح الميم يرمل بضمها رملا بفتح الميم ورملانا: إذا أسرع في مشيته وهز منكبيه وهو في ذلك لا ينزو أي لا يثب وأنشد المبرد: والرمل: مصدر رمل بفتح الميم يرمل بضمها رملا بفتح الميم ورملانا: إذا أسرع في مشيته وهز منكبيه وهو في ذلك لا ينزو أي لا يثب وأنشد المبرد:
* ناقته ترمل في النقال
* متلف مال ومفيد مال
*
ومراده بالنقال: المناقلة، وهو أن تضع رجليها مواضع يديها، وهو دليل على أن الرمل فيه إسراع، وهو الخبب، ولذا جاء في بعض روايات الحديث: رمل وفي بعضها خب، والمعنى واحد.
الفرع الثالث: التحقيق أن الاضبطاع يسن في الطواف، لثبوت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم.
قال أبو داود في سننه: حدثنا محمد بن كثير: أخبرنا سفيان، عن ابن جريج، عن ابن
394

يعلى عن يعلى، قال (طاف النبي صلى الله عليه وسلم مضطبعا ببرد أخضر) حدثنا أبو سلمة موسى، ثنا حماد عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة، فرملوا بالبيت، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، قد قذفوها على عواتقهم اليسرى) انتهى منه.
وقال الترمذي في جامعه: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عبد الحميد، عن ابن يعلى، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم (طاف بالبيت مضطبعا، وعليه برد) قال أبو عيسى: هذا حديث الثوري عن ابن جريج لا نعرفه، إلا من حديثه، وهو حديث حسن صحيح وعبد الحميد هو ابن جبير بن شيبة، عن ابن يعلى، عن أبيه، وهو يعلى بن أمية. ا ه.
وقال ابن ماجة في سننه: حدثنا محمد بن يحيى، ثنا محمد بن يوسف وقبيصة قالا: ثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عبد الحميد، عن ابن يعلى بن أمية، عن أبيه يعلى (أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف مضطبعا) قال قبيصة: وعليه برد. انتهى منه. وقال النووي في شرح المهذب في حديث ابن عباس الذي ذكرناه آنفا في الاضطباع عند أبي داود، وحديث ابن عباس هذا صحيح، رواه أبو داود بإسناد صحيح، ولفظه: عن ابن عباس ثم ساقه كما سقناه آنفا، ثم قال: ورواه البيهقي بإسناد صحيح قال عن ابن عباس: قال (اضطبع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه ورملوا ثلاثة أشواط ومشوا أربعا) وعن يعلى بن أمية رضي الله عنه، (أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت مضطبعا ببرد) رواه أبو داود والترمذي، وابن ماجة بأسانيد صحيحة. وقال الترمذي: هو حديث حسن صحيح. وفي رواية البيهقي: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت مضطبعا) إسناده صحيح، وعن أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول فيم الرملان الآن والكشف عن المناكب، وقد أطأ الله الإسلام، ونفى الكفر وأهله، ومع ذلك لا نترك شيئا كنا نصنعه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه البيهقي بإسناد صحيح. انتهى كلام النووي.
وبذلك تعلم سنية الاضطباع في الطواف، خلافا لمالك ومن قال بقوله: إن الاضطباع ليس بسنة.
وصفة الاضطباع: أن يجعل وسط الرداء تحت كتفه اليمنى، ويرد طرفيه على كتفه اليسرى، وتبقى كتفه اليمنى مكشوفة وهو افتعال من الضبع بفتح الضاد، وسكون الباء بمعنى: العضد سمي بذلك لإبداء أحد الضبعين، والعرب تسمي العضد: ضبعا ومنه قول
395

طرفة في معلقته: وصفة الاضطباع: أن يجعل وسط الرداء تحت كتفه اليمنى، ويرد طرفيه على كتفه اليسرى، وتبقى كتفه اليمنى مكشوفة وهو افتعال من الضبع بفتح الضاد، وسكون الباء بمعنى: العضد سمي بذلك لإبداء أحد الضبعين، والعرب تسمي العضد: ضبعا ومنه قول طرفة في معلقته:
* وإن شئت سامي واسط الكور رأسها
* وعامت بضبعيها نجاء الخفيدد
*
تقول العرب: ضبعه إذا مد إليه ضبعه، ليضربه. ومنه قول عمرو بن شاس: تقول العرب: ضبعه إذا مد إليه ضبعه، ليضربه. ومنه قول عمرو بن شاس:
* نذود الملوك عنكم وتذودنا
* ولا صلح حتى تضبعونا ونضبعا
*
أي تمدون أضباعكم إلينا بالسيوف، ونمد أضباعنا إليكم، وقيل: تضبعون أي تمدون أضباعكم للصلح والمصافحة. والطاء في الإضباع مبدلة من تاء الافتعال، لأن الضاد من حروف الإطباق على القاعدة المشار لها بقوله في الخلاصة: أي تمدون أضباعكم إلينا بالسيوف، ونمد أضباعنا إليكم، وقيل: تضبعون أي تمدون أضباعكم للصلح والمصافحة. والطاء في الإضباع مبدلة من تاء الافتعال، لأن الضاد من حروف الإطباق على القاعدة المشار لها بقوله في الخلاصة:
* طاتا افتعال رد إثر مطبق
* في أدان وازدد وادكر دالا بقي
*
الفرع الرابع: في كلام العلماء في الطواف هل يشترط له ما يشترط للصلاة من طهارة الحدث والخبث وستر العورة أولا يشترط في الطواف أو لا يشترط ذلك؟
اعلم أن اشتراط الطهارة من الحدث والخبث وستر العورة في الطواف هو قول أكثر أهل العلم، منهم مالك، وأصحابه، والشافعي، وأصحابه، وهو مشهور مذهب الإمام أحمد.
قال النووي في شرح المهذب: وحكاه الماوردي عن جمهور العلماء، وحكاه ابن المنذر في طهارة الحدث، عن عامة العلماء.
وخالف الإمام أبو حنيفة رحمه الله الجمهور في هذه المسألة، فقال: لا تشترط للطواف طهارة، ولا ستر عورة، فلو طاف جنبا، أو محدثا، أو عليه نجاسة، أو عريانا صح طوافه عنده.
واختلف أصحابه في وجوب الطهارة للطواف، مع اتفاقهم على أنها ليست بشرط فيه. ومن أشهر الأقوال عندهم أنه إذا طاف طواف الإفاضة جنبا، فعليه بدنة، وإن طافه محدثا: فعليه شاة، وأنه يعيد الطواف بطهارة ما دام بمكة، فإن رجع إلى بلده، فالدم على التفصيل المذكور، واحتج الجمهور لاشتراط الطهارة للطواف، بأدلة.
منها: حديث عائشة المتفق عليه الذي ذكرناه سابقا بسنده، ومتنه عند البخاري ومسلم: أن أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم (أنه توضأ، ثم طاف بالبيت) الحديث قالوا: فهذا الحديث الصحيح صرحت فيه عائشة رضي الله عنها، بأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالوضوء قبل الطواف لطوافه، فدل على أنه لا بد للطواف من الطهارة.
396

فإن قيل: وضوءه صلى الله عليه وسلم المذكور في هذا الحديث فعل مطلق، وهو لا يدل على الوجوب: فضلا عن كونه شرطا في الطواف.
فالجواب: أن وضوءه لطوافه المذكور في هذا الحديث، قد دل دليلان على أنه لازم، لا بد منه.
أحدهما: أنه صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع (خذوا عني مناسككم) وهذا الأمر للوجوب والتحتم، فلما توضأ للطواف لزمنا أن نأخذ عنه الوضوء للطواف امتثالا لأمره في قوله (خذوا عني مناسككم).
والدليل الثاني: أن فعله في الطواف من الوضوء له، ومن هيئته التي أتى به عليها كلها بيان وتفصيل لما أجمل في قوله تعالى * (وليطوفوا بالبيت العتيق) * وقد تقرر في الأصول أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان لبيان نص من كتاب الله، فهو على اللزوم والتحتم. ولذا أجمع العلماء على قطع يد السارق من الكوع، لأن قطع
النبي صلى الله عليه وسلم للسارق من الكوع بيان وتفصيل لما أجمل في قوله تعالى * (فاقطعوا أيديهما) * لأن اليد تطلق على العضو إلى المرفق، وإلى المنكب.
قال صاحب الضياء اللامع في شرح قول صاحب جمع الجوامع: ووقوعه بيانا ما نصه: الثاني: أن يكون فعله صلى الله عليه وسلم لبيان مجمل، إما بقرينة حال مثل القطع من الكوع، فإنه بيان لقوله تعالى * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * وإما بقول كقوله (صلوا كما رأيتموني أصلي) فإن الصلاة فرضت على الجملة، ولم تبين صفاتها فبينها بفعله وأخبر بقوله: أن ذلك الفعل بيان، وكذا قوله (خذوا عني مناسككم) وحكم هذا القسم وجوب الاتباع انتهى. محل الغرض منه.
وأشار في مراقي السعود: إلى أن فعله صلى الله عليه وسلم الواقع لبيان مجمل من كتاب الله إن كان المبين بصيغة اسم المفعول واجبا فالفعل المبين له بصيغة اسم الفاعل واجب بقوله: الواقع لبيان مجمل من كتاب الله إن كان المبين بصيغة اسم المفعول واجبا فالفعل المبين له بصيغة اسم الفاعل واجب بقوله:
* من غير تخصيص وبالنص يرى
* وبالبيان وامتثال ظهرا
*
ومحل الشاهد منه قوله: وبالبيان يعني: أنه يعرف حكم فعل النبي صلى الله عليه وسلم من الوجوب أو غيره بالبيان، فإذا بين أمرا واجبا: كالصلاة والحج، وقطع السارق بالفعل، فهذا الفعل واجب إجماعا لوقوعه بيانا لواجب، إلا ما أخرجه دليل خاص، وبهذا تعلم أن الله تعالى أوجب طواف الركن بقوله * (وليطوفوا بالبيت العتيق) * وقد بينه صلى الله عليه وسلم بفعله
397

وقال (خذوا عني مناسككم) ومن فعله الذي بينه به: الوضوء له كما ثبت في الصحيحين، فعلينا أن نأخذه عنه إلا بدليل، ولم يرد دليل يخالف ما ذكرنا.
ومن أدلتهم على اشتراط الطهارة من الحدث للطواف: ما أخرجاه في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، قال البخاري رحمه الله في كتاب الحيض: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الرحمان بن القاسم، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، لا نذكر إلا الحج، فلما جئنا سرف طمثت الحديث. وفيه (فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري) انتهى منه.
وأخرج مسلم في صحيحه حديث عائشة هذا بإسنادين عن عبد الرحمان بن القاسم، عن أبيه عنها بلفظ (افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري) وفي لفظ مسلم عنها (فاقضي ما يقضي الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي) قالوا: فهذا الحديث المتفق عليه صرح فيه النبي صلى الله عليه وسلم بنهي عائشة رضي الله عنها عن الطواف إلى غاية هي الطهارة لقوله (حتى تطهري) عند الشيخين و (حتى تغتسلي) عند مسلم ومنع الطواف في حالة الحدث، الذي هو الحيض إلى غاية الطهارة من جنابته: يدل مسلك الإيماء، والتنبيه على أن علة منعها من الطواف، هو الحدث الذي هو الحيض، فيفهم منه اشتراط الطهارة من الجنابة، للطواف كما ترى.
فإن قيل: يجوز أن تكون علة النهي عن طوافها، وهي حائض، أن الحائض لا تدخل المسجد.
فالجواب: أن نص الحديث يأبى هذا التعليل، لأنه صلى الله عليه وسلم قال (حتى تطهري حتى تغتسلي) ولو كان المراد ما ذكر لقال: حتى ينقطع عنك الدم.
قال النووي في شرح المهذب: فإن قيل: إنما نهاها، لأن الحائض لا تدخل المسجد.
قلنا: هذا فاسد لأنه صلى الله عليه وسلم قال (حتى تغتسلي) ولم يقل حتى ينقطع دمك، وهو ظاهر.
ومن أدلة الجمهور على اشتراط الطهارة في الطواف: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (الطواف بالبيت صلاة) الحديث. قال الزيلعي في نصب الراية: رواه ابن حبان في
398

صحيحه في النوع السادس والستين من القسم الثالث من حديث فضيل بن عياض، والحاكم في المستدرك من حديث سفيان كلاهما عن عطاء بن السائب، عن طاوس، عن ابن عباس. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله قد أحل فيه الكلام فمن يتكلم فلا يتكلم إلا بخير) انتهى. وسكت الحاكم عنه وأخرجه الترمذي في كتابه عن جرير، عن عطاء بن السائب به بلفظ (الطواف حول البيت مثل الصلاة) قال: وقد روي هذا الحديث عن ابن طاوس وغيره، عن طاوس موقوفا ولا نعرفه مرفوعا إلا من حديث عطاء به السائب. وعن الحاكم رواه البيهقي في المعرفة بسنده ثم قال: وهذا حديث قد رفعه عطاء بن السائب في رواية جماعة عنه وروي عنه موقوفا، وهو أصح انتهى. وقال الشيخ تقي الدين في الإمام: هذا الحديث روي مرفوعا، أما المرفوع فله ثلاثة أوجه:
أحدهما: رواية عطاء بن السائب رواها عنه جرير، وفضيل بن عياض، وموسى بن أعين، وسفيان أخرجها كلها البيهقي.
الوجه الثاني: رواية ليث بن أبي سليم رواها عنه موسى بن أعين، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس مرفوعا باللفظ المذكور، أخرجها البيهقي في سننه، والطبراني في معجمه.
الوجه الثالث: رواية الباغندي، عن أبيه، عن ابن عيينة، عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاوس، عن ابن عباس مرفوعا نحوه رواه البيهقي أيضا. فأما طريق عطاء فإن عطاء من الثقات، لكنه اختلط بأخرة قال ابن معين: من سمع منه قديما فهو صحيح ومن سمع منه حديثا، فليس بشيء، وجميع من روى عنه روى عنه في الاختلاط إلا شعبة. وسفيان، وما سمع منه جرير وغيره، فليس من صحيح حديثه. وأما طريق ليث، فليث رجل صالح صدوق يستضعف. قال ابن معين: ليث بن أبي سليم ضعيف مثل عطاء بن السائب، وقد أخرج له مسلم في المتابعات، وقد يقال: لعل اجتماعه مع عطاء يقوي رفع الحديث، وأما طريق الباغندي، فإن البيهقي لما ذكرها
قال ولم يضع الباغندي شيئا في رفعه لهذه الرواية. فقد رواه ابن جريج، وأبو عوانة عن إبراهيم بن ميسرة موقوفا انتهى من نصب الراية للزيعلي. ثم قال أيضا: حديث آخر رواه الطبراني في معجمه الأوسط: حدثنا محمد بن أبان، ثنا أحمد بن ثابت الجحدري، ثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود، ثنا سفيان، عن حنظلة، عن طاوس: عن ابن عمر لا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الطواف صلاة فأقلوا فيه الكلام) انتهى منه.
399

واعلم: أن علماء الحديث قالوا: إن وقف هذا الحديث على ابن عباس أصح من رفعه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: وقد علمت مما مر قريبا أن حديث ابن عباس المذكور رفعه عطاء بن السائب، وليث بن أبي سليم، والظاهر أن اجتماعهما معا لا يقل عن درجة الحسن، ومما يؤيد ذلك أن ممن روى رفعه عن عطاء سفيان الثوري، وقد ذكروا أن رواية سفيان عنه صحيحة، لأنه روى عنه قبل اختلاطه، وعلى ذلك فهو دليل على اشتراط الطهارة، وستر العورة، لأن قوله (الطواف صلاة) يدل على أنه يشترط فيه ما يشترط في الصلاة، إلا ما أخرجه دليل خاص كالمشي فيه، والانحراف عن القبلة، والكلام، ونحو ذلك.
فإن قيل: المحققون من علماء الحديث، يرون أن الصحيح أن حديث الطواف صلاة موقوف لا مرفوع، لأن من وقفوه أضبط، وأوثق ممن رفعه؟
فالجواب: أنا لو سلمنا أنه موقوف، فهو قول صحابي اشتهر ولم يعلم له مخالف من الصحابة، فيكون حجة، لا سيما وقد اعتضد بما ذكرنا قبله من الأحاديث الصحيحة، وبينا وجه دلالتها على اشتراط الطهارة للطواف.
وقال النووي في شرح المهذب في الكلام على حديث (الطواف صلاة) ما نصه: وقد سبق أن الصحيح أنه موقوف على ابن عباس، وتحصل منه الدلالة أيضا، لأنه قول صحابي اشتهر، ولم يخالفه أحد من الصحابة، فكان حجة كما سبق بيانه في مقدمة هذا الشرح، وقول الصحابي حجة أيضا، عند أبي حنيفة انتهى منه.
فهذا الذي ذكرنا هو حاصل أدلة من قال: باشتراط الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر للطواف، وأما اشتراط ستر العورة للطواف فقد استدلوا له بحديث متفق عليه دال على ذلك.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث قال يونس: قال ابن شهاب: حدثني حميد بن عبد الرحمان: أن أبا هريرة أخبره أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع يوم النحر في رهط يؤذن في الناس: ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. وقال مسلم رحمه الله في صحيحه: حدثنا هارون بن سعيد الأيلي، حدثنا ابن وهب،
400

أخبرني عمرو عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمان عن أبي هريرة ح حدثني حرملة بن يحيى التجيبي، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس: أن ابن شهاب أخبره عن حميد بن عبد الرحمان بن عوف، عن أبي هريرة قال: بعثني أبو بكر الصديق رضي الله عنه في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع في رهط، يؤذنون في الناس يوم النحر: (لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان) قال ابن شهاب: فكان حميد بن عبد الرحمان يقول: يوم النحر يوم الحج الأكبر، من أجل حديث أبي هريرة، فهذا الحديث المتفق عليه بلفظ (ولا يطوف بالبيت عريان) يدل فيه مسلك الإيماء والتنبيه على أن علة المنع من الطواف، كونه عريانا، وهو دليل على اشتراط ستر العورة للطواف كما ترى.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: وجوب ستر العورة للطواف، يدل عليه كتاب الله في قوله تعالى في سورة الأعراف * (يابنىءادم خذوا زينتكم عند كل مسجد) *. وإيضاح دلالة هذه الآية الكريمة على ستر العورة للطواف، يتوقف أولا على مقدمتين.
الأولى منهما: أن تعلم أن المقرر في علوم الحديث، أن تفسير الصحابي إذا كان له تعلق بسبب النزول، أن له حكم الرفع كما أوضحناه في سورة البقرة.
قال العلوي الشنقيطي في طلعة الأنوار: قال العلوي الشنقيطي في طلعة الأنوار:
* تفسير صاحب له تعلق
* بالسبب الرفع له محقق
*
وقال العراقي في ألفيته: وقال العراقي في ألفيته:
* وعد ما فسره الصحابي
* رفعا فمحمول على الأسباب
*
المقدمة الثانية: هي أن تعلم أن صورة سبب النزول قطعية الدخول عند جماهير الأصوليين، وهو الصواب إن شاء الله تعالى.
فإذا علمت ذلك: فاعلم أن سبب نزول قوله تعالى * (خذوا زينتكم عند كل مسجد) * أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، فكانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة، فتقول: من يعيرني ثوبا تجعله على فرجها، وتقول: فكانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة، فتقول: من يعيرني ثوبا تجعله على فرجها، وتقول:
* اليوم يبدو بعضه أو كله
* وما بدا منه فلا أحله
*
فنزلت هذه الآية في هذا السبب * (يابنىءادم خذوا زينتكم عند كل مسجد) *.
401

ومن زينتهم التي أمروا بأخذها عند كل مسجد: لبسهم الثياب عند المسجد الحرام للطواف، لأنه هو صورة سبب النزول. فدخولها في حكم الآية قطعي عند الجمهور، كما ذكرناه الآن وأوضحناه سابقا في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك. فالأمر في: خذوا شامل لستر العورة للطواف، وهو أمر حتم أوجبه الله مخاطبا به بني آدم، وهو السبب الذي نزل فيه الأمر.
واعلم أيضا: أنه ثبت عن ابن عباس ما يدل على أنه فسر * (خذوا زينتكم) * بلبس الثياب للطواف استنادا لسبب النزول. قال مسلم رحمه الله في صحيحه: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر ح وحدثني أبو بكر بن نافع واللفظ له، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن مسلمة بن كهيل، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت، وهي عريانة فتقول: من يعيرني تطوافا تجعله على فرجها وتقول: خذوا زينتكم) * بلبس الثياب للطواف استنادا لسبب النزول. قال مسلم رحمه الله في صحيحه: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر ح وحدثني أبو بكر بن نافع واللفظ له، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن مسلمة بن كهيل، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت، وهي عريانة فتقول: من يعيرني تطوافا تجعله على فرجها وتقول:
* اليوم يبدو بعضه أو كله
* فما بدا منه فلا أحله
*
فنزلت هذه الآية * (خذوا زينتكم عند كل مسجد) * انتهى منه. ولأجل هذا كان ابن عباس يفسر الزينة المذكورة في هذه الآية: باللباس، ولتعلق هذا التفسير بسبب النزول، فله حكم الرفع كما بينا والبيت المذكور بعده. خذوا زينتكم عند كل مسجد) * انتهى منه. ولأجل هذا كان ابن عباس يفسر الزينة المذكورة في هذه الآية: باللباس، ولتعلق هذا التفسير بسبب النزول، فله حكم الرفع كما بينا والبيت المذكور بعده.
* جهم من الجهم عظيم ظله
* كم من لبيب عقله يضله
*
قال صاحب الدر المنثور: وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه، عن ابن عباس في قوله * (خذوا زينتكم عند كل مسجد) * قال: كان رجال يطوفون بالبيت عراة، فأمرهم الله بالزينة، والزينة: اللباس، وهو ما يواري السوأة وما سوى ذلك من جيد البز والمتاع ا ه منه. وجماهير علماء التفسير مطبقون على هذا التفسير المتعلق بسبب النزول، فتبين بما ذكرنا أن القرآن والسنة الصحيحة دلا معا على ستر العورة للطواف، وقد قدمنا مرارا كلام العلماء في اقتضاء النهي الفساد فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وقد رأيت فيما كتبنا أدلة الجمهور على طهارة الحدث وستر العورة للطواف.
أما طهارة الخبث: فقد استدلوا لها بما تقدم من أن الطواف صلاة، وقد بينا وجه الدلالة منه على ذلك، سواء قلنا: إنه موقوف، أو مرفوع، وقد يقال: إنه لا مجال للرأي
402

فيه، فله حكم الرفع، واستأنس بعضهم لطهارة الخبث للطواف بقوله تعالى * (وطهر بيتى للطآئفين) *، لأنه يدل في الجملة على الأمر بالطهارة للطائفين، والعلم عند الله تعالى. وإذا علمت مما ذكرنا أن جماهير العلماء منهم الأئمة الثلاثة قالوا: باشتراط الطهارة وستر العورة للطواف، وأن أبا حنيفة خالف الجمهور في هذه المسألة، فلم يشترط الطهارة، ولا ستر العورة للطواف.
فاعلم أن حجته في ذلك هي قاعدة مقررة في أصوله ترك من أجلها العمل بأحاديث صحيحة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتلك القاعدة التي ترك من أجلها العمل ببعض الأحاديث الصحيحة، متركبة من مقدمتين:
إحداهما: أن الزيادة على النص نسخ.
والثانية: أن الأخبار المتواترة لا تنسخ بأخبار الآحاد، فقال في المسألة التي نحن بصددها: قال الله تعالى في كتابه * (وليطوفوا بالبيت العتيق) * وهو نص متواتر، فلو زدنا على الطواف اشتراط الطهارة، والستر، فإن هذه الزيادة نسخ، وأخبارها أخبار آحاد فلا تنسخ المتواتر الذي هو الآية، ولأجل هذا لم يقل بتغريب الزاني البكر، لأن الأحاديث الصحيحة الدالة عليه عنده أخبار آحاد، وزيادة التغريب على قوله * (الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما) * نسخ له، وهو متواتر، فلا ينسخ بأخبار الآحاد. ولأجل ذلك أيضا لم يقل بثبوت المال بالشاهد واليمين، لأنه يرى ذلك زيادة على قوله تعالى * (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهدآء) * والزيادة نسخ، والمتواتر لا ينسخ بالآحاد ا ه والتحقيق في مسألة الزيادة على النص هو التفصيل. فإن كانت الزيادة أثبتت شيئا نفاه المتواتر، أو نفت شيئا أثبته، فهي نسخ له، وإن كانت الزيادة زيد فيها شيء، لم يتعرض له النص المتواتر، فهي زيادة شيء مسكوت عنه لم ترفع حكما شرعيا، وإنما رفعت البراءة الأصلية التي هي الإباحة العقلية، ورفعها ليس بنسخ.
مثال الزيادة التي هي نسخ على التحقيق: زيادة تحريم الخمر بالقرآن، وتحريم الحمر الأهلية بالسنة الصحيحة، على قوله تعالى * (قل لا أجد فى مآ أوحى إلى محرما
على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به) * فإن هذه الآية الكريمة لم تسكت عن إباحة الخمر والحمر الأهلية وقت
403

نزولها، بل صرحت بإباحتهما بمقتضى الحصر الصريح بالنفي في * (لا أجد فى مآ أوحى إلى) * والإثبات في قوله * (إلا أن يكون ميتة) *. فتحريم شيء زائد على الأربعة المذكورة في الآية زيادة ناسخة، لأنها أثبتت تحريما دلت الآية على نفيه.
ومثال الزيادة التي لم يتعرض لها النص بنفي ولا إثبات، زيادة تغريب الزاني البكر عاما بالسنة الصحيحة على آية الجلد، وزيادة الحكم بالشاهد واليمين. على آية * (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) * وزيادة الطهارة، والستر التي بينا أدلتها على آية * (وليطوفوا بالبيت العتيق) * وقد أشار صاحب مراقي السعود إلى مسألة الزيادة على النص بقوله: وليطوفوا بالبيت العتيق) * وقد أشار صاحب مراقي السعود إلى مسألة الزيادة على النص بقوله:
* وليس نسخا كل ما أفادا
* فيما رسا بالنص الازديادا
*
وقد أوضحنا هذه المسألة في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى * (قل لا أجد فى مآ أوحى إلى) *، وبينا أن التحقيق هو جواز نسخ المتواتر بالآحاد إذا علم تأخرها عنه، وبيناها أيضا في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى * (وإذا بدلنآ ءاية مكان ءاية) *. ولذلك اختصرناها هنا، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الخامس: اعلم أن الطواف في الحج المفرد والقران ثلاثة أنواع: طواف القدوم، وطواف الإفاضة: وهو طواف الزيارة، وطواف الوداع.
أما طواف الإفاضة فهو ركن من أركان الحج بإجماع العلماء، وأما طواف الوداع، وطواف القدوم: فقد اختلف فيهما العلماء، فذهب مالك وأصحابه، إلى أن طواف القدوم: واجب يجبر بدم، وأن طواف الوداع: سنة، ولا يلزم بتركه شيء، واستدل لوجوب القدوم بحديث عائشة وعروة المتفق عليه الذي قدمنا بسنده ومتنه عند الشيخين، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم أول ما يبدأ به الطواف، وكذلك الخلفاء الراشدون، والمهاجرون، والأنصار مع قوله صلى الله عليه وسلم (خذوا عني مناسككم) واستدل لعدم وجوب طواف الوداع، بترخيص النبي صلى الله عليه وسلم للحائض في تركه ولم يأمرها بدم ولا شيء، قالوا: فلو كان واجبا لأمر بجبره، وأكثر أهل العلم: على أن طواف القدوم لا يلزم بتركه شيء. وقال ابن حجر في الفتح: وذهب الجمهور إلى أن من ترك طواف القدوم لا شيء عليه، وعن مالك وأبي ثور: عليه دم، ومن حججهم على أن طواف القدوم لا شيء في تركه أنه تحية، فلم يجب كتحية المسجد. وأكثر أهل العلم على أن طواف الوداع واجب، يجب بتركه الدم
404

إلا أنه يرخص في تركه للحائض خاصة، إذا نفرت رفقتها قبل أن تطهر. قال النووي في شرح مسلم: الصحيح في مذهبنا وجوب طواف الوداع، وأنه إذا تركه لزمه دم، ثم قال: وبه قال أكثر العلماء، منهم الحسن البصري، والحكم، وحماد، والثوري، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وقال مالك، وداود، وابن المنذر: هو: سنة لا شيء في تركه. وعن مجاهد روايتان كالمذهبين انتهى منه. وقد نقل ابن حجر كلامه هذا، ثم تعقب عزوه سنيته، لابن المنذر فقال: والذي رأيته في الأوسط لابن المنذر: أنه واجب للأمر به إلا أنه لا يجب بتركه شيء.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين في طواف الوداع دليلا: أنه واجب.
قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا سعيد بن منصور، وزهير بن حرب، قالا: حدثنا سفيان، عن سليمان الأحول، عن طاوس، عن ابن عباس قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت) قال زهير: ينصرفون كل وجه، ولم يقل في. انتهى منه. فقوله صلى الله عليه وسلم فيه هذا الحديث الصحيح بصيغة النهي الصريح (لا ينفرن أحد) الخ. دليل على منع النفر بدون وداع، وهو واضح في وجوب طواف الوداع، ثم قال مسلم رحمه الله: حدثنا سعيد بن منصور، وأبو بكر بن أبي شيبة واللفظ لسعيد قالا: حدثنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض. ا ه منه. وقال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا مسدد، حدثنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض انتهى. منه وقوله أمر بصيغة المبني للمفعول، ومعلوم في علوم الحديث، وأصول الفقه أن مثل ذلك له حكم الرفع. فهو حديث صحيح متفق عليه، يدل على أمر النبي صلى الله عليه وسلم بطواف الوداع، مع الترخيص لخصوص الحائض والله يقول * (ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه) *. وهو صلى الله عليه وسلم يقول (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه) وقد نهى في حديث مسلم السابق، عن النفر بدون طوف وداع، وأمر في الحديث المتفق عليه بالوداع. فدل ذلك الأمر وذلك النهي على وجوبه. أما لزوم الدم في تركه، فيتوقف على دليل صالح لإثبات ذلك، وسنذكر إن شاء الله ما تيسر من أدلة الدماء التي يوجبها الفقهاء،
405

وحديث ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم لصفية أن تنفر وهي حائض من غير وداع معروف.
الفرع السادس: في أول وقت طواف الإفاضة وآخره:
الظاهر أن أول وقته أول يوم النحر بعد الإفاضة من عرفة ومزدلفة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه طاف طواف الإفاضة، يوم النحر، بعد رمي جمرة العقبة، والنحر والحلق وقال (خذوا عني مناسككم) والشافعية، ومن وافقهم يقولون: إن أول وقته يدخل بنصف ليلة النحر، ولا أعلم لذلك دليلا مقنعا. وأما آخر وقت
طواف الإفاضة، فلم يرد فيه نص، وجمهور العلماء على أنه لا آخر لوقته، بل يبقى وقته ما دام صاحب النسك حيا، ولكن العلماء اختلفوا في لزوم الدم بالتأخر. قال النووي في شرح المهذب: قد ذكرنا أن مذهبنا أن طواف الإفاضة لا آخر لوقته، بل يبقى ما دام حيا، ولا يلزمه بتأخيره دم، قال ابن المنذر: ولا أعلم خلافا بينهم في أن من أخره وفعله في أيام التشريق أجزأه ولا دم عليه، فإن أخره عن أيام التشريق. فقد قال جمهور العلماء كمذهبنا: لا دم. وممن قال به: عطاء، وعمرو بن دينار، وابن عيينة: وأبو ثور، وأبو يوسف ومحمد وابن المنذر، وهو رواية عن مالك. وقال أبو حنيفة: إن رجع إلى وطنه قبل الطواف: لزمه العود للطواف، فيطوف، وعليه دم للتأخير، وهو الرواية المشهورة عن مالك. دليلنا أن الأصل عدم الدم حتى يرد الشرع به. والله أعلم انتهى الغرض من كلام النووي.
ولزوم الدم بالتأخير فيه خلاف معروف عند المالكية، مع اتفاقهم على أن من أخره إلى انسلاخ شهر ذي الحجة عليه الدم.
الفرع السابع: لا خلاف بين العلماء في استحباب استلام الحجر الأسود للطائف، وجماهيرهم على تقبيله، وإن عجز وضع يده عليه، وقبلها خلافا لمالك قائلا: إنه يضعها على فيه من غير تقبيل. وقال النووي في شرح المهذب: أجمع المسلمون على استحباب استلام الحجر الأسود، ويستحب عندنا مع ذلك تقبيله والسجود عليه، بوضع الجبهة كما سبق بيانه، فإن عجز عن تقبيله قبل اليد بعده، وممن قال بتقبيل اليد: ابن عمر، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وسعيد بن جبير، وعطاء وعروة، وأيوب السختياني، والثوري، وأحمد، وإسحاق. حكاه عنهم ابن المنذر قال: وقال القاسم بن محمد ومالك: يضع يده على فيه من غير تقبيل.
قال ابن المنذر: وبالأول أقول: لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعلوه، وتبعهم جملة الناس عليه، ورويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما السجود على الحجر الأسود، فحكاه ابن المنذر عن
406

عمر بن الخطاب، وابن عباس، وطاوس، والشافعي، وأحمد.
قال ابن المنذر: وبه أقول: قال وقد روينا فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال مالك: هو بدعة، واعترف القاضي عياض المالكي بشذوذ مالك عن الجمهور في المسألتين، فقال جمهور العلماء: على أنه يستحب تقبيل اليد، إلا مالكا في أحد قوليه، والقاسم بن محمد قالا: لا يقبلها. قال: وقال جميعهم: يسجد عليه، إلا مالكا وحده فقال: بدعة.
وأما الركن اليماني ففيه للعلماء ثلاثة أقوال:
الأول: أنه يستحب استلامه باليد، ولا يقبل، بل تقبل اليد بعد استلامه، وهذا هو مذهب الشافعي، قال النووي: وروي عن جابر، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة.
القول الثاني: أنه يستلمه، ولا يقبل يده بعده بل يضعها على فيه من غير تقبيل، وهو مشهور مذهب مالك، وأحمد، وعن مالك رواية: أنه يقبل يده بعد استلامه كمذهب الشافعي.
القول الثالث: أنه يقبله، وهو مروي عن أحمد.
تنبيهان
الأول: قد جاءت روايات متعارضة في الوقت، الذي طاف فيه النبي صلى الله عليه وسلم طواف الإفاضة، وفي الموضع الذي صلى فيه ظهر يوم النحر، فقد جاء في بعض الروايات: أنه طاف يوم النحر، وصلى ظهر ذلك اليوم بمنى، وجاء في بعض الروايات: أنه صلى ظهر ذلك اليوم في مكة، وفي بعض الروايات: أنه طاف ليلا لا نهارا. ففي حديث جابر الطويل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم ما لفظه (ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر) ففي هذا الحديث الصحيح التصريح بأنه أفاض نهارا، وهو نهار يوم النحر، وأنه صلى ظهر يوم النحر بمكة، وكذلك قالت عائشة: أنه طاف يوم النحر، وصلى الظهر بمكة. وقال مسلم في صحيحه أيضا: حدثني محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى) قال نافع: فكان ابن عمر يفيض يوم النحر، ثم يرجع، فيصلي الظهر بمنى، ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله انتهى منه. فترى حديث جابر وحديث ابن عمر الثابتين في صحيح مسلم، اتفقا على أنه طاف طواف الإفاضة نهارا، واختلفا في موضع صلاته لظهر ذلك اليوم، ففي حديث جابر: أنه صلاها بمكة وكذلك قالت عائشة. وفي حديث ابن
407

عمر: أنه صلاها بمنى، بعد ما رجع من مكة. ووجه الجمع بين الحديثين: أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكة، كما قال جابر وعائشة، ثم رجع إلى منى، فصلى بأصحابه الظهر مرة أخرى، كما صلى بهم صلاة الخوف مرتين: مرة بطائفة، ومرة بطائفة أخرى في بطن نخل، كما أوضحناه سابقا في سورة النساء، فرأى جابر وعائشة صلاته في مكة فأخبرا بما رأيا وقد صدقا. ورأى ابن عمر صلاته بهم في منى فأخبر بما رأى، وقد صدق وهذا واضح، وبهذا الجمع جزم النووي، وغير واحد. وقال البخاري في صحيحه: وقال أبو الزبير، عن عائشة، وابن عباس رضي الله عنهم: أخر النبي صلى الله عليه وسلم الزيارة إلى الليل انتهى محل الغرض منه. وقد قدمنا أن كل ما علقه البخاري بصيغة الجزم فهو صحيح إلى من علق عنه، مع أن وصله أبو داود والترمذي وأحمد، وغيرهم من طريق سفيان، وهو الثوري، عن أبي الزبير به وزيارته ليلا في هذا الحديث المروي عن عائشة، وابن عباس، مخالفة لما قدمنا في حديث جابر وابن عمر، وللجمع بينهما أوجه من أظهرها عندي اثنان.
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طواف الزيارة في النهار، يوم النحر، كما أخبر به جابر وعائشة، وابن عمر، ثم بعد ذلك صار يأتي البيت ليلا، ثم يرجع
إلى منى فيبيت بها، وإتيانه البيت في ليالي منى، هو مراد عائشة، وابن عباس.
وقال البخاري في صحيحه بعد أن ذكر هذا الحديث الذي علقه بصيغة الجزم ما نصه: ويذكر عن أبي حسان، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي كان يزور البيت أيام منى. ا ه.
وقال ابن حجر في الفتح: فكأن البخاري عقب هذا بطريق أبي حسان، ليجمع بين الأحاديث بذلك، فيحمل حديث جابر وابن عمر: على اليوم الأول، وحديث ابن عباس هذا: على بقية الأيام، وهذا الجمع مال إليه النووي. وهذا ظاهر.
الوجه الثاني: في الجمع بين الأحاديث المذكورة أن الطواف الذي طافه النبي صلى الله عليه وسلم ليلا: طواف الوداع، فنشأ الغلط من بعض الرواة في تسميته بالزيارة، ومعلوم أن طواف الوداع كان ليلا.
قال البخاري في صحيحه: حدثنا أصبغ بن الفرج، أخبرنا ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن قتادة: أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثه (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة بالمحصب ثم ركب إلى البيت، فطاف به). تابعه الليث.
408

حدثني خالد عن سعيد عن قتادة أن أنس بن مالك رضي الله عنه: حدثه (أن النبي صلى الله عليه وسلم) انتهى من البخاري، وهو واضح في أنه طاف طواف الوداع ليلا ا ه. وحديث عائشة المتفق عليه يدل لذلك، وإلى هذا الجمع مال ابن القيم في زاد المعاد، ولو فرضنا أن أوجه الجمع غير مقنعة فحديث جابر، وعائشة، وابن عمر: أنه طاف طواف الزيارة نهارا أصح مما عارضها فيجب تقديمها عليه والعلم عند الله تعالى.
التنبيه الثاني: اعلم أنه جاء في بعض الروايات الصحيحة، ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف ماشيا، ومما يدل على ذلك الأحاديث الصحيحة التي سقناها سابقا، في أنه رمل ثلاثة أشواط، ومشى أربعا، فإن ذلك يدل على أنه ماش على رجليه لا راكب، مع أنه جاءت روايات أخر صحيحة تدل على أنه طاف راكبا.
قال البخاري في صحيحه: حدثنا أحمد بن صالح، ويحيى بن سليمان قالا: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما (طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن) تابعه الدراوردي، عن ابن أخ الزهري، عن عمه.
وقال مسلم في صحيحه: حدثني أبو الطاهر، وحرملة بن يحيى، قالا: أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن). حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا علي بن مسهر، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر قال (طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه، لأن يراه الناس وليشرف وليسألوه، فإن الناس قد غشوه).
وفي لفظ عن جابر عند مسلم (طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة ليراه الناس وليشرف وليسألوه، فإن الناس قد غشوه).
وقال مسلم في صحيحه أيضا: حدثني الحكم بن موسى القنطري، حدثنا شعيب بن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن عروة، عن عائشة قالت (طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حول الكعبة على بعيره يستلم الركن، كراهية أن يضرب عنه الناس) انتهى منه.
فهذه الأحاديث الصحيحة الثابتة عن ابن عباس، وجابر وعائشة، رضي الله عنهم، صريحة في أنه طاف راكبا.
409

ووجه الجمع بين هذه الأحاديث الدالة على طوافه راكبا، مع الأحاديث الدالة على أنه طاف ماشيا: كأحاديث الرمل في الأشواط الثلاثة الأول، والمشي في الأربعة الأخيرة: هو (أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طواف القدوم ماشيا، ورمل في أشواطه الثلاثة الأول، وطاف طواف الإفاضة في حجة الوداع راكبا) هو نص صريح صحيح، يبين أن من طاف، وسعى راكبا، فطوافه وسعيه كلاهما صحيح، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مع قوله (خذوا عني مناسككم) وقد قدمنا البحث مستوفى في المشي، والركوب في الحج مع مناقشة أدلة الفريقين. والعلم عند الله تعالى.. الفرع الثامن: أجمع العلماء على مشروعية صلاة ركعتين بعد الطواف، ولكنهم اختلفوا في ركعتي الطواف، هل حكمهما الوجوب أو السنية؟ فقال بعض أهل العلم: إن ركعتي الطواف واجبتان، واستدلوا لوجوبهما بصيغة الأمر في قوله * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) * على قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، قالوا: والنبي صلى الله عليه وسلم لما طاف: قرأ هذه الآية الكريمة، وصلى ركعتين خلف المقام، ممتثلا بذلك الأمر في قوله * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) *. وقد قال صلى الله عليه وسلم (خذوا عني مناسككم) والأمر في قوله * (واتخذوا) * على القراءة المذكورة يقتضي الوجوب كما بيناه مرارا في هذا الكتاب المبارك. وقال جمهور العلماء: إن ركعتي الطواف من السنن، لا من الواجبات، واستدلوا لعدم وجوبهما بحديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه الثابت في الصحيح. قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أهل نجد، ثائر الرأس، يسمع دوي صوته، ولا يفقه ما يقول، فإذا هو يسأل عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع) الحديث. قالوا: وفي هذا الحديث الصحيح التصريح بأنه لا يجب شيء من الصلاة، غير الخمس المكتوبة، وقد يجاب عن هذا الاستدلال: بأن الأمر بصلاة ركعتي الطواف، خلف المقام وارد بعد قوله صلى الله عليه وسلم (لا. إلا أن تطوع) والعلم عند الله تعالى.
والمستحب أن يقرأ في الأولى من ركعتي الطواف * (قل ياأيها الكافرون) * وفي الثانية * (قل هو الله أحد) * كما هو ثابت في حديث جابر. وجمهور أهل العلم على أن ركعتي الطواف، لا يشترط في صحة صلاتهما أن تكون خلف المقام، بل لو صلاهما في أي موضع غيره صح ذلك. ولو طاف في وقت نهى، فأحد قولي أهل
العلم: إنه يؤخر صلاتهما إلى وقت لا نهي عن النافلة فيه، ومما يدل على هذين
410

الأمرين أعني صحة صلاتهما في موضع آخر، وتأخير صلاتهما إلى وقت غير وقت النهي الذي طاف فيه ما ذكره البخاري في صحيحه تعليقا بصيغة الجزم، قال: (باب الطواف بعد الصبح والعصر) وكان ابن عمر رضي الله عنهما: يصلي ركعتي الطواف ما لم تطلع الشمس، وطاف عمر بعد الصبح، فركب حتى صلى الركعتين بذي طوى. وفعل عمر رضي الله عنه هذا الذي ذكره البخاري يدل على عدم اشتراط كون الركعتين خلف المقام، بل تصح صلاتهما في أي موضع صلاهما فيه، وأن تأخيرهما عن وقت النهي هو الصواب، وممن قال به: أبو سعيد الخدري، ومعاذ ابن عفراء، ومالك وأصحابه: وعزاه بعضهم إلى الجمهور، وقد قدمنا مرارا قول من يقول من أهل العلم: إن ذوات الأسباب الخاصة من الصلوات لا تدخل في عموم النهي في أوقات النهي، إلا أن القاعدة المقررة في الأصول: أن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح.
وقال الشافعي وأصحابه: إن صلاة ركعتي الطواف جائزة في أوقات النهي بلا كراهة، واستدلوا لذلك بدليلين.
أحدهما: عام وهو أن ذوات الأسباب الخاصة من الصلوات، لا تدخل في عموم النهي، لأن سببها الخاص، يخرجها من عموم النهي، كركعتي الطواف فإنهما لسبب خاص، هو الطواف. وكتحية المسجد في وقت النهي، ونحو ذلك، وأحدهما خاص: وهو ما ورد في خصوص البيت الحرام، كحديث جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار) رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن، وصححه الترمذي، ورواه أيضا ابن خزيمة وابن حبان، والدارقطني، قال ابن حجر في التلخيص في هذا الحديث: رواه الشافعي، وأحمد، وأصحاب السنن، وابن خزيمة، وابن حبان والدارقطني، والحاكم من حديث أبي الزبير عن عبد الله بن باباه، عن جبير بن مطعم، وصححه الترمذي، ورواه الدارقطني من وجهين آخرين، عن نافع بن جبير، عن أبيه، ومن طريقين آخرين عن جابر وهو معلول، فإن المحفوظ عن أبي الزبير، عن عبد الله بن باباه، عن جبير، لا عن جابر. وأخرجه الدارقطني أيضا، عن ابن عباس من رواية مجاهد عنه، ورواه الطبراني من رواية عطاء، عن ابن عباس، ورواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان، والخطيب في التلخيص من طريق ثمامة بن عبيدة عن أبي الزبير، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، وهو معلول. وروى ابن عدي من طريق سعيد بن أبي راشد، عن عطاء، عن أبي هريرة
411

حديث (لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس) الحديث وزاد في آخره (من طاف فليصل) أي حين طاف، وقال: لا يتابع عليه، وكذا قال البخاري. وروى البيهقي من طريق عبد الله بن باباه، عن أبي الدرداء: أنه طاف بعد العصر عند مغارب الشمس فصلى الركعتين، وقال: إن هذه البلدة ليست كغيرها.
تنبيه
عزا المجد ابن تيمية حديث جبير لمسلم، فإنه قال: رواه الجماعة، إلا البخاري. وهذا وهم منه تبعه عليه المحب الطبري، فقال: رواه السبعة إلا البخاري، وابن الرفعة، فقال: رواه مسلم، ولفظه (لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار) وكأنه والله أعلم: لما رأى ابن تيمية عزاه إلى الجماعة، دون البخاري اقتطع مسلما من بينهم واكتفى به عنهم، ثم ساقه باللفظ الذي أورده ابن تيمية، فأخطأ مكررا.
فائدة
قال البيهقي: يحتمل أن يكون المراد بهذه الصلاة، صلاة الطواف خاصة: وهو الأشبه بالآثار، ويحتمل جميع الصلوات. انتهى كلام ابن حجر في التلخيص الحبير.
وهذا الذي ذكرنا عن الشافعي وأصحابه من جواز صلاة ركعتي الطواف في أوقات النهي بلا كراهة، حكاه ابن المنذر، عن ابن عمر، وابن عباس، والحسن، والحسين بن علي، وابن الزبير، وطاوس، وعطاء، والقاسم بن محمد، وعروة، ومجاهد، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور. انتهى بواسطة نقل النووي في شرح المهذب.
ومما استدلوا به على ذلك ما رواه مجاهد عن أبي ذر مرفوعا (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس إلا بمكة) قال ابن حجر في التلخيص: في هذا الحديث رواه الشافعي أخبرنا عبد الله بن المؤمل، عن حميد مولى غفرة، عن قيس بن سعد، عن مجاهد، وفيه قصة وكرر الاستثناء ثلاثا. ورواه أحمد عن يزيد، عن عبد الله بن المؤمل إلا أنه لم يذكر حميدا في سنده. ورواه ابن عدي من حديث سعيد بن سالم عن عبد الله بن المؤمل، فلم يذكر قيسا، ورواه ابن عدي من طريق اليسع بن طلحة وسمعت مجاهدا يقول: بلغنا أن أبا ذر فذكره، وعبد الله ضعيف، وذكر ابن عدي هذا الحديث من جملة ما أنكر عليه. وقال البيهقي: فقال تفرد به عبد الله ولكن تابعه إبراهيم بن طهمان، ثم ساقه بسنده إلى خلاد بن يحيى قال: ثنا إبراهيم بن طهمان،
412

ثنا حميد مولى غفرة، عن قيس بن سعد، عن مجاهد قال: جاءنا أبو ذر فأخذ بحلقة الباب الحديث. وقال أبو حاتم الرازي: لم يسمع مجاهد من أبي ذر، وكذا أطلق ذلك ابن عبد البر، والبيهقي، والمنذري، وغير واحد. قال البيهقي: قوله في رواية إبراهيم بن طهمان: جاءنا أبو ذر أي جاء بلدنا.
قلت: ورواه ابن خزيمة في صحيحه، من حديث سعيد بن سالم كما رواه ابن عدي وقال: أنا أشك في سماع مجاهد، من أبي ذر انتهى. كلام ابن حجر في التلخيص الحبير.
هذا هو حاصل ما احتج به الشافعي، وأصحابه، ومن وافقهم على جواز صلاة ركعتي الطواف، في أوقات النهي وحجة مخالفيهم هي عموم الأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة في تلك الأوقات وظاهرها العموم.
وقد قال الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار: وأنت خبير بأن حديث جبير بن مطعم، لا يصلح لتخصيص أحاديث النهي المتقدمة، لأنه أعم منها من وجه وأخص من وجه، وليس أحد العمومين أولى بالتخصيص من الآخر، لما عرفت غير مرة انتهى منه، وهو كما قال رحمه الله.
والقاعدة المقررة في الأصول: أن النصين إذا كان بينهما عموم، وخصوص من وجه، فإنهما يظهر تعارضهما في الصورة التي يجتمعان فيها، فيجب الترجيح بينهما. كما أشار له صاحب مراقي السعود بقوله: والقاعدة المقررة في الأصول: أن النصين إذا كان بينهما عموم، وخصوص من وجه، فإنهما يظهر تعارضهما في الصورة التي يجتمعان فيها، فيجب الترجيح بينهما. كما أشار له صاحب مراقي السعود بقوله:
* وإن يك العموم من وجه ظهر
* فالحكم بالترجيح حتما معتبر
*
وإيضاح كون حديث جبير المذكور بينه، وبين أحاديث النهي المذكورة عموم وخصوص من وجه، كما ذكره الشوكاني رحمه الله: هو أن أحاديث النهي عامة في مكة وغيرها، خاصة في أوقات النهي. وحديث جبير بن مطعم عام في أوقات النهي وغيرها، خاص بمكة حرسها الله، فتختص أحاديث النهي بأوقات النهي في غير مكة، ويختص حديث جبير بالأوقات التي لا ينهى عن الصلاة فيها بمكة، ويجتمعان في أوقات النهي في مكة، فعموم أحاديث النهي يشمل مكة وغيرها، وعموم إباحة الصلاة في جميع الزمن في حديث جبير، يشمل أوقات النهي وغيرها في مكة فيظهر التعارض في أوقات النهي في مكة، فيجب الترجيح. وأحاديث النهي أرجح من حديث جبير من وجهين:
أحدهما: أنها أصح منه لثبوتها في الصحيح.
413

والثاني: هو ما تقرر في الأصول، أن النص الدال على النهي يقدم على النص الدال على الإباحة، لأن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح، كما قدمناه مرارا. والعلم عند الله تعالى.
الفرع التاسع: اعلم أن أظهر أقوال العلماء، وأصحها إن شاء الله: أن الطواف لا يفتقر إلى نية تخصه، لأن نية الحج تكفي فيه، وكذلك سائر أعمال الحج كالوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، والسعي، والرمي كلها لا تفتقر إلى نية، لأن نية النسك بالحج تشمل جميعها، وعلى هذا أكثر أهل العلم. ودليله واضح، لأن نية العبادة تشمل جميع أجزائها فكما لا يحتاج كل ركوع وسجود من الصلاة إلى نية خاصة لشمول نية الصلاة لجميع ذلك، فكذلك لا تحتاج أفعال الحج لنية تخص كل واحد منها، لشمول نية الحج لجميعها.
ومما استدلوا به لذلك، أنه لو وقف بعرفة ناسيا أجزأه ذلك بالإجماع، قاله النووي. ومقابل القول الذي هو الصواب إن شاء الله قولان آخران لأهل العلم:
أحدهما: وبه قال أبو علي بن أبي هريرة من الشافعية، أن ما كان منها مختصا بفعل كالطواف والسعي والرمي، فهو مفتقر إلى نية، وما كان منها غير مختص بفعل بل هو لبث مجرد كالوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة فهو لا يفتقر إلى نية.
والثاني منهما: وبه قال أبو إسحاق المروزي: أنه لا يفتقر شيء من أعمال الحج، إلى نية إلا الطواف، لأنه صلاة، والصلاة تفتقر إلى النية، وأظهرها وأصحها إن شاء الله الأول، وهو قول الجمهور.
الفرع العاشر: أظهر قولي العلماء عندي أنه إن أقيمت الصلاة وهو في أثناء الطواف أنه يصلي مع الناس ولا يستمر في طوافه مقدما إتمام الطواف على الصلاة، وممن قال بذلك: ابن عمر، وسالم، وعطاء، وأبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأصحابهم، وأبو ثور. وروي ذلك عنهم في السعي أيضا ولكن عند المالكية لا يجوز قطع الطواف إلا للصلاة المكتوبة خاصة، إذا أقيمت، وهو في أثناء الطواف، ويبني عندهم إن قطعه للصلاة خاصة، ويندب عندهم إكمال الشوط إن قطعه في أثناء شوط، وإن قطعه لغيرها كصلاة الجنازة، أو تحصيل نفقة لا بد منها لم يبن على ما مضى منه، بل يستأنف الطواف عندهم، لأنه لا يجوز عندهم قطعه لذلك ابتداء، كما ذكرناه قريبا. وقيل: يمضي في طوافه، ولا
414

يقطعه للصلاة واحتج من قال بهذا، بأن الطواف صلاة، فلا تقطع لصلاة. ورد عليه بحديث (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) ومن قال من أهل العلم: إن الطواف يجوز قطعه للصلاة على الجنازة والحاجة الضرورية: كالشافعية والحنابلة، قالوا: يبني على ما أتى به من أشواط الطواف، فإن كان قطعه للطواف عند انتهاء شوط من أشواطه، بنى على الأشواط المتقدمة، وجاء ببقية الأشواط، وإن كان قطعه له في أثناء الشوط، فأظهر قولي أهل العلم عندي: أنه يبتدئ من الموضع الذي وصل إليه، ويعتد ببعض الشوط الذي فعله قبل قطع الطواف، خلافا لمن قال: إنه يبتدئ الشوط الذي قطع الطواف في أثنائه، ولا يعتد ببعضه الذي فعله: وهو قول الحسن، وأحد وجهين عند بعض الشافعية، وهو مندوب عند المالكية إن قطعه للفريضة كما تقدم وكذلك لو أحدث في أثناء الطواف عند من يقول: إنه يتوضأ، ويبني على ما مضى من طوافه، وهو مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد.
الفرع الحادي عشر: أظهر قولي أهل العلم عندي: أن من طاف قبل التحلل، وهو لابس مخيطا أن الطواف صحيح كمن صلى في ثوب حرير، ولكنه يلزمه الدم والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثاني عشر: لا خلاف بين من يعتد به من أهل العلم: أن الطواف جائز في أوقات النهي عن الصلاة، وفي صلاة الركعتين، إذا طاف وقت نهى الخلاف الذي
تكلمنا عليه قريبا.
الفرع الثالث عشر: اختلف العلماء في صلاة النافلة في المسجد الحرام. والطواف بالبيت أيهما أفضل؟ فقال بعض أهل العلم: الطواف أفضل. وبه قال بعض علماء الشافعية، واستدلوا بأن الله قدم الطواف على الصلاة في قوله * (وعهدنآ إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتى للطآئفين والعاكفين والركع السجود) * وقوله * (وطهر بيتى للطآئفين والقآئمين والركع السجود) * وقال بعض أهل العلم: الصلاة أفضل لأهل مكة والطواف أفضل للغرباء. وممن قال به: ابن عباس، وعطاء، وسعيد بن جبير، ومجاهد، كما نقله عنهم النووي في شرح المهذب.
المسألة السادسة: اختلف العلماء في السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة، هل هو ركن من
415

أركان الحج والعمرة؟ لا يصح واحد منهما بدونه، ولا يجبر بدم، أو هو واجب يجبر بدم، أو سنة لا يلزم بتركه دم؟ وممن قال: إنه ركن من أركان الحج والعمرة مالك والشافعي وأصحابهما، وأم المؤمنين عائشة، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، وهو رواية عن الإمام أحمد كما نقله النووي في شرح المهذب، وقال في شرح مسلم: مذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم: أن السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج، لا يصح إلا به، ولا يجبر بدم وممن قال بهذا: مالك والشافعي، وأحمد وإسحاق، وأبو ثور. انتهى محل الغرض منه، وعزوه إياه لأحمد، قد قدمنا فيه أنه إحدى الروايات عن أحمد.
وقال ابن قدامة في المغني: وروي عن أحمد أنه ركن لا يتم الحج إلا به، وهو قول عائشة، وعروة، ومالك، والشافعي.
وممن قال إنه واجب يجبر بدم: أبو حنيفة وأصحابه، والحسن، وقتادة، والثوري، وبه قال القاضي من الحنابلة، وذكره النووي رواية عن أحمد وقد رواه ابن القصار من المالكية، عن القاضي إسماعيل، عن مالك وقال ابن قدامة في المغني: إنه أولى. وذكر النووي عن طاوس أنه قال: من ترك من السعي أربعة أشواط لزمه دم، وإن ترك دونها لزمه لكل شوط نصف صاع. وليس هو بركن، ثم قال: وهو مذهب أبي حنيفة. انتهى.
وما قال النووي: إنه مذهب أبي حنيفة من أن ترك أقل السعي فيه الصدقة بنصف صاع عن كل شوط، عزاه شهاب الدين أحمد الشلبي في حاشيته على تبيين الحقائق، شرح كنز الدقائق للحاكم الشهيد في مختصره المسمى بالكافي ا ه.
ومعلوم أن مذهب أبي حنيفة في طواف الإفاضة، أن من ترك منه ثلاثة أشواط فأقل، فعليه دم، وحجه صحيح، وتفريقه بين الأقل والأكثر في الطواف الذي هو ركن يدل على التفريق بينهما في السعي، وممن روي عنه أن السعي بين الصفا والمروة سنة لا يلزم بتركه دم: ابن مسعود وأبي بن كعب، وأنس، وابن عباس، وابن الزبير، وابن سيرين.
وإذا علمت أقوال أهل العلم في السعي: فاعلم أنا نريد هنا أن نبين أدلة كل منهم على ما ذهب إليه مع مناقشتها.
فأما الذين قالوا: إنه ركن من أركان الحج والعمرة، فقد استدلوا لذلك بأدلة:
منها قوله تعالى: * (إن الصفا والمروة من شعآئر الله) *. قالوا:
416

فتصريحه تعالى بأن الصفا والمروة من شعائر الله، يدل على أن السعي بينهما أمر حتم لا بد منه، لأن شعائر الله عظيمة، لا يجوز التهاون بها. وقد أشار البخاري رحمه الله في صحيحه إلى أن كونهما من شعائر الله.
يدل على ذلك. قال: باب وجوب الصفا والمروة، وجعل من شعائر الله.
وقال ابن حجر في الفتح في شرح قول البخاري: وجعل من شعائر الله: أي وجوب السعي بينهما، مستفاد من كونهما جعلا من شعائر الله، قاله ابن المنير في الحاشية. انتهى الغرض من كلامه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ومما يدل على أن شعائر الله لا يجوز التهاون بها، وعدم إقامتها قوله تعالى * (ياأيها الذين ءامنوا لا تحلوا شعآئر الله) *. وقوله تعالى: * (ذالك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) *، ومن أدلتهم على ذلك (أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف في حجه وعمرته بين الصفا والمروة سبعا) وقد دل على أن ذلك لا بد منه دليلان:
الأول: هو ما قدمنا من أنه تقرر في الأصول أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم، إذا كان لبيان نص مجمل من كتاب الله، أن ذلك الفعل يكون لازما، وسعيه بين الصفا والمروة، فعل بين المراد من قوله تعالى: * (إن الصفا والمروة من شعآئر الله) * والدليل على أنه فعله بيانا للآية هو قوله صلى الله عليه وسلم (نبدأ بما بدأ الله به) يعني الصفا لأن الله بدأ بها في قوله: * (إن الصفا والمروة) *. وفي رواية (أبدأ) بهمزة المتكلم والفعل مضارع. وفي رواية عند النسائي (ابدؤوا بما بدأ الله به) بصيغة الأمر.
الدليل الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم قال (لتأخذوا عني مناسككم) وقد طاف بين الصفا والمروة سبعا، فيلزمنا أن نأخذ عنه ذلك من مناسكنا، ولو تركناه لكنا مخالفين أمره بأخذه عنه، والله تعالى يقول: * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) * فاجتماع هذه الأمور الثلاثة التي ذكرنا يدل على اللزوم: وهي كونه سعى بين الصفا والمروة سبعا، وأن ذلك بيان منه لآية من كتاب الله وأنه قال: (لتأخذوا عني مناسككم).
أما طوافه بينهما سبعا فهو ثابت بالروايات الصحيحة.
منها: حديث ابن عمر الثابت في الصحيح ولفظه في صحيح البخاري. قال: (قدم
417

رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعا، وصلى خلف المقام ركعتين، وطاف بين الصفا والمروة سبعا. لقد كان لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة) وفي لفظ في صحيح مسلم، من حديث ابن عمر (فأتى الصفا، فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف) والروايات بسعيه صلى الله عليه وسلم سبعا بين الصفا والمروة كثيرة معروفة. وقد مثلنا لها بحديث ابن عمر المتفق عليه. وأما كون ذلك السعي بيانا لآية * (إن الصفا والمروة من شعآئر الله) *. فهو أمر لا شك فيه، ويدل عليه أمران:
أحدهما: سبب نزول الآية، لأنه ثبت في الصحيحين أنها نزلت في سؤالهم عن السعي بين الصفا والمروة، وإذا كانت نازلة جوابا عن سؤالهم عن حكم السعي، بين الصفا والمروة، فسعى النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها بيان لها.
والأمر الثاني: هو ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم (أبدأ بما بدأ الله به) يعني الصفا كما تقدم قريبا، وأما حديث (لتأخذوا عني مناسككم) فقد قال مسلم في صحيحه في باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا، وبيان قوله صلى الله عليه وسلم (لتأخذوا عني مناسككم):
حدثنا إسحاق بن إبراهيم، وعلي بن خشرم جميعا، عن عيسى بن يونس، قال ابن خشرم: أخبرنا عيسى، عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول (لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه) وقال البيهقي في السنن الكبرى: في باب الإيضاع في وادي محسر: وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أنبأنا سليمان بن أحمد بن أيوب، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أبو نعيم قال: وحدثنا حفص ثنا قبيصة قال: وحدثنا يوسف القاضي، ومعاذ بن المثنى قالا: ثنا ابن كثير، قالوا: ثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر قال: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه السكينة، وأمرهم بالسكينة، وأوضع في وادي محسر، وأمرهم أن يرموا الجمار مثل حصى الخذف، وقال (خذوا عني مناسككم لعلي لا أراكم بعد عامي هذا) انتهى منه. وقال النووي في شرح المهذب: إن هذا الإسناد الذي رواه به البيهقي صحيح على شرط البخاري، ومسلم.
واعلم أن رواية مسلم ورواية البيهقي المذكورتين معناهما واحد، لأن (خذوا عني مناسككم) بصيغة فعل الأمر يؤدي معنى قوله (لتأخذوا عني) بالفعل المضارع
418

المجزوم بلام الأمر، فكلتا الصيغتين صيغة أمر، ومن المعلوم أن الصيغ الدالة على الأمر أربع الأولى فعل الأمر نحو * (أقم الصلواة لدلوك الشمس) * وقوله (خذوا عني مناسككم).
الثانية: الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر كقوله تعالى * (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق) * وقوله (لتأخذوا عني مناسككم) في رواية مسلم.
الثالثة: اسم فعل الأمر نحو قوله تعالى * (عليكم أنفسكم) *.
الرابعة: المصدر النائب عن فعله كقوله تعالى: * (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) * أي فاضربوا رقابهم.
ومن أدلتهم على أن السعي فرض لا بد منه ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما، عن عائشة رضي الله عنها قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري قال عروة: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها: أرأيت قوله تعالى: * (إن الصفا والمروة من شعآئر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) * فوالله ما على أحد جناح ألا يطوف بالصفا والمروة. قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت لا جناح عليه، ألا يطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها، عند المشلل فكان من أهل يتحرج أن يطوف بالصفا، والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى * (إن الصفا والمروة من شعآئر الله) * قالت عائشة رضي الله عنها: وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما، ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن فقال: إن هذا العلم ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يذكرون أن الناس إلا من ذكرت عائشة، ممن كان يهل بمناة كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة، قالوا: يا رسول الله كنا نطوف بالصفا والمروة وإن الله أنزل الطواف بالبيت، فلم يذكر الصفا، فهل علينا من حرج أن نطوف بالصفا، والمروة؟ فأنزل الله تعالى * (إن الصفا والمروة من شعآئر الله) *. قال أبو بكر: فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما،
419

في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا بالجاهلية بالصفا والمروة، والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام، من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت، ولم يذكر الصفا، حتى ذكر ذلك بعد ما ذكر الطواف بالبيت. انتهى من صحيح البخاري.
وهذا الحديث الصحيح صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم سن الطواف بين الصفا والمروة أي فرضه بالسنة، وقد أجابت عائشة عما يقال: إن رفع الجناح في قوله * (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) * ينافي كونه فرضا بأن ذلك نزل في قوم، تحرجوا من السعي بين الصفا والمروة، وظنوا أن ذلك لا يجوز لهم، فنزلت الآية مبينة أن ما ظنوه من الحرج في ذلك منفي.
وقد تقرر في الأصول أن النص الوارد في جواب سؤال لا مفهوم مخالفة له، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله في هذه المسألة. وقال ابن حجر في: فتح الباري في الكلام على هذا الحديث:
تنبيه
قول عائشة رضي الله عنها: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بين الصفا والمروة أي فرضه بالسنة، وليس مرادها نفي فرضيته، ويؤيده قولها: لم يتم الله حج أحدكم، ولا عمرته ما لم يطف بينهما.
وقال مسلم رحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قال: قلت لها: إني لا أظن رجلا لو لم يطف بين الصفا والمروة ما ضره. قالت لم؟ قلت: لأن الله تعالى يقول * (إن الصفا والمروة من شعآئر الله) * إلى آخر الآية فقالت: ما أتم الله حج امرئ، ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة، ولو كان كما تقول، لكان * (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) * الحديث، وفي رواية في صحيح مسلم، عن عروة قال: قلت لعائشة: (ما أرى علي جناحا أن لا أتطوف بين الصفا والمروة، قالت لم؟ قلت: لأن الله عز وجل يقول * (إن الصفا والمروة من شعآئر الله) * فقالت: لو كان كما تقول، لكان * (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) * إنما أنزل هذا في أناس من الأنصار، كانوا إذا أهلوا لمناة في الجاهلية فلا يحل لهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما قدموا مع النبي صلى الله عليه وسلم للحج ذكروا ذلك له، فأنزل الله تعالى هذه الآية، (فلعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة) وفي رواية، عن عروة أيضا في
420

صحيح مسلم قال: قلت لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: ما أرى على أحد، لم يطف بين الصفا والمروة شيئا، وما أبالي، أن لا أطوف بينهما. قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون، فكان سنة، وإنما كان من أهل لمناة الطاغية، التي بالمشلل، لا يطوفون بين الصفا والمروة، فلما كان الإسلام سألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله عز وجل * (إن الصفا والمروة من شعآئر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) * ولو كانت كما تقول، لكانت فلا جناح عليه، ألا يطوف بينهما. قال الزهري: فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فأعجبه ذلك، وقال: إن هذا العلم، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يقولون: إنما كان من لا يطوف بين الصفا والمروة من العرب، يقولون: إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية، وقال آخرون من الأنصار: إنما أمرنا بالطواف بالبيت، ولم نؤمر به بين الصفا والمروة، فأنزل الله عز وجل * (إن الصفا والمروة من شعآئر الله) * قال أبو بكر بن عبد الرحمن: فأراها قد نزلت في هؤلاء وهؤلاء، وفي رواية في صحيح مسلم، عن عروة بن الزبير أيضا قال: سألت عائشة. وساق الحديث بنحوه، وقال في الحديث: فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن ذلك فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة، فأنزل الله عز وجل * (إن الصفا والمروة من شعآئر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) * قالت عائشة: قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما فليس لأحد أن يترك الطواف بهما.
فهذه الروايات الثابتة في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها فيها الدلالة الواضحة، على أن السعي بين الصفا والمروة ركن، لا بد منه، لأنك رأيت في بعض هذه الروايات الثابتة عنها في الصحيح، أنها قالت: ما أتم الله حج امرئ، ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة، وفي بعضها قالت: فلعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة. وفي رواية متفق عليها عنها رضي الله عنها: قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما إلى آخر ما تقدم، من الروايات وفيها النص الصريح الصحيح، على أن السعي لا بد منه وأن من لم يسع، لم يتم له حج ولا عمرة.
تنبيه
اعلم أن ما يظنه كثير من أهل العلم، من أن حديث عائشة هذا، الدال على أن
421

السعي لا بد منه، وأنه لا يتم بدونه حج، ولا عمرة أنه موقوف عليها غير صواب، بل هو مرفوع، ومن أصرح الأدلة في ذلك أنها رتبت بالفاء في الرواية المتفق عليها قولها: فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما، على قولها: قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، وهو صريح في أن قولها: ليس لأحد أن يترك الطواف بينهما، لأجل أنه صلى الله عليه وسلم سن الطواف بينهما، ودل هذا الترتيب بالفاء على أن مرادها بأنه سنه أنه فرضه بسنته كما جزم به ابن حجر في الفتح، مقتصرا عليه، مستدلا له بأنها قالت: ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته، لم يطف بين الصفا والمروة، فقولها: إن النبي صلى الله عليه وسلم سن الطواف بينهما وترتيبها على ذلك بالفاء قولها: فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما، وجزمها بأنه لا يتم حج ولا عمرة، إلا بذلك دليل واضح على أنها إنما أخذت ذلك مما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا برأي منها، كما ترى.
وقد تقرر في الأصول في مبحث النص الظاهر من مسالك العلة أن الفاء في الكتاب، والسنة تفيد التعليل، وكذلك هي في كلام الراوي الفقيه، فهو المرتبة الثانية بعد الوحي من كتاب، أو سنة، ثم يلي ذلك الفاء من الراوي غير الفقيه.
ومثاله في الوحي قوله تعالى * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * أي لعلة سرقتهما. وقوله تعالى * (قل هو أذى فاعتزلوا النسآء في المحيض) * أي لعلة كون الحيض أذى.
ومثاله في كلام الراوي. حديث أنس المتفق عليه: أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين، فقيل لها: من فعل بك هذا فلان أو فلان؟ حتى سمي اليهودي، فأومأت برأسها فجيء به فلم يزل حتى اعترف، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فرض رأسه بالحجارة. فقول أنس في هذا الحديث الصحيح: فأمر به فرض رأسه بحجرين: أي لعلة رضه رأس الجارية المذكورة، بين حجرين.
ومن أمثلة ذلك ما رواه أبو داود في سننه، عن عمران بن حصين (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها فسجد سجدتين، ثم تشهد ثم سلم) ا ه. أي سجد لعلة سهوه، وكذلك قول عائشة رضي الله عنها: قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بهما، أي لأجل أن النبي صلى الله
عليه وسلم سن ذلك: أي فرضه بسنته كما تقدم إيضاحه، وإلى إفادة الفاء التعليل في كلام الشارع ثم الراوي الفقيه ثم الراوي غير الفقيه أشار في مراقي السعود بقوله في مراتب النص الظاهر: سن ذلك: أي فرضه بسنته كما تقدم إيضاحه، وإلى إفادة الفاء التعليل في كلام الشارع ثم الراوي الفقيه ثم الراوي غير الفقيه أشار في مراقي السعود بقوله في مراتب النص الظاهر:
* فالفاء الشارع فالفقيه
* فغيره يتبع بالشبيه
*
422

ومن أدلتهم على أن السعي ركن لا بد منه: حديث (إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا) وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس، ومن حديث حبيبة بنت أبي تجراة، ومن حديث تملك العبدرية، ومن حديث صفية بنت شيبة.
قال الزيلعي في نصب الراية: أما حديث ابن عباس، فرواه الطبراني في معجمه، ثنا محمد بن النضر الأزدي، عن معاوية بن عمرو، عن المفضل بن صدقة، عن ابن جريج، وإسماعيل بن مسلم، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حج عن الرملي؟ فقال (إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا) انتهى.
وأما حديث حبيبة بنت أبي تجراة فرواه الشافعي، وأحمد وإسحاق بن راهويه، والحاكم في المستدرك وسكت عليه، وأعله ابن عدي في الكامل بابن المؤمل، وأسند تضيعفه عن أحمد والنسائي، ووافقهم. ومن طريق أحمد الطبراني في معجمه، ومن طريق الشافعي رواه الدارقطني، ثم البيهقي في سننهما، قال الشافعي: أخبرنا عبد الله بن المؤمل العائذي، عن عمر بن عبد الرحمن بن محيصن، عن عطاء بن أبي رباح، عن صفية بنت شيبة عن حبيبة بنت أبي تجراة إحدى نساء بني عبد الدار قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه، وهو وراءهم، وهو يسعى، حتى أرى ركبتيه من شدة السعي، وهو يقول (اسعوا فإن الله تعالى كتب عليكم السعي) انتهى. وأخرجه الحاكم في المستدرك أيضا في الفضائل، عن عبد الله بن نبيه، عن جدته صفية، عن حبيبة بنت أبي تجراة بنحوه. وسكت عنه أيضا، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه: حدثنا محمد عن عبد الله بن المؤمل، حدثنا عبد الله بن أبي حسين عن عطاء، عن حبيبة بنت أبي تجراة، فذكره، قال أبو عمر بن عبد البر: أخطأ ابن أبي شيبة أو شيخه في موضعين منه.
أحدهما: أنه جعل موضع ابن محيصن عبد الله بن أبي حسين، والآخر أنه أسقط صفية بنت شيبة. قال ابن القطان في كتابه: وعندي أن الوهم من عبد الله بن المؤمل فإن ابن أبي شيبة إمام كبير، وشيخه محمد بن بشر ثقة، وابن المؤمل: سيىء الحفظ، وقد اضطرب في هذا الحديث اضطرابا كثيرا فأسقط عطاء مرة، وابن محيصن أخرى، وصفية بنت شيبة أخرى، وأبدل ابن محيصن بابن أبي حسين أخرى، وجعل المرأة عبدرية تارة ويمنية أخرى. وفي الطواف تارة، وفي السعي بين الصفا والمروة أخرى، وكل ذلك دليل على سوء حفظه، وقلة ضبطه. والله أعلم انتهى.
423

طريق آخر أخرجه الدارقطني في سننه، عن ابن المبارك، أخبرني معروف ابن مشكان، قال: أخبرني منصور بن عبد الرحمن، عن أمه صفية قالت: أخبرتني نسوة من بني عبد الدار اللاتي أدركن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلن: دخلنا دار ابن أبي حسين فاطلعنا من باب مقطع فرأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد في المسعى إلى آخره.
قال صاحب التنقيح: إسناده صحيح ومعروف ابن مشكان باني كعبة الرحمان صدوق، لا نعلم من تكلم فيه، ومنصور هذا ثقة مخرج له في الصحيحين. انتهى.
وأما حديث (تملك العبدرية) فأخرجه البيهقي في سننه، والطبراني في معجمه عن مهران بن أبي عمر، ثنا سفيان، ثنا المثنى بن الصباح عن المغيرة بن حكيم، عن صفية بنت شيبة، عن تملك العبدرية. قالت: نظرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا في غرفة لي بين الصفا والمروة، وهو يقول (أيها الناس إن الله كتب عليكم السعي
424

فاسعوا) انتهى. تفرد به مهران بن أبي عمر، قال البخاري: في حديثه اضطراب. وأما حديث صفية بنت شيبة فرواه الطبراني في معجمه، حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا علي بن الحكم الأودي، ثنا حميد بن عبد الرحمان عن المثنى بن الصباح، عن المغيرة بن حكيم، عن صفية بنت شيبة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي) انتهى.
وذكر الدارقطني في علله: في هذا الحديث اضطرابا كثيرا. ثم قال: والصحيح قول من قال عن عمر بن محيصن، عن عطاء، عن صفية، عن حبيبة بنت أبي تجراة وهو الصواب انتهى.
وقال الحازمي في كتابه: الناسخ والمنسوخ: الوجه السادس والعشرون من وجوه الترجيحات: هو أن يكون أحد الحديثين من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مقارن فعله، والآخر مجرد قوله لا غير، فيكون الأول أولى بالترجيح نحو ما روته حبيبة بنت أبي تجراة، قالت: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في بطن المسيل يسعى: وهو يقول (اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي) فهو أولى من حديث (الحج عرفة) لأنه مجرد قول. والأول قول وفعل، وفيه أيضا إخباره عن الله أنه أوجبه علينا، فكان أولى. انتهى كلامه.
ورواه الواقدي في كتاب المغازي: حدثنا علي بن محمد بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن منصور بن عبد الرحمان، عن أمه عن برة بنت أبي تجراة
قالت: لما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى السعي قال (أيها الناس إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا) قالت: فسعى حتى رأيت إزاره انكشف عن فخذه. انتهى كله من نصب الراية للزيلعي.
وقد رأيته عزا لصاحب التنقيح: أن حديث صفية بنت شيبة، عن نسوة من بني عبد الدار أدركن النبي صلى الله عليه وسلم أنهن رأينه، يطوف بين الصفا والمروة وهو يقول (إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا) أن إسناده صحيح، وهو نص في محل النزاع. والظاهر أن الإسناد المذكور صحيح كما قال. لأن معروف بن مشكان المذكور صدوق، ومنصور بن عبد الرحمان بن طلحة بن الحارث العبدري الحجبي ثقة، وهو ابن صفية بنت شيبة المذكورة.
وقال النووي في شرح المهذب: واحتج أصحابنا بحديث صفية بنت شيبة، عن نسوة من بني عبد الدار أنهن سمعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد استقبل الناس في المسعى، وقال (يا أيها الناس اسعوا فإن السعي قد كتب عليكم) رواه الدارقطني والبيهقي بإسناد حسن. انتهى منه.
وهو نص صالح للاحتجاج في أن السعي مما كتب على الناس، ولفظة: كتب: تدل على اللزوم.
فإن قيل: حديث حبيبة المذكور في إسناده عبد الله بن المؤمل، وهو وإن كان وثقه ابن حبان وقال: يخطئ، فقد ضعفه غيره، وحديث صفية في إسناده موسى بن عبيدة، وهو ضعيف، وحديث: تملك المذكور فيه المثنى بن الصباح، وهو وإن وثقه ابن معين في رواية، فقد ضعفه جماعة. وحديث ابن عباس المذكور فيه المفضل بن صدقة، وهو متروك.
فالجواب: أن رواية صفية بنت شيبة عن نسوة من بني عبد الدار عند الدارقطني والبيهقي، ليس في إسنادها شيء مما ذكر، وقد صحح إسنادها ابن الهمام في التنقيح، كما ذكره الزيلعي وحسنها النووي في شرح المهذب، والبيهقي روى حديثها المذكور من طريق الدارقطني، قال في سننه الكبرى: أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو بكر بن الحارث الفقيه قالا: ثنا علي بن عمر الحافظ، ثنا يحيى بن صاعد، ثنا الحسن بن عيسى النيسابوري، ثنا ابن المبارك، أخبرني معروف ابن مشكان، أخبرني منصور بن عبد الرحمن، عن أمه صفية، أخبرتني عن نسوة من بني عبد الدار اللاتي أدركن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلن: دخلنا دار ابن أبي حسين، فأطلعنا من باب مقطع، ورأينا
425

رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد في المسعى، حتى إذا بلغ زقاق بني فلان، موضعا قد سماه من المسعى، استقبل الناس فقال: (يا أيها الناس اسعوا فإن السعي قد كتب عليكم) انتهى منه.
فهذا الإسناد هو الذي صححه صاحب التنقيح، وحسنه النووي.
واعلم أن اختلاف الروايات في المرأة التي روت عنها صفية المذكورة هذا الحديث، لا يضر لتصريحها في رواية الدارقطني والبيهقي، هذه بأنها روت ذلك عن نسوة أدركن النبي صلى الله عليه وسلم. وإذن فلا مانع من أن تسمى واحدة منهن في رواية، وتسمى غيرها منهن في رواية أخرى كما لا يخفى وقال ابن حجر في فتح الباري: واحتج ابن المنذر للوجوب بحديث صفية بنت شيبة، عن حبيبة بنت أبي تجراة بكسر المثناة، وسكون الجيم بعدها راء، ثم ألف ساكنة، ثم هاء، وهي إحدى نساء بني عبد الدار، قالت: دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى وإن مئزره ليدور من شدة السعي، وسمعته يقول: (اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي) أخرجه الشافعي، وأحمد وغيرهما. وفي إسناد هذا الحديث: عبد الله بن المؤمل، وفيه ضعف، ومن ثم قال ابن المنذر: إن ثبت فهو حجة في الوجوب.
قلت: له طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة مختصرة، وعند الطبراني عن ابن عباس كالأولى، وإذا انضمت إلى الأولى قويت.
واختلف على صفية بنت شيبة في اسم الصحابية التي أخبرتها، ويجوز أن تكون أخذته عن جماعة، فقد وقع عند الدارقطني عنها: أخبرتني نسوة من بني عبد الدار، فلا يضره الاختلاف. انتهى الغرض من كلام ابن حجر.
وقد علمت مما ذكرنا أن بعض طرق حديث (إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا) لا تقل عن درجة القبول. وهو نص في محل النزاع مع أنه معتضد بما ذكرناه من حديث عائشة، عند الشيخين. وبظاهر الآية كما بينا، وبما سيأتي أيضا إن شاء الله تعالى.
ومن أدلتهم على لزوم السعي ما جاء في بعض روايات حديث أبي موسى المتفق عليه، من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قال مسلم رحمه الله في صحيحه: حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار، قال ابن المثنى: حدثنا محمد بن جعفر، أخبرنا شعبة، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي موسى قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو منيخ
426

بالبطحاء، فقال لي (أحججت؟ فقلت: نعم. فقال: بم أهللت؟ قال: قلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فقد أحسنت. طف بالبيت وبالصفا والمروة). الحديث قالوا: فقوله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري (طف بالبيت وبالصفا والمروة) أمر صريح منه صلى الله عليه وسلم بذلك، وصيغة الأمر تقتضي الوجوب ما لم يقم دليل صارف عن ذلك، وقد دل على اقتضائها الوجوب: الشرع واللغة: وقال بعضهم: إن العقل يفيد ذلك، وليس بسديد عندي، أما دلالة الشرع على ذلك ففي نصوص كثيرة كقوله تعالى: * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) * وهذا الوعيد العظيم على مخالفة أمره، يدل على وجوب امتثال أمره، وكقوله تعالى: لإبليس لما لم يمتثل الأمر المدلول عليه بصيغة أفعل التي هي قوله تعالى * (اسجدوا لأدم ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) * فتوبيخه وتقريعه له في هذه الآية لمخالفته الأمر، وقد سمي نبي الله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، مخالفة الأمر معصية وذلك يدل على وجوب الامتثال في
قوله تعالى عنه * (أفعصيت أمرى) * وكقوله تعالى * (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) * فجعل أمر الله ورسوله مانعا من الاختيار موجبا للامتثال، منبها على عدم الامتثال معصية في قوله بعده: * (ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) * وكقوله تعالى * (ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) * وقوله صلى الله عليه وسلم (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه) إلى غير ذلك من الأدلة.
وأما دلالة اللغة على اقتضاء صيغة أفعل الوجوب. فإيضاحها أن أهل اللسان العربي مجمعون على أن السيد لو قال لعبده: اسقني ماء مثلا، ثم لم يمتثل العبد وعاقبه سيده على عدم الامتثال كان ذلك العقاب واقعا موقعه، لأن صيغة أفعل ألزمته الامتثال، وليس للعبد أن يقول: صيغة افعل لم توجب على الامثتال، ولم تلزمني إياه؟ فعقابك لي غلط لأني لم أترك شيئا لازما، حتى تعاقبني عليه. وإجماعهم على أنه ليس له ذلك وأن عقابه له صواب لعصيانه، دليل على أن صيغة أفعل تقتضي الوجوب، ما لم يصرف عنه صارف، وهو قول جمهور الأصوليين. ومقابله أقوال أخر، أشار لها مراقي السعود بقوله في مبحث الأمر: وأما دلالة اللغة على اقتضاء صيغة أفعل الوجوب. فإيضاحها أن أهل اللسان العربي مجمعون على أن السيد لو قال لعبده: اسقني ماء مثلا، ثم لم يمتثل العبد وعاقبه سيده على عدم الامتثال كان ذلك العقاب واقعا موقعه، لأن صيغة أفعل ألزمته الامتثال، وليس للعبد أن يقول: صيغة افعل لم توجب على الامثتال، ولم تلزمني إياه؟ فعقابك لي غلط لأني لم أترك شيئا لازما، حتى تعاقبني عليه. وإجماعهم على أنه ليس له ذلك وأن عقابه له صواب لعصيانه، دليل على أن صيغة أفعل تقتضي الوجوب، ما لم يصرف عنه صارف، وهو قول جمهور الأصوليين. ومقابله أقوال أخر، أشار لها مراقي السعود بقوله في مبحث الأمر:
* وافعل لدى الأكثر للوجوب
* وقيل للندب أو المطلوب
*
427

* وقيل للوجوب أمر الرب
* وأمر من أرسله للندب
*
* ومفهم الوجوب يدري الشرع
* أو الحجا أو المفيد الوضع
*
وقال بعض أهل العلم: إن دلالة اللغة على اقتضاء الأمر الوجوب راجعة إلى دلالة الشرع، لأن الشرع هو الذي دل على وجوب طاعة العبد لسيده.
ومن أدلتهم على أن السعي بين الصفا والمروة لا بد منه: ما قدمنا من حديث ابن عمر عند الترمذي، أنه صلى الله عليه وسلم قال (من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد منهما حتى يحل منهما جميعا) قال المجد في المنتقى: رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب، وفيه دليل على وجوب السعي، ووقوف التحلل عليه. انتهى منه.
والذي رأيته في الترمذي لما ساق الحديث بلفظه المذكور: هو أنه قال: قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح، تفرد به الدراوردي على ذلك اللفظ، وقد رواه غير واحد عن عبيد الله بن عمر، ولم يرفعوه. وهو أصح. انتهى منه.
ومن أدلتهم على ذلك: ما جاء في بعض الروايات الثابتة في الصحيح، من أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها (يجزئ عنك طوافك بين الصفا والمروة عن حجك وعمرتك) وهذا اللفظ في صحيح مسلم، قالوا: ويفهم من قوله (يجزئ عنك طوافك بين الصفا والمروة عن حجك وعمرتك) أنها لو لم تطف بينهما لم يحصل لها أجزاء عن حجها وعمرتها، هذا هو حاصل ما استدل به القائلون بأنه ركن من أركان الحج والعمرة.
وأما حجة الذين قالوا: إنه سنة لا يجب بتركه شيء، فهي قوله تعالى * (إن الصفا والمروة من شعآئر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم) * قالوا: فرفع الجناح في قوله * (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) * دليل قرآني على عدم الوجوب، كما قاله عروة بن الزبير، لخالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
والجواب عن الاستدلال بهذه الآية على عدم وجوب السعي: هو ما أجابت به عائشة عروة، فإنها أولا ذمت هذا التفسير لهذه الآية بقولها: بئس ما قلت يا ابن أختي، ومعلوم أن لفظة بئس فعل جامد لإنشاء الذم، وما ذمت تفسير الآية بما ذكر، إلا لأنه تفسير غير صحيح، وقد بينت له أن الآية نزلت جوابا لسؤال من ظن أن في السعي بين الصفا والمروة جناحا، وإذا فذكر رفع الجناح لمطابقة الجواب للسؤال، لا لإخراج المفهوم عن حكم
428

المنطوق، فلو سألك سائل مثلا قائلا: هل علي جناح في أن أصلي الخمس المكتوبة؟ وقلت له: لا جناح عليك في ذلك، لم يلزم من ذلك أنك تقول: بأنها غير واجبة، وإنما قلت: لا جناح في ذلك، ليطابق جوابك السؤال، وقد دلت قرينتان على أنه ليس المراد رفع الجناح، عمن لم يسع بين الصفا والمروة.
الأولى منهما: أن الله قال في أول الآية * (إن الصفا والمروة من شعآئر الله) * وكونهما من شعائر الله، لا يناسبه تخفيف أمرهما برفع الجناح عمن لم يطف بينهما،
بل المناسب لذلك تعظيم أمرهما، وعدم التهاون بهما، كما أوضحناه في أول هذا المبحث.
والقرينة الثانية: هي أنه لو أراد ذلك المعنى لقال: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما، كما قالت عائشة لعروة، وقد تقرر في الأصول: أن اللفظ الوارد جوابا لسؤال لا مفهوم مخالفة له، لأن المقصود به مطابقة الجواب للسؤال، لا إخراج المفهوم عن حكم المنطوق، وقد أوضحنا هذا في سورة البقرة في الكلام على آية الطلاق، وإلى ذلك أشار في مراقي السعود بقوله عاطفا على ما يمنع اعتبار دليل الخطاب، أعني مفهوم المخالفة: والقرينة الثانية: هي أنه لو أراد ذلك المعنى لقال: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما، كما قالت عائشة لعروة، وقد تقرر في الأصول: أن اللفظ الوارد جوابا لسؤال لا مفهوم مخالفة له، لأن المقصود به مطابقة الجواب للسؤال، لا إخراج المفهوم عن حكم المنطوق، وقد أوضحنا هذا في سورة البقرة في الكلام على آية الطلاق، وإلى ذلك أشار في مراقي السعود بقوله عاطفا على ما يمنع اعتبار دليل الخطاب، أعني مفهوم المخالفة:
* أو جهل الحكم أو النطق انجلب
* للسؤل أو جرى على الذي غلب
*
ومحل الشاهد منه قوله: أو النطق انجلب * للسؤل.
ومعنى ذلك: أن المنطوق إذا كان جوابا لسؤال فلا مفهوم مخالفة له، لأن المقصود بلفظ المنطوق مطابقة الجواب للسؤال، لا إخراج المفهوم عن حكم المنطوق.
فإن قيل: جاء في بعض قراءات الصحابة * (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) * كما ذكره الطبري، وابن المنذر وغيرهما، عن أبي بن كعب، وابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهم.
فالجواب من وجهين:
الأول: أن هذه القراءة لم تثبت قرآنا لإجماع الصحابة على عدم كتبها في المصاحف العثمانية، وما ذكره الصحابي على أنه قرآن، ولم يثبت كونه قرآنا. ذهب كثير من أهل العلم إلى أنه لا يستدل به على شيء، وهو مذهب مالك، والشافعي، ووجهه أنه لما لم يذكره إلا لكونه قرآنا، فبطل كونه قرآنا بطل من أصله، فلا يحتج به على شيء، وقال بعض أهل العلم: إذا بطل كونه قرآنا لم يمنع ذلك من الاحتجاج به كأخبار الآحاد، التي ليست بقرآن، فعلى القول الأول: فلا إشكال، وعلى الثاني: فيجاب عنه بأن القراءة
429

المذكورة تخالف القراءة المجمع عليها المتواترة، وما خالف المتواتر المجمع عليه إن لم يمكن الجمع بينهما فهو باطل، والنفي والإثبات لا يمكن الجمع بينهما لأنهما نقيضان.
الوجه الثاني: هو ما ذكره ابن حجر في الفتح عن الطبري والطحاوي، من أن قراءة: أن لا يطوف بهما، محمولة على القراءة المشهورة، ولا زائدة. انتهى. ولا يخلو من تكلف كما ترى.
واعلم أن قوله تعالى * (ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم) * لا دليل فيه، على أن السعي تطوع، وليس بفرض، لأن التطوع المذكور في الآية راجع إلى نفس الحج والعمرة، لا إلى السعي لإجماع المسلمين على أن التطوع بالسعي لغير الحاج والمعتمر غير مشروع، والعلم عند الله تعالى.
وأما حجة من قال: السعي واجب يجبر بدم، فهي أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بينهما فدل ذلك على أن الطواف بينهما نسك، وفي الأثر المروي عن ابن عباس: من ترك نسكا فعليه دم. وسيأتي لهذا إن شاء الله زيادة إيضاح.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: اعلم أن جمهور العلماء على أن السعي لا تشترط له طهارة الحدث، ولا الخبث، ولا ستر العورة، فلو سعى، وهو محدث أو جنب، أو سعت امرأة وهي حائض، فالسعي صحيح، ولا يبطله ذلك، وممن قال به الأئمة الأربعة، وجماهير أهل العلم، وقال الحسن: إن كان قبل التحلل تطهر وأعاد السعي، وإن كان بعده، فلا شيء عليه، وذكر بعض الحنابلة رواية عن الإمام أحمد: أن الطهارة في السعي، كالطهارة في الطواف. قال ابن قدامة في المغني: ولا يعول عليه، والطهارة في السعي مستحبة عند كثير من أهل العلم، وهو مذهب مالك والشافعي، وأحمد وغيرهم. وحجة الجمهور على أن السعي لا تشترط له الطهارة: هي ما تقدم من حديث عائشة المتفق عليه، وقد أمرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور: أن تفعل كل ما يفعله الحاج، وهي حائض إلا الطواف بالبيت خاصة. وهو دليل على أن السعي لا تشترط له الطهارة، خلافا لمن قال: لا دليل في الحديث، لأن السعي لا يصح إلا بعد طواف، والحيض مانع من الطواف، وهو مردود بأن النفي والإثبات نص في أن غير الطواف يصح من الحائض ويدخل فيه السعي.
وقال ابن قدامة في المغني: قال أبو داود: سمعت أحمد، يقول: إذا طافت المرأة
430

بالبيت، ثم حاضت سعت بين الصفا والمروة ثم نفرت. وروي عن عائشة، وأم سلمة أنهما قالتا: إذا طافت المرأة بالبيت، وصلت ركعتين، ثم حاضت فلتطف بالصفا والمروة، رواه الأثرم. وقال ابن قدامة أيضا: ولأن ذلك عبادة لا تتعلق بالبيت، فأشبهت الوقوف. انتهى منه.
وقال أيضا في المغني: ولا يشترط أيضا الطهارة من النجاسة ولا الستارة للسعي، لأنه إذا لم تشترط له الطهارة من الحدث وهي آكد فغيرها أولى.
الفرع الثاني: اعلم أن جمهور أهل العلم يشترطون في السعي الترتيب، وهو أن يبدأ بالصفا، ويختم بالمروة، فإن بدأ بالمروة لم يعتد بذلك الشوط، وممن قال باشتراط الترتيب: مالك، والشافعي، وأحمد، وأصحابهم، والحسن البصري، والأوزاعي، وداود، وجمهور العلماء، وعن أبي حنيفة خلاف في ذلك.
قال صاحب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، في فقه الإمام أبي حنيفة رحمه الله: ولو بدأ من المروة لا يعتد بالأولى لمخالفته الأمر. انتهى منه.
وقال الشيخ شهاب الدين أحمد الشلبي في حاشيته على تبيين الحقائق المذكور قوله: ولو بدأ بالمروة لا يعتد بالأولى. وفي مناسك الكرماني: إن الترتيب فيه ليس بشرط عندنا، حتى لو بدأ بالمروة، وأتى الصفا جاز ويعتد به، ولكنه مكروه لترك السنة. فتستحب إعادة ذلك الشوط.
قال السروجي رحمه الله في الغاية: ولا أصل لما ذكره الكرماني.
وقال الرازي في أحكام القرآن: فإن بدأ بالمروة قبل الصفا لم يعتد بذلك في الرواية المشهورة، عن أصحابنا، وروي عن أبي حنيفة: أنه ينبغي له أن يعيد ذلك الشوط، فإن لم يفعل، فلا شيء عليه، وجعله بمنزلة ترك الترتيب في أعضاء الطهارة ا ه. فقول السروجي: لا أصل لما قاله الكرماني فيه نظر. انتهى منه.
وحجة الجمهور في اشتراط الترتيب: أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وقال (أبدأ بما بدأ الله به) وفي رواية عند النسائي (فابدؤوا بما بدأ الله به) بصيغة الأمر، ومع ذلك فقد قال (خذوا عني مناسككم) فيلزمنا أن نأخذ عنه من مناسكنا الابتداء بما بدأ الله به، وفعله صلى الله عليه وسلم عملا بالقرآن العظيم.
الفرع الثالث: اعلم أن جمهور أهل العلم على أن السعي لا يصح، إلا بعد طواف،
431

فلو سعى قبل الطواف لم يصح سعيه، عند الجمهور، منهم الأئمة الأربعة، ونقل الماوردي وغيره الإجماع عليه. قال النووي في شرح المهذب: وحكى ابن المنذر، عن عطاء، وبعض أهل الحديث: أنه يصح، وحكاه أصحابنا عن عطاء، وداود وحجة الجمهور: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسع في حج، ولا عمرة إلا بعد الطواف، وقد قال (لتأخذوا عني مناسككم) فعلينا أن نأخذ ذلك عنه، واحتج من قال بصحة السعي قبل الطواف بما رواه أبو داود في سننه: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير عن الشيباني، عن زياد بن علاقة، عن أسامة بن شريك قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم حاجا فكان الناس يأتونه، فمن قال: يا رسول الله سعيت، قبل أن أطوف، أو قدمت شيئا، أو أخرت شيئا، فكان يقول: لا حرج لا حرج إلا على رجل اقترض عرض رجل مسلم، وهو ظالم له، فذلك الذي حرج وهلك. انتهى منه. وهذا الإسناد صحيح، ورجاله كلهم ثقات معروفون. وجرير المذكور فيه هو ابن عبد الحميد بن قرط الضبي، أبو عبد الله الرازي القاضي والشيباني المذكور فيه: هو أبو إسحاق سليمان بن أبي سليمان الكوفي، ورجال هذا الإسناد كلهم مخرج لهم في الصحيحين إلا الصحابي، الذي هو أسامة بن شريك. وقد أخرج عنه أصحاب السنن، وروى عنه زياد بن علاقة المذكور، وعلي بن الأقمر، خلافا لمن قال: لم يرو عنه إلا زياد المذكور، وعلي بن الأقمر، خلافا لمن قال: لم يرو عنه إلا زياد المذكور، كما ذكره في تهذيب التهذيب عن الأزدي، وسعيد بن السكن، والحاكم وغيرهم، وهذا الحديث الصحيح يقتضي صحة السعي قبل الطواف، وجماهير أهل العلم على خلافه، وأنه لا يصح السعي، إلا مسبوقا بالطواف.
قال النووي في شرح المهذب: في حديث أسامة بن شريك هذا بعد أن ذكر صحة الإسناد المذكور، وهذا الحديث محمول على ما حمله عليه الخطابي وغيره، وهو أن قوله: سعيت قبل أن أطوف: أي سعيت بعد طواف القدوم، وقبل طواف الإفاضة والله تعالى أعلم انتهى منه.
فقوله: قبل أن أطوف يعني: طواف الإفاضة الذي هو ركن، ولا ينافي ذلك أنه سعي بعد طواف القدوم الذي هو ليس بركن.
الفرع الرابع: اعلم أن جمهور أهل العلم منهم الأئمة الثلاثة: مالك، وأحمد، والشافعي، وأصحابهم، على أنه يشترط في صحة السعي، أن يقطع جميع المسافة بين الصفا والمروة في كل شوط، فلو بقي منها بعض خطوة لم يصح سعيه، وقد قدمنا مذهب أبي حنيفة في السعي، وأنه لو تركه كله أو ترك أربعة أشواط منه فأكثر لصح حجه، وعليه
432

دم وأنه إن ترك منه ثلاثة أشواط فأقل لزمه عن كل شوط نصف صاع، وحجة الجمهور أن المسافة للسعي محددة من الشارع، فالنقص عن الحد مبطل كما هو ظاهر، وحجة أبي حنيفة، من وافقه كطاوس هي تغليب الأكثر على الأقل، مع جبر الأقل بالصدقة، ولا أعلم مستندا من النقل للتفريق بين الأربعة والثلاثة، ولا لجعل نصف الصاع مقابل الشوط. والعلم عند الله تعالى.
الفرع الخامس: اعلم أنه لا يجوز السعي في غير موضع السعي، فلو كان يمر من وراء المسعى، حتى يصل إلى الصفا والمروة من جهة أخرى لم يصح سعيه، وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه. وعن الشافعي في القديم: أنه لو انحرف عن موضع السعي انحرافا يسيرا أنه يجزئه. والظاهر أن التحقيق خلافه وأنه لا يصح السعي إلا في موضعه.
الفرع السادس: اعلم أن الأظهر أقوال أهل العلم دليلا: أنه لو سعى راكبا أو طاف راكبا أجزأه ذلك، لما قدمنا في الصحيح من أنه صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع بالبيت، وبين الصفا والمروة، وهو على راحلته، ومعلوم أن من أهل العلم من يقول: لا يجزئه السعي، ولا الطواف راكبا إلا لضرورة ومنهم: من منع الركوب في الطواف، وكرهه في السعي إلا لضرورة، ومنهم من يقول: إن ركب ولم يعد سعيه ماشيا، حتى رجع إلى وطنه فعليه الدم. والأظهر هو ما قدمنا. لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبا، وسعى راكبا، وهو صلوات الله وسلامه عليه لا يفعل إلا ما يسوغ فعله، وقد قال لنا (خذوا عني مناسككم) والذين قالوا: إن الطواف والسعي يلزم فيهما المشي. قالوا: إن ركوبه لعلة وبعضهم يقول: هي كونه مريضا كما جاء في بعض الروايات، وبعضهم يقول: هي أن يرتفع، ويشرف حتى يراه الناس ويسألوه، وبعضهم يقول: هي كراهيته أن يضرب عنه الناس، وقد قدمنا الروايات بذلك في صحيح مسلم، ففي حديث جابر عند مسلم: طاف رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالبيت في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه، لأن يراه الناس وليشرف، وليسألوه فإن الناس قد غشوه. وفي رواية في صحيح مسلم عن جابر رضي الله، طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة ليراه الناس، وليشرف، وليسألوه فإن الناس قد غشوه. وفي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حول الكعبة على بعير يستلم الركن، كراهية أن يضرب عنه الناس.
433

المسألة السابعة: اعلم أن العلماء أجمعوا على أن الوقوف بعرفة: ركن من أركان الحج لا يصح الحج بدونه، وأنهم أجمعوا على أن الوقوف ينتهي وقته بطلوع فجر يوم النحر، فمن طلع فجر يوم النحر، وهو لم يأت عرفة فقد فاته الحج إجماعا، ومن جمع في وقوف عرفة بين الليل والنهار وكان جزء النهار الذي وقف فيه من بعد الزوال فوقوفه تام، ومن اقتصر على جزء من الليل دون النهار صح حجه، ولزمه دم عند المالكية، خلافا لجماهير أهل العلم القائلين: بأنه لا دم عليه، وما ذكره النووي عن بعض الخراسانيين: من أن الوقوف بالليل لا يجزئ ولا يصح به الحج، حتى يقف معه بعض النهار ظاهر السقوط لمخالفته للنص، وعامة أهل العلم، ومن اقتصر على جزء من النهار دون الليل لم يصح حجه عند مالك، وهو رواية عن أحمد، وعند الشافعي، وأبي حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى: حجه صحيح، وعليه دم، ولا خلاف بين العلماء: أن عرفة كلها موقف.
والدليل على أن الوقوف بعرفة ركن، وأن وقته ينتهي بطلوع الفجر ليلة النحر: ما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن، وغيرهم من حديث عبد الرحمان بن يعمر الديلي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الحج عرفة، فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج) قال ابن حجر في التلخيص الحبير في هذا الحديث: رواه أحمد وأصحاب السنن وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي من حديث عبد الرحمان بن يعمر، قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة، وأتاه ناس من أهل نجد فقالوا: يا رسول الله كيف الحج؟ فقال (الحج عرفة من جاء عرفة قبل صلاة الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه) لفظ أحمد وفي رواية لأبي داود (من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج) وألفاظ الباقين نحوه.
وفي رواية للدارقطني والبيهقي: الحج عرفة الحج عرفة. انتهى من التلخيص.
وفي سنن أبي داود: الحج الحج يوم عرفة، بتكرير لفظة الحج. وفي سنن النسائي: فمن أدرك ليلة عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع، فقد تم حجه. وقال ابن ماجة في سننه، بعد أن ساق الحديث باللفظ الذي ذكره صاحب التلخيص: قال محمد بن يحيى: ما أرى للثوري حديثا أشرف منه. وقال النووي في شرح المهذب: حديث عبد الرحمان الديلي صحيح رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وآخرون بأسانيد صحيحة.
434

وهذا لفظ الترمذي عن عبد الرحمان بن يعمر: أن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوه عن الحج؟ فأمر مناديا ينادي: الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج. وفي رواية أبي داود (فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فنادى: الحج الحج يوم عرفة، من جاء قبل الصبح من ليلة جمع فتم حجه) وفي رواية البيهقي، عن عبد الرحمان بن يعمر الديلي، قال: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم يقول (الحج عرفة الحج عرفات من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج) وإسناد هذه الرواية صحيح، وهو من رواية سفيان بن عيينة.
قلت: عن سفيان الثوري، قال ابن عيينة: ليس عندكم بالكوفة، حديث أشرف ولا أحسن من هذا. انتهى كلام النووي.
ودليل الإجماع على أن من جمع في وقوفه بعرفة بين جزء من الليل، وجزء من النهار، من بعد الزوال: أن وقوفه تام، هو ما ثبت في الروايات الصحيحة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فعل وقال: لتأخذوا عني مناسككم). فمن الروايات الصحيحة الدالة على ذلك، ما رواه مسلم في صحيحه في حديث جابر الطويل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن فيه (فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، فوجد القبة، قد ضربت له بنمرة، فنزل حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس إلى أن قال: ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء، إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلا، حتى غاب القرص) الحديث. ففي هذا الحديث الصحيح: أنه جمع في وقوفه بين النهار من بعد الزوال، وبين جزء قليل من الليل مع قوله (لتأخذوا عني مناسككم) ودليل القائلين بأن من اقتصر في وقوفه بعرفة على جزء من الليل، دون النهار فقد تم حجه: حديث عبد الرحمان بن يعمر المذكور، فإن فيه تصريح النبي صلى الله عليه وسلم، بأن من أدرك عرفة، قبل طلوع الفجر من ليلة جمع، فقد تم حجه. وجمع: هي المزدلفة، وليلتها: هي الليلة التي صبيحتها يوم النحر.
ودليل من ألزموه دما مع وقوفه بعرفة في جزء من الليل: وهم المالكية أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتف بالليل، بل وقف معه جزءا من النهار، فتارك الوقوف بالنهار تارك نسكا. وفي الأثر المروي عن ابن عباس: من ترك نسكا فعليه دم، ولكن قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الديلي (فقد تم حجه) لا يساعد على لزوم الدم، لأن لفظ التمام، يدل على عدم الحاجة
435

إلى الجبر بدم، فهو يؤيد مذهب الجمهور، والعلم عند الله تعالى.
ودليل من قال: بأن من اقتصر في وقوفه بعرفة على النهار، دون الليل: أن وقوفه صحيح وحجه تام حديث عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لأم الطائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة، حين خرج إلى الصلاة، فقلت: يا رسول الله، إني جئت من جبلي طيىء. أكللت راحلتي، وأتعبت نفسي. والله ما تركت من جبل، إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف قبل ذلك بعرفة
ليلا أو نهارا، فقد تم حجة وقضى تفثه) ا ه.
قال المجد في المنتقى، بعد أن ساق هذا الحديث: رواه الخمسة، وصححه الترمذي، وهو حجة في أن نهار عرفة كله وقت للوقوف، وقال ابن حجر في التلخيص الحبير في هذا الحديث: رواه أحمد وأصحاب السنن، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، ثم قال: وصحح هذا الحديث الدارقطني، والحاكم، والقاضي أبو بكر بن العربي على شرطهما.
وقال النووي في شرح المهذب في حديث عروة بن مضرس: هذا رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة وغيرهم، بأسانيد صحيحة. قال الترمذي: هو حديث حسن صحيح.
ودليل أن عرفة كلها موقف ما رواه مسلم في صحيحه: حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي عن جعفر، حدثني أبي عن جابر في حديثه ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نحرت ها هنا ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم ووقفت ها هنا وعرفة كلها موقف ووقفت ها هنا وجمع كلها موقف) انتهى من صحيح مسلم.
وقال المجد في المنتقى: بعد أن ساق هذا الحديث بلفظ مسلم الذي سقناه به: رواه أحمد ومسلم، وأبو داود، ولابن ماجة وأحمد أيضا نحوه وفيه (وكل فجاج مكة طريق ومنحر) وقد قدمنا إجماع أهل العلم على أن وقت الوقوف ينتهي بطلوع الفجر، ليلة جمع. وإجماعهم على أن ما بعد الزوال من يوم عرفة، وقت للوقوف. وأما ما قبل الزوال من يوم عرفة، فجمهور أهل العلم على أنه ليس وقتا للوقوف، وخالف الإمام أحمد رحمه الله الجمهور في ذلك قائلا: إن يوم عرفة كله من طلوع فجره إلى غروبه، وقت للوقوف، واحتج لذلك بحديث عروة بن المضرس، المذكور آنفا فإن فيه: وقد وقف بعرفة ليلا أو
436

نهارا، فقد تم حجه، فقوله صلى الله عليه وسلم: (ليلا أو نهارا) يدل على شمول الحكم لجميع الليل والنهار، وقد قدمنا قول المجد في المنتقى، بعد أن ساق هذا الحديث: وهو حجة في أن نهار عرفة كله وقت للوقوف، وحجة الجمهور هي: أن المراد بالنهار في حديث عروة المذكور خصوص ما بعد الزوال، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بعده، لم يقفوا إلا بعد الزوال، ولم ينقل عن أحد أنه وقف قبله. قالوا: ففعله صلى الله عليه وسلم، وفعل خلفائه من بعده مبين للمراد من قوله: أو نهارا.
والحاصل: أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج إجماعا، وأن من جمع بين الليل والنهار من بعد الزوال فوقوفه تام إجماعا، وأن من اقتصر على الليل دون النهار، فوقوفه تام ولا دم عليه عند الجمهور، خلافا للمالكية القائلين بلزوم الدم، وأن من اقتصر على النهار دون الليل، لم يصح وقوفه عند المالكية. وعند جمهور العلماء: حجه صحيح. منهم الشافعي، وأبو حنيفة، وعطاء، والثوري، وأبو ثور، وهو الصحيح من مذهب أحمد.
ولكن اختلفوا في وجوب الدم، فقال أحمد وأبو حنيفة: يلزمه دم، وعن الشافعية قولان: أحدهما: لا دم عليه. وصححه النووي وغيره. والثاني: عليه دم. قيل وجوبا، وقيل: استنانا، وقيل: ندبا. والأصح أنه سنة على القول به، كما جزم به النووي. وأنما قيل: الزوال من يوم عرفة ليس وقتا للوقوف عند جماهير العلماء، خلافا للإمام أحمد رحمه الله، وقد رأيت أدلة الجميع.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أما من اقتصر في وقوفه على الليل دون النهار، أو النهار من بعد الزوال، دون الليل، فأظهر الأقوال فيه دليلا: عدم لزوم الدم. أما المقتصر على الليل فلحديث عبد الرحمان بن يعمر الديلي رضي الله عنه، الذي قدمناه قريبا، وبينا أنه صحيح. وفيه عند أحمد والنسائي: فمن أدرك ليلة عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه. هذا لفظ النسائي، ولفظ أحمد: من جاء عرفة قبل صلاة الفجر من ليلة جمع، فقد تم حجه، ا ه. ولفظ أحمد المذكور بواسطة نقل ابن حجر في التلخيص فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الثابت: فقد تم حجه مرتبا ذلك على إتيانه عرفة، قبل طلوع فجر يوم النحر، نص صريح في أن المقتصر على الوقوف ليلا: أن حجه تام، وظاهر التعبير بلفظ التمام، عدم لزوم الدم، ولم يثبت ما يعارضه من صريح الكتاب أو
437

السنة، وعلى هذا جمهور أهل العلم، خلافا للمالكية. وأما المقتصر على النهار دون الليل، فلحديث عروة بن مضرس الطائي، وقد قدمناه قرينا، وبينا أنه صحيح، وبينا أن فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه، وقضى تفثه، فقوله صلى الله عليه وسلم: فقد تم حجه مرتبا له بالفاء على وقوفه بعرفة ليلا أو نهارا، يدل على أن الواقف نهارا يتم حجه بذلك، والتعبير بلفظ التمام ظاهر، في عدم لزوم الجبر بالدم، كما بيناه فيما قبله، ولم يثبت نقل صريح في معارضة ظاهر هذا الحديث، وعدم لزوم الدم للمقتصر على النهار، هو الصحيح من مذهب الشافعي، لدلالة هذا الحديث على ذلك، كما ترى. والعلم عند الله تعالى.
وأما الاكتفاء بالوقوف يوم عرفة قبل الزوال، فقد قدمنا: أن ظاهر حديث ابن مضرس المذكور، يدل عليه، لأن قوله صلى الله عليه وسلم: أو نهارا، صادق بأول النهار وآخره. كما ذهب إليه الإمام أحمد. ولكن فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه من بعده، كالتفسير للمراد بالنهار، في الحديث المذكور، وأنه بعد الزوال، وكلاهما له وجه من النظر، ولا شك أن عدم الاقتصار على أول النهار أحوط، والعلم عند الله تعالى.
وحجة مالك: في أن الوقوف نهارا لا يجزئ إلا إذا وقف معه جزءا من الليل: هي أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل كذلك، وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) فيلزمنا أن نأخذ عنه من مناسكنا الجمع في الوقوف بين الليل والنهار، ولا يخفى أن هذا لا ينبغي أن يعارض به الحديث الصريح في محل النزاع الذي فيه، وكان قد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه كما ترى.
واعلم: أنه إن وقف بعد الزوال بعرفة ثم أفاض منها قبل الغروب ثم رجع إلى عرفة في ليلة جمع: أن وقوفه تام ولا دم عليه في أظهر القولين، لأنه جمع في وقوفه بين الليل والنهار، خلافا لأبي حنيفة، وأبي ثور القائلين: بأن الدم لزمه بإفاضته، قبل الليل وأن رجوعه بعد ذلك ليلا لا يسقط عنه ذلك الدم بعد لزومه. والله تعالى أعلم.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: اعلم أنه لا خلاف بين أهل العلم في صحة الوقوف، دون الطهارة، فيصح وقوف الجنب والحائض، وقد قدمنا دليل ذلك في حديث عائشة المتفق عليه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها فيه، بأن تفعل كل ما يفعله الحاج، غير أن لا تطوف بالبيت.
438

الفرع الثاني: اعلم أن العلماء اختلفوا في صحة وقوف المغمى عليه بعرفة. قال النووي، في شرح المهذب: ذكرنا أن الأصح عندنا أنه لا يصح وقوف المغمى عليه، وحكاه ابن المنذر عن الشافعي وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، قال: وبه أقول، وقال مالك وأبو حنيفة: يصح.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ليس في وقوف المغمى عليه نص من كتاب ولا سنة، يدل على صحته أو عدمها.
وأظهر القولين عندي: قول من قال: بصحته لما قدمنا، من أنه لا يشترط له نية تخصه، وإذا سلمنا صحته بدون النية، كما قدمنا أنه هو الصواب فلا مانع من صحته من المغمى عليه، كما يصح من النائم، واحتج من خالف في ذلك، بأن المغمى عليه ليس من أهل العبادة، حتى يصح وقوفه، وممن قال بعدم صحته: الحسن، وممن قال بصحته: عطاء، والله تعالى أعلم.
الفرع الثالث: اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن وقف بعرفات، وهو لا يعلم أنها عرفات، قال النووي في شرح المهذب: قد ذكرنا أن مذهبنا صحة وقوفه، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وحكى ابن المنذر عن بعض العلماء أنه لا يجزئه. انتهى منه.
الفرع الرابع: اعلم أنه لا خلاف بين العلماء في مشروعية جمع الظهر والعصر جمع تقويم يوم عرفة والمغرب والعشاء جمع تأخير بمزدلفة، وقد ثبت ذلك في صحيح مسلم وغيره من حديث جابر رضي الله عنه.
وأظهر الأقوال دليلا: أنه يؤذن للظهر فقط، ويقيم لكل واحدة منهما.
وأظهر قولي أهل العلم عندي: أن جميع الحجاج يجمعون الظهر والعصر، ويقصرون، وكذلك في جمع التأخير في مزدلفة يقصرون العشاء، وأن أهل مكة وغيرهم في ذلك سواء، وأن حديث (أتموا فإنا قوم سفر) إنما قاله لهم النبي صلى الله عليه وسلم في مكة لا في عرفة ولا في مزدلفة، وروى مالك بإسناده الصحيح في الموطأ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (أنه لما قدم مكة صلى بهم ركعتين، ثم انصرف فقال: يا أهل مكة: أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر. ثم صلى عمر بن الخطاب ركعتين بمنى، ولم يبلغنا أنه قال لهم شيئا، وممن قال بأن أهل مكة يقصرون بعرفة ومزدلفة ومنى: مالك، وأصحابه، والقاسم بن محمد، وسالم، والأوزاعي. وممن قال بأن أهل مكة يتمون صلاتهم في عرفة، ومزدلفة، ومنى: الأئمة
439

الثلاثة: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وعطاء، ومجاهد، والزهري، وابن جريج، والثوري، ويحيى القطان، وابن المنذر، كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني، وعزا النووي هذا القول للجمهور.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: لا يخفى أن ظاهر الروايات: أن النبي صلى الله عليه وسلم وجميع من معه جمعوا وقصروا، ولم يثبت شيء يدل على أنهم أتموا صلاتهم بعد سلامه في منى ولا مزدلفة ولا عرفة، بل ذلك الإتمام في مكة، وقد قدمنا أن تحديد مسافة القصر لم يثبت فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأن أقوى الأقوال دليلا: هو أن كل ما يطلق عليه اسم السفر لغة تقصر فيه الصلاة كما أوضحنا ذلك بأدلته في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى: * (وإذا ضربتم فى الا رض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلواة) *.
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد ما نصه: فلما أتمها يعني الخطبة، يوم عرفة، أمر بلالا، فأذن، ثم أقام فصلى الظهر ركعتين، أسر فيهما بالقراءة، وكان يوم الجمعة. فدل على أن المسافر لا يصلي جمعة، ثم أقام، فصلى العصر ركعتين أيضا، ومعه أهل مكة وصلوا بصلاته قصرا وجمعا بلا ريب، ولم يأمرهم بالإتمام، ولا بترك الجمع، ومن قال إنه قال لهم (أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) فقد غلط عليه غلطا بينا، ووهم وهما قبيحا، وإنما قال لهم ذلك في غزاة الفتح بجوف مكة، حيث كانوا في ديارهم مقيمين، ولهذا كان أصح أقوال العلماء أن أهل مكة يقصرون، ويجمعون بعرفة، كما فعلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا أوضح دليل على أن سفر القصر لا يتحدد بمسافة معلومة، ولا بأيام معلومة، ولا تأثير للنسك في قصر الصلاة البتة، وإنما التأثير لما جعله الله سببا، وهو السفر. هذا مقتضى السنة ولا وجه لما ذهب إليه الملحدون. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.
وقد قدمنا قول من قال: إن القصر والجمع المذكور، لأهل مكة من أجل النسك، والعلم عند الله تعالى.
ولا يخفى أن حجة من قالوا: بإتمام أهل مكة صلاتهم في عرفة ومزدلفة ومنى، هو ما قدمنا من تحديدهم للمسافة بأربعة برد أو ثلاثة أيام. وعرفة ومزدلفة ومنى أقل مسافة من ذلك، قالوا: ومن سافر دون مسافة القصر أتم صلاته، هذا هو دليلهم.
الفرع الخامس: اعلم أن الصعود على جبل الرحمة الذي يفعله كثير من العوام
440

لا أصل له، ولا فضيلة فيه، لأنه لم يرد في خصوصه شيء بل هو كسائر أرض عرفة، وعرفة كلها موقف، وكل أرضها سواء إلا موقف رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فالوقوف فيه أفضل من غيره، كما قاله غيره واحد، وبذلك تعلم أنما قاله أبو جعفر بن جرير الطبري والماوردي من استحباب صعود جبل الرحمة لا يعول عليه. والعلم عند الله تعالى.
والتحقيق: أن عرنة ليست من عرفة، فمن وقف بعرنة لم يجزئه ذلك وما يذكر عن مالك، من أن وقوفه بعرنة يجزئ، وعليه دم، خلاف التحقيق الذي لا شك فيه، والظاهر أنه لم يصح عن مالك.
المسألة الثامنة: لا خلاف بين العلماء أنه إن غربت الشمس واستحكم غروبها، وهو واقف بعرفة، أفاض منها إلى المزدلفة، وذلك هو معنى قوله تعالى * (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) *. كما قدمنا إيضاحه في سورة البقرة.
وقد بينت الأحاديث الصحيحة كيفية إفاضته من عرفات، ففي حديث جابر الطويل عند مسلم (فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص. وأردف أسامة خلفه. ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام. حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله. ويقول بيده اليمنى (أيها الناسا السكينة السكينة) كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا. حتى تصعد. حتى أتى المزدلفة. فصلى بها المغرب والعشاء) الحديث، وقول جابر في هذا الحديث: وقد شنق للقصواء الزمام، يعني أنه يكفها بزمامها عن شدة المشي، والمورك بفتح الميم وكسر الراء: هو الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه قدم واسطة الرحل، إذا مل من الركوب. وضبطه القاضي عياض بفتح الراء قال: وهو قطعة أدم يتورك عليها الراكب، تجعل في مقدمة الرحل، شبه المخدة الصغيرة، وقوله: ويقول بيده السكينة السكينة: أي يأمرهم بالسكينة مشيرا بيده، والسكينة: الرفق والطمأنينة، وقول جابر في هذا الحديث: كلما أتى حبلا من الحبال: هو بالحاء المهملة، والباء الموحدة، والمراد بالحبل في حديثه: الرمل المستطيل المرتفع، ومنه قول ذي الرمة: وقد شنق للقصواء الزمام. حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله. ويقول بيده اليمنى (أيها الناسا السكينة السكينة) كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا. حتى تصعد. حتى أتى المزدلفة. فصلى بها المغرب والعشاء) الحديث، وقول جابر في هذا الحديث: وقد شنق للقصواء الزمام، يعني أنه يكفها بزمامها عن شدة المشي، والمورك بفتح الميم وكسر الراء: هو الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه قدم واسطة الرحل، إذا مل من الركوب. وضبطه القاضي عياض بفتح الراء قال: وهو قطعة أدم يتورك عليها الراكب، تجعل في مقدمة الرحل، شبه المخدة الصغيرة، وقوله: ويقول بيده السكينة السكينة: أي يأمرهم بالسكينة مشيرا بيده، والسكينة: الرفق والطمأنينة، وقول جابر في هذا الحديث: كلما أتى حبلا من الحبال: هو بالحاء المهملة، والباء الموحدة، والمراد بالحبل في حديثه: الرمل المستطيل المرتفع، ومنه قول ذي الرمة:
* ويوما بذي الأرطى إلى جنب مشرف
* بوعسائه حيث اسبطرت حبالها
*
441

وقول عمر بن أبي ربيعة: وقول عمر بن أبي ربيعة:
* يا ليتني قد أجزت الحبل نحوكم
* حبل المعرف أو جاوزت ذا عشر
*
وحديث جابر هذا الدال على الرفق، وعدم الإسراع، وما جاء في معناه من الأحاديث يفسره حديث أسامة الثابت في الصحيحين (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير العنق فإذا وجد فجوة نص) والعنق بفتحتين: ضرب من السير دون النص، ومنه قول الراجز: يسير العنق فإذا وجد فجوة نص) والعنق بفتحتين: ضرب من السير دون النص، ومنه قول الراجز:
* يا ناق سيري عنقا فسيحا
* إلى سليمان فنستريحا
*
والندص: أعلى غاية الإسراع، ومنه قول كثير: والندص: أعلى غاية الإسراع، ومنه قول كثير:
* حلفت برب الراقصات إلى منى
* يجوب الفيافي نصها وذميلها
*
والفجوة تقدم تفسيرها بشواهده العربية في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: * (وهم فى فجوة منه) *.
وإذا علمت وقت إفاضته صلى الله عليه وسلم من عرفات إلى المزدلفة، وكيفية إفاضته، فاعلم (أنه صلى الله عليه وسلم نزل في الطريق، فبال، وتوضأ وضوءا خفيفا، وأخبرهم بأن الصلاة أمامهم. ثم أتى المزدلفة، فأسبغ وضوءه، وصلى المغرب والعشاء بأذان واحد، وإقامتين، ولم يصل بينهما شيئا ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر، وصلى الفجر، حين تبين له الصبح بأذان، وإقامة، ثم ركب القصواء، حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة، فدعاه، وكبره،
وهلله فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا، فدفع قبل أن تطلع الشمس) ومن فعل كفعله صلى الله عليه وسلم فقد أصاب السنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم (لتأخذوا عني مناسككم) وأما من خالف في ذلك، فلم يبت بالمزدلفة، فقد اختلف العلماء في حكمه إلى ثلاثة مذاهب:
الأول: أن المبيت بمزدلفة واجب يجبر بدم.
الثاني: أنه ركن لا يتم الحج بدونه.
الثالث: أنه سنة وليس بواجب، والقول: بأنه واجب يجبر بدم: هو قول أكثر أهل العلم منهم: مالك، وأحمد، وأبو حنيفة، والشافعي في المشهور عنه، وعطاء، والزهري، وقتادة، والثوري، وإسحاق، وأبو ثور.
قال النووي في شرح المهذب: قد ذكرنا أن المشهور من مذهبنا: أنه ليس بركن،
442

فلو تركه صح حجه. قال القاضي أبو الطيب، وأصحابنا: وبهذا قال جماهير العلماء من السلف والخلف. انتهى منه.
وممن قال: بأنه ركن لا يصح الحج إلا به خمسة من أئمة التابعين، وبعض الشافعية، وأما الخمسة المذكورون: فهم علقمة، والأسود، والشعبي، والنخعي، والحسن البصري، وممن قال به من الشافعية: أبو عبد الرحمن بن بنت الشافعي، وأبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، كما نقله عنهم النووي في شرح المهذب، ونقله القرطبي أيضا عن عكرمة، والأوزاعي وحماد بن أبي سليمان، قال: وروي عن ابن الزبير. وقال ابن القيم في زاد المعاد: وهو مذهب اثنين من الصحابة: ابن عباس، وابن الزبير، وإليه ذهب إبراهيم النخعي، والشعبي، وعلقمة والحسن البصري، وهو مذهب الأوزاعي وحماد بن أبي سليمان، وداود بن علي الظاهري، وأبي عبيد القاسم بن سلام. واختاره المحمدان ابن جرير وابن خزيمة، وهو أحد الوجوه للشافعية، وهؤلاء القائلون بأن المبيت بمزدلفة: ركن من أركان الحج يقولون: إن فاته المبيت بها تحلل من إحرامه بعمرة، ثم حج من قابل.
وممن قال بأن المبيت بمزدلفة سنة لا يجب يتركه دم: بعض الشافعية، وذكر النووي أن هذا القول مشهور أيضا، لكن الأول أصح منه، وعن عطاء، والأوزاعي: أنها منزل من شاء نزل به، ومن شاء لم ينزل به، وروى نحوه الطبري بسند فيه ضعف، عن ابن عمر مرفوعا، قاله الحافظ في الفتح.
فإذا علمت أقوال أهل العلم في حكم المبيت بمزدلفة، فهذه تفاصيل أدلتهم، أما الذين قالوا: بأنه واجب، وليس بركن: فقد استدلوا على أنه ليس بركن بحديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي رضي الله عنه، وقد قدمنا ألفاظ رواياته، وأنه صحيح، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فيه (أن من أدرك عرفة ولو في آخر جزء من ليلة النحر قبل الصبح أنه تم حجه وقضى تفثه) ومعلوم أن هذا الواقف بعرفة في آخر جزء من ليلة النحر، قد فاته المبيت بمزدلفة قطعا بلا شك، ومع ذلك فقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور بأن حجه تام.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الظاهر أن الاستدلال بهذا الحديث على هذا الحكم صحيح، ودلالته عليه هي المعروفة عند أهل الأصول بدلالة الإشارة، ومعلوم في الأصول أن دلالة الإشارة، ودلالة الاقتضاء، ودلالة الإيماء والتنبيه كلها من دلالة الالتزام، ومعلوم أن هذه الأنواع من دلالة الالتزام اختلف فيها هل هي من قبيل المنطوق غير
443

الصريح، أو من قبيل المفهوم؟ وإلى ذلك أشار في مراقي السعود بقوله: قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الظاهر أن الاستدلال بهذا الحديث على هذا الحكم صحيح، ودلالته عليه هي المعروفة عند أهل الأصول بدلالة الإشارة، ومعلوم في الأصول أن دلالة الإشارة، ودلالة الاقتضاء، ودلالة الإيماء والتنبيه كلها من دلالة الالتزام، ومعلوم أن هذه الأنواع من دلالة الالتزام اختلف فيها هل هي من قبيل المنطوق غير الصريح، أو من قبيل المفهوم؟ وإلى ذلك أشار في مراقي السعود بقوله:
* وفي كلام الوحي والمنطوق هل
* ما ليس بالصريح فيه قد دخل
*
* وهو دلالة اقتضاء أن يدل
* لفظ ما دونه لا يستقل
* دلالة اللزوم مثل ذات
; إشارة كذلك الايما آتي. إلخ
وقصدنا هنا إيضاح دلالة الإشارة دون غيرها، وضابط دلالة الإشارة هي: أن يساق النص لمعنى مقصود: فيلزم ذلك المعنى المقصود أمر آخر غير مقصود باللفظ لزوما لا ينفك، كما أشار له في المراقي بقوله: وقصدنا هنا إيضاح دلالة الإشارة دون غيرها، وضابط دلالة الإشارة هي: أن يساق النص لمعنى مقصود: فيلزم ذلك المعنى المقصود أمر آخر غير مقصود باللفظ لزوما لا ينفك، كما أشار له في المراقي بقوله:
* فأول إشارة اللفظ لما
* لم يكن القصد له قد علما
*
فإذا علمت ذلك، فاعلم أنه صلى الله عليه وسلم، لم يذكر حديث عبد الرحمن بن يعمر المذكور لقصد بيان حكم المبيت بمزدلفة، ولكنه ذكره قاصدا بيان أن من أدرك الوقوف بعرفة في آخر جزء من ليلة النحر أن حجه تام، وهذا المعنى المقصود يلزمه حكم آخر غير مقصود باللفظ وهو عدم ركنية المبيت بمزدلفة، لأنه إذا لم يدرك عرفة إلا في الجزء الأخير من الليل، فقد فاته المبيت بمزدلفة قطعا، ومع ذلك فقد صرح صلى الله عليه وسلم بأن حجه تام.
ومن أمثلة دلالة الإشارة في القرآن قوله تعالى: * (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسآئكم) * فإنه يدل بدلالة الإشارة المذكورة، على صحة صوم من أصبح جنبا، لأن الآية الكريمة سيقت لبيان جواز الجماع في ليلة الصيام، وذلك صادق بآخر جزء منها، بحيث لا يبقى بعده من الليل، قدر ما يسع الاغتسال، فيلزم من جواز الجماع في آخر جزء من الليل، الذي دلت عليه الآية أنه لا بد أن يصبح جنبا، ولفظ الآية: لم يقصد به صحة صوم من أصبح جنبا، ولكن المعنى الذي قصد به يلزمه ذلك كما بينا.
ومن أمثلتها أيضا في القرآن قوله تعالى * (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) * مع قوله: * (وفصاله فى عامين) * فإن الآيتين لم يقصد بلفظهما بيان قدر أقل أمد الحمل، ولكن المعنى الذي قصد بهما يلزمه أن أقل أمد الحمل ستة أشهر، لأنه جمع الحمل والفصال في ثلاثين شهرا، ثم بين أن الفصال في عامين، فيطرح من الثلاثين شهرا أربعة وعشرون التي هي عاما الفصال، فيبقى ستة أشهر، فدلت الآيتان دلالة الإشارة على أن أقل أمد الحمل ستة أشهر، ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم كما أوضحناه في سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى: * (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما
444

تغيض الا رحام وما تزداد وكل شىء عنده بمقدار) *.
ومراد الأصوليين أن المدلول عليه بالإشارة لم يقصد باللفظ، أن اللفظ لا يتناوله بحسب الوضع اللغوي، مع علمهم بأن علم الله محيط بكل شيء، سواء دل عليه اللفظ المذكور بمنطوقه أو لم يدل عليه، وحجتهم في أنه واجب يجبر بدم أنه نسك، وفي أثر ابن عباس: من ترك نسكا فعليه دم، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى.
وأما حجة من قال: إنه ركن فهي من كتاب وسنة.
أما الكتاب، فقوله تعالى: * (فإذآ أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام) * قالوا: فهذا الأمر القرآني الصريح، يدل على أنه لا بد من ذكر الله عند المشعر الحرام بعد الإفاضة من عرفة.
وأما السنة، فمنها حديث عروة بن مضرس، الذي سقناه سابقا، فإن فيه (من أدرك معنا هذه الصلاة، وكان قد أتى عرفات، قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه) قالوا: فقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مضرس هذا (من أدرك معنا هذه الصلاة) الحديث. يفهم منه أن من لم يدركها معهم لم يتم حجه، ولم يقض تفثه، والمراد بها صلاة الصبح بمزدلفة كما هو واضح، قالوا: وفي رواية عند النسائي، عن عروة بن مضرس: من أدرك جمعا مع الإمام، والناس حتى يقيض منها، فقد أدرك الحج، ومن لم يدرك مع الناس الإمام فلم يدرك، قالوا: ولأبي يعلى ومن لم يدرك جمعا، فلا حج له. وأجاب الجمهور القائلون: بأن المبيت بمزدلفة، ليس بركن، عن أدلة هؤلاء القائلين: إنه ركن لا يتم الحج إلا به.
قالوا: أما الآية التي استدلوا بها على وجوب الوقوف بمزدلفة التي هي قوله تعالى: * (فإذآ أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام) *، فإنها لم تتعرض للوقوف بمزدلفة أصلا، وإنما أمر فيها بذكر الله عند المشعر الحرام.
قالوا: وقد أجمعوا كلهم على أن من وقف بمزدلفة، ولم يذكر الله أن حجه تام، فإذا كان الذكر المذكور في الكتاب ليس من صلب الحج بإجماعهم فالموطن الذي يكون الذكر فيه أحرى أن لا يكون فرضا، وأجابوا عن استدلالهم بمفهوم الشرط في حديث عروة بن مضرس المذكور (من أدرك معنا هذه الصلاة) الحديث. بأنهم أجمعوا كلهم، على أنه لو بات بمزدلفة ووقت قبل ذلك بعرفة، ونام عن صلاة الصبح، فلم يصلها مع الإمام، حتى
445

فاتته أنه حجه تام، وقد قدمنا دلالة حديث عبد الرحمن بن يعمر على ذلك.
وأجابوا عن رواية النسائي التي أشرنا إليها التي قال فيها: أخبرنا محمد بن قدامة، قال: حدثني جرير، عن مطرف، عن الشعبي، عن عروة بن مضرس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أدرك جمعا مع الإمام والناس حتى يفيض منها فقد أدرك، ومن لم يدرك مع الناس والإمام فلم يدرك) ا ه بأن هذه الزيادة في هذه الرواية، لم تثبت.
قال ابن حجر في فتح الباري في بيان تضعيف الزيادة المذكورة: وقد صنف أبو جعفر العقيلي جزءا في إنكار هذه الزيادة، وبين أنها من رواية مطرق عن الشعبي، عن عروة، وأن مطرفا كان يهم في المتون، قال: وقد ارتكب ابن حزم الشطط فزعم: أن من لم يصل صلاة الصبح بمزدلفة مع الإمام: أن الحج بقوته، ولم يعتبر ابن قدامة مخالفته هذه، فحكى الإجماع على الإجزاء كما حكاه الطحاوي. انتهى كلام ابن حجر مع حذف يسير.
وأجابوا عن الرواية المذكورة عند أبي يعلى، وغيره: بأنها ضعيفة.
قال النووي في شرح المهذب في كلامه على قول القائلين: بأنه ركن، واحتج لهم بالحديث المروي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من فاته المبيت بمزدلفة فقد فاته الحج) ثم قال: وأما الحديث فالجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أنه ليس بثابت ولا معروف.
والثاني: أنه لو صح لحمل على فوات كمال الحج لا فوات أصله. انتهى منه.
وما ذكرنا عن ابن حجر من تضعيف الزيادة المذكورة يعني به ما عند النسائي، وأبي يعلى منها في حديث عروة المذكور.
ومن أدلتهم على أن المبيت بمزدلفة ركن: أن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فعل، وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) وأجاب الجمهور عن هذا: بأنهم لم يخالفوا في أنه نسك، ينبغي أن يؤخذ عنه صلى الله عليه وسلم، ولكن صحة الحج بدونه علمت بدليل آخر: وهو حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي المذكور سابقا، الدال على عدم اشتراط المبيت بمزدلفة، كما أوضحنا وجه دلالته على ذلك، والعلم عند الله تعالى.
وأما حجة من قال: إن المبيت بمزدلفة: سنة، وليس بركن، ولا واجب هي: أنه مبيت، فكان سنة كالمبيت بمنى ليلة عرفة. أعني: الليلة التاسعة، التي صبيحتها يوم عرفة، هذا هو حاصل أقوال أهل العلم، وأدلتهم في المبيت بمزدلفة.
446

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: قد قدمنا أن الاستدلال بحديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي رضي الله عنه، على عدم ركنية المبيت بمزدلفة صحيح، وأن دلالته على ذلك دلالة إشارة كما هو معروف في الأصول، ولا شك أنه ينبغي للحاج أن يحرص على أن يفعل كفعل النبي صلى الله عليه وسلم فيبيت بمزدلفة كما قدمنا إيضاحه، والعلم عند الله تعالى.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: قد قدمنا أن المزدلفة كلها موقف، فحيث وقف منها أجزأه، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء، وقد قدمناه من حديث جابر عند مسلم.
الفرع الثاني: اعلم أنه ينبغي التعجيل بصلاة الصبح يوم النحر بمزدلفة في أول وقتها، كما فعل صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن ما رواه البخاري، ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، صلى صلاة إلا بميقاتها إلا صلاتين: صلاة المغرب والعشاء بجمع، وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها. ليس المراد به أنه صلى الصبح قبل طلوع الفجر، لأن ذلك ممنوع إجماعا، ولكن مراده به أنه صلاها قبل ميقاتها المعتاد الذي كان يصليها فيه، ولكن بعد تحقق طلوع الفجر.
ومما يدل على هذا ما رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود نفسه رضي الله عنه حدثنا عمرو بن خالد، حدثنا زهير، حدثنا أبو إسحاق قال: سمعت عبد الرحمن بن يزيد يقول: حج عبد الله رضي الله عنه، فأتينا المزدلفة. الحديث وفيه: فلما طلع الفجر قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي هذه الساعة إلا هذه الصلاة في هذا المكان من هذا اليوم. قال عبد الله: هما صلاتان يحولان عن وقتهما، صلاة المغرب بعد ما يأتي الناس المزدلفة، والفجر حين يبزغ الفجر، قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله انتهى من صحيح البخاري.
فقول ابن مسعود في هذا الحديث الصحيح: فلما طلع الفجر وقوله: والفجر حين يبزغ الفجر واتباعه ذلك بقوله رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، صريح فيما ذكرنا من أن مراده بقوله: قبل ميقاتها يعني به: وقتها الذي يصليها فيه عادة، وليس مراده أنه صلاها قبل طلوع الفجر كما ترى.
447

الفرع الثالث: اعلم أن العلماء اختلفوا في القدر الذي يكفي في النزول بالمزدلفة، فذهب مالك، وأصحابه، إلى أن النزول بمزدلفة بقدر ما يصلي المغرب والعشاء، ويتعشى يكفيه في نزول مزدلفة ولو أفاض منها قبل نصف الليل، وبعضهم يقول: لا بد في ذلك من حط الرحال، وذهب الشافعي وأحمد إلى أنه إن دفع منها بعد نصف الليل أجزأه، وإن دفع منها قبل نصف الليل لزمه دم. وذهب أبو حنيفة إلى أنه دفع منها قبل الفجر لزمه دم، لأن وقت الوقوف عنده بعد الصلاة الصبح، ومن حضر المزدلفة في ذلك الوقت فقد أتى بالوقوف، ومن تركه ودفع ليلا فعليه دم إلا إن كان لعذر.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الأظهر عندي في هذه المسألة: هو أنه ينبغي أن يبيت إلى الصبح، لأنه لا دليل مقنعا يجب الرجوع إليه مع، من حدد بالنصف الأخير، ولا مع من اكتفى بالنزول، وقياسهم الأقوياء على الضعفاء قائلين: إنه لو كان الدفع بعد النصف ممنوعا، لما رخص فيه صلى الله عليه وسلم لضعفة أهله، لأنه لا يرخص لأحد في حرام، قياس مع وجود الفارق، ولا يخفى ما في قياس القوي على الضعيف الذي رخص له لأجل ضعفه كما ترى، ولا خلاف بين العلماء أن السنة أنه يبقى بجمع حتى يطلع الفجر كما تقدم ومن المعلوم أن جمعا والمزدلفة والمشعر الحرام، أسماء مترادفة، يراد بها شيء واحد خلافا لمن خصص المشعر الحرام بقزح دون باقي المزدلفة.
الفرع الرابع: اعلم أنه لا بأس بتقديم الضعفة إلى منى قبل طلوع الفجر. قال ابن قدامة في المغني: ولا نعلم فيه مخالفا اه ومن المعلوم أن ذلك ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: باب من قدم ضعفة أهله بليل فيقفون بالمزدلفة ويدعون، ويقدم إذا غاب القمر: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب قال سالم: وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقدم ضعفة أهله، فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليل فيذكرون الله عز وجل، ما بدا لهم، ثم يرجعون قبل أن يقف الإمام، وقبل أن يدفع، فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم من جمع بليل.
448

حدثنا علي، حدثنا سفيان قال: أخبرني عبيد الله بن أبي يزيد سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول: أنا ممن قدم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله. حدثنا مسدد عن يحيى عن ابن جريج، قال: حدثني عبد الله مولى أسماء، عن أسماء أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة، فقامت تصلي، فصلت ساعة، ثم قالت: يا
بني هل غاب القمر؟ قلت: لا فصلت ساعة ثم قالت: هل غاب القمر؟ قلت: نعم قالت: فارتحلوا، فارتحلنا، ومضينا حتى رمت الجمرة، فصلت الصبح في منزلها، فقلت لها: يا هنتاه: ما أرانا إلا قد غسلنا، قالت: يا بني: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان، حدثنا عبد الرحمن هو ابن القاسم عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذنت سودة النبي صلى الله عليه وسلم ليلة جمع، وكان ثقيلة ثبطة، فأذن لها.
حدثنا أبو نعيم، حدثنا أفلح بن حميد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: نزلنا المزدلفة، فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم سودة أن تدفع قبل حطمة الناس، وكانت امرأة بطيئة، فأذن لها فدفعت قبل حطمة الناس، وأقمنا حتى أصبحنا نحن. ثم دفعنا بدفعه فلان أكون استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنت سودة أحب إلي من مقروح به انتهى من صحيح البخاري.
وهذه الأحاديث التي رواها البخاري عن ابن عمر، وابن عباس، وأسماء وعائشة رضي الله عنهم رواها كلها مسلم في صحيحه أيضا، مع بعض اختلاف في الألفاظ والمعنى.
وروى مسلم في صحيحه: عن أم حبيبة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بها من جمع بليل، وفي لفظ لها عند مسلم: كنا نفعله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم نغلس من جمع إلى منى، وفي رواية الناقد: نغلس من مزدلفة اه وهذه النصوص الصحيحة تدل على جواز تقديم الضعفة والنساء من المزدلفة ليلا كما ترى.
الفرع الخامس: اعلم أن العلماء اختلفوا في الوقت الذي يجوز فيه رمي جمرة العقبة من الضعفة وغيرهم، مع إجماعهم على أن من رماها بعد طلوع الشمس أجزأه ذلك، فذهبت جماعة من أهل العلم، إلى أن أول الوقت الذي يجزئ فيه رمي جمرة العقبة هو ابتداء النصف الأخير من ليلة النحر، وممن قال بهذا: الشافعي، وأحمد، وعطاء، وابن أبي
449

ليلى، وعكرمة بن خالد كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني، وقال النووي في شرح المهذب: وبه قال عطاء، وأحمد، وهو مذهب أسماء بنت أبي بكر، وابن أبي مليكة وعكرمة بن خالد، وذهبت جماعة من أهل العلم: إلى أن أول وقته يبتدئ من بعد طلوع الشمس، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، وذهب بعض أهل العلم إلى أن أول وقته للضعف من طلوع الفجر ولغيرهم من بعد طلوع الشمس، وهو اختيار ابن القيم، وإذا علمت أقوال أهل العلم في المسألة، فهذه تفاصيل أدلتهم.
أما الذين قالوا: إن رمي جمرة العقبة يجوز في النصف الأخير من ليلة النحر فقد استدلوا بما رواه أبو داود في سننه: حدثنا هارون بن عبد الله ثنا ابن أبي فديك، عن الضحاك يعني ابن عثمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت، فأفاضت وكان ذلك اليوم اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني عندها انتهى منه.
قال النووي في شرح المهذب: في هذا الحديث وأما حديث عائشة في إرسال أم سلمة فصحيح. رواه أبو داود بلفظه بإسناد صحيح على شرط مسلم وقال الزيلعي في نصب الراية، بعد أن ساق حديث أبي داود: هذا عن عائشة ورواه البيهقي في سننه وقال: إسناده صحيح لا غبار عليه وما ذكره الزيلعي من أنه قال: إسناده صحيح لا غبار عليه لم أره في سننه الكبرى، وقد ذكر الحديث فيها بدون التصحيح المذكور.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ما ذكره النووي من كون إسناد أبي داود المذكور صحيحا، على شرط مسلم صحيح، لأن طبقته الأولى هارون الحمال وهو ثقة من رجال مسلم، وطبقته الثانية محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك، وهو صدوق. أخرج له الشيخان وغيرهما وطبقته الثالثة الضحاك بن عثمان الحزامي الكبير، وهو صدوق يهم، وهو من رجال مسلم، وباقي الإسناد هشام عن عروة بن الزبير عن عائشة وصحته ظاهرة، فالاحتجاج بهذا الإسناد ظاهر، لأن جميع رجاله من رجال مسلم، وبعض رجاله أخرج له الجميع فظاهره الصحة مع أن بعض أهل العلم ضعفه قائلا: إنه مضطرب متنا وسندا، وممن ذكر أنه ضعفه الإمام أحمد وغيره، ولا يخفى أن رواية أبي داود المذكورة ظاهرها الصحة.
وتعتضد بما رواه الخلال: أنبأنا علي بن حرب، حدثنا هارون بن عمران، عن سليمان بن أبي داود، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: أخبرتني أم سلمة قالت: قدمني
450

رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن قدم من أهله ليلة المزدلفة، قالت: فرميت بليل، ثم مضيت إلى مكة، فصليت بها الصبح، ثم رجعت إلى منى انتهى منه بواسطة نقل ابن القيم في زاد المعاد ولا شك أن هذه الرواية عن أم سلمة تقوي الرواية الأولى عن عائشة. ولما ساق ابن القيم هذه الرواية التي ذكرها الخلال قال: قلت: سليمان بن أبي داود هذا، هو الدمشقي الخولاني ويقال: ابن داود قال أبو زرعة: عن أحمد رجل من أهل الجزيرة ليس بشيء، وقال عثمان بن سعيد: ضعيف.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: رواية سليمان بن داود المذكورة، لا تقل عن أن تعضد الرواية المذكورة قبلها، وسليمان المذكور وثقه، وأثنى عليه غير واحد، قال فيه ابن حبان: سليمان بن داود الخولاني من أهل دمشق ثقة مأمون، وقال البيهقي: وقد أثنى على سليمان بن داود أبو زرعة، وأبو حاتم وعثمان بن سعيد، وجماعة من الحفاظ انتهى بواسطة نقل ابن حجر في تهذيب التهذيب.
وقال ابن حجر فيه أيضا: قلت: أما سليمان بن داود الخولاني، فلا ريب في أنه صدوق، وقال فيه في التقريب: سليمان بن داود الخولاني أبو داود الدمشقي: سكن داريا صدوق من السابعة، وبذلك كله يعلم أن روايته لا تقل عن أن تكون عاضدا لغيرها.
هذا هو حاصل حجة من أجاز رمي الجمرة قبل الصبح.
وأما حجة من قال: لا يجوز رميها، إلا بعد طلوع الشمس، فمنها أن النبي صلى الله عليه وسلم رماها وقت الضحى. وقال: (خذوا عني مناسككم).
ومنها ما رواه أصحاب السنن وغيرهم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم: بعث بضعفة أهله، فأمرهم أن لا يرموا الجمرة، حتى تطلع الشمس). وفي لفظ عن ابن عباس، قال: (قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات فجعل يلطح أفخاذنا ويقول: أي بني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس) قال أبو داود: اللطح الضرب اللين، وهذا الحديث صحيح، وقال الترمذي رحمه الله في هذا الحديث: قال أبو عيسى: حديث ابن عباس حديث حسن صحيح، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم، وقال النووي في شرح المهذب في حديث ابن عباس المذكور، أما حديث ابن عباس، فصحيح رواه أبو داود والترمذي، والنسائي، وغيرهم بأسانيد صحيحة، قال الترمذي: حديث حسن صحيح انتهى كلام النووي.
451

وقال ابن القيم في زاد المعاد في حديث ابن عباس المذكور: حديث صحيح صححه الترمذي وغيره.
وأما حجة من قال: بجواز رمي جمرة العقبة للضعفة بعد الصبح قبل طلوع الشمس دون غيرهم، وأن غيرهم لا يجوز له رميها إلا بعد طلوع الشمس، فمنها حديث أسماء المتفق عليه الذي قدمناه.
قال فيه: قالت: يا بني: هل غاب القمر؟ قلت: نعم، قالت: فارتحلوا، فارتحلنا، ومضينا، حتى رمت الجمرة، ثم رجعت، فصلت الصبح في منزلها فقلت لها: يا هنتاه: ما أرانا إلا قد غلسنا قالت: يا بني: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن) اه. فهذا الحديث المتفق عليه صريح أن أسماء رمت الجمرة قبل طلوع الشمس، بل بغلس، وهو بقية الظلام، ومنه قول الأخطل. أذن للظعن) اه. فهذا الحديث المتفق عليه صريح أن أسماء رمت الجمرة قبل طلوع الشمس، بل بغلس، وهو بقية الظلام، ومنه قول الأخطل.
* كذبتك عينك أم رأيت بواسط
* غلس الظلام من الرباب خيالا
*
وصرحت بأنه صلى الله عليه وسلم: أذن في ذلك للظعن، ومفهومه أنه لم يأذن للأقوياء الذكور كما ترى.
ومنها حديث ابن عمر المتفق عليه الذي قدمناه أيضا، فإن فيه: أنه كان يقدم ضعفة أهله، وأن منهم من يقدم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك فإذا قدموا رموا الجمرة، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحديث ابن عمر هذا المتفق عليه، يدل دلالة واضحة، على الترخيص للضعفة في رمي جمرة العقبة بعد الصبح، قبل طلوع الشمس كما ترى، ومفهومه أنه لم يرخص لغيرهم في ذلك. قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: إن الذي يقتضي الدليل رجحانه في هذه المسألة: أن الذكور الأقوياء لا يجوز لهم رمي جمرة العقبة، إلا بعد طلوع الشمس، وأن الضعفة والنساء لا ينبغي التوقف في جواز رميهم بعد الصبح، قبل طلوع الشمس، لحديث أسماء، وابن عمر المتفق عليهما الصريحين في الترخيص لهم في ذلك، وأما رميهم أعني الضعفة والنساء، قبل طلوع الفجر، فهو محل نظر، فحديث عائشة عند أبي داود يقتضي جوازه، وحديث ابن عباس عند أصحاب السنن: يقتضي منعه.
والقاعدة المقررة في الأصول: هي أن يجمع بين النصين إن أمكن الجمع وإلا فالترجيح بينهما، وقد جمعت بينهما جماعة من أهل العلم، فجعلوا لرمي جمرة العقبة
452

وقتين: وقت فضيلة، ووقت جواز، وحملوا حديث ابن عباس: على وقت الفضيلة، وحديث عائشة: على وقت الجواز، وله وجه من النظر. والعلم عند الله تعالى.
أما الذكور الأقوياء فلم يرد في الكتاب ولا السنة دليل يدل على جواز رميهم جمرة العقبة، قبل طلوع الشمس، لأن جميع الأحاديث الواردة في الترخيص في ذلك كلها في الضعفة، وليس شيء منها في الأقوياء الذكور، وقد قدمنا أن قياس القوي على الضعيف الذي رخص له من أجل ضعفه قياس مع وجود الفارق، وهو مردود كما هو مقرر في الأصول وإليه أشار في مراقي السعود بقوله: أما الذكور الأقوياء فلم يرد في الكتاب ولا السنة دليل يدل على جواز رميهم جمرة العقبة، قبل طلوع الشمس، لأن جميع الأحاديث الواردة في الترخيص في ذلك كلها في الضعفة، وليس شيء منها في الأقوياء الذكور، وقد قدمنا أن قياس القوي على الضعيف الذي رخص له من أجل ضعفه قياس مع وجود الفارق، وهو مردود كما هو مقرر في الأصول وإليه أشار في مراقي السعود بقوله:
* والفرق بين الأصل والفرع قدح
* إبداء مختص بالأصل قد صلح
* إلخ
ومحل الشاهد منه قوله: إبداء مختص بالأصل قد صلح، لأن معترض قياس القوي على الضعيف في هذه المسألة يبدي وصفا مختصا بالأصل، دون الفرع صالحا للتعليل، وهو الضعف، لأن الضعف الموجود في الأصل، المقيس عليه، الذي هو علة الترخيص المذكور، ليس موجودا في الفرع المقيس الذي هو الذكر القوي كما ترى والعلم عند الله تعالى.
الفرع السادس: اعلم أن وقت رمي جمرة العقبة يمتد إلى آخر نهار يوم النحر، فمن رماها قبل الغروب من يوم النحر فقد رماها في وقت لها.
قال ابن عبد البر: أجمع أهل العلم على أن من رماها يوم النحر، قبل المغيب فقد رماها في وقت لها وإن لم يكن مستحبا لها انتهى منه بواسطة نقل ابن قدامة في المغني
فإن فات يوم النحر، ولم يرمها فقال بعض أهل العلم: يرميها ليلا والذين قالوا: يرميها ليلا: منهم من قال: رميها ليلا أداء لا قضاء، وهو أحد وجهين مشهورين للشافعية حكاهما صاحب التقريب، والشيخ أبو محمد الجويني، وولده إمام الحرمين، وآخرون.
قال النووي: وروى مالك في الموطأ عن أبي بكر بن نافع مولى ابن عمر، عن أبيه نافع: أن ابنة أخ لصفية بنت أبي عبيد نفست بالمزدلفة، فتخلفت هي وصفية، حتى أتتا من بعد أن غربت الشمس من يوم النحر، فأمرهما عبد الله بن عمر: أن ترميا، ولم ير عليهما شيئا انتهى منه وهو دليل على أن ابن عمر يرى أن رميها في الليل أداء، لمن كان له عذر
453

كصفية وابنة أخيها. وممن قال يرميها ليلا: مالك وأصحابه، لأن مذهبه قضاء الرمي الفائت في الليل وغيره.
وفي الموطأ قال يحيى: سئل مالك عمن نسي جمرة من الجمار في بعض أيام منى حتى يمسي؟ قال: ليرم أية ساعة ذكر من ليل أو نهار، كما يصلي الصلاة، إذا نسيها، ثم ذكرها ليلا أو نهارا، فإن كان ذلك بعد ما صدر، وهو بمكة، أو بعد ما يخرج منها فعليه الهدي انتهى من الموطأ.
وقال الشيخ المواق في شرحه: لمختصر خليل بن إسحاق المالكي في الكلام على قوله: والليل قضاء، قال ابن شاس. للرمي وقت أداء، ووقت قضاء، ووقت فوات، فوقت الأداء: في يوم النحر من طلوع الفجر إلى غروب الشمس قال: وتردد الباجي في الليلة التي تلي يوم النحر هل هي وقت أداء، أو وقت قضاء؟ ووقت الأداء في كل يوم من الأيام الثلاثة، من بعد الزوال، إلى مغيب الشمس، وبتردد في الليل كما تقدم انتهى منه.
وقال الشيخ شهاب الدين أحمد الشلبي في حاشيته على: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق في الفقه الحنفي: ولو أخر الرمي إلى الليل رماها، ولا شيء عليه، لأن الليل تبع لليوم في مثل هذا، كما في الوقوف بعرفة، فإن أخره إلى الغد رماه وعليه دم انتهى كرماني انتهى منه.
وقال بعض أهل العلم: إن غربت الشمس من يوم النحر، وهو لم يرم جمرة العقبة، لم يرمها في الليل، ولكن يؤخر رميها، حتى تزول الشمس من الغد، قال ابن قدامة في المغني: فإن أخرها إلى الليل، لم يرمها، حتى تزول الشمس من الغد وبهذا قال أبو حنيفة، وإسحاق، وقال الشافعي ومحمد بن المنذر ويعقوب: يرميها ليلا لقول النبي صلى الله عليه وسلم (ارم ولا حرج) انتهى من المغني.
فإذا عرفت أقوال أهل العلم في الرمي ليلا هل يجوز أولا؟ وعلى جوازه هل هو أداء أو قضاء؟
فاعلم أن من قال بجواز الرمي ليلا، استدل بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: من أنه لا حرج على من رمى بعد ما أمسى، قال البخاري في صحيحه: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل يوم النحر بمنى فيقول (لا حرج، فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح؟ قال:
454

اذبح ولا حرج، وقال: رميت بعد ما أمسيت؟ فقال: لا حرج) قالوا: قد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأن من رمى بعد ما أمسى لا حرج عليه، واسم المساء يصدق بجزء من الليل.
واعلم أن من قالوا: لا يجوز الرمي ليلا ردوا الاستدلال بهذا الحديث قائلين: إن مراد السائل بقوله بعد ما أمسيت يعني به بعد زوال الشمس في آخر النهار قبل الليل قالوا: والدليل الواضح على ذلك: أن حديث ابن عباس المذكور فيه: كان النبي صلى الله عليه وسلم، يسأل يوم النحر بمنى الحديث، فتصريحه بقوله يوم النحر، يدل على أن السؤال وقع في النهار والرمي بعد الإمساء، وقع في النهار، لأن المساء يطلق لعة على ما بعد وقت الظهر إلى الليل.
قال ابن حجر في فتح الباري في شرح الحديث المذكور: قال: رميت بعد ما أمسيت: أي بعد دخول المساء وهو يطلق على ما بعد الزوال إلى أن يشتد الظلام، فلم يتعين لكون الرمي المذكور كان بالليل انتهى منه.
وقال ابن منظور في: لسان العرب المساء بعد الظهر إلى صلاة المغرب، وقال بعضهم: إلى نصف الليل ا ه.
قالوا: فالحديث صريح في أن المراد بالإمساء فيه آخر النهار، بعد الزوال لا الليل، وإذا فلا حجة فيه للرمي ليلا، وأجاب القائلون: بجواز الرمي ليلا عن هذا بأجوبة:
الأول منها: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا حرج) بعد قول السائل: رميت بعد ما أمسيت يشمل لفظه نفي الحرج، عمن رمى بعد ما أمسى وخصوص سببه بالنهار لا عبرة به لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، ولفظ المساء عام لجزء من النهار وجزء من الليل، وسبب ورود الحديث المذكور خاص بالنهار، وقد قدمنا الأدلة الصحيحة على أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك.
الجواب الثاني: أنه ثبت في بعض روايات حديث ابن عباس المذكور، ما هو أعم من يوم النحر، وهو صادق قطعا، بحسب الوضع اللغوي ببعض أيام التشريق، ومعلوم أن الرمي فيها لا يكون إلا بعد الزوال فقول السائل في بعض أيام التشريق: رميت بعد ما أمسيت لا ينصرف إلا إلى الليل، لأن الرمي فيها بعد الزوال معلوم فلا يسأل عنه صحابي.
قال أبو عبد الرحمان النسائي في سننه أخبرنا محمد بن عبد الله بن بزيع، قال:
455

حدثنا يزيد، هو ابن زريع قال: حدثنا خالد عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أيام منى فيقول (لا حرج) فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح قال: (لا حرج) فقال رجل: رميت بعد ما أمسيت قال: (لا حرج) انتهى منه، وهذا الحديث صحيح الإسناد كما ترى، لأن طبقته الأولى، محمد
بن عبد الله بن بزيع، وهو ثقة معروف، وهو من رجال مسلم في صحيحه، وبقية إسناده هي بعينها إسناد البخاري الذي ذكرناه آنفا، وقوله في هذا الحديث الصحيح: أيام منى بصيغة الجمع صادق بأكثر من يوم واحد، فهو صادق بحسب وضع اللغة ببعض أيام التشريق، والسؤال عن الرمي بعد المساء فيها لا ينصرف إلا إلى الليل كما بينا.
فإن قيل: صيغة الجمع في رواية النسائي تخصص بيوم النحر الوارد في رواية البخاري فيحمل ذلك الجمع على المفرد نظرا لتخصيصه به، ويؤيد ذلك: أن في رواية أبي داود وابن ماجة لحديث ابن عباس المذكور، يوم منى بالإفراد.
فالجواب: أن المقرر في الأصول أن ذكر بعض أفراد العام، بحكم العام لا يخصصه على مذهب الجمهور، خلافا لأبي ثور. سواء كان العام، وبعض أفراده المذكور بحكمه في نص واحد أو نصين.
فمثال كونهما في نص واحد قوله تعالى: * (حافظوا على الصلوات والصلواة الوسطى) * فلا يخصص عموم الأمر بالمحافظة على جميع الصلوات بالصلاة الوسطى بل المحافظة على جميعها واجبة.
ومثال كونهما في نصين: حديث ابن عباس العام في جلود الميتة (أيما إهاب دبغ فقد طهر) مع حديثه الآخر أنه تصدق على مولاة لميمونة بشاة فماتت فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به) الحديث، فذكر جلد الشاة في هذا الحديث الأخير لا يخصص عموم الجلود المذكورة (أيما إهاب دبغ) الحديث، فجواز الانتفاع عام في جلد الشاة، وفي غيرها من الأهب إلا ما أخرجه دليل خاص، لأن ذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه، وإلى ذلك أشار في مراقي السعود بقوله عاطفا على ما لا يخصص به العموم. فقال (هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به) الحديث، فذكر جلد الشاة في هذا الحديث الأخير لا يخصص عموم الجلود المذكورة (أيما إهاب دبغ) الحديث، فجواز الانتفاع عام في جلد الشاة، وفي غيرها من الأهب إلا ما أخرجه دليل خاص، لأن ذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه، وإلى ذلك أشار في مراقي السعود بقوله عاطفا على ما لا يخصص به العموم.
* وذكر ما وافقه من مفرد
* ومذهب الراوي على المعتمد
*
وللمخالفين القائلين: لا يجوز الرمي ليلا أن يردوا هذا الاستدلال فيقولوا رواية
456

النسائي العامة في أيام منى فيها أنه كان يسأل فيها فيقول (لا حرج) وأنه سأله رجل فقال: رميت بعد ما أمسيت فقال (لا حرج) ولم يعين اليوم الذي قال فيه: رميت بعد ما أمسيت وعموم أيام منى صادق بيوم النحر وقد بينت رواية البخاري أن ذلك السؤال وقع في خصوص يوم النحر من أيام منى ولا ينافي ذلك أنه قال: لا حرج في أشياء أخر في بقية أيام منى، وغاية ذلك أن أيام منى عام ورواية البخاري عينت اليوم الذي قال فيه رميت بعد ما أمسيت.
الجواب الثالث: هو ما قدمنا في الموطأ عن ابن عمر من: أنه أمر زوجته صفية بنت أبي عبيد وابنة أخيها، برمي الجمرة بعد الغروب، ورأى أنهما لا شيء عليهما في ذلك، وذلك يدل على أنه علم من النبي صلى الله عليه وسلم أن الرمي ليلا جائز، وقد يقال: إن صفية وابنة أخيها كان لهما عذر، لأن ابنة أخيها عذرها النفاس ليلة المزدلفة وهي عذرها معاوية ابنة أخيها، والعلم عند الله تعالى.
الفرع السابع: اعلم أنه لا بأس بلقط الحصيات من المزدلفة: أعني السبع التي ترمى بها جمرة العقبة يوم النحر، وبعض أهل العلم يقول: إن لقطها من المزدلفة مستحب، واستدلوا لذلك بأمرين:
الأول: حديث الفضل بن العباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له غداة يوم النحر (القط لي حصى) فلقطت له حصيات مثل حصى الخذف، قال النووي في شرح المهذب: وأما حديث الفضل بن عباس في لقط الحصيات، فصحيح رواه البيهقي بإسناد حسن أو صحيح وهو على شرط مسلم من رواية عبد الله بن عباس، عن أخيه الفضل بن عباس، ورواه النسائي وابن ماجة بإسنادين صحيحين إسناد النسائي، على شرط مسلم، لكنهما روياه من رواية ابن عباس مطلقا، وظاهر روايتيهما أنه عبد الله بن عباس، لا الفضل وكذا ذكره الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في الأطراف في مسند عبد الله بن عباس، لا الفضل بن عباس، ولم يذكره في مسند الفضل والجميع صحيح كما ذكرناه، فيكون ابن عباس وصله في رواية البيهقي وأرسله في روايتي النسائي، وابن ماجة، وهو مرسل صحابي وهو حجة لو لم يعرف المرسل عنه فأولى بالاحتجاج، وقد عرف هنا أنه الفضل بن عباس.
فالحاصل: أن الحديث صحيح من رواية الفضل بن عباس والله أعلم، انتهى كلام النووي.
الأمر الثاني: أن السنة أنه إذا أتى منى لا يشتغل بشيء قبل الرمي، فاستحب أن يأخذ
457

الحصى من منزلة بمزدلفة ليلا يشتغل عن الرمي بلقطه إذا أتى منى، ولا شك أنه إن أخذ الحصى من غير المزدلفة أنه يجزئه لأن اسم الحصى يقع عليه، والله تعالى أعلم.
الفرع الثامن: اعلم أن السنة أن يكون الحصى الذي يرمي به مثل حصى الخذف، لأحاديث واردة بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حديث جابر الطويل في صحيح مسلم: فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها حصى الخذف الحديث.
قال في اللسان: والخذف رميك بحصاة، أو نواة تأخذها بين سبابتيك، وقال الجوهري في صحاحه: الخذف بالحصى الرمي به بالأصابع ومنه قول الشاعر: (خذف أعسرا) ا ه منه، والشاعر امرؤ القيس وتمام البيت: قال في اللسان: والخذف رميك بحصاة، أو نواة تأخذها بين سبابتيك، وقال الجوهري في صحاحه: الخذف بالحصى الرمي به بالأصابع ومنه قول الشاعر: (خذف أعسرا) ا ه منه، والشاعر امرؤ القيس وتمام البيت:
* كأن الحصى من خلفها وأمامها
* إذا نجلته رجلها خذف أعسرا
*
الفرع التاسع: اعلم أن جمهور العلماء على أن رمي جمرة العقبة واجب يجبر بدم، وخالف عبد الملك بن الماجشون من أصحاب مالك الجمهور فقال: هو ركن واحتج الجمهور بالقياس على الرمي في أيام التشريق واحتج ابن الماجشون: بأن النبي صلى الله عليه وسلم رماها، وقال (لتأخذوا عني مناسككم) كما في صحيح مسلم، وفي رواية البيهقي (خذوا عني مناسككم) وفي رواية أبي داود: (لتأخذوا مناسككم).
الفرع العاشر: أجمع العلماء على أنه لا يرمى من الجمرات يوم النحر إلا جمرة العقبة.
الفرع الحادي عشر: اعلم أن الأفضل في موقف من أراد رمي جمرة العقبة أن يقف في بطن الوادي، وتكون منى عن يمينه، ومكة عن يساره كما دلت الأحاديث الصحيحة، على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل كذلك.
قال النووي في شرح المهذب: وبهذا قال جمهور العلماء، منهم ابن مسعود، وجابر، والقاسم بن محمد، وسالم، وعطاء، ونافع، والثوري، ومالك وأحمد، قال ابن المنذر: وروينا أن عمر رضي الله عنه خاف الزخام فرماها من فوقها.
المسألة التاسعة: اعلم أنه إذا رمى الجمرة يوم النحر وحلق فقد تحلل التحلل الأول، وبه يحل كل شيء كان محظورا بالإحرام إلا النساء. وعند مالك: إلا النساء والصيد والطيب، فإن طاف طواف الإفاضة وكان قد سعى بعد طواف القدوم، أو سعى بعد إفاضته فقد تحلل التحلل الثاني، وبه يحل كما شيء كان محظورا بالإحرام، حتى النساء والصيد والطيب.
458

فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: اعلم أنهم اختلفوا في الحلق، هل هو نسك كما قدمنا في سورة البقرة؟.
فمن قال: هو نسك قال: إن التحلل الأول، لا يكون إلا بعد الرمي والحلق معا، ومن قال: إن الحلق غير نسك قال: يتحلل التحلل الأول بمجرد انتهائه من رمي جمرة العقبة يوم النحر.
وأظهر القولين عندي: أن الحلق نسك، كما قدمنا إيضاحه في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى * (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى) *.
الفرع الثاني: في مذاهب العلماء في مسألة التحلل: فمذهب مالك: أنه بمجرد رمي جمرة العقبة يوم النحر: يحل له كل شيء إلا النساء والصيد الطيب، والطيب مكروه عنده بعد رميها لا حرام، وإن طاف طواف الإفاضة. وكان قد سعى حل له كل شيء، ومذهب أبي حنيفة: أنه إذا حلق، أو قصر حل التحلل الأول، ويحل به كل شيء عنده إلا النساء، وإن طاف طواف الإفاضة. حل له النساء، وهم يقولون إن حل النساء بعد الطواف، إنما هو بالحلق السابق، لا بالطواف لأن الحلق هو المحلل، دون الطواف، غير أنه أخر عمله إلى ما بعد الطواف فإذا طاف عمل الحلق عمله كالطلاق الرجعي أخر عمله إلى انقضاء العدة لحاجته إلى الاسترداد، فإذا انقضت عمل الطلاق عمله فبانت.
والدليل على ذلك: أنه لو لم يحلق حتى طاف بالبيت لم يحل له شيء حتى يحلق، وبذلك تعلم أن المدار عندهم على الحلق، إلا أن الحلق عندهم بعد رمي جمرة العقبة، وبعد النحر إن كان الحاج يريد النحر، ومذهب الشافعي في هذه المسألة هو: أنه على القول بأن الحلق نسك، يحصل التحلل الأول باثنين من ثلاثة هي: رمي جمرة العقبة، والحلق، وطواف الإفاضة، فإذا فعل اثنين من هذه الثلاثة تحلل التحلل الأول، وإن فعل الثالث منها تحلل التحلل الثاني، وبالأول يحل عنده كل شيء إلا النساء، وبالثاني تحل النساء، وعلى القول بأن الحلق ليس بنسك، فالتحلل الأول يحصل بواحد من اثنين: هما رمي جمرة العقبة، وطواف الإفاضة. ويحصل التحلل الثاني بفعل الثاني، ومذهب الإمام أحمد هو أنه إن رمى جمرة العقبة، ثم حلق تحلل التحلل الأول، وبه يحل عنده كل شيء إلا النساء، فإن طاف طواف الإفاضة، حلت له النساء.
459

وقال ابن قدامة في المغني بعد أن ذكره: أن هذا هو الصحيح من مذهب أحمد. وهذا قول ابن الزبير، وعائشة وعلقمة، وسالم، وطاوس، والنخعي، وعبد الله بن الحسين، وخارجة بن زيد، والشافعي، وأبي ثور، وأصحاب الرأي، وروي أيضا عن ابن عباس، وعن أحمد أنه يحل له كل شيء إلا الوطء في الفرج، لأنه أغلظ المحرمات، ويفسد النسك، بخلاف غيره. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يحل له كل شيء، إلا النساء، والطيب. وروي ذلك عن ابن عمر وعروة بن الزبير، وعباد بن عبد الله بن الزبير، لأنه من دواعي الوطء فأشبه القبلة، وعن عروة: أنه لا يلبس القميص، ولا العمامة، ولا يتطيب، وروي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا انتهى كلام صاحب المغني.
وإذا عرفت أقوال أهل العلم في المسألة، فهذه تفاصيل أدلتهم.
أما حجة مالك في أن التحلل الأول يحل به ما سوى النساء والصيد والطيب: أما بالنسبة إلى الصيد، فلم أر له مستندا من النقل، إلا أمرين:
أحدهما: أثر مروي عن مكحول عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إذا رميتم الجمرة، فقد حل لكم كل شيء إلا النساء والطيب والصيد: ذكر هذا الأثر صاحب المهذب، وقال النووي في شرحه: وأما الأثر المذكور عن عمر رضي الله عنه فهو مرسل. لأن مكحولا لم يدرك عمر فحديثه عند منقطع ومرسل. والله أعلم.
والثاني: التمسك بظاهر قوله تعالى: * (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) * لأن حرمة الجماع المتفق عليها بعد رمي جمرة العقبة، دليل على بقاء إحرامه في الجملة، فيشمله عموم * (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) *، لأنه لو زال حكم إحرامه بالكلية، لما حرم عليه الوطء.
وأما حجته أعني مالكا بالنسبة إلى النساء والطيب، فهي ما روى في موطئه عن نافع، وعبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس بعرفة، وعلمهم أمر الحج، وقال لهم فيما قال: إذا جئتم منى، فمن رمى الجمرة، فقد حل له ما حرم على الحاج إلا النساء والطيب لا يمس أحد نساء ولا طيبا حتى يطوف بالبيت ا ه.
ومما يستدل به لمالك على ذلك، ما رواه الحاكم في المستدرك: حدثنا أبو
460

عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ، ثنا إبراهيم بن عبد الله، أنبأ زيد بن هارون، أنبأ يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد، عن عبد الله بن الزبير قال: من سنة الحج أن يصلي الإمام الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والصبح بمنى، ثم يغدو إلى عرفة الحديث، وفيه: فإذا رمى الجمرة الكبرى حل له كل شيء حرم عليه إلا النساء والطيب حتى يزور البيت ا ه. ثم قال: هذا حديث على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ولم يتعقبه عليه الذهبي.
هذا هو حاصل حجة مالك وأصحابه في أن التحلل الأول يحل به، ما عدا النساء والصيد والطيب، وقد قدمنا أن الطبيب بعد رمي الجمرة مكروه عنده لا حرام. وأما حجة من قال: إنه إن رمى جمرة العقبة وحلق: حل له كل شيء إلا النساء: كأحمد والشافعي ومن وافقهما، فمنها حديث عائشة المتفق عليه، قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه، حين يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت. هذا لفظ البخاري في صحيحه، ولفظ مسلم في صحيحه عن عائشة قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت، وفي لفظ: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي لحرمه حين أحرم، ولحله حين أحل. قبل أن يطوف بالبيت. وقد ذكر مسلم لهذا الحديث ألفاظا متعددة متقاربة معناها واحد.
منها قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يفيض بأطيب ما وجدت.
ومن أدلتهم على ذلك: ما رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء. قال رجل: والطيب؟ فقال ابن عباس: أما أنا فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضمخ رأسه بالمسك، أفطيب ذلك أم لا؟ قال النووي في شرح المهذب في حديث ابن عباس هذا: وقد روى النسائي بإسناده عن الحسن بن عبد الله العرني، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا رمى الجمرة فقد حل له كل شيء إلا النساء) هكذا رواه النسائي وابن ماجة مرفوعا، وإسناده جيد، إلا أن يحيى بن معين وغيره، قالوا: يقال: إن الحسن العرني لم يسمع ابن عباس ورواه البيهقي موقوفا على ابن عباس. انتهى كلام النووي رحمه الله.
والذي رأيته في سنن النسائي، وابن ماجة: أن حديث الحسن العرني المذكور موقوف عندهما على ابن عباس، إلا ما ذكره من أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يتضمخ بالمسك. وقال
461

ابن حجر في تهذيب التهذيب في الحسن العرني المذكور، قال أحمد: لم يسمع من ابن عباس شيئا، وقال أبو حاتم: لم يدركه ا ه. والعرني بضم العين، وفتح الراء ثم نون: نسبة إلى عرينة بطن من بجيلة.
ومن أدلتهم على ذلك: ما رواه أبو داود في سننه من طريق الحجاج بن أرطاة عن الزهري عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا رمى أحدكم جمرة العقبة، فقد حل له كل شيء إلا النساء) ا ه.
ومعلوم أن هذا الحديث ضعيف من وجهين:
أحدهما: هو ما قدمنا من تضعيف الحجاج بن أرطاة.
والثاني: أن الحجاج المذكور لم يسمع من الزهري. وقد قال أبو داود في سننه بعد أن ساق هذا الحديث: هذا حديث ضعيف: الحجاج لم ير الزهري ولم يسمع منه، وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث: أما حديث عائشة رضي الله عنها فرواه أبو داود بإسناد ضعيف جدا من رواية الحجاج بن أرطاة وقال: هو حديث ضعيف ا ه.
هذا هو حاصل حجة من قال: إنه يحل له بعد رمي جمرة العقبة كل شيء إلا النساء، وأما ما ذكرنا عن الشافعي: من أنه يحل له كل شيء إلا النساء باثنين من ثلاثة: هي الرمي، والحلق، والطواف، وتحل النساء بالثالث منها، بناء على أن الحلق نسك، وعلى أنه ليس بنسك، يحل له كل شيء إلا النساء بواحد من اثنين، هما: الرمي، والطواف وتحل له النساء بالثاني منهما لم نعلم له نصا يدل عليه، هكذا والظاهر أنه رأى هذه الأشياء لها مدخل في التحلل، وقد دل النص الصحيح على حصول التحلل الأول بعد الرمي والحلق، فجعل هو الطواف كواحد منهما. والله تعالى أعلم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: التحقيق أن الطيب يحل له بالتحلل الأول، لحديث عائشة المتفق عليه الذي هو صريح في ذلك. وكذلك لبس الثياب، وقضاء التفث،
وأن الجماع لا يحل إلا بالتحلل الأخير، وأما حيلة الصيد بالتحلل الأول فهي محل نظر، لأن الأحاديث التي فيها التصريح، بأنه يحل له كل شيء إلا النساء، قد علمت ما فيها من الكلام، وحديث عائشة المتفق عليه، لم يتعرض لحل الصيد.
وظاهر قوله: * (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) * يمكن أن يتناول ما بعد التحلل الأول، لأن حرمة الجماع تدل على أنه متلبس بالإحرام في الجملة، وإن كان قد حل له بعض
462

ما كان حراما عليه، والله تعالى أعلم.
المسألة العاشرة في أحكام الرمي
اعلم أن قدمنا في الكلام على الإفاضة من مزدلفة إلى منى، بعض أحكام رمي جمرة العقبة، فبينا كلام العلماء في حكمه، وفي أول وقته وآخره، وذكرنا بعض الأحكام المتعلقة برميها قريبا، والآن سنذكر إنشاء الله المهم من أحكام الرمي.
اعلم أن الرمي في أيام التشريق واجب، يجبر بدم عند جماهير العلماء على اختلاف بينهم في تعدد الدماء فيه، وعدم تعددها، ولا خلاف بينهم في أنه ليس بركن لأن الحج يتم قبله، ويتحلل صاحبه التحلل الأصغر والأكبر، فيحل له كل شيء حرم عليه بالإحرام، فحجه تام إجماعا قبل رمي أيام التشريق، ولكن رميها واجب يجبر بدم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى فيها، وقال (لتأخذوا عني مناسككم).
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: اعلم أن التحقيق أنه لا يجوز الرمي في أيام التشريق، إلا بعد الزوال، لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ففي صحيح مسلم من حديث جابر قال: (رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعد فإذا زالت الشمس) هذا لفظ مسلم عنه في صحيحه، وحديث جابر هذا الذي رواه مسلم في صحيحه موصولا باللفظ الذي ذكرنا، رواه البخاري تعليقا مجزوما به بلفظ: وقال جابر (رمى النبي صلى الله عليه وسلم، يوم النحر ضحى ورمى بعد ذلك بعد الزوال) ثم ساق البخاري رحمه الله بسنده عن ابن عمر قال: كنا نتحين، فإذا زالت الشمس رمينا.
وقال ابن حجر في فتح الباري في قول ابن عمر: كنا نتحين. الحديث، فأعلمه بما كانوا يفعلونه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو دليل على أن الحافظ ابن حجر يرى قول ابن عمر: كنا نتحين، فإذا زالت الشمس رمينا له حكم الرفع، وحديث جابر الصحيح المذكور قبله صريح في الرفع، وروى الإمام أحمد، وأبو داود، عن عائشة رضي الله عنها قالت (أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر يوم حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس) الحديث، وفي إسناده محمد بن إسحاق، صاحب المغازي، وهو مدلس، وقد قال ابن إسحاق المذكور في الإسناد المذكور، عن
463

عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، والمدلس إذا عنعن لم تقبل روايته عند أهل الحديث وقد قدمنا مرارا أن من يحتج بالمرسل، يحتج بعنعنة المدلس من باب أولى، وأن المشهور عن أبي حنيفة، ومالك، وأحمد: الاحتجاج بالمرسل. وروى الإمام أحمد، وابن ماجة، والترمذي وحسنه عن ابن عباس قال (رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمار حين زالت الشمس).
وبهذه النصوص الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم تعلم أن قول عطاء وطاوس بجواز الرمي في أيام التشريق، قبل الزوال، وترخيص أبي حنيفة في الرمي يوم النفر قبل الزوال، وقول إسحاق: إن رمى قبل الزوال في اليوم الثالث أجزأه كل ذلك، خلاف التحقيق لأنه مخالف لفعل النبي صلى الله عليه وسلم الثابت عند المعتضد بقوله: (لتأخذوا عني مناسككم) ولذلك خالف أبا حنيفة في ترخيصه المذكور صاحباه محمد وأبو يوسف، ولم يرد في كتاب الله، ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم شيء يخالف ذلك، فالقول بالرمي قبل الزوال أيام التشريق، لا مستند له البتة، مع مخالفته للسنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي لأحد أن يفعله، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثاني: اعلم أنه يجب الترتيب في رمي الجمار، أيام التشريق فيبدأ بالجمرة الأولى، التي تلي مسجد الخيف، فيرميها بسبع حصيات، مثل حصى الخذف، يكبر مع كل حصاة، ثم يقف، فيدعو طويلا، ثم ينصرف إلى الجمرة الوسطى، فيرميها كالتي قبلها، ثم يقف، فيدعو طويلا، ثم ينصرف إلى جمرة العقبة، فيرميها كذلك، ولا يقف عندها، بل ينصرف إذا رمى وهذا الترتيب على النحو الذي ذكرنا هو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر بأخذ المناسك عنه. فعلينا أن نأخذ عنه من مناسكنا الترتيب المذكور. ففي صحيح البخاري رحمه الله من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان يرمي الجمرة الدنيا، بسبع حصيات، يكبر على إثر كل حصاة، ثم يتقدم، حتى يسهل، فيقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلا، ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيستهل، ويقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلا، ويدعو ويرفع يديه ويقوم طويلا ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرف فيقول: هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله ا ه. روى البخاري هذا الحديث في ثلاثة أبواب متوالية، وهو نص صحيح صريح في الترتيب المذكور، وقد قال صلى الله عليه وسلم (لتأخذوا عني مناسككم) فإن لم يرتب الجمرات، بأن بدأ بجمرة العقبة لم يجزئه الرمي منكسا لأنه خالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم وفي الحديث (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) وتنكيس الرمي عمل ليس من أمرنا، فيكون مردودا، وبهذا قال
464

مالك والشافعي وأحمد وجمهور أهل العلم، وقال أبو حنيفة: الترتيب المذكور سنة، فإن نكس الرمي أعاده وإن لم يعد أجزأه، وهو قول الحسن وعطاء، واحتجوا بأدلة لا تنهض. وعلى الصحيح الذي هو قول الجمهور: إن الترتيب شرط لو بدأ بجمرة العقبة، ثم الوسطى، ثم الأولى أو بدأ بالوسطى، ورمى الثلاث لم يجزه إلا الأولى
، لعدم الترتيب في الوسطى والأخيرة، فعليه أن يرمي الوسطى، ثم الأخيرة، ولو رمى جمرة العقبة. ثم الأولى، ثم الوسطى أعاد جمرة العقبة وحدها هذا هو الظاهر.
واعلم أن العلماء اختلفوا في مسائل كثيرة من مسائل الرمي، ليس فيها نص، وسنذكر هنا بعض ذلك مما يظهر لنا أنه أقرب للصواب، مع الاختصار، لعدم النصوص في ذلك.
فمن ذلك: أن الأقرب فيما يظهر لنا أنه لا بد من رمي الحصاة بقوة، فلا يكفي طرحها، ولا وضعها باليد في المرمى، لأن ذلك ليس برمي في العرف، خلافا لمن قال: إنه رمي، وأنه لا بد من وقوع الحصاة في نفس المرمى، وهو الجمرة التي يحيط بها البناء واستقرارها فيه خلافا لمن قال: إنها إن وقعت في المرمى ثم تدحرجت حتى خرجت منه: أنه يجزئه، وأنها لو ضربت شيئا دون المرمى، ثم طارت، وسقطت في المرمى: أن ذلك يجزئه، بخلاف ما لو جاءت في محمل، أو في ثوب رجل، فتحرك المحمل أو الرجل فسقطت في المرمى، فإنها لا تجزىء، وكذلك لو جاءت دون المرمى، فأطارت حصاة أخرى، فجاءت هذه الحصاة الأخرى في المرمى، فإنها لا تجزئه. لأن الحصاة التي رماها لم تسقط في المرمى، وإنما وقعت فيه الحصاة التي أطارتها، وأنها إن أخطأت المرمى، ولكن سقطت قريبا منه، أن ذلك لا يجزئه، خلافا لمن قال: يجزئه، وأنه لا ينبغي أن يرمي إلا بالحجارة، فلا ينبغي الرمي بالمدر، والطين، والمغرة، والنورة، والزرنيخ، والملح، والكحل، وقبضة التراب، والأحجار النفسية: كالياقوت، والزبرجد، والزمرد، ونحو ذلك، خلافا لمن أجاز الرمي بذلك.
ولا يجوز الرمي بالخشب، والعنبر، واللؤلؤ، والجواهر، والذهب، والفضة، والأقرب أيضا أن الحصاة إن وقعت فيه شقوق البناء المنتصب في وسط الجمرة، وسكنت فيها أنها لا تجزىء، لأنها وقعت في هواء المرمى، لا في نفس المرمى خلافا لمن قال: إنها تجزئه، والأقرب: أنه لا يلزم غسل الحصى لعدم الدليل على ذلك، وأنه لو رمى بحصاة نجسة أجزأه ذلك لصدق اسم الرمي عليه، وعدم نص على اشتراط طهارة
465

الحصى مع كراهة ذلك عند بعض أهل العلم، وقول بعضهم: بعدم الإجزاء والأقرب أنه لو رمى بحصاة قد رمى بها أنها تجزئه، لصدق اسم الرمي عليها، وعدم النص على منع ذلك، ولا على عدم إجزائه ولكن الأحوط في الجميع الخروج من الخلاف، كما قال بعضهم: أنه لا يلزم غسل الحصى لعدم الدليل على ذلك، وأنه لو رمى بحصاة نجسة أجزأه ذلك لصدق اسم الرمي عليه، وعدم نص على اشتراط طهارة الحصى مع كراهة ذلك عند بعض أهل العلم، وقول بعضهم: بعدم الإجزاء والأقرب أنه لو رمى بحصاة قد رمى بها أنها تجزئه، لصدق اسم الرمي عليها، وعدم النص على منع ذلك، ولا على عدم إجزائه ولكن الأحوط في الجميع الخروج من الخلاف، كما قال بعضهم:
* وأن الأورع الذي يخرج من
* خلافهم ولو ضعيفا فاستبن
*
وفي كتب الفروع هنا أشياء تركناها لكثرتها.
تنبيه
اعلم أن العلماء اختلفوا في المعنى الذي منه الجمرة، فقال بعض أهل العلم: الجمرة في اللغة: الحصاة، وسميت الجمرة التي هي موضع الرمي بذلك، لأنها المحل الذي يرمى فيه بالحصى، وعلى هذا فهو من تسمية الشيء باسم ما يحل فيه، وهو أسلوب عربي معروف، وهو عند البلاغيين من نوع ما يسمونه المجاز المرسل، والتجمير رمي الحصى في الجمار ومنه قول بن أبي ربيعة: اعلم أن العلماء اختلفوا في المعنى الذي منه الجمرة، فقال بعض أهل العلم: الجمرة في اللغة: الحصاة، وسميت الجمرة التي هي موضع الرمي بذلك، لأنها المحل الذي يرمى فيه بالحصى، وعلى هذا فهو من تسمية الشيء باسم ما يحل فيه، وهو أسلوب عربي معروف، وهو عند البلاغيين من نوع ما يسمونه المجاز المرسل، والتجمير رمي الحصى في الجمار ومنه قول بن أبي ربيعة:
* بدا لي منها معصم يوم جمرت
* وكف خضيب زينت ببنان
*
* فوالله ما أدري وإني لحاسب
* بسبع رميت الجمر أم بثمان
*
والمجمر بصيغة اسم المفعول مضعفا: هو الموضع الذي ترمى فيه الجمار، ومنه قول حذيفة بن أنس الهذلي: والمجمر بصيغة اسم المفعول مضعفا: هو الموضع الذي ترمى فيه الجمار، ومنه قول حذيفة بن أنس الهذلي:
* لأدركهم شعث النواصي كأنهم
* سوابق حجاج توافي المجمرا
*
وقال بعض أهل العلم: أصل الجمرة من التجمر بمعنى التجمع، تقول العرب: تجمر القوم، إذا اجتمعوا، وانضم بعضهم إلى بعض، وجمرهم الأمر: أحوجهم إلى التجمر، وهو التجمع، وجمر الشيء: جمعه، وجمر الأمير الجيش، إذا أطال حبسهم مجتمعين بالثغر، ولم يأذن لهم في الرجوع والتفرق، وروى الربيع: أن الشافعي أنشده في ذلك قول الشاعر: وقال بعض أهل العلم: أصل الجمرة من التجمر بمعنى التجمع، تقول العرب: تجمر القوم، إذا اجتمعوا، وانضم بعضهم إلى بعض، وجمرهم الأمر: أحوجهم إلى التجمر، وهو التجمع، وجمر الشيء: جمعه، وجمر الأمير الجيش، إذا أطال حبسهم مجتمعين بالثغر، ولم يأذن لهم في الرجوع والتفرق، وروى الربيع: أن الشافعي أنشده في ذلك قول الشاعر:
* وجمرتنا تجمير كسرى جنوده
* ومنيتنا حتى نسينا الأمانيا
*
والجمار: القوم المجتمعون، ومنه قول الأعشى: والجمار: القوم المجتمعون، ومنه قول الأعشى:
* فمن مبلغ وائلا قومنا
* وأعني بذلك بكرا جمارا
*
466

أي مجتمعين، وعلى هذا فاشتقاق الجمرة من التجمر بمعنى: التجمع لاجتماع الحجيج عندها يرمونها، وقيل: لأن الحصى يتجمع فيها، وقيل: اشتقاق الجمرة من أجمر إذا أسرع، لأن الناس يأتون مسرعين لرميها. وقيل: أصلها من جمرته إذا نحيته وأظهرها القول الأول والثاني، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثالث: في آخر وقت الرمي أيام التشريق.
قد علمت أن أول وقت رميها بعد الزوال، ولا خلاف بين العلماء، أن بقية اليوم وقت للرمي إلى الغروب.
واختلفوا فيما بعد الغروب، فمنهم من يقول: إن غربت الشمس، ولم يرم رمى بالليل، وبعضهم يقول: الليل قضاء، وبعضهم يقول: أداء، وقد قدمنا أقوالهم، وحججهم في الكلام على رمي جمرة العقبة، ومنهم من يقول: لا يرمي بالليل، بل يؤخر الرمي، حتى تزول الشمس من الغد كما قدمناه، مع إجماعهم على فوات وقت الرمي بغروب اليوم الثالث عشر من ذي الحجة الذي هو رابع يوم النحر.
واعلم أن هذا الحكم له حالتان:
الأولى: حكم الرمي في الليلة التي تلي اليوم الذي فاته الرمي فيه من أيام التشريق.
والثانية: الرمي في يوم آخر من أيام التشريق.
أما الليل فقد قدمنا أن الشافعية والمالكية والحنفية كلهم يقولون: يرمي ليلا، والمالكية بعضهم يقولون: الرمي ليلا قضاء، وهو المشهور عندهم، وبعضهم يتوقف في كونه قضاء أو أداء، كما قدمناه عن الباجي، والحنفية يقولون: إن الليلة التي بعد اليوم تبع له، فيجوز الرمي فيها تبعا لليوم، والشافعية لهم وجهان مشهوران في الرمي في الليلة التي بعد اليوم، هل هو أداء، أو قضاء؟ كما قدمناه مستوفى، والحنابلة قدمنا أنهم يقولون: لا يرمي ليلا، بل يرمي من الغد بعد زوال الشمس، كما ذكرنا فيه كلام صاحب المغني وأما رمي يوم من أيام التشريق في يوم آخر منها، فلا خلاف فيه بين من يعتد به من أهل العلم، إلا أنهم اختلفوا في أيام التشريق الثلاثة هل هي كيوم واحد؟ فالرمي في جميعها أداء، لأنها وقت للرمي كيوم واحد، أو كل يوم منها مستقل، فإن فات هو وليلته التي بعده فات وقت رميه، فيكون قضاء في اليوم الذي بعده، فعلى القول الأول لو رمى عن اليوم الأول في الثاني أو عن الثاني في الثالث، أو عن الأول والثاني في الثالث، فلا شيء
467

عليه، لأنه رمى في وقت الرمي، وعلى الثاني يلزمه دم عن كل يوم فاته رمي فيه إلى الغد، عند من يقول: بتعدد الدماء كالشافعية، أو دم واحد عن اليومين، عند من يقول: بعدم التعدد.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: التحقيق في هذه المسألة أن أيام التشريق كاليوم الواحد بالنسبة إلى الرمي، فمن رمى عن يوم منها في يوم آخر منها أجزأه، ولا شيء عليه، كما هو مذهب أحمد، ومشهور مذهب الشافعي، ومن وافقهما.
والدليل على ذلك: هو ما رواه مالك في الموطأ، والإمام أحمد، والشافعي، وابن حبان، والحاكم، وأصحاب السنن الأربعة، عن عاصم بن عدي العجلاني رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل، أن يرموا يوما، ويدعوا يوما هذا لفظ أبي داود، والنسائي وابن ماجة، وفي لفظ: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى، يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغداة، ومن بعد الغداة ليومين، ثم يرمون يوم النفر. ولهذا الحديث ألفاظ متقاربة غير ما ذكرنا، ومعناها واحد، وقال الإمام مالك رحمه الله في الموطأ: ما نصه: تفسير الحديث الذي أرخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في تأخير رمي الجمار فيما نرى والله أعلم: أنهم يرمون يوم النحر، فإذا مضي اليوم الذي يلي يوم النحر رموا من الغد، وذلك يوم النفر الأول، فيرمون لليوم الذي مضى، ثم يرمون ليومهم ذلك، لأنه لا يقضي أحد شيئا حتى يجب عليه، فإذا وجب عليه ومضى كان القضاء بعد ذلك، فإن بدا لهم النفر فقد فرغوا، وإن أقاموا إلى الغد رموا مع الناس
يوم النفر الآخر، ونفروا. انتهى منه، وهذا المعنى الذي فسر به الحديث هو صريح معناه في رواية من روى: أن يرموا يوما ويدعوا يوما، وحديث عاصم العجلاني هذا قال فيه الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
فإن قيل: أنتم سقتم هذا الحديث مستدلين به على أن أيام التشريق كاليوم الواحد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما رخص لهم في تأخير رمي يوم إلى اليوم الذي بعده، دل ذلك على أن اليوم الثاني وقت لرمي اليوم الأول، لأنه لو فات وقته لفات بفوات وقته لإجماع العلماء على أنه لا يقضي في اليوم الرابع عشر من ذي الحجة الذي هو خامس يوم النحر فما بعده، ولكن ظاهر كلام مالك في تفسيره الحديث المذكور، يدل على أن رمي يوم في اليوم الذي بعده قضاء لقوله في كلامه المذكور: فإذا وجب عليه ومضى كان القضاء.
فالجواب عن ذلك من وجهين:
468

أحدهما: أن إطلاق القضاء على ما فات وقته بالكلية اصطلاح حادث للفقهاء، لأن القضاء في الكتاب والسنة يطلق على فعل العبادة في وقتها، كقوله تعالى: * (فإذا قضيتم الصلواة) *، وقوله: * (فإذا قضيت الصلواة) *، وقوله تعالى: * (فإذا قضيتم مناسككم) *. فالقضاء في هذه الآيات بمعنى الأداء.
الوجه الثاني: أنا لو فرضنا أن مالكا رحمه الله، يريد بالقضاء في كلامه المذكور المعنى الاصطلاحي عند الفقهاء، وهو أن القضاء فعل العبادة بعد خروج وقتها المعين لها تداركا لشيء علم تقدم ما أوجب فعله في خصوص وقته، كما هو المعروف في مذهبه. إنه إن أخر الرمي إلى الليل فما بعده، أنه قضاء. يلزم به الدم، فإنا لا نسلم أن رمي يوم في اليوم الذي بعده قضاء لعبادة، خرج وقتها بالكلية استنادا لأمرين:
الأول: أن رمي الجمار عبادة موقتة بالإجماع، فإذن النبي صلى الله عليه وسلم في فعلها في وقت، دليل واضح على أن ذلك الوقت من أجزاء وقت تلك العبادة الموقتة، لأنه ليس من المعقول أن تكون هذه العبادة موقتة بوقت معين ينتهي بالإجماع في وقت معروف، ويأذن النبي صلى الله عليه وسلم في فعلها في زمن ليس من أجزاء وقتها المعين لها. فهذا لا يصح بحال، وإذا تقرر أن الوقت الذي أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فعل العبادة الموقتة فيه أنه من وقتها، علم أنها أداء لا قضاء، والأداء في اصطلاح أهل الأصول هو إيقاع العبادة في وقتها المعين لها شرعا، لمصلحة اشتمل عليها ذلك الوقت. الأمر الثاني: أنه لا يمكن أن يقال هنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالرمي في وقت غير وقته، بل بعد فوات وقته، وأن أمره به في ذلك الوقت أمر بقضائه بعد فوات وقته المعين له، لما قدمنا من إجماع المسلمين على أنه لا يجوز الرمي في رابع يوم النحر، ولو كان يجوز قضاء الرمي بعد فوات وقته، لجاز الرمي في رابع النحر وخامسه، وما بعد ذلك. والقضاء في اصطلاح الفقهاء والأصوليين: لا يطلق إلا على ما فات وقته بالكلية، والصلاة في آخر الوقت الضروري أداء عندهم، حتى إنه لو صلى بعضها في آخر الضروري، وبعضها بعد خروج الوقت الضروري، فهي أداء عندهم على الصحيح. ويدل له قوله صلى الله عليه وسلم (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) وعرف في مراقي السعود الأداء والوقت والقضاء عند الأصوليين بقوله: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) وعرف في مراقي السعود الأداء والوقت والقضاء عند الأصوليين بقوله:
* فعل العبادة بوقت عينا
* شرعا لها باسم الأداء قرنا)
469

*
* وكونه بفعل بعض يحصل
* لعاضد النص هو المعول
*
* وقيل ما في وقته أداء
* وما يكون خارجا قضاء
*
* والوقت ما قدره من شرعا
* من زمن مضيقا موسعا
*
* وعكسه القضا تداركا لما
* سبق الذي أوجبه قد علما
*
وقوله: وعكسه القضا يعني أن القضاء ضد الأداء.
وبما ذكرنا: تعلم أن التحقيق أن أيام الرمي كلها كاليوم الواحد، وأن من رمى عن يوم في الذي بعده، لا شيء عليه لإذن النبي صلى الله عليه وسلم للرعاء في ذلك،
ولكن لا يجوز تأخير يوم إلى يوم آخر إلا لعذر، فهو وقت له، ولكنه كالوقت الضروري. والله تعالى أعلم.
أما رمي جمرة العقبة، فقال بعض أهل العلم: إن حكمه مع رمي أيام التشريق كواحد منها، فمن أخر رميه إلى يوم من أيام التشريق، فهو كمن أخر يوما منها إلى يوم وعليه ففيه الخلاف المذكور، وقال بعض أهل العلم: هو مستقل بوقته دونها لأنه يخالفها في الوقت، والعدد لأنها جمرة واحدة أول النهار، وأيام التشريق بعكس ذلك وله وجه من النظر. والله أعلم.
الفرع الرابع: أظهر قولي أهل العلم عندي أنه إن قضى رمي اليوم الأول والثاني من أيام التشريق في اليوم الثالث منها، ينوي تقديم الرمي عن اليوم الأول قبل الثاني، ولا يجوز تقديم رمي الثاني بالنية، لأنه لا وجه لتقديم المتأخر وتأخير المتقدم من غير استناد إلى دليل كما ترى. والظاهر أنه إن نوى تقديم الثاني، لا يجزئه لأنه كالمتلاعب، خلافا لمن قال: يجزئه. والله تعالى أعلم.
الفرع الخامس: اعلم أن العلماء اختلفوا في القدر الذي يوجب تركه الدم، من رمي الجمار، فذهب مالك، وأصحابه إلى أن من أخر رمي حصاة واحدة من واحدة من الجمار. إلى ليل ذلك اليوم، لزمه الدم، وما فوق الحصاة أحرى بذلك، وسواء عندهم في ذلك من جمرة العقبة، يوم النحر، ورمي الثلاث أيام التشريق. ومعلوم أن من توقف من المالكية في كون الرمي ليلا قضاء يتوقف في وجوب الدم، إن رمي ليلا، ولكن مشهور مذهبه: هو أن الليل قضاء كما قال خليل في مختصره: والليل قضاء. وذهب أبو حنيفة، وأصحابه: إلى أن الدم يلزمه بترك رمي الجمرات كلها، أو رمي يوم واحد من أيام التشريق، وكذلك عندهم رمي جمرة العقبة، فرمي جمرة العقبة ورمي يوم من أيام التشريق، ورمي الجميع سواء عندهم، يلزم في ترك كل واحد منها دم واحد، وما هو أكثر
470

من نصف رمي يوم عندهم كرمي اليوم يلزم فيه الدم، فلو رمى جمرة وثلاث حصيات من جمرة، وترك الباقي، فعليه دم، لأنه رمى عشر حصيات وترك إحدى عشر حصاة، فإن ترك أقل من نصف رمي يوم كأن ترك جمرة واحدة، فلا دم عليه، ولكن عليه الصداقة، عندهم، فيلزمه لكل حصاة نصف صاع من بر أو صاع من تمر، أو شعير إلا أن يبلغ ذلك دما فيقص ما شاء هكذا يقول. ولا أعلم له مستندا من النقل، وقد قدمنا أن الدم يلزم عند أبي حنيفة بفوات الرمي في يومه وليلته، التي بعده، ولو رماه من الغد في أيام التشريق، وخالفه في ذلك صاحباه. ومذهب الشافعي في هذه المسألة فيه اختلاف يرجع إلى قولين:
القول الأول: وعليه اقتصر صاحب المهذب: أنه إن ترك رمي الجمار الثلاث في يوم من أيام التشريق لزمه دم، وإن ترك ثلاث حصيات من جمرة، فما فوقها: لزمه دم لأن ثلاث حصيات فما فوقها يقع عليها اسم الجمع المطلق، فصار تركها كترك الجميع، وإن ترك حصاة واحدة فثلاثة أقوال:
الأول: يجب عليه ثلث دم.
والثاني: مد.
والثالث: درهم. وحكم الحصاتين كذلك، قيل: يلزم فيها ثلثا دم، وقيل: مدان وقيل درهمان، فإن ترك الرمي في أيام التشريق كلها، فعلى القول المشهور عندهم أنها كيوم واحد، فاللازم دم واحد. وإن قلنا: بأن كل يوم منفرد بوقته، فثلاثة دماء، وإن ترك رمي جمرة العقبة يوم النحر، ورمى أيام التشريق، فعلى القول بأن رمي يوم النحر كرمي يوم من أيام التشريق، لزمه على القول الأول أنها كيوم واحد دم واحد، وإن قلنا: بانفراد رمي يوم النحر عن أيام التشريق، لمخالفته لها وقتا وعددا، فإن قلنا: بالمشهور أن أيام التشريق كيوم واحد، لزمه دمان، وإن قلنا: بانفراد كل يوم منها عن الآخر بوقته، لزمه أربعة دماء.
القول الثاني: أن الجمرات الثلاث كلها كالشعرات الثلاث، فلا يكمل الدم في بعضها بل لا يلزم إلا بترك جميعها، بأن يترك رمي يوم، وعليه فإن ترك رمي جمرة من الجمار، ففيه الأقوال الثلاثة المشهورة عندهم، فيمن حلق شعرة أظهرها: مد، والثاني: درهم، والثالث: ثلث دم، فإن ترك جمرتين، فعلى هذا القياس، وهو لزوم مدين أو درهمين أو ثلثي دم، وعلى هذا لو ترك حصاة من جمرة، فعلى أن في الجمرة ثلث دم يلزمه في الحصاة جزء من واحد وعشرين جزءا من دم، وعلى أن فيها مد أو درهما، ففي الحصاة
471

سبع مد أو سبع درهم، وللشافعية في هذا المبحث تفاصيل كثيرة، تركناها لطولها، ومذهب الإمام أحمد: أن من أخر الرمي كله عن أيام التشريق. لزمه دم، وعنه في ترك رمي الجمرة الواحدة دم، ولا شيء عنده في الحصاة، والحصاتين وعنه يتصدق بشيء. وروي عنه أن في الحصاة الواحدة: دما كقول مالك. وروي عنه أن في ثلاث حصيات: دما كأحد قولي الشافعي وفيما دون ذلك كل حصاة مد كأحد الأقوال عند الشافعية والعلم عند الله تعالى.
وإذا عرفت أقوال أهل العلم، في حكم من أخل بشيء من الرمي، حتى فات وقته.
فاعلم أن دليلهم في إجماعهم على أن من ترك الرمي كله. وجب عليه دم، هو ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: من نسي من نسكه شيئا، أو تركه، فليهرق دما، وهذا صح عن ابن عباس موقوفا عليه، وجاء عنه مرفوعا ولم يثبت. وقد روى مالك في موطئه عن أيوب بن أبي تيمة السختياني عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: من نسي من نسكه شيئا إلى آخره باللفظ الذي ذكرنا وهذا إسناد في غاية الصحة إلى ابن عباس كما ترى. وقال البيهقي في سننه: أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق المزكي، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أنبأ ابن وهب، أخبرني عبد الله بن عمر، ومالك بن أنس، وغيرهما: أن أيوب بن أبي تميمة، أخبرهم عن سعيد بن جبير، عن عبد الله بن عباس أنه قال: من نسي من نسكه شيئا أو تركه فليهرق دما اه.
وقال النووي في شرح المهذب: وأما حديث (من ترك نسكا فعليه دم) فرواه مالك، والبيهقي، وغيرهما بأسانيد صحيحة، عن ابن عباس موقوفا عليه، لا مرفوعا ولفظه، عن مالك عن أيوب، عن سعيد بن جبير: أن ابن عباس قال: من نسي من نسكه شيئا أو تركه فليهرق دما قال مالك: لا أدري قال: ترك أم نسي قال البيهقي:
وكذا رواه الثوري، عن أيوب: من أو نسي شيئا من نسكه فليهرق له دما وما قال البيهقي، فكأنه قالهما يعني البيهقي أن أو ليست للشك كما أشار إليه مالك بل للتقسيم، والمراد به يريق دما سواء ترك عمدا أو سهوا والله أعلم. انتهى كلام النووي.
وقال ابن حجر في تلخيص الحبير حديث ابن عباس موقوفا عليه ومرفوعا (من ترك نسكا فعليه دم) أما الموقوف، فرواه مالك في الموطأ. والشافعي عنه عن أيوب عن سعيد بن جبير عنه بلفظ: (من نسي نسكه شيئا أو تركه فليهرق دما) وأما
472

المرفوع فرواه ابن حزم، من طريق علي بن الجعد، عن ابن عيينة، عن أيوب به وأعله بالراوي، عن علي بن الجعد أحمد بن علي بن سهل المروزي فقال: إنه مجهول، وكذا الراوي عنه علي بن أحمد المقدسي قال: هما مجهولان. انتهى من التلخيص.
فإذا علمت أن الأثر المذكور ثابت بإسناد صحيح، عن ابن عباس.
فاعلم أن وجه استدلال الفقهاء به على سائر الدماء التي قالوا بوجوبها غير الدماء الثابتة بالنص، أنه لا يخلو من أحد أمرين.
الأول: أن يكون له حكم الرفع، بناء على أنه تعبد، لا مجال للرأي فيه، وعلى هذا فلا إشكال.
والثاني: أنه لو فرض أنه مما للرأي فيه مجال، وأنه موقوف ليس له حكم الرفع، فهو فتوى من صحابي جليل لم يعلم لها مخالف من الصحابة، وهم رضي الله عنهم خير أسوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما اختلاف العلماء في لزوم الدم بترك جمرة أو رمي يوم أو حصاة أو حصاتين إلى آخر ما تقدم: فهو من نوع الاختلاف في تحقيق المناط فمالك مثلا القائل: بأن في الحصاة الواحدة دما يقول الحصا. الواحدة داخلة في أثر ابن عباس المذكور، فمناط لزوم الدم محقق فيها، لأنها شيء من نسكه فيتناولها قوله: من نسي من نسكه شيئا أو تركه إلخ، لأن لفظة شيئا نكرة في سياق الشرط، فهي صيغة عموم، والذين قالوا: لا يلزم في الحصاة والحصاتين دم، قالوا، الحصاة، والحصاتان، لا يصدق عليهما نسك، بل هما جزء من نسك، وكذلك الذين قالوا: لا يلزم في الجمرة الواحدة دم، قالوا: رمي اليوم الواحد نسك واحد فمن ترك جمرة في يوم لم يترك نسكا، وإنما ترك بعض نسك، وكذلك الذين قالوا: لا يلزم إلا بترك الجميع قالوا: إن الجميع نسك واحد والعلم عند الله تعالى.
الفرع السادس: اعلم أن جماعة من أهل العلم قالوا: يستحب رمي جمرة العقبة راكبا إن أمكن، ورمي أيام التشريق ماشيا في الذهاب والإياب إلا اليوم الأخير، فيرمي فيه راكبا، وينفر عقب الرمي وقال بعضهم: يرميه كله راكبا.
وأظهر الأقوال في المسألة: هو الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو قد رمى جمرة العقبة راكبا ورمى أيام التشريق ماشيا ذهابا وإيابا والله تعالى أعلم.
الفرع السابع: إذا عجز الحاج عن الرمي، فله أن يستنيب من يرمي عنه، وبه قال كثير
473

من أهل العلم، وهو الظاهر. وفي الموطأ قال يحيى: سئل مالك، هل يرمى عن الصبي والمريض؟ فقال: نعم، ويتحرى المريض حين يرمى عنه، فيكبر وهو في منزله، ويهريق دما، فإن صح المريض في أيام التشريق: رمى الذي رمي عنه، وأهدى وجوبا انتهى من الموطأ.
أما الرمي عن الصبيان فهو كالتلبية عنهم، والأصل فيه ما رواه ابن ماجة في سننه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا عبد الله بن نمير، عن أشعت، عن أبي الزبير، عن جابر قال: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنا النساء، والصبيان، فلبينا عن الصبيان، ورمينا عنهم، ورجال إسناد ابن ماجة هذا ثقات معروفون إلا أشعث وهو ابن سوار الكندي النجار الكوفي مولى ثقيف فقد ضعفه غير واحد ومسلم إنما أخرج له في المتابعات، وهو ممن يعتبر بحديثه، كما يدل على ذلك إخراج مسلم له في المتابعات. وروى الدورقي عن يحيى أشعث بن سوار الكوفي ثقة، وقال ابن عدي: لم أجد لأشعث متنا منكرا وإنما يغلط في الأحايين في الأسانيد ويخالف. وأما الرمي عن المريض ونحوه ممن كان له عذر غير الصغر فلا أعلم له مستندا من النقل إلا أن الاستنابة في الرمي، هي غاية ما يقدر عليه والله تعالى يقول * (فاتقوا الله ما استطعتم) * وبعض أهل العلم يستدل لذلك بالقياس على الصبيان، بجامع العجز في الجميع وبعضهم يقيس الرمي على أصل الحج قال النووي في شرح المهذب: استدل أصحابنا على جواز الاستنابة في الرمي بالقياس على الاستنابة في أصل الحج قالوا والرمي أولى بالجواز ا ه.
تنبيه
إذا رمى النائب عن العاجز ثم زال عذر المستنيب، وأيام الرمي باقية، فقد قدمنا قول مالك في الموطأ: أنه يقضي كل ما رواه عنه النائب، مع لزوم الدم وقال بعض أهل العلم: لا يلزمه قضاء ما رمى عنه النائب، لأن فعل النائب كفعل المنوب عنه، فيسقط به الفرض، ولكن تندب إعادته، وهذا هو مشهور مذهب الشافعي. وفي المسألة لأهل العلم غير ما ذكرنا.
قال مقيده عفا الله وغفر له: أظهر أقوال أهل العلم عندي في هذه المسألة: أنه إذا زال عذر المستنيب وأيام الرمي باق بعضها: أنه يرمي جميع ما رمى عنه، ولا شيء عليه، لأن الاستنابة إنما وقعت لضرورة العذر، فإذا زال العذر والوقت باق بعضه، فعليه
474

أن يباشر فعل العبادة بنفسه.
وقد قدمنا أن أقوى الأقوال دليلا هو قول من قال: إن أيام الرمي كيوم واحد بدليل ما قدمنا من ترخيصه صلى الله عليه وسلم للرعاء أن يرموا يوما، ويدعوا يوما كما تقدم إيضاحه والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثامن: اعلم أن التحقيق في عدد الحصيات التي ترمى بها كل جمرة أنها سبع حصيات، فمجموع الحصى سبعون حصاة سبع منها ترمى بها جمرة العقبة يوم
النحر، والثلاث والستون الباقية تفرق على الأيام الثلاثة في كل يوم إحدى وعشرون حصاة، لكل جمرة سبع.
وأحوط الأقوال في ذلك قول مالك وأصحابه ومن وافقهم: أن من ترك حصاة واحدة كمن ترك رمي الجميع، وقال بعض أهل العلم: يجزئه الرمي بخمس أو ست وقال ابن قدامة في المغني: والأولى ألا ينقص في الرمي عن سبع حصيات، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بسبع حصيات، فإن نقص حصاة أو حصاتين فلا بأس، ولا ينقص أكثر من ذلك نص عليه يعني أحمد، وهو قول مجاهد وإسحاق، وعنه: إن رمى بست ناسيا، فلا شيء عليه، ولا ينبغي أن يتعمده فإن تعمد ذلك تصدق بشيء، وكان ابن عمر يقول: ما أبالي رميت بست، أو بسبع. وعن أحمد: أن عدد السبع شرط، ونسبه إلى مذهب الشافعي، وأصحاب الرأي لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بسبع. وقال أبو حبة: لا بأس بما رمى به الرجل من الحصى، فقال عبد الله بن عمرو: صدق أبو حبة، وكان أبو حبة بدريا.
ووجه الرواية الأولى ما روى ابن أبي نجيح قال: سئل طاوس عن رجل ترك حصاة؟ قال: يتصدق بتمرة أو لقمة، فذكرت ذلك لمجاهد فقال: إن أبا عبد الرحمن لم يسمع قول سعد قال سعد: رجعنا من الحجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضنا يقول: بسبع، فلم يعب ذلك بعضنا على بعض رواه الأثرم وغيره انتهى كلام ابن قدامة في المغني. وما رواه عن أبي نجيح قال: سئل طاوس إلخ رواه البيهقي بإسناده في السنن الكبرى، من طريق الفريابي، عن ابن عيينة، عن أبي نجيح.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: التحقيق أنه لا يجوز أقل من سبع حصيات للروايات الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يرمي الجمار بسبع حصيات. مع قوله (خذوا عني مناسككم) فلا ينبغي العدول عن ذلك، لوضوح دليله وصحته ولأن مقابله لم يقم
475

عليه دليل يقارب دليله، والعلم عند الله تعالى. والظاهر أن من شك في عدد ما رمى بيني على اليقين، وروى البيهقي عن علي رضي الله عنه ما يؤيده.
الفرع التاسع: اعلم أن جمهور أهل العلم على أن من غربت شمس يوم النفر الأول، وهو بمنى لزم المقام بمنى، حتى يرمي الجمار الثلاث بعد الزوال في اليوم الثالث، ولا ينفر ليلا. وممن قال بهذا: الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد، وهو قول أكثر أهل العلم. وقال ابن قدامة في المغني: وهو قول عمر، وجابر بن زيد، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وأبان بن عثمان، ومالك، والثوري، والشافعي، وإسحاق، وابن المنذر. وقال ابن المنذر: ثبت عن عمر أنه قال: (من أدركه المساء في اليوم الثاني، فليقم إلى الغد، حتى ينفر مع الناس). وخالف أبو حنيفة الجمهور في هذه المسألة فقال: له أن ينفر ليلة الثالث عشر من الشهر حتى يطلع الفجر من اليوم الثالث، فإن طلع الفجر لزمه البقاء، حتى يرمي.
والأظهر عندي: حجة الجمهور. لأن الله تعالى قال * (فمن تعجل فى يومين) * ولم يقل في يومين وليلة.
ووجه قول أبي حنيفة: هو أن من نفر بالليل فقد نفر في وقت، لا يجب فيه الرمي، بل لا يجوز فجاز له النفر كالنهار. وقد قدمنا أيضا عن الحنفية أنهم يرون الليلة التي بعد اليوم من أيام التشريق تابعة له، فيجوز فيها ما يجوز في اليوم الذي قبلها كالرمي فيها والنفر فيها إن كان يجوز في يومها.
والأظهر عندي: أنه لو ارتحل من منى فغربت عليه الشمس، وهو سائر في منى لم يخرج منها أنه يلزمه المبيت والرمي، لأنه يصدق عليه أنه غربت عليه الشمس في منى، فلم يتعجل منها في يومين خلافا للمشهور من مذهب الشافعي القائل: بأن له أن يستمر في نفره ولا يلزمه المبيت والرمي.
والأظهر عندي أيضا: أنه لو غربت عليه الشمس، وهو في شغل الارتحال أنه يبيت، ويرمي خلافا لمن قال: يجوز له الخروج منها بعد الغروب لأنها غربت، وهو مشتغل بالرحيل، وهما وجهان مشهوران عند الشافعية والعلم عند الله تعالى.
واعلم: أن التحقيق أن التعجل جائز، لأهل مكة فهم فيه كغيرهم، خلافا إن فرق بين المكي وغيره، إلا لعذر لأن الله قال * (فمن تعجل فى يومين فلا إثم عليه) *
476

وهو عموم شامل لأهل مكة وغيرهم، ولا شك أن التأخر أفضل من التعجل لأن فيه زيادة عمل، والنبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع لم يتعجل.
الفرع العاشر: اعلم أن العلماء اختلفوا في المبيت في منى، ليالي أيام التشريق هل هو واجب أو مستحب، مع إجماعهم على أنه مشروع؟ فذهب مالك، وأصحابه: إلى أنه واجب، ولو بات ليلة واحدة منها أو جل ليلة، وهو خارج عن منى. لزمه دم لأثر ابن عباس السابق. وروى مالك في الموطأ، عن نافع أنه قال: زعموا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كان يبعث رجالا يدخلون الناس من وراء العقبة. وروى مالك في الموطأ أيضا، عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن عمر بن الخطاب قال: لا يبيتن أحد من الحاج ليالي منى من وراء العقبة. اه منه.
وهو دليل على وجوب المبيت ليالي أيام التشريق بمنى كما أنه دليل على أن ما وراء جمرة العقبة، مما يلي مكة، ليس من منى، وهو معروف، ومذهب أبي حنيفة: هو أن عدم المبيت بمنى ليالي منى مكروه، ولو بات بغير منى لم يلزمه شيء، عند أبي حنيفة، وأصحابه، لأنهم يرون أن المبيت بمنى لأجل أن يسهل عليه الرمي، فلم يكن من الواجبات عندهم. ومذهب الشافعي في هذه المسألة: هو أن في المبيت بمنى ليالي منى طريقتين، أصحهما، وأشهرهما فيه قولان أصحهما: أنه واجب، والثاني: أنه سنة، والطريق الثاني أنه سنة قولا واحدا فعلى القول بأنه واجب، فالدم واجب في تركه، وعلى أنه سنة، فالدم سنة في تركه، ولا يلزم عندهم الدم، إلا في ترك المبيت في الليالي كلها، لأنها عندهم كأنها نسك واحد، وإن ترك المبيت في ليلة من الليالي الثلاث، ففيه الأقوال المذكورة في ترك الحصاة الواحدة عندهم أصحها أن في ترك مبيت الليلة الواحدة عدا، والثاني: أن فيه درهما، والثالث: أن فيه ثلث دم كما تقدم، وحكم الليلتين معلوم كما تقدم.
ومذهب الإمام أحمد في هذه المسألة: أن المبيت بمنى ليالي منى واجب، فلو ترك المبيت بها في الليالي الثلاث. فعليه دم على الصحيح من مذهبه، وعنه: يتصدق بشيء، وعنه: لا شيء عليه فإن ترك المبيت في ليلة من لياليها، ففيه ما في الحصاة الواحدة من الأقوال التي قدمنا، قل من وقيل: درهم، وقيل، ثلث دم.
فإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذه المسألة فاعلم أن أظهر الأقوال دليلا أن المبيت بمنى أيام منى نسك من مناسك الحج، يدخل في قول ابن عباس: من نسي من نسكه
شيئا، أو تركه فليهرق دما.
477

والدليل على ذلك ثلاثة أمور. الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم بات بها الليالي المذكورة وقال (لتأخذوا عني مناسككم) فعلينا أن نأخذ من مناسكنا البيتوتة بمنى الليالي المذكورة.
الثاني: هو ما ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس أن يبيت بمكة أيام منى، من أجل سقايته وفي رواية: أذن للعباس.
وقال ابن حجر في فتح الباري في شرح حديث الترخيص للعباس المذكور عند البخاري ما نصه: وفي الحديث دليل على وجوب المبيت بمنى وأنه من مناسك الحج، لأن التعبير بالرخصة يقتضي أن مقابلها عزيمة، وأن الإذن وقع للعلة المذكورة، وإذا لم توجد هي أو ما في معناها لم يحصل الإذن وبالوجوب قال الجمهور: وفي قول للشافعي ورواية عن أحمد، وهو مذهب الحنفية: أنه سنة ووجوب الدم بتركه مبني على هذا الخلاف، ولا يحصل المبيت إلا بمعظم الليل انتهى محل الغرض عنه. وما ذكره من أخذ الوجوب من الحديث المذكور واضح.
وقال النووي في شرح مسلم في الكلام على الحديث المذكور: هذا يدل لمسألتين.
إحداهما: أن المبيت بمنى ليالي أيام التشريق مأمور به، وهذا متفق عليه، لكن اختلفوا هل هو واجب أو سنة؟ وللشافعي قولان، أصحهما: واجب وبه قال مالك، وأحمد، والثاني: سنة. وبه قال ابن عباس، والحسن وأبو حنيفة، فمن أوجبه أوجب الدم في تركه وإن قلنا سنة لم يجب الدم بتركه، ولكن يستحب انتهى محل الغرض منه وكأنه يقول: إن الحديث لا يؤخذ منه الوجوب، ولكن يؤخذ منه مطلق الأمر به لأن رواية مسلم ليس فيها لفظ الترخيص، وإنما فيها التعبير بالإذن ورواية البخاري فيها رخص النبي صلى الله عليه وسلم والتعبير بالترخيص: يدل على الوجوب كما أوضحه ابن حجر في كلامه الذي ذكرناه آنفا.
الأمر الثالث: هو ما قدمنا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه كان يمنع الحجاج من المبيت، خارج منى ويرسل رجالا يدخلونهم في منى، وهو من الخلفاء الراشدين الذين أمرنا بالاقتداء بهم، والتمسك بسنتهم، والظاهر أن من ترك البيت بمنى لعذر لا شيء عليه، كما دل عليه الترخيص للعباس من أجل السقاية، والترخيص لرعاء الإبل في عدم
478

المبيت ورمي يوم بعد يوم.
الفرع الحادي عشر: في حكمة الرمي:
اعلم أنه لا شك في أن حكمة الرمي في الجملة هي طاعة الله، فيما أمر به وذكره بامتثال أمره على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، قال أبو داود في سننه حدثنا مسدد، ثنا عيسى بن يونس، ثنا عبيد الله بن أبي زياد، عن القاسم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله) وقال النووي في شرح المهذب في حديث أبي داود هذا، وهذا الإسناد كله صحيح إلا عبيد الله فضعفه أكثرهم ضعفا يسيرا، ولم يضعف أبو داود هذا الحديث، فهو حسن عنده كما سبق. وروى الترمذي هذا الحديث من رواية عبيد الله هذا، وقال هو حديث حسن، وفي بعض النسخ: حسن صحيح، فلعله اعتضد برواية أخرى. انتهى محل الغرض منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: عبيد الله بن أبي زياد المذكور، هو القداح أبو الحصين المكي، وقد وثقه جماعة، وضعفه آخرون، وحديثه هذا معناه صحيح بلا شك ويشهد لصحة معناه قوله تعالى * (واذكروا الله فى أيام معدودات) * لأنه يدخل في الذكر المأمور به: رمي الجمار بدليل قوله بعده * (فمن تعجل فى يومين فلا إثم عليه) *، وذلك يدل على أن الرمي شرع لإقامة ذكر الله، كما هو واضح، ولكن هذه الحكمة إجمالية، وقد روى البيهقي رحمه الله في سننه عن ابن عباس مرفوعا قال: لما أتى إبراهيم خليل الله عليه السلام المناسك، عرض له الشيطان عند جمرة العقبة، فرماه بسبع حصيات، حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثانية، فرماه بسبع حصيات، حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له في الجمرة الثالثة، فرماه بسبع حصيات، حتى ساخ في الأرض. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الشيطان ترجمون وملة أبيكم تتبعون. انتهى بلفظه من السنن الكبرى للبيهقي، وقد روى هذا الحديث الحاكم في المستدرك مرفوعا ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وعلى هذا الذي ذكره البيهقي، فذكر الله الذي يشرع الرمي لإقامته، هو الاقتداء بإبراهيم في عداوة الشيطان، ورميه، وعدم الانقياد إليه، والله يقول * (قد كانت لكم أسوة حسنة فى إبراهيم) *، فكأن الرمي رمز وإشارة إلى عداوة الشيطان التي أمرنا الله بها في
479

قوله * (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا) * وقوله منكرا على من والاه * (أفتتخذونه وذريته أوليآء من دونى وهم لكم عدو) *، ومعلوم أن الرجم بالحجارة من أكبر مظاهر العداوة.
وقال النووي في شرح المهذب: فرع في الحكمة في الرمي، قال العلماء: أصل العبادة الطاعة، وكل عبادة فلها معنى قطعا، لأن الشرع لا يأمر بالعبث، ثم معنى العبادة قد يفهمه المكلف، وقد لا يفهمه، فالحكمة في الصلاة: التواضع، والخضوع، وإظهار الافتقار إلى الله تعالى، والحكمة في الصوم. كسر النفس وقمع الشهوات، والحكمة في الزكاة: مواساة المحتاج، وفي الحج: إقبال العبد أشعث أغبر من مسافة بعيدة إلى بيت فضله الله كإقبال العبد إلى مولاه ذليلا.
ومن العبادات التي لا يفهم معناها: السعي والرمي، فكلف العبد بهما ليتم انقياده، فإن هذا النوع لاحظ للنفس فيه، ولا للعقل، ولا يحمل عليه إلا مجرد امتثال الأمر، وكمال الانقياد فهذه إشارة مختصرة تعرف بها الحكمة في جميع العبادات والله أعلم انتهى كلام النووي.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ما ذكره الشيخ النووي رحمه الله: من أن حكمة السعي والرمي غير معقولة المعنى، غير صحيح فيما يظهر لي والله تعالى أعلم بل
حكمة الرمي والسعي معقولة، وقد دل بعض النصوص، على أنها معقولة، أما حكمة السعي: فقد جاء النص الصحيح ببيانها، وذلك هو ما رواه البخاري في صحيحه، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قصة ترك إبراهيم هاجر وإسماعيل في مكة، وأنه وضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء، وفي الحديث الصحيح المذكور (وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال: يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي، تنظر هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحدا، فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرات) قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم (فذلك سعى الناس بينهما) الحديث. وهذا الطرف الذي ذكرنا من هذا الحديث سقناه بلفظ البخاري رحمه الله في صحيحه، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث (فذلك سعى
480

الناس بينهما) فيه الإشارة الكافية إلى حكمة السعي بين الصفا والمروة، لأن هاجر سعت بينهما السعي المذكور، وهي في أشد حاجة، وأعظم فاقة إلى ربها، لأن ثمرة كبدها، وهو ولدها إسماعيل تنظره يتلوى من العطش في بلد لا ماء فيه، ولا أنيس، وهي أيضا في جوع وعطش في غاية الاضطرار إلى خالقها جل وعلا، وهي من شدة الكرب تصعد على هذا الجبل فإذا لم تر شيئا جرت إلى الثاني فصعدت عليه لترى أحدا فأمر الناس بالسعي بين الصفا والمروة، ليشعروا بأن حاجتهم، وفقرهم إلى خالقهم ورازقهم كحاجة وفقر تلك المرأة في ذلك الوقت الضيق والكرب العظيم، إلى خالقها ورازقها وليتذكروا أن من كان يطيع الله كإبراهيم عليه، وعلى نبينا الصلاة والسلام، لا يضيعه، ولا يخيب دعاءه وهذه حكمة بالغة ظاهرة دل عليها حديث صحيح وقد قدمنا في حديث البيهقي المذكور حكمة الرمي أيضا فتبين بذلك أن حكمة السعي والرمي معروفة ظاهرة خلافا لما ذكره النووي. والعلم عند الله تعالى.
المسألة الحادية عشرة في مواقيت الحج والعمرة
اعلم أن الحج له ميقات زماني: وهو المذكور في قوله تعالى * (الحج أشهر معلومات) *، وهي: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. وقيل: وذو الحجة مع الإجماع على فوات الحج بعدم الوقوف بعرفة قبل الفجر من ليلة النحر، وميقات مكاني، والمواقيت المكانية خمسة، أربعة منها بتوقيت النبي صلى الله عليه وسلم، بلا خلاف بين العلماء، لثبوت ذلك في الصحيحين وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم، وواحد مختلف فيه هل وقته للنبي صلى الله عليه وسلم، أو وقته عمر رضي الله عنه.
أما الأربعة المجمع على نقلها عن النبي صلى الله عليه وسلم فهي: ذو الحليفة، وهو ميقات أهل المدينة، والجحفة وهي: ميقات أهل الشام وقرن المنازل وهو: ميقات أهل نجد، ويلملم وهي ميقات أهل اليمن أخرج توقيت هذه المواقيت الأربعة الشيخان في صحيحيهما، عن ابن عباس، وابن عمر رضي عنهم إلا أن ابن عمر لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم توقيت يلملم لأهل اليمن، بل سمعه من غيره صلى الله عليه وسلم، وهو مرسل صحابي، والاحتجاج بمراسيل الصحابة معروف، أما ابن عباس فقد سمع منه صلى الله عليه وسلم المواقيت الأربعة المذكورة.
481

فتحصل: أن ذا الحليفة، والجحفة، وقرن المنازل اتفق الشيخان على إخراج توقيتها عن النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث ابن عمر وابن عباس. وأن يلملم اتفقا أيضا على إخراج توقيته عنهما معا، إلا أن ابن عباس سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وابن عمر سمعه من غيره، كما أوضحناه وذو الحليفة هو المسمى الآن بآبار علي، وقرن المنازل هو المسمى الآن: بالسيل. والجحفة خراب الآن، والناس يحرمون من رابغ، وهو قبلها بقليل وهو موضع معروف قديما وفيه يقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:، وابن عمر سمعه من غيره، كما أوضحناه وذو الحليفة هو المسمى الآن بآبار علي، وقرن المنازل هو المسمى الآن: بالسيل. والجحفة خراب الآن، والناس يحرمون من رابغ، وهو قبلها بقليل وهو موضع معروف قديما وفيه يقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
* ولما أجزنا الميل من بطن رابغ
* بدت نارها قمراء للمتنور
*
وأما الميقات الخامس الذي اختلف العلماء فيه، هل وقته رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو وقته عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهو: ذات عرق لأهل العراق، فقال بعض أهل العلم. توقيت ذات عرق، لأهل العراق من النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: هو بتوقيت عمر رضي الله عنه. وقال ابن حجر في فتح الباري: كون توقيت ذات عرق، ليس منصوصا من النبي صلى الله عليه وسلم بل بتوقيت عمر، هو الذي قطع به الغزالي، والرافعي في شرح المسند، والنووي في شرح مسلم، وكذا وقع في المدونة لمالك وصحح الحنفية، والحنابلة، وجمهور الشافعية، والرافعي في الشرح الصغير، والنووي في شرح المهذب: أنه منصوص. انتهى محل الغرض من فتح الباري.
وقال النووي في شرح مسلم في الكلام على ميقات ذات عرق: واختلف العلماء، هل صارت ميقاتهم بتوقيت النبي صلى الله عليه وسلم، أم باجتهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ وفي المسألة وجهان لأصحاب الشافعي أصحهما، وهو نص الشافعي رضي الله عنه في الأم: بتوقيت عمر رضي الله عنه. انتهى محل الغرض منه. وقال النووي في شرح المهذب، وممن قال إنه مجتهد فيه من السلف، طاوس، وابن سيرين، وأبو الشعثاء جابر بن زيد وحكاه البيهقي وغيره عنهم، وممن قال من السلف إنه منصوص عليه: عطاء بن أبي رباح وغيره، وحكاه ابن الصباغ، عن أحمد، وأصحاب أبي حنيفة، وإذا عرفت اختلاف أهل العلم فيمن وقت ذات عرق
لأهل العراق، فهذه تفاصيل أدلتهم.
أما الذين قالوا: إنه باجتهاد من عمر فاستدلوا بما رواه البخاري في صحيحه: حدثني علي بن مسلم، حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما فتح هذان المصران أتوا عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد: قرنا، وهو جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرنا شق علينا.
482

قال: فانظروا حذوها من طريقكم، فحد لهم ذات عرق ا ه منه. قالوا: فهذا الحديث الصحيح صريح في أن توقيت ذات عرق باجتهاد من عمر، وقد جاءت بذلك أيضا آثار عن بعض السلف.
وأما الذين قالوا: إنه بتوقيت النبي صلى الله عليه وسلم، فاستدلوا بأحاديث منها: ما رواه مسلم في صحيحه، وحدثني محمد بن حاتم، وعبد بن حميد، كلاهما عن محمد بن بكر، قال عبد: أخبرنا محمد، أخبرنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، يسأل عن المهل؟ فقال: سمعت أحسبه رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: مهل أهل المدينة، من ذي الحليفة والطريق الآخر الجحفة، ومهل أهل العراق: من ذات عرق، ومهل أهل نجد: من قرن. ومهل أهل اليمن: من يلملم. انتهى منه. وهذا الإسناد صحيح كما ترى إلا أنه ليس فيه الجزم برفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث: فهذا إسناد صحيح، لكنه لم يجزم برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فلا يثبت رفعه بمجرد هذا، ورواه ابن ماجة من رواية إبراهيم بن يزيد الخوزي بضم الخاء المعجمة بإسناده عن جابر مرفوعا بغير شك، لكن الخوزي ضعيف، لا يحتج بروايته ورواه الإمام أحمد في مسنده، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بلا شك أيضا، لكنه من رواية الحجاج بن أرطاة، وهو ضعيف، وعن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق: ذات عرق) رواه أبو داود والنسائي والدارقطني وغيرهم بإسناد صحيح، لكن نقل ابن عدي: أن أحمد بن حنبل أنكر على أفلح بن حميد روايته هذه، وانفراده به مع أنه ثقة، وعن الحارث بن عمرو السهمي الصحابي رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق: ذات عرق) رواه أبو داود، وعن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه وقت لأهل المشرق: ذات عرق) رواه البيهقي، والشافعي بإسناد حسن، عن عطاء، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وعطاء من كبار التابعين. وقد قدمنا في مقدمة هذا الشرح أن مذهب الشافعي الاحتجاج بمرسل كبار التابعين، إذا اعتضد بأحد أربعة أمور.
منها: أن يقول به بعض الصحابة، أو أكثر العلماء، وهذا قد اتفق على العمل به الصحابة، ومن بعدهم، قال البيهقي: هذا هو الصحيح من رواية عطاء أنه رواه مرسلا، قال: وقد رواه الحجاج بن أرطاة، عن عطاء وغيره متصلا، والحجاج ظاهر الضعف. انتهى كلام النووي. وقال صاحب نصب الراية: وأخرجه الدارقطني في سننه، وابن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه وأبو يعلى الموصلي في أسانيدهم، عن حجاج، عن عطاء، عن
483

جابر. وحجاج لا يحتج به، وذكر الحافظ في الفتح أن أحمد روى هذا الحديث من طريق ابن لهيعة من غير شك في الرفع.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين عندي دليلا أن ذات عرق، وقتها النبي صلى الله عليه وسلم لأهل العراق، والدليل على ذلك من وجهين:
أحدهما: أن ذلك ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، في أحاديث منها: ما هو صحيح الإسناد، ومنها: ما في إسناده كلام، وبعضها يقوي بعضا.
قال أبو داود رحمه الله في سننه: حدثنا هشام بن بهرام المدائني، ثنا المعافى بن عمران، عن أفلح يعني: ابن حميد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق) انتهى من سنن أبي داود، وهذا الإسناد صحيح كما ترى، لأن طبقته الأولى هشام بن بهرام المدائني أبو محمد، وهو ثقة، وطبقته الثانية: المعافى بن عمران الأزدي الفهمي أبو مسعود الموصلي، وهو ثقة عابد فقيه. وطبقته الثالثة: أفلح بن حميد بن نافع المدني أبو عبد الرحمن، ويقال له: ابن صغيراء، وهو ثقة، وطبقته الرابعة، والخامسة القاسم بن أبي بكر، عن عمته عائشة رضي الله عنها، فهذا إسناد في غاية الصحة كما ترى.
وقال النسائي في سننه: حدثنا محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي، قال: حدثنا أبو هاشم محمد بن علي عن المعافى، عن أفلح بن حميد، عن القاسم، عن عائشة قالت (وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة: ذا الحليفة، ولأهل الشام ومصر: الجحفة، ولأهل العراق: ذات عرق، ولأهل نجد: قرنا، ولأهل اليمن: يلملم) وهذا إسناد صحيح أيضا، لأن طبقته الأولى محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي وهو ثقة حافظ، وطبقته الثانية هي أبو هاشم محمد بن علي الأسدي، وهو ثقة عابد وباقي الإسناد، هو ما تقدم الآن في إسناد أبي داود، وكلهم ثقات كما أوضحناه الآن، فهذا الإسناد لا شك في صحته ومتنه فيه التصريح بتوقيت النبي صلى الله عليه وسلم ذات عرق لأهل العراق.
واعلم أن تضعيف من ضعف هذا الحديث بأن الإمام أحمد رحمه الله، أنكر على أفلح بن حميد ذكره في هذا الحديث لذات عرق، وأنه انفرد بذلك غير مسلم لأن أفلح بن حميد ثقة وزيادة العدل مقبولة، ولا يضره انفراد المعافى بن عمران أيضا لأنه ثقة، وكم من حديث صحيح غريب انفرد به ثقة عن ثقة، كما هو معلوم في الأصول وعلم الحديث. وقال الشيخ الذهبي رحمه الله في ميزان الاعتدال في نقد الرجال في ترجمة أفلح بن
484

حميد المذكور: وثقه ابن معين، وأبو حاتم. وقال ابن صاعد: كان أحمد ينكر على أفلح بن حميد قوله: ولأهل العراق ذات عرق، وقال ابن عدي في الكامل: هو عندي صالح، وهذا الحديث ينفرد به المعافى بن عمران، عن أفلح، عن القاسم عن عائشة.
قلت: هو صحيح غريب. انتهى كلام الذهبي. وتراه صرح بأن هذا الحديث صحيح غريب، مع أن هذا الحديث في توقيت النبي صلى الله عليه وسلم ذات عرق، لأهل
العراق له شواهد متعددة.
منها: حديث جابر في صحيح مسلم، وإن كان لم يجزم فيه بالرفع، لأن قوله: أحسبه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ظن من أبي الزبير أن جابرا رفع الحديث، وهذا الظن يقوي الروايات، التي فيها الجزم بالرفع.
ومنها: ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عتبة بن عبد الملك السهمي، حدثني زرارة بن كريم: أن الحارث بن عمرو السهمي، حدثه: قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمنى أو بعرفات، وقد أطاف به الناس قال: فتجيء الأعراب، فإذا رأوا وجهه قالوا: هذا وجه مبارك، قال: ووقت ذات عرق: لأهل العراق. انتهى منه. وهذا الإسناد لا يقل عن درجة الحسن، لأن طبقته الأولى: عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج أبو معمر المقعد التميمي المنقري، وهو ثقة ثبت رمي بالقدر، وطبقته الثانية: عبد الوارث وهو ابن سعيد بن ذكوان العنبري مولاهم أبو عبيدة التنوري، وهو ثقة ثبت رمي بالقدر ولم يثبت عنه، وطبقته الثالثة: عتبة بن عبد الملك السهمي، وهو بصري. ذكره ابن حبان في الثقات، وطبقته الرابعة: زرارة بن كريم بن الحارث بن عمرو السهمي، وهو له رؤية، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وطبقته الخامسة: الحارث بن عمرو السهمي الباهلي رضي الله عنه وهو صحابي، فهذا الإسناد لا يقل عن درجة الحسن، وهو صالح لأن يعتضد به حديث عائشة المتقدم عند أبي داود، والنسائي الذي قدمنا: أن إسناده صحيح، وقد سكت أبو داود على هذا الحديث. ومعلوم أن أبا داود إذا سكت على حديث، فهو صالح للاحتجاج عنده، كما قدمناه مرارا. وقد ذكر ابن حجر في الإصابة في ترجمة الحارث بن عمر والمذكور: أن حديثه هذا صححه الحاكم، ولم يتعقب ذلك بشيء. وذكر البخاري هذا الحديث في تاريخه في ترجمة زرارة بن كريم بالسند الذي رواه به أبو داود، ولم يتعقبه بشيء.
ومنها: ما رواه أحمد، وابن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه، وأبو يعلى الموصلي في
485

مسانيدهم والدارقطني في سننه: عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت ذات عرق: لأهل العراق من غير شك في الرفع، وقد قدمنا في كلام النووي، والزيلعي، وابن حجر: أن في إسناده ابن لهيعة، والحجاج بن أرطاة، وكلاهما ضعيف.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: لا شك أن رواية الحجاج بن أرطاة معتبر بها صالحة لاعتضاد غيرها، ومن أجل ذلك أخرج له مسلم في صحيحه مقرونا بغيره، كما قاله الذهبي في الميزان، وقد أثنى عليه غير واحد، وروى عنه شعبة وقال: اكتبوا حديث حجاج بن أرطاة، وابن إسحاق، فإنهما حافظان. وقال فيه الثوري: ما بقي أحد أعرف بما يخرج من رأسه منه، وقال فيه حماد بن زيد: كان أقهر عندنا لحديثه من سفيان. وقال فيه الذهبي في الميزان: هو أحد الأعلام على لين في حديثه. وقال فيه الذهبي: وأكثر ما نقم عليه التدليس، وفيه تيه لا يليق بأهل العلم، وقال فيه ابن حجر في التقريب: صدوق كثير الخطأ والتدليس ا ه.
وعلى كل حال: فلا شك في الاعتبار بروايته، وصلاحها لتقوية غيرها، وابن لهيعة لا شك في أن روايته تعضد غيرها، وقد أخرج له مسلم أيضا مقرونا بغيره. وقد قدمنا الكلام عليه. وعلى كل حال فرواية الحجاج وابن لهيعة عاضدة للرواية الصحيحة. ومنها الحديث الذي رواه عطاء مرسلا كما قدمنا في كلام النووي، وقد قال: إنه رواه الشافعي والبيهقي بإسناد حسن ومرسل عطاء هذا في توقيت النبي صلى الله عليه وسلم: ذات عرق لأهل العراق محتج به عند الأئمة الأربعة. أما مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، فالمشهور عنهم الاحتجاج بالمرسل كما قدمناه مرارا. وأما الشافعي: فقد قدمنا عن النووي: أنه يعمل بمرسل التابعي الكبير إن قال به بعض الصحابة أو أكثر أهل العلم، ومرسل عطاء هذا أجمع على العمل به الصحابة، فمن بعدهم إلى غير ذلك من الأدلة العاضدة، لأن توقيت ذات عرق لأهل العراق من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن حجر في فتح الباري بعد أن ساق بعض طرق حديث توقيت النبي صلى الله عليه وسلم ذات عرق لأهل العراق ما نصه: وهذا يدل على أن للحديث أصلا، فلعل من قال: إنه غير منصوص لم يبلغه، ورأى ضعف الحديث باعتبار أن كل طريق لا يخلو من مقال. انتهى محل الغرض منه.
وقد بينا أن بعض روايات هذا الحديث صحيحة، ولا يضرها انفراد بعض الثقات بها.
486

الأمر الثاني من الأمرين المذكورين في أول هذا المبحث: هو إنما ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عمر، مما يدل على أن توقيت ذات عرق، لأهل العراق باجتهاد من عمر، كما قدمناه لا يعارض هذه الأدلة التي ذكرناها، على أنه منصوص، لاحتمال أن عمر لم يبلغه ذلك، فاجتهد فوافق اجتهاده توقيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو رضي الله عنه معروف أنه وافقه الوحي في مسائل متعددة، فلا مانع من أن تكون هذه منها لا شرعا ولا عقلا ولا عادة. وأما إعلال بعضهم حديث ذات عرق، بأن العراق لم تكن فتحت يومئذ فقد قال فيه ابن عبد البر: هي غفلة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقت المواقيت لأهل النواحي قبل الفتوح، لأنه علم أنها ستفتح، فلا فرق في ذلك بين الشام والعراق. انتهى بواسطة نقل ابن حجر في الفتح.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: اعلم أن المواقيت الخمسة التي ذكرنا، مواقيت أيضا لكل من مر عليها من غير أهلها، وهو يريد النسك حجا كان أو عمرة، ففي حديث ابن عباس المتفق عليه، الذي ذكرناه في أول هذا المبحث بعد ذكر المواقيت المذكورة (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة) هذا لفظ البخاري في صحيحه من رواية ابن عباس: وفي لفظ في البخاري، عن ابن عباس: (هن لأهلهن ولكل آت أتى عليهن من غيرهم ممن أراد الحج والعمرة) وكلا اللفظين في صحيح مسلم من رواية ابن عباس وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم.
الفرع الثاني: اعلم أن من كان مسكنه أقرب إلى مكة من الميقات، فميقاته من موضع سكناه، ففي حديث ابن عباس المتفق عليه المذكور آنفا: (فمن كان دونهن فمهله من أهله) وفي رواية (فمن كان دونهن فمن أهله) وفي لفظ (ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ) كل هذه بالألفاظ في صحيح البخاري من حديث ابن عباس مرفوعا، واللفظان الأخيران منها في صحيح مسلم أيضا من حديث ابن عباس، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم.
الفرع الثالث: اعلم أن أهل مكة يهلون من مكة، وفي حديث ابن عباس المتفق عليه المذكور آنفا (حتى أهل مكة، يهلون منها)، وفي لفظ: (حتى أهل مكة يهلون من مكة)، وكلا اللفظين في الصحيحين من حديث ابن عباس المذكور، وهذا بالنسبة إلى الإهلال بالحج، لا خلاف فيه بين أهل العلم إلا ما ذكره بعضهم من أن المكي يجوز له أن يحرم من أي
487

موضع من الحرم، ولو خارجا عن مكة وهو ظاهر السقوط لمخالفته للنص الصريح، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما إهلال المكي بالعمرة، فجماهير أهل العلم على أنه لا يهل بالعمرة من مكة، بل يخرج إلى الحل، ويحرم منه، وهو قول الأئمة الأربعة وأصحابهم، وحكى غير واحد عليه الإجماع.
قال صاحب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق في الفقه الحنفي: الوقت لأهل مكة الحرم في الحج، والحل في العمرة للإجماع على ذلك. انتهى منه.
وقال ابن قدامة في المغني في الكلام على ميقات المكي: وإن أراد العمرة فمن الحل، لا نعلم في هذا خلافا. انتهى منه.
وقال ابن حجر في فتح الباري في الكلام على ميقات أهل مكة: وأما المعتمر فيجب عليه أن يخرج إلى أدنى الحل، كما سيأتي بيانه في أبواب العمرة.
قال المحب الطبري: لا أعلم أحدا جعل مكة ميقانا للعمرة. انتهى محل الغرض منه.
وقال ابن القيم: إن أهل مكة لا يخرجون من مكة للعمرة، وظاهر صنيع البخاري أنه يرى إحرامهم من مكة بالعمرة، حيث قال: باب مهل أهل مكة للحج والعمرة، ثم ساق بسنده حديث ابن عباس المذكور، ومحل الشاهد عنده منه المطلق للترجمة هي قوله: (حتى أهل مكة من مكة) فقوله في الترجمة باب مهل أهل مكة للحج والعمرة، وإيراده لذلك، حتى أهل مكة يهلون من مكة، دليل واضح على أنه يرى أن أهل مكة يهلون من مكة للعمرة والحج معا كما هو واضح من كلامه.
وإذا علمت ذلك، فاعلم أن دليل هذا القول هو عموم حديث ابن عباس المتفق عليه. الذي فيه حتى أهل مكة يهلون من مكة، والحديث عام بلفظه في الحج والعمرة، فلا يمكن تخصيص العمرة منه إلا بدليل يجب الرجوع إليه، وأما القائلون: بأنه لا بد أن يخرج إلى الحل، وهم جماهير أهل العلم كما قدمنا، فاستدلوا بدليلين.
أحدهما: ما ثبت في الصحيحين، وغيرهما من: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج بعائشة في عمرتها من مكة إلى التنعيم وهو أدنى الحل. قالوا: فلو كان الإهلال من مكة بالعمرة سائغا لأمرها بالإهلال من مكة، وأجاب المخالفون عن هذا: بأن عائشة آفاقية والكلام في أهل مكة لا في الآفاقيين، وأجاب الآخرون عن هذا بأن الحديث
488

الصحيح، دل على أن من مر ميقات لغيره كان ميقاتا له، فيكون ميقات أهل مكة في عمرتهم هو ميقات عائشة في عمرتها. لأنها صارت معهم عند ميقاتهم.
الدليل الثاني: هو الاستقراء وقد تقرر في الأصول: أن الاستقراء من الأدلة الشرعية، ونوع الاستقراء المعروف عندهم بالاستقراء التام حجة بلا خلاف، وهو عند أكثرهم دليل قطعي، وأما الاستقراء الذي ليس بتام وهو المعروف عندهم بإلحاق الفرد بالأغلب فهو حجة ظنية عند جمهورهم. والاستقراء التام المذكور هو: أن تتبع الأفراد، فيؤخذ الحكم في كل صورة منها، ما عدا الصورة التي فيها النزاع، فيعلم أن الصورة المتنازع فيها حكمها حكم الصور الأخرى التي ليست محل نزاع.
وإذا علمت هذا فاعلم أن الاستقراء التام أعني تتبع أفراد النسك، دل على أن كل نسك من حج أو قران أو عمرة، غير صورة النزاع لا بد فيه من الجمع بين الحل والحرم، حتى يكون صاحب النسك زائرا قدما على البيت من خارج كما قال تعالى * (يأتوك رجالا وعلى كل ضامر) *. فالمحرم بالحج أو القران من مكة لا بد أن يخرج إلى عرفات: وهي في الحل، والآفاقيون يأتون من الحل لحجهم وعمرتهم، فجميع صور النسك غير صورة النزاع، لا بد فيها من الجمع بين الحل والحرم، فيعلم بالاستقراء التام أن صورة النزاع لا بد فيها من الجمع أيضا بين الحل والحرم، وإلى مسألة الاستقراء المذكورة أشار في مراقي السعود بقوله: يأتوك رجالا وعلى كل ضامر) *. فالمحرم بالحج أو القران من مكة لا بد أن يخرج إلى عرفات: وهي في الحل، والآفاقيون يأتون من الحل لحجهم وعمرتهم، فجميع صور النسك غير صورة النزاع، لا بد فيها من الجمع بين الحل والحرم، فيعلم بالاستقراء التام أن صورة النزاع لا بد فيها من الجمع أيضا بين الحل والحرم، وإلى مسألة الاستقراء المذكورة أشار في مراقي السعود بقوله:
* ومنه الاستقراء بالجزئي
* على ثبوت الحكم للكلبي
*
* فإن يعم غير ذي الشقاق
* فهو حجة بالاتفاق الخ
*
وقوله: فإن يعم البيت: يعني أن الاستقراء إذا عم الصور كلها غير صورة النزاع فهو حجة في صورة النزاع بلا خلاف، والشقاق الخلاف. فقوله: غير ذي الشقاق: أي غير محل النزاع.
واعلم أن جماعة من أهل العلم يقولون: إن أهل مكة ليس لهم التمتع، ولا القران، فالعمرة في التمتع والقران ليست لهم، وإنما لهم أن يحجوا بلا خلاف والعمرة منهم في غير تمتع، ولا قران جائزة عند جل من لا يرون عمرة التمتع والقران لأهل مكة، وممن قال لا تمتع ولا قران لأهل مكة: أبو حنيفة وأصحابه، ونقله بعض الحنفية عن ابن عمر وابن عباس، وابن الزبير، وهو رأي البخاري رحمه الله كما ذكره في صحيحه، ومنشأ الخلاف في أهل مكة هل لهم تمتع أو قران أو لا؟ هو اختلاف العلماء
489

في مرجع الإشارة في قوله تعالى * (ذالك لمن لم يكن أهله حاضرى المسجد الحرام) * فالذين قالوا: لأهل مكة تمتع وقران كغيرهم، قالوا: الإشارة راجعة إلى الهدي والصوم، ومفهومه أن من كان أهله حاضري المسجد الحرام إذا تمتع فلا هدي عليه ولا صوم، والذين قالوا: ليس لأهل مكة تمتع ولا قران، قالوا: الإشارة راجعة إلى قوله * (فمن تمتع) * أي ذلك التمتع * (لمن لم يكن أهله حاضرى المسجد الحرام) * أما من كان أهله حاضري المسجد الحرام، فلا تمتع له والقران داخل في اسم التمتع في عرف الصحابة، كما تقدم إيضاحه، والذين قالوا هذا القول زعموا أن في الآية بعض القرائن الدالة عليه، منها التعبير باللام في قوله * (لمن لم يكن أهله) *، لأن اللام تستعمل فيما لنا لا فيما علينا، والتمتع لنا أن نفعله، وأن لا نفعله بخلاف الهدي، فهو علينا وكذلك الصوم عند العجز عن الهدي، ومنها: أنه جمع في الإشارة بين اللام والكاف، وذلك يدل على شدة البعد والتمتع أبعد في الذكر من الهدي والصوم.
وأجاب المخالفون: بأن الإشارة ترجع إلى أقرب مذكور وهو الهدي، والصوم، وأن الإشارة إلى القريب إشارة البعيد أسلوب عربي معروف، وقد ذكره البخاري عن أبي عبيدة معمر بن المثنى ومنه قوله * (ذالك الكتاب) * أي هذا القرآن. لأن الكتاب قريب، ولذا تكثر الإشارة إليه بإشارة القريب كقوله * (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) * وقوله * (وهاذا كتاب أنزلناه) * وأمثال ذلك كثيرة في القرآن، ومن إطلاق إشارة البعد على القريب قول خفاف بن ندية السلمي: وهاذا كتاب أنزلناه) * وأمثال ذلك كثيرة في القرآن، ومن إطلاق إشارة البعد على القريب قول خفاف بن ندية السلمي:
* فإن تك خيلي قد أصيب صميمها
* فعمدا على عيني تيممت مالكا
*
* أقول له والرمح يأطر متنه
* تأمل خفافا إنني أنا ذلكا
*
فقد أشار إلى نفسه إشارة البعيد، ومعلوم أنه لا يمكن أن يكون بعيدا من نفسه قالوا: واللام تأتي بمعنى على كقوله * (وإن أسأتم فلها) * أي فعليها وقوله تعالى * (ويخرون للا ذقان) * أي على الأذقان، ومنه قول الشاعر، وقد قدمناه في أول سورة هود: ويخرون للا ذقان) * أي على الأذقان، ومنه قول الشاعر، وقد قدمناه في أول سورة هود:
* هتكت له بالرمح جيب قميصه
* فخر صريعا لليدين وللفم
*
وفي الحديث (واشترطي لهم الولاء) أو أن المراد ذلك الحكم بالهدي والصوم مشروع، لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام.
490

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أقرب أقوال أهل العلم عندي للصواب في هذه المسألة: أن أهل مكة لهم أن يتمتعوا، ويقرنوا وليس عليهم هدي، لأن قوله تعالى * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) * عام بلفظه في جميع الناس من أهل مكة، وغيرهم ولا يجوز تخصيص هذا العموم، إلا بمخصص يجب الرجوع إليه، وتخصيصه بقوله * (ذالك لمن لم يكن أهله حاضرى المسجد الحرام) * لا يجب الرجوع إليه، لاحتمال رجوع الإشارة إلى الهدي والصوم، لا إلى التمتع كما أوضحناه، وأن المكي إذا أراد العمرة خرج إلى الحل فأحرم منه، والدليل على هذا هو ما قدمناه من إرسال النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها، مع أخيها لتحرم بعمرتها من التنعيم، وهو نص متفق على صحته، وقول من قال: إن النبي أرسلها مع أخيها لتلك العمرة تطييبا لخاطرها، لا تقوم به حجة البتة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمرها بعمرة، وهي نسك وعبادة إلا على الوجه المشروع لعامة الناس لاستواء جميع الناس في أحكام التكليف، فعمرتها المذكورة نسك قطعا، والحالة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأداء ذلك النسك عليها، لا شك أنها مشروعة لجميع الناس إلا فيما قام دليل يجب الرجوع إليه بالخصوص، وقصة عمرة عائشة المذكورة لم يثبت فيها دليل على التخصيص والعلم عند الله تعالى.
الفرع الرابع: اعلم أن من سلك إلى الحرم طريقا لا ميقات فيها فميقاته المحل المحاذي، لأقرب المواقيت إليه، كما يدل عليه ما قدمناه في صحيح البخاري، من توقيت عمر ذات عرق لأهل العراق لمحاذاتها قرن المنازل. وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم.
الفرع الخامس: قد قدمنا في حديث النسائي أن الجحفة ميقات لأهل مصر وأهل الشام، وعليه فميقات أهل مصر منصوص، والحديث المذكور قد قدمنا أنه صحيح الإسناد.
الفرع السادس: أظهر قولي أهل العلم عندي: أن أهل الشام، ومصر مثلا إذا قدموا المدينة، فميقاتهم من ذي الحليفة، وليس لهم أن يؤخروا إحرامهم إلى ميقاتهم الأصلي الذي هو الجحفة، أو ما حاذاها. لظاهر حديث ابن عباس المتفق عليه: فهن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن. وقس على ذلك.
الفرع السابع: اعلم أن جمهور أهل العلم على أن من جاوز ميقاته من المواقيت المذورة غير محرم، وهو يريد النسك أن عليه دما، ودليله في ذلك أثر ابن عباس، الذي
491

قدمناه موضحا: (من نسي من نسكه شيئا أو تركه فليهرق دما)، قالوا: ومن جاوز الميقات غير محرم، وهو يريد النسك فقد ترك من نسكه شيئا، وهو الإحرام من الميقات، فيلزمه الدم.
وأظهر أقوال أهل العلم عندي: أنه إن جاوز الميقات، ثم رجع إلى الميقات، وهو لم يحرم أنه لا شيء عليه، لأنه لم يبتدئ إحرامه، إلا من الميقات، وأنه إن جاوز الميقات غير محرم، وأحرم في حال مجاوزته الميقات، ثم رجع إلى الميقات محرما أن عليه دما لإحرامه بعد الميقات، ولو رجع إلى الميقات فإن ذلك لا يرفع حكم إحرامه مجاوزا للميقات. والله تعالى أعلم.
الفرع الثامن: في الكلام على مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس المتفق عليه ممن أراد النسك، ومفهومه صادق بصورتين:
إحداهما: أن يمر إنسان على واحد من هذه المواقيت المذكورة وهو لا يريد النسك، ولا دخول مكة أصلا كالذي يمر بذي الحليفة قاصدا الشام أو نجدا مثلا وهذه الصورة لا خلاف في أنه لا يلزمه فيها الإحرام، وأن مفهوم قوله: ممن أراد النسك دالا على أنه لا إحرام عليه في هذه الصورة.
والثانية: هي أن يمر على واحد من هذه المواقيت وهو لا يريد حجا، ولا عمرة، ولكنه يريد دخول مكة، لقضاء حاجة أخرى.
وهذه الصورة اختلف فيها أهل العلم، فقال بعض أهل العلم: لا يجوز لأحد دخول مكة بغير إحرام، ولو كان دخوله لغرض آخر غير النسك. وقال بعضهم: إذا كان دخوله مكة لغرض غير النسك، فلا مانع من دخوله غير محرم، والخلاف في هذه المسألة مشهور بين أهل العلم.
وقال ابن حجر في فتح الباري: في باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام في هذه المسألة: وقد اختلف العلماء في هذا. فالمشهور من مذهب الشافعي عدم الوجوب مطلقا، وفي قول: يجب مطلقا، وفيمن يتكرر منه دخولها خلاف، وهو أولى بعدم الوجوب. والمشهور عن الأئمة الثلاثة: الوجوب. وفي رواية عن كل منهم لا يجب، وهو قول ابن عمر والزهري والحسن، وأهل الظاهر، وجزم الحنابلة باستثناء ذوي الحاجات المتكررة، واستثنى الحنفية من كان داخل الميقات، وزعم ابن عبد البر أن أكثر
492

الصحابة والتابعين على القول بالوجوب. انتهى كلام ابن حجر. ونقل النووي في شرح مسلم عن القاضي عياض: أن هذا هو قول أكثر العلماء.
وإذا علمت اختلاف العلماء في هذه المسألة فهذه تفاصيل أدلتهم. أما الذين قالوا: إنه لا يجوز دخول مكة بغير إحرام إلا للمترددين عليها كثيرا كالحطابين، وذوي الحاجات المتكررة كالمالكية والحنابلة، ومن وافقهم فقد استدلوا بأدلة:
منها قول بعضهم: إن من نذر دخول مكة لزمه الإحرام. قالوا: ولو لم يكن واجبا لم يجب بنذر الدخول كسائر البلدان.
ومنها: ما رواه البيهقي في سننه أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني، أنبأ أبو سعيد بن الأعرابي، ثنا سعدان بن نصر، ثنا إسحاق الأزرق، عن عبد الملك، عن عطاء، عن ابن عباس أنه قال: ما يدخل مكة أحد من أهلها، ولا من غير أهلها إلا بإحرام، ورواه إسماعيل بن مسلم، عن عطاء عن ابن عباس: فوالله ما دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حاجا أو معتمرا. انتهى من البيهقي. وقال ابن حجر في التلخيص: حديث ابن عباس لا يدخل أحد مكة إلا محرما. رواه البيهقي من حديثه، وإسناده جيد، ورواه ابن عدي مرفوعا من وجهين ضعيفين، ولابن أبي شيبة من طريق طلحة، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: لا يدخل أحد مكة بغير إحرام، إلا الحطابين والعمالين، وأصحاب منافعها. وفيه طلحة بن عمرو فيه ضعف. وروى الشافعي عن ابن عيينة، عن عمرو، عن أبي الشعثاء: أنه رأى ابن عباس يرد من جاوز الميقات غير محرم. ا ه منه.
ومنها: أن دخول مكة بغير إحرام مناف للتعظيم اللازم لها.
وأما الذين قالوا: بجواز دخول مكة بلا إحرام لمن لم يرد نسكا، فاحتجوا بأدلة.
منها: ما رواه البخاري في صحيحه، قال: باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام. ودخل ابن عمر وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإهلال لمن أراد الحج والعمرة، ولم يذكر الحطابين وغيرهم. ثم ساق بسنده حديث ابن عباس المتفق عليه المذكور سابقا وفيه (هن لهن ولكل آت أتى عليهن من غيرهم ممن أراد الحج والعمرة) الحديث ومراد البخاري رحمه الله أن مفهوم قوله: ممن أراد الحج والعمرة أن من لم يرد الحج، والعمرة لا إحرام عليه، ولو دخل مكة.
وقال ابن حجر في الفتح في الكلام على هذا الحديث وحاصله: أنه خص
493

الإحرام بمن أراد الحج والعمرة واستدل بمفهوم قوله في حديث ابن عباس: ممن أراد الحج والعمرة، فمفهومه: أن المتردد إلى مكة لغير قصد الحج والعمرة لا يلزمه الإحرام. انتهى محل الغرض منه ثم قال البخاري رحمه الله: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح، وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء رجل فقال: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال: اقتلوه) انتهى منه فقول أنس في هذا الحديث الصحيح: دخل عام الفتح، وعلى رأسه المغفر، دليل على أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح بغير إحرام، كما هو واضح، وحديث أنس هذا أخرجه مالك في الموطأ، وزاد: ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ محرما، وأخرجه أيضا مسلم في صحيحه باللفظ الذي ذكره البخاري في باب جواز دخول مكة
بغير إحرام.
وقال مسلم رحمه الله في صحيحه أيضا: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي، وقتيبة بن سعيد الثقفي، قال يحيى: أخبرنا، وقال قتيبة: حدثنا معاوية بن عمار الدهني، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله الأنصاري (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة) وقال قتيبة (دخل يوم فتح مكة، وعليه عمامة سوداء بغير إحرام) وفي رواية قتيبة قال: حدثنا أبو الزبير، عن جابر، وفي رواية أخرى عند مسلم عن جابر أيضا: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء) وفي رواية عند مسلم من طريق جعفر بن عمرو بن حريث، عن أبيه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس وعليه عمامة سوداء) وفي لفظ لمسلم، عن جعفر بن عمرو بن حريث، عن أبيه قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وعليه عمامة سوداء، قد أرخى طرفيها بين كتفيه. ولم يقل أبو بكر: على المنبر. انتهى منه.
فإن قيل: في بعض هذه الأحاديث الصحيحة: أنه دخل مكة، وعلى رأسه المغفر، وفي بعضها: أنه دخل وعليه عمامة سوداء.
فالجواب: أن العلماء جمعوا بين الروايتين. قال القاضي عياض: وجه الجمع بينهما أن أول دخوله كان على رأسه المغفر، ثم بعد ذلك كان على رأسه العمامة بعد إزالة المغفر، بدليل قوله: خطب الناس، وعليه عمامة سوداء، لأن الخطبة إنما كانت عند باب الكعبة بعد تمام فتح مكة، وجمع بعض أهل العلم بينهما بأن العمامة السوداء كانت ملفوفة فوق المغفر وكانت تحت المغفر وقاية لرأسه من صدأ الحديد، فأراد أنس بذكر المغفر كونه دخل متهيئا للحرب، وأراد جابر بذكر العمامة كونه دخل غير محرم انتهى محل
494

الغرض منه من فتح الباري. وقال ابن حجر في الفتح في قول البخاري: ودخل ابن عمر وصله مالك رحمه الله في الموطأ عن نافع قال: أقبل عبد الله بن عمر من مكة، حتى إذا كان بقديد (يعني بضم القاف) جاءه خبر من المدينة، فرجع فدخل مكة بغير إحرام ا ه منه، وقد ذكر مالك في الموطأ في جامع الحج بلفظ: جاءه خبر من المدينة يدل عن الفتنة، وباقي اللفظ كما ذكره ابن حجر.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين عندي دليلا: أن من أراد دخول مكة حرسها الله لغرض غير الحج والعمرة أنه لا يجب عليه الإحرام، ولو أحرم كان خيرا له، لأن أدلة هذا القول أقوى وأظهر فحديث ابن عباس المتفق عليه: خص فيه النبي صلى الله عليه وسلم الإحرام بمن أراد النسك. وظاهره أن من لم يرد نسكا فلا إحرام عليه. وقد رأيت الروايات الصحيحة بدخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح غير محرم، ودخول ابن عمر غير محرم والعلم عند الله تعالى.
وأما قول بعض أهل العلم من المالكية وغيرهم أن دخول مكة بغير إحرام من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فهو لا تنهض به حجة، لأن المقرر في الأصول وعلم الحديث أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يختص حكمه به إلا بدليل يجب الرجوع إليه، لأنه هو المشرع لأمته بأقواله وأفعاله وتقريره كما هو معلوم. الفرع التاسع: في حكم تأخير الإحرام عن الميقات، وتقديمه عليه قد قدمنا أنه لا يجوز تأخير الإحرام عن الميقات ممن يريد حجا أو عمرة، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، وقد قدمنا دليله، وأما ما رواه مالك رحمه الله في الموطأ عن نافع: أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أهل من الفرع. ومعلوم أن الفرع وراء ميقات أهل المدينة الذي هو ذو الحليفة، فهو محمول عند أهل العلم كما ذكره ابن عبد البر وغيره، على أنه وصل الفرع وهو لا يريد النسك فطرأت عليه نية النسك بالفرع، فأهل منه، وهذا متعين، لأن ابن عمر رضي الله عنهما ممن روى المواقيت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمن المعلوم أنه لا يخالف ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما الإحرام من موضع فوق الميقات، فأكثر أهل العلم على جوازه وحكى غير واحد عليه الاتفاق.
واختلفوا في الأفضل من الأمرين وهما الإحرام من الميقات أو الإحرام من بلده إن كان أبعد من الميقات؟ قال النووي في شرح المهذب: أجمع من يعتد به من السلف
495

والخلف من الصحابة، فمن بعدهم، على أنه يجوز الإحرام من الميقات ومما فوقه. وحكى العبدري وغيره عن داود أنه قال: لا يجوز الإحرام مما فوق الميقات، وأنه لو أحرم مما قبله لم يصح إحرامه، ويلزمه أن يرجع، ويحرم من الميقات. وهذا الذي قاله مردود عليه بإجماع من قبله. انتهى كلام النووي.
وحجة من قال: إن الإحرام من الميقات أفضل أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم في حجته وعمرته من الميقات الذي هو ذو الحليفة، وهذا مجمع عليه من أهل العلم، وأحرم معه في حجه وعمرته أصحابه كلهم من الميقات، وكذلك كان يفعل بعده خلفاؤه الراشدون وغيرهم من الصحابة والتابعين، وجماهير العلماء، وأهل الفضل فترك النبي صلى الله عليه وسلم الإحرام في مسجده الذي صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وإحرامه من الميقات دليل واضح، لا شك فيه أن السنة هي الإحرام من الميقات، لا مما فوقه، واحتج من قال: يكون الإحرام مما فوق الميقات أفضل بما رواه أبو داود في سننه: حدثنا أحمد بن صالح، ثنا ابن أبي فديك، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يحنس، عن يحيى بن أبي سفيان الأخنسي، عن جدته حكيمة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أو وجبت له الجنة) شك عبد الله أيتهما قال: قال أبو داود: يرحم الله وكيعا أحرم من بيت المقدس، يعني إلى مكة. انتهى من سنن أبي داود. واحتج أهل هذا القول أيضا بتفسير عمر، وعلي رضي الله عنهما لقوله * (وأتموا الحج والعمرة لله) * قالا: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك، واحتجوا أيضا بما رواه مالك في الموطأ عن الثقة عنده أن عبد الله بن عمر: أهل من إيلياء. وهي بيت المقدس، ورد المخالفون استدلال هؤلاء بأن حديث أم سلمة: ليس بالقوي.
قال النووي في شرح المهذب: وأما حديث أم سلمة، فرواه أبو داود، وابن ماجة، والبيهقي، وآخرون وإسناده ليس بالقوي، وبأن تفسير علي وعمر رضي الله عنهما للآية، وفعل ابن عمر كلاهما مخالف لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله في حجته تفسير لآيات الحج. وقد قال صلى الله عليه وسلم (خذوا عني مناسككم)
وإحرامه من الميقات مجمع عليه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين عندي دليلا هو: الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، والإحرام من الميقات، فلو كان الإحرام قبله فيه فضل لفعله صلى الله عليه وسلم، والخير كله في اتباعه صلى الله عليه وسلم.
496

وقال النووي في شرح المهذب، بعد أن يبين أن الإحرام من الميقات أفضل من غير ما نصه: فإن قبل: إن النبي صلى الله عليه وسلم، أحرم من الميقات لبيان جوازه.
فالجواب من أوجه:
أحدهما: أنه صلى الله عليه وسلم قد بين الجواز بقوله صلى الله عليه وسلم (مهل أهل المدينة من ذي الحليفة).
الثاني: أن بيان الجواز فيما يتكرر فعله، ففعله صلى الله عليه وسلم مرة أو مرات يسيرة على أقل ما يجزئ بيانا للجواز ويداوم في عموم الأحوال، على أكمل الهيئات، كما توضأ مرة في بعض الأحوال ودوام على الثلاث، ونظائر هذا كثيرة، ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم أحرم من المدينة، وإنما أحرم بالحج وعمرة الحديبية من ذي الحليفة.
الثالث: أن بيان الجواز إنما يكون في شيء اشتهر أكمل أحواله بحيث يخاف أن يظن وجوبه، ولم يوجد ذلك هنا، وهذا كله إنما يحتاج إليه على تقدير دليل صريح صحيح في مقابلته ولم يوجد ذلك، فإن حديث أم سلمة قد سبق أن إسناده ليس بالقوي فيجاب عنه بأربعة أجوبة.
الأول: أن إسناده ليس بقوي.
الثاني: أن فيه بيان فضيلة الإحرام من فوق الميقات وليس فيه أنه أفضل من الميقات. ولا خلاف أن الإحرام من فوق الميقات فيه فضيلة، وإنما الخلاف أيهما أفضل.
فإن قيل: هذا الجواب يبطل فائدة تخصيص المسجد الأقصى.
فالجواب: أن فيه زيادة هي تبيين قدر الفضيلة فيه.
والثالث: أن هذا معارض لفعله صلى الله عليه وسلم المتكرر في حجته وعمرته، فكان فعله المتكرر أفضل. الرابع: أن هذه الفضيلة جاءت في المسجد الأقصى لأن له مزايا عديدة معروفة، ولا يوجد ذلك في غيره، فلا يلحق به والله تعالى أعلم. اتهى كلام النووي. ولا شك: أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من المسجد الأقصى، بدليل الحديث المتفق عليه (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) ولا خلاف بين أهل العلم في دخول المسجد الأقصى في هذا العموم، وتفضيل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم عليه في الجملة، فلو كان فضل المكان سببا للإحرام فيه قبل الميقات، لأحرم النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده، لأنه لا يفعل إلا ما هو الأفضل والأكمل صلوات الله وسلامه عليه، ولا يخفى أن
497

الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم أفضل وأكمل من غيره.
الفرع العاشر: في حكم تقديم الإحرام على ميقاته الزماني، الذي هو أشهر الحج التي تقدم بيانها.
اعلم أن جماعة من أهل العلم قالت: لا يعتقد الإحرام بالحج في غير أشهر الحج، وأكثر من قال بهذا يقولون: إنه إن أحرم بالحج في غير أشهره ينعقد إحرامه بعمرة لا حج، وهذا هو مذهب الشافعي. قال النووي في شرح المهذب: وبه قال عطاء، وطاوس، ومجاهد، وأبو ثور. ونقله الماوردي عن عمر، وابن مسعود، وجابر، وابن عباس وأحمد. وقال الأوزاعي: يتحلل بعمرة. وقال ابن عباس: لا يحرم بالحج إلا في أشهره. وقال داود: لا ينعقد. وقال النخعي والثوري، ومالك، وأبو حنيفة، وأحمد: يجوز قبل أشهر الحج، ولكن يكره قالوا: فأما الأعمال فلا تجوز قبل أشهر الحج بلا خلاف، واحتج لهم بقوله تعالى * (يسألونك عن الأهلة قل هى مواقيت للناس والحج) * فأخبر سبحانه وتعالى أن الأهلة كلها مواقيت للناس والحج، ولأنها عبادة تدخلها النيابة، وتجب الكفارة في إفسادها، فلم تخص بوقت كالعمرة، ولأن الإحرام بالحج يصح في زمان لا يمكن إيقاع الأفعال فيه. وهو شوال. فعلم أنه لا يختص بزمان. قالوا، ولأن التوقيت ضربان توقيت مكان وزمان. وقد ثبت أنه لو تقدم إحرامه على ميقات المكان صح، فكذا الزمان قالوا: وأجمعنا على أنه لو أحرم بالحج قبل أشهره انعقد لكن اختلفنا، هل ينعقد حجا أو عمرة؟ فلو لم ينعقد حجا لما انعقد عمرة. انتهى محل الغرض من كلام النووي.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ومن العجيب عندي أن يستدل عالم بمثل هذه الأدلة التي هي في غاية السقوط كما ترى، لأن آية * (قل هى مواقيت للناس والحج) * ليس معناها: أن كل شهر منها ميقات للحج، ولكن أشهر الحج، إنما تعلم بحساب جميع الأشهر، لأنه هو الذي يتميز به وقت الحج من غيره، ولأن هذه الأدلة التي لا يعول عليها في مقابلة آية محكمة من كتاب الله صريحة في توقيت الحج بأشهر معلومات هي قوله تعالى * (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) * فتجاهل هذا النص القرآني، ومعارضته بما رأيت من الغرائب كما ترى.
498

والتحقيق الذي يدل عليه القرآن هو قول من قال: إن الحج لا ينعقد في غير زمنه، كما أن الصلاة المكتوبة لا ينعقد إحرامها قبل وقتها، وانقلاب إحرامه عمرة له وجه من النظر، ويستأنس له بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه المحرمين بالحج الذين لم يسوقوا هديا أن يقلبوا حجهم الذي أحرموا به عمرة، وبأن من فاته الحج تحلل من إحرامه للحج بعمرة والعلم عند الله تعالى.
499