الكتاب: معالم الدين وملاذ المجتهدين
المؤلف: ابن الشهيد الثاني
الجزء:
الوفاة: ١٠١١
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق: لجنة التحقيق
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك:
ملاحظات:

معالم الدين وملاذ المجتهدين
المقدمة
في
أصول الفقه
تأليف
الشيخ السعيد جمال الدين الحسن نجل الشهيد الثاني زين الدين العاملي
" 959 - 1011 ه‍ "
مؤسسة النشر الاسلامي (التابعة)
لجماعة المدرسين بقم المشرفة (إيران)
تعريف 1

نظرا لحلول العام الدراسي آثرنا نشر هذا الكتاب كما ترى وسنردفه
بالحواشي والفهارس اللازمة في فرصة مقبلة إن شاء الله تعالى.
الكتاب: معالم الدين وملاذ المجتهدين
المؤلف: الحسن بن زين الدين
تحقيق: لجنة التحقيق
نشر: مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين ب‍ " قم المشرفة "
المطبوع: 1000 نسخة
مقدمة الناشر 2

بسم الله الرحمن الرحيم
تصدير
1 - المؤلف في سطور:
هو جمال الدين أبو منصور الحسن بن زين الدين الشهيد الثاني بن علي بن أحمد
العاملي الجبعي، قدس الله روحه، واشتهر بصاحب المعالم، نسبة إلى كتابه الذي ألفه في
الفقه مع مقدمة في أصول الفقه وسماه معالم الدين وملاذ المجتهدين.
وكان من فطاحل العلم وعشاق المعرفة، وقد سما إلى المقام الأسنى في مختلف
العلوم، حيث أنه دخل ميادين العلم دخول المحترف القدير، فكان يدأب في أخذ العلم
ونشره طيلة عمره ليله ونهاره، وكان علمه يتقاطر من أنامله، ومعالمه هذه رشحة من بحار
فضائله، فكان لسان الثناء بذكر نطوق في الأصول والفروع، فقد كان محققا عالما درس
المعقول والمنقول والفروع والأصول والمنطق والبلاغة والرياضيات. اما الأدب فهو
روضة الأريض ومالك زمام السجع منه والقريض، والناظم لقلائده وعقوده، والمميز
عروضه من نقوده (1) فهو النجم الزاهر في سماء العلم والمعرفة.
وقد ولد في أسرة ساهمت مساهمة فعالة في تقدم العلوم الاسلامية حيث تقلدت
شرف المرجعية والزعامة الدينية، وعلى رأسها الشهيد الثاني، قدس سره، وكانت ولادته
لعشرة أيام بقين من شهر رمضان المبارك، عام 959 ه‍، في قرية " جبع " من قرى جبل
عامل بلبنان.
وكان عمره حين استشهاد والده سبع سنين اشتغل في تلك النواحي المقدسة
وأخذ بتحصيل العلوم على د جملة من فضلائها البارعين وطلبة والده الشهيد.

(1) سلافة العصر: ص 305.
مقدمة الناشر 3

وبعدما أكمل دراسته الابتدائية والمقدمات اللازمة في بلاده ومسقط رأسه توجه إلى
العراق وأقام في النجف الأشرف واشتغل هناك في دراسة الفقه والأصول والعلوم
الأخرى، فحضر درس المقدس الأردبيلي والمولى عبد الله اليزدي مع ابن أخته السيد
محمد صاحب المدارك وكانا يتسابقان في الفضل والعلم والاحترام، نقل عن أستاذهما
المحقق الأردبيلي أنه كان عند قرائتهما عليه مشغولا بتأليف، وشرح إرشاد الأذهان،
فكان يعطيهما أجزاء منه ويقول لهما: انظرا في عبارته وأصلحنا منه ما شئتما فإني أعلم أن
بعض عباراته غير فصيحة (1) وكان صاحب المعالم حسن الخط جيد الضبط عجيب
الاستحضار حافظا للرجال والأصول والاخبار.
2 - كتاب معالم وأثره في علم الأصول:
من المعلوم أنه لم يكن هذا العلم مدونا في القرن الأول من الاسلام، وانما ابتدأ
التدوين في القرن الثاني منه على ما ذكره المؤرخون، وقد أشار البحاثة السيد حسن
الصدر في كتابه الشيعة وفنون الاسلام، إلى تأسيس وتطور هذا العلم بقوله.
" فاعلم: أن أول من فتح بابه وفتق مسائله هو باقر العلوم الإمام أبو
جعفر الباقر وبعده ابنه أبو عبد الله الصادق عليهما السلام، وقد أمليا فيه
على جماعة من تلامذتها قواعده ومسائله، جمعوا من ذلك مسائل رتبها
المتأخرون على ترتيب مباحثة ككتاب أصول آل الرسول، وكتاب الفصول
المهمة في أصول الأئمة، وكتاب الأصول الأصلية، كلها بروايات الثقاة
مسندة متصلة الاسناد إلى أهل البيت عليهم السلام. وأول من أفرد
بعض مباحثه بالتصنيف هشام بن الحكم شيخ المتكلمين تلميذ أبي
عبد الله الصادق عليه السلام، صنف كتاب الألفاظ، ثم يونس بن
عبد الرحمن مولى آل يقطين تلميذ الإمام الكاظم عليه السلام حيث
صنف كتاب اختلاف الحديث " (2).

1 - منتقى الجمال في الأحاديث الصحاح والحسان: ص 7 و 8 من المقدمة.
2 - أصول الاستنباط للسيد علي نقي الحيدري: ص 32.
مقدمة الناشر 4

وقد استمرت الحاجة إلى علم الأصول تتسع وتشتد بقدر الابتعاد عن
عصر النصوص، فبدأ الفقهاء يصنفون رسائل وكتبا في الأصول، وإن كانت في أكثر
الأحيان تمتزج بمطالب القه وأصول الدين إلا أنها كانت تكشف عن تطور ملحوظ في
معالم أصول الفقه وقواعده.
فكان من بين الرواد النوابغ من فقهائنا الذين أقبلوا على دراسة العناصر المشتركة في
عمليات استنباط الأحكام الشرعية الحسن بن علي بن أبي عقيل، ومحمد بن أحمد بن
الجنيد الإسكافي في القرن الرابع، ثم ألف بعد ذلك الشيخ المفيد المتوفى سنة 413 ه‍
كتابا في الأصول وتبعه تلميذه السيد المرتضى فأفرد كتابا موسعا في الأصول سماه
الذريعة وكذلك ألف سلار كتابا باسم التقريب في أصول الفقه ثم جاء دور الشيخ الفقيه
المجدد محمد بن الحسن الطوسي المتوفى سنة 460 ه‍ حيث ألف كتاب عدة الأصول
وانتقل علم الأصول على يده إلى دور جديد من النضج الفكري.
ولكن هذا التراث الضخم الشيخ الطوسي توقف عن النمو بعد وفاته
طيلة قرن كامل لأسباب لا مجال لذكرها هنا، وكانت بداية خروج الفكر العلمي عن
دور التوقف النسبي على يد الفقيه محمد بن أحمد بن إدريس المتوفى سنة 598 ه‍
حيث صنف المحقق الحلي كتبا في الأصول منها كتاب نهج الوصول إلى معرفة الأصول
ومعارج الأصول، وألف العلامة الحسن بن يوسف بن مطهر الحلي كتبا عديدة من قبيل
تهذيب الوصول إلى علم الأصول، ومبادي الوصول إلى علم الأصول وغيرهما.
وقد ظل النمو العلمي في مجالات البحث الأصولي آخر القرن العاشر وكان
الممثل الأساسي له في أواخر القرن هو الحسن بن زين الدين المتوفى سنة 1011 ه‍
حيث ألف كتابه المشهور في الأصول معالم الدين وملاذ المجتهدين مثل فيه المستوى العالي
لعلم الأصول في عصره بتعبير سهل وتنظيم جديد (1) ودقة في التعبير والاستدلال،
والامر الذي جعل لهذا الكتاب شأنا كبيرا في عالم البحوث الأصولية حتى أصبح كتابا
دراسيا في هذا العلم وتناوله العلماء بالتعليق والتوضيح والنقد (2).

1 - راجع ص 54 وما بعدها من المعالم الجديدة للأصول: للشهيد الصدر قدس سره.
2 - المعالم الجديدة للأصول، للسيد الشهيد محمد باقر الصدر قدس: ص 76.
مقدمة الناشر 5

ويعتبر هذا الكتاب من أشهر مصنفاته حتى أنه عرف وخلد به على أنه لم يتمه
كله، فلم يخرج منه سوى مقدمته في الأصول وبعض كتاب الطهارة في الفقه.
واما المقدمة: فهي ذات خطبة نفيسة، ومقصدين اثنين، وخاتمة.
أما المقصد الأول، فهو في فضل العلم والعلماء، وما يجب لهم وعليهم، ويضم تسعة
وثلاثين حديثا بالإضافة إلى الكثير من النصوص القرآنية.
واما المقصد الثاني، فهو في تسعة مطالب أصولية ضمنها آراءه الخاصة في معظم فصوله
وأصوله، بالإضافة إلى عرض مجموعة من الآراء المحترمة لغيره من أساطين هذا الفن
حتى أنه يمكن أن يصلح كفهرسة عامة وتاريخية لآرائهم.
واما الخاتمة فهي في التعادل والتراجيح عارضها فيها للأمور التي يحصل معها
الترجيح والأسس التي يحل عندها التعادل.
وقد صار عليه المعول في التدريس من عصره إلى اليوم، بعد ما كان التدريس قبلا
في الشرح العميدي على تهذيب العلامة، وشرح العلامة على مختصر ابن الحاجب، وشرح العضدي
على مختصر ابن الحاجب. وقد فرغ من تأليفه في ربيع الثاني عام 994 ه‍ وعلقت عليه
حواش وشروح كثيرة عربية وفارسية، مفصلة ومختصرة، مستقلة وهامشية، لفظية
واستدلالية، فيها المخطوط ومنها المطبوع، ومن جمله هذه الحواشي والشروح حاشية لولده
الشيخ محمد، ولسلطان العلماء، وللمولى صالح المازندراني، وللشيخ المدقق الشيرواني،
وللشيخ محمد تقي الأصفهاني، وللشيخ محمد طه نجف، وللسيد بحر العلوم، وللشيخ
مصطفى اعتمادي، وغيرهم (1).
ومما يزيد هذا الكتاب افتخارا وسموا أنه لا زال شامخا وعلما للسابقين واللاحقين
حيث أنه يدرس في الحوزات العلمية إلى جانب الكتب الأصولية الثلاثة وهي القوانين
والرسائل والكفاية وأصول الفقه للمظفر (حديثا)، فهو مدخل المبتدئين وملاذ المجتهدين،
جزى الله مؤلفه بالاجر والثواب وأقر عينه بجنان الخلد إلى أبد الآبدين.

1 - مقدمة معالم الدين وملاذ المجتهدين (المقدمة بتعليق عبد الحسين البقال): ص 68.
مقدمة الناشر 6

3 - طلبته ومشايخه:
وقد رجع صاحب المعالم بعد ما أكمل دروسه لدى علماء النجف الأشرف إلى بلدة
جبع واستقر بها واشتغل بالتدريس والتصنيف، وقرأ على يده وروى عنه جملة من
الفضلاء منهم:
1 - الشيخ نجيب الدين علي بن محمد بن مكي العاملي.
2 - الشيخ أبو جعفر محمد ابنه والد الشيخ علي.
3 - الشيخ أبو الحسن على ابنه الاخر. 4 - الشيخ حسين بن الحسن الظهيري.
5 - السيد نجم الدين بن السيد محمد الحسيني.
6 - الشيخ عبد السلام بن محمد الحر عم صاحب الوسائل.
واما أساتذته ومشايخه:
1 - المقدس الأردبيلي
2 - الشيخ عبد الله اليزدي.
3 - السيد علي بن أبي الحسن صهر الشهيد الثاني والد صحاب المدارك
4 - الشيخ عز الدين حسين بن عبد الصمد والد الشيخ بهاء الدين العاملي
5 - السيد علي بن الحسين الصائغ الحسيني العاملي الجزيني
وكان نقش خاتمه الشريف على ما نقله صاحب الروضات.
" بمحمد والآل معتصم * حسن بن زيد الدين عبدهم " (1).
والجدير بالذكر أن مؤلفات المترجم ووالده الشهيد تحتل اليوم ومسبقا مكان
الصدارة بين مؤلفات الامامية، وتراها قد عكف عليها الطلاب والعلماء للإفادة
والاستفادة في المدارس وجامعات الامامية عامة.
هكذا كانت حياة شيخنا الاجل حافلة بالعلم والتقوى والاجتهاد والتدريس

1 - منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان: ص 14 - ص 15 من المقدمة.
مقدمة الناشر 7

والتصنيف وقد أمد وأتحف مسيرة أصول الفقه منذ القديم وإلى الان بمعالمه الشريفة
ووافاه أجله في عام 1011 ه‍ برحلة أبدية يلقى فيها الجزاء الأوفى على ما قدمه من
خدمات جليلة للشريعة المقدسة، فجزاه الله خير الجزاء وأوفاه، وقدس روحه ومثواه.
4 - مؤلفاته (1):
للمؤلف مصنفات كثيرة إلا أن أكثرها غير تامة لأنه كان يشتغل في زمان واحد
بتصنيفات متعددة، كما هو دأب العلامة، والشهيدين في الأغلب، ومن مؤلفاته:
1 - منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان: حيث اقتصر فيه على ايراد
هذين الصنفين من الاخبار على طريقة كتاب الدرر والمرجان الذي ألفه العلامة في
ذلك المعنى من قبل ولم يخرج من أبوابه الفقهية غير العبادات.
2 - التحرير الطاووسي: تهذيب كتاب حل الاشكال في معرفة الرجال.
3 - شرح على ألفية الشهيد: كما نسبه الفاضل الهندي - رحمه الله -.
4 - مناسك الحج.
5 - الرسالة الاثنا عشرية في الطهارة والصلاة.
6 - رسالة في عدم جواز تقليد الميت.
7 - مشكاة القول السديد في تحقيق معنى الاجتهاد والتقليد.
8 - ديوان شعر.
9 - تعاليقه على مختلف العلامة وعلى شرح اللمعة.
10 - تعاليقه على الكتب الأربعة: الكافي والفقيه والتهذيب والاستبصار.
11 - ترتيب مشيخة من لا يحضره الفقيه.
12 - جوابات المسائل المدنيات الأولى والثانية والثالثة.
13 - رسالة في عدم قبول تزكية الواحد.
14 - الفصول الأنيقة.
15 - الفوائد الرجالية.

1 - معجم مؤلفي الشيعة ص: 274، ومنتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان: ص 12 من المقدمة.
مقدمة الناشر 8

16 - النفحة القدسية لايقاظ البرية.
17 - معالم الدين وملاذ المجتهدين: وهو الكتاب الذي بين أيدينا.
5 - معالم الدين:
يعتبر هذا الكتاب من أشهر تصانيفه، وفي مقدمته خطبة نفيسة في فضل العلم
والعلماء.
وهذا الكتاب الجليل صار عليه المعول في التدريس من زمن تأليفه إلى هذا العصر،
بعد ما كان تدريس أصول الفقه على الشرح العميدي على تهذيب الأصول للعلامة الحلي
وغيره من الكتب الأصولية. وعلى هذا الكتاب شروح وحواش كثيرة عربية، مبسوطة
ومختصرة، منها حاشية لسلطان العلماء وحاشية للمولى صالح المازندراني وللمحقق الملا
ميرزا الشيرواني وللشيخ محمد تقي الأصفهاني صاحب هداية المسترشدين. وله نسخ
كثيرة قد كتبها الناسخون وتداولها طلاب العلم في الحوزات العلمية وطبع عشرات
المرات قديما وحديثا.
وبالنظر إلى أهمية هذا العلم القيم عزمت هذه المؤسسة على نشره من جديد خدمة
للدين واحياء لما نمقته يراعة علمائنا الماضين - رضوان الله عليهم أجمعين - فطالعناه
وتفحصنا عن نسخة المخطوطة الموجودة في المكتبات وجمعنا صورها على قدر ما تيسر منها ثم
قابلناها وحققنا متن الكتاب وخرجنا الآيات والأحاديث والنصوص الموجودة فيه من
القدماء وطبقناها على مصادرها المطبوعة والمخطوطة وبذلنا وسعنا الميسور في ترصيف
الكتاب وإظهاره على الوجه الذي تراه مزدانا بالتقدمة والتعليقات والفهارس.
اما النسخ التي راجعناها فكثيرة يعسر مقارنتها ومقابلتها أجمع فاكتفينا بثلاثة منها
وهي من أقدم وأصح النسخ فيما حصلنا عليها وإليك تفصيلها:
1 - نسخة مصورة عن أصل محفوظ في " كتابخانه آستان قدس رضوي " في مشهد
الرضا عليه السلام، برقم 2607، كتبها بالخط النسخي محمد محسن بن محمد سعيد
الطهراني في ليلة ثامن عشر شهر شوال من شهور ثمان وسبعين وألف من الهجرة.
ورمزنا إليها ب‍ " ألف "، واعتمدنا عليها كأساس في التصحيح لأنها أصح النسخ التي كانت
مقدمة الناشر 9

تحت أيدينا.
2 - نسخة مصورة عن مخطوطة في " كتابخانه ملي ملك، آستان قدس رضوي " في
طهران، برقم 1607. وهي أيضا بالخط النسخي، فرغ من كتابتها حسن بن دوست
محمد چرمي القايني في بلدة تون في المدرسة الحسينية في الشهر الثالث من السنة الرابعة
بعد الثلاثين والألف من الهجرة. وعلامتها " ب ".
3 - نسخة مصورة عن أصل محفوظ في " كتابخانه مجلس شوراى اسلامي " في
طهران، برقم 4955،. وهي بخط نسخي جميل، كتبها فخر الدين محمد الحسيني
الاسترآبادي بأمر أمير سيد سديد الدين مرتضى، في يوم السبت من الشهر التاسع من
السنة التاسعة من العشر الثامن من المائة الأولى بعد الألف من الهجرة النبوية (1079)
وعلامتها " ج ".
وقد لجأنا إلى مخطوط " ألف " فاتخذناه أساسا للنشر ثم أضفنا في الهامش الروايات
المغايرة. وإن التزام المنهج التقليدي في التصحيح لم يمنعنا من استخدام علامات الترقيم
على اختلافها: من شولات، وشرط، وأقواس، ونقط، وعلامات استفهام وتعجب وما إلى
ذلك، وان كان غير مألوف في الكتابة العربية القديمة. ومن الضروري أن نحقق وننشر
بروح العصر على طريقته الفنية. والذي لا ييسر على القارئ مهمته لا يؤدي الغرض
المطلوب منه تمام الأداء. وجمل هذا الكتاب الطويلة من أحوج ما يكون إلى علامات
الترقيم. ورب شولة تزيل غموضا ورب نقطة تغير المعنى وتسلك به مسلكا خاصا. ففي
استعمال تلك الرموز اجتهاد وترجيح قد لا يقل عن اي جهد للشرح والتعليق لتفهيم
المنشورات التقليدية.
ولم نرد على عناوين الكتاب شيئا وان كان كثير من الفصول والأصول في المتن
خاليا عنها، اللهم إلا إضافات ضئيلة ميزناها من الأصل في معقوفين وجعلنا ما أردنا
إثباته في أعلى الصفحات ليهتدي القارئ إلى ما حوته العبارات.
هذا ما قدمناه لنشر هذا التراث. خدمة للحنيفية البيضاء وإسداء لشئ من
التضحيات الاسلامية المشرفة إلى هذا الجيل من أبناء المسلمين، أخذ الله تعالى
بأيدينا إلى ما فيه الخير، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
مؤسسة النشر الاسلامي (التابعة)
لجماعة المدرسين بقم المشرفة إيران.
مقدمة الناشر 10

نموذج من الصفحة الأولى من نسخة " الف ".
مقدمة الناشر 11

نموذج من الصفحة الأخيرة من نسخة " الف ".
مقدمة الناشر 12

نموذج من الصفحة الأولى من نسخة " ب ".
مقدمة الناشر 13

نموذج من الصفحة الأخيرة من نسخة " ب ".
مقدمة الناشر 14

نموذج من الصفحة الأولى من نسخة " ج ".
مقدمة الناشر 15

نموذج من الصفحة الأخيرة من نسخة " ج ".
مقدمة الناشر 16

معالم الدين وملاذ المجتهدين
1

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المتعالي في عز جلاله عن مطارح الافهام فلا يحيط بكنهه العارفون،
المتقدس بكمال ذاته عن مشابهة (1) الأنام فلا يبلغ صفته الواصفون، المتفضل
بسوابغ الانعام فلا يحصي نعمه (2) العادون، المتطول بالمنن الجسام فلا يقوم بواجب
شكره الحامدون، القديم الأبدي فلا أزلي سواه، الدائم السرمدي فكل شئ
مضمحل عداه. أحمده سبحانه حمدا يقربني إلى رضاه (3)، وأشكره شكرا أستوجب
به المزيد من (4) مواهبه وعطاياه، وأستقيله من خطاياي (5)، استقالة عبد معترف
بما جناه، نادم على ما فرط في (6) جنب مولاه، وأسأله (7) العصمة من الخطأ والخطل،
والسداد في القول والعمل.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الكريم الذي لا يخيب (8) لديه
الآمال، القدير فهو لما يشاء فعال. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المبعوث لتمهيد
قواعد الدين وتهذيب مسالك اليقين، الناسخ بشريعته المطهرة (9) شرائع الأولين،
والمرسل (10) بالارشاد والهداية رحمة للعالمين، صلى الله عليه وآله الهداة المهديين، و

1 - مشابهته - الف
2 - أنعمه - الف
3 - إلى رضا - ب
4 - عن مواهبه - ب
5 - من خطاياي - ليس في - ب
6 - فرط به في - ب
7 - وأسال الله - الف
8 - تخيب - ب
9 - بشرعته المتطهرة - ب
10 - المرسل - ب
3

عترته الكرام الطيبين، صلاة ترضيهم وتزيد على منتهى رضاهم، وتبلغهم غاية
مرادهم ونهاية مناهم، وتكون لنا عدة وذخيرة يوم نلقى الله سبحانه ونلقاهم،
وسلم تسليما.
وبعد (1): فان أولى ما أنفقت في تحصيله كنوز الأعمار، وأطالت التردد بين
العين والأثر في معالمه الأفكار، هو العلم بالأحكام الشرعية والمسائل الفقهية،
فلعمري إنه المطلب الذي يظفر بالنجاح طالبه، والمغنم الذي يبشر بالأرباح
كاسبه، والعلم الذي يعرج بحامله إلى الذروة العليا، وينال (2) به السعادة في
الدار الأخرى.
ولقد بذل علماؤنا السابقون وسلفنا (3) الصالحون، رضوان الله عليهم أجمعين،
في تحقيق مباحثه جهدهم، وأكثروا في تنقيح مسائله كدهم. فكم فتحوا فيه
مقفلا ببنان أفكارهم! وكم شرحوا منه مجملا ببيان آثارهم! وكم صنفوا فيه
من كتاب يهدي في ظلم الجهالة إلى سنن الصواب! فمن مختصر كاف في تبليغ
الغاية، ومبسوط شاف بتجاوزه النهاية، وإيضاح يحل من قواعده المشكل، و
بيان يكشف (4) من سرائره المعضل، وتهذيب يوصل من لا يحضره الفقيه بمصباح
الاستبصار إلى مدينة العلم، ويجلو بإنارة مسالكه عن الشرائع ظلمات الشك
والوهم، وذكرى دروس مقنعة في تلخيص الخلاف والوفاق، وتحرير تذكرة
هي منتهى المطلب في الآفاق، ومهذب جمل يسعف في مختلف الاحكام بكامل
الانتصار، ومعتبر مدارك يحسم مواد النزاع (5) من صحيح الآثار، ولمعة روض
يرتاح لتمهيد أصوله الجنان، وروضة بحث تدهش بارشاد فروعها الأذهان.
فشكر الله تعالى سعيهم، وأجزل من جوده مثوبتهم وبرهم.
وحيث كان من فضل الله علينا أن أهلنا لاقتفاء اثارهم، أحببنا (6) الأسوة

1 - أما بعد - ب - ج
2 - تنال - ج
3 - سلفاؤنا - ب
4 - انكشف - ب
5 - مادة النزاع - الف
6 - أحببت - الف
4

بهم في أفعالهم; فشرعنا - بتوفيق الله تعالى في تأليف هذا الكتاب الموسوم
ب‍ " معالم الدين وملاذ المجتهدين "، وجددنا به معاهد المسائل الشرعية، وأحيينا
به مدارس المباحث الفقهية، وشفعنا فيه تحرير الفروع بتهذيب الأصول، وجمعنا
بين تحقيق الدليل والمدلول، بعبارات قريبة إلى الطباع، وتقريرات مقبولة عند
الاسماع، من غير إيجاز موجب للاخلال، ولا إطناب معقب للملال. وأنا أبتهل
إلى الله، سبحانه، أن يجعله خالصا لوجهه الكريم. وأتضرع إليه أن يهديني حين
تضل الافهام إلى المنهج القويم (1)، ويثبتني حيث تزل الاقدام على الصراط
المستقيم.
وقد رتبنا كتابنا هذا على مقدمة وأقسام أربعة، والغرض من المقدمة منحصر
في مقصدين.

1 - المنهج القديم - ب
5

المقصد الأول
في
بيان فضيلة العلم
وذكر نبذ مما يجب على العلماء مراعاته وبيان زيادة شرف علم الفقه على غيره
ووجه الحاجة إليه وذكر حده ومرتبته وبيان موضوعه ومباديه ومسائله.
[وفيه فصول]
7

[فضيلة العلم]
إعلم: أن فضيلة العلم وارتفاع درجته وعلو رتبته (1)، أمر كفى انتظامه في
سلك الضرورة مؤونة الاهتمام ببيانه; غير أنا نذكر على سبيل التنبيه أشياء في
هذا المعنى من جهة العقل والنقل، كتابا وسنة، مقتصرين على ما يتأدى به
الغرض، فان الاستيفاء في ذلك يقتضي تجاوز الحد ويفضي إلى الخروج عما هو
القصد (2).
فأما الجهة العقلية، فهي أن المعقولات تنقسم إلى موجودة ومعدومة، وظاهر
أن الشرف للموجود. ثم الموجود ينقسم إلى جماد ونام، ولا ريب أن النامي
أشرف. ثم النامي ينقسم إلى حساس وغيره، ولا شك أن الحساس أشرف. ثم
الحساس ينقسم إلى عاقل وغير عاقل، ولا ريب أن العاقل أشرف. ثم العاقل
ينقسم إلى عالم وجاهل، ولا شك أن العالم أشرف; فالعالم حينئذ أشرف
المعقولات.
فصل
وأما الكتاب الكريم، فقد أشير إلى ذلك في مواضع منه:
الأول: قوله تعالى في سورة " العلق " (3) - وهي أول ما نزل على نبينا، صلى

1 - علو مرتبته - ب
2 - القصد - ب
3 - القلم - الف - ب - ج
8

الله عليه وآله، في قول أكثر المفسرين: " إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق
الانسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الانسان ما لم
يعلم " (1)، حيث افتتح كلامه المجيد بذكر نعمة الايجاد، وأتبعه بذكر (2) نعمة العلم;
فلو كان بعد نعمة الايجاد نعمة أعلى من العلم (3)، لكانت أجدر بالذكر.
وقد قيل - في وجه التناسب بين الآي المذكورة في صدر هذه السورة
المشتمل (4) بعضها على خلق الانسان من علق وبعضها على تعليمه ما لم يعلم: إنه
تعالى ذكر أول حال الانسان، أعني كونه علقة وهي بمكان من الخساسة، وآخر
حاله وهو صيرورته عالما وذلك كمال الرفعة والجلالة. فكأنه سبحانه قال:
كنت في أول أمرك في تلك المنزلة الدنية (5) الخسيسة ثم صرت في آخره إلى هذه
الدرجة الشريفة النفسية.
الثاني: قوله تعالى: " الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن،
يتنزل الامر بينهن لتعلموا " (6)، الآية. فإنه سبحانه جعل العلم علة لخلق العالم
العلوي والسفلي طرا، (7) وكفى بذلك جلالة وفخرا.
الثالث: قوله سبحانه: " ومن يؤت الحكمة، فقد أوتي خيرا كثيرا " (8).
فسرت الحكمة بما يرجع إلى العلم.
الرابع: قوله تعالى: " قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما
يتذكر أولوا الألباب " (9).
الخامس: قوله تعالى: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " (10).
السادس: قوله سبحانه: " شهد الله أنه لا إله إلا هو، والملائكة

1 - سورة العلق، 1 - 5.
2 - بذكر من نعمة - ب
3 - أعلى من نعمة العلم - ب
4 - المشتملة بعضها - ب
5 - الدانية - ج
6 - سورة الطلاق، 12.
7 - جميعا طرا - الف
8 - سورة البقرة، 269.
9 - سورة الزمر، 9 10 - سورة الفاطر، 28.
9

وأولو العلم " (1).
السابع: قوله تعالى: " وما يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم " (2).
الثامن: قوله تعالى: " قل: كفى بالله شهيدا بيني وبينكم، ومن عنده
علم الكتاب " (3).
التاسع: قوله تعالى: " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم
درجات ". (4)
العاشر: قوله تعالى، مخاطبا لنبيه، صلى الله عليه وآله وسلم، آمرا له مع ما
آتاه من العلم والحكمة: " وقل رب زدني علما ". (5)
الحادي عشر: قوله تعالى: " بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا
العلم ". (6)
الثاني عشر: قوله تعالى: " وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا
العالمون ". (7)
فصل
وأما السنة، فهي في ذلك كثيرة، لا تكاد تحصى (8):
فمنها: ما أخبرني به، إجازة، عدة من أصحابنا، منهم السيد الجليل شيخنا
نور الدين علي بن الحسين بن أبي الحسن الحسيني الموسوي (9)، أدام الله تأييده;
والشيخ الفاضل عز الدين الحسين بن عبد الصمد الحارثي، قدس الله روحه;
والسيد العابد نور الدين علي بن السيد فخر الدين الهاشمي، قدس الله روحه،

1 - سورة آل عمران، 18.
2 - سورة آل عمران، 7.
3 - سورة الرعد، 43.
4 - سورة المجادلة، 11.
5 - سورة طه، 114.
6 - سورة العنكبوت، 49.
7 - سورة العنكبوت، 49.
8 - لا يكاد يحصى - الف
9 - الحسين الموسوي - ب
10

بحق روايتهم، إجازة عن والدي السعيد الشهيد زين الملة والدين، رفع الله
درجته، كما شرف خاتمته، عن شيخه الاجل نور الدين علي بن عبد العالي (1)
العاملي الميسي، عن الشيخ شمس الدين محمد بن المؤذن الجزيني، عن الشيخ
ضياء الدين على بن شيخنا الشهيد، عن والده، قدس الله سره، عن الشيخ
فخر الدين أبي طالب محمد بن الشيخ الامام العلامة، جمال الملة والدين،
الحسن بن يوسف بن المطهر (2)، عن والده، رضي الله عنه، عن شيخه المحقق
السعيد نجم (3) الملة والدين أبى القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد، قدس
الله نفسه، عن السيد الجليل شمس الدين فخار بن معد الموسوي، عن الشيخ
الامام أبي الفضل شاذان (4) بن جبرئيل (5) القمي، عن الشيخ الفقيه العماد أبي
جعفر محمد بن أبي القاسم الطبري (6)، عن الشيخ أبي علي الحسن بن الشيخ
السعيد الفقيه أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، عن والده، رضي الله عنه،
عن الشيخ الامام المفيد محمد بن محمد بن النعمان (7)، عن الشيخ أبي القاسم جعفر
بن محمد بن قولويه، عن الشيخ الجليل الكبير أبي جعفر محمد بن يعقوب
الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن عبد الله بن
ميمون القداح، ح، وعن محمد بن يعقوب، عن محمد بن الحسن وعلي بن محمد
عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن عبد الله بن ميمون
القداح، ح، وعن محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن عبد الله بن ميمون القداح، عن أبي عبد الله عليه
السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " من سلك طريقا يطلب فيه
علما سلك الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم

1 - عبد العال - ب
2 - المطهر الحلي - ب
3 - نجم الدين - ب
4 - الشاذان - ب
5 - جبريل - ج
6 - الطبرسي - ب
7 - محمد بن النعمان - ب
11

رضى به، وإنه ليستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الأرض حتى
الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة
البدر، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، ولكن
ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر ".
وبالاسناد عن الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان، عن الشيخ الصدوق
أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، رحمه الله، عن أبيه، عن
سعد بن عبد الله، عن محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني، عن يونس بن
عبد الرحمن، عن الحسن بن زياد العطار، عن سعد (1) بن طريف، عن الأصبغ بن
نباتة، قال: قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام (2): " تعلموا العلم،
فان تعلمه حسنة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لا يعلمه
صدقة، وهو عند الله لأهله قربة، لأنه معالم الحلال والحرام، وسالك بطالبه
سبل الجنة، وهو أنيس في الوحشة، وصاحب في الوحدة، وسلاح على الأعداء،
وزين الأخلاء، يرفع الله به أقواما يجعلهم في الخير أئمة يقتدى بهم، ترمق
أعمالهم، وتقتبس آثارهم، وترغب الملائكة في خلتهم، يمسحونهم بأجنحتهم في
صلاتهم، لان العلم حياة القلوب ونور الابصار من العمى، وقوة الأبدان من
الضعف، ينزل الله حامله منازل الأبرار، ويمنحه مجالسة الأخيار في الدنيا و
الآخرة. بالعلم يطاع الله ويعبد، وبالعلم يعرف الله ويوحد، وبالعلم توصل
الأرحام، وبه يعرف الحلال والحرام (3). والعلم امام العقل، والعقل تابعه، يلهمه (4)
السعداء، ويحرمه الأشقياء ".
فصل
وروينا بالاسناد عن محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم بن هاشم، عن

1 - سعيد - ب
2 - أصول الكافي، ج 1 - ص 34.
3 - الحلال من الحرام - ب
4 - يسهمه خ ل - ج
12

أبيه، عن الحسن بن أبي الحسين الفارسي، عن عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه،
عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " طلب
العلم فريضة على كل مسلم (1)، ألا إن الله يحب بغاة العلم " (2).
وعن محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى،
عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي حمزة، عن أبي إسحاق السبيعي،
عمن حدثه، قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام، يقول: " أيها الناس! اعلموا
أن كمال الدين طلب العلم والعمل به، ألا وإن طلب العلم أوجب عليكم من
طلب المال، إن المال (3) مقسوم مضمون لكم، قد قسمه عادل بينكم وضمنه،
وسيفي لكم، والعلم مخزون عند أهله، وقد أمرتم بطلبه من أهله، فاطلبوه " (4).
وعنه، عن محمد بن (5) يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى (6)، عن محمد بن
خالد، عن أبي البختري، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: " إن العلماء ورثة
الأنبياء، وذلك أن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا، وإنما أورثوا أحاديث (7) من
أحاديثهم. فمن أخذ بشئ منها، فقد (8) أخذ حظا وافرا; فانظروا (9) علمكم هذا عمن
تأخذونه; فان فينا أهل البيت، في كل خلف (10)، عدولا ينفون عنه تحريف الغالين
وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين " (11).
وعنه، عن الحسين بن محمد، عن علي بن محمد بن سعد، رفعه عن أبي
حمزة، عن علي بن الحسين عليه السلام، قال: " لو يعلم الناس ما في طلب العلم
لطلبوه، ولو بسفك المهج وخوض اللجج. إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى
دانيال: إن أمقت (12) عبيدي إلى الجاهل، المستخف بحق أهل العلم، التارك

1 - مسلم ومسلمة - ب
2 - أمالي الصدوق، ص 492، ح 1.
3 - لان المال - ب
4 - أصول الكافي، ج 1، ص 30 ح 1.
5 - عن أحمد بن يحيى - ب
6 - عن أحمد بن عيسى - ب
7 - الأحاديث - ج
8 - أصول الكافي، ج 1 ص 30، ح 4.
9 - وانظروا - ب
10 - خلق - ب
11 - أصول الكافي، ج 1، ص 32، ح 2.
12 - أنقت - ب
13

للاقتداء بهم، وإن أحب عبيدي إلي التقى، الطالب للثواب الجزيل، اللازم
للعلماء، التابع للحلماء، القابل عن الحكماء " (1).
وعنه، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعن محمد بن يحيى، عن أحمد بن
محمد جميعا، عن ابن أبي عمير، عن سيف بن عميرة، عن أبي حمزة، عن أبي
جعفر عليه السلام، قال: " عالم ينتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد " (2).
وعنه، عن الحسين بن محمد، عن أحمد بن إسحاق، عن سعدان بن مسلم،
عن معاوية بن عمار، قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل راوية
لحديثكم، يبث ذلك في الناس، ويشده في قلوبهم وقلوب شيعتكم ولعل عابدا
من شيعتكم ليست له هذه الرواية، أيهما أفضل؟ قال: الرواية لحديثنا (3) يشد به
قلوب شيعتنا، أفضل من ألف عابد " (4).
فصل
ومن أهم ما يجب على العلماء مراعاته تصحيح القصد، وإخلاص النية،
وتطهير القلب عن دنس (5) الاغراض الدنيوية، وتكميل النفس في قوتها العملية،
وتزكيتها باجتناب الرذائل، واقتناء الفضائل الخلقية، وقهر القوتين الشهوية
والغضبية.
وقد روينا بالطريق السابق وغيره، عن محمد بن يعقوب، رحمه الله، عن
علي بن إبراهيم، رفعه إلى أبي عبد الله، عليه السلام، وعن محمد بن يعقوب،
قال: حدثني محمد بن محمود أبو عبد الله القزويني، عن عدة من أصحابنا،
منهم جعفر بن أحمد الصيقل، بقزوين، عن أحمد بن عيسى العلوي، عن عباد بن
صهيب البصري، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: " طلبة العلم ثلاثة،

1 - أصول الكافي، ج 1، ص 35، ح 5.
2 - أصول الكافي، ج 1، ص 33، ح 8.
3 - بحديثنا - ج
4 - أصول الكافي، ج 1، 33، ح 9.
5 - من دنس - ب
14

فاعرفهم بأعيانهم وصفاتهم: صنف يطلبه للجهل والمراء، وصنف يطلبه
للاستطالة والختل، وصنف يطلبه للفقه والعقل. فصاحب الجهل والمراء
موذ، ممار، متعرض للمقال في أندية الرجال، بتذاكر العلم وصفة الحلم، قد
تسربل بالخشوع، وتخلى من الورع، فدق الله عن هذا (1) خيشومه، وقطع منه
حيزومه. وصاحب الاستطالة والختل ذو خب وملق، يستطيل على مثله من
أشباهه (2)، ويتواضع للأغنياء من دونه، فهو لحلوائهم (3) هاضم، ولدينهم حاطم،
فأعمى الله على هذا خبره، وقطع من آثار العلماء أثره. وصاحب الفقه والعقل،
ذو كآبة وحزن وسهر، قد تحنك (4) في برنسه، وقام الليل في حندسه (5)، يعمل و
يخشى، وجلا، داعيا، مشفقا، مقبلا على شأنه، عارفا بأهل زمانه، مستوحشا
من أوثق إخوانه. فشد الله من هذا أركانه، وأعطاه يوم القيامة أمانه " (6).
وعنه، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، وعن علي بن
إبراهيم، عن أبيه، جميعا، عن حماد بن عيسى، عن عمر بن أذينة، عن أبان بن
أبي عياش، عن سليم بن قيس، قال: سمعت أمير المؤمنين، عليه السلام، يقول:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " منهومان لا يشبعان: طالب دنيا و
طالب علم; فمن اقتصر من الدنيا على ما أحل الله له سلم، ومن تناولها من غير
حلها هلك، الا أن يتوب أو يراجع. ومن أخذ العلم من أهله (7) وعمل بعمله
نجى (8)، ومن أراد به الدنيا فهي حظه " (9).
وعنه، عن الحسين بن محمد بن عامر، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن
علي الوشاء، عن أحمد بن عائذ، عن أبي خديجة، عن أبي عبد الله، عليه السلام،

1 - من هذا - ب
2 - وأشباهه - ب
3 - لخلواتهم - ج
4 - ويحنك - ب
5 - جندسه - ب
6 - أصول الكافي، ج 1، ص 49، ح 5.
7 - أهلها - ب
8 - نجا - ب نجا - ح
9 - أصول الكافي، ج 1، ص 46، ح 1.
15

قال: " من أراد الحديث لمنفعة الدنيا، لم يكن له في الآخرة نصيب، ومن أراد
به خير الآخرة أعطاه الله خير الدنيا والآخرة " (1).
وعنه، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه (2)، عن القاسم بن محمد الأصبهاني،
عن المنقري، عن حفص بن غياث، عن أبي عبد الله، عليه السلام، قال: " إذا
رأيتم العالم محبا لدنياه; فاتهموه على دينكم، فان كل محب لشئ يحوط ما
أحب ". وقال: " أوحى الله إلى داود، عليه السلام: لا تجعل بيني وبينك عالما
مفتونا بالدنيا، فيصدك عن طريق محبتي، فإن أولئك قطاع طريق عبادي
المريدين، إن أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي من قلوبهم " (3).
وعنه، عن محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن
عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عمن حدثه، عن أبي جعفر، عليه السلام، قال:
" من طلب العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه (4)
الناس إليه، فليتبوء مقعده من النار. إن الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها " (5).
فصل
وروينا بالاسناد السابق، عن الشيخ المفيد محمد بن محمد (6) بن نعمان،
عن الشيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه، رحمه الله، عن علي بن أحمد بن
موسى الدقاق، رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن جعفر الكوفي الأسدي، قال:
حدثنا محمد بن إسماعيل البرمكي، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد الدقاق، قال:
حدثنا إسماعيل بن الفضل، عن ثابت بن دينار الثمالي، عن سيد العابدين على
بن الحسين بن علي بن أبي طالب، عليهم السلام (7)، قال: حق سائسك بالعلم:

1 - أصول الكافي، ج 1، ص 46، ح 2.
2 - عن أبيه، ليس في ب
3 - أصولي الكافي، ج 1، ص 46، ح 4.
4 - رجوع - ب
5 - أصول الكافي، ج 1، ص 47، ح 6.
6 - محمد بن النعمان الف - ج
7 - عليه السلام - ب
16

التعظيم له، والتوقير لمجلسه، وحسن الاستماع إليه، والاقبال إليه، وأن لا ترفع
عليه صوتك، ولا تجيب (1) أحدا (2) يسأله عن شئ، حتى يكون هو الذي يجيب، ولا
تحدث في مجلسه أحدا، ولا تغتاب عنده أحدا، وأن تدفع عنه إذا ذكر عندك
بسوء، وأن تستر عيوبه، وتظهر مناقبه، ولا تجالس له عدوا، ولا تعادي له وليا.
فإذا فعلت ذلك، شهد لك ملائكة الله بأنك قصدته وتعلمت علمه، لله جل
اسمه، لا للناس. وحق رعيتك بالعلم أن تعلم أن الله عز وجل إنما جعلك قيما
لهم فيما اتاك من العلم، وفتح لك من خزائنه. فان أحسنت في تعليم الناس ولم
تخرق بهم ولم تضجر عليهم زادك الله من فضله. وإن أنت منعت الناس علمك،
أو خرقت بهم عند طلبهم منك، كان حقا على الله عز وجل أن يسلبك العلم و
بهاءه، ويسقط من القلوب محلك " (3).
وبالاسناد المذكور عن المفيد، عن أحمد بن محمد بن سليمان الزراري، قال:
حدثنا مؤدبي علي بن الحسين السعد آبادي، عن أبي الحسن القمي، قال:
حدثنا أحمد بن أبي عبد الله البرقي، عن أبيه، عن سليمان بن جعفر الجعفري،
عن رجل، عن أبي عبد الله، عليه السلام، قال: كان علي، عليه السلام، يقول:
" إن من حق العالم أن لا تكثر عليه السؤال ولا تأخذ بثوبه. وإذا دخلت عليه،
وعنده قوم، فسلم عليهم جميعا، وخصه بالتحية دونهم، واجلس بين يديه، ولا
تجلس خلفه، ولا تغمز بعينك (4)، ولا تشر بيدك، ولا تكثر من القول: قال فلان و
قال فلان، خلافا لقوله، ولا تضجر بطول صحبته، فإنما مثل العالم مثل النخلة،
تنتظرها حتى يسقط (5) عليك منها شئ. والعالم أعظم أجرا من الصائم القائم
الغازي في سبيل الله (6)، وإذا مات العالم ثلم في الاسلام ثلمة لا يسدها شئ إلى
يوم القيامة.

1 - ولا يجيب - ج
2 - واحدا - ب
3 - الخصال للصدوق، ص 567.
4 - بعينيك - ب
5 - متى تسقط - الف - ب
6 - أصول الكافي، ج 1، ص 37، ح 1.
17

فصل
ويجب على العالم العمل، كما يجب على غيره، لكنه في حق العالم آكد، و
من ثم جعل الله تعالى ثواب المطيعات من نساء النبي صلى الله عليه وآله و
عقاب العاصيات منهن، ضعف ما لغيرهن، وليجعل له حظا وافرا من الطاعات
والقربات، فإنها تفيد النفس ملكة صالحة واستعدادا تاما لقبول الكمالات.
وقد روينا بالاسناد السالف (1) وغيره، عن محمد بن يعقوب، عن محمد بن
يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن حماد بن عيسى، عن عمر بن أذينة،
عن أبان بن أبي عياش، عن سليم بن قيس الهلالي، قال: سمعت أمير المؤمنين
عليه السلام يحدث عن النبي، صلى الله عليه وآله، أنه قال في كلام له:
" العلماء رجلان: رجل عالم آخذ بعلمه فهذا ناج، وعالم تارك لعلمه فهذا هالك.
وإن أهل النار ليتأذون من ريح العالم التارك لعلمه. وإن أشد أهل النار ندامة
وحسرة رجل دعا عبدا إلى الله (2) فاستجاب له وقبل منه، فأطاع الله فأدخله
الجنة، وأدخل الداعي النار بتركه علمه واتباعه الهوى وطول الامل. أما اتباع
الهوى فيصد عن الحق، وطول الامل ينسى الآخرة " (3).
وعن محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن
سنان، عن إسماعيل بن جابر، عن أبي عبد الله، عليه السلام، قال: " العلم
مقرون إلى العمل، فمن علم عمل، ومن عمل علم. والعلم يهتف بالعمل، فان
أجابه، وإلا، ارتحل عنه " (4).
وعنه، عن (5) عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن علي بن
محمد القاساني، عمن ذكره، عن عبد الله بن القاسم الجعفري، عن أبي عبد الله،

1 - بالاسناد السابق - ب
2 - سبحانه - ج
3 - أصول الكافي، ج 1، ص 44، ح 1.
4 - أصول الكافي، ج 1، ص 44 ح 2.
5 - عنه وعن عدة - ب
18

عليه السلام، قال: " إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب (1)، كما
يزل المطر عن الصفا " (2).
وعنه، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن المنقري،
عن علي بن هاشم بن البريد، عن أبيه، قال: جاء رجل إلى علي بن الحسين،
عليهما السلام، فسأله عن مسائل، فأجاب. ثم عاد ليسأل عن مثلها، فقال علي
بن الحسين عليهما السلام: " مكتوب في الإنجيل: لا تطلبوا علم ما لا تعلمون ولما
تعملوا بما علمتم; فان العلم إذا لم يعمل به، لم يزد صاحبه إلا كفرا ولم يزدد (3)
من الله إلا بعدا " (4).
وعنه، عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، رفعه،
قال: قال أمير المؤمنين، عليه السلام، في كلام له خطب به على المنبر (5):
" أيها الناس، إذا علمتم، فاعملوا بما علمتم، لعلكم تهتدون. إن العالم العامل
بغيره، كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق عن جهله. بل قد رأيت أن الحجة عليه
أعظم والحسرة أدوم على هذا العالم المنسلخ من علمه (6) منها على هذا الجاهل
المتحير في جهله، وكلاهما حائر بائر. لا ترتابوا فتشكوا، ولا تشكوا فتكفروا،
ولا ترخصوا لأنفسكم فتدهنوا. ولا تدهنوا في الحق فتخسروا. وإن من الحق أن
تفقهوا ومن الفقه أن لا تغتروا. وإن أنصحكم لنفسه أطوعكم لربه، وأغشكم
لنفسه أعصاكم لربه، ومن يطع الله يأمن ويستبشر، ومن يعص الله يخب و
يندم " (7).
وعنه، عن علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد
الأشعري، عن عبد الله (8) بن ميمون القداح، عن أبي عبد الله، عليه السلام، عن

1 - من القلوب - ب
2 - أصول الكافي، ج 1، ص 44، ح 3.
3 - ولم يزد من الله - ب
4 - أصول الكافي، ج 1، ص 44، ح 4.
5 - خطب على - ب
6 - عن علمه - ب
7 - أصول الكافي، ج 1، ص 45، ح 6.
8 - عبد الله ميمون - ب
19

آبائه، عليهم السلام، قال: جاء رجل إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله، فقال:
" يا رسول الله، ما العلم؟ قال: الانصات، قال: ثم مه؟ قال: الاستماع،
قال: ثم مه؟ قال: الحفظ، قال: ثم مه؟ قال: العمل به، قال. ثم مه يا
رسول الله؟ قال: نشره " (1).
فصل
وروينا بالاسناد، عن محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى العطار، عن
أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن معاوية بن وهب، قال:
سمعت أبا عبد الله، عليه السلام، يقول: " اطلبوا العلم، وتزينوا معه بالحلم، و
تواضعوا لمن تعلمونه العلم، وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم، ولا تكونوا علماء
جبارين، فيذهب باطلكم بحقكم " (2).
وعنه، عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن حماد بن
عثمان، عن الحارث بن مغيرة النضري، عن أبي عبد الله، عليه السلام، في قول
الله عز وجل: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " (3)، قال: " يعنى بالعلماء من صدق
قوله فعله. ومن لم يصدق قوله فعله فليس بعالم " (4).
وعنه، عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن إسماعيل بن
مهران (5)، عن أبي سعيد القماط، عن الحلبي، عن أبي عبد الله، عليه السلام، قال:
قال أمير المؤمنين، عليه السلام: " ألا أخبركم بالفقيه حق الفقيه! من لم يقنط
الناس من رحمة الله، ولم يؤمنهم من عذاب الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله،
ولم يترك القرآن رغبة (6) عنه إلى غيره. ألا لا خير في علم ليس فيه (7) تفهم! ألا لا خير

1 - أصول الكافي، ج 1، ص 48، ح 4.
2 - أصول الكافي، ج 1، ص 36، ح 1.
3 - سورة فاطر، 28.
4 - أصول الكافي، ج 1، ص 36، ح 2.
5 - إسماعيل مهران - ب
6 - رغبته - ب
7 - ليس فيها - ب
20

في قراءة ليس فيها تدبر! ألا لا خير في عبادة لا فقه فيها! ألا لا خير في نسك لا ورع فيه " (1)
وعنه، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عمن ذكره، عن
معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله، عليه السلام، قال: كان أمير المؤمنين
عليه السلام، يقول: " يا طالب العلم! إن للعالم ثلاث علامات: العلم، والحلم،
والصمت، وللمتكلف ثلاث علامات: ينازع من فوقه بالمعصية، ويظلم من
دونه بالغلبة، ويظاهر الظلمة " (2).
وعنه، عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن نوح بن شعيب
النيسابوري، عن عبيد الله بن عبد الله الدهقان، عن درست بن أبي منصور، عن
عروة بن أخي شعيب العقرقوفي، عن شعيب، عن أبي بصير، قال: سمعت
أبا عبد الله، عليه السلام، يقول: كان أمير المؤمنين عليه السلام، يقول: " يا طالب
العلم! إن العلم ذو فضائل كثيرة فرأسه التواضع، وعينه البراءة من الحسد، و
أذنه الفهم، ولسانه الصدق، وحفظه الفحص، وقلبه حسن النية، وعقله معرفة
الأشياء والأمور، ويده الرحمة، ورجله زيارة العلماء، وهمته السلامة، وحكمته
الورع، ومستقره النجاة، وقائده العافية، ومركبه الوفاء، وسلاحه لين الكلمة،
وسيفه الرضا، وقوسه المداراة، وجيشه مجاورة العلماء، وماله الأدب، وذخيرته
اجتناب الذنوب، وزاده المعروف، ومأواه الموادعة، ودليله الهدى، ورفيقه محبة
الأخيار " (3).
وعنه، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن سليمان
بن داود المنقري، عن حفص بن غياث، قال (4): قال لي أبو عبد الله، عليه السلام:
" من تعلم العلم، وعمل به، وعلم لله، دعي في ملكوت السماوات عظيما،
فقيل (5): تعلم لله، وعمل لله، وعلم لله " (6).

1 - أصول الكافي، ج 1، ص 36، ح 3
2 - أصول الكافي، ج 1، ص 37، ح 7.
3 - أصول الكافي، ج 1، ص 48، ح 2.
4 - قال لي - ب
5 - فيقال - ب
6 - أصول الكافي، ج 1، ص 35، ح 6.
21

فصل
ولما ثبت أن كمال العلم إنما هو بالعمل، تبين أنه ليس في العلوم - بعد
المعرفة - أشرف من علم الفقه; لان مدخليته في العمل أقوى مما سواه، إذ به
تعرف (1) أوامر الله تعالى فتمتثل (2)، ونواهيه فتجتنب، ولأن معلومه - أعني: أحكام
الله تعالى - أشرف المعلومات، بعد ما ذكر. ومع ذلك، فهو الناظم لأمور المعاش (3)،
وبه يتم كمال نوع الانسان.
وقد روينا بطرقنا، عن محمد بن يعقوب، عن محمد بن الحسن وعلي بن
محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عيسى، عن عبيد الله بن عبد الله
الدهقان (5)، عن درست الواسطي، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي الحسن
موسى، عليه السلام، قال: " دخل رسول الله، صلى الله عليه وآله، المسجد،
فإذا جماعة قد أطافوا برجل، فقال: " ما هذا؟ "، فقيل: " علامة "، فقال: " وما
العلامة؟ "، فقالوا له: " أعلم الناس بأنساب العرب، ووقائعها، وأيام
الجاهلية والاشعار والعربية " (6). قال: فقال النبي، صلى الله عليه وآله: " ذاك (7) علم
لا يضر من جهله، ولا ينفع من علمه ". ثم قال النبي، صلى الله عليه وآله: " إنما
العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة. وما خلاهن فهو فضل " (8).
وعنه، عن الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي
الوشاء، عن حماد بن عثمان، عن أبي عبد الله، عليه السلام، قال: " إذا أراد الله
بعبد خيرا فقهه في الدين " (9).

1 - يغمرف - ج - ب
2 - فيمثل - ج - ب
3 - المعايش - ب
4 - عبد الله - ب
5 - دهقان - ب
6 - الاشعار العربية - ب
7 - ذلك - ب
8 - أصول الكافي ج 1 ص 32 ح 1
9 - أصول الكافي، ج 1، ص 32، ح 3.
22

وعنه، عن محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن
عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن رجل، عن أبي جعفر، عليه السلام،
قال: " الكمال كل الكمال: التفقه في الدين، والصبر على النائبة،
وتقدير المعيشة " (1).
وعنه، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب (2)، عن أبي
أيوب الخزاز، عن سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله، عليه السلام، قال: " ما من
أحد يموت من المؤمنين أحب إلى إبليس من موت فقيه " (3 - 4).
وعنه، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض
أصحابه، عن أبي عبد الله، عليه السلام، قال: " إذا مات المؤمن الفقيه، ثلم في
الاسلام ثلمة لا يسدها شئ " (5).
وعنه، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن علي
بن أبي حمزة، قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر، عليهما السلام، يقول
" إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة، وبقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها
و أبواب السماء التي كان يصعد فيها بأعماله، وثلم في الاسلام ثلمة لا يسدها
شئ، لان المؤمنين الفقهاء حصون الاسلام، كحصن سور المدينة لها " (6).
وبالاسناد السالف، عن الشيخ المفيد محمد بن النعمان، عن أحمد بن محمد
بن سليمان الزراري (7)، عن علي بن الحسين السعد آبادي، عن أحمد بن أبي
عبد الله البرقي، عن محمد بن عبد الحميد العطار، عن عمه عبد السلام بن سالم،
عن رجل، عن أبي عبد الله، عليه السلام، قال: " حديث في حلال وحرام تأخذه
من صادق، خير من الدنيا وما فيها من ذهب أو فضة " (8).

1 - أصول الكافي، ج 1، ص 32 ح 4.
2 - أبى محبوب - ب
3 - موت الفقيه - ب
4 - أصول الكافي، ج 1، ص 38 ح 1.
5 - أصول الكافي، ج 1، ص 38، ح 2.
6 - أصول الكافي، ج 1، ص 38، ح 3.
7 - سليمان الرازي - ج
8 - المحاسن، ج 1، ص 229، ح 166.
23

وبالاسناد، عن أحمد ابن أبي عبد الله، عن محمد بن عبد الحميد، عن يونس
بن يعقوب، عن أبيه، قال: قلت لأبي عبد الله، عليه السلام: " إن لي ابنا قد
أحب أن يسألك عن حلال وحرام ولا يسألك عما لا يعنيه " قال: فقال لي: " و
هل يسأل (1) الناس عن شئ أفضل من الحلال والحرام " (2)؟.
فصل
الحق عندنا أن الله تعالى إنما فعل الأشياء المحكمة المتقنة لغرض وغاية.
ولا ريب أن نوع الانسان أشرف ما في العالم السفلي من الأجسام، فيلزم تعلق
الغرض بخلقه، ولا يمكن أن يكون ذلك الغرض حصول ضرر له، إذ هذا إنما يقع
من الجاهل أو المحتاج، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فتعين أن يكون هو النفع.
ولا يجوز أن يعود إليه سبحانه، لاستغنائه وكماله، فلابد وأن يكون (3) عائدا إلى
العبد. وحيث كانت المنافع الدنيوية في الحقيقة ليست بمنافع، وإنما هي دفع
الآلام (4)، فلا يكاد يطلق اسم " النفع " إلا على ما ندر منها، لم يعقل أن يكون
هو الغرض من إيجاد هذا المخلوق الشريف، سيما مع كونه منقطعا، مشوبا (5) بالآلام
المتضاعفة، فلابد أن (6) يكون الغرض شيئا آخر، مما يتعلق بالمنافع الأخروية. و
لما كان ذلك النفع (7) من أعظم المطالب وأنفس المواهب، لم يكن مبذولا لكل
طالب، بل إنما يحصل بالاستحقاق. وهو لا يكون إلا بالعمل في هذه الدار (8)،
المسبوق بمعرفة كيفية العمل المشتمل عليها هذا العلم، فكانت الحاجة ماسة إليه
جدا، لتحصيل هذا النفع العظيم.
وقد روينا بالاسناد السابق وغيره، عن محمد بن يعقوب، عن محمد بن

1 - يسألك الناس - ب
2 - المحاسن، ج 1، ص 229
3 - فلابد ان يكون - ب
4 - رفع ألام - ج
5 - مثوبا - ب
6 - فلابد وان - ج
7 - النفع العظيم - ج
8 - هذا الدار - ب
24

إسماعيل، عن الفضل بن شاذان (1)، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن
أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله، عليه السلام، قال: " لوددت أن أصحابي
ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا " (2).
وعنه، عن علي بن محمد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن
عثمان بن عيسى، عن علي بن أبي حمزة، قال: سمعت أبا عبد الله، عليه
السلام، يقول: " تفقهوا في الدين، فإنه من لم يتفقه منكم في الدين، فهو
أعرابي، إن الله تعالى يقول في كتابه: " ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم،
إذا رجعوا إليهم، لعلهم يحذرون " (3).
وعنه، عن الحسين بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن القاسم بن الربيع،
عن المفضل بن عمر (4)، قال: سمعت أبا عبد الله، عليه السلام، يقول: " عليكم
بالتفقه في دين (5) الله. ولا تكونوا أعرابا، فإنه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله
إليه يوم القيامة، ولم يزك له (6) عملا " (7).
وبالاسناد السالف، عن المفيد، عن الحسن بن حمزة العلوي الطبري، قال:
حدثنا أحمد بن عبد الله بن بنت البرقي، عن أبيه، قال: حدثنا جدي أحمد بن
محمد بن خالد البرقي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن العلاء القلا (8)، عن محمد
بن مسلم، قال: قال أبو عبد الله، عليه السلام: " لو أتيت بشاب (9) من شباب
الشيعة لا يتفقه لأدبته ". قال: وكان أبو جعفر، عليه السلام، يقول: " تفقهوا، و
إلا، فأنتم (10) أعراب " (11).
وبالاسناد، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن بعض أصحابنا، عن علي بن

1 - الفضل الشاذان - ب
2 - أصول الكافي ج 1 ص 31 ح 8
3 - أصول الكافي ج 1 ص 31 ح 6 4 - المفضل بن عمير - ب
5 - في الدين - ب
6 - ولم يزك عملا - ب
7 - أصول الكافي، ج 1، ص 31، ح
8 - المعلا - ب
9 - بالشاب - ب
10 - والا أنتم اعراب - ب
11 - المحاسن، ج 1، ص 228، ح 161.
25

أسباط، عن إسحاق بن عمار، قال: سمعت أبا عبد الله، عليه السلام، يقول:
" ليت السياط على رؤوس أصحابي، حتى يتفقهوا في الحلال والحرام " (1).
فصل
الفقه في اللغة: الفهم وفي الاصطلاح هو: العلم بالأحكام الشرعية الفرعية
عن أدلتها التفصيلية. فخرج بالتقييد بالأحكام العلم بالذوات (2) كزيد مثلا، و
بالصفات ككرمه وشجاعته، وبالأفعال ككتابته وخياطته. وخرج بالشرعية
غيرها كالعقلية المحضة واللغوية. وخرج بالفرعية الأصولية. وبقولنا: " عن
أدلتها " علم الله سبحانه، وعلم الملائكة والأنبياء، وخرج بالتفصيلية علم
المقلد في المسائل الفقهية، فإنه مأخوذ من دليل إجمالي مطرد في جميع المسائل، و
ذلك لأنه إذا علم أن هذا الحكم المعين قد أفتى به المفتى، وعلم أن كلما أفتى به
المفتي، فهو حكم الله تعالى في حقه، يعلم بالضرورة أن ذلك الحكم المعين هو
حكم الله سبحانه في حقه. وهكذا يفعل في كل حكم يرد عليه.
وقد أورد على هذا الحد: أنه إن كان المراد بالأحكام البعض لم يطرد،
لدخول المقلد إذا عرف بعض الأحكام (3) كذلك، لأنا لا نريد به العامي، بل من لم
يبلغ رتبة الاجتهاد. وقد يكون عالما متمكنا من تحصيل ذلك، لعلو رتبته
في العلم، مع أنه ليس بفقيه في الاصطلاح. وإن كان المراد بها الكل لم
ينعكس، لخروج أكثر الفقهاء عنه، إن لم يكن كلهم، لأنهم لا يعلمون جميع الأحكام
، بل بعضها أو أكثرها.
ثم إن الفقه أكثره من باب الظن، لابتنائه غالبا على ما هو ظني الدلالة
أو السند. فكيف أطلق عليه العلم.
والجواب: أما عن سؤال الاحكام، فبأنا نختار أولا: أن المراد البعض.

1 - المحاسن، ج 1، ص 229، ح 165.
2 - بالذات - ب
3 - احكام - ب
26

قولكم: " لا يطرد لدخول المقلد فيه "، قلنا: ممنوع، أما على القول بعدم تجزي
الاجتهاد، فظاهر، إذ لا يتصور على هذا التقدير، انفكاك العلم ببعض الاحكام
كذلك عن الاجتهاد، فلا يحصل للمقلد، وإن بلغ من العلم ما بلغ. وأما على
القول بالتجزي، فالعلم المذكور داخل في (1) الفقه، ولا ضير فيه، لصدقه عليه حقيقة
وكون العالم بذلك فقيها بالنسبة إلى ذلك المعلوم اصطلاحا وإن صدق عليه
عنوان التقليد بالإضافة إلى ما عداه.
ثم نختار ثانيا: أن المراد بها الكل - كما هو الظاهر، لكونها جمعا محلى باللام،
ولا ريب أنه حقيقة في العموم قولكم: " لا ينعكس لخروج أكثر الفقهاء
عنه (2) "، قلنا: ممنوع، إذ المراد بالعلم بالجميع التهيؤ له، وهو أن يكون عنده ما
يكفيه في استعلامه من المآخذ والشرائط، بأن يرجع إليه، فيحكم. وإطلاق
" العلم " على مثل هذا التهيؤ شايع في العرف، فإنه يقال في العرف: " فلان يعلم (3)
النحو " مثلا، ولا يراد أن مسائله حاضرة عنده على التفصيل. وحينئذ فعدم
العلم بالحكم في الحال الحاضر (4) لا ينافيه.
واما عن سؤال الظن، فيحمل " العلم " على معناه الأعم، أعني ترجيح
أحد الطرفين، وإن لم يمنع من النقيض، وحينئذ فيتناول (5) الظن. وهذا المعنى
شايع في الاستعمال، سيما في الأحكام الشرعية.
وما يقال في الجواب أيضا - من أن الظن في طريق الحكم، لا فيه نفسه، وظنية
الطريق لا تنافى (6) علمية الحكم - فضعفه ظاهر عندنا. وأما عند المصوبة القائلين
بأن كل مجتهد مصيب - كما سيأتي الكلام فيه، إن شاء الله تعالى، في بحث
الاجتهاد. فله وجه. وكأنه لهم (7). وتبعهم فيه من لا يوافقهم على هذا الأصل،
غفلة عن حقيقة الحال.

1 - داخل فيه - ج
2 - منه - ب
3 - علم - الف
4 - فتناول - ب
5 - الحال الحاضرة - ب
6 - فكأنه لهم - الف
7 - لا ينافي - ج - ب
27

فصل
واعلم: أن لبعض العلوم تقدما على بعض، إما لتقدم موضوعه، أو لتقدم
غايته، أو لاشتماله على مبادي العلوم المتأخرة، أو لغير ذلك من الأمور التي ليس
هذا موضع ذكرها.
ومرتبة (1) هذا العلم متأخرة عن غيره، بالاعتبار الثالث، لافتقاره إلى سائر
العلوم واستغنائها عنه.
أما تأخره عن علم الكلام، فلانه يبحث في هذا العلم عن كيفية
التكليف، وذلك مسبوق بالبحث في معرفة نفس التكليف والمكلف.
وأما تأخره عن علم أصول الفقه، فظاهر، لان هذا العلم ليس ضروريا،
بل هو محتاج إلى الاستدلال، وعلم أصول الفقه متضمن لبيان كيفية
الاستدلال.
ومن هذا يظهر وجه تأخره عن علم المنطق أيضا، لكونه متكفلا ببيان
صحة الطرق وفسادها.
وأما تأخره عن علم اللغة والنحو والتصريف، فلان من مبادي هذا العلم
الكتاب والسنة، واحتياج العلم بهما إلى العلوم الثلاثة ظاهر. فهذه هي العلوم
التي يجب تقدم معرفتها عليه في الجملة. ولبيان مقدار الحاجة منها محل آخر.
فصل
ولابد لكن علم أن يكون باحثا عن أمور لاحقة لغيرها. وتسمى تلك الأمور
مسائله، وذلك الغير موضوعه. ولابد له من مقدمات يتوقف الاستدلال عليها، و
من تصورات الموضوع وأجزائه وجزئياته. ويسمى مجموع ذلك بالمبادي.
ولما كان البحث في علم الفقه عن الأحكام الخمسة، أعني: الوجوب، و

1 - ورتبته - ب
28

الندب، والإباحة، والكراهة، والحرمة، وعن الصحة والبطلان، من حيث
كونها عوارض لافعال المكلفين، فلا جرم كان موضوعه هو أفعال المكلفين، من
حيث الاقتضاء والتخيير. ومباديه ما يتوقف عليه من المقدمات، كالكتاب و
السنة والاجماع، ومن التصورات، كمعرفة الموضوع وأجزائه وجزئياته، و
مسائله هي المطالب الجزئية المستدل عليها فيه.
29

المقصد الثاني
في
تحقيق مهمات المباحث الأصولية
التي هي الأساس لبناء الأحكام الشرعية
وفيه مطالب:
31

المطلب الأول
في
نبذة من مباحث الألفاظ
[وفيه أصول]
33

تقسيم
اللفظ والمعنى، إن اتحدا، فاما أن يمنع نفس تصور (1) المعنى من وقوع الشركة فيه،
وهو الجزئي، أولا يمنع، وهو الكلي. ثم الكلى: إما أن يتساوى معناه في جميع
موارده، وهو المتواطي، أو يتفاوت، وهو المشكك.
وإن تكثرا، فالألفاظ متباينة، سواء كانت المعاني متصلة كالذات
والصفة، أو منفصلة كالضدين.
وإن تكثرت الألفاظ واتحد المعنى فهي مترادفة.
وإن تكثرت المعاني واتحد اللفظ من وضع واحد، فهو المشترك.
وإن اختص الوضع بأحدها، ثم استعمل في الباقي، من غير أن يغلب فيه،
فهو الحقيقة والمجاز. وإن غلب، وكان الاستعمال لمناسبة، فهو المنقول اللغوي،
أو الشرعي، أو العرفي. وإن كان بدون المناسبة فهو المرتجل.
أصل
لا ريب في وجود الحقيقة اللغوية والعرفية. وأما الشرعية، فقد اختلفوا في
إثباتها ونفيها. فذهب إلى كل فريق. وقبل الخوض في الاستدلال، لابد من
تحرير محل النزاع.

1 - تصوره - ب
34

فنقول: لا نزاع في أن الألفاظ المتداولة على لسان أهل الشرع، المستعملة في
خلاف معانيها اللغوية، قد صارت حقائق في تلك المعاني، كاستعمال
" الصلاة " في الافعال المخصوصة، بعد وضعها في اللغة للدعاء، واستعمال
" الزكاة " في القدر المخرج من المال، بعد وضعها في اللغة للنمو، واستعمال
" الحج " في أداء المناسك المخصوصة، بعد وضعه في اللغة لمطلق القصد. وإنما
النزاع في أن صيرورتها كذلك، هل هي بوضع الشارع (1) وتعيينه إياها بإزاء تلك
المعاني بحيث تدل (2) عليها بغير قرينة، لتكون (3) حقائق شرعية فيها، أو بواسطة غلبة
هذه الألفاظ في المعاني المذكورة في لسان أهل الشرع، وإنما استعملها الشارع
فيها بطريق المجاز بمعونة القرائن، فتكون حقائق عرفية خاصة، لا شرعية.
وتظهر ثمرة الخلاف فيما (4) إذا وقعت مجردة عن القرائن في كلام الشارع، فإنها
تحمل على المعاني المذكورة بناء على الأول، وعلى اللغوية بناء على الثاني. و
أما إذا استعملت في كلام أهل الشرع، فإنها تحمل على الشرعي (5) بغير خلاف.
احتج المثبتون: بأنا نقطع بأن " الصلاة " اسم للركعات المخصوصة بما فيها
من الأقوال والهيئات، وأن " الزكاة " لأداء مال مخصوص، و " الصيام "
لامساك مخصوص، و " الحج " لقصد مخصوص. ونقطع أيضا بسبق هذه المعاني
منها إلى الفهم (6) عند إطلاقها، وذلك علامة الحقيقة. ثم إن هذا لم يحصل إلا
بتصرف الشارع ونقله لها إليها، وهو معنى الحقيقة الشرعية.
وأورد عليه: أنه لا يلزم من استعمالها في غير معانيها أن تكون (7) حقائق
شرعية، بل يجوز كونها مجازات.
ورد بوجهين: أحدهما: أنه إن أريد بمجازيتها: أن الشارع استعملها في

1 - بوضع الواضع - ب
2 - يدل - ج
3 - فتكون - ب
4 - فيها إذا - ب
5 - على الشرعية - ب
6 - المعاني إلى الفهم - ج
7 - يكون حقائق - ج - ب
35

[غير] معانيها، لمناسبة المعنى اللغوي، ولم يكن ذلك معهودا من أهل اللغة، ثم
اشتهر، فأفاد بغير قرينة، فذلك معنى الحقيقة الشرعية، وقد ثبت المدعى، وإن
أريد بالمجازية: أن أهل اللغة استعملوها في هذه المعاني والشارع تبعهم فيه، فهو
خلاف الظاهر، لأنها معان حدثت، ولم يكن أهل اللغة يعرفونها، واستعمال
اللفظ في المعنى فرع معرفته.
وثانيهما: أن هذه المعاني تفهم (1) من الألفاظ عند الاطلاق بغير قرينة. ولو
كانت مجازات لغوية، لما فهمت إلا بالقرينة.
وفي كلا هذين الوجهين مع أصل الحجة بحث.
أما في الحجة، فلان دعوى كونها أسماء لمعانيها الشرعية لسبقها منها إلى
الفهم عند إطلاقها، إن كانت بالنسبة إلى إطلاق الشارع فهي ممنوعة. وإن
كانت بالنظر إلى اطلاق أهل الشرع فالذي يلزم حينئذ هو كونها حقائق عرفية
لهم، لا حقايق شرعية.
وأما في الوجه الأول (2)، فلان قوله: " فذلك معنى الحقيقة الشرعية " ممنوع،
إذ الاشتهار والإفادة بغير قرينة إنما هو في عرف أهل الشرع، لا في إطلاق الشارع.
فهي حينئذ حقيقة عرفية لهم، لا شرعية.
وأما في الوجه الثاني، فلما أوردناه على الحجة، من أن السبق إلى الفهم بغير
قرينة إنما هو بالنسبة إلى المتشرعة لا إلى الشارع.
حجة النافين وجهان.
الأول: أنه لو ثبت نقل الشارع هذه الألفاظ إلى غير معانيها اللغوية،
لفهمها المخاطبين بها، حيث إنهم مكلفون (3) بما تتضمنه (4). ولا ريب أن الفهم شرط
التكليف. ولو فهمهم إياها، لنقل ذلك إلينا، لمشاركتنا لهم في التكليف. ولو
نقل، فإما بالتواتر، أو بالآحاد. والأول لم يوجد قطعا، وإلا لما وقع الخلاف فيه.

1 - يفهم - ب
2 - واما في الوجه الأول - ب
3 - مكلفين - ب
4 - تضمنته - ب
36

والثاني لا يفيد العلم. على أن العادة تقضي (1) في مثله بالتواتر.
الوجه (2) الثاني: أنها لو كانت حقائق شرعية لكانت غير عربية، واللازم
باطل، فالملزوم مثله. بيان الملازمة: أن اختصاص الألفاظ باللغات إنما هو
بحسب دلالتها بالوضع فيها. والعرب لم يضعوها، لأنه المفروض، فلا تكون (3)
عربية. وأما بطلان اللازم، فلانه يلزم أن لا يكون القرآن عربيا، لاشتماله
عليها. وما بعضه خاصة عربي لا يكون عربيا كله. وقد قال الله سبحانه:
" إنا أنزلناه قرآنا عربيا " (4).
وأجيب عن الأول: بأن فهمها لهم ولنا باعتبار الترديد بالقرائن،
كالأطفال يتعلمون اللغات من غير أن يصرح لهم بوضع اللفظ للمعنى، إذ هو
ممتنع بالنسبة إلى من لا يعلم شيئا من الألفاظ. وهذا طريق قطعي لا ينكر.
فان عنيتم بالتفهيم وبالنقل: ما يتناول هذا، منعنا بطلان اللازم، وإن عنيتم به:
التصريح بوضع اللفظ للمعنى (5)، منعنا الملازمة.
وعن الثاني: بالمنع من كونها غير عربية. كيف، وقد جعلها الشارع حقائق
شرعية في تلك المعاني مجازات لغوية في المعنى اللغوي، فإن المجازات الحادثة
عربية، وإن لم يصرح العرب بآحادها، لدلالة الاستقراء على تجويزهم نوعها.
ومع التنزل، نمنع كون القرآن كله عربيا، والضمير في " إنا أنزلناه " للسورة، لا
للقرآن، وقد يطلق " القرآن " على السورة وعلى الآية.
فان قيل: يصدق على كل سورة وآية أنها بعض القرآن، وبعض الشئ لا
يصدق عليه أنه نفس ذلك الشئ.
قلنا: هذا إنما يكون فيما لم يشارك البعض الكل في مفهوم الاسم، كالعشرة،
فإنها اسم لمجموع الآحاد المخصوصة (6)، فلا يصدق على البعض، بخلاف نحو الماء،

1 - يقتضى - ج - ب
2 - والوجه - ج
3 - فلا يكون - ب
4 - سورة يوسف، 2
5 - بوضع للمعنى - ب
6 - المخصوصة ليس في - ب
37

فإنه اسم للجسم البسيط البارد الرطب بالطبع، فيصدق على الكل وعلى أي
بعض فرض منه، فيقال: هذا البحر ماء، ويراد بالماء مفهومه (1) الكلي، ويقال:
إنه بعض الماء، ويراد به مجموع المياه الذي هو أحد جزئيات ذلك المفهوم.
والقرآن من هذا القبيل، فيصدق على السورة أنها قرآن وبعض من القرآن،
بالاعتبارين (2)، على أنا نقول: إن القرآن قد وضع - بحسب الاشتراك - للمجموع
الشخصي وضعا آخر، فيصح بهذا الاعتبار أن يقال: السورة (3) بعض القرآن.
إذا عرفت هذا، فقد ظهر لك ضعف الحجتين.
والتحقيق أن يقال: لا ريب في وضع هذه الألفاظ للمعاني اللغوية، وكونها
حينئذ حقائق فيها لغة، ولم يعلم من حال الشارع إلا أنه استعملها في المعاني
المذكورة. أما كون ذلك الاستعمال بطريق النقل، أو انه غلب في زمانه واشتهر
حتى أفاد بغير قرينة، فليس بمعلوم، لجواز الاستناد في فهم المراد منها إلى القرائن
الحالية أو المقالية، فلا يبقى لنا وثوق بالإفادة مطلقا. وبدون ذلك لا يثبت
المطلوب. فالترجيح لمذهب النافين، وإن كان المنقول من دليلهم مشاركا
في الضعف لدليل المثبتين.
أصل
الحق أن الاشتراك واقع في لغة العرب. وقد أحاله شرذمة. وهو شاذ
ضعيف لا يلتفت إليه.
ثم إن القائلين بالوقوع اختلفوا في استعماله في أكثر من معنى إذا كان
الجمع بين ما يستعمل فيه من المعاني ممكنا، فجوزه قوم مطلقا، ومنعه آخرون
مطلقا (4)، وفصل ثالث: فمنعه في المفرد وجوزه في التثنية والجمع، ورابع: فنفاه
في الاثبات وأثبته في النفي.

1 - المفهوم الكلى - ب
2 - باعتبارين - ب
3 - ان السورة - ب
4 - ومنعه قوم مطلقا - ب
38

ثم اختلف المجوزون (1)، فقال قوم منهم: إنه بطريق الحقيقة. وزاد بعض
هؤلاء: أنه ظاهر في الجميع عند التجرد عن القرائن، فيجب حمله عليه حينئذ.
وقال الباقون: إنه بطريق المجاز.
والأقوى عندي جوازه مطلقا، لكنه في المفرد مجاز، وفي غيره حقيقة.
لنا على الجواز: انتفاء المانع، بما سنبينه: من بطلان ما تمسك به المانعون، وعلى
كونه مجازا في المفرد: تبادر الوحدة منه عند إطلاق اللفظ، فيفتقر إرادة الجميع (2)
منه إلى إلغاء اعتبار قيد الوحدة. فيصير اللفظ مستعملا في خلاف موضوعه. لكن
وجود العلاقة المصححة للتجوز أعني: علاقة الكل والجزء يجوزه، فيكون مجازا.
فإن قلت: محل النزاع في المفرد هو استعمال اللفظ في كل من المعنيين بأن
يراد به - في إطلاق واحد - هذا وذاك، على أن (3) يكون كل منهما مناطا للحكم و
متعلقا للاثبات والنفي، لا في المجموع المركب الذي أحد المعنيين جزء منه.
سلمنا، لكن ليس كل جزء يصح (4) إطلاقه على الكل، بل إذا كان للكل تركب
حقيقي وكان الجزء مما إذا انتفى انتفى الكل بحسب العرف أيضا، كالرقبة
للانسان، بخلاف الإصبع والظفر ونحو ذلك.
قلت: لم أرد بوجود علاقة الكل والجزء: أن اللفظ موضوع لاحد المعنيين و
مستعمل (5) حينئذ في مجموعهما معا، فيكون من باب إطلاق اللفظ الموضوع للجزء و
إرادة الكل كما توهمه بعضهم، ليرد ما ذكرت. بل المراد: أن اللفظ لما كان
حقيقة في كل من المعنيين، لكن مع قيد الوحدة، كان استعماله في الجميع
مقتضيا لالغاء اعتبار قيد الوحدة كما ذكرناه، واختصاص اللفظ ببعض
الموضوع له أعني: ما سوى الوحدة. فيكون من باب إطلاق اللفظ الموضوع للكل و
إرادة الجزء. وهو غير مشترط بشئ مما اشترط في عكسه، فلا إشكال.

1 - ثم اختلفوا - ب
2 - في إرادة الجميع - ب
3 - على أنه يكون - ب
4 - لكن كل جزء ليس يصح - ب
5 - يستعمل - ب
39

ولنا على كونه حقيقة في التثنية والجمع: أنهما في قوة تكرير المفرد بالعطف.
والظاهر: اعتبار الاتفاق في اللفظ دون المعنى في المفردات، ألا ترى أنه يقال:
زيدان وزيدون، وما أشبه هذا مع كون المعنى في الآحاد مختلفا. وتأويل بعضهم
له بالمسمى تعسف بعيد. وحينئذ، فكما أنه يجوز إرادة المعاني المتعددة من
الألفاظ المفردة المتحدة المتعاطفة، على أن يكون كل واحد منها مستعملا في معنى
بطريق الحقيقة، فكذا ما هو في قوته.
احتج المانع مطلقا، بأنه لو جاز استعماله فيهما معا، لكان ذلك بطريق
الحقيقة، إذ المفروض: أنه موضوع لكل من المعنيين، وأن الاستعمال في كل
منهما (1) بطريق الحقيقة. وإذا كان بطريق الحقيقة، يلزم كونه مريدا لأحدهما
خاصة، غير مريد له خاصة، وهو محال.
بيان الملازمة: أن له حينئذ ثلاثة معان: هذا وحده، وهذا وحده، وهما معا،
وقد فرض استعماله في جميع معانيه، فيكون مريدا لهذا وحده، ولهذا وحده، ولهما
معا. وكونه مريدا لهما معا معناه: أن لا يريد هذا وحده، وهذا وحده. فيلزم من
إرادته لهما على سبيل البدلية، الاكتفاء بكل واحد منهما، وكونهما مرادين
على الانفراد، ومن إرادة المجموع معا عدم الاكتفاء بأحدهما، وكونهما مرادين
على الاجتماع. وهو ما ذكرنا من اللازم.
والجواب: أنه مناقشة لفظية، إذ المراد نفس المدلولين معا، لابقائه لكل
واحد منفردا. وغاية ما يمكن حينئذ أن يقال: إن مفهومي المشترك هما
منفردين، فإذا استعمل في المجموع، لم يكن مستعملا في مفهوميه، فيرجع البحث
إلى تسمية ذلك استعمالا له (2) في مفهوميه، لا إلى إبطال أصل الاستعمال. وذلك
قليل الجدوى.
واحتج من خص المنع بالمفرد: بأن التثنية والجمع متعددان في التقدير، فجاز
تعدد مدلوليهما، بخلاف المفرد.

1 - في كل واحد منهما - ب
2 - استعمالا في - ب
40

وأجيب عنه: بأن التثنية والجمع إنما يفيدان تعدد المعنى المستفاد من المفرد.
فان أفاد المفرد التعدد، أفاداه، وإلا، فلا.
وفيه نظر يعلم مما قلناه في حجة ما اخترناه.
والحق أن يقال: إن هذا الدليل إنما يقتضى نفي كون الاستعمال المذكور
بالنسبة إلى المفرد حقيقة، وأما نفي صحته مجازا حيث توجد العلاقة (1) المجوزة
له، فلا.
واحتج من خص الجواز بالنفي: بأن النفي يفيد العموم فيتعدد، بخلاف
الاثبات.
وجوابه: أن النفي إنما هو للمعنى المستفاد عند الاثبات، فإذا لم يكن متعددا
فمن أين يجئ التعدد في النفي؟
حجة مجوزيه حقيقة: أن ما وضع له اللفظ واستعمل فيه هو كل
من المعنيين، لا بشرط أن يكون وحده، ولا بشرط كونه مع غيره، على ما هو شأن
الماهية لا بشرط شئ، وهو متحقق في حال الانفراد عن الآخر والاجتماع معه
فيكون حقيقة في كل منهما.
والجواب: أن الوحدة تتبادر من المفرد عند إطلاقه، وذلك آية الحقيقة.
وحينئذ، فالمعنى الموضوع له فيه ليس هو الماهية لا بشرط شئ، بل هي بشرط
شئ. وأما فيما عداه فالمدعى حق، كما أسفلناه.
وحجة من زعم أنه ظاهر في الجميع عند التجرد عن القرائن، قوله تعالى:
" ألم تر ان الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر
والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس " (2). فان السجود
من الناس وضع الجبهة على الأرض، ومن غيرهم أمر مخالف لذلك قطعا. وقوله:
" إن الله وملائكته يصلون على النبي " (3). فان الصلاة من الله: المغفرة،

1 - يوجد العلاقة - ب
2 - سورة الحج، 18
3 - سورة الأحزاب، 56.
41

ومن الملائكة: الاستغفار. وهما مختلفان.
والجواب من وجوه:
أحدها: أن معنى السجود في الكل واحد، وهو: غاية الخضوع. وكذا (1)
في الصلاة وهو الاعتناء باظهار الشرف ولو مجازا.
وثانيها: أن الآية الأولى بتقدير فعل (2)، كأنه قيل: " ويسجد له كثير
من الناس "، والثانية بتقدير خبر، كأنه قيل: إن الله يصلى. وإنما جاز هذا
التقدير، لان قوله: " يسجد له من في السماوات "، وقوله: " وملائكته يصلون "
مقارن له، وهو مثل المحذوف، فكان دالا عليه، مثل قوله (3):
نحن بما عندنا وأنت بما * * * عندك راض والرأي مختلف
أي نحن بما عندنا راضون. وعلى هذا، فيكون قد كرر اللفظ، مرادا به في كل
مرة معنى، لان المقدر في حكم المذكور. وذلك جائز بالاتفاق.
وثالثها: أنه وإن ثبت الاستعمال فلا يتعين كونه حقيقة، بل نقول:
هو مجاز، لما قدمناه من الدليل. وإن كان المجاز على خلاف الأصل. ولو سلم
كونه حقيقة، فالقرينة على إرادة الجميع فيه ظاهرة، فأين وجه الدلالة على
ظهوره في ذلك مع فقد القرينة، كما هو المدعى؟
أصل
واختلفوا في استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي، كاختلافهم في
استعمال المشترك في معانيه فمنعه قوم، وجوزه آخرون. ثم اختلف (4) المجوزون
فأكثرهم على أنه مجاز. وربما قيل بكونه حقيقة ومجازا بالاعتبارين.
حجة المانعين (5): انه لو جاز استعمال اللفظ في المعنيين، للزم الجمع بين
المتنافيين. أما الملازمة، فلان من شرط المجاز نصب القرينة المانعة عن إرادة

1 - وكذلك - ج
2 - بتقدير الخبر - ب
3 - نحو قوله - الف
4 - ثم اختلفوا المجوزون - ب
5 - حجة النافين - ج
42

الحقيقة، ولهذا قال أهل البيان: إن المجاز ملزوم قرينة معاندة لإرادة الحقيقة،
وملزوم معاند الشئ معاند لذلك الشئ وإلا لزم صدق الملزوم بدون اللازم،
وهو محال. وجعلوا هذا وجه الفرق بين المجاز والكناية. وحينئذ، فإذا استعمل
المتكلم اللفظ فيهما، كان مريدا لاستعماله فيما وضع له، باعتبار إرادة المعنى
الحقيقي غير مريد له باعتبار إرادة المعنى المجازي، وهو ما ذكر من اللازم.
وأما بطلانه فواضح.
وحجة المجوزين: أنه ليس بين إرادة الحقيقة وإرادة المجاز معا منافاة. وإذا
لم يكن ثم منافاة لم يمتنع اجتماع الإرادتين عند التكلم.
واحتجوا لكونه مجازا: بأن استعماله فيهما (1) استعمال في غير ما وضع له أولا،
إذ لم يكن المعنى المجازي داخلا في الموضوع له وهو الآن داخل، فكان مجازا.
واحتج القائل بكونه حقيقة ومجازا: بأن اللفظ مستعمل في كل واحد من
المعنيين. والمفروض أنه حقيقة في أحدهما، مجاز في الآخر، فلكل واحد من
الاستعمالين حكمه.
وجواب المانعين عن حجة الجواز، ظاهر بعد ما قرروه في وجه التنافي.
وأما الحجتان الأخيرتان، فهما ساقطتان بعد إبطال الأولى. وتزيد الحجة
على مجازيته: بأن فيها خروجا عن محل النزاع، إذ موضع البحث هو استعمال
اللفظ في المعنيين، على أن يكون كل منهما مناطا للحكم، ومتعلقا للاثبات
والنفي، كما مر آنفا في المشترك. وما ذكر في الحجة يدل على أن اللفظ مستعمل (2)
في معنى مجازي شامل للمعنى الحقيقي والمجازي الأول، فهو معنى ثالث لهما.
وهذا مما لا نزاع (3) فيه، فان النافي للصحة يجوز إرادة المعنى المجازي الشامل
ويسمى ذلك ب‍ " عموم المجاز "، مثل أن تريد ب‍ " وضع القدم " في قولك: " لا
أضع قدمي في دار فلان " الدخول، فيتناول دخولها حافيا وهو (4) الحقيقة، وناعلا و

1 - استعماله لهما - ج
2 - يستعمل - ب
3 - وهذا لا نزاع - ب
4 - وهي الحقيقة - ب
43

راكبا، وهما مجازان.
والتحقيق عندي في هذا المقام: أنهم إن أرادوا بالمعنى الحقيقي الذي
يستعمل فيه اللفظ حينئذ تمام الموضوع له حتى مع الوحدة الملحوظة في اللفظ
المفرد، كما علم في المشترك، كان القول بالمنع متوجها، لان إرادة المجاز تعانده
من جهتين: منافاتها للوحدة الملحوظة، ولزوم القرينة المانعة، وإن أرادوا به:
المدلول الحقيقي من دون اعتبار كونه منفردا، كما قرر في جواب حجة المانع
في المشترك، اتجه القول بالجواز، لان المعنى الحقيقي يصير بعد تعريته عن الوحدة
مجازيا للفظ، فالقرينة اللازمة للمجاز لا تعانده. وحيث كان المعتبر في
استعمال المشترك هو هذا المعنى، فالظاهر اعتباره هنا (1) أيضا. ولعل المانع
في الموضعين بناؤه على الاعتبار (2) الآخر. وكلامه حينئذ متجه، لكن قد عرفت أن
النزاع يعود معه لفظيا. ومن هنا يظهر ضعف القول بكونه حقيقة ومجازا حينئذ،
فإن المعني الحقيقي لم يرد بكماله، وإنما أريد منه البعض، فيكون اللفظ فيه
مجازا أيضا.

1 - هيهنا - ب
2 - اعتبار - ب
44

المطلب الثاني
في
الأوامر والنواهي
وفيه بحثان:
45

البحث الأول
في
الأوامر
أصل
صيغة " إفعل " وما في معناها (1) حقيقة في الوجوب فقط بحسب اللغة
على الأقوى وفاقا لجمهور الأصوليين. وقال قوم: إنها حقيقة في الندب فقط. وقيل:
في الطلب، وهو: القدر المشترك بين الوجوب والندب. وقال علم الهدى (2)
رضي الله عنه: إنها مشتركة بين الوجوب والندب اشتراكا لفظيا في اللغة، و
أما في العرف الشرعي فهي حقيقة في الوجوب فقط. وتوقف في ذلك قوم فلم
يدروا، أللوجوب هي أم للندب. وقيل: هي مشتركة بين ثلاثة أشياء:
الوجوب، والندب، والإباحة. وقيل: هي للقدر المشترك (3) بين هذه الثلاثة وهو
الاذن. وزعم قوم: أنها مشتركة بين أربعة أمور، وهي الثلاثة السابقة، والتهديد
وقيل فيها أشياء أخر، لكنها شديدة الشذوذ، بينة الوهن، فلا جدوى في التعرض (4)
لنقلها.
لنا وجوه: الأول - أنا نقطع بأن (5) السيد إذا قال لعبده: " إفعل كذا " فلم
يفعل (6)، عد عاصيا وذمه العقلاء معللين حسن ذمه بمجرد ترك الامتثال، وهو
معنى الوجوب.

1 - معناه - ب
2 - الذريعة إلى أصول الشريعة، ص 52.
3 - مشترك - ب
4 - للتعرض - ب
5 - نقطع ان السيد - الف
6 - فلا يفعل - ب
46

لا يقال: القرائن على إرادة الوجوب في مثله موجودة غالبا، فلعله إنما يفهم
منها، لا من مجرد (1) الامر.
لأنا نقول: المفروض فيما ذكرناه (2) انتفاء القرائن، فليقدر كذلك، لو كانت
في الواقع موجودة. فالوجدان يشهد ببقاء الذم حينئذ عرفا. وبضميمة أصالة عدم
النقل إلى ذلك يتم المطلوب.
الثاني - قوله تعالى مخاطبا لإبليس: " ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك (3) ".
والمراد بالامر: " اسجدوا " في قوله تعالى: " وإذ قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم،
فسجدوا إلا إبليس " (4)، فان هذا الاستفهام ليس على حقيقته (5)، لعلمه سبحانه
بالمانع، وإنما هو في معرض الانكار والاعتراض، ولولا أن صيغة " اسجدوا "
للوجوب لما كان متوجها.
الثالث - قوله تعالى: " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو
يصيبهم عذاب أليم " (6)، حيث هدد سبحانه مخالف الامر، والتهديد دليل
الوجوب.
فان قيل: الآية إنما دلت على أن مخالف الامر مأمور بالحذر، ولا دلالة في
ذلك على وجوبه إلا بتقدير كون الامر للوجوب، وهو عين المتنازع فيه.
قلنا: هذا الامر للايجاب والالزام قطعا، إذ لا معنى لندب الحذر عن العذاب
أو إباحته. ومع التنزل، فلا أقل من دلالته على حسن الحذر حينئذ. ولا ريب أنه
إنما يحسن عند قيام المقتضى للعذاب، إذ لو لم يوجد المقتضي، لكان الحذر عنه
سفها وعبثا. وذلك محال على الله سبحانه. وإذا ثبت وجود المقتضي، ثبت أن
الامر للوجوب، لان (7) المقتضي للعذاب هو مخالفة الواجب، لا المندوب.

1 - بمجرد - الف
2 - ذكرنا - الف
3 - سورة الأعراف، 12.
4 - سورة البقرة، 34.
5 - حقيقة - ب
6 - سورة النور، 63.
7 - لأنه - ب
47

فان قيل: هذا الاستدلال مبني على أن المراد بمخالفة الامر ترك المأمور به،
وليس كذلك. بل المراد بها حمله على ما يخالفه بأن يكون للوجوب أو الندب،
فيحمل على غيره.
قلنا: المتبادر إلى الفهم من المخالفة هو ترك الامتثال والآتيان بالمأمور به. و
أما المعنى الذي ذكرتموه فبعيد عن الفهم، غير متبادر عند إطلاق اللفظ، فلا
يصار إليه إلا بدليل. وكأنها في الآية اعتبرت متضمنة معنى الاعراض، فعديت
ب‍ " عن ".
فان قيل: قوله في الآية: " عن أمره "، مطلق فلا يعم (1)، والمدعى إفادته
الوجوب في جميع الأوامر بطريق العموم (2).
قلنا: إضافة المصدر عند عدم العهد للعموم، مثل " ضرب زيد " و " أكل
عمرو ". وآية ذلك جواز الاستثناء منه، فإنه (3) يصح أن يقال في الآية: فليحذر
الذين يخالفون عن أمره إلا الامر الفلاني. على أن الاطلاق كاف في المطلوب،
إذ لو كان حقيقة في غير الوجوب أيضا، لم يحسن الذم والوعيد والتهديد على مخالفة
مطلق الامر.
الرابع: قوله تعالى: " وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون (4) "، فإنه سبحانه ذمهم
على مخالفتهم للامر، ولولا أنه للوجوب لم يتوجه الذم.
وقد اعترض أولا بمنع كون الذم على ترك المأمور به، بل على تكذيب الرسل
في التبليغ، بدليل قوله تعالى: " ويل يومئذ للمكذبين (5) ".
وثانيا: بأن الصيغة تفيد (6) الوجوب عند انضمام القرينة إليها إجماعا، فلعل
الامر بالركوع كان مقترنا بما يقتضي كونه للوجوب.
وأجيب عن الأول: بأن المكذبين إما أن يكونوا هم الذين لم يركعوا عقيب

1 - فلا تعم - الف
2 - بطريق العموم - ليس في - الف
3 - وانه - ب
4 - سورة المرسلات، 48.
5 - سورة المرسلات، 49.
6 - تفيد - ب
48

أمرهم به، أو غيرهم. فان كان الأول، جاز أن يستحقوا الذم بترك الركوع،
والويل بواسطة التكذيب، فان الكفار عندنا معاقبون على الفروع كعقابهم على
الأصول، وإن كانوا غيرهم لم يكن اثبات الويل لقوم بسبب تكذيبهم منافيا لذم
قوم بتركهم ما أمروا به.
وعن الثاني: بأنه تعالى رتب الذم على مجرد مخالفة الامر، فدل على أن
الاعتبار به، لا بالقرينة.
احتج (1) القائلون بأنه (2) للندب بوجهين:
أحدهما: قوله صلى الله عليه وآله: " إذا أمرتكم بشئ فأتوا منه
ما استطعتم (3) ". وجه الدلالة: أنه رد الاتيان بالمأمور به إلى مشيتنا، وهو
معنى الندب.
وأجيب (4) بالمنع من رده إلى مشيتنا، وإنما رده إلى استطاعتنا، وهو معنى
الوجوب.
وثانيهما (5): أن أهل اللغة قالوا: لا فارق بين السؤال والامر إلا بالرتبة، فان
رتبة (6) الآمر أعلى من رتبة السائل، والسؤال إنما يدل على الندب، فكذلك الامر،
إذ لو دل الامر على الايجاب لكان بينهما فرق آخر. وهو خلاف ما نقلوه.
وأجيب: أن القائل بكون الامر للايجاب، يقول: إن (7) السؤال يدل عليه
أيضا، لان صيغة " إفعل " عنده موضوعة لطلب الفعل مع المنع من الترك، وقد
استعملها السائل فيه. لكنه لا يلزم منه الوجوب، إذ الوجوب إنما يثبت بالشرع،
ولذلك لا يلزم المسؤول القبول. وفيه نظر.
والتحقيق: أن (8) النقل المذكور عن أهل اللغة غير ثابت، بل صرح بعضهم

1 - واحتج - ب
2 - بان للندب - ب
3 - مجمع البيان، ج
3 - 4، ص 250.
4 - أجيب - الف
5 - وثانيها - ب
6 - مرتبه - ج
7 - بان السؤال - الف
8 - التحقيق عندي ان - ب
49

بعدم صحته.
حجة القائلين بأنه للقدر المشترك: أن الصيغة استعملت تارة في الوجوب،
كقوله تعالى: " أقيموا الصلاة " (1)، وأخرى في الندب، كقوله: " فكاتبوهم " (2)،
فان كانت موضوعة لكل منهما لزم الاشتراك أو لأحدهما فقط لزم المجاز،
فيكون حقيقة في القدر المشترك بينهما، وهو طلب الفعل، دفعا (3) للاشتراك والمجاز.
والجواب: أن المجاز، وإن كان مخالفا للأصل، لكن (4) يجب المصير إليه إذا
دل الدليل عليه. وقد بينا بالأدلة السابقة أنه حقيقة في الوجوب بخصوصه،
فلابد من كونه مجازا فيما عداه، وإلا لزم الاشتراك المخالف للأصل المرجوح
بالنسبة إلى المجاز، إذا تعارضا. على أن المجاز لازم بتقدير وضعه للقدر المشترك
أيضا، لان استعماله في كل واحد من المعنيين بخصوصه مجاز، حيث لم يوضع له
اللفظ بقيد الخصوصية، فيكون استعماله فيه معها استعمالا في غير ما وضع له.
فالمجاز لازم في غير صورة الاشتراك، سواء جعل حقيقة ومجازا، أو للقدر المشترك.
ومع ذلك فالتجوز اللازم بتقدير الحقيقة والمجاز أقل منه بتقدير القدر المشترك،
لأنه في الأول مختص بأحد المعنيين، وفي الثاني حاصل فيهما.
وربما توهم تساويهما، باعتبار أن استعماله في القدر المشترك على الأول
مجاز، فيكون مقابلا لاستعماله في المعنى الآخر على الثاني، فيتساويان.
وليس كما توهم، لان الاستعمال في القدر المشترك، إن وقع، فعلى غاية
الندرة والشذوذ، فأين (5) هو من اشتهار الاستعمال في كل من المعنيين وانتشاره.
وإذا ثبت أن التجوز اللازم على التقدير الأول أقل، كان بالترجيح - لو لم يقم عليه
الدليل أحق.
احتج السيد المرتضى (6) - رضي الله عنه - على أنها مشتركة لغة بأنه لا شبهة

1 - سورة البقرة، 43.
2 - سورة النور، 33.
3 - رفعا - الف
4 - ولكن - الف
5 - وأين - ب
6 - الذريعة إلى أصول الشريعة، ج 1، ص 52
50

في استعمال صيغة الامر في الايجاب والندب معا في اللغة، والتعارف (1)، والقرآن،
والسنة، وظاهر الاستعمال يقتضى الحقيقة، وإنما يعدل عنها بدليل.
قال: " وما استعمال اللفظة الواحدة في الشيئين أو الأشياء إلا كاستعمالها
في الشئ الواحد في الدلالة على الحقيقة ".
واحتج على كونها حقيقة في الوجوب بالنسبة إلى العرف الشرعي: بحمل
الصحابة كل أمر ورد في القرآن أو السنة على الوجوب، وكان يناظر بعضهم بعضا
في مسائل مختلفة، ومتى أورد أحدهم على صاحبه أمرا من الله سبحانه أو من
رسوله (2)، صلى الله عليه وآله، لم يقل صاحبه هذا أمر، والامر يقتضي الندب،
أو الوقف بين الوجوب والندب، بل اكتفوا في اللزوم والوجوب بالظاهر. وهذا
معلوم ضرورة من عاداتهم ومعلوم أيضا: أن ذلك من شأن التابعين لهم، و
تابعي التابعين. فطال ما اختلفوا وتناظروا، فلم يخرجوا عن القانون الذي
ذكرناه. وهذا يدل على قيام الحجة عليهم بذلك حتى جرت عادتهم، وخرجوا
عما يقتضيه مجرد وضع اللغة في هذا الباب.
قال - رحمه الله -: " وأما أصحابنا، معشر الامامية، فلا يختلفون في
هذا الحكم الذي ذكرناه، وإن اختلفوا في أحكام هذه الألفاظ في موضوع اللغة،
ولم يحملوا قط ظواهر هذه الألفاظ إلا على ما بيناه، ولم يتوقفوا عل الأدلة. وقد
بينا في مواضع من كتبنا: أن إجماع أصحابنا حجة ".
والجواب عن احتجاجه الأول: أنا قد بينا (3) أن الوجوب هو المتبادر من إطلاق
الامر عرفا. ثم إن مجرد استعمالها في الندب لا يقتضي كونه حقيقة أيضا، بل
يكون مجازا، لوجود أمارته، وكونه خيرا من الاشتراك. وقوله: " إن استعمال
اللفظة الواحدة في الشيئين أو الأشياء كاستعمالها في الشئ الواحد في الدلالة
على الحقيقة "، إنما يصح إذا تساوت نسبة اللفظة إلى الشيئين أو الأشياء في

1 - المتعارف - ب
2 - أو رسوله - ب
3 - انا بينا - الف
51

الاستعمال، أما مع التفاوت (1) بالتبادر وعدمه أو بما أشبه هذا من علامات الحقيقة
والمجاز، فلا. وقد بينا ثبوت التفاوت.
وأما احتجاجه على أنه في العرف الشرعي للوجوب، فيحقق ما ادعيناه، إذ
الظاهر أن حملهم له على الوجوب إنما هو لكونه له لغة، ولأن تخصيص ذلك بعرفهم
يستدعي تغيير اللفظ عن موضوعه اللغوي، وهو مخالف للأصل. هذا، ولا يذهب
عليك أن ما ادعاه (2) في أول الحجة، [من] استعمال (3) الصيغة للوجوب والندب
في القرآن والسنة، مناف لما ذكره (4) من حمل الصحابة كل امر ورد في القرآن
أو السنة على الوجوب، فتأمل!.
احتج الذاهبون إلى التوقف: بأنه لو ثبت كونه موضوعا لشئ من المعاني،
لثبت بدليل، واللازم منتف، لان الدليل إما العقل، ولا مدخل له، وإما
النقل، وهو إما الآحاد، ولا يفيد العلم، أو التواتر، والعادة تقتضي بامتناع عدم
الاطلاع على التواتر ممن يبحث ويجتهد في الطلب. فكان الواجب أن لا يختلف
فيه.
والجواب: منع الحصر، فان ههنا قسما آخر، وهو ثبوته بالأدلة التي
قدمناها، ومرجعها إلى تتبع مظان استعمال اللفظ والامارات الدالة على المقصود
به عند الاطلاق.
حجة من قال بالاشتراك بين ثلاثة أشياء (5): استعماله فيها، على حذو ما سبق
في احتجاج السيد " ره " على الاشتراك بين الشيئين. والجواب، الجواب.
وحجة (6) القائل بأنه للقدر المشترك بين الثلاثة وهو الاذن، كحجة من قال
بأنه (7) لمطلق الطلب: وهو القدر (8) المشترك بين الوجوب والندب. وجوابها كجوابها.

1 - اما التفاوت - ب
2 - ان ادعاءه - الف - ب
3 - استعمال - الف - ب
4 - لما ذكرنا - ب
5 - الأشياء - ب
6 - حجة - الف
7 - انه - الف - ب
8 - قدر - ب
52

واحتج من زعم أنها مشتركة بين الأمور الأربعة بنحو ما تقدم في احتجاج
من قال بالاشتراك، وجوابه مثل جوابه.
فائدة
يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المروية عن الأئمة عليهم السلام: أن استعمال
صيغة الامر في الندب كان شايعا في عرفهم، بحيث صار من المجازات الراجحة
المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجح الخارجي،
فيشكل التعلق في إثبات وجوب أمر بمجرد ورود الامر به منهم (1) عليهم السلام.
أصل
الحق (2) أن صيغة الامر بمجردها، لا إشعار فيها بوحدة ولا تكرار، وإنما تدل (3)
على طلب الماهية. وخالف في ذلك قوم فقالوا (4): بإفادتها التكرار، ونزلوها منزلة
أن يقال: " إفعل أبدا "، وآخرون فجعلوها للمرة من غير زيادة عليها، وتوقف
في ذلك جماعة فلم يدروا لأيهما هي.
لنا: أن المتبادر من الامر طلب إيجاد حقيقة الفعل، والمرة والتكرار خارجان
عن حقيقته، كالزمان والمكان ونحوهما. فكما (5) أن قول القائل: " إضرب " غير
متناول لمكان ولا زمان ولا آلة يقع بها الضرب، كذلك غير متناول للعد في (6) كثرة
ولا قلة. نعم لما كان أقل ما يمتثل به الامر هو المرة، لم يكن (7) بد من كونها
مرادة، ويحصل بها الامتثال، لصدق الحقيقة التي هي المطلوبة بالامر بها.
وبتقرير آخر: وهو أنا نقطع بأن المرة والتكرار من صفات الفعل، أعني
المصدر، كالقليل والكثير، لأنك تقول: اضرب ضربا قليلا، أو كثيرا، أو

1 - عنهم - ب - ج
2 - الحق عندنا ان - ب
3 - يدل - ب
4 - وقالوا - الف
5 - وكما - ب
6 - من كثرة - ج
7 - لم يكن لابد - ب
53

مكررا، أو غير مكرر، فتقيده بالصفات (1) المختلفة. ومن المعلوم أن الموصوف
بالصفات المتقابلة لا دلالة له على خصوصية شئ منها. ثم إنه لا خفاء في أنه
ليس المفهوم من الامر إلا طلب إيجاد الفعل أعني المعنى المصدري، فيكون معنى
" إضرب " مثلا طلب ضرب ما، فلا يدل (2) على صفة الضرب، من تكرار أو مرة
أو نحو ذلك.
وما يقال: من أن هذا إنما يدل على عدم إفادة الامر الوحدة أو التكرار
بالمادة، فلم لا يدل عليهما بالصيغة؟.
فجوابه: أنا قد بينا انحصار مدلول الصيغة بمقتضى حكم التبادر في طلب
إيجاد الفعل. وأين هذا عن الدلالة على الوحدة أو التكرار؟.
احتج الأولون بوجوه:
أحدها: أنه لو لم تكن للتكرار، لما تكرر الصوم والصلاة. وقد تكررا قطعا.
والثاني: أن النهي يقتضي التكرار، فكذلك الامر، قياسا عليه، بجامع
اشتراكهما في الدلالة على الطلب.
والثالث: أن الامر بالشئ نهي عن ضده، والنهي يمنع عن المنهي عنه دائما،
فيلزم التكرار في المأمور به.
والجواب عن الأول: المنع من الملازمة، إذ لعل التكرار إنما فهم من دليل
آخر، سلمنا، لكنه معارض بالحج، فإنه قد أمر به، ولا تكرار.
وعن الثاني من وجهين: أحدهما - أنه قياس في اللغة، وهو باطل، وإن قلنا
بجوازه في الاحكام. وثانيهما - بيان الفارق، فان النهي يقتضي انتفاء الحقيقة،
وهو إنما يكون بانتفائها في جميع الأوقات، والامر يقتضي إثباتها وهو يحصل بمرة، و
أيضا التكرار في الامر مانع من (3) فعل غير المأمور به. بخلافه في النهي، إذ التروك
تجتمع وتجامع (4) كل فعل.

1 - بصفاته - الف - ب
2 - فلا تدل - الف
3 - مانع عن فعل - ب
4 - وتقارن - الف
54

وعن الثالث: بعد تسليم كون الامر بالشئ نهيا عن ضده، أو تخصيصه
بالضد العام وإرادة الترك منه، منع كون النهي الذي في ضمن الامر مانعا
عن المنهي عنه دائما، بل يتفرع على الامر الذي هو في ضمنه، فان كان ذلك دائما
فدائما، وإن كان في وقت، ففي وقت. مثلا الامر بالحركة دائما يقتضي المنع
من (1) السكون دائما، والامر بالحركة في ساعة يقتضي المنع من السكون فيها، لا
دائما.
واحتج من قال بالمرة بأنه إذا قال السيد لعبده: أدخل الدار، فدخلها مرة
عد ممتثلا عرفا، ولو كان للتكرار لما عد
والجواب: أنه إنما صار ممتثلا، لان المأمور به - وهو الحقيقة - حصل بالمرة، لا
لان الامر ظاهر في المرة بخصوصها، إذ لو كان كذلك لم يصدق الامتثال فيما
بعدها (2). ولا ريب في شهادة العرف بأنه لو أتى بالفعل مرة ثانية وثالثة لعد
ممتثلا وآتيا بالمأمور به. وما ذاك إلا لكونه موضوعا للقدر المشترك بين الوحدة
والتكرار، وهو طلب إيجاد الحقيقة، وذلك يحصل بأيهما وقع.
واحتج المتوقفون: بمثل ما مر، من أنه لو ثبت، لثبت بدليل، والعقل لا
مدخل له، والآحاد لا تفيد، والتواتر يمنع الخلاف.
والجواب: على سنن ما سبق بمنع حصر الدليل فيما ذكر، فان سبق المعنى إلى
الفهم من اللفظ أمارة وضعه له، وعدمه دليل على عدمه. وقد بينا أنه لا يتبادر
من الامر إلا طلب إيجاد الفعل، وذلك كاف في إثبات مثله.
أصل
ذهب الشيخ - رحمه الله - وجماعة إلى أن الامر المطلق يقتضى الفور
والتعجيل، فلو أخر المكلف عصى. وقال السيد - رضي الله - (3) هو مشترك بين

1 - عن السكون - ب
2 - بعده - الف
3 - رحمه الله - ب
55

الفور والتراخي (1)، فيتوقف في تعيين المراد منه على دلالة تدل (2) على ذلك.
وذهب جماعة، منهم المحقق أبو القاسم ابن سعيد (3)، والعلامة (4) - رحمهما الله تعالى
إلى أنه لا يدل على الفور، ولا على التراخي، بل على مطلق الفعل، وأيهما
حصل كان مجزيا. وهذا هو الأقوى.
لنا: نظير ما تقدم في التكرار، من أن مدلول الامر طلب حقيقة الفعل، والفور
والتراخي خارجان عنها (5)، وأن الفور والتراخي من صفات الفعل، فلا دلالة له
عليهما.
حجة القول بالفور أمور ستة:
الأول - أن السيد إذا قال لعبده: اسقني، فأخر العبد السقي من غير عذر، عد
عاصيا، وذلك معلوم من العرف. ولولا (6) إفادته الفور، لم يعد عاصيا (7).
وأجيب عنه: بأن ذلك إنما يفهم بالقرينة، لان العادة قاضية بأن طلب
السقي إنما يكون عند الحاجة إليه عاجلا، ومحل النزاع ما تكون (8) الصيغة فيه مجردة.
الثاني (9) أنه تعالى ذم إبليس لعنه الله، على ترك (10) السجود لآدم عليه السلام،
بقوله سبحانه (11): " ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك " (12) ولو لم يكن الامر للفور لم يتوجه
عليه الذم، ولكان له أن يقول: إنك لم تأمرني بالبدار، وسوف أسجد.
والجواب: أن الذم باعتبار كون الامر مقيدا بوقت معين. ولم يأت بالفعل
فيه. والدليل على التقييد قوله تعالى: " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي
فقعوا له ساجدين " (13).

1 - الذريعة إلى أصول الشريعة، ص 132.
2 - يدل - ب
3 - معارج الأصول، ص 65.
4 - مبادي الوصول إلى علم الأصول، ص 96.
5 - عنهما - الف
6 - فلولا - الف
7 - في العصاة - ج
8 - يكون - ب
9 - والثاني - ب
10 - تركه - الف
11 - تعالى - ب
12 - سورة الأعراف، 12.
13 - سورة الحجر، 29
56

الثالث (1) أنه لو شرع التأخير لوجب أن يكون إلى وقت معين، واللازم
منتف. أما الملازمة، فلانه لولاه لكان إلى آخر أزمنة الامكان اتفاقا، ولا
يستقيم، لأنه غير معلوم، والجهل به يستلزم التكليف (2) بالمحال (3)، إذ يجب
على المكلف حينئذ أن لا يؤخر الفعل عن وقته، مع أنه لا يعلم ذلك الوقت الذي
كلف بالمنع عن التأخير عنه. وأما انتفاء اللازم فلانه ليس في الامر إشعار
بتعيين الوقت، ولا عليه دليل من خارج.
والجواب: من وجهين: أحدهما - النقض بما لو صرح بجواز التأخير، إذ لا
نزاع في إمكانه. وثانيهما - أنه إنما يلزم تكليف المحال لو كان التأخير متعينا، إذ
يجب حينئذ تعريف الوقت الذي يؤخر إليه. وأما إذا كان ذلك (4) جائزا فلا،
لتمكنه من الامتثال بالمبادرة، فلا يلزم التكليف بالمحال.
الرابع قوله تعالى: " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم (5) "، فان المراد بالمغفرة
سببها، وهو فعل المأمور به، لا حقيقتها، لأنها فعل الله سبحانه، فيستحيل مسارعة
العبد إليها، وحينئذ فتجب المسارعة إلى فعل المأمور به. وقوله تعالى: " فاستبقوا
الخيرات (6) "، فان فعل المأمور به من الخيرات، فيجب الاستباق إليه. وإنما
يتحقق المسارعة والاستباق بأن يفعل بالفور.
وأجيب: بأن ذلك محمول على أفضلية المسارعة والاستباق، لا على وجوبهما،
وإلا لوجب الفور، فلا يتحقق المسارعة والاستباق، لأنهما إنما يتصوران في الموسع
دون المضيق، ألا ترى (7) أنه لا يقال، لمن قيل له " صم غدا "، فصام: " إنه سارع
إليه واستبق ". والحاصل: أن العرف قاض بأن الاتيان بالمأمور به في الوقت الذي
لا يجوز تأخيره عنه لا يسمى مسارعة واستباقا (8)، فلابد من حمل الامر في الآيتين

1 - والثالث - ب
2 - تكليف - ب
3 - المحال - الف
4 - ذلك - ليس في - الف - ب
5 - سورة آل عمران، 133.
6 - سورة المائدة، 48.
7 - ألا يرى - ب
8 - ولا استباقا - ب
57

على الندب، وإلا لكان مفاد الصيغة فيهما منافيا لما تقتضيه (1) المادة. وذلك ليس
بجائز فتأمل!.
الخامس - أن كل مخبر كالقائل: " زيد قائم، وعمرو عالم (2) "، وكل منشئ
كالقائل: " هي طالق، وأنت حر "، وإنما يقصد الزمان الحاضر. فكذلك الامر،
إلحاقا له بالأعم الأغلب.
وجوابه: أما أولا فبأنه قياس في اللغة، لأنك قست الامر في إفادته الفور على
غيره من الخبر والانشاء، وبطلانه بخصوصه ظاهر. وأما ثانيا فبالفرق بينهما بأن
الامر لا يمكن توجهه إلى الحال، إذ الحاصل لا يطلب، بل الاستقبال (3)، إما مطلقا،
وإما الأقرب إلى الحال الذي هو عبارة عن الفور، وكلاهما محتمل، فلا يصار إلى
الحمل على الثاني إلا لدليل (4).
السادس - أن النهي يفيد الفور، فيفيده الامر، لأنه طلب مثله. وأيضا الامر
بالشئ نهي عن أضداده (5)، وهو يقتضى الفور بنحو ما مر في التكرار آنفا (6).
وجوابه: يعلم من الجواب السابق، فلا يحتاج إلى تقريره.
احتج السيد (7) رحمه الله - بأن الامر قد يرد في القرآن واستعمال أهل اللغة و
يراد به الفور، وقد يرد ويراد به التراخي. وظاهر استعمال اللفظة في شيئين
يقتضي أنها حقيقة فيهما ومشتركة بينهما. وأيضا فإنه يحسن بلا شبهة أن
يستفهم المأمور - مع فقد العادات والامارات -: هل أريد منه التعجيل أو التأخير؟
والاستفهام لا يحسن إلا مع الاحتمال في اللفظ.
والجواب: أن الذي يتبادر من إطلاق الامر ليس إلا طلب الفعل. وأما
الفور والتراخي فإنهما يفهمان من لفظه بالقرينة. ويكفي في حسن الاستفهام كونه

1 - يقتضيه - الف - ب
2 - وعمر وقاعد - الف
3 - إلى الاستقبال - ب
4 - بدليل - ب
5 - عن ضده - ج - ب
6 - انفا - ب
7 - الذريعة إلى أصول الشريعة، ص 131.
58

موضوعا للمعنى الأعم، إذ قد يستفهم عن أفراد المتواطي لشيوع التجوز به عن
أحدها، فيقصد بالاستفهام رفع الاحتمال. ولهذا يحسن فيما نحن فيه أن يجاب
بالتخيير بين الامرين، حيث يراد المفهوم من حيث هو، من (1) دون أن يكون فيه
خروج عن مدلول اللفظ. ولو كان موضوعا لكل واحد منهما بخصوصه، لكان في
إرادة التخيير بينهما منه خروج عن ظاهر اللفظ وارتكاب للتجوز، ومن المعلوم
خلافه.
فائدة
إذا قلنا: بأن الامر للفور، ولم يأت المكلف بالمأمور به في أول أوقات
الامكان، فهل يجب عليه الاتيان به في الثاني أم لا؟ ذهب إلى كل فريق.
احتجوا للأول: بأن الامر يقتضى كون المأمور فاعلا على الاطلاق، وذلك
يوجب استمرار الامر. وللثاني: بأن قوله: إفعل يجري مجرى قوله: إفعل في الآن
الثاني من الامر، ولو صرح بذلك، لما وجب الاتيان به فيما بعد. هكذا نقل المحقق
والعلامة الاحتجاج، ولم يرجحا شيئا.
وبنى العلامة الخلاف على أن قول القائل: افعل، هل معناه: إفعل في الوقت
الثاني، فان عصيب ففي الثالث؟، وهكذا. أو معناه: إفعل في الزمن (2) الثاني، من
غير بيان حال الزمن (3) الثالث وما بعده؟. فان قلنا بالأول اقتضى الامر الفعل
في جميع الأزمان، وإن قلنا بالثاني لم يقتضيه، فالمسألة لغوية. وقد سبقه إلى مثل
هذا الكلام بعض العامة.
وهو وإن كان صحيحا إلا أنه قليل الجدوى، إذ الاشكال إنما هو في مدرك
الوجهين الذين بنى عليهما الحكم، لا فيهما. فكان الواجب أن يبحث عنه.
والتحقيق في ذلك: أن الأدلة التي استدلوا بها على أن الامر للفور ليس مفادها،

1 - من ليس - في - الف - ج
2 - الزمان - ب
3 - الزمان - ب
59

على تقدير تسليمها، متحدا. بل منها ما يدل على أن الصيغة بنفسها تقتضيه، وهو
أكثرها. ومنها ما لا يدل على ذلك، وإنما يدل على وجوب المبادرة إلى امتثال
الامر، وهو الآيات المأمور فيها بالمسارعة والاستباق.
فمن اعتمد في استدلاله على الأولى، ليس له عن القول بسقوط الوجوب
حيث يمضي أول أوقات الامكان مفر، لان إرادة الوقت الأول على ذلك التقدير
بعض مدلول صيغة الامر، فكان بمنزلة أن يقول: " أوجبت عليك الامر الفلاني في
أول أوقات الامكان " ويصير من قبيل الموقت. ولا ريب في فواته بفوات وقته.
ومن اعتمد على الأخيرة، فله أن يقول بوجوب الاتيان بالفعل في الثاني،
لان الامر اقتضى (1) باطلاقه وجوب الاتيان بالمأمور به في أي وقت كان، و
إيجاب المسارعة والاستباق لم يصيره موقتا وإنما اقتضى وجوب المبادرة، فحيث
يعصي المكلف بمخالفته، يبقى مفاد الامر الأول بحاله. هذا.
والذي يظهر من مساق كلامهم: إرادة المعنى الأول، فينبغي حينئذ القول
بسقوط الوجوب.
أصل
الأكثرون على أن الامر بالشئ مطلقا يقتضى إيجاب ما لا يتم إلا به
شرطا كان أو سببا أو غيرهما مع كونه مقدورا، وفصل بعضهم فوافق في السبب
وخالف في غيره، فقال: بعدم وجوبه. واشتهرت حكاية هذا القول عن المرتضى،
رضي الله عنه وكلامه في الذريعة والشافي غير مطابق للحكاية. ولكنه يوهم ذلك
في بادي الرأي، حيث حكى فيهما عن بعض العامة إطلاق القول بأن الامر
بالشئ أمر بما لا يتم إلا به. وقال (2): " إن الصحيح في ذلك التفصيل بأنه إن
كان الذي لا يتم الشئ إلا به سببا، فالامر بالمسبب يجب أن يكون أمرا به. و
إن كان غير سبب، وإنما هو مقدمة للفعل وشرط فيه، لم يجب أن يعقل من مجرد

1 - يقتضي - الف
2 - الذريعة إلى أصول الشريعة، ص 83.
60

الامر أنه أمر به ".
ثم أخذ في الاحتجاج لما صار إليه، وقال في جملته: " إن الامر ورد
في الشريعة على ضربين: أحدهما يقتضي إيجاب الفعل دون مقدماته، كالزكاة
والحج، فإنه لا يجب علينا أن نكتسب المال، ونحصل النصاب، ونتمكن (1) من
الزاد والراحلة. والضرب الآخر يجب فيه مقدمات الفعل كما يجب هو في نفسه (2)،
وهو الصلاة وما جرى مجراها بالنسبة إلى الوضوء. فإذا انقسم الامر في الشرع إلى
قسمين، فكيف نجعلهما قسما واحدا "؟،
وفرق في ذلك بين السبب وغيره، بأنه محال أن يوجب علينا المسبب بشرط
اتفاق وجود السبب، إذ مع وجود السبب لابد من وجود المسبب، إلا أن يمنع
مانع. ومحال أن يكلفنا الفعل بشرط وجود الفعل، بخلاف مقدمات الافعال.
فإنه يجوز أن يكلفنا (3) الصلاة بشرط أن يكون قد تكلفنا الطهارة، كما في الزكاة
والحج. وبنى على هذا في الشافي نقض استدلال المعتزلة لوجوب نصب الإمام
على الرعية، بأن إقامة الحدود واجبة، ولا يتم إلا به.
وهذا كما تراه، ينادي بالمغايرة للمعنى المعروف في كتب الأصول المشهورة
لهذا الأصل. وما اختاره السيد فيه محل تأمل، وليس التعرض لتحقيق حاله هنا
بمهم.
فلنعد إلى البحث في المعنى المعروف، والحجة لحكم السبب فيه: أنه ليس
محل خلاف يعرف، بل ادعى بعضهم فيه الاجماع، وأن القدرة غير حاصلة
مع المسببات فيبعد تعلق التكليف بها وحدها. بل قد قيل إن الوجوب في الحقيقة
لا يتعلق بالمسببات، لعدم تعلق القدرة بها. أما بدون الأسباب فلامتناعها، وأما
معها فلكونها حينئذ لازمة لا يمكن تركها. فحيث ما يرد أمر متعلق ظاهرا
بمسبب فهو بحسب الحقيقة متعلق بالسبب، فالواجب حقيقة هو، وإن كان

1 - أو نتمكن - الف - ب
2 - هو نفسه - الف - ب
3 - تكلفنا - ب
61

في الظاهر وسيلة له.
وهذا الكلام عندي منظور فيه، لان المسببات وإن كانت (1) القدرة لا تتعلق
بها ابتداء (2)، لكنها تتعلق بها بتوسط الأسباب، وهذا القدر كاف في جواز
التكليف بها. ثم إن انضمام الأسباب إليها في التكليف يرفع ذلك الاستبعاد
المدعى في حال الانفراد.
ومن ثم حكى بعض الأصوليين القول بعدم الوجوب فيه أيضا عن بعض.
ولكنه غير معروف.
وعلى كل حال، فالذي أراه: أن البحث في السبب قليل الجدوى، لان
تعلق (3) الامر بالمسبب نادر، وأثر الشك في وجوبه هين.
وأما غير السبب، فالأقرب عندي فيه قول المفصل، لنا: أنه ليس لصيغة
الامر دلالة على إيجابه بواحدة من الثلاث، وهو ظاهر. ولا يمتنع عند العقل
تصريح الآمر بأنه غير واجب، والاعتبار الصحيح بذلك شاهد. ولو كان الامر
مقتضيا لوجوبه لامتنع التصريح بنفيه.
احتجوا: بأنه لو لم يقتض الوجوب في غير السبب أيضا، للزم اما تكليف مالا
يطاق أو خروج الواجب عن كونه واجبا. والتالي بقسميه باطل. بيان الملازمة:
أنه مع انتفاء الوجوب - كما هو المفروض - يجوز تركه. وحينئذ فان بقي ذلك
الواجب واجبا لزم (4) تكليف ما لا يطاق، إذ حصوله حال عدم ما يتوقف عليه
ممتنع. وإن لم يبق واجبا خرج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا. وبيان
بطلان كل من قسمي اللازم ظاهر. وأيضا، فان العقلاء لا يرتابون في ذم تارك
المقدمة مطلقا. وهو دليل الوجوب.
والجواب عن الأول، بعد القطع ببقاء الوجوب، أن المقدور كيف يكون

1 - كان - الف
2 - لا يتعلق - الف تتعلق بها بتوسط - ب.
3 - تعلق - ب
4 - للزم - ب
5 - بيان ليس في - ب
62

ممتنعا؟ والبحث إنما هو في المقدور، وتأثير الايجاب في القدرة غير معقول.
والحكم بجواز الترك هنا عقلي لا شرعي، لان الخطاب به عبث، فلا يقع
من الحكيم. وإطلاق القول فيه يوهم إرادة المعنى الشرعي فينكر. وجواز تحقق
الحكم العقلي هنا دون الشرعي يظهر بالتأمل (1).
وعن الثاني: منع كون الذم على ترك المقدمة، وإنما هو على ترك الفعل
المأمور به، حيث لا ينفك عن تركها.
أصل
الحق أن الامر بالشئ على وجه الايجاب لا يقتضي النهي عن ضده
الخاص لفظا ولا معنى.
وأما العام، فقد يطلق ويراد به أحد الأضداد الوجودية لا بعينه، وهو راجع
إلى الخاص، بل هو عينه في الحقيقة، فلا يقتضي النهي عنه أيضا (2). وقد يطلق و
يراد به الترك. وهذا يدل الامر على النهي عنه بالتضمن.
وقد كثر الخلاف في هذا الأصل، واضطرب كلامهم في بيان محله من المعاني
المذكورة للضد (3)، فمنهم: من جعل النزاع في الضد العام بمعناه المشهور - أعني الترك
- وسكت عن الخاص. ومنهم: من أطلق لفظ الضد ولم يبين المراد منه. ومنهم:
من قال: إن النزاع (4) إنما هو في الضد الخاص. وأما العام بمعنى الترك فلا خلاف
فيه، إذ لو لم يدل الامر بالشئ على النهي عنه، لخرج (5) الواجب عن كونه واجبا.
وعندي في هذا نظر، لان النزاع ليس بمنحصر في إثبات الاقتضاء ونفيه،
ليرتفع في الضد العام باعتبار استلزام نفي الاقتضاء فيه خروج الواجب عن كونه
واجبا، بل الخلاف واقع على القول بالاقتضاء في أنه هل هو عينه أو مستلزمه (6) كما

1 - بالتأمل لأنه حيث - ب
2 - أيضا - ليس في - ب
3 - ضد - الف
4 - قال: النزاع - ب
5 - فخرج - ب
6 - أو يستلزمه - الف
63

ستسمعه. وهذا النزاع ليس ببعيد عن الضد العام، بل هو إليه أقرب.
ثم إن محصل الخلاف هنا: أنه ذهب قوم إلى أن الامر بالشئ عين النهي
عن ضده في المعنى. وآخرون إلى أنه يستلزمه (1)، وهم: بين مطلق للاستلزام (2)، و
مصرح بثبوته لفظا. وفصل بعضهم، فنفى الدلالة لفظا وأثبت اللزوم معنى، مع
تخصيصه لمحل النزاع بالضد الخاص.
لنا على عدم الاقتضاء في الخاص لفظا: أنه لو دل لكانت واحدة
من الثلاث، وكلها منتفية.
أما المطابقة، فلان مفاد الامر لغة وعرفا هو الوجوب، على ما سبق تحقيقه. و
حقيقة الوجوب ليست إلا رجحان الفعل مع المنع من الترك. وليس هذا معنى
النهي عن الضد الخاص ضرورة.
وأما التضمن، فلان جزءه هو المنع من الترك. ولا ريب في مغايرته
للأضداد الوجودية المعبر عنها بالخاص.
وأما الالتزام، فلان شرطها اللزوم العقلي أو العرفي. ونحن نقطع بأن تصور
معنى صيغة الامر لا يحصل منه الانتقال إلى تصور الضد الخاص، فضلا عن
النهي عنه.
ولنا على انتفائه معنى: ما سنبينه، من ضعف متمسك مثبتيه (3)، وعدم قيام
دليل صالح سواه عليه.
ولنا على الاقتضاء في العام بمعنى الترك: ما علم من أن ماهية الوجوب
مركبة من أمرين، أحدهما المنع من الترك. فصيغة الامر الدالة على الوجوب دالة
على النهي عن الترك بالتضمن، وذلك واضح.
احتج (4) الذاهب إلى أنه عين النهي عن الضد: بأنه لو لم يكن نفسه، لكان إما
مثله، أو ضده، أو خلافه، واللازم بأقسامه باطل.

1 - يستلزم - ب
2 - الاستلزم - ب
3 - مثبتيه - ب
4 - واحتج - ب
64

بيان الملازمة: أن كل متغايرين إما أن يكونا متساويين في الصفات
النفسية، أو لا - والمراد بالصفات (1) النفسية: ما لا يفتقر اتصاف الذات بها إلى
تعقل أمر زائد، كالانسانية للانسان. وتقابلها (2) المعنوية المفتقرة إلى تعقل أمر
زائد، كالحدوث والتحيز له - فان تساويا فيها، فمثلان، كسوادين وبياضين. و
إلا، فاما أن يتنافيا بأنفسهما، بأن يمتنع اجتماعهما في محل واحد بالنظر إلى ذاتيهما،
أو لا. فان تنافيا كذلك، فضدان، كالسواد والبياض. وإلا، فخلافان،
كالسواد والحلاوة.
ووجه انتفاء اللازم بأقسامه: أنهما (3) لو كانا ضدين أو مثلين لم يجتمعا في محل
واحد، وهما مجتمعان، ضرورة أنه يتحقق في الحركة الامر بها والنهي
عن السكون الذي هو ضدها. ولو كانا خلافين لجاز اجتماع كل منهما (4) مع ضد
الآخر، لان ذلك حكم الخلافين، كاجتماع السواد - وهو خلاف الحلاوة -
مع الحموضة، فكان يجوز أن يجتمع الامر بالشئ مع ضد النهي عن ضده،
وهو الامر بضده. لكن ذلك محال، إما لأنهما نقيضان، إذ يعد (5) " إفعل هذا " و
" إفعل ضده " أمرا متناقضا، كما يعد (6) " فعله " و " فعل ضده " خبرا متناقضا، و
إما لأنه تكليف بغير الممكن، وأنه محال.
والجواب: إن كان المراد بقولهم: " الامر بالشئ طلب لترك ضده "، على ما
هو حاصل المعنى: أنه طلب لفعل ضد ضده، الذي هو نفس (7) الفعل المأمور به (8)،
فالنزاع لفظي، لرجوعه إلى تسمية فعل المأمور به تركا لضده، وتسمية طلبه نهيا
عنه (9). وطريق ثبوت النقل لغة، ولم يثبت. ولو ثبت فمحصله: أن الامر بالشئ،

1 - بالصفة - الف - ب
2 - يقابلها - الف
3 - انها - ب
4 - كل واحد - ب
5 - تعد - ب
6 - تعد - ب
7 - بنفسه - ب
8 - المأمور تركا - ب
9 - عنه ليس في - ب
65

له عبارة أخرى، كالأحجية، نحو: " أنت وابن أخت خالتك ". ومثله لا يليق
أن يدون في الكتب العلمية.
وإن كان المراد: أنه طلب للكف عن ضده، منعنا ما زعموا: أنه لازم
للخلافين - وهو اجتماع كل مع ضد الآخر - لان الخلافين: قد يكونان
متلازمين، فيستحيل فيهما ذلك، إذ اجتماع أحد المتلازمين مع الشئ يوجب
اجتماع الآخر معه، فيلزم اجتماع كل مع ضده، وهو محال. وقد يكونان ضدين
لأمر واحد، كالنوم للعلم والقدرة، فاجتماع كل مع ضد الآخر يستلزم اجتماع
الضدين.
حجة القائلين بالاستلزام وجهان:
الأول - أن حرمة النقيض جزء من ماهية الوجوب. فاللفظ الدال
على الوجوب يدل على حرمة النقيض بالتضمن. واعتذر بعضهم - عن أخذ المدعى
الاستلزام، واقتضاء الدليل التضمن - بأن الكل يستلزم الجزء. وهو كما ترى.
وأجيب: بأنهم إن أرادوا بالنقيض - الذي هو جزء من ماهية الوجوب -
الترك، فليس من محل النزاع في شئ، إذ لا خلاف في أن الدال على الوجوب
دال على المنع من الترك، وإلا، خرج الواجب عن كونه واجبا. وإن أرادوا
أحد الأضداد الوجودية، فليس بصحيح، إذ مفهوم الوجوب ليس بزائد على
رجحان الفعل مع المنع من الترك، وأين هو من ذاك؟
وأنت إذا أحطت خبرا بما حكيناه في بيان محل النزاع، علمت أن هذا
الجواب لا يخلو عن نظر، لجواز كون الاحتجاج لاثبات كون الاقتضاء على
سبيل الاستلزام في مقابلة من ادعى أنه عين النهي، لا على أصل الاقتضاء.
وما ذكر في الجواب إنما يتم على التقدير الثاني.
فالتحقيق: أن يردد في الجواب بين الاحتمالين، فيتلقى بالقبول على الأول،
مع حمل الاستلزام على التضمن، ويرد بما ذكر في هذا الجواب على الثاني.
الوجه الثاني - أن أمر الايجاب طلب يذم تركه اتفاقا، ولا ذم إلا على فعل،
66

لأنه المقدور، وما هو ههنا إلا الكف عنه أو فعل ضده، وكلاهما ضد للفعل.
والذم بأيهما كان، يستلزم النهي عنه، إذ لا ذم بما لم ينه عنه، لأنه معناه.
والجواب: المنع من أنه لا ذم إلا على فعل، بل يذم على أنه لم يفعل. سلمنا،
لكنا (1) نمنع تعلق الذم بفعل الضد، بل نقول: هو متعلق بالكف، ولا نزاع لنا
في النهي عنه.
واعلم: أن بعض أهل العصر حاول جعل القول بالاستلزام منحصرا
في المعنوي، فقال: التحقيق أن من قال بأن الامر بالشئ يستلزم النهي عن
ضده (2) لا يقول بأنه (3) لازم عقلي له، بمعنى أنه لا بد عند الامر من تعقله وتصوره. بل
المراد باللزوم: العقلي مقابل الشرعي، يعني: أن العقل يحكم بذلك اللزوم، لا
الشرع. قال: " والحاصل: أنه إذا أمر الآمر بفعل، فبصدور ذلك الامر منه يلزم أن
يحرم ضده، والقاضي بذلك هو العقل. فالنهي عن الضد لازم له بهذا المعنى. وهذا
النهي ليس خطابا أصليا حتى يلزم تعقله، بل إنما هو (4) خطاب تبعي، كالأمر
بمقدمة الواجب اللازم من الامر بالواجب، إذ لا يلزم أن يتصوره الآمر ". (5)
هذا كلامه. وأنت إذا تأملت كلام القوم رأيت أن هذا التوجيه إنما يتمشى
في قليل من العبارات التي أطلق فيها الاستلزام. وأما الأكثرون فكلامهم صريح
في إرادة اللزوم باعتبار الدلالة اللفظية. فحكمه على الكل بإرادة المعنى الذي
ذكره تعسف بحت، بل فرية بينة.
واحتج المفصلون على انتفاء الاقتضاء لفظا، بمثل ما ذكرناه في برهان
ما اخترناه، وعلى ثبوته معنى بوجهين.
أحدهما - أن فعل الواجب الذي هو المأمور به لا يتم إلا بترك ضده، وما لا يتم
الواجب إلا به فهو واجب، وحينئذ فيجب ترك فعل الضد الخاص. وهو معنى

1 - لكن - ب
2 - النهي عنه عن ضده - ب
3 - انه - ب
4 - بل هو - ب
5 - يتصور الامر له - ب
67

النهي عنه.
وجوابه يعلم مما سبق آنفا، فإنا نمنع وجوب ما لا يتم الواجب إلا به مطلقا،
بل يختص ذلك بالسبب، وقد تقدم.
والثاني - أن فعل الضد الخاص مستلزم لترك المأمور به، وهو محرم قطعا،
فيحرم الضد أيضا، لان مستلزم المحرم محرم.
والجواب: إن أردتم بالاستلزام: الاقتضاء والعلية، منعنا المقدمة الأولى،
وإن أردتم به مجرد عدم الانفكاك في الوجود الخارجي على سبيل التجوز، منعنا
الأخيرة.
وتنقيح المبحث: أن الملزوم إذا كان علة لللازم لم يبعد كون تحريم اللازم
مقتضيا لتحريم الملزوم، لنحو ما ذكر في توجيه اقتضاء إيجاب المسبب إيجاب
السبب، فان العقل يستبعد تحريم المعلول من دون تحريم العلة. وكذا إذا كانا
معلولين لعلة واحدة، فان انتفاء التحريم في أحد المعلولين يستدعي انتفاءه
في العلة، فيختص المعلول الآخر الذي هو المحرم بالتحريم من دون علته. وأما إذا
انتفت العلية بينهما والاشتراك في العلة (1)، فلا وجه حينئذ لاقتضاء تحريم اللازم
تحريم الملزوم، إذ لا ينكر العقل تحريم أحد أمرين متلازمين اتفاقا، مع عدم تحريم
الآخر.
وقصارى ما يتخيل: أن تضاد الاحكام بأسرها يمنع من اجتماع حكمين
منها في أمرين متلازمين.
ويدفعه: أن المستحيل إنما هو اجتماع الضدين في موضوع واحد. على أن
ذلك لو أثر، لثبت قول الكعبي بانتفاء المباح، لما هو مقرر من أن ترك الحرام
لا بد وأن يتحقق في ضمن فعل من الافعال، ولا ريب في وجوب ذلك الترك،
فلا يجوز أن يكون الفعل المتحقق في ضمنه مباحا، لأنه لازم للترك ويمتنع
اختلاف المتلازمين في الحكم.

1 - والاشتراك العلة - ب
68

وبشاعة هذا القول غير خفية. ولهم في رده وجوه في بعضها تكلف، حيث
ضايقهم القول بوجوب ما لا يتم الواجب إلا به مطلقا، لظنهم أن الترك الواجب
لا يتم إلا في ضمن (1) فعل من الافعال، فيكون واجبا (2) تخييريا.
والتحقيق في رده: أنه مع وجود الصارف عن الحرام، لا يحتاج الترك إلى (3)
شئ من الافعال. وإنما هي من لوازم الوجود، حيث نقول بعدم بقاء الأكوان
واحتياج الباقي إلى المؤثر. وإن قلنا بالبقاء والاستغناء، جاز خلو المكلف من
كل فعل، فلا يكون هناك إلا الترك.
وأما مع انتفاء الصارف وتوقف الامتثال على فعل منها - للعلم بأنه لا
يتحقق الترك ولا يحصل إلا مع فعله (4) - فمن يقول بوجوب (5) ما لا يتم الواجب إلا
به مطلقا، يلتزم (6) بالوجوب في هذا الفرض، ولا ضير فيه، كما أشار إليه بعضهم.
ومن لا يقول به فهو في سعة من هذا وغيره.
إذا (7) تمهد هذا فاعلم: أنه إن كان المراد باستلزام الضد الخاص لترك
المأمور به، أنه لا ينفك عنه، وليس بينهما علية ولا مشاركة في علة، فقد عرفت:
أن القول بتحريم الملزوم حينئذ لتحريم اللازم، لا وجه له. وإن كان المراد أنه
علة فيه ومقتض له، فهو ممنوع، لما هو بين، من أن العلة في الترك المذكور إنما
هي وجود الصارف عن فعل المأمور به وعدم الداعي إليه، وذلك مستمر مع فعل
الأضداد الخاصة، فلا يتصور صدورها ممن جمع شرائط التكليف مع انتفاء
الصارف، إلا على سبيل الالجاء، والتكليف معه ساقط.
وهكذا القول بتقدير أن يراد بالاستلزام اشتراكهما في العلة، فإنه ممنوع
أيضا، لظهور أن الصارف الذي هو العلة في الترك ليس علة لفعل الضد. نعم هو
مع إرادة الضد من جملة ما يتوقف عليه فعل الضد، فإذا كان واجبا كانا مما

1 - ليس في - ب - ج
2 - فتكون واجبة - الف
3 - على شئ - ب
4 - مع فعل - ب
5 - بوجود - ب
6 - التزم - ب
7 - وإذا - الف
69

لا يتم الواجب إلا به.
وإذ قد أثبتنا سابقا عدم وجوب غير السبب من مقدمة الواجب، فلا حكم
فيهما بواسطة ما هما مقدمة له، لكن الصارف باعتبار اقتضائه ترك المأمور به،
يكون منهيا عنه، كما قد عرفت (1). فإذا أتى به المكلف عوقب عليه من تلك الجهة. و
ذلك لا ينافي التوصل به إلى الواجب، فيحصل، ويصح الاتيان بالواجب الذي
هو أحد الأضداد (2) الخاصة. ويكون النهي متعلقا بتلك المقدمة ومعلولها، لا بالضد
المصاحب للمعلول.
وحيث رجع حاصل البحث هيهنا (3) إلى البناء على وجوب ما لا يتم الواجب
إلا به وعدمه، فلو رام الخصم التعلق بما نبهنا عليه، بعد تقريبه بنوع من التوجيه،
كأن يقال: " لو لم يكن الضد منهيا عنه، لصح فعله وإن كان واجبا موسعا.
لكنه لا يصح في الواجب الموسع، لان فعل الضد يتوقف على وجود الصارف
عن الفعل المأمور به، وهو محرم قطعا. فلو صح مع ذلك فعل الواجب الموسع، لكان
هذا الصارف واجبا باعتبار كونه مما لا يتم الواجب إلا به. فيلزم اجتماع
الوجوب (4) والتحريم في أمر واحد شخصي، ولا ريب في بطلانه " لدفعناه، بأن
صحة البناء على وجوب ما لا يتم الواجب إلا به، تقتضي (5) تمامية الوجه الأول
من الحجة، فلا يحتاج إلى هذا الوجه الطويل.
على أن الذي يقتضيه التدبر، في وجوب ما لا يتم الواجب إلا به مطلقا،
على (6) القول به، أنه ليس على حد غيره من الواجبات. وإلا لكان اللازم - في نحو ما
إذا وجب الحج على النائي فقطع المسافة أو بعضها على وجه منهي عنه - أن لا
يحصل الامتثال حينئذ، فيجب عليه إعادة السعي بوجه سائغ، لعدم صلاحية
الفعل المنهي عنه للامتثال، كما سيأتي بيانه. وهم لا يقولون بوجوب الإعادة

1 - كما عرضت - ب
2 - أضداد - ب
3 - هنا - ب
4 - الواجب - الف
5 - يقتضي - الف
6 - به على - ب
70

قطعا، فعلم أن الوجوب فيها إنما هو للتوصل بها إلى الواجب. ولا ريب أنه
بعد الاتيان بالفعل المنهي عنه يحصل التوصل، فيسقط الوجوب، لانتفاء غايته.
إذا عرفت ذلك (1)، فنقول: الواجب الموسع كالصلاة مثلا يتوقف حصوله -
بحيث يتحقق به الامتثال - على إرادته وكراهة ضده، فإذا قلنا بوجوب ما يتوقف
عليه الواجب كانت تلك الإرادة وهاتيك الكراهة واجبتين، فلا يجوز تعلق
الكراهة بالضد الواجب، لان كراهته محرمة، فيجتمع حينئذ الوجوب والتحريم
في شئ واحد شخصي. وهو باطل، كما سيجئ.
لكن قد عرفت: أن الوجوب في مثله إنما هو للتوصل إلى ما لا يتم الواجب (2)
إلا به. فإذا فرض أن المكلف عصى وكره ضدا واجبا، حصل له التوصل إلى
المطلوب، فيسقط ذلك الوجوب، لفوات الغرض منه، كما علم من مثال الحج.
ومن هنا يتجه أن يقال بعدم اقتضاء الامر للنهي (3) عن الضد الخاص، وإن
قلنا بوجوب ما لا يتم الواجب إلا به، إذ كون وجوبه للتوصل يقتضي اختصاصه
بحالة إمكانه، ولا ريب أنه، مع وجود الصارف عن (4) الفعل الواجب وعدم
الداعي، لا يمكن التوصل، فلا معنى لوجوب المقدمة حينئذ. وقد علمت أن
وجود الصارف وعدم الداعي مستمران مع الأضداد الخاصة.
وأيضا: فحجة القول بوجوب المقدمة - على تقدير تسليمها - إنما ينهض دليلا
على الوجوب في (5) حال كون المكلف مريدا للفعل المتوقف عليها، كما لا يخفى على
من أعطاها حق النظر، وحينئذ فاللازم عدم وجوب ترك الضد (6) الخاص في حال
عدم إرادة الفعل المتوقف عليه من حيث كونه مقدمة له، فلا يتم الاستناد
في الحكم بالاقتضاء إليه. وعليك بامعان النظر في هذه (7) المباحث، فاني لا أعلم

1 - هذا - ب
2 - الواجب ليس في - ب
3 - النهي - ب
4 - من - ب
5 - هو - ج
6 - ضد - ب
7 - هذا - ب
71

أحدا حام حولها.
أصل
المشهور بين أصحابنا أن الامر بالشيئين أو الأشياء على وجه التخيير يقتضي
إيجاب الجميع، لكن تخييرا، بمعنى أنه لا يجب الجميع، ولا يجوز الاخلال
بالجميع، وأيها فعل كان واجبا بالأصالة. وهو اختيار جمهور المعتزلة.
وقالت الأشاعرة: الواجب واحد لا بعينه، ويتعين بفعل المكلف.
قال العلامة (1) - رحمه الله - ونعم (2) ما قال: " الظاهر أنه لا خلاف بين
القولين في المعنى، لان المراد بوجوب الكل على البدل أنه لا يجوز للمكلف
الاخلال بها أجمع، ولا يلزمه (3) الجمع بينها، وله الخيار في تعيين أيها شاء.
والقائلون بوجوب واحد لا بعينه عنوا به هذا، فلا خلاف (4) معنوي بينهم. نعم
هاهنا مذهب تبرأ كل واحد من المعتزلة والأشاعرة منه ونسبه كل منهم (5) إلى
صاحبه واتفقا على فساده، وهو: أن الواجب واحد معين عند الله تعالى غير
معين عندنا، إلا ان الله تعالى يعلم أن ما يختاره (6) المكلف هو ذلك المعين (7) عنده
تعالى.
ثم إنه أطال الكلام في البحث (8) عن هذا القول. وحيث كان بهذه المثابة فلا
فائدة لنا مهمة في إطالة (9) القول في توجيهه ورده. ولقد أحسن المحقق - رحمه الله -
حيث قال (10) بعد نقل الخلاف في هذه المسألة: " وليست المسألة كثيرة الفائدة ".

1 - نهاية الأصول - ورقه 66، ص، س 3 (خطى)
2 - نعم - ب
3 - لا يلزم - ب
4 - إذ لا خلاف - ج
5 - منهما - ب
6 - يختار المكلف - ب
7 - ذلك المتعين - ب
8 - البحث في الكلام - ب
9 - في القول - الف
10 - معارج الأصول، ص 72.
72

أصل
الامر بالفعل في وقت يفضل عنه جائز عقلا، واقع (1) على الأصح. ويعبر عنه
بالواجب الموسع، كصلاة الظهر مثلا. وبه قال أكثر الأصحاب، كالمرتضى،
والشيخ، والمحقق، والعلامة، وجمهور المحققين من العامة.
وأنكر ذلك قوم، لظنهم أنه (2) يؤدي إلى جواز ترك الواجب. ثم إنهم افترقوا
على ثلاثة مذاهب.
أحدها: أن الوجوب، فيما ورد من الأوامر التي ظاهرها ذلك، مختص بأول
الوقت. وهو الظاهر من كلام المفيد - رحمه الله على ما ذكره العلامة.
وثانيها: أنه مختص بآخر الوقت، ولكن لو فعل في أوله (3) كان جاريا مجرى
تقديم الزكاة، فيكون نفلا يسقط به الفرض.
وثالثها: أنه مختص بالآخر، وإذا فعل في الأول وقع مراعى، فان بقي
المكلف على صفات التكليف تبين أن ما أتى به كان (4) واجبا، وإن خرج عن
صفات المكلفين كان نفلا. وهذان القولان لم يذهب إليهما أحد من طائفتنا، و
إنما هما لبعض العامة.
والحق تساوي جميع أجزاء الوقت في الوجوب، بمعنى أن للمكلف الاتيان به
في أول الوقت، ووسطه، وآخره، وفي أي جزء أتفق إيقاعه كان واجبا
بالأصالة، من غير فرق بين بقائه على صفة التكليف، وعدمه. ففي الحقيقة يكون
راجعا إلى الواجب المخير.
وهل يجب البدل؟ وهو العزم على أداء الفعل في ثاني الحال، إذا أخره عن
أول الوقت ووسطه. قال السيد المرتضى (5): نعم. واختاره الشيخ - رحمه الله -

1 - جائز واقع - ب - الف
2 - ذلك يؤدي - ب
3 - وقع في الأول - الف
4 - لكان - ب
5 - الذريعة إلى أصول الشريعة، ص 147.
73

على ما حكاه المحقق عنه (1)، وتبعهما السيد أبو المكارم ابن زهرة، والقاضي
سعد الدين بن البراج (2)، وجماعة من المعتزلة. والأكثرون على عدم الوجوب، ومنهم
المحقق (3) والعلامة (4) - رحمهما الله - وهو الأقرب.
فيحصل مما اخترناه في المقام دعويان.
لنا على الأولى منهما: أن الوجوب مستفاد من الامر، وهو مقيد بجميع
الوقت. لان الكلام فيما هو كذلك. وليس المراد تطبيق أجزاء الفعل على أجزاء
الوقت، بأن يكون الجزء (5) الأول من الفعل منطبقا على الجزء الأول من الوقت،
والأخير على الأخير، فان ذلك باطل إجماعا. ولا تكراره في أجزائه، بأن يأتي
بالفعل في كل جزء يسعه من أجزاء الوقت. وليس في الامر تعرض لتخصيصه
بأول الوقت أو آخره ولا بجزء من أجزائه (6) المعينة قطعا، بل ظاهره ينفي التخصيص
ضرورة دلالته على تساوي نسبة الفعل إلى أجزاء الوقت. فيكون القول
بالتخصيص بالأول أو الآخر (7) تحكما باطلا. وتعين (8) القول بوجوبه على التخيير في
أجزاء الوقت. ففي أي جزء (9) أداه فقد أداه في وقته.
وأيضا: لو كان الوجوب مختصا بجزء معين، فان كان آخر الوقت، كان
المصلى للظهر مثلا في غيره مقدما لصلاته على الوقت، فلا تصح، كما لو صلاها (10)
قبل الزوال. وإن كان أوله، كان المصلي في غيره قاضيا، فيكون بتأخيره (11) له عن
وقته عاصيا، كما لو أخر إلى وقت العصر، وهما خلاف الاجماع.
ولنا على الثانية: أن الامر ورد بالفعل، وليس فيه تعرض للتخيير بينه و

1 - معارج الأصول، ص 74.
2 - بن براج - ب
3 - معارج الأصول، ص 74.
4 - نهاية الأصول، ورقه 70، ص 1.
5 - يكون جزء - ب
6 - اجزاء - ب
7 - والآخر - الف
8 - فتعين - ب
9 - ففي أي وقت - ب
10 - صلاها - ب
11 - تأخيره - ب
74

بين العزم، بل ظاهره ينفي التخيير، ضرورة كونه دالا على وجوب الفعل بعينه.
ولم يقم على وجوب العزم دليل غيره، فيكون القول به أيضا تحكما، كتخصيص
الوجوب بجزء معين.
احتجوا لوجوب العزم: بأنه لو جاز ترك الفعل في أول الوقت أو وسطه، من
غير بدل، لم ينفصل عن المندوب، فلابد من إيجاب البدل ليحصل التمييز بينهما.
وحيث يجب، فليس هو غير العزم، للاجماع على عدم بدلية غيره. وبأنه ثبت
في الفعل والعزم حكم خصال الكفارة، وهو أنه لو أتى بأحدهما أجزأ، ولو أخل
بهما عصى، وذلك معنى وجوب أحدهما، فيثبت.
والجواب عن الأول: أن الانفصال عن المندوب ظاهر مما مر، فإن أجزاء
الوقت في الواجب الموسع باعتبار تعلق الامر بكل واحد منها على سبيل التخيير
تجري مجرى (1) الواجب المخير. ففي أي جزء اتفق إيقاع الفعل فهو قائم مقام إيقاعه
في الاجزاء البواقي. فكما أن حصول الامتثال في المخير بفعل واحدة من الخصال لا
يخرج ما عداها عن وصف الوجوب التخييري، كذلك إيقاع الفعل في الجزء
الأوسط أو الأخير من الوقت في الموسع لا يخرج (2) إيقاعه في الأول منه مثلا عن
وصف الوجوب الموسع، وذلك ظاهر. بخلاف المندوب، فإنه لا يقوم مقامه حيث
يترك شئ. وهذا كاف في الانفصال.
وعن الثاني: أنا (3) نقطع بأن الفاعل للصلاة مثلا ممتثل باعتبار كونها صلاة
بخصوصها، لا لكونها أحد الامرين الواجبين تخييرا، أعني: الفعل والعزم، فلو
كان ثمة تخيير بينهما، لكان الامتثال بها من حيث إنها أحدهما، على ما هو مقرر (4)
في الواجب التخييري. وأيضا، فالاثم الحاصل على الاخلال بالعزم - على تقدير
تسليمه - ليس لكون المكلف مخيرا بينه وبين الصلاة، حتى يكونا كخصال
الكفارة، بل لان العزم (5) على فعل كل واجب - إجمالا، حيث يكون الالتفات إليه

1 - مجر - ب
2 - لا يخرجه - الف
3 - بانا - ب
4 - ليس في - ب
5 - لان حكم العزم - ب
75

بطريق الاجمال، وتفصيلا عند كونه متذكرا له بخصوصه - حكم من أحكام
الايمان يثبت مع ثبوت الايمان، سواء دخل وقت الواجب أو لم يدخل، فهو
واجب مستمر عند الالتفات إلى الواجبات إجمالا أو تفصيلا (1). فليس وجوبه على
سبيل التخيير بينه وبين الصلاة.
واعلم: أن بعض الأصحاب توقف في وجوب العزم، على الوجه الذي ذكر.
وله وجه، وإن كان الحكم به متكررا في كلامهم. وربما استدل له (2) بتحريم
العزم على ترك الواجب، لكونه عزما على الحرام، فيجب العزم على الفعل، لعدم
انفكاك المكلف من هذين العزمين، حيث لا يكون غافلا، ومع الغفلة لا يكون
مكلفا. وهو كما ترى.
حجة من خص الوجوب بأول الوقت: أن الفضلة في الوقت ممتنعة، لأدائها
إلى جواز ترك الواجب، فيخرج عن (3) كونه واجبا. وحينئذ فاللازم صرف الامر
إلى جزء معين من الوقت، فإما الأول أو الأخير، لانتفاء القول بالواسطة. ولو (4)
كان هو الأخير، لما خرج عن العهدة بأدائه في الأول. وهو باطل إجماعا، فتعين
أن يكون هو الأول.
والجواب: أما عن امتناع الفضلة (5) في الوقت، فقد اتضح مما حققناه آنفا (6)، فلا
نطيل بإعادته. وأما عن تخصيص الوجوب بالأول، فبأنه لو تم لما جاز تأخيره
عنه، وهو باطل أيضا، كما تقدمت الإشارة إليه.
واحتج (7) من علق الوجوب بآخر الوقت: بأنه لو كان واجبا في الأول لعصى
بتأخيره، لأنه ترك للواجب، وهو الفعل في الأول، لكن التالي باطل بالاجماع،
فكذا المقدم.

1 - وتفصيلا - ب
2 - له ليس في - ب
3 - من كونه - ب
4 - فلو - ب
5 - الفضيلة - ب
6 - آنفا ليس في ب -
7 - احتج - الف
76

وجوابه: منع الملازمة، والسند ظاهر مما تقدم، فان اللزوم المدعى إنما يتم لو
كان الفعل في الأول واجبا على التعيين. وليس كذلك، بل وجوبه على سبيل
التخيير. وذلك أن الله تعالى أوجب عليه إيقاع الفعل في ذلك الوقت، ومنعه
من إخلائه عنه، وسوغ له الاتيان به في أي جزء شاء منه. فان اختار المكلف
إيقاعه في أوله أو وسطه أو آخره، فقد فعل الواجب.
وكما أن جميع الخصال في الواجب المخير يتصف بالوجوب، على معنى أنه لا
يجوز الاخلال بالجميع ولا يجب الاتيان بالجميع، بل للمكلف اختيار ما شاء
منها، فكذا هنا (1) لا يجب عليه إيقاع الفعل في الجميع، ولا يجوز له إخلاء الجميع
عنه. والتعيين مفوض إليه ما دام الوقت متسعا، فإذا تضيق تعين عليه الفعل.
وينبغي أن يعلم: أن بين التخيير في الموضعين فرقا، من حيث أن متعلقه
في الخصال الجزئيات المتخالفة الحقائق، وفيما نحن فيه الجزئيات المتفقة (2) الحقيقة،
فان الصلاة المؤداة مثلا في جزء من أجزاء الوقت مثل المؤداة في كل جزء من
الاجزاء الباقية، والمكلف مخير بين هذه الأشخاص المتخالفة بتشخصاتها،
المتماثلة بالحقيقة. وقيل: بل الفرق أن التخيير هناك بين جزئيات الفعل
وههنا في أجزاء الوقت. والامر سهل.
أصل
الحق أن تعليق الامر بل مطلق الحكم على شرط، يدل على انتفائه عند
انتفاء الشرط. وهو مختار أكثر المحققين، ومنهم (3) الفاضلان.
وذهب السيد المرتضى (4) إلى أنه لا يدل إلا بدليل منفصل. وتبعه ابن زهرة.
وهو قول جماعة من العامة.
لنا: أن قول القائل: " أعط زيدا درهما إن أكرمك "، يجري في العرف مجرى

1 - هناك - ب
2 - المتفقة - الف - خ - المتخالفه متن
3 - ومنها - الف
4 - الذريعة إلى أصول الشريعة، ص 406.
77

قولنا: " الشرط في إعطائه إكرامك ". والمتبادر من هذا انتفاء الاعطاء عند
انتفاء الاكرام قطعا، بحيث (1) لا يكاد ينكر عند مراجعة الوجدان، فيكون الأول
أيضا هكذا. وإذا ثبت الدلالة على هذا المعنى عرفا، ضممنا إلى ذلك مقدمة
أخرى، سبق التنبيه عليها، وهي أصالة عدم النقل، فيكون كذلك لغة.
احتج السيد - رحمه الله - (2) بأن الشرط هو تعليق الحكم به، وليس يمتنع (3) أن
يخلفه وينوب منابه شرط آخر يجري (4) مجراه، ولا يخرج عن أن يكون شرطا الا ترى
أن قوله تعالى: " واستشهدوا شهيدين من رجالكم " (5) يمنع من قبول الشاهد
الواحد حتى ينضم إليه آخر؟ فانضمام الثاني إلى الأول شرط في القبول. ثم
نعلم أن ضم امرأتين إلى الشاهد الأول يقوم مقام الثاني. ثم نعلم بدليل، أن
ضم اليمين إلى الواحد يقوم مقامه أيضا. فنيابة بعض الشروط عن بعض أكثر من
أن تحصى.
واحتج موافقوه مع ذلك -: بأنه لو كان انتفاء الشرط مقتضيا لانتفاء ما
علق عليه، لكان قوله تعالى: " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن
تحصنا " (6) دالا على عدم تحريم الاكراه، حيث لا يردن التحصن، وليس كذلك
، بل هو حرام مطلقا.
والجواب عن الأول: أنه، إذا علم وجود ما يقوم مقامه، كما في المثال الذي
ذكره، لم يكن ذلك الشرط وحده شرطا. بل الشرط حينئذ أحدهما، فيتوقف
انتفاء المشروط على انتفائهما معا، لان مفهوم أحدهما لا يعدم إلا بعدمهما. وإن
لم يعلم له بدل، كما هو مفروض المبحث (7)، كان الحكم مختصا به، ولزم من
عدمه عدم المشروط، للدليل الذي ذكرناه.

1 - بل بحيث - ج
2 - ره - الف
3 - هو يمتنع - ج.
4 - شرط يجري - ب أخرى - الف
5 - سورة البقرة، 282.
6 - سورة النور، 33.
7 - البحث - ب
78

وعن الثاني بوجوه: أحدها - أن ظاهر الآية يقتضي عدم تحريم الاكراه إذا لم
يردن التحصن، لكن لا يلزم من عدم الحرمة ثبوت الإباحة، إذ انتفاء الحرمة قد
يكون بطريان الحل، وقد يكون لامتناع وجود متعلقها عقلا، لان السالبة تصدق (1)
بانتفاء المحمول تارة وبعدم الموضوع أخرى. والموضوع هنا منتف، لأنهن إذا لم
يردن التحصن فقد أردن البغاء ومع إرادتهن البغاء يمتنع إكراههن عليه، فان
الاكراه هو حمل الغير على ما يكرهه. فحيث لا يكون كارها يمتنع تحقق الاكراه.
فلا يتعلق به الحرمة.
وثانيها - أن التعليق بالشرط إنما يقتضي (2) انتفاء الحكم عند انتفائه، إذا (3) لم
يظهر للشرط فائدة أخرى. ويجوز أن يكون فائدته في الآية، المبالغة في النهي عن
الاكراه، يعنى أنهن إذا أردن العفة، فالمولى أحق بإرادتها. أو أن الآية نزلت
فيمن يردن التحصن ويكرههن الموالي (5) على الزنا.
وثالثها - أنا سلمنا أن الآية تدل على انتفاء حرمة الاكراه بحسب الظاهر
نظرا إلى الشرط، لكن الاجماع القاطع عارضه. ولا ريب أن الظاهر يدفع
بالقاطع.
أصل
واختلفوا في اقتضاء التعليق على الصفة نفي الحكم عند انتفائها. فأثبته قوم،
وهو الظاهر من كلام الشيخ. وجنح إليه الشهيد في الذكرى. ونفاه السيد (6)،
والمحقق (7)، والعلامة (8)، وكثير من الناس، وهو الأقرب.
لنا: أنه لو دل، لكانت إحدى (9) الثلاث. وهي بأسرها منتفية. أما الملازمة

1 - يصدق - الف
2 - يقضي - الف
3 - إذ - الف
4 - أو ان - الف
5 - المولى - الف - ب
6 - الذريعة إلى أصول الشريعة، ص 396.
7 - معارج الأصول، ص 70.
8 - نهاية الأصول، ورقه 63، ص 2.
9 - بإحدى - ب
79

فبينة. وأما انتفاء اللازم فظاهر بالنسبة إلى المطابقة والتضمن، إذ نفي الحكم
عن غير محل الوصف ليس عين إثباته فيه ولا جزءه، ولأنه لو كان كذلك،
لكانت الدلالة بالمنطوق لا بالمفهوم، والخصم معترف بفساده (1). وأما بالنسبة إلى
الالتزام، فلانه لا ملازمة في الذهن ولا في العرف، بين ثبوت الحكم عند صفة،
كوجوب الزكاة في السائمة مثلا، وانتفائه عند أخرى، كعدم وجوبها في المعلوفة.
احتجوا: بأنه، لو ثبت الحكم مع انتفاء الصفة، لعرى تعليقه عليها
عن الفائدة، وجرى مجرى قولك: " الانسان الأبيض لا يعلم الغيوب، والأسود
إذا نام لا يبصر ".
والجواب: المنع من الملازمة، فان الفائدة غير منحصرة فيما ذكرتموه، بل
هي كثيرة:
منها شدة الاهتمام ببيان حكم محل الوصف، إما لاحتياج السامع إلى
بيانه، كأنه يكون مالكا للسائمة مثلا دون غيرها، أو لدفع توهم عدم تناول
الحكم له، كما في قوله تعالى: " ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق " (2)، فإنه
لولا التصريح بالخشية لأمكن أن يتوهم جواز القتل معها، فدل بذكرها على
ثبوت التحريم عندها أيضا.
ومنها أن تكون المصلحة مقتضية لاعلامه حكم الصفة بالنص وما عداها
بالبحث والفحص.
ومنها وقوع السؤال عن محل الوصف دون غيره (3)، فيجاب على طبقه، أو تقدم
بيان حكم الغير لنحو هذا من قبل.
واعترض: بأن الخصم إنما يقول باقتضاء التخصيص بالوصف نفي الحكم
عن غير محله، إذا لم يظهر للتخصيص فائدة سواه، فحيث (4) يتحقق ما ذكرتموه
من الفوائد، لا يبقى من محل النزاع في شئ.

1 - بالفساد - ب
2 - سورة الإسراء، 31.
3 - غير - الف
4 - فحيثما - ب
80

وجوابه: أن المدعى عدم وجدان صورة لا تحتمل (1) فائدة من تلك الفوائد، و
ذلك كاف في الاستغناء عن اقتضاء النفي الذي صرتم إليه، صونا لكلام البلغاء
عن التخصيص لا لفائدة، إذ مع احتمال فائدة منها يحصل الصون ويتأدى مالا
بد في الحكمة منه، فيحتاج إثبات ما سواه إلى دليل. وأما تمثيلهم في الحجة
بالأبيض والأسود (2)، فلا نسلم أن المقتضي لاستهجانه هو عدم انتفاء الحكم فيه
عند عدم الوصف، وإنما هو كونه بيانا للواضحات.
أصل
والأصح أن التقييد بالغاية يدل على مخالفة ما بعدها لما قبلها، وفاقا
لأكثر المحققين. وخالف في ذلك السيد - رضي الله عنه - فقال: " تعليق الحكم
بغاية، إنما يدل على ثبوته إلى تلك (3) الغاية، وما بعدها يعلم انتفائه أو إثباته (4)
بدليل " (5). ووافقه على هذا بعض العامة.
لنا: أن قول القائل: " صوموا إلى الليل "، معناه: آخر وجوب الصوم مجيئ
الليل. فلو فرض ثبوت الوجوب بعد مجيئه، لم يكن الليل آخرا، وهو خلاف
المنطوق.
واحتج (6) السيد - رضي الله عنه - (7) بنحو ما سبق في الاحتجاج على نفي دلالة
التخصيص بالوصف، حتى أنه قال: " من فرق بين تعليق الحكم بصفة و
تعليقه بغاية، ليس (8) معه إلا الدعوى. وهو كالمناقض، لفرقه بين أمرين لا فرق
بينهما، فان قال (9): فأي معنى لقوله تعالى: " ثم أتموا الصيام إلى الليل " (10) إذا كان

1 - لا يحتمل - الف - ب
2 - بالأسود - ب
3 - الذريعة إلى أصول الشريعة، ص 407.
4 - على ذلك - الف
5 - واثباته - ب
6 - واحتج - الف
7 - ره - الف
8 - فليس - ب
9 - فان قيل - ب
10 - سورة البقرة، 187.
81

ما بعد الليل يجوز أن يكون فيه صوم؟ قلنا: وأي معنى لقوله عليه السلام: " في
سائمة الغنم زكاة " (1 - 2) والمعلوفة مثلها. فان قيل: لا يمتنع أن تكون (3) المصلحة في أن
يعلم ثبوت الزكاة في السائمة بهذا النص، ويعلم ثبوتها في المعلوفة بدليل آخر. قلنا:
لا يمتنع فيما علق بغاية، حرفا بحرف ".
والجواب: المنع من مساواته للتعليق بالصفة، فان اللزوم هنا ظاهر، إذ لا
ينفك تصور الصوم المقيد بكون آخره الليل، مثلا، عن عدمه في الليل، بخلافه
هناك، كما علمت. ومبالغة السيد - رحمه الله - في التسوية بينهما لا وجه لها.
والتحقيق (4) ما ذكره بعض الأفاضل، من أنه أقوى دلالة من التعليق
بالشرط. ولهذا قال بدلالته كل من قال بدلالة الشرط (5) وبعض من لم يقل بها.
أصل
قال أكثر مخالفينا: إن الامر بالفعل المشروط جائز، وإن علم الآمر انتفاء
شرطه. وربما تعدى بعض متأخريهم، فأجازه، وإن علم المأمور أيضا، مع نقل
كثير منهم (6) الاتفاق على منعه.
وشرط أصحابنا في جوازه مع انتفاء الشرط، كون الآمر جاهلا بالانتفاء،
كأن يأمر السيد عبده بالفعل في غد، مثلا، ويتفق موته قبله. فان الامر هنا
جائز، باعتبار عدم العلم بانتفاء الشرط، ويكون مشروطا ببقاء العبد إلى الوقت
المعين. وأما مع علم الآمر، كأمر الله تعالى زيدا بصوم غد، وهو يعلم (7) موته فيه،
فليس بجائز.
وهو الحق. لكن لا يعجبني الترجمة عن البحث بما ترى، وإن تكثر إيرادها في

1 - الزكاة - الف - ج
2 - نهاية ابن الأثير، ج 2، ص 426.
3 - يكون - الف - ج
4 - بل التحقيق -
5 - قال بالشرط - الف
6 - كثيرهم - الف
7 - أو هو يعلم - ب
82

كتب القوم، وسيظهر لك سر ما قلته وإنما لم أعدل عنها ابتداء قصدا إلى
مطابقة دليل الخصم لما عنون به الدعوى، حيث جعله على الوجه الذي حكيناه.
ولقد أجاد علم الهدى، حيث تنحى عن هذا المسلك، وأحسن التأدية عن
أصل المطلب!. فقال (1): " وفى الفقهاء والمتكلمين من يجوز أن يأمر الله تعالى
بشرط أن لا يمنع المكلف من الفعل، أو بشرط أن يقدره. ويزعمون: أنه يكون
مأمورا بذلك مع المنع. وهذا غلط، لان الشرط (2) إنما يحسن فيمن لا يعلم العواقب
ولا طريق له إلى علمها، فأما العالم بالعواقب وبأحوال المكلف (3)، فلا يجوز أن
يأمره بشرط ".
قال: " والذي يبين ذلك أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم - لو أعلمنا أن
زيدا لا يتمكن من الفعل في وقت مخصوص، قبح منا أن نأمره بذلك لا محالة (4). وإنما
حسن دخول الشرط فيمن نأمره فقد علمنا بصفته (5) في المستقبل. ألا ترى أنه لا
يجوز الشرط فيما يصح فيه العلم ولنا إليه طريق نحو حسن الفعل، لأنه مما يصح
أن نعلمه، وكون المأمور متمكنا لا يصح أن نعلمه عقلا، فإذا فقد الخبر، فلا بد
من الشرط، ولابد من أن يكون أحدنا في أمره يحصل في حكم الظان لتمكن من
يأمره بالفعل مستقبلا، ويكون الظن في ذلك قائما مقام العلم. وقد ثبت أن
الظن يقوم مقام العلم إذا تعذر العلم. فأما مع حصوله، فلا يقوم مقامه. وإذا
كان القديم (6) تعالى عالما بتمكن من يتمكن، وجب أن يوجه الامر نحوه، دون من
يعلم أنه لا يتمكن. فالرسول - صلى الله عليه وآله - حاله كحالنا إذا أعلمنا الله
تعالى حال من نأمره، فعند ذلك نأمر بلا شرط ".
قلت: هذه الجملة التي أفادها السيد - قدس الله نفسه - (7) كافية في تحرير

1 - الذريعة إلى أصول الشريعة، ص 163.
2 - الشروط - الف
3 - المكلفين - ب
4 - بشرط لا محالة - ب
5 - صفته - خ ل - ج
6 - القديم - ليس في - ب
7 - قدس سره - الف قدس الله روحه - ب
83

المقام، وافية باثبات المذهب المختار، فلا غرو إن نقلناها بطولها، واكتفينا بها عن
إعادة الاحتجاج على ما صرنا إليه.
احتج (1) المجوزون بوجوه: الأول لو لم يصح التكليف بما علم عدم شرطه، لم
يعص أحد، واللازم باطل بالضرورة من الدين. وبيان الملازمة: أن كل ما لم
يقع، فقد انتفى شرط من شروطه، وأقلها إرادة المكلف له، فلا (2) تكليف به، فلا
معصية.
الثاني لو لم يصح، لم يعلم أحد انه (3) مكلف. واللازم باطل. أما الملازمة،
فلانه مع الفعل، وبعده ينقطع التكليف، وقبله لا يعلم، لجواز أن لا يوجد شرط
من شروطه فلا يكون مكلفا.
لا يقال: قد يحصل (4) له العلم قبل الفعل إذا كان الوقت متسعا، واجتمعت
الشرائط عند دخول الوقت. وذلك كاف في تحقق التكليف.
لأنا نقول: نحن نفرض الوقت المتسع زمنا زمنا، ونردد في كل جزء جزء،
فإنه مع الفعل فيه، وبعده ينقطع، وقبل الفعل يجوز أن لا يبقى بصفة التكليف
في الجزء الآخر، فلا يعلم حصول الشرط الذي هو بقاؤه بالصفة فيه، فلا يعلم
التكليف. وأما بطلان اللازم فبالضرورة.
الثالث لو لم يصح، لم يعلم إبراهيم - عليه السلام - وجوب ذبح ولده، لانتفاء
شرطه عند وقته - وهو عدم النسخ - وقد علمه وإلا لم يقدم على ذبح ولده ولم
يحتج إلى فداء.
الرابع كما أن الامر يحسن لمصالح تنشأ (5) من المأمور به، كذلك يحسن لمصالح
تنشأ من نفس الامر. وموضع النزاع من هذا القبيل، فان المكلف من حيث
عدم علمه بامتناع فعل المأمور به، ربما يوطن نفسه على الامتثال، فيحصل له

1 - احتجوا - الف
2 - المكلف فلا - ب
3 - لم يعلم أنه - ب
4 - قد يحصل - ليس في - ب
5 - ينشأ - الف
84

بذلك لطف في الآخرة وفي الدنيا، لانزجاره عن القبيح. ألا ترى: أن السيد قد
يستصلح بعض عبيده بأوامر ينجزها (2) عليه، مع عزمه على نسخها، امتحانا له.
والانسان قد يقول لغيره: " وكلتك في بيع عبدي " مثلا، مع علمه بأنه سيعزله،
إذا كان غرضه استمالة الوكيل أو امتحانه في أمر العبد.
والجواب عن الأول: ظاهر مما حققه السيد - رحمه الله -، إذ ليس نزاعنا في
مطلق شرط الوقوع، وإنما هو في الشرط الذي يتوقف عليه تمكن المكلف شرعا و
قدرته على امتثال الامر. وليست الإرادة منه قطعا، والملازمة إنما تتم بتقدير
كونها منه. وحينئذ فتوجه المنع عليها جلي. (3)
وعن الثاني: المنع من بطلان اللازم. وادعاء الضرورة فيه مكابرة وبهتان.
وقد ذكر السيد - رضي الله - في تتمة تنقيح المقام ما يتضح به سند هذا المنع،
فقال: " ولهذا نذهب (4) إلى أنه لا يعلم بأنه مأمور بالفعل إلا بعد تقضي الوقت
وخروجه، فيعلم أنه كان مأمورا به. وليس يجب، إذا لم يعلم قطعا أنه مأمور،
أن يسقط عنه وجوب التحرز. لأنه إذا جاء وقت الفعل، وهو صحيح سليم،
وهذه أمارة يغلب معها الظن ببقائه، فوجب أن يتحرز من ترك الفعل والتقصير
فيه. ولا يتحرز من ذلك إلا بالشروع في الفعل والابتداء به. ولذلك مثال
في العقل، وهو أن المشاهد للسبع من بعد، مع تجويزه أن يخترم السبع قبل أن
يصل إليه، يلزمه التحرز منه، لما ذكرناه، ولا يجب إذا لزمه التحرز أن يكون
عالما ببقاء السبع وتمكنه من الاضرار به ". (5)
وهذا الكلام (6) جيد، ما عليه في توجيه المنع من مزيد. وبه يظهر الجواب عن
استدلال بعضهم على حصول العلم بالتكليف قبل الفعل، بانعقاد الاجماع على
وجوب الشروع فيه بنية الفرض، إذ يكفي في وجوب نية الفرض غلبة الظن

1 - والدنيا - ب
2 - لينجزها - الف
3 - ظاهر جلي - الف
4 - يذهب - الف
5 - الذريعة إلى أصول الشريعة، ص 165.
6 - وهذا الكلام - ج - ب
85

بالبقاء والتمكن، حيث لا سبيل إلى القطع، فلا دلالة له (1) على حصول العلم.
وعن الثالث: بالمنع من تكليف إبراهيم - عليه السلام - بالذبح الذي هو
فري الأوداج، بل كلف بمقدماته كالاضجاع، وتناول المدية، وما يجري مجرى
ذلك. والدليل على هذا قوله تعالى: " وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت
الرؤيا " (2). فأما جزعه - عليه السلام - فلاشفاقه (3) من أن يؤمر - بعد مقدمات الذبح
- به نفسه، لجريان العادة بذلك. وأما الفداء، فيجوز أن يكون عما ظن أنه
سيأمر به من الذبح، أو عن مقدمات الذبح زيادة على ما فعله، لم يكن (4) قد أمر
بها، إذا لا يجب في الفدية أن يكون من جنس المفدي.
وعن الرابع: أنه لو سلم، لم يكن الطلب هناك للفعل (5)، لما قد علم من
امتناعه، بل للعزم على الفعل والانقياد إليه والامتثال. وليس النزاع فيه، بل في
نفس الفعل. وأما ما ذكره من المثال، فإنما يحسن لمكان التوصل إلى تحصيل
العلم بحال العبد والوكيل، وذلك ممتنع في حقه تعالى.
أصل
الأقرب عندي: أن نسخ مدلول الامر - وهو الوجوب - لا يبقى معه الدلالة
على الجواز، بل يرجع إلى (6) الحكم الذي كان قبل الامر. وبه قال العلامة (7)
في النهاية، وبعض المحققين من العامة. وقال أكثرهم بالبقاء، وهو مختاره
في التهذيب (8).
لنا: أن الامر إنما يدل على الجواز بالمعنى الأعم - أعني الاذن في الفعل فقط -
وهو قدر مشترك بين الوجوب، والندب، والإباحة، والكراهة. فلا يتقوم إلا بما

1 - له - ليس في - ب
2 - سورة الصافات، 104 - 105.
3 - فلاشفاق - ب
4 - ولم يكن - الف
5 - بالفعل - ب
6 - إلى - ليس في - ب
7 - نهاية الأصول، ورقه 74، ص 2.
8 - تهذيب الأصول إلى علم الأصول، ص 70،
86

فيها من القيود، ولا يدخل بدون ضم شئ منها إليه في الوجود، فادعاء بقائه
بنفسه بعد نسخ الوجوب غير معقول.
والقول بانضمام الاذن في الترك إليه باعتبار لزومه لرفع المنع الذي اقتضاه
النسخ، موقوف على كون النسخ متعلقا بالمنع من الترك الذي هو جزء مفهوم
الوجوب، دون المجموع. وذلك غير معلوم، إذ النزاع في النسخ الواقع بلفظ:
" نسخت الوجوب " ونحوه. وهو كما يحتمل التعلق بالجزء الذي هو المنع من الترك
، لكون رفعه كافيا في رفع مفهوم الكل، كذلك يحتمل التعلق بالمجموع، وبالجزء
الآخر الذي هو رفع الحرج عن الفعل، كما ذكره البعض، وإن كان قليل
الجدوى، لكونه في الحقيقة راجعا إلى التعلق بالمجموع.
احتجوا: بأن المقتضي للجواز موجود، والمانع منه مفقود، فوجب القول
بتحققه.
اما الأول: فلان الجواز جزء من الوجوب، والمقتضي للمركب مقتض لاجزائه.
وأما الثاني: فلان الموانع كلها منتفية بحكم الأصل والفرض، سوى نسخ
الوجوب وهو لا يصلح للمانعية، لان الوجوب ماهية مركبة، والمركب يكفي في
رفعه رفع أحد أجزائه، فيكفي في رفع الوجوب رفع المنع من الترك الذي هو جزؤه.
وحينئذ فلا يدل نسخه على ارتفاع الجواز.
فان قيل: لا نسلم عدم مانعية نسخ الوجوب لثبوت الجواز، لان الفصل علة
لوجود الحصة التي معه من الجنس، كما نص عليه جمع من المحققين. فالجواز الذي
هو جنس للواجب وغيره لابد لوجوده في الواجب من علة هي الفصل له، وذلك
هو المنع من الترك، فزواله مقتض لزوال الجواز، لان المعلول يزول بزوال علته،
فتثبت (1) مانعية النسخ لبقاء الجواز.
قلنا: هذا مردود من وجهين:
أحدهما: أن الخلاف واقع في كون الفصل علة للجنس، فقد أنكره بعضهم

1 - فيثبت - ب
87

وقال: انهما معلولان لعلة واحدة. وتحقيق ذلك يطلب من مواضعه.
وثانيهما: أنا وإن سلمنا كونه علة له فلا نسلم (1) أن ارتفاعه مطلقا يقتضي
ارتفاع الجنس، بل إنما يرتفع بارتفاعه، إذا لم يخلفه فصل آخر، وذلك لان
الجنس إنما يفتقر إلى فصل ما ومن البين أن ارتفاع المنع من الترك مقتض لثبوت
الاذن فيه، وهو فصل آخر (2) للجنس الذي هو الجواز.
والحاصل: أن للجواز قيدين: أحدهما - المنع من الترك، والآخر - الاذن فيه،
فإذا زال الأول خلفه الثاني. ومن هنا (3) ظهر أنه ليس المدعى ثبوت الجواز بمجرد
الامر (4)، بل به وبالناسخ، فجنسه بالأول وفصله بالثاني. ولا ينافي هذا إطلاق
القول بأنه إذا نسخ الوجوب بقي الجواز، حيث إن ظاهره استقلال الامر به، فان
ذلك توسع في العبارة. وأكثرهم مصرحون بما قلناه.
فان قيل: لما كان رفع المركب يحصل تارة برفع جميع أجزائه، وأخرى
برفع بعضها، لم يعلم بقاء الجواز بعد رفع الوجوب، لتساوي احتمالي رفع البعض (5)
الذي يتحقق معه البقاء، ورفع الجميع الذي معه يزول.
قلنا: الظاهر يقتضي البقاء، لتحقق مقتضيه أولا، والأصل استمراره. فلا
يدفع بالاحتمال. وتوضيح ذلك: أن النسخ إنما توجه إلى الوجوب، والمقتضي
للجواز هو الامر، فيستصحب (6) إلى أن يثبت ما ينافيه. وحيث إن رفع الوجوب
يتحقق برفع أحد جزئيه، لم يبق لنا سبيل إلى القطع بثبوت المنافي فيستمر الجواز
ظاهرا. وهذا معنى ظهور بقائه.
والجواب: المنع من وجود المقتضي، فان الجواز الذي هو جزء من ماهية
الوجوب وقدر مشترك بينها وبين الأحكام الثلاثة الأخر، لا تحقق له بدون
انضمام أحد قيودها إليه قطعا، وإن لم يثبت علية الفصل للجنس، لان انحصار

1 - ان سلمنا - ب
2 - أخرى - ب
3 - ومن هذا - ب
4 - الامر به - ب
5 - بعض - ب
6 - فتستصحب - ب
88

الاحكام في الخمسة يعد في الضروريات. وحينئذ فالشك في وجود القيد يوجب
الشك في وجود المقتضي. وقد علمت أن نسخ الوجوب، كما يحتمل التعلق
بالقيد فقط - أعني المنع من الترك - فيقتضي ثبوت نقيضه الذي هو قيد آخر،
كذلك يحتمل التعلق بالمجموع، فلا يبقى قيد ولا مقيد، فانضمام القيد مشكوك
فيه، ولا يتحقق معه وجود المقتضي. ولو تشبث الخصم في ترجيح الاحتمال
الأول بأصالة عدم تعلق النسخ بالجميع، لكان معارضا بأصالة عدم وجود
القيد، فيتساقطان.
وبهذا يظهر فساد قولهم في آخر الحجة: " إن الظاهر يقتضي البقاء، لتحقق
مقتضيه، والأصل استمراره "، فان انضمام القيد مما يتوقف عليه وجود
المقتضي، ولم يثبت.
إذا تقرر ذلك، فاعلم: أن دليل الخصم لو تم، لكان دالا على بقاء
الاستحباب، لا الجواز فقط، كما هو المشهور على ألسنتهم، يريدون به الإباحة.
ولا الأعم منه ومن الاستحباب، كما يوجد في كلام جماعة. ولا منهما ومن
المكروه، كما ذهب إليه بعض، حتى أنهم لم ينقلوا القول ببقاء الاستحباب
بخصوصه إلا عن شاذ، بل ربما رد ذلك بعضهم نافيا للقائل به، مع أن دليلهم
على البقاء كما رأيت ينادى بأن الباقي هو الاستحباب.
وتوضيحه: أن الوجوب لما كان مركبا من الاذن في الفعل وكونه راجحا
ممنوعا من تركه، وكان رفع المنع من الترك كافيا في رفع حقيقة الوجوب، لا جرم
كان الباقي من مفهومه هو الاذن في الفعل مع رجحانه، فإذا انضم إليه الاذن في الترك
على ما اقتضاه الناسخ، تكملت قيود الندب وكان الندب هو الباقي. (1)

1 - وكان هو الباقي - ب - ج
89

البحث الثاني
في
النواهي
أصل
اختلف (1) الناس في مدلول صيغة النهي حقيقة، على نحو اختلافهم في الامر.
والحق أنها حقيقة في التحريم، مجاز في غيره، لأنه المتبادر منها في العرف العام
عند الاطلاق، ولهذا يذم العبد على فعل ما نهاه المولى عنه بقوله: لا تفعله،
والأصل عدم النقل، ولقوله تعالى: " وما نهيكم عنه فانتهوا " (2)، أوجب
سبحانه الانتهاء عما نهى الرسول، صلى الله عليه وآله، عنه، لما ثبت من أن الامر
حقيقة في الوجوب، وما وجب الانتهاء عنه حرم فعله.
وما يقال: من أن هذا مختص بمناهي الرسول، صلى الله عليه وآله، وموضع
النزاع هو الأعم، فيمكن الجواب عنه: بأن تحريم ما نهى عن الرسول، صلى الله
عليه وآله، يدل بالفحوى (3) على تحريم ما نهى الله تعالى (4) عنه. مع ما في احتمال
الفصل من البعد، هذا. واستعمال النهي في الكراهة شايع في أخبارنا المروية
عن الأئمة عليهم السلام، على نحو ما قلناه في الامر.
أصل
واختلفوا في أن (5) المطلوب بالنهي ما هو؟. فذهب الأكثرون إلى أنه هو الكف

1 - اختلفوا - ب
2 - سورة الحشر، 7.
3 - بالفهوى - ب
4 - ليس في - الف - ج
5 - ان ليس في - ج
90

عن الفعل المنهي عنه، ومنهم العلامة (1) - رحمه الله - في تهذيبه. وقال في النهاية (2):
المطلوب بالنهي نفس أن لا تفعل. وحكى: أنه قول جماعة كثيرة. وهذا
هو الأقوى.
لنا: أن تارك المنهي عنه كالزنا، مثلا، يعد في العرف ممتثلا، ويمدحه
العقلاء على أنه لم يفعل، من دون نظر إلى تحقق الكف عنه، بل لا يكاد يخطر
الكف ببال أكثرهم. وذلك دليل على أن متعلق التكليف ليس هو الكف، و
إلا لم يصدق الامتثال، ولا يحسن (3) المدح على مجرد الترك.
احتجوا: بأن النهي تكليف، ولا تكليف إلا بمقدور للمكلف. ونفي الفعل
يمتنع أن يكون مقدورا له، لكونه عدما أصليا، والعدم الأصلي سابق على القدرة
وحاصل قبلها، وتحصيل الحاصل محال.
والجواب: المنع من أنه غير مقدور، لان نسبة القدرة إلى طرفي الوجود والعدم
متساوية. فلو لم يكن نفي الفعل مقدورا، لم يكن إيجاده مقدورا، إذ تأثير صفة
القدرة في الوجود فقط، وجوب، لا قدرة.
فان قيل: لابد للقدرة من أثر عقلا، والعدم لا يصلح أثرا، لأنه نفي محض. و
أيضا فالاثر لابد أن يستند إلى المؤثر ويتجدد، والعدم سابق مستمر، فلا يصلح
أثرا للقدرة المتأخرة.
قلنا: العدم إنما يجعل أثرا للقدرة باعتبار استمراره. وعدم الصلاحية
بهذا الاعتبار في حيز المنع، وذلك لان القادر يمكنه أن لا يفعل فيستمر، وأن
يفعل فلا يستمر. فأثر (4) القدرة إنما هو الاستمرار المقارن لها، وهو مستند إليها، و
متجدد (5) بها.

1 - تهذيب الأصول، ص 72.
2 - نهاية الأصول، ورقه 87، ص 2.
3 - حسن - ج
4 - واثر - ب
5 - إليها متجدد - ب
91

أصل
قال السيد المرتضى (1) - رضي الله عنه - وجماعة منهم العلامة في أحد قوليه (2):
" إن النهي كالأمر في عدم الدلالة على التكرار، بل هو محتمل له وللمرة ". وقال
قوم: بافادته الدوام والتكرار، وهو القول الثاني للعلامة، رحمه الله، اختاره (3) في النهاية (4)،
ناقلا له عن الأكثر وإليه أذهب.
لنا: أن النهي يقتضى منع المكلف من إدخال ماهية الفعل وحقيقته
في الوجود، وهو إنما يتحقق بالامتناع من إدخال كل فرد من أفرادها فيه، إذا مع
إدخال فرد منها يصدق إدخال تلك الماهية في الوجود، لصدقها به، ولهذا إذا نهى
السيد عبده عن فعل، فانتهى مدة كان يمكنه إيقاع الفعل فيها ثم فعل، عد
في العرف عاصيا مخالفا لسيده، وحسن منه عقابه، وكان عند العقلاء مذموما
بحيث لو اعتذر بذهاب المدة التي يمكنه الفعل فيها وهو تارك، وليس نهي السيد
بمتناول غيرها، لم يقبل ذلك منه، وبقي الذم بحاله. وهذا مما يشهد به الوجدان.
احتجوا: بأنه لو كان للدوام، لما انفك عنه، وقد انفك. فان الحائض نهيت
عن الصلاة والصوم، ولا دوام. وبأنه ورد للتكرار، كقوله تعالى: " ولا تقربوا
الزنا " (5) وبخلافه، كقول الطبيب: " لا تشرب اللبن "، " ولا تأكل اللحم ".
والاشتراك والمجاز خلاف الأصل، فيكون حقيقة في القدر المشترك. وبأنه يصح
تقييده بالدوام ونقيضه، من غير تكرار ولا نقض، فيكون للمشترك.
والجواب عن الأول: أن كلامنا في النهي المطلق. وذلك مختص بوقت
الحيض، لأنه مقيد به، فلا يتناول غيره. ألا ترى (6) أنه عام لجميع أوقات
الحيض.

1 - الذريعة إلى أصول الشريعة، ص 176.
2 - تهذيب الأصول إلى علم الأصول، ص 72.
3 - واختار - ب
4 - نهاية الأصول، ورقة 88، ص 1.
5 - سورة الإسراء، 32.
6 - ألا يرى - ب
92

وعن الثاني أن عدم الدوام في مثل قول الطبيب، إنما هو للقرينة، كالمرض
في المثال. ولولا ذلك، لكان المتبادر هو الدوام. على أنك قد عرفت في نظيره
سابقا: أن ما فروا منه بجعل الوضع للقدر المشترك - أعني: لزوم المجاز والاشتراك
- لازم عليهم، من حيث إن الاستعمال في خصوص المعنيين يصير مجازا فلا يتم
لهم الاستدلال به.
وعن الثالث: أن التجوز جائز، والتأكيد واقع في الكلام مستعمل، فحيث
يقيد بخلاف الدوام يكون ذلك قرينة المجاز، وحيث يؤتى بما يوافقه يكون
تأكيدا.
فائدة
لما أثبتنا كون النهي للدوام والتكرار، وجب القول بأنه للفور، لان الدوام
يستلزمه. ومن نفى كونه للتكرار، نفى الفور أيضا. والوجه في ذلك واضح.
أصل
الحق امتناع توجه الأمر والنهي إلى شئ واحد. ولا نعلم في ذلك مخالفا من
أصحابنا. ووافقنا عليه كثير ممن خالفنا. وأجازه قوم. وينبغي تحرير محل
النزاع أولا فنقول:
الوحدة تكون (1) بالجنس وبالشخص. فالأول يجوز ذلك فيه، بأن يؤمر بفرد و
ينهى عن فرد، كالسجود لله تعالى، وللشمس (2)، والقمر. وربما منعه مانع، لكنه
شديد الضعف، شاذ. والثاني إما أن يتحد فيه الجهة، أو تتعدد (3). فان اتحدت، بأن
يكون الشئ الواحد من الجهة الواحدة مأمورا به منهيا عنه، فذلك مستحيل
قطعا. وقد يجيزه بعض من جوز تكليف المحال - قبحهم الله - (4) ومنعه بعض المجيزين

1 - يكون - الف
2 - والشمس - ب
3 - أو يتعدد - ب
4 - تعالى - ب
93

لذلك، نظرا إلى أن هذا ليس تكليفا بالمحال، بل هو محال في نفسه، لان معناه
الحكم بأن الفعل يجوز تركه، ولا يجوز. وإن تعددت الجهة، بأن كان للفعل
جهتان، يتوجه إليه الامر من إحديهما (1)، والنهي من الأخرى، فهو محل البحث، و
ذلك كالصلاة في الدار المغصوبة، يؤمر بها من جهة كونها صلاة، وينهى عنها من
حيث كونها غصبا، فمن أحال اجتماعهما أبطلها، ومن أجازه صححها (2).
لنا: أن الامر طلب لايجاد الفعل، والنهي طلب لعدمه، فالجمع بينهما في أمر
واحد ممتنع. وتعدد الجهة غير مجد مع اتحاد المتعلق، إذا لامتناع إنما ينشأ (3) من
لزوم اجتماع المتنافيين في شئ واحد. وذلك (4) لا يندفع إلا بتعدد المتعلق، بحيث
يعد في الواقع أمرين، هذا مأمور به وذلك منهي عنه. ومن البين أن التعدد (5)
بالجهة لا يقتضي ذلك بل الوحدة باقية معه قطعا، فالصلاة في الدار المغصوبة، و
إن تعددت فيها جهة الأمر والنهي، لكن المتعلق الذي هو الكون متحد، فلو
صحت، لكان مأمورا به - من حيث إنه أحد الاجزاء المأمور بها للصلاة وجزء
الجزء جزء والامر بالمركب أمر باجزائه - ومنهيا (6) عنه، باعتبار أنه بعينه الكون
في الدار المغصوبة، فيجتمع فيه (7) الأمر والنهي وهو متحد. وقد بينا امتناعه، فتعين
بطلانها.
احتج (8) المخالف بوجهين، الأول: أن السيد إذا أمر عبده بخياطة ثوب، ونهاه
عن الكون في مكان مخصوص، ثم خاطه في ذلك (9) المكان، فانا نقطع بأنه مطيع
عاص لجهتي الامر بالخياطة والنهي عن الكون.
الثاني: أنه لو امتنع الجمع، لكان باعتبار اتحاد متعلق الأمر والنهي، إذ

1 - أحدهما - الف
2 - صحها - ب
3 - تشأ - ب
4 - ذاك - ب
5 - المتعدد - ب
6 - منهيا - الف
7 - فيه - ليس في - ب
8 - احتج - ليس في - الف
9 - في هذا - ب
94

لا مانع سواه اتفاقا. واللازم باطل، إذ لا اتحاد في المتعلقين. فان متعلق الامر
الصلاة، ومتعلق النهي الغصب، وكل منهما يتعقل انفكاكه عن الآخر، وقد
اختار المكلف جمعهما، مع إمكان عدمه. وذلك لا يخرجهما عن حقيقتهما اللتين هما
متعلقا الأمر والنهي، حتى لا يبقيا (1) حقيقتين مختلفتين، فيتحد المتعلق.
والجواب عن الأول: أن الظاهر في المثال المذكور إرادة تحصيل خياطة الثوب
بأي وجه اتفق. سلمنا، لكن المتعلق فيه مختلف، فان (2) الكون ليس جزء من
مفهوم الخياطة، بخلاف الصلاة. سلمنا، لكن نمنع كونه مطيعا والحال هذه. و
دعوى حصول القطع بذلك في حيز المنع، حيث لا يعلم إرادة الخياطة كيف ما
اتفقت.
وعن الثاني: أن مفهوم الغصب، وإن كان مغايرا لحقيقة الصلاة، إلا أن
الكون الذي هو جزؤها بعض جزئياته، إذ هو مما يتحقق به. فإذا أوجد (3) المكلف
الغصب بهذا الكون، صار متعلقا للنهي، ضرورة أن الاحكام إنما تتعلق (5)
بالكليات باعتبار وجودها [في ضمن الافراد]، فالفرد الذي يتحقق به الكلي
هو الذي يتعلق به الحكم حقيقة. وهكذا يقال في جهة الصلاة، فان الكون المأمور
به فيها وإن كان كليا، لكنه إنما يراد (6) باعتبار الوجود. فمتعلق الامر في الحقيقة إنما
هو الفرد الذي يوجد منه، ولو باعتبار الحصة التي في ضمنه من الحقيقة الكلية،
على أبعد الرأيين في وجود الكلي الطبيعي.
وكما أن الصلاة الكلية تتضمن (7) كونا كليا، فكذلك الصلاة الجزئية تتضمن (8)
كونا جزئيا، فإذا اختار المكلف إيجاد كلي الصلاة بالجزئي المعين منها، فقد
اختار إيجاد كلي الكون بالجزئي المعين منه الحاصل في ضمن الصلاة المعينة. و

1 - حتى لا يبقيان - الف
2 - بأن - ب
3 - وجد - ب
4 - انما ليس في - ب
5 - بتعلق - الف
6 - انما يرد - ب
7 - يتضمن - الف
8 - يتضمن - الف
95

ذلك يقتضي تعلق الامر به. فيجتمع فيه الأمر والنهي، وهو شئ واحد قطعا،
فقوله: " وذلك لا يخرجهما عن حقيقتهما، الخ "، إن أراد به خروجهما
عن الوصف بالصلاة والغصب، فمسلم، ولا يجديه، إذ لا نزاع في اجتماع
الجهتين، وتحقق الاعتبارين، وإن أراد أنهما باقيان على المغايرة والتعدد بحسب
الواقع والحقيقة، فهو غلط (1) ظاهر ومكابرة محضة، لا يرتاب فيها ذو مسكة.
وبالجملة فالحكم هنا واضح، لا يكاد يلتبس على من راجع وجدانه، ولم
يطلق في ميدان الجدال والعصبية عنانه.
أصل
اختلفوا في دلالة النهي على فساد المنهي عنه، على أقوال، ثالثها: يدل
في العبادات، لا في المعاملات. وهو مختار جماعة، منهم المحقق (2) والعلامة (3).
واختلف القائلون بالدلالة، فقال جمع منهم المرتضى (4): إن ذلك بالشرع، لا
باللغة. وقال آخرون: بدلالة اللغة عليه أيضا، والأقوى عندي: أنه يدل
في العبادات بحسب اللغة والشرع دون غيرها مطلقا. فهنا دعويان.
لنا على أوليهما: أن النهي يقتضي كون ما تعلق به مفسدة، غير مراد
للمكلف. والامر يقتضي كونه مصلحة مرادا. وهما متضادان، فالآتي بالمنهي
عنه لا يكون آتيا بالمأمور به. ولازم ذلك عدم حصول الامتثال والخروج
عن العهدة. ولا نعني بالفساد إلا هذا.
ولنا على الثانية: أنه لو دل، لكانت إحدى الثلاث، وكلها منتفية. أما
الأولى (5) والثانية فظاهر. وأما الالتزام، فلأنها مشروطة باللزوم العقلي،
أو العرفي، كما هو معلوم، وكلاهما مفقودان (6). يدل على ذلك: أنه يجوز عند العقل

1 - وهو غلط - ب
2 - معارج الأصول، ص 77.
3 - تهذيب الأصول، ص 72.
4 - الذريعة إلى أصول الشريعة، ص 180.
5 - أما الأول - ب
6 - مفقود - الف
96

وفي العرف أن يصرح بالنهي عنها، وأنها لا تفسد (1) بالمخالفة، من دون حصول
تناف بين الكلامين. وذلك دليل على عدم اللزوم بين.
حجة القائلين بالدلالة مطلقا بحسب الشرع لا اللغة: أن علماء الأمصار (2) في
جميع الأعصار، لم يزالوا يستدلون على الفساد بالنهي في أبوابه، كالأنكحة والبيوع
وغيرها. وأيضا لو لم يفسد، لزم من نفيه حكمة يدل عليها النهي، ومن ثبوته
حكمة تدل عليها الصحة (3). واللازم باطل، لان الحكمتين، إن كانتا متساويتين
تعارضتا وتساقطتا، وكان الفعل وعدمه متساويين، فيمتنع النهي عنه، لخلوه
عن الحكمة. وإن كانت حكمة النهي مرجوحة فهو أولى بالامتناع، لأنه مفوت
للزائد من مصلحة الصحة، وهو مصلحة خالصة، إذ لا معارض لها من جانب
الفساد، كما هو المفروض. وإن كانت راجحة فالصحة ممتنعة، لخلوها
عن المصلحة، بل لفوات قدر الرجحان من مصلحة النهي، وهو مصلحة خالصة لا
يعارضها شئ من مصلحة الصحة.
وأما انتفاء الدلالة لغة، فلان فساد الشئ عبارة عن سلب أحكامه.
وليس - في لفظ " النهي " ما يدل عليه لغة قطعا.
والجواب عن الأول: أنه لا حجة في قول العلماء بمجرده، ما لم يبلغ
حد الاجماع. ومعلوم انتفاؤه في محل النزاع، إذ الخلاف والتشاجر فيه ظاهر جلي.
وعن الثاني: بالمنع من دلالة الصحة، بمعنى ترتب الأثر على وجود الحكمة
في الثبوت، إذ من الجائز عقلا انتفاء الحكمة في إيقاع عقد البيع وقت النداء مثلا
مع ترتب أثره - أعني انتقال الملك - عليه. نعم، هذا في العبادات معقول، فان
الصحة فيها باعتبار كونها عبارة عن حصول الامتثال، تدل على وجود الحكمة
المطلوبة، وإلا لم يحصل.
وبما قدمناه في الاحتجاج على دلالة النهي على الفساد في العبادات يظهر

1 - لا يفسد - الف
2 - العلماء - ب
3 - يدل عليها الصحة - الف
97

جواب الاستدلال على انتفاء الدلالة لغة، فإنه على عمومه ممنوع. نعم هو في
غير العبادات متوجه.
واحتج مثبتوها كذلك لغة أيضا، بوجهين:
أحدهما: ما استدل به على دلالته شرعا (1)، من أنه لم يزل العلماء يستدلون
بالنهي على الفساد.
وأجاب عنه أولئك: بأنه إنما (2) يقتضي دلالته على الفساد، وأما أن تلك
الدلالة بحسب اللغة، فلا. بل الظاهر أن استدلالهم به على الفساد إنما هو لفهمهم
دلالته عليه شرعا، لما ذكر من الدليل على عدم دلالته لغة،
والحق ما قدمناه: من عدم الحجية في ذلك. وهم وإن أصابوا في القول
بدلالته في العبادات لغة، لكنهم مخطئون (3) في هذا الدليل. والتحقيق (4) ما استدللنا
به سابقا.
الوجه الثاني لهم: أن الامر يقتضي الصحة، لما هو الحق من دلالته
على الاجزاء بكلا تفسيريه. والنهي نقيضه، والنقيضان مقتضاهما نقيضان.
فيكون النهي مقتضيا لنقيض الصحة، وهو الفساد.
وأجاب الأولون: بأن الامر يقتضي الصحة شرعا، لا لغة، ونقول بمثله
في النهي. وأنتم تدعون دلالته لغة. ومثله ممنوع في الامر.
والحق أن يقال: لا نسلم وجوب اختلاف أحكام المتقابلات، لجواز
اشتراكها في لازم واحد، فضلا عن تناقض أحكامها. سلمنا، لكن نقيض
قولنا: " يقتضي الصحة ": أنه " لا يقتضي الصحة "، ولا يلزم منه أن " يقتضي
الفساد ". فمن أين يلزم في النهي أن يقتضي الفساد؟ نعم يلزم أن لا يقتضي
الصحة. ونحن نقول به.
حجة النافين للدلالة مطلقا، لغة وشرعا: أنه لو دل لكان مناقضا للتصريح

1 - شرعا - ليس في - ج
2 - انما - ليس في - ج
3 - يغبطون - ج
4 - والحق - ب
98

بصحة المنهي عنه، واللازم منتف، لأنه يصح أن يقول: " نهيتك عن البيع
الفلاني بعينه مثلا. ولو فعلت لعاقبتك. لكنه يحصل به الملك. "
وأجيب: بمنع الملازمة، فان قيام الدليل الظاهر على معنى لا يمنع التصريح
بخلافه، وأن الظاهر غير مراد. ويكون التصريح قرينة صارفة عما يجب الحمل
عليه عند التجرد عنها.
وفيه نظر، فان التصريح بالنقيض يدفع ذلك الظاهر وينافيه قطعا. وليس
بين قوله في المثال: " ولو فعلت لعاقبتك الخ "، وبين قوله: " نهيتك عنه "
مناقضة ولا منافاة. يشهد بذلك الذوق السليم.
فالحق: أن الكلام متجه في غير العبادات وهو الذي مثل به. وأما فيها،
فالحكم بانتفاء اللازم غلط بين، إذ المناقضة (1) بين قوله: " لا تصل في المكان
المغصوب " و " لو فعلت لكانت صحيحة مقبولة " في غاية الظهور، لا ينكرها
إلا مكابر.

1 - المناتشة - ب
99

المطلب الثالث
في
العموم والخصوص
وفيه فصول
101

الفصل الأول
في
الكلام على ألفاظ العموم
أصل (1)
الحق: أن للعموم في لغة العرب صيغة تخصه. وهو اختيار الشيخ، والمحقق،
والعلامة، وجمهور المحققين. وقال السيد (2) - رحمه الله - وجماعة: إنه ليس له لفظ
موضوع إذا استعمل في غيره كان مجازا، بل كل ما يدعى من ذلك مشترك
بين الخصوص والعموم. ونص السيد على أن تلك الصيغ نقلت في عرف الشرع
إلى العموم، كقوله بنقل (3) صيغة الامر في العرف الشرعي إلى الوجوب. وذهب
قوم إلى أن جميع الصيغ التي يدعى وضعها للعموم حقيقة في الخصوص، وإنما
يستعمل في العموم مجازا.
لنا: أن السيد إذا قال لعبده: " لا تضرب أحدا " فهم من اللفظ العموم
عرفا، حتى لو ضرب واحدا عد مخالفا. والتبادر دليل الحقيقة، فيكون كذلك
لغة، لأصالة عدم النقل، كما مر مرارا. فالنكرة في سياق النفي للعموم لا غير،
حقيقة، وهو المطلوب.
وأيضا، لو كان نحو: " كل " و " جميع " من الألفاظ المدعى عمومها،
مشتركة (4) بين العموم والخصوص، لكان قول القائل: " رأيت الناس كلهم
أجمعين " مؤكدا للاشتباه، وذلك باطل بيان الملازمة: أن " كلا " (5) و " أجمعين)

1 - أصل ليس في - ب
2 - الذريعة إلى أصول الشريعة، ص 201.
3 - ينقل - ب
4 - مشتركا - ب
5 - كل - الف
102

مشتركة عند القائل باشتراك الصيغ، واللفظ الدال على شئ يتأكد بتكريره،
فيلزم أن يكون الالتباس متأكدا عند التكرير. واما بطلان اللازم، فلانا نعلم
ضرورة أن مقاصد أهل اللغة في ذلك تكثير الايضاح وإزالة الاشتباه.
احتج القائلون بالاشتراك بوجهين.
الأول أن الألفاظ التي يدعى وضعها للعموم تستعمل (1) فيه تارة وفي الخصوص
أخرى. بل استعمالها في الخصوص أكثر، وظاهر استعمال اللفظ في شيئين أنه
حقيقة فيهما. وقد سبق مثله.
الثاني: أنها (2) لو كانت للعموم، لعلم ذلك إما بالعقل، وهو محال، إذ لا مجال
للعقل بمجرده (3) في الوضع، وإما بالنقل، والآحاد منه لا تفيد اليقين. ولو كان
متواترا لاستوى الكل فيه.
والجواب عن الأول: أن مطلق الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز، والعموم
هو المتبادر عند الاطلاق. وذلك آية الحقيقة، فيكون في الخصوص مجازا، إذ هو خير
من الاشتراك حيث لا دليل عليه.
وعن الثاني: منع الحصر فيما ذكر من الأوجه، فان تبادر المعنى من اللفظ عند
إطلاقه دليل على كونه موضوعا له، وقد بينا أن المتبادر هو العموم.
حجة من ذهب إلى أن جميع الصيغ حقيقة في الخصوص: أن الخصوص
متيقن، لأنها إن كانت له فمراد (4)، وإن كانت للعموم فداخل في المراد، و
على التقديرين، يلزم ثبوته. بخلاف العموم، فإنه مشكوك فيه، إذ ربما يكون
للخصوص، فلا يكون العموم مرادا، ولا داخلا فيه، فجعله حقيقة في الخصوص
المتيقن أولى من جعله للعموم المشكوك فيه.
وأيضا: اشتهر في الألسن حتى صار مثلا أنه: " ما من عام إلا وقد خص
منه "، وهو وارد على سبيل المبالغة وإلحاق القليل بالعدم. والظاهر يقتضي

1 - يستعمل - الف
2 - انه - ب
3 - مجرده - الف
4 - فمراده - ب
103

كونه حقيقة في الأغلب مجازا في الأقل، تقليلا للمجاز.
والجواب: أما عن الوجه (1) الأول، فبأنه إثبات اللغة بالترجيح، وهو غير جائز
على أنه معارض بأن العموم أحوط، إذ من المحتمل أن يكون هو مقصود المتكلم،
فلو حمل اللفظ على الخصوص لضاع غيره مما يدخل في العموم. وهذا لا يخلو من
نظر.
وأما عن الأخير، فبأن احتياج خروج البعض عنها إلى التخصيص
بمخصص ظاهر في أنها للعموم. على أن ظهور كونها حقيقة في الأغلب، إنما يكون
عند عدم الدليل على أنها حقيقة في الأقل، وقد بينا قيام الدليل عليه. هذا، مع ما
في التمسك بمثل هذه الشهرة، من الوهن.
أصل
الجمع المعرف بالأداة يفيد العموم حيث لا عهد. ولا نعرف في ذلك مخالفا
من الأصحاب. ومحققوا مخالفينا على هذا أيضا. وربما خالف في ذلك بعض من
لا يعتد به منهم، وهو شاذ ضعيف، لا التفات إليه.
وأما المفرد المعرف، فذهب جمع من الناس إلى أنه يفيد العموم. وعزاه (2)
المحقق إلى الشيخ. وقال قوم بعدم إفادته، واختاره المحقق والعلامة، (3) وهو الأقرب.
لنا: عدم تبادر العموم منه إلى الفهم، وأنه لو عم لجاز الاستثناء منه مطردا،
وهو منتف قطعا.
احتجوا بوجهين، أحدهما: جواز وصفه بالجمع، فيما حكاه البعض من قولهم:
" أهلك الناس الدرهم البيض والدينار الصفر ".
الثاني: صحة الاستثناء منه، كما في قوله تعالى: " ان الانسان لفي خسر
إلا الذين آمنوا " (4).

1 - الجواب عن الوجه - ب
2 - وغراه - ب
3 - تهذيب الأصول، إلى علم الأصول، ص 73.
4 - سورة العصر،
2 - 3.
104

وأجيب عن الأول: بالمنع من دلالته على العموم، وذلك لان مدلول العام
كل فرد، ومدلول الجمع مجموع الافراد، وبينهما بون بعيد.
وعن الثاني: بأنه مجاز (1)، لعدم الاطراد.
وفي الجواب عن كلا الوجهين نظر:
أما الأول، فلانه مبني على أن عموم الجمع ليس كعموم المفرد، وهو
خلاف التحقيق، كما قرر في موضعه.
وأما الثاني، فلان الظاهر: أنه لا مجال لانكار إفادة المفرد المعرف العموم
في بعض الموارد حقيقة، كيف ودلالة أداة التعريف على الاستغراق حقيقة
وكونه أحد معانيها، مما لا يظهر فيه خلاف بينهم، فالكلام حينئذ إنما هو في
دلالته على العموم مطلقا، بحيث لو استعمل في غيره كان مجازا، على حد صيغ
العموم التي هذا شانها. ومن البين: أن هذه الحجة لا تنهض باثبات ذلك، بل
إنما تثبت (2) المعنى الأول الذي لا نزاع فيه.
فائدة مهمة
حيث علمت أن الغرض من نفي دلالة المفرد المعرف على العموم، كونه
ليس على حد الصيغ الموضوعة لذلك، لا عدم إفادته إياه مطلقا، فاعلم: أن
القرينة الحالية قائمة في الأحكام الشرعية غالبا، على إرادة العموم منه، حيث لا
عهد خارجي، كما في قوله تعالى: " وأحل الله البيع وحرم الربا " (3) وقوله
عليه السلام: " إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ " (4)، ونظائره، ووجه قيام
القرينة على ذلك امتناع إرادة الماهية والحقيقة، إذ الأحكام الشرعية إنما تجري
على الكليات باعتبار وجودها، كما علم آنفا.
وحينئذ، فاما أن يراد الوجود الحاصل بجميع الافراد أو ببعض (5) غير معين.

1 - الثاني مجار - ب
2 - يثبت - الف
3 - سورة البقرة، 275.
4 - وسائل الشيعة، ج 1، ص 117، ح 1 - 2.
5 - لجميع الافراد أو لبعض - ب
105

لكن إرادة البعض ينافي الحكمة، إذ لا معنى لتحليل بيع من البيوع، وتحريم فرد
من الربا، وعدم تنجيس مقدار الكر من بعض الماء، إلى غير ذلك من موارد
استعماله في الكتاب والسنة، فتعين في هذا كله إرادة الجميع، وهو معنى
العموم.
ولم أر أحدا تنبه لذلك من متقدمي (1) الأصحاب، سوى المحقق - قدس الله
نفسه - فإنه قال في آخر هذا البحث: " ولو قيل: إذا لم يكن ثم معهود، وصدر (2)
من حكيم، فان ذلك قرينة حالية تدل على الاستغراق، لم ينكر ذلك ".
أصل
أكثر العلماء على أن الجمع المنكر لا يفيد العموم، بل يحمل على أقل
مراتبه. وذهب بعضهم إلى إفادته ذلك. وحكاه (3) المحقق عن الشيخ، بالنظر إلى
الحكمة. والأصح الأول.
لنا: القطع بأن " رجالا " مثلا (4) بين الجموع في صلوحه لكل عدد بدلا،
" كرجل " بين الآحاد في صلوحه لكل واحد، فكما أن " رجلا " ليس للعموم فيما
يتناوله من الآحاد، كذلك " رجال " ليس للعموم فيما يتناوله من مراتب العدد.
نعم أقل المراتب واجبة الدخول قطعا، فعلم كونها مرادة، وبقي ما سواها على
حكم الشك.
حجة (5) الشيخ: أن هذه اللفظة، إذا دلت على القلة والكثرة، وصدرت من
حكيم، فلو أراد القلة لبينها. وحيث لا قرينة، وجب حمله على الكل. وزاد من
وافقه من العامة: أنه ثبت إطلاق اللفظ على كل مرتبة من مراتب الجموع، فإذا
حملناه على الجميع فقد حملناه على جميع حقائقه، فكان أولى.

1 - من مقدمي - الف
2 - فصدر - الف
3 - معارج الأصول، ص 87.
4 - مثلا - ليس في - ب
5 - احتجاج - الف
106

والجواب: عن احتجاج (1) الشيخ، أما أولا: فبالمعارضة بأنه لو أراد الكل لبينه
أيضا. وأما ثانيا: فلانا لا نسلم عدم القرينة، إذ يكفي فيها كون أقل المراتب
مرادا قطعا.
وفيه نظر، والتحقيق: أن اللفظ لما كان موضوعا للجمع (2) المشترك بين العموم
والخصوص، كان عند الاطلاق محتملا للامرين (3)، كسائر الألفاظ الموضوعة
للمعاني المشتركة، إلا أن أقل مراتب الخصوص باعتبار القطع بإرادته - يصير
متيقنا، ويبقى ما عداه مشكوكا فيه، إلى أن يدل على إرادته. ولا نجد في هذا
منافاة للحكمة بوجه.
وبهذا يظهر الجواب عن الكلام الأخير، فانا نمنع كون اللفظ حقيقة في كل
مرتبة، وإنما هو للقدر المشترك بينها، فلا دلالة له (4) على خصوص أحدها. ولئن
سلمنا كونه حقيقة في كل منها، لكان الواجب حينئذ التوقف، على ما
هو التحقيق من أن المشترك لا يحمل على شئ من معانيه إلا بالقرينة، وأن
استعماله في جميعها لا يكون إلا مجازا، فيحتاج الحمل عليه إلى الدليل.
فائدة
أقل مراتب صيغة الجمع ثلاثة على الأصح، وقيل: أقلها اثنان.
لنا: أنه يسبق إلى الفهم عند إطلاق الصيغة بلا قرينة الزائد على الاثنين. و
ذلك دليل على أنه حقيقة في الزائد دونه، لما هو معلوم من أن علامة المجاز تبادر
غيره.
احتج المخالف بوجوه:

1 - من احتجاج - ب
2 - للجميع - ب
3 - محتمل الامرين - ب
4 - له ليس في - ب
107

الأول: قوله (1) تعالى: " فان كان له إخوة " (2)، والمراد به ما يتناول الأخوين
اتفاقا. والأصل في الاطلاق الحقيقة.
الثاني: قوله (3) تعالى: " إنا معكم مستمعون " (4) خطابا لموسى وهرون فأطلق
ضمير الجمع المخاطبين على الاثنين.
الثالث قوله عليه السلام: " الاثنان فما فوقهما جماعة ".
الجواب (5) عن الأول: أن الاتفاق (6) إنما وقع على ثبوت الحجب مع الأخوين (7)، ولا
على استفادته من الآية، فلا دلالة فيه.
وعن الثاني: بالمنع من إرادتهما فقط، بل فرعون مراد معهما. سلمنا، لكن
الاستعمال إنما يدل على الحقيقة حيث لا يعارضه دليل المجاز. وقد دللنا على
كونه مجازا فيما دون الثلاثة.
وعن الثالث أنه ليس من محل (8) النزاع في شئ، إذ الخلاف في صيغة الجموع
لا في ج م ع (9).
أصل
ما وضع لخطاب المشافهة، نحو: " يا أيها الناس "، " يا أيها الذين
آمنوا " لا يعم بصيغته من تأخر عن زمن الخطاب، وإنما يثبت حكمه لهم بدليل
آخر وهو قول أصحابنا وأكثر أهل الخلاف، وذهب قوم منهم إلى تناوله بصيغته
لمن بعدهم.
لنا: أنه لا يقال للمعدومين: " يا أيها الناس " ونحوه، وإنكاره مكابرة. و
أيضا، فان الصبي والمجنون أقرب إلى الخطاب من المعدوم، لوجودهما واتصافهما

1 - كقوله - ب
2 - سورة النساء، 11.
3 - قوله - ليس في - ب
4 - سورة الشعراء، 10.
5 - والجواب - الف - ب
6 - الالتفات - الف
7 - الآخرين - ج الأخوين خ ل - الف
8 - ليس محل - ب
9 - لا في الجمع - الف
108

بالانسانية، مع أن خطابهما بنحو ذلك ممتنع قطعا. فالمعدوم أجدر أن يمتنع.
احتجوا بوجهين: أحدهما: أنه لو لم يكن الرسول، صلى الله عليه وآله (1)،
مخاطبا لمن بعده، لم يك مرسلا إليه. واللازم منتف. بيان الملازمة: أنه لا معنى
لارساله إلا أن يقال له: " بلغ أحكامي ". ولا تبليغ إلا بهذه العمومات، وقد
فرض انتفاء عمومها بالنسبة إليه. واما انتفاء اللازم فبالاجماع.
والثاني: أن العلماء لم يزالوا يحتجون على أهل الاعصار ممن بعد (2) الصحابة،
في المسائل الشرعية، بالآيات والاخبار المنقولة عن النبي، صلى الله عليه وآله، و
ذلك إجماع منهم على العموم لهم.
والجواب: أما عن الوجه الأول: فبالمنع من أنه لا تبليغ إلا بهذه (3) العمومات
التي هي خطاب المشافهة، إذ التبليغ لا يتعين فيه المشافهة، بل يكفي حصوله
للبعض شفاها، وللباقين بنصب الدلائل والامارات على أن حكمهم حكم
الذين شافههم.
وأما عن الثاني: فبأنه لا يتعين أن يكون احتجاجهم لتناول الخطاب
بصيغته لهم، بل يجوز أن يكون ذلك لعلمهم بأن حكمهم (4) ثابت عليهم بدليل آخر.
وهذا مما لا نزاع فيه، إذ كوننا مكلفين بما كلفوا به معلوم بالضرورة من الدين.

1 - (ص) ليس في - ب
2 - من بعد - ب
3 - بهذا - ب
4 - حكمه - الف - ب
109

الفصل الثاني
في
جملة من مباحث التخصيص
أصل
اختلف القوم في منتهى التخصيص إلى كم هو، فذهب بعضهم إلى جوازه
حتى يبقى واحد. وهو اختيار المرتضى، والشيخ (1)، وأبي المكارم ابن زهرة (2). و
قيل: حتى يبقى ثلاثة. وقيل: اثنان. وذهب الأكثر ومنهم المحقق إلى أنه لا بد
من بقاء جمع يقرب (3) من مدلول العام، إلا أن يستعمل في حق الواحد على سبيل
التعظيم. وهو الأقرب.
لنا: القطع قول القائل: " أكلت كل رمانة في البستان "، وفيه آلاف
وقد أكل واحدة أو ثلاثة. وقوله: " أخذت كل ما في الصندوق من الذهب "
وفيه ألف، وقد أخذ دينارا إلى ثلاثة. وكذا قوله: " كل من دخل داري فهو
حر "، أو " كل (4) من جاءك، فأكرمه "، وفسره بواحد أو ثلاثة، فقال: " أردت
زيدا أو هو مع عمرو وبكر ". ولا كذلك لو أريد من اللفظ في جميعها كثرة قريبة
من مدلوله.
احتج مجوزوه إلى الواحد بوجوه:
الأول: أن استعمال العام في غير الاستغراق يكون بطريق المجاز، على ما
هو التحقيق، وليس بعض الافراد أولى من البعض، فوجب جواز استعماله في

1 - المرتضى والشيخ رحمهما الله وأبي - ب
2 - بن زهرة - الف - ج
3 - جميع يقرب - ب
4 - وكل - ب
110

جميع الأقسام إلى أن ينتهى إلى الواحد.
الثاني: أنه لو امتنع ذلك، لكان لتخصيصه وإخراج اللفظ عن موضوعه إلى
غيره. وهذا يقتضي امتناع كل تخصيص.
الثالث: قوله تعالى: " وإنا له لحافظون " (1)، والمراد هو الله (2) تعالى وحده.
الرابع: قوله تعالى: " الذين قال لهم الناس " (3)، والمراد نعيم بن مسعود،
باتفاق المفسرين. ولم يعده أهل اللسان مستهجنا، لوجود القرينة، فوجب جواز
التخصيص إلى الواحد، مهما وجدت القرينة. وهو المدعى.
الخامس: أنه علم بالضرورة من اللغة صحة قولنا: " أكلت الخبز وشربت
الماء "، ويراد به أقل القليل مما يتناوله الماء والخبز.
والجواب عن الأول: المنع من عدم الأولوية، فان الأكثر أقرب إلى الجميع
من الأقل. هكذا أجاب العلامة - رحمه الله - في النهاية. (4)
وفيه نظر، لان أقربية الأكثر إلى الجميع يقتضى أرجحية إرادته على إرادة
الأقل، لا امتناع إرادة الأقل، كما هو المدعى.
فالتحقيق في الجواب أن يقال: لما كان مبنى الدليل على أن استعمال العام
في الخصوص مجاز، كما هو الحق، وستسمعه، ولابد في جواز مثله من وجود العلاقة
المصححة للتجوز (5)، لا جرم كان الحكم مختصا باستعماله في الأكثر، لانتفاء
العلاقة في غيره.
فان قلت: كل واحد من الافراد بعض مدلول العام، فهو جزؤه. وعلاقة
الكل والجزء حيث يكون استعمال (6) اللفظ الموضوع للكل في الجزء غير مشترط (7)
بشئ، كما نص عليه المحققون. وإنما الشرط في عكسه، أعني: استعمال اللفظ

1 - سورة الحجر، 9
2 - الله ليس في - الف
3 - سورة آل عمران، 173.
4 - نهاية الأصول، ورقة 110 ص 2.
5 - لتجوزه - ب
6 - الاستعمال - ج
7 - غير مشترطة - ب
111

الموضوع للجزء في الكل، على ما مر تحقيقه. وحينئذ فما وجه تخصيص
وجود العلاقة بالأكثر؟
قلت: لا ريب في أن كل واحد من أفراد العام بعض مدلوله، لكنها ليست
أجزاء له، كيف؟ وقد عرفت أن مدلول العام كل فرد، لا مجموع الافراد. وإنما
يتصور في مدلوله تحقق الجزء، والكل، لو كان بالمعنى الثاني. وليس كذلك.
فظهر أنه ليس المصحح للتجوز علاقة الكل والجزء، كما توهم. وإنما هو علاقة
المشابهة، أعني: الاشتراك في صفة، وهي ههنا الكثرة، فلابد في استعمال لفظ
العام في الخصوص من تحقق كثرة تقرب (1) من مدلول العام، لتحقق المشابهة
المعتبرة لتصحيح الاستعمال. وذلك هو المعني بقولهم: " لابد من بقاء جمع يقرب،
الخ ".
وعن الثاني: بالمنع من كون الامتناع للتخصيص مطلقا، بل لتخصيص
خاص، وهو ما يعد في اللغة لغوا، وينكر عرفا.
وعن الثالث: أنه غير محل النزاع، فإنه للتعظيم، وليس من التعميم
والتخصيص في شئ. وذلك لما جرت العادة به، من أن العظماء يتكلمون عنهم و
عن أتباعهم، فيغلبون المتكلم، فصار ذلك استعارة عن العظمة ولم يبق معنى
العموم ملحوظا فيه أصلا.
وعن الرابع: أنه، على تقدير ثبوته، كالثالث في خروجه عن محل النزاع،
لان البحث في تخصيص العام، و " الناس "، على هذا التقدير ليس بعام بل
للمعهود، والمعهود غير عام. وقد يتوقف في هذا، لعدم ثبوت صحة إطلاق
" الناس " المعهود على واحد. والامر عندنا سهل.
وعن الخامس: أنه غير محل النزاع أيضا، فان كل واحد (2) من الماء والخبز
في المثالين ليس بعام، بل هو للبعض (3) الخارجي المطابق للمعهود الذهني، أعني:

1 - يقرب - الف
2 - واحد واحد - ب
3 - المبغض - الف
112

الخبز والماء المقرر في الذهن أنه يؤكل ويشرب، وهو مقدار ما معلوم (1).
وحاصل الامر أنه أطلق المعرف بلام العهد الذهني - الذي هو قسم من
تعريف الجنس - على موجود معين، يحتمله وغيره اللفظ وأريد بخصوصه من
بين تلك (2) المحتملات بدلالة القرينة. وهذا مثل إطلاق المعرف بلام العهد
الخارجي على موجود معين من بين معهودات خارجية، كقولك لمخاطبك:
" أدخل السوق " مريدا به واحدا من أسواق معهودة بينك وبينه عهدا خارجيا
معينا له من (3) بينها بالقرينة، ولو بالعادة، فكما أن ذلك ليس من تخصيص العموم
في شئ، فكذا هذا.
حجة مجوزيه إلى الثلاثة والاثنين: ما قيل في الجمع، وأن أقله ثلاثة أو
اثنان، كأنهم جعلوه فرعا لكون الجمع حقيقة في الثلاثة أو في الاثنين.
والجواب: أن الكلام في أقل مرتبة يخصص إليها (4) العام، لا في أقل مرتبة
يطلق عليها الجمع، فان الجمع من حيث هو ليس بعام، ولم يقم دليل على تلازم
حكميهما (5)، فلا تعلق لأحدهما بالآخر، فلا يكون المثبت لأحدهما مثبتا للآخر.
أصل
وإذا خص (6) العام وأريد به الباقي، فهو مجاز مطلقا على الأقوى، وفاقا للشيخ (7)،
والمحقق (8)، والعلامة (9) في أحد قوليه، وكثير من أهل الخلاف. وقال قوم: إنه حقيقة
مطلقا. وقيل: هو حقيقة، إن كان الباقي غير منحصر، بمعنى أن له كثرة
يعسر العلم بعددها، وإلا، فمجاز. وذهب آخرون إلى كونه حقيقة، إن خص

1 - معهود - الف
2 - ذلك - ب
3 - معينا من - ب
4 - إليه - الف
5 - حكميها - ب
6 - إذا خص - ب
7 - عدة الأصول، ج 1، ص 120.
8 - معارج الأصول، ص...
9 - نهاية الأصول، ورقة 111 ص 1
113

بمخصص لا يستقل بنفسه، من شرط، أو صفة، أو استثناء، أو غاية، وإن خص
بمستقل، من سمع أو عقل، فمجاز. وهو القول الثاني للعلامة، اختاره في التهذيب (1). و
ينقل ههنا مذاهب للناس كثيرة سوى هذه (2)، لكنها شديدة الوهن، فلا جدوى
للتعرض (3) لنقلها.
لنا: أنه لو كان حقيقة في الباقي، كما في الكل، لكل مشتركا بينهما.
واللازم منتف. بيان الملازمة: أنه ثبت كونه للعموم حقيقة، ولا ريب أن
البعض مخالف له بحسب المفهوم، وقد فرض كونه حقيقة فيه أيضا، فيكون
حقيقة في معنيين مختلفين، وهو معنى المشترك. وبيان انتفاء اللازم: أن الفرض
وقع في مثله، إذ الكلام في ألفاظ العموم التي قد ثبت اختصاصه بها في أصل
الوضع.
حجة القائل بأنه حقيقة مطلقا، أمران:
أحدهما: أن اللفظ كان متناولا له حقيقة بالاتفاق، والتناول باق على ما
كان، لم يتغير، إنما طرء عدم تناول الغير.
والثاني: أنه يسبق إلى الفهم، إذ مع القرينة لا يحتمل غيره. وذلك دليل
الحقيقة.
والجواب عن الأول: أن تناول اللفظ له قبل التخصيص إنما كان مع غيره،
وبعده يتناوله وحده، وهما متغايران، فقد استعمل في غير ما وضع له.
واعترض: بأن عدم تناوله للغير أو تناوله له، لا يغير صفة تناوله لما يتناوله.
وجوابه: أن كون اللفظ حقيقة قبل التخصيص ليس باعتبار تناوله للباقي،
حتى يكون بقاء التناول مستلزما لبقاء كونه حقيقة، بل من حيث إنه مستعمل
في المعنى الذي ذلك الباقي بعض منه، وبعد التخصيص يستعمل في نفس الباقي،
فلا يبقى (4) حقيقة. والقول بأنه كان متناولا له حقيقة مجرد عبارة، إذ الكلام

1 - تهذيب الأصول، ص 74، المبحث الثاني.
2 - هذا - الف
3 - في التعرض 4 - فلا تبقى - الف
114

في الحقيقة المقابلة للمجاز، وهي صفة اللفظ.
وعن الثاني: بالمنع من السبق إلى الفهم. وإنما يتبادر مع القرينة، وبدونها
يسبق العموم. وهو دليل المجاز.
واعترض: بأن إرادة الباقي معلومة بدون القرينة. إنما المحتاج إلى القرينة،
عدم إرادة المخرج.
وضعفه ظاهر، لان العلم بإرادة الباقي قبل القرينة إنما هو باعتبار دخوله
تحت المراد، وكونه بعضا منه. والمقتضي لكون اللفظ حقيقة فيه، هو العلم
بإرادته على أنه نفس المراد، وهذا لم يحصل إلا بمعونة القرينة. وهو معنى المجاز.
حجة من قال بأنه حقيقة، إن بقى غير منحصر، أن معنى العموم حقيقة هو
كون اللفظ دالا على أمر غير منحصر في عدد، وإذا كان الباقي غير منحصر، كان
عاما.
والجواب: منع كونه معناه ذلك، بل معناه تناوله للجميع. وكان للجميع
أولا، وقد صار لغيره. فكان مجازا.
ولا يذهب عليك أن منشأ الغلط في هذه الحجة اشتباه كون النزاع في لفظ
العام أو في الصيغ. وقد وقع مثله لكثير من الأصوليين في مواضع متعددة، ككون
الامر للوجوب، والجمع للاثنين، والاستثناء مجازا في المنقطع. وهو من باب
اشتباه (1) العارض بالمعروض.
حجة القائل بأنه حقيقة، إن خص بغير مستقل: أنه لو كان التقييد بما لا
يستقل يوجب تجوزا في نحو (2): " الرجال المسلمون " من المقيد بالصفة، و: " أكرم
بني تميم ان دخلوا " من المقيد بالشرط، و " اعتزل الناس إلا العلماء "
من المقيد بالاستثناء، لكان نحو: " مسلمون " للجماعة مجازا، ولكان نحو:
" المسلم " للجنس أو للعهد مجازا، ولكان نحو: " ألف سنة إلا خمسين عاما "
مجازا. واللوازم الثلاثة باطلة. أما الأولان: فإجماعا، وأما الأخير، فلكونه موضع

1 - الاشتباه - ب
2 - نجوزا نحو - ب
115

وفاق من الخصم (1). بيان الملازمة: أن كل واحد من المذكورات يقيد بقيد هو
كالجزء له، وقد صار بواسطته لمعنى غير ما وضع له أولا. وهي بدونه، لما نقلت
عنه، ومعه لما نقلت إليه. ولا يحتمل غيره. وقد جعلتم ذلك موجبا للتجوز. فالفرق
تحكم.
والجواب: أن وجه الفرق ظاهر. فان الواو في " مسلمون "، وكألف
" ضارب " وواو " مضروب " جزء الكلمة، والمجموع لفظ واحد. والألف واللام
في نحو (2) " المسلم " وإن كانت (3) كلمة، إلا أن المجموع يعد في العرف (4) كلمة
واحدة، ويفهم منه معنى واحد من غير تجوز ونقل من معنى إلى آخر. فلا يقال إن
" مسلم " للجنس، والألف واللام للقيد والحكم بكون نحو (5) " ألف سنة إلا
خمسين عاما " حقيقة - على تقدير تسليمه - مبني على أن المراد به تمام مدلوله، و
أن الاخراج منه وقع قبل الاسناد والحكم (6).
وأنت خبير بأنه لا شئ مما ذكرناه في هذه الصور الثلاث بمتحقق في العام
المخصوص، لظهور الامتياز بين لفظ العام وبين المخصص، وكون كل منهما كلمة
برأسها، لأن المفروض إرادة الباقي من لفظ العام، لاتمام المدلول مقدما على
الاسناد. وحينئذ فكيف يلزم من كونه مجازا كون هذه مجازات؟
أصل
الأقرب عندي أن تخصيص العام لا يخرجه عن الحجية في غير
محل التخصيص، ان لم يكن المخصص مجملا مطلقا. ولا أعرف في ذلك
من الأصحاب مخالفا. نعم يوجد في كلام بعض المتأخرين ما يشعر بالرغبة عنه.
ومن الناس من أنكر حجيته مطلقا. ومنهم من فصل، واختلفوا في التفصيل على

1 - وفاق الخصم - ب
2 - اللام نحو - الف
3 - وان كان - ب
4 - يعد في العرف ليس في - ج
5 - نحو - ليس في - ج
6 - والحكم ليس في - ج
116

أقوال شتى، منها: الفرق بين المتصل والمنفصل، فالأول (1) حجة، لا الثاني. ولا
حاجة لنا (2) إلى التعرض لباقيها، فإنه تطويل بلا طائل، إذ هي في غاية الضعف
والسقوط. وذهب بعض إلى أنه يبقى حجة في أقل الجمع، من اثنين أو ثلاثة،
على الرأيين (3).
لنا: القطع بأن السيد إذا قال لعبده: " كل من دخل داري، فأكرمه " ثم
قال بعد (4): " لا تكرم فلانا "، أو قال في الحال: " إلا فلانا "، فترك إكرام غير من
وقع النص على إخراجه، عد في العرف عاصيا، وذمه العقلاء على المخالفة. و
ذلك دليل ظهوره في إرادة الباقي، وهو المطلوب.
احتج منكر الحجية مطلقا بوجهين:
الأول أن حقيقة اللفظ هي العموم، ولم يرد (5)، وسائر ما تحته (6) من المراتب
مجازاته. وإذا لم ترد الحقيقة (7)، تعددت المجازات، كان اللفظ مجملا فيها، فلا
يحمل على شئ منها. وتمام الباقي أحد المجازات، فلا يحمل عليه، بل يبقى
مترددا بين جميع مراتب الخصوص، فلا يكون (8) حجة في شئ منها.
ومن هذا يظهر حجة المفصل، فان المجازية عنده إنما تتحقق في المنفصل،
للبناء على الخلاف في الأصل السابق.
الثاني: أنه بالتخصيص خرج عن كونه (9) ظاهرا، وما لا يكون ظاهرا لا
يكون حجة.
والجواب عن الأول: أن ما ذكرتموه صحيح، إذا كانت المجازات متساوية
ولا دليل على تعيين أحدها (10). أما إذا كان بعضها أقرب إلى الحقيقة، ووجد

1 - والأول - ب
2 - حاجة بنا - الف
3 - من الرأيين - ب
4 - بعده - ب
5 - ولم يرده - ب
6 - سائر من تحته - ب
7 - يرد الحقيقة - ب
8 - فلا تكون - ب
9 - من كونه - الف
10 - أحدهما - ب
117

الدليل على تعيينه، كما في موضع النزاع، فان الباقي أقرب إلى الاستغراق. وما
ذكرناه من الدليل يعينه أيضا، لإفادته كون التخصيص قرينة ظاهرة في إرادته،
مضافا إلى منافاة عدم إرادته للحكمة، حيث يقع (1) في كلام الحكيم، بتقريب ما مر
في بيان إفادة المفرد المعرف للعموم، إذ المفروض انتفاء الدلالة على المراد ههنا
من غير جهة التخصيص. فحينئذ يجب الحمل على ذلك البعض، وسقط ما
ذكرتموه. هذا مع أن الحجة غير وافية بدفع القول بحجيته في أقل الجمع، إن لم
يكن المحتج بها ممن يرى جواز التجاوز (2) في التخصيص إلى الواحد، لكون أقل
الجمع حينئذ مقطوعا به، على كل تقدير.
وعن الثاني: بالمنع من عدم الظهور في الباقي، وإن لم يكن حقيقة. وسند
هذا المنع يظهر من دليلنا السابق. وانتفاء الظهور بالنسبة إلى العموم لا يضرنا.
واحتج الذاهب إلى أنه حجة في أقل الجمع: بأن أقل الجمع هو المتحقق،
والباقي مشكوك فيه، فلا يصار إليه.
والجواب: لا نسلم أن الباقي مشكوك فيه، لما ذكرنا من الدليل على وجوب
الحمل على ما بقي.
أصل
ذهب العلامة (3) في التهذيب (4) إلى جواز الاستدلال بالعام قبل استقصاء البحث
في طلب التخصيص (5)، واستقرب في النهاية (6) عدم الجواز، ما لم يستقص في الطلب
وحكى فيها كلا من القولين عن بعض من (7) العامة. وقد اختلف كلامهم في بيان
موضع النزاع.

1 - تقع - ب
2 - التجاوز - الف التجوز - ب
3 - ذهب العلامة ره - الف
4 - تهذيب الأصول، ص 74.
5 - التحقيق - الف
6 - نهاية الأصول، ورقه 113.
7 - عن بعض من العامة - الف من ليس في - ب
118

فقال بعضهم: إن النزاع في جواز التمسك بالعام قبل البحث عن المخصص. وهو الذي
يلوح من كلام العلامة في التهذيب، وصرح به في النهاية. وأنكر ذلك جمع
من المحققين، قائلين، إن العمل بالعموم قبل البحث عن المخصص ممتنع
إجماعا. وإنما الخلاف في مبلغ البحث. فقال الأكثر: يكفي بحيث يغلب (2) معه
الظن بعدم المخصص، وقال بعض (3): إنه لا يكفي ذلك، بل لابد من القطع
بانتفائه.
والظاهر: أن الخلاف موجود في المقامين لنقل جماعة القول بجواز التمسك
بالعام قبل البحث عن المخصص عن بعض المتقدمين، وتصريح آخرين
باختياره. لكنه ضعيف.
وربما قيل إن مراد قائله: أنه قبل وقت العمل وقبل ظهور المخصص، يجب اعتقاد
عمومه جزما، ثم إن لم يتبين (4) الخصوص، فذاك، والا تغير الاعتقاد.
وينقل عن بعض العلماء أنه قال - بعد ذكره لهذا الكلام عن ذلك القائل -:
" وهذا غير معدود عندنا من مباحث العقلاء ومضطرب العلماء. وإنما هو قول
صدر عن غباوة واستمرار في عناد ".
إذا عرفت هذا: فالأقوى عندي: أنه لا يجوز المبادرة إلى الحكم (5) بالعموم،
قبل البحث عن المخصص (6)، بل يجب التفحص عنه، حتى يحصل الظن الغالب
بانتفائه، كما يجب ذلك في كل دليل يحتمل أن يكون له معارض احتمالا
راجحا، فإنه في الحقيقة جزئي من جزئياته.
لنا: أن المجتهد يجب عليه البحث عن الأدلة، وكيفية دلالتها.
والتخصيص كيفية في الدلالة. وقد شاع أيضا حتى قيل: " ما من عام إلا وقد
خص "، فصار احتمال ثبوته مساويا لاحتمال عدمه، وتوقف ترجيح

1 - بان العمل - الف
2 - تغلب - الف
3 - بعضهم - الف
4 - لم يبين - ب
5 - بالحكم - ج
6 - الخصيص - ح
119

أحد الامرين على البحث والتفتيش. وإنما اكتفينا بحصول الظن ولم نشترط
القطع، لأنه مما لا سبيل إليه غالبا، إذ غاية الامر عدم الوجدان، وهو لا يدل
على عدم الوجود. فلو اشترط، لادى إلى إبطال العمل بأكثر العمومات.
احتج مجوز التمسك به قبل البحث: بأنه لو وجب طلب المخصص في التمسك
بالعام، لوجب طلب المجاز في التمسك بالحقيقة. بيان الملازمة: أن إيجاب طلب
المخصص إنما هو للتحرز عن الخطاء (1). وهذا المعنى بعينه موجود في المجاز. لكن اللازم
أعني طلب المجاز منتف، فإنه ليس بواجب اتفاقا، والعرف قاض أيضا بحمل
الألفاظ على ظواهرها، من غير بحث عن وجود ما يصرف اللفظ عن حقيقته. و
بهذا احتج العلامة على مختار التهذيب (2). وهو كالصريح في موافقة هذا القائل،
فتأمل.
والجواب: الفرق بين العام والحقيقة، فان العمومات أكثرها مخصوصة، كما
عرفت. فصار حمل اللفظ على العموم مرجوحا في الظن قبل البحث عن المخصص.
ولا كذلك الحقيقة، فان أكثر الألفاظ محمول (3) على الحقايق.
واحتج مشترط القطع: بأنه إن كانت المسألة مما كثر فيه البحث، ولم يطلع
على تخصيص، فالعادة قاضية بالقطع بانتفائه، إذ لو كان، لوجد مع كثرة البحث
قطعا. وإن لم يكن (4) مما كثر فيه البحث، فبحث المجتهد فيها يوجب القطع بانتفائه
أيضا، لأنه لو أريد بالعام الخاص، لنصب لذلك (5) دليل يطلع عليه، فإذا بحث
المجتهد ولم يعثر بدليل التخصيص، قطع بعدمه.
وأجيب: بمنع المقدمتين، أعني: العلم عادة عند كثرة البحث، والعلم
بالدليل عند بحث المجتهد. فإنه كثيرا ما (6) تكون (7) المسألة مما تكرر فيه البحث، أو
يبحث فيها المجتهد، ليحكم (8)، ثم يجد ما يرجع به عن حكمه (9). وهو ظاهر.

1 - عن الخطايا - الف
2 - تهذيب الأصول إلى علم الأصول، ص 74.
3 - مما محمول - ب
4 - وان لم تكن - ب
5 - بذلك - الف
6 - مما - ج
7 - يكون - الف
8 - فيحكم - الف
9 - حكم - ج
120

الفصل الثالث
في
ما يتعلق بالمخصص
أصل
إذا تعقب المخصص متعددا، سواء كان جملا أو غيرها، وصح عوده إلى كل
واحد، كان الأخير مخصوصا قطعا. وهل يخص معه الباقي، أو يختص (1) هو به؟
أقوال (2). وقد جرت عادتهم بفرض الخلاف والاحتجاج، في تعقب الاستثناء. ثم
يشيرون في باقي أنواع المخصصات إلى أن الحال فيها (3) كما في الاستثناء. ونحن نجري
على منهجهم (4)، حذرا من فوات بعض الخصوصيات بالخروج عنه، لاحتياجه إلى
تغيير أوضاع الاحتجاجات.
فنقول: ذهب قوم إلى أن الاستثناء المتعقب للجمل المتعاطفة، ظاهر في
رجوعه إلى الجميع. وفسره بعضهم بكل واحدة. ويحكى هذا القول عن الشيخ (5)
رحمه الله. وقال آخرون (6): انه ظاهر في العود إلى الأخيرة. وقيل: بالوقف، بمعنى لا
ندري أنه حقيقة في أي الامرين. وقال (7) السيد المرتضى رضي الله عنه: إنه
مشترك بينهما، فيتوقف إلى (8) ظهور القرينة. وهذان القولان موافقان للقول الثاني
في الحكم، لان الأخيرة مخصوصة على كل حال. نعم تظهر (9) ثمرة الخلاف في

1 - يخصص - ب
2 - فيه أقوال - ب
3 - فيهما - الف
4 - نهجم - ب
5 - عدت الأصول ج 1 ص 125 - 126 6 - الأخير -
7 - الذريعة إلى أصول الشريعة ص 249 8 - على - ج
9 - يظهر - الف ب
121

استعمال الاستثناء في الاخراج من الجميع، فإنه مجاز على ذلك القول، محتمل
عند أول هذين، حقيقة عند ثانيهما.
وفصل بعضهم تفصيلا طويلا، يرجع حاصله إلى اعتماد القرينة
على الامرين. واختاره العلامة في التهذيب (1). وليس بجيد، لان فرض وجود القرينة
يخرج عن محل النزاع، إذ هو فيما عرى عنها.
والذي يقوى في نفسي: أن اللفظ محتمل لكل من الامرين، لا يتعين
لأحدهما إلا بالقرينة. وليس ذلك لعدم العلم بما هو حقيقة فيه، كمذهب
الوقف، ولا لكونه مشتركا بينهما مطلقا، كما يقوله (2) المرتضى - رضي الله عنه - و
إن كنا في المعنى موافقين له. ولولا تصريحه - رحمه الله - بلفظ " الاشتراك " في
أثناء الاحتجاج، لم يأب كلامه الحمل على ما اخترناه، فإنه قال: " والذي
أذهب إليه: أن الاستثناء إذا تعقب جملا، وصح رجوعه إلى كل واحدة (3) منها لو
انفردت، فالواجب تجويز رجوعه إلى جميع الجمل كما قال الشافعي، وتجويز
رجوعه إلى ما يليه على ما قال أبو حنيفة، وأن لا يقطع على ذلك إلا بدليل
منفصل، أو عادة، أو أمارة. وفي الجملة: لا يجوز القطع على ذلك بشئ يرجع (4) إلى
اللفظ ".
هذا. والحال فيما صرنا إليه، نظير ما عرفت في مذهبي الوقف والاشتراك،
من الموافقة بحسب الحكم للقول بتخصيص الأخيرة، لكونها متيقنة التخصيص
على كل تقدير. غاية ما هناك أنه لا يعلم كونها مرادة بخصوصها أو في جملة
الجميع. وهذا لا أثر له في الحكم المطلوب، كما هو ظاهر (5). فالمحتاج إلى القرينة
في الحقيقة إنما هو تخصيص ما سواها.
ولنقدم على توجيه المختار مقدمة يسهل بتدبرها كشف الحجاب عن وجه

1 - تهذيب الأصول إلى علم الأصول، ص 75.
2 - كما يقول - الف
3 - إلى واحدة - الف
4 - لشئ يراجع - ج
5 - الظاهر - ب
122

المرام، وتزداد (1) بتذكرها بصيرة في تحقيق المقام. وهي: أن الواضع لابد له من
تصور المعنى في الوضع. فان تصور معنا جزئيا، وعين بإزائه لفظا مخصوصا، أو
ألفاظا مخصوصة، متصورة تفصيلا أو إجمالا، كان الوضع خاصا، لخصوص
التصور المعتبر فيه أعني تصور المعنى، والموضوع له خاصا أيضا. وهو ظاهر، لا
لبس فيه. وإن تصور معنى عاما، يندرج تحته جزئيات إضافية أو حقيقية، فله أن
يعين لفظا معلوما أو ألفاظا معلومة بالتفصيل أو الاجمال بإزاء ذلك المعنى العام.
فيكون الوضع عاما، لعموم التصور المعتبر فيه، والموضوع له أيضا عاما. وله أن
يعين اللفظ أو الألفاظ بإزاء خصوصيات الجزئيات المندرجة تحته، لأنها معلومة
إجمالا، إذا توجه (2) العقل بذلك المفهوم العام نحوها، والعلم الاجمالي كاف
في الوضع، فيكون الوضع عاما، لعموم التصور المعتبر فيه، والموضوع له (3) خاصا.
فمن القسم الأول من هذين: المشتقات. فان الواضع وضع صيغة " فاعل "
مثلا، من كل مصدر لمن قام به مدلوله، وصيغة " مفعول " منه لمن وقع عليه.
وعموم الوضع والموضوع له في ذلك بين.
ومن القسم الثاني: المبهمات، كاسم الإشارة، فلفظ (4): " هذا " مثلا، موضوع
لخصوص كل فرد مما (5) يشار به إليه، لكن باعتبار تصور الواضع للمفهوم العام،
وهو كل مشار إليه مفرد مذكر، ولم يضع (6) اللفظ لهذا المعنى الكلي (7)، بل
لخصوصيات تلك الجزئيات المندرجة تحته. وإنما حكموا بذلك، لان لفظ (8) (هذا)
لا يطلق إلا على الخصوصيات، فلا يقال: " هذا "، ويراد واحد مما يشار إليه (9)،
بل لابد في إطلاقه من القصد إلى خصوصية معينة، فلو كان موضوعا للمعنى العام

1 - يزداد - ج
2 - إذ توجه - الف
3 - له - ليس في - ب
4 - فلفظة - الف
5 - عما - ب
6 - يضع - ليس في - ج
7 - المعنى الكل - ب
8 - لفظ - ليس في - ج
9 - به - ب
123

ك‍ " رجل " لجاز فيه ذلك. وهكذا الكلام في الباقي.
ومن هذا القبيل أيضا وضع الحروف، فإنها موضوعة باعتبار معنى عام - وهو
نوع من النسبة - لكل واحدة من خصوصياته. ف‍ " من " وإلى " و " على "،
مثلا، موضوعات باعتبار الابتداء والانتهاء والاستعلاء، لكل ابتداء وانتهاء و
استعلاء معين بخصوصه. وفي معناها الافعال الناقصة. وأما التامة فلها
جهتان، وضعها من إحديهما عام، ومن الأخرى خاص، فالعام بالقياس إلى ما
اعتبر فيها من النسب الجزئية، فإنها في حكم المعاني الحرفية، فكما أن لفظة (1)
" من " موضوعة وضعا عاما، لكل ابتداء معين بخصوصه، كذلك لفظة
" ضرب " مثلا موضوعة وضعا عاما، لكل نسبة، للحدث الذي دلت عليه، إلى
فاعل بخصوصها (2). وأما الخاص فبالنسبة إلى الحدث، وهو واضح.
إذا تمهد هذا، قلنا: إن أدوات الاستثناء كلها موضوعة بالوضع العام
لخصوصيات الاخراج. أما الحرف منها، فظاهر. وأما الفعل، فلان الاخراج به
إنما هو باعتبار النسبة، وقد علمت: أن الوضع بالإضافة إليها عام، وأما الاسم،
فلانه من قبيل المشتق، والوضع فيه عام، كما عرفت.
ثم إن فرض إمكان (3) عود الاستثناء إلى كل واحد يقتضي صلاحية المستثنى
لذلك، وهي تحصل بأمور.
منها: كونه موضوعا وضع الأدات، أعني بالوضع العام، وهو الأغلب. كأن
يكون مشتقا، أو اسما مبهما، أو نحوهما، مما هو موضوع كذلك.
وعلى هذا، فأي الامرين أريد من الاستثناء كان استعماله فيه حقيقة،
واحتيج في فهم المراد منه إلى القرينة، كما في نظائره. فان إفادة المعنى المراد
من الموضوع بالوضع العام إنما هي بالقرينة. وليس ذلك من الاشتراك في شئ،
لاتحاد الوضع فيه وتعدده في المشترك (4). لكنه في حكمه باعتبار الاحتياج إلى

1 - لفظ - الف
2 - بخصوصه - ب
3 - امكانه - ج
4 - تعدده المشترك - ب
124

القرينة.
على أن بينهما فرقا من هذا الوجه أيضا، فان احتياج اللفظ المشترك إلى
القرينة إنما هو لتعيين المراد، لكونه موضوعا لمسميات متناهية، فحيث يطلق يدل
على تلك المسميات، إذا كان العلم بالوضع حاصلا، ويحتاج تعيين المراد منها إلى
القرينة. بخلاف الموضوع (1) بالوضع العام، فان (2) مسمياته غير متناهية، فلا يمكن
حصول جميعها في الذهن، ولا البعض دون البعض، لاستواء نسبة البعض إليها (3)،
فاحتياجه إلى القرينة إنما هو لأصل الإفادة (4)، لا للتعيين.
ومنها: كونه من الألفاظ المشتركة، بحيث يكون صلاحيته للعود إلى
الأخيرة، باعتبار معنى، وإلى الجميع باعتبار آخر، وحينئذ (5) فحكمه
حكم المشترك. وقد اتضح بهذا بطلان القول بالاشتراك مطلقا، فإنه لا تعدد في
وضع المفردات غالبا، كما عرفت. ولا دليل على كون الهيئة (6) التركيبية موضوعة (7)
وضعا متعددا لكل من الامرين (8)، كما ظهر فساد القولين بالعود إلى الجميع مطلقا،
وإلى الأخيرة مطلقا، مع كون الوضع في الأصل للأعم، وعدم ثبوت خلافه.
احتج المرتضى (9) - رضي الله عنه - بوجوه:
الأول: أن القائل إذا قال لغيره: " إضرب غلماني، والق أصدقائي، إلا
واحدا "، يجوز أن يستفهم المخاطب: هل أراد استثناء الواحد من الجملتين أو من
جملة واحدة؟ والاستفهام لا يحسن إلا مع احتمال اللفظ واشتراكه.
الثاني: أن الظاهر من استعمال اللفظة (10) في معنيين مختلفين، من غير أن تقوم
دلالة على أنها متجوز بها في أحدهما: أنها حقيقة فيهما. ولا خلاف في أنه وجد

1 - موضوع - ب
2 - فإنه - ب
3 - نسبة الوضع إليها - ج
4 - الأصل الإفادة - ب
5 - فحينئذ - ب
6 - هيئة - ب
7 - موضوعا - ج
8 - لكل الامرين - ج
9 - الذريعة إلى أصول الشريعة، ص 250 - 253.
10 - اللفظ - الف
125

في القرآن واستعمال أهل اللغة استثناء تعقب جملتين، عاد إليهما تارة، عاد إلى
إحديهما (1) أخرى. وإنما يدعي من خصه بإحديهما (2) أنه، إذا عاد إليهما، فلدلالة
دلت، ومن أرجعه إليهما: أنه إذا اختص بالجملة التي تليه فللدلالة. وهذا
من الجماعة اعتراف بأنه مستعمل في الامرين. وإذا كان الامر على هذا،
فيجب أن يكون تعقب الاستثناء الجملتين محتملا لرجوعه إلى الأقرب، كما أنه
محتمل لعمومه للامرين، و حقيقة في كل واحد منهما. فلا يجوز القطع على
أحد الامرين إلا بدلالة منفصلة.
الثالث: أنه لابد في الاستثناء المتعقب لجملتين من أن يكون إما راجعا
إليهما معا، أو إلى واحدة منهما، لأنه من المحال أن لا يكون راجعا إلى شئ منهما.
وقد نظرنا في كل شئ يعتمده من قطع على رجوعه إليهما، فلم نجد فيه دلالة على
وجوب (3) ما ادعاه. ونظرنا أيضا فيما يتعلق به من قطع على عوده إلى الأقرب إليه
من الجملتين، من غير تجاوز لها، فلم نجد فيه ما يوجب القطع على اختصاصه
بالجملة التي تليه (4)، دون ما تقدمها. فوجب - مع عدم القطع على كل واحد من
الامرين - أن نقف (5) فيهما، ولا نقطع على شئ منهما، إلا بدلالة.
الرابع: أن القائل إذا قال: " ضربت غلماني، وأكرمت جيراني، و
أخرجت زكاتي (6)، قائما "، أو قال: " صباحا "، أو " مساء "، أو " في مكان
كذا " احتمل ما عقب بذكره من الحال، أو ظرف (7) الزمان أو ظرف المكان: أن
يكون العامل فيه والمتعلق (8) به جميع ما عدد (9) من الافعال، كما يحتمل أن يكون
المتعلق به ما هو أقرب إليه. وليس لسامع ذلك أن يقطع على أن العامل فيما

1 - أحدهما - الف
2 - بأحدهما - الف
3 - وجود - ب
4 - يلها - ب
5 - ان تقف - الف
6 - زكواتي - ب
7 - الظرف - ج
8 - أو المتعلق - ب
9 - عدد - الف - ب - ج
10 - أن - ليس في - الف
126

عقب بذكره الكل، ولا البعض، إلا بدليل غير الظاهر، فكذلك يجب
في الاستثناء والجامع بين الامرين أن كل واحد من الاستثناء والحال
والظروف الزمانية والمكانية فضلة في الكلام تأتي (1) بعد تمامه واستقلاله. قال:
وليس لاحد أن يرتكب: أن الواجب فيما ذكرناه القطع على أن العامل فيه جميع الأفعال
المتقدمة، إلا أن يدل دليل على خلاف ذلك، لان هذا من مرتكبه مكابرة
ودفع للمتعارف (2). ولا فرق بين من حمل نفسه عليه وبين من قال: بل الواجب
القطع على أن الفعل الذي تعقبه الحال أو الظرف هو العامل، دون ما تقدمه، و
إنما يعلم في بعض المواضع أن الكل عامل بدليل.
والجواب: أما عن الأول، فبالمنع من اختصاص حسن الاستفهام بالاشتراك
، بل المقتضي لحسنه هو الاحتمال، سواء كان بواسطة الاشتراك، أو لكونه
موضوعا بالوضع العام، أو لعدم معرفة ما هو حقيقة فيه (3)، كما يقول (4) أهل الوقف، أو
لغير ذلك من الأسباب المقتضية له.
وأما عن الثاني: فبأنه، على تقدير تسليمه، إنما يدل على كون اللفظ حقيقة
في الامرين، لا على الاشتراك، لجواز كونه بوضع واحد، كما قلناه، ولابد
في الاشتراك من وضعين (5).
وأما عن الثالث: فبأن عدم الدليل المعتبر على تحتم عوده إلى الجميع أو (6)
اختصاصه بالأخيرة، لا يقتضي المصير إلى الاشتراك، بل يتردد الامر بينه، وبين
ما قلناه، وبين الوقف.
وأما عن الرابع: فبأنه قياس في اللغة (7). مع أنه لا يدل على الاشتراك، بل

1 - تأتي - الف - ج
2 - المتعارف - الف
3 - منه - الف
4 - يقوله - الف
5 - وصفين - الف
6 - و - ب
7 - وفي اللغة - الف
127

على الأعم منه ومما قلناه.
حجة القول بالرجوع إلى الجميع أمور ستة:
أحدها: أن الشرط المتعقب للجمل (1) يعود إلى الجميع، فكذا الاستثناء بجامع
عدم استقلال كل منهما بنفسه، واتحاد معنييهما، فان قوله تعالى في آية القذف:
(إلا من تاب) (2) جار مجرى قوله: " إن لم يتوبوا " (3).
وثانيها: (4) أن حرف العطف يصير الجمل المتعددة في حكم الواحدة، إذ لا
فرق بين قولنا: " رأيت زيد بن عبد الله (5) ورأيت زيد بن عمرو " (6) وبين قولنا:
" رأيت الزيدين ". وإذا كان الاستثناء الواقع عقيب الجملة الواحدة راجعا
إليها لا محالة، فكذلك ما هو بحكمها.
وثالثها: أن الاستثناء بمشية الله تعالى (7) إذا تعقب جملا، يعود إلى جميعها
بلا خلاف، فكذلك الاستثناء بغيره. والجامع بينهما: أن كلا منهما استثناء، و
غير مستقل.
ورابعها: أن الاستثناء صالح للرجوع إلى كل واحدة من الجمل، والحكم
بأولوية البعض تحكم، فيجب عوده إلى الجميع. كما أن ألفاظ (8) العموم، لما لم
يكن تناولها لبعض أولى من آخر، تناولت الجميع.
وخامسها: أن طريقة العرب الاختصار وحذف فضول الكلام ما استطاعوا،
فلابد لهم، حيث يتعلق إرادة الاستثناء بالجمل المتعددة، من ذكره بعدها،
مريدين به الجميع، حتى كأنهم ذكروه عقيب (9) كل واحدة، إذ لو كرر بعد كل
جملة، لاستهجن، وكان مخالفا لما ذكر من طريقتهم. ألا ترى أنه لو قيل: في آية
القذف (10) مثلا: " ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا إلا الذين تابوا "، " أولئك هم

1 - الحمل - الف
2 - سورة مريم، 60.
3 - ان تتوبوا - ب
4 - وثانيهما - ب
5 - ابن عبد الله - ب
6 - ابن عمرو - ب
7 - ليس في - الف - ب - ج
8 - الألفاظ - ب
9 - كأنهم عقيب - ب
10 - سورة النور، آية 4
128

الفاسقون، إلا الذين تابوا " (1)، لكان تطويلا مستهجنا. فأقيم فيها مقام ذلك،
ذكر التوبة مرة واحدة عقيب الجملتين.
وسادسها: أن لواحق الكلام وتوابعه، من شرط أو استثناء، يجب أن
يلحقه ما دام الفراغ منه لم يقع، فما دام متصلا لم ينقطع، فاللواحق لاحقه به و
مؤثرة فيه، فالاستثناء المتعقب للجمل المتصلة المعطوف بعضها عل بعض، يجب
أن يؤثر في جمعيها.
والجواب عن الأول: المنع من ثبوت الحكم في الأصل، بل هو محتمل، كما
قلنا (2) في الاستثناء، ولو سلم (3)، فهو قياس في اللغة.
وعن الثاني: أنه قياس كالأول.
وعن الثالث: بأن ذكر المشية عقيب الجمل ليس باستثناء ولا شرط، لأنه
لو كان استثناء، لكان فيه بعض حروفه. ولو كان شرطا على الحقيقة لما صح
دخوله على الماضي. وقد يذكر المشية في الماضي فيقول القائل: " حججت
وزرت، إن شاء الله تعالى ". وإنما أدخلت (4) المشية في كل (5) هذه المواضع ليقف
الكلام عن النفوذ (6) والمضي، لا لغير ذلك.
فان قيل: كيف اقتضى تعقب المشية أكثر من جملة وقوف حكم الجميع ولم
يحتمل التعلق بالأخيرة فقط؟ (7)
قلنا: لولا نقلهم الاجماع على ذلك، لكان القول باحتماله ممكنا. لكنهم
نقلوا إجماع الأمة على أن (8) حكم الجميع يقف.
وعن الرابع: أن صلاحيته للجميع لا توجب ظهوره فيه، وإنما تقتضي
التجويز لذلك والشك فيه، فرقا بين ما يصح عوده إليه وبين ما لا يصح. وتناول

1 - سورة النور، آية 4 - 5.
2 - ولو قلنا - ح
3 - واو سلم - خ ل - ج
4 - دخلت - الف - ج
5 - المشية في الماضي في كل - ب
6 - على النفوذ - الف
7 - بالأخير فقط - ب
8 - الاجماع على أن - ج
129

ألفاظ العموم للجميع ليس باعتبار صلاحيتها لذلك، بل لأنها موضوعة للشمول
والاستغراق وجوبا، فلا وجه للتشبيه بها في هذا المقام. وإنما يحسن أن يشبه
بالجمع المنكر، فإنه صالح للجميع، ومع ذلك، ليس بظاهر فيه، ولا في شئ
مما يصلح له، من مراتب (1) الجمع. ألا ترى (2): أن القائل إذا قال: " رأيت رجالا "
كان كلامه صالحا لإرادة البيض والسود، والطوال والقصار. ولا يظهر منه -
مع ذلك - أنه قد أراد كل من صلح هذا اللفظ له.
وعن الخامس (3): أنهم كما يريدون الاستثناء من كل جملة، فيختصرون
بذكر ما يدل على مرادهم في أواخر الجمل، هربا من التطويل، بذكره عقيب
كل جملة، كذلك يريدون الاستثناء من الجملة الأخيرة فقط، فلابد من القرينة
في الحكم بالاختصار وعدمه.
وعن السادس: أن اعتبار الاتصال في الكلام وعدم الفراغ منه بالنسبة إلى
اللواحق، كالشرط والاستثناء والمشية، إنما هو لصحة اللحوق والتأثير فيه، لتمييز
حكم ما يصح لحوقه بالكلام مما لا يصح، لا لصيرورتها ظاهرة في التعلق
بجميعه (4)، وإن كان بعضه منفصلا وبعيدا عن محل المؤثر.
واحتج من خصه بالأخيرة بوجوه:
الأول: أن الاستثناء خلاف الأصل، لاشتماله على مخالفة الحكم (5) الأول.
فالدليل يقتضي عدمه. تركنا العمل به في الجملة الواحدة، لدفع محذور الهذرية،
فيبقى الدليل في باقي الجمل سالما عن المعارض. وإنما خصصنا الأخيرة، لكونها
أقرب، ولأنه لا قائل بالعود إلى غير الأخيرة خاصة.
الثاني: فإن المقتضي لرجوع الاستثناء إلى ما تقدمه، عدم استقلاله بنفسه،
ولو استقل لما علق بغيره. ومتى علقناه بما يليه استقل وأفاد، فلا معنى لتعليقه

1 - له مراتب - ج
2 - الا يرى - ج
3 - والخامس - الف
4 - لجميعه - ج
5 - حكم - الف
130

بما بعد عنه، إذ لو جاز مع إفادته واستقلاله أن يتعلق بغيره، لوجوب فيه - لو كان
مستقلا بنفسه - أن تعلقه (1) بغيره.
الثالث: أن من حق العموم المطلق أن يحمل على عمومه وظاهره، إلا
لضرورة تقتضي (2) خلاف ذلك. ولما خصصنا الجملة التي يليها الاستثناء
بالضرورة، لم يجز تخصيص غيرها، ولا ضرورة.
الرابع: أنه، لو رجع الاستثناء إلى الجميع، فان أضمر مع كل جملة استثناء،
لزم مخالفة الأصل، وإن لم يضمر، كان العالم فيما (3) بعد الاستثناء أكثر من
واحد، ولا يجوز تعدد العالم على معمول واحد في إعراب واحد، لنص سيبويه
عليه، وقوله حجة، ولئلا يجتمع المؤثران المستقلان على الأثر الواحد.
الخامس: أنه لا خلاف في أن الاستثناء من الاستثناء يرجع إلى ما يليه،
دون ما تقدمه. فإذا قال القائل: " ضربت غلماني، إلا ثلاثة، إلا واحدا " كان
الواحد المستثنى راجعا إلى الجملة التي يليها (4)، دون ما تقدمها. فكذا في غيره،
دفعا للاشتراك.
السادس: أن الظاهر من حال المتكلم أنه لم ينتقل من الجملة الأولى إلى
الثانية إلا بعد استيفاء غرضه منها، كما لو سكت، فإنه يكون دليلا على استكمال (5)
الغرض من الكلام. وكما أن السكوت يحول بين الكلام وبين لواحقه فيمنع من
تعلقها به، فكذلك الجملة الثانية حائلة بين الاستثناء وبين الأولى فتكون مانعة
من تعلقه بها.
والجواب عن الأول: أنه إن كان المراد بمخالفة الاستثناء للأصل: أنه
موجب للتجوز في لفظ العام، والأصل الحقيقة، فله جهة صحة. لكن تعليله
بمخالفة الحكم الأول فاسد، إذ لا مخالفة فيه للحكم بحال.

1 - أن تعلق - الف
2 - يقتضي - الف - ج
3 - فيها - ب
4 - يليه - الف - ج
5 - استكماله - ج
131

اما على القول بأن الاستثناء إخراج من اللفظ بعد إرادة تمام معناه وقبل
الحكم والاسناد، كما هو رأي محققي المتأخرين، فظاهر. وكذا على القول بأن
المجموع من المستثنى منه والمستثنى مع الأداة، عبارة عن الباقي، فله اسمان:
مفرد، ومركب.
وأما على القول بأن المراد بالمستثنى منه: ما بقي بعد الاستثناء مجازا
والاستثناء قرينته، وهو مختار أكثر المتقدمين، فلان الحكم لم يتعلق بالأصالة إلا
بالباقي، فلا مخالفة بحسب الحقيقة.
وقوله: (إن ترك (1) العمل بالدليل - يعنى الأصل - في الجملة الواحدة لدفع
محذور الهذرية) هذر، فان الخروج عن أصالة الحقيقة والمصير إلى المجاز عند قيام
القرينة مما لا يدانيه شوب الريب ولا يعتريه شبهة (2) الشك. وتعلق الاستثناء
بالأخيرة في الجملة مقطوع به، فتعليل ترك العمل بالأصل حينئذ بدفع محذور
الهذرية فضول، بل غفلة وذهول، لان دفع الهذرية لو صلح بمجرده سببا للخروج
عن الأصل لقبل الاستثناء وإن انفصل في النطق عرفا وانقطع عن المستثنى منه
حسا، بل وغيره من اللواحق أيضا. والبديهة تنادي بفساده.
وإن كان المراد أن الظاهر من المتكلم باللفظ العام إرادة العموم،
والاستثناء مخالف لهذا الأصل، يعني القاعدة أو استصحاب هذه الإرادة، فتوجه
المنع إليه ظاهر، لان الاتفاق واقع على أن للمتكلم ما دام متشاغلا بالكلام أن
يلحق به ما شاء من اللواحق. وهذا يقتضي وجوب توقف السامع عن الحكم
بإرادة المتكلم ظاهر اللفظ حتى يتحقق الفراغ وينتفي احتمال إرادة غيره. ولو
كان صدور اللفظ بمجرده مقتضيا للحمل على الحقيقة، لكان التصريح بخلافه
قبل فوات وقته منافيا له ووجب رده. ويتمشى ذلك إلى الأخيرة (3) أيضا. ولا
يجدي معه دفع محذور الهذرية، لما عرفت.

1 - تركنا - ب - الف
2 - شبه - ب
3 - في الأخيرة - ب
132

فعلم أن المقتضي لصحة اللواحق وقبولها مع الاتصال، إنما هو نص الواضع
على أن لمريد العدول عن الظاهر أن يأتي بدليله، في حال تشاغله بالكلام، حيث
شاء منه، فما لم يقع الفراغ منه، لا يتجه للسامع الحكم بإرادة الحقيقة، لبقاء
مجال الاحتمال.
نعم لما كان الغرض قد يتعلق بتخصيص الأخيرة فقط، كما يتعلق
بتخصيص الجميع بطريق الاختصار، واللفظ صالح بحسب وضعه لكل
من الامرين، لم يحصل الجزم بالعود إلى الكل إلا بالقرينة، وكان تعلقه بالأخيرة
متحققا، للزومه على كل التقديرين، وصح التمسك في انتفاء التعلق بالباقي
بالأصل إلى أن يعلم (1) الناقل عنه. وليس هذا من القول بالاختصاص بالأخيرة في
شئ.
وإن قدر عروض اشتباه فيه عليك، فاستوضحه بالتدبر في صيغة الامر،
فإنها - على القول باشتراكها بين الوجوب والندب إذا وردت مجردة عن القرائن
تدل على الندب، وذلك لان اقتضاءها كون الفعل راجحا أمر (2) متيقن، وما زاد
عليه مشكوك فيه، فيتمسك في نفيه بالأصل، لكونه زيادة في التكليف. غير أنه
إذا قامت القرينة على إرادته، كان استعمال اللفظ فيه واقعا في محله، غير منتقل
به عنه (3) إلى غيره، كما يقوله من ذهب إلى كونه حقيقة في الندب فقط.
وهذا مما يفرق به (4) بين القولين، حيث إن الاحتياج إلى القرينة بحسب
الحقيقة على القول بالاشتراك، إنما هو في الحمل على الوجوب. وهكذا الحال عند
من يقول بأنها حقيقة في الندب.
وعد بعض الأصولين القول بالاشتراك في فرق الوقف إنما هو بالنظر إلى
نفس اللفظ. حيث لا يقطعون على إرادة (5) الندب بخصوصه منه. وذلك لا ينافي
الدلالة عليه بالاعتبار الذي ذكرناه.

1 - تعلم - ج
2 - في أمر - الف
3 - بها عنه - ب
4 - به - ليس في - الف
5 - إلى ايراده - ب
133

وحالنا فيما نحن فيه هكذا، فانا لا نعلم أقصد المتكلم الكل، أو الأخيرة
وحدها؟ لكنا نعلم أن الأخيرة مقصودة على كل حال، فالشك في قصد (1) غيرها.
ولو فرض أن المتكلم نصب قرينة على إرادة الكل، لم يكن خارجا عندنا من موضوع
اللفظ، ولا عادلا عن حقيقته، بل كان مستعملا له فيما هو موضوع له عموما. ويلزم
من قال باختصاص الأخيرة أن يكون المتكلم، بإرادتها مع الباقي، متجوزا
ومتعديا عن موضوع اللفظ إلى غيره. وهذا بعيد جدا، بعد ما علمت من عموم
الوضع في المفردات، وانتفاء الدليل في كلامه (2) وفى الواقع على كون الهيئة (3)
التركيبية موضوعة للتعلق بالأخيرة فقط.
على أنه لو ثبت ذلك، لاشكل جواز التجوز بها في الاخراج من الجميع،
لتوقفه على وجود العلاقة، وفي تحققها نظر. وقد مر غير مرة أن علاقة الكل
والجزء بالنسبة إلى استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل، ليست على إطلاقها،
بل لها شرائط، وهي ههنا مفقودة (4).
والجواب عن الثاني: أن حصول الاستقلال بتعلقه بالأخيرة، إنما يقتضي
عدم القطع بالتعلق بغيرها. ونحن نقول به، إذ العود إلى الجميع عندنا وعند السيد
رضي الله عنه - محتمل، لا واجب.
واما قوله: " لو جاز مع إفادته واستقلاله الخ " (5)، فظاهر البطلان، لان ما
يستقل بنفسه ولا تعلق له بغيره وجوبا ولا جوازا، لا يجوز أن يتعلق (6) بغيره قطعا،
بخلاف ما نحن فيه، فإنه من الجائز مع حصول الاستقلال بالتعلق بالأخيرة أن
يتعلق بالجميع وإن لم يكن لازما.
قال علم الهدى - رضي الله عنه - (7) مشيرا إلى هذه الحجة في جملة جوابه عنها:

1 - مقصود - ب
2 - كلامه خ ل - ب
3 - هيئة - ب
4 - مفقود - ب - الف
5 - إلى آخره - آخره - ج
6 - أن تعلق - الف
7 - ره - ب
134

" وهذه الطريقة توجب على المستدل بها أن لا يقطع بالظاهر من غير دليل على أن
الاستثناء ما تعلق بما تقدم (1)، ويقتضي أن يتوقف في ذلك، كما نذهب نحن
إليه، لأنه بنى دليله على أن الاستقلال يقتضي أن لا (2) يجب تعليقه بغيره. وهذا
صحيح، غير أنه وإن لم يجب، فهو جائز. فمن أين قطع على أن هذا الذي ليس
بواجب، لم يرده المتكلم؟ وليس فيما اقتصر عليه دلالة، على ذلك ".
وعن الثالث: بنحو الجواب عن الثاني، فان غاية ما يدل عليه أنه لا
يجوز القطع على تخصيص غير الأخيرة بمجرد اللفظ. ونحن نقول به. لكنه مع ذلك
محتمل، ولا سبيل إلى منعه.
وعن الرابع: أنا نختار عدم الاضمار. قوله: " يلزم أن يكون العامل فيما بعد
الاستثناء أكثر من واحد "، قلنا: ممنوع، وإنما يلزم ذلك (3) ان لو كان العامل
في المستثنى هو (4) العامل في المستثنى منه، وهو في موضع المنع أيضا، لضعف دليله.
ومذهب جماعة من النحاة: أن العامل في المستثنى هو " إلا "، لقيام معنى
الاستثناء بها، والعامل ما به يتقوم المعنى المقتضي، ولكونها نائبة عن
" أستثني "، كما أن حرف النداء نائب عن " أنادي "، وهو المتجه.
سلمنا، لكن نمنع عدم جواز اجتماع العاملين على المعمول الواحد، فإنهم لم
ينقلوا له حجة يعتد بها. وإنما ذكر نجم الأئمة - رضي الله عنه - أنهم حملوها
على المؤثرات الحقيقية، وضعفه ظاهر. وقد جوزوا (5) في العلل الشرعية الاجتماع،
لكونها معرفات، والعلل الاعرابية كذلك، فإنما هي علامات. وما نقل عن
سيبويه من النص عليه، لا حجة فيه. مع أنه قد عورض بنص الكسائي
على الجواز.
وقول الفراء في باب التنازع مشهور، وقد حكم فيه بالتشريك بين العاملين

1 - لما تقدم - ب
2 - لان لا - ب
3 - ذاك - ج
4 - هو في - ب
5 - وقد جوز - ب
135

في العمل، إذا كان مقتضاهما واحدا، " كأعطاني وأكرمني الأمير " و
" أعطيت وأكرمت الأمير ". فالفعلان في المثالين مشتركان في رفع الفاعل
ونصب المفعول، من غير تنازع.
ووافقه على ذلك بعض محققي المتأخرين، مستدلا عليه بأصالة الجواز، و
انتفاء المانع سوى توهم توارد المؤثرين على اثر واحد. وهو مدفوع: بأن العامل
عندهم كالعلامة، ويجوز تعدد العلامات. قال: ويدل على جوازه، من حيث
اللغة: أنهم يخبرون عن الشئ الواحد بأمرين متضادين، نحو " هذا حلو
حامض "، ولا يجوز خلوهما عن الضمير اتفاقا. فهو إما في كل واحد منهما
بخصوصه، أو في أحدهما بعينه دون الآخر، أو فيهما ضمير واحد بالاشتراك.
والأول: باطل، لأنه يقتضي كون كل واحد منهما محكوما به على المبتدأ، وهو جمع
بين الضدين. والثاني: يستلزم انتفاء الخبرية عن الخالي من الضمير، واستقلال ما
فيه الضمير بها (1)، وهو خلاف المفروض. والثالث هو المطلوب. ثم أيده بتجويز
سيبويه: " قام زيد وذهب عمرو الظريفان ". والعامل في الصفة هو العامل
في الموصوف.
ولا يذهب عليك: أن هذا الحكم المنقول عن سيبويه هنا يخالف ما نقل عنه
ثم، من النص على عدم الجواز. وقد نقل هذا الحكم أيضا نجم الأئمة - رحمه الله -
عن الخليل وسيبويه، ونقل عن سيبويه القول بأن العامل في الصفة هو العالم
في الموصوف، وارتضاه.
والجواب عن الخامس: أن الاستثناء من الاستثناء إنما وجب رجوعه إلى
ما يليه دون ما تقدمه، لان تعليقه بالامرين يقتضي الغاءه وانتفاء فائدته. فان
القائل إذا قال: " لك عندي عشرة دراهم، إلا درهمين "، كان المفهوم من
اللفظ الاقرار بالثمانية، فإذا قال عقيب ذلك: " إلا درهما " رجع الاقرار إلى
تسعة، لكونه مخرجا من الدرهمين الذين وقع استثناؤهما من العشرة. فلو عاد

1 - الضمير فيها - ب
136

الدرهم المستثنى مع ذلك إلى العشرة، لكان وجوده كعدمه، لاخراجه منها مثل ما
أدخل. ولم يفدنا غير ما استفدناه بقوله: " علي عشرة إلا درهمين "، وهو الاقرار
بالثمانية من غير زيادة عليها أو نقصان، بخلاف ما لو جعلناه راجعا (1) إلى ما يليه
فقط. فإنه يرد الاقرار بالثمانية إلى التسعة، فيفيد (2). وذلك ظاهر.
وعن السادس: بالمنع من أنه لم ينتقل عن الأولى إلا بعد استيفاء غرضه
منها. وهل هو إلا عين المتنازع فيه (3)؟ ومنه يعلم فساد القول بحيلولة الجملة الثانية
بين الاستثناء وبين الأولى، فإنه مصادرة.
إذا عرفت ذلك كله فاعلم أن حكم غير الاستثناء من المخصصات المتعقبة
للمتعدد بحيث يصلح (4) لكل واحد منه حكم الاستثناء، خلافا وترجيحا وحجة
وجوابا غير أن بعض من قال بعود الاستثناء إلى الأخيرة، حكم بعود الشرط إلى
الجميع، لخيال فاسد. والامر فيه هين. وأنت إذا أمعنت النظر في الحجج
السابقة، لم يشتبه عليك طريق سوقها إلى هنا، وتمييز المختار منها عن المزيف.
أصل
ذهب جمع من الناس إلى أن العام، إذا تعقبه ضمير يرجع إلى بعض ما
يتناوله، كان ذلك تخصيصا له. واختاره العلامة (5) في النهاية وحكى المحقق (6) -
رحمه الله، عن الشيخ إنكار ذلك، وهو قول جماعة من العامة. واختار هو المتوقف،
ووافقه العلامة في التهذيب (7)، وهو مذهب المرتضى - رضي الله عنه - أيضا. وله
أمثلة، منها: قوله تعالى: " والمطلقات يتربصن بأنفسهن " (8) ثم قال: " و
بعولتهن أحق بردهن " (9). والضمير في " بردهن " للرجعيات. فعلى الأول: يختص (10)

1 - جعلنا راجعا - ب
2 - فإنه يفيد يرد الاقرار إلى التسعة فيفيد - ب
3 - فيه - ليس في - الف - ج - ب
4 - تصلح - ب - الف
5 - نهاية الأصول ورقة 131 - 132
6 - معارج الأصول، ص 100 7 - تهذيب الأصول، ص 77 في أواخر المبحث الثاني فصل الرابع
8 و 9 - سورة البقرة، 228.
10 - يخص - ج
137

الحكم بالتربص بهن. وعلى الثاني: لا يختص (1)، بل يبقى على عمومه للرجعيات
والباينات. وعلى الثالث: يتوقف. وهذا هو الأقرب.
لنا أن في كل من احتمالي التخصيص وعدمه ارتكابا للمجاز، أما الأول:
فلان اللفظ العام حقيقة في العموم، فاستعماله في الخصوص مجاز، كما عرفت،
وهو ظاهر. وأما الثاني: فلان تخصيص الضمير مع بقاء المرجع على عمومه
يجعله مجازا، إذ وضعه على المطابقة للمرجع، فإذا خالفه لم يكن جاريا على
مقتضى الوضع، وكان مسلوكا به سبيل الاستخدام. فان من أنواعه: أن يراد
بلفظه معناه الحقيقي وبضميره المعنى المجازي. وما نحن فيه منه، إذ قد فرض
إرادة العموم من المطلقات، وهو المعنى الحقيقي له، وأريد من ضميره المعنى
المجازي، أعني الرجعيات. وإذا ظهر هذا، فلابد في الحكم بترجيح أحد المجازين
على الآخر من مرجح. والظاهر انتفاؤه، فيجب الوقف.
فان قلت: تخصيص العام - أعني المظهر - وصيرورته مجازا، يستلزم تخصيص
المضمر وصيرورته مثله. ولا كذلك العكس، فان تخصيص المضمر (2) لا يتعدى إلى
العام، ولا يقتضي مجازيته. فبان أن المجاز اللازم من عدم التخصيص أرجح مما
يستلزمه التخصيص، لكون الأول واحدا والثاني متعددا.
قلت: هذا مبني على أن وضع الضمير لما كان المرجع ظاهرا فيه حقيقة له،
لا لما يراد بالمرجع وإن كان معنى مجازيا له، فإنه حينئذ يتحقق المجاز في المضمر (3)
أيضا على تقدير تخصيص العام لكونه مرادا به خلاف ظاهر المرجع وحقيقته. و
ذلك خلاف التحقيق. والأظهر أن وضعه لما يراد (4) بالمرجع. فإذا أريد بالعام
الخصوص، لم يكن الضمير عاما، ليلزم (5) تخصيصه وصيرورته مجازا. فليس هناك إلا
مجاز واحد، على التقديرين.

1 - لا يخص - ج
2 - الضمير - ج
3 - الضمير - الف
4 - يريد - ب
5 - فيلزم - ب
138

وما قيل: - من أن اللازم لعدم التخصيص هو الاضمار، لان التقدير في الآية
حينئذ " وبعولة بعضهن "، وكذا في نظائرها (1). وأما مع التخصيص فهو اللازم
وقد تقرر: أن التخصيص خير من الاضمار - فضعفه ظاهر بعد ما قررناه، إذ لا
حاجة إلى إضمار " البعض " بل يتجوز بالضمير عنه. فالتعارض إنما هو بين
التخصيص والمجاز. والظاهر تساويهما وإن ذهب بعضهم إلى رجحان
التخصيص.
احتج الأولون: بأن تخصيص الضمير، مع بقاء عموم ما هو له، يقتضي
مخالفة الضمير للمرجوع (2) إليه، وانه باطل.
وجوابه: منع بطلان المخالفة مطلقا. كيف؟ وباب المجاز واسع، وحكم
الاستخدام شايع.
حجة الشيخ (3) ومتابعيه: أن اللفظ عام فيجب إجراؤه على عمومه ما لم يدل
على تخصيصه دليل. ومجرد اختصاص الضمير العائد في الظاهر إليه لا يصلح
لذلك، لان كلا منهما لفظ مستقل برأسه، فلا يلزم من خروج أحدهما عن ظاهره
وصيرورته مجازا خروج الآخر وصيرورته كذلك.
والجواب: المنع من عدم الصلاحية، فان إجراء الضمير على حقيقته التي
هي الأصل، أعني المطابقة للمرجع، يستلزم تخصيص المرجع (4). لكن لما كان
ذلك مقتضيا للتجوز في لفظ العام، فلا يجدي الفرار من مجازية الضمير بتقدير
اختصاص التخصيص به، وبقاء المرجع على حاله في العموم. ولما (5) لم يكن ثمة
وجه ترجيح (6) لاحد المجازين على الآخر، لا جرم وجب التوقف.
أصل
لا ريب في جواز تخصيص العام بمفهوم الموافقة، وفي جوازه بما هو حجة من

1 - نظائره - ب
2 - للمرجع - ب - الف
3 - عدة الأصول ج 1 ص 151 - 152
4 - المرجع إليه - ج
5 - ولما - ليس في - ج
6 - الترجيح - ب
139

مفهوم المخالفة خلاف. والأكثرون على جوازه. وهو الأقوى.
لنا: أنه دليل شرعي عارض مثله، وفي العمل به جمع بين الدليلين، فيجب.
احتج المخالف: بأن الخاص إنما يقدم على العام، لكون دلالته على ما تحته
أقوى من دلالة العام على خصوص ذلك الخاص، وأرجحية الأقوى ظاهرة (1).
وليس الامر ههنا كذلك، فان المنطوق أقوى دلالة من المفهوم، وإن كان
المفهوم خاصا، فلا يصلح لمعارضته (2). وحينئذ، فلا يجب حمله عليه.
والجواب: منع كون دلالة العام بالنسبة إلى خصوصية الخاص أقوى من
دلالة مفهوم المخالفة مطلقا. بل التحقيق: أن أغلب صور المفهوم التي هي حجة أو
كلها، لا يقصر (3) في القوة من دلالة العام على خصوصيات الافراد، سيما بعد شيوع
تخصيص العمومات.
أصل
لا خلاف في جواز تخصيص الكتاب بالخبر المتواتر (4). ووجهه ظاهر أيضا. و
أما تخصيصه بالخبر الواحد - على تقدير العمل به - فالأقرب جوازه مطلقا. وبه قال
العلامة (5) وجمع من العامة.
وحكى المحقق (6) - رحمه الله، عن الشيخ وجماعة منهم إنكاره مطلقا. وهو
مذهب السيد، رضي الله عنه، فإنه قال (7) في أثناء كلامه: على انا لو سلمنا: أن
العمل قد ورد الشرع به لم يكن في ذلك دلالة على جواز التخصيص به.
ومن الناس من فصل، فأجازه إن كان العام قد خص من قبل بدليل
قطعي، متصلا كان أو منفصلا. وقيل: إن كان العام قد (8) خص بدليل منفصل (9)،

1 - ظاهر - ب
2 - لمعارضة - ب
3 - لا تقصر - ج
4 - المتواترة - ب
5 - مبادئ الأصول إلى علم الأصول ص 143
6 - معارج الأصول ص 96 المسألة الثالثة 7 - الذريعة إلى أصول الشريعة ص 281
8 - قد - ليس في - الف - ج
9 - منفصلا - ب
140

سواء كان قطعيا أم ظنيا.
وتوقف بعض وإليه يميل المحقق (1)، لكنه بناه (2) على منع كون خبر الواحد دليلا
على الاطلاق، لان الدلالة على العمل به، الاجماع على استعماله فيما لا يوجد عليه
دلالة، فإذا وجدت الدلالة القرآنية سقط وجوب العمل به.
لنا: أنهما دليلان تعارضا، فاعمالهما - ولو من وجه أولى. ولا ريب أن ذلك
لا يحصل إلا مع العمل بالخاص، إذ لو عمل بالعام، لبطل الخاص ولغى بالمرة.
احتجوا للمنع بوجهين:
أحدهما: ان الكتاب قطعي، وخبر الواحد ظني، والظن لا يعارض القطع،
لعدم مقاومته له فيلغى.
والثاني: أنه لو جاز التخصيص به، لجاز النسخ أيضا، والتالي باطل اتفاقا،
فالمقدم مثله. بيان الملازمة: (3) أن النسخ نوع من التخصيص، فإنه تخصيص
في الأزمان والتخصيص المطلق أعم منه، فلو جاز التخصيص بخبر الواحد،
لكانت العلة أولوية تخصيص العام على إلغاء الخاص، وهو قائم في النسخ.
والجواب عن الأول: أن التخصيص وقع في الدلالة، لأنه دفع للدلالة في
بعض الموارد، وهي ظنية، وإن كان المتن قطعيا. فلم يلزم ترك القطعي
بالظني، بل هو ترك الظني بالظني. وبتقرير آخر: وهو أن عام الكتاب، وإن كان
قطعي النقل، لكنه ظني الدلالة وخاص الخبر، وإن كان ظني النقل، لكنه
قطعي الدلالة، فصار لكل قوة من وجه وضعف من وجه (4)، فتساويا، فتعارضا.
فوجب الجمع بينهما.
وعن الثاني: أن الاجماع الذي ادعيتموه هو الفارق بين النسخ والتخصيص،
على أن التخصيص أهون من النسخ. ولا يلزم من تأثير الشئ في الضعيف تأثيره
في القوي. فليتأمل.

1 - معارج الأصول، ص
2 - بناؤه - ب
3 - الملازمة - ليس في - ب
4 - وضعف من وجه ليس في - ج
141

حجة المفصلين (1): أن الخاص ظني، والعام قطعي، فلا تعارض إلا أن
يضعف العام. وذلك عند الفرقة الأولى، بأن يدل دليل قطعي على تخصيصه،
فيصير مجازا، وعند الفرقة الثانية، بأن يخص بمنفصل، لان التخصيص بالمنفصل
مجاز عندها، دون المتصل. والقطعي يترك بالظني، إذا ضعف بالتجوز، إذ لا
يبقى قطعيا، لان نسبته إلى جميع مراتب التجوز بالجواز سواء، وإن كان ظاهرا
في الباقي، فارتفع مانع القطع.
والجواب: بمثل ما تقدم، فان التخصيص يقع في الدلالة وهي ظنية، فلا
ينافيه قطعية المتن.
واحتج المتوقف: بأن كلا منهما قطعي من وجه وظني من آخر (2)، كما
ذكرنا، فوقع التعارض، فوجب التوقف (3).
والجواب: بترجح (4) الخبر، بأن في اعتباره جمعا بين الدليلين، واعتبار الكتاب
إبطال للخبر بالكلية والجمع أولى من الابطال، هذا.
ودفع ما قاله المحقق هنا، يعلم مما نذكره في محله، من بحث الاخبار، إن
شاء الله تعالى (5).
خاتمة
في بناء العام على الخاص
إذا ورد عام وخاص متنافيا الظاهر، فاما أن يعلم تاريخهما أو لا، والأول (6):
اما مقترنان (7) أو لا، والثاني إما لتقدم العام أو الخاص، فهذه أقسام أربعة.
الأول: أن يعلم الاقتران، يجب حينئذ بناء العام على الخاص بلا خلاف

1 - الفصلين - الف
2 - ظني من آخر - ب
3 - فوجب الوقف - الف
4 - برجع - الف
5 - تعالى - ليس في - ج
6 - الأولى - ب
7 - ان يكون مقترنين - ب
142

يعبأ به.
الثاني: أن يتقدم العام. فان كان ورود (1) الخاص بعد حضور وقت العمل
بالعام كان نسخا له، وإن كان قبله بني على جواز تأخير بيان العام، فمن جوزه،
جعله تخصيصا وبيانا له، كالأول، وهو الحق. وغير المجوز (2): بين قائل بأنه يكون
ناسخا (3) - وهو من لا يشترط في جواز النسخ حضور وقت العمل - وبين راد له،
وهم المانعون من النسخ قبل حضور الوقت، وسيأتي تحقيق ذلك.
الثالث: أن يتقدم الخاص. والأقوى: أن العام يبنى عليه (4)، وفاقا للمحقق،
والعلامة، أكثر الجمهور. وقال قوم: إنه يكون ناسخا للخاص حينئذ. وعزاه (5)
المحقق إلى الشيخ، وهو الظاهر من كلام (6) علم الهدى وصريح أبي المكارم بن زهرة (7).
لنا: أنهما دليلان تعارضا. والعمل بالعام يقتضي إلغاء الخاص، إن كان
وروده قبل حضور وقت العمل به، ونسخه، إن كان بعده. ولا كذلك العمل
بالخاص، فإنه إنما يقتضى دفع دلالة العام على بعض جزئياته، وجعله مجازا فيما
عداه. وهو هين عند ذينك المحذورين. فكان أولى بالترجيح.
وما يقال: من أن العمل بالعام على تقدير التأخير عن وقت العمل
بالخاص يقتضي نسخه، والنسخ تخصيص في الأزمان، فليس التخصيص في
أعيان العام بأولى من التخصيص في أزمان الخاص - فضعفه ظاهر، لان مرجوحية
النسخ بالنسبة إلى التخصيص بالمعنى المعروف لا مساغ لانكارها، ومجرد
الاشتراك في مسمى التخصيص نظرا إلى المعنى، لا يقتضي المساواة، كيف؟
وقد بلغ التخصيص في الشيوع والكثرة، إلى حد قيل معه: " ما من عام إلا وقد
خص "، كما مر.

1 - ورد - ج
2 - المجوزين - ب
3 - نسخا - الف
4 - أيضا - ب
5 - معارج الأصول ص 98 6 - الذريعة إلى أصول الشريعة ص 319
7 - وصرح به أبو المكارم ابن زهرة - ب
143

حجة القول بالنسخ وجهان.
أحدهما: أن القائل، إذا قال: " اقتل زيدا " ثم قال: " لا تقتل
المشركين " فهو بمثابة أن يقول: " لا تقتل زيدا ولا عمروا " إلى أن يأتي على
الافراد، واحدا بعد واحد. وهذا اختصار (1) لذلك المطول، وإجمال لذلك المفصل.
ولا شك أنه لو قال: " لا تقتل زيدا " لكان ناسخا لقوله: " اقتل زيدا ". فكذا
ما هو بمثابته.
والثاني: أن المخصص للعام بيان له. فكيف يكون مقدما (2) عليه؟
والجواب عن الأول: المنع من التساوي. فان تعديد الجزئيات وذكرها
بالنصوصية، يمنع من تخصيص بعضها، لما فيه من المناقضة، بخلاف ما إذا
كانت مذكورة باللفظ العام، فان التخصيص حينئذ ممكن، فلا يصار إلى النسخ،
لما بيناه من أولوية التخصيص بالنسبة إليه، ولأن النسخ رفع والتخصيص لا
رفع فيه، وإنما هو دفع، والدفع أهون من الرفع.
وعن الثاني: بأنه استبعاد محض، إذ لا يمتنع أن يرد كلام ليكون بيانا
للمراد بكلام آخر يرد بعده. وتحقيقه: أنه يتقدم ذاته ويتأخر وصف كونه
بيانا. ولا ضير فيه.
إذا عرفت هذا فاعلم: أن المحقق (3)، عند نقله للقول بالنسخ هنا عن الشيخ،
علله بأنه لا يجيز (4) تأخير البيان. وكأنه يريد به عدم جواز إخلاء العام، عند إرادة
التخصيص، من دليل عليه مقارن له، وإن كان قد تقدم (5) عليه ما يصلح للبيان.
وإلا، فلا معنى لجعل صورة التقديم من تأخير البيان.
والجواب عن (6) هذا التعليل: أولا - أنا لا نسلم عدم جواز تأخير البيان، وثانيا - أنه
على تقدير سبق الخاص، لا يكون البيان متأخرا. ولم يتعرض السيدان هنا

1 - اقتصا - ج
2 - متقدما - ب
3 - معارج الأصول ص 98 4 - لا يجوز - ب
5 يقدم - ج
6 - من - ب
144

للاحتجاج على ما صار إليه. ولعله مثل احتجاج الشيخ، فإنهما يشترطان
الاقتران في التخصيص.
القسم الرابع: أن يجهل التاريخ. وعندنا، أنه يعمل حينئذ بالخاص أيضا،
لأنه لا يخرج في الواقع عن أحد الأقسام السابقة. وقد بينا أن الحكم في الجميع
العمل بالخاص.
وما قيل: من أن الخاص المتأخر، إن ورد قبل حضور وقت العمل بالعام،
كان مخصصا، وإن ورد بعده، كان ناسخا، وحينئذ (1) فان كانا (2) قطعيين، أو
ظنيين، أو العام ظنيا والخاص قطعيا، وجب ترجيح الخاص على العام، لتردده
بين أن يكون مخصصا وناسخا (3). وإن كان العام قطعيا والخاص ظنيا، فاما أن
يكون الخاص مخصصا أو ناسخا. وعلى (4) الأول، يعمل بالخاص أيضا. وأما
على الثاني، فلا يجوز، بل يكون مردودا، فقد تردد الخاص مع جهل التاريخ بين
أن يكون مخصصا، وبين أن يكون ناسخا مقبولا، وبين أن يكون ناسخا مردودا،
فكيف يقدم، والحال هذه، على العام؟.
فجوابه: أن احتمال النسخ معلق على ورود الخاص بعد حضور وقت العمل،
واحتمال التخصيص مطلق، فمع جهل الحال لا يعلم حصول الشرط، والأصل
يقتضي عدمه، إلا أن يدل على وجوده دليل والمشروط عدم عند عدم شرطه،
فلا يصح (5) احتمال النسخ حينئذ لمعارضة احتمال التخصيص.
لا يقال: هذا معارض بمثله. فنقول: إن احتمال التخصيص مشروط بورود
الخاص قبل حضور وقت العمل. وذلك غير معلوم، حيث يجهل الحال، فيتمسك
في نفيه بالأصل، ويلزم منه نفي المشروط الذي هو التخصيص.
لأنا نقول: قد علم مما قدمناه رجحان التخصيص على النسخ، وأنه إذا

1 - فحينئذ - ب
2 - ان كانا - ب
3 - مخصصا وناسخا - الف - ج وفي - ب - ناسخا ومخصصا 4 - فعلى - ب
5 - فلا يصلح - ب - ج
145

تردد الامر بينهما، يكون التخصيص هو (1) المقدم، ولا يصار إلى النسخ إلا حيث
يمتنع التخصيص، كما في صورة تأخير الخاص عن وقت العمل. فان التخصيص
يمتنع حينئذ، لاستلزامه تأخير البيان عن وقت الحاجة. وهو غير جائز، وهذا
يقتضي المصير إلى التخصيص، حيث لا يدل على خلافه دليل. فالاشتراط إنما
هو في العدول عنه، لا إليه. ومن البين أنه مع جهل الحال لا يعلم حصول
المانع، فيجب الحكم بالتخصيص. ولإن سلمنا تساوي الاحتمالين،
فالاشكال مختص بما إذا كان العام قطعيا والخاص ظنيا، فليختص (2) التوقف به،
إذ ما عداه من الصور خالص من هذا الشوب. وحينئذ فلا وجه لتخييل التوقف
في تقديم الخاص، بقول مطلق، لتردده بين ما ذكر من الأمور. بل يستثنى هذه
الصورة من البين (3)، ويبقى الحكم بالتقديم على حاله في الباقي. ولعل هذا المعنى هو
مقصود القائل، وان قصرت العبارة (4) عن تأديته، إلا أن سوق كلامه يأباه. هذا.
وينبغي أن يعلم: أن أثر هذا الاشكال، على تقدير ثبوته، عند أصحابنا
سهل، إذ الظاهر أن جهل التاريخ لا يكون إلا في الاخبار، واحتمال النسخ إنما
يتصور في النبوي منها، وهو قليل عندهم، كما لا يخفى.
قال المرتضى - رضي الله عنه - عند ذكر احتمال جهل التاريخ وارتفاع
العلم بتقديم أحدهما أو تأخيره: " وهذا لا يليق بعموم الكتاب، فإن تاريخ نزول
آيات القرآن مضبوط محصور لا خلاف فيه. وإنما يصح تقديره في أخبار الآحاد،
لأنها هي التي ربما عرض فيها هذا. ومن لا يذهب إلى العمل بأخبار (5) الآحاد،
فقد سقطت عنه كلفة هذه المسألة. فان تكلم فيها، فعلى طريق الفرض
والتقدير. والذي يقوى في نفوسنا - إذا فرضنا ذلك - التوقف عن البناء، والرجوع
ما يدل عليه الدليل من العمل بأحدهما. " (6) انتهى كلامه.

1 - كما هو خ ل - ب
2 - فيختص - الف - ب
3 - من البين فيه - ج
4 - عبارته - ب
5 - الذريعة - إلى أصول الشرعية ص 316 6 - بالاخبار - ب
146

وما ذهب إليه من التوقف، هنا، هو مذهب من قال بالنسخ في القسم
السابق. ووجهه بعد ملاحظة البناء على مذهبهم هناك ظاهر، لدوران الخاص
حينئذ بين أن يكون مخصصا أو منسوخا، ولا ترجيح لأحدهما، فيتوقف.
147

المطلب الرابع
في
المطلق والمقيد والمجمل والمبين
149

أصل
المطلق هو ما دل على شايع في جنسه، بمعنى كونه حصة محتملة لحصص
كثيرة مما يندرج تحت امر مشترك. والمقيد خلافه، فهو ما يدل لا على شايع في
جنسه. وقد يطلق " المقيد " على معنى آخر، وهو ما أخرج من شياع، مثل رقبة
مؤمنة، فإنها وإن كانت شايعة بين الرقبات (1) المؤمنات لكنها أخرجت من الشياع (2)
بوجه ما، من حيث كانت شايعة بين المؤمنة وغير المؤمنة، فأزيل ذلك الشياع عنه
وقيد بالمؤمنة فهو مطلق من وجه (3)، مقيد من وجه آخر، والاصطلاح الشايع
في المقيد هو الاطلاق الثاني.
إذا عرفت هذا فاعلم: أنه إذا ورد مطلق ومقيد: فإما أن يختلف حكمهما،
نحو: " أكرم هاشميا "، " جالس هاشميا عالما "، فلا يحمل (4) أحدهما على الآخر
حينئذ (5) بوجه من الوجوه اتفاقا، سواء كان الخطابان المتضمنان لهما من جنس
واحد بأن كانا أمرين (6) أو نهيين، أم لا، كأن يكون (7) أحدهما أمرا والآخر نهيا، و (8)
سواء اتحد موجبهما، أو اختلف، إلا في مثل أن يقول: " إن ظاهرت، فأعتق
رقبة " ويقول: " لا تملك رقبة كافرة "، فإنه يقيد المطلق بنفي الكفر، وإن كان

1 - الرقاب - ب
2 - الشايع - الف
3 - من وجه - ليس في - ج
4 - ولا يحمل - الف - ب
5 - حينئذ - الف - ج وليس في - ب
6 - كان أمرين - ب
7 - بان يكون - ب
8 - و - ليس في - الف - ب - ج
150

الظهار والملك حكمين مختلفين لتوقف الاعتاق على الملك، وإما أن لا يختلف،
نحو: " أكرم هاشميا "، " أكرم هاشميا عارفا ". وحينئذ فإما أن يتحد (1) موجبهما،
أو يختلف. فان اتحد فاما أن يكونا مثبتين أو منفيين. فهذه أقسام ثلاثة.
الأول: أن يتحد موجبهما مثبتين، مثل: " إن ظاهرت فأعتق رقبة "، " إن
ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة ". فيحمل المطلق على المقيد إجماعا. نقله في النهاية (2). و
يكون المقيد بيانا للمطلق، لا نسخا له، تقدم عليه أو تأخر عنه. وقيل: نسخ له إن
تأخر المقيد، فههنا مقامان: حمل المطلق على المقيد، وكونه بيانا، لا نسخا.
أما أنه يحمل المطلق على المقيد، فلانه جمع بين الدليلين، لان العمل بالمقيد
يلزم منه العمل بالمطلق، والعمل بالمطلق لا يلزم منه العمل بالمقيد، لصدقه مع
غير ذلك المقيد. وبهذا استدل القوم. وهو جيد، حيث ينتفى احتمال التجوز
في المقيد بإرادة الندب أعني: كونه أفضل الافراد أو بإرادة الوجوب التخييري.
وكذا لو لم يكن احتمال التجوز بما ذكرناه منتفيا. ولكنه كان مرجوحا بالنسبة
إلى التجوز في لفظ المطلق بإرادة المقيد منه. أما مع تساوي الاحتمالين فيشكل
الحكم بترجيح أحد المجازين، بل يحصل التعارض (3) المقتضي للتساقط أو التوقف،
ويبقى المطلق سليما من المعارض.
وقد أشار إلى بعض هذا الاشكال في النهاية وأجاب عنه بما يرجع إلى: أن حمله
حينئذ على المقيد يقتضى تيقن (4) البراءة والخروج عن العهدة، بخلاف إبقائه على
إطلاقه، فإنه لا يحصل معه ذلك اليقين. وقد أخذه بعضهم دليلا على الحكم
مبتدأ مع الدليل الآخر من غير تعرض للاشكال. وهو كما ترى.
وأما أنه بيان (5) لا نسخ، فلانه نوع من التخصيص في المعنى، فان المراد
من المطلق، كرقبة مثلا، أي فرد كان من أفراد الماهية فيصير عاما. إلا أنه

1 - أما ان يتحد - الف
2 - نهاية الأصول، ورقة 134 الصفحة الأولى، س 6
3 - القعارض - ب
4 - يقين - الف - ج
5 - بيانه - ب
151

على البدل ويصير تخصيصه بنحو المؤمنة تخصيصا وإخراجا لبعض المسميات من
أن يصلح بدلا، فالتقييد يرجع إلى نوع من التخصيص، يسمى (1) تقييدا،
اصطلاحا، فحكمه حكم التخصيص. فكما أن الخاص المتأخر بيان للعام
المتقدم وليس ناسخا له، فكذا المقيد المتأخر.
احتج الذاهب إلى كونه ناسخا مع التأخر: بأنه لو كان بيانا للمطلق حينئذ
لكان المراد بالمطلق هو المقيد. فيجب أن يكون مجازا فيه، وهو فرع الدلالة وأنها
منتفية، إذ المطلق لا دلالة له على مقيد (2) خاص.
والجواب: أن المعنى المجازي إنما يفهم من اللفظ بواسطة القرينة، وهي ههنا
المقيد، فيجب حصول الدلالة والفهم بعده، لا قبله. وما ذكرتموه إنما يتم
لو وجب حصولها قبل. وليس الامر كذلك. وسيأتي لهذا (3) مزيد تحقيق عن
قريب.
الثاني: أن يتحد موجبهما، منفيين، فيعمل بهما معا اتفاقا، مثل أن يقول في
كفارة الظهار: " لا تعتق المكاتب "، " لا تعتق (4) المكاتب الكافر " حيث لا يقصد
الاستغراق. كما في " اشتر اللحم " فلا يجزي إعتاق المكاتب أصلا.
الثالث: أن يختلف موجبهما، كاطلاق الرقبة في كفارة الظهار وتقييدها في
كفارة القتل. وعندنا أنه لا يحمل على المقيد حينئذ لعدم المقتضى له (5)، وذهب
كثير من مخالفينا إلى أنه يحمل عليه قياسا مع وجود شرائطه. وربما نقل عن
بعضهم الحمل عليه مطلقا. وكلاهما باطل (6)، لا سيما الأخير.
أصل
المجمل هو ما لم يتضح دلالته. ويكون فعلا، ولفظا مفردا، ومركبا.

1 - ويسمى - ب
2 - لا دلالة على مقيد - ب
3 - لذا - ب
4 - لا يعتق - الف - ج
5 - له ليس في - ج
6 - باطلان - ب
152

أما الفعل: فحيث لا يقترن به ما يدل على وجه وقوعه.
وأما اللفظ المفرد: فكالمشترك، لتردده بين معانيه، إما بالأصالة كالعين
والقرء، وإما بالاعلال، كالمختار المتردد بين الفاعل والمفعول. إذ لولا الاعلال
لكان مختيرا، (1) بكسر الياء للفاعل وبالفتح للمفعول فينتفي الاجمال.
وأما اللفظ المركب: فكقوله تعالى: " أو يعفو الذي بيده عقده النكاح " (2)
لتردده بين الزوج والولي، وكما في مرجع الضمير حيث يتقدمه أمران يصلح لكل
واحد منهما، نحو: " ضرب زيد عمروا، فضربته " لتردده بين زيد وعمرو،
وكالمخصوص بمجهول، نحو قوله تعالى: " وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا
بأموالكم محصنين " (3)، فان تقييد الحل بالاحصان مع الجهل به أوجب الاجمال فيما
أحل، وقوله تعالى: " أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم " (4).
إذا عرفت هذا، فههنا فوائد:
الأولى: ذهب السيد المرتضى (6) - رضي الله عنه - وجماعة من العامة إلى أن
آية السرقة، وهي قوله تعالى: " والسارق والسارقة، فاقطعوا أيديهما " (7)، مجملة
باعتبار اليد، وقيل (8): باعتبار القطع أيضا. والأكثرون على خلاف ذلك
وهو الأظهر.
لنا: أن المتبادر من لفظ " اليد " (9) عند الاطلاق، وهو جملة العضو إلى المنكب،
فيكون حقيقة فيه، وظاهرا منه حال الاستعمال فلا إجمال. ويتبادر أيضا من
لفظ " القطع " إبانة الشئ عما كان متصلا به، وهو ظاهر (10) فيه. فأين الاجمال؟
احتج السيد (11) " أن اليد يقع على العضو بكماله وعلى أبعاضه وإن كان لها

1 - مختير - الف - ب
2 - سورة البقرة، آية 228
3 - سورة النساء، 24.
4 - سورة المائدة، 1
5 - فهنا - الف
6 - الذريعة إلى أصول الشريعة، ص 350
7 - سورة المائدة، 38 8 - وقيل و - الف
9 - لفظ اليد - الف - ب - ج
10 - فهو ظاهر - الف - ب
11 - الذريعة إلى أصول الشريعة، ص
153

أسماء تخصها، فيقولون: غوصت (1) يدي في الماء إلى الأشاجع، وإلى الزند، وإلى
المرفق، وإلى المنكب. وأعطيته كذا بيدي، وإنما أعطى بأنامله. وكذلك (2) كتبت
بيدي، وإنما كتب (3) بأصابعه. قال: وليس يجري قولنا: " يد " مجرى قولنا:
" إنسان " - كما ظنه قوم - لان الانسان يقع على جملة يختص كل بعض منها
باسم، من غير أن يقع " إنسان " على أبعاضها، كما يقع اسم " يد " على كل
بعض من هذا العضو ".
واحتج معتبر القطع أيضا مع ذلك: بأن " القطع " يطلق على الإبانة، وعلى
الجرح. يقال لمن جرح يده بالسكين: " قطع يده " فحصل الاجمال.
والجواب عن الأول: أن الاستعمال يوجد مع الحقيقة والمجاز. ولفظ " اليد "
وإن كان مستعملا في الكل، إلا أن فهم ما عدا الجملة منه موقوف على ضميمة
القرينة. وذلك آية كونه مجازا فيه. والفرق الذي ادعاه بين لفظ " اليد " ولفظ
" الانسان " غير مقبول بل هما مشتركان في تبادر الجملة عند الاطلاق وتوقف ما
سواها على القرينة، وإن كان استعمال " اليد " في الابعاض متعارفا، دون
الانسان، فان ذلك بمجرده لا يقتضي الاجمال، بل لابد من كونه ظاهرا في الكل
بحيث لا يسبق أحدهما (4) بخصوصه إلى الفهم، والواقع خلافه.
وعن الأخير بمثله، فانا قد بينا أن القطع ظاهر في الإبانة.
الثانية: عد جماعة في المجمل، نحو قوله صلى الله عليه وآله " لا صلاة إلا
بطهور " (5)، و " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " (6) و " لا صيام لمن لا يبيت (7) الصيام من
الليل " (8) و (9) " لا نكاح إلا بولي " (10)، مما ينفي فيه الفعل ظاهرا مطلقا.

1 - عوضت - الف
2 - بذلك - ج
3 - كتبت - الف
4 - أحدها - ب
5 - عوالي اللئالي: ج 3 ص 8 ح 3 6 - عوالي اللئالي: ج 3 ص 82 ح 65
7 - لم يبت - ج
8 - عوالي اللئالي: ج 3 ص 132 ح 5
9 - و - ليس في الف
10 - عوالي اللئالي: ج 3 ص 313 ح 148
154

وقيل: إن كان الفعل المنفي شرعيا، كما في الأمثلة المذكورة، أو لغويا ذا
حكم واحد. فلا إجمال، وإن كان لغويا له أكثر من حكم فهو مجمل.
والحق: أنه لا إجمال مطلقا، وفاقا للأكثر. لنا: أنه إن ثبت كونه حقيقة
شرعية في الصحيح من هذه الأفعال، كان معناه " لا صلاة صحيحة " و
" لا صيام صحيحا ". ونفي المسمى حينئذ ممكن، باعتبار فوات الشرط أو الجزء (1).
وقد أخبر الشارع به، فتعين (2) للإرادة، فلا إجمال، وإن لم يثبت له حقيقة شرعية
كما هو الظاهر وقد مر. فان ثبت له حقيقة عرفية وهو أن مثله يقصد منه نفي
الفائدة والجدوى، نحو " لا علم إلا ما نفع " و " كلام إلا ما أفاد " و " لا
طاعة إلا لله " كان متعينا أيضا، ولا إجمال، ولو فرض انتفاؤه أيضا. فالظاهر أنه
يحمل على نفي الصحة دون الكمال، لان مالا يصح كالعدم في عدم الجدوى
بخلاف ما لا يكمل. فكان أقرب المجازين إلى الحقيقة المتعذرة، وكان ظاهرا فيه
فلا إجمال.
لا يقال: هذا إثبات اللغة بالترجيح، وهو باطل.
لأنا نقول: ليس هو منه، وإنما هو ترجيح أحد المجازات بكثرة التعارف. و
لذلك يقال: هو كالعدم، إذا كان بلا منفعة.
احتج الأولون: بأن العرف في مثله مختلف، فيفهم منه نفي الصحة تارة، ونفي
الكمال أخرى. فكان مترددا بينهما ولزم الاجمال.
والجواب: أن اختلاف العرف والفهم إن كان، فإنما هو باعتبار اختلافهم في
أنه ظاهر في الصحة أو في الكمال. فكل صاحب مذهب يحمله (3) على ما هو الظاهر
فيه عنده، لا أنه متردد بينهما، فهو ظاهر عندهما، لا مجمل، إلا أنه ظاهر عند
كل في شئ، ولو تنزلنا إلى تسليم تردده بينهما، فكونه على السواء ممنوع، بل نفي
الصحة راجح، لما ذكرنا من أقربيته إلى نفي الذات.

1 - والجزء - الف
2 - فتعيين - ب
3 - يحمل - ب
155

حجة المفصل: أن انتفاء الفعل الشرعي ممكن بفوات (1) شرطه أو جزئه.
فيجرى النفي فيه على ظاهره ولا يكون هناك إجمال. وكذا مع اتحاد حكم
اللغوي. فإنه يجب (2) صرف النفي إليه وهو ظاهر. وأما إذا كان له حكمان:
الفضيلة (3) والاجزاء، فليس أحدهما أولى من الآخر (4)، فيحصل الاجمال.
والجواب: ظاهر مما قدمناه، فلا نعيده.
الثالثة: أكثر الناس على أنه لا إجمال في التحريم المضاف إلى الأعيان، نحو
قوله تعالى: " حرمت عليكم أمهاتكم " (5)، وخالف فيه البعض.
والحق: الأول. لنا: أن من استقرأ كلام العرب علم أن مرادهم في مثله:
حيث يطلقونه إنما هو تحريم الفعل المقصود من ذلك، كالأكل في المأكول،
والشرب في المشروب، واللبس في الملبوس، والوطي في الموطوء. فإذا قيل: " حرم
عليكم لحم الخنزير، أو الخمر، أو الحرير، أو الأمهات " (6) فهم ذلك سابقا إلى الفهم
عرفا، فهو متضح الدلالة، فلا إجمال.
احتج المخالف: بأن تحريم العين غير معقول، فلابد من إضمار فعل يصح
متعلقا له. والافعال كثيرة ولا يمكن إضمار الجميع، لان ما يقدر للضرورة
يقدر بقدرها. فتعين إضمار البعض. ولا دليل على خصوصية شئ منها، فدلالته
على البعض المراد غير واضحة، وهو معنى الاجمال.
والجواب: المنع من عدم وضوح الدلالة على ذلك البعض، لما عرفت من
دلالة العرف على إرادة المقصود من مثله.
أصل
المبين نقيض المجمل، فهو متضح الدلالة، سواء كان بنفسه، نحو: " والله

1 - لفوات - ب
2 - فيجب - الف
3 - الفضلة - الف
4 - من الأخرى - ب
5 - سورة النساء، 23.
6 - والأمهات - الف
156

بكل شئ عليم " (1) أو بواسطة الغير. ويسمى ذلك الغير مبينا، وينقسم كالمجمل
إلى ما يكون قولا مفردا، أو مركبا، وإلى ما يكون فعلا على الأصح. ولبعض
الناس خلاف في الفعل ضعيف لا يعبأ به.
فالقول من الله سبحانه، ومن الرسول (2) صلى الله عليه وآله وسلم. وهو كثير،
كقوله تعالى: " صفراء فاقع لونها (3 - 4) إلى آخر الآيات، فإنه بيان لقوله سبحانه:
" إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة " (5) في أظهر الوجهين، وكقوله صلى الله
عليه وآله: " فيما سقت السماء العشر "، فإنه بيان لمقدار الزكاة المأمور بايتائها. (6)
والفعل من الرسول، صلى الله عليه وآله، كصلاته، فإنها بيان لقوله تعالى:
" وأقيموا الصلاة " (7)، وكحجه، فإنه بيان لقوله تعالى: " ولله على الناس حج
البيت " (8) ويعلم كون الفعل بيانا تارة بالضرورة من قصده، وأخرى بنصه. كقوله
صلى (9) الله عليه وآله وسلم: " صلوا كما رأيتموني أصلي " (10) و " خذوا عني
مناسككم " وحينا بالدليل العقلي، كما لو ذكر مجملا وقت الحاجة إلى العمل
به، ثم فعل فعلا يصلح بيانا له ولم يصدر عنه غيره، فإنه يعلم أن ذلك الفعل
هو البيان، وإلا لزم تأخيره عن وقت الحاجة.
إذا عرفت هذا، فاعلم: أنه لا خلاف بين أهل العدل في عدم جواز تأخير
البيان عن وقت الحاجة. وأما تأخيره عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة،
فأجازه قوم مطلقا، ومنعه آخرون مطلقا، وفصل المرتضى - رضي الله عنه -
فقال (11): " الذي نذهب إليه أن المجمل من الخطاب يجوز تأخير بيانه إلى وقت

1 - سورة النساء، 17.
2 - ورسوله - ب
3 - سورة البقرة، 69 4 - تسر الناظرين - ب
5 - سورة البقرة - 67 6 - باتيانها - ب
7 - سورة المزمل، 20.
8 - سورة آل عمران، 97.
9 - ص - ليس في - الف - ج
10 - عوالي اللئالي - ج 3 ص 85 ح 76
11 - الذريعة إلى أصول الشريعة، ص 363.
157

الحاجة. والعموم لو كان باقيا على أصل اللغة في أن الظاهر محتمل لجاز
أيضا تأخير بيانه، لأنه في حكم المجمل، وإذا انتقل بعرف الشرع إلى
وجوب الاستغراق بظاهره، فلا يجوز تأخير بيانه ".
وحكى العلامة في النهاية (1) عن بعض العامة بعد نقله الأقوال التي ذكرناها
وغيرها: قولا آخر هو: جواز تأخير بيان ما ليس له ظاهر كالمجمل. وأما ماله
ظاهر وقد استعمل في غيره كالعام والمطلق والمنسوخ، فيجوز تأخير بيانه
التفصيلي لا الاجمالي، بأن يقول وقت الخطاب: " هذا العام مخصوص " و
" هذا المطلق مقيد " و " هذا الحكم سينسخ ". وقال: إنه الحق.
ولا يكاد يظهر بينه وبين قول السيد بعد إمعان النظر فرق، إلا في جهة
النسخ. فان السيد لم يتعرض له في أصل البحث (2)، وإنما ذكر في أثناء
الاحتجاج: أن الاجماع من الكل واقع على أنه تعالى يحسن منه تأخير بيان
مدة الفعل (3) المأمور به، والوقت الذي ينسخ فيه (4) عن وقت الخطاب وإن كان
مرادا بالخطاب.
والعجب بعد هذا: من رغبة العلامة رحمه الله عن قول السيد وموافقته لذلك القائل
على وجوب اقتران بيان المنسوخ به، مع ما فيه من البعد والمخالفة لما
هو المعروف بينهم من اشتراط تأخير الناسخ، حتى أنه في مباحث النسخ عده
شرطا من غير توقف ولا استشكال (5)، وجعله كغيره وجها للفرق بين التخصيص
والنسخ.
وأما ما يوهمه ظاهر عبارة السيد - من تخصيصه المنع من جواز التأخير
بالعام، وعدم تعرضه للمراد من البيان: أهو التفصيلي أو غيره، بحيث يعدان
وجهين في المخالفة لذلك القول، إذ عمم فيه المنع لكل ماله ظاهر أريد منه

1 - نهاية الأصول، ورقة 142، ص 2 س 8.
2 - المبحث - ب
3 - بيان هذا الفعل - ب
4 - فيه - ليس في - ب
5 - ولا اشكال - ب
158

خلافه، واكتفى بالبيان الاجمالي فمدفوع: بأن كلام السيد في الاحتجاج
يعرب عن الموافقة في كلا الوجهين. وستراه. وكأن العلامة - رحمه الله - لم يعط
الحجة حق النظر وإلا لتبين (1) له الحال. هذا.
والذي يقوى في نفسي هو القول الأول. لنا: أنا لا نتصور مانعا من التأخير
سوى ما تخيله الخصم من قبح الخطاب معه، على ما ستسمعه وسنبين
ضعفه، ولا يمتنع عند العقل فرض مصلحة فيه يحسن لأجلها، كعزم المكلف و
توطين نفسه على الفعل إلى وقت الحاجة، فان العزم وما يلحقه طاعة يترتب
الثواب عليها. وفيه مع ذلك تسهيل للفعل المأمور به.
حجة المانعين على عدم جواز تأخير بيان المجمل: أنه لو جاز، لجاز
خطاب العربي بالزنجية من غير أن يبين له في الحال، والجامع كون السامع
لا يعرف المراد فيهما.
والجواب: منع الملازمة وإبداء الفرق بأن العربي لا يفهم من الزنجية
شيئا، بخلاف المخاطب باللفظ المجمل. فإنه يعلم أن المراد أحد مدلولاته،
فيطيع ويعصي بالعزم على الفعل والترك، إذا بين له.
وأما حجتهم على منع تأخير بيان (2) غير المجمل أيضا فتعلم من حجة
المفصل، وكذا الجواب.
احتج المرتضى (3) - رضي الله عنه - على جواز تأخير بيان المجمل بنحو ما
ذكرناه وهو أنه لا يمتنع أن يفرض فيه مصلحة دينية يحسن لأجلها. قال:
" وليس لهم أن يقولوا: ههنا وجه قبح (4)، وهو الخطاب بما لا يفهم المخاطب
معناه، فان هذه الدعوى منهم غير صحيحة، لأنا نعلم ضرورة: أنه يحسن
من الملك أن يدعو بعض عماله، فيقول: " قد وليتك البلد الفلاني وعولت على
كفايتك فاخرج إليه في غد، أو في وقت بعينه، وأنا أكتب لك تذكرة

1 - لبين - الف
2 - منع بيان - ب
3 - الذريعة إلى أصول الشريعة، ص 363.
4 - قبيح - ب
159

بتفصيل ما تعمله وتأتيه وتذره، أسلمها إليك عند توديعك، أو أنفذها إليك
عند استقرارك في عملك. وأيضا، فتأخير العلم بتفصيل صفات الفعل، ليس
بأكثر من تأخير إقدار المكلف على الفعل. ولا خلاف في أنه لا يجب أن
يكون في حال الخطاب قادرا، ولا على سائر وجوه التمكن. فكذلك العلم
بصفة الفعل " (1). هذا ملخص كلامه في الاحتجاج للشق الأول من مذهبه. وهو
جيد واضح لا نزاع فيه.
واحتج على الثاني - أعني: منع تأخير بيان العام المخصوص - بوجوه
ثلاثة:
الأول: أن العام لفظ موضوع لحقيقة. ولا يجوز أن يخاطب الحكيم بلفظ له
حقيقة وهو لا يريدها، من غير أن يدل في حال خطابه أنه متجوز باللفظ. ولا
إشكال في قبح ذلك، والعلة في قبحه: أنه خطاب أريد به غير ما وضع له من
غير دلالة.
قال: والذي يدل على ذلك أنه لا يحسن أن يقول الحكيم منا لغيره (2):
" افعل كذا " وهو يريد التهديد والوعيد، أو " اقتل زيدا " وهو يريد: اضربه
الضرب الشديد، الذي جرت العادة أن يسمى قتلا، مجازا، ولا أن يقول
" رأيت حمارا "، وهو يريد رجلا بليدا، من غير دلالة تدل على ذلك. و
بهذا المعنى بانت الحقيقة من غيرها، لان الحقيقة تستعمل (3) بلا دليل، والمجاز
لابد له من دليل. وليس تأخير بيان المجمل جاريا هذا المجرى، لان
المخاطب بالمجمل لا يريد به إلا ما هو حقيقة فيه، ولم يعدل به عما وضع
له. ألا ترى أن قوله تعالى: " خذ من أموالهم صدقة " (4)، أراد به قدرا مخصوصا،
فلم يرد من اللفظ إلا ما هو اللفظ بحقيقته موضوع له. وكذلك إذا قال: " له
عندي شئ "، فإنما استعمل اللفظ الموضوع في اللغة للاجمال فيما وضعوه

1 - الذريعة إلى أصول الشريعة.
2 - بغيره - ب
3 - يستعمل - ب
4 - سورة التوبة، 103.
160

له. وليس كذلك مستعمل لفظ العموم، وهو يريد الخصوص، لأنه أراد باللفظ
ما لم يوضع له، ولم يدل عليه دليل.
الثاني: أن جواز التأخير يقتضي أن يكون المخاطب قد دل على الشئ
بخلاف ما هو به، لان لفظ العموم مع تجرده يقتضي الاستغراق. فإذا خاطب
به مطلقا لا يخلو من أن يكون دل به على الخصوص، وذلك يقتضي كونه دالا
بما لا دلالة فيه، أو يكون قد دل به على العموم، فقد دل على خلاف مراده،
لان مراده الخصوص، فكيف يدل عليه بلفظ العموم؟
فان قيل: إنما يستقر كونه دالا، عند الحاجة إلى الفعل.
قلنا: حضور زمان الحاجة ليس بمؤثر في دلالة اللفظ، فان دل اللفظ
على العموم فيه فإنما يدل بشئ يرجع إليه، وذلك قائم قبل وقت الحاجة. على
أن وقت الحاجة إنما يعتبر في القول الذي يتضمن تكليفا. فأما ما لا يتعلق
بالتكليف من الاخبار وضروب الكلام، فيجب أن يجوز تأخير بيان المجاز فيه
عن وقت الخطاب (1) إلى غيره من مستقبل الأوقات. وهذا يؤدي إلى سقوط
الاستفادة من الكلام.
الثالث: أن الخطاب وضع للإفادة. ومن سمع لفظ العموم - مع تجويزه أن
يكون مخصوصا ويبين له في المستقبل - لا يستفيد في هذه الحالة (2) به شيئا، و
يكون وجوده كعدمه.
فان قيل: يعتقد عمومه بشرط أن لا يخض.
قلنا: ما الفرق بين قولك، وبين قول من يقول: يجب أن يعتقد خصوصه
إلى أن يدل في المستقبل على ذلك؟ لان اعتقاده للعموم (3) مشروط، وكذلك
اعتقاده للخصوص. وليس بعد هذا إلا أن يقال (4): يعتقد أنه على أحد الامرين،
إما بالعموم أو الخصوص وينتظر وقت الحاجة، فإما أن يترك على حاله فيعتقد

1 - وقت الحاجة - ج
2 - الحال - ج
3 - العموم - ب
4 - أن يقول - ب
161

العموم، أو يدل على الخصوص فيعمل عليه. وهذا هو نص (1) قول أصحاب الوقف
في العموم. قد صار إليه من يذهب إلى (2) أن لفظ العموم مستغرق بظاهره على
أقبح الوجوه.
هذا جملة ما احتج به على هذه الدعوى مبالغا في تقريبه. نقلناه (3) بعين
ألفاظه غالبا، حفظا لما رامه من زيادة التقريب.
والجواب: أما عن الأول، فبالنقض (4) بالنسخ أولا. وتقريره، أن من شرط
المنسوخ - كما اعترف به - أن لا يكون موقتا بغاية تقتضي (5) ارتفاعه حتى أنه
عد من الموقت ما يعلم فيه الغاية على سبيل الجملة (6)، ويحتاج في تفصيلها
إلى دليل سمعي، نحو قوله: " دوموا على هذا الفعل إلى أن أنسخه عنكم "، و
حينئذ فلابد من كون اللفظ (7) المنسوخ ظاهرا في الدوام والاستمرار، وبعد فرض
نسخه يعلم أن المراد خلاف ذلك الظاهر. فقد استعمل اللفظ الذي له حقيقة
في غير تلك الحقيقة من غير دلالة في حال الخطاب على المراد.
ومن هنا التجأ بعض أصحاب هذا القول إلى طرد المنع في النسخ أيضا -
كما حكيناه (8) عن العلامة - فأوجب اقتران بيانه الاجمالي بالمنسوخ فرارا من
هذا المحذور.
لكن السيد (9) ادعى الاجماع على خلاف هذه المقالة، كما مرت إليه
الإشارة، (10) وجعله وجها للرد على من منع من تأخير بيان المجمل، فقال: " قد
أجمعنا على أنه تعالى يحسن منه تأخير بيان مدة الفعل المأمور به، والوقت
الذي ينسخ فيه عن وقت الخطاب، وإن كان مرادا بالخطاب، لأنه إذا قال:

1 - وهذا نص - ب
2 - على - الف - ب - ج
3 - نقلناها - ب - ج
4 - فالنقض - ج
5 - يقتضي - الف - ب
6 - الجملة - الف - ب - ج
7 - لفظ - الف - ج
8 - راجع، ص 183، من الكتاب.
9 - الذريعة إلى أصول الشريعة، ص 374.
10 - إشارة - الف
162

" صلوا " وأراد بذلك غاية معينة، فالانتهاء إليها من غير تجاوز لها مراد في
حال الخطاب، وهو من فوائده ومراد المخاطب به (1).
وهذا هو نص مذهب القائلين بجواز تأخير بيان المجمل. ولم يجر ذلك،
عند أحد، مجرى خطاب العربي بالزنجية.
فان قالوا: ليس يجب أن يبين (2) في حال الخطاب كل مراد بالخطاب.
قلنا: أصبتم (3)، فاقبلوا في الخطاب بالمجمل مثل ذلك.
فان قالوا: لا حاجة إلى بيان مدة النسخ وغاية العبادة، لان ذلك بيان لما
لا يجب أن يفعله. وإنما يحتاج في هذه الحال إلى بيان صفة ما يجب أن
يفعله.
قلنا: هذا هدم (4) لكل ما تعتمدون عليه في تقبيحكم تأخير البيان، لأنكم
توجبون البيان لشئ يرجع إلى الخطاب، لا لأمر يرجع إلى إزاحة علة
المكلف في الفعل، فان كنتم إنما تمنعون من تأخير البيان، لأمر يرجع إلى
إزاحة (5) العلة والتمكن (6) من الفعل، فأنتم تجيزون أن يكون المكلف في حال
الخطاب غير قادر، ولا متمكن بالآلات. وذلك أبلغ في رفع التمكين (7) من
فقد العلم بصفة الفعل.
وإن كان امتناعكم لأمر يرجع إلى وجوب حسن الخطاب وإلى أن
المخاطب لابد أن يكون له طريق إلى العلم بجميع فوائده، فهذا ينتقض بمدة
الفعل وغايته، لأنها من جملة المراد. وقد أجزتم تأخير بيانها، وقلتم بنظير
قول من يجوز تأخير بيان المجمل (8)، لأنه يذهب إلى أنه يستفيد بالخطاب
المجمل بعض فوائده دون بعض، وقد أجزتم مثله. فالرجوع إلى إزاحة العلة

1 - به - ليس في - الف
2 - يجب أن يبن - الف
3 - من " قلنا أصبتم " 4 - إلى (هذا هدم) ليس في - ج
5 - أزاحه - ليس في - الف - ب - ج
6 - والتمكين - الف - ب - ج
7 - رفع التمكن - الف
8 - بالمجمل - الف
163

نقض منكم لهذا الاعتبار كله ". (1)
هذه عبارته بعينها. وإنما نقلناها بطولها لتضمنها تحقيق المقام له وعليه.
فنحن نعيد عليه ههنا كلامه (2) وننقض (3) استدلاله بعين ما نقض به دليل خصمه
غير محتاجين إلى تثنية التقرير، فإن مواضع الامتياز - على نزارتها - لا يكاد
يخفى على المتأمل طريق تغييرها وسوقها بحيث ينتظم مع محل النزاع.
وأما (4) ثانيا، فبالحل. وتحقيقه أنه لا ريب في افتقار استعمال اللفظ في
غير المعنى الموضوع له إلى القرينة، وأن ذلك هو المائز بين الحقيقة والمجاز
وكذا لا ريب في منع تأخير القرينة عن وقت الحاجة، وأما تأخيرها عن وقت
التكلم إلى وقت الحاجة، فلم ينقل على المنع منه مطلقا من جهة الوضع دليل،
وما يتخيل - من استلزامه الاغراء بالجهل فيكون قبيحا عقلا - مدفوع بأن
الاغراء إنما يحصل حيث ينتفي احتمال التجوز. وانتفاؤه فيما قبل وقت
الحاجة موقوف على ثبوت منع التأخير مطلقا وقد فرضنا عدمه.
وقولهم: الأصل في الكلام الحقيقة، معناه: أن اللفظ مع فوات وقت
القرينة وتجرده عنها يحمل على الحقيقة لا مطلقا، يدلك على هذا أنه لا نزاع
في جواز تأخير القرينة عن وقت التلفظ بالمجاز بحيث لا يخرج الكلام عن
كونه (5) واحد عرفا. ومنه تعقب الجمل المتعددة المتعاطفة بالاستثناء، ونحوه
إذا أقام المتكلم القرينة على إرادة العود إلى الكل كما مر تحقيقه. ولو كان
مجرد النطق باللفظ يقتضي صرفه إلى الحقيقة لم يجز ذلك، لاستلزامه
المحذور الذي يظن في موضع النزاع، أعني: الاغراء بالجهل آنا ما. على
أنهم قد حكموا بجواز إسماع العام المخصوص بأدلة العقل وإن لم يعلم
السامع أن العقل يدل على تخصيصه، ولم ينقلوا في ذلك خلافا عن أحد.
وجوز أكثر المحققين، كالسيد والمحقق، والعلامة، وغيرهم من محققي

1 - الذريعة إلى أصول الشريعة، ص 374.
2 - كلامه هاهنا - الف
3 - ينقض - ب
4 - فاما - الف
5 - به عن كونه - ب
164

العامة: إسماع العام المخصوص بالدليل السمعي من دون إسماع المخصص.
مع أن ما ذكرنا (1) من التوجيه للمنع هنا، لو تم لاقتضى المنع هناك أيضا، لان
السامع للعام مجردا عن القرينة (2) حينئذ يحمله على الحقيقة - كما ظن - وليست
مرادة، (3) فيكون إغراء بالجهل.
فان أجابوا: بأنه لا يجوز الحمل على الحقيقة إلا بعد التفحص
عن المخصص الذي هو قرينة التجوز، وبعد فرض وجودها لابد أن يعثر عليها
فيحكم حينئذ بمقتضاها.
قلنا: في موضع النزاع إنه لا يجوز الحمل على شئ حتى يحضر وقت
الحاجة. وعند ذلك توجد القرينة فيطلع المكلف عليها ويعمل بما تقتضيه (4).
والعجب من السيد - رحمه الله - انه تكلم على المانعين من تأخير بيان
المجمل بمثل هذا، ولم يتنبه لورود (5) نظيره عليه، حيث قال:
(ومن قوي ما يلزمونه أنه يقال (6) لهم: إذا جوزتم أن يخاطب بالمجمل و
يكون بيانه في الأصول، ويكلف (7) المخاطب بالرجوع إلى الأصول ليعرف
المراد، فما الذي يجب أن يعتقد هذا المخاطب إلى أن يعرف من الأصول
المرد.
فان قالوا: يتوقف عن اعتقاد التفصيل ويعتقد في الجملة أنه يمتثل بما
بين له (8).
قلنا: أي فرق بين (9) هذا القول وبين قول من جوز تأخير البيان؟
فإذا قالوا: الفرق بينهما أنه إذا خوطب - وفي الأصول بيان - فهو متمكن

1 - ذكره - الف - ب - ج
2 - من القرينة - الف - ج
3 - مرادة حينئذ - ب
4 - يقتضيه - الف - ب - ج
5 - لورود - الف - ب - ج
6 - ان يقال - ب
7 - تكلف - الف
8 - ما بين له - الف
9 - تبين - ب
165

من الرجوع إليها ومعرفة المراد. ولا كذلك إذا أخر البيان فإنه لا يكون متمكنا.
قلنا: إذا كان البيان في الأصول، فلابد من زمان يرجع فيه إليها ليعلم
المراد. وهو في هذا الزمان - قصيرا أو طويلا - مكلف بالفعل ومأمور باعتقاد
وجوبه والعزم على أدائه على طريق الجملة، من غير تمكن (1) من معرفة المراد،
وإنما يصح أن يعرف المراد بعد هذا الزمان. فقد عاد الامر إلى أنه مخاطب
بما لا يتمكن في الحال من معرفة المراد به. وهذا (2) هو قول (3) من جوز
تأخير البيان. ولا فرق في هذا الحكم بين طويل الزمان وقصيره.
فان قالوا: هذا الزمان الذي أشرتم إليه لا يمكن فيه معرفة المراد، فيجري
مجرى زمان مهلة النظر الذي لا يمكن وقوع المعرفة فيه.
قلنا: ليس الامر كذلك، لان زمان مهلة النظر لابد منه ولا يمكن أن يقع
المعرفة الكسبية في أقصر منه. وليس كذلك إذا كان البيان في الرجوع إلى
الأصول، لأنه تعالى قادر على أن يقرن البيان إلى الخطاب، فلا يحتاج إلى
زمان الرجوع إلى تأمل الأصول ".
هذا كلامه. وليت شعري! كيف غفل عن ورود مثل ذلك عليه، فيقال له:
إذا جوزت إسماع العام المخصوص من دون إسماع مخصصه، لكنه يكون
موجودا في الأصول والمخاطب به مكلفا بالرجوع إليها فما الذي يجب أن
يفهمه المكلف من العام قبل أن يعثر على المخصص في الأصول؟
فان قلت: يتوقف على اعتقاد (4) أحد الامرين بعينه ويعتقد أنه يمتثل العموم
إن لم يظهر له المخصص.
قلنا: ما الفرق بين هذا وبين ما قلناه من جواز تأخير البيان؟
فان قلت: الفرق بينهما وجود القرينة وتمكنه من الرجوع إليها هناك، و
انتفاء الامرين في موضع النزاع.

1 - من غير أن يمكن - ب
2 - المراد وهذا - ب
3 - هذا هو قول - الف - ب
4 - عن اعتقاد - الف - ب - ج
166

قلنا: القرينة وإن كانت موجودة، لكن العلم بها موقوف على زمان يرجع
فيه إليها. ففي ذلك الزمان هو مخاطب بلفظ له حقيقة لم يردها المخاطب به (1)
من غير دلالة على أنه متجوز. وهو الذي نفيت الاشكال عن قبحه.
فان قلت: هذا الزمان مستثنى من البين، وإنما يستقبح الخلو عن الدلالة
فيما بعده.
قلنا: فاقبل مثل ذلك في موضع النزاع، ويبقى الكلام، على ما ادعاه من
دلالة العرف على قبح تأخير القرينة عن حال الخطاب مطلقا مستشهدا بما
ذكره من الوجوه الثلاثة. فإنه يقال عليه: لا نسلم دلالة العرف على القبح
في الكل. نعم هي في غير محل النزاع موجودة، ومجرد الاشتراك في مفهوم
التجوز لا يقتضي التسوية في جميع الأحكام.
وأما الوجوه التي استشهد بها فلا دلالة فيها، لان وقت الحاجة في الوجه
الأول - وهي الانزجار عن الفعل المهدد عليه - مقارن للخطاب (2)، فلابد من
اقتران البيان به. وأيضا فحقيقة التهديد عرفا إنما تحصل (3) مع مقارنة قرينة للفظ (4)
فالقبح الناشي من تأخير القرينة حينئذ إنما هو باعتبار عدم تحقق (5) مسمى
التهديد المطلوب حصوله، لا بمجرد كونه تأخيرا.
والوجه (6) الثاني: إن فرض وقت الحاجة فيه متأخرا [عن وقت الخطاب (7)]
منعنا قبح التأخير فيه. وإن فرضه (8) مقارنا للخطاب، سلمناه ولا يجديه.
والوجه الثالث: ليس من محل النزاع في شئ. لأنه من قبيل الاخبار
وليس لها وقت حاجة يتصور التأخير إليه فيجب اقتران القرينة فيها بالخطاب.
وقضاء العرف بذلك فيها ظاهر أيضا. مع أن تجريدها (9) عن القرينة المبينة

1 - به - ليس في - الف
2 - مقارن الخطاب - الف
3 - انما تحصل - ج
4 - اللفظ - ب الف
5 - عدمه محقق - الف
6 - والوجه - ليس في - الف
7 - عن وقت الخطاب ليس في - الف - ب - ج
8 - وان فرضه - الف - ب - ج
9 - تجريدها - الف - ب - ج
167

للمراد فيها (1) حال العدول عن موضوعها يصيرها كذبا على ما هو التحقيق في
تفسيره من عدم المطابقة للخارج. وقبحه معلوم.
ومن هذا التحقيق يظهر الجواب عن الثاني: فانا لا نسلم أنه بالتأخير
يكون قد دل على الشئ بخلاف ما هو به.
قوله: " لان لفظ العموم مع تجرده، الخ "، قلنا: مسلم، ولكن لابد من
بيان محل التجرد. فان جعلتموه وقت الخطاب، فممنوع، لأنه هو المدعى، و
إن كان ما بينه وبين وقت الحاجة، فمسلم ولا ينفعكم.
قوله: " فإذا خاطب به مطلقا لا يخلو من أن يكون دل به على الخصوص
الخ "، قلنا: هو لم يدل به فقط على الخصوص، بل مع القرينة التي ينصبها (2)
على ذلك بحيث لا يستقل واحد منهما بالدلالة عليه بل يحصل من المجموع (3)
ولا يلزم من عدم صلاحيته للدلالة مجردا عدمها مع انضمام القرينة. وإلا لانتفى
المجاز رأسا، إذ من المعلوم أن اللفظ لا دلالة له بمجرده على المعنى
المجازى (4).
قوله: " حضور زمان الحاجة ليس بمؤثر في دلالة اللفظ، الخ " قلنا: ما
المانع من تأثيره؟ بمعنى أنه ينقطع به احتمال عروض التجوز فيحمل اللفظ
عل حقيقته إن لم يكن قد وجدت القرينة. وإلا، فعلى المجاز، وأي بعد في
هذا التأثير؟ وأنتم تقولون بمثله في زمن الخطاب، لأنكم تجوزون التجوز
ما دام المتكلم مشغولا بكلامه (5) الواحد. فما لم ينقطع لا يتجه للسامع الحكم
بإرادة شئ من اللفظ. وعند انتهائه يتبين (6) الحال، أما بنصب القرينة فالمجاز،
وأما بعدمها فالحقيقة. فعلم أن الدلالة عندنا وعندكم إنما تستقر (7) بعد مضي

1 - للمراد منها - الف - ب - ج
2 - تنصبها - ب
3 - عليه بل يحصل من المجموع ليس في - بكلام - الف - ب - ج
4 - المجازى - ب
5 - بكلام - ب - ج
6 - تبين - ب
7 - يستقر - الف
168

زمان، واختلافه بالطول والقصر لا يجوز إنكار أصل التأثير.
وبهذا (1) يتضح فساد قوله: " وذلك قائم قبل وقت الحاجة "، لظهور منع
قيامه بعد ما علمت من جواز التجوز قبله، وعدمه بعده كما يقوله هو في
وقت الخطاب، فيجئ الاحتمال المنافي لقيام الدلالة من قبل، وينتفي
فتحصل (2) الدلالة من بعد.
قوله: " على أن وقت الحاجة إنما يعتبر في القول الذي يتضمن تكليفا
الخ ". قلنا: ونحن لا نجيز التأخير إلا فيما يتضمن التكليف، أعني: الانشاء،
لأنه الذي يعقل فيه وقت الحاجة. وأما ما عداه من الاخبار، فلابد من اقتران
بيان المجاز فيها بها، كما بيناه.
وأما الجواب عن الثالث (3): فواضح لا يكاد يحتاج إلى البيان، لان فرض
الفائدة في الخطاب بالمجمل يقتضي مثله في العام، إذ غايته أن يصير مجملا
في المعنيين، وهو غير ضائر ولا فيه خروج عن القول بكونه موضوعا للعموم. وما
ذكره من الرجوع إلى القول بالوقف لا وجه له، فان التوقف فيما قبل وقت
الحاجة بمنزلة التوقف إلى إكمال (4) الخطاب. ومن المعلوم أن ذلك لا يعد وقفا (5)
والتفرقة فيما بعد الحاجة جلية، لان الخصوص عندنا يحتاج إلى القرينة،
فبدونها يكون للعموم. وأهل الوقف يقولون: بأن المحتاج إلى القرينة
هو العموم، فان الخصوص متيقن الإرادة على كل حال.

1 - ولهذا - الف
2 - قبل فيحصل - الف
3 - وأما جواب الثالث - الف
4 - كمال - ب
5 - توفقا - الف - ب
169

المطلب الخامس
في
الاجماع
171

أصل
الاجماع يطلق لغة (1) على معنيين: أحدهما: العزم، وبه فسر قوله تعالى:
" فأجمعوا أمركم " (2) أي اعزموا وثانيهما: الاتفاق. وقد نقل في الاصطلاح: إلى
اتفاق خاص، وهو اتفاق من يعتبر قوله من الأمة في الفتاوى الشرعية على أمر
من الأمور الدينية.
والحق إمكان وقوعه، والعلم به، وحجيته. وللناس (3) خلاف في المواضع
الثلاثة: فزعم قوم أنه محال، وأحال آخرون (4) العلم به مع تجويز وقوعه،
ونفى ثالث حجيته (5) معترفا بامكان الوقوع والعلم به. والكل باطل، والذاهب إليه
شاذ، وحججه (6) ركيكة واهية، فهي بالاعراض عنها أجدر، والاضراب عن
حكايتها والجواب عنها أليق.
وقد وقع الاختلاف بيننا وبين من وافقنا على الحجية من أهل الخلاف
في مدركها: فإنهم لفقوا لذلك وجوها من العقل والنقل لا يجدي طائلا. ومن
شاء أن يقف عليها فليطلبها (7) من مظانها، إذ ليس في التعرض لنقلها كثير
فائدة.

1 - لغة يطلق - ب
2 - سورة يونس، 71.
3 - والناس - الف
4 - آخرون - الف - ب - ج
5 - حجية - الف
6 - وحجته - ب
7 - فليطلبها - الف - ج
172

ونحن لما ثبت عندنا بالأدلة العقلية والنقلية - كما حقق مستقصى في
كتب أصحابنا الكلامية -: أن زمان التكليف لا يخلو من إمام معصوم حافظ
للشرع يجب الرجوع إلى قوله فيه. فمتى اجتمعت (1) الأمة على قول، كان داخلا
في جملتها، لأنه سيدها، الخطأ مأمون على قوله، فيكون ذلك الاجماع
حجة.
فحجية الاجماع في الحقيقة عندنا إنما هي باعتبار كشفه عن الحجة التي
هي قول المعصوم. وإلى هذا المعنى أشار المحقق - رحمه الله - حيث قال، بعد
بيان وجه الحجية على طريقتنا: " وعلى هذا فالاجماع كاشف عن قول الإمام
لا أن الاجماع حجة في نفسه من حيث هو إجماع " (2) انتهى.
ولا يخفى عليك: أن فائدة الاجماع تعدم عندنا إذا علم الإمام بعينه، نعم
يتصور وجودها حيث لا يعلم بعينه ولكن يعلم كونه في جملة المجمعين.
ولابد في ذلك من وجود من لا يعلم أصله ونسبه في جملتهم إذ مع علم أصل
الكل ونسبهم يقطع بخروجه عنهم. ومن هنا يتجه أن يقال: إن المدار
في الحجية على العلم بدخول المعصوم في جملة القائلين، من غير حاجة إلى
اشتراط اتفاق جميع المجتهدين أو أكثرهم، لا سيما معروفي الأصل
والنسب.
قال المحقق في المعتبر. (3) " وأما الاجماع فعندنا هو حجة بانضمام
المعصوم. فلو خلا المائة من فقهائنا عن قوله لما كان حجة،
ولو حصل في اثنين (4) لكان قولهما حجة، لا باعتبار اتفاقها
بل باعتبار قوله. فلا تغتر (5) إذن بمن يتحكم فيدعي الاجماع باتفاق الخمسة

1 - أجمعت الف - ج
2 - معارج الأصول، ص 126.
3 - المعتبر في شرح المختصر ص 6، س 21
4 - الاثنين - الف
5 - فلا تعتره - ب
173

أو العشرة (1) من الأصحاب مع جهالة (2) قول الباقين إلا مع العلم القطعي بدخول
الامام في الجملة ". هذا كلامه وهو: في غاية الجودة.
والعجب من غفلة جمع من الأصحاب عن هذا الأصل وتساهلهم في
دعوى الاجماع عند احتجاجهم به للمسائل الفقهية كما حكاه - رحمه الله - (3)
حتى جعلوه عبارة عن مجرد اتفاق الجماعة من الأصحاب، فعدلوا به عن معناه
الذي جرى عليه الاصطلاح من غير قرينة جلية، ولا دليل على الحجية معتد
به (4).
وما اعتذر به عنهم الشهيد (5) - رحمه الله - في الذكرى: - من تسميتهم
المشهور إجماعا، أو بعدم الظفر حين دعوى الاجماع بالمخالف، أو بتأويل
الخلاف على وجه يمكن مجامعته لدعوى الاجماع وإن بعد، أو ارادتهم
الاجماع على روايته، بمعنى تدوينه في كتبهم، منسوبا إلى الأئمة
عليهم السلام - لا يخفى عليك ما فيه، فان تسمية الشهرة إجماعا لا تدفع (6)
المناقشة التي ذكرناها، وهي العدول عن المعنى المصطلح المتقرر (7)
في الأصول من غير إقامة قرينة على ذلك. هذا مع ما فيه من الضعف، لانتفاء
الدليل على حجية (8) مثله كما سنذكره.
وأما عدم الظفر بالمخالف عند دعوى الاجماع، فأوضح حالا في الفساد
من أن يبين. وقريب منه تأويل الخلاف، فانا نريه في مواضع لا يكاد تنالها (9)
يد التأويل. وبالجملة، فالاعتراف بالخطأ في كثير من المواضع أخف (10) من
ارتكاب الاعتذار. ولعل هذا منها. والله أعلم.

1 - والعشرة - الف - ج
2 - جهالته - الف - ج
3 - رحمه الله - ليس في - ب
4 - معتدا به - ب
5 - ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، (حجري) ص 4 س 30.
6 - لا يدفع - الف
7 - المقرر - الف - ب
8 - حجته - الف
9 - ينالها - ب
10 - أحق - ب
174

إذا عرفت هذا، فهنا فوائد:
الأولى: الحق امتناع الاطلاع عادة على حصول الاجماع في زماننا هذا
وما ضاهاه، من غير جهة النقل، إذ لا سبيل إلى العلم بقول الامام. كيف وهو
موقوف على وجود المجتهدين المجهولين ليدخل في جملتهم، ويكون قوله مستورا بين
أقوالهم؟ وهذا مما يقطع (1) بانتفائه.
فكل إجماع يدعى في كلام الأصحاب، مما يقرب من (2) عصر الشيخ إلى
زماننا هذا، وليس مستندا إلى نقل متواتر أو أحاد حيث يعتبر أو مع القرائن
المفيدة للعلم، فلابد من أن يراد به ما ذكره الشهيد - رحمه الله - من الشهرة.
وأما الزمان السابق على ما ذكرناه، المقارب لعصر ظهور الأئمة، عليهم السلام.
وإمكان العلم بأقوالهم، فيمكن فيه حصول الاجماع والعلم به بطريق التتبع.
وإلى مثل هذا نظر بعض علماء أهل الخلاف حيث قال: " الانصاف أنه
لا طريق إلى معرفة حصول الاجماع إلا في زمن الصحابة، حيث كان المؤمنون
قليلين يمكن معرفتهم بأسرهم على التفصيل ".
واعترضه العلامة (3) - رحمه الله - بأنا نجزم بالمسائل المجمع عليها جزما
قطعيا، ونعلم اتفاق الأمة عليها علما وجدانيا حصل بالتسامع وتظافر الاخبار عليه (4).
وأنت بعد الإحاطة بما قررناه خبير بوجه اندفاع هذا الاعتراض عن ذلك
القائل، لان ظاهر كلامه: ان الوقوف على الاجماع والعلم به ابتداء من غير جهة
النقل (5) غير ممكن عادة، لا مطلقا، وكلام العلامة إنما يدل على حصول العلم به
من طريق (6) النقل كما يصرح به قوله آخرا: " علما وجدانيا حصل بالتسامع
وتظافر الاخبار ".
الثانية: قال الشهيد (7) - رحمه الله - في الذكرى: " إذا أفتى جماعة من

1 - نقطع - الف
2 - عن - الف
3 - نهاية الأصول، ورقه 183، ص 2، س 1.
4 - عليها - ب
5 - غير النقل - ج
6 - ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، ص 4.
7 - من طريق - الف - ب - ج
175

الأصحاب ولم يعلم لهم مخالف، فليس إجماعا قطعا، وخصوصا مع علم العين،
للجزم بعدم دخول الامام حينئذ، ومع عدم علم العين، لا يعلم أن الباقي
موافقون. ولا يكفي عدم علم خلافهم فان الاجماع هو الوفاق لا عدم علم الخلاف.
وهل هو حجة مع عدم متمسك ظاهر من حجة نقلية أو عقلية (1)؟ الظاهر ذلك،
لان عدالتهم تمنع من الاقتحام على الافتاء بغير علم، ولا يلزم (2) من عدم الظفر
بالدليل عدم الدليل. وهذا الكلام عندي ضعيف، لان العدالة انما يؤمن معها
تعمد الافتاء بغير ما يظن بالاجتهاد دليلا، وليس الخطأ بمأمون على الظنون ".
الثالثة: حكي (3) فيها أيضا عن بعض الأصحاب: إلحاق المشهور بالمجمع عليه.
واستقربه إن كان مراد قائله اللحوق في الحجية، لا في كونه إجماعا.
واحتج له بمثل ما قاله (4) في الفتوى التي لا يعلم لها مخالف، وبقوة الظن في
جانب الشهرة، سواء كان اشتهارا في الرواية بأن يكثر تدوينها أو الفتوى (5).
ويضعف بنحو ما ذكرناه في الفتوى، وبأن الشهرة التي تحصل (6) معها قوة
الظن هي الحاصلة قبل زمن الشيخ - رحمه الله - لا الواقعة بعده.
وأكثر ما يوجد مشهورا (7) في كلامهم حدث بعد زمان الشيخ (8)، " ره " كما نبه
عليه والدي - رحمه الله - في كتاب الرعاية (9) الذي ألفه في دراية الحديث (10) - مبينا
لوجهه، وهو: أن أكثر الفقهاء الذين نشأوا بعد الشيخ كانوا يتبعونه في الفتوى
تقليدا له، لكثرة اعتقادهم فيه وحسن ظنهم به. فلما جاء المتأخرون وجدوا
أحكاما مشهورة قد عمل بها الشيخ ومتابعوه، فحسبوها شهرة بين العلماء (11)

1 - عقلية أو نقلية - ب
2 - بغير دليل ولا يلزم - الف - ب
3 - أصل حكى - ب
4 - قال له - الف
5 - وانفتوى - ب
6 - يحصل - ب
7 - مشتهرا يدل من قوله مشهورا - الف - ب - ج
8 - زمن الشيخ - ب
9 - راية الحديث - ب
10 - التي - الف
11 - بين العلماء - ليس في - ب
176

وما دروا أن مرجعها إلى الشيخ وأن الشهرة إنما حصلت بمتابعته.
قال الوالد قدس الله نفسه: وممن اطلع على هذا الذي بينته وتحققته (1) من
غير تقليد، الشيخ الفاضل المحقق سديد الدين محمود الحمصي، والسيد رضي
الدين بن (2) طاوس وجماعة.
وقال السيد رحمه الله في كتابه المسمى بالبهجة لثمرة المهجة: أخبرني جدي
الصالح ورام بن أبي فراس - قدس الله روحه -: أن الحمصي حدثه أنه لم يبق
للامامية مفت على التحقيق بل كلهم حاك. وقال السيد عقيب ذلك: " والآن
فقد ظهر (3) أن الذي يفتى به ويجاب، على سبيل ما حفظ من كلام العلماء
المتقدمين ".
أصل
إذا اختلف أهل العصر على قولين، لا يتجاوزونهما. فهل يجوز إحداث
قول ثالث (4)؟ خلاف بين أهل الخلاف. ومثلوا له بأمثلة.
منها: أن يطأ المشتري (5) البكر، ثم يجد بها عيبا. فقيل: الوطي يمنع الرد،
وقيل: بل يردها مع أرش النقصان. وهو تفاوت قيمتها بكرا وثيبا، فالقول بردها
مجانا قول ثالث.
ومنها: فسخ النكاح بالعيوب الخمسة (6) المخصوصة. قيل: يفسخ بها كلها. وقيل:
لا يفسخ بشئ منها، فالفرق وهو القول بأنه يفسخ بالبعض دون البعض (7) قول
ثالث. ومحققوهم على التفصيل بأنه ان كان الثالث يرفع شيئا متفقا عليه فممنوع
وإلا فلا. فالأول كمسألة البكر، للاتفاق على أنها لا ترد مجانا. والثاني

1 - حققته - ب
2 - ابن - ب
3 - والآن يظهر لي - ج فقد ظهر - خ ل
4 - احداث ثالث - ج
5 - مشتري - الف
6 - الخمسة - ليس في - الف - ب - ج
7 - في البعض - ب
177

كمسألة فسخ النكاح ببعض (1) العيوب لأنه وافق في كل مسألة مذهبا.
وهذا التفصيل جيد على أصولهم، لأنه في صورة (2) المنع، إذا رفع مجمعا عليه.
يكون قد خالف الاجماع، فلم يجز. وأما في صورة الجواز فلم يخالف (3) إجماعا، ولا
مانع سواه، فجاز.
والمتجه على أصولنا المنع مطلقا، لان الامام في إحدى الطائفتين فرضا،
قطعا، فالحق مع واحدة منهما، والأخرى على خلافه. وإذا كانت الثانية بهذه
الصفة فالثالثة كذلك بطريق أولى، وهكذا القول فيما زاد.
أصل
إذا لم تفصل الأمة بين مسألتين، فان نصت (4) على المنع من الفصل فلا
إشكال.
وإن عدم النص:
فإن كان بين المسألتين علاقة (5) بحيث يلزم من العمل بإحديهما العمل
بالأخرى لم يجز الفصل، كما في زوج وأبوين، وامرأة وأبوين، فمن قال (6): للام
ثلث أصل التركة، قال: في الموضعين، ومن قال: ثلث الباقي، قال:
في الموضعين، إلا " ابن سيرين " فإنه فصل. وإن لم يكن بينهما علاقة، (7) قال قوم: يجوز
الفصل بينهما.
والذي يأتي على مذهبنا عدم الجواز، لان الامام مع إحدى الطائفتين قطعا.
ولازم ذلك وجوب متابعته في الجمع (8). وهذا كله واضح.

1 - لبعض - ج
2 - وفي صورة - ج
3 - لم يخالف - ج
4 - فان نص - ب
5 - علقة - الف - ج
6 - فان قال - ج
7 - علقة - الف - ج
8 - في الجميع - الف
178

أصل
إذا اختلف (1) الامامية على قولين (2)، فان كانت إحدى الطائفتين معلومة
النسب ولم يكن (3) الامام أحدهم كان الحق مع الطائفة (4) الأخرى. وإن لم تكن (5)
معلومة النسب: فان كان مع إحدى الطائفتين دلالة قطعية توجب العلم وجب
العمل على قولها، لان الامام معها قطعا، وإن لم يكن مع إحديهما دليل قاطع،
فالذي حكاه المحقق عن الشيخ: التخيير في العمل بأيهما شاء. وعزى إلى بعض
الأصحاب القول باطراح القولين والتماس دليل من غيرهما.
ثم نقل عن الشيخ تضعيف هذا القول، بأنه يلزم منه اطراح قول الإمام
عليه السلام. قال: وبمثل هذا يبطل ما ذكره (6) - رحمه الله - (7) لان الامامية إذا
اختلفت (8) على قولين، فكل طائفة توجب (9) العمل بقولها وتمنع (10) من العمل بقول
الاخر. فلو تخيرنا لاستبحنا ما حظره المعصوم.
قلت: كلام المحقق - رحمه الله - هنا (11) جيد. والذي يسهل الخطب علمنا بعدم
وقوع مثله، كما تقدمت الإشارة إليه.
فائدة (12)
قال المحقق (13) رحمه الله: إذا اختلف (14) الامامية على قولين، فهل يجوز اتفاقها
بعد ذلك على أحد القولين؟ قال الشيخ - رحمه الله -: إن قلنا بالتخيير لم يصح

1 - اختلفت - الف - ج
2 - القولين - الف
3 - ولم تكن - ج
4 - في الطائفة - الف - ب - ج
5 - وان لم يكن - الف - ج
6 - معارج الأصول، ص 133.
7 - ره - الف - ب
8 - اختلف - ب
9 - يوجب - الف
10 - يمنع - الف
11 - هنا - ليس في - ب
12 - أصل - ب
13 - معارج الأصول، ص 133.
14 - اختلفت - الف - ج
179

اتفاقهم بعد الخلاف، لان ذلك يدل على أن القول الآخر باطل. وقد قلنا: إنهم
مخيرون في العمل.
ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون التخيير مشروطا بعدم الاتفاق فيما
بعد؟ وعلى هذا الاحتمال يصح الاجماع بعد الاختلاف. وكلام المحقق هنا
كالسابق في غاية الحسن والوضوح.
أصل
اختلف الناس في ثبوت الاجماع بخبر الواحد، بناء على كونه حجة. فصار
إليه قوم وأنكره آخرون.
والأقرب الأول. لنا: أن دليل حجية خبر الواحد - كما ستعرفه - يتناوله
بعمومه، فيثبت (1) به كما يثبت (2) غيره.
احتج الخصم بأن الاجماع أصل من أصول الدين فلا يثبت بخبر الواحد.
وجوابه: منع كلية الثانية، فان السنة أعني: - كلام الرسول، صلى الله عليه
وآله، أصل من أصول الدين أيضا، وقد قبل فيه خبر الواحد.
فائدتان
الأولى: لابد لحاكي الاجماع من أن يكون علمه بإحدى الطرق المفيدة
للعلم، وأقلها الخبر المحفوف بالقرائن. فلو انتفى العلم ولكن كان وصوله إليه
باخبار (3) من يقبل إخباره ليكون حجة وجب البيان حذرا من التدليس، لان
ظاهر الحكاية الاستناد إلى العلم. والفرض استنادها إلى الرواية. فترك البيان
تدليس.
وبالجملة: فحكم الاجماع حيث يدخل في حيز النقل حكم الخبر (4)، فيشترط

1 - فثبت - الف
2 - فثبت كما ثبت - ب
3 - وصوله باخبار - الف - ج
4 - لخبر الواحد - ب
180

في قبوله ما يشترط هناك، ويثبت له عند التحقيق الاحكام الثابتة له حتى
حكم التعادل والترجيح، على ما يأتي بيانه في موضعه. وإن سبق إلى كثير من
الأوهام (1) خلاف ذلك فإنه ناش عن قلة التأمل، وحينئذ فقد يقع التعارض بين
إجماعين منقولين وبين إجماع وخبر، فيحتاج إلى النظر في وجوه الترجيح بتقدير أن
يكون هناك شئ منها، وإلا حكم بالتعادل.
وربما يستبعد حصول التعارض بين الاجماع المنقول والخبر من حيث احتياج
الخبر الآن إلى تعدد الوسائط في النقل، وانتفاء مثله في الاجماع. وسيأتي أن قلة
الوسائط في النقل من جملة وجوه الترجيح.
ويندفع: بأن هذا الوجه، وإن اقتضى ترجيح الاجماع على الخبر (2)، إلا أنه
معارض في الغالب بقلة الضبط في نقل الاجماع من المتصدين لنقله، بالنسبة إلى
نقل الخبر. والنظر في باب التراجيح إلى وجه من وجوهها مشروط بانتفاء ما
يساويه أو يزيد عليه في الجانب الآخر كما ستعرفه.
الثانية: قد علمت أن بعض الأصحاب استعمل لفظ " الاجماع " في المشهور
من غير قرينة في كلامهم على تعيين المراد. فمن هذا شأنه لا يعتد بما يدعيه من
الاجماع إلا أن يبين أن المراد به المعنى المصطلح. وما أظنه واقعا. اللهم إلا أن
يذهب ذاهب إلى مساواة الشهرة للاجماع في الحجية كما اتفق كذلك. فلا حجر
عليه حينئذ في الاعتداد به. وذلك ظاهر.

1 - سبق إلى بعض الأوهام خ ل إلى كثير من - الف
2 - الاجماع على - ليس في - الف
181

المطلب السادس
في
الاخبار
183

أصل
ينقسم الخبر إلى (1) متواتر وآحاد، فالمتواتر هو (2) خبر جماعة يفيد بنفسه العلم
بصدقه. ولا ريب في إمكانه ووقوعه. ولا عبرة بما يحكى من خلاف بعض ذوي
الملل الفاسدة في ذلك، فإنه بهت ومكابرة، لأنا نجد العلم الضروري بالبلاد النائية
والأمم الخالية كما نجد العلم بالمحسوسات، ولا فرق (3) بينهما فيما (4) يعود إلى الجزم. وما
ذلك إلا بالاخبار قطعا.
وقد أوردوا عليه شكوكا.
منها: أنه يجوز الكذب على كل واحد من المخبرين فيجوز على الجملة، إذ لا
ينافي كذب واحد كذب الآخرين قطعا، ولأن المجموع مركب من الآحاد، بل
هو نفسها. فإذا فرض كذب كل واحد فقد فرض (5) كذب الجميع. ومع وجوده لا
يحصل العلم.
ومنها: أنه يلزم تصديق اليهود والنصارى فيما نقلوه عن موسى وعيسى
عليهما السلام أنه قال: " لا نبي بعدي ". وهو ينافي نبوة نبينا عليه الصلاة
والسلام، فيكون باطلا.

1 - إلى - ليس في - ب
2 - وهو - ج
3 - لا فرق - الف لا فرق - ج
4 - فيما بينهما - ب
5 - فرض - ليس في الف - ب - ج
184

ومنها: أنه كاجتماع الخلق الكثير على أكل طعام (1) واحد وأنه ممتنع عادة.
ومنها: أن حصول العلم به يؤدي إلى تناقض المعلومين إذا أخبر جمع كثير
بالشئ (2) وجمع كثير بنقيضه وذلك محال.
ومنها: أنه لو أفاد العلم الضروري، لما فرقنا بين ما يحصل منه كما مثلتم به و
بين العلم بالضروريات. واللازم باطل، لأنا إذا عرضنا على أنفسنا وجود
الإسكندر مثلا وقولنا: الواحد نصف الاثنين، فرقنا بينهما، ووجدنا الثاني أقوى
بالضرورة.
ومنها: أن الضروري يستلزم الوفاق فيه. وهو منتف، لمخالفتنا.
وكل هذه الوجوه مردودة.
أما إجمالا، فلأنها تشكيك في الضروري، فهي كشبهة (3) السوفسطائية، لا تستحق
الجواب (4).
وأما تفصيلا، فالجواب عن الأول: أنه قد يخالف حكم الجملة
حكم الآحاد. فان الواحد جزء العشرة وهو بخلافها (5)، والعسكر متألف
من الأشخاص وهو يغلب ويفتح البلاد دون كل شخص على انفراده (6).
وعن الثاني: أن نقل اليهود والنصارى لم يحصل بشرائط التواتر، فلذلك لم
يحصل العلم.
وعن الثالث: أنه قد علم وقوعه. والفرق بينه وبين الاجتماع على الاكل
وجود الداعي، بخلاف أكل الطعام الواحد. وبالجملة فوجود العادة هنا وعدمها
هناك ظاهر.
وعن الرابع: أن تواتر النقيضين محال عادة.
وعن الخامس: أن الفرق الذي نجده بين العلمين إنما هو باعتبار كون (7) كل

1 - الطعام الواحد - الف
2 - شئ - ج
3 - كشبه - الف - ج
4 - لا تستحق بالجواب - ب
5 - يخالفها - ب
6 - بانفراده - الف
7 - كونه - ج
185

واحد منهما نوعا من الضروري. وقد يختلف النوعان بالسرعة وعدمها، لكثرة
استيناس العقل بأحدهما دون الآخر.
وعن السادس: أن الضروري لا يستلزم الوفاق، لجواز المباهتة والعناد
من الشر ذمة القليلة.
إذا عرفت هذا، فاعلم: أن حصول العلم بالتواتر يتوقف على اجتماع شرائط
بعضها في المخبرين وبعضها في السامعين.
فالأول ثلاثة: الأول: أن يبلغوا في الكثرة حدا يمتنع (1) معه في العادة تواطؤهم
على الكذب. الثاني: أن يستند علمهم إلى الحس، فإنه في مثل حدوث العالم لا
يفيد قطعا. الثالث: استواء الطرفين والواسطة، أعني بلوغ جميع طبقات المخبرين
في الأول والآخر والوسط، بالغا ما بلغ، عدد التواتر.
والثاني أمران، الأول: أن لا يكونوا عالمين بما أخبروا عنه اضطرارا،
لاستحالة تحصيل الحاصل، الثاني: أن لا يكون السامع قد سبق بشبهة أو تقليد
يؤدي (2) إلى اعتقاد (3) نفي موجب الخبر. وهذا الشرط ذكره السيد المرتضى (4)
رضي الله عنه. وهو جيد، وحكاه عنه (5) جماعة من الجمهور ساكتين عنه.
قال السيد (6) - رضي الله عنه - إذا كان هذا العلم - يعنى الحاصل من التواتر -
مستندا إلى العادة وليس بموجب عن سبب، جاز في شروطه الزيادة والنقصان
بحسب ما يعلم الله تعالى من المصلحة. وإنما احتجنا إلى هذا الشرط لئلا يقال
لنا: أني فرق بين خبر البلدان (7) والأخبار الواردة بمعجزات النبي، صلى الله عليه
وآله (8)، سوى القرآن، كحنين الجذع، وانشقاق القمر، وتسبيح الحصى، وما
أشبه ذلك؟ وأي فرق أيضا بين خبر البلد، وخبر النص الجلي على أمير المؤمنين

1 - ممتنع - ج
2 - يؤدي - ليس في - ج - الف
3 - اعتقاده - ب
4 - الذريعة إلى أصول الشريعة ص 491.
5 - عليه - الف - ج
6 - السيد المرتضى رض - الف
7 - البلد - الف - ج
8 - ص - ب
186

عليه السلام (1)، الذي تنفرد الامامية بنقله؟ وإلا، أجزتم أن يكون العلم بذلك كله
ضروريا، كما أجزتموه في أخبار البلدان. وقد اشترط بعض الناس ههنا شروطا
أخر ظاهرة الفساد، فهي بالاضراب عنها أجدر (2) وأحرى ".
فائدة (3)
قد تتكثر (4) الاخبار في الوقايع وتختلف (5). لكن (6) يشتمل كل واحد منها على معنى
مشترك بينها بجهة التضمن أو الالتزام (7). فيحصل العلم بذلك القدر المشترك و
يسمى المتواتر من جهة المعنى. وذلك كوقايع أمير المؤمنين عليه السلام (8) في حروبه،
من قتله في غزاة بدر كذا، وفعله في أحد كذا، إلى غير ذلك فإنه يدل بالالتزام
على شجاعته. وقد تواتر ذلك منه، وإن كان لا يبلغ شئ من تلك (9) الجزئيات
درجة القطع.
أصل
وخبر الواحد هو ما لم يبلغ حد التواتر، سواء كثرت رواته أم قلت (10). وليس شأنه
إفادة العلم بنفسه. نعم قد يفيده بانضمام القرائن إليه. وزعم قوم: أنه لا
يفيد العلم، وإن انضمت إليه القرائن.
والأصح الأول. لنا: أنه لو أخبر ملك بموت ولد له مشرف على الموت وانضم
إليه القرائن من صراخ، وجنازة، وخروج المخدرات على حالة منكره غير معتادة (11)

1 - ع - ب
2 - أجدر - ليس في - الف
3 - أصل - ب
4 - تكثر - ب - الف
5 - ويختلف - الف ويختلف - ج
6 - لكن - ب
7 - والالتزام - الف
8 - ع - ب
9 - تلك - ليس في - ب
10 - أم قلوا - ج
11 - على حال منكر غير معتاد - الف - ب - ج
187

من دون موت مثله، وكذلك الملك وأكابر مملكته، فإنا نقطع بصحة ذلك الخبر و
نعلم به موت الولد. نجد ذلك من أنفسنا وجدانا ضروريا لا يتطرق إليه الشك.
وهكذا (1) حالنا في كل ما يوجد من الاخبار التي تحف بمثل هذه القرائن بل بما
دونها، فانا نجزم بصحة مضمونها بحيث لا يتخالجنا (2) في ذلك ريب ولا يعترينا فيه
شك.
احتج المخالف بوجوه، أحدها: أنه (3) لو حصل العلم به لكان عاديا، إذ لا علية
ولا ترتب الا باجراء الله تعالى عادته بخلق شئ عقيب آخر، ولو كان عاديا
لا طرد. وانتفاء اللازم بين.
الثاني: أنه لو أفاد العلم، لادى إلى تناقض المعلومين، إذا حصل الاخبار
على ذلك الوجه بالامرين المتناقضين، فان ذلك جائز، واللازم باطل، لان المعلومين
واقعان في الواقع، وإلا لكان العلم جهلا، فيلزم اجتماع النقيضين.
الثالث: أنه لو حصل العلم به لوجب القطع بتخطئة من يخالفه بالاجتهاد.
وهو خلاف الاجماع.
والجواب: أما عن الأول، فبالمنع من انتفاء اللازم، والتزام الاطراد في مثله،
فإنه لا يخلو عن العلم.
واما عن الثاني، فبأنه إذا حصل في قضية، امتنع أن يحصل مثله في نقيضها
عادة.
واما عن الثالث: فبالتزام التخطئة حينئذ. ولو وقع العلم لم يجز (4) مخالفته (5)
بالاجتهاد إلا أنه لم يقع في الشرعيات. والاجماع المدعى على خلاف ذلك ظاهر
الفساد.

1 - هكذا - الف
2 - يتخالبنا - ب
3 - انها - الف
4 - ولو وقع لم يجز - الف - ب - ج
5 - مجالفته - ب
188

أصل
وما عرى من خبر الواحد عن القرائن المفيدة للعلم يجوز التعبد به عقلا. ولا
نعرف في ذلك من الأصحاب مخالفا، سوى ما حكاه المحقق - رحمه الله - عن (1) ابن
قبة (2)، ويعزى (3) إلى جماعة من أهل الخلاف. وكيف كان فهو بالاعراض عنه
حقيق. وهل هو واقع أولا؟ خلاف بين الأصحاب، فذهب جمع من المتقدمين.
كالسيد المرتضى، وأبي المكارم بن (4) زهرة، وابن البراج، وابن إدريس إلى الثاني،
وصار جمهور المتأخرين إلى الأول. وهو الأقرب.
وله وجوه من الأدلة: (5)
الأول: قوله تعالى: " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة، ليتفقهوا
في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم، لعلهم يحذرون " (6). دلت هذه الآية
على وجوب الحذر على القوم عند إنذار الطوائف لهم. وهو يتحقق بإنذار كل
واحد من الطوائف واحدا من القوم حيث أسند الانذار إلى ضمير الجمع العائد
على الطوائف وعلقه باسم الجمع - أعني: القوم - ففي كليهما أريد المجموع. ومن البين
تحقق هذا المعنى مع التوزيع (7) بحيث يختص بكل بعض (8) من القوم بعض من الطوائف،
قل أو كثر، ولو كان بلوغ التواتر شرطا لقيل: " ولينذروا كل واحد من قومهم "
أو " ولينذر البعض الذي يحصل به التواتر كل واحد من القوم " أو ما يؤدي
هذا المعنى. فوجوب الحذر عليهم بالانذار الواقع على الوجه الذي ذكرناه دليل على
وجوب العمل بخبر الواحد.
فان قيل: من أين علم وجوب الحذر، وليس في الآية ما يدل عليه؟ فان

1 - من - ب
2 - ره - الف
3 - تعزى - الف
4 - ابن - ب
5 - ولهم وجوه الأول من الأدلة - ب
6 - سورة التوبة، 22
7 - التوزع - الف - ج
8 - لكل بعض - ج
189

امتناع حمل كلمة " لعل " على معناها الحقيقي، باعتبار استحالته على الله تعالى،
يوجب المصير إلى أقرب المجازات إليه، وهو مطلق الطلب لا الايجاب.
قلت: قد بينا (1) فيما سبق أنه لا معنى لجواز الحذر أو ندبه، لأنه إن حصل
المقتضي له وجب، وإلا لم يحسن، فطلبه دليل على حسنة. ولا يحسن إلا عند (2)
وجود المقتضي. وحيث يوجد يجب. فالطلب له لا يقع إلا على وجه الايجاب. على
أن ادعاء كون مطلق الطلب أقرب المجازات لا الايجاب في موضع النظر.
فان قيل: وجوب الحذر عند الانذار لا يصلح بمجرده دليلا على المدعى،
لكونه أخص منه، فإن الانذار (3) هو التخويف، وظاهر أن الخبر أعم منه.
قلت: الانذار هو الابلاغ، ذكره الجوهري قال: ولا يكون إلا في التخويف (4).
وقريب من ذلك في الجمهرة (5 - 6) والقاموس (7). والعرف يوافقه أيضا. ولا ريب أن
عمدة الأحكام الشرعية الوجوب والتحريم، وما يرجع بنوع من الاعتبار إليهما.
وهما ينفكان عن التخويف، فان الواجب يستحق العقاب تاركه، والحرام
يستوجب المؤاخذة فاعله. وإذا نهضت الآية بالدلالة على قبول خبر الواحد فيهما،
فالخطب فيما سواهما سهل. إذ القول بالفصل معلوم الانتفاء. مع أنه يمكن ادعاء
الدلالة على القبول فيه أيضا بلحن الخطاب.
فان قيل: ذكر التفقه في الآية يدل (8) على أن المراد بالانذار: الفتوى، وقبول
الواحد فيها موضع وفاق.
قلت: هذا موقوف على ثبوت عرفية المعنى المعروف بين الفقهاء
والأصوليين للتفقه في زمن الرسول، صلى الله عليه وآله، على الوجه المعتبر،
ليحمل الخطاب عليه. وأنى لكم بإثباته. ومعناه اللغوي مطلق التفهم، فيجب

1 - بينت - الف
2 - عند - ليس في - ج
3 - الحذر - ب
4 - صحاح اللغة، ص 211، مادة (نذر)
5 - جمهرة 6 - من ذلك الجمهرة - ج
7 - القاموس المحيط، ج 2 ص 145.
8 - تدل - ج
190

الحمل عليه، لأصالة بقائه حتى يعلم النقل عنه. ولم يثبت حصوله في ذلك
العصر.
الثاني: قوله تعالى: " إن جاءكم فاسق بنبأ، فتبينوا " (1) وجه الدلالة: أنه
سبحانه علق وجوب (2) التثبت على مجئ الفاسق، فينتفى عند انتفائه (3)، عملا بمفهوم
الشرط. وإذا لم يجب التثبت عند مجئ غير الفاسق، فاما أن يجب القبول
وهو المطلوب، أو الرد وهو باطل، لأنه يقتضي كونه أسوء حالا من الفاسق.
وفساده بين. وما يقال: من أن دلالة المفهوم ضعيفة، مدفوع: بأن الاحتجاج به
مبني على القول بحجيته (4) فيكون حينئذ جملة الظواهر التي يجب التمسك بها.
الثالث: إطباق قدماء الأصحاب الذين عاصروا الأئمة عليهم السلام و
أخذوا عنهم أو قاربوا (5) عصرهم على رواية أخبار الآحاد وتدوينها والاعتناء
بحال الرواة، والتفحص عن المقبول والمردود، والبحث عن الثقة والضعيف،
واشتهار ذلك بينهم في كل عصر من تلك الاعصار وفي زمن إمام بعد إمام. ولم ينقل
عن أحد منهم إنكار لذلك أو مصير إلى خلافه، ولا روى عن الأئمة
عليهم السلام (6) حديث يضاده، مع كثرة الروايات عنهم في فنون الاحكام.
قال العلامة في النهاية (7): " أما الامامية، فالأخباريون منهم (8) لم يعولوا في أصول
الدين وفروعه، إلا على أخبار الآحاد المروية عن الأئمة عليهم السلام،
والأصوليون منهم كأبي جعفر الطوسي - رحمه الله (9) - وغيره وافقوا على قبول
خبر الواحد. ولم ينكره أحد (10)، سوى المرتضى وأتباعه، لشبهة حصلت لهم ".

1 - سورة الحجرات، 6.
2 - وجود - ب
3 - عنه انتفاؤه - ج
4 - بحجية - الف
5 - وقاربوا - الف
6 - عليه السلام - الف
7 - نهاية الأصول، ورقة 228، ص 1، س 17.
8 - منهم - ليس في - الف
9 - رحمه الله - ليس في - الف
10 - أحد ليس في - الف - ب - ج
191

وقد حكى المحقق (1) - رحمه الله - عن الشيخ سلوك هذا الطريق (2) في الاحتجاج
للعمل بأخبارنا المروية عن الأئمة (3) عليهم السلام، مقتصرا عليه، فادعى الاجماع
على ذلك وذكر أن قديم الأصحاب وحديثهم، إذا طولبوا بصحة ما أفتى
به المفتى منهم، عولوا (4) على المنقول في أصولهم المعتمدة وكتبهم المدونة فيسلم له
خصمه (5) منهم الدعوى في ذلك. وهذه سجيتهم من زمن النبي صلى الله عليه وآله
إلى زمن الأئمة (6) عليهم السلام. فلولا أن العمل بهذه الاخبار جائز لأنكروه
الصحابة (7) وتبرء وامن العمل (8) به.
وموافقونا من أهل الخلاف احتجوا بمثل هذه الطريقة أيضا، فقالوا: إن
الصحابة والتابعين أجمعوا على ذلك، بدليل ما نقل عنهم من الاستدلال
بخبر الواحد وعملهم به في الوقايع المختلفة التي لا تكاد تحصى. وقد تكرر ذلك مرة (9)
بعد أخرى وشاع وذاع بينهم، ولم ينكر عليهم أحد، وإلا لنقل. وذلك يوجب
العلم العادي باتفاقهم كالقول الصريح. (10)
الرابع: أن باب العلم القطعي بالأحكام الشرعية التي لم تعلم (11) بالضرورة من
الدين أو من مذهب أهل البيت عليهم السلام في نحو زماننا هذا (12) منسد قطعا،
إذ الموجود من أدلتها لا يفيد (13) غير الظن، لفقد السنة المتواترة، وانقطاع طريق
الاطلاع على الاجماع من غير جهة النقل بخبر الواحد، ووضوح كون أصالة البراءة
لا يفيد غير الظن، وكون الكتاب ظني الدلالة. وإذا تحقق انسداد باب العلم في
حكم شرعي كان التكليف فيه بالظن قطعا. والعقل قاض بان الظن إذا كان له

1 - معارج الأصول، ص 147.
2 - مثل هذا الطريق - الف
3 - عن الأئمة - ليس في - ب
4 - عول - الف - ب - ج
5 - فيسلم به خصمهم - ب
6 - والأئمة - ب
7 - الصحابة - ليس في - الف - ب
8 - العامل به - الف - ب - ج
9 - مرة - ليس في - الف - ب - ج
10 - كالصريح - ج
11 - لم يعلم - الف
12 - هذا - ليس في - ج
13 - لا تفيد - ج
192

جهات متعددة يتفاوت (1) بالقوة والضعف. فالعدل عن القوي منها إلى الضعيف
قبيح. ولا ريب أن كثيرا من أخبار الآحاد (2) يحصل بها من الظن (3) ما لا يحصل
بشئ من سائر الأدلة، فيجب تقديم العمل بها.
لا يقال: لو تم هذا لوجب - فيما إذا حصل للحاكم من شهادة العدل
الواحد أو دعواه، ظن (4) أقوى من الحاصل (5) بشهادة العدلين - أن يحكم بالواحد أو
بالدعوى. وهو خلاف الاجماع.
لأنا نقول: ليس الحكم في الشهادة (6) منوطا بالظن بل بشهادة العدلين، فينتفى
بانتفائها، ومثلها الفتوى والاقرار. فهي كما أشار إليه المرتضى (7) - رضي الله عنه - (8)
في معنى الأسباب أو الشروط الشرعية، كزوال الشمس وطلوع الفجر بالنسبة إلى
الأحكام المتعلقة (9) بهما، بخلاف محل النزاع، فان المفروض فيه كون التكليف
منوطا بالظن.
لا يقال: الحكم المستفاد من ظاهر الكتاب معلوم، لا مظنون. وذلك بواسطة
ضميمة مقدمة خارجية، وهي قبح خطاب الحكيم بما له ظاهر، وهو يريد
خلافه، من غير دلالة تصرفه (10) عن ذلك الظاهر. سلمنا، ولكن ذلك (11) ظن مخصوص،
فهو من قبيل الشهادة، لا يعدل عنه إلى غيره إلا بدليل.
لأنا نقول: أحكام الكتاب كلها من قبيل خطاب المشافهة، وقد مر أنه
مخصوص بالموجودين في زمن الخطاب، وأن ثبوت حكمه في حق من تأخر إنما هو
بالاجماع وقضاء الضرورة باشتراك التكليف بين الكل. وحينئذ فمن الجائز أن

1 - يتفاوت - ب تتفاوت - ج
2 - الاخبار الآحاد - ج
3 - بها الظن - ج
4 - وظن - ج
5 - الحال - ج
6 - بالشهادة - ب
7 - الذريعة إلى أصول الشريعة، ص 528.
8 - رضى ليس في - الف
9 - المعلقة - الف - ب - ج
10 - تصرف الف - ب - ج
11 - ولكن ذاك - الف - ليس في
193

يكون اقترن ببعض تلك الظواهر ما يدلهم على إرادة خلافها. وقد وقع ذلك في
مواضع علمناها بالاجماع ونحوه، فيحتمل الاعتماد في تعريفنا بسائرها
على الامارات المفيدة للظن القوي، وخبر الواحد من جملتها. ومع قيام
هذا الاحتمال ينتفي القطع بالحكم، ويستوي حينئذ الظن المستفاد من
ظاهر الكتاب والحاصل من غيره، بالنظر إلى إناطة التكليف به. لابتناء الفرق
بينهما على كون الخطاب متوجها إلينا، وقد تبين خلافه، ولظهور اختصاص
الاجماع والضرورة الدالين على المشاركة في التكاليف المستفادة من ظاهر
الكتاب بغير صورة وجود الخبر الجامع للشرائط الآتية، المفيد للظن الراجح بأن
التكليف بخلاف ذلك الظن الظاهر (1). ومثله يقال: في أصالة البراءة لمن التفت
إليها. بنحو ما ذكر أخيرا في ظاهر الكتاب.
حجة القول الآخر: عموم قوله تعالى: " ولا تقف ما ليس لك به علم " (2) فإنه نهى
عن اتباع الظن. وقوله تعالى: " إن يتبعون إلا الظن "، (3 - 4) و " إن الظن لا يغني من
الحق شيئا " (5)، ونحو ذلك من الآيات الدالة على ذم اتباع الظن. والنهي والذم دليل
الحرمة، وهي تنافي الوجوب، ولا شك أن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن.
وما ذكره السيد المرتضى (6) في جواب المسائل التبانيات: من أن أصحابنا لا
يعملون بخبر الواحد، وأن ادعاء خلاف ذلك عليهم دفع للضرورة. قال: لأنا
نعلم علما ضروريا لا يدخل في مثله ريب ولا شك أن علماء الشيعة الإمامية
يذهبون إلى أن أخبار الآحاد لا يجوز العمل بها في الشريعة ولا التعويل علها و
أنها ليست بحجة ولا دلالة. وقد ملأوا الطوامير وسطروا الأساطير في الاحتجاج (7)
على ذلك والنقض على مخالفيهم فيه. ومنهم من يزيد على هذه الجملة ويذهب إلى

1 - ذاك الظاهر - ب
2 - سورة الإسراء، 36.
3 - سورة الأنعام، 116.
4 - وليس في - الف
5 - سورة النجم، 28.
6 - المرتضى (رض) - الف (ره) ب
7 - في الاحتجاج ليس في - ج
194

أنه مستحيل من طريق العقول: أن يتعبد الله تعالى بالعمل بأخبار الآحاد (1). و
يجري ظهور مذهبهم في أخبار الآحاد مجرى ظهوره في إبطال القياس في الشريعة و
حظره.
وقال في المسألة التي أفردها في البحث عن العمل بخبر الواحد: إنه بين في
جواب المسائل التبانيات: أن العلم الضروري حاصل لكل مخالف للامامية أو
موافق بأنهم لا يعملون في الشريعة بخبر لا يوجب العلم، وأن ذلك قد صار
شعارا لهم يعرفون به، كما أن نفي القياس في الشريعة من شعارهم الذي يعلمه
منهم كل مخالط لهم.
وتكلم (2) في الذريعة على التعلق بعمل الصحابة والتابعين، بأن الامامية تدفع
ذلك وتقول: إنما عمل بأخبار الآحاد من الصحابة، المتأمرون الذين يحتشم
التصريح بخلافهم والخروج عن جملتهم. فامساك النكير عليهم لا يدل على
الرضاء بما فعلوه. لان الشرط في دلالة الامساك على الرضاء: أن لا يكون له
وجه سوى الرضاء من تقية وخوف وما أشبه (3) ذلك.
والجواب عن الاحتجاج بالآيات: أن العام يخص والمطلق يقيد بالدليل وقد
وجد كما عرفت. على أن آيات الذم ظاهرة بحسب السوق في الاختصاص باتباع
الظن في أصول الدين. لان الذم فيها للكفار على ما كانوا يعتقدونه. وآية النهي
محتملة لذلك أيضا، ولغيره مما ينافي عمومها أو صلاحيتها للتمسك بها في موضع
النزاع. لا سيما بعد ملاحظة ما تقرر في خطاب المشافهة ووجه ثبوت حكمه (4) علينا
مع ما علم في الوجه الرابع من الحجة لما صرنا إليه. وأي إجماع أو ضرورة تقتضي (5)
بمشاركتنا (6) لهم في التكليف بتحصيل العلم فيما لا ريب في انسداد باب العلم به
عنا دونهم؟ وهذا واضح لمن تدبر.

1 - بالاخبار الآحاد - الف - ب
2 - الذريعة إلى أصول الشريعة، ص 537
3 - وما أشبههما - ج
4 - عليها خ ل - ج
5 - يقتضي - ب - ج
6 - لمشاركتنا - ب
195

وأما ما ذكره المرتضى، فجوابه:
أولا: أن العلم الضروري بأن الامامية تنكر العمل بخبر الواحد مطلقا غير حاصل لنا الآن قطعا، واعتمادنا في الحكم بذلك على نقله له نقض لغرضه، إذ
لم يصل إلينا معه ما يخرجه عن كونه خبر واحد.
وثانيا: أن التكليف بالمحال ليس بجائز عندنا، ومعلوم أن تحصيل العلم
القطعي بالحكم الشرعي في محل (1) الحاجة إلى العمل بخبر الواحد الآن مستحيل
عادة. وإمكانه في عصره وما قبله من أزمنة ظهور الأئمة، عليهم السلام، لا
يجدي بالنسبة إلى زمان عدم الامكان. ولعل الوجه في معلومية مخالفة الامامية
لغيرهم في هذا الأصل تمكنهم في تلك الأوقات من تحصيل العلم بالرجوع إلى
أئمتهم المعصومين، عليهم السلام فلم يحتاجوا (2) إلى اتباع الظن الحاصل من
خبر الواحد كما صنع مخالفوهم ولم يؤثروه على العلم.
وقد أورد السيد على نفسه، في بعض كلامه، سؤالا، هذا لفظه: فان قيل:
إذا سددتم طريق العمل بالاخبار، فعلى أي شئ تعولون في الفقه كله؟ وأجاب
بما حاصله: ان معظم الفقه يعلم (3) بالضرورة من (4) مذاهب أئمتنا، عليهم السلام،
فيه بالاخبار المتواترة. وما لم يتحقق ذلك فيه ولعله الأقل يعول فيه على إجماع الإمامية.
وذكر كلاما طويلا في بيان حكم ما يقع فيه الاختلاف بينهم. ومحصوله:
أنه، إذا أمكن تحصيل القطع بأحد الأقوال من طرق ذكرها (5) تعين العمل عليه و
إلا كنا (6) مخيرين بين الأقوال المختلفة لفقد دليل التعيين. ولا ريب أن ما ادعاه من
علم معظم الفقه بالضرورة وباجماع الامامية، أمر ممتنع في هذا الزمان وأشباهه (7).
فالتكليف فيها (8) بتحصيل العلم غير جائز، والاكتفاء بالظن فيما يتعذر فيه العلم

1 - محل - خ ل ومحال، متن - في الف
2 - يحتجوا - ب - ج
3 - تعلم - الف - ج
4 - من ليس في - ج
5 - ذكرناها - الف - ب
6 - لكنا - ب
7 - وأشباهه - ليس في - الف
8 - فالتكليف بها - الف
196

مما لا شك (1) فيه ولا نزاع وقد ذكره في غير موضع من كلامه أيضا. فيستوى (2) حينئذ
الاخبار وغيرها من الأدلة المفيدة للظن. في الصلاحية لاثبات الأحكام الشرعية
في الجملة كما حققناه، وأما مع إمكان تحصيل العلم، فيتوقف العمل بما
لا يفيده على قيام الدليل القطعي عليه. ولا حاجة بنا الآن إلى تحمل مشقة
البحث عن قيامه حينئذ على العمل بخبر الواحد وعدمه مع أن السيد قد اعترف في
جواب المسائل التبانيات بأن أكثر أخبارنا المروية في كتبنا معلومة، مقطوع (3) على
صحتها، اما بالتواتر، أو بأمارة وعلامة دلت على صحتها وصدق رواتها. فهي
موجبة للعلم، مقتضية للقطع، وإن وجدناها مودعة في الكتب بسند مخصوص من
طريق الآحاد.
وبقي الكلام في التدافع الواقع بين ما عزاه إلى الأصحاب وبين ما حكيناه
عن العلامة في النهاية فإنه عجيب.
ويمكن أن يقال: إن اعتماد المرتضى، فيما ذكره، على ما عهده من كلام
أوائل المتكلمين منهم. والعمل بخبر الواحد بعيد عن طريقتهم. وقد مرت حكاية
المحقق عن ابن قبة وهو من جملتهم: القول بمنع التعبد به عقلا. وتعويل العلامة
على ما ظهر له من حال الشيخ وأمثاله من علمائنا المعتنين (4) بالفقه والحديث
حيث أوردوا الاخبار في كتبهم، واستراحوا إليها في المسائل الفقهية ولم يظهر منهم
ما يدل على موافقة المرتضى.
والانصاف: أنه لم يتضح من (5) حالهم المخالفة له (6) أيضا. إذ كانت أخبار
الأصحاب يومئذ قريبة العهد بزمان لقاء المعصومين، ع، واستفادة الاحكام منهم

1 - لا يشك - ج
2 - فتستوي - ج
3 - مقطوعة - ب
4 - المعنيين - ب
5 - عن - ب
6 - لهم - خ ل - الف
197

وكانت القرائن العاضدة لها متيسرة (1)، كما أشار إليه السيد. ولم يعلم أنهم
اعتمدوا (2) على الخبر المجرد ليظهر مخالفتهم لرأيه فيه.
وقد تفطن المحقق (3) من كلام الشيخ لما قلناه بعد أن ذكر عنه في حكاية
الخلاف هنا: أنه عمل بخبر الواحد إذا كان عدلا من الطائفة المحقة، وأورد
احتجاج القوم من الجانبين، فقال: (4) وذهب (5) شيخنا أبو جعفر - رحمه الله - إلى
العمل بخبر العدل من رواة أصحابنا. لكن لفظه وإن كان مطلقا فعند التحقيق
يتبين (6) أنه لا يعمل بالخبر مطلقا بل بهذه الاخبار التي رويت عن الأئمة
عليهم السلام ودونها الأصحاب. لا أن كل خبر يرويه إمامي يجب العمل به.
هذا الذي تبين لي في كلامه ويدعي: إجماع الأصحاب على العمل بهذه
الاخبار حتى لو رواها (7) غير الامامي وكان الخبر سليما عن المعارض (8) واشتهر نقله
في هذه الكتب الدائرة بين الأصحاب، عمل به.
ثم أخذ في نقل احتجاج الشيخ بما حكيناه سابقا: من أن قديم الأصحاب
وحديثهم، إلى آخر ما ذكر هناك. وزاد في تقريبه مالا حاجة لنا إلى ذكره.
وما فهمه المحقق (9) من كلام الشيخ، (10) هو الذي ينبغي أن يعتمد عليه، لا ما
نسبه العلامة إليه.
وأما اهتمام القدماء بالبحث عن أحوال الرجال: فمن الجائز أن يكون طلبا
لتكثير القرائن، وتسهيلا لسبيل العلم بصدق الخبر، لا لما مر (11) في الوجه الثالث من
حجة (12) القول الأول، وكذا اعتناؤهم (13) بالرواية، فإنه محتمل لان يكون رجاء للتواتر

1 - ميسره - ج
2 - اعتدوا - الف
3 - وقد تفتن المحقق - الف - ب
4 - معارج الأصول، ص 147.
5 - فذهب - ج
6 - تبين - الف - ب - ج
7 - رواه - الف
8 - من المعارض - الف - ج
9 - المحقق رحمه الله - ج
10 - الشيخ ره - ب
11 - كما مر - ب
12 - في حجة - ب
13 - اعتبارهم - ج
198

وحرصا عليه. وعلى هذا تحمل (1) روايتهم لاخبار أصول الدين، فان التعويل
على الآحاد فيها غير معقول. وقد طعن بذلك المرتضى على نقلها (2) حيث ظن منهم
الاعتماد عليها. ولا وجه له بعد ملاحظة ما ذكرناه، وإن اقتضى ضعف الوجه
المذكور من الحجة لما صرنا إليه. فان في بقية الوجوه لا سيما (3) الأخير كفاية إن
شاء الله تعالى.
أصل
وللعمل بخبر الواحد شرائط، كلها يتعلق بالراوي.
الأول: التكليف: فلا يقبل رواية المجنون والصبي وإن كان مميزا. والحكم
في المجنون وغير المميز ظاهر. ونقل الاجماع عليه من الكل. وأما المميز فلا يعرف
فيه من الأصحاب مخالف وجمهور أهل الخلاف على ذلك أيضا. ويعزى إلى
بعض منهم القبول قياسا على جواز الاقتداء به. وهو بمكان من الضعف، لمنع
الحكم في المقيس عليه أولا، سلمنا، لكن الفارق موجود كما يعلم من قاعدتهم
في القدوة. ولمنع أصل القياس ثانيا.
والتحقيق: أن عدم قبول رواية الفاسق يقتضي عدم قبوله بطريق أولى،
لان للفاسق - باعتبار التكليف - خشية من الله ربما منعته عن الكذب. والصبي
باعتبار علمه بانتفاء التكليف عنه فلا يحرم عليه الكذب، ولا يستحق به
العقاب لا مانع له من الاقدام عليه. هذا إذا سمع وروى قبل البلوغ. أما
الرواية بعد البلوغ، لما سمعه قبله فمقبولة حيث يجتمع غيره من الشرائط. لوجود
المقتضي حينئذ، وهو إخبار العدل الضابط وعدم صلاحية (4) ما يقدر مانعا
للمانعية.
الثاني: الاسلام: ولا ريب عندنا في اشتراطه. لقوله تعالى: " ان جاءكم

1 - يحمل - الف - ج
2 - نقلتها - ب نقلتها - ج
3 - في - ليس في - الف - ب - ج
4 - صلاحه - ج
199

فاسق بنبأ (1)... " (2)، وهو شامل للكافر وغيره. ولئن قيل: باختصاصه في العرف
المتأخر بالمسلم، لدل بمفهوم الموافقة على عدم قبول خبر الكافر، كما هو ظاهر.
الثالث: الايمان: واشتراطه هو المشهور بين الأصحاب. وحجتهم قوله تعالى:
" ان جائكم فاسق ".
وحكى المحقق (3) عن الشيخ: أنه أجاز العمل بخبر الفطحية، ومن ضارعهم،
بشرط أن لا يكون متهما بالكذب. محتجا بأن الطائفة عملت بخبر عبد الله بن
بكير، وسماعة وعلي بن (4) أبى حمزة، وعثمان بن عيسى، وبما رواه بنو فضال،
والطاطريون.
وأجاب المحقق (5) رحمه الله: بأنا لم نعلم إلى الآن بأن الطائفة عملت بأخبار
هؤلاء. والعلامة مع تصريحه بالاشتراط في التهذيب (6)، أكثر في الخلاصة من ترجيح
قبول روايات فاسدي المذاهب (7). وحكى والدي - رحمه الله - في فوائده
على الخلاصة، عن فخر المحققين، أنه قال: سألت والدي: عن أبان بن (8) عثمان،
فقال: الأقرب عندي عدم قبول روايته، لقوله تعالى: " ان جاءكم فاسق
بنبأ " (9)، الآية، ولا فسق أعظم من عدم الايمان. وأشار بذلك إلى ما رواه
الكشي (10)، من (11) أن أبانا كان من الناووسية، هذا. والاعتماد عندي على المشهور.
الشرط الرابع: العدالة. وهي ملكة في النفس تمنعها عن فعل الكبائر
والاصرار على الصغائر، ومنافيات (12) المروة. واعتبار هذا الشرط هو المشهور بين
الأصحاب أيضا، وظاهر جماعة من متأخريهم الميل إلى العمل بخبر مجهول
الحال، كما ذهب إليه بعض العامة.

1 - بنبأ - ليس في - الف - ب - ج
2 - سورة الحجرات، 6.
3 - معارج الأصول، ص 149.
4 - ابن - ب
5 - معارج الأصول، ص 149.
6 - في تهذيبه - ب
7 - المذهب - الف - ب - ج
8 - ابن - ب
9 - سورة الحجرات، 6.
10 - رجال الكشي، ص 300، الرقم 200.
11 - عن - ب
12 - منافاة - ج
200

ونقل المحقق (1) عن الشيخ أنه قال: يكفي كون الراوي ثقة متحرزا عن الكذب
في الرواية وإن كان فاسقا بجوارحه وادعى عمل الطائفة على أخبار جماعة هذه
صفتهم.
ثم قال المحقق (2): ونحن نمنع هذه الدعوى ونطالب بدليلها. ولو سلمناها
لاقتصرنا على المواضع التي عملت (3) فيها بأخبار خاصة ولم يجز (4) التعدي في العمل إلى
غيرها. ودعوى: التحرز من الكذب مع ظهور الفسق مستبعد. وهذا الكلام
جيد.
والقول باشتراط العدالة عندي هو الأقرب. لنا: أنه لا واسطة بحسب الواقع
بين وصفي العدالة والفسق في موضع الحاجة من اعتبار هذا الشرط، لان الملكة
المذكورة إن كانت حاصلة فهو العدل، وإلا فهو الفسق (5). وتوسط مجهول الحال
إنما هو بين من علم فسقه أو عدالته، ولا ريب أن تقدم العلم بالوصف لا يدخل
في حقيقته، ووجوب التثبت في الآية متعلق بنفس الوصف لا بما تقدم العلم به
منه، ومقتضى (6) ذلك إرادة البحث والتفحص (7) عن حصوله وعدمه. الا ترى: أن
قول القائل: " أعط كل بالغ رشيد من هذه الجماعة - مثلا - درهما "، يقتضي
إرادة السؤال والفحص عمن جمع هذين الوصفين، لا الاقتصار على من سبق
العلم باجتماعهما فيه.
ويؤيد كون المراد من الآية هذا المعنى: أن قوله: " أن تصيبوا قوما بجهالة،
فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) (8)، تعليل للامر بالتثبث، اي كراهة أن تصيبوا (9).
ومن البين: أن الوقوع في الندم لظهور (10) عدم صدق المخبر يحصل من قبول أخبار من

1 -
2 - معارج الأصول، ص 149.
3 - علمت - ج
4 - ولم تحز - الف
5 - والا فالفاسق - الف - ج
6 - ويقتضي - ب
7 - الفحص - ب
8 - سورة الحجرات، 6.
9 - أن تصبحوا - ج
10 - بظهور - ج
201

له صفة الفسق في الواقع حيث لا حجر معها عن الكذب، ولا مدخلية (1) لسبق
العلم بحصولها في ذلك.
إذا عرفت هذا: ظهر لك. أنه يصير مقتضى الآية حينئذ وجوب التثبت
عند خبر من له هذه الصفة في الواقع ونفس الامر، فيتوقف القبول على العلم
بانتفائها. وهو يقتضي بملاحظة نفي الواسطة اشتراط العدالة. وبهذا التحقيق
يظهر بطلان القول بقبول رواية المجهول، لأنه مبني على توسط الجهالة
بين الفسق والعدالة وقد تبين (2) فساده.
وأما قول الشيخ، فلا تعلق له بحديث الواسطة. وإنما نظره فيه إلى قضية
العمل الذي ادعاه. ولو نهض دليلا لخصصنا به عموم ظاهر الآية.
لكنه مردود بما أشار إليه المحقق، وحاصله: منع أصل العمل أولا، بمعنى نفي
العلم بحصوله، فيحتاج مدعيه إلى إثباته، وبتقدير التنزل للموافقة على الحصول
يرد الاحتجاج ثانيا بأن عملهم (3). إنما يدل على قبول تلك الأخبار المخصوصة لا
مطلقا، ومن الجائز أن يكون العمل منوطا بانضمام القرائن إليها لا بمجرد
الاخبار.
وبقي في المقام إشكال، أشرنا إليه بتقييد نفي الواسطة في صدر الحجة بموضع
الحاجة. وتقريره: أن انتفاء الواسطة، للتقريب الذي ذكر إنما يتم فيمن بعد
عهده من أول (4) زمان التكليف، كما هو الغالب والواقع في رواة (5) الاخبار التي هي
محل الحاجة إلى هذا البحث، فان العادة قاضية بعدم انفكاك من هو كذلك عن
أحد الوصفين وأما حديث العهد بالتكليف فيمكن في حقه تحقق الواسطة بأن
لا يقع منه معصية توجب الفسق. ولا يكون (6) له ملكة تصدق (7) بها العدالة، فان ذلك

1 - إذ لا مدخلية - ب
2 - وقد بين - الف
3 - علمهم - الف
4 - عن أول - الف - ج
5 - رواية - ب
6 - تكون - الف
7 - يصدق - ج
202

غير ممتنع. وحينئذ تثبت (1) الواسطة، فلا تقوم الحجة (2) باشتراط العدالة مطلقا.
وحله: أن الواسطة المذكورة وإن كانت ممكنة بالنظر إلى نفس الامر ولكن
العلم بوجودها متعذر، لان المعاصي غير منحصرة في الافعال الظاهرة، ولا ريب
أن العلم بانتفاء الباطنة ممتنع عادة بدون الملكة. سلمنا، لكن التعليل الواقع
في الآية لوجوب التثبت عند خبر الفاسق يقتضي ثبوت الحكم عند خبر من لا
ملكة له، لمشاركته الفاسق في عدم الحجر عن الكذب، فيقوم في قبول خبره
احتمال الوقوع في الندم، لظهور (3) عدم صدق الخبر على حد قيامه في خبر الفاسق، و
سيأتي: أن العلة المنصوصة يتعدى (4) بها الحكم إلى كل محل توجد (5) فيه.
الشرط (6) الخامس: الضبط. ولا خلاف في اشتراطه، فان من لا ضبط له قد
يسهو عن بعض الحديث ويكون مما (7) يتم به (8) فائدته ويختلف الحكم بعدمه، أو
يسهو فيزيد في (9) الحديث ما يضطرب به معناه، أو يبدل لفظا بآخر، أو يروي
عن المعصوم ويسهو عن الواسطة مع وجودها. إلى غير ذلك من أسباب الاختلال،
فيجب أن يكون بحيث لا يقع منه كذب على سبيل الخطأ غالبا، فلو عرض له
السهو نادرا لم يقدح. إذ لا يكاد يسلم منه أحد.
قال المحقق (10) - رحمه الله -: لو كان زوال السهو، أصلا، شرطا في القبول، لما
صح العمل إلا عن معصوم من السهو. وهو باطل إجماعا من (11) العاملين بالخبر.
أصل
تعرف عدالة الراوي بالاختبار بالصحبة المؤكدة (12) والملازمة بحيث يظهر

1 - يثبت - الف - ب
2 - الحجية - ب
3 - بظهور - الف - ج
4 - تتعدى - ج
5 - يوجد - ج
6 - الشرط - ليس في - ب
7 - بما - ج
8 - به - ليس في - ب
9 - في ليس في - ج
10 - معارج الأصول، ص 151.
11 - عن العاملين - ب
12 - المتأكدة - الف - ب
203

أحواله ويحصل الاطلاع على سريرته، حيث يكون ذلك ممكنا، وهو واضح ومع
عدمه، باشتهارها بين العلماء وأهل الحديث، وبشهادة (1) القرائن المتكثرة
المتعاضدة، وبالتزكية من العالم بها وهل يكفي فيها الواحد، أو لابد (2) من التعدد؟
قولان، اختار أولهما العلامة في التهذيب (3)، وعزاه في النهاية إلى الأكثر، من غير
تصريح (5) بالترجيح. وقال المحقق (6): " لا يقبل فيها إلا ما يقبل في تزكية الشاهد، و
هو شهادة عدلين ".
وهذا عندي هو الحق. لنا: أنها شهادة (7)، ومن شأنها اعتبار العدد فيها، كما هو
ظاهر. وأن مقتضى اشتراط العدالة اعتبار حصول العلم بها. والبينة تقوم (8) مقامه
شرعا، فتغني (9) عنه. وما سوى ذلك يتوقف الاكتفاء به على الدليل.
احتجوا: بأن التعديل شرط للرواية، (10) فلا يزيد على مشروطه. وقد اكتفي في
أصل الرواية بالواحد. وانتصر لهم بعض أفاضل المتأخرين، فاحتج بعموم المفهوم
في آية " ان جائكم فاسق " (11)، نظرا إلى أن تزكية الواحد داخلة فيه فحيث
يكون المزكى عدلا لا يجب التثبت عند خبره. واللازم من ذلك الاكتفاء به.
والجواب عن الأول: المطالبة بالدليل على نفي الزيادة (12) على المشروط. فلا نراه
إلا مجرد دعوى (13). سلمنا، ولكن الشرط في قبول الرواية هو العدالة لا التعديل. نعم
هو أحد الطرق إلى المعرفة بالشرط.
سلمنا، ولكن زيادة الشرط بهذا المعنى على مشروطه بهذه الزيادة المخصوصة
أظهر في الأحكام الشرعية - عند من يعمل بخبر الواحد - من أن تبين (14)، إذ أكثر

1 - وشهادة - ج
2 - أم لابد - ج
3 - الظاهر أن العلامة اختار التعدد في التهذيب. راجع: تهذيب الأصول، ص 88، المبحث الرابع
4 - نهاية الأصول ورقه (132) المبحث السادس، والثاني
5 - من تصريح - ب
6 - معارج الأصول، ص 150.
7 - ان هذه شهادة - ب
8 - يقوم - الف
9 - فيغني - الف - ج
10 - الرواية - الف
11 - سورة الحجرات، 6.
12 - الزيادة - ليس في - ب
13 - الدعوى - ب
14 - يتبين - ب
204

شروطها يفتقر المعرفة بحصولها على بعض الوجوه إلى شهادة الشاهدين
والمشروط يكفي فيه الواحد.
والعجب من (1) توجيه بعض فضلاء المعاصرين لهذا الوجه من الحجة: بأنه ليس
في الأحكام الشرعية شرط يزيد على مشروطه!!
هذا. والذي يقتضيه الاعتبار أن التمسك في هذا الحكم بنفي زيادة الشرط،
يناسب طريقة أهل القياس. فكأنه وقع في كلامهم وتبعهم عليه من غير تأمل
من ينكر العمل بالقياس.
ومما ينبه على ذلك: ما وجدته في كلام بعض العامة، حكاية عن بعض
آخر منهم: أن الاكتفاء (2) بالواحد في تزكية الراوي، هو مقتضي القياس.
وعن الثاني: أن مبنى اشتراط العدالة في الراوي على أن المراد من الفاسق
في الآية: من له هذه الصفة في الواقع، فيتوقف قبول الخبر على العلم بانتفائها. وهو
موقوف على العدالة، كما بيناه آنفا. وإنما صرنا إلى قبول الشاهدين لقيامهما مقام
العلم شرعا. وفرض العموم في الآية، على وجه يتناول الاخبار بالعدالة، يؤدي
إلى حصول التناقض في مدلولها، وذلك لان الاكتفاء في معرفة العدالة
بخبر الواحد يقتضي عدم توقف قبول الخبر على العلم بانتفاء صفة الفسق ضرورة
أن خبر العدل بمجرده لا يوجب العلم. وقد قلنا: إن مقتضاها توقف القبول
على العلم بالانتفاء، وهذا تناقض ظاهر، فلابد من حملها على إرادة الاخبار بما
سوى العدالة.
لا يقال: ما ذكرتموه وارد على قبول شهادة العدلين (3)، إذ لا علم معه.
لأنا نقول: اللازم من قبول شهادة العدلين تخصيص الآية بدليل خارجي.
ولا محذور فيه (4)، كيف: وتخصيصها لازم، وإن وافقنا على تناولها للاخبار

1 - من ليس في - ج
2 - من أن الاكتفاء - ب
3 - من قبول العدلين - الف - ج
4 - ولا محذور في مثله - الف - ج
205

بالعدالة، من حيث إن تزكية الشاهد لا يكتفى فيها بالواحد. وهذا من أكبر (1)
الشواهد على أن النظر في الوجه الأول إنما هو إلى القياس، كما نبهنا عليه.
إذا عرفت هذا، فاعلم: أن طريق (2) معرفة الجرح كالتعديل. والخلاف
في الاكتفاء بالواحد، واشتراط (3) التعدد جار فيه. والمختار في المقامين واحد.
أصل
اختلف الناس في قبول الجرح والتعديل مجردين عن ذكر السبب. فقال قوم:
بالقبول فيهما، وصار آخرون إلى خلافه فأوجبوا ذكر السبب فيهما، وفصل ثالث،
فأوجبه في الجرح، دون التعديل. ورابع فعكس. واستندوا في هذه الأقوال إلى
اعتبارات واهية ووجوه ركيكة، لا جدوى في التعرض لذكرها (4). ولا أعلم
في الأصحاب قائلا بشئ منها، إذ المتعرض منهم للبحث في هذا الأصل قليل،
على ما وصل إلينا.
والذي استوجهه العلامة (5) - رحمه الله - هنا: هو (6) أن المزكي والجارح إن كانا
عارفين بالأسباب قبل الاطلاق فيهما وإلا وجب ذكر السبب فيهما.
وذهب والدي - رحمه الله (7) - إلى الاكتفاء بالاطلاق فيهما حيث يعلم عدم
المخالفة فيما به يتحقق (8) العدالة والجرح، ومع انتقاء ذلك يكون القبول موقوفا على
ذكر السبب. وهذا هو الأقوى، ووجهه ظاهر لا يحتاج إلى البيان، ومنه يعلم
ضعف ما استوجهه العلامة - رحمه الله - (9).
أصل
إذا تعارض الجرح والتعديل قال أكثر الناس: يقدم الجرح، لان فيه جمعا

1 - وهذا أكبر - ب
2 - طريقة - ب
3 - أو اشتراط - ج
4 - بذكرها - ج
5 - تهذيب الأصول ص 88 السطر الثاني في ظهر الصفحة 6 - هنا هو - ليس في - ب
7 - قدس سره - ج
8 - تحقق - ب
9 - قدس سره - ج
206

بينهما، إذ غاية قول المعدل: أنه لم يعلم فسقا، والجارح يقول: أنا علمته، فلو حكمنا
بعدالته كان الجارح كاذبا، وإذا حكمنا (1) بفسقه، كانا صادقين. والجمع أولى،
ما أمكن. وهذه الحجة مدخولة. ومن ثم قال السيد العلامة جمال الدين بن (2)
طاووس (3) - قدس روحه - (4): إنه (5)، إن كان (6) مع أحدهما رجحان يحكم التدبر
الصحيح باعتباره، فالعمل على الراجح (7)، وإلا وجب التوقف. وما قاله هو الوجه.
فائدة (8)
إذا قال العدل: " حدثني عدل " لم يكف في العمل بروايته على
تقدير الاكتفاء بتزكية الواحد، وكذا لو قال العدلان ذلك، بناء على اعتبارهما.
وهو اختيار والدي - رحمه الله - (9).
وذهب المحقق إلى الاكتفاء به بل بما دونه، حيث قال (10): " إذا قال:
" أخبرني بعض أصحابنا " - وعنى الامامية - (11) يقبل وإن لم يصفه بالعدالة إذا لم
يصفه بالفسق (12). لان إخباره بمذهبه شهادة بأنه من أهل الأمانة، ولم يعلم منه
الفسق (13) المانع. من القبول. فان قال: " عن بعض أصحابه "، لم يقبل لامكان أن
يعني نسبته إلى الرواة وأهل (14) العلم، فيكون البحث فيه كالمجهول ".
هذا كلامه وهو عجيب (15) منه، بعد اشتراطه العدالة في الراوي (16)، لان
الأصحاب لا ينحصرون في العدول.

1 - ولو حكمنا - ب
2 - بن ليس في - الف
3 - معارج الأصول ص 151 4 - قدس الله روحه - الف - ج
5 - انه - ليس في - الف - ب
6 - إذا كان - ج
7 - فالعمل بالراجع - ب
8 - أصل - ب
9 - ره - ليس في - ب
10 - معارج الأصول، ص 151.
11 - عن الامامية - ب
12 - بالفسوق - الف - ج
13 - الفسوق - الف - ج
14 - أو أهل العلم - ج
15 - عجب - الف
16 - اشتراطه له في الراوي - ب
207

سلمنا، لكن التعديل إنما يقبل مع انتفاء معارضة الجرح له. وإنما يعلم
الحال مع تعيين المعدل (1) وتسميته، لينظر (2) هل له جارح أو لا. ومع الابهام لا يؤمن
وجوده. والتمسك في نفيه بالأصل غير متوجه بعد العلم بوقوع الاختلاف (3) في شأن
كثير من الرواة.
وبالجملة: فلابد (4) للمجتهد من البحث عن كل ما يحتمل أن يكون له
معارض حتى يغلب على ظنه انتفاؤه، كما سبق التنبيه عليه في العمل بالعام قبل
البحث عن المخصص.
إذا عرفت هذا، فاعلم: أن وصف جماعة من الأصحاب كثيرا من الروايات
بالصحة من هذا القبيل، لأنه في الحقيقة شهادة بتعديل رواتها وهو بمجرده غير
كاف في جواز العمل بالحديث، بل لابد من مراجعة السند، والنظر في حال
الرواة، ليؤمن من معارضة الجرح.
أصل
لا بد (5) للراوي من مستند يصح له من أجله رواية الحديث ويقبل منه بسببه (6).
وهو في الرواية عن المعصوم نفسه ظاهر معروف. وأما في الرواية عن الراوي فله
وجوه. أعلاها السماع من لفظه سواء كان بقراءة في كتابه (7)، أو بإملائه من
حفظه. ودونه، القراءة عليه مع إقراره به وتصريحه بالاعتراف بمضمونه. ودون
ذلك إجازته رواية كتاب ونحوه
ويحكى عن بعض الناس إنكار جواز الرواية بالإجازة، ويعزى إلى
الأكثرين خلافه. وهذا البحث غير منقح في كلام الأصحاب. وتحقيق القول

1 - العدل - ب
2 - لننظر - ب
3 - الخلاف - ب
4 - لابد - ب
5 - ولابد - ب
6 - ونقل منه نسبته - ج
7 - في كتاب - الف
208

فيه: أن لجواز الرواية بالإجازة معنيين وقع الخلاف من بعض أهل الخلاف في
كل منهما.
أحدهما: قبول الحديث والعمل به ونقله من المجاز له إلى غيره بلفظ يدل
على الواقع، " كأخبرني إجازة " ونحوه. والقول بنفيه في غاية السقوط، لان
الإجازة في العرف إخبار إجمالي بأمور مضبوطة معلومة مأمون عليها من الغلط
والتصحيف ونحوهما. وما هذا شأنه لا وجه للتوقف في قبوله. والتعبير عنه بلفظ
" أخبرني " وما في معناه مقيدا بقوله: " إجازة " تجوز (1) مع القرينة، فلا مانع منه.
ومثله آت في القراءة على الراوي، لان الاعتراف إخبار إجمالي، ولم يلتفتوا إلى
الخلاف في قبوله، وإنما ذكر بعضهم: أن قبوله موضع وفاق، وإن خالف (2) فيه من
لا يعتد به.
ثم إن جمعا من الناس أجازوا في صورة الاعتراف أن يقول الراوي:
" أخبرني " و " حدثني " ونحوهما من غير تقييد بقوله: " قراءة عليه (3) " ونحوه.
والباقون على جوازه، مقيدا بما ذكر، إلا المرتضى - رضي الله عنه -، فإنه منع من
استعمال هذه الألفاظ ونحوها فيه، وإن كانت مقيدة، (4) حيث قال (5): " فأما قول
بعضهم: - يجب أن يقول: " حدثني قراءة عليه " حتى يزول الابهام ويعلم أن
لفظة " حدثني " ليست على ظاهرها - فمناقضة لان قوله: " حدثني " يقتضي
أنه سمعه من لفظه وأدرك نطقه به، وقوله: قراءة عليه يقتضي نقيض (6) ذلك،
فكأنه نفى ما أثبت ".
وهذا من السيد - رحمه الله - في غاية الغرابة، فإنه سد لباب المجاز، إذ ما
من (7) مجاز إلا ومعه قرينة تعاند الحقيقة وتناقضها: وإذا كان معنى " حدثني " ما

1 - يجوز - ج
2 - إن خالف - ب
3 - قرائته عليه - ب
4 - مفيدة - ج
5 - الذريعة إلى أصول الشريعة، ص 560.
6 - نقض - الف
7 - وما من - ج
209

ذكره، فقوله بعد ذلك: " قراءة عليه " قرينة على أنه ليس المراد حقيقة اللفظ،
بل مجازه، وهو الاعتراف (1) بما قرأه عليه (2)، تشبيها له بالحديث، لما بينهما من المناسبة
في المعنى.
وقد نقل (3) العلامة رحمه الله (4) هذا الكلام عن السيد في النهاية، وتنظر فيه
قائلا: " إنا نمنع اقتضاء " حدثني "، حال انضمامها إلى لفظة " قراءة "، أنه
سمعه من لفظه وأدرك نطقه به ". وهو جيد، وتفصيله ما ذكرناه.
وإذ قد تبين ضعف ما ذهب إليه السيد، واتفاق من عداه من علمائنا على
صحة إطلاق المقيد على القراءة مع الاعتراف، فأي مانع من إجراء مثله في صورة
الإجازة، والاعتبار فيهما واحد؟.
المعنى الثاني لجواز الرواية بالإجازة، تسويغ قول الراوي بها: " حدثني " و
" أخبرني "، وما أشبه ذلك من الألفاظ التي يفيد (5) ظاهرها وقوع الاخبار تفصيلا.
وقد عزي إلى جمع من العامة القول به. وهو بالاعراض عنه حقيق. هذا.
ويظهر من العلامة في النهاية أنه فهم من كلام السيد (6) المرتضى (7) القول: بعدم
جواز الرواية بالإجازة مطلقا. تفريعا على العمل بخبر الواحد، حيث قال: " وأما
الإجازة فلا حكم لها، لان ما للمتحمل أن يرويه، له ذلك، أجازه له أو لم يجزه،
وما ليس له أن يرويه، يحرم عليه مع الإجازة وفقدها ".
وعبارة السيد هذه وإن أفهم ظاهرها القول بنفي الجواز على الاطلاق، إلا
أن المتدبر (8) في سابقها ولاحقها يطلع على أن غرضه نفي جواز الرواية بها بلفظ:
" حدثني " و " أخبرني "، ونحوه. فإنه ذكر قبل ذلك، في البحث عن القراءة

1 - اعتراف - ب
2 - قرأ عليه - الف
3 - نهاية الأصول ورقة (242) الصفحة الثانية الأسطر الأخيرة
4 - ره - ب
5 - تفيد - الف ج
6 - السيد - ليس في - ب
7 - رضي الله عنه - الف - ج
8 - التدبر - الف - ب - ج
210

على الراوي: " أن كل من صنف أصول الفقه أجاز أن يقول من قرأ الحديث على
غيره ممن قرره عليه، فأقر به: " حدثني " و " أخبرني "، وأجروه (1) مجرى أن
يسمعه من لفظه ".
ثم قال: " والصحيح أنه إذا قرأه عليه وأقر له به، أنه يجوز (2) أن يعمل (3) به، إذا
كان ممن يذهب إلى العمل بخبر الواحد، ويعلم أنه حديثه، وأنه سمعه،
لاقراره له بذلك. ولا يجوز أن يقول: " حدثني " و " أخبرني "، لان معنى
" حدثني " و " أخبرني ": أنه نقل (4) حديثا وخبرا عن ذلك وهذا كذب محض (5) لم
يجز " (6).
وذكر بعد هذا: " أن المناولة - وهي أن يشافه المحدث غيره ويقول له في
كتاب أشار إليه: هذا سماعي من فلان - يجري مجرى أن يقرأه عليه (7) ويعترف به (8)
له في علمه بأنه حديثه " قال: فإن كان ممن يذهب إلى العمل بأخبار (9)
الآحاد، عمل به ولا يجوز أن يقول: " حدثني " ولا " أخبرني ".
ثم ذكر حكم الإجازة بتلك العبارة. وقال بعدها: " وأكثر ما يمكن أن
يدعى: أن تعارف أصحاب الحديث أثر في أن الإجازة جارية مجرى أن يقول،
في كتاب بعينه: هذا حديثي وسماعي، فيجوز العمل به عند من عمل بأخبار
الآحاد. فأما أن يروي فيقول: " أخبرني " أو " حدثني " فذلك كذب ".
وسوق هذا الكلام كله - كما ترى - يدل على أن نفي حكم الإجازة. إنما هو
بالنسبة إلى خصوص الرواية بلفظ " حدثني " ونحوه، لا مطلقا. وقد حكم بمثل
ذلك في القراءة على الراوي كما عرفت. فهما عنده في هذا الوجه سواء، وتفاوت

1 - اجريه - ب
2 - به يجوز - ب
3 - ونعلم - ج
4 - انه فعل - ج
5 - محض - ليس في - الف - ب - ج
6 - لا يجوز - الف
7 - يقرأ عليه - الف - ب
8 - له به - ب
9 - من ير العمل باخبار - ب
211

عبارته في التعدية عن القبول فيهما حيث (1) صرح بجواز العمل في صورة القراءة، وعبر
هنا (2) بما يشعر بنوع شك نظرا منه إلى أن دلالة الإجازة على المعنى المراد دون دلالة
القراءة والامر كذلك. وقد عرفته. فظهر: أن ما يوهمه ظاهر تلك العبارة غير مراد
فليعلم.
إذا عرفت هذا، فاعلم: أن أثر الإجازة بالنسبة إلى العمل إنما يظهر حيث لا
يكون متعلقها معلوما بالتواتر ونحوه، ككتب أخبارنا الأربعة، فإنها متواترة
إجمالا. والعلم بصحة مضامينها تفصيلا يستفاد من قرائن الأحوال. ولا مدخل
للإجازة فيه (3) غالبا. وإنما فائدتها حينئذ بقاء اتصال سلسلة الاسناد بالنبي
صلى الله عليه وآله، والأئمة عليهم السلام. وذلك أمر مطلوب مرغوب إليه للتيمن
كما لا يخفى.
على أن الوجه في الاستغناء عن الإجازة فيها (4) ربما أتى (5) في غيرها من باقي
وجوه الرواية. غير أن رعاية التصحيح والامن من حدوث التصحيف وشبهه من
أنواع الخلل. يزيد في وجه الحاجة إلى السماع ونحوه، وذلك ظاهر (6).
وبقي في هذا الباب وجوه أخر، مذكورة في كتب الفن يعلم حكمها مما
ذكرناه (7). فلذلك آثرنا طي ذكرها على غرة.
أصل
يجوز نقل الحديث بالمعنى بشرط أن يكون الناقل عارفا بمواقع الألفاظ وعدم
قصور الترجمة عن الأصل في إفادة المعنى ومساواتها له في الجلاء والخفاء. ولم نقف (8)
على مخالف في ذلك من الأصحاب. نعم لبعض أهل الخلاف فيه خلاف (9) وليس له

1 - حيث فيهما حيث - ج
2 - وعبر عنها - ج
3 - فيها - ب
4 - فيها - ليس في - الف - ب - ج
5 - ما اتى - ج
6 - ونحو ذلك وهو ظاهر - ب
7 - ما ذكرناه - الف
8 - ولم يقف - الف
9 - على خلاف - ب
212

دليل يعتد به.
وحجتنا على الجواز وجوه:
منها: ما رواه الكليني في الصحيح عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي
عبد الله، عليه السلام (1): أسمع (2) الحديث منك، فأزيد وأنقص. قال: إن كنت تريد
معانيه فلا بأس. (3)
ومنها: أن الله سبحانه قص القصة الواحدة بألفاظ مختلفة. ومن المعلوم: أن
تلك القصة وقعت إما بغير العربية، أو بعبارة واحدة. منها. وذلك دليل على جواز
نسبة المعنى إلى القائل وإن تغاير اللفظ.
أصل
إذا أرسل العدل الحديث. بأن رواه عن المعصوم عليه السلام ولم يلقه.
سواء ترك ذكر الواسطة رأسا، أو ذكرها مبهمة لنسيان أو غيره. كقوله: " عن
رجل " أو " عن بعض أصحابنا " ففي قبوله خلاف بين الخاصة والعامة.
والأقوى عندي: عدم القبول مطلقا وهو مختار والدي - رحمه الله - (4).
وقال العلامة (5) - رحمه الله - في النهاية (6): الوجه المنع، إلا إذا عرف أنه لا
يرسل إلا مع عدالة الواسطة، كمراسيل محمد بن أبي عمير من الامامية. وكلامه
في التهذيب (7) خال عن هذا الاستثناء. وهو الوجه، لما سنبينه. وحكى في النهاية (8): القول
بالقبول عن جماعة من العامة. ثم قال: وهو قول محمد بن خالد من قدماء
الامامية.
وقال المحقق (9) رحمه الله إذا أرسل الراوي الرواية. قال الشيخ رحمه الله: إن

1 - ص - ب
2 - السمع - ج
3 - أصول الكافي، ج 1 ص 51، ح 2
4 - ره - ب - ج
5 - نهاية الأصول ورقة (237) الصفحة الثانية السطر الخامس
6 - في النهاية - ليس في - ب - ج
7 - تهذيب الأصول ص 89 ظهر الصفحة المبحث الثاني
8 - نهاية الأصول ورقة (237) المبحث العاشر 9 - معارج الأصول ص 151
213

كان ممن عرف أنه لا يروي إلا عن ثقة، قبلت مطلقا، وإن لم يكن كذلك
قبلت بشرط أن لا يكون لها معارض من المسانيد الصحيحة.
واحتج لذلك بأن الطائفة عملت بالمراسيل (1) عند سلامتها عن المعارض كما
عملت بالمسانيد، فمن أجاز (2) أحدهما أجاز الآخر.
هذه عبارة المحقق بلفظها. وهي تدل على توقفه في الحكم حيث اقتصر على
نقله عن الشيخ بحجته من غير إشعار بالقبول (3) والرد.
لنا: أن من شرط القبول: معرفة عدالة الراوي كما تقدم بيانه وهي منتفية
في موضع النزاع. إذ لم يوجد ما يصلح للدلالة عليها سوى رواية العدل عنه. وهو
غير مفيد لأنا نعلم بالعيان أن العدل يروي عن مثله وغيره، ومع فرض اقتصاره
على الرواية عن العدل، فهو إنما يروي عمن يعتقد عدالته. وذلك غير كاف، لجواز أن
يكون له جارح لا يعلمه (4)، كما ذكرناه آنفا، وبدون تعيينه لا يندفع هذا الاحتمال
فلا يتوجه القبول.
ومن هذا يظهر ضعف ما ذهب إليه العلامة في النهاية: من قبول نحو
مراسيل ابن أبي عمير مما عرف أن الراوي فيه (5) لا يرسل إلا مع عدالة
الواسطة، لان العلم بعدالة الواسطة (6) إن كان مستند ا إلى إخبار الراوي بأنه لا
يرسل إلا عن الثقة فهو عمل بشهادته على مجهول العين وقد علم حاله، وإن
كان مستنده الاستقراء لمراسيله (7) والاطلاع من خارج على أن المحذوف فيها لا
يكون إلا ثقة فهذا في معنى الاسناد، ولا نزاع فيه.
والعجب: أن العلامة رحمه الله ذكر في الاحتجاج على مختاره في النهاية ما هذا نصه (8):
" عدالة الأصل مجهولة، لان عينه غير معلومة، فصفته (9) أولى بالجهالة، ولم يوجد إلا

1 - بالمراسيل - ليس في - ج
2 - فما أجاز - الف
3 - بالقول - ج
4 - لا نعلمه - ج
5 - فيه - ليس في - الف
6 - لان العلم بعدالة الواسطة ليس في - ج
7 - للمراسيل - ج
8 - نهاية الأصول ورقه (237) الصفحة الثانية سطر 6 9 - ووصفه - ب
214

رواية الفرع عنه. وليست تعديلا، فان العدل قد يروى عمن لو سئل عنه لتوقف
فيه (1) أو جرحه، ولو عدله لم يصر عدلا. لجواز أن يخفى عنه حاله فلا يعرفه بفسق،
ولو عينه لعرفنا فسقه الذي لم يطلع عليه العدل ".
وهذا الكلام كما ترى يدل (2) على الموافقة فيما ذكرناه من عدم قبول تعديل
مجهول العين بمجرده. فتعين أن يكن المستند عنده في ذلك الاستقراء، وحصوله
في نهاية البعد، وعلى تقديره يخرج عن محل النزاع كما عرفت.
وأما كلام الشيخ - رحمه الله - فيرد على أوله ما ورد على العلامة - رحمه الله
- وعلى آخره أن عمل الطائفة يتوقف التمسك به عندنا على بلوغه حد الاجماع ولا
نعلمه.
حجة القائلين بالقبول مطلقا وجوه. منها: ان رواية العدل عن الأصل
المسكوت عنه تعديل له، لأنه لو روى عمن ليس بعدل ولم يبين حاله لكان
ملبسا (3) غاشا (4). وعدالته تنافى (5) ذلك.
ومنها: أن اسناد الحديث إلى الرسول صلى الله عليه وآله يقتضى صدقه. لان
اسناد الكذب ينافي العدالة. وإذا (6) ثبت صدقه تعين قبوله، وذكروا وجوها أخر (7)
ردية تركنا نقلها لظهور فسادها.
والجواب عن هذين الوجهين: ظاهر مما حققناه فلا نطيل بتقريره. (8).
أصل
ينقسم خبر الواحد باعتبار اختلاف أحوال رواته في الاتصاف بالايمان
والعدالة والضبط وعدمها إلى أربعة أقسام، يختص كل قسم منها في الاصطلاح

1 - لوقف فيه: الف
2 - يدل - ليس في - ج
3 - متلبسا - ج
4 - وغاشا - الف
5 - ينافي - ج
6 - فإذا - الف
7 - اخر - ليس في - ب
8 - تقريره - ج
215

باسم.
الأول: الصحيح. وهو ما اتصل سنده إلى المعصوم (1) بنقل العدل الضابط عن
مثله في جميع الطبقات. وربما يطلق هذا اللفظ مضافا إلى راو معين على ما جمع
السند إليه الشرائط، خلا الانتهاء إلى المعصوم وإن اعتراه بعد ذلك إرسال أو
غيره من وجوه الاختلال، فيقال: صحيح (2) فلان عن بعض أصحابنا عن الصادق -
عليه السلام - مثلا. وقد يطلق على جملة من الاسناد جامعة للشرائط سوى
الاتصال بالمعصوم محذوفة للاختصار، فيقال مثلا: روى الشيخ في الصحيح عن
فلان ويقصد بذلك بيان حال تلك الجملة المحذوفة. وأكثر ما يقع هذا الاستعمال
حيث يكون المذكور من رجال السند أكثر من واحد.
الثاني: الحسن. وهو متصل السند إلى المعصوم بالإمامي الممدوح من غير
معارضة ذم مقبول ولا ثبوت عدالة في جميع المراتب أو بعضها، مع كون الباقي
بصفة رجال الصحيح. وقد يستعمل على (3) قياس ما ذكر في الصحيح.
الثالث: الموثق. وهو ما دخل في طريقه من ليس بإمامي، لكنه منصوص
على توثيقه بين الأصحاب، ولم يشتمل باقي الطريق على ضعف من جهة أخرى.
ويسمى القوي (4) أيضا. ويستعمل اللفظ الأول في المعنيين المذكورين في ذينك
القسمين.
الرابع: الضعيف. وهو ما لم يجتمع فيه شروط أحد الثلاثة بأن يشتمل طريقه
على مجروح بغير فساد المذهب أو مجهول.
ويسمى هذه الأقسام الأربعة أصول الحديث، لان له أقساما اخر
باعتبارات شتى. وكلها ترجع (5) إلى هذه الأقسام الأربعة (6). وليس هذا موضع
تفصيلها. وإنما تعرضنا لبيان الأربعة لكثرة دوران ألفاظها على ألسن الفقهاء.

1 - معصوم - ب
2 - صحيحة - ب
3 - على - ليس في - ج
4 - المقبول القوى - ب
5 - يرجع - ب يرجع - ج
6 - هذه الأربعة - الف هذه الأربعة - ج
216

المطلب السابع
في
النسخ
217

أصل
لا ريب في جواز النسخ ووقوعه، وما يحكى فيهما من الخلاف لا يستحق أن
ينظر إليه. وجمهور أصحابنا على اشتراطه بحضور وقت الفعل المنسوخ، سواء فعل
أم لم يفعل. ووافقهم على ذلك جمع من العامة. وحكى المحقق (1) - رحمه الله - عن
المفيد القول بجوازه قبل حضور وقت الفعل. وهو مذهب أكثر (2) أهل الخلاف.
والحق الأول. لنا: أنه لو وقع ذلك لاقتضى تعلق النهي بنفس ما تعلق به
الامر وهو محال. لان الامر يدل على كونه حسنا، والنهي يقتضى قبحه.
فاجتماعهما يستلزم كونه حسنا قبيحا معا وهو ظاهر الاستحالة. ولأن الفعل
الواحد، إما حسن أو قبيح. فبتقدير أن يكون حسنا يكون النهي عنه قبيحا و
بتقدير أن يكون قبيحا يكون الامر به قبيحا.
احتج المخالف بوجوه: الأول قوله (3) تعالى: " يمحو الله ما يشاء ويثبت " (4)،
فإنه يتناول بعمومه موضع النزاع. الثاني أنه تعالى أمر إبراهيم عليه السلام بذبح
ابنه ثم نسخه عنه قبل وقت الفعل. الثالث ما روي أن النبي صلى الله عليه
وآله، امر ليلة المعراج بخمسين صلاة، ثم راجع إلى أن عادت إلى خمس (5 - 6). وذلك
نسخ قبل وقت الفعل. الرابع أن المصلحة قد تتعلق (7) بنفس الأمر والنهي. فجاز

1 - معارج الأصول، ص 168.
2 - قول أكثر - ب
3 - قوله - ليس في - ب
4 - سورة الرعد، 38
5 - خمسة - ب
6 - الفقيه ج 1 ص 125 ح 6602 7 - يتعلق - ب
218

الاقتصار عليهما من دون إرادة الفعل.
والجواب عن الأول: أن المحو والاثبات متعلقان (1) على المشية ولا نسلم أنه
تعالى يشاء مثل هذا. وعن الثاني: أن إبراهيم - عليه السلام لم - يؤمر بالذبح الذي
هو فري الأوداج، بل بالمقدمات (2) كما يدل عليه قوله تعالى: " قد صدقت
الرؤيا ". (3) ولو كان ما فعله بعض المأمور به لكان مصدقا لبعض الرؤيا. وقد سبق
بيان ذلك. وعن الثالث: المطالبة بصحة الرواية، مع أن فيها طعنا على الأنبياء
بالاقدام على المراجعة في الأوامر المطلقة. وعن الرابع: أن الأمر والنهي يتبعان
متعلقهما، فان كانا حسنا كانا كذلك وإلا قبيحا (4)، على أنه - لو صح ذلك - لم يكن
متعلق الامر مرادا فلا يكون مأمورا به وينتفي النسخ حينئذ.
أصل
يجوز نسخ كل من الكتاب والسنة المتواترة والآحاد بمثله، ولا ريب فيه. و
نسخ الكتاب بالسنة المتواترة وهي به، ولا نعرف (5) فيه من الأصحاب مخالفا،
وجمهور أهل الخلاف وافقونا فيه، وأنكره (6) شذوذ منهم، وهو ضعيف جدا لا
يلتف إليه، ولا ينسخ الكتاب والسنة المتواترة بالآحاد عند أكثر العلماء، لان
خبر الواحد مظنون وهما معلومان ولا يجوز ترك المعلوم للمظنون. وذهب شرذمة
من العامة إلى جوازه، وربما نفى بعضهم (7) الخلاف في الجواز مدعيا أن محله
هو الوقوع، وأما أصل الجواز فموضع وفاق. وأرى البحث في ذلك قليل الجدوى.
فترك الاشتغال بتحقيقه أحرى.
وأما الاجماع: ففي جواز نسخه والنسخ به خلاف مبني على الخلاف في أن

1 - معلقان - الف - ج
2 - المقدمات - ج
3 - سورة الصافات، 105.
4 - قبحا - الف - ب
5 - يعرف - الف - ب
6 - وأنكروه - ب
7 - بعضهم - ليس في - ب
219

الاجماع: هل يمكن استقراره قبل انقطاع الوحي أولا.
قال المرتضى (1) - رحمه الله - (2): " اعلم: أن مصنفي أصول الفقه ذهبوا كلهم
إلى أن الاجماع لا يكون ناسخا ولا منسوخا، واعتلوا في ذلك بأنه دليل مستقر بعد
انقطاع الوحي فلا يجوز نسخه ولا النسخ به. وهذا القدر غير كاف، لان لقائل أن
يعترضه فيقول: أما الاجماع عندنا فدلالته مستقرة في كل حال قبل انقطاع
الوحي وبعده، وإذا ثبت ذلك سقطت هذه العلة.
على أن مذهب (3) مخالفينا، في كون الاجماع حجة يقتضى أنه في الأحوال كلها
مستقر، لان الله تعالى أمر باتباع (4) المؤمنين. وهذا حكم حاصل قبل انقطاع الوحي
وبعده والنبي، صلى الله عليه وآله (5)، أخبر على مذهبهم بأن أمته لا تجتمع على
خطأ (6). وهذا ثابت في سائر الأحوال. وإذا كان الاجماع (7) دليلا على الاحكام كما
يدل الكتاب والسنة، والنسخ لا يتناول الأدلة وإنما يتناول الاحكام التي (8) يثبت (9)
بها، فما المانع من أن يثبت حكم باجماع الأمة قبل انقطاع الوحي ثم ينسخ بآية
تنزل (10) على خلافه (11)، أو يثبت (12) حكم بآية تنزل فينسخ باجماع الأمة على خلافه؟.
والأقرب أن يقال: إن الأمة مجتمعه (13) على أن ما ثبت (14) بالاجماع لا ينسخ ولا ينسخ
به ". هذا كلام السيد - رحمه الله -.
وحكى (16) المحقق عن الشيخ، بعد أن نقل مضمون كلام السيد، أنه قال:
" الاجماع دليل عقلي والنسخ لا يكون إلا بدليل شرعي، فلا يتحقق النسخ فيما

1 - الذريعة إلى أصول الشريعة، ص 456.
2 - رضي الله عنه - الف - ج
3 - مذاهب - ب
4 - اتباع - ب
5 - عليه السلام - ج
6 - الخطأ - ب
7 - يجتمع - ب - ج
8 - من " كما يدل " إلى " التي " ليس في - ب
9 - ثبتت - الف - ب
10 - ينزل - ج
11 - على خلافة - ليس في - الف - ب - ج
12 - تثبت - الف
13 - مجمعة - الف - ج
14 - يثبت - ب
15 - لا يستنسخ - ب
16 - معارج الأصول، ص 174.
220

يكون مستنده العقل ".
ثم حكى عن بعض المتأخرين أنه قال: " الاجماع لا يكون اتفاقا وإنما يكون
عن مستند (1) قطعي. فيكون الناسخ ذلك المستند، لا نفس الاجماع ".
قال المحقق - رحمه الله -: " وفي هذه الوجوه إشكال، والذي يحبئ على
مذهبنا أنه يصح دخول النسخ فيه بناء على أن الاجماع انضمام أقوال إلى قول
لو انفرد لكانت الحجة فيه. فجائز حصول مثل هذا في زمن النبي، صلى الله عليه
وآله (2)، ثم ينسخ ذلك الحكم بدلالة شرعية متراخية. وكذلك يجوز نسخ الحكم
المعلوم من السنة أو القرآن (3) بأقوال يدخل في جملتها قول النبي (4). وهذا الكلام جيد،
غير أنه لا تترتب (5) عليه فائدة مهمة، كما لا يخفى.
أصل
معنى النسخ شرعا هو الاعلام بزوال مثل الحكم (6) الثابت بالدليل (7) الشرعي،
بدليل آخر شرعي متراخ عنه على وجه لولاه لكان الحكم الأول ثابتا. وعلى هذا
فزيادة العبادة المستقلة على العبادات ليست (8) نسخا للمزيد عليه، صلاة كانت
تلك العبادة أو غيرها، وهو قول جمهور العلماء. ويعزى إلى قوم من العامة القول بأن
زيادة صلاة على الصلوات الخمس نسخ، لأنها تخرج (9) الوسطى عن كونها وسطى،
وهو ظاهر الفساد. وأما العبادة الغير المستقلة فقد اختلف الناس في أن زيادتها
هل هي نسخ أو لا؟. والمحققون على أنها إن رفعت حكما شرعيا مستفادا من دليل
شرعي كانت نسخا، وإلا فلا. وهو الظاهر، لما علم من تفسيره.

1 - عند مستند - الف - ج
2 - ص - الف - ب
3 - والقرآن - ج
4 - عليه السلام - ج
5 - لا ترتب - ب
6 - حكم - ب
7 - بدليل - الف
8 - ليس - الف
9 - يخرج - ب - ج
221

وقال (1) المرتضى (2): " ان كانت الزيادة مغيرة لحكم المزيد عليه في الشريعة
حتى يصير لو وقع مستقلا من دون تلك الزيادة لكان عاريا من كل تلك الأحكام
الشرعية التي كانت (3) له أو بعضها، فهذه الزيادة تقتضي (4) النسخ. ومثاله:
زيادة ركعتين على ركعتين على سبيل الاتصال ". قال (5): " وإنما قلنا: إن هذه
الزيادة (6) قد غيرت الأحكام الشرعية لأنه لو فعل بعد الزيادة الركعتين على ما
كان يفعلهما عليه أولا لم يكن لهما حكم، وكأنه ما فعلهما، ويجب عليه
استينافهما، لان مع هذه الزيادة يتأخر ما يجب من تشهد وسلام، ومع فقد هذه
لا يكون كذلك وكل ما ذكرناه يقتضي تغير (7) الأحكام الشرعية بهذه الزيادة ".
وقد حكي المحقق (8) - رحمه الله - عن الشيخ موافقة السيد على هذه المقالة (9)، واختار هو ما
حكيناه أولا محتجا بأن شرط النسخ أن يكون رافعا لمثل الحكم (10) الشرعي المستفاد
بالدليل الشرعي (11). فبتقدير أن يكون ذلك الحكم مستفادا من العقل لا يكون الرفع
لمثله نسخا، وإلا لكان كل خبر يرفع البراءة الأصلية نسخا، وهو باطل.
ثم ذكر كلام السيد في الزيادة على الركعتين بطريق السؤال، وأجاب: بأنا
لا نسلم أن ذلك نسخ لوجوب الركعتين ولا للتشهد، وإن كان التغيير فيهما ثابتا.
بل بتقدير أن يكون الشرع دل على وجوب تعقيب التشهد للثانية (12) يلزم أن يكون
الامر بتأخيره نسخا لتعجيله، إذ لم يرفع الدليل الثاني شيئا غير ذلك. وأما
الركعتان فان حكمهما باق من (13) كونهما واجبتين. غاية ما في الباب: أن وجوبهما

1 - الذريعة إلى أصول الشريعة، ص 443 - 444.
2 - المرتضى رضي الله عنه - الف
3 - كان - ب
4 - يقتضي - الف - ب - ج
5 - قال - ليس في - ب
6 - الزيادة ليس في - الف - ب - ج
7 - تغيير - ح
8 - معارج الأصول ص 164 9 - المقالة - ليس في - ب
10 - حكم - ب
11 - بالدليل الشرعي - ليس في - ب
12 - للثانية - الف - ب
13 - عن - ج
222

كان منفردا فصار منضما، والشئ لا ينسخ بانضمام (1) غيره إليه، كما لا ينسخ
وجوب فريضة واحدة إذا وجب (2) بعدها أخرى. وأما كونهما لو انفردتا لما أجزءتا
بعد أن كانتا مجزيتين، فان الاجزاء يعلم لا من منطوق الدليل بل بالعقل فلم
يكن نسخا، ولو علم الاجزاء من نفس الدليل الشرعي، لكان المنسوخ إجزاء هما
منفردتين لا وجوبهما.
إذا عرفت هذا، فاعلم أن أثر هذا الاختلاف يظهر في جواز إثبات الحكم
بخبر الواحد، بناء على أنه لا ينسخ به لدليل المقطوع به، فكل ما ثبت كونه ناسخا
لا يجوز إثباته به (3)، وهذا عند التحقيق أثر هين. كغيره من آثار أكثر مباحث
هذا الباب.

1 - بانصاف - الف
2 - وجبت - ب
3 - به - ليس في - ب - ج
223

المطلب الثامن
في
القياس والاستصحاب
225

أصل
القياس هو الحكم على معلوم بمثل الحكم الثابت (1) لمعلوم آخر، (2). لاشتراكهما في
علة الحكم. فموضع الحكم الثابت يسمى أصلا، وموضع الآخر يسمى فرعا،
والمشترك جامعا وعلة. وهي إما مستنبطة أو منصوصة.
وقد أطبق أصحابنا على منع العمل بالمستنبطة (3) إلا من شذ. وحكى إجماعهم
فيه غير واحد منهم، وتواتر (4) الاخبار بانكاره عن أهل البيت عليهم السلام. و
بالجملة فمنعه يعد في ضروريات المذهب.
وأما المنصوصة: ففي العمل بها خلاف بينهم (5). فظاهر المرتضى (6) - رضي الله - (7)
المنع منه أيضا.
وقال المحقق (8) - رحمه الله -: إذا نص الشرع على العلة وكان هناك شاهد حال
يدل على سقوط اعتبار ما عدا تلك العلة في ثبوت الحكم جاز تعدية الحكم.
وكان ذلك برهانا.
وقال العلامة (9): " الأقوى عندي أن العلة إذا كانت منصوصة وعلم وجودها

1 - حكم ثابت - ب
2 - الاخر - ب
3 - المستنبط - ب
4 - تواترت - ج
5 - بينهم - ليس في - الف
6 - الذريعة إلى أصول الشريعة، ص 675 - 685.
7 - رضي الله عنه - الف - ج
8 - معارج الأصول، ص 185.
9 - تهذيب الأصول ص 190 الظهر، المبحث الثالث
226

في الفرع كان حجة ".
واحتج في النهاية (1) لذلك: بأن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح الخفية والشرع
كاشف عنها. فإذا نص على العلة عرفنا (2) أنها الباعثة والموجبة لذلك (3) الحكم. فأين
وجدت وجب وجود المعلول.
ثم حكى عن المانعين الاحتجاج بأن قول الشارع: " حرمت الخمر لكونها
مسكرة " يحتمل أن تكون العلة هي الاسكار، وأن يكون إسكار (4) الخمر بحيث
يكون قيد الإضافة إلى الخمر معتبرا في العلة. وإذا احتمل الأمران (5) لم
يجز القياس.
وأجاب: بالمنع من احتمال اعتبار القيد في العلة، فان تجويز ذلك يستلزم (6)
تجويز (7) مثله في العقليات حتى يقال: الحركة إنما اقتضت المتحركية (8) لقيامها بمحل
خاص وهو محلها، فالحركة القائمة بغيره لا تكون علة للمتحركية (9).
سلمنا إمكان كون القيد (10) معتبرا في الجملة، لكن العرف يسقط هذا القيد عن
درجة الاعتبار. فان قول الأب لابنه: " لا تأكل هذه الحشيشة لأنها سم "
يقتضي منعه عن أكل كل حشيشة تكون (11) سما.
سلمنا: عدم ظهور إلغاء القيد، لكن دليلكم إنما يتمشى فيما إذا قال
الشارع: " حرمت الخمر لكونه مسكرا. " أما لو قال " علة حرمة الخمر هي
الاسكار " انتفى ذلك الاحتمال.
ثم أورد الاعتراض: ب‍ " أن الحركة إن عنيتم بها معنى يقتضي المتحركية، فهذا

1 - نهاية الأصول ورقه 262 الصفحة الثانية المبحث الرابع
2 - عرفها - الف
3 - لتلك - ب
4 - تكون اسكار - ب
5 - الامرين - ب
6 - مستلزم - ج
7 - بتجويز - ج
8 - المتحركة - ب
9 - المتحرك - ج
10 - القيد - الف
11 - يكون - ب - ج
227

المعنى يمتنع فرضه بدون المتحركية، وإن عنيتم بها أمرا (1) آخر يتأتى فيه ذلك
الاحتمال. فهناك نسلم انه لا بد في إبطاله من دليل منفصل.
قولكم: " العرف يقتضي إلغاء هذا القيد "، قلنا: ذلك (2) عرف بالقرينة.
وهي شفقة الأب المانعة من تناول المضر، فلم قلتم إنه في العلة المنصوصة كذلك؟.
قولكم " لو صرح بأن العلة هي الاسكار انتفى ذلك الاحتمال "، قلنا: في
هذه الصورة يستلزم الاسكار الحرمة أين وجد. لكنه ليس بقياس لان العلم بأن
الاسكار من حيث هو إسكار يقتضى الحرمة، يوجب العلم بثبوت هذا الحكم في
كل محاله، ولم يكن العلم (3) بحكم بعض تلك المحال متأخرا عن العلم بالبعض، فلم
يكن جعل البعض فرعا والآخر أصلا أولى من العكس، فلا يكون هذا قياسا ".
وقال بعد ذلك: " والتحقيق في هذا الباب أن يقال: النزاع هنا لفظي، لان
المانع إنما منع من التعدية، لان قوله " حرمت الخمر لكونه مسكرا " محتمل لان
يكون في تقدير التعليل بالاسكار المختص بالخمر فلا يعم، وأن يكون في تقدير
التعليل بمطلق الاسكار فيعم، والمثبت يسلم أن التعليل بالاسكار المختص بالخمر
غير عام، وأن التعليل بالمطلق (4) يعم. فظهر أنهم متفقون على ذلك نعم: النزاع وقع
في أن قوله " حرمت الخمر لكونه مسكرا " هل هو بمنزلة: علة (5) التحريم (6) الاسكار،
أم لا؟ فيجب أن يجعل البحث في هذا، لا في أن النص على العلة هل (7) يقتضي
ثبوت الحكم في جميع مواردها؟ فان ذلك متفق عليه.
وأقول: كأن العلامة - رحمه الله - لم يقف على احتجاج المرتضى - رضي الله
عنه - في هذا الباب. فلذلك حسب النزاع فيه بين القوم لفظيا، وأنهم متفقون
في المعنى. وكلام المرتضى مصرح بخلاف ما ظنه. فإنه احتج على المنع ب‍ " بأن

1 - أمرا - ليس في - ب
2 - ذاك - الف - ج
3 - في كل محال وان لم يكن العلم - ب
4 - المطلق - ب
5 - ان علة - ب
6 - تحريم - ج
7 - هل - ليس في - ب
228

علل الشرع إنما تنبئ (1) عن الدواعي إلى الفعل أو عن وجه المصلحة فيه. وقد
يشترك الشيئان في صفة واحدة ويكون في أحدهما داعية إلى فعله دون الآخر مع
ثبوتها فيه، وقد يكون مثل المصلحة مفسدة. وقد يدعو الشئ إلى غيره في حال
دون حال وعلى وجه دون وجه وقدر منه دون (2) قدر ". قال: " وهذا باب
في الدواعي معروف، ولهذا جاز أن يعطى بوجه (3) الاحسان فقير دون فقير، ودرهم (4)
دون درهم، وفي حال دون أخرى، وإن كان فيما لم نفعله الوجه الذي لأجله
فعلناه بعينه ".
ثم قال: " وإذا (5) صحت هذه الجملة لم يكن في النص على العلة ما يوجب
التخطي والقياس، وجرى النص على العلة مجرى النص على الحكم في قصره على
موضعه. وليس لاحد أن يقول: إذا لم يوجب النص على العلة التخطي كان
عبثا. وذلك أنه يفيدنا ما لم نكن نعلمه لولاه. وهو ماله كان هذا الفعل المعين
مصلحة " (6).
هذا كلامه، ودلالته على كون النزاع في المعنى ظاهرة (7)، فلا وجه لدعوى
العلامة - رحمه الله - الاتفاق (8) فيه. نعم من جعل الحجة ما ذكره فهو موافق
في المعنى، فلا ينبغي أن يعد في المانعين.
إذا عرفت هذا، فاعلم. أن الأظهر عندي ما قاله المحقق - رحمه الله -. و
وجهه يظهر من تضاعيف الكلام في هذا المقام فلا نطيل بتقريره.
وأما حجة المرتضى، فجوابها أن المتبادر من العلة (9) حيث يشهد الحال بانسلاخ
الخصوصية منها تعلق الحكم بها، لا بيان الداعي أو وجه (10) المصلحة.

1 - ينبي - الف - ب
2 - وقدر دون - ب
3 - لوجه - الف - ب
4 - فقير درهم - الف
5 - فإذا - ج
6 - الذريعة إلى أصول الشريفة ص 684
7 - طاهرا - ب
8 - الاتفاق فلا ينبغي - الف
9 - من العلية - ج
10 - ووجه - ج
229

أصل
ذهب العلامة - رحمه الله - في التهذيب (1)، وكثير من العامة: إلى أن تعدية
الحكم في تحريم التأفيف إلى أنواع الأذى الزائد عنه من باب القياس وسموه
بالقياس الجلي. وأنكر (2) ذلك المحقق - رحمه الله - وجمع من الناس، واختلفوا في
وجه التعدية، فقيل: إنه دلالة مفهومه وفحواه عليه وسموه بهذا الاعتبار مفهوم
الموافقة، لكون حكم غير المذكور فيه موافقا لحكم المذكور. ويقابله مفهوم
المخالفة، وهو ما يكون غير المذكور فيه مخالف للمذكور (3) في الحكم، كمفهوم الشرط
والوصف، ويسمى هذا دليل الخطاب. ويقال للأول: فحوى الخطاب (4) أيضا
ولحن الخطاب. وقال قوم: إنه منقول عن موضوعه اللغوي إلى المنع من أنواع
الأذى. وهو صريح كلام المحقق رحمه الله.
حجة الذاهبين إلى كون مثله قياس: أنه لو قطع النظر عن المعنى المناسب
المشترك المقصود من الحكم، كالاكرام (5) في منع التأفيف، وعن كونه آكد
في الفرع، لما حكم به. ولا معنى للقياس (6) إلا ذلك.
وأجيب بأن المعنى المناسب لم يعتبر لاثبات الحكم حتى يكون قياسا، بل
لكونه شرطا في دلالة الملفوظ على حكم المفهوم لغة. ولهذا يقول به كل من لا
يقول بحجية القياس، ولو كان قياسا لما قال به النافي له.
ورد: بأنه لا نافي للقياس الجلي، أعني ما يعرف الحكم فيه بطريق (7) الأولى.
حتى يقال: إنه قائل بهذا المفهوم دون القياس. ويجعل (8) ذلك حجة على أنه ليس (9)

1 - تهذيب الأصول، ص 90 المقصد العاشر المبحث الثالث
2 - باب القياس الجلي وسموه بالقياس وأنكر - ب
3 - مخالفا لحكم المذكور - ب
4 - ويقال الأول فحوى الخطاب ليس في - ب
5 - كالاكراه - الف
6 - ولا معنى بالقياس - الف - ب - ج
7 - بالطريق - الف - ج
8 - وتجعل - ب
9 - ليس - ليس في - ب
230

بقياس.
وحجة (1) النافين: القطع بإفادة الصيغة في مثله (2)، المعنى المذكور، من غير
توقف على استحضار القياس.
وأجيب بأن التوقف (3) على استحضاره هو القياس الشرعي لا الجلي، فإنه مما
يعرفه كل من يعرف اللغة من غير افتقار إلى نظر واجتهاد.
إذا عرفت ذلك. فالحق ما ذكره بعض المحققين: من أن النزاع ههنا لفظي
لا طائل تحته.
أصل
اختلف الناس في استصحاب الحال. ومحله أن يثبت حكم في وقت، ثم
يجئ وقت آخر ولا يقوم دليل على انتفاء ذلك الحكم، فهل يحكم ببقائه على ما
كان، وهو الاستصحاب، أم يفتقر الحكم به في الوقت الثاني إلى دليل؟.
المرتضى وجماعة من العامة على الثاني، ويحكى عن المفيد - رحمه الله - (4)
المصير إلى الأول، وهو اختيار الأكثر (5) وقد مثلوا له بالمتيمم إذا دخل في الصلاة
ثم رأى الماء في أثنائها. والاتفاق واقع على وجوب المضي فيها قبل الرؤية. فهل
يستمر على فعلها بعدها استصحابا (6) للحال الأول (7) أم يستأنفها بالوضوء؟. فمن قال
بالاستصحاب قال بالأول، ومن أطرحه قال بالثاني.
احتج المرتضى (8) بأن في استصحاب الحال جمعا بين الحالين في حكم من غير
دلالة، لان الحالين (9) مختلفان (10) من حيث كان غير واجد للماء في إحديهما واجدا له

1 - حجة - ب
2 - في مثل - ج
3 - المتوقف - الف - ج
4 - رضي الله عنه - ج
5 - الأكثرين - ب
6 - بعد استصعابا - ب - ج
7 - الأولى - ب
8 - رضي الله عنه - ج
9 - حاليين - الف - ج
10 - مختلفتان - الف
231

في الأخرى. فكيف سوى (1) بين الحالين (2) من غير دلالة.
قال: وإذا كنا قد أثبتنا الحكم في الحالة الأولى بدليل، فالواجب أن
ننظر. فان كان الدليل يتناول الحالين سوينا بينهما فيه، وليس ههنا استصحاب،
وإن كان تناول الدليل إنما هو للحال (3) الأولى فقط، والثانية عارية من دليل، فلا
يجوز اثبات مثل هذا الحكم (4) لها من غير دليل، وجرت هذه الحالة مع الخلو
من الدليل مجرى الأولى لو خلت من دلالة. فإذا لم يجز إثبات الحكم للأولى (5) إلا
بدليل فكذلك الثانية.
ثم أورد سؤالا، حاصله: أن ثبوت الحكم في الحالة (6) الأولى يقتضي استمراره
إلا لمانع، إذ لو لم يجب (7) ذلك لم يعلم استمرار الحكم (8) في موضع، وحدوث الحوادث
لا يمنع من ذلك (9) كما لا يمنع (10) حركة الفلك وما جرى مجراه من الحوادث. فيجب
استصحاب الحال ما لم يمنع مانع (11).
وأجاب: بأنه لابد من اعتبار الدليل الدال على ثبوت الحكم في الحالة
الأولى وكيفية إثباته، وهل يثبت ذلك في حالة واحدة أو على سبيل
الاستمرار؟ وهل يتعلق بشرط مراعى، أو لم يتعلق؟ (12)
قال: وقد علمنا أن الحكم الثابت في الحالة الأولى إنما يثبت (13) بشرط
فقد الماء، والماء في الحالة الثانية موجود. واتفقت الأمة على ثبوته في الأولى
واختلفت في الثانية. فالحالتان مختلفتان (14). وقد ثبت في العقول أن من شاهد زيدا
في الدار ثم غاب عنه لا يحسن أن يعتقد استمرار كونه في الدار إلا بدليل متجدد و

1 - يسوى - ج
2 - الحالتين - ج
3 - للحالة - ب - ج
4 - مثل الحكم - ب - ج
5 - الأولى - ب
6 - حالة - ب
7 - لو يجب - ب
8 - الاحكام - الف - ب
9 - لا يمنع ذلك - ب
10 - تمنع - ج
11 - يمنع ذلك مانع - ب
12 - وهل يعلق.. أو لم يعلق - الف - ج
13 - تثبت - الف
14 - فالحالان مختلفان - ب
232

صار كونه في الدار في الثاني وقد زالت الرؤية بمنزلة كون عمرو فيها مع فقد
الرؤية. وأما (1) القضاء بأن حركة الفلك وما جرى (2) مجريها لا يمنع من استمرار
الاحكام، فذلك معلوم بالأدلة، وعلى من ادعى أن رؤية الماء لم يغير الحكم،
الدلالة.
ثم قال: وبمثل ذلك نجيب (3) من قال: فيجب أن لا نقطع (4) بخبر من أخبرنا عن
مكة وما جرى مجريها من البلدان على استمرار وجودها. وذلك أنه لابد للقطع
على الاستمرار من دليل، إما عادة أو ما يقوم مقامها، ولو كان البلد الذي أخبرنا (5)
عنه على ساحل البحر لجوزنا زواله لغلبة (6) البحر إلا أن يمنع من ذلك خبر متواتر.
فالدليل على ذلك كله لابد منه. (7)
حجة القول الآخر وجوه:
الأول: أن المقتضي للحكم الأول ثابت، والعارض لا يصلح رافعا له،
فيجب الحكم بثبوته في الثاني. أما أن مقتضى الحكم (8) الأول ثابت، فلانا نتكلم
على هذا التقدير. وأما أن العارض (9) لا يصلح رافعا. فلان العارض إنما هو احتمال تجدد ما يوجب زوال الحكم. لكن احتمال ذلك يعارضه احتمال (10) عدمه، فيكون
كل واحد منهما مدفوعا بمقابله، فيبقى الحكم الثابت سليما عن رافع.
الثاني: أن الثابت أولا (11) قابل للثبوت ثانيا، وإلا لا نقلب من الامكان
الذاتي إلى الاستحالة. فيجب أن يكون في الزمان الثاني جائز الثبوت كما كان
أولا. فلا ينعدم (12) إلا لمؤثر (13)، لاستحالة خروج الممكن من أحد طرفيه إلى الآخر لا

1 - فاما - الف - ب
2 - ما يجري - ب
3 - يجيب - ج
4 - يقطع - الف - ج
5 - خبرنا - ج
6 - لغلبته - ب
7 - الذريعة إلى أصول الشريعة ص 830
8 - المقتضى للحكم - ب
9 - وأما العارض - ب
10 - من احتمال إلى احتمال ليس في - ب
11 - أولا - ليس في - ج
12 - فلا يعدم - ب
13 - إلا بمؤثر - ب
233

لمؤثر (1)، فإذا كان التقدير (2) تقدير عدم (3) العلم بالمؤثر يكون بقاؤه أرجح من عدمه، في
اعتقاد المجتهد، والعمل بالراجح واجب.
الثالث: أن الفقهاء عملوا باستصحاب الحال في كثير من المسائل والموجب
للعمل هناك موجود في موضع الخلاف. وذلك كمسألة من تيقن الطهارة وشك
في الحدث فإنه يعمل على يقينه. وكذلك العكس، ومن تيقن طهارة ثوبه في
حال بنى على ذلك (4) حتى يعلم خلافها (5)، ومن شهد (6) بشهادة بنى على بقائها حتى
يعلم رافعها، ومن غاب غيبة منقطعة حكم ببقاء أنكحته ولم يقسم أمواله وعزل
نصيبه في المواريث. وما ذاك إلا لاستصحاب حال حياته. وهذه العلة موجودة
في مواضع الاستصحاب فيجب العمل به.
الرابع: أن العلماء مطبقون على وجوب إبقاء الحكم مع عدم الدلالة
الشرعية، على ما يقتضيه البراءة الأصلية. ولا معنى للاستصحاب (7) إلا هذا.
إذا تقرر ذلك فاعلم: أن المحقق - رحمه الله - ذكر في أول كلامه أن العمل
بالاستصحاب محكي عن المفيد، وقال إنه المختار، واحتج له بهذه (8) الوجوه الأربعة.
ثم ذكر حجة المانع (9) والجواب عنها، (10) وقال بعد ذلك: والذي نختاره نحن أن
ننظر (11) في الدليل المقتضي لذلك الحكم. فان كان يقتضيه مطلقا وجب القضاء
باستمرار الحكم كعقد النكاح مثلا، فإنه يوجب حل الوطي مطلقا. فإذا وقع
الخلاف في الألفاظ التي يقع (12) بها الطلاق، كقوله: " أنت خلية " أو " برية " (13)، فان
المستدل على أن الطلاق لا يقع بهما (14) لو قال: حل الوطي ثابت قبل النطق بهذه،

1 - إلا بمؤثر - ب
2 - التقدير - ليس في - ج
3 - التقدير عدم - الف - ب
4 - على بقائها - الف
5 - رافعها - الف
6 - يشهد - ب
7 - ولا نعنى الاستصحاب - الف
8 - بهذا - ب
9 - المانعين - ب
10 - منها - الف
11 - أن تنظر - ب
12 - تقع - ب - ج
13 - وبرية - الف - ج
14 - بها - ب
234

فيجب أن يكون ثابتا بعدها، لكان استدلالا صحيحا، لان المقتضي للتحليل، و
هو العقد اقتضاه (1) مطلقا، ولا نعلم (2) أن الألفاظ المذكورة رافعة لذلك الاقتضاء.
فيكون الحكم ثابتا، عملا بالمقتضي.
لا يقال: المقتضي هو العقد ولم يثبت أنه باق، فلم يثبت الحكم (3).
لأنا نقول: وقوع العقد اقتضى (4) حل الوطي لا مقيدا بوقت. فلزم دوام الحل
نظرا إلى وقوع المقتضي، لا إلى دوامه، فيجب أن يثبت الحل حتى يثبت الرافع (5).
فان كان الخصم يعني بالاستصحاب ما أشرنا إليه فليس ذلك عملا بغير دليل، و
إن كان يعني به أمرا وراء ذلك فنحن مضربون عنه (6).
وهذا الكلام جيد، لكنه عند التحقيق رجوع (7) عما اختاره أولا (8)، ومصير (9) إلى
القول الآخر كما يرشد إليه تمثيلهم لموضع النزاع بمسألة المتيمم، ويفصح عنه
حجة المرتضى. فكأنه (10) - رحمه الله - استشعر ما يرد (11) على احتجاجه من المناقشة،
فاستدرك بهذا الكلام. وقد اختار في المعتبر قول المرتضى وهو الأقرب.

1 - اقتضاؤه - ج
2 - ولا يعلم - ب ولا - ج
3 - الحكم الأول - ب
4 - يقتضى - الف
5 - الرفع - ج
6 - معارج الأصول ص 206
7 - رجوعا - الف
8 - أولا المحقق - ب
9 - ومصيرا - ب
10 - وكانه - الف
11 - بما يرد - الف
235

المطلب التاسع
في
الاجتهاد والتقليد
237

أصل
الاجتهاد في اللغة: تحمل الجهد وهو المشقة في أمر. يقال: اجتهد في حمل
الثقيل، ولا يقال ذلك في الحقير. وأما في الاصطلاح فهو استفراغ الفقيه وسعه في
تحصيل الظن بحكم شرعي. وقد اختلف الناس في قبوله للتجزية بمعنى جريانه
في بعض المسائل دون بعض، وذلك بأن يحصل للعالم (1) ما هو مناط الاجتهاد في
بعض المسائل فقط، فله حينئذ أن يجتهد فيها أو لا.
ذهب العلامة - رحمه الله - في التهذيب (2)، والشهيد في الذكرى (3) والدروس،
ووالدي في جملة من كتبه (4)، وجمع من العامة، إلى الأول، وصار قوم إلى الثاني.
حجة الأولين: أنه إذا اطلع على دليل مسألة بالاستقصاء فقد ساوى
المجتهد المطلق في تلك المسألة، وعدم (5) علمه بأدلة غيرها لا مدخل له فيها. و
حينئذ فكما جاز لذلك الاجتهاد فيها فكذا هذا.
واحتج الآخرون: بأن كل ما يقدر جهله يجوز تعلقه بالحكم المفروض. فلا
يحصل له ظن عدم المانع من مقتضى ما يعلمه من الدليل.
وأجاب الأولون: بأن المفروض حصول جميع ما هو دليل في تلك المسألة

1 - العالم - ب
2 - تهذيب الأصول ص 96 المقصد الثالث فصل 1، مبحث 1.
3 - ذكرى الشيعة، ص 3، س 13.
4 - في بعض كتبه - الف - ب
5 - أو عدم - ج
238

بحسب ظنه، وحيث يحصل التجويز (1) المذكور يخرج عن الفرض (2).
والتحقيق عندي في هذا المقام: أن فرض الاقتدار على استنباط
بعض المسائل دون بعض، على وجه يساوى استنباط المجتهد المطلق لها، غير
ممتنع، ولكن التمسك في جواز الاعتماد على هذا الاستنباط بالمساواة فيه للمجتهد
المطلق قياس لا نقول به (3).
نعم: لو علم (4) أن العلة في العمل بظن المجتهد المطلق هي قدرته (5) على استنباط
المسألة، أمكن الالحاق من باب منصوص العلة. ولكن الشأن في العلم بالعلة لفقد (6)
النص عليها، ومن الجائز أن يكون هي قدرته على استنباط المسائل كلها. بل هذا
أقرب إلى الاعتبار من حيث إن عموم القدرة إنما هو لكمال القوة، ولا شك أن
القوة الكاملة أبعد عن (7) احتمال الخطأ من الناقصة. فكيف يستويان؟.
سلمنا، ولكن التعويل في اعتماد (8) ظن المجتهد المطلق إنما هو على دليل
قطعي، وهو إجماع الأمة عليه وقضاء الضرورة به، وأقصى (9) ما يتصور في موضع
النزاع أن يحصل دليل ظني يدل على مساواة التجزي للاجتهاد (10) المطلق. واعتماد
المتجزي عليه يفضي إلى الدور، لأنه تجز في مسألة التجزي، وتعلق بالظن
في العمل بالظن. ورجوعه في ذلك إلى فتوى المجتهد المطلق وإن كان ممكنا، لكنه
خلاف المراد، إذ الفرض إلحاقه ابتداء بالمجتهد. وهذا إلحاق له بالمقلد بحسب
الذات، وإن كان بالعرض إلحاقا بالاجتهاد. ومع ذلك فالحكم في نفسه
مستبعد، لاقتضائه ثبوت الواسطة بين أخذ الحكم بالاستنباط والرجوع فيه إلى

1 - التجويز - ب
2 - عن هذا الفرض - ب
3 - لا يقول به - الف
4 - ثم لو علم - ج
5 - هو قدرته - الف
6 - لعقد - ج
7 - من - ب
8 - اعتقاد - ب
9 - اقتضى - الف
10 - لاجتهاد - ب
239

التقليد. وإن شئت قلت: تركب التقليد والاجتهاد، وهو غير معروف.
أصل
وللاجتهاد المطلق شرائط يتوقف عليها. وهي بالاجمال: أن يعرف جميع ما
يتوقف عليه إقامة الأدلة على المسائل الشرعية الفرعية (1)، وبالتفصيل أن يعلم من
اللغة ومعاني الألفاظ العرفية ما يتوقف عليه استنباط الاحكام من الكتاب
والسنة ولو بالرجوع إلى الكتب المعتمدة، ويدخل في ذلك معرفة النحو
والتصريف، ومن الكتاب قدر ما يتعلق بالأحكام بأن يكون عالما بمواقعها و
يتمكن عند الحاجة من الرجوع إليها ولو في كتب الاستدلال. ومن السنة
الأحاديث المتعلقة بالأحكام، بأن يكون عنده من الأصول المصححة ما يجمعها (2)،
ويعرف موقع (3) كل باب بحيث يتمكن من الرجوع إليها، وأن يعلم أحوال الرواة
في الجرح والتعديل ولو بالمراجعة، وأن يعرف مواقع الاجماع ليحترز عن مخالفته.
وأن يكون عالما بالمطالب الأصولية من أحكام الأوامر والنواهي والعموم
والخصوص إلى غير ذلك من مقاصده التي يتوقف الاستنباط عليها، وهو أهم (4)
العلوم للمجتهد، كما نبه عليه بعض المحققين. ولابد أن يكون ذلك بطريق
الاستدلال على كل أصل منها، لما فيها من الاختلاف، لا كما توهمه (5) القاصرون.
وأن يعرف شرائط البرهان لامتناع الاستدلال بدونه، إلا من فاز بقوة قدسية
تغنيه (6) عن ذلك، وأن يكون له ملكة مستقيمة وقوة إدراك يقتدر بها على اقتناص
الفروع من الأصول ورد الجزئيات إلى قواعدها والترجيح في موضع التعارض.
إذا عرفت هذا، فاعلم: أن جمعا من الأصحاب وغيرهم عدوا في الشرائط:
معرفة ما يتوقف عليه العلم بالشارع من حدوث العالم وافتقاره إلى صانع

1 - والفرعية العرفية خ ل - ج
2 - بأجمعها - ج
3 - مواقع - ب
4 - وهي أهم - ب - ج
5 - كما يتوهم - الف
6 - يغنيه - ج
240

موصوف بما يجب، منزه عما يمتنع، باعث للأنبياء (1)، مصدق (2) إياهم بالمعجزات.
كل ذلك بالدليل الاجمالي، وإن لم يقدر على التحقيق والتفصيل على ما هو (3) دأب
المتبحرين في علم الكلام.
وناقشهم في ذلك بعض المحققين: بأن هذا من لوازم الاجتهاد وتوابعه، لا من
مقدماته وشرائطه، وهو حسن، مع أن ذلك لا يختص بالمجتهد، إذ هو شرط
الايمان.
وأما معرفة فروع الفقه، فلا يتوقف عليها أصل الاجتهاد. ولكنها (4) قد صارت في
هذا الزمان طريقا يحصل به (5) الدربة فيه وتعين (6) على التوصل إليه.
وما يلهج به جهلا أو تجاهلا (7) بعض أهل العصر، من توقف الاجتهاد المطلق
على أمور وراء ما ذكرناه، فمن الخيالات التي تشهد البديهة بفسادها، والدعاوي
التي تقتضي (8) الضرورة من الدين بكذبها.
أصل
اتفق الجمهور من المسلمين على أن المصيب من المجتهدين المختلفين،
في العقليات التي وقع التكليف بها، واحد، وأن الآخر مخطئ آثم، لان الله
تعالى كلف فيها بالعلم ونصب عليه (9) دليلا. فالمخطئ له مقصر فيبقى في العهدة،
وخالف في ذلك شذوذ من أهل الخلاف. وهو بمكان من الضعف، وأما
الأحكام الشرعية فان كان عليها دليل قاطع فالمصيب فيها أيضا واحد والمخطئ
غير معذور، وإن كانت مما يفتقر إلى النظر والاجتهاد فالواجب على المجتهد

1 - للأنبياء (ع) - ب
2 - ومصدق - الف
3 - على هو - الف
4 - لكنها - ج
5 - بها - ج
6 - ويعين - الف - ب
7 - وتجاهلا - ج
8 - يقتضي - الف
9 - عليها - الف
241

استفراغ الوسع فيها ولا إثم عليه حينئذ قطعا بغير خلاف يعبأ به.
نعم اختلف الناس في التصويب.
فقيل: كل مجتهد مصيب، بمعنى أنه لا حكم معينا لله تعالى فيها، بل
حكم الله تعالى فيها تابع لظن المجتهد. فما ظنه فيها كل مجتهد فهو حكم الله فيها في
حقه وحق مقلده.
وقيل: إن المصيب فيها واحد، لان الله تعالى فيها حكما معينا، فمن أصابه
فهو المصيب، وغيره مخطئ معذور.
وهذا القول هو الأقرب (1) إلى الصواب. وقد جعله العلامة في النهاية (2) رأي
الامامية. وهو مؤذن بعدم الخلاف بينهم فيه. وكيف كان فلا أرى للبحث (3) في
ذلك بعد الحكم بعدم التأثيم كثير طائل. فلا جرم كان ترك الاشتغال بتقرير
حججهم على ما فيها من الاشكال أوفق بمقتضى الحال.
أصل
والتقليد هو العمل بقول الغير من غير حجة، وكأخذ العامي والمجتهد بقول
مثله. وعلى هذا فالرجوع إلى الرسول مثلا ليس تقليدا له، وكذا رجوع العامي
إلى المفتي لقيام الحجة في الأول بالمعجزة، وفي الثاني بما سنذكره (4).
هذا بالنظر إلى أصل الاستعمال، وإلا فلا ريب في تسمية أخذ المقلد
العامي بقول المفتي تقليدا في العرف، وهو ظاهر.
إذا تقرر هذا، فأكثر العلماء على جواز التقليد لمن لم يبلغ درجة الاجتهاد
سواء كان عاميا، أم عالما بطرف (5) من العلوم.
وعزى في الذكرى إلى بعض قدماء الأصحاب وفقهاء حلب منهم القول

1 - القول أقرب - الف
2 - نهاية الأصول ص 346 المبحث الثاني -
3 - البحث - ج
4 - سنذكر - ب - ج
5 - بطرق - ب
242

بوجوب الاستدلال على العوام وأنهم اكتفوا فيه بمعرفة الاجماع الحاصل من
مناقشة العلماء عند الحاجة إلى الوقائع، أو النصوص (1) الظاهرة، أو أن الأصل (2)
في المنافع الإباحة، وفي المضار الحرمة مع فقد نص قاطع في متنه ودلالته،
والنصوص محصورة. وضعف هذا القول ظاهر.
وقد حكى غير واحد من الأصحاب: اتفاق العلماء على الاذن للعوام
في الاستفتاء من غير تناكر، واحتجوا مع ذلك: بأنه لو وجب على العامي النظر
في أدلة المسائل الفقهية لكان ذلك إما قبل وقوع الحادثة، أو عندها. والقسمان
باطلان. أما قبلها فبالاجماع، ولأنه يودى إلى استيعاب وقته بالنظر في ذلك
فيؤدى إلى الضرر بأمر المعاش المضطر إليه.
وأما عند نزول الواقعة، فلان ذلك متعذر، لاستحالة اتصاف كل عامي
عند نزول الحادثة بصفة المجتهدين. وبالجملة فهذا الحكم لا مجال للتوقف فيه.
أصل
والحق منع التقليد في أصول العقائد، وهو قول جمهور علماء الاسلام، إلا من
شذ من أهل الخلاف. والبرهان الواضح قائم على خلافه فلا التفات إليه.
إذا عرفت هذا فاعلم: أن المحقق - رحمه الله -، بعد مصيره إلى المنع في
هذا الأصل وذكره الاحتجاج عليه، قال: " وإذا ثبت أنه غير جائز، فهل
هذا الخطأ موضوع عنه؟. قال شيخنا أبو جعفر - رضي الله عنه -: نعم، وخالفه
الأكثرون (3). احتج - رحمه الله - (4) باتفاق فقهاء الأمصار على الحكم بشهادة العامي
مع العلم بكونه لا يعلم تحرير العقائد بالأدلة القاطعة.
لا يقال: قبول الشهادة إنما كان لأنهم يعرفون أوائل الأدلة، وهو سهل
المأخذ.

1 - والنصوص - ب
2 - وان الأصل - ب
3 - معارج الأصول، ص 200
4 - رض - الف
243

لأنا نقول: إن كان ذلك حاصلا لكل مكلف لم يبق من يوصف بالمؤاخذة
فيحصل الغرض وهو سقوط الاثم، وإن لم يكن معلوما لكل مكلف لزم أن يكون
الحكم بالشهادة موقوفا على العلم بحصول تلك الأدلة للشاهد منهم، لكن ذلك
محال، ولأن النبي صلى الله عليه وآله (1) كان يحكم بإسلام الأعرابي من غير أن
يعرض عليه أدلة الكلام ولا يلزمه بها (2)، بل يأمره بتعلم الأمور الشرعية اللازمة به (3)
كالصلاة وما أشبهها.
وفي هذا الكلام إشعار بميل المحقق إلى موافقة الشيخ (4) على ما حكاه عنه، أو
تردده فيه. مع أنه ليس بشئ، لان تحرير (5) الأدلة بالعبارات المصطلح عليها ودفع
الشبهة الواردة فيها ليس بلازم. بل الواجب معرفة (6) الدليل الاجمالي بحيث يوجب
الطمأنينة. وهذا يحصل بأيسر نظر. فلذلك لم يوقفوا قبول (7) الشهادة على استعلام
المعرفة، ولم يكن النبي، صلى الله عليه وآله، يعرض الدليل على الأعرابي
المسلم، إذ كانوا يعلمون منهم العلم بهذا القدر، كما قال الأعرابي: " البعرة تدل
على البعير وأثر الاقدام على المسير؟، أفسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج لا
تدلان (8) على اللطيف الخبير؟ ".
أصل (9)
ويعتبر في المفتي الذي يرجع إليه المقلد مع الاجتهاد أن يكون مؤمنا عدلا،
وفي صحة رجوع المقلد إليه علمه بحصول الشرائط فيه، إما بالمخالطة المطلقة (10)، أو
بالاخبار المتواترة، أو بالقرائن الكثيرة المتعاضدة، أو بشهادة العدلين العارفين.

1 - عليه السلام - ج
2 - ولا يلزم بها - ج
3 - اللائقة به - ج
4 - موافقته للشيخ - ب
5 - تحزير - الف - ج - ب
6 - الواجب معرفة - ب - ج
7 - بقول - ب
8 - لا تدل - الف - ب - ج
9 - أصل - ليس في - ج
10 - المطلعة - ب
244

لأنها (1) حجة شرعية إلا أن اجتماع شرائط قبولها في هذا الموضع عزيز الوجود كما
لا يخفى على المتأمل.
ويظهر من الأصحاب هنا نوع اختلاف، فإن العلامة - رحمه الله - قال
في التهذيب (2): لا يشترط في المستفتي علمه بصحة اجتهاد المفتي، لقوله تعالى:
" فاسألوا أهل الذكر " (3) من غير تقييد، بل يجب عليه أن يقلد من يغلب على ظنه
أنه من أهل الاجتهاد والورع. وإنما يحصل له هذا الظن برؤيته له منتصبا
للفتوى بمشهد من الخلق، واجتماع المسلمين (4) على استفتائه وتعظيمه.
وقال (5) المحقق - رحمه الله -: ولا يكتفي العامي (6) بمشاهدة المفتي متصدرا، ولا
داعيا إلى نفسه، ولا مدعيا، ولا باقبال العامة عليه، ولا اتصافه بالزهد والتورع.
فإنه قد يكون غالطا في نفسه، أو مغالطا. بل لابد أن يعلم منه الاتصاف
بالشرائط المعتبرة من ممارسته وممارسة (7) العلماء وشهادتهم له باستحقاق (8) منصب
الفتوى وبلوغه إياه.
والاختلاف بين هذين الكلامين ظاهر، كما ترى. وكلام المحقق - رحمه الله
- هو الأقوى، ووجهه واضح لا يحتاج إلى البيان.
واحتجاج العلامة - رحمه الله -: بالآية (9) على ما صار إليه مردود. أما أولا:
فلمنع العموم فيها. وقد نبه عليه في النهاية. وأما ثانيا: فلانه على تقدير العموم لابد من
تخصيص أهل الذكر بمن جمع شرائط الفتوى بالنظر إلى سؤال الاستفتاء، للاتفاق
على عدم وجوب استفتاء غيره، بل عدم جوازه، وحينئذ فلابد من العلم بحصول
الشرائط، (10) أو ما يقوم مقام العلم، وهو شهادة العدلين.

1 - لأنهما - الف - ج
2 - تهذيب الأصول، ص 98 المبحث الرابع
3 - سورة النحل: 43
4 - من المسلمين - الف
5 - معارج الأصول، ص 201.
6 - للعامي - ج
7 - أو ممارسة - ب
8 - باستحقاقه - ب
9 - بالآيات - ب
10 - الشرط - ب
245

ويظهر من كلام المرتضى: الموافقة لما ذكره المحقق - رحمه الله - حيث قال:
وللعامي طريق إلى معرفة صفة من يجب عليه أن يستفتيه، لأنه يعلم، بالمخالطة
والأخبار المتواترة، حال العلماء في البلد الذي يسكنه ورتبتهم في العلم والصيانة
أيضا والديانة (1). قال: وليس يطعن في هذه الجملة قول من يبطل الفتيا، بأن
يقول: كيف يعلمه عالما، وهو لا يعلم شيئا من علومه؟ لأنا نعلم أعلم الناس
بالتجارة والصناعة في البلد، وإن نعلم شيئا من التجارة والصناعة (2) وكذلك العلم
بالنحو (3) واللغة وفنون الآداب.
إذا عرفت هذا، فاعلم أن حكم التقليد، مع اتحاد المفتي ظاهر، وكذا
مع التعدد والاتفاق في الفتوى، وأما مع الاختلاف، فان علم استوائهم
في المعرفة والعدالة، تخير المستفتى في تقليد أيهم شاء. وإن كان بعضهم أرجح
في العلم والعدالة من بعض، تعين عليه تقليده، وهو قول والأصحاب (4) الذين وصل
إلينا كلامهم. وحجتهم عليه أن الثقة بقول الأعلم أقرب وأوكد.
ويحكى عن بعض الناس: القول بالتخيير هنا (5) أيضا. والاعتماد على ما عليه
الأصحاب.
ولو ترجح بعضهم بالعلم والبعض (6) بالورع، قال المحقق - رحمه الله -: يقدم
الأعلم، لان الفتوى تستفاد من العلم لا من الورع، والقدر الذي عنده من الورع
يحجزه عن الفتوى بما لا يعلم، فلا اعتبار برجحان ورع الآخر (7). وهو حسن.
أصل
ذهب العلامة في التهذيب (8): إلى جواز بناء المجتهد في الفتوى بالحكم على

1 - والديانة أيضا - ب
2 - والصياغة - الف
3 - وكذا علم النحو - ب
4 - أصحاب - ب
5 - هاهنا - الف
6 - وبعضهم - ج
7 - معارج الأصول ص 201
8 - تهذيب الأصول، ص 97 ظهر الصفحة المبحث الثاني
246

الاجتهاد السابق. ومنع من ذلك المحقق فعد في شرائط تسويغ الفتوى أن يكون
المفتي بحيث إذا سئل عن لمية (1) الحكم في كل واقعة يفتي بها أتى به وبجميع أصوله
التي يبتني (2) عليها.
وقال في موضع (3) آخر: إذا أفتى المجتهد عن نظر في واقعة ثم وقعت بعينها في
وقت آخر، فان كان ذاكرا لدليلها جاز له الفتوى، وان نسيه افتقر إلى استيناف
النظر (4). فان أدى نظره إلى الأول (5) فلا كلام، وإن خالفه وجب الفتوى
بالأخير. ولا ريب أن ما ذكره المحقق أولى. غير أن ما ذهب إليه العلامة متوجه (6)،
لان الواجب على المجتهد تحصيل الحكم بالاجتهاد، وقد حصل. فوجوب
الاستيناف عليه بعد ذلك يحتاج إلى الدليل، وليس بظاهر.
أصل
لا نعرف (7) خلافا في عدم اشتراط مشافهة المفتي في العمل بقوله، بل يجوز (8)
بالرواية عنه، ما دام حيا. واحتجوا لذلك بالاجماع على جواز رجوع الحايض إلى
الزوج العامي، إذا روى عن المفتي، وبلزوم العسر (9) بالتزام السماع منه.
وهل يجوز العمل بالرواية عن الميت؟ ظاهر الأصحاب الاطباق على عدمه.
ومن أهل الخلاف من اجازه. والحجة المذكورة للمنع في كلام الأصحاب على
ما وصل إلينا (10) ردية جدا (11) لا يستحق أن تذكر (12). ويمكن الاحتجاج له بأن التقليد إنما
ساغ للاجماع المنقول سابقا، (13) وللزوم الحرج الشديد والعسر بتكليف الخلق

1 - كميه - الف - ب
2 - يبني - الف - ب
3 - مواضع - الف
4 - نظير - الف - ب - ج
5 - إلى الأولى - ج
6 - موجه - الف - ب
7 - لا يعرف - الف
8 - بل يجوز له - ب
9 - العسير - الف
10 - إلينا - ليس في - ب
11 - جدا - ليس في - الف
12 - ان يذكر - الف - ب - ج
13 - المذكور سابقا - ب
247

بالاجتهاد.
وكلا الوجهين لا يصلح دليلا في موضع النزاع، لان صورة حكاية الاجماع
صريحة في الاختصاص بتقليد الاحياء. والحرج (1) والعسر يندفعان بتسويغ التقليد
في الجملة. على أن القول بالجواز قليل الجدوى على أصولنا، لان المسألة
اجتهادية، وفرض العامي فيها الرجوع إلى فتوى المجتهد. وحينئذ فالقائل بالجواز
إن كان ميتا فالرجوع إلى فتواه فيها دور ظاهر، وإن كان حيا فاتباعه فيها
والعمل بفتاوى الموتى في غيرها بعيد عن الاعتبار غالبا، مخالف لما يظهر من
اتفاق (2) علمائنا على المنع من الرجوع إلى فتوى الميت مع وجود المجتهد الحي، بل قد
حكي الاجماع فيه صريحا بعض الأصحاب.

1 - والجرح - الف
2 - الموتى في غيرها... من اتفاق - ليس في ج
248

خاتمة
في
التعادل والترجيح
249

[خاتمة]
[في]
[التعادل والترجيح]
تعادل الامارتين، أي الدليلين الظنيين، عند المجتهد يقتضي تخييره (1) في العمل
بأحدهما. لا نعرف في ذلك من الأصحاب مخالفا، وعليه أكثر أهل الخلاف.
ومنهم: من حكم (2) بتساقطهما والرجوع إلى البراءة الأصلية. وإنما يحصل التعادل
مع اليأس من الترجيح بكل وجه، لوجوب المصير إليه أولا عند التعارض وعدم
إمكان الجمع
ولما كان تعارض الأدلة الظنية منحصرا عندنا في الاخبار، لا جرم كانت
وجوه الترجيح (3) كلها راجعة إليها، وهي كثيرة:
منها: الترجيح بالسند، ويحصل بأمور:
الأول: كثرة الرواة، كأن يكون رواة أحدهما أكثر عددا من رواة الآخر
فيرجح ما رواته أكثر، لقوة الظن. إذ العدد (4) الأكثر أبعد عن الخطاء من الأقل،
ولأن كل واحد يفيد ظنا، فإذا انضم إلى غيره قوي حتى ينتهي إلى التواتر المفيد
لليقين.
الثاني: رجحان راوي أحدهما على راوي الآخر في وصف يغلب معه ظن
الصدق، كالثقة، والفطنة، والورع، والعلم، والضبط.

1 - تخيرا - ب - ج
2 - حكى - الف
3 - التراجيح - الف - ج
4 - إذا العدد - ب
250

قال المحقق - رحمه الله -: رجح الشيخ بالضابط والأضبط، والعالم والأعلم،
محتجا بأن الطائفة قدمت ما رواه محمد بن مسلم، وبريد (1) بن معاوية، والفضيل بن
يسار ونظائرهم، على من ليس له حالهم. قال: ويمكن أن يحتج لذلك بأن
رواية العالم والأعلم أبعد من احتمال لخطأ وأنسب بنقل الحديث على وجهه
فكانت أولى.
الثالث: قلة الوسائط، وهو علو الاسناد. فيرجح العالي، لان احتمال الغلط
وغيره من وجوه الخلل فيه أقل.
قال العلامة في النهاية (2): " علو الاسناد وإن كان راجحا من حيث إنه كلما
كانت الرواة أقل، كان احتمال الغلط والكذب أقل، إلا أنه مرجوح باعتبار
ندوره. وأيضا فان احتمال الخطأ والغلط في العدد الأقل إنما يكون أقل لو
اتحدت أشخاص الرواة في الخبرين، أو تساووا (3) في الصفات. أما إذا تعددت أو
كانت صفات الأكثر أكثر فلا. وهذا الكلام ليس بشئ، لان تأثير الندور في
مثله غير معقول. واشتراط الاتحاد أو المساواة (4) في الصفات مستدرك، لأن المفروض
في باب التراجيح استيثار أحد الدليلين بجهة الترجيح. وهو إنما يكون
مع الاستواء فيما عداها، إذ لو وجد مع الآخر ما يساويها أو يرجح عليها، لم يعقل
اسناد الترجيح (5) إليها. وبالجملة فهذا في غاية الظهور.
ومنها: الترجيح باعتبار الرواية، فيرجح المروي بلفظ المعصوم على المروي
بمعناه.
وحكى المحقق - رحمه الله - عن الشيخ أنه قال: إذا روى أحد الراويين
اللفظ والآخر المعنى وتعارضا، فان كان راوي المعنى معروفا بالضبط والمعرفة فلا
ترجيح (6) بينهما (7)، وإن لم يوثق منه بذلك ينبغي أن يؤخذ المروي لفظا (8).

1 - ويزيد - الف
2 - نهاية الأصول ص 364 المبحث الأول
3 - أو تساوى - ب
4 - والمساواة - ب
5 - الترجيح - ليس في - ب
6 - معارج الأصول، ص 155.
7 - فلا يرجح - ب
8 - بينهما - ليس في - الف
251

ثم قال المحقق - رحمه الله -: وهذا حق. لأنه أبعد من الزلل (1).
والعجب منه: كيف رضي (2) من الشيخ بالتفصيل الذي حكاه عنه؟ مع أن
صحة الرواية بالمعنى مشروطة بالضبط والمعرفة. وتعليله بترجيح (3) اللفظ بأنه أبعد
من الزلل يقتضي التقديم مطلقا، لا مع عدم الضبط والمعرفة في راوي المعنى، كما
شرطه الشيخ.
ومنها: الترجيح بالنظر إلى المتن، وهو من وجوه:
أحدها: أن يكون لفظ أحد الخبرين فصيحا ولفظ الآخر ركيكا بعيدا
عن الاستعمال، فيرجح الفصيح، ووجهه ظاهر، وأما الأفصح فلا يرجح
على الفصيح، خلافا للعلامة في التهذيب (4)، إذ المتكلم الفصيح لا يجب أن يكون
كل كلامه أفصح
وثانيها: أن يتأكد (5) الدلالة في أحدهما بأن يتعدد جهات دلالته أو يكون (6)
أقوى، ولا يوجد مثله في الآخر فيرجح متأكد الدلالة. ومن أمثلته ما جاء في
بعض أخبار التقصير للمسافر بعد دخول الوقت من قوله: " قصر فإن لم تفعل فقد
والله خالفت رسول الله، صلى الله عليه وآله " (7).
وثالثها: أن يكون مدلول اللفظ في أحدهما حقيقيا وفي الآخر مجازيا وليس
بغالب، فيرجح دو الحقيقة، أو يكون فيهما مجازيا. لكن مصحح التجوز أعني
العلاقة في أحدهما أشهر وأقوى وأظهر منه في الآخر، فيجب ترجيح الأشهر
والأقوى والأظهر (8).
ورابعها: أن يكون دلالة أحدهما على المراد منه غير محتاجة إلى توسط أمر
آخر، ودلالة الآخر موقوفة عليه فيرجح غير المحتاج. وقد ذكر الناس ههنا وجوها

1 - التدلل - ب
2 - يرضى - ب
3 - ترجيح - ج - الف
4 - تهذيب الأصول، ص 96
5 - يتأكد - الف - ب
6 - أو أن يكون - ب - ج
7 - تهذيب الأحكام: ج 2 ص 13 ح 19.
8 - أو أقوى أو أظهر - ب - ج
252

اخر كثيرة والمقبول منها داخل في عموم ما ذكرناه، وإن كان في كلام الكل
مفردا بالذكر، كترجيح العام الذي لم يخصص، والمطلق الذي لم يقيد على
المخصص والمقيد، وكترجيح ما فيه تعرض للعلة (1) على ما اقتصر فيه على الحكم، و
كترجيح (2) ما يكون اللفظ فيه أقل احتمالا على ما هو أكثر، كالمشترك بين معنيين (3)
على المشترك بين ثلاثة معان. ووجه دخولها فيما ذكرناه أن الأول يرجع إلى
ترجيح الحقيقة على المجاز. والثاني: إلى ترجيح الأقوى دلالة على الأضعف، لان
التعليل يفيد تقوية (4) الحكم، وكذا الثالث.
ومنها: الترجيح بالأمور الخارجة، وهي أربعة:
الأول: اعتضاد (5) أحدهما بدليل آخر، فإنه يرجح به (6) على ما لا يؤيده دليل.
الثاني: عمل أكثر السلف بأحدهما فيرجح به على الآخر. قال المحقق -
رحمه الله -: إذا عمل أكثر الطائفة على إحدى الروايتين كانت أولى إذا جوزنا
كون الامام في جملتهم، لان الكثرة أمارة الرجحان والعمل بالراجح واجب.
الثالث: مخالفة أحدهما للأصل وموافقة الآخر له، فيرجح المخالف
عند العلامة وأكثر العامة، وذهب بعضهم إلى ترجيح الموافق وهو اختيار الشيخ -
رحمه الله -.
حجة الأول: وجهان، أحدهما: أن المخالف للأصل - ويعبرون عنه بالناقل -
يستفاد (7) منه ما لا يعلم إلا منه، والموافق (8) - ويسمونه بالمقرر - حكمه معلوم بالعقل
فكان اعتبار الأول أولى. والثاني (9): أن العمل بالناقل يقتضي تقليل السنخ،
لأنه يزيل حكم العقل فقط بخلاف المقرر، فإنه يوجب تكثيره لازالته حكم

1 - يعرض العلل - ب
2 - وترجيح - الف - ج
3 - المعنيين - الف - ب
4 - بقوته - ب
5 - اعتقاد - ب
6 - ترجيح به - ب
7 - مستفاد - ج
8 - الموافقة - ج
9 - الثاني - ب
253

الناقل بعد إزالة (1) الناقل حكم العقل.
وحجة الثاني: أن حمل الحديث على ما لا يستفاد إلا من الشرع، أولى من
حمله على ما يستقل العقل بمعرفته، إذ فائدة التأسيس أقوى من فائدة التأكيد
وحمل كلام الشارع على الأكثر فائدة أولى، والحكم بترجيح الناقل يستلزم
الحكم بتقديم (2) المقرر عليه، وذلك يقتضي كونه واردا حيث لا حاجة إليه، لان
مضمونه معلوم، إذ ذاك بالعقل فلا يفيد سوى التأكيد، وقد علم مرجوحيته
بخلاف ما إذا رجحنا المقرر (3). فان ترجيحه (4) يقتضى تقدم (5) الناقل عليه، فيكون كل
منهما واردا في موضع الحاجة، وأما الناقل فظاهر، وأما المقرر فلوروده بعده
فيؤسس ما رفعه الناقل، فيكون هذا أولى. وكلتا الحجتين لا تنهض (6) باثبات
المدعى.
قال المحقق (7) - رحمه الله - بعد نقله القولين (8) وحاصل الحجتين - ونعم ما
قال (9) -: " الحق أنه إما أن يكون الخبران عن النبي صلى الله عليه (10) وآله، أو عن
الأئمة، عليهم السلام. فإن كان عن النبي صلى الله عليه وآله، وعلم التاريخ
كان المتأخر أولى، سواء كان مطابقا للأصل، أو لم يكن. ومع جهل التاريخ
يجب التوقف، لأنه كما يحتمل أن يكون أحدهما ناسخا يحتمل أن يكون
منسوخا. وإن كان عن الأئمة، عليهم السلام، وجب القول بالتخيير (11)، سواء علم
تاريخهما أو جهل، لان الترجيح مفقود عنهما (12). والنسخ لا يكون بعد النبي
صلى الله عليه وآله " (13).

1 - ازالته - الف - ج
2 - بتقدم - الف
3 - المفرد - الف
4 - أرجحيته - ب
5 - تقديم - ج
6 - لا ينهض - الف - ب
7 - معارج الأصول، ص 156.
8 - للقولين - ب - ج
9 - قال المحقق - الف
10 - عن رسول (ص) - ب
11 - التخير - ج
12 - لان الترجيح مفقود عنهما بدل من جملة " لان فائدة التاريخ مفقودة هنا " في الف وب وب
13 - (ص) - ب - الف وعليه السلام - ج
254

الرابع: أن يكون أحدهما مخالفا لأهل الخلاف، والآخر موافقا فيرجح
المخالف لاحتمال التقية في الموافق.
وقد حكى المحقق - رحمه الله - عن الشيخ أنه قال: إذا تساوت الروايتان
في العدالة والعدد عمل بأبعدهما من (1) قول العامة (2).
ثم قال المحقق - رحمه الله -: والظاهر أن احتجاجه في ذلك برواية (3) رويت
عن الصادق عليه السلام، وهو إثبات لمسألة (4) علمية (5) بخبر الواحد (6). ولا يخفى عليك ما
فيه، مع أنه قد طعن فيه فضلاء من الشيعة كالمفيد وغيره (7).
فان احتج بأن الابعد لا يحتمل إلا الفتوى، والموافق للعامة يحتمل التقية
فوجب الرجوع إلى ما لا يحتمل.
قلنا: لا نسلم أنه لا يحتمل إلا الفتوى، لأنه كما جاز الفتوى لمصلحة يراها (8)
الامام كذلك يجوز الفتوى بما يحتمي التأويل، مراعاة لمصلحة يعلمها (9) الامام وإن
كنا لا نعلمها.
فإن قال: ذلك يسد باب العمل بالحديث.
قلنا: إنما نصير (1) إلى ذلك على تقدير التعارض وحصول مانع يمنع من العمل لا
مطلقا، فلم يلزم سد باب العمل.
هذا كلامه. وهو ضعيف: أما أولا، فلان رد الاستدلال بالخبر بأنه إثبات
لمسألة علمية بخبر الواحد (11) ليس بجيد، إذ لا مانع من إثبات مسألة (12) بالخبر المعتبر
من الآحاد. ونحن نطالبه بدليل منعه. نعم هذا الخبر الذي أشار إليه لم يثبت

1 - عن - الف
2 - معارج الأصول، ص 156
3 - رواية - ب
4 - المسألة - الف - ب
5 - عليه - الف
6 - بخبر واحد - ب - الف
7 - معارج الأصول، ص 156
8 - تراها - ج
9 - تعلمها - ج
10 - يصير - ج
11 - بخبر واحد - الف - ج
12 - من اثبات مثله - الف - ج
255

صحته فلا ينهض (1) حجة. وأما ثانيا، فلان الافتاء بما يحتمل (2) التأويل وإن كان
محتملا إلا أن احتمال التقية على ما هو المعلوم من أحوال الأئمة عليهم السلام،
أقرب وأظهر، وذلك كاف في الترجيح (3). فكلام الشيخ عندي هو الحق.

1 - تنهض - ج
2 - بما لا يحتمل - ب
3 - في هذا الترجيح - ج
256