الكتاب: تفسير الآلوسي
المؤلف: الآلوسي
الجزء: ٢
الوفاة: ١٢٧٠
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

* (سيقول السفهآء) *، أي الخفاف الأحلام أو المستمهنوها بالتقليد المحض، والإعراض عن التدبر، والمتبادر منهم ما يشمل سائر المنكرين لتغيير القبلة من المنافقين واليهود والمشركين، وروي عن السدي الاقتصار على الأول، وعن ابن عباس الاقتصار على الثاني، وعن الحسن الاقتصار على الثالث، ولعل المراد بيان طائفة نزلت هذه الآية في حقهم لا حمل الآية عليهالأن الجمع فيها محلى باللام، وهو يفيد العموم فيدخل فيه الكل، والتخصيص بالبعض لا يدعو إليه داع، وتقديم الإخبار بالقول على الوقوع لتوطين النفس به فإن مفاجأة المكروه أشد إيلاما؛ والعلم به قبل الوقوع أبعد من الاضطراب، ولما أن فيه إعداد الجواب والجواب المعد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم وفي المثل - قبل الرمي يراش السهم - وليكون الوقوع بعد الاخبار معجزة له صلى الله عليه وسلم، وقيل: إن الوجه في التقديم هو التعليم والتنبيه على أن هذا القول أثر السفاهة فلا يبالي به ولا يتألم منه ويرد عليه - أن التعليم - والتنبيه المذكورين يحصلان بمجرد ذكر هذا السؤال، والجواب ولو بعد الوقوع، وقال القفال: إن الآية نزلت بعد تحويل القبلة، وأن لفظ * (سيقول) * مراد منه الماضي، وهذا كما يقول الرجل إذا عمل عملا فطعن فيه بعض أعدائه: أنا أعلم أنهم سيطعنون في - كأنه يريد أنه إذا ذكر مرة فيذكرونه مرات أخرى - ويؤيد ذلك ما رواه البخاري عن البراء رضي الله تعالى عنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يتوجه نحو الكعبة فأنزل الله تعالى: * (قد نرى تقلب وجهك في السماء) * (البقرة: 144) إلى آخر الآية فقال السفهاء وهم اليهود * (ما ولاهم عن قبلتهم) * إلى آخر الآية، وفي رواية أبي إسحق وعبيد بن حميد وأبي حاتم عنه زيادة فأنزل الله تعالى: * (سيقول السفهاء) * الخ، ومناسبة الآية لما قبلها أن الأولى: قدح في الأصول، وهذا في أمر متعلق بالفروع، وإنما لم يعطف تنبيها على استقلال كل منهما في الشناعة.
* (من الناس) * في موضع نصب على الحال، والمراد منهم الجنس، وفائدة ذكره التنبيه على كمال سفاهتهم بالقياس إلى الجنس، وقيل: الكفرة، وفائدته بيان أن ذلك القول المحكي لم يصدر عن كل فرد فرد من تلك الطوائف بل عن أشقيائهم المعتادين للخوض في آسن الفساد، والأول أولى كما لا يخفى.
* (ماولهم) * أي أي شيء صرفهم، وأصله من الولي، وهو حصول الثاني بعد الأول من غير فصل والاستفهام للانكار * (عن قبلتهم) * يعني بيت المقدس وهي فعلة من المقابلة كالوجهة من المواجهة، وأصلها الحالة التي كان عليها المقابل إلا أنها في العرف العام اسم للمكان
2

المقابل المتوجه إليه للصلاة.
* (التي كانوا عليها) * أي على استقبالها، والموصول صفة القبلة، وفي وصفها بذلك بعد إضافتها إلى ضمير المسلمين تأكيد للإنكار ومدار هذا الإنكار بالنسبة إلى اليهود زعمهم استحالة النسخ وكراهتهم مخالفته صلى الله عليه وسلم لهم في القبلة حتى إنهم قالوا له: ارجع إلى قبلتنا نتبعك ونؤمن بك، ولعلهم ما أرادوا بذلك إلا فتنته عليه الصلاة والسلام، وبالنسبة إلى مشركي العرب القصد إلى الطعن في الدين وإظهار أن كلا من التوجه إليها، والانصراف عنها بغير داع إليه حتى إنهم كانوا يقولون: إنه رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها وليرجعن إلى دينهم أيضا، وبالنسبة إلى المنافقين مختلف باختلاف أصولهم فإن فيهم اليهود وغيرهم، واختلف الناس في مدة بقائه صلى الله عليه وسلم مستقبلا بيت المقدس، ففي رواية البخاري ما علمت، وفي رواية مالك بن أنس تسعة أشهر أو عشرة أشهر، وعن معاذ ثلاثة عشر شهرا، وعن الصادق سبعة أشهر، وهل استقبل غيره قبل بمكة أم لا؟ قولان: أشهرهما الثاني وهو المروي أيضا عن الصادق رضي الله تعالى عنه.
* (قل لله المشرق والمغرب) * أي جميع الأمكنة والجهات مملوكة له تعالى مستوية بالنسبة إليه عز شأنه لا اختصاص لشيء منها به جل وعلا إنما العبرة لامتثال أمره فله أن يكلف عباده باستقبال أي مكان وأي جهة شاء * (يهدي من يشآء إلى صراط مستقيم) * أي طريق مستوي وهو ما تقتضيه الحكمة من التوجه إلى بيت المقدس تارة وإلى الكعبة أخرى، والجملة بدل اشتمال مما تقدم وهو إشارة إلى مصحح التولية وهذا إلى مرجحها كأنه قيل: إن التولية المذكورة هداية يخص الله تعالى بها من يشاء ويختار من عباده وقد خصنا بها فله الحمد.
* (وكذالك جعلن‍اكم أمة وسطا لتكونوا شهدآء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التى كنت عليهآ إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيم‍انكم إن الله بالناس لرءوف رحيم) *
* (وكذالك جعلن‍اكم أمة وسطا) * اعتراض بين كلامين متصلين وقعا خطابا له صلى الله عليه وسلم استطرادا لمدح المؤمنين بوجه آخر أو تأكيدا لرد الإنكار بأن هذه الأمة وأهل هذه الملة شهداء عليكم يوم الجزاء وشهاداتهم مقبولة عندكم فأنتم إذا أحق باتباعهم والاقتداء بهم فلا وجه لإنكاركم عليهم، وذلك إشارة إلى الجعل المدلول عليه - بجعلناكم - وجيء بما يدل على البعد تفخيما. والكاف مقحم للمبالغة وهو إقحام مطرد ومحلها في الأصل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف، وأصل التقدير - جعلناكم أمة وسطا - جعلا كائنا مثل ذلك الجعل فقدم على الفعل لإفادة القصر، وأقحمت الكاف فصار نفس المصدر المؤكد لا نعتا له أي ذلك الجعل البديع جعلناكم لا جعلا آخر أدنى منه كذا قالوا، وقد ذكرنا قبل أن (كذلك) كثيرا ما يقصد بها تثبيت ما بعدها وذلك لأن وجه الشبه يكون كثيرا في النوعية والجنسية كقولك - هذا الثوب كهذا الثوب - في كونه خزا أو بزا، وهذا التشبيه يستلزم وجود مثله وثبوته في ضمن النوع فأريد به على طريق الكناية مجرد الثبوت لما بعده، ولما كانت الجملة تدل على الثبوت كان معناها موجودا بدونها وهي مؤكدة له فكانت كالكلمة الزائدة، وهذا معنى قولهم إن الكاف مقحمة لا أنها زائدة كما يوهمه كلامهم، وأما استفادة كون ما بعدها عجيبا فليس إلا لأن ما ليس كذلك لا يحتاج لبيان فلما اهتم بإثباته في الكلام البليغ علم أنه أمر غريب، أو لحمل البعد المفهوم من ذلك على البعد الرتبي، ومن الناس من جعل * (كذلك) * للتشبيه - بجعل - مفهوم من الكلام السابق أي مثل ما جعلناكم مهديين، أو جعلنا قبلتكم أفضل القبل - جعلناكم أمة وسطا - ويرد على ذلك أن المحل المشبه به غير مختص بهذه الأمة لأن مؤمني الأمم السابقة كانوا أيضا مهتدين إلى صراط مستقيم، وكانت قبلة بعضهم أفضل القبل أيضا، والجعل المشبه مختص
بهم فلا يحسن التشبيه على أنهم لا يفهم من السابق سوى أن التوجه إلى كل
3

واحد القبلتين في وقته - صراط مستقيم والأمر به في ذلك الوقت هداية ولا يفهم منه أن قبلتهم أفضل القبل، والناسخ لا يلزم أن يكون خيرا من المنسوخ اللهم إلا أن يكون مراد القائل - كما جعلنا قبلتكم الكعبة التي هي أفضل القبل في الواقع جعلنا - إلا أنه على ما فيه لا يحسم الإيراد كما لا يخفى. ومعنى: * (وسطا) * خيارا أو عدولا وهو في الأصل اسم لما يستوي نسبة الجوانب إليه - كالمركز - ثم استعير للخصال المحمودة البشرية لكونها أوساطا للخصال الذميمة المكتنفة بها من طرفي الإفراط والتفريط كالجود بين الإسراف، والبخل والشجاعة بين الجبن والتهور، والحكمة بين الجربزة والبلادة، ثم أطلق على المتصف بها إطلاق الحال على المحل واستوى فيه الواحد وغيره لأنه بحسب الأصل جامد لا تعتبر مطابقته، وقد يراعى فيه ذلك وليس هذا الإطلاق مطردا كما يظن من قولهم: خير الأمور الوسط إذ يعارضه قولهم - على الذم أثقل من مغن وسط - لأنه كما قال الجاحظ يختم على القلب ويأخذ بالأنفاس وليس بجيد فيطرب ولا بردىء فيضحك، وقولهم: أخو الدون الوسط بل هو وصف مدح في مقامين في النسب لأن أوسط القبيلة أعرقها وصميمها، وفي الشهادة كما هنا لأنه العدالة التي هي كمال القوة العقلية والشهوية والغضبية أعني استعمالها فيما ينبغي على ما ينبغي، ولما كان علم العباد لم يعط إلا بالظاهر أقام الفقهاء الاجتناب عن الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر مقام ذلك - وسموه عدالة - في إحياء الحقوق فليحفظ، وشاع عن أبي منصور الاستدلال بالآية - على أن الإجماع حجة إذ لو كان ما اتفقت عليه الأمة باطلا لانثلمت به عدالتهم وهو مع بنائه على تفسير الوسط بالعدول وللخصم أن يفسره بالخيار فلا يتم إذ كونهم خيارا لا يقتضي خيريتهم في جميع الأمور فلا ينافي اتفاقهم على الخطأ - لا يخلو عن شيء، أما أولا: فلأن العدالة لا تنافي الخطأ في الاجتهاد إذ لا فسق فيه كيف والمجتهد المخطىء مأجور، وأما ثانيا: فلأن المراد كونهم (وسطا) بالنسبة إلى سائر الأمم، وأما ثالثا: فلأنه لا معنى لعدالة المجموع بعد القطع بعدم عدالة كل واحد، وأما رابعا: فلأنه لا يلزم أن يكونوا عدولا في جميع الأوقات بل وقت أداء الشهادة وهو يوم القيامة، وأما خامسا: فلأن قصارى ما تدل عليه بعد اللتيا والتي حجية إجماع كل الأمة أو كل أهل الحل والعقد منهم وذا متعذر، ولا تدل على حجية إجماع مجتهدي كل عصر والمستدل بصدد ذلك؛ وأجيب عن الأول والثاني بأن العدالة بالمعنى المراد تقتضي العصمة في الاعتقاد والقول والفعل وإلا لما حصل التوسط بين الإفراط والتفريط وبأنه عبارة عن حالة متشابهة حاصلة عن امتزاج الأوساط من القوى التي ذكرناها فلا يكون أمرا نسبيا، وعن الثالث: بأن المراد أن فيهم من يوجد على هذه الصفة، فإذا كنا لا نعرفهم بأعيانهم افتقرنا إلى اجتماعهم كيلا يخرج من يوجد على هذه الصفة - لكن يدخل المعتبرون في اجتماعهم - ومتى دخلوا وحصل الخطأ انثلمت عدالة المجموع. وعن الرابع: بأن * (جعلناكم) * يقتضي تحقق العدالة بالفعل، واستعمال الماضي بمعنى المضارع خلاف الظاهر. وعن الخامس: بأن الخطاب للحاضرين - أعني الحصابة كما هو أصله - فيدل على حجية الاجماع في الجملة، وأنت تعلم أن هذا الجواب الأخير لا يشفي عليلا، ولا يروي غليلا، لأنه بعيد بمراحل عن مقصود المستدل، على أن من نظر بعين الانصاف لم ير في الآية أكثر من دلالتها على أفضلية هذه الأمة على سائر الأمم، وذلك لا يدل على حجية إجماع ولا عدمها، نعم ذهب بعض الشيعة إلى أن الآية خاصة بالأئمة الإثني عشر، ورووا عن الباقر أنه قال: نحن الأمة الوسط، ونحن شهداء الله على خلقه، وحجته في أرضه، وعن علي كرم الله تعالى وجهه: نحن الذين قال الله تعالى فيهم: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) * وقالوا: قول كل واحد من أولئك حجة
4

أفضلا عن إجماعهم، وأن الأرض لا تخلو عن واحد منهم حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، ولا يخفى أن دون إثبات ما قالوه خرط القتاد
* (لتكونوا شهدآء على الناس) * أي سائر الأمم يوم القيامة بأن الله تعالى قد أوضح السبل وأرسل الرسل فبلغوا ونصحوا وهو غاية - للجعل - المذكور مترتبة عليه. أخرج الإمام أحمد وغيره عن أبي سعيد قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه فيقال لهم هل بلغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم، فيقال له: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيدعى محمد وأمته فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم. فيقال: وما علمكم؟ فيقولون: جاءنا نبينا صلى الله عليه وسلم فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا فذلك قوله تعالى: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) * " وفي رواية: " فيؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم " وذلك قوله عز وجل: * (ويكون الرسول عليكم شهيدا) * وكلمة الاستعلاء لما في - الشهيد - من معنى الرقيب، أو لمشاكلة ما قبله، وأخرت صلة الشهادة أولا وقدمت آخرا لأن المراد في الأول: إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الثاني: اختصاصهم - بكون الرسول شهيدا عليهم - وقيل: لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يصلح إلا بشهادة العدول الأخيار * (ويكون الرسول عليكم شهيدا) * ويزكيكم ويعلم بعدالتكم، والآثار لا تساعد ذلك على ما فيه
* (وما جعلنا القبلة التي كنت عليهآ) * وهي صخرة بيت المقدس، بناءا على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن قبلته صلى الله عليه وسلم بمكة كانت بيت المقدس لكنه لا يستدبر الكعبة - بل يجعلها بينه وبينه - و * (التي) * مفعول ثان - لجعل - لا صفة القبلة والمفعول الثاني محذوف أي (قبلة) كما قيل. وقال أبو حيان: إن - الجعل - تحويل الشيء من حالة إلى أخرى، فالمتلبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني، كما في - جعلت الطين خزفا - فينبغي أن يكون المفعول الأول هو الموصول والثاني هو القبلة وهو المنساق إلى الذهن بالنظر الجليل، ولكن التأمل الدقيق يهدي إلى ما ذكرنا لأن القبلة عبارة عن الجهة التي تستقبل للصلاة - وهو كلي - والجهة التي كنت عليها جزئي من جزئياتها، - فالجعل - المذكور من باب تصيير الكلي جزئيا، ولا شك أن الكلي يصير جزئيا - كالحيوان يصير إنسانا - دون العكس، والمعنى أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة - كما هو الآن - * (وما جعلنا) * قبلتك بيت المقدس لشيء من الأشياء * (إلا لنعلم) * أي في ذلك الزمان * (من يتبع الرسول) * أي يتبعك في الصلاة إليها، والالتفات إلى الغيبة مع إيراده صلى الله عليه وسلم بعوان الرسالة للإشارة إلى علة الاتباع.
* (ممن ينقلب على عقبيه) * أي يرتد عن دين الإسلام فلا يتبعك فيها ألفا لقبلة آبائه، و (من) هذه للفصل كالتي في قوله تعالى: * (والله يعلم المفسد من المصلح)
* (البقرة: 220) والكلام من باب الاستعارة التمثيلية بجامع أن المنقلب يترك ما في يديه ويدبر عنه على أسوأ أحوال الرجوع، وكذلك المرتد يرجع عن الإسلام ويترك ما في يديه من الدلائل على أوسأ حال. و (نعلم) حكاية حال ماضية، و (يتبع) و (ينقلب) بمعنى الحدوث، - والجعل - مجاز باعتبار أنه كان الأصل استقبال الكعبة، أو المعنى: ما جعلنا قبلتك بيت المقدس إلا لنعلم الآن بعد التحويل إلى الكعبة من يتبعك حينئذ ممن لا يتبعك كبعض أهل الكتاب ارتدوا لما تحولت القبلة فنعلم على حقيقة الحال. والحاصل أن ما فعلناه كان لأمر عارض - وهو امتحان الناس -
5

إما في وقت - الجعل - أو في وقت التحويل، وما كان لعارض يزول بزواله، وقيل: المراد بالقبلة الكعبة بناءا على أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي إليها بمكة، والمعنى ما رددناك إلا لنعلم الثابت الذي لا يزيغه شبهة ولا يعتريه اضطراب ممن يرتد بقلقلة واضطراب بسبب التحويل بأنه إن كان الأول حقا فلا وجه للتحويل عنه، وإن كان الثاني فلا معنى للأمر بالأول - والجعل - على هذا حقيقة، و * (يتبع) * للاستمرار بقرينة مقابله، ويضعف هذا القول أنه يستلزم دعوى نسخ القبلة مرتين، واستشكلت الآية بأنها تشعر بحدوث - العلم - في المستقبل - وهو تعالى لم يزل عالما - وأجيب بوجوه، الأول: أن ذلك على سبيل التمثيل، أي فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم. الثاني: أن المراد - العلم - الحالي الذي يدور عليه - فلك الجزاء - أي ليتعلق علمنا به موجودا بالفعل، فالعلم مقيد بالحادث، والحدوث راجع إلى القيد. الثالث: أن المراد ليعلم الرسول والمؤمنون، وتجوز في إسناد فعل بعض خواص الملك إليه تنبيها على كراهة القرب والاختصاص، فهو كقول الملك: فتحنا البلد، وإنما فتحها جنده. الرابع: أنه ضمن العلم معنى التمييز أو أريد به التمييز في الخارج، وتجوز بإطلاق اسم السبب على المسبب؛ ويؤيده تعديه بمن كالتمييز - وبه فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - ويشهد له قراءة * (ليعلم) * على البناء للمفعول حيث إن المراد ليعلم كل من يأتي منه - العلم - وظاهر أنه فرع تمييز الله وتفريقه بينهما في الخارج بحيث لا يخفى على أحد الخامس أن المراد به الجزاء، أي لنجازي الطائع والعاصي، وكثيرا ما يقع التهديد في القرآن بالعلم. السادس: أن * (نعلم) * للمتكلم مع الغير، فالمراد ليشترك - العلم - بيني وبين الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ويرد على هذا أن مخالفته مع جعلنا آب عنه، مع أن تشريك الله تعالى مع غيره في ضمير واحد غير مناسب، ثم العلم إن كان مجازا عن التمييز - فمن، وممن - مفعولاه بواسطة وبلا واسطة، وإن كان حقيقة فإما أن يكون من الإدراك المعدى إلى مفعول واحد - فمن - موصولة في موضع نصب به، و * (ممن) * حال أي متميزا (ممن) أو من - العلم - المعدى إلى مفعولين فمن استفهامية في موضع المبتدا، و * (يتبع) * في موضع الخبر، والجملة في موضع المفعولين، * (ممن ينقلب) * حال لمن فاعل * (يتبع) * وبهذا يندفع قول أبي البقاء: إنه لا يجوز أن تكون (من) استفهامية لأنه لا يبقى لقوله تعالى: * (ممن ينقلب) * متعلق لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيما بعده، ولا معنى لتعلقه بيتبع والكلام دال على هذا التقدير - فلا يرد أنه لا قرينة عليه - ثم إن جملة * (وما جعلنا) * الخ، معطوفة كالجملتين التاليتين لها على مجموع السؤال والجواب بيان لحكمة التحويل، وقيل: معطوفة على * (ولله المشرق والمغرب) * (البقرة: 115) ويحتاج إلى أن يقال حينئذ: إنه صلى الله عليه وسلم مأمور بأداء مضمون هذا الكلام بألفاظه إذ لا يصح ضمير المتكلم في كلامه عليه الصلاة والسلام، وفيه بعد ما كما لا يخفى
* (وإن كانت لكبيرة) * أي شاقة ثقيلة، والضمير لما دل عليه قوله تعالى: * (وما جعلنا) * (البقرة: 143) الخ من الجعلة، أو التولية، أو الردة، أو التحويلة، أو الصيرورة، أو المتابعة، أو القبلة، وفائدة اعتبار التأنيث - على بعض الوجوه - الدلالة على أن هذا الرد والتحويل بوقوعه مرة واحدة، واختصاصه بالنبي صلى الله عليه وسلم كانت ثقيلة عليهم حيث لم يعهدوه سابقا، والقول بأن تأنيث (كبيرة) يجعله صفة حادثة، وتأنيث الضمير لتأنيث الخبر فيرجع إلى - الجعل - أو الرد أو التحويل بدون تكلف تكلف عري عن الفائدة و * (إن) * هي المخففة من الثقيلة المفيدة لتأكيد الحكم ألغيت عن العمل فيما بعدها بتوسط (كان)
6

- واللام - هي ألفا صلة بين المخففة والنافية. وزعم الكوفيون أن (إن) هي النافية - واللام - بمعنى إلا، وقال البصريون، لو كان كذلك لجاز أن يقال: جاء القوم لزيدا على معنى إلا زيدا - وليس فليس - وقرىء * (لكبيرة) * بالرفع ففي (كان) ضمير القصة، و (كبيرة) خبر مبتدأ محذوف، أي لهي (كبيرة) والجملة خبر (كان) وقيل: إن كانت زائدة كما في قوله: وإخوان لنا كانوا كرام
واعترض بأنه إن أريد أن (كان) مع اسمها زائدة كانت (كبيرة) بلا مبتدأ و (إن) المخففة بلا جملة، ومثله خارج عن القياس، وإن أريد إن (كان) وحده كذلك والضمير باق على الرفع بالابتداء - فلا وجه لاتصاله واستتاره - وأجيب بأنه لما وقع بعد (كان) وكان من جهة المعنى في موقع اسم (كان) جعل مستترا تشبيها بالاسم، وإن كان مبتدأ تحقيقا، ولا يخفى أنه من التكلف غايته، ومن التعسف نهايته
* (إلا على الذين هدى الله) * أي إلى سر الأحكام الشرعية المبنية على الحكم والمصالح إجمالا أو تفصيلا، والمراد بهم * (من يتبع الرسول) * من الثابتين على الإيمان الغير المتزلزلين المنقلبين على أعقابهم.
* (وما كان الله ليضيع إيم‍انكم) * أي صلاتكم إلى القبلة المنسوخة، ففي الصحيح أنه لما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القبلة قالوا: يا رسول الله، فكيف بالذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس، فنزلت، فالإيمان مجاز من إطلاق اللازم على ملزومه، والمقام قرينة وهو التفسير المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره من أئمة الدين - فلا معنى لتضعيفه كما يحكيه صنيع بعضهم - وقيل: المراد ثباتكم على الإيمان أو إيمانكم بالقبلة المنسوخة - واللام - في * (ليضيع) * متعلقة بخبر (كان) المحذوف - كما هو رأي البصريين - وانتصاب الفعل بعدها بأن مضمرة أي ما كان مريدا - لأن يضيع - وفي توجيه النفي إلى إرادة الفعل مبالغة ليست في توجيهه إليه نفسه، وقال الكوفيون: اللام زائدة وهي الناصبة للفعل، و (يضيع) هو الخبر، ولا يقدح في عملها زيادتها كما لا تقدح زيادة حروف الجر في العمل، وبهذا يندفع استبعاد أبي البقاء خبرية (يضيع) بأن - اللام لام الجر - و (إن) بعدها مرادة فيصير التقدير ما كان الله إضاعة إيمانكم - فيحوج للتأويل - لكن
أنت تعلم أن هذا الذي ذهب إليه الكوفيون بعيد من جهة أخرى لا تخفى. * (إن الله بالناس لرءوف رحيم) * تذييل لجميع ما تقدم، فإن اتصافه تعالى بهذين الوصفين يقتضي لا محالة أن الله لا يضيع أجورهم ولا يدع ما فيه صلاحهم - والباء - متعلقة ب (رءوف) وقدم على * (رحيم) * الرأفة مبالغة في رحمة خاصة، وهي رفع المكروه وإزالة الضرر كما يشير إليه قوله تعالى: * (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) * (النور: 2) أي لا ترأفوا بهما فترفعوا الجلد عنهما - الرحمة - أعم منه، ومن الافضال ودفع الضرر أهم من جلب النفع، وقول القاضي بيض الله تعالى غرة أحواله: لعل تقديم - الرءوف - مع أنه أبلغ - محافظة على الفواصل - ليس بشيء لأن فواصل القرآن لا يلاحظ فيها الحرف الأخير كالسجع - فالمراعاة حاصلة على كل حال - ولأن الرحمة حيث وردت في القرآن قدمت ولو في غير الفواصل كما في قوله تعالى: * (رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها) * (الحديد: 27) في وسط الآية، وكلام الجوهري في هذا الموضع خزف لا يعول عليه، وقول عصام: - إنه لا يبعد أن يقال: - الرءوف - إشارة إلى المبالغة في رحمته لخواص عباده - والرحيم - إشارة إلى الرحمة لمن دونهم فرتبا على حسب ترتيبهم، فقد - الرءوف - لتقدم متعلقه شرفا وقدرا - لا شرف ولا قدر، بل ولا عصام له لأنه تخصيص لا يدل عليه كتاب ولا سنة ولا استعمال، وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، وحفص * (لرءوف) * بالمد، والباقون بغير مد كندس.
* (قد نرى تقلب وجهك في السمآء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكت‍ابليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغ‍افل عما يعملون) *
7

* (قد نرى تقلب وجهك في السمآء) * أي كثيرا ما نرى تردد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء متشوفا للوحي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع في قلبه، ويتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة لما أن اليهود كانوا يقولون: يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا، ولما أنها قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام، وأقدم القبلتين وأدعى للعرب إلى الإيمان، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم لم يسأل ذلك من ربه بل كان ينتظر فقط إذ لو وقع السؤال لكان الظاهر ذكره؛ ففي ذلك دلالة على كمال أدبه صلى الله عليه وسلم، وقال قتادة والسدي وغيرهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في الدعاء إلى الله تعالى أن يحوله إلى الكعبة، فعلى هذا يكون السؤال واقعا منه عليه الصلاة والسلام، ولم يذكر لأن تقلب الوجه نحو السماء التي هي قبلة الدعاء يشير إليه في الجملة، ولعل ذلك بعد حصول الإذن له بالدعاء لما أن الأنبياء لا يسألون الله تعالى شيئا من غير أن يؤذن لهم فيه لأنه يجوز أن لا يكون فيه مصلحة فلا يجابون إليه فيكون فتنة لقومهم، ويؤيد ذلك ما في بعض الآثار أنه صلى الله عليه وسلم استأذن جبريل أن يدعو الله تعالى فأخبره بأن الله تعالى قد أذن له بالدعاء كذا يفهم من كلامهم، والذي أراه أنه لا مانع من دعائه صلى الله عليه وسلم وسؤاله التحويل لمصلحة ألهمها ومنفعة دينية فهمها، ولا يتوقف ذلك على الاستئذان ولا الإذن الصريحين لأن من نال قرب النوافل مستغن عن ذلك فكيف من حصل له مقام قرب الفرائض حتى غدا سيد أهله، ومن علم مرتبة الحبيب عد جميع ما يصدر منه في غاية الكمال مع مراعاة نهاية الأدب، وأما معاتبته صلى الله عليه وسلم في بعض ما صدر فليس لنقص فيه ولا لإخلال بالأدب عند فعله حاشاه ثم حاشاه، ولكن لأسرار خفية، وحكم ربانية علمها من علمها وجهلها من جهلها، بقي هل دعا صلى الله عليه وسلم في هذه الحادثة صريحا أم لا؟ الظاهر الثاني بناءا على ما صح عندنا من ظواهر الأخبار حيث لم يكن فيها سوى حب التحويل، فقد أخرج البخاري ومسلم في " صحيحهما " عن البراء قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس، ثم علم الله تعالى هوى نبيه عليه الصلاة والسلام فنزلت: * (قد نرى) * الآية، وليس في الآية ما يدل صريحا على أحد الأمرين، وأما الإشارة فقد تصلح لهذا وهذا كما لا يخفى، هذا ومن الناس من جعل * (قد) * هنا للتقليل زعما منه أن وقوع التقلب قليلا أدل على كمال أدبه صلى الله عليه وسلم، واعترض بأن من رفع بصره إلى السماء مرة واحدة لا يقال له: قلب بصره إلى السماء، وإنما يقال: قلب إذا داوم فالكثرة تفهم من الآية لا محالة - لأن التقلب - الذي هو مطاوع التقليب يدل عليها، وهل التكثير معنى مجازي - لقد - أو حقيقي؟ قولان نسب ثانيهما إلى سيبويه، وهذه الكثرة أو القلة هنا منصرفة إلى التقلب، وذكر بعض النحاة أن (قد) تقلب المضارع ماضيا، ومنه ما هنا، وقوله تعالى: * (قد يعلم ما أنتم عليه) * (النور: 64) * (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك) * (الحجر: 97) إلى غير ذلك
* (فلنولينك قبلة) * أي لنمكننك من استقبالها من قولك: وليته كذا إذا جعلته واليا له أو فلنجعلنك تلي جهتها دون جهة المقدس من وليه دنا منه ووليته إياه أدنيته منه، والفاء لسببية ما قبلها لما بعدها، وهي في الحقيقة داخلة على قسم محذوف تدل عليه السلام، وجاء هذا الوعد على إضمار القسم مبالغة في وقوعه لأنه يؤكدون مضمون الجملة المقسم عليها، وجاء قبل الأمر لفرح النفس بالإجابة ثم بانجاز الوعد فيتوالى السرور مرتين، - ونولي - يتعدى لاثنين الكاف الأول وقبلة الثاني،
وقوله تعالى: * (ترضاها) * أي تحبها وتميل إليها للأغراض الصحيحة
8

التي أضمرتها، ووافقت مشيئة الله تعالى وحكمته في موضع نصب صفة - لقبلة -، ونكرها لأنه لم يجر قبلها ما يقتضي أن تكون معهودة فتعرف باللام، وليس في اللفظ ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يطلب قبلة معينة.
* (فول وجهك) * الفاء لتفريع الأمر على الوعد وتخصيص التولية بالوجه لما أنه مدار التوجه ومعياره، وقيل: المراد به جميع البدن وكنى بذلك عنه لأنه أشرف الأعضاء وبه يتميز بعض الناس عن بعض، أو مراعاة لما قبل والتولية إذا كانت متعدية بنفسها إلى تمام المفعولين كانت مستعملة بأحد المعنيين المتقدمين، وإذا كانت متعدية إلى واحد فمعناها الصرف إما عن الشيء أو إلى الشيء على اختلاف صلتها الداخلة على المفعول الثاني، وهي هنا بهذا المعنى - فوجهك - مفعول أول.
وقوله تعالى: * (شطر المسجد الحرام) * أي نحوه كما روي عن ابن عباس، أو قبله كما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه؛ أو تلقاءه كما روي عن قتادة ظرف مكان مبهم كمفسره منصوب على الظرفية أغنى غناء إلى فان مؤدي - ول وجهك - نحو أو قبل أو تلقاء المسجد - وول وجهك إلى المسجد - واحد وإنما لم يجعل الأمر
من المتعدية إلى مفعولين بأن يكون * (شطر) * مفعوله الثاني - ما قيل به - لأن ترتبه بالفاء وكونه إنجازا للوعد بأن الله تعالى يجعل مستقبل القبلة أو قريبا من جهتها بأن يؤمر بالصلاة إليها يناسبه أن يكون مأمورا بصرف الوجه إليها لا بأن يجعل نفسه مستقبلا لها أو قريبا من جهتها فإن المناسب لهذا فلنأمرنك بأن تولى ولأنه يلزم حينئذ أن يكون الواجب رعاية سمت الجهة لأن المسجد الحرام جهة القبلة فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم مأمورا بجعل نفسه مستقبل جهة المسجد أو قريبا منها كان مأمورا باستقبال جهة الجهة أو بقرب جهة الجهة بخلاف ما إذا جعل من التولية بمعنى الصرف، و - شطر - ظرفا فإنه يصير المعنى اصرف وجهك نحو المسجد الحرام وتلقاءه الذي هو جهة القبلة فيكون مأمورا بمسامته الجهة وإصابته - قاله بعض المحققين - وقيل: الشطر في الأصل لما انفصل عن الشيء ثم استعمل لجانبه وإن لم ينفصل فيكون بمعنى بعض الشيء ويتعين حينئذ جعله مفعولا ثانيا - وفيه أنه - وإن لم يلزم حينئذ وجوب رعاية جهة الجهة لكن عدم مناسبته بانجاز الوعد باق، والقول - بأن الشطر هنا بمعنى النصف - مما لا يكاد يصح، و - الحرام - المحرم أي محرم فيه القتال؛ أو ممنوع من الظلمة أن يتعرضوا، وفي ذكر المسجد الحرام الذي هو محيط بالكعبة دون الكعبة مع أنها القبلة التي دلت عليها الأحاديث الصحاح إشارة إلى أنه يكفي للبعيد محاذاة جهة القبلة وإن لم يصب عينها وهذه الفائدة لا تحصل من لفظ الشطر - كما قاله جمع - لأنه لو قيل: فول وجهك شطر الكعبة لكان المعنى اجعل صرف الوجه في مكان يكون مسامتا ومحاذيا للكعبة - وهذا هو مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وأحمد، وقول أكثر الخراسانيين من الشافعية - ورجحه حجة الإسلام في " الإحياء " إلا أنهم قالوا: يجب أن يكون قصد المتوجه إلى الجهة العين التي في تلك الجهة لتكون القبلة عين الكعبة، وقال العراقيون والقفال منهم: يجب إصابة العين، وقال الإمام مالك: إن الكعبة قبلة أهل المسجد، والمسجد قبلة مكة، وهي قبلة الحرم، وهو قبلة الدنيا، وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا ما يدل عليه، وهذا الخلاف في غير من يكون شاهدا أما هو فيجب عليه إصابة العين بالإجماع، ولم يقيد سبحانه وتعالى التولية في الصلاة لأن المطلوب لم يكن سوى ذلك فأغنى عن الذكر، وقيل: لأن الآية نزلت، وهو صلى الله عليه وسلم في الصلاة فأغنى التلبس بها عن ذكرها، واستدل هذا القائل بما ذكره القاضي تبعا لغيره أنه صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم وجه إلى الكعبة في رجب بعد الزوال قبل قتال بدر بشهرين، وقد صلى بأصحابه في مسجد بني سلمة ركعتين من الظهر فتحول في الصلاة واستقبل الميزاب، وتبادل الرجال والنساء صفوفهم - فسمى المسجد مسجد القبلتين -
9

وهذا - كما قال الإمام السيوطي - تحريف للحديث، فإن قصة بني سلمة لم يكن فيها النبي صلى الله عليه وسلم إماما ولا هو الذي تحول في الصلاة، فقد أخرج النسائي عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنا نغدو إلى المسجد فمررنا يوما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر، فقلت: حدث أمر، فجلست، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم * (قد نرى تقلب وجهك في السماء) * الآية، فقلت لصاحبي: تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكون أول من صلى، فصليناهما، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى للناس الظهر يومئذ، وروى أبو داود عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون نحو بيت المقدس فلما نزلت هذه الآية مر رجل ببني سلمة فناداهم وهم ركوع في صلاة الفجر نحو بيت المقدس، ألا إن القبلة قد حولت إلى الكعبة فمالوا كما هم ركوعا إلى الكعبة، فما ذكر مخالف للروايات الصحيحة الثابتة عند أهل هذا الشأن فلا يعول عليه. وقرأ أبي * (تلقاء المسجد الحرام) * وهي تؤيد القول الأول في * (شطر) * كما لا يخفى.
* (وحيت ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) * عطف على * (فول وجهك) * ومن تتمة إنجاز الوعد - والفاء - جواب الشرط لأن (حيث) إذا لحقه (ما) الكافة عن الإضافة يكون من كلم المجازاة، والفراء لا يشترط ذلك فيها، و (كان) تامة - أي في أي موضع وجدتم - وأصل * (ولوا) * وليوا فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت فالتقى ساكنان فحذف أولهما وضم ما قبل الياء للمناسبة - فوزنه فعوا - وهذا تصريح بعموم الحكم المستفاد من السابق اعتناء به إذ الخطاب الوارد في شأن النبي صلى الله عليه وسلم عام حكمه ما لم يظهر اختصاصه به عليه الصلاة والسلام، وفائدة تعميم الأمكنة - على ما ذهب إليه البعض - دفع توهم أن هذه القبلة مختصة بأهل المدينة، وقيل: لما كان الصرف عن الكعبة لاستجلاب قلوب اليهود وكان مظنة أن لا يتوجه إليها في حضورهم أشار إلى تعميم التولية جميع الأمكنة أو يقال: صرح بأن التولية جهة الكعبة فرض مع حضور بيت المقدس؛ ولأهله أيضا لئلا يظن أن حضور بيت المقدس يمنع التوجه إلى جهة الكعبة مع غيبتها فليفهم. وقرأ عبد الله * (فولوا وجوهكم قبله) *.
* (وإن الذين أوتوا الكت‍اب) * أي من اليهود والنصارى * (ليعلمون أنه) * أي التحويل أو التوجه المفهوم من التولية * (الحق من ربهم) * لا غيره لعلمهم بأن محمدا صلى الله عليه وسلم لا يأمر بالباطل إذ هو النبي المبشر به في كتبهم وتحققهم أنه لا يتجاوز كل شريعة عن قبلتها إلى قبلة شريعة أخرى، وأما اشتراك النبي صلى الله عليه وسلم وإبراهيم عليه السلام في هذه القبلة فلاشتراكهما في الشريعة على ما ينبىء عنه قوله تعالى: * (بل ملة إبراهيم حنيفا) * (البقرة: 135)، ووقوفهم على ما تضمنته كتبهم من أنه صلى الله عليه وسلم يصل إلى القبلتين، والجملة عطف على * (قد نرى) * بجامع أن السابقة مسوقة لبيان أصل التحويل وهذه لبيان حقيته قيل: أو اعتراضية لتأكيد أمر القبلة.
* (وما الله بغ‍افل عما يعملون) * اعتراض بين الكلامين جيء به للوعد والوعيد للفريقين من أهل الكتاب الداخلين تحت العموم السابق المشار إليهما فيما سيجيء قريبا إن شاء الله تعالى وهما من كتم ومن لم يكتم وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي * (تعملون) * بالتاء فهو وعد للمؤمنين، وقيل: على قراءة الخطاب وعدلهم، وعلى قراءة الغيبة وعيد لأهل الكتاب مطلقا، وقيل: الضمير على القراءتين لجميع الناس فيكون وعدا ووعيدا لفريقين من المؤمنين والكافرين. ضع الآية 145.
10

* (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب) * عطف على * (وإن الذين) * (البقرة: 144) بجامع أن كلا منهما مؤكد لآمر القبلة ومبين لحقيته والمراد من الموصول الكفار
من (أولئك) بدليل الجواب ولذا وضع المظهر موضع المضمر ومن خص ما تقدم بالكفار جعل هذا الوضع للإيذان بكمال سوء حالهم من العناد مع تحقق ما ينافيه من الكتاب الصادح بحقية ما كابروا في قبوله * (بكل ءاية) * وحجة قطعية دالة على أن توجهك إلى الكعبة هو الحق واللام موطئة لقسم محذوف * (ما تبعوا قبلتك) * جواب القسم ساد مسد جواب الشرط لا جواب الشرط، لما تقرر أن الجواب إذا كان القسم مقدما للقسم لا للشرط إن لم يكن مانع فكيف إذا كان كترك الفاء ههنا فإنها لازمة في الماضي المنفي إذا وقع جزاءا وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن قبولهم الحق، والمعنى أنهم ما تركوا (قبلتك) لشبهة تدفعها بحجة وإنما خالفوك لمحض العناد وبحت المكابرة، وليس المراد من التعليق بالشرط الإخبار عن عدم متابعتهم على أبلغ وجه وآكده بأن يكون المعنى أنهم لا يتبعونك أصلا - وإن أتيت بكل - حجة فاندفع ما قيل: كيف حكم بأنهم لا يتبعون وقد آمن منهم فريق واستغنى عن القول بأن ذلك في قوم مخصوصين أو حكم على الكل دون الأبعاض فإنه تكلف مستغنى عنه وإضافة القبلة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى تعبده باستقبالها.
* (وما أنت بتابع قبلتهم) * أي لا يكون ذلك منك ومحال أن يكون فالجملة خبرية لفظا ومعنى سيقت لتأكيد حقية أمر القبلة كل التأكيد وقطع تمني أهل الكتاب فإنهم قالوا: يا محمد عد إلى قبلتنا ونؤمن بك ونتبعك مخادعة منهم لعنهم الله تعالى، وفيها إشارة إلى أن هذه القبلة لا تصير منسوخة أبدا، وقيل: إنها خبرية لفظا إنشائية معنى ومعناها النهي أي لا تتبع قبلتهم أي داوم على عدم اتباعها، وأفراد القبلة وإن كانت مثناة إذ لليهود قبلة وللنصارى قبلة لأنهما اشتركتا في كونهما باطلتين فصار الاثنان واحدا من حيث البطلان، وحسن ذلك المقابلة لأن قبله * (ما تبعوا قبلتك) * وقد يقال: إن الأفراد بناء على أن قبلة الطائفتين الحقة في الأصل بيت المقدس وعيسى عليه السلام لم يصل جهة الشرق حتى رفع وإنما كانت قبلته قبلة بني إسرائيل اليوم ثم بعد رفعه شرع أشياخ النصارى لهم الاستقبال إلى الشرق واعتذروا بأن المسيح عليه السلام فوض إليهم التحليل والتحريم وشرع الأحكام وأن ما حللوه وحرموه فقد حلله هو وحرمه في السماء وذكروا لهم أن في الشرق أسرارا ليست في غيره ولهذا كان مولد المسيح شرقا كما يشير إليه قوله تعالى: * (إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا) * (مريم: 16) واستقبل المسيح حين صلب بزعمهم الشرق، وقيل: إن بعض رهبانهم قال لهم: إني لقيت عيسى عليه الصلاة والسلام فقال لي: إن الشمس كوكب أحبه يبلغ سلامي في كل يوم فمر قومي ليتوجهوا إليها في صلاتهم فصدقوا وفعلوا، ويؤيد ذلك أنه ليس في الإنجيل استقبال الشرق، وذهب ابن القيم إلى أن قبلة الطائفتين الآن لم تكن قبلة بوحي وتوقيف من الله تعالى بل بمشورة واجتهاد منهم، أما النصارى فاجتهدوا وجعلوا الشرق قبلة وكان عيسى قبل الرفع يصلي إلى الصخرة، وأما اليهود فكانوا يصلون إلى التابوت الذي معهم إذا خرجوا وإذا قدموا بيت المقدس نصبوه إلى الصخرة وصلوا إليه فلما رفع اجتهدوا فأدى اجتهادهم إلى الصلاة إلى موضعه وهو الصخرة وليس في التوراة الأمر بذلك، والسامرة منهم يصلون إلى طورهم بالشام قرب بلدة نابلس، وهذان القولان إن صحا يشكل عليهما القول بأن عادته تعالى تخصيص كل شريعة بقبلة فتدبر.
ثم إن هذه الجملة أبلغ في النفي من الجملة الأولى من وجوه: كونها اسمية وتكرر فيها الاسم مرتين وتأكد نفيها
11

بالباء وفعل ذلك اعتناء بما تقدم * (وما بعضهم بتابع قبلة بعض) * أي إن اليهود لا تتبع قبلة النصارى ولا النصارى تتبع قبلة اليهود ما داموا باقين على اليهودية والنصرانية وفي ذلك بيان لتصلبهم في الهوى وعنادهم بأن هذه المخالفة والعناد لا يختص بك بل حالهم فيما بينهم أيضا كذلك، والجملة عطف على ما تقدم مؤكدة لأمر القبلة ببيان أن إنكارهم ذلك ناشىء عن فرط العناد وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم * (ولئن اتبعت أهواءهم) * أي على سبيل الفرض وإلا فلا معنى لاستعمال أن الموضوعة للمعاني المحتملة بعد تحقق الانتفاء فيما سبق، والمقصود بهذا الفرض ذكر مثال لاتباع الهوى وذكر قبحه من غير نظر إلى خصوصية المتبع والمتبع.
* (من بعد ما جاءك من العلم) * أي المعلوم الذي أوحي إليك بقرينة إسناد المجىء إليه، والمراد بعد ما بان لك الحق * (إنك إذا لمن الظ‍المين) * أي المرتكبين الظلم الفاحش، وهذه الجملة أيضا تقرير لأمر القبلة وفيها وجوه من التأكيد والمبالغة، وهي القسم، واللام الموطئة له، وإن الفرضية، وأن التحقيقية، واللام في حيزها، وتعريف الظالمين، والجملة الاسمية، وإذا الجزائية، وإيثار (من الظالمين) على - ظالم أو الظالم - لإفادته أنه مقرر محقق وأنه معدود في زمرتهم عريق فيهم. وإيقاع - الاتباع - على ما سماه - هوى - أي لا يعضده برهان، ولا نزل في شأنه بيان، والإجمال والتفصيل وجعل الجائي نفس (العلم) وعد أيضا من ذلك عده واحدا (من الظالمين) مغمورا فيهم غير متعين كتعينهم فيما بين المسلمين، فإن فيه مبالغة عظيمة للإشعار بالانتقال من مرتبة العدل إلى الظلم، ومن مرتبة التعين والسيادة المطلقة إلى السفالة والمجهولية، ولو جعل * (كنت) * في * (كنت عليها) * بمعنى صرت لكان أعلى كعبا في الإفادة. وأنت تعلم أن التركيب يقتضي المبالغة في الاستعمال لا المجهولية، ولو اقتضاها فيه لكان العد معدودا في عداد المقبول، وفي هذه المبالغات تعظيم لأمر الحق وتحريض على اقتفائه وتحذير عن متابعة الهوى، واستعظام لصدور الذنب عن الأنبياء وذو المرتبة الرفيعة إلى تجديد الإنذار عليه أحوج حفظا لمرتبته، وصيانة لمكانته، فلا حاجة إلى القول بأن الخطاب للنبي والمعني به غيره.
* (الذين آتين‍اهم الكت‍اب يعرفونه كما يعرفون أبنآءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون) *
* (الذين ءاتين‍اهم الكت‍اب يعرفونه) * مبتدأ وخبر، والمراد بهم العلماء لأن - العرفان - لهم حقيقة، ولذا وضع المظهر موضع المضمر، ولأن - أوتوا - يستعمل فيمن لم يكن له قبول، و (آتينا) أكثر ما جاء فيمن له ذلك، وجوز أن يكون الموصول بدلا من الموصول الأول، أو (من الظالمين) فتكون الجملة حالا من * (الكتاب) * أو من الموصول، ويجوز أن يكون نصبا بأعني، أو رفعا على تقديرهم، وضمير * (يعرفونه) * لرسول الله صلى الله عليه وسلم - وإن لم يسبق ذكره - لدلالة قوله تعالى: * (كما يعرفون أبناءهم) * عليه، فإن تشبيه معرفته بمعرفة - الأبناء - دليل على أنه المراد، وقيل: المرجع مذكور فيما سبق صريحا بطريق الخطاب، فلا حاجة إلى اعتبار التقديم المعنوي غاية الأمر: أن يكون ههنا التفات إلى الغيبة للإيذان بأن المراد ليس معرفتهم له عليه الصلاة والسلام من حيث ذاته ونسبه
الزاهر، بل من حيث كونه مسطورا في الكتاب منعوتا فيه بالنعوت التي تستلزم إفحامهم، ومن جملتها أنه يصلي إلى القبلتين، كأنه قال: الذين آتيناهم الكتاب يعرفون من وصفناه فيه، وأجيب بأنه صلى الله عليه وسلم وإن خوطب في الكلام الذي في شأن القبلة مرارا لكنه لا يحسن إرجاع الضمير إليه لأن هذه الجملة اعتراضية مستطردة بعد ذكر أمر القبلة وظهورها عند أهل الكتاب بجامع المعرفة الجلية مع الطعن - ولذا لم تعطف - فلو رجع الضمير إلى المذكور لأوهم نوع اتصال - ولم يحسن ذلك
12

الحسن - ودليل الاستطراد (ولكل وجهة) (البقرة: 148) نعم إن قيل: بمجرد الجواز فلا بأس إذ هو محتمل، ولعله الظاهر بالنظر الجليل، وقيل: الضمير - للعلم - المذكور بقوله تعالى: * (من بعد ما جاءك من العلم) * أو القرآن بادعاء حضوره في الأذهان، أو للتحويل لدلالة مضمون الكلام السابق عليه، وفيه أن التشبيه يأبى ذلك لأن المناسب تشبيه الشيء بما هو من جنسه، فكان الواجب في نظر البلاغة حينئذ كما يعرفون التوراة أو الصخرة، وأن التخصيص بأهل الكتاب يقتضي أن تكون هذه المعرفة مستفادة من (الكتاب) وقد أخبر سبحانه عن ذكر نعته صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل بخلاف المذكورات فإنها غير مذكور فيه ذكرها فيهما - والكاف - في محل نصب على أنها صفة لمصدر محذوف أي: يعرفونه بالأوصاف المذكورة في الكتاب بأنه النبي الموعود بحيث لا يلتبس عليهم عرفانا مثل - عرفانهم أبناءهم - بحيث لا تلتبس عليهم أشخاصهم بغيرهم، وهو تشبيه للمعرفة العقلية الحاصلة من مطالعة الكتب السماوية بالمعرفة الحسية في أن كلا منهما يتعذر الاشتباه فيه، والمراد - بالأبناء - الذكور لأنهم أكثر مباشرة ومعاشرة للآباء، وألصق وأعلق بقلوبهم من البنات، فكان ظن اشتباه أشخاصهم أبعد، وكان التشبيه بمعرفة الأبناء آكد من التشبيه بالأنفس لأن الإنسان قد يمر عليه قطعة من الزمان لا يعرف فيها نفسه كزمن الطفولية - بخلاف الأبناء - فإنه لا يمر عليه زمان إلا وهو يعرف ابنه. وما حكي عن عبد الله بن سلام أنه قال في شأنه صلى الله عليه وسلم: أنا أعلم به مني بابني، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: لم؟ قال: لأني لست أشك بمحمد أنه نبي، فأما ولدي فلعل والدته خانت، فقبل عمر رضي الله تعالى عنه رأسه، فمعناه: أني لست أشك في نبوته عليه الصلاة والسلام بوجه، وأما ولدي فأشك في بنوته وإن لم أشك بشخصه، وهو المشبه به في الآية فلا يتوهم منه أن - معرفة الأبناء - لا تستحق أن يشبه بها لأنها دون المشبه للاحتمال، ولا يحتاج إلى القول بأنه يكفي في وجه الشبه كونه أشهر في المشبه به - وإن لم يكن أقوى - ومعرفة الأبناء - أشهر من غيرها، ولا إلى تكلف أن المشبه به في الآية إضافة - الأبناء - إليهم مطلقا سواء كانت حقة أو لا. وما ذكره ابن سلام كونه ابنا له في الواقع.
* (وإن فريقا منهم) * وهم الذين لم يسلموا. * (ليكتمون الحق) * الذي يعرفونه * (وهم يعلمون) * جملة حالية، و * (يعلمون) * إما منزلة منزلة اللازم ففيه تنبيه على كمال شناعة كتمان الحق وأنه لا يليق بأهل العلم، أو المفعول محذوف أي: يعلمونه فيكون حالا مؤكدة لأن لفظ (يكتمون الحق) يدل على علمه إذ - الكتم - إخفاء ما يعلم، أو يعلمون عقاب الكتمان، أو أنهم يكتمون فتكون مبينة، وهذه الجملة عطف على ما تقدم من عطف الخاص على العام، وفائدته تخصيص من عاند وكتم بالذم، واستثناء من آمن وأظهر علمه عن حكم الكتمان.
* (الحق من ربك فلا تكونن من الممترين) *
* (الحق من ربك) * استئناف كلام قصد به رد الكاتمين، وتحقيق أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذا فصل، والحق إما مبتدأ خبره الجار - واللام - إما للعهد إشارة إلى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا ذكر بلفظ المظهر أو الحق الذي كتمه هؤلاء ووضع فيه المظهر موضع المضمر تقريرا لحقيته وتثبيتا لها، أو للجنس وهو يفيد قصر جنس الحق على ما ثبت من الله أي أن الحق ذلك كالذي أنت عليه لا غيره كالذي عليه أهل الكتاب، وإما خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق، أو هذا الحق، و * (من ربك) * خبر بعد خبر أو حال مؤكدة - واللام - حينئذ للجنس كما في * (ذلك الكتاب) * (البقرة: م 2) ومعناه أن ما يكتمونه هو الحق - لا ما يدعونه ويزعمونه - ولا معنى حينئذ للعهد لأدائه إلى التكرار فيحتاج
13

إلى تكلف. وقرأ الإمام علي كرم الله تعالى وجهه * (الحق) * بالنصب على أنه مفعول * (يعلمون) * (البقرة: 146) أو بدل، و * (من ربك) * حال منه، وبه يحصل مغايرته للأول وإن اتحد لفظهما، وجوز النصب بفعل مقدر - كالزم - وفي التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة من إظهار اللطف به صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى.
* (فلا تكونن من الممترين) * أي الشاكين أو المترددين في كتمانهم الحق عالمين به، أو في أنه من ربك وليس المراد نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك لأن النهي عن شيء يقتضي وقوعه أو ترقبه من المنهي عنه وذلك غير متوقع من ساحة حضرة الرسالة صلى الله عليه وسلم فلا فائدة في نهيه، ولأن المكلف به يجب أن يكون اختياريا، وليس الشك والتردد مما يحصل بقصد واختيار بل المراد إما تحقيق الأمر وأنه بحيث لا يشك فيه أحد كائنا من كان، أو الأمر للأمة بتحصيل المعارف المزيلة لما نهى عنه فيجعل النهي مجازا عن ذلك الأمر وفي جعل امتراء الأمة امتراءه صلى الله عليه وسلم مبالغة لا تخفى، ولك أن تقول: إن الشك ونحوه وإن لم يكن مقدور التحصيل لكنه مقدور لإزالة البقاء، ولعل النهي عنه بهذا الاعتبار ولهذا قال الله تعالى: * (فلا تكونن من الممترين) * دون فلا تمتر، ومن ظن أن منشأ الإشكال إفخام الكون لأنه هو الذي ليس مقدورا فلا ينهى عنه دون الشك والتردد لم يأت بشيء.
* (ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شىء قدير) *
* (ولكل وجهة) * أي لكل أهل ملة أو جماعة من المسلمين واليهود والنصارى، أو لكل قوم من المسلمين جهة وجانب من الكعبة يصلي إليها جنوبية أو شمالية أو شرقية أو غربية، وتنوين - كل - عوض عن المضاف إليه و - وجهة - جاء على الأصل والقياس جهة مثل عدة وزنة وهي مصدر بمعنى المتوجه إليه كالخلق بمعنى
المخلوق وهو محذوف الزوائد لأن الفعل توجه أو اتجه، والمصدر التوجه أو الاتجاه، ولم يستعمل منه وجه كوعد، وقيل: إنها اسم للمكان المتوجه إليه فثبوت الواو ليس بشاذ. وقرأ أبي - ولكل قبلة - * (هو موليها) * الضمير المرفوع عائد إلى - كل - باعتبار لفظه، والمفعول الثاني للوصف محذوف أي وجهه أو نفسه أي مستقبلها، ويحتمل أن يكون الضمير لله تعالى أي - الله موليها - إياه، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ * (ولكل وجهة) * بالإضافة، وقد صعب تخريجها حتى تجرأ بعضهم على ردها وهو خطأ عظيم، وخرجها البعض أن - كل - كان في الأصل منصوبا على أنه مفعول به لعامل محذوف يفسره * (موليها) * وضمير * (هو) * عائد إلى الله تعالى قطعا ثم زيدت اللام في المفعول به صريحا لضعف العامل المقدر من جهتين، كونه اسم فاعل وتقديم المعمول عليه والمفعول الآخر محذوف - أي لكل وجهة الله مولى موليها - ورد بأن لام التقوية لا تزاد في أحد مفعولي المتعدي لاثنين، لأنه إما أن تزاد في الآخر ولا نظير له، أو لا فيلزم الترجيح بلا مرجح، وإن أجيب بإطلاق النحاة يقتضي جوازه، والترجيح بلا مرجح مدفوع هنا بأنه ترجح بتقديمه. وقيل: إن المجرور معمول للوصف المذكور على أنه مفعول به له واللام مزيدة، أو أن الكلام من باب الاشتغال بالضمير، ولا يخفى أن هذين التخريجين يحوج أولهما: إلى إرجاع الضمير المجرور بالوصف إلى التولية، وجعله مفعولا مطلقا كقوله: هذا سراقة للقرآن يدرسه
لئلا يقال: كيف يعمل الوصف مع اشتغاله بالضمير، وثانيهما: إلى القول: بأنه قد يجىء المجرور من باب الاشتغال على قراءة من قرأ * (والظالمين أعد لهم) * (الانسان: 31) والقول: بأن اللام أصلية، والجار متعلق - بصلوا - محذوفا أو باستبقوا والفاء زائدة بعيد بل لا أكاد أجيزه، وقرأ ابن عامر، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - مولاها - على صيغة اسم المفعول - أي هو قد ولى تلك الجهة - فالضمير المرفوع حينئذ عائد
14

إلى كل ألبتة، ولا يجوز رجوعه إلى الله تعالى لفساد المعنى، وأخرج ابن جرير وابن أبي داود في " المصاحف " عن منصور قال: نحن نقرأ - ولكل جعلنا قبلة يرضونها -.
* (فاستبقوا الخيرات) * جمع خيرة بالتخفيف وهي الفاضلة من كل شيء، والتأنيث باعتبار الخصلة، واللام للاستغراق فيعم المحلى أمر القبلة وغيره، والخطاب للمؤمنين، والاستباق متعد كما في " التاج "، وقيل: لازم، و (إلى) بعده مقدرة أي إذا كان كذلك فبادروا أيها المؤمنون ما به يحصل السعادة في الدارين من استقبال القبلة وغيره ولا تنازعوا من خالفكم إذ لا سبيل إلى الاجتماع على قبلة واحدة لجرى العادة على تولية كل قوم قبلة يستقبلها، وفي أمر المؤمنين بطلب التسابق فيما بينهم كما قال السعد: دلالة على طلب سبق غيرهم بطريق الأولى، وقيل: الاقتصار على سبق بعضهم إشارة إلى أن غيرهم ليس في طريق الخير حتى يتصور أمر أحد بالسبق إلى الخير عليه، ويجوز أن تكون (اللام) للعهد فالمراد بالخيرات الفاضلات من الجهات التي تسامت الكعبة، وفيه إشارة إلى أن الصلاة إلى عين الكعبة أكثر ثوابا من الصلاة التي جهتها، وقيل: يحتمل أن يراد بها الصلوات الفاضلات، والمراد - بالاستباق - السرعة فيها والقيام بها في أول أوقاتها، وفيه بعد، وأبعد منه ما قيل: إن المعنى - فاستبقوا قبلتكم - وعبر عنها بالخيرات إشارة إلى اشتمالها على كل خير.
واستدل الشافعية بالآية على أن الصلاة في أول الوقت بعد تحققه أفضل وهي مسألة فرغ منها في الفروع، ولبعض العارفين في الآية وجه آخر وهو أنه تعالى جعل الناس في أمور دنياهم وأخراهم على أحوال متفاوتة، فجعل بعضهم أعوان بعض فواحد يزرع وآخر يطحن وآخر يخبز، وكذلك في أمر الدين، واحد يجمع الحديث وآخر يحصل الفقه وآخر يطلب الأصول، وهم في الظاهر مختارون، وفي الباطن مسخرون، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: " كل ميسر لما خلق له " ولهذا قال بعض الصالحين لما سئل عن تفاوت الناس في أفعالهم: كل ذلك طرق إلى الله تعالى أراد أن يعمرها بعباده ومن تحرى وجه الله تعالى في كل طريق يسلكه وصل إليه لكن ينبغي تحري الأحسن من تلك الطرق إذ المراتب متفاوتة والشؤون مختلفة ومظاهر الأسماء شتى، وقيل: المراد بها أن لكل أحد قبلة فقبلة المقربين العرش. والروحانيين الكرسي والكروبين البيت المعمور. والأنبياء قبلك بيت المقدس وقبلتك الكعبة، وهي قبلة جسدك، وأما قبلة روحك فأنا، وقبلتي أنت كما يشير إليه " أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي ".
* (أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا) * (أين) ظرف مكان تضمن معنى الشرط، و * (ما) * مزيدة، و * (يأت) * جوابها والمعنى في أي موضع تكونوا من المواضع الموافقة لطبعكم كالأرض أو المخالفة كالسماء أو المجتمعة الأجزاء كالصخرة أو المتفرقة التي يختلط بها ما فيها كالرمل يحشركم الله تعالى إليه لجزاء أعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر، والجملة معللة لما قبلها، وفيها حث على الاستباق بالترغيب والترهيب وهي على حد قوله تعالى: * (يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله) * (لقمان: 16) أو في أي موضع تكونوا من أعماق الأرض وقلل الجبال يقبض الله تعالى أرواحكم إليه فهي على حد قوله تعالى: * (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) * (النساء: 78) ففيها حث على الاستباق باغتنام الفرصة فإن الموت لا يختص بمكان دون مكان، أو أينما تكونوا من الجهات المتقابلات يمنة ويسرة وشرقا وغربا يجعل الله تعالى صلاتكم مع اختلاف جهاتها في حكم صلاة متحدة الجهة كأنها إلى عين الكعبة أو في المسجد الحرام - فيأت بكم - مجاز عن جعل الصلاة متحدة الجهة وفائدة الجملة المعللة حينئذ بيان حكم الأمر بالاستباق، ومنهم من قال: الخطاب
15

في استبقوا إما عام للمؤمنين والكافرين، وإما خاص بالمؤمنين فعلى الأول: يراد هنا العموم أي في أي موضع تكونوا من المواضع الموافقة للحق أو المخالفة له، وعلى الثاني: الخصوص - أي أينما تكونوا في الصلاة أيها المؤمنون من الجهات المتقابلة شمالا وجنوبا وشرقا وغربا بعد أن تولوا جهة الكعبة يجعل الله تعالى صلاتكم كأنها إلى جهة واحدة لاتحادكم في الجهة التي أمرتم بالاتجاه إليها - وليس بشيء كما لا يخفى * (إن الله على كل شيء قدير) * ومن ذلك إماتتكم وإحياؤكم، وجمعكم
والجملة تذييل وتأكيد لما تقدم.
* (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغ‍افل عما تعملون) *
* (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام) * عطف على * (فاستبقوا) * (البقرة: 148) و * (حيث) * ظرف لازم الإضافة إلى الجمل غالبا، والعامل فيها ما هو في محل الجزاء لا الشرط فهي هنا متعلقة - بول - والفاء صلة للتنبيه على أن ما بعدها لازم لما قبلها لزوم الجزاء للشرط لأن - حيث - وإن لم تكن شرطية لكنها لدلالتها على العموم أشبهت كلمات الشرط ففيها رائحة الشرط، ولا يجوز تعلقها - بخرجت - لفظا وإن كانت ظرفا له معنى لئلا يلزم عدم الإضافة والمعنى من أي موضع خرجت فول وجهك من ذلك الموضع شطر الخ، و (من) ابتدائية لأن الخروج أصل لفعل ممتد وهو المشي وكذا التولية أصل للاستقبال وقت الصلاة الذي هو ممتد، وقيل: إن - حيث - متعلقة - بول - والفاء ليست زائدة، وما بعدها يعمل فيما قبلها كما بين في محله إلا أنه لا وجه لاجتماع الفاء والواو فالوجه أن يكون التقدير افعل ما أمرت به من حيث خرجت فول فيكون * (فول) * عطفا على المقدر، ويجوز أن يجعل - من حيث خرجت - بمعنى أينما كنت وتوجهت فيكون - فول - جزاءا له على أنها شرطية العامل فيها الشرط - ولا يخفى ما فيه من التكلف - والتخريج على قول ضعيف لم يذهب إليه إلا الفراء وهو شرطية - حيث - بدون - ما - حتى قالوا: إنه لم يسمع في كلام العرب، ثم الأمر بالتولية مقيد بالقيام إلى الصلاة للإجماع على عدم وجوب استقبال القبلة في غير ذلك.
* (وإنه) * أي الاستقبال أو الصرف أو التولية والتذكير باعتبار أنها أمر من الأمور أو لتذكير الخبر أو لعدم الاعتداد بتأنيث المصدر أو بذي التاء الذي لا معنى للمجرد عنه سواء كان مصدرا أو غيره، وإرجاع الضمير للأمر السابق واحد الأوامر على قربه بعيد * (للحق من ربك) * أي الثابت الموافق للحكمة. * (وما الله بغ‍افل عما تعملون) * فيجازيكم بذلك أحسن الجزاء فهو وعيد للمؤمنين، وقرىء (يعملون) على صيغة الغيبة فهو وعيد للكافرين، والجملة عطف على ما قبلها وهما اعتراض للتأكيد.؟؟؟
* (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) * معطوف على مجموع قوله تعالى: * (ولكل وجهة) * (البقرة: 148) الخ أو على قوله تعالى: * (قد نرى تقلب وجهك) * (البقرة: 144) الخ عطف القصة على القصة وليس معطوفا على قوله تعالى: * (ومن حيث خرجت) * الداخل تحت فاء السببية الدالة على ترتبه على قوله تعالى: * (ولكل وجهة) * لأنه معلل بقوله تعالى: * (لئلا يكون للناس عليكم حجة) * وهو وإن كان علة - لولوا - لا لمحذوف - أي عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم - والحجة في ذلك كما قيل به: إلا أنه يفهم منه كونه علة - لول - لأن انقطاع الحجة بالتولية إذا حصل للأمة كان حصوله بها للرسول صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى، ولو جعل الخطاب عاما للرسول صلى الله عليه وسلم والأمة ولم يلتزم تخصيصه بالأمة على حد خطابات الآية كان علة لهما وإنما كرر هذا الحكم لتعدد علله، والحصر المستفاد من * (إلا لنعلم) * الخ إضافي
16

أو ادعائي فإنه تعالى ذكر للتحويل ثلاث علل، أولا: تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم بابتغاء مرضاته، وجري العادة الإلهية على أن يؤتي كل أهل ملة وجهة ثانيا: ودفع حجج المخالفين ثالثا: فإن التولية إلى الكعبة تدفع احتجاج اليهود بأن المنعوت في التوراة قبلته الكعبة لا الصخرة وهذا النبي يصلي إلى الصخرة فلا يكون النبي الموعود، وبأنه صلى الله عليه وسلم يدعي أنه صاحب شريعة ويتبع قبلتنا وبينهما تدافع لأن عادته سبحانه وتعالى جارية بتخصيص كل صاحب شريعة بقبلة، وتدفع احتجاج المشركين بأنه عليه الصلاة والسلام يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته وترك سبحانه التعميم بعد التخصيص في المرتبة الثالثة اكتفاء بالعموم المستفاد من العلة، وزاد * (من حيث خرجت) * دفعا لتوهم مخالفة حال السفر لحال الحضر بأن يكون حال السفر باقيا على ما كان كما في الصلاة حيث زيد في الحضر ركعتان أو يكون مخيرا بين التوجهين كما في الصوم.
وقد يقال فائدة هذا التكرار الاعتناء بشأن الحكم لأنه من مظان الطعن وكثرة المخالفين فيه لعدم الفرق بين النسخ والبداء، وقيل: لا تكرار فإن الأحوال ثلاثة، كونه في المسجد كونه في البلد خارج المسجد وكونه خارج البلد، فالأول: محمول على الأول، والثاني: على الثاني، والثالث: على الثالث، ولا يخفى أنه مجرد تشه لا يقوم عليه دليل.
* (إلا الذين ظلموا منهم) * إخراج من الناس، وهو بدل على المختار، والمعنى عند القائلين بأن الاستثناء من النفي إثبات: لئلا يكون لأحد من الناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا بالعناد فإن لهم عليكم حجة فإن اليهود منهم يقولون ما تحول إلى الكعبة إلا ميلا لدين قومه وحبا لبلده، والمشركين منهم يقولون بدا له فرجع إلى قبلة آبائه، ويوشك أن يرجع إلى دينهم، وتسمية هذه الشبهة الباطلة حجة مع أنها عبارة عن البرهان المثبت للمقصود لكونها شبيهة بها باعتبار أنهم يسوقونها مساقها، واعترض بأن صدر الكلام لو تناول هذا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز وإلا لم يصح الاستثناء لأن الحجة مختصة بالحقيقة، ولا محيص سوى أن يراد بالحجة المتمسك حقا كان أو باطلا، وأجيب بأنه لم يستثن شبهتهم عن الحجة بل ذواتهم عن الناس إلا أنه لزم تسمية شبهتهم حجة باعتبار مفهوم المخالفة فلا حاجة إلى تناول الصدر إياها، وأنت تعلم أن مراد المعترض إن الاستثناء وإن كان من الناس إلا أنه يثبت به ما نفي عن المستثني منه للمستثني بناء على أن الاستثناء من النفي إثبات فإن كان الصدر مشتملا على ما أثبت للمستثني لزم الجمع وإلا لم يتحقق الاستثناء بمقتضاه إذ الثابت للمستثنى منه شيء وللمستثنى شيء آخر، ولا محيص للتفصي عن ذلك إلا أن يراد بالحجة المتمسك أو ما يطلق عليه الحجة في الجملة فيتحقق حينئذ الاستثناء بمقتضاه لأن الشبهة حجة بهذا المعنى كالبرهان، ولا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، ولك أن تحمل الحجة على الاحتجاج والمنازعة كما في قوله تعالى: * (لا حجة بيننا وبينكم) * (الشورى: 15) فأمر الاستثناء حينئذ واضح إلا أن صوغ الكلام بعيد عن الاستعمال عند
إرادة هذا المعنى، وقيل: الاستثناء منقطع، وهو من تأكيد الشيء بضده وإثباته بنفيه، والمعنى إن يكن لهم حجة فهي الظلم والظلم لا يمكن أن يكون حجة فحجتهم غير ممكنة أصلا فهو إثبات بطريق البرهان على حد قوله:
ولا عيب فيهم غير أن نزيلهم * (يلام) بنسيان الأحبة والوطن
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما (ألا) بالفتح والتخفيف وهي حرف يستفتح به الكلام لينبه السامع إلى الإصغاء، و * (الذين) * مبتدأ خبره قوله تعالى: * (فلا تخشوهم) * والفاء زائدة فيه للتأكيد، وقيل: لتضمن المبتدأ
17

معنى الشرط، وجوز أن يكون الموصول نصبا على شريطة التفسير، والمشهور أن - الخشية - مرادفة للخوف أي فلا تخافوا الظالمين لأنهم لا يقدرون على نفع ولا ضر، وجوز عود الضمير إلى الناس وفيه بعد. * (واخشوني) * أي وخافوني فلا تخالفوا أمري فإن القادر على كل شيء، واستدل بعض أهل السنة بالآية على حرمة التقية التي يقول بها الإمامية، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك في محله.
* (ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون) * الظاهر من حيث اللفظ أنه عطف على قوله تعالى: * (لئلا يكون) * كأنه قيل: - فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة ولأتم - الخ فهو علة لمذكور أي أمرتكم بذلك لأجمع لكم خير الدارين، أما دنيا فلظهور سلطانكم على المخالفين، وأما عقبى فلاثابتكم الثواب الأوفى ولا يرد الفصل بالاستثناء وما بعده لأنه - كلا فصل - إذ هو من متعلق العلة الأولى، نعم اعترض ببعد المناسبة وبأن إرادة الاهتداء المشعر بها الترجي إنما تصلح علة للأمر بالتولية لا لفعل المأمور به كما هو الظاهر في المعطوف عليه فالظاهر معنى جعله علة لمحذوف أي وأمرتكم بالتولية - والخشية - لإتمام نعمتي عليكم وإرادتي اهتداءكم - والجملة المعللة معطوفة على الجملة المعللة السابقة، أو عطف على علة مقدرة مثل * (واخشوني) * لأحفظكم ولأتم الخ، ورجح بعضهم هذا الوجه بما أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " والترمذي من حديث معاذ بن جبل " تمام النعمة دخول الجنة " ولا يخفى أنه على الوجه الأول قد يؤول الكلام إلى معنى - فاعبدوا، وصلوا متجهين شطر المسجد الحرام لأدخلكم الجنة - والحديث لا يأبى هذا بل يطابقه حذو القذة بالقذة فكونه مرجحا لذلك بمعزل عن التحقيق فإن قيل: إنه تعالى أنزل عند قرب وفاته صلى الله عليه وسلم: * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) * (المائدة: 3) فبين أن تمام النعمة إنما حصل ذلك اليوم فكيف قال قبل ذلك بسنين في هذه الآية: * (ولأتم نعمتي عليكم) *؟ أجيب بأن تمام النعمة في كل وقت بما يليق به فتدبر.
* (كمآ أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آي‍اتنا ويزكيكم ويعلمكم الكت‍اب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) *
* (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم) * متصل بما قبله، فالكاف للتشبيه وهي في موضع نصب على أنه نعت لمصدر محذوف، والتقدير - لأتم نعمتي عليكم - في أمر القبلة أو في الآخرة إتماما مثل إتمام إرسال الرسول، وذكر الإرسال وإرادة الإتمام من إقامة السبب مقام المسبب، و * (فيكم) * متعلق - بأرسلنا - وقدم على المفعول الصريح تعجيلا بإدخال السرور ولما في صفاته من الطول، وقيل: متصل بما بعده أي اذكروني ذكرا مثل ذكري لكم بالإرسال، أو اذكروني بدل إرسالنا فيكم رسولا فالكاف للمقابلة متعلق باذكروني، ومنها يستفاد التشبيه لأن المتقابلين متشابهان ومتبادلان، وإيثار صيغة المتكلم مع الغير بعد التوحيد افتنان وجريان على سنن الكبرياء وإشارة إلى عظمة نعمة هذا الإرسال، وهذا الرسول صلى الله عليه وسلم * (يتلوا عليكم ءايتنا) * صفة (رسولا) وفيه إشارة إلى طريق إثبات نبوته عليه الصلاة والسلام لأن تلاوة الأمي الآيات الخارجة عن طوق البشر باعتبار بلاغتها واشتمالها على الإخبار بالمغيبات والمصالح التي ينتظم بها أمر المعاد والمعاش أقوى دليل على نبوته * (ويزكيكم) * أي يطهركم من الشرك وهي صفة أخرى للرسول وأتى بها عقب التلاوة لأن التطهير عن ذلك ناشىء عن إظهار المعجزة لمن أراد الله تعالى توفيقه * (ويعلمكم الكت‍اب والحكمة) * صفة إثر صفة وأخرت لأن تعليم الكتاب وتفهيم ما انطوى عليه من الحكمة الإلهية والأسرار الربانية إنما يكون بعد التخلي عن دنس الشرك ونجس الشك بالاتباع، وأما قبل ذلك فالكفر حجاب، وقدم التزكية على التعليم في هذه الآية وأخرها عنه في دعوة إبراهيم
18

لاختلاف المراد بها في الموضعين، ولكل مقام مقال، وقيل: التزكية عبارة عن تكميل النفس بحسب القوة العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة إلا أنها وسطت بين التلاوة والتعليم المترتب عليها للإيذان بأن كلا من الأمور المترتبة نعمة جليلة على حيالها مستوجبة للشكر ولو روعي ترتيب الوجود كما في دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لتبادر إلى الفهم كون الكل نعمة واحدة، وقيل: قدمت التزكية تارة وأخرت أخرى لأنها علة غائية لتعليم الكتاب والحكمة، وهي مقدمة في القصد والتصور مؤخرة في الوجود والعمل فقدمت وأخرت رعاية لكل منهما، واعترض بأن غاية التعليم صيرورتهم أزكياء عن الجهل لا تزكية الرسول عليه الصلاة والسلام إياها المفسرة بالحمل على ما يصيرون به أزكياء لأن ذلك إما بتعليمه إياهم أو بأمرهم بالعمل به فهي إما نفس التعليم أو أمر لا تعلق له به، وغاية ما يمكن أن يقال: إن التعليم باعتبار أنه يترتب عليه زوال الشك وسائر الرذائل تزكيته إياهم فهو باعتبار غاية وباعتبار مغيا - كالرمي. والقتل - في قولهم: رماه فقتله فافهم * (ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) * مما لا طريق إلى معرفته سوى الوحي وكان الظاهر و * (ما لم تكونوا) * ليكون من عطف المفرد على المفرد إلا أنه تعالى كرر الفعل للدلالة على أنه جنس آخر غير مشارك لما قبله أصلا فهو تخصيص بعد التعميم مبين لكون إرساله صلى الله عليه وسلم نعمة عظيمة ولولاه لكان الخلق متحيزين في أمر دينهم لا يدرون ماذا يصنعون.
* (فاذكرونى أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون) *
* (فاذكروني) * بالطاعة قلبا وقالبا فيعم الذكر باللسان والقلب والجوارح، فالأول: - كما في " المنتخب " - الحمد والتسبيح والتحميد وقراءة كتاب الله تعالى والثاني: الفكر في الدلائل الدالة على التكاليف والوعد والوعيد وفي الصفات الإلهية والأسرار الربانية. والثالث: استغراق الجوارح في الأعمال المأمور بها خالية عن الأعمال
المنهي عنها ولكون الصلاة مشتملة على هذه الثلاثة سماها الله تعالى ذكرا في قوله: * (فاسعوا إلى ذكر الله) * (الجمعة: 9) وقال أهل الحقيقة: حقيقة ذكر الله تعالى أن ينسى كل شيء سواه * (أذكركم) * أي أجازكم بالثواب، وعبر عن ذلك بالذكر للمشاكلة ولأنه نتيجته ومنشؤه، وفي " الصحيحين ": " من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه ".
* (واشكروا لي) * ما أنعمت به عليكم وهو - واشكروني - بمعنى ولي أفصح مع الشكر وإنما قدم الذكر على الشكر لأن في الذكر اشتغالا بذاته تعالى وفي الشكر اشتغالا بنعمته والاشتغال بذاته تعالى أولى من الاشتغال بنعمته. * (ولا تكفرون) * بجحد نعمتي وعصيان أمري وأردف الأمر بهذا النهي ليفيد عموم الأزمان وحذف ياء المتكلم تخفيفا لتناسب الفواصل وحذفت نون الرفع للجازم.
* (ي‍اأيها الذين ءامنوا استعينوا بالصبر والصلواة إن الله مع الص‍ابرين) *
* (ي‍اأيها الذين ءامنوا استعينوا بالصبر) * على الذكر والشكر وسائر الطاعات من الصوم والجهاد وترك المبالاة بطعن المعاندين في أمر القبلة * (والصلواة) * التي هي الأصل والموجب لكمال التقرب إليه تعالى. * (إن الله مع الص‍ابرين) * معية خاصة بالعون والنصر ولم يقل مع المصلين لأنه إذا كان مع الصابرين كان مع المصلين من باب أولى لاشتمال الصلاة على الصبر.
* (ولا تقولوا لمن يقتل فى سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون) *
* (ولا تقولوا) * عطف على * (واستعينوا) * (البقرة: 135) الخ مسوق لبيان
19

إنه لا غائلة للمأمور به وإن الشهادة التي ربما يؤدي إليها الصبر حياة أبدية * (لمن يقتل في سبيل الله) * أي في طاعته وإعلاء كلمته وهم الشهداء واللام للتعليل لا للتبليغ لأنهم لم يبلغوا الشهداء قولهم: * (أموات) * أي هم أموات. * (بل أحيآء) * أي بل هم أحياء، والجملة معطوفة على * (لا تقولوا) * إضراب عنه، وليس من عطف المفرد على المفرد ليكون في حيز القول ويصير المعنى بل - قولوا أحياء - لأن المقصود إثبات الحياة لهم لا أمرهم بأن يقولوا في شأنهم أنهم أحياء وإن كان ذلك أيضا صحيحا.
* (ول‍اكن لا تشعرون) * أي لا تحسون ولا تدركون ما حالهم بالمشاعر لأنها من أحوال البرزخ التي لا يطلع عليها ولا طريق للعلم بها إلا بالوحي - واختلف في هذه الحياة. فذهب كثير من السلف إلى أنها حقيقة بالروح والجسد ولكنا لا ندركها في هذه النشأة، واستدلوا بسياق قوله تعالى: * (عند ربهم يرزقون) * (آل عمران: 169) وبأن الحياة الروحانية التي ليست بالجسد ليست من خواصهم فلا يكون لهم امتياز بذلك على من عداهم، وذهب البعض إلى أنها روحانية وكونهم يرزقون لا ينافي ذلك - فقد روي عن الحسن - أن الشهداء أحياء عند الله تعالى تعرض أرزاقهم على أرواحهم فيصل إليهم الروح والفرح كما تعرض الناس على أرواح آل فرعون غدوا وعشيا فيصل إليهم الوجع، فوصول هذا الروح إلى الروح هو الرزق، والامتياز ليس بمجرد الحياة بل مع ما ينضم إليها من اختصاصهم بمزيد القرب من الله عز شأنه ومزيد البهجة والكرامة، وذهب البلخي إلى نفي الحياة بالفعل عنهم مطلقا - وأخرج الجملة الإسمية الدالة على الاستمرار المستوعب للأزمنة من وقت القتل إلا ما لا آخر له عن ظاهرها - وقال: معنى * (بل أحياء) * إنهم يحيون يوم القيامة فيجزون أحسن الجزاء، فالآية على حد * (إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم) * (الإنفطار: 13، 14) وفائدة الأخبار بذلك الرد على المشركين حيث قالوا: إن أصحاب محمد يقتلون أنفسهم ويخرجون من الدنيا بلا فائدة ويضيعون أعمارهم فكأنه قيل: ليس الأمر كما زعمتم بل يحيون ويخرجون، وذهب بعضهم إلى إثبات الحياة الحكمية لهم بما نالوا من الذكر الجميل والثناء الجليل كما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه هلك خزان الأموال والعلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وآثارهم في القلوب موجودة، وحكى عن الأصم أن المراد بالموت والحياة الضلال والهدى أي لا تقولوا هم أموات في الدين ضالون عن الصراط المستقيم بل هم أحياء بالطاعة قائمون بأعبائها، ولا يخفى أن هذه الأقوال - ما عدا الأولين - في غاية الضعف بل نهاية البطلان، والمشهور ترجيح القول الأول، ونسب إلى ابن عباس، وقتادة ومجاهد والحسن وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء والجبائي والرماني، وجماعة من المفسرين لكنهم اختلفوا في المراد بالجسد، فقيل: هو هذا الجسد الذي هدمت بنيته بالقتل ولا يعجز الله تعالى أن يحل به حياة تكون سبب الحس والإدراك وإن كنا نراه رمة مطروحة على الأرض لا يتصرف ولا يرى فيه شيء من علامات الأحياء، فقد جاء في الحديث: " إن المؤمن يفسح له مد بصره ويقال له نم نومة العروس " مع أنا لا نشاهد ذلك إذ البرزخ برزخ آخر بمعزل عن أذهاننا وإدراك قوانا. وقيل: جسد آخر على صورة الطير تتعلق الروح فيه، واستدل بما أخرجه عبد الرزاق عن عبد الله بن كعب بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أرواح الشهداء في صور طير خضر معلقة في قناديل الجنة حتى يرجعها الله تعالى يوم القيامة " ولا يعارض هذا ما أخرجه مالك، وأحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه عن كعب بن مالك: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلق من ثمر الجنة - أو - شجر الجنة " ولا ما أخرجه مسلم في " صحيحه " عن ابن مسعود مرفوعا " إن
20

أرواح الشهداء عند الله في حواصل طيور خضر تسرح في أنهار الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش " لأن كونها في الأجواف أو في الحواصل يجامع كونها في تلك الصور إذ الرائي لا يرى سواها، وقيل: جسد آخر على صور أبدانهم في الدنيا بحيث لو رأى الرائي أحدهم لقال: رأيت فلانا - وإلى ذلك ذهب بعض الإمامية - واستدلوا بما أخرجه أبو جعفر مسندا إلى يونس بن ظبيان قال: كنت عند أبي عبد الله جالسا فقال: ما تقول الناس في أرواح المؤمنين؟ قلت: يقولون: في حواصل طير خضر في قناديل تحت العرش، فقال أبو عبد الله: سبحان الله! المؤمن أكرم على الله تعالى من أن يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر يؤنس المؤمن إذا قبضه الله تعالى صير روحه في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون ويشربون، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا. ووجه الاستدلال إذا كان
المراد - بالمؤمنين - الشهداء ظاهر، وأما إذا كان المراد بهم سائر من آمن فيعلم منه حال الشهداء وأن أرواحهم ليست في الحواصل بطريق الأولى، وعندي أن الحياة في البرزخ ثابتة لكل من يموت من شهيد وغيره، وأن الأرواح - وإن كانت جواهر قائمة بأنفسها - مغايرة لما يحس به من البدن لكن لا مانع من تعلقها ببدن برزخي مغاير لهذا البدن الكثيف، وليس ذلك من التناسخ الذي ذهب إليه أهل الضلال، وإنما يكون منه لو لم تعد إلى جسم نفسها الذي كانت فيه - والعود حاصل في النشأة الجنانية - بل لو قلنا بعدم عودها إليه والتزمنا العود إلى جسم مشابه لما كان في الدنيا مشتمل على الأجزاء النطقية الأصلية أو غير مشتمل لا يلزم ذلك التناسخ أيضا لأنهم قالوه على وجه نفوا به الحشر والمعاد، وأثبتوا فيه سرمدية عالم الكون والفساد، وأن أرواح الشهداء يثبت لها هذا التعلق على وجه يمتازون به عمن عداهم إما في أصل التعلق أو في نفس الحياة بناءا على أنها من المشكك لا المتواطىء، أو في نفس المتعلق به مع ما ينضم إلى ذلك من البهجة والسرور والنعيم اللائق بهم، والذي يميل القلب إليه أن لهاتيك الأبدان شبها تاما صوريا بهذه الأبدان، وأن المواد مختلفة والأجزاء متفاوتة - إذ فرق بين العالمين، وشتان ما بين البرزخين - ويمكن حمل أحاديث الطير على تشبيه هذه الأبدان الغضة الطرية بسرعة حركتها وذهابها حيث شاءت بالطير الخضر، وتحمل الصورة على الصفة كما حملت على ذلك في حديث: " خلق آدم على صورة الرحمن " واستبعاد أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ما تقدم محمول على ما يفهمه العامة من ظاهر اللفظ، ولمزيد الإيضاح اللائق بعوام وقته عدل عنه إلى عبارة لا يتراءى منها شائبة استبعاد كما يتراءى من ظاهر الحديث حتى إن بعض العلماء لذلك حملوا (في) فيه على - على - وهو إما تجاهل أو جهل بأن صغر المتعلق أو ضيقه لو كان موجودا فيما نحن فيه لا يضر الروح شيئا ولا ينافي نعيمها، أو ظن بأن لتلك الصورة روحا غير روح - الشهيد - فلا يمكن أن تتعلق بها روحان، والأمر على خلاف ما يظنون، وإن شئت قلت بتمثل الروح نفسها صورة لأن الأرواح في غاية اللطافة وفيها قوة التجسد كما يشعر به ظهور الروح الأمين عليه السلام بصورة دحية الكلبي رضي الله تعالى عنه. وأما القول بحياة هذا الجسد الرميم مع هدم بنيته وتفرق أجزائه وذهاب هيئته - وإن لم يكن ذلك بعيدا عن قدرة من يبدأ الخلق ثم يعيده - لكن ليس إليه كثير حاجة، ولا فيه مزيد فضل، ولا عظيم منة، بل ليس فيه سوى إيقاع ضعفة المؤمنين بالشكوك والأوهام وتكليفهم من غير حاجة بالإيمان بما يعدون قائله من سفهة الأحلام، وما يحكى من
21

مشاهدة بعض الشهداء الذين قتلوا منذ مآت سنين، وأنهم إلى اليوم تشخب جروحهم دما إذا رفعت العصابة عنها؛ فذلك مما رواه - هيان بن بيان - وما هو إلا حديث خرافة وكلام يشهد على مصدقيه تقديم السخافة.
هذا ثم إن نهي المؤمنين عن أن يقولوا في شأن الشهداء أموات، إما أن يكون دفعا لإيهام مساواتهم لغيرهم في ذلك البرزخ - وتلك خصوصية لهم وإن شاركهم في النعيم - بل وزاد عليهم بعض عباد الله تعالى المقربين ممن يقال في حقهم ذلك، وإما أن يكون صيانة لهم عن النطق بكلمة قالها أعداء الدين والمنافقون في شأن أولئك الكرام قاصدين بها أنهم حرموا من النعيم ولم يروه أبدا، وليس في الآية نهي عن نسبة الموت إليهم بالكلية بحيث إنهم ما ذاقوه أصلا ولا طرفة عين، وإلا لقال تعالى: ولاتقولوا لمن يقتل في سبيل الله ماتوا، فحيث عدل عنه إلى ما ترى علم أنهم امتازوا بعد أن قتلوا بحياة لائقة بهم مانعة عن أن يقال في شأنهم أموات وعدل سبحانه عن - * (قتلوا) * - المعبر عنه في آل عمران (196) إلى * (يقتل) * روما للمبالغة في النهي، وتأكيد الفعل في تلك السورة يقوم مقام هذا العدول هنا كما قرره بعض أحبابنا من الفضلاء المعاصرين، والآية نزلت - كما أخرجه ابن منده عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه - في شهداء بدر وكانوا عدة لياليه ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
* (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات وبشر الص‍ابرين) *
* (ولنبلونكم) * عطف على قوله تعالى: * (استعينوا) * (البقرة: 153) الخ عطف المضمون على المضمون، والجامع أن مضمون الأولى طلب الصبر، ومضمون الثانية بيان مواطنه، والمراد لنعاملنكم معاملة المبتلي والمختبر، ففي الكلام استعارة تمثيلية لأن الابتلاء حقيقة لتحصيل العلم، وهو محال من اللطيف الخبير - والخطاب عام لسائر المؤمنين - وقيل: للصحابة فقط، وقيل: لأهل مكة فقط. * (بشيء من الخوف والجوع) * أي بقليل من ذلك، والقلة بالنسبة لما حفظهم عنه مما لم يقع بهم وأخبرهم سبحانه به قبل وقوعه ليوطنوا عليه نفوسهم فإن مفاجأة المكروه أشد، ويزداد يقينهم عند مشاهدتهم له حسبما أخبر به، وليعلموا أنه شيء يسير له عاقبة محمودة.
* (ونقص من الأموال والأنفس والثمرات) * عطف إما على (شيء) ويؤيده التوافق في التنكير ومجيء البيان بعد (كل) وإما على (الخوف) ويؤيده قرب المعطوف عليه ودخوله تحت (شيء) والمراد من الخوف خوف العدو، ومن الجوع القحط إقامة للمسبب مقام السبب - قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ومن نقص الأموال هلاك المواشي، ومن نقص الأنفس ذهاب الأحبة بالقتل والموت، ومن نقص الثمرات تلفها بالجوائح، ونص عليها مع أنها من الأموال لأنها قد لا تكون مملوكة، وقال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: الخوف خوف الله تعالى والجوع صوم رمضان، والنقص من الأموال الزكوات والصدقات، ومن الأنفس الأمراض، ومن الثمرات موت الأولاد، وإطلاق الثمرة على الولد مجاز مشهور لأن الثمرة كل ما يستفاد ويحصل، كما يقال: ثمرة العلم العمل، وأخرج الترمذي من حديث أبي موسى وحسنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة: أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون: نعم، فيقول الله تعالى: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد واعترض ما قاله الإمام بعد تسلم أن الآية نزلت قبل فرضية الصوم والزكاة بأن خوف الله تعالى لم تزل قلوب المؤمنين مشحونة به قبل
22

نزول الآية، وكذا الأمراض وموت الأولاد موجودان قبل، فلا معنى للوعد بالابتلاء بذلك، وكذا لا معنى للتعبير عن الزكاة - وهي النمو والزيادة - بالنقص، وأجيب
بأن كون قلوب المؤمنين مشحونة بالخوف قبل لا ينافي ابتلاءهم في الاستقبال بخوف آخر، فإن الخوف يتضاعف بنزول الآيات، وكذا الأمراض، وموت الأولاد أمور متجددة يصح الابتلاء بها في الآتي من الأزمان، والتعبير عن الزكاة - بالنقص - لكونها نقصا صورة - وإن كانت زيادة معنى - فعند الابتلاء سماها نقصا، وعند الأمر بالأداء سماها زكاة ليسهل أداؤها.
* (وبشر الص‍ابرين) * خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من تتأتى منه البشارة، والجملة عطف على ما قبلها عطف المضمون على المضمون من غير نظر إلى الخبرية والإنشائية - والجامع ظاهر - كأنه قيل: الابتلاء حاصل لكم - وكذا البشارة - ولكن لمن صبر منكم، وقيل: على محذوف أي أنذر الجازعين وبشر [بم وفي توصيف الصابرين بقوله تعالى:
* (الذين إذآ أص‍ابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنآ إليه راجعون) *
إشارة إلى أن الأجر لمن صبر وقت إصابتها، كما في الخبر " إنما الصبر عند أول صدمة " والمصيبة تعم ما يصيب الإنسان من مكروه في نفس أو مال أو أهل - قليلا كان المكروه أو كثيرا - حتى لدغ الشوكة، ولسع البعوضة، وانقطاع الشسع، وانطفاء المصباح، وقد استرجع النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك وقال: " كل ما يؤذي المؤمن فهو مصيبة له وأجر " وليس الصبر بالاسترجاع باللسان، بل الصبر باللسان وبالقلب بأن يخطر بباله ما خلق لأجله من معرفة الله تعالى وتكميل نفسه، وأنه راجع إلى ربه وعائد إليه بالبقاء السرمدي، ومرتحل عن هذه الدنيا الفانية وتارك لها على علاتها، ويتذكر نعم الله تعالى عليه ليرى ما أعطاه أضعاف ما أخذ منه فيهون على نفسه ويستسلم له، والصبر من خواص الإنسان لأنه يتعارض فيه العقل والشهوة، والاسترجاع من خواص هذه الأمة، فقد أخرج الطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أعطيت أمتي شيئا لم يعطه أحد من الأمم، أن تقول عند المصيبة إنا لله وإنا إليه راجعون " وفي رواية: أعطيت هذه الأمة عند المصيبة شيئا لم تعطه الأنبياء قبلهم، إنا لله وإنا إليه راجعون ولو أعطيها الأنبياء قبلهم لأعطيها يعقوب إذ يقول: * (يا أسفى على يوسف) * (يوسف: 84) ويسن أن يقول بعد الاسترجاع: اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها، فقد أخرج مسلم عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني الخ، إلا آجره الله تعالى في مصيبته وأخلف له خيرا منها " قالت فلما توفي أبو مسلم قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخلف الله تعالى لي خيرا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومفعول * (بشر) * محذوف أي برحمة عظيمة وإحسان جزيل [بم بدليل قوله تعالى:
* (أول‍ائك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأول‍ائك هم المهتدون) *
* (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة) * الصلاة في الأصل على ما عليه أكثر أهل اللغة الدعاء ومن الله تعالى الرحمة، وقيل: الثناء، وقيل: التعظيم، وقيل: المغفرة، وقال: الإمام الغزالي: الاعتناء بالشأن، ومعناها الذي يناسب أن يراد هنا سواء كان حقيقيا أو مجازيا الثناء والمغفرة لأن إرادة الرحمة يستلزم التكرار، ويخالف ما روي " نعم العدلان للصابرين الصلاة والرحمة " وحملها على التعظيم والاعتناء بالشأن يأباهما صيغة الجمع ثم إن جوزنا إرادة المعنيين بتجويز عموم المشترك أو الجمع بين الحقيقة والمجاز أو بين المعنيين المجازيين يمكن إرادة المعنيين المذكورين كليهما وإلا فالمراد أحدهما
23

والرحمة تقدم معناها وأتى بعلى إشارة إلى أنهم منغمسون في ذلك وقد غشيهم وتجللهم فهو أبلغ من اللام، وجمع (صلوات) للإشارة إلى أنها مشتملة على أنواع كثيرة على حسب اختلاف الصفات التي بها الثناء والمعاصي التي تتعلق بها المغفرة، وقيل: للإيذان بأن المراد صلاة بعد صلاة على حد التثنية في " لبيك وسعديك " وفيه أن مجيء الجمع لمجرد التكرار لم يوجد له نظير، والتنوين فيها وكذا فيما عطف عليها للتفخيم والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لإظهار مزيد العناية بهم، - ومن - ابتدائية، وقيل: تبعيضية، وثم مضاف محذوف أي: من (صلوات) ربهم، وأتى بالجملة اسمية للإشارة إلى أن نزول ذلك عليهم في الدنيا والآخرة. فقد أخرج ابن أبي حاتم، والطبراني، والبيهقي في " شعب الإيمان " عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه مرفوعا: " من استرجع عند المصيبة جبر الله تعالى مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل له خلفا صالحا يرضاه ".
* (وأول‍ائك) * إشارة كسابقه إلى الصابرين المنعوتين بما ذكر من النعوت، والتكرير لإظهار كمال العناية بهم، ويجوز أن يكون إشارة إليهم باعتبار حيازتهم ما ذكر من - الصلوات والرحمة - المترتبة على ما تقدم، فعلى الأول المراد بالاعتداء في قوله عز شأنه * (هم المهتدون) * هو الاهتداء للحق والصواب مطلقا، والجملة مقررة لما قبل كأنه قيل: وأولئك هم المختصون بالاهتداء لكل حق وصواب، ولذلك استرجعوا واستسلموا لقضاء الله تعالى، وعلى الثاني هو الاهتداء والفوز بالمطالب، والمعنى: أولئك هم الفائزون بمطالبهم الدينية والدنيوية فإن من مال كما تزكية الله تعالى ورحمته لم يفته مطلب.
ومن باب الإشارة والتأويل: * (يا أيها الذين آمنوا) * الإيمان العياني * (استعينوا بالصبر) * معي عند سطوات تجليات عظمتي وكبريائي، * (والصلاة) * أي الشهود الحقيقي * (إن الله مع الصابرين) * (البقرة: 153) المطيقين لتجليات أنواري * (ولا تقولوا لمن) * يجعل فانيا مقتولا في سلوك سبيل التوحيد * (أموات) * أي عجزة مساكين بل هم أحياء عند ربهم بالحياة الحقيقية الدائمة السرمدية شهداء لله تعالى قادرون به * (ولكن لا تشعرون) * (البقرة: 154) لعمى بصيرتكم وحرمانكم من النور الذي تبصر به القلوب أعيان عالم القدس وحقائق الأرواح * (ولنبلونكم بشيء من الخوف) * أي خوفي الموجب لانكسار النفس وانهزامها * (والجوع) * الموجب لهتك البدن وضعف القوى ورفع حجاب الهوى وتضييق مجاري الشيطان إلى القلب * (ونقص من الأموال) * التي هي مواد الشهوات المقوية للنفس الزائدة في طغيانها * (والأنفس) * المستولية على القلب بصفاتها أو أنفس الأحباب الذين تأوون إليهم لتنقطعوا إلى * (والثمرات) * أي الملاذ النفسانية لتلتذوا
بالمكاشفات والمعارف القلبية والمشاهدات الروحية عند صفاء بواطنكم وخلوص نضار قلوبكم بنار الرياضة * (وبشر الصابرين) * (البقرة: 551) معي بي أو عن مألوفاتهم بلذة محبتي * (الذين إذا أصباتهم مصيبة) * من تصرفاتي فيهم شاهدوا آثار قدرتي بل أنوار تجليات صفتي واستسلموا وأيقنوا أنهم ملكي أتصرف فيه بتجلياتي وتفانوا في وشاهدوا هلكهم بي - فقالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات - من ربهم بالوجود الموهوب لهم بعد الفناء المنهلة عليه صفاتي الساطعة عليه أنواري * (ورحمة) * أي هداية يهدون بها خلقي، ومن أراد التوجه نحوي * (وأولئك هم المهتدون) * بي الواصلون إلى بعد تخلصهم من وجودهم الذي هو الذنب الأعظم عندي.
* (إن الصفا والمروة من شعآئر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم) *
* (إن الصفا والمروة من شعآئر الله) * لما أشار سبحانه فيما تقدم إلى الجهاد عقب ذلك ببيان معالم الحج فكأنه جمع بين الحج والغزو، وفيهما شق الأنفس وتلف الأموال، وقيل: لما ذكر الصبر عقبه ببحث الحج
24

لما فيه من الأمور المحتاجة إليه، والصفا في الأصل الحجر الأملس مأخوذ من صفا يصفو إذا خلص، واحده صفاة - كحصى وحصاة، ونوى ونواة - وقيل: إن الصفا واحد قال المبرد وهو كل حجر لا يخالطه غيره من طين أو تراب، وأصله من الواو لأنك تقول في تثنيته صفوان ولا يجوز إمالته، والمروة في الأصل الحجر الأبيض اللين - والمرو - لغة فيه، وقيل: هو جمع مثل تمرة وتمر، ثم صارا في العرف علمين لموضعين معروفين بمكة للغلبة، واللام لازمة فيهما، وقيل: سمي الصفا لأنه جلس عليه آدم صفي الله تعالى، وسمي - المروة - لأنه جلست عليه امرأته حواء، و - الشعائر - جمع شعيرة، أو شعارة - وهي العلامة - والمراد بهما أعلام المتعبدات أو العبادات الحجية، وقيل: المعنى إن الطواف بين هذين الجبلين من علامات دين الله تعالى، أو أنهما من المواضع التي يقام فيها دينه، أو من علاماته التي تعبد بالسعي بينهما لا من علامات الجاهلية.
* (فمن حج البيت أو اعتمر) * الحج لغة القصد مطلقا أو إلى معظم، وقيده بعضهم بكونه على وجه التكرار، و - العمرة - الزيارة أخذا من العمارة كأن الزائر يعمر المكان بزيارته فغلبا شرعا على المقصد المتعلق بالبيت وزيارته على الوجهين المخصوصين، والبيت خارج من المفهوم، والنسبة مأخوذة فيه فلا بد من ذكره فلا يرد أن البيت مأخوذ في مفهومهما فيكفي من حج أو اعتمر ولا حاجة إلى أن يتكلف بأنه مأخوذ في مفهوم الاسمين خارج عن مفهوم الفعلين، وعلى تقدير أخذه في مفهومهما يعتبر التجريد ليظهر شرف البيت.
* (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) * أي لا إثم عليه في أن يطوف. وأصل الجناح الميل، ومنه * (وإن جنحوا للسلم) * (الأتفال: 61) وسمي الاسم به لأنه ميل من الحق إلى الباطل، وأصل يطوف يتطوف فأدغمت التاء في الطاء، وسبب النزول ما صح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه كان على الصفا صنم على صورة رجل يقال له أساف، وعلى المروة صنم على صورة امرأة تدعى نائلة زعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة فمسخهما الله تعالى حجرين فوضعا على الصفا والمروة ليعتبر بهما فلما طالت المدة عبدا من دون الله تعالى فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بينهما مسحوا الوثنين فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين فأنزل الله تعالى هذه الآية، ومنه يعلم دفع ما يتراءى أنه لا يتصور فائدة في نفي الجناح بعد إثبات أنهما من الشعائر بل ربما لا يتلازمان إذ أدنى مراتب الأول الندب وغاية الثاني الإباحة، وقد وقع الإجماع على مشروعية الطواف بينهما في الحج والعمرة لدلالة نفي الجناح عليه قطعا لكنهم اختلفوا في الوجوب، فروي عن أحمد أنه سنة - وبه قال أنس وابن عباس وابن الزبير - لأن نفي الجناح يدل على الجواز، والمتبادر منه عدم اللزوم كما في قوله تعالى: * (فلا جناج عليهما أن يتراجعا) * (البقرة: 230) وليس مباحا بالاتفاق ولقوله تعالى: * (من شعائر الله) * فيكون مندوبا، وضعف بأن نفي الجناح وإن دل على الجواز المتبادر منه - عدم اللزوم إلا أنه يجامع الوجوب فلا يدفعه ولا ينفيه - والمقصود ذلك - فلعل ههنا دليلا يدل على الوجوب كما في قوله تعالى: * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) * (النساء: 101) ولعل هذا كقولك لمن عليه صلاة الظهر مثلا وظهر أنه لا يجوز فعلها عند الغروب فسأل عن ذلك: لا جناح عليك إن صليتها في هذا الوقت فإنه جواب صحيح ولا يقتضي نفي وجوب صلاة الظهر، وعن الشافعي ومالك أنه ركن - وهو رواية عن الإمام أحمد - واحتجوا بما أخرج الطبراني عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إن الله تعالى كتب عليكم السعي فاسعوا " ومذهب إمامنا أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه واجب يجبر بالدم لأن الآية لا تدل إلا على نفي الإثم المستلزم للجواز، والركنية لا تثبت إلا بدليل مقطوع به ولم يوجد، والحديث إنما يفيد
25

حصول الحكم معلللا ومقررا في الذهن، ولا يدل على بلوغه غاية الوجوب بحيث يفوت الجواز بفوته لتتحقق الركنية وهو ظني السند وإن فرض قطعي الدلالة فلا يدل على الفرضية، وما روى مسلم عن عائشة أنها قالت - لعمري ما أتم الله تعالى حج من لم يسع بين الصفا والمروة ولا عمرته - ليس فيه دليل على الفرضية أيضا سلمنا لكنه مذهب لها، والمسألة اجتهادية فلا تلزم به على أنه معارض بما أخرجه الشعبي عن عروة بن مضرس الطائي أنه قال: " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة فقلت: يا رسول الله جئت من جبل طي ما تركت جبلا إلا وقفت عليه فهل لي من حج؟ فقال: من صلى معنا هذه الصلاة ووقف معنا هذا الموقف، وقد أدرك عرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه " فأخبر صلى الله عليه وسلم بتمام حجه، وليس فيه السعي بينهما، ولو كان من فروضه لبينه للسائل لعلمه بجهله، وقرأ ابن مسعود وأبي - (أن لا يطوف) - ولا تصلح أن تكون ناصرة للقول الأول لأنها شاذة لا عمل بها مع ما يعارضها ولاحتمال أن (لا) زائدة كما يقتضيه السياق.
* (ومن تطوع خيرا) * أي من انقاد انقيادا - خيرا، أو بخير، أو آتيا بخير - فرضا كان أو نفلا، وهو عطف على * (فمن حج) * الخ مؤكد أمر الحج والعمرة والطواف تأكيد الحكم الكلي للجزئي، أو من تبرع تبرعا - خيرا - أو بخير أو آتيا بخير من حج أو عمرة أو طواف لقرينة المساق، وعليه تكون الجملة مسوقة لإفادة
شرعية التنفل بالأمور الثلاثة، وفائدة * (خيرا) * على الوجهين مع أن التطوع لا يكون إلا كذلك التنصيص بعموم الحكم بأن من فعل خيرا أي خير كان يثاب عليه، أو من تبرع تبرعا خيرا أو بخير أو آتيا بخير من السعي فقط بناءا على أنه سنة، والجملة حينئذ تكميل لدفع ما يتوهم من نفي الجناح من الإباحة، وفائدة القيد التنصيص بخيرية الطواف دفعا لحرج المسلمين. وقرأ ابن مسعود (ومن تطوع بخير) وحمزة، والكسائي، ويعقوب (يطوع) على صيغة المضارع المجزوم لتضمن * (من) * معنى الشرط وأصله - يتطوع - فأدغم.
* (فان الله شاكر) * أي مجاز على الطاعة بالثواب وفي التعبير به مبالغة في الإحسان إلى العباد * (عليم) * مبالغ في العلم بالأشياء فيعلم مقادير أعمالهم وكيفياتها فلا ينقص من أجورهم شيئا، وبهذا ظهر وجه تأخير هذه الصفة عما قبلها، ومن قال: أتى بالصفتين ههنا - لأن التطوع بالخير يتضمن الفعل والقصد فناسب ذكر الشكر باعتبار الفعل وذكر العلم باعتبار القصد وأخر صفة العلم وإن كانت متقدمة على الشكر كما أن النية متقدمة على الفعل لتواخي رءوس الآي - لم يأت بشيء. وهذه الجملة علة لجواب الشرط المحذوف قائم مقامه كأنه قيل: - ومن تطوع خيرا جازاه الله تعالى أو أثابه فإن الله شاكر عليم.
* (إن الذين يكتمون مآ أنزلنا من البين‍ات والهدى من بعد ما بين‍اه للناس في الكتاب أول‍ائك يلعنهم الله ويلعنهم الل‍اعنون) *
* (إن الذين يكتمون) * أخرج جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: سأل معاذ بن جبل، وسعد بن معاذ، وخارجة بن زيد نفرا من أحبار يهود عن بعض ما في التوراة فكتموهم إياه وأبوا أن يخبروهم فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية، وعن قتادة أنها نزلت في الكاتمين من اليهود والنصارى، وقيل نزلت في كل من كتم شيئا من أحكام الدين لعموم الحكم للكل فقد روى البخاري، وابن ماجه، وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: لولا آية في كتاب الله تعالى ماحدثت آحدا بشيء أبدا ثم تلا هذه الآية، وأخرج أبو يعلى، والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سئل عن علم فكتمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار " والأقرب أنها نزلت في اليهود والحكم عام كما تدل عليه الأخبار وكونها نزلت في اليهود لا يقتضي الخصوص فإن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، فالموصول
26

للاستغراق ويدخل فيه من ذكر دخولا أوليا، والكتم والكتمان ترك إظهار الشيء قصدا مع مساس الحاجة إليه وتحقق الداعي إلى إظهاره وذلك قد يكون بمجرد ستره وإخفائه وقد يكون بإزالته ووضع شيء آخر موضعه واليهود قاتلهم الله تعالى ارتكبوا كلا الأمرين * (ما أنزلنا) * على الأنبياء * (من البين‍ات) * أي الآيات الواضحة الدالة على الحق ومن ذلك ما أنزلناه على موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام في أمر محمد صلى الله عليه وسلم.
* (والهدى) * عطف على * (البينات) * والمراد به - ما يهدى - إلى الرشد مطلقا ومنه - ما يهدى - إلى وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم والإيمان به وهي الآيات الشاهدة على صدقه عليه الصلاة والسلام، والعطف باعتبار التغاير في المفهوم كجاءني فالأكل فالشارب، وقيل: إنه عطف على * (ما أنزلنا) * الخ، والمراد بالأول الأدلة النقلية، وبالثاني ما يدخل فيه الأدلة العقلية، أو المراد بالأول: التنزيل، وبالثاني: ما يقتضيه من الفوائد، ولا يخفى أنه تكلف يأبى عنه قرب المعطوف عليه والتبيين الدال على كمال الوضوح في قوله سبحانه: * (من بعد ما بين‍اه للناس) * أي شرحناه وأظهرناه لهم والظرف متعلق - بيكتمون - واللام في - الناس - صلة - بينا - أو لام الأجل، والمراد بهم الجنس أو الاستغراق، وفي تقييد الكتمان بالظرف إشارة إلى شناعة حالهم بأنهم يكتمون ما وضح - للناس - وإلى عظم الإثم بأنهم يكتمون ما فيه النفع العام.
* (في الكتاب) * متعلق - ببيناه - وتعلق جارين بفعل واحد عند اختلاف المعنى مما لا ريب في جوازه، أو متعلق بمحذوف وقع حالا من مفهوله، والمراد به الجنس، وقيل: التوراة، وقيل: هي والإنجيل، وقيل: القرآن، والمراد من الناس أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن الناس من حمل - البينات - على ما في القرآن وعلق * (من بعد) * ب * (أنزلنا) *، وفسر (الكتاب) بالتوراة - والكتمان - بعدم الاعتراف بالحقية، ولعل ما ذهبنا إليه أولى من جميع ذلك
* (أول‍اك يلعنهم الله) * أي يبعدهم عن رحمته ويذيقهم أليم نقمته والالتفات إلى الغيبة بإظهار اسم الذات لتربية المهابة والإشعار بأن مبدأ صدور اللعن صفة الجلال المغايرة لما هو مبدأ الإنزال والتبيين من صفة الجمال، ولم يؤت بالفاء في هذه الجملة التي هي خبر الموصول كما أتى به فيما بعد من قوله سبحانه: * (فأولئك أتوب عليهم) * (البقرة: 160) مع أن الموصول متضمن لمعنى الشرط وقصد السببية في الموضعين ولذا أورد اسم الإشارة الذي تعليق الحكم به كتعليقه بالمشتق، قيل: لئلا يتوهم أن - لعنهم - إنما هو بهذا السبب بناءا على أن - فاء - السببية في الأصل لكونه - فاء - التعقيب يفيد أن حصول المسبب بعد السبب بلا تراخ، وقد يقصد منه ذلك بمعونة المقام كما في الآية بعد، وليس كذلك بل له أسباب جمة وبهذا علم أن اسم الإشارة لا يغني عن الفاء لأنه يشعر بالسببية ولا يشعر بالتعقيب الموهم للانحصار بناءا على امتناع التوارد.
* (ويلعنهم اللاعنون) * أي من يتأتى منه اللعن عليهم من الملائكة والثقلين، فالمراد - باللاعنون - معناه الحقيقي وليس على حد من - قتل قتيلا - في المشهور؛ والاستغراق عرفي أي كل فرد مما يتناوله اللفظ بحسب متفاهم العرف، وليس بحقيقي حتى يرد أنه لا يلعنهم كل لاعن في الدنيا، ويحتاج إلى التخصيص وإنما أعاد الفعل لأن لعنة اللاعنين بمعنى الدعاء عليهم بالإبعاد عن رحمة الله تعالى، وروى البيهقي في " شعب الإيمان " عن مجاهد تفسير اللاعنين بدواب الأرض حتى العقارب والخنافس، ولعل الجمع حينئذ على حد قوله تعالى: * (والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) * (يوسف: 4) واستدل بهذه الآية على وجوب إظهار علم الشريعة وحرم كتمانه لكن اشترطوا لذلك أن لا يخشى العالم على نفسه وأن يكون متعينا وإلا لم يحرم عليه الكتم إلا إن سئل فيتعين عليه الجواب ما لم يكن إثمه أكبر
27

من نفعه قالوا: وفيها دليل أيضا على وجوب قبول خبر الواحد لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب قبول قوله، ويستدل بها على عدم وجوب ذلك على النساء بناءا
على أنهن لا يدخلن في خطاب الرجال.
* (إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأول‍ائك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم) *
* (إلا الذين تابوا) * أي رجعوا عن الكتمان أو عنه وعن سائر ما يجب أن يتاب عنه بناءا على أن حذف المعمول يفيد العموم، وفيه إشارة إلى أن التوبة عن الكتمان فقط لا يوجب صرف اللعن عنهم ما لم يتوبوا عن الجميع فإن للعنهم أسبابا جمة * (وأصلحوا) * ما أفسدوا بالتدارك فيما يتعلق بحقوق الحق والخلق ومن ذلك أن يصلحوا قومهم بالإرشاد إلى الإسلام بعد الإضلال وأن يزيلوا الكلام المحرف ويكتبوا مكانه ما كانوا أزالوه عند التحريف * (وبينوا) * أي أظهروا ما بينه الله تعالى للناس معاينة وبهذين الأمرين تتم التوبة، وقيل: أظهروا ما أحدثوه من التوبة ليمحوا سمة الكفر عن أنفسهم ويقتدى بهم أضرابهم فإن إظهار التوبة ممن يقتدي به شرط فيها على ما يشير إليه بعض الآثار، وفيه أن الصحيح إظهار التوبة إنما هو لدفع معصية المتابعة وليس شرطا في التوبة عن أصل المعصية فهو داخل في قوله تعالى: (وأصلحوا) * (فأولئك أتوب عليهم) * بالقبول وإفاضة المغفرة والرحمة * (واينا التواب الرحيم) * عطف على ما قبله تذييل له والالتفات إلى التكلم للافتنان مع ما فيه من الرمز إلى اختلاف مبدأ فعليه السابق واللاحق.
* (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أول‍ائك عليهم لعنة الله والمل‍ائكة والناس أجمعين) *
* (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار) * الموصول للعهد كما هو الأصل، والمراد به الذين كتموا وعبر عن الكتمان بالكفر نعيا عليهم به، والجملة عديلة لما فيها (إلا) ولم تعطف عليها إشارة إلى كمال التباين بين الفريقين، والآية مشتملة على الجمع والتفريق جمع الكاتمين في حكم واحد وهو أنهم ملعونون ثم فرق فقال: أما الذين تابوا فقد تاب الله تعالى عليهم وأزال عنهم عقوبة اللعنة، وأما الذين ماتوا على الكتمان ولم يتوبوا عنه فقد استقرت عليهم اللعنة ولم تزل عنهم. وأورد كلمة الاستثناء في الجملة الأولى مع أنه ليس للإخراج عن الحكم السابق بل هو بمعنى لكن للدلالة على أن التوبة صارت مكفرة للعن عنهم فكأنهم لم يباشروا ولم يدخلوا تحته - قاله بعض المحققين - وفيه ارتكاب خلاف الظاهر في الاستثناء، ولهذا قال البعض إن المراد بالجملة المستثنى منها بيان دوام اللعن واستمراره وعليه يدور الاستثناء المتصل، وجملة * (إن الذين كفروا) * الخ مستأنفة سيقت لتحقيق بقاء اللعن فيما وراء الاستثناء وتأكيد دوامه واستمراره على غير التائبين والاقتصار على ذكر الكفر في الصلة من غير تعرض لعدم التوبة والإصلاح والتبيين مبني على أن وجود الكفر مستلزم لعدمها جميعها كما أن وجودها مستلزم للإيمان الموجب لعدم الكفر، ولذا لم يصرح بالإيمان في صفات التائبين، والفرق بين الدوامين أن الأول: تجددي، والثاني: ثبوتي - ولا يخفى أن هذا أوفق بظاهر اللفظ - وما ذكره بعض المحققين أجزل معنى وأعلى كعبا وأدق نظرا، وقيل: الموصول عام للذين كتموا وغيرهم كما يقتضيه ظاهر الصلة، والآية من باب التذييل فيدخل الكاتمون الذين ماتوا على الكتمان دخولا أوليا؛ واعترض بأن تقييد الوعيد بعدم التخفيف أعدل شاهد على أن الآية في شأن الكاتمين الذين ماتوا على ذلك لأنهم أشد الكفرة وأخبثهم فإن الوعيد في حق الكفرة مطلق الخلود في النار، وأنت تعلم أن هذا في حيز المنع بل ما من كافر جهنمي إلا وحاله يوم القيامة طبق ما ذكر في الآية ولا أظنك في مرية من ذلك بعد سماع قوله تعالى: * (إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون * لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون) * (الزخرف: 74، 75) فلا يبعد القول بحسن هذا القيل - وإليه ذهب الإمام - وكلام الطيبي يشير إلى حسنه وطيبه فتدبر.
28

* (أول‍ائك عليهم لعنة الله والمل‍ائكة والناس أجمعين) * المراد استمرار ذلك وداومه فهذا الحكم غير ما سبق إذ المراد منه حدوث اللعنة ووقوعها عليهم وليس المقصود من ذكر - الملائكة والناس - التخصيص لينافي العموم السابق ولا العموم ليرد خروج المهيمين الذي لا شعور لهم بذواتهم وكثير من الأتقياء الذين لا يلعنون أحدا بل المقصود أنه يلعنهم هؤلاء المعتدون من خلقه و (أجمعين) تأكيد بالنسبة إلى الكل لا للناس فقط، والمراد بهم المؤمنون لأنهم المعتدون منهم، والكفار كالأنعام لأنه لا يحسم مادة الإشكال، وقيل: إنه باقي على عمومه والكفار يلعن بعضهم بعضا يوم القيامة، أو الجملة مساقة للاخبار باستحقاق أولئك اللعن من العموم لا بوقوعه بالفعل ولم يكرر اللعنة هنا كما كرر الفعل قبل اكتفاءا به وافتنانا في النظم الكريم ومناسبة لما يشعر به التأكيد. وقرأ الحسن (والملائكة والناس أجمعون) بالرفع، وخرج على وجوه، فقيل: عطف على * (لعنة) * بتقدير لعنة الله ولعن الملائكة فحذف المضاف من الثاني وأقيم المضاف إليه مقامه، وقيل: مبتدأ محذوف الخبر أي - والملائكة والناس يلعنونهم - أو فاعل لفعل محذوف أي يلعنهم، وقيل إن * (لعنة) * مصدر مضاف إلى فاعله والمرفوع معطوف على محله، وقد أتبعت العرب فاعل المصدر على محله رفعا كقوله: مشى الهلوك عليها الخيعل (الفضل)
برفع الفضل وهو صفة للهلوك على الموضع، وإذا ثبت في النعت جاز في العطف إذ لا فارق بينهما، وادعى أبوحيان عدم الجواز لأن شرط العطف على الموضع أن يكون ثمت طالب ومحرز للموضع لا يتغير، وأيضا * (لعنة) * وإن سلم مصدريته فهو إنما يعمل إذا انحل - لأن، والفعل - وهنا المقصود الثبوت فلا يصح انحلاله لهما وسلمه له غيره، وقالوا: إنه مذهب سيبويه.
* (خ‍الدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون) *
* (خ‍الدين فيهآ) * أي في اللعنة، وهو يؤكد ما تفيده اسمية الجملة من الثبات، وجوز رجوع الضمير إلى النار والاضمار قبل الذكر يدل على حضورها في الذهن المشعر بالاعتناء المفضي إلى التفخيم والتهويل، وقيل: إن اللعن يدل عليها استقرار الطرد عن الرحمة يستلزم الخلود في النار خارجا وذهنا، والموت على الكفر وإن استلزم ذلك خارجا لكنه لا يستلزمه ذهنا فلا يدل عليه، و * (خالدين) * على كلا التقديرين في المرجع حال مقارن لاستقرار اللعنة لا كما قيل: إنه على الثاني حال مقدرة. * (لا يخفف عنهم العذاب) * إما مستأنف لبيان كثرة عذابهم من حيث الكيف إثر بيان كثرته من حيث الكم، وإما حال من ضمير عليهم أيضا أو من ضمير * (
خالدين) *.
* (ولا هم ينظرون) * عطف على ما قبله جار فيه ما جرى فيه، وإيثار الجملة الاسمية لإفادة دوام النفي واستمراره، والفعل إما من الإنظار بمعنى التأخير - أي لا يمهلون - عن العذاب ولا يؤخرون عنه ساعة. وإما من النظر بمعنى الانتظار أي - لا ينتظرون - ليعتذروا، وإما من النظر بمعنى الرؤية أي - لا ينظر الله تعالى إليهم نظر رحمة - والنظر بهذا المعنى يتعدى بنفسه أيضا كما في " الأساس " فيصاغ منه المجهول.
* (وإل‍اهكم إل‍اه واحد لا إل‍اه إلا هو الرحم‍ان الرحيم) *
* (وإلاهكم إل‍اه واحد) * نزلت كما روي عن ابن عباس لما قال كفار قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: صف لنا ربك، والخطاب عام لكل من يصح أن يخاطب كما هو الظاهر غير مختص بشأن النزول، والجملة معطوفة على * (إن الذين يكتمون) * (البقرة: 159) عطف القصة على القصة، والجامع أن الأولى مسوقة لإثبات نبوته صلى الله عليه وسلم، وهذه لإثبات وحدانيته تعالى، وقيل: الخطاب للكاتمين، وفيه انتقال عن زجرهم عما يعاملون رسولهم إلى زجرهم عن معاملتهم ربهم حيث يكتمون وحدانيته، ويقولون: - عزير، وعيسى - ابنان لله عز وجل، وفيه أنه وإن حسن الانتظام إلا أنه فيه خروج شأن النزول عن الآية - وهو باطل - وإضافة - إله - إلى ضمير المخاطبين باعتبار الاستحقاق لا باعتبار الوقوع فإن الآلهة الغير المستحقة كثيرة، وإعادة
29

لفظ - إله - وتوصيفه بالوحدة لإفادة أن المعتبر الوحدة في الألوهية، واستحقاق العبادة، ولولا ذلك لكفى - وإلهكم واحد - فهو بمنزلة وصفهم الرجل - بأنه سيد واحد، وعالم واحد - وقال أبو البقاء: - إله - خبر المبتدأ، و (واحد) صفة له، والغرض هنا هو الصفة إذ لو قال: - وإلهكم واحد - لكان هو المقصود إلا أن في ذكره زيادة تأكيد، وهذا يشبه الحال الموطئة كقولك: مررت بزيد رجلا صالحا، وكقولك في الخبر: زيد شخص صالح، ولعل الأول ألطف، وأكثر الناس على أن الواحد هنا بمعنى لا نظير له ولا شبيه في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وقيل إن المراد به ما ليس بذي أبعاض ولا يجوز عليه الانقسام ولا يحتمل التجزئة أصلا، وليس المعنى به هنا مبدأ العدد، وأصح الأقوال عند ذوي العقول السليمة أنه الذي لا نظير له ولا شبيه له في استحقاق العبادة وهو مستلزم لكل كمال آب عما فيه أدنى وصمة وإخلام.
* (لا إله إلا هو) * خبر ثان للمبتدأ أو صفة أخرى للخبر أو جملة معترضة لا محل لها من الإعراب، وعلى أي تقدير هو مقرر للوحدانية ومزيح - على ما قيل - لما عسى أن يتوهم أن في الوجود إلها لكن لا يستحق العبادة، والضمير المرفوع على الصحيح بدل من الضمير المستكن في الخبر المحذوف فهو بدل مرفوع من ضمير مرفوع، وقد اختلف في المنفي هل المعبود بحق أو المعبود بباطل؟ فقال محمد الشيشيني: النفي إنما تسلط على الآلهة المعبودة بباطل تنزيلا لها منزلة العدم، وقال عبد الله الهبطي: إنما تسلط على الآلهة المعبدة بحق ولكل انتصر بعض، وذكر الملوي أن الحق مع الثاني لأن المعبود بباطل له وجود في الخارج، ووجود في ذهب المؤمن بوصف كونه باطلا، ووجود في ذهن الكافر بوصف كونه حقا فهو من حيث وجوده في الخارج في نفسه لا تنفي لأن الذات لا تنفي، وكذا من حيث كونه معبودا بباطل لا ينفي أيضا إذ كونه معبودا بباطل أمر حق لا يصح نفيه وإلا كان كذبا، وإنما ينفي من حيث وجوده في ذهن الكافر من حيث وجوده في ذهنه بوصفه كونه معبودا بحق، فالمعبودات الباطلة لم تنف إلا من حيث كونها معبودة بحق فلم ينف في هذه الكلمة إلا المعبود بحق غيره تعالى فافهم، وسيأتي تحقيق ما في هذه الكلمة الطيبة في محله إن شاء الله تعالى.
* (الرحم‍ان الرحيم) *. خبران آخران بعد خبر أو خبرين لقوله تعالى: * (إلهكم) * أو لمبتدأ محذوف والجملة معترضة، أو بدلان على رأي وجىء بهما لتمييز الذات الموصوفة بالوحدة عما سواه وليكون الجواب موافقا لموا سألوه وفي ذلك إشارة إلى حجة الوحدانية لأنه لما كان مولى النعم كلها أصولا وفروعا دنيا وأخرى، وما سواه إما خير محض أو خير غالب، وهو إما نعمة أو منعم عليه لم يستحق العبادة أحد غيره لاستواء الكل في الاحتياج إليه تعالى في الوجود وما يتبعه من الكمالات.
* (إن في خلق السم‍اوات والارض واختل‍افالليل والنهار والفلك التى تجرى فى البحر بما ينفع الناس ومآ أنزل الله من السمآء من مآء فأحيا به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دآبة وتصريف الري‍اح والسحاب المسخر بين السمآء والأرض لآي‍ات لقوم يعقلون) *
* (إن في خلق السم‍اوات والأرض) * أخرج البيهقي عن أبي الضحى - معضلا - أنه كان للمشركين حول الكعبة ثلثمائة وستون صنما، فلما سمعوا هذه الآية تعجبوا وقالوا: إن كنت صادقا فأت بآية نعرف بها صدقك فنزلت. ولفرط جهلهم لم يكفهم الحجة الإجمالية المشير إليها الوصفان، وإنما جمع السموات وأفرد الأرض للانتفاع بجميع أجزاء الأولى باعتبار ما فيها من نور كواكبها وغيره دون الثانية فإنه إنما ينتفع بواحدة من آحادها - وهي ما نشاهده منها - وقال أبو حيان: لم تجمع الأرض لأن جمعها ثقيل وهو مخالف للقياس، ورب مفرد لم يقع في القرآن جمعه لثقله وخفة المفرد، وجمع لم يقع مفرده - كالألباب - وفي " المثل السائر " نحوه، وقال بعض المحققين: جمع السموات لأنها طبقات ممتازة كل واحدة من الأخرى بذاتها الشخصية كما يدل عليه قوله تعالى: * (فسواهن سبع سموات) * (البقرة: 29) سواء كانت متماسة - كما هو رأي الحكيم - أو لا كما جاء
30

في الآثار - أن بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام - مختلفة الحقيقة لما أن الاختلاف في الآثار المشار إليه بقوله تعالى: * (وأوحى في كل سماء أمرها) * (فصلت: 12) يدل عليه، ولم يجمع الأرض لأن طبقاتها ليست متصفة بجميع ذلك فإنها، سواء كانت متفاصلة بذواتها، كما ورد في الأحاديث - من أن بين كل أرضين كما بين كل سماءين - أو لا تكون متفاصلة - كما هو رأي الحكيم - غير مختلفة في الحقيقة اتفاقا.
* (واختلافالليل والنهار) * أي تعاقبهما وكون كل منهما خلفا للآخر، أو اختلاف كل منهما في أنفسهما ازديادا وانتقاصا، أو ظلمة ونورا، وقدم الليل لسبقه في الخلق
أو لشرفه.
* (والفلك التي تجرى في البحر) * عطف على * (خلق السموات) * لا على * (السموات) * أو عطف على * (الليل والنهار) * والفلك من الألفاظ التي استعملت مفردا وجمعا، وقدر بينهما تغاير اعتباري، فإن اعتبر أن ضمته أصلية كضمة - قفل - فمفرد، وإن اعتبر أنها عارضة كضمة - أسد - فجمع، ومن الأول: قوله تعالى: * (في الفلك المشحون) * (يس: 41) ومن الثاني: قوله تعالى: * (إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) * (يونس: 22) وقيل: إنه جمع فلك - بفتح الفاء وسكون اللام - وقيل: إنه اسم جمع، زعم بعضهم أنه قرىء * (فلك) * بضمتين وهو عند بعض مفرد لا غير. وقال الكواشي: الفلك والفلك - بضمتين - لغتان الواحد والجمع سواء في اللفظ، ويعرف ذلك بجمع ضمير فعلهما وإفراده.
* (بما ينفع الناس) * (ما) إما مصدرية أي - بنفعهم - أو موصولة أي - بالذي ينفعهم - وعلى الأول: ضمير الفاعل إما - للفلك - لأنه مذكر اللفظ مؤنث المعنى - كما قيل - أو - للجري - أو - للبحر - واحتمال كونها موصوفة لا يلائمه مقام الاستدلال * (وما أنزل الله من السمآء من مآء) * عطف على * (الفلك) * وقيل: وتأخيره عن ذكرها مع كونه أعم منها نفعا لما فيه من مزيد تفضيل، وقيل: المقصود من الأول الاستدلال بالبحر وأحواله لا بالفلك الجاري فيه لأن الاستدلال بذلك إما بصنعته على وجه يجري في الماء، أو العلم بكيفية إجرائه، أو - بتسخير الريح والبحر - لذلك، أو توسله إلى ما ينفع الناس وشيء منها ليس من حاله في نفسه، ولأن الاستدلال - بالفلك الجاري في البحر - استدلال بحال من أحوال البحر بخلاف ما لو استدل بالبحر وجميع أحواله فإنه أعم وأليق بالمقام، إلا أنه خص الفلك بالذكر مع أن مقتضى المقام حينئذ أن يقال: والعجائب التي في البحر - لأنه سبب الاطلاع على أحواله وعجائبه - فكان ذكره ذكرا لجميع أحواله، وطريقا إلى العلم بوجوه دلالته، ولذلك قدم على ذكر - المطر والسحاب - لأن منشأهما البحر في غالب الأمر، وإلا فالمناسب بعد ذكر اختلاف الليل والنهار الذي هو من الآيات العلوية ذكر - المطر والسحاب - اللذين هما من كائنات الجو وعدم نظم الفلك في البين لكونها من الآيات السفلية. وعندي أن هذا خلاف الظاهر جدا - وإن جل قائله - إذ يؤول المعنى إلى - والبحر الذي تجري فيه الفلك بما ينفع الناس - وهو قلب للنظم الكريم بغير داع إليه ولا دليل يعول عليه، وأي مانع من كون الاستدلال باختلاف الفلك وذهابها مرة كذا ومرة كذا على حسب ما تحركها المقادير الإلهية، أو بالفلك الجارية في البحر من حيث إنها جارية فيه موقرة مقبلة ومدبرة، متعلقة بحبال الهواء على لطفه، وكثافتها لا ترسب إلى قاع البحر مع تلاطم أمواجه واضطراب لججه، وكون شيء من ذلك ليس حالا لها في نفسها غير مسلم، ووجه الترتيب - على ما أرى - أنه سبحانه ذكر أولا: خلق أمرين علوي وسفلي، واختلاف شيئين بمدخلية أمرين سماوي وأرضي ثانيا: إذ تعاقب الليل والنهار أو اختلافهما
31

ازديادا وانتقاصا أو ظلمة ونورا إنما هو بمدخلية سير الفلك وحيلولة جرم الأرض على كيفيتين مخصوصتين، ثم عقب ذلك بما يشبه آيتي الليل والنهار السابح كل منهما في لجة بحر فلكه الدوار المسخر بالجريان فيه ذهابا وإيابا بما ينفع الناس في أمر معاشهم وانتظام أحوالهم، وهو الفلك التي تجري على كبد البحر بذلك، ويختلف جريانها شرقا وغربا على حسب تسليك المقادير الإلهية لها في هاتيك المسالك، فالآية حينئذ على حد قوله تعالى: * (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون، * والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم، والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم، * لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون، * وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون) * (يس: 37 - 41) إلا أن الفرق بين الآيتين أن الآيتين في الثانية ذكرتا متوسطتين صريحا بين حديث الفلك وشأن الليل والنهار، وفي الأولى تقدم ما يشعر بهما ويشير إليهما، ثم عقب ذلك بما يشترك فيه العالم العلوي والعالم السفلي، وله مناسبة لذكر البحر بل ولذكر الفلك التي تجري فيه بما ينفع الناس وهو إنزال الماء من السماء ونشر ما كان دفينا في الأرض بالإحياء، وفي ذلك النفع التام والفضل العام. ومن الأولى: ابتدائية والثانية: بيانية، وجوز أن تكون تبعيضية وأن تكون بدلا من الأولى، والمراد من السماء جهة العلو، وقد تقدم تحقيق ذلك.
* (فأحيا به الأرض) * بتهييج قواها النامية، وإظهار ما أودع فيها من أنواع النبات والأزهار والأشجار * (بعد موتها) * وعدم ظهور ذلك فيها لاستيلاء اليبوسة عليها حسبما تقتضيه طبيعتها * (وبث فيها من كل دآبة) * عطف إما على * (أنزل) * والجامع كون كل منهما آية مستقلة لوحدانيته تعالى وهو الغرض المسوق له الكلام مع الاشتراك في الفاعل، و (أحيا) من تتمة الأول كان الاستدلال بالإنزال المسبب عنه الإحياء فلا يكون الفصل به مانعا للعطف، إما على (أحياء) فيدخل تحت فاء السببية، وسببية إنزال الماء للبث باعتبار أن الماء سبب حياة المواشي والدواب - والبث - فرع الحياة، ولا يحتاج إلى تقدير الضمير للربط لإغناء فاء السببية عنه في المشهور، وقيل: يحتاج إلى تقدير به - أي بالماء - ليشعر بارتباطه بأنزل استقلالا كأحيا وفاء السببية لا تكفي في ذلك إذ يجوز أن يكون السبب مجموعهما، وحديث أن المجرور إنما يحذف إن جر الموصول بمثله أكثري لا كلي، ومن بيانية على التقدير الأول على الصحيح، والمراد * (من كل دابة) * كل نوع من الدواب، ومعنى - بثها - تكثيرها بالتوالد والتولد، فالاستدلال بتكثير كل نوع مما يدب على الأرض وعدم انحصاره في البعض، وقيل: تبعيضية لأن الله تعالى لم يبث إلا بعض الأفراد بالنسبة إلى ما في قدرته، على أنه أثبت الزمخشري دواب في السماء أيضا في سورة * (حم * عسق) * (الشورى: 1، 2)، وفيه أن بث كل نوع مما يدب على الأرض لا ينافي كون بعض أفراده مقدرا ولا وجوده في السماء، على أن مدلول التبعيضية كون شيء جزءا من مدخولها لا فردا منه، وزائدة على التقدير الثاني لعدم تقدم المبين، وعدم صحة التبعيض، وهي زيادة في الإثبات لم يجوزها سوى الأخش.
* (وتصريف الري‍اح) * أي تقليب الله تعالى لها جنوبا وشمالا وقبولا ودبورا، حارة وباردة وعاصفة ولينة وعقيما ولواقح، وتارة بالرحمة ومرة بالعذاب، وقرأ حمزة والكسائي (الريح) على الإفراد وأريد به الجنس، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - الرياح - للرحمة والريح للعذاب، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا هبت ريح " قال: اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا " ولعله قصد بالأول والثاني قوله تعالى: * (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات) * (الروم: 46) وقوله
تعالى: * (وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم) * (الذاريات: 41)
32

وعقب إحياء الأرض بالمطر، وبث كل دابة فيها بتصريف الرياح لأن في ذلك تربية النبات وبقاء حياة الحيوانات التي تدب على وجه الأرض ولو أمسك الله تعالى الريح ساعة لأنتن ما بين السماء والأرض كما نطق به بعض الآثار.
* (والسحاب) * عطف على ما قبله، وهو اسم جنس واحده سحابة سمي بذلك لانسحابه في الجو أو لجر الرياح له * (المسخر بين السمآء والأرض) * صفة - للسحاب - باعتبار لفظه، وقد يعتبر معناه فيوصف بالجمع ك‍ * (سحابا ثقالا) * (الأعراف: 57)، و (بين) ظرف لغو متعلق بالمسخر ومعنى تسخيره أنه لا ينزل ولا يزول مع أن الطبع يقتضي صعوده إن كان لطيفا وهبوطه إن كان كثيفا، وقيل: الظرف مستقر وقع حالا من ضمير المسخر ومتعلقه محذوف أي المسخر للرياح حيث تقلبه في الجو بمشيئة الله تعالى، وتعقيب تصريف الرياح بالسحاب لأنه كالمعلول للرياح كما يشير إليه قوله تعالى: * (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا) * (الروم: 48) ولأن في جعله ختم المتعاطفات مراعاة في الجملة لما بدىء به منها لأنه أرضي سماوي فينتظم بدء الكلام وختمه، وبما ذكرنا علم وجه الترتيب في الآية، وقال بعض الفضلاء: لعل تأخير تصريف الرياح وتسخير السحاب في الذكر عن جريان الفلك وإنزال الماء مع انعكاس الترتيب الخارجي للإشعار باستقلال كل من الأمور المعدودة في كونها آية ولو روعي الترتيب الخارجي لربما توهم كون المجموع المرتب بعضه على بعض آية واحدة، ولا يخفى أنه يبعد هذا التوهم ظاهر قوله تعالى: * (لأي‍ات) * اسم (إن) دخلته - اللام - لتأخره عن خبرها والتنكير للتفخيم كما وكيفا أي آيات عظيمة كثيرة دالة على القدرة القاهرة والحكمة الباهرة والرحمة الواسعة المقتضية لاختصاص الإلهية به سبحانه. * (لقوم يعقلون) * أي يتفكرون، فالعقل مجاز عن التفكر الذي هو ثمرته، أخرج ابن أبي الدنيا وابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية قال: " ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها " وفيها تعريض بجعل المشركين الذين اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم آية تصدقه وتسجيل عليهم بسخافة العقول، وإلا فمن تأمل في تلك الآيات وجد كلا منها مشتملا على وجوه كثيرة من الدلالة على وجوده تعالى ووحدانيته وسائر صفاته الكمالية الموجبة لتخصيص العبادة به تعالى واستغنى عن سائرها، ومجمل القول في ذلك أن كل واحد من هذه الأمور المعدودة قد وجد على وجه خاص من الوجوه الممكنة دون ما عداه مستتبعا لآثار معينة، وأحكام مخصوصة من غير أن تقتضي ذاته وجوده فضلا عن وجوده على النمط الكذائي فإذا لا بد له من موجد لامتناع وجود الممكن بلا موجد قادر إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، حكيم عالم بحقائق الأشياء وما فيها من المفاسد والمصالح يوجده حسبما يستدعيه علمه بما فيه من المصلحة وتقتضيه مشيئته، متعال عن مقابلة غيره إذ لو كان معه واجب يقدر على ما يقدر الحق تعالى عليه فإن وافقت إرادة كل منهما إيجاده على وجه مخصوص أراده الآخر فالتأثير إن كان لكل منهما لزم اجتماع فاعلين على أثر واحد وهو يستلزم اجتماع العلتين التامتين، وإن كان الفعل لأحدهما لزم ترجيح الفاعل من غير مرجح لاستوائهما في إرادة إيجاده على الاستقلال، وعجز الآخر لما أن الفاعل سد عليه إيقاع ما أراده، وإن اختلفت الإرادتان بأن أراد أحدهما وجوده على نحو، وأراد الآخر وجوده على نحو آخر لزم التمانع والتطارد لعدم المرجح فيلزم عجزهما والعجز مناف للألوهية بديهة، وفي الآية إثبات الاستدلال بالحجج العقلية وتنبيه على شرف علم الكلام وفضل أهله وربما أشارت إلى شرف علم الهيئة.
* (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين ءامنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب) *
* (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا) * بيان لحال المشركين بعد بيان الدلائل الدالة على توحيده
33

تعالى، و * (من دون الله) * حال من ضمير * (يتخذ) * و - الأنداد - الأمثال والمراد بها الأصنام كما هو الشائع في القرآن، والمروي عن قتادة ومجاهد وأكثر المفسرين، وقيل: الرؤساء الذين يطيعونهم طاعة الأرباب من الرجال، وروي عن السدي - ونسب إلى الصادق رضي الله تعالى عنه - وقيل: المراد أعم منهما وهو ما يشغل عن الله تعالى والمعنى: ومن الناس من يتخذ متجاوزين الإله الواحد الذي ذكرت شؤونه الجليلة أمثالا فلا يقصرون الطاعة عليه سبحانه بل يشاركونهم إياه، وإيثار الاسم الجليل لتعيينه تعالى بالذات غب تعيينه بالصفات.
* (يحبونهم كحب الله) * إما جملة مستأنفة أو صفة الأنداد، أو صفة - لمن - إذا جعلتها نكرة موصوفة مسوقة لبيان وجه الاتخاذ، و - المحبة - ميل القلب من الحب واحد الحبوب استعير لحبة القلب وسويدائه ثم اشتق منه الحب لأنه يؤثر في صميم القلب ويرسخ فيه، ومحبة العباد لله تعالى عند جمهور المتكلمين نوع من الإرادة سواء قلنا إنها نفس الميل التابع لاعتقاد النفع كما هو رأي المعتزلة، أو صفة مرجحة مغايرة له كما هو مذهب أهل السنة فلا تتعلق إلا بالجائزات ولا يمكن تعلقها بذاته تعالى فمحبة العبد له سبحانه إرادة طاعته وتحصيل مراضيه وهذا مبني على انحصار المطلوب بالذات في اللذة ورفع الألم، والعارفون بالله سبحانه قالوا: إن الكمال أيضا محبوب لذاته فالعبد يحب الله تعالى لذاته لأنه الكامل المطلق الذي لا يداني كماله كمال، وأما محبة خدمته وثوابه فمرتبة نازلة، ومحبة الله تعالى للعباد صفة له عز شأنه لا تتكيف ولا يحوم طائر الفكر حول حماها، وقيل: إرادة إكرامه واستعماله في الطاعة وصونه عن المعاصي، والمراد بالمحبة هنا التعظيم والطاعة أي أنهم يسوون بين الله تعالى وبين الأنداد المتخذة فيعظمونهم ويطيعونهم كما يعظمون الله تعالى ويميلون إلى طاعته، وضمير الجمع المنصوب راجع إلى الأنداد فإن أريد بها الرؤساء فواضح وإلا فالتعبير عنها بضمير العقلاء باعتبار ذلك الزعم الباطل أنهم أنداد الله تعالى والمصدر المضاف من المبني للفاعل وفاعله ضميرهم بقرينة سبق الذكر وإن المشركين يعترفون به تعالى ويلجأون إليه في الشدائد * (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله) * (الزمر: 38) * (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين) * (العنكبوت: 65)، وقيل هو الخلاف الظاهر وعدول عما يقتضيه كون جملة - يحبونهم - بيانا لوجه الاتخاذ إنه مصدر المبني للمفعول واستغنى عن ذكر من يحب لأنه غير ملبس، والمعنى على تشبيه محبوبية الأنداد من جهة المشركين بمحبوبيته تعالى من جهة المؤمنين، ولا ينافي ذلك قوله تعالى: * (والذين
ءامنوآ أشد حبا لله) * لأن التشبيه إنما وقع بين المحبوبيتين وذلك يقتضي أن يكون محبوبية الأصنام مماثلا لمحبوبيته تعالى، والترجيح بين المحبتين لكن باعتبار رسوخ إحداهما دون الأخرى فإن المراد بشدة محبة المؤمنين شدتها في المحل وهو رسوخها فيهم وعدم زوالها عنهم بحال لا كمحبة المشركين لآلهتهم حيث يعدلون عنها إلى الله تعالى عند الشدائد ويتبرءون منها عند معاينة الأهوال ويعبدون الصنم زمانا ثم يرفضونه إلى غيره وربما أكلوه - كما يحكى: أن باهلة كانت لهم أصنام من حيس فجاعوا في قحط أصابهم فأكلوها - ولله أبوهم فإنه لم ينتفع مشرك بآلهته كانتفاع هؤلاء بها فإنهم ذاقوا حلاوة الكفر، وليس المراد من شدة المحبة شدتها وقوتها في نفسها ليرد أنا نرى الكفار يأتون بطاعات شاقة لا يأتي بشيء منها أكثر المؤمنين فكيف يقال: إن محبتهم؟ أشد من محبتهم ومن هذا ظهر وجه اختيار - أشد حبا - على أحب إذ ليس المراد الزيادة في أصل الفعل بل الرسوخ والثبات وهو ملاك الأمر، ولهذا نزل * (فاستقم كما أمرت) * (هود: 112) وكان أحب الأعمال إليه صلى الله عليه وسلم أدومها، وقال العلامة: عدل عن أحب إلى أشد - لأنه شاع في الأشد محبوبية - فعدل
34

عنه احترازا عن اللبس، وقيل: إن أحب أكثر من حب، فلو صيغ منه أفعل لتوهم أنه من المزيد.
* (ولو يرى الذين ظلموا) * أي لو يعلم هؤلاء الذين ظلموا بالاتخاذ المذكور؛ ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أن ذلك - الاتخاذ - ظلم عظيم، وأن اتصاف المتخذين به أمر معلوم مشهور حيث عبر عنه بمطلق الظلم، والموصول والصلة للإشعار بسبب - رؤيتهم العذاب - المفهومة من قوله سبحانه * (إذ يرون العذاب) * أي عاينوا العذاب المعد لهم وأبصروه يوم القيامة، وأورد صيغة المستقبل بعد * (لو) * و * (إذ) * المختصين بالماضي لتحقق مدلوله فيكون ماضيا تأويلا مستقبلا تحقيقا فروعي الجهتان.
* (أن القوة لله جميعا) * ساد مسد مفعولي يرى، وجواب * (لو) * محذوف للإيذان بخروجه عن دائرة البيان، أي لوقعوا من الحسرة والندامة فيما لا يكاد يوصف، وقيل: هو متعلق الجواب - والمفعولان محذوفان - والتقدير ولو يرى الذين ظلموا أندادهم لا تنفع لعلموا أن القوة لله جميعا لا ينفع ولا يضر غيره. وقرأ ابن عامر ونافع ويعقوب * (ترى) * على أن الخطاب له صلى الله عليه وسلم، أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب، فالجواب حينئذ - لرأيت أمرا لا يوصف من الهول والفظاعة - وابن عامر * (إذ يرون) * بالبناء للمفعول، ويعقوب * (إن) * بالكسر، وكذا * (وإن الله شديد العذاب) * على الاستئناف أو إضمار القول - أي قائلين ذلك - وفائدة هذه الجملة المبالغة في تهويل الخطب وتفظيع الأمر، فإن اختصاص القوة به تعالى لا يوجب شدة العذاب لجواز تركه عفوا مع القدرة عليه.
* (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الاسباب) *
* (إذ تبرأ الذين اتبعوا) * بدل من * (إذ يرون) * (البقرة: 165) مطلقا وجاز الفصل بين البدل والمبدل منه بالجواب ومتعلقه لطول البدل، وجوز أن يكون ظرفا ل‍ * (شديد العذاب) * أو مفعولا - لاذكروا - وزعم بعضهم أنه بدل من مفعول (ترى) على قراءة الخطاب، كما أن * (إذ يرون) * بدل منه أيضا * (وأن القوة) * في موضع بدل الاشتمال من * (العذاب) * ولا يخفى أن هذا يقتضي جواز تعدد البدل ولم يعثر عليه في شيء من " كتب النحو "، وأيضا يرد عليه أن المبدل منه في بدل الاشتمال يجب أن يكون متقاضيا للبدل دالا عليه إجمالا، وأن يكون البدل مشتملا على ضمير المبدل منه - وكلاهما مفقودان - والمعنى: إذ تبرأ الرؤساء المتبعون من الذين اتبعوا أي المرءوسين بقولهم: * (تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون) * (القصص: 63) وقرأ مجاهد الأول: على البناء للفاعل والثاني: على البناء للمفعول، أي تبرأ الأتباع وانفصلوا عن متبوعيهم، وندموا على عبادتهم.
* (ورأوا العذاب) * حال من - الأتباع والمتبوعين - كما في لقيته راكبين - أي رائين له - فالواو - للحال، و (قد) مضمرة، وقيل: عطف على * (تبرأ) * وفيه أنه يؤدي إلى إبدال (إذ رأوا العذاب) من * (إذ يرون العذاب) * (البقرة: 165) وليس فيه كثير فائدة لأن فاعل الفعلين - وإن كانا متغايرين - إلا أن تهويل الوقت باعتبار ما وقع فيه - وهو رؤية العذاب - ولأن الحقيق بالاستفظاع - هو تبرؤهم حال رؤية العذاب - لا هو نفسه، وأجيب أن البدل الوقت المضاف إلى الأمرين، والمبدل منه الوقت المضاف إلى واحد - وهو الرؤية فقط - وفيه أن هذا أيضا لا يخرج ذلك عن الركاكة إذ بعد تهويل الوقت بإضافته إلى - رؤية العذاب - لا حاجة إلى جمعها مع التبري بخلاف ما إذا جعل حالا، فإن البدل هو التبرؤ الواقع في حال رؤية العذاب.
* (وتقطعت بهم الأسباب) * إما عطف على * (تبرأ) * أو * (رأوا) * أو حال، ورجح الأول لأن
35

الأصل في - الواو - العطف، وفي الجملة الاستقلال ولإفادته تكثير أسباب التهويل والاستفظاع مع عدم الاحتياج إلى تقدير (قد) والباء من * (بهم) * للسببية، أي تقطعت بسبب كفرهم الأسباب التي كانوا يرجون منها النجاة، وقيل: للملابسة أي - تقطعت الأسباب - موصولة بهم كقولك: خرج زيد بثيابه، وقيل: بمعنى عن، وقيل: للتعدية، أي - قطعتهم الأسباب - كما تقول: تفرقت بهم الطريق، ومنه قوله تعالى: * (فتفرق بكم عن سبيله) * (الأنعام: 153) وأصل - السبب - الحبل مطلقا، أو الحبل الذي يتوصل به إلى الماء، أو الحبل الذي أحد طرفيه متعلق بالسقف، أو الحبل الذي يرتقي به النخل. والمراد بالأسباب هنا الوصل التي كانت بين - الأتباع والمتبوعين - في الدنيا من الأنساب والمحاب، والاتفاق على الدين، والاتباع والاستتباع، وقرىء * (تقطعت) * بالبناء للمفعول - وتقطع - جاء لازما ومتعديا.
* (وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذالك يريهم الله أعم‍الهم حسرات عليهم وما هم بخ‍ارجين من النار) *
* (وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة) * أي لو ثبت لنا عودة ورجوع إلى الدنيا. * (فنتبرأ منهم) * أي من المتبوعين * (كما تبرءوا منا) * تمنوا الرجوع إلى الدنيا حتى يطيعوا الله تعالى فيتبرءوا من متبوعيهم في الآخرة إذا حشروا جميعا مثل تبرىء المتبوعين منهم مجازاة لهم بمثل صنيعهم، أي كما جعلوا بالتبري غائظين متحيرين
على متابعتهم نجعلهم أيضا بالتبري غائظين متحيرين على ما حصل لنا بترك متابعتهم، ولذا لم يتبرءوا منهم قبل تمني الرجوع لأنه لا يغيظ المتبوعين حيث تبرءوا من الأتباع أو لا، ومن هنا يظهر وجه القراءة على البناء للفاعل لأن تبرؤ الأتباع من المتبوعين بالآخرة بالانفصال عنهم بعد ما تبين لهم عدم نفعهم، وذلك لا يغيظ المتبوعين لاشتغال كل منهم بما يقاسيه، فلذا تمنوا الرجوع إلى الدنيا ليتبرءوا منهم تبرؤا يغيظهم. وأما قوله سبحانه: * (كما تبرءوا) * فلا يقتضي إلا وقوع التبرؤ من المتبوعين - وهو منصوص في آية أخرى - ولا يقتضي أن يكون مذكورا فيما سبق، وقيل: إن الأتباع بعد أن - تبرءوا - من المتبوعين يوم القيامة تمنوا الكرة إلى الدنيا مع متبوعيهم ليتبرءوا منهم فيها ويخذلوهم - فيجتمع لهم ذل الدنيا والآخرة - ويحتاج هذا التوجيه إلى اعتبار التغليب في * (لنا) * أي لنا ولهم، إذ التبرؤ في الدنيا إنما يتصور إذا رجع كلتا الطائفتين.
* (كذلك) * في موضع المفعول المطلق لما بعده، والمشار إليه الإراء المفهوم من * (إذ يرون) * (البقرة: 165) أي كإراء العذاب المتلبس بظهور أن القوة لله والتبري، وتقطع الأسباب وتمني الرجعة.
* (يريهم الله أعم‍الهم حسرات عليهم) * وجوز أن يكون المشار إليه المصدر المفهوم مما بعد - والكاف - مقحمة لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة ومحله النصب على المصدرية أيضا، أي ذلك الإراء الفظيع يريهم على حد ما قيل في قوله تعالى: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) * (البقرة: 143) والجملة تذييل لتأكيد الوعيد، وبيان حال المشركين في الآخرة وخلود عذابهم، ويجوز أن تكون استئنافا كأنه لما بولغ في وعيدهم وتفظيع عذابهم كان محل أن يتردد السامع ويسأل هل لهم سوى ذلك من العذاب أم تم؟ فأجيب بما ترى، و (حسرات) أي ندمات وهو مفعول ثالث ليرى إن كانت الرؤية قلبية، وحال من (أعمالهم) إن كانت بصرية، ومعنى رؤية هؤلاء المشركين أعمالهم السيئة يوم القيامة حسرات رؤيتها مسطورة في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وتيقن الجزاء عليها، فعند ذلك يندمون على ما فرطوا في جنب الله تعالى، و (عليهم) صفة (حسرات) وجوز تعلقه بها على حذف المضاف أي تفريطهم، لأن - حسر - يتعدى - بعلى - واستدل بالآية من ذهب إلى أن الكفار مخاطبون بالفروع.
* (وما هم بخارجين من النار) * المتبادر في أمثاله حصر النفي في المسند إليه نحو * (وما أنا
36

بطارد الذين آمنوا) * (هود: 29) * (وما أنت علينا بعزيز) * (هود: 91) ففيه إشارة إلى عدم خلود عصاة المؤمنين الداخلين في قوله تعالى: * (والذين آمنوا أشد حبا لله) * (البقرة: 165) في النار، وإذا أريد من * (الذين ظلموا) * (البقرة: 165) الكفار مطلقا دون المشركين فقط كان الحصر حقيقيا، ويكون المقصود منه المبالغة في الوعيد بأنه لا يشاركهم في الخلود غيرهم، فإن الشركة تهون العقوبات، وقيل: إن المقصود نفي أصل الفعل لأنه اللائق بمقام الوعيد - لا حصر النفي - إذ ليس المقام مقام تردد ونزاع في أن الخارج هم أو غيرهم على الشركة أو الانفراد وإن كان صحيحا بالنظر إلى العصاة إلا أنه غير إلى ما ترى إفادة للمبالغة في الخلود، والإقناط عن الخلاص، والرجوع إلى الدنيا، وزيادة - الباء - وإخراج ذواتهم من عداد الخارجين لتأكيد النفي، وأنت تعلم أنه إذا لم يعتبر في الحصر حال المخاطب لم يبق فيه ما يقال سوى أن ظواهر بعض الآيات تقتضي عدم إرادة الحصر، ومن ذلك قوله تعالى: * (يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها) * (المائدة: 37) فليس القول بعدم الحصر نصا في الاعتزال كما وهم.
ومن باب الإشارة في الآيات: * (إن الصفا) * أي الروح الصافية عن درن المخالفات * (والمروة) * (البقرة: 158) أي النفس القائمة بخدمة مولاها من إعلام دين الله ومناسكه القلبية والقالبية، فمن بلغ مقام الوحدة الذاتية، ودخل بيت الحضرة الإلهية بالفناء عن السوي أو زار الحضرة بتوحيد الصفات واتزر بأنوار الجلال والجمال فلا حرج عليه حينئذ أن يطوف بهما ويرجع إلى مقامهما بالوجود الموهوب بعد التمكين المطلوب ومن تبرع خيرا بالتعليم والنصيحة وإرشاد المسرشدين فإن الله يشكر عمله ويعلم جزاءه * (إن الذين يكتمون) * ما أفضنا عليهم من أنوار المعارف وهدى الأحوال * (من بعد ما بيناه للناس في) * كتاب عقولهم المنورة بنور المتابعة * (أولئك) * يبعدهم الله تعالى ويحجبهم عنه * (ويلعنهم اللاعنون) * (البقرة: 159) من الملأ الأعلى فلا يمدونهم، ومن المستعدين فلا يصحبونهم * (إلا الذين) * رجعوا إلى الله تعالى وعلموا أن ما هم فيه ابتلاء منه عز وجل، وأصلحوا أحوالهم بالرياضة، وأظهروا ما احتجب عنهم بصدق المعاملة * (فأولئك) * أقبل توبتهم * (وأنا التواب الرحيم) * (البقرة: 160) * (إن الذين كفروا) * واحتجبوا عن الحق، وبقوا على احتجابهم حتى زال استعدادهم وانطفأ نور فطرتهم * (أولئك) * (البقرة: 161) استحقوا الطرد والبعد عن الحق وعالم الملكوت، * (خالدين) * في ذلك * (لا يخفف عنهم العذاب) * لرسوخ الأمور الموجبة له فيهم * (ولا هم ينظرون) * (البقرة: 162) للزوم تلك الهيآت المظلمة إياهم * (وإلهكم إله واحد) * (البقرة: 163) بالذات لا شيء في الوجود غيره فأنى يعبد سواه، وهو العدم البحت. إن في إيجاد سموات الأرواح وأرض النفوس، واختلاف النور والظلمة بينهما، وفلك البدن التي تجري في بحر الاستعداد بما ينفع الناس في كسب كمالاتهم، وتكميل نشأتهم، وما أنزل الله من سماء الأرواح من ماء العلم فأحيا به أرض النفوس بعد موتها بالجهل وبث فيها القوى الحيوانية، وفرق في أفلاكها سيارات عالم الملكوت، وتصريف رياح النفحات المحركة لأغصان أشجار الشوق في رياض القلوب وسحاب التجليات المسخر بين سماء الروح وأرض النفس ليمطر قطرات الخطاب على نيران الألباب لتسكن ساعة من الاحتراق بالتهاب نار الوجد لآيات ودلائل لقوم يعقلون (البقرة: 164) بالعقل المنور بالأنوار القدسية المجرد عن شوائب الوهم، * (ومن الناس) * من يعبد من دون الله أشياء منعته عن خدمة سيده، والتوجه إليه يحبونهم ويميلون إليهم كحبهم لله ويسوون بينهم وبينه سبحانه لأنهم لم يذوقوا لذة محبته ولم يروا نور مشاهدته وحقائق وصله وقربه * (والذين آمنوا) * الإيمان الكامل * (أشد حبا لله) * لأنهم مستغرقون بمشاهدته هائمون بلذيذ خطابه من عهد * (ألست بربكم) * (الأعراف: 172) لا يلتفتون إلى سواه طرفة عين فهيهات أن
37

يزول حبهم أو يميل إلى الأغيار لبهم وهم أحبوه بحبه وصارت قلوبهم عرش تجلياته وقربه * (ولو يرى الذين ظلموا) * (البقرة: 165) وأشركوا من هو في الحقيقة لا شيء ولا حي ولا لي في وقت رؤيتهم عذاب الاحتجاب عن رب الأرباب، وإن القدرة لله جميعا، وليس لآلهتهم التي ألهتهم عنه منها شيء لندموا وتحسروا حيث لم يقصدوا وجه الله تعالى ولم يطلبوه، وعند ذلك يتبرؤ الاتباع من المتبوعين وقد رأوا عذاب الحرمان وتقطعت بهم (البقرة: 166) الوصل التي كانت بينهم في الدنيا وتمنوا ما لا يمكن بحال وبقوا بحسرة وعذاب. وكذا يكون حال القوى الروحانية الصافية للقوى النفسانية التابعة لها في تحصيل لذاتها، وطوبى للمتحابين في الله تعالى عز شأنه.
* (ي‍اأيها الناس كلوا مما فى الارض حل‍الا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيط‍ان إنه لكم عدو مبين) *
* (ي‍اأيها الناس كلوا مما في الأرض حل‍الا) * نزلت في المشركين الذين حرموا على أنفسهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام - كما ذكره ابن جرير وابن عباس رضي الله تعالى عنهما - وقيل: في عبد الله بن سلام وأضرابه حيث حرموا على أنفسهم لحم الإبل لما كان حراما في دين اليهود، وقيل: في قوم من ثقيف وبني عامر بن صعصعة وخزاعة وبني مدلج حيث حرموا التمر والأقط على أنفسهم، و * (حلالا) * إما مفعول * (كلوا) * أو حال من الموصول - أي كلوه حال كونه حلالا - أو صفة لمصدر مؤكد أي أكلا حلالا، و (من) على التقديرين الأخيرين للتبعيض ليكون مفعولا به - لكلوا - وعلى التقدير الأول يجوز أن تكون ابتدائية متعلقة - بكلوا - أو حالا من * (حلالا) * وقدم عليه لتنكيره، وأن تكون ابتدائية بل هي متعينة كما في " الكشف " على مذهب من جعل الأصل في الأشياء الاباحة، وأن تكون تبعيضية بناءا على ما ارتضاه الرضي من أن التبعيضية في الأصل ابتدائية إلا أنه يكون هناك شيء ظاهر أو مقدر هو بعض المجرور - بمن - ولا يلزم صحة إقامة لفظ البعض مقامها، والعلامة التفتازاني منع كونها تبعيضية على هذا التقدير لأنها في موقع المفعول به حينئذ، والفعل لا ينصب مفعولين، وهو مبني - على ما في " التسهيل " وغيره - أن التبعيض معنى حقيقي - لمن - وعلامته صحة إقامة لفظ البعض مقامها، والأمر للوجوب فيما إذا كان الأكل لقوام البنية وللندب كما إذا كان لمؤانسة الضيف وللإباحة فيما عدا ذلك ومناسبة الآية لما قبلها: أنه سبحانه لما بين التوحيد ودلائله وما للتائبين والعاصين أتبع ذلك بذكر إنعامه وشمول رحمته ليدل على أن الكفر لا يؤثر في قطع الإنعام؛ وقوله تعالى: * (طيبا) * صفة * (حلالا) * ومعناه كما قال الإمام مالك ما يجده فم الشرع لذيذا لا يعافه ولا يكرهه، أو تراه عينه طاهرا عن دنس الشبهة، وفائدة وصف الحلال به تعميم الحكم كما في قوله تعالى: * (وما من دابة في الأرض) * (الأنعام: 38) ليحصل الرد على من حرم بعض الحلالات، فإن النكرة الموصوفة بصفة عامة تعم بخلاف غير الموصوفة، وقال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: المراد به ما تستطيبه الشهوة المستقيمة الناشئة من المزاج الصحيح، ورد بأن ما لا تستطيبه إما حلال لا شبهة فيه فلا منع وإلا خرج بقيد الحلال، وأجيب بأن المراد بالحلال ما نص الشارع على حله - وبهذا ما لم يرد فيه نص - ولكنه مما يستلذ ويشتهيه الطبع المستقيم، ولم يكن في الشرع ما يدل على حرمته كاسكار وضرر، والأولى نظرا للمقام أن يقال إن التقييد ليس للاحتراز عما تستطيبه الشهوة الفاسدة بل لكونه معتبرا في مفهومه إذ لا يقال الطيب واللذيذ إلا على ما تستلذه الشهوة المستقيمة وتكون فائدة التوصيف حينئذ التنصيص على إباحة ما حرموه، والقول بأن في الآية على هذا التفسير إشارة إلى النهي عن الأكل على امتلاء المعدة والشهوة الكاذبة لأن ذلك لا يستطيب لا يستطيب لأن الطعام اللذيذ المأكول كذلك مما تستطيبه الشهوة إلا أنه ليس مأكولا بالشهوة المستقيمة، وبين المعنيين بعد بعيد كما قاله بعض المحققين - واستدل بعضهم بالآية
38

على أن من حرم طعاما مثلا فهو لاغ ولا يحرم عليه، وفيه خفاء لا يخفى.
* (ولا تتبعوا خطوات الشيط‍ان) * أي آثاره - كما حكي عن الخليل - أو أعماله - كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه - أو خطاياه - كما نقل عن مجاهد - وحاصل المعنى لا تعتقدوا به وتستنوا بسنته فتحرموا الحلال وتحللوا الحرام، وعن الصادق من خطوات الشيطان الحلف بالطرق والنذور في المعاصي وكل يمين بغير الله تعالى، وقرأ نافع. وأبو عمرو. وحمزة بتسكين الطاء وهما لغتان في جمع خطوة وهي ما بين قدمي الماشي، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه بضمتين وهمزة، وفي توجيهها وجهان، الأول: ما قيل: إن الهمزة أصلية من الخطأ بمعنى الخطيئة، والثاني: إن الواو قلبت همزة لأن الواو المضمومة تقلب لها نحو - أجوه - وهذه لما جاورت الضمة جعلت كأنها عليها قال الزجاج: وهذا جائز في العربية، وعن أبي السمال أنه قرأ بفتحتين على أنه جمع خطوة وهي المرة من الخطو.
* (إنه لكم عدو مبين) * تعليل للنهي، و * (مبين) * من أبان بمعنى بان وظهر أي ظاهر - العداوة - عند ذوي البصيرة وإن كان يظهر الولاية لمن يغويه ولذلك سمي وليا في قوله تعالى: * (أولياؤهم الطاغوت) * ويحتمل أن يكون ذلك من باب تحيتهم السيف، وقيل: - أبان - بمعنى أظهر أي مظهر - العداوة - والأول أليق بمقام التعليل.
* (إنما يأمركم بالسوء والفحشآء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) *
* (إنما يأمركم بالسوء والفحشآء) * استئناف لبيان كيفية عداوته وتفصيل لفنون شره وإفساده وانحصار معاملته معهم في ذلك، أو علة للعلة بضم، وكل من هذا شأنه فهو - عدو مبين - أو علة للأصل بضم، وكل من هذا شأنه لا يتبع فيكون الحكم معللا بعلتين - العداوة - والأمر بما ذكر وليس الأمر على حقيقته لا لأن قوله تعالى: * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) * ينافي ذلك لكونه مبنيا على أن المعتبر في الأمر العلو - كما هو مذهب المعتزلة - وإلا فمجرد الاستعلاء لا ينافي أن يكون له سلطان، وعلى أن يكون - عبادي - لعموم الكل بدليل الاستثناء، وعلى أن الخطاب في * (يأمركم) * لجميع الناس لا للمتبعين فقط، ولا منافاة أيضا بل لأنا نجد من أنفسنا أنه لا طلب منه للفعل منا وليس إلا التزيين والبعث فهو استعارة تبعية لذلك ويتبعها الرمز إلى أن المخاطبين بمنزلة المأمورين المنقادين له، وفيه تسفيه رأيهم وتحقير شأنهم، ولا يرد أنه إذا كان الأمر بمعنى التزيين فلا بد أن يقال: يأمر لكم، وإن كان بمعنى البعث فلا بد أن يقال: يأمركم على السوء أو للسوء إذ المذكور لفظ
الأمر فلا بد من رعاية طريق استعماله - والسوء - في الأصل مصدر ساءه يسوؤه سوءا أو مساءة إذا أحزنه، ثم أطلق على جميع المعاصي سواء كانت قولا أو فعلا أو عقدا لاشتراك كلها في أنها تسوء صاحبها، وو * (الفحشاء) * ما فيه حد، وقيل: هما بمعنى وهو ما أنكره العقل وحكم بأنه ليس فيه مصلحة وعاقبة حميدة واستقبحه الشرع، والعطف حينئذ لتنزيل تغاير الوصفين منزلة تغاير الحقيقتين فإن ذلك سوء لاغتمام العاقل، وفحشاء باستقباحه إياه، ولعل الداعي إلى هذا القول أنه سبحانه سمى جميع المعاصي والفواحش سيئة في قوله جل شأنه: * (من كسب سيئة) * و * (إن الحسنات يذهبن السيئات) * * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * وسمى جميع المعاصي بالفواحش فقال تعالى: * (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن) * ويمكن أن يقال: سلمنا ولكن السيئة والفاحشة إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا فلا يتم الاستدلال * (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) * عطف على سابقه أي - ويأمركم الشيطان بأن تفتروا على الله الكذب بأنه حرم هذا - وأحل هذا أو بذلك وبأنه أمر باتخاذ الأنداد ورضي بما أنتم عليه من الإفساد،
39

والتنصيص على الأمر بالتقول مع دخوله فيما سبق للاهتمام بشأنه، ومفعول العلم محذوف أي - ما لا تعلمون - الإذن فيه منه تعالى، والتحذير عن ذلك مستلزم للتحذير عن التقول عليه سبحانه بما يعلمون عدم الإذن فيه كما هو حال كثير من المشركين استلزاما ظاهرا، وظاهر الآية المنع من اتباع الظن رأسا لأن الظن مقابل للعلم لغة وعرفا، ويشكل عليه أن المجتهد يعمل بمقتضى ظنه الحاصل عنده من النصوص فكيف يسوغ اتباعه للمقلد؟! وأجيب بأن الحكم المظنون للمجتهد يجب العمل به للديل القاطع وهو الإجماع، وكل حكم يجب العمل به قطعا علم قطعا بأنه حكم الله تعالى: وإلا لم يجب العمل به قطعا، وكل ما علم قطعا أنه حكم الله تعالى فهو معلوم قطعا، فالحكم المظنون للمجتهد معلوم قطعا وخلاصته أن الظن كاف في طريق تحصيله ثم بواسطة الإجماع لى وجوب العمل صار المظنون معلوما وانقلب الظن علما، فتقليد المجتهد ليس من اتباع الظن في شيء، وزعم ذلك من اتباع الظن وتحقيقه في الأصول.
* (وإذا قيل لهم اتبعوا مآ أنزل الله قالوا بل نتبع مآ ألفينا عليه ءابآءنآ أولو كان ءاباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) *
* (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله) * الضمير للناس والعدول عن الخطاب إلى الغيبة للتنبيه على أنهم لفرط جهلم وحمقهم ليسوا أهلا للخطاب بل ينبغي أن يصرف عنهم إلى من يعقله، وفيه من النداء لكل أحد من العقلاء على ضلالتهم ما ليس إذا خوطبوا بذلك، وقيل: الضمير لليهود وإن لم يذكروا بناءا على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن الآية نزلت فيهم لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، وقيل: إنه راجع إلى من يتخذ أو إلى المفهوم من أن الذين يكتمون، والجملة مستأنفة بناءا على ما روي أنها نزلت في المشركين، وأنت تعلم أن النزول في حق اليهود أو المشركين لا يقتضي تخصيص الضمير بهم، وقد شاع أن عموم المرجع لا يقتضي عموم الضمير كما في قوله تعالى: * (والمطلقات يتربصن) * وقوله تعالى: * (وبعولتهن أحق بردهن) * على أن نظم القرآن الكريم يأبى هذا القيل؛ والموصول إما عام لسائر الأحكام الحقة المنزلة من الله تعالى، وإما خاص بما يقتضيه المقام * (قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه ءاباءنا) * أي وجدناهم عليه، والظرف إما حال من - آبائنا، وألفينا - متعد إلى واحد، وإما مفعول ثان له مقدم على الأول.
* (أو لو كان ءاباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) * جواب الشرط محذوف أي - ول كان آبائهم جهلة لا يتفكرون في أمر الدين ولا يهتدون إلى الحق لاتعبوهم - والواو للحال أو للعطف، والجملة الشرطية إما حال عن ضمير * (قالوا) * أو معطوفة عليه، والهمزة لإنكار مضمون تلك الجملة وهو التزامهم الاتباع على تقدير ينافيه وهو كونهم غير عاقلين ولا مهتدين المستلزم لالتزامهم الاتباع على أي حال كانوا من غير تمييز، وعلم بكونهم محقين أو مبطلين وهو التقليد المذموم - ويتولد من ذلك الإنكار التعجيب - وجوز أن تكون الجملة حالا عن ضمير جملة محذوفة أي أيتبعونهم في حال فرضهم غير عاقلين ولا مهتدين - وأن تكون معطوفة على شرط مقدر أي - يتبعونهم لو لم يكونوا غير عاقلين، ولو كانوا غير عاقلين، وإلى الأول: ذهب الزمخشري، وإلى الثاني: الجرمي، ولا يخفى أنه على تقدير حذف الجملة المتقدمة لا يحتاج إلى القول بحذف الجزاء، ولعل ما ذكر أولا أولى لما فيه من التحرز عن كثرة الحذف وإبقاء * (لو) * على معناها المشهور، والهمزة الاستفهامية على أصلها - وهو إيلاء المسؤول عنه - وكون المعنى يدور على العطف على المحذوف في أمثال ذلك في سائر اللغات غير مسلم، واختار الرضى أن - الواو - الداخلة على كلمة الشرط في مثل هذا اعتراضية، وعني بالجملة الاعتراضية ما يتوسط بين أجزاء الكلام، أو يجيء آخره متعلقا به معنى مستأنفا لفظاف، قيل: وفي الآية دليل
40

على المنع من التقليد لمن قدر على النظر، وأما اتباع الغير في الدين بعد العلم بدليل ما إنه محق فاتباع في الحقيقة لما أنزل الله تعالى - وليس من التقليد المذموم في شيء - وقد قال سبحانه: * (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) *.
* (ومثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق بما لا يسمع إلا دعآء وندآء صم بكم عمى فهم لا يعقلون) *
* (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعآء وندآء) * جملة ابتدائية واردة لتقرير ما قبلها أو معطوفة عليه، والجامع أن الأولى لبيان حال الكفار وهذه تمثيل لها وفيها مضاف محذوف إما من جانب المشبه أو المشبه به - أي مثل داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق - أو مثل الذين كفروا - كمثل بهائم الذي ينعق - ووضع المظهر - وهو الموصول - موضع المضمر - وهو البهائم - ليتمكن من إجراء الصفة التي هي وجه الشبه عليه، وحاصل المعنى على التقديرين أن الكفرة لأنهماكهم في التقليد وإخلادهم إلى ما هم عليه من الضلالة لا يلقون أذهانهم إلى ما يتلى عليهم ولا يتأملون فيما يقرر معهم فهم في ذلك كالبهائم التي ينعق عليها وهي لا تسمع إلا جرس النغمة ودوي الصوت، وقيل: المراد تمثيلهم في ابتاع آبائهم على ظاهر حالهم جاهلين بحقيقتها بالبهائم التي تسمع الصوت ولا تفهم ما تحته، أو تمثيلهم في دعائهم الأصنام بالناعق في نعقه وهذا يغني عن الإضمار لكن لا يساعده قوله تعالى: * (إلا دعاء ونداء) * لأن الأصنام بمعزل عن ذلك فلا دخل للاستثناء في التشبيه إلا أن
يجعل من التشبيه المركب ويلتزم كون مجموع * (لا يسمع إلا دعاء ونداء) * كناية عن عدم الفهم والاستجابة، والنعيق التتابع في التصويت على البهائم للزجر، ويقال: نعق الغراب نعاقا ونعيقا إذا صوت من غير أن يمد عنقه ويحركها، ونغق بالغين بمعناه فإذا مد عنقه وحركها ثم صاح قيل: نعب بالباء، والدعاء والنداء بمعنى، وقيل: إن الدعاء ما يسمع، والنداء قد يسمع وقد لا يسمع، وقيل: إن الدعاء للقريب والنداء للبعيد.
* (صم بكم عمي) * رفع على الذم إذ فيه معنى الوصف مع مانع لفظي من الوصف به * (فهم لا يعقلون) * أي لا يدركون شيئا لفقدان الحواس الثلاثة وقد قيل: من فقد حسا فقد فقد علما، وليس المراد نفي العقل الغريزي باعتبار انتفاء ثمرته - كما قيل به - لعدم صحة ترتبه بالفاء على ما قبله.
* (ي‍اأيها الذين ءامنوا كلوا من طيبات ما رزقن‍اكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون) *
* (ي‍اأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقن‍اكم) * أي مستلذاته أو من حلاله، والآية إما أمر للمؤمنين بما يليق بشأنهم من طلب الطيبات وعدم التوسع في تناول ما رزقوا من الحلال وذا لم يستفد من الأمر السابق، وإما أمر لهم على طبق ما تقدم إلا أن فائدة تخصيصهم بعد التعميم تشريفهم بالخطاب وتمهيد لطلب الشكر، و * (كلوا) * لعموم جميع وجوه الانتفاع دلالة وعبارة * (واشكروا لله) * على ما أنعم به عليكم والالتفات لتربية المهابة * (إن كنتم إياه تعبدون) * بمنزلة التعليل لطلب الشكر كأنه قيل: واشكروا له لأنكم تخصونه بالعبادة وتخصيصكم إياه بالعبادة يدل على أنكم تريدون عبادة كاملة تليق بكبريائه وهي لا تتم إلا بالشكر لأنه من أجل العبادات - ولذا جعل نصف الإيمان - وورد من حديث أبي الدرداء مرفوعا يقول الله تعالى: " إني والإنس والجن في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري " والقول بأن المراد إن كنتم تعرفونه أو إن أردتم عبادته منحط من القول.
* (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) *
* (إنما حرم عليكم الميتة) * أي أكلها والانتفاع بها وأضاف الحرمة إلى العين - مع أن الحرمة من الأحكام الشرعية التي هي من صفات فعل المكلف، وليست مما تتعلق بالأعيان - إشارة إلى حرمة التصرف في الميتة، وهي التي ماتت من غير ذكاة شرعية من جميع الوجوه بأخصر طريق وأوكده حيث جعل العين غير قابلة لتعلق فعل المكلف بها إلا ما خصه الدليل كالتصرف بالمدبوغ وألحق بالميتة ما أبين من حي للحديث الذي أخرجه
41

أبو داود، والترمذي وحسنه عن أبي واقد الليثي قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما قطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة " وخرج عنها السمك والجراد للحديث الذي أخرجه ابن ماجه والحاكم من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا " أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال " وللعرف أيضا فإنه إذا قال القائل: أكل فلان الميتة لم يسبق الوهم إليهما، نعم حرم بعضهم ميتة السمك الطافي وما مات من الجراد بغير سبب، وعليه أكثر المالكية، واستدل بعموم الآية على تحريم الأجنة، وتحريم ما لا نفس له سائلة خلافا لمن أباحه من المالكية، وقرأ أبو جعفر: (الميتة) مشددة * (والدم) * قيد في سورة الأنعام (145) بالمسفوح وسيأتي، واستدل بعمومه على تحريم نجاسة دم الحوت، وما لا نفس له تسيل * (ولحم الخنزير) * خص اللحم بالذكر مع أن بقية أجزائه أيضا حرام خلافا للظاهرية لأنه معظم ما يؤكل من الحيوان وسائر أجزائه كالتابع له، وقيل: خص اللحم ليدل على تحريم عينه ذكي أو لم يذك، وفيه ما لا يخفى، ولعل السر في إقحام لفظ اللحم هنا إظهار حرمة ما استطيبوه وفضلوه على سائر اللحوم واستعظموا وقوع تحريمه، واستدل أصحابنا بعموم الخنزير على حرمة خنزير البحر، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: لا بأس به، وروي عن الإمام مالك أنه قال له شخص: ما تقول في خنزير البحر؟ فقال: حرام ثم جاء آخر فقال له: ما تقول في حيوان في البحر على صورة الخنزير؟ فقال حلال - فقيل له - في ذلك فقال: إن الله تعالى حرم الخنزير ولم يحرم ما هو على صورته، والسؤال مختلف في الصورتين.
* (وما أهل له لغير الله) * أي ما وقع متلبسا به أي بذبحه الصوت لغير الله تعالى، وأصل الإهلال عند كثير من أهل اللغة رؤية الهلال لكن لما جرت العادة أن يرفع الصوت بالتكبير إذا رؤى سمي بذلك إهلالا، ثم قيل لرفع الصوت وإن كان بغيره، والمراد - بغير الله - تعالى الصنم وغيره كما هو الظاهر، وذهب عطاء ومكحول والشعبي والحسن وسعيد بن المسيب إلى تخصيص الغير بالأول وأباحوا ذبيحة النصراني إذا سمى عليها باسم المسيح، وهذا خلاف ما اتفق عليه الأئمة من التحريم وإنما قدم به هنا لأنه أمس بالفعل وأخر في مواضع أخر نظرا للمقصود فيها من ذكر المستنكر وهو الذبح لغير الله عز شأنه.
* (فمن اضطر غير باغ) * بالاستتار على مضطر آخر بأن ينفرد بتناوله فيهلك الآخر * (ولا عاد) * أي متجاوز ما يسد الرمق والجوع وهو ظاهر في تحريم الشبع وهو مذهب الأكثرين فعن الإمام أبي حنيفة والشافعي رضي الله تعالى عنهما لا يأكل المضطر من الميتة إلا قدر ما يمسك رمقه لأن الإباحة للاضطرار، وقد اندفع به، وقال * (عبد الله بن الحسن العبري) *: يأكل منها قدر ما يسد جوعته، وخالف في ذلك الإمام مالك فقال: يأكل منها حتى يشبع ويتزود فإن وجد غنى عنها طرحها، ونقل عن الشافعي أن المراد غير باغ على الوالي ولا عاد بقطع الطريق وجعل من ذلك السفر في معصية فالعاصي في سفره لا يباح له الأكل من هذه المحرمات - وهو المروي عن الإمام أحمد أيضا - وهو خلاف مذهبنا، ويحتاج حكم الرخصة على هذا إلى التقييد بأن لا يكون زائدا على قدر الضرورة من خارج، واستدل بعموم الآية على جواز أكل المضطر ميتة الخنزير والآدمي خلافا لمن منع ذلك، وقرأ أهل الحجاز والشام والكسائي * (فمن اضطر) * بضم النون وأبو جعفر منهم بكسر الطاء من اضطر.
* (فلا إثم عليه) * أي في تناوله بل ربما يأثم بترك التناول * (إن الله غفور رحيم) * فلذا أسقط الحرمة في تناوله ورخص، وقيل: الحرمة باقية إلا أنه سقط الإثم عن المضطر وغفر له لاضطراره كما هو الظاهر من تقييد الإثم بعليه، واستدل للأول بقوله تعالى: * (إلا ما اضطررتم إليه) * (الأنعام: 119) حيث استثنى من الحرمة،
42

ثم اعلم أنه ليس المراد من الآية قصر الحرمة على ما ذكر مطلقا كما هو الظاهر حتى يرد منع الحصر بحرمة أشياء لم تذكر بل مقيد بما اعتقدوه حلالا بقرينة أنهم كانوا يستحلون ما ذكر فكأنه قيل: إنما حرم عليكم ما ذكر من جهة ما استحللتموه لأشياء أخر، والمقصود من قصر الحرمة على ما ذكر رد اعتقادهم حليته بأبلغ وجه وآكده فيكون قصر قلب إلا أن الجزء الثاني ليس لرد اعتقاد الحرمة إذ لم يعتقدوا حرمة شيء مما استحلوه بل تأكيد الجزء الأول، والخطاب للناس باعتبار دخول المشركين فيهم فيكون مفاد الآية الزجر عن تحليل المحرمات كما أن * (يا أيها الناس كلوا) * (البقرة: 168) زجر عن تحريم الحلالات؛ أو المراد قصر حرمة ما ذكر على حال الاختيار، كأنه قيل: إنما حرم عليكم هذه الأشياء ما لم تضطروا إليها، والأنسب حينئذ أن يكون الخطاب للمؤمنين ليكون محط الفائدة هو القيد حيث كانوا معتقدين لحرمة هذه الأمور، وفائدة الحكم الترخيص بعد التضييق عليهم بطلب الحلال الطيب، أو تشريفهم بالامتنان بهذا الترخيص بعد الامتنان عليهم بإباحة المستلذات، واختار بعضهم أن المراد من الحصر رد المشركين في تحريمهم ما أحله الله تعالى - من البحيرة والوصيلة والحام - وأمثالها لأكلهم من هذه المحرمات المذكورة في الآية، فكأنهم قالوا: تلك حرمت علينا ولكن هذه أحلت لنا، فقيل: ما حرمت إلا هذه - فهو إذا إضافي - وذهب آخرون إلى أنه قصر إفراد بالنسبة إلى ما حرمه المؤمنون مع المذكورات من المستلذات، وفيه أن المؤمنين لم يعتقدوا حرمة المستلذات بل حرموها على أنفسهم لما سمعوا من شدائد المحاسبة والسؤال عن النعم، قاله بعض المحققين فليتدبر.
* (إن الذين يكتمون مآ أنزل الله من الكت‍ابويشترون به ثمنا قليلا أول‍ائك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القي‍امة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) *
* (إن الذين يكتمون مآ أنزل الله من الكت‍اب) * المشتمل على فنون الأحكام التي من جملتها أحكام المحللات والمحرمات، والآية نزلت - كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه - في علماء اليهود كانوا يصيبون من سفلتهم هدايا، وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم، فلما بعث من غيرهم كتموا وغيروا صفته صلى الله عليه وسلم حتى لا يتبع فتزول رياستهم وتنقطع هداياهم * (ويشترون به) * أي يأخذون بدله في نفس الأمر، والضمير - للكتاب - أو لما أنزل أو للكتمان * (ثمنا قليلا) * أي عوضا خقيرا.
* (أول‍ئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار) * إما في الحال - كما هو أصل المضارع - لأنهم أكلوا ما يتلبس بالنار وهو - الرشا - لكونها عقوبة لها فيكون في الآية استعارة تمثيلية بأن شبه الهيئة الحاصلة من أكلهم ما يتلبس بالنار بالهيئة المنتزعة من - أكلهم النار - من حيث إنه يترتب على - أكل - كل منهما من تقطع الأمعاء والألم ما يترتب على الآخر، فاستعمل لفظ المشبه به في المشبه، وإما في المآل، أي لا يأكلون يوم القيامة إلا النار فالنار في الاحتمالين مستعمل في معناه الحقيقي، وقيل: إنها مجاز عن - الرشا - إذا أريد الحال، والعلاقة السببية والمسببية وحقيقة إذا أريد المآل، ولا يخفى أن الأول هو الأليق بمقام الوعيد، والجار والمجرور حال مقدرة، أي: ما يأكلون شيئا حاصلا في بطونهم إلا النار إذ الحصول في - البطن - ليس مقارنا للأكل، وبهذا التقدير يندفع ضعف تقديم الحال على الاستثناء، ولا يحتاج إلى القول بأنه متعلق بيأكلون والمراد في طريق بطونهم كما اختاره أبو البقاء، والتقييد - بالبطون - لإفادة - الملء - لا للتأكيد - كما قيل به - والطرفية بلفظة (في) وإن لم تقتض استيعاب المظروف الظرف، لكنه شاع استعمال ظرفية - البطن - في الاستيعاب كما شاع ظرفية بعضه في عدمه كقوله:
43

- كلوا - في بعض - بطنكم - تعفوا * فإن زمانكم زمن خميص
* (ولا يكلمهم الله يوم القي‍امة) * أي كلام رحمة - كما قال الحسن - فلا ينافي سؤاله سبحانه إياهم، وقيل: لا يكلمهم أصلا لمزيد غضبه جل جلاله عليهم، والسؤال بواسطة الملائكة. * (ولا يزكيهم) * أي لا يطهرهم من دنس الذنوب، أو لا يثنى عليهم. * (ولهم عذاب أليم) * أي مؤلم، وقد جاءت هذه الأخبار مرتبة بحسب المعنى، لأنه لما ذكر سبحانه اشتراءهم بذلك - الثمن القليل - وكان كناية عن مطاعمهم الخبيثة الفانية بدأ أولا في الخبر بقوله تعالى: * (ما يأكلون في بطونهم إلا النار) * ثم قابل - كتمانهم الحق - وعدم التكلم به بقوله تعالى: * (ولا يكلمهم الله) * تعالى، وابتنى على - كتمانهم واشترائهم بما أنزل الله تعالى ثمنا قليلا - أنهم شهود زور وأحبار سوء آذوا بهذه الشهادة الباطلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآلموه فقوبلوا بقوله سبحانه: * (ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) * وبدأ أولا: بما يقابل فردا فردا، وثانيا: بما يقابل المجموع.
* (أول‍ائك الذين اشتروا الضل‍الة بالهدى والعذاب بالمغفرة فمآ أصبرهم على النار) *
* (أول‍ئك الذين اشتروا) * بسبب كتمانهم الحق للمطامع الدنية، والأغراض الدنيوية * (الضل‍الة بالهدى) * في الدنيا * (والعذاب بالمغفرة) * في الآخرة، والجملة إما مستأنفة فإنه لما عظم وعيد الكاتمين كان مظنة أن يسأل عن سبب عظم وعيدهم فقيل: إنهم بسبب الكتمان خسروا الدنيا والآخرة، وإما خبر بعد خبر لأن، والجملة الأولى لبيان شدة وعيدهم، وهذه لبيان شناعة كتمانهم.
* (فما أصبرهم على النار) * أي ما أشد صبرهم، وهو تعجيب للمؤمنين من ارتكابهم موجباتها من غير مبالاة وإلا فأي صبر لهم، و (ما) في مثل هذا التركيب قيل: نكرة تامة - وعليه الجمهور - وقيل: استفهامية ضمنت معنى التعجب - وإليه ذهب الفراء - وقيل: موصولة - وإليه ذهب الأخفش - وحكي عنه أيضا أنها نكرة وموصوفة - وهي على هذه الأقوال - في محل رفع على الابتداء، والجملة خبرها، أو خبرها محذوف إن كانت صفة أو صلة، وتمام الكلام في " كتب النحو ".
* (ذالك بأن الله نزل الكت‍ابب الحق وإن الذين اختلفوا فى الكت‍ابلفى شقاق بعيد) *
* (ذلك) * أي مجموع ما ذكر من أكل النار وعدم التكليم والتزكية والعذاب المرتب على الكتمان. * (بأن الله نزل الكت‍ابب الحق) * أي بسبب أن الله تعالى نزل القرآن، أو التوراة متلبسا بالحق ليس فيه شائبة البطلان أصلا فرفضوه - بالتكذيب أو الكتمان -. * (وإن الذين اختلفوا في الكت‍اب) * أي في جنسه - بأن آمنوا ببعض كتب الله تعالى وكفروا ببعض - أو في التوراة، ومعنى (اختلفوا) تخلفوا عن سلوك طريق الحق فيها، أو جعلوا ما بدلوه خلفا عما فيها - أو في القرآن - واختلافهم
فيه قول بعضهم: إنه سحر، وبعضهم إنه شعر، وبعضهم إنه أساطير الأولين. * (لفي شقاق) * أي خلاف * (بعيد) * عن الحق موجب لأشد العذاب، وهذه الجملة تذييل لما تقدم معطوفة عليه. ومن الناس من جعل - الواو - للحال والسببية المتقدمة راجعة إليها والتذييل أدخل في الذم كما لا يخفى.
* (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ول‍اكن البر من ءامن بالله واليوم الاخر والمل‍ائكة والكت‍ابوالنبيين وءاتى المال على حبه ذوى القربى واليت‍امى والمس‍اكين وابن السبيل والسآئلين وفي الرقاب وأقام الصلواة وءاتى الزكواة والموفون بعهدهم إذا ع‍اهدوا والصابرين فى البأسآء والضراء وحين البأس أول‍ائك الذين صدقوا وأول‍ائك هم المتقون) *
* (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب) *. البر اسم جامع لأنواع الخير والطاعات المقربة إلى الله تعالى - والخطاب لأهل الكتابين - والمراد من * (قبل المشرق والمغرب) * السمتان المعينان، فإن اليهود تصلي - قبل المغرب - إلى بيت المقدس من أفق مكة، والنصارى - قبل المشرق - والآية
44

نزلت ردا عليهم حيث أكثروا الخوض في أمر القبلة وادعى كل طائفة حصر - البر - على قبلته ردا على الآخر فرد الله تعالى عليهم جميعا بنفي جنس البر عن قبلتهم لأنها منسوخة، فتعريفه للجنس لإفادة عموم النفي - لا للقصر - إذ ليس المقصود نفي القصر أو قصر النفي. ويحتمل أن يكون الخطاب عاما لهم وللمسلمين - فيكون عودا على بدء - فإن الكلام في أمر القبلة وطعنهم في النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كان أساس الكلام إلى هذا القطع، فجعل خاتمة كلية أجمل فيها ما فصل. والمراد من ذكر المشرق والمغرب التعميم - لا تعيين السمتين - وتعريف البر حينئذ إما للجنس فيفيد القصر، والمقصود نفي اختصاص البر بشأن القبلة مطلقا على ما يقتضيه الحال من كثرة الاشتغال والاهتمام بذلك والذهول عما سواه، وإما لعهد أي ليس البر العظيم الذي أكثرتم الخوض فيه وذهلتم عما سواه ذلك، وقدم المشرق على المغرب مع تأخر زمان الملة النصرانية رعاية لما بينهما من الترتيب المتفرع على ترتيب الشروق والغروب، وقرأ حمزة وحفص - البر - بالنصب والباقون بالرفع ووجه الأول: أن يكون خبرا مقدما كما في قوله: سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم * فليس (سواءا) عالم وجهول
وحسن ذلك أن المصدر المؤول أعرف من المحلى باللام لأنه يشبه الضمير من حيث إنه لا يوصف ولا يوصف به والأعرف أحق بالاسمية ولأن في الاسم طولا فلو روعي الترتيب المعهود لفات تجاوب أطراف النظم الكريم، ووجه الثانية: أن كل فريق يدعي أن البر هذا فيجب أن يكون الرد موافقا لدعواهم وما ذلك إلا بكون البر اسما كما يفصح عنه جعله مخبرا عنه في الاستدراك. وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: * (ليس البر) * بالنصب بأن تولوا - بالباء -
* (ول‍اكن البر من ءامن بالله) * تحقيق للحق بعد بيان بطلان الباطل، و - ال - في البر إما للجنس فيكون القصر ادعائيا لكمال ذلك الجنس في هذا الفرد، وإما للعهد أي ما ينبغي أن يهتم به ويعتني بشأنه ويجد في تحصيله، والكلام على حذف مضاف أي - بر من آمن - إذ لا يخبر بالجثة عن المعنى ويجوز أن لا يرتكب الحذف ويجعل المصدر بمعنى اسم الفاعل أو يقال باطلاق البر على البار مبالغة، والأول أوفق لقوله: * (ليس البر) * وأحسن في نفسه لأنه كنزع الخف عند الوصول إلى الماء ولأن المقصود من كون ذي البر من آمن إفادة أن البر إيمانه فيؤول إلى الأول. والمراد بهذا الإيمان إيمان خال عن شائبة الإشراك لا كإيمان اليهود والنصارى القائلين - عزيز ابن الله والمسيح ابن الله - وقرأ نافع وابن عامر (ولكن) بالتخفيف، وقرأ بعضهم البار بصيغة اسم الفاعل.
* (واليوم الأخر) * أي المعاد الذي يقول به المسلمون وما يتبعه عندهم * (والملا - ئكة) * أي وآمن بهم وصدق بأنهم عباد مكرمون لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة ومنهم المتوسطون بينه تعالى وبين أنبيائهم عليهم الصلاة والسلام بإلقاء الوحي وإنزال الكتب * (والكت‍اب) * أي جنسه فيشمل جميع - الكتب - الإلهية لأن البر الإيمان بجميعها وهو الظاهر الموافق لقرينه ولما ورد في الحديث: " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله " أو القرآن لأنه المقصود بالدعوة والكامل الذي يستأهل أن يسمى كتابا والإيمان به الإيمان بجميع الكتب لكونه مصدقا لما بين يديه، وقيل: التوراة ويبعده عدم ظهور القرينة المخصصة لها وأن الإيمان بها لا يستلزم الإيمان بالجميع إلا باعتبار استلزامه الإيمان بالقرآن، والإيمان بالكتب أن يؤمن بأنها كلام الرب جل شأنه منزهة عن الحدوث منزلة على ذويها ظاهرة لديهم حسبما اقتضته الحكمة من اللغات * (والنبين) * أي جميعهم من غير تفرقة بين أحد منهم كما فعل أهل الكتابين والإيمان بهم أن يصدق بأنهم معصومون مطهرون وأنهم أشرف الناس
45

حسبا ونسبا وأن ليس فيهم وصمة ولا عيب منفر ويعتقد أن سيدهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم وأن شريعته ناسخة لجميع الشرائع والتمسك بها لازم لجميع المكلفين إلى يوم القيامة.
* (وءاتى المال على حبه) * حال من ضمير (ءاتى)، والضمير المجرور للمال - أي أعطى المال كائنا على حب المال - والتقييد لبيان أفضل أنواع الصدقة فقد أخرج البخاري. ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح تأمل البقاء وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا لفلان كذا الا وقد كان لفلان " وفي هذا إيذان بأن درجات الثواب تتفاوت حسب تفاوت المراتب في الحب حتى إن صدقة الفقير والبخيل أفضل من صدقة الغني والكريم إلا أن يكونا أحب للمال منهما، ويؤيد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: " أفضل الأعمال أحمزها " وجوز رجوع الضمير لله تعالى أو للمصدر المفهوم من الفعل، والتقييد حينئذ للتكميل، وبيان اعتبار الإخلاص أو طيب النفس في الصدقة ودفع كون إيتاء المال مطلقا برا، والأول: هو المأثور عن السلف الصالح، ولعله المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* (ذوي القربى) * مفعول أول ل‍ * (آتى) * قدم عليه مفعوله الثاني للاهتمام أو لأن فيه مع (ما) عطف عليه طولا لو روعي الترتيب لفات تجاوب الأطراف، وهو الذي اقتضى تقديم الحال أيضا، وقيل: هو المفعول الثاني، والمراد ب * (ذوي القربى) * - ذوو قرابة - المعطي لكن المحاويج منهم لا مطلقا لدلالة سوق الكلام، وعد مصارف الزكاة على أن المراد الخير والصدقة - وإيتاء - الأغنياء هبة لا صدقة، وقدم هذا الصنف لأن - إيتاءهم - أهم فقد صح عن أم كلثوم بنت عقبة قالت:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح " وأخرج أحمد والترمذي وغيرهما عن سلمان بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة ".
* (واليت‍امى) * عطم على * (ذوي القربى) * وقيل: على * (القربى) * إذ لا يصح إيصال المال إلى من لا يعقل فالمعطي حينئذ كافلهم لأجلهم، وفيه ما لا يخفى * (والمس‍اكين) * جمع - مسكين - وهو الدائم السكون لما أن الحاجة أسكنته بحيث لا حراك به أو دائم السكون والالتجاء إلى الناس، وتخصيصه بمن لا شيء له أو بمن لا يملك ما يقع موقعا من حاجته خارج عن مفهومه * (وابن السبيل) * أي المسافر - كما قاله مجاهد - وسمي بذلك لملازمته الطريق في السفر أو لأن الطريق تبرزه فكأنها ولدته وكأن إفراده لانفراده عن أحبابه ووطنه وأصحابه فهو أبدا يتوق إلى الجمع، ويشتاق إلى الربع، والكريم يحن إلى وطنه حنين الشارف إلى عطنه، أو لأنه لما لم يكن بين أبناء السبيل، والمعطي تعارف غالبا يهون أمر الاعطاء ويرغب فيه أفردهم ليهون أمر إعطائهم وليشير إلى أنهم وإن كانوا جمعا ينبغي أن يعتبروا كنفس واحدة فلا يضجر من إعطائهم لعدم معرفتهم وبعد منفعتهم فليفهم، وروي عن ابن عباس وقتادة وابن جبير أنه الضيف الذي ينزل بالمسلمين * (والسائلين) * أي الطالبين للطعام سواء كانوا أغنياء إلا أن ما عندهم لا يكفي لحاجتهم أو فقراء كما يدل عليه ظاهر ما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن أبي حاتم عن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " للسائل حق وإن جاء على فرس " فإن الجائي على فرس يكون في الغالب غنيا، وقيل: أرد المساكين
46

الذين يسألون فتعرف حالهم بسؤالهم، والمساكين السابق ذكرهم الذين لا يسألون وتعرف حاجتهم بحالهم وإن كان ظاهرهم الغنى وعليه يكون التقييد في الحديث لتأكيد رعاية حق السائل وتحقيق أن السؤال سبب للاستحقاق، وإن فرض وجوده من الغني كالقرابة واليتم.
* (وفي الرقاب) * متعلق ب * (آتى) * أي آتى المال في تخليص الرقاب وفكاكها بمعاونة المكاتبين، أوفك الأسارى، أو ابتياع الرقاب لعتقها، و - الرقبة - مجاز عن الشخص وإيراد كلمة - في للإيذان بأن ما يعطى لهؤلاء مصروف في تخليصهم لا يملكونه كما في المصارف الأخر * (وأقام الصلواة) * عطف على صلة (من) والمراد بالصلاة المفروضة كالزكاة في * (وءاتى الزكواة) * بناءا على أن المراد بما مر من إيتاء المال نوافل الصدقات وقدمت على الفريضة مبالغة في الحث عليها، أو حقوق كانت في المال غير مقدرة سوى الزكاة، أخرج الترمذي والدارقطني وجماعة عن فاطمة بنت قيس قالت: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في المال حق سوى الزكاة ثم قرأ الآية " وأخرج البخاري في " تاريخه " عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه نحو ذلك، واختلف هل بقي هذا الحق أم لا؟ فذهب قوم إلى الثاني واستدلوا بما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا - نسخ الأضحى كل ذبح، ورمضان كل صوم؛ وغسل الجنابة كل غسل، والزكاة كل صدقة - وقال جماعة بالأول لقوله تعالى: * (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) * (الذاريات: 19) ولقوله عليه الصلاة والسلام: " لا يؤمن بالله واليوم الآخر من بات شبعا وجاره طاو إلى جنبه " وللإجماع على أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضرورة وجب على الناس أن يعطوا مقدار دفع الضرورة وإن لم تكن الزكاة واجبة عليهم ولو امتنعوا عن الأداء جاز الأخذ منهم وأجابوا عن الحديث بأنه غريب معارض، وفي إسناده المسيب بن شريك - وهو ليس بالقوي عندهم - وبأن المراد أن الزكاة نسخت كل صدقة مقدرة، وجوز أن يكون المراد بما مر الزكاة المفروضة أيضا ولا تكرار لأن الغرض مما تقدم بيان مصارفها، ومن هذا بيان أدائها والحث عليها وترك ذكر بعض المصارف لأن المقصود ههنا بيان أبواب الخير دون الحصر، وقدم بيان المصرف اهتماما بشأنه فإن الصدقة إنما تعتبر إذا كانت في مصرفها ومحلها كما يدل عليه قوله تعالى: * (قل ما أنفقتهم من خير فللوالدين والأقربين) * (البقرة: 215) وعلى هذا يتعين أن يراد بالسائلين الفقراء
* (والموفون بعهدهم إذا ع‍اهدوا) * عطف على * (من آمن) * ولم يقل وأوفى كما قبله إشارة إلى وجوب استقرار الوفاء، وقيل: رمزا إلى أنه أمر مقصود بالذات، وقيل: إيذانا بمغايرته لما سبق فإنه من حقوق الله تعالى والسابق من حقوق الناس، وعلى هذا فالمراد بالعهد ما لا يحلل حراما ولا يحرم حلالا من العهود الجارية فيما بين الناس، والظاهر حمل العهد على ما يشمل حقوق الحق وحقوق الخلق، وحذف المعمول يؤذن بذلك، والتقييد بالظرف للإشارة إلى أنه لا يتأخر إيفاؤهم بالعهد عن وقت المعاهدة، وقيل: للإشارة إلى عدم كون العهد من ضروريات الدين وليس للتأكيد كما قيل: به * (والص‍ابرين في البأسآء والضرآء) * نصب على المدح بتقدير - أخص أو أمدح - وغير سبكه عما قبله تنبيها على فضيلة الصبر ومزيته على سائر الأعمال حتى كأنه ليس من جنس الأول، ومجي القطع في العطف مما أثبته الأئمة الأعلام ووقع في الكتاب أيضا واستحسنه الأجلة وجعلوه أبلغ من الاتباع وقد جاء في النكرة أيضا كقول الهذلي: ويأوي إلى نسوة عطل * وشعثا مراضيع مثل السعالى
47

و - البأساء - البؤس والفقر، و - الضراء - السقم والوجع وهما مصدران بنيا على فعلاء وليس لهما أفعل لأن أفعل وفعلاء في الصفات والنعوت ولم يأتيا في الأسماء التي ليست بنعوت وقرىء (والصابرون) كما قرىء (والموفين).
* (وحين البأس) * أي وقت القتال وجهاد العدو وهذا من باب الترقي في الصبر من الشديد إلى الأشد لأن الصبر على المرض فوق الصبر على الفقر والصبر على القتال فوق الصبر على المرض، وعدى الصبر على الأولين بفي لأنه لا يعد الإنسان من الممدوحين إذا صبر على شيء من ذلك إلا إذا صار الفقر والمرض كالظرف له وأما إذا أصاباه وقتا ما وصبر فليس فيه مدح كثير إذ أكثر الناس كذلك وأتى - بحين - في الأخير لأن القتال حالة لا تكاد تدوم في أغلب الأوقات.
* (أولا - ئك الذين صدقوا) * في إيمانهم أو طلب البر. * (وأولئك هم المتقون) * عذاب الله تعالى بتجنب معاصيه وامتثال أوامره، وأتى بخبر - أولئك - الأولى: موصولا بفعل ماض أيذانا بتحقق اتصافهم به وإن ذلك قد وقع منهم واستقر، وغاير في خبر الثانية: ليدل على أن ذلك ليس بمتجدد بل صار كالسجية لهم، وأيضا لو أتى به على طبق سابقه لما حسن وقوعه فاصلة، هذا والآية كما ترى مشتملة على خمس عشرة خصلة وترجع إلى ثلاثة أقسام، فالخمسة الأولى منها تتعلق بالكمالات الإنسانية التي هي من قبيل صحة الاعتقاد، وآخرها قوله: * (والنبيين) * وافتتحها بالإيمان بالله واليوم الآخر لأنهما إشارة إلى المبدأ والمعاد اللذين هما المشرق
والمغرب في الحقيقة فليتئم مع ما نفاه أولا غاية الالتئام، والستة التي بعدها تتعلق بالكمالات النفسية التي هي من قبيل حسن معاشرة العباد وأولها * (وآتى المال) * وآخرها * (وفي الرقاب) * والأربعة الأخيرة تتعلق بالكمالات الإنسانية التي هي من قبيل تهذيب النفس وأولها * (وأقام الصلاة) * وآخرها * (وحين البأس) * ولعمري من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان ونال أقصى مراتب الإيقان.
ومن باب التأويل: * (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل) * مشرق عالم الأرواح ومغرب عالم الأجساد فإن ذلك تقيد واحتجاب * (ولكن البر) * بر الموحد الذي آمن بالله والمعاد في مقام الجمع وشاهد الجمع في تفاصيل الكثرة ولم يحتجب بالجمع عن التفصيل الذي هو باطن عالم الملائكة وظاهر عالم النبيين والكتاب الجامع بين الظاهر والباطن * (وآتى) * العلم الذي هو مال القلب مع كونه محبوبا ذوي قربى القوى الروحانية القريبة منه، ويتامى القوى النفسانية المنقطعة عن الأب الحقيقي وهو نور الروح، ومساكين القوى الطبيعية التي لم تزل دائمة السكون إلى تراب البدن وأبناء السبيل السالكين إلى منزل الحق، والسائلين الطالبين بلسان استعدادهم ما يكون غذاء لأرواحهم، وفي فك رقاب عبدة الدنيا وأسراء الشهوات بالوعظ والإرشاد، وأقام صلاة الحضور، وآتى ما يزكي نفسه بنفي الخواطر ومحو الصفات، والموفون بعهد الأزل بترك المعارضة في العبودية والإعراض عما سوى الحق في مقام المعرفة، والصابرين في بأساء الافتقار إلى الله تعالى دائما، وضراء كسر النفس، وحين بأس محاربة العدو الأعظم * (أولئك الذين صدقوا) * الله تعالى في السير إليه وبذل الوجود * (وأولئك هم المتقون) * عن الشرك المنزهون عن سائر الرذائل.
* (ي‍اأيها الذين ءامنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى فمن عفى له من أخيه شىء فاتباع بالمعروف وأدآء إليه بإحس‍ان ذالك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذالك فله عذاب أليم) *
* (ي‍اأيها الذين ءامنوا) * شروع في بيان بعض الأحكام الشرعية على وجه التلافي لما فرط من المخلين بما تقدم من قواعد الدين التي يبنى عليها أمر المعاش والمعاد * (كتب عليكم) * أي فرض وألزم عند مطالبة صاحب الحق فلا يضر فيه قدرة الولي على العفو فإن الوجوب إنما اعتبر بالنسبة إلى الحكام أو القاتلين، وأصل الكتابة الخط ثم كني به عن الإلزام،
48

وكلمة - على - صريحة في ذلك * (القصاص في القتلى) * أي بسببهم على حد " إن امرأة دخلت النار في هرة ربطتها " وقيل: عدى القصاص بفي لتضمنه معنى المساواة إذ معناه أن يفعل بالإنسان مثل ما فعل، ومنه سمي المقص مقصا لتعادل جانبيه، والقصة قصة لأن الحكاية تساوي المحكي، والقصاص قصاصا لأنه يذكر مثل أخبار الناس، والقتلى جمع قتيل كجريح وجرحى، وقرىء كتب على البناء للفاعل، والقصاص بالنصب وليس في إضمار المتعين المتقرر قبل ذكره إضمار قبل الذكر. * (الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى) * جملة مبينة لما قبلها أي الحر يقتص بالحر، وقيل: مأخوذ به، روي أنه كان في الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء وكان لأحدهما طول على الآخر فأقسموا لنقتلن الحر منهم بالعبد والذكر بالأنثى فلما جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فأمرهم أن يتباوؤا، فالآية كما تدل على أن لا يقتل العبد بالحر والأنثى بالذكر لأن مفهوم المخالفة إنما يعتبر إذا لم يعلم نفيه بمفهوم الموافقة وقد علم من قتل العبد بالعبد وقتل الأنثى بالأنثى أنه يقتل العبد بالحر والأنثى بالذكر بطريق الأولى كذلك لا تدل على أن لا يقتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى لأن مفهوم المخالفة كما هو مشروط بذلك الشرط مشروط بأن لا يكون للتخصيص فائدة أخرى، والحديث بين الفائدة وهو المنع من التعدي وإثبات المساواة بين حر وحر وعبد وعبد فمنع الشافعي ومالك قتل الحر بالعبد سواء كان عبده أو عبد غيره ليس للآية بل للسنة والإجماع والقياس، أما الأول: فقد أخرج ابن أبي شيبة عن علي رضي الله تعالى عنه: " أن رجلا قتل عبده فجلده الرسول صلى الله عليه وسلم ونفاه سنة ولم يقده به " وأخرج أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال: " من السنة أن لا يقتل مسلم بذي عهد ولا حر بعبد " وأما الثاني: فقد روى أن أبا بكر. وعمر رضي الله تعالى عنهما كانا لا يقتلان الحر بالعبد بين أظهر الصحابة ولم ينكر عليهما أحد منهم وهم الذين لم تأخذهم في الله تعالى لومة لائم. وأما الثالث: فلأنه لا قصاص في الأطراف بين الحر والعبد بالاتفاق فيقاس القتل عليه. وعند إمامنا الأعظم رضي الله تعالى عنه يقتل الحر بالعبد لقوله صلى الله عليه وسلم: " المسلمون تتكافأ دماؤهم " ولأن القصاص يعتمد المساواة في العصمة وهي بالدين أو بالدار وهما سيان فيهما، والتفاضل في الأنفس غير معتبر بدليل أن الجماعة لو قتلوا واحدا قتلوا به ولقوله تعالى: * (أن النفس بالنفس) * (المائدة: 45) وشريعة من قبلنا إذا قصت علينا من غير دلالة على نسخها فالعمل بها واجب على أنها شريعة لنا، ومن الناس من قال: إن الآية دالة على ما ذهب إليه المخالف لأن الحر بالحر بيان وتفسير لقوله تعالى: * (كتب عليكم القصاص في القتلى) * فدل على أن رعاية التسوية في - الحرية والعبدية - معتبرة، وإيجاب القصاص على - الحر - بقتل العبد إهمال لرعاية التسوية في ذلك المعنى ومقتضى هذا أن لا يقتل العبد إلا بالعبد ولا تقتل الأنثى إلا بالأنثى إلا أن المخالف لم يذهب إليه، وخالف الظاهر للقياس والإجماع، ومن سلم هذا منا ادعى نسخ الآية بقوله تعالى: * (أن النفس بالنفس) * لأنه لعمومه نسخ اشتراط المساواة في الحرية والذكورة المستفادة منها، وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وسعيد بن المسيب والشعبي والنخعي والثوري
49

وأورد عليه أن الآية حكاية ما في التوراة وحجية حكاية شرع من قبلنا مشروطة بأن لا يظهر ناسخه كما صرحوا به، وهو يتوقف على أن لا يوجد في القرآن ما يخالف المحكي إذ لو وجد ذلك كان ناسخا له لتأخره عنه فتكون الحكاية حكاية المنسوخ، ولا تكون حجة فضلا عن أن تكون ناسخا، وبعد تسليم الدلالة يوجد الناسخ كما لا يخفى هذا، وذهب ساداتنا الحنفية والمالكية وجماعة إلى أنه ليس للولي إلا القصاص ولا يأخذ الدية إلا برضا القاتل لأن الله تعالى ذكر في الخطأ الدية فتعين أن يكون القصاص فيما هو ضد الخطأ وهو العمد ولما تعين بالعمد لا يعدل عنه لئلا يلزم الزيادة على النص بالرأي، واعترض بأن منطوق النص وجوب رعاية المساواة في القود وهو لا يقتضي وجوب أصل القود، وأجيب بأن القصاص وهو القود بطريق المساواة يقتضي وجوبهما
* (فمن عفى له من أخيه شيء) * أي ما يسمى شيئا من العفو والتجاوز ولو أقل قليل فالمصدر المبهم في حكم الموصوف فيجوز نيابته عن الفاعل وله مفعول به، و *
(من أخيه) * يجوز أن يتعلق بالفعل ويجوز أن يكون حالا من شيء، وفي إقامة شيء مقام الفاعل على إشعار بأن بعض العفو كأن يعفى عن بعض الدم أو يعفو عنه بعض الورثة كالعفو التام في إسقاط القصاص لأنه لا يتجزأ، والمراد بالأخ ولي الدم سماه أخا استعطافا بتذكير إخوة البشرية والدين، وقيل: المراد به المقتول، والكلام على حذف مضاف أي من دم أخيه، وسماه أخا القاتل للإشارة إلى أن أخوة الإسلام بينهما لا تنقطع بالقتل، و * (عفي) * تعدى إلى الجاني وإلى الجناية بعن يقال: - عفوت عن زيد وعن ذنبه - وإذا عديت إلى الذنب مرادا سواء كان مذكورا أولا كما في الآية عدي إلى الجاني باللام لأن التجاوز عن الأول والنفع للثاني فالقصد هنا إلى التجاوز عن الجناية إلا أنه ترك ذكرها لأن الاهتمام بشأن الجاني، وقدر بعضهم - عن - هذه داخلة على شيء لكن لما حذفت ارتفع لوقوعه موقع الفاعل، وهو من باب الحذف والايصال المقصور على السماع، ومن الناس من فسر (عفي) بترك فهو حينئذ متعد أقيم مفعوله مقام فاعله، واعترض بأنه لم يثبت - عفا - الشيء بمعنى تركه، وإنما الثابت أعفاه، ورد بأنه ورد، ونقله أئمة اللغة المعول عليهم في هذا الشأن وهو وإن لم يشتهر إلا أن إسناد المبني للمجهول إلى المفعول الذي هو الأصل يرجح اعتباره ويجعله أولى من المشهور لما أن فيه إسناد المجهول للمصدر وهو خلاف الأصل، والقول بأن * (شيء) * مرفوع - بترك - محذوفا يدل عليه * (عفي) * ليس بشي لأنه بعد اعتبار معنى العفو لا حاجة إلى معنى الترك بل هو ركيك كما لا يخفى.
* (فاتباع بالمعروف وأداء إليه باحس‍ان) * أي فليكن - اتباع - أو فالأمر - اتباع - والمراد وصية العافي بأن لا يشدد في طلب الدية على المعفو له وينظره إن كان معسرا ولا يطالبه بالزيادة عليها والمعفو بأن لا يمطل العافي فيها ولا يبخس منها ويدفعها عند الإمكان، وإلى هذا ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنه والحسن وقتادة ومجاهد، وقيل: المراد فعلى المعفو له الاتباع والاداء، والجملة خبر (من) على تقدير موصوليتها، وجواب الشرط على تقدير شرطيتها، وربما يستدل بالآية على أن مقتضى العمد القصاص وحده حيث رتب الأمر بأداء الدية على العفو المرتب على وجوب القصاص، واستدل بها بعضهم على أن الدية أحد مقتضى العمد وإلا لما رتب الأمر بأدار الدية على مطلق العفو الشامل للعفو عن كل الدم وبعضه بل يشترط رضا القاتل وتقييده بالبعض، واعترض بأنه إنما يتم لو كان التنوين في (شيء) للإبهام أي شيء من العفو أي شيء كان ككله أو بعضه أما لو كان للتقليل فلا إذ يكون الأمر بالأداء مرتيا على بعض العفو ولا شك أنه إذا تحقق عن الدم يصير
50

الباقي مالا وإن لم يرض القاتل، وأيضا الآية نزلت في الصلح وهو الموافق للأم فإن عفا إذا استعملت بها كان معناها البدل أي فمن أعطي له من جهة أخيه المقتول شيء من المال بطريق الصلح فلمن أعطى وهو الولي مطالبة البدل عن مجاملة وحسن معاملة إلا أن يقال: إنها نزلت في - العفو - كما هو ظاهر اللفظ، وبه قال أكثر المفسرين.
* (ذالك) * أي الحكم المذكور في ضمن بيان العفو والدية * (تخفيف من ربكم ورحم‍اة) * لما في شرعية العفو تسهيل على القاتل، وفي شرعية - الدية - نفع لأولياء المقتول، وعن مقاتل أنه كتب على اليهود القصاص وحده، وعلى النصارى - العفو - مطلقا، وخير هذه الأمة بين الثلاث تيسيرا عليهم وتنزيلا للحكم على حسب المنازل، وعلى هذا يكون * (فمن تصدق) * (المائدة: 45) بيانا لحكم هذه الشريعة بعد حكاية حكم كان في التوراة، ليس داخلا تحت الحكاية * (فمن اعتدى بعد ذالك) * أي تجاوز ما شرع بأن قتل غير القاتل بعد ورود هذا الحكم؛ أو قتل القاتل بعد - العفو - وأخذ الدية * (فله عذاب أليم) * أي نوع من العذاب مؤلم، والمتبادر أنه في الآخرة، والمروي عن الحسن وابن جبير أنه في الدنيا بأن يقتل لا محالة ولا يقبل منه ديه لما أخرجه أبو داود من حديث سمرة مرفوعا " لا أعافي أحدا قتل بعد أخذ الدية ".
* (ولكم في القصاص حيواة ياأولي الألب‍ابلعلكم تتقون) *
* (ولكم في القصاص حيواة) * عطف على قوله تعالى: * (كتب عليكم) * (البقرة: 178) والمقصود منه توطين النفس على الانقياد لحكم القصاص لكونه شاقا للنفس - وهو كلام في غاية البلاغة - وكان أوجز كلام عندهم في هذا المعنى - القتل أنفى للقتل - وفضل هذا الكلام عليه من وجوه، الأول: قلة الحروف، فإن الملفوظ هنا عشرة أحرف - إذا لم يعتبر التنوين حرفا على حدة - وهناك أربعة عشر حرفا، الثاني: الاطراد، إذ في كل - قصاص حياة - وليس كل قتل أنفى للقتل - فإن القتل ظلما أدعى للقتل. الثالث: ما في تنوين (حياة) من النوعية أو التعظيم. الرابع: صنعة الطباق بين - القصاص والحياة - فإن القصاص تفويت - الحياة - فهو مقابلها. الخامس: النص على ما هو المطلوب بالذات - أعني الحياة - فإن نفي - القتل - إنما يطلب لها لا لذاته. السادس: الغرابة من حيث جعل الشيء فيه حاصلا في ضده، ومن جهة أن المظروف إذا حواه الظرف صانه عن التفرق، فكان القصاص فيما نحن فيه يحمي الحياة من الآفات. السابع: الخلو عن التكرار مع التقارب، فإنه لا يخلو عن استبشاع، ولا يعد ردع العجز على الصدر حتى يكون محسنا. الثامن: عذوبة اللفظ وسلاسته حيث لم يكن فيه ما في قولهم من توالي الأسباب الخفيفة إذ ليس في قولهم: حرفان متحركان على التوالي إلا في موضع واحد، ولا شك أنه ينقص من سلاسة اللفظ وجريانه على اللسان، وأيضا الخروج من - الفاء إلى اللام - أعدل من الخروج من - اللام إلى الهمزة لبعد الهمزة من اللام - وكذلك الخروج من - الصاد إلى الحاء - أعدل من الخروج من - الألف إلى اللام - التاسع: عدم الاحتياج إلى الحيثية، وقولهم: يحتاج إليها. العاشر: تعريف القصاص بلام الجنس الدالة على حقيقة هذا الحكم المشتملة على - الضرب والجرح والقتل - وغير ذلك، وقولهم: لا يشمله الحادي عشر: خلوه من أفعل الموهم أن في الترك نفيا للقتل أيضا. الثاني عشر: اشتماله على ما يصلح للقتال وهو - الحياة - بخلاف قولهم، فإنه يشتمل على نفي اكتنفه قتلان، وإنه لمما يليق بهم. الثالث عشر: خلوه عما يوهمه ظاهر قولهم من كون الشيء سببا لانتفاء نفسه - وهو محال إلى غير ذلك - فسبحان من علت كلمته، وبهرت آيته ثم المراد بالحياة إما الدنيوية - وهو الظاهر - لأن في
51

شرع القصاص والعلم به يروع القاتل عن القتل، فكيون سبب حياة نفسين في هذه النشأة، ولأنهم كانوا يقتلون غير القاتل، والجماعة بالواحد، فتثور الفتنة بينهم، وتقوم
حرب البسوس على ساق، فإذا اقتص من القاتل سلم الباقون - ويصير ذلك سببا لحياتهم - ويلزم على الأول: الإضمار، وعلى الثاني: التخصيص، وأما الحياة الأخروية بناءا على أن القاتل إذا اقتص منه في الدنيا لم يؤاخذ بحق المقتول في الآخرة، وعلى هذا يكون الخطاب خاصا بالقاتلين، والظاهر أنه عام والظرفان إما خبران لحياة أو أحدهما خبر والآخر صلة له، أو حال من المستكن فيه. وقرأ أبو الجوزاء * (في القصص) * وهو مصدر بمعنى المفعول، والمراد من المقصوص هذا الحكم بخصوصه - أو القرآن مطلقا - وحينئذ يراد - بالحياة - حياة القلوب لا حياة الأجساد، وجوز كون القصص مصدرا بمعنى القصاص فتبقى - الحياة - على حالها.
* (يأولي الألب‍اب) * يا ذوي العقول الخالصة عن شوب الهوى، وإنما خصهم بالنداء مع أن الخطاب السابق عام لأنهم أهل التأمل في حكمة القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس، وقيل: للإشارة إلى أن الحكم مخصوص بالبالغين دون الصبيان * (لعلكم تتقون) * ربكم باجتناب معاصيه المفضية إلى العذاب أو القتل بالخوف من القصاص وهو المروي عن ابن عباس والحسن وزيد رضي الله تعالى عنهم، والجملة متعلقة بأول الكلام.
* (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين) *
* (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت) * بيان حكم آخر من الأحكام المذكورة، وفصله عما سبق للدلالة على كونه حكما مستقلا - كما فصل اللاحق لذلك - ولم يصدره بيا أيها الذين آمنوا لقرب العهد بالتنبيه مع ملابسته بالسابق في كون كل منهما متعلقا بالأموات، أو لأنه لما لم يكن شاقا لم يصدره كما صدر الشاق تنشيطا لفعله، والمراد من - حضور الموت - حضور أسبابه، وظهور أماراته من العلل والأمرار المخوفة، أو حضوره نفسه ودونه، وتقديم المفعول لإفادة كمال تمكن الفعل عند النفس وقت وروده عليها.
* (إن ترك خ‍ايرا) * أي مالا - كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه ومجاهد - وقيده بعضهم بكونه كثيرا إذ لا يقال في العرف للمال خيرا إلا إذا كان كثيرا، كما لا يقال: فلان ذو مال إلا إذا كان له مال كثير، ويؤيده ما أخرجه البيهقي وجماعة - عن عروة - أن عليا كرم الله تعالى وجهه دخل على مولى له في الموت وله سبعمائة درهم أو ستمائة درهم، فقال: ألا أوصي؟ قال: لا إنما قال الله تعالى: * (إن ترك خيرا) * وليس لك كثير مال، فدع مالك لورثتك. وما أخرجه ابن أبي شيبة عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رجلا قال لها: أريد أن أوصي، قالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف، قالت: كم عيالك؟ قال: أربعة، قالت: قال الله تعالى: * (إن ترك خيرا) * وهذا شيء يسير فاتركه لعيالك فهو أفضل، والظاهر من هذا أن الكثرة غير مقدرة بمقدار، بل تختلف باختلاف حال الرجل فإنه بمقدار من المال يوصف رجل بالغنى ولا يوصف به غيره لكثرة العيال. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تقديرها، فقد أخرج عبد بن حميد عنه: " من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا " ومذهب الزهري أن الوصية مشروعة مما قل أو كثر، - فالخير - عنده المال مطلقا - وهو أحد إطلاقاته - ولعل اختياره إيذانا بأنه ينبغي أن يكون الموصي به حلالا طيبا لا خبيثا لأن الخبيث يجب رده إلى أربابه ويأثم بالوصية فيه.
* (الوصية للوالدين والأقربين) * مرفوع بكتب وفي الرضى إذا كان الظاهر غير حقيقي التأنيث منفصلا فترك
52

العلامة أحسن إظهار الفضل الحقيقي على غيره - ولهذا اختير هنا تذكير الفعل - والوصية اسم من أوصى يوصي، وفي " القاموس " أوصاه وصاه توصية - عهد إليه - والاسم الوصاية والوصية وهي الموصى به أيضا والجار متعلق بها فلا بد من تأويلها بأن مع الفعل عند الجمهور، أو بالمصدر بناءا على تحقيق الرضي من أن عمل المصدر لا يتوقف على تأويله، وهو الراجح ولذلك ذكر الراجع في بدله، وجوز أن يكون النائب (عليكم) و (الوصية) خبر مبتدأ كأنه قيل: ما المكتوب؟ فقيل: هو الوصية، وجواب الشرط محذوف دل عليه * (كتب عليكم) *، وقيل: مبتدأ خبره * (للوالدين) * والجملة جواب الشرط بإضمار الفاء لأن الاسمية إذا كانت جزاء لا بد فيها منها، والجملة الشرطية مرفوعة بكتب أو (عليكم) وحده، والجملة استئنافية ورد بأن إضمار الفاء غير صحيح لا يجترىء عليه إلا في ضرورة الشعر كما قال الخليل، والعالم في (إذا) معنى (كتب) والظرف قيد للإيجاب من حيث الحدوث والوقوع، والمعنى توجه خطاب الله تعالى (عليكم) ومقتضى كتابته (إذا حضر) وغير إلى ما ترى لينظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل، وجوز أن يكون العامل الوصية، وهي وإن كانت اسما إلا أنها مؤولة بالمصدر أو بأن والفعل، والظرف مما يكفيه رائحة الفعل لأن له شأنا ليس لغيره لتنزيله من الشيء منزلة نفسه لوقوعه فيه، وعدم انفكاكه عنه، ولهذا توسع في الظروف ما لم يتوسع في غيرها، وليس كل مؤول بشيء حكمه حكم ما أول به، وقد كثر تقديم معمول المصدر عليه في الكلام، والتقدير تكلف، ولا يرد على التقديرين أن الوصية واجبة على - من حضره الموت - لا على جميع المؤمنين عند حضور أحدهم الموت لأن * (أحدكم) * يفيد العموم على سبيل البدل فمعنى * (إذا حضر أحدكم) * إذا حضر واحدا بعد واحد، وإنما زيد لفظ - أحد - للتنصيص على كنها فرض عين لا كفاية كما في * (كتب عليكم القصاص في القتلى) * (البقرة: 178) والقول بأن الوصية لم تفرض على من - حضره الموت - فقط بل عليه بأن يوصي، وعلى الغير بأن يحفظ ولا يبدل، ولهذا قال: * (عليكم) * وقال: * (أحدكم) * لأن الموت يحضر أحد المخاطبين بالافتراض عليهم ليس بشيء لأن حفظ الوصية إنما يفرض على البعض بعد الوصية لا وقت الاحتضار فكيف يصح أن يقال: فرض عليكم حفظ الوصية إذا حضر أحدكم الموت ولأن إرادة الإيصاء، وحفظه من الوصية تعسف لا يخفى، واختار بعض المحققين أن * (إذا) * شرطية وجواب كل من الشرطين محذوف، والتقدير: إذا حضر أحدكم الموت - فليوص إن ترك خيرا - فليوص فحذف جواب الشرط الأول لدلالة السياق عليه، وحذف جواب الشرط الثاني لدلالة الشرط الأول وجوابه عليه، والشرط الثاني عند صاحب " التسهيل " مقيد للأول كأنه قيل: إذا حضر أحدكم الموت تاركا للخير فليوص، ومجموع الشرطين معترض بين * (كتب) * وفاعله لبيان كيفية الإيصاء قبل، ولا يخفى أن هذا الوجه مع غنائه عن تكلف تصحيح الظرفية وزيادة لفظ - أحد - أنسب بالبلاغة القرآنية حيث ورد الحكم أولا مجملا
ثم مفصلا ووقع الاعتراض بين الفعل وفاعله للاهتمام ببيان كيفية الوصية الواجبة انتهى، وأنت تعلم ما في ذلك من كثرة الحذف المهونة لما تقدم، ثم إن هذا الحكم كان في بدء الإسلام ثم نسخ بآية المواريث كما قاله ابن عباس وابن عمر وقتادة وشريح ومجاهد وغيرهم وقد أخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه، والنسائي وابن ماجه عن عمرو بن خارجة رضي الله تعالى عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبهم على راحلته فقال: " إن الله قد قسم لكل إنسان نصيبه من الميراث فلا تجوز لوارث وصية " وأخرج أحمد والبيهقي في " سننه " عن أبي أمامة الباهلي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في خطبته يقول: " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " وأخرج عبد بن حميد عن الحسن نحو ذلك،
وهذه الأحاديث لتلقي الأمة لها بالقبول انتظمت في سلك المتواتر
53

في صحة النسخ بها عند أئمتنا قدس الله أسرارهم بل قال البعض: إنها من المتواتر وأن التواتر قد يكون بنقل من لا يتصور تواطؤهم على الكذب وقد يكون بفعلهم بأن يكونوا عملوا به من غير نكير منهم على أن النسخ في الحقيقة بآية المواريث والأحاديث مبينة لجهة نسخها، وبين فخر الإسلام ذلك بوجهين: الأول: أنها نزلت بعد آية الوصية بالاتفاق وقد قال تعالى: * (من بعد وصية يوصي بها أو دين) * (النساء: 11) فرتب الميراث على - وصية - منكرة - والوصية - الأولى كانت معهودة فلو كانت تلك - الوصية - باقية لوجب ترتيبه على المعهود فلما لم يترتب عليه ورتب على المطلق دل على نسخ الوصية المقيدة لأن الإطلاق بعد التقييد نسخ كما أن التقييد بعد الإطلاق كذلك لتغاير المعنيين. والثاني: أن النسخ نوعان، أحدهما: ابتداء بعد انتهاء محض، والثاني: بطريق الحوالة من محل إلى آخر كما في نسخ القبلة، وهذا من قبيل الثاني لأن الله تعالى فرض الإيصاء في الأقربين إلى العباد بشرط أن يراعوا الحدود، ويبينوا حق كل قريب بحسب قرابته، وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (بالمعروف) * أي بالعدل، ثم لما كان الموصي قد لا يحسن التدبير في مقدار ما يوصي لكل واحد منهم وربما كان يقصد المضارة تولى بنفسه بيان ذلك الحق على وجه تيقن به بأنه الصواب وأن فيه الحكمة البالغة، وقصره على حدود لازمة من السدس والثلث والنصف والثمن لا يمكن تغيرها فتحول من جهة الإيصاء إلى الميراث فقال: * (يوصيكم الله في أولادكم) * (النساء: 11) أي الذي فوض إليكم تولى شأنه بنفسه إذ عجزتم عن مقاديره لجهلكم، ولما بين بنفسه ذلك الحق بعينه انتهى حكم تلك الوصية لحصول المقصود بأقوى الطرق كمن أمره غيره بإعتاق عبده ثم أعتقه بنفسه فإنه بذلك انتهى حكم الوكالة، وإلى ذلك تشير الأحاديث لما أن - الفاء - تدل على سببية ما قبلها لما بعدها فما قيل: إن من أن آية المواريث لا تعارض هذا الحكم بل تحققه من حيث تدل على تقديم الوصية مطلقا، والأحاديث من الآحاد وتلقي الأمة لها بالقبول لا تلحقها بالمتواتر، ولعله احترز عن النسخ من فسر الوصية بما أوصى به الله عز وجل رجل من توريث الوالدين والأقربين بقوله سبحانه: * (يوصيكم الله) * (النساء: 11) أو بإيصاء المحتضر لهم بتوفير ما أوصى به الله تعالى عليهم على ما فيه بمعزل عن التحقيق وكذا ما قيل: من أن الوصية للوارث كانت واجبة بهذه الآية من غير تعيين لأنصبائهم فلما نزلت آية المواريث بيانا للأنصباء بلفظ الإيصاء فهم منها بتنبيه النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد منه هذه الوصية التي كانت واجبة كأنه قيل: إن الله تعالى أوصى بنفسه تلك الوصية ولم يفوضها إليكم فقام الميراث مقام الوصية فكان هذا معنى النسخ لا أن فيها دلالة على رفع ذلك الحكم لأن كون آية المواريث رافعة لذلك الحكم مبينة لانتهائه مما لا ينبغي أن يشتبه على أحد، ثم إن القائلين بالنسخ اختلفوا، فمنهم من قال: إن وجوبها صار منسوخا في حق الأقارب الذين يرثون وبقي في حق الذين لا يرثون من الوالدين والأقربين كأن يكونوا كافرين، وإليه ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية، ومنهم من قال: إن الوجوب صار منسوخا في حق الكافة وهي مستحبة في حق الذين لا يرثون وإليه ذهب الأكثرون، واستدل محمد بن الحسن بالآية على أن مطلق الأقربين لا يتناول الوالدين لعطفه عليه.
* (حقا على المتقين) * مصدر مؤكد للحدث الذي دل عليه * (كتب) * وعامله إما * (كتب) * أو (حق) محذوفا أي حق ذلك حقا فهو على طرز قعدت جلوسا، ويحتمل أن يكون مؤكدا لمضمون جملة * (كتب عليكم) * وإن اعتبر إنشاء فيكون على طرز - له علي ألف - عرفا، وجعله صفة
54

لمصدر محذوف أي إيصاءا حقا ليس بشيء وعلى التقديرين * (على المتقين) * صفة له أو متعلق بالفعل المحذوف على المختار، ويجوز أن يتعلق بالمصدر لأن المفعول المطلق يعمل نيابة عن الفعل، والمراد - بالمتقين - المؤمنون ووضع المظهر موضع المضمر للدلالة على أن المحافظة على الوصية والقيام بها من شعائر المتقين الخائفين من الله تعالى.
* (فمن بدله بعدما سمعه فإنمآ إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم) *
* (فمن بدله) * أي غير الإيصاء من شاهد ووصي، وتغيير كل منهما إما بإنكار الوصية من أصلها أو بالنقص فيها أو بتبديل صفتها أو غير ذلك، وجعل الشافعية من التبديل عموم وصيته من أوصي إليه بشيء خاص، فالموصى بشيء خاص لا يكون وصيا في غيره عندهم ويكون عندنا وليس ذلك من التبديل في شيء * (بعد ما سمعه) * أي علمه وتحقق لديه، وكنى بالسماع عن العلم لأنه طريق حصوله.
* (فانما إثمه على الذين يبدلونه) * أي فما إثم الإيصاء المبدل أو التبديل، والأول: رعاية لجانب اللفظ، والثاني: رعاية لجانب المعنى إلا على مبدليه لا على الموصي لأنهم الذين خالفوا الشرع وخانوا، ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على علية التبديل للإثم، وإيثار صيغة الجمع مراعاة لمعنى من، وفيه إشعار بشمول الإثم لجميع الأفراد.
* (إن الله سميع عليم) * فيسمع أقوال المبدلين والموصين ويعلم بنياتهم فيجازيهم على وفقها، وفي هذا وعيد للمبدلين ووعد للموصين، واستدل بالآية على أن الفرض يسقط عن الموصي بنفس الوصية ولا يلحقه ضرر إن لم يعمل بها، وعلى أن من كان عليه دين فأوصى بقضائه يسلم من تبعته في الآخرة وإن ترك الوصي والوارث
قضاءه - وإلى ذلك ذهب إلكيا - والذي يميل القلب إليه أن المديون لا تبعة عليه بعد الموت مطلقا ولا يحبس في قبره - كما يقوله الناس - أما إذا لم يترك شيئا ومات معسرا فظاهر لأنه لو بقي حيا لا شيء عليه بعد تحقق إعساره سوى نظرة إلى ميسرة، فمؤاخذته وحبسه في قبره بعد ذهابه إلى اللطيف الخبير مما لا يكاد يعقل، وأما إذا ترك شيئا وعلم الوارث بالدين أوبرهن عليه به كان هو المطالب بأدائه والملزم بوفائه فإذا لم يؤد ولم يف أوخذ هو لا من مات وترك ما يوفي منه دينه كلا أو بعضا فإن مؤاخذة من يقول يا رب تركت ما يفي ولم يف عني من أوجبت عليه الوفاء بعدي ولو أمهلتني لوفيت مما ينافي الحكمة ولا تقتضيه الرحمة، نعم المؤاخذة معقولة فيمن استدان لحرام وصرف المال في غير رضا الملك العلام، وما ورد في الأحاديث محمول على هذا أو نحوه وأخذ ذلك مطلقا مما لا يقبله العقل السليم والذهن المستقيم.
* (فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) *
* (فمن خاف من موص جنفا أو إثما) * الجنف مصدر جنف كفرح مطلق الميل والجور، والمراد به الميل في الوصية من غير قصد بقرينة مقابلته بالإثم فإنه إنما يكون بالقصد، ومعنى خاف توقع وعلم ومنه قوله: إذا مت فادفني إلى جنب كرمة * تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني بالفلاة فإنني * أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
وتحقيق ذلك أن الخوف حالة تعتري عند انقباض من شر متوقع فلتلك الملابسة استعمل في التوقع وهو قد يكون مظنون الوقوع وقد يكون معلومه فاستعمل فيهما بمرتبة ثانية ولأن الأول أكثر كان استعماله فيه أظهر، ثم أصله أن يستعمل في الظن والعلم بالمحذور، وقد يتسع في إطلاقه على المطلق وإنما حمل على المجاز هنا لأنه لا معنى للخوف من الميل والإثم بعد وقوع الإيصاء وقرأ أهل الكوفة غير حفص ويعقوب (من موص) بالتشديد والباقون بالتخفيف.
* (فأصلح بينهم) * أي بين الموصي لهم من الوالدين والأقربين بإجرائهم على نهج الشرع؛ وقيل: المراد فعل مافيه الصلاح بين الموصي والموصى له بأن يأمر بالعدل والرجوع عن الزيادة وكونها للأغنياء
55

وعليه لا يراد الصلح المرتب على الشقاق فإن الموصي والموصى له لم يقع بينهما شقاق * (فلا إثم عليه) * في ذلك التبديل لأنه تبديل باطل إلى حق بخلاف السابق، واستدل بالآية على أنه إذا أوصى بأكثر من الثلث لا تبطل الوصية كلها خلافا لزاعمه وإنما يبطل منها ما زاد عليه لأن الله تعالى لم يبطل الوصية جملة بالجور فيها بل جعل فيها الوجه الأصلح * (إن الله غفور رحيم) * تذييل أتى به للوعد بالثواب للمصلح على إصلاحه وذكر المغفرة مع أن الإصلاح من الطاعات وهي إنما تليق من فعل ما لا يجوز لتقدم ذكر الإثم الذي تتعلق به المغفرة ولذلك حسن ذكرها وفائدتها التنبيه على الأعلى بما دونه يعني أنه تعالى غفور للآثام فلأن يكون رحيما من أطاعه من باب الأولى، ويحتمل أن يكون ذكرها وعدا للمصلح بمغفرة ما يفرط منه في الإصلاح إذ ربما يحتاج فيه إلى أقوال كاذبة وأفعال تركها أولى، وقيل: المراد غفور للجنف والإثم الذي وقع من الموصي بواسطة إصلاح الوصي وصيته، أو غفور للموصي بما حدث به نفسه من الخطأ والعمل إذ رجع إلى الحق، أو غفور للمصلح بواسطة إصلاحه بأن يكون الإصلاح مكفرا لسيآته والكل بعيد.
* (ياأيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) *
* (ي‍اآيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام) * بيان لحكم آخر من الأحكام الشرعية وتكرير النداء لإظهار الاعتناء مع بعد العهد، والصيام كالصوم مصدر صام وهو لغة الإمساك، ومنه يقال للصمت صوم لأنه إمساك عن الكلام، قال ابن دريد: كل شيء تمكث حركته فقد صام، ومنه قول النابغة: خيل (صيام) وخيل غير - صائمة * تحت العجاج - وأخرى تعلك اللجما
فصامت الريح ركدت، وصامت الشمس إذا استوت في منتصف النهار، وشرعا إمساك عن أشياء مخصوصة على وجه مخصوص في زمان مخصوص ممن هو على صفات مخصوصة * (كما كتب على الذين من قبلكم) * أي الأنبياء والأمم من لدن آدم عليه الصلاة والسلام إلى يومنا كما هو ظاهر عموم الموصول، وعن ابن عباس، ومجاهد رضي الله تعالى عنهما أنهم أهل الكتاب، وعن الحسن، والسدي، والشعبي، أنهم النصارى، وفيه تأكيد للحكم وترغيب فيه وتطييب لأنفس المخاطبين فيه، فإن الأمور الشاقة إذا عمت طابت، والمراد بالمماثلة إما المماثلة في أصل الوجوب - وعليه أبو مسلم والجبائي - وإما في الوقت والمقدار بناء على أن أهل الكتاب فرض عليهم صوم رمضان فتركه اليهود إلى صوم يوم من السنة زعموا أنه اليوم الذي أغرق فيه فرعون، وزاد فيه النصارى يوما قبل ويوما بعد احتياطا حتى بلغوا فيه خمسين يوما فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى زمن نزول الشمس برج الحمل، وأخرج ابن حنظلة، والنحاس، والطبراني عن مغفل بن حنظلة مرفوعا " كان على النصارى صوم شهر رمضان فمرض ملكهم فقالوا: لئن شفاه الله تعالى لنزيدن عشرا، ثم كان آخر فأكل لحما فأوجع فوه فقالوا: لئن شفاه الله لنزيدن سبعة، ثم كان عليهم ملك آخر فقال: ما ندع من هذه الثلاثة أيام شيئا أن نتمها ونجعل صومنا في الربيع ففعل فصارت خمسين يوما "، وفي * (كما) * خمسة أوجه. أحدها: أن محله النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي - كتب كتبا - مثل ما كتب. الثاني: أنه في محل نصب حال من المصدر المعرفة أي - كتب عليكم الصيام الكتب - مشبها بما كتب، و (ما) على الوجهين مصدرية. الثالث: أن يكون نعتا لمصدر من لفظ الصيام أي صوما مماثلا للصوم المكتوب على من قبلكم. الرابع: أن يكون حالا من الصيام أي حال كونه مماثلا لما كتب، و (ما) على الوجهين موصولة. الخامس: أن يكون في محل رفع على أنه صفة للصيام بناء على أن المعرفة - بأل - الجنسية
56

قريب من النكرة.
* (لعلكم تتقون) * أي كي تحذروا المعاصي فإن الصوم يعقم الشهوة التي هي أمها أو يكسرها. فقد أخرج البخاري، ومسلم في " صحيحيهما " عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: " قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " ويحتمل أن يقدر المفعول الاخلال بأدائه، وعلى الأول: يكون الكلام متعلقا بقوله: * (كتب) * من غير نظر إلى التشبيه، وعلى الثاني: بالنظر إليه أي كتب عليكم مثل ما كتب على الأولين لكي - تتقوا - الإخلال بأدائه بعد العلم بأصالته وقدمه ولا حاجة إلى تقدير محذوف أي أعلمتكم الحكم المذكور لذلك - كما قيل به - وجوز أن يكون الفعل منزلا منزل اللازم أي لكي تصلوا بذلك إلى رتبة التقوى.
* (أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) *
* (أياما معدودات) * أي معينات بالعد أو قليلات لأن القليل يسهل عده فيعد والكثير يؤخذ جزافا قال مقاتل: كل معدودات في القرآن أو - معدودة - دون الأربعين ولا يقال ذلك لما زاد، والمراد بهذه الأيام إما رمضان واختار ذلك ابن عباس والحسن وأبو مسلم رضي الله تعالى عنه وأكثر المحققين - وهو أحد قولي الشافعي - فيكون الله سبحانه وتعالى قد أخبر أولا أنه كتب علينا الصيام ثم بينه بقوله عز وجل: * (أياما معدودات) * فزال بعض الإبهام ثم بينه بقوله عز من قائل: * (شهر رمضان) * (البقرة: 185) توطينا للنفس عليه، واعترض بأنه لو كان المراد ذلك لكان ذكر المريض والمسافر تكرارا، وأجيب بأنه كان في الابتداء صوم رمضان واجبا على التخيير بينه وبين الفدية فحين نسخ التخيير وصار واجبا على التعيين كان مظنة أن يتوهم أن هذا الحكم يعم الكل حتى يكون المريض والمسافر فيه كالمقيم والصحيح فأعيد حكمهما تنبيها على أن رخصتهما باقية بحالها لم تتغير كما تغير حكم المقيم والصحيح؛ وأما ما وجب صومه قبل وجوبه وهو ثلاثة أيام من كل شهر - وهي أيام البيض - على ما روى عن عطاء ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنه، أو ثلاثة من كل شهر ويوم عاشوراء على ما روي عن قتادة، واتفق أهل هذا القول على أن هذا الواجب قد نسخ بصوم رمضان، واستشكل بأن فرضيته إنما ثبتت بما في هذه الآية فإن كان قد عمل بذلك الحكم مدة مديدة - كما قيل به - فكيف يكون الناسخ متصلا وإن لم يكن عمل به لا يصح النسخ إذ لا نسخ قبل العمل؟ وأجيب أما على اختيار الأول فبأن الاتصال في التلاوة لا يدل على الاتصال في النزول، وأما على اختيار الثاني فبأن الأصح جواز النسخ قبل العمل فتدبر.
وانتصاب * (أياما) * ليس بالصيام كما قيل لوقوع الفصل بينهما بأجنبي بل بمضمر دل هو عليه أعني صوموا إما على الظرفية أو المفعولية اتساعا، وقيل: منصوب بفعل يستفاد من كاف التشبيه، وفيه بيان لوجه المماثلة كأنه قيل: كتب عليكم الصيام مماثلا لصيام الذين من قبلكم في كونه أياما معدودات أي المماثلة واقعة بين الصيامين من هذا الوجه وهو تعلق كل منهما بمدة غير متطاولة، فالكلام من قبيل زيد كعمرو " فقها "، وقيل: نصب على أنه مفعول ثان - لكتب - على الاتساع ورده في " البحر " بأن الاتساع مبني على جواز وقوعه ظرفا - لكتب - وذا لا يصح لأن الظرف محل الفعل، والكتابة ليست واقعة في الأيام وإنما الواقع فيها متعلقها وهو الصيام، وأجيب بأنه يكفي للظرفية ظرفية المتعلق كما في * (يعلم ما في السموات والأرض) * (التغابن: 4) وبأن معنى: * (كتب) * فرض، وفرضية الصيام واقعة في الأيام
* (فمن كان منكم مريضا) * مرضا يعسر عليه الصوم معه كما يؤذن به قوله تعالى فيما بعد: * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * (البقرة: 185) وعليه أكثر الفقهاء، وذهب ابن سيرين وعطاء والبخاري إلى أن المرخص مطلق
57

المرض عملا بإطلاق اللفظ، وحكي أنهم دخلوا على ابن سيرين في رمضان وهو يأكل فاعتل بوجع إصبعه وهو قول للشافعية. * (أو على سفر) * أو راكب سفر مستعل عليه متمكن منه بأن اشتغل به قبل الفجر ففيه إيماء إلى أن من سافر في أثناء اليوم لم يفطر ولهذا المعنى أوثر على مسافرا، واستدل بإطلاق السفر على أن القصير وسفر المعصية مرخص للإفطار، وأكثر العلماء على تقييده بالمباح وما يلزمه العسر غالبا وهو السفر إلى المسافة المقدرة في الشرع.
* (فعدة من أيام أخر) * أي فعليه صوم عدة أيام المرض والسفر من أيام أخر إن أفطر وحذف الشرط والمضافان للعلم بهما، أما الشرط فلأن المريض والمسافر داخلان في الخطاب العام فدل على وجوب الصوم عليهما فلو لم يتقيد الحكم هنا به لزم أن يصير المرض والسفر اللذان هما من موجبات اليسر شرعا وعقلا موجبين للعسر، وأما المضاف الأول: فلأن الكلام في الصوم ووجوبه، وأما الثاني: فلأنه لما قيل - من كان مريضا أو مسافرا فعليه عدة - أي أيام معدودة موصوفة بأنها من أيام أخر علم أن المراد معدودة بعدد أيام المرض والسفر واستغنى عن الإضافة وهذا الإفطار مشروع على سبيل الرخصة فالمريض والمسافر إن شاآ صاما وإن شاآ أفطرا كما عليه أكثر الفقهاء إلا أن الإمام أبا حنيفة ومالكا قالا: الصوم أحب، والشافعي وأحمد والأوزاعي قالوا: الفطر أحب، ومذهب الظاهرية وجوب الإفطار وأنهم إذا صاما لا يصح صومهما لأنه قبل الوقت الذي يقتضيه ظاهر الآية، ونسب ذلك إلى ابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة، وجماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنه - وبه قال الإمامية - وأطالوا بالاستدلال على ذلك بما رووه عن أهل البيت، واستدل بالآية على جواز القضاء متتابعا ومتفرقا وأنه ليس على الفور خلافا لداود، وعلى أن من أفطر رمضان كله قضى - أياما معدودة - فلو كان تاما لم يجزه شهر ناقص أو ناقصا لم يلزمه شهر كامل خلافا لمن خالف في الصورتين، واحتج بها أيضا من قال: لا فدية مع القضاء وكذا من قال: إن المسافر إذا أقام والمريض إذا شفي أثناء النهار لم يلزمهما الإمساك بقيته لأن الله تعالى إنما أوجب عدة من أيام أخر وهما قد أفطرا فحكم الإفطار باق لهما ومن حكمه أن لا يجب أكثر من يوم ولو أمرناه بالإمساك ثم القضاء لأوجبنا بدل اليوم أكثر منه، ولا يخفى ما فيه، وقرىء (فعدة) بالنصب على أنه مفعول لمحذوف أي فليصم عدة ومن قدر الشرط هناك قدره هنا
* (وعلى الذين يطيقونه) * أي وعلى المطيقين للصيام إن أفطروا. * (فدية) * أي إعطاؤها. * (طعام مسكين) * هي قدر ما يأكله كل يوم وهي نصف صاع من بر أو صاع من غيره عند أهل العراق ومد عند أهل الحجاز لكل يوم وكان ذلك في بدء الإسلام لما أنه قد فرض عليهم الصوم وما كانوا متعودين له فاشتد عليهم فرخص لهم في الإفطار والفدية، أخرج البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي والنسائي، والطبراني، وآخرون عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه عنه قال: لما نزلت هذة الآية * (وعلى الذين يطيقونه) * كان من شاء منا صام، ومن شاء أفطر ويفتدي فعل ذلك حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * (البقرة: 185)، وقرأ سعيد بن المسيب: (يطيقونه) بضم الياء الأولى وتشديد الياء الثانية، ومجاهد، وعكرمة، * (يطيقونه) * بتشديد الطاء والياء الثانية وكلتا القراءتين على صيغة المبني للفاعل على أن أصلهما يطيوقونه ويتطيوقونه من فيعل وتفيعل لا من فعل وتفعل وإلا لكان بالواو دون الياء لأنه من طوق وهو واوي، وقد جعلت الواو ياءا فيهما ثم أدغمت الياء في الياء ومعناهما يتكلفونه، وعائشة رضي الله تعالى عنها * (يطوقونه) * بصيغة المبني للمفعول من التفعيل أي يكلفونه أو يقلدونه من الطوق بمعنى الطاقة أو القلادة، ورويت الثلاث
58

عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أيضا، وعنه * (يتطوقونه) * بمعنى يتكلفونه أو يتقلدونه ويطوقونه - بإدغام التاء في الطاء - وذهب إلى عدم النسخ - كما رواه البخاري، وأبو داود وغيرهما - وقال: إن الآية نزلت في الشيخ الكبير الهرم، والعجوز الكبيرة الهرمة. ومن الناس من لم يقل بالنسخ أيضا على القراءة المتواترة وفسرها بيصومونه جهدهم وطاقتهم، وهو مبني على أن - الوسع - اسم للقدرة على الشيء على وجه السهولة - والطاقة - اسم للقدرة مع الشدة والمشقة، وفيصير المعنى: وعلى الذين يصومونه مع الشدة والمشقة فيشمل نحو الحبلى والمرضع أيضا، وعلى أنه من أطاق الفعل بلغ غاية طوقه أو فرغ طوقه فيه، وجاز أن تكون - الهمزة - للسلب كأنه سلب طاقته بأن كلف نفسه المجهود فسلب طاقته عند تمامه، ويكون مبالغة في بذل المجهود لأنه مشارف لزوال ذلك - كما في " الكشف " - والحق أن كلا من القراآت يمكن حملها على ما يحتمل النسخ وعلى ما لا يحتمله، - ولكل ذهب بعض - وروي عن حفصة أنها قرأت * (وعلى الذين لا يطيقونه) * وقرأ نافع، وابن عامر بإضافة (فدية) إلى - الطعام وجمع المسكين - والإضافة حينئذ من إضافة الشيء إلى جنسه - كخاتم فضة - لأن طعام المسكين يكون فدية وغيرها، وجمع المسكين لأنه جمع في * (وعلى الذين يطيقونه) * فقابل الجمع بالجمع، ولم يجمع (فدية) لأنها مصدر - والتاء فيها للتأنيث لا للمرة - ولأنه لما أضافها إلى مضاف إلى الجمع فهم منها الجمع.
* (فمن تطوع خيرا) * بأن زاد على القدر المذكور في - الفدية - قال مجاهد: أو زاد على عدد من يلزمه إطعامه فيطعم مسكينين فصاعدا - قاله ابن عباس - أو جمع بين الإطعام والصوم - قاله ابن شهاب -. * (فهو خير له) * أي التطوع أو الخير الذي تطوعه، وجعل بعضهم الخير الأول مصدر - خرت يا رجل وأنت خائر - أي حسن، والخير الثاني اسم تفضيل - فيفيد الحمل أيضا بلا مرية - وإرجاع الضمير إلى (من) أي فالمتطوع خير من غيره لأجل التطوع لا يخفى بعده * (وأن تصوموا) * أي أيها المطيقون المقيمون الأصحاء، أو المطوقون من الشيوخ والعجائز، أو المرخصون في الإفطار من الطائفتين، والمرضى والمسافرين، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب جبرا لكلفة الصوم بلذة المخاطبة، وقرأ أبي (والصيام خير لكم) من الفدية أو تطوع الخير على الأولين، أو منهما ومن التأخير للقضاء على الأخير * (إن كنتم تعلمون) * ما في الصوم من الفضيلة، وجواب * (إن) * محذوف ثقة بظهوره - أي اخترتموه - وقيل: معناه إن كنتم من أهل العلم علمتم أن الصوم خير لكم من ذلك، وعليه تكون الجملة تأكيدا لخيرية الصوم وعلى الأول تأسيسا.
* (شهر رمضان الذىأنزل فيه القرآن هدى للناس وبين‍ات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) *
* (شهر رمضان) * مبتدأ خبره الموصول بعده، ويكون ذكر الجملة مقدمة لفرضية صومه بذكر فضله، أو * (فمن شهد) * والفاء لتضمنه معنى الشرط لكونه موصوفا بالموصول، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلكم الوقت الذي كتب عليكم الصيام فيه، أو المكتوب شهر رمضان، أو بدل من الصيام بدل كل بتقدير مضاف، أي كتب عليكم الصيام صيام شهر رمضان، وما تخلل بينهما من الفصل متعلق ب * (كتب) * (البقرة: 183) لفظا أو معنى فليس بأجنبي مطلقا، وإن اعتبرته بدل اشتمال استغنيت عن التقدير، إلا أن كون الحكم السابق - وهو فرضية الصوم - مقصودا بالذات، وعدم كون ذكر المبدل منه مشوقا إلى ذكر البدل يبعد ذلك، وقرىء * (شهر) * بالنصب على أنه مفعول لصوموا محذوفا؛ وقيل: إنه مفعول * (وأن تصوموا) * (البقرة: 184) وفيه لزوم الفصل بين أجزاء المصدرية
59

بالخبر، وجوز أن يكون مفعول * (تعلمون) * (البقرة: 184) بتقدير مضاف - أي شرف شهر رمضان ونحوه - وقيل: لا حاجة إلى التقدير، والمراد: إن كنتم تعلمون نفس الشهر ولا تشكون فيه، وفيه إيذان بأن الصوم لا ينبغي مع الشك - وليس بشيء كما لا يخفى - والشهر المدة المعينة التي ابتداؤها رؤية الهلال، ويجمع في القلة على أشهر، وفي الكثرة على شهور، وأصله من شهر الشيء أظهره، وهو - لكونه ميقاتا للعبادات والمعاملات - صار مشهورا بين الناس، و * ((مضان) مصدر رمض - بكسر العين - إذا احترق، وفي " شمس العلوم " من المصادر التي يشترك فيها الأفعال فعلان - بفتح الفاء والعين - وأكثر ما يجيء بمعنى المجيء والذهاب والاضطراب - كالخفقان والعسلان واللمعان - وقد جاء لغير المجيء والذهاب كما في - شنآنا إذا بغضته - فما في " البحر " من أن كونه مصدرا يحتاج إلى نقل - فإن فعلانا ليس مصدر فعل اللازم - فإن جاء شيء منه كان شاذا، فالأولى أن يكون مرتجلا لا منقولا ناشيء عن قلة الاطلاع، والخليل يقول: إن من الرمض - مسكن الميم - وهو مطر يأتي قبل الخريف يظهر وجه الأرض عن الغبار، وقد جعل مجموع المضاف والمضاف إليه علما للشهر المعلوم، ولولا ذلك لم يحسن إضافة (شهر) إليه كما لا يحسن - إنسان زيد - وإنما تصح إضافة العام إلى الخاص إذا اشتهر كون الخاص من أفراده، ولهذا لم يسمع شهر رجب وشهر شعبان، وبالجملة
فقد أطبقوا على أن العلم في ثلاثة أشهر مجموع المضاف والمضاف إليه شهر رمضان، وشهر ربيع الأول وشهر ربيع الثاني، وفي البواقي لا يضاف شهر إليه، وقد نظم ذلك بعضهم فقال: ولا تضف شهرا إلى اسم شهر * إلا لما أوله - الرا - فادر
واستثن منها رجبا فيمتنع * لأنه فيما رووه ما سمع
ثم في الإضافة يعتبر في أسباب منع الصرف وامتناع - اللام - ووجوبها حال المضاف إليه فيمتنع في مثل * (شهر رمضان) * وابن داية من الصرف ودخول - اللام - وينصرف في مثل شهر ربيع الأول - وابن عباس - ويجب - اللام - في مثل - امرىء القيس - لأنه وقع جزءا حال تحليته باللام، ويجوز في مثل - ابن عباس - أما دخلوه فللمح الأصل، وأما عدمه فلتجرده في الأصل، وعلى هذا فنحو من صام رمضان من حذف جزء العلم لعدم الالباس - كذا قيل - وفيه بحث - أما أولا: لأن إضافة العام إلى الخاص مرجعها إلى الذوق، ولهذا تحسن تارة كشجر الأراك، وتقبح أخرى - كإنسان زيد - وقبحها في * (شهر رمضان) * لا يعرفه إلا من تغير ذوقه من أثر الصوم، وأما ثانيا: فإن قولهم: لم يسمع شهر رجب الخ، مما سمع بين المتأخرين - ولا أصل له - ففي " شرح التسهيل " جواز إضافة (شهر) إلى جميع أسماء الشهور - وهو قول أكثر النحويين - فادعاء الأطباق غير مطبق عليه، ومنشأ غلط المتأخرين ما في - " أدب الكاتب " - من أنه اصطلاح الكتاب، قال: لأنهم لما وضعوا التاريخ في زمن عمر رضي الله تعالى عنه وجعلوا أول السنة المحرم، فكانوا لا يكتبون في تواريخهم شهرا إلا مع رمضان والربيعين، فهو أمر اصطلاحي - لا وضعي لغوي - ووجه في (رمضان) موافقة القرآن، وفي ربيع الفصل عن الفصل، ولذا صحح سيبويه جواز إضافة الشهر إلى جميع أسماء الشهور، وفرق بين ذكره وعدمه بأنه حيث ذكر لم يفد العموم - وحيث حذف أفاده - وعليه يظهر الفرق بين - إنسان زيد - و * (شهر رمضان) * ولا يغم هلال ذلك. وأما ثالثا: فلأن قوله: (ثم) في الإضافة الخ، مما صرح النحاة بخلافه، فإن - ابن داية - سمع منعه وصرفه كقوله:
60

ولما رأيت النسر عز - ابن داية - * وعشش في وكريه جاش له صدري
قالوا: ولكل وجه، أما عدم الصرف فلصيرورة الكلمتين بالتركيب كلمة بالتسمية فكان - كطلحة - مفردا وهو غير منصرف، وأما الصرف فلأن المضاف إليه في أصله اسم جنس - والمضاف كذلك - وكل منهما بانفراده ليس بعلم، وإنما العلم مجموعهما فلا يؤثر التعريف فيه؛ ولا يكون لمنع الصرف مدخل فليحفظ، وبالجملة المعول عليه أن رمضان وحده علم وهو علم جنس لما علمت، ومنع بعضهم أن يقال: رمضان بدون شهر لما أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عدي والبيهقي والديلمي عن أبي هريرة مرفوعا وموقوفا " لا تقولوا رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى، ولكن قولوا: شهر رمضان " وإلى ذلك ذهب مجاهد - والصحيح الجواز - فقد روي ذلك في الصحيح - والاحتياط لا يخفى - وإنما سمي الشهر به لأن الذنوب ترمض فيه - قاله ابن عمر - وروى ذلك أنس وعائشة مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: لوقوعه أيام رمض الحر حيث نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة، وكان اسمه قبل ناتقا، ولعل ما روي عنه صلى الله عليه وسلم مبين لما ينبغي أن يكون وجه التسمية عند المسلمين، وإلا فهذا الاسم قبل فرضية الصيام بكثير على ما هو الظاهر.
* (الذيأنزل فيه القرءان) * أي ابتدىء فيه إنزاله - وكان ذلك ليلة القدر - قاله ابن إسحق، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن جبير والحسن أنه نزل فيه جملة إلى السماء الدنيا ثم نزل منجما إلى الأرض في ثلاث وعشرين سنة، وقيل: أنزل في شأنه القرآن، وهو قوله تعالى: * (كتب عليكم الصيام) * (البقرة: 183) وأخرج الإمام أحمد والطبراني من حديث واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين، والإنجيل لثلاث عشرة، والقرآن لأربع وعشرين " ولما كان بين الصوم ونزول الكتب الإلهية مناسبة عظيمة كان هذا الشهر المختص بنزولها مختصا بالصوم الذي هو نوع عظيم من آيات العبودية، وسبب قوي في إزالة العلائق البشرية المانعة عن إشراق الأنوار الصمدية.
* (هدى للناس وبين‍ات من الهدى والفرقان) * حالان لازمان من القرآن والعامل فيهما (أنزل) أي أنزل وهو هداية للناس بإعجازه المختص به كما يشعر بذلك التنكير، وآيات واضحات من جملة الكتب الإلهية الهادية إلى الحق، والفارقة بين الحق والباطل باشتمالها على المعارف الإلهية والأحكام العملية كما يشعر بذلك جعله بينات منها فهو هاد بواسطة أمرين مختص وغير مختص فالهدى ليس مكررا، وقيل: مكرر تنويها وتعظيما لأمره وتأكيدا لمعنى الهداية فيه كما تقول عالم نحرير.
* (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * (من) شرطية أو موصولة - والفاء - إما جواب الشرط، أو زائدة في الخبر، و * (منكم) * في محل نصب على الحال من المستكن في * (شهد) * والتقييد به لإخراج الصبي والمجنون، و * (شهد) * من الشهود والتركيب يدل على الحضور إما ذاتا أو علما، وقد قيل: بكل منهما هنا، و * (الشهر) * على الأول: مفعول فيه والمفعول به متروك لعدم تعلق الغرض به فتقدير البلد أو المصر ليس بشيء، وعلى الثاني: مفعول به بحذف المضاف أي هلال الشهر - وأل - فيه على التقديرين للعهد ووضع المظهر موضع المضمر للتعظيم ونصب الضمير المتصل في - يصمه - على الاتساع لأن صام لازم والمعنى فمن حضر في الشهر ولم يكن مسافرا فليصم فيه أو من علم هلال الشهر وتيقن به فليصم، ومفاد الآية على هذا عدم وجوب
61

الصوم على من شك في الهلال وإنما قدر المضاف لأن شهود الشهر بتمامه إنما يكون بعد انقضائه ولا معنى لترتب وجوب الصوم فيه بعد انقضائه وعليه يكون قوله تعالى: * (ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) * مخصصا بالنظر إلى المريض والمسافر كليهما، وعلى الأول: مخصص بالنظر إلى الأول دون الثاني وتكريره حينئذ لذلك التخصيص أو لئلا يتوهم نسخه كما نسخ قرينه والأول كما قيل على رأي من شرط في المخصص أن يكون متراخيا موصولا، والثاني: على رأي من جوز كونه متقدما وهذا بجعل المخصص هو الآية السابقة، و (ما) هنا لمجرد دفع التوهم ورجح المعنى الأول من المعنيين بعدم الاحتياج إلى التقدير وبأن الفاء في * (فمن شهد) * عليه وقعت في مخرها مفصلة لما أجمل في قوله تعالى: * (شهر رمضان) * من وجوب التعظيم المستفاد مما في أثره على كل من أدركه ومدركه
إما حاضر أو مسافر فمن كان حاضرا فحكمه كذا الخ ولا يحسن أن يقال من علم الهلال فليصم ومن كان مريضا أو على سفر فليقض لدخول القسم الثاني في الأول والعاطف التفصيلي يقتضي المغايرة بينهما كذا قيل، لكن ذكر المريض يقوي كونه مخصصا لدخوله فيمن شهد على الوجهين، ولذا ذهب أكثر النحويين إلى أن الشهر مفعول به - فالفاء - للسببية أو للتعقيب لا للتفصيل.
* (يريد الله) * بهذا الترخيص * (بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * لغاية رأفته وسعة رحمته، واستدل المعتزلة بالآية على أنه قد يقع من العبد ما لا يريده الله تعالى وذلك لأن المريض والمسافر إذا صاما حتى أجهدهما الصوم فقد فعلا خلاف ما أراد الله تعالى لأنه أراد التيسير ولم يقع مراده، ورد بأن الله تعالى أراد التيسير وعدم التعسير في حقهما بإباحة الفطر، وقد حصل بمجرد الأمر بقوله عز شأنه: * (فعدة من أيام أخر) * من غير تخلف، وفي " البحر " تفسير الإرادة هنا بالطلب، وفيه أنه التزام لمذهب الاعتزال من أن إرادته تعالى لأفعال العباد عبارة عن الأمر وأنه تعالى ما طلب منا اليسر بل شرعه لنا، وتفسير اليسر بما يسر بعيد، وقرأ أبو جعفر (اليسر) و (العسر) بضمتين.
* (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) * علل لفعل محذوف دل عليه * (فمن شهد منكم الشهر) * الخ أي وشرع لكم جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر المستفاد من قوله تعالى: * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * وأمر المرخص له بالقضاء كيفما كان متواترا أو متفرقا وبمراعاة عدة ما أفطره من غير نقصان فيه المستفادين من قوله سبحانه وتعالى: * (فعدة من أيام أخر) * ومن الترخيص المستفاد من قوله عز وجل: * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * أو من قوله تعالى: * (فعدة) * الخ - لتكملوا - الخ والأول علة الأمر بمراعاة عدة الشهر بالأداء في حال شهود الشهر، وبالقضاء في حال الإفطار بالعذر فيكون علة لمعللين أي أمرناكم بهذين الأمرين لتكملوا عدة الشهر بالأداء والقضاء فتحصلوا خيراته ولا يفوتكم شيء من بركاته نقصت أيامه أو كملت * (ولتكبروا الله) * علة الأمر بالقضاء وبيان كيفيته * (ولعلكم تشكرون) * علة الترخيص والتيسير، وتغيير الأسلوب للإشارة إلى أن هذا المطلوب بمنزلة المرجو لقوة الأسباب المتآخذة في حصوله وهو ظهور كون الترخيص نعمة، والمخاطب موقن بكمال رأفته وكرمه مع عدم فوات بركات الشهر، وهذا نوع من اللف لطيف المسلك قلما يهتدى إليه لأن مقتضى الظاهر ترك الواو لكونها عللا لما سبق، ولذا قال من لم يبلغ درجة الكمال: إنها زائدة أو عاطفة على علة مقدرة ووجه اختياره أما على الأول: فظاهر، وأما على الثاني: فلما فيه من مزيد الاعتناء بالأحكام السابقة مع عدم التكلف لأن الفعل المقدر لكونه مشتملا على ما سبق إجمالا يكون ما سبق قرينة عليه مع بقاء التعليل
62

بحاله ولكونه مغايرا له بالإجمال، والتفصيل يصح عطفه عليه، وفي ذكر الأحكام تفصيلا أولا، وإجمالا ثانيا وتعليلها من غير تعيين ثقة على فهم السامع بأن يلاحظها مرة بعد أخرى ويرد كل علة إلى ما يليق به ما لا يخفى من الاعتناء، وجوز أن تكون عللا لأفعال مقدرة كل فعل مع علة والتقدير - ولتكملوا العدة - أوجب عليكم عدة أيام أخر ولتكبروا الله على ما هداكم علمكم كيفية القضاء * (ولعلكم تشكرون) * رخصكم في الإفطار وإن شئت جعلتها معطوفة على علة مقدرة أي ليسهل عليكم أو لتعلموا ما تعملون ولتكملوا الخ وجعلت المجموع علة للأحكام السابقة إما باعتبار أنفسها أو باعتبار الأعلام بها فقوله: ليسهل أو لتعلموا علة لما سبق باعتبار الأعلام وما بعده علة للأحكام المذكورة كما مر، ولك أن لا تقدر شيئا أصلا وتجعل العطف على اليسر أي - ويريد بكم لتكملوا - الخ واللام زائدة مقدرة بعدها أن وزيدت كما قيل: بعد فعل الإرادة تأكيدا له لما فيها من معنى الإرادة في قولك جئتك لإكرامك، وقيل: إنها بمعنى أن كما في الرضي إلا أنه يلزم على هذا الوجه أن يكون * (ولعلكم تشكرون) * عطفا على * (يريد) * إذ لا معنى لقولنا يريد لعلكم تشكرون، وحينئذ يحصل التفكيك بين المتعاطفات وهو بعيد، ولاستلزام هذا الوجه ذلك وكثرة الحذف في بعض الوجوه السابقة وخفاء بعضها عدل بعضهم عن الجميع، وجعل الكلام من الميل مع المعنى لأن ما قبله علة للترخيص فكأنه قيل: رخص لكم في ذلك لإرادته بكم اليسر دون ولتكملوا الخ، ولا يخفى عليك ما هو الأليق بشأن الكتاب العظيم، والمراد من التكبير الحمد والثناء مجازا لكونه فردا منه ولذلك عدي بعلي، واعتبار التضمين أي لتكبروا حامدين ليس بمعتبر لأن الحمد نفس التكبير ولكونه على هذا عبادة قولية ناسب أن يعلل به الأمر بالقضاء الذي هو نعمة قولية أيضا، وأخرج ابن المنذر وغيره عن زيد بن أسلم أن المراد به التكبير يوم العيد، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه التكبير عند الإهلال، وأخرج ابن جرير عنه أنه قال: حق على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال أن يكبروا الله تعالى حتى يفرغوا من عيدهم لأن الله تعالى يقول: * (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله) * وعلى هذين القولين لا يلائم تعليل الأحكام السابقة، و (ما) يحتمل أن تكون مصدرية وأن تكون موصولة أي الذي هداكموه أو هداكم إليه، والمراد من الشكر ما هو أعم من الثناء ولذا ناسب أن يجعل طلبه تعليلا للترخيص الذي هو نعمة فعلية. وقرأ أبو بكر عن عاصم * (ولتكملوا) * بالتشديد.
* (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون) *
* (وإذا سألك عبادي) * في تلوين الخطاب مع توجيهه لسيد ذوي الألباب عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى من التشريف ورفع المحل * (عني) * أي عن قربي وبعدي إذ ليس السؤال عن ذاته تعالى. * (فإني قريب) * أي فقل لهم ذلك بأن تخبر عن القرب بأي طريق كان، ولا بد من التقدير إذ بدونه لا يترتب على الشرط، ولم يصرح بالمقدر كما في أمثاله للإشارة إلى أنه تعالى تكفل جوابهم ولم يكلهم إلى رسوله صلى الله عليه وسلم تنبيها على كمال لطفه، والقرب حقيقة في القرب المكاني المنزه عنه تعالى فهو استعارة لعلمه تعالى بأفعال العباد وأقوالهم واطلاعه على سائر أحوالهم، وأخرج سفيان بن عيينة وعبد الله بن أحمد عن أبي قال: قال المسلمون يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله الآية * (أجيب دعوة الداع إذا دعان) * دليل للقرب وتقرير له فالقطع لكمال الاتصال، وفيه وعد الداعي بالإجابة في الجملة على ما تشير إليه كلمة * (إذا) * لا كليا فلا حاجة إلى التقييد بالمشيئة المؤذن به قوله تعالى في آية أخرى: * (فيكشف ما تدعون إليه إن شاء) * (الأنعام: 41) ولا إلى أن القول بأن إجابة الدعوة غير قضاء الحاجة لأنها قوله سبحانه وتعالى: لبيك يا عبدي وهو موعود موجود لكل مؤمن يدعو ولا
63

إلى تخصيص الدعوة بما ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، أو الداعي بالمطيع المخبت. نعم كونه كذلك أرجى للإجابة لا سيما في الأزمنة المخصوصة والأمكنة المعلومة والكيفية المشهورة، ومع هذا قد تتخلف الإجابة مطلقا وقد تتخلف إلى بدل، ففي الصحيح عن أبي سعيد قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله تبارك وتعالى إحدى ثلاث إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخر له وإما أن يكف عنه من السوء مثلها " وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى.
* (فليستجيبوا لي) * أي فليطلبوا إجابتي لهم إذا دعوني أو فليجيبوا لي إذا دعوتهم للإيمان والطاعة كما أني أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم، واستجاب وأجاب واحد ومعناه قطع مسألته بتبليغه مراده من الجوب بمعنى القطع، وهذا ما عليه أكثر المفسرين ولا يغني عنه * (وليؤمنوا بي) * لأنه أمر بالثبات والمداومة على الإيمان * (لعلهم يرشدون) * أي يهتدون لمصالح دينهم ودنياهم، وأصل الباب إصابة الخير، وقرىء بفتح الشين وكسرها، ولما أمرهم سبحانه وتعالى بصوم الشهر ومراعاة العدة وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر عقبه بهذه الآية الدالة على أنه تعالى خبير بأفعالهم سميع لأقوالهم مجازيهم على أعمالهم تأكيدا له وحثا عليه، أو أنه لما نسخ الأحكام في الصوم ذكر هذه الآية الدالة على كمال علمه بحال العباد وكمال قدرته عليهم ونهاية لطفه بهم في أثناء نسخ الأحكام تمكينا لهم في الإيمان، وتقريرا لهم على الاستجابة لأن مقام النسخ من مظان الوسوسة والتزلزل، فالجملة على التقديرين اعتراضية بين كلامين متصلين معنى، أحدهما: ما تقدم [بموالثاني: قوله سبحانه وتعالى:
* (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى اليل ولا تب‍اشروهن وأنتم ع‍اكفون في المس‍اجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذالك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون) *
* (احل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) * أخرج أحمد وجماعة عن كعب بن مالك قال: كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد فرجع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه من عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد سمر عنده فوجد امرأته قد نامت فأيقظها وأرادها فقالت: إني قد نمت فقال: ما نمت، ثم وقع بها؛ وصنع كعب بن مالك مثل ذلك فغدا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت. وفي رواية ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بينما هو نائم إذ سولت له نفسه فأتى أهله ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أعتذر إلى الله تعالى وإليك من نفسي هذه الخاطئة فإنها زينت لي فواقعت أهلي هل تجد لي من رخصة؟ قال: لم تكن حقيقا بذلك يا عمر فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن وأمر الله تعالى رسوله أن يضعها في المائة الوسطى من سورة البقرة فقال: * (أحل لكم) * الخ - وليلة الصيام - الليلة التي يصبح منها صائما فالإضافة لأدنى ملابسة، والمراد بها الجنس وناصبها - الرفث - المذكور أو المحذوف الدال هو عليه بناءا على أن المصدر لا يعمل متقدما، وجوز أن يكون ظرفا - لأحل - لأن إحلال الرفث في ليلة الصيام وإحلال الرفث الذي فيها متلازمان، والرفث من رفث في كلامه وأرفث وترفث أفحش وأفصح بما يكنى عنه، والمراد به هنا الجماع لأنه لا يكاد يخلو من الإفصاح، وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه أنشد وهو محرم: وهن يمشين بنا هميسا * إن صدق الطير ننك لميسا
فقيل له: أرفثت؟ فقال: إنما الرفث ما كان عند النساء، فالرفث فيه يحتمل أن يكون قولا وأن يكون فعلا، والأصل فيه أن يتعدى - بالباء - وعدي بإلى لتضمنه معنى الإفضاء ولم يجعل من أول الأمر كناية عنه لأن المقصود هو
64

الجماع فقصرت المسافة، وإيثاره ههنا على ما كنى به عنه في جميع القرآن من التغشية والمباشرة واللمس والدخول ونحوها استقباحا لما وجد منهم قبل الإباحة، ولذا سماه اختيانا فيما بعد، والنساء جمع نسوة فهو جمع الجمع أو جمع امرأة على غير اللفظ وإضافتها إلى ضمير المخاطبين للاختصاص إذ لا يحل الإفضاء إلا لمن اختص بالمفضي إما بتزويج أو ملك، وقرأ عبد الله (الرفوث).
* (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) * أي هن سكن لكم وأنتم سكن لهن قاله ابن عباس حين سأله نافع بن الأزرق وأنشد رضي الله تعالى عنهما لما قال له: هل تعرف العرب ذلك؟ قول الذبياني: إذا ما الضجيع ثنى عطفه * تثنت عليه فكانت (لباسا)
ولما كان الرجل والمرأة يتعانقان ويشتمل كل منهما على صاحبه شبه كل واحد بالنظر إلى صاحبه باللباس أو لأن كل واحد منهما يستر صاحبه ويمنعه عن الفجور، وقد جاء في الخبر " من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه " والجملتان مستأنفتان استئنافا نحويا والبياني يأباه الذوق، ومضمونهما بيان لسبب الحكم السابق وهو قلة الصبر عنهن كما يستفاد من الأولى، وصعوبة اجتنابهن كما تفيده الثانية - ولظهور احتياج الرجل إليهن وقلة صبره - قدم الأولى، وفي الخبر " لا خير في النساء ولا صبر عنهن يغلبن كريما ويغلبهن لئيم وأحب أن أكون كريما مغلوبا ولا أحب أن أكون لئيما غالبا ".
* (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم) * جملة معترضة بين قوله تعالى: * (أحل) * الخ وبين ما يتعلق به أعني * (فالآن) * الخ لبيان حالهم بالنسبة إلى ما فرط منهم قبل الإحلال، ومعنى * (علم) * تعلق علمه، و - الاختيان - تحرك شهوة الإنسان لتحري الخيانة أو الخيانة البليغة فيكون المعنى تنقصون أنفسكم تنقيصا تاما بتعريضها للعقاب وتنقيص حظها من الثواب، ويؤول إلى معنى تظلمونها بذلك، والمراد الاستمرار عليه فيما مضى قبل إخبارهم بالحال كما ينبىء عنه صيغتا الماضي والمضارع وهو متعلق العلم، وما تفهمه الصيغة الأولى من تقدم كونهم على الخيانة على العلم يأبى حمله على الأزلي الذاهب إليه البعض.
* (فتاب عليكم) * عطف على * (علم) * والفاء لمجرد التعقيب، والمراد قبل توبتكم حين تبتم عن المحظور الذي ارتكبتموه * (وعقا عنكم) * أي محا أثره عنكم وأزال تحريمه، وقيل: الأول لإزالة التحريم وهذا لغفران الخطيئة * (فال‍ان) * مرتب على قوله سبحانه وتعالى: * (أحل لكم) * نظرا إلى ما هو المقصود من الإحلال وهو إزالة التحريم أي حين نسخ عنكم تحريم القربان وهو ليلة الصيام كما يدل عليه الغاية الآتية فإنها غاية للأوامر الأربعة التي هذا ظرفها، والحضور المفهوم منه بالنظر إلى فعل نسخ التحريم وليس حاضرا بالنظر إلى الخطاب بقوله تعالى: * (باشروهن) *، وقيل: إنه وإن كان حقيقة في الوقت الحاضر إلا أنه قد يطلق على المستقبل القريب تنزيلا له منزلة الحاضر وهو المراد هنا أو إنه مستعمل في حقيقته والتقدير قد أبحنا لكم مباشرتهن، وأصل المباشرة إلزاق البشرة بالبشرة وأطلقت على الجماع للزومها لها.
* (وابتغوا ما كتب الله لكم) * أي اطلبوا ما قدره الله تعالى لكم في اللوح من الولد، وهو المروي عن ابن عباس. والضحاك. ومجاهد. رضي الله تعالى عنهم وغيرهم. والمراد الدعاء بطلب ذلك بأن يقولوا: اللهم ارزقنا ما كتبت لنا، وهذا لا يتوقف على أن يعلم كل واحد أنه قدر له ولد، وقيل: المراد ما قدره لجنسكم والتعبير بما نظرا إلى الوصف كما في قوله تعالى: * (والسماء وما بناها) * (الشمس: 5) وفي الآية دلالة على أن المباشر ينبغي أن يتحرى بالنكاح حفظ النسل - لا قضاء الشهوة فقط - لأنه سبحانه وتعالى جعل لنا شهوة الجماع لبقاء نوعنا إلى
65

غاية كما جعل لنا شهوة الطعام لبقاء أشخاصنا إلى غاية، ومجرد قضاء الشهوة لا ينبغي أن يكون إلا للبهائم، وجعل بعضهم هذا الطلب كناية عن النهي عن العزل، أو عن إتيان المحاش، وبعض فسر من أول مرة ما كتب بما سن وشرع من صب الماء في محله، أي اطلبوا ذلك دون العزل والإتيان المذكورين - والمشهور حرمتهما - أما الأول: فالمذكور في الكتب فيه أنه لا يعزل الرجل عن الحرة بغير رضاها، وعن الأمة المنكوحة بغير رضاها أو رضا سيدها على الاختلاف بين الإمام وصاحبيه، ولا بأس بالعزل عن أمته بغير رضاها إذ لا حق لها. وأما الثاني: فسيأتي بسط الكلام فيه على أتم وجه إن شاء الله تعالى. وروي عن أنس رضي الله تعالى عنه تفسير ذلك بليلة القدر. وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أيضا وعن قتادة أن المراد: ابتغوا الرخصة التي كتب الله تعالى لكم فإن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، وعليه تكون الجملة كالتأكيد لما قبلها، وعن عطاء أنه سئل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كيف تقرأ هذه الآية * (ابتغوا) * أو (ابتعوا)؟ فقال: أيهما شئت، وعليك بالقراءة الأولى.
* (وكلوا واشربوا) * الليل كله * (حتى يتبين) * أي يظهر * (لكم الخيط الأبيض) * وهو أول ما يبدو من الفجر الصادق المعترض في الأفق قبل انتشاره، وحمله على الفجر الكاذب المستطيل الممتد كذنب السرحان وهم * (من الخيط الأسود) * وهو ما يمتد مع بياض الفجر من ظلمة آخر الليل * (من الفجر) * بيان لأول الخيطين - ومنه يتبين الثاني - وخصه بالبيان لأنه المقصود وقيل: بيان لهما بناءا على أن الفجر عبارة عن مجموعهما لقول الطائي: وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه
فهو على وزان قولك: حتى يتبين العالم من الجاهل من القوم، وبهذا البيان خرج الخيطان عن الاستعارة إلى التشبيه لأن شرطها عندهم تناسيه بالكلية، وادعاء أن المشبه هو المشبه به لولا القرينة والبيان ينادي على أن المراد - مثل هذا الخيط وهذا الخيط - إذ هما لا يحتاجان إليه، وجوز أن تكون * (من) * تبعيضية لأن ما يبدو جزء من الفجر كما أنه فجر بناء على أنه اسم للقدر المشترك بين الكل والجزاء، و * (من) * الأولى قيل: لابتداء للغاية، وفيه أن الفعل المتعدي بها يكون ممتدا أو أصلا للشيء الممتد، وعلامتها أن يحسن في مقابلتها (إلى) أو ما يفيد مفادها - وما هنا ليس كذلك - فالظاهر أنها متعلقة ب * (يتبين) * بتضمين معنى التميز، والمعنى حتى يتضح لكم الفجر متميزا عن غبش الليل؛ فالغاية إباحة ما تقدم حتى يتبين أحدهما من الآخر ويميز بينهما، ومن هذا وجه عدم الاكتفاء ب * (حتى يتبين لكم) * الفجر، أو (يتبين لكم الخيط الأبيض من الفجر) لأن تبين الفجر له مراتب كثيرة، فيصير الحكم مجملا محتاجا إلى البيان، وما أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنهما قال: أنزلت * (وكلوا واشربوا) * الخ ولم ينزل * (من الفجر) * فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله تعالى بعد * (من الفجر) * فعلموا إنما يعني الليل والنهار، فليس فيه نص على أن الآية قبل محتاجة إلى البيان بحيث لا يفهم منها المقصود إلا به وأن تأخير البيان عن وقت الحاجة جائز لجواز أن يكون الخيطان مشتهرين في المراد منهما، إلا أنه صرح بالبيان لما التبس على بعضهم، ويؤيد ذلك أنه صلى الله عليه وسلم وصف من لم يفهم المقصود من الآية قبل التصريح - بالبلادة - ولو كان الأمر موقوفا على البيان لاستوى فيه الذكي البليد، فقد أخرج سفيان بن عيينة وأحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وجماعة عن عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه قال: لما أنزلت هذه الآية
66

* (وكلوا واشربوا) * الخ عمدت إلى عقالين أحدهما: أسود والآخر: أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر إليهما فلا يتبين لي الأبيض من الأسود فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بالذي صنعت فقال: " إن وسادك إذا لعريض إنما ذاك بياض النهار من سواد الليل " وفي رواية: " إنك لعريض القفا " وقيل: إن نزول الآية كان قبل دخول رمضان - وهي مبهمة - والبيان ضروري إلا أنه تأخر عن وقت الخطاب لا عن وقت الحاجة وهو لا يضر - ولا يخفى ما فيه - وقال أبو حيان: إن هذا من باب النسخ، ألا ترى أن الصحابة عملوا بظاهر ما دل عليه اللفظ ثم صار مجازا بالبيان ويرده على ما فيه أن النسخ يكون بكلام مستقل ولم يعهد نسخ هكذا.
وفي هذه الأوامر دليل على جواز نسخ السنة بالكتاب بل على وقوعه بناءا على القول بأن الحكم المنسوخ من حرمة الوقاع والأكل والشرب كانت ثابتة بالسنة، وليس في القرآن ما يدل عليها، و * (أحل) * أيضا يدل على ذلك إلا أنه نسخ بلا بدل وهو مختلف فيه، واستدل بالآية على صحة صوم الجنب لأنه يلزم من إباحة المباشرة إلى
تبين الفجر إباحتها في آخر جزء من أجزاء الليل متصل بالصبح فإذا وقعت كذلك أصبح الشخص جنبا فإن لم يصح صومه لما جازت المباشرة لأن الجنابة لازمة لها ومنافي اللازم مناف للملزوم، ولا يرد خروج المني بعد الصبح بالجماع الحاصل قبله لأنه إنما يفسد الصوم لكونه مكمل الجماع فهو جماع واقع في الصبح، وليس بلازم للجماع كالجنابة، وخالف في ذلك بعضهم ومنع الصحة زاعما أن الغاية متعلقة بما عندها، واحتج بآثار صح لدى المحدثين خلافها. واستدل بها أيضا على جواز الأكل مثلا لمن شك في طلوع الفجر لأنه تعالى أباح ما أباح مغيا بتبينه ولا تبين مع الشك خلافا لمالك ومجاهد بها على عدم القضاء والحال هذه إذا بان أنه أكل بعد الفجر لأنه أكل في وقت أذن له فيه، وعن سعيد بن منصور مثله - وليس بالمنصور - والأئمة الأربعة رضي الله تعالى عنهم على أن أول النهار الشرعي طلوع الفجر فلا يجوز فعل شيء من المحظورات بعده وخالف في ذلك الأعمش ولا يتبعه إلا الأعمى، فزعم أن أوله طلوع الشمس كالنهار العرفي وجوز فعل المحظورات بعد طلوع الفجر، وكذا الإمامية وحمل * (من الفجر) * على التبعيض وإرادة الجزء الأخير منه والذي دعاه لذلك خبر " صلاة النهار عجماء " وصلاة الفجر ليست بها فهي في الليل، وأيده بعضهم بأن شوب الظلمة بالضياء كما أنه لم يمنع من الليليلة بعد غروب الشمس ينبغي أن لا يمنع منها قبل طلوعها وتساوي طرفي الشيء مما يستحسن في الحكمة وإلى البدء يكون العود، وفيه أن النهار في الخبر بعد تسليم صحته يحتمل أن يكون بالمعنى العرفي ولو أراده سبحانه وتعالى في هذا الحكم لقال: وكلوا واشربوا إلى النهار ثم أتموا الصيام إلى اليل مع أنه أخصر وأوفق مما عدل إليه فحيث لم يفعل فهم أن الأمر مربوط بالفجر لا بطلوع الشمس سواء عد ذلك نهارا أم لا، وما ذكر من استحسان تساوي طرفي الشيء مع كونه - مما لا يسمن ولا يغني من جوع - في هذا الباب يمكن معارضته بأن جعل أول النهار كأول الليل وهما متقابلان مما يدل على عظم قدرة الصانع الحكيم وإلى الانتهاء غاية الإتمام، ويجوز أن يكون حالا من الصيام فيتعلق بمحذوف ولا يجوز جعله غاية للإيجاب لعدم امتداده، وعلى التقديرين تدل الآية على نفي كون الليل محل الصوم وأن يكون صوم اليومين صومة واحدة، وقد استنبط النبي صلى الله عليه وسلم منها حرمة الوصال كما قيل، فقد روى أحمد من طريق ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت: أردت أن أصوم يومين مواصلة فمنعني بشير وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال: يفعل ذلك النصارى ولكن صوموا كما أمركم الله تعالى، وأتموا الصيام إلى الليل فإذا كان الليل فافطروا، ولا تدل الآية على أن لا يجوز الصوم حتى يتخلل الإفطار خلافا لزاعمه،
67

نعم استدل بها على صحة نية رمضان في النهار، وتقرير ذلك أن قوله تعالى: * (ثم أتموا) * الخ معطوف على قوله: * (باشروهن) * إلى قوله سبحانه: * (حتى يتبين) * وكلمة * (ثم) * للتراخي والتعقيب بمهلة - واللام - في (الصيام) للعهد على ما هو الأصل، فيكون مفاد * (ثم أتموا) * الخ الأمر - بإتمام الصيام - المعهود أي الإمساك المدلول عليه بالغاية سواء فسر بإتيانه تاما، أو بتصييره كذلك متراخيا عن الأمور المذكورة المنقضية بطلوع الفجر تحقيقا لمعنى (ثم) فصارت نية الصوم بعد مضي جزء من الفجر لأن قصد الفعل إنما يلزمنا حين توجه الخطاب، وتوجهه - بالإتمام - بعد الفجر لأنه بعد الجزء الذي هو غاية لانقضاء الليل تحقيقا لمعنى التراخي، والليل لا ينقضي إلا متصلا بجزء من الفجر، فتكون النية بعد مضي جزء الفجر الذي به انقطع الليل، وحصل فيه الإمساك المدلول عليه بالغاية، فإن قيل: لو كان كذلك وجب وجوب النية بعد المضي، أجيب بأن ترك ذلك بالإجماع، وبأن إعمال الدليلين - ولو بوجه - أولى من إهمال أحدهما، فلو قلنا بوجوب النية كذلك عملا بالآية بطل العمل بخبر " لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل " ولو قلنا باشتراط النية قبله عملا بالخبر بطل العمل بالآية، فقلنا بالجواز عملا بهما، فإن قيل: مقتضى الآية - على ما ذكر - الوجوب وخبر الواحد لا يعارضها، أجيب بأنها متروكة الظاهر بالإجماع فلم تبق قاطعة - فيجوز أن يكون الخبر بيانا لها - ولبعض الأصحاب تقرير الاستدلال بوجه آخر، ولعل ما ذكرناه أقل مؤنة فتدبر. وزعم بعض الشافعية أن الآية تدل على وجوب التبييت، لأن معنى * (ثم أتموا) * صيروه تاما بعد الانفجار، وهو يقتضي الشروع فيه قبله - وما ذاك إلا بالنية - إذ لا وجوب للإمساك قبل، ولا يخفى ما فيه.
* (ولا تب‍اشروهن وأنتم ع‍اكفون في المس‍اجد) * أي معتكفون فيها - والاعتكاف - في اللغة الاحتباس واللزوم مطلقا، ومنه قوله: فباتت بنات الليل حولي - عكفا - * - عكوف - بواكي حولهن صريع
وفي الشرع لبث مخصوص، والنهي عطف على أول الأوامر - والمباشرة فيه كالمباشرة فيه - وقد تقدم أن المراد بها الجماع، إلا أنه لزم من إباحة الجماع إباحة اللمس والقبلة وغيرهما بخلاف النهي فإنه - لا يستلزم النهي عن الجماع - النهي عنهما، فهما إما مباحان اتفاقا بأن يكونا بغير شهوة، وإما حرامان بأن يكونا بها يبطل الاعتكاف ما لم ينزل وصحح معظم أصحاب الشافعي البطلان - وقيل: المراد من - المباشرة - ملاقاة البشرتين، ففي الآية منع عن مطلق المباشرة - وليس بشيء - فقد كانت عائشة رضي الله تعالى عنها ترجل رأس النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف، وفي تقييد - الاعتكاف بالمساجد - دليل على أنه لا يصح إلا في المسجد إذ لو جاز شرعا في غيره لجاز في البيت - وهو باطل بالإجماع - ويختص بالمسجد الجامع عند الزهري، وروي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه مختص بمسجد له إمام ومؤذن راتب، وقال حذيفة رضي الله تعالى عنه: يختص بالمساجد الثلاث، وعن علي كرم الله تعالى وجهه لا يجوز إلا في المسجد الحرام، وعن ابن المسيب لا يجوز إلا فيه أو في المسجد النبوي، ومذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه يصح في جميع المساجد مطلقا بناءا على عموم اللفظ وعدم اعتبار أن المطلق ينصرف إلى الكامل، واستدل بالآية على صحة اعتكاف المرأة في غير المسجد بناءا على أنها لا تدخل في خطاب الرجال، وعلى اشتراط الصوم في الاعتكاف لأنه قصر الخطاب على الصائمين، فلو لم يكن الصوم من شرطه لم يكن لذلك معنى، وهو المروي عن نافع مولى ابن عمر، وعائشة رضي الله تعالى عنهم، وعلى أنه لا يكفي فيه أقل من يوم - كما أن الصوم لا يكون كذلك - والشافعي رضي الله
68

تعالى عنه لا يشترط يوما ولا صوما، لما أخرج الدارقطني والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليس على
المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه " ومثله عن ابن مسعود، وعن علي كرم الله تعالى وجهه روايتان أخرجهما ابن أبي شيبة من طريقين إحداهما: الاشتراط، وثانيتهما: عدمه، وعلى أن المعتكف إذا خرج من المسجد فباشر خارجا جاز لأنه حصر المنع من المباشرة حال كونه فيه، وأجيب بأن المعنى: لا تباشروهن حال ما يقال لكم إنكم عاكفون في المساجد ومن خرج من المسجد لقضاء الحاجة فاعتكافه باق، ويؤيده ما روي عن قتادة كان الرجل يعتكف فيخرج إلى امرأته فيباشرها ثم يرجع - فنهوا عن ذلك - واستدل بها أيضا على أن الوطء يفسد الاعتكاف لأن النهي للتحريم، وهو في العبادات يوجب الفساد، وفيه أن المنهي عنه هنا - المباشرة حال الاعتكاف - وهو ليس من العبادات لا يقال: إذا وقع أمر منهي عنه في العبادة - كالجماع في الاعتكاف - كانت تلك العبادة منهية باعتبار اشتمالها على المنهي ومقارنتها إياه إذ يقال: فرق بين كون الشيء منهيا عنه باعتبار ما يقارنه، وبين كون المقارن منهيا في ذلك الشيء والكلام في الأول، وما نحن فيه من قبيل الثاني.
* (تلك) * أي الأحكام الستة المذكورة المشتملة على إيجاب وتحريم وإباحة * (حدود الله) * أي حاجزة بين الحق والباطل * (فلا تقربوها) * كيلا يدانى الباطل والنهي عن القرب من - تلك الحدود - التي هي الأحكام كناية عن النهي عن قرب الباطل لكون الأول لازما للثاني وهو أبلغ من (لا تعتدوها) لأنه نهي عن قرب الباطل بطريق الكناية التي هي أبلغ من الصريح، وذلك نهي عن الوقوع في الباطل بطريق الصريح، وعلى هذا لا يشكل لا تقربوها في تلك الأحكام مع اشتمالها على ما سمعت، ولا وقوع * (فلا تعتدوها) * (البقرة: 229) وفي آية أخرى إذ قد حصل الجمع وصح لا تقربوها في الكل، وقيل: يجوز أن يراد بحدود الله تعالى محارمه ومناهيه إما لأن الأوامر السابقة تستلزم النواهي لكونها مغياة بالغاية، وإما لأن المشار إليه قوله سبحانه: * (ولا تباشروهن) * وأمثاله، وقال أبو مسلم: معنى * (لا تقربوها) * لا تتعرضوا لها بالتغيير كقوله تعالى: * (ولا تقربوا مال اليتيم) * (الأنعام: 152) فيشمل جميع الأحكام - ولا يخفى ما في الوجهين من التكليف - والقول - بأن تلك إشارة إلى الأحكام - والحد - إما بمعنى المنع أو بمعنى الحاجز بين الشيئين، فعلى الأول: يكون المعنى تلك الأحكام ممنوعات الله تعالى عن الغير ليس لغيره أن يحكم بشيء * (فلا تقربوها) * أي لا تحكموا على أنفسكم أو على عباده من عند أنفسكم بشيء - فإن الحكم لله تعالى عز شأنه - وعلى الثاني: يريد أن تلك الأحكام حدود حاجزة بين الألوهية والعبودية، فالإله يحكم والعباد تنقاد، فلا تقربوا الأحكام لئلا تكونوا مشركين بالله تعالى - لا يكاد يعرض على ذي لب فيرتضيه، وهو بعيد بمراحل عن المقصود كما لا يخفى.
* (كذلك) * أي مثل ذلك التبيين الواقع في أحكام الصوم * (يبين الله آياته) * إما مطلقا أو الآيات الدالة على سائر الأحكام التي شرعها * (للناس لعلهم يتقون) * مخالفة أوامره ونواهيه، والجملة اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه لتقرير الأحكام السابقة والترغيب إلى امتثالها بأنها شرعت لأجل تقواكم، ولما ذكر سبحانه الصيام وما فيه عقبه بالنهي عن الأكل الحرام المفضي إلى عدم قبول عبادته من صيامه واعتكافه [بم فقال:
* (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بهآ إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون) *
* (ولا تأكلوآ أمولكم بينكم بالبطل) * والمراد من - الأكل - ما يعم الأخذ والاستيلاء، وعبر به
69

لأنه أهم الحوائج - وبه يحصل إتلاف المال غالبا - والمعنى لا يأكل بعضكم مال بعض، فهو على حد * (تلمزوا أنفسكم) * (الحجرات: 11) وليس من تقسيم الجمع على الجمع، كما في - ركبوا دوابهم - حتى يكون معناه لا يأكل كل واحد منكم مال نفسه، بدليل قوله سبحانه: * (بينكم) * فإنه - بمعنى الواسطة - يقتضي أن يكون ما يضاف إليه منقسما إلى طرفين بكون الأكل والمال حال الأكل متوسطا بينهما - وذلك ظاهر على المعنى المذكور - والظرف متعلق ب * (تأكلوا) * كالجار والمجرور بعده، أو بمحذوف حال من الأموال - والباء - للسببية والمراد من الباطل الحرام، كالسرقة، والغصب، وكل ما لم يأذن بأخذه الشرع.
* (وتدلوا بها إلى الحكام) * عطف على * (تأكلوا) * فهو منهي عنه مثله مجزوم بما جزم به وجوز نصبه بأن مضمرة ومثل هذا التركيب وإن كان للنهي عن الجمع إلا أنه لا ينافي أن يكون كل من الأمرين منهيا عنه والإدلاء في الأصل إرسال الحبل في البئر ثم استعير للتوصل إلى الشيء أو الإلقاء - والباء - صلة الإدلاء وجوز أن تكون سببية والضمير المجرور للأموال أي لا تتوصلوا، أو لا تلقوا بحكومتها والخصومة فيها إلى - الحكام - وقيل: لا تلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة، وقرأ أبي * (ولا تدلوا) *. * (لتأكلوا) * بالتحاكم والرفع إليهم * (فريقا) * قطعة وجملة. * (من أموال الناس بالإثم) * أي بسبب ما يوجب إثما كشهادة الزور واليمين الفاجرة، ويحتمل أن تكون - الباء - للمصاحبة أي متلبسين - بالإثم - والجار والمجرور على الأول: متعلق بتأكلوا وعلى الثاني: حال من فاعله وكذلك * (وأنتم تعلمون) * ومفعول العلم محذوف أي - تعلمون - أنكم مبطلون، وفيه دلالة على أن من لا يعلم أنه مبطل، وحكم له الحاكم بأخذ مال فإنه يجوز له أخذه، أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير مرسلا أن عبدان بن أشوع الحضرمي، وامرؤ القيس بن عابس اختصما في أرض ولم تكن بينة فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يحلف امرؤ القيس فهم به فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) * (آل عمران: 77) فارتدع عن اليمين وسلم الأرض فنزلت.
واستدل بها على أن حكم القاضي لا ينفذ باطنا فلا يحل به الأخذ في الواقع، وإلى ذلك ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وأبو يوسف ومحمد، ويؤيده ما أخرجه البخاري ومسلم عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه فإنما أقطع له قطعة من النار ". وذهب الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إلى أن الحاكم إذا حكم ببينة بعقد أو فسخ عقد مما يصح أن يبتدأ فهو نافذ ظاهرا وباطنا ويكون كعقد عقداه بينهما، وإن كان الشهود زورا كما روي أن رجلا خطب امرأة هو دونها فأبت فادعى عند علي كرم الله تعالى وجهه أنه تزوجها وأقام شاهدين فقالت المرأة: لم أتزوجه وطلبت عقد النكاح فقال علي كرم الله تعالى وجهه: قد
زوجك الشاهدان، وذهب فيمن ادعى حقا في يدي رجل وأقام بينة تقتضي أنه له وحكم بذلك الحاكم أنه لا يباح له أخذه وإن حكم الحاكم لا يبيح له ما كان قبل محظورا عليه وحمل الحديث على ذلك، والآية ليست نصا في مدعي مخالفيه لأنهم إن أرادوا أنها دليل على عدم النفوذ مطلقا فممنوع وإن أرادوا أنها دليل على عدم النفوذ في الجملة فمسلم ولا نزاع فيه لأن الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه يقول بذلك، ولكن فيما سمعت والمسألة معروفة في الفروع والأصول ولها تفصيل في " أدب القاضي " فارجع إليه.
70

* (يسلونك عن الأهلة قل هى مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ول‍اكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون) *
* (يسئلونك عن الأهلة) * أخرج ابن عساكر بسند ضعيف - أن معاذ بن جبل، وثعلبة بن غنم قالا: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو ويطلع دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان لا يكون على حال واحد؟ فنزلت، وفي رواية أن معاذا قال: يا رسول الله إن اليهود يكثرون مسألتنا عن الأهلة فأنزل الله تعالى هذه الآية، فيراد بالجمع على الرواية الأولى ما فوق الواحد أو ينزل الحاضرون المترقبون للجواب منزلة السائل وظاهره المتبادر على الرواية الثانية بناءا على أن سؤال اليهود من بعض أصحابه بمنزلة السؤال منه صلى الله عليه وسلم إذ هو طريق علمهم ومستمد فيضهم، والأهلة جمع هلال واشتقاقه من استهل الصبي إذا بكى وصاح حين يولد ومنه أهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية، وسمي به القمر في ليلتين من أول الشهر، أو في ثلاث أو حتى يحجر وتحجيره أن يستدير بخط دقيق - وإليه ذهب الأصمعي - أو حتى يبهر ضوءه سواد الليل، وغيا ذلك بعضهم بسبع ليال - وسمي بذلك لأنه حين يرى يهل الناس بذكره - أو بالتكبير؛ ولهذا يقال: أهل واستهل ولا يقال هل، والسؤال يحتمل أن يكون عن الغاية والحكمة وأن يكون عن السبب والعلة، ولا نص في الآية والخبر على أحدهما أما الملفوظ من الآية فظاهر، وأما المحذوف فيحتمل أن يقدر ما سبب اختلافها وأن يقدر ما حكمته، وهي وإن كانت في الظاهر سؤالا عن التعدد إلا أنها في الحقيقة متضمنة للسؤال عن اختلاف التشكلات النورية لأن التعدد يتبع اختلافها إذ لو كان الهلال على شكل واحد لا يحصل التعدد كما لا يخفى، وأما الخبر فلأن ما فيه يسأل بها عن الجنس وحقيقته فالمسؤول حينئذ حقيقة أمر الهلال وشأنه حال اختلاف تشكلاته النورية، ثم عوده إلى مكان عليه وذلك الأمر المسؤول عن حقيقته يحتمل ذينك الأمرين بلا ريب فعلى الأول: يكون الجواب بقوله تعالى: * (قل هي مواقيت للناس والحج) * مطابقا مبينا للحكمة الظاهرة اللائقة بشأن التبليغ العام المذكرة لنعمة الله تعالى ومزيد رأفته سبحانه وهي أن يكون معالم للناس يوقتون بها أمورهم الدنيوية ويعلمون أوقات زروعهم ومتاجرهم ومعالم للعبادات الموقتة يعرف بها أوقاتها كالصيام والإفطار وخصوصا الحج، فإن الوقت مراعى فيه أداءا وقضاءا ولو كان الهلال مدورا كالشمس أو ملازما حالة واحدة لم يكد يتيسر التوقيت به، ولم يذكر صلى الله عليه وسلم الحكمة الباطنة لذلك مثل كون اختلاف تشكلاته سببا عاديا أو جعليا لاختلاف أحوال المواليد العنصرية كما بين في محله لأنه مما لم يطلع عليه كل أحد، وعلى الثاني: يكون من الأسلوب الحكيم، ويسمى القول بالموجب وهو تلقي السائل بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تنبيها على أنه الأولى بحاله - واختاره السكاكي وجماعة - فيكون في هذا الجواب إشارة إلى أن الأولى على تقدير وقوع السؤال أن يسألوا عن الحكمة لا عن السبب لأنه لا يتعلق به صلاح معاشهم ومعادهم، والنبي إنما بعث لبيان ذلك لا لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم ليسوا ممن يطلع على دقائق علم الهيئة الموقوفة على الأرصاد والأدلة الفلسفية كما وهم لأن ذلك على فرض تسليمه في حق أولئك المشائين في ركاب النبوة، والمرتاضين في رواق الفتوة، والفائزين بإشراق الأنوار، والمطلعين بأرصاد قلوبهم على دقائق الأسرار، وإن لم يكن نقصا من قدرهم إلا أنه يدل على أن سبب الاختلاف ما بين في علم الهيئة من بعد القمر عن الشمس وقربه إليها وهو باطل عند أهل الشريعة فإنه مبني على أمور لم يثبت جزما شيء منها غاية الأمر أن الفلاسفة الأول تخيلوها موافقة لما أبدعه الحكيم المطلق كما يشير إليه كلام مولانا الشيخ الأكبر قدس سره في " فتوحاته "، ومما ينادي على أن ما ذهبوا إليه مجرد تخيل
71

لا تأباه الحكمة وليس مطابقا لما في نفس الأمر أن المتأخرين مما انتظم في سلك الفلاسفة كهرشل الحكيم وأتباعه أصحاب الرصد والزيجالجديد تخيلوا خلاف ما ذهب إليه الأولون في أمر الهيئة، وقالوا: بأن الشمس مركز والأرض وكذا النجوم دائرة حولها وبنوا حكم الكسوف والخسوف ونحوه على ذلك وبرهنوا عليه وردوا مخالفيه ولم يتخلف شيء من أحكامهم في هذا الباب بل يقع حسبما يقع ما يقوله الأولون مبنيا على زعمهم فحيث اتفقت الأحكام مع اختلاف المبنيين وتضاد المشائين، ورد أحد الزعمين بالآخر ارتفع الوثوق بكلا المذهبين ووجب الرجوع إلى العلم المقتبس من مشكاة الرسالة والمنقدح من أنوار شمس السيادة والبسالة، والاعتماد على ما قاله الشارع الأعظم صلى الله عليه وسلم بعد إمعان النظر فيه وحمله على أحسن معانيه وإذا أمكن الجمع بين ما يقوله الفلاسفة كيف كانوا مما يقبله العقل وبين ما يقوله سيد الحكماء ونور أهل الأرض والسماء فلا بأس به بل هو الأليق الأحرى في دفع الشكوك التي كثيرا ما تعرض لضعفاء المؤمنين وإذا لم يمكن ذلك فعليك بما دارت عليه أفلاك الشرع وتنزلت به أملاك الحق. إذا قالت حذام فصدقوها * فإن القول ما قالت حذام
وسيأتي تتمة لهذا المبحث إن شاء الله تعالى.
والمواقيت جمع ميقات صيغة آلة أي مايعرف به الوقت، والفرق بينه وبين المدة والزمان - على ما يفهم من كلام الرغب - أن المدة المطلقة امتداد حركة الفلك في الظاهر من مبدئها إلى منتهاها، والزمان مدة مقسومة إلى السنين والشهور والأيام والساعات، والوقت الزمان المقدور والمعين، وقرىء بإدغام نون (عن) في (الأهلة) بعد النقل والحذف، واستدل بالآية على جواز الإحرام بالحج في كل السنة، وفيه بعد بل ربما يستدل بها على خلاف ذلك لأنه لو صح لم يحتج إلى الهلال في الحج، وإنما احتيج إليه لكونه خاصا بأشهر معلومة محتاجة في تمييزها عن غيرها إليه، وإلى هذا ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه، ومناسبة الآية لما قبلها ظاهرة لأنه في بيان حكم الصيام، وذكر شهر رمضان وبحث الأهلة يلائم ذلك لأن الصوم مقرون برؤية الهلال وكذا الإفطار، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " صوموا لرؤيته
وافطروا لرؤيته ".
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: أنه سبحانه ذكر قوانين جليلة من قوانين العدالة، فمنها القصاص الذي فرض لإزالة عدوان القوة السبعية، وهو ظل من ظلال عدله فإذا تصرف في عبده بإفنائه وقتله بسيف حبه عوضه عن حر روحه روحا، وعن عبد قلبه قلبا، وعن أنثى نفسه نفسا فإنه كما كتب القصاص في قتلاكم - كتب على نفسه الرحمة في قتلاه - ففي بعض الآثار من طرق القوم أنه سبحانه يقول: من أحبني قتلته ومن قتلته فأنا ديته ولكن في مقاصة الله تعالى إياكم بما ذكر حياة عظيمة لا موت بعدها يا أولي العقول الخالصة عن قشر الأوهام وغواشي التعينات والأجرام لكي تتقوا تركه أو شرك وجودكم، ومنها الوصية التي هي قانون آخر فرض لإزالة نقصان القوة الملكية وقصورها عما تقتضي الحكمة من التصرفات ووصية أهل الله تعالى قدس الله تعالى أسرارهم المحافظة على عهد الأزل بترك ما سوى الحق، ومنها الصيام، وهو قانون فرض لإزالة تسلط القوى البهيمية، وهو عند أهل الحقيقة الإمساك عن كل قول وفعل وحركة ليس بالحق للحق والأيام المعدودة هي أيام الدنيا التي ستنقرض عن قريب فاجعلها كلها أيام صومك، واجعل فطرك في عيد لقاء الله تعالى، وشهر رمضان هو وقت احتراق النفس واضمحلالها بأنوار تجليات القرب الذي أنزل فيه القرآن، وهو العلم الإجمالي الجامع هداية للناس إلى الوحدة باعتبار الجمع، ودلائل مفصلة من الجمع، والفرق - فمن حضر منكم ذلك الوقت
72

وبلغ مقام الشهود فليمسك عن كل شيء إلا له، وبه، وفيه، ومنه، وإليه، ومن كان مبتلى بأمراض القلب والحجب النفسانية المانعة عن الشهود؛ أو على سفر وتوجه إلى ذلك المقام فعليه مراتب أخر يقطعها حتى يصل إليه يريد الله بكم اليسر والوصول إلى مقام التوحيد، والاقتدار بقدرته ولا يريد بكم العسر وتكلف الأفعال بالنفس الضعيفة ولتكلموا عدة المراتب ولتعظموا الله تعالى على هدايته لكم إلى مقام الجمع ولعلكم تشكرون (البقرة: 185) بالاستقامة وإذا سألك عبادي (البقرة: 186) المختصون بي المنقطعون إلي عن معرفتي * (فإني قريب) * منهم بلا أين ولا بين ولا إجماع ولا افتراق * (أجيب) * من يدعوني بلسان الحال، والاستعداد بإعطائه ما اقتضى حاله واستعداده * (فليستجيبوا لي) * (البقرة: 186) بتصفية استعدادهم وليشاهدوني عند التصفية حين أتجلى في مرايا قلوبهم لكي يستقيموا في مقام الطمأنينة وحقائق التمكين.
ولما كان للإنسان تلونات بحسب اختلاف الأسماء فتارة يكون بحكم غلبات الصفات الروحانية في نهار الواردات الربانية وحينئذ يصوم عن الحظوظ الإنسانية، وتارة يكون بحكم الدواعي والحاجات البشرية مردودا بمقتضى الحكمة إلى ظلمات الصفات الحيوانية وهذا وقت الغفلة الذي يتخلل ذلك الإمساك أباح له التنزل بعض الأحايين إلى مقارنة النفوس وهو الرفث إلى النساء وعلله بقوله سبحانه: * (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) * (البقرة: 187) أي لا صبر لكم عنها بمقتضى الطبيعة لكونها تلابسكم وكونكم تلابسونهن بالتعلق الضروري * (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم) * وتنقصونها حظوظها الباقية باستراق تلك الحظوظ الفانية في أزمنة السلوك والرياضة * (فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن) * أي وقت الاستقامة والتمكين حال البقاء بعد الفناء * (باشروهن) * بقدر الحاجة الضرورية * (وابتغوا) * بقوة هذه المباشرة * (ما كتب الله لكم) * من التقوى والتمكن على توفير حقوق الاستقامة والوصول إلى المقامات العقلية * (وكلوا واشربوا) * (البقرة: 187) في ليالي الصحو حتى يظهر لكم بوادر الحضور ولوامعه وتغلب آثاره وأنواره على سواد الغفلة وظلمتها ثم كونوا على الإمساك الحقيقي بالحضور مع الحق حتى يأتي زمان الغفلة الأخرى فإن لكل حاضر سهما منها ولولا ذلك لتعطلت مصالح المعاش، وإليه الإشارة بخبر " لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولي وقت مع حفصة وزينب "، ولا تقاربوهن حال اعتكافكم وحضوركم في مقامات القربة والأنس ومساجد القلوب * (ولا تأكلوا) * أموال معارفكم * (بينكم) * بباطل شهوات النفس، وترسلوا بها إلى حكام النفوس الأمارة بالسوء * (لتأكلوا) * الطائفة * (من أموال) * القوى الروحانية بالظلم لصرفكم إياها في ملاذ القوى النفسانية * (وأنتم تعلمون) * (البقرة: 188) أن ذلك إثم ووضع للشيء في غير موضعه * (يسألونك عن الأهلة) * وهي الطوالع القلبية عند إشراق نور الروح عليها * (قل هي مواقيت) * للسالكين يعرف بها أوقات وجوب المعاملة في سبيل الله وعزيمة السلوك وطواف بيت القلب، والوقوف في عرفة العرفان، والسعي من صفوة الصفا ومروة المروة، وقيل: الأهلة للزاهدين مواقيت أورادهم، وللصديقين مواقيت مراقباتهم، والغالب على الأولين القيام بظواهر الشريعة، وعلى الآخرين القيام بأحكام الحقيقة، فإن تجلى عليهم بوصف الجلال طاشوا، وإن تجلى عليهم بوصف الجمال عاشوا، فهو بين جلال، وجمال، وخضوع، ودلال، نفعنا الله تعالى بهم، وأفاض علينا من بركاتهم.
* (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها) * أخرج ابن جرير، والبخاري، عن البراء قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله * (وليس البر) * الآية، وكأنهم كانوا يتحرجون من الدخول من الباب من أجل سقف الباب أن يحول بينهم وبين السماء كما صرح به الزهري في رواية ابن جرير
73

عنه - ويعدون فعلهم ذلك برا - فبين لهم أنه ليس ببر * (ول‍اكن البر من اتق‍اى) * أي - بر من اتقى - المحارم والشهوات، أو لكن ذا البر أو البار من اتقى والظاهر أن جملة النفي معطوفة على مقول - قل - فلا بد من الجامع بينهما فأما أن يقال: إنهم سألوا عن الأمرين كيف ما اتفق، فجمع بينهما في الجواب بناءا على الاجتماع الاتفاقي في السؤال، والأمر الثاني: مقدر إلا أنه ترك ذكره إيجازا واكتفاءا بدلالة الجواب عليه، وإيذانا بأن هذا الأمر مما لا ينبغي أن يقع فيحتاج إلى السؤال عنه، أو يقال: إن السؤال واقع عن الأهلة فقط وهذا مستعمل إما على الحقيقة مذكور للاستطراد حيث ذكر - مواقيت الحج - والمذكور أيضا من أفعالهم فيه إلا الخمس، أو للتنبيه على أن اللائق بحالهم أن يسألوا عن أمثال هذا الأمر، ولا يتعرضوا بما لا يهمهم عن أمر الأهلة وإما على سبيل الاستعارة التمثيلية بأن يكون قد شبه حالهم في سؤالهم عما لا يهم، وترك المهم بحال من ترك الباب وأتى من غير الطريق للتنبيه على تعكيسهم الأمر في هذا السؤال، فالمعنى: وليس البر بأن تعكسوا مسائلكم ولكن البر من اتقى ذلك ولم يجبر على مثله، وجوز أن يكون العطف على قوله سبحانه: * (يسألونك) * والجامع بينهما أن الأول: قول لا ينبغي، والثاني: فعل لا ينبغي
وقعا من الأنصار على ما تحكيه بعض الروايات.
* (وأتوا البيوت من أبوابها) * إذ ليس في العدول برا وباشروا الأمور عن وجوهها، والجملة عطف على * (وليس البر) * إما لأنه في تأويل - لا تأتوا البيوت من ظهورها - أو لكونه مقول القول، وعطف الإنشاء على الإخبار جائز فيما له محل من الإعراب سيما بعد القول، وقرأ ابن كثير، وكثير بكسر باء البيوت حيثما وقع * (واتقوا الله) * في تغيير أحكامه - كإتيان البيوت من أبوابها - والسؤال عما لا يعني، ومن الحكم والمصالح المودعة في مصنوعاته تعالى بعد العلم بأنه أتقن كل شيء، أو في جميع أموركم. * (لعلكم تفلحون) * أي لكي تفوزوا بالمطلوب من الهدى والبر، فإن من اتقى الله تعالى تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه؛ وانكشفت له دقائق الأسرار حسب تقواه.
* (وق‍اتلوا في سبيل الله الذين يق‍اتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) *
* (وق‍اتلوا في سبيل الله) * أي جاهدوا لإعزاز دين الله تعالى وإعلاء كلمته - فالسبيل - بمعنى الطريق مستعار لدين الله تعالى وكلمته لأنه يتوصل المؤمن به إلى مرضاته تعالى، والظرفية التي هي مدلولة في ترشيح للاستعارة * (الذين يق‍اتلونكم) * أي يناجزونكم القتال من الكفار، وكان هذا - على ما روي عن أبي العالية - قبل أن أمروا بقتال المشركين كافة - المناجزين والمحاجزين - فيكون ذلك حينئذ تعميما بعد التخصيص المستفاد من هذا الأمر مقررا لمنطوقه ناسخا لمفهومه - أي لا تقاتلوا المحاجزين - وكذا المنطوق في النهي الآتي فإنه على هذا الوجه مشتمل على النهي عن قتالهم أيضا. وقيل: معناه الذين يناصبونكم القتال، ويتوقع منهم ذلك دون غيرهم عن المشايخ، والصبيان والنساء والرهبان فتكون الآية مخصصة لعموم ذلك الأمر مخرجة لمن لم يتوقع منهم وقيل: المراد ما يعم سائر الكفار فإنهم بصدد قتال المسلمين وقصده فهم في حكم المقاتلة قاتلوا أو لم يقاتلوا، ويؤيد الأول ما أخرجه أبو صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت عام الحديبية وصالحوه على أن يرجع عامه القابل ويخلوا له مكة ثلاثة أيام فيطوف بالبيت ويفعل ما شاء فلما كان العام المقبل تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لعمرة القصاء وخافوا أن لا تفي
74

لهم قريش بذلك وأن يصدوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام في الحرم فأنزل الله تعالى الآية، وجعل ما يفهم من الأثر - وجها رابعا في المراد بالموصول بأن يقال المراد به من يتصدى - من المشركين للقتال في الحرم وفي الشهر الحرام كما فعل البعض - بعيد لأنه تخصيص من غير دليل وخصوص السبب لا يقتضي خصوص الحكم. * (ولا تعتدوا) * أي لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير ولا من ألقى إليكم السلم وكف يده فإن فعلتم فقد اعتديتم رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس - أو لا تعتدوا - بوجه من الوجوه كابتداء القتال أو قتال المعاهد أو المفاجأة به من غير دعوة أو قتل من نهيتم عن قتله قاله بعضهم، وأيد بأن الفعل المنفي يفيد العموم * (إن الله لا يحب المعتدين) * أي المتجاوزين ما حد لهم وهو كالتعليل لما قبله ومحبته تعالى لعباده في المشهور عبارة عن إرادة الخير والثواب لهم ولا واسطة بين المحبة والبغض بالنسبة إليه عز شأنه وذلك بخلاف محبة الإنسان وبغضه فإن بينهما واسطة وهي عدمهما.
* (واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تق‍اتلوهم عند المسجد الحرام حتى يق‍اتلوكم فيه فإن ق‍اتلوكم فاقتلوهم كذالك جزآء الك‍افرين) *
* (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) * أي وجدتموهم كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حين سأله نافع بن الأزرق، وأنشد عليه قول حسان رضي الله تعالى عنه: فإما * (يثقفهن) * بني لوى * جذيمة أن قتلهم دواء
وأصل الثقف الحذق في إدراك الشيء عملا كان أو علما ويستعمل كثيرا في مطلق الإدراك، والفعل منه ثقف ككرم وفرح * (وأخرجوهم من حيث أخرجوكم) * أي مكة وقد فعل بهم ذلك عام الفتح وهذا الأمر معطوف على سابقه، والمراد افعلوا كل ما يتيسر لكم من هذين الأمرين في حق المشركين فاندفع ما قيل: إن الأمر بالإخراج لا يجامع الأمر بالقتل فإن القتل والإخراج لا يجتمعان، ولا حاجة إلى ما تكلف من أن المراد إخراج من دخل في الأمان أو وجدوه بالأمان كما لا يخفى * (والفتنة أشد من القتل) * أي شركهم في الحرم أشد قبحا فلا تبالوا بقتالهم فيه لأنه ارتكاب القبيح لدفع الأقبح فهو مرخص لكم ويكفر عنكم، أو المحنة التي يفتتن بها الإنسان كالإخراج من الوطن المحبب للطباع السليمة أصعب من القتل لدوام تعبها وتألم النفس بها، ومن هنا قيل: لقتل بحد سيف أهون موقعا * على النفس من قتل (بحد فراق)
والجملة على الأول من باب التكمل والاحتراس لقوله تعالى: * (واقتلوهم) * الخ عن توهم أن القتال في الحرم قبيح فكيف يؤمر به، وعلى الثاني تذييل لقوله سبحانه: * (وأخرجوهم) * الخ لبيان حال الإخراج والترغيب فيه، وأصل - الفتنة - عرض الذهب على النار لاستخلاصه من الغش ثم استعمل في الابتلاء والعذاب والصد عن دين الله والشرك به، وبالأخير فسرها أبو العالية في الآية. * (ولا تق‍اتلوهم عند المسجد الحرام حتى يق‍اتلوكم فيه) * نهي للمؤمنين أن يبدءوا القتال في ذلك الموطن الشريف حتى يكون هم الذين يبدءون، فالنهي عن المقاتلة التي هي فعل اثنين باعتبار نهيهم عن الابتداء بها الذي يكون سببا لحصولها، وكذا كونها غاية باعتبار المفاتحة لئلا يلزم كون الشيء غاية لنفسه. * (فإن ق‍اتلوكم فاقتلوهم) * نفي للحرج عن القتال في الحرم الذي خاف منه المسلمون وكرهوه أي إن قاتلوكم هناك فلا تبالوا بقتالهم لأنهم الذين هتكوا الحرمة وأنتم في قتالهم دافعون القتل عن أنفسكم وكان الظاهر الإتيان بأمر المفاعلة إلا أنه عدل عنه إلى أمر فعل بشارة للمؤمنين بالغلبة عليهم أي هم من الخذلان وعدم النصر بحيث
75

أمرتم بقتلهم، وقرأ حمزة والكسائي (ولا تقتلوهم حتي يقتلوكم فإن قتلوكم فاقتلوهم) واعترض الأعمش على حمزة في هذه القراءة فقال له: أرأيت قراءتك إذا صار الرجل مقتولا فبعد ذلك كيف يصير قاتلا لغيره؟! فقال حمزة إن العرب إذا قتل منهم رجل قالوا: قتلنا، وإذا ضرب منهم الرجل قالوا: ضربنا، وحاصله أن الكلام
على حذف المضاف إلى المفعول وهو لفظ بعض فلا يلزم كون المقتول قاتلا، وأما إسناد الفعل إلى الضمير فمبني على أن الفعل الواقع من البعض برضا البعض الآخر يسند إلى الكل على التجوز في الإسناد فلا حاجة فيه إلى التقدير، ولذا اكتفى الأعمش في السؤال بجانب المفعول، وكذا قوله سبحانه: * (ولا تقتلوهم) * جاز على حقيقة من غير تأويل لأن المعنى على السلب الكلي أي لا يقتل واحد منكم واحدا منهم حتى يقع منهم قتل بعضهم. ثم إن هذا التأويل مختص بهذه القراءة ولا حاجة إليه في (لا تقاتلوهم) لأن المعنى لا تفاتحوهم والمفاتحة لا تكون إلا بشروع البعض بقتال البعض قاله بعض المحققين، وقد خفي على بعض الناظرين فتدبر. * (كذالك جزآء الك‍افرين) * تذييل لما قبله أي يفعل بهم مثل ما فعلوا، والكافرين إما من وضع المظهر موضع المضمر نعيا عليهم بالكفر أو المراد منه الجنس ويدخل المذكورون فيه دخولا أوليا. والجار في المشهور خبر مقدم وما بعده مبتدأ مؤخر، واختار أبو البقاء أن الكاف بمعنى مثل مبتدأ وجزاء خبره إذ لا وجه للتقديم.
* (فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم) *
* (فإن انتهوا) * عن الكفر بالتوبة منه كما روي عن مجاهد وغيره، أو عنه وعن القتال كما قيل لقرينة ذكر الأمرين * (فان الله غفور رحيم) * فيغفر لهم ما قد سلف، واستدل به في " البحر " على قبول توبة قاتل العمد إذ كان الكفر أعظم مأثما من القتل، وقد أخبر سبحانه أنه يقبل التوبة منه.
* (وق‍اتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظ‍المين) *
* (وق‍اتلوهم حتى لا تكون فتنة) * عطف على * (وقاتلوا... الذين يقاتلونكم) * (البقرة: 190) والأول مسوق لوجوب أصل القتال وهذا لبيان غايته، والمراد من الفتنة الشرك على ما هو المأثور عن قتادة والسدي وغيرهما، ويؤيده أن مشركي العرب ليس في حقهم إلا الإسلام أو السيف لقوله سبحانه: * (تقاتلونهم أو يسلمون) * (الفتح: 16) * (ويكون الدين لله) * أي خالصا له كما يشعر به اللام، ولم يجىء هنا كلمة - كله - كما في آية الأنفاللأن ما هنا في مشركي العرب، وما هناك في الكفار عموما فناسب العموم هناك وتركه هنا * (فإن انتهوا) * تصريح بمفهوم الغاية فالمتعلق الشرك - والفاء - للتعقيب * (فلا عدوان إلا على الظ‍المين) * علة للجزاء المحذوف أقيمت مقامه والتقدير: فان انتهوا وأسلموا - فلا تعتدوا - عليهم لأن العدوان على الظالمين والمنتهون ليسوا بظالمين، والمراد نفي الحسن والجواز لا نفي الوقوع لأن العدوان واقع على غير الظالمين، والمراد من العدوان العقوبة بالقتل، وسمي القتل عدوانا من حيث كان عقوبة - للعدوان - وهو الظلم كما في قوله تعالى: * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه) * (البقرة: 194) * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * (الشورى: 40) وحسن ذلك لازدواج الكلام والمزاوجة هنا معنوية ويمكن أن يقال سمي جزاء الظلم ظلما لأنه وإن كان عدلا من المجازي لكنه ظلم في حق الظالم من عند نفسه لأنه ظلم بالسبب لإلحاق هذا الجزاء به وقيل: لا حذف والمذكور هو الجزاء على معنى فلا تعتدوا على المنتهين إما بجعل * (فلا عدوان إلا على الظالمين) * بمعنى - فلا عدوان على غير الظالمين - المكنى به عن المنتهين، أو جعل اختصاص العدوان بالظالمين كناية عن عدم جواز العدوان على غيرهم وهم المنتهون، واعترض بأنه على التقدير الأول: يصير الحكم الثبوتي المستفاد من القصر زائدا، وعلى التقدير الثاني: يصير المكنى عنه من المكنى به، وجوز أن يكون المذكور هو الجزاء
76

ومعنى: الظالمين المتجاوزين عن حد حكم القتال، كأنه قيل: فان انتهوا عن الشرك فلا عدوان إلا على المتجاوزين عما حده الله تعالى للقتال وهم المتعرضون للمنتهين، ويؤل المعنى إلى أنكم إن تعرضتم للمتقين صرتم ظالمين وتنعكس الحال عليكم - وفيه من المبالغة في النهي عن قتال المنتهين ما لا يخفى - وذهب بعضهم إلى أن هذا المعنى يستدعي حذف الجزاء، وجعل المذكور علة له على معنى: فإن انتهوا فلا تتعرضوهم لئلا تكونوا ظالمين فيسلط الله عليكم من يعدوا عليكم لأن - العدوان - لا يكون إلا على الظالمين أو فإن انتهوا يسلط عليكم من يعدوا عليكم على تقدير تعرضكم لهم لصيروتكم ظالمين بذلك، وفيه من البعد ما لا يخفى فتدبر.
* (الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرم‍ات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين) *
* (الشهر الحرام بالشهر الحرام) * قاتلهم المشركون عام الحديبية في ذي القعدة قتالا خفيفا بالرمي بالسهام والحجارة، فاتفق خروجهم لعمرة القضاء فيه فكرهوا أن يقاتلوهم لحرمته. فقيل: هذا الشهر الحرام بذلك، وهتكه بهتكه فلا تبالوا به * (والحرم‍ات قصاص) * أي الأمور التي يجب أن يحافظ عليها ذوات قصاص أو مقاصة، وهو متضمن لإقامة الحجة على الحكم السابق، كأنه قيل: لا تبالوا بدخولكم عليه عنوة، وهتك حرمة هذا الشهر ابتداءا بالغلبة، فإن الحرمات يجري فيها - القصاص - فالصد قصاصه العنوة فإن قاتلوكم فاقتلوهم. * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) * فذلكة لما تقدمه، وهو أخص مفادا منه لأن الأول: يشمل ما إذا هتك حرمة الإحرام والصيد والحشيش مثلا بخلاف هذا، وفيه تأكيد لقوله تعالى: * (الشهر الحرام بالشهر الحرام) * ولا ينافي ذلك فذلكيته معطوفا - بالفاء - والأمر للإباحة - إذا العفو جائز - ومن تحتمل الشرطية والموصولية، وعلى الثاني: تكون - الفاء - صلة في الخبر - والباء - تحتمل الزيادة وعدمها، واستدل الشافعي بالآية على أن القاتل يقتل بمثل ما قتل به من محدد، أو خنق، أو حرق، أو تجويع، أو تغريق، حتى لو ألقاه في ماء عذب لم يلق في ماء ملح؛ واستدل بها أيضا على أن من غصب شيئا وأتلفه يلزمه رد مثله، ثم إن المثل قد يكون من طريق الصورة - كما في ذوات الأمثال - وقد يكون من طريق المعنى كالقيم فيما لا مثل له * (واتقوا الله) * في الانتصار لأنفسكم وترك الاعتداء بما لم يرخص لكم فيه * (واعلموا أن الله مع المتقين) * بالنصر والعون.
* (وأنفقوا فى سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) *
* (وأنفقوا في سبيل الله) * عطف على * (قاتلوا) * (البقرة: 190) أي وليكن منكم إنفاق ما في سبيله * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * بترك الغزو والإنفاق فيه، فهو متعلق بمجموع المعطوف والمعطوف عليه نهيا عن ضدهما تأكيدا لهما، ويؤيد ذلك ما أخرجه غير واحد - عن أبي عمران - قال: كنا بالقسطنطينية فخرج صف عظيم من الروم فحمل رجل من المسلمين حتى دخل فيهم، فقال الناس: ألقى بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: أيها الناس، إنكم تؤولون هذه الآية
هذا التأويل، وإنما نزلت فينا معاشر الأنصار، إنا لما أعز الله تعالى دينه وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله تعالى قد أعز الإسلام، وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم ما يرد علينا ما قلنا وأنفقوا الخ، فكانت التهلكة الإقامة في الأموال وإصلاحها وترك الغزو. وقال الجبائي: التهلكة الإسراف في الانفاق، فالمراد بالآية النهي عنه بعد الأمر بالانفاق تحريا للطريق الوسط
77

بين الإفراط والتفريط فيه، وروى البيهقي في " الشعب " - عن الحسن - أنها البخل لأنه يؤدي إلى الهلاك المؤبد فيكون النهي مؤكدا للأمر السابق، واختار البلخي أنها اقتحام الحرب من غير مبالاة، وإيقاع النفس الخطر والهلاك، فيكون لكلام متعلقا ب * (- قاتلوا) * نهيا عن الإفراط والتفريط في الشجاعة، وأخرج سفيان بن عيينة وجماعة عن البراء بن عازب أنه قيل: له * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * هو الرجل يلقي العدو فيقاتل حتى يقتل، قال: لا، ولكن هو الرجل يذنب الذنب فيلقي بيديه فيقول: لا يغفر الله تعالى لي أبدا - وروي مثله عن عبيدة السلماني - وعليه يكون متعلقا بقوله سبحانه: * (فإن الله غفور رحيم) * (البقرة: 192) وهو في غاية البعد، ولم أر من صحح الخبر عن البراء رضي الله تعالى عنه سوى الحاكم - وتصحيحه لا يوثق به - وظاهر اللفظ العموم - والإلقاء - تصيير الشيء إلى جهة السفل وألقى عليه مسألة مجاز، ويقال لكل من أخذ من عمل ألقى يديه إليه وفيه، ومنه قول لبيد في الشمس: حتى إذا (ألقت) يدا في كافر * وأجن عورات الثغور ظلامها
وعدى - بإلى - لتضمنه معنى الإفضاء أو الإنهاء - والباء - مزيدة في المفعول تأكيد معنى النهي، لأن - ألقى - يتعدى كما في * (فألقى موسى عصاه) * (الشعراء: 45) وزيادتها في المفعول لا تنقاس، والمراد - بالأيدي - الأنفس مجازا، وعبر بها عنها لأن أكثر ظهور أفعالها بها، وقيل: يحتمل أن تكون زائدة - والأيدي - بمعناها، والمعنى لا تجعلوا التهلكة آخذة بأيديكم قابضة إياها، وأن تكون غير مزيدة - والأيدي - أيضا على حقيقتها ويكون المفعول محذوفا أي: لا تلقوا بأيديكم أنفسكم إلى التهلكة وفائدة ذكر - الأيدي - حينئذ التصريح بالنهي عن الإلقاء إليها بالقصد والاختيار، والتهلكة مصدر كالهلك والهلاك، وليس في كلام العرب مصدر على تفعلة - بضم العين - إلا هذا في المشهور، وحكى سيبويه عن العرب - تضرة وتسرة - أيضا بمعنى الضرر والسرور، وجوز أن يكون أصلها - تهلكة بكسر اللام - مصدر هلك مشددا كالتجربة والتبصرة فأبدلت - الكسرة ضمة - وفيه أن مجيء تفعلة - بالكسر - من فعل المشدد الصحيح الغير المهموز شاذ، والقياس تفعيل وإبدال - الكسرة بالضم من غير علة - في غاية الشذوذ، وتمثيله بالجوار - مضموم الجيم - في جوار مكسورها - ليس بشيء - إذ ليس ذلك نصا في الإبدال لجواز أن يكون بناء المصدر فيه على فعال - مضموم الفاء شذوذا - يؤيده ما في " الصحاح " جاورته مجاورة وجوارا وجوارا - والكسر أفصح، وفرق بعضهم بين التهلكة والهلاك بأن الأول: ما يمكن التحرز عنه، والثاني: ما لا يمكن، وقيل: الهلاك مصدر والتهلكة نفس الشيء المهلك، وكلا القولين خلاف المشهور، واستدل بالآية على تحريم الإقدام على ما يخاف منه تلف النفس، وجواز الصلح مع الكفار والبغاة إذا خاف الإمام على نفسه أو على المسلمين * (وأحسنوا) * أي بالعود على المحتاج - قاله عكرمة - وقيل: أحسنوا الظن بالله تعالى وأحسنوا في أعمالكم بامتثال الطاعات ولعله أولى. * (إن الله يحب المحسنين) * ويثيبهم.
* (وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى فمن لم يجد فصيام ثل‍اثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذالك لمن لم يكن أهله حاضرى المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب) *
* (وأتموا الحج والعمرة لله) * أي اجعلوهما تامين إذا تصديتم لأدائهما لوجه الله تعالى فلا دلالة في الآية على أكثر من وجوب الاتمام بعد الشروع فيهما وهو متفق عليه بين الحنفية والشافعية رضي الله تعالى عنهم، فإن إفساد الحج والعمرة مطلقا يوجب المضي في بقية الأفعال والقضاء، ولا تدل على وجوب الأصل، والقول بالدلالة بناءا على أن الأمر - بالاتمام - مطلقا يستلزم الأمر
78

بالأداء لما تقرر من أن ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب - ليس بشيء - لأن الأمر بالاتمام يقتضي سابقية الشروع الأمر بالاتمام مقيدا بالشروع، وادعاء أن المعنى ائتوا بهما حال كونهما تامين مستجمعي الشرائط والأركان، وهذا يدل على وجوبهما لأن الأمر ظاهر فيه، ويؤيده قراءة (وأقيموا الحج والعمرة) ليس بسديد. أما أولا: فلأنه خلاف الظاهر وبتقدير قبوله في مقام الاستدلال يمكن أن يجعل الوجوب المستفاد من الأمر فيه متوجها إلى القيد - أعني تامين - لا إلى أصل الإتيان كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " بيعوا سواء بسواء " وأما ثانيا: فلأن الأمر في القراءة محمول على المعنى المجازي المشترك بين الواجب والمندوب - أعني طلب الفعل - والقرينة على ذلك الأحاديث الدالة على استحباب العمرة، فقد أخرج الشافعي في " الأم " وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال: " الحج جهاد والعمرة تطوع " وأخرج الترمذي وصححه - عن جابر - أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمرة، أواجبة هي؟ قال: " لا، وأن تعتمروا خير لكم " ويؤيد ذلك أن ابن مسعود صاحب هذه القراءة قال فيما أخرجه عند ابن أبي شيبة وعبد بن حميد: " الحج فريضة والعمرة تطوع " وأخرج ابن أبي داود في " المصاحف " - عنه أيضا - أنه كان يقرأ ذلك ثم يقول: والله لولا التحرج أني لم أسمع فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لقلت: إن العمرة واجبة مثل الحج، وهذا يدل على أنه رضي الله تعالى عنه لم يجعل الأمر بالنسبة إليها للوجوب لأنه لم يسمع شيئا فيه - ولعله سمع ما يخالفه - ولهذا جزم في الرواية الأولى عنه بفرضية الحج واستحباب العمرة، وكأنه لذلك حمل الأمر في قراءته على القدر المشترك الذي قلناه لا غير بناء على امتناع استعمال المشترك في معنييه؛ وعدم جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز والميل إلى عدم تقدير فعل موافق للمذكور يراد به الندب، نعم لا يعد ما ذكر صارفا إلا إذا ثبت كونه قبل الآية، أما إذا ثبت كونه
بعدها فلا لأنه يلزم نسخ الكتاب بخبر الواحد لما أن الأمر ظاهر في الوجوب، وليس مجملا في معانيه على الصحيح حتى يحمل الخبر على تأخير البيان - على ما وهم - والقول - بأن أحاديث الندب سابقة ولا تصرف الأمر عن ظاهره بل يكون ذلك ناسخا لها - سهو ظاهر لأن الأحاديث نص في الاستحباب، والقرآن ظاهر في الوجوب فكيف يكون الظاهر ناسخا للنص، والحال أن النص مقدم على الظاهر عن التعارض.
ثم إن هذا الذي ذكرناه - وإن لم يكن مبطلا لأصل التأييد إلا أنه يضعفه جدا، وادعى بعضهم أن الأحاديث الدالة على استحباب العمرة معارضة بما يدل على وجوبها منها، فقد أخرج الحاكم عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت " وأخرج أبو داود، والنسائي أن رجلا قال لعمر: إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي أهللت بهما جميعا فقال: هديت لسنة نبيك، فإن هذا يدل على أن الإهلال بهما طريقة النبي صلى الله عليه وسلم لأن الاستدلال بما حكاه الصحابي من سنته عليه الصلاة والسلام يكون استدلالا بالحديث الفعلي الذي رواه الصحابي، والقول بأن - أهللت بهما - جملة مفسرة لقوله وجدت فيجوز أن يكون الوجوب بسبب الإهلال بهما فلا يدل الحديث على الوجوب ابتداءا ليس بشيء لأن الجملة مستأنفة كأنه قيل: فما فعلت؟ فقال: أهللت فيدل على أن الوجدان سبب الاهلال دون العكس لأن مقصود السائل السؤال عن صحة إهلاله بهما فكيف يقول وجدتهما مكتوبين لأني أهللت بهما فإنه إنما يصح على تقدير علمه بصحة إهلاله بهما، وجواب عمر رضي الله تعالى عنه بمعزل عن وجوب الاتمام لأن كون الشروع
79

في الشيء موجبا لاتمامه، لا يقال فيه أنه طريقة النبي صلى الله عليه وسلم بل يقال في أداء المناسك والعبادات، ويؤيد ذلك ما وقع في بعض الروايات - فأهللت - بالفاء الدالة على الترتب، وما ذكر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه معارض بما روي عنه من القول بالوجوب وبذلك قال علي كرم الله تعالى وجهه وكان يقرأ: (وأقيموا) أيضا كما رواه عنه ابن جرير وغيره، وكذا ابن عباس، وابن عمر رضي الله تعالى عنهم انتهى، والانصاف تسليم تعارض الاخبار، وقد أخذ كل من الأئمة بما صح عنده والمسألة من الفروع، والاختلاف في أمثالها رحمة وإن الحق أن الآية لا تصلح دليلا للشافعية ومن وافقعهم كالإمامية علينا، وليس فيها عند التحقيق أكثر من بيان وجوب إتمام أفعالهما عند التصدي لأدائهما وإرشاد الناس إلى تدارك ما عسى يعتريهم من العوارض المخلة بذلك من الاحصار ونحوه من غير تعرض لحالهما من الوجوب وعدمه، ووجوب الحج مستفاد من قوله تعالى: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * (آل عمران: 97) ومن ادعى من المخالفين أنها دليل له فقد ركب شططا وقال غلطا كما لا يخفى على من ألقى السمع وهو شهيد، وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي، وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه: إتمام الحج والعمرة لله أن تحرم بهما من دويرة أهلك، ومثله عن أبي هريرة مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما من إتمامهما أن يفرد كل واحد منهماعن الآخر وأن يعتمر في غير أشهر الحج؛ وقيل: إتمامهما أن تكون النفقة حلالا، وقيل: أن تحدث لكل منهما سفرا، وقيل: أن تخرج قاصدا لهما لا لتجارة ونحوها، وقرىء (إلى البيت، و (للبيت) والأول: مروي عن ابن مسعود، والثاني: عن علي كرم الله تعالى وجهه.
* (فإن أحصرتم) * مقابل لمحذوف أي هذا إن قدرتم على إتمامهما والإحصار والحصر كلاهما في أصل اللغة بمعنى المنع مطلقا، وليس الحصر مختصا بما يكون من العدو، والإحصار بما يكون من المرض، والخوف - كما توهم الزجاج - من كثرة استعمالهما كذلك فإنه قد يشيع استعمال اللفظ الموضوع للمعنى العام في بعض أفراده، والدليل على ذلك أنه يقال: حصره العدو وأحصره كصده وأصده فلو كانت النسبة إلى العدو معتبرة في مفهوم الحصر لكان التصريح بالإسناد إليه تكرارا ولو كانت النسبة إلى المرض ونحوه معتبرة في مفهوم الإحصار لكان إسناده إلى العدو مجازا وكلاهما خلاف الأصل، والمراد من الإحصار هنا حصر العدو عند مالك، والشافعي رحمهما الله تعالى لقوله تعالى: * (فإذا أمنتم) * فإن الأمن لغة في مقابلة الخوف ولنزوله عام الحديبية، ولقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا حصر إلا حصر العدو فقيد إطلاق الآية وهو أعلم بمواقع التنزيل. وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن المراد به ما يعم كل منع من عدو ومرض وغيرهما، فقد أخرج أبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم من حديث الحجاج بن عمرو " من كسر أو عرج فعليه الحج من قابل " وروى الطحاوي من حديث عبد الرحمن بن زيد قال: " أهل رجل بعمرة يقال له عمر بن سعيد فلسع فبينا هو صريع في الطريق إذ طلع عليه ركب فيهم ابن مسعود فسألوه فقال: ابعثوا بالهدي واجعلوا بينكم وبينه يوم أمارة فإذا كان ذلك فليحل " وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء لا إحصار إلا من مرض أو عدو أو أمر حابس، وروى البخاري مثله عنه، وقال عروة: كل شيء حبس المحرم فهو إحصار، وما استدل به الخصم مجاب عنه، أما الأول: فستعلم ما فيه، وأما الثاني: فإنه لا عبرة بخصوص السبب، والحمل على أنه للتأييد يأبى عنه ذكره باللام استقلالا، والقول بأن - أحصرتم - ليس عاما إذ الفعل المثبت لا عموم له فلا يراد إلا ما ورد فيه وهو حبس العدو بالاتفاق ليس بشيء لأنه إن لم يكن عاما لكنه مطلق فيجري على إطلاقه. وأما الثالث: فلأنه بعد تسليم حجية قول ابن عباس
80

رضي الله تعالى عنه في أمثال ذلك معارض بما أخرجه ابن جرير، وابن المنذر عنه في تفسير الآية أنه قال: يقول: " من أحرم بحج أو عمرة ثم حبس عن البيت بمرض يجهده أو عدو يحبسه فعليه ذبح ما استيسر من الهدي " فكما خصص في الرواية الأولى: عمم في هذه وهو أعلم بمواقع التنزيل والقول - بأن حديث الحجاج ضعيف - ضعيف إذ له طرق مختلفة في السنن وقد روى أبو داود أن عكرمة سأل العباس وأبا هريرة رضي الله تعالى عنهما عن ذلك فقالا: صدق، وحمله على ما إذا اشترط المحرم الإحلال عند عروض المانع من المرض له وقت النية لقوله صلى الله عليه وسلم لضباعة: " حجي واشترطي وقولي اللهم محلي حيث حبستني " لا يتمشى على ما تقرر في أصول الحنفية من أن المطلق يجري على إطلاقه إلا إذا اتحد الحادثة والحكم وكان الإطلاق والتقييد في الحكم إذ ما نحن فيه ليس كذلك كما لا يخفى. * (فما استيسر من الهدي) * أي فعليكم أو فالواجب أو فاهدوا ما استيسر أي تيسر فهو كصعب واستصعب، وليست السين للطلب، والهدي مصدر بمعنى المفعول أي
المهدي ولذلك يطلق على المفرد والجمع أو جمع هدية - كجدي وجدية - وقرىء (هدي) بالتشديد جمع هدية - كمطي ومطية - وهو في موضع الحال من الضمير المستكن، والمعنى أن المحرم إذا أحصر وأراد أن يتحلل تحلل بذبح هدي تيسر عليه من بدنة أو بقرة أو شاة، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: وما عظم فهو أفضل، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه خص الهدي ببقرة أو جزور فقيل له: أو ما يكفيه شاة؟ فقال: لا ويذبحه حيث أحصر عند الأكثر لأنه صلى الله عليه وسلم ذبح عام الحديبية بها وهي من الحل، وعندنا يبعث من أحصر به ويجعل للمبعوث بيده يوم أمارة فإذا جاء اليوم وغلب على ظنه أنه ذبح تحلل لقوله تعالى: * (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله) * فإن حلق الرأس كناية عن الحل الذي يحصل بالتقصير بالنسبة للنساء، والخطاب للمحصرين لأنه أقرب مذكور، والهدي الثاني عين الأول كما هو الظاهر أي لا تحلوا حتى تعلموا أن الهدي المبعوث إلى الحرم بلغ مكانه الذي يجب أن ينحر فيه وهو الحرم لقوله تعالى: * (ثم محلها إلى البيت العتيق) * (الحج: 33) * (هديا بالغ الكعبة) * (المائدة: 95) وما روي من ذبحه صلى الله عليه وسلم في الحديبية مسلم لكن كونه ذبح في الحل غير مسلم، والحنفية يقولون: إن محصر رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في طريق الحديبية أسفل مكة، والحديبية متصلة بالحرم، والذبح وقع في الطرف المتصل الذي نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه يجمع بين ما قاله مالك وبين ما روى الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر في الحرم وكون الرواية عنه ليس بثبت في حيز المنع، وحمل الأولون بلوغ الهدي محله على ذبحه حيث يحل ذبحه فيه حلا كان أو حرما وهو خلاف الظاهر إلا أنه لا يحتاج إلى تقدير العلم كما في السابق، واستدل باقتصاره على الهدي في مقام البيان على عدم وجوب القضاء، وعندنا يجب القضاء لقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عمرة الحديبية التي أحصروا فيها وكانت تسمى عمرة القضاء، والمقام مقام بيان طريق خروج المحصر عن الإحرام لا مقام بيان كل ما يجب عليه ولم يعلم من الآية حكم غير المحصر عبارة كما علم حكم المحصر من عدم جواز الحل له قبل بلوغ الهدي، ويستفاد ذلك بدلالة النص وجعل الخطاب عاما للمحصر وغيره بناءا على عطف * (ولا تحلقوا) * على قوله سبحانه: * (وأتموا) * لا على * (فما استيسر) * يقتضي بتر النظم لأن * (فإذا أمنتم) * عطف على * (فإن أحصرتم) * كما لا يخفى. و - المحل - بالكسر من حد ضرب يطلق للمكان كما هو الظاهر في الآية، وللزمان - كما يقال - محل الدين لوقت حلوله وانقضاء أجله.
* (فمن كان منكم مريضا) * يحتاج للحلق وهو مخصص لقوله سبحانه * (ولا تحلقوا) * متفرع عليه
81

* (أو به أذى من رأسه) * من جراحة وقمل وصداع * (ففدية) * أي فعلية فدية إن حلق. * (من صيام أو صدقة أو نسك) * بيان لجنس الفدية. وأما قدرها فقد أخرج في " المصابيح " عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم: " مر به وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة وهو محرم وهو يوقد تحت قدر والقمل يتهافت على وجهه فقال: أيؤذيك هوامك؟ قال: نعم قال: فاحلق رأسك وأطعم فرقا بين ستة مساكين - والفرق ثلاثة آصع - أو صم ثلاثة أيام أو انسك نسيكة " وفي رواية البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه والترمذي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا أما تجد شاة؟ فقال: لا قال: صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك " وقد بين في هذه الرواية ما يطعم لكل مسكين ولم يبين محل الفدية، والظاهر العموم في المواضع كلها كما قاله ابن الفرس وهو مذهب الإمام مالك.
* (فإذا أمنتم) * من الأمن ضد الخوف، أو الأمنة زواله فعلى الأول معناه فإذا كنتم في أمن وسعة ولم تكونوا خائفين، وعلى الثاني فإذا زال عنكم خوف الإحصار، ويفهم منه حكم من كان آمنا ابتداءا بطريق الدلالة - والفاء - للعطف على * (أحصرتم) * مفيدة للتعقيب سواء أريد حصر العدو أو كل منع في الوجود، ويقال للمريض إذا زال مرضه وبرىء: آمن كما روي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله تعالى عنهم من طريق إبراهيم فيضعف استدلال الشافعي ومالك بالآية على ما ذهبا إليه.
* (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) * الفاء واقعة في جواب - (إذا) والباء وإلى - صلة التمتع، والمعنى فمن استمتع وانتفع بالتقرب إلى الله تعالى بالعمرة إلى وقت الحج أي قبل الانتفاع بالحج في أشهره، وقيل: الباء سببية ومتعلق التمتع محذوف أي بشيء من محذورات الاحرام ولم يعينه لعدم تعلق الغرض بتعيينه، والمعنى ومن استمتع بسبب أوان العمرة والتحلل منها باستباحة محظورات الإحرام إلى أن يحرم بالحج، وفيه صرف التمتع عن المعنى الشرعي إلى المعنى اللغوي، والثاني هو الانتفاع مطلقا، والأول هو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويأتي بمناسكها ثم يحرم بالحج من جوف مكة ويأتي بأعماله ويقابله القران وهو أن يحرم بهما معا ويأتي بمناسك الحج فيدخل فيها مناسك العمرة، والإفراد وهو أن يحرم بالحج وبعد الفراغ منه بالعمرة.
* (فما استيسر من الهديا) * الفاء واقعة في جواب (من) أي فعليه دم استيسر عليه بسبب التمتع فهو دم جبران لأن الواجب عليه أن يحرم الحج من الميقات فلما أحرم لا من الميقات أورث ذلك خللا فيه فجبر بهذا الدم، ومن ثم لا يجب على المكي ومن في حكمه، ويذبحه إذا أحرم بالحج ولا يجوز قبل الإحرام ولا يتعين له يوم النحر بل يستحب ولا يأكل منه، وهذا مذهب الشافعي، وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه دم نسك كدم القارن لأنه وجب عليه شكرا للجمع بين النسكين فهو كالأضحية ويذبح يوم النحر.
* (فمن لم يجد) * أي الهدي وهو عطف على * (فإذا امنتم) *. * (فصيام ثلاثة أيام في الحج) * أي فعليه صيام وقرىء (فصيام) بالنصب أي فليصم، وظرف الصوم محذوف إذ يمتنع أن يكون شيء من أعمال الحج ظرفا له، فقال أبو حنيفة: المراد في وقت الحج مطلقا لكن بين الإحرامين إحرام الحج وإحرام العمرة وهو كناية عن عدم التحلل عنهما فيشمل ما إذا وقع قبل إحرام الحج سواء تحلل من العمرة أو لا، وما وقع بعده بدليل أنه إذا قدر على الهدى بعد صوم الثلاثة قبل التحلل وجب عليه الذبح ولو قدر
82

عليه بعد التحلل لا يجب عليه لحصول المقصد بالصوم وهو التحلل، وقال الشافعي: المراد وقت أداء الحج وهو أيام الاشتغال به بعد الإحرام وقبل التحلل، ولا يجوز الصوم عنده قبل إحرام الحج، والأحب أن يصوم سابع ذي الحجة وثامنه وتاسعة لأنه غاية ما يمكن في التأخير لاحتمال القدرة على الأصل وهو الهدي، ولا يجوز يوم النحر وأيام التشريق لكون الصوم منهيا فيها، وجوز بعضهم صوم الثلاثة الأخيرة احتجاجا بما أخرجه ابن جرير. والدارقطني. والبيهقي عن ابن عمر قال: رخص النبي صلى الله عليه وسلم للمتمتع إذا لم يجد الهدي ولم يصم حتى فاته أيام العشر أن يصوم أيام التشريق مكانها، وأخرج مالك عن الزهري قال: " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة فنادى في أيام التشريق فقال: إن هذه أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى إلا من كان عليه صوم من هدي " وأخرج الدارقطني مثله من طريق سعيد بن المسيب، وأخرج البخاري وجماعة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لم يرخص صلى الله عليه وسلم في أيام التشريق أن يصمن إلا لمتمتع لم يجد هديا، وبذلك أحد الإمام مالك ولعل سادتنا الحنفية عولوا على أحاديث النهي وقالوا: إذا فاته الصوم حتى أتى يوم النحر لم يجزه إلا الدم ولا يقضيه بعد أيام التشريق كما ذهب إليه الشافعية لأنه بدل والأبدال لا تنصب إلا شرعا والنص خصه بوقت الحج وجواز الدم على الأصل؛ وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه أمر في مثله بذبح الشاة.
* (وسبعة إذا رجعتم) * أي فرغتم ونفرتم من أعماله، فذكر الرجوع وأريد سببه، أو المعنى إذا رجعتم من منى، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه - على ما هو الأصح عند معظم أصحابه -: إذا رجعتم إلى أهليكم، ويؤيده ما أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه: " إذا رجعتم إلى أمصاركم " وأن لفظ الرجوع أظهر في هذا المعنى، وحكم ناوي الإقامة بمكة توطنا حكم الراجع إلى وطنه لأن الشرع أقام موضع الإقامة مقام الوطن، وفي " البحر " المراد بالرجوع إلى الأهل الشروع فيه - عند بعض - والفراغ بالوصول إليهم - عند آخرين - وفي الكلام التفات، وحمل على معنى بعد الحمل على لفظه في إفراده وغيبته؛ وقرىء * (سبعة) * بالنصب عطفا على محل * (ثلاثة أيام) * لأنه مفعول اتساعا، ومن لم يجوزه قدر - وصوموا - وعليه أبو حيان.
* (تلك عشرة كاملة) * الإشارة إلى - الثلاثة، والسبعة - ومميز العدد محذوف أي أيام وإثبات - التاء - في العدد مع حذف المميز أحسن الاستعمالين، وفائدة الفذلكة أن لا يتوهم أن - الواو - بمعنى أو التخييرية، وقد نص السيرافي في " شرح الكتاب " على مجيئها لذلك، وليس تقدم الأمر الصريح شرطا فيه بل الخبر الذي هو بمعنى الأمر كذلك، وأن يندفع التوهم البعيد الذي أشرنا إليه في مقدمة " إعجاز القرآن "، وأن يعلم العدد جملة - كما علم تفصيلا - فيحاط به من وجهين فيتأكد العلم، ومن أمثالهم - علمان خير من علم - لا سيما وأكثر العرب لا يحسن الحساب، فاللائق بالخطاب العامي الذي يفهم به الخاص والعام الذين هم من أهل الطبع، لا أهل الارتياض بالعلم أن يكون بتكرار الكلام وزيادة الإفهام والإيذان بأن المراد - بالسبعة - العدد دون الكثرة فإنها تستعمل بهذين المعنيين، فإن قلت: ما الحكمة في كونها كذلك حتى يحتاج إلى تفريقها المستدعي لما ذكر؟ أجيب بأنها لما كانت بدلا عن الهدى والبدل يكون في محل المبدل منه غالبا جعل الثلاثة بدلا عنه في زمن الحج وزيد عليها السبعة علاوة لتعادله من غير نقص في الثواب لأن الفدية مبنية على التيسير،
83

ولم يجعل - السبعة - فيه لمشقة الصوم في الحج، وللإشارة إلى هذا التعادل وصفت - العشرة - بأنها كاملة فكأنه قيل: تلك عشرة كاملة في وقوعها بدلا من الهدى وقيل: إنها صفة مؤكدة تفيد زيادة التوصية بصيامها وأن لا يتهاون بها ولا ينقص من عددها كأنه قيل تلك عشرة كاملة فراعوا كمالها ولا تنقصوها، وقيل: إنها صفة مبينة كمال العشرة فإنها عدد كمل فيه خواص الأعداد، فإن الواحد مبتدأ العدد، والاثنين أول العدد، والثلاثة أول عدد فرد، والأربعة أول عدد مجذور، والخمس أول عدد دائر، والستة أول عدد تام، والسبعة عدد أول، والثمانية أول عدد زوج الزوج، والتسعة أول عدد مثلث، والعشرة نفسها ينتهي إليها العدد فإن كل عدد بعدها مركب منها ومما قبلها قاله بعض المحققين.
وذكر الإمام لهذه الفذلكة مع الوصف عشرة أوجه - لكنها عشرة غير كاملة - ولولا مزيد التطويل لذكرتها بما لها وعليها * (ذالك) * إشارة إلى التمتع المفهوم من قوله سبحانه: * (فمن تمتع) * عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إذ لا متعة ولا قران لحاضري المسجد لأن شرعهما للترفه باسقاط أحد السفرتين وهذا في حق الآفاقي لا في حق أهل مكة ومن في حكمهم، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: إنها إشارة إلى الأقرب وهو الحكم المذكور أعني لزوم الهدي أو بدله على المتمتع وإنما يلزم ذلك إذا كان المتمتع آفاقيا لأن الواجب أن يحرم عن الحج من الميقات فلما أحرم من الميقات عن العمرة ثم أحرم عن الحج لا من الميقات فقد حصل هناك الخلل فجعل مجبورا بالدم، والمكي لا يجب إحرامه في الميقات فاقدامه على التمتع لا يوقع خللا في حجه فلا يجب عليه الهدي ولا بدله، ويرده أنه لو كانت الإشارة للهدي والصوم لأتى - بعلى - دون اللام في قوله سبحانه:
* (لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) * لأن الهدى وبدله واجب على المتمتع والواجب يستعمل - بعلى - لا باللام، وكون اللام واقعة موقع على كما قيل به في " اشترطي لهم الولاء " خلاف الظاهر، والمراد بالموصول من كان من الحرم على مسافة القصر عند الشافعي رضي الله تعالى عنه، ومن كان مسكنه وراء الميقات عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وأهل الحل عند طاووس، وغير أهل مكة عند مالك رضي الله تعالى عنه، والحاضر على الوجه الأول ضد المسافر، وعلى الوجوه الأخر بمعنى الشاهد الغير الغائب، والمراد من حضور الأهل حضور المحرم، وعبر به لأن الغالب على الرجل كما قيل: أن يسكن حيث أهله ساكنون، و - للمسجد الحرام - إطلاقان، أحدهما: نفس المسجد، والثاني: الحرم كله، ومنه قوله سبحانه: * (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام) * (الإسراء: 1) بناءا على أنه صلى الله عليه وسلم إنما أسري به من الحرم لا من المسجد، وعلى إرادة المعنى الأخير في الآية هنا أكثر أئمة الدين.
* (واتقوا الله) * في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه كما يستفاد من ترك المفعول ويدخل فيه الحج دخولا أوليا وبه يتم الانتظام * (واعلموا أن الله شديد العقاب) * لمن
لم يتقه أي استحضروا ذلك لتمتنعوا عن العصيان، وإظهار الاسم الجليل في موضع الاضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة؛ وإضافة شديد من إضافة الصفة المشبهة إلى مرفوعها.
* (الحج أشهر معلوم‍ات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون ياأولي الألب‍اب) *
* (الحج أشهر) * أي وقته ذلك وبه يصح الحمل، وقيل: ذو أشهر أو حج أشهر، وقيل: لا تقدير، ويجعل الحج الذي هو فعل من الأفعال عين الزمان مبالغة، ولا يخفى أن المقصد بيان وقت الحج كما يدل عليه ما بعد فالتنصيص عليه أولى، ومعنى قوله سبحانه وتعالى: * (معلوم‍ات) * معروفات عند الناس وهي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة عندنا، وهو المروي عن ابن عباس وابن مسعود وابن الزبير وابن عمر والحسن
84

رضي الله تعالى عنهم، وأيد بأن يوم النحر وقت لركن من أركان الحج - وهو طواف الزيارة - وبأنه فسر يوم الحج الأكبر بيوم النحر، وعند مالك الشهران الأولان وذو الحجة كله عملا بظاهر لفظ الأشهر، ولأن أيام النحر يفعل فيها بعض أعمال الحج من طواف الزيارة، والحلق، ورمي الجمار، والمرأة إذا حاضت تؤخر الطواف الذي لا بد منه إلى انقضاء أيامه بعد العشرة، ولأنه يجوز - كما قيل - تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر - على ما روي عن عروة بن الزبير - ولأن ظواهر الأخبار ناطقة بذلك، فقد أخرج الطبراني والخطيب وغيرهما بطرق مختلفة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عد الثلاثة أشهر الحج " وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن عمر رضي الله تعالى عنه مثل ذلك. وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه الشهران الأولان وتسع ذي الحجة بليلة النحر لأن الحج يفوت بطلوع الفجر من يوم النحر، والعبادة لا تكون فائتة مع بقاء وقتها، قاله الرازي، وفيه أن فوته بفوت ركنه الأعظم - وهو الوقوف - لا بفوت وقته مطلقا، ومدار الخلاف أن المراد بوقته وقت مناسكه وأعماله من غير كراهة وما لا يحسن فيه غيره من المناسك مطلقا - أو وقت إحرامه - والشافعي رضي الله تعالى عنه - على الأخير - والإحرام لا يصح بعد طلوع فجر يوم النحر لعدم إمكان الأداء، وإن جاز أداء بعض أعمال الحج في أيام النحر، ومالك على الثاني فإنه - على ما قيل - كره الاعتمار في بقية ذي الحجة، لما روي أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يخوف الناس بالدرة وينهاهم عن ذلك فيهن، وإن ابنه رضي الله تعالى عنه قال لرجل: إن أطعتني انتظرت حتى إذا هل المحرم خرجت إلى ذات عرق فأهللت منها بعمرة. والإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه على الأول لكون العاشر وقتا لأداء الرمي والحلق وغيرهما، وغيرها من بقية أيام النحر - وإن كان وقتا لذلك أيضا - إلا أنه خصص بالعشر اقتضاءا لما روي في الآثار من ذكر العشر، ولعل وجهه أن المراد الوقت الذي يتمكن فيه المكلف من الفراغ عن مناسكه بحيث يحل له كل شيء وهو اليوم العاشر وما سواه من بقية أيام النحر، فللتيسير في أداء الطواف، ولتكميل الرمي، والأشهر مستعمل في حقيقته إلا أنه تجوز في بعض أفراده، فإن أقل الجمع ثلاثة أفراد عند الجمهور فجعل بعض من فرد فردا ثم جمع، وقيل: إنه مجاز فيما فوق الواحد بعلاقة الاجتماع، وليس من الجمع حقيقة بناءا على المذهب المرجوح فيه لأنه إنما يصح إطلاقه على اثنين فقط، أو ثلاثة - لا على اثنين - وبعض ثالث، والقول - بأن المراد به اثنان والثالث في حكم العدم - في حكم العدم، وقيل: المراد ثلاثة، ولا تجوز في بعض الأفراد لأن أسماء الظروف تطلق على بعضها حقيقة لأنها على معنى - في - فيقال: رأيته في سنة كذا أو شهر كذا أو يوم كذا وأنت قد رأيته في ساعة من ذلك - ولعله قريب إلى الحق - وصيغة جمع المذكر في غير العقلاء - تجي - بالألف والتاء.
* (فمن فرض) * أي ألزم نفسه * (فيهن الحج) * بالإحرام، ويصير محرما - بمجرد النية - عند الشافعي لكون الإحرام التزام الكف عن المحظورات فيصير شارعا فيه بمجردها كالصوم، وعندنا - لا - بل لا بد من مقارنة التلبية لأنه عقد على الأداء فلا بد من ذكر كما في تحريمة الصلاة، ولما كان باب الحج أوسع من باب الصلاة كفى ذكر يقصد به التعظيم سوى التلبية - فارسيا كان أو عربيا - وفعل كذلك من سوق (الهدي) أو تقليده، واستدل بالآية على أنه لا يجوز الإحرام بالحج إلا في تلك الأشهر، كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه وعطاء وغيرهما إذ لو جاز في غيرها - كما ذهب إليه الحنفية - لما كان لقوله سبحانه: * (فيهن) * فائدة، وأجيب بأن فائدة ذكر * (فيهن) * كونها وقتا لأعماله من غير كراهية فلا يستفاد منه عدم جواز
85

الإحرام قبله، فلو قدم الإحرام انعقد حجا مع الكراهة، وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه يصير محرما بالعمرة، ومدار الخلاف أنه ركن عنده - وشرط عندنا - فأشبه الطهارة في جواز التقديم على الوقت، والكراهة جاءت للشبهة، فعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج ".
* (فلا رفث) * أي لا جماع، أو لا فحش من الكلام * (ولا فسوق) * ولا خروج عند حدود الشرع بارتكاب المحظورات، وقيل: بالسباب والتنابز بالألقاب * (ولا جدال) * ولا خصام مع الخدم والرفقة. * (في الحج) * أي في أيامه، والإظهار في مقام الإضمار لإظهار كمال الاعتناء بشأنه والإشعار بعلة الحكم فإن زيارة البيت المعظم والتقرب بها إلى الله تعالى من موجبات ترك الأمور المذكورة المدنسة لمن قصد السير والسلوك إلى ملك الملوك، وإيثار النفي للمبالغة في النهي والدلالة على أنه حقيقة بأن لا تكون، فإن ما كان منكرا مستقبحا في نفسه منهيا عنه مطلقا فهو للمحرم بأشرف العبادات وأشقها أنكر وأقبح كلبس الحرير في الصلاة وتحسين الصوت بحيث تخرج الحروف عن هيآتها في القرآن، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو الأولين بالرفع حملا لهما على معنى النهي أي: لا يكونن رفث ولا فسوق والثالث - بالفتح - على معنى الإخبار بانتفاء الخلاف في الحج، وذلك أن قريشا كانت تقف بالمشعر الحرام وسائر العرب يقفون بعرفة، وبعد ما أمر الكل بالوقوف في عرفة ارتفع الخلاف فأخبر به، وقرىء بالرفع فيهن ووجهه لا يخفى.
* (وما تفعلوا من خير يعلمه الله) * بتأويل الأمر معطوف على * (فلا رفث) * أي لا ترفثوا وافعلوا الخيرات - وفيه التفات - وحث على - الخير - عقيب النهي عن الشر ليستبدل به، ولهذا خص متعلق العلم مع أنه تعالى عالم بجميع ما يفعلونه من خير أو شر، والمراد من - العلم - إما ظاهره فيقدر بعد الفعل فيثيب عليه، وإما
المجازاة مجازا * (وتزودوا فإن خير الزاد التقواى) * أخرج البخاري وأبو داود والنسائي وابن المنذر وابن حبان والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن متوكلون، ثم يقدمون فيسألون الناس فنزلت - فالتزود - بمعناه الحقيقي - وهو اتخاذ الطعام للسفر - والتقوى بالمعنى اللغوي - وهو الاتقاء من السؤال - وقيل: معنى الآية اتخذوا التقوى زادكم لمعادكم فإنها خير زاد، فمفعول (تزودوا) محذوف بقرينة خبر إن - وهو التقوى بالمعنى الشرعي - وكان مقتضى الظاهر أن يحمل * (خير الزاد) * على * (التقوى) * فإن المسند إليه والمسند إذا كانا معرفتين يجعل ما هو مطلوب الإثبات مسندا، والمطلوب هنا إثبات خير الزاد للتقوى لكونه دليلا على تزودها إلا أنه أخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر للمبالغة لأنه حينئذ يكون المعنى إن الشيء الذي بلغكم أنه خير الزاد وأنتم تطلبون نعته هو التقوى فيفيد اتحاد خير الزاد بها * (واتقون يا أولي الألب‍اب) * أي أخلصوا لي التقوى فإن مقتضى العقل الخالص عن الشوائب ذلك وليس فيه - على هذا - شائبة تكرار مع سابقه لأنه حث على الإخلاص بعد الحث على التقوى.
* (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذآ أفضتم من عرف‍ات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضآلين) *
* (ليس عليكم جناج) * أي حرج في * (أن تبتغوا) * أي تطلبوا * (فضلا من ربكم) * أي رزقا منه تعالى بالربح بالتجارة في مواسم الحج، أخرج البخاري وغيره - عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه - قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في الموسم فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
86

عن ذلك فنزلت، واستدل بها على إباحة التجارة والإجارة وسائر أنواع المكاسب في الحج وإن ذلك لا يحبط أجرا ولا ينقص ثوابا، ووجه الارتباط أنه تعالى لما نهى عن الجدال في الحج كان مظنة للنهي عن التجارة فيه أيضا لكونها مفضية في الأغلب إلى النزاع في قلة القيمة وكثرتها فعقب ذلك بذكر حكمها، وذهب أبو مسلم إلى المنع عنها في الحج، وحمل الآية على ما بعد الحج، وقال؛ المراد واتقون في كل أفعال الحج ثم بعد ذلك ليس عليكم جناح الخ كقوله تعالى: * (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) * (الجمعة: 10) وزيف بأن حمل الآية على محل الشبهة أولى من حملها على ما لا شبهة فيه ومحل الاشتباه هو التجارة في زمان الحج. وأما بعد الفراغ فنفي الجناح معلوم وقياس الحج على الصلاة فاسد فإن الصلاة أعمالها متصلة فلا يحل في أثنائها التشاغل بغيرها، وأعمال الحج متفرقة تحتمل التجارة في أثنائها، وأيضا الآثار لا تساعد ما قاله فقد سمعت ما أخرجه البخاري، وقد أخرج أحمد وغيره عن أبي أمامة التيمي قال سألت ابن عمر فقلت: إنا قوم نكري في هذا الوجه وإن قوما يزعمون أنه لا حج لنا قال: ألستم تلبون ألستم تطوفون بين الصفا والمروة ألستم ألستم؟؟ قلت بلى قال: إن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عما سألت عنه فلم يدر ما يرد عليه حتى تزلت * (ليس عليكم جناح) * الآية فدعاه فتلا عليه حين نزلت وقال: " أنتم الحجاج " وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقرأ فيما أخرجه البخاري وعبد ابن حميد وابن جرير وغيرهم عنه * (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) * في مواسم الحج، وكذلك روي عن ابن مسعود، وأيضا - الفاء - في قوله تعالى: * (فإذا أفضتم من عرف‍ات) * ظاهرة في أن هذه الإفاضة حصلت عقيب ابتغاء الفضل وذلك مؤذن بأن المراد وقوع التجارة في زمان الحج، نعم قال بعضهم: إذا كان الداعي للخروج إلى الحج هو التجارة أو كانت جزء العلة أضر ذلك بالحج لأنه ينافي الإخلاص لله تعالى به - وليس بالبعبد - و * (أفضتم) * من الإفاضة من فاض الماء إذا سال منصبا. وأفضته أسلته والهمزة فيه للتعدية، ومفعوله مما التزم حذفه للعلم به، وأصله أفيضتم فنقلت حركة - الياء - إلى - الفاء - قبلها فتحركت - الياء - في الأصل وانفتح ما قبلها الآن فقلبت ألفا ثم حذفت، والمعنى هنا فإذا دفعتم أنفسكم بكثرة من عرفات و * (من) * لابتداء الغاية وعرفات موضع بمنى وهي اسم في لفظ الجمع فلا تجمع قال الفراء: ولا واحد له بصحة، وقول الناس نزلنا عرفة شبيه بمولد - وليس بعربي محض - واعترض عليه بخبر " الحج عرفة " وأجيب بأن عرفة فيه اسم لليوم التاسع من ذي الحجة كما صرح به الراغب والبغوي والكرماني، والذي أنكره استعماله في المكان، فالاعتراض ناشىء من عدم فهم المراد ومن هنا قيل: إنه جمع عرفة وعليه صاحب " شمس العلوم "، والتعدد حينئذ باعتبار تسمية كل جزء من ذلك المكان عرفة كقولهم: جب مذاكيره فلا يرد ما قاله العلامة: من أنه لو سلم كون عرفة عربيا محضا فعرفة وعرفات مدلولهما واحد، وليس ثمة أماكن متعددة كل منها عرفة لتجمع على عرفات، وإنما نون وكسر مع أن فيه العلمية والتأنيث لأن تنوين جمع المؤنث في مقابلة نون جمع المذكر فإن النون في جمع المذكر قائم مقام التنوين الذي في الواحد في المعنى الجامع لأقسام التنوين وهو كونه علامة تمام الاسم فقط، وليس في النون شيء من من معاني الأقسام للتنوين فكذا التنوين في جمع المؤنث علامة لتمام الاسم فقط، وليس فيها أيضا شيء من تلك المعاني سوى المقابلة وليس الممنوع من غير المنصرف هذا التنوين بل تنوين التمكين لأنه الدال على عدم مشابهة الاسم بالفعل وأن ذهاب الكسرة على المذهب المرضي تبع لذهاب التنوين من غير عوض لعدم الصرف، وهنا ليس كذلك - قاله الجمهور - وقال الزمخشري: إنما نون وكسر لأنه منصرف لعدم الفرعيتين المعتبرتين إذ التأنيث
87

المعتبر مع العلمية في منع الصرف إما أن يكون بالتاء المذكورة وهي ليست تاء تأنيث بل علامة الجمع، وإما أن يكون بتاء مقدرة كما في زينب، واختصاص هذه التاء بجمع المؤنث يأبى تقدير تاء لكونه بمنزلة الجمع بين علامتي تأنيث فهذه التاء كتاء بنت ليست للتأنيث بل عوض عن الواو المحذوفة، واختصت بالمؤنث فمنعت تقدير التاء فعلى هذا لو سمي بمسلمات، وبنت مؤنث كان منصرفا، وقول ابن الحاجب: إن هذا يقتضي أنه إذا سمي بذلك منع صرفه ليس بشيء إذ الاقتضاء غير مسلم، وكذا ما قاله عصام الدين من أن التأنيث لمنع الصرف لا يستدعي قوة ألا يرى أن طلحة يعتبر تأنيثه لمنع الصرف ولا يعتبر لتأنيث ضمير يرجع إليه لأن بناء الاستدلال ليس على اعتبار القوة والضعف بل على عدم تحقق التأنيث، نعم يرد ما أورده الرضي من أن لو لم يكن فيه تأنيث لما التزم تأنيث الضمير الراجع إليه، ويجاب بأن اختصاص هذا الوزن بالمؤنث يكفي لإرجاع الضمير ولا يلزم فيه وجود التاء لفظا أو تقديرا وإنما سمي هذا المكان المخصوص بلفظ ينبىء عن المعرفة لأنه نعت لإبراهيم عليه الصلاة
والسلام فعرفه، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو لأن جبريل كان يدور به في المشاعر (فلما رآه) قال: قد عرفت، وروي عن عطاء، أو لأن آدم وحواء اجتمعا فيه فتعارفا، وروي عن الضحاك والسدي؛ أو لأن جبريل عليه السلام قال لآدم فيه اعترف بذنبك واعرف مناسكك قاله بعضهم، وقيل: سمي بذلك لعلوه وارتفاعه، ومنه عرف الديك، واختير الجمع للتسمية مبالغة فيما ذكر من وجوهها كأنه عرفات متعددة وهي من الأسماء المرتجلة قطعا عند المحققين، وعرفة يحتمل أن تكون منها وأن تكون منقولة من جمع عارف ولا جزم بالنقل إذ لا دليل على جعلها جمع عارف والأصل عدم النقل.
* (فاذكروا الله) * بالتلبية والتهليل والدعاء، وقيل: بصلاة العشاءين لأن ظاهر الأمر للوجوب ولا ذكر واجب * (عند المشعر الحرام) * إلا الصلاة، والمشهور أن المشعر مزدلفة كلها، فقد أخرج وكيع وسفيان وابن جرير والبيهقي وجماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن المشعر الحرام فسكت حتى إذا هبطت أيدي الرواحل بالمزدلفة قال: هذا المشعر الحرام وأيد بأن الفاء تدل على أن الذكر عند المشعر يحصل عقيب الإفاضة من عرفات وما ذاك إلا بالبيتوتة بالمزدلفة، وذهب كثير إلى أنه جبل يقف عليه الإمام في المزدلفة ويسمى قزح، وخص الله تعالى الذكر عنده مع أنه مأمور به في جميع المزدلفة لأنها كلها موقف إلا وادي محسر كما دلت عليه الآثار الصحيحة لمزيد فضله وشرفه، وعن سعيد بن جبير - ما بين جبلي مزدلفة فهو المشعر الحرام ومثله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وإنما سمي - مشعرا - لأنه معلم العبادة، ووصف - بالحرام - لحرمته، والظرف متعلق باذكروا أو بمحذوف حال من فاعله.
* (واذكروه كما هديكم) * أي كما علمكم المناسك والتشبيه لبيان الحال وإفادة التقييد أي اذكروه على ذلك النحو ولا تعدلوا عنه، ويحتمل أن يراد مطلق الهداية ومفاد التشبيه التسوية في الحسن والكمال أي: اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة إلى المناسك وغيرها. و (ما) - على المعنيين تحتمل أن تكون مصدرية فمحل * (كما هداكم) * النصب على المصدرية بحذف الموصوف أي ذكرا مماثلا لهدايتكم، وتحتمل أن تكون كافة فلا محل لها من الإعراب، والمقصود من الكاف مجرد تشبيه مضمون الجملة بالجملة، ولذا لا تطلب عاملا تفضي بمعناه إلى مدخولها، وذهب بعضهم إلى أن - الكاف - للتعليل وأنها متعلقة بما عندها و - ما - مصدرية لا غير أي: اذكروه وعظموه لأجل هدايته السابقة منه تعالى لكم. * (وإن كنتم) * أي وإنكم كنتم فخففت (إن) وحذف الاسم وأهملت عن العمل ولزم اللام فيما بعدها، وقيل: إن (إن)
88

نافية، واللام بمعنى إلا * (من قبله) * أي - الهدى - والجار متعلق بمحذوف يدل عليه * (لمن الضالين) * ولم يعلقوه به لأن ما بعد - ال - الموصولة لا يعمل فيما قبلها وفيه تأمل، والمراد من الضلال الجهل بالإيمان ومراسم الطاعات، والجملة تذييل لما قبلها كأنه قيل: اذكروه الآن إذ لا يعتبر ذكركم السابق المخالف لما هداكم لأنه من الضلالة، وحمله على الحال توهم بعيد عن المرام.
* (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) *
* (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) * أي من عرفة لا من - المزدلفة - والخطاب عام، والمقصود إبطال ما كان عليه الحمس من الوقوف بجمع، فقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس وكانت سائر العرب يقفون بعرفات فلما جاء الإسلام أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها فذلك قوله سبحانه: * (ثم أفيضوا) * الآية ومعناها: ثم أفيضوا أيها الحجاج من مكان أفاض جنس الناس منه قديما وحديثا، وهو عرفة لا من مزدلفة، وجعل الضمير عبارة عن الحمس يلزم منه بتر النظم إذ الضمائر السابقة واللاحقة كلها عامة؛ والجملة معطوفة على قوله تعالى: * (فإذا أفضتم) * ولما كان المقصود من هذه التعريض كانت في قوة ثم لا تفيضوا من المزدلفة؛ وأتى - بثم - إيذانا بالتفاوت بين الإفاضتين في الرتبة بأن إحداهما صواب، والأخرى خطأ، ولا يقدح في ذلك أن التفاوت إنما يعتبر بين المتعاطفين لا بين المعطوف عليه وما دخله حرف النفي من المعطوف لأن الحصر ممنوع، وكذا لا يضر انفهام التفاوت من كون أحدهما مأمورا به، والآخر منهيا عنه كيفما كان العطف لأن المراد أن كلمة (ثم) تؤذن بذلك مع قطع النظر عن تعلق الأمر والنهي، وجوز أن يكون العطف على - فاذكروا - ويعتبر التفاوت بين الإفاضتين أيضا كما في السابق بلا تفاوت، وبعضهم جعله معطوفا على محذوف أي: أفيضوا إلى منى ثم أفيضوا الخ وليس بشيء كالقول بأن في الآية تقديما وتأخيرا والتقدير: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم - ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واستغفروا وإذا أريد بالمفاض منه المزدلفة وبالمفاض إليه منى - كما قال الجبائي - بقيت كلمة (ثم (على ظاهرها لأن الإفاضة إلى منى بعيدة عن الإفاضة من - عرفات - لأن الحاج إذا إفاضوا منها عند غروب الشمس يوم عرفة يجيئون إلى المزدلفة ليلة النحر ويبيتون بها فإذا طلع الفجر وصلوا بغلس ذهبوا إلى قزح فيرقون فوقه أو يقفون بالقرب منه ثم يذهبون إلى وادي محسر ثم منه إلى منى، والخطاب على هذا عام بلا شبهة، والمراد من الناس الجنس كما هو الظاهر - أي من حيث أفاض الناس كلهم قديما وحديثا، وقيل: المراد بهم إبراهيم عليه السلام وسمي ناسا لأنه كان إماما للناس، وقيل: المراد هو وبنوه، وقرىء (الناس) بالكسر أي الناسي والمراد به آدم عليه السلام لقوله تعالى في حقه: * (فنسي) * (طه: 115) وكلمة - ثم - على هذه القراءة للإشارة إلى بعد ما بين الإفاضة من عرفات والمخالفة عنها بناءا على أن معنى ثم أفيضوا عليها ثم لا تخالفوا عنها لكونها شرعا قديما كذا قيل فليتدبر * (واستغفروا الله) * من جاهليتكم في تغيير المناسك ونحو * (إن الله غفور) * للمستغفرين * (رحيم) * بهم منعم عليهم.
* (فإذا قضيتم من‍اسككم فاذكروا الله كذكركم ءابآءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنآ ءاتنا فى الدنيا وما له فى الاخرة من خل‍اق) *
* (فإذا قضيتم من‍اسككم) * أي أديتم عباداتكم الحجية وفرغتم منها * (فاذكروا الله كذكركم ءاباءكم) * أي كما كنتم تذكرونهم عند فراغ حجكم بالمفاخر، روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان أهل الجاهلية يجلسون بعد الحج فيذكرون أيام آبائهم وما يعدون من أنسابهم يومهم أجمع فأنزل الله تعالى ذلك * (أو أشد ذكرا) *
إما مجرور معطوف
89

على الذكر بجعل الذكر ذاكرا على المجاز والمعنى - واذكروا الله ذكرا كذكركم آباءكم أو كذكر أشد منه وأبلغ - أو على ما أضيف إليه بناءا على مذهب الكوفيين المجوزين للعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الخافض في السعة بمعنى - أو كذكر قوم أشد منكم ذكرا - وإما منصوب بالعطف على * (آباءكم) * و * (ذكرا) * من فعل المبني للمفعول بمعنى أو كذكركم أشد مذكورية من آبائكم، أو بمضمر دل عليه المعنى أي ليكن ذكركم الله تعالى أشد من ذكركم آباءكم أو كونوا أشد ذكرا لله تعالى منكم لآبائكم كذا قيل، واختار في " البحر " أن يكون (أشد) نصب على الحال من ذكرا المنصوب - باذكروا - إذ لو تأخر عنه لكان صفة له وحسن تأخر * (ذكرا) * لأنه كالفاصلة ولزوال قلق التكرار إذ لو قدم لكان التركيب فاذكروا الله كذكركم آباءكم، أو اذكروا ذكرا أشد، وفيه أن الظاهر على هذا الوجه أن يقال أو أشد بدون (ذكرا) بأن يكون معطوف على (كذكركم) صفة للذكر المقدر وأن المطلوب الذكر الموصوف بالأشدية لا طلبه حال الأشدية.
* (فمن الناس من يقول) * جملة معترضة بين الأمرين المتعاطفين للحث والاكثار من ذكر الله تعالى وطلب ما عنده، وفيها تفصيل للذاكرين مطلقا حجاجا أو غيرهم كما هو الظاهر إلى مقل لا يطلب بذكر الله تعالى إلا الدنيا ومكثر يطلب خير الدارين، وما نقل عن بعض المتصوفة من قولهم إن عبادتنا لذاته تعالى فارغة من الأغراض والاعراض جهل عظيم ربما يجر إلى الكفر كما قاله حجة الإسلام قدس سره لأن عدم التعليل في الأفعال مختص بذاته تعالى على أن البعض قائل بأن أفعاله سبحانه أيضا معللة بما تقتضيه الحكمة، نعم إن عبادته تعالى قد تكون لطلب الرضا لا لخوف مكروه أو لنيل محبوب لكن ذا من أجل حسنات الأخرى يطلبه خلص عباده قال تعالى: * (ورضوان من الله أكبر) * (التوبة: 72) وقرن سبحانه الذكر بالدعاء للإشارة إلى أن المعتبر من الذكر ما يكون عن قلب حاضر وتوجه باطن كما هو حال الداعي حين طلب حاجة لا مجرد التفوه والنطق به، وذهب الإمام وأبو حيان إلى أن التفصيل للداعين المأمورين بالذكر بعد الفراغ من المناسك، وبدأ سبحانه وتعالى بالذكر لكونه مفتاحا للإجابة ثم بين جل شأنه أنهم ينقسمون في سؤال الله تعالى إلى من يغلب عليه حب الدنيا فلا يدعو إلا بها ومن يدعو بصلاح حاله في الدنيا والآخرة، وفي الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة حطا لطالب الدنيا عن ساحة عز الحضور، ولا يخفى أن الأول هو المناسب لإبقاء (الناس) على عمومه والمطابق لما سيأتي من قوله سبحانه: * (ومن الناس من يعجبك) * (البقرة: 204) الخ * (ومن الناس من يشري) * (البقرة: 207) نعم سبب النزول - كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - طائفة من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيطلبون الدنيا، والطائفة من المؤمنين يجيئونه فيطلبون الدنيا والآخرة وهذا لا يقتضي التخصيص.
* (ربنآ ءاتنا في الدنيا) * أي اجعل كل إيتائنا ومنحتنا فيه فالمفعول الثاني متروك ونزل الفعل بالقياس منزلة اللازم ذهابا إلى عموم الفعل للإشارة إلى أن همته مقصورة على مطالب الدنيا * (وما له في الآخرة من خلاق) *. إخبار منه تعالى ببيان حال هذا الصنف في الآخرة يعني أنه لا نصيب له فيها ولا حظ؛ و - الخلاق - من خلق به إذا لاق، أو من الخلق كأنه الأمر الذي خلق له وقدر، وقيل: الجملة بيان لحال ذلك في الدنيا فهي تصريح بما علم ضمنا من سابقه تقريرا له وتأكيدا أي ليس له في الدنيا طلب خلاق في الآخرة، وليس المراد أنه ليس له طلب في الآخرة للخلاق ليقال: إن هذا حكم كل أحد إذ لا طلب في الآخرة وإنما فيها الحظ والحرمان، ويجاب بمنع عدم الطلب إذ المؤمنون يطلبون زيادة الدرجات والكافرون الخلاص من شدة العذاب، و * (من) * صلة، و - له - خبر مقدم والجار والمجرور بعده متعلق
90

بما تعلق به أو حال مما بعده.
* (ومنهم من يقول ربنآ ءاتنا فى الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار) *
* (ومنهم من يقول ربنآ ءاتنا في الدنيا حسنة) * يعني العافية والكفاف قاله قتادة، أو المرأة الصالحة قاله علي كرم الله تعالى وجهه، أو العلم والعبادة قاله الحسن، أو المال الصالح قاله السدي، أو الأولاد الأبرار، أو ثناء الخلق قاله ابن عمر، أو الصحة والكفاية والنصرة على الأعداء والفهم في كتاب الله تعالى، أو صحبة الصالحين قاله جعفر، والظاهر أن الحسنة وإن كانت نكرة في الإثبات وهي لا تعم إلا أنها مطلقة فتنصرف إلى الكامل والحسنة الكاملة في الدنيا ما يشمل جميع حسناتها وهو توفيق الخير وبيانها بشيء مخصوص ليس من باب تعيين المراد إذ لا دلالة للمطلق على المقيد أصلا وإنما هو من باب التمثيل وكذا الكلام في قوله تعالى: * (وفي الآخرة حسنة) * فقد قيل هي الجنة، وقيل: السلامة من هول الموقف وسوء الحساب، وقيل: الحور العين وهو مروي عن علي كرم الله تعالى وجهه، وقيل: لذة الرؤية وقيل، وقيل... والظاهر الإطلاق وإرادة الكامل وهو الرحمة والإحسان.
* (وقنا عذاب النار) * أي احفظنا منه بالعفو والمغفرة واجعلنا ممن يدخل الجنة من غير عذاب، وقال الحسن: احفظنا من الشهوات والذنوب المؤدية إلى عذاب النار، وقال علي كرم الله تعالى وجهه: عذاب النار الامرأة السوء أعاذنا الله تعالى منها وهو على نحو ما تقدم وقد كان صلى الله عليه وسلم أكثر دعوة يدعو بها هذه الدعوة كما رواه البخاري ومسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه. وأخرجا عنه أيضا أنه قال: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ المنتوف فقال له صلى الله عليه وسلم: هل كنت تدعو الله تعالى بشيء؟ قال: نعم كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سبحان الله إذا لا تطيق ذلك ولا تستطيعه فهلا قلت ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ودعا له فشفاه الله تعالى ".
* (أول‍ائك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب) *
* (أول‍ائك) * إشارة إلى الفريق الثاني والجملة في مقابلة * (وما له في الآخرة من خلاق) * (البقرة: 200) والتعبير باسم الإشارة للدلالة على أن اتصافهم بما سبق علة للحكم المذكور ولذا ترك العطف ههنا لكونه كالنتيجة لما قبله، قيل: وما فيه من معنى البعد للإشارة إلى علو درجتهم وبعد منزلتهم في الفضل، وجوز أن
تكون الإشارة إلى كلا الفريقين المتقدمين فالتنوين في قوله تعالى: * (لهم نصيب مما كسبوا) * على الأول: للتفخيم وعلى الثاني: للتنويع أي لكل منهم نصيب من جنس ما كسبوا، أو من أجله، أو مما دعوا به نعطيهم منه ما قدرناه، و - من - إما للتبعيض أو للابتداء، والمبدئية على تقدير الأجلية على وجه التعليل، وفي الآية على الاحتمال الثالث وضع الظاهر موضع المضمر بغير لفظ السابق لأن المفهوم من * (ربنا آتنا) * (البقرة: 201) الدعاء لا الكسب إلا أنه يسمى كسبا لأنه من الأعمال وقرىء (مما اكتسبوا). * (والله سريع الحساب) *. يحاسب العباد على كثرتهم في قدر نصف نهار من أيام الدنيا، وروي بمقدار فواق ناقة، وروي بمقدار لمحة البصر أو يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب الناس فبادروا إلى الطاعات واكتساب الحسنات، والجملة تذييل لقوله تعالى: * (فاذكروا الله كذكركم آباءكم) * (البقرة: 200) الخ والمحاسبة إما على حقيقتها كما هو قول أهل الحق من أن النصوص على ظاهرها ما لم يصرف عنها صارف، أو مجاز عن خلق علم ضروري فيهم بأعمالهم وجزائها كما وكيفا، ومجازاتهم عليها هذا.
ومن باب الإشارة في الآيات: * (وليس البر بأن تأتوا) * بيوت قلوبكم من طرف حواسكم ومعلوماتكم البدنية المأخوذة من المشاعر فإنها ظهور القلوب التي تلي البدن * (ولكن البر من اتقى) * شواغل
91

الحواس وهواجس الخيال ووساوس النفس الأمارة * (وأتوا) * هاتيك * (البيوت من أبوابها) * التي تلي الروح، ويدخل منها الحق * (واتقوا الله) * (البقرة: 189) عن رؤية تقواكم لعلكم تفوزون به * (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) * من قوى نفوسكم ودواعي بشريتكم فإن ذلك هو الجهاد الأكبر * (ولا تعتدوا) * بإهمالها والوقوف مع حظوظها أو لا تتجاوزوا في القتال إلى أن تضعفوا البدن عن القيام بمراسم الطاعة، ووظائف العبودية: فرب مخمصة شر من التخم
* (إن الله لا يحب المعتدين) * (البقرة: 190) الواقفين مع نفوسهم أو المتجاوزين ظل الوحدة وهو العدالة * (واقتلوهم) * حيث وجدتموهم أي امنعوا هاتيك القوى عن شم لذائذ الشهوات والهوى حيث كانوا * (وأخرجوهم) * عن مكة الصدر كما أخرجوكم عنها واستنزلوكم إلى بقعة النفس وحالوا بينكم وبين مقر القلب وفتنتهم التي هي عبادة الهوى والسجود لأصنام اللذات أشد من الإماتة بالكلية أو بلاؤكم عند استيلاء النفس أشد عليكم من القتل الذي هو محو الاستعداد وطمس الغرائز لما يترتب على ذلك من ألم الفراق عن حضرة القدس الذي لا يتناهى * (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام) * وهو مقام القلب إذا وافقوكم في توجهكم حتى ينازعوكم في مطالبكم ويجروكم عن دين الحق ويدعوكم إلى عبادة عجل النظر إلى الأغيار فإن نازعوكم * (فاقتلوهم) * بسيف الصدق واقطعوا مادة تلك الدواعي * (كذلك جزاء الكافرين) * (البقرة: 191) الساترين للحق * (فإن انتهوا) * عن نزاعهم * (فإن الله غفور رحيم) * (البقرة: 192) * (وقاتلوهم) * على دوام الرعاية وصدق العبودية * (حتى لا تكون فتنة) * ولا يحصل التفات إلى السوي * (ويكون الدين كله لله) * بتوجه الجمع إلى الجناب الأقدس والذات المقدس * (فإن انتهوا فلا عدوان) * (البقرة: 193) إلا على المجاوزين للحدود * (الشهر الحرام) * الذي قامت به النفس لحقوقها * (بالشهر الحرام) * الذي هو وقت حضوركم ومراقبتكم * (والحرمات قصاص) * (البقرة: 194) فلا تبالوا بهتك حرمتها * (وأنفقوا في سبيل الله) * ما معكم من العلوم بالعمل به والإرشاد - * (ولا تلقوا بأيديكم) * إلى تهلكة التفريط وأحسنوا - (البقرة: 195) بأن تكونوا مشاهدين ربكم في سائر أعمالكم إن الله يحب المشاهدين له، - وأتموا حج - توحيد الذات وعمرة توحيد الصفات لله بإتمام جميع المقامات والأحوال * (فإن أحصرتم) * بمنع أعداء النفوس أو مرض الفتور فجاهدوا في الله بسوق هدي النفس وذبحها بفناء كعبة القلب، ولاختلاف النفوس في الاستعداد قال: (ما استيسر) * (ولا تحلقوا رؤوسكم) * ولا تزيلوا آثار الطبيعة وتختاروا فراغ الخاطر حتى يبلغ هدي النفس محله فحينئذ تأمنون من التشويش وتكدر الصفاء * (فمن كان منكم مريضا) * ضعيف الاستعداد * (أو به أذى من رأسه) * أي مبتلى بالتعلقات ولم يتيسر له السلوك على ما ينبغي فعليه فدية من إمساك عن بعض لذاته وشواغله أو فعل برأ ورياضة تقمع بعض القوى * (فإذا أمنتم) * من المانع المحصر * (فمن تمتع) * بذوق تجلي الصفات متوسلا به إلى حج تجلي الذات فيجب عليه ما أمكن من الهدي بحسب حاله * (فمن لم يجد) * لضعف نفسه وانقهارها * (فصيام ثلاثة أيام في الحج) * أي فعليه الإمساك عن أفعال القوى التي هي الأصول القوية في وقت التجلي والاستغراق في الجمع والفناء وهي العقل والوهم والمتخيلة * (وسبعة إذا رجعتم) * إلى مقام التفصيل والكثرة، وهي الحواس الخمسة الظاهرة والغضب والشهوة لتكون عند الاستقامة في الأشياء بالله عز وجل * (تلك عشرة كاملة) * موجبة لأفاعيل عجيبة مشتملة على أسرار غريبة * (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) * (البقرة: 196) من الكاملين الحاضرين مقام الوحدة لأن أولئك لا يخاطبون ولا يعاتبون ومن وصل فقد استراح * (الحج أشهر معلومات) * وهي مدة الحياة الفانية أو من وقت بلوغ الحلم إلى الأربعين كما قال في البقرة: * (لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك) * (البقرة: 68). ومن هنا قيل: الصوفي بعد الأربعين بارد، نعم العمش خير من العمى والقليل خير من الحرمان * (فمن فرض فيهن الحج) * على نفسه بالعزيمة * (فلا رفث) * أي فلا يمل إلى الدنيا وزينتها * (ولا فسوق) * ولا يخرج القوة الغضبية عن طاعة القلب بل
92

لا يخرج عن الوقت ولا يدخل فيما يورث المقت * (ولا جدال في الحج) * أي ولا ينازع أحدا في مقام التوجه إليه تعالى إذ الكل منه وإليه ومن نازعه في شيء ينبغي أن يسلمه إليه ويسلم عليه * (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) * (الفرقان: 63) * (وما تفعلوا) * من فضيلة في ترك شيء من هذه الأمور * (يعلمه الله) * ويثيبكم عليه، * (وتزودوا) * من الفضائل التي يلزمها الاجتناب عن الرذائل * (فإن خير الزاد التقوى) * وتمامها بنفي السوي * (واتقون يا أولي الألباب) * (البقرة: 197) فإن قضية العقل الخالص عن شوب الوهم وقشر المادة اتقاء الله تعالى * (ليس عليكم) * حرج عند الرجوع إلى الكثرة أن تطلبوا رفقا لأنفسكم على مقتضى ما حده المظهر الأعظم صلى الله عليه وسلم فإذا دفعتم أنفسكم من عرفات المعرفة * (فاذكروا الله عند المشعر الحرام) * أي شاهدوا جماله سبحانه عند السر الروحي المسمى بالخفي وسمي مشعرا لأنه محل الشعور بالجمال، ووصف بالحرام لأنه محرم أن يصل إليه الغير * (واذكروه كما هداكم) * إلى ذكره في المراتب *
(وإن كنتم من) * قبل الوصول إلى عرفات المعرفة والوقوف بها * (لمن الضالين) * (البقرة: 198) عن هذه الأذكار في طلب الدنيا * (ثم أفيضوا) * إلى ظواهر العبادات * (من حيث أفاض) * سائر الناس إليها وكونوا كأحدهم فإن النهاية الرجوع إلى البداية أو أفيضوا من حيث أفاض الأنبياء عليهم السلام لأجل أداء الحقوق والشفقة على عباد الله تعالى بالإرشاد والتعليم * (واستغفروا الله) * فقد كان الشارع الأعظم صلى الله عليه وسلم يغان على قلبه ويستغفر الله تعالى في اليوم سبعين مرة، ومن أنت يا مسكين بعده * (إن الله غفور رحيم) * (البقرة: 199) * (فإذا قضيتم مناسككم) * وفرغتم من الحج * (فاذكروا الله كذكركم آباءكم) * قبل السلوك * (أو أشد ذكرا) * لأنه المبدأ الحقيقي فكونوا مشغولين به حسبما تقتضيه ذاته سبحانه * (فمن الناس) * من لا يطلب إلا الدنيا ولا يعبد إلا لأجلها * (وماله) * (البقرة: 200) في مقام الفناء من نصيب لقصور همته واكتسابه الظلمة المنافية للنور؛ ومنهم من يطلب خير الدارين ويحترز عن الاحتجاب بالظلمة والتعذيب بنيران الطبيعة * (أولئك لهم نصيب مما كسبوا) * (البقرة: 202) من حظوظ الآخرة والأنوار الباهرة واللذات الباقية والمراتب العالية والله سريع الحساب.
* (واذكروا الله فىأيام معدودات فمن تعجل فى يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلاإثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون) *
* (واذكروا الله) * أي كبروه إدبار الصلوات وعند ذبح القرابين ورمي الجمار وغيرها. * (في أيام معدودات) * وهي ثلاثة أيام التشريق وهو المروي في المشهور عن عمرو وعلي وابن عباس رضي الله تعالى عنهم، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها أربعة أيام بضم يوم النحر إليها، واستدل بعضهم للتخصيص بأن هذه الجملة معطوفة على قوله سبحانه. * (فاذكروا الله) * (البقرة: 200) الخ فكأنه قيل: فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله في أيام معدودات، والفاء للتعقيب فاقتضى ذلك إخراج يوم النحر من الأيام، ومن اعتبر العطف والتعقيب وجعل بعض يوم يوما استدل بالآية على ابتداء التكبير خلف الصلاة من ظهر يوم النحر، واستدل بعمومها من قال: يكبر خلف النوافل. واستشكل وصف أيام بمعدودات لأن أياما جمع يوم وهو مذكر، ومعدودات واحدها معدودة وهو مؤنث فكيف تقع صفة له، فالظاهر معدودة ووصف جمع ما لا يعقل بالمفرد المؤنث جائز، وأجيب بأن معدودات جمع معدود لا معدودة، وكثيرا ما يجمع المذكر جمع المؤنث كحمامات وسجلات، وقيل: إنه قدر اليوم مؤنثا باعتبار ساعاته، وقيل: إن المعنى أنها في كل سنة معدودة، وفي السنين معدودات فهي جمع معدودة حقيقة ولا يخفى ما فيه.
* (فمن تعجل) * أي عجل في النفر أو استعجل النفر من منى، وقد ذكر غير واحد أن عجل واستعجل يجيئان مطاوعين بمعنى عجل يقال: تعجل في الأمر واستعجل، ومتعديين يقال: تعجل الذهاب، والمطاوعة عند الزمخشري أوفق لقوله تعالى: * (ومن تأخر) * كما هي كذلك في قوله:
93

قد يدرك المتأني بعض حاجته * وقد يكون من (المستعجل) الزلل
لأجل المتأني، وذهب بعض أرباب التحقيق إلى ترجيح التعدي لأن المراد بيان أمور - العجل - لا التعجل مطلقا، وقيل: لأن اللازم يستدعي تقدير (في) فيلزم تعلق حرفي جر أحدهما: المقدر والثاني: * (في يومين) * بالفعل وذا لا يجوز - واليومان - يوم القر. ويوم الرؤوس. واليوم الذي بعده. والمراد فمن نفر في ثاني أيام التشريق قبل الغروب - وبعد رمي الجمار عند الشافعية - وقبل طلوع الفجر من اليوم الثالث إذا فرغ من رمي الجمار عندنا - والنفر في أول يوم منها لا يجوز - فظرفية اليومين له على التوسع باعتبار أن الاستعداد له في اليوم الأول، والقول بأن التقدير في أحد يومين إلا أنه مجمل فسر باليوم الثاني، أو في آخر يومين خروج عن مذاق النظر.
* (فلآ إثم عليه) * باستعجاله * (ومن تأخر) * في النفر حتى رمي في اليوم الثالث قبل الزوال أو بعده عندنا، وعند الشافعي بعده فقط * (فلآ إثم عليه) * بما صنع من التأخر، والمراد التخيير بين - التعجل والتأخر - ولا يقدح فيه أفضلية الثاني خلافا لصاحب - " الإنصاف " - وإنما ورد - بنفي الإثم - تصريحا بالرد على أهل الجاهلية حيث كانوا مختلفين فيه، فمن مؤثم للمعجل، ومؤثم للمتأخر * (لمن اتقى) * خبر لمحذوف - واللام - إما للتعليل أو للاختصاص، أي ذلك التخيير المذكور بقرينة القرب لأجل - المتقي - لئلا يتضرر بترك ما يقصده من - التعجيل والتأخر - لأنه حذر متحرز عما يريبه، أو ذلك المذكور من أحكام الحج مطلقا نظرا إلى عدم المخصص القطعي، وإن كانت عامة لجميع المؤمنين مختصة - بالمتقي - لأنه الحاج على الحقيقة، والمنتفع بها، والمراد من - التقوى - على التقديرين التجنب عما يؤثم من - فعل أو ترك - ولا يجوز حملها على التجنب عن الشرك لأن الخطاب في جميع ما سبق للمؤمنين، واستدل بعضهم بالآية على أن الحاج إذا اتقى في أداء حدود الحج وفرائضه غفرت له ذنوبه كلها، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرج ابن جرير عنه أنه فسر الآية بذلك ثم قال: إن الناس يتأولونها على غير تأويلها، وهو من الغرابة بمكان.
* (واتقوا الله) * في جميع أموركم التي يتعلق بها العزم لتنتظموا في سلك المغتنمين بالأحكام المذكورة، أو احذروا الإخلال بما ذكر من أمور الحج * (واعلموا أنكم اليه تحشرون) * للجزاء على أعمالكم بعد الإحياء والبعث، وأصل - الحشر - الجمع وضم المفرق وهو تأكيد للأمر بالتقوى وموجب للامتثال به، فإن من علم بالحشر والمحاسبة والجزاء كان ذلك من أقوى الدواعي له إلى ملازمة التقوى، وقدم إليه للاعتناء بمن يكون الحشر إليه ولتواخي الفواصل.
* (ومن الناس من يعجبك قوله فى الحيواة الدنيا ويشهد الله على ما فى قلبه وهو ألد الخصام) *
* (ومن الناس من يعجبك قوله) * عطف على قوله تعالى: * (فمن الناس من يقول) * (البقرة: 200) والجامع أنه سبحانه لما ساق بيان أحكام الحج إلى بيان انقسام الناس في الذكر والدعاء في تلك المناسك إلى الكافر والمؤمن، تممه سبحانه ببيان قسمين آخرين - المنافق والمخلص - وأصل - التعجب - حيرة تعرض للإنسان لجهله بسبب المتعجب منه، وهو هنا مجاز عما يلزمه من الروق والعظمة فإن الأمر الغريب المجهول يستطيبه الطبع ويعظم وقعه في القلوب، وليس على حقيقته لعدم الجهل بالسبب أعني الفصاحة والحلاوة، فالمعنى ومنهم من يروقك ويعظم في نفسك ما يقول * (في الحيواة الدنيا) * أي في أمور الدنيا وأسباب المعاش - سواء كانت
عائدة إليه أم لا - فالمراد من الحياة ما به الحياة والتعيش،
94

أو في معنى الدنيا فإنها مرادة من ادعاء المحبة وإظهار الإيمان - فالحياة الدنيا - على معناها، وجعله ظرفا للقول من قبيل قولهم في عنوان المباحث الفصل الأول في كذا والكلام في كذا أي المقصود منه ذلك ولا حذف في شيء من التقديرين على ما وهم وتكون الظرفية حينئذ تقديرية كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " في النفس المؤمنة مائة من الإبل " أي في قتلها فالسبب الذي هو القتل متضمن للدية تضمن الظرف للمظروف وهذه هي التي يقال لها إنها سببية كذا في الرضي قاله بعض المحققين، وجوز تعلق المجرور بالفعل قبله أي يعجبك في الدنيا قوله لفصاحته وطراوة ألفاظه ولا يعجبك في الآخرة لما يعتريه من الدهشة واللكنة أو لأنه لا يؤذن له في الكلام فلا يتكلم حتى يعجبك، والآية كما قال السدي: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بن زهرة " أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة فأظهر له الإسلام وأعجب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه وقال: إنما جئت أريد الإسلام والله تعالى يعلم إني لصادق ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بزرع (لقوم) من المسلمين وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر " وقيل: في المنافقين كافة.
* (ويشهد الله على ما في قلبه) * أي بحسب ادعائه حيث يقول الله يعلم أن ما في قلبي موافق لما في لساني وهو معطوف على * (يعجبك) * وفي مصحف أبي (ويستشهد الله)، وقرىء (ويشهد الله) بالرفع، فالمراد بما في قلبه ما فيه حقيقة، ويؤيده قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، (والله يشهد على ما في قلبه) على أن كلمة على لكون المشهود به مضرا له، والجملة حينئذ اعتراضية.
* (وهو ألد الخصام) * أي شديد المخاصمة في الباطل كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما واستشهد عليه بقول مهلهل: إن تحت الحجار حزما وجورا * وخصيما ألد ذا مقلاق
فألد صفة كأحمر بدليل جمعه على لد ومجىء مؤنثه لداء لا أفعل تفضيل والإضافة من إضافة الصفة إلى فاعلها كحسن الوجه على الإسناد المجازي وجعلها بعضهم بمعنى في على الظرفية التقديرية أي شديد في المخاصمة؛ ونقل أبو حيان عن الخليل أن ألد أفعل تفضيل فلا بد من تقدير، وخصامه ألد الخصام أو ألد ذوي الخصام، أو يجعل وهو راجع إلى الخصام المفهوم من الكلام على بعد، أو يقال الخصام جمع خصم كبحر وبحار وصعب وصعاب، فالمعنى أشد الخصوم خصومة، والإضافة فيه للاختصاص كما في أحسن الناس وجها، وفي الآية إشارة إلى أن شدة المخاصمة مذمومة، وقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أبغض الرجال إلى الله تعالى الألد الخصم " وأخرج أحمد عن أبي الدرداء " كفى بك إثما أن لا تزال مماريا وكفى بك ظالما أن لا تزال مخاصما وكفى بك كاذبا أن لا تزال محدثا إلا حديث في ذات الله عز وجل " وشدة الخصومة من صفات المنافقين لأنهم يحبون الدنيا فيكثرون الخصام عليها.
* (وإذا تولى سعى فى الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد) *
* (وإذا تولى) * أي أدبر وأعرض قاله الحسن، أو إذا غلب وصار واليا - قاله الضحاك -. * (سعى) * أي أسرع في المشي أو عمل. * (في الأرض ليفسد فيها) * ما أمكنه. * (ويهلك الحرث والنسل) * كما فعله الأخنس، أو كما يفعله ولاة السوء بالقتل والإتلاق، أو بالظلم الذي يمنع الله تعالى بشؤمه القطر، والحرث الزرع والنسل كل ذات روح يقال نسل ينسل نسولا إذا خرج فسقط، ومنه نسل وبر البعير أو ريش الطائر، وسمي العقب من الولد نسلا لخروجه من ظهر أبيه وبطن أمه، وذكر الأزهري
95

أن الحرث هنا النساء والنسل الأولاد، وعن الصادق أن الحرث في هذا الموضع الدين والنسل الناس، وقرىء (ويهلك الحرث والنسل) على أن الفعل للحرث والنسل، والرفع للعطف على * (سعى) * وقرأ الحسن بفتح اللام وهي لغة - أبى يأبى - وروي عنه (ويهلك) على البناء للمفعول.
* (والله لا يحب الفساد) * لا يرضى به فاحذروا غضبه عليه، والجملة اعتراض للوعيد واكتفى فيها على الفساد لانطوائه على الثاني لكونه من عطف العام على الخاص، ولا يرد أن الله تعالى مفسد للأشياء قبل الإفساد، فكيف حكم سبحانه بأنه لا يحب الفساد، لأنه يقال: الإفساد - كما قيل في الحقيقة - إخراج الشيء عن حالة محمودة - لا لغرض صحيح - وذلك غير موجود في فعله تعالى ولا هو آمر به، وما نراه من فعله جل وعلا إفسادا فهو بالإضافة إلينا، وأما بالنظر إليه تعالى فكله صلاح، وأما أمره بإهلاك الحيوان مثلا لأكله فلإصلاح الإنسان الذي هو زبدة هذا العالم، وأما إماتته فأحد أسباب حياته الأبدية ورجوعه إلى وطنه الأصلي، وقد تقدم ما عسى أن تحتاجه هنا.
* (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد) *
* (وإذا قيل له اتق الله) * في فعلك * (أخذته العزة) * أي احتوت عليه وأحاطت به، وصار كالمأخوذ بها، والعزة في الأصل خلاف الذل وأريد بها الأنفة والحمية مجازا * (بالاثم) * أي مصحوبا أو مصحوبة به أو بسبب إثمه السابق، ويجوز أن يكون - أخذ - من الأخذ بمعنى الأسر، ومنه الأخيذ للأسير، أي جعلته العزة وحمية الجاهلية أسيرا بقيد الإثم لا يتخلص منه * (فحسبه جهنم) * مبتدأ وخبر أي كافيه جهنم وقيل: جهنم فاعل لحسبه ساد مسد خبره، وهو مصدر بمعنى الفاعل وقوي لاعتماده على - الفاء - الرابطة للجملة بما قبلها، وقيل: حسب اسم فعل ماض بمعنى كفى - وفيه نظر - وجهنم علم لدار العقاب أو لطبقة من طبقاتها ممنوعة من الصرف للعلمية والتأنيث، وهي من الملحق بالخماسي بزيادة الحرف الثالث ووزنه فعنلل، وفي " البحر " إنها مشتقة من قولهم: ركية جهنام - إذا كانت بعيدة القعر - وكلاهما من الجهم، وهي الكراهية، والغلظ، ووزنها فعنل، ولا يلتفت لمن قال: وزنها فعنلل كعرندس، وأن فعنلا مفقود لوجود فعنل نحو دونك وخفنك وغيرهما، وقيل: إنها فارسي وأصلها كهنام فعربت - بإبدال الكاف جيما وإسقاط الألف - والمنع من الصرف حينئذ للعلمية والعجمة * (ولبئس المهاد) * جواب قسم مقدر؛
والمخصوص بالذم محذوف لظهوره وتعينه، والمهاد الفراش، وقيل: ما يوطىء للجنب - والتعبير به للتهكم - وفي الآية ذم لمن يغضب إذا قيل له اتق الله ولهذا قال العلماء: إذا قال الخصم للقاضي: اعدل ونحوه له أن يعزره، وإذا قال له: اتق الله لا يعزره. وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه " إن من أكبر الذنب أن يقول الرجل لأخيه: اتق الله تعالى فيقول: عليك بنفسك عليك بنفسك ".
* (ومن الناس من يشرى نفسه ابتغآء مرضات الله والله رءوف بالعباد) *
* (ومن الناس من يشري نفسه) * أي يبيعها ببذلها في الجهاد على ما روي عن ابن عباس والضحاك رضي الله تعالى عنهما أن الآية نزلت في سرية الرجيع، أو في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على ما أخرج ابن جرير عن أبي الخليل قال: سمع عمر رضي الله تعالى عنه إنسانا يقرأ هذه الآية فاسترجع وقال: قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل.
* (ابتغاء مرضات الله) * أي طلبا لرضاه، فابتغاء مفعول له، ومرضات مصدر بني - كما في " البحر " - على التاء كمدعاة، والقياس تجريده منها، وكتب في المصحف - بالتاء - ووقف عليه - بالتاء والهاء - وأكثر الروايات أن الآية نزلت في صهيب الرومي رضي الله تعالى عنه،
96

فقد أخرج جماعة أن صهيبا أقبل مهاجرا نحو النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من المشركين فنزل عن راحلته ونثر ما في كنانته وأخذ قوسه ثم قال: يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أرماكم رجلا؛ وأيم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بما في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم. فقالوا. دلنا على بيتك ومالك بمكة ونخلي عنك، وعاهدوه إن دلهم أن يدعوه ففعل، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أبا يحيى ربح البيع ربح البيع " وتلا له الآية. وعلى هذا يكون الشراء على ظاهره بمعنى الاشتراء. وفي الكواشي أنها نزلت في الزبير بن العوام وصاحبه المقداد بن الأسود لما قال عليه الصلاة والسلام: " من ينزل خبيبا عن خشبته فله الجنة " فقال: أنا وصاحبي المقداد - وكان خبيب قد صلبه أهل مكة - وقال الإمامية وبعض منا: إنها نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه حين استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على فراشه بمكة لما خرج إلى الغار، وعلى هذا يرتكب في الشراء مثل ما ارتكب أولا * (والله رءوف بالعباد) * أي المؤمنين حيث أرشدهم لما فيه رضاه، وجعل النعيم الدائم جزاء العمل المنقطع وأثاب على شراء ملكه بملكه.
* (ي‍اأيها الذين ءامنوا ادخلوا في السلم كآفة ولا تتبعوا خطوات الشيط‍ان إنه لكم عدو مبين) *
* (ي‍اأيها الذين ءامنوا ادخلوا في السلم كآفة) * أخرج غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه، وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا بشرائعه وشرائع موسى عليه السلام فعظموا السبت وكرهوا لحمان الإبل وألبانها بعد ما أسلموا، فأنكر ذلك عليهم المسلمون، فقالوا: إنا نقوى على هذا وهذا، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن التوراة كتاب الله تعالى فدعنا فلنعمل بها، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فالخطاب لمؤمني أهل الكتاب، والسلم بمعنى الإسلام، وكافة في الأصل صفة من كف بمعنى منع، استعمل بمعنى الجملة بعلاقة أنها مانعة للأجزاء عن التفرق - والتاء - فيه للتأنيث أو النقل من الوصفية إلى الإسمية كعامة وخاصة وقاطبة، أو للمبالغة واختار الطيبي الأول مدعيا أن القول بالأخيرين خروج عن الأصل من غير ضرورة، والشمول المستفاد منه شمول الكل للأجزاء لا الكلي لجزئياته ولا الأعم منهما، ولا يختص بمن يعقل، ولا بكونه حالا ولا نكرة خلافا لابن هشام - وليس له في ذلك ثبت - وهو هنا حال من الضمير في * (ادخلوا) * والمعنى ادخلوا في الإسلام بكليتكم ولا تدعوا شيئا من ظاهركم وباطنكم إلا والإسلام يستوعبه بحيث لا يبقى مكان لغيره من شريعة موسى عليه السلام، وقيل: الخطاب للمنافقين، والسلم بمعنى الاستسلام والطاعة على ما هو الأصل فيه، وكافة حال من الضمير أيضا، أي استسلموا لله تعالى وأطيعوه جملة واتركوا النفاق وآمنوا ظاهرا وباطنا، وقيل: الخطاب لكفار أهل الكتاب الذين زعموا الإيمان بشريعتهم، والمراد من السلم جميع الشرائع بذكر الخاص وإرادة العام بناءا على القول بأن الإسلام شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم، وحمل - اللام - على الاستغراق، * (وكافة) * حال من * (السلم) * والمعنى ادخلوا أيها المؤمنون بشريعة واحدة في الشرائع كلها ولا تفرقوا بينها، وقيل: الخطاب للمسلمين الخلص، والمراد من السلم شعب الإسلام، وكافة حال منه، والمعنى: ادخلوا أيها المسلمون المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم في شعب الإيمان كلها ولا تخلوا بشيء من أحكامه، وقال الزجاج في هذا الوجه: المراد من السلم الإسلام، والمقصود أمر المؤمنين بالثبات عليه، وفيه أن التعبير عن الثبات على الإسلام بالدخول فيه بعيد غاية البعد، وهذا ما اختاره بعض المحققين من ستة عشر احتمالا في الآية حاصلة من ضرب
97

احتمالي (السلم) في احتمالي (كافة) وضرب المجموع في احتمالات الخطاب، ومبنى ذلك على أمرين، بأحدهما أن * (كافة) * لإحاطة الأجزاء، والثاني: أن محط الفائدة في الكلام القيد كما هو المقرر عند البلغاء، ونص عليه الشيخ في " دلائل الإعجاز "، وإذا اعتبرت احتمال الحالية من الضمير والظاهر معا كما في قوله: خرجت بها نمشي تجر وراءنا * على أثرينا ذيل مرط مرحل
بلغت الاحتمالات أربعة وعشرين، ولا يخفى ما هو الأوفق منها بسبب النزول. وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي (السلم) بفتح السين والباقون - بكسرها - وهما لغتان مشهورتان فيه، وقرأ الأعمش بفتح السين واللام * (ولا تتبعوا خطوات الشيط‍ان) * بمخالفة ما أمرتم به، أو بالتفرق في جملتكم، أو بالتفريق بالشرائع أو الشعب * (إنه لكم عدو مبين) * ظاهر العداوة أو مظهر لها، وهو تعليل للنهي والانتهاء.
* (فإن زللتم من بعد ما جآءتكم البين‍ات فاعلموا أن الله عزيز حكيم) *
* (فإن زللتم) * أي ملتم عن الدخول في السلم وتنحيتم، وأصله السقوط وأريد به ما ذكر مجازا * (من بعد ما جاءتكم البين‍ات) * أي الحجج الظاهرة الدالة على أنه
الحق، أو آيات الكتاب الناطقة بذلك الموجبة للدخول * (فاعلموا أن الله عزيز) * غالب على أمره لا يعجزه شيء من الانتقام منكم * (حكيم) *. لا يترك ما تقتضيه الحكمة من مؤاخذة المجرمين.
* (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والمل‍ائكة وقضى الأمر وإلى الله ترجع الأمور) *
* (هل ينظرون) * استفهام في معنى النفي، والضمير للموصول السابق إن أريد به المنافقون أو أهل الكتاب، أو إلى * (من يعجبك) * (البقرة: 204) إن أريد به مؤمنو أهل الكتاب أو المسلمون. * (إلا أن يأتيهم الله) * بالمعنى اللائق به جل شأنه منزها عن مشابهة المحدثات والتقيد بصفات الممكنات. * (في ظلل) * جمع ظلة كقلة وكقلل وهي ما أظلك، وقرىء (ظلال) كقلال * (من الغمام) * أي السحاب أو الأبيض منه. * (والمل‍ائكة) * يأتون، وقرىء * (والملائكة) * بالجر عطف على (ظلل) أو (الغمام) والمراد: مع الملائكة أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يجمع الله تعالى الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قياما شاخصة أبصارهم إلى السماء ينظرون فصل القضاء وينزل الله تعالى في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي "؛ وأخرج ابن جرير وغيره عن عبد الله بن عمر في هذه الآية قال: يهبط حين يهبط وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب منها النور والظلمة والماء فيصوت الماء في تلك العظمة صوتا تنخلع له القلوب، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن من الغمام ظللا يأتي الله تعالى فيها محفوفات بالملائكة، وقرأ أبي * (إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل) * ومن الناس من قدر في أمثال هذه المتشابهات محذوفا فقال: في الآية الإسناد مجازي، والمراد يأتيهم أمر الله تعالى وبأسه أو حقيقي، والمفعول محذوف أي يأتيهم الله تعالى ببأسه، وحذف المأتي به للدلالة عليه بقوله سبحانه: * (إن الله عزيز حكيم) * فإن العزة والحكمة تدل على الانتقام بحق، وهو البأس والعذاب، وذكر الملائكة لأنهم الواسطة في إتيان أمره أو الآتون على الحقيقة، ويكون ذكر الله تعالى حينئذ تمهيدا لذكرهم كما في قوله سبحانه: * (يخادعون الله والذين آمنوا) * (البقرة: 9) على وجه وخص الغمام بمحلية العذاب لأنه مظنة الرحمة فإذا جاء منه العذاب كان أفظع لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أصعب فكيف إذا جاء من حيث يحتسب الخير، ولا يخفى أن من علم أن الله تعالى أن يظهر بما شاء وكيف شاء ومتى شاء وأنه في حال ظهوره باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق منزه عن التقيد مبرأ عن التعدد كما ذهب إليه سلف الأمة وأرباب القلوب
98

من ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم لم يحتج إلى هذه الكلفات، ولم يحم حول هذه التأويلات * (وقضي الأمر) * أي أتم أمر العباد وحسابهم فأثيب الطائع وعوقب العاصي وأتم أمر إهلاكهم وفرغ منه وهو عطف على * (هل ينظرون) * لأنه خبر معنى ووضع الماضي موضع المستقبل لدنو وتيقن وقوعه. وقرأ معاذ بن جبل (وقضاء الأمر) عطفا على (الملائكة) * (وإلى الله ترجع الأمور) * تذييل للتأكيد كأنه قيل: وإلى الله ترجع الأمور التي من جملتها الحساب أو الإهلاك، وعلى قراءة معاذ عطف على * (هل ينظرون) * أي لا ينظرون إلا الإتيان وأمر ذلك إلى الله تعالى، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم - (ترجع) - على البناء للمفعول على أنه من الرجع، وقرأ الباقون على البناء للفاعل بالتأنيث غير يعقوب على أنه من الرجوع، وقرىء أيضا بالتذكير وبناء المفعول.
* (سل بنىإسراءيل كم آتين‍اهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جآءته فإن الله شديد العقاب) *
* (سل بني إسراءيل) * أمر للرسول صلى الله عليه وسلم كما هو الأصل في الخطاب أو لكل واحد ممن يصح منه السؤال، والمراد بهذا السؤال تقريعهم وتوبيخهم على طغيانهم وجحودهم الحق بعد وضوح الآيات لا أن يجيبوا فيعلم من جوابهم كما إذا أراد واحد منا توبيخ أحد يقول لمن حضر سله كم أنعمت عليه، وربط الآية بما قبلها على ما قيل: إن الضمير في * (هل ينظرون) * (البقرة: 210) إن كان لأهل الكتاب فهي كالدليل عليه وإن كان ل‍ * (من يعجبك) * (البقرة: 204) فهي بيان لحال المعاندين من أهل الكتاب بعد بيان حال المنافقين من أهل الشرك * (كم ء اتين‍اهم من ءاية بينة) * أي علامة ظاهرة وهي المعجزات الدالة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الحسن ومجاهد، وتخصيص إيتاء المعجزات بأهل الكتاب مع عمومه للكل لأنهم أعلم من غيرهم بالمعجزات وكيفية دلالتها على الصدق لعلمهم بمعجزات الأنبياء السابقة وقد يراد بالآية معناها المتعارف وهو طائفة من القرآن وغيره، و () بينة من بان المتعدي، فالسؤال على إيتاء الآيات المتضمنة لنعت الرسول صلى الله عليه وسلم وتحقيق نبوته والتصديق بما جاء به. و * (كم) * إما خبرية والمسؤول عنه محذوف، والجملة ابتدائية لا محل لها من الإعراب مبينة لاستحقاقهم التقريع كأنه قيل: سل بني إسرائيل عن طغيانهم وجحودهم للحق بعد وضوحه فقد - آتيناهم آيات كثيرة بينة، - وزعم لزوم انقطاع الجملة على هذا التقدير - وهم كما ترى، وإما استفهامية والجملة في موضع المفعول الثاني ل‍ * (سل) * وقيل: في موضع المصدر أي سلهم هذا السؤال، وقيل: في موضع الحال أي سلهم قائلا - كم آتيناهم - والاستفهام للتقرير بمعنى حمل المخاطب على الإقرار، وقيل: بمعنى التحقيق والتثبيت، واعترض بأن معنى التقريع الاستنكار والاستبعاد وهو لا يجامع التحقيق؛ وأجيب بأن التقريع إنما هو على جحودهم الحق وإنكاره المجامع لإيتاء الآيات لا على الإيتاء حتى يفارقه، ومحلها النصب على أنها مفعول ثان - لآتينا - وليس من الاشتغال كما وهم أو الرفع بالابتداء على حذف العائد، والتقدير - آتيناهموما - أو آتيناهم إياها، وهو ضعيف عند سيبويه، وآية تمييز، ومن صلة أتى بها للفصل بين كون آية مفعولا - لآتينا - وكونها مميزة ل‍ * (كم) * ويجب الإتيان بها في مثل هذا الموضع فقد قال الرضي: وإذا كان الفصل بين - كم - الخبرية ومميزها بفعل متعد وجب الإتيان بمن لئلا يلتبس المميز بمفعول ذلك المتعدي نحو * (كم تركوا من جنات) * (الدخان: 25) و * (كم أهلكنا من قرية) * (القصص: 58) وحال - كم - الاستفهامية المجرور مميزها مع الفصل كحال - كم - الخبرية في جميع ما ذكرنا انتهى، وحكي عنه أنه أنكر زيادة من في مميز الاستفهامية وهو محمول على الزيادة بلا فصل لا مطلقا فلا تنافي بين كلاميه. ومن يبدل نعمة الله) * أي آياته فإنها سبب الهدى الذي هو أجل النعم، وفيه وضع المظهر موضع المضمر بغير لفظه السابق لتعظيم الآيات، وتبديلها تحريفها وتأويلها الزائغ، أو جعلها سببا للضلالة وازدياد
99

الرجس، وعلى التقديرين لا حذف في الآية، وقال أبو حيان حذف حرف الجر من (نعمة) والمفعول الثاني ل‍ (يبدل) والتقدير: ومن يبدل بنعمة الله كفرا، ودل على ذلك ترتيب جواب الشرط عليه وفيه ما لا يخفى، وقرىء - ومن يبدل - بالتخفيف * (من بعد ما جآءته) * أي وصلته وتمكن من معرفتها، وفائدة هذه الزيادة - وإن كان تبديل الآيات مطلقا مذموما - التعريض بأنهم بدلوها بعد ما عقلوها، وفيه تقبيح عظيم لهم ونعي على شناعة حالهم واستدلال على استحقاقهم العذاب الشديد حيث بدلوا بعد المعرفة وبهذا يندفع ما يتراءى من أن التبديل لا يكون إلا بعد المجىء فما الفائدة في ذكره * (فإن الله شديد العقاب) * تعليل للجواب أقيم مقامه والتقدير: ومن يبدل نعمة الله عاقبه أشد عقوبة لأنه شديد العقاب، ويحتمل أن يكون هو الجواب بتقدير الضمير أي شديد العقاب له وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة.
* (زين للذين كفروا الحيواة الدنيا ويسخرون من الذين ءامنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القي‍امة والله يرزق من يشآء بغير حساب) *
* (زين للذين كفروا الحيواة الدنيا) * أي أوجدت حسنة وجعلت محبوبة في قلوبهم فتهافتوا عليها تهافت الفراش على النار وأعرضوا عما سواها ولذا أعرض أهل الكتاب عن الآيات وبدلوها؛ وفاعل التزيين بهذا المعنى حقيقة هو الله تعالى وإن فسر بالتحسين بالقول ونحوه من الوسوسة كما في قوله تعالى: * (لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم) * (الحجر: 39) كان فاعل ذلك هو الشيطان والآية محتملة لمعنيين، والتزيين حقيقة فيهما على ما يقتضيه ظاهر كلام الراغب.
* (ويسخرون من الذين ءامنوا) * الموصول للعهد، والمراد به فقراء المؤمنين كصهيب وبلال وعمار أي يستهزؤون بهم على رفضهم الدنيا وإقبالهم على العقبى، و * (من) * للتعدية وتفيد معنى الابتداء كأنهم جعلوا لفقرهم ورثاثة حالهم منشأ للسخرية وقد يعدى السخر بالباء إلا أنه لغة رديئة، والعطف على (زين) وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة على الاستمرار، وجوز أن تكون الواو للحال و (يسخرون) خبر لمحذوف أي وهم يسخرون، والآية نزلت في أبي جهل وأضرابه من رؤساء قريش بسطت لهم الدنيا وكانوا يسخرون من فقراء المؤمنين ويقولون لو كان محمد صلى الله عليه وسلم نبيا لاتبعه أشرافنا، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وقيل: نزلت في ابن أبي بن سلول، وقيل: في رؤساء اليهود، ومن بني قريظة والنضير وقينقاع سخروا من فقراء المهاجرين وعن عطاء لا مانع من نزلها في جميعهم.
* (والذين اتقوا) * هم الذين آمنوا بعينهم وآثر التعبير به مدحا لهم بالتقوى وإشعارا بعلة الحكم، ويجوز أن يراد العموم ويدخل هؤلاء فيهم دخولا أوليا. * (فوقهم يوم القي‍امة) * مكانا لأنهم في عليين وأولئك في أسفل السافلين، أو مكانة لأنهم في أوج الكرامة وهم في حضيض الذل والمهانة، أو لأنهم يتطاولون عليهم في الآخرة فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا، والجملة معطوفة على ما قبلها، وإيثار الاسمية للدلالة على دوام مضمونها، وفي ذلك من تسلية المؤمنين ما لا يخفى. * (والله يرزق) * في الآخرة * (من يشاء بغير حساب) * أي بلا نهاية لما يعطيه، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: هذا الرزق في الدنيا، وفيه إشارة إلى تملك المؤمنين المستهزىء بهم أموال بني قريظة والنضير، ويجوز أن يراد في الدارين فيكون تذييلا لكلا الحكمين.
* (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكت‍ابب الحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جآءتهم البين‍ات بغيا بينهم فهدى الله الذين ءامنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدى من يشآء إلى صراط مستقيم) *
* (كان الناس أمة واحدة) * متفقين على التوحيد مقرين بالعبودية حين أخذ الله تعالى عليهم العهد، وهو المروي عن أبي بن كعب أو بين آدم وإدريس عليهما السلام بناءا على ما في " روضة الأحباب " أن الناس في زمان آدم كانوا موحدين متمسكين بدينه بحيث يصافحون الملائكة إلا قليل من قابيل ومتابعيه إلى زمن رفع إدريس، أو بين آدم ونوح عليهما السلام على ما روى البزار وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
100

أنه كان بينهما عشرة قرون على شريعة من الحق، أو بعد الطوفان إذ لم يبق بعده سوى ثمانين رجلا وامرأة ثم ماتوا إلا نوحا وبنيه حام وسام ويافث وأزواجهم وكانوا كلهم على دين نوح عليه الصلاة والسلام فالاستغراق على الأول والأخير حقيقي، وعلى الثاني والثالث ادعائي بجعل القليل في حكم العدم، وقيل: متفقين على الجهالة والكفر بناءا على ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا كفارا وذلك بعد رفع إدريس عليه الصلاة والسلام إلى أن بعث نوح، أو بعد موت نوح عليه الصلاة والسلام إلى أن بعث هود عليه الصلاة والسلام.
* (فبعث الله النبيين) * أي فاختلفوا فبعث الخ وهي قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، وإنما حذف تعويلا على ما يذكر عقبه. * (مبشرين) * من آمن بالثواب. * (ومنذرين) * من كفر بالعذاب وهم كثيرون، فقد أخرج أحمد وابن حبان عن أبي ذر أنه سئل النبي صلى الله عليه وسلم كم الأنبياء؟ قال: " مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا قلت: يا رسول الله كم الرسل؟ قال: ثلثمائة وثلاثة عشر جم غفير " ولا يعارض هذا قوله تعالى * (ورسلا قد قصصناهم عليك) * (النساء: 164) الآية لما سيأتي إن شاء الله تعالى، والجمعان منصوبان على الحال من (النبيين)، والظاهر أنها حال مقدرة، والقول بأنها حال مقارنة خلاف الظاهر.
* (وأنزل معهم الكت‍اب) * اللام للجنس ومعهم حال مقدرة من الكتاب فيتعلق بمحذوف، وليس منصوبا بأنزل والمعنى أنزل جنس الكتاب مقدرا مقارنته ومصاحبته للنبيين حيث كان كل واحد منهم يأخذ الأحكام إما من كتاب يخصه أو من كتاب من قبله، والكتب المنزلة مائة وأربعة في المشهور أنزل على آدم عشر صحائف وعلى شيث ثلاثون، وعلى إدريس خمسون، وعلى موسى قبل التوراة عشر، والتوراة والإنجيل، والزبور والفرقان، وجوز كون اللام للعهد وضمير معهم للنبيين باعتبار البعض أي أنزل مع كل واحد من بعض النبيين كتابه، ولا يخفى ما فيه من الركة * (بالحق) * متعلق ب * (أنزل) * أو حال من * (الكتاب) * أي متلبسا شاهدا به * (ليحكم بين الناس) * علة للإنزال المذكور أوله وللبعث، وهذا البعث المعلل هو المتأخر عن الاختلاف فلا يضر تقدم بعثة آدم وشيث، وإدريس عليهم الصلاة والسلام بناءا على بعض الوجوه السابقة والحكم بمعنى الفصل بقرينة تعلق بين به ولو كان بمعنى القضاء لتعدى بعلى؛ والضمير المستتر راجع إلى الله سبحانه ويؤيده
قراءة الجحدري فيما رواه عنه مكي (لنحكم) بنون العظمة أو إلى النبي وأفرد الفعل لأن الحاكم كل واحد من النبيين، وجوز رجوعه إلى الكتاب والإسناد حينئذ مجازي باعتبار تضمنه ما به الفصل، وزعم بعضهم أنه الأظهر إذ لا بد في عوده إلى الله تعالى من تكلف في المعنى أي يظهر حكمه وإلى النبي من تكلف في اللفظ حيث لم يقل ليحكموا، ومما ذكرنا يعلم ما فيه من الضعف، والمراد من الناس المذكورون والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التعيين.
* (فيما اختلفوا فيه) * أي في الحق الذي اختلفوا فيه بناءا على أن وحدة الأمة بالاتفاق على الحق وإذا فسرت الوحدة بالاتفاق على الجهالة والكفر يكون الاختلاف مجازا عن الالتباس والاشتباه اللازم له والمعنى فيما التبس عليهم * (وما اختلف فيه) * أي في الحق بأن أنكروه وعاندوه أو في الكتاب المنزل متلبسا به بأن حرفوه وأولوه بتأويلات زائغة والواو حالية. * (إلا الذين أوتوه) * أي الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف وإزاحة الشقاق أي عكسوا الأمر حيث جعلوا ما أنزل مزيحا للاختلاف سببا لرسوخه واستحكامه، وبهذا يندفع السؤال بأنه
101

لما لم يكن الاختلاف إلا من الذين أوتوه - فالاختلاف لا يكون سابقا على البعثة - وحاصله أن المراد ههنا استحكام الاختلاف واشتداده، وعبر عن - الإنزال بالإيتاء - للتنبيه من أول الأمر على كمال تمكنهم من الوقوف على ما فيه من الحق فإن - الإنزال - لا يفيد ذلك، وقيل: عبر به ليختص الموصول بأرباب العلم والدراسة من أولئك المختلفين، وخصهم بالذكر لمزيد شناعة فعلهم ولأن غيرهم تبع لهم
* (من بعد ما جآءتهم البين‍ات) * أي رسخت في عقولهم الحجج الظاهرة الدالة على الحق، و * (من) * متعلقة ب * (اختلفوا) * محذوفا، والحصر على تسليم أن يكون مقصودا مستفاد من المقام أو من حذف الفعل، ووقوع الظرف بعد حرف الاستثناء لفظا، أو من تقدير المحذوف مؤخرا - وفي " الدر المصون " تجويز تعلقه بما اختلف قبله - ولا يمنع منه إلا كما قاله أبو البقاء، وللنحاة في هذا المقام كلام محصله أن استثناء شيئين بأداة واحدة بلا عطف غير جائز مطلقا عند الأكثرين، لا على وجه البدل ولا غيره - ويجوز عند جماعة مطلقا - وفصل بعضهم إن كان المستثنى منه مذكورا مع كل من المستثنيين وهما بدلان جاز - وإلا فلا - واستدل من أجاز مطلقا بقوله تعالى: * (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي) * (هود: 27) فإنه لم يذكر فيه المستثنى أصلا، والتقدير: ما نراك اتبعك أحد في حال إلا أراذلنا في بادي الرأي وأجاب من لم يجوز بأن النصب بفعل مقدر أي: اتبعوا وبأن الظرف يكفيه رائحة الفعل فيجوز فيه ما لا يجوز في غيره - قاله الرضي - وهو مبنى الاختلاف في الآية،
وقوله تعالى: * (بغيا بينهم) * متعلق بما تعلق به * (من) * و - البغي - الظلم أو الحسد، و * (بينهم) * متعلق بمحذوف صفة * (بغيا) * وفيه إشارة - على ما أرى - إلى أن هذا - البغي - قد باض وفرخ عندهم، فهو يحوم عليهم ويدور بينهم لا طمع له في غيرهم، ولا ملجأ له سواهم، وفيه إيذان بتمكنهم في ذلك وبلوغهم الغاية القصوى فيه - وهو فائدة التوصيف بالظرف - وقيل: أشار بذلك إلى أن البغي أمر مشترك بينهم وأن كلهم سفل، ومنشأ ذلك مزيد حرصهم في الدنيا وتكالبهم عليها * (فهدى الله الذين ءامنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه) * أي بأمره أو بتوفيقه وتيسيره، و * (من) * بيان * (لما) * والمراد للحق الذي اختلف الناس فيه - فالضمير عام شامل للمختلفين السابقين واللاحقين - وليس راجعا إلى " الذين أوتوه " كالضمائر السابقة، والقرينة على ذلك عموم الهداية للمؤمنين السابقين على اختلاف أهل الكتاب واللاحقين بعد اختلافهم، وقيل: المراد من * (الذين آمنوا) * أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والضمير في * (اختلفوا) * للذين أوتوه أي الكتاب، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: اختلفوا في يوم الجمعة، فأخذ اليهود يوم السبت، والنصارى يوم الأحد فهدى الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليوم الجمعة. واختلفوا في القبلة، فاستقبلت النصارى المشرق، واليهود بيت المقدس وهدى الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم للقبلة. واختلفوا في الصلاة، فمنهم من يركع ولا يسجد، ومنهم من يسجد ولا يركع، ومنهم من يصلي وهو يتكلم، ومنهم من يصلي وهو يمشي، فهدى الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك. واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم النهار والليل، ومنهم من يصوم عن بعض الطعام، فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك. واختلفوا في إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقالت اليهود: كان يهوديا، وقالت النصارى: كان نصرانيا، وجعله الله تعالى حنيفا مسلما فهدى الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك. واختلفوا في عيسى عليه الصلاة
102

والسلام، فكذبت به اليهود وقالوا لأمه: بهتانا عظيما، وجعلته النصارى إلها وولدا، وجعله الله تعالى روحه وكلمته، فهدى الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك وقراءة أبي بن كعب * (فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ليكونوا شهداء على الناس) *. * (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) * وهو طريق الحق الذي لا يضل سالكه، والجملة مقررة لمضمون ما قبلها.
* (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأسآء والضرآء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين ءامنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) *
* (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة) * نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدة والخوف والبرد وسوء العيش وأنواع الأذى، حتى بلغت القلوب الحناجر، وقيل: في غزوة أحد، وقال عطاء: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة اشتد الضر عليهم، لأنهم خرجوا بغير مال وتركوا ديارهم وأموالهم بيد المشركين، وآثروا رضا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسر قوم من الأغنياء النفاق فأنزل الله تطييبا لقلوبهم هذه الآية، والخطاب إما للمؤمنين خاصة، أو للنبي صلى الله عليه وسلم ولهم، ونسبة - الحسبان - إليه عليه الصلاة والسلام إما لأنه لما كان يضيق صدره الشريف من شدائد المشركين نزل منزلة من يحسب أن يدخل الجنة بدون تحمل المكاره، وإما على سبيل التغليب كما في قوله سبحانه: * (أو لتعودن
في ملتنا) * (الأعراف: 88) و * (أم) * منقطعة - والهمزة المقدرة - لإنكار ذلك الحسبان وأنه لا ينبغي أن يكون، وقيل: متصلة بتقدير معادل، وقيل: منقطعة بدون تقدير، وفي الكلام التفات إلا أنه غير صريح من الغيبة إلى الخطاب لأن قوله سبحانه: * (كان الناس أمة واحدة) * (البقرة: 213) كلام مشتمل على ذكر الأمم السابقة والقرون الخالية، وعلى ذكر من بعث إليهم من الأنبياء وما لقوا منهم من الشدائد، وإظهار المعجزات تشجيعا للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على الثبات والصبر على أذى المشركين، أو للمؤمنين خاصة - فكانوا من هذا الوجه مرادين غائبين - ويؤيده * (فهدى الله الذين آمنوا) * (البقرة: 213) الخ فإذا قيل: بعد * (أم حسبتم) * كان نقلا من الغيبة إلى الخطاب، أو لأن الكلام الأول تعريض للمؤمنين بعدم التثبت والصبر على أذى المشركين، فكأنه وضع موضع كان من حق المؤمنين التشجيع والصبر تأسيا بمن قبلهم، كما يدل عليهم ما أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي والإمام أحمد عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقينا من المشركين فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله تعالى لنا؟ فقال: " إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فتخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه ثم قال: والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلى الله تعالى والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون " وهذا هو المضرب عنه - ببل - التي تضمنتها * (أم) * أي دع ذلك - أحسبوا أن يدخلوا الجنة - فترك هذا إلى الخطاب وحصل الالتفات معنى، ومما ذكر يعلم وجه ربط الآية بما قبلها، وقيل: وجه ذلك أنه سبحانه لما قال: * (يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) * (البقرة: 213) وكان المراد بالصراط الحق الذي يفضي اتباعه إلى دخول الجنة بين أن ذلك لا يتم إلا باحتمال الشدائد والتكليف
* (ولما يأتكم) * الواو للحال، والجملة بعدها نصب على الحال أي غير آتيكم * (ولما) * جازمة - كلم - وفرق بينهما في " كتب النحو "، والمشهور أنها بسيطة، وقيل: مركبة من - لم وما النافية - وهي نظيره قد في أن الفعل المذكور بعدها منتظر الوقوع.
103

* (مثل الذين خلوا من قبلكم) * أي مثل مثلهم وحالهم العجيبة، فالكلام على حذف مضاف، و (الذين) صفة لمحذوف أي المؤمنين، * (ومن قبلكم) * متعلق ب * (خلوا) * وهو كالتأكيد لما يفهم منه. * (مستهم البأساء والضراء) * بيان - للمثل - على الاستئناف سواء قدر كيف ذلك المثل أو لا، وجوز أبو البقاء كونها حالية بتقدير قد * (وزلزلوا) * أي أزعجوا إزعاجا شديدا بأنواع البلاء. * (حتى يقول الرسول والذين ءامنوا معه) * أي انتهى أمرهم من البلاء إلى حيث اضطروا إلى أن يقول الرسول وهو أعلم الناس بما يليق به تعالى، وما تقتضيه حكمته، والمؤمنون المقتدون بآثاره، المهتدون بأنواره * (متى) * يأتي * (نصر الله) * طلبا وتمنيا له، واستطالة لمدة الشدة - لا شكا وارتيابا - والمراد من (الرسول) الجنس لا واحد بعينه، وقيل: هو اليسع، وقيل: شعياء، وقيل: أشعياء، وعلى التعيين يكون المراد من * (الذين خلوا) * قوما بأعيانهم - وهم أتباع هؤلاء الرسل - وقرأ نافع * (يقول) * بالرفع على أنها حكاية حال ماضية و * (معه) * يجوز أن يكون منصوبا ب * (يقول) * أي إنهم صاحبوه في هذا القول وأن يكون منصوبا ب * (آمنوا) * أي وافقوه في الإيمان * (ألا إن نصر الله قريب) * استئناف نحوي على تقدير القول أي فقيل لهم حينئذ ذلك تطييبا لأنفسهم بإسعافهم بمرامهم وإيثار الجملة الاسمية على الفعلية المناسبة لما قبلها وتصديرها بحرف التنبيه والتأكيد من الدلالة على تحقق مضمونها وتقريره ما لا يخفى، واختيار حكاية الوعد بالنصر لما أنها في حكم إنشاء الوعد للرسول والاقتصار على حكايتها دون حكاية النصر مع تحققه للإيذان بعدم الحاجة إلى ذلك لاستحالة الخلف، وقيل: لما كان السؤال - بمتى - يشير إلى استعلام القرب تضمن الجواب القرب واكتفى به ليكون الجواب طبق السؤال، وجوز أن يكون هذا واردا من جهته تعالى عند الحكاية على نهج الاعتراض لا واردا عند وقوع المحكي، والقول بأن هذه الجملة مقول الرسول * (ومتى نصر الله) * تعالى مقول من معه على طريق اللف والنشر الغير المرتب ليس بشيء، أما لفظا فلأنه لا يحسن تعاطف القائلين دون المقولين، وأما معنى للأنه لا يحسن ذكر قول الرسول * (ألا إن نصر الله قريب) * في الغاية التي قصد بها بيان تناهي الأمر في الشدة، والقول - بأن ترك العطف للتنبيه على أن كلا مقول لواحد منهما، واحتراز عن توهم كون المجموع مقول واحد وتنبيه على أن الرسول قال لهم في جوابهم وبأن منصب الرسالة يستدعي تنزيه الرسول عن التزلزل - لا ينبغي أن يلتفت إليه لأنه إذا ترك العطف لا يكون معطوفا على القول الأول فكيف التنبيه على كون كل مقولا لواحد منهما، ولا نأمن وراء منع كون منصب الرسالة يستدعي ذلك التنزيه وليس التزلزل والانزعاج أعظم من الخوف، وقد عرى الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم كما يصرح به كثير من الآيات، وفي الآية رمز إلى أن الوصول إلى الجناب الأقدس لا يتيسر إلا برفض اللذات ومكابدة المشاق كما ينبىء عنه خبر " حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات " وأخرج الحاكم وصححه عن أبي مالك قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى ليجرب أحدكم بالبلاء وهو أعلم به كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار فمنهم من يخرج كالذهب الإبريز فذلك الذي نجاه الله تعالى من السيآت ومنهم من يخرج كالذهب الأسود فذلك الذي قد افتتن "
ومن باب الإشارة في الآيات: * (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا) * يدعي المحبة ويتكلم في دقائق الأسرار ويظهر خصائص الأحوال وهو في مقام النفس الأمارة
104

* (ويشهد الله على ما في قلبه) * من المعارف والإخلاص بزعمه * (وهو ألد الخصام شديد) * (البقرة: 204) الخصومة لأهل الله تعالى في نفس الأمر * (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها) * بالقاء الشبه على ضعفاء المريدين * (ويهلك الحرث) * ويحصد بمنجل تمويهاته زرع الإيمان النابت في رياض قلوب السالكين ويقطع نسل المرشدين * (والله لا يحب الفساد) * (البقرة: 205) فكيف يدعي هذا الكاذب محبة الله تعالى ويرتكب ما لا يحبه * (وإذا قيل له اتق الله) * حملته الحمية النفسانية حمية الجاهلية على الإثم لجاجا وحبا لظهور نفسه وزعما منه أنه أعلم بالله سبحانه من ناصحه * (فحسبه جهنم) * (البقرة: 206) أي يكفيه حبسه في سجين الطبيعة وظلماتها، وهذه صفة أكثر أرباب الرسوم الذين حجبوا عن إدراك الحقائق بما معهم من العلوم * (ومن الناس من) * (البقرة: 207) يبذل نفسه في
سلوك سبيل الله طلبا لرضاه ولا يلتفت إلى القال والقيل ولا يغلو لديه في طلب مولاه جليل * (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم) * (البقرة: 208) وتسليم الوجود لله تعالى والخمود تحت مجاري القدرة لكم وعليكم كافة * (فإن زللتم) * عن مقام التسليم والرضا بالقضاء * (من بعد ماجاءتكم) * دلائل تجليات الأفعال والصفات، * (فاعلموا أن الله) * تعالى * (عزيز) * غالب يقهركم، * (حكيم) * (البقرة: 209) لا يقهر إلا على مقتضى الحكمة، * (هل ينظرون) * إلا أن يتجلى الله سبحانه * (في ظلل) * صفات قهرية منن جملة تجليات الصفات وصور ملائكة القوى السماوية، * (وقضي الأمر) * بوصول كل إلى ما سبق له في الأزل * (وإلى الله ترجع الأمور) * (البقرة: 210) بالفناء * (كان الناس أمة واحدة) * على الفطرة ودين الحق في عالم الإجمال ثم اختلفوا في النشأة بحسب اختلاف طبائعهم وغلبة صفات نفوسهم واحتجاب كل بمادة بدنه * (فبعث الله النبيين) * (البقرة: 213) ليدعوهم من الخلاف إلى الوفاق ومن الكثرة إلى الوحدة ومن العداوة إلى المحبة فتفرقوا وتحزبوا عليهم وتميزوا، فالسفليون ازدادوا خلافا وعنادا؛ والعلويون هداهم الله تعالى إلى الحق وسلكوا الصراط المستقيم * (أم حسبتم أن تدخلوا) * جنة المشاهدة ومجالس الأنس بنور المكاشفة * (ولما يأتكم) * حال السالكين قبلكم مستهم بأساء الفقر وضراء المجاهدة وكسر النفس بالعبادة حتى تضجروا من طول مدة الحجاب وعيل صبرهم عن مشاهدة الجمال وطلبوا نصر الله تعالى بالتجلي فأجيبوا إذا بلغ السيل الزبى، وقيل: لهم إلا إن نصر الله برفع الحجاب وظهور آثار الجمال قريب ممن بذل نفسه وصرف عن غير مولاه حسنه وتحمل المشاق وذبح الشهوات بسيف الأشواق: ومن لم يمت في حبه لم يعش به
ودون اجتناء النحل ما جنت النحل
* (يس‍الونك ماذا ينفقون قل مآ أنفقتم من خير فللوالدين والاقربين واليت‍امى والمس‍اكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم) *
* (يسئلونك ماذا ينفقون) * قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية أبي صالح: " كان عمرو بن الجموح شيخا كبيرا ذا مال كثير فقال: يا رسول الله بماذا نتصدق وعلى من ننفق؟ فنزلت " وفي رواية عطاء عنه لا إنها نزلت في رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي دينارا، فقال: أنفقه على نفسك فقال: إن لي دينارين فقال: أنفقهما على أهلك فقال: إن لي ثلاثة فقال: أنفقها على خادمك فقال: إن لي أربعة فقال: أنفقها على والديك فقال: إن لي خمسة فقال: أنفقها على قرابتك فقال: إن لي ستة فقال: أنفقها في سبيل الله تعالى " وعن ابن جريج قال: " سأل المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم أين يضعون أموالهم؟ " فنزلت.
* (قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليت‍امى والمس‍اكين وابن السبيل) * ظاهر الآية أنه سئل عن المنفق فأجاب ببيان المصرف صريحا لأنه أهم فإن اعتداد النفقة باعتباره، وأشار إجمالا إلى بيان المنفق فإن * (من
105

خير) * يتضمن كونه حلالا إذ لا يسمى ما عداه خيرا وإنما تعرض لذلك وليس في السؤال ما يقتضيه لأن السؤال للتعلم لا للجدل، وحق المعلم فيه أن يكون كطبيب رفيق يتحرى ما فيه الشفاء، طلبه المريض أم لم يطلبه، ولما كانت حاجتهم إلى من ينفق عليه كحاجتهم إلى ما ينفق بين الأمرين وهذا كمن به صفراء فاستأذن طبيبا في أكل العسل فقال: كله مع الخل، فالكلام إذا من أسلوب الحكيم، ويحتمل أن يكون في الكلام ذكر المصرف أيضا كما تدل عليه الرواية الأولى في سبب النزول إلا أنه لم يذكره في الآية للإيجاز في النظم تعويلا على الجواب فتكون الآية جوابا لأمرين مسؤول عنهما، والاقتصار في بيان المنفق على الإجمال من غير تعرض للتفصيل كما في بيان المصرف للإشارة إلى كون الثاني أهم، وهل تخرج الآية بذلك عن كونها من أسلوب الحكيم أم لا؟ قولان أشهرهما الثاني حيث أجيب عن المتروك صريحا وعن المذكور تبعا، والأكثرون على أن الآية في التطوع، وقيل: في الزكاة، واستدل بها من أباح صرفها للوالدين، وفيه أن عموم (خير) مما ينافي كونها في الزكاة لأن الفرض فيها قدر معين بالاجماع ولم يتعرض سبحانه للسائلين، و (الرقاب) إما اكتفاءا بما ذكر في المواضع الأخر، وإما بناءا على دخولهم تحت عموم قوله تعالى: * (وما تفعلوا من خير) * فإنه شامل لكل خير واقع في أي مصرف كان و * (ما) * شرطية مفعول به - لتفعلوا - والفعل أعم من الإنفاق وأتى بما يعم تأكيدا للخاص الواقع في الجواب. * (فإن الله به عليم) * يعلم كنهه كما يشير به صيغة فعيل مع الجملة الإسمية المؤكدة، والجملة جواب الشرط باعتبار معناها الكنائي إذ المراد منها توفية الثواب، وقيل: إنها دليل الجواب، وليست به، ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أن الصبر على النفقة وبذل المال من أعظم ما تحلى به المؤمن وهو من أقوى الأسباب الموصلة إلى الجنة حتى ورد " الصدقة تطفىء غضب الرب ".
* (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) *
* (كتب عليكم القتال) * أي قتال الكفار وهو فرض عين إن دخلوا بلادنا، وفرض كفاية إن كانوا ببلادهم، وقرىء بالبناء للفاعل وهو الله عز وجل ونصب (القتال)، وقرىء أيضا (كتب عليكم القتل) أي قتل الكفرة * (وهو كره لكم) * عطف على (كتب) وعطف الاسمية على الفعلية جائز كما نص عليه، وقيل: الواو للحال، والجملة حال ورد بأن الحال المؤكدة لا تجيء - بالواو - والمنتقلة لا فائدة فيها والكره بالضم - كالكره بالفتح - وبهما قرىء (الكراهة) وقيل: المفتوح المشقة التي تنال الإنسان من خارج والمضموم ما يناله من ذاته، وقيل: المفتوح اسم بمعنى الإكراه والمضموم بمعنى الكراهة وعلى كل حال فإن كان مصدرا فمؤل أو محمول على المبالغة أو هو صفة كخبز بمعنى مخبوز، وإن كان بمعنى الإكراه وحمل على الكره عليه فهو على التشبيه البليغ كأنهم أكرهوا عليه لشدته وعظم مشقته ثم كون القتل مكروها لا ينافي الإيمان لأن تلك الكراهية طبيعية لما فيه من القتل والأسر وإفناء البدن وتلف المال وهي لا تنافي الرضا بما كلف به كالمريض الشارب للدواء البشع يكرهه لما فيه من البشاعة ويرضى به من جهة أخرى.
* (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم) * وهو جميع ما كلفوا به فإن الطبع يكرهه وهو مناط صلاحهم ومنه القتال فإن فيه الظفر والغنيمة والشهادة التي هي السبب الأعظم للفوز بغاية الكرامة. * (وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم) * وهو جميع ما نهوا عنه فإن النفس تحبه وتهواه وهو يفضي بها إلى
106

الردى، ومن ذلك ترك قتال الأعداء فإن فيه الذل وضعف الأمر وسبي الذراري ونهب الأموال وملك البلاد وحرمان الحظ الأوفر من النعيم الدائم، والجملتان الاسميتان حالان من النكرة وهو قليل، ونص سيبويه على جوازه كما في " البحر "، وجوز أبو البقاء أن يكونا صفة لها وساغ دخول الواو لما أن صورة الجملة هنا كصورتها إذا كانت حالا (وعسى) الأولى: للإشفاق والثانية: للترجي على ما ذهب إليه البعض، وإنما ذكر عسى الدالة على عدم القطع لأن النفس إذا ارتاضت وصفت انعكس عليها الأمر الحاصل لها قبل ذلك فيكون محبوبها مكروها ومكروهها محبوبها فلما كانت قابلة بالارتياض لمثل هذا الانعكاس لم يقطع بأنها تكره ما هو خير لها وتحب ما هو شر لها فلا حاجة إلى أن يقال إنها هنا مستعملة في التحقيق كما في سائر القرآن ما عدا قوله تعالى: * (عسى ربه إن طلقكن) * (التحريم: 5) * (والله يعلم) * ما هو خير لكم وما هو شر لكم وحذف المفعول للإيجاز * (وأنتم لا تعلمون) * ذلك فبادروا إلى ما يأمركم به لأنه لا يأمركم إلا بما علم فيه خيرا لكم وانتهوا عما نهاكم عنه لأنه لا ينهاكم إلا عما هو شر لكم، ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة لأن فيها الجهاد وهو بذل النفس الذي هو فوق بذل المال.
* (يس‍الونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يق‍اتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأول‍ائك حبطت أعم‍الهم في الدنيا والاخرة وأول‍ائك أصح‍ابالنار هم فيها خ‍الدون) *
* (يسئلونك عن الشهر الحرام) * أخرج ابن إسحق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي من طريق زيد بن رومان عن عروة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش، وهو ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم إلى نخلة فقال: كن بها حتى تأتينا بخبر من أخبار قريش ولم يأمره بقتال، وذلك في الشهر الحرام؛ وكتب له كتابا قبل أن يعلمه أين يسير فقال: أخرج أنت وأصحابك حتى إذا سرت يومين فافتح كتابك، وانظر فيه فما أمرتك به فامض له ولا تستكره أحدا من أصحابك على الذهاب معك. فلما سار يومين فتح الكتاب فإذا فيه " أن امض حتى تنزل نخلة فأتنا من أخبار قريش، بما اتصل إليك منهم " فقال لأصحابه: وكانوا ثمانية حين قرأ الكتاب سمعا وطاعة من كان منكم له رغبة في الشهادة فلينطلق معي فإني ماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كره ذلك منكم فليرجع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهاني أن أستكره منكم أحدا فمضى معه القوم حتى إذا كانوا ببخران أضل سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه فتخلفا عليه يطلبانه ومضى القوم حتى نزلوا نخلة فمر بهم عمرو بن الحضرمي، والحكم بن كيسان، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، ونوفل بن عبد الله معهم تجارة قد مروا بها من الطائف أدم، وزبيب فلما رآهم القوم أشرف لهم واقد بن عبد الله، وكان قد حلق رأسه فلما رأوه حليقا قالوا: عمار ليس عليكم منهم بأس وأتمر القوم بهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان آخر يوم من جمادى فقالوا: لئت قتلتموهم إنكم لتقتلونهم في الشهر الحرام ولئن تركتموهم ليدخلن في هذه الليلة - مكة الحرام - فليتمنعن منكم فأجمع القوم على قتلهم فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل وأعجزهم واستاقوا العير فقدموا بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام فأوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسيرين والعير فلم يأخذ منها شيئا فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال: سقط في أيديهم، وظنوا أن قد هلكوا وعنفهم إخوانهم من المسلمين، وقالت قريش: حين بلغهم أمر هؤلاء قد سفك محمد صلى الله عليه وسلم الدم الحرام وأخذ المال وأسر الرجال، واستحل الشهر الحرام فنزلت فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم
107

العير وفدى الأسيرين، وفي " سيرة ابن سيد الناس " إن ذلك في رجب وأنهم لقوا أولئك في آخر يوم منه، وفي رواية الزهري عن عروة أنه لما بلغ كفار قريش تلك الفعلة ركب وفد منهم حتى قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أيحل القتال في الشهر الحرام؟ فأنزل الله تعالى الآية. ومن هنا قيل: السائلون هم المشركون، وأيد بأن ما سيأتي من ذكر الصد والكفر والإخراج أكبر شاهد صدق على ذلك ليكون تعريضا بهم موافقا لتعريضهم بالمؤمنين.
واختار أكثر المفسرين أن السائلين هم المسلمون قالوا: وأكثر الروايات تقتضيه، وليس الشاهد مفصحا بالمقصود والمراد من الشهر الحرام رجل أو جمادى فأل فيه للعهد، والكثير والأظهر أنها للجنس فيراد به الأشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، وسميت حرما لتحريم القتال فيها، والمعنى: يسئلونك أي المسلمون أو الكفار عن القتال في الشهر الحرام على أنه * (قتال فيه) * بدل اشتمال من الشهر لما أن الأول: غير واف بالمقصود مشوق إلى الثاني: ملابس له بغير الكلية والجزئية، ولما كان النكرة موصوفة أو عاملة صح إبدالها من المعرفة على أن وجوب التوصيف إنما هو في بدل الكل كما نص عليه الرضي، وقرأ عبد الله (عن قتال) وهو أيضا بدل اشتمال إلا أنه بتكرير العامل، وقرأ عكرمة (قتل فيه) وكذا في * (قل قتال فيه كبير) * أي عظيم وزرا، وفيه تقرير لحرمة القتال في الشهر الحرام، وأن ما اعتقد من استحلاله صلى الله عليه وسلم القتال فيه باطل، وما وقع من أصحابه عليه الصلاة والسلام كان من باب الخطأ في الاجتهاد وهو معفو عنه - بل من اجتهد وأخطأ فله أجر واحد - كما في الحديث، والأكثرون على أن هذا الحكم منسوخ بقوله سبحانه: * (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) * (التوبة: 5) فإن المراد بالأشهر الحرم أشهر معينة أبيح للمشركين السياحة فيها بقوله تعالى: * (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) * (التوبة: 2) وليس المراد بها الأشهر الحرم من كل سنة فالتقييد بها يفيد أن قتلهم بعد انسلاخها مأمور به في جميع الأمكنة والأزمنة وهو نسخ الخاص بالعام، وساداتنا الحنفية يقولون به، وأما الشافعية فيقولون: إن الخاص سواء كان متقدما على العام أو متأخرا عنه مخصص له لكون العام عندهم ظنيا والظني لا يعارض القطعي، وقال الإمام: الذي عندي أن الآية لا تدل على حرمة القتال مطلقا في الشهر الحرام لأن القتال فيها نكرة في حيز مثبت فلا تعم فلا حاجة حينئذ إلى القول بالنسخ، واعترض بأنها عامة لكونها موصوفة بوصف عام أو بقرينة المقام ولو سلم فقتال المشركين مراد قطعا لأن قتال المسلمين مطلقا من غير تقييد بالأشهر الحرم، وفيه أنا لا نسلم أنها موصوفة لجواز أن يكون الجار ظرفا لغوا ولو سلم فلا نسلم عموم الوصف بل هو مخصص لها بالقتال الواقع في الشهر الحرام المعين، والوصف المفيد للعموم هو الوصف المساوي عمومه عموم الجنس كما في قوله تعالى: * (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه) * (الأنعام: 38) وقول الشاعر:
ولا ترى الضب بها ينحجر
وكون الأصل مطابقة الجواب للسؤال قرينة على الخصوص وكون المراد قتال المشركين على عمومه غير مسلم لأن الكلام في القتال المخصوص ولو سلم عمومها في السؤال فلا نسلم عمومها في الجواب بناءا على ما ذكره الراغب أن النكرة المذكورة إذا أعيد ذكرها يعاد معرفا نحو سألتني عن رجل والرجل كذا وكذا ففي تنكيرها هنا تنبيه على أنه ليس المراد كل قتال حكمه هذا فإن قتال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل مكة لم يكن هذا حكمه فقد قال عليه الصلاة والسلام: " أحلت لي ساعة من نهار " وحرمة قتال المسلمين مطلقا لا يخفى ما فيه لأن قتال أهل البغي يحل وهم مسلمون فالإنصاف أن القول بالنسخ ليس بضروري، نعم هو ممكن وبه قال ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما رواه عنه الضحاك، وأخرج
108

ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري أنه سئل عن هذه الآية فقال: هذا شيء منسوخ ولا بأس بالقتال في الشهر الحرام، وخالف عطاء في ذلك فقد روي عنه أنه سئل عن القتال في الشهر الحرام فحلف بالله تعالى ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا فيه وجعل ذلك حكما مستمرا إلى يوم القيامة والأمة اليوم على خلافه في سائر الأمصار
* (وصد) * أي منع وصرف * (عن سبيل الله) * وهو الإسلام قاله مقاتل، أو الحج قاله ابن عباس والسدي، أو الهجرة كما قيل، أو سائر ما يوصل العبد إلى الله تعالى من الطاعات، فالإضافة إما للعهد أو للجنس * (وكفر به) * أي بالله أو بسبيله * (والمسجد الحرام) * اختار أبو حيان عطفه على الضمير المجرور وإن لم يعد الجار، وأجاز ذلك الكوفيون، ويونس، والأخفش، وأبو علي وهو شائع في لسان العرب نظما ونثرا، واعترض بأنه لا معنى للكفر بالمسجد الحرام وهو لازم من العطف، وفيه بحث إذ الكفر قد ينسب إلى الأعيان باعتبار الحكم المتعلق بها كقوله تعالى: * (فمن يكفر بالطاغوت) * (البقرة: 256) واختار القاضي تقدير مضاف معطوف على * (صد) * أي وصد المسجد الحرام عن الطائفين والعاكفين والركع السجود، واعترض بأن حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه بحاله مقصور على السماع ورد بمنع الإطلاق ففي " التسهيل " إذا كان المضاف إليه إثر عاطف متصل به أو مفصول بلا مسبوق بمضاف مثل المحذوف لفظا ومعنى جاز حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه على انجراره قياسا نحو ما مثل زيد وأبيه يقولان ذلك - أي مثل أبيه - ونحو ما كل سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة، وإذا انتفى واحد من الشروط كان مقصورا على السماع، وفيما نحن فيه سبق إضافة مثل ماحذف منه، واختار الزمخشري عطفه على * (سبيل الله) * تعالى، واعترض بأن عطف * (وكفر به) * على * (وصد) * مانع من ذلك إذ لا يقدم العطف على الموصول على العطف على الصلة، وذكر لصحة ذلك وجهان، أحدهما أن * (وكفر به) * في معنى الصد عن سبيل الله فالعطف على سبيل التفسير كأنه قيل - وصد عن سبيل الله أعني كفرا به والمسجد الحرام - والفاصل ليس بأجنبي، ثانيهما: أن موضع * (وكفر به) * عقيب * (والمسجد الحرام) * إلا أنه قدم لفرط العناية كما في قوله تعالى: * (ولم يكن له كفوا أحد) * (الإخلاص: 4) حيث كان من حق الكلام ولم يكن أحد كفوا له، ولا يخفى أن الوجه الأول أولى لأن التقديم لا يزيل محذور الفصل ويزيد محذورا آخر، واختار السجاوندي العطف على - الشهر الحرام - وضعف بأن القوم لم يسألوا عن المسجد الحرام واختار أبو البقاء كونه متعلقا بفعل محذوف دل عليه الصد - أي ويصدون عن المسجد الحرام - كما قال سبحانه: * (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام) * (الفتح: 25) وضعف بأن حذف حرف الجر وبقاء عمله مما لا يكاد يوجد إلا في الشعر، وقيل: إن الواو للقسم وقعت في أثناء الكلام وهو كما ترى
* (وأخراج أهله منه) * وهم النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون وإنما كانوا أهله لأنهم القائمون بحقوقه، وقيل: إن ذلك باعتبار أنهم يصيرون أهله في المستقبل بعد فتح مكة * (أكبر عند الله) * خبر للأشياء المعدودة من كبائر قريش، وأفعل من يستوي فيه الواحد والجمع المذكور والمؤنث. والمفضل عليه محذوف أي مما فعلته السرية خطأ في الاجتهاد، ووجود أصل الفعل في ذلك الفعل مبني على الزعم * (والفتنة أكبر من القتل) * تذييل لما تقدم للتأكيد عطف عليه عطف الحكم الكلي على الجزئي أي ما يفتن به المسلمون ويعذبون به ليكفروا أكبر عند الله من القتل وما ذكر سابقا داخل فيه دخولا أوليا، وقيل: المراد بالفتنة الكفر، والكلام كبرى لصغرى
109

محذوفة، وقد سيق تعليلا للحكم السابق
* (ولا يزالون يق‍اتلونكم حتى يردوكم عن دينكم) * عطف على * (يسئلونك) * بجامع الاتحاد في المسند إليه إن كان السائلون هم المشركون، أو معترضة إن كان السائلون غيرهم والمقصود الاخبار بدوام عداوة الكفار بطريق الكناية تحذيرا للمؤمنين عنهم وإيقاظا في بعض الأمور، و * (حتى) * للتعليل، والمعنى لا يزالون يعادونكم لكي يردوكم عن دينكم، وقوله تعالى: * (إن استطاعوا) * متعلق بما عنده، والتعبير بإن لاستبعاد استطاعتهم وأنها لا تجوز إلا على سبيل الفرض كما يفرض المحال، وفائدة التقييد بالشرط التنبيه على سخافة عقولهم وكون دوام عداوتهم فعلا عبثا لا يترتب عليه الغرض وليس متعلقا - بلا يزالون يقاتلونكم - إذ لا معنى لدوامهم على العداوة إن استطاعوها لكنها مستبعدة. وذهب ابن عطية إلى أن * (حتى) * للغاية والتقييد بالشرط حينئذ لإفادة أن الغاية مستبعدة الوقوع والتقييد بالغاية الممتنع وقوعها شائع كما في قوله تعالى: * (حتى يلج الجمل في سم الخياط) * (الأعراف: 40) وفيه أن استبعاد وقوع الغاية مما يترتب عليه عدم انقطاع العداوة وقد أفاده صدر الكلام، والقول بالتأكيد غير أكيد، نعم يمكن الحمل على الغاية لو أريد من المقاتلة معناها الحقيقي ويكون الشرط متعلقا - بلا يزالون - فيفيد التقييد أن تركهم المقاتلة في بعض الأوقات لعدم استطاعتهم إلا أن المعنى حينئذ يكون مبتذلا كما لا يخفى
* (ومن يرتدد منكم عن دينه) * الحق باضلالهم وإغوائهم، أو الخوف من عداوتهم * (فيمت وهو كافر) * بأن لم يرجع إلى الإسلام * (فأول‍ائك) * إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة من الارتداد والموت على الكفر وما فيه من البعد للإشعار ببعد منزلة من يفعل ذلك في الشر والفساد والجمع والإفراد نظرا
للفظ والمعنى. * (حبطت أعم‍الهم) * أي صارت أعمالهم الحسنة التي عملوها في حالة الإسلام فاسدة بمنزلة ما لم تكن، قيل: وأصل الحبط فساد يلحق الماشية لأكل الحباط وهو ضرب من الكلأ مضر، وفي " النهاية " " أحبط الله تعالى عمله أبطله يقال: حبط عمله وأحبطه غيره وهو من قولهم: حبطت الدابة حبطا بالتحريك إذا أصابت مرعى طيبا فأفرطت في الأكل حتى تنتفخ فتموت "، وقرىء (حبطت) بالفتح وهو لغة فيه.
* (في الدنيا والآخرة) * لبطلان ما تحيلوه وفوات ما للإسلام من الفوائد في الأولى وسقوط الثواب في الأخرى * (وأول‍ائك أصح‍ابالنار هم فيها خ‍الدون) *. كسائر الكفرة ولا يغني عنهم إيمانهم السابق على الردة شيئا، واستدل الشافعي بالآية على أن الردة لا تحبط الأعمال حتى يموت عليها وذلك بناءا على أنها لو أحبطت مطلقا لما كان للتقييد بقوله سبحانه: * (فيمت وهو كافر) * فائدة والقول بأنه فائدته أن إحباط جميع الأعمال حتى لا يكون له عمل أصلا موقوف على الموت على الكفر حتى لو مات مؤمنا لا يحبط إيمانه ولا عمل يقارنه وذلك لا ينافي إحباط الأعمال السابقة على الارتداد بمجرد الارتداد مما لا معنى له لأن المراد من الأعمال في الآية الأعمال السابقة على الارتداد إذ لا معنى لحبوط ما لم يفعل فحينئذ لا يتأتى هذا القول كما لا يخفى، وقيل: بناءا على أنه جعل الموت عليها شرطا في الإحباط وعند انتفاء الشرط ينتفي المشروط، واعترض بأن الشرط النحوي والتعليقي ليس بهذا المعنى بل غايته السببية والملزومية وانتفاء السبب أو الملزوم لا يوجب انتفاء المسبب أو اللازم لجواز تعدد الأسباب ولو كان شرطا بهذا المعنى لم يتصور اختلاف القول بمفهوم الشرط، وذهب إمامنا أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إلى أن مجرد الارتداد يوجب الإحباط لقوله تعالى: * (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله) * (المائدة: 5) وما استدل به الشافعي ليس صريحا في المقصود لأنه إنما يتم إذا
110

كانت جملة، و (أولئك) الخ تذييلا معطوفة على الجملة الشرطية، وأما لو كانت معطوفة على الجزاء وكان مجموع الإحباط والخلود في النار مرتبا على الموت على الردة فلا نسلم تماميته، ومن زعم ذلك اعترض على الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه بأن اللازم عليه حمل المطلق على المقيد عملا بالدليلين، وأجيب بأن حمل المطلق على المقيد مشروط عنده بكون الإطلاق والتقييد في الحكم واتحاد الحادثة وما هنا في السبب فلا يجوز الحمل لجواز أن يكون المطلق سببا كالمقيد، وثمرة الخلاف على ما قيل: تظهر فيمن صلى ثم ارتد ثم أسلم والوقت باق فإنه يلزمه عند الإمام قضاء الصلاة خلافا للشافعي وكذا الحج، واختلف الشافعيون فيمن رجع إلى الإسلام بعد الردة هل يرجع له عمله بثوابه أم لا؟ فذهب بعض إلى الأول: فيما عدا الصحبة فإنها ترجع مجردة عن الثواب، وذهب الجل إلى الثاني: وأن أعماله تعود بلا ثواب ولا فرق بين الصحبة وغيرها، ولعل ذلك هو المعتمد في المذهب فافهم.
* (إن الذين ءامنوا والذين هاجروا وج‍اهدوا في سبيل الله أول‍ائك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم) *
* (إن الذين ءامنوا) * أخرج ابن أبي حاتم والطبراني في " الكبير " من حديث جندب بن عبد الله أنها نزلت في السرية لما ظن بهم أنهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجر. * (والذين هاجروا) * أي فارقوا أوطانهم، وأصله من الهجر ضد الوصل. * (وج‍اهدوا في سبيل الله) * لإعلاء دينه وإنما كرر الموصول مع أن المراد بهما واحد لتفخيم شأن الهجرة والجهاد فكأنهما وإن كانا مشروطين بالإيمان في الواقع مستقلان في تحقق الرجاء، وقدم الهجرة على الجهاد لتقدمها عليه في الوقوع تقدم الإيمان عليهما.
* (أول‍ائك) * المنعوتون بالنعوت الجليلة * (يرجون رحمت الله) * أي يؤملون تعلق رحمته سبحانه بهم أو ثوابه على أعمالهم، ومنها تلك الغزاة في الشهر الحرام، واقتصر البعض عليها بناءا على ما رواه الزهري أنه لما فرج الله تعالى عن أهل تلك السرية ما كانوا فيه من غم طمعوا فيما عند الله تعالى من ثوابه فقالوا: يا نبي الله أنطمع أن تكون غزوة نعطي فيها أجر المهاجرين في سبيل الله تعالى فأنزل الله تعالى هذه الآية، ولا يخفى أن العموم أعم نفعا وأثبت لهم الرجاء دون الفوز بالمرجو للإشارة إلى أن العمل غير موجب إذ لا استحقاق به ولا يدل دلالة قطعية على تحقق الثواب إذ لا علاقة عقلية بينهما وإنما هو تفضل منه تعالى سيما والعبرة بالخواتيم فلعله يحدث بعد ذلك ما يوجب الحبوط ولقد وقع ذلك والعياذ بالله تعالى كثيرا فلا ينبغي الاتكال على العمل * (والله غفور رحيم) * تذييل لما تقدم وتأكيد له ولم يذكر المغفرة فيما تقدم لأن رجال الرحمة يدل عليها وقدم وصف المغفرة لأن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح.
* (يس‍الونك عن الخمر والميسر قل فيهمآ إثم كبير ومن‍افع للناس وإثمهمآ أكبر من نفعهما ويس‍الونك ماذا ينفقون قل العفو كذالك يبين الله لكم الآي‍ات لعلكم تتفكرون) *
* (يسئلونك عن الخمر والميسر) * قال الواحدي: نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل ومسلبة للمال فأنزل الله تعالى هذه الآية وفي بعض الروايات " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر فسألوه عن ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال قوم: ما حرما علينا فكانوا يشربون الخمر إلى أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعا أناسا من الصحابة وأتاهم بخمر فشربوا وسكروا وحضرت صلاة المغرب فقدموا عليا كرم الله تعالى وجهه فقرأ * (قل يا أيها الكافرين) * الخ بحذف (لا) فأنزل الله تعالى: * (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) * (النساء: 43) فقل من يشربها ثم اتخذ عتبان بن مالك صنيعا ودعا رجالا من المسلمين فيهم سعد بن أبي وقاص وكان قد شوى لهم رأس بعير فأكلوا منه وشربوا الخمر حتى أخذت منهم ثم إنهم افتخروا عند ذلك
111

وتناشدوا الأشعار فأنشد سعد ما فيه هجاء الأنصار وفخر لقومه فأخذ رجل من الأنصار لحي البعير فضرب به رأس سعد فشجه موضحة فانطلق سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه الأنصار فقال: اللهم بين لنا رأيك في الخمر بيانا شافيا فأنزل الله تعالى: * (إنما الخمر والميسر) * إلى قوله تعالى: * (فهل أنتم منتهون) * (المائدة: 90، 91) وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام فقال عمر رضي الله تعالى عنه: انتهينا يا رب. وعن علي كرم الله تعالى وجهه لو وقعت قطرة منها في بئر فبنيت في مكانها منارة لم أؤذن عليها ولو وقعت في بحر ثم جف فنبت فيه الكلأ لم أرعه دابتي. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لو أدخلت أصبعي فيها لم
تتبعني - وهذا هو الإيمان والتقى حقا -.
والخمر عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه التي من ماء العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد وسميت بذلك لأنها تخمر العقل أي تستره ومنه خمار المرأة لستره وجهها، والخامر وهو من يكتم الشهادة، وقيل: لأنها تغطي حتى تشتد، ومنه " خمروا آنيتكم " أي غطوها، وقيل: لأنها تخالط العقل وخامره داء خالطه؛ وقيل: لأنها تترك حتى تدرك، ومنه اختمر العجين أي بلغ إدراكه وهي أقوال متقاربة، وعليها فالخمر مصدر يراد به اسم الفاعل أو المفعول ويجوز أن يبقى على مصدريته للمبالغة، وذهب الإمامان إلى عدم اشتراط القذف ويكفي الاشتداد لأن المعنى المحرم يحصل به، وللإمام أن الغليان بداية الشدة وكمالها بقذف الزبد وسكونه إذ به يتميز الصافي من الكدر وأحكام الشرع قطعية فتناط بالنهاية كالحد وإكفار المستحل وحرمة البيع، وأخذ بعضهم بقولهما في حرمة الشرب احتياطا، ثم إطلاق الخمر على غير ما ذكر مجاز عندنا وهو المعروف عند أهل اللغة، ومن الناس من قال هو حقيقة في كل مسكر لما أخرج الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي: " كل مسكر خمر ". وأخرج أبو داود نزل تحريم الخمر يوم نزل وهو من خمسة من العنب والتمر والحنطة والشعير والذرة، والخمر ما خامر العقل، وأخرج مسلم عن أبي هريرة " الخمر من هاتين الشجرتين، - وأشار إلى الكرم والنخلة " - وأخرج البخاري عن أنس " حرمت الخمر حين حرمت وما يتخذ من خمر الأعناب إلا قليل، وعامة خمرنا البسر والتمر " ويمكن أن يجاب أن المقصود من ذلك كله بيان الحكم، وتعليم أن ما أسكر حرام - كالخمر - وهو الذي يقتضيه منصب الإرشاد - لا تعليم اللغات العربية - سيما والمخاطبون في الغاية القصوى من معرفتها؛ وما يقال: إنه مشتق من مخامرة العقل، وهي موجودة في كل مسكر لا يقتضي العموم، ولا ينافي كون الاسم خاصا فيما تقدم فإن النجم مشتق من الظهور، ثم هو اسم خاص للنجم المعروف - لا لكل ما ظهر - وهذا كثير النظير، وتوسط بعضهم فقال: إن الخمر حقيقة في لغة العرب في التي من ماء العنب إذا صار مسكرا، وإذا استعمل في غيره كان مجازا إلا أن الشارع جعله حقيقة في كل مسكر شابه موضوعه اللغوي، فهو في ذلك حقيقة شرعية كالصلاة والصوم والزكاة في معانيها المعروفة شرعا، والخلاف قوي ولقوته ووقوع الإجماع على تسمية المتخذ من العنب خمرا دون المسكر من غيره أكفروا مستحل الأول، ولم يكفروا مستحل الثاني بل قالوا: إن عين الأول حرام غير معلول بالسكر ولا موقوف عليه، ومن أنكر حرمة العين وقال: إن السكر منه حرام لأنه به يحصل الفساد فقد كفر لجحوده الكتاب إذ سماه رجسا فيه والرجس محرم العين فيحرم كثيره وإن لم يسكر - وكذا قليله ولو قطرة - ويحد شاربه مطلقا، وفي الخبر " حرمت الخمر لعينها " وفي رواية " بعينها قليلها وكثيرها سواء " والسكر من كل شراب، وقالوا: إن الطبخ لا يؤثر لأنه للمنع من ثبوت الحرمة - لا لرفعها بعد ثبوتها - إلا أنه لا يحد فيه ما لم يسكر منه بناءا على أن الحد
112

بالقليل النيء خاصة - وهذا قد طبخ - وأما غير ذلك فالعصير إذا طبخ حتى يذهب أقل من ثلثيه وهو المطبوخ أدنى طبخة - ويسمى الباذق - والمنصف وهو ما ذهب نصفه بالطبخ فحرام عندنا إذا غلى واشتد وقذف بالزبد أو إذا اشتد على الاختلاف، وقال الأوزاعي وأكثر المعتزلة: إنه مباح لأنه مشروب طيب - وليس بخمر - ولنا أنه رقيق ملد مطرب، ولذا يجتمع عليه الفساق فيحرم شربه رفعا للفساد المتعلق به، وأما نقيع التمر وهو السكر - وهو النيء من ماء التمر - فحرام مكروه، وقال شريك: إنه مباح للامتنان ولا يكون بالمحرم، ويرده إجماع الصحابة، والآية محمولة على الابتداء كما أجمع عليه المفسرون، وقيل: أراد بها التوبيخ أي: (أتتخذون منه سكرا وتدعون رزقا حسنا) وأما نقيع الزبيب - وهو النيء من ماء الزبيب - فحرام إذا اشتد وغلى، وفيه خلاف الأوزاعي، ونبيذ الزبيب والتمر إذا طبخ كل واحد منهما أدنى طبخة حلال، وإن اشتد إذا شرب منه ما يغلب على ظنه أنه لا يسكر من غير لهو ولا طرب عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد والشافعي حرام، ونبيذ العسل والتين والحنطة والذرة والشعير وعصير العنب إذا طبخ وذهب ثلثاه حلال عند الإمام الأول والثاني، وعند محمد والشافعي حرام أيضا، وأفتى المتأخرون بقول محمد في سائر الأشربة، وذكر ابن وهبان أنه مروي عن الكل ونظم ذلك فقال:
وفي عصرنا فاختير حد وأوقعوا * طلاقا لمن من مسكر الحب يسكر
وعن كلهم يروى وأفتى محمد * بتحريم ما قد - قل - وهو المحرر
وعندي أن الحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن الشراب المتخذ مما عدا العنب كيف كان وبأي اسم سمي متى كان بحيث يسكر من لم يتعوده حرام - وقليله ككثيره - ويحد شاربه ويقع طلاقه ونجاسته غليظة.
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن النقيع - وهو نبيذ العسل - فقال: " كل شراب أسكر فهو حرام " وروى أبو داود " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر " وصح " ما أسكر كثيره فقليله حرام " وفي حديث آخر: " ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام " والأحاديث متظافرة على ذلك، ولعمري إن اجتماع الفساق في زماننا على شرب المسكرات مما عدا الخمر ورغبتهم فيها فوق اجتماعهم على شرب الخمر ورغبتهم فيه بكثير، وقد وضعوا لها أسماء - كالعنبرية والإكسير - ونحوهما ظنا منهم أن هذه الأسماء تخرجها من الحرمة وتبيح شربها للأمة - وهيهات هيهات - الأمر وراء ما يظنون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، نعم حرمة هذه الأشربة دون حرمة الخمر حتى لا يكفر مستحلها كما قدمنا لأنها اجتهادية، ولو ذهب ذاهب إلى القول بالتكفير لم يبق في يده من الناس اليوم إلا قليل.
والميسر مصدر ميمي من - يسر - كالموعد والمرجع يقال: يسرته إذا قمرته واشتقاقه إما من - اليسر - لأنه أخذ المال بيسر وسهولة، أو من - اليسار - لأنه سلب له، وقيل: من يسروا الشيء إذا اقتسموه، وسمي المقامر - ياسرا - لأنه بسبب ذلك الفعل يجزىء لحم الجزور، وقال الواحدي: من يسر الشيء إذا وجب، والياسر الواجب بسبب القدح، وصفته أنه كانت لهم عشرة أقداح هي: الأزلام والأقلام الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلى. والمنيح والسفيح والوغد لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزءونها ثمانية وعشرين إلا الثلاثة وهو المنيح والسفيح والوغد، للفذ سهم، وللتوأم سهمان، وللرقيب ثلاثة، وللحلس
أربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل ستة وللمعلى سبعة يجعلونها في الربابة - وهي خريطة - ويضعونها على يدي عدل ثم
113

يجلجلها ويدخل يده فيخرج باسم رجل رجل قدحا منها، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح، ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئا وغرم ثمن الجزور كله مع حرمانه، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها، ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه البرم. ونقل الأزهري كيفية أخرى لذلك ولم يذكر - الوغد - في الأسماء بل ذكر غيره، والذي اعتمده الزمخشري وكثيرون ما ذكرناه، وقد نظم بعضهم هذه الأسماء فقال: كل سهام الياسرين عشرة * فأودعوها صحفا منشره
لها فروض ولها نصيب * الفذ والتوأم والرقيب
والحلس يتلوهن ثم النافس * وبعده مسبلهن السادس
ثم المعلى كاسمه المعلى * صاحبه في الياسرين الأعلى
والوغد والسفيح والمنيح * غفل فما فيما يرى ربيح
وفي حكم ذلك جميع أنواع القمار من النرد والشطرنج وغيرهما حتى أدخلوا فيه لعب الصبيان بالجوز والكعاب والقرعة في غير القسمة وجميع أنواع المخاطرة والرهان، وعن ابن سيرين - كل شيء فيه خطر فهو من الميسر - ومعنى الآية يسألونك عما في تعاطي هذين الأمرين، ودل على التقدير بقوله تعالى: * (قل فيهما) * إذ المراد في تعاطيهما بلا ريب * (إثم كبير) * من حيث إن تناولهما مؤد إلى ما يوجب - الإثم - وهو ترك المأمور، وفعل المحظور * (ومن‍افع للناس) * من اللذة والفرح وهضم الطعام وتصفية اللون وتقوية الباه وتشجيع الجبان وتسخية البخيل وإعانة الضعيف، وهي باقية قبل التحريم وبعده، وسلبها بعد التحريم مما لا يعقل ولا يدل عليه دليل، وخبر " ما جعل الله تعالى شفاء أمتي فيما حرم عليها " لا دليل فيه عند التحقيق كما لا يخفى.
* (وإثمهما أكبر من نفعهما) * أي المفاسد التي تنشأ منها أعظم من المنافع المتوقعة فيهما، فمن مفاسد الخمر إزالة العقل الذي هو أشرف صفات الإنسان، وإذا كانت عدوة للأشرف لزم أن تكون أخس الأمور لأن العقل إنما سمي عقلا لأنه يعقل - أي يمنع صاحبه عن القبائح التي يميل إليها بطبعه - فإذا شرب زال ذلك العقل المانع عن القبائح وتمكن إلفها - وهو الطبع - فارتكبها وأكثر منها، وربما كان ضحكة للصبيان حتى يرتد إليه عقله. ذكر ابن أبي الدنيا أنه مر بسكران وهو يبول بيده ويغسل به وجهه كهيأة المتوضىء ويقول: الحمد لله الذي جعل الإسلام نورا والماء طهورا. وعن العباس بن مرداس أنه قيل له في الجاهلية: ألا تشرب الخمر فإنها تزيد في حرارتك؟ فقال: ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله جوفي، ولا أرضى أن أصبح سيد قوم وأمسي سفيههم، ومنها صدها عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وإيقاعها العداوة والبغضاء غالبا. وربما يقع القتل بين الشاربين في مجلس الشرب، ومنها أن الإنسان إذا ألفها اشتد ميله إليها وكاد يستحيل مفارقته لها وتركه إياها، وربما أورثت فيه أمراضا كانت سببا لهلاكه، وقد ذكر الأطباء لها مضار بدنية كثيرة كما لا يخفى على من راجع " كتب الطب "، وبالجملة لو لم يكن فيها سوى إزالة العقل والخروج عن حد الاستقامة لكفي فإنه إذا اختل العقل حصلت الخبائث بأسرها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث " ولم يثبت أن الأنبياء عليهم السلام شربوها في وقت أصلا.
ومن مفاسد الميسر أن فيه أكل الأموال بالباطل وأنه يدعو كثيرا
114

من المقامرين إلى السرقة وتلف النفس وإضاعة العيال وارتكاب الأمور القبيحة والرذائل الشنيعة والعداوة الكامنة والظاهرة، وهذا أمر مشاهد لا ينكره إلا من أعماه الله تعالى وأصمه، ولدلالة الآية على أعظمية المفاسد ذهب بعض العلماء إلى أنها هي المحرمة للخمر فإن المفسدة إذا ترجحت على المصلحة اقتضت تحريم الفعل وزاد بعضهم على ذلك بأن فيها الإخبار بأن فيها الإثم الكبير، والإثم إما العقاب أو سببه، وكل منهما لا يوصف به إلا المحرم، والحق أن الآية ليست نصا في التحريم كما قال قتادة، إذ للقائل أن يقول: الإثم بمعنى المفسدة، وليس رجحان المفسدة مقتضيا لتحريم الفعل بل لرجحانه، ومن هنا شربها كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعد نزولها، وقالوا: إنما نشرب ما ينفعنا، ولم يمتنعوا حتى نزلت آية المائدة فهي المحرمة من وجوه كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وقرىء (إثم كثير) بالمثلثة، وفي تقديم الإثم ووصفه بالكبر أو الكثرة وتأخير ذكر المنافع مع تخصيصها بالناس من الدلالة على غلبة الأول ما لا يخفى، وقرأ أبي (وإثمهما أقرب من نفعهما).
* (ويسئلونك ماذا ينفقون) * أخرج ابن إسحق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن نفرا من الصحابة أمروا بالنفقة في سبيل الله تعالى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا فما ننفق منها فنزلت، وكان قبل ذلك ينفق الرجال ماله حتى ما يجد ما يتصدق، ولا ما يأكل حتى يتصدق عليه، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبان عن يحيى أنه بلغه أن معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله إن لنا أرقاء وأهلين فما ننفق من أموالنا فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهي معطوفة على * (يسئلونك) * قبلها عطف القصة على القصة، وقيل: نزلت في عمرو بن الجموح كنظيرتها، وكأنه سئل أولا عن المنفق والمصرف ثم سئل عن كيفية الإنفاق بقرينة الجواب فالمعنى يسألونك عن صفة ما ينفقونه * (قل العفو) * أي صفته أن يكون عفوا فكلمة * (ما) * للسؤال عن الوصف كما يقال ما زيد؟ فيقال كريم إلا أنه قليل في الاستعمال وأصل العفو نقيض الجهد، ولذا يقال - للأرض الممهدة السهلة الوطء - عفو، والمراد به ما لا يتبين في الأموال، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الفضل من العيال، وعن الحسن ما لا يجهد، أخرج الشيخان وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول " وأخرج ابن خزيمة عنه أيضا أنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير الصدقة ما أبقت غنى واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول تقول المرأة أنفق علي أو طلقني، ويقول مملوكك أنفق علي أو بعني، ويقول ولدك
إلى من تكلني " وأخرج ابن سعد عن جابر قال: قدم أبو حصين السلمي بمثل بيضة الحمامة من ذهب فقال: " يا رسول الله أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك فأعرض عنه ثم أتاه من ركنه الأيسر فأعرض عنه ثم أتاه من خلفه فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذفه بها فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته فقال: يأتي أحدكم بما يملك فيقول: هذه صدقة ثم يقعد يتكفف الناس خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول ". وقرأ أبو عمرو بالرفع بتقدير المتبدأ على أن * (ماذا ينفقون) * مبتدأ وخبر، والباقون بالنصب بتقدير الفعل، و (ماذا) مفعول * (ينفقون) * ليطابق الجواب السؤال.
* (كذالك يبين الله لكم الأي‍ات) * أي مثل ما بين أن العفو أصلح من الجهد لأنه أبقى للمان وأكثر نفعا في الآخرة فالمشار إليه ما يفهم من قوله سبحانه: * (قل العفو) * وإيراد صيغة البعيد مع قربه لكونه
115

معنى متقدم الذكر، ويجوز أن يكون المشار إليه جميع ما ذكر من قوله سبحانه: * (يسئلونك ماذا ينفقون) * إذ لا مخصص مع كون التعميم أفيد والقرب إنما يرجح القريب على ما سواه فقط وجعل المشار إليه قوله عز شأنه: * (وإثمهما أكبر من نفعهما) * على ما فيه لا يخفى بعده، والكاف في موضع النصب صفة لمحذوف، واللام في (الآيات) للجنس أي يبين لكم الآيات المشتملة على الأحكام تبيينا مثل هذا التبيين إما بإنزالها واضحة الدلالة، أو بإزالة إجمالها بآية أخرى أو ببيان من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم وكان مقتضى الظاهر أن يقال - كذلك - على طبق (لكم) لكنه وحد بتأويل نحو القبيلة، أو الجمع مما هو مفرد اللفظ جمع المعنى روما للتخفيف لكثرة لحوق علامة الخطاب باسم الإشارة، وقيل: إن الإفراد للإيذان بأن المراد به كل من يتلقى الكلام كما في قوله تعالى: * (ثم عفونا عنكم من بعد ذلك) * (البقرة: 52) وفيه أنه يلزم تعدد الخطاب في كلام واحد من غير عطف وذا لا يجوز كما نص عليه الرضي * (لعلكم تتفكرون) * أي في الآيات فتستنبطوا الأحكام منها وتفهموا المصالح والمنافع المنوطة بها وبهذا التقدير حسن كون ترجي التفكر غاية لتبيين الآيات.
* (فى الدنيا والاخرة ويس‍الونك عن اليت‍امى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شآء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم) *
* (في الدنيا والآخرة) * أي في أمورهما فتأخذون بالأصلح منهما وتجتنبون عما يضركم ولا ينفعكم أو يضركم أكثر مما ينفعكم، والجار بعد تقدير المضاف متعلق ب * (تتفكرون) * (البقرة: 219) بعد تقييده بالأول، وقيل: يجوز أن يتعلق ب * (يبين) * (البقرة: 219) أي يبين لكم الآيات فيما يتعلق بأمور الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون وقدم التفكر للاهتمام، وفيه أنه خلاف ظاهر النظم مع أن ترجى أصل التفكر ليس غاية لعموم التبيين فلا بد من عموم التفكر فيكون المراد - لعلكم تتفكرون في أمور الدنيا والآخرة - وفي التكرار ركاكة، وقيل: متعلق بمحذوف وقع حالا من الآيات أي يبينها لكم كائنة فيهما أي مبينة لأحوالكم المتعلقة بهما ولا يخفى ما فيه، ومن الناس من لم يقدر - ليتفكرون - متعلقا وجعل المذكور متعلقا بها أي بين الله لكم الآيات لتتفكروا في الدنيا وزوالها والآخرة وبقائها فتعلموا فضل الآخرة على الدنيا وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وقتادة والحسن.
* (ويسئلونك عن اليت‍امى) * عطف على ما قبله من نظيره، أخرج أبو داود والنسائي وابن جرير وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال لما أنزل الله تعالى: * (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) * (الأنعام: 152) و * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى) * (النساء: 10) الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فيرمى به فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت، والمعنى - يسألونك عن القيام بأمر اليتامى، أو التصرف في أموالهم، أو عن أمرهم وكيف يكونون معهم - * (قل إصلاح لهم خير) * أي مداخلتهم مداخلة يترتب عليها إصلاحهم أو إصلاح أموالهم بالتنمية والحفظ خير من مجانبتهم، وفي الاحتمال الأول إقامة غاية الشيء مقامه.
* (وإن تخالطوهم فإخوانكم) * عطف على سابقه والمقصود الحث على المخالطة المشروطة بالإصلاح مطلقا أي إن تخالطوهم في الطعام والشراب والمسكن والمصاهرة تؤدوا اللائق بكم لأنهم إخوانكم أي في الدين؛ وبذلك قرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وأخرج عبد بن حميد عنه المخالطة أن يشرب من لبنك وتشرب من لبنه ويأكل من في قصعتك وتأكل في قصعته ويأكل من تمرتك وتأكل من تمرته، واختار أبو مسلم الأصفهاني أن المراد بالمخالطة المصاهرة، وأيد بما نقله الزجاج أنهم كانوا يظلمون اليتامى فيتزوجون منهم العشرة ويأكلون أموالهم فشدد عليهم في أمر اليتامى تشديدا خافوا معه التزوج بهم
116

فنزلت هذه الآية فأعلمهم سبحانه أن الإصلاح لهم خير الأشياء وأن مخالطتهم في التزويج مع تحري الإصلاح جائزة وبأن فيه على هذا الوجه تأسيسا إذ المخالطة بالشركة فهمت مما قبل وبأن المصاهرة مخالطة مع اليتيم نفسه بخلاف ما عداها وبأن المناسبة حينئذ لقوله تعالى: * (فإخوانكم) * ظاهرة لأنها المشروطة بالإسلام فإن اليتيم إذا كان مشركا يجب تحري الإصلاح في مخالطته فيما عدا المصاهرة وبأنه ينتظم على ذلك النهي الآتي بما قبله كأنه قيل: المخالطة المندوبة إنما هي في اليتامى الذين هم إخوانكم فإن كان اليتيم من المشركات فلا تفعلوا ذلك، ولا يخفى أن ما نقله الزجاج أضعف من الزجاج إذ لم يثبت ذلك في أسباب النزول في كتاب يعول عليه، والزجاج وأمثاله ليسوا من فرسان هذا الشأن وبأن التأسيس لا ينافي الحث على المخالطة لما أن القوم تجنبوا عنها كل التجنب وأن إطلاق المخالطة أظهر من تخصيصها بخلط نفسه وأن المناسبة والانتظام حاصلان بدخول المصاهرة في مطلق المخالطة.
* (والله يعلم المفسد) * في أمورهم بالمخالطة * (من المصلح) * لها بها فيجازى كلا حسب فعله أو نيته ففي الآية وعيد ووعدهم، وقدم المفسد اهتماما بإدخال الروع عليه وأل في الموضعين للعهد، وقيل: للاستغراق ويدخل المعهود دخولا أوليا، وكلمة * (من) * للفضل وضمن (يعلم) معنى يميز فلذا عداه بها * (ولو شاء الله لأعنتكم) * أي لضيق عليكم ولم يجوز لكم مخالطتهم، أو لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا - قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه - وأصل الإعنات الحمل على
مشقة لا تطاق ثقلا، ويقال: عنت العظم عنتا إذا أصابه وهن أو كسر بعد جبر، وحذف مفعول المشيئة لدلالة الجواب عليه، وفي ذلك إشعار بكمال لطفه سبحانه ورحمته حيث لم يعلق مشيئته بما يشق علينا في اللفظ أيضا، وفي الجملة تذكير بإحسانه تعالى على أوصياء اليتامى.
* (إن الله عزيز) * غالب على أمره لا يعجزه أمر من الأمور التي من جملتها إعناتكم * (حكيم) * فاعل لأفعاله حسبما تقتضيه الحكمة وتتسع له الطاقة التي هي أساس التكليف، وهذه الجملة تذييل وتأكيد لما تقدم من حكم النفي والإثبات - أي ولو شاء لأعنتكم لكون غالبا - لكنه لم يشأ لكونه حكيما. وفي الآية - كما قال إلكيا - دليل لمن جوز خلط مال الولي بمال اليتيم والتصرف فيه بالبيع والشراء ودفعه مضاربة إذا وافق الإصلاح، وفيها دلالة على جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث لأن الإصلاح الذي تضمنته الآية إنما يعلم من الاجتهاد وغلبة الظن وفيها دلالة على أنه لا بأس بتأديب اليتيم وضربه بالرفق لإصلاحه ووجه مناسبتها لما قبلها أنه سبحانه لما ذكر السؤال عن الخمر والميسر وكان في تركها مراعاة لتنمية المال ناسب ذلك النظر في حال اليتيم فالجامع بين الآيتين أن في ترك الخمر والميسر إصلاح أحوالهم أنفسهم، وفي النظر في أحوال اليتامى إصلاحا لغيرهم ممن هو عاجز أن يصلح نفسه فمن ترك ذلك وفعل هذا فقد جمع بين النفع لنفسه ولغيره.
* (ولا تنكحوا المشرك‍ات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أول‍ائك يدعون إلى النار والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آي‍اته للناس لعلهم يتذكرون) *
* (ولا تنكحوا المشرك‍ات حتى يؤمن) * روى الواحدي وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا من غنى يقال له مرثد بن أبي مرثد حليفا لبني هاشم إلى مكة ليخرج أناسا من المسلمين بها أسرى فلما قدمها سمعت به امرأة يقال لها عناق وكانت خليلة له في الجاهلية فلما أسلم أعرض عنها فأتته فقالت: ويحك يا مرثد ألا تخلو فقال لها: إن الإسلام قد حال بيني وبينك وحرمه علينا ولكن إن شئت تزوجتك فقالت: نعم فقال: إذا رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذنته في ذلك ثم تزوجتك فقالت له: أبي تتبرم؟ ثم استعانت عليه فضربوه ضربا وجيعا ثم خلوا سبيله فلما قضى
117

حاجته بمكة انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا وأعلمه الذي كان من أمره وأمر عناق وما لقي بسببها فقال: يا رسول الله أيحل أن أتزوجها - وفي رواية - أنها تعجبني فنزلت " وتعقب ذلك السيوطي بأن هذا ليس سببا لنزول هذه الآية وإنما هو سبب في نزول آية النور (3) * (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة) * وروى السدي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هذه نزلت في عبد الله بن رواحة وكانت له أمة سوداء وأنه غضب عليها فلطمها ثم إنه فزع فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ما هي يا عبد الله؟ فقال: هي يا رسول الله تصوم وتصلي وتحسن الوضوء وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله فقال: يا عبد الله هي مؤمنة قال عبد الله: فوالذي بعثك بالحق نبيا لأعتقنها ولأتزوجنها ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين فقالوا: أنكح أمة وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أنسابهم فأنزل الله تعالى: * (ولا تنكحوا) * الآية " وقرىء بفتح - التاء - وبضمها وهو المروي عن الأعمش أي لا تتزوجوهن أو لا تزوجوهن من المسلمين وحمل كثير من أهل العلم المشركات على ما عدا الكتابيات فيجوز نكاح الكتابيات عنده لقوله تعالى: * (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين) * (البينة: 1) و * (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين) * (البقرة: 105) والعطف يقتضي المغايرة؛ وأخرج ابن حميد عن قتادة المراد بالمشركات مشركات العرب التي ليس لهن كتاب، وعن حماد قال: سألت إبراهيم عن تزويج اليهودية والنصرانية. فقال: لا بأس به فقلت: أليس الله تعالى يقول: * (ولا تنكحوا المشركات) *؟ فقال: إنما ذلك المجوسيات وأهل الأوثان، وذهب البعض إلى أنها تعم الكتابيات قيل: لأن من جحد نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام فقد أنكر معجزته وأضافها إلى غيره تعالى وهذا هو الشرك بعينه ولأن الشرك وقع في مقابلة الإيمان فيما بعد ولأنه تعالى أطلق الشرك على أهل الكتاب لقوله: * (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله) * إلى قوله سبحانه: * (عما يشركون) * (التوبة: 30، 31) وأخرج البخاري والنحاس في " ناسخه " عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية قال: حرم الله تعالى المشركات على المسلمين ولا أعرف شيئا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى أو عبد من عباد الله تعالى، وإلى هذا ذهب الإمامية وبعض الزيدية، وجعلوا آية المائدة (5) * (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) * منسوخة بهذه الآية نسخ الخاص بالعام وتلك وإن تأخرت تلاوة مقدمة نزولا والإطباق على أن سورة المائدة لم ينسخ منها شيء ممنوع ففي " الإتقان " ومن المائدة (2) قوله تعالى: * (ولا الشهر الحرام) * منسوخ بإباحة القتال فيه وقوله تعالى: * (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) * (المائدة: 42) منسوخ بقوله سبحانه: * (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) * (المائدة: 49) وقوله تعالى: * (وآخران من غيركم) * (المائدة: 106) منسوخ بقوله عز شأنه: * (وأشهدوا ذوي عدل منكم) * (الطلاق: 2) والمشهور الذي عليه العمل أن هذه الآية قد نسخت بما في المائدة على ما يقتضيه الظاهر، فقد أخرج أبو داود في " ناسخه " عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في: * (ولا تنكحوا المشركات) * نسخ من ذلك نكاح نساء أهل الكتاب أحلهن للمسلمين وحرم المسلمات على رجالهم، وعن الحسن ومجاهد مثل ذلك وهو الذي ذهب إليه الحنفية والشافعية يقولون بالتخصيص دون النسخ، ومبنى الخلاف أن قصر العام بكلام مستقل تخصيص عند الشافعي رضي الله تعالى عنه ونسخ عندنا.
* (ولأمة مؤمنة خير من مشركة) * تعليل للنهي وترغيب في مواصلة المؤمنات صدر بلام الابتداء الشبيهة بلام القسم في إفادة التأكيد مبالغة في الحمل على الانزجار، وأصل أمة أمو حذفت لامها على غير قياس وعوض عنها هاء التأنيث ويدل على أن لامها واو رجوعها في الجمع كقوله:
118

أما الإماء فلا يدعونني ولدا * إذا تداعى بنو الأموان بالعار
وظهورها في المصدر يقال: هي أمة بينة الأموة وأقرت له بالأموة، وهل وزنها فعلة - بسكون العين - أو فعلة - بفتحها -؟ قولان اختار الأكثرون ثانيهما، وتجمع
على آم وهو في الاستعمال دون إماء وأصله أأمو - بهمزتين - الأولى: مفتوحة زائدة، والثانية: ساكنة هي فاء الكلمة، فوقعت - الواو - طرفا مضموما ما قبلها في اسم معرب ولا نظير له فقلبت - ياءا والضمة قبلها كسرة لتصح الياء - فصار الاسم من قبيل - غاز وقاض - ثم قلبت - الهمزة الثانية ألفا لسكونها بعد همزة أخرى مفتوحة - فصارا آم وإعرابه كقاض، والظاهر أن المراد - بالأمة - ما تقابل الحرة، وسبب النزول يؤيد ذلك لأنه العيب على من تزوج الأمة والترغيب في نكاح حرة مشركة، ففي الآية تفضيل الأمة المؤمنة على المشركة مطلقا - ولو حرة - ويعلم منه تفضيل الحرة عليها بالطريق الأولى، ثم إن التفضيل يقتضي أن في الشركة خيرا، فإما أن يراد بالخير الانتفاع الدنيوي وهو مشترك بينهما، أو يكون على حد * (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا) * (الفرقان: 24) وقيل: المراد - بالأمة - المرأة حرة كانت أو مملوكة فإن الناس كلهم عبيد الله تعالى وإماؤه، ولا تحمل على الرقيقة لأنه لا بد من تقدير الموصوف في (مشركة) فإن قدر (أمة) بقرينة السياق لم يفد خيرية الأمة المؤمنة على الحرة المشركة، وإن قدر حرة أو امرأة كان خلاف الظاهر، والمذكور في سبب النزول التزوج - بالأمة - بعد عتقها. والأمة بعد العتق حرة. ولا يطلق عليها أمة إلا باعتبار مجاز الكون. والحق أن الأمة بمعنى - الرقيقة - كما هو المتبادر، وأن الموصوف المقدر ل‍ (مشركة) عام. - وكونه خلاف الظاهر - خلاف الظاهر. وعلى تقدير التسليم هو مشترك الإلزام، ولعل ارتكاب ذلك آخرا أهون من ارتكابه أول وهلة إذ هو من قبيل نزع الخف قبل الوصول إلى الماء - وما في سبب النزول مؤيد لا دليل عليه - وقد قيل فيه: إن عبد الله نكح أمة - إن حقا وإن كذبا - فالمعنى: ولأمة مؤمنة مع ما فيها من خساسة الرق وقلة الخطر خير مما اتصفت بالشرك مع ما لها من شرف الحرية ورفعة الشأن.
* (ولو أعجبتكم) * لجمالها ومالها وسائر ما يوجب الرغبة فيها، أخرج سعيد بن منصور وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تنكحوا النساء لحسنهن، فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تنكحوهن على أموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، وانكحوهن على الدين فلأمة سوداء خرماء ذات دين أفضل " وأخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك " والواو للحال - ولو لمجرد الفرض - مجردة عن معنى الشرط ولذا لا تحتاج إلى الجزاء والتقدير مفروضا إعجابها لكن بالحسن ونحوه، وقال الجرمي: الواو للعطف على مقدر أي لم تعجبكم ولو أعجبتكم وجواب الشرط محذوف دل عليه الجملة السابقة، وقال الرضي: إنها اعتراضية تقع في وسط الكلام وآخره، وعلى التقادير إثبات الحكم في نقيض الشرط بطريق الأولى ليثبت في جميع التقادير، واستدل بعضهم بالآية على جواز نكاح الأمة المؤمنة مع وجود طول الحرة، واعترضه الكيا بأنه ليس في الآية نكاح الإماء وإنما ذلك للتنفير عن نكاح الحرة المشركة لأن العرب كانوا بطباعهم نافرين عن نكاح الأمة فقيل لهم: إذا نفرتم عن الأمة فالمشركة أولى - وفيه تأمل - وفي " البحر " أن مفهوم الصفة يقتضي أن لا يجوز نكاح الأمة الكافرة
119

كتابية أو غيرها؛ وأما وطؤها بملك اليمين فيجوز مطلقا.
* (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا) * أي لا تزوجوا الكفار من المؤمنات سواء كان الكافر كتابيا أو غيره وسواء كانت - المؤمنة أمة - أو حرة، ف * (تنكحوا) * بضم التاء لا غير، ولا يمكن الفتح - وإلا لوجب - ولا ينكحن المشركين، واستدل بها على اعتبار الولي في النكاح مطلقا وهو خلاف مذهبنا، وفي دلالة الآية على ذلك خفاء لأن المراد النهي عن إيقاع هذا الفعل والتمكين منه، وكل المسلمين أولياء في ذلك.
* (ولعبد مؤمن) * مع ما فيه من ذل المملوكية. * (خير من مشرك) * مع ما ينسب إليه من عز المالكية * (ولو أعجبكم) * بما فيه من دواعي الرغبة * (أول - ائك) * أي المذكورون من المشركين والمشركات * (يدعون إلى النار) * أي الكفر المؤدي إليها إما بالقول أو بالمحبة والمخالطة فلا تليق مناكحتهم، فإن قيل: كما أن الكفار يدعون المؤمنين إلى النار كذلك المؤمنون يدعونهم إلى الجنة بأحد الأمرين، أجيب بأن المقصود من الآية أن المؤمن يجب أن يكون حذرا عما يضره في الآخرة وأن لا يحوم حول حمى ذلك ويجتنب عما فيه الاحتمال مع أن النفس والشيطان يعاونان على ما يؤدي إلى النار، وقد ألفت الطباع في الجاهلية ذلك - قاله بعض المحققين - والجملة الخ معللة لخيرية المؤمنين والمؤمنات من المشركين والمشركات * (والله يدعو) * بواسطة المؤمنين من يقاربهم * (إلى الجنة والمغفرة) * أي إلى الاعتقاد الحق والعمل الصالح الموصلين إليهما وتقديم الجنة على المغفرة مع قولهم: التخلية أولى بالتقديم على التحلية لرعاية مقابلة النار ابتداءا * (بإذنه) * متعلق ب * (يدعو) * أي: يدعو إلى ذلك متلبسا بتوفيقه الذي من جملته إرشاد المؤمنين لمقاربيهم إلى الخير فهم أحقاء بالمواصلة.
* (ويبين آي‍اته للناس لعلهم يتذكرون) * لكي يتعظوا أو يستحضروا معلوماتهم بناءا على أن معرفة الله تعالى مركوزة في العقول، والجملة تذييل للنصح والإرشاد، والواو اعتراضية أو عاطفة، وفصلت الآية السابقة ب * (يتفكرون) * (البقرة: 219) لأنها كانت لبيان الأحكام والمصالح والمنافع والرغبة فيها التي هي محل تصرف العقل والتبيين للمؤمنين فناسب التفكر، وهذه الآية ب * (يتذكرون) * لأنها تذييل للإخبار بالدعوة إلى الجنة والنار التي لا سبيل إلى معرفتها إلا النقل والتبيين لجميع الناس فناسب التذكر.
ومن الناس من قدر في الآية مضافا أي فريق الله أو أولياؤه وهم المؤمنون فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه تشريفا لهم، واعترض بأن الضمير في المعطوف على الخبر لله تعالى فيلزم التفكيك مع عدم الداعي لذلك، وأجيب بأن الداعي كون هذه الجملة معللة للخيرية السابقة ولا يظهر التعليل بدون التقدير، وكذا لا تظهر الملائمة لقوله سبحانه: * (بإذنه) * بدون ذلك فإن تقييد دعوته تعالى (بإذنه) ليس فيه حينئذ كثير فائدة بأي تفسير فسر - الإذن - وأمر التفكيك سهل لأنه بعد إقامة المضاف إليه مقام المضاف للتشريف بجعل فعل الأول فعلا للثاني صورة فتتناسب الضمائر - كما في " الكشف " ولا يخفى ما فيه - وعلى العلات هو أولى مما قيل: إن المراد: والله يدعو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فتجب إجابته بتزويج أوليائه لأنه وإن كان مستدعيا لاتحاد المرجع في الجملتين المتعاطفتين الواقعتين
خبرا، لكن يفوت التعليل وحسن المقابلة بينه وبين * (أولئك يدعون إلى النار) * وكذا لطافة التقييد كما لا يخفى.
* (ويس‍الونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النسآء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) *
* (ويسئلونك عن المحيض) * أخرج الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن أنس رضي الله تعالى عنهم " أن اليهود كانوا إذا
120

حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فأنزل الله هذه الآية فقال صلى الله عليه وسلم: " جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شيء إلا النكاح " وعن السدى - إن الذي سأل عن ذلك ثابت بن الدحداح رضي الله تعالى عنه - والجملة معطوفة على ما تقدم من مثلها، ووجه مناسبتها له أنه لما نهى عن مناكحة الكفار ورغب في مناكحة أهل الإيمان بين حكما عظيما من أحكام النكاح، وهو حكم النكاح في الحيض، ولعل حكاية هذه الأسئلة الثلاثة بالعطف لوقوع الكل في وقت واحد عرفي، وهو وقت السؤال عن الخمر والميسر فكأنه قيل: يجمعون لكل بين السؤال عنهما والسؤال عن كذا وكذا؛ وحكاية ما عداها بغير عطف لكونها كانت في أوقات متفرقة فكان كل واحد سؤالا مبتدأ؛ ولم يقصد الجمع بينهما بل الأخبار عن كل واحد على حدة، فلهذا لم يورد الواو بينها، وقال صاحب " الانتصاف " في بيان العطف والترك: إن أول المعطوفات عين الأول من المجردة، ولكن وقع جوابه أولا بالمصرف لأنه الأهم، وإن كان المسؤول عنه إنما هو المنفق لا جهة مصرفه ثم لما لم يكن في الجواب الأول تصريح بالمسؤول عنه أعيد السؤال ليجابوا عن المسؤول عنه صريحا، وهو العفو الفاضل فتعين إذا عطفه ليرتبط بالأول، وأما السؤال الثاني من المقرونة فقد وقع عن أحوال اليتامى، وهل يجوز مخالطتهم في النفقة والسكنى فكان له مناسبة مع النفقة باعتبار أنهم إذا خالطوهم أنفقوا عليهم فلذا عطف على سؤال الانفاق، وأما السؤال الثالث فلما كان مشتملا على اعتزال الحيض ناسب عطفه على ما قبله لما فيه من بيان ما كانوا يفعلونه من اعتزال اليتامى، وإذا اعتبرت الأسئلة المجردة من الواو لم تجد بينها مداناة ولا مناسبة ألبتة إذ الأول منها عن النفقة والثاني عن القتال في الشهر الحرام، والثالث عن الخمر والميسر وبينها من التباين. والتقاطع ما لا يخفى فذكرت كذلك مرسلة متقاطعة غير مربوطة بعضها ببعض، وهذا من بدائع البيان الذي لا تجده إلا في الكتاب العزيز ا ه‍. ولا أرى القلب يطمئن به كما لا يخفى على من أحاط خبرا بما ذكرناه فتدبر، والمحيض كما قال الزجاج وعليه الكثير مصدر حاضت المرأة تحيض حيضا ومحاضا فهو كالمجيء والمبيت وأصله السيلان يقال: حاض السيل وفاض قال الأزهري: ومنه قيل: للحوض حوض لأن الماء يحيض إليه أي يسيل، والعرب تدخل الواو على الياء لأنهما من جنس واحد، وقيل: إنه هنا اسم مكان، ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وحكى الواحدي عن ابن السكيت أنه إذا كان الفعل من ذوات الثلاثة نحو كال يكيل، وحاض يحيض فاسم المكان منه مكسور، والمصدر منه مفتوح، وحكى غيره عن غيره التخيير في مثله بل قيل: إن الكسر والفتح جائزان في اسم الزمان والمكان والمصدر وعلى ما نسب للترجمان، واختاره الإمام يحتاج إلى الحذف في قوله تعالى: * (قل هو أذى) * أي موضع أذى وكذا يحتاج إلى اعتبار الزمان في قوله سبحانه: * (فاعتزلوا النسآء في المحيض) * لركاكة قولنا: فاعتزلوا في موضع الحيض، وإن اختاره الإمام وقال: إن المعنى - اعتزلوا مواضع الحيض، والأذى - مصدر من - أذاه يؤذيه إذا وإذاءا، ولا يقال في المشهور إيذاء وحمله على المحيض للمبالغة، والمعنى المقصود منه المستقذر وبه فسره قتادة، واستعمل فيه بطريق الكناية، والمراد من اعتزال النساء اجتناب مجامعتهن كما يفهمه آخر الآية، وإنما أسند الفعل إلى الذات للمبالغة كما في قوله تعالى: * (حرمت عليكم أمهاتكم) * (النساء: 23) ووضع الظاهر موضع المضمر لكمال العناية بشأنه بحيث لا يتوهم غيره أصلا، وقد يقال لا وضع، وحديث الإعادة أغلبي بل يعتبر ما أشرنا إلى اعتباره فيما أشرنا
121

إلى عدم اعتباره لضعف النسبة، وقوة الداعي إلى التقدير وعدمه أولى، وإنما وصف بأنه أذى ورتب الحكم عليه بالفاء ولم يكتف في الجواب بالأمر للاشعار بأنه العلة والحكم المعلل أوقع في النفس.
* (ولا تقربوهن حتى يطهرن) * تقرير للحكم السابق لأن الأمر بالاعتزال يلزمه النهي عن القربان وبالعكس فيكون كل منهما مقررا وإن تغايرا بالمفهوم فلذا عطف أحدهما على الآخر؛ وفيه بيان لغايته فإن تقييد الاعتزال بقوله سبحانه وتعالى: * (في المحيض) * وتربته على كونه أذى يفيد تخصيص الحرمة بذلك الوقت، ويفهم منه عقلا انقطاعها بعده، ولا يدل عليه اللفظ صريحا بخلاف * (حتى يطهرن) * والغاية انقطاع الدم عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فإن كان الانقطاع لأكثر مدة الحيض حل القربان بمجرد الإنقطاع، وإن كان لأقل منها لم يحل إلا بالاغتسال أو ما هو في حكمه من مضي وقت صلاة، وعند الشافعية هي الاغتسال بعد الانقطاع قالوا: ويدل عليه صريحا قراءة حمزة. والكسائي وعاصم في رواية ابن عياش * (يطهرن) * بالتشديد أي: يتطهرن والمراد به يغتسلن لا لأن الاغتسال معنى حقيقي للتطهير كما يوهمه بعض عباراتهم - لأن استعماله فيما عدا الاغتسال شائع في الكلام المجيد والأحاديث على ما لا يخفى على المتتبع - بل لأن صيغة المبالغة يستفاد منها الطهارة الكاملة، والطهارة الكاملة للنساء عن المحيض هو الاغتسال فلما دلت قراءة التشديد على أن غاية حرمة القربان هو الاغتسال والأصل في القراءات التوافق حملت قراءة التخفيف عليها بل قد يدعى أن الطهر يدل على الاغتسال أيضا بحسب اللغة ففي " القاموس " " طهرت المرأة انقطع دمها واغتسلت من الحيض كتطهرت ". وأيضا قوله تعالى: * (فإذا تطهرن فأتوهن) * يدل التزاما على أن الغاية هي الاغتسال لأنه يقتضي تأخر جواز الاتيان عن الغسل فهو يقوي كون المراد بقراءة التخفيف الغسل لا الانقطاع وربما يكون قرينة على التجوز في الطهر بحمله على الاغتسال إن لم يسلم ما تقدم وعلى فرض عدم تسليم هذا وذاك والرجوع إلى القول بأن قراءة التخفيف من الطهر وهو حقيقة في انقطاع الدم لا غير ولا تجوز ولا قرينة، وقراءة التشديد من التطهر، ويستفاد منه الاغتسال يقال أيضا في وجه الجمع كما في " الكشف ": إن القراءة بالتشديد لبيان الغاية الكاملة والتخفيف لبيان الناقصة، وحتى في الأفعال نظير إلى في أنه لا يقتضي دخول ما بعدها فتكون الكاملة ألبتة، وبيانه أن
الغاية الكاملة ما يكون غاية بجميع أجزائه وهي الخارجة عن المغيا، والناقصة ما تكون غاية باعتبار آخرها وحتى الداخلة على الأسماء تقتضي دخول ما بعدها لولا الغاية والداخلة على الأفعال مثل إلى لا تقتضي كون ما بعدها جزءا لما قبلها فانقطاع الدم غاية للحرمة باعتبار آخره فيكون وقت الانقطاع داخلا فيها والاغتسال غاية لها باعتبار أوله فلا تعارض بين القراءتين، ولعل فائدة بيان الغايتين بيان مراتب حرمة القربان فإنها أشد قبل الانقطاع مما بعده، ولما رأى ساداتنا الحنفية أن ههنا قراءتين التخفيف والتشديد وأن مؤدي الأولى انتهاء الحرمة العارضة على الحل بانقطاع الدم مطلقا فإذا انتهت الحرمة العارضة حلت بالضرورة وإن مؤدي الثانية عدم انتهائها عنده بل بعد الاغتسال، ورأوا أن الطهر إذا نسب إلى المرأة لا يدل على الاغتسال لغة بل معناه فيها انقطاع الدم وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد، وفي " تاج البيهقي " طهرت خلاف طمثت، وفي " شمس العلوم " امرأة طاهر بغير - هاء - انقطع دمها وفي " الأساس ": " امرأة طاهر ونساء طواهر (طهرن من الحيض) "، ولا يعارض ذلك ما في " القاموس " لجواز أن يكون بيانا للاستعمال ولو مجازا على ما هو طريقته في كثير من الألفاظ وأن الحمل على الاغتسال مجازا من غير قرينة معينة له مما لا يصح واعتبار * (فإذا تطهرن فأتوهن) * قرينة بناءا على ما ذكروا ليس بشيء وما ذكروه في وجه
122

الدلالة من الاقتضاء فيه بحث لأن - الفاء - الداخلة على الجملة التي لا تصلح أن تكون شرطا كالجملة الإنشائية لمجرد الربط كما نص عليه ابن هشام في " المغني " ومثل له بقوله تعالى: * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني) * (آل عمران: 31) ولو سلم فاللازم تأخر جواز الاتيان عن الغسل في الجملة لا مطلقا حتى يكون قرينة على أن المراد بقراءة التخفيف أيضا الغسل وأن القول بأن إحدى الغايتين داخلة في الحكم والأخرى خارجة خلاف المتبادر احتاجوا للجمع بجعل كل منهما آية مستقلة فحملوا الأولى على الانقطاع بأكثر المدة، والثانية لتمام العادة التي ليست أكثر مدة الحيض كما حمل إبراهيم النخعي قراءة النصب والجر في * (أرجلكم) * (المائدة: 6) على حالة التخفيف وعدمه وهو المناسب لأن في توقف قربانها في الانقطاع للأكثر على الغسل إنزالها حائضا حكما وهو مناف لحكم الشرع لوجوب الصلاة عليها المستلزم لإنزاله إياها طاهرا حكما بخلاف تمام العدة فإن الشرع لم يقطع عليها بالطهر بل يجوز الحيض بعده، ولذا لو زادت ولم يجاوز العشرة كان الكل حيضا بالاتفاق بقي أن مقتضى الثانية ثبوت الحرمة قبل الغسل فرفع الحرمة قبله بمضي أول وقت الصلاة أعني أدناه الواقع آخرا، واعتبار الغسل حكما على ما قالوا معارضة النص بالمعنى، والجواب أن القراءة الثانية خص منها صورة الانقطاع للعشرة بقراءة التخفيف فجاز أن يخص ثانيا بالمعنى كما قاله بعض المحققين ولا يخفى ما في مذهب الإمام من التيسير، والاحتياط لا يخفى، وحكي عن الأوزاعي أن حل الاتيان موقوف على التطهر وفسره بغسل موضع الحيض وقد يقال لتنقية المحل تطهير، فقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن عائشة رضي الله تعالى عنها: " أن امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غسلها من المحيض فأمرها قبل أن تغتسل قالت: خذي فرصة من مسك فتطهري بها قال: كيف أتطهر بها؟ قال: تطهري بها قالت: كيف؟ قال: سبحان الله تطهري بهافاجتذبتها فقلت: تتبعي بها أثر الدم " وذهب طاوس ومجاهد في رواية عنه أن غسل الموضع مع الوضوء كاف في حل الاتيان - وإليه ذهب الإمامية - ولا يخفى أنه ليس شيء من ذلك طهارة كاملة للنساء وإنما هي طهارة كاملة لاعضائهن وهو خلاف المتبادر في الآية وإنما المتبادر هو الأول وما في الحديث وإن كان أمرا بالتطهر لتلك المرأة لكن المراد بذلك المبالغة في تطهير الموضع إلا أنه لأمر ما لم يصرح به صلى الله عليه وسلم وإطلاق التطهير على تنقية المحل مما لا ننكره وإنما ننكر إطلاق (يطهرن) على من طهرن مواضع حيضهن ودون إثباته حيض الرجال. واستدل بالآية على أنه لا يحرم الاستمتاع بالحائض بما بين السرة والركبة وإنما يحرم الوطء، وسئلت عائشة رضي الله تعالى عنها فيما أخرجه ابن جرير ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ قالت: كل شيء إلا الجماع؛ وذهب جماعة إلى حرمة الاستمتاع بما بين السرة والركبة استدلالا بما أخرجه مالك عن زيد بن أسلم " أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: لتشد عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها " وكأنه من باب سد الذرائع في الجملة، ولهذا ورد فيما أخرجه الإمام أحمد، والتعفف عن ذلك أفضل والأمر في الآية للإباحة على حد * (إذا حللتم فاصطادوا) * (المائدة: 2) ففيها إباحة الاتيان لكنه مقيد بقوله سبحانه:
* (من حيث أمركم الله) * أي من المكان الذي أمركم الله تعالى بتجنبه لعارض الأذى وهو الفرج ولا تعدوا غيره قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع وقال الزجاج: معناه من الجهات التي يحل فيها أن تقرب المرأة ولا تقربوهن من حيث لا يحل كما إذا كن صائمات أو محرمات أو معتكفات وأيد بأنه لو أراد الفرج لكانت
123

- في - أظهر فيه من - من - لأن الاتيان بمعنى الجماع يتعدى بها غالبا لا بمن، ولعله في حيز المنع عند أهل القول لأول.
* (إن الله يحب التوابين) * مما عسى يندر منهم من ارتكاب بعض الذنوب كالإتيان في الحيض المورث للجذام في الولد كما ورد في الخبر، والمستدعي عقاب الله تعالى فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أتى حائضا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " وهو جار مجرى الترهيب فلا يعارض ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أصبت امرأتي وهي حائض فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتق نسمة " وقيمة النسمة حينئذ دينار، وهذا إذا كان الاتيان في أول الحيض والدم أحمر أما إذا كان في آخره والدم أصفر فينبغي أن يتصدق بنصف دينار كما دلت عليه الآثار * (ويحب المتطهرين) * أي المتنزهين عن الفواحس والأقذار كمجامعة الحائض والاتيان لا من حيث أمر الله تعالى وحمل التطهر على التنزه هو الذي تقتضيه البلاغة وهو مجاز على ما في " الأساس " و " شمس العلوم "، وعن عطاء حمله على التطهر بالماء والجملتان تذييل مستقل لما تقدم.
* (نسآؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لانفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم مل‍اقوه وبشر المؤمنين) *
* (نساؤكم حرث لكم) * أخرج البخاري وجماعة عن جابر قال: " كانت اليهود تقول إذا أتى الرجل امرأته من خلفها في قبلها ثم حملت جاء الولد أحول فنزلت "
والحرث إلقاء البذر في الأرض وهو غير الزرع لأنه إنباته يرشدك إلى ذلك قوله تعالى: * (أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون) * (الواقعة: 63 - 64) قال الجوهري: الحرث الزرع والحارث الزارع وعلى كل تقدير هو خبر عما قبله إما بحذف المضاف أي مواضع حرث، أو التجوز والتشبيه البليغ أي كمواضع ذلك وتشبيههن بتلك المواضع متفرع على تشبيه النطف بالبذور من حيث إن كلا منهما مادة لما يحصل منه ولا يحسن بدونه فهو تشبيه يكنى به عن تشبيه آخر.
* (فأتوا حرثكم) * أي ما هو كالحرث ففيه استعارة تصريحية ويحتمل أن يبقى الحرث على حقيقته والكلام تمثيل شبه حال إتيانهم النساء في المأتى بحال إتيانهم المحارث في عدم الاختصاص بجهة دون جهة ثم أطلق لفظ المشبه به على المشبه، والأول أظهر وأوفق لتفريع حكم الاتيان على تشبيههن بالحرث تشبيها بليغا، وهذه الجملة مبينة لقوله تعالى: * (فأتوهن من حيث أمركم الله) * (البقرة: 222) لما فيه من الإجمال من حيث المتعلق، والفاء جزائية، وما قبلها علة لما بعدها، وقدم عليه اهتماما بشأن العلة وليحصل الحكم معللا فيكون أوقع، ويحتمل أن يكون المجموع كالبيان لما تقدم، والفاء للعطف وعطف الإنشاء على الأخبار جائز بعاطف سوى الواو * (أني شئتم) * قال قتادة والربيع: من أين شئتم وقال مجاهد: كيف شئتم، وقال الضحاك: متى شئتم، ومجيء * (أنى) * بمعنى - أين - وكيف ومتى مما أثبته الجم الغفير، وتلزمها على الأول - من - ظاهرة أو مقدرة، وهي شرطية حذف جوابها لدلالة الجملة السابقة عليه، واختار بعض المحققين كونها بمعنى من أين أي من أي جهة ليدخل فيه بيان النزول، والقول بأن الآية حينئذ تكون دليلا على جواز الاتيان من الأدبار ناشىء من عدم التدبر في أن - من - لازمة إذ ذاك فيصير المعنى من أي مكان لا في أي مكان فيجوز أن يكون المستفاد حينئذ تعميم الجهات من القدام والخلف والفوق والتحت واليمين والشمال لا تعميم مواضع الاتيان فلا دليل في الآية لمن جوز إتيان المرأة في دبرها كابن عمر، والأخبار عنه في ذلك صحيحة مشهورة، والروايات عنه بخلافها على خلافها، وكابن أبي مليكة وعبد الله بن القاسم حتى قال فيما أخرجه الطحاوي عنه: ما أدركت أحدا اقتدى به في ديني يشك في أنه حلال، وكمالك بن أنس حتى أخرج الخطيب عن أبي سلمان الجوزجاني أنه سأله عن ذلك فقال له:
124

الساعة غسلت رأس ذكري منه، وكبعض الإمامية لا كلهم كما يظنه بعض الناس ممن لا خبرة له بمذهبهم، وكسحنون من المالكية، والباقي من أصحاب مالك ينكرون رواية الحل عنه ولا يقولون به، ويا ليت شعري كيف يستدل بالآية على الجواز مع ما ذكرناه فيها، ومع قيام الاحتمال كيف ينتهض الاستدلال لا سيما وقد تقدم قبل وجوب الاعتزال في المحيض وعلل بأنه أذى مستقذر تنفر الطباع السليمة عنه، وهو يقتضي وجوب الاعتزال عن الاتيان في الأدبار لاشتراك العلة، ولا يقاس ما في المحاش من الفضلة بدم الاستحاضة ومن قاس فقد أخطأت إسته الحفرة لظهور الاستقذار. والنفرة مما في المحاش دون دم الاستحاضة، وهو دم انفجار العرق كدم الجرح؛ وعلى فرض تسليم أن * (أنى) * تدل على تعميم مواضع الاتيان كما هو الشائع يجاب بأن التقييد بمواضع الحرث يدفع ذلك فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: بينا أنا ومجاهد جالسان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إذ أتاه رجل فقال: ألا تشفيني من آية المحيض قال: بلى فقرأ * (ويسئلونك عن المحيض) * إلى * (فأتوهن من حيث أمركم الله) * (البقرة: 222) فقال ابن عباس: من حيث جاء الدم من ثم أمرت أن تأتي فقال: كيف بالآية * (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أني شئتم) *؟ فقال: ويحك، وفي الدبر من حرث لو كان ما تقول حقا لكان المحيض منسوخا إذا شغل من ههنا جئت من ههنا ولكن أنى شئتم من الليل والنهار، وما قيل: من أنه لو كان في الآية تعين الفرج لكونه موضع الحرث للزم تحريم الوطء بين الساقين وفي الاعكان لأنها ليست موضع حرث كالمحاش، مدفوع بأن الأمناء فيها عدا الضمامين لا يعد في العرف جماعا ووطئا والله تعالى قد حرم الوطء والجماع في غير موضع الحرث لا الاستمناء فحرمة الاستمناء بين الساقين وفي الأعكان لم تعلم من الآية إلا أن يعد ذلك إيتاءا وجماعا وأنى به، ولا أظنك في مرية من هذا وبه يعلم ما في مناظرة الإمام الشافعي والإمام محمد بن الحسن، فقد أخرج الحاكم عن (ابن) عبد الحكم أن الشافعي ناظر محمدا في هذه المسألة فاحتج عليه ابن الحسن بأن الحرث إنما يكون في الفرج فقال له أفيكون ما سوى الفرج محرما فالتزمه؟ فقال أرأيت لو وطئها بين ساقيها أو في في أعكانها أو في ذلك حرث؟ قال: لا قال: أفيحرم؟ قال: لا قال: فكيف تحتج بما لا تقول به، وكأنه من هنا قال الشافعي فيما حكاه عنه الطحاوي. والحاكم. والخطيب لما سئل عن ذلك: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحليله ولا تحريمه شيء والقياس أنه حلال وهذا خلاف ما نعرف من مذهب الشافعي فإن رواية التحريم عنه مشهورة فلعله كان يقول ذلك في القديم ورجع عنه في الجديد لما صح عنده من الأخبار أو ظهر له من الآية.
* (وقدموا لأنفسكم) * ما يصلح للتقديم من العمل الصالح ومنه التسمية عند الجماع وطلب الولد المؤمن، فقد أخرج الشيخان. وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فقضي بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدا " وصح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له " وعن عطاء تخصيص المفعول بالتسمية. وعن مجاهد بالدعاء عند الجماع، وعن بعضهم بطلب الولد وعن آخرين بتزوج العفائف والتعميم أولى * (واتقوا الله) * فيما أمركم به ونهاكم عنه. * (واعلموا أنكم مل‍اقوه) * بالبعث فيجازيكم بأعمالكم فتزودوا ما ينفعكم؛ والضمير المجرور راجع إلى الله تعالى بحذف مضاف أو بدونه ورجوعه إلى ما قدمتم أو إلى الجزاء المفهوم منه بعيد والأوامر معطوفة على قوله تعالى: * (فأتوا حرثكم) * وفائدتها الإرشاد العام بعد الإرشاد الخاص وكون الجملة السابقة مبينة لا يقتضي أن يكون
125

المعطوف عليها كذلك * (وبشر المؤمنين) * الذين تقلوا ما خوطبوا به بالقبول والامتثال بما لا تحيط به عبارة من الكرامة والنعيم، وحمل بعضهم المؤمنين على الكاملين في الإيمان بناءا على أن الخطابات السابقة كانت للمؤمنين مطلقا فلو كانت هذه البشارة لهم كان مقتضى الظاهر وبشرهم فلما وضع المظهر موضع المضمر علم أن المراد غير السابقين وهم المؤمنون الكاملون ولا يخفى أنه يجوز أن يكون العدول إلى الظاهر للدلالة على العلية ولكونه فاصلة فلا يتم ما ذكره والواو للعطف، * (وبشر) *
عطف على * (قل) * (البقرة: 222) المذكور سابقا أو على (قل) مقدرة قبل قدموا وهي معطوفة على مذكورة ومن باب الإشارة: * (يسألونك) * عن خمر الهوى وحب الدنيا وميسر احتيال النفس بواسطة قداحها التي هي حواسها العشرة المودعة في ربابة البدن لنيل شيء من جزور اللذات والشهوات * (قل فيهما إثم) * الحجاب والبعد عن الحضرة * (ومنافع للناس) * في باب المعاش وتحصيل اللذة النفسانية والفرح بالذهول عن المعايب والخطرات المشوشة والهموم المكدرة * (وإثمهما أكبر من نفعهما) * لأن فوات الوصال في حضائر الجمال لا يقابله شيء، ولا يقوم مقامه - وصال سعدي ولامي - ولفرق عند الأبرار بين السكر من المدير والسكر من المدار:
وأسكر القوم ورود كأس * وكان سكرى من المدير
وهذا هو السكر الحلال لكنه فوق عالم التكليف ووراء هذا العالم الكثيف وهو سكر أرواح لا أشباح وسكر رضوان لا حميا دنان: وما مل ساقيها ولا مل شارب * عقار لحاظ كأسها يسكر اللبا
* (ويسألوك ماذا ينفقون قل العفو) * وهو ما سوى الحق من الكونين * (كذلك يبين الله لكم الآيات) * المنزلة من سماء الأرواح * (لعلكم تتفكرون) * (البقرة: 219) * (في الدنيا والآخرة) * (البقرة: 220) وتقطعون بواديهما بأجنحة السير والسلوك إلى ملك الملوك * (ويسألونك عن المحيض) * وهو غلبة دواعي الصفات البشرية والحاجات الإنسانية * (قل هو أذى) * تنفر القلوب الصافية عنه * (فاعتزلوا) * بقلوبكم نساء النفوس في محيض غلبات الهوى * (حتى يطهرن) * ويفرغن من قضاء الحوائج الضرورية * (فإذا تطهرن) * بماء الإنابة ورجعن إلى الحضرة في طلب القربة * (فأتوهن من حيث أمركم الله) * أي عند ظهور شواهد الحق لزهوق باطل النفس واضمحلال هواها * (إن الله يحب التوابين) * عن أوصاف الوجود * (ويحب المتطهرين) * (البقرة: 222) بنور المعرفة عن غبار الكائنات، أو يحب التوابين من سؤالاتهم ويحب المتطهرين من إراداتهم نساؤكم وهي النفوس التي غدت لباسا لكم وغدوتم لباسا لهن موضع حرثكم للآخرة * (فأتوا حرثكم) * متى شئتم الحراثة لمعادكم * (وقدموا لأنفسكم) * ما ينفعها ويكمل نشأتها * (واتقوا الله) * من النظر إلى ما سواه * (واعلموا أنكم ملاقوه) * بالفناء فيه إذا اتقيتم * (وبشر المؤمنين) * بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
* (ولا تجعلوا الله عرضة لايم‍انكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم) *
* (ولا تجعلوا الله عرضة لأيم‍انكم) * أخرج ابن جرير عن ابن جريج أنها نزلت في الصديق رضي الله تعالى عنه لما حلف أن لا ينفق على مسطح بن خالته وكان من الفقراء المهاجرين لما وقع في إفك عائشة رضي الله تعالى عنها، وقال الكلبي: نزلت في عبد الله بن رواحة حين حلف على ختنه بشير بن النعمان أن لا يدخل عليه أبدا ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين امرأته بعد أن كان قد طلقها وأراد الرجوع إليها والصلح معها، والعرضة فعلة بمعنى المفعول كالقبضة والغرفة وهي هنا من عرض الشيء من باب نصر أو ضرب جعله معترضا أو من عرضه للبيع عرضا من باب ضرب إذا قدمه لذلك، ونصبه
126

له والمعنى على الأول لا تجعلوا الله حاجزا لما حلفتم عليه وتركتموه من أنواع الخير فيكون المراد بالأيمان الأمور المحلوف عليها وعبر عنها بالأيمان لتعلقها بها أو لأن اليمين بمعنى الحلف تقول حلفت يمينا كما تقول حلفت حلفا فسمي المفعول بالمصدر كما في قوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم وغيره: " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير "، وقيل: (على) في الحديث زائدة لتضمن معنى الاستعلاء.
وقوله تعالى * (أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس) * عطف بيان (لأيمانكم) وهو غير الاعلام كثير وفيها أكثر، وقيل: بدل وضعف بأن المبدل منه لا يكون مقصودا بالنسبة بل تمهيد وتوطئة للبدل وههنا ليس واللام صلة عرضة، وفيها معنى الاعتراض أو بتجعلوا والأول أولى وإن كان المآل واحدا، وجوز أن تكون الأيمان على حقيقتها واللام للتعليل و (أن تبروا) في تقدير لأن ويكون صلة للفعل أو لعرضة، والمعنى: لا تجعلوا الله تعالى حاجزا لأجل حلفكم به عن البر والتقوى والاصلاح، وعلى الثاني ولا تجعلوا الله نصبا لأيمانكم فتبتذلوه بكثرة الحلف به في كل حق وباطل لأن في ذلك نوع جرأة على الله تعالى وهو التفسير المأثور عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وبه قال الجبائي وأبو مسلم وروته الإمامية عن الأئمة الطاهرين، ويكون (أن تبروا) علة للنهي على معنى أنهيكم عنه طلب بركم وتقواكم وإصلاحكم إذ الحلاف مجترىء على الله تعالى والمجترىء عليه بمعزل عن الاتصاف بتلك الصفات ويؤول إلى لا تكثروا الحلف بالله تعالى لتكونوا بارين متقين ويعتمد عليكم الناس فتصلحوا بينهم، وتقدير الطلب ونحوه لازم إن كان * (أن تبروا) * في موضع النصب ليتحقق شرط حذف اللام وهو المقارنة لأن المقارنة للنبي ليس هو البر والتقوى والاصلاح بل طلبها وإن كان في موضع الجر بناءا على أن حذف حرف الجر من (أن) وإن قياسي فليس بلازم وإنما قدروه لتوضيح المعنى والمراد به طلب الله تعالى لا طلب العبد، وإن أريد ذلك كان علة للكف المستفاد من النهي كأنه قيل: كفوا أنفسكم من جعله سبحانه عرضة وطلب العبد صالح للكف * (والله سميع) * لأقوالكم وأيمانكم * (عليم) * بأحوالكم ونياتكم فحافظوا على ما كلفتموه، ومناسبة الآية لما قبلها أنه تعالى لما أمرهم بالتقوى نهاهم عن ابتذال اسمه المنافي لها أو نهاهم عن أن يكون اسمه العظيم حاجزا لها ومانعا منها.
* (لا يؤاخذكم الله باللغو فىأيم‍انكم ول‍اكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم) *
* (لا يؤاخذكم الله باللغو فيأيم‍انكم) * اللغو الساقط الذي لا يعتد به من كلام وغيره ولغو اليمين عند الشافعي رضي الله تعالى عنه ما سبق له اللسان، وما في حكمه مما لم يقصد منه اليمين كقول العرب لا والله لا بالله لمجرد التأكيد، وهو المروي عن عائشة وابن عمر وغيرهما في أكثر الروايات، والمعنى لا يؤاخذكم أصلا بما لا قصد لكم فيه من الأيمان. * (ول‍اكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) * أي بما قصدتم من الأيمان وواطأت فيها قلوبكم ألسنتكم، ولا يعارض هذه الآية ما في المائدة (89) من
قوله تعالى: * (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين) * الخ بناءا على أن مقتضى هذه المؤاخذة بالغموس لأنها من كسب القلب وتلك تقتضي عدمها لأن اللغو فيها خلاف المعقودة، وهي ما يحلف فيها على أمر في المستقبل أن يفعل ولا يفعل لوقوعه في مقابلة قوله سبحانه: * (بما عقدتم الأيمان) * فيتناول الغموس وهو الحلف على أمر ماض متعمد الكذب فيه ولغويته لعدم تحقق البر فيه الذي هو فائدة اليمين الشرعية لأن الشافعي حمل * (بما عقدتم) * على كسب القلب من عقدت على كذا عزمت عليه، ولم يعكس لأن العقد مجمل يحتمل عقد القلب، ويحتمل ربط الشيء بالشيء، والكسب مفسر، ومن القواعد حمل المجمل على المفسر، وإذا حمل عليه شمل الغموس، وكان اللغو
127

ما لا قصد فيه لا خلاف المعقودة إذ لا معقودة فتتحد الآيتان في المؤاخدة على الغموس وعدم المؤاخذة على اللغو إلا أنه إن كان للفعل المنفي عموم كان في الآيتين نفي المؤاخذة فيما لا قصد فيه بالعقوبة، والكفارة وإثبات المؤاخذة في الجملة بهما أو بأحداهما فيما فيه قصد، وإن لم يكن له عموم حمل المؤاخذة المطلقة في هذه الآية على المؤاخدة المقيدة بالكفار في آية المائدة بناءا على اتحاد الحادثة والحكم، وسوق الآية لبيان الكفارة فلا تكرار، وأيد العموم بما أخرجه ابن جرير عن الحسن أنه صلى الله عليه وسلم " مر بقوم ينتصلون ومعه بعض أصحابه فرمى رجل من القوم فقال: أصبت والله أخطأت والله، فقال الذي معه: حنث الرجل يا رسول الله فقال كلا أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة " وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن اللغو هنا ما لا قصد فيه إلى الكذب بأن لا يكون فيه قصد أو يكون بظن الصدق، وحمل المؤاخذة على الأخروية بناءا على أن دار المؤاخذة هي الآخرة وأن المطلق ينصرف إلى الكامل وقرنت هذه المؤاخذة بالكسب إذ لا عبرة للقصد وعدمه في وجوب الكفارات التي هي مؤاخذات دنيوية، لا شك أنه بمجرد اليمين بدون الحنث لا تتحقق المؤاخذة الأخروية في المعقودة فلا يمكن إجراء ما كسبت على عمومه فلا بد من تخصيصه بالغموس فيتحصل من هذه الآية المؤاخذة الأخروية في الغموس دون الدنيوية التي هي الكفارة، وفيه خلاف الشافعي وعدم المؤاخذة الأخروية فيما عداها مما فيه قصد بظن الصدق، ومما لا قصد فيه أصلا - وفيه وفاق الشافعي - وحمل المؤاخذة في آية المائدة على الدنيوية بقرينة قوله سبحانه فيها: * (فكفارته) * (المائدة: 89) الخ، وقوله تعالى: * (بما عقدتم) * على المعقودة لأن المتبادر من - العقد - ربط الشيء بالشيء وهو ظاهر في المعقودة فالمراد باللغو في تلك الآية ما عداها من الغموس وغيره فيتحصل منها عدم المؤاخذة الدنيوية - بالكفارة - على غير المعقودة، وهي الغموس والمؤاخذة عليه في الآخرة - كما علم من آية البقرة - والحلف بلا قصد أو به مع ظن الصدق لغير المؤاخذة عليهما في الآخرة كما علم منها أيضا، والمؤاخذة الدنيوية على المعقودة التي لم يعلم حكمها في الآخرة من الآيتين لظهوره من ترتب المؤاخذة الدنيوية عليه - فلا تدافع بين الآيتين عنده أيضا - لأن مقتضى الأولى: تحقق المؤاخذة الأخروية في الغموس، ومقتضى الثانية: عدم المؤاخذة الدنيوية فيه، ومن هذا يعلم أن ما في - " الهداية " - وشاع في كتب الأصحاب عن الإمام حيث قال: " إن الأيمان على ثلاثة أضرب يمين العموس ويمين منعقدة ويمين لغو " وبين حكم كل وفسر الأخير " بأن يحلف على (أمر) ماض وهو يظن (أنه) (1) كما قال والأمر بخلافه "، وثبت في بعض الروايات عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وغيره - ليس بشيء - لو كان المقصود بما في التفسير الحصر لا التمثيل للغو لأن اللائق بالنظم أن يكون (ما كسبت) مقابلا للغو من غير واسطة بينهما، وبقصد الحصر يبقى اليمين الذي لا قصد معه واسطة بينهما غير معلوم الإسم ولا الرسم، وهو مما لا يكان يكون كما لا يخفى على المنصف فليتدبر فإنه مما فات كثيرا من الناس.
وذهب مسروق إلى أن اللغو هو الحلف على المعاصي وبره ترك ذلك الفعل ولا كفارة. وروى عن ابن عباس وطاوس أنه اليمين في حال الغضب فلا كفارة فيها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لغو اليمين أن تحرم ما أحل الله تعالى عليك بأن تقول: مالي علي حرام إن فعلت كذا مثلا - وبهذا أخذ مالك إلا في الزوجة - وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم قال: هو كقول الرجل: أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا، وكقوله: هو مشرك هو كافر إن لم يفعل كذا، فلا يؤاخذ به حتى يكون من قبله، وقيل: لغو اليمين يمين المكره - حكاه ابن الفرس ولم ير مسندا - هذا ولم يعطف قوله تعالى:
128

* (لا يؤاخذكم) * الآية على ما قبله لاختلافها خبرا وإنشاءا، وإن كانا متساركين في كون كل منهما بيانا لحكم الأيمان * (والله غفور) * حيث يؤاخذكم باللغو * (حليم) * حيث لم يعجل بالمؤاخذة على يمين الجد؛ والجملة تذييل للجملتين السابقتين، وفائدته الامتنان على المؤمنين وشمول الإحسان لهم والحليم من حلم بالضم يحلم إذا أمهل بتأخير العقاب، وأصل الحلم الأناة، وأما حلم الأديم - فبالكسر يحلم بالفتح - إذا فسد، وأما حلم أي رأى في نومه - فبالفتح - ومصدر الأول - الحلم - بالكسر ومصدر الثاني - الحلم - بفتح اللام ومصدر الثالث - الحلم - بضم الحاء مع ضم اللام وسكونها.
* (للذين يؤلون من نسآئهم تربص أربعة أشهر فإن فآءوا فإن الله غفور رحيم) *
* (للذين يؤلون من نسائهم) * الإيلاء - كما قال الراغب - الحلف الذي يقتضي النقيصة في الأمر الذي يحلف فيه من قوله تعالى: * (لا يألونكم خبالا) * (آل عمران: 118) أي باطلا * (ولا يأتل أولوا الفضل منكم) * (النور: 22) وصار في الشرع عبارة عن الحلف المانع عن جماع المرأة، ف * (يؤلون) * أي يحلفون، و * (من نسائهم) * على حذف المضاف، أو من إقامة العين مقام الفعل المقصود منه للمبالغة، وعدى القسم على الماجمعة ب * (من) * لتضمنه معنى البعد، فكأنه قيل: يبعدون من نسائهم مولين، وقيل: إن هذا الفعل يتعدى ب (من) وعلى، ونقل أبو البقاء عن بعضهم من أهل اللغة تعديته ب (من) وقيل: بها بمعنى على، وقيل: بمعنى في، وقيل: زائدة، وجوز جعل الجار ظرفا مستقرا، أي استقر لهم من نسائهم.
* (تربص أربعة أشهر) * وقرأ * (ألوا من نسائهم) * وفي مصحف أبي * (للذين يقسمون) * وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - والتربص - الانتظار والتوقف وأضيف إلى الظرف على الاتساع - وإجراء المفعول فيه مجرى المفعول به، والمعنى على الظرفية وهو مبتدأ ما قبله خبره أو فاعل للظرف - على
ما ذهب إليه الأخفش من جواز عمله وإن لم يعتمد - والجملة - على التقديرين - بمنزلة الاستثناء من قوله سبحانه. * (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) * (البقرة: 225) فإن - الإيلاء - لكون أحد الأمرين لازما له الكفارة على تقدير الحنث من غير إثم، والطلاق على تقدير البر مخالف لسائر الأيمان المكتوبة حيث يتعين فيها - المؤاخذة - بهما أو بأحدهما عند الشافعي - والمؤاخذة - الأخروية عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، فكأنه قيل: إلا الإيلاء فإن حكمه غير ما ذكر، ولذلك لم تعطف هذه الجملة على ما قبلها، وبعد أن ذكر سبحانه وتعالى - إن للمولين من نسائهم تربص أربعة أشهر - بين حكمه بقوله تعالى جل شأنه: * (فإن فاءو) * أي رجعوا في المدة * (فإن الله غفور رحيم) * لما حدث منهم من اليمين على الظلم وعقد القلب على ذلك الحنث، أو بسبب الفيئة والكفارة، ويؤيده قراءة ابن مسعود * (فإن فاءوا فيهن) *.
* (وإن عزموا الطل‍اق فإن الله سميع عليم) *
* (وإن عزموا الطل‍اق) * أي صمموا قصده بأن لم يفيئوا واستمروا على الإيلاء * (فإن الله سميع) * لإيلائهم الذي صار منهم طلاقا بائنا بمضي العدة * (عليم) * بغرضهم من هذا الإيلاء فيجازيهم على وفق نياتهم، وهذا ما حمل عليه الحنفية هذه الآية فإنهم قالوا: الإيلاء من المرأة أن يقول: والله لا أقربك أربعة أشهر فصاعدا على التقييد بالأشهر، أو لا أقربك على الإطلاق، ولا يكون فيما دون ذلك عند الأئمة الأربعة وأكثر العلماء، خلافا للظاهرية والنخعية وقتادة وحماد وابن أبي جماد وإسحق حيث يصير عندهم موليا في قليل المدة وكثيرها، وحكمه إن فاء إليها في المدة بالوطء إن أمكن، أو بالقول إن عجز عنه صح الفيء وحنث القادر ولزمته كفارة اليمين ولا كفارة على العاجز، وإن مضت الأربعة بانت بتطليقة من غير مطالبة المرأة إيقاع الزوج
129

أو الحكم، وقالت الشافعية: لا إيلاء إلا في أكثر من أربعة أشهر فلو قال: والله لا أقربك أربعة أشهر لا يكون إيلاء شرعا عندهم ولا يترتب حكمه عليه بل هو يمين كسائر الأيمان، إن حنث كفر، وإن بر فلا شيء عليه، وللمولي التلبث في هذه المدة فلا يطالب بفيء ولا طلاق، فإن فاء في اليمين بالحنث فإن الله غفور رحيم للمولي إثم حنثه إذا كفر كما في الجديد، أو ما توخى بالإيلاء من ضرار المرأة ونحوه بالفيئة التي هي كالتوبة وإن عزم الطلاق فإن الله سميع لطلاقه * (عليم) * بنيته، وإذا مضت المدة ولم يفىء ولم يطلق طولب بأحد الأمرين، فإن أبى عنهما طلق عليه الحاكم؛ وأيد كون مدته أكثر من أربعة أشهر بأن - الفاء - في الآية للتعقيب فتدل على أن حكم الإيلاء من الفيئة والطلاق يترتب عليه بعد مضي أربعة أشهر، فلا يكون الإيلاء في هذه المدة إيلاءا شرعا لانتفاء حكمه - وبذلك اعترضوا على الحنفية - واعترضوا عليهم أيضا بأنه لو لم يحتج إلى الطلاق بعد مضي المدة لزم وقوع الطلاق من غير موقع، وإن النص يشير إلى أنه مسموع، فلو بانت من غير طلاق لا يكون ههنا شيء مسموع، وأجيب عن الأول بأن - الفاء - للتعقيب في الذكر، وعن الثاني بأن المسموع ما يقارن ذلك الترك من المقاولة والمجادلة وحديث النفس به كما يسمع وسوسة الشيطان عليهم بما استمروا عليه من الظلم أو الإيلاء الذي صار طلاقا بائنا بالمضي، وهذا أنسي بقوله سبحانه وتعالى: * (فإن عزموا الطلاق) * حيث اكتفى بمجرد العزم بخلاف ما قالته الشافعية من أنه يحتاج إلى الطلاق بعد مضي المدة فإنه يحتاج إلى التقدير، وبعده لا يحتاج إلى (عزموا) أو يحتاج إلى جعل (عزم الطلاق) كناية عنه، فما قيل: من أن الآية بصريحها مع الشافعي ليس في محله، وقد ذهب إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة وكثير من الإمامية. وأخرج عبد بن حميد عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: الإيلاء إيلاءان إيلاء في الغضب، وإيلاء في الرضا، فأما الإيلاء في الغضب فإذا مضت أربعة أشهر فقد بانت منه، وأما ما كان في الرضا فلا يؤاخذ به. وأخرج عبد الرزاق عن سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنهما قال: أتى رجل عليا كرم الله تعالى وجهه فقال: إني حلفت أن لا آتي امرأتي سنتين فقال: ما أراك إلا قد آليت، قال إنما حلفت من أجل أنها ترضع ولدي، قال فلا إذا. وروي عن إبراهيم " ما أعلم الإيلاء إلا في الغضب لقوله سبحانه وتعالى: * (فإن فاءوا) * وإنما الفيء من الغضب " وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، واستدل بعموم الآية على صحة الإيلاء من الكافر، وبأي يمين كان، ومن غير المدخول بها والصغيرة والخصي وأن العبد تضرب له الأربعة أشهر كالحر. واستدل بتخصيص هذا الحكم بالمولي على أن من ترك الوطء ضرارا بلا يمين لا يلزمه شيء، وما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت وهي تعظ خالد بن سعيد المخزومي وقد بلغها أنه هجر امرأته: إياك يا خالد وطول الهجر، فإنك قد سمعت ما جعل الله تعالى للمولي من الأجل محمول على إرادة العطف والتحذير من التشبه بالإيلاء.
* (والمطلق‍ات يتربصن بأنفسهن ثل‍اثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله فىأرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الاخر وبعولتهن أحق بردهن في ذالك إن أرادوا إصل‍احا ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم) *
* (والمطلق‍ات) * أي ذوات الأقراء من الحرائر المدخول بهن، لما قد بين في الآيات والأخبار أن لا عدة على غير المدخول لها وأن عدة من لا تحيض لصغر أو كبر أو حمل بالأشهر ووضع الحمل، وأن عدة الأمة قرآن أو شهران - فأل - ليست للاستغراق لأنه ههنا متعذر لما بين، فتحمل على الجنس كما في - لا أتزوج النساء - ويراد منه ما ذكر بقرينة الحكم، وهذا مذهب ساداتنا الحنفية لأن الكلام المستقل الغير الموصول عندهم ناسخ للعام، والنسخ إنما يصح إذا ثبت عموم الحكم السابق - لا عموم ههنا - وقال الشافعية: إن (المطلقات) عام وقد خص البعض بكلام مستقل غير موصول، واعترضه الإمام بأن التخصيص إنما يحسن إذا كان الباقي
130

تحت العام أكثر، وههنا ليس كذلك وليس بشيء لأنه مما لا شاهد له فإن المذكور في " كتب الأصول " أن العام يجوز تخصيصه إلى أن يبقى تحته ما يستحق به معنى الجمع لئلا يلزم إبطال الصيغة فليفهم.
* (يتربصن) * أي ينتظرن، وهو خبر قصد منه الأمر على سبيل الكناية فلا يحتاج في وقوعه خبرا لمبتدأ إلى التأويل على رأي من لم يجوز وقوع الإنشاء خبرا من غير تأويل، وقيل: إن الجملة الاسمية خبرية بمعنى الأمر، أي: ليتربصن المطلقات ولا يخفى أنه لا يحتاج إليه، وتغيير العبارة للتأكيد بدلالته على التحقيق لأن الأصل
في الخبر الصدق والكذب احتمال عقلي، والإشعار بأنه مما يجب أن يسارع إلى امتثاله حيث أقيم اللفظ الدال على الوقوع مقام الدال على الطلب، وفي ذكره متأخرا عن المتبدأ فضل تأكيد لما فيه من إفادة التقوى على أحد الطريقين المنقولين عن الشيخ عبد القاهر والسكاكي، وقيد - التربص - هنا بقوله سبحانه وتعالى: * (بأنفسهن) * وتركه في قوله تعالى: * (تربص أربعة أشهر) * (البقرة: 226) لتحريض النساء على - التربص - لأن - الباء - للتعدية فيكون المأمور به أن يقمعن أنفسهن ويحملنها على الانتظار، وفيه إشعار بكونهن مائلات إلى الرجال وذلك مما يستنكفن منه، فإذا سمعن هذا تربصن وهذا بخلاف الآية السابقة فإن المأمور فيها - بالتربص - الأزواج وهم وإن كانوا طامحين إلى النساء لكن ليس لهم استنكاف منه، فذكر - الأنفس - فيها لا يفيد تحريضهم على التربص
* (ثل‍اثة قروء) * نصب على الظرف لكونه عبارة عن المدة، والمفعول به محذوف لأن - التربص - متعد قال تعالى: * (ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله) * (التوبة: 52) أي يتربصن التزوج، وفي حذفه إشعار بأنهن يتركن التزوج في هذه المدة بحيث لا يتلفظن به، وجوز أن يكون على المفعولية بتقدير مضاف أي: يتربصن مضيها - القروء - جمع قرء - بالفتح والضم - والأول أفصح وهو يطلق للحيض لما أخرج النسائي وأبو داود والدارقطني " أن فاطمة ابنة أبي حبيش قالت: يا رسول الله إني امرأة استحاض فلا أطهر أفدع الصلاة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " لا، دعي الصلاة أيام أقرائك " ويطلق للطهر الفاصل بين الحيضتين كما في ظاهر قول الأعشى: أفي كل عام أنت جاشم غزوة * تشد لأقصاها عزيم عزائكا
مورثة مالا وفي الحي رفعة * لما ضاع فيها من قروء نسائكا
أي أطهارهن لأنها وقت الاستمتاع ولا جماع في الحيض في الجاهلية أيضا وأصله الانتقال من الطهر إلى الحيض لاستلزامه كل واحد منهما، والدليل على ذلك كما قال الراغب: إن الطاهر التي لم تر الدم لا يقال لها ذات قرء والحائض التي استمر لها الدم لا يقال لها ذلك أيضا، والمراد بالقرء في الآية عند الشافعي الانتقال من الطهر إلى الحيض في قول قوي له، أو الطهر المنتقل منه كما في المشهور وهو المروي عن عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت وخلق كثير لا الحيض، واستدلوا على ذلك بمعقول ومنقول وأما الأول: فهو أن المقصود من العدة براءة الرحم من ماء الزوج السابق والمعرف لبراءة الرحم هو الانتقال إلى الحيض لأنه يدل على انفتاح فم الرحم فلا يكون فيه العلوق لأنه يوجب انسداد فم الرحم عادة دون الحيض فإن الانتقال من الحيض إلى الطهر يدل على انسداد فم الرحم وهو مظنة العلوق فإذا جاء بعده الحيض علم عدم انسداده. وأما الثاني: فقوله تعالى: * (فطلقوهن لعدتهن) * (الطلاق: 1) واللام للتأقيت والتخصيص بالوقت فيفيد أن مدخوله وقت لما قبله كما في قوله تعالى: * (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) * (اونبياء: 47)، و * (أقم الصلاة لدلوك الشمس) * (ازسرار: 78) فيفيد أن العدة وقت الطلاق والطلاق
131

في الحيض غير مشروع لما أخرج الشيخان أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما طلق زوجته وهي حائض فذكر عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ ثم قال: " مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء " وهو أحد الأدلة أيضا على أن العدة بالأطهار، وذهب ساداتنا الحنفية إلى أن المراد بالقرء الحيض وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن وعكرمة وعمرو بن دينار وجم غفير، وكون الانتقال من الطهر إلى الحيض هو المعرف للبراءة إذا سلم معارض بأن سيلان الدم هو السبب للبراءة المقصودة ولا نسلم أن اعتبار المعرف أولى من اعتبار السبب وليس هذا من المكابرة في شيء على أن المهم في مثل هذه المباحث الأدلة النقلية، وفيما ذكروه منها بحث لأن لام التوقيت لا تقتضي أن يكون مدخولها ظرفا لما قبلها ففي الرضي إن اللام في نحو جئتك لغرة كذا هي المفيدة للاختصاص الذي هو أصلها، والاختصاص ههنا على ثلاثة أضرب: إما أن يختص الفعل بالزمان بوقوعه فيه نحو كتبته لغرة كذا، أو يختص به لوقوعه بعده نحو لليلة خلت، أو اختص به لوقوعه قبله نحو لليلة بقيت، فمع الإطلاق يكون الاختصاص لوقوعه فيه ومع قرينة نحو خلت يكون لوقوعه بعده ومع قرينة نحو بقيت لوقوعه قبله انتهى. وفيما نحن فيه قرينة تدل على كونه قبله لأن التطليق يكون قبل العدة لا مقارنا لها، ويؤيده قراءة النبي صلى الله عليه وسلم (في قبل عدتهن) ففي " الصحاح " القبل والقبل نقيض الدبر والدبر، ووقع السهم بقبل الهدف وبدبره - وقد قميصه من قبل ودبر - أي من مقدمه ومؤخره، ويقال أنزل بقبل هذا الجبل - أي بسفحه - فمعنى (في قبل عدتهن) في مقدم عدتهن وأمامها - كما يقتضيه ظاهر الأمثلة - وما ذكره من أن قبل الشيء أوله يرجع إلى هذا أيضا، وعلى تسليم عدم الرجوع يرجع المقدم على الأول بالتبادر وكثرة الاستعمال والتأييد يحصل بذلك المقدار، والحديث الذي أخرجه الشيخان مسلم لكن جعله دليلا على أن - العدة - هي الأطهار غير مسلم لأنه موقوف على جعل الإشارة للحالة التي هي الطهر، ولا يقوم عليه دليل فإن - اللام - في (يطلق لها النساء) كاللام في * (لعدتهن) * (الطلاق: 1) يجوز أن تكون بمعنى - في - وأن تكون بمعنى - قبل - فيجوز أن يكون المشار إليه الحيض، وأنث اسم الإشارة مراعاة للخبر كالضمير إذا وقع بين مرجع مذكر وخبر مؤنث فإن الأولى على ما عليه الأكثر مراعاة الخبر إذ ما مضى فات، والمعنى فتلك الحيض العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق قبلها النساء - لا أن يطلق فيها النساء - كما فهمه ابن عمر وأوقع الطلاق فيه، وقول الخطابي: " الأقراء التي تعتد بها المطلقة الأطهار (دون الحيض) لأنه ذكر (فتلك العدة) بعد الطهر " مجاب عنه بأن ذكره بعد الطهر لا يقتضي أن يكون مشارا إليه لجواز أن يكون ذكر الطهر للإشارة إلى أن الحيض المحفوف بالطهر يكون عدة، وحينئذ لا يحتاج ذكر الطهر الثاني إلى نكتة وهي أنه إذا راجعها في الطهر الأول بالجماع لم يكن طلاقها فيه للسنة فيحتاج للطهر الثاني ليصح فيه إيقاع الطلاق السني، وأن لا يكون الرجعة لغرض الطلاق فقط، وأن يكون كالتوبة عن المعصية باستبدال حاله، وأن يطول مقامه معها فلعله يجامعها فيذهب ما في نفسها من سبب الطلاق فيمسكها هذا ما يرجع إلى الدفع، وأما الاستدلال على أن القرء الحيض فهو ما أخرجه أبو داود والترمذي، وابن ماجه والدارقطني عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال: " طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان " فصرح بأن عدة الأمة حيضتان، ومعلوم أن الفرق بين الحرة والأمة باعتبار مقدار العدة لا في جنسها فيلتحق قوله تعالى: * (ثلاثة قروء) * للإجمال الكائن بالاشتراك بيانا به وكونه لا يقاوم ما أخرجه
132

الشيخان في قصة ابن عمر رضي الله تعالى عنه لضعفه لأن فيه مظاهرا ولم يعرف له سواه، لا يخلو عن بحث، أما أولا: فلما علمت أن ذلك الحديث ليس بنص في المدعى، وأما ثانيا: فلأن تعليل تضعيف مظاهر غير ظاهر، فإن ابن عدي أخرج له حديثا آخر ووثقه ابن حبان، وقال الحاكم: ومظاهر شيخ من أهل البصرة ولم يذكره أحد من متقدمي مشايخنا بجرح فإذا إن لم يكن الحديث صحيحا كان حسنا، ومما يصحح الحديث عمل العلماء على وفقه قال الترمذي عقيب روايته: حديث غريب والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وفي الدارقطني قال القاسم وسالم: وعمل به المسلمون، وقال مالك: شهرة الحديث تغني عن سنده كذا في " الفتح "، ومن أصحابنا من استدل بأنه لو كان المراد من القرء الطهر لزم إبطال موجب الخاص أعني لفظ (ثلاثة) فإنه حينئذ تكون العدة طهرين، وبعض الثالث في الطلاق المشهور ولايخفى أنه كأمثاله في هذا المقام ناشيء عن قلة التدبر فيما قاله الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه فلهذا اعترضوا به عليه لأنه إنما جعل القرء الانتقال من الطهر إلى الحيض، أو الطهر المنتقل منه لا الطهر الفاصل بين الدمين والانتقال المذكور، أو الطهر المنتقل منه تام على أن كون الثلاثة اسما لعدد كامل غير مسلم، والتحقيق فيه أنه إذا شرع في الثالث ساغ الإطلاق ألا تراهم يقولون هو ابن ثلاث سنين وإن لم تكمل الثالثة، وذلك لأن الزائد جعل فردا مجازا ثم أطلق على المجموع اسم العدد الكامل، ومن الشافعية من جعل القرء اسما للحيض الذي يحتوشه دمان وجعل إطلاقه على بعض الطهر وكله، كإطلاق الماء والعسل، قالوا: والاشتقاق مرشد إلى معنى الضم والاجتماع، وهذا الطهر يحصل فيه اجتماع الدم في الرحم وبعضه وكله في الدلالة على ذلك على السواء - وأطالوا الكلام في ذلك - والإمامية وافقوهم فيه واستدلوا عليه برواياتهم عن الأئمة والرواية عن علي كرم الله تعالى وجهه في هذا الباب مختلفة، وبالجملة كلام الشافعية في هذا المقام قوي كما لا يخفى على من أحاط بأطراف كلامهم واستقرأ ما قالوه وتأمل ما دفعوا به أدلة مخالفيهم وفي " الكشف " بعض الكشف وما في " الكشاف " غير شاف لبغيتنا، وهذا المقدار يكفي أنموذجا. هذا وكان القياس ذكر القرء بصيغة القلة التي هي الأقراء ولكنهم يتوسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من البناءين مكان الآخر ولعل النكتة المرجحة لاختياره ههنا أن المراد بالمطلقات ههنا جميع المطلقات ذوات الأقراء الحرائر وجميعها متجاوز فوق العشرة فهي مستعملة مقام جمع الكثرة ولكل واحدة منها ثلاثة أقراء فيحصل في الأقراء الكثرة فحسن أن يستعمل جمع الكثرة في تمييز الثلاثة تنبيها على ذلك وهذا كما استعمل (أنفسهن) مكان نفوسهن للإشارة إلى أن الطلاق ينبغي أن يقع على القلة
* (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله فيأرحامهن) * قال ابن عمر: الحمل والحيض أي لا يحل لها إن كانت حاملا أن تكتم حملها ولا إن كانت حائضا أن تكتم حيضها فتقول وهي حائض: قد طهرت وكن يفعلن الأول: لئلا ينتظر لأجل طلاقها أن تضع ولئلا يشفق الرجل على الولد فيترك تسريحها والثاني: استعجالا لمضي العدة وإبطالا لحق الرجعة وهذا القول هو المروي عن الصادق والحسن ومجاهد وغيرهم والقول - بأن الحيض غير مخلوق في الرحم بل هو خارج عنه - فلا يصح حمل (ما) على عمومها بل يتعين حملها على الولد وهو المروي عن ابن عباس وقتادة مدفوع بأن ذات الدم وإن كان غير مخلوق في الرحم لكن الاتصاف بكونه حيضا إنما يحصل له فيه، وما قيل: إن الكلام في المطلقات ذوات الأقراء فلا يحتمل خلق الولد في أرحامهن فيجب حمل (ما) على الحيض كما حكي عن عكرمة فمدفوع أيضا بأن تخصيص العام
133

وتقييد بدليل خارجي لا يقتضي اعتبار ذلك التخصيص أو التقييد في الراجع، واستدل بالآية على أن قولهما يقبل فيما خلق الله تعالى في أرحامهن إذ لولا قبول ذلك لما كان فائدة في تحريم كتمانهن، قال ابن الفرس: وعندي أن الآية عامة في جميع ما يتعلق بالفرج من بكارة وثيوبة وعيب لأن كل ذلك مما خلق الله تعالى في أرحامهن فيجب أن يصدقن فيه، وفيه تأمل:
* (إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر) * شرط لقوله تعالى: * (لا يحل) * لكن ليس الغرض منه التقييد حتى لو لم يؤمن كالكتابيات - حل لهن الكتمان - بل بيان منافاة الكتمان للإيمان وتهويل شأنه في قلوبهن، وهذه طريقة متعارفة يقال: إن كنت مؤمنا فلا تؤذ أباك، وقيل: إنه شرط جزاؤه محذوف - أي فلا يكتمن - وقوله سبحانه: * (لا يحل) * علة له أقيم مقامه، وتقدير الكلام: إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر لا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن لأنه لا يحل لهن وفيه: " أن لا يكتمن المقدر " إن كان نهيا يلزم تعليل الشيء بنفسه، وإن كان نفيا يكون مفاد الكلام تعليق عدم وقوع الكتمان في المستقبل بأيمانهم في الزمان الماضي وهو كما ترى
* (وبعولتهن) * أي أزواج المطلقات جمع - بعل - كعم وعمومة، وفحل وفحولة - والهاء - زائدة مؤكدة لتأنيث الجماعة، والأمثلة سماعية لا قياسية، لا يقال: كعب وكعوبة، قاله الزجاج. وفي " القاموس ": " البعل الزوج والأنثى - بعل وبعلة - والرب والسيد والمالك، والنخلة التي لا تسقى أو تسقى بماء المطر " وقال الراغب: - البعل - النخل الشارب بعروقه، عبر به عن الزوج لإقامته على الزوجة للمعنى المخصوص، وقيل: باعلها جامعها، وبعل الرجل إذا دهش فأقام كأنه النخل الذي لا يبرح، ففي اختيار لفظ - البعولة - إشارة إلى أن أصل الرجعة بالمجامعة، وجوز أن يكون - البعولة - مصدرا نعت به من قولك: بعل حسن البعولة - أي العشرة مع الزوجة - أو أقيم مقام المضاف المحذوف، أي وأهل بعولتهن
* (أحق بردهن) * إلى النكاح والرجعة إليهن، وهذا إذا كان الطلاق رجعيا للآية بعدها، فالضمير - بعد اعتبار القيد - أخص من المرجوع إليه، ولا امتناع فيه كما إذا كرر الظاهر، وقيل: بعولة المطلقات أحق بردهن وخصص بالرجعي، و * (أحق) * ههنا بمعنى - حقيق - عبر عنه بصيغة التفضيل للمبالغة، كأنه قيل: للبعولة حق الرجعة، أي حق محبوب عند الله تعالى بخلاف الطلاق فإنه مبغوض، ولذا ولد للتنفير عنه: " أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق " وإنما لم يبق على معناه من المشاركة والزيادة إذ لا حق للزوجة في الرجعة كما لا يخفى. وقرأ أبي * (بردتهن) * * (في ذالك) * أي زمان - التربص - وهو متعلق ب * (- أحق) * أو * (بردهن) * * (إن أرادوا إصل‍احا) * أي إن أراد البعولة بالرجعة إصلاحا لما بينهم وبينهن، ولم يريدوا الإضرار بتطويل العدة عليهن مثلا، وليس المراد من
التعليق اشتراط جواز الرجعة بإرادة الإصلاح حتى لو لم يكن قصده ذلك لا تجوز للإجماع على جوازها مطلقا، بل المراد تحريضهم على قصد الإصلاح حيث جعل كأنه منوط به ينتفي بانتفائه
* (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) * فيه صنعة الاحتباك، ولا يخفى لطفه فيما بين الزوج والزوجة حيث حذف في الأول بقرينة الثاني، وفي الثاني بقرينة الأول كأنه قيل: ولهن عليهم مثل الذي لهم عليهن، والمراد - بالمماثلة - المماثلة في الوجوب - لا في جنس الفعل - فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له أن يفعل لها مثل ذلك، ولكن يقابله بما يليق بالرجال، أخرج الترمذي وصححه، والنسائي وابن ماجه
134

عن عمرو بن الأحوص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ألا إن لكم على نسائكم حقا، ولنسائكم عليكم حقا، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم من تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن " وأخرج وكيع وجماعة عن أنس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: " إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين المرأة لي، لأن الله تعالى يقول: * (ولهن) * الآية، وجعلوا ما يجب لهن عدم العجلة إذا جامع حتى تقضي حاجتها. والمجرور الأخير متعلق بما تعلق به الخبر، وقيل: صفة ل‍ * (مثل) * وهي لا تتعرف بالإضافة
* (وللرجال عليهن درجة) * زيادة في الحق لأن حقوقهم في أنفسهن، فقد ورد أن النكاح كالرق أو شرف فضيلة لأنهم قوام عليهن وحراس لهن، يشاركوهن في غرض الزواج من التلذذ وانتظام مصالح المعاش، ويخصون بشرف يحصل لهم لأجل الرعاية والإنفاق عليهن. - والدرجة - في الأصل - المرقاة - ويقال فيها: (درجة) كهمزة وقال الراغب: - الدرجة - نحو المنزلة لكن تقال إذا اعتبرت بالصعود دون الامتداد على البسيط - كدرجة السطح والسلم - ويعبر بها عن المنزلة الرفيعة، ومنه الآية فهي على التوجيهين مجاز. وفي " الكشف ": إن أصل التركيب لمعنى الأناة والتقارب على مهل من - درج الصبي إذا حبا - وكذلك الشيخ والمفيد لتقارب خطوهما - والدرجة - التي يرتقي عليها لأن الصعود ليس في السهولة كالانحدار والمشيء على مستو، فلا بد من تدرج - والدرج - المواضع التي يمر عليها السيل شيئا فشيئا، ومنه التدرج في الأمور، والاستدراج من الله، والدركة هي الدرجة بعينها لكن في الانحدار - والرجال - جمع رجل، وأصل الباب القوة والغلبة وأتى بالمظهر بدل المضمر للتنويه بذكر - الرجولية - التي بها ظهرت المزية للرجال على النساء * (والله عزيز) * غالب لا يعجزه الانتقام ممن خالف الأحكام * (حكيم) * عالم بعواقب الأمور والمصالح التي شرع ما شرع لها، والجملة تذييل للترهيب والترغيب.
* (الطل‍اق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحس‍ان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ ءاتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأول‍ائك هم الظ‍المون) *
* (الطل‍اق مرتان) * إشارة إلى الطلاق المفهوم من قوله تعالى: * (وبعولتهن أحق بردهن) * (البقرة: 228) وهو الرجعي وهو بمعنى التطليق الذي هو فعل الرجل - كالسلام بمعنى التسليم - لأنه الموصوف بالوحدة والتعدد دون ما هو وصف المرأة، ويؤيد ذلك ذكر ما هو من فعل الرجل أيضا بقوله تعالى: * (فإمساك بمعروف) * أي بالرجعة وحسن المعاشرة * (أو تسريح بإحس‍ان) * أي إطلاق مصاحب له من جبر الخاطر وأداء الحقوق، وذلك إما بأن لا يراجعها حتى تبين، أو يطلقها الثالثة - وهو المأثور - فقد أخرج أبو داود وجماعة عن أبي رزين الأسدي أن رجلا قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أسمع الله تعالى يقول: * (الطلاق مرتان) * فأين الثالث؟ فقال: " التسريح بإحسان هو الثالثة " وهذا يدل على أن معنى (مرتان) اثنتان، ويؤيد العهد - كالفاء - في الشق الأول فإن ظاهرها التعقيب بلا مهلة، وحكم الشيء يعقبه بلا فصل، وهذا هو الذي حمل عليه الشافعية الآية، ولعله أليق بالنظم حيث قد انجر ذكر اليمين إلى ذكر الإيلاء الذي هو طلاق، ثم انجر ذلك إلى ذكر حكم المطلقات من العدة والرجعة، ثم انجر ذلك إلى ذكر أحكام الطلاق المعقب للرجعة، ثم انجر ذلك إلى بيان الخلع والطلاق الثلاثة - وأوفق بسبب النزول - فقد أخرج مالك، والشافعي، والترمذي رضي الله تعالى عنهما وغيرهم عن عروة قال: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك له وإن طلقها
135

ألف مرة، فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا ما شارفت انقضاء عدتها ارتجعها ثم طلقها؛ ثم قال: والله لا آويك إلي ولا تخلين أبدا، فأنزل الله تعالى الآية، والذي دعاهم إلى ذلك قولهم إن جمع الطلقات الثلاث غير محرم وأنه لا سنة في التغريق كما في " تحفتهم "، واستدلوا عليه بأن - عويمرا العجلاني - لما لاعن امرأته طلقها ثلاثا قبل أن يخبره صلى الله عليه وسلم بحرمتها عليه - رواه الشيخان - فلوحرم لنهاه عنه لأنه أوقعه معتقدا بقاء الزوجية، ومع اعتقادها يحرم الجمع عند المخالف، ومع الحرمة يجب الإنكار على العالم وتعليم الجاهل، ولم يوجدا فدل على أنه لا حرمة وبأنه قد فعله جمع من الصحابة وأفتى به آخرون، وقال ساداتنا الحنفية: إن الجمع بين التطليقتين والثلاث بدعة، وإنما السنة التفريق لما روي في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: " إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها لكل قرء تطليقة " فإنه لم يرد صلى الله عليه وسلم من السنة أنه يستعقب الثواب لكونه أمرا مباحا في نفسه لا مندوبا بل كونه من الطريقة المسلوكة في الدين - أعني ما لا يستوجب عقابا - وقد حصره عليه الصلاة والسلام على التفريق فعلم أن ما عداه من الجمع والطلاق في الحيض بدعة - أي موجب لاستحقاق العقاب - وبهذا يندفع ما قيل: إن الحديث إنما يدل على أن جمع الطلقتين أو الطلقات في طهر واحد ليس سنة، وأما إنه بدعة فلا لثبوت الواسطة عند المخالف، ووجه الدفع ظاهر كما لا يخفى وفي " الهداية " " وقال الشافعي: كل الطلاق مباح لأنه تصرف مشروع حتى يستفاد به الحكم (و) المشروعية لا تجامع الحظر بخلاف الطلاق في (حالة) (2) الحيض لأن المحرم تطويل العدة عليها لا الطلاق ولنا أن الأصل في الطلاق هو الحظر لما فيه من قطع النكاح الذي تعلقت به المصالح الدينية والدنيوية والإباحة للحاجة إلى الخلاص، ولا حاجة إلى الجمع بين الثلاث، وهي في المفرق على - الأطهار - ثابتة نظرا إلى دليلها، والحاجة في نفسها باقية
فأمكن تصوير الدليل عليها، والمشروعية في ذاته من حيث إنه إزالة الرق لا تنافي الحظر لمعنى في غيره - وهو ما ذكرناه " - انتهى. ومنه يعلم أن المخالف معمم - لا مقسم - وإذا قلنا إنه مقسم بناءا على ما فيه كتب بعض مذهبه فغاية ما أثبت أن الجمع خلاف الأولى من التفريق على الأقراء أو الأشهر، وقد علمت أن تقسيم أبي القاسم صلى الله عليه وسلم غير تقسيمه، وأجيب عما في خبر عويمر بأنها واقعة حال - فلعلها من المستثنيات - لما أن مقام اللعان ضيق فيغتفر فيه مثل ذلك ويعذر فيه الغيور؛ وإعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما وحملوا الآية على أن المراد التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق لما أن وظيفة الشارع بيان الأمور الشرعية واللام ليست نصا في العهد بل الظاهر منها الجنس وأيضا تقييد الطلاق بالرجعي يدع ذكر الرجعة بقوله سبحانه: * (فإمساك بمعروف) * كرارا إلا أن يقال المطلوب ههنا الحكم المردد بين الإمساك والتسريح، وأيضا لا يعلم على ذلك الوجه حكم الطلاق الواحد إلا بدلالة النص، وهذا الوجه مع كونه أبعد عن توهم التكرار ودلالته على حكم الطلاق الواحد بالعبارة يفيد حكما زائدا وهو التفريق، ودلالة الآية حينئذ على ما ذهبوا إليه ظاهرة إذا كان معنى مرتين مجرد التكرير دون التثنية على حد * (ثم ارجع البصر كرتين) * (الملك: 4) أي كرة بعد كرة لا كرتين ثنتين إلا أنه يلزم عله إخراج التثنية عن معناها الظاهر، وكذا إخراج - الفاء - أيضا وجعل ما بعدها حكما مبتدأ وتخييرا مطلقا عقيب تعليمهم كيفية التطليق وليس مرتبا على الأول ضرورة أن التفريق المطلق لا يترتب عليه أحد الأمرين لأنه إذا كان بالثلاث لا يجوز بعده الإمساك ولا التسريح وتحمل - الفاء - حينئذ على التركيب الذكري - أي إذا علمتم كيفية الطلاق فاعلموا أن حكمه الإمساك أو التسريح - فالإمساك في الرجعي والتسريح في غيره، وإذا كان معنى - مرتين - التفريق مع التثنية كما قال به المحققون - بناءا على أنه حقيقة في الثاني ظاهر في الأول إذ لا يقال لمن دفع إلى آخر درهمين مرة واحدة أنه أعطاه مرتين حتى يفرق بينهما وكذا لمن طلق زوجته ثنتين دفعة أنه طلق مرتين - اندفع حديث ارتكاب خلاف الظاهر في التثنية كما هو ظاهر، وفيما بعدها أيضا لصحة الترتب ويكون عدم جواز الجمع بين التطليقتين مستفادا من * (مرتان) * الدالة على التفريق والتثنية. وعدم الجمع بين الثالثة مستفادا من قوله سبحانه: * (أو تسريح) * حيث رتب على ما قبله بالفاء قيل: إنه مستفاد من دلالة النص هذا، ثم من أوجب التفريق ذهب إلى أنه لو طلق غير مفرق وقع طلاقه وكان عاصيا، وخالف في ذلك الإمامية وبعض من أهل السنة - كالشيخ أحمد بن تيمية ومن اتبعه - قالوا: لو طلق ثلاثا بلفظ واحد لا يقع إلا واحدة احتجاجا بهذه الآية وقياسا على شهادات اللعان ورمي الجمرات فإنه لو أتى بالأربع بلفظ واحد لا تعد له أربعا بالإجماع وكذا لو رمى بسبع حصيات دفعة واحدة لم يجزه إجماعا، ومثل ذلك ما لو حلف ليصلين على النبي صلى الله عليه وسلم ألف مرة فقال صلى الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم ألف مرة فإنه لا يكون بارا ما لم يأت بآحاد الألف، وتمسكا بما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وسنيتين من خلافة عمر واحدة فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه.
وذهب بعضهم إلى أن مثل ذلك ما لو طلق في مجلس واحد ثلاث مرات فإنه لا يقع إلا واحدة أيضا لما أخرج البيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: " طلق ركانة امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف طلقتها؟ قال: طلقتها ثلاثا قال: في مجلس واحد؟ قال: نعم قال: فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت فراجعها " والذي عليه أهل الحق اليوم خلاف ذلك كله.
والجواب عن الاحتجاج بالآية أنها كما علمت ليست نصا في المقصود، وأما الحديث فقد أجاب عنه جماعة قال السبكي: وأحسن الأجوبة أنه فيمن يعرف اللفظ فكانوا أولا يصدقون في إرادة التأكيد لديانتهم فلما كثرت الأخلاط فيهم اقتضت المصلحة عدم تصديقهم وإيقاع الثلاث، واعترضه العلامة ابن حجر قائلا: إنه عجيب فإن صريح مذهبنا تصديق مريد التأكيد بشرطه وإن بلغ في الفسق ما بلغ، ثم نقل عن بعض المحققين أن أحسنها أنهم كانوا يعتادونه طلقة ثم في زمن عمر رضي الله تعالى عنه استعجلوا وصاروا يوقعونه ثلاثا فعاملهم بقضيته وأوقع الثلاث عليهم، فهو إخبار عن اختلاف عادة الناس لا عن تغيير حكم في مسألة، واعترض عليه بعدم مطابقته للظاهر المتبادر من كلام عمر لا سيما مع قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الثلاث الخ، فهو تأويل بعيد لا جواب حسن فضلا عن كونه أحسن، ثم قال: والأحسن عندي أن يجاب بأن عمر رضي الله تعالى عنه لما استشار الناس علم فيه ناسخا لما وقع قبل فعمل بقضيته وذلك الناسخ إما خبر بلغه أو إجماع وهو لا يكون إلا عن نص، ومن ثم أطبق علماء الأمة عليه، وأخبار ابن عباس لبيان أن الناسخ إنما عرف بعد مضي مدة من وفاته صلى الله عليه وسلم انتهى، وأنا أقول الطلاق الثلاث في كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يحتمل أن يكون بلفظ واحد، وحينئذ يكون الاستدلال به على المدعي ظاهرا، ويؤيد هذا الاحتمال ظاهرا ما أخرجه أبو داود عنه إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق ثلاثا بفم واحدة فهي واحدة وحينئذ يجاب بالنسخ، ويحتمل أن يكون بألفاظ ثلاثة في مجلس واحد مثل أنت طالق أنت طالق أنت طالق، ويحمل ما أخرجه أبو داود على هذا بأن
136

يكون ثلاثا متعلقا - بقال - لا صفة لمصدر محذوف أي طلاقا ثلاثا ولا تمييز للإبهام الذي في الجملة قبله؛ وبفم واحدة معناه متتابعا وحينئذ يوافق الخبر بظاهره أهل القول الأخير، ويجاب عنه بأن هذا في الطلاق قبل الدخول فإنه كذلك لا يقع إلا واحدة كما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه لأن البينونة وقعت بالتطليقة الأولى فصادفتها الثانية وهي مبانة، ويدل على ذلك ما أخرجه أبو داود، والبيهقي عن طاوس أن رجلا يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس قال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرا من إمارة عمر فلما رأى الناس قد تتايعوا فيها قال: أجيزوهن عليهم، وهذه مسألة اجتهادية كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرو في الصحيح أنها رفعت إليه فقال فيها شيئا، ولعلها كانت تقع في المواضع النائية في آخر أمره صلى الله عليه وسلم فيجتهد فيها من أوتي علما فيجعلها واحدة؛ وليس في كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تصريح بأن
الجاعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل في قوله جعلوها واحدة إشارة إلى ما قلنا، وعمر رضي الله تعالى عنه بعد مضي أيام من خلافته ظهر له بالاجتهاد أن الأولى القول بوقوع الثلاث لكنه خلاف مذهبنا، وهو مذهب كثير من الصحابة حتى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقد أخرج مالك، والشافعي، وأبو داود، والبيهقي عن معاوية بن أبي عياش أنه كان جالسا مع عبد الله بن الزبير، وعاصم بن عمر فجاءهما محمد بن أبي إياس بن البكير فقال إن رجلا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها فماذا تريان؟ فقال ابن الزبير: إن هذا الأمر ما لنا فيه قول اذهب إلى ابن عباس، وأبي هريرة فإني تركتهما عند عائشة فسألهما فذهب فسألهما فقال ابن عباس لأبي هريرة أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة فقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: الواحدة تبينها والثلاثة تحرمها حتى تنكح زوجا غيره، وقال ابن عباس مثل ذلك، وإن حملت الثلاث في هذا الخبر على ما كان بلفظ واحد لئلا يخالف مذهب الإمام فإن عنده إذا طلق الرجل امرأته الغير المدخول بها ثلاثا بلفظ واحد وقعن عليها لأن الواقع مصدر محذوف لأن معناه طلاقا بائنا، فلم يكن أنت طالق إيقاعا على حدة فيقعن جملة، كان هذا الخبر معارضا لما رواه مسلم مؤيدا للنسخ كالخبر الذي أخرجه الطبراني والبيهقي عن سويد بن غفلة قال: " كانت عائشة الخثعمية عند الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما فقال لها: قتل علي كرم الله وجهه قالت: لتهنك الخلافة قال: يقتل علي وتظهرين الشماتة اذهبي فأنت طالق ثلاثا قال: فتلفعت بثيابها وقعدت حتى قضت عدتها فبعث إليها ببقية بقيت لها من صداقها وعشرة آلاف صدقة فلما جاءها الرسول قالت: متاع قليل من حبيب مفارق فلما بلغه قولها بكى ثم قال: لولا أني سمعت جدي - أو حدثني - أبي أنه سمع جدي يقول أيما رجل طلق امرأته ثلاثا عند الأقراء أو ثلاثا مبهمة لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره لراجعتها "، وما أخرجه ابن ماجه عن الشعبي قال: " قلت لفاطمة بنت قيس حديثيني عن طلاقك قالت: طلقني زوجي ثلاثا وهو خارج إلى اليمن فأجاز ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وأما حديث ركانة فقد روي على أنحاء، والذي صح ما أخرجه الشافعي، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، والبيهقي " أن ركانة طلق امرأته ألبتة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وقال: والله ما أردت إلا واحدة فقال صلى الله عليه وسلم: والله ما أردت
137

إلا واحدة؟ فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة قال: هو ما أردت فردها عليه " وهذا لا يصلح دليلا لتلك الدعوى لأن الطلاق فيه كناية ونية العدد فيها معتبرة، وقد يستدل به على صحة وقوع الثلاث بلفظ واحد لأنه دل على أنه لو أراد ما زاد على الواحدة وقع وإلا لم يكن للاستحلاف فائدة والقياس على شهادات اللعان ورمي الجمرات قياس في غير محله، ألا ترى أنه لا يمكن الاكتفاء ببعض ذلك بوجه ويمكن الاكتفاء ببعض وحدات الثلاث في الطلاق وتحصل به البينونة بانقضاء العدة ويتم الغرض إجماعا، ولعظم أمر اللعان لم يكتف فيه إلا بالاتيان بالشهادات واحدة واحدة مؤكدات بالأيمان مقرونة، خامستها باللعن في جانب الرجل لو كان كاذبا وفي جانبها بالغضب لو كان صادقا فلعل الرجوع أو الإقرار يقع في البين فيحصل الستر أو يقام الحد ويكفر الذنب، وأيضا الشهادات الأربع من الرجل منزلة منزلة الشهود الأربعة المطلوبة في رمي المحصنات مع زيادة كما يشير إليه قوله تعالى: * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم) * (النور: 4) مع قوله سبحانه بعده: * (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات) * (النور: 6) الخ فكما أن - شهادة الشهود - متعددة لا يكفي فيها اللفظ الواحد كذلك المنزل منزلتها، ورمي الجمرات وتسبيعها أمر تعبدي وسره خفي فيحتاط له ويتبع المأثور فيه حذو القذة بالقذة، وباب الطلاق ليس كهذين البابين على أن من الاحتياط فيه أن نوقعه ثلاثا بلفظ واحد ومجلس واحد، ولا نلغي فيه لفظ الثلاث التي لم يقصد بها إلا إيقاعه على أتم وجه وأكمله، وما ذكر في مسألة الحلف على أن لا يصلين ألف مرة من أنه لا يبر ما لم يأت بآحاد الألف فأمر اقتضاه القصد والعرف، وذلك وراء ما نحن فيه كما لا يخفى، ولهذا ورد عن أهل البيت ما يؤيد مذهب أهل السنة فقد أخرج البيهقي عن بسام الصيرفي قال: " سمعت جعفر بن محمد يقول من طلق امرأته ثلاثا بجهالة أو علم فقد برئت "، وعن مسلمة بن جعفر الأحمس قال: " قلت لجعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما يزعمون أن من طلق ثلاثا بجهالة رد إلى السنة يجعلونه واحدة يروونها عنكم؟ قال: معاذ الله ما هذا من قولنا من طلق ثلاثا فهو كما قال "، وقد سمعت ما رويناه عن الحسن؛ وما أخذ به الإمامية يروونه عن علي كرم الله تعالى وجهه مما لا ثبت له والأمر على خلافه، وقد افتراه على علي كرم الله تعالى وجهه شيخ بالكوفة وقد أقر بالافتراء لدى الأعمش رحمه الله تعالى فليحفظ ما تلوناه فإني لا أظنك تجده مسطورا في كتاب.
* (ولا يحل لكم أن تأخذوا) * في مقابلة الطلاق * (ممآ اتيتموهن) * أي من الصدقات فإن ذلك مناف للإحسان ومثلها في الحكم سائر أموالهن إلا أن التخصيص إما لرعاية العادة أو للتنبيه على أن عدم حل الأخذ مما عدا ذلك من باب الأولى، والجار والمجرور يحتمل أن يكون متعلقا بما عنده أو حال من * (شيئا) * لأنه لو أخر عنه كان صفة له، والتنوين للتحقير، والخطاب مع الحكام، وإسناد الأخذ والإيتاء إليهم لأنهم الآمرون بهما عند الترافع، وقيل: إنه خطاب للأزواج، ويرد عليه أن فيه تشويشا للنظم الكريم لأن قوله تعالى: * (إلا أن يخافا) * أي الزوجان كلاهما أو أحدهما * (ألا يقيما حدود الله) * بترك إقامة مواجب الزوجية غير منتظم معه لأن المعبر عنه في الخطاب الأزواج فقط، وفي الغيبة الأزواج والزواجات ولا يمكن حمله على الالتفات إذ من شرطه أن يكون المعبر عنه في الطريقين واحدا، وأين هذا الشرط نعم لهذا القيل وجه صحة لكنها لا تسمن ولا تغني، وهو أن الاستثناء لما كان بعد مضي جملة الخطاب من أعم الأوال أو الأوقات "
139

أو المفعول له على أن يكون المعنى بسبب من الأسباب إلا بسبب الخوف جاز تغيير الكلام من الخطاب إلى الغيبة لنكتة وهي أن لا يخاطب مؤمن بالخوف من عدم إقامة حدود الله، وقرىء * (تخافا) * و * (تقيما) * بتاء الخطاب وعليها يهون الأمر فإن في ذلك حينئذ تغليب المخاطبين على الزوجات الغائبات، والتعبير بالتثنية باعتبار الفريقين، وقرأ حمزة ويعقوب * (يخافا) * على البناء للمفعول وإبدار * (أن) * بصلته من - ألف الضمير - بدل اشتمال كقولك: خيف زيد تركه حدود الله ويعضده قراءة عبد الله * (إلا أن تخافوا) * وقال ابن عطية: عدى (خاف) إلى مفعولين أحدهما أسند إليه الفعل، والآخر: بتقدير حرف جر محذوف فموضع * (أن) * جر بالجار المقدر، أو نصب على اختلاف الرأيين ورده في " البحر " بأنه لم يذكره النحويون حين عدوا ما يتعدى إلى اثنين، وأصل أحدهما: بحرف الجر، وفي قراءة
أبي * (إلا أن يظنا) * وهو يؤيد تفسير - الظن بالخوف -
* (فإن خفتم) * خطاب للحكام لا غير لئلا يلزم تغيير الأسلوب قبل مضي الجملة * (ألا يقيما حدود الله) * التي حدها لهم. * (فلا جناح عليهما) * أي الزوجين، وهذا قائم مقام الجواب أي فمروهما فإنه لا جناح * (فيما افتدت به) * نفسها واختلعت لا على الزوج في أخذه ولا عليها في إعطائه إياه، أخرج ابن جرير عن عكرمة أنه سئل هل كان للخلع أصل؟ قال: كان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول: إن أول خلع كان في الإسلام في أخت عبد الله بن أبي امرأة ثابت بن قيس: " أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدا إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها قال زوجها: يا رسول الله إني أعطيتها أفضل مالي حديقة لي فإن ردت علي حديقتي قال: ما تقولين؟ قالت: نعم وإن شاء زدته قال: ففرق بينهما " وفي رواية البخاري: - أن المرأة اسمها جميلة وأنها بنت عبد الله المنافق - وهو الذي رجحه الحفاظ وكون اسمها زينب جاء من طريق الدارقطني قال الحافظ ابن حجر: فلعل لها اسمين أو أحدهما لقب وإلا فجميلة أصح، وقد وقع في حديث آخر أخرجه مالك، والشافعي، وأبو داود أن اسم امرأة ثابت حبيبة بنت سهل، قال الحافظ: والذي يظهر أنهما قضيتان وقعتا له في امرأتين لشهرة الحديثين وصحة الطريقين واختلاف السياقين * (تلك حدود الله) * إشارة إلى ما حد من الأحكام من قوله سبحانه: * (الطلاق مرتان) * إلى هنا فالجملة فذلكة لذلك أوردت لترتيب النهي عليها * (فلا تعتدوها) * بالمخالفة والرفض * (ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظ‍المون) *. تذييل للمبالغة في التهديد والواو للاعتراض وفي إيقاع الظاهر موقع المضمر ما لا يخفى من إدخال الروعة وتربية المهابة، وظاهر الآية يدل على أن الخلع لا يجوز من غير كراهة وشقاق لأن نفي الحل الذي هو حكم العقد في جميع الأحوال إلا حال الشقاق يدل على فساد العقد وعدم جوازه ظاهرا إلا أن يدل الدليل على خلاف الظاهر، وعلى أنه لا يجوز أن يكون بجميع ما ساق الزوج إليها فضلا عن الزائد لأن - من - في * (مما آتيتموهن) * تبعيضية فيكون مفاد الاستثناء حل أخذ شيء مما آتيتموهن حين الخوف، وأما كلمة (ما) في قوله سبحانه: * (فيما افتدت) * فليست ظاهرة في العموم حتى ينافي ظهور الآية في الحكم المذكور بل فاء التفسير في * (فإن خفتم) * يدل ظاهرا على أنه بيان للحكم المفهوم بطريق المخالفة عن الاستثناء، وفائدته التنصيص على الحكم ونفي الجناح في هذا العقد فإن ثبوت الحل المستفاد من الاستثناء قد يجامع الجناح بأن يكون مع الكراهة، نعم تحتمل العموم فلا تكون نصا في عدم جواز
140

الخلع بجميع ما يساق، ولهذا قال عمر رضي الله تعالى عنه: اخلعها ولو بقرطها، ويؤيد الأول: ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ثوبان قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة " وقال: " المختلعات هي المنافقات " ويؤيد الثاني: ما روي من بعض الطرق أنه صلى الله عليه وسلم قال لجميلة: " أتردين عليه حديقته؟ فقالت: أردها وأزيد عليها فقال صلى الله عليه وسلم: أما الزائد فلا " وهذا وإن دل على نفي الزيادة دون جميع المهر إلا أنه يستفاد منه أن فيما افتدت به ليس على عمومه فيكون المراد به ما يستفاد من الاستثناء وهو البعض، وأكثر الفقهاء على أن الخلع بلا شقاق وبجميع ما ساق مكروه لكنه نافذ لأن أركان العقد من الإيجاب والقبول وأهلية العاقدين مع التراضي متحقق والنهي لأمر مقارن كالبيع وقت النداء وهو لا ينافي الجواز، وعلى أنه يصح بلفظ المفادات لأنه تعالى سمى الاختلاع افتداءا، واختلف في أنه إذا جرى بغير لفظ الطلاق فسخ أو طلاق [بم ومن جعله فسخا احتج بقوله تعالى:
* (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهمآ أن يتراجعآ إن ظنآ أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون) *
* (فإن طلقها) * فإن تعقيبه للخلع بعد ذكر الطلقتين يقتضي أن يكون طلقة رابعة لو كان الخلع طلاقا، والأظهر أنه طلاق وإليه ذهب أصحابنا وهو قول للشافعية لأنه فرقة باختيار الزوج فهو كالطلاق بالعوض فحينئذ يكون * (فإن طلقها) * متعلقا بقوله سبحانه * (الطلاق مرتان) * (البقرة: 229) تفسيرا لقوله تعالى: * (أو تسريح بإحسان) * لا متعلقا بآية الخلع ليلزم المحذور، ويكون ذكر الخلع اعتراضا لبيان أن الطلاق يقع مجانا تارة وبعوض أخرى، والمعنى فإن طلقها بعد الثنتين أو بعد الطلاق الموصوف بما تقدم. * (فلا تحل له من بعد) * أي من بعد ذلك التطليق * (حتى تنكح زوجا غيره) * أي تتزوج زوجا غيره، ويجامعها فلا يكفي مجرد العقد كما ذهب إليه ابن المسيب وخطؤه لأن العقد فهم من (زوجا)، والجماع من (تنكح)، وبتقدير عدم الفهم، وحمل النكاح على العقد تكون الآية مطلقة إلا أن السنة قيدتها فقد أخرج الشافعي وأحمد والبخاري ومسلم وجماعة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: " جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني كنت عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي فتزوجني عبد الرحمن بن الزبير وما معه إلا مثل هدبة الثوب فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " وعن عكرمة أن هذه الآية نزلت في هذه المرأة واسمها عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك وكان نزل فيها * (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) * فيجامعها فإن طلقها بعدما جامعها فلا جناح عليهما أن يتراجعا، وفي ذلك دلالة على أن الناكح الثاني لا بد أن يكون زوجا فلو كانت أمة وطلقت ألبتة ثم وطئها سيدها لا تحل للأول. وعلى أنه لو اشتراها الزوج من سيدها أو وهبها سيدها له بعد أن بت طلاقها لم يحل له وطؤها في الصورتين بملك اليمين حتى تنكح زوجا غيره وعلى أن الولي ليس شرطا في النكاح لأنه أضاف العقد إليها، والحكمة في هذا الحكم ردع الزوج عن التسرع إلى الطلاق لأنه إذا علم أنه إذا بت الطلاق لا تحل له حتى يجامعها رجل آخر. ولعله عدوه ارتدع عن أن يطلقها ألبتة لأنه وإن كان جائزا شرعا لكن تنفر عنه الطباع وتأباه غيرة الرجال.
والنكاح بشرط التحليل فاسد عند مالك وأحمد والثوري والظاهرية وكثيرين، واستدلوا على ذلك بما أخرجه ابن ماجه والحاكم وصححه والبيهقي عن عقبة بن عامر قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له " وأخرج عبد الرزاق عن
عمر رضي الله تعالى عنه قال: " لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما "، والبيهقي عن سليمان بن يسار " أن عثمان
141

رضي الله تعالى عنه رفع إليه رجل تزوج امرأة ليحللها لزوجها ففرق بينهما، وقال: لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة "، وعندنا هو مكروه والحديث لا يدل على عدم صحة النكاح لما أن المنع عن العقد لا يدل على فساده، وفي تسمية ذلك محللا ما يقتضي الصحة لأنها سبب الحل، وحمل بعضهم الحديث على من اتخذه تكسبا أو على ما إذا شرط التحليل في صلب العقد لا على من أضمر ذلك في نفسه فإنه ليس بتلك المرتبة بل قيل: إن فاعل ذلك مأجور.
* (فإن طلقها) * الزوج الثاني * (فلا جناح عليهما) * أي على الزوج الأول والمرأة * (أن يتراجعا) * أن يرجع كل منهما إلى صاحبه بالزواج بعد مضي العدة * (إن ظنا أن يقيما حدود الله) * إن كان في ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية التي حدها الله تعالى وشرعها وتفسير الظن بالعلم ههنا قيل: غير صحيح لفظا ومعنى، أما معنى فلأنه لا يعلم ما في المستقبل يقينا في الأكثر، وأما لفظا فلأن (إن المصدرية للتوقع وهو ينافي العلم، ورد بأن المستقبل قد يعلم ويتيقن في بعض الأمور وهو يكفي للصحة، وبأن سيبويه أجاز - وهو شيخ العربية - ما علمت إلا أن يقوم زيد والمخالف له فيه أبو علي الفارسي، ولا يخفى أن الاعتراض الأول فيما نحن فيه مما لا يجدي نفعا لأن المستقبل وإن كان قد يعلم في بعض الأمور إلا أن ما هنا ليس كذلك وليس المراجعة مربوطة بالعلم بل الظن يكفي فيها * (وتلك) * إشارة إلى الأحكام المذكورة إلى هنا * (حدود الله) * أي أحكامه المعينة المحمية من التعرض لها بالتغيير والمخالفة * (يبينها) * بهذا البيان اللائق، أو سيبينها بناءا على أن بعضها يلحقه زيادة كشف في الكتاب والسنة، والجملة خبر على رأي من يجوزه في مثل ذلك، أو حال من * (حدود الله) * والعالم معنى الإشارة، وقرىء * (نبينها) * بالنون على الالتفات * (لقوم يعلمون) * أي يفهمون ويعملون بمقتضى العلم فهو للتحريض على العمل - كما قيل - أو لأنهم المنتفعون بالبيان، أو لأن ما سيلحق بعض الحدود منه لا يعقله إلا الراسخون، أو ليخرج غير المكلفين.
* (وإذا طلقتم النسآء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذالك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آي‍ات الله هزوا واذكروا نعمت الله عليكم ومآ أنزل عليكم من الكت‍ابوالحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شىء عليم) *
* (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن) * أي آخر عدتهن فهو مجاز من قبيل استعمال الكل في الجزء إن قلنا: إن الأجل حقيقة في جميع المدة - كما يفهمه كلام الصحاح - وهو الدائر في كلام الفقهاء، ونقل الأزهري عن الليث يدل على أنه حقيقة في الجزء الأخير، وكلا الاستعمالين ثابت في الكتاب الكريم، فإن كان من باب الاشتراك فذاك وإلا فالتجوز من الكل إلى الجزء الأخير أقوى من العكس - والبلوغ - في الأصل الوصول وقد يقال للدنو منه - وهو المراد في الآية - وهو إما من مجاز المشارفة أو الاستعارة تشبيها للمتقارب الوقوع بالواقع ليصح أن يرتب عليه.
* (فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف) * إذ لا إمساك بعد انقضاء الأجل لأنها حينئذ غير زوجة له ولا في عدته فلا سبيل له عليها - والإمساك - مجاز عن المراجعة لأنها سببه - والتسريح - بمعنى الإطلاق وهو مجاز عن الترك، والمعنى فراجعوهن من غير ضرار أو خلوهن حتى تنقضي عدتهن من غير تطويل، وهذا إعادة للحكم في صورة بلوغهن أجلهن اعتناءا لشأنه ومبالغة في إيجاب المحافظة عليه، ومن الناس من حمل - الإمساك بالمعروف - على عقد النكاح وتجديده مع حسن المعاشرة - والتسريح بالمعروف - على ترك العضل عن التزوج بآخر، وحينئذ لا حاجة إلى القول بالمجاز في * (بلغن) * ولا يخفى بعده عن سبب النزول، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي أن رجلا من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلق زوجته حتى إذا انقضت
142

عدتها إلا يومين أو ثلاثة راجعها ثم طلقها ففعل ذلك بها حتى مضت لها تسعة أشهر يضارها فأنزل الله تعالى هذه الآية * (ولا تمسكوهن ضرارا) * تأكيد للأمر - بالإمساك بالمعروف - وتوضيح لمعناه وهو أدل منه على الدوام والثبات؛ وأصرح في الزجر عما كانوا يتعاطونه، و (ضرارا) نصب على العلية أو الحالية أي لا ترجعوهن للمضارة أو مضارين، ومتعلق النهي القيد - واللام - في قوله تعالى: * (لتعتدوا) * متعلق ب * (ضرارا) * أي لتظلموهن بالإلجاء إلى الافتداء، واعترض بأن - الضرار - ظلم - والاعتداء - مثله فيؤول إلى: ولا تمسكوهن ظلما لتظلموا وهو كما ترى، وأجيب بأن المراد - بالضرار - تطويل المدة - وبالاعتداء - الإلجاء، فكأنه قيل: لا تمسكوهن بالتطويل لتلجئوهن إلى الاختلاع والظلم قد يقصد ليؤدي إلى ظلم آخر، والمشهور أن هذا الوجه متعين على الوجه الأول في * (ضرارا) * ولا يجوز عليه أن يكون هذا علة لما كان هو له إذ المفعول له لا يتعدد إلا بالعطف، أو على البدل - وهو غير ممكن لاختلاف الإعراب - ويجوز أن يكون كذلك على الوجه الثاني، وجوز تعلقه بالفعل مطلقا إذا جعلت - اللام - للعاقبة، ولا ضرر في تعدي الفعل إلى علة وعاقبة لاختلافهما وإن كانت - اللام - حقيقة فيهما على رأي.
* (ومن يفعل ذالك) * المذكور وما فيه من البعد للإيذان ببعد منزلته في الشر والفساد * (فقد ظلم نفسه) * بتعريضها للعذاب، أو بأن فوت على نفسه منافع الدين من الثواب الحاصل على حسن المعاشرة، ومنافع الدنيا من عدم رغبة النساء به بعد لاشتهاره بهذا الفعل القبيح * (ولا تتخذوا ءآي‍ات الله) * المنطوية على الأحكام المذكورة في أمر النساء أو جميع آياته وهذه داخلة فيها * (هزوا) * مهزوءا بها بأن تعرضوا عنها، وتتهاونوا في المحافظة عليها لقلة اكتراثكم بالنساء وعدم مبالاتكم بهن، وهذا نهي أريد به الأمر بضده، أي جدوا في الأخذ بها والعمل بما فيها وارعوها حق رعايتها. وأخرج ابن أبي عمرة وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: كان الرجل يطلق ثم يقول: لعبت ويعتق، ثم يقول: لعبت فنزلت، وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وصححه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث هزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة " وعن أبي الدرداء: " ثلاث اللاعب فيها كالجاد، النكاح والطلاق والعتاق " وعن عمر رضي الله تعالى عنه: " أربع مقفلات النذر والطلاق والعتق والنكاح ".
* (واذكروا نعمت الله عليكم) * أي قابلوها بالشكر والقيام بحقوقها - والنعمة - إما عامة فعطف * (وما أنزل عليكم) * عليها من عطف الخاص على العام، وإما أن تخص بالإسلام ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم وخصا بالذكر ليناسب ما سبقه، وليدل على أن ما كانوا عليه من الإمساك إضرارا من سنن الجاهلية المخالفة، كأنه لما قيل: جدوا في العمل بالآيات على طريق الكناية أكد ذلك بأنه شكر النعمة فقوموا بحقه، ويكون العطف تأكيدا على تأكيد لأن الإسلام ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم يشملان إنزال الكتاب والسنة - وهو قريب من عطف التفسير - ولا بأس أن يسمى عطف التقرير، قيل: ولو عمم النعمة لم يحسن موقعه هذا الحسن، ولا يخفى أنه في حيز المنع، والظرف الأول متعلق بمحذوف وقع حالا من نعمة أو صفة لها على رأي من يجوز حذف الموصول مع بعض الصلة، ويجوز أن يتعلق بنفسها إن أريد بها الإنعام لأنها اسم مصدر كنبات من أنبت ولا يقدح في عمله - تاء التأنيث - لأنه مبني عليها كما في قوله:
143

فلولا رجاء النصر منك وهيبة * عقابك قد كانوا لنا كالموارد
والظرف الثاني متعلق بما عنده وأتى به تنبيها للمأمورين وتشريفا لهم، و * (ما) * موصولة حذف عائدها من الصلة، و * (من) * في قوله تعالى: * (من الكت‍ابوالحكمة) * بيانية، والمراد بهما القرآن الجامع للعنوانين، أو القرآن والسنة، والإفراد بالذكر بعد الاندراج في المذكور إظهارا للفضل وإيماءا إلى أن الشرف وصل إلى غاية لا يمكن معها الاندراج، وذاك من قبيل:
فإن تفق الأنام وأنت منهم * فإن المسك بعض دم الغزال
* (يعظكم به) * أي: بما أنزل حال من فاعل * (أنزل) * أو من مفعوله، أو منهما معا، وجوز أن يكون * (ما) * مبتدأ وهذه الجملة خبره و * (من الكتاب) * حال من العائد المحذوف، وقيل: الجملة معترضة للترغيب والتعليل.
* (واتقوا الله) * في أوامره والقيام بحقوقه * (واعلموا أن الله بكل شييء عليم) * فلا يخفى عليه شيء مما تأتون وما تذرون فليحذر من جزائه وعقابه، أو أنه عليم بكل شيء فلا يأمر إلا بما فيه الحكمة والمصلحة فلا تخالفوه، وفي هذا العطف ما يؤكد الأوامر والأحكام السابقة، وليس هذا من التأكيد المقتضي للفصل، لأنه ليس إعادة لمفهوم المؤكد ولا متحدا معه.
* (وإذا طلقتم النسآء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذالك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الاخر ذالكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون) *
* (وإذا طلقتم النسآء فبلغن أجلهن) * أي انقضت عدتهن كما يدل عليه السياق. * (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) * أي لا تمنعوهن ذلك، وأصل العضل الحبس والتضييق، ومنه عضلت الدجاجة بالتشديد إذا نشبت بيضتها ولم تخرج، والفعل مثلث العين، واختلف في الخطاب فقيل - واختاره الإمام - أنه للأزواج المطلقين حيث كانوا يعضلون مطلقاتهم بعد مضي العدة ولا يدعونهن يتزوجن ظلما وقسرا لحمية الجاهلية، وقد يكون ذلك بأن يدس إلى من يخطبهن ما يخيفه أو ينسب إليهن ما ينفر الرجل من الرغبة فيهن، وعليه يحمل الأزواج على من يردن أن يتزوجنه، والعرب كثيرا ما تسمي الشيء باسم ما يؤول إليه، وقيل واختاره القاضي - إنه للأولياء فقد أخرج البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو داود وخلق كثير من طرق شتى عن معقل بن يسار قال: " كانت لي أخت فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقة، ولم يراجعها حتى انقضت العدة فهويها وهوته ثم خطبها مع الخطاب فقلت له: يا لكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها ثم جئت تخطبها، والله لا ترجع إليك أبدا وكان رجلا لا بأس به وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فعلم الله تعالى حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله تعالى هذه الآية، قال: ففي نزلت فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه " وفي لفظ " فلما سمعها معقل قال: سمعا لربي وطاعة ثم دعاه فقال: أزوجك وأكرمك " وعليه يحمل الأزواج على الذين كانوا أزواجا وخطاب التطليق حينئذ إما أن يتوجه لما توجه له هذا الخطاب ويكون نسبة التطليق للأولياء باعتبار التسبب كما يبنىء عنه التصدي للعضل، وإما أن يبقى على ظاهره للأزواج المطلقين ويتحمل تشتيت الضمائر اتكالا على ظهور المعنى، وقيل: - واختاره الزمخشري - إنه لجميع الناس فيتناول عضل الأزواج والأولياء جميعا، ويسلم من انتشار ضميري الخطاب والتفريق بين الإسنادين مع المطابقة لسبب النزول، وفيه تهويل أمر العضل بأن من حق الأولياء أن لا يحوموا حوله وحق الناس كافة أن ينصروا المظلوم، وجعل بعضهم الخطابات السابقة
144

كذلك، وذكر أن المباشرة لتوقفها على الشروط العقلية والشرعية توزعت بحسبها كما إذا قيل لجماعة معدودة أو غير محصورة: أدوا الزكاة وزوجوا الأكفاء وامنعوا الظلمة كان الكل مخاطبين والتوزع على ما مر، هذا وليس في الآية على أي وجه حملت دليل على أنه ليس للمرأة أن تزوج نفسها كما وهم ونهي الأولياء عن العضل ليس لتوقف صحة النكاح على رضاهم بل لدفع الضرر عنهن لأنهن وإن قدرن على تزويج أنفسهن شرعا لكنهن يحترزن عن ذلك مخافة اللوم والقطيعة أو مخافة البطش بهن، وفي إسناد النكاح إليهن إيماء إلى عدم التوقف وإلا لزم المجاز وهو خلاف الظاهر، وجوز في أن (ينكحن) وجهان: الأول: أنه بدل اشتمال من الضمير المنصوب قبله. والثاني: أن يكون على إسقاط الخافض والمحل إما نصب أو جر على اختلاف الرأيين.
* (إذا تراضوا) * ظرف - للا تعضلوا - والتذكير باعتبار التغليب والتقييد به لأنه المعتاد لا لتجويز المنع قبل تمام التراضي، وقيل ظرف لأن ينكحن. وقوله تعالى: * (بينهم) * ظرف للتراضي مفيد لرسوخه واستحكامه * (بالمعروف) * أي بما لا يكون مستنكرا شرعا ومروءة، والباء إما متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل * (تراضوا) * أو نعتا لمصدر محذوف أي تراضيا كائنا بالمعروف وإما بتراضوا أو بينكحن؛ وفي التقييد بذلك إشعار بأن المنع من التزوج بغير كفء أو بما دون مهر المثل ليس من باب العضل * (ذالك) * إشارة إلى ما فصل والخطاب للجمع على تأويل القبيل أو لكل واحد واحد أو أن الكاف تدل على خطاب قطع فيه النظر عن
المخاطب وحدة وتذكيرا وغيرهما. والمقصود الدلالة على حضور المشار إليه عند من خوطب للفرق بين الحاضر والمنقضي الغائب أو للرسول صلى الله عليه وسلم ليطابق ما في سورة الطلاق، وفيه إيذان بأن المشار إليه أمر لا يكاد يتصوره كل أحد بل لا بد لتصور ذلك من مؤيد من عند الله تعالى.
* (يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الأخر) * خصه بالذكر لأنه المسارع إلى الامتثال إجلالا لله تعالى وخوفا من عقابه، و * (منكم) * إما متعلق - بكان - على رأي من يرى ذلك وإما بمحذوف وقع حالا من فاعل * (يؤمن) * * (ذالكم) * أي الاتعاظ به والعمل بمقتضاه * (أزكى لكم) * أي أعظم بركة ونفعا * (وأطهر) * أي أكثر تطهيرا من دنس الآثام، وحذف لكم اكتفاء بما في سابقه، وقيل: إن المراد أطهر لكم ولهم لما يخشى على الزوجين من الريبة بسبب العلاقة بينهما * (والله يعلم) * ما فيه من المصلحة * (وأنتم لا تعلمون) * ذلك فلا رأي إلا الاتباع، ويحتمل تعميم المفعول في الموضعين ويدخل فيه المذكور دخولا أوليا وفائدة الجملة الحث على الامتثال.
* (والوالدات يرضعن أول‍ادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضآر والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذالك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أول‍ادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم مآ ءاتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير) *
* (والوالدات يرضعن أول‍ادهن) * أمر أخرج مخرج الخبر مبالغة ومعناه الندب أو الوجوب إن خص بما إذا لم يرتضع الصبي إلا من أمه أو لم يوجد له ظئر أو عجز الوالد عن الاستئجار والتعبير عنهن بالعنوان المذكور لاستعطافهن نحو أولادهن والحكم عام للمطلقات وغيرهن كما يقتضيه الظاهر، وخصه بعضهم بالوالدات المطلقات وهو المروي عن مجاهد وابن جبير وزيد بن أسلم، واحتج عليه بأمرين: الأول: أن الله تعالى ذكر هذه الآية عقيب آيات الطلاق فكانت من تتمتها وإنما أتمها بذلك لأنه إذا حصلت الفرقة ربما يحصل التعادي والتباغض وهو يحمل المرأة غالبا على إيذاء الولد نكاية بالمطلق وإيذاءا له وربما رغبت في التزوج بآخر وهو كثيرا ما يستدعي إهمال أمر الطفل وعدم مراعاته فلا جرم أمرهن على أبلغ وجه برعاية جانبه والاهتمام بشأنه، والثاني: أن إيجاب
145

الرزق والكسوة فيما بعد للمرضعات يقتضي التخصيص إذ لو كانت الزوجية باقية لوجب على الزوج ذلك بسبب الزوجية لا الرضاع، وقال الواحدي: الأولى أن يخص بالوالدات حال بقاء النكاح لأن المطلقة لا تستحق الكسوة وإنما تستحق الأجرة ولا يخفى أن الحمل على العموم أولى ولا يفوت الغرض من التعقيب؛ وإيجاب الرزق والكسوة للمرضعات لا يقتضي التخصيص لأنه باعتبار البعض على أنه على ما قيل: ليس في الآية ما يدل على أنه للرضاع ومن قال: إنه له جعل ذلك أجرة لهن إلا أنه لم يعبر بها وعبر بمصرفها الغالب حثا على إعطائها نفسها لذلك أو إعطاء ما تصرف لأجله فتدبر. * (حولين) * أي عامين والتركيب يدور على الانقلاب وهو منصوب على الظرفية و * (كاملين) * صفته، ووصف بذلك تأكيدا لبيان أن التقدير تحقيق لا تقريبي مبني على على المسامحة المعتادة * (لمن أراد أن يتم الرضاعة) * بيان للمتوجه عليه الحكم، والجار في مثله خبر لمحذوف أي ذلك لمن أراد إتمام الرضاعة وجوز أن يكون متعلقا - بيرضعن - فإن الأب يجب عليه الإرضاع كالنفقة للأم والأم ترضع له وكون الرضاع واجبا على الأب لا ينافي أمرهن لأنه للندب أو لأنه يجب عليهن أيضا في الصور السابقة. واستدل بالآية على أن أقصى مدة الإرضاع حولان ولا يعتد به بعدهما فلا يعطى حكمه وأنه يجوز أن ينقص عنهما، وقرىء * (أن يتم) * بالرفع واختلف في توجيهه فقيل: حملت (أن) المصدرية على ما أختها في الإهمال كما حملت أختها عليها في الأعمال في قوله صلى الله عليه وسلم: " كما تكونوا يولى عليكم " على رأي، وقيل: أن يتموا بضمير الجمع باعتبار معنى من وسقطت الواو في اللفظ لالتقاء الساكنين فتبعها الرسم.
* (وعلى المولود له) * أي الوالد فإن الولد يولد له وينسب إليه ولم يعبر به مع أنه أخصر وأظهر للدلالة على علة الوجوب بما فيه من معنى الانتساب المشيرة إليه اللام وتسمى هذه الإشارة إدماجا عند أهل البديع وإشارة النص عندنا، وقيل: عبر بذلك لأن الوالد قد لا تلزمه النفقة وإنما تلزم المولود له كما إذا كانت تحته أمة فأتت بولد فإن نفقته على مالك الأم لأنه المولود له دون الوالد، وفيه بعد لأن المولود له لا يتناول الوالد والسيد تناولا واحدا وحكم العبيد دخيل في البين * (رزقهن وكسوتهن) * أي إيصال ذلك إليهن أي الوالدات أجرة لهن، واستئجار الأم جائز عند الشافعي وعندنا لا يجوز ما دامت في النكاح أو العدة * (بالمعروف) * أي بلا إسراف ولا تقتير أو حسب ما يراه الحاكم ويفي به وسعه. * (لا تكلف نفس إلا وسعها) * تعليل لإيجاب المؤن بالمعروف أو تفسير للمعروف ولهذا فصل وهو نص على أنه تعالى لا يكلف العبد بما لا يطيقه ولا ينفي الجواز والإمكان الذاتي فلا ينتهض حجة للمعتزلة، ونصب * (وسعها) * على أنه مفعول ثان - لتكلف - وقرىء و (لا تكلف) بفتح - التاء - و (لا نكلف) - بالنون -.
* (لا تضار والدة بولدها ولا مولود بولده) * تفصيل لما يفهم من سابقه وتقريب له إلى الفهم وهو الداعي للفصل، والمضارة مفاعلة من الضرر، والمفاعلة إما مقصودة والمفعول محذوف أي تضار والدة زوجها بسبب ولدها وهو أن تعنف به وتطلب ما ليس بعدل من الرزق والكسوة وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد وأن تقول بعد أن ألفها الصبي أطلب له ظئرا مثلا ولا يضار مولود له امرأته بسبب ولده بأن يمنعها شيئا مما وجب عليه من رزقها وكسوتها، أو يأخذ الصبي منها وهي تريد إرضاعه أو يكرهها على الإرضاع وإما غير مقصودة، والمعنى
146

لا يضر واحد منهما الآخر بسبب الولد، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب (لا تضار) بالرفع فتكون الجملة بمنزلة بدل الاشتمال مما قبلها، وقرأ الحسن (تضار) بالكسر وأصله تضار مكسور الراء مبنيا للفاعل وجوز فتحها مبنيا للمفعول، ويبين ذلك أنه قرىء - (ولا تضارر)، (ولا تضارر) - بالجزم وفتح الراء الأولى وكسرها، وعلى تقدير البناء للمفعول يكون المراد النهي عن أن يلحق بها الضرار من قبل الزوج وأن يلحق الضرار بالزوج من قبلها بسبب الولد، والباء على كل تقدير
سببية ولك أن تجعل فاعل بمعنى فعل والباء سيف خطيب، ويكون المعنى لا تضر والدة ولدها بأن تسيء غذاءه وتعهده وتفرط فيما ينبغي له وتدفعه إلى الأب بعدما ألفها ولا يضر الوالد ولده بأن ينزعه من يدها أو يقصر في حقها فتقصر هي في حقه، وقرأ أبو جعفر - (لا تضار) - بالسكون مع التشديد على نية الوقف، وعن الأعرج - (لا تضار) - بالسكون والتخفيف، وهو من ضار يضير ونوى الوقف كما نواه الأول، وإلا لكان القياس حذف الألف، وعن كاتب عمر رضي الله تعالى عنه - (لا تضرر) - والتعبير بالولد في الموضعين، وإضافته إليها تارة وإليه أخرى للاستعطاف، والإشارة إلى ما هو كالعلة في النهي ولذا أقام المظهر مقام المضمر، ومن غريب التفسير ما رواه الإمامية عن السيدين الصادق والباقر رضي الله تعالى عنهما أن المعنى - لا تضار - والدة بترك جماعها خوف الحمل لأجل ولدها الرضيع - ولا يضار - مولود له بمنعه عن الجماع كذلك لأجل ولده، وحينئذ تتعين الباء للسببية، ويجب أن يكون الفعلان مبنيين للمفعول ولا يظهر وجه لطيف للتعبير بالولد في الموضعين، وتخرج الآية عما يقتضيه السياق، وبعيد عن الباقر والصادق الإقدام على ما زعمه هذا الراوي الكاذب.
* (وعلى الوارث مثل ذالك) * عطف على قوله تعالى: * (وعلى المولود له) * الخ وما بينهما تعليل أو تفسير معترض والمراد بالوارث وارث الولد فإنه يجب عليه مثل ما وجب على الأب من الرزق والكسوة بالمعروف إن لم يكن للولد مال، وهو التفسير المأثور عن عمر وابن عباس وقتادة ومجاهد وعطاء وإبراهيم والشعبي وعبد الله بن عتبة وخلق كثير، ويؤيده أن أل كالعوض عن المضاف إليه الضمير ورجوع الضمير لأقرب مذكور وهو الأكثر في الاستعمال، وخص الإمام أبو حنيفة هذا الوارث بمن كان ذا رحم محرم من الصبي، وبه قال حماد ويؤيده قراءة ابن مسعود (وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك)، وقيل: عصباته؛ وبه قال أبو زيد، ويروى عن عمر رضي الله تعالى عنه ما يؤيده، وقال الشافعي: المراد وارث الأب وهو الصبي أي مؤن الصبي من ماله إذا مات الأب، واعترض أن هذا الحمل يأباه أنه لا يخص كون المؤنة في ماله إذا مات الأب بل إذا كان له مال لم يجب على الأب أجرة الإرضاع بل يجب عليه النفقة على الصبي وأجرة الإرضاع من مال الصبي بحكم الولاية وفيه نظر، وقيل: المراد الباقي من الأبوين، وقد جاء الوارث بمعنى الباقي كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " اللهم متعني بسمعي وبصري واجعلهما الوارث مني " قيل: وهذا يوافق مذهب الشافعي إذ لا نفقة عنده فيما عدا الولاد ولا يخفى ما في ذلك من البحث لأن - من - إن كانت للبيان لزم التكرار أو الركاكة أو ارتكاب خلاف الظاهر، وإن كانت للابتداء كان المعنى الباقي غير الأبوين وهو يجوز أن يكون من العصبات أو ذوي الأرحام الذين ليست قرابتهم قرابة الولاد وكون ذلك موافقا لمذهب الشافعي إنما يتأتى إذا تعين كون الباقي ذوي قرابة الولاد وليس في اللفظ ما يفيده كما لا يخفى.
* (فإن أرادا) * أي الوالدان * (فصالا) * أي فطاما للولد قبل الحولين وهو المروي عن مجاهد وقتادة وأهل البيت، وقيل: قبلهما أو بعدهما وهو مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعلى الأول: يكون هذا تفصيلا لفائدة * (لمن أراد أن يتم) * وبيانا لحكم إرادة عدم الإتمام، والتنكير للإيذان بأنه - فصال - غير معتاد، وعلى الثاني: توسعة في الزيادة والتقليل في مدة
147

الرضاعة بعد التحديد والتنكير للتعميم، ويجوز على القولين أن يكون للإشارة إلى عظمه نظرا للصبي لما فيه من مفارقة المألوف * (عن تراض) * متعلق بمحذوف ينساق إليه الذهن وإن كان كونا خاصا أي: صادراعن تراض وجوز أن يتعلق بأراد * (منهما) * أي الوالدين لا من أحدهما فقط لاحتمال إقدامه على ما يضر الولد بأن تمل الأم أو يبخل الأب * (وتشاور) * في شأن الولد وتفحص أحواله وهو مأخوذ من الشور وهو اجتناء العسل وكذا - المشاورة والمشورة والمشورة - والمراد من ذلك استخراج الرأي وتنكيره للتفخيم. * (فلا جناح عليهما) * في ذلك وإنما اعتبر رضا المرأة مع أن ولي الولد هو الأب وصلاحه منوط بنظره مراعاة لصلاح الطفل لأن الوالدة لكمال شفقتها على الصبي ربما ترى ما فيه المصلحة له.
* (وإن أردتم) * خطاب للآباء هزا لهم للامتثال على تقدير عدم الاتفاق على عدم الفطام * (أن تسترضعوا أول‍ادكم) * بحذف المفعول الأول استغناءا عنه أي - تسترضعوا المراضع أولادكم - من أرضعت المرأة طفلا واسترضعتها إياه كقولك أنجح الله تعالى حاجتي واستنجحتها إياه، وقد صرح الإمام الكرماني بأن الاستفعال قد جاء لطلب المزيد كالاستنجاء لطلب الإنجاء والاستعتاب لطلب الاعتاب وصرح به غيره أيضا فلا حاجة إلى القول بأنه من رضع بمعنى أرضع ولم يجعل من الأول أول الأمر لعدم وجوده في كلامهم فإنه بمعزل عن التحقيق، وقيل: إن استرضع إنما يتعدى إلى الثاني بحرف الجر يقال: استرضعت المرأة للصبي والمراد: أن تسترضعوا المراضع لأولادكم فحذف الجار كما في قوله تعالى: * (وإذا كالوهم) * (المطففين: 3) أي كالوا لهم * (فلا جناح عليكم) * أي في ذلك، واستدل بالإطلاق على أن للزوج أن - يسترضع للولد ويمنع الزوجة من الإرضاع - وهو مذهب الشافعية، وعندنا أن الأم أحق برضاع ولدها وأنه ليس للأب أن يسترضع غيرها إذا رضيت أن ترضعه لقوله تعالى: * (والوالدات يرضعن أولادهن) * وبه يخصص هذا الإطلاق وإلى ذلك يشير كلام ابن شهاب * (إذا سلمتم) * إلى المراضع * (ما ءأتيتم) * أي ضمنتم والتزمتم أو أردتم إتيانه لئلا يلزم تحصيل الحاصل، وقرأ ابن كثير (أتيتم) من أتى إليه إحسانا إذا فعله، وشيبان عن عاصم (أوتيتم) أي ما آتاكم الله تعالى وأقدركم عليه من الأجرة * (بالمعروف) * متعلق بسلمتم أي بالوجه المتعارف المستحسن شرعا وجوز أن يتعلق بآتيتم وأن يكون حالا من فاعله أو فاعل الفعل الذي قبله، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله وليس التسليم شرطا لرفع الإثم بل هو الأولى والأصلح للطفل فشبه ما هو من شرائط الأولية بما هو من شرائط الصحة للاعتناء به فاستعير له عبارته، وقيل: لا حاجة إلى هذا لأن نفي الإثم بتسليم الأجرة مطلقا غير مقيد بتقديمها عليه يعني لا جناح عليكم في الاسترضاع لو لم تأثموا بالتعدي في الأجرة وتظلموا الأجير، وفيه تأمل لأن الإثم إذا لم يسلم بعد إنما هو بالتعدي، والاسترضاع كان قبل خاليا عما يوجب الإثم * (واتقوا الله) * في شأن مراعاة الأحكام * (واعلموا أن الله بما تعملون بصير) * لا تخفى عليه أعمالكم فيجازيكم عليها، وفي إظهار الاسم الجليل تربية للمهابة، وفي الآية من التهديد ما لا يخفى.
* (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن فىأنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير) *
* (والذين) * مبتدأ * (يتوفون) * أي تقبض أرواحهم فإن التوفي هو القبض يقال: توفيت مالي من فلان واستوفيته منه أي قبضته وأخذته. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه فيما رواه أبو عبد الرحمن السلمي عنه والمفضل عن عاصم * (يتوفون) *
148

بفتح - الياء - أي يستوفون آجالهم فعلى هذا يقال للميت متوفي بمعنى مستوف لحياته، واستشكل بما حكي أن أبا الأسود كان خلف جنازة فقال له رجل: من المتوفي؟ بكسر الفاء فقال: الله تعالى وكأن هذا أحد الأسباب لعلي كرم الله تعالى وجه على أن أمره بوضع كتاب النحو، وأجاب السكاكي بأن سبب التخطئة أن السائل كان ممن لم يعرف وجهه صحته فلم يصلح للخطاب به * (منكم) * في محل نصب على الحال من مرفوع * (يتوفون) * و - من - تحتمل التبعيض وبيان الجنس والخطاب لكافة الناس بتلوين الخطاب * (ويذرون) * أي يتركون ويستعمل منه الأمر ولا يستعمل اسم الفاعل ولا اسم المفعول وجاء الماضي على شذوذ * (أزواجا) * أي نساءا لهم.
* (يتربصن بأنفسهن) * خبر عن (الذين) والرابط محذوف أي لهم أو بعدهم، ورجح الأول: بقلة الإضمار وبما في اللام من الإيماء إلى أن العدة حق المتوفى، وقيل: خبر لمحذوف أي أزواجهم يتربصن، والجملة خبر (الذين) وبعض البصريين قدر مضافا في صدر الكلام أي أزواج الذين وهن نساؤهم، وفيه أنه لا يبقى - ليذرون أزواجا - فائدة جديدة يعتد بها، ويروى عن سيبويه - أن (الذين) - مبتدأ والخبر محذوف أي فيما يتلى عليكم حكم الذين الخ، وحينئذ يكون جملة - يتربصن - بيانا لذلك الحكم وفيه كثرة الحذف، وذهب بعض المحققين إلى أن * (الذين) * مبتدأ و (يتربصن) خبره والرابط حاصل بمجرد عود الضمير إلى الأزواج لأن المعنى يتربص الأزواج اللاتي تركوهن، وقد أجاز الأخفش والكسائي مثل ذلك ولولا أن الجمهور على منعه لكان من الحسن بمكان * (أربعة أشهر وعشرا) * لعل ذلك العدد لسر تفرد الله تعالى بعلمه أو علمه من شاء من عباده، والقول - بأنه لعل المقتضي لذلك أن الجنين في غالب الأمر يتحرك لثلاثة أشهر إن كان ذكرا ولأربعة إن كان أنثى فاعتبر أقصى الأجلين وزيد عليه العشرة استظهارا إذ ربما تضعف حركته في المبادىء فلا يحس بها مع ما فيه من المنافاة للحديث الصحيح " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله تعالى ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح " لأن ظاهره أن نفخ الروح بعد هذه المدة مطلقا - لا يروي الغليل ولا يشفي العليل، وتأنيث العشر قيل: لأن التمييز المحذوف هو الليالي وإلى ذلك ذهب ربيعة ويحيى بن سعيد، وقيل: بل هو باعتبار الليالي لأنها غرر الشهور ولذلك لا يستعملون التذكير في مثله ذهابا إلى الأيام حتى إنهم يقولون - كما حكى الفراء - صمنا عشرا من شهر رمضان مع أن الصوم إنما يكون في الأيام ويشهد له قوله تعالى: * (إن لبثتم إلا عشرا) * (طه: 103) ثم * (إن لبثتم إلا يوما) * (طه: 104) وذكر أبو حيان أن قاعدة تذكير العدد وتأنيثه إنما هي إذا ذكر المعدود، وأما عند حذفه فيجوز الأمران مطلقا ولعله أولى مما قيل، واستدل بالآية على وجوب العدة على المتوفى عنها سواء كان مدخولا بها أو لا، وذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلى أنه لا عدة للثانية وهو محجوج بعموم اللفظ كما ترى، وشملت الآية المسلمة والكتابية وذات الأقراء والمستحاضة والآيسة والصغيرة والحرة والأمة - كما قاله الأصم - والحامل وغيرها لكن القياس اقتضى تنصيف المدة للأمة والإجماع خص الحامل عنه لقوله تعالى: * (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) * (الطلاق: 4) وعن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس أنها تعتد بأقصى الأجلين احتياطا وهو لا ينافي الإجماع بل فيه عمل بمقتضى الآيتين، واستدل بعضهم بها على أن العدة من الموت حيث علقت عليه فلو لم يبلغها موت الزوج إلا بعد مضي العدة حكم بانقضائها وهو
149

الذي ذهب إليه الأكثرون والشافعي في أحد قوليه، ويؤيده أن الصغيرة التي لا علم لها يكفي في انقضاء عدتها هذه المدة، وقيل: إنها ما لم تعلم بوفاة زوجها لا تنقضي عدتها بهذه الأيام لما روي " امرأة المفقود امرأة حتى يأتيها تبين موته أو طلاقه ".
* (فإذا بلغن أجلهن) * أي انقضت عدتهن * (فلا جناح عليكم) * أيها القادرون عليهن، وقيل: الخطاب للأولياء، وقيل: لجميع المسلمين * (فيما فعلن في أنفسهن) * مما حرم عليهن في العدة، وفي التقييد إشارة إلى علة النهي * (بالمعروف) * أي بالوجه الذي يعرفه الشرع ولا ينكره، وقيد به للإيذان بأنه لو فعلن خلاف ذلك فعليهم أن يكفوهن، فإن قصروا أثموا * (والله بما تعملون خبير) * فلا تعملوا خلاف ما أمرتم به والظاهر: أن المخاطب به هو المخاطب في سابقه، وجوز أن يكون خطابا للقادرين من الأولياء والأزواج فيكون فيه تغليبان - الخطاب على الغيبة - والذكور على الإناث - وفيه تهديد للطائفتين، ويحتمل أن يكون وعدا ووعيدا لهما.
* (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النسآء أو أكننتم فىأنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ول‍اكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكت‍ابأجله واعلموا أن الله يعلم ما فىأنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم) *
* (ولا جناح عليكم) * أيها الرجال المبتغون للزواج. * (فيما عرضتم به من خطبة النسآء) * بأن يقول أحدكم - كما روى البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - إني أريد التزوج، وإني لأحب امرأة من أمرها وأمرها، وإن من شأني النساء، ولوددت أن الله تعالى كتب لي امرأة صالحة، أو يذكر للمرأة فضله وشرفه، فقد روي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة وقد كانت عند ابن عمها أبي سلمة فتوفي عنها فلم يزل يذكر لها منزلته من الله تعالى وهو متحامل على يده حتى أثر الحصير في يده من شدة تحامله عليها وكان ذلك تعريضا لها " والتعريض في الأصل إمالة الكلام عن نهجه إلى عرض منه وجانب، واستعمل في أن تذكر شيئا مقصودا في الجملة بلفظه الحقيقي أو المجازي أو الكنائي ليدل بذلك الشيء على شيء آخر لم يذكر في الكلام مثل أن تذكر المجيء للتسليم بلفظه ليدل على التقاضي وطلب العطاء، وهو غير الكناية لأنها أن تذكر معنى مقصودا بلفظ آخر يوضع له لكن استعمل في الموضوع - لا على وجه القصد - بل لينتقل منه إلى
الشيء المقصود، فطويل النجاد مستعمل في معناه لكن لا يكون المقصود بالإثبات بل لينتقل منه إلى طول القامة، وقرر بعض المحققين أن بينهما عموما من وجه، فمثل قول المحتاج: جئتك لأسلم عليك كناية وتعريض، ومثل - زيد طول النجاد - كناية لا تعريض، ومثل قولك: في عرض من يؤذيك وليس المخاطب - آذيتني فستعرف - تعريض بتهديد المؤذي لا كناية والمشهور: تسمية التعريض تلويحا لأنه يلوح منه ما تريده، وعدوا جعل السكاكي له اسما للكناية البعيدة لكثرة الوسائط مثل - كثير الرماد - للمضياف اصطلاحا جديدا وفي " الكشف ": وقد يتفق عارض يجعل الكناية في حكم المصرح به كما في الاستواء على العرش وبسط اليد، ويجعل الالتفات في التعريض نحو المعرض به كما في قوله تعالى: * (ولا تكونوا أول كافر به) * (البقرة: 41) فلا ينتهض نقضا على الأصل.
والخطبة - بكسر الخاء - قيل: الذكر الذي يستدعى به إلى عقد النكاح أخذا من الخطاب، وهو توجيه الكلام للإفهام - وبضمها - الوعظ المتسق على ضرب من التأليف، وقيل: إنهما اسم الحالة غير أن - المضمومة - خصت بالموعظة - والمكسورة - بطلب المرأة والتماس نكاحها - وأل - في (النساء) للعهد، والمعهودات هي الأزواج المذكورة في قوله تعالى: * (ويذرون أزواجا) * (البقرة: 234) ولا يمكن حملها على الاستغراق لأن من النساء من يحرم التعريض بخطبتهن في العدة - كالرجعيات والبائنات - في قول، والأظهر عند
150

الشافعي رضي الله تعالى عنه جوازه في عدتهن قياسا على معتدات الوفاة لا يقال: كان ينبغي أن تقدم هذه الآية على قوله تعالى: * (فإذا بلغن أجلهن) * (البقرة: 234) لأن ما فيها من أحكام النساء قبل البلوغ إلى الأجل لأنا نقول: لا نسلم ذلك، بل هي من أحكام الرجال بالنسبة إليهن، فكان المناسب أن يذكر بعد الفراغ من أحكامهن قبل البلوغ من الأجل وبعده، واستدل إلكيا بالآية على نفي الحد بالتعريض في القذف لأنه تعالى جعل حكمه مخالفا لحكم التصريح، وأيد بما روي: " من عرض عرضنا، ومن مشى على الكلأ ألقيناه في النهر " واستدل بها على جواز نكاح الحامل من الزنا إذ لا عدة لها، ولا يخفى ما فيه * (أو أكننتم فيأنفسكم) * أي أسررتم في قلوبكم من نكاحهن بعد مضي عدتهن ولم تصرحوا بذلك لهن * (علم الله أنكم ستذكرونهن) * ولا تصبرون على السكوت عنهن وعن إظهار الرغبة فيهن، فلهذا رخص لكم ما رخص، وفيه نوع ما من التوبيخ.
* (ول‍اكن لا تواعدوهن سرا) * استدراك عن محذوف دل عليه * (ستذكرونهن) * أي فاذكروهن ولكن لا تواعدوهن نكاحا بل اكتفوا بما رخص لكم، وجواز أن يكون استدراكا عن * (لا جناح) * فإنه في معنى - عرضوا بخطبتهن - أو أكنوا في أنفسكم ولكن الخ، وحمله على الاستدراك على ما عنده، - ليس بشيء - وإرادة النكاح من - السر - بواسطة إرادة الوطء منه إذ قد تعارف إطلاقه عليه لأنه يسر، ومنه قول امرىء القيس: ألا زعمت بسباسة اليوم أنني * كبرت وأن لا يحسن - السر - أمثالي
وإرادة العقد من ذلك لما بينهما من السببية والمسببية، ولم يجعل من أول الأمر عبارة عن العقد لأنه لا مناسبة بينهما في الظاهر، والمروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن - السر - هنا الجماع، وتوهم الرخصة حينئذ في المحظور الذي هو التصريح - بالنكاح - مما لا يكاد يخطر ببال، وعن سعيد بن جبير ومجاهد، وروي عن الحبر أيضا أنه العهد على الامتناع عن التزوج بالغير - وهو على هذه الأوجه نصب على المفعولية - وجوز انتصابه على الظرفية، أي: لا تواعدوهن في السر، على أن المراد بذلك المواعدة بما يستهجن. * (إلا أن تقولوا قولا معروفا) * وهو التعريض الذي عرف تجويزه، والمستثنى منه ما يدل عليه النهي أي: لا تواعدوهن نكاحا مواعدة ما إلا مواعدة معروفة؛ أو إلا مواعدة بقول معروف، أو لا تقولوا في وعد الجماع أي طلب الامتناع عن الغير إلا قولكم قولا معروفا والاستثناء في جميع ذلك متصل، وفي الكلام على الوجه الأول تصريح بما فهم من * (ولا جناح) * على وجه يؤكد ذلك الرفع وهو نوع من الطرد - والعكس حسن - وعلى الأخيرين تأسيس لمعنى ربما يعلم بطريق المقايسة إذ حملوا - التعريض - فيهما على - التعريض - بالوعد لها أو الطلب منها، وهو غير - التعريض - السابق لأنه بنفس الخطبة وإذا أريد الوجه الرابع وهو الأخير من الأوجه السابقة احتمل الاستثناء الاتصال والانقطاع، والانقطاع في المعنى أظهر على معنى: لا تواعدوهن بالمستهجن ولكن واعدوهن بقول معروف لا يستحيا منه في المجاهرة من حسن المعاشرة والثبات إن وقع النكاح، وبعض قال بذلك إلا أنه جعل الاستثناء من * (سرا) * وضعف بأنه يؤدي إلى كون التعريض موعودا، وجعله من قبيل * (إلا من ظلم) * (النمل: 11) يأبى أن يكون استثناءا منه بل من أصل الحكم.
* (ولا تعزموا عقدة النكاح) * أي لا تقصدوا قصدا جازما عقد عقدة النكاح وفي النهي عن مقدمة الشيء نهي
151

عن الشيء على وجه أبلغ، وصح تعلق النهي به لأنه من الأفعال الباطنة الداخلة تحت الاختيار ولذا يثاب على النية، والمراد به العزم المقارن لأن من قال: لا تعزم على السفر في صفر مثلا لم يفهم منه النهي عن عزم فيه متأخر الفعل إلى ربيع، وذلك لأن القصد الجازم حقه المقارنة وتقدير المضاف لصحة التعلق لأنه لا يكون إلا على الفعل، و - العقدة - ليست به لأنها موضع العقد وهو ما يعقد عليه ولم يقدره بعضهم، وجعل الإضافة بيانية فالعقدة حينئذ نفس النكاح وهو فعل، ويحتمل أن يكون الكلام من باب * (حرمت عليكم أمهاتكم) * (النساء: 23) وعلى كل تقدير هي مفعول به، وجوز أن تكون مفعولا مطلقلا على أن معنى - لا تعزموا - لا تعقدوا فهو على حد - قعدت جلوسا - وأن الإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله، وقيل: المعنى لا تقطعوا ولا تبرموا عقدة النكاح فيكون النهي عن نفس الفعل لا عن قصده كما في الأول، وبهذا ينحط عنه، ومن الناس من حمل العزم على القطع ضد الوصل وجعل المعنى لا تقطعوا عقدة نكاح الزوج المتوفى بعقد نكاح آخر ولا حاجة حينئذ إلى تقدير مضاف أصلا، وفيه بحث أما أولا: فلأن مجيء العزم بمعنى القطع ضد الوصل في اللغة محل تردد، وقول الزمخشري: حقيقة العزم القطع بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: " لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل " وروي " لم يبيت " ليس بنص في ذلك بل لا يكاد يصح حمله إذ الدليل لا يساعده إذ لا خفاء في أن المراد بعزم الصوم ليس قطعة بمعنى الفك بل الجزم وقطع التردد، وأما ثانيا: فلأنه لا معنى للنهي عن قطع عقدة نكاح الزوج الأول حتى ينهى عنه إذ لا تنقطع عقدة نكاح
المتوفى بعقد نكاح آخر لأن الثاني لغو، ومن هنا قيل: إن المراد لا تفكوا عقدة نكاحكم ولا تقطعوها، ونفي القطع عبارة عن نفي التحصيل فإن تحصيل الثمرة من الشجرة بالقطع، وهذا كما ترى مما لا ينبغي أن يحمل عليه كلام الله تعالى العزيز.
* (حتى يبلغ الكت‍ابأجله) * أي ينتهي ما كتب وفرض من العدة * (واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم) * من العزم على ما لا يجوز أو من ذوات الصدور التي من جملتها ذلك * (فاحذروه) * ولا تعموا عليه أو - احذروه - بالاجتناب عن العزم ابتداءا أو إقلاعا عنه بعد تحققه * (وأعلموا أن الله غفور) * يغفر لمن يقلع عن عزمه أو ذنبه خشية منه * (حليم) * لا يعاجل بالعقوبة فلا يتوهم من تأخيرها أن ما نهى عنه لا يستتبع المؤاخذة وإعادة العامل اعتناءا بشأن الحكم، ولا يخفى ما في الجملة مما يدل على سعة رحمته تبارك اسمه.
* (لا جناح عليكم إن طلقتم النسآء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره مت‍اعا بالمعروف حقا على المحسنين) *
* (لا جناح عليكم) * لا تبعة من مهر وهو الظاهر، وقيل: من وزر لأنه لا بدعة في الطلاق قبل المسيس ولو كان في الحيض، وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما ينهى عن الطلاق فظن أن فيه جناحا فنفى ذلك * (إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن) * أي غير ماسين لهن أو مدة عدم المس وهو كناية عن الجماع، وقرأ حمزة والكسائي (تماسوهن) والأعمش (من قبل أن تمسوهن) وعبد الله (من قبل أن تجامعوهن) * (أو تفرضوا لهن فريضة) * أي: حتى تفرضوا أو إلا أن تفرضوا على ما في " شروح الكتاب "، و (فريضة) فعيلة بمعنى مفعول نصب على المفعول به، والتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الإسمية فصار بمعنى المهر فلا تجوز، وجوز أن يكون نصبا على المصدرية، وليس بالجيد والمعنى إنه لا تبعة على المطلق بمطالبة المهر أصلا إذا كان الطلاق قبل المسيس على كل حال إلا في حال الفرض فإن عليه حينئذ نصف المسمى كما سيصرح به، وفي حال عدم تسميته عليه المتعة لا نصف مهر المثل، وأما إذا كان
152

بعد المساس فعليه في صورة التسمية تمام المسمى، وفي صورة عدمها تمام مهر المثل، هذه أربع صور للمطلقة نفت الآية بمنطوقها الوجوب في بعضها، واقتضى مفهومها الوجوب في الجملة في البعض الآخر، قيل: وههنا إشكال قوى، وهو أن ما بعد (أو) التي بمعنى حتى التي بمعنى إلى نهاية للمعطوف عليه فقولك لألزمنك أو تقضيني حقي معناه أن اللزوم ينتهي إلا الاعطاء فعلى قياسه يكون فرض الفريضة نهاية عدم المساس لا عدم الجناح، وليس المعنى عليه، وأجيب بأن ما بعدها عطف على الفعل وهو مرتبط بما قبله فهو معنى مقيد به فكأنه قيل: أنتم ما لم تمسوهن بغير جناح وتبعة إلا إذا - فرضت الفريضة - فيكون الجناح لأن المقيد في المعنى ينتهي برفع قيده فتأمل، ومن الناس من جعل كلمة (أو) عاطفة لمدخولها على ما قبلها من الفعل المجزوم، ولم حينئذ لنفي أحد الأمرين لا بعينه، وهو نكرة في سياق النفي فيفيد العموم أي ما لم يكن منكم مسيس، ولا فرض على حد * (ولا تطع منهم آثما أو كفورا) * (الإنسان: 24) واعترضه القطب بأنه يوهم تقدير حرف النفي فيصير ما لم تمسوهن وما لم تفرضوا فيكون الشرط حينئذ أحد النفيين لا نفي أحد الأمرين فيلزم أن لا يجب المهر إذا عدم المسيس ووجد الفرض أو عدم الفرض ووجد المسيس، ولا يخفى أنه غير وارد، ولا حاجة إلى القول بأن (أو) بمعنى الواو كما في قوله تعالى: * (أو يزيدون) * (الصافات: 147) على رأي * (ومتعوهن) * أي ملكوهن ما يتمتعن به وذلك الشيء يسمى متعة وهو عطف على ما هو جزاء في المعنى كأنه قيل: إن طلقتم النساء فلا جناح ومتعوهن، وعطف الطلبي على الخبري على ما في " الكشف " لأن الجزاء جامع جعلهما كالمفردين أي الحكم هذا وذاك، أو لأن المعنى فلا جناح وواجب هذا، أو فلا تعزموا ذلك ومتعوهن، وجوز أن يكون عطفا على الجملة الخبرية عطف القصة على القصة وأن يكون اعتراضا بالواو واردا لبيان ما يجب للمطلقات المذكورات على أزواجهن بعد التطليق، والعطف على حذوف ينسحب عليه الكلام أي فطلقوهن ومتعوهن يأباه الذوق السليم إذ لا معنى لقولنا إذا طلقتم النساء فطلقوهن إلا أن يكون المقصود المعطوف، والحكمة في إعطاء المتعة جبر إيحاش الطلاق، والظاهر فيها عدم التقدير لقوله تعالى:
* (على الموسع قدره وعلى المقتر قدره) * أي على كل منهما مقدار ما يطيقه ويليق به كائنا ما كان، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما متعة الطلاق أعلاها الخادم ودون ذلك الورق ودون ذلك الكسوة، وعن ابن عمر أدنى ما يكون من المتعة ثلاثون درهما، وقال الإمام أبو حنيفة: هي درع وخمار وملحفة على حسب الحال إلا أن يقل مهر مثلها من ذلك فلها الأقل من نصف مهر المثل، ومن المتعة ولا ينتقص من خمسة دراهم، والموسع من يكون ذا سعة وغنى من أوسع الرجل إذا أكثر ماله واتسعت حاله، والمقتر من يكون ضيق الحال من - أقتر - إذا افتقر وقل ما في يده وأصل الباب الإقلال، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب مبينة لمقدار حال المتعة بالنظر إلى حال المطلق - إيسارا وإقرارا - والجمهور على أنها في موضع الحال من فاعل * (متعوهن) *، والرابط محذوف أي منكم، ومن جعل الألف واللام عوضا عن المضاف إليه أي على موسعكم الخ استغنى عن القول بالحذف. وقرأ أبو جعفر وأهل الكوفة إلا أبا بكر. وابن ذكوان * (قدره) * بفتح الدال، والباقون بإسكانها وهما لغتان فيه، وقيل: - القدر - بالتسكين الطاقة وبالتحريك المقدار، وقرىء * (قدره) * بالنصب ووجه بأنه مفعول على المعنى لأن معنى * (متعوهن) * الخ ليؤد كل منكم - قدر - وسعه قال أبو البقاء: وأجود من هذا أن يكون التقدير فأوجبوا على الموسع قدره.
* (مت‍اعا) * اسم مصدر أجري مجراه أي تمتيعا * (بالمعروف) * أي متلبسا بالوجه الذي يستحسن وهو في محل الصفة -
153

لمتاعا - و * (حقا) * أي ثابتا صفة ثانية له ويجوز أن يكون مصدرا مؤكدا أي حق ذلك حقا * (على المحسنين) * متعلق بالناصب للمصدر أوبه أو بمحذوف وقع صفة، والمراد بالمحسنين من شأنهم الإحسان أو الذين يحسنون إلى أنفسهم بالمسارعة إلى الامتثال أو إلى المطلقات بالتمتيع وإنما سموا بذلك اعتبارا للمشارفة ترغيبا وتحريضا. وقال الإمام مالك: المحسنون المتطوعون وبذلك استدل على استحباب المتعة وجعله قرينة صارفة للأمر إلى الندب؛ وعندنا هي واحبة للمطلقات في الآية مستحبة لسائر المطلقات، وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه في أحد قوليه هي واجبة لكل زوجة مطلقة إذا كان الفراق من قبل الزوج إلا التي سمي لها وطلقت قبل
الدخول، ولما لم يساعده مفهوم الآية ولم يعتبر العموم في قوله تعالى: * (وللمطلقات متاع بالمعروف) * (البقرة: 241) لأنه يحمل المطلق على المقيد قال بالقياس، وجعله مقدما على المفهوم لأنه من الحجج القطعية دونه، وأجيب عما قاله مالك بمنع قصر المحسن على المتطوع بل هو أعم منه ومن القائم بالواجبات فلا ينافي الوجوب فلا يكون صارفا للأمر عنه مع ما انضم إليه من لفظ (حقا).
* (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلاأن يعفون أو يعفوا الذى بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير) *
* (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة) * بيان لحكم التي سمي لها مهر وطلقت قبل المسيس، وجملة * (وقد) * الخ إما حال من فاعل * (طلقتموهن) * أو من مفعوله ونفس الفرض من المبني للفاعل أو للمفعول وإن لم يقارن حالة التطليق لكن اتصاف المطلق بالفارضية فيما سبق مما لا ريب في مقارنته لها، وكذا الحال في اتصاف المطلقة بكونها مفروضا فيما سبق * (فنصف ما فرضتم) * أي فلهن نصف ما قدرتم وسميتم لهن من المهر، أو فالواجب عليكم ذلك وهذا صريح في أن المنفي في الصورة السابقة إنما هو تبعة المهر، وقرىء (فنصف) بالنصب على معنى فأدوا نصف ولعل تأخير حكم التسمية مع أنها الأصل في العقد والأكثر في الوقوع من باب التدرج في الأحكام، وذكر الأشق فالأشق، والقول بأن ذلك لما أن الآية الكريمة نزلت في أنصاري تزوج امرأة من بني حنيفة وكانت مفوضة فطلقها قبل الدخول بها فتخاصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عليه الصلاة والسلام: " أمتعتها؟ قال: لم يكن عندي شيء قال: متعها بقلنسوتك " مما لا أراه شيئا على أن في هذا الخبر مقالا حتى قال الحافظ ولي الدين العراقي: لم أقف عليه.
* (إلا أن يعفون) * استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي فلهن نصف المفروض معينا في كل حال إلا حال عفوهن أي المطلقات المذكورات فإنه يسقط ذلك حينئذ بعد وجوبه والصيغة في حد ذاتها تحتمل التذكير والتأنيث، والفرق بالاعتبار فإن الواو في الأولى ضمير والنون علامة الرفع وفي الثانية لام الفعل والنون ضمير والفعل مبني ولذلك لم تؤثر فيه * (أن) * هنا مع أنها ناصبة لا مخففة بدليل عطف المنصوب عليه من قوله تعالى: * (أو يعفوا) * وقرأ الحسن بسكون الواو فهو على حد: أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
* (الذي بيده عقدة النكاح) * وهو الزوج المالك لعقد النكاح وحله وهو التفسير المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في " الأوسط ". والبيهقي بسند حسن عن ابن عمر مرفوعا - وبه قال جمع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم - ومعنى عفوه تركه تكرما ما يعود إليه من نصف المهر الذي ساقه كملا على ما هو المعتاد أو إعطاؤه تمام المهر المفروض قبل بعد الطلاق كما فسره بذلك ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وتسمية ذلك عفوا من باب المشاكلة وقد يفسر بالزيادة والفضل كما في قوله تعالى: * (ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو) * (البقرة: 219) وقول زهير:
154

حزما وبرا للإله وشيمة * تعفو على خلق المسيء المفسد
فمرجع الاستثناء حينئذ إلى منع الزيادة في المستثنى منه كما أنه في الصورة الأولى إلى منع النقصان فيه أي فلهن هذا المقدار بلا زيادة ولا نقصان في جميع الأحوال إلا في حال عفوهن فإنه لا يكون إذ ذاك لهن القدر المذكور بل ينتفي أو ينحط، أو في حال عفو الزوج فإنه وقتئذ تكون لهن الزيادة هذا على تقدير الأول في * (فنصف) * غير ملاحظ فيه الوجوب، وأما على التقدير الثاني فلا بد من القطع بكون الاستثناء منقطعا لأن في صورة عفو الزوج لا يتصور الوجوب عليه كذا قيل فليتدبر، وذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في إحدى الروايات عنه وعائشة وطاوس ومجاهد وعطاء والحسن وعلقمة والزهري والشافعي رضي الله تعالى عنه في قوله القديم إلى - أن الذي بيده عقدة النكاح - هو الولي الذي لا تنكح المرأة إلا بإذنه فإن له العفو عن المهر إذا كانت المنكوحة صغيرة في رأي البعض ومطلقا في رأي الآخرين وإن أبت. والمعول عليه هو المأثور وهو الأنسب بقوله تعالى: * (وأن تعفوا أقرب للتقوى) * فإن إسقاط حق الغير ليس في شيء من التقوى وهذا خطاب للرجال والنساء جميعا، وغلب المذكر لشرفه وكذا فيما بعد - واللام - للتعدية، ومن قواعدهم التي قل من يضبطها أن أفعل التفضيل وكذا فعل التعجب يتعدى بالحرف الذي يتعدى به فعله كأزهد فيه من كذا وإن كان من متعد في الأصل فإن كان الفعل يفهم علما أو جهلا تعدى - بالباء - كأعلم بالفقه وأجهل بالنحو، وإن كان لا يفهم ذلك تعدى باللام كأنت أضرب لعمرو إلا في باب الحب والبغض فإنه يتعدى إلى المفعول - بفي - كهو أحب في بكر وأبعض في عمرو وإلى الفاعل المعنوي بإلى كزيد أحب إلى خالد من بشر أو أبغض إليه منه، وقرىء (وأن يعفوا) - بالياء -.
* (ولا تنسوا الفضل بينكم) * عطف على الجملة الإسمية المقصود منها الأمر على أبلغ وجه أي لا تتركوا أن يتفضل بعضكم على بعض كالشيء المنسي، والظرف إما متعلق بتنسوا أو بمحذوف وقع حالا من الفضل وحمل الفضل على الزيادة إشارة إلى ما سبق من قوله تعالى: * (وللرجال عليهن درجة) * (البقرة: 228) في الدرج الأسفل من الضعف، وقيل: إن الظرف متعلق بمحذوف وقع صفة للفضل على رأي من يرى حذف الموصول مع بعض صلته والفضل بمعنى الإحسان أي - لا تنسوا الإحسان - الكائن بينكم من قبل وليكن منكم على ذكر حتى يرغب كل في العفو مقابلة الإحسان صاحبه عليه، وليس بشيء لأنه على ما فيه يرد عليه أن لا إحسان في الغالب بين المرأة وزوجها قبل الدخول، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه - ولا تناسوا - وبعضهم - ولا تنسوا - بسكون الواو. * (إن الله بما تعملون بصير) * فلا يكاد يضيع ما عملتم.
* (ح‍افظوا على الصلوات والصلواة الوسطى وقوموا لله ق‍انتين) *
* (ح‍افظوا على الصلوات) * أي داوموا على أدائها لأوقاتها من غير إخلال كما ينبىء عنه صيغة المفاعلة المفيدة للمبالغة ولعل الأمر بها عقيب الحض على العفو،
والنهي عن ترك الفضل لأنها تهيىء النفس لفواضل الملكات لكونها الناهية عن الفحشاء والمنكر، أو ليجمع بين التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة عل خلقه، وقيل: أمر بها في خلال بيان ما تعلق بالأزواج والأولاد من الأحكام الشرعية المتشابكة إيذانا بأنها حقيقة بكمال الاعتناء بشأنها والمثابرة عليها من غير اشتغال عنها بشأن أولئك فكأنه قيل: لا يشغلنكم التعلق بالنساء وأحوالهن وتوجهوا إلى مولاكم بالمحافظة على ما هو عماد الدين ومعراج المؤمنين.
* (والصلواة الوسطى) * أي المتوسطة بينها أو الفضلى منها، وعلى الأول استدل بالآية على أن الصلوات خمس
155

بلا زيادة دون الثاني، وفي تعيينها أقوال: أحدها أنها الظهر لأنها تفعل في وسط النهار، الثاني أنها العصر لأنها بين صلاتي النهار وصلاتي الليل وهو المروي عن علي والحسن وابن عباس وابن مسعود وخلق كثير وعليه الشافعية والثالث: أنها المغرب، وعليه قبيصة بن ذؤيب لأنه وسط في الطول والقصر والرابع: أنها صلاة العشاء لأنها بين صلاتين لا يقصران. والخامس: أنها الفجر لأنها بين صلاتي الليل والنهار ولأنها صلاة لا تجمع مع غيرها فهي منفردة بين مجتمعين وهو المروي عن معاذ وجابر وعطاء وعكرمة ومجاهد واختاره الشافعي رضي الله تعالى عنه نفسه، وقيل: المراد بها صلاة الوتر، وقيل: الضحى، وقيل: عيد الفطر، وقيل: عيد الأضحى، وقيل: صلاة الليل، وقيل: صلاة الجمعة، وقيل: الجماعة، وقيل: صلاة الخوف (وقيل، وقيل..). والأكثرون صححوا أنها صلاة العصر لما أخرج مسلم من حديث علي كرم الله تعالى وجهه " أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب: شغلونا عن الصلاة والوسطى صلاة العصر ملأ الله تعالى بيوتهم نارا " وخصت بالذكر لأنها تقع في وقت اشتغال الناس لا سيما العرب، قال بعض المحققين: والذي يقتضيه الدليل من بين هذه الأقوال أنها الظهر ونسب ذلك إلى الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وبيان ذلك أن سائر الأقوال ليس لها مستند يقف له العجلان سوى القول بأنها صلاة العصر، والأحاديث الواردة بأنها هي قسمان: مرفوعة وموقوفة، والموقوفة لا يحتج بها لأنها أقوال صحابة عارضها أقوال صحابة آخرين أنها غيرها، وقول الصحابي لا يحتج به إذا عارضه قول صحابي آخر قطعا وإنما جرى الخلاف في الاحتجاج به عند عدم المعارضة، وأما المرفوعة فغالبها لا يخلو إسناده عن مقال والسالم من المقال قسمان: مختصر بلفظ الصلاة الوسطى صلاة العصر، ومطول فيه قصة وقع في ضمنها هذه الجملة، والمختصر مأخوذ من المطول اختصره بعض الرواة فوهم في اختصاره على ما ستسمع، والأحاديث المطولة كلها لا تخلو من احتمال فلا يصح الاستدلال بها فقوله من حديث مسلم: " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر " فيه احتمالان، أحدهما: أن يكون لفظ صلاة العصر ليس مرفوعا بل مدرج في الحديث أدرجه بعض الرواة تفسيرا منه كما وقع ذلك كثيرا في أحاديث، ويؤيده ما أخرجه مسلم من وجه آخر عن علي كرم الله تعالى وجهه بلفظ " حبسونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس " يعني العصر، الثاني: على تقدير أنه ليس بمدرج يحتمل أن يكون عطف نسق على حذف العاطف لا بيانا ولا بدلا والتقدير شغلونا عن الصلاة والوسطى وصلاة العصر، ويؤيد ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يشغل يوم الأحزاب عن صلاة العصر فقط بل شغل عن الظهر والعصر معا كما ورد من طريق أخرى فكأنه أراد بالصلاة الوسطى الظهر وعطف عليها العصر، ومع هذين الاحتمالين لا يتأتى الاستدلال بالحديث والاحتمال الأول أقوى للرواية المشار إليها، ويؤيده من خارج أنه لو ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير أنها العصر لوقف الصحابة عنده ولم يختلفوا، وقد أخرج ابن جرير عن سعيد بن المسيب قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا وشبك بين أصابعه، ثم على تقدير عدم الاحتمالين فالحديث معارض بالحديث المرفوع أنها الظهر، وإذا تعارض الحديثان، ولم يكن الجمع طلب الترجيح، وقد ذكر الأصوليون أن من المرجحات أن يذكر السبب، والحديث الوارد في أنها الظهر مبين فيه سبب النزول ومساق لذكرها بطريق القصد بخلاف حديث " شغلونا " الخ فوجب الرجوع إليه، وهو ما أخرجه أحمد وأبو داود بسند جيد عن زيد بن ثابت قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، ولم تكن صلاة أشد على الصحابة منها فنزلت: * (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) * " وأخرج أحمد من وجه آخر عن زيد أيضا " أن رسول الله
156

صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر بالهجير فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان، والناس في قائلتهم وتجارتهم فأنزل الله تعالى: * (حافظوا على الصلوات) * الخ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لينتهين رجال أو لأحرقن بيوتهم " ويؤكد كونها غير العصر ما أخرجه مسلم وغيره من طرق عن أبي يونس مولى عائشة قال: " أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا فأملت علي (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر) وقالت: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم " والعطف يقتضي المغايرة، وأخرج مالك وغيره من طرق أيضا عن عمرو بن رافع قال: " كنت أكتب مصحفا لحفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فأملت علي (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر) وأخرج ابن أبي داود في " المصاحف " عن عبد الله بن رافع أنه كتب لأم سلمة مصحفا فأملت عليه مثل ما أملت عائشة وحفصة " وأخرج ابن أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ كذلك، وأخرج أيضا عن أبي رافع مولى حفصة قال: " كتبت مصحفا لحفصة فقالت اكتب حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر فلقيت أبي بن كعب فقال: هو كما قالت أو ليس أشغل ما نكون عند صلاة الظهر في عملنا ونواضحنا " وهذا يدل على أن الصحابة فهموا من هذه القراءة أنها الظهر هذا، وعن الربيع بن خيثم وأبي بكر الوراق أنها إحدى الصلوات الخمس ولم يعينها الله تعالى وأخفاها في جملة (الصلوات) المكتوبة ليحافظوا على جميعها كما أخفى ليلة القدر في ليالي شهر رمضان. واسمه الأعظم في جميع الأسماء وساعة الإجابة في ساعات الجمعة؛ وقرأ عبد الله وعلي الصلاة الوسطى وروي عن عائشة (والصلاة) بالنصب على المدح والاختصاص، وقرأ نافع (الوصطى) بالصاد.
* (وقوموا لله) * أي في الصلاة * (ق‍انتين) * أي مطيعين كما هو أصل معنى القنوت عند بعض وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو ذاكرين له تعالى في القيام بناءا على أن القنوت هو الذكر فيه، وقيل: خاشعين، وقيل: مكملين الطاعة ومتميها على أحسن وجه من غير إخلال بشيء مما ينبغي فيها، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن مجاهد قال: من القنوت طول الركوع وغض البصر والخشوع وأن لا يلتفت وأن لا يقلب الحصى ولا يعبث بشيء ولا يحدث نفسه بأمر من أمور
الدنيا، وفسره البخاري في " صحيحه " بساكتين لما أخرج هو ومسلم وأبو داود وجماعة عن زيد بن أرقم قال: " كنا نتكلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة يكلم الرجل منا صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: * (وقوموا لله قانتين) * فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام، ولا يخفى أنه ليس بنص في المقصود، ولعل الأوضح منه ما أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنهما قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمت عليه فلم يرد على فلما قضي الصلاة قال: " إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أنا أمرنا أن نقوم قانتين لا نتكلم في الصلاة " وقال ابن المسيب: المراد به القنوت في الصبح وهو رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والجار والمجرور متعلق بما قبله أو بما بعده.
* (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذآ أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون) *
* (فإن خفتم) * من عدو أو غيره * (فرجالا أو ركبانا) * حالان من الضمير في جواب الشرط أي فصلوا راجلين أو راكبين، والأول جمع راجل، وهو الماشي على رجليه - ورجل - بفتح فضم أو بفتح فكسر بمعناه، وقيل: الراجل الكائن على رجليه واقفا أو ماشيا، واستدل الشافعي رضي الله تعالى عنه بظاهر الآية على وجوب الصلاة حال المسايفة
157

وإن لم يمكن الوقوف، وذهب إمامنا إلى أن المشي وكذا القتال يبطلها، وإذا أدى الأمر إلى ذلك أخرها ثم صلاها آمنا، فقد أخرج الشافعي بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: حبسنا يوم الخندق حتى ذهب هوى من الليل حتى كفينا القتال وذلك قوله تعالى: * (وكفى الله المؤمنين القتال) * (الأحزاب: 25) فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأمر فأقام الظهر فصلاها كما كان يصلي، ثم أقام العصر فصلاها كذلك، ثم أقام المغرب فصلاها كذلك، ثم أقام العشاء فصلاها كذلك، وفي لفظ " فصلى كل صلاة ما كان يصليها في وقتها " وقد كانت صلاة الخوف مشروعة قبل ذلك لأنها نزلت في ذات الرقاع - وهي قبل الخندق - كما قاله ابن إسحق وغيره من أهل السير، وأجيب بمنع أن صلاة الخوف مطلقا ولو شديدا شرعت قبل الخندق ليستدل بما وقع فيه من التأخير، ويجعل ناسخا لما في الآية - كما قيل - والمشروع في ذات الرقاع قبل صلاة الخوف الغير الشديد وهي التي نزلت فيها: * (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) * (النساء: 102) لا صلاة شدة الخوف المبينة بهذه الآية، والنزاع إنما هو فيها - وهي لم تشرع قبل الخندق بل بعده - وفيه كان الخوف شديدا فلا يضر التأخير، وقد أجاب بعض الحنفية بأنا سلمنا جميع ذلك إلا أن هذه الآية ليست نصا في جواز الصلاة مع المشي أو المسايفة إذ يحتمل أن يكون الراجل فيها بمعنى الواقف على رجليه لا سيما وقد قوبل بالراكب وقد علم من خارج وجوب عدم الإخلال في الصلاة، وهذا إخلال كلي لا يحتمل فيها لإخراجه لها عن ماهيتها بالكلية، وأنت تعلم - إذا أنصفت - أن ظاهر الآية صريحة مع الشافعية لسبق " وقوموا والدين يسر لا عسر " والمقامات مختلفة، والميسور لا يسقط بالمعسور، وما لا يدرك لا يترك فليفهم. وقرىء (رجالا) - بضم الراء مع التخفيف، وبضمها مع التشديد - وقرىء * (فرجلا) * أيضا.
* (فإذا أمنتم) * وزال خوفكم. وعن مجاهد - إذا خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة - ولعله على سبيل التمثيل * (فاذكروا الله) * أي فصلوا صلاة الأمن - كما قال ابن زيد - وعبر عنها بالذكر لأنه معظم أركانها، وقيل: المراد - أشكروه على الأمن - وبعضهم أوجب الإعادة، وفسر هذا - بأعيدوا الصلاة - وهو من البعد بمكان * (كما علمكم) * أي ذكرا مثل ما علمكم من الشرائع وكيفية الصلاة حالتي - الأمن والخوف - أو شكرا يوازي ذلك، و * (ما) * مصدرية وجوز أن تكون موصولة - وفيه بعد -. * (ما لم تكونوا تعملون) * مفعول علمكم وزاد * (تكونوا) * ليفيد النظم، ووقع في موضع آخر بدونها كقوله تعالى: * (علم الإنسان ما لم يعلم) * (العلق: 5) فقيل: الفائدة في ذكر المفعول فيه وإن كان الإنسان لا يعلم إلا ما لم يعلم التصريح بذكر حالة الجهل التي انتقل عنها فإنه أوضح في الامتنان، وفي إيراد الشرطية الأولى بأن المفيد لمشكوكية وقوع الخوف وندرته، وتصدير الثانية ب (إذا) المنبئة عن تحقق وقوع الأمن وكثرته مع الإيجاز في جواب الأولى، والإطناب في جواب الثانية المبنيين على تنزيل مقام وقوع المأمور به فيهما منزلة مقام وقوع الأمر تنزيلا مستدعيا لإجراء مقتضى المقام الأول في كل منهما مجرى مقتضى المقام الثاني من الجزالة والاعتبار كما قيل - ما فيه عبرة لذوى الأبصار.
* (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لازواجهم مت‍اعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم فى ما فعلن فيأنفسهن من معروف والله عزيز حكيم) *
* (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا) * عود إلى بيان بقية الأحكام المفصلة فيما سبق، وفي * (يتوفون) * مجاز المشارفة * (وصية لأزواجهم) * قرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة عن عاصم بنصب * (وصية) * على المصدرية، أو على أنها مفعول به، والتقدير ليوصوا أو يوصون وصية أو كتب الله تعالى عليهم، أو
158

ألزموا وصية ويؤيد ذلك قراءة عبد الله (كتب عليكم الوصية لأزواجكم متاعا إلى الحول) مكان * (والذين) * الخ، وقرأ الباقون - بالرفع - على أنه خبر بتقدير ليصح الحمل أي ووصية (الذين يتوفون) أو حكمهم وصية أو * (والذين يتوفون) * أهل وصية، وجوز أن يكون نائب فاعل فعل محذوف، أو مبتدأ لخبر محذوف مقدم عليه أي: كتب عليهم أو عليهم وصية وقرأ أبي (متاع لأزواجهم)، وروي عنه * (فمتاع) * بالفاء.
* (متاعا إلى الحول) * نصب بيوصون إن أضمرته ويكون من باب الحذف والإيصال، وإلا فبالوصية لأنها بمعنى التوصية، وبمتاع على قراءة أبي لأنه بمعنى التمتع * (غير إخراج) * بدل منه بدل اشتمال إن اعتبر اللزوم بين التمتع * (إلى الحول) * وبين - غير الإخراج - وبدل الكل بحسب الذات فإنهما متحدان بالذات، ومتغايران بالوصف، وذكر بعضهم أنه على تقدير البدل لا بد من تقدير مضاف إلى غير تقديره: متاعا إلى الحول متاع غير إخراج وإلا لم يصح لأن متاعا مفسر بالإنفاق، * (وغير إخراج) * عبارة عن الإسكان وليس مدلوله مدلول الأول، ولا جزأه، ولا ملابسا له، فيكون بدل غلط - وهو لا يصح في الكلام المجيد - فيتعين التقدير
، وحينئذ يكون إبدال الخاص من العام وهو من قيبل إبدال الكل من الجزء نحو - رأيت القمر فلكه - وهو بدل الاشتمال - كما صرح به صاحب " المفتاح " - وأجيب بأنا لا نسلم أن متاعا مفسر بالإنفاق فقط بل - المتاع - عام شامل للإنفاق والإسكان جميعا، فيكون * (غير إخراج) * عبارة عن الإسكان الذي هو بعض من * (متاعا) * فيكون بدل البعض من الكل، وجوز أن يكون مصدرا مؤكدا لأن - الوصية بأن يمتعن حولا - يدل على أنهن لا يخرجن، فكأنه قيل: لا يخرجن غير إخراج ويكون تأكيدا لنفي - الإخراج - الدال عليه * (لا يخرجن) * (الطلاق: 1) فيؤول إلى قولك: لا يخرجن لا يخرجن، وأن يكون حالا من (أزواجهم) والأكثرون على أنها حال مؤكدة إذ لا معنى لتقييد - الإيصاء - بمفهوم هذه الحالة وأنها مقدرة لأن معنى نفي - الإخراج إلى الحول - ليس مقارنا - للإيصار - وفيه تأمل، وأن يكون صفة (متاع) أو منصوبا بنزع الخافض، والمعنى: يجب على الذين يتوفون أن يوصوا قبل أن يحتضروا لأزواجهم بأن يمتعن بعدهم - حولا - بالنفقة والسكنى، وكان ذلك على الصحيح في أول الإسلام ثم نسخت المدة بقوله تعالى: * (أربعة أشهر وعشرا) * (البقرة: 234) وهو وإن كان متقدما في التلاوة فهو متأخر في النزول وكذا النفقة بتوريثهن الربع أو الثمن، واختلف في سقوط السكنى وعدمه، والذي عليه ساداتنا الحنفية الأول، وحجتهم أن مال الزوج صار ميراثا للوارث، وانقطع ملكه بالموت، وذهب الشافعية إلى الثاني لقوله صلى الله عليه وسلم: " امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله " واعترض بأنه ليس فيه دلالة على أن لها السكنى في مال الزوج، والكلام فيه * (فإن خرجن) * بعد الحول، ومضى العدة، وقيل: في الأثناء باختيارهن * (فلا جناح عليكم) * يا أولياء الميت، أو أيها الأئمة. * (في ما فعلن في أنفسهن من معروف) * لا ينكره الشرع كالتطيب والتزين وترك الحداد والتعرض للخطاب أو في ترك منعهن من الخروج، أو قطع النفقة عنهن، فلا نص في الآية على أنه لم يكن يجب عليهن ملازمة مسكن الزوج والحداد عليه وإنما كن مخيرات بين الملازمة وأخذ النفقة، وبين الخروج وتركها * (والله عزيز) * غالب على أمره ينتقم ممن خالف أمره في - الإيصاء - وإنفاذ الوصية وغير ذلك * (حكيم) * يراعي
159

في أحكامه مصالح عباده فينبغي أن يمتثل أمره ونهيه.
* (وللمطلق‍ات مت‍اع بالمعروف حقا على المتقين) *
* (وللمطلق‍ات) * سواء كن مدخولا بهن أولا * (مت‍اع) * أي مطلق المتعة الشاملة للواجبة والمستحبة وأوجبها سعيد بن جبير وأبو العالية والزهري للكل، وقيل: المراد بالمتاع نفقة العدة، ويجوز أن يكون اللام للعهد أي المطلقات المذكورات في الآية السابقة وهن غير الممسوسات وغير المفروض لهن، والتكرير للتأكيد والتصريح بما هو أظهر في الوجوب وهذا هو الأوفق بمذهبنا، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد قال: لما نزل قوله تعالى: * (متاعا بالمعروف حقا على المحسنين) * (البقرة: 236) قال رجل: إن أحسنت فعلت وإن لم أرد ذلك لم أفعل فأنزل الله تعالى هذه الآية فلا حاجة حينئذ إلى القول بأن تلك الآية مخصصة بمفهومها منطوق هذه الآية المعممة على مذهب من يرى ذلك ولا إلى القول بنسخ هذه كما ذهب إليه ابن المسيب وهو أحد قولي الإمامية * (بالمعروف حقا على المتقين) * أي من الكفر والمعاصي.
* (كذلك يبين الله لكم آي‍اته لعلكم تعقلون) *
* (كذالك) * أي مثل ذلك البيان الواضح للأحكام السابقة * (يبين الله لكم ءاي‍اته) * الدالة على ما تحتاجون إليه معاشا ومعادا * (لعلكم تعقلون) * أي لكي تكمل عقولكم أو لكي تصرفوا عقولكم إليها أو لكي تفهموا ما أريد منها.
(ألم تر إلى الذين خرجوا من دي‍ارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحي‍اهم إن الله لذو فضل على الناس ول‍اكن أكثر الناس لا يشكرون) *
* (ألم تر) * هذه الكلمة قد تذكر لمن تقدم علمه فتكون للتعجب والتقرير والتذكير لمن علم بما يأتي كالأحبار وأهل التواريخ، وقد تذكر لمن لا يكون كذلك فتكون لتعريفه وتعجيبه، وقد اشتهرت في ذلك حتى أجريت مجرى المثل في هذا الباب بأن شبه حال من لم ير الشيء بحال من رآه في أنه لا ينبغي أن يخفى عليه وأنه ينبغي أن يتعجب منه ثم أجرى الكلام معه كما يجري مع من رأى قصدا إلى المبالغة في شهرته وعراقته في التعجب، والرؤية إما بمعنى الأبصار مجازا عن النظر، وفائدة التجوز الحث على الاعتبار لأن النظر اختياري دون الإدراك الذي بعده وإما بمعنى الإدراك القلبي متضمنا معنى الوصول والانتهاء ولهذا تعدت بإلى في قوله تعالى: * (إلى الذين) * كما قاله غير واحد، وقال الراغب: إن الفعل مما يتعدى بنفسه لكن لما استعير لمعنى - لم تنظر - عدى تعديته بإلى وفائدة استفادته أن النظر قد يتعدى عن الرؤية فإذا أريد الحث على نظر ناتج لا محالة لها استعيرت له وقلما استعمل ذلك في غير التقرير فلا يقال رأيت إلى كذا انتهى. وقد يتعدى اللفظ على هذا المعنى بنفسه وقل من نبه عليه كقول امرىء القيس:
- ألم تر - بأني كلما جئت طارقا * وجدت بها طيبا ولم تتطيب
والمراد بالموصول أهل قرية يقال لها داوردان قرب واسط
* (خرجوا من دي‍ارهم) * فارين من الطاعون أو من الجهاد حيث دعوا * (وهم ألوف حذر الموت) * وكانوا فوق عشرة آلاف على ما استظهره الأكثر بناءا على أنه لا يقال - عشرة ألوف ولا تسعة ألوف - وهكذا وإنما يقال آلاف، فقول عطاء الخراساني: إنهم كانوا ثلاثة آلاف، وابن عباس في إحدى الروايات عنه أنهم أربعة آلاف، ومقاتل والكلبي إنهم ثمانية آلاف، وأبي صالح إنهم تسعة آلاف، وأبي رءوف إنهم عشرة آلاف لا يساعده هذا الاستعمال، والقائلون بالفوقية اختلفوا فقيل: كانوا بضعة وثلاثين ألفا، وحكى ذلك عن السدي، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم أربعون ألفا، وقال عطاء بن أبي رباح: إنهم سبعون ألفا ولا أرى لهذا الخلاف ثمرة بعد القول بالكثرة وإلى ذلك يميل كلام الضحاك، وحكي عن ابن زيد أن المراد: خرجوا مؤتلفي القلوب ولم يخرجوا عن تباغض فجعله جمع
160

آلف مثل قاعد وقعود وشاهد وشهود وهو خلاف الظاهر، وليس فيه كثير اعتبار إذ ورود الموت دفعة كما ينبىء عنه قوله تعالى: * (فقال لهم الله موتوا) * على جمع عظيم أبلغ في الاعتبار، وأما وقوعه على قوم بينهم ألفة فهو كوقوعه على غيرهم، ومثل هذا القول بأن المراد ألفهم وحبهم لديارهم أو لحياتهم الدنيا، والمراد بقوله تعالى إما ظاهره وإما مجاز عن تعلق إرادته تعالى بموتهم دفعة، وقيل: هو تمثيل لإماتته تعالى إياهم ميتة نفس واحدة في أقرب وقت وأدناه وأسرع زمان وأوحاه بأمر مطاع لمأمور مطيع، وقيل: ناداهم ملك بذلك، وعن السدي أن المنادي ملكان وإنما أسند إليه تعالى تخويفا وتهويلا
* (ثم أحي‍اهم) * عطف على مقدر يستدعيه المقام أي: فماتوا ثم أحياهم قيل: وإنماحذف للدلالة على الاستغناء عن ذكره لاستحالة تخلف مراده تعالى عن إرادته الكونية، وجوز أن يكون عطفا على - قال - لما أنه عبارة عن الاماتة والمشهور أنهم بقوا موتى مدة حتى تفرقت عظامهم فمر بهم حزقيل الشهير بابن العجوز خليفة كالب بن يوفنا خليفة يوشع بن نوع، وقيل: شمعون، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال وهب: إنه شمويل وهو ذو الكفل، وقيل: يوشع نفسه فوقف متعجبا لكثرة ما يرى منهم " فأوحى الله تعالى إليه أن ناد أيتها العظام أن الله تعالى يأمركم أن تجتمعي فاجتمعت حتى التزق بعضها ببعض فصارت أجسادا من عظام لا لحم ولا دم ثم أوحى الله تعالى إليه أن ناد أيتها الأجسام أن الله تعالى يأمرك أن تكتسي لحما فاكتست لحما ثم أوحى الله تعالى إليه أن ناد أن الله تعالى يأمرك تقومي فبعثوا أحياء يقولون سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت " والروايات في هذا الباب كثيرة.
والظاهر أنهم لم يروا في هذا الوت من الأهوال والأحوال ما يصير بها معارفهم ضرورية، ويمنع من صحة التكليف بعد الإحياء كما في الآخرة، ويمكن أن يقال إنهم رأوا ما يراه الموتى إلا أنهم أنسوه بعد العودة والقادر على الإماتة والإحياء قادر على الإنساء وسبحان من لا يعجزه شيء، وعلى كلا التقديرين لا يشكل موت هؤلاء في الدنيا مرتين مع قوله تعالى: * (لا يذوقون فيها الموت) * (الدخان: 56) الآية لأن ذلك لم يكن عن استيفاء آجال - كما قال مجاهد - وإنما هو موت عقوبة فكأنه ليس بموت، وأيضا هو من خوارق العادات فلا يرد نقضا، ومن الناس من قال: إن هذا لم يكن موتا كالموت الذي يكون وراءه الحياة للنشور، وإنما هو نوع انقطاع تعلق الروح عن الجسد بحيث يلحقه التغير والفساد وهو فوق داء السكتة والإغماء الشديد حتى لا يشك الرائي الحاذق لو رآه بانقطاع التعلق أصلا ولم يعلم أنه قد بقي تعلق ما لكنه لم يصل إلى حد الحياة المعلومة لدينا، ولعل هذا القول يعود بالآخرة إلى انقسام الموت أو إلى أن إطلاق الموت على ما ذكر مجاز، وكلا الأمرين في القلب منهما شيء بل أشياء. وقد ذهب إلى مثله ابن الراوندي في جميع الأموات فقال: إن الأرواح لا تفارق الأبدان أصلا وإنما يحدث في الأبدان عوارض وعلل يحدث تفرق الأجزاء منها كما يحدث للمجذومين، والروح كامنة في الأجزاء المتفرقة أينما كانت لكونها عرية عن الإحساس والإدراك وهو مذهب تحكم الضرورة برده عافانا الله تعالى والمسلمين عن اعتقاد مثله * (إن الله لذو فضل على الناس) * جميعا، أما أولئك فقد أحياهم ليعتبروا فيفوزوا بالسعادة وأما الذين سمعوا فقد هداهم إلى الاعتبار، وهذا كالتعليل لما تقدم * (ول‍اكن أكثر الناس لا يشكرون) * استدراك مما تضمنه ما قبله والتقدير: فيجب عليهم أن يشكروا فضله ولكان الخ، وجوز أن يراد بالشكر الاستبصار والاعتبار، ولا يخفى بعده، والإظهار في مقام الإضمار لمزيد التشنيع ومناسبة هذه لما قبلها أنه سبحانه لما ذكر جملا من الأحكام
161

التكليفية مشتملة على ذكر شيء من أحكام الموتى عقب ذلك بهذه القصة العجيبة تنبيها على عظيم قدرته وأنه القادر على الإحياء والبعث للمجازاة واستنهاضا للعزائم على العمل للمعاد والوفاء بالحقوق والصبر على المشاق. وقيل: وجه المناسبة أنه لما ذكر سبحانه * (كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون) * (البقرة: 242) ذكر هذه القصة لأنها من عظيم آياته وبدائع قدرته، وقيل: جعل الله تعالى هذه القصة لما فيها من تشجيع المسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة، والحث على التوكل والاستسلام للقضاء [بم تمهيدا لقوله تعالى:
* (وق‍اتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم) *
* (وق‍اتلوا في سبيل الله) * وهو عطف في المعنى على * (ألم تر) * (البقرة: 243) لأنه بمعنى انظروا وتفكروا، والسورة الكريمة لكونها سنام القرآن ذكر فيها كليات الأحكام الدينية من الصيام والحج والصلاة والجهاد على نمط عجيب مستطردا تارة للاهتمام بشأنها يكر عليها كلما وجد مجال، ومقصودا أخرى دلالة على أن المؤمن المخلص لا ينبغي أن يشغله حال عن حال، وإن المصالح الدنيوية ذرائع إلى الفراغة للمشاغل الأخروية، والجهاد لما كان ذروة سنام الدين، وكان من أشق التكاليف حرضهم عليه من طرق شتى مبتدأ من قوله سبحانه: * (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله) * (البقرة: 154) منتهيا إلى هذا المقام الكريم مختتما بذكر الانفاق في سبيله للتتميم - قاله في " الكشف " وجوز في العطف وجوه أخر، الأول: أنه عطف على مقدر يعينه ما قبله كأنه قيل فاشكروا فضله بالاعتبار بما قص عليكم - وقاتلوا في سبيله - لما علمتم أن الفرار لا ينجي من الحمام وأن المقدر لا يمحى فإن كان قد حان الأجل فموت في سبيل الله تعالى خير سبيل وإلا فنصر وثواب، الثاني: أنه عطف على ما يفهم من القصة أي اثبتوا ولا تهربوا كما هرب هؤلاء وقاتلوا، والثالث: أنه عطف على * (حافظوا على الصلوات) * إلى * (فإن خفتم) * (البقرة: 238، 239) الآية لأن فيه إشعارا بلقاء العدو وما جاء جاء كالاعتراض، الرابع: أنه عطف على * (فقال لهم الله) * (البقرة: 243) والخطاب لمن أحياهم الله تعالى وهو كما ترى * (واعلموا أن الله سميع) * لما يقوله المتخلف عن الجهاد من تنفير الغير عنه وما يقوله السابق إليه من ترغيب فيه * (عليم) * بما يضمره هذا وذلك من الأغراض والبواعث فيجازي كلا حسب عمله ونيته.
* (من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون) *
* (من ذا الذي يقرض الله) * * (من) * استفهامية مرفوعة المحل بالابتداء، و * (ذا) * خبره و * (الذي) * صفة له أو بدل منه، ولا يجوز أن يكون * (من ذا) * بمنزلة اسم واحد مثل ما تكون ماذا كذلك كما نص عليه أبو البقاء لأن ما أشد إبهاما من - من - وإقراض الله تعالى مثل لتقديم العمل العاجل طلبا للثواب الآجل،
والمراد ههنا إما الجهاد المشتمل على بذل النفس والمال، وإما مطلق العمل الصالح، ويدخل فيه ذلك دخولا أوليا، وعلى كلا التقديرين لا يخفى انتظام الجملة بما قبلها * (قرضا) * إما مصدر بمعنى - إقراضا - فيكون نصبا على المصدرية، وإما بمعنى المفعول فيكون نصبا على المفعولية، وقوله سبحانه: * (حسنا) * صفة له على الوجهين وجهة الحسن على الأول الخلوص مثلا وعلى الثاني الحل والطيب، وأخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه - القرض الحسن - المجاهدة والانفاق في سبيل الله تعالى، وعليه يلتئم النظم أتم التئام * (فيض‍اعفه) * أي - القرض - * (له) * وجعله - مضاعفا - مجاز لأنه سبب - المضاعفة - وجوز تقدير مضاف أي - فيضاعف - جزاءه، وصيغة المفاعلة ليست على بابها إذ لا مشاركة وإنما اختيرت للمبالغة المشيرة إليها المغالبة.
وقرأ عاصم بالنصب، وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون - معطوفا - على مصدر - يقرض - في المعنى أي - من ذا الذي - يكون منه قرض فمضاعفة من الله تعالى، وثانيهما: أن يكون جوابا لاستفهام معنى أيضا لأن المستفهم
162

عنه وإن كان المقرض في اللفظ إلا أنه في المعنى الإقراض فكأنه قيل: أيقرض الله تعالى أحد فيضاعفه وهذا ما اختاره أبو البقاء ولم يجوز أن يكون جواب الاستفهام في اللفظ لأن المستفهم عنه فيه المقرض لا القرض ولا عطفه على المصدر الذي هو قرضا كما يعطف الفعل على المصدر بإضمار إن لأمرين - على ما قيل - الأول: أن (قرضا) هنا مصدر مؤكد وهو لا يقدر بأن والفعل، والثاني: إن عطفه عليه يوجب أن يكون معمولا ليقرض، ولا يصح هذا لأن المضاعفة ليست مقروضة، وإنما هي فعل من الله تعالى وفيه تأمل، وقرأ ابن كثير (يضعفه) بالرفع والتشديد، ويعقوب وابن عامر (يضعفه) بالنصب.
* (أضعافا) * جمع ضعف وهو مثل الشيء في المقدار إذا زيد عليه فليس بمصدر والمصدر الإضعاف أو المضاعفة فعلى هذا يجوز أن يكون حالا من الهاء في * (يضاعفه) * وأن يكون مفعولا ثانيا على المعنى بأن تضمن المضاعفة معنى التصيير، وجوز أن يعتبر واقعا موقع المصدر فينتصب على المصدرية حينئذ، وإنما جمع والمصادر لا تثنى ولا تجمع لأنها موضوعة للحقيقة من حيث هي لقصد الأنواع المختلفة، والمراد به أيضا إذ ذاك الحقيقة لكنها تقصد من حيث وجودها في ضمن أنواعها الداخلة تحتها * (كثيرة) * لا يعلم قدرها إلا الله تعالى، وأخرج الإمام أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عثمان النهدي قال: بلغني عن أبي هريرة أنه قال: إن الله تعالى ليكتب لعبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة فحججت ذلك العام ولم أكن أريد أن أحج إلا للقائه في هذا الحديث فلقيت أبا هريرة فقلت له: فقال: ليس هذا قلت ولم يحفظ الذي حدثك إنما قلت إن الله تعالى ليعطي العبد المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة ثم قال أبو هريرة: أو ليس تجدون هذا في كتاب الله تعالى: * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة) *؟ فالكثيرة عنده تعالى أكثر من ألفي ألف وألفي والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله تعالى يضاعف الحسنة ألفي ألفي حسنة ".
* (والله يقبض ويبسط) * أي يقتر على بعض ويوسع على بعض أو يقتر تارة ويوسع أخرى حسبما تقتضيه الحكمة التي قد دق سرها وجل قدرها وإذا علمتم أنه هو القابض والباسط وأن ما عندكم إنما هو من بسطه وعطائه فلا تبخلوا عليه فأقرضوه وأنفقوا مما وسع عليكم بدل توسعته وإعطائه ولا تعكسوا بأن تبخلوا بدل ذلك فيعاملكم مثل معاملتكم في التعكيس بأن يقبض ويقتر عليكم من بعد ما وسع عليكم وأقدركم على الانفاق، وعن قتادة، والأصم، والزجاج أن المعنى يقبض الصدقات، ويبسط الجزاء عليها فالكلام كالتأكيد والتقرير لما قبله ووجه تأخير البسط عليه ظاهر، ووجه تأخيره على الأول الإيماء إلى أنه يعقب القبض في الوجود تسلية للفقراء، وقرىء * (يبصط) *. * (وإليه ترجعون) * فيجازيكم على حسب ما قدمتم.
ومن باب الإشارة: إن الصلوات خمس، صلاة السر بشهوده مقام الغيب، وصلاة النفس بخمودها عن دواعي الريب، وصلاة القلب بمراقبته أنوار الكشف، وصلاة الروح بمشاهدة الوصل، وصلاة البدن بحفظ الحواس وإقامة الحدود، فالمعنى حافظوا على هذه الصلوات الخمس، والصلاة الوسطى التي هي صلاة القلب التي شرطها الطهارة عن الميل إلى السوى وحقيقتها التوجه إلى المولى ولهذا تبطل بالخطرات والانحراف عن كعبة الذات * (وقوموا لله) * بالتوجه إليه * (قانتين) * (البقرة: 238) أي مطيعين له ظاهرا وباطنا بدفع الخواطر * (فإن خفتم) * صدمات الجلال حال سفركم إلى الله تعالى فصلوا راجلين في بيداء
163

المسير سائرين على أقدام الصدق أو راكبين على مطايا العزم ولا يصدنكم الخوف عن ذلك * (فإذا أمنتم) * بعد الرجوع عن ذلك السفر إلى الوطن الأصلي بكشف الحجاب * (فاذكروا الله) * (البقرة: 239) أي فصلوا له بكليتكم حتى تفنوا فيه أو فإذا أمنتم بالرجوع إلى البقاء بعد الفناء فاذكروا الله تعالى لحصول الفرق بعد الجمع حينئذ، وأما قبل ذلك فلا ذكر إذ لا امتياز ولاتفصيل وقد قيل للمجنون: أتحب ليلى؟ فقال: ومن ليلى؟! أنا ليلى، وقال بعضهم: أنا من أهوى ومن أهوى أنا * نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته * وإذا أبصرته أبصرتنا
* (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم) * أي أوطانهم المألوفة ومقار نفوسهم المعهودة ومقاماتهم ومراتبهم من الدنيا وما ركنوا إليها بدواعي الهوى * (وهم) * قوم * (ألوف) * كثيرة أو متحابون متألفون في الله تعالى حذر موت الجهل والانقطاع عن الحياة الحقيقية والوقوع في المهاوي الطبيعية * (فقال لهم الله موتوا) * أي أمرهم بالموت الاختياري أو أماتهم عن ذواتهم بالتجلي الذاتي حتى فنوا فيه ثم أحياهم بالحياة الحقيقية العلمية أو به بالوجود الحقاني - والبقاء بعد الفناء - * (إن الله لذو فضل على) * سائر * (الناس) * بتهيئة أسباب إرشادهم * (ولكن أكثر الناس لا يشكرون) * (البقرة: 243) لمزيد غفلتهم عما يراد بهم * (وقاتلوا في سبيل الله) * النفس والشيطان * (واعلموا أن الله سميع) * هواجس نفوس المقاتلين في سبيله * (عليم) * (البقرة: 244) بما في قلوبهم * (من ذا الذي يقرض الله) * ويبذل نفسه له بذلا خالصا عن الشركة * (فيضاعفه له أضعافا كثيرة) * بظهور نعوت جماله وجلاله فيه - * (والله يقبض) * أرواح الموحدين - بقبضته الجبروتية
في نور الأزلية، * (ويبسط) * (البقرة: 245) أسرار العارفين من قبضة الكبرياء وينشرها في مشاهدة ثناء الأبدية، ويقال: القبض سره والبسط كشفه، وقيل: القبض للمريدين والبسط للمرادين أو الأول: للمشتاقين والثاني: للعارفين، والمشهور أن القبض والبسط حالتان بعد ترقي العبد عن حالة الخوف والرجاء فالقبض للعارف كالخوف للمستأمن، والفرق بينهما أن الخوف والرجاء يتعلقان بأمر مستقبل مكروه أو محبوب، والقبض والبسط بأمر حاضر في الوقت يغلب على قلب العارف من وارد غيبي وكان الأول: من آثار الجلال والثاني: من آثار الجمال.
* (ألم تر إلى الملإ من بنىإسرءيل من بعد موسىاإذ قالوا لنبى لهم ابعث لنا ملكا نق‍اتل فى سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تق‍اتلوا قالوا وما لنآ ألا نق‍اتل فى سبيل الله وقد أخرجنا من دي‍ارنا وأبنآئنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظ‍المين) *
* (ألم تر إلى الملإ من بني إسراءيل) * الملأ من القوم وجوههم وأشرافهم وهو اسم للجماعة لا واحد له من لفظه، وأصل الباب الاجتماع فيما لا يحتمل المزيد وإنما سمي الأشراف بذلك لأن هيبتهم تملأ الصدور أو لأنهم يتمالؤن أي يتعاونون بما لا مزيد عليه، و (من) للتبغيض والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من الملأ * (من بعد موسى) * أي من بعد وفاته عليه السلام، و (من) للإبتداء وهي متعلقة بما تعلق به ما قبله ولا يضر اتحاد الحرفين لفظا لاختلافهما معنى * (إذ قالوا لنبي لهم) * قال أبو عبيدة: هو أشمويل بن حنة بن العاقر - وعليه الأكثر -. وعن السدي أنه شمعون وقال قتادة: هو يوشع بن نون لمكان * (من بعد) * من قبل وهي ظاهرة في الاتصال، ورد بأن يوشع هذا فتى موسى عليهما السلام وكان بينه وبين داود قرون كثيرة والاتصال غير لازم، و * (إذ) * متعلقة بمضمر يستدعيه المقام أي: ألم تر قصة الملأ أو حديثهم حين قالوا: * (ابعث لنا ملكا) * أي أقم لنا أميرا، وأصل البعث إرسال المبعوث من المكان الذي هو فيه لكن يختلف باختلاف متعلقه يقال: بعث البعير من مبركه إذا أثاره وبعثته في السير إذا هيجته، وبعث الله تعالى الميت إذا أحياه، وضرب البعث على الجند إذا أمروا بالارتحال.
164

* (نق‍اتل في سبيل الله) * مجزوم بالأمر، وقرىء بالرفع على أنه حال مقدرة أي ابعثه لنا مقدرين القتال أو مستأنف استئنافا بيانيا كأنه قيل: فماذا تفعلون مع الملك؟ فأجيب نقاتل، وقرىء (يقاتل) - بالياء - مجزوما ومرفوعا على الجواب للأمر. والوصف - لملكا - وسبب طلبهم ذلك على ما في بعض الآثار أنه لما مات موسى خلفه يوشع ليقيم فيهم أمر الله تعالى ويحكم بالتوراة ثم خلفه كالب كذلك ثم حزقيل كذلك ثم إلياس كذلك ثم اليسع كذلك، ثم ظهر لهم عدو وهم العمالقة قوم جالوت - وكانوا سكان بحر الروم - بين مصر وفلسطين، وظهروا عليهم، وغلبوا على كثير من بلادهم وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين، وضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم ولم يكن لهم نبي إذ ذاك يدبر أمرهم وكان سبط النبوة قد هلكوا إلا امرأة حبلى فولدت غلاما فسمته أشمويل ومعناه إسمعيل، وقيل: شمعون فلما كبر سلمته التوراة وتعلمها في بيت المقدس وكفله شيخ من علمائهم فلما كبر نبأه الله تعالى وأرسله إليهم فقالوا: إن كنت صادقا - فابعث لنا ملكا - الآية، وكان قوام أمر بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك وطاعة أنبيائهم وكان الملك هو الذي يسير بالجموع والنبي هو الذي يقيم أمره ويرشده ويشيره عليه.
* (قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تق‍اتلوا) * (عسى) من النواسخ وخبرها (أن لا تقاتلوا) وفصل بالشرط اعتناءا به، والمعنى هل قاربتم أن لا تقاتلوا كما أتوقعه منكم، والمراد تقرير أن المتوقع كائن وتثبيته على ما قيل، واعترض بأن عسيتم أن لا تقاتلوا معناه توقع عدم القتال، و (هل) لا يستفهم بها إلا عما دخلته فيكون الاستفهام عن التوقع لا المتوقع ولا يلزم من تقرير الاستفهام أن المتوقع ثابت بل إن التوقع كائن وأين هذا من ذاك؟! وأجيب بأن الاستفهام دخل على جملة مشتملة على توقع ومتوقع ولا سبيل إلى الأول لأن الرجل لا يستفهم عن توقعه فتعين أن يكون عن المتوقع، ولما كان الاستفهام على سبيل التقرير كان المراد أن المتوقع كائن، وقيل: لما كانت عسى لإنشاء التوقع ولا تخرج عنه جعل الاستفهام التقريري متوجها إلى المتوقع وهو الخبر الذي هو محل الفائدة فقرره وثبته وكون المستفهم عنه يلي الهمزة ليس أمرا كليا، وقيل: إن (عسى) ليست من النواسخ وقد تضمنت معنى قارب و (إن) وما بعدها مفعول لها وهذا معنى قول بعضهم: إن خبر لا إنشاء، واستدل على ذلك بدخول الاستفهام عليها ووقوعها خبرا في قوله: لا تكسرن إني عسيت صائما
ولا يخفى ما فيه، وإنما ذكر في معرض الشرط كتابة القتال دون ما التمسوه مع أنه أظهر تعلقا بكلامهم مبالغة في بيان تخلفهم عنه فإنهم إذا لم يقاتلوا عند فرضية القتال عليهم بإيجاب الله تعالى فلأن لا يقاتلوا عند عدم فرضيته أولى ولأن ما ذكروه بما يوهم أن سبب تخلفهم هو المبعوث لا نفس القتال، ويحتمل أنه أقام هذا مقام ذلك إيماءا إلى أن ذلك البعث المترتب عليه القتال إذا وقع فإنما يقع على وجه يترتب عليه الفرضية، وقرىء - عسيتم - بكسر السين وهي لغة قليلة.
* (قالوا وما لنا ألا نق‍اتل في سبيل الله) * أي ما الداعي لنا إلى أن لا نقاتل أي إلى ترك القتال، والجار والمجرور متعلق بما تعلق به (لنا) أو به نفسه وهو خبر عن * (ما) * ودخلت الواو لتدل على ربط هذا الكلام بما قبله ولو حذفت لجاز أن يكون منقطعا عنه - قاله أبو البقاء - وجوز أن تكون عاطفة على محذوف كأنهم قالوا عدم القتال غير متوقع منا - وما لنا أن لا نقاتل - وإنما لم يصرحوا به تحاشيا عن مشافهة نبيهم بما هو ظاهر في رد كلامه، والشائع في مثل هذا التركيب ما لنا نفعل أو لا نفعل على أن الجملة حال، ولما منع من ذلك هنا أن المصدرية إذ لا توافقه التزم فيه ما التزم، والأخفش ادعى
165

زيادة إن وأن العمل لا ينافيها، والجملة نصب على الحال كما في الشائع، وقيل: إنه على حذف الواو ويؤول إلى (ما لنا) ولأن لا نقاتل كقولك: إياك وأن تتكلم؛ وقد يقال: إياك أن تتكلم والمعنى على - الواو -، وقيل: إن (ما) هنا نافية أي ليس لنا ترك القتال.
* (وقد أخرجنا من دي‍ارنا وأبنائنا) * في موضع الحال والعامل (نقاتل) والغرض الإخبار بأنهم يقاتلون لا محالة إذ قد عرض لهم ما يوجب المقاتلة إيجابا قويا وهو الإخراج عن الأوطان والاغتراب من الأهل والأولاد، وإفراد الأبناء بالذكر لمزيد تقوية أسباب القتال وهو معطوف على الديار وفيه حذف مضاف عند أبي البقاء أي ومن بين أبنائنا، وقيل: لا حذف والعطف على حد:
علفتها تبنا وماءا باردا
وفي الكلام إسناد ما للبعض للكل إذ المخرج بعضهم لا كلهم.
* (فلما كتب عليهم القتال) * بعد سؤال النبي وبعث الملك * (تولوا) * أعرضوا وضيعوا أمر الله تعالى ولكن لا في ابتداء الأمر بل بعد مشاهدة كثرة العدو وشكوته كما سيجيء وإنما ذكر ههنا مآل أمرهم إجمالا إظهارا لما بين قولهم وفعلهم من التنافي والتباين * (إلا قليلا منهم) * وهم الذين جاوزوا النهر وكانوا ثلثمائة وثلاثة عشرة عدة أهل بدر على ما أخرجه البخاري عن البراء رضي الله تعالى عنه، والقلة إضافية فلا يرد وصف هذا العدد أحيانا بأنه جم غفير * (والله عليم بالظ‍المين) * ومنهم الذين ظلموا بالتولي عن القتال وترك الجهاد وتنافت أقوالهم وأفعالهم، والجملة تذييل أريد منها الوعيد على ذلك.
* (وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطف‍اه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتى ملكه من يشآء والله واسع عليم) *
* (وقال لهم نبيهم) * شروع في التفصيل بعد الإجمال أي قال بعد أن أوحى لهم ما أوحي * (إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا) * يدبر أمركم وتصدرون عن رأيه في القتال. وطالوت فيه قولان أظهرهما أنه علم أعجمي عبري - كداود - ولذلك لم ينصرف، وقيل: إنه عربي من الطول وأصله طولوت - كرهبوت ورحموت - فقلبت - الواو ألفا - لتحركها وانفتاح ما قبلها ومنع صرفه حينئذ للعلمية وشبه العجمة لكونه ليس من أبنية العرب، وأما ادعاء العدل عن طويل، والقول بأنه عبراني وافق العربي فتكلف. و * (ملكا) * حال من * (طالوت) * أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن - نبيهم - لما دعا ربه أن يملكهم أتى بعصا يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت. وأخرج ابن إسحق وابن جرير عن وهب بن منبه أنه لما دعا تعالى قال له: أنظر القرن الذي فيه الدهن في بيتك فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي فيه فهو ملك بني إسرائيل فأدهن رأسه منه وملكه عليهم فأقام ينتظر متى يدخل ذلك الرجل عليه وكان طالوت رجلا دباغا يعمل الأدم، وقيل: كان سقاءا وكان من سبط بنيامين بن يعقوب عليه السلام ولم يكن فيهم نبوة ولا ملك فخرج طالوت في ابتغاء دابة له ضلت ومعه غلام فمرا ببيت النبي فقال غلام طالوت له: لو دخلت بنا على هذا النبي فسألناه عن أمر دابتنا فيرشدنا ويدعو لنا فيها بخير فقال طالوت: ما بما قلت من بأس فدخلا عليه فبينما هو عنده يذكر له شأن دابته ويسأله أن يدعو له إذ نش الدهن الذي في القرن فقام إليه النبي فأخذه ثم قالت لطالوت: قرب رأسك فقربه فدهنه منه ثم قال: أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله تعالى أن أملك عليهم فجلس عنده وقال الناس: ملك طالوت فأتت عظماء بني إسرائيل نبيهم مستغربين ذلك حيث لم يكن من بيت النبوة ولا الملك.
* (قالوا أنى يكون له الملك علينا) * أي من أين يكون أو كيف يكون له ذلك؟ والاستفهام حقيقي أو للتعجب
166

لا لتكذيب نبيهم والإنكار عليه في رأي، وموضعه نصب على الحال من الملك، و - يكون - يجوز أن تكون الناقصة فيكون الخبر (له)، - و (علينا) - حال من الملك أو الخبر (علينا) و (له) حال، ويجوز أن تكون التامة فيكون له متعلقا بها. و * (علينا) * حال * (ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال) * الواو الأولى: حالية، والثانية: عاطفة جامعة للجملتين أي كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هو أحق منه ولعدم ما يتوقف عليه الملك من المال، أو لعدم ما يجبر نقصه لو كان ويلحقه بالأشراف عرفا من ذلك، وأصل - سعة - وسعة بالواو وحذفت لحذفها من يسع وكان حق الفعل كسر السين فيه ليتأتى الحذف كما في - يعد - وإنما ارتكب الفتح لحرف الحلق فهو عارض، ولذا أجرى عليه حكم الكسرة ولذلك الفتح فتحت السين في المصدر ولم تكسر كما كسرت عين عدة. * (قال إن الله اصطف‍اه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم) * رد عليهم بأبلغ وجه وأكمله كأنه قيل: لا تستبعدوا تملكه عليكم لفقره وانحطاط نسبه عنكم، أما أولا: فلأن ملاك الأمر هو اصطفاء الله تعالى وقد اصطفاه واختاره وهو سبحانه أعلم بالمصالح منكم، وأما ثانيا: فلأن العمدة وفور العلم ليتمكن به من معرفة الأمور السياسية، وجسامة البدن ليكون أعظم خطرا في القلوب وأقوى على كفاح الأعداء ومكابدة الحروب لا ما ذكرتم وقد خصه الله تعالى بحظ وافر منهما، وأما ثالثا: فلأنه تعالى مالك الملك على الإطلاق وللمالك أن يمكن من شاء من التصرف في ملكه بإذنه، وأما رابعا: فلأنه سبحانه واسع الفضل يوسع على الفقير فيغنيه عليم بما يليق بالملك من النسيب وغيره، وفي تقديم البسطة في العلم على البسطة في الجسم إيماء إلى أن الفضائل النفسانية أعلى وأشرف من الفضائل الجسمانية بل يكاد لا يكون بينهما نسبة لا سيما ضخامة الجسم ولهذا حمل بعضهم البسطة فيه هنا على الجمال أو القوة لا على المقدار كطول القامة كما قيل: إن الرجل القائم كان يمد يده حتى ينال رأسه فإن ذلك لو كان كمالا لكان أحق الخلق به رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه عليه الصلاة والسلام كان ربعة من الرجال، ولعل ذكر ذلك على ذلك التقدير لأنه صفة تزيد الملك المطلوب لقتال العمالقة حسنا لأنهم كانوا ضخاما ذوي بسطة في الأجسام وكان ظل ملكهم جالوت ميلا على ما في بعض الأخبار لا أنها من الأمور التي هي عمدة في الملوك من حيث هم كما لا يخفى على من تحقق - أن المرء بأصغريه لا بكر جسمه وطول برديه -.
وفي اختيار واسع وعليم في الأخبار عنه تعالى هنا حسن المناسبة لبسطة الجسم وكثرة العلم ما تهتش له الخواطر لا سيما على ما يتبادر من بسطة الجسم، وقدم الوصف الأول مع أن ما يناسبه ظاهرا مؤخر لأن له مناسبة معنى لأول الأخبار إذ الاصطفاء من سعة الفضل أيضا، ولأن عليم أوفق بالفواصل وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة.
* (وقال لهم نبيهم إن ءاية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك ءال موسى وءال ه‍ارون تحمله المل‍ائكة إن في ذالك لأية لكم إن كنتم مؤمنين) *
* (وقال لهم نبيهم) * عطف على مثله مما تقدم وكان توسيط ما تقدم بينهما للإشعار بعدم اتصال أحدهما بالآخر وتخلل كلام من جهة المخاطبين متفرع على السابق مستتبع للاحق، وروايات القصاص متظافرة على أنهم قالوا لنبيهم: ما آية ملكه واصطفائه علينا؟ فقال: * (إن ءاية ملكه أن يأتيكم التابوت) * ولما لم يكن قولهم ذلك
مذكورا ليقع هذا جوابا له صراحة أعاد الفاعل ليغار ما علم صراحة كونه جوابا، وإنما لم يجر ذلك المجرى بأن يذكر مقولهم ويكون هذا جوابا له، ويكتفي بالإضمار كما اكتفى به أولا للإيماء إلى أن ذلك السؤال للنبي بعد تصديقهم له وبيانه لهم ما استفهموا عنه مما لا ينبغي أن يكون حتى يجاب لأن له شبها تاما بالتعنت حينئذ وإن عد من باب
167

السؤال لتقوية العلم، وهذا بناءا على أن القوم كانوا مؤمنين، وفي بعض الروايات ما يقتضي أنهم لم يكونوا آمنوا به حينئذ فعن السدي أن هذا النبي كان قد كفله شيخ من علماء بني إسرائيل فلما أراد الله تعالى أن يبعثه نبيا أتاه جبريل وهو غلام نائم إلى جنب الشيخ، وكان لا يأمن عليه غيره فدعاه بلحن الشيخ فقام فزعا إلى الشيخ فقال: يا أبتاه دعوتني؟ فكره الشيخ أن يقول لا فيفزع فقال: يا بني ارجع فنم فرجع فنام فدعاه الثانية فأتاه الغلام أيضا فقال: دعوتني؟ فقال: ارجع فنم فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني، فلما كانت الثالثة ظهر له جبريل فقال له: اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك فإن الله تعالى قد بعثك فيهم نبيا فلما أتاهم كذبوه وقالوا: استعجلت بالنبوة ولم يأن لك وقالوا: إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا ثم جرى ما جرى فقال: إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا فقالوا: ما كنت قط أكذب منك الساعة واعترضوا وأجيبوا ثم - قالوا إن كنت صادقا فأتنا بآية - أن هذا ملك فقال: ما قص الله تعالى، وحينئذ لا يبعد أن يكون الاستفهام المصرح به في الآية وكذا الطلب المرموز إليه فيها صادرا عن إنكار وعدم إيقان، ووجه ترك ذكر سؤالهم حينئذ إن كان الإشارة إلى أن من شأن الأنبياء الإتيان بالآيات وإن لم تطلب منهم جلبا للشارد وتقييدا للوارد وليزداد الذين آمنوا هدى.
والتابوت الصندوق وهو فعلوت من التوب وهو الرجوع لما أنه لا يزال يرجع إليه ما يخرج منه وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاجه من مودعاته فتاؤه مزيدة كتاء ملكوت، وأصله توبوت فقلبت الواو ألفا وليس بفاعول من التبت لقلة ما كان فاؤه ولامه من جنس واحد كسلس وقلق، وقرىء (تابوه) بالهاء، وهي لغة الأنصار والأولى لغة قريش، وهي التي أمر عثمان رضي الله تعالى عنه بكتابتها في الإمام حين ترافع لديه في ذلك زيد، وأبان رضي الله تعالى عنهما ووزنه حينئذ - على ما اختاره الزمخشري - فاعول لأن شبهة الاشتقاق لا تعارض زيادة الهاء وعدم النظير، وأما جعل الهاء بدلا من التاء لاجتماعهما في الهمس - وأنهما من حروف الزيادة - فضعيف لأن الإبدال في غير تاء التأنيث ليس بثبت؛ وذهب الجوهري إلى أن التاء فيه للتأنيث وأصله عنده تابوة مثل ترقوة فلما سكنت الواو انقلبت هاء التأنيث تاءا، والمراد به صندوق كان يتبرك به بنو إسرائيل فذهب منهم، واختلف في تحقيق ذلك فقال أرباب الأخبار: هو صندوق أنزله الله تعالى على آدم عليه السلام فيه تماثيل الأنبياء جميعهم، وكان من عود الشمشاذ نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين، ولم يزل ينتقل من كريم إلى كريم حتى وصل إلى يعقوب ثم إلى بنيه - ثم وثم - إلى أن فسد بنو إسرائيل وعصوا بعد موسى عليه السلام فسلط الله تعالى عليهم العمالقة فأخذوه منهم فجعلوه في موضع البول والغائط فلما أراد الله تعالى أن يملك طالوت سلط عليهم البلاء حتى إن كل من أحدث عنده ابتلى بالبواسير وهلكت من بلادهم خمس مدائن فعلموا أن ذلك بسبب استهانتهم به فأخرجوه وجعلوه على ثورين فأقبلا يسيران وقد وكل الله تعالى بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما حتى أتوا منزل طالوت.
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صندوق التوراة وكان قد رفعه الله تعالى إلى السماء سخطا على بني إسرائيل لما عصوا بعد وفاة موسى عليه السلام فلما طلبت الآية أتى من السماء والملائكة يحفظونه وبنو إسرائيل يشاهدون ذلك حتى أنزلوه في بيت طالوت. وعن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أنه التابوت الذي أنزل على أم موسى فوضعته فيه وألقته في البحر وكان عند بني إسرائيل يتبركون به إلى أن فسدوا فجعلوا يستخفون به فرفعه الله تعالى إلى أن كان ما كان، وروي غير ذلك مما يطول، وأقرب الأقوال التي رأيتها أنه صندوق التوراة تغلبت عليه العمالقة حتى رده الله تعالى، وأبعدها أنه صندوق نزل من السماء على آدم عليه السلام وكان
168

يتحاكم الناس إليه بعد موسى عليه السلام إذ اختلفوا فيحكم بينهم ويتكلم معهم إلى أن فسدوا فأخذه العمالقة، ولم أر حديثا صحيحا مرفوعا يعول عليه بفتح قفل هذا الصندوق ولا فكرا كذلك.
* (فيه سكينة من ربكم) * أي في إتيانه سكون لكم وطمأنينة، فالسكينة مصدر حينئذ أو فيه نفسه ما تسكنون إليه وهو التوراة، وقيل: وليس بالصحيح - كما قاله الراغب - صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت لها رأس وذنب كرأس الهرة وذنبها وجناحان فتئن فيزف التابوت نحو العدو وهم يمضون معه فإذا استقر ثبتوا وسكنوا ونزل النصر، والجملة في موضع الحال. و (من) لابتداء الغاية أو للتبعيض أي من سكينات ربكم.
* (وبقية مما ترك ءال موسى وءال ه‍ارون) * هي رضاض الألواح وثياب موسى وعمامة هرون وطست من ذهب كانت تغسل به قلوب الأنبياء. وكلمة الفرج لا إله إلا الله الحليم الكريم وسبحان الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين، وآلهما أتباعهما أو أنفسهما، أو أنبياء بني إسرائيل، لأنهم أبناء عمهما * (تحمله المل‍ائكة) * حال من التابوت، والحمل إما حقيقة أو مجاز على حد. حمل زيد متاعي إلى مكة. * (إن في ذالك) * إشارة إلى ما ذكر من إتيان التابوت فهو من كلام النبي لقومه أو إلى نقل القصة وحكايتها فهو ابتداء خطاب منه تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين وجيء به قبل تمام القصة إظهارا لكمال العناية، وإفراد حرف الخطاب مع تعدد المخاطبين على التقديرين بتأويل الفريق ونحوه * (لأية) * عظيمة كائنة * (لكم) * دالة على جعل طالوت ملكا عليكم أو على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بما أخبر من غير سماع من البشر ولا أخذ من كتاب * (إن كنتم مؤمنين) * أي مصدقين بتمليكه عليكم أو بشيء من الآيات، و * (إن) * شرطية والجواب محذوف اعتمادا على ما قبله وليس المقصود حقيقة الشرطية إذا كان المخاطب من تحقق إيمانه، وقيل: هي بمعنى إذ.
* (فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه منىإلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه
هو والذين ءامنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الص‍ابرين) *
* (فلما فصل طالوت بالجنود) * أي انفصل عن بيت المقدس مصاحبا لهم لقتال العمالقة، وأصله فصل نفسه عنه، ولما اتحد فاعله ومفعوله شاع استعماله محذوف المفعول حتى نزل منزلة القاصر - كانفصل - وقيل: فصل فصلا وجوز كونه أصلا برأسه ممتازا من التعدي بمصدره كوقف وقوفا ووقفه وقفا وصد عنه صدودا وصده صدا وهو باب مشهور، والجنود الأعوان والأنصار جمع جند، وفيه معنى الجمع، وروى أنه قال لقومه: لا يخرج معي رجل بنى بناءا لم يفرغ منه ولا تاجر مشتغل بالتجارة، ولا متزوج بامرأة لم يبن عليها ولا ابتغي إلا الشاب النشيط الفارغ فاجتمع إليه ممن اختاره ثمانون ألفا، وقيل: سبعون ألفا، وكان الوقت قيظا فسلكوا مفازة فسالوا نهرا * (قال إن الله مبتليكم) * أي معاملكم معاملة من يريد أن يختبركم ليظهر للعيان الصادق منكم والكاذب * (بنهر) * بفتح الهاء، وقرىء بسكونها وهي لغة فيه وكان ذلك نهر فلسطين كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعن قتادة والربيع أنه نهر بين فلسطين والأردن * (فمن شرب منه) * أي ابتدأ شربه لمزيد عطشه من نفس النهر بأن كرع لأنه الشرب منه حقيقة، وهذا كثيرا ما يفعله العطشان المشرف على الهلاك، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي: فمن شرب من مائه مطلقا * (فليس مني) * أي من أشياعي، أو ليس بمتصل بي ومتحد معي * (فمن) * اتصالية وهي غير التبعيضية عند بعض وكأنها بيانية عنده وعينها عند آخرين.
169

* (ومن لم يطعمه فإنه منى) * أي من لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه، مأكولا كان أو مشروبا، حكاه الأزهري عن الليث، وذكر الجوهري أن الطعم ما يؤديه الذوق وليس هو نفس الذوق فمن فسره به على هذا فقد توسع وعلى التقديرين استعمال طعم الماء بمعنى ذاق طعمه مستفيض لا يعاب استعماله لدى العرب العرباء ويشهد له قوله: وإن شئت حرمت النساء سواكم * وإن شئت لم - أطعم - نقاخا ولا بردا
وأما استعماله بمعنى شربه واتخذه طعاما فقبيح إلا أن يقتضيه المقام كما في حديث زمزم " طعام طعم وشفاء سقم " فإنه تنبيه على أنها تغذي بخلاف سائر المياه، ولا يخدش هذا ما حكي أن خالد بن عبد الله القسري قال على منبر الكوفة وقد خرج عليه المغيرة بن سعيد: أطعموني ماءا فعابت عليه العرب ذلك وهجوه به وحملوه على شدة جزعه، وقيل فيه: بل المنابر من خوف ومن وهل * واستطعم - الماء - لما جد في الهرب
وألحن الناس كل الناس قاطبة * وكان يولع بالتشديق بالخطب
لأن ذلك إنما عيب عليه لأنه صدر عن جزع فكان مظنة الوهم وعدم قصد المعنى الصحيح، وإلا فوقوع مثله في كلامهم مما لا ينبغي أن يشك فيه، وإنما علم طالوت أن من شرب عصاه ومن لم يطعم أطاعه بواسطة الوحي إلى نبي بني إسرائيل وإنما لم يخبرهم النبي نفسه بذلك بل ألقاه إلى طالوت فأخبر به كأنه من تلقاء نفسه ليكون له وقع في قلوبهم، وجوز أن يكون ذلك بواسطة وحي إليه بناءا على أنه نبيء بعد أن ملك وهو قول لا ثبت له، والقول بأنه يحتمل أن يكون بالفراسة والإلهام بعيد.
* (إلا من اغترف غرفة بيده) * استثناء من الموصول الأول أو ضميره في الخبر فإن فسر الشرب بالكروع كان الاستثناء منقطعا وإلا كان متصلا، وفائدة تقديم الجملة الثانية الإيذان بأنها من تتمة الأولى وأن الغرض منها تأكيدها وتتميمها نهيا عن الكروع من كل وجه، وإفادة أن المغترف ليس بذائق حكما فيؤكد ترخيص الاغتراف ولو أخرت لم تفد هذه الفوائد ولاختل النظم لدلالة الاستثناء إذ ذاك على أن المغترف متحد معه، ودلالة الجملة الثانية بمفهومها على أنه غير متحد معه ولا يصح في الاستثناء أن يكون من أحد الضميرين الراجعين إلى الموصولين في الصلة للفصل بين أجزاء الصلة حينئذ بالخبر وأداء المعنى في الأول إلى أن المجتزىء في الشرب بغرفة واحدة ليس متصلا به متحدا معه لأن التقدير - والذين شربوا كلهم إلا المغترف ليس مني - ولا يصح أيضا أن يكون من الموصول الثاني أو الضمير الراجع إليه في الخبر خلافا للبعض إذ لا فرق لأدائه إلى أن المجتزىء المذكور مخرج من حكم الاتحاد معه لأن التقدير - والذين لم يذوقوه فإنهم كلهم إلا المغترف منهم متصلون بي متحدون معي - وليس بالمراد أصلا، والغرفة ما يغرف، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأهل المدينة (غرفة) بفتح الغين على أنها مصدر، وقيل: الغرفة والغرفة مصدران والضم والفتح لغتان، والباء متعلقة باغترف أو بغرفة في قول، أو بمحذوف وقع صفة لها.
* (فشربوا منه) * عطف على مقدر يقتضيه المقام أي فابتلوا به فشربوا، والمراد إما كرعوا - وهو المتبادر - وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو أفرطوا في الشرب * (إلا قليلا منهم) * لم يكرعوا أو لم يفرطوا في الشرب بل اقتصروا على الغرفة باليد وكانت تكفيهم لشربهم وإداوتهم كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرج عنه أيضا أن من شرب
170

لم يزدد إلا عطشا، وفي رواية: إن الذين شربوا اسودت شفاههم وغلبهم العطش وكان ذلك من قبيل المعجزة لذلك النبي، وقرأ أبي والأعمش (إلا قليل) بالرفع وجعلوه من الميل إلى جانب المعنى فإن قوله تعالى: * (فشربوا منه) * في قوة أن يقال: فلم يطيعوه فحق أن يرد المستثنى مرفوعا كما في قول الفرزدق:
وعض زمان يا ابن مروان - لم يدع - * من المال إلا مسحت أو مجلف
فإن قوله: لم يدع في حكم لم يبق. وذهب أبو حيان إلى أنه لا حاجة إلى التأويل، وجوز في الموجب وجهين النصب وهو الأفصح والاتباع لما قبله على أنه نعت أو عطف بيان وأورد له قوله: وكل أخ مفارقه أخوه * لعمر أبيك إلا الفرقدان
ولا يخفى ما فيه * (فلما جاوزه) * أي النهر وتخطاه * (هو) * أي طالوت * (والذين ءامنوا) * عطف على الضمير المتصل المؤكد بالمنفصل، والمراد بهم القليلون والتعبير عنهم بذلك تنويها بشأنهم وإيماءا إلى أن من عداهم بمعزل عن الإيمان * (معه) * متعلق - بجاوز - لا - بآمنوا - وجوز أن يكون خبرا عن (الذين) بناءا على أن الواو للحال كأنه قيل: فلما جاوزه والحال إن الذين آمنوا كائنون معه.
* (قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده) * أي لا قدرة لنا بمحاربتهم ومقاومتهم فضلا عن الغلبة عليهم، وجالوت كطالوت، والقائل بعض المؤمنين لبعض وهو
إظهار ضعف لا نكوص لما شاهدوا من الأعداء ما شاهدوا من الكثرة والشدة، قيل: كانوا مائة ألف مقاتل شاكي السلاح، وقيل: ثلثمائة ألف * (قال) * على سبيل التشجيع لذلك البعض وهو استئناف بياني * (الذين يظنون) * أي يتيقنون * (أنهم مل‍اقوا الله) * بالبعث والرجوع إلى ما عنده وهم الخلص من أولئك والأعلون إيمانا فلا ينافي وصفهم بذلك إيمان الباقين فإن درجات المؤمنين في ذلك متفاوتة ويحتمل إبقاء الظن على معناه، والمراد يظنون أنهم يستشهدون عما قريب ويلقون الله تعالى، وقيل: الموصول عبارة عن المؤمنين كافة، وضمير (قالوا) للمنخزلين عنهم كأنهم قالوا ذلك اعتذارا عن التخلف والنهر بينهما ولا يخفى بعده لأن الظاهر أنهم قالوا هذه المقالة عند لقاء العدو ولم يكن المنخزلون إذ ذاك معهم، وأيضا أي حاجة إلى إبداء العذر عن التخلف مع ما سبق من طالوت أن الكارعين ليسوا منه في شيء فلو لم ينخزلوا لمنعوا من الذهاب معه.
* (كم من فئة) * أي قطعة من الناس وجماعة - من فأوت رأسه - إذا شققته أو من فاء إليه إذا رجع وأصلها على الأول: فيوة فحذفت لامها فوزنها فعة، وأصلها على الثاني: فيئة فحذفت عينها فوزنها فله. و * (كم) * هنا خبرية ومعناها كثير، و * (من) * زائدة، و * (فئة) * تمييز، وجوز أبو البقاء أن يكون * (من فئة) * في موضع رفع صفة ل‍ - كم - كما تقول عندي مائة من درهم ودينار، وجوز بعضهم أن تكون * (كم) * استفهامية ولعله ليس على حقيقته، ونقل عن الرضي أن (من) لا تدخل بعد (كم) الاستفهامية، فالقول بالخبرية أولى * (قليلة) * نعت - لفئة - على لفظها * (غلبت) * أي قهرت عند المحاربة * (فئة كثيرة) * بالنسبة إليها. * (بإذن الله) * أي بحكمه وتيسيره ولم يقولوا أطاقت حسبما وقع في كلام أصحابهم مبالغة في تشجيعهم وتسكين قلوبهم، وإذا حمل التنوين في * (فئة) * الأولى للتحقير، وفي - فئة - الثانية للتعظيم كان أبلغ في التشجيع وأكمل في التسكين وقد ورد مثل ذلك في قوله:
171

له حاجب عن كل أمر يشينه * وليس له عن طالب العرف حاجب
وهذا كما ترى ناشىء من كمال - إيمانهم بالله واليوم الآخر - وتصديقهم بأنه سبحانه لا يعجزه إحياء الموتى كما لا يعجزه إماتة الأحياء فضلا عن نصرة الضعفاء فلا ريب في أن ما في حيز الصلة مما له كمال ملاءمة للحكم الوارد على الموصول لا سيما وقد أخذ فيه إذن الله تعالى وحكمه، ومن لا يؤمن بلقاء الله تعالى لا يكاد يقرب من هذا القيد قيد شبر فاندفع بهذا ما قاله - مولانا مفتي الديار الرومية - من أن هذا الجواب كما ترى ناشىء من كمال ثقتهم بنصر الله تعالى وتوفيقه ولا دخل في ذلك لظن لقاء الله تعالى بالبعث ولا لتوقع ثوابه عز شأنه، ولا ريب في أن ما ذكر في حيز الصلة ينبغي أن يكون مدارا للحكم الوارد على الموصول ولا أقل من أن يكون وصفا ملائما له فإن الملائمة على ما جاد به هذا الذهن الكليل حصلت على أتم وجه وأكمله فلا حاجة في تحصيلها إلى ما ذكره رحمه الله تعالى بعد من إخراج اللفظ عن ظاهره الشائع استعماله فيه إلى يوم ملاقاته تعالى وحمل ملاقاته سبحانه على ملاقاة نصره تعالى وتأييده وجعل التعبير بذلك عنه مبالغة فإنه بمعزل عن استعمال ذلك في جميع الكتاب المجيد وليس هو من قبيل قوله تعالى: * (والله مع الص‍ابرين) * المراد منه المعية بالنصر والإحسان لأنه في سائر القرآن مألوف استعماله في مثل ذلك كما لا يخفى، وهو يحتمل أن يكون من كلام الأعلين أتى به تكميلا للتشجيع وترغيبا بالصبر بالإشارة إلى ما فيه، ويحتمل أن يكون ابتداء كلام من جهته تعالى جىء به تقريرا لكلامهم ودعاءا للسامعين إلى مثل حال هؤلاء المشير إليها مقالهم.
* (ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنآ أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الك‍افرين) *
* (ولما برزوا) * أي ظهر طالوت ومن معه وصاروا في براز من الأرض وهو ما انكشف منها واستوى * (لجالوت وجنوده) * أي لمحاربتهم وقتالهم * (قالوا) * جميعا بعد أن قويت قلوب الضعفاء متضرعين إلى الله تعالى متبرئين من الحول والقوة. * (ربنآ أفرغ علينا صبرا) * أي صب ذلك علينا ووفقنا له، والمراد به حبس النفس للقتال * (وثبت أقدامنا) * أي هب لنا كمال القوة والرسوخ عند المقارعة بحيث لا تتزلزل، وليس المراد بتثبيت الأقدام مجرد تقررها في حيز واحد إذ ليس في ذلك كثير جدوى * (وانصرنا على القوم الك‍افرين) * أي أعنا عليهم بقهرهم وهزمهم، ووضع (الكافرين) موضع الضمير العائد إلى - جالوت وجنوده - للإشعار بعلة النصر عليهم، وفي هذا الدعاء من اللطافة وحسن الأسلوب والنكات ما لا يخفى، أما أولا: فلأن فيه التوسل بوصف الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال، وأما ثانيا: فلأن فيه الإفراغ، وهو يؤذن بالكثرة، وفيه جعل الصبر بمنزلة الماء المنصب عليهم لثلج صدورهم وإغنائهم عن الماء الذي منعوا عنه، وأما ثالثا: فلأن فيه التعبير - بعلى - المشعر بجعل ذلك كالظرف وجعلهم كالمظروفين، وأما رابعا: فلأن فيه تنكير صبرا المفصح عن التفخيم، وأما خامسا: فلأن في الطلب الثاني وهو تثبيت الأقدام ما يرشح جعل الصبر بمنزلة الماء في الطلب الأول إذ مصاب الماء مزالق فيحتاج فيها إلى التثبت، وأما سادسا: فلأن فيه حسن الترتيب حيث طلبوا أولا: إفراغ الصبر على قلوبهم عند اللقاء وثانيا: ثبات القدم والقوة على مقاومة العدو حيث أن الصبر قد يحصل لمن لا مقاومة له، وثالثا: العمدة والمقصود من المحاربة وهو النصرة على الخصم حيث إن الشجاعة بدون النصرة طريق عتبته عن النفع خارجة، وقيل: إنما طلبوا أولا: إفراغ الصبر لأنه ملاك الأمر، وثانيا: التثبيت لأنه متفرع عليه، وثالثا: النصر لأنه الغاية القصوى، واعترض
172

هذا بأنه يقتضي حينئذ التعبير بالفاء لأنها التي تفيد الترتيب، وأجيب بأن الواو أبلغ لأنه عول في الترتيب على الذهن الذي هو أعدل شاهد كما ذكر السكاكي.
* (فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت وآت‍اه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشآء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ول‍اكن الله ذو فضل على الع‍المين) *
* (فهزموهم) * أي كسروهم وغلبوهم، والفاء فيه فصيحة أي استجاب الله تعالى دعاءهم فصبروا وثبتوا ونصروا فهزموهم * (بإذن الله) * أي بإرادته انهزامهم ويؤول إلى نصره وتأييده، والباء إما للاستعانة والسببية وإما للمصاحبة * (وقتل داود) * هو ابن إيشا * (جالوت) * أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم عن وهب بن منبه قال: لما برز طالوت لجالوت قال جالوت: أبرزوا إلي من يقاتلني فإن قتلني فلكم ملكي وإن قتلته فلي ملككم فأتى بداود إلى طالوت فقاضاه إن قتله أن ينكحه ابنته وأن يحكمه في ماله فألبسه طالوت سلاحا فكره داود أن يقاتله بسلاح وقال: إن الله تعالى إن لم ينصرني عليه لم يغن السلاح شيئا فخرج إليه بالمقلاع ومخلاة فيها أحجار ثم برز له فقال له جالوت: أنت تقاتلني؟ قال داود: نعم قال: ويلك ما خرجت إلا كما تخرج إلى الكلب بالمقلاع والحجارة لأبددن لحمك ولأطعمنه اليوم للطير والسباع فقال له داود: بل أنت عدو الله تعالى شر من الكلب فأخذ داود حجرا فرماه بالمقلاع فأصابت بين عينيه حتى قعدت في دماغه فصرخ جالوت وانهزم من معه واحتز رأسه.
* (وءات‍اه الله الملك) * في بني إسرائيل بعد ما قتل جالوت وهلك طالوت، وذلك أن طالوت - كما روي في بعض الأخبار - لما رجع وفي الشرط فأنكح داود ابنته وأجرى خاتمه في ملكه فمال الناس إلى داود وأحبوه فلما رأى ذلك طالوت وجد في نفسه وحسده فأراد قتله فعلم به داود فسجى له زق خمر في مضجعه فدخل طالوت إلى منام داود وقد هرب داود فضرب الزق ضربة فخرقه فسال الخمر منه فقال: يرحم الله تعالى داود ما كان أكثر شربه للخمر ثم إن داود أتاه من القابلة في بيته وهو نائم فوضع سهمين عند رأسه وعند رجليه وعن يمينه وعن شماله سهمين فلما استيقظ طالوت بصر بالسهام فعرفها فقال: يرحم الله تعالى داود هو خير مني ظفرت به فقتلته وظفر بي فكف عني ثم إنه ركب يوما فوجده يمشي في البرية وطالوت على فرس فقال: اليوم أقتل داود وكان داود إذا فزع لا يدرك فركض على أثره طالوت ففزع داود فاشتد فدخل غارا وأوحى الله تعالى إلى العنكبوت فضربت عليه بيتا فلما انتهى طالوت إلى الغار ونظر إلى بناء العنكبوت قال: لو كان دخل ههنا لخرق بيت العنكبوت فرجع، وجعل العلماء والعباد يطعنون عليه بما فعل مع داود وجعل هو يقتل العلماء وسائر من ينهاه عن قتل داود حتى قتل كثيرا من الناس ثم إنه ندم بعد ذلك وخلى الملك وكان له عشرة بنين فأخذهم وخرج يقاتل في سبيل الله تعالى كفارة لما فعل حتى قتل هو وبنوه في سبيل الله تعالى فاجتمعت بنو إسرائيل على داود وملكوه أمرهم فهذا إيتاء الملك * (والحكمة) * المراد بها النبوة ولم يجتمع الملك والنبوة لأحد قبله بل كانت النبوة في سبط، والملك في سبط، وهذا بعد موت ذلك النبي وكان موته قبل طالوت، وذكر الحكمة بعد الملك لأنها كانت بعده وقوعا أو للترقي من ذكر الأدنى إلى ذكر الأعلى * (وعلمه مما يشاء) * كصنعة اللبوس ومنطق الطير وكلام الدواب، والضمير المستتر راجع إلى الله تعالى، وعوده إلى داود كما قال - السمين ضعيف - لأن معظم ما علمه تعالى له مما لا يكاد يخطر ببال، ولا يقع في أمنية بشر ليتمكن من طلبه ومشيئته.
* (ولولا دفع الله الناس بعضهم) * وهم أهل الشرور في الدنيا أو في الدين أو في مجموعهما * (ببعض) * آخر منهم يردهم عما هم عليه بما قدره الله تعالى من القتل كما في القصة المحكية أو غيره،
173

وقرأ نافع هنا وفي الحج - دفاع - على أن صيغة المغالبة للمبالغة * (لفسدت الأرض) * وبطلت منافعها وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر ما يصلح الأرض ويعمرها، وقيل: هو كناية عن فساد أهلها وعموم الشر فيهم؛ وفي هذا تنبيه على فضيلة الملك وأنه لولاه ما استتب أمر العالم، ولهذا قيل: الدين والملك توأمان ففي ارتفاع أحدهما ارتفاع الآخر لأن الدين أس والملك حارس وما لا أس له فمهدوم وما لا حارس له فضائع. * (ول‍اكن الله ذو فضل) * لا يقدر قدره * (على الع‍المين) * كافة وهذا إشارة إلى قياس استثنائي مؤلف من وضع نقيض المقدم منتج - لنقيض - التالي خلا أنه قد وضع موضعه ما يستتبعه ويستوجبه أعني كونه تعالى ذا فضل على العالمين إيذانا بأنه تعالى يتفضل في ذلك الدفع من غير أن يجب عليه ذلك وأن فضله تعالى غير منحصر فيه بل هو فرد من أفراد فضله العظيم كأنه قيل: ولكنه تعالى يدفع فساد بعضهم ببعض فلا تفسد الأرض وينتظم به مصالح العالم وينصلح أحوال الأمم، قاله مولانا مفتي الديار الرومية قدس سره.
واعترض بأنه مخالف لقول المنطقيين: إن المتصلة ينتج استثناء عين مقدمها عين تاليها لاستلزام وجود الملزوم وجود اللازم واستثناء نقيض تاليها نقيض المقدم لاستلزام عدم اللازم عدم الملزوم ولا ينعكس فلا ينتج استثناء عين التالي عين المقدم ولا نقيض المقدم نقيض التالي لجواز أن يكون التالي أعم من المقدم فلا يلزم من وجود اللازم وجود الملزوم ولا من عدم الملزوم عدم اللازم، وأجيب بأن ذلك إنما هو باعتبار الهيئة، وقد يستلزمه بواسطة خصوصية مادة المساواة، وقد صرح ابن سينا في " الفصول " بأن الملازمة إذا كانت من الطرفين كما بين العلة والمعلول ينتج استثناء كل من المقدم والتالي عين الآخر ونقيضه نقيض الآخر، وفي تعليل القوم أيضا إشارة إليه حيث قالوا: لجواز أن يكون اللازم أعم وكأن في عبارة المولى إشارة إلى أن الملازمة في الشرطية من الطرفين حيث قال: منتج ولم يقل ينتج اه‍.
وأجاب بعضهم بأن قولهم ذلك ليس على سبيل الاطراد بل إذا كان نقيض المقدم أعم من نقيض التالي، وأما إذا كان نقيضه بعكس هذا كما في هذه الآية الكريمة وأمثالها فإنه ينتج التالي، وذلك أن الدفع المذكور لما كان ملزوما لعدم فساد الأرض كانت الملازمة ثابتة بينهما لأن وجود الملزوم يستلزم وجود اللازم كما بين في موضعه وادعاء أن الملازمة من الطرفين هنا كما زعمه المجيب الأول ليس بشيء بل اللازم ههنا أعم من الملزوم كما لا يخفى على ذي روية، وكون عبارة المولى مشيرة إلى أن الملازمة من الطرفين في حيز المنع وما ذكره لا يدل عليه كما لا يخفى فافهم وتدبر فإن نظر المولى دقيق.
* (تلك آي‍ات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين) *
* (تلك آي‍ات الله) * إشارة إلى ما سلف من حديث الألوف وموتهم وإحيائهم وتمليك طالوت؛ وإظهاره بالآية وإهلاك الجبابرة على يد صبي وما فيه من البعد للإيذان بعلو شأن المشار إليه، وقيل: إشارة إلى ما مر من أول السورة إلى هنا وفيه بعد، والجملة على التقديرين مستأنفة، وقوله تعالى: * (نتلوها عليك) * أي بواسطة جبريل عليه السلام إما حال من الآيات والعامل معنى الإشارة، وإما جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب * (بالحق) * في موضع النصب على أنه حال من مفعول (نتلوها) أي متلبسة باليقين الذي لا يرتاب فيه أحد من أهل الكتاب وأرباب التواريخ لما يجدونها موافقة لما عندهم أو لا ينبغي أن يرتاب فيه أو من فاعله أي نتلوها عليك
متلبسين بالحق والصواب وهو معنا أو من الضمير المجرور أي متلبسا بالحق وهو معك.
174

* (وإنك لمن المرسلين) * حيث تخبر بتلك الآيات وقصص القرون الماضية وأخبارها على ما هي عليه من غير مطالعة كتاب ولا اجتماع بأحد يخبر بذلك. ووجه مناسبة هذه القصة لما قبلها ظاهرة وذلك لأنه تعالى لما أمر المؤمنين بالقتال في سبيله وكان قد قدم قبل ذلك قصة الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت إما بالطاعون أو القتال على سبيل التشجيع والتثبيت للمؤمنين والإعلام أنه لا ينجي حذر من قدر أردف ذلك بأن القتال كان مطلوبا مشروعا في الأمم السابقة فليس من الأحكام التي خصصتم بها لأن ما وقع فيه الاشتراك كانت النفس أميل لقبوله من التكليف الذي يقع به الانفراد.
هذا ومن باب الإشارة في هذه الآيات: (ألم ترى إلى) ملأ القوى (من بني إسرائيل) البدن (من بعد موسى) القلب (إذ قالوا لنبي) عقولهم * (ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله) * وطريق الوصول إليه بواسطة أمره وإرشاده * (قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا) * أي إني أتوقع منكم عدم المقاتلة لانغماسكم في أوحال الطبيعة * (قالوا وما لنا ألا نقاتل) * في طريق السير إلى الله تعالى، (وقد أخرجنا) من ديار استعداداتنا الأصلية التي لم نزل بالحنين إليها؛ واغتربنا عن أبناء كمالاتنا اللاتي لم نبرح عن مزيد البكاء عليها (فلما كتب عليهم القتال) لعدوهم الذي تسبب لهم الاغتراب وأحل بهم العجب العجاب تولوا وأعرضوا عن مقاتلته وانتظموا في سلك شيعته * (إلا قليلا منهم) * وهم القوى المستعدة * (والله عليم بالظالمين) * (البقرة: 246) الذين نقصوا حظوظهم * (وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت) * الروح الإنساني ملكا متوجا بتاج الأنوار الإلهية جالسا على كسرى التدبيرات الصمدانية * (قالوا) *: لاحتجابهم بحجاب الأنانية وغفلتهم عن العلوم الحقانية كيف يكون له الملك علينا مع انحطاط مرتبته بتنزله إلى عالم الكثافة من عالمه الأصلي وليس فيه مشابهة لنا * (ونحن أحق بالملك منه) * لاشتراكنا في عالمنا ومشابهة بعضنا بعضا وشبيه الشيء ميال إليه قريب اتباعه له: ولكل شيء آفة من جنسه
* (ولم يؤت سعة) * من مال التصرف إذ لا يتصرف إلا بالواسطة * (قال إن الله تعالى) * اختاره عليكم لبساطته وتركبكم وزاده سعة في العلم الإلهي وقوة في الذات النوراني، * (والله يؤتي ملكه من يشاء) * فيدبره بإذنه، * (والله واسع) * لسعة الإطلاق، * (عليم) * (البقرة: 247) بالحكم التي تقتضي الظهور والتجلي بمظاهر الأسماء، * (وقال لهم نبيهم إن آية ملكه) * عليكم وخلافته من قبل الرب فيكم * (أن يأتيكم) * تابوت الصدر * (فيه سكينة) * أي طمأنينة من * (ربكم) * وهي الطمأنينة بالإيمان والأنس بالله تعالى، * (وبقية مما ترك آل موسى) * القلب * (وآل هارون) * السر، وهي من التوحيد وعصا لا إله إلا الله التي تلقف عظيم سحر صفات النفس وطست تجلي الأنوار الذي يغسل به قلوب الأنبياء وشيء من توراة الإلهامات * (تحمله) * (البقرة: 248) ملائكة الاستعدادات لدى طالوت الروح فعند ذلك تسلم له الخلافة وينقاد له جميع أسباط صفات الإنسان، * (فلما فصل طالوت) * وجنوده من وزير العقل ومشير القلب ومدبر الأفهام ونظام الحواس * (قال إن الله مبتليكم بنهر) * الطبيعة الجسمانية المترع بمياه الشهوات * (فمن شرب منه) * وكرع مفرطا في الري فليس من أشياعي الذين هم من عالم الروحانيات وأهل مكاشفات الصفات * (ومن لم يطعمه) * ويذقه فإنه من سكان حظائر القدس وحضار جلوة عرائس منصة الأنس * (إلا من اغترف غرفة بيده وقنع من ذلك بقدر الضرورة ولاحتياج من غير حرص وانهماك * (فشربوا منه) * وكرعوا وانهمكوا فيه * (إلا قليلا منهم) * وهم المتنزهون عن الأقذار الطبيعية المتقدسون عن ملابسها المتجردون عن غواشيها وقليل ما هم فلما جاوز طالوت الروح نهر الطبيعة وعبره * (هو والذين آمنوا) * من القلب والعقل والملك وغيرهم من اتباع الروح * (معه) *، قال بعضهم وهم الضعفاء الذين
175

لم يصلوا إلى مقام التمكين * (لا طاقة لنا اليوم) * بمحاربة جالوت النفس وأعوانه لعراقتهم بالخدع والدسائس * (قال الذين) * يتيقنون * (أنهم ملاقوا الله) * بالرجوع إليه: * (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة) * وقهرتها حتى أذهبت كثرتها * (بإذن الله) * وتيسيره، * (والله مع الصابرين) * (البقرة: 249) بالتجلي الخاص لهم، فلما برزوا لحرب جالوت وجنوده تبرءوا من الحول والقوة وقالوا: * (ربنا أفرغ علينا صبرا) * واستقامة، * (وثبت أقدامنا) * في ميادين الجهاد حتى لا نرجع القهقرى من بعد؛ * (وانصرنا) * (البقرة: 250) على أعدائنا الذين ستروا الحق، وهم النفس الأمارة وصفاتها * (فهزموهم) * وكسروهم * (بإذن الله وقتل داود) * القلب * (جالوت) * النفس، ووصلوا كلهم إلى مقام التمكين فلا يخشون الرجعة والردة، وكان قد رماه بحجر التسليم في مقلاع الرضا بيد ترك الالتفات إلى السوي فأصاب ذلك دماغ هواه فخر صريعا فآتى الله تعالى داود ملك الخلافة وحكمة الإلهامات * (وعلمه مما يشاء) * من صنعة لبوس الحروب، ومنطق طيور الواردات وتسبيح جبال الأبدان، * (ولولا دفع الله الناس بعضهم) * كأرباب الطلب * (ببعض) * كالمشايخ الواصلين * (لفسدت) * أرض استعداداتهم المخلوقة في أحسن تقويم عند استيلاء جالوت النفس، * (ولكن الله ذو فضل على العالمين) *، (البقرة: 251) ومن فضله تحريك سلسلة طلب الطالبين وإلهام أسرارهم إرادة المشايخ الكاملين وتوفيقهم للتمسك بذيل تربيتهم والتشبث بأهداب سيرتهم فسبحانه من جواد لا يبخل ومتفضل على من سأل ومن لم يسأل.
176