الكتاب: تفسير الآلوسي
المؤلف: الآلوسي
الجزء: ١٤
الوفاة: ١٢٧٠
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

سورة الحجر
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس. وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم أنها نزلت بمكة وروى ذلك عن قتادة. ومجاهد، وفي مجمع البيان عن الحسن أنها مكية إلا قوله تعالى: * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) * (الحجر: 87) وقوله سبحانه: * (كما أنزلنا على المقتسمين، الذين جعلوا القرآن عضين) * (الحجر: 90، 91)، وذكر الجلال السيوطي في الاتقان عن بعضهم استثناء الآية الأولى فقط ثم قال ثلت: وينبغي استثناء قوله تعالى: * (ولقد علمنا المستقدمين) * الآية لما أخرجه الترمذي. وغيره في سبب نزولها وإنها في صفوف الصلاة وعلى هذا فقول أبي حيان ومثله في تفسير الخازن أنها مكية بلا خلاف الظاهر في عدم الاستثناء ظاهر في قلة التتبع، وهي تسع وتسعون آية قال الداني: وكذا الطبرسي بالإجماع وتحتوي على ما قلي على خمس آيات نسختها آية السيف.
ووجه مناسبتها لما قبلها أنها مفتتحة بنحو ما افتتح به السورة السابقة ومشتملة أيضا على شرح أحوال الكفرة يوم القيامة وودادتهم لو كانوا مسلمين، وقد اشتملت الأولى على نحو ذلك، وأيضا ذكر في الأولى طرف من أحوال المجرمين في الآخرة، وذكر هنا طرف مما نال بعضا منهم في الدنيا، وأيضا قد ذكر سبحانه في كل مما يتعلق بأمر السموات والأرض، ما ذكر، وأيضا فعل سبحانه نحو ذلك فيما يتعلق بإبراهيم عليه السلام، وأيضا في كل من تسلية نبينا صلى الله عليه وسلم ما فيه إلى غير ذلك مما لا يحصى.
* (الر تلك ءاي‍ات الكت‍اب وقرءان مبين) *.
* (بسم الله الرحمان الرحيم الر) * قد تقدم الكلام فيه * (تلك) * اختار غير واحد أنه إشارة إلى السورة أي تلك السورة العظيمة الشأن * (ءاي‍ات الكت‍اب) * الكامل الحقيقي باختصاص اسم الكتاب به على الإطلاق كما يشعر به التعريف أي بعض منه مترجم مستقل باسم خاص فالمراد به جميع القرآن أو جميع المنزل إذ ذاك * (وقرءان) * عظيم الشأن كما يشعر به التنكير * (مبين) * مظهر في تضاعيفه من الحكم والأحكام أو لسبيل الرشد والغي أو فارق بين الحق والباطل والحلال والحرام أو ظاهر معانيه أو أمر إعجازه، فالمبين إما من المتعدي أو اللازم، وفي جمع وصفي الكتابية والقرآنية من تفخيم شأن القرآن ما فيه حيث أشير بالأول إلى اشتماله على صفات كمال جنس الكتب الإلهية فكأنه كلها، وبالثاني إلى كونه ممتازا عن غيره نسيج وحده بديعا في بابه خارجا عن دائرة البيان قرآنا غير ذي عوج ونحو هذا فاتحة سورة النمل خلا أنه أخر ههنا الوصف بالقرآنية عن الوصف بالكتابية لما أن الإشارة إلى امتيازه عن سائر الكتب بعد التنبيه على انطوائه على كمالات غيره منها أدخل في المدح لئلا يتوهم من أول الأمر أن امتيازه عن غيره لاستقلاله بأوصاف
2

خاصة به من غير اشتماله على نعوت كمال سائر الكتب الكريمة وعكس هناك نظرا إلى حال تقدم القرآنية على حال الكتابية قاله بعض المحققين. وجوز أن يراد بالكتاب اللوح المحفوظ؛ وذكر أن تقديمه هنا باعتبار الوجود وتأخيره هناك باعتبار تعلق علمنا لأنا إنما نعلم ثبوت ذلك من القرآن. وتعقب بأن إضافة الآيات إليه تعكر على ذلك إذ لا عهد باشتماله على الآيات. والزمخشري جعل هنا الإشارة إلى ما تضمنته السورة والكتاب وما عطف عليه عبارة عن اسورة. وذكر هناك أن الكتاب إما اللوح وإما السورة. وإما القرآن فآثر ههنا أحد إلا وجه هناك.
قال في الكشف: لأن الكتاب المطلق على غير اللوح أظهر، والحمل على السورة أوجه مبالغة كما دل عليه أسلوب قوله تعالى: * (والذي أنزل إليك من ربك الحق) * (سبأ: 6) وليطابق المشار إليه فإنه إشارة إلى آيات السورة ثم قال: وإيثار الحمل على اتحاد المعطوف والمعطوف عليه في الصدق لأن الظاهر من إضافة الآيات ذلك.
ولما كان في التعريف نوع من الفخامة وفي التنكير نوع آخر وكان الغرض الجمع عرف الكتاب ونكر القرآن ههنا وعكس في النمل وقدم المعرف في الموضعين لزيادة التنويه ولما عقبه سبحانه بالحديث عن الخصوص هنالك قدم كونه قرآنا لأنه أدل على خصوص المنزلة على محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز، وتعقب تفسير ذلك بالسورة دون جميع القرآن أو المنزل إذ ذاك بأنه غير متسارع إلى الفهم والمتسارع إليه عند الإطلاق ما ذكر وعليه يترتب فائدة وصف الآيات بنعت ما أضيفت إليه من نعوت الكمال لا على جعله عبارة عن السورة إذ هي في الاتصاف بذلك ليست بتلك المرتبة من الشهرة حتى يستغني عن التصريح بالوصف على أنها عبارة عن جميع آياتها فلا بد من جعل تلك إشارة إلى كل واحدة منها، وفيه من التكلف ما لا يخفى. ثم إن الزمخشري بعد أن فسر المتعاطفين بالسورة أشار إلى وجه التغاير بينهما بقوله كأنه قيل: الكتاب الجامع للكمال والغرابة في البيان ورمز إلى أنه لما جعل مستقلا في الكمال والغرابة قصد قصدهما فعطف أحدهما على الآخر فالغرض من ذكر الذات في الموضعين الوصفان، وهذه فائدة إيثار هذا الأسلوب، ومن هذا عده من عده من التجريد قاله في الكشف.
وقال الطيبي بعد أن نقل عن البغوي توجيه التغاير بين المتعاطفين بأن الكتاب ما يكتب والقرآن ما يجمع بعضه إلى بعض، فإن قلت: رجع المآل إلى أن * (الكتاب - وقرآن) * وصفان لموصوف واحد أقيما مقامه فما ذلك الموصوف وكيف تقديره؟ فإن قدرته معرفة رفعه * (وقرآن مبين) * وإن ذهبت إلى أنه نكرة أباه لفظ * (الكتاب) * قلت: أقدره معرفة * (وقرآن مبين) * في تأويل المعرفة لأن معناه البالغ في الغرابة إلى حد الإعجاز فهو إذا محدود بل محصور إلى آخر ما قاله، وهو كلام خال عن التحقيق كما لا يخفى على أربابه، وقيل: المراد بالكتاب التوراة والإنجيل وبالقرآن الكتاب المنزل على نبينا صلى الله عليه وسلم، وأخرج ذلك ابن جرير عن مجاهد. وقتادة، وأمر العطف على هطا طظاهر جدا إلا أن ذلك نفسه غير ظاهر، والمراد بالإشارة عليه خفاء أيضا.
وفي " البحر " أن الإشارة على هذا القول إلى آيات الكتاب وهو كما ترى ثم إنه سبحانه لما بين شأن الآيات لتوجيه المخاطبين إلى حسن تلقي ما فيها من الأحكام والقصص والمواعظ شرع جل شأنه في بيان المتضمن
* (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) *.
* (ربما يود الذين كفروا) * بما يجب الايمان به * (لو كانوا مسلمين) * مؤمنين بذلك، وقيل: المراد
3

كفرهم بالكتاب والقرآن وبكونه من عند الله تعالى وودادتهم الانقياد لحكمه والإذعان لأمره، وفيه إيذان بأن كفرهم إنما كان بالجحود، وفيه نظر، وهذه الودادة يوم القيامة عند رؤيتهم خروج العصاة من النار.
أخرج ابن المبارك. وابن أبي شيبة. والبيهقي. وغيرهم عن ابن عباس. وأنس رضي الله تعالى عنهم أنهما تذاكرا هذه الآية فقالا: هذا حيث يجمع الله تعالى بين أهل الخطايا من المسلمين والمشركين في النار فيقول المشكرون: ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون فيغضب الله تعالى لهم فيخرجهم بفضل رحمته.
وأخرج الطبراني. وابن مردويه. بسند صحيح عن جابر بن عبد الله قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ناسا من أمتي يعذبون بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله تعالى أن يكونوا ثم يعيرهم أهل الشرك فيقولون: ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم فلا يقى موحد إلا أخرجه الله تعالى من الناس ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية ".
وأخرج غير واحد عن علي كرم الله تعالى وجهه. وأبي موسى الأشعري. وأبي سعيد الخدري نحو ذلك يرفعه كل إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وروى ذلك عن كثير من السلف الصالح، فقول الزمخشري: إن القول به باب من الودادة بيت من السفاهة قعيدته عقيدته الشوهاء، وقال الضحاك: إن ذلك في الدنيا عند الموت وانكشاف وخامة الكفر لهم، وعن ابن مسعود أن الآية في كفار قريش ودوا ذلك يوم بدر حين رأوا الغلبة للمسلمين، وفي رواية عنه وعن أناس من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن ذلك حين ضربت أعناقهم فعرضوا على النار.
وذكر ابن الأنباري أن هذه الودادة من الكفار عند كل حالة يعذب فيها الكافر ويسلم المسلم، * (ورب) * على كثرة وقوعها في كلام العرب لم تقع في القرآن إلا في هذه الآية، ويقال فيها رب بضم الراء وتشديد الباء وفتحها ورب بفتح الراء ورب بضمهما وربت بالضم وفتح الباء والتاء وربت بسكون التاء وربت بفتح الثلاثة وربت بفتح الأولين وسكون التاء وتخفيف الباء من هذه السبعة وربتا بالضم وفتح الباء المشددة ورب بالضم والسكون ورب بالفتح والسكون فهذه سبع عشرة لغة حكاها ما عدا ربتا ابن هشام في " المغنى " وحكى أبو حيان إحدى عشر منها - ربتا - وإذا اعتبر ضم الاتصال بما والتجرد منها بلغت اللغات ما لا يخفى، وزعم ابن فضالة في الهوامل والعوامل أنها ثنائية الوضع كقد وأن فتح الباء مخففة دون التاء ضرورة وأن فتح الراء مطلقا شاذ، وهي حرف جر خلافا للكوفية. والأخفش في أحد قوليه. وابن الطراوة زعموا أنها اسم مبني ككم واستدلوا على اسميتها بالأخبار عنها في قوله: إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن * عارا عليك ورب قتل عار
فرب عندهم مبتدا وعار خبره، وتقع عندهم مصدرا كرب ضربة ضربت، وظرفا كرب يوم سرت، ومفعولا به كرب رجل ضربت، واختار الرضى أسميتها إلا أن إعرابها عنده رفع أبدا على أنها مبتدأ لا خبر له كما اختار ذلك في قولهم: أقل رجل يقول ذلك إلا زيدا، وقال: إنها إن كفت بما فلا محل لها حينئذ لكونها كحرف النفي الداخل على الجملة ومنع ذلك البصريون بأنها لو كانت اسما لجاز أن يتعدى إليها الفعل بحرف الجر فيقال برب رجل عالم مررت، وأن يعود عليها الضمير ويضاف إليها وجميع علامات الاسم منتفية عنها، وأجيب عن البيت بأن المعروف - وبعض - بدل رب، وإن صحت تلك الرواية فعار خبر مبتدأ محذوف أي هو عار كما صرح به في قوله: يا رب هيجا هي خير من دعه
والجملة صفة المجرور أو خبره إذ هو في موضع مبتدأ، ويرد قياسها على كم كما قال
4

أبو علي: إنهم لم يفصلوا بينها وبين المجرور كما فصلوا بين كم وما تعمل فهي وفي مفادها أقوال. أحدها: أنها للتقليل دائما وهو قول الأكثرين، وعد في البسيط منهم الخليل. وسيبويه، والأخفش. والمازني. والفارسي. والمبرد. والكسائي. والفراء. وهشام. وخلق آخرون. ثانيها: أنها للتكثير دائما وعليه صاحب العين. وابن درستويه. وجماعة، وروى عن الخليل. ثالثها: واختاره الجلال السيوطي وفاقا للفارابي وطائفة أنها للتقليل غالبا والتكثير نادرا. رابعها: عكسه جزم به في التسهيل واختاره ابن هشام في " المغنى ". وخامسها: أنها لهما من غير غلبة لأحدهما نقله أبو حيان عن بعض المتأخرين. سادسها: أنها لم توضع لواحد منهما بل هي حرف إثبات لا يدل على تكثير ولا تقليل وإنما يفهم ذلك من خارج واختاره أبو حيان. سابعها: أنها للتكثير في المباهاة وللتقليل فيما عداه وهو قول لا علم. وابن السيد. ثامنها: أنها لمبهم العدد وهو قول ابن الباذش وابن طاهر وتصدر وجوبا غالبا، ونحو قوله: تيقنت أن رب امرىء خيل خائنا * أمين وخوان يخال أمينا
وقوله: ولو علم الأقوام كيف خلفتهم * لرب مفد في القبور وحامد
يحتمل أن يكون كما قال الشمني ضرورة، وقال أبو حيان: المراد تصدرها على ما تتعلق به فلا يقال: لقيت رب رجل عالم، وذكروا أنها قد تسبق بألا كقوله: ألا رب مأخوذ باجرام غيره * فلا تسأمن هجران من كان أجرما
وبيا صدر جواب شرط غالبا كقوله: فإن أمس مكروبا فيا رب فتية
ومن غير الغالب يا رب كاسية الحديث ولا تجر غير نكرة وأجاز بعضهم جرها المعروف بأل احتجاجا بقوله: ربما الجامل المؤبل فيهم * وعناجيج بينهن المهار
وأجاب الجمهور بأن الرواية بالرفع وإن صح الجر فأل زائدة، وفي وجوب نعت مجرورها خلف فقال المبرد. وابن السراج. والفارسي. وأكثر المتأخرين وعزى للبصريين يجب لإجرائها مجرى حرف النفي حيث لا تقع إلا صدرا ولا يقدم عليها ما يعمل في الاسم بعدها، وحكم حرف النفي أن يدخل على جملة فالأقيس في مجرورها أن يوصف بجملة لذلك، وقد يوصف بما يجري مجراها من ظرف أو مجرور أو اسم فاعل أو مفعول وجزم به ابن هشام في " المغني " وارتضاه الرضى،
وقال الأخفش. والفراء. والزجاج. وابن طاهر. وابن خروف. وغيرهم لا يجب وتضمنها القلة أو الكثرة يقوم مقام الوصف واختاره ابن مالك وتبعه أبو حيان ونظر في الاستدلال المذكور بما لا يخفى، وتجر مضافا إلى ضمير مجرورها معطوفا بالواو كرب رجل وأخيه ولا يقاس على ذلك عند سيبويه، وما حكاه الأصمعي من مباشرة رب للمضاف إلى الضمير حيث قال لأعرابية ألفلان أب أو أخ؟ فقالت: رب أبيه رب أخيه تريد رب أب له رب أخ له تقديرا للانفصال لكون أب وأخ من الأسماء التي يجوز الوصف بها فلا يقاس عليه اتفاقا، وتجر ضميرا مفردا مذكرا يفسره نكرة منصوبة مطابقة للمعنى الذي يقصده المتكلم غير مفصولة عنه؛ وسمع جره في قوله:
وربه عطب أنقذت من عطبه
على نية من وهو شاذ، وجوز الكوفية مطابقة الضمير للنكرة المفسرة تثنية وجمعا وتأنيثا كما في قوله: ربها فتية دعوت إلى ما * يورث الحمد دائما فأجابوا
والأصح أن هذا الضمير معرفة جرى مجرى النكرة، واختار ابن عصفور تبعا لجماعة أنه نكرة وإن جرها إياه ليس قليلا ولا شاذا خلافا لابن مالك، وإنها زائدة في الإعراب لا المعنى، وإن محل مجرورها على حسب
5

العامل لا لازم النصب بالفعل الذي بعد أو بعامل محذوف خلافا للزجاج ومتابعيه في قولهم: بذلك لما يلزم عليه من تعدي الفعل المتعدي بنفسه إلى مفعوله بالواسطة وهو لا يحتاج إليها فيعطف على محله كما يعطف على لفظه كقوله: وسن كسنيق سناء وسنما * ذعرت بمد لاح الهجير نهوض
وأنها تتعلق كمسائر حروف الجر وقال الرماني وابن طاهر لا تتعلق كالحرف الزائدة وأن التعلق بالعامل الذي يكون خبر لمجرورها أو عاملا في موضعه أو مفسرا له قاله أبو حيان، وقال ابن هشام قول الجمهور أنها معدية للعامل أن أرادوا المذكور فخطأ إنه يتعدى بنفسه أو محذوفا يقدر بحصل ونحوه كما صرح به جماعة ففيه تقدير ما معنى الكلام مستغنى عنه ولم يلفظ به في وقت، ثم على التعليق قال لكذة: حذفه لحن، والخليل وسيبويه نادر كقوله: ودوية قفر تمشي نعامها * كمشي النصارى في خفاف اليرندج
أي قطعتها ويرد ليكذة هذا وقولهم: رب رجل قائم ورب ابنة خير من ابن، وقوله: ألا رب من تغتشه لك ناصح * وموتمن بالغيب غير أمين
والفارسي. والجزولي كثير وبه جزم ابن الحاجب. ورابعها: واجب كما نقله صاحب البسيط عن بعضهم وخامسها: ونقل عن ابن أبي الربيع يجب حذفه إن قامت الصفة مقامه وإلا جاز الأمر أن سواء كان دليل أم لا؟ ويجب عند المبرد. والفارسي. وابن عصفور، وهو المشهور كما قال أبو حيان: ورأى الأكثرين كونه ماضيا معنى، وقال ابن السراج: يأتي حالا، وابن مالك يأتي مستقبلا واختاره في " البحر " إلا أنه قال بقلته وكثرة وقوع الماضي، وأنشد له قول سليم القشيري: ومعتصم بالجبن من خشية الردى * سيردى وغاز مشفق سيؤب
وقول هند: يا رب قائلة غدا * يا لهف أم معاوية
وجعل كابن مالك الآية من ذلك وتأولها الأكثرون بأنه وضع فيها المضارع موضع الماضي على حد ونفخ في الصور وتعقبه ابن هشام بأن فيه تكلفا لاقتضائه أن الفعل المستقبل عبر به عن ماض متجوز به عن المستقبل، وأجاب الشمني بأنه لا تكلف فيه لأنهم قالوا: إن هذه الحالة المستقبلة جعلت بمنزلة الماضي المتحقق فاستعمل معها ربما المختصة بالماضي وعدل إلى لفظ المضارع لأنه كلام من لا خلاف في اخباره فالمضارع عنده بمنزلة الماضي فهو مستقبل في التحقيق ماض بحسب التأويل وهو كما ترى، وعن أبي حيان أنه أجاب عن بيت هند بأنه من باب الوصف بالمستقبل لا من باب تعلق ربما بما بعدها وهو نظير قولك، رب مسيء اليوم يحسن غدا أي رب رجل يوصف بهذا الوصف وتأول الكوفيون كما في المطول الآية بأنها بتقدير كان أي ربما كان يود الذين كفروا فحذف لكثرة استعمال كان بعد ربما، وضعف ذلك أبو حيان بأن هذا ليس من مواضع إضمار كان، وفي " جمع الجوامع " وشرحه أن - ما - تزاد بعد رب فالغالب الكف وإيلائها حينئذ الفعل الماضي لأن
6

التكثير أو التقليل إنما يكون فيما عرف حده والمستقبل مجهول كقوله:
ربما أوفيت في علم * ترفعن ثوبي شمالات
وقد يليها المضارع * (كربما يود) * الآية وقد يليها الجملة الاسمية نحو: ربما الجامل المؤبل فيهم
وقد لا تكف نحو: ربما ضربة بسيف صقيل * بين بصري وطعنة نجلاء
وقيل: يتعين بعدها الفعلية إذا كفت وإليه ذهب الفارسي وأول البيت على أن ما نكرة موصوفة بجملة حذف مبتدأها أي رب شيء هو الجامل، وقد يحذف الفعل بعدها كقوله: فذلك أن يلق الكريهة يلقها * حميدا وأن يستغن يوما فربما
وقد تلحق بها ما ولا تكف كقوله: ماوى يا ربتما غارة * شعواء كالكية بالميسم
انتهى.
وبنحو تأويل الفارسي البيت أول بعضهم الآية فقال: إن * (ما) * نكرة موصوفة بجملة * (يود) * إلى آخره والعائد محذوف، والفعل المتعلق به رب محذوف أي رب شيء يوده الذين كفروا تحقق وثبت ونحوه قول ابن أبي الصلت: ربما تجزع النفوس من الأمر * له فرجة كحل العقال
والتزم كون المتعلق محذوفا لأنها حينئذ لا يجوز تعلقا بيود ولا بد لها من فعل تتعلق به على ما صححه جمع، وأما على ما اختاره الرضى من كونها مبتدأ لا خبر هل والمعنى قليل أو كثير وداد الذين كفروا فلا حاجة إليه، وهذا التأويل على ما قال السمرقندي أحد قولي البصريين، وتعقبه العلامة التفتازاني بأنه لا يخفى ما فيه من
التعسف وبتر النظ الكريم أي قطع * (لو كانوا مسلمين) * عما قبله، ووجه التعسف أن المعنى على تقليل أو تكثير ودادهم لا على تقليل أو تكثير شيء إلا أن يراد رب شيء يودونه من حيث إنهم يودونه، والمختر عندي ما اختاره أبو حيان وكذا صاحب اللب من أن رب تدخل على الماضي والمضارع إلا أن دخولها على الماضي أكثر، ومن تتبع أشعار العرب رأى فيها مما دخلت فيه على المضارع ما يبعد ارتكاب التأويل معه كما لا يخفى على المنصف المتتبع واختلفوا في مفادها هنا فذهب جمع كثير إلى أنه التقليل وهو ظاهر أكثر الآثار حيث دلت على أن ودادهم ذلك عند خروج عصاة المسلمين من جهنم وبقائهم فيها. نعم زعم بعضهم أن الحق أن ما فيها محمول على شدة ودادهم إذ ذاك وأن نفس الوداد ليس مختصا بوقت دون وقت بل هو متقرر مستمر في كل آن يمر عليهم.
ووجه الزمخشري الاتيان بأداة التقليل على هذا بأنه وارد على مذهب العرب في قولهم: لعلك ستندم على فعلك وربما ندم الإنسان على ما فعل ولا يشكون في تندمه ولا يقصدون تقليله ولكنهم أرادوا لو كان الندم مشكوكا فيه أو قليلا لحق عليك أن لا تفعل هذا الفعل لأن العقلاء يتحرزون من التعرض للغم المطنون كما يتحرزون من التعرض للغم المتيقن ومن القليل منه كما من الكثير، وكذلك المعنى في الآية لو كانوا يودون الإسلام مرة واحدة بالبحري أن يسارعوا إليه فكيف وهم يودونه في كل ساعة اه‍.
والكلام عليه على ما قيل من الكناية الإيمامية وفي لك من المبالغة ما لا يخفى، قال ابن المنير: لا شك أن العرب تعبر عن المعنى بما يؤدي عكس مقصوده كثيرا، ومنه والله تعالى أعلم * (قد تعلمون أني رسول الله إليكم) * (الصف: 5) المقصود منه توبيخهم على أذاهم لموسى عليه السلام على توفر علمهم برسالته ومناصحته لهم، وقوله: قد أترك القرن مصفرا أنامله
7

فإنه إنما يتمدح بالإكثار من ذلك وقد عبر بقد المفيدة للتقليل، وقد اختلف توجيه علماء البيان لذلك فمنهم من وجهه بما ذكر عن الزمخشري من التنبيه بالأدنى على الأعلى، ومنهم من وجهه بأن المقصود في ذلك الإيذان بأن المعنى قد بلغ الغاية حتى كاد أن يرجع إلى الضد وذلك شأن كل ما بغل نهايته أن يعود إلى عكسه، وقد أفصح المتنبي عن ذلك بقوله: ولجدت حتى كدت تبخل حائلا * للمنتهى ومن السرور بكاء
وكلا الوجهين يحمل الكلام على المبالغة بنوع من الإيقاظ إليها، والعمدة في ذلك على سياق الكلام لأنه إذا اقتضى مثلا تكثيرا فدخلت فيه عبارة يشعر ظاهرها بالتقليل استيقظ السامع لأن المراد المبالغة على إحدى الطريقتين المذكورتين، وقال في الكشف: الأصل في هذا الباب أن استعارة أحد الضدين للآخر تفيد المبالغة للتعكيس ولا تختص بالتهكم والتمليح على ما يوهمه ظاهر لفظ صاحب المفتاح في موضع فهو الذي عد المفازة من هذا القبيل لقصد التفاؤل قم قد يختص موقعها بفائدة زائدة كما ذكره الزمخشري في هذا المقام، وليس في ذلك كناية إيمائية وإنما ذلك من فوائد هذه الاستعارة وسيجيء إن شاء الله تعالى فيه كلام أتم بسطا في سورة التكوير اه‍.
والحق أنه لا مانع من القول بالكناية الإيمائية كما لا يخفى، وقيل؛ إن التقليل بالنسبة إلى زمان ذهاب عقلهم من الدهشة بمعنى أنه تدهشهم أهوال القيامة فيبهتون فإن وجدت منهم إفاقة ما تمنوا ذلك، وظاهر صنيع العلامة التفتازاني في المطول اختياره، وجوز أن تكو مستعارة للتكثير والقول بالاستعارة له لا يحتاج إليه على القول المحكي عن صاحب العين ومن معه حسبما سمعت، وذكر ابن الحاجب أنها نقلت من التقليل إلى التحقيق كما نقلوا قد إذا دخلت على المضارع منه إليه. ومفعول * (يود) * محذوف أي الإسلام بدلالة * (لو كانوا مسلمين) * بناءا على أن * (لو) * للتمني والجملة في موقع الحال أي قائلين لو كانوا مسلمين، وتقدير المفعول ما ذكرنا هو الذي ذهب إليه غير واحد، وقال الشهاب: تقديره النجاة ولا ينبغي تقديره الإسلام لأنه يصير تقديره يودوا الإسلام لو كانوا مسلمين وهو حشو وفيه نظر.
وقال صاحب الفرائد: إن * (لو كانوا) * إلى آخره منزل منزلة المفعول. وتعقب بأنه غير ظاهر إذ ليس ذلك مما يعمل في الجمل إلا أن يكون بمعنى ذكروا التمني ويجري مجرى القول على مذهب بعض النحاة. والغيبة في حكاية ودادتهم كالغيبة في قولك: حلف بالله تعالى ليفعلن ولو قلت لأفعلن لجاز، وعلى ذلك جاز قوله تعالى: * (تقاسموا بالله لنبيتنه) * (النمل: 49) بالنون والياء وإيثار الغيبة أكثر لئلا يلبس والتعليل بقلة التقدير ليس بشيء كما كشف ذلك في الكشف، وأنكر قوم ورود * (لو) * للتمني، وقالوا ليست قسما برأسها وإنما هي الشرطية أشربت معنى التمني وعلى الأول الأصح لا جواب لها على الأصح. وقد نص على ذلك ابن الضائع وابن هشام الخضراوي، ونقل أنهما قالا تحتاج إلى جواب كجواب الشرط سهو؛ وذكر أبو حيان أن الذي يظهر أنها لا بد لها من جواب لكنه التزم حذفه لإشرابها معنى التمني لأنه متى أمكن تقليل القواعد وجعل الشيء من باب المجاز كان أولى من تكثير القواعد وادعاء الاشتراك لأنه يحتاج إلى وضعين والمجاز ليس فيه إ اوضع واحد وهو الحقيقة، وقيل: إنها هنا امتناعية شرطية والجواب محذوف تقديره لفازوا ومفعول * (يود) * ما علمت، وزعم بعضهم مصدريتها فيما إذا وقعت بعدما يدل على التمني فالمصدر حينئذ هو المفعول وهو على القول بأن * (ما) * نكرة موصوفة بدل منها كما في " البحر ". وقرأ عاصم. ونافع * (ربما) * بتخفيف الباء وعن أبي عمرو التخفيف والتشديد، وقرأ طلحة بن مصرف
8

وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ربتما بزيادة تاء هذا، وإنما أطنبت الكلام في هذه الآية لا سيما فيما يتعلق - برب - لما أنه قد جرى لي بحث في ذلك مع بعض العظاميين فأبان عن جهل عظيم وحمق جسيم، ورأيته ورب الكعبة أجهل من رأيت من صغار الطلبة - برب - نعم له من العظاميين أمثال أصمهم الله تعالى وأعمى بالهم وقللهم ولا أكثر أمثالهم.
* (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الامل فسوف يعلمون) *
. * (ذرهم) * أي اتركهم وقد استغنى غالبا عن ماضيه بماضيه وجاء قليلا وذر، وفي الحديث " ذروا الحبشة ما وذروكم " والمراد من الأمر التخلية بينهم وبين شهواتهم إذ لم تنفعهم النصيحة والأنذار كأنه قيل: خلهم وشأنهم * (يأكلوا ويتمتعوا) * بدنياهم، وفي تقديم الأكل إيذان بأن تمتعهم إنما هو من قبيل تمتع البهائم بالمآكل
والمشارب، والفعل وما عطف عليه مجزوم في جواب الأمر، وأشار في الكشاف أن المراد المبالغة في تخليتهم حتى كأنه عليه السلام أمر أن يأمرهم بما لا يزيدهم إلا ندما، ووجهه المدقق صاحب الكشف فقال: أريد الأمر من حيث المعنى لأنه جعل أكلهم وتمتعهم الغاية المطلوبة من الأمر بالتخلية، والغايات المطلوبة إن صح الأمر بها كانت مأمورا بها بنفس الأمر وأبلغ من صريحه فإذا قلت: لازم سدة العالم تعلم منه ما ينجيك في الآخرة كان أبلغ من قولك: لازم وتعلم لأنك جعلت الأمر وسيلة الثاني فهو أشد مطلوبية وإن لم يصح جعلت مأمورا بها مجازا كقولك: اسلم تدخل الجنة، وما نحن فيه لما جعل غاية الأمر على التجوز صار مأمورا به على ما أرشدت إليه اه‍، وهو من النفاسة بمكان، وظن أن انفهام الأمر من تقدير لامه قبل الفعل من بعض الأمر، وما في " البحر " من أنه إذا جعل * (ذرهم) * أمرا بترك نصيحتهم وشغل باله صلى الله عليه وسلم بهم لا يترتب عليه الجواب لأنهم يأكلون ويتمتعون سواء ترك نصيحتهم أم لا وقوف في ساحل التحقيق كما لا يخفى على من غاص في لجة المعاني فاستخرج درر الأسرار واستظهر أنه أمر بترك قتالهم وتخلية سبيلهم وموادعتهم ثم قال: ولذلك صح أن يكون المذكور جوابا لأنه عليه الصلاة والسلام لو شغلهم بالقتال ومصالتة السيوف وإيقاع الحروب ما هنأهم أكل ولا تمتع ويدل على ذلك أن السورة مكية وهو كما ترى.
ثم المراد على ما قيل دوامهم على ما هم عليه لا إحداث ما ذكر أو تمتعهم بلا استمتاع ما ينغص عيشهم والتمتع كذلك أمر حادث يصلح أن يكون مرتبا على تخليتهم وشأنهم فتأمل * (ويلههم الأمل) * ويشغلهم التوقع لطول الأعمار وبلوغ الأوطار واستقامة الأحوال وأن لا يلقوا إلا خيرا في العاقبة والمآل عن الإيمان والطاعة أو عن التفكر فيما يصيرون إليه * (فسوف يعلمون) * سوء صنيعهم إذا عاينوا جزاءه وخامة عاقبته أو حقيقة الحال التي ألجأتهم إلى التمني.
وظاهر كلام الأكثرين أن المراد علم ذلك في الآخرة، وقيل: المراد سوف يعلمون عاقبة أمرهم في الدنيا من الذل والقتل والسبي وفي الآخرة من العذاب السرمدي، وهذا كما قيل مع كونه وعيدا أيما وعيد وتهديد غب تهديد تعليل للأمر بالترك، وفيه إلزام الحجة ومبالغة في الإنذار إذ لا يتحقق الأمر بالضد حسبما علمت إلا بعد تكرر الإنذار وتقرر الجحود والإنكار ومن أنذر فقد أعذر، وكذلك ما ترتب عليه من الأكل وما بعده، وفي الآية إشارة إلى أن التلذذ والتنعم وعدم الاستعداد للآخرة والتأهب لها ليس من أخلاق من يطلب النجاة، وجاء عن الحسن ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل.
9

وأخرج أحمد في الزهد. والطبراني في الأوسط. والبيهقي في شعب الإيمان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده لا أعلمه إلا رفعه قال: صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين ويهلك أخرها بالبخل والأمل.
وفي بعض الآثار عن علي كرم الله تعالى وجهه إنما أخشى عليكم اثنتين طول الأمر واتباع الهوى فإن طول الأمل ينسي الآخرة واتباع الهوى يصد عن الحق.
* (ومآ أهلكنا من قرية إلا ولها كت‍ابمعلوم) *
.
* (وما أهلكنا من قرية) * أي قرية من القرى بالخسف بها وبأهلها الكافرين كما فعل ببعضها أو بإخلائها عن أهلها بعد إهلاكهم كما فعل بآخرين * (إلا ولها) * في ذلك الشأن * (كتاب) * أجل مقدر مكتوب في اللوح * (معلوم) * لا ينسى ولا يغفل عنه حتى يتصور التخلف عنه بالتقدم والتأخر، وهذا شرع في بيان سر تأخير عذابهم. و * (كتاب) * مبتدأ خبره الظرف والجملة حال من * (قرية) * ولا يلزم تقدمها لكون صاحبها نكرة لأنها واقعة بعد النفي وهو مسوغ لمجىء الحال لأنه في معنى الوصف لا سيما وقد تأكد بكلمة * (من) * والمعنى ما أهلكنا قرية من القرى في حال من الأحوال إلا حال أن يكون لها كتاب معلوم لا نهلكها قبل بلوغه ولا نغفل عنه ليمكن مخالفته، أو مرتفع بالظرف والجملة كما هي حال أيضا أي ما أهلكنا قرية من القرى في حال من الأحوال إلا وقد كان لها في حق إهلاكها أجل مقدر لا يغفل عنه.
وقال الزمخشري الجملة صفة - لقرية - والقياس أن لا يتوسط الواو بينهما كما في قوله تعالى: * (وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون) * (الشعراء: 208) وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف كما يقال في الحال: جاءني زيد عليه ثوب وجاءني وعليه ثوب، ووافقه على ذلك أبو البقاء، وتعقبه في " البحر " بأنا لا نعلم أحدا قاله من النحاة، وهو مبني على أن ما بعد إلا يجوز أن يكون صفة، وقد صرح الأخفش. والفارسي بمنع ذلك، وقال ابن مالك: إن جعل ما بعد إلا صفة لما قبلها مذهب لم يعرف لبصري ولا كوفي فلا يلتفت إليه وأبطل القول بأن الواو توسطت لتأكيد اللصوق.
ونقل عن منذر بن سعيد أن هذه الواو هي التي تعطي أن الحالة التي بعدها في اللفظ هي في الزمن قبل الحالة التي قبل الواو، ومنه قوله تعالى: * (حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها) * (الزمر: 73) واعتذر السكاكي بأن ذلك سهو ولا عيب فيه، ولم يرض بذلك صاحب الكشف وانتصر للزمخشري فقال: قد تكرر هذا المعنى منهم في هذا الكتاب فلا سهو كما اعتذر صاحب المفتاح، وإذا ثبت إقحام الواو كما عليه الكوفيون والقياس لا يدفعه لثبوته في الحال وفيما أضمر بعده الجار في نحو بعت الشاء شاة ودرهما وكم وكم، وهذه تدل على أن الاستعارة شائعة في الواو نوعية بل جنسية فلا نعتبر النقل الخصوصي ولا يكون من إثبات اللغة بالقياس لثبوت النقل عن نحارير الكوفة واعتضاده بالقياس، والمعنى ولا يبعد من صاحب المعاني ترجيح المذهب الكوفي إذا اقتضاه المقام كما رجحوا المذهب التميمي على الحجازي في باب الاستثناء عنده، ولا خفاء أن المعنى على الوصف أبلغ وأن هذا الوصف ألصق بالموصوف منه في قوله تعالى: * (إلا لها منذرون) * (الشعراء: 208) لأنه لازم عقلي وذلك عادي جرى عليه سنة الله تعالى اه‍.
وفي " الدرر المصون " أنه قد سبق الزمخشري إلى ما قاله ابن جني وناهيك به من مقتدي.
قال بعض المحققين: إن الموصوف ليس القرية المذكورة وإنما هو قرية مقدرة وقعت بدلا من المذكورة على
10

المختار فيكون ذلك بمنزلة كون الصفة لها أي ما أهلكنا قرية من القرى إلا قرية لها كتاب معلوم كما في قوله تعالى: * (ليس لهم طعام إلا من ضريع * لا يسمن ولا يغني من جوع) * (الغاشية: 6، 7) فإن * (لا يسمن) * الخ صفة لكن لا للطعام المذكور لأنه إنما يدل على انحصار طعامهم الذي لا يسمن ولا يغني من جوع في الضريع، وليس المراد ذلك بل للطعام المقدر بعد * (إلا) * أي ليس لهم طعام من شيء من الأشياء إلا طعام لا يسمن الخ فليس هناك الفصل بين الموصوف والصفة بإلا، وأما توسيط الواو وإن كان القياس عدمه فللإيذان بكمال الاتصال انتهى. ولا يخفى أنه لم يأت في أمر التوسيط بما يدفع عنه القال والقيل، وما ذكره من تقدير الموصوف بعد - إلا - يدفع حديث الفصل لكن نقل أبو حيان عن الأخفش أنه قال بعد منع الفصل بين الصفة والموصوف بإلا: ونحو ما جاءني رجل إلا راكب تقديره إلا رجل راكب، وفيه قبح لجعلك الصفة كالاسم، ولعل الجواب عن هذا سهل. وقرأ ابن أبي عبلة * (إلا لها) * بإسقاط الواو، وهو على ما قيل يؤيد القول بزيادتها، ولما بين سبحانه أن الأمم المهلكة كان لكل منهم وقت معين لهلاكهم وأنه لم يكن إلا حسبما كان مكتوبا في اللوح بين جل شأنه أن كل أمة من الأمم منهم ومن غيرهم لهم كتاب لا يمكن التقدم عليه ولا التأخر عنه [بم فقال عز قائلا:
* (ما تسبق من أمة أجلها وما يست‍اخرون) *
.
* (ما تسبق من أمة) * من الأمم المهلكة وغيرهم - فمن - مزيدة للاستغراق، وقيل: إنها للتبعيض وليس بذاك * (أجلها) * المكتوب في كتابها أي لا يجىء هلاكها قبل مجىء كتابها أو لا تمضي أمة قبل مضي أجلها، فإن السبق كما نقل الإمام عن الخليل إذا كان واقعا على زماني فمعناه المجاوزة والتخليف فإذا قلت: سبق زيد عمرا فمعناه أنه جاوزه وخلفه وراءه وإن عمرا قصرا عنه ولم يبلغه وإذا كان واقعا على زمان كان على عكس ذلك فإذا قلت سبق فلان عام كذا كان معناه مضى قبل إتيانه ولم يبلغه؛ والسر في ذلك على ما في إرشاد العقل السليم أن الزمان يعتبر فيه الحركة والتوجه فما سبقه يتحقق قبل تحققه وأما الزماني فإنما يعتبر فيه الحركة والتوجه إلى ما سيأتي من الزمان فالسابق ما تقدم إلى المقصد، وإيراده بعنوان الأجل باعتبار ما يقتضيه من السبق كما أن إيراده بعنوان الكتاب باعتبار ما يوجبه من الإهلاك * (وما يستأخرون) * أي وما يتأخرون.
وصيغة الاستفعال للإشعار بعجزهم عن ذلك مع طلبهم له، وإيثار صيغة المضارع في الفعلين بعدما ذكر نفي الإهلاك بصيغة الماضي لأن المقصود بيان دوامهما فيما بين الأمم الماضية والباقية، وله نظائر في كتاب الكريم وإسنادهما إلى الأمة بعد إسناد الإهلاك إلى القرية لما أن السبق والاستئخار حال الأمة بدون القرية مع ما في الأمة من العموم لأهل تلك القرى وغيرهم ممن أخرت عقوباتهم إلى الآخرة، وتأخير عدم سبقهم مع كون المقام مقام المبالغة في بيان تحقق عذابهم إما باعتبار تقدم السبق في الوجود وإما باعتبار أن المراد بيان سر تأخير عذابهم مع استحقاقهم لذلك، وأورد الفعل على صيغة جمع المذكر رعاية لمعنى * (أمة) * مع التغليب كما روعي لفظها أولا مع رعاية الفواصل ولهذا حذف الجار والمجرور، والجملة مبينة لما سبق ولذا فصلت، والمعنى أن تأخير عذابهم إلى يوم الودادة حسبما أشير إليه إنما هو لتأخير أجلهم المقدر لما يقتضيه من الحكم ومن جملة ذلك ما علم الله تعالى من إيمان بعض من يخرج منهم قاله شيخ الإسلام. واستدل بالآية على أن كل من مات أو قتل فإنما هو ميت بأجله وقد بين ذلك الإمام.
* (وقالوا ياايها الذى نزل عليه الذكر إنك لمجنون) *
* (وقالوا) * شروع في بيان كفرهم بمن أنزل عليه الكتاب
11

المتضمن للكفر به وبيان ما يؤول إليه حالهم، والقائل أهل مكة قال مقاتل: نزلت الآية في عبد الله بن أمية. والنضر بن الحرث. ونوفل بن خويلد. والوليد بن المغيرة وهم الذين قالوا له صلى الله عليه وسلم: * (يا أيها الذي نزل عليه الذكر) * أي القرآن، وخاطبوه عليه الصلاة والسلام بذلك مع أنهم الكفرة الذين لا يعتقدون نزول شيء استهزاء وتهكما وإشعارا بعلة حكمهم الباطل في قولهم: * (إنك لمجنون) * يعنون يا من يدعي مثل هذا الأمر العظيم الخارق للعادة إنك بسبب تلك الدعوى متحقق جنونك على أتم وجه، وهذا كما يقول الرجل لمن يسمع منه كلاما يستبعده: أنت مجنون، وقيل: حكمهم هذا لما يظهر عليه عليه الصلاة والسلام من شبه الغشي حين ينزل عليه الوحي بالقرآن، والأول على ما قيل هو الأنسب بالمقام، وذهب بعضهم إلى أن المقول الجملة المؤكدة دون النداء أما هو فمن كلام الله تعالى تبرئة له عليه الصلاة والسلام عما نسبوه إليه من أول الأمر. وتعقب بأنه لا يناسب قوله تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر) * الخ فإنه كما سيأتي إن شاء الله تعالى رد لإنكارهم واستهزائهم، وقد يجاب بأن ذلك على هذا رد لما عنوه في ضمن قولهم المذكور لكن الظاهر كون الكل كلامهم. وقد سبقهم إلى نظيره فرعون عليه اللعنة بقوله في حق موسى عليه السلام: * (إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون) * (الشعراء: 27) وتقديم الجار والمجرور على نائب الفاعل كما قيل لأن إنكارهم متوجه إلى كون النازل ذكرا من الله تعالى لا إلى كون المنزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد تسليم كون النازل منه تعالى كما في قوله سبحانه: * (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) * (الزخرف: 31) فإن الإنكار هناك متوجه إلى كون المنزل عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وإيراد الفعل على صيغة المجهول لإيهام أن ذلك ليس بفعل له فاعل أو لتوجيه الإنكار إلى كون التنزيل عليه لا إلى إسناده إلى الفاعل. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما نزل عليه الذكر بتخفيف * (نزل) * مبنيا للفاعل ورفع * (الذكر) * على الفاعلية، وقرىء * (يا أيها الذي ألقى عليه الذكر) *. قال أبو حيان: وينبغي أن تجعل هذه القراءة تفسيرا لمخالفتها سواد المصحف.
* (لو ما تأتينا بالمل‍ائكة إن كنت من الص‍ادقين) *
.
* (لوما تأتينا) * كلمة * (لوما) * كلولا تستعمل في أحد معنيين امتناع الشيء لوجود غيره والتحضيض وعند إرادة الثاني منها لا يليها إلا فعل ظاهر أو مضمر وعند إرادة الأول لا يليها إلا اسم ظاهر أو مقدر عند البصريين، ومنه قول ابن مقبل: لوما الحياة ولوما الدين عبتكما * ببعض ما فيكما إذ عبتما عورى
وعن بعضهم أن الميم في * (لوما) * بدل من اللام في لولا، ومثله استولى واستومى وخاللته وخالمته فهو خلي وخلمي أي صديقي. وذكر الزمخشري أن * (لو) * تركب مع لا وما لمعنيين وهل لا تركب إلا مع لا وحدها للتحضيض، واختار أبو حيان فيهما البساطة وأن الميم ليست بدلا من اللام، وقال المالقي: أن * (لوما) * لا ترد إلا للتحضيض وهو محجوج بالبيت السابق، وأيا ما كان فالمراد هنا التحضيض أي هلا تأتينا * (بالملائكة) * يشهدون لك ويعضدونك في الإنذار كقوله تعالى حكاية عنهم: * (لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا) * أو يعاقبون على تكذيبك كما كانت تأتي الأمم المكذبة لرسلهم * (إن كنت من الصادقين) * في دعواك أن قدرة الله تعالى على ذلك مما لا ريب فيه وكذا احتياجك إليه في تمشية أمرك إذ لا نصدقك في ذلك الأمر الخطير بدونه أو إن كنت من
12

جملة تلك الرسل الصادقين الذين عذبت أممهم المكذبة لهم.
* (ما ننزل المل‍ائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين) *
* (ما ننزل الملائكة) * بالنون على بناء الفعل لضمير الجلالة من التنزيل، وهي قراءة حفص. والأخوين. وابن مصرف، وقرأ أبو بكر عن عاصم. ويحيى بن وثاب * (تنزل الملائكة) * بضم التاء وفتح النون والزاي مبنيا للمفعول ورفع * (الملائكة) * على النيابة عن الفاعل وقرأ الحرميان وباقي السبعة * (تنزل الملائكة) * بفتح التاء والزاي على أن الأصل * (تتنزل) * بتاءين فحذفت إحداهما تخفيفا ورفع الملائكة على الفاعلية وإبقاء الفعل على ظاهره أولى من جعله بمعنى تنزل الثلاثي. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما * (ما نزل) * ماضيا مخففا مبنيا للفاعل ورفع الملائكة على الفاعلية. والبيضاوي بنى تفسيره على أن الفعل ينزل بالياء التحتية مبنيا للفاعل وهو ضمير الله تعالى و * (الملائكة) * بالنصب على أنه مفعوله، واعترض عليه أنه لم يقرأ بذلك أحد من العشرة بل لم توجد هذه القراءة في الشواذ وهو خلاف ما سلكه في تفسيره، ولعله رحمه الله تعالى قدسها. وهذا الكلام مسوق منه سبحانه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم جوابا لهم عن مقالتهم المحكية وردا لاقتراحهم الباطل الصادر عن محض التعصب والعناد، ولشدة استدعاء ذلك للجواب قدم رده على ما هو جواب عن أولها أعني قوله سبحانه: * (إنا نحن) * الخ والعدول عن تطبيقه لظاهر كلامهم بصدد الاقتراح بأن يقال مثلا ما تأتيهم بهم للإيذان بأنهم قد أخطأوا في الاقتراح وأن الملائكة لعلو رتبتهم أعلى من أن ينسب إليهم مطلق الإتيان الشامل للانتقال من أحد الأمكنة المتساوية إلى الآخر منها بل من الأسفل إلى الأعلا وأن يكون مقصد حركاتهم أولئك الكفرة وأن يدخلوا تحت ملكوت أحد من البشر وإنما الذي يليق بشأنهم النزول من مقامهم العالي وكون ذلك بطريق التنزيل من جناب الرب الجليل قاله شيخ الإسلام.
وقيل: لعل هذا جواب لما عسى أن يخطر بخاطره الشريف عليه الصلاة والسلام حين طلبوا منه الإتيان بالملائكة من سؤال التنزيل رغبة في إسلامهم فيكون وجه ذكر التنزيل ظاهرا وهو غير ظاهر كما لا يخفى.
* (إلا بالحق) * أي إلا تنزيلا ملتبسا بالوجه الذي اقتضته الحكمة فالباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الصفة للمصدر المحذوف مستثنى استثناء مفرغا، وجوز فيه الحالية من الفاعل والمفعول. وجوز أبو البقاء أن تكون الباء للسببية متعلقة بننزل وإليه يشير كلام ابن عطية الآتي إن شاء الله تعالى والأول أولى ومقتضى الحكمة التشريعية والتكوينية على ما قيل أن تكون الملائكة المنزلون بصور البشر وتنزيلهم كذلك يوجب اللبس كما قال الله تعالى: * (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون) * وهذا إشارة إلى نفي ترتب الغرض وعدم النفع في ذلك، وقوله تعالى: * (وما كانوا إذا منظرين) * إشارة إلى حصول الضرر وترتب نقيض المطلوب وكأنه عطف على مقدر يقتضيه الكلام السابق كأنه قيل: ما ننزل الملائكة عليهم إلا بصور الرجال لأنه الذي تقتضيه الحكمة فيحصل اللبس فلا ينتفعون وما كانوا إذا أنزلناهم منظرين أي ويتضررون بتنزيلهم لأنها نهلكهم لا محالة ولا نؤخرهم لأنه قد جرت عادتنا في الأمم قبلهم أنا لم نأتهم بآية اقترحوها إلا والعذاب في أثرها إن لم يؤمنوا وقد علمنا منهم ذلك؛ والمقصود نفى أن يكون لاقتراحهم الإتيان بهم وجه على أتم وجه بالإشارة إلى عدم نفعه أولا والتصريح بضرره ثانيا، وقيل: يقدر المعطوف عليه لا يؤمنون كأنه قيل: ما ننزل الملائكة إلا بصور البشر لاقتضاء الحكمة ذلك فلا يؤمنون وما كانوا إذا منظرين، وفي النفس من هذا ومما قبله شيء.
وقال بعض المحققين: إن المعنى ما ننزل الملائكة إلا ملتبسا بالوجه الذي يحق ملابسة التنزيل به مما تقتضيه
13

الحكمة وتجري به السنة الإلهية، والذي اقترحوه من التنزيل لأجل الشهادة لديهم وهم - هم - ومنزلتهم في الحقائق منزلتهم مما لا يكاد يدخل تحت الصحة والحكمة أصلا فإن ذلك من باب التنزيل بالوحي الذي لا يكاد يفتح على غير الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام من أفراد كل المؤمنين فكيف على أمثال أولئك الكفرة اللئام، وإنما الذي يدخل في حقهم تحت الحكمة في الجملة هو التنزيل للتعذيب والاستئصال كما فعل بأضرابهم من الأمم السالفة ولو فعل ذلك لاستؤصلوا بالمرة وما كانوا إذا مؤخرين كدأب سائر الأمم المكذبة المستهزئة، ومع استحقاقهم لذلك قد جرى قلم القضاء بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة حسبما أجمل في الآيات قبل، وحال حائل الحكمة بينهم وبين استئصالهم لتعلق العلم بازديادهم عذابا وبإيمان بعض ذراريهم، ونظم إيمان بعضهم في سمط الحكمة يأباه تماديهم في الكفر والعناد - فما كانوا - الخ جواب لشرط مقدر أي ولو أنزلناهم ما كانوا الخ.
واعترض بأن الأوفق بقوله تعالى: * (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا) * أن يكون الوجه الذي يحق ملابسة التنزيل به لمثل غرضهم كونهم بصور الرجال وذلك ليس من
باب التنزيل بالوحي الذي لا يكاد يكون لهم أصلا فلا يتم كلامه، وفيه بحث كما لا يخفى، وقد أخرج ابن جرير. وابن المنذر. وغيرهما عن مجاهد تفسير * (الحق) * هنا بالرسالة والعذاب، ووجهت الآية على ذلك نحو هذا التوجيه فقيل: المعنى ما ننزل الملائكة إلا بالرسالة والعذاب ولو نزلناهم عليهم ما كانوا منظرين لأن التنزيل عليهم بالرسالة مما لا يكاد فتعين أن يكون التنزيل بالعذاب، وذكر الماوردي الاقتصار على الرسالة، وروي عن الحسن الاقتصار على العذاب، وفي معنى ذلك ما روي عن ابن عباس من أن المعنى ما ننزل الملائكة إلا بالحق الذي هو الموت الذي لا يقع فيه تقديم ولا تأخير.
وقال ابن عطية: الحق ما يجب ويحق من الوحي والمنافع التي أرادها الله تعالى لعباده، والمعنى ما ننزل الملائكة إلا بحق واجب من وحي ومنفعة لا باقتراحكم، وأيضا لو نزلنا لم تنظروا بعد ذلك بالعذاب لأن عادتنا إهلاك الأمم المقترحة إذا آتيناهم ما اقترحوه، وفيه ما فيه، وقال الزمخشري. المعنى إلا تنزلا ملتبسا بالحكمة والمصلحة ولا حكمة في أن تأتيكم عينا تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم لأنكم حينئذ مصدقون عن اضطرار، وهو مبني على أن الإنزال بصورهم الحقيقية، ومنه أخذ صاحب القيل المذكور أولا قيله. والبيضاوي جعل المنافي للحكمة إنزالهم بصور البشر حيث قال: لا حكمة في أن تأتيكم بصور تشاهدونها فإنه لا يزيدكم إلا لبسا.
وقال بعضهم: أريد أن إنزال الملائكة لا يكون إلا بالحق وحصول الفائدة بإنزالهم وقد علم الله تعالى من حال هؤلاء الكفرة أنه لو أنزل إليهم الملائكة لبقوا مصرين على كفرهم فيصير إنزالهم عبثا باطلا ولا يكون حقا، وتعقب الأقوال الثلاثة البعض من المحققين بأنه مع إخلال كل من ذلك بفظيعة الآتي لا يلزم من فرض وقوع شيء من ذلك تعجيل العذاب الذي يفيده قوله سبحانه: * (وما كانوا إذا منظرين) * (الحجر: 8) ومن الناس من تكلف لتوجيه اللزوم على بعض هذه الأقوال بما تكلف، واختار بعضهم كون المراد من * (الحق) * الهلاك والجملة بعد جواب سؤال مقدر فكأنه لما قيل: ما ننزل الملائكة إلا بالهلاك إذ هو الذي يحق لأمثالهم من المعاندين قيل: فليكن ذلك فأجيب بأنه لو فعلنا ما كانوا منظرين أي وهم قد كانوا منظرين كما أجمل فيما قبل من قوله سبحانه: * (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون) * (الحجر: 3) وحاصل الجواب حينئذ على ما قيل أن ما طلبوه من الإتيان بالملائكة ليشهدوا بصدق النبي صلى الله عليه وسلم مما لا يكون لهم لأن ما اقتضته حكمتنا وجرت به عادتنا مع أمثالهم ليس إلا التنزيل بالهلاك دون الشهادة فإن الحكمة لا تقتضيه والعادة لم تجر فيه لأنه إن كان والملائكة بصورهم
14

الحقيقية لم يحصل الإيمان بالغيب ولم يتحقق الاختيار الذي هو مدار التكليف وإن كان وهم بصور البشر حصل اللبس فكان وجوده كعدمه ولزم التسلسل، ويمنع من التنزيل بالهلاك كما فعل مع أضرابهم من المعاندين أنا جعلناهم منظرين فلو نزلنا الملائكة وأهلكناهم عاد ذلك بالنقض لما أبرمناه حسبما نعلم فيه من الحكم، وقيل: في توجيه الآية على تقدير كون اقتراحهم لإتيان الملائكة لتعذيبهم: إن المعنى إنا ما ننزل الملائكة للتعذيب إلا تنزيلا ملتبسا بما تقتضيه الحكمة ولو نزلناهم حسبما اقترحوا ما كان ذلك ملتبسا بما تقتضيه لأنها اقتضت تأخير عذابهم إلى يوم القيامة، وحيث كان في نسبة تنزيلهم للتعذيب إلى عدم موافقة الحكمة نوع إيهام لعدم استحقاقهم التعذيب عدل عما يقتضيه الظاهر إلى ما عليه النظم الكريم فكأنه قيل: لو نزلناهم ما كانوا منظرين وذلك غير موافق للحكمة، فتدبر جميع ذاك والله تعالى يتولى هداك، هذا ولفظة * (إذا) * قال في " الكشاف ": جواب وجزاء لأن الكلام جواب لهم وجزاء لشرط مقدر أي ولو نزلنا، وصرح بإفادتها هذا المعنى سيبويه إلا أن الشلوبين حمل ذلك على الدوام وتكلف له، وأبو علي على الغالب، وقد تتمحض للجواب عنده، وهي حرف بسيط عند الجمهور، وذهب قوم إلى أنها اسم ظرف وأصلها إذا الظرفية لحقها التنوين عوضا من الجملة المضاف إليها ونقلت إلى الجزائية فبقي فيها معنى الربط والسبب؛ وذهب الخليل إلى أنها حرف تركب من إذ وإن غلب عليها حكم الحرفية ونقلت حركة الهمزة إلى الذال ثم حذفت والتزم هذا النقل فكان المعنى إذا قال القائل أزورك فقلت إذا أزورك قلت حينئذ زيارتي واقعة ولا يتكلم بهذا.
وذهب أبو علي عمر بن عبد المجيد الزيدي إلى أنها مركبة من إذا وإن وكلاهما يعطي ما يعطي كل واحدة منهما فيعطي الربط كإذا والنصب كان ثم حذفت همزة إن ثم ألف إذا لالتقاء الساكنين، والظاهر أنه لو قدر في الكلام شرط كانت لمجرد التأكيد، وجعلوا من ذلك قوله تعالى: * (ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا) * (البقرة: 145) الخ، ونقل عن الكافيجي أنه قال في مثل ذلك: ليست إذا هذه الكلمة المعهودة وإنما هي إذا الشرطية حذفت جملتها التي تضاف إليها وعوض عنها التنوين كما في يومئذ، وله سلف في ذلك فقد قال الزركشي في البرهان بعد ذكره: لإذا معنيين وذكر لها بعض المتأخرين معنى ثالثا وهو أن تكون مركبة من إذا التي هي ظرف زمان ماض ومن جملة بعدها تحقيقا أو تقديرا لكنها حذفت تخفيفا وأبدل منها التنوين كما في قولهم حينئذ، وليست هذه الناصبة للمضارع لأن تلك تختص به وهذه لا بل تدخل على الماضي نحو * (إذا لأمسكتم) * وعلى الاسم نحو * (وإنكم إذا لمن المقربين) * (الشعراء: 42) ثم قال: وهذا المعنى لم يذكره النحويون لكنه قياس ما قالوه في إذ، وفي التذكرة لأبي حيان ذكر لي علم الدين أن القاضي تقي الدين بن رزين كان يذهب إلى أن تنوين إذا عوض من الجملة المحذوفة وليس قول نحوي، وقال الجوني: وأنا أظن أنه يجوز أن تقول لمن قال: أنا آتيك إذا أكرمك بالرفع على معنى إذا أتيتني أكرمك فحذفت أتيتني وعوضت التنوين فسقطت الألف لالتقاء الساكنين والنصب الذي اتفق عليه النحاة لحملها على غير هذا المعنى وهو لا ينفي الرفع إذا أريد بها ما ذكر.
وذكر الجلال السيوطي أن الإجماع في القرآن على كتابتها بالألف والوقف عليه دليل على أنها اسم منون لا حرف آخره نون خصوصا إذا لم تقع ناصبة للمضارع، فالصواب إثبات هذا المعنى لها كما جنح إليه شيخنا الكافيجي ومن سبق النقل عنه، وعلى هذا فالأولى حملها في الآية على ما ذكر، وقد ذكرنا فيما مضى بعضا من هذا الكلام فتذكر، ثم إنه تعالى رد إنكارهم التنزيل واستهزاءهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وسلاه
15

عليه الصلاة والسلام بقوله سبحانه:
* (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لح‍افظون) *.
* (إنا نحن نزلنا الذكر) * أي نحن بعظم شأننا وعلو جانبنا نزلنا الذي أنكروه وأنكروا نزوله عليك وقالوا فيك لادعائه ما قالوا وعملوا منزله حيث بنو الفعل للمفعول إيماء إلى أنه أمر لا مصدر له وفعل لا فاعل له * (وإنا له لح‍افظون) * أي من أكل ما يقدح فيه كالتحريف والزيادة والنقصان وغير ذلك حتى أن الشيخ المهيب لو غير نقطة يرد عليه الصبيان ويقول له من كان: الصواب كذا ويدخل في ذلك استهزاء أولئك المستهزئين وتكذيبهم إياه دخولا أوليا، ومعنى حفظه من ذلك عدم تأثيره فيه وذبه عنه، وقال الحسن: حفظه بإبقاء شريعته إلى يوم القيامة، وجوز غير واحد أن يراد حفظه بالإعجاز في كل وقت كما يدل عليه الجملة الإسمية من كل زيادة ونقصان وتحريف وتبديل، ولم يحفظ سبحانه كتابا من الكتب كذلك بل استحفظها جل وعلا الربانيين والأحبار فوقع فيها ما وقع وتولى حفظ القرآن بنفسه سبحانه فلم يزل محفوظا أولا وآخرا، وإلى هذا أشار في " الكشاف " ثم سأل بما حاصله أن الكلام لما كان مسوقا لردهم وقد تم الجواب بالأول فما فائدة التذييل بالثاني؟ وإنما يحسن إذا كان الكلام مسوقا لإثبات محفوظية الذكر أولا وآخرا، وأجاب بأنه جيء به لغرض صحيح وأدمج فيه المعنى المذكور أما ما هو أن يكون دليلا على أنه منزل من عند الله تعالى آية، فالأول وإن كان ردا كان كمجرد دعوى فقيل ولولا أن الذكر من عندنا لما بقي محفوظا عن الزيادة والنقصان كما سواه من الكلام، وذلك لأنه نظمه لما كان معجزا لم يمكن زيادة عليه ولا نقص للإخلال بالإعجاز كذا في " الكشف ":، وفيه إشارة إلى وجه العطف وهو ظاهر.
وأنت تعلم أن الإعجاز لا يكون سببا لحفظه عن إسقاط بعض السور لأن ذلك لا يخل بالإعجاز كما لا يخفى، فالمختار أن حفظ القرآن وإبقاءه كما نزل حتى يأتي أمر الله تعالى بالإعجاز وغيره مما شاء الله عز وجل، ومن ذلك توفيق الصحابة رضي الله تعالى عنهم لجمعه حسبما علمته أول الكتاب. واحتج القاضي بالآية على فساد قول بعض من الإمامية لا يعبأ بهم إن القرآن قد دخله الزيادة والنقصان، وضعفه الإمام بأنه يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه لأن للقائلين بذلك أن يقولوا: إن هذه الآية من جملة الزوائد ودعوى الإعجاز في هذا المقدار لا بد لها من دليل. واحتج بها القائلون بحدوث الكلام اللفظي وهي ظاهرة فيه ومن العجيب ما نقله عن أصحابه حيث قال: قال أصحابنا في هذه الآية دلالة على كون البسملة آية من كل سورة لأن الله تعالى قد وعد حفظ القرآن والحفظ لا معنى له إلا أن يبقى مصونا من الزيادة والنقصان فلو لم تكن البسملة آية من القرآن لما كان مصونا عن التغيير ولما كان محفوظا عن الزيادة، ولو جاز أن يظن بالصحابة أنهم زادوا لجاز أن يظن بهم أنهم نقصوا وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجة اه‍، ولعمري أن تسمية مثل هذا بالخبال أولى من تسميته بالاستدلال، ولا يخفى ما في سبك الجملتين من الدلالة على كمال الكبرياء والجلالة وعلى فخامة شأن التنزيل، وقد اشتملتا على عدة من وجوه التأكيد * (ونحن) * ليس فصلا لأنه لم يقع بين اسمين وإنما هو إما مبتدأ أو توكيد لاسم إن، ويعلم مما قررنا أن ضمير * (له) * للذكر وإليه ذهب مجاهد. وقتادة. والأكثرون وهو الظاهر، وجوز الفراء وذهب إليه النزر أن يكون راجعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي وأنا للنبي الذي أنزل عليه الذكر لحافظون من مكر المستهزئين كقوله تعالى: * (والله يعصمك من الناس) * والمعول عليه الأول، وأخر هذا الجواب مع أنه رد لأول كلامهم الباطل لما أشرنا إليه فيما مر ولارتباطه
16

بما يعقبه من قوله تعالى:
* (ولقد أرسلنا من قبلك فى شيع الاولين) *.
* (ولقد أرسلنا) * أي رسلا كما روي عن ابن عباس وإنما لم يذكر لظهور الدلالة عليه * (من قبلك) * متعلق بأرسلنا أو بمحذوف وقع نعتا لمفعوله المحذوف أي رسلا كائنة من قبلك * (في شيع الأولين) * أي فرقهم كما قال الحسن. والكلبي، وإليه ذهب الزجاج، وهو وكذا أشياع جمع شيعة وهي والفرقة الجماعة المتفقة على طريقة ومذهب مأخوذ من شاع المتعدي بمعنى تبع لأن بعضهم يشايع بعضا ويتابعه، وتطلق الشيعة على الأعوان والأنصار، وأصل ذلك على ما قيل من الشياع بالكسر والفتح صغار الحطب يوقد به الكبار، والمناسبة في ذلك نظرا للإطلاق الثاني ظاهرة وللإطلاق الأول أن التابع من حيث أنه تابع أصغر ممن يتبعه، وإضافته إلى الأولين من إضافة الموصوف إلى صفته عند الفراء ومن حذف الموصوف عند البصريين أي شيع الأمم الأولين، والجار والمجرور متعلق بأرسلنا. ومعنى إرسال الرسل في الشيع جعل كل منهم رسولا فيما بين طائفة منهم ليتابعوه في كل ما يأتي ويذر من أمور الدين وكأنه لو قيل - إلى - بدل * (في) * لم يظهر إرادة هذا المعنى، وقيل: إنما عدل عن إلى إليها للإعلام بمزيد التمكين، وزعم بعضهم أن الجار والمجرور متعلق بمحذوف هو صفة للمفعول المقدر أو حال ولا يخفى بعده.
* (وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون) *
.
* (وما يأتيهم من رسول) * حكاية حال ماضية كما قال الزمخشري لأن * (ما) * لا تدخل على مضارع إلا وهو في موضع الحال ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال وهو قول الأكثرين، وقال بعضهم: إن الأكثر دخول * (ما) * على المضارع مرادا به الحال وقد تدخل عليه مرادا به الاستقبال، وأنشد قول أبي ذؤيب: أودي بني وأودعوني حسرة * عند الرقاد وعبرة ما تقلع
وقول الأعشى يمدح النبي صلى الله عليه وسلم: له نافلات ما يغب نوالها * وليس عطاء اليوم مانعه غدا
وقال تعالى: * (ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي) * (يونس: 15) ولعله المختار وان كان ماهنا على الحكاية، والمراد نفي أتيان كل رسول لشيعته الخاصة به لا نفي اتيان كل رسول لكل واحدة من تلك الشيع جميعا أو على سبيل البدل أي ما أتى شيعة من تلك الشيع رسول خاص بها * (إلا كانوا به يستهزئون) * كما يفعله هؤلاء الكفرة، والجملة - كما قال أبو البقاء - في محل النصب على أنها حال من ضمير المفعول في يأتيهم إن كان المراد بالإتيان حدوثه أو في محل الرفع أو الجر على أنها صفة رسول على لفظه أو موضعه لأنه فاعل، وتعقب جعلها صفة له باعتبار لفظه بأنه يفضي إلى زيادة من الاستغراقية في الإثبات لمكان * (إلا) * وتقدير العمل
في النعت بعدها.
وجوز أن تكون نصبا على الاستثناء وان كان المختار الرفع على البدلية، وهذا كما ترى تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن هذه شنشنة جهال الأمم مع المرسلين عليهم السلام قبل، وحيث كان الرسول مصحوبا بكتاب من عند الله تعالى تضمن ذكر استهزائهم بالرسول استهزاءهم بالكتاب [بم ولذلك قال سبحانه:
* (كذلك نسلكه فى قلوب المجرمين) *
.
* (كذلك) * أي مثل السلك الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين برسلهم وبما جاؤوا به * (نسلكه) * أي ندخله يقال: سلكت الخيط في الإبرة والسنان في المطعون أي أدخلت: وقرىء * (نسلكه) * وسلك وأسلك
17

كما ذكر أبو عبيدة بمعنى واحد، والضمير عند جمع ومنهم الحسن على ما ذكره الغزنوي للذكر * (في قلوب المجرمين) * أي أهل مكة أو جنس المجرمين فيدخلون فيه دخولا أوليا، ومعنى المثلية كونه مقرورنا بالاستهزاء غير مقبول لما تقتضيه الحكمة، وحاصلة انه تعالى يلقي القرآن في قلوب المجرمين مستهزأ به غير مقبول لأنهم من أهل الخذلان ليس لهم استحقاق لقبول الحق كما ألقى سبحانه كتب الرسل عليهم السلام في قلوب شيعهم مستهزأ بها غير مقبولة لذلك، وصيغة المضارع لكون المشبه به مقدما في الوجود وهو السلك الواقع في شيع الأولين.
* (لا يؤمنون به وقد خلت سنة الاولين) *
.
* (لا يؤمنون به) * الضمير للذكر أيضا، والجملة في موضع الحال من مفعول * (نسلكه) * أي غير مؤمن به، وهي إما مقدرة وإما مقارنة على معنى أن الالقاء وقع بعده الكفر من غير توقف فهما في زمان واحد عرفا، ويجوز أن تكون بيانا للجملة السابقة فلا محل لها من الإعراب، قال في الكشف: وهو الأوجه لأن في طريقة الإبهام والتفسير لا سيما في هذا المقام ما يجل موقع الكلام. وفي إرشاد العقل السليم أنه قد جعل ضمير * (نسلكه) * للاستهزاء المفهوم من * (يستهزئون) * فتتعين البيانية إلا أن يجعل ضمير * (به) * له أيضا على أن الباء للملابسة أي يسلك الاستهزاء في قلوبهم حال كونهم غير مؤمنين بملابسة الاستهزاء، وقد ذهب إلى جواز ارجاع الضميرين إلى الاستهزاء ابن عطية إلا أنه جعل الباء للسببية، وكذا الفاضل الجلبي، ولا يخفى أن بعد ذلك يغنى عن رده. وذهب البيضاوي إلى كون الضمير الأول للاستهزاء وضمير * (به) * للذكر وتفريق الضمائر المتعاقبة على الأشياء المختلفة إذا دل الدليل عليه ليس ببدع في القرآن، وجوز على هذا كون الجملة حالا من * (المجرمين) * ولا يتعين كونها حالا من الضمير ليتعين رجوعه للذكر، وذكر أن عوده على الاستهزاء لا ينافي كونها مفسرة بل يقوبه إذ عدم الإيمان بالذكر أنسب بتمكن الاستهزاء في قلوبهم، وجعل الآية دليلا على أنه تعالى يوجد الباطل في قلوبهم ففيها رد على المعتزلة في قولهم: إنه قبيح فلا يصدر منه سبحانه، وكأنه رحمه الله تعالى ظن أن ما فعله الزمخشري من جعل الضميرين للذكر كان رعاية لمذهبه ففعل ما فعل، ولا يخفى أنه لم يصب المحز وغفل عن قولهم: الدليل إذا طرقه الاحتمال بطل به الاستدلال.
وفي الكشف بعد كلام ان رجع الضمير إلى الاستهزاء أو الكفر مع ما فيه من تنافر النظم لا ينكره أهل الاعتزال إلا كإنكار سلك الذكر بصفة التكذيب والتأويل، وكأنهم غفلوا عما ذكره جار الله في الشعراء حيث أجاب عن سؤال إسناد سلك الذكر بتلك الصفة إلى نفسه جل وعلا بأن المراد تمكنه مكذوبا في قلوبهم أشد التمكن كشيء جبلوا عليه؛ ولخص المعنى ههنا بأنه تعالى يلقيه في قلوبهم مكذبا لا أن التكذيب فعله سبحانه.
نعم أخرج ابن أبي حاتم عن أنس. والحسن تفسير ضمير * (نسلكه) * إلى الشرك، وإخراج هو. وابن جرير عن ابن زيد أنه قال في الآية: هم كما قال الله تعالى هو أضلهم ومنعهم الإيمان لكن هذا أمر وما نحن فيه آخر، واعترض بعضهم رجوع الضمير إلى * (الذكر) * بأن نون العظمة لا تناسب ذلك فإنها إنما تحسن إذا كان فعل المعظم نفسه فعلا يظهر له أثر قوى وليس كذلك هنا فإنه تدافع وتنازع فيه. وأجاب بأن المقام إذا كان للتوبيخ يحسن ذلك، ولا يلزم أن تكون العظمة باعتبار القهر والغلبة فقد تكون باعتبار اللطف والإحسان. وتعقب ذلك الشهاب بقوله: لا يخفى أنه باعتبار القهر والغلبة يقتضي أن يؤثر ذلك في قلوبهم وليس كذلك لعدم إيمانهم
18

به، وكذا باعتبار اللطف والإحسان يقتضي أن يكون سلكه في قلوبهم إنعاما عليهم فأي إنعام عليهم بما يقتضي الغضب فلا وجه لما ذكر، وأنت تعلم أنه إذا كان المراد سلك ذلك وتمكينه في قلوبهم مكذبا به غير مقبول فكون الإسناد باعتبار القهر والغلبة مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان، والأثر الظاهر القوي لذلك بقاؤهم على الكفر والإصرار على الضلال ولو جاءتهم كل آية، ولا يخفى ما في * (كذلك) * مما يناسب نون العظمة أيضا وقد مر التنبيه عليه غير مرة. * (وقد خلت) * مضت * (سنة) * طريقة * (الأولين) * والمراد عادة الله تعالى فيهم على أن الإضافة لأدنى ملابسة لا على الإضافة بمعنى في، والمراد بتلك العادة على تقدير أن يكون ضمير * (نسلكه) * للاستهزاء الخذلان وسلك الكفر في قلوبهم أي قد مضت عادته سبحانه وتعالى في الأولين ممن بعث إليهم الرسل عليهم السلام أن يخذلهم ويسلك الكفر والاستهزاء في قلوبهم، وعلى تقدير أن يكون للذكر الإهلاك، وعلى هذا قول الزمخشري أي مضت طريقتهم التي سنها الله تعالى في اهلاكهم حين كذبوا برسلهم والمنزل عليهم، وذكر أنه وعيد لأهل مكة على تكذيبهم، وإلى الأول ذهب الزجاج، وادعى الإمام أنه الاليق بظاهر اللفظ؛ وبين ذلك الطيبي قائلا: ان التعريف في * (المجرمين) * للعهد، والمراد بهم المكذبون من قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم المذكورون بعد أي مثل ذلك السلك الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين المكذبين للرسل الماضين نسلكه في قلوب هؤلاء المجرمين فلك أسوة بالرسل الماضية مع أممهم المكذبة، ولست بأوحدى في ذلك وقد خلت سنة الأولين، والمقام يقتضي
التقرير والتأكيد فيكون في هذا مزيد تسلية للرسول عليه السلاة والسلام، والوعيد بعيد لأنه لم يسبق لإهلاك الأمم ذكر، وإيثار ذلك لأنه أقرب إلى مذهب الاعتزال اه‍.
وفيه غفلة عن نغزى الزمخشري، وقد تفطن لذلك صاحب الكشف ولله تعالى دره حيث قال: أراد أن موقع * (قد خلت) * إلى آخره موقع الغاية في الشعراء أعني قوله تعالى هنالك, * (حتى يروا العذاب الأليم) * فانهم لما شبهوا بهم قيل: لا يؤمنون وقد هلك من قبلهم ولم يؤمنوا فكذلك هؤلاء، ومنه يظهر أن الكلام على هذا الوجه شديد الملاءمة، وأما أن الوعيد بعيد لعدم سبق ذكر لإهلاك الأمم ففيه أن لفظ السنة مضافا إلى ما أضيف إليه ينبىء عن ذلك أشد الأنباء، ثم إنه ليس المقصود منه الوعيد على ما قررناه، وقد صرح أيضا بعض الأجلة أن الجملة استئنافية جيء بها تكملة للتسلية وتصريحا بالوعيد والتهديد، ثم ما ذهب إليه الزمخشري منالمراد بالسنة مروى عن قتادة. فقد أخرج ابن جرير. وابن المنذر. وغيرهما عنه أنه قال في الآية: قد خلت وقائع الله تعالى فيمن خلا من الأمم. وعن ابن عباس أن المراد سنتهم في التكذيب، ولعل الإضافة على هذا على ظاهرها.
* (ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون) *
.
* (ولو فتحنا عليهم) * أي على هؤلاء المقترحين المعاندين * (بابا من السماء) * ظاهره بابا ما لا بابا من أبوابها المعهودة كما قيل: * (فظلوا فيه) * أي في ذلك الباب * (يعرجون) * يصعدون حسبما نيسره لهم فيرون ما فيها من الملائكة والعجائب طول نهارهم مستوضحين لما يرونه كما يفيده - ظلوا - لأنه يقال ظل يعمل كذا إذا فعله في النهار حيث يكون للشخص ظل، وجوز في البحر كون ظل بمعنى صار وهو مع كونه خلاف الأصل مما لا داعي إليه، وأياما كان فضمير الجمع للمقترحين، وهو الظاهر المروى عن الحسن وإليه ذهب الجبائي. وأبو مسلم، وأخرج ابن جريج عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه للملائكة وروى ذلك عن قتادة أيضا
19

أي فظل الملائكة الذين اقترحوا اتيانهم يعرجون في ذلك الباب وهم يرونهم على أتم وجه. وقرأ الأعمش. وأبو حيوة * (يعرجون) * بكسر الراء وهي لغة هذيل في العروج بمعنى الصعود.
* (لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون) *.
* (لقالوا) * لفرط عنادهم وغلوهم في المكابرة وتفاديهم عن قبول الحق: * (إنما سكرت أبصارنا) * أي سدت ومنعت من الأبصار حقيقة وما نراه تحيل لا حقيقة له، أخرج ابن أبي حاتم وغيره عن مجاهد، وروى أيضا عن ابن عباس. وقتادة فهو من السكر بالفتح، وقال أبو حيان: بالكسر السد والحبس، وقال ابن السيد: السكر بالفتح سد الباب والنهر وبالكسر السد نفسه ويجمع على سكور، قال الرفاء: غناؤنا فيه ألحان السكور إذا * قل الغناء ورنات النواعير
ويشهد لهذا المعنى قراءة ابن كثير. والحسن. ومجاهد * (سكرت ابصارنا) * بتخفيف الكاف مبنيا للمفعول لأن سكر المخفف المتعدي اشتهر في معنى السد، وعن عمرو بن العلاء أن المراد حيرت فهو من السكر بالضمر ضد الصحو، وفسروه بأنه حالة تعرض بين المرء وعقله، وأكثر ما يستعمل ذلك في الشراب وقد يعتري من الغضب والعشق، ولذا قال الشاعر: سكران سكر هوى وسكر مدامة * أني يفيق فتى به سكران
والتشديد في ذلك للتعدية لأن سكر كفرح لازم في الأشهر وقد حكى تعديه فيكون للتكثير والمبالغة، وأرادوا بذلك أنه فسدت أبصارنا واعتراها خلل في احساسها كما يعتري عقل السكران ذلك فيختل إدراكه ففي الكلام على هذا استعارة وكذا على الأول عند بعض ويشهد لهذا المعنى قراءة الزهري * (سكرت) * بفتح السين وكسر الكاف مخففة مبنيا للفاعل لأن الثلاثي اللازم مشهور فيه ولأن سكر بمعنى سد المعروف ففيه فتح الكاف.
واختار الزجاج أن المعنى سكنت عن أبصار الحقائق من سكرت الريح تسكر سكرا إذا ركدت ويقال: ليلة ساكرة لا ريح فيها والتضعيف للتعدية ولهم أقوال أخر متقاربة في المعنى. وقرأ أبان بن تغلب وحملت لمخالفتها سواد المصحف على التفسير سحرت أبصارنا * (بل نحن قوم مسحورون) * قد سحرنا محمد صلى الله عليه وسلم كما قالوا ذلك عند ظهور سائر الآيات الباهرة، والظاهر على ما قال القطب انهم أرادوا أولا سكرت أبصارنا لا عقولنا فنحن وأن تخيلنا هذه الأشياء بأبصارنا لكن نعلم بعقولنا أن الحال بخلافه ثم أضربوا عن الحصر في الأبصار وقالوا: بل تجاوز ذلك إلى عقولنا، وفسر الزمخشري الحصر بأن ذلك ليس إلا تسكيرا فأورد عليه بأن * (إنما) * إنما تفيد الحصر في المذكور آخرا وحينئذ يكون المعنى ما نقدم وهو مبني على أن تقديم المقصور على المقصور عليه لازم وخلافه ممتنع، وقد قال المحقق في شرح التخليص انه يجوز إذا كان نفس التقديم يفيد الحصر كما في قولنا: إنما زيدا ضربت فإنه لقصر الضرب على زيد، وقال أبو الطيب: صفاته لم تزده معرفة * لكنها لذة ذكرناها
أي ما ذكرناها إلا لذة إلا أن هذا لا ينفع فيما نحن فيه. نعم نقل عن عروس الأفراح أن حكم أهل المعاني غير مسلم فإن قولك: إنما قمت معناه لم يقع إلا القيام فهو لحصر الفعل وليس بآخر ولو قصد حصر الفاعل لا نفصل، ثم أورد عدة أمثلة من كلام المفسرين تدل على ما ذكروه في المسألة، فالظاهر أن الزمخشري لا يرى ما قالوه مذردا وهم قد غفلوا عن مراده هنا قاله الشهاب، وما نقله عن عروس الأفراح في إنما قمت من أنه
20

لحصر الفعل ولو كان لحصر الفاعل لانفصل يخالفه ما في شرح المفتاح الشريفي من أنه إذا أريد حصر الفعل في الفاعل المضمر فإن ذكر بعد الفعل شيء من متعلقاته وجب انفصال الفاعل وتأخيره كما في قولك: إنما ضرب اليوم أنا، وكما في قول الفرزدق: أنا الذائد الحامي الذمار وإنما * يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلى
وان لم يذكر احتمل الوجوب طردا للباب وعدمه بأن يجوز الانفصال نظرا إلى المعنى والاتصال نظرا إلى اللفظ إذ لا فاصل لفظيا اه‍ فإنه صريح في أن إنما قمت لحصر الفاعل وان لم يجب الانفصال لكن اختار السعد في شرحه وجوب الانفصال مطلقا وحكم بأن الظاهر أن معنى إنما أقوم ما أنا إلا أقوم كما نقله السمرقندي. وأبو حيان مع
طائفة يسيرة من انلحاة أنكروا إفادة إنما للحصر أصلا وليس بالمعول عليه عند المحققين لكنهم قالوا: إنها قد تأتي لمجرد التأكيد وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله. ووجه الشهاب الاضراب بعد أن قال هو جعل الأول في حكم المسكوت عنه دون النفي ويحتمل الثاني بأنه اضراب لأن هذا ليس بواقع في نفس الأمر بل بطريق السحر أو هو باعتبار ما تفيده الجملة من الاستمرار الذي دلت عليه الاسمية أي مسحوريتنا لا تختص بهذه الحالة بل نحن سترون عليها في كل ما يرينا من الآيات، هذا وفي هذه الآية من وصفهم بالعناد وتواطئهم على ما هم فيه من التكذيب والفساد ما لا يخفى، وفي ذلك تأكيد لما يفهم من الآية الأولى، وقد ذكر بن المنير في المراد منها وجها بعيدا جدا فيما أرى فقال: المراد والله تعالى أعلم إقامة الحجة على المكذبين بأن الله تعالى سلك القرآن في قلوبهم وأدخله في سويدائها كما سلك في قلوب المؤمنين المصدقين فكذب به هؤلاء وصدق به هؤلاء كل على علم وفهم ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ولئلا يكون للكفار على الله تعالى حجة بأنهم ما فهموا وجه الاعجاز كما فهمها من آمن فأعلمهم الله تعالى - وهم في مهلة وإمكان - أنهم ما كفروا إلا على علم معاندين باغين غير معذورين ولذلك عقبه سبحانه بقوله تعالى: * (ولو فتحنا عليهم) * الخ أي هؤلاء فهموا القرآن وعلموا وجوه إعجازه وولج ذلك في قلوبهم ووقر ولكنهم قوم سجيتهم العناد وسمتهم اللداد حتى لو سلك بهم أوضح السبل وأدعاها إلى الإيمان لقالوا بعد الإيضاح العظيم: إنما سكرت أبصارنا وسحرنا وما هذه إلا خيالات لا حقائق تحتها فأسجل سبحانه عليهم بذلك أنهم لا عذر لهم بالتكذيب من عدم سماع ووعى ووصول إلى القلوب وفهم كما فهم غيرهم من المصدقين لأن ذلك كان حاصلا لهم وليس بهم إلا العناد والإصرار لا غير اه‍ فليتأمل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل، ثم أنه تعالى لما ذكر حال منكري النبوة وكانت مفرعة على التوحيد ذكر دلائله السماوية والأرضية [بم فقال عز قائل:
* (ولقد جعلنا فى السماء بروجا وزين‍اها للن‍اظرين) *
.
* (ولقد جعلنا في السماء بروجا) * الخ وإلى هذا ذهب الإمام وغيره في وجه الربط.
وقا ابن عطية: انه سبحانه لما ذكر أنهم لو رأوا الآية المطلوبة في السماء لعاندوا وبقوا على ما هم فيه من الضلال عقب ذلك بهذه الآية كأنه جل شأنه قال: وإن في السماء لعبرا منصوبة غير هذه المذكورة وكفرهم بها وإعراضهم عنها اصرار منهم وعتو اه‍؛ والظاهر أن الجعل بمعنى الخلق والإبداع فالجار والمجرور متعلق به، وجوز أن يكون بمعنى التصيير فهو متعلق بمحذوف على أنه مفعول ثان له وبروجا مفعوله الأول، والبروج جمع برج وهو لغة القصر والحصن وبذلك فسره هنا عطية، فقد أخرج عنه ابن أبي حاتم أنه قال:
21

جعلنا قصورا في السماء فيها الحرس، وأخرج عن أبي صالح أن المراد بالبروج الكواكب العظام.
وفي البحر عنه الكواكب السيارة وروى غير واحد عن مجاهد. وقتادة أنها الكواكب من غير قيد، وروي عن ابن عباس تفسير ذلك بالبروج الأثنى عشر المشهورة وهي ستة شمالية ثلاثة ربيعية وثلاثة صيفية وأولها الحمل وستة جنوبية ثلاثة خريفية وثلاثة شتائية وأولها الميزان وطول كل برج عندهم لدرجة وعرضه قف درجة ص منها في جهة الشمال ومثلها في جهة الجنوب وكأنها إنما سميت بذلك لأنها كالحصن أو القصر للكوكب الحال فيها وهي في الحقيقة أجزاء الفلك الأعظم وهو المحدد المسمى بلسانهم الفلك الأطلسي وفلك الأفلاك وبلسان الشرع بعكسه ولهذا يسمى الشيخ الأكبر قدس سره الفلك الأطلس بفلك البروج والمشهور تسمية الفلك الثامن وهو فلك الثوابت به لاعتبارهم الانقسام فيه وكأن ذلك لظهور ما تتعين به الأجزاء من الصور فيه وان كان كل منها منتقلا عما عينه إلى آخر منها لثبوت الحركة الذاتية للثوابت على خلاف التوالي وان لم يثبتها لها لعدم الإحساس بها قدماء الفلاسفة كما لم يثبت الأكثرون حركتها على نفسها وأثبتها الشيخ أبو علي ومن تبعه من المحققين، وقد صرحوا بأن هذه الصور المسماة بالأسماء المعلومة توهمت على المنطقة وما يقرب منها من الجانبين من كواكب ثابتة تنظمها خطوط موهومة وقعت وقت القسمة في تلك الأقسام ونقل ذلك في الكفاية عن عامة المنجمين وانهم إنما توهموا لكل قسم صورة ليحصل التفهيم والتعليم بأن يقال: الدبران مثلا عين الأسد.
وتعقب ذلك بقوله: وهذا ليس بسديد عندي لأن تلك الصور لو كانت وهمية لم يكن لها أثر في أمثالها من العالم السفلى مع أن الأمر ليس كذلك فقد قال بطليموس في الثمرة. الصور التي في عالم التركيب مطيعة للصور الفلكية إذ هي في ذواتها على تلك الصور فأدركتها الأوهام على ما هي عليه وفيه بحث ثم هذه البروج مختلفة الآثار والخواص بل لكل جزء من كل منها وإن كان أقل من عاشرة بل أقل الأقل آثار تخالف آثار الجزء الآخر وكل ذلك آثار حكمة الله تعالى وقدرته عز وجل. وقد ذكر الشيخ الأكبر قدس سره في بعض كتبه أن آثار النجوم وأحكامها مفاضة عليها من تلك البروج المعتبرة في المحدد.
وفي الفصل الثالث من الباب الحادي والسبعين والثلثمائة من فتوحاته ما منه إن الله تعالى قسم الفلك الأصلس اثنى عشر قسما سماها بروجا وأسكن كل برج منها ملكا وهؤلاء الملائكة أئمة العالم وجعل لكل منهم ثلاثين خزانة تحتوي كل منها على علوم شتى يهبون منها للنازل بهم قدر ما تعطيه رتبته وهي الخزائن التي قال الله تعالى فيها: * (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) * وتسمى عند أهل التعاليم بدرجات الفلك والنازلون بها هم الجوارى والمنازل وعيوقاتها من الثوابت والعلوم الحاصلة من تلك الخزائن الإلهية هي ما يظهر في عام الأركان من التأثيرات بل ما يظهر في مقعر فلك الثوابت إلى الأرض إلى آخر ما قال، وقد قدس سره الكلام في هذا الباب وهو بمعزل عن اعتقاد المحدثين نقلة الدين عليهم الرحمة، ثم إن في اختلاف خواص البروج حسبما تشهد به التجربة مع ما اتفق عليه الجمهور من بساطة السماء أدل دليل على وجود الصانع المختار جل جلاله.
* (وزيناها) * أي السماء بما فيها من الكواكب السيارات وغيرها وهي كثيرة لا يعلم عددها إلا الله تعالى. نعم المرصود منها ألف ونيف وعشرون ورتبوها على ست مراتب وسموها اقدارا متزايدة سدسا حتى
22

كان قطر ما في القدر الأول ستة أمثال ما في القدر السادس وجعلوا كل قدر على ثلاث مراتب وما دون السادس لم يثبتوه في المراتب بل إن كان كقطعة السحاب يسمونه سحابيا وإلا فمظلما، وذكر في الكفاية إن ما كان منها في القدر الأول فجرمه مائة وستة وخمسون مرة ونصف عشر الأرض. وجاء في بعض الآثار أن أصغر النجوم كالجبل العظيم واستظهر أبو حيان عود الضمير للبروج لأنها المحدث عنها والأقرب في اللفظ والجمهور على ما ذكرنا حذرا من انتشار الضمائر * (للناظرين) * أي بأبصارهم إليها كما قاله بعضهم لأنه المناسب للتزيين، وجوز أن يراد بالتزيين ترتيبها على نظام بديع مستتبعا للآثار الحسنة فيراد بالناظرين المتفكرون المستدلون بذلك على قدرة مقدرها وحكمة مدبرها جل شأنه.
* (وحفظن‍اها من كل شيط‍ان رجيم) *
.
* (وحفظناها من كل شيطان رجيم) * مطرود عن الخيرات، ويطلق الرجم على الرمي بالرجام وهي الحجارة، فالمراد بالرجيم المرمي بالنجوم، ويطلق أيضا على الإهلاك والقتل الشنيع، والمراد بحفظها من الشيطان اما منعه عن التعرض لها على الإطلاق والوقوف على ما فيها في الجملة فالاستثناء في قولبه تعالى:
* (إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين) *
.
* (إلا من استرقع السمع) * متصل، وإما المنع عن دخولها والاختلاط مع أهلها على نحو الاختلاط مع أهل الأرض فهو حينئذ منقطع، وعلى التقديرين محل * (من) * النصب على الاستثناء، وجوز أبو البقاء. والحوفي كونه في محل جر على أنه بدل * (من كل شيطان) * بدل بعض من كل واستغنى عن الضمير الرابط بالا.
واعترض بأنه يشترط في البدلية أن تكون في كلام غير موجب وهذا الكلام مثبت.
ودفع بأنه في تأويل المنفى أي لم نمكن منها كل شيطان أو نحوه وأورد أن تأويل المثبت في غير أبي ومتصرفاته غير مقيس ولا حسن فلا يقال مات القوم إلا زيد بمعنى لم يعيشوا، ولعل القائل بالبدلية لا يسلم ذلك، وقد أولوا بالمنفي قوله تعالى: * (فشربوا منه إلا قليل) * وقوله عليه الصلاة والسلام: " العالم هلكى إلا العالمون " والخبر وغير ذلك مما ليس فيه أبى ولا شيء من متصرفاته لكن " الانصاف " ضعف هذه البدلية كما لا يخفى.
وجوز أبو البقاء أيضا أن يكون في محل رفع على الابتداء والخبر جملة قوله تعالى: * (فأتبعه شهاب مبين) * وذكر أن الفاء من أجل ان * (من) * موصول أو شرط والاستراق افتعال من السرقة وهو أخذ الشيء بخفية شبه به خطفتهم اليسيرة من الملا الأعلى وهو المذكور في قوله تعالى: * (إلا من خطف الخطفة) * (الصافات: 10) والمراد بالسمع المسموع، والشهاب - على ما قال الراغب - الشعلة الساطعة من النار الموقدة ومن العارض في الجو ويطلق على الكوكب لبريقه كشعلة النار.
وأصله من الشهبة وهي بياض مختلط بسواد وليست البياض الصافي كما يغلط فيه العامة فيقولون فرس أشهب للقرطاسي، والمراد - بمبين - ظاهر أمره للمبصرين ومعنى اتبعه تبعه عند الأخفش نحو ردفته وأردفته فليست الهمزة فيه للتعدية، وقيل: اتبعه أخص من تبعه لما قال الجوهري تبعت القوم تبعا وتباعة بالفتح إذا مشيت خلفهم أو مروا بك فمضيت معهم وأتبعت القوم على أفعلت إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم واستحسن الفرق بينهما الشهاب، ولما كان الاتباع محتملا للاهلاك وغيره اختلف العلماء في ذلك فحكى القرطبي عن ابن عباس أن الشهاب يجرح ويحرق ولا يقتل، وعن الحسن وطائفة أنه يقتل، وادعى أن الأول أصح، ونقل غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إن الشياطين يركب بعضهم بعضا إلى السماء الدنيا يسترقون
23

السمع من الملائكة عليهم السلام فيرمون بالكواكب فلا تخطىء أبدا فمنهم من تقتله ومنهم من تحرق وجهه أو جنبه أو يده أو حيث يشاء الله تعالى ومنهم من تخبله فيصير غولا فيضل الناس في البراري، ومما لا يعول عليه ما يروى من أن منهم من يقع في البحر فيكون تمساحا؛ ومن الناس من طعن كما قال الإمام في أمر هذا الاستراق والرمي من وجوه. أحدها أن انقضاص الكواكب مذكور في كتب قدماء الفلاسفة وذكروا فيه أن الأرض إذا سخنت بالشمس ارتفع منها بخار يابس فإذا بلغ كرة النار التي دون الفلك احترق بها فتلك الشعلة هي الشهاب. وقد يبقى زمانا مشتعلا إذا كان كثيفا وربما حميت الأدخنة في برد الهواء للتعاقب فانضغط مشتعلة، وجاء أيضا في شعر الجاهلية قال بشر بن أبي حازم: والعير يلحقها الغبار وجحشها * ينقض خلفهما انقضاض الكواكب
وقال أوس بن حجر: وانقض كالدرى يتبعه * نقع يثور تخاله طنيا
إلى غير ذلك.
وثانيها ان هؤلاء الشياطين كيف يجوز فيهم أن يشاهدوا ألوفا من جنسهم يسترقون السمع فيحترقون ثم انهم مع ذلك يعودون لصنيعهم فإن من له أدنى عقل إذا رأى هلاك أبناء جنسه من تعاطى شيء مرارا امتنع منه.
وثالثها أن يقال: إن ثخن السماء خمسمائة عام فهؤلاء الشياطين إن نفذوا في جرمها وخرقوها فهو باطل لنفى أن يكون لها فطور على ما قال سبحانه: * (فارجع البصر هل ترى من فطور) * (الملك: 3) وإن كانوا لا ينفذون فكيف يمكنهم سماع أسرار الملائكة عليهم السلام مع هذا البعد العظيم.
ورابعها ان الملائكم عليهم السلام إنما اطلعوا على الأحوال المستقبلة إما لأنهم طالعوها من اللوح المحفوظ أو لأنهم تلقفوها بالوحي، وعلى التقديرين لم لم يسكتوا عن ذكرها حتى لا تتمكن الشياطين من الوقوف عليها؟
وخامسها أن الشياطين مخلوقون من النار والنار لا تخرق النار بل تقويها فكيف يعقل زجرهم بهذه الشهب؟
وسادسها أنكم قلتم: إن هذا القذف لأجل النبوة فلم دام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؟
وسابعها أن هذه الشهب إنما تحدث بقرب الأرض بدليل أنا نشاهد حركاتها ولو كانت قريبة من الفلك لما شاهدناها كما لم نشاهد حركات الأفلاك والكواكب، وإذا ثبت أنها تحدث بالقرب من الأرض فكيف يقال: إنها تمنع الشياطين من الوصول إلى الفلك؟
وثامنها أن هؤلاء الشياطين لو كان يمكنهم أن ينقلوا أخبار الملائكة عليهم السلام عن المغيبات إلى الكهنة فلم لم ينقلوا أسرار المؤمنين إلى الكفار حتى يتوصلوا بواسطة وقوفهم على أسرارهم إلى الحلق الضرر بهم؟
وتاسعها لم لم يمنعهم الله تعالى من الصعود ابتداء حتى لا يحتاج في دفعهم إلى هذه الشهب؟ وقال بعضهم: أيضا: أن السماع إنما يفيدهم إذا عرفوا لغة الملائكة فلم لم يجعلهم الله سبحانه جاهلين بلغتهم لئلا يفيدهم السماع شيئا، وأيضا ان انقطع الهواء دون مقعر فلك القمر لم يحدث هناك صوت إذ هو من تموج الهواء والمفروض عدمه وإن لم ينقطع كان دون ذلك أصوات هائلة من تموج الهواء بحركة الأجرام العظيمة وهي تمنع من سماع أصوات الملائكة عليهم السلام في محاوراتهم ولا يكاد يظن أن أصواتهم في المحاورات تغلب هاتيك الأصوات لتسمع معها، وأيضا ليس في السماء الدنيا إلا القمر ولا نراه يرمي به وسائر السيارات فوق * (كل في فلك يسبحون) * (الأنبياء: 23) والثوابت في الفلك الثامن والرمي بشيء من ذلك يستدعي خرق السماء وتشققها ليصل الشهاب إلى الشيطان وهو مما لا يكاد يقال. وأجاب الإمام عن الأول. أولا بأن الشهب لم تكن موجودة قبل البعثة وهذا
24

قول ابن عباس، فقد روى عنه أنه قال: " كان الجن يصعدون إلى السماء فيستمعون الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها أشياء من عند أنفسهم فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم ولم يكن النجوم يرمي بها قبل ذلك فقال لهم إبليس: ما هذا إلا لأمر حدث " الخبر.
وروى عن أبي كعب أنه قال: " لم يرم بنجم منذ رفع عيسى عليه السلام حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمى بها فرأت قريش ما لم تر قبل فجعلوا يسيبون أنهامهم ويعتقون رقابهم يظنون أنه الفناء فبلغ ذلك كبيرهم فقال: لم تفعلون؟ فقالوا: رمى بالنجوم فقال: اعتبروا فإن تكن نجوم معروفة فهو وقت فناء الناس وإلا فهو أمر حدث فنظروا فإذا هي لا تعرف فأخبروه فقال: في الأمر مهلة وهذا عند ظهور نبي " الخبر، وكتب الأوائل قد توالت عليها التحريفات فلعل المتأخرين ألحقوا هذه المسألة بها طعنا في هذه المعجزة، وكذا الأشعار المنسوبة إلى أهل الجاهلية لعلها مختلفة عليهم. وثانيا: وهو الحق بأنها كانت موجودة قبل البعثة لأسباب أخر ولا ننكر ذلك إلا أنه لا ينافي أنها بعد البعثة قد توجد بسبب دفع الشياطين وزجرهم. يروى أنه قيل للزهري: أكان يرمي في الجاهلية؟ قال: نعم قيل: أفرأيت قوله تعالى: * (وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا) * (الجن: 9) قال: غلظ وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى نحو هذا يخرج ما روى عن ابن عباس. وأبى رضي الله تعالى عنهم إن صح.
وعن الثاني: بأنه إذا جاء القدر عمى البصر فإذا قضى الله تعالى على طائفة منهم الحرق لطغيانهم وضلالهم قيض لها من الدواعي ما تقدم معه على الفعل المفضي إلى الهلاك.
وعن الثالث: بأن البعد بين الأرض والسماء خمسمائة عام فأما ثخن الفلك فإنه لا يكون عظيما.
وعن الرابع: بأنه روى عن الزهري عن علي بن الحسين بن علي كرم الله تعالى وجهه عن ابن عباس قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من أصحابه إذ رمى بنجم فاستنار فقال عليه الصلاة والسلام: " ما كنتم تقولون في الجاهلية إذا حدث مثل هذا؟ " قالوا: كنا نقول يولد عظيم أو يموت عظيم قال عليه الصلاة والسلام: " فإنها لا ترمي لموت أحد ولا لحيات ولكن ربنا تعالى إذا قضى الأمر في السماء سبحت حملة العرش ثم سبح أهل السماء وسبح أهل كل سماء حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء ويستخبر أهل السماء حملة العرش ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ولا يزال ينتهي الخبر إلى هذه السماء فيتخطفه الجن فيرمون فما جاءوا به فهو حق ولكنهم يزيدون فيه ".
وعن الخامس: بأن النار قد تكون أقوى من نار أخرى فالأقول تبطل ما دونها.
وعن السادس: بأنه إنما دام لأنه عليه الصلاة والسلام أخبر ببطلان الكهانة فلو لم يدم هذا القذف لعادت الكهانة وذلك يقدح في خبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن بطلانها.
وعن السابع: بأن البعد على مذهبنا غير مانع من السماع فلعله سبحانه وتعالى أجرى عادته بأنهم إذا وقفوا في تلك المواضع سمعوا كلام الملائكة عليهم السلام.
وعن الثامن: بأنه لعل الله تعالى أقدرهمعلى استماع الغيوب من الملائكة وأعجزهم عن إيصال أسرار المؤمنين إلى الكفار. وعن التاسع: بأنه عز وجل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وبهذا يجاب عن الأول فيما قيل.
وأجيب عن الثاني: بأنا نختار انقطاع الهواء والسماع عندنا بخلق الله تعالى ولا يتوقف على وجود الهواء وتموجه، وقد يختار عدم الانقطاع ويقال: إنه تعالى شأنه
25

قادر على منع الهواء من التموج بحركة هاتيك الإجرام، وكذا هو سبحانه قادر على أسماعهم مع هاتيك الأصوات الهائلة السر وأخفى. وعن الثالث: بأن كون الثوابت في الفلك الثامن هو الذي ذهب إليه الفلاسفة واحتجوا عليه بأن بعضها فيه فيجب أن يكون كلها كذلك، أما الأول: فلأن الثوابت التي تكون قريبة من المنطقة تنكسف بالسيارات فوجب أن تكون الثوابت المنكسفة فوق السيارات الكاسفة؛ وأما الثاني: فلأنها بأسرها متحركة حركة واحدة بطيئة في كل مائة سنة أو أقل على الخلاف درجة
فلا بد أن تكون مركوزة في كرة واحدة، وهو احتجاج ضعيف لأنه لا يلزم من كون بعض الثواب فوق السيارات كون كلها هناك لأنه لا يبعد وجود كرة تحت كرة القمر وتكون في البطء مساوية لكرة الثوابت وتكون الكواكب المركوزة فيما يقارب القطبين مركوزة في هذه الكرة السفلية إذ لا يبعد وجود كرتين مختلفتين بالصغر والكبر مع كونهما متشابهتين في الحركة، وعلى هذا لا يمتنع أن تكون هذه النجوم في السماء الدنيا، وقد ذكر الجلال السيوطي وغيره أنه جاء في بعض الآثار أن الكواكب معلقة بسلاسل من نور بأيدي ملائكة في السماء الدنيا يسيرونها حيث شاء الله تعالى وكيف شاء إلا أن في صحة ذلك ما فيه، على أن ما ذكر في السؤال من أن ذلك يستلزم الخرق وهو مما لا يكاد يقال إما أن يكون مبنيا على القول بامتناع الخرق والالتئام على الفلك المحدد وغيهر فقد تقرر فساد ذلك وحقق إمكان الخرق والالتئام بما لا مزيد عليه في غير كتاب من كتب الكلام، وإما أن يكون مبنيا على مجرد الاستبعاد فهو مما لا يفيد شيئا لأن أكثر الممكنات مستبعدة وهي واقعة ولا أظنك في مرية من ذلك بل قد يقال: نحن لا نلتزم أن الكوكب نفسه يتبع الشيطان فيحرقه، والشهاب ليس نصا في الكوكب لما علمت ما قيل في معناه وإن قيل: إنه بنفسه ينقض ويرمي الشيطان ثم يعود إلى مكانه لظاهر إطلاق الرجوم على النجوم وقولهم رمى بالنجم مثلا.
وكذا لا نلتزم القول بأنه ينفصل عن الكوكب شعلة كالقبس الذي يؤخذ من النار فيرمي بها كما قاله غير واحد لنحتاج في الجواب عن السؤال بما تقدم إذ يجوز أن يقال: إنه يؤثر حيث كان بإذن الله تعالى هذه الشعلة المسماة بالشهاب ويحرق بها من شاء الله تعالى من الشياطين، وإطلاق الرجوم على النجوم وقولهم: رمى بالنجم يحتمل أن يكون مبنيا على الظاهر للرائي كما في قوله تعالى في الشمس: * (تغرب في عين حمئة) * (الكهف: 86) وقال الإمام: إن هذه الشهب ليست هي الثوابت المركوزة في الفلك وإلا لظهر نقصان كثير في أعدادها مع أنه لم يوجد نقصان أصلا. وأيضا إن في جعلها رجوما ما يوجب النقصان في زينة السماء بل هي جنس آخر غيرها يحدثها الله تعالى ويجعلها رجوما للشياطين، ولا يأباه قوله تعالى: * (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين) * حيث أفاد أن تلك المصابيح هي الرجوم بأعيانها لأنا نقول: كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصباح لأهل الأرض إلا أن المصابيح منها باقية على وجه الدهر أمنة من التغير والفساد ومنها ما لا يكون كذلك والشهب من هذا القسم وحينئذ يزول الإشكال انتهى.
والجرح والتعديل بين القولين مفوضان إلى شهاب ذهنك الثاقب، وفي أجوبته السابقة رحمه الله تعالى ما لا يخفى ضعفه، وكذا شاهدة عليه بقلة الإطلاع على الأخبار الصحيحة المشهورة، ألا ترى قوله في الجواب عن ثالث الأسئلة التسعة: إن البعد بين السماء والأرض خمسمائة عام وأما ثخن الفلك فإنه لا يكون عظيما فإنه مخالف لما نطقت به الشريعة وهذت به الفلسفة، أما مخالفته للأول فلأنه قد صح أن سمك كل سماء خمسمائة عام كما صح أن بين السماء والأرض كذلك، وأما مخالفته للثاني
26

فلأنه لم يقل أحد من الفلاسفة: أن بين السماء والأرض هذه المسافة التي ذكرها، والأفلاك عندهم مختلفة في الثخن، وقد بينوا ثخن كل بالفراسخ حسبما ذكر في كتب الأجرام والأبعاد، وذكروا في ثخن المحدد ما يشهد بمزيد عظمة الله جل جلاله لكن لا مستند لهم قطعي في ذلك بل إن قولهم: لا فضل في الفلكيات مع كونه أشبه شيء بالخطابيات يعكر عليه. وقوله في الجواب عن السادس: إنه إنما دام لئلا يقدح انقطاعه في خبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن بطلان الكهانة فإنه مستلزم للدور إذ الظاهر أنه عليه الصلاة والسلام إنما أخبر بذلك لعلمه بدوام القذف المانع من تحقق ما تتوقف عليه الكهانة. وقوله في الجواب عن الخامس: إن النار قد تكون أقوى من نار أخرى فتبطلها ظاهر في أن الشياطين نار صرفة وليس كذلك بل الحق أنهم يغلب عليهم العنصر الناري وقد حصل لهم بالتركيب ولو مع غلبة هذا العنصر ما ليس للنار الصرفة وهو ظاهر.
هذا ثم أعلم أنه يجوز أن يكون استراق السمع من الملائكة الذي عند السماء لا من الملائكة الذين بين كل سماء وسماء ليجيء حديث الثخن واستبعاد السماع معه، ويشهد لهذا ما رواه البخاري عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله تعالى عنهم قالت: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب فتذكر الأمر قضى في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان فيكذبون مع الكلمة مائة كذبة من عند أنفسهم " ولا ينافيه ما رواه أيضا عن عكرمة أنه قال: " سمعت أبا هريرة يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قضى الله تعالى الأمر في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعانا لقوله سبحانه كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترق السمع " الخبر، إذ ليس فيه أكثر من سماع المسترق الكلمة بعد قول الملائكة عليهم السلام بعضهم لبعض، وعدم منافاة هذا لذك ظاهر عند من ألقى السمع وهو شعيد، وأنه ليس في الآيات ما هو نص في أن ما نراه من الشهب لا يكون إلا لرمي شيطان يسترق بل غاية ما فيها أنه إذا استرق شيطان أتبعه شهاب ورمى بنجم وأين هذا من ذاك؟ نعم في خبر الزخري ما يحتاج معه إلى تأمل، وعلى هذا فيجوز أن يكون حدوث بعض ما نراه من الشهب لتصاعد البخار حسبما تقدم عن الفلاسفة، وكذا يجوز أن يكون صعود الشياطين للاستراق في كل سنة مثلا مرة، ولا يخفى نفع هذا في الجواب عن السؤال الثاني.
ومن الناس من أجاب عنه بأنه لا يبعد أن يكون المسترقون صنفا من الشياطين تقتضي ذواتهم التصاعد نظير تصاعد الأبخرة، بل يجوز أن يكون أولئك الشياطين أبخرة تعلقت بها أنفس خبيثة على نحو ما ذكر الفلاسفة من أنه قد يتعلق بذوات الأذناب نفس فتغيب وتطلع بنفسها وفيه بحث. ونقل الإمام عن الجبائي أنه قال في الجواب عن ذلك: إن الحالة التي تعتريهم ليس لها موضع معين وإلا لم يذهبوا إليه وإنما يمنعون من المضير إلى مواضع الملائكة ومواضعها مختلفة فربما صاروا إلى موضع فتصيبهم الشهب وربما صاروا إلى غيره ولا يصادفون الملائكة فلا يصيبهم شيء فلما هلكوا في بعض الأوقات وسلموا في بعضها جاز أن يصيروا إلى موضع يغلب على ظنونهم أنها لا تصيبهم فيه كما يجوز فيمن يسلك البحر إن يسلكه في موضع يغلب على ظنه حصول النجاة فيه.
وتعقبه بقوله: ولقائل أن يقول: إنهم إن صعدوا فإما أن يصلوا إلى مواضع الملائكة أو إلى غيهرا فإن وصلوا إلى الأول احترقوا وأن إلى الثاني لم يظفروا بمقصود
أصلا، فعلى كلا التقديرين المقصود غير حاصل فإذا حصلت هذه التجربة وثبت بالاستقراء أن الفوز بالمقصود محقق وجب أن يمتنعوا، وهذا بخلاف حال
27

المسافر في " البحر " فإن الغالب على المسافرين فيه الفوز بالمقصود، ثم قال: فالأقرب في الجواب أن نقول: هذه الواقعة إنما تتفق في الندرة فلعلها لا تشتهر بسبب كونها نادرة فيما بين الشياطين اه‍.
وأنت تعلم أن هذا لا يكاد يتم إلا مع القول بأنه ليس كل ما نراه من الشهب يحرق به الشياطين والأمر مع هذا القول سهل كما لا يخفى.
وذكر البيضاوي أن استراق السمع خطفتهم اليسيرة من قطان السموات لما بينهم من المناسبة في الجوهر. أو بالاستدلال من أوضاع الكواكب وحركاتها، وذكر عند قوله تعالى: * (أنهم عن السمع لمعزولون) * أن السمع مشروط بمشاركتهم في صفات الذات وقبول فيضان الحق والانتقاش بالصورة الملكوتية ونفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة بالذات لا تقبل ذلك، ولا يخفى ما فيه، فإنه ظاهر في أن الاستراق يقتضي مناسبة الجوهر والسمع التام يقتضي المشارع المذكورة وهو لا يتمشى على أصول الشرع، وفي أن تلقيهم يكون من الأوضاع الفلكية وهو مخالف لصريح النظم والأحاديث مع أنه يقتضي أن يكون قطان السماء بمعنى الكواكب وشموال * (من) * شياطين الإنس من المنجمين وهو كما ترى.
وذكر هو. وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الشياطين كانوا لا يحجبون عن السموات فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سموات ولما ولد النبي صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها اه‍.
ومن الناس من ذهب أخذا ببعض الظواهر إلى أن المنع عند البعثة والله تعالى أعلم بقي ههنا إشكال: ذكره الإمام مع جوابه فقال: ولقائل أن يقول: إذا جوزتم في الجملة أن يصعد الشيطان إلى السماء ويسمع أخبار الغيوب من الملائكة عليهم السلام ثم يلقيها إلى الكهنة وجب أن يخرج الأخبار عن المغيبات عن كونه معجزا دالا على الصدق لأن كل غيب يخبر عنه الرسول عليه الصلاة والسلام يقوم فيه هذا الاحتمال، ولا يقال: إن الله تعالى أخبر أنهم عجزوا عن ذلك بعد مولده صلى الله عليه وسلم لأنا نقول: هذا المعجز لا يمكن إثباته إلا بعد القطع بكونه عليه الصلاة والسلام رسولا وبكون القرآن حقا والقطع بهذا لا يمكن إلا بواسطة المعجز، وكون الأخبار عن الغيوب معجزا لا يثبت إلا بعد إبطال هذا الاحتمال وحينئذ يلزم الدور وهو محال. ويمكن أن يجاب عنه بأنا نثبت كونه صلى الله عليه وسلم رسولا بسائر المعجزات ثم بعد العلم بثبوت ذلك نقطع بأن الله تعالى أعجز الشياطين عن تلقف الغيب بهذا الطريق وعند ذلك يصير الاخبار عن الغيوب معجزا ولا يلزم الدور اه‍ فتدبر والله سبحانه ولي التوفيق وبيده أزمة التحقيق.
* (والارض مددن‍اها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شىء موزون) *
.
* (والأرض مددن‍اها) * بسطناها، قال الحسن: أخذ الله تعالى طينة فقال لها: انبسطي فانبسطت، وعن قتادة أنه قال: ذكر لنا أن أم القرى مكة ونها دحيت الأرض وبسطت، وعن ابن عباس أنه قال: بسطناها على وجه الماء، وقيل: يحتمل أن يكون المراد جعلناها ممتدة في الجهات الثلاث الطول والعرض والعمق، والظاهر أن المراد بسطها وتوسعتها ليحصل بها الانتفاع لمن حلها ولا يلزم من ذلك نفي كرويتها لما أن الكرة العظيمة لعظمها ترى كالسطح المستوي، ونصب * (الأرض) * على الحذف على شرطية التفسير وهو في مثل ذلك أرجح من الرفع على الابتداء للعطف على الجملة الفعلية أعني قوله تعالى: * (ولقد جعلنا) * (الحجر: 16) الخ وليواقف ما بعده أعني قوله سبحانه: * (وألقينا فيها رواسي) * أي جبالا ثوابت جمع راسية جمع رأس على ما قيل، وقد بين حكمة إلقاء ذلك فيها في قوله سبحانه: * (وألقى في الأرض
28

رواسي أن تميد بكم) * (النحل: 15).
قال ابن عباس: إن الله تعالى لما بسط الأرض على الماء مالت كالسفينة فأرساها بالجبال الثقال لئلا تميل بأهلها، وقد تقدم الكلام في ذلك.
وزعم بعضهم أنه يجوز أن يكون المراد أنه تعاى فعل ذلك لتكون الجبال دالة على طرق الأرض ونواحيها فلا تميد الناس عن الجادة المستقيمة ولا يقعون في الضلال، ثم قال؛ وهذا الوجه ظاهر الاحتمال. وأنت تعلم أنه لا يسوغ الذهاب إليه مع وجود أخبار تأباه كالجبال * (وأنبتنا فيها) * أي في الأرض، وهي إما شاملة للجبال لأنها تعد منها أو خاصة بغيرها لأن أكثر النبات وأحسنه في ذلك.
وجوز أن يكون الضمير للجبال والأرض بتأويل المذكورات مثلا أو للأرض بمعنى ما يقابل السماء بطريق الاستخدام، وعوده على الرواسي لقربها وحمل الانبات على إخراج المعادن بعيد * (من كل شيء موزون) * أي مقدر بمقدار معين تقتضيه الحكمة فهو مجاز مستعمل في لازم معناه أو كناية أو من كل شيء مستحسن متناسب من قولهم: كلام موزون، وأنشد المرتضى في درره لهذا المعنى قول عمر بن أبي ربيعة. وحديث ألذه وهو مما * تشتهيه النفوس يوزن وزنا
وقد شاع استعمال ذلك في كلام العجم والمولدين فيقولون: قوام موزون أي متناسب معتدل، أو ما له قدر واعتبار عند الناس في أبواب النعمة والمنفعة، وقال ابن زيد: المراد ما يوزن حقيقة كالذهب والفضة وغيرهما، و * (من) * كما في البحر للتبعيض، وقال الأخفش: هي زائدة أي كل شيء.
* (وجعلنا لكم فيها مع‍ايش ومن لستم له برازقين) *
.
* (وجعلنا لكم فيها معايش) * ما تعيشون به من المطاعم والمشارب والملابس وغيرها مما يتعلق به البقاء وهي بياء صريحة. وقرأ الأعرج. وخارجة عن نافع بالهمز
، قال ابن عطية: والوجه تركه لأن الياء في ذلك عين الكلمة، والقياس في مثله أن لا يبدل همزة وإنما يبدل إذا كان زائدا كياء شمائل وخبائث. لكن لما كان الياء هنا مشابها للياء هناك في وقوعه بعد مدة زائدة في الجمع عومل معاملته على خلاف القياس * (ومن لستم له برازقين) * عطف على معايش أي وجعلنا لكم من لستم برازقيه من العيال والمماليك والخدم والدواب وما أشبهها على طريقة التغليب كما قال الفراء وغيره، وذكرهم بهذا العنوان لرد حسبان بعض الجهلة أنهم يرتزقون منهم أو لتحقيق أن الله تعالى يرزقهم وإياهم مع ما في ذلك من عظيم الامتنان، ويجوز عطفه على محل * (لكم) * وجوز الكوفيون ويونس. والأخفش. وصححهع أبو حيان العطف على الضمير المجرور إن لم يعد الجار، والمعنى على التقديرين سواء أي وجعلنا لكم معايش ولمن لستم له برازقين، وقال الزجاج: إن * (من) * في محل نصب بفعل محذوف والتقدير وأعشنا من لستم الخ أي أمما غيركم لأن المعنى أعشناكم، وقيل: إنه في محل رفع على الابتداء وخبره محذوف لدلالة المعنى عليه أي ومن لستم له برازقين جعلنا له فيها معايش وهو خلاف الظاهر، وقال أبو حيان: لا بأس به فقد أجازوا ضربت زيدا وعمرو بالرفع على الابتداء أي وعمرو ضربته فحذف الخبر لدلالة ما قبله عليه.
وأخرج ابن المنذر. وغيره عن مجاهد أن المراد * (بمن لستم) * الخ الدواب والأنعام، وعن منصور الوحش، وعن بعضهم ذاك والطير - فمن - على هذه الأقوال لما لا يعقل.
* (وإن من شىء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) *
.
* (وان من شيء) * * (إن) * نافية
29

و * (من) * مزيدة للتأكيد و * (شيء) * في محل الرفع على الابتداء أي ما شيء من الأشياء الممكنة فيدخل فيها ما ذكر دخولا أوليا والاقتصار عليه قصور. وزعم ابن جريج. وغيره أن الشيء هنا المطر خاصة.
* (إلا عندنا خزائنه) * الظرف خبر للمبتدأ و * (خزائنه) * مرتفع به على أه فاعل لاعتماده أو مبتدأ والظرف خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول، والخزائن جمع خزانة ولا تفتح وهي اسم للمكان الذي يحفظ فيه نفاس الأموال لا غير غلبت - على ما قيل - في العرف على ما للملوك والسلاطين من خزائن أرزاق الناس، شبهت مقدوراته تعالى الغائبة للحصر المندرجة تحت قدرته الشاملة في كونها مستورة عن علوم العالمين ومصونة عن وصول أيديهم مع وفور رغبتهم فيها وكونها متهيأة متأتية لإيجاده وتكوينه بحيث متى تعلقت الإرادة بوجودها وجدت بلا تأخر بنفائس الأموال المخزونة في الخزائن السلطانية فذكر الخزائن على طريقة الاستعارة التخييلية قاله غير واحد، وجوز أن يكون قد شبه اقتداره تعالى على كل شيء وإيجاده لما يشاء بالخزائن المودعة فيها الأشياء المعدة لأن يخرج منها ما شاء فذكر ذلك على سبيل الاستعارة التمثيلية، والمراد ما من شيء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه، وقيل: الأنسب أنه مثل لعلمه تعالى بكل معلوم، ووجه - على ما قيل - أنه يبقى * (شيء) * على عمومه لشموله الواجب والممكن بخلاف القدرة ولأن * (عند) * أنسب بالعلم لأن المقدور ليس عنده إلا بعد الوجود. وتعقب بأن كون المقدورات في خزان القدرة ليس باعتبار الوجود الخارجي بل الوجود العلمي، وقال قوم: الخزائن على حقيقتها وهي الأماكن التي تحفظ فيها الأشياء وإن للريح مكانا وللمطر مكانا ولكل مكان حفظة من الملائكة عليهم السلام، ولا يخفى أنه لا يمكن مع تعميم الشيء * (وما ننزله) * أي نوجد وما نكون شيئا من تلك الأشياء ملتبسا بشيء من الأشياء * (إلا بقدر معلوم) * أي إلا ملتبسا بمقدار معين تقتضيه الحكمة وتستدعيه المشيئة التابعة لها من بين المقدورات الغير المتناهية فإن تخيص كل شيء بصفة معينة وقدر معين ووقت محدود دون ما عدا ذلك مع استواء الكل في الأشكال وصحة تعلق القدرة به لا بد له من حكمة تقتضي اختصاص كل من ذلك بما اختص به.
وهذا لبيان سر عدم تكون الأشياء على وجه الكثرة حسبما هو في الخزائن، وهو إما عطف على مقدر أي ننزله وما ننزله إلا بقدر إلى آخره أو حال مما سبق أي عندنا خزائن كل شيء والحال إنا ما ننزله إلا بقدر إلى آخره، فالأول: لبيان سعة القدرة، والثاني: لبيان بالغ الحكمة قاله مولانا شيخ الإسلام.
وقرأ الأعمش * (وما نرسله إلا) * إلى رخره، وهي على ما في " البحر " قراءة تفيسر لمخالفتها لسواد المصحف، والأولى في التفسير ما ذكرنا، وإنما عبر عن إيجاد ذلك وإنشائه بالتنزيل لما أنه بطريق التفضل من العالم العلوي إلى العالم السفلي وقيل: لما أن فيه إخراج الشيء مما تميل إليه ذاته من العدم إلى ما لا تميل إليه ذاته من الوجود، وهذا كما في قوله تعالى: * (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) * (الزمر: 6) وقوله سبحانه: * (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد) * (الحديد: 25) وكأن من حمل الشيء على المطر غره ظاهر التنزيل فارتكب خلاف ظاهره جدا، وكأنه لما كان ذلك بطريق التدريج عبر عنه بالتنزيل، وجيء بصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار. واستدل بعض القائلين بشيئية المعدوم على ذلك بهذه الآية، وقد بين وجهه والجواب عنه الإمام ونحن مع القائلين بالشيئية.
* (وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السمآء ماء فأسقيناكموه ومآ أنتم له بخ‍ازنين) *
.
* (وأرسلنا الرياح لواقح) * عطف على * (جعلنا لكم فيها معايش) * وما بينهما اعتراض لتحقيق ما سبق وترشيح ما لحق، واللواقح جمع
30

لاقح بمعنى حامل يقال: ناقة لاقح أي حامل، ووصف الرياح بذلك على التشبيه البليغ، شبهت الريح التي بالسحاب الماطر بالناقة الحامل لأنها حاملة لذلك السحاب أو للماء الذي فيه، وقال الفراء: إنها جمع لاقح على النسب كلابن وتامر أي ذات لقاح وحمل، وذهب إليه الراغب، ويقال لضدها ريح عقيم، وقال أبو عبيدة: * (لواقح) * أي ملاقح جمع ملقحة كالطوائح في قوله: ليبك يزيد ضارع لخصومة مختبط مما تطيح الطوائح *
أي المطاوح جمع مطيحة، وهو من ألقح الفحل الناقة إذا ألقى ماءه فيها لتحمل، والمراد ملقحات للسحاب أو الشجر فيكون قد استعير اللقح لصب المطر في السحاب أو الشجر، وإسناده إليها على الأول حقيقة وعلى الثاني مجاز إذ الملقى في الشجر، وإسناده إليها على الأول حقيقة وعلى الثاني مجاز إذ الملقى في الشجر السحاب لا الريح والرياح اللواقح هي ريح الجنوب كما رواه ابن أبي الدنيا عن قتادة مرفوعا، وروى الديلمي بسند ضعيف عن أبي هريرة نحوه، وأخرج ابن جرير وغيره عن عبيد بن عمير قال: يبعث الله تعالى المبشرة فتقم الأرض قما ثم يبعث المثيرة السحاب فتجعله كسفا ثم يبعث المؤلفة فتؤلف بينه فيجعله ركاما ثم يبعث اللواقح فتلقحه فيمطر. وقرأ حمزة * (وأرسلنا الريح) * بالإفراد على تأويل الجنس فتكون في معنى الجمع فلذا صح جعل * (لواقح) * حالا منها وذلك كقولهم: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض، ولا تخالف هذه القراءة ما قالوه في حديث * (اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا) * من أن الرياح تستعمل للخير والريح للشر لما قال الشهاب من أن ذلك ليس من الوضع وإنما هو من الاستعمال وهو أمر أغلبي لا كلي فقد استعملت الريح في الخير أيضا نحو قوله تعالى: * (وجرين بهم بريح طيبة) * أو هو محمول على الإطلاق بأن لا يكون معه قرينة كالصفة والحال، وأما كون المراد بالخير الدعاء بطول العمر ليرى رياحا كثيرة فلا وجه له.
* (فأنزلنا من السماء) * بعد ما أنشأنا بتلك الرياح سحابا ماطرا * (ماء فأسقينا كموه) * جعلناه لكم سقيا تسقون به مزارعكم ومواشيكم وهو على ما قيل أبلغ من سقيناكم لما فيه من الدلالة على جعل الماء معدا لهم ينتفعون به متى شاؤا، وقد فرق بين اسقي وسقى غير واحد فقد قال الأزهري: العرب تقول لكل ما كان من بطون الأنعام أو من السماء أو من نهر جار اسقيته أي جعلت شربا له وجعلت له منه مسقى فإذا كان للشفة قالوا سقى ولم يقولوا أسقى، وقال أبو علي: يقال سقيته حتى روى وأسقيته نهرا جعلته شربا له، وربما استعملوا سقى بلا همزة كأسقى كما في قول لبيد يصف سحابا: أقول وصوته مني بعيد * يحط اللث من قلل الجبال
سقى قومي بني نجد وأسقى * نميرا والقبائل من هلال
فإنه لا يريد بسقي قومي ما يروى عطاشهم ولكن يريد رزقهم سقيا لبلادهم يخصبون بها وبعيد أن يسأل لقومه ما يروى ولغيرهم ما يخصبون به، ولا يرد على قول الأزهري أنه لا يقال أسقى في سقيا الشفعة قول ذي الرمة: وأسقيه حتى كاد مما أبثه * يكلمني أحجاره وملاعبه
قال الإمام: لأنه أراد بأسقيه أدعو له بالسقيا ولا يقال في ذلك كما قال أبو عبيد سوى أسقى، هذا وقد جاء الضمير هنا متصلا بعد ضمير منصوب متصل أعرف منه ومذهب سيبويه في مثلك ذلك وجوب الاتصال.
* (وما أنتم له بخازنين) * نفي سبحانه عنهم ما أثبته لجنابة بقوله جل جلاله: * (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه) * (الحجر: 21)
31

قيل: نحن القادرون على إيجاده وخزنه في السحاب وإنزاله، وما أنتم على ذلك بقادرين، وقيل: المراد نفي حفظه أي وما أنتم له بحافظين في مجاريه عن أن يغور فلا تنتفعون به وعن سفيان أن المعنى وما أنتم له بمانعين لإنزاله من السماء.
* (وإنا لنحن نحى ونميت ونحن الوارثون) *
.
* (وإنا لنحن نحيي) * بإيجاد الحياة في بعض الأجسام القابلة لها * (ونميت) * بإزالتها عنها فالحياة صفة وجودية وهي كما قيل صفة تقتضي الحس والحركة الإرادية والموت زوال تلك الصفة، وقال بعضهم: إنه صفة وجودية تضاد الحياة لظاهر قوله تعالى: * (الذي خلق الموت) * وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك، وقد يعمم الأحياء والإماتة بحيث يشمل الحيوان والنبات مثل أن يقال: المراد إعطاء قوة النماء وسلبها، وتقديم الضمير للحصر، وهو إما توكيد للأول ومبتدأ خبره الجملة بعده والمجموع خبر لأنا، وجوز كونه ضمير فصل ورده أبو البقاء بوجهين:
أحدهما: أنه لا يدخل على الخبر الفعلي والثاني: أن اللام لا تدخل عليه، وتعقب ذلك في " الدر المصون " بأن الثاني غلط فإنه ورد دخول اللام عليه في قوله تعالى: * (إن هذا لهو القصص الحق) * ودخوله على المضارع مما ذهب إليه الجرجاني وبعض النحاة، وجعلوا من ذلك قوله تعالى: * (إنه هو يبدىء ويعيد) * ولعل ذلك المجوز ممن يرى هذا الرأي والعجب من أبي البقاء فإنه رد ذلك هنا وجوزه في قوله تعالى: * (ومكر أولئك هو يبور) * كما نقله في " المغني ".
* (ونحن الوارثون) * أي الباقون بعد فناء الخلق قاطبة لمالكون للملك عند انقضاء زمان الملك المجازي، الحاكمون في الكل أولا وآخرا وليس لأحد إلا التصرف الصوري والملك المجازي وفي هذا تنبيه على أن المتأخر ليس بوارث للمتقدم كما يتراآى من ظاهر الحال، وتفسير الوارث بالباقي مروي عن سفيان وغيره، وفسر بذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: " اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا " وهو من باب الاستعارة.
* (ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المست‍اخرين) *
.
* (ولقد علمنا المستقدمين منكم) * من مات * (ولقد علمنا المستأخرين) * من هو حي لم يمت بعد أخرجه ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس، وفي رواية أخرى عنه المستقدمين آدم عليه السلام ومن مضى من ذريته والمستأخرين من في أصلاب الرجال، وروى مثله عن قتادة، وعن مجاهد المستقدمين من مضي من الأمم و * (المستأخرين) * أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: من تقدم ولادة وموتا ومن تأخر كذلك مطلقا وهو من المناسبة بمكان وروى عن الحسن أنه قال: من سبق إلى الطاعة ومن تأخر فيها، وروى عن معتمر أنه قال: بلغنا أن الآية في القتال فحدثت أبي فقال لقد نزلت قبل أن يفرض القتال، فعلى هذا أخذ الجهاد في عموم الطاعة ليس بشيء، على أه ليس في تفسير ذلك بالمستقدمين والمستأخرين فيها كمال مناسبة، والمراد من علمه تعالى بهؤلاء علمه سبحانه بأحوالهم، والآية لبيان كمال علمه جل
وعلا بعد الاحتجاج على كمال قدرته تعالى فإن ما يدل عليها دليل عليه ضرورة أن القادرة على كل شيء لا بد من علمه بما يصنعه وفي تكرير قوله تعالى: * (ولقد علمنا) * ما لا يخفى من الدلالة على التأكيد. وأخرج أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه والبيهقي في " سننه ". وجماعة من طريق أبي الجوزاء عن ابن عباس قال: كانت امرأة تصلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم حسناء من أحسن الناس فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر فإذا ركع نظر من تحت إبطيه فأنزل الله تعالى الآية، وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن أبي الجوزاء أنه قال في الآية ولقد علمنا المستقدمين منكم في الصفوف في الصلاة ولم يذكر من حديث المرأة شيئا، قال الترمذي: هذا أشبه أن يكون أصح، وقال الربيع بن أنس: حرض النبي صلى الله
32

عليه وسلم على الصف الأول في الصلاة فازدحم الناس عليه وكان بنو عذرة دورهم قاصية عن المسجد فقالوا: نبيع دورنا ونشتري دورا قريبة من المسجد فأنزل الله تعالى الآية، وأنت تعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومن هنا قال بعضهم: الأولى الحمل على العموم أي علمنا من اتصف بالتقدم والتأخر في الولادة والموت والإسلام وصفوف الصلاة وغير ذلك.
* (وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم) *
.
* (وإن ربك هو يحشرهم) * للجزاء، وتوسيط الضمير قيل للحصر أي هو سبحانه يحشرهم لا غير، وقيل عليه: إنه في مثل ذلك يكون الفعل مسلم الثبوت والنزاع في الفاعل وههنا ليس كذلك فالوجه جعله لإفادة التقوى. وتعقب بأن هذا في القصر الحقيقي غير مسلم وتصدير الجملة بإن لتحقيق الوعد والتنبيه على ما سبق يدل على صحة الحكم، وفي الالتفات والتعرض لعنوان الربوبية إشعار بعلته، وفي الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم دلالة على اللطف به عليه الصلاة والسلام. وقرأ الأعمش * (يحشرهم) * بكسر الشين * (إنه حكيم) * بالغ الحكمة متقن في أفعاله. والحكمة عندهم عبارة عن العلم بالأشياء على ما هي عليه والإتيان بالأفعال على ما ينبغي * (عليم) * وسع علمه كل شيء، ولعل تقديم وصف الحكمة للإيذان باقتضائها للحشر والجزاء، وقد نص بعضهم على أن الجملة مستأنفة للتعليل.
* (ولقد خلقنا الإنس‍ان من صلص‍ال من حمإ مسنون) *
.
* (ولقد خلقنا الإنسان) * أي هذا النوع بأن خلقنا أصله وأول فرد من أفراده خلقا بديعا منطويا على خلق سائر أفراده انطواء إجماليا.
* (من صلصال) * أي طين يابس يصلصل أي يصوت إذا نقر. أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة ونقله في " الدر المصون " عن أبي عبيدة ونقل عنه أبو حيان أنه قال: هو الطين المخلوط بالرمل وهو رواية عن ابن عباس، وفي رواية أخرى عنه أنه الطين المرقق الذي يصنع منه الفخار، وفي أخرى نحو الأول، وقيل: هو من صلصل إذ أنتن تضعيف صل يقال: صل اللحم وأصل إذا أنتن وهذا النوع من المضعف مصدر يفتح أوله ويكسر كالزلزال ووزنه عند جمهور البصريين فعلال، وقال الفراء: وكثير من النحويين فعفع كررت الفاء والعين ولا لام، وغلطهم في " الدر المصون " لأن أقل الأصول ثلاثة فاء وعين ولام، وقال بعض البصريين والكوفيين: فعفل ونسب أيضا إلى الفراء بل قيل هو المشهور عنه، وعن بعض آخر من الكوفيين أن وزنه فعل بتشديد العين والأصل صلل مثلا فلما اجتمع ثلاثة أمثال أبدل الثاني من جنس الفاء، وخص بعضهم هذا الخلاف بما إذا لم يختل المعنى بسقوط الثالث كلملم وكبكب فإنك تقول لم وكب فلو لم يصح المعنى بسقوطه نحو سمسم فلا خلاف في أصالة الجميع، وقال اليمني: ليس معنى قولهم: إن الأصل صلل أنه زيد فيه صاد بل هو ربقاعي كزلزل والاشتراك في أصل المعنى لا يقتضي أن يكون منه إذ الدليل دال على أن الفاء لا تزاد لكن زيادة الحرف تدل على زيادة المعنى، وذكر في " البحر " أن صلصال بمعنى مصلصل كالقضاض بمعنى المقضقض فهو مصدر بمعنى الوصف ومثله كثير.
* (من حمإ) * من طين تغير واسود من مجاورة الماء ويقال للواحدة حمأة، قال الليث: بتحريك الميم ووهم في ذلك وقالوا: لا نعرف الحمأة في كلام العرب إلا ساكنة الميم وعلى هذا أبو عبيدة والأكثرون، والجار والمجرور في موضع الصفة لصلصال كما هو السنة الشائعة في الجار والمجرور بعد النكرة أي من صلصال كائن من حمإ، وقال الحوفي: هو بدل مما قبله بإعادة الجار فكأنه قيل خلقناه من حمإ * (مسنون) *
33

أي مصور من سنة الوجه وهي صورته، وأنشد لذلك ابن عباس قول عمه حمزة يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
أغر كأن البدر سنة وجهه * جلا الغيم عنه ضوؤه فتبددا
وأنشد غيره قول ذي الرمة: تريك سنة وجه غير مقرفة * ملساء ليس بها خال ولا ندب
أو مصبوب من سن الماء صبه ويقال شن بالشين أيضا أي مفرغ على هيئة الإنسان كما تفرغ الصور من الجواهر المذابة في القوالب، وقال قتادة. ومعمر: المسنون المنتن، قيل: وهو من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به فالذي يسيل بينهما سنين ولا يكون إلا منتنا، وقيل: هو من سننت الحديدة على المسن إذا غيرتها بالتحديد، وأصله الاستمرار في جهة من قولهم: هو على سنن واحد وهو صفة لحمإ، ويجوز أن يكون صفة لصلصال ولا ضير في تقدم الصفة الغير الصريحة على الصريحة، فقد قال الرضي: إذا وصفت النكرة بمفرد أو ظرف أو جملة قدم المفرد في الأغلب وليس بواجب خلافا لبعضهم، والدليل عليه قوله تعالى: * (وهذا كتاب أنزلناه مبارك) * (الأنعام: 92) لكنه يحتاج إلى نكتة لا سيما في كلام الله تعالى لأنه لا يعدل عن الأصل لغير مقتض، ولعل النكتة ههنا مناسبة المقدم لما قبله في أن كلا منهما من جنس المادة، وقيل: إنما أخرت الصفة الصريحة تنبيها على أن ابتداء مسنونيته ليس في حال كونه صلصالا بل في حال كونه حمأ كأنه سبحانه أفرغ الحمأ
فصور من ذلك تمثال إنسان أجوف فيبس حتى إذا نقر صوت ثم غيره طورا بعد طور حتى نفخ فيه من روحه فتبارك الله أحسن الخالقين، وقيل: المسنون المنسوب أي نسب إليه ذريته وهو كما ترى.
* (والجآن خلقن‍اه من قبل من نار السموم) *
.
* (والجان) * هو أبو الجن كما روي عن ابن عباس ويجمع على جنان كحائط وحيطان وراع ورعيان قاله الطبرسي، وقيل: هو إبليس وروي عن الحسن. وقتادة لكن في " الدر المصون " أنه هو أبو الجن، وقال ابن بحر: هو اسم لجنس الجن وتشعب الجنس لما كان من فرد واحد مخلوق من مادة واحدة كان الجنس مخلوقا منها. وقرأ الحسن. وعمرو بن عبيد * (والجأن) * بالهمز وانتصابه بفعل يفسره * (خلقناه) * وهو هنا أقوى من الرفع للعطف على الجملة الفعلية * (من قبل) * أي من قبل خلق الإنسان، قيل: ومن هنا يظهر جواز كون المراد بالمستقدمين أحد الثقلين وبالمستأخرين الآخر والخطاب بقوله تعالى: * (منكم) * للكل وهو بعيد غاية البعد.
* (من نار السموم) * أي الريح الحارة التي تقتل. وروي ذلك عن ابن عباس، وأكثر ما تهب في النهار وقد تهب ليلا. وسميت سموما لأنها بلطفها تنفذ في مسام البدن ومنه السم القاتل، ويقال: سم يومنا يسم إذا هبت فيه تلك الريح، وقيل: السموم نار لا دخان لها ومنها تكون الصواعق، وروى ذلك أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس فالإضافة من إضافة العام إلى الخاص، وقيل: السموم إفراط الحر والإضافة من إضافة الموصوف إلى الصفة، والمراد من النار المفرطة الحرارة، وقد جاء في بعض الآثار ما يدل على أن النار التي خلق منها الجان أشد حرارة من النار المعروفة. فقد أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " رؤيا المسلم جزء من سبعين جزأ من النبوة وهذه النار جزء من سبعين جزأ من السموم التي خلق منها الجان أشد حرارة من النار المعروفة. فقد أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " رؤيا المسلم جزء من سبعين جزى من النبوة وهذه النار جزء من سبعين جزأ من السموم التي خلق منها الجان وتلا
34

عليه الصلاة والسلام الآية " واستشكل الخلق من النار بأنه كيف تخلق الحياة فيها وهي بسيطة ليست متركبة من أجزاء مختلفة الطبع والحياة كالمزاج لا تكون إلا في المركبات وقد اشترط الحكماء فيها البنية المركبة.
وأجيب بمنع ذلك لأنها إذا خلقت في المجردات كالملائكة على قول والعقول التي أثبتها الفلاسفة فبالطريق الأولى البسائط بل لا مانع أيضا أن تخلق في الأجزاء الفردة خلافا للمعتزلة حيث اشترطوا البينة المركبة.
وأجيب بمنع ذلك لأنها إذا خلقت في المجردات كالملائكة على قول والعقول التي أثبتها الفلاسفة فبالطريق الأولى البسائط بل لا مانع أيضا أن تخلق في الأجزاء الفردة خلافا للمعتزلة حيث اشترطوا البنية المركبة من الجواهر وليس لهم سوى شبه أو هن من بيت العنكبوت على أن ذلك غير وارد رأسا لأن معنى كون الجن مخلوقة من نار أنها الجزء الأعظم الغالب عليها كالتراب في الإنسان فليست بسيطة، وقال بعضهم: إن الجن أجسام هوائية أو نارية بمعنى أنهم يغلب عليهم ذلك وهم مركبون من العناصر الأربعة كالملائكة عليهم السلام على قول.
ثم إن النقل الظاهر عن أكثر الفلاسفة إنكار الجن وليس ذلك مذهب جميعهم فقد ذهب جمع عظيم من قدمائهم إلى وجودهم وهو مذهب جمهور أرباب الملل وأصحاب الروحانيات ويسمونهم بالأرواح السفلية وزعموا أنهم أسرع إجابة من الأرواح الفلكية إلا أنها أضعف. نعم اختلف المثبتون فمنهم من زعم أنهم ليسوا أجساما ولا حالين فيها بل هم جواهر قائمة بأنفسها لكنها أنواع مختلفة بالماهية كاختلاف ماهيات الاعراض بعد استوائها في الحاجة إلى المحل فبعضها كريمة حرة محبة للخيرات وبعضها دنية خسيسة محبة للشرور ولا يعلم عدد أنواعهم إلا الله تعالى ولا يبعد أن يكون في أنواعها من يقدر على أفعال شاقة يعجز عنها قدرة البشر وكذا لا يبعد لكل نوع منها تعلق بنوع مخصوص من أجسام هذا العالم. ومن الناس من زعم أن هذه الأرواح البشرية والنفوس الناطقة إذا فارقت أبدانها وازدادت قوة وكمالا بسبب ما في ذلك العالم الروحاني من انكشاف الأسرار الروحانية فإذا اتفق حدوث بدن مشابه للبدن الذي فارقته فبسبب تلك المشابهة يحصل لتلك النفس المفارقة تعلق ما بهذا البدن وتصير معاونة لنفس ذلك البدن في أفعالها وتدبيرها لذلك البدن فإن اتفقت هذه الحالة في النفوس الخيرة سمي ذلك المعين ملكا وتلك الإعانة إلهاما، وإن اتفقت في النفوس الشريرة سمي ذلك المعين شيطانا وتلك الإعانة وسوسة، ومنهم من قال: إنهم أجسام لكن اختلفوا فقال بعضهم: هي مختلفة الماهية وإن اشتركت في صفة، وقال آخرون: إنها متساوية في تمام الماهية، وقد أطال الكلام في ذلك الإمام في تفسير سورة الجن، وذكر في تفسير هذه الآية أنهم اختلفوا في الجن فقال بعضهم: إنهم جنس غير الشياطين، والأصح أن الشياطين قسم من الجن، فكل من كان منهم مؤمنا فإنه لا يسمى بالشيطان، وكل من كان منهم كافرا سمي بهذا الاسم، والدليل على صحة ذلك أن لفظ الجن مشتق من الاستتار فكل من كان كذلك كان من الجن اه‍، وما ذكره من الأصح هو الذي ذهب إليه المعظم لكن ما ذكره من الدليل ضعيف.
وقال وهب: إن من الجن من يولد له ويأكلون ويشربون بمنزلة الآدميين، ومنهم من هو بمنزلة الريح لا يتوالدون ولا يأكلون ولا يشربون وهم الشياطين. وذكر ابن عربي أن تناسل الجن بإلقاء الهواء في رحم الأنثى كما أن التناسل في البشر بإلقاء الماء في الرحم، وأنهم محصورون في اثنتي عشرة قبيلة أصولا ثم يتفرعون إلى أفخاذ، ويقع بينهم حروب وبعض الزوابع يكون عند حربهم، فإن الزوبعة تقابل ريحين تمنع كل صاحبتها أن تخترقها فيؤدي ذلك إلى الدور وما كل زوبعة حرب.
وأخرج البيهقي في الأسماء. وأبو نعيم. والديلمي. وغيرهم بإسناد صحيح - كما قال العراقي - عن أبي ثعلبة مرفوعا الجن ثلاثة أصناف. فصنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء. وصنف حيات وكلاب. وصنف
35

يحلون ويظعنون، وفي هذه القسمة عندي إشكال يظهر بالتدبر، ولعل حاصلها أن صنفا منهم يغلب عليهم الطيران في الهواء، وصنف يغلب عليهم الحل والارتحال، وصنف يغلب عليهم المكث والتوطن ببعض المواطن، وعبر عنهم بالحيات والكلاب لكثرة تشكلهم بذلك دون الصنفين الآخرين، فإنهم وإن جاز عليهم التشكل بالأشكال المختلفة لأنهم من الجن، وقد قالوا: إنهم قادرون على ذلك وإن نوزع فيه بأنه يستلزم أن لا تبقى ثقة بشيء. ورد بأن الله تعالى قد تكلف لهذه الأمة بعصمتها عن أن يقع فيها ما يترتب عليه الريبة في الدين ورفع الثقة بعالم وغيره فاستحال شرعا الاستلزام المذكور - إلا أنهم لا يكثر تشكلهم بذلك، وربما يقال: إن القدرة على التشكل إنما هي لصنف المتوطنين، وإثباتها في كلامهم للجن يكفي فيه صحتها باعتبار بعض الأصناف لكنه بعيد جدا فليتدبر حقه، وقد قال الهيتمي: إن رجال هذا الحديث وثقوا في بعضهم ضعف، فإن كان الحديث لذلك ضعيفا فلا قيل ولا قال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال، وسيأتي إن شاء الله تعالى استيفاء الكلام في هذا المقام بعون الله تعالى الملك العلام، ثم إن مساق الآية الكريمة - على ما قيل - كما هو للدلالة على كمال قدرته تعالى شأنه وبيان بدء خلق الثقلين فهو للتنبيه على مقدمة يتوقف عليها إمكان الحشر وهي قبول المواد للجمع والإحياء فتدبر.
* (وإذ قال ربك للمل‍ائكة إنى خ‍الق بشرا من صلص‍ال من حمإ مسنون) *
.
* (وإذ قال ربك) * نصب بإضمار اذكر، وتذكير الوقت لما مر مرارا من أنه أدخل في تذكير ما وقع فيه، وفي التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام إشعار بعلة الحكم وتشريف له صلى الله عليه وسلم أي اذكر وقت قوله تعالى: * (للملائكة) * الظاهر أن المراد بهم ملائكة السماء والأرض، وزعم بعض الصوفية أن المراد بهم ملائكة الأرض ولا دليل له عليه * (إني خ‍الق) * فيما سيأتي؛ وفيه ما ليس في صيغة المضارع من الدلالة على أنه تعالى فاعل لذلك البتة من غير صارف ولا عاطف * (بشرا) * أي إنسانا، وعبر به عنه اعتبارا بظهور بشرته وهي ظاهر الجلد عكس الأدمة خلافا لأبي زيد حيث عكس وغلطه في ذلك أبو العباس. وغيره من الصوف والوبر ونحوهما، ولبعض أكابر الصوفية وجه آخر في التسمية سنذكره إن شاء الله تعالى في باب الإشارة، ويستوي فيه الواحد والجمع.
وذكر الراغب أنه جاء جمع البشرة بشرا وأبشارا، وقيل: أريد جسما كثيفا يلاقي ويباشر أو جسما بادي البشرة ولم يرد إنسانا وإن كان هو إياه في الواقع، وبعض من قال إنه المراد قال: ليس هذا صيغة عين الحادثة وقت الخطاب بل الظاهر أن يكون قد قيل لهم: إني خالق خلقا من صفته كيت وكيت ولكن اقتصر عند الحكاية على الاسم * (من صلصال) * متعلق - بخالق - أو بمحذوف وقع صفة * (بشرا) * * (من حمإ مسنون) * تقدم تفسيره وإعرابه فتذكر فما في العهد من قدم.
* (فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له س‍اجدين) *
.
* (فإذا سويته) * فعلت فيه ما يصير به مستويا معتدلا مستعدا لفيضان الروح وقيل: صوته بالصور الإنسانية والخلقة البشرية * (ونفخت فيه من روحي) * النفخ في العرف إجراء الريح من الفم أو غيره في تجويف جسم صالح لإمساكها والامتلاء بها، والمراد هنا تمثيل إفاضة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها وليس هناك نفخ حقيقة.
وقال حجة الإسلام: عبر بالنفخ الذي يكون سببا لاشتعال فتيلة القابل من الطين الذي تعاقبت عليه الأطوار حتى اعتدل واستوى واستعد استعدادا تاما بنور الروح كما يكون سببا لاشتعال الحطب القابل مثلا
36

بالنار عن نتيجته ومسببه وهو ذلك الاشتعال، وقد يكنى بالسبب عن الفعل المستفاد الذي يحصل منه على سبيل المجاز وإن لم يكن الفعل المستفاد على صورة الفعل المستفاد منه، ثم هذا الروح عنده وكذا عند جماعة من المحققين ليس بجسم يحل البدن حلول الماء في الإناء مثلا، ولا هو عرض يحل القلب أو الدماغ حلول السواد في الأسود والعلم في العالم بل هو جوهر مجرد ليس داخل البدن ولا خارجه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه، ولهم على ذلك عدة أدلة.
الدليل الأول: أن الإنسان يمكنه إدراك الأمور الكلية وذلك بارتسام صور المدركات في المدرك فمحل تلك الصور إن كان جسما فإما أن يحل غير منقسم أو منقسما، والأول محال لأن الذي لا ينقسم من الجسم طرف نقطي والنقطة تمتنع أن تكون محلا للصور العقلية لأنها مما لا يعقل حصول المزاج لها حتى يختلف حال استعدادها في القابلية وعدمها بل إن كانت قابلة للصور المذكورة وجب أن يكون ذلك القبول حاصلا أبدا ولو كان كذلك لكان المقبول حاصلا أبدا لما أن المبادىء الفعالة المفارقة عامة الفيض فلا يتخصص إلا لاختلاف أحوال القوابل فلو كان القابل تام الاستعداد لكان المقبول واجب الحصول وحينئذ يكون جميع الأجسام ذوات النقط عاقلة، ويجب أيضا أن يبقى البدن بعد الموت عاقلا لبقاء محل الصور على استعداده وليس كذلك، والثاني أيضا محال لأن الحال في المنقسم منقسم فيلزم أن تكون تلك الصورة منقسمة أبدا وذلك محال لوجوه مقررة فيما بينهم. الدليل الثاني: ما عول عليه الشيخ وزعم أنه أجل ما عنده في هذا الباب وهو أنه يمكننا أن نعقل ذواتنا وكل من عقل ذاتا فله ماهية ذلك الذات فإذا لنا ماهية ذاتنا فلا يخلو إما أن يكون تعقلنا لذاتنا لأجل صورة إلى الجمع بين المثلين فتعين الثاني، وكل ما ذاته حاصل لذاته كان قائما بذاته، فإذن القوة العاقلة وهي الروح والنفس الناطقة قائمة بنفسها، وكل جسم أو جسماني فإنه غير قائم بنفسه، وأكثر تلامذته من الاعتراضات وأجاب عنها.
الدليل الثالث: ما عول عليه أفلاطون وهو أنا نتخيل صورا لا وجود لها في الخارج ونميز بينها وبين غيرها فهذه الصور أمور وجودية ومحلها يمتنع أن يكون جسمانيا فإن جملة بدننا بالنسبة إلى الأمور المتخيلة لنا قليل من كثير فكيف ينطبق الصور العظيمة على المقادير الصغيرة؟ وليس يمكن أن يقال: إن بعض تلك الصور منطبعة في
أبداننا وبعضها في الهواء المحيط بنا إذ الهواء ليس من جملة أبداننا ولا آلة لنفوسنا في أفعالها أيضا وهو ظاهر، فإذن محل هذه الصور شيء غير جسماني وذلك هو النفس الناطقة.
الدليل الرابع: لو كان محل الإدراكات شيئا جسمانيا لصح أن يقوم ببعض ذلك الجسم علم وبالبعض الآخر جهل فيكون الشيء الواحد عالما جاهلا بشيء واحد في حالة واحدة.
الدليل الخامس: أن الروح لو كان منطبعا في جسم مثل قلب أو دماغ لكان إما أن يعقل دائما ذلك الجسم أو لا يعقله كذلك أو يعقله في وقت دون وقت والأقسام باطلة فالقول بانطباعه باطل، وبيان ذلك أن تعقل الروح لذلك الجسم إما أن يكون لأجل أن الآلة حاضرة عنده أو لأن صورة أخرى من تلك الآلة تحصل له فإن كان الأول فالروح إن أمكنه إدراك تلك الآلة وإدراك نفس مقارنتها له فما دامت الآلة مقارنة وجب
37

أن يعقلها الروح فيكون دائم الإدراك لتلك الآلة وإن امتنع على الروح إدراك الآلة وجب أن لا يدركها أبدا فظاهر أنه لو كان تعقل الروح لتلك الآلة لأجل المقارنة لوجب أن يعقلها دائما أو لا يعقلها كذلك وكلا القسمين باطل، وأما إن كان تعقله لها لأجل حصول صورة أخرى منها فالروح إن كانت في تلك الآلة والصورة الثانية حاصلة فيه يكون الصورة الثانية للآلة حالة أيضا في الآلة لأن الحال في الحال في الشيء حال في ذلك الشيء فيلزم الجمع بين المثلين وإن لم يكن الروح في تلك الحالة بل مجردة فذلك المطلوب واستدل بغير ذلك أيضا.
وقد ذكر الإمام في المباحث من الأدلة اثني عشر دليلا منها ما ذكر وأطال الكلام في ذلك جرحا وتعديلا وعول في إثبات هذا المطلب على غير ذلك فقال: والذي نعول عليه أن نقول: إن كل عاقل يجد من نفسه أنه الذي كان قبل فهويته إما أن تكون جسما وإما أن تكون قائمة بالجسم وإما أن لا تكون شيئا من الأمرين والأول بالباطل، أما أولا فلأن الإنسان قد يكون عالما بهويته عند ذهوله عن جملة أعضائه الظاهرة والباطنة، وأما ثانيا فلأن الأبعاض الجسمانية دائمة التحلل والتبدل لأن الأسباب المحالة من الحرارة الخارجية الداخلية والحركات النفسانية والبدنية مما لا تختص بجزء دون جزء والبدن مركب من الأعضاء المركبة وهي مركبة من الأعضاء البسيطة مثل اللحم والعظم فيكون كل جزء من اللحم مثل الآخر في الاستعداد للتحلل فإذا كانت الأجزاء كلها متساوية في ذلك كانت نسبة المحللات إلى كل واحد من الأجزاء كنسبته إلى الجزء الآخر فلم يكن عروض التحلل لبعض أولى من عروضه للبعض الآخر فثبت أن هوية الإنسان ليست جسما وليست أيضا قائمة بالجسم لأن القائم به يجب أن يتبدل عند تبدله لاستحالة انتقال الأعراض فكان يلزم أن لا يجد الإنسان من نفسه أنه الذي كان موجودا قبل، ولما كان هذا العلم من العلوم البديهية علمنا أن هوية الإنسان ليست جسما ولا محتاجة إليه فهو جوهر مجرد وهو المطلوب. ولا يلزم أن يكون لسائر الحيوانات هذا الجوهر لأنا وإن عرفنا أنها تعلم هويات أنفسها لكن لا نعرف أنها تعلم من أنفسها أنها هي التي كانت موجودة قبل ويمكن أن يحتج أيضا على هذا المطلب بأنا قد دللنا على أن المدرك بجميع أصناف الإدراكات لجميع المدركات شيء واحد في الإنسان فنقول ذلك المدرك إما أن يكون جسما أو قائما به أو لا ولا، والأول ظاهر الفساد لأن الجسم من حيث هو جسم لا يمكن أن يكون مدركا، والثاني أيضا باطل لأن تلك الصفة إما أن تكون قائمة بجميع أجزاء البدن أو ببعض دون بعض والأول باطل وإلا لكان كل جزء من أجزاء البدن مبصرا سامعا متخيلا متفكرا عاقلا وليس كذلك، وبطل أيضا أن يقال: إن بعض الأعضاء قامت به القوة المدركة لجميع هذه المدركات لأنه يلزم أن يكون في البدن عضو واحد سامع مبصر متخيل متفكر عاقل ولسنا نجد ذلك فينا، وبهذا ظهر أيضا فساد ما قيل: لعل القوة المدركة لجميع المدركات قائمة بجسم لطيف محصور في بعض الأعضاء لظهور أنا لا نجد من أبداننا موضعا مشتملا على هذا الجسم اللطيف السامع المبصر المتخيل المتفكر العاقل، وليس لأحد أن يقول: هب أنكم لا تعرفون هذا الموضع لكن ذلك لا يدل على عدمه لأنا نقول إنا قد دللنا على أنا السامعون المبصرون المتخيلون العاقلون فلو كان بعض الأجسام سواء كان جزأ من البدن أو محصورا في جزء منه موصوفا بالقوة المتعلقة بجميع هذه المدركات لم يكن حقيقتنا وهويتنا إلا ذلك الجسم فلو لم نعرفه لكنا لا نعرف حقيقة أنفسنا وذلك باطل فثبت أن الموصوف بالقوة المدركة لجميع المدركات ليس جسما أصلا ولا قائما به
38

فهو جوهر مجرد وهو المطلوب، وذكر هؤلاء الذاهبون إلى التجرد أنه متعلق بالبدن كتعلق العاشق عشقا جبليا إلهاميا بالمعشوق حتى أنه لا ينقطع ذلك التعلق ما دام البدن مستعدا لأن يتعلق به بل تعلق الروح أقوى من هذا التعلق بكثير وهو تعلق التدبير والتصريف وإضافته إلى ضميره تعالى في الآية لأنه سبحانه وتعالى خلقه من غير واسطة تجري مجرى الأصل والمادة أو للتشريف، وسئل حجة الإسلام عن ذلك فقال: لو نطقت الشمس وقالت: أفضت على الأرض من نوري يكون ذلك صدقا ويكون معنى النسبة أن النور الحاصل للأرض من جنس نور الشمس بوجه من الوجوه. وإن كان في غاية من الضعف بالنسبة إليه وقد عرفت أن الروح منزه عن الجهة والمكان وفي قوته العلم بجميع الأشياء وذلك مضاهاة ومناسبة ولذلك خص بالإضافة وهذه المضاهاة ليست للجسمانيات أصلا، وليس لأحد أن يقول: إن في تنزيه الروح عن المكان وصفا له بصفة الله تعالى شأنه وتقدست صفاته بل بأخص صفاته سبحانه ويلزم من ذلك عدم التميز فقد قالوا: كما يستحيل اجتماع جسمين في مكان واحد يستحيل أن يجتمع اثنان لا في مكان لأنه إنما استحال اجتماع جسمين في مكان لأنه لو اجتمعا لم يتميز أحدهما عن الآخر فكذلك لو وجد اثنان كل واحد منهما ليس في مكان لم يحصل التميز والفرق بينهما ولذا قالوا لا يجتمع سوادان في محل واحد حتى قيل المثلان كالضدين لأنا نقول: التميز غير منحصر بالمكان بل يكون به لجسمين في مكانين وبالزمان كسوادين في جوهر واحد في زمانين وبالحد والحقيقة كالأعراض المختلفة في محل واحد مثل الطعم واللون والبرودة والرطوبة في جسم واحد فإن تميز كل منها عن الآخر بذاته لا بمكان ولا زمان ومثل ذلك العلم والإرادة والقدرة فإن تميز كل أيضا بذاته وإن كان الجميع لشيء واحد فإذا تصور أعراض مختلفة الحقائق في محل واحد فبأن يتصور أشياء مختلفة الحقائق بذواتها في غير مكان أولى، وكون الوجود لا في مكان أخص صفاته سبحانه في حيز المنع بل الأخص أنه جل شأنه قيوم
أي قائم بذاته وكل ما سواه قائم به وأنه تبارك وتعالى موجود بذاته وكل ما سواه تعالى موجود لا بذاته بل ليس للأشياء من ذواتها إلا العدم وإنما لها الوجود من غيرها على سبيل العارية، والوجود له سبحانه ذاتي غير مستعار فالقيومية ليس إلا لله عز وجل انتهى.
وهذا الذي قالوه من تجرد الروح خلاف ما عليه جمهور أهل السنة. قال الشيخ عبد الرؤوف المناوي: قد خاض سائر الفرق غمرة الكلام في الروح فما ظفروا بطائل ولا رجعوا بنائل وفيها أكثر من ألف قول وليس فيها - على ما قال ابن جماعة - قول صحيح بل كلها قياسات وتجليات عقلية، وجمهور أهل السنة على أنها جسم لطيف يخالف الأجسام بالماهية والصفة متصرف في البدن حال فيه حلول الزيت في الزيتون والنار في الفحم يعبر عنه بأنا وأنت. وإلى ذلك ذهب إمام الحرمين، وقال اللقاني: جمهور المتكلمين على أنها جسم مخالف بالماهية للجسم الذي تتولد منه الأعضاء نوراني علوي خفيف حي لذاته نافذ في جوهر الأعضاء سار فيه سريان ماء الورد في الورد والنار في الفحم لا يتطرق إليه تبدل ولا انحلال بقاؤه في الأعضاء حياة وانفصاله عنها إلى عالم الأرواح موت.
وزعم بعضهم أن الإنسان هو هذا الهيكل المحسوس وروحه عرض قائم به وعزاه بعض المتأخرين من المعاصرين إلى جمهور المتكلمين وجعله وامتناع اتحاد القابل والفاعل دليلا على إبطال كون العبد خالقا لأفعاله، وقد رد الإمام في التفسير ذلك الزعم وارتضى ما نقلناه عن الجمهور فقال: إنهم قالوا لا يجوز أن يكون الإنسان
39

عبارة عن هذا الهيكل المحسوس لأن أجزاءه أبدا في الذبول والنمو والزيادة والنقصان والاستكمال والذوبان ولا شك أن الإنسان من حيث هو - هو - أمر باق من أول عمره إلى آخره وغير الباقي غير الباقي فالمشار إليه عند كل أحد بقوله أنا وجب أن يكون مغايرا لهذا الهيكل.
ثم اختلفوا عند ذلك في أن المشار إليه بأنا أي شيء هو؟ والأقوال فيه كثيرة إلى أن أسدها تحصيلا وتلخيصا أنها أجزاء جسمانية سارية في هذا الهيكل سريان الماء في الورد والدهن في السمسم ثم إن المحققين منهم قالوا إن الأجسام التي هي باقية من أول العمر إلى آخره مخالفة بالماهية لما تركب منه الهيكل وهي حية لذاتها مدركة لذاتها نورانية لذاتها فإذا خالطت ذلك وصارت سارية فيه صار مستنيرا بنورها متحركا بتحريكها ثم إنه أبدا في الذوبان والتحلل والتبدل وتلك الأجزاء لمخالفتها له بالماهية باقية بحالها وإذا فسد انفصلت عنه إلى عالم القدس إن كانت سعيدة أو عالم الآفات إن كانت شقية اه‍، ومنه يعلم بطلان الاستدلال على تجرد الروح بإبطال كون الإنسان عبارة عن الهيكل المحسوس كما يقتضيه كلام صاحب الهياكل حسبما يدل عليه كلام شارحه الجلال حيث قال في الهيكل الثاني: أنت لا تغفل عن ذاتك أبدا وما جزء من أجزاء بدنك ألا تنساه أحيانا ولا يدرك الكل إلا بأجزائه فلو كنت أنت هذه الجملة ما كان يستمر شعورك بذاتك مع نسيانها فأنت وراء هذا البدن وقال الجلال: فلا تكون النفس جسما أصلا لأن غاية ذلك إثبات أن النفس وراء هذا البدن لا إثبات أنها مع ذلك مجردة لجواز أن تكون جسما لطيفا كما علمت. وزعم القاضي أن مذهب أكثر المتكلمين أن الروح عرض وأنها هي الحياة واختاره الأستاذ أبو إسحاق ولم يبال بلزوم قيام العرض بالعرض. واعترض هذا الزاعم القول بالجسمية بأنها لو كانت جسما لجاز عليها الحركة والسكون كسائر الأجسام فيلزم أن تكون كلها أرواحا ولوجب أن يكون للروح روح أخرى لا إلى نهاية، وفيه أنه إنما يلزم ما ذكر أن لو كان الجسم إنما كان روحا لكونه جسما وليس فليس فإنه إنما كان روحا لمعنى خصه الله تعالى به وقد علمت أن القائل بالجسمية يقول: إنه حي لذاته فلا يلزم التسلسل وبينه وبين الجسم عنده علاقة بحسب بخار لطيف يعبر عنه بالروح الحيواني، وعرفه في الهياكل بأنه جسم لطيف بخاري يتولد من لطائف الأخلاط وينبعث من التجويف الأيسر من القلب وينبث في البدن بعد أن يكتسب السلطان النوري من النفس الناطقة ولولا لطفه لما سرى وهو مطية تصرفات النفس ومتى انقطع انقطع تصرفها، وقال بعضهم: إنه اعتدال مزاج دم القلب والأمر في ذلك سهل، وذهب بعض المحققين إلى أن الروح تطلق على الروح التي ذكر أنها جسم لطيف سار في البدن سريان ماء الورد في الورد وهو غير الروح الحيواني وعلى أمر رباني شريف له إشراق على ذلك الجسم اللطيف ولعل ذلك هو سبب حياة الروح بالمعنى الأول وإدراكها ونورانيتها ويعبر عنه بالروح الأمري وهو المراد من الروح في قوله تعالى: * (يسألونك عن الروح) * (الإسراء: 85) الآية، ويطلقون كثيرا على الروح بالمعنى الأول النفس الإنسانية وعليها بالمعنى الثاني النفس الناطقة والذي يقال فيه: إنه جوهر مجرد ليس جسما ولا جسمانيا ولا متصلا ولا منفصلا ولا داخل العالم ولا خارجه وأنه نور من أنوار الله تعالى القائمة لا في أين من الله عز وجلب مشرقه وإليه سبحانه مغربه هو الروح بهذا الإطلاق، واختلفوا في أن حدوثها هل هو قبل الأبدان أو بعدها فقال حجة الإسلام: الحق أن الأرواح حدثت عند استعداد الجسد للقبول كما حدثت الصورة في
40

المرآة بحدوث الصقالة وإن كان ذو الصورة سابق الوجود على الصقيل، وقد قال بذلك من الفلاسفة أرسطو ومتبعوه، واستدلوا عليه بأنه لو كانت موجودة قبل الأبدان فأما أن تكون واحدة أو كثيرة وعلى الأول إما أن تتكثر عند التعلق بالبدن أولا فإن لم تتكثر كانت الروح الواحدة روحا لكل بدن ولو كان كذلك لكان ما علمه إنسان علمه الكل وما جهله جهلة وذلك محال، وإن تكثرت لزم انقسام ما ليس له حجم وهو أيضا محال، وعلى الثاني لا بد أن يمتاز كل واحدة منها عن صاحبتها إما بالماهية أو لوازمها أو عوارضها، والأولان محالان لأن الأرواح متحدة بالنوع والواحد بالنوع يتساوى جميع أفراده بالذاتيات لوازمها، وأما العوارض فحدوثها إنما هو بسبب المادة وهي هنا البدن فقبله لا مادة فلا يمكن أن يكون هناك عوارض مختلفة وبعد أن ساق حجة الإسلام الدليل على هذا الطرز قيل له: ما تقول في خبر " إن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجسام بألفي عام "؟ وقوله صلى الله عليه وسلم: " أنا أول الأنبياء خلقا وآخرهم بعثا وكنت نبيا وآدم بين الماء والطين " فقال رحمه الله تعالى: نعم هذا يدل بظاهره على تقدم وجود الروح على الجسد ولكن أمر الظواهر هين لسعة باب التأويل، وقد قالوا: إن البرهان القاطع لا يدرأ بالظاهر بل يؤول له الظاهر كما في ظواهر الكتاب والسنة في حق الله تعالى المنافية لما يدل عليه البرهان القطعي، وحينئذ يقال: لعل المراد من الأرواح في الخبر الأول الملائكة عليهم السلام وبالأجساد أجساد العالم من العرش والكرسي والسموات ونحوها، وإذا تفكرت في عظم هذه الأجساد لم تكد تستحضر أجساد الآدميين ولم تفهمها من مطلق لفظ الأجساد، ونسبة أرواح البشر إلى أرواح الملائكة عليهم السلام كنسبة أجسادهم إلى أجساد العالم ولو انفتح عليك باب معرفة أرواح الملائكة لرأيت الأرواح البشرية كسراج قتبس من نار
عظيمة طبقت العالم وتلك النار هي الروح الأخير من أرواح الملائكة.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: " أنا أول الأنبياء خلقا " فالخلق فيه بمعنى التقدير دون الإيجاد فإنه صلى الله عليه وسلم قبل أن يولد لم يكن مخلوقا موجودا ولكن الغايات سابقة في التقدير ولاحقة في الوجود، وهو معنى قول الحكيم: أول الفكر آخر العمل، فالدار الكاملة أول الأشياء في حق المهندس مثلا تقديرا وآخرها وجودا وما يتقدم على جودها من ضرب اللبن ونحوه وسيلة إليها ومقصود لأجلها، ولما كان المقصود من فطرة الآدميين إدراكهم لسعادة القرب من الحضرة الإلهية ولم يمكنهم ذلك إلا بتعريف الأنبياء عليهم السلام كانت النبوة مقصودة والمقصود كمالها وغايتها لا أولها وتمهيد أولها وسيلة إلى ذلك وكمالها به صلى الله عليه وسلم فلذلك كان أولا في التقدير وآخرا في الوجود، وقوله عليه الصلاة والسلام: كنت نبيا وآدم بين الماء والطين " إشارة إلى هذا أيضا وانه لم يشأ سبحانه خلق آدم إلا لينتزع الصافي من ذريته ولم يزل يستصفى تدريجا إلى أن بلغ كمال الصفاء، ولا يفهم هذا إلا بأن يعلم أن للدار مثلا وجودين وجودا في ذهن المهندس حتى كأنه ينظر إلى صورتها ووجودا خارج الذهن مسببا عن الوجود الأول فهو سابق عليه لا محالة.
وحينئد يقال: إن الله تعالى يقدر أولا ثم يوجد على وفق التقدير ثانيا، والتقدير يرسم في اللوح المحفوظ كما يرسم تقدير المهندس أولا في لوح أو قرطاس فتصير الدار موجودة بكمال صورتها نوعا من الوجود يكون سببا للوجود الحقيقي، وكما أن هذه الصورة ترتسم في لوح المهندس بواسطة القلم والقلم يجري على وفق العلم بل العلم يجريه كذلك تقدير صور الأمور الإلهية ترتسم أولا في اللوح المحفوظ بواسطة القلم الإلهي والقلم يجري
41

على وفق العلم السابق الأزلي، واللوح عبارة عن موجود قابل لنقش الصور، والقلم عبارة عن موجود منه تفيض الصور على اللوح وليس من شرطهما أن يكونا جسمين ولا يبعد أن يكون قلم الله تعالى ولوحة لائقين لأصبعه ويده وكل ذلك على ما يليق بذاته الإلهية ويقدس عن حقيقة الجسمية، وقد يقال إنهما جوهران روحانيان أحدهما متعلم وهو اللوح والآخر معلم وهو القلم، وقد أشير إلى ذلك ذلك بقوله سبحانه: * (علم بالقلم) * فإذا فهمت معنيي الوجود فقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم قبل بالمعنى الأول منهما دون المعنى الثاني اه‍.
واعترض على الاستدلال من وجوه منها ما هو جار على رأي الفلاسفة المستدلين بذلك أيضا ومنها ما لا اختصاص له برأيهم. الأول لم لا يجوز أن يقال: إنها كانت قبل الأبدان واحدة ثم تكثرت ولا يقال: الكل لو كان واحدا وكان قابلا للانقسام يلزم أن تكون وحدته اتصالية فيكون جسما لأنا نقول: مسلم أن كل ما وحدته اتصالية فإنه واحد قابل للإنقسام ولا نسلم أن كل واحد قابل للانقسام فوحدته اتصالية لأن الموجبة الكلية لا تنعكس كنفسها.
الثاني سلمنا أنها كانت متكثرة لكن لم قلتم لا بد أن يختص كل بصفة مميزة لأنه لو كان التميز للاختصاص بأمر ما لكان ذلك الأمر أيضا متميزا عن غيره فأما أن يكون تميزه بما به تميزه فيلزم الدور أو يثالث فيلزم التسلسل ولأن التميز لا يختص بشيء بعينه إلا بعد تميزه فلو كان تميز الشيء عن غيره باختصاصه بشيء لزم الدور.
الثالث سلمنا أنه لا بد من ميز فلم لا يجوز أن يكون بذاتي، وبيانه ما بينوه من اختلاف النفوس بالنوع.
الرابع سلمان أنها لا تتميز بشيء من الذاتيات فلم لا يجوز أن تتميز بالعوارض؛ قولكم: إن حدوثها بسبب المادة وهي هنا البدن ولا بدن فنقول لم لا يجوز أن يكون هناك بدن تتعلق به وقبله آخر وهكذا ولا مخلص من هذا إلا بابطال التناسح فتوقف حجة إثبات حدوث الأرواح على ذلك الإبطال مع أن الحكماء بنوا ذلك على الحدوث حيث قالوا بعد الفراغ من دليله: إذا ثبت حدوث النفس فلا بد وأن يكون لحدوثها سبب وذلك هو حدوث البدن فإذا حدث البدن وتعلقت به نفس على سبيل التناسخ وثبت أن حدوث النفس سبب لأن يحدث عن المبادىء المفارقة نفس أخرى فحينئذ يلزم اجتماع نفسين في بدن فيجيء الدور.
الخامس سلمنا عدم تعلقها ببدن قبل لكن لم لا يجوز أن تكون موصوفة بعارض باعتباره كانت متميزة ثم يكون كل عارض بسبب عارض آخر لا إلى أول.
السادس: المعارض وهي أن الأرواح عند الفريقين باقية بعد المفارقة ولا يكون تمايزها بالماهية ولوازمها بل بالعوارض لكن الأرواح الهيولانية التي لم تكتسب شيئا من العوارض إذا فارقت لا يكون فيما شيء من العوارض سوى أنها كانت متعلقة بأبدان فإن كفى هذا القدر في وقوع التمايز فلكيف أيضا كونها بحيث يحدث لها بعد التعلق بأبدان متمايزة، قولهم: لم لا يجوز أن تكون قبل واحدة فتكسرت، قلنا: لا يجوز لأن كل ما انقسم وجب أن يكون جزؤه مخالفا لكله ضرورة أن الشيء مع غيره ليس هو لامع غيره فتلك المخالفة إن كانت باملاهية أو لوازمها وجب أن يكون كل واحد من الأجزاء مخالفا للآخر بالماهية فتكون تلك الأجزاء قد كانت متميزة أبدا وكانت موجودة قبل التعلق.
فهذه الأمور المتعلقة الآن بالأبدان كانت متميزة قبل التعلق بها وإن كانت المخالفة لا بالماهية ولا بلوازمها فلا بد أن يكون الجزء أصغر مقدارا من الكل وإلا لم يكن أحدهما أولى بأن يكون جزء الآخر من العكس، فثبت أن كل واحد قابل للانقسام فلا بد أن يكون ذا مقدار. سلمان أن المجرد لا يمكن أن ينقسم بعد وحدته
42

لكن تعينات تلك الأجزاء إنما تحدث بعد الانقسام الحاصل بعد التعلق بالبدن فيكون تعين كل واحد من تلك الأجزاء بعد التعلق بالبدن فيكون تعين كل واحدة من تلك النفوس من حيث هي حادثا وهو المطلوب.
وقولهم: لم قلتم إن الامتياز لا يوجد إلا عند الاختصاص بوصف، قلنا: يجاب بنحو ما ذكروه في تشخص التشخص، وقولهم لم قلتم: إن النفوس لا يجوز أن تتمايز بالصفات المقومة؟ قلنا: هب أن لأمر كما قلتموه إلا أنا لا نعرف بالبديهة أن كل نوع من أنواعها فإنها مقولة على أشخاص عدة بالضرورة فانا نعلم أنه ليس يجب أن يكون كل إنسان مخالفا لجميع الناس في الماهية، وإذا وجد في كل نوع من أنواعها شخص فقد تمت الحجة. وقولهم: إن هذه الحجة مبنية على إبطال التناسخ. قلنا: ليس كذلك. لأنا إذا وجدنا من النوع الواحد شخصين علمنا أن تلك الشخصية ليست معلولة لتلك الماهية لأن كل ما كان كذلك كان نوعه في شخصه، ولما لم يكن كذلك
علمان أن شخصيته ليست من لوازم ماهيته فهي إذن لعلة خارجية، وقد عرفت أن العلة هي المادة ومادة النفس هي البدن فاذن تعينها لا بد وأن يكون للتعلق ببدن معين فتكون لا محالة غير متعينة قبل ذلك البدن فهي معدومة قبله.
وبهذا يظهر أن كل ما نوعه مقول على كثيرين بالفعل فهو محدث، فاتضح من هذا أنه متى سلم كون النفوس متحدة في النوع يلزم حدوثها وأنه لا يحتاج في ذلك إلى إبطال التناسخ ليجيء الدور السابق. قولهم: لم لا يجوز أن تكون موصوفة بعارض الخ؟ قلنا: لا يجوز أن يكون امتيازها بذلك لأن تميز النفس المعينة عن غيرها حكم معين لا بد له من علة معينة، وتلك العلة لا يمكن أن تكون حالة فيها لأن ذلك متوقف على امتيازها عن غيرها فلو توقف ذلك الامتياز على حلول ذلك الحال لزم الدور، فاذن تلك العلة أمر عائد إلى القابل وقيل البدن لا قابل فلا تميز. والمتكلمون يبطلون مثل ما ذكر بلزوم التسلسل الذي يبطله برهان التطبيق.
وأما المعاوضة فالجواب عنها بأن النفوس الهيولانية يتميز بعضها عن البعض أولا بسبب تعلقها بالقابل المعين ثم إنه يلزم من تعين كل واحد منها شعورها بذاتها الخاصة وقد بين أن شعور الشيء بذاته حالة زائدة على ذاته ثم إن ذلك الشعور يستمر فلا جرم يبقى الامتياز.
والحاصل أن الامتياز لا بد وأن يحصل أولا بسبب آخر حتى يحصل لكل من النفوس شعور بذاته الخاص وذلك السبب في النفوس الهيولانية تعلقها بالأبدان، وأما التي قبل الأبدان فلو تميزت لكان المميز سوى الشعور حتى يترتب هو عليه، وقد بين أنه ليس هناك مميز فلا جرم استحال حصول التميز وظهر الفرق والله تعالى الموفق.
وقد استدل صاحب المعتبر على حدوثها بأنها لو كانت موجودة قبل الأبدان لكانت إما متعلقة بأبدان أخر أولا والأول باطل لأنه قول بالتناسخ وهو باطل لأن أنفسنا لو كانت من قبل في بدن آخر لكنا نعلم الآن شيئا من الأحوال الماضية ونتذكر ذلك البدن وليس فليس، والثاني كذلك لأنها تكون حينئذ معطلة ولا معطل في الطبيعة وهو دليل بجميع مقدماته ضعيف جدا فلا تعتبره، وزعم قوم من قدماء الفلاسفة قدمها وأوردوا لذلك أمورا.
الأول: أن كل ما يحدث فلا بد أن يكون له مادة تكون سببا لأن يصير أولى بالوجود بعد أن كان أولى بالعدم فلو كانت النفوس حادثة لكانت مادية وليس فليس.
الثاني: أنها لو كانت حادثة لكان حدوثها لحدوث
43

الأبدان لكن الابدان الماضية غير متناهية فالنفوس الآن غير متناهية لكن ذلك محال لكونها قابلة للزيادة والنقصان والقابل لهما متناه فهي الآن متناهية، فاذن ليس حدوث الأبدان علة لحدوثها فلا يتوقف صدورها عن عللها على حدوث أمر فتكون قديمة.
الثالث: أنها لو لم تكن أزلية لم تكن أبدية لما ثبت أن كل كائن فاسد لكنها أبدية إجماعا فهي أزلية، ويرد عليهم أنه إن أريد بكونها مادية أن حدوثها يكون متوقفا على حدوث البدن فالأمر كذلك، وإن أريد به أنها تكون منطبعة في البدن فلم قلتم: إنه لو توقف حدوثها على حدوث البدن وجوب أن تكون منطبعة فيه، وأيضا لمانع أن يمنع فساد لزوم كون النفوس الآن غير متناهية، والمقدمة القائلة إن كل قابل للزيادة والنقصان متناه ليس من الأوليات قطعا كما هو ظاهر فإذن لا تصح إلا ببرهان وهو لا يتقرر إلا فيما يحتمل الانطباق على ما بين في محله، وقولهم: لو لم تكن أزلية لم تكن أبدية قضية لا حجة لهم على تصحيحها فلا تقبل، ثم ان كون النفوس متحدة بالنوع مما قد صرح به جماعة من المتكلمين كالغزالي وغيره، وإليه ذهب الشيخ من الفلاسفة إلا أنه لم يأت لذلك بشبهة فضلا عن حجة واستدل غيره بأمور.
الأول: أن النفوس مشتركة في أنها نفوس بشرية فلو انفصل بعضها عن بعض بمقوم ذاتي مع هذا الاشتراك لزم التركيب فكانت جسمانية.
الثاني أنا نرى الناس مشتركين في صحة العلم بالمعلومات، وفي صحة التخلق بالأخلاق فالنفوس متساوية في صحة اتصافها بالأفعال الإدراكية والتحريكية، وذلك يوجب أن تكون متساوية مطلقا لأن نعقل من صفاتها إلا كونها مدركة ومتحركة بالإدارة وهي متساوية فيهما فهي إذن متساوية في جميع صفاتها المعقولة فلو اختلفت بعد ذلك لكان اختلافها في صفات غير معقولة، ولو فتحنا هذا الباب لزم تعذر الحكم بتماثل شيئين لجواز اختلافهما في غير معقول عندنا وذلك يؤدي إلى القدح في تماثل المتماثلات.
الثالث: أنه بين في محله أن كل ماهية مجردة لا بد وأن تكون عاقلة لحقيقة ذاتها لكن نفس زيد مثلا مجردة فهي عاقلة لذلك ثم إنها لا تعقل إلا ماهية قوية على الإدراك والتحريك فإذن ماهيته هذا القدر وهو مشترك بينه وبين سائر النفوس بالأدلة التي ذكروها في بيان أن الوجود مشترك فيكون حينئذ تمام ماهيته مقولا على سائر النفوس، ويمتنع أن يكون هذا المشترك فصل مقوم في غيره إذ هو غير محتاج إليه في زيد إلى فصل يميزه عن غيره فلا يجتاج في غيره أيضا إلى فصل فإن الطبيعة الواحدة لا تكون محتاجة غنية معا، فثبت الاتفاق في النوع وهي أدلة واهية.
أما الأول فلقائل أن يقول: لم لا يجوز أن هذه النفوس وإن كانت مختلفة بالنوع فهي غير متشاركة في الجنس فلا يلزم من ذلك الاختلاف كونها مركبة؟ والاشتراك في كونها نفوسا بشرية ونحوه يجوز أن يكون اشتراكا في أمور لازمة لجوهرها ولا تكون مقومة لها فتكون مختلفة في تمام ماهيتها، ومشتركة في اللوازم الخارجية مثل اشتراك الفصول المقومة لأنواع جنس واحد في ذلك الجنس فلا يلزم التركيب، ولو سلمنا أن هذه الأوصاف ذاتية فلم لا يجوز أن تكون النفوس مركبة في ماهياتها مع عدم كونها جسمانية
44

فالسواد والبياض مثلا مندرجان تحت جنس وهو اللون فيكون كل منهما مركبا لا تركيبا جسمانيا، ومثل هذا يقال هنا كيف لا ويقد قالوا: الجوهر مقول على النفس والجسم.
وأما الثاني فمداره الاستقراء، ويضعف ذلك لوجهين. أحدهما: أنه لا يمكننا أن نحكم على كل إنسان بكونه قابلا لجميع المدركات. وثانيهما أنه لا يمكننا أيضا أن نحكم على النفس التي علمنا قبولها لصفة أنها قابلة لجميع الصفات كيف وضبط الصفات غير ممكن.
وأما الثالث: فهو يقتضي أن يكون جميع المفارقات نوعا واحدا وهو مما لا سبيل إليه، وذهب شرذمة إلى اختلافها بالنوع، وهذا المعتبر عند صاحب المعتبر وطول الكلام في ذلك، وأحسن ما عول عليه في الاستدلال له اختلاف الناس في العلم والجهل والقوة والضعف والغضب والتحمل وغير ذلك فقال: ليس ذلك لاختلاف المزاج لما أنا نجد متساويين مزاجا مختلفين أخلاقا وبالعكس، وأيضا أن نفس النبي عليه الصلاة والسلام تبلغ قوتها إلى حيث تكون قوية على التصرف في هيولي هذا العالم ومعلوم أن ذلك ليس لقوة مزاجه فليس ذلك الاختلاف إلا لاختلاف الجواهر، وأنت تعلم أن هذا ليس في الحقيقة من البراهين بل هو من الاقناعات الضعيفة فتدبر جميع ما ذكرناه وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة للكلام في هذا المقام وهو لعمر الله تعالى طويل الذيل، وبالجملة ان الوقوف على حقيقة الروح أمر عسر والطريق إليه وعر، وقد جعل الله سبحانه ذلك من أعظم آياته الدالة على جلال ذاته وكمال صفاته فسبحانه من إله ما أجله ومن رب ما أكمله.
* (فقعوا له ساجدين) * أمر للملائكة عليهم السلام بالسجود لآدم عليه السلام على وجه التحية والتعظيم أو لله تعالى وهو عليه السلام بمنزلة القبلة حيث ظهرت فيه تعاجيب آثار قدرته عز وجل كقوله حسان: أليس أول من صلى لقبلتكم * وأعلم الناس بالقرآن والسنن
وفي أمرهم بالوقوع أي السقوط دليل على أن ليس المأمور به مجرد الانحناء كما قيل بل السجود بالمعنى المتبادر.
* (فسجد المل‍ائكة كلهم أجمعون) *
.
* (فسجد المل‍ائكة) * أي فخلقه فسواه فنفخ فيه من روحه فسجد له الملائكة * (كلهم) * بحيث لم يشذ منهم أحد * (أجمعون) * بحيث لم يتأخر في ذلك أحد منهم عن أحد بل أوقعوا الفعل مجتمعين في وقت واحد، هذا على ما ذهب إليه الفراء والمبرد من دلالة أجميع على الاجتماع في وقت الفعل، وقال البصريون: انها ككل لافادة العموم مطلقا.
ومن هنا منع تعاطفما فلا يقال جاء القوم كلهما وأجمعون وردوا على ذلك بقوله تعالى حكاية عن إبليس: * (لأغوينهم أجمعين) * (الحجر: 39) لظهور أن لا اجتماع هناك. ورده في الكشف بأن الاشتقاق من الجمع يقتضيه لأنه ينصرف إلى أكمل الأحوال فإذا فهمت الاحاطة من لفظ آخر وهو كل ملم يكن بد من كونه في وقت واحد وإلا كان لغوا، والرد بالآية منشؤه عدم تصور وجه الدلالة، ومنه يعلم وجه فساد النظر بأنه لو كان الأمر كذلك لكان حالا لا تأكيدا، فالحق في المسألة مع الفراء. والمبرد وذلك هو الموافق لبلاغة التنزيل، وزعم البصريون أنه إنما أكد بتأكيدين للمبالغة في التعميم ومنع التخصيص.
وزعم غير واحد أنه لا يؤكد بأجمع دون كل اختيارا والمختار وفاقا لأبي حيان جوازه لكقرة وروده
45

في الفصيح ففي القرآن عدة آيات من ذلك؛ وفي الصحيح " فله سلبه أجمع. فصلوا جلوسا أجمعون " ولعل منشأ الزعم وجوب تقديم كل عند الاجتماع، ويرده أن النفس يجب تقديمها على العين إذا اجتمعا مع جواز التأكيد بالعين على الانفراد، وما ذكروه من وجوب تقديم كل إنما هو بناء على ما علمت من الحق لرعاية البساطة والتركيب هذا. ثم إنه قد تقدم الكلام في تحقيق أن سجودهم هذا هل ترتب على ما حكى من الأمر التعليقي كما يقتضيه هذه الآية الكريمة أو على الأمر النتجيزي كما يستدعيه بعض الآيات فتذكر.
* (إلا إبليس أبى أن يكون مع الس‍اجدين) *
.
* (إلا ابليس) * استثناء متصل ما لأنه كان جنيا مفردا مغمورا بألوف من الملائكة فعد منهم تغليبا واما لأن من الملائكة جنسا يتوالدون يقال لهم جن وهو منهم وإما لأنه ملك لا جنى، وقوله تعالى: * (كان من الجنا) * (الكهف: 50) مؤول كما ستعلمه إن شاء الله تعالى، وقوله سبحانه: * (أبى أن يكون مع الساجدين) * استئناف مبين لكيفية عدم السجود المفهوم من الاستنثناء بناء على أنه من الاثبات نفي ومن النفي إثبات وهو الذي تميل إليه النفس فإن مطلق عدم السجود قد يكون مع التردد وبه علم أنه مع الإباء والاستكبار، وجوز أن يكون الاستثناء منقطعا فجملة * (أبي) * الخ متصلة بما قبلها، ووجه ذلك بأن إلا بمعنى لكن وإبليس اسمها، والجملة خبرها كذا قيل: وفي الهمع أن البصريين يقدرون المنقطع بلكن المشددة ويقولون: إنما يقدر بذلك لأنه في حكم جملة منفصلة عن الأولى فقولك: ما في الدار أحد الاحمارا في تقدير لكن فيها حمارا على أنه استدراك يخالف ما بعد لكن فيها ما قبلها غير أنهم اتسعوا فأجروا إلا مجرى لكن لكن لما كانت لا يقع بعدها إلا المفرد بخلاف لكن فإنه لا يقع بعدها إلا كلام تام لقبوه بالاستثناء تشبيها بها إذا كانت استثناء حقيقة وتفريقا بينها وبين لكن، والكوفيون يقدرونه بسوى، وقال قوم منهم ابن يسعون: إلا مع الاسم الواقع بعدها في المنقطع يكون كلاما مستأنفا، وقال في قوله: وما بالربع من أحد. الا الأواري - إلا فيه بمعنى لكن والأواري اس ملها منصوب بها والخبر محذوف كأنه قال: لكن الأواري بالربع وحذف خبر إلا كما حذف خبر لكن في قوله: ولكن زنجيا عظيم المشارف
اه‍.
والظاهر منه أن البصريين وإن قدروه بلكن لا يعربونه هذا الإعراب فهو تقدير معنى لا تقدير إعراب، ولعل التوجيه السابق مبني على مذهب ابن يسعون إلا أنه لم يصرح فيه بورود الخبر مصرحا به، نعم صرح بعضهم بذلك وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة لهذا المبحث في هذه السورة فافهم، ووجه الانقطاع ظاهر لأن المشهور أنه ليس من جنس الملائكة عليهم السلام، والانقطاع - على ما قال غير واحد - يتحقق بعدم دخوله في المستثنى منه أو في حكمه، وما قيل: إنه حينئذ لا يكون مأمورا بالسجود فلا يلزم والاعتذار عنه بأن الجن كانوا مأمورين أيضا واستغنى بذكر الملائكة عليهم السلام عنهم وأنه معنى الانقطاع وتوجه اللوم من ضيق العطن.
* (قال ياإبليس ما لك ألا تكون مع الس‍اجدين) *
.
* (قال) * استئناف مبني على سؤال من قال: فماذا قال الرب تعالى عند آبائه؟ فقيل قال سبحانه: يا ابليس مالك) * أي أي سبب لك كما يقتضيه الجواب، وقوله تعالى: ما منعك * (ألا تكون) * أي في أن لا تكون * (مع الساجدين) * لما خلقت مع أنهم هم ومنزلتهم في الشرفق منزلتهم، وكأن في صيغة الاستقبال إيماء إلى مزيد قبح حاله، ولعل التوبيخ ليس لمجرد تخلفه عن أولئك الكرام بل لأمور حكيت متفرقة أشعارا بأن كلا منها كاف في التوبيخ وإظهار بطلان ما ارتكبه وشناعته، وقد تركت حكاية التوبيخ رأسا في غير سورة اكتفاء بحكايتها في موضع آخر، والظاهر أن
46

قول الله تعالى له ذلك لم يكن بواسطة وهو منصب عال إذا كان على سبيل الاعظام والاجلال دون الإهانة والإذلال كما لا يخفى.
* (قال لم أكن لاسجد لبشر خلقته من صلص‍ال من حمإ مسنون) *
.
* (قال) * استئناف على نحو ما تقدم * (لم أكن لأسجد) * اللام لتأكيد النفي أي ينافي حالي ولا يستقيم مني أن أسجد * (لبشر) * جسماني كثيف * (خلقته من صلصال من حمإ مسنون) * إشارة إجمالية إلى ادعاء خيريته وشرف مادته، وقد نقل عنه لعنه الله تعالى التصريح بذلك في آية أخرى، وقد عنى اللعين بهذا الوصف بيان مزيد خسة أصل من لم يسجد له وحاشاه وقد اكتفى في غير موضع بحكاية بعض ما زعمه موجبا للخسة، وفي عدوله عن تطبيق جوابه على السؤال روم للتفصي عن المناقشة وأني له ذلك كأنه قيل: لم أمتنع عن الانتظام في سلك الساجدين بل عما لا يليق بشأني من السجود للمفضول، وقد أخطأ اللعين حيث ظن أن الفضل كله باعتبار المادة وما درى أنه يكون باعتبار الفاعل وباعتبار الصورة وباعتبار الغاية بل إن ملاك الفضل والكمال هو التخلي عن الملكات الردية والتحلي بالمعارف الربانية: فشمال والكاس فيها يمين * ويمين لا كاس فيها شمال
ولله تعالى در من قال: كن ابن من شئت واكتسب أكدبا * يغنيك مضمونه عن النسب
إن الفتى من يقول ها أنا ذا * ليس الفتى من يقول كان أبي
على أن فيما زعمه من فضل النار على التراب منعا ظاهرا وقد تقدم الكلام في ذلك.
* (قال فاخرج منها فإنك رجيم) *
.
* (قال) * استئناف كما تقدم أيضا * (فاخرج منها) * قيل: الظاهر أن الضمير للسماء وإن لم يجر لها ذكر، وأيد بظاهر قوله تعالى: * (فاهبط منها) * (الأعراف: 13) وقيل لزمرة الملائكة عليهم السلام ويلزم خروجه من السماء إذ كونه بانزاوئه عنهم في جانب لا يعد خروجا في المتبارد وكفى به قرينة، وقيل: للجنة لقوله تعالى: * (اسكن أنت وزوجك الجنة) * ولوقوع الوسوسة فيها ورد بأن وقوعها كان بعد الأمر بالخروج * (فانك رجيم) * مطرود من كل خير وكرامة فإن من يطرد يرجم بالحجارة فالكلام من باب الكناية، وقيل: أي شيطان يرجم بالشهب وهو وعيد بالرجم بها، وقد تضمن هذا الكلام الجواب عن شبهته حيث تضمن سوء حاله، فكأنه قيل: إن المانع لك عن السجود شقاوتك وسوء خاتمتك وبعدك عن الخير لا شرف عنصرك الذي تزعمه، وقيل: تضمنه ذلك لأنه علم منه أن الشرف بتشريف الله تعالى وتكريمه فبطل ما زعمه من رجحانه إذ أبعده الله تعالى وأهانه وقرب آدم عليه الصلاة والسلام وكرمه، وقيل: تضمنه للجواب بالسكوت كما قيل: جواب ما لا يرتضي السكوت، وفي تفسير الرجيم بالمرجوم بالشهب إشارة لطفية إلى أن اللعين لما افتخر بالنار عذب بها في الدنيا فهو: كعابد النار يهواها وتحرقه
* (وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين) *
.
* (وإن عليك اللعنة) * الأبعاد على سبيل السخط وذلك من الله تعالى في الآخرة عقوبة وفي الدنيا انقطاع من قبول فيضه تعالى وتوفيقه سبحانه، ومن الإنسان دعاء بذلك والظاهر أن المراد لعنة الله تعالى لقوله سبحانه: * (وإن عليك لعنتي) * * (إلى يوم الدين) * إلى يوم الجزاء، وفيه اشعار بتأخير جزائه إليه وإن اللغنة مع كمال فظاعتها ليست جزاء لفعله وإنما يتحقق ذلك يومئذ، وفيه من التهويل ما فيه، وجعل ذلك غاية أمد اللعنة قيل ليس لأنها تنقطع هنالك بل لأنه عند ذلك يعذب بما ينسى به اللعنة من افانين العذاب فتصير هي كالزائل، وقيل: إنما غيا بذلك لأنه أبعد
47

غاية يضربها الناس في كلامهم فهو نظير قوله تعالى: * (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض) * على قول.
وقال بعضهم: إن المراد باللعنة لعن الخلائق له لعنة الله تعالى عليه وذلك منقطع إذا نفخ في الصور وجاء يوم الدين دون لعن الله تعالى له وابعاده إياه فإنه متصل إلى الأبد.
* (قال رب فأنظرنى إلى يوم يبعثون) *
.
* (قال رب فأنظرني) * أمهلني وأخرني ولا تمتني والفاء متعلقة بمحذوف مفهوم من الكلام أي إذ جعلتني رجيما فامهلني * (إلى يوم يبعثون) * أي آدم عليه السلام
وذريته للجزاء وأراد بذلك أن يجد فسحة لا غوائهم ويأخذ منهم ثاره، قيل: ولينجوا من الموت إذ لا موت بعد البعث وهو المروى عن ابن عباس. والسدى، وكأنه عليه اللعنة طلب تأخير موته لذلك ولم يكتف بما أشار إليه سبحانه في التغيى من التأخير لما أنه يمكن كون تأخير العقوبة كسائر من أخرت عقوباتهم إلى الآخرة من الكفرة.
* (قال فإنك من المنظرين) *
.
* (قال) * الرب سبحانه * (فانك من المنظرين) * أي من جملتهم ومنتظم في سلكهم قال بعض الأجلة: إن في ورود الجواب جملة اسمية مع التعرض لشمول ما سأله الآخرين على وجه يؤذن بكون السائل تبعا لهم في ذلك دليل على أنه اخبار بالانظار المقدر لهم لا لانشاء انظار خاص به وقع إجابة لدعائه أي أنك من جملة الذين أخرت آجالهم ازلا حسبما تقتضيه حكمة التكوين، فالفاء لربط الأخبار بالانظار بالاستنظار كما في وقله: فإن ترحم فأنت لذاك أهل * وإن تطرد فمن يرحم سواكا
لا لربط نفس الانظار به وأن استنظاره لتأخير الموت إذ به يتحقق كونه من جملتهم لا لتأخير العقوبة كما قيل، ونظمه في سلك من أخرت عقوبتهم إلى الآخرة في علم الله تعالى ممن سبق من الجن ولحق من الثقلين لا يلائم مقام الاستنظار مع الحياة ولأن ذلك التأخير معلوم من إضافة اليوم إلى الدين مع إضافته في السؤال إلى البعث انتهى، وقيل: إن الفاء متعلقة كالفاء الأولى بمحذوف والكلام إجابة له في الجملة أي إذ دعوتني فإنك من المنظرين
* (إلى يوم الوقت المعلوم) *
.
* (إلى يوم الوقت المعلوم) * وهو وقت النفخة الأولى كما روى عن ابن عباس، وعليه الجمهور. ووصفه بالمعلوم اما على معنى أن الله تعالى استأثر بعلمه أو على معنى معلوم حاله وأنه يصعق فيه من في السموات ومن في الأرض إلا ما شاء الله تعالى، وقال آخرون: إنه عليه اللعنة أعطى مسؤوله كملا وليس إلا البقاء إلى وقت النفخة الأولى وهو آخر أيام التكليف والوقت المشارف للشيء المتصل به معدود منه فأول يوم الدين وأول يوم البعث كأنه من ذلك الوقت، واستظهر ذلك بأن الملعون عالم فلا يسأل ما يعلم أنه لا يجاب إليه وبأن ما في الأعراف لعدم ذكر الغاية فيه يدل على الإجابة؛ واعترض على الأول بأنه غير بين ولا مبين وكونه على غالب الظن لا يجدي في مثله، وعلى الثاني بأن ترك الغاية في سورة الأعراف يحتمل أن يكون كترك الفاء في الاستنظار والانظار تعويلا على ما ذكر ههنا وفي سورة ص فإن أيراد كلام واحد على أساليب متعددة غير عزيز في الكتاب العزيز. ومن الناس القائلين بالمغايرة من قال: إن المراد باليوم المعلوم اليوم الذي علم الله تعالى فيه انقضاء أجله وهو يوم خروج الدابة فإنها هي التي تقتله، وقد قدمنا نقل هذا القول عن بعض السلف وهو من الغرابة بمكان، وأغرب منه ما قيل: أنه هلك في بعض غزواته صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا قبل أن هذا مما لا يكاد يقبل بظاهره أصلا، والمشهور المعول عليه عند الجمهور هو ما ذكرناه من أنه
48

يموت عند النفخة الأولى وبينها وبين النفخة الثانية التي يقوم فيها الخلق لرب العالمين أربعون سنة، ونقل عن الأحنف بن قيس عليه الرحمة أنه قال: قدمت المدينة أريد أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه فإذا أنا بخلقة عظيمة وكعب الأحبار فيها وهو يقول: لما حضر آدم عليه السلام الوفاة قال: يا رب سيشمت بي عدوي إبليس إذا رآني ميتا وهو منتظر إلى يوم القيامة فأجيب أن يا آدم إنك سترد إلى الجنة ويؤخر اللعين إلى النظرة ليذوق ألم الموت بعدد الأولين والآخرين، ثم قال لملك الموت: صف لي كيف تذيقه الموت؟ فلما وصفه قال: يا رب حسبي فضج الناس وقالوا: يا أبا إسحق كيف ذلك؟ فأبى وألحوا فقال: يقول الله سبحانه لملك الموت عقيب النفخة الأولى قد جعلت فيك قوة أهل السموات وأهل الأرضين السبع وإني اليوم ألبستك ثواب السخط والغضب كلها فابرز بغضبي وسطوتي على رجيمي إبليس فأذقه الموت وأحمل عليه فيه مرارة الأولين والآخرين من الثقلين أضعافا مضاعفة وليكن معك من الزبانية سبعون ألفا قد امتلأوا غيظا وغضبا وليكن مع كل منهم سلسلة من سلاسل جهنم وغل من أغلالها وانزع روحه المنتن بسبعين ألف كلاب من كلاليبها وناد مالكا ليفتح أبواب النيران فينزل الملك بصورة لو نظر إلهيا أهل السموات والأرضين لماتوا بغتة من هولها فينتهي إلى إبليس فيقول: قف لي يا خبيث لأذيقنك الموت كم من عمر أدركت وقرن أضللت وهذا هو الوقت المعلوم قال: فيهرب اللعين إلى المشرق فإذا هو بملك الموت بين عينيه فيهرب إلى المغرب فإذا هو به بين عينيه فيغوص البحاري فيثير منها البخاري فلا تقبله فلا يزال يهرب في الأرض ولا محيص له ولا ملاذ ثم يقوم في وسط الدنيا عند قبر آدم عليه السلام ويتمرغ في التراب من المشرق إلى المغرب ومن المغرب إلى المشرق حتى إذا كان في الموضع الذي أهبط فيه آدم عليه السلام وقد نصبت له الزبانية الكلاليب وصارت الأرض كالجمرة احتوشته الزبانية وطعنوه بالكلاليب فيبقى في النزع والعذاب إلى حيث يشاء الله تعالى، ويقال: آدم وحواء عليهما السلام اطلعا اليوم على عدو كما يذوق الموت فيطلعان فينظران إلى ما هو فيه من شدة العذاب فيقولان ربنا أتممت علينا نعمتك، وجاء في بعض الأخبار أنه حين لا يجد مفرا يأتي قبر آدم عليه السلام فيحثو التراب على رأسه وينادي يا آدم أنت أصل بليتي فيقال له: يا إبليس اسجد الآن لآدم عليه السلام فيرتفع عنك ما ترى فيقول: كلا لم أسجد له حيا فكيف أسجد له ميتا، وهذا إن صح يدل على أن اللعين من العناد بمكان لا تصل إلى غايته الأذهان.
* (قال رب بمآ أغويتنى لأزينن لهم فى الارض ولأغوينهم أجمعين) *
.
* (قال رب بما أغويتني) * أي بسبب إغوائك إياي * (لأزينن) * أي أقسم لأزينن * (لهم) * أي لذريته وهو مفهوم من السياق وإن لم يجر له ذكر، وقد جاء مصرحا به في قوله تعالى حكاية عن اللعين أيضا: * (لأحتنكن ذريته) * (الإسراء: 62) ومفعول * (أزينن) * محذوف أي المعاصي * (في الأرض) * أي هذا الجرم المدحو وكأن اللعين أشار بذلك إلى أني أقدر على الاحتيال لآدم والتزيين له الأكل من الشجرة في السماء فإنا على التزيين لذريته في الأرض أقدر، ويجوز أنه
أراد بالأرض الدنيا لأنها محل متاعها ودارها، وذكر بعضهم أن هذا المعنى عرفى للأرض وأنها إنما ذكرت بهذا اللفظ تحقيرا لها، ولعل التقييد على ما قيل للإشارة إلى أن للتزين محلا يقوي قبوله أي لأزينن لهم المعاصي في الدنيا التي هي دار الغرور، وجوز أن يكون يراد بها هذا المعنى وينزل الفعل منزلة اللازم ثم يعدى بفي، وفي ذلك دلالة على أنها مستقر التزيين وأنه تمكن المظروف في ظرفه، ونحوه قول ذي الرمة:
49

فإن تعتذر بالمحل من ذي ضروعها * إلى الضيف يجرح في عراقيبها نصلي
والمعنى لأحسنن الدنيا وأزيننها لهم حتى يشتغلوا بها عن الآخرة، وجوز جعل الباء للقسم و * (ما) * مصدرية أيضا أي أقسم بإغوائك إياي لازينن، وأقسامه بعزة الله تعالى المفسرة بسلطانه وقهره لا ينافي أقسامه بهذا فإنه فرع من فروعها وأثر من آثارها فلعله أقسم بهما جميعا فحكى تارة قسمه بهذا وأخرى بذاك، وزعم بعضهم أن السببية أولى لأنه وقع في مكان آخر * (فبعزتك) * والقصة واحدة والحمل على محاورتين لا موجب له ولأن القسم بلإغواء غير متعارف انتهى، وفيه نظر ظاهر فإ قوله: * (فبعزتك) * يحتمل القسمية أيضا، وقد صرح الطيبي بأن مذهب الشافعية أن القسم بالعزة والجلال يمين شرعا فالآية على الزاعم لا له. نعم أن دعواه عدم تعارف القسم بالأغواء مسلمة وهو عندي يكفي لأولوية السببية ولعدم التعارف مع عدم الإشعار بالتعظيم لا يعد القسم بها يمينا شرعا فإن القائلين بانعقاد القسم بصفة له تعالى يشترطون أن تشعر بتعظيم ويتعارف مثلها، وفي نسبة الأغواء إليه تعالى بلا إنكار منه سبحانه قول بأن الشر كالخير من الله عز وجل، وأول المعتزلة ذلك وقالوا: المراد النسبة إلى الغي كفسقته نسبته إلى الفسق لأفعلته أو أن المراد فعل به فعلا حسنا أفضى به لخبثه إلى الغي حيث أمره سبحانه بالسجود فأبى واستكبر أو أضله عن طريق الجنة وترك هدايته واللطف به واعتذروا عن إنظار الله تعالى إياه مع أنه مفض إلى الاغواء القبيح بأنه تعالى قد علم منه وممن اتبعه أنهم يموتون على الكفر ويصيرون إلى النار أنظر أم لم ينظر وأن في إنظاره تعريضا لمن خالفه لاستحقاق مزيد الثواب.
وأنت تعلم أن في إنظار إبليس عليه اللعنة وتمكينه من الاغواء وتسليطه على أكثر بني آدم ما يأبى القول: وجوب رعاية الأصلح المشهور عن المعتزلة، وأيضا من زعم أن حكيما أو غيره يحصر قوما في دار ويرسل فيها النار العظيمة والأفاعي القاتلة الكثيرة ولم يرد أذى أحد من أولئك القوم بالإحراق أو اللسع فقد خرج عن الفطرة البشرية.
فحينئذ الذي تحكم به الفطرة أن الله تعالى أراد بالإنظار إضلال بعض الناس فسبحانه من إله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وتمسك بعض المعتزلة في تأويل ما تقدم بقوله: * (ولأغوينهم) * حيث أفاد أن الاغواء فعله فلا ينبغي أن ينسب إلى الله تعالى، وأجيب بأن المراد به هنا الحمل على الغواية لا إيجادها وتأويل اللاحق للسابق أولى من العكس، وبالجملة ضعف الاستدلال ظاهر فلا يصلح ذلك متمسكا لهم * (أجمعين) * أي كلهم فهو لمجرد الإحاطة هنا.
* (إلا عبادك منهم المخلصين) *
.
* (إلا عبادك منهم المخلصين) * بفتح اللام وهو قراءة الكوفيين. ونافع. والحسن. والأعرج أي الذين أخلصتهم لطاعتك وطهرتهم من كل ما ينافي ذلك، وكان الظاهر وأن منهم من لا أغويه مثلا، وعدل عنه إلى ما ذكر لكون الإخلاص والتمحض لله تعالى يستلزم ذلك فيكون من ذكر السبب وإرادة مسببه ولازمه على طريق الكناية وفيه اثبات الشيء بدليله فهو من التصريح به، وقرأ باقي السبعة والجمهور بكسر اللام أي الذين أخلصوا العمل لك ولم يشركوا معك فيه أحدا.
* (قال هذا صراط على مستقيم) *
.
* (قال) * الله سبحانه وتعالى: * (ه‍اذا صراط علي) * أي حق لا بد أن أراعيه * (مستقيم) * لا انحراف فيه فلا يعدل عنه إلى غيره، والإشارة إلى ما تضمنه الاستثناء وهو تخلص المخلصين من إغوائه وكلمة * (علي) * تستعمل للوجوب والمعتزلة يقولون به حقيقة لقولهم بوجوب الأصلح عليه تعالى، وقال أهل السنة: إن ذلك وإن
50

كان تفضلا منه سبحانه إلا أنه شبه بالحق الواجب لتأكد ثبوته وتحقق وقوعه بمقتضى وعده جل وعلا فنجيء - بعلي - لذلك أو إلى ما تضمنه * (المخلصين) * بالكسر من الإخلاص على معنى أنه طريق يؤدي إلى الوصول إلى من غير إعوجاج وضلال وهو على نحو طريقك على إذا انتهى المرور عليه، وإيثار حرف الاستعلاء على حرف الانتهاء لتأكيد الاستقامة والشهادة باستعلاء من ثبت عليه فهو أدل على التمكن من الوصول، وهو تمثيل فلا استعلاء لشيء عليه سبحانه وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وليست * (علي) * فيه بمعنى إلى. نعم أخرج ابن جرير عن الحسن أنه فسرها بها، وأخرج عن زياد بن أبي مريم. وعبد الله بن كثير أنهما قرآ * (هذا صراط مستقيم) * وقالا: * (على) * هي إلى وبمنزلتها والأمر في ذلك سهل، وهي متعلقة بيمر مقدرا و * (صراط) * متضمن له فيتعلق به.
وقال بعضهم: الإشارة إلى انقسامهم إلى قسمين أي ذلك الانقسام إلى غاو وغيره أمر مصيره إلى وليس ذلك لك، والعرب تقول: طريقك في هذا الأمر على فلان على معنى إليه يصير النظر في أمرك، وعن مجاهد. وقتادة. إن هذا تهديد للعين كما تقول لغيرك افعل ما شئت فطريقك على أي لا تفوتني، ومثله على ما قال الطبرسي قوله تعالى: * (إن ربك لبالمرصاد) * والمشارك على هذا إليه ما أقسم مع التأكيد عليه، وأظهر هذه الأوجه على ما قيل هو الأول، واختار في " البحر " كونها إلى الإخلاص، وقيل: الأظهر أن الإشارة لما وقع في عبارة إبليس عليه اللعنة حيث قال: * (لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم) * الخ، ولا أدري ما وجه كونه أظهر.
وقرأ الضحاك. وإبراهيم، وأبو رجاء. وابن سيرين. ومجاهد. وقتادة. وحميد. وأبو شرف مولى كندة. ويعقوب، وخلق كثير * (على مستقيم) * برفع * (علي) * وتنوينه أي عال لارتفاع شأنه.
* (إن عبادى ليس لك عليهم سلط‍ان إلا من اتبعك من الغاوين) *
.
* (إن عبادي ليس لك عليهم سلط‍ان) * أي تسلط وتصرف بالاغواء والمراد بالعباد المشار إليهم بالمخلصين فالإضافة للعهد، والاستثناء على هذا في قوله تعالى:
* (إلا من اتبعك من الغاوين) * منقطع واختار ذلك غير واحد، واستدل عليه بسقوط الاستثناء في الإسراء، وجوز أن يكون المراد بالعباد العموم والاستثناء متصل والكلام كالتقرير لقوله: * (ألا عبادك منهم المخلصين) * ولذا لم يعطف على ما قبله، وتغيير الوضع لتعظيم المخلصين بجعلهم هم الباقين بعد الاستثناء.
وفي الآية دليل لمن جوز استثناء الأكثر وإلى ذلك ذهب أبو عبيد. والسيرافي. وأكثر الكوفية، واختاره ابن خروف. والشلوبين. وابن مالك، وأجاز هؤلاء أيضا استثناء النصف، وذهب بعض البصرية إلى أنه لا يجوز كون المستثنى قدر نصف المستثنى منه أو أكثر ويتعين كونه أقل من النصف واختاره ابن عصفور. والآمدي وإليه ذهب أبو بكر الباقلاني من الأصوليين، وذهب البعض الآخر من علماء البلدين إلى أنه يجوز أن يكون المخرج النصف لما دونه ولا يجوز أن يكون أكثر وإليه ذهب الحنابلة، واتفق النحويون كما قال أبوحيان وكذا الأصوليون عند الإمام. والآمدي خلافا لما اقتضاه نقل القرافي عن المدخل لابن طلحة على أنه لا يجوز أن يكون المستثنى مستغرقا للمستثنى منه، ومن الغريب نقل ابن مالك عن الفراء وجواز له على الف إلا ألفين، وقيل: إن كان المستثنى منه عددا صريحا يمتنع فيه النصف والأكثر وإن كان غير صريح لا يمتنعان، وتحقيق هذه المسألة في الأصول، والمذكور في بعض كتب العربية عن أبي حيان أه قال: المستقرأ من كلام العرب إنما هو استثناء الأقل وجميع ما استدل به على خلافه محتمل التأويل؛ وأنت تعلم أن الآية تدفع مع ما تقدم
51

قول من شرط الأقل لما يلزم عليه من الفساد لأن استثناء الغاوين هنا يستلزم على ذلك أن يكونوا أقل من المخلصين الذين هم الباقون بعد الاستثناء من جنس العباد، واستثناء المخلصين هناك يستلزم أن يكونوا أقل من الغاوين الذي هم الباقون بعد الاستثناء من ذلك فيكون كل من المخلصين والغاوين أقل من نفسه وهو كما ترى.
وأجاب بعضهم بأن المستثنى منه هنا جنس العباد الشامل للمكلفين وغيرهم ممن مات قبل أن يكلف ولا شك أن الغاوين أقل من الباقي منهم بعد الاستثناء وهم المخلصون ومن مات غير مكلف والمستثنى منه هناك المكلفون إذ هم الذين يعقل حملهم على الغواية والضلال إذ غير المكلف لا يوصف فعله بذلك والمخلصون أقل من الباقي منهم بعد الاستثناء أيضا ولا محذور في ذلك، وذكر بعضهم أن الكثرة والقلة الإدعائيتين تكفيان لصحة الشرط فقد ذكر السكاكي في آخر قسم الاستدلال وكذا لا تقول لفلان على ألف إلا تسعمائة وتسعين إلا وأنت تنزل ذلك الواحد منزلة الألف بجهة من الجهات الخطابية مع أنه ممن يشترط كون المستثنى أقل من الباقي اه‍، وظاهر كلام الأصوليين ينافيه، وجوز أن يكون الاستثناء منقطعا على تقدير إرادة الجنس أيضا ويكون الكلام تكذيبا للملعون فيما أوهم أن له سلطانا على من ليس بمخلص من عباده سبحانه فإن منتهى قدرته أن يغرهم ولا يقدر على جبرهم على اتباعه كما قال: * (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي) * (إبراهيم: 22).
فحاصل المعنى أن من اتبعك ليس لك عليهم سلطان وقهر بل أطاعوك في الإغواء واتبعوك لسوء اختيارهم ولا يضر في الانقطاع دخول الغاوين في العباد بناء على ما قالوا من أن المعتبر في الاتصال والانقطاع الحكم، ويفهم كلام البعض أنه يجوز أن تكون الآية تصديقا له عليه اللعنة في صريح الاستثناء وتكذيبا في جعل الإخلاص علة للخلاص حسبما يشير إليه كلامه فإن الصبيان والمجانين خلصوا من إغوائه مع فقد هذه العلة.
* (ومن) * على جميع الأوجه المذكورة لبيان الجنس أي الذين هم الغاوون. واستدل الجبائي بنفي أن يكون له سلطان على العباد على رد قول من يقول: إن الشيطان يمكنه صرع الناس وإزالة عقولهم، وقد تقدم الكلام في إنكار المعتزلة تخبط الشيطان والرد عليهم
* (وإن جهنم لموعدهم أجمعين) *.
* (وإن جهنم لموعدهم أجمعين) * الضمير لمن اتبع أو للغاوين ورجح الثاني بالقرب وظهور ملاءمته للضمير، والأول بأن اعتباره ادخل في الزجر عن اتباعه مع أن الثاني جيء به لبيانه و * (أجمعين) * توكيد للضمير، وجوز أن يكون حالا منه ويجعل على هذا الموعد مصدرا ميميا ليتحقق شرط مجيء الحال من المضاف إليه وهو كون المضاف مما يعمل عمل الفعل فإنهم اشترطوا ذلك أو كون المضاف جزء المضاف إليه أو كجزئه على ما ذكره ابن مالك وغيره ليتحد عامل الحال وصاحبها حقيقة أو حكما لكن يقدر حينئذ مضاف قبله لأن جهنم ليست عين الموعد بل محله فيقدر محل وعدهم أو مكانه، وليس بتأويل اسم المفعول كما وهم، وجوز أن يكون الموعد اسم مكان، وحينئذ لا يحتاج إلى تقدير المضاف إلا أن في جواز الحالية بحثا لأن اسم المكان لا يعمل عمل فعله كما حقق في النحو، وكون العامل معنى الإضافة وهو الاختصاص على القول بأنه الجار للمضاف إليه غير مقبول عند المحققين لأن ذلك من المعاني التي لا تنصب الحال، ولا يخفى ما في جعل جهنم موعدا لهم من التهكم والاستعارة فكأنهم كانوا على ميعاد، وفيه أيضا إشارة إلى أن ما أعد لهم فيها مما لا يوصف في الفضاعة.
* (لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم * إن المتقين فى جن‍ات وعيون) *
.
* (لها سبعة أبواب) * أي سبع طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في الغواية والمتابعة روى ذلك عن عكرمة. وقتادة، وأخرج أحمد في الزهد. والبيهقي في البعث. وغيرهما من طرق عن علي كرم
52

الله تعالى وجهه أنه قال: " أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض فيملأ الأول ثم الثاني ثم الثالث حتى تملأ كلها ".
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها جهنم والسعير ولظي والحطمة وسقر والجحيم والهاوية وهي أسفلها، وجاء في ترتيبها عن الأعمش. وابن جريج. وغيرهما غير ذلك، وذكر السهيلي في كتاب الإعلام أنه وقع في كتب الرقائق أسماء هذه الأبواب ولم ترد في أثر صحيح وظاهر القرآن والحديث يدل على أن منها ما هو من أوصاف النار نحو السعير والجحيم والحطمة والهاوية ومنها ما هو علم للنار كلها نحو جهنم وسقر ولظى فلذا أضربنا عن طكرها اه‍، وأقرب الآثار التي وقفنا عليها إلى الصحة فيما أظن ما روى عن علي كرم الله تعالى وجهه لكثرة مخرجيه، وتحتاج جميع الآثار إلى التزام أن يقال: إن جهنم تطلق على طبقة مخصوصة كما تطلق على النار كلها، وقيل: الأبواب على بابها والمراد أن لها سبعة أبواب يدخلونها لكثرتهم والإسراع بتعذيبهم.
والجملة - كما قال أبو البقاء - يجوز أن تكون خبرا ثانيا ويجوز أن تكون مستأنفة ولا يجوز أن تكون حالا من جهنم لأن إن لا تعمل في الحال * (لكل باب منهم) * من الاتباع والغواة * (جزء مقسوم) * فريق معين مفروز من غيره حسبما يقتضيه استعداده، فياب للموحدين العصاة وباب لليهود وباب للنصارى وباب للصابئين وباب للمجوس وباب للمشركين وباب للمنافقين، وروى هذا الترتيب في بعض الآثار، وعن ابن عباس أن جهنم لمن ادعى الربوبية ولظى لعبدة النار والحطمة لعبدة الأصنام وسقر لليهود والسعير للنصارى والجحيم للصابئين والهاوية للموحدين العاصين، وروى غير ذلك، وبالجملة في تعيين أهلها كترتيبها اختلاف في الروايات.
ولعل حكمة تخصيص هذا العدد انحصار مجامع المهلكات في المحسوسات بالحواس الخمس ومقتضيات القوة الشهوانية الغضبية أو أن أصول الفرق الداخلين فيها سبعة، وقرأ ابن القعقاع (جز) بتشديد الزاي من غير همزة ووجهه أنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الزاي ثم وقف بالتشديد ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، وقرأ ابن وثاب * (جزء) * بضم الزاي والهمز * (ومنهم) * حال من * (جزء) * وجاء من النكرة لتقدمه ووصفها أو حال من ضميره في الجال والمجرور الواقع خبرا له، ورجح بأن فيه سلامة مما في وقوع الحال من المبتدأ، والتزم بعضهم لذلك كون المرفوع فاعلا بالظرف ولا يجوز أن يكون حالا من الضمير في * (مقسوم) * لأنه صفة * (جزء) * فلا يصح عمله فيما قبل الموصوف، وكذا لا يجوز أن يكون صفة * (باب) * لأنه يقتضي أن يقال منها، وتنزيل الأبواب منزلة العقلاء لا وجه له هنا كما لا يخفى والله تعالى أعلم. ومن باب الإشارة: * (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون) * (الحجر: 2) فيه إشارة إلى ذم من كان همه بطنه وتنفيذ شهواته، قال أبو عثمان: أسوأ الناس حالا من كان همه ذلك فإنه محروم عن الوصل إلى حرم القرب * (وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) * (الحجر: 6) رموه وحاشاه صلى الله عليه وسلم بالجنون مشيرين إلى أن سببه دعواه عليه الصلاة والسلام نزول الذكر الذي لم تتسع له عقولهم، والإشارة في ذلك أنه لا ينبغي لمن لم يتسع عقله لما من الله سبحانه به على أوليائه من الأسرار أن يبادروهم بالإنكار ويرموهم بما لا ينبغي كما هو عادة كثير من المنكرين اليوم على الأولياء الكاملين حيث نسبوهم فيما تكلموا به من الأسرار الإلهية والمعارف الربانية إلى الجنون؛ وزعموا أن ما تكلموا به من ذلك ترهات وأباطيل خيلت لهم من الرياضات، ولا أعني بالأولياء الكاملين سوى من تحقق لدى المنصفين موافقتهم للشرع فيما يأتون ويذرون دون الذين يزعمون انتظامهم في سلكهم وهم أولياء الشيطان وحزبهم حزبه كبعض متصوفة هذا الزمان فإن الزنادقة بالنسبة
53

إليهم أتقياء موحدون كما لا يخفى على من سبر أحوالهم * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * (الحجر: 9) قال ابن عطاء: أي إنا نزلنا هذا الذكر شفاء ورحمة وبيانا للهدى فينتفع به من كان موسوما بالسعادة منورا بتقديس السر عن دنس المخالفة * (وإنا له لحافظون) * في قلوب أوليائنا فهي خزائن أسرارنا * (ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين) * (الحجر: 16) إشار سبحانه إلى سماء الذات وبروج الصفات والجلال فيسير في ذلك القلب والسر والعقل والروح فيحصل للروح التوحيد والتجريد والتفريد وللعقل المعارف والكواشف وللقلب العشق والمحبة والخوف والرجاء والقبض والبسط والعلم والخشية والأنس والانبساط وللسر الفناء والبقاء والسكر والصحو * (وحفظناها من كل شيطان رجيم) * (الحجر: 17) إشارة إلى منع كشف جمال صفاته سبحانه وجلاله ذاته عز وجل عن أبصار البطالين والمدعين والمبطلين الزائغين عن الحق * (إلا من استرق السمع) * اختلس شيئا من سكان هاتيك الحضائر القدسية من الكاملين * (فأتبعه شهاب مبين) * (الحجر: 18) نار التحير فهلك في بوادي التيه أو صار غولا يضل السائرين السالكين لتحصيل ما ينفعهم، وقيل الإشارة في ذلك: إنا جعلنا في سماء العقل بروج المقامات ومراتب العقول من العقل الهيولاني والعقل بالملكة والعقل بالفعل والعقل المستفاد وزيناها بالعلوم والمعارف للناظرين المتفكرين وحفظانا من شياطين الأوهام الباطلة إلا من اختطف الحكم العقلي باستراق السمع لقربه من أفق العقل فأتبعه شهاب البرهان الواضح فطرده وأبطل حكمه اه‍ ولا يخفى مافي تزيين كل مرتبة من مراتب العقول المذكورة بالعلوم والمعارف للمتفكرين من النظر على من تفكر، وقيل: الإشارة إلى أنه تعالى جعل في سماء القلوب بروج المعارف تسير فيها سيارات الهمم، وجعلها زينة للناظرين إليها المطلعين عليها من الملائكة والروحانيين وحفظها من الشياطين فلودنا إبليس أو جنوده من قلب عارف احترق بنور معرفته ورد خاسئا.
* (والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون) * (الحجر: 19) إشارة إلى أنه تعالى بسط بأنوار تجلى جماله وجلاله سبحانه أرض قلوب أولياه حتى أن العرش وما حوى بالنسبة إليها كحلقة في فلاة بل دون ذلك بكثير، وفي " الخبر ": " ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن " ثم أنه تعال لما تجلى عليها تزلزلت من هيبته فألقى عليها رواسي السكينة فاستقرت وأنبت فيها بمياه بحار زلال نور غيبه من جميع نباتات المعارف والكواشف والمواجيد والحالات والمقامات والآداب وكل من ذلك موزون بميزان علمه وحكمته.
وقال بعضهم: نفوس العابدين أرض العبادة وقلوب العارفين أرض المعرفة وأرواح المشتاقين أرض المحبة، والرواسي الرجاء والخوف والرغبة والرهبة، والأزهار الأنوار التي أشرقت فيها من نور اليقين ونور العرفان ونور الحضور ونور الشهود ونور التوحيد إلى غير ذلك، وقيل: أشير بالأرض إلى أرض النفس أي بسطنا أرض
النفس بالنور القلبي وألقينا فيها رواسي الفضائل وأنبتنا فيها كل شيء من الكمالات الخلقية والأفعال الإرادية والملكان الفاضلة والإدراكات الحسية معين مقدر بميزان الحكمة والعدل * (وجعلنا لكم فيها معايش) * بالتدابير الجزئية * (وم لستم له برازقين) * (الحجر: 20) ممن ينسب إليكم ويتعلق بكم، قال بعضهم: إن سبب العيش مختلف فعيش المريدين بيمن إقباله تعالى وعيش العارفين بلظف جماله سبحانه وعيش الموحدين بكشف جلاله جل جلاله.
* (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه) * أي ما من شيء إلا له عندنا خزانة في عالم القضاء * (وما ننزله) * في عالم الشهادة * (إلا بقدر معلوم) * (الحجر: 21) من شكل وقدر ووضع ووقت ومحل حسبما يقتضيه استعداده، قيل: إن الإشارة في ذلك إلى دعوة العبادة إلى حقائق التوكل وقطع الأسباب والإعراض عن الأغيار، ومن هنا قال حمدون: إنه سبحانه
54

قطع أطماع عبيده جل وعلا بهذه الآية فمن رفع بعد هذا حاجة إلى غيره تعالى شأنه فهو جاهل ملوم، وكان الجنيد قدس سره إذا قرأ هذه الآية يقول فأين تذهبون؟ ويقال: خزائنه تعالى في الأرض قلوب العارفين وفيها جواهر الأسرار، ومنهم من قال: النفوس خزائن التوفيق والقلوب خزائن التحقيق والألسنة خزائن الذكر إلى غير ذلك * (وأرسلنا) * على القلوب * (الرياح) * النفحات الإلهية * (لواقح) * بالحكم والمعارف، قال ابن عطاء: رياح العناية تلقح الثبات على الطاعات ورياح الكريم تلقح في القلوب معرفة المنعم ورياح التوكل تلقح في النفوس الثقة بالله تعالى والاعتماد عليه، وكل من هذه الرياح تظهر في الأبدان زيادة وفي القلوب زيادة وشقى من حرمها * (فأنزلنا من السماء) * أي سماء الروح * (ماء) * من العلوم الحقيقية * (فأسقيناكموه) * وأحييناكم به * (وما أنتم له) * أي لذلك الماء * (بخازنين) * (الحجر: 22) لخلوكم عن العلوم قبل أن نعلمكم * (وإنا لنحن نحيي) * القلوب بماء العلم والمشاهدة * (ونميت) * النفوس بالجد والمجاهدة، وقيل: نحيي بالعلم ونميت بالإفناء في الوحدة؛ وقيل: نحيي بمشاهدتنا قلوب المطيعين من موت الفراق ونميت نفوس المريدين بالخوف منا وقهر عظمتنا عن حياة الشهوات، وقال الواسطي: نحيي من نشاء بنا ونميت من نشاء عنا، وقال الوراق: نحيي القلوب بنور الايمان ونميت النفوس باتباع الشيطان؛ وقيل وقيل: * (ونحن الوارثون) * (الحجر: 23) للوجود والباقون بعد الفناء * (ولقد علمنا المستقدمين منكم) * وهم المشتاقون الطالبون للتقدم * (ولقد علمنا المستأخرين) * (الحجر: 24) وهم المنجذبون إلى عالم الحس باستيلاء صفات النفس الطالبون للتأخر عن عالم القدس وروضات الأنس، ومن هنا قال ابن عطاء: من القلوب قلوب همتها مرتفعة عن الأدناء والنظر إلى الأكوان ومنها ما هي مربوطة بها مقترنة بنجاستها لا تنفك عنها طرفة عين، وقيل: المستقدمين الطالبون كشف أنوار الجمال والجلال والمستأخرين أهل الرسوم الطالبون للحظوظ والاعراض، وقيل: الأولون هم أرباب الصحو الذين يتسارعون إذا دعوا إلى الطاعة والآخرون سكارى التوحيد والمعرفة والمحبة، وقيل: الأولون هم الآخذون بالعزائم والآخرون هم الآخذون بالرخص، وقيل: غير ذلك * (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون) * (الحجر: 28) فيه إشارة إلى عظم شأن آدم عليه السلام حيث أخبر سبحانه بخلقه قبل أن يخلقه، وسماء بشرا لأنه جل شأنه باشر خلقه بيديه، ولم يثن سبحانه اليد لأحد الإله، وهو النسخة الإلهية الجامعة لصفات الجمال والجلال * (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) * (الحجر: 29) أضاف سبحانه الروح إلى نسه تشريفا لها وتعظيما لقدرها لماأنها سر خفي من أسراره جل وعلا، ولذا قيل: من عرف نفسه عرف ربه، وعلق تبارك شأنه الأمر بالسجود بالتسوية والنفخ لما أن أنوار الأسماء والصفات وسناء سبحات الذات إنما تظهر إذ ذاك، ولذا لما تم الأمر وجلدت النسخة فظهرت أنوار الحق وقرئت سطور الأسرار استصغروا أنفسهم * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) * (الحجر: 30) إلا إبليس لما أعمى الله تعالى عينه عن مشاهدة ما شاهدوه * (أبى أن يكون من الساجدين) * (الحجر: 31) ولو شاهد ذلك لسجد كما سجدوا * (قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون) * غلط اللعين في زعمه أنه خير من آدم عليه السلام ولم يخطر في باله أيضا أن المحب الصادق يمتثل أمر محبوبه كيف كان، ومن هنا قيل: لو قال تيها قف على جمر الغضى * لوقفت ممتثلا ولم أتوقف
وقال بعض أهل الوحدة: إن الملعون ظن أنه مستحكم في توحيده حيث لم يسجد لغيره تعالى، وقد أخطأ
55

أيضا لأنه لا غير هناك لأن في حقيقة جمع الجمع ترتفع الغيرية وتزول الإثنينية. وأنت تعلم أن هذا بمراحل عما يدل عليه كلامه وأن الغيرية إذا ارتفعت في هذا المقام ترتفع مطلقا فلا تبقى غيرية بين آدم وإبليس بل ولا بينهما وبين شخص من الأشخاص الخارجية والذهنية، ومن هنا قال قائلهم:
ما آدم في الكون ما إبليس * ما ملك سليمان وما بلقيس
الكل عبارة وأنت المعنى * يا من هو للقلوب مغناطيس
وقال الحسين بن منصور:
جحودي لك تقديس * وعقلي فيك منهوس
فمن آدم الاك * ومن في البين إبليس
وقد انتشر مثل هذا الكلام اليوم في الأسواق ومجالس الجهلة والفساق واتسع الخرق على الواقع وتفاقم الأمر وما له سوى الله تعالى من دافع * (فال فاخرج منها فإنك رجيم) * (الحجر: 34) طريد عن ساحة القرب إذ القرب يقتضي الامتثال وكلما ازداد العبد قربا من ربه ازداد خضوعا وخشوعا * (وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين) * (الحجر: 35) لم يد سبحانه أنه بعد ذلك يحصل له القرب خلافا لبعض أهل الوحدة بل أراد جل وعلا بعض ما قدمناه.
* (قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض) * أي لأزينن لهم الشهوات في الحهة السفلية * (ولأغوينهم أجمعين) * (الحجر: 39) * (إلا عبادك منهم المخلصين) * الذين أخلصتهم لك واصطفيتهم لمحبتك أو المخلصين في طاعتهم لك ولا يلتفتون وحد سواك، وفيه من مدح الإخلاص ما فيه، وفي " الخبر " " العالم
هلكى إلا العالمون والعالمون هلكى إلا العاملون والعاملون هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر " أي شرف عظيم كما ذكره السيد السند في بعض تعليقاته.
* (إن عبادي ليس عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) * (الحجر: 42) أي الذي يناسبونك في الغوايم والبعد * (وإن جهنم لموعدهم أجمعين) * (الحجر: 43) * (لها سبعة أبواب) * عدد الحواس الخمس والقوتين الشهوية والغضبية وهاتان القوتان بابان عظيمان للضلالة المفضية إلى النار. أخرج ابن جرير عن يزيد بن قسيط قال: كانت للأنبياء عليهم السلام مساجد خارجة من قراهم فإذا أراد أحدهم أن يستنبىء ربه عن شيء خرج إلى مسجده فصلى ما كتب الله تعالى ثم سأل ما بدا له فبينما نبي في مسجده إذ جاء إبليس حتى جلس بينه وبين القبلة فقال النبي: أعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم ثلاثا فقال إبليس: أخبرني بأي شيء تنجو مني؟ قال النبي: بل أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم فأجد كل واحد منهما على صاحبه فقال النبي: إن الله تعالى يقول: * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) * (الحجر: 42) قال إبليس: قد سمعت هذا قبل أن تولد قال النبي: ويقول الله تعالى: * (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله) * (الأعراف: 20) وإني والله تعالى ما أحسست بك قط إلا اسعذت بالله تعالى منك قال إبليس: صدقت بهذا تنجو مني فقال النبي: أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم قال: آخذه عند الغضب وعند الهوى * (لكل باب منهم جزء مقسوم) * (الحجر: 44) فيكون لكل باب فرقة تغلب عليها قوة ذلك الباب، نسأل الله تعالى أي يجيرنا منها بحرمة سيد ذوي الألباب صلى الله عليه وسلم.
* (إن المتقين في جنات وعيون) * أي مستقرون في ذلك خالدون فيه، والمراد بهم - على ما في الكشاف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - الذين اتقوا الكفر والفواحش ولهم ذنوب تكفرها الصلوات وغيرها، وفيه أن المتقي على الإطلاق من يتقي ما يجب اتقاؤه
56

مما نهى عنه، ونقل الإمام عن جمهور الصحابة والتابعين وذكر أنه المنقول عن الحبر أن المراد بهم الذين اتقوا الشرك ثم قال: وهذا هو الحق الصحيح، والذي يدل عليه أن المتقى هو الآتي بالتقوى مرة واحدة كما أن الضارب هو الآتي بالضرب مرة فليس من شرط صدق الوصف بكونه متقيا كونه آتيا بجميع أنواع التقوى، والذي يقرر ذلك أن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يكون آتيا بالتقوى فإن الفرد مشتمل على الماهية بالضرورة وكل آت بالتقوى يجب أن يكون متقيا فالآتي بفرد يجب كونه متقيا، ولهذا قالوا: ظاهر الأمر لا يفيد التكرار فظاهر الآية يقتضي حصول الجنات والعيون لكل من اتقى عن ذنب واحد إلا أن الأمة مجمعة على أن التقوى عن الكفر شرط في حصول هذا الحكم، وأيضا هذه الآية وردت عقيب قول إبليس: * (إلا عبادك منهم المخلصين) * (الحجر: 40) وعقيب قوله تعالى: * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) * (الحجر: 42) فلذا اعتبر الإيمان في هذا الحكم فوجب أن لا يزاد فيه قيد آخر لأن تخصيص العام لما كان خلاف الظاهر، فكلما كان التخصيص أقل كان أوفق بمقتضى الأصل والظاهر فثبت أن الحكم المذكور يتناول جميع القائلين لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كانوا من أهل المعصية، وهذا تقرير بين وكلام ظاهر اه‍.
وقد يقال: لا شبهة في أن السياق يدل على أن المتقين هم المخلصون السابق ذكرهم وأن المطلق يحمل على الكامل والكامل ما أشار إليه الزمخشري ولا بأس بالحمل عليه وقيل إنه الأنسب.
وإخراج العصاة من النار ثابت بنصوص أخر، وكذا إدخال التائبين الجنة بل غيرهم أيضا فلا يلزم القائل بذلك القول بما عليه المعتزلة من تخليد أصحاب الكبائر كما لا يخفى، وأل للاستغراق وهو إما مجموعي فيكون لكل واحد من المتقين جنة وعين أو إفرادي فيكون لكل جنات وعيون، والمراد بالعيون يحتمل كما قيل أن يكون الأنهار المذكورة في قوله تعالى: * (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه) * (محمد: 15) الآية، ويحتمل أن يكون منابع مغايرة لتلك الأنهار وهو الظاهر، وهل كل من المتقين مختص بعيونه أو ليس مختصا بل تجري من بعض إلى بعض احتمالان فإنه يمكن أن يكون لكل واحد عين وينتفع بها من في معيته، ويمكن أن تجري العين من بعضهم إلى بعض لأنهم مطهرون عن الحقد والحسد، وضم العين من * (عيون) * هو الأصل وبه قرأ نافع. وأبو عمرو. وحفص. وهشام وقرأ الباقون بالعكس وهو لمناسبة الياء.
* (ادخلوها بسلام ءامنين) *
.
* (ادخلوها) * أمر لهم بالدخول من قبله تعالى، وهو بتقدير القول على أنه حال أي وقد قيل لهم ادخلوها، فلا يرد أنه بعد الحكم بأنهم في الجنة كيف يقال لهم ادخلوها، وجوز أن يقدر مقولا لهم ذلك والمقارنة عرفية لاتصالهما، وقيل: يقدر يقال لهم فيكون مستأنفا، ووجه ذكر هذا الأمر بعد الحكم السابق بأنهم لما ملكوا جنات كثيرة كانوا كلما خرجوا من جنة إلى أخرى قيل لهم ادخلوها إلى آخره، وهو إنما يجري على تقدير أن يكون لكل جنات وبغير ذلك مما فيه دخل. وقرأ الحسن * (ادخلوها) * على أنه ماض مبني للمفعول من باب الأفعال والهمزة فيه للقطع، وأصل القياس أن لا يكسر التنوين قبلها إلا أن الحسن كسره على أصل التقاء الساكنين إجراء لهمزة القطع مجرى همزة الوصل في الإسقاط. وقرأ يعقوب في رواية رويس كذلك إلا أنه ضم التنوين بإلقاء حركة همزة القطع عليه، وعنه * (أدخلوها) * بفتح الهمزة عليه وكسر الخاء على أنه أمر للملائكة بإدخالهم إياها، وفتح في هذه القراءة التنوين بإلقاء فتحة الهمزة عليه وعلى القراءة بصيغة
57

الماضي لا حاجة إلى تقدير القول، والفاعل عليها هو الله تعالى أي أدخلهم الله سبحانه إياها * (بسلام) * أي ملتبسين به أي سالمين أو مسلما عليكم وعلى الأول يراد سلامتهم من الآفة والزوال في الحال، ويراد بالأمن في قوله سبحانه: * (آمنين) * الأمن من طرو ذلك في الاستقبال فلا حاجة إلى تخصيص السلامة بما يكون جسمانيا والأمن بغيره.
* (ونزعنا ما فى صدورهم من غل إخوانا على سرر متق‍ابلين) *
.
* (ونزعنا ما في صدورهم من غل) * أي حقد، وأصله على ما قيل من الغلالة وهو ما يلبس بين الثوبين الشعار والدثار وتستعار للدرع كما يستعار الدرع لها، وقيل: قيل للحقد غل أخذا له من انغل في كذا وتغلل إذا دخل فيه، ومنه قيل للماء الجاري بين الشجر غلل، وقد يستعمل الغل فيما يضمر في القلب مما يذم كالحسد والحقد وغيرهما، وهذا النزع قيل في الدنيا، فقد أخرج ابن أبي حاتم. وابن عساكر عن كثير النوا قال: قلت لأبي جعفر إن فلانا حدثني عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أن هذه الآية نزلت في أبي بكر. وعمر. وعلي رضي الله تعالى عنهم * (ونزعنا ما في صدورهم من غل) * قال: والله إنها لفيهم أنزلت وفيمن تنزلا إلا فيهم؟ قلت: وأي غل هو؟ قال: غل الجاهلية إن بني تيم وبني عدي وبني هاشم كان بينهم في الجاهلية فلما أسلم هؤلاء القوم تحابوا فأخذت أبا بكر الخاصرة فجعل علي كرم الله تعالى وجهه يسخن يده فيكوي بها خاصرة أبي بكر رضي الله تعالى عنه فنزلت هذه الآية، ويشعر بذلك على ما قيل ما أخرجه سعيد بن منصور. وابن جرير. وابن المنذر. والحاكم. وغيرهم من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال لابن طلحة: إني لأرجو أن أكون أنا وأبوك من الذين قال الله تعالى: * (ونزعنا) * الآية فقال رجل من همذان: إن الله سبحانه أعدل من ذلك فصاح علي كرم الله تعالى وجهه عليه صيحة تداعى لها القصر، وقال: فمن إذن إن لم نكن نحن أولئك؟ وقيل: إن ذلك في الآخرة بعد دخول الجنة، فقد أخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم. وابن مردويه من طريق القاسم عن أبي أمامة قال: يدخل أهل الجنة الجنة على ما في صدورهم في الدنيا من الشحناء والضغائن حتى إذا تدانوا وتقابلوا على السر ونزع الله تعالى ما في صدورهم في الدنيا من غل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الكريم بن رشيد قال: ينتهي أهل الجنة إلى باب الجنة وهم يتلاحظون تلاحظ الفيران فإذا دخلوها نزع الله تعالى ما في صدورهم من الغل، وقيل: فيها قبل الدخول، فقد أخرج ابن أبي حاتم أيضا عن الحسن قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يحبس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعضهم من بعض ظلاماتهم في الدنيا ويدخلون الجنة وليس في قلوب بعضهم على بعض غل ".
وهذا ونحوه يؤيد ما قاله الإمام في المتقين، وقيل: معنى الآية طهر الله تعالى قلوبهم من أن يتحاسدوا على الدرجات في الجنة ونزع سبحانه منها كل غل وألقى فيها التواد والتحاب، والآية ظاهرة في وجود الغل في صدورهم قبل النزع فتأمل.
* (إخوانا) * حال من الضمير في * (في جنات) * وهي حال مترادفة أن جعل * (ادخلوها) * حالا من ذلك أيضا أو حال من فاعل * (ادخلوها) * وهي مقدرة إن كان النزع في الجنة أو من ضمير * (آمنين) * أو الضمير المضاف إليه في * (صدورهم) * وجاز لأن المضاف بعض من ذلك وهي حال مقدرة أيضا، ويقال نحو ذلك في قوله تعالى: * (على سرر متق‍ابلين) * ويجوز أن يكون صفتين - لإخوانا - أو حالين من الضمير المستتر فيه لأنه في معنى
58

المشتق أي متصافيين، ويجوز أن يكون * (متقابلين) * حالا من المستتر في * (على سرر) * سواء كان حالا أو صفة، وأبو حيان لا يرى جواز الحال من المضاف إليه إذا كان جزأه أو جزئه ويخصه فيما إذا كان المضاف مما يعمل في المضاف إليه الرفع أو النصب، وزعم أن جواز ذلك في الصورتين السابقتين مما تفرد به ابن مالك، ولم يقف على أنه نقله في فتاويه عن الأخفش. وجماعة وافقوه فيه، واختار كون * (إخوانا) * منصوبا على المدح؛ والسرر بضمتين جمع سرير وهو معروف وأخذه من السرور إذ كان ذلك لأولي النعمة، وإطلاقه على سرير الميت للتشبيه في الصورة وللتفاؤل بالسرور الذي يلحق الميت برجوعه إلى جوار الله عز وجل وخلاصه من سجنه المشا إليه بما جاء في بعض الآثار " الدنيا سجن المؤمن ". وكلب. وبعض بني تميم يفتحون الراء وكذا كل مضاعف فعيل، ويجمع أيضا على أسرة، وهي على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من ذهب مكللة باليواقيت والزبرجد والدر، وسعة كل كسعة ما بين صنعاء إلى الجابية. وفي كونهم على سرر إشارة إلى أنهم في رفعة وكرامة تامة.
وروي عن مجاهد أن الأسرة تدور بهم حيثما داروا فهم في جميع أحوالهم متقابلون لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض، فالتقابل التواجه وهو نقيض التدابر، ووصفهم بذلك إشارة إلى أنهم على أشرف أحوال الاجتماع.
وقيل: هو إشارة إلى أنهم يجتمعون ويتنادمون، وقيل: معنى * (متقابلين) * متساوين في التواصل والتزاور. وفي بعض الأخباء إن المؤمن في الجنة إذا أراد أن يلقى أخاه المؤمن سار كل واحد منهم إلى صاحبه فيلتقيان ويتحدثان.
* (لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين) *
.
* (لا يمسهم فيها) * أي في تلك الجنات * (نصب) * تعب ما إما بأن لا يكون لهم فيها ما يوجبه من السعي في تحصيل ما لا بد لهم منه لحصول كل ما يشتهونه من غير مزاولة عمل أصلا، وإما بأن لا يعتريهم ذلك وإن باشروا الحركات العنيفة لكمال قوتهم.
وفي بعض الآثار أن قوة الواحد منهم قوة أربعين رجلا من رجال الدنيا؛ والجملة استئناف نحوي أو بياني أو حال من الضمير في * (في جنات) * أو من الضمير في * (إخوانا) * أو من الضمير في * (متقابلين) * أو من الضمير في * (على سرر) * * (وما هم منها بمخرجين) * أي هم خالدون فيها. فالمراد استمرار النفي وذلك لأن إتمام النعمة بالخلود، وهذا متكرر مع * (آمنين) * إن أريد منه الأمن من زوالهم عن الجنة وانتقالهم منها، وارتكب ذلك للاعتناء والتأكيد وإن أريد به الأمن من زوال ما هم عليه من النعيم والسرور والصحة لا يتكرر، وبحث بعضهم في لزوم التكرار بأن الأمن من الشيء لا يستلزم عدم وقوعه كأمن الكفرة من مكر الله تعالى
مثلا وأنه يجوز أن يكون المراد زوال أنفسهم بالموت لا الزوال عن الجنة، وتعقب بأن الثاني في غاية البعد فإنه لا يقال للميت: إنه فيها وإن دفن بها كالأول فإن الله تعالى إذا بشرهم بالأمن منه كيف يتوهم عدم وقوعه.
* (نبىء عبادى أنى أنا الغفور الرحيم) *
.
* (نبىء عب‍ادي) * قيل: مطلقا، وقيل: الذين عبر عنهم بالمتقين أي أخبرهم * (أني أنا الغفور الرحيم) *.
* (وأن عذابى هو العذاب الاليم) *
.
* (وأن عذابي هو العذاب الأليم) * وهذا إجمال لما سبق من الوعد والوعيد وتأكيد له، و * (أنا) * إما مبتدأ أو تأكيد أو فصل، وهو إما مبتدأ أو فصل، وأن وما بعدها - قال أبو حيان: - ساد مسد مفعولي * (نبىء) * إن قلنا: إنها تعدت إلى ثلاثة ومسد واحد إن قلنا تعدت إلى اثنين، وفي ذكر المغفرة إشعار على ما قيل بأن ليس المراد بالمتقين من يتقي جميع الذنوب إذ لو أريد ذلك لم يكن لذكرها موقع، وقيل: إن ذكرها حينئذ لدفع توهم أن غير أولئك المتقين لا يكون في الجنة بأنه يدخلها وإن لم يتب لأنه تعالى الغفور الرحيم، وله وجه، وفي توصيف ذاته تعالى بالمغفرة والرحمة دون التعذيب حيث لم يقل سبحانه: وإني أنا المعذب المؤلم
59

ترجيح لجانب الوعد على الوعيد وإن كان الأليم على ما قال غير واحد في الحقيقة صفة العذاب، وكذا لا يضر في ذلك الإضافة إنها لا تقتضي حصول المضاف إليه بالفعل كما إذا قيل ضربي شديد فإنه يصح أن يراد منه ذاك شديد إذا وقع ويكفي في الإضافة أدنى ملابسة، ويقوى أمر الترجيح الإتيان بالوصفين بصيغتي المبالغة، وكذا ما أخرج ابن جرير. وابن مردويه من طريق عطاء بن أبي رباح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: اطلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الباب الذي منه بنو شيبة فقال: ألا أراكم تضحكون ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع إلينا القهقرى فقال: إني لما خرجت جاء جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إن الله تعالى يقول لم تقنط عبادي؟ * (نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم) * الآية، وتقديم الوعد أيضا يؤيد ذلك، وفيه إشارة إلى سبق الرحمة حسبما نطق به الخبر المشهور.
ومع ذلك كله في الآية ما تخشع منه القلوب، فقد أخرج عبد بن حميد. وجماعة عن قتادة أنه قال في الآية: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو يعلم العبد قدر عفو الله تعالى لما تورع من حرام ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه " وأخرج الشيخان. وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله سبحانه خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة فلو يعلم الكافر كل الذي عنده من رحمة لم ييأس من الرحمة ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله تعالى من العذاب لم يأمن من النار " ثم إنه تعالى لما ذكر الوعد والوعيد ذكر ما يحقق ذلك لما تضمنه من البشرى والإهلاك بقوله سبحانه:
* (ونبئهم عن ضيف إبراهيم) *
.
* (ونبئهم عن ضيف إبراهيم) * الخ، وقيل: إنه تفصيل لما تضمنته الآية السابقة منهما لا من الوعيد فقط كما قيل، والمراد بضيف إبراهيم الملائكة عليهم السلام الذين بشروه بالولد وبهلك قوم لوط عليه السلام، وإنما سموا ضيفا لأنهم في صورة من كان ينزل به عليه السلام من الأضياف وكان لا ينزل به أحد إلا أضافه، وكان لقصره عليه السلام أربعة أبوب من كل جهة باب لئلا يفوته أحد، ولذا كان يكنى أبا الضيفان، واختلف في عددهم كما تقدم، وهو في الأصل مصدر والأفصح أن لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث للمثنى والمجموع والمؤنث فلا حاجة إلى تكلف إضمار أي أصحاب ضيف كما قاله النحاس. وغيره، ولم يتعرض سبحانه لعنوان رسالتهم لأنهم لم يكونوا مرسلين إليه عليه السلام بل إلى قوم لوط عليه السلام كما يأتي إن شاء الله تعالى ذكره.
وقرأ أبو حيوة * (ونبيهم) * بإبدال الهمزة ياء.
* (إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون) *
.
* (إذ دخلوا عليه) * نصب على أنه مفعول بفعل محذوف معطوف على * (نبىء) * أي واذكر وقت دخولهم عليه أو ظرف - لضيف - بناء على أنه مصدر في الأصل، وجوز أبو البقاء كونه ظرفا له بناء على أنه مصدر الآن مضاف إلى المفعول حيث كان التقدير أصحاب ضيف حسبما سمعته عن النحاس. وغيره، وأن يكون ظرفا لخبر مضافا إلى * (ضيف) * أي خبر ضيف إبراهيم حين دخولهم عليه * (فقالوا) * عند ذلك: * (سلاما) * مقتطع من جملة محكية بالقول وليس منصوبا به أي سلمت سلاما من السلامة أو سلمنا سلاما من التحية، وقيل: هو نعت لمصدر محذوف تقديره فقالوا قولا سلاما * (قال إنا منكم وجلون) * أي خائفون فإن الوجل اضطراب النفس لتوقع مكروه، وقوله عليه السلام هذا كان - عند غير واحد - بعد أن قرب إليهم العجل الحنيذ فلم يأكلوا منه، وكان العادة أن الضيف إذا لم يأكل مما يقدم له ظنوا أنه لم يجىء بخير، وقيل: كان
60

عند ابتداء دخولهم حيث دخلوا عليه عليه الصلاة والسلام بغير إذن وفي وقت لا يطرق في مثله، وتعقب بأنه لو كان كذلك لأجابوا حينئذ بما أجابوا به ولم يكن عليه
السلام ليقرب إليهم الطعام، وأيضا قوله تعالى: * (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة) * ظاهر فيما تقدم؛ ولعل هذا التصريح كان بعد الإيجاس.
وقيل: يحتمل أن يكون القول هنا مجازا بأن يكون قد ظهرت عليه عليه الصلاة والسلام مخايل الخوف حتى صار كالقائل المصرح به، وإنما لم يذكر هنا تقريب الطعام اكتفاء بذكره في غير هذا الموضع كما لم يذكر رده عليه السلام السلام عليهم لذلك، وقد تقدم ما ينفعك هنا مفصلا في هود فتذكره.
* (قالوا لا توجل إنا نبشرك بغل‍ام عليم) *
.
* (قالوا لا توجل) * لا تخف وقرأ الحسن * (لا توجل) * بضم التاء مبنيا للمفعول من الإيجال، وقرىء * (لا تواجل) * من واجله بمعنى أوجله و * (لا تاجل) * بإبدال الواو ألفا كما قالوا تابة في توبة.
* (إنا نبشرك) * استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل فإن المبشر لا يكاد يحوم حول ساحته خوف ولا حزن كيف لا وهي بشارة ببقائه وبقاء أهله في عافية وسلامة زمانا طويلا.
* (بغلام) * هو إسحاق عليه السلام لأنه قد صرح به في موضع آخر، وقد جعل سبحانه البشارة هنا لإبراهيم وفي آية أخرى لامرأته ولكل وجهة، ولعلها هنا كونها أوفق بإنباء العرب عما وقع لجدهم الأعلى عليه السلام، ولعله سبحانه لم يتعرض ببشارة يعقوب اكتفاء بما ذكر في سورة هود، والتنوين للتعظيم أي بغلام عظيم القدر * (عليم) * ذي علم كثير، قيل: أريد بذلك الإشارة إلى أنه يكون نبيا فهو على حد قوله تعالى: * (وبشرناه بإسحاق نبيا) *.
* (قال أبشرتمونى على أن مسنى الكبر فبم تبشرون) *
.
* (قال أبشرتموني) * بذلك * (على أن مسني الكبر) * وأثر في والاستفهام للتعجب، و * (على) * بمعنى مع مثلها في قوله تعالى: * (وآتى المال على حبه) * (الحجر: 54) على أحد القولين في الضمير، والجار والمجرور في موضع الحال فيكون قد تعجب عليه السلام من بشارتهم إياه مع هذه الحال المنافية لذلك، ويجوز أن يكون الاستفهام للإنكار و * (على) * على ما سمعت بمعنى أنه لا ينبغي أن تكون البشارة مع الحال المذكورة. وزعم بعض المنتمين إلى أهل العلم أن الأولى جعل * (على) * بمعنى في مثلها في قوله تعالى: * (ودخل المدينة على حين غفلة) * (القصص: 15) وقوله سبحانه: * (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) * (البقرة: 102) لوجهين الاستغناء عن التقدير وكون المصاحبة لصدقها بأول المس لا تنافي البشارة، وهو لعمري ضرب من الهذيان كما لا يخفى على إنسان. ثم إنه عليه السلام زاد في ذلك فقال: * (فبم تبشرون) * أي فبأي أعجوبة تبشرون أو بأي شيء تبشرون فإن البشارة بما لا يقع عادة بشارة بغير شيء. وجوز أن تكون الباء للملابسة والاستفهام سؤال عن الوجه والطريقة أي تبشرون ملتبسين بأي طريقة ولا طريق لذلك في العادة.
وقرأ الأعرج * (بشرتمون) * بغير همزة الاستفهام، وابن محيصن * (الكبر) * بضم الكاف وسكون الباء.
وقرأ ابن كثير بكسر النون مشددة بدون ياء على إدغام نون الجمع في نون الوقاية والاكتفاء بالكسرة عن الياء.
وقرأ نافع بكسر النون مخففة، واعترض على ذلك أبو حاتم بأن مثله لا يكون إلا في الشعر وهو مما لا يلتفت إليه، وخرج على حذف نون الرفع كما هو مذهب سيبويه استثقالا لاجتماع المثلين ودلالة بإبقاء نون الوقاية على الياء. وقيل: حذفت نون الوقاية وكسرت نون الرفع وحذفت الياء اجتزاء بالكسرة وحذفها كذلك كثير فصيح وقد قرىء به في مواضع عديدة، ورجح الأول بقلة المؤنة واحتمال عدم حذف نون في هذه القراءة بأن يكون اكتفى بكسر نوع الرفع من أول الأمر خلاف المنقول في كتب النحو والتصريف وإن ذهب إليه بعضهم.
61

وقرأ الحسن كابن كثير إلا أنه أثبت الياء وباقي السبعة يقرؤون بفتح النون وهي نون الرفع.
* (قالوا بشرن‍اك بالحق فلا تكن من الق‍انطين) *
.
* (قالوا بشرناك بالحق) * أي بالأمر المحقق لا محالة أو باليقين الذي لا لبس فيه أو بطريقة هي حق، وهو أمر من له الأمر القادر على خلق الولد من غير أبوين فكيف بإياده من شيخ وعجوز * (فلا تكن من القانطين) * أي الآيسين من خرق العادة لك فإن ظهور الخوارق على يد الأنبياء عليهم السلام كثير حتى لا يعد بالنسبة إليهم مخالفا للعادة، وكأن مقصده عليه السلام استعظام نعمته تعالى عليه في ضمن التعجب العادي المبني على سنة الله تعالى المسلوكة فيما بين عباده جل وعلا لا استبعاد ذلك بالنسبة إلى قدرته جل جلاله، فإنه عليه السلام بل النبي مطلقا أجل قدرا من ذلك، وينبىء عنه قول الملائكة عليهم السلام: * (فلا تكن من القانطين) * على ما فيه من المبالغة دون أن يقولوا: من الممترين ونحوه.
* (قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضآلون) *
.
* (قال ومن يقنط) * استفهام إنكاري أي لا يقنط * (من رحمة ربه إلا الضالون) * أي الكفرة المخطئون طريق معرفة الله تعالى فلا يعرفون سعة رحمته وكمال علمه وقدرته سبحانه وتعالى، وهذا كقول ولده يعقوب: * (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) * (يوسف: 87) ومراده عليه السلام نفي القنوط عن نفسه بأبلغ
وجه أي ليس بي قنوط من رحمته تعالى وإنما الذي أقول لبيان منافاة حالي لفيضان تلك النعمة الجليلة علي، وفي التعرض لعنوان الربوبية والرحمة ما لا يخفى من الجزالة.
وقرأ ابن وثاب. وطلحة والأعمش. وأبو عمرو في رواية * (القنطين) * والنحويان. والأعمش * (يقنط) * بكسر النون، وباقي السبعة بفتحها، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما. والأشهب بضمها، وهو شاذ وماضيه مثله في التثليث. واستدل بالآية على تفسير * (الضالين) * بما سمعت لما سمعت من الآية على أن القنوط وهو - كما قال الراغب: - اليأس من الخير كفر، والمسألة خلافية، والشافعية على أن ذاك وكذا الأمن من المكر من الكبائر " للحديث الموقوف على ابن مسعود أو المرفوع من الكبائر الإشراك بالله تعالى واليأس من روح الله تعالى والأمن من مكر الله تعالى " وقال الكمال بن أبي شريف: العطف على الإشراك بمعنى مطلق الكفر يقتضي المغايرة فإن أريد باليأس إنكار سعة الرحمة الذنوب وبالأمن اعتقاد أنه لا مكر فكل منهما كفر اتفاقا لأنه رد للقرآن العظيم، وإن أريد استعظام الذنوب واستبعاد العفو عنها استبعادا يدخل في حد اليأس وغلبة الرجاء المدخل له في حد الأمن فهو كبيرة اتفاقا اه‍ وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر.
* (قال فما خطبكم أيها المرسلون) *
.
* (قال فما خطبكم) * أي أمركم وشأنكم الخطير الذي لأجله أرسلتم سوى البشارة * (أيها المرسلون) * لعله عليه السلام علم أن كمال المقصود ليس البشارة من مقالة لهم في أثناء المحاورة مطوية هنا، وتوسيط * (قال) * بين كلاميه عليه السلام مشيرا إلى أن هناك ما طوى ذكره، وخطابه لهم عليهم السلام بعنوان الرسالة بعد ما كان خطابه السابق مجردا عن ذلك مع تصديره بالفاء ظاهر في أن مقالتهم المطوية كانت متضمنة ما فهم منه ذلك فلا حاجة إلى الالتجاء إلى أن علمه عليه السلام بأن كل المقصود ليس البشارة بسبب أنهم كانوا ذوي عدد والبشارة لا تحتاج إلى عدد ولذلك اكتفى بواحد في زكريا ومريم عليهما السلام ولا إلى أنهم بشروه في تضاعيف الحال لإزالة الوجل ولو كانت تمام المقصود لابتدأوا بها على أن فيما ذكر بحثا فقد قيل: إن التعذيب كالبشارة لا يحتاج أيضا إلى العدد؛ ألا يرى أن جبريل عليه السلام قلب مدائنهم بأحد جناحيه، وأيضا يرد على قوله: ولذلك اكتفى الخ
62

أن زكريا عليه السلام لم يكتف في بشارته بواحد كما يدل عليه قوله تعالى: * (فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى) * (آل عمران: 39) وأما مريم عليها السلام فإنما جاءها الواحد لنفخ الروح والهبة كما يدل عليه قوله: * (لأهب لك غلاما زكيا) * (مريم: 19) وقوله تعالى: * (فنفخنا فيه من روحنا) * وأما التبشير فلازم لتلك الهبة وفي ضمنها وليست مقصودة بالذات، وأيضا يخدش قوله: ولو كانت تمام المقصود لابتدأوا بها ما في قصة مريم عليها السلام قالت: * (إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا) *.
فيجوز أن يكون قولهم: * (لا توجل) * تمهيدا للبشارة. وأجيب عن هذا بأنه لا ورود له لأن مريم عليها السلام لنزاهة شأنها أول ما أبصرته متمثلا عاجلته بالاستعاذة فلم تدعه يبتدىء بالبشارة بخلاف ما نحن فيه، وعما تقدم بأن المعنى إن العادة الجارية بين الناس ذلك فيرسل الواحد للبشارة والجمع لغيرها من حرب وأخذ ونحو ذلك والله تعالى يجري الأمور للناس على ما اعتادوه فلا يرد قصة جبريل عليه السلام في ذلك وإن قيل: المراد بالملائكة في تلك الآية جبريل عليه السلام كقولهم فلان يركب الخيل ويلبس الثياب أي الجنس الصادق بالواحد من ذلك قاله بعض المحققين، وتعقب ما تقدم من كون العلم من كلام وقع في أثناء المحاورة وطوي ذكره بأنه بعيد وتوسيط * (قال) * والفاء والخطاب بعنوان الرسالة لا يقربه، أما الأول فلجواز أن يكون لما أن هناك انتقالا إلى بحث آخر ومثله كثير في الكلام، وأما الثاني فلجواز أن تكون فصيحة على معنى إذا تحقق هذا فأخبروني ما أمركم الذي جئتم له سوى البشرى؟، وأما الثالث فلجواز أن يقال: إنه عليه السلام لم يعلم بأنهم ملائكة مرسلون من الله تعالى إلا بعد البشارة ولم يكن يحسن خطابهم بذلك عند الإنكار أو التعجب من بشارتهم، وكذا لا يحسن في الجواب كما لا يخفى على أرباب الأذواق السليمة بل قد يقال: إنه لا يحسن أيضا عند قوله: * (إنا منكم وجلون) * (الحجر: 52) على تقدير أن يكون علم عليه السلام ذلك قبل البشارة لما أن المقام هناك ضيق من أن يطال فيه الكلام بنحو ذلك الخطاب فتدبر.
* (قالوا إنآ أرسلنآ إلى قوم مجرمين) *
.
* (قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين) * هم قوم لوط عليه السلام، وجىء بهم بطريق التنكير ووصفوا بالإجرام استهانة بهم وذما لهم.
* (إلا ءال لوط إنا لمنجوهم أجمعين) *
.
* (إلا آل لوط) * قال الزمخشري: يجوز أن يكون استثناء من قوم بملاحظة الصفة فيكون الاستثناء منقطعا لأنهم ليسوا قوما مجرمين، واحتمال التغليب مع هذه الملاحظة ليتصل الاستثناء ليس مما يقتضيه المقام، ولو سلم فغير ضار فيما ذكر لأنه مبني على الحقيقة ولا ينافي صحة الاتصال على تقدير آخر، ويجوز أن يكون استثناء من الضمير المستتر في * (مجرمين) * فيكون الاستثناء متصلا لرجوع الضمير إلى القوم فقط فيكون الآل على الأول مخرجين من حكم الإرسال المراد به إرسال خاص وهو ما كان للإهلاك لا مطلق البعث لاقتضاء المعنى له، وقوله تعالى: * (إنا لمنجوهم أجمعين) * خبر الأبناء على ما سمعت سابقا، وعن الرضى أن المستثنى المنقطع منتصب عند سيبويه بما قبل إلا من الكلام كما انتصب المتصل به وإن كانت إلا بمعنى لكن وأما المتأخرون من البصريين فلما رأوها بمعنى لكن قالوا إنها
الناصبة بنفسها نصب لكن للأسماء وخبرها في الأغلب محذوف نحو جاءني القوم إلا حمارا أي لكن حمارا لم يجىء قالوا وقد يجىء خبرها ظاهرا نحو قوله تعالى: * (الا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم) * (يونس: 98) وقال الكوفيون إلا في ذلك بمعنى سوى والنصب بعدها في الانفصال كالنصب في الاتصال، وتأويل البصريين أولى لأن المستثنى المنقطع يلزم مخالفته لما قبله نفيا وإثباتا كما في لكن وفي سوى لا يلزم ذلك لأنك تقول: لي عليك ديناران
63

سوى الدينار الفلاني وذلك إذا كان صفة، وأيضا معنى لكن الاستدراك، والمراد به فيها دفع توهم المخاطب دخول ما بعدها في حكم ما قبلها مع أنه ليس بداخل وهذا هو معنى الاستثناء المنقطع بعينه انتهى، وزعم بعضهم أن في كون إلا الاستثنائية تعمل عمل لكن خفاء من جهة العربية وقال: إنه في المعنى خبر وليس خبرا حقيقيا كما صرح به النحاة، ومما نقلناه يعلم ما فيه من النظر. نعم صرح الزمخشري بأن الجملة على تقدير الانقطاع جارية مجرى خبر لكن وهو ظاهر في أنها ليست خبرا في الحقيقة وذكر أنه إنما قال ذلك لأن الخبر محذوف أي لكن آل لوط ما أرسلنا إليهم والمذكور دليله لتلازمهما ولذا لم يجعله نفس الخبر بل جار مجراه، وفيه غفلة عن كونه مبنيا على ما نقل عن سيبويه، وزعم بعض أنه قال ذلك لأن الجملة المصدرة بأن يمتنع أن تكون خبرا للكن فليراجع، وقيل: قال ذلك لأن المذكور إلا لا لكن وهو كما ترى، وعلى تقدير الاتصال يكون الآل مخرجين من حكم المستثنى منه وهو الإجرام داخلين في حكم الإرسال بمعنى البعث مطلقا فيكون الملائكة قد أرسلوا إليهم جميعا ليهلكوا هؤلاء وينجوا هؤلاء، وجملة * (إنا لمنجوهم) * على هذا مستأنفة استئنافا بيانا كأن إبراهيم عليه السلام قال لهم حين قالوا: * (إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين * إلا آل لوط) * فما حال آل لوط؛ فقالوا: * (إنا لمنجوهم) * (الحجر: 58، 59) الخ [بم وقوله سبحانه:
* (إلا امرأته قدرنآ إنها لمن الغ‍ابرين) *
.
* (إلا امرأته) * على التقديرين عند جار الله مستثنى من الضمير المجرور في لمنجوهم ولم يجوز أن يكون من الاستثناء من الاستثناء في شيء قال: لأن ذلك إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه كقول المطلق أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة والمقر لفلان على عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهما، وههنا قد اختلف الحكمان لأن آل لوط متعلق بأرسلنا أو بمجرمين و * (إلا امرأته) * تعلق - بمنجوهم - فأنى يكون استثناء من استثناء انتهى. وقد يتوهم أن الإرسال إذا كان بمعنى الإهلاك فلا اختلاف إذ التقدير إلا آل لوط لم نهلكهم فهو بمعنى منجوهم فيكون من الاستثناء من الاستثناء على أحد التقديرين. وأجاب عن ذلك صاحب التقريب بأن شرط الاستثناء المذكور أن لا يتخلل لفظ بين الاستثنائين متعدد يصلح أن يكون مستثنى منه وههنا قد تخلل * (منجوهم) * ولو قيل إلا آل لوط إلا امرأته لجاز ذلك؛ وتعقب بأنه لا يدفع الشبهة لأن السبب حينئذ في امتناعه وجود الفاصل لا اختلاف الحكمين فلا وجه للتعبير به عنه، وفي " الكشف " المراد من اتحاد الحكم اتحاده شخصا وعددا فلا يرد أن الإرسال إذا كان بمعنى الإهلاك كان قوله سبحانه: * (إنا لمنجوهم) * وقوله تعالى: * (إلا آل لوط) * في معنى واحد فالاستثناء من الأول في المعنى، وإنما شرط الاتحاد لأن المتصل كاسمه لا يجوز تخلل جملة بين العصا ولحائها وكذلك في المنقطع وبه يتضح حال ما تقدم أتم اتضاح، وفيه أيضا، فإن قلت: لم لا يرجع الاستثناء إليهما؟ قلت: لأن الاستثناء متعلق بالجملة المستقلة والخلاف في رجوعه إلى الجملتين فصاعدا لا إلى جملة، وبعض جملة سابقة، هذا والمعنى مختلف في ذلك ومحل الخلاف الجمل المتعاطفة لا المنقطع بعضها عن بعض انتهى، والأمر كما ذكر في تعيين محل الخلاف، والمسألة قل من تعرض لها من النحاة وفيها مذاهب. الأول وهو الأصح وعليه ابن مالك أن الاستثناء يعود للكل إلا أن يقوم دليل على إرادة البعض كما في قوله تعالى: * (والذين يرمون أزواجهن) * الآية فإن * (إلا الذين) * فيه عائد إلى فسقهم وعدم قبول شهادتهم معا لا إلى الجلد للدليل، ولا يضر اختلاف العامل لأن ذلك مبني على أن إلا هي العاملة. الثاني أنه يعود للكل إن سيق الكل لغرض واحد نحو حبست داري على أعمامي ووقفت بستاني على أخوالي وسبلت سقايتي لجيراني إلا أن يسافروا وإلا فللا خيرة فقط نحو أكرم
64

العلماء واحتبس دارك على أقاربك وأعتق عبيدك إلا الفسقة منهم. الثالث: إن كان العطف بالواو عاد للكل أو بالفاء أو ثم عاد للأخيرة وعليه ابن الحاجب، الرابع: أنه خاض بالأخيرة واختاره أبو حيان. الخامس: إن اتحد العامل فللكل أو اختلف فللأخيرة إذ لا يمكن حمل المختلفات في مستثنى واحد وعليه البهاباذى، وهو مبني على أن عامل المستثنى الأفعال السابقة دون إلا، هذا ويوهم كلام بعضهم أنه لوجعل الاستثناء من * (آل لوط) * لزم أن تكون امرأته غير مهلكة أو غير مجرمة وهو توهم فاحش لأن الاستثناء من * (آل لوط) * إن قلنا به بملاحظة الحكم عليهم بالانجاء وعدم الإهلاك أو بعدم الإجرام والصلاح فتكون الإمرأة محكوما عليه بالإهلاك أو الإجرام. ويرشدك إلى هذا ما ذكره الرضى فيما إذا تعدد الاستثناء وأمكن استثناء كل تال من متلوه نحو جاءني المكيون إلا قريشا إلا بني هاشم إلا بني عقيل حيث قال: لا يجوز في الموجب حينئذ في كل وتر إلا النصب على الاستثناء لأنه عن موجب، والقياس أن يجوز في كل شفع الإبدال والنصب على الاستثناء لأنه عن غير موجب والمستثنى منه مذكور، والكلام في وتر وشفع غير الموجب على عكس هذا، وهو مبني على ما ذهب إليه الجمهور من أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي خلافا للكسائي حيث قال: إن المستثنى مسكوت عن نفي الحكم عنه أو ثبوته له، ولا دلالة في الكلام على شيء من ذلك، واستفادة الإثبات في كلمة التوحيد من عرف الشرع، وكما وقع الخلاف في هذه المسألة بين النحويين وقع بين الأئمة المجتهدين وتحقيق ذلك في محله. واختار ابن المنير كون * (إلا آل لوط) * مستثنى من * (قوم مجرمين) * على أنه منقطع قال: وهو أولى وأمكن لأن في استثنائهم من الضمير العائد على قوم منكرين بعدا من حيث أن موقع الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل المستثنى في حكم الأول، وهنا الدخول متعذر مع التنكير ولذلك قلما تجد النكرة يستثنى منها إلا في سياق نفي لأنها حينئذ تعم فيتحقق الدخول لولا الاستثناء، ومن ثمة لم يحسن رأيت قوما إلا زيدا وحسن ما رأيت أحدا إلا زيدا انتهى.
ورد بأن هذا ليس نظير رأيت قوما إلا زيدا بل من قبيل رأيت قوما أساءوا إلا زيدا فالوصف يعينهم ويجعلهم كالمحصورين، قال في " همع الهوامع ": ولا يستثنى من
النكرة في الموجب ما لم تفد فلا يقال: جاء قوم إلا ءجلا ولا قام رجال إلا زيدا لعدم الفائدة، فإن أفاد جاز نحو * (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) * (العنكبوت: 14) وقام رجال كانوا في دارك إلا رجلا، على أن المراد بالقوم أهل القرية كما صرح به في آية أخرى فهم معنى محصورون، ونقل المدقق عن السكاكي أنه صرح في آخر بخث الاستدلال من كتابه بأن الاستثناء من جمع غير محصور جائز على المجاز، مع أن بعض الأصوليين أيضا جوزوا الاستثناء من النكرة في الإيجاب وأطلقوا القول في ذلك. نعم المصرح به في كثير من كتبا النحو نحو ما في " الهمع ".
وزعم بعضهم أنه ينبغي أن يكون الاستثناء من الظاهر والضمير منقطعا، وعلل ذلك بأن الضمير في الصفة هو عين الموصوف المقيد بالصفة، وذكر الجلال السيوطي أن بعض الفضلاء رفع هذا مع عدة أسئلة نثرا ونظما إلى الكمال بن الهمام ولم يذكر أنه أجاب عنها، والجواب عما زعمه هنا قد مرت إليه الإشارة، وأما الجواب عن سائر ما استشكلوه وسئل عنه الكمال فيغني عنه الإطلاع على السؤال فإنه مما يتعجب منه، ومن هنا قال الشهاب: أظن أن ابن الهمام إنما سكت عن جواب ذلك لوضوح اندفاعه وأنه لا ينبغي أن يصدر عمن تحلى بحلية الفضل، نعم بعد كل حساب الذي ينساق إلى الذهن أن الاستثناء من الظاهر لكن الرضى أنه إذا اجتمع شيآن فصاعدا يصلحان لأن يستثني منهما فهناك تفصيل فاما أن يتغايرا معنى أولا فإن تغايرا وأمكن اشتراكهما في
65

ذلك الاستثناء بلا بعد اشتركا فيه نحو ما برأب وابن الأزيدا أي زيد أب بار وابن بار، فإن لم يمكن الاشتراك نحو ما فضل ابن أبا إلا زيدا أو كان بعيدا نحوما ضرب أحد أحدا إلا زيدا فإن الأغلب مغايرة الفاعل للمفعول نظرنا فإن تعين دخول المستثنى في أحدهما دون الآخر فهو استثناء منه وليه أولا نحو ما فدى وصي نبينا إلا عليا كرم الله تعالى وجهه، وإن احتمل دخوله في كل واحد منهما فإن تأخر عنهما المستثنى فهو من الأخير نحو ما فضل ابن أبا إلا زيدا وكذا ما فضل أبا ابن إلا زيد لأن اختصاصه بالأقرب أولى لما تعذر رجوعه إليهما، وإن تقدمهما معا فإن كان أحدهما مرفوعا لفظا أو معنى فالاستثناء منه لأن مرتبته بعد الفعل فكأن الاستثناء وليه بعده نحو ما فضل إلا زيدا أبا ابن أو من ابن، وإن لم يكن أحدهما مرفوعا فالأول أولى به لقربه نحو ما فضلت إلا زيدا واحدا على أحد ويقدر للأخير عامل، وإن توسطهما فالمتقدم أحق به لأن أصل المستثنى تأخره عن المستثنى منه نحو ما فضل أبا إلا زيد ابن ويقدر أيضا للأخير عامل، وإن لم يتغايرا معنى اشتركا فيه، وإن اختلف العاملان فيهما نحو ما ضرب أحد وما قتل إلا خالدا لأن فاعل قتل ضمير أحد انتهى.
وجزم ابن مالك فيما إذا تقدم شيآن مثلا يصلح كل منهما للاستثناء منه بأن الاستثناء من الأخير وأطلق القول في ذلك فليتأمل ذاك مع ما نحن فيه، وقال القاضي البيضاوي: إنه على الانقطاع يجوز أن يجعل * (إلا امرأته مستثنى من * (آل لوط) * أو من ضمير * (منجوهم) * وعلى الاتصال يتعين الثاني لاختلاف الحكمين اللهم إلا إذا جعلت جملة * (أنا لمنجوهم) * معترضة انتهى، ومخالفته لما نقل عن الزمخشري ظاهرة حيث جوز الاستثناء من المستثنى في الانقطاع ومنعه الزمخشي مطلقا، وحيث جعل اختلاف الحكمين في الاتصال وأثبته الزمخشري مطلقا أيضا وبين اختلاف الحكمين بنحو ما بين به في كلام الزمخشري، ولم يرتض ذلك مولانا سري الدين وقال: المراد بالحكمين الحكم المفاد بطريق استثناء الثاني من الأول وهو على تقدير الاتصال إجرام الامرأة والحكم المقصود بالإفادة وهو الحكم عليها بالإهلاك وبين إتحاد هذا الحكم المقصود مع الحكم المفاد بالاستثناء على تقدير الانقطاع بأنه على ذلك التقدير تكون إلا بمعنى لكن و * (إنا لمنجوهم) * خبرا له ثابتا للآل فيكون الحكم الحاصل من الاستثناء منه بعينه هو الحكم المقصود بالإفادة ويقال على تقدير الاتصال والاعتراض: إن الحكمين وإن اختلفا ظاهرا إلا أنه لما كانت الجملة المعترضة كالبيان لما يقتضيه الاستثناء الأول كان في المعنى كأنه هو وصار الإخراج منه كالإخراج منه، وخذا بخلاف ما إذا كان استئنافا فإنه يكون منقطعا عنه ويكون جوابا لسؤال مقدر ولا يتم الجواب بدون الاستثناء ولا يخلو عن الاعتراض. وقال بعضهم في توجيه الاستثناء على هذا: إن هناك حكمين الإجرام والانجاء فيجر الثاني الاستثناء إلى نفسه كيلا يلزم الفصل إلا إذا جعل اعتراضا فإن فيه سعة حتى يتخلل بين الصفة وموصوفها فيجوز أن يكون استثناء من * (آل لوط) * ولذا جوز الرضى أن يقال: أكرم القوم والنحاة بصريون إلا زيدا، ويرد عليه أن كون الحكم المفاد بالاستثناء غير الحكم المقصود بالإفادة باقيا بحاله ولا يحتاج الأمر إلى ما سمعت وهو كما سمعت، والذي ينساق إلى الذهن ما ذكره الزمخشري. وفي " الحواشي الشهابية " أنه الحق دراية ورواية. أما الأول: فلأن الحكم المقصود بالإخراج منه هو الحكم المخرج منه الأول والثاني حكم طارىء من تأويل إلا بلكن وهو أمر تقديري، وأما الثاني: فلما ذكر في التسهيل من أنه تعدد الاستثناء فالحكم المخرج منه حكم الأول، ومما يدل عليه أنه لو كان الاستثناء مفرغا في هذه الصورة كما إذا قلت: لم يبق في الدار إلا اليعافير أبقاها الزمان إلا يعفور صيد منها فإنه يتعين إعرابه بحسب العامل الأول كقولك:
66

ما عندي إلا عشرة إلا ثلاثة، ثم أنه كلامه مبني على أمر ومانع معنوي لا على عدم جواز تخلل كلام منقطع بين المستثنى والمستثنى منه كما قيل وأن كان مانعا أيضا كما صرح به الرضى فتدبر انتهى، فافهم ذاك والله سبحانه يتولى هداك. وقرأ الأخوان * (لمنجوهم) * بالتخفيف.
* (قدرنا إنها لمن الغابرين) * أي الباقين في عداب الله تعالى كما أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أو الباقي مع الكفرة لتهلك معهم، وأصله من الغبرة وهي بقية اللبن في الضرع، وقرأ أبو بكر عن عاصم * (قدرنا) * بالتخفيف، وكسرت همزة * (أن) * لتعليق الفعل بوجود لام الإبتداء التي لها صدر الكلام، وعلق مع أن التعليق في المشهور من خواص أفعال القلوب - قال الزمخشري: - لتضمن فعل التقدير معنى العلم، ولذلك فسره العلماء تقدير الله تعالى أفعال العباد بالعلم، والمراد بتضمنه ذلك قيل المعنى المصطلح، وقيل: التجوز عن معناه الذي كأنه في ضمنه لأنه لا يقدر إلا ما يعلم ذكره المدقق توجيها لكلام الزمخشري، ثم قال: وليس ذلك من باب تضمين الفعل معنى فعل آخر في شيء حتء يعترض بأنه لا ينفع الزمخشري لبقاء معنى الفعلين. نعم هو على أصلهم من أنه كناية معلوم محقق لا مقدار مراد، وقال القاضي: جاز أن يقال: أجرى مجرى القول لأن التقدير بمعنى القضاء قول، وأما أنا فلا أنكر على جار الله أن التعليق لتضمن معنى العلم وإنما أنكر نفي كونه مقدورا مرادا
انتهى، وإنما أنكره لأنه اهعتزال تأباه الظواهر، ومن هنا قال إبراهيم النخعي فيما أخرجه عنه ابن أبي حاتم: بيني وبين القدرية هذه الآية وتلاها.
والظاهر أن هذا من كلام الملائكة عليهم السلام وإنما أسندوا ذلك إلى أنفسهم وهو فعل الله سبحانه لما لهم من الزلفى والاختصاص، وهذا كما يقول حاشية السلطان أمرنا ورسمنا بكذا والآمر هو في الحقيقة، وقيل: ولا يخفى بعده هو من كلام الله تعالى فلا يحتاج إلى تأويل وقيل: وكذا لا يحتاج إليه إذا كان المراد بالتقدير العلم مجازا.
* (فلما جآء ءال لوط المرسلون) *.
* (فلما جاء ءال لوط المرسلون) * شروع في بيان إهلاك المجرمين وتنجية آل لوط، ووضع الظاهر موضع الضمير للإيذان بأن مجيئهم لتحقيق ما أرسلوا به من ذلك، وليس المراد به ابتداء مجيئهم بل مطلق كينونتهم عند آل لوط فإن ما حكى عنه عليه السلام
* (قال إنكم قوم منكرون) *
.
إنما قاله عليه السلام بعد اللتيا والتي حين ضاقت عليه الحيل وعيت به العلل ولم يشاهد من المرسلين عند مقاساة الشدائد ومعاناة المكائد من قومه الذي يريدون بهم ما يريدون ماهو المعهود والمعتاد من الإعانة والإمداد فيما يأتي ويذر عند تجشمه في تخليصهم إنكارا لخذلانهم وتركهم نصره في مثل المضايقة المعترية له بسببهم حيث لم يكونوا عليهم السلام مباشرين معه لأسباب المدافعة والممانعة حتى ألجأته إلى أن قال: * (لو أن لي بكم قوة أو آمى إلى ركن شديد) * (هود: 80) حسبما فصل في سورة هود لا أنه عليه السلام قاله عند ابتداء ورودهم له على معنى أنكم قوم تنكركم نفسي وتنفر منكم فأخاف أن تطرقوني بشركما قيل، كيف لا وهم بجوابهم المحكى
* (قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون) *
.
أي بالعذاب الذي كنت تتوعدهم به فيمترون ويشكون ويكذبونك فيه، قد قشروا العصا وبينوا له عليه السلام جلية الأمر فأنى يعتريه بعد ذلك المساءة وضيق الذرع قاله العلامة أبو السعود وهو كلام معقول. وجعل * (بل) * إضرابا عما حسبه عليه السلام من ترك النصرة له والمعنى
67

ما خذلناك وما خلينا بينك وبينهم بل جئناك بما يدمرهم من العذاب الذي كانوا يكذبونك فيه حين تتوعدهم به.
وجعله غير واحد بعد أن فسر قوله عليه السلام: بما سمعت إضرابا عن موجب الخوف المذكور على معنى ما جئناك بما تنكرنا لأجله بل جئناك بما فيه فرحك وسرورك وتشفيك من عدوك وهو العذاب الذي كنت تتوعدهم به ويكذبونك، ولم يقولوا - بعذابهم - مع حصول الغرض ليتضمن الكلام الاستئناس من وجهين تحقق عذابهم وتحقق صدقه عليه السلام ففيه تذكير لما كان يكابد منهم من التكذيب، قيل: وقد كنى عليه السلام عن خوفه ونفاره بأنهم منكرون فقابلوه عليه السلام بكناية أحسن وأحسن، ولا يمتنع فيما أرى حمل الكلام على الكناية على ما نقلناه عن العلامة أيضا، ولعل تقديم هذه المقاولة على ما جرى بينه وبين أهل المدينة من المجادلة - كما قال - للمسارعة إلى ذكر بشارة لوط عليه السلام بإهلاك قومه المجرمين وتنجية آله عقيب ذكر بشارة إبراهيم عليه السلام بهما، وحيث كان ذلك مستدعيا لبيان كيفية النجاة وترتيب مباديها أشير إلى ذلك إجمالا ثم ذكر فعل القوم وما فعل بهم، ولم يبال بتغيير الترتيب الوقوعي ثقة بمراعاته في موضع آخر، ونسبة المجيء بالعذاب إليه عليه السلام مع أنه نازل بالقوم بطريق تفويض أمره إليه كأنهم جاؤه به وفوضوا أمره إليه ليرسله عليهم حسبما كان يتوعدهم به فالباء للتعدية، وجوز أن تكون للملابسة، وجوز الوجهان في الباء [بم في قوله سبحانه:
* (وآتين‍اك بالحق وإنا لص‍ادقون) *
.
* (وأتين‍اك بالحق) * أي بالأمر المحقق المتيقن الذي لا مجال للامتراء والشك فيه وهو عذابهم، عبر عنه بذلك تنصيصا على نفي الامتراء عنه، وجوز أن يراد * (بالحق) * الاخبار بمجيء العذاب المذكور.
وقوله تعالى: * (وإنا لصادقون) * تأكيدا له أي أتيناك فيما قلنا بالخبر الحق أي المطابق للواقع وإنا لصادقون في ذلك الخبر أو في كل خبر فيكون كالدليل على صدقهم فيه، وعلى الأول: تأكيدا إثر تأكيدا، ومن الناس من جوز كون الباء للملابسة وجعل الجار والمجرور في موضع الحال من ضمير المفعول، ولا يخفى حاله.
* (فأسر بأهلك بقطع من اليل واتبع أدب‍ارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون) *
.
* (فأسر بأهلك) * شروع في ترتيب مبادىء النجاة أي اذهب بهم في الليل. وقرأ الحجازيان بالوصل على أنه من سرى لا من أسرى كما في قراءة الجمهور وهما بمعنى على ما ذهب إليه أبو عبيدة وهوس ير الليل، وقال الليث: يقال: أسرى في السير أول الليل وسرى في السير آخره، وروى صاحب الإقليد * (فسر) * من سار وحكاها ابن عطية و " صاحب اللوامح " عن اليماني وهو عام، وقيل: إنه مختص في السير بالنهار وليس مقلوبا من سرى.
* (بقطع من الليل) * بطائفة منه أو من آخره، ومن ذلك قوله: افتحي الباب وانظري في النجوم * كم علينا من قطع ليل بهيم
وقيل: هو بعد ما مضى منه شيء صالح، وفي الكلام تأكيد أو تجريد على قراءة الجماعة على ما قيل، وعلى قراءة * (سر) * لا شيء من ذلك، وسيأتي لهذا تتمة إن شاء الله تعالى. وحكى منذر بن سعيد أن فرقة قرأت * (بقطع) * بفتح الطاء.
* (واتبع أدبارهم) * وكن على أثرهم تذودهم وتسرع بهم وتطلع على أوالهم، ولعل إيثار الاتباع على السوق مع أنه المقصود بالأمر كما قيل للمبالغة في ذلك إذ السوق ربما يكون بالتقدم على بعض مع التأخر عن بعض ويلزمه عادة الغفلة عن حال المتأخر، والالتفات المنهي عنه بقوله تعالى: * (ولا يلتفت منكم) * أي منك
68

ومنهم * (أحد) * فيرى ما وراءه من الهول ما لا يطيقه أو فيصيبه العذاب فالالتفات على ظاهره، وجوز أن يكون المعنى لا ينصرف أحدكم ولا يتخلف لغرض فيصيبه ما يصيب المجرمين فالالتفات مجاز لأن الالتفات إلى الشيء يقتضي محبته وعدم مفارقته فيتخلف عنده، وذكر جار الله أنه لما بعث الله تعالى الهلاك على قومه ونجاه وأهله إجابة لدعوته عليهم وخرج مهاجرا لم يكن له بد من الاجتهاد في شكر الله تعالى وإدامة ذكره وتفريغ باله لذلك فأمر بأن يقدمهم لئلا يشتغل بمن خلفه قلبه وليكون مطلعا عليهم وعلى أحوالهم فلا تفرط منهم التفاتة احتشاما منه ولا غيرها من الهفوات في تلك الحالة المهولة المحذورة ولئلا يتخلف أحد منهم لغرض يصيبه العذاب وليكون مسيره مسير الهارب الذي يقدم سربه ويفوت به، ونهوا عن الالتفات لئلا يروا ما ينزل بقومهم فيرقوا لهم وليوطنوا نفوسهم على المهاجرة ويطيبوها عن مساكنهم ويمضوا قدما غير ملتفتين إلى ما وراءهم كالذي يتحسر على مفارقة وطنه فلا يزال يلوي له أخادعه كما قال: تلفت نحو الحي حتى وجدتني * وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا
أو جعل النهي عن الالتفات كناية عن مواصلة السير وترك التواني والتوقف لأن من يلتفت لا بد له في ذلك من أدنى وقفة اه‍. قال المدقق: وخلاصة ذلك أن فائدة الأمر والنهي أن يهاجر عليه الصلاة والسلام على وجه يمكنه وأهله التشمر لذكر الله تعالى والتجرد لشكره وفيه مع ذلك إرشاد إلى ما هو أدخل فيالحزم للسير وأدب المسافرة وما على الأمير والمأمور فيها وتنبيه على كيفية السفر الحقيقية وأنه أحق بقطع العوائق وتقديم العلائق وأحق وإشارة إلى أن الإقبال بالكلية على الله تعالى إخلاص فلله تعالى در التنزيل ولطائفه التي لا تحصى اه‍، وأنت تعلم أن كون الفائدة المهاجرة على وجه يمكن معه التشمر لذكر الله تعالى والتجرد لشكره غير متبادر كما لا يخفى، ولعله لذلك تركه بعض مختصري كتابه وإنما لم يستثن سبحانه إلامرأة عن الإسراء أو الالتفات اكتفاء بما ذكر في موضع آخر وليس نحو ذلك بدعا في التنزيل * (وامضوا حيث تؤمرون) * قيل: أي إلى حيث يأمركم الله تعالى بالمضي إليه وهو الشام على ما روى عن ابن عباس. والسدي، وقيل: مصر وقيل: الأردن وقيل: موضع نجاة غير معين فعدى * (امضوا) * إلى * (حيث) * وتؤمرون إلى الضمير المحذوف على الاتساع.
واعترض بأن هذا مسلم في تعدية تؤمرون إلى حيث فإن صلته وهي الباء محذوفة إذ الأصل تؤمرون به أي بمضيه فأوصل بنفسه، وأما تعدية * (امضوا) * إلى حيث فلا اتساع فيها بل هي على الأصل لكونه من الظروف المبهمة إلا أن يجعل ما ذكر تغليبا، وأجيب بأن تعلق * (حيث) * بالفعل هنا ليس تعلق الظرفية ليتجه تعدي الفعل إليه بنفسه لكونه من الظروف المبهمة فإنه مفعول به غير صريح نحو سرت إلى الكوفة، وقد نص النحاة على أنه قد يتصرف فيه فالمحذوف ليس في بل إلى فلا إشكال اه‍، والمذكور في كتب العربية أن الأصل في حيث أن تكون ظرف مكان وترد للزمان قليلا عند الأخفش كقوله: للفتى عقل يعيش به * حيث تهدي ساقه قدمه
أراد حين تهدي، ولا تستعمل غالبا إلا ظرفا وندر جرها بالباء في قوله: كان منا بحيث يفكي الإزار
وبإلى في قوله: إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم
وبفي في قوله:
فأصبح في حيث التقينا شريدهم * طليق ومكتوف اليدين ومرعف
69

وقال ابن مالك: تصرفها نادر، ومن وقوعها مجردة عن الظرفية قوله:
إن حيث استقر من أنت راعيه * حمى فيه عزة وأمان
فحيث اسم إن، وقال أبو حيان: إنه غلط لأن كونها اسم إن فرع عن كونها تكون مبتدأ ولم يسمع في ذلك البتة بل اسم إن في البيت - حمى - و - حيث - الخبر لأنه ظرف، والصحيح أنها لا تتصرف فلا تكون فاعلا ولا مفعولا به ولا مبتدأ اه‍، ونقل ابن هشام وقوعها مفعولا به عن الفارسي، وخرج عليه قوله تعالى: * (الله أعلم حيث يجعل رسالته) * وذكر أنها قد تخفض بمن وبغيرها وأنها لا تقع اسما لأن خلافا لابن ماكل، وزعم الزجاج أنها اسم موصول، ومما ذكرنا يظهر حال التصرف فيها، واعترض ما ذكره المجيب بأنه وإن رفع به إشكال التعدي لكنه غير صحيح لأنهم قد صرحوا بأن الجمل المضاف إليها لا يعود منها ضمير إلى المضاف، قال نجم الأئمة: اعلم أن الظرف المضاف إلى الجملة لما كان ظرفا للمصدر الذي تضمنته الجملة لم يجز أن يعود من الجملة ضمير إليه فلا يقال: يوم قدم زيد فيه لأن الربط الذي يطلب حصوله حصل بإضافة الظرف إلى الجملة وجعله ظرفا لمضمونها فيكون كأنك قلت: يوم قدوم زيد فيه اه‍، و * (حيث) * على ما ذكروا تلزم في الغالب الإضافة إلى الجملة وكونها فعلية أكثر وإضافتها إلى مفرد قليلة نحو:
بيض المواضي حيث لي العمائم
وحيث سهيل طالعا، ولا يقاس على ذلك عند غير الكسائي، وأقل من ذلك عدم إضافتها لفظا بأن تضاف إلى محذوفة معوضا عنها ما كقوله: إذا ريدة من حيث ما نفحت له
أي من حيث هبت وهي هنا مضافة للجملة بعدها فكيف يقدر الضمير في * (يؤمرون) * عائدا عليها، وقد نص بعضهم على أن * (حيث) * لا يصح عود الضمير عليها والذي في " البحر " أنها ظرف مكان مبهم تعدى إليها * (امضوا) * بنفسه كما تقول: قعدت حيث قعد زيد، والظاهر أن تعلق الفعل بها كما قال المجيب ليس تعلق الظرفية فلعل ذلك مبني على تضمين فعل صالح لأن يتعلق به الظرف المذكور كالحلول والتوطن وغيرهما.
ونقل عن بعضهم القول بأن * (حيث) * هنا ظرف زمان أي امضوا حين أمرتم، والمراد بهذا الأمر ما سبق من قوله تعالى: * (فأسر بأهلك بقطع من الليل) * ورد بأن الظاهر على هذا أمرتم دون * (تؤمرون) * مع أن فيه استعمال * (حيث) * في أقل معنييها ورودا من غير موجب، وظاهر كلام بعض الأجلة أن المضارع مستعمل في مقام الماضي على المعنى الذي أشير إليه أولا وهو يقتضي تقدم أمر بالمضي إلى مكان فإن كان فصيغة المضارع لاستحضار الصورة، وإيثار المضي إلى ذلك على ما قيل دون الوصول إليه واللحوق به للإيذان بأهمية النجاة ولمراعاة لمناسبة بينه وبين ما سلف من الغابرين.
* (وقضينآ إليه ذلك الامر أن دابر ه‍اؤلآء مقطوع مصبحين) *
.
* (وقضينا) * أي أوحينا * (إليه ذلك الأمر) * مقضيا مثبتا فقضى مضمن معنى أوحى ولذا عدى تعديته، وجعل المضمن حالا كما أشرنا إليه أحد الوجهين المشهورين في التضمين وذلك مبهم يفسره * (أن دابر هؤلاء مقطوع) * على أنه بدل منه كما قال الأخفش، وجوز أبو البقاء كونه بدلا من الأمر إذا جعل بيانا لذلك لا بدلا، وعن الفراء أن ذاك على إسقاط الباء أي بأن دابر الخ، ولعل المشار إليه بذلك الأمر عليه الأمر الذي تضمنه قوله تعالى: * (وامضوا حيث تؤمرون) * والباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال أي أوحينا ذلك الأمر المتعلق بنجاته ونجاة آله ملابسا لبيان حال قومه المجرمين من قطع دابرهم، وهو حسن إلا أنه لا يخلو عن بعد، وقرأ زيد بن علي، والأعمش رحمهم الله تعالى * (إن) * بكسر الهمزة وخرج على الاستئناف البياني كأنه قيل: ما ذلك الأمر؟ فقيل في جوابه: إن دابر الخ أو على البدلية بناء على أن في
70

الوحي معنى القول، قيل: ويؤيده قراءة عبد الله * (وقلنا إن دابر) * الخ وهي قراءة تفسير لا قرآن لمخالفتها لسواد المصحف، والدابر الآخر وليس المراد قطع آخرهم بل استئصالهم حتى لا يبقى منهم أحد * (مصبحين) * أي داخلين في الصباح فإن الأفعال يكون للدخول في الشيء نحو أتهم وأنجد، وهو من أصبح التامة حال من * (هؤلاء) * وجاز بناء على أن المضاف بعضه، وقد قيل: بجواز مجيء الحال من المضاف إليه فيما كان المضاف كذلك، وليس العامل معنى الإضافة خلافا لبعضهم، وكونه اسم الإشارة توهم لأن الحال لم يقل أحد إن صاحبها يعمل فيها، واختار أبو حيان كونه حالا من الضمير المستكن في * (مقطوع) * الراجع إلى * (دابر) * وجاز ذلك مع الاختلاف إفرادا وجمعا رعاية للمعنى لأن ذلك في معنى دابري هؤلاء فيتفق الحال وصاحبها جمعية.
وقدر الفراء. وأبو عبيد إذا كانوا مصبحين كما تقول: أنت راكبا أحسن منك ماشيا. وتعقب بأنه إن كان تقدير معنى فصحيح وإن كان بيان إعراب فلا ضرورة تدعو إلى ذلك كما لا يخفى.
* (وجآء أهل المدينة يستبشرون) *
.
* (وجاء أهل المدينة) * شروع في حكاية ما صدر من القوم عند وقوفهم على مكان الأضياف من الفعل وما ترتب عليه مما أشير إليه أولا على سبيل الإجمال، وهذا مقدم وقوعا على العلم بهلاكهم كما سمعت والواو لا تدل على الترتيب، وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون هذا بعد العلم بذلك وما صدر منه عليه السلام من المحاورة معهم كان على جهة التكتم عنهم والإملاء لهم والتربص بهم، ولا يخفى أن كون المساءة وضيق الذرع من باب التكتم والإملاء أيضا مما يأبى عنه الطبع السليم، والمراد بالمدينة سذوم وبأهلها أولئك القوم المجرمون، ولعل التعبير عنهم بذلك للإشارة إلى كثرتهم مع ما فيه من الإشارة إلى مزيد فظاعة فعلهم، فإن اللائق بأهل المدينة أن يكرموا الغرباء الواردين على مدينتهم ويحسنوا المعاملة معهم فهم عدلوا عن هذا اللائق مع من حسبوهم غرباء واردين إلى قصد الفاحشة التي ما سبقهم بها أحد من العالمين وجاءوا منزل لوط عليه السلام * (يستبشرون) * مستبشرين مسرورين إذ قيل لهم: إن عنده عليه السلام ضيوفا مردا في غاية الحسن والجمال فطمعوا قاتلهم الله تعالى فيهم:
* (قال إن ه‍اؤلآء ضيفى فلا تفضحون) *
.
* (قال إن هؤلاء ضيفى) * الضيف كما قدمنا في الأصل مصدر ضافه فيطلق على الواحد والجمع ولذا صح جعله خبرا - لهؤلاء -، وإطلاقه على الملائكة عليهم السلام بحسب اعتقاده عليه السلام لكونهم في زي الضيف، وقيل: بحسب اعتقادهم لذلك، والتأكيد ليس لإنكارهم ذلك بل لتحقيق اتصالهم به وإظهار اعتنائه بهم عليه السلام وتشميره لمراعاة حقوقهم وحمايتهم عن السوء، ولذلك قال: * (فلا تفضحون) * أي عندهم بأن تتعرضوا لهم بسوء فيعلموا أنه ليس لي عندكم قدر أو لا تفضحوني بفضيحة ضيفي فإن من أسيء إلى ضيفه فقد أسيء إليه، يقال: فضحته فضحا وفضيحة إذا أظهر من أمره ما يلزمه به العار، ويقال: فضح الصبح إذا تبين للناس.
* (واتقوا الله ولا تخزون) *
.
* (ولا تخزون) * أي لا تذلوني ولا تهينوني بالتعرض بالسوء لمن أجرتهم فهو من الخزي بمعنى الذل، والهوان، وحيث كان التعرض لهم بعد أن نهاهم عنه بقوله: * (فلا تفضحون) * أكثر تأثيرا في جانتبه عليه السلام وأجلب
71

للعار إليه إذ التعرض للجار قبل العلم ربما يتسامح فيه وأما بعد العلم والمناصبة بحمايته والذب عنه فذاك أعظم العار، عبر عليه السلام عما يعتريه من جهتهم بعد النهي المذكور بسبب لجاجهم ومجاهرتهم بمخالفته بالخزي وأمرهم بتقوى الله تعالى في ذلك، وجوز أن يكون ذلك من الخزاية وهي الحياء أي لا تجعلوني استحيي من الناس بتعرضكم لهم بالسوء، واستظهر بعضهم الأول، وإنما لم يصرح عليه السلام بالنهي عن نفس تلك الفاحشة قيل: لأنه كان يعرف أنه لا يفيدهم ذلك، وقيل: رعاية لمزيد الأدب مع ضيفه حيث لم يصرح بما يثقل على سمعهم وتنفر عنه طباعهم ويرى الحر الموت ألذ طعما منه، وقال بعض الأجلة: المراد باتقوا الله أمرهم بتقواه سبحانه عن ارتكاب الفاحشة. وتعقب بأنه لا يساعد ذلك توسيطه بين النهيين المتعلقين بنفسه عليه السلام [بم وكذلك قوله تعالى:
* (قالوا أولم ننهك عن الع‍المين) *
.
* (قالوا أو لم ننهك عن الع‍المين) * أي عن إجارة أحد منهم وحيلولتك بيننا وبينه أو عن ضيافة أحد منهم، والهمزة للإنكار والواو على ما قال غير واحد للعطف على مقدر أي ألم نتقدم إليك ولم ننهك عن ذلك فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد من الغرباء بالسوء وكان عليه السلام ينهاهم عن ذلك بقدر وسعه ويحول بينهم وبين من يعرضون له وكانوا قد نهوه عن تعاطي مثل ذلك فأنهم قالوا: ما ذكرت من الفضيحة والخزي إنما جاءك من قبلك لا من قبلناإذ لولا تعرضك لما تتصدى له لما اعتراك، ولما رآهم لا يقلعون عماهم عليه * (قال هؤلاء بناتي) * يعني نساء القوم أو بناته حقيقة. وقد تقدم الكلام في ذلك، واسم الإشارة مبتدأ و * (بناتي) * خبره، وفي الكلام حذف أي فتزوجوهن، وجوز أن يكون * (بناتي) * بدلا أو بيانا والخبر محذوف أي أطهر لكم كما في الآية الأخرى، وأن يكون * (هؤلاء) * في موضع نصب بفعل محذوف أي تزوجوا بناتي، والمتبادر الأول.
* (قال ه‍اؤلآء بناتى إن كنتم فاعلين * لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون) *
.
* (إن كنتم فاعلين) * شك في قبولهم لقوله فكأنه قال: إن فعلتم ما أقول لكم وما أظنكم تفعلون، وقيل: إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فيما أحل الله تعالى دون ما حرم، والوجه الأول كما في " الكشف " أوجه. وفي الحواشي الشهابية: أنه أنسب بالشك، ويفهم صنيع بعضهم ترجيح الثاني قيل لتبادره من الفعل، وعلى الوجهين المفعول مقدر، وجوز تنزيل الوصف منزلة اللازم، وجواب الشرط محذوف أي فهو خير لكم أو فاقضوا ذلك * (لعمرك) * قسم من الله تعالى بعمر نبينا صلى الله عليه وسلم ما عليه جمهور المفسرين.
وأخرج البيهقي في الدلائل. وأبو نعيم. وابن مردويه. وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: ما خلق الله تعالى وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم وما سمعت الله سبحانه أقسم بحياة أحد غيره قال تعالى: * (لعمرك) * الخ، وقيل: هو قسم من الملائكة عليهم السلام بعمر لوط عليه السلام، وهو مع مخالفته للمأثور محتاج لتقدير القول أي قالت الملائكة للوط عليهم السلام: * (لعمرك) * الخ، وهو خلاف الأصل وإن كان سياق القصة شاهدا له وقرينة عليه، فلا يرد ما قاله " صاحب الفرائد " من أنه تقدي من غير ضرورة ولو ارتكب مثله لأمكن إخراج كل نص عن معناه بتقدير شيء فيرتفع الوثوق بمعاني النص، وأيا ما كان - فعمرك - مبتدأ محذوف الخبر وجوبا أي قسمي أو يميني أو نحو ذلك، والعمر بالفتح والضم البقاء والحياة إلا أنهم التزموا الفتح في القسم لكثرة دوره فناسب التخفيف وإذا دخلته اللام التزم فيه الفتح وحذف الخبر في القسم، وبدون اللام يجوز فيه النصب والرفع وهو صريح، وهو مصدر مضاف للفاعل أو المفعول، وسمع فيه دخول الباء وذكر الخبر
72

قليلا، وذكر أنه إذا تجرد من اللام لا يتعين للقسم، ونقل ذلك عن الجوهري، وقال ابن يعيش: لا يستعمل إلا فيه أيضا وجاء شاذار عملي وعدوه من القلب، وقال أبو الهيثم: معنى * (لعمرك) * لدينك الذي تعمل ويفسر بالعبادة، وأنشد:
أيها المنكح الثريا سهيلا * عمرك الله كيف يلتقيان
أراد عبادتك الله تعالى فإنه يقال - على ما نقل عن ابن الأعرابي - عمرت ربي أي عبدته، وفلان عامر لربه أي عابد، وتركت فلانا يعمر ربه أي يعبده وعهو غريب. وفي البيت توجيهات فقال سيبويه فيه: الأصل عمرتك الله تعالى تعميرا فحذف الزوائد من المصدر وأقيم مقام الفعل مضافا إلى مفعوله الأول، ومعنى عمرتك أعطيتك عمرا بأن سألت الله تعالى أن يعمرك فلما ضمن عمر معنى السؤال تعدى إلى المفعول الثاني - أعني الاسم الجليل - فهو على هذا منصوب، وأجاز الأخفش رفعه ليكون فاعلا أي عمرك الله سبحانه تعميرا، وجوز الرضى أن يكون - عمرك - فيه منصوبا على المفعول به لفعل محذوف أي أسأل الله تعالى عمرك وأسأل متعد إلى مفعولين، أو يكون المعنى أسألك بحق تعميرك الله تعالى أي اعتقادك بقاءه وأبديته تعالى فيكون انتصابه بحذف حرف القسم نحو الله لا فعلن، وهو مصدر محذوف الزوائد مضاف إلى الفاعل والاسم الجليل مفعول به له، ولا بأس بإضافة - عمر - إليه تعالى، وقد جاء مضافا كذلك قال الشاعر: إذا رضيت على بنو قشير * لعمر الله أعجبني رضاها
وقال الأعشى: ولعمر من جعل الشهور علامة * منها تبين نقصها وكمالها
وزعم بعضهم أنه لا يجوز أن يقال: لعمر الله تعالى لأنه سبحانه أزلى أبدى، وكأنه توهم أن العمر لا يقال إلا فيما له انقطاع وليس كذلك، وجاء في كلامهم إضافته لضمير المتكلم، قال النابغة: لعمري وما عمري على بهين
وكره النخعي ذلك لأنه حلف بحياة المقسم، ولا أعرف وجه التخصيص فإن في * (لعمرك) * خطابا بالشخص حلفا بحيلة المخاطب وحكم الحلف بغير الله تعالى مقرر على أتم وجه في محله.
وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما و * (عمرك) * بدون لام * (إنهم لفي سكرتهم) * أي لفى غوايتهم أو شدة غلمتهم التي أزالت عقولهم وتمييزهم بين خطئهم والصواب الذي يشار به إليهم * (يعمهون) * يتحيرون فكيف يسمعون النصح، وأصل العمة عمى البصيرة وهو مورث للحيرة وبهذا الاعتبار فسر بذلك، والضمائر لأهل المديسنة، والتعبير بالمضارع بناء على المأثور في الخطاب لحكاية الحال الماضية، وقيل: ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الضمائر لقريش، واستبعده ابن عطية وغيره لعدم مناسبة السباق والسياق، ومن هنا قيل: الجملة اعتراض وجملة * (يعمهون) * حال من الضمير في الجار والمجرور، وجوز أن تكون حالا من الضمير المجرور في * (سكرتهم) * والعامل السكرة أو معنى الإضافة، ولا يخفاك حاله، وقرأ الأشهب * (سكرتهم) * بضم السين، وابن أبي عبلة * (سكراتهم) * بالجمع، والأعمش * (سكرهم) * بغير تاء، وأبو عمر وفي رواية الجهضمي * (أنهم) * بفتح الهمزة، وقال أبو البقاء: وذلك على تقدير زيادة اللام، ومثله قراءة سعيد بن جبير * (إلا انهم ليأكلون الطعام) * (المؤمنون: 33) بالفتح بناء على أن لام الابتداء إنما تصحب إن المكسورة الهمزة وكأن التقدير على هذه القراءة لعمرك قسمي على أنهم فافهم.
73

* (فأخذتهم الصيحة مشرقين) *
. * (فأخذتهم الصيحة) * يعني صيحة هائلة، والتعريف للجنس، وقيل: صيحة جبريل عليه السلام فالتعريف للعهد؛ وقال الإمام: ليس في الآية دلالة على هذا التعيين فإن ثبت بدليل قوي قيل به.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال في الآية: الصيحة مثل الصاعقة فكل شيء أهلك به قوم فهو صاعقة وصيحة * (مشرقين) * داخلين في وقت شروق الشمس، قال المدقق: والجمع بين - مصبحين ومشرقين - باعتبار الابتداء والانتهاء بأن يكون ابتداء العذاب عند الصبح وانتهاؤه عند الشروق؛ وأخذ الصيحة قهرها إياهم وتمكنها منهم، ومنه الأخيذ الأسير، ولك أن تقول: * (مقطوع) * بمعنى يقطع عما قريب انتهى، وقيل: * (مشرقين) * حال مقدرة.
* (فجعلنا ع‍اليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل) *
.
* (فجعلنا عاليها) * أي المدينة كما هو الظاهر. وجوز رجوعه إلى القرى وان لم يسبق ذكرها والمراد بعاليها وجه الأرض وما عليه وهو المفعول الأول لجعل و * (سافلها) * الثاني له، وقد تقدم الكلام في ذلك * (وأمطرنا عليهم) * في تضاعيف ذلك * (حجارة) * كائنة * (من سجيل) * من طين متحجر وهو في المشهور معرب سنك كل، وذهب أبو عبيد وطائفة إلى أنه عربي وأنه يقال فيه * (سجين) * بالنون واحتجوا بقول تميم بن مقبل: ضربا تواصى به الأبطال سجينا
وهو كما ترى. وسئل الأصمعي عن معناه في البيت فقال: لا أفسره إذ كنت أسمع وأنا حدث - سخينا - بالخاء المعجمة أي سخنا وسجين بالجيم أيضا، وقيل: هو مأخوذ من السجل وهو الكتاب أي من طين كتب عليه أسماؤهم أو كتب الله تعذيبهم به، وقد مر الكلام في ذلك أيضا.
* (إن فى ذلك لآي‍ات للمتوسمين) *
.
* (إن في ذالك) * أي فيما ذكر من القصة * (لآيات) * لعلامات يستدل بها على حقيقة الحق * (للمتوسمين) * قال ابن عباس: للناظرين، وقال جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما: للمتفرسين، وقال مجاهد: للمعتبرين، وقيل غير ذلك وهي معان متقاربة. وفي البحر التوسم تفعل من الوسم وهو العلامة التي يستدل بها على مطلوب، وقال ثعلب: التوسم النظر من القرن إلى القدم واستقصاء وجوه التعريف، قال الشاعر: أو كلما وردت عكاظ قبيلة * بعثوا إلى عريفهم يتوسم
وذكر أن أصله التثبت والتفكر مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة محماة في جلد البعير أو غيره، ويقال: توسمت فيه خيرا أي ظهرت علاماته لي منه، قال عبد الله بن رواحة في رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني توسمت فيك الخير أعرفه * والله يعلم أني ثابت البصر
والجار والمجرور في موضع الصفة * (لآيات) * أو متعلق به، وهذه الآية - على ما قال الجلال السيوطي - أصل في الفراسة، فقد أخرج الترمذي من حديث أبي سعيد مرفوعا " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى " ثم قرأ الآية وكان بعض المالكية يحكم بالفراسة في الأحكام جريا على طريق إياس بن معاوية.
* (وإنها لبسبيل مقيم) *
.
* (وإنها) * أي المدينة المهلكة وقيل القرى * (لبسبيل مقيم) * أي طريق ثابت يسلكه الناس ويرون آثارها وقيل: الضمير للآيات، وقيل: للحجارة، وقيل: للصيحة أي وإن الصيحة صد لمن يعمل عملهم لقوله تعالى: * (وما هي من الظالمين ببعيد) * (هود: 83) و * (مقيم) * قيل
* (إن فى ذلك لآية للمؤمنين) *
.
* (إن في ذالك) * أي فيما ذكر من المدينة أو القرى أو في كونها بمرأى من الناس يشاهدونها عند مرورهم عليها * (لآية) * عظيمة * (للمؤمنين) * بالله تعالى
ورسوله صلى الله عليه وسلم فانهم
74

الذين يعرفون ان سوء صنيعهم هو الذي ترك ديارهم بلاقع، واما غيرهم فيحملون ذلك على الاتفاق أو الأوضاع الفلكية، وافراد الآية بعد جمعها فيما سبق قيل لما أن المشاهد هاهنا بقية الآثار لاكل القصة كما فيما سلف، وقيل: للإشارة إلى أن المؤمنين يكفيهم آية واحدة.
* (وإن كان أصح‍ابالايكة لظ‍المين) *
.
* (وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين) * هم قوم شعيب عليه السلام؛ والايكة في الأصل الشجرة الملتفة واحدة الايك، قال الشاعر: تجلو بقادمتي حمامة ايكة * بردا اسف لقاتة بالأثمد
والمراد بها غبضة أي بقعة كثيفة الأشجار بناء على ما روي أن هؤلاء القوم كانوا يسكنون الغيضة وعامة شجرها الدوم - وقيل السدر - فبعث الله تعالى إليهم شعيبا فكذبوه فأهلكوا بما ستسمعه إن شاء الله تعالى، وقيل: بلدة كانوا يسكنونها، واطلاقها على ما ذكر إما بطريق النقل أو تسمية المحل باسم الحال فيه ثم غلب عليه حتى صار علماف، وأيد القول بالعملية أنه قرىء في الشعراء وص * (ليكة) * ممنوع الصرف، و * (إن) * عند البصريين هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف واللام هي الفارقة، وعند الفراء هي النافية ولا اسم لها واللام بمعنى الا، والمعول عليه الأول أي وأن الشأن كان أولئك القوم متجاوزين عن الحد.
* (فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين) *
.
* (فانتقمنا منهم) * جاز يناهم على جنايتهم السابقة بالعذاب؛ والضمير لاصحاب الأيكة.
وزعم الطبرسي أنه لهم ولقوم لوط وليس بذاك. روى غير واحد عن قتادة قال: ذكر لنا أنه جل شأنه سلط عليهم الحر سبعة أيام لا يظلهم منه ظل ولا يمنعهم منه شيء ثم بعث سبحانه عليهم سحابة فجعلوا يلتمسون الروح منها فبعث عليهم منها نارا فأكلتهم فهو عذاب يوم الظلة * (وإنهما) * أي محلى قوم لوط وقوم شعيب عليهما السلام وإلى ذلك ذهب الجمهور، وقيل: الضمير للأيكة ومدين، والثاني وإن لم يذكر هنا لكن ذكر الأول يدل عليه لارسال شعيب عليه الصلاة والسلام إلى أهلهما، فقد أخرج ابن عساكر وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله تعالى إليهما شعيبا عليه السلام " ولا يخلو عن بعد بل قيل: إن القول الأول كذلك أيضا لأن الأخبار عن مدينة قوم لوط عليه السلام بأنها * (لبإمام مبين) * أي لبطريق واضح يتكرر مع الأخبار عنها آنفا، بأنها لبسبيل مقيم على ما عليه أكثر المفسرين، وجمع غيرها معها في الأخبار لا يدفع التكرار بالنسبة إليها وكأنه لهذا قال بعضهم: الضمير يعود على لوط وشعيب عليهما السلام أي وانهما لبطريق من الحق واضح.
وقال الجبائي: الضمير لخبر هلاك قوم لوط وخبر هلاك قوم شعيب، والإمام اسم لما يؤتم به وقد سمي به الطريق واللوح المحفوظ ومطلق اللوح المعد للقراءة وزيج البناء ويراد به على هذا اللوح المحفوظ.
وقال مؤرج الإمام: الكتاب في لغة حمير، والأخبار عنهما بأنهما في اللوح المحفوظ إشارة إلى سبق حكمه تعالى بهلاك القومين لما علمه سبحانه من سوء أفعالهم.
* (ولقد كذب أصح‍ابالحجر المرسلين) *
. * (ولقد كذب أصح‍ابالحجر) * يعني ثمود * (المرسلين) * حين كذبوا رسولهم صالحا عليه السلام، فإن من كذب واحدا من رسل الله سبحانه فكأنما كذب الجميع لاتفاق كلمتهم على التوحيد والأصول التي لا تختلف باختلاف الأمم والأعصار، وقيل: المراد بالمرسلين صالح عليه السلام ومن معه من المؤمنين على التغليب وجعل الأتباع مرسلين كما قيل: الخبيبون لخبيب بن الزبير وأصحابه، وقال الشاعر: قدنى من نصر الخبيبين قدى
والقول بأنه نزل كل من الناقة وسقبها
75

منزلة رسول لأنه كالداعي لهم إلى اتباع صالح عليه السلام فجمع بهذا الاعتبار لا اعتبار له ألا فيما أرى.
والحجر واد بين الحجاز والشام كانوا بسكنونه، قال الراغب: يسمى ما أحيط به الحجارة حجرا وبه سمى حجر الكعبة وديار ثمود، وقد نهى صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله تعالى عنهم كما في صحيح البخاري وغيره عن الدخول على هؤلاء القوم إلا أن يكونوا باكين حذرا من أن يصيبهم مثل ما أصابهم.
وجاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن الناس عام غزوة تبوك استقوا من مياه الآبار التي كانت تشرب منها ثمود وعجنوا منها ونصبوا القدور باللحم فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم باهراق القدور وأن يعلفوا الإبل العجين وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت ترد الناقة.
* (وءاتين‍اهم ءاي‍اتنا فكانوا عنها معرضين) *
.
* (وءاتيناهم ءاياتنا) * من الناقة وسقبها وشربها ودرها.
وذكر بعضهم أن في الناقة خمس آيات خروجها من الصخرة. ودنوا نتاجها عند خروجها. وعظمها حتى لم تشبهها ناقة. وكثرة لبنها حتى يكفيهم جميعا، وقيل: كانت لنبيهم عليه السلام معجزات غير ما ذكر ولا يضرنا أنها لم تذكر على التفصيل، وهو على الإجمال ليس بشيء، وقيل: المراد بالآيات الأدلة العقلية المنصوبة لهم الدالة
عليه سبحانه المبتوتة في الأنفس والآفاق وفيه بعد، وقيل آيات الكتاب المنزل على نبيهم عليه السلام.
وأورد عليه أنه عليه السلام ليس له كتاب مأثور إلا أن يقال: الكتاب لا يلزم أن ينزل عليه حقيقة بل يكفى كونه معه مأمورا بالأخذ بما فيه ويكون ذلك في حكم نزوله عليه، وقد يقال: بتكرار النزول حقيقة ولا يخفي قوة الإيراد، وقيل: يجوز أن يراد بالآيات ما يشمل ما بلغهم من آيات الرسل عليهم السلام، ومتى صح أن يقال: أن تكذيب واحد منهم في حكم تكذيب الكل فلم لم يصح أن يقال: إن ما يأتي به واحد من الآيات كأنه أتى به الكل وفيه نظر، وبالجملة الظاهر هو التفسير الأول * (فكانوا عنها معرضين) * غير مقبلين على العمل بما تقتضيه، وتقديم المعمول لرعاية تناسب رؤوس الآي.
* (وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا ءامنين) *
.
* (وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا ءامنين) * من نزول العذاب بهم، وقيل: من الموت لاغترارهم بطول الأعمار، وقيل: من الانهدام ونقب اللصوص وتحزيب الأعداء لمزيد وثاقتها، وقال ابن عطية: أصح ما يظهر لي في ذلك انهم كانوا يأمنون عواقب الآخرة فكانوا لا يعملون بحسبها بل يعملون بحسب الأمن [بم وتفريع قوله تعالى:
* (فأخذتهم الصيحة مصبحين) *
.
* (فأخذتهم الصيحة مصبحين) * أظهر في تأييد الأول، ووقع في سورة الأعراف * (فاخذتهم الرجفة) * ووفق بينهما بان الصيحة تفضي إلى الرجفة أو هي مجاز عنها، واستشكل التقييد - بمصبحين - مع ما روى في ترتيب أحوالهم بعد أن أوعدهم عليه السلام بنزول العذاب من أنه لما كانت ضحوة اليوم الرابع تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالانطاع فاتتهم صيحة من السماء فتقطعت لها قلوبهم، فإن هذا يقتضي أن أخد الصيحة اياهم بعد الضحوة لا مصبحين. وأجيب بأنه ان صحت الرواية يحمل * (مصبحين) * على كون الصيحة في النهار دون الليل أو أطلق الصبح على زمان ممتد إلى الضحوة وقيل: يجمع بين الآية والخبر بنحو ما جمع به بين الآيتين آنفا، وفيه تأمل فتأمل.
* (فمآ أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) *
.
* (فما أغنى عنهم) * ولم يدفع عنهم ما نزل بهم * (ما كانوا يكسبون) * من نحت البيوت الوثيقة أو منه ومن جمع الأموال والعدد بل خروا جاثمين هلكى - فما - الأولى نافية وتحتمل الاستفهام و * (ما) * الثانية يحتمل أن تكون
76

مصدرية وأن تكون موصولة واستظهره أبو حيان والعائد عليه محذوف أي الذي كانوا يكسبونه.
وفي الإرشاد أن الفاء لترتيب عدم الإغناء الخاص بوقت نزول العذاب حسبما كانوا يرجونه لا عدم الاغناء المطلق فانه أمر مستمر، وفي الآية من التهكم بهم ما لا يخفى.
* (وما خلقنا السم‍اوات والارض وما بينهمآ إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل) *
.
* (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق) * أي الا خلقا متلبسا بالحق والحكمة بحيث لا يلائم استمرار الفساد واستقرار الشرور، وقد اقتضت الحكمة اهلاك أمثال هؤلاء دفعا لفسادهم وإرشادا لمن بقى إلى الصلاح * (وأن الساعة لآتية) * ولا بد فننتقم أيضا من أمثال هؤلاء، فالجملة الأولى إشارة إلى عذابهم الدنيوي والثانية إلى عقابهم الأخروي، وفي كلتا الجملتين من تسليته صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى مع تضمن الأولى الإشارة إلى وجه اهلاك أولئك بأنه أمر اقتضته الحكمة، وفي التفسير الكبير في وجه النظم انه تعالى لما ذكر اهلاك الكفار فكأنه قيل: كيف يليق ذلك بالرحيم؟ فأجاب سبحانه بأنه إنما خلقت الخلق ليكونوا مشتغلين بالعبادة والطاعة فإذا تركوها وأعرضوا عنها وجب في الحكمة إهلاكهم وتطهير الأرض.
وتعقبه المفسر بانه إنما يستقيم على قول المعتزلة، ثم ذكر وجها آخر ذلك وهو أن المقصود من هذه القصة تصبير النبي صلى الله عليه وسلم على سفاهة قومه فإنه عليه الصلاة والسلام إذا سمع أن الأمم السالفة كانوا يعاملون أنبياءهم عليهم السلام بمثل هذه المعاملات الفاسدة هان عليه عليه الصلاة والسلام تحمل سفاهة قومه، ثم إنه تعالى لما بين انزال العذاب على الأمم السالفة المكذبة قال له صلى الله عليه وسلم إن الساعة لآتية وان لله تعالى ينتقم لك فيها من أعدائك ويجازيك وإياهم على حسناتك وسيآتهم فإنه سبحانه ما خلق السموات والأرض وما بنيهما إلا بالعدل والإنصاف فكيف يليق بحكمته إهمال أمرك، وإلى جواز تفسير * (الحق) * بالعدل ذهب شيخ الإسلام وأشار إلى أن الباء للسببية وإن المعنى ما خلقنا ذلك إلا بسبب العدل والإنصاف يوم الجزاء على الأعمال، وذكر أنه ينبىء عن ذلك الجملة الثانية؛ ولعل جعل كل جملة إشارة إلى شيء حسبما أشرنا إليه أولى.
واستدل بالأولى بعض الأشاعرة على أن أفعال العباد مطلقا مخلوقة له تعالى لدخولها فيما بينهما، وزعم بعض المعتزلة الرد بها على القائلين بذلك لأن المعاصي من الأفعال باطلة فإذا كانت مخلوقة له سبحانه لكانت مخلوقة بالحق والباطل لا يكون مخلوقا بالحق، وهو كلام خال عن التحقيق * (فاصفح) * أي أعرض عن الكفرة
المكذبين * (الصفح الجميل) * وهو ما خلا عن عتاب على ما روي غير واحد عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وفسر الراغب * (الصفح) * نفسه بترك الترثيب وذكر انه أبلغ من العفو وفي أمره صلى الله عليه وسلم بذلك إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام قادر على الانتقام منهم فكأنه قيل: أعرض عنهم وتحمل أذيتهم ولا تعجل بالانتقام منهم وعاملهم معاملة الصفوح الحليم، وحاصل ذلك أمره صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم بخلق رضى وحلم وتأن بأن ينذرهم ويدعوهم إلى الله تعالى قبل القتال ثم يقاتلهم، وعلى هذا فالآية غير منسوخة، وعن ابن عباس. وقتادة. ومجاهد. والضحاك إنها منسوخة بآية السيف، وكأنهم ذهبوا إلى أن المراد بها مداراتهم وترك قتالهم، وآثار هذا الأخير العلامة الطيبي قال: ليكون خاتمة القصص جامعة للتسلي والأمر بالمداواة وتخلصا إلى مشرع آخر وهو قوله تعالى الآتي: * (ولقد) * إلى آخره ففيه حديث الأعراض عن
77

زهرة الحياة الدنيا وهو من أعظم أنواع الضر لكن ذكر في الكشف أن الذي يقتضيه النظم ان قوله تعالى: * (وما خلقنا السموات) * إلى آخره جمع بين حاشيتي مفصل الآيات البرهانية والامتنانية ملخص منها مع زيادة مبالغة من الحصر ليلقيه المحتج به إلى المعاندين ويتسلى به عن استهزاء الجاحدين وتمهيد لتطرية ذكر المقصود من كون الذكر كاملا في شأن الهداية وافيا بكل ما علق به من الغرض القائم له بحق الرعاية، ثم قال: ومنه يظهر أن الآية عطف على * (وما خلقنا) * الخ عطف الخاص على العام إشارة إلى أنه أتم النعم وأحق دليل وأحق ما يشتفي به عن الغليل وان من أوتيه لا يضره فقد شيء سواه ومن طلب الهوى في غيره ترك وهواه اه‍ فتدبر.
* (إن ربك هو الخل‍اق العليم) *
.
* (هو الخلاق) * لك ولهم ولسائر الأشياء على الأطلاق * (العليم) * بأحوالك وأحوالهم وبكل شيء فلا يخفى عليه جل شأنه شيء مما جرى بينك وبينهم فحقيق أن تكل الأمور إليه ليحكم بينكم أو هو الذي خلقكم وعلم تفاصيل أحوالكم وقد علم سبحانه ان الصفح الجميل اليوم أصلح إلى أن يكون السيف أصلح، فهو تعليل للأمر بالصفح على التقديرين على ما قيل، وقال بعض المدققين: إنه على الأخير تذييل للأمر المذكور وعلى الأول لقوله سبحانه: * (إن الساعة لآتية) * وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والجحدري والأعمش. ومالك بن دينار * (هو الخالق) * وكذا في مصحف أبي. وعثمان رضي الله تعالى عنهما وهو صالح للقليل والكثير و * (الخلاق) * مختص بالكثير و * (العليم) * أوفق به، وهو على ما قيل أنسب بما تقدم من قوله سبحانه: * (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق.
* (ولقد ءاتين‍اك سبعا من المثاني والقرءان العظيم) *
.
* (ولقد ءاتيناك سبعا) * أي سبع آيات وهي الفاتحة وروي ذلك عن عمر. وعلي. وابن عباس. وابن مسعود. وأبي جعفر. وأبي عبد الله. والحسن. ومجاهد. وأبي العالية والضحاك. وابن جبير. وقتادة رضي الله تعالى عنهم. وجاء ذلك مرفوعا أيضا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما، وقيل: سبع سور وهي الطول وروي ذلك أيضا عن عمر وابن عباس وابن مسعود وابن جبير ومجاهد وهي في رواية البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال وبراءة سورة واحدة، وفي أخرى عد براءة دون الأنفال السابعة، وفي أخرى عد، يونس دونهما، وفي أخرى عد الكهف، وقيل: السبع آل حم، وقيل: سبع صحف من الصحف النازلة على الأنبياء عليهم السلام، على معنى أنه عليه الصلاة والسلام أوتي ما يتضمن سبعا منها وإن لم يكن لفظها وهي الأسباع، وعن زياد بن أبي مريم هي أمور سبع الأمر والنهي والبشارة والإنذار وضرب الأمثال وتعداد النعم وأخبار الأمم، وأصح الأقوال الأول. وقد أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي ورفعوه، وقال أبو حيان: إنه لا ينبغي العدول عنه بل لا يجوز ذلك. وأورد على القول بأنها السبع الطول ان هذه السورة مكية وتلك السبع مدنية، وروي هذا عن الربيع، فقد أخرج البيهقي في الشعب وابن جرير وغيرهما أنه قيل له: إنهم يقولون: هي السبع الطول فقال: لقد أنزلت هذه الآية وما نزل من الطول شيء وأجيب بأن المراد بايتائها إنزالها إلى السماء الدنيا ولا فرق بين المدني والمكي فيها. واعترض بأن ظاهر * (آتيناك) * يأباه، وقيل: إنه تنزيل للمتوقع منزلة الواقع في الامتنان ومثله كثير * (من المثاني) * بيان للسبع وهو - على ما قال في موضع من الكشاف - جمع مثى بمعنى مردد ومكرر ويجوز أن يكون مثنى مفعل من التثنية بمعنى التكرير والإعادة كما في
78

تعالى: * (ثم ارجع البصر كرتين) * (الملك: 4) أي كرة بعد كرة ونحو قولهم لبيك وسعديك وأراد كما في الكشف أنه جمع لمعنى التكرير والإعادة كما ثنى لذلك لكن استعمال المثنى في هذا المعنى أكثر لأنه أول مراتب التكرار ويحتمل أن يريد ان مثنى بمعنى التكرير والإعادة كما أن صريح المثنى كذلك في نحو * (كرتين) * ثم جمع مبالغة وقوله من التثنية إيضاح للمعنى لأنه من الثنى بمعنى التثنية والأل أرجح نظرا إلى ظاهر اللفظ والثاني نطرا إلى الأصل وقال في موضع آخر: إنه من التثنية أو الثناء والواحدة مثناة أو مثنية بفتح الميم على ما في أكثر النسخ وإلا قيس على ما قال المدقق بحسب اللفظ أن ذلك مشتق من الثناء أو الثنى جميع مثنى مفعل منهما اما بمعنى المصدر جمع لما صير صفة أو بمعنى المكان في الأصل نقل إلى الوصف مبالغة نحو أرض مأسدة لأن محل الثناء يقع على سبيل المجاز على الثاني والمثنى عليه وكذلك محل الثنى ولا بعد في باب العدل أن يكون منقولا عنه لا مخترعا ابتداء، واطلاق ذلك على الفاتحة لأنها تكرر قراءتها في الصلاة وروى هذا عن الحسن وأبي عبد الله رحمهما الله تعالى وعن الزجاج لأنه تثنى بما يقرأ بعدها من القرآن وقيل ونسب إلى الحسن أيضا: لأنه نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة. وتعقب بأنها كانت مسماة بهذا الاسم قبل نزولها الثاني إذ السورة كما سمعت غير مرة مكية وقيل: لأن كثيرا من ألفاظها مكرر كالرحمن والرحيم وإياك والصراط وعليهم، وقيل: لاشتمالها على الثناء على الله تعالى والقولان كما ترى، وقيل ونسب إلى ابن عباس ومجاهد أن اطلاق المثاني على الفاتحة لأن الله سبحانه استثناها وادخرها لهذه الأمة فلم يعطها
لغيرهم، وروي هذا الادخار في غيرها أيضا وفي غيرها أن ذلك لأنه تكرر قراءته وألفاظه أو قصصه ومواعظه أو لما فيه من الثناء عليه تعالى بما هو أهله جل شأنه أو لأنه مثنى عليه بالبلاغة والإعجاز أو يثنى بذلك على المتكلم به، وعن أبي زيد البلخي أن اطلاق المثاني على ذلك لأنه يثنى أهل الشر عن شرهم فتأمل، وجوز أن يراد بالمثاني القرآن كله وأخرج ذلك ابن المنذر وغيره عن أبي مالك وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في توجيه اطلاقها عليه مع الاختلاف في الافراد والجمع، وأن يراد بها كتب الله تعالى كلها - فمن - للتبعيض وعلى الأول للبيان * (والقرآن العظيم) * بالنصب عطف على سبعا فإن أريد بها الآيات أو السور أو الأمور السبع التي رويت عن زياد فهو من عطف الكل على الجزء بأن يراد بالقرآن مجموع ما بين الدفتين أو من عطف العام على الخاص بأن يراد به المعنى المشترك لين الكل والبعض وفيه دلالة على امتياز الخاص حتى كأنه غيره كما في عكسه وإن أريد بها الاسباع فهو من عطف أحد الوصفين على الآخر كما في قوله: إلى الملك القرم وابن الهمام
البيت بناء على أن القرآن في نفسه الاسباع أي ولقد آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم، واختار بعض تفسير * (القرآن العظيم) * كالسبع المثاني بالفاتحة لما أخرجه البخاري عن أبي سعيد بن المعلى قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته " وفي الكشف كونهما الفاتحة أوفق لمقتضى المقام لما مر في تخصيص * (الكتاب وقرآن مبين) * بالسورة وأشد طباقا للواقع فلم يكن إذ ذاك قد أوتي صلى الله عليه وسلم القرآن كله اه‍، وأمر العطف معلوم مما قبله. وقرأت فرقة * (والقرآن) * بالجر عطفا على * (المثاني) *، وأبعد من ذهب إلى أن الواو مقحمة والتقدير سبعا من المثاني القرآن العظيم.
* (لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين) *
.
* (لا تمدن عينيك) * لا تطمح بنظرك طموح راغب ولا تدم نظرك * (إلى ما متعنا به) * من زخارف الدنيا وزينتها * (أزواجا منهم) *
79

أصنافا من الكفرة اليهود والنصارى والمشركين، وقيل: رجالا مع نسائهم، والنهي قيل له صلى الله عليه وسلم وهو لا يقتضي الملابسة ولا المقاربة، وقيل: هو لأمته وان كان الخطاب له عليه الصلاة والسلام، وأيد بما أخرجه ابن جرير. وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: نهى الرجل أن يتمنى مال صاحبه نعم كان صلى الله عليه وسلم بعد نزول الآية شديد الاحتياط فيما تضمنته، فقد أخرج أبو عبيد. وابن المنذر عن يحيى بن أبي كثير أنه عليه الصلاة والسلام مر بابل لحي يقال لهم بنو الملوح أو بنو المصطلق قد عنست في أبوالها وأبعارها من السمن فتقنع بثوبه ومر ولم ينظر إليها لقوله تعالى: * (لا تمدن عينيك) * الآية، ويعد نحو هذا الفعل من باب سد الذرائع. ومنهم من أيد الأول بهذا وبدلالة ظاهر السياق عليه، وحاصلها مع ما قبل أوتيت النعمة العظمة الت كل نعمة وان عظمت فهي بالنسبة إليها حقيرة فعليك أن تستغنى بذلك ولا ترغب في متاع الدنيا، وجعل من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " بناء على أن " يتغن " من الغنى المقصور كيستغنى وليس مقصورا على الممدود، ويشهد لذلك ما في الحديث الصحيح في الخيل " وأما التي هي له سترلا فرجل ربطها تغنيا وتعففا " وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه من أوتي القرآن فرأى أن أحد أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيما وعظم صغيرا. وقد أخرج ابن المنذر عن سفيان بن عيينة ما هو بمعناه، وقال العراقي: أن الخبر مروى لكن لم أقف على روايته عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه في شيء من كتب الحديث.
وحكى بعضهم في سبب نزول الآية أنه وافت من بصرى واذرعات سبع قوافل لقريظة والنضير في يوم واحد فيها أنواع من البر والطيب والجواهر فقال المسلمون: لو كانت لنا لقتوينا بها ولأنفقناها في سبيل الله تعالى فنزلت، فكأنه سبحانه يقول: قد أعطيتكم سبعا هي خير من سبع قوافل، وروى هذا عن الحسن بن الفضل. وتعقب بأنه ضعيف أو لا يصح لأن السورة مكية وقريظة والنضير كانوا بالمدينة فكيف يصح أن يقال ذلك وهو كما ترى. نعم روى أنه صلى الله عليه وسلم وافى بأذرعات سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير فيها الخ وهو غير معروف، وقد قالوا: إنه لم يعهد سفره صلى الله عليه وسلم للشام، واستؤنس بخبر النزول على أن النهي معني به سيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام كانلهي في قوله تعالى: * (ولا تحزن عليهم) * حيث أنهم لم يؤمنوا، وكان صلى الله عليه وسلم يود أن يؤمن كل من بعث إليه ويشق عليه عليه الصلاة والسلام لمزيد شفقته بقاء الكفرة على كفرهم ولذلك قيل له: * (ولا تحزن عليهم) * وكأن مرجع الجملة الأولى إلى النهي عن الالتفات إلى أموالهم ومرجع هذه الجملة إلى النهي عن الالتفات إليهم، وليس المعنى لا تحزن عليهم حيث أنهم المتمتعون بذلك فإن التمتع به لا يكون مدارا للحزن عليهم، وكون المعنى لا تحزن على تمتعهم بذلك فالكلام على حذف مضاف لا يخفى ما فيه من ارتكاب خلاف الظاهر من غير داع إليه * (واخفض جناحك للمؤمنين) * كناية عن التواضع لهم والرفق بهم، وأصل ذلك أن الطائر إذا أراد أن يضم فرخه إليه بسط جناحيه له، والجناحان من ابن آدم جانباه.
* (وقل إنىأنا النذير المبين) *
.
* (وقل إني أنا النذير المبين) * أي المنذر الكاشف نزول عذاب الله تعالى ونقمة املخوفة بمن لم يؤمن.
* (كمآ أنزلنا على المقتسمين) *
.
* (كما أنزلنا على المقتسمين) * قيل: إنه متعلق بقوله تعالى: * (ولقد آتيناك) * (الحجر: 87) الخ على أن
80

يكون في موضع نصب نعتا لمصدر من * (آتينا) * محذوف أي آتيناك سبعا من المثانى إيتاء كما أنزلنا وهو في معنى أنزلنا عليك ذلك أنزالا كإنزالنا على أهل الكتاب.
* (الذين جعلوا القرءان عضين) *
. * (الذين جعلوا القرءان عضين) * أي قسموه إلى حق وباطل حيث قالوا عنادا وعداوة: بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل وبعضه باطل مخالف لهما، وتفسير * (المقتسمين) * المذكورين بأهل الكتاب مما روي عن الحسن. وغيره، وفي " الدر المنثور " أخرج البخاري. وسعيد بن منصور. والحاكم. وابن مردويه من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: هم أهل الكتاب جزءوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه، وجاء ذلك مرفوعا أيضا، فقد أخرج الطبراني في الأوسط عن الحبر قال: " سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أرأيت قول الله تعالى: * (كما أنزلنا على المقتسمين) * (الحجر: 90) قال عليه الصلاة والسلام: اليهود والنصارى قال: * (الذين جعلوا القرآن عضين) * (الحجر: 91) ما عضين؟ قال صلى الله عليه وسلم: آمنوا ببعض وكفروا ببعض " أو اقتسموه لأنفسهم استهزاء به؛ فقد روي عن عكرمة أن بعضهم كان يقول: سورة البقرة لي وبعضهم سورة آل عمران لي وهكذا، وجوز أن يراد بالمقتسمين أهل الكتاب ويراد من القرآن معناه اللغوي أي المقروء من كتبهم أي الذين اقتسموا ما قرؤا من كتبهم وحرفوه وأقروا ببعض وكذبوا ببعض، وحمل توسط قوله تعالى: * (لا تمدن عينيك) * (الحجر: 88) الخ بين المتعلق والمتعلق على إمداد ما هو المراد بالكلام من التسلية. وتعقب القول بهذا التعلق بأنه جل هذا المقام عن التشبيه فلقد أوتي صلى الله عليه وسلم ما لم يؤت أحد قبله ولا بعده مثله، وفي حمل القرآن على معناه اللغوي ما فيه، وقيل: هو متعلق بقوله تعالى: * (وقل إني أنا النذير المبين) * لأنه في قوة الأمر بالإنذار كأنه قيل: أنذر قريشا مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين يعني اليهود وهو ما جرى على قريظة. والنضير بأن جعل المتوقع كالواقع وقد وقع كذلك. وتعقب بأن المشبه به العذاب المنذر ينبغي أن يكون معلوما حال النزول وهذا ليس كذلك فيلغو التشبيه، وتنزيل المتوقع منزلة الواقع له موقع جليل من الإعجاز لكن إذا صادف مقاما يقتضيه كما في قوله تعالى: * (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) * (الفتح: 1) ونظائره، على أن تخصيص الاقتسام باليهود بمجرد اختصاص العذاب المذكور بهم مع شركتهم للنصارى في الاقتسام المتفرع على الموافقة والمخالفة، وفي الاقتسام بمعنى التحريف الشامل للكتابين بل تخصيص العذاب المذكور بهم مع كونه من نتائج الاقتسام تخصيص من غير مخصص، وجوز أن يراد بالمقتسمين جماعة من قريش وهي اثنا عشر، وقال ابن السائب: ستة عشر رجلا حنظلة بن أبي سفيان. وعتبة. وشيبة ابنا ربيعة. والوليد بن المغيرة وأبو جهل. والعاص بن هشام. وأبو قيس بن الوليد. وقيس بن الفاكه. وزهير بن أمية. وهلال عبد الأسود. والسائب بن صيفي. والنضر بن الحرث. وأبو البختري بن هشام. وزمعة بن الحجاج. وأمية بن خلف. وأوس بن المغيرة أرسلهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم ليقفوا على مداخل طرق مكة لينفروا الناس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم فانقسموا على هاتيك المداخل يقول بعضهم: لا تغتروا بالخارج فإنه ساحر، ويقول الآخر: كذاب، والآخر: شاعر إلى غير ذلك من هذيانهم فأهلكهم الله تعالى يوم بدر وقبله بآفات، ويجعل * (الذين) * منصوبا - بالنذير - على أنه مفعوله الأول و * (كما) * مفعوله الثاني أي أنذر المعضين الذين يجزؤن القرآن إلى سحر وشعر وأساطير مثل ما أنزلنا على المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة وهذوا مثل هذيانهم.
81

وتعقب بأن فيه مع ما فيه من المشاركة لما سبق في عدم كون العذاب الذي شبه به العذاب المنذر واقعا ومعلوما للمنذرين أنه لا داعي إلى تخصيص وصف التعضية بهم وإخراج المقتسمين من بينهم مع كونهم أسوة لهم في ذلك فإن وصفهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما وصفوا به من السحر والشعر والكذب متفرع على وصفهم للقرآن بذلك وهل هو إلا نفس التعضية ولا إلى إخراجهم من حكم الإنذار، على أن ما نزل بهم من العذاب لم يكن من الشدة بحيث يشبه به عذاب غيرهم ولا مخصوصا بهم بل هو عام لكلا الفريقين وغيرهم، مع أن بعض من عد من المنذرين على قول كالوليد بن المغيرة. والأسود. وغيرهما قد هلكوا قبل مهلك أكثر المقتسمين يوم بدر، ولا إلى تقديم المفعول الثاني على الأول كما ترى، وقيل: إنه صفة لمفعول * (النذير) * أقيم مقامه بعد حذفه والمقتسمون هم القاعدون في مداخل الطرق كما حرر، أي النذير عذابا مثل العذاب الذي أنزلناه على المقتسمين.
وتعقب أيضا بأن فيه مع ما مر أنه يقتضي أن يكون * (كما أنزلنا) * من مقول الرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يصلح لذلك، واعتذر له بأنه كما يقول بعض خواص الملك أمرنا بكذا والآمر الملك كما تقدم غير بعيد أو حكاية لقول الله تعالى، وفيه من التعسف ما لا يخفى، وأيضا فيه إعمال الوصف الموصوف في المفعول وهو مما لا يجوز.
وأجيب بأن الكوفية تجوزه والقائل بنى الكلام على ذلك أو أن المراد بالمفعول المفعول الغير الصريح وتقديره بعذاب وهو لا يمنع الوصف من العمل فيه، وقيل: المراد بالمقتسمين على تقدير الوصفية الرهط الذين تقاسموا. على أن يبيتوا صالحا عليه السلام فأهلكهم الله تعالى، والاقتسام بمعنى التقاسم، ولا إشكال في التشبيه لأن عذابهم أمر محقق نطق به القرآن العظيم فيصح أن يقع مشبها به للعذاب المنذر، والموصول إما مفعول أول - للنذير - أو لما دل هو عليه من * (أنذر) *. وتعقب أيضا بأن فيه بعد إغماض العين عما في المفعولية من الخلاف أو الخفاء أنه لا يكون للتعرض لعنوان التعضية في حيز الصلة ولا لعنوان الاقتسام بالمعنى المزبور في حيز المفعول الثاني فائدة لما أن ذلك إنما يكون للإشعار بعلية الصلة والصفة للحكم الثابت للموصول والموصوف فلا يكون هناك وجه شبه يدور عليه تشبيه عذابهم بعذابهم خاصة لعدم اشتراكهم في السبب، فإن المعضين بمعزل من التقاسم على التبيت الذي هو السبب لهلاك أولئك مع أن أولئك بمعزل من التعضية التي هي السبب لهلاك هؤلاء ولا علاقة بين السببين مفهوما ولا وجودا تصحح وقوع أحدهما في جانب والآخر في جانب، واتفاق الفريقين على مطلق الاتفاق على الشرور المفهوم من الاتفاق على الشر المخصوص الذي هو التبييت المدلول عليه بالتقاسم غير مفيد إذ لا دلالة لعنوان التعضية على ذلك وإنما يدل عليه اقتسام المداخل، وجعل الموصول مبتدأ على أن خبره الجملة القسمية لا يليق بجزالة التنزيل وجلالة شأنه الجليل اه‍، وهذا الجعل مروي عن ابن زيد، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخرجها البيهقي. وأبو نعيم في الدلائل ما يقتضيه، ومن هنا قيل بمنع عدم اللياقة، وبعض من يسلمها يقول: يجوز أن يكون الموصول صفة * (المقتسمين) * (الحجر: 90) مرادا
بهم أولئك الرهط، ومعنى جعلهم القرآن عضين حكمهم بأنه مفترى وتكذيبهم به والمراد منه معناه اللغوي فيؤول إلى وصفهم بتكذيبهم بكتابهم وإعراضهم عن الإيمان به والعمل بما فيه، ويوافق ما مر من قوله تعالى فيهم وفي قومهم: * (وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين) * (الحجر: 81) بناء على أن المراد بالآيات آيات الكتاب المنزل على نبيهم عليه السلام حسبما قيل به فيما سبق، وإن أبيت ذلك بناء على ما سمعت هنا لك التزمنا كون الموصول مفعولا وقلنا: فائدة التعرض للعنوانين المذكورين على الوجه المذكور الإشارة إلى تفظيع أمر التكذيب وكونه في سببيته للعذاب
82

كالاقتسام على قتل النبي، ويلتزم ما يشعر به هذا من أفظعية الاقتسام المزبور لأنه لا يكون إلا عن تكذيب ومزيد عداوة للنبي، وفيه بحث، وقيل: المصحح لوقوع أحد العنوانين في جانب والآخر في جانب أن التكذيب ينجر بزعم المكذبين إلى إبطال أمر النبي عليه الصلاة والسلام وإطفاء نوره وهو العلة الغائية لذلك والاقتسام المذكور كذلك وهو كما ترى، وقال أبو البقاء وليته لم يقل: إن * (كما أنزلنا) * متعلق بقوله تعالى: * (متعنا به أزواجا منهم) * وهو في موضع نصب نعتا لمصدر محذوف أي متعناهم تمتيعا كما أنزلنا، والمعنى نعمنا بعضهم كما عذبنا بعضهم. وذكر ابن عطية. وغيره أنه يحتمل أن يكون المعنى قل إني أنا النذير المبين كما قد أنزلنا في الكتب أنك ستأتي نذيرا على المقتسمين أي أهل الكتاب، ومرادهم على ما قيل أن * (ما) * في * (كما) * موصولة، والمراد من المشابهة المستفادة من الكاف الموافقة وهي مع ما في حيزها في محل النصب على الحالية من مفعول * (قل) * أي قل هذا القول حال كونه كما أنزلنا على أهل الكتابين أي موافقا لذلك، والأنسب على هذا حمل الاقتسام على التحريف ليكون وصفهم بذلك تعريضا بما فعلوا من تحريفهم وكتمانهم لنعت النبي صلى الله عليه وسلم. وأنت تعلم أن فيه بعدا لكنه أولى بالنسبة إلى بعض ما تقدم، وقريب منه ما قيل: المعنى ولقد آتيناك سبعا من المثاني إيتاء موافقا للإيتاء الذي أنزلناه على أهل الكتابين وأخبرناهم به في كتبهم، وفيه ما فيه.
وأما جعلها زائدة والمعنى أنا النذير المبين ما أنزلنا فحاله غني عن التنبيه عليه، وقال العلامة أبو السعود بعد نقل أقوال عقبها بما عقبها: والأقرب من الأقوال المذكورة أن * (كما أنزلنا) * (الحجر: 90) متعلق بقوله تعالى: * (ولقد آتيناك) * (الحجر: 87) الخ، وإن المراد بالمقتسمين أهل الكتابين، وأن الموصول مع صلته صفة مبينة لكيفية اقتسامهم ومحل الكاف النصب على المصدرية، وحديث جلة المقام عن التشبيه من لوائح النظر الجليل.
والمعنى لقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم إيناء مماثلا لإنزال الكتابين على أهلهما، وعدم التعرض لذكر ما أنزل عليهم من الكتابين لأن الغرض بيان المماثلة بين الإيتائين لا بين متعلقيهما، والعدول عن تطبيق ما في جانب المشبه به على ما في جانب المشبه بأن يقال: كما آتينا المقتسمين حسبما وقع في قوله تعالى: * (الذين آتيناهم الكتاب) * الخ للتنبيه على ما بين الإيتائين من التنائي فإن الأول على وجه التكرمة والامتنان فشتان بينه وبين الثاني، ولا يقدح ذلك في وقوعه مشبها به فإن ذلك إنما هو لمسلميته عندهم، وتقدم وجوده على المشبه زمانا لا لمزية تعود إلى ذاته، ونظير ذلك ما قيل في الصلوات الإبراهيمية فليس في التشبيه إشعار بأفضلية المشبه به من المشبه فضلا عن إيهام ما تعلق به الأول مما تعلق به الثاني، وإنما ذكروا بعنوان الاقتسام إنكارا لاتصافهم به مع تحقق ما ينفيه من الإنزال المذكور وإيذانا بأنهم كان من حقهم أن يؤمنوا بكله حسب إيمانهم بما أنزل عليهم بحكم الاشتراك في العلة والاتحاد في الحقيقة التي هي مطلق الوحي، وتوسيط قوله تعالى: * (لا تمدن عينيك) * (الحجر: 88) الخ لكمال اتصاله بما هو المقصود من بيان حال ما أوتي النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد بين أولا علو شأنه ورفعة مكانه صلى الله عليه وسلم بحيث يستوجب اعتباطه عليه الصلاة والسلام بمكانه واستغناءه به عما سواه، ثم نهى عن الالتفات إلى زهرة الدنيا وعبر سبحانه عن إيتائها لأهلها بالتمتع المنبىء عن وشك زوالها عنهم، ثم عن الحزن لعدم إيمان المنهمكين فيها، وأمر بمراعاة المؤمنين والاكتفاء بهم عن غيرهم وبإظهار قوامه بمواجب الرسالة ومراسم النذارة حسبما فصل في تضاعيف ما أوتي من القرآن العظم. ثم رجع
83

إلى كيفية إتيانه على وجه أدمج فيه ما يزيح شبه المنكرين ويستنزلهم من العناد من بيان مشاركته لما لا ريب لهم في كونه وحيا صادقا، فتأمل والله تعالى عنده علم الكتاب اه‍ وهو كلام ظاهر عليه مخايل التحقيق.
وفي " البحر " بعد نقل أكثر هذه الأقوال وهذه أقوال وتوجيهات مكلفة والذي يظهر لي أنه تعالى لما أمره صلى الله عليه وسلم بأن لا يحزن على من لم يؤمن وأمره عليه الصلاة والسلام بخفض جناحه للمؤمنين أمره صلى الله عليه وسلم أن يعلم المؤمنين وغيرهم أنه هو النذير المبين لئلا يظن المؤمنون أنهم لما أمر صلى الله عليه وسلم بخفض جناحه لهم خرجوا من عهدة النذارة فأمر صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم: * (إني أنا النذير المبين) * (الحجر: 89) لكم ولغيركم كما قال سبحانه: * (إنما أنت منذر من يخشاها) * (النازعات: 45) وتكون الكاف نعتا لمصدر محذوف، والتقدير وقل قولا مثل ما أنزلنا على المقتسمين إنك نذير لهم، فالقول للمؤمنين في النذارة كالقول للكفارة المقتسمين لئلا يظن إنذارك للكفار مخالفا لإنذار المؤمنين بل أنت في وصف النذارة لهم بمنزلة واحدة تنذر المؤمن كما تنذر الكافر كما قال تعالى: * (إن إنا إلا نذير وبشر لقوم يؤمنون) * (الأعراف: 188) اه‍ بحروفه، وهو كما ترى ركيك لفظا ومعنى والله تعالى أعلم بمراده وعنده علم الكتاب، وعضين جمع عضة وأصلها عضوة بكسر العين وفتح الضاد بمعنى جزء فهو معتل اللام من عضاه بالتشديد جعله أعضاء وأجزاء؛ فالمعنى جعلوا القرآن أجزاء.
وقيل: العضه في لغة قريش السحر فيقولون للساحر: عاضه وللساحرة عاضهة، وفي حديث رواه ابن عدي في " الكامل ". وأبو يعلى في مسنده " لعن الله تعالى العاضهة والمستعضهة " وأراد صلى الله عليه وسلم الساحرة والمستسحرة أي المستعملة لسحر غيرها، وهو على هذا مأخوذ من عضهته فاللام المحذوفة هاء كما في شفة وشاة على القول بأن أصلهما شفهة وشاهة بدليل جمعهما على شفاه وشياه وتصغيرهما على شفيهة وشويهة.
وعن الكسائي أنه من عضهه عضها وعضيهة رماه بالبهتان، قيل: وأخذ العضه بمعنى السحر من هذا لأن البهتان لا أصل له والسحر تخييل أمر لا حقيقة له، وذهب
الفراء إلى أنه من العضاه وهي شجرة تؤذي كالشوك واختار بعضهم الأول، وجمع السلامة لجبر ما حذف منه كعزين وسنين وإلا فحقه أن لا يجمع جمع السلامة المذكر لكونه غير عاقل ولتغير مفرده؛ ومثل هذا كثير مطرد، ومن العرب من يلزمه الياء ويجعل الإعراب على النون فيقول: عضينك كسنينك وهذه اللغة كثيرة في تميم. وأسد، وفي التعبير عن تجزئة القرآن بالتعضية التي هي تفريق الأعضاء من ذي الروح المستلزم لإزالة حياته وإبطال اسمه دون مطلق التجزئة والتفريق اللذين ربما يوجدان فيما لا يضره التبعيض للتنصيص على قبح ما فعلوه بالقرآن العظيم.
* (فوربك لنس‍النهم أجمعين) *
.
* (فوربك لنسألنهم أجمعين) * أي لنسألن يوم القيامة أصناف الكفرة مطلقا المقتسمين وغيرهم سؤال تقريع وتوبيخ.
* (عما كانوا يعملون) *
.
* (عما كانوا يعملون) * في الدنيا من قول وفعل وترك فيدخل فيه ما ذكر من الاقتسام والتعضية دخولا أوليا أو لنجازينهم على ذلك، وعلى التقديرين لا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى: * (فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان) * (الرحمن: 39) لأن المراد هنا حسبما أشرنا إليه إثبات سؤال التقريع والتوبيخ أو المجازاة بناءا على أن السؤال مجاز عنها وهناك نفى سؤال الاستفهام لأنه تعالى عالم بجميع أعمالهم؛ وروي هذا عن ابن عباس، وضعف هذا الإمام بأنه لا معنى لتخصيص نفي سؤال الاستفهام بيوم القيامة لأن ذلك السؤال محال عليه تعالى في كل وقت. وأجيب بأنه بناءا على زعمهم
84

كقوله تعالى: * (وبرزوا لله جميعا) * (إبراهيم: 21) فإنه يظهر لهم في ذلك اليوم أنه سبحانه لا يخفى عليه شيء فلا يحتاج إلى الاستفهام، وقيل: المراد لا سؤال يومئذ منه تعالى ولا من غيره بخلاف الدنيا فإنه ربما سأل غيره فيها. ورد بأن قوله: لأنه سبحانه عالم بجميع أعمالهم يأباه.
واختار غير واحد في الجمع أن النفي بالنسبة إلى بعض المواقف والإثبات بالنسبة إلى بعض آخر، وسيأتي تمام الكلام في ذلك، واستظهر بعضهم عود الضمير في * (لنسألنهم) * إلى * (المقتسمين * الذين جعلوا القرآن عضين) * (الحجر: 90، 91) للقرب، وجوز أن يعود على الجميع من مؤمن وكافر لتقدم ما يشعر بذلك من قوله سبحانه: * (وقل إني أنا النذير المبين) * (الحجر: 89) و * (ما) * للعموم كما هو الظاهر، وأخرج ابن جرير: وغيره وعن أبي العالية أنه قال في الآية: يسأل العباد كلهم يوم القيامة عن خلتين عما كانوا يعبدون وعما أجابوا به المرسلين.
وأخرج الترمذي. وجماعة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يسألون عن قول لا إله إلا الله " وأخرجه البخاري في تاريخه. والترمذي من وجه آخر عن أنس مرفوعا، وروي أيضا عن ابن عمر. ومجاهد، والمعنى على ما في " البحر " يسألون عن الوفاء بلا إله إلا الله والتصديق لمقالها بالأعمال، والفاء قيل لترتيب الوعيد على أعمالهم التي ذكر بعضها، وقيل: لتعليل النهي والأمر فيما سبق، وزعم أنها الفاء الداخلة على خبر الموصول كما في قولك: الذي يأتيني فله درهم مبني على أن * (الذين) * مبتدأ وقد علمت حال ذلك، وفي التعرض لوصف الربوبية مضافا إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى من إظهار اللطف به صلى الله عليه وسلم.
* (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) *
.
* (فاصدع بما تؤمر) * قال الكلبي: أي أظهره واجهر به يقال: صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا، ومن ذلك قيل للفجر صديع لظهوره.
وجوز أن يكون أمرا من صدع الزجاجة وهو تفريق أجزائها أي افرق بين الحق والباطل، وأصله على ما قيل الإبانة والتمييز، والباء على الأول صلة وعلى الثاني سببية، و * (ما) * جوز أن تكون موصولة والعائد محذوف أي بالذي تؤمر به فحذف الجار فتعدى الفعل إلى الضمير فصار تؤمره ثم حذف، ولعل القائل بذلك لم يعتبر حذفه مجرورا لفقد شرط حذفه بناء على أنه يشترط في حذف العائد المجرور أن يكون مجرورا بمثل ما جر به الموصول لفظا ومعنى ومتعلقا، وقيل: التقدير فاصدع بما تؤمر بالصدع به فحذفت الباء الثانية ثم الثالثة ثم لام التعريف ثم المضاف ثم الهاء، وهو تكلف لا داعي له ويكاد يورث الصداع، والمراد بما يؤمر به الشرائع مطلقا، وقول مجاهد: كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم إن المعنى اجهر بالقرآن في الصلاة يقتضي بظاهره التخصيص ولا داعي له أيضا كما لا يخفى، وأظهر منه في ذلك ما روي عن ابن زيد أن المراد * (بما تؤمر) * القرآن الذي أوحى إليه صلى الله عليه وسلم أن يبلغهم إياه، وأن تكون مصدرية أي فاصدع بمأموريتك وهو الذي عناه الزمخشري بقوله: أي بأمرك مصدر من المبني للمفعول، وتعقبه أبو حيان بأنه مبني على مذهب من يجوز أن يراد بالمصدر أن والفعل المبني للمفعول والصحيح أن ذلك لا يجوز. ورد بأن الاختلاف في المصدر الصريح هل يجوز انحلاله إلى حرف مصدري وفعل مجهول أم لا إما أن الفعل المجهول هل يوصل به حرف مصدري فليس محل النزاع، فإن كان اعتراضه على الزمخشري في تفسيره بالأمر وأنه كان ينبغي أن يقول بالمأمورية فشيء
85

آخر سهل، ثم لا يخفى ما في الآية من الجزالة، وقال أبو عبيدة: عن رؤبة ما في القرآن منها، ويحكى أن بعض العرب سمع قارئا يقرأها فسجد فقيل له في ذلك فقال: سجدت لبلاغة هذا الكلام، ولم يزل صلى الله عليه وسلم مستخفيا كما روي عن عبد الله بن مسعود قبل نزول ذلك فلما نزلت خرج هو وأصحابه عليه الصلاة والسلام * (وأعرض عن المشركين) * أي لا تلتفت إلى ما يقولون ولا تبال بهم فليست الآية منسوخة، وقيل: هي من آيات المهادنة التي نسختها آية السيف، وأخرج ذلك ابن
أبي حاتم. وأبو داود في ناسخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
* (إنا كفين‍اك المستهزءين) *
. * (إنا كفيناك المستهزئين) * بك أو بك وبالقرآن كما روي عن ابن عباس بقمعهم وتدميرهم. أخرج الطبراني في الأوسط. والبيهقي. وأبو نعيم كلاهما في الدلائل. وابن مردويه بسند حسن قال: المستهزؤون الويد بن المغيرة. والأسود بن عبد يغوث. والأسود بن المطلب. والحرث بن عيطل السهمي. والعاص بن وائل فأتاه جبريل عليه السلام فشكاهم إليه فأراه الوليد فأومأ جبريل عليه السلام إلى أكحله فقال صلى الله عليه وسلم: ما صنعت شيئا قال: كفيتكه، ثم أراه الأسود بن المطلب فأومأ إلى عينيه فقال: ما صنعت شيئا قال: كفيتكه، ثم أراه الأسود بن عبد يغوث فأومأ إلى رأسه فقال: ما صنعت شيئا قال: كفيتكه؛ ثم أراه الحرث فأومأ إلى بطنه فقال: ما صنعت شيئا قال: كفيتكه، ثم أراه العاص بن وائل فأومأ إلى أخمصه فقال: ما صنعت شيئا قال: كفيتكه. فأما الوليد فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبلا فأصاب أكحله فقطعها، وأما الأسود بن المطلب فنزل تحت سمرة فجعل يقول: يا بني ألا تدفعون عني قد هلكت أطعن بالشوك في عيني فجعلوا يقولون: ما نرى شيءا فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه، وأما الأسود بن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها؛ وأما الحرث فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج رجيعه من فيه فمات منه، وأما العاص فركب إلى الطائف فربض على شبرقة فدخل في أخمص قدمه شوكة فقتلته، وقال الكرماني في " شرح البخاري ": إن المستهزئين هم السبعة الذين ألقوا الأذى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي كما جاء في حديث البخاري وهم: عمرو بن هشام. وعتبة بن ربيعة. وشيبة بن ربيعة. والوليد بن عتبة. وأمية بن خلف. وعقبة بن معيط، وعمارة بن الوليد، وفي الأعلام للسهيلي أنهم قذفوا بقليب بدر وعدهم بخلاف ما ذكر. وفي " الدر المنثور " وغيره روايات كثيرة مختلفة في عدتهم وأسمائهم وكيفية هلاكهم، وعد الشعبي منهم هبار بن الأسود. وتعقبه في " البحر " بأن هبارا أسلم يوم الفتح ورحل إلى المدينة فعده وهم، وهذا متعين إذا كانت كفايته عليه السلام إياهم بالإهلاك كما هو الظاهر، وقد ذكر الإمام نحو ما ذكرنا من اختلاف الروايات ثم قال: ولا حاجة إلى شيء من ذلك، والقدر المعلوم أنهم كانوا طائفة لهم قوة وشوكة لأن أمثالهم هم الذين يقدرون على مثل هذه السفاهة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في علو قدره وعظم منصبه، ودل القرآن على أن الله سبحانه أفناهم وأبادهم وأزال كيدهم.
* (الذين يجعلون مع الله إل‍اها ءاخر فسوف يعملون) *
.
* (الذين يجعلون مع الله إلاها آخر) * أي اتخذوا إلها يعبدونه معه تعالى، وصيغة الاستقبال لاستحضار الحال الماضية، وفي وصفهم بذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهوين للخطب عليه عليه الصلاة والسلام بالإشارة إلى أنهم لم يقتصروا على الاستهزاء به صلى الله عليه وسلم بل اجترؤا على
86

العظيمة التي هي الإشراك به سبحانه * (فسوف يعلمون) * ما يأتون ويذرون. وفيه من الوعيد ما لا يخفى.
وفي " البحر " أنه وعيد لهم بالمجازاة على استهزائهم وشركهم في الآخرة كما جوزوا في الدنيا.
* (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون) *
.
* (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون) * من كلمات الشرك والاستهزاء، وتحلية الجملة بالتأكيد لإفادة تحقق ما تتضمنه من التسلية. وصيغة المضارع لإفادة استمرار العلم حسب استمرار متعلقه باستمرار ما يوجبه من أقوال الكفرة.
* (فسبح بحمد ربك وكن من الس‍اجدين) *
.
* (فسبح بحمد ربك) * فافزع إلى ربك فيما نابك من ضيق الصدر بالتسبيح ملتبسا بحمده أي قل: سبحان الله والحمد لله أو فنزهه عما يقولون حامدا له سبحانه على أن هداك للحق، فالتسبيح والحمد بمعناهما اللغوي كما أنهما على الأول بمعناهما العرفي أعني قول تينك الجملتين، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى من اللطف به عليه الصلاة والسلام والإشعار بعلة الحكم أعني الأمر المذكور * (وكن من الساجدين) * أي المصلين ففيه التعبير عن الكل بالجزء. وهذا الجزء على ما ذهب إليه البعض أفضل الأجزاء لما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد " وليس هذا موضع سجدة خلافا لبعضهم. وفي أمره صلى الله عليه وسلم بما ذكر إرشاد له إلى ما يكشف به الغم الذي يجده كأنه قيل: افعل ذلك يكشف عنك ربك الغم والضيق الذي تجده في صدرك ولمزيد الاعتناء بأمر الصلاة جىء بالأمر بها كما ترى مغايرا للأمر السابق على هذا الوجه المخصوص. وفي ذلك من الترغيب فيها ما لا يخفى. وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا أحزنه أمر فزع إلى الصلاة. وصح " حبب لي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة " وذكر بعضهم أن في الآية إشارة إلى الترغيب بالجماعة فيها. وإن في عدم تقييد السجود بنحو له أو لربك إشارة إلى أنه مما لا يكاد يخطر بالبال إيقاعه لغيره تعالى فتدبر.
* (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) *
.
* (واعبد ربك) * دم على ما أنت عليه من عبادته سبحانه، قيل: وفي الإظهار بالعنوان السالف آنفا تأكيد لما سبق من إظهار اللطف به صلى الله عليه وسلم والإشعار
بعلة الأمر بالعبادة * (حتى يأتيك اليقين) * أي الموت كما روي عن ابن عمر. والحسن. وقتادة. وابن زيد، وسمي بذلك لأنه متيقن اللحوق بكل حي، وإسناد الإتيان إليه للإيذان بأنه متوجه إلى الحي طالب للوصول إليه، والمعنى دم على العبادة ما دمت حيا من غير إخلال بها لحظة، وقال ابن بحر: اليقين النصر على الكافرين الذي وعده صلى الله عليه وسلم، وأيا ما كان فليس المراد به ما زعمه بعض الملحدين مما يسمونه بالكشف والشهود، وقالوا: إن العبد متى حصل له ذلك سقط عنه التكليف بالعبادة وهي ليست إلا للمحجوبين، ولقد مرقوا بذلك من الدين وخرجوا من ربقة الإسلام وجماعة المسلمين.
وذكر بعض الثقات أن هذا الأمر كان بعد الإسراء والعروج إلى السماء، أفترى أنه صلى الله عليه وسلم لم يتضح له ليلتئذ صبح الكشف والشهود ولم يمن عليه باليقين عظيم الكرم والجود؟ الله أكبر لا يتجاسر على ذلك من في قلبه مثقال ذرة من إيمان أو رزق حبة خردل من عقل ينتظم به في سلك الإنسان، وأيضا لم يزل صلى الله عليه وسلم ما دام حيا آتيا بمراسم العبادة قائما بأعباء التكليف لم ينحرف عن الجادة قدر
87

حادة أفيقال: إنه لم يأته عليه الصلاة والسلام حتى توفي ذلك اليقين ولذلك بقي في مشاق التكليف إلى أن قدم على رب العالمين؟ لا أرى أحدا يخطر له ذلك بجنان ولو طال سلوكه في مهامه الضلالة وبان. نعم ذكر بعض العلماء الكرام في قوله تعالى: * (ولقد نعلم) * الخ كلاما متضمنا شيئا مما يذكره الصوفية لكنه بعيد بمراحل عن مرام أولئك اللئام، ففي " الكشف " أنه تعالى بعدما هدم قواعد جهالات الكفرة وأبرق وأرعد بما أظهر من صنيعه بالقائلين نحو مقالات أولئك الفجرة فذلك الكلام بقوله سبحانه: * (ولقد نعلم) * (الحجر: 97) مؤكدا هذا التأكيد البالغ الصادر عن مقام تسخط بالغ وكبرياء لينفس عن حبيبه عليه الصلاة والسلام أشد التنفيس، ثم أرشد إلى ما هو أعلى من ذلك مما تأهله لمسامرة الجليس للجليس وقال تعالى: * (فسبح بحمد ربك) * إشارة إلى التوجه إليه بالكلية والتجرد التام عن الأغيار والتحلي بصفات من توجه إليه بحسن القبول والافتقار إذ ذلك مقتضى التسبيح والحمد لمن عقلهما، ثم قال سبحانه: * (وكن من الساجدين) * (الحجر: 98) دلالة على الاقتراب المضمر فيه لأن السجود غاية الذلة والافتقار وهو مظهر الفناء حتى نفسه وشرك البقاء بمن أمره بخمسه، وقوله تعالى شأنه: * (واعبد ربك) * (الحجر: 99) الخ ظاهره ظاهر وباطنه يومي إلى أن السفر في الله تعالى لا ينقطع والشهود الذي عليه يستقر لا يحصل أبدا فما من طامة إلا وفوقها طامة. إذا تغيبت بدا * وإن بدا غيبني
وعن لسان هذا المقام * (رب زدني علما) * (طه: 114) اه‍، هذا ولا يخفى مما ذكره غير واحد من المفسرين مناسبة خاتمة هذه السورة لفاتحتها، وأن قوله سبحانه: * (ولقد نعلم) * (الحجر: 97) الخ في مقابلة * (وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر) * (الحجر: 6) والله تعالى أعلم وأحكم.
ومن باب الإشارة فيما تقدم من الآيات: ما قالوه مما ملخصه * (نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم) * (الحجر: 49) أي أخبرهم بأني أغفر خطرات قلوب العارفين بعد إدراكهم مواضع خطرها وتداركهم ما هو مطلوب منهم وأرحمهم بأنواع الفيوضات وأوصلهم إلى أعلى المكاشفات والمشاهدات * (وأن عذابي هو العذاب الأليم) * (الحجر: 50) وهو عذاب الاحتجاب والطرد عن الباب.
وقال ابن عطاء هذه الآية إرشاد له صلى الله عليه وسلم إلى كيفية الإرشاد كأنه قيل: أقم عبادي بين الخوف والرجاء ليصح لهم سبيل الاستقامة في الطاعة فإن من غلب عليه رجاؤه عطله ومن غلب عليه خوفه أقنطه وذكر بعضهم أن فيها إشارة إلى ترجيح جانب الخوف على الرجاء لأنه سبحانه أجرى وصفي الرحمة على نفسه عز وجل ولم يجر العذاب على ذلك السنن، وأنت تعلم أن المذكور في كثير من الكتب أنه ينبغي للإنسان أن يكون معتدل الرجاء والخوف إلا عند الموت فينبغي أن يكون رجاؤه أزيد من خوفه؛ وفي المقام كلام طويل يطلب من موضعه * (لعمرك أنهم لفي سكرتهم يعمهون) * قال النووي: أي بحياتك التي خصصت بها من بين العالمين، وقال القرشي: هذا قسم بحياة الحبيب صلى الله عليه وسلم. وإنما أقسم سبحانه بها لأنها كانت به تعالى * (إن في ذلك لآيات للمتوسمين) * أي المتفرسين، وذكروا أن للفراسة مراتب فبعضها يحصل بعين الظاهر، وبعضها ما يدركه آذان العارفين مما ينطق به الحق بألسنة الخلق، وبعضها ما يبدو في صورة المتفرس من أشكال تصرف الحق سبحانه وانطاقه وجوده له حتى ينطق جميع شعرات بدنه بألسنة مختلفة فيرى ويسمع من ظاهر نفسه ما يدل على وقوع الأمور الغيبية، وبعضها ما يحصل بحواس الباطن حيث وجدت بلطفها أوائل المغيبات باللائحة، وبعضها ما يحصل من النفس الأمارة بما يبدو فيها من التمني والاهتزاز وذلك سر محبته فإن الله تعالى
88

إذا أراد فتح باب الغيب ألقى في النفس آثار بواديه إما محبوبة فتتمنى وإما مكروهة فتنفر فتفزع ولا يعرف ذلك إلا رباني الصفة، وبعضها ما يحصل للقلب إما بالإلهام وإما بالكشف، وبعضها ما يحصل للعقل وذلك ما يقع من أثقال الوحي الغيبي عليه، وبعضها ما يحصل للروح بالواسطة وغير الواسطة، وبعضها ما يحصل لعين السر وسمعه؛ وبعضها ما يحصل في سر السر ظهور عرائس أقدار الغيبة ملتبسات بأشكال إلهية ربانية روحانية فيبصر تصرف الذات في الصفات ويسمع الصفات بوصف الحديث والخطاب من الذات بلا واسطة وهناك منتهى الكشف والفراسة. وسئل الجنيل رضي الله تعالى عنه عن الفراسة فقال: آيات ربانية تظهر في أسرار العارفين فتنطق ألسنتهم بذلك فتصادف الحق، ولهم في ذلك عبارات أخر.
* (فاصفح الصفح الجميل) * روى عمرو بن دينار عن محمد بن الحنفية عن أبيه عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: الصفح الجميل صفح لا توبيخ فيه ولا حقد بعده مع الرجوع إلى ما كان قبل ملابسة المالفة، وقيل: الصفح الجميل مواساة المذنب برفع الخجل عنه ومداواة موضع آلام الندم في قلبه * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني) * (الحجر: 87) وهي الصفات السبعة أعني الحياة والعلم والقدرة والإرادة والبصر والسمع والكلام، ومعنى كونها مثاني أنها ثمى وكرر ثبوتها له صلى الله عليه وسلم، فكانت له عليه الصلاة والسلام أولا: في مقام وجود القلب وتخلقه بأخلاقه واتصافه بأوصافه، وثانيا: في مقام البقاء بالوجود الحقاني، وقيل: معنى كونها مثاني أنها ثواني الصفات القائمة بذاته سبحانه عز وجل ومواليدها، وجاء " لا زال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أجببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي
يبصر به " الحديث * (والقرآن العظيم) * (الحجر: 87) وهو عندهم: الذات الجامع لجميع الصفات ضلا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم) * (الحجر: 88) إلى آخره. قال بعضهم في ذلك غار الحق سبحانه عليه عليه الصلاة والسلام أن يستحسن من الكون شيئا ويعيره طرفه وأراد منه صلى الله عليه وسلم أن تكون أوقاته مصروفة إليه وحالاته موقوفة عليه وأنفاسه النفيسة حبيسة عنده، وكان صلى الله عليه وسلم كما أراد منه سبحانه ولذلك وقع في المحل الأعلى * (ما زاغ البصر وما طغى) * (النجم: 17) * (فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) * (الحجر: 98، 99) قد مر عن الكشف ما فيه مقنع لمن أراد الإشارة من المسترشدين، هذا وأسأل الله سبحانه أن يحفظنا من سوء القضا ويمن علينا بالتوفيق إلى ما يحب ويرضى بحرمة النبي صلى الله عليه وسلم وآله وأصحابه رضي الله تعالى عنهم أجمعين ما جرى في تفسير كتاب الله تعالى قلم.
سورة النحل
وتسمى كما أخرج ابن أبي حاتم سورة النعم قال ابن الفرس: لما عدد الله تعالى فيها هن النعم على عباده، وأطلق جمع القول بأنها مكية وأخرج ذلك ابن مردويه عن ابن عباس. وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم، وأخرج النحاس من طريق مجاهد عن الحبر أنها نزلت بمكة سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهن نزلت بين مكة والمدينة في منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد، وفي رواية عنه أنها كلها مكية إلا قوله تعالى: * (ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا) * إلى قوله سبحانه: * (بأحسن ما كانوا يعملون) * (النحل: 95 - 97) وروى أمية الأزدي
89

عن جابر بن زيد أن أربعين آية منها نزلت بمكة وبقيتها نزلت بالمدينة، وهي مائة وثمان وعشرون آية، قال الطبرسي. وغيره: بلا خلاف، والذي ذكره الداني في كتاب العدد أنها تسعون وثلاث وقيل أربع وقيل خمس في سائر المصاحف، وتحتوي من المنسوخ قيل على أربع آيات بإجماع وعلى آية واحدة على مختلف فيها، وسيظهر لك حقيقة الأمر في ذلك إن شاء الله تعالى، ولما ذكر في آخر السورة السابقة المستهزؤن المكذبون له صلى الله عليه وسلم ابتدىء هنا بعد قوله تعالى:
* (أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبح‍انه وتع‍الى عما يشركون) *
.
* (بسم الله الرحم‍ان الرحيم) * بقوله عز وجل: * (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) * المناسب لذلك على ما ذكر غير واحد في معناه وسبب نزوله. وفي " البحر " في بيان وجه الارتباط أنه تعالى لما قال: * (فوربك لنسألنهم أجمعين) * (الحجر: 92) كان ذلك تنبيها على حشرهم يوم القيامة وسؤلهم عما فعلوه في الدنيا فقيل: * (أتى أمر الله) * فإن المراد به على قول الجمهور يوم القيامة، وذكر الجلال السيوطي أن آخر الحجر شديدة الالتئام بأول هذه فإن قوله سبحانه: * (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) * (الحجر: 99) الذي هو مفسر بالموت ظاهر المناسبة بقوله سبحانه هنا: * (أتى أمر الله) * وانظر كيف جاء في المتقدمة * (يأتيك) * بلفظ المضارع وفي المتأخرة * (أتى) * بلفظ الماضي لأن المستقبل سابق على الماضي كما تقرر في محله، والأمر واحد الأمور وتفسيره بيوم القيامة كما قال في " البحر " وفسر بما يعمه وغيره من نزول العذاب الموعود للكفرة، وعن ابن جريج تفسيره بنزول العذاب فقط فقال: المراد بالأمر هنا ما وعد الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من النصر والظفر على الأعداء والانتقام منهم بالقتل والسبي ونهب الأموال والاستيلاء على المنازل والديار، وأخرج ابن جرير. وغيره عن الضحاك أن المراد به الأحكام والحدود والقرائض، وكأنه حمله على ما هو أحد الأوامر وفيما ذكره بعد إذ لم ينقل عن أحد أنه استعجل فرائض الله تعالى وحدوده سبحانه، والتعبير عن ذلك بأمر الله للتهويل والتفخيم، وفيه إيذان بأن تحققه في نفسه وإتيانه منوط بحكمه تعالى النافذ وقضائه الغالب، وإتيانه عبارة عن دنوه واقترابه على طريقة نظم المتوقع في سلك الواقع، وجوز أن يكون المراد إتيان مباديه فالماضي باق على حقيقته، ولعل ما أخرجه ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر الأمر بخروج النبي صلى الله عليه وسلم مؤيد لما ذكر وبعضهم أبقى الفعل على معناه الحقيقي وزعم أن المعنى أتى أمر الله وعدا فلا تستعجلوه وقوعا وهو كما ترى، وظاهر صنيع الكثير يشعر باختيار أن الماضي بمعنى المضارع على طريق الاستعارة بتشبيه المستقبل المتحقق بالماضي في تحقق الوقوع والقرينة عليه قوله سبحانه فإنه لو وقع ما استعجل. وهو الذي يميل إليه القلب، والضمير المنصوب في * (تستعجلوه) * على ما هو الظاهر عائد على الأمر لأنه هو المحدث عنه، وقيل: يعود على الله سبحانه أي فلا تستعجلوا الله تعالى بالعذاب أو بإتيان يوم القيامة كقوله تعالى: * (ويستعجلونك بالعذاب) * (الحج: 47) وهو خلاف الظاهر، لكن قيل: إن ذلك أوفق بما بعد، والخطاب للكفرة خاصة ويدل عليه قراءة ابن جبير * (فلا يستعجلوه) * على صيغة نهي الغائب، واستعجالهم وإن كان بطريق الاستهزاء لكنه حمل على الحقيقة ونهوا بضرب من التهكم لا مع المؤمنين سواء أريد بأمر الله تعالى ما قدمنا أو العذاب الموعود للكفرة خاصة، أما الأول: فلأنه
90

لا يتصور من المؤمنين استعجال الساعة أو ما يعمها من العذاب حتى يعمهم النهي عنه، وأما الثاني: فلأن الاستعجال من المؤمنين حقيقة ومن الكفرة استهزاء فلا ينظمها صيغة واحدة والالتجاء إلى إرادة معنى مجازي يعمهما معا غير أن يكون هناك نكتة سرية تعسف لا يليق بشأن التنزيل.
وادعى بعضهم عموم الخطاب واستدل بما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما نزل قوله تعالى: * (اقتربت الساعة) * (القمر: 1) قال الكفار فيما بينهم: أن هذا يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى تنظروا ما هو كائن، فلما تأخرت قالوا: ما نرى شيئا فنزلت * (اقتربت للناس حسابهم) * فأشفقوا وانتظروا قربها فلما امتدت الأيام قالوا: يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به فنزلت * (أتى أمر الله) * فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع الناس رؤسهم فلما نزل * (فلا تستعجلوه) * اطمأنوا ثم قال صلى الله عليه وسلم: " بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بأصبعيه إن كادت لتسبقني " ولا دلالة فيه على ذلك لأن مناط اطمأنانهم إنما هو وقوفهم على أن المراد بالاتيان هو الاتيان الإدعائي لا الحقيقي الموجب لاستحالة الاستعجال المستلزمة لامتناع النهي عنه لما أن النهي عن الشيء
يقتضي إمكانه في الجملة، ومدار ذلك الوقوف إنما هو النهي عن الاستعجال المستلزم لإمكانه المقتضي عدم وقوع المستحيل بعد، ولا يختلف ذلك باختلاف المستعجل كائنا من كان بل فيه دلالة واضحة على عدم العموم لأن المراد بأمر الله إنما هو الساعة وصدور استعجالها عن المؤمنين مستحيل. نعم يجوز تخصيص الخطاب بهم على تقدير كون أمر الله تعالى العذاب الموعود للكفرة خاصة، لكن الذي يقضي به الإعجاز التنزيلي أنه خاص بالكفرة كذا قاله أبو السعود. وبحث فيه من وجوه، أما أولا: فلأن الذي لا يتصور من المؤمنين الاستعجال بمعنى طلب الوقوع عاجلا لاعده عاجلا وسياق ما روى يدل على الأخير، فإنه لما سمعوا صدر الكلام حملوه على الظاهر فاضطربوا فقيل لهم: * (فلا تستعجلوه) * أي لا تعدوه عاجلا، على أن عدم تصور المعنى الأول أيضا منهم في حيز المنع لجواز أن يستعجلوه لتشفي صدورهم وإذهاب غيظ قلوبهم والاستهزاء بهم والضحك منهم، وأما ثانيا: فلأن الجمع بين الحقيقة والمجاز لعله مذهب ذلك القائل، وأما ثالثا: فلأن القول بكون القراءة على صيغة نهي الغائب دالة على أن الخطاب مخصوص بالكفرة ممنوع والسند ظاهر، وأما رابعا: فلأن نفي دلالة ما روي على العموم الخطاب غير موجه لعموم لفظ الناس، وأما خامسا: فلأن قوله: بل فيه دلالة واضحة على عدم العموم لأن المراد بأمر الله تعالى إنما هو الساعة إلى آخره، يرد عليه أنه لا دلالة فيه أصلا على عدم العموم فضلا أن تكون واضحة، وقد عرفت ما في قوله: وقد عرفت وأما سادسا: فلأن حصره المراد بالأمر في الساعة مخالف لما ذكره في تفسير قوله: * (أتى أمر الله) * حيث قال: أي الساعة أو ما يعمها وغيرها من العذاب فبعد هذا التصريح كيف يدعي ذلك الحصر؟ وفي بعض الأبحاث نظر. وقال بعض الفضلاء: قد يقال: إن المراد بالناس في الخبر المؤمنون لما في خبر آخر أخرجه ابن مردويه عن الحبر قال: " لما نزلت * (أتى أمر الله) * ذعر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت * (فلا تستعجلوه) * فسكنوا ". وهذا أيضا على ما قيل لا يقتضي كون الخطاب للمؤمنين لجواز أن يقال: إنهم لما سمعوا أول الآية ذعروا واضطربوا لظن أنه وقع فلما سمعوا خطاب الكفرة
91

بقوله سبحانه: * (فلا تستعجلوه) * اطمأنت قلوبهم وسكنوا، وقد يورد على دعوى أن صدور استعجال الساعة من المؤمنين مستحيل أن ذلك حق لو كان استعجالهم على طرز استعجال الكفرة لها وليس ذلك بمسلم فإنه يجوز أن يراد باستعجالهم اضطرابهم وتهيؤهم لها المنزل منزلة الاستعجال الحقيقي، واستدل على كون الخذاب للكفرة بقوله سبحانه وتعالى: * (سبحانه وتعالى عما يشركون) * فإنه على ذلك التقدير يظهر ارتباطه بما قبله وذلك بأن يقال حينئذ: لما كان استعجالهم ذلك من من نتائج إشراكهم المستتبع لنسبة الله تعالى إلى ما لا يليق به سبحانه من العجز والاحتياج إلى الغير واعتقادهم أن أحدا يحجزه عن إمضاء وعيده أو انجاز وعده قيل بطريق الاستئناف ذلك على معنى تنزه وتقدس بذاته وجل عن إشراكهم المؤدي إلى صدور أمثال هذه الأباطيل عنهم أو عن أن يكون له شريك فيدفع ما أراد بهم بوجه من الوجوه وقد كانوا يقولون على ما في بعض الروايات: إن صح مجيء ذلك فالأصنام تخلصنا عنه بشفاعتها لنا، والتعبير بالمضارع للدلالة على تجدد إشراكهم واستمراره والالتفات إلى الغيبة للإيذان باقتضاء ذكر قبائحهم للإعراض عنهم وطرحهم عن رتبة الخطاب وحكاية شنائعهم للغير وهذا لا يتأتى على تقدير تخصيص الخطاب بالمؤمنين وقيل في وجه الارتباط على ذلك التقدير: أنه تعالى لما نهاهم عن الاستعجال ذكر ما يتضمن أن إنذاره سبحانه وإخباره تعالى للتخويف والإرشاد وأن قوله جل وعلا: * (أتى أمر الله) * إنما هو لذلك فيستعد كل أحد لمعاده ويشتغل قبل السفر بتهيئة زاده فلذلك عقب بذلك دون عطف، وقد أشار بعضهم إلى ارتباط ذلك باعتباره ما بعده فيكون ما ذكر مقدمة واستفتاحا له، وأيضا فإن قوله تعالى: * (أتى أمر الله) * تنبيه وإيقاظ لما يرد بعده من أدلة التوحيد اه‍، وأنت تعلم أن الارتباط على ما قرر أولا أظهر منه على هذا التقرير فافهم، ثم إن * (ما) * تحتمل الموصولية والمصدرية والاحتمال الثاني أظهر، ولا بد على الاحتمال الأول من اعتبار ما أشرنا إليه وإلا فلا يظهر التنزيه عن الشريك. وقرأ حمزة. والكسائي * (تشركون) * بتاء الخطاب على وفق * (فلا تستعجلوه) * وقرأ باقي السبعة. والأعرج. وأبو جعفر. وأبو رجاء. والحسن. بياء الغيبة، وقد تقدم أن في الكلام حينئذ التفاتا وهو مبني على أن الخطاب السابق للكفرة أما إذا كان للمؤمنين أو لهم وللكفرة فلا يتحد معنى الضميرين حتى يكون التفات ولا التفات أيضا على قراءة * (تشركون) * بالتاء سواء كان الخطاب الأول للكفرة أو لهم وللمؤمنين. نعم في ذلك على قدير عموم الخطاب تغليبان على ماقيل الأول تغليب المؤمنين على غيرهم فيالخطاب والثاني تغليب غيرهم عليهم في نسبة الشرك، وعلى قراءة * (يستعجلوه. ويشركون) * بالتحتية فيهما لا التفات ولا تغليب.
* (ينزل المل‍ائكة بالروح من أمره على من يشآء من عباده أن أنذروا أنه لا إل‍اه إلا أنا فاتقون) *
.
* (ينزل الملائكة) * قيل هو إشارة إلى طريق علم الرسول صلى الله عليه وسلم بإتيان ما أو عدبه وباقترابه إزاحة لاستبعاد اختصاصه عليه الصلاة والسلام بذلك، وقال في " الكشف ": التحقيق أن قوله سبحانه * (أتى أمر الله) * تنبيه وإيقاظ ليكون ما يرد بعده ممكنا في نفس حاضرة ملقية إليه وهو تمهيد لما يرد من دلائل التوحيد وقوله تعالى: * (ينزل الملائكة) * الخ تفصيل لما أجمل في قوله سبحانه وتعالى أيقظ أولا ثم نعى عليهم ما هم فيه من الشرك ثم أردفه بدلائل السمع والعقل، وقدم السمعي لأن صاحبه هو القائمون بالأمرين جميعا فافهم. وأخذ سيبويه منه أن جعل * (ينزل) * حالا من ضمير * (يشركون) * لا يطابق المقام البتة انتهى.
وما ذكره من أمر الحالية إشارة إلى الاعتراض على شيخه العلامة الطيبي حيث جعل ذلك أحد احتمالين في
92

الجملة، ثانيهما: مستأنفة وهو الظاهر، وما أشار إليه من وجه الربط وادعى أنه التحقيق لا يخلو عما هو خلاف المتبادر، والتعبير بصيغه الاستقبال للإشارة إلى أن التنزيل عادة مستمرة له تعالى، والمراد بالملائكة عند الجمهور جبريل عليه السلام ويسمى الواحد بالجمع - كما قال الواحدي - إذا كان رئيسا، وعند بعض هو عليه السلام ومن معه من حفظة الوحي.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو * (ينزل) * مخففا من الإنزال، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما. والأعمش. وأبو بكر ينزل مشددا مبنيا للمفعول والملائكة بالرفع على أنه نائب الفاعل والجحدري كذلك إلا أنه خفف، وأبو العالية والأعرج. والمفضل عن عاصم * (تنزل) * بتاء لوقية مفتوحة وتشديد الزاي مبنيا للفاعل وقد حفف منه أحد التاءين وأصله تتنزل، وابن أبي عبلة * (ننزل) * بنون العظمة والتشديد، وقتادة بالنون والتخفيف، وفي هاتين القراءتين كما في البحر التفات * (بالروح) * أي الوحي كما أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ويدخل في ذلك القرآن، وروى عن الضحاك. والربيع بن أنس الاقتصار عليه، وأياما كان فإطلاق * (الروح) * على ذلك بطريق الاستعارة المصرحة المحققة، ووجه الشبه أن الوحي يحيى القلوب الميتة بداء الجهل والضلال أو أنه يكون به قوام الدين كما أن بالروج يكون قوام البدن، ويلزم ذلك استعارة مكنية وتخييلية وهي تشبيه الجهل والضلال بالموت وضد ذلك بالحياة أو تشبيه الدين بإنسان ذي جسد وروح، وهذا كما إذا قلت: رأيت بحرا يغترف الناس به وشمسا يستغيثون بها فإنه يتضمن تشبيه علم الممدوح بالماء العظيم والنور الساطع لكنه جاء من عرض فليس - كأظفار المنية - وليس غير كونه استعارة مصرحة، وجعل ذلك في الكشف من قبيل الاستعارة بالكناية وليس بذاك، والباء متعلقة بالفعل السابق أو بما هو حال من مفعوله أي ينزل الملائكة ملتبسين بالروح، وقول سبحانه: * (من أمره) * بيان للروح المراد به الوحي، والأمر بمعنى الشأن واحد الأمور، ولا يخرج ذلك الروح من الاستعارة إلى التشبيه كما قيل في قوله تعالى: * (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) * (البقرة: 187) لما قالوا: من أن بينهما بونا بعيدا لأن نفس الفجر عين المشبه شبه بخيط، وليس مطلق الأمر بالمعنى السابق مشبها به ولذا بينت به الروح الحقيقية في قوله تعالى: * (قل الروح من أمر ربي) * (الإسراء: 85) كما تبين به المجازية، ولو قيل: يلقى أمره الذي هو الروح لم يخرج عن الاستعارة فليس وزان * (من أمره) * وزان * (من الفجر) * (البقرة: 187) وليس كل بيان مانعا من الاستعارة كما يتوهم من كلام المحقق في " شرح التلخيص ".
وجوز أن يكون الجار والمجرور متعلقا بمحذوف وقع حالا من الروح على معنى حال كونه ناشئا ومبتدأ منه أو صفة له على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته أي بالروح الكائن من أمره أو متعلقا - بينزل - و * (من) * سببية أو تعليلية أو ينزل الملائكة بسبب أمره أو لأجله، والأمر على هذا واحد الأوامر، وعلى ما قبله قيل: فيه احتمالان. وذهب بعضهم إلى أن * (الروح) * هو جبريل عليه السلام وأيده بقوله تعالى: * (نزل به الروح الأمين) * (الشعراء: 93) وجعل الباء بمعنى مع، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن * (الروح) * خلق من خلق الله تعالى كصور بني آدم لا ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد منهم، وروى ذلك عن ابن جريج وعليه حمل بعضهم ما في الآية هنا. وتعقب ذلك ابن عطية بأن هذا قول ضعيف لم يأت له سند يعول عليه، وأضعف منه بل لا يكاد يقدم عليه في الآية أحد ما روى عن مجاهد أن المراد بالروح أرواح الخلق لا ينزل ملك إلا ومعه
93

روح من تلك الأرواح * (على من يشاء من عباده) * أي أن ينزل عليهم لا لاختصاصهم بصفات تؤهلهم لذلك.
والآية دليل على أن النبوة عطائية كما هو المذهب الحق، ويرد بها أيضا على بعض المتصوفة القائلين بأنه لا حاجة للخلق إلى إرسال الرسل عليهم السلام قالوا: الرسل سوى الله تعالى وكل ما سواه سبحانه حجاب عنه جل شأنه فالرسل حجاب عنه تعالى وكل ما هو حجاب لا حاجة للخلق إليه فالرسل لا حاجة إليهم، وهذا جهل ظاهر، ولعمري أنه زندقة وإحاد، وفساده مثل كونه زندقة في الظهور، ويكفي في ذلك منع الكبرى القائلة بأن كل ما سواه سبحانه الخ فإن الرسل وسيلة إلى الله تعالى والوصول إليه عز وجل لا حجاب، وهل يقبل ذو عقل أن نائب السلطان في بلاده حجاب عنه؟ وهب هذا القائل أمكنه الوصول إليه سبحانه بلا واسطة بقوة الرياضة والاستعداد والقابلية فالسواد الأعظم الذين لا يمكنهم ما أمكنه كيف يصنعون. وممن ينتظم في سلك هؤلاء الملحدين البراهمة فإنهم أيضا نفوا النبوة لكنهم استدلوا بأن العقل كاف فيما ينبغي أن يستعمله المكلف فيأتي بالحسن ويجتنب القبيح ويحتاط في المشتبه بفعل أو ترك، فالأنبياء عليهم السلام إما أن يأتوا بما يوافق العقل فلا حاجة معه إليهم أو بما يخالفه فلا التفات إليهم، وجوابه أن هذا مبني على القول بالحسن والقبح العقليين، وقد رفعت الأقلام وجفت الصحف وتم الأمر في إبطاله، وعلى تقدير تسليمه لا نسلم أن العقل يستقل بجميع ما ينبغي، ولا نسلم أيضا أنهم إن جاؤوا بما يوافق العقل لا حاجة إليهم لجواز أن يعرفوا المكلف بعض ما يخفى عليه مما ينبغي له أو يؤكدوا حكمه بحكمهم، ودليلان أقوى من دليل، ولا نسلم أيضا أنهم إن جاؤا بما يخالف العقل لا يلتفت إليهم لجواز أن يخالفوه فيما يخفى عليه، على أن ذلك فرض محال لإجماع الناس على أن الشرع لا يأتي بخلاف العقل في نفس الأمر وإنما يأتي بما يقصر عن إدراكه بنفسه كوجوب صوم آخر يوم من رمضان وحرمة صوم أول يوم من شوال، وتمام الكلام في ذلك يطلب من محله * (أن أنذروا) * بدل من * (الروح) * على أن * (أن) * هي التي من شأنها أن تنصب المضارع وصلت بالأمر كما وصلت به في قولهم: كتبت إليه بأن قم، ولا ضير في ذلك كما حقق في موضعه أي ينزلهم ملتبسين بطلب الإنذار منهم. وجوز ابن عطية. وأبو البقاء. وصاحب الغنيان كون * (أن) * مفسرة فلا موضع لها من الإعراب، وذلك لما في تنزيل الملائكة بالوحي من معنى القول كأنه قيل: يقول بواسطة الملائكة لمن يشاء من عباده أن أنذروا، وجوز الزمخشري ذلك وكون * (أن) * المخففة من المثقلة وأمر البدلية على حاله قال: والتقدير بأنه أنذروا أي بان الشأن أقول لكم أنذروا.
وتعقبه أبو حيان بأن جعلها مخففة وإضمار اسمها وهو ضمير الشأن وتقدير القول حتى يكون الخبر جملة خبرية تكلف لا حاجة إليه مع سهولة جعلها الثنائية التي من شأنها نصب المضارع، وفيه بحث، ففي " الكشف " أن تحقيق وصل الأمر بهذا الحرف ناصبة كانت أو مخففة وإضمار القول قد سلف إنما الكلام في إيثار المخففة ههنا وفي يونس والناصبة في نوح وهي الأصل لقلة التقدير، وذلك لأن مقام المبالغة يقتضي إيثار المخففة، ولهذا جعل بدلا والمبدل منه ما عرفت شأنه، وكذاك في يونس معناه أعجبوا من هذا الأمر المحقق وهو أن الشأن كذا، وأما في نوح فكلام ابتدائي، وجعلهم فائدة القول أن لا يقع الطلبي خبرا من ضيق العطن فذلك في ضمير الشأن غير مسلم لأنه متحد بما بعده وهو كما تقول: كلامي اضرب زيدا انتهى. وقرىء * (لينذروا) * والإنذار الإعلام كما قيل خلا أنه مختص بإعلام المحذور أي اعلموا
* (أنه لا إلاه إلا أنا) * فالضمير للشان وهو من خلاف
94

مقتضى الظاهر، وفائدة تصدير الجملة به الإيذان من أول الأمر بفخامة مضمونها مع ما في ذلك من زيادة تقرير في الذهن، و * (أن) * وما بعدها في موضع المفعول الثاني - لأنذروا - دون تقدير جار فيه والمفعول الأول محذوف، والمراد العموم أي أعلموا الناس أن الشان الخطير هذا، ووجه انباء مضمونه عن المحذور بأنه ليس لذاته بل من حيث اتصاف المنذرين بما يضاده من الإشراك، ولا يشترط تحقق المحذور كالاتصاف المذكور بالفعل في تحقق ماهية الإنذار، وإن ابيت إلا اشتراط فتحقق الاتصاف في بعض أفراد المنذرين لا سيما الأكثر بالفعل كاف.
وقال الراغب: الإنذار إخبار فيه تخويف كما أن التبشير إخبار فيه سرور وهو قريب مما تقدم، ومحصله على العبارتين التخويف، ومن هنا جوز بعضهم تفسيره بذلك وقدر المفعول الأول خاصا و * (أن) * وما بعدها في موضع المفعول الثاني بتقدير الجار أي خوفوا أهل الكفر والمعاصي بأن الشأن الخطير هذا، وذلك كما جوز تفسيره بالإعلام، وجعل المفعول الأول عاما ولم يقدر جارا في الثاني، وذكر أن ذلك أصل معناه وأن تخصيصه بإعلام المذور طارىء فإن أريد ذلك الأصل كان تعلقه بما بعده ظاهرا غاية الظهور، وإن أريد غيره احتاج إلى التوجيه، وقد علمته فيما إذا كان المفعول الأول عاما، والأمر فيما إذا كان خاصا بعد ذلك أظهر من أن يذكر.
وذكر بعض الفضلاء أن الثابت في اللغة أن نذر بالشيء كفرح به فحذره وأنذره إذا أعلمه بما يحذره وليس فيها مجيئه بمعنى التخويف فأصله الإعلام مع التخويف فاستعملوه بكل من جزئي معنييه الإعلام والتخويف انتهى وفيه غفلة عما أشرنا إليه، وكأنه لهذا قيل: إنه لم يأت بشيء يعتد به * (فاتقون) * جعله أبو السعود خطابا للمستعجلين على طريقة الالتفات والفاء فصيحة أي إذا كان الأمر كما ذكر من جريان عادته تعالى بتنزيل الملائكة على من يشاء تنزيلهم عليه من عباده وأمر المنزل عليهم بأن ينذروا الناس بأنه تعالى لا شريك له فيه الألوهية فاتقون في الإخلال بمضمونه ومباشرة ما ينافيه وفروعه التي من جملتها الاستعجال والاستهزاء انتهى.
وهو على ما يقتضيه الظاهر مبني على ما مال إليه من اختصاص الخطاب السابق بالكفرة، وجعل بعضهم هذا الخطاب رجوعا أيضا إلى خطاب قريش لكنه متفرع على التوحيد، ووجه تفرعه عليه أنه سبحانه وتعالى إذا كان واحدا لم يتصور تخليص أحد لأحد من عذابه إذا أراد ذلك ولم يجوز جعله من جملة الموحي به على معنى أعلموهم قولي أن الشأن لا إله إلانا فاتقون أو خوفوهم بذلك معللا بأنه لو كان ذلك لقيل - إن - بالكسر لا بالفتح.
وتعقب بمنع اللزوم فإن أن ليست بعد قول صريح أو مقدر وإنما ذكروا ذلك في بيان المعنى لتصويره، واختير أنه إذا كان الإنذار بمعنى التخويف فالظاهر دخول هذا الأمر في المنذر به لأنه هو المنذر به في الحقيقة وهو المقصود بالذكر، وإذا كان بمعنى الإعلام فالمقصود بالإعلام هو الجملة الأولى وهو متفرع عليها على طريق الالتفات، ولا يخلو عن مناقشة فتأمل، والذي يميل إليه القلب أن المجموع داخل في حيز الانذار وهو مشتمل على التوحيد الذي هو منتهى كمال القوة العلمية والأمر بالتقوى التي هي أقصى كمال القوة العملية فإن النفوس البشرية لها نسبة إلى عالم الغيب تستعد بها لقبول الصور والتحلي بالمعارف والإدراكات من ذلك العالم، ونسبة إلى عالم الشهادة تستعد بها لأن تتصرف في أجسام هذا العالم ويسمى استعدادها الحاصل لها باعتبار النسبة الأولى قوة نظرية واستعدادها باعتبار النسبة الثانية قوة عملية، وأشرف كمالات القوة النظرية معرفة أن لا إله إلا الله تعالى، وأشرف كمالات القوة العملية الاتيان بالأعمال الصالحة الواقية عن خزي يوم القيامة.
95

وقدم قوله تعالى: * (لا إله إلا أنا) * على قوله سبحانه: * (فاتقون) * للإشارة إلى أن ما يستند إلى القوة النظرية أعلى كمالا مما يستند إلى القوة العملية، والكمال الإنساني باعتبار هاتين القوتين يسمى كمالا نفسانيا، وله كمالات أخر هي كمالاته ابلدنية وقواه الحيوانية، وقد فصل ذلك في موضعه. ثم إنه تعالى شرع في تحرير الدلائل العقلية الدالة على توحيده الذي هو المقصد الأعظم من بعثة الرسل عليهم السلام [بم فقال عز قائلا:
* (خلق السم‍اوات والارض بالحق تع‍الى عما يشركون) *
.
* (خلق السموات والأرض بالحق) *.
وذكر بعض المحققين أنه تعالى شأنه وعظم برهانه قد استوفى في أدلة التوحيد واتصاف ذاته الكريمة بصفات الجلال والإكرام على أسلوب بديع جمع فيه بين دلالة المصنوع على الصانع والنعمة على المنعم ونبه على أن كل واحد يكفي صارفا للمشركين عما هم فيه من الشرك وعليه مدارة السورة الكريمة كلما بصرهم طائفة من البصائر ضمنها تبكيتهم وكفرانهم نعمتى الرعاية والهداية، وانظر إلى فاتحته ثم إلى خاتمته في قوله سبحانه: * (واصبر) * (يونس: 109) إلى آخر السورة بين لك بعض ما ضمن الكتاب الكريم من أسرار البلاغة وأنوار الإعجاز؛ والمراد بالسموات والأرض إما هذه الأجرام والأجسام المعلومة، وإما جهة العلو والسفل أي أوجد ذلك ملتبسا بما يحق له بمقتضى الحكمة فيدل على صانع حي عالم قادر مريد منفرد الألوهية والإلزام إمكان التمانع المستلزم لإمكان المحال حسبما بين في علم الكلام؛ ولذا عقب هذا بقوله تعالى: * (تعالى عما يشركون) *.
وقرأ الأعمش * (فتعالى) * بالفاء، و * (ما) * يحتمل أن تكون مصدرية أي تعالى وتقدس بذاته وأفعاله عن إشراكهم، وأن تكون موصولة على معنى تعالى عن شركة ما يشركونه من الباطل الذي لا يبدىء ولا يعيد، واستدل بالآية على أنه تعالى ليس من قبيل الأجرام والأجسام كما يقوله المجسمة، ووجه ذلك أنها تدل على احتياج الأجرام والأجسام إلى خالق سبحانه وتعالى لا يجانسها وإلا لاحتاج إليه فلا يكون خالقا، وبإرادة الجهتين يكون وجه الدلالة من الآية أظهر، وقرأ الكسائي * (تشركون) * بالتاء.
* (خلق الإنس‍ان من نطفة فإذا هو خصيم مبين) *
.
* (خلق الإنس‍ان) * أي هذا النوع غير الفرد الأول منه * (من نطفة) * أصلها الماء الصافي ويعبر بها عن ماء الرجل أي أوجده من جماد لا حس له ولا حراك سيال لا يحفظ شكلا ولا وضعا * (فإذا هو) * بعد الخلق من ذلك * (خصيم) * منطيق مجادل عن نفسه مكافح للخصوم، وهو صيغة مبالغة، وقال الواحدي: بمعنى مخاصم، وفعيل بمعنى مفاعل معروف عندهم كالنسيب بمعنى المناسب والخليط بمعنى المخالط والعشير بمعنى المعاشر. * (مبين) * مظهر للحجة لقن بها؛ وقيل: المعنى أوجده من ذلك فإذا هو خصيم لخالقه سبحانه منكر لعظيم قدرته قائل: * (من يحيى العظام وهي رميم) * (يس: 78) والأول أنسب بمقام الامتنان بإعطاء القدرة على الاستدلال بذلك على قدرته جل جلاله ووحدته، وبين الإمام وجه الاستدلال فقال بعد أن زعم أن الإنسان في الشرف بعد الأفلاك والكواكب وأشار إلى أنه لذلك عقب الاستدلال بخلق تلك بالاستدلال بخلقه: اعلم أن الإنسان مركب من نفس وبدن، وصدر الآية إشارة إلى الاستدلال ببدنه على وجود الصانع الحكيم وعجزها إشارة إلى الاستدلال بأحواله، وتقرير الأول أن يقال: إن النطفة إما أن تكون متشابهة الأجزاء أو مختلفتها فإن كان الأول لم يجز أن يكون المقتضى لتولد هذا البدن منها هو الطبيعة الحاصلة في جوهرها لأن تأثير الطبيعة بالذات والإيجاب فمتى عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون عملها الكرية وحيث لم يكن الأمر
96

فيما نحن فيه كذلك لظهور أن الأبدان ليست كرية علمنا أن المقتضى لها هو الفاعل الحكيم المختار، وإن كان الثاني قلنا: إنه يجب أن ينتهي تحليل تركيبها إلى أجزاء يكون كل واحد منها في نفسه جسما بسيطا وحينئذ لو كان المدبر لها قوة طبيعية لوجب أن يكون كل من تلك البسائط كرى الشكل فكان يلزم أن يكون الإنسان على شكل كرات مضمومة بعضها إلى بعض وحيث لم يكن لذلك علمنا أن المقتضى هو الفاعل المختار أيضا جل شأنه وأيضا إلى النطفة رطبة سريعة الاستحالة فلا تحفظ الوضع فالجزء الذي هو مادة الدماغ يمكن حصوله في السفل والجزء الذي هو مادة القلب يمكن حصوله في الفوق فحيث كان الإنسان على هذا الترتيب المعين دائما مع إمكان غيره علمان أن حدوثه على ذلك الترتيب ليس إلا بتدبير الفاعل المختار الحكيم ولا يصح أن يقال: إن ذلك من تأثير النجوم والأوضاع الفلكية لأن تأثيراتها متشابهة على أنه قد بين بطلان كونها مؤثرة بغير ذلك في موضعه.
وتقرير الثاني أن النفوس الإنسانية في أول الفطرة أقل فهما وذكاء وفطنة من نفوس سائر الحيوانات فإن فرخ الدجاجة حين خروجه من قشر البيضة يميز بين العدو والصديق فيهرب من الهرة ويلتجىء إلى الام ويميز بين الغذاء الذي يوافقه والذي لا يوافقه وأما ولد الإنسان فإنه حين انفصاله من بطن أمه لا يميز بين العدو والصديق ولا بين الضار والنافع ثم إنه بعد كبره يقوى عقله ويعظم فهمه ويصير بحيث يقوى على معرفة الله تعالى وعلى معرفة أصناف المخلوقات العلوية والسفلية والاطلاع على كثير من أحوالها الدقيقة وعلى الخصومات والمباحثات فانتقال نفسه من تلك البلادة المفرطة إلى هذه الكياسة المفرطة لا بد وأن يكون بتدبير إله مختار حكيم ينقلها من نقصانها إلى كمالها ومن جهالتها إلى معرفتها بحسب الحكمة والاختيار، والثاني قيل: انسب بمقام تعداد هنات الكفرة فانه قد اشتمل من بيان جراءة من كفر على الله تعالى وعدم استحيائه منه سبحانه ووقاحته بتماديه في الكفر.
وذكر بعضهم أنه يؤيد هذا الوجه قوله تعالى في سورة يس بعد ما ذكر مقله: * (قال من يحي العظام وهي رميم) * (يس: 78) فإنه فيما ذكر فيكون صدر الآية للاستدلال وعجزها لتقرير الوقاحة، وتعقب بأنه ليس بشيء لأن مدار ما قبلها في تلك السورة على ذكر الحشر والنشر ومكابرتهم فيه بخلاف هذه ولكل مقام مقال، وأما كون الآية مسوقة لتقرير وقاحة الإنسان لانتفاء التنافي بين الاستدلال على الوحدانية والقدرة وتقرير وقاحة المنكرين ولذا جعل التتميم لما قبله * (تعالى عما يشركون) * فعدم المنافي لا يقتضي وجود المناسب، وعندي لكل وجهة.
وفي الكشف المعنيان ملائمان للمقام إلا أن في الثاني زيادة ملائمة مع قوله: * (تعالى عما بشركون) * ثم إنه أدمج فيه المعنى الأول وروى الواحدي أن أبي بن خلف أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم رميم وقال: يا محمد أتوى ان الله تعالى يحيي هذا بعد ما قدرم فنزلت نظير ما في آخر يس، والمشهور أن تلك هي النازلة في تلك القصة، ثم وجه التعقيب وإذا الفجائية في قوله سبحانه: * (فإذا هو) * إلى آخره مع أن كونه خصيما مبينا بأي معنى أريد لم يعقب خلقه من نطفة إذ بينهما وسائط أنه بيان لأطواره إلى كمال عقله فالتعقيب باعتبار آخرها فلا وجه لتقدير الوسائط ولا للقول بأنه من باب التعبير عن حال الشيء بما يؤول إليه فافهم.
(5) * (والانع‍ام خلقها لكم فيها دفء ومن‍افع ومنها تأكلون) *. * (والأنعام) * وهي الأزواج الثمانية من الإبل، والبقر، والضأن، والمعز، قال الراغب: ولا يقال أنعام إلا إذا كان فيها إبل، وخصها بعضهم هنا بذلك وليس بشيء، والنصب على المفعولية لفعل مضمر يفسره قوله تعالى: * (خلقها) * وهو أرجح من الرفع في مثل هذا الموضع لتقدم الفعلية وقرىء به في الشسواذ أو على العطف على الإنسان وما
97

بعد بيان ما خلق لأجله والذي بعده تفصيل لذلك، وقوله سبحانه: * (لكم) * إما متعلق - بخلقها - وقوله تعالى: * (فيها) * خبر مقدم وقوله جل وعلا: * (دفء) * مبتدأ مؤخر والجملة حال من المفعول أو الجار والمجرور الأول خبر للمبتدأ المذكور والثاني متعلق بما فيه من معنى الاستقرار، وقيل: حال من الضمير المستكن فيه العائد على المبتدأ، وقيل: حال من * (دفء) * إذ لو تأخر لكان صفة، وجوز أبو البقاء أن يكون الثاني هو الخبر والأول في موضع الحال من مبتدئه، وتعقبه أبو حيان بأن هذا لا يجوز لأن الحال إذا كان العامل فيها معنى لا يجوز تقديمها على الجملة بأسرها فلا يجوز قائما في الدار زيد فإن تأخرت الحال عن اجلملة جازت بلا خلاف وان توسطت فالأخفش على الجواز والجمهور على المنع، وجوز أبو البقاء أيضا أن يرتفع * (دفء) * - بلكم - أو - بفيها - والجملة كلها حال من الضمير المنصوب، وتعقبه أبو حيان أيضا بأن ذلك لا يعد من قبيل الجملة بل هو من قبيل المفرد، ونقل أنهم جوزوا أن يكون * (لكم) * متعلقا - بخلقها - وجملة فيها * (دفء) * استئناف لذكر منافع الأنعام، واستظهر كون جملة * (لكم فيها دفء) * مستأنفة، ثم قال: ويؤيد الاستئناف فيها الاستئناف في مقابلتها أعني قوله تعالى: * (
ولكم فيها جمال) * فقابل سبحانه المنفعة الضرورية بالمنفعة الغير الضرورية، وإلى نحو ذلك ذهب القطب فاختار أن الكلام قد تم عند * (خلقها) * لهذا العطف وخالفه في ذلك صاحب الكشف فقال: إن قوله تعالى: * (خلقها لكم) * بناء على تفسير الزمخشري له بقوله: ما خلقها إلا لكم ولمصالحكم يا جنس الإنسان طرف من ترشيح المعنى الثاني في قوله سبحانه: * (فإذا هو خصيم مبين) * لما في الالتفات المشار إليه من الدلالة عليه، وأما الحصر المشار إليه بقوله: ما خلقها الا لكم فمن اللام المفيدة للاختصاص سيما وقد نوع الخطاب بما يفيد زيادة التمييز والاختصاص، وهذا أولى من جعل * (لكم فيها دفء) * مقابل * (لكم فيها جمال) * لإفادته المعنى الثاني وأبلغ على أنه يكون * (فيها دفء) * تفصيلا للأول وكرر * (لكم) * في الثاني لبعد العهد وزيادة التقريع اه‍، والحق في دعوى أولوية تعلق * (لكم) * بما قبله معه كما لا يخفى، والدفء اسم لما يدفأ به أي يسخن، وتقول العرب. دفىء يومنا فهو دفىء إذا حصلت فيه سخونة ودفىء الرجل دفاء ودفاء بالفتح والكسر ورجل دفآن وامرأة دفأى ويجمع الدفء على ادفاء، والمراد به ما يعم اللباس والبيت الذي يتخذ من أوبارها وأصوافها، وفسره ابن عباس فيما أخرجه عنه ابن جرير وغيره بالثياب.
وأخرج عبد الرزاق وغيره عنه رضي الله تعالى عنه أيضا انه نسل كل دابة، ونقله الأموي عن لغة بعض العرب والظاهر هو الأول. وقرأ الزهري. وأبو جعفر * (دف) * بضم الفاء وشدها وتنوينها، ووجه ذلك في البحر بأنه نقل الحركة من الهمزة إلى الفاء وحذفت ثم شدد الفاء إجراء للوصول مجرى الوقف إذ يجوز تشديدها في الوقف.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما * (دف) * بنقل الحركة والحذف دون تشديد، وفي اللوامح قرأ الزهري * (دف) * بضم الفاء من غير همزة وهي محركة بحركتها، ومنهم من يعوض عن هذه الهمزة فيشدد الفاء وهو أحد وجهي حمزة بن حبيب وقفا. واعترض بأن التشديد وقفا لغة مستقلة وان لم يكن ثمة حذف من الكلمة الموقوف عليها ودفع بأنه إنما يكون ذلك إذا وقف على آخر حرف منها أما إذا وقف على ما قبل الآخر منها كقاض فلا.
* (ومنافع) * هي درها وركوبها والحراثة بها والنضح عليها وغير ذلك، وإنما عبر عنها بها ليشمل الكل مع أنه الأنسب بمقام الامتنان بالنعم، وقدم الدفء رعاية لأسلوب الترقي إلى الأعلى * (ومنها تأكلون) * أي تأكلون ما يؤكل منها من اللحوم والشحوم ونحو ذلك - فمن - تبعيضية، والأكل إما على معناه المتبادر وإما بمعنى التناول
98

الشامل للشرب فيدخل في العد الألبان، وجوز أن تكون * (من) * ابتدائية وأن تكون للتبعيض مجازا أو سببية أي تأكلون ما يحصل بسببها فإن الحبوب والثمار المأكولة تكتسب باكتراء الإبل مثلا وأثمان نتاجها وألبانها وجلودها والأول أظهر وأدخل ما يحصل من اكترائها من الإجارة التي يتوصل بها إلى مصالح كثيرة في المنافع، وتغيير النظم الجليل قيل للإيماء إلى أنها لا تبقى عند الأكل كما في السابق واللاحق فإن الدفء والمنافع التي أشرنا إليها والجمال يحصل منها وهي باقية على حالها ولذلك جعلت محال لها بخلاف الأكل، وتقديم الظرف للحصر على معنى أن الأكل منها هو المعتاد المعتمد في المعاش من بين سائر الحيوانات فلا يرد الأكل من الدجاج والبط وصيد البر والبحر فإنه من قبيل التفكه، وكذا لا يرد أكل لحم الخيل عند من أباحه لأنه ليس من المعتاد المعتمد أيضا، والحاصل أن الحصر اضافي وبذلك لا يرد أيضا أكل الخبز والبقول ونحوها، ويضم إلى هذا الوجه في التقديم رعاية الفواصل، وجعله لمجرد ذلك كما في الكشف قصور، وأبو حيان ينكر كون التقديم مطلقا للحصر فينحصر وجهه هنا حينئذ في الرعاية المذكورة.
* (ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون) *
.
* (ولكم فيها) * مع ما ذكر من المنافع الضرورية * (جمال) * زينة في أعين الناس وعظمة ووجاهة عندهم، والمشهور اطلاقه على الحسن الكثير، ويكون في الصورة بحسن التركيب وتناسق الأعضاء وتناسبها، وفي الأخلاق باشتمالها على الصفات المحمودة وفي الأفعال بكونها ملائمة للمصلحة من درء المضرة وجلب المنفعة وهو في الأصل مصدر - جمل - بضم الميم ويقال للرجل جميل وجمال وجمال على التكثير وللمرأة جميلة وجملاء عند الكسائي وأنشد: فهي جملاء كبدر طالع * بذت الخلق جميعا بالجمال
ورأى بعضهم اطلاقه على التجمل فظن أنه مصدر بإسقاط الزوائد * (حين تريحون) * أي تردونها بالعشى من المرعى إلى مراحها يقال: أراح الماشية إذا ردها إلى المراح وقتئذ * (وحين تسرحون) * تخرجونها غدوة من حظائرها ومبيتها إلى مسارحها ومراعيها يقال: سرحها يسرحها سرحا وسروحا وسرحت هي يتعدى ولا يتعدى، والفعل الأول وكذا الثاني متعد والمفعول محذوف لرعاية الفواصل، وتعيين الوقتين لأن ما يدور عليه أمر الجمال من تزين الا فنية وتجاوب ثغائها ورغائها إنما هو عند الذهاب والمجيء في ذينك الوقتين، وأما عند كونها في المسارح فتنقطع إضافتها الحسية التي أربابها، وعند كونها في الحظائر لا يراها راء ولا ينظر إليها ناظر.
وتقديم الا راحة على السرح مع أنها متأخرة في الوجود عنه لكونها أظهر منه في استتباع ما ذكر من الجمال وأتم في استجلاب الانس والبهجة إذ فيها حضور بعد غيبة وإقبال بعد إدبار على أحسن ما يكون ملأى البطون حافلة الضروع. وقرأ عكرمة. والضحاك. والجحدري * (حينا) * فيهما بالتنوين وفك الإضافة على أن كلتا الجملتين صفة لحينا قبلها والعائد محذوف كما في قوله تعالى: * (واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس) * أي حينا تريحون فيه وحينا تسرحون فيه، والعامل في * (حين) * أما المبتدأ لأنه بمعنى التجمل كما قيل واما خبره لما فيه من معنى الاستقرار.
وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة لجمال.
* (وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم) *
.
* (وتحمل أثقالكم) * أي أحمالكم الثقيلة جمع ثقل، وقيل: أجسامكم كما قيل في قوله تعالى: * (وأخرجت الأرض أثقالها) * (الزلزلة: 2) حيث فسرت الأثقال فيه بأجسام بني آدم.
99

* (إلى بلد) * روى عن ابن عباس أنه اليمن والشام ومصر وكأنه نظر إلى أنها متاجر أهل مكة كما يؤذن به ما في تفسير الخازن عنه رضي الله تعالى عنه من أنه قال: يريد من مكة إلى اليمن وإلى الشام، وفي رواية أخرى عنه. وعن الربيع بن أنس. وعكرمة أنه مكة وكأنهم نظروا إلى أن أثقالهم وأحمالهم عند القفول من متاجرهم أكثر وحاجتهم إلى الحمولة أمس، والظاهر أنه عام لكل بلد سحيق وإلى ذلك ذهب أبو حيان، وجعل ما ورد من التعيين كالمذكور وكالذي نقله عن بعضهم من أنها مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم محمولا على التمثيل لا على أن المراد ذلك المعين دون غيره * (لم تكونوا بالغيه) * واصلين إليه بأنفسكم مجردين عن الاقفال فضلا عن أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم لو لم تكن الأنعام ولم تخلق * (إلا بشق الأنفس) * أي مشقتها وتعبها، وقيل: المعنى لم تكونوا بالغيه بها إلا بما ذكر وحذف بها لأن المسافر لا بد له من الأثقال، والمراد التنبيه على بعد البلد وأنه مع الاستعانة بها يحمل الأثقال لا تصلون إليه إلا بالمشقة، ولا يخفى أن الأول أبلغ. وقرأ مجاهد. والأعرج. وأبو جعفر. وعمرو بن معين. وابن أرقم * (بشق) * بفتح الشين وروى ذلك عن نافع. وأبي عمر ووكلا ذلك لغة، والمعنى ما تقدم، وقيل: الشق بالفتح المصدر وبالكسر الاسم يعني المشقة وعلى الكسر بهذا المعنى جاء قوله: وذي ابل يسعى ويحسبها له * أخى نصب من شقها ودءوب
فإنه أراد من مشقتها، وعن الفراء أن المفتوح مصدر من شق الأمر عليه شقا وحقيقته راجعة إلى الشق الذي هو الصدع والمكسور النصف يقال: أخذت شق الشاة أي نصفها، وجاء " اتقوا النار ولو بشق تمرة " والمعنى إلا بذهاب نصف الأنفس كأن الأنفس تذوب تعبا ونصبا لما ينالها من المشقة كما يقال لا تقدر على كذا إلا بذهاب جل نفسك أو قطعة من كبدك وهو من المجاز، وجوز بعضهم أن يكون على تقدير مضاف أي الابشق قوى الأنفس، والاستثناء مفرغ أي لم تكونوا * (بالغيه) * بشيء من الأشياء إلا بشق الأنفس، وجعل أبو البقاء الجار والمجرور في موضع الحال من الضمير المرفوع في بالغيه أي مشقوقا عليكم وصمير * (تحملذ للإنعام إلا أن الحمل المذكور باعتبار بعض أنواعها وهي الإبل ومثله كثير، ومن هنا يظهر ضعف استدلال بعضهم بهذا الإسناد على أن المراد بالانعام فيما مر الإبل فقط، وتغيير النظم الكريم السابق الدال على كون الانعام مدار للنعم إلى الفعلية المفيدة للحدوث قيل لعله للاشعار بأن هذه النعمة ليست في العموم بحسب المنشأ وبحسب المتعلق وفي الشمول للأوقات والاطراد في الأحيان المعهودة بمثابة النعم السالفة فإنها بحسب المنشأ خاصة كما سمعت بالإبل وبحسب المتعلق بالمتقلبين في الأرض للتجارة وغيرها في أحايين غير مطردة، وأما سائر النعم المعدودة فموجودة في جميع الأصناف وعامة لكافة المخاطبين دائما وفي عامة الأوقات اه‍. واحتج كما قال الإمام منكر وكرامات الأولياء بهذه الآية لأنها تدل على أن الإنسان لا يمكنه الانتقال من بلد إلى آخر إلا بشق الأنفس وحمل الأثقال على الجمال.
ومثبتو الكرامات يقولون: إن الأولياء قد ينتقلون من بلد إلى آخر بعيد في زمان قليل من غير تعب وتحمل مشقة فكان ذلك على خلاف الآية فيكون باطلا وإذا بطلت في هذه الصورة بطلت في الجميع إذ لا قائل بالفرق.
وأجاب بأنا تخصص عموم الآية بالأدلة الدالة على وقوع الكرامات اه‍، ولعل القائلين بعدم ثبوت طي المسافة للأولياء يستندون إلى هذه الآية لكن هؤلاء لا ينفون الكرامات مطلقا فلا يصح قوله إذ لا قائل بالفرق، ومن أنصف علم أن الاستدلال بها على هذا المطلب مما لا يكاد يلتفت إليه بناء على أنها مسوقة للامتنان ويكفي فيه
100

وجود هذا في أكثر الأحايين لأكثر الناس فافهم * (إن ربكم لرؤوف رحيم) * ولذلك أسبغ عليكم النعم الجليلة ويسر لكم الأمور الشاقة العسيرة.
* (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون) *.
* (والخيل) * هو كما قال غير واحد اسم جنس للفرس لا واحد له من لفظه كالإبل، وذكر الراغب أنه في الأصل يطلق على الافراس والفرسان، وهو عطف على الأنعام أي وخلق الخيل * (والبغال) * جمع بغل معروف * (والحمير) * جمع حمار كذلك ويجمع في القلة على أحمرة وفي الكثرة على حمر وهو القياس، وقرأ ابن أبي عبلة برفع * (الخيل) * وما عطف عليه * (لتركبوها) * تعليل لخلق المذكورات، والكلام في تعليل أفعال الله تعالى مبسوط في الكلام * (وزينة) * عطف على محل * (لتركبوها) * فهو مثله مفعول لأجله وتجريده عن اللام دونه لأن الزينة فعل الزاين وهو الخالق تعالى ففاعل الفعلين المعلل والمعلل به واحد بخلاف فاعل الركوب وفاعل المعلل به فشرط النصب الذي اشترطه من اشترطه موجود في المعطوف دون المعطوف عليه قاله غير واحد، وذكر بعض المدققين أن في عدم مجيئها على سنن واحد دلالة على أن المقصود الأصلي الأول فجيء بالحروف الموضوعة لذلك وسيق الخطاب وأعيد الضمير للثلاثة في * (لتركبوها) * وجيء بالثاني تتميا ودلالة على أنه لما كان من مقاصدهم عد في معرض الامتنان وإلا فليس التزين بالعرض الزائل مما يقصده أهل الله تعالى وهم أهل الخطاب بالقصد الأول واعترض ما تقدم بأنه وان ثبت اتحاد الفاعل لكن لم تتم به شروط صحة النصب لفقد شرط آخر منها وهو المقارنة في الوجود فإن الخلق متقدم على الزينة. وأجيب بأن ذلك على إرادة إرادة الزينة كما قيل في ضربت زيدا تأديبا أن التأديب بتأويل إرادته، وجوز أبو البقاء كون * (زينة) * مصدرا لفعل محذوف أي ولتتزينوا بها زينة، وقال ابن عطية إنه مفعول به لفعل محذوف أي وجعلها زينة، وروي قتادة عن ابن عباس أنه قرأ * (لتركبوها زينة) * بغير واو، قال صاحب اللوامح: إن * (زينة) * حينئذ نصب على الحال من الضمير في * (خلقها) * أو من الضمير في لتركبوها) * ولم يعين الضمير وعينه ابن عطية فقال هو المنصوب، وقال غير واحد تجوز الحالية من
كل من الضميرين أي لتركبوها متزينين أو متزينا بها، وقال الزمخشري بعد حكاية القراءة: أي خلقها زينة لتركبوها، ومراده على ما قيل أن الزينة إما ثاني مفعول - خلق - على إجرائه مجرى جعل أو هو حال عن المفعولات الثلاثة على الجمع، وجوز كونه مفعولا له * (لتركبوها) * وهو بمعنى التزين فلا يرد عليه اختلاف فاعل الفعلين؛ قيل: وأما لزوم تخصيص الركوب المطلوب بكونه لأجل الزينة وكون الحكمة في خلقها ذلك وكون ذلك هو المقصود الأصلي لنا فلا ضير فيه لأن التجمل بالملابس والمراكب لا مانع منه شرعا وهو لا ينافي أن يكون لخقلها حكم أهم كالجهاد عليها وسفر الطاعات، وإنما خص لمناسبته لمقام الامتنان مع أن الزينة على ما قال الراغب ما لا يشين في الدنيا ولا في الآخرة، وأما ما يزين في حالة دون أخرى فهو من وجه شين اه‍ فتأمل ولا تغفل. واستدل بالآية على حرمة أكل لحوم المذكورات لأن السوق في معرض الاستدلال بخلق هذه النعم منة على هذا النوع دلالة على التوحيد وسوء صنيع من يقابلها بالإشراك والحكيم لا يمن بأدنى النعمتين تاركا أعلاهما، كيف وقد ذكر أماما.
وروى ابن جرير. وغيره القول بكراهة أكل لحوم الخيل لهذه الآية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وروى عن أبي حنيفة عليه الرحمة أنه قال: رخص بعض العلماء في لحم الخيل فأما أنا فلا يعجبني أكله، وفي رواية أخرى أنه قال أكرهه والأولى تلوح إلى قوله بكراهة التنزيه والثانية تدل على الترحيم بناء على ما روي عن
101

أبي يوسف أنه سأله إذا قلت: في شيء أكرهه فما رأيك فيه؟ فقال: التحريم، وكأنه لهذا قال صاحب الهداية الأصح أن كراهة أكل لحمها تحريمية عند الإمام، وفي العمادية أنه رضي الله تعالى عنه رجع عن القول بالكراهة قبل موته بثلاثة أيام وعليه الفتوى، وقال صاحباه والإمام الشافعي رضي الله تعالى عنهم: لا بأس بأكل لحوم الخيل. وأجاب بعض الشافعية عن الاستدلال بالآية بمنع كون المذكور أدنى النعمتين بالنسبة إلى الخيل قال: وذلك لأن الآية وردت للامتنان عليهم على نحو ما ألفوه، ولا ينكر ذو أرب أن معظم الغرض من الخيل الركوب والزينة لا الأكل بخلاف النعم، وذكر أغلب المنفعتين وترك أدناهما ليس بدعا بل هو دأب اختصارات القررن، وذكره في الأول أن لم يصر حجة لنا في الاكتفاء مع التنبيه على أنه نزر في المقابل فلا يصير حجة علينا، فظهر أنه لا استدلال لا من عبارة الآية ولا من إشارتها. واستدلوا على الحل بما صح من حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية والبغال وأذن عليه الصلاة والسلام في لحم الخيل يوم خيبر، وفيه دليل عندهم على أن الآية لا تدل على الترحيم فادته أن تحريم لحوم الحمر الأهلية إنما وقع عام خيبر كما هو الثابت عند أكثر المحدثين وهذه السورة مكية فلو علم التحريم مما فيها كان ثابتا قبله، وبحث فيه بأن السورة وان كانت مكية يجوز كون هذه الآية مدنية، وفيه أن مثل ذلك يحتاج إلى الرواية ومجرد الجواز لا يكفي، وعورض حديث جابر بما أخرجه أبو عبيد. وأبو داود. والنسائي. وابن المنذر عن خالد بن الوليد قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وعن لحوم الخيل والبغال والحمير " والترجيح كما قال في الهداية للمحرم، لكن أنت تعلم أن هذا الخبر يوهى أمر الاستدلال بالآية لما أن خالدا قد أسلم بالمدينة والآية مكية فلو كان التحريم معلوما منها لما كان للنهي الذي سمعه كثير فائدة، والجملة الاستدلال بالآية على حرمة لحوم الخيل لا يسلم من العثار فلا بد من الرجوع في ذلك إلى الاخبار. والحكم عند تعارضها لا يخفى على ذوي الاستبصار، والذي أميل إليه الحل والله تعالى أعلم * (ويخلق ما لا تعلمون) * أي ويخلق غير ذلك الذي فصله سبحانه لكم، والتعبير عنه بما ذكر لأن مجموعة غير معلوم ولا يكاد يكون معلوما فالكلام إجمالا لما عدا الحيوانات المحتاج غالبا احتياجا ضروريا أو غير ضروري، والعدول إلى صيغة الاستقبال للدلالة على الاستمرار والتجدد أو لاستحضار الصورة، ويجوز أن يكون إخبارا منه تعالى بأن له سبحانه ما لا علم لنا به من الخلائق * (فما لا تعلمون) * على ظاهره، فقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان مما خلق الله تعالى لأرضا لؤلؤة بيضاء مسيرة ألف عام عليها جبل من ياقوتة حمراء محدق بها في تلك الأرض ملك قد ملأشرقها وغربها له ستمائة رأس في كل رأس ستمائة وجه في كل وجه ستمائة ألف وستون ألف فم في كل فم ستون ألف لسان يثنى على الله تعالى ويقدسه ويهلله ويكبره بكل لسان ستمائة ألف وستين ألف مرة فإذا كان يوم القيامة نظر إلى عظمة الله تعالى فيقول: وعزتك ما عبدتك حق عبادتك فذلك قوله تعالى: * (ويخلق ما لا تعلمون) * وفي رواية أخرى عنه أن عن يمين العرش نهرا من نور مثل السموات السبع والأرضين السبع والبحار السبع يدخل فيه جبريل عليه السلام كل سحر فيغتسل فيزداد جمالا إلى جماله وعظما إلى عظمه ثم ينتقض فيخلق الله تعالى من كل قطرة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك فيدخل منهم كل يوم سبعون
102

ألف ملك البيت المعمور وسبعون ألف ملك الكعبة لا يعودون إلى يوم القيامة.
وروى هذا أيضا عن الضحاك. ومقاتل. وعطاء، ومما لا نعلمه أرض السمسمة التي ذكر عنها الشيخ الأكبر قدس سره ما ذكر، وجابرصا وجابلقا حسبما ذكر غير واحد، وان زعمت ذلك من الخرافات كالذي ذكره عصرينا رئيس الطائفة الذين سموا أنفسهم بالكشفية ودعاهم أعداؤهم من الإمامية بالكفشية في غالب كتبه مما تضحك منه لعمر أبيك الثكلى ويتمنى العالم عند سماعه لمزيد حيائه من الجهلة نزوله إلى الأرض السفلى فاقنع بما جاء في الآثار، ولا يثنينك عنه شبه الفلاسفة إذا صح سنده فانها كسراب بقيعة، والذي أظنه أنه ليس أحد من الكفار فضلا عن المؤمنين يشك في أن لله تعالى خلقا لا نعلمهم ليحتاج إلى إيراد الشواهد على ذلك، ويجوز أن يكون المراد بهذا الخلق الخلق في الجنة أي ويخلق في الجنة غير ما ذكر من النعم الدنيوية ما لا تعلمون أي ما ليس من شأنكم أن تعلموه، وهو ما أشير إليه بقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى: * (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) *.
* (وعلى الله قصد السبيل ومنها جآئر ولو شآء لهداكم أجمعين) *
.
* (وعلى الله قصد السبيل) * القصد مصدر بمعنى الفاعل، يقال: سبيل قصد وقاصد أي مستقيم كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك ولا يعدل عنه، فهو نحو نهر جار
وطريق سائر و * (على) * للوجوب مجازا والكلام على حذف مضاف أي متحتم عليه تعالى متعين كالأمر الواجب لسبق الوعد بيان، وقيل: هداية الطريق المستقيم الموصل لمن سلكه إلى الحق الذي هو التوحيد بنصب الأدلة وإرسال الرسل عليهم السلام وإنزال الكتب لدعوة الناس إليه، أو هو مصدر بمعنى الإقامة والتعديل و * (على) * على حالها المار إلا أنه لا حاجة إلى تقدير المضاف أي عليه سبحانه تقويم السبيل وتعديلها أي جعلها بحيث يصل سالكها إلى الحق على حد صغر البعوضة وكبر الفيل وحقيقته راجعة إلى ما ذكر من نصب الأدلة وإرسال الرسل عليهم السلام وإنزال الكتب.
وجوز أن يكون القصد بمعنى القاصد أي المستقيم كما في التفسير الأول و * (على) * ليست للوجوب واللزوم والمعنى أن قصد للسبيل ومستقيمه موصل إليه تعالى وما عليه سبحانه، وفيه تشبيه ما يدل على الله عز وجل بطريق مستقيم شأنه ذلك، وقد ذكر نحو هذا ابن عطية وهو كما ترى، وأل في السبيل للجنس عند كثير فهو شامل للمستقيم وغير، وإضافة القصد بمعنى المستقيم إليه من إضافة العام إلى الخاص، وإضافة الصفة إلى الموصوف خلاف الظاهر على ما قيل؛ وقيل: أل للعهد. والمراد سبيل الشرع وقوله تعالى: * (ومنها جائر) * أي عادل عن المحجة منحرف عن الحق لا يوصل سالكه إليه ظاهر في إرادة الجنس إذ البعضية إنما تتأتى على ذلك، فإن الجائر على إرادة العهد ليس من ذلك بل قسيمه، ومن اراده أعاد الضمير على المطلق الذي في ضمن ذلك المقيد أو على المذكور بتقدير مضاف أي ومن جنسها جائر، وقال ابن عطية: يحتمل أن يعود على سبيل الشرع، والمراد بهذا البعض فرق الضلالة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهو جائر عن قصد السبيل؛ وزعم بعضهم أن الضمير يعود على الخلائق أي ومن الخلائق جائر عن الحق، وأيد بقراءة عيسى، ورويت عن ابن مسعود * (ومنكم) * وأخرجها ابن الأنباري في المصاحف عن علي كرم الله تعالى وجهه لكن بالفاء بدل الواو وليس بذاك، والتأنيث لأن السبيل تؤنث وتذكر، والجار والمجرور قيل خبر مقدم و * (جائر) * مبتدأ مؤخر، وقيل: هو في محل رفع بالابتداء أما باعتبار مضمونه وإما بتقدير الموصوف أي بعض السبيل
103

أو بعض من السبيل جائر، والجملة على ما اختاره بعض المحققين اعتراضية جيء بها لبيان الحاجة إلى البيان أو التعديل بنصب الأدلة والإرسال والإنزال الأمور المذكورة سابقا واظهار جلالة قدر النعمة في ذلك، وذلك هو الهداية المفسرة بادلالة على ما يوصل إلى المطلوب لا الهداية المستلزمة للاهتداء إليه فإن ذلك ليس على الله سبحانه اصلا بل هو مخل بحكمته كما يشير إليه قول تعالى: * (ولو شاء لهداكم أجمعين) * فإن معناه ولو شاء هدايتكم إلى ما ذكر من التوحيد هداية مستلزمة للاهتداء إليه لفعل ولكن لم يشأ لأن مشيئته تابعة للحكمة ولا حكمة في تلك المشيئة لما أن الذي يدور عليه فلك التكليف إنما هو الاختيار الذي عليه ترتب الأعمال التي بها يرتبط الجزاء، وقيد * (أجمعين) * للمنفى لا للنفي فيكون المراد سلب العموم لا عموم السلب؛ وذكر بعضهم أنه كان الظاهر أن يقال: وعلى الله قصد السبيل وجارها أو وعليه جائرها إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الكريم لأن الضلال لا يضاف إليه تعالى تأدبا فهو كقوله تعالى: * (الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم) *.
وزعم الزمخشري أن المخالفة بين أسلوبي الجملتين للإيذان بما يجوز إضافته من السبيلين إليه تعالى وما لا يجوز وعنى الإشارة إلى ما ذهب إليه إخوانه المعتزلة من عدم جواز إضافة الضلال إليه سبحانه لأنه غير خالقه وجعلوا الآية للمخالفة حجة لهم في هذه المخالفة. وأجاب بعض الجماعة بأن المراد على الله تعالى بحسب الفضل والكرم بيان الدين الحق والمذهب الصحيح فأما بيان كيفية الاغواء والاضلال فليس عليه سبحانه، وبحث فيه بأنه كما أن بينا الهداية وطريقها متحتم فكذا ضده وليس إرسال الرسل عليهم السلام وإنزال الكتب إلا لذلك.
وقال ابن المنير: إن المخالفة بين الأسلوبين لأن سياق الكلام لإقامة الحجة على الخلق بأنه تعالى بين السبيل القاصد والجائر وهدى قوما اختاروا الهدى وأضل آخرين اختاروا الضلالة، وقد حقق أن كل فعل صدر على يد العبد فله اعتباران هو من حيث كونه موجودا مخلوق لله تعالى ومضاف إليه سبحانه بهذا الاعتبار، وهو من حيث كونه مقترنا باختيار العبد له وتيسره عليه يضاف إلى العبد وأن تعدد هذين الاعتبارين ثابت في كل فعل فناسب إقامة الحجة على العباد إضافة الهداية إلى الله تعالى باعتبار خلقه لها وإضافة الضلال إلى العبد باعتبار اختياره له. والحاصل أنه ذكر في كل واحد من الفعلين نسبة غير النسبة المذكورة في الآخر ليناسب ذلك إقامة الحجة ألا لله الحجة البالغة، وأنكر بعض المحققين أن يكون هناك تغيير الأسلوب لأمر مطلوب بناء على أن ذلك إنما يكون فيها اقتضى الظاهر سبكا معينا ولكن يعدل عن ذلك لنكتة أهم منه، وليس المراد من بيان قصد السبيل مجرد اعلام أنه مستقيم حتى يصح إسناد أنه جائر إليه تعالى فيحتاج إلى الاعتذار عن عدم ذلك على أنه لو أريد ذلك لم يوجد لتغيير الأسلوب نكتة، وقد بين ذلك في مواضع غير معدودة بل المراد نصب الأدلة للهداية إليه ولا إمكان لإسناد مثله إليه تعالى بالنسبة إلى الطريق الجائر بأن يقال: وجائرها حتى يصرف ذلك الإسناد منه تعالى إلى غيره سبحانه لنكتة ولا يتوهم متوهم حتى يقتضي الحال دفع ذلك بأن يقال لا جائرها ثم يغير سبك النظم عنه لداعية أقوى منه، وذكر أن الجلمة اعتراضية حسبما نقلناه سابقا، وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق، بيد أن لقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يراد ببيان السبيل لمستقيم وببيان السبيل الجائر نصب الأدلة الدالة على حقية الأول ليهدي إليه وبطلان الثاني ليحذر ولا يعول عليه وهذا غير مجرد الاعلام الذي ذكره؛ ونسبته إليه تعالى ممكنة بل قال بعصهم: إن الحق أن المعنى على الله تعالى بيان طريق الهداية ليهتدوا إليه وبيان غيرها ليحذروه لكن اكتفى بأحدهما للزوم الآخر له.
104

وفي " الكشف " أن تغاير الأسلوبين على أصل أهل السنة واضح أيضا إذ لا منكر أن الأول هو المقصود لذاته فبيان طريق الضلالة إجمالا قدر ما يمتاز قصد السبيل منه في ضمن بيان قصد السبيل ضرورة وبيانه التفصيلي ليس مما لا بد من وقوعه ولا أن الوعد جرى به على مذهب اه‍ فليتأمل، ثم إن الآية منادية على خلاف ما زعمه المعتزلة ومنهم الزجاج من عدم استلزام تعلق مشيئته تعالى بشيء وجوده وقد التجأوا إلى التزام تفسيرها بالقسرية، وقال أبو علي منهم: المعنى لو شاء لهداكم إلى الثواب أو إلى الجنة بغير استحقاق وكل ذلك خلاف الظاهر كما لا يخفى.
* (هو الذىأنزل من السماء مآء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون) *
.
* (هو الذي أنزل من السماء ماء) * شروع في نوع آخر من النعم الدالة على توحيده سبحانه، والمراد من الماء نوع منه وهو المطرد ومن السماء إما السحاب على سبيل الاستعارة أو المجاز المرسل، وإما الجرم المعروف والكلام على حذف مضاف أي من جانب السماء أو جهتها وحملها على ذلك بدون هذا يقتضيه ظاهر بعض الأخبار ولا أقول به، و * (من) * على كل تقدير ابتدائية وهو متعلق بما عنده، وتأخير المفعول الصريح عنه ليظمأ الذهن إليه فيتمكن أتم تمكن عند وروده عليه، وقوله تعالى: * (لكم) * يحتمل أن يكون خبرا مقدما، وقوله سبحانه: * (منه) * في موضع الحال من قوله عز وجل: * (شراب) * أي ما تشربون وهو مبتدأ مؤخر أو هو فاعل بالظرف الأول والجملة صفة لماء و * (من) * تبعيضية وليس في تقديمها إيهام حصر، ومن توهمه قال: لا بأس به لأن جميع المياه العذبة المشروبة بحسب الأصل منه كما ينبىء عنه قوله تعالى: * (فسلكه ينابيع في الأرض) * (الزمر: 21) وقوله سبحانه: * (فأسكناه في الأرض) * (المؤمنون: 18) ويحتمل أن يكون متعلقا بما عنده * (ومنه شراب) * مبتدأ وخبر أو شراب فاعل بالظرف والجملة ومن كما تقدم.
وتعقب بأن توسيط المنصوب بين المجرورين وتوسيط الثاني منهما بين الماء وصفته مما لا يليق بجزالة النظم الجليل وهو كذلك * (ومنه شجر) * أي نبات مطلقا سواء كان له ساق أم لا كما نقل عن الزجاج وهو حقيقة في الأول، ومن استعماله في الثاني قول الراجز: نعلفها اللحم إذا عز الشجر * والخيل في إطعامها اللحم ضرر
فإنه قيل: الشجر فيه بمعنى الكلأ لأنه الذي يعلف، وكذا فسره في النهاية بذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت " ولعل ذلك لأنه جاء في الحديث النهي عن منع فضل الماء كمنع فضل الكلأ وتشارك الناس في الماء والكلأ والنار، وأبقاه بعضهم على حقيقته ولم يجعله مجازا شاملا، و * (من) * إما للتبعيض مجازا لأن الشجر لما كان حاصلا بسقيه جعل كأنه منه كقوله: أسنمة الابال في ربابه
يعني به المطر الذي ينبت به ما تأكله الإبل فتسمن أسنمتها، وإما للابتداء أي وكائن منه شجر، والأول أولى بالنسبة إلى ما قبله.
وقال أبو البقاء: هي سببية أي وبسببه إنبات شجر، ودل على ذلك * (ينبت لكم به الزرع) * (النحل: 11) وجوز ابن الأنباري الوجهين الأولين على ما يقتضيه ظاهر قوله: الكلام على تقدير مضاف إما قبل الضمير أي من جهته أو من سقيه شجر
105

وأما قبل شجر أي ومنه شراب شجر كقوله تعالى: * (وأشربوا في قلوبهم العجل) * أي حبه اه‍ وهو بعيد وإن قيل: الإضمار أولى من المجاز لا العكس الذي ذهب إليه البعض وصحح المساواة لاحتياج كل منهما إلى قرينة.
* (فيه تسيمون) * أي ترعون يقال: أسام الماشية وسومها جعلها ترعى وسامت بنفسها فهي سائمة وسوام رعت حيث شاءت، وأصل ذلك على ما قال الزجاج السومة وهي كالسمة العلامة لأن المواشي تؤثر علامات في الأرض والأماكن التي ترعاها. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما * (تسيمون) * بفتح التاء فإن سمع سام متعديا كان هو وأسام بمعنى وإلا فتأويل ذلك أن الكلام على حذف مضاف أي تسيم مواشيكم.
* (ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعن‍ابومن كل الثمرات إن فى ذلك لآية لقوم يتفكرون) *
.
* (ينبت) * أي الله عز وجل يقال نبت الشيء وأنبته الله تعالى فهو منبوت وقياس هذا منبت، وقيل: يقال أنبت الشجر لازما وأنشد الفراء: رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم * قطينا بها حتى إذا أنبت البقل
أي نبت، وكان الأصمعي ينكر مجىء أنبت بمعنى نبت. وقرأ أبو بكر * (ننبت) * بنون العظمة، والزهري * (ينبت) * بالتشديد وهو للتكثير في قول، واستظهر أبو حيان أنه تضعيف التعدية. وقرأ أبي * (ينبت) * بفتح الياء ورفع المتعاطفات بعد على الفاعلية، وجملة ينبت * (لكم به) * أي بما أنزل من السماء * (الزرع والزيتون والنخيل والأعناب) * يحتمل أن تكون صفة أخرى - لماء - وأن تكون مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل: وهل له منافع أخر؟ فقيل: ينبت لكم به الخ، وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة على التجدد والاستمرار وأن الإنبات سنته سبحانه الجارية على ممر الدهور أو لاستحضار الصورة لما فيها من الغرابة، وتقديم الظرفين على المفعول الصريح لما أشرنا إليه آنفا مع ما في تقديم أولهما من الاهتمام به لإدخال المسرة ابتداء، وتقديم الزرع على ما عداه قيل: لأنه أصل الأغذية وعمود المعاش وقوت أكثر العالم وفيه مناسبة للكلأ المرعي، ثم الزيتون لما فيه من الشرف من حيث أنه أدام من وجه وفاكهة من وجه، وقد ذكر الأطباء له منافع جمة، وذكر غير يسير منها في التذكرة، والظاهر من كلام اللغويين أنه اسم جنس جمعي واحده زيتونة وأنه يطلق على الشجر المخصوص وعلى ثمرته.
واستظهر أن المراد به هنا الأول وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى تمام الكلام في ذلك، وأكثر ما ينبت في المواضع التي زاد عرضها على الميل واشتد بردها وكانت جبلية ذات تربة بيضاء أو حمراء، ثم النخيل على الأعناب لظهور دوامها بالنسبة إليها فإن الواحدة منها كثيرا ما تتجاوز مائة سنة وشجرة العنب ليست كذلك، نعم الزيتون أكثر دواما منهما فإن الشجرة منه قد تدوم ألف سنة مع أن ثمرتها كثيرا ما يقتات بها حتى جاء في الخبر " ما جاع بيت وفيه تمر " وأكثر ما تنبت في البلاد الحارة اليابسة التي يغلب عليها الرمل كالمدينة المشرفة والعراق وأطراف مصر، وهي على ما قال الراغب جمع نخل وهو يطلق على الواحد والجمع ويقال للواحدة نخلة، وأما الأعناب فجمع عنبة بكسر العين وفتح النون والباء وقد جاءت ألفاظ مفردة على هذا الوزن غير قليلة.
وقد ذكر في " القاموس " عدة منها، ونسب الجوهري إلى قلة الاطلاع في قوله: إن هذا البناء في الواحد نادر وجاء منه العنبة والتولة والحبرة والطيبة والخيرة ولا أعرف غير ذلك، وذكر الجوهري أنه إن أردت جمعه في أدنى العدد جمعته بالتاء وقلت عنبات وفي الكثير عنب وأعناب اه‍، ولينظر هذا مع عدهم أفعالا من جموع القلة
، ويطلق العنب كما قال الراغب على ثمرة الكرم وعلى الكرم نفسه، والظاهر أن المراد هو الثاني.
106

وذكر أبو حيان في وجه تأخير الأعناب إن ثمرتها فاكهة محضة، وفيه إنه إن أراد بثمرتها العنب ما دام طريا قبل أن يتزبب فيمكن أن يسلم وإن أراد به المتزبب فغير مسلم، وفي كلام كثير من الفقهاء في بحث زكاة الفطر أن في الزبيب اقتياتا بل ظاهر كلامهم أنه في ذلك بعد التمر وقبل الأرز، والباحث في هذا لا ينفي الاقتيات كما لا يخفى على الواقف على البحث، وفي جمع * (النخيل والأعناب) * إشارة إلى أن ثمارها مختلفة الأصناف ففي التذكرة عند ذكر التمر أنه مختلف كثير الأنواع كالعنب حتى سمعت أنه يزيد على خمسين صنفا، وعند ذكر العنب أنه يختلف بحسب الكبر والاستطالة وغلظ القشر وعدم العجم وكثرة الشحم واللون والطعم وغير ذلك إلى أنواع كثيرة كالتمر اه‍، وأنا قد سمعت من والدي عليه الرحمة أنه سمع في مصر حين جاءها بعد عوده من الحج لزيارة أخيه المهاجر إليها لطلب العلم أن في نواحيها من أصناف التمر ما يقرب من ثلثمائة صنف والعهدة على من سمع منه هذا، وللعلامة أبي السعود هنا ما يشعر ظاهره بالغفلة وسبحان من لا يغفل وكان الظاهر تقديم غذاء الإنسان لشرفه على غذاء ما يسام لكن قدم ذاك - على ما قال الإمام - للتنبيه على مكارم الأخلاق وأن يكون اهتمام الإنسان بمن تحت يده أقوى من اهتمامه بنفسه، والعكس في قوله تعالى: * (كلوا وأرعونا أنعامكم) * للإيذان بأن ذلك ليس بلازم وإن كان من الأخلاق الحميدة، وهو على طبق ما ورد في الخبر " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول " وقيل: لأن ذلك مما لا دخل للخلائق فيه ببذر وغرس فالامتنان به أقوى، وقيل: لأن أكثر المخاطبين من أصحاب المواشي وليس لهم زرع ولا شيء مما ذكر، وقال شهاب الدين في وجه ذلك. ولك أن تقول لما سبق ذكر الحيوانات المأكولة والمركوبة ناسب تعقيبها بذكر مشربها ومأكلها لأنه أقوى في الامتنان بها إذ خلقها ومعاشها لأجلهم فإن من وهب دابة مع علفها كان أحسن، كما قيل: من الظرف هبة الهدية مع الظرف اه‍ ولا يخلو عن حسن.
والأولى عليه أن يراد من قوله تعالى: * (لكم منه شراب) * ما يشرب، وأما ما قيل: إن ما قدم من الغذاء غذاء للإنسان أيضا لكن بواسطة فإنه غذاء لغذائه الحيواني فلا يدفع السؤال لأنه يقال بعد: كان ينبغي تقديم ما كان غذاء له بغير واسطة، لا يقال: هذا السؤال إنما يحسن إذا كان المراد من المتعاطفات المذكورات ثمراتها لا ما يحصل منها الثمرات لأن ذلك ليس غذاء الإنسان لأنا نقول: ليس المقصود من ذكرها إلا الامتنان بثمراتها إلا أنها ذكرت على نمط سابقها المذكور في غذاء الماشية ويرشد إلى أن الامتنان بثمراتها قوله سبحانه: * (ومن كل الثمرات) * وإرادة الثمرات منها من أول الأمر بارتكاب نوع من المجاز في بعضها لهذا إهمال لرعاية غير أمر يحسن له حملها على ما قلنا دون ذلك، منه * (ينبت) * إذ ظاهره يقتضي التعلق بنفس الشجرة لا بثمرتها فليعمل بما يقتضيه في صدر الكلام وإن اقتضى آخره اعتبار نحو ما قيل فيه:
غلفتها تبنا وماء باردا * كذا قيل وفيه تأمل، ومنع بعضهم كون الإنبات مما يقتضي التعلق المذكور فقد قال سبحانه: * (فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتوناف ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا) * وجوز أن لا يكون الملحوظ فيما عد مجرد الغذائية بل ما يعمها وغيرها على معنى ينبت به لنفعكم ما ذكر والنفع يكون بما فيه غذاء وغيره، و * (من) * للتبعيض والمعنى وينبت لكم بعض كل الثمرات، وإنما قيل ذلك لما في " الكشاف " وغيره من أن كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة وإنما أنبت في الأرض بعض من كل للتذكرة، وقال بعض الأجلة: المراد بعض مما في بقاع الإمكان من ثمر القدرة الذي لم تجنه راحة الوجود، وهو أظهر وأشمل وأنسب بما تقدم لأنه سبحانه كما عقب ذكر الحيوانات المنتفع
107

بها على التفصيل بقوله تعالى: * (ويخلق ما لا تعلمون) * عقب ذكر الثمرات المنتفع بها بمثله * (إن في ذلك) * المذكور من إنزال الماء وإنزال ما فصل * (لآية) * عظيمة دالة على تفرده تعالى بالإلهية لاشتماله على كمال العلم والقدرة والحكمة * (لقوم يتفكرون) * فإن من تفكر في أن الحبة والنواة تقع في الأرض وتصل إليها نداوة تنفذ فيها فينشق أسفلها فيخرج منه عروق تنبسط في الأرض وربما انبسطت فيها وإن كانت صلبة وينشق أعلاها وإن كانت منتكسة في الوقوع فيخرج منها ساق فينمو فيخرج منه الأوراق والأزهار والحبوب والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الأشكال والألوان والخواص والطبائع وعلى نواة قابلة لتوليد الأمثال على النمط المحرر لا إلى نهاية مع اتحاد الماء والأرض والهواء وغيرها بالنسبة إلى الكل علم أن من هذه آثاره لا يمكن أن يشبهه شيء في شيء من صفات الكمال فضلا عن أن يشاركه في أخص صفاته التي هي الألوهية واستحقاق العبادة أخس الأشياء كالجماد تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ولله تعالى در من قال: تأمل في رياض الورد وانظر * إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات * على أهدابها ذهب سبيك
على قضب الزبر جد شاهدات * بأن الله ليس له شريك
وحيث كان الاستدلال بما ذكر لاشتماله على أمر خفي محتاج إلى التفكر والتدبر لمن له نظر سديد ختم الآية بالتفكر.
* (وسخر لكم اليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن فى ذلك لآي‍ات لقوم يعقلون) *
.
* (وسخر لكم الليل والنهار) * يتعاقبان خلفة لمنامكم واستراحتكم وسعيكم في مصالحكم من الأسامة وتعهد حال الزرع ونحو ذلك * (والشمس والقمر) * يدأبان في سيرهما وإنارتهما إصالة وخلافة وأدائهما ما نيط بهما من تربية الأشجار والزروع وإنضاج الثمرات وتلوينها وغير ذلك من التأثيرات المترتبة عليهما بإذن الله تعالى حسبما يقوله السلف في الأسباب والمسببات، وليس المراد بتسخير ذلك للمخاطبين تمكينهم من التصرف به كيف شاؤا كما في قوله تعالى: * (سبحان الذي سخر لنا هذا) * (الزخرف: 13) ونحوه بل تصريفه سبحانه لذلك حسبما يترتب عليه منافعهم ومصالحهم كأن ذلك تسخير لهم وتصرف من قبلهم حسب إرادتهم قاله بعض المحققين.
وقال آخرون: إن أصل التسخير السوق قهرا ولا يصح إرادة ذلك لأن القهر والغلبة مما لا يعقل فيما لا شعور له من الجمادات كالشمس والقمر وعدم تعقله في نحو الليل والنهار أظهر من ذلك فهو هنا مجاز عن الإعداد والتهيئة لما يراد من الانتفاع، وفي ذلك إيماء إلى ما في المسخر من صعوبة المأخذ بالنسبة إلى المخاطبين.
وذكر الإمام في المراد من التسخير نحو ما ذكر أولا ثم ذكر وجها آخر قال فيه: إنه لا يستقيم إلا على مذهب أصحاب الهيئة وهو أنهم يقولون: الحركة الطبيعية للشمس والقمر هي الحركة من المغرب إلى المشرق فالله تعالى سخر هذه الكواكب بواسطة حركة الفلك الأعظم من المشرق إلى المغرب فكانت هذه الحركة قسرية فلذا ورد فيها لفظ التسخير، وذكر أيضا أن حدوث الليل والنهار ليس إلا بسبب حركة الفلك الأعظم دون حركة الشمس وأما حركتها فهي سبب لحدوث السنة ولذا لم يكن ذكر الليل والنهار مغنيا عن ذكر الشمس اه‍؛ ولا يعترض عليه بأن ما ذكره من قوله: إن حدوث الليل والنهار إلى آخره لا يتأتى في عرض تسعين لأن الليل والنهار لا يحصلان إلا بغروب الشمس وطلوعها وهي هناك لا تغرب ولا تطلع بحركة الفلك الأعظم بل بحركتها الخاصة ولذا كانت
108

السنة يوما وليلة لما أن ذلك العرض غير مسكون وكذا ما يقرب منه فلا يدخل في حيز الامتنان. نعم في كلامه عند المتمسكين بأذيال الشريعة غير ذلك فلينظر؛ وفي كون الشمس والقمر مما لا شعور لهما خلاف بين العلماء فذهب البعض إلى أنهما عالمان وهو الذي تقتضيه الظواهر وإليه ذهب الصوفية والفلاسفة، ولم أشعر بوقوع خلاف في أن الليل والنهار مما لا شعور لهما، نعم رأيت في البهجة القادرية عن القطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره العزيز أن الشهر أو الأسبوع يأتيه في صورة شخص فيخبره بما يحدث فيه من الحوادث، ولعل هذا على نحو ظهور القرآن يوم القيامة في صورة الرجل الشاحب وقوله لمن كان يحفظه. " أنا الذي أسهرتك في الدياجي وأظمأتك في الهواجر " وظهور الموت في صورة كبش أملح وذبحه بين الجنة والنار يوم القيامة كما جاء في الخبر، وعليك بالإيمان بما جاء عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم وأنت في الإيمان بغيره بالخيار، وإيثار صيغة الماضي قيل للدلالة على أن ذلك التسخير أمر واحد مستمر وإن تجددت آثاره * (والنجوم مسخرات بأمره) * مبتدأ وخبر أي وسائر النجوم البيبانية وغيرها في حركاتها وأوضاعها المتبدلة وغير المتبدلة وسائر أحوالها مسخرات لما خلقت له بخلقه تعالى وتدبيره الجاري على وفق مشيئته فالأمر واحد الأمور، وجوز أن يكون واحد الأوامر ويراد منه الأمر التكويني عند من لا يقول بإدراك النجوم، والمعنى أنها مسخرة لما خلقت له بقدرته تعالى وإيجاده، قيل: وحيث لم يكن عود منافع النجوم إليهم في الظهور بمثابة ما قبلها من الجديدين والنيرين لم ينسب تسخيرها إليهم بأداة الاختصاص بل ذكر على وجه يفيد أنها تحت ملكوته عز وجل من غير دلالة على شيء آخر، ولذلك عدل عن الجملة الفعلية الدالة على الحدوث إلى الاسمية المفيدة للدوام والاستمرار، وقرأ ابن عامر برفع * (الشمس والقمر) * أيضا فيكون المبتدأ الشمس والبواقي معطوفة عليه و * (مسخرات) * خبر عن الجميع، ولا يتأتى على هذه القراءة ما في وجه عدم نسبة تسخير ذلك إليهم بأداة الاختصاص كما لا يخفى، واعتبار عدم كون ظهور المنافع بمثابة السابق بالنظر إلى المجموع كما ترى. ومن الناس من قال في ذلك: إن المراد بتسخير الليل والنهار لهم نفعنم بهما من حيث أنهما وقتا سعي في المصالح واستراحة ومن حيث ظهور ما يترتب عليه منافعهم مما نيط به صلاح المكونات التي من جملتها ما فصل وأجمل مثلا كالشمس والقمر فيهما، ويؤل ذلك بالآخرة إلى النفع بذلك وهو معنى تسخيره لهم، فيكون تسخير الليل والنهار لهم متضمنا لتسخير ذلك لهم فحيث أفاده الكلام أولا استغنى عن التصريح به ثانيا وصرح بما هو أعظم شأنا منه وهو أن تلك الأمور لم تزل ولا تزال مقهورة تحت قدرته منقادة لإرادته ومشيئته سواء كنتم أو لم تكونوا فليتدبر، وقرأ الجمهور * (والنجوم - و - مسخرات) * بالنصب فيهما، وكذا فيما تقدم، وخرج ذلك على أن * (النجوم) * مفعول أول لفعل محذوف ينبىء عنه الفعل المذكور و * (مسخرات) * مفعول ثان له، أي وجعل النجوم مسخرات، وجوز جعل - جعل - بمعنى خلق المتعدي لمفعول واحد - فمسخرات - حال، واستظهر أبو حيان كون * (النجوم) * معطوفا على ما قبله بلا إضمار و * (مسخرات) * حينئذ قيل حال من الجميع على أن التسخير مجاز عن النفع أي أنفعكم بها حال كونها مسخرات لما خلقت له مما هو طريق لنفعكم وإلا فالحمل على الظاهر دال على أن التسخير في حال التسخير بأمره ولا كذلك لتأخر الأول، وقيل: لذلك أيضا: إن المراد مستمرة على التسخير بأمره الإيجادي لأن الإحداث لا يدل على الاستمرار، وجوز بعض أجلة المعاصرين أن يكون حالا موكدة بتقدير * (بأمره) * متعلقا * (بسخر) * والكلام من باب التنازع، وقبوله مفوض إليك، وقيل: هو مصدر
109

ميمي كمسرح منصوب على أنه مفعول مطلق - لسخر - المذكور أولا وسخرها مسخرات على منوال ضربته ضربات، وجمع إشارة إلى اختلاف الأنواع، وفي إفادة تسخير ما ذكر إيذان بالجواب عما عسى يقال: إن المؤثر في تكوين النبات حركات الكواكب وأوضاعها فإن ذلك أن سلم فلا ريب في أنها ممكنة الذات والصفا واقعة على بعض الوجوه مع احتمال غيره ترجيح بلا مرجح مختار لما أن الإيجاب ينافي الترجيح واجب الوجود دفعا للدور أو التسلسل كذا قاله بعض الأجلة، واعترضه المولى العمادي بأنه مبني على حسبان ما ذكر أدلة الصانع تعالى وقدرته واختياره، وليس الأمر كذلك فإنه مما لا ينازع فيه الخصم ولا يتلعثم في قبوله قال تعالى: * (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون) * وقال سبحانه: * (ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيى به الأرض من بعد موتها ليقولن الله) * الآية وإنما ذلك أدلة التوحيد من حيث أن من هذا شأنه لا يتوهم أن يشاركه شيء في شيء فضلا أن يشاركه الجماد في الألوهية اه‍، وتعقب بأن كون ما ذكر أدلة التوحيد لا يأبى أن يكون فيه إيذان بالجواب عما عسى يقال وأي ضرر في أن يساق شيء لأمر ويؤذن بأمر آخر، ولعمري لا أرى لهذا الاعتراض وجها بعد قول القائل في ذلك إيذان بالجواب عما عسى يقال الخ حيث لم يبت القول وأقحم عسى في البين لكن للقائل كلام يدل دلالة ظاهرة على أنه اعتبر الأدلة المذكورة أدلة على وجود الصانع عز شأنه أيضا وقد سبقه في ذلك الإمام.
* (إن في ذلك) * أي التسخير المتعلق بما ذكر * (لآيات) * باهرة متكاثرة على ما يقتضيه المقام * (لقوم يعقلون) * وحيث كانت هذه الآثار العلوية متعددة ودلالة ما فيها من عظيم القدرة والعلم والحكمة على الوحدانية أظهر جمع الآيات وعلقت بمجرد العقل من غير تأمل وتفكر كأنها لمزيد ظهورها مدركة ببداهة العقل بخلاف الآثار
السفلية في ذلك كذا قالوا، وهو ظاهر على تقدير كون الاستدلال على الوحدانية لا على الوجود أيضا، وأما إذا كان الاستدلال على ذلك ففي دعوى الظهور المذكور بحث لانجرار الكلام على ذلك إلى إبطال التسلسل فكيف تكون الدلالة ظاهرة غير محوجة إلى فكر. وأجيب عنه بأن الاستدلال بالدور أو التسلسل إنما هو بعد التفكر في بدء أمرها وما نشأ منه من اختلاف أحوالها فافهم.
وجوز أن يكون المراد لقوم يعقلون ذلك والمشار إليه نهاية تعاجيب الدقائق المودعة في العلويات المدلول عليها بالتسخير التي لا يتصدى لمعرفتها إلا المهرة الذين لهم نهاية تعاجيب الدقائق المودعة في العلويات المدلول عليها بالتسخير التي لا يتصدى لمعرفتها إلا المهرة الذين لهم نهاية الإدراك من أساطين علماء الحكمة وحينئذ قطع الآية بقوله سبحانه هنا: * (يعقلون) * للإشارة إلى احتياج ذلك إلى التفكر أكثر من غيره والأول أولى كما لا يخفى.
* (وما ذرأ لكم فى الارض مختلفا ألوانه إن فى ذلك لآية لقوم يذكرون) *
.
* (وما ذرأ) * أي خلق ومنه الذرية على قول والعطف عند بعض على * (النجوم) * رفعا ونصبا على أنه مفعول - لجعل - و * (ما) * موصولة أي والذي ذرأه * (لكم في الأرض) * من حيوان ونبات، وقيل: من المعادن ولا بأس في التعميم فيما أرى حال كونه * (مختلفا ألوانه) * أي أصنافه كما قال جمع من المفسرين وهو مجاز معروف في ذلك، قال الراغب: الألوان يعبر بها عن الأجناس والأنواع يقال: فلان أتى بألوان من الحديث والطعام وكان ذلك لما أن اختلافها غالبا يكون باختلاف اللون، وقيل: المراد المعنى الحقيقي أي مختلفا ألوانه
110

من البياض والسواد وغيرهما والأول أبلغ أي ذلك مسخر لله تعالى أو لما خلق له من الخواص والأحوال والكيفيات أو جعل ذلك مختلف الألوان والأصناف لتتمتعوا بأي صنف شئتم منه، وذهب بعضهم إلى أن الموصول معطوف على الليل وقيل عليه: إن في ذلك شبه التكرار بناء على أن اللام في * (لكم) * للنفع وقد فسر * (سخر لكم) * لنفعكم فمآل المعنى نفعكم بما خلق لنفعكم فالأولى جعله في محل نصب بفعل محذوف أي خلق أو أنبت كما قاله أبو البقاء ويجعل * (مختلفا) * حالا من مفعوله واعتذر بأن الخلق للإنسان لا يستلزم التسخير لزوما عقليا، فإن الغرض قد يتخلف مع أن الإعادة لطول العهد لا تنكر. ورد بأنه غفلة عن كون المعنى نفعكم وما ذكر علاوة مبني على كون * (لكم) * متعلقة - بسخر - أيضا وهي عند ذلك الذاهب متعلقة كما هو الظاهر بذرأ وفي " الحواشي الشهابية " أن هذا ليس بشيء لأن التكرار لما ذكر وللتأكيد أمر سهل، وكون المعنى نفعكم لا يأباه مع أن هذه الآية سيقت كالفذلكة لما قبلها ولذا ختمت بالتذكر، وليس لمن يميز بين الشمال واليمين أن يقول: ما مبتدأ و * (مختلفا) * حال من ضميره المحذوف، وجملة قوله تعالى: * (إن في ذلك لاية لقوم يذكرون) * خبره والرابط اسم الإشارة على حد ما قيل في قوله تعالى: * (ولباس التقوى ذلك خير) * كأنه قيل، وما ذرأه لكم في الأرض إن فيه لآية، وحاصله إن فيما ذرأ لآية لظهور مخالفة الآية عليه السباق والسياق بل عدم لياقته لأن يكون محملا لكلام الله تعالى الجليل أظهر من أن ينبه عليه، * (و) * ألوانه، على ألوان الاحتمالات مرفوع بمختلفا وقدر بعضهم ليصح رفعه به موصوفا وقال: أي صنفا مختلفا ألوانه وهو مما لا حاجة إليه كما يخفى على من له أدنى تدرب في علم النحو، ثم إن المشار إليه ما ذكر من التسخير ونحوه، وقيل: اختلاف الألوان * (وتنوين) * آية للتفخيم آية فخيمة بينة الدلالة على أن من هذا شأنه واحد لا ينبغي أن يشبهه شيء في شيء وختم الآية بالتذكر إما لما في " الحواشي الشهابية " من أنها كالفذلكة لما قبلها وإما للإشارة إلى أن الأمر ظاهر جدا غير محتاج إلا إلى تذكر ما عسى يغفل عنه من العلوم الضرورية، وقال بعضهم: يذكرون أن اختلاف طبائع ما ذكر وهيآته وأشكاله مع اتحاد مادته يدل على الفاعل الحكيم المختار، وهو ظاهر في أن ما ذكر دليل على إثبات وجود الصانع كما أنه دليل على وحدانيته وهو الذي ذهب إليه الإمام واقتدى به غيره، ولم يرتضه شيخ الإسلام بناء على أن الخصم لا ينازع في الوجود وإنما ينازع في الوحدانية فجىء بما هو مسلم عنده من صفات الكمال للاستدلال به على ما يقتضيه ضرورة من وحدانيته تعالى واستحالة أن يشاركه شيء في الألوهية، وقال بعضهم: لا مانع من أن يكون المراد الاستدلال بما ذكر من الآيات على مجموع الوجود والوحدانية والخصم ينكر ذلك وإن لم ينكر الوجود وكان في أخذ الوجود في المطلوب إشارة إلى أن القول به مع زعم الشركة في الألوهية مما لا يعتد به وليس بينه وبين عدم القول به كثير نفع فتدبر ذاك والله تعالى يتولى هداك.
* (وهو الذى سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) *
.
* (وهو الذي سخر البحر) * شروع في نوع آخر من النعم متعلق بالبحر إثر تفصيل النوع المتعلق بالبر، وجعله بعضهم عديلا لقوله تعالى: * (هو الذي أنزل من السماء ماء لكم) * (النحل: 10) فلذا جاء على أسلوبه جملة اسمية معرفة الجزءين، وما وقع في البين إما مترتب على ذلك الماء المنزل وإما متضمن لمصلحة ما يترتب عليه، والبحر على ما في " البحر " يشمل الملح والعذب، والمعنى جعل لكم ذلك بحيث تتمكنون من الانتفاع به بالركوب والغوص والاصطياد * (لتأكلوا منه لحما طريا) * وهو السمك، والتعبير عنه باللحم مع كونه حيوانا للإشارة إلى قلة عظامه وضعفها في أغلب ما يصطاد للأكل بالنسبة إلى الإنعام الممتن بالأكل منها فيما سبق، وقيل: للتلويح بانحصار الانتفاع به في الأكل.
111

و * (من) * متعلق - بتأكلوا - أو حال مما بعده وهي ابتدائية، وجوز أن تكون تبعيضية والكلام على حذف مضاف أي من حيوانه، وحينئذ يجوز أن من اللحم الطري لحم السمك كما يجوز أن يراد منه السمك، والطري فعيل من طرو يطرو طراوة مثل سرو يسرو سراوة، وقال الفراء: من طري يطري طراء وطراوة كشقي يشقى شقاء وشقاوة، والطراوة ضد اليبوسة، ووصفه بذلك للإشعار بلطافته والتنبيه إلى أنه ينبغي المسارعة إلى أكله فإنه لكونه رطبا مستعد للتغير فيسرع إليه الفساد
والاستحالة، وقد قال الأطباء: إن تناوله بعد ذهاب طراوته من أضر الأشياء ففيه إدماج لحكم طبي؛ وهذا على ما قيل لا ينافي تقديده وأكله محللا كما توهم، وفي جعل البحر مبتدأ أكله على أحد الاحتمالين إيذان بالمسارعة أيضا.
وزعم بعضهم أن في الوصف إيذانا أيضا بكمال قدرته تعالى في خلقه عذبا طريا في ماء مر لا يشرب، وفيه شيء لا يخفى، ولا يؤكل عندنا من حيوان البحر إلا السمك، ويؤيده تفسير اللحم به المروى عن قتادة. وغيره، وعن مالك. وجماعة من أهل العلم إطلاق جميع ما في البحر، واستثنى بعضهم الخنزير. والكلب. والإنسان، وعن الشافعي أنه أطلق ذلك كله، ويوافقه ما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال: هو السمك وما في البحر من الدواب. نعم يكره عندنا أكل الطافي منه وهو الذي يموت حتف أنفه في الماء فيطفو على وجه الماء لحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ما نضب الماء عنه فكلوا وما لفظه الماء فكلوا وما طفا فلا تأكلوا وهو مذهب جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وميتة البحر في خبر " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " ما لفظه ليكون موته مضافا إليه لا ما مات فيه من غير آفة، وما قطع بعضه فمات يحل أكل ما أبين وما بقي لأن موته بآفة وما أبين من الحي فهو ميت وإن كان ميتا فميتته حلال، ولو وجد في بطن السمكة سمكة أخرى تؤكل لأن ضيق المكان سبب موتها، وكذا إذا قتلها طير الماء وغيره أو ماتت في جب ماء، وكذا إن جمع السمك في حظيرة لا يستطيع الخروج منه وهو يقدر على أخذه بغير صيد فمات فيها، وإن كان لا يؤخذ بغير صيد فلا خير في أكله لأنه لم يظهر لموته سبب، وإذا ماتت السمكة في الشبكة وهي لا تقدر على التخلص منها أو أكلت شيئا ألقاه في الماء لتأكل منه فماتت منه وذلك معلوم فلا بأس بأكلها لأن ذلك في معنى ما انحسر عنه الماء، وفي موت الحر والبرد روايتان: إحدهما وهي مروية عن محمد يؤكل لأنه مات بسبب حادث وكان كما لو ألقاه الماء على اليبس. والأخرى ورويت عن الإمام أنه لا يؤكل لأن الحر والبرد صفتان من صفة الزمان وليسا من أسباب الموت في الغالب، ولا بأس بأكل الجريث والمارماهي، واشتهر عن الشيعة حركة أكل الأول فليراجع، واستدل قتادة كما أخرج ابن أبي شيبة عنه بالآية على حنث من حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا لما فيها من إطلاق اللحم عليه، وروي ذلك عن مالك أيضا. وأجيب بأن مبنى الإيمان على ما يتفاهمه الناس في عرفهم لا على الحقيقة اللغوية ولا على استعمال القرآن، ولذا لما أفتى الثوري بالحنث في المسألة المذكورة للآية وبلغ أبا حنيفة عليه الرحمة قال للسائل: ارجع واسأله عمن حلف لا يجلس على بساط فجلس على الأرض هل يحنث لقوله تعالى: * (جعل لكم الأرض بساطا) * (نوح: 19) فقال له: كأنك السائل أمس؟ فقال: نعم، فقال: لا يحنث في هذا ولا في ذاك ورجع عما أفتى به أولا، والظاهر أن متمسك الإمام قد كان العرف وهو الذي ذهب إليه ابن الهمام لا ما في الهداية كما قال
112

من أن القياس الحنث، ووجه الاستحسان أن التسمية القرآنية مجازية لأن منشأ اللحم والدم ولا دم في السمك لسكونه الماء مع انتقاضه بالإلية فإنها تنعقد من الدم ولا يحنث بأكلها. واعترض بأنه يجوز أن يكون في المسألة دليلان ليس بينهما تناف، وما ذكر من النقض مدفوع بأن المذكور كل لحم ينشأ من الدم ولا يلزم عسكه الكليء وتعقب بأن إطلاق اللحم على السمك لغة لا شبهة فيه فينتقض الطرد والعكس فمراد المعترض الرد عليه بزيادة في الإلزام. نعم قد يقال: مراده بالمجاز المذكور أنه مجاز عرفي كالدابة إذا أطلقت على الإنسان فيرجع كلامه إلى ما قاله الإمام وحينئذ لا غبار عليه، وما ذكر بيان لوجه الاستعمال العرفي فلا يرد عليه شيء وهو كما ترى، وعلى طرز ما قاله الإمام يقال فيمن حلف لا يركب دابة فركب كافرا أنه لا يحنث مع أن الله سبحانه سمى الكافر دابة في قوله تعالى: * (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا) * وفي " الكشاف " بيانا لعدم إطلاق اللحم على السمك عرفا أنه إذا قال واحد لغلامه اشتر بهذه الدراهم لحما فجاء بالسمك كان حقيقا بالإنكار عليه أي وهو دليل على عدم إطلاق اللحم عليه في العرف فحيث كانت الإيمان مبنية على العرف لم يحنث بأكله. واعترض بأنه لو قال لغلامه: اشتر لحما فاشترى لحم عصفور كان حقيقا بالإنكار مع الحنث بأكله. وتعقب بأن الإنكار إنماجاء من ندرة اشتراء مثله لأنه غير متعارف وفيما نحن فيه اشتراء السمك ولحمه متعارف فليس محل الإنكار إلا عدم إطلاق اللحم عليه * (وتستخرجوا منه حلية) * كاللؤلؤ والمرجان * (تلبسونها) * أي تلبسها نساءكم وجهه ذلك بأنه أسند إلى الرجال لاختلاطهم بالنساء وكونهم متبوعين أو لأنهم سبب لتزينهن فإنهن يتزين ليحسن في أعين الرجال فكان ذلك زينتهم ولباسهم.
قال ابن المنير: ولله تعالى در مالك رضي الله تعالى عنه حيث جعل للزوج الحجر على زوجته فيما له بال من مالها، وذلك مقدر بالزائد على الثلث لحقه فيه بالتجمل، فانظر إلى مكنة حظ الرجال من مال النساء ومن زينتهن حتى جعل كحظ المرأة من مالها وزينتها فعبر عن حظه في لبسها بلبسه كما يعبر عن حظها سواء مؤيدا بالحديث المروي في الباب اه‍. ويفهم منه جواز اعتبار المجاز في الطرف، وصرح بذلك بعضهم وفسر * (تلبسون) * بتتمتعون وتتلذذون، ويجوز أن يكون المجاز في النقص وما أظهر في التفسير مراد في النظم، وقيل: الكلام على التغليب أو من باب بنو فلان قتلوا زيدا ففيه إسناد ما للبعض إلى الكل. وتعقب بأنه وجه لكلا الوجهين أما الأول: فلعدم التلبس بالمسند وهو اللبس، وأما الثاني: فلأنه لا يتم بدون المجاز في الطرف فلا وجه للعدول عن اعتباره على النحو السابق، إلى هذا، وقال بعضهم: لا حاجة إلى كل ذلك فإنه لا مانع من تزين الرجال باللؤلؤ. وتعقب بأنه بعد تسليم أنه لا مانع منه شرعا مخالف للعادة المستمرة فيأباه لفظ المضارع الدال على خلافه، ولا يصح ما يقال: إن في " البحر " زمرذا بحريا وبفرض الصحة يجيء هذا أيضا، ولعله لما أن النساء مأمورات بالحجاب وإخفاء الزينة عن غير المحارم اخفي التصريح بنسبة اللبس إليهن ليكون اللفظ كالمعنى. واستدل أبو يوسف ومحمد عليهما الرحمة بالآية على أن اللؤلؤ يسمى حليا حتى لو حلف لا يلبس حليا فلبسه حنث. وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يقول: لا يحنث لأن الؤلؤ وحده لا يسمى حليا في العرف وبائعه لا يقال له الحلي كذا في أحكام الجصاص. واستدل بعضهم بالآية على أنه لا زكاة في حلي النساء، فأخرج ابن جرير عن أبي جعفر أنه سئل هل في حلي النساء صدقة؟ قال: لا هي كما قال الله تعالى * (حلية تلبسونها) * وهو كما ترى، ثم إن اللحم الطري يخرج من البحر العذب والبحر
113

الملح والحلية إنما تخرج من الملح، وقيل: إن العذب يخرج منه لؤلؤ أيضا ألا أنه لا يلبس إلا قليلا والكثير التداوي به، ولم نر من ذكر ذلك في أكثر الكتب المصنفة
لذكر مثل ذلك.
وأخرج البزار عن أبي هريرة قال: كلم الله تعالى البحر الغربي وكلم البحر الشرقي فقال للبحر الغربي: إني حامل فيك عبادا من عبادي فما أنت صانع بهم؟ قال: أغرقهم قال: بأسك في نواحيك وحرمه الحلية والصيد وكلم هذا البحر الشرقي فقال: إني حامل فيك عبادا من عبادي فما أنت صانع بهم؟ قال: أحملهم على يدي وأكون لهم كالوالدة لولدها فأثابه سبحانه الحلية والصيد، وأخرج نحو ذلك ابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن عمرو بن العاص عن كعب الأحبار، والله تعالى أعلم بصحة ذلك، وظاهر كلام الأكثرين حمل * (البحر) * في الآية على البحر الملح وهو مملوء من السمك بل قيل إن السمك يطلق على كل ما فيه من الحيوانات ولا يكون اللؤلؤ إلا في موضع مخصوصة منه.
* (وترى الفلك) * السفن * (مواخر فيه) * جواري فيه جمع ماخرة بمعنى جارية، وأصل المخر الشق يقال: مخر الماء الأرض إذا شقها وسميت السفن بذلك لأنها تشق الماء بمقدمها، وقال الفراء: هو صوت جري الفلك بالرياح * (ولتبتغوا) * عطف على تستخرجوا وما عطف عليه وما بينهما اعتراض لتمهيد مبادىء الابتغاء ودفع كونه باستخراج الحلية، وعدل عن نمط الخطاب السابق واللاحق - أعني خطاب الجمع إلى خطاب المفرد - المراد به كل من يصلح للخطاب إيذانا بأن ذاك غير مسوق مساقهما، وأجاز ابن الأنباري أن يكون معطوفا على علة محذوفة أي لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا، وأن يكون متعلقا بفعل محذوف أي فعل ذلك لتبتغوا، وهو تكلف يغني الله تعالى عنه.
* (من فضله) * من سعة رزقه بركوبها للتجارة * (ولعلكم تشكرون) * تقومون بحق نعم الله تعالى بالطاعة والتوحيد، ولعل تخصيص هذه النعمة بالتعقيب بالشكر لأنها أقوى في باب الانعام من حيث أنه جعل ركوب البحر مع كونه مظنة الهلاك لأن راكبيه كما قال عمر رضي الله تعالى عنه دود على عود سببا للانتفاع وحصول المعاش وهو من كمال النعمة لقطع المسافة الطويلة في زمن قصير مع عدم الاحتياج إلى الحل والترحال والحركة مع الاستراحة والسكون، وما أحسن ما قيل في ذلك: وإنا لفي الدنيا كركب سفينة * نظن وقوفا والزمان بنا يسري
وعدم توسيط الفوز بالمطلوب بين الابتغاء والشكر قيل للإيذان باستغنائه عن التصريح به وبحصولهما معا.
واستدل بالآية على جواز ركوب البحر للتجارة بلا كراهة وإليه ذهب جماعة، وأخرج عبد الرزاق عن ابن عمر أنه كان يكره ركوب البحر إلا لثلاث غاز أو حاج أو معتمر.
* (وألقى فى الارض رواسى أن تميد بكم وأنه‍ارا وسبلا لعلكم تهتدون) *
.
* (وألقى في الأرض رواسي) * أي جبالا ثوابت، وقد مر تمام الكلام في ذلك * (أن تميد بكم) * أي كراهة أن تميد أو لئلا تميد، والميد اضطراب الشيء العظيم، ووجه كون الإلقاء مانعاء عن اضطراب الأرض بأنها كسفينة على وجه الماء والسفينة إذا لم يكن فيها أجرام ثقيلة تضطرب وتميل من جانب إلى جانب بأدنى شيء وإذا وضعت فيها أجرام ثقيلة تستقر فكذا الأرض لو لم يكن عليها هذه الجبال لاضطربت فالجبال بالنسبة إليها كالأجرام الثقيلة الموضوعة في السفينة بالنسبة إليها.
وتعقبه الإمام لوجوه. الأول: على مذهب الحكماء القائلين بأن حركة الأجسام أو سكونها لطبائعها أن الأرض أثقل من الماء فيلزم أن تغوص فيه لا أن تطفو أو ترسي بالجبال وهذا بخلاف السفينة فإنها متخذة من الخشب
114

وبين أجزائه هواء يمنعه من السكون ويفضي به إلى الميد لولا الثقيل. والثاني: على مذهب أهل الحق القائلين بأنه ليس للأجسام طبائع تقتضي السكون أو الحركة فما سكن ساكن وما تحرك متحرك في بر وبحر إلا بمحض قدرة الله تعالى وحده. والثاني: أن إرساء الأرض بالجبال لئلا تميد وتبقى واقفة على وجه الماء إنما يعقل إذا كان الماء الذي استقرت على وجهه ساكنا وحينئذ يقال: إن قيل إن سبب سكونه في حيزه المخصوص طبيعته المخصوصة فلم لا يقال في سكون الأرض في هذا الحيز أنه بسبب طبيعتها المخصوصة أيضا، وإن قلنا: إنه بمحض قدرته سبحانه فلم لم يقل: إن سكون الأرض أيضا كذلك فلا يعقل الإرساء بالجبال على التقديرين. والثالث: أنه يجوز أن تميد الأرض بكليتها ولا تظهر حركتها ولا يشعر بها أهلها ويكون ذلك نظير حركة السفينة من غير شعور راكبها بها ولا يأبى ذلك الشعور بحركتها عند احتقان البخاري فيها لأن ذلك يكون في قطعة صغيرة منها وهو يجري مجرى الاختلاج الذي يحصل في عضو معين من البدن، ثم قال: والذي عندي في هذا الموضع المشكل أن يقال: ثبت بالدلائل اليقينية أن الأرض كرة وثبت أن هذه الجبال على سطح الكرة جارية مجرى خشونات تحصل على وجه هذه الكرة وحينئذ نقول لو فرضنا أن هذه الخشونات ما كانت حاصلة بل كانت ملساء خالية عنها لصارت بحيث تتحرك على الاستدارة كالأفلاك لبساطتها أو تتحرك بأدنى سبب للتحريك فلما خلقت هذه الجبال وكانت كالخشونات على وجهها تفاوتت جوانبها وتوجهت الجبال بثقلها نحو المركز فصارت كالأوتاد لمنعها إياها عن الحركة المستديرة اه‍؛ وقد تابع الإمام في هذا الحل العلامة البيضاوي، واعترض عليه بأنه لا وجه لما ذكره على مذهب أهل الحق ولا على مذهب الفلاسفة، أما الأول: فلأن ذات شيء لا تقتضي تحركه وإنما ذلك بإرادة الله تعالى، وأما الثاني: فلأن الفلاسفة لم يقولوا: إن حق الأرض أن تتحرك بالاستدارة لأن في الأرض ميلا مستقيما وما هو كذلك لا يكون فيه مبدأ ميل مستدير على ما ذكروا في الطبيعي. وأورد أيضا على منع الجبال لها من الحركة أنه قد ثبت في الهندسة أن أعظم جبل في الأرض وهو ما ارتفاعه فرسخان وثلث فرسخ إلى قطر الأرض نسبة خمس سبع عرض شعيرة إلى كرة قطرها ذراع ولا ريب في أن ذلك القدر من الشعير لا يخرج تلك الكرة عن الاستدارة بحيث يمنعها عن الحركة، وكذا حال الجبال بالنسبة إلى كرة الأرض، ثم قيل: الصحيح أن يقال خلق الله تعالى الأرض مضطربة لحكمة لا يعلمها إلا هو ثم أرساها بالجبال على جريان عادته
في جعل الأشياء منوطة بالأسباب، وقال بعض المحققين في الجواب: إن المقصود أن الأرض من حيث كونها كرة حقيقية بسيطة مع قطع النظر عن كونها عنصرا كان حقها أحد الأمرين لأنها من تلك الحيثية إما ذو ميل مستدير كالأفلاك فكان حقها حينئذ أن تتحرك مثلها على الاستدالة وإما ذو ميل مستقيم فحقها السكون لكنها تتحرك بأدنى قاسر، أما السكون فلأن الجسم الحاصل في الحيز الطبيعي لما يتحرك حركة طبيعية آنية لاستلزامها الخروج عن الحيز الطبيعي ولا يتصور من الأرض الحركة الإرادية لكونها عديمة الشعور، وأما التحرك بأدنى قاسر فيحكم به بالضرورة من له تخيل صحيح، واستوضح ذلك من كرة حقيقية على سطح حقيقي فإنها لا تماسه إلا بنقطة فبأدنى شيء ولو نفخة تتدحرج عن مكانها. نعم الواقع في نفس الأمر أحد الأمرين معينا وذكرهما توسيع للدائرة وهو أمر شائع فيما بينهم فيندفع قوله: وأما الثاني: فلأن الفلاسفة الخ، وأما قوله: إنه قد ثبت في الهندسة الخ فجوابه أنهم قد صرحوا في كتب الهيئة بأن في كل اقليم ثلاثين جبلا بل أكثر فنسبة كل جبل وإن كانت كالنسبة المذكورة لكن يجوزأن يكون مجموعها مانعا عن حركتها كالحبل المؤلف من الشعرات المخالف
115

حكمه حكم كل شعرة، على أن تلك النسبة باعتبار الحجم ومنعها عن حركتها باعتبار الثقل وثقل هذه الجبال يكاد أن يقاوم ثقل الأرض لأن الجبال أجسام صلبة حجرية والأرض رخوة متخلخلة كالكرة الخشبية التي ألزقت عليها حبات من حديد، وما يقال: من أن فيه غير ذلك ابتناء على قواعد الفلسفة فلا يطعن فيه لأن ذلك الابتناء غير مضر إن لم يخالف القواعد الشرعية كما فيما نحن فيه، واعترض على ما ادعى المعترض صحته بأنه يرد عليه ما أورد، وظني أنه بعد الوقوف على مراده لا يرد عليه شيء مما ذكر، ونحن قد أسلفنا نحوه واطنبنا الكلام في هذا المقام ومنه يظهر ما هو الأوفق بقواعد الإسلام، ثم ما ذكره المجيب من أن المصرح به في كتب الهيئة أن في كل اقليم ثلاثين جبلا بل أكثر خلاف المشهور وهو أن في الاقليم الأول عشرين وفي الثاني سبعة وعشرني وفي الثالث ثلاثة وثلاثين وفي الرابع خمسة وخمسين وفي الخامس ثلاثين وفي كل من السادس والسابع أحد عشر والمجموع مائة وسبعة وثمانون جبلا على أن كلامه لا يخلو عن مناقشة فتدبر، ومعنى * (ألقى) * على ما نقل ابن عطية عن المتأولين خلق وجعل، واختار هو أنه أخص من ذلك وذلك أنه يقتضي أن الله سبحانه أوجد الجبال من محض قدرته واختراعه لا من الأرض ووضعها عليها وأيد بأخبار رووها في هذا المقام وقد تقدم بعضها، ولم يعد بعلى كما في قوله تعالى: * (وألقيت عليك محبة مني) * للإشارة إلى كمال الجبال ورسوخها وثباتها في الأرض حتى كأنها مسامير في ساجة وانظر هل تعد من الأرض فيحنث من حلف لا يجلس على الأرض إذا جلس عليها أم لا فلا يحنث لم يحضرني من تعرض لذلك، والظاهر الأول لعد العرف إياها منها وإن كان ظاهر هذه الآية كغيرها عدم العد، وقوله تعالى: * (وأنهارا) * عطف على رواسي والعامل فيه * (ألقى) * إلا أنه تسلطه عليه باعتبار ما فيه من معنى الجعل والخلق أو تضمينه إياه، وعلى التقديرين لا إضمار وهو الذي اختاره غير واحد، وجوز أن يكون مفعولا به لفعل مضمر وليس إجماعا خلافا لابن عطية، أي وجعل أو خلق أنهارا نظير ما قيل في قوله:
علقتها تبنا وماء باردا
وقدر أبو البقاء شق والعطف حينئذ من عطف الجمل وكأنه لما كان أغلب منابع الأنهار من الجبال ذكر الأنهار بعدما ذكر الجبال، وقوله تعالى: * (وسبلا) * عطف على * (أنهارا) * أي وجعل طرقا لمقاصدكم * (لعلكم تهتدون) * لها فالتعليل بالنظر إلى قوله تعالى: * (وسبلا) * كما هو الظاهر، ويجوز أن يكون تعليلا بالنظر إلى جميع ما تقدم لأن تلك الآثار العظام تدل على بطلان الترك، وقيل: تدل على وجود فاعل حكيم ففي قوله تعالى: * (تهتدون) * تورية حينئذ.
* (وعلام‍ات وبالنجم هم يهتدون) *
.
* (وعلامات) * معالم يستدل بها السابلة من نحو جبل ومنهل ورائحة تراب، فقد حكى أن من الناس من يشم التراب فيعرف بشمه الطريق وأنها مسلوكة أو غير مسلوكة ولذا سميت المسافة مسافة أخذا لها من السوف بمعنى الشم، وأخرج ابن جرير. وغيره عن ابن عباس أنها معالم الطرق بالنهار. وعن الكلبي أنها الجبال. وعن قتادة أنها النجوم، وقال ابن عيسى: المراد منها الأمور التي يعلم بها ما يراد من خط أو لفظ أو إشارة أو هيئة، والظاهر ما ذكر أولا؛ وأغرب ما فسرت به وأبعده أن المراد منها حيتان طوال رقاق كالحيات في ألوانها وحركاتها تكون في بحر الهند الذي يسار إليه من اليمن، سميت بذلك لأنها إذا ظهرت كانت علامة للوصول إلى بلاد الهند وأمارة للنجاة * (وبالنجم هم يهتدون) * بالليل في البر والبحر، والمراد بالنجم الجنس فيشمل الخنس وغيهرا مما يهتدي به، وعن السدي تخيص ذلك بالثريا والفرقدين وبنات نعش والجدي؛ وعن الفراء
116

تخصيصه بالجدي والفرقدين، وعن بعضهم أنه الثريا فإنه علم بالغلبة لها، ففي الحديث إذا طلح النجم ارتفعت العاهة، وقال الشاعر:
حتى إذا ما استقر النجم في غلس * وغودر البقل ملوى ومحصود
وعن ابن عباس أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: هو الجدي ولو صح هذا لا يعدل عنه، والجدي هوجدي الفرقد، وهو على ما في المغرب بفتح الجيم وسكون الدال والمنجمون يصغرونه فرقا بينه وبين البرج، وقيل: إنه كذلك لغة، واستدل على إرادة ما يعم ذلك بما في " اللوامح " عن الحسن أنه قرأ، وبالنجم * (بضمتين) * وعن ابن وثاب أنه قرأ بضم فسكون فإن ذلك في القراءتين جمع كسقف وسقف ورهن ورهن والتسكين قيل للتخفيف، وقيل: لغة، والقول بأن ذلك جمع على فعل أولى مما قيل: إن أصله النجوم فحذفت الواو؛ وزعم ابن عصفور أن قولهم: النجم من ضرورة الشعر وأنشد: إن الذي قضى بذا قاض حكم * أن يرد الماء إذا غاب النجم
وهو نظير قوله: حتى إذا ابتلت حلاقيم الحلق
والضمير يحتمل أن يكون عاما لكل سالك في البر والبحر من المخاطبين فيما تقدم، وتغيير التعبير للالتفات، وتقديم الجار والمجرور للفاصلة والضمير المنفصل للتقوى ويحتمل أن كيون الضمير لقريش لأنهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة مشهورين للاهتداء في مسايرهم بالنجم، وإخراج الكلام عن سنن الخطاب، وتقديم الجار والضمير للتخصيص كأنه قيل: وبالنجم خصوصا هؤلاء خصوصا يهتدون، فالاعتبار بذلك والشكر عليه بالتوحيد الزم لهم وأوجب عليهم، وجعل بعضهم الآية أصلا لمراعاة النجوم لمعرفة الأوقات والقبلة والطرق فلا بأس بتعلم ما يفيد تلك المعرفة، لكن معرفة عين القبلة على التحقيق بالنجوم متعسر بل متعذر كما أفاده العلامة الرباني أبو العباس أحمد بن البناء لأنه إن اعتبر ذلك بما يسامت رؤوس أهل مكة من النجوم فليس مسقط العمود منه على بسيط مكة هو العمود الواقع منه على بسيط غيرها من المدن، وإن اعتبر بالجدي فلا يلزم من أن يكون في مكة على الكتف أو على المنكب أن يكون في غيرها كذلك إلا لمن يكون في دائرة السمت المارة برؤوس أهل مكة والبلد الآخر، وذلك مجهول لا يتوصل إليه إلا بمعرفة ما بين الطولين والعرضين وهو شيء اختلف في مقداره ولم يتعين الصحيح فيه، وقول من قال: إن ذلك يعرف بجعل المصلي مثلا الشمس بين عينيه إذا استوت في كبد السماء أطول يوم في السنة فمتى فعل ذلك فقد استقبل البيت إن أراد بكبد السماء فيه كبد سماء بلده فليس بصحيح لأن الشمس لا تستوي في كبد السماء في وقت واحد في بلدين متنائيين كثيرا، وإن أراد به كبد سماء مكة فلا يعلم ذلك في بلد آخر إلا بمعرفة مابين البلدين في الطول، وقد سمعت ما في ذلك من الاختلاف، ويقال نحو هذا فيما يشبه ما ذكر بل قال قدس سره: إن معرفة ذلك على التحقيق بما يذكرونه من الدائرة الهندية ونحوها متعذر أيضا لأن مبنى جميع ذلك على معرفة الأطوال والعروض ودون تحقيق ذلك خرط القتاد، فلا ينبغي أن يكون الواجب على المصلي إلا تحلي الجهة ومعرفة الجهة تحصل بالنجوم وكذا بغيرها مما هو مذكور في محله.
* (أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون) *
.
* (أفمن يخلق) * ما ذكر من المخلوقات البديعة أو يخلق كل شيء يريده * (كمن لا يخلق) * شيئا ما جليلا أو حقيرا، وهو تبكيت للكفرة وإبطال لإشراكهم وعبادتهم غيره تعالى شأنه من الأصنام بإنكار ما يستلزمه ذلك من المشابهة بينه سبحانه وبينه بعد تعداد ما يقتضي ذلك اقتضاء ظاهرا،
117

وتعقيب الهمزة بالفاء لتوجيه الإنكار إلى ترتب توهم المشابهة المذكورة على ما فعل سبحانه من الأمور العظيمة الظاهرة الاختصاص به تعالى شأنه المعلومة كذلك فيما بينهم حسبما يؤذن به غير آية؛ والاقتصار على ذكر الخلق من بين ما تقدم لكونه أهظمه وأظهره واستتباعه إيته أو لكون كل من ذلك خلقا مخصوصا أي أبعد ظهور اختصاص سبحانه بمبدئية هذه الشؤون الواضحة الدالة على وحدانيته تعالى وتفرد بالألوهية واستحقاق العبادة يتصور المشابهة بينه وبين ما هو بمعزل عن ذلك بالمرة كما هو قضية إشراككم، وكان حق الكلام بحسب الظاهر في بادىء النظر أفمن لا يخلق كمن يخلق، لكن قيل: حيث كان التشبيه نسبة تقوم بالمنتسبين اختير ما عليه النظم الكريم مراعاة لحق سبق الملكة على العدم وتفاديا عن توسيط عدمها بينها وبين جزئياتها المفصلة قبلها وتنبيها على كمال قبح ما فعلوه من حيث أن ذلك ليس مجرد رفع أصنامهم عن محلها بل هوحط لمنزلة الربوبية إلى مرتبة الجماد ولا ريب أنه أقبح من الأول، والمراد بمن لا يخلق كل ما هذا شأنه من ذوي العلم كالملائكة وعيسى عليهم السلام وغيرهم كالأصنام، وأتى * (بمن) * تغليبا لذوي العلم على غيرهم مع ما فيه من المشاكلة أو ذوو العلم خاصة ويعرف منه حال غيرهم بدلالة النص، فإن من يخلق حيث لم يكن كمن لا يخلق وهو من جملة ذوي العلم فما ظنك بالجماد، وقيل: المراد به الأصنام خاصة، والتعبير * (بمن) * إما للمشاكلة أو بناء على ماعند عبدتهما، والأولى ما تقدم، ودخول الأصنام في حكم عدم المشابهة إما بطريق الاندراج أو بطريق الانفهام بدلالة النص على الطريق البرهاني قاله بعض المحققين. واستدل بالآية على بطلان مذهب المعتزلة في زعمهم أن العباد خالقون لأفعالهم. وقال الشهاب بعد أن قرر تقدير المفعول عاما على طرز ما ذكرنا: وجوز أن يكون العموم فيه مأخوذا من تنزيل الفعل منزلة اللازم أنه علم من هذا عدم توجه الاحتجاج بها على المعتزلة في إبطال قولهم بخلق العباد أفعالهم كما وقع في كتب الكلام لأن السلب الكلي لا ينافي الإيجاب الجزئي اه‍ حسبما وجدناه في النسخ التي بأيدينا ولعلها سقيمة وإلا فلا أظن ذلك إلا كبوة جواد وهو ظاهر * (أفلا تذكرون) * أي ألا تلاحظون فلا تتذكرون ذلك فإنه لجلائه لا يحتاج إلى شيء سوى التذكر وهو مراجعة ما سبق تصوره وذهل عنه، وقدر بعضهم المفعول عدم المساواة، وذكر أنه لعدم سبقه حتى يتصور فيه حقيقة التذكر بأن يتصور ويذهل عنه جعل التذكر استعارة تصريحية للعلم به، وقيل: الاستعارة مكنية في المفعول المقدر وإثبات التذكر تخييل فتذكر.
* (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوهآ إن الله لغفور رحيم) *
.
* (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * تذكير إجمالي لنعمه تعالى بعد تعداد طائفة منها، وفصل ما بينهما بقوله تعالى: * (أفمن يخلق كمن لا يخلق) * (النحل: 17) كما قيل للمبادرة إلى إلزام الحجة والقام الحجر إثر تفصيل ما فصل من الأفاعيل التي هي أدلة التوحيد، ودلالتها عليه وإن لم تكن مقصورة على حيثية الخلق ضرورة ظهور دلالتها عليه من حيثية الأنعام أيضا لكنها حيث كانت من مستتبعات الحيثية الأولى استغنى عن التصريح بها ثم بين حالها بطريق الإجمالي أي إن تعدوا نعمه تعالى الفائضة عليكم مما ذكر ومما يذكر لا تطيقوا حصرها وضبط عددها فضلا عن القيام بشكرها، وقد تقدم الكلام في تحقيق ذلك حسبما من الله تعالى به * (إن الله لغفور) * حيث يستر ما فرط منكم من كفرانها والإخلال بالقيام بحقوقها ولا يعاجلكم بالعقوبة على ذلك * (رحيم) * حيث يفيضها عليكم مع استحقاقكم للقطع والحرمان بما تأتون وما تذرون من أصناف الكفر والعصيان
118

التي من جملتها المساواة بين الخالق وغيره، وكل من ذينك الستر والإفاضة نعمة وأيما نعمة، فالجملة تعليل للحكم بعدم الإحصاء، وتقديم المغفرة على الرحمة لتقدم التخلية على التحلية.
* (والله يعلم ما تسرون وما تعلنون) *
.
* (والله يعلم ما تسرون) * أي تضمرونه من العقائد والأعمال * (وما تعلنون) * أي تظهرونه منهما، وحذف العائد لمراعاة الفواصل أي يستوي بالنسبة إلى علمه سبحانه المحيط الأمران، وفي تقديم الأول على الثاني تحقيق للمساواة على أبلغ وجه، وفي ذلك من الوعيد والدلالة على اختصاصه تعالى بصفات الإلهية ما لا يخفى، أما الأول: فلأن علم الملك القادر بمخالفة عبده يقتضي مجازاته، وكثيرا ما ذكر علم الله تعالى وقدرته وأريد ذلك، وأما الثاني: فبناء على ما قيل: إن تقديم المسند إليه في مثل ذلك يفيد الحصر، ومن هنا قيل: إنه سبحانه أبطل شركهم للأصنام أولا بقوله تعالى: * (أفمن يخلق كمن لا يخلق) * وأبطله ثانيا بقوله تبارك اسمه: * (والله يعلم) * الخ كأنه قيل: إنه تعالى عالم بذلك دون ما تشركون به فإنه لا يعلم ذلك بل لا يعلم شيئا أصلا فكيف يعد شريكا لعالم السر والخفيات.
وفي " الكشف " أن في الجملة الأولى إشعارا بأنه تعالى وما كلفهم حق الشكر لعدم الإمكان وتجاوز سبحانه عن الممكن إلى السهل الميسور، وفي الثانية: ما يشعر بأنه قصروا في هذا الميسور أيضا فاستحقوا العتاب.
* (والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون) *
.
* (والذين يدعون) * شروع في تحقيق أن آلهتهم بمعزل عن استحقاق العبادة وتوضيحه بحيث لا يبقى فيه شائبة ريب بتعداد أحوالها المنافية لذلك منافاة ظاهرة، وكأنها إنما شرحت مع ظهورها للتنبيه على كمال حماقة المشركين وأنهم لايعرفون ذلك إلا بالتصريح أي والآلهة الذين تعبدونهم أيها الكفار * (من دون الله) * سبحانه * (لا يخلقون شيئا) * من الأشياء أصلا أي ليس من شأنهم ذلك، وذكر بعض الأجلة أن ذكر هذا بعد نفي التشابه والمشاركة للاستدلال على ذلك فكأنه قيل: هم لا يخلقون شيئا ولا يشارك من يخلق من لا يخلق فينتج من الثالث هم لا يشاركون من يخلق ويلزمه أن من يخلق لا يشاركهم فلا تكرار، وقيل عليه: إنه مبني على أن من يخلق ومن لا مجرى على غير معين، ويفهم من سابق كلام هذا البعض أنه بني الكلام على أن الأول هو الله تعالى والثاني الأصنام، ويقتضي تقريره هناك عدم الحاجة إلى هذه المقدمة للعلم بها وكونها مفروغا عنها، فالوجه أن التكرار لمزاوجة قوله تعالى: * (وهم يخلقون) * وتعقب بأن المصرح به العموم في الموضعين وأما التخصيص فيهما بما ذكر فلأن من يخلق عندنا مخصوص به تعالى في الخارج اختصاص الكوكب النهاري بالشمس وإن عم باعتبار مفهومه، ومن لا يخلق وإن عم ذهنا وخارجا فتفسيره بمن عبد لاقتضاء المقام له، ومقتضى التقرير ليس عدم الحاجة إلى المقدمة بل هو كونها في غاية الظهور بحيث لا يحتاج إلى إثباتها وهذا مصحح لكونها جزأ من الدليل، وإذا ظهر المراد بطل الإيراد اه‍، ولعل الأوجه في توجيه الذكر ما أشرنا إليه أولا، وحيث أنه لا تلازم أصلا بين نفي الخالقين وبين المخلوقية أثبت ذلك لهم صريحا على معنى شأنهم أنهم يخلقون إذ المخلوقية مقتضى ذواتهم لأنها ممكنة مفتقرة في وجودها وبقائها إلى الفاعل، وبناء الفعل للمفعول - كما قال بعض الأجلة - لتحقيق التضاد والمقابلة بين ما أثبت لهم وما نفى عنهم من وصف الخالقية والمخلوقية وللإيذان بعدم الحاجة إلى بيان الفاعل لظهور اختصاص بفاعله جل جلاله، ولعل تقديم الضمير هنا لمجرد التقوى، والمراد بالخلق منفيا ومثيتا المعنى المتبادر منه.
119

وجوز أن يراد من الثاني النحت والتصوير بناء على أن المراد من الذين يدعونهم الأصنام، والتعبير عنهم بما يعبر عنه عن العقلاء لمعاملتهم والتعبير، عن ذلك بالخلق لرعاية المشاكلة، وفي ذلك من الإيماء بمزيد ركاكة عقول المشركين ما فيه حيث أشركوا بخالقهم مخلوقيهم، وإرادة هذا المعنى من الأول أيضا ليست بشيء إذ القدرة على مثل ذلك الخلق ليست مما يدور عليه استحقاق العبادة أصلا. وقرأ الجمهور بالتاء المثناة من فوق في * (تسرون... وتعلنون... وتدعون) * وهي قراءة مجاهد. والأعرج. وشيبة. وأبي جعفر وهبيرة عن عاصم، وفي المشهور عنه أنه قرأ بالياء آخر الحروف في الأخير وبالتاء في الأولين، وقرئت الثلاثة بالياء في رواية عن أبي عمرو، وحمزة، وقرأ الأعمش * (والله يعلم الذي تبدون وما تكتمون والذين تدعون) * الخ بالتاء من فوق في الأفعال الثلاث، وقرأ طلحة * (ما تخفون وما تعلنون... وتدعون) * بالتاء كذلك، وحملت القراءتان على التفسير لمخالفتهما لسواد المصحف، وقرأ محمد اليماني * (يدعون) * بضم الياء وفتح العين مبنيا للمفعول أي يدعونم الكفار ويعبدونهم.
* (أموات غير أحيآء وما يشعرون أيان يبعثون) *
.
* (أموات) * خبر ثان للموصول أو خبر مبتدأ محذوف أي هم أموات، وصرح بذلك لما أن إثبات المخلوقية لهم غير مستدع لنفي الحياة عنهم لما أن بعض المخلوقين أحياء، والمراد بالموت على أن يكون المراد من المخبر عنه الأصنام عدم الحياة بلا زيادة عما من شأنه أن يكون حيا.
وقوله سبحانه: * (غير أحياء) * خبر بعد خبر أيضا أو صفة * (أموات) * وفائدة ذكره التأكيدة عند بعض، وأختير التأسيس وذلك أن بعض ما لا حياة فيه قد تعتريه الحياة كالنطفة فجيء به للاحتراز عن مثل هذا البعض فكأنه قيل: هم أموات حالا وغير قابلين للحياة مآلا، وجوز أن يكون المراد من المخبر عنه بما ذكر ما يتناول جميع معبوداتهم من ذوي العقول وغيرهم فيرتكب في * (أموات) * عموم المجاز ليشمل ما كان له حياة ثم مات كعزيز أو سيموت كعيسى والملائكة عليهم
الصلاة والسلام وما ليس من شأنه الحياة أصلا كالأصنام.
و * (غير أحياء) * على هذا إذا فر بغير قابلين للحياة يكون من وصف الكل بصفة البعض ليكون تأسيسا في الجملة وإذا اعتبر التأكيد فالأمر ظاهر، وجوز أن من أولئك المعبودين الملائكة عليهم الصلاة والسلام وكان أناس من المخاطبين يعبدونهم، ومعنى كونهم أمواتا لا بد لهم من الموت وكونهم غير أحياء غير تامة حياتهم والحياة التامة هي الحياة الذاتية التي لا يرد عليها الموت، وجوز في قراءة * (والذين يدعون) * بالياء آخر الحروف أن يكون الأموات هم الداعين، وأخبر عنهم بذلك تشبيها لهم بالأموات لكونهم ضلالا غير مهتدين، ولا يخفى ما فيه من البعد * (وما يشعرون أيان يبعثون) * الضمير الأول للآلهة والثاني لعبدتها، والشعور العلم أو مباديه، وقال الراغب: يقال شعرت أي أصبت الشعر، ومنه استعير شعرت كذا أي علمت علما في الدقة كإصابة الشعر، قي: وسمي الشاعر شاعرا لفظنته ودقة معرفته، ثم ذكر أن المشاعر الحواس وأن معنى لا تشعرون لا تدركون بالحواس وأن لو قيل في كثير مما جاء فيه لا تشعرون لا تعقلون لم يجز إذ كثير مما لا يكون محسوسا يكون معقولا، و * (إيان) * عبارة عن وقت الشيء ويقارب معنى متى، وأصله عنده بعضهم أي أو أن أي أي وقت فحذف الألف ثم جعل الواو ياء وأدغم وهو كما ترى.
وقرأ أبو عبد الرحمن " إيان " بكسر الهمزة وهي لغة قومه سليم، والظاهر أنه معمول ليبعثون والجملة في موضع نصب - بيشعرون - لأنه معلق عن العمل أي ما يشعر أولئك الآلهة متى يبعث عبدتهم، وهذا من باب التهكم بهم
120

بناء على إرادة الأصنام لأن شعور الجماد بالأمور الظاهرة بديهي الاستحالة عند كل أحد فكيف بما لا يعلمه إلا العليم الخبير. وفي " البحر " أن فيه تهكما بالمشركين وأن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم ليجازوهم على عبادتهم إياهم، ولعل هذا جار على سائر الاحتمالات في الآلهة، وفيه تنبيه على أن البعث من لوازم التكليف لأنه للجزاء والجزاء للتكليف فيكون هو له وأن معرفة وقته لا بد منه في الألوهية، وقيل: ضميرا * (يشعرون - ويبعثون) * للآلهة ويلزم من نفي شعورهم بوقت بعثهم نفي شعورهم بوقت بعث عبدتهم وهو الذي يقتضيه الظاهر، ومن جوز أن يكون المراد من الأموات الكفرة الضلال جعل ضميري الجمع هنا لهم، والكلام خارج مخرج الوعيد أي وما يشعر أولئك المشركون متى يبعثون إلى التعذيب، وقيل: الكلام تم عند قوله تعالى: * (وما يشعرون) * و * (إيان يبعثون) * ظرف [بم لقوله سبحانه:
* (إل‍اهكم إلاه واحد فالذين لا يؤمنون بالاخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون) *
.
* (إل‍اهكم إلاه واحد) * على معنى أن الإله واحد يوم القيامة نظير * (مالك يوم الدين) * (الفاتحة: 4) قال أبو حيان: ولا يصح هذا القول لأن أيان إذ ذاك تخرج عما استقر فيها من كونها ظرفا إما استفهاما أو شرطا وتتمحض للظرفية بمعنى وقت مضافا للجملة بعده نحو وقت يقوم زيد أقوم، على أن هذا التعلق في نفسه خلاف الظاهر، والظاهر أن قوله سبحانه: * (إلهكم) * تصريح بالمدعي وتلخيص للنتيجة غب إقامة الحجة * (فالذين لا يؤمنون بالآخرة) * وأحوالها التي من جملتها البعث وما يعقبه من الجزاء * (قلوبهم منكرة) * للوحدانية جاحدة لها أو للآيات الدالة عليها * (وهم مستكبرون) * عن الاعتراف بها أو عن الآيات الدالة عليها، والفاء للإيذان بأن إصرارهم على الإنكار واستمرارهم على الاستكبار وقع موقع النتيجة للدلائل الظاهرة والبراهين القطعية فهي للسببية كما في قولك: أحسنت إلى زيد فإنه أحسن إلي، والمعنى أنه قد ثبت بما قرر من الدلائل والحجج اختصاص الإلهية به سبحانه فكان من نتيجة ذلك إصرارهم على الإنكار واستمرارهم على الاستكبار، وبناء الحكم على الموصول للإشعار بعلية ما في حيز الصلة له، فإن الكفر بالآخرة وبما فيها من البعث والجزاء على الطاعة بالثواب وعلى المعصية بالعقاب يؤدي إلى قصر النظر على العاجل وعدم الالتفات إلى الدلائل الموجب لإنكارها وإنكار موداها والاستكبار عن اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام والإيمان به، وأما الإيمان بها وبما فيها فيدعو لا محالة إلى الالتفات إلى الدلائل والتأمل فيها رغبة ورهبة فيورث ذلك يقينا بالوحدانية وخضوعا لأمر الله تعالى قاله بعض المحققين.
ومن الناس من قال: المراد وهم مستكبرون عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعه، فيكون الإنكار إشارة إلى كفرهم بالله تعالى والاستكبار إشارة إلى كفرهم برسوله صلى الله عليه وسلم والأول أظهر، وإسناد الإنكار إلى القلوب لأنها محله وهو أبلغ من إسناده إليهم، ولعله إنما لم يسلك في إسناد الاستكبار مثل ذلك لأنه أثر ظاهر كما تشير إليه الآية بعد؛ وقد قال بعض العلماء: كل ذنب يمكن التستر به وإخفاؤه إلا التكبر فإنه فسق يلزمه الإعلان.
* (لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين) *
.
* (لا جرم) * أي حق أو حقا * (أن الله يعلم ما يسرون) * من الإنكار * (وما يعلنون) * من الاستكبار، وقال يحيى بن سلام. والنقاش: المراد هنا بما يسرون تشاورهم في دار الندوة في قتل النبي عليه الصلاة والسلام، وهو كما ترى، وأيا ما كان فالمراد من العلم بذلك
121

الوعيد بالجزاء عليه، وأن وما بعدها في تأويل مصدر مرفوع - بلا جرم - بناء على ما ذهب إليه الخليل. وسيبويه. والجمهور من أنها اسم مركب مع لا تركيب خمسة عشر وبعد التركيب صار معناها معنى فعل وهو حق فهي مؤولة بفعل. وأبو البقاء يؤولها بمصدر قائم مقامه وهو حقا، وقيل: مرفوع - بجرم - نفسها على أنها فعل ماض بمعنى ثبت ووجب و * (لا) * نافية لكلام مقدر تكلم به الكفرة كقوله سبحانه: * (لا أقسم) * على وجه. وذهب الزجاج إلى أنه منصوب على المفعولية - لجرم - على أنها فعل أيضا لكن بمعنى كسب وفاعلها مستتر يعود إلى ما فهم من السياق ولا كما في القول السابق، وقيل: إنه خبر * (لا) * حذف منه حرف الجر و * (جرم) * اسمها، والمعنى لا صدأ ولا منع في أن الله يعلم الخ، وقد مر تمام الكلام في ذلك.
وقرأ عيسى الثقفي * (إن) * بكسر الهمزة على الاستئناف والقطع مما قبله على ما قال أبو حيان، ونقل عن بعضهم أنه قد يغني * (لا جرم) * عن القسم تقول: لا جرم لآتينك وحينئذ فتكون الجملة جواب القسم * (إنه) * جل جلاله * (لا يحب المستكبرين) * أي مطلقا ويدخل فيه من استكبر عن التوحيد أو عن الآيات الدالة عليه دخولا أوليا، وجوز أن يراد به أولئك المستكبرون والأول أولى، وأيا ما كان فالاستفعال ليس للطلب مثله فيما تقدم، وجوز كونه عاما مع حمل الاستفعال على ظاهره من الطلب أي لا يحب من طلب الكبر فضلا عمن اتصف به، وقد فرق الراغب بين الكبر والتكبر والاستكبار بعد القول بأنها متقاربة، والحق أنه قد يستعمل بعضها موضع بعض، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر ذلك آنفا وأظنه قد تقدم أيضا؛ والجملة تعليل لما تضمنه الكلام السابق من الوعيد، والمراد من نفي الحب البغض وهو عند البعض مؤول بنحو الانتقام والتعذيب، والأخبار الناطقة بسوء حال المتكبر يوم القيامة كثيرة جدا.
* (وإذا قيل لهم ماذآ أنزل ربكم قالوا أس‍اطير الاولين) *.
* (وإذا قيل لهم) * أي لأولئك المستكبرين، وهو بيان لإضلالهم غب بيان ضلالهم، وقيل: الضمير لكفار قريش الذين كانوا - كما روي عن قتادة - يقعدون بطريق من يغدو على النبي صلى الله عليه وسلم ليطلع على جلية أمره فإذا مر بهم قال لهم: * (ماذا أنزل ربكم) * على محمد عليه الصلاة والسلام * (قالوا أس‍اطير الأولين) * أي ما كتبه الأولون كما قالوا: * (اكتتبها فهي تملى عليه) * (الفرقان: 5) فالأساطير جمع اسطار جمع سطر فهو جمع الجمع؛ وقال المبرد: جمع أسطورة كأرجوحة وأراجيح ومقصودهم من ذلك أنه لا تحقيق فيه، وقيل: القائل لهم بعض المسلمين ليعلموا ما عندهم وقيل: القائل بعضهم على سبيل التهكم وإلا فهو لا يعتقد إنزال شيء، ومثل هذا يقال في الجواب عن تسميته بالمنزل في الجواب بناءا على تقدير المبتدأ فيه ذلك، ويجوز أن يسموه بما ذكر على الفرض والتسليم ليردوه كقوله: * (هذا ربي) * وقيل: قدروه منزلا مجاراة ومشاكلة.
وفي " الكشاف " أن * (ماذا) * منصوب - بأنزل - أي أي شيء أنزل ربكم أو مرفوع بالابتداء بمعنى أي شيء أنزله ربكم، فإذا نصبت فمعنى * (أساطير الأولين) * ما تدعون نزوله ذلك، وإذا رفعت فالمعنى المنزل ذلك كقوله تعالى: * (ماذا ينفقون قل العفو) * (البقرة: 219) فيمن رفع اه‍، وقد خفي تحقيق مرامه على بعض المحققين، فقد قال صاحب الفرائد: الوجه أن يكون مرفوعا بالابتداء بدليل رفع * (أساطير) * فإن جواب المرفوع مرفوع وجواب المنصوب منصوب ولم يقرأ أحد هنا بالنصب.
122

وقال صاحب التقريب: إن في كلام الزمخشري نظرا وبينه بيما بينه وأجاب بما أجاب، وأطال الطيبي الكلام في ذلك، وقد أجاد صاحب الكشف في هذا المقام فقال: إن قوله أو مرفوع بالابتداء بمعنى أي شيء أنزله إيضاح وإلا فالمعنى ما الذي أنزله على المصرح به في المفصل إذ لا وجه لحذف الضمير من غير استطالة مع أن اللفظ يحتمل النصب والرفع احتمالا سواء، وعلى ذلك يلوح الفرق بين التقديرين ظهورا بينا، فإن المنصوب وإن دل على ثبوت أصل الفعل وأن السؤال عن المفعول متقاعد عن دلالة المرفوع فقد علم أن الجملة التي تقع صلة للموصول حقها أن تكون معلومة للمخاطب وأين الحكم المسلم المعلوم من غيره، وإذا ثبت ذلك فليعلم أنه على تقديرين لم يطابق به الجواب لقوله في * (قالوا خيرا) * طوبق به الجواب بخلاف * (أساطير) * وقوله هنا كقوله تعالى: * (ماذا ينفقون) * إلى آخره فيمن رفع تشبيه في العدول إلى الرفع لا وجهه فإن الجواب هنالك طبق السؤال بخلاف ما نحن فيه، وإنما قدر ما تدعون نزوله على تقدير النصب لأن السائل لم يكن معتقدا لإنزال محقق بل سئل عن تعيين ما سمع نزوله في الجملة فيكفي في رده إلى الصواب ما تدعون نزوله أساطير، وأما على تقدير الرفع فلما دل على أن الإنزال عنده محقق مسلم لا نزاع فيه وإنما السؤال عن التعيين للمنزل أجيب بأن ذلك المحقق عندك أساطير تهكما إذ من المعلوم أن المنزل لا يكون أساطير فبولغ في رده إلى الصواب بالتهكم به وأنه بت الحكم بالتحقيق في غير موضعه فأرى السائل أنه طوبق ولم يطابق في الحقيقة بل بولغ في الرد، ويشبه أن يكون الأول جوابا للسؤال فيما بينهم أو الوافدين، والثاني جوابا عن سؤال المسلمين على ما ذكر من الاحتمالين لا العكس على ما ظن، هذا هو الأشبه في تقرير قوله الموافق لما ذكره من بعد على ما مر.
وجعل ما ذكره هنالك وجها ثالثا وأنه طوبق به الجواب ههنا وتوجيه اختلاف التقديرين ادعاء ونزولا بما مهدناه وإن ذهب إليه الجمهور تكلف عنه غنى اه‍. وقرىء * (أساطير) * بالنصب كما نص عليه أبو حيان. وغيره فإنكار صاحب الفرائد من قلة الاطلاع.
* (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القي‍امة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا سآء ما يزرون) *
.
* (ليحملوا) * متعلق - بقالوا - كما هو الظاهر أي قالوا ذلك لأن يحملوا * (أوزارهم) * أي آثامهم الخاصة بهم وهي آثام ضلالهم، وهو جمع وزر ويقال للثقل تشبيها بوزر الجبل، ويعبر بكل منهما عن الإثم كما في هذه الآية، وقوله تعالى ليحملوا أثقالهم: * (كاملة) * لم ينقص منها شيء ولم يكفر بنحو نكبة تصيبهم في الدنيا أو طاعة مقبولة فيها كما تكفر بذلك أوزار المؤمنين، وقال الإمام: معنى ذلك أنه لا يخفف من عذابهم شيء بل يوصل إليه بكليته، وفيه دليل على أنه تعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين إذ لو كان هذا المعنى حاصلا للكل لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار به فائدة، وحمل الأوزار مجاز عن العقاب عليها. وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم أنه بلغه أن الكافر يتمثل عمله في صورة أقبح ما خلق الله تعالى وجها وأنتنه ريحا فيجلس إلى جنبه كلما أفزعه شيء زاده وكلما يخاف شيئا زاده خوفا فيقول: بئس الصاحب أنت ومن أنت؟ فيقول: وما تعرفني؟ فيقول: لا. فيقول: أنا عملك كان قبيحا فلذلك تراني قبيحا وكان منتنا فلذلك تراني منتنا طاطىء إلى أركبك فطالما ركبتني في الدنيا فيركبه وهو قوله تعالى: * (ليحملوا أوزارهم كاملة) * * (يوم القيامة) * ظرف ليحملوا * (ومن أوزار الذين يضلونهم) * أي وبعض أوزار من ضل
123

بإضلالهم على معنى ومثل بعض أوزارهم - فمن - تبعيضية لأن مقابلته لقوله تعالى: * (كاملة) * يعين ذلك. والمراد بهذا البعض حصة التسبب فالمضل والضال شريكان هذا يضله وهذا يطاوعه فيتحاملان الوزر وللضال أوزار غير ذلك وليست تلك محمولة، وقال الأخفش: إن * (من) * زائدة أي وأوزار الذين يضلونهم على معنى أنهم يعاقبون عقابا يكون مساويا لعقاب كل من اقتدى بهم، وإلى الزيادة ذهب أبو البقاء واعترض على التبعيض بأنه يقتضي أن المضل غير حامل كل أوزار الضال وهو مخالف للمأثور " من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص ذلك من أوزارهم شيئا " وفيه أن المأثور يدل على التبعيض لا أن بينهما مخالفة كما لا يخفى، ولتوهم هذه المخالفة قال الواحدي: إن من للجنس أي ليحملوا من جنس أوزار الاتباع، وتعقبه أبو حيان بأن من التي لبيان الجنس لا تقدر بما ذكر وإنما تقدر بقولنا الأوزار التي هي أوزار الذين يضلونهم فيؤل من حيث المعنى إلى قول الأخفش وإن اختلفا في التقدير، ولام * (ليحملوا) * للعاقبة لأن الحمل مترتب على فعلهم وليس باعثا ولا غرضا لهم، وعن ابن عطية أنها تحتمل أن تكون لام التعليل ومتعلقة بفعل مقدر لا بقالوا أي قدر صدور ذلك ليحملوا، ويجىء حديث تعليل أفعال الله تعالى بالإغراض وأنت تدري أن فيه خلافا.
وجوز في " البحر " كونها لام الأمر الجازمة على معنى أن ذلك الحمل متحتم عليهم فيتم الكلام عند قوله سبحانه: * (أساطير الأولين) * (النحل: 24) والظاهر العاقبة، وصيغة الاستقبال في * (يضلونهم) * للدلالة على استمرار الإضلال أو باعتبار حال قولهم لا حال الحمل.
* (بغير علم) * حال من المفعول كأنه قيل: يضلون من لا يعلم أنهم ضلال على الباطل، وفيه تنبيه على أن كيدهم لا يروج على ذي لب وإنما يقلدهم الجهلة الأغبياء وفيه زيادة تعيير لهم وذم إذ كان عليهم إرشاد الجاهلين لا إضلالهم، وقيل: إنه حال من الفاعل أي يضلون غير عالمين بأن ما يدعون إليه طريق الضلال، وقيل: المعنى حينئذ يضلون جهلا منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد على ذلك الإضلال، ونقل القول بالحالية عن الفاعل بنحو هذا المعنى عن الواحدي، وزعم بعضهم أنه الوجه لا الحالية من المفعول، وأيد بأن التذييل بقوله تعالى: * (ألا ساء ما يرون) * وقوله سبحانه: * (من حيث لا يشعرون) * (النحل: 26) يقويه، وليس بذاك، وما ذكر ظن من هذا المؤيد أنه إذا جعل حالا من المفعول لم يكن له تعلق بما سيق له الكلام من حال المضلين وقد هديت إلى وجهه.
ورجحه أبو حيان بأن المحدث عنه هو المسند إليه الإضلال على جهة الفاعلية فاعتباره ذا الحال أولى، ويرد عليه مع ما يعلم مما ذكر أن القرب يعارضه فلا يصلح مرجحا، وقيل: هو حال من ضمير الفاعل في * (قالوا) * على معنى قالوا ذلك غير عالمين بأنهم يحملون يوم القيامة أوزار الضلال والإضلال؛ وأيد بقوله تعالى: * (وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون) * (النحل: 26) من حيث أن حمل ما ذكر من أوزار الضلال والإضلال من قبيل إتيان العذاب من حيث لا يشعرن، ويرده أن الحمل المذكور كما هو صريح الآية إنما هو يوم القيامة والعذاب المذكور إنما هو العذاب الدنيوي كما ستسمعه إن شاء الله تعالى وجوز أن يكون حالا من الفاعل والمفعول كما قال ذلك ابن جني في قوله: * (فأتت به قومها تحمله) * وهو خلاف الظاهر، واستدل بالآية على أن المقلد يجب عليه أن يبحث ويميز بين المحق والمبطل ولا يعذر بالجهل، وهو ظاهر على ما قدمناه من الوجه الأوجه * (ألا ساء ما يزرون) * أي بئس شيا يزرونه ويرتكبونه من الإثم فعلهم المذكور.
124

* (قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بني‍انهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأت‍اهم العذاب من حيث لا يشعرون) *
.
* (قد مكر الذين من قبلهم) * وعيد لهم برجوع غائلة مكرهم عليهم كدأب من قبلهم من الأمم الخالية الذين أصابهم ما أصابهم من العذاب العاجل، والمكر صرف الغير عما يقصده بحيلة وهو ههنا على ما قيل مجاز عن مباشرة أسبابه وترتيب مقدماته لأن ما بعد يدل على أنه لم يحصل الصرف، وجوز أن يرتكب فيه التجريد أي سووا منصوبات وحيلا ليخدعوا بها رسل الله عليهم الصلاة والسلام * (فأتى الله بنيانهم من القواعد) * أي من جهة الدعائم والعمد التي بنوا عليها بأن ضعضعت فمن ابتدائية والبنيان اسم مفرد مذكر، ونقل الراغب عن بعض اللغويين أنه جمع بنيانة مثل شعير وشعيرة وتمر وتمرة ونخل ونخلة وأن هذا النحو من الجمع يصح تذكيره وتأنيثه، وأصل الإتيان كما قال المجىء بسهولة وهو مستحيل بظاهره في حقه سبحانه ولذلك احتاج بعضهم إلى تقدير مضاف أي أمر الله تعالى وروي ذلك عن قتادة، وجعل ذلك في " الكشاف " من قبيل أتى عليه الدهر بمعنى أهلكه وأفناه، وحينئذ لا حاجة إلى تقدير المضاف. وقرىء * (بنيتهم) * وهو بمعنى بنائهم يقال بنيت أبنى أبناء وبنية وبنى نعم كثيرا ما يعبر بالبنية عن الكعبة وقرأ جعفر بيتهم والضحاك * (بيوتهم) * * (فخر عليهم السقف فوقهم) * أي سقط عليهم سقف بنيانهم إذ لا يتصور له القيام بعد تهدم قواعده، * (ومن) * متعلق بخر وهي لابتداء الغاية أو متعلق بمحذوف على أنه حال من السقف مؤكدة، وقال ابن عطية وابن الأعرابي أن * (من فوقهم) * ليس بتأكيد لأن العرب تقول خر علينا سقف ووقع علينا حائط إذا انهدم في ملك القائل وإن لم يقع عليه حقيقة فهو لبيان أنهم كانوا تحته حين هدم. ومن الناس من زعم أن * (على) * بمعنى عن وهي للتعليل والكلام على تقدير مضاف أي خر من أجل كفرهم السقف وجىء بقوله تعالى * (من فوقهم) * مع * (خر) * لدفع توهم أن يكون قد خروهم ليسوا تحته، ولا يخفى أنه تطويل من غير طائل بل كلام لا ينبغي أن يتفوه به فاضل؛ والكلام تمثيل يعني أن حالهم في تسويتهم المنصوبات والحيل ليمكروا بها رسل الله تعالى عليهم الصلاة والسلام وإبطال الله تعالى إياها وجعلها سببا لهلاكهم كحال قوم بنوا بنيانا وعمدوه بالأساطين فأتى ذلك من قبل أساطينه بأن ضعضعت فسقط عليهم السقف وهلكوا تحته، ووجه الشبه أن ما نصبوه وخيلوه سبب التحصن والاستيلاء صار سبب البوار والفناء فالأساطين بمنزلة المنصوبات وانقلابها عليهم مهلكة كانقلاب تلك الحيل على أصحابها والبنيان ما كان زوروه وروجوا فيه تلك المنصوبات وتطواطئوا عليه من الرأي المدعم بالمكائد، ويشبه ذلك قولهم، من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا.
ويقرب من هذا ما قيل إن المراد أحبط الله تعالى أعمالهم، وقيل: الأمر مبني على الحقيقة، وذلك أن نمرود بن كنعان بنى صرحا ببابل ليصعد بزعمه إلى السماء ويعرف
أمرها ويقاتل أهلها وأفرط في علوه فكان طوله في السماء على ما حكى النقاش وروي عن كعب فرسخين، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ووهب، كان ارتفاعه خمسة آلاف ذراع وعرضه ثلاثة آلاف ذراع فبعث الله تعالى عليه ريحا فهدمته وخر سقفه عليه وعلى أتباعه فهلكوا، وقيل: هدمه جبريل عليه السلام بجناحه لوما سقط تبلبلت الناس من الفزع فتكلموا يومئذ بثلاث وسبعين لسانا فلذلك سميت بابل وكان لسان الناس قبل ذلك السريانية، ولا يخفى ما في هذا الخبر من المخالفة للمشهور لأن موجبه أن هلاك نمرود كان بما ذكر والمشهور أنه عاش بعد قصة الصرح وأهلكه الله تعالى ببعوضة وصلت لدماغه إظهارا لكمال خسته وعجزه وجازاه سبحانه من جنس عمله لأنه صعد إلى جهة السماء بالنسور فأهلكه الله تعالى بأخس الطيور، وما ذكر في وجه تسمية المكان المعروف ببابل هو المشهور، وفي " معجم البلدان " أن مدينة بابل يوراسف
125

الجبار واشتق اسمها من المشتري لأن بابل باللسان البابلي الأول اسم للمشتري وأخر بها الإسكندر، وما ذكر من أن اللسان كان قبل ذلك السريانية ذكره البغوي ونظر فيه الخازن بأن صالحا عليه السلام وقومه كانوا قبل وكانوا يتكلمون بالعربية وكان قبائل قبل إبراهيم عليه السلام مثل طسم وجديس يتكلمون بالعربية أيضا وقد يدفع بالعناية.
وقال الضحاك الآية إشارة إلى قوم لوط عليه السلام وما فعل بهم وبقراهم، والكلام أيضا مبني على الحقيقة واختار جماعة بناءه على التمثيل حسبما سمعت وعليه فالمراد على المختار من الذين كفروا من قبل ما يشمل جميع الماكرين الذين هدم عليهم بنيانهم وسقط في أيديهم وقرأ الأعرج السقف وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ومجاهد * (السقف) * بضم السين فقط وكلاهما جمع سقف وفعل وفعل على ما قال أبو حيان محفوظان في جمع فعل وليسا مقيسين فيه ويجمع على سقوف وهو القياس. وقرأت فرقة * (السقف) * بفتح السين وضم القاف وهي لغة في السقف، وذكر أن الأصل مضموم القاف وساكنه مخففه وكثر استعماله على عكس قولهم رجل بفتح فضم ورجل بفتح فسكون وهي لغة تميمية * (وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون) * بإتيانه منه بل يتوقعون إتيان مقابله مما يريدون ويشتهون، والمراد به العذاب العاجل، وفي عطف هذه الجملة على ما تقدم تهويل لأمر هلاكهم [بم ويدل على أن المراد به العاجل قوله سبحانه:
* (ثم يوم القي‍امة يخزيهم ويقول أين شركآئى الذين كنتم تش‍اقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزى اليوم والسوء على الك‍افرين) *
.
* (ثم يوم القيامة يخزيهم) * أي يذلهم، والظاهر أن ضمائر الجمع - للذين مكروا - من قبل كأنه قيل: قد مكر الذين من قبلهم فعذبهم الله تعالى في الدنيا ثم يعذبهم في العقبى، و * (ثم) * للإيماء إلى ما بين الجزاءين من التفاوت مع ما تدل عليه من التراخي الزماني، وتقديم الظرف على الفعل قيل لقصر الإخزاء على يوم القيامة، والمراد به ما بين بقوله سبحانه: * (ويقول) * أي لهم تفضيحا وتوبيخا * (أين شركائي) * إلى آخره، ولا شك أن ذلك لا يكون إلا في ذلك اليوم، وقال بعض المحققين. ليس التقديم لذلك بل لأن الإخبار بجزائهم في الدنيا مؤذن بأن لهم جزاء أخرويا فتبقى النفس مترقبة إلى وروده سائلة عنه بأنه ماذا مع تيقنها بأنه في الآخرة فسيق الكلام على وجه يؤذن بأن المقصود بالذكر جزاؤهم لا كونه في الآخرة، وذكر أيضا أن الجملة المذكورة عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي هذا الذي فهم من التمثيل من عذاب هؤلاء الماكرين القائلين في القرآن العظيم أساطير الأولين أو ما هو أعم منه، ومما ذكر من عذاب أولئك الماكرين من قبل جزاؤهم في الدنيا ويوم القيامة يخزيهم إلى آخرهم، ثم قال: والضمير إما للمغترين في حق القرآن الكريم أو لهم ولمن مثلوا بهم من الماكرين، وتخصيصه بهم يأباه السباق والسياق اه‍.
وفيه من ارتكاب خلاف الظاهر ما فيه فليتأمل، وفسر بعضهم الإخزاء بما هو من روادف التعذيب بالنار لأنه الفرد الكامل وقد قال تعالى: * (إنك من تدخل النار فقد أخزيته) * (آل عمران: 192) وقيل عليه: إن قوله سبحانه: * (أين شركائي) * إلى آخره يأباه لأنه قبل دخولهم النار. وأجيب بأن الواو لا تقتضي الترتيب، وأنت تعلم أن الأولى مع هذا حمله على مطلق الإذلال، وإضافة الشركاء إلى نفسه عز وجل لأدنى ملابسة بناء على زعمهم أنهم شركاء لله سبحانه عما يشركون فتكون الآية كقوله تعالى: * (أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون) * (الأنعام: 22).
وجوز أن يكون ما ذكر حكاية منه تعالى لإضافتهم فإنهم كانوا يضيفون ويقولون: شركاء الله تعالى،
126

وفي ذلك زيادة في توبيخهم ليست في أين أصنامكم مثلا لو قيل، ولا يخفى أن هذا خزي وإهانة بالقول فإذا فسر الإخزاء فيما تقدم بالتعذيب بالنار كانت الآية مشيرة إلى خزيين فعلي وقولي، وأشير إلى الأول أولا لأنه أنسب بسابقه. وقرأ الجمهور * (شركائي) * ممدودا مهموزا مفتوح الياء، وفرقة كذلك إلا أنهم سكنوا الياء فتسقط في الدرج لالتقاء الساكنين، والبزي عن ابن كثير بخلاف عنه بالقصر وفتح الياء، وأنكر ذلك جماعة وزعموا أن هذه القراءة غير مأخوذ لأن قصر الممدود لا يجوز إلا ضرورة، وليس كما قالوا فإنه يجوز في السعة، وقد وجه أيضا بأن الهمزة المكسورة قبل الياء حذفت للتخفيف وليس كقصر الممدود مطلقا، مع أنه قد روي عن ابن كثير قصر التي في القصص و * (ورائي) * في مريم، وعن قنبل قصر * (أن رآه استغنى) * (العلق: 7) في العلق فكيف يعد ذلك ضرورة.
نعم قال أبو حيان: إن وقوعه في الكلام قليل فاعرف ذلك فقد غفل عنه كثير من الناس.
* (الذين كنتم تشاقون فيهم) * أي تخاصمون وتنازعون الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم في شأنهم وتزعمون أنهم رشركاء حقا حين بينوا لكم ضد ذلك، وفسر بعضهم المشاقة بالمعاداة، وتفسيرها بالمخاصمة ليظهر تعلق * (فيهم) * به ولا يحتاج إلى جعل في للسببية أولى، وقيل: للمخاصمة مشاقة أخذا من شق العصا أو لكون كل من المتخاصمين في شق؛ والمراد بالاستفهام استحضارها للشفاعة على طريق الاستهزاء والتبكيت، فإنهم كانوا يقولون: إن صح ما تقولون فالأصنام تشفع لنا، والاستفسار عن مكانتهم لا يوجب غيبتهم حقيقة بل يكفي في ذلك عدم حضورهم بالعنوان الذي كانوا يزعمون أنهم متصفون به فليس هناك شركاء ولا أماكنها.
وقيل: إن ذلك يوجب الغيبة، ويقال: إنه يحال بينهم وبين شركائهم حينئذ ليتفقدوهم في ساعة علقوا الرجاء بها فيهم أو أنهم لما لم ينفعوهم فكأنهم غيب. ولا يحتاج إلى
هذا بعدما علمت على أنه أورد على قوله. ليتفقدوهم إلى آخره أنه ليس بسديد، فإنه قد تبين للمشكرين حقيقة الأمر فرجعوا عن ذلك الزعم الباطل فكيف يتصور منهم التفقد. وأجيب بأنه يجوز أن يغفلوا لعظم الهول عن ذلك فيتفقدوهم، ثم إن ما ذكر يقتضي حشر الأصنام وهو الذي يدل عليه كثير من الآيات كقوله تعالى: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) * (الأنبياء: 98) وقوله سبحانه: * (وقودها الناس والحجارة) * (البقرة: 24) على قول، ولا أرى مانعا من حمل الشركاء على معبوداتهم الباطلة بحيث تشمل ذوي العقول أيضا. وقرأ الجمهور * (تشاقون) * بفتح النون، ونافع بكسرها ورويت عن الحسن، ولا يلتفت إلى تضعيف أبي حاتم. وقرأت فرقة بتشديدها على أنه أدغم نون الرفع في نون الوقاية. والكسر على حذف ياء المتكلم والاكتفاء به أي تشاقونني. على أن مشاقة الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم كمشاقة الله تعالى شأنه ولولا ذلك لم يصح تعليق المشاقة به سبحانه. أما إذا كانت بمعنى المخاصمة فظاهر أنهم لم يخاصموا الله تعالى، وأما إذا كانت بمعنى العداوة فلأنهم لا يعتقدون أنهم أعداء لله تعالى: وأما قوله تعالى: * (لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) * يعني المشركين فمؤول أيضا بغير شبهة * (قال الذين أوتوا العلم) * من أهل الموقف وهم الأنبياء عليهم السلام والمؤمنون الذين أوتوا علما بدلائل التوحيد وكانوا يدعونهم في الدنيا إلى التوحيد فيجادلونهم ويتكبرون عليهم، واقتصر يحيى بن سلام على المؤمنين والأمر فيه سهل. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم أنهم الملائكة عليهم السلام. ولم نقف على تقييده إياهم. وعن مقاتل أنهم الحفظة منهم. ويشعر كلام بعضهم بأنهم ملائكة
127

الموت حيث أورد على القول بأنهم الملائكة أن الواجب حينئذ يتوفونهم مكان * (تتوفاهم الملائكة) * (النحل: 28) وأنه يلزم منه الإبهام في موضع التعيين والتعيين في موضع الإبهام. وهو كما الشهاب في غاية السقوط، وقيل: المراد كل من اتصف بهذا العنوان من ملك وأنسي وغير ذلك. والذي يميل إليه القلب السليم القول الأول أي يقول أولئك توبيخا للمشركين وإظهارا للشماتة بهم وتقريرا لما كانوا يعظونهم وتحقيقا لما أوعدوهم به. وإيثار صيغة الماضي للدلالة على تحقق وقوعه وتحتمه حسبما هو المعهود في أخباره تعالى كقوله سبحانه: * (ونادى أصحاب الجنة) *.
* (إن الخزي) * الذال والهوان. وفسره الراغب بالذال الذي يستحي منه * (اليوم) * منصوب بالخزي على رأي من يرى أعمال المصدر باللام كقوله: ضعيف النكاية أعداءه.
أو بالاستقرار في الظرف الواقع خبرا لإن، وفيه فصل بين العامل والمعمول بالمعطوف إلا أنه مغتفر في الظرف. وأل للحضور أي اليوم الحاضر، وإيراده للإشعار بأنهم كانوا قبل ذلك في عزة وشقاق * (والسوء) * العذاب ومن الخزي به جعل ذكر هذا للتأكيد * (على الك‍افرين) * بالله تعالى وآياته ورسله عليهم السلام.
* (الذين تتوف‍اهم المل‍ائكة ظالمى أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون) *
.
* (الذين تتوف‍اهم الملائكة) * بتأنيث الفعل، وقرأ حمزة. والأعمش * (يتوفاهم) * بالتذكير هنا وفيما سيأتي إن شاء الله تعالى، والوجهان شائعان في أمثال ذلك.
وقرىء بإدغام تاء المضارعة في التاء بعدها ويجتلب في مثله حينئذ همزة وصل في الابتداء وتسقط في الدرج وإن لم يعهد همزة وصل في أول فعل مضارع. وفي مصحف عبد الله بتاء واحدة في الموضعين، وفي الموصول أوجه الإعراب الثلاثة. الجر على أنه صفة * (الكافرين) * أو بدل منه أو بيان له، والنصب والرفع على القطع للذم؛ وجوز ابن عطية كونه مرتفعا بالابتداء وجملة * (فألقوا) * خبره. وتعقبه أبو حيان بأن زيادة الفاء في الخبر لا تجوز هنا إلا على مذهب الأخفش في إجازته وزيادتها في الخبر مطلقا نحو زيد فقام أي قام، ثم قال: ولا يتوهم أن هذه الفاء هي الداخلة في خبر المبتدأ إذا كان موصولا وضمن معنى الشرط لأنها لا يجوز دخولها في مثل هذا الفعل مع صريح أداة الشرط فلا يجوز مع ما ضمن معناه اه‍ بلفظه. ونقل شهاب عنه أنه قال: إن المنع مع ما ضمن معناه أولى. وتعقبه بأن كونه أولى غير مسلم لأن امتناع الفاء معه لأنه لقوته لا يحتاج إلى رابط إذا صح مباشرته للفعل وما تضمن معناه ليس كذلك، وكلامه الذي نقلناه لا يشعر بالأولوية فلعله وجد له كلاما آخر يشعر بها.
واستظهر هو الجر على الوصفية ثم قال: فيكون ذلك داخلا في المقول، فإن كان القول يوم القيامة يكون * (تتوفاهم) * بصيغة المضارع حكاية للحال الماضية، وإن كان في الدنيا أي لما أخبر سبحانه أنه يخزيهم يوم القيامة ويقول جل وعلا لهم ما يقول قال أهل العلم: إن الخزي اليوم الذي أخبر الله تعالى أنه يخزيهم فيه والسوء على الكافرين يكون * (تتوفاهم) * على بابه، ويشمل من حيث المعنى من توفته ومن تتوفاه، وعلى ما ذكره ابن عطية يحتمل أن يكون * (الذين) * إلى آخره من كلام الذين أوتوا العلم وأن يكون إخبارا منه تعالى، والظاهر أن القول يوم القيامة فصيغة المضارع لاستحضار صورة توفى الملائكة إياهم كما قيل آنفا لما فيها من الهول، وفي تخصيص الخزي والسوء بمن استمر كفره إلى حين الموت دون من آمن منهم ولو في آخر عمره، وفيه تنديم لهم لا يخفى أي الكافرين المستمرين على الكفر إلى أن تتوفاهم الملائكة * (ظالمي أنفسهم) * أي حال كونهم مستمرين على الشرك الذي هو ظلم منهم لأنفسهم وأي ظلم حيث عرضوها للعذاب المقيم * (فألقوا السلم) * أي الاستسلام كما قاله الأخفش
128

وقال قتادة: الخضوع، ولا بعد بين القولين. والمراد عليهما أنهم أظهروا الانقياد والخضوع، وأصل الالقاء في الأجسام فاستعمل في إظهارهم الانقياد وإشعارا بغاية خضوعهم وانقيادهم وجعل ذلك اكلشيء الملقى بين يدي القاهر الغالب. والجملة قيل عطف على قوله تعالى: * (ويقول أين شركائي) * (النحل: 27) وما بينهما جملة اعتراضية جيء بها تحقيقا لما حاق بهم من الخزى على رؤوس الاشهاد. وكان الظاهر فيلقون إلى آخره إلا أنه عبر بصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع أي يقول لهم سبحانه ذلك فيستسلمون وينقادون ويتركون المشاقة وينزلون عما كانوا عليه في الدينا من الكبر وشدة الشكيمة، ولعله مراد من قال: إن الكلام قد تم عند قوله
تعالى: * (أنفسهم) * ثم عاد إلى حكاية حالهم يوم القيامة، وقيل: عطف على * (قال الذين) * (النحل: 7) وجوز أبو البقاء. وغيره العطف على * (تتوفاهم) * واستظهره أبو حيان، لكن قال الشهاب: إنه إنما يتمشى على كون * (تتوفاهم) * بمعنى الماضي، وقد تقدم لك القول بأن الجملة خبر * (الذين) * مع ما فيه. واعترض الأول بأن قوله تعالى: * (ما كنا نعمل من سوء) * إما أن يكون منصوبا بقول مضمر وذلك القول حال من ضمير * (ألقوا) * أي ألقوا السلم قائلين ما كنا إلى آخره أو تفسيرا للسلم الذي ألقوه بناء على أن المراد به القول الدال عليه بدليل الآية الأخرى * (فألقوا إليهم القول) * (النحل: 86) وأياما كان فذلك العطف يقتضي وقوع هذا القول منهم يوم القيامة وهو كذب صريح ولا يجوز وقوعه يومئذ.
وأجيب بأن المراد ما كنا عاملين السوء في اعتقادنا أي كان اعتقادنا أن عملنا غير سيء، وهذا نظير ما قيل في تأويل قولهم * (والله ربنا ما كنا مشركين) * (الأنعام: 23) وقد تعقب بأنه لا يلائمه الرد عليهم * (ببلى إن الله) * إلى آخره لظهور أنه لإبطال النفي ولا يقال: الرد على من جحد واستيقنت نفسه لأنه يكون كذبا أيضا فلا يفيد التأويل. ومن الناس من قال بجواز وقوع الكذب يوم القيامة، وعليه فلا اشكال، ولا يخفى أن هذا البحث جار على تقدير كون العطف على * (قال الذين) * أيضا إذ يقتضي كالأول وقوع القول يوم القيامة وهو مدار البحث. واختار شيخ الإسلام عليه الرحمة العطف السابق وقال: إنه جواب عن قوله سبحانه: * (أين شركائي) * وأرادوا بالسوء الشرك منكرين صدوره عنهم، ونفى أن يكون جوابا عن قول أولى العلم ادعاء لعدم استحقاقهم لما دهمهم من الخزى والسوء، ولعله متعين على تقدير العطف على * (قال الذين) * إلى آخره، وإذا كان العطف على * (تتوفاهم الملائكة) * كان الغرض من قولهم هذا الصادر منهم عند معاينتهم الموت استعطاف الملائكة عليهم السلام بنفي صدور ما يوجب استحقاق ما يعانونه عند ذلك، وقيل: المراد بالسوء الفعل السيء أعم من الشرك وغيره ويدخل فيه الشرك دخولا أوليا أي ما كنا نعمل سوأ ما فضلا عن الشرك، و * (من) * على كل حال زائدة و * (سوء) * مفعول لنعمل * (بلى) * رد عليهم من قبل الله تعالى أو من قبل أولى العلم أو من قبل الملائكة عليهم السلام، ويتعين الأخير على كون القول عند معاينة الموت ومعاناته أي بلى كنتم تعلمون ما تعملون.
إن الله عليم بما كنتم تعملون) * فهو يجازيكم عليه وهذا أوانه.
* (فادخلوا أبواب جهنم خ‍الدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين) *
.
* (فادخلوا أبواب جهنم) * خطاب لكل صنف منهم أن يدخل بابا من أبواب جهنم، والمراد بها اما المنفذ أو الطبقة، ولا يجوز أن يكون خطابا لكل فرد لئلا يلزم دخول الفرد من الكفار من أبواب متعددة أو يكون لجهنم أبواب بعدد الأفراد، وجوز أن يراد
129

بالأبواب أصناف العذاب، فقد جاء إطلاق الباب على الصنف كما يقال: فلان ينظر في باب من العلم أي صنف منه وحينئذ لا مانع في كون الخطاب لكل فرد، وأبعد من قال: المراد بتلك الأبواب قبور الكفرة المملوءة عذابا مستدلا بما جاء " القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار " * (خ‍الدين فيها) * حال مقدرة أن أريد بالدخول حدوثه، ومقارنة ان أريد به مطلق الكون، وضمير * (فيها) * قيل: للأبواب بمعنى الطبقات، وقيل: لجهنم، والتزم هذا وكون الحال مقدرة من أبعد، وحمل الخلود على المكث الطويل للاستغناء عن هذا الالتزام وان كان واقعا في كلامهم خلاف المعهود في القرآن الكريم * (فلبئس مثوى المتكبرين) * أي عن التوحيد، وذكرهم بعنوان التكبر للاشعار بعليته لثوائهم فيها، وقد وصف سبحانه الكفار فيما تقدم بالاستكبار وهنا بالتكبر، وذكر الراغب أنهما والكبر تتقارب فالكبر الحالة التي يتخصص بها الإنسان من اعجابه بنفسه، والاستكبار على وجهين: أحدهما أن يتحرى الإنسان ويطلب أن يصير كبيرا، وذلك متى كان على ما يحب وفي المكان الذي يحب وفي الوقت الذي يحب وهو محمود. والثاني أن يتشبع فيظهر من نفسه ما ليس له وهو مذموم، والتكبر على وجهين أيضا. الأول أن تكون الأفعال الحسنة كثيرة في الحقيقة وزائدة على محاسن غيره، وعلى هذا وصف الله تعالى بالمتكبر. والثاني أن يكون متكلفا لذلك متشبعا وذلك في وصف عامة الناس، والتكبر على الوجه الأول محمود وعلى الثاني مذموم، والمخصوص بالذم محذوف أي جهنم أو أبوابها أن فسرت بالطبقات؛ والفاء عاطفة، واللام جيء بها للتأكيد اعتناء بالذم لما أن القوم ضالون مضلون كما ينبىء عنه قوله تعالى: * (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) * (النحل: 25) وللتأكيد اعتناء بالمدح جيء باللام أيضا فيما بعد من قوله سبحانه: * (ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين) * (النحل: 30) لأن أولئك القوم على ضد هؤلاء هادون مهديون، وكأنه لعدم هذا المقتضى في آيتي الزمر والمؤمن لم يؤت باللام، وقيل: * (فبس مثوى المتكبرين) * (الزمر: 72) وقيل: التأكيد متوجه لما يفهم من الجملة من أن جهنم مثواهم، وحيث أنه لم يفهم من الآيات قبل هنا فهمه منها قبل آيتي تينك السورتين جيء بالتأكيد هناك ولم يجىء به هنا اكتفاء بما هو كالصريح في إفادة أنها مثواهم مما ستسمعه إن شاء الله تعالى هناك.
* (وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا فى هاذه الدنيا حسنة ولدار الاخرة خير ولنعم دار المتقين) *
.
* (وقيل للذين اتقوا) * أي المؤمنين، وصفوا بذلك اشعارا بأن ما صدر عنهم من الجواب ناشىءمن التقوى.
* (ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا) * أي أنزل خيرا * (فماذا) * اسم واحد مركب للاسفهام بمعنى أي شيء محله النصب * (بأنزل) * و * (خيرا) * مفعول لفعل محذوف، وفي اختيار ذلك دليل على أنهم لم يتلعثموا في الجواب وأطبقوه على السؤال معترفين بالإنزال على خلاف الكفرة حيث عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا: هو * (أساطير الأولين) * وليس من الإنزال في شيء. نعم قرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما * (خير) * بالرفع - فما - اسم استفهام و * (ذا) * اسم موصول
بمعنى الذي أي أي شيء الذي أنزله ربكم، و * (خير * (خبر مبتدأ محذوف فيتوافق جملتا الجواب والسؤال في كون كل منهما جملة اسمية، وجعل * (ماذا) * منصوبا على المفعولية كما مر ورفع * (خير) * على الخبرية لمبتدأ جائز إلا أنه خلاف الأول، وفي الكشف أنه يظهر من الوقوف على مراد صاحب الكشاف في هذا المقام إن فائدة النصب مع أن الرفع أقوى دفع الالتباس ليكون نصا في المطلوب كما أوثر النصب في
130

قوله تعالى: * (انا كل شيء خلقناه بقدر) * (القمر: 49) لذلك، وينحل مراده من ذلك بالرجوع إلى ما نقلناه عنه سابقا والتأمل فيه فتأمل فإنه دقيق.
هذا ولم نجد في السائل هنا خلافا كما في السائل فيما تقدم، والذي رأيناه في كثير مما وقفنا عليه من التفاسير أن السائل الوفد الذي كان سائلا أو لا في بعض الأقوال المحكية هناك، وذكر أنه السائل في الموضعين كثير منهم ابن أبي حاتم، فقد أخرج عن السدى قال اجتمعت قريش فقالوا: إن محمدا صلى الله عليه وسلم رجل حلو اللسان إذا كلمه الرجل ذهب بعقله فانظروا أناسا من أشرافكم المعدودين المعروفة انسابهم فابعثوهم في كل طريق من طرق مكة على رأس ليلة أو ليلتين فمن جاء يريده فردوه عنه فخرج ناس منهم في كل طريق فكان إذا أقبل الرجل وافد لقومه ينظر ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم فينزل بهم قالوا له: يا فلان ابن فلان فيعرفه بنسبه ويقول: أنا أخبرك عن محمد صلى الله عليه وسلم هو رجل كذاب لم يتبعه على أمره إلا السفهاء والعبيد ومن لا خير فيه وأما شيوخ قومه وخيارهم فمفارقون له فيرجع أحدهم فذلك قوله تعالى: * (وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين) * (النحل: 24) فإذا كان الوافد ممن عزم الله تعالى له على الرشاد فقالوا له مثل ذلك قال: بئس الوافد أنا لقومي إن كنت جئت حتى إذا بلغت مسيرة يوم رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل وانظر ما يقول وآتي قومي ببيان أمره فيدخل مكة فيلقى المؤمنين فيسألهم ماذا يقول محمد صلى الله عليه وسلم فيقولون: خيرا الخ، نعم يجوز عقلا أن يكون السائل بعضهم لبعض ليقوى ما عنده بجوابه أو لنحو ذلك كالاستلذاذ بسماع الجواب وكثيرا ما يسأل المحب عما يعلمه من أحوال محبوبه استلذاذا بمدامة ذكره وتشنيفا لسمعه بسني دره الا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر * ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر
بل يجوز أيضا أن يكون السائل من الكفرة المعاندين وغرضه بذلك التلاعب والتهكم * (للذين أحسنوا) * أتوا بالأعمال الحسنة الصالحة * (في ه‍اذه) * الدار * (الدنيا حسنة) * مثوبة حسنة جزاء إحسانهم، والجار والمجرور متعلق بما بعده على معنى أن تلك الحسنة لهم في الدنيا، والمراد بها على ما روي عن الضحاك النصر والفتح، وقيل: المدح والثناء منه تعالى، وقال الإمام: يحتمل أن يكون فتح باب المكاشفات والمشاهدات والالطاف كقوله تعالى: * (والذين اهتدوا زادهم هدى) * وقيل: متعلق بما قبله، وحينئذ يحتمل أن يكون الكلام على تقدير مثله متعلقا بما بعد أولا بل تكون هذه الحسنة الواقعة مثوبة لاحسانهم في الدنيا في الآخرة، واقتصر بعضهم على هذا الاحتمال، والمراد بالحسنة حينئذ إما الثواب العظيم الذي أعده الله تعالى يوم القيامة للمحسنين وإما التضعيف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما لا يعلمه غيره جل وعلا، واختير كونه متعلقا بما بعد لأنه الأوفق بقوله سبحانه: * (ولدار الآخرة خير) * والكلام كما يشعر به كلام غبر واحد على حذف مضاف أي ولثواب دار الآخرة أي ثوابهم فيها خير مما أوتوا في الدنيا من الثواب.
وجوز أن يكون المعنى خير على الإطلاق فيجوز إسناد الخيرية إلى نفس دار الآخرة * (ولنعم دار المتقين) * أي دار الآخرة حذف لدلالة ما سبق عليه كما قاله ابن عطية. والزجاج. وابن الأنباري. وغيرهم، وهذا كلام مبتدأ عدة منه تعالى الذين اتقوا على قولهم، وهو في الوعد ههنا نظير * (ليحملوا أوزارهم) * (النحل: 25) في الوعيد فيما مر، وجوز أن يكون * (خيرا) *
131

مفعول * (قالوا) * وعمل فيه لأنه في معنى الجملة كمقال قصيده أو صفة مصدر أي قولا خيرا، وهذه الجملة بدل منه فمحلها النصب أو مفسرة له فلا محل لها من الأعراب، وعلى التقديرين مقولهم في الحقيقة * (للذين أحسنوا) * الخ إلا أن الله سبحانه سماه خيرا ثم حكاه كما تقول: قال فلان جميلا من قصدنا وجب حقه علينا، وعلى ما ذكر لا يكون دلالة النصب على ما مر لما أشير إليه هناك وإنما تكون من حيث شهادة اللهتعالى بخيرية قولهم ويحتمل جعل ذلك كما الكشف مفعول * (أنزل) * ويكون تسميته خيرا من الله تعالى كما قوله سبحانه: * (ليقولن خلقهن العزيز العليم) * (الزخرف: 9) ليشعر أول ما يقرع السمع بالمطابقة من غير نظر إلى فهم معناه؛ وأما قولهم: " للذين أحسنوا " أي قالوا أنزل هذه المقالة فإن ما يفهم من المطابقة بعد تدبر المعنى، وزعم بعضهم أنه لا يجوز جعله منصوبا - بأنزل - لأن هذا القول ليس منزلا من الله تعالى، وفيه تفوت المطابقة حينئذ وهو كلام ناشىء من قلة التدبر. وفي البحر الظاهر أن * (للذين) * الخ مندرج تحت القول وهو تفسير للخير الذي أنزل الله تعالى في الوحي، وظاهره أنه وجه آخر غير ما ذكر وفيه رد على الزاعم أيضا، ولعل اقتصارهم على هذا من بين المنزل لأنه كلام جامع وفيه ترغيب للسائل، والمختار من هذه الأوجه عند جمع هو الأول بل قيل إنه الوجه.
* (جن‍ات عدن يدخلونها تجرى من تحتها الأنه‍ار لهم فيها ما يشآءون كذلك يجزى الله المتقين) *
.
* (جنات عدن) * خبر مبتدأ محذوف كما اختاره الزجاج وابن الأنباري أي هي جنات، وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي لهم جنات أو هو المخصوص بالمدح * (يدخلونها) * نعت لجنات عند الحوفي بناء على أن * (عدن) * نكرة وكذلك دتجري من تحتها الأنهار) * وكلاهما حال عند غير واحد بناء على أنها علم. وجوزوا أن يكون * (جنات) * مبتدأ وجملة " يدخلونها " خبره وجملة تجري الخ حال، وقرأ زيد بن ثابت. وأبو عبد الرحمن جنات بالنصب على الاشتغال أي يدخلون جنات عدن يدخلونها، قال أبو حيان: وهذه القراءة تقوى كون " جنات " مرفوعا مبتدأ والجملة بعده خبره، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما " ولنعمة دار المتقين " بتاء مضمومة ودار مخفوضة فيكون " نعمة " مبتدأ مضافا إلى دار وجنات خبره. وقرأ اسمعيل بن جعفر عن نافع " يدخلونها " بالياء على الغيبة والفعل مبني للمفعول،
ورويت عن أبي جعفر، وشيبة * (لهم فيها) * أي في تلك الجنات * (ما يشاؤون) * الظرف الأول خبر - لما - والثاني حال منه، والعامل ما في الأول من معنى الحصول والاستقرار أو متعلق به لذلك أي حاصل لهم فيها ما يشاؤون من أنواع المشتهيات وتقديمه للاحتراز عن توهم تعلقه بالمشيئة أو لما مر غير مرة من أن تأخير ما حقه التقديم يوجب ترقب النفس إليه فيتمكن عند وروده فضل تمكن. وذكر بعضهم أن تقديم فيها للحصر وما للعموم بقرينة المقام فيفيد أن الإنسان لا يجد جميع ما يريده إلا في الجنة فتأمله. والجملة في موضع الحال نظير ما تقدم، وزعم أن لهم متعلق بتجري أي تجري من تحتها الأنهار لنفعهم " وفيها ما يشاؤون " مبتدأ وخبر في موضع الحال لا يخفى حاله عند ذوي التمييز * (كذالك) * مثل ذلك الجزاء إلا وفي * (يجزي الله المتقين) * أي جنسهم فيشمل كل من يقتي من الشرك والمعاصي وقيل من الشرك ويدخل فيه المتقون المذكورون دخولا أوليا ويكون فيه بعث لغيرهم على التقوى أو المذكورين فيكون فيه تحسير للكفرة، قيل: وهذه الجملة تؤيد كون قوله سبحانه " للذين أحسنوا " عدة فإن جعل ذلك جزاء لهم ينظر إلى الوعد به من الله تعالى وإذا كان مقول
132

القول لا يكون من كلامه تعالى حتى يكون وعدا منه سبحانه، وقيل: إنها تؤيد كون " جنات " خبر مبتدأ محذوف لا مخصوصا بالمدح لأنه إذا كان مخصوصا بالمدح يكون كالصريح في أن " جنات عدن " جزاء للمتقين فيكون " كذلك " الخ تأكيدا بخلاف ما إذا كان خبر مبتدأ محذوف فإنه لم يعلم صريحا أن جنات عدن جزاء للمتقين وفيه نظر وكذا في سابقه إلا أن في التعبير بالتأبيد ما يهون الأمر.
* (الذين تتوف‍اهم المل‍ائكة طيبين يقولون سل‍ام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) *
.
* (الذين تتوفاهم الملائكة) * نعت للمتقين وجوز قطعه، وقوله سبحانه: * (طيبين) * حال من ضميرهم، ومعناه على ما روي عن أبي معاذ طاهرين من دنس الشرك وهو المناسب لجعله في مقابلة " ظالمي أنفسهم " في وصف الكفرة بناء على أن المراد بالظلم أعظم أنواعه وهو الشرك لكن قيل عليه: إن ذكر الطهارة عن الشرك وحده لا فائدة فيه بعد وصفهم بالتقوى.
وأجيب بأن فائدة ذلك الإشارة إلى أن الطهارة عن الشرك هي الأصل الأصيل. وفي إرشاد العقل السليم بعد تفسير الظلم بالكفر وتفسير طيبين بطاهرين عن دنس الظلم وجعله حالا قال: وفائدته الايذان بأن ملاك الأمر في التقوى هو الطهارة عما ذكر إلى وقت توفيهم، ففيه حث للمؤمنين على الاستمرار على ذلك ولغيرهم على تحصيله.
وقال مجاهد: المراد - بطيبين - زاكية أقوالهم وأفعالهم، وهو مراد من قال: طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي وإلى هذا ذهب الراغب حيث قال: الطيب من الإنسان من تعرى من نجاسة الجهل والفسق وقبائح الأعمال وتحلي بالعلم والإيمان ومجاسن الأعمال وإياهم قصد بقوله سبحانه: * (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين) *.
وانتصر لذلك بأن وصفهم بأنهم متقون موعودون بالجنة في مقابلة الأعمال يقتضي ما ذكر، وحملوا الظلم فيما مر على ما يعم الكفر والمعاصي لأن ذلك مجاب بقولهم: " ما كنا نعمل من سوء " فلا تفوت المناسبة في جعل هذا مقابلا لذاك لكن في الاستدلال بما ذكر في الجواب على إرادة العام ما لا يخفى، والكثير على تفسير الطيب بالطاهر عن قاذورات الذنوب مطابق الذي لا خبث فيه، وقيل: المعنى فرحين ببشارة الملائكة عليهم السلام إياهم أو بقبض أرواحهم لتوجه نفوسهم بالكلية إلى حضرة القدس، فالمراد بالطيب طيب النفس وطيبها عبارة عن القبول مع انشراح الصدر * (يقولون) * حال من الملائكة، وجوز أن يكون " الذين " مبتدأ خبره هذه الجملة أي قائلين أو قائلون لهم: * (سلام عليكم) * لا يحيقكم بعد مكروه.
قال القرطبي: وروى نحوه البيهقي عن محمد بن كعب القرظي إذا استدعيت نفس المؤمن جاءه ملك الموت عليه السلام فقال: السلام عليك يا ولي الله إن الله تعالى يقرأ عليك السلام وبشره بالجنة * (ادخلوا الجنة) * التي أعدها الله تعالى لكم ووعدكم إياها وكأنها إنما لم توصف لشهرة أمرها.
وفي إرشاد العقل السليم اللام للعهد أي * (جنات عدن) * (الرعد: 23) الخ ولذلك جردت عن النعت وهو كما ترى، والمراد دخولهم فيها بعد البعث بناء على أن المتبارد الدخول بالأرواح والأبدان والمقصود من الأمر بذلك قبل مجيء وقته البشارة بالجنة على أتم وجه ويجوز أن يراد الدخول حين التوفي بناء على حمل الدخول على الدخول بالأرواح كما يشير إليه خبر " القبر روضة من رياض الجنة " وكون البشار بذلك دون البشارة بدخول الجنة على المعنى الأول لا يمنع عن ذلك على أن لقائل أن يقول: إن البشارة بدخول الجنة بالأرواح متضمنة للبشارة بدخولها بالأرواح والأبدان عند وقته؛ وكون هذا القول كسابقه عند قبض الأرواح هو المروي عن ابن مسعود. وجماعة
133

من المفسرين، وقال مقاتل. والحسن: إن ذلك يوم القيامة، والمراد من التوفي وفاة الحشر أعني تسليم أجسادهم وإيصالها إلى موقف الحشر من توفى الشيء إذا أخذه وافيا، وجوز حمل التوفيس على المعنى المتعارف مع كون القول يوم القيامة إما بجعل * (الذين تتوفاهم الملائكة) * (النحل: 28) يقولون مبتدأ وخبرا أو بجعل يقولون حالا مقدرة من الملائكة * (والذين) * على حاله أولا وحال ذلك لا يخفى * (بما كنتم تعملون) * أي بسبب ثباتكم على التقوى والطاعة بالذي كنتم تعملونه من ذلك، والباء للسببية العادية، وهي فيما في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: " لن يدخل الجنة أحدكم بعمله " الحديث للسببية الحقيقية فلا تعارض بين الآية والحديث وبعضهم جعل الباء للمقابلة دفعا للتعارض.
* (هل ينظرون إلا أن تأتيهم المل‍ائكة أو يأتى أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ول‍اكن كانوا أنفسهم يظلمون) *
.
* (هل ينظرون) * أي ما ينتظر كفار مكة المار ذكرهم * (إلا أن تأتيهم الملائكة) * لقبض أرواحهم كما روي عن قتادة. ومجاهد، وقرأ حمزة. والكسائي. وابن
وثاب وطلحة. والأعمش * (يأتيهم) * بالياء آخر الحروف * (أو يأتي أمر ربك) * أي القيامة كما روي عمن تقدم أيضا، وقال بعضهم: المراد به العذاب الدنيوي دونها لا لأن انتظارها يجامع انتظار اتيان الملائكة فلا يلائمه العطف بأو لا لأنها ليست نصا في العناد إذ يجوز أن يعتبر منع الخلو ويراد بإيرادها كفاية كل واحد من الأمرين في عذابهم بل لأن قوله تعالى فيما سيأتي إن شاء الله تعالى: * (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) * فأصابهم الآية صريح في أن المراد به ما أصابهم من العذاب الدنيوي وفيه منع ظاهر، ويؤيد إرادة الأول التعبير - بيأتي - دون يأتيهم، وقيل: المراد باتيان الملائكة اتيانهم للشهادة بصدق النبي صلى الله عليه وسلم أي ما ينتظرون في تصديقك إلا أن تنزل الملائكة تشهد بنبوتك فهو كقوله تعالى: * (لولا أنزل إليه مملك) * (الفرقان: 7) والجمهور على الأول، وجعلوا منتظرين لذلك مجازا لأنه يلحقهم لحوق الأمر المنتظر كما قيل.
واختير ان ذلك لمباشرتهم أسباب العذاب الموجبة له المؤدية إليه فكأنهم يقصدون ايتاءه ويتصدون لوروده، ولا يخفى ما في التعبير بالرب وإضافته إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من اللطف به عليه الصلاة والسلام، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى وجه ربط الآيات * (كذالك) * أي مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب * (فعل الذين) * خلوا * (من قبلهم) * من الأمم * (وما ظلعمهم الله) * إذ أصابهم جزاء فعلهم * (ول‍اكن كانوا أنفسهم يظلمون) * بالاستمرار على فعل القبائح المؤدى لذلك، قيل: وكان الظاهر أن يقال: ولكن كانوا هم الظالمين كما في سورة الزخرف لكنه أوثر ما عليه النظم الكريم لإفادة أن غائلة ظلمهم آيلة إليهم وعاقبته مقصورة عليهم مع استلزام اقتصار ظلم كل أحد على نفسه من حيث الوقوع اقتصاره عليه من حيث الصدور.
* (فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون) *
.
* (فأصابهم سيئات ما عملوا) * أي أجزية أعمالهم السيئة على طريقة اطلاق اسم السبب على المسبب إيذانا بفظاعته، وقيل: الكلام على حذف المضاف.
وتعقب بأنه يوهم أن لهم أعمالا غير سيئة والتزم ومثل ذلك بنحو صلة الأرحام، ولا يخفى أن المعنى ليس على التخصيص، والداعي إلى ارتكاب أحد الأمرين أن الكلام بظاهره يدل على أن ما أصابهم سيئة، وليس بها. وقد يستغني عن ارتكاب ذلك لما ذكر بأن ما يدل عليه الظاهر من باب المشاكلة كما في قوله تعالى: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * كما في الكشاف * (وحاق بهم) * أي أحاط بهم، وأصل معنى الحيق الإحاطة مطلقا ثم خص في الاستعمال باحاطة الشر، فلا يقال: أحاطت به النعمة بل النقمة. وهذا أبلغ وأفظع من أصابهم * (ما كانوا به يستهزؤون) * أي من العذاب كام قيل على أن دما) * موصولة عبارة عن العذاب، وليس في الكلام حذف ولا ارتكاب مجاز على
134

نحو ما مر آنفا، وقيل: * (ما) * مصدرية وضمير * (به) * للرسول عليه الصلاة والسلام وإن لم يذكر، والمراد أحاط بهم جزاء استهزائهم بالرسول صلى الله عليه وسلم أو موصولة عامة للرسول عليه الصلاة والسلام وغيره وضمير * (به) * عائد عليها والمعنى على الجزاء أيضا، ولا يخفى ما فيه، وإياما كان * (فبه) * متعلق - بيستهزؤون - قدم للقاصلة، هذا ثم ان قوله تعالى: * (هل ينظرون) * الخ على ما في الكشف رجوع إلى عد ما هم فيه من العناد والاستشراء في الفساد وأنهم لا يقلعون عن ذلك كأسلافهم الغابرين إلى يوم التناد، وما وقع من أحوال اضدادهم في البين كان لزيادة التحسير والتبكيت والتخسير، وفيه دلالة على أن الحجة قد تمت وأنه صلى الله عليه وسلم أدى ما عليه من البلاغ المبين، وقوله تعالى: * (فأصابهم) * (النحل: 33) عطف على * (فعل الذين من قبلهم) * (النحل: 32) مترتب إذ المعنى كذلك التكذيب والشرك فعل أسلافهم وأصابهم ما أصابهم، وفيه تحذير مما فعله هؤلاء وتذكير لقوله سبحانه: * (قد مكر الذين من قبلهم) * (النحل: 26) ولا يخفى حسن الترتب على ذلك لأن التكذيب والشرك تسببا لإصابة السيئات لمن قبلهم، وقوله سبحانه: * (وما ظلمنهم الله) * (النحل: 33) اعتراض واقع حاق موقعه، وجعل ذلك راجعا إلى المفهوم من قوله تعالى: * (هل ينظرون) * أي كذلك كان من قبلهم مكذبين لزمتهم الحجة منتظرين فاصابهم ما كانوا منتظرين سديد حسن إلا أن معتمد الكلام الأول وهو أقرب مأخذا، ودلالة * (فعل) * عليه أظهر، فهذه فذلكة ضمنت محصل ما قابلوا به تلك النعم والبصائر وأدمج فيها تسليته صلى الله عليه وسلم والبشرى بقلب الدائرة على من تربص به وبأصحابه عليه الصلاة والسلام الدوائر وختمت بما يدل على أنهم انقطعوا فاحتجوا بآخر ما يحتج به المحجوج يتقلب عليه فلا يبصر إلا وهو مثلوج مشجوج وهو ما تضمنه قوله تعالى:
* (وقال الذين أشركوا لو شآء الله ما عبدنا من دونه من شىء نحن ولاءاباؤنا ولا حرمنا من دونه من شىء كذالك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البل‍اغ المبين) *
.
* (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء) * فهو من تتمة قوله سبحانه: * (هل ينظرون) * ألا ترى كيف ختم بنحوه آخر مجادلاتهم في سورة الأنعام في قوله سبحانه: * (سيقول الذين أشركوا) * (الأنعام: 148) وكذلك في سورة الزخرف ولا تراهم يتشبثون بالمشيئة إلا عند انخزال الحجة * (وقالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة) * (الزخرف) ويكفي في الانقلاب ما يشير إليه قوله سبحانه: * (قل فلله الحجة البالغة) * وفي إرشاد العقل السليم أن هذه الآية بيان لفن آخر من كفر أهل مكة فهم المراد بالموصول، والعدول عن الضمير إليه لتقريعهم بما في حيز الصلة وذمهم بذلك من أول الأمر، والمعنى لو شاء الله تعالى عدم عبادتنا لشيء غيره سبحانه كما تقول ما عبدنا ذلك * (نحن ولا ءاباؤنا) * الذين نهتدي بهم في دينا * (ولا حرمنا من دونه من شيء) * من السوائب والبحائر وغيرها - فمن - الأولى بيانية والثانية زائدة لتأكيد الاستغراق وكذا الثالثة * (ونحن) * لتأكيد ضمير * (عبدنا) * لا لتصحيح العطف لوجود الفاصل وإن كان محسنا له، وتقدير
مفعول * (شاء) * عدم العبادة مما صرح به بعضهم، وكان الظاهر أن يضم إليه عدم التحريم. واعترض تقدير ذلك بأن العدم لا يحتاج إلى المشيئة كما ينبىء عنه قوله صلى الله عليه وسلم: " ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن " حيث لم يقل عليه الصلاة والسلام ما شاء الله تعالى كان وما شاء عدم كونه لم يكن بل يكفي فيه عدم مشيئة الوجود، وهو معنى قولهم: علة العدم عدم علة الوجود، فالأولى أن يقدر المفعول وجوديا كالتوحيد والتحليل وكامتثال ما جئت به والأمر في ذلك سهل.
وفي تخصيص الاشراك والتحريم بالنفي لأنهما أعظم وأشهر ما هم عليه، وغرضهم من ذلك كما قال بعض المحققين تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام والطعن في الرسالة رأسا، فإن حاصله إن ما شاء الله تعالى يجب وما لم يشأ يمتنع فلو أنه سبحانه شاء أن نوحده ولا نشرك به شيئا ونحلل ما أحله ولا نحرم شيئا مما حرمنا كما تقول الرسل
135

وينقلونه من جهته تعالى لكان الأمر كما شاء من التوحيد ونفي الاشراك وتحليل ما أحله وعدم تحريم شيء من ذلك وحيث لم يكن كذلك ثبت أنه لم يشأ شيئا من ذلك بل شاء ما نحن عليه وتحقق أن ما تقوله الرسل عليهم السلام من تلقاء أنفسهم ورد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه عز وجل: * (كذالك) * أي مثل ذلك الفعل الشنيع * (فعل الذين من قبلهم) * من الأمم أي أشركوا بالله تعالى وحرموا من دونه ما حرموا وجادلوا رسلهم بالباطل ليدحضوا به الحق * (فهل على الرسل) * الذين أمروا بتبليغ رسالات الله تعالى وعزائم أمره ونهيه.
* (إلا البلاغ المبين) * أي ليست وظيفتهم إلا الابلاغ للرسالة الموضح طريق الحق والمظهر أحكام الوحي التي منها تحتم تعلق مشيئته تعالى باهتداء من صرف قدرته واختياره إلى تحصيل الحق لقوله تعالى: * (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) * (العنكبوت: 69).
واما الجاؤهم إلى ذلك وتنفيذ قولهم عليهم شاؤوا أو أبوا كما هو مقتضى استدلالهم فليس ذلك من وظيفتهم ولا من الحكمة التي يدور عليها فلك التكليف حتى يستدل بعدم ظهور آثاره على عدم حقية الرسل عليهم السلام أو على عدم تعلق مشيئة الله تعالى بذلك، فإن ما يترتب عليه الثواب والعقاب من الأفعال لا بد في تعلق مشيئته تعالى بوقوعه من مباشرتهم الاختيارية وصرف اختيارهم الجزئي إلى تحصيله وإلا لكان الثواب والعقاب اضطررايين؛ والفاء على هذا للتعليل كانه قيل كذلك فعل اسلافهم وذلك باطل فان الرسل عليهم السلام ليس شأنهم إلا تبليغ الأوامر والنواهي لا تحقيق مضمونها قسرا والجاءر اه‍، وكأني بك لا تبريه من تكلف.
وهو متضمن للرد على الزمخشري فقد سلك في هذا المقام الغلو في المقال وعدل عن سنن الهدى إلى مهواة الضلال فذكر أن هؤلاء المشركين فعلوا ما فعلوا من القبائح ثم نسبوا فعلهم إلى الله تعالى وقالوا: * (لو شاء الله) * إلى آخره وهذا مذهب المجبرة بعينه كذلك فعل اسلافهم فلما نبهوا على قبح فعلهم وركوه على ربهم فهل على الرسل إلا أن يبلغوا الحق وأن الله سبحانه لا يشاء الشرك والمعاصي بالبيان والبرهان ويطلعوا على بطلان الشرك وقبحه وبراءة الله تعالى من أفعال العباد وأنهم فاعلوها بقصدهم وإرادتهم واختيارهم، والله تعالى باعثهم على جميلها وموفقهم له وزاجرهم عن قبيحها وموعدهم عليه إلى آخر ما قال مما هو على هذا المنوال، ولعمري أنه فسر الآيات على وفق هواه وهي عليه لا له لو تدبر ما فيها وحواه، وقد رد عليه غير واحد من المحققين وأجله المدققين وبينوا أن الآية بمعزل عن أن تكون دليلا لأهل الاعتزال كما أن الشرطية لا تنتج مطلوب أولئك الضلال، وقد تقدم نبذه من الكلام في ذلك ثم إن كون غرض المشركين من الشرطية تكذيب الرسل عليهم السلام هو أحد احتمالين في ذلك، قال المدقق في الكشف في نظير الآية: إن قولهم هذا إما لدعوى مشروعية ما هم عليه ردا للرسل عليهم السلام أو لتسليم أنهم على الباطل اعتذارا بأنهم مجبورون، والأول باطل لأن المشيئة تتعلق بفعلهم المشروع وغيره فما شاء الله تعالى أن يقع منهم مشروعا وقع كذلك وما شاء الله تعالى أن يقع لا كذلك وقع لا كذلك، ولا شك أن من توهم أن كون الفعل بمشيئته تعالى ينافي مجيء الرسل عليهم السلام بخلاف ما عليه المباشر من الكفر والضلال فقد كذب التكذيب كله وهو كاذب في استنتاج المقصود من هذه اللزومية، وظاهر الآية مسوق لهذا المعنى. والثاني على ما فيه حصول المقصود وهو الاعتراف بالبطلان باطل أيضا إذ لا جبر لأن المشيئة تعلقت بأن يشركوا اختيارا منهم والعلم تعلق كذلك
136

ومثله في التحريم فهو يؤكد دفع العذر لا أنه يحققه، وذكر أن معنى * (فهو على الرسل) * أن الذي على الرسل أن يبلغوا ويبينوا معالم الهدى بالإرشاد إلى تمهيد قواعد النظر والإمداد بأدلة السمع والبصر ولا عليهم من مجادلة من يريد أن يدحض بباطله الحق الأبلج إذ بعد ذلك التبيين يتضح الحق للناظرين ولا تجدي نفعا مجادلة المعاندين، وجوز أن يكون قولهم هذا منعا للبعثة والتكليف متمسكين بأن ما شاء الله تعالى يجب وما لم يشأ يمتنع فما الفائدة فيهما أو إنكارا لقبح ما أنكر عليهم من الشكر والتحريم محتجين بأن ذلك لو كان مستقبحا لما شاء الله تعالى صدوره عنا أو لشاء خلافه ملجأ إليه، وأشير إلى جواب الشبهة الأولى بقوله سبحانه: * (فهل على الرسل) * إلى آخره كأنه قيل: إن فائدة البعثة البلاغ الموضح للحق فإن ما شاء الله تعالى وجوده أو عدمه لا يجب ولا يمتنع مطلقا كما زعمتم بل قد يجب أو يمتنع بتوسط أسباب أخر قدرها سبحانه ومن ذلك البعثة فإنا تؤدي إلى هدى من شاء الله تعالى على سبيل التوسط، وأما الشبهة الثانية فقد أشير إلى جوابها [بم في قوله تعالى:
* (ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الط‍اغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضل‍الة فسيروا فى الارض فانظروا كيف كان ع‍اقبة المكذبين) *
.
* (ولقد بعثنا في كل أمة) * من الأمم الخالية * (رسولا أن اعبدوا الله) * وحده * (واجتنبوا الطاغوت) * هو كل ما يدعو إلى الضلالة، وقال الحسن: هو الشيطان، والمراد من اجتنابه اجتناب ما يدعو إليه. * (فمنهم) * أي من أولئك الأمم * (من هدى الله) * إلى الحق من عبادته أو اجتناب الطاغوت بأن وقفهم لذلك * (ومنهم من حقت عليه الضلالة) * ثبتت ووجبت إذ لم يوفقهم ولم يرد هدايتهم، ووجه الإشارة أن تحقق الضلال وثباته من حيث إنه وقع قسيما للهداية التي هي بإرادته
تعالى ومشيئته كان هو أيضا كذلك.
وأما أن إرادة القبيح قبيحة فلا يجوز اتصاف الله سبحانه بها فظاهر الفساد لأن القبيح كسب القبيح والاتصاف به لا إرادته وخلقه على ما تقرر في الكلام. وأنت تعلم أن كلتا الإشارتين في غاية الخفاء، ولينظر أي حاجة إلى الحص وما المراد به على جعل * (فهل على الرسل) * (النحل: 35) إلى آخره مشيرا إلى جواب الشبهة الأولى.
وقال الإمام: إن المشركين أرادوا من قولهم ذلك أنه لما كان الكل من الله تعالى كان بعثه الأنبياء عليهم السلام عبثا فنقول. هذا اعتراض على الله تعالى وجار مجرى طلب العلة في أحكامه تعالى وأفعاله وذلك باطل إذ لله سبحانه أن يفعل في ملكه ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا يجوز أن يقال له لم فعلت هذا ولم لم تفعل ذاك.
والدليل على أن الإنكار إنما توجه إلى هذا المعنى أنه تعالى صرح بهذا المعنى في قوله سبحانه: * (ولقد بعثنا) * إلى آخره حيث بين فيه أن سنته سبحانه في عباده إرسال الرسل إليهم وأمرهم بعبادته ونهيهم عن عبادة غيره، وأفاد أنه تعالى وإن أمر الكل ونهاهم إلا أنه جل جلاله هدى البعض وأضل البعض، ولا شك أنه إنما يحسن منه تعالى ذلك بحكم كونه إلها منزها عن اعتراضات المعترضين ومطالبات المنازعين، فكان إيراد هذا السؤال من هؤلاء الكفار موجبا للجهل والضلال والبعد عن الله المتعال، فثبت أن الله تعالى أنما ذم هؤلاء القائلين لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثة الرسل لا لأنهم كذبوا في قولهم ذلك، وهذا هو الجواب الصحيح الذي يعول عليه في هذا الباب، ومعنى * (فهل على الرسل) * إلى آخره أنه تعالى أمر الرسل عليهم السلام بالتبليغ فهو الواجب عليهم، وإما أن الإيمان هل يحصل أولا يحصل فذاك لا تعلق للرسل به ولكن الله تعالى يهدي من يشاء بإحسانه ويضل من يشاء بخذلانه اه‍ وهو كما ترى.
137

ونقل الواحدي في الوسيط عن الزجاج أنهم قالوا ذلك على الهزو ولم يرتضه كثير من المحققين، وذكر بعضهم أن حمله على ذاك لا يلائم الجواب. نعم قال في " الكشف " عند قوله تعالى: * (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم) * (الزخرف: 20) إنهم دفعوا قول الرسل عليهم السلام بدعوتهم إلى عبادته تعالى ونهيهم عن عبادة غيره سبحانه بهذه المقالة وهم ملزمون على مساق هذا القول لأنه إذا استند الكل إلى مشيئته تعالى فقد شاء إرسال الرسل وشاء دعوتهم إلى العباد وشاء جحودهم وشاء دخولهم النار، فالإنكار والدفع بعد هذا القول دليل على أنهم قالوه لا عن اعتقاد بل مجازفة، وقال في موضع آخر عند نظير الآية أيضا: إنهم كاذبون في هذا القول لجزمهم حيث لا ظن مطلقا فضلا عن العلم، وذلك لأن من المعلوم أن العلم بصفات الله تعالى فرع العلم بذاته والإيمان بها كذلك والمحتجون به كفرة مشركون مجسمون، وأطال الكلام في هذا المقام في سورة الزخرف.
وذكر أن في كلامهم تعجيز الخالق بإثبات التمانع بين المشيئة وضد المأمور به فيلزم أن لا يريد إلا أمر به ولا ينهى إلا وهو لا يريده، وهذا تعجيز من وجهين إخراج بعض المقدورات عن أن يصير محلها وتضييق محل أمره ونهيه وهذا بعينه مذهب إخوانهم القدرية اه‍ ويجوز أن يقال: إن المشركين إنما قالوا ذلك إلزاما بزعمهم حيث سمعوا من المرسلين وأتباعهم أن ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن وإلا فهم أجهل الخلق بربهم جل شأنه وصفاته * (إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل) * (الفرقان: 44) ومرادهم إسكان المرسلين وقطعهم عن دعوتهم إلى ما يخالف ما هم عليه والاستراحة عن معارضتهم فكأنهم قالوا: إنكم تقولون ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن فما نحن عليه مما شاءه الله تعالى وما تدعونا إليه مما لم يشأه وإلا لكان، واللائق بكم عدم التعرض لخلاف مشيئة الله تعالى، فإن وظيفة الرسول الجري على إرادة المرسل لأن الإرسال إنما هو لتنفيذ تلك الإرادة وتحصيل المراد بها، وهذا جهل منهم بحقيقة الأمر وكيفية تعلق المشيئة وفائدة البعثة، وذلك لأن مشيئته تعالى إنما تتعلق وفق علمه وعلمه إنما يتعلق وفق ما عليه الشيء في نفسه، فالله تعالى ما شاء شركهم مثلا إلا بعد أن علم ذلك وما علمه إلا وفق ما هو عليه في نفس الأمر فهم مشركون في الأزل ونفس الأمر ألا أنه سبحانه حين أبرزهم على وفق ما علم فيهم لو تركهم وحالهم كان لهم الحجة عليه سبحانه إذا عذبهم يوم القيامة إذ يقولون حينئذ: ما جاءنا من نذير فأرسل جل شأنه الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فليس على الرسل إلا تبليغ الأوامر والنواهي لتقوم الحجة البالغة لله تعالى، فالتبليغ مراد الله تعالى من الرسل عليهم السلام لإقامة حجته تعالى على خلقه به، وليس مراده من خلقه إلا ما هم عليه في نفس الأمر خيرا كان أو شرا. وفي الخبر يقول الله تعالى: * (يا عبادي إنما أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) * ولا منافاة بين الأمر بشيء وإرادة غيره منه تعالى لأن الأمر بذلك حسبما يليق بجلاله وجماله، والإرادة حسبما يستدعيه في الآخرة الشيء في نفسه، وقد قرر الجماعة إنفكاك الأمر عن الإرادة في الشاهد أيضا وذكر بعض الحنابلة الانفكاك أيضا لكن عن الإرادة التكوينية لا مطلقا، والبحث مفصل في موضعه، وإذا علم ذلك فاعلم أن قوله سبحانه: * (فهل على الرسل إلا البلاغ) * (النحل: 35) يتضمن الإشارة إلى ردهم كأنه قيل: ما أشرتم إليه من أن اللائق بالرسل ترك الدعوة إلى خلاف ما شاءه الله تعالى منا والجري على وفق المشيئة والسكوت عنا باطل لأن وظيفتهم والواجب عليهم هو التبليغ وهو مراد الله تعالى منهم لتقوم به حجة الله تعالى عليكم لا السكوت وترك الدعوة، وفي قوله سبحانه: * (ولقد بعثنا) * الخ إشارة
138

يتفطن لها من له قلب إلى أن المشيئة حسب الاستعداد الذي عليه الشخص في نفس الأمر فتأمل فإن هذا الوجه لا يخلو عن بعد ودغدغة. والذي ذكره القاضي في قوله تعالى: * (ولقد بعثنا) * الخ أنه بين فيه أن البعثة أمر جرت به السنة الإلهية في الأمم كلها سببا لهدي من أراد سبحانه اهتداءه وزيادة لضلال من أراد ضلاله كالغذاء الصالح ينفع المزاج السوي ويقويه ويضر المنحرف ويفنيه.
وفي إرشاد العقل السليم أنه تحقيق لكيفية تعلق مشيئته تعالى بأفعال العباد بعد بيان أن الإلجاء ليس من وظائف الرسالة ولا من باب المشيئة المتعلقة بما يدور عليه فلك الثواب والعقاب من الأفعال الاختيارية، والمعنى إنا بعثنا في كل أمة رسولا يأمرهم بعبادة الله تعالى واجتناب الطاغوت فأمروهم فتفرقوا فمنهم من هداه الله تعالى بعد
صرف قدرته واختياره الجزئي إلى تحصيل ما هدى إليه ومنهم من ثبت على الضلالة لعناده وعدم صرف قدرته إلى تحصيل الحق، والفاء في * (فمنهم) * نصيحة كما أشار إليه، وكان الظاهر في القسم الثاني - ومنهم من أضل الله - إلا أنه غير الأسلوب إلى ما في النظم الكريم للإشعار بأن ذلك لسوء اختيارهم كقوله تعالى: * (وإذا مرضت فهو يشفين) * (الشعراء: 80) و * (أن) * يحتمل أن تكون مفسرة لما في البعث من معنى القول وأن تكون مصدرية بتقدير حرف الجر أي بأن اعبدوا الله * (فسيروا) * أيها المشركون المكذبون القائلون: لو شاء الله ما عبدنا من دونه * (في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) * من عاد وثمود ومن سار سيرهم ممن حقت عليه الضلالة وقال كما قلتم لعلكم تعتبرون، وترتيب الأمر بالسير على مجرد الإخبار بثبوت الضلالة عليهم من غير إخبار بحلول العذاب للإيذان بأن ذلك غني عن البيان، وفي عطف الأمر الثاني بالفاء إشعار بوجوب المبادرة إلى النظر والاستدلال المنقذين من الضلال.
* (إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدى من يضل وما لهم من ن‍اصرين) *
.
* (إن تحرص على هداهم) * خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والحرص فرط الإرادة. وقرأ النخعي * (وإن) * بزيادة واو وهو، والحسن، وأبو حيوة * (تحرص) * بفتح الراء مضارع حرص بكسرها وهي لغة، والجمهور * (تحرص) * بكسر الراء مضارح حرص بفتحها وهي لغة الحجاز * (فإن الله لا يهدي من يضل) * جواب الشرط على معنى فاعلم ذلك أو علة للجواب المحذوف أي أن تحرص على هداهم لم ينفع حرصك شيئا فإن الله تعالى لا يهدي من يضل، والمراد بالموصولة قريش المعبر عنهم فيما مر بالذين أشركوا، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتنصيص على أنهم ممن حقت عليهم الضلال وللإشعار بعلة الحكم. ويجوز أن يراد به ما يشملهم ويدخلون فيه دخولا أولياء، ومعنى الآية على ما قيل: أنه سبحانه لا يخلق الهداية جبرا وقسرا فيمن يخلق فيه الضلالة بسوء اختياره ولا بد من نحو هذا التأويل لأن الحكم بدون ذلك مما لا يكاد يجهل، و * (من) * على هذا مفعول * (يهدي) * كما هو الظاهر، وقيل: إن يهدي مضارع هدى بمعنى اهتدى فهو لازم و * (من) * فاعله وضمير الفاعل في * (يضل) * لله تعالى والعائد محذوف أي من يضله، وقد حكى مجيء هدى بمعنى اهتدى الفراء. وقرأ غير واحد من السبعة. والحسن. والإعرج. ومجاهد. وابن سيرين. والعطاردي. ومزاحم الخراساني. وغيرهم * (لا يهدي) * بالبناء للمفعول - فمن - نائب الفاعل والعائد وضمير الفاعل كما مر، وهذه القراءة أبلغ من الأولى لأنها تدل على أن من أضله الله تعالى لا يهديه كل أخد بخلاف الأولى فإنها تدل على أن الله تعالى لا يهديه فقط وإن كان من لم يهد الله فلا هادي له، وهذا - على ما قيل - إن لم نقل بلزوم هدى وأما إذا
139

قلنا به فهما بمعنى إلا أن هذه صريحة في عموم الفاعل بخلاف تلك مع أن المتعدي هو الأكثر. وقرأت فرقة منهم عبد الله * (لا يهدي) * بفتح الياء وكسر الهاء والدال وتشديهدا، وأصله يهتدي فأدغم كقولك في يختصم يخصم.
وقرأت فرقة أخرى * (لا يهدي) * بضم الياء وكسر الدال، قال ابن عطية: وهي ضعيفة، وتعقبه في البحر بأنه إذا ثبت هدى لازما بمعنى اهتدى لم تكن ضعيفة لأنه ادخل على اللازم همزة التعدية، فالمعنى لا يجعل مهتديا من أضله.
وأجيب بأنه يحتمل أن وجه الضعف عنده عدم اشتهار أهدى المزيد. وقرىء * (يضل) * بفتح الياء، وفي مصحف أبي * (فإن الله لا هادي لمن أضل) * * (وما لهم من ناصرين) * ينصرونهم في الهداية أو يدفعون العذاب عنه وهو تتميم بإبطال ظن أن آلهتهم تنفعهم شيئا وضير لهم عائد على معنى من وصيغة الجمع في الناصرين باعتبار الجمعية في الضمير فإن مقابلة الجمع بالجمع تفيد إنقسام الآحاد على الآحاد لا لأن المراد نفي طائفة من الناصرين من كل منهم.
ثم إن أول هذه الآيات ربما يوهم نصرة مذهب الاعتزال كلن آخرها مشتمل على الوجوه الكثيرة كما قال الإمام الدالة على نصرة مذهب أهل الحق، ولعل الأمر غني عن البيان ولله تعالى الحمد على ذلك.
* (وأقسموا بالله جهد أيم‍انهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ول‍اكن أكثر الناس لا يعلمون) *
. * (وأقسموا بالله) * شروع في بيان فن آخر من أباطيلهم وهو إنكارهم البعث، وهو على ما في " الكشاف " وغيره عطف على قوله تعالى: * (وقال الذين أشركوا) * (النحل: 36) قيل: ولتضمن الأول إنكار التوحيد وهذا إنكار البعث وهما أمران عظيمان من الكفر والجهل حسن العطف بينهما، والضمير لأهل مكة أيضا أي حلفوا بالله * (جهد أيمانهم) * مصدر منصوب الحال أي جاهدين في أيمانهم * (لا يبعث الله من يموت) * وهو مبني على أن الميت يعدم ويفنى وأن البعث إعادة له وأنه يستحيل إعادة المعدوم، وقد ذهب إلى هذه الاستحالة الفلاسفة ولم يوافقهم في دعوة ذلك أحد من المتكلمين إلا الكرامية. وأبو الحسين البصري من المعتزلة، واحتجوا عليها بما رده المحققون، وبعضهم ادعى الضرورة في ذلك وأن ما يذكر في بيانه تنبيهات عليه، فقد نقل الإمام عن الشيخ أبي علي بن سينا أنه قال: كل من رجع إلى فطرته السليمة ورفض عن نفسه الميل والتعصب شهد عقله الصريح بأن إعادة المعدوم بعينه ممتنعة؛ وفي قسم هؤلاء الكفار على عدم البعث إشارة كما قال في " التفسير " إلى أنهم يدعون العلم الضروري بذلك.
وأنت تعلم أنه إذا جوز إعادة المعدوم بعينه كما هو رأى جمهور المتكلمين فلا إشكال في البعث أصلا، وأما إن قلنا بعدم جواز الإعادة لقيام القاطع على طلك فقد قيل: نتلزم القول بعدم انعدام شيء من الأبدان حتى يلز في البعث إعادة المعدوم وإنما عرض لها التفرق ويعرض لها في البعث الاجتماع فلا إعادة لمعدوم، وفيه بحث وإن أيد بقصة إبراهيم عليه السلام ومن هنا قال المولى ميرزاجان: لا مخلص إلا بأن يقال ببقاء النفس المجردة وأن البدن المبعوث مثل البدن الذي كان في الدنيا وليس عينه بالشخص ولا ينافي هذا قانون العدالة إذ الفاعل هو النفس ليس إلا والبدن بمنزلة السكين بالنسبة إلى القطع فكما أن الأثر المترتب على القطع من المدح والذم والثواب
والعقاب إنما هو للقاطع لا للسكين كذلك الأثر المترتب على أفعال الإنسان إنما هو للنفس وهي المتلذذة والمتألمة تلذذا أو تألما عقليا أو حسيا فليس يلزم خلاف العدالة، وأما الظواهر الدالة على عود ذلك الشخص بعينه فمؤولة لفرض القاطع الدال على الامتناع، وذلك بأن يقال: المراد إعادة مادته مع صورة كانت
140

أشبه الصور إلى الصورة الأولى دتبر؛ وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة يس تحقيق هذا المطلق على أتم وجه.
ونقل عن ابن الجوزي. وأبي العالية أن هذه الآية نزلت لأن رجلا من المسلمين تقاضى دينا على رجل من المشركين فكان فيما تكلم به المسلم والذي أرجوه بعد الموت فقال المشرك: وإنك لتبعث بعد الموت وأقسم بالله لا يبعث الله من يموت فقص الله تعالى ذلك ورده أبلغ رد بقوله بحانه: * (بلى) * لإيجاب النفي أي بلى يبعثهم * (وعدا) * مصدر مؤكد لما دل عليه * (بلى) * إذ لا معنى له سوى الوعد بالبعث والإخبار عنه، ويسمى نحو هذا مؤكدا لنفسه وجوز أن كيون مصدرا لمحذوف أي وعد ذلك وعدا * (عليه) * صفة * (وعدا) * والمراد وعدا ثابتا عليه إنجازه وإلا فنفس الوعد ليس ثابتا عليه، وثبوت الإنجاز لامتناع الخلف في وعده أو لأن البعث من مقتضيات الحكمة.
* (حقا) * صفة أخرى - لوعدا - وهي مؤكدة إن كان بمعنى ثابتا متحققا ومؤسسة إن كان بمعنى غير باطل أو نصب على المصدرية بمحذوف أي حق حقا * (ول‍اكن أكثر الناس) * لجهلهم بشؤون الله تعالى من العلم والقدرة والحكمة وغيرها من صفات الكمال وبما يجوز عليه وما لا يجوز وعدم وقوفهم على سر التكوين والغاية القصوى منه وعلى البعث مما تقتضيه الحكمة * (لا يعلمون) * أنه تعالى يبعثهم، ونعى عليهم عدم العلم بالبعث دون العلم بعدمه الذي يزعمونه على ما يقتضيه ظاهر قسمهم ليعلم منه نعي ذاك بالطريق.
وجوز أن يكون للإيذان بأن ما عندهم بمعزل عن أن يسمى علما بل هو توهم صرف وجهل محض، وتقدير مفعول * (يعلمون) * ما علمت هو الأنسب بالسياق، وجوز أن يكون التقدير لا يعلمون أنه وعد عليه حق يكذبونه قائلين: * (لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا إساطير الأولين) *.
* (ليبين لهم الذى يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا ك‍اذبين) *
.
* (ليبين لهم) * متعلق بما دل عليه * (بلى) * وهو يبعثهم، والضمير لمن يموت الشامل للمؤمنين والكافرين إذ التبيين يكون للمؤمنين أيضا فإنهم وإ كانوا عالمين بذلك لكنه عند معاينة حقيقة الحال يتضح الأمر فيصل علمهم إلى مرتبة عين اليقين أي يبعثهم ليبين لهم بذلك وبما يحصل لهم بمشاعدة الأحوال كما هي ومعاينتها بصورها الحقيقية الشأن * (الذي يختلفون فيه) * من الحق الشامل لجميع ما خالفوه مما جاء به الرسل المبعوثون فيهم ويدخل فيه البعث دخولا أوليا والتعبير عن ذلك بالموصول للدلالة على فخامته وللإشعار بعلية ما ذكر في حيز الصلة للتبيين، وتقدير الجار والمجرور لرعاية رؤس الآي * (وليعلم الذين كفروا) * بالله تعالى بالإشراك وإنكار البعث الجسماني وتكذيب الرسل عليهم السلام * (أنهم كانوا كاذبين) * في كل ما يقولونه ويدخل فيه قولهم: * (لا يبعث الله من يموت) * (النحل: 38) دخولا أوليا.
ونقل في " البحر " القول بتعلق * (ليبين) * الخ بقوله تعالى: * (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا) * (النحل: 36) أي بعثناه ليبين لهم ما اختلفوا فيه وأنهم كانوا على الضلالة قبل بعثه مفترين على الله سبحانه الكذب ولا يخفى بعد ذلك وتبادر ما تقدم، وجعل التبيين والعلم المذكورين غاية للبعث كما في إرشاد العقل السليم باعتبار وروده في معرض الرد على المخالفين وإبطال مقالة المعاندين المستدعى للتعرض لما يردعهم عن المخالفة ويأخذ بهم الإذعان للحق فإن الكفرة إذا علموا أن تحقق البعث إذا كان لتبيين أنه حق وليعلموا أنهم كاذبون في إنكاره كان أزجر لهم عن إنكاره
141

وادعى إلى الاعتراف به ضرورة أنه يدل على صدق العزيمة على تحقيقة كما تقول لمن ينكر أنك تصلي لأصلين رغما لأنفك وإظهارا لكذبك، ولأن تكرر الغايات أدل على وقوع المغيا بها وإلا فالغاية الأصلية للبعث باعتبار ذاته إنما هو الجزاء الذي هو الغاية القصوى للخلق المغيا بمعرفته عز وجل وعبادته، وإنما لم يذكر ذلك لتكرر ذكره في مواضع وضهرته، وفيه أنه إنما لم يدرج علم الكفار بكذبهم تحت التبيين بأن يقال مثلا: وأن الذين كفروا كانوا كاذبين بل جيء بصيغة العلم لأن ذلك ليس مما يتعلق به التبين الذي هو عبارة عن إظهار ما كان مبهما قبل ذلك بأن يخبر به فيختلف فيه كالبعث الذي نطق به القرآن فاختلف فيه المختلفون، وأما كذب الكافرين فليس من هذا القبيل، ويستفاد من تحقيقه في نظير ما هنا أنه لما كان مدلول الخبر هو الصدق والكذب احتمال عقلي وكان معنى تبيين الصدق إظهار ذلك المدلول وقطع احتمال نقيضه بعدما كان محتملا له احتمالا عقليا ناسب أن يعلق التبيين بالذي فيه يختلفون من الحق، وليس بين الصدق والحق كثير فرق، ولما كان الكذب أمرا حادثا لا دلالة الخبر عليه حتى يتعلق به التبيين والإظهار بل هو نقيض مدلوله فما يتعلق به يكون علما مستأنفا ناسب أن يعلق العلم بأنهم كانوا كاذبين فليتدبر.
قيل: ولكون العلم بما ذكر من روادف ذلك التبيين قيل: * (وليعلم الذين كفروا) * (النحل: 39) دون وليجعل الذين كفروا عالمين، وخص الإسناد بهم حيث لم يقل وليعلموا أن الذين كفروا كانوا كاذبين تنبيها على أن الأهم علمهم، وقيل: لم يقل ذلك لأن علم المؤمنين بما ذكر حاصل قبل ذلك أيضا. وتعقب بأن حصول مرتبة من مراتب العلم لا يأبى حصول مرتبة أعلا منها فلم لم يقل ذلك إيذانا بحصول هذه المرتبة من العلم لهم حينئذ، ولعل فيه غفلة عن مراد القائل. وجوز أن يراد من علم الكفرة بأنهم كانوا كاذبين تعذيبهم على كذبهم فكأنه قيل: ليظهر للمؤمنين والكافرين الحق وليعذب الكافرون على كذبهم فيما كانوا يقولونه من أنه تعالى لا يبعث من يموت ونحوه، وهذا كما يقال للجاني: غدا تعلم جنايتك، وحينئذ وجه تخيص الإسناد بهم ظاهر، وهو كما ترى. وزعم بعض الشيعة أن الآية في علي كرم الله تعالى وجهه والأئمة من بنيه رضي الله تعالى عنهم وأنها من أدلة الرجعة التي قال بها أكثرهم، وهو زعم باطل، والقول بالرجعة محض سخافة لا يكاد يقول بها من يؤمن بالبعث،
وقد بين ذلك على أتم وجه في التحفة الإثني عشرية، ولعل الوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى بيانه، وما أخرجه ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: أن قوله تعالى: * (وأقسموا بالله الآية) * نزلت في غير مسلم الصحة، وعلى فرض التسليم لا دليل فيه على ما يزعمونه من الرجعة بأن يقال: إنه رضي الله تعالى عنه أراد أنها نزلت بسببي، ويكون رضي الله تعالى عنه هو الرجل الذي تقاضى دينا له على رجل من المشركين فقال ما قال كما مر عن ابن الجوزي. وأبي العالية، وأخرجه عن أبي العالية عبد بن حميد. وابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. واستنبط الشيخ بهاء الدين من الآية دليلا على أن الكذب مخالفة الواقع ولا عبرة بالاعتقاد، وهو ظاهر فافهم.
* (إنما قولنا لشىء إذآ أردناه أن نقول له كن فيكون) *
.
* (إنما قولنا) * استئناف لبيان التكوين على الإطلاق ابتداء أو إعادة بعد التنبيه على أنية البعث ومنه يعلم كيفيته - فما - كافة و * (قولنا) * مبتدأ، وقوله تعالى: * (لشيء) * متعلق به واللام للتبليغ كما في قولك: قلت لزيد قم فقام، وقال الزجاج: هي لام السبب أي لأجل إيجاد شيء، وتعقب بأنه ليس بواضح والمتبادر من الشيء
142

هنا المعدوم وهو أحد إطلاقاته، وقد برهن الشيخ إبراهيم الكوراني عليه الرحمة على أن إطلاق الشيء على المعدوم حقيقة كإطلاقه على الموجود وألف ذلك رسالة جليلة سماها جلاء الفهوم، ويعلم منها أن القول بذلك الإطلاق ليس خاصا بالمعتزلة كما هو المشهور، ولهذا أول هنا من لم يقف على التحقيق من الجماعة فقال: إن التعبير عنه بذلك باعتبار وجوده عند تعلق مشيئته تعالى به لا أنه كان شيئا قبل ذلك.
وفي " البحر " نقلا عن ابن عطية أن في قوله تعالى: * (لشيء) * وجهين: أحدهما: أنه لما كان وجوده حتما جاز أن يسمى شيئا وهو في حال العدم، والثاني: أن ذلك تنبيه على الأمثلة التي ينظر فيها وأن ما كان منها موجودا كان مرادا وقيل له كن فكان فصار مثالا لما يتأخر من الأمور بما تقدم، وفي هذا مخلص من تسمية المعدوم شيئا اه‍، وفيه من الخفاء ما فيه، وأيا ما كان فالتنوين للتنكير أي لشيء أي شيء كان مما عز وهان * (إذا أرادن‍اه) * ظرف - لقولنا - أي وقت تعلق إرادتنا بإيجاده * (أن نقول له كن) * في تأويل مصدر خبر للمبتدأ، والسلام في * (له) * كاللام في * (لشيء) * * (فيكون) * إما عطف على مقدر يفصح عنه الفاء وينسحب عليه الكلام أي فنقول ذلك فيكون، وإما جواب لشرط محذوف أي فإذا قلنا ذلك فهو يكون، وقيل: إنه بعد تقدير هو تكون الجملة خبرا لمبتدأ محذوف أي ما أردناه فهو يكون، وكان في الموضعين تامة، والذي ذهب إليه أكثر المحققين وذكره مقتصرا عليه شيخ الإسلام أنه ليس هناك قول ولا مقول له ولا أمر ولا مأمور حتى يقال: إنه يلزم أحد المحالين أما خطاب المعدوم أو تحصيل الحاصل؛ أو يقال: * (إنما) * مستدعية انحصار قوله تعالى في قوله تعالى: * (كن) * وليس يلزم منه انحصار أسباب التكوين فيه كما يفيده قوله سبحانه: * (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) * (يس: 82) فإن المراد بالأمر الشأن الشامل للقول والفعل ومن ضرورة انحصاره في كلمة كن انحصار أسبابه على الإطلاق في ذلك بل إنما هو تمثيل لسهولة تأتي المقدورات حسب تعلق مشيئته تعالى وتصوير لسرعة حدوثها بما هو علم في ذلك من طاعة المأمور المطيع لأمر الآمر المطاع، فالمعنى إنما إيجادنا لشيء عند تعلق مشيئتنا به أن نوجده في أسرع ما يكون، ولما عبر عنه بالأمر الذي هو قول مخصوص وجب أن يعبر عن مطلق الإيجاد بالقول المطلق.
وقيل: إن الكلام على حقيقته وبذلك جرت العادة الإلهية ونسب إلى السلف، وأجيب لهم عن حديث لزوم أحد المحذورين تارة بأن الخطاب تكويني ولا ضير في توجهه إلى المعدوم، وتعقب بأنه قول بالتمثيل وتارة بأن المعدوم ثابت في العلم ويكفي في صحة خطابه ذلك حتى أن بعضهم قال بأنه مرئي له تعالى في حال عدمه، وتعقب بما يطول، وأما حديث الانحصار فقالوا إن الأمر فيه هين، وقد مر بعض الكلام في هذا المقام.
واحتج بعض أهل السنة بالآية بناء على الحقيقة على قدم القرآن قال: إنها تدل على أنه تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له كن فلو كان كن حادثا لزم التسلسل وهو محال فيكون قديما ومتى قيل بقدم البعض فليقل بقدم الكل، وتعقب بأن كلمة إذا لا تفيد التكرار ولذا إذا قال لامرأته: إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت مرات لا تطلق إلا طلقة واحدة فلا يلزم أن يكون كل محدث محدثا بكلمة كن فلا يلزم التسلسل على أن القول بقدم * (كن) * ضروري البطلان لما فيه من ترتب الحروف، وكذا يقال في سائر الكلام اللفظي.
وقال الإمام: إن الآية مشعرة بحدوث الكلام من وجوه: الأول: أن قوله تعالى: * (إنما قولنا لشيء إذا أردناه) * يقتضي كون القول واقعا بالإرادة وما كان كذلك فهو محدث، والثاني: أنه علق القول بكلمة * (إذا) *
143

ولا شك أنها تدخل للاستقبال، والثالث: أن قوله تعالى: * (أن نقول) * لا خلاف في أنه يبنىء عن الاستقبال. والرابع: أن قوله سبحانه: * (كن فيكون) * كن فيه مقدمة على حدوث المكون ولو بزمان واحد والمقدم على المحدث كذلك محدث فلا بد من القول بحدوث الكلام. نعم إنها تشعر بحدوث الكلام اللفظي الذي يقول به الحنابلة ومن وافقهم ولا تشعر بحدوث الكلام النفسي. والأشاعرة في المشهور عنهم لا يدعون إلا قدم النفسي وينكرون قدم اللفظي، وهو بحث أطالوا الكلام فيه فليراجع، وما ذكر من دلالة * (إذا) * و * (نقول) * على الاستقبال هو ما ذكره غير واحد، لكن نقل أبو حيان عن ابن عطية أنه قال: ما في ألفاظ هذه الآية من معنى الاستقبال والاستئناف إنما هو راجع إلى المراد لا إلى الإرادة، وذلك أن الأشياء المرادة المكونة في وجودها استئناف واستقبال لا في إرادة ذلك ولا في الأمر به لأن ذينك قديمان فمن أجل المراد عبر بإذا ونقول. وأنت تعلم أنه لا كلام في قدم الإرادة لكنهم اختلفوا في أنها هل لها تعلق حادث أم لا؛ فقال بعضهم بالأول، وقال آخرون
: ليس لها إلا تعلق أزلي لكن بوجود الممكنات فيما لا يزال كل في وقته المقدر له. فالله تعالى تعلقت إرادته في الأزل بوجود زيد مثلا في يوم كذا وبوجود عمرو في يوم كذا وهكذا، ولا حاجة إلى تعلق حادث في ذلك اليوم، وأما الأمر فالنفسي منه قديم واللفظي حادث عن القائلين بحدوث الكلام اللفظي، وأما الزمان فكثيرا ما لا يلاحظ في الأفعال المستندة إليه تعالى، واعتبر كان الله تعالى ولا شيء معه وخلق الله تعالى العالم ونحو ذلك ولا أرى هذا الحكم مخصوصا فيما إذا فسر الزمان بما ذهب إليه الفلاسفة بل يطر في ذلك وفيما إذا فسر بما ذهب إليه المتكلمون فتأمل والله تعالى الهادي.
وجعل غير واحد الآية لبيان إمكان البعث، وتقريره أن تكوين الله تعالى بمحض قدرته ومشيئته لا توقف له على سبق المواد والمدد وإلا لزم التسلسل، وكما أمكن له تكوين الأشياء ابتداء بلا سبق مادة ومثال أمكن له تكيونها إعادة بعده، وظاهره أنه قول بإعادة المعدوم، وظواهر كثير من النصوص أن البعث بجمع الأجزاء المتفرقة، وسيأتي تحقيق ذلك كما وعدناك آنفا إن شاء الله تعالى.
وقرأ ابن عامر. والكسائي ههنا وفي يس * (فيكون) * بالنصب، وخرجه الزجاج على العطف على * (نقول) * أي فإن يكون أو على أن يكون جواب * (كن) *، وقد رد هذا الرضي وغيره بأن النصب في جواب الأمر مشروط بسببية مصدر الأول للثاني وهو لا يمكن هنا لاتحادهما فلا يستقيم ذاك، ووجه بأن مراده أنه نصب لأنه مشابه لجواب الأمر لمجيئه بعده وليس بجواب له من حيث المعنى لأنه لا معنى لقولك: قلت لزيد اضرب تضرب.
وتعقب بأنه لا يخفى ضعفه وأنه يقتضي إلغاء الشرط المذكور، ثم قيل: والظاهر أن يوجه بأنه إذا صدر مثله عن البليغ على قصد التمثيل لسرعة التأثير بسرة مبادرة المأمور إلى الامتثال يكون المعنى إن أقل لك اضرب تسرع إلى الامتثال فيكون المصدر المسبب عنه مسبوكا من الهيئة لا من المادة، ومصدر الثاني من المادة أو محصل المعنى وبه يحصل التغاير بين المصدرين ويتضح السببية والمسببية، وقال بعضهم: إن مراد من قال إن النصب للمشابهة لجواب الأمر أن * (فيكون) * كما في قراءة الرفع معطوف على ما ينسحب عليه الكلام أو هو بتقدير فهو يكون خبر لمبتدأ محذوف إلا أنه نصب لهذه المشابهة، وفيه ما فيه.
* (والذين ه‍اجروا فى الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم فى الدنيا حسنة ولاجر الاخرة أكبر لو كانوا يعلمون) *
.
* (والذين هاجروا في الله) * أي في حقه - ففي - على ظاهرها ففيه إشارة إلى أنها هجرة متمكنة تمكن الظرف في مظروفه فهي ظرفية مجازية أو لأجل رضاه - ففي - للتعليل كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " إن امرأة دخلت النار في هرة " والمهاجرة في الأصل مصارمة
144

الغير ومتاركته واستعملت في الخروج من دار الكفر إلى دار الإيمان أي والذين هجروا أوطانهم وتركوها في الله تعالى وخرجوا * (من بعد ما ظلموا) * أي من بعد ظلم الكفار إياهم. أخرج عبد بن حميد. وابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن قتادة قال: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ظلمهم أهل مكة فخرجوا من ديارهم حتى لحق طوائف منهم بأرض الحبشة ثم بوأهم الله تعالى المدينة بعد ذلك حسبما وعد سبحانه بقوله جل وعلا: * (لنبوئنهم في الدنيا حسنة) * أي مباءة حسنة، وحاصله لننزلهم في الدنيا منزلا حسنا، وعن الحسن دارا حسنة، والتقدير الأول أظهر لدلالة الفعل عليه، والثاني أوفق بقوله تعالى: * (تبوؤا الدار) * (الحشر: 9)، وأيا ما كان - فحسنة - صفة محذوف منصوب نصب الظروف، وجوز أن يكون مفعولا ثانيا لنبؤئنهم على معنى لنعطينهم منزلة حسنة، وفسر ذلك بالغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم وعلى العرب قاطبة، وقيل: هي ما بقي لهم في الدنيا من الثناء وما صار لأولادهم من الشرف، وعن مجاهد أن التقدير معيشة حسنة أي رزقا حسنا، وقيل: التقدير عطية حسنة، والمراد بالعطية المعطي، ويفسر ذلك بكل شيء حسن ناله المهاجرون في الدنيا، وقدر بعضهم تبوئة حسنة فهو صفة مصدر محذوف، وقد تعتبر هذه التبوئة بحيث تشمل إعطاء كل شيء حسن صار للمهاجرين على نحو السابق. وفي " البحر " أن الظاهر أن انتصاب * (حسنة) * على المصدر على غير الصدر لأن معنى لنبوئنهم لنحسنن إليهم فحسنة بمعنى إحسانا، وعلى جميع التقادير * (الذين هاجروا) * مبتدأ وجملة * (لنبوئنهم) * خبره.
وجوز أبو البقاء أن يكون * (الذين) * منصوب بفعل محذوف يفسره المذكور، والأول متعين عند أبي حيان قال: وفيه دليل على صحة وقوع الجملة القسمية خبرا للمبتدأ خلافا لثعلب، والذي ذهب إليه بعض المحققين أن الخبر في مثل ذلك إنما هو جملة الجواب المؤكدة بالقسم وهي إخبارية لا إنشائية، واعترض على أبي البقاء في الوجه الثاني بأنه لا يجوز النصب بالفعل المحذوف إلا حيث يجوز للمذكور أن يعمل في ذلك المنصوب حتى يصح أن يكون مفسرا وما هنا ليس كذلك فإنه لا يجوز زيدا لأضربن فلا يجوز زيدا لأضربنه، والجار والمجرور متعلق بما عنده، وقيل: بمحذوف وقع حالا من * (حسنة) * هذا.
ونقل عن ابن عباس أن الآية نزلت في صهيب. وبلال. وعمار. وخباب. وعابس. وجبير. وأبي جندل بن سهيل أخذهم المشركون فجعلوا يعذبونهم ليردوهم عن الإسلام، فأما صهيب فقال لهم: أنا رجل كبير إن كنت معكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضركم فافتدى منهم بماله وهاجر فلما رآه أبو بكر رضي الله تعالى عنه قال: ربح البيع يا صهيب؛ وقال عمر رضي الله تعالى عنه: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه، والجمهور على ما روي عن قتادة بل قال ابن عطية: إنه الصحيح، ولم نجد لهذا الخبر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سندا يعول عليه. وذكر العلامة الشيخ بهاء الدين السبكي في شرح التلخيص كغيره من المحدثين مثل الحافظ العلامة زين الدين عبد الرحيم العراقي وولده الفقيه الحافظ أبي زرعة وغيرهما فيما نسب لعمر رضي الله تعالى عنه فيه من قوله: نعم العبد صهيب إلى آخره أنا لم نجده في شيء من كتب الحديث بعد الفحص الشديد، وهذا يوقع شبهة قوية في صحة ذلك. نعم في " الدر المنثور "، أخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم. وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في هؤلاء الذين هاجروا: هم قوم من أهل مكة هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد
145

ظلمهم ثم قال: وظلمهم الشرك، لكن يقتضي هذا بظاهره أنه رضي الله تعالى عنه كان يقرأ * (ظلموا) * بالبناء للفاعل.
وأورد على الخبرين أنه قيل: إن السورة مكية إلا ثلاث آيات في آخرها فإنها مدنية، ويلتزم إذا صح الخبر الذهاب إلى أن فيها مدنيا غير ذلك، أو القول بأن المراد من المكي ما نزل في حق أهل مكة، أو أن هذه الآية لم تنزل بالمدينة وأن المكي ما نزل بغيرها، أو القول بأن ذلك من الإخبار بالشيء قبل وقوعه، والكل كما ترى، ولا يرد على القول الأول الذي عليه الجمهور أنه مخالف للقول المشهور في السورة لأن هجرة الحبشة كانت قبل هجرة المدينة فلا مانع من كون الآية مكية بالمعنى المشهور عليه، لكن قيل: إن قتادة القائل بما تقدم قائل بأن هذه الآية إلى آخر السورة مدنية وهو آب عما ذكر، ومن هنا حمل بعضهم ما نقل عنه سابقا على أن نزولها كان بين الهجرتين بالمدينة، ولا يمكن الجمع بين هذه الأقوال أصلا، والذي ينبغي أن يعول عليه أن السورة مكية إلا آيات ليست هذه منها بل هي مكية نزلت بين الهجرتين فيمن ذكره الجمهور، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال، وقال بعضهم: إن الذين هاجروا عام في المهاجرين كائنا من كان فيشمل أولهم وآخرهم وكان هذا من قائله اعتبار لعموم اللفظ لا لخصوص السبب كما هو المقرر عندهم. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. وعبد الله رضي الله تعالى عنه. ونعيم بن ميسرة. والربيع بن خيثم - لنثوينهم - بالثاء المثلثة من أثوى المنقول بهمزة التعدية من ثوى بالمكان أقام فيه، قال في " البحر ". وانتصاب * (حسنة) * على تقدير اثواءة حسنة أو على نزع الخافض أي في حسنة أي دار حسنة أو منزلة حسنة ولا مانع على ما قيل من اعتبار تضمين الفعل معنى نعطيهم كما أشير إليه أو لا. واستدل بالآية على أحد الأقوال على شرف المدينة وشرف إخلاص العمل لله تعالى * (ولأجر الآخرة) * أي أجر أعمالهم المذكورة في الدار الآخرة * (أكبر) * مما يعجل لهم في الدنيا. أخرج ابن جرير. وابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول له: خذ بارك الله تعالى لك هذا ما وعدك الله تعالى في الدنيا وما أخر لك في الآخرة أفضل ثم يقرأ هذه الآية، وقيل: المراد أكبر من أن يعلمه أحد قبل مشاهدته، ولا يخفى ما في مخالفة أسلوب هذا الوعد لما قبله من المبالغة * (لو كانوا يعلمون) * الضمير للكفرة الظالمين أي لو علموا أن الله تعالى يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لوافقوهم في الدين، وقيل: هو للمهاجرين أي لو علموا ذلك لزادوا في الاجتهاد ولما تألموا لما أصابهم من المهاجرة وشدائدها ولازدادوا سرورا. وفي المعالم لا يجوز ذلك لأن المهاجرين يعلمونه ودفع بأن المراد علم المشاهدة وليس الخبر كالمعاينة أو المراد العلم التفصيلي.
وجوز أن يكون الضمير للمتخلفين عن الهجرة يعني لو علم المتخلفون عن الهجرة ما للمهاجرين من الكرامة لوافقوهم.
* (الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون) *
.
* (الذين صبروا) * على ما نالهم من الظلم ولم يرجعوا القهقرى وعلى مفارقة الوطن وهو حرم الله سبحانه المحبوب لكل مؤمن فضلا عمن كان مسقط رأسه وعلى احتمال الغربة بين أناس أجانب في النسب لم يألفهم وعلى غير ذلك، ومحل الموصول النصب بتقدير أعني أو الرفع بتقدير - هم - ويجوز أن يكون تابعا للذين هاجروا بدلا أو بيانا أو نعتا * (وعلى ربهم يتوكلون) * منقطعين إليه معرضين عمن سواه مفوضين إليه الأمر كله كما يفيده حذف متعلق التوكل، وقيل: تقديم الجار والمجرور المؤذن بالحصر وكونه لرعاية الفواصل غير متعين، وصيغة الاستقبال إما للاستمرار أو لاستحضار تلك الصورة البديعة، والجملة إما معطوفة على الصلة أو حال من ضمير صبروا.
146

(ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحىإليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) *
.
* (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم) * رد لقريش حيث أنكروا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: الله تعالى أعظم أن يكون رسوله بشرا هلا بعث إلينا ملكا أي جرت السنة الإلهية حسبما اقتضته الحكمة بأن لا نبعث للدعوة العامة إلا بشرا نوحي إليهم بواسطة الملك في الأغلب الأوامر والنواهي ليبلغوها، ويحترز بالدعوة العامة عن بعث الملك للأنبياء عليهم السلام للتبليغ أو لغيرهم كبعثه لمريم للبشارة، وبالأغلب بعض أقسام الوحي مما لم يكن بواسطة الملك كما يشير إليه قوله تعالى: * (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء) * (الشورى: 51) وقرأ الجمهور * (يوحي) * بالياء وفتح الحاء. وفرقة بالياء وكسرها؛ وعبد الله والسلمي. وطلحة. وحفص بالنون وكسرها. وفي ذلك من تعظيم أمر الوحي ما لا يخفى. ولما كان المقصود من الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم تنبيه الكفار على مضمونه صرف الخطاب إليهم فقيل: * (فاسألوا أهل الذكر) * أي أهل الكتاب من اليهود والنصارى قاله ابن عباس. والحسن. والسدي. وغيرهم، وتسمية الكتاب تعلم مما سيأتي إن شاء الله تعالى، وعن مجاهد تخصيصه بالتوراة لقوله تعالى: * (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر) * (الأنبياء: 105) فأهله اليهود.
قال في " البحر " والمراد من لم يسلم من أهل الكتاب لأنهم الذين لا يتهمون عند أهل مكة في إخبارهم بأن الرسل عليهم السلام كانوا رجالا فإخبارهم بذلك حجة عليهم، والمراد كسر حجتهم وإلزامهم وإلا فالحق واضح في نفسه لا يحتاج فيه إلى إخبار هؤلاء، وقد أرسل المشركون بعد نزولها إلى أهل يثرب يسألونهم عن ذلك، وقال الأعمش وابن عيينة. وابن جبير: المراد من أسلم منهم كعبد الله بن سلام. وسلمان الفارسي رضي الله تعالى عنهما. وغيرهما.
ويضعفه أن قول من أسلم لا حجة فيه على الكفار ومنه يعلم ضعف ما قال أبو جعفر. وابن زيد من أن المراد من الذكر القرآن لأن الله تعالى سماه ذكرا في مواضع منها ما سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا، وأهل الذكر على هذا المسلمون مطلقا، وخصهم بعض الإمامية بالأئمة أهل البيت احتجاجا بما رواه جابر. ومحمد بن مسلم منهم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أنه قال: نحن أهل الذكر، وبعضهم فسر الذكر بالنبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: * (ذكرا * رسولا) * على قول، ويقال على
مقتضى ما في " البحر ": كيف يقنع كفار أهل مكة بخبر أهل البيت في ذلك وليسوا بأصدق من رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهم وهو عليه الصلاة والسلام المشهور فيما بينهم بالأمين، ولعل ما رواه ابن مردويه منا موافقا بظاهره لمن زعمه ذلك البعض من الإمامية عن أنس قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الرجل ليصلي ويصوم ويحج ويعتمر وإنه لمنافق قيل: يا رسول الله بماذا دخل عليه النفاق؟ قال: يطعن على إمامه وإمامه من قال الله تعالى في كتابه: * (فاسألوا أهل الذكر) * إلى آخره " مما لا يصح، وأنا أقول يجوز أن يراد من أهل الذكر أهل القرآن وإن قال أبو حيان ما قال وستعلم وجهه قريبا إن شاء الله تعالى المنان، وقال الرماني. والزجاج. والأزهري: المراد بأهل الذكر علماء أخبار الأمم السالفة كائنا من كان فالذكر بمعنى الحفظ كأنه قيل: اسألوا المطلعين على أخبار الأمم يعلموكم بذلك * (إن كنتم لا تعلمون) * وجواب إن إما محذوف لدلالة ما قبله عليه أي فاسألوا، وأما نفس ما قبله بناء على جواز تقدم الجواب على الشرط. واستدل بالآية على أنه تعالى لم يرسل امرأة ولا صبيا لا ينافيه نبوة عيسى عليه السلام في المهد فإن النبوة أعم من الرسالة؛ ولا يقتضي صحة القول بنبوة مريم أيضا لأن غايته نفي رسالة المرأة، ولا يلزم من ذلك إثبات نبوتها، وذهب إلى صحة نبوة النساء جماعة وصحح ذلك ابن السيد، ولا ينافي ما دلت عليه الآية من نفي إرسال الملائكة عليهم السلام قوله تعالى: جاعل الملائكة رسلا لأن المراد جاعلهم
147

رسلا إلى الملائكة أو إلى الأنبياء عليهم السلام لا للدعوة العامة وهو المدعي كما علمت فالرسول إما بالمعنى المصطلح أو بالمعنى اللغوي، وقال الجبائي: إن الملائكة عليهم السلام لم يبعثوا إلى الأنبياء عليهم السلام إلا ممثلين بصور الرجال ورد بما روي أن نبينا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام على صورته التي هو عليها مرتين، وهو وارد على الحصر المقتضى للعموم فلا يرد عليه أنه لا دلالة فيما روي على رؤية من قبل نبينا عليه الصلاة والسلام لجبريل عليه السلام على صورته مع أنه إذا ثبت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت أنه من خصوصياته عليه الصلاة والسلام فلا مانع من ثبوته لغيره قاله الشهاب، وذكر أنه نقل الإمام عن القاضي أن مراد الجبائي أنهم لم يبعثوا إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بحضرة أممهم إلا وهم على صور الرجال كما روي أن جبريل عليه السلام حضر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحضر من أصحابه في صورة دحية الكلبي وفي صورة سراقة وفي صورة أعرابي لم يعرفوه. واستدل بها أيضا على وجوب المراجعة للعلماء فيما لا يعلم.
وفي الإكليل للجلال السيوطي أنه استدل بها على جواز تقليد العامي في الفروع وانظر التقييد بالفروع فإن الظاهر العموم لا سيما إذا قلنا إن المسألة المأمورين بالمراجعة فيها والسؤال عنها من الأصول، ويؤيد ذلك ما نقل عن الجلال المحلي أنه يلزم غير المجتهد عاميا كان أو غيره التقليد للمجتهد لقوله تعالى: * (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) * والصحيح أنه لا فرق بين المسائل الاعتقادية وغيرها وبين أن يكون المجتهد حيا أو ميتا اه‍.
وصحح هو وغيره امتناع التقليد على المجتهد مطلقا سواء كان له قاطع أو لا وسواء كان مجتهدا بالفعل أو له أهلية الاجتهاد، ومقتضى كلامهم أنه لا فرق بين تقليد أحد أئمة المذاهب الأربع وتقليد غيره من المجتهدين. نعم ذكر العلامة ابن حجر. وغيره أنه يشترط في تقليد الغير أن يكون مذهبه مدونا محفوظ الشروط والمعتبرات فقول السبكي: إن مخالف الأربعة كمخالف الإجماع محمول على ما لم يحفظ ولم تعرف شروطه وسائر معتبراته من المذاهب التي انقطع حملتها وفقدت كتبها كمذهب الثوري. والأوزاعي. وابن أبي ليلى. وغيرهم، ثم إن تقليد الغير بشرطه إنما يجوز في العمل وأما للإفتاء والقضاء فيتعين أحد المذاهب الأربع، واستشكل الفرق العلامة ابن قاسم العبادي، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون الفرق أنه يحتاط فيهما لتعديهما ما لا يحتاط في العمل فيتركان لأدنى محذور ولو محتملا، ونظير ذلك ما ذكره بعض الشافعية في القولين المتكافئين أنه لا يفتي ولا يقضي بكل منهما لاحتمال كونه مرجوحاف ويجوز العمل به؛ وذكر الإمام أن من الناس من جوز التقليد للمجتهد لهذه الآية فقال: لما لم يكن أحد المجتهدين عالما وجب عليه الرجوع إلى المجتهد العالم لقوله تعالى: * (فاسألوا) * الآية فإن لم يجب فلا أقل من الجواز، وأيد ذلك بأن بعض المجتهدين نقلوا مذاهب بعض الصحابة وأقروا الحكم عليها، والصحيح ما سمعت أولا، وما ذكر ليس بتقليد بل هو من باب موافقة الاجتهاد الاجتهاد، واحتج بها أيضا نفاة القياس فقالوا: المكلف إذا نزلت به واقعة فإن كان عالما بحكمها لم يجز له القياس وإلا وجب عليه سؤال من كان عالما بها بظاهر الآية ولو كان القياس حجة لما وجب عليه السؤال لأجل أنه يمكنه استنباط ذلك الحكم بالقياس، فثبت أن تجويز العمل بالقياس يوجب ترك العمل بظاهر الآية فوجب أن لا يجوز. وأجيب بأنه ثبت جواز العمل بالقياس بإجماع الصحابة والإجماع أقوى من هذا الدليل.
وقال بعضهم: إذا كان المكلف ممن يقدر على القياس كان ممن يعلم فلا يجب عليه السؤال فتأمل.
* (بالبين‍ات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) *
.
* (بالبين‍ات والزبر) * أي بالمعجزات والكتب، والأولى للدلالة على الصدق، والثانية لبيان الشرائع والتكاليف.
148

وانحرف عن الحق من فسرهما بما هو مصطلح أهل الحرف. والجار والمجرور متعلق بمقدر يدل عليه ما قبله وقع جوابا عن سؤال من قال: بم أرسلوا؟ فقيل: أرسلوا " بالبينات والزبر ".
وجوز الزمخشري. والحوفي تعلقه - بأرسلنا - السابق داخلا تحت حكم الاستثناء مع * (رجالا) * أي وما أرسلنا إلا رجالا بالبينات وهو في معنى قولك: ما أرسلنا جماعة من الجماعات بشيء من الأشياء إلا رجالا بالبينات، ومثله ما ضربت إلا زيدا بسوط، وهو مبني على ما جوزه بعض النحاة من جواز أن يستثنى بأداة واحدة شيآن دون عطف وأنه يجري في الاستثناء المفرغ، وأكثر النحاة على منعه كما صرح به صاحب التسهيل وغيره.
وقال في " الكشف ": والحق أنه لا يجوز لأن إلا من تتمة ما دخلت عليه كالجزء منه وللزوم الإلباس. أو وجوب أن يكون جميع ما يقع بعد إلا محصورا وأن يجب نحو
ما ضرب إلا زيدا عمرا إذا أريد الحصر فيهما ولا يكون فرق بين هذا وذاك، وكل ذلك ظاهر الانتفاء. والزمخشري جوز ذلك وصرح به في مواضع من كشافه، واستدل عليه بأن أصل ما ضربت إلا زيدا بسوط ضربت زيدا بسوط وأراد أن زيادة ما وإلا ليست إلا تأكيدا فلتؤكد لما كان أصل الكلام عليه، وهو حسن لولا أن الاستعمال والقياس آبيان، وقال بعضهم: إنه متعلق به من غير دخوله مع رجالا تحت حكم الاستثناء على أن أصله وما أرسلنا بالبينات والزبر إلا رجالا.
وتعقب بأنه لا يجوز على مذهب البصريين حيث لا يجيزون أن يقع بعد إلا إلا مستثنى أو مستثنى منه أو تابعا وما ظن من غير الثلاثة معمولا لما قبل إلا قدر له عامل، وأجاز الكسائي أن يقع معمولا لما قبلها منصوب كما ضرب إلا زيد عمرا، ومخفوض كما مر إلا زيد بعمرو ولا يعذب إلا الله بالنار، ومرفوع كما ضرب إلا زيدا عمرو، ووافقه ابن الأنباري في المرفوع، والأخفش في الظرف والجار والحال، فما ذكر مبني على مذهب الكسائي. والأخفش، لكن قال الشهاب: إنه خلاف ظاهر الكلام وإخراج له عن سنن الانتظام وأكثر النحاة على أنه ممنوع، وجوز أن يكون متعلقا بما رفع صفة - لرجالا - أي رجالا ملتبسين بالبينات ولم يقع حالا منه، قيل: لأنه نكرة متقدمة، نعم قيل: بجواز وقوعه حالا من ضمير الرجال في * (إليهم) * وقيل: يجوز كونه حالا من * (رجالا) * لأنه نكرة موصوفة، واختار أبو حيان مجيء الحال من النكرة بلا مسوغ كثيرا قياسا ونقله عن سيبويه وإن كان دون الاتباع في القوة.
وجوز أيضا تعلقه - بنو حي - وقوله سبحانه: * (فاسئلوا أهل الذكر) * (النحل: 43) اعتراض على الوجوه المتقدمة أو غير الأول، وتصدير الجملة المعترضة بالفاء صرح به في التسهيل وغيره، وما نقل من منعه ليس بثبت، ثم إذا كان اعتراضا متخللا بين مقصوري حرف الاستثناء معناه فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون أنا أرسلنا رجالا بالبينات وعلى الوصفية إن كنتم لا تعلمون أنهم رجال متلبسون بالبينات، وعلى هذا يقدر الاعتراض مناسبا لما تخلل بينهما، وأشبه الأوجه أن يكون على كلامين ليقع الاعتراض موقعه اللائق به لفظا ومعنى قاله في " الكشف ".
وجوز أن يتعلق - بتعلمون - فلا اعتراض، وفي الشرط معنى التبكيت والإلزام كما في قول الأجير: إن كنت عملت لك فأعطني حقي، فإن الأجير لا يشك في أنه عمل وإنما أخرج الكلام مخرج الشك لأن ما يعامل به من التسويف معاملة من يظن بأجيره أنه لم يعمل، فهو في ذلك يلزمه مقتضى ما اعترف به من العمل ويبكته بالتقصير مجهلا إياه، فكذا ما هنا لا يشك أن قريشا لم يكونوا من علم البينات والزبر في شيء فيقول: إن كون الرسل عليهم السلام رجالا أمر مكشوف لا شبهة فيه فاسألوا أهل الذكر إن لم تكونوا من أهله يبين لكم يريد أن إنكاركم
149

وأنتم لا تعلمون ليس بسديد وإنما السبيل أن تسألوا من أهل الذكر لا أن تنكروا قولهم، فإنكاركم مناف لما تقتضيه حالكم من السؤال فهو تبكيت من حيث الاعتراف بعدم العلم وسبيل الجاهل سؤال من يعلم لا إنكاره، قاله في " الكشف " أيضا، ثم قال: ولا أخص أهل الذكر بأهل الكتابين ليشمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولو خص لجاز لأنهم موافقون في ذلك فإنكارهم إنكارهم، ثم التبكيت متوجه إلى العدول عن السؤال إلى الإنكار سألوا أولا انتهى. ومنه يعلم جواز أن يراد بأهل الذكر أهل القرآن، وما ذكره أبو حيان في تضعيفه من أنه لا حجة في إخبارهم ولا إلزام ناشىء من عدم الوقوف على هذا التحقيق الأنيق، وهذا ظاهر على تقدير تعلق * (بالبينات) * - بيعلمون - والباء على هذا التقدير سببية والمفعول محذوف عند بعض، وزعم آخر أنها زائدة والبينات هي المفعول، فافهم ذاك، والله تعالى يتولى هداك * (وأنزلنا إليك الذكر) * أي القرآن وهو من التذكير إما بمعنى الوعظ أو بمعنى الإيقاظ من سنة الغفلة وإطلاقه على القرآن إما لاشتماله على ما ذكر أو لأنه سبب له، ومنه يعلم وجه تسمية التوراة ونحوها ذكرا، وقيل: المراد بالذكر العلم وليس بذاك * (لتبين للناس) * كافة ويدخل فيهم أهل مكة دخولا أوليا * (ما نزل إليهم) * في ذلك الذكر من الأحكام والشرائع وغير ذلك من أحوال القرون المهلكة بأفانين العذاب حسب أعمالهم مع أنبيائهم عليهم السلام الموجبة لذلك على وجه التفصيل بيانا شافيا كما ينبىء عنه صيغة التفعيل في الفعلين لا سيما بعد ورود الثاني أولا على صيغة الأفعال، وعن مجاهد أن المراد بهذا التبيين تفسير المجمل وشرح ما أشكل إذ هما المحتاجان للتبيين، وأما النص الظاهر فلا يحتاجان إليه.
وقيل: المراد به إيقافهم على حسب استعداداتهم المتفاوتة على ما خفي عليهم من أسرار القرآن وعلومه التي لا تكاد تحصى، ولا يختص ذلك بتبيين الحرام والحلال وأحوال القرون الخالية والأمم الماضية، واستأنس له بما أخرجه الحاكم وصححه عن حذيفة قال: " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما أخبرنا فيه بما يكون إلى يوم القيامة عقله منا من عقله ونسيه من نسيه " وهذا في معنى ما ذكره غير واحد أن التبيين أعم من التصريح بالمقصود ومن الإرشاد إلى ما يدل عليه، ويدخل فيه القياس وإشارة النص ودلالته وما يستنبط منه من العقائد والحقائق والأسرار الإلهية، ولعل قوله عز وجل: * (ولعلهم يتفكرون) * إشارة إلى ذلك أي وطلب أن يتأملوا فينتبهوا للحقائق وما فيه من العبر ويحترز عما يؤدي إلى ما أصاب الأولين من العذاب، وقال بعض المعتزلة: أي وإرادة أن يتفكروا في ذلك فيعلموا الحق ثم قال، وفيه دلالة على أن الله تعالى أراد من جميع الناس التفكر والنظر المؤدي إلى المعرفة بخلاف ما يقول أهل الجبر، ونحن في غنى عن تقدير الإرادة بتقدير الطلب، ومن قدرها منا أراده منها، وإلا ورد عليه عدم تأمل البعض ولعله الأكثر، وهي لا ينفك المراد عنها على المذهب الحق فلا بد من العدول عنه إلى مقابله، وقيل: أراد تعلقها بالبعض وهو المتأمل لا بالكل، وأيد بعضهم إرادة الصحابة أو ما يشملهم والنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذكر فيما تقدم بذكر هذه الآية بعده وليس بذي أيد.
* (أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الارض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون) *
. * (أفأمن الذين مكروا السيئات) * هم عند أكثر المفسرين أهل مكة الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وراموا صد أصحابه رضي الله تعالى عنهم عن الإيمان، وأخرج ابن أبي شيبة. وابن جرير. وغيرهما عن مجاهد
150

أنهم نمروذ بن كنعان وقومه، وعمم بعضهم فقال: هم الذين احتالوا لهلاك الأنبياء عليهم السلام، وتعقب بأن المراد تحذير أهل مكة عن إصابة مثل ما أصاب الأولين من
فنون العذاب المعدودة فالمعول عليه ما عند الأكثر، و * (السيآت) * نعت لمصدر محذوف أي مكروا المكرات السيئات التي قصت عنهم أو مفعول به للفعل المذكور على تضمينه معنى فعل متعد كعمل أي عملوا السيئات ماكرين فقوله تعالى: * (أن يخسف الله بهم الأرض) * مفعول لأمن أو * (السيآت) * مفعول لأمن بتقدير مضاف أو تجوز أي عقاب السيئات أو على أن * (السيآت) * بمعنى العقوبات التي تسوءهم، و * (أن يخسف) * بدل من ذلك وعلى كل حال فالفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه النظم الكريم أي أنزلنا إليك الذكر لتبين لهم مضمونه الذي من جملته أنباء الأمم المهلكة بفنون العذاب ويتفكروا في ذلك ألم يتفكروا فأمن الذين مكروا السيئات الخ على توجيه الإنكار إلى المعطوفين أو أتفكروا فأمنوا على توجيهه إلى المعطوف، وقيل: هو للعطف على مقدر ينبىء عنه الصلة أي أمركوا فأمن الذين مكروا السيئات الخ، وخسف يستعمل لازما ومتعديا يقال: - كما قال الراغب - خسفه الله تعالى وخسف هو وكلا الاستعمالين محتمل هنا، فالباء إما للتعدية أو للملابسة و * (الأرض) * إما مفعول به أو نصب بنزع الخافض أي فأمن الذين مكروا السيئات أن يغيبهم الله تعالى في الأرض أو يغيبها بهم كما فعل بقارون * (أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون) * أي من الجهة التي لا شعور لهم بمجىء العذاب منها كجهة مأمنهم أو الجهة التي يرجون إتيان ما يشتهون منها، وقال البيضاوي: أي بغتة من جانب السماء كما فعل بقوم لوط، وكأن التخصيص بجانب السماء لأن ما يجىء منه لا يشعر به غالبا بخلاف ما يجىء من الأرض فإنه محسوس في الأكثر، ولعل اعتباره أوفق بالمقابلة، ويحتمل أن يكون مراده بما من جانب السماء ما لا يكون على يد مخلوق سواء نشأ من الأرض أو السماء كما قيل: دعها سماوية تجري على قدر
فيكون مجازا، لكن قيل عليه: إنه لا يلائم المئال وإن كان لا يخصص.
* (أو يأخذهم فى تقلبهم فما هم بمعجزين) *
.
* (أو يأخذهم) * أي العذاب أو الله تعالى ورجح الأول بالقرب والثاني بكثرة إسناد الأخذ إليه تعالى في القرآن العظيم مع أنه جل شأنه هو الفاعل الحقيقي له.
* (في تقلبهم) * أي حركتهم إقبالا وإدبارا، والمراد على ما أخرجه ابن جرير. وغيره عن قتادة، وروي عن ابن عباس في أسفارهم، وحمله على ذلك - قال الإمام -: مأخوذ من قوله تعالى: * (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد) * (آل عمران: 196) أو المراد في حال ما يتقلبون في قضاء مكرهم والسعي في تنفيذه، وقيل: المراد في حال تقلبهم على الفرش يمينا وشمالا، وهو في معنى ما جاء في رواية عن ابن عباس أيضا في منامهم، ولا أراه يصح.
وقال الزجاج: المراد ما يعم سائر حركاتهم في أمورهم ليلا أو نهارا والجمهور على الأول والأخذ في الأصل حوز الشيء وتحصيله، والمراد به القهر والإهلاك، والجار والمجرور إما في موضع الحال أو متعلق بالفعل قبله والأول أولى نظرا إلى أنه الظاهر في نظيره الآتي إن شاء الله تعالى لكن الظاهر فيما قبله الثاني * (فما هم بمعجزين) * بفائتين الله تعالى بالهرب والفرار على ما يوهمه حال التقلب والسير أو ما هم بممتنعين كما يوهمه مكرهم وتقلبهم فيه، والفاء قيل: لتعليل الأخذ أو لترتيب عدم الإعجاز عليه دلالة على شدته وفظاعته حسبما قال صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " والجملة الاسمية للدلالة على دوام النفي والتأكيد يعود إليه أيضا.
* (أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤوف رحيم) *
.
* (أو يأخذهم على تخوف) * أي مخافة وحذر من الهلاك والعذاب بأن يهلك قوما قبلهم أو يحدث حالات
151

يخاف منها غير ذلك كالرياح الشديدة والصواعق والزلازل فيتخوفوا فيأخذهم بالعذاب وهم متخوفون ويروى نحوه عن الضحاك، وهو على ما قال الزمخشري ويقتضيه كلام ابن بحر خلاف قوله تعالى: * (من حيث لا يشعرون) * (النحل: 45).
وقال غير واحد من الأجلة: على أن ينقصهم شيئا فشيئا في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا من تخوفته إذا تنقصته، وروي تفسيره بذلك عن ابن عباس. ومجاهد. والضحاك أيضا.
وذكر الهيثم بن عدي أن التنقص بهذا المعنى لغة أزدشنوءة، ويروى أن عمر رضي الله تعالى عنه قال على المنبر ما تقولون فيها أي الآية والتخوف منها؟ فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا التخوف التنقص فقال: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ فقال: نعم قال شاعرنا أبو كبير يصف ناقته: تخوف الرحل منها تامكا قردا * كما تخوف عود النبعة السفن
فقال عمر رضي الله تعالى عنه: عليكم بديوانكم لا تضلوا قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم، والجار والمجرور قال أبو البقاء: في موضع الحال من الفاعل أو المفعول في يأخذهم.
وقال الخفاجي: الظاهر أنه حال من المفعول وكأنه أراد على تفسيري التخوف ويتخوف من الجزم به على التفسير الثاني، والمراد من ذكر هذه المتعاطفات بيان قدرة الله تعالى على إهلاكهم بأي وجه كان لا الحصر، ثم إن بعضهم اعتبر في التقابل بينهما أن المراد بخسف الأرض بهم إهلاكهم من تحتهم وبإتيان العذاب من حيث لا يشعرون إهلاكهم من فوقهم وحيث قوبلا بإهلاكهم في تقلبهم وأسفارهم كان المعتبر فيهما سكونهم في مساكنهم وأوطانهم والمقابلة بين أخذهم على تخوف على المعنى الأولى والأخذ بغتة المشعر به من حيث لا يشعرون ظاهرة، واعتبر عدم الشعور في الأخذ في التقلب والخسف لقرينة الأخذ على تخوف على ذلك المعنى وحمل سائرها على
عذاب الاستئصال دون الأخذ على تخوف على المعنى الثاني ومجمل القول في ذلك أنه اعتبر في كل اثنين من الأربعة منع الجمع لكن بعد أن يراد بالعام منهما للمقابلة ما عدا الخاص سواء كان بين الاثنين عموم من وجه أو مطلقا.
وذكر الإمام، وابن الخازن في حاصل الآية أنه تعالى خوفهم بخوف يحصل في الأرض أو بعذاب ينزل من السماء أو بآفات تحدث دفعة أو بآفات تأتي قليلا قليلا إلى أن يأتي الهلاك على آخرهم، وكان الظاهر في الآية أن يقال: أو يعذبهم من حيث لا يشعرون ليناسب ما قبله وما بعده بناء على أن إسناد الفعل فيهما إليه تعالى وما قبله فقط بناء على أن إسناد الفعل فيما بعد إلى العذاب مع كونه أخصر مما في النظم الجليل لكنه عدل عنه إلى ذلك لكونه أبلغ في التخويف وأدل على استحقاق العذاب من حيث أن فيه إشعارا بأن هناك عذابا موجودا مهيئا لا يحتاج إلا إلى الإتيان دون الإحداث وليس في - يعذبهم - إشعار كذلك على أن ما في " النظم الجليل " أبعد من أن يتوهم فيه معنى غير صحيح كما يتوهم في البدل المفروض حيث يتوهم فيه أنه سبحانه يعذبهم من حيث لا يشعرون بالعذاب وهو كما ترى. وحيث كانت حالتا التقلب والتخوف مظنة للهرب عبر عن إصابة العذاب فيهما بالأخذ وعن إصابته حالة الغفلة المنبئة عن السكون بالإتيان وجىء بفي مع التقلب وبعلى مع التخوف قيل: لأن في التقلب حركتين فكان الشخص المتقلب بينهما ولا كذلك
152

التخوف، وقيل: لما كان التقلب شاغلا الإنسان بسائر جوارحه حتى كأنه محيط به وهو مظروف فيه جيء بفي معه، والتخوف أي المخافة إنما يقوم بعضو من أعضائه فقط وهو القلب المحيط به بدن الإنسان فلذا جيء بعلي معه، وقيل: إن علي بمعنى مع كما في قوله تعالى: * (وآتي المال على حبه) * أي يأخذهم مصاحبين لذلك ولما كان التخوف نفسه نوعا من العذاب لما فيه من تألم القلب ومشغولية الذهن وكان الأخذ مشيرا إلى نوع آخر من العذاب أيضا جيء بعلي التي بمعنى مع ليكون المعنى يعذبهم مع عذابهم ولم يعتبر ذلك مع التقلب مرادا به الإقبال والإدبار في الأسفار والمتاجر مع أنه جاء * (السفر قطعة من العذاب) * لأنهم لا يعدون ذلك عذابا وفي القلب من هذا شيء فتدبر وتأمل فأسرار كتاب الله تعالى لا تحصى * (فإن ربكم لرؤف رحيم) * جعله ابن بحر تعليلا للأخذ على تخوف بناء على أن المراد به أخذهم على حدوث حالات يخاف منها كالرياح الشديدة والصواعق والزلازل لا بغتة فإن في ذلك امتداد وقت ومهلة يمكن فيها التلافي فكأنه قيل: أو يأخذهم على تخوف ولا يفاجئهم لأنه سبحانه رؤوف رحيم وذلك أنسب برأفته ورحمته جل وعلا، وجوز أن يكون تعليلا لذلك على المعنى الأخير فإن في تنقصهم شيئا بعد شيء دون أخذهم دفعة إمهالا في الجملة وهو مطلقا من آثار الرحمة، وقيل: هو تعليل لما يفهم من الآية من أنه سبحانه قادر على إهلاكهم بأي وجه كان لكنه تعالى لم يفعل، وقيل: هو كالتعليل للأمن المستفهم عنه، والتعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير الخطاب من آثار رحمته جل شأنه.
* (أو لم يروا إلى ما خلق الله من شىء يتفيأ ظل‍اله عن اليمين والشمآئل سجدا لله وهم داخرون) *
.
* (أولم يروا) * الهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام. والرؤية بصرية مؤدية إلى التفكر والضمير للذين مكروا السيئات أي ألم ينظر هؤلاء الماكرون ولم يروا متوجهين * (إلى ما خلق الله) *.
وقيل: الضمير للناس الشامل لأولئك وغيرهم والإنكار بالنسبة إليهم. وقرأ السلمي. والأعرج. والإخوان * (أو لم تروا) * بتاء الخطاب جريا على أسلوب قوله تعالى: * (فإن ربكم) * كما أن الجمهور قرءوا بالياء جريا على أسلوب قوله تعالى: * (أفأمن الذين مكروا) * وذكر الخفاجي وغيره أن قراءة التاء على الالتفات أو تقدير قل أو الخطاب فيها عام للخلق و * (ما) * موصولة مبهمة، وقوله تعالى: * (من شيء) * بيان لها لكن باعتبار صفته وهي قوله تعالى: * (يتفيئا ظلاله) * فهي المبينة في الحقيقة والموصوف توطئة لها وإلا فأي بيان يحصل به نفسه، والتفيؤ تفعل من فاء يفيء فيئا إذا رجع وفاء لازم وإذا عدى فبالهمزة أو التضعيف كأفاءه الله تعالى وفيأه فتفيأ وتفيأ مطاوع له لازم، وقد استعمله أبو تمام متعديا في قوله من قصيدة يمدح بها خالد بن يزيد الشيباني: طلبت ربيع ربيعه الممهى لها * وتفيأت ظلاله ممدودا
ويحتاج ذلك إلى نقل من كلام العرب، والظلال جمع ظل وهو في قول ما يكون بالغداة وهو ما لم تنله الشمس والفيء ما يكون بالعشي وهو ما انصرفت عنه الشمس وأنشدوا له قول حميد بن ثور يصف سرحة وكنى بها عن امرأة: فلا الظل من برد الضحى تستطيعه * ولاالفىء من برد العشي تذوق
ونقل ثعلب عن رؤبة ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل وما لم تكن عليه فهو ظل فالظل أعم من الفيء، وقيل: هما مترادفان يطلق كل منهما على ما كان قبل الزوال وعلى خلافه، وأنشد أبو زيد للنابغة الجعدي:
فسلام الإله يغدو عليهم * وفيوء الفردوس ذات الظلال
153

والمشهور أن الفيء لا يكون إلا بعد الزوال، ومن هنا قال الأزهري: إن تفيء الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار، وقال أبو حيان: إن الاعتبار من أول النهار إلى آخره، وإضافة الظلال إلى ضمير المفرد لأن مرجعه وإن كان مفردا في اللفظ لكنه كثير في المعنى، ونظير ذلك أكثر من أن يحصى، والمعنى أو لم يروا الأشياء التي ترجع وتتنقل ظلالها * (عن اليمين والشمائل) * والمراد بها الأشياء الكثيفة من الجبال والأشجار وغيرها سواء كان جماد أو إنسانا على ما عليه بعض المفسرين، وخصها بعضهم بالجمادات التي لا يظهر لظلالها أثر سوي التفيء بواسطة الشمس على ما ستعلمه إن شاء الله تعالى دون ما يشمل الحيوان الذي يتحرك ظله بتحركه، وكلا القولين على تقدير كون * (من) * بيانية كما سمعت؛ وذهب بعض المحققين إلى العموم لكنه جعل من ابتدائية متعلقة - بخلق - والمراد بما خلقه من شيء عالم الأجسام المقابل لعالم الروح والأمر الذي لم يخلق من شيء بل وجد بأمر * (كن) * كما قال سبحانه: * (ألاله الخلق والأمر) * (الأعراف: 54)، ولا يخفى بعده
، واعترض أيضا بأن السموات والجن من عالم الأجسام والخلق ولا ظل لها ومقتضى عموم * (ما) * أنه لا يخلو شيء منها عنه بخلاف ما إذا جعلت من بيانية و * (يتفيؤ) * صفة شيء مخصصة له. ورد بأن جملة * (يتفيؤ) * حينئذ ليست صفة - لشيء - إذ المراد إثبات ذلك لما خلق من شيء لإله وليس صفة - لما - لتخالفهما تعريفا وتنكيرا بل هي مستأنفة لإثبات أن له ظلالا متفيئة وعموم * (ما) * لا يوجب أن يكون المعنى لكل منه هذه الصفة.
وتعقب بأنه إن أريد أنه لا يقتضي العموم ظاهرا فممنوع وإن أريد أنه يحتمل فلا يرد ردا لأنه مبني على الظاهر المتبادر، والمراد باليمين والشمائل على ما قيل جانبا الشيء استعارة من يمين الإنسان وشماله أو مجازا من إطلاق المقيد على المطلق أي ألم يروا الأشياء التي لها ظلال متفيئة عن جانبي كل واحد منها ترجع من جانب إلى جانب بارتفاع الشمس وانحدارها أو باختلاف مشارقها ومغاربها فإن لها مشارق ومغارب بحسب مداراتها اليومية حال كون تلك الظلال * (سجدا لله) * أي منقادة له تعالى جارية على ما أراد من الامتداد والتقلص وغيرهما غير ممتنعة عليه سبحانه فيما سخرها له وهو المراد بسجودها، وقد يفسر باللصوق في الأرض أي حال كونها لاصقة بالأرض على هيئة الساجد، وقوله تعالى: * (وهم داخرون) * حال من ضمير * (ظلاله) * الراجع إلى شيء، والجمع باعتبار المعنى وصح مجيء الحال من المضاف إليه لأنه كالجزء، وإيراد الصيغة الخاصة بالعقلاء لما أن الدخور من خصائصهم فإنه التصاغر والذل، قال ذو الرمة: فلم يبق إلا داخر في مخيص * ومنحجر في غير أرضك في حجر
فالكلام على الاستعارة أو لأن في جملة ذلك من يعقل فغلب، ووجه التعبير بهم يعلم مما ذكر، ويجوز أن يعتبر وجهه أولا ويجعل ما بعده جاريا على المشاكلة له أي والحال أن أصحاب تلك الظلال ذليلة منقادة لحكمه تعالى، ووصفها بالدخور مغن عن وصف ظلالها به، وجوز كون * (سجدا) * والجملة حالين من الضمير أي ترجع ظلال تلك الأجرام حال كون تلك الأجرام منقادة له تعالى داخرة فوصفها بهما مغن عن وصف ظلالها بهما.
والمراد بالسجود أيضا الانقياد سواء كان بالطبع أو بالقسر أو بالإرادة، فلا يرد على احتمال أن يكون المراد * (بما خلق) * شاملا للعقلاء وغيرهم كيف يكون * (سجدا) * حالا من ضميره وسجود العقلاء غير سجود غيرهم.
154

وحاصل ما أشرنا إليه أن ذلك من عموم المجاز، والأمر على احتمال أن يراد من ذاك الجمادات ظاهر، وزعم بعضهم أن السجود حقيقة مطلقا وهو الوقوع على الأرض على قصد العبادة ويستدعي ذلك الحياة والعلم لتقصد العبادة، وليس بشيء كما لا يخفى، ثم إن قلنا على هذا الوجه: إن الواو حالية كما أشير إليه فالحالات مترادفتان، وتعدد الحال جائز عند الجمهور، ومن لم يجوز جعل الثانية بدل اشتمال أو بدل كل من كل كما فصله السمين، وإن قلنا: إنها عاطفة فلا تكون الحال مترادفة بل متعاطفة، وقال أبو البقاء: * (سجدا) * حال من الظلال * (وهم داخرون) * حال من الضمير في * (سجدا) * ويجوز أن يكون حالا ثانية معطوفة اه‍، وفيه القول بالتداخل وهو محتمل على تقدير كون * (سجدا) * حالا من ضمير * (ظلاله) * والوجه الأول هو المختار عند الزمخشري، ورجحه في " الكشف " فقال: إن انقياد الظل وذي الظل مطلوب، ألا ترى إلى قوله تعالى: * (وظلالهم بالغدو والآصال) * (الرعد: 15) فجاعلهما حالا من الضمير في * (ظلاله) * مقصر، وفيه تكميل حسن لما وصف الظلال بالسجود وصف أصحابها بالدخور الذي هو أبلغ لأنه انقياد قهري مع صفة المنقاد، ولم يجعل حالا من الراجع إلى الموصول في * (خلق الله) * إذ المعنى على تصوير سجود الظل وذيه وتقارنهما في الوجود لا على مقارنة الخلق والدخور، والعامل في الحال الثاني * (يتفيؤ) * على ما قال ابن مالك في قوله تعالى: * (بل ملة إبراهيم حنيفا) * (البقرة: 135) اه‍، ومنه يعلم ما في إعراب أبي البقاء. نعم أن في هذا الوجه بعدا لفظيا والأمر فيه هين، وأما جعل * (وهم داخرون حالا من ضمير) * * (يروا) * فمما لا يصح بحال كما لا يخفى.
هذا وذكر الإمام في اليمين والشمال قولين غير ما تقدم. الأول: أن المراد بهما المشرق والمغرب تشبيها لهما بيمين الإنسان وشماله فإن الحركة اليومية آخذة من المشرق وهوى أقوى الجانبين فهو اليمين والجانب الآخر الشمال فالظلال في أول النهار تبتدىء من الشرق واقعة على الربع الغربي من الأرض وعند الزوال تبتدىء من الغرب واقعة على الربع الشرقي منها. والثاني: يمين البلد وشماله، وذلك أن البلدة التي يكون عرضها أقل من مقدار الميل الكلي وهو " كجل يز أو كحله " على اختلاف الارصاد فإن في الصيف تحصل الشمس على يمين تلك البلدة وحينئذ تقع الإظلال على يسارها وفي الشتاء بالعكس، ولا يخفى ما في الثاني فإنه مختص بقطر مخصوص والكلام ظاهر في العموم، وقيل: المراد باليمين والشمال يمين مستقبل الجنوب وشماله، و * (عن) * كما قال الحوفي متعلقة * (بيتفيؤ) * وقال أبو البقاء: متعلقة بمحذوف وقع حالا، وقيل: هي اسم بمعنى جانب فتكون في موضع نصب على الظرفية، ولهم في توحيد * (اليمين) * وجمع * (الشمائل) * - وهو جمع غير قياسي - كلام طويل. فقيل: إن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن إحداهما بلفظ المفرد كقوله تعالى: * (جعل الظلمات والنور) * (الأنعام: 1) و * (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم) * (البقرة: 7) وقيل: إذا فسرنا اليمين بالمشرق كان النقطة التي هي مشرق الشمس واحدة بعينها فكانت اليمين واحدة، وأما الشمائل فهي عبارة عن الانحرافات الواقعة في تلك الاظلال بعد وقوعها على الأرض وهي كثيرة فلذلك عبر عنها بصيغة الجمع، وقيل: اليمين مفرد لفظا لكنه جمع معنى فيطابق الشمائل من حيث المعنى، وقال الفراء: إنه يحتمل أن يكون مفردا وجمعا فإن كان مفردا ذهب إلى واحد من ذوات الظلال وإن جان جمعا ذهب إلى كلها لأن ما خلق الله لفظه واحد ومعناه الجمع، وقال الكرماني: يحتمل أن يراد بالشمائل الشمال والقدام والخلف لأن الظل يفيء من الجهات كلها فبدأ باليمين لأن ابتداء التفيء منها أو تيمنا بذكرها، ثم جمع الباقي على لفظ الشمال لما بين الشمال واليمين من التضاد، ونزل الخلف والقدام
155

منزلة الشمال لما بينهما وبين اليمين من الخلاف، وهو قريب من الأول. وتعقب بأن فيه جمع اللفظ باعتبار حقيقته ومجازه وفي صحته مقال، وقيل: المراد باليمين يمين الواقف مستقبل المشرق ويسمى الجنوب وبالشمال شماله فكأنه قيل: يتفيؤ ظلاله عن الجنوب إلى الشمال وعن الشمال إلى الجنوب ولما كان غالب المعمورة شمالي
وظلالها كذلك جمع الشمال ولم يجمع اليمين، وهو كما ترى، ونقل أبو حيان عن أستاذه الحسن علي بن الصائغ أنه أفرد وجمع بالنظر إلى الغايتين لأن ظل الغداة يضمحل حتى لا يبقى مه إلا اليسير فكأنه في جهة واحدة، وهو في العشي على العكس لاستيلائه على جميع الجهات فلحظت الغايتان، هذا من جهة المعنى وأما منجهة اللفظ فجمع الثاني ليطابق * (سجدا) * المجاور له شمالا كما أفرد الأول ليطابق ضمير * (ظلاله) * المجاور له يمينا، ولا يخفى ما في التقديم والتأخير من حسن رعاية الأصل والفرع أيضا، فحصل في الآية مطلقة اللفظ للمعنى وملاحظتهما معا وتلك الغاية في الإعجاز، ويخطر لي وجه آخر في الأفراد والجمع مبني على أن المراد باليمين جهة المشرق وبالشمال جهة المغرب، وهو أنه لما كانت الجهة الأولى مطلع النور والجهة الثانية مغربه ومظهر الظلمة أفرد ما يدل على الجهة الأولى كما أفرد * (النور) * في كل القرآن، وجمع يدل على الجهة الثانية كما جمع الظلمة كذلك وإفراد النور وجمع الظلمة تقدم الكلام فيهما، وقد يقال: إن جمع الظلال مع إفراد ما قبله وما بعده لأن الظل ظلمة حاصلة من حجب الكثيف الشمس مثلا عن أن يقع ضوؤها على ما يقابله فجمعت الظلال كما جمعت الظلمات، ولا يعكر على هذا أنه جمعت المشارق في القرآن كالمغارب إذ كثيرا ما يرتكب أمر لنكتة في مقام ولا يرتكب لها في مقام آخر، وآخر أيضا وهوأنه لما كان اليمين عبارة عن جهة المشرق وهو مبدأ الظل وحده مناسبته لتوحيد المبدأ الحقيقي وهو الله تعالى ولا كذلك جهة المغرب، ولايناسب رعاية نحو هذا في الشمال كما يرشدك إلى ذلك و * (كلتا يديه يمين) * ويعين على ملاحظة المبدئية نسبة الخلق إليه تعالى، وآخر أيضا وهو أن الظل الجائي من جهة المشرق لا يتعلق به أمر شرعي والجائي من جهة المغرب يتعلق به ذلك، فإن صلاة الظهر يدخل وقتها بأول حدوثه من تلك الجهة بزوال الشمس عن وسط الماء، ووقت العصر بصيرورته مثل الشاخص أو مثليه بعد ظل الزوال إن كان كما في الآفاق المائلة، ووقت المغرب بشموله البسيطة بغروب الشمس، وما ألطف وقوع * (سجدا) * بعد * (الشمائل) * على هذا؛ وآخر أيضا وهو أوفق بباب الإشارة وسيأتي فيه إن شاء الله تعالى الفتاح، وبعد لمسلك الذهن اتساع فتأمل فلعل ما ذكرته لا يرضيك.
وقد بين الإمام أن اختلاف الظلال دليل على كونها منقادة لله تعالى خاضعة لتقديره وتدبيره سبحانه، ثم قال: فإن قيل لم لا يجوز أن يقال اختلافها معلل باختلاف الشمس؟ قلنا: قد دللنا على أن الجسم لا يكون متحركا لذاته فلا بد أن يكون تحركه من غيره ولا بد من الاستناد بالآخرة إلى واجب الوجود جل شأنه فيرجع أمر اختلاف الظلال إليه تعالى على هذا التقدير.
وأنت تعلم أنه لا ينبغي أن يتردد في أن السبب الظاهري للظلال هو الشمس ونحوها وكثافة الشاخص، نعم في كون ذلك مستندا إليه تعالى في الحقيقة ابتداء أو بالواسطة خلاف، ومذهب السلف غير خفي عليك فقد أشرنا إليه غير مرة فتذكره إن لم يكن على ذكر منك، ثم الظاهر أن المراد بالظلال الظلال المبسوطة وتسمى المستوية، ويجوز أن يراد بها ما يشمل الظلال المعكوسة فإنها أيضا تتفيؤ عن اليمين والشمائل فاعرف ذلك ولا تغفل، وقرأ أبو عمرو. وعيسى. ويعقوب * (تتفيؤ) * بالتاء على التأنيث، وأمر التأنيث والتذكير في
156

الفعل المسند لمثل الجمع المذكور ظاهر.
وقرأ عيسى * (ظلله) * وهو جمع ظلة كحلة وحلل؛ قال " صاحب اللوامح ": الظلة بالضم الغيم وأما بالكسر فهو الفىء والأول جسم والثاني عرض، فرأى عيسى أن التفيؤ الذي هو الرجوع بالأجسام أولى، وأما في العامة فعلى الاستعارة اه‍، ويلوح منه القول بالقراءة بالرأي، ومن الناس من فر الظلال في قراءة العامة بالأشخاص لتكون على نحو قراءة عيسى، وأنشدوا لاستعمال الظلال في ذلك قول عبدة:
إذا نزلنا نصبنا ظل أخبية * وفار للقوم باللحم المراجيل
فإنه إنما تنصب الأخبية لا الظل الذي هو الفيء، وقول الآخر: يتبع أفياء الظلال عشية
فإنه أراد أفياء الأشخاص. وتعقب ذلك الراغب بأنه لا حجة فيما ذكر فإن قوله: رفعنا ظل أخبية معناه رفعنا الأخبية فرفعنا بها ظلها فكأنه رفع الظل، وقوله: أفياء الظلال فالظلام فيه عام والفيء خاص والإضافة من إضافة الشيء إلى جنسه، وقال بعضهم: المراد من الظلة في قراءة عيسى الظل الذي يشبه الظلة، والمراد بها شيء كهيئة الصفة في الانتفاع به وقيل: الكلام في تلك القراءة على حذف مضاف أي ظلال ظلله، وتفسير الظلة بما هو كهيئة الصفة، والمتبادر من الظل حينئذ الظل المعكوس. ثم إنه تعالى بعد أن ذكر ما ذكر أردفه بما يفيده تأكيدا مع زيادة سجود ما لا ظل له [بم فقال سبحانه:
* (ولله يسجد ما فى السم‍اوات وما فى الارض من دآبة والمل‍ائكة وهم لا يستكبرون) *
.
* (ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض) * أو أنه سبحانه بعد ما بين سجود الظلال وذويها من الأجرام السفلية الثابتة في إحيازها ودخورها له سبحانه شرع في شأن سجود المخلوقات المتحركة بالإرادة سواء كانت لها ظلال أم لا؟ فقال عز من قائل ما قال، والمراد بالسجود على ما ذكره غير واحد الانقياد سواء كان انقيادا لإرادته تعالى وتأثيره طبعا أو انقيادا لتكليفه وأمره طوعا ليصح إسناده إلى عامة أهل السموات والأرض من غير جمع بين الحقيقة والمجاز ولكون الآية آية سجدة لا بد من دلالتها على السجود المتعارف ولو ضمنا، والاسم الجليل متعلق - بيسجد - والتقديم لإفادة القصر وهو ينتظم القلب والإفراد إلا أن الأنسب بحال المخاطبين قصر الافراد كما يؤذن به قوله تعالى: * (وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين) * أي له تعالى وحده ينقاد ويخضع جميع ما في السموات وما في الأرض * (من دابة) * بيان لما فيهما بناء على أن الذبيب هو الحركة الجسمانية سواء كان في أرض أو سماء، والملائكة أجسام لطيفة غير مجردة وتقييد الذبيب بكونه على وجه الأرض لظهوره أو لأنه أصل معناه وهو عام هنا بقرينة المبين، وقوله سبحانه: * (والمل‍ائكة) * عطف على محل الدابة المبين به وهو الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف لأن * (من) *
البيانية لا تكون ظرفا لغوا وهو من عطف الخاص على العام إفادة لعظم شأن الملائكة عليهم السلام، وجوز أن يكون من عطف المباين بناء على أن يراد بما في السموات الجسمانية ويلتزم القول بتجرد الملائكة عليهم السلام فلا يدخلون فيما في السموات لأن المجردات ليست في حيز وجهة وبعضهم استدل بالآية على تجرد الملائكة بناء على أن ما في السموات وما في الأرض بين أحدهما بالدابة والآخر بالملائكة والأصل في التقابل التغاير، والدابة المتحركة حركة جسمانية فلا يكون مقابلها من الأجسام لأن الجسم لا بد فيه من حركة جسمانية، ولا يخفى أنه دليل اقناعي إذ يحتمل كونه تخصيصا بعد تعميم كما سمعت آنفا أو هو بيان لما في الأرض، والدابة اسم لما يدب على الأرض و * (الملائكة) * عطف على ما في السموات وهو تكرير له وتعيين إجلالا وتعظيما، وذكر غير واحد أنه من عطف الخاص على العام لذلك أيضا، وجوز أن يراد بما في السموات الخلق الذين يقال لهم الروح
157

ويلتزم القول بأنهم غير الملائكة عليهم السلام فكيون من عطف المباين أو هما بيان لما في الأرض، والمراد بالملائكة عليهم السلام ملائكة يكونون فيها كالحفظة والكرام الكاتبين ولايراد بالدابة ما يشملهم، و * (ما) * إذا قلنا: إنها مختصة بغير العقلاء كما يشهد له خبر ابن الزبعري فاستعمالها هنا في العقلاء وغيرهم للتغليب، وأما إن قلنا أن وضعها لأن تستعمل في غير العقلاء وفيما يعم العقلاء وغيرهم كالشبح المرئي الذي لا يعرف أنه عاقل أو لا فإنه يطلق عليه ما حقيقة فالأمر على ما قيل غير محتاج إلى تغليب، وفي " أنوار التنزيل " أن * (ما) * استعمل للعقلاء كما استعمل لغيرهم كان استعماله حيث اجتمع القبيلان أولى من إطلاق من تغليبا، وفي " الكشاف " أنه لو جيء بمن لم يكن فيه دليل على التغليب فكان متناولا للعقلاء خاصة فجيء بما هو صالح للعقلاء وغيرهم إرادة العموم وهو جواب عن سبب اختيار ما على من، وحاصله على ما في " الكشف " أن من للعقلاء والتغليب مجاز فلو جيء بغير قرينة تعين الحقيقة والمقام يقتضي التعميم فجيء بما يعم وهو ما وأراد أن لا دليل في اللفظ، وقرينة العموم في السابق لا تكفي لجواز تخصيصهم من البين بعد التعميم على أن اقتضاء المقام العموم وما في التغليب من الخصوص كاف في العدول انتهى.
وقيل بناء على أن ما مختصه بغير العقلاء ومن مختصة بالعقلاء: إن الاتيان بما وارتكاب التغليب أوفق بتعظيم الله تعالى من الاتيان بمن وارتكاب ذلك فليفهم * (وهم) * أي الملائكة علو شأنهم * (لا يستكبرون) * عن عبادته تعالى شأنه والسجود له، وتقدير الضمير ليس للقصر، والسين ليست للطلب وقيل: له على معنى لا يطلبون ذلك فضلا عن فعله والاتصاف به. وإذا قلنا: إن صيغة المضارع لاستمرار التجددي فالمراد استمرار النفي. والجملة إما حال من فاعل * (يسجد) * مسندا إلى الملائكة أو استئناف للأخبار عنهم بذلك، وإنما لم يجعل الضمير - لما - لاختصاصه بأولى العلم وليس المقام التغليب، وخالف في ذلك بعضهم فجعله لها وكذا الضمير في قوله سبحانه: * (يخافون ربهم) * وممن صرح بعود الضمير فيه على * (ما) * أبو سليمان الدمشقي، وقال أبو حيان: أنه الظاهر، وذهب ابن السائب ومقاتل إلى ما قلنا أي يخافون مالك أمرهم.
* (يخ‍افون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) *
.
* (من فوقهم) * إما متعلق - بيخافون - وخوف ربهم كناية عن خوف عذابه أو الكلام على تقدير مضاف هو العذاب على ما هو الظاهر أو متعلق بمحذوف وقع حالا من * (ربهم) * أي كائنا من فوقهم، ومعنى كونه سبحانه فوقهم قهره وغلبته لأن الفوقية المكانية مستحيلة بالنسبة إليه تعالى، ومذهب السلف قد أسلفناه لك وأظنه على طكر منك.
والجملة حال من الضمير في * (لا يستكبرون) * وجوز أن تكون بيانا لنفي الاستكبار وتقريرا له لأن من خاف الله تعالى لم يستكبر عن عبادته، واختاره ابن المنير وقال: إنه الوجه ليس إلا لئلا يتقيد الاستكبار وليدل على ثبوت هذه الصفة أيضا على الإطلاق، ولا بد أن يقال على تقدير الحالية: أنها حال غير منتقلة وقد جاءت في الفصيح بل في أفصحه على الصحيح، وفي اختيار عنوان الربوبية تربية للمهابة وإشعار بعلة الحكم.
* (ويفعلون ما يؤمرون) * أي ما يؤمرون به من الطاعات والتدبيرات وإيراد الفعل مبينا للمفهول جرى على سنن الجلالة وإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بالفاعل لاستحالة استناده إلى غيره سبحانه، واستدل بالآية على أن الملائكة مكلفون مدارون بين الخوف والرجاء، أما دلالتها على التكليف فلمكان الأمر، وأما على الخوف فهوأظهر من أن يخفى، وأما على الرجاء فلاستلزام الخوف له على ما قيل، وقيل: إن اتصافهم بالرجاء لأن من خدم أكرم
158

الأكرمين كان من الرجاء بمكان مكين، وزعم بعضهم أن خوفهم ليس إلا خوف إجلال ومهابة لا خوف وعيد وعذاب، ويرده قوله تعالى: * (وهم من خشيته مشفقون، ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم) * (الأنبياء: 28، 29) ولا ينافي ذلك عصمتهم، وقال الإمام: الأصح أن ذلك الخوف خوف الإجلال، وذكر أنه نقل عن ابن عباس واستدل له بقوله تعالى: * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * (فاطر: 28) وفي القلب منه شيء، والحق أن الآية لا تصلح دليلا لكون الملائكة أفضل من البشر. واستدل بها فرقة على ذلك من أربعة أوجه ذكرها الإمام ولم يتعقبها بشيء لأنه ممن يقول بهذه الأفضلية، وموضع تحقيق ذلك كتب الكلام.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: * (أتى أمر الله) * وهو القيامة الكبرى التي يرتفع فيها حجب التعينات ويضمحل السوى، ولما كان صلى الله عليه وسلم مشاهدا لذلك في عين الجمع قال * (أتى) * ولما كان ظهورها على التفصيل بحيث تظهر للكل لا يكون إلا بعد حين قال: * (فلا تستعجلوه) * لأن هذا ليس وقت ظهوره، ثم أكد شهوده لوجه الله تعالى وفناء الخلق في القيامة بقوله: * (سبحانه وتعالى عما يشركون) * (النحل: 1) بإثبات وجود الغير، ثم فصل ما شاهد في عين الجمع لكونه في مقام الفرق بعد الجمع لا يحتجب بالوحدة عن الكثرة ولا بالعكس فقال: * (ينزل الملائكة بالروح) * وهو العلم الذي تحيا به القلوب * (على من يشاء من
عباده) * وهم المخلصون له * (أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون) * (النحل: 2) وقال بعضهم: أي خوفوا الخلق من الخواطر الرديئة الممزوجة بالنظر إلى غيري وخوفهم من عظيم جلالي، وهذا وحي تبليغ وهو مخصوص بالمرسلين عليهم السلام، وذكروا أن الوحي إذا لم يكن كذلك غير مخصوص بهم بل يكون للأولياء أيضا * (الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا) * وقد روى عن بعض أئمة أهل البيت أن الملائكة تزاحمهم في مجالسهم، ثم إنه تعالى عدد الصفات وفصل النعم فقال: * (خلق السموات والأرض بالحق) * (النحل: 3) الخ، وفي قوله سبحانه: * (وتحمل أثقالكم) * (النحل: 7) الخ إشارة كما نقل عن الجنيد قدس سره إلى أنه ينبغي لمن أراد البلوغ إلى مقصده أن يكون أول أمره وقصده الجهد والاجتهاد ليوصله بركة إلى مقصوده، وذكروا أن المحمولين من العباد إلى المقاصد أصناف وكذا المحمول عليه، فمحمول بنور الفعل، ومحمول بنور الصفة، ومحمول بنور الذات، فالمحمول بنور الفعل يكون بلده مقام الخوف والرجاء ومحلته صدق اليقين وداره مربع الشهود، والمحمول بنور الصفة يكون بلده مقام المعرفة ومحلته صفو الخلة وداره دار المودة، والمحمول بنور الذات يكون بلده التوحيد ومحلته الفناء وداره البقاء، وهذه الأصناف للسالك، وأما المجذوب فمحمول على مطية الفضل إلى بلد المشاهدة، وفي قوله سبحانه: * (ويخلق ما لا تعلمون) * (النحل: 8) تحيير للإفهام وعجيز أي تعجيز عن أن تدرك الملك العلام؛ وقال بعضهم: إن فيها تعليما للوقوف عند ما لا يدركه العقل من آثار الصنع وفنون العلم وعدم مقابلة ذلك بالانكار حيث أخبر سبحانه أن يخل قما لا يعلم بمقتضى القوى البشرية المعتادة وإنما يعلم بقوة إلهية وعناية صمدية، ألا ترى الصوفية الذين من الله تعالى عليهم بما من كيف عملوا عوالم عظيمة نسبة عالم الشهادة إليها كنسبة الذرة إلى الجبل العظيم، وممن زعم الانتظام في سلكهم كالكفشية الملقبين أنفسهم بالكشفية من ذكر من ذلك أشياء لا يشك العاقل في أنها لا أصل لها بل لو عرض كلامهم في ذلك على الأطفال أو المجانين لم يشكوا في أنه حديث خرافة صادر عن محض التخيل، وأنا أسأل الله تعالى أن لا يبتلي مسلما بمثل ما ابتلاهم، وقد عزمت حين رأيت بعض كتبهم التي ألفها بعض معاصرينا منهم مما اشتمل على ذلك على أن أصنع نحو ما صنعوا
159

مقابلة للباطل بمثله لكن منعني الحياء من الله تعالى والاشتغال بخدمة كلامه سبحانه والعلم بأن تلك الخرافات لا تروج إلا عند من سلب مه الإدراك والتحق بالجمادات، وقال الواسطي في الآية: المعنى يخلق فيكم من الأفعال ما لا تعلمون أنها لكم أم عليكم * (وعلى الله قصد السبيل) * أي السبيل القصد وهو التوحيد * (ومنها جائر) * وهو ما عدا ذلك * (ولو شاء لهداكم أجمعين) * لكنه لم يشأ لعدم استعدادكم ولتظهر صفات جماله وجلاله سبحانه: * (وألقى في الأرض رواسي) * وهم الأوتاد أرباب التمكين * (أن تميد بكم) * أي تضطرب، ومن الكلام المشهور على الألسنة لو خلت قلبت * (وأنهارا) * وهم العلماء الذين تحيا بفرات علومهم أشجار القلوب * (وسبلا) * وهم المرشدون الداعون إليه تعالى * (وعلامات) * وهي الآيات الآفاقية والأنفسية * (وبالنجم هم يهتدون) * وهي الأنوار التي تلوح للسالك من عالم الغيب.
وقال بعضهم: ألقى في أرض القلوب رواسي العلوم الغيببية والمعارف السرمدية وأجرى فيها أنهار أنوار المعرفة والمكاشفة والمحبة والشوق والعشق والحكمة والفطنة وأوضح سبلا للأرواح والعقول والأسرار، فسبيل الأرواح إلى أنوار الصفات، وسبيل العقول إلى أنوار الآيات، وسبيل الأسرار إلى أنوار الذات، والسبل في الحقيقة غير متناهية، ومن كلامهم الطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق. والعلامات في الظاهر أنوار الأفعال للعموم، وأخص العلامات في العالم الأولياء، والنجوم أهل المعارف الذين يسبحون في أفلاك الديمومية بأرواحهم وقلوبهم وأسرارهم من اقتدى بهم يهتدي إلى مقصوده الأبدي، وفي الحديث " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " والمراد بهم خواصهم ليتأتى الخطاب، ويجوز أن يراد كلهم والخطاب لنا ولا مانع من ذلك على مشرب القوم * (والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون) * ما أعظمها آية في النهي على من يستغيث بغير الله تعالى من الجمادات والأموات ويطلب منه ما لا يستطيع جلبه لنفسه أو دفعه عنها.
وقال بعض أكابر السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم: إن الاستغاثة بالأولياء محظورة إلا من عارف يميز بين الحدوث والقدم فيستغيث بالولي لا من حيث نفسه بل من حيث ظهور الحق فيه فإن ذلك غير محظور لأنه استغاثة بالحق حينئذ؛ وأنا أقول إذا كان الأمر كذلك فما الداعي للعدول عن الاستغاثة بالحق من أول الأمر؟ وأيضا إذا ساغت الاستغاثة بالولي من هذه الحيثية فلتسغ الصلاة والصوم وسائر أنواع العبادة له من تلك الحيثية أيضا، ولعل القائل بذلك قائل بهذا. بل قد رأيت لبعضهم ما يكون هذا القول بالنسبة إليه تسبيح ولا يكاد يجري قلمي أو يفتح فمي بذكره، فالطريق المأمون عند كل رشيد قصر الاستغاثة والاستعانة على الله عز وجل فهو سبحانه الحي القادر العالم بمصالح عباده، فإياك والانتظام في سلك الذين يرجون النفع من غيره تعالى: * (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) * (النحل: 28) ذكروا أن السابقين الموحدين يتوفاهم الله تعالى بذاته، وأما الأبرار والسعداء فقسمان، فمن ترقى عن مقام النفس بالتجرد ووصل إلى مقام القلب بالعلوم والفضائل يتوفاهم ملك الموت، ومن كان في مقام النفس من العباد والصلحاء والزهاد المتشرعين الذين لم يتجردوا عن علائق البدن بالتحلية والتخلية تتوفاهم ملائكة الرحمة، وأما الأشرار الأشقياء فتتوفاهم الملائكة أيضا ولكن ملائكة العذاب ويتشكلون لهم على صورة أخلاقهم الذميمة كما يتشكل ملائكة الرحمة لمن تقدم على صورة أخلاقهم الحسنة * (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين) * (النحل: 32) طابت نفوسهم في خدمة مولاها وطابت قلوبهم في محبة
160

سيدها وطابت أرواحهم بطيب مشاهدة ربها وطابت أسرارهم بطيب الأنوار، وقيل: أبدانهم وأرواحهم بملازمة الخدمة وترك الشهوات. وقيل: طيبة أرواحهم بالموت لكونه باب الوصال وسبب الحياة الأبدية * (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء) * (النحل: 35) قالواه الزاما بزعمهم للموحدين وما دروا أنه حجة عليهم لأنه تعالى لا يشاء إلا ما يعلم ولا يعلم إلا ما عليه الشيء في نفسه فلولا أنهم في نفس الأمر مشركون ما شاء الله تعالى ذلك: * (فاسألوا أهل الذكر ان كنتم
لا تعلمون) * (النحل: 43) هم أهل القرآن المتخلقون بأخلاقه القائمون بأمره ونهيه الواقفون على ما أوردع فيه من الأسرار والغيوب وقليل ما هم فالمراد بالذكر القرآن كما في قوله تعالى: * (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) * (النحل: 44). وفيه إشارة إلى أن الله تعالى لم يظهر مكنونات أسرار كتابه إلا لنبيه صلى الله عليه وسلم فهو عليه الصلاة والسلام الأمين المؤتمن على الأسرار. وقد أشار سبحانه له عليه الصلاه والسلام بتبيين ذلك وقد فعل ولكن على حسب القابليات - لا تمنعوا الحكمة عن أهلها فتظلموهم ولا تمنحوها غير أهلها فتظلموها - ولا تودع الأسرار إلا عند الأحرار. وذلك لأنها أمانة وإذا أودعت عند غيرهم لم يؤمن عليها من الخيانة. وخيانتها افشاؤها وافشاؤها خطر عظيم. ولذا قيل: من شاوروه فأبدى السر مشتهرا * لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا
وجانبوه فلم يسعد بقربهم * وأبدلوه مكان الأنس إيحاشا
لا يصطفون مذيعا بعض سرهم * حاشا ودادهم من ذاكم حاشا
* (أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء) * أي ذات وحقيقة مخلوقة أية ذات كانت * (يتفيؤ ظلاله) * قيل: أي يتمثل صوره ومظاهره * (عن اليمين) * جهة الخير * (والشمائل) * (النحل: 48) جهات الشرور، ولما كانت جهة اليمين إشارة إلى جهة الخير الذي لا ينسب إلا إليه تعالى وحد اليمين ولما كانت جهة الشمال اشارة إلى جهة الشر الذي لا ينبغي أن ينسب إليه تعالى كما يرشد إليه قوله صلى الله عليه وسلم: " والشر ليس إليك " ولكن ينسب إلى غيره سبحانه وكان في الغير تعدد ظاهر جمع الشمال. وقيل في وجه الأفراد والجمع: إن جميع الموجودات تشترك في نوع من الخير لا تكاد تفىء عنه وهو العشق فقد برهن ابن سينا على سريان قوة العشق في كل واحد من الهويات ولا تكاد تشترك في شر كذلك فما تفىء عنه من الشر لا يكون إلا متعددا فلذا جمع الشمال ولا كذلك ما تفىء عنه من الخير فلذا أفرد اليمين فليتأمل " ولله يسجد " ينقاد " ما في السموات وما في الأرض من دابة " أي موجود يدب ويتحرك من العدم إلى الوجود دوالملائكة وهم لا يستكبرون) * (النحل: 49) لا يمتنعون عن الانقياد والتذلل لأمره " يخافون ربهم من فوقهم " لأنه القاهر المؤثر فيهم " ويفعلون ما يؤمرون " طوعا وانقيادا، والله تعالى الهادي سواء السبيل.
ثم أنه تعالى بعد ما بين أن جميع الموجودات، خاضعة منقادة له تعالى أردف ذلك بحكاية نهيه سبحانه وتعالى للمكلفين عن الاشراك [بم فقال عز قائلا:
* (وقال الله لا تتخذوا إل‍اهين اثنين إنما هو إل‍اه واحد فإي‍اي فارهبون) *
.
* (وقال الله) * عطفا على قوله سبحانه: * (ولله يسجد) *. وجوز أن يكون معطوفا على * (وانزلنا إليك الذكر) * (النحل: 44) وقيل: إنه معطوف على * (ما خلق الله) * (النحل: 48) على أسلوب. علفتها تبنا وماء باردا
أي أو لم يروا إلى ما خلق الله ولم يسمعوا إلى ما قال الله ولا يخفى تكلفه، وإظهار الفاعل وتخصيص لفظة الجلالة بالذكر للإيذان بأنه تعالى متعين الألوهية وإنما المنهى عنه هو الإشراك به لا أن المنهى عنه هو مطلق اتخاذ الهين بحيث يتحقق الانتهاء عنه برفض أيهما كان، ولم يذكر المقول لهم للعموم أي
161

قال تعالى لجميع المكلفين بواسطة الرسل عليهم السلام: * (لا تتخذوا إلاهين اثنين) * المشهور أن * (اثنين) * وصف لإلهين وكذا " واحد " في قوله سبحانه: * (إنما هو آل‍اه واحد) * صفة لإله، وجيء بهما للايضاح والتفسير لا للتأكيد وان حصل. وتقرير ذلك أن لفظ " إلهين " حامل لمعنى الجنسية أعني الإلهية ومعنى العدد أعنى الاثنينة وكذا لفظ " إله " حامل لمعنى الجنسية والوحدة، والغرض المسوق له الكلام في الأول النهي عن اتخاذ الاثنين من الاله لا عن اتخاذ جنس الإله، وفي الثاني إثبات الواحد من الإله لا إثبات جنسه فوصف " آلهين " باثنين " وإله " بواحد إيضاحا لهذا الغرض وتفسيرا له، فإنه قد يراد بالمفرد الجنس نحو نعم الرجل زيد. وكذا المثنى كقوله: فإن النار بالعودين تذكى * وأن الحرب أولها الكلام
وإلى هذا ذهب صاحب الكشاف هو ما يفهم منه أنه تأكيد فمعناه أنه تأكيد فمعناه أنه محقق ومقرر من المتبوع فهو تأكيد لغوى لا أنه مؤكد أمر المتبوع في النسبة أو الشمول ليكون تأكيدا صناعيا كيف وهو إنما يكون بتقرير المتبوع بنفسه أو بما يوافقه معنى أو بألفاظ محفوظة، فما قيل: إن مذهبه إن ذلك من التأكيد الصناعي ليس بشيء إذ لا دلالة في كلامه عليه. وقد أورد السكاكي الآية في باب عطف البيان مصرحا بأنه من هذا القبيل فتوهم منه بعضهم أنه قائل بأن ذلك عطف بيان صناعي، وهو الذي اختارخ العلامة القطب في شرح المفتاح نافيا كونه وصفا، واستدل على ذلك بأن معنى قولهم: الصفة تابع يدل على معنى في متبوعه أنه تابع ذكر ليدل على معنى في متبوعه على ما نقل عن ابن الحاجب، ولم يذكر * (إثنين وواحد) * للدلالة على الاثنينة والوحدة اللتين في متبوعهما فيكونا وصفين بل ذكرا للدلالة على أن القصد من متبوعهما إلى أحد جزئيه أعنى الأثنينية والوحدة دون الجزء الآخر أعنى الجنسية، فكل منهما تابع غير صفة يوضح متبوعه فيكون عطف بيان لا صفة.
وقال العلامة الثاني: ليس في كلام السكاكي ما يدل على أنه عطف بيان صناعي لجواز أن يريد أنه من قبيل الإيضاح والتفسير وإن كان وصفا صناعيا، ويكون إيراده في ذلك المبحث مثل إيراد كل رجل عارف وكل إنسان حيوان في بحث التأكيد ومثل ذلك عادة له. وتعقب العلامة الأول بأنه إن أريد أنه لم يذكر إلا ليدل على معنى في متبوعه فلا يصدق التعريف على شيء من الصفة لأنها البتة تكون لتخصيص أو تأكيد أو مدح أو نحو ذلك وإن أريد أنه ذكر ليدل على هذا المعنى ويكون الغرض من دلالته عليه شيئا آخر كالتخصيص والتأكيد وغيرهما فيجوز أن يكون ذكر * (اثنين وواحد) * للدلالة على الاثنينية والوحدة ويكون الغرض من هذا بيان المقصود وتفسيره، كما أن الدابر في أمس الدابر ذكر ليدل على معنى الدبور والغرض منه التأكيد بل الأمر كذلك عند التحقيق، ألا ترى أن السكاكي جعل من الوصف ما هو كاشف وموضح ولم يخرج بهذا عن الوصفية. وأجيب بأنا نختار الشق الثاني ونقول: مراد العلامة من قوله: ذكر ليدل على معنى في متبوعه أن يكون المقصود من ذكره الدلالة على حصول المعنى في المتبوع ليتوسل بذلك إلى التخصيص أو التوضيح أو المدح أو الذم إلى غير ذلك وذكر * (إثنين وواحد) * ليس للدلالة على حثول
الاثنينية والوحدة في موصوفيهما بل تعيين المقصود من جزئيهما فلا يكونان صفة، وذكر الدابر ليدل على حصول الدبور في الأمس ثم يتوسل بذلك إلى التأكيد وكذا في الوصف الكاشف بخلاف ما نحن فيه فتدبره
162

فإنه غامض. ولم يجوز العلامة الأول البدلية فقال: واما أنه ليس ببدل فظاهر لأنه لا يقوم مقام المبدل منه.
ونظر فيه العلامة الثاني بأنا لا تسلم أن البدل يجب صحة قيامه مقام المبدل منه فقد جعل الزمخشري " الجن " في قوله تعالى: * (وجعلوا لله شركاء الجن) * (الأنعام: 100) بدلا من " شركاء " ومعلوم أنه لا معنى لقولنا وجعلوا لله الجن، ثم قال: بل لا يبعد أن يقال: الأولى أنه بدل لأنه المقصود بالنسبة إذ النهي عن اتخاذ الاثنين من الإله على ما مر تقريره. وتعقب بأن الرضى قد ذكر أنه لما لم يكن البدل معنى في المتبوع حتى يحتاج إلى المتبوع كما احتاج الوصف ولم يفهم معناه من المبتوع كما فهم ذلك في التأكيد جاز اعتباره مستقلا لفظا أي صالحا لأن يقوم مقام المتبوع اه‍.
ولا يخفى أن صحة إقامته بهذا المعنى لا تقتضي أن يتم معنى الكلام بدونه حتى يرد ما أورد؛ وقيل: إن ذكر " اثنين " للدلالة على منافاة الاثنينية للالوهية وذكر الوحدة للتنبيه على أنها من لوازم الألوهية.
وجعل ذلك بعضهم من روادف الدلالة على كون ما ذكر مساق النهي والإثبات وهو الظاهر وإن قيل فيه ما قيل.
وزعم بعضهم ان * (تتخذوا) * متعد إلى مفعولين وأن * (إثنين) * مفعوله الأول " وإلهين " مفعوله الثاني والتقدير لا تتخذوا اثنين إلهين، وقيل: الأول مفعول أول والثاني ثان، وقيل: " إلهين " مفعوله الأول " واثنين " باق على الوصفية والتوكيد والمفعول الثاني محذوف أي معبودين، ولا يخفى ما في ذلك، وإثبات الوحدة له تعالى مع أن المسمى المعين لا يتعدد بمعنى أنه لا مشارك له في صفاته وألوهيته فليس الحمل لغوا، ولا حاجة لجعل الضمير للمعبود بحق المفهوم من الجلالة على طريق الاستخدام كما قيل، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه في سورة الاخلاص. وفي التعبير بالضمير الموضوع للغائب التفات من التكلم إلى الغيبة على رأي السكاكي المكتفي بكون الأسلوب الملتفت عنه حق الكلام وإن لم يسبق الذكر على ذلك الوجه، واما قوله تاعلى: * (فإياي فارهبون) * ففيه التفات من الغيبة إلى التكلم على مذهب الجمهور أيضا، والنكتة فيه بعد النكتة العامة أعني الايقاظ وتطرية الاصغاء المبالغة في التخويف والترهيب فإن تخويف الحاضر مواجهة أبلغ من تخويف الغائب سيما بعد وصفه بالوحدة والألوهية المقتضية للعظمة والقدرة التامة على الانتقام.
والفاء في * (فإياي) * واقعة في جواب شرط مقدر و * (إياي) * مفعول لفعل محذوف يقدر مؤخرا يدل عليه * (فارهبون) * أي إن رهبتم شيئا فإياي ارهبوا، وقول ابن عطية: أن * (إياي) * منصوب بفعل مضمر تقديره فارهبوا إياي فارهبون ذهول عن القاعدة النحوية، وهي انه إذا كان المعمول ضميرا منفصلا والفعل متعد إلى واحد هو الضمير وجب تأخر الفعل نحو * (إياك نعبد) * ولا يجوز أن يتقدم إلا في ضرورة نحو قوله: إليك حتى بلغت إياكا
وعطف المفسر المذكور على المفسر المحذوف بالفاء لأن المراد رهبة بعد رهبة، وقيل: لأن المفسر حقه إن يذكر بعد المفسر، ولا يخفى فصل الضمير وتقديمه من الحصر أي ارهبوني لا غير فانا ذلك الإله الواحد القادر على الانتقام
* (وله ما فى السم‍اوات والارض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون) *
.
* (وله ما في السموات والأرض) * عطف على قوله سبحانه: * (إنما هو إله واحد) * أو على الخبر أو مستأنف جيء به تقريرا لعلة انقياد ما فيهما له سبحانه خاصة وتحقيقا لتخصيص الرهبة به تعالى، وتقديم الظرف لتقوية ما في اللام من معنى التخصيص، وكذا يقال فيما بعد أي له تعالى وحده ما في السموات والأرض خلقا وملكا * (وله) * وحده * (الدين) * أي الطاهة والانقياد كما هو أحد معانيه. ونقل عن ابن عطية وغيره * (واصبا) * أي واجبا لازما لا زوال له لما تقرر أنه سبحانه الإله
163

وحده الحقيق بأن يرهب، وتفسير * (واصبا) * بما ذكر مروى عن ابن عباس. والحسن. وعكرمة. ومجاهد. والضحاك. وجماعة، وأنشدوا لأبي الأسود الدؤولي. لا أبتغى الحمد القليل بقاؤه * يوما بذم الدهر أجمع واصبا
وقال ابن الأنباري: هو من الوصب بمعنى التعب أو شدته، وفاعل للنسب كما في قوله: وأضحى فؤادي به فاتنا
أي ذا وصب وكلفة، ومن هنا سمى الدين تكليفا، وقال الربيع بن أنس: * (واصبا) * خالصا، ونقل ذلك أيضا عن الفراء، وقيل: الدين الملك والواصب الدائم، ويبعد ذلك قول أمية بن الصلت: وله الدين واصبا وله الم‍ * - لك وحمد له على كل حال
وقيل: الدين الجزاء والواصب كما في سابقه أي له تعالى الجزاء دائما لا ينقطع ثوابه للمطيع وعقابه للعاصي، وأيا ما كان فنصب * (واصبا) * على أنه حال من ضمير * (الدين) * المستكن في الظرف والظرف عامل فيه أو حال من * (الدين) * والظرف هو العامل على رأي من يرى جواز اختلاف العامل في الحال والعامل في صاحبها. واستدل بالآية على أن أفعال العباد مخلوقة تعالى: * (أفغير الله تتقون) * الهمزة للانكار والفاء للتعقب أي أبعد ما تقرر من تخصيص جميع الموجودات للسجود به تعالى وكون ذلك كله له سبحانه ونهيه عن اتخاذ الإلهين وكون الدين له واصبا المستدعى ذلك لتخصيص التقوى به تاعلى تتقون غيره، والمنكر تقوى غير الله تعالى لا مطلق التقوى ولذا قدم الغير، وأولي الهمزة لا للاختصاص حتى يرد أن انكار تخصيص التقوى بغيره سبحانه لا ينافي جوازها، وقيل: يصح أن يعتبر الاختصاص بالانكار فيكون التقديم لاختصاص الإنكار لا لإنكار الاختصاص. وفي البحر أن هذا الاستفهام يتضمن التوبيخ والتعجب أي بعد ما عرفتم من وحدانيته سبحانه
وأن ما سواه له ومحتاج إليه كيف تتقون وتخافون غيره.
* (وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تج‍ارون) *
.
* (وما بكم من نعمة فمن الله) * أي أي شيء يلابسكم ويصاحبكم من نعمة أي نعمة كانت فهي منه تاعلى - فما - موصولة مبتدأ متضمنة معنى الشرط و * (من الله) * خبرها والفاء زائدة في الخبر لذلك التضمن و * (من نعمة) * بيان للموصول و * (بكم) * صلته، وأجاز الفراء وتبعه الحوفي أن تكون * (ما) * شرطية وفعل الشرط محذوف أي وما يكن بكم من نعمة الخ. واعترضه أبو حيان بأنه لا يحذف فعل الشرط إلا بعد إن خاصة في موضعين باب الاشتغال نحو * (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره) * وأن تكون إن الشرطية متلوة بلا النافية وقد دل على الشرط ما قبله كقوله: فطلقها فلست لها بكفء * وإلا يعل مفرقك الحسام
وحذفه في غير ما ذكر ضرورة كقوله: قالت بنات العم يا سلمى وإن * كان فقيرا معدما قالت وإن
وقوله: أينما الريح تمليها تمل
وأجيب بأن الفراء لا يسلم هذا فما أجازه مبني على مذبه. واستشكل أمر الشرطية على الوجهين من حيث أن الشرط لا بد أن يكون سببا للجزاء كما تقول: إن تسلم تدخل الجنة فإن الإسلام سبب لدخول الجنة وهنا على العكس، فإن الأول وهو استقرار النعمة بالمخاطبين لا يستقيم أن يكون سببا للثاني وهو كونها من الله من جهة كونه فرعا عنه. وأجاب في إيضاح المفصل بأن الآية جيء بها لاخبار قوم استقرت بهم نعم جهلوا معطيها أوشكوا فيه أو فعلوا ما يؤدي إلى أن يكونوا شاكين فاستقرارها
164

مجهولة أو مشكوكة سبب للاخبار بكونها من الله تعالى فيتحقق أن الشرط والمشروط فيها على حسب المعروف من كون الأول سببا والثاني مسبباف، وقد وهم من قال: إن الشرط قد يكون مسببا. وفي الكشف أن الشرط والجزاء ليسا على الظاهر فإن الأول ليس سببا للثاني بل الأمر بالعكس لكن المقصود منه تذكيرهم وتعريفهم فالاتصال سبب العلم بكونها من الله تعالى، وهذا أولى مما قدره ابن الحاجب من أنه سبب الأعلام بكونها منه لأنه في قوم استقرت بهم النعم وجهلوا معطيها أوشكوا فيه، ألا ترى إلى ما بنى عليه بعد كيف دل على أنهم عالمون بأنه سبحانه المنعم ولكن يضطرون إليه عند الإلجاء ويكفرون بعد الإنجاء انتهى. وفيه أنه يدفع ما ذكره بأن علمهم نزل لعدم الاعتداد به وفعلهم ما ينافيه منزلة الجهل فأخبروا بذلك كما تقول لمن توبخه: أما أعطيتك كذا أما وأما * (ثم إذا مسكم الضر) * مساسا يسيرا * (فإليه تجئرون) * تتضرعون في كشفه لا إلى غيره كما يفيده تقديم الجار والجرور، والجؤار في الأصل صياح الوحش واستعمل في رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة، قال الأعشى يصف راهبا: يداوم من صلوات المليك * طورا سجودا وطورا جؤرا
وقرى الزهري " تجرون " بحذف الهمزة والقاء حركتها على الجيم، وفي ذكر المساس المنبىء عن أدنى إصابة وإيراده بالجملة الفعلية المؤذنة بالحدوث مع ثم الدالة على وقوعه بعد برهة من الدهر وتحلية * (الضر) * بلام الجنس المفيدة لمساس أدنى ما ينطلق عليه اسم الجنس مع إيراد النعمة بالجملة الاسمية المؤذنة بالدوام والتعبير عن ملابستها للمخاطبين بباء المصاحبة وأيراد * (ما) * المعربة عن العموم على احتماليها ما لا يخفى من الجزالة والفخامة.
ولعل إيراد " إذا " دون - ان - للتوسل به إلى تحقق وقوع الجواب قاله الملوى أبو السعود، وفيه ما يعرف مع الجواب عنه بأدنى تأمل، وكان الظاهر على ما قيل أن يقال بعد * (أفغير الله تتقون) *: وما يصيبكم ضر إلا منه ليقوي إنكار اتقاء غيره سبحانه لكن ذكر النفع الذي يفهم بواسطته الضر واقتصر عليه إشارة إلى سبق رحمته وعمومها وبملاحظة هذا المعنى قيل: يظهر ارتباط " وما بكم من نعمة فمن الله " بما قبله، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك، واستدل بالآية على أن لله تاعلى نعمة على الكافر وعلى أن الإيمان مخلوق له تعالى.
* (ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون) *
.
* (ثم إذا كشف الضر عنكم) * أي رفع ما مسكم من الضر * (إذا فريق منكم بربهم يشركون) * أي يتجدد إشراكهم به تعالى بعبادة غيره سبحانه، والخطاب في الآية ان كان عاما - فمن - للتبعيض والفريق الكفرة، وإن كان خاصا بالمشركين كما استظهره في الكشف - فمن - للبيان على سبيل التجريد ليحسن وإلا فليس من مواقعه كما قيل، والمعنى إذا فريق هم أنتم يشركون؛ وجوز على هذا الاحتمال في الخطاب كون - من - تبعيضية أيضا لأن من المشركين من يرجع عن شركه إذا شاهد ضرا شديدا كما يدل عليه قوله تعالى: * (فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد " على تقدير أن يفسر الاقتصاد بالتوحيد لا بعدم الغلو في الكفر، و * (إذا) * الأولى شرطية والثانية فجائية والجلمة بعدها جواب الشرط، واستدل أبو حيان باقترانها باذا الفجائية على أن إذا الشرطية ليس العامل فيها الجواب لأنه لا يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها، و * (بربهم) * متعلق - بيشركون - والتقديم لمراعاة رؤوس الآي، والتعرض لوصف الربوبية للإيذان بكمال قبح ما ارتكبوه من الاشراك الذي هو غاية في الكفران.
و * (ثم) * قال في إرشاد العقل السلم ليست لتمادي زمان مساس الضر ووقوع الكشف بعد برهة مديدة بل للدلالة
165

على تراخي رتبة ما يترتب عليه من مفاجآت الاشراك فإن ترتبها على ذلك في أبعد غاية من الضلال.
وفي الكشف متعقبا صاحب الكشاف بأنه لم يذكر وجه الكلام في قوله تعالى: * (ثم إذا مسكم... ثم إذا كشف) * وهو على وجهين والله تعالى أعلم. أحدهما أن يكون قوله سبحانه * (وما بكم من نعمة فمن الله) * (النحل: 53) من تتمة السابق على معنى إنكار إتقاء غير الله تعالى وقد علموا أن كل ما يتقلبون فيه من نعمته فهو
سبحانه القادر على سلبها، ثم أنكر عليهم تخصيصهم بالجؤار عند الضر في مقابلة تخصيص غيره بالاتقاء ثم اشراكهم به تعالى كفرانا لتلك النعمة وجيء بثم لتفاوت الانكارين فإن اتقاء غير المنعم أقرب من الاعراض عنه وهو متقلب في نعمه ثم اللجأ إلى هذا المكفور به وحده عند الحاجة، وأبعد منه الأعراض ولم يجف قدمه من ندى النجاة.
والثاني أن يكون جملة مستقلة واردة للتقريع و * (ثم) * في الأول لتراخي الزمان اشعارا بأنهم غمطوا تلك النعم ولم يزالوا عليه إلى وقت الإلجاء، وفيه الأشعار بتراخي الرتبة أيضا على سبيل الإشارة وفي الثاني لتراخي الرتبة وحده، اه‍ وهو كلام نفيس، وللطيبي كلام طويل في هذا المقام ان أردته فارجع إليه.
وقرأ الزهري * (ثم إذا كاشف) * وفاعل هنا بمعنى فعل، وفي الآية ما يدل على أن صنيع أكثر العوام اليوم من الجؤار إلى غيره تعالى ممن لا يملك لهم بل ولا لنفسه نفعا ولا ضرا عند إصابة الضر لهم واعراضهم عن دعائه تعالى عند ذلك بالكلية سفه عظيم وضلال جديد لكنه أشد من الضلال القديم، ومما تقشعر منه الجلود وتصعر له الخدود الكفرة أصحاب الأخدود فضلا عن المؤمنين باليوم الموعود ان بعض المتشيخين قال لي وأنا صغير: إياك ثم إياك أن تستغيث بالله تعالى إذا خطب دهاك فإن الله تعالى لا يعجل في اغاثتك ولا يهمه سوء حالتك وعليك بالاستغاثة بالأولياء السالفين فأنهم يعجلون في تفريج كربك ويهمهم سوء ما حل بك فمج ذلك سمعي وهمي دمعي وسألت الله تعالى أن يعصمني والمسلمين من أمثال هذا الضلال المبين، ولكثير من المتشيخين اليوم كلمات مثل ذلك.
* (ليكفروا بمآ ءاتين‍اهم فتمتعوا فسوف تعلمون) *
.
* (ليكفروا بما ءاتيناهم) * من نعمة الكشف عنهم، فالكفر بمعنى كفران النعمة واللام لام العاقبة والصيرورة، وهي استعارة تبعية فإنه لما لم ينتج كفرهم واشراكهم غير كفران ما أنعم الله تعالى به عليهم جعل كأنه علة غائية له مقصودة منه، وجوز أن يكون الكفر بمعنى الجحود أي انكار كون تلك النعمة من الله تعالى واللام هي اللام، والمعنيان متقاربان * (فتمتعوا) * أمر تهديد كما هو أحد معاني الأمر المجازية عند الجمهور كما يقول السيد لعبده افعل ما تريد، والالتفات إلى الخطاب للإيذان بتناهي السخط.
وقرأ أبو العالية * (فيمتعوا) * بضم الياء التحتية ساكن الميم مفتوح التاء مضارع متع مخففا مبنيا للمفعول وروى ذلك مكحول الشامي عن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو معطوف * (يكفروا) * على أن يكون الأمران عرضا لهم من الاشراك، ويجوز أن يكون لام * (ليكفروا) * لام الأمر والمقصود منه التهديد بتخليتهم وما هم فيه لخذلانهم، فالفاء واقعة في جواب الأمر وما بعدها منصوب باسقاط النون، ويجوز جزمه بالعطفأيضا كما ينصب بالعطف إذا كانت اللام جارة * (فسوف تعلمون) * عاقبة أمركم وما ينزل بكم من العذاب، وفيه وعيد شديد حيث لم يذكر المفعول اشعارا بأنه لا يوصف. وقرأ أبو العالية أيضا * (يعلمون) * بالياء التحتية وروي ذلك مكحول عن أبي رافع أيضا.
* (ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقن‍اهم ت الله لتس‍الن عما كنتم تفترون) *
. * (ويجعلون) * قيل معطوف على * (يشركون) * وليس بشيء، وقيل: لعله عطف على
166

ما سبق بحسب المعنى تعدادا لجناياتهم أي يفعلون مما قص عليك ويجعلون * (لما لا يعلمون) * أي لآلهتهم التي لا يعلمون أحوالها وأنها لا تضر ولا تنفع على أن * (ما) * موصولة والعائد محذوف وضمير الجمع للكفار أو لآلهتهم التي لا علم لها بشيء لأنها جماد على أن دما) * موصولة أيضا عبارة عن الآلهة، وضمير * (يعلمون) * عائد عليه، ومفعول * (يعلمون) * مترك لقصد العموم، وجوز أن ينزل منزلة اللازم أي ليس من شأنهم العلم، وصيغة جمع العقلاء لوصفهم الآلهة بصفاتهم، ويجوز أن تكون * (ما) * مصدرية وضمير الجمع للمشركين واللام تعليلة لا صلة الجعل كام في الوجهين الأولين، وصلته محذوفة للعلم بها أي يجعلون لآلهتهم لأجل جعلهم * (نصيبا مما رزقناهم) * من الحرث والانعام وغيرهما مما ذرأ تقربا إليها * (تالله لتسئلن) * سؤال توبيخ وتقريع في الآخرة، وقيل: عند عذاب القبر، وقيل: عند القرب من الموت * (عما كنتم تفترون) * من قبل بأنها آلهة حقيقة بأن يتقرب إليها، وفيتصدير الجملة بالقسم وصرف الكلام من الغيبة إلى الخطاب المنبىء عن كمال الغضب من شدة الوعيد ما لا يخفى.
* (ويجعلون لله البن‍ات سبحانه ولهم ما يشتهون) *
.
* (ويجعلون لله البنات) * هم خزاعة وكنانة كانوا يقولون: الملائكة بنات الله تعالى وكأنهم لجهلهم زعموا تأنيثها وبنوتها، وقال الإمام: أظن أنهم أطلقوا عليها البنات لاستتارها عن العيون كالنساء؛ ولهذا لما كان قرص الشمس يجري مجرى المستتر عن العيون بسبب ضوئه الباهر ونوره القاهر أطلقوا عليه لفظ التأنيث.
ولا يرد على ذلك أن الجن كذلك لأنه لا يلزم في مثله الاطراد، وقيل: أطلقوا عليها ذلك للاستتار مع كونها في محل لا تصل إليه الأغبار فهي كبنات الرجل اللاتي يغار عليهن فيسكنهن في محل أمين ومكان مكين، والجن وإن كانوا مستترين لكن لا على هذه الصورة، وهذا أولى مما ذكره الإمام، وإما عدم التوالد فلا يناسب ذلك.
* (سبحانه) * تنزيه وتقديس له تعالى شأنه عن مضمون قولهم ذلك أو تعجيب من جراءتهم على التفوه بمثل تلك العظيمة، وهو في المعنى الأول حقيقة وفي الثاني مجاز.
* (ولهم ما يشتهون) * يعني البنين و * (ما) * مرفوع المحل على أنه مبتدأ والظرف المقدم خبره والجملة حالية وسبحانه اعتراض في حاق موقعه؛ وجوز الفراء.
والحوفي أنه في محل نصب معطوف على * (البنات) * كأنه قيل: ويجعلون لهم ما يشتهون. واعترض عليه الزجاج وغيره بأنه مخالف للقاعدة النحوية وهي أنه لا يجوز تعدي فعل المضمر المتصل المرفوع بالفاعلية وكذا الظاهر إلى ضميره المتصل سواء كان تعديه بنفسه أو بحرف الجر إلا في باب ظن وما ألحق به من فقد وعدم فلا يجوز زيد ضربه بمعنى ضرب نفسه ولا زيد مر به أن مر هو بنفسه ويجوز زيد ظنه قائما وزيد فقده وعدمه فلو كان مكان الضمير إسما ظاهرا كالنفس نحو زيد ضرب نفسه أو ضميرا منفصلا نحو زيد ما ضرب إلا إياه وما ضرب زيد إلا إياه جاز، فإذا عطف * (ما) * على * (البنات) * أدى إلى تعدية فعل المضمر المتصل وهو واو * (يجعلون) * إلى ضميره المتصل وهو * (هم) * المجرور باللام في غير ما استثنى وهو ممنوع عند البصريين ضعيف عند غيرهم فكان حقه أن يقال - لأنفسهم - وأجيب بأن الممتنع إنما هو تعدي الفعل بمعنى وقوعه عليه أو على ما جر بالحرف نحو زيد مر به فإن المرور واقع بزيد وما نحن فيه ليس من هذا القبيل فإن الجعل ليس واقعا بالجاعلين بل بما يشتهون، ومحصله - كما قال الخفاجي - المنع في المتعدي بنفسه
167

مطلقا والتفصيل في المتعدي بالحرف بين ما قصد الإيقاع عليه وغيره فيمتنع في الأول دون الثاني لعدم ألف إيقاع المرء بنفسه. وأبو حيان اعترض القاعدة بقوله تعالى: * (وهزى إليك بجذع النخلة. واضمم إليك جناحك) * والعلامة البيضاوي أجاب بوجه آخر وهو أن الامتناع إنما هو إذا تعدى الفعل أولا لا ثانيا وتبعا فإنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع، ومنهم من خص ذلك بالمتعدي بنفسه وجوز في المتعدي بالحرف كما هنا وارتضاه الشاطبي في شرح الألفية، وقال الخفاجي: هو قوي عندي لكن لا يخفى أن العطف هنا بعد هذا القيل والقال يؤدي إلى جعل الجعل بمعنى يعم الزعم والاختيار.
* (وإذا بشر أحدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم) *.
* (وإذا بشر أحدهم بالأنثى) * أي أخبر بولادتها، واصل البشارة الأخبار بما يسر لكن لما كانت ولادة الأنثى تسوءهم حملت على مطلق الأخبار، وجوز أن يكون ذلك بشارة باعتبار الولادة بقطع النظر عن كونها أنثى وقيل: إنه بشارة حقيقة بالنظر إلى حال المبشر به في نفس الأمر، وأياما كان فالكلام على تقدير مضاف كما أشرنا إليه * (ظل وجهه) * أي صار * (مسودا) * من الكآبة والحياء من الناس، وأصل معنى ظل أقام نهارا على الصفة التي تسند إلى الاسم، ولما كان التبشير قد يكون في الليل وقد يكون في النهار فسر بما ذكر وقد تلحظ الحالة الغالبة بناء على أن أكثر الولادات يكون بالليل ويتأخر اخبار المولود له إلى النهار خصوصا بالأنثى فيكون ظلوله على ذلك الوصف طول النهار واسوداد الوجه كناية عن العبوس والغم والفكر والنفرة التي لحقته بولادة الأنثى، قيل: إذا قوى الفرح انبسط روح القلب من داخله ووصل إلى الأطراف لا سيما إلى الوجه لما بين القلب والدماغ من التعلق الشديد فيرى الوجه مشرقا متلألئا، وإذا قوى الغم انحصر الروح إلى باطن القلب ولم يبق له أثر قوي في ظاهر الوجه فيربد ويتغير ويصفر ويسود ويظهر فيه أثر الأرضية، فمن لوازم الفرح استنارة الوجه وإشراقه ومن لوازم الغم والحزن اربداده واسوداده فلذلك كنى عن الفرح بالاستنارة وعن الغم بالاسوداد، ولو قيل بالمجاز لم يبعد بل قال بعضهم: * (إنه الظاهر) * والظاهر أن * (وجهه) * اسم ظل * (ومسودا) * خبره، وجوز كون الاسم ضمير الأحد ووجهه بدلا منه ولو رفع * (مسودا) * على أن * (وجهه) * مبتدأ وهو خبر له والجملة خبر * (ظل) * صح لكنه لم يقرأ بذلك هنا * (وهو كظيم) * أي مملوء غيظا وأصل الكظم مخرج النفس يقال: أخذ بكظمه إذا أخذ بمخرج نفسه، ومنه كظم الغيظ لا خفائه وحبسه عن الوصول إلى مخرجه.
وفعل اما بمعنى مفعول كما أشير إليه أو صيغة مبالغة، والظاهر أن ذلك الغيظ على المرأة حيث ولدت أنثى ولم تلد ذكرا، ويؤيده ما روي الأصمعي أن امرأة ولدت بنتا سمتها الذلقاء فهجرها زوجها فانشدت: ما لأبي الذلقاء لا يأتينا * يظل في البيت الذي يلينا
يحرد أن لا نلد البنينا * وإنما نأخذ ما يعطينا
والفقير قد رأيت من طلق زوجته لأن ولدت أنثى، والجملة في موضع الحال من الضمير في * (ظل) * وجوز أبو البقاء أن يكون حالا من وجه، وجوز غيره أيضا حاليته من ضمير * (مسودا) *.
* (يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه فى التراب ألا سآء ما يحكمون) *
.
* (يتوارى من القوم) * يستخفي من قومه * (من سوء ما بشر به) * عرفا وهو الأنثى، والتعبير عنها - بما - لإسقاطها بزعمهم عن درجة العقلاء، والجملة مستأنفة أو حال على الأوجه السابقة في وهو كظيم إلا كونه من وجهه، والجاران متعلقان - بيتوارى - و * (من) * الأولى ابتدائية، والثانية تعليلية أي يتوارى من أجل ذلك، ويروى أن بعض الجاهلية يتوارى في حال الطلق فإن
168

أخبر بذكر ابتهج أو بأنثى حزن وبقي متواريا أيا ما يدبر فيها ما صنع * (أيمسكه) * أيتركه ويربيه * (على هون) * أي ذل، والجار والمجرور في موضع الحال من الفاعل ولذا قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: معناه أيمسكه مع رضاه بهوان نفسه وعلى رغم أنفه، وقيل: حال من المفعول به أي أيمسك المبشر به وهو الأنثى مهانا ذليلا، وجملة * (أيمسكه) * معمولة لمحذوف معلق بالاستفهام عنها وقع حالا من فاعل * (يتوارى) * أي محدثا نفسه متفكرا في أن يتركه * (أم يدسه) * يخفيه * (في التراب) * والمراد يئده ويدفنه حيا حتى يموت وإلى هذا ذهب السدي. وقتادة. وابن جريج وغيرهم، وقيل: المراد إهلاكه سواء كان بالدفن حيا أم بأمر آخر فقد كان بعضهم يلقى الأنثى من شاهق. روي أن رجلا قال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما أجد حلاوة الإسلام منذ أسلمت، وقد كانت لي في الجاهلية بنت وأمرت امرأتي أن تزينها وأخرجتها فلما انتهيت إلى واد بعيد القعر ألقيتها فقالت يا أبت قتلتني فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء فقال صلى الله عليه وسلم: " ما في
الجاهلية فقد هدمه الإسلام وما في الإسلام يهدمه الاستغفار " وكان بعضهم يغرقها، وبعضهم يذبحها إلى غير ذلك، ولما كان الكل إماتة تفضي إلى الدفن في التراب قيل: * (أم يدسه في التراب) * وقيل: المراد إخفاؤه عن الناس حتى لا يعرف كالمدسوس في التراب، وتذكير الضميرين للفظ * (ما) *. وقرأ الجحدري بالتأنيث فيهما عودا على قوله سبحانه: * (بالأنثى) * أو على معنى * (ما) *. وقرىء بتذكير الأول وتأنيث الثاني، وقرأ الجحدري أيضا، وعيسى * (هوان) * بفتح الهاء وألف بعد الواو، وقرىء * (على هون) * بفتح الهاء وإسكان الواو وهو بمعنى الذل أيضا، ويكون بمعنى الرفق واللين وليس بمراد، وقرأ الأعمش * (على سوء) * وهي عند أبي حيان تفسير لا قراءة لمخالفتها السواد * (ألا ساء ما يحكمون) * حيث يجعلون لمن تنزه عن الصاحبة والولد ما هذا شأنه عندهم والحال أنهم يتحاشون عنه ويختارون لأنفسهم البنين، فمدار الخطأ جعلهم ذلك لله تعالى شأنه مع إبائهم إياه لا جعلهم البنين لأنفسهم ولا عدم جعلهم له سبحانه، وجوز أن يكون مداره التعكيس كقوله تعالى: * (تلك إذا قسمة ضيزى) * (النجم: 22)، وقال ابن عطية: هذا استقباح منه تعالى شأنه لسوء فعلهم وحكمهم في بناتهم بالإمساك على هون أو الوأد مع أن رزق الجميع على الله سبحانه فكأنه قيل: الا ساء ما يحكمون في بناتهم وهو خلاف الظاهر جدا، وروى الأول عن السدي وعليه الجمهور. والآية ظاهرة في ذم من يحزن إذا بشر بالأنثى حيث أخبرت أن ذلك فعل الكفرة، وقد أخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة أنه قال في قوله سبحانه: * (وإذا بشر) * الخ هذا صنيع مشركي العرب أخبركم الله تعالى بخبثه فأما المؤمن فهو حقيق أن يرضى بما قسم الله تعالى له وقضاء الله تعالى خير من قضاء المرء لنفسه، ولعمري ما ندري أي خير لرب جارية خير لأهلها من غلام، وإنما أخبركم الله عز وجل بصنيعهم لتجتنبوه ولتنتهوا عنه. واستدل القاضي بالآية على بطلان مذهب القائلين بنسبة أفعال العباد إليه تعالى لأن في ذلك إضافة فواحش لو أضيفت إلى أحدهم أجهد نفسه في البراءة منها والتباعد عنها قال: فحكم هؤلاء القائلين مشابه لحكم هؤلاء المشركين بل أعظم لأن إضافة البنات إليه سبحاهه إضافة لقبيح واحد وهو أسهل من إضافة كل القبائح والفواحش إليه عز وجل. وأجيب عن ذلك أنه بما ثبت بالدليل استحالة الصاحبة والولد عليه سبحانه أردفه عز وجل بذكر هذا الوجه الإقناعي وإلا فليس كل ما قبح منا في العرف قبح منه تعالى، ألا ترى أن رجلا لو زين إماءه وعبيده وبالغ في تحسين صورهم وصورهن ثم بالغ في تقوية
169

الشهوة فيهم وفيهن ثم جمع بين الكل وأزال الحائل والمانع وبقي ينظر ما يحدث بينهم من الوقاع وغيره عد من أسفه السفهاء وعد صنيعه أقبح كل صنيع مع أن ذلك لا يقبح منه تعالى بل قد صنعه جل جلاله فعلم أن التعويل على مثل هذه الوجوه المبنية على العرف إنما يحسن إذا كانت مسبوقة بالدلائلة القطعية، وقد ثبت بها امتناع الولد عليه سبحانه فلا جرم حسنت تقويتها لهذه الوجوه الإقناعية، وأما أفعال العباد فقد ثبت بالدلائل القاطعة أن خالقها هو الله تعالى فكيف يمكن إلحاق أحد البابين بالآخر لولا سوء التعصب.
* (للذين لا يؤمنون بالاخرة مثل السوء ولله المثل الاعلى وهو العزيز الحكيم) *.
* (للذين لا يؤمنون بالآخرة) * ممن ذكرت قبائحهم * (مثل السوء) * صفة السوء التي هي كالمثل في القبح وهي الحاجة إلى الولد ليقوم مقامهم بعد موتهم ويبقى به ذكرهم، وإيثار الذكور للاستظهار، ووأد البنات لدفع العار أو خشية الإملاق على حسب اختلاف أغراض الوائدين المنادي كل واحد من ذلك بالعجز والقصور والشح البالغ. وعن ابن عباس * (مثل السوء) * النار، وأظنه لا يصح عنه رضي الله تعالى عنه، ومنع ابن عطية حمل المثل على الصفة وقال: إنه لا يضطر إليه لأنه خروج عن اللفظ بل هو على بابه، وذلك أنهم إذا قالوا: إن البنات لله سبحانه فقد جعلوا لله عز وجل مثلا فإن البنات من البشر وكثرة البنات أمر مكروه عندهم ذميم فهو المثل السوء الذي أخبر الله تعالى بأنه لهم، وليس في البنات فقط بل لما جعلوا له تعالى البنات جعله هو سبحانه لهم على الإطلاق في كل سوء ولا غاية أبعد من عذاب النار اه‍، وهو أشبه شيء عندي بالرطانة كما لا يخفى؛ ووضع الموصول موضع الضمير للإشعار بأن مدار اتصافهم بتلك القبائح هو الكفر بالآخرة * (ولله المثل الأعلى) * أي الصفة العجيبة الشأن التي هي مثل في العلو مطلقا وهو الوجوب الذاتي والغنى المطلق والجود الواسع والنزاهة عن صفات المخلوقين ويدخل فيه علوه تعالى عما يقول علوا كبيرا.
وأخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة أن المثل الأعلى شهادة أن لا إله إلا الله وهو رواية عن ابن عباس. والذي أخرجه عنه البيهقي في الأسماء والصفات وغيره هو * (ليس كمثله شيء) * (الشورى: 11) * (وهو العزيز) * المنفرد بكمال القدرة على كل شيء ومن ذلك مؤاخذتهم بقبائحهم، وقيل: هو الذي لا يوجد له نظير * (الحكيم) * الذي يفعل كل ما يفعل بمقتضى الحكمة البالغة.
* (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دآبة ولاكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جآء أجلهم لا يست‍اخرون ساعة ولا يستقدمون) *
.
* (ولو يؤاخذ الله الناس) * الظالمين مطلقا، وقيل: بالكفر والمؤاخذة مفاعلة من فاعل بمعنى فعل وهو الظاهر، وقال ابن عطية: هي مجاز كأن العبد يأخذ حق الله تعالى بمعصيته والله تعالى يأخذ منه بمعاقبته وكذا الحال في مؤاخذة الخلق بعضهم بعضا * (بظلمهم) * أي بسبب كفرهم ومعاصيهم بناء على أن الظلم فعل ما لا ينبغي ووضعه في غير موضعه؛ وقد يخص بالكفر والتعدي على الغير ويدخل فيه ما عد من القبائح، وهذا تصريح بما أفاده قوله تعالى: * (وهو العزيز الحكيم) * وإيذان بأن ما أتاه هؤلاء الكفرة من القبائح قد تناهى إلى أمد لا غاية وراءه * (ما ترك عليها) * أي على الأرض المدلول عليها بالناس وبقوله تعالى: * (من دابة) * بناء على شهرة كون الدبيب في الأرض أي ما ترك عليها شيئا من الدواب أصلا بل أهلكها بالمرة، أما الظالم فبظلمه وأما غيره فبشؤم ذلك فقد قال سبحانه: * (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) * وأخرج البيهقي في الشعب وغيره عن أبي هريرة أنه سمع رجلا يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه فقال: بلى والله إن الحبارى
لتموت هزلا
170

في وكرها من ظلم الظالم، وأخرج أيضا هو فيه وغيره عن ابن مسعود قال: كاد الجعل أن يعذب في جحره بذنب ابن آدم ثم قرأ الآية، وأخرج أحمد في الزهد عنه أنه قال: ذنوب ابن آدم قتلت الجعل في جحره ثم قال: أي والله زمن غرق قوم نوح عليه السلام، وقيل: المراد من دابة ظالمة على أن التنوين للنوع وهو مخصوص بالكفار والعصاة من الإنس، وقيل: منهم ومن الجن، وقيل: المراد الدابة الظالمة الفاعلة لما لا ينبغي شرعا أو عرفا فيدخل بعض الدواب إذا ضر غيره، وقالت فرقة منهم ابن عباس: المراد بالدابة المشرك فقد قال تعالى: * (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا) * (الأنفال: 55) وقال الجبائي: الدابة على عمومها فتشمل سائر الحيوانات، والمراد بالناس الظالمون مطلقا؛ ووجه الملازمة أنه تعالى لو آخذهم بما كسبوا من كفر أو معصية لعجل هلاكهم وحينئذ لا يبقى لهم نسل، ومن المعلوم أن لا أحد إلا وفي آبائه من يستحق العقاب وإذا هلكوا جميعا وبطل نسلهم لا يبقى أحد من الناس وحينئذ يهلك الدواب لأنها مخلوقة لمنافع العباد ومصالحهم كما يشعر به قوله تعالى: * (خلق لكم ما في الأرض جميعا) * (البقرة: 29) وبتخصيص الناس يسقط الاستدلال بالآية على عدم عصمة الأنبياء عليهم السلام، وقال بعض المحققين: لا حاجة إلى التخصيص في ذلك والآية من باب بنو تميم قتلوا قتيلا لتظافر الأدلة والنصوص على عصمة الأنبياء عليهم السلام، فلا يقال: الأصل الحمل على الحقيقة.
واستدل بعضهم للتخصيص بقوله تعالى: * (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات) * (فاطر: 32) وإلا يفسد التقسيم، وقد يقال: إنه ما أحد إلا وهو متصف بظلم إلا أن مراتبه مختلفة فحسنات الأبرار سيئات المقربين، والعصمة التي تدعى للأنبياء عليهم السلام إنما هي العصمة مما يعد ذنبا بالنسبة إلى غيرهم وأما العصمة مما يعد ذنبا بالنسبة إلى مقامهم ومرتبتهم فلا تدعى لهم إذ قد وقع ذلك منهم كما يشهد به كثير من الآيات. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أن الله تعالى يؤاخذني وعيسى ابن مريم بذنوبنا - وفي لفظ - بما جنت هاتان الإبهام والتي تليها لعذبنا ما يظلمنا شيئا " نعم إنه لا يقال لنبي هو ظالم ولا للأنبياء عليهم السلام هم ظالمون ويقال الناس ظالمون وهذا نظير قولهم: لا يقال لله سبحانه خالق القردة والخنازير ويقال هو خالق كل شيء، ورب شيء يجوز تبعا ولا يجوز استقلالا، وأمر التقسيم هين عند المتأمل فليتأمل، ومن الناس من احتج بالآية على أن أصل المضار الحرمة إذ لو كان الضرر مشروعا فإما أن يكون مشروعا على وجه يكون جزاء على جرم أو لا وكلا القسمين باطل، أما الأول فللآية وذلك من وجهين.
الأول: إنها لمكان لو تقتضي أن تعالى ما آخذ الناس بظلمهم وأنه ترك على ظهرها دابة.
الثاني: إن مقتضى المؤاخذة عدم ترك دابة على ظهرها ونحن نشاهد أنه سبحانه قد ترك كثيرا من الدواب فيجب القطع بأنه تعالى لم يؤاخذ بالظلم، وأما الثاني فباطل بالإجماع فثبت بمقتضى الآية تحريم المضار، ويؤكد ذلك آيات أخر وأخبار؛ وحينئذ يقال: إذا وقعت حادثة مشتملة على الضرر من جميع الوجوه فإن وجدنا نصا يدل على كونه مشروعا قضينا به تقديما للخاص على العام وإلا قضينا بالحرمة بناء على الأصل الذي قرر. واستدل بها المعتزلة على أن العباد خالقون لأفعالهم ووجه مع رده غني عن البيان * (ول‍اكن) * لا يؤاخذهم بذلك بل * (يؤخرهم إلى أجل مسمى) * سماه سبحانه وعينه لأعمارهم أو لعذابهم كي يتوالدوا أو يكثر عذابهم * (فإذا جاء أجلهم) * المسمى * (لا يستأخرون) * عنه * (ساعة) * أقل مدة * (ولا يستقدمون) * عليه، وقد مر الكلام في نظيرها.
* (ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون) *
.
* (ويجعلون لله) * أي يثبتون
171

له سبحانه وينسبون إليه بزعمهم * (ما يكرهون) * الذي يكرهونه لأنفسهم من البنات، والتعبير - بما - عند أبي حيان على إرادة النوع، وهذا على ما سمعت تكرير لما سبق تثنية للتقريع وتوطئة لقوله تعالى: * (وتصف ألسنتهم الكذب) * أي يجعلون لله تعالى ما يجعلون ومع ذلك تصف ألسنتهم الكذب وهو * (أن لهم الحسنى) * أي العاقبة الحسنى عند الله عز وجل ولا يتعين إرادة الجنة.
وعن بعضهم أن المراد بها ذلك بناء على أن منهم من يقر بالبعث وهذا بالنسبة لهم أو أنه على الفرض والتقدير كما روي أنهم قالوا: إن كان محمد صلى الله عليه وسلم صادقا في البعث فلنا الجنة بما نحن عليه، قيل: وهو المناسب لقوله تعالى الآتي: * (لا جرم أن لهم النار) * لظهور دلالته على أنهم حكموا لأنفسهم بالجنة، فلا يرد أنهم كيف قالوا ذلك وهم منكرون للبعث، وعن مجاهد أنهم أرادوا بالحسنى البنين وليس بذاك وقال بعض المحققين: المراد - بما يكرهون - أعم مما تقدم فيشمل البنات وقد علم كراهتهم لها وإثباتها لله تعالى بزعمهم والشركاء في الرياسة فإن أحدهم لا يرضى أن يشرك في ذلك ويزعم الشريك له سبحانه والاستخفاف برسل الله تعالى عليهم السلام فإنهم يغضبون لو استخف برسول لهم أرسلوه في أمر لغيرهم ويستخفون برسل الله تعالى عليهم السلام وأراذل الأموال فإنهم كانوا إذا رأوا ما عينوه لله تعالى من أنعامهم أزكى بدلوه بما لآلهتهم وإذا رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لها ولو فعل نحو ذلك معهم غضبوا، وعلى هذا يفسر الجعل بما يعم الزعم والاختيار و * (ما) * تعم العقلاء وغيرهم ولا يخلو الكلام عن نوع تكرير، والمراد من * (تصف ألسنتهم الكذب) * يكذبون وهو من بليغ الكلام وبديعه، ومثله قولهم: عينها تصف السحر أي ساحرة وقدها يصف الهيف أي هيفاء، وقول أبي العلاء المعري: سرى برق المعرة بعد وهن * فبات برامة يصف الكلالا
وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا تمام الكلام في ذلك، والظاهر أن * (الكذب) * مفعول * (تصف) * و * (أن لهم) * بدل منه أو بتقدير بأن لهم ولما حذفت الباء صار في موضع نصب عند سيبويه، وعند الخليل هو في موضع جر، وجوز أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف كما أشرنا إليه في بيان المعنى، وجوز أبو البقاء كون * (الكذب) * بدلا - مما يكرهون - وهو كما ترى. وقرأ الحسن. ومجاهد باختلاف * (ألسنهم) * بإسقاط التاء وهي لغة تميم، واللسان يذكر ويؤنث قيل: ويجمع
المذكر على ألسنة نحو حمار وأحمرة والمؤنث على ألسن كذراع وأذرع. وقرأ معاذ بن جبل. وبعض أهل الشام * (الكذب) * بثلاث ضمات وهو جمع كذوب كصبر وصبور وهو مقيس. وقيل: جمع كاذب نحو شارف وشرف وهو غير مقيس، ورفعه على أنه صفة الألسنة و * (أن لهم الحسنى) * حينئذ مفعول * (تصف) * * (لا جرم) * أي حقا * (أن لهم) * مكان ما زعموه من الحسنى * (النار) * التي ليس وراء عذابها عذاب وهي علم في السوأى، وكلمة * (لا) * رد لكلام و * (جرم) * بمعنى كسب و * (أن لهم) * في موضع نصب على المفعولية أي كسب ما صدر منهم أن لهم ذلك.
وإلى هذا ذهب الزجاج، وقال قطرب: * (جرم) * بمعنى ثبت ووجب و * (أن لهم) * في موضع رفع على الفاعلية له، وقيل: * (لا جرم) * بمعنى حقا و * (أن لهم) * فاعل حق المحذوف، وقد مر تمام الكلام في ذلك وحلا. وقرأ الحسن. وعيسى بن عمر * (إن لهم) * بكسر الهمزة وجعل الجملة جواب قسم أغنت عنه * (لا جرم) * وكذا قرءا بالكسر في قوله تعالى: * (وأنهم مفرطون) * أي مقدمون معجل بهم إليها على ما روي عن الحسن. وقتادة من أفرطته إلى كذا قدمته
172

وهو معدى بالهمزة من فرط إلى كذا تقدم إليه، ومنه أنا " فرطكم على الحوض " أي متقدمكم وكثيرا ما يقال للمتقدم إلى الماء لإصلاح نحو دلو فارط وفرط، وأنشدوا للقطامى:
واستعجلونا وكانوا من صحابتنا * كما تعجل فراط لوراد
وقال مجاهد، وابن جبير. وابن أبي هند: أي متركون في النار منسيون فيها أبدا من أفرطت فلانا خلفي إذا تركته ونسيته. وقرأ ابن عباس. وابن مسعود. وأبو رجاء. وشيبة. ونافع. وأكثر أهل المدينة * (مفرطون) * بكسر الراء اسم فاعل من أفرط اللازم إذا تجاوز أي متجاوزو الحد في معاصي الله تعالى. وقرأ أبو جعفر * (مفرطون) * بتشديد الراء وكسرها من فرط في كذا إذا قصر أي مقصرون في طاعة الله تعالى، وعنه أنه قرأ * (مفرطون) * بتشديد الراء وفتحها من فرطته المعدي بالتضعيف من فرط بمعنى تقدم أي مقدمون إلى النار.
* (ت الله لقد أرسلنآ إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطن أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم) *
.
* (تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك) * تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما كان يناله من جهالات قومه الكفرة ووعيد لهم على ذلك، ولا يخفى ما في ذلك من عظيم التأكيد أي أرسلنا رسلا إلى أمم من قبل أمتك أو من قبل إرسالك إلى هؤلاء فدعوهم إلى الحق * (فزين لهم الشيط‍ان أعم‍الهم) * القبيحة فلم يتركوها ولم يمتثلوا دعوة الرسل عليهم السلام، وقد تقدم الكلام في نسبة التزيين إلى الشيطان * (فهو وليهم) * أي قرين الأمم وبئس القرين أو متولي إغوائهم وصرفهم عن الحق * (اليوم) * أي يوم زين الشيطان أعمالهم فيه، وهو وإن كان ماضيا واليوم المعرف معروف في زمان الحال كالآن لكن صور بصورة الحال ليستحضر السامع تلك الصورة العجيبة ويتعجب منها، وسمي مثل ذلك حكاية الحال الماضية وهو استعارة من الحضور الخارجي للحضور الذهني أو المراد باليوم مدة الدنيا لأنها كالوقت الحاضر بالنسبة للآخرة وهي شاملة للماضي والآتي وما بينهما أي فهو وليهم في الدنيا * (ولهم) * في الأخرى * (عذاب أليم) * وهو عذاب النار، وقد ورد إطلاق اليوم على مدتها كثيرا فهو مجاز متعارف وليس فيه حكاية لما مضى أو يوم القيامة الذي فيه عذابهم لكن صور بصورة الحال استحضارا له كما في الوجه الأول إلا أنه حكاية حال آتية وفي الأول حكاية حال ماضية وليس من مجاز الأول، والولي على هذا بمعنى الناصر أي لا ناصر لهم في ذلك اليوم غيره وهو نفي للناصر على أبلغ وجه على حد قوله: وبلدة ليس بها أنيس * إلا اليعافير وإلا العيس
ولا يجوز أن يكون بمعنى المتولي للإغواء إذ لا إغواء ثمة ولا بمعنى القرين لأنه في الدرك الأسفل من النار، وجوزه بعضهم باعتبار أنه معهم في النار في الجملة ولا يضر اختلافهم في الدركات، والظاهر أن ضمائر الجمع كلها للأمم كما أشرنا إليه في بعضها، وجوز الزمخشري أن يكون ضمير * (وليهم) * المضاف إليه لقريش لا للأمم و * (اليوم) * بمعنى الزمان الذي وقع فيه الخطاب أي زين الشيطان للكفرة المتقدمين أعمالهم فهو ولي هؤلاء لأنهم منهم. وأن يكون الضمير للمتقدمين، والكلام على حذف مضاف أي ولي أمثالهم، والمراد من الأمثال قريش.
وتعقب ذلك أبو حيان بأن فيه بعدا لاختلاف الضمائر من غير داع إليه ولا إلى تقدير المضاف. ورد بأن لفظ اليوم داع إليه، وقال الطيبي: إنه الوجه وعليه النظم الفائق لأن في تصدير القسمية بقوله تعالى:
173

* (تالله) * بعد إنكارهم الرسالة وتعداد قبائحهم الإشعار بأن ما ذكر كالتسلية للرسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنه قيل: إن الأمم الخالية مع الرسل السالفة لم تزل على هذه الوتيرة فلك أسوة بالرسل عليهم السلام وقومك خلف لتلك الأمم فلا تهتم لذلك فإن ربك ينتقم لك منهم في الدنيا والآخرة فاشتغل أنت بتبليغ ما أنزل إليك وتقرير أنواع الدلائل المنصوبة على الوحدانية وبالتنبيه على إقامة الشكر على نعم الله تعالى المتظاهرة اه‍.
وقال في " الكشف ": لا ترجيح لهذا الوجه من حيث التسلي إذ الكل مفيد لذلك على وجه بين وإنما الترجيح للوجه الصائر إلى استحضار الحال لما فيه من مزيد التشفي اه‍، والحق أن ما ذكره الزمخشري غير ظاهر وما قيل: إن لفظ * (اليوم) * داع إليه ففي حيز المنع، وقصارى ما يقال: وجود القرينة المصححة لا المرجحة هذا. وذكر في " الكشف " في بيان ربط الآيات أن قوله سبحانه: * (ويجعلون لما لا يعلمون) * إلى هذا الموضع فن آخر من كفرانهم وتداد قبائحهم، وجاز أن يكون من تتمة سابقه على منوال * (وما بكم من نعمة فمن الله) * إلا أنه بنى على الغيبة دلالة على أنه فن آخر، وهذا قريب المتناول، وجاز أن يجعل عطفا على قوله تعالى: * (وأقسموا بالله) * فإن ما وقع من الكلام بعده من تتمته اعتراضا واستطرادا كأنه قيل: ذاك معتقدهم في المعاد وهذا في المبدأ وهم فيما بين ذلك متدينون بهذا الدين
القويم ومع اختلاف العقيدة في المبدأ والمعاد يدعون أن لهم الحسنى فيحق لهم ضد ذلك حقا ثم قال: وقوله تعالى:
* (ومآ أنزلنا عليك الكت‍ابإلا لتبين لهم الذى اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) *
.
* (وما أنزلنا عليك الكت‍ابإلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه) * شديد الملائمة على هذا الوجه لقوله سبحانه هنالك: * (ليبين لهم الذي يختلفون فيه) * (النحل: 39)، ولقوله تعالى: * (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) * (النحل: 44) وفيه أن من استبان له الهدى بهذا البيان استغنى عن ذلك البيان حيث لا ينفعه إلا العلم بكذبه وهذا أنسب لتأليف النظم اه‍.
وأنت تعلم أن احتمال العطف بعيد، والمراد بالكتاب القرآن فإنه الحقيق بهذا الاسم، والاستثناء مفرغ من أعم العلل أي ما أنزلناه عليك لعلة من العلل إلا لتبين لهم ما اختلفوا فيه من البعث وقد كان فيهم من يؤمن به وأشياء من التحليل والتحريم والإقرار والإنكار ومقتضى رجوع الضمائر السابقة إلى الأمم السالفة أن يرجع ضمير * (إليهم) * و * (اختلفوا) * إليهم أيضا لكن منع عنه عدم تأتي تبيين الذين اختلفوا فيه لهم فمنهم من جعله راجعا إلى قريش لأن البحث فيهم ومنهم من جعله راجعا إلى الناس مطلقا لعدم اختصاص ذلك بقريش ويدخلون فيه دخولا أوليا.
* (وهدى ورحمة) * عظيمين * (لقوم يؤمنون) * خصهم بالذكر لكونهم المغتنمين آثاره. والإسمان - قال أبو حيان: - في موضع نصب على أنهما مفعول من أجله والناصب * (أنزلنا) * ولما اتحد الفاعل في العلة والمعلول وصل الفعل لهما بنفسه، ولما لم يتحد في * (لتبين) * لأن فاعل الإنزال هو الله تعالى لا الرسول عليه الصلاة والسلام وصلت العلة بالحرف.
وقال الزمخشري: هما معطوفان على محل * (لتبين) * وهو ليس بصحيح لأن محله ليس نصبا فيعطف منصوب عليه، ألا ترى أنه لو نصب لم يجز لاختلاف الفاعل اه‍. وتعقب بأن معنى كونه في محل نصب أنه في محل لو خلا من الموانع ظهر نصبه وهو هنا كذلك لمن تأمل فقوله: ليس بصحيح لأن محله ليس نصبا ليس على ما ينبغي.
وقال الحلبي: إن ذلك ممنوع إذ لا خلاف في أن محل الجار والمجرور النصب ولذا أجازوا مررت بزيد وعمرا بالعطف على المحل، وللخفاجي ههنا كلام إن أردته فارجع إليه وراجع، ولعله إنما قدمت علة التبيين على علتي الهدى والرحمة
174

لتقدمه في الوجود عليهما.
* (والله أنزل من السمآء مآء فأحيا به الارض بعد موتهآ إن فى ذالك لآية لقوم يسمعون) *
.
* (والله أنزل من السماء ماء) * تقدم الكلام في مثله، وهذا على ما قيل تكرير لما سبق تأكيدا لمضمونه وتوحيدا لما يعقبه من أدلة التوحيد * (فأحيا به الأرض) * بما أنبت به فيها من أنواع النباتات * (بعد موتها) * بعد يبسها فالإحياء والموت استعارة للإنبات واليبس، وليس المراد إعادة اليابس بل إنبات مثله، والفاء للتعقيب العادي فلا ينافيه ما بين المتعاطفين من المهلة، ونظير ذلك تزوج فولد له ولد، والآية دليل لمن قال: إن المسببات بالأسباب لا عندها ومن قال به أول * (إن في ذلك) * أي في إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض الميتة * (لآية) * وأية آية دالة على وحدته سبحانه وعلمه وقدرته وحكمته جل شأنه، والإشارة بما يدل على البعد إما لتعظيم المشار إليه أو لعدم ذكره صريحا * (لقوم يسمعون) * قال المولى ابن الكمال: أريد بالسمع القبول كما في سمع الله لمن حمده أي لقوم يتأملون فيها ويعقلون وجه دلالتها ويقبلون مدلولها، وإنما خص كونها آية لهم لأن غيرهم لا ينتفع بها وهذا كالتخصيص في قوله تعالى: * (هدى ورحمة لقوم يؤمنون) * وبما قررناه تبين وجه العدول عن - يبصرون - إلى * (يسمعون) * انتهى، وقال الخفاجي: اللائق بالمقام ما ذكره الشيخان وبيانه أنه تعالى لما ذكر أنه أرسل إلى الأمم السالفة رسلا وكتبا فكفروا بها فكان لهم خزي في الدنيا والآخر عقبه بأنه أرسله صلى الله عليه وسلم بسيد الكتب فكان عين الهدى والرحمن لمن أرسل إليه إشارة إلى أن مخالفة أمته لمن قبلهم تقربهم من سعادة الدارين وتبشيرا له عليه الصلاة والسلام بكثرة متابعيه وقلة مناويه وأنهم سيدخلون في دينه أفواجا أفواجا ثم أتبع ذلك على سبيل التمثيل لإنزاله تلك الرحمة التي أحيت من موتة الضلال إنزال الأمطار التي أحيت موات الأرض وهو الذي ينزل الغيث من بعدما قنطوا ولولا هذا لكان قوله تعالى: * (والله أنزل من السماء ماء) * كالأجنبي عما قبله وبعده، وقوله سبحانه: * (أن في ذلك لآية) * الخ تتميم لقوله تعالى: * (وما أنزلنا) * الخ وللمقصود بالذات منه فالمناسب * (يسمعون) * (النحل: 64، 65) لا يبصرون ولو كان تتميما لملاصقه من الإنبات لم يكن - ليسمعون - بمعنى يقبلون مناسبة أيضا، ثم قال: ومن لم يقف على محط نظرهم قال في جوابه: يمكن أن يحمل على يسمعون قولي والله أنزل الخ فإنه مذكر وحامل على تأمل مدلوله انتهى، وفي قوله عقبه: بأنه أرسله صلى الله عليه وسلم بسيد الكتب فكان عين الهدى والرحمة إشارة الخ خفاء كما لا يخفى، ومتى كان تتميما لقوله تعالى: * (وما أنزلنا) * الخ لم يظهر جعل المشار إليه ما سمعت وهو الظاهر، وفي " البحر " أنه تعالى لما ذكر إنزال الكتاب للتبيين كان القرآن حياة للأرواح وشفاء لما في الصدور من علل العقائد ولذلك ختم بقوله سبحانه لقوم يؤمنون أي يصدقون والتصديق محله القلب ذكر سبحانه إنزال المطر الذي هو حياة الأجسام وسبب بقائها ثم أشار سبحانه بإحياء الأرض بعد موتها إلى إحياء القلوب بالقرآن كما قال تعالى: * (أو من كان ميتا فأحييناه) * (الأنعام: 122) فكما تصير الأرض خضرة بالنبات نضرة بعد همودها كذلك القلب يحيا بالقرآن بعد أن كان ميتا بالجهل ولذلك ختم تعالى بقوله سبحانه: * (يسمعون) * أي يسمعون هذا التشبيه المشار إليه والمعنى سماع إنصاف وتدبر، ولملاحظة هذا المعنى والله تعالى أعلم لم يختم سبحانه -
بلقوم يبصرون - وإن كان إنزال المطر مما يبصر ويشاهد انتهى.
وفيه أيضا من التكلف ما فيه، وأقول: لعل الأظهر أن المشار إليه ما ذكر من الإنزال والإحياء والسماع على ظاهره والكلام تتميم لملاصقه والعدول عن يبصرون إلى * (يسمعون) * للإشارة إلى ظهور هذا المعتبر فيه وأنه لا يحتاج إلى نظر ولا تفكر وإنما يحتاج المنبه إلى أن يسمع القول فقط، ويكفي في ربط الآية بما قبلها تشارك الكتاب والمطر
175

في الإحياء لكن في ذاك إحياء القلوب وفي هذا إحياء الأرض الجدوب فتأمل.
* (وإن لكم فى الانع‍ام لعبرة نسقيكم مما فى بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سآئغا للشاربين) *
.
* (وإن لكم في الأنعام لعبرة) * أي معبرا يعبر به من الجهل إلى العلم، وأصل معنى العبر والعبور التجاوز من المحل إلى آخر، وقال الراغب: العبور مختص بتجاوز الماء بسباحة ونحوها، والمشهور عمومه فإطلاق العبرة على ما يعتبر به لما ذكر لكنه صار حقيقة في عرف اللغة؟ والتنكير للتفخيم أي لعبرة عظيمة * (نسقيكم) * ومنهم من قدر هنا مبتدأ وهو هي نسقيكم ولا حاجة إليه، وضمير * (بطونه) * للإنعام وهو اسم جمع واسم الجمع يجوز تذكيره وإفراده باعتبار لفظه وتأنيثه وجمعه باعتبار معناه، ولذا جاء بالوجهين في القرآن وكلام العرب كذا قيل.
ونقل عن سيبويه أنه عد الأنعام مفردا وكلامه رحمه الله تعالى متناقض ظاهرا فإنه قال في باب ما كان على مثال مفاعل ومفاعيل ما نصه: وأما أجمال وفلوس فإنها تنصرف وما أشبهها لأنها ضارعت الواحد، ألا ترى أنك تقول: أقوال وأقاويل وأعراب وأعاريب وأيد وإياد فهذه الأحرف تخرج إلى مفاعل ومفاعيل كما يخرج الواحد إليه إذا فسر للجمع، وأما مفاعل ومفاعيل فلا يكسر فيخرج الجمع إلى بناء غير هذا لأن هذا هو الغاية فلما ضارعت الواحد صرفت، ثم قال: وكذلك الفعول لو كسرت مثل الفلوس فإنك تخرجه إلى فعائل كما تقول جدود وجدائد وركوب وركائب. ولو فعلت ذلك بمفاعل ومفاعيل لم يجاوز هذا البناء، ويقوي ذلك أن بعض العرب تقول: أتى للواحد فيضم الألف، وأما أفعال فقد يقع للواحد ومن العرب من يقول هو الأنعام قال جل ثناؤه: * (نسقيكم مما في بطونه) * وقال أبو الخطاب. سمعت العرب تقول: هذا ثوب أكياس انتهى.
وقال رحمه الله تعالى في باب ما لحقته الزوائد من بنات الثلاثة وليس في الكلام أفعيل ولا أفعول ولا أفعال ولا أفعل ولا أفعال إلا أن تكسر عليه أسماء للجمع انتهى، وقد اضطرب الناس في التوفيق بين كلاميه فذهب أبو حيان إلى تأويل الأول وإبقاء الثاني على ظاهره من أن أفعالا لا يكون من أبنيته المفرد فحمل قوله أولا وأما أفعال فقد يقع للواحد الخ: على أن بعض العرب قد يستعمله فيه مجازا كالأنعام بمعنى النعم كما قال الشاعر: تركنا الخيل والنعم المفدي * وقلنا للنساء بها أقيمي
وليس مراده أنه مفرد صيغة ووضعا بدليل ما صرح به في الموضع الآخر من أنه لا يكون إلا جمعا. واعترض عليه بأن مقصود سيبويه بما ذكره أولا الفرق بين صيغتي منتهى الجموع وأفعال وفعول حيث منع الصرف للأول دون الثاني بوجوه. منها أن الأولين لا يقعان على الواحد بخلاف الآخيرين كما أوضحه فلو لم يكن وقوع أفعال على الواحد بالوضع لم يحصل الفرق فلا يتم المقصود. نعم لا كلام في تدافع كلاميه، وأيضا لو كان كذلك لم يختص ببعضهم؛ وأيضا أن التجوز بالجمع عن الواحد يصح في كل جمع حتى صيغتي منتهى الجموع. وتعقبه الخفاجي بقوله: والحق أنه لا تدافع بين كلاميه فإنه فرق بين صيغتي منتهى الجموع والصيغتين الأخيرتين بأن الأولتين لا تجمعان والأخيرتان تجمعان فاشبهتا الآحاد ثم قوي ذلك بأن قوما من العرب استعملت أتى وهو على وزن فعول مفردا حقيقة، ومنهم من استعمل الأنعام وهو على وزن أفعال كذلك، وقد أشار إلى أن ذلك لغة نادرة ببعض، ومن وما ذكره بعد بناء على اللغة المتداولة، وقوله: إن مقصوده أولا الفرق بوجوه لا وجه له كما يعرفه
176

حملة الكتاب انتهى، ويعلم منه أن رجوع الضمير المفرد المذكور إلى الأنعام عند سيبويه باعتبار أنه مفرد على لغة بعض العرب ومن قال: إنه جمع نعم جعل الضمير للبعض أما المقدر أي بعض الأنعام أو المفهوم منها أو للأنعام باعتبار بعضها وهو الإناث التي يكون اللبن منها أو لواحدة كما في قول ابن الحاجب: المرفوعات هو ما اشتمل على علم الفاعلية أو له على المعنى لأن أل الجنسية تسوي بين المفرد والجمع في المعنى فيجوز عود ضمير كل منهما على الآخر. وفي " البحر " أعاد الضمير مذكرا مراعاة الجنس لأنه إذا صح وقوع المفرد الدال على الجنس مقام جمعه جاز عوده علهي مذكرا كقولهم هو أحسن الفتيان وأبتله لأنه يصح هو أحسن فتى وإن كان هذا لا ينقاس عند سيبويه؛ وقيل جمع التكثير فيما لا يعقل يعامل معاملة الجماعة ومعاملة الجمع فيعود الضمير عليه مفردا كقوله:
مثل الفراخ نتفت حواصله
وقال الكسائي: أفرد وذكر على تقدير المذكور كما يفرد اسم الإشارة بعد الجمع كقوله: فيها خطوط من سواد وباق * كأنه في الجلد توليع البهق
وهو في القرآن سائغ ومنه قوله تعالى: * (إن هذه تذكرة فمن شاء ذكره. فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي) * ولا يكون هذا إلا في التأنيث المجازي فلا يجوز جاريتك ذهب. واعترض بأنه كيف جمع - نعم - وهي تختص الإبل والأنعام تقال للبقر والإبل والغنم مع أنه لو اختص كان مساويا. وأجيب بأن من يراه جمعا له يخص الأنعام أو يعمم النعم ويجعل التفرقة ناشئة من الاستعمال ويجعل الجمع للدلالة على تعدد الأنواع.
وقرأ ابن مسعود بخلاف عنه. والحسن. وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما. وابن عامر. ونافع. وأبوبكر. وأهل المدينة * (نسقيكم) * بفتح النون هنا وفي المؤمنين على أنه مضارع سقي وهو لغة في أسقى عند جمع وأنشدوا قول لبيد: سقى قومي بني مجد وأسقى * نميرا والقبائل من هلال
وقال بعض: يقال سقيته لشفته وأسقيته لماشيته وأرضه، وقيل: سقاه بمعنى رواه بالماء وأسقاه بمعنى جعله شرابا معدا له، وفيه كلام بعد فتذكر. وقرأ أبو رحاء * (يسقيكم) * بالياء مضمومة والضمير عائد على الله تعالى.
وقال " صاحب اللوامح " ويجوز أن يكون عائدا على النعم وذكر لأن النعم مما يذكر ويؤنث، والمعنى وإن لكم في الأنعام نعما يسقيكم أي يجعل لكم سقيا، وهو كما ترى. وقرأت فرقة منهم أبو جعفر * (تسقيكم) * بالتاء الفوقية مفتوحة قال ابن عطية: وهي قراءة ضعيفة انتهى، ولم يبين وجه ضعفها، وكأنه والله تعالى أعلم عنى به اجتماع التأنيث والتذكير باعتبار وجهين.
* (من بين فرث ودم لبنا) * افرق على ما في " الصحاح " السرجين ما دام في الكرش والجمع فروث. وفي " البحر " كثيف ما يبقى من المأكول في الكرش أو المعي، و * (بين) * تقتضي متعددا وهو هنا الفرق والدم فيكون مقتضى ظاهر النظم توسط اللبن بنيهما، وروى ذلك الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إن البهيمة إذا عتلفت وأنضج العلف في كرشها كان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما. وروى نحوه عن ابن جبير فالبينية على حقيقتها وظاهرها وتعقب ذلك الإمام الرازي بقوله: ولقائل أن يقول: اللبن والدم لا يتولدان في الكرش والدليل عليه الحسن فإن الحيوانات تذبح دائما ولا يرى في كرشها شيء من ذلك ولو كان تولد ما ذكر فيه لوجب أن يشاهد في بعض الأحوال والشيء الذي دلت المشاهدة على فساده
177

لم يجز المصير إليه بل الحق أن الحيوان إذا تناول الغذاء وصل إلى معدته وإلى كرشه إن كان من الأنعام وغيرها فإذا طبخ وحصل الهضم الأول فيه فما كان منه صافيا انجذب إلى الكبد وما كان كثيفا نزل إلى الأمعاء ثم ذلك الذي يحصل في الكبد ينضج ويصير دما وذلك هو الهضم الثاني ويكون ذلك مخلوصا بالصفراء والسوداء وزيادة المائية، أما الصفراء فتذهب إلى المرارة والسوداء إلى الطحال والماء إلى الكلية ومنها إلى المثانة، وأما ذلك الدم فإنه يدخل في الأوردة والعروق النابتة من الكبد وهناك يحصل الهضم الثالث، وبين الكبد والضرع عروق كثيرة فينصب الدم من تلك العروق إلى الضرع، والضرع لحم غددي رخو أبيض فيقلب الله تعالى الدم فيه إلى صورة اللبن، لا يقال: إن هذه المعنى حاصلة في الحيوان الذكر فلم لم يحصل منه اللبن لأنا نقول: الحكمة الإلهية اقتضت تدبير كل شيء على الوجه اللائق به الموافق لمصلحته فأوجبت أن يكون مزاج الذكر حارا يابسا مزاج الأنثى باردا رطبا فإن الولد إنما يتولد في داخل بدن الأنثى فكان اللائق بها اختصاصها بالرطوبة لتصير مادة للتولد وسببا لقبول التمدد فتتسع للولد، ثم إن تلك الرطوبة بعد انفصال الجنين تنصب إلى الضرع فتصير مادة لغذائه كما كانت كذلك قبل في الرحم، ومن تدبر في بدائع صنع الله تعالى فيما ذكر من الأخلاط والألبان وإعداد مقارها ومجاريها والأسباب المولدة لها وتسخير القوى المتصرفة فيها كل وقت على ما يليق به اضطر إلى الاعتراف بكمال علمه سبحانه وقدرته وحكمته وتناهي رأفته ورحمته. حكم حارت البرية فيها * وحقيق بأنها تحتار
وحاصل ما ذكروه أنه إذا ورد الغذاء الكرش انطبخ فيه وتميزت منه أجزاء لطيفة تنجذب إلى الكبد فينطبخ فيها فيحصل الدم فتسري أجزاء منه إلى الضرع ويستحيل لبنا بتدبير الحكيم العليم، وحينئذ فالمراد أن اللبن إنما يحصل من بين أجزاء الفرث ثم من بين أجزاء الدم فالبينية على هذا مجازية وفي إرشاد العقل السليم وغيره لعل المراد بما روى عن ابن عباس أن أوسطه يكون مادة اللبن وأعلاه مادة الدم الذي يعذو البدن فإن عدم تكونهما في العكرش مما لا ريب فيه والداعي إلى ذلك مخالفة ما يقتضيه الظاهر للحس ولما ذكره الحكماء أهل التشريح. ويؤيد ما ذكروه ما أخبرني به من أثق به من أنه قد شاهد خروج الدم من الضرع بعد اللبن عند المبالغة في الحلب والله تعالى أعلم، و * (من) * الأولى تبعيضية لما أن اللبن بعض ما في بطون الأنعام لأنه مخلوق من بعض أجزاء الدم المتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث حسبما سمعت، وهي متعلقة - بنسقيكم - و * (من) * الثانية ابتدائية وهي أيضا متعلقة - بنسقيكم - فإن بين الدم والفرث المحل الذي يبتدأ منه الإسقاء وتعلقهما بعامل واحد لاختلاف مدلوليهما و * (لبنا) * مفعول ثان - لنسقيكم - وتقديم ذلك عليه لما مر مرارا من أن تقديم ما حقه التأخير يبعث للنفس شوقا إلى المؤخر موجبا لفضل تمكنه عند وروده عليها لا سيما إذا كان المقدم متضمنا لوصف مناف لوصف المؤخر كالذي نحن فيه، فإن بين وصفي المقدم والمؤخر تنافيا وتنائيا بحيث لا يتراآى ناراهما فإن ذلك مما يزيد الشوق والاستشراف إلى المؤخر، وجوز أن يكون * (من بين) * حالا من * (لبنا) * قدم عليه لتنكيره وللتنبيه على أنه موضع العبرة.
وجوز أن تكون * (من) * الأولى ابتدائية كالثانية فيكون * (من بين) * بدل اشتمال مما تقدم * (خالصا) * مصفى عما يصحبه من الأجزاء الكثيفة بتضييق مخرجه أوصافيا لا يستصحبه لون الدم ولا رائحة الفرث * (سائغا للشاربين) *
178

سهل المرور في حلقهم لدهنيته. أخرج ابن مردويه عن يحيى بن عبد الرحمن ابن أبي لبيبة عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما أشرب أحد لبنا فشرق إن الله تعالى يقول لبنا خالصا سائغا للشاربين ".
وقرأت فرقة * (سيغا) * بتشديد الياء. وقرأ عيسى بن عمر " سيغا " مخففا من سيغ كهين المخفف من هين. واستدل بالآية على طهارة لبن المأكول وإباحة شربه، وقد احتج بعض من يرى على أن المني طاهر على من جعله نجسا لجريه في مسالك البول بها أيضا وأنه ليس بمستنكر أن يسلك مسلك البول وهو طاهر كما خرج اللبن من بين فرث ودم طاهرا وفي " التفسير الكبير " قال أهل التحقيق: اعتبار حدوث اللبن كما يدل على وجود الصانع المختار يدل على إمكان الحشر والنشر، وذلك لأن هذا العشب الذي يأكله الحيوان إنما يتولد من الماء والأرض فخالق العالم دبر تدبيرا انقلب به لبنا ثم دبر تدبيرا آخر حدث من ذلك البلن الدهن والجبن، وهذا يدل على أنه تعالى قادر على أن يقلب هذه الأجسام من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة؛ فإذا كان كذلك لم يمتنع أيضا أن يكون قادرا على أن يقلب أجزاء أبدان الأموات إلى صفة الحياة والعقل كما كانت قبل ذلك فهذا الاعتبار يدل من هذا الوجه على أن البعث والقيامة أمر ممكن غير ممتنع.
* (ومن ثمرات النخيل والاعن‍ابتتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن فى ذالك لآية لقوم يعقلون) *
.
* (ومن ثمرات النخيل والأعن‍اب) * متعلق بمحذوف تقديره ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرهما، وحذف لدلالة * (نسقيكم) * قبله عليه، وقوله تعالى: * (تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا) * بيان وكشف عن كنه الإسقاء أو - بتتخذون - و * (منه) * من تكرير الظرف للتأكيد كما في قولك زيد في الدار فيهاأو خبر لمحذوف صفته * (تتخذون) * أي ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه، وضمير * (منه) * عائد إما على المضاف المقدر أو على الثمرات المؤولة بالثمر لأنه جمع معرفة أريد به الجنس، وفائدة الصيغة الإشارة إلى تعداد الأنواع أو على ثمر المقدر، و * (السكر) * الخمر قال الأخطل: بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم * إذا جرى فيهم المزاء والسكر
وهو في الأصل مصدر سكر سكرا وسكرا نحو رشد رشدا ورشدا. واستشهد له بقوله: وجاؤنا بهم سكر علينا * فأجلى اليوم والسكران صاحي
وفسروا الرزق الحسن بالخل والرب والتمر والزبيب وغير ذلك، وإليه ذهب " صاحب الكشاف " وقد ذكر في توجيه إعرابها ما ذكرناه، وقدم الوجه الأول من أوجه الثلاثة وهو ظاهر في ترجيحه وصرح به الطيبي وبينه بما بينه، وأخر الثالث وهو ظاهر في أنه دون أخويه. وفي " الكشف " بعد نقل كلامه في الوجه الأول فيه إضمار العصير وأنه لا يصلح عطفا في الظاهر على السابق لأنه لا يصلح بيانا للعبرة في الإنعام، وفيه أن * (تتخذون) * لا يصلح كشفا عن كحنه الإسقاء كيف وقد فسر الرزق الحسن بالتمر والزبيب أيضا وأي مدخل للعصير وأين هذا البيان من البيان بقوله تعالى: * (نسقيكم) * ليجعل مدركا لترجيحه فهذا وجه مرجوح مؤول بأنه عطف على مجموع السابق، وأوثر الفعلية لمكان قربه من * (نسقيكم) * وقوله تعالى: * (تتخذون منه سكرا) * تم البيان عنده ثم أتى بفائدة زائدة، وأظهر الأوجه ما ذكر آخر أي ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون ليكون عطفا للإسمية على الإسمية أعني قوله تعالى: * (وإن لكم في الانعام لعبرة) * ولما لم يكن العبرة فيه كالأول اكتفى بكونه عطفا على ما هو عبرة ولم يصرح، وأفيد بالتبعيض
179

أن من ثمراتها ما يؤكل قبل الإدراك وما يتلف ويأكل الوحوض وغير ذلك اه‍، وما ذكره في التأويل من بيان البيان عند * (سكرا) * محوج إلى جعل * (رزقا) * معمولا لعامل آخر ولا يخفى بعده، والظاهر أنه لا ينكره، وما ذكره من الوجه الأظهر طكره الحوفي كصاحبه، ولا يرد عليه أن فيه حذف الموصوف بالجملة لأن ذلك إذا كان الموصوف بعضا من مجرور من أوفى المقدم عليه مطرد نحو منا أقام ومنا ظعن أراد فريق، وقد يحذف موصوفا بالجملة في غير ذلك كقول الراجز: مالك عندي غير سهم وحجر * وغير كبداء شديد الوترجادت بكفي كان من أرمى البشر
أراد رجل نعم قال الطبري: التقدير ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه، وتعقبه أبو حيان بأن ذلك لا يجوز على مذهب البصريين وكأنه اعتبر * (ما) * موصولة وحذف الموصول مع إبقاء الصلة لا يجوز عنهم، ولعلهم يفرقون بين الموصول والموصوف فيما ذكر، وقال العلامة ابن كمال في بعض رسائله: لا وجه لما اختاره صاحب " الكشاف " يعني به تعليق الجار - بنسقيكم - محذوفا وتقدير العصير مضافا لأنه حينئذ لا يتناول المأكول وهو أعظم صنفي ثمراتها يعني النخيل والأعناب والمقام مقام الامتنان ومقتضاه استيعاب الصنفين ثم قال: والعجب منه وممن اتبعه كالبيضاوي كيف اتفقوا على تفسير الرزق الحسن بما ينتظم التمر والزبيب ومع ذلك يقولون: إن المعنى ومن عصيرهما تتخذون سكرا ورزقا حسنا فإنه لا انتظام بين هذين الكلامين فالوجه أن يتعلق الجار - بتتخذون - ويكون منه تكرير الظرف للتأكيد اه‍ وهو الذي استظهره أبو حيان وقد سبقت الإشارة إلى الاعتراض بما تعجب منه مع الجواب بما فيه بعد، ونقل عنه أنه جعله متعلقا بما في الإسقاء من معنى الإطعام أي نطعمكم من ثمرات النخيل والأعناب لينتظم المأكول منهما والمشروب المتخذ من عصيرهما. وفيه من البعد ما فيه.
وأنت تعلم أن تقدير العصير على الوجه الأول عند من يراه لازم، وتقديره على الوجه الثاني جائز عند ذاك أيضا ولا يجوز عند المعترض. واختار أبو البقاء تعليقه بخلق لكم أو جعل وليس بذاك، وقيل: إنه معطوف على الانعام على معنى ومن ثمرات النخيل والأعناب عبرة * (وتتخذون) * بيان لها وهو غير الوجه الذي استظهره صاحب الكشف وكان الظاهر - في - بدل من وضمير * (منه) * لا يتعين فيه ما سمعت كما لا يخفى عليك بعد أن أحطت خبرا بما قيل في ضمير * (بطونه) * وتفسير * (السكر) * بالخمر هو المروى عن ابن مسعود. وابن عمر. وأبي رزين. والحسن. ومجاهد. والشعبي. والنخعي. وابن أبي ليلى. وأبي ثور. والكلبي. وابن جبير مع خلق آخرين، والآية نزلت في مكة والخمر إذ ذاك كانت حلالا يشربها والفاجر وتحريمها إنما كان بالمدينة إتفاقا واختلفوا في أنه قبل أحد أو بعدها والآية المحرمة لها * (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) * (المائدة: 90) على ما ذهب إليه جمع فما هنا منسوخ بها، وروى ذلك غير واحد ممن تقدم كالنخعي وأبي ثور وابن جبير، وقيل: نزلت قبل ولا نسخ بناء على ما روى عن ابن عباس أن * (السكر) * هو الخل بلغة الحبشة أو على ما نقل عن أبي عبيدة أن * (السكر) * المطعوم المتفكه به كالنقل وأنشد. جعلت إعراض الكرام سكرا
وتعقب بأن كون السكر في ذلك بمعنى الخمر أشبه منه بالطعام، والمعنى أنه لشغفه بالغيبة وتميزق الأعراض جرى ذلك عنده مجرى الخمر المسكرة، وكأنه لهذا قال الزجاج: إن قول أبي عبيدة لا يصح، وفيه أن المعروف في الغيبة جعلها نقلا ولذا قيل: الغيبة فاكهة القراء وإلى عدم النسخ ذهب الحنفيون وقالوا: المراد بالسكر ما لا يسكر من الأنبذة، واستدلوا عليه بأن الله تعالى امتن على عباده بما خلق لهم من ذلك ولا يقع الامتنان إلا بمحلل فيكون ذلك دليلا على جواز شرب ما دون المسكر
180

من النبيذ فإذا انتهى إلى السكر لم يجز وعضدوا هذا من السنة بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " حرم الله تعالى الخمر بعينها القليل منها والكثير والسكر من كل شراب " أخرجه الدارقطني، وإلى حل شرب النبيذ ما لم يصل إلى الإسكار ذهب إبراهيم النخعي: وأبو جعفر الطحاوي وكان إمام أهل زمانه. وسفيان الثوري وهو من تعلم وكان عليه الرحمة يشربه كما ذكر ذلك القرطبي في تفسيره. والبيضاوى بعد أن فسر * (السكر) * بالخمر تردد في أمر نزولها فقال: إلا أن الآية إن
كانت سابقة على تحريم الخر فدالة على كراهيتها وإلا فجامعة بين العتاب والمنة، ووجه دلالتها على الكراهية بأن الخمر وقعت في مقابة الحسن وهو مقتضى لقبحها والقبيح لا يخلو عن الكراهة وإن خلا عن الحرمة، واعترض عليه بأن تردده هنا في سبقها على تحريم الخمر ينافي ما في سورة البقرة حيث ساق الكلام على القطع على أنه جزم في أول هذه السورة بأنها مكية إلا ثلاث آيات من آخرها.
وفي " الكشاف " بعد أن فسر * (السكر) * أيضا بما ذكر قال: وفيه وجهان. أحدهما: أن تكون منسوخة. والثاني: أن يجمع بين العتاب والمنة، ونقل " صاحب الكشاف " أن القول بكونها منسوخة أولى الأقاويل، ثم قال: وفي الآية دليل على قبح تناولها تعريضا من تقييد المقابل بالحسن، وهذا وجه من ذهب إلى أنه جمع بين العتاب والمنة، وعلى الأول يكون رمزا إلى أن السكر وإن كان مباحا فهو مما يحسن اجتنابه اه‍. واستدل ابن كمال على نزولها قبل التحريم بأن المقام لا يحتمل العتاب فإن مساق الكلام على ما دل عليه سياقه ولحاقه في تعداد النعم العظام، وذكر أن الكلام الزمخشري ومن تبعه ناشي عن الغفلة عن هذا، ولعل عدم وصف * (السكر) * بما وصف به ما بعده لعلم الله تعالى أنه سيكون رجسا يحكم الشرع بتحريمه. وجوز الزمخشري أن يجعل الكر رزقا حسنا كأنه قيل: تتخذون منه ما هو مسكر ورزق حسن أي على أن العطف من عطف الصفات. وأنت تعلم أن العطف ظاهره المغايرة.
هذا ولما كان اللبن نعمة عظيمة لا دخل لفعل الخلق فيه إضافة سبحانه لنفسه بقوله تعالى * (نسقيكم) * (النحل: 66) بخلاف اتخاذ السكر وقد صرح بذلك في البحر فتأمل * (إن في ذالك لآية) * باهرة * (لقوم يعقلون) * يستعملون عقولهم بالنظر والتأمل بالآيات فالفعل منزل منزلة اللازم، قال أبو حيان: ولما كان مفتتح الكلام * (وإن لكم في الأنعام لعبرة) * ناسب الختم بقوله سبحانه: - يعقلون - لأنه لا يعتبر إلا ذوو العقول. وأنا أقول: إذا كان في الآية إشارة إلى الحط من أمر السكر ففي الختم المذكور تقوية لذلك وله في النفوس موقع وأي موقع حيث أن العقار كما قيل للعقول عقال: إذا دارها بالأكف السقاة * لخطاباها أمهروها العقولا
فافهم ذاك والله تعالى يتولهم هداك.
* (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذى من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون) *
.
* (وأوحى ربك إلى النحل) * الهمها وألقى في روعها وعلمها بوجه لا يعلمه إلا اللطيف الخبير؛ وفسر بعضهم الإيحاء إليها بتسخيرها لما أريد منها، ومنعوا أن يكون المراد حقيقة الإيحاء لأنه إنما يكون للعقلاء وليس التحل منها. نعم يصدر مها أفعال ويوجد فيها أحوال يتخيل بهاأنها ذوات عقول وصاحبة فضل تقصر عنه الفحول، فتراها يكون بينها واحد كالرئيس هو أعظمها جثة يكون نافذ الحكم على سائرها والكل يخدمونه ويحملون عنه وسمي اليعسوب والأمير، وذكروا أنها إذا نفرت عن وكرها ذهبت بجمعيتها إلى موضع آخر فإذا أؤرادوا عودها إلى وكرها ضربوا لها الطبول وآلات الموسيقى
181

ورودها بواسطة تلك الألحان إلى وكرها، وهي تبني البيوت المسدسة من أضلاع متساوية والعقلاء لا يمكنهم ذلك إلا بآلات مثل المسطرة والفرجار وتختارها على غيرها من البيوت المشكلة بأشكال أخر كالمثلثات والمربعات والمخمسات وغيرها، وفي ذلك سر لطيف فإنهم قالوا: فإنهم قالوا: ثبت في الهندسة أنها لو كانت مشكلة بأشكال أخر يبقى فيما بينها بالضرورة فرج خالية ضائعة؛ ولها أحوال كثيرة عجيبة غير ذلك قد شاهدها كثير من الناس وسبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. والصوفية على ما ذكره الشعراني في غير موضع لا يمنعون إرادة الحقيقة، وقد أثبتوا في سائر الحيوانات رسلا وأنبياء والشرع يأبى ذلك. وذهب بعض حكماء الإشراق إلى ثبوت النفس الناطقة لجميع الحيوانات وأكاد أسلم لهم ذلك ولم نسع عن أحد غير الصوفية القول بما سمعت عنهم، والنحل جنس واحده نحلة ويؤنث في لغة الحجاز ولذلك قال سبحانه: * (أن اتخذي) * وقرأ ابن وثاب * (النحل) * بفتحتين وهو يحتمل أن يكون لغة وأن يكون إتباعا لحركة النون، و * (أن) * إما مصدرية بتقدير بناء الملابسة أي بأن اتخذي أو تفسيرية وما بعدها مفسر للإيحاء لأن فيه باعتبار معناه المشهور معنى القول دون حروفه، وذلك كاف في جعلها تفسيرية: وقد غفل عن ذلك أبو حيان أو لم يعتبره فقال: إن في ذلك نظرا لأن الوحي هنا بمعنى الإلهام إجماعا وليس في الإلهام معنى القول * (من الجبال بيوتا) * أوكارا، وأصل البيت مأوى الإنسان واستعمل هنا في الوكر الذي تبنيه النحل لتعسل فيه تشبيها له بما يبنيه الإنسان لما فيه من حسن الصنعة وصحة القسمة كما سمعت: وقرىء * (بيوتا) * بكسر الباء لمناسبة الياء وإلا فجمع فعل على فعول بالضم.
* (ومن الشجر ومما يعرشون) * أي يعرشه الناس أي يرفعه من الكروم كما روى عن ابن زيد وغيره أو السقوف كما نقل عن الطبري أو أعم منهما كما قال البعض، و * (من) * في المواضع الثلاثة للتبعيض بحسب الأفراد وبحسب الأجزاء فإن النحل لا يبني في كل شجر وكل جبل وكل ما يعرش ولا في كل مكان من ذلك، وبعضهم قال: إن * (من) * للتبعيض بحسب الأفراد فقط، والمعنى الآخر معلوم من خارج لا من مدلول * (من) * إذ لا يجوز استعمالها فيهما ولمولانا ابن كمال تأليف مفرد في المسألة ليراجع، وأيا ما كان ففيه مع ما يأتي قريبا إن شاء الله تعالى من البديع صنعة الطبقا، وتفسير البيوت بيما تبنيه هو الذي ذهب إليه غير واحد، وقال أبو حيان: الظاهر أنها عبارة عن الكوى التي تكون في الجبال وفي متجوف الأشجار والخلايا التي يصنعها ابن آدم للنحل والكوى التي تكون في الحيطان، ولما كان النحل نوعين منه ما مقره في الجبال والغياض ولا يتعهده أحد ومنه ما يكون في بيوت الناس ويتعهده في الخلايا ونحوها شمل الأمر بالاتخاذ البيوت النوعين.
* (ثم كلى من كل الثمرات فاسلكى سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفآء للناس إن فى ذالك لآية لقوم يتفكرون) *
.
* (ثم كلي من كل الثمرات) * أي من جميعها، وهي جمع ثمرة محركة حمل الشجر، وأخذ بظاهر ذلك ابن عطية فقال: إنما تأكل النوار من الأشجار، وتقال الثمرة
للشجرة أيضا كما في " القاموس "، قيل: وهو المناسب هنا إذ التخصيص بحمل الشجر خلاف الواقع لعموم أكلها للأوراق والأزهار والثمار. وتعقب بأنه لا يخفى أن إطلاق الثمرة على الشجرة مجاز غير معروف وكونها تأكل من غيرها غير معلوم وغي رمناف للاقتصار على أكل ما ينبت فيها والعموم في كل على مايشير إليه كلام البعض عرفي، وجوز أن يكون مخصوصا بالعادة أي كلي من كل ثمرة تشتهينها، وقيل: * (كل) * للتكثير، قال الخفاجي: ولو أبقى على ظاهره أيضا جاز لأنه لا يلزم
182

من الأمر بالأكل من جميع الثمرات الأكل منها لأن الأمر للتخلية والإباحة، وأيا ما - فمن - للتعيض. وقال الإمام: رأيت في كتب الطب أنه تعالى دبر هذا العالم على وجه يحدث في الهواء طل لطيف في الليالي ويقع على أوراق الأشجار فقد تكون تلك الأجزاء لطيفة صغيرة متفرقة على الأوراق والأزهار وقد تكون كثيرة بحيث يجتمع منها أجزاء محسوسة وهذا مثل الترنجين فإنه طل ينزل من الهواء ويجتمع على الأطراف في بعض البلدان، وأما القسم الأول فهو الذي ألهم الله تعالى النحل حتى تلتقطه من الأزهار أوراق الأشجار بأفواهها وتغتذي به فإذا شبعت التقطت بأفواهها مرة أخرى شيئا من تلك الأجزاء وذهبت به إلى بيوتها ووضعته هناك كأنها تحاول أن تدخر لنفسه غذاءها فالمجتمع من ذلك هو العسل، ومن الناس من يقول: إن النحل تأكل من الأزهار الطيبة والأوراق العطرة أشياء ثم إنه تعالى يقلب تلك الأجسام في داخل بدنها عسلا ثم تقيئه، والقول الأول أقرب إلى العقرب وأشد مناسبة للاستقراء، فإن طبيعة الترنجبين قريبة من العسل في الطعم والشكل ولا شك أنه طل يحدث في الهواء ويقع على أطراف الأسجار والأزهار فكذا ههنا، وأيضا فنحن نشاهد أن النحل تتغذى بالعسل حتى إنا إذا أخرجنا العسل من بيوتها تركنا لها بقية منه لغذائها، وحينئذ فكلمة من لابتداء الغاية اه‍. وأنت تعلم أن ظاهر * (كلي) * يؤيد القول الثاني وهو أشد تأييدا له من تأييد مشابهة الترنجبين للعسل في الطعم والشكل للقول الأول لا سيما وطبيعة العسل والترنجبين مختلفة فقد ذكر بعض أجلة الأطباء أن العسل حار في الثالثة يابس في الثانية والترنجبين حار في الأولى رطب في الثانية أو معتدل. نعم لتلك المشابهة يطلق عليه اسم العسل فإن ترنجبين فارسي معناه عسل رطب لا طل النداء كما زعم وإن قالوا: هو في الحقيقة طل يسقط على العاقول بفارس ويجمع كالمن، ويجلب من التكرور شيء يسمى بلسانهم طنبيط أشبه الأشياء به في الصورة والفعل لكن أغلظ، والأمر في مشاهدة تغذيها بالعسل سهل فإنه ليس دائميا، وينقل عن بعض الطيور التي تكمن شتاء التغذي بالرجيع. ويؤيد المشهور ما روى عن الأمير علي كرم الله تعالى وجهه في تحقير الدنيا أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة وأشرف شرابه رجيع نحل، وجاء عنه كرم الله تعالى وجهه أيضا أما العسل فونيم ذباب، وحمله على التمثيل خلاف الظاهر وعلى ذلك نظمت الأشعار فقال المعري: والنحل يجني المر من زهر الربا * فيعود شهدا في طريق رضا به
وقال الحريري: تقول هذا محاج النحل تمدحه * وإن ترد ذمه قيء الزنابير
وأخبرني من أثق به أنه شاهد كثيرا حملها لأوراق الأزهار بفمها إلى بيوتها وهو ما يستأنس به للآكل، وسيأتي إن شاء الله تعالى أيضا ما يؤيده، * (فاسلكي سبل ربك) * أي طرقه سبحانه راجعة إلى بيوتك بعد الأكل، فالمراد بالسبل مسالكها في العود، ويحكى أنها ربما أجدب عليها ما حولها فانتجعت الأماكن البعيدة للمرعى ثم تعود إلى بيوتها لا تضل عنها، وفي إضافة السبل إلى الرب المضاف إلى ضميرها إشارة إلى أنه سبحانه هو المهيىء لذلك والميسر له والقائم بمصالحها ومعايشها، وقيل: المراد من السبل طرق الذهاب إلى مظان ما تأكل منه، وحينئذ فمعنى * (كلي) * اقصدي الأكل، وقيل: السبل مجاز عن طرق العمل وأنواعها أي فاسلكي الطرق التي ألهمك ربك في عمل العسل، وقيل: مجاز عن طرق إحالة الغذاء عسلا، و * (اسلكي) * متعد من
183

سلكت الخيط في الإبرة سلكا لا لازم من سلك في الطريق سلوكا، ومفعوله محذوف أي فاسلكي ما أكلت في مسالكه التي يستحيل فيها بقدرته النور المر عسلا من أجوافك.
وتعقب بأن السلك في تلك المسالك ليس فيه لها اختيار حتى تؤمر به فلا بد أن يكون الأمر تكوينيا، ورد بأنه ليس بشيء لأن الإدخال باختيارها فلا يضره كون الإحالة المترتبة عليه ليست اختيارية وهو ظاهر فليس كما زعم * (ذللا) * أي مذللة ذللها الله تعالى وسهلها لك فهو جمع ذلول حال من السبل وروى هذا عن مجاهد.
وجعل ابن عبد السلام وصف السبل بالذلل دليلا على أن المراد بالسبل مسالك الغذاء لا طرق الذهاب أو الإياب قال: لأن النحل تذهب وتؤب في الهواء وهو ليس طرقا ذللا لأن الذلول هو الذي يذلل بكثرة الوطء والهواء ليس كذلك وفيه نظر.
وقال قتادة: أي مطيعة منقادة فهو حال من الضمير في * (فاسلكي) * * (يخرج من بطونها) * استئناف عدل به عن خطاب النحل إلى الكلام مع الناس لبيان ما يظهر منها من تعاجيب صنع الله تعالى التي هي موضع عبرتهم بعد ما أمرت بما أمرت * (شراب) * يعني العسل، وسمي بذلك لأنه مما يشرب حتى قيل: إنه لا يقال: أكلت عسلا وإنما يقال: شربت عسلا، وكأنه سبحانه إنما لم يعبر بالإخراج مسندا إليه تعالى اكتفاءا بإسناد الإيحاء بالمبادىء إليه جل شأنه وفيه إيذان بعظيم قدرته عز وجل بحيث أن ما يشعر بإرادة الشيء كاف في حصوله.
و * (من) * لابتداء الغاية، وذكر سبحانه مبدأ الغاية الأولى وهي البطون ولم يذكر سبحانه مبدأ الغاية الأخيرة والجمهور على أنه يخرج من أفواهها، وزعم بعضهم أنه أبلغ في القدرة، وبيت الحريري على ذلك وكذا قول الحسن: لباب البر بلعاب النحل بخالص السمن ما عابه مسلم، وقيل: من أدبارها وهو ظاهر ما روى عن يعسوب المؤمنين كرم الله تعالى وجهه.
وقال آخرون: لا ندري إلا ما ذكره الله تعالى. وحكى أن سليمان عليه السلام. والإسكندر. وأرسطو صنعوا لها بيوتا من زجاج لينظروا إلى كيفية صنيعها وهل يخرج العسل من فيها أم من غيره فلم تضع من العسل شيئا حتى لطخت باطن الزجاج بالطين بحيث يمنع المشاهدة، وقال بعضهم: المراد بالبطون الأفواه، وسمي الفم بطنا لأنه
في حكمه ولأنه مما يبطن ولا يظهر، وهذا تأويل من ذهب إلى أنها تلتقط الذراة الصغيرة من الطل وتدخرها في بيوتها وهو العسل. وأنت تعلم أن الظاهر من البطن الجارحة المعروفة فالآية تؤيد القول المشهور في تكون العسل. وفي " الكشف " أن في قوله تعالى: * (ثم كلى) * إشارة لى أن لمعدة النحل في ذلك تأثيرا وهو المختار عند المحققين من الحكماء، ومن جعل العسل نباتيا محضا وفسر البطون بأفواه النحل فليست شعري ماذا يصنع بقوله سبحانه: * (ثم كلي) * وأجيب بأنه يفسر الأكل بالالتقاط وهو كما ترى أن دفع الفساد لا يدفع الاستبعاد، ومن الناس من زعم أنها تجتني زهرا وطلا فالمجتنى من الزهر نفسه يكون عسلا والمجتنى من الطل يكون موما والعقل يجوز العكسل ولعله أقرب من ذلك * (مختلف ألوانه) * بالبياض والصفرة والحمرة والسواد إما لمحض إرادة الصانع الحكيم جل جلاله وإما لاختلاف المرعى أو لاختلاف
184

الفصل أو لاختلاف سن النحل، فالأبيض لفتيها والأصفر لكلها والأحمر لمسنها والأسود للطاعن في ذلك جدا.
وتعقب بأنه مما لا دليل عليه، وقد سألت جمعا ممن أثق بهم قد اختبروا أحوالها فذكروا أنهم قد استقرؤا وسبروا فرأوا أقوى الأسباب الظاهرة لاختلاف الألوان اختلاف السن بل قال بعضهم: ما علمنا لذلك سببا إلا هذا بالاستقراء، وحينئذ يكون ما ذكر مؤيدا للقول المشهور في تكون العسل كما لا يخفى على من له أدنى ذوق.
* (فيه شفاء للناس) * أما بنفسه كما في الأمراض البلغمية أو مع غيره كما في سائر الأمراض إذ قلما يكون معجون لا يكون فيه عسل فله دخل في أكثر ما به الشفاء من المعاجين والتراكيب، وقيل عليه: إن دخوله في ذلك لا يقتضي أن يكون له دخل في الشفاء بل عدم الضرر إذ قيل: إن إدخاله في التراكيب لحفظها ولذا ناب عنه في ذلك السكر، والذي رأيناه في كثير من كتب الطب أنه يحفظ قوى الأدوية طويلا ويبلغها منافعها، ولا يخفى على المنصف أن ما يحفظ القوى ويبلغ منافع الدواء يصدق عليه أن له دخلا في الشفاء، ولم يشتهر أن السكر ينوب منابه في ذلك.
وفي " البحر " أن العسل موجود كثيرا في أكثر البلاد وأما السكر فمختص به بعض البلاد وهو محدث مصنوع للبشر، ولم يكن فيما تقدم من الأزمان يجعل في الأدوية والأشربة إلا العسل اه‍، وفي " شرح الشمائل " أنه عليه الصلاة والسلام لم يأكل السكر، وذكر غير واحد أنه ليس المراد بالناس هنا العموم لأن كثيرا من الأمراض لا يدخل في دوائها العسل كأمراض الصفراء فإنه مضر للصفراوي، ولو يسلم أن السكنجبين الذي هو خل وعسل كما ينبىء عنه أصل معناه نافع له، والنافع نوع آخر من السكنجبين فإنه نقل إلى ما ركب من حامض وحلو، وله أنواع كثيرة ألفت في جمعها الرسائل حتى قالوا بحرمة تناوله عليه وإنما المراد بالناس الذين ينجع العسل في أمراضهم. والتنوين في * (شفاء) * إما للتعظيم أي شفاء أي شفاء، وإما للتبعيض أي فيه بعض الشفاء فلا يقتضي أن كل شفاء به ولا أن كل أحد يستشفى به.
ولا يرد أن اللبن أيضا كذلك بل قلما يوجد شيء من العقاقير إلا وفيه شفاء للناس بهذا المعنى لما قيل: إن التنصيص على هذا الحكم فيه لإفادة ما يكاد يستبعد من اشتمال ما يخرج على اختلاف ألوانه من هذه الدودة التي هي أشبه شيء بذوات السموم ولعلها ذات سم أيضا فإنها تلسع وتؤلم وقد يرم الجلد من لسعها وهو ظاهر في أنها ذات سم على * (شفاء للناس) * ويفهم من ظاهر بعض الآثار أن الكلام على عمومه. فقد أخرج حميد بن زنجويه عن نافع أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان لا يشكو قرحة ولا شيئا إلا جعل عليه عسلا حتى الدمل إذا كان به طلاه عسلا فقلنا له: تداوى الدمل بالعسل؟ فقال: أليس الله تعالى يقول: * (فيه شفاء للناس) *؟.
وأنت تعلم أنه لا بأس بمداواة الدمل بالعسل فقد ذكر الأطباء أنه ينقي الجروح ويدمل ويأكل اللحم الزائد. والحق أنه لا مساغ للعموم إذ لا شك في وجود مرض لا ينفع فيه العسل، والآثار المشعرة بالعموم الله تعالى أعلم بصحتها. وأما ما أخرجه أحمد. والبخاري. ومسلم. وابن مردويه " عن أبي سعيد الخدري أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أخي استطلق بطنه فقال: اسقه عسلا فسقاه عسلا ثم جاء فقال: سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا قال: اذهب فاسقه عسلا فسقاه عسلا ثم جاء فقال: ما زاده إلا
185

استطلاقا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق الله تعالى وكذب بطن أخيك اذهب فاسقه عسلا فذهب فسقاه فبرأ " فليس صريحا في العموم لجواز أن يكون عليه الصلاة والسلام قد علمه الله سبحانه أن داء هذا المستطلق مما يشفى بالعسل فإن بعض الاستطلاق قد يشفي بالعسل. ففي طبقات الأطباء أنه إنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك لأنه علم أن في معدة المريض رطوبات لزجة غليظة قد أزلقت معدته فكلما مر به شيء من الأدوية القابضة لم يؤثر فيها والرطوبات باقية على حالها والأطعمة تزلق عنها فيبقى الإسهال فلما تناول العسل جلا تلك الرطوبات وأحدرها فكثر الإسهال أولا بخروجها وتوالى ذلك حتى نفذت الرطوبة بأسرها فانقطع إسهاله وبرىء، فقوله صلى الله عليه وسلم: " صدق الله تعالى " يعني بالعلم الذي عرف نبيه عليه الصلاة والسلام به، وقوله: " كذب بطن أخيك " يعني ما كان يظهر من بطنه من الإسهال وكثرته بطريق العرض وليس هو بإسهال ومرض حقيقي فكان بطنه كاذبا اه‍. وقال بعضهم: المراد - بصدق الله تعالى - صدق سبحانه في أن العسل فيه الشفاء، وقوله عليه الصلاة والسلام: " كذب بطن أخيك " من المشاكلة الضدية كقولهم: من طالت لحيته تكوسج عقله، وهو على الأول استعارة مبنية على تشبيه البطن بالكاذب في كون ما ظهر من إسهالها ليس بأمر حقيقي وإنما هو لما عرض لها، وعلى ذلك قول الأطباء: زحير كاذب وزحير صادق. وأنكر بعضهم هذا النوع من المشاكلة وقال: إنها ليست معروفة وإنه إنما عبر به لأن بطنه كأنه كذب قول الله تعالى بلسان حاله وهو ناشىء من قلة الاطلاع. وقد وقع نظير هذه القصة في زمن المأمون، وذلك أن ثمامة العبسي وكان من خواصه مرض بالإسهال فكان يقوم في اليوم والليلة مائة مرة وعجز الأطباء عن علاجه فعالجه يزيد بن يوحنا طبيب المأمون بالمسهل أيضا فبرىء وكان قد ظن الأطباء أنه يموت بسبب ذلك ولا يبقى لغده، وذكر الطبيب حين سأله المأمون عن وجه الحكمة فيما فعل فذكر أنه كان في جوف الرجل كيموس فاسد فلا يدخله غذاء ولا دواء إلا أفسده فعلمت أنه لا علاج له إلا قلع ذلك بالإسهال، ومنه يعلم أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم كان من معجزاته الدالة على علمه بدقائق الطب من غير تعليم، وكذا يعلم أن ما طعن به بعض الملحدين ومن في قلبه مرض من أنه كيف يداوي الإسهال بالعسل وهو مسهل باتفاق الأطباء ناشىء عن الجهل
بالدقائق وعدم الوقوف على الحقائق. ونقل عن مجاهد. والضحاك. والفراء. وابن كيسان وهو رواية عن ابن عباس. والحسن أن ضمير * (فيه) * للقرآن والمراد أن في القرآن شفاء لأمراض الجهل والشرك وهدى ورحمة، واستحسن ذلك ابن النحاس.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: أرى هذا القول لا يصح نقله عن هؤلاء ولو صح نقلا لم يصح عقلا فإن سياق الكلام كله للعسل ليس للقرآن فيه ذكر، ورجوع الضمير للكتاب في قوله سبحانه: * (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه) * مما لا يكاد يقوله أمثال هؤلاء الكرام والعلماء الأعلام. نعم كون القرآن شفاء مما لا كلام فيه، وقد أخرج الطبراني. وغيره عن ابن مسعود " عليكم بالشفاءين العسل والقرآن " هذا.
وقد سبحانه الإخبار عن إنزال الماء لما أن الماء أتم نفعا وأعظم شأنا وهو أصل أصيل لتكون اللبن وما بعده، ثم ذكر اللبن لأنه يحتاج إليه أكثر من غيره مما ذكر بعده، وقد يستغني بشربه عن شرب الماء كما شاهدنا ذلك من بعض متزهدي زماننا فقد ترك شرب الماء عدة من السنين مكتفيا بشرب اللبن، وسمعنا نحو ذلك عن بعض رؤساء الأعراب، وهو الدليل على الفطرة ولذلك اختاره صلى الله عليه وسلم حين أسري به وعرض عليه مع الخمر والعسل، ثم الخمر لأنها أقرب إلى الماء من العسل فإنها ماء العنب ولم يعهد
186

جعلها إداما كالعسل فإنه كثيرا ما يؤدم به الخبز ويؤكل، وبينها وبين اللبن نوع مشابهة من حيث أن كلا منهما يخرج من بين أجزاء كثيفة وما أشبه ثفله بالفرث، وإذا لوحظ السوغ في اللبن وعدمه في الخمر بناء على ما يقولون: إنها ليست سهلة المرور في الحلق ولذا يقطب شاربها عند الشرب وقد يغص بها كان بينهما نوع من التضاد، ويحسن إيقاع الضد بعد الضد كما يحسن إيقاع المثل بعد المثل، وإذا لوحظ مآل أمرهما شرعا رأيت أن الخمر لم يسغ شربها بعد نزول الآية فيه وشرب اللبن لم يزل سائغا وبذلك يقوى التضاد، ويقويه أيضا أن اللبن يخرج من بطن حيوان ولا دخل لعمل البشر فيه والخمر ليست كذلك. وأما ذكر الرزق الحسن بعد الخمر وتقديمه على العسل فالوجه فيه ظاهر جدا، ولعل ما اعتبرناه في وجه تقديم الخمر على العسل وذكره بعد اللبن أقوى مما يصح اعتباره في العسل وجها لتقديمه على الخمر وذكره بعد اللبن، فلا يرد أن في كل جهة تقديما فاعتبارها في أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح، وقد جاء ذكر الماء واللبن والخمر والعسل في وصف الجنة على هذا الترتيب قال تعالى: * (فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى) * فتأمل فلمسلك الذهن اتساع والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.
* (إن في ذلك) * المذكور من آثار قدرة الله تعالى * (لآية) * عظيمة * (لقوم يتفكرون) * فإن من تفكر في اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والأفعال العجيبة التي مرت الإشارة إليها وخروج هذا الشرب الحلو المختلف الألوان وتضمنه الشفاء جزم قطعا أن لها ربا حكيما قادرا ألهمها ما ألهم وأودع فيها ما أودع، ولما كان شأنها في ذلك عجيبا يحتاج إلى مزيد تأمل ختم سبحانه الآية بالتفكر. ومن بدع تأويلات الرافضة على ما في الكشاف أن المراد بالنحل على كرم الله تعالى وجهه وقومه. وعن بعضهم أنه قال عند المهدي: إنما النحل بنو هاشم يخرج من بطونهم العلم فقال له رجل: جعل الله تعالى طعامك وشرابك مما يخرج من بطونهم فضحك المهدي وحدث به المنصور فاتخذوه أضحوكة من أضاحيكهما، وستسمع إن شاء الله تعالى ما يقوله الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم في باب الإشارة، ثم إنه سبحانه لما ذكر من عجائب أحوال ما ذكر من الماء والنبات والأنعام والنحل أشار إلى بعض عجائب أحوال البشر من أول عمره إلى آخره وتطوراته بين ذلك فقال
* (والله خلقكم ثم يتوف‍اكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكى لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير) *
.
* (والله خلقكم ثم يتوفاكم) * حسبما تقتضيه مشيئته تعالى المبنية على الحكم البالغة بآجال مختلفة، والقرينة على إرادة ذلك قوله سبحانه: * (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر) * ولذا قيل: إنه معطوف على مقدر أي فمنكم من تعجل وفاته ومنكم الخ، و * (أرذلي العمر) * أخسه وأحقره وهو وقت الهرم التي تنقص فيه القوى وتفسد الحواس ويكون حال الشخص فيه كحاله وقت الطفولية من ضعف العقل والقوة، ومن هنا تصور الرد فهذا كقوله تعالى: * (ومن نعمره ننكسه في الخلق) * (يس: 68) ففيه مجاز، وأخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه أن * (أرذل العمر) * خمس وسبعون سنة؛ وعن قتادة أنه تسعون، وقيل: خمس وتسعون واختار جمع تفسيره بما سبق وهو يختلف باختلاف الأمزجة فرب معمر لم تنتقص قواه ومنتقص القوى لم يعمر، ولعل التقييد بسن مخصوص مبني على الأغلب عند من قيد.
والخطاب إن كان للموجودين وقت النزول فالتعبير بالماضي والمستقبل فيه ظاهر، وإن كان عاما فالمضي بالنسبة إلى وقت وجودهم، والاستقبال بالنسبة إلى الخلق، وعلى التقديرين الظاهر أن * (من يرد إلى أرذل العمر) *
187

يعم المؤمن مطلقا والكافر، وقيل: إنه مخصوص بالكافر والمسلم لا يرد إلى إرذل العمر لقوله تعالى: * (ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * (النبي: 5، 6) وأخرج ابن المنذر. وغيره عن عكرمة أنه قال: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر، والمشاهدة تكذب كلا القولين فكم رأينا مسلما قارىء القرآن قد رد إلى ذلك، والاستدلال بالآية على خلافه فيه نظر، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم كما أخرجه البخاري. وابن مردويه عن أنس " أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة الدجال وفتنة المحيا والممات ".
* (لكي لا يعلم بعد علم شيئا) * اللام للصيرورة والعاقبة وهي في الأصل للتعليل وكي مصدرية والفعل منصوب بها والمنسبك مجرور باللام والجار والمجرور متعلق - بيرد -، وزعم الحوفي أن اللام لام كي دخلت على كي للتوكيد وليس بشيء، والعلم بمعنى المعرفة، والكلام كناية عن غاية النسيان أي ليصير نساء بحيث إذا كسب علما في شيء لم ينشب أن ينساه ويزل عنه علمه من ساعته يقول لك: من هذا؟ فتقول: فلان فما يلبث لحظة إلا سألك عنه، وقيل: المراد لئلا يعلم زيادة علم على
علمه، وقيل: لئلا يعقل من بعد عقله الأول شيئا فالعلم بمعنى العقل لا بمعناه الحقيقي كما في سابقه، وفيه دلالة على وقوفه وأنه لا يقدر على علم زائد، والوجه المعتمد الأول، ونصب - شيئا - على المصدرية أو المفعولية، وجوز فيه التنازع بين يعلم وعلم، وكون مفعول - علم - محذوفا لقصد العموم أي لا يعلم شيئا ما بعد علم أشياء كثيرة * (إن الله عليم) * بكل شيء ومن ذلك وجه الحكمة في الخلق والتوفي والرد إلى أرذل العمر * (قدير) * على كل شيء ومنه ما يشاؤه سبحانه من ذلك، وقيل: عليم بمقادير أعماركم قدير على كل شيء يميت الشاب النشيط ويبقى الهرم الفاني، وفيه تنبيه على أن تفاوت الآجال ليس إلا بتقدير قادر حكيم رتب الأبنية وعدل الأمزجة على قدر معلوم ولو كان ذلك مقتضى الطبائع لما بلغ هذا المبلغ، وقيل: إنه تعالى لما ذكر ما يعرض في الهرم من ضعف القوى والقدرة وانتفاء العلم ذكر أنه جل شأنه مستمر على العلم الكامل والقدرة الكاملة لا يتغيران بمرور الأزمان كما يتغير علم البشر وقدرتهم، ويفيد الاستمرار الجملة الاسمية، والكمال صيغة فعيل، وقدم صفة العلم لتجاوز انتفاء العلم عن المخاطبين مع أن تعلق صفة العلم بالشيء أول لتعلقه صفة القدرة به، ولا يخفى عليك ما هو الأولى من الثلاثة فتدبر.
* (والله فضل بعضكم على بعض فى الرزق فما الذين فضلوا برآدى رزقهم على ما ملكت أيم‍انهم فهم فيه سوآء أفبنعمة الله يجحدون) *
. * (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق) * أي جعلكم متفاوتين فيه فأعطاكم منه أفضل مما أعطى مماليككم * (فما الذين فضلوا) * فيه على غيرهم وهم الملاك * (برادي) * أي بمعطي * (رزقهم) * الذي رزقهم إياه * (على ما ملكت أيمانهم) * على مماليكهم الذين هم شركاؤهم في المخلوقية والمرزوقية * (فهم) * أي الملاك الذين فضلوا والمماليك * (فيه) * أي في الرزق * (سواء) * لا تفاضل بينهم، والجملة الاسمية واقعة موقع فعل منصوب في جواب النفي أي لا يردونه عليهم فيستووا فيه ويشتركوا، وجوز أن تكون في تأويل فعل مرفوع معطوف على قوله تعالى: * (برادي) * أي لا يردونه عليهم فلا يستوون، والمراد بذلك توبيخ الذين يشركون به سبحانه بعض مخلوقاته وتقريعهم والتنبيه على كمال قبح فعلهم كأنه قيل: إنكم لا ترضون بشركة عبيدكم لكم بشيء لا يختص بكم بل يعمكم وإياهم من الرزق الذي هم أسوة لكم في استحقاقه وهم أمثالكم في البشرية والمخلوقية لله عز سلطانه فما بالكم تشركون به سبحانه وتعالى فيما لا يليق إلا به جل وعلا من الألوهية
188

والمعبودية الخاصة بذاته تعالى لذاته بعض مخلوقاته الذي هو بمعزل عن درجة الاعتبار، وهو على ما صرح به جماعة على شاكلة قوله تعالى: * (ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء) * (الروم: 28) يعنون بذلك أنه مثل ضرب لكمال قباحة ما فعلوه، وفي قوله تعالى: * (أفبنعمة الله يجحدون) * قرينة - كما قيل - على ذلك، وكذا في قوله تعالى: * (فلا تضربوا لله الأمثال) * (النحل: 74) والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر وهي داخلة في الحقيقة على الفعل أعني * (يجحدون) * ولتضمن الجحود معنى الكفر جىء بالباء في معموله المقدم عليه للاهتمام أو لإيهام الاختصاص مبالغة أو لرعاية رؤوس الآي، والمراد بالنعمة قيل الرزق وقيل ولعله الأولى: ما يشمله وغيره من النعم الفائضة عليهم منه سبحانه أي يشركون به تعالى فيجحدون نعمته تعالى حيث يفعلون ما يفعلون من الإشراك فإن ذلك يقتضي أن يضيفوا ما أفيض عليهم من الله تعالى من النعم إلى شركائهم ويجحدوا كونها من عنده جل وعلا، وجوز كون المراد بنعمة الله تعالى ما أنعم سبحانه به من إقامة الحجج وإيضاح السبل وإرسال الرسل عليهم السلام ولا نعمة أجل من ذلك، فمعنى جحودهم ذلك إنكاره وعدم الالتفات إليه، وصيغة الغيبة لرعاية " فما الذين " وقرأ أبو بكر عن عاصم. وأبو عبد الرحمن. والأعرج بخلاف عنه " تجحدون " بالتاء على الخطاب رعاية لبعضكم، هذا وجوز أن يكون معنى الآية أن الله تعالى فضل بعضا على بعض في الرزق وأن المفضلين لا يردون من رزقهم على من دونهم شيئا وإنما أنا رازقهم فالمالك والمملوك في أصل الرزق سواء وإن تفاوتا كما وكيفا، والمراد النهي عن الإعجاب والمن اللذين هما مقدمتا الكفران.
والعطف على مقدر أيضا أي أيعجبون ويمنون فيجحدون نعمة الله تعالى عليهم، وقيل: التقدير ألا يفهمون فيجحدون؛ واختار في " الكشاف " أن المعنى أنه سبحانه جعلكم متفاوتين في الرزق فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهو بشر مثلكم وإخوانكم وكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم حتى تساووا في الملبس والمطعم كما يحكى عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنما هم إخوانكم فاكسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تطعمون " فما رؤي عبده بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه وإزاره إزاره من غير تفاوت، وحاصله أن الله تعالى فضلكم على أمثالكم فكان عليكم أن تردوا من ذلك الفضل عليهم شكرا لنعمته تعالى لتكونوا سواء في ذلك الفضل ويبقى لكم فضل الإفضال والتفضل.
فالآية حث على حسن الملكة وأدمج أنهم وعبيدهم مربوبون بنعمته تعالى ذلك مع تقلبهم فيها ليكون تمهيدا لكفرانهم نعمه سبحانه السوابغ إلى أن جعلوا له عز وجل أندادا لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا فعبدوها عبادته تعالى أو أشد وأسد، وفي ذلك من البعد ما فيه، والعطف فيه على مقدر أيضا كألا يعرفون ذلك فيجحدون.
* (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفب الب‍اطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون) *
.
* (والله جعل لكم من أنفسكم) * أي من جنسكم ونوعكم وهو مجاز في ذلك، والأشهر من معاني النفس الذات ولا يستقيم هنا كغيره فلذا ارتكب المجاز وهو إما في المفرد أو الجمع، واستدل بذلك بعضهم على أنه لا يجوز للإنسان أن ينكح من الجن * (أزواجا) * لتأنسوا بها وتقيموا بذلك مصالحكم ويكون أولادكم أمثالكم.
وأخرج غير واحد عن قتادة أن هذا خلق آدم وحواء عليهما السلام فإن حواء خلقت من نفسه عليه السلام، وتعقب بأنه لا يلائمه جمع الأنفس والأزواج، وحمله على التغليب تكلف غير مناسب للمقام، وكذا كون المراد منهما بعض الأنفس وبعض الأزواج * (وجعل لكم من أزواجكم) * أي منها فوضع الظاهر
189

موضع الضمير للإيذان بأن المراد جعل لكم منكم من زوجه لا من زوج غيره * (بنين) * وبأن نتيجة الأزواج هو التوالد * (وحفدة) * جمع حافد ككاتب وكتبة، وهو من قولهم: حفد يحفد حفدا وحفودا وحفدانا إذا أسرع في الخدمة والطاعة، وفي الحديث " إليك نسعى ونحفد " وقال جميل:
حفد الولائد حولهن وأسلمت * بأكفهن أزمة الأجمال
وقد ورد الفعل لازما ومتعديا كقوله: يحفدون الضيف في أبياتهم * كرما ذلك منهم غير ذل
وجاء في لغة - كما قال أبو عبيدة - أحفد أحفادا، وقيل: الحفد سرعة القطع، وقيل: مقاربة الخطو، والمراد بالحفدة على ما روي عن الحسن. والأزهري وجاء في رواية عن ابن عباس واختاره ابن العربي أولاد الأولاد، وكونهم من الأزواج حينئذ بالواسطة، وقيل: البنات عبر عنهن بذلك إيذانا بوجه المنة فإنهن في الغالب يخدمن في البيوت أتم خدمة، وقيل: البنون والعطف لاختلاف الوصفين البنوة والخدمة، وهو منزل منزلة تغاير الذات، وقد مر نظيره فيكون ذلك امتنانا بإعطاء الجامع لهذه الوصفين الجليلين فكأنه قيل: وجعل لكم منهن أولادا هم بنون وهم حافدون أي جامعون بين هذين الأمرين، ويقرب منه ما روي عن ابن عباس من أن البنين صغار الأولاد والحفدة كبارهم، وكذا ما نقل عن مقاتل من العكس، وكأن ابن عباس نظر إلى أن الكبار أقوى على الخدمة ومقاتل نظر إلى أن الصغار أقرب للانقياد لها وامتثال الأمر بها واعتبر الحفد بمعنى مقاربة الخط، وقيل: أولاد المرأة من الزوج الأول، وأخرجه ابن جرير. وابن أبي حاتم عن ابن عباس.
وأخرج الطبراني. والبيهقي في سننه. والبخاري في تاريخه. والحاكم وصححه عن ابن مسعود أنهم الأختان وأريد بهم - على ما قيل - أزواج البنات ويقال لهم أصهار، وأنشدوا: فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت * لها حفد مما يعد كثير
ولكنها نفس على أبية * عيوني لأصهار اللئام تدور
والنصب على هذا بفعل مقدر أي وجعل لكم حفدة لا بالعطف على * (بنين) * لأن القيد إذا تقدم يعلق بالمتعاطفين وأزواج البنات ليسوا من الأزواج. وضعف بأنه لا قرينة على تقدير خلاف الظاهر وفيه دغدغة لا تخفى. وقيل: لا مانع من العطف بأن يراد بالأختان أقارب المرأة كأبيها وأخيها لا أزواج البنات فإن إطلاق الأختان عليه إنما هو عند العامة وأما عند العرب فلا كما في " الصحاح "، وتجعل * (من) * سببية ولا شك أن الأزواج سبب لجعل الحفدة بهذا المعنى وهو كما ترى. وتعقب تفسيره بالأختان والربائب بأن السياق للامتنان ولا يمتن بذلك.
وأجيب بأن الامتنان باعتبار الخدمة ولا يخفى أنه مصحح لا مرجح. وقيل: الحفدة هم الخدم والأعوان وهو المعنى المشهور له لغة. والنصب أيضا بمقدر أي وجعل لكم خدما يحفدون في مصالحكم ويعينونكم في أموركم.
وقال ابن عطية بعد نقل عدة أقوال في المراد من ذلك: وهذه الأقوال مبنية على أن كل أحد جعل له من زوجته بنون وحفدة ولا يخفى أنه باعتبار الغالب، ويحتمل أن يحمل قوله تعالى: " من أزواجكم " على العموم والاشتراك أي جعل من أزواج البشر البنين والحفدة ويستقيم على هذا إجراء الحفدة على مجراها في اللغة إذ
190

البشر بجملتهم لا يستغني أحدهم عن حفدة اه‍، وحينئذ لا يحتاج إلى تقدير لكن لا يخفى أن فيه بعدا، وتأخير المنصوب في الموضعين عن المجرور لما مر غير مرة من التشويق، وتقديم المجرور باللام على المجرور بمن للإيذان من أول الأمر بعود منفعة الجعل إليهم إمدادا للتشويق وتقوية له.
* (ورزقكم من الطيبات) * أي اللذائذ وهو معناها اللغوي، وجوز أن يراد بالطيب ما هو متعارف في لسان الشرع وهو الحلال. وتعقبه أبو حيان بأن المخاطبين بهذا الكفار وهم لا شرع لهم فتفسيره بذلك غير ظاهر. وأجيب بأنهم مكلفون بالفروع كالأصول فيوجد في حقهم الحلال والحرام، وأيضا هم مرزوقون بكثير من الحلال الذي أكلوا بعضه ولا يلزم اعتقادهم للحل ونحوه، و * (من) * للتبعيض لأن ما رزقوه بعض من كل الطيبات فإن ما في الدنيا منها بأسره أنموذج لما في الآخرة إذ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وما في الدنيا لم يصل كثير منه إليهم، والظاهر على ما ذكرنا عموم الطيبات للنبات والثمار والحبوب والأشربة والحيوان، وقيل: المراد بها ما أتى من غير نصب، وقيل: الغنائم، وليس بشيء.
* (أفبالباطل) * وهو منفعة الأصنام وبركتها وما ذاك إلا وهم باطل لم يتوصلوا إليه بدليل ولا أمارة، والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى: * (يؤمنون) * وقدم للحصر فيفيد أن ليس لهم إيمان إلا بذلك كأنه شيء معلوم مستيقن * (وبنعمت الله) * المشاهدة المعاينة التي لا شبهة فيها لذي عقل وتمييز مما ذكر ومما لا تحيط به دائرة البيان * (هم يكفرون) * أي يستمرون على الكفر بها والإنكار لها كما ينكر المحال الذي لا يتصوره العقول وذلك بإضافتها إلى أصنامهم، وقيل: الباطل ما يسول لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما ونعمة الله تعالى ما أحل لهم. والآية على هذا ظاهرة التعلق بقوله سبحانه: * (ورزقكم من الطيبات) * فقط دون ما قبله أيضا والظاهر تعلقها بهما، ومن ذلك يظهر حال ما أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج من أن الباطل الشيطان ونعمة الله تعالى محمد صلى الله عليه وسلم، وما ذكرناه قد صرح بأكثره الزمخشري، واستفادة الحصر من التقديم ظاهرة، وأما كأنه شيء معلوم مستيقن فمستفاد من حصرهم الإيمان فيما ذكر لأن ذلك شأن المؤمن به لا سيما وقد حصروا، وأيضا المقابلة بالمشاهد المحسوس أعني نعمة الله تعالى دلت على تعكيسهم فيدل على أنهم جعلوا الموهوم بمنزلة المتيقن وبالعكس، والفاء التي للتعكيس شديدة الدلالة على هذا الأمر والحمل على أنها للعطف على محذوف ليس بالوجه كذا في " الكشف "، وفيه رد على ما قيل إن في كلا التركيبين تأكيدا وتخصيصا، أما التخصيص فيهما فمن تقديم المعمول، وأما التأكيد في الأول فلأن الفاء تستدعي معطوفا عليه تقديره أيكفرون بالحق ويؤمنون بالباطل والكفر بالحق مستلزم للإيمان بالباطل فقد تكرر الإيمان بالباطل والتكرير يفيد التأكيد، وأما التأكيد في الثاني فمن بناء * (يكفرون) * على هم المفيد لتقوى الحكم، وجعل كلام الزمخشري مشيرا إلى ذلك كله فتدبر. وما ذكر من أن تقديم الجار في التركيبين للتخصيص مما صرح به غير واحد، والعلامة البيضاوي جوز ذلك لكنه أقحم الإيهام هنا نظير ما فعلناه فيما سلف آنفا.
ووجه ذلك بأن المقام ليس بمقام تخصيص حقيقة إذ لا اختصاص لإيمانهم بالباطل ولا لكفرانهم بنعم الله سبحانه ولم يقحمه في تفسير نظير ذلك في العنكبوت فإن وجه بأنهم إذا آمنوا بالباطل كان إيمانهم بغيره بمنزلة
191

العدم وإن النعم كلها من الله تعالى إما بالذات أوب الواسطة فليس كفرانهم إلا لنعمه سبحانه كما قيل لا يشكر الله من لا يشكر الناس بقي المخالفة. وأجيب بأنه إذا نظر للواقع فلا حصر فيه وإن لوحظ ما ذكر يكون الحصر ادعائيا وهو معنى الإيهام للمبالغة فلا تخالف، وجوز أن يكون التقديم للاهتمام لأن المقصود بالإنكار الذي سيق له الكلام تعلق كفرانهم بنعمة الله تعالى واعتقادهم للباطل لا مطلق الإيمان والكفران، وأن يكون لرعاية الفواصل وهو دون النكتتين، والالتفات إلى الغيبة للإيذان باستيجاب حالهم للإعراض عنهم وصرف الخطاب إلى غيرهم من السامعين تعجيبا لهم مما فعلوه. وفي " البحر " أن السلمي قرأ * (تؤمنون) * بالتاء على الخطاب وأنه روى ذلك عن عاصم، والجملة فيما بعده على هذا كما استظهره في " البحر " مجردا عن الكفرة غير مندرج في التقريع. هذا بقي أنه وقع في العنكبوت * (أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون) * (النحل: 72) بدون ضمير ووقع هنا ما سمعتب الضمير، وبين الخفاجي سر ذلك بأنه لما سبق في هذه السورة قوله تعالى: * (أفبنعمة الله يجحدون) * (النحل: 71) أي يكفرون كما مر فلو ذكر ما نحن فيه بدون الضمير لكانت الآية تكرارا بحسب الظاهر فأتى بالضمير الدال على المبالغة والتأكيد ليكون ترقيا في الذم بعيدا عن اللغوية، ثم قال: وقيل إنه أجرى على عادة العباد إذا أخبروا عن أحد بمنكر يجدون موجدة فيخبروا عن حاله الأخرى بكلام آكد من الأول، ولا يخفى أن هذا إنما ينفع إذا سئل لم قيل: * (أفبالباطل يؤمنون) * بدون ضمير وقيل: * (وبنعمة الله هم يكفرون) * به، وأما في الفرق بين ما هنا وما هناك فلا، وقيل: آيات العنكبوت استمرت على الغيبة فلم يحتج إلى زيادة ضمير الغائب وأما الآية التي نحن فيها فقد سبق قبلها مخاطبات كثيرة فلم يكن بد من ضمير الغائب المؤكد لئلا يلتبس بالخطاب، وتخصيص هذه بالزيادة دون * (أفبالباطل يؤمنون) * مع أنها الأولى بها بحسب الظاهر لتقدمها لئلا يلزم زيادة الفاصلة الأولى على الثانية، واعترض عليه بأنه لا يخفى أنه لا مقتضى للزوم الغيبة ولا لبس لو ترك الضمير.
وقد يقال: إنما لم يؤت في آية العنكبوت بالضمير وينبى الفعل عليه إفادة للتقوى استغناء بتكرر ما يفيد كفر القوم بالنعم مع قربه من تلك الآية عن ذلك، على أنه قد تقدم هناك ما تستمد منه الجملتان أتم استمداد وإن كان فيه نوع بعد ومغايرة ما وذلك قوله تعالى: * (والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون) * (العنكبوت: 52) ولما لم تكن آية النحل فيما ذكر بهذه المرتبة جىء فيها بما يفيد التقوى، أو يقال: إنه لما كان سرد النعم هنا على وجه ظاهر في وصولها إليهم والامتنان بها عليهم كان ذلك أوفق بأن يؤتى بما فيه بما ذكر، ولعل التعبير هنا - بيكفرن - وفيما قبل * (يجحدون) * لأن ما قبل كان مسبوقا على ما قيل بضرب مثل لكمال قباحة ما فعلوه والجحود أوفق بذلك لما أن كمال القبح فيه أتم ولا كذلك فيما البحث فيه كذا قيل فافهم والله تعالى بأسرار كتابه أعلم.
* (ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السم‍اوات والارض شيئا ولا يستطيعون) *
.
* (ويعبدون من دون الله) * قال أبو حيان: هو استئناف اخبار عن حالهم في عبادة الأصنام وفيه تبيين لقوله تعالى: * (أفبالباطل يؤمنون) * (النحل: 72) وقال بعض أجلة المحققين: لعله عطف على * (يكفرون) * داخل تحت الإنكار التوبيخي أي أيكفرون بنعمة الله ويعبدون من دونه سبحانه * (ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا) * أي ما لا يقدر أن يرزقهم شيئا لا من السموات مطرا ولا من ا
192

لأرض نباتا - فرزقا - مصدر، و * (شيئا) * نصب على المفعولية له وإلى ذلك ذهب أبو علي. وغيره. وتعقبه ابن الطراوة بأن الرزق هو المرزوق كالرعي والطحن والمصدر إنما هو الرزق بفتح الراء كالرعي والطحن. ورد عليه بأن مكسور الراء مصدر أيضا كالعلم وسمع ذلك فيه فصح أن يعمل في المفعول، وقيل: هو اسم مصدر والكوفي يجوز عمله في المفعول - فشيئا - مفعوله على رأيهم، وجوز أن يكون بمعنى مرزوق و * (شيئا) * بدل منه أي لا يملك لهم شيئا. وأورد عليه السمين. وأبو حيان أنه غير مفيد إذ من المعلوم أن الرزق من الأشياء والبدل يأتي لأحد شيئين البيان والتأكيد وليسا بموجودين هنا. وأجيب بأن تنوين * (شيئا) * للتقليل والتحقير فإن كان تنوين * (رزقا) * كذلك فهو مؤكد وإلا فمبين وحينئذ فيصح فيه أن يكون بدل بعض أو كل ولا إشكال.
وجوز أن يكون * (شيئا) * مفعولا مطلقا ليملك أي لا يملك شيئا من الملك و * (من السموات) * اما متعلق بقوله تعالى: * (لا يملك) * أو بمحذوف وقع صفة - لرزقا - أي رزقا كائنا منهما، واطلاق الرزق على المطر لأنه ينشأ عنه.
* (ولا يستطيعون) * جوز أن يكون عطفا على صلة * (ما) * وأن يكون مستأنفا للأخبار عن حالة الآلهة؛ واستطاع متعد ومفعوله محذوف هو ضمير الملك أي لا يستطيعون أن يملكوا ذلك ولا يمكنهم، فالكلام تتميم لسابقه وفيه من الترقي ما فيه فلا يكون نفي استطاعة الملك بعد نفي ملك الرزق غير محتاج إليه، وان جعل المفعول ضمير الرزق كما جوزه في الكشاف يكون هذا النفي تأكيدا لما قبله. وأورد عليه أنه قد قرر في المعاني أن حرف العطف لا يدخل بين المؤكد والمأكد لما بينهما من كمال الاتصال. ودفع بأن ذلك غير مسلم عند النحاة وليس مطلقا عند أهل المعاني ألا ترى قوله تعالى: * (كلا سيعلمون * ثم كلا سيعلمون) * (النبأ: 4، 5) نعم يرد عليه حديث أن التأسيس خير من التأكيد، ويجوز ولعله الأولى أن يكون الفعل منزلا منزلة اللازم فيكون المراد نفي الاستطاعة عنهم مطلقا على حد يعطي ويمنع المعنى أنهم أموات لا قدرة لهم أصلا فيكون تذييلا للكلام السابق، وفيه ما فيه على الوجه الأول وزيادة.
وجمع الضمير فيه وتوحيده في " لا يملك " لرعاية جانب اللفظ أولا والمعنى ثانيا فإن " ما " مفرد بمعنى الآلهة ومثل هذه الرعاية وارد في الفصيح وان أنكره بعضهم لما يلزمه من الإجمال بعد البيان المخالف للبلاغة فإنه مردود كما بين في محله، وقد روعي أيضا في التعبير حال معبوداتهم في نفس الأمر فإنها أحجار وجمدات فعبر عنها - بما - الموضوعة في المشهور لغير العالم وحالها باعتبار اعتقادهم فيها أنها آلهة فعبر عنها بضمير الجمع الموضوع لذوي العلم، هذا إذا كان المراد بما الأصنام، ولا يخفى عليك الحال إذا كان المراد بها المعبودات الباطلة مطلقا ملكا كانت أو بشرا أو حجرا أو غيرها.
وجوز أن يكون ضمير الجمع عائدا على الكفار كضمير * (يعبدون) * و * (ما) * على المعنى المشهور فيها على معنى أنهم مع كونهم أحياء متصرفين في الأمور لا يستطيعون من ذلك شيئا فكيف بالجماد الذي لا حس له، فجملة * (لا يستطيعون) * معترضة لتأكيد نفي الملك عن الآلهة والمفعول محذوف كما أشير إليه، وهذا وان كان خلاف الظاهر لكنه سالم عن مخالفة المشهور في العود على المعنى بعد مراعاة اللفظ.
* (فلا تضربوا لله الامثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون) *.
* (فلا تضربوا الله الأمثال) * التفات إلى الخطاب للإيذان بالاهتمام بشأن النهي، والفاء للدلالة على ترتيب النهي على ما عدد من النعم
193

الفائضة عليهم منه تعالى وكون آلهتهم بمعزل من أن يملكوا لهم رزقا فضلا عما فضل، والأمثال جمع مثل كعلم، والمراد من الضرب الجعل فكأنه قيل: فلا تجعلوا لله تعالى الأمثال والاكفاء فالآية كقوله تعالى: * (فلا تجعلوا لله أندادا) * وهذا ما يقتضيه ظاهر كلام ابن عباس، فقد أخرج ابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال في الآية: يقول سبحانه لا تجعلوا معي إلها غيري فإنه لا إله غيري.
وجعل كثير الأمثال جمع مثل بالتحريك، والمراد من ضرب المثل لله سبحانه الإشراك والتشبيه به جل وعلا من باب الاستعارة التمثيلية، ففي الكشف إن الله تعالى جعل المشرك به الذي يشبهه تعالى بخلقه بمنزلة ضارب المثل فإن المشبه المخذول يشبه صفة بصفة وذاتا بذات كما ان ضارب المثل كذلك فكأنه قيل: ولا تشركوا بالله سبحانه، وعدل عنه إلى المنزل دلالة على التعميم في النهي عن التشبية وصفا وذاتا، وفي لفظ * (الأمثال) * لمن لا مثال له أصلا نعى عظيم عليهم بسوء فعلهم، وفيه ادماج أن الأسماء توقيفية وهذا هو الظاهر لدلالة الفاء وعدم ذكر ضرب مثل منهم سابقا، وهذا الوجه هو الذي اختاره الزمخشري وكلام الحبر رضي الله تعالى عنه لا يأباه فقوله تاعلى: * (إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون) * تعليل للنهي أي أنه تعالى يعلم كنه ما تفعلون وعظمه وهو سبحانه معاقبكم عليه أعظم العقاب وأنتم لا تعلمون كنهه وكنه عقابه فلذا صدر منكم وتجاسر تم عليه. وجوز أن يكون المراد النهي عن قياس الله تعالى على غيره بجعل ضرب المثل استعارة للقياس، فإن القياس الحاق شيء بشيء وهو عند التحقيق تشبيه مركب بمركب، والفرق بينه وبين الوجه السابق قليل، وأمر التعليل على حاله، وجوز الزمخشري وغيره أن يكون المراد النهي عن ضرب الأمثال لله سبحانه حقيقة والمعنى فلا تضربوا لله تعالى الأمثال التي يضربها بعضكم لبعض ان الله تعالى يعلم كيف تضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون، ووجه التعليل ظاهر، واللام على سائر الأوجه متعلقة - بتضربوا - وعزم ابن المنير تعلقها - بالأمثال - فيما إذا كان المراد التمثيل للإشراك والتشبيه ثم قال: كأنه قيل فلا تمثلوا الله تعالى ولا تشبهوه، وتعلقها - بتضربوا - على هذا الوجه ثم قال كأنه قيل فلا تمثلوا لله تعالى الأمثال فإن ضرب المثل إنما يستعمل من العالم لغير العالم ليبين له ما خفي عنه والله تعالى هو العالم وأنتم لا تعلمون فتمثيل غير العالم للعالم عكس للحقيقة، وليس بشيء؛ والمعنى الذي ذكره على تقدير تعلقه بالفعل خلاف ما يقتضيه السياق وان كان التعليل عليه أظهر، ومن هنا قال العلامة المدقق في الكشف في ذلك بعد أن قال إنه نهى عن ضرب الأمثال حقيقة: كأنه أريد المبالغة في أن لا يلحدوا في أسمائه تعالى وصفاته فإنه إذا لم يجز ضرب المثل والاستعارات يكفي فيها سبه ما والإطلاق لتلك العلاقة كاف فعدم جواز إطلاق الأسماء من غير سبق تعليم منه تعالى وإثبات الصفات أولى وأولى، ووجه ربط قوله تعالى:
* (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شىء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) *
.
* (ضرب الله مثلا) * الخ على هذا عند المدقق أنه تعالى عبد أن نهاهم عن ضرب الأمثال له سبحانه ضرب مثلا دل به على أنهم ليسوا أهلا لذلك وانهم إذا كانوا على هذا الحد من المعرفة والتقليد أو المكابرة فليس لهم إلى ضرب الأمثال المطابقة المستدعي ذكاء وهداية سبيل، وقال غيره في ذلك ولعله أظهر منه: إنه تعالى لما ذكر أنه يعلم كيف تضرب الأمثال وانهم لا يعلمون علمهم كيف تضرب الأمثال في هذا الباب فقال تعالى: * (ضرب) * الخ.
ووجه الربط على ما تقدم من أن انلهي عن الإشراك أنه سبحانه لما نهاهم عن ضرب المثل الفعلي وهو الإشراك عقبه بالكشف لذي البصيرة عن فساد ما ارتكبوه بقوله سبحانه: * (ضرب) * الخ أي أورد وذكر ما يستدل به على
194

تباين الحال بين جنابه تعالى شأنه وبين ما أشركوه به سبحانه وينادي بفساد ما هم عليه نداء جليا * (عبدا مملوكا لا يقدر على شيء) * بدل من مثلا وتفسير له والمثل في الحقيقة حالته العارضة له من المملوكية والعجز التام وبحسبها ضرب نفسه مثلا ووصف العبد بالمملوكية للتمييز عن الحر لاشتراكهما في كونهما عبدا الله تعالى، وقد أدمج فيه على ما قيل إن الكل عبيد له تعالى وبعدم القدر لتمييزه عن المكاتب والمأذون اللذين لهما تصرف في الجملة، وفي إبهام المثل أولا ثم بيانه بما ذكر ما لا يخفى من الجزالة * (ومن رزقناه) * * (من) * نكرة موصوفة على ما استظهره الزمخشري ليطابق * (عبدا) * فإنه أيضا نكرة موصوفة وإلى ذلك ذهب أبو البقاء، وقال الحوفي: هي موصولة واستظهره أبو حيان، وزعم بعضهم ان ذلك لكون استعمالها موصولة أكثر من استعمالها موصوفة، والأول مختار الأكثرين أي حرا رزقناه بطريق الملك؛ والالتفات إلى التكلم للإشعار باختلاف حال ضرب المثل والرزق، وفي اختيار ضمير العظمة تعظيم لأمر ذلك الرزق ويزيد ذلك تعظيما قوله سبحانه: * (منا) * أي من جنابنا الكبير المتعالي * (رزقا حسنا) * حلالا طيبا أو مستحسنا عند الناس مرضيا ويؤخذ منه على ما قيل كونه كثيرا بناء على أن القلة التي هي أخت العدم لا حسن في ذتها * (فهو ينفق منه) * تفضلا وإحسانا، والفاء لترتب الانفاق على الرزق كأنه قيل: ومن رزقناه منا رزقا حسنا فأنفق وإيثار المنزل من الجملة الاسمية الفعلية الخبر للدلالة على ثبات الإنفاق واستمراره التجددي * (سرا وجهرا) * أي حال السر وحال الجهر أو إنفاق سر وإنفاق جهر والمراد بيان عموم انفاقه للأوقات وشمول انعامة لمن يجتنب عن قبوله جهرا.
وجوز أن يكون وصفه بالكثرة مأخوذا من هذا بناء أن المراد منه كيف يشاء وهو يدل على انحاء التصرف وسعة المتصرف منه، وتقديم السر على الجهر للإيذان بفضله عليه، وقد مر الكلام في ذلك؛ والعدول عن تطبيق القرينتين بأن يقال: وحرا مالكا للأموال مع كونه أدل على تباين الحال بينه وبين قسيمه لما في ارشاد العقل السليم من توخي تحقيق الحق بأن الأحرار أيضا تحت ربقة عبوديته تعالى وأن مالكيتهم لما يملكونه ليست إلا بأن يرزقهم الله تعالى إياه من غير أن يكون لهم مدخل في ذلك مع محاولة المبالغة في الدلالة على ما قصد بالمثل من تباين الحال بين الممثلين فإن العبد المملوك حيث لم يكن مثل العبد المالك فما ظنك بالجماد ومالك الملك خلاق العالمين * (هل يستوون) * جمع الضمير وأن تقدمه اثنان وكان الظاهر - يستويان - للإيذان بأن المراد بما ذكر من اتصف بالأوصاف المذكورة من الجنسين المذكورين لا فردان معينان منهما وان أخرج ابن عساكر. وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الآية نزلت في هشام بن عمرو وهو الذي ينفق ماله سرا وجهرا وفي عبده أبي الجوزاء الذي كان بنهاه والله تعالى أعلم بصحته. وقيل نزلت في عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وعبد له ولا يصح إسناده كما في البحر، وفيه أنه يحتمل أن يكون الجمع باعتبار أن المراد - بمن - الجمع وأن يكون باعتبار عود الضمير على العبيد والأحرار وإن لم يجر لهما ذكر لدلالة * (عبد مملوك. ومن رزقناه) * عليهما، والمعول عليه ما ذكر أولا، والمعنى هل يستوي العبيد والأحرار الموصوفون بما ذكر من الصفات مع أن الفريقين سيان في البشرية والمخلوقية لله سبحانه وأن ما ينفقه الأحرار ليس مما لهم دخل في إيجاده ولا تملكه بل هو مما أعطاه الله تعالى إياهم فحيث لم يستو الفريقان فما ظنكم برب العالمين حيث تشركون به ما لا ذليل
195

أذل منه وهو الاصنام، وقيل: إن هذا تمثيل للكافر المخذول والمؤمن الموفق شبه الأول بمملوك لا تصرف له لأنه لا حباط عمله وعدم الاعتداد بأفعاله واتباعه لهواه كالعبد المنقاد الملحق بالبهائم بخلاف المؤمن الموفق، وجعله تمثيلا لذلك مروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقتادة ولا تعيين أيضا وإن قيل: إن الآية نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه. وأبي جهل، على أن أبا حيان قال إنه لا يصح إسناد ذلك، هذا ثم أعلم أنهم اختلفوا في العبد هل يصح له ملك أم لا قال في الكشاف: المذهب الظاهر أنه لا يصح وبه قال الشافعي، وقال ابن المنير على ما لخصه في الكشف من كلام طويل إنه يصح له الملك عند مالك: وظاهر الآية تشهد له لأنه أثبت له العجز بقوله تعالى: * (مملوكا) * ثم نفى القدرة العارضة بتمليك السيد بقوله سبحانه: * (لا يقدر على شيء) * وليس المعنى القدرة على التصرف لأن مقابله * (ومن رزقناه منا رزقا حسنا) * والحمل على إخراج المكاتب مع شذوذه إيجاز مع اخلال كما قال امام الحرمين رحمه الله تعالى في " أيما أمرأة نكحت بغير اذن وليها " الحمل على المكاتبة بعيد لا يجوز والمأذون لم يخرج لما مر من أن المراد بالقدرة ما هو، وليس لقائل أن يقول: إنه صفة لازمة موضحة فالأصل في الصفات التقييد اه‍.
وتعقبه المدقق بقوله: والجواب أن المعنى على نفي القدرة عن التصرف فالآية واردة في تمثيل حال الاصنام به تعالى عن ذلك علوا كبيرا وكلما بولغ في حال عجز المشبه به وكمال المقابل دل في المشبه به أيضا على ذلك فالذي يطابق المقام القدرة على التصرف وهو في مقابلة قوله تعالى: * (ينفق منه سرا وجهرا) * وما ذكره لا حاصل له ولا إخلال في إخراج المكاتب لشمول اللفظ مع أن المقام مقام مبالغة فما يتوهم دخوله بوجه ينبغي أن ينفي وأين هذا مما نقله عن إمام الحرمين اه‍. واستدل بالآية أيضا على أن العبد لا يملك الطلاق أيضا وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال: ليس للعبد طلاق إلا باذن سيده وقرأ الآية؛ وقد فصلت أحكام العبيد في حكم الفقه على أتم وجه * (الحمد لله) * أي كله له سبحانه لا يستحقه أحد غيره تعالى لأنه جل شأنه الملوى للنعم وإن ظهرت على أيدي بعض الوسائل فضلا عن استحقاق العبادة.
وفيه إرشاد إلى ما هو الحق من أن ما يظهر على يد من ينفق فيما ذكر راجع إليه تعالى كما لوج به * (رزقناه) * وقال غير واحد هذا حمد على ظهور المحجة وقوة هذه الحجة * (بل أكثرهم لا يعلمون) * ما ذكر فيضيفون نعمه تعالى إلى غيره ويعبدونه لأجل أو لا يعلمون ظهور ذلك وقوة ما هنالك فيبقون على شركهم وضلالهم، ونفي العلم عن أكثرهم للاشعار بأن بعضهم يعلمون ذلك وإنما لم يعملوا بموجبه عنادا؛ وقيل: المراد بالأكثر الكل فكأنه قيل: هم لا يعلمون، وقيل: ضمير * (هم) * للخلق والأكثر هم المشركون، وكلا القولين خلاف الظاهر.
* (وضرب الله مثلا رجلين أحدهمآ أبكم لا يقدر على شىء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم) *
.
* (وضرب الله مثلا) * أي مثلا آخر يدل على ما يدل عليه المثل السابق على وجه أظهر وأوضح، وأبهم ثم بين بقوله تعالى: * (رجلين أحدهما اكم) * لما تقدم والبكم الخرس المقارن للخلقة ويلزمه الصمم فصاحبه لا يفهم لعدم السمع ولا يفهم غيره لعدم النطق، والإشارة لا يعتد بها لعدم تفهيمها حق التفهيم لكل أحد فكأنه قيل: أحدهما أخرس أصم لا يفهم ولا يفهم * (لا يقدر على شيء) * من الأشياء المتعلقة بنفسه أو غيره بحدس أو فراسة لسوء فهمه وإدراكه * (وهو كل) * ثقيل وعيال * (على مولاه) * على من يعوله ويلي أمره، وهذا بيان لعدم قدرته على إقامة مصاله نفسه بعد ذكر عدم قدرته مطلقا، وقوله سبحانه:
196

* (أينما يوجهه لا يأت بخير) * أي حيثما برسله مولاه في أمر لا يأت بنجح وكفاية مهم، بيان لعدم قدرته على مصالح مولاه. وقرأ عبد الله في رواية * (توجهه) * على الخطاب، وقرأ علقمة. وابن وئاب. ومجاهد. وطلحة وهي رواية أخرى عن عبد الله * (يوجه) * بالبناء للفاعل والجزم، وخرج على أن الفاعل يعود على المولى والمفعول محذوف وهو ضمير الا بكم أي يوجهه، ويجوز أن يكون ضمير الفاعل عائدا على الا بكم ويكون الفعل لازم وجه بمعنى توجه، وعلى ذلك جاء قول الاضبط بن قريع السعدي. أينما أوجه ألق سعدا
وعن علقمة. وطلحة. وابن وثاب أيضا * (يوجه) * بالجزم والبناء للمفعول، وفي رواية أخرى عن علقمة. وطلحة أنهما قرءا * (يوجه) * بكسر الجيم وضم الهاء
، قال صاحب اللوامح. فإن صح ذلك فالهاء التي هي لام الفعل محذوفة فرارا من التضعيف أو لم يرد - بأينما - الشرط، والمراد أينما هو يوجه وقد حذف منه ضمير المفعول به فيكون حذف الياء من آخر * (يأت) * للتخفيف، وتعقبه أبو حيان بأن أين لا تخرج عن الشرط أو الاستفهام. ونقل عن أبي حاتم أن هذه القراءة ضعيفة لأن الجزم لازم، ثم قال: والذي توجه به هذه القراءة أن * (أينما) * شرط حملت على إذا بجامع ما اشتركا فيه من الشرط ثم حذفت ياء * (يأت) * تخفيفا أو جزم على توهم أنه جيء بأينما جازمة كقراءة من قرأ - إنه من يتقي ويصبر - في أحد الوجهين، ويكون معنى يوجه يتوجه كما مر آنفا * (هل يستوي هو) * أي ذلك الأبكم الموصوف بتلك الصفات المذكورة * (ومن يأمر بالعدل) * ومن هو منطيق فهم ذو رأي ورشد يكفي الناس في مهماتهم وينفعهم بحثهم على العدل الجامع لمجامع الفضائل * (وهو) * في نفسه مع ما ذكر من نفعه الخاص والعام * (على صراط مستقيم) * لا يتوجه إلى مطلب إلا ويبلغه بأقرب سعي، فالجملة حالية مبينة لكماله في نفسه ولما كان ذلك مقدما على تكميل الغير أتى بها اسمية فإنها تشعر بذلك مع الثبوت إلى مقارنة ذي الحال، فلا يقال. الأنسب تقديمها في النظم الكريم، ومقابلة تلك الصفات الأربع بهذين الوصفين لأنهما كمال ما يقابلها ونهايته فاختير آخر صفات الكامل المستدعية لما ذكر وأزيد حيث جعل هاديا مهديا، وتغيير الأسلوب حيث لم يقل: والآخر يأمر بالعدل الآية لمراعاة الملاءمة بينه وبين ما هو المقصود من بيان التباين بين الفريقين، ويقال هنا كما قيل في المثل السابق: إنه حيث لم يستو الفريقان في الفضل والشرف مع استوائهما في الماهية والصورة فلأن يحكم بأن الصنم الذي لا ينطق ولا يسمع وهو عاجز لا يقدر على شيء كل على عابده يحتاج إلى أن يحمله ويضعه ويمسح عنه الأذى إذا وقع عليه ويخدمه وإن وجهه إلى أي مهم من مهماته لا ينفعه ولا يأت له به لا يساوي رب العالمين وهو - هو - في استحقاق المعبودية أحرى وأولى، وقيل: هذا تمثيل للمؤمن والكافر فالأبكم هو الكافر ومن يأمر بالعدل هو المؤمن، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وإياما كان فليس المراد - برجلين - رجلان متصفان بما ذكر من الصفات مطلقاف، وما روي من أن الأبكم أبو جهل والآمر بالعدل عمار أو الأبكم أبي ابن خلف والآمر عثمان بن مظعون فقال أبو حيان: لا يصح إسناده، وما أخرج ابن جرير. وابن عساكر. وغيرهما عن ابن عباس أنه قال: نزلت هذه الآية * (وضرب الله مثلا رجلين) * (النحل: 76) الخ في عثمان بن عفان ومولى له كافر وهو أسيد بن أبي العيص كان يكره الإسلام وكان عثمان ينفق عليه ويكفله ويكفيه المؤنة وكان الآخر ينهاه عن الصدقة والمعروف فنزلت فيهما فبعد تحقق
197

صحته لا يضرنا في إرادة الموصوفين مطلقا بحيث يدخل فيهما من ذكر. فقد صرحوا بأن خصوص السبب لا ينافي العمون.
هذا وقد اقتصر شيخ الإسلام على كون الغرض من التمثيلين نفي المساواة بينه جل جلاله وبين ما يشركون، وهو دليل على أنه مختاره ثم قال: اعلم أن كلا الفعلين ليس المراد بهما حكاية الضرب الماضي بل المراد انشاؤه بما ذكر عقيبه، ولا يبعد أن يقال: إن الله تعالى ضرب مثلا بخلق الفريقين على ما هما عليه فكان خلقهما كذلك للاستدلال بعدم تساويهما على امتناع التساوي بينه سبحانه وتعالى وبين ما يشركون فيكون كل من الفعلين حكاية للضرب الماضي اه‍، ولا يخفى أنه لا كلام في حسن اختياره لكن في النفس من قوله لا يبعد شيء.
* (ولله غيب السم‍اوات والارض ومآ أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شىء قدير) *
.
* (ولله) * تعالى خاصة لا لأحد غيره استقلال ولا اشتركا * (غيب السموات والأرض) * أي جميع الأمور الغائبة عن علوم المخلوقين بحيث لا سبيل لهم إلى إدراكها حساولا إلى فهمها عقلا، ومعنى الإضافة إليهما التعلق بهما إما باعتبار الوقوع فيهما حالا أو مآلا واما باعتبار الغيبة عن أهلهما، ولا حاجة إلى تقدير هذا المضاف، والمراد بيان الاختصاص به تعالى من حيث المعلومية حسبما ينبىء عنه عنوان الغيبة لا من حيث المخلوقية والمملوكية وإن كان الأمر كذلك في نفس الأمر، وفيه - كما في إرشاد العقل السليم - اشعار بأن علمه تعالى حضوري وأن تحقق الغيوب في نفسها بالنسبة إليه سبحانه وتعالى ولذلك لم يقل تعالى: ولله علم غيب السموات والأرض، وقيل: المراد بغيب السموات والأرض ما في قوله سبحانه: * (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث) * الآية، وقيل: يوم القيامة، ولا يخفى أن القول بالعموم أولى.
* (وما أمر الساعة) * التي هي أعظم ما وقع فيه المماراة من الغيوب المتعلقة بالسموات والأرض من حيث الغيبة عن أهلهما أو ظهور آثارها فيهما عند وقوعها أي وما شأنها في سرعة المجيء، * (إلا كلمح البصر) * أي كرجع الطرف من أعلا الحدقة إلى أسفلها. وفي البحر اللمح النظر بسرعة يقال: لمحه لمحا ولمحانا إذا نظره بسرعة * (أو هو) * أي أمرها * (أقرب) * أي من ذلك وأسرع بأن يقع في بعض أجزاء زمانه فإن رجع الطرف من أعلا الحدقة إلى أسفلها وإن قصر حركة أينية لها هوية اتصالية منطبقة على زمان له هو كذلك قابل للانقسام إلى أبعاض هي أزمنة أيضا بل بأن يقع فيما يقال به آن وهو جزء غير منقسم من أجزاء الزمان كآن ابتداء الحركة، و * (أو) * قال الفراء: بمعنى بل. ورده في البحر بأن بل للإضراب وهو لا يصح هنا بقسيمه، أما الإبطال فلأنه يؤل إلى أن الحكم السابق غير مطابق فيكون الأخبار به كذبا والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك، وأما الانتقال فلأنه يلزمه التنافي بين الأخبار بكونه مثل لمح البصر وكونه أقرب فلا يمكن صدقهما معا ويلزم الكذب المحال أيضا. وأجيب باختيار الثاني ولا تنافي بين تشبيهه في السرعة بما هو غاية ما يتعارفه الناس في بابه وبين كونه في الواقع أقرب من ذلك، وهذا بناء على أن الغرض من التشبيه بيان سرعته لا بيان مقدار زمان وفوعه وتحديده. وأجيب أيضا بما يصححه بشقيه وهو أنه ورد على عادة الناس يعني أن أمرها إذا سئلتم عنها أن يقال فيه: هو كلمح البصر ثم يضرب عنه إلى ما هو أقرب. وقيل: هي للتخيير. ورده في البحر أيضا بأنه إنما يكون في المحظورات كخذ من مالي دينارا أو درهما أو في التكليفات كآية الكفارات. وأجيب بأن هذا مبني على مذهب ابن مالك من أن * (أو) * تأتي للتخيير وأنه غير مختص بالوقوع
198

بعد الطلب بل يقع في الخبر ويكثر في التشبيه حتى خصه بعضهم به. وفي شرح الهادي اعلم أن التخيير والإباحة مختصان بالأمر إذ لا معنى لهما في الخبر كما أن الشك والإبهام مختصان بالخبر. وقد جاءت الإباحة في غير الأمر كقوله تعالى: * (كمثل الذي استوقد نارا) * إلى قوله سبحانه: * (أو كصيب من السماء) * (البقرة: 19) أي بأي هذين شبهت فأنت مصيب وكذا ان شبهت بهما جميعا، ومثله في الشعر كثير، وقيل: إن المراد تخيير المخاطب بعد فرض الطلب والسؤال فلا حاجة إلى البناء على ما ذكر، وهو كما ترى، وزعم بعضهم أن التخيير مشكل من جهة أخرى وهي أن أحد الأمرين من كونه كلمح البصر أو أقرب غير مطابق للواقع فكيف يخير الله تعالى بين ما لا يطابقه، وفيه أن المراد التخيير في التشبيه وأي ضرر في عدم وقوع المشبه به بل قد يستحسن فيه عدم الوقوع كما في قوله: أعلام ياقوت نشر * ن على رماح من زبرجد
وقال ابن عطية: هي للشك على بابها على معنى أنه لو اتفق أن يقف على أمرها شخص من البشر لكانت من السرعة بحيث يشك هل هو كلمح البصر أو أقرب. وتعقبه في البحر أيضا بأن الشك بعيد لأن هذا اختبار من الله تعالى عن أمر الساعة والشك مستحيل عليه سبحانه أي فلا بد أن يكون ذلك بالنسبة إلى غير المتكلم، وفي ارتكابه بعد، ويدل على أن هذا مراده تعليله البعد بالاستحالة فليس اعتراضه مما يقضي منه العجب كما توهم، وقال الزجاج: هي للإبهام وتعقب بأنه لا فائدة في إبهام أمرها في السرعة وإنما الفائدة في إبهام وقت مجيئها. وأجيب بأن المراد أنه يستبهم على ما يشاهد سرعتها هل هي كلمح البصر أو أقل فتدبر. والمأثور عن ابن جريج أنها بمعنى بل وعليه كثيرون، والمراد تمثيل سرعة مجيئها واستقرابه على وجه المبالغة، وقد كثر في النظم مثل هذه المبالغة، ومنه قول الشاعر:
قالت له البرق وقالت له الريح جميعا وهما ما هما
أأنت تجري معنا قال إن * نشطت أضحكتكما منكما
ان ارتداد الطرف قد فته * إلى المدى سبقا فمن أنتما
وقيل: المعنى وما أمر إقامة الساعة المختص علمها به سبحانه وهي اماتة الاحياء واحياء الأموات من الأولين والآخرين وتبديل صور الأكوان أجمعين وقد أنكرها المنكرون وجعلوها من قبيل ما لا يدخل تحت دائرة الإمكان في سرعة الوقوع وسهولة التأتي إلا كلمح البصر أو هو أقرب على ما مر من الأقوال في * (أو) * * (إن الله على شيء قدير) * ومن جملة الأشياء أن يجيء بها في أسرع ما يكون فهو قادر على ذلك، وتقول على الثاني: ومن جملة ذلك أمر إقامتها فهو سبحانه قادر عليه فالجملة في موضع التعليل. وفي الكشف على تقدير عموم الغيب وشموله لجميع ما غاب في السموات والأرض ان قوله تعالى: * (وما أمر الساعة) * كالمستفاد من الأول وهو اكلتمهيد له أي يختص به علم كل غيب الساعة وغيرها فهو الآتي بها للعلم والقدرة، ولهذا عقب بقوله سبحانه: * (إن الله) * الخ، وأما إذا أريد بالغيب الساعة فهو ظاهر اه‍. ولا يخفي الحال على القول بأن المراد بالغيب ما في قوله تعالى: * (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث) * الآية، وعلى القول الأخير في الغيب يكون ذكر الساعة من وضع الظاهر موضع الضمير لتقوية مضمون الجملة.
* (والله أخرجكم من بطون أمه‍اتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابص‍ار والأفئدة لعلكم تشكرون) *
.
* (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم) * عطف على قوله تعالى: * (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا) *
199

منتظم معه في سلك أدلة التوحيد، ويفهم من قول العلامة الطيبي أنه تعالى عقب قوله سبحانه: * (إن الله على كل شيء قدير) * (النحل: 77) بقوله جل وعلا: * (والله أخرجكم) * الخ معطوفا بالواو إيذانا بأن مقدوراته تعالى لا نهاية لها والمذكور بعض منها أن العطف على قوله سبحلنه: * (إن الله) * الخ، والذي تنبسط له النفس هو الأول.
والأمهات بضم الهمزة وفتح الهمزة جمع أم والهاء فيه مزيدة وكثر زيادتها فيه وورد بدونها، والمعنى في الحالين واحد، وقيل: ذو الزيادة للإناسي والعاري عنها للبهائم، ووزن المفرد فعل لقولهم الأمومة، وجاء بالهاء كقول قصى بن كلاب عليهما الرحمة: أمهتي خندف والياس أبى
وهو قليل، وأقل من ذلك زيادة الهاء في الفعل كما قيل في إهراق، وفيه بحث فارجع إلى الصحاح وغيره.
وقرأ حمزة بكسر الهمزة والميمي هنا، وفي الزمر، والنجم. والورم، والكسائي بكسر الميم فيهن؛ والأعمش بحذف الهمزة وكسر الميم، وابن أبي ليلى بحذفها وفتح الميم، قال أبو حاتم: حذف الهمة رديء ولكن قراءة ابن أبي ليلى أصوب، وكانت كذلك على ما في البحر لأن كسر الميم إنما هو لإتباعها حركة الهمزة فإذا كانت الهمزة محذوفة زال الإتباع بخلاف قراءة ابن أبي ليلى فإنه أقر الميم على حركتها * (لا تعلمون شيئا) * في موضع الحال و * (شيئا) * منصوب على المصدرية أو مفعول * (تعلمون) *، والنفي منصب عليه، والعلم بمعنى المعرفة أي غير عارفين شيئا أصلا من حق المنعم وغيره، وقيل: شيئا من منافعكم، وقيل: مما قضى عليكم من السعادة أو الشقاوة، وقيل: مما أخذ عليكم من الميثاق في أصلاب آبائكم، والظاهر العموم ولا داعي إلى التخصيص. وعن وهب يولد المولود خدرا إلى سبعة أيام لا يدرك راحة ولا ألما.
وادعى بعضهم أن النفس لا تخلو في مبدأ الفطرة عن العلم الحضوري وهو علمها بنفسها إذ المجرد لا يغيب عن ذاته أصلا، فقد قال الشيخ في بعض تعليقاته عند إثبات تجرد النفس: إنك لا تغفل عن ذاتك أصلا في حال من الأحوال ولو في حال النوم والسكر، ولو جوز مجوز أن يغفل عن ذاته في بعض الأحوال حتى لا يكون بينه وبين الجماد في هذه الحالة فرق فلا يجدي هذا البرهان معه، وقال بهمنيار في التحصيل في فصل العقل والمعقول: ثم إن النفس الإنسانية تشعر بذاتها فيجب أن يكون وجودها
عقليا فيكون نفس وجودها نفس إدراكا ولهذا لا تعزب عن ذاتها البتة، ومثله في الشفاء، وأنت تعلم أن عدم الخلو مبني على مقدمات خفية كتجرد النفس الذي أنكره الطبيعيون عن آخرهم وأن كل مجرد عالم ولا يتم البرهان عليه، وأيضا ما نقل من أن علم النفس بذاتها عين ذاتها لا ينافي أن يكون لكون الذات علما بها شرط فما لم يتحقق ذلك الشرط لم تكن الذات علما بها كما أن لكون المبتدأ الفياض خزانة لمعقولات زيد مثلا شرطا إذا تحقق تحقق وإلا فلا، ويؤيد ذلك أن علم النفس بصفاتها أيضا نفس صفاتها عندهم؛ ومع ذلك يجوز الغفلة عن الصفة في بعض الأحيان كما لا يخفى.
وأيضا إذا قلنا: إن حقيقة الذات غير غائبة عنها، وقلنا: إن ذلك علم بها يلزم أن يكون حقيقة النفس المجردة معلومة لكل أحد؛ ومن البين أنه ليس كذلك، على أن المحقق الطوسي قد منع قولهم: إنك لا تغفل عن ذاتك أبدا، وقال: إن المغمى عليه ربما غفل عن ذاته في وقت الإغماء، ومثله كثير من الأمراض النفسانية، ومن العجائب أن بعض الأجلة ذكر أن المراد بخلوها في مبدأ الفطرة خلوها حال تعلقها بالبدن، وقال: إنه لا ينافي
200

ذلك ما قاله الشيخ من أن الطفل يتعلق بالثدي حال التولد بإلهام فطري لأن حال التعلق سابق على ذلك، وذلك بعد أن ذكر أن الخلو في مبدأ الفطرة إنما يظهر لذوي الحدس بملاحظة حال الطفل وتجارب أحواله ووجه العجب ظاهر فافهم ولا تغفل.
وتفسير العلم بالمعرفة مما ذهب إليه غير واحد، وفي أمالي العز لا يجوز أن يجعل باقيا على بابا ويكون * (شيئا) * مصدرا أي لا تعلمون علما لوجهين. الأول: الأول أنه يلزم حذف المفعولين وهو خلاف الأصل. الثاني: أنه لو كان باقيا على بابه لكان الناس يعلمون المبتدأ الذي هو أحد المفعولين قبل الخروج من البطون وهو محال لاستحالة العلم على من لم يولد، بيان ذلك أنا إذا قلنا: علمت زيدا مقيما يجب أن يكون العلم بزيد متقدما قبل هذا العلم وهذا العلم إنما يتعلق بإقامته، وكذلك إذا قلت: ما علمت زيدا مقيما فالذي لم يعلم هو إقامة زيد وأما هو فمعلوم وذلك مستفاد من جهة الوضع فحيث أثبت العلم أو نفى فلا بد أن يكون الأول معلوما فيتعين حمل العلم على المعرفة اه‍.
ويعلم منه عدم استقامة جعل العلم على بابه، و * (شيئا) * مفعوله الأول والمفعول الثاني محذوف. وقوله تعالى: * (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة) * يحتمل أن يكون جملة ابتدائية ويحتمل أن يكون معطوفا على الجملة الواقعة خبرا والواو لا تقتضي الترتيب، ونكتة تأخيره أن السمع ونحوه من آلات الإدراك إنما يعتد به إذا أحس وأدرك وذلك بعد الإخراج، وجعل إن تعدى لواحد بأن كان بمعنى خلق - فلكم - متعلق به وإن تعدى لاثنين بأن كان بمعنى صير فهو مفعوله الثاني، وتقديم الجار والمجرور على المنصوبات لما مر غير مرة. والمعنى جعل لكم هذه الأشياء آلات تحصلون بها العلم والمعرفة بأن تحسوا بمشاعركم جزئيات الأشياء وتدركوها بأفئدتكم وتنتبهوا لما بينها من المشاركات والمباينات بتكرير الإحساس فيحصل لكم علوم بديهية تتمكنون بالنظر فيها من تحصيل العلوم الكسبية، وهذا خلاصة ما ذكره الإمام في هذا المقام ومستمد ما ذهب إليه الكثير من الحكماء من أن النفس في أول أمرها خالية عن العلوم فإذا استعملت الحواس الظاهرة أدركت بالقوة الوهمية أمورا جزئية بمشاركات ومباينات جزئية بينها فاستعدت لأن يفيض عليها المبدأ الفياض المشاركات الكلية، ويثبتون للنفس أربع مراتب. مرتبة العقل الهيولاني. ومرتبة العقل بالملكة. ومرتبة العقل بالفعل. ومرتبة العقل المستفاد، ويزعمون أن النفس لا تدرك الجزئي المادي، ولهم في هذا المقام كلام طويل وبحث عريض.
وأهل السنة يقولون: إن النفس تدرك الكلي والجزئي مطلقا باستعمال المشاعر وبدونه كما فصل في محله، وتحقيق هذا المطلب بماله وما عليه يحتاج إلى بسط كثير، وقد عرض والمستعان بالحي القيوم جل جلاله وعم نواله من الحوادث الموجبة لاختلال أمر الخاصة والعامة ما شوش ذهني وحال بين تحقيق ذلك وبيني، أسأل الله سبحانه أن يمن علينا بما يسر الفؤاد وييسر لنا ما يكون عونا على تحصيل المراد وبالجملة المأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في هذه الآية أنه قال: يريد سبحانه أنه جعل لكم ذلك لتسمعوا مواعظ الله تعالى وتبصروا ما أنعم الله تعالى به عليكم من إخراجكم من بطون أمهاتكم إلى أن صرتم رجالا وتعقلوا عظمته سبحانه. وقيل: المعنى جعل لكم السمع لتسمعوا به نصوص الكتاب والسنة التي هي دلائل سمعية لتستدلوا بها على ما يصلحكم في أمر دينكم والأبصار لتبصروا بها عجائب مصنوعاته تعالى وغرائب مخلوقاته سبحانه فتستدلوا بها على وحدانيته
201

جل وعلا. والأفئدة لتعقلوا بها معاني الأشياء التي جعلها سبحانه دلائل لكم، والسمع والأبصار على هذين القولين على ظاهرهما ولم نر من جوز إخراجهما عن ذلك.
وجوزأن يراد بهما الحواس الظاهرة على الأول، والأفئدة جمع فؤاد وهو وسط القلب وهو من اقللب كالقلب من الصدر، وهذا الجمع على ما في " الكشاف " من جموع القلة الجارية مجرى جموع الكثرة والقلة إذا لم يرد في السماع غيرها كما جاء شسوع في جمع شسع لا غير فجرى ذلك المجرى، وقال الزجاج: لم يجمع فؤاد على أكثر العدد وربما قيل: أفئدة وفئدان كما قيل: أغربة وغربان في جمع غراب، وفي " التفسير الكبير " لعل الفؤاد إنما جمع على بناء القلة تنبيها على أن السمع والبصر كثر وأما الفؤاد فقليل لأنه إنما خلق للمعارف الحقيقية والعلوم اليقينية وأكثر الخلق ليس لهم ذلك بل يكونون مشتغلين بالأفعال البهيمية والصفات السبعية فكأن فؤادهم ليس بفؤاد فلذا ذكر في جمعه جمع القلة اه‍، ويرد عليه الأبصار فإنه جمع قلة أيضا. وفي " البحر " بعد نقله أنه قول هذياني ولولا جلالة قائله لم نسطره في الكتب وإنما يقال في هذا ما قاله الزمخشري مما ذكر سابقا إلا أن قوله: لم يجء في جمع شسع إلا شسوع لس بصحيح بل جاء فيه إشساع جمع قلة على قلة اه‍ فاحفظ ولا تغفل.
وزعم بعضهم أن الفؤاد إنما يدرك ما ليس بمحدود بنحو أين وكيف وكم وغير ذلك وإن لكل مدرك قوة مدركة له تناسبه لا يمكن أن يدرك بغيرها على نحو المحسوسات الظاهرة من الأصوات والألوان والطعوم ونحوها والحواس الظاهرة من السمع والبصر والذوق إلى غير ذلك وهو كما ترى.
وإفراد السمع باعتبار أنه مصدر في الأصل، وقيل: إنما أفرد وجمع الأبصار للإشارة إلى أن من مدركاته نوع واحد ومدركات البصر أكثر من ذلك وتقديمه لما أنه طريق تلقي الوحي أو لأن إدراكه من إدراك البصر، وقيل: لأن مدركاته أقل من مدركاته، والخلاف في الأفضل منهما شهير وقد مر، وتقديمها على الأفئدة المشار بها
إلى العقل لتقدم الظاهر على الباطن أو لأن لهما مدخلا في إدراكه في الجملة بل هما من خدمه والخدم تتقدم بين يدي السادة، وكثير من السنن أمر بتقديمه على فروض العبادة أو لأن مدركاتهما أقل قليل بالنبة إلى مدركاته كيف لا ومدركاته لا تكاد تحصى وإن قيل: إن للعقل حدا ينتهي إليه كما أن للبصر حدا كذلك، واستأنس بعضهم بذكر ما يشير إليه فقط دون ضم ما يشير إلى سائر المشاعر الباطنة إليه لنفي الحواس الخمس الباطنة التي أثبتها الحكماء بما لا يخلو عن كدر، وتفصيل الكلام في محله * (لعلكم تشكرون) * كي تعرفوا ما أنعم سبحانه به عليكم طورا غب طور فتشكروه، وقيل: المعنى جعل ذلك كي تشكروه تعالى باستعمال ما ذكر فيما خلق لأجله.
* (ألم يروا إلى الطير مسخرات فى جو السمآء ما يمسكهن إلا الله إن فى ذالك لآي‍ات لقوم يؤمنون) *
.
* (ألم يروا) * وقرأ حمزة. وابن عامر. وطلحة. والأعمش. وابن هرمز * (ألم تروا) * بالتاء الفوقية على أنه خطاب العامة، والمراد بهم جميع الخلق المخاطبون قبل في قوله تعالى: * (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم) * لا على أن المخاطب من وقع في قوله تعالى: * (ويعبدون من دون الله) * (يونس: 18) بتلوين الخطاب لأنه المناسب للاستفهام الإنكاري ولذا جعل قراءة الجمهور بياء الغيبية باعتبار غيبة * (يعبدون) * ولم يجعلوا ذلك التفاتا حينئذ فالإنكار باعتبار اندراجهم في العامة، والرؤية بصرية أي ألم ينظروا * (إلى الطير) * جمع طائر كركب وراكب ويقع على الواحد أيضا وليس بمراد ويقال في الجمع أيضا طيور وأطيار * (مسخرات) * مذلللات للطيران، وفيه إشارة إلى أن طيرانها ليس بمقتضى طبعها
202

* (في جو السماء) * أي في الهواء المتباعد من الأرض واللوح السكاك أبعد منه، وقيل: الجو مسافة ما بين السماء والأرض والجوة لغة فيه، وإضافته إلى السماء لما أنه في جانبها من الناظر ولا إظهار كمال القدرة، وعن السدي تفسير الجو بالجوف وفسرت السماء على هذا بجهة العلو والطير قد يطير في هذه الجهة حتى يغيب عن النظر ولم يعلم منتهى ارتفاعه في الطيران إلا الله تعالى، وعن كعب أن الطير لا ترتفع أكثر من اثني عشر ميلا.
* (ما يمسكهن) * في الجو عن الوقوع * (إلا الله) * عز وجل بقدرته الواسعة فإن ثقل جسدها ورقة الهواء يقتضيات سقوطها ولاعلاقة من فوقها ولا دعامة من تحتها، والجملة إما حال من الضمير المستترفي * (مسخرات) * أو من * (الطير) * وإما مستأنفة * (إن في ذلك) * الذي ذكر من التسخير في الجو والإمساك فيه، وقيل المشار إليه ما اشتملت عليه هذه الآية والتي قبلها * (لآيات) * دالة على كمال قدرته جل شأنه * (لقوم يؤمنون) * أي ن شأنهم أن يؤمنوا، وخص ذلك بهم لأنهم المنتفعون به، واقتصر الإمام على جعل المشار إليه ما فيه هذه الآية قال: وهذا دليل على كمال قدرة الله تعالى وحكمته سبحانه فإنه جل شأنه خلق الطائر خلقة معها يمكه الطيران أعطاه جناحا يبسطه مرة ويكنه أخرى مثل ما يعمل السابح في الماء وخلق الجو خلقة معها يمكن الطيران خلقه خلقة لطيفة يسهل بسببها خرقه والنفاذ فيه ولولا ذلك لما كان الطيران ممكنا اه‍.
وكذا المولى أبو السعود قال: إن في ذلك الذي ذكر من تسخير الطير للطيران بأن خلقها تتمكن بها منه بأن جعل لها أجنحة خفيفة وأذنابا كذلك وجعل أجسادها من الخفة بحيث إذا بسطت أجنحتها وأذنابها لا يطيق ثقلها أن يخرق ما تحتها من الهواء الرقيق القوام وتخرق ما بين يديها من الهواء لأنها لا تلاقيه بحجم كبير لآيات ظاهرة، وذكر أن تسخرها بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المساعدة. وتعقب ذلك أبو حيان بقوله: والذي نقوله إنه كان يمكن الطائر أن يطير ولو لم يخلق له جناح وأنه كان يمكنه خرق الشيء الكثيف وذلك بقدرة الله تعالى ولا نقول: إنه لولا الجناح ولطف الجو والآلات ما أمكن الطيران اه‍ وأنا لا أظن أن أحدا ينفي الإمكان الذاتي للطيران بدون الجناح مثلا لكن لا يبعد نفيه بدون لطف المطار والكثيف متى خرق كان المطار لطيفا فافهم. واستدل بالآية على أن العبد خالق لأفعاله، وأولها القاضي وهو ارتكاب لخلاف الظاهر لغير دليل.
* (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الانع‍ام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إق‍امتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارهآ أث‍اثا ومت‍اعا إلى حين) *
.
* (والله جعل لكم) * معطوف على ما مر، وتقديم * (لكم) * على ما بعده للتشويق والإيذان من أول الأمر بأن هذا الجعل لمنفعتهم، وقوله تعالى: * (من بيوتكم) * تبيين لذلك المجعول المبهم في الجملة وتأكيد لما سبق من التشويق والإضافة للعهد أي من بيوتكم المعهودة التي تبنونها من الحجر والمدر والأخشاب * (سكنا) * فعل بمعنى مفعول كنقض وأنشد الفراء.
جاء الشتاء ولما أتخذ سكنا * يا ويح نفسي من حفر القراميص
وليس بمصدر كما ذهب إليه ابن عطية أي موضعا تسكنون فهي وقت إقامتكم، وجوز أن يكون المعنى تسكنون إليه من غير أن ينتقل من مكانه أي جعل بعض بيوتكم بحيث تسكنون إليه وتطمئنون به.
* (وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا) * أي بيوتا أخر مغايرة لبيوتكم المعهودة وهي القباب المتخذة من
203

الأدم والظاهر أنه لا يندرج في هذه البيوت البيوت المتخذة من الشعر والصوف ولوبر، وقال ابن سلام وغيره: بالإندراج لأنها من حيث أنها ثابتة على جلودها يصدق عليها أنها من جلودها. واعترض بأن * (من) * على الأول تبعيضية وعلى إرادة البيوت التي من الشعر ونحوه ابتدائية، فإذا عمم ذلك يلزم استعمال المشترك في معنييه وأجيب بأن القائل بذلك لعله يى جواز هذا الاستعمال، وممن قال بذلك البيضاوي وهو شافعي.
وقيل: الجلود مجاز عن المجموع * (تستخفونها) * أي تجدونها خفيفة سهلة المأخذ فالسين ليست للطلب بل للوجدان كأحمدته وجدته محمودا * (يوم ظغنكم) * وقت
ترحالكم في النقض والحمل * (ويوم إقامتكم) * ووقت نزولكم وإقامتكم في مسايركم حسبما يتفق في الضرب والبناء، وجوز أن يكون المعنى تجدونها خفيفة في أوقات السفر وفي أوقات الحضر، واختار ابن المنير الأول وقال: إنه التفسير لأن المنة في خفتها في السفر أتم وأقوى إذا لا يهم المقيم أمرها، قال في " الكشف ": وهو حق، وقال بعض الفضلاء: ينبغي أن يكون الثاني أولى للعموم فإن حالتي السفر اندرجتا في يوم ظعنكم حيث أريد به مقابل الحضر والخفة على المقيم نعمة في حقه أيضا فإنه يضربها وقد ينقلها من مكان إلى مكان قريب لداع يدعو إليه فالأولى أن لا تخلو الآية عن التعرض لذلك اه‍ ولا يخفى أن الاندراج ظاهر إن أريد بالظعن مقال الحضر وأما إذا أريد به مقابل النزول كما سمعت فغير ظاهر.
نعم يجوز إرادة ذلك، وقرأ الحرميان. وأبو عمرو * (ظعنكم) * بفتح العين. وباقي السبعة بسكونها وهما لغتان والفتح على ما في المعالم أجزلهما، وقيل: الأصل الفتح والسكون تخفيف لأجل حرف الحلق كالشعر والشعر.
* (ومن أصوافهعا وأوبارها وأشعارها) * عطف على قوله تعالى: * (ومن جلود) * والضمير للأنعام على وجه التنويع أي وجعل لكم من أصواف الضأن وأوبار الإبل وأشعار المعز * (أثاثا) * أي متاع البيت كالفرش وغيرها كما قال المفضل، قال الفراء: لا واحد له من لفظه كما أن المتاع كذلك ولو جمعت قلت: أأثثة في القليل وأثث في الكثير. وقال أبو زيد: واحده أثاثة وأصله - كما قال الخليل - من قولهم: أثث النبات والشعر وهو أثيث إذا كثر قال امرؤ القيس: وفرع يزين المتن أسود فاحم * أثيث كقنو النخلة المتعثكل
ونصبه على أنه معطوف على * (بيوتا) * مفعول جعل فيكون مما عطف فيه جار ومجرور مقدم ومنصوب على مثلهما نحو ضربت في الدار زيدا وفي الحجرة عمرا وهو جائز وليس بمستقبح كما زعم في الإيضاح.
وجوز أن يكون نصبا على الحال فيكون من عطف الجار والمجرور فقط على مثله أي وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها حال كونها أثاثا. وتعقبه السمين بأن المعنى ليس على ذا وهو ظاهر.
* (ومتاعا) * أي شيثا يتمتع به وينتفع في المتجر والمعاش قاله المفضل، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المتاع الزينة، وقال الخليل: الأثاث والمتاع واحد، والعطف لتنزيل تغاير اللفظ منزلة تغاير المعنى كما في قوله: وألفى قولها كذبا ومينا
والأولى أولى * (إلى حين) * إلى انقضاء حاجاتكم منه، وعن مقاتل إلى بلى ذلك وفنائه؛ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلى الموت، والكلام في ترتيب المفاعيل مثله في مر غير مرة.
204

* (والله جعل لكم مما خلق ظل‍الا وجعل لكم من الجبال أكن‍انا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون) *
.
* (والله جعل لكم مما خلق) * من غير صنع منكم * (ظلالا) * أشياء تستظلون بها من الغمام والشجر والجبال وغيرها وهو الذي يقتضيه الظاهر وروى ذلك عن قتادة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد الاقتصار على الغمام، وعن الزجاج. وقتادة أيضا الاقتصار على الشجر، وعن ابن قتيبة الاقتصار على الشجر والجبال ولعل كل ذلك من باب التمثيل، وعن ابن السائب أن المراد ظلال البيوت وهو كما ترى، ومن سبحانه بما ذكر لأن تلك الديار كانت غالبة الحرارة * (وجعل لكم من الجبال أكنانا) * مواضع تستكنون فيها من الغيران ونحوها، والواحد كن وأصله السترة من أكنه وكنه أي ستره ويجمع على أكنان وأكنة.
* (وجعل لكم سرابيل) * جمع سربال وهو كل ما يلبس أي جعل لكم لباسا من القطن والكتان والصوف وغيرها * (تقيكم الحر) * خصه بالذكر كما قال المبرد اكتفاء بذكر أحد الضدين عن الآخر أعني البرد، ولم يخص هو بالذكر اكتفاء لأن وقاية الحر أهم عندهم لما مر آنفا.
وقال بعضهم: من الرأس خص الحر بالذكر لأن وقايته أهم. وتعقب دعوى الأهمية بأنه يبعدها ذكر وقاية البرد سابقا في قوله تعالى: * (لكم فيها دفء) * (النحل: 5) ثم قيل: وهذا وجه الاقتصار على الحر هنا لتقدم ذكر خلافه ثمت.
واعترض بأنا لا نسلم أن إثبات الدفء هناك يبعد دعوى الأهمية بل في تغاير الأسلوبين ما يشعر بهذه الأهمية، وقال الزجاج: خص الحر بالذكر لأن ما يقي من الحر يقي من البرد، وذكر ذلك الزمخشري بعد ذكر الأهمية، وقال في " الكشف ": هو الوجه، وتخصيص الحر بالذكر لما قدمه في الوجه الأول يعني الأهمية، وما قيل: من أولوية الأول لقوله تعالى: * (مما خلق ظلالا) * فليس بيء لأنه تعالى عقبه بقوله بسحانه: * (من الجبال أكنانا) * كيف وهو في مقام الاستيعاب اه‍، وصاحب القيل هو ابن المنير، وقد اعترض أيضا على قوله: إن ما يقي من الحر يقي من البرد بأنه خلاف المعروف فإن المعروف أن وقاية الحر رقيق القمصان ورفيعها ووقاية البرد ضده ولو لبس الإنسان في كل واحد من الفصلين القيظ والشتاء لباس الآخر لعد من الثقلاء اه‍ فتدبر.
* (وسرابيل) * من الجواشن والدروع * (تقيكم بأسكم) * أي البأس الذي يصل من بعضكم إلى بعض في الحروب من الضرب والطعن، وقال بعضهم: أصل البأس الشدة وأريد به هنا الحرب، والكلام على حذف مضاف أي إذا بأسكم وعلى الأول لا حاجة إليه وقد رجح لذلك * (كذلك) * أي مثل ذلك الاتمام للنعمة في الماضي * (يتم نعمته عليكم) * في المستقبل، ومن هنا قيل: كما أحسن الله فيما مضى * كذلك يحسن فيما بقي
أو مثل هذا الاتمام البالغ يتم نعمته عليكم، وإفراد النعمة أما لأن المراد بها المصدر أو لإظهار أن ذلك بالنسبة إلى جانب الكبرياء شيء قليل. وقرأ ابن عباس * (تتم) * بتاء مفتوحة و * (نعمته) * بالرفع على الفاعلية وإسناد التمام إليها على الاتساع، وعنه أيضاف رضي الله تعالى عنه * (نعمه) * بصيغة الجمع * (لعلكم تسلمون
) * أي إرادة أن تنظروا فيما أسبغ عليكم من النعم فتعرفوا حق منعمها فتؤمنوه به تعالى وحده وتذروا ما كنتم به تشركون على أن الإسلام بمعناه المعروف أي رديف الإيمان، ويجوزأن يكون بمعناه اللغوي وهو الاستسلام والانقياد أي لعلكم تستسلمون له سبحانه وتنقادون لأمره عز وجل، وأيا ما كان فهو موضوع موضع سببه كما أشير إليه أو مكني به عنه.
205

وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما * (تسلمون) * بفتح التاء واللام من السلامة أي تشكرون فتسلمون من العذاب أو تنظرون فيها فتسلمون من الشرك، وقيل: تسلمون من الجراح بلبس تلك السرابيل، ولا بأس أن يفسر ذلك بالسلامة من الآفات مطلقا ليشمل آفة الحر والبرد، والأقرب إلى معنى قراءة الجمهور التفسير الثاني.
هذا وفي بعض الآثار أن أعرابيا سمع قوله تعالى: * (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا) * إلى آخر الآيتين فقال عند كل نعمة: اللهم نعم فلما سمع قوله سبحانه: * (لعلكم تسلمون) * اللهم هذا فلا فنزلت.
* (فإن تولوا فإنما عليك البل‍اغ المبين) *
.
* (فإن تولوا) * فعل ماض على طريقة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة وتوجيه الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسلية له عليه الصلاة والسلام أي فإن داموا على التولي والإعراض وعدم قبول ما ألقي إليهم من البينات * (فإنما عليك البلاغ المبين) * أي فلا يضرك لأن وظيفتك هي البلاغ الموضح أو الواضح وقد فعلته بما لا مزيد عليه فهو من باب وضع السبب موضع المسبب، وقال ابن عطية: تقدير المعنى إن أعرضوا فلست بقادر على خلق الإيمان في قلوبهم فإنما عليك البلاغ لا خلق الإيمان، وجوز أن يكون * (تولوا) * مضارعا حذفت إحدى تاءيه وأصله تتولوا فلا التفات لكن قيل عليه: إنه لا يظهر حينئذ ارتباط الجزاء بالشرط إلا بتكلف ولذا لم يلتفت إليه بعض المحققين، وفي التعبير بصيغة التفعيل إشارة كما قيل إلى أن الفطرة الأولى داعية إلى الإقبال على الله تعالى والإعراض لا يكون إلا بنوع تكلف ومعالجة.
* (يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الك‍افرون) *
.
* (يعرفون نعمت الله) * استئناف لبيان أن تولي المشركين وإعراضهم عن الإسلام ليس لعدم معرفتهم نعمة الله سبحانه أصلا فإنهم يعرفونها أن من الله تعالى * (ثم ينكرونها) * بأفعالهم حيث لم يفردوا منعمها بالعبادة فكأنهم لم يعبدوه سبحانه أصلا وذلك كفران منزل منزلة الإنكار.
وأخرج ابن جرير. وغيره عن مجاهد أنه قال: إنكارهم إياها قولهم: ورثناها من آبائنا، وأخرج هو وغيره أيضا عن عون بن عبد الله أنه قال: إنكارهم إياها أن يقول الرجل: لولا فلان أصابني كذا وكذا ولولا فلان لم أصب كذا وكذا وفي لفظ إنكارها إضافتها إلى الأسباب، وقيل: قولهم هي بشفاعة آلهتهم عند الله تعالى، وحكى صاحب الغنيان يعرفونها في الشدة ثم ينكرونها في الرخاء، وقيل: يعرفونها بقلوبهم ثم ينكرونها بألسنتهم.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن السدي أنه قال النعمة هنا محمد صلى الله عليه وسلم ورجح ذلك الطبري أي يعرفون أنه عليه الصلاة والسلام نبي بالمعجزات ثم ينكروه ذلك ويجحدونه عنادا، وفي لفظ ابن أبي حاتم أنه قال هذا في حديث أبي جهل والأخنس حين سأل الأخنس أبا جهل عن محمد صلى الله عليه وسلم فقال: هو نبي.
ومعنى * (ثم) * الاستبعاد الإنكار بعد المعرفة لأن حق من عرف النعمة الاعتراف بها وأداء حقها لا إنكارها، وإسناد المعرفة والإنكار المتفرع عليها إلى ضمير المشركين على الإطلاق من باب حال البعض إلى الكل فإن بعضهم ليسوا كذلك كما هو ظاهر قوله سبحانه: * (وأكثرهم الكافرون) * أي المنكرون بقلوبهم غير المعترفين بما ذكر، والحكم عليهم بمطلق الكفر المئذن بالكمال من حيث الكمية لا ينافي كمال الفرقة الأولى من حيث الكيفية كذا قيل، وجوز أن يكون الإسناد السالف على ظاهره والمراد أن أكثرهم المصرون الثابتون على كفرهم إلى يوم يلقونه فالتعبير بالأكثر لعلمه تعالى أن منهم من يؤمن، وقيل: المعنى وأكثرهم الجاحدون عنادا، والتعبير بالأكثر إما لأن بعضهم لم يعرف الحق لنقصان عقله وعدم اهتدائه إليه أو لعدم نظره في الأدلة نظرا يؤدي
206

إلى المطلوب أو لأنه لم يقم عليه الحجة لكونه لم يصل إلى حد المكلفين لصغر ونحوه وإما لأنه يقام مقام الكل فتأمل.
* (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون) *
* (ويوم نبعث من كل أمة) * جماعة من الناس * (شهيدا) * يثشهد لهم بالإيمان والطاعة وعليهم بالكفر والعصيان، والمراد به كما روى ابن المنذر. وغيره عن قتادة نبي تلك الأمة * (ثم لا يؤذن للذين كفروا) * أي في الاعتذار كما قال سبحانه: * (هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون) * والظاهر أنهم يستأذنون في ذلك فلا يؤذن لهم، ويحتمل أنهم لا استئذان منهم ولاإذن إلا لا حجة لهم حتى تذكر ولا عذر حتى يعتذر، وقال أبو مسلم: المعنى لا يسمع كلامهم بعد شهادة الشهداء ولا يلتفت إليه كما في قول عدي بن زيد: في سماع يأذن الشيخ له * وحديث مثل ماذي مشار
وقيل: لا يؤذن لهم في الرجوع إلى دار الدنيا، والأول مروي عن ابن عباس وأبي العالية وثم للدلالة على أن ابتلاءهم بعدم الإذن المنبىء عن الاقناط الكلي وذلك عندما يقال لهم: اخسئوا فيها ولا تكلمون أشد من ابتلائهم بشهادة الأنبياء عليهم السلام فهي للتراخي الرتبي * (ولا هم يستعتبون) * أي لا يطلب منهم أن يزيلوا عتب ربهم أي غضبه بالتوبة والعمل الصالح إذ الآخرة دار الجزاء لا دار العمل والرجوع إلى الدنيا مما لا يكون، وقول الزمخشري: أي لا يقال لهم ارضوا ربكم تفسير باللازم، وقيل: المعنى ولا يطلب رضاهم في أنفسهم بالتلطف بهم من استعتبه كأعتبه إذا أعطاه العتبي وهي الرضا وأيا ما كان فالمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار،
وانتصاب الظرف على ما قال الحوفي. وغيره بمحذوف تقديره اذكر وقدره بعضهم خوفهم وهو في ذلك مفعول به، وقيل: وهو نصب على الظرفية بمحذوف أي يوم نبعث يحيث بهم ما يحيق، وقال الطبري: هو معطوف على ظرف محذوف العالم فيه ينكرونها أي ثم ينكرونها اليوم ويوم نبعث من كل أمة شهيدا فيشهد عليهم ويكذبهم وليس بشيء وتجري هذه الاحتمالات في قوله تعالى:
* (وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون) *
.
* (وإذا رأى الذين ظلموا العذاب) * أي الذين يستوجبونه بظلمهم وهو عذاب جهنم، والمراد من الذين ظلموا الذين كفروا وكان الظاهر الضمير إلا أنه أقيم المظهر مقامه للنعي عليهم بما ذكر في حيز الصلة وتعليق الرؤية بالعذاب للمبالغة، وقيل: المراد به جهنم نفسها مجازا، ويراد بضميره في قوله تعالى: * (فلا يخفف عنهم) * معناه الحقيقي على سبيل الاستخدام وليس بذاك وهذه الجملة قيل: مستأنفة، وقيل: جواب إذا بتقدير فهو لا يخفف لأن المضارع مثبتا كان أو منفيا إذا وقع جواب إذا لا يقترن بالفاء، واستظهره ذلك أبو حيان ونقل عن الحوفي القول بأنه جواب وأنه العامل في * (إذا) * ثم قال: وقد تقدم لنا أن ما تقدم فاء الجواب في الجواب في غير أما لا يعمل فيما قبله وبينا أن العامل في * (إذا) * ثم قال: وقد تقدم لنا أن ما تقدم فاء الجواب في غير أما لا يعمل فيما قبله وبينا أن العامل في * (إذا) * الفعل الذي يليلها كسائر أدوات الشرط وإن كان ليس قول الجمهور تعقب الخفاجي القول بالجوابية بأنه محتاج إلى ما سمعت من التقدير وهو مع كونه خلاف الأصل مناف للغرض في تغاير الجملتين في النظم يعني قوله تعالى: * (فلا يخفف عنهم العذاب) * وقوله سبحانه: * (ولا هم ينظرون) * أي يمهلون وهو أن عدم التخفيف واقع بعد رؤية العذاب فلذا لم يؤت بجملة اسمية بخلاف عدم الإمهال فإنه ثابت لهم في تلك الحالة اه‍.
وفي كلام الزمخشري كما في " الكشف " إشعار بأن الناصب المحذوف لإذا بغتهم وإنه هو الجواب حيث قال بعد أن بين وجه انتصاب اليوم وكذلك إذا رأوا العذاب بغتهم وثقل عليهم فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون كقوله تعالى: * (بل تأتيهم بغتة فتبهتهم) * الآية، وفيه إشعار أيضا بأن عدم التخفيف والأنظار يدل على أثقاله
207

ومباغتته كما صرح به الآية الأخرى حيث أبت الإتيان بغتة والبهت هو الأثقال وزيادة ورتب عليه * (فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون) * ومثل هذه الفاء فصيحة عندهم فافهم، وفي " التفسير الكبير " قال المتكلمون إن العذاب يجب أن يكون خالصا عن شوائب النفع وهو المراد بقوله تعالى: * (لا يخفف عنهم) * ويجب أن يكون دائميا وهو المراد من قوله سبحانه: * (ولا هم ينظرون) * وفيه نظر.
* (وإذا رءا الذين أشركوا شركآءهم قالوا ربنا ه‍اؤلآء شركآؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون) *.
* (وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم) * الذين كانوا يزعمونهم شركاء لله سبحانه وتعالى ويعبدونهم معه عز وجل؛ والمراد بهم كل من اتخذوه شريكا له جل وعلا من صنم ووثن وشيطان وآدمي وملك وإضافتهم إلى ضمير المشركين لهذا الاتخاذ، وقيل: أريد بهم معبوداتهم الباطلة كما تقدم، والإضافة إليهم لأنهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم وأنعامهم، واقتصر بعضهم على الأصنام ولعل التعميم أولى، وقال الحسن: شركاؤهم الشياطين شركوهم في الأموال والأولاد، وقيل: شركوهم في الكفر أي كفروا مثل كفرهم، وقيل: شركوهم في وبال ذلك حيث حملوهم عليه * (قالوا) * أي بألسنتهم وقيل: ختم الله تعالى على أفواههم وأنطق جوارحهم فقالت عنهم * (ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك) * أي نعبدهم ونطيعهم ولعلهم قالوا ذلك طمعا في توزيع العذاب بينهم. واعترض بأنه لا يناسب تفسير الشركاء بالأصنام وفيه أنها تجيء على حالة يعقل معها عذابها فلا بأس في ذلك سواء فسرت الشركاء بالأصنام فقط أو بما يعمها وغيرها، وقال أبو مسلم: مقصودهم من ذلك إحالة الذنب على الشركاء طنا منهم أن ذلك ينجيهم من عذاب الله تعالى أو ينقص من عذابهم شيئا.
وتعقبه القاضي بأنه بعيد لأن الكفار يعلمون علما ضروريا في الآخرة أن العذاب سينزل بهم ولا نصرة ولا فدية ولا شفاعة، وأورد نحوه على ما ذكرنا بناء على أنهم يعلمون علما ضروريا أيضا أنه لا يحمل أحد من عذابهم شيئا.
وأجيب بأنه على تقدير تسليم حصول العلم الضروري لهم بذلك إذ ذاك يجوز أن يدهشوا فيغفلوا عن ذلك فيقولوا ما يقولون طامعين فيما ذكر وهو نظير قولهم: " ربنا خفف عنا يوما من العذاب. يا مالك ليقض علينا ربك. ربنا أخرجنا نعمل صالحا " إلى غير ذلك مما لهم علم ضروري عند بعضهم بأنه لا يكون. وقيل: إن القوم مع علمهم بأن ما يرجونه ويطمعون فيه لا يحصل لهم أصلاوعدم غفلتهم عن ذلك تغلبهم أنفسهم بمقتضى الطبيعة لشدة ما هم فيه والعياذ بالله تعالى حتى تعلق آمالها بالمحال، وقيل: قالوا ذلك اعترافا بأنهم كانوا مخطئين في عبادتهم. وتعقب بأنه لا يناسب قوله تعالى: * (من دونك) * وفيه تأمل. نعم قوله تعالى: * (فألقوا) * أي شركاؤهم * (إليهم القول إنكم لكاذبون) * أظهر ملاءمة للأول فإن تكذيبهم إياهم فيما قالوا ظاهر في كونه للمدافعة والتخلص عن غائلة مضمونه والظاهر أن التكذيب راجع إلى دعوى أنهم كانوا يعبدونهم أو يطيعونهم من دون الله تعالى ومرادهم على ما قيل: إنكم ما عبدتمونتا حقيقة وإنما عبدتم أشياء تصورتموها بأذهانكم الفاسدة وزعمتم أنا هاتيك الأشياء وهيهات هيهات ليس بيننا وبينها جهة جامعة ولا علاقة نافعة، وقيل: إنما كذبوهم وقد كانوا يعبدونهم لأن الأوثان ما كانوا راضين بعبادتهم لهم فكأن عبادتهم لم تكن عبادة لهم كما قالت الملائكة عليهم السلام: * (بل كانوا يعبدون الجن) * يعنون أن الجن هم الذين كانوا راضين بعبادتهم لا نحن، والشياطين وإن كانوا راضين بعبادتهم لهم لكنهم لم يكونوا حاملين لهم على وجه القسر
208

والالجاء كما قال إبليس: * (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي) * (إبراهيم: 22) فكأنهم قالوا: ما عبدتمونا حقيقة وإنما عبدتم أهواءكم، وقيل: يجوز أن يكون الشياطين كاذبين في أخبارهم بكذب من عبدهم كما كذب إبليس عليه اللعنة في قوله: * (إني كفرت بما أشركتمون من قبل) * (إبراهيم: 22)
وجوز أن يكون التكذيب راجعا إلى أنهم شركاء لله سبحانه لا إلى أنهم كانوا يعبدونهم ومرادهم تنزيه الله جل وعلا عن الشريك في ذلك الموقف، وخص هذا بعضهم بتقدير إرادة الشياطين من الشركاء فافهم، والظاهر أن قائل هذا جميع الشركاء ولا يمنع من ذلك تفسيره بما يعم الأصنام إذ لا بعد في أن ينطقها الله تعالى الذي أنطق كل شيء بذلك، وجوز على التعميم أن يكون القائل بعضهم وهو من يعقل منهم؛ وكان الظاهر - فقالوا لهم أنكم لكاذبون - إلا أنه عدل إلى ما في " النظم الكريم " للإشارة إلى أنهم قالوا ذلك لهم على وجه الإفصاح بحيث يدرك ويمتاز عن غيره، وفيه من الإشعار بالحرص على تكذيبهم ما فيه، ويؤيد ذلك تأكيدهم الجملة الدالة على تكذيبهم أتم تأكيد، وهي في موضع البدل من القول كما قال الإمام أي ألقوا إليهم أنكم لكاذبون.
* (وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون) *
.
* (وألقوا) * أي الذين أشركوا، وقيل: هم وشركاؤهم جميعا، والأكثرون على الأول * (إلى الله يومئذ السلم) * الاستسلام الانقياد لحكمه تعالى العزيز الغالب بعد الإباء والاستكبار في الدنيا فلم يكن لهم إذا ذاك حيلة ولا دفع. وروى يعقوب عن أبي عمرو أنه قرأ * (السلم) * بإسكان اللام، قرأ مجاهد السلم بضم السين واللام * (وضل عنهم) * ضاع وبطل * (ما كانوا يفترون) * من أن لله سبحانه شركاء وأنهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين سمعوا ما سمعوا.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: * (ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون) * (النحل: 54) بنسبة ذلك إلى غيره سبحانه ورؤيته منه * (ليكفروا بما آتيناهم) * من النعمة بالغفلة عن منعها * (فتمتعوا فسوف تعلمون) * (النحل: 55) وبال ذلك أو فسوف تعلمون بظهور التوحيد أن لا تأثير لغيره تعالى في شيء * (ويجعلون لما لا يعلمون) * فيعتقدون فيه من الجهالات ما يعتقدون وهو السوي * (نصيب مما رزقناهم) * (النحل: 56) فيقولون هو أعطاني كذا ولو لم يعطني لكان كذا * (وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين) * (النحل: 66) الإشارة فيه على ما في أسرار القرآن إلى ما تشربه الأرواح مما يحصل في العقول الصافية بين النفس والقلب من زلال بحر المشاهدة وهناك منازل اعتبار المعتبرين، والإشارة في قوله تعالى: * (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا) * (النحل: 67) على ما فيه أيضا إلى ما تتخذه الأرواح والأسرار من ثمرات نخيل القلوب وأعناب العقول من خمر المحبة والانس الآخذة بها إلى حضيرة القدس:
ولو نضحوا منها ثرى قبر ميت * لعادت إليه الروح وانتعش الجسم
* (وأوحى ربك إلى النحل) * قيل أي نحل الأرواح * (أن اتخذي من الجبال) * أي جبال أنوار الذات * (بيوتا) * مقار لتسكنين فيها * (ومن الشجر) * أي ومن أشجار أنوار الصفات * (ومما يعرشون) * (النحل: 68) أنوار عروش الأفعال * (ثم كلي من كل الثمرات) * أي من ثمرات تلك الأشجار الصفاتية ونور بهاء الأنوار الذاتية وأزهار الأنوار الأفعالية * (فاسلكي سبل ربك) * وهي صحارى قدسه تعالى وبراري جلاله جل شأنه * (ذللا) * منقادة لما أمرت به * (يخرج من بطونها شراب) * وهو شراب معرفته تعالى بقدم جلاله وعز بقائه وتقدس ذاته سبحانه * (مختلف
209

ألوانه) * باختلاف الثمرات * (فيه شفاء للناس) * (النحل: 69) لكل مريض المحبة وسقيم الألفة ولديغ الشوق، وقيل: الإشارة بالنحل إلى الذين هم في مبادىء السلوك من أرباب الاستعداد، ومن هنا قال الشيخ الأكبر قدس سره في مولانا ابن الفارض قدس سره حين سئل عنه: نحلة تدندن حول الحمى أمرهم الله تعالى أولا أن يتخذوا مقار من العقائد الدينية التي هي كالجبال في الرسوخ والثبات ومن العبادات الشرعية التي هي كالشجر في التشعب ومن المعاملات المرضية التي هي كالعروض في الارتفاع ثم يسلكوا سبله سبحانه وطرقه الموصلة إليه جل شأنه من تهذيب الباطن والمراقبة والفكر ونحو ذلك متذللين خاضعين غير معجبين، وفي ذلك إشارة إلى أن السلوك إنما يصح بعد تصحيح العقائد ومعرفة الأحكام الشرعية ليكون السالك على بصيرة في أمره وإلا فهو كمن ركب متن عمياء وخبط خبط عشواء، ومتى سلك على ذلك الوجه حصل له الفوز بالمطلوب وتفجرت ينابيع الحكمة من قلبه وصار ما يقذف به قلبه كالعسل شفاء من علل الشهوات وأمراض النفس لا سيما مرض التثبط والتكاسل عن العبادة وهو المرض البلغمي.
وقال أبو بكر الوراق: النحلة لما اتبعت الأمر وسلكت سبل ربها على ما أمرت به جعل لعابها شفاء للناس كذلك المؤمن إذا اتبع الأمر وحفظ السر وأقبل على ربه عز وجل جعل رؤيته وكلامه ومجالسته شفاء للخلق فمن نظر إليه اعتبر ومن سمع كلامه اتعظ ومن جالسه سعد انتهى. وفي الآية إشارة أيضا إلى أنه تعالى قد يودع الشخص الحقير الشيء العزيز فإنه سبحانه أودع النحل وهي من أحقر الحيوانات وأضعفها العسل وهو من ألذ المذوقات وأحلاها فلا ينبغي التقيد بالصور والاحتجاب بالهيآت، وفي الحديث " رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله تعالى لأبره " وعن يعسوب المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال * (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق) * (النحل: 71) قيل: الإشارة فيه إلى تفاوت أرزاق السالكين فرزق بعضهم طاعات، وبعض آخر مقامات وبعض حالات وبعض مكاشفات وبعض مشاهدات وبعض معرفة وبعض محبة وبعض توحيد إلى غير ذلك، وذكروا أن رزق الأشباح العبودية ورزق الأرواح رؤية أنوار الربوبية ورزق العقول الأفكار ورزق القلوب الأذكار ورزق الأسرار حقائق العلوم الغيبية المكشوفة لها في مجالس القرب ومشاهدة الغيب * (فلا تضربوا لله الأمثال) * لتقدسه تعالى عن الأوهام والإشارات والعبارات وتنزهه سبحانه عن درك الخليقة فإن الخلق لا يدرك إلا خلقا، ولذا قال علي كرم الله تعالى وجهه: إنما تحد الأدوات أنفسها وتشير الآلات إلى نظائرها فلا يعرف الله تعالى إلا الله عز وجل وعل النهي بقوله تعالى: * (إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون) * (النحل: 74) * (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا) * محبا لغير الله تعالى ولا شك أن المحب أسير بيد المحبوب لا يقدر على شيء لأنه مقيد بوثاق المحبة * (ومن رزقناه منا رزقا حسنا) * فجعلناه
محبا لنا مقبلا بقلبه علينا متجردا عما سوانا وآتيناه من لدنا علما * (فهو ينفق منه سرا) * وذلك من النعم الباطنة * (وجهرا) * (النحل: 75) وذلك من النعم الظاهرة * (وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم) * لا استعداد فيه للنطق وهو مثل المشرك * (لا يقدر على شيء) * لعدم استطاعته وقصور قوته للنقص اللازم لاستعداده * (وهو كل على مولاه) * لعجزه بالطبع عن تحصيل حاجة * (أينما يوجهه لا يأت بخير) * لعدم استعداده وشرارته بالطبع فلا يناسب إلا الشر الذي هو العدم * (هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل) * وهو الموحد القائم بالله تعالى الفاني عن غيره، والعدل على ما قيل: ظل الوحدة في عالم الكثرة * (وهو على صراط مستقيم) * (النحل: 76) صراط العزيز الحميد الذي عليه خاصته تعالى من أهل البقاء بعد الفناء الممدود على نار الطبيعة لأهل الحقيقة يمرون عليه كالبرق اللامع * (ولله غيب السموات والأرض) * علم مراتب الغيوب أو ما غاب من حقيقتهما أو ما خفي فيهما من أمر
210

القيامة الكبرى * (وما أمر الساعة) * أي القيامة الكبرى بالقياس إلى الأمور الزمانية * (إلا كلمح البصر أو هو أقرب) * وهو بناء على التمثيل وإلا فقد قيل: إن أمر الساعة ليس بزماني وما كان كذلك يدركه من يدركه لا في الزمان * (إن الله على كل شيء قدير) * (النحل: 77) ومن ذلك أمر الساعة * (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا) * (النحل: 78) الآية، قال في أسرار القرآن: أخبر سبحانه أنه أخرجهم من بطون الأقدار وأرحام العدم وأصلاب المشيئة على نعت الجهل لا يعلمون شيئا من أحكام الربوبية وأمور العبودية وأوصاف الأزل فألبسهم أسماعا من نور سمعه وكساهم أبصارا من نور بصره وأودع في قلوبهم علوم لعلهم يشكرونه انتهى. وهو ظاهر في أن المراد بالأفئدة القلوب.
وذكر بعض من أدركناه من المرتاضين في كتابه " الفوائد " وشرحه أن مشاعر الإنسان الصدر، والمراد به الخيال والنفس الكلية التي هي محل الصور العلمية كلية أو جزئية فهو محل العلم المقابل للجهل، والقلب وهو محل المعاني واليقين بالنسب الحكمية ويقابله الشك والريب، والفؤاد وهو محل المعارف الإلهية المجرد عن جميع الصور والنسب والأوضاع والإشارات والجهات والأوقات ويقابلها الإنكار وهو أعلى المشاعر، ونور الله تعالى المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى " وهو الوجود لأنه الجهة العليا من الإنسان أعني وجهه من جهة ربه وبه يعرف الله تعالى وهو في الإنسان بمنزلة الملك في المدينة والقلب بمنزلة الوزير له انتهى، وله أيضا كلام في الأم وكذا في الأب غير ما ذكر، وذلك أنه يطلق الأب على المادة والأم على الصورة، وزعم أن قول الصادق رضي الله تعالى عنه: إن الله تعالى خلق المؤمنين من نوره وصبغهم في رحمته فالمؤمن أخو ا لمؤمن لأبيه وأمه أبوه النور وأمه الرحمة إشارة إلى ذلك وأن ما اصطلح عليه المتقدمون والحكماء من أن الأب هو الصورة والأم هي المادة وأن الصورة إذا نكحت المادة تولد عنهما الشيء توهما منهم أن النشور والخلق في بطن المادة بعيد من جهة المناسبة إلى آخر ما قال فتفطن وإياك أن تعدل عن الطريق السوي * (ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء) * فيه إشارة إلى تسخير طير القوى الروحانية والنفسانية من الفكر والعقل النظري والعملي بل الوهم والتخيل في فضاء عالم الأرواح * (ما يمسكهن) * من غير تعلق بمادة ولا اعتماد على جسم ثقيل * (إلا الله) * (النحل: 79) عز وجل * (والله جعل لكم مما خلق ظلالا) * وهو ما يستظل به من وهج نار الحاجة فالماء ظل للعطشان والطعام ظل للجيعان وكل ما يقوم بحاجة شخص ظل له، وفي الخبر السلطان ظل الله تعالى في الأرض يأوي إليه كل مظلوم، وقيل: الظلال الأولياء يستظل بهم المريدون من شدة حر الهجران ويأوون إليهم من قهر الطغيان، وقد يؤل قوله تعالى: * (وجعل لكم من الجبال أكنانا) * بنحو هذا فما أشبه الأولياء بالجبال * (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر) * فيه إشارة إلى ما جعل للعارفين من سرابيل روح الأنس لئلا يحترقوا بنيران القدس وأشار تعالى بقوله جل جلاله: * (وسرابيل تقيكم بأسكم) * إلى ما من به من المعرفة والمحبة ليدفع بذلك كيد الشياطين والنفوس * (كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون) * (النحل: 81) تنقادون لأمره سبحانه في العبودية وتخضعون لعز الربوية، قال ابن عطاء: تمام النعمة السكون إلى المنعم، وقال حمدون: تمامها في الدنيا المعرفة وفي الآخرة الرؤية، وقال أبو محمد الحريري: تمامها خلو القلب من الشرك الخفي وسلامة
211

النفس من الرياء والسمعة * (يعرفون نعمة الله) * وهي هداية النبي أو وجوده بقوة الفطرة * (ثم ينكرونها) * لعنادهم وغلبة صفات نفوسهم * (وأكثرهم الكافرون) * لشهادة فطرهم بحقيته * (ويوم نبعث كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا) * في الاعتذار عن التخلف عن دعوته إذ لا عذر لهم * (ولا هم يستعتبون) * (النحل: 84) لأنهم قد حق عليهم القول بمقتضى استعدادهم نسأل الله تعالى العفو والعافية * (والقوا إلى الله يومئذ السلم) * (النحل: 87) قيل: هذا في الموقف الثاني حين تضعف غواشي أنفسهم المظلمة وترق حجبها الكثيفة وأما في الموقف الأول حين قوة هيآت الرذائل وشدة شكيمة النفس في الشيطنة فلا يستسلمون كما يشير إليه قوله تعالى: * (يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم) * وقيل: المستسلمون بعض والحالفون بعض فافهم والله تعالى أعلم.
* (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدن‍اهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون) *
.
* (الذين كفروا) * في أنفسهم * (وصدوا) * غيرهم * (عن سبيل الله) * بمنع من يريد الإسلام عنه وبحمل من استخفوه على الكفر فالصد عن السبيل أعم من المنع عنه ابتداء وبقاء كذا قيل: والظاهر الأول، والظاهر أن الموصول مبتدأ وقوله تعالى: * (زدناهم عذابا فوق العذاب) * خبره، وجوز ابن عطية كون الموصول بدلا من فاعل * (يفترون) * ويكون * (زدناهم) * مستأنفا، وجوز بعضهم كون الأول نصبا على الذم أو رفعا عليه فيضمر الناصب والمبتدأ وجوبا و * (زدناهم) * بحاله، وهذه الزيادة إما بالشدة أو بنوع آخر من العذاب والثاني هو المأثور، فقد أخرج ابن مردويه. والخطيب عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك فقال: " عقارب أمثال النخل الطوال ينهشونهم في جهنم " وروى نحوه الحاكم وصححه. والبيهقي. وغيره عن ابن مسعود.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال: إن أهل النار إذا جزعوا من حرها استغاثوا بضحضاح في النار فإذا أتوه تلقاهم عقارب كأنهن البغال الدهم وأفاعي كأنهم البخاتي
فتضربهم فذلك الزيادة، وعن ابن عباس أنها أنهار من صفر مذاب يسيل من تحت العرش يعذبون بها، وعن الزجاج يخرجون من حر النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة برده إلى النار * (بما كانوا يفسدون) * متعلق - بزدناهم - أي زدناهم عذابا فوق العذاب الذي يستحقونه بكفرهم بسبب استمرارهم على الإفساد وهو الصد عن السبيل، وجوز أن يفسر ذلك بما هو أعم من الكفر والصد، والمعنى زدناهم عذابا فوق عذابهم الذي يستحقونه بمجرد الكفر والصد بسبب استمرارهم على هذين الأمرين القبيحين، ووجه ذلك أن البقاء على المعصية يومين مثلا أقبح من البقاء عليها يوما والبقاء ثلاثة أيام أقبح من البقاء يومين وهكذا، ومن هنا قالوا: الإصرار على الصغيرة كبيرة، وقيل: إن أهل جهنم يستحقون من العذاب مرتبة مخصوصة هي ما يكون لهم أول دخولها والزيادة عليها إنما هي لحفظها إذ لو لم تزد لألفوها وطابت أنفسهم بها كمن وضع يده في ماء حار مثلا فإنه يجد أول زمان وضعها ما لا يجده بعد مضي ساعة وهو كما ترى.
* (ويوم نبعث فى كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على ه‍اؤلآء ونزلنا عليك الكت‍ابتبيانا لكل شىء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) *
.
* (ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم) * وهو كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نبيهم الذي بعث فيهم في الدنيا، ومعنى كونه * (من أنفسهم) * أنه منهم، وذلك ليكون أقطع للمعذرة، ولا يرد لوط عليه السلام فإنه لما تأهل فيهم وسكن معهم عد منهم أيضا، وقال ابن عطية: يجوز أن يبعث الله تعالى شهداء من الصالحين مع الأنبياء عليهم السلام، وقد قال بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم: إذا رأيت أحدا على معصية فانهه فإن
212

أطاعك وإلا كنت شهيدا عليه يوم القيامة، وذكر الإمام في الآية قولين الأول أن كل نبي شاهد على قومه كما تقدم، والثاني إن كل قرن وجمع يحصل في الدنيا فلا بد أن يحصل فيهم من يكون شهيدا عليهم ولا بد أن لا يكون جائز الخطأ وإلا لاحتاج إلى آخر وهكذا فيلزم التسلسل، ووجود الشهيد كذلك في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ظاهر وأما بعده فلا بد في كل عصر من أقوام تقوم الحجة بقولهم وهم قائمون مقام الشهيد المعصوم، ثم قال: وهذا يقتضي أن يكون إجماع الأمة حجة انتهى، وإلى أنه لا بد في كل عصر ممن يكون قوله حجة على أهل عصره ذهب الجبائي وأكثر المعتزلة، قال الطبرسي في " مجمع البيان ": ومذهبهم يوافق مذهب أصحابنا يعني الشيعة وإن خالفه في أن ذلك الحجة من هو. وأنت تعلم أن الاستدلال بالآية على هذا المطلب ضعيف، وتحقيق الكلام في ذلك يطلب من محله.
وقال الأصم: المراد بالشهيد أجزاء من الإنسان، وذلك أنه تعالى ينطق عشرة أجزاء منه وهي الأذنان والعينان والرجلان واليدان والجلد واللسان فتشهد عليه لأنه سبحانه قال في صفة الشهيد من أنفسهم.
وتعقبه القاضي. وغيره بأن كونه شهيدا على الأمة يقتضي أن يكون غيرهم، وأيضا قوله تعالى: * (من كل أمة) * يأبى ذلك إذ لا يصح وصف آحاد الأعضاء بأنها من الأمة؛ وأيضا مقابلة ذلك بقوله سبحانه: * (وجئنا بك شهيدا على هؤلاء) * يبعد ما ذكر كما لا يخفى، والمراد بهؤلاء أمته صلى الله عليه وسلم عند أكثر المفسرين، ولم يستبعد أن يكون المراد بهم ما يشمل الحاضرين وقت النزول وغيرهم إلى يوم القيامة فإن أعمال أمته عليه الصلاة والسلام تعرض عليه بعد موته.
فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم ومماتي خير لكم تعرض علي أعمالكم فما رأيت من خير حمدت الله تعالى عليه وما رأيت من شر استغفرت الله تعالى لكم " بل جاء أن أعمال العبد تعرض على أقاربه من الموتى، فقد أخرج ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تفضحوا أمواتكم بسيئات أعمالكم فإنها تعرض على أوليائكم من أهل القبور " وأخرج أحمد عن أنس مرفوعا " إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات فإن كان خيرا استبشروا وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم لا تمتعهم حتى تهديدهم كما هديتنا " وأخرجه أبو داود من حديث جابر بزيادة " وألهمهم أن يعملوا بطاعتك ".
وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي الدرداء أنه قال: " إن أعمالكم تعرض على موتاكم فيسرون ويساؤن " فكان أبو الدرداء يقول عند ذلك: اللهم إني أعوذ بك أن يمقتني خالي عبد الله بن رواحة إذا لقيته يقول ذلك في سجوده. والنبي صلى الله عليه وسلم لأمته بمنزلة الوالد بل أولى، ولم أقف على عرض أعمال الأمم السابقة على أنبيائهم بعد الموت ولم أر من تعرض لذلك لا نفيا ولا إثباتا، فإن قيل: إنها تعرض فأمر الشهادة مما لا غبار عليه في نبي لم يبعث في أمته بعد خلوهم عنه نبي آخر، وإن قيل: إنها لا تعرض احتاج أمر الشهادة إلى الفحص عن وجود أمر يفيد العلم المصحح لها أو التزام أن الشهيد ليس هو النبي وحده كما سمعت فيما سبق، ثم إن حديث العرض على نبينا عليه الصلاة والسلام يشكل عليه حديث " ليذادن عن الحوض أقوام " الخبر، وقد ذكر ذلك المناوي ولم يجب عنه، وقد أجبت عنه في بعض تعليقاتي فتأمل، وقيل: المراد بهم شهداء الأمم وهم الأنبياء عليهم السلام لعلمه عليه الصلاة والسلام بعقائدهم واستجماع شرعه لقواعدهم لا الأمة لأن كونه صلى الله عليه وسلم شهيدا على أمته علم مما تقدم فالآية مسوقة لشهادته عليه الصلاة والسلام على الأنبياء صلى الله عليه وسلم فتخلو عن التكرار. ورد بأن المراد بشهادته عليه الصلاة والسلام على أمته تزكيته وتعديله لهم بعد أن يشهدوا على تبليغ الأنبياء عليهم السلام حسبما علموه من كتابهم
213

وهذا لم يعلم مما مر ليكون تكرارا وهو الوارد في الحديث، وقد ذكره غير واحد في تفسيره قوله تعالى: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) * (البقرة: 143) و * (على) * لا مضرة فيها وإن ضرت فالضرر مشترك. نعم لم يفهم مما قبل شهادة هذه الأمة على تبليغ الأنبياء عليهم السلام ليظهر كون هذه الشهادة للتزكية كما في آية البقرة، ولعل الأمر في ذلك سهل. وفي إرشاد العقل السليم أن قوله تعالى: * (ويوم نبعث) * تكرير لما سبق تثنية للتهديد، والمراد بهؤلاء الأمم وشهداؤهم، وإيثار لفظ المجىء على البعث لكمال العناية بشأنه صلى الله عليه وسلم، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع انتهى.
وتعقب بأن حمل * (هؤلاء) * على ما ذكر خلاف الظاهر، وجوز أن يكون إيثار المجىء على البعث للإيذان بالمغايرة بين الشهادتين بناء على أن شهادته صلى الله عليه وسلم على أمته للتزكية ولا كذلك شهادة سائر الأنبياء عليهم السلام على أممهم.
والظرف معمول لمحذوف كما مر، والمراد به يوم القيامة * (ونزلنا عليك الكت‍اب) * الكامل في الكتابية الحقيق بأن يخص به اسم الجنس، وهذا - على ما في " البحر " - استئناف أخبار وليس داخلا مع ما قبله لاختلاف الزمانين.
وجوز غير واحد كونه حالا بتقدير قد، وذكر بعض الأفاضل أن قوله تعالى: * (وجئنا بك) * الخ إن كان كلاما مبتدأ غير معطوف على قوله سبحانه: * (نبعث) * و * (شهيدا) * حالا مقدرة فلا إشكال في الحالية وإن كان عطفا عليه، والتعبير بالماضي لما عرف في أمثاله، فمضمون الجملة الحالية متقدم بكثير فلا يتمشى التأويل الذي ذكروه في تصحيح كون الماضوية حالا هنا، ففي صحة كونه حالا كلام إلا أن يبني على عدم جريان الزمان عليه سبحانه وتعالى. وتعقب بأنه ليس شيء لأن قوله سبحانه: * (تبيانا لكل شيء) * يدخل فيه العقائد والقواعد بالدخول الأولى، وذلك مستمر إلى البعث وما بعده، ولا حاجة إلى ما قيل من أن المعنى بحيث أو بحال أنا كنا نزلنا عليك وتلك الحيثية ثابتة له سبحانه وتعالى إلى الأبد انتهى، وفيه نظر.
وزعم بعضهم أن الجملة حال من ضمير الرفع في الفعل العامل في الظرف أي خوفهم ذلك اليوم وقد نزلنا عليك الكتاب، وهو كما ترى والأسلم الاستئناف؛ والتبيان مصدر يدل على التكثير على ما روى ثعلب عن الكوفيين. والمبرد عن البصريين، قال سلامة الأنباري في " شرح المقامات ": كل ما ورد من المصادر عن العرب على تفعال فهو بفتح التاء إلا لفظتين وهما تبيان وتلقاء، وقال ابن عطية: هو اسم وليس بمصدر، وهذه الصيغة أيضا في الأسماء قليلة، فعن ابن مالك أنه قال في " نظم الفوائد ": جاء على تفعال بالكسر وهو غير مصدر رجل تكلام وتلقام وتلعاب وتمساح للكذاب وتضراب للناقة القريبة بضراب الفحل وتمراد لبيت الحمام وتلفاف لثوبين ملفوفين وتجفاف لما تجلل به الفرس وتهواء لجزء ماض من الليل وتنبال للقصير اللئيم وتعشار وتبارك لموضعين، وزاد ابن جعوان تمثال وتيفاق لموافقة الهلال، واقتصر أبو جعفر النحاس في " شرح المعلقات " على أقل من ذلك فقال: ليس في كلام العرب على تفعال إلا أربعة أسماء وخامس مختلفت فيه يقال تبيان ويقال لقلادة المرأة تقصار وتعشار وتبراك والخامس تمساح وتمسح أكثر وأفصح انتهى، والمعروف أن * (تبيانا) * مصدر وليس باسم وإن قيل: إنه قول أكثر النحويين، وجوز الزجاج فيه الفتح في غير القرآن، والمراد من * (كل شيء) * على ما ذهب إليه جمع ما يتعلق بأمور الدين أي بيانا بليغا لكل شيء يتعلق بذلك ومن جملته أحوال الأمم مع أنبيائهم عليهم السلام، وكذا ما أخبرت به هذه الآية من بعث الشهداء وبعثه عليه الصلاة والسلام، فانتظام
214

الآية بما قبلها ظاهر، والدليل على تقدير الوصف المخصص لشيء المقام وأن بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما هي لبيان الدين، ولذا أجيب السؤال عن الأهلة بما أجيب، وقال صلى الله عليه وسلم: " أنتم أعلم بأمور دنياكم " وكون الكتاب تبيانا لذلك باعتبار أن فيه نصا على البعض وإحالة للبعض الآخر على السنة حيث أمر باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل فيه: * (وما ينطق عن الهوى) * (النجم: 3) وحثا على الإجماع في قوله سبحانه: * (ويتبع غير سبيل المؤمنين) * (النساء: 115) الآية فإنها على ما روي عن الشافعي وجماعة دليل الإجماع، وقد رضي صلى الله عليه وسلم لأمته باتباع أصحابه حيث قال عليه الصلاة والسلام: * (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ) * وقد اجتهدوا وقاسوا ووطؤا طرق الاجتهاد فكانت السنة والإجماع والقياس مستندة إلى تبيان الكتاب، وقال بعض: * (كل) * للتكثير والتفخيم كما في قوله تعالى: * (تدمر كل شيء بأمر ربها) * (الأحقاف: 25) إذ يأبى الإحاطة والتعميم ما في التبيان من المبالغة في البيان وأن من أمور الدين تخصيصا لا يقتضيه المقام. ورد الثاني بما سمعت آنفا؛ والأول بأن المبالغة بحسب الكمية لا الكيفية كما قيل في قوله تعالى: * (وما ربك بظلام للعبيد) * (فصلت: 46) إنه من قولك: فلان ظالم لعبده وظلام لعبيده، ومنه قوله سبحانه: * (وما للظالمين من أنصار) * (البقرة: 270) وقال بعضهم: لكل من القولين وجهة والمرجح للأول إبقاء * (كل) * على حقيقتها في الجملة، وتعقب بأنه يرجح الثاني إبقاء * (شيء) * على العموم وسلامته من التقدير الذي هو خلاف الأصل ومن المجاز على قول. نعم ذهب أكثر المفسرين إلى اعتبار التخصيص وروي ذلك عن مجاهد.
وقال الجلال المحلي في الرد على من لم يجوز تخصيص السنة بالكتاب: إنه يدل على الجواز قوله تعالى: * (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء) * وإن خص من عمومه ما خص بغير القرآن، وتوجيه كونه تبيانا لكل ما يتعلق بالدين بما تقدم هو الذي يقتضيه كلام غير واحد من الأجلة، فعن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال مرة بمكة: سلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله تعالى فقيل له: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟ فقال: بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى: * (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) * وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمانعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " وحدثنا سفيان عن مسعر بن كدام عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه أمر بقتل المحرم الزنبور، وروى البخاري عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: " لعن الله تعالى الواشمات والمتوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله تعالى " فقالت له امرأة في ذلك فقال: مالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله تعالى فقالت له: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه أما قرأت * (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) * (الحشر: 7) قالت: بلى. قال: فإنه عليه الصلاة والسلام قد نهى عنه.
وذهب بعضهم إلى ما يقتضيه ظاهر الآية غير قائل بالتخصيص ولا بأن * (كل) * للتكثير فقال: ما من شيء من أمر الدين والدنيا ألا يمكن استخراجه من القرآن وقد بين فيه كل شيء بيانا بليغا واعتبر في ذلك مراتب الناس في الفهم فرب شيء يكون بيانا بليغا لقوم ولا يكون كذلك لآخرين بل قد يكون بيانا لواحد ولا يكون بيانا لآخر
فضلا عن كون البيان بليغا أو غير بليغ وليس هذا التفاوت قوى البصائر، ونظير ذلك اختلاف مراتب الإحساس لتفاوت قوى الإبصار، وقيل: معنى كونه تبيانا أنه كذلك في نفسه وهو لا يستدعي وجود مبين
215

له فضلا عن تشارك الجميع في تحقق هذا الوصف بالنسبة إليهم بأن يفهموا حال كل شيء منه على أتم وجه، ونظير ذلك الشمس فإنها منيرة في حد ذاتها، وإن لم يكن هناك مستنير أو ناظر، ويغني عن هذا الاعتبار اعتبار أن المبالغة بحسب الكمية لا الكيفية، ويؤيد القول بالظاهر أن الشيخ الأكبر قدس سره وغيره قد استخرجوا منه ما لا يحصى من الحوادث الكونية. وقد رأيت جد ولا حرفيا منسوبا إلى الشيخ كتب عليه أنه يعرف منه حوادث أهل المحشر، وآخر كتب عليه أنه يعرف منه حوادث أهل الجنة، وآخر كتب عليه أنه يعرف منه حوادث أهل النار وكل ذلك على ما يزعمون مستخرج من الكتاب الكريم، ومثل هذا الجفر الجامع المنسوب إلى أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه فإنهم قالوا: إنه جامع لما شاء الله تعالى من الحوادث الكونية وهو أيضا مستخرج من القررن العظيم.
وقد نقل الجلال السيوطي عن المرسي أنه قال: جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا ما استأثر به سبحانه ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم مثل الخلفاء الأربعة ومثل ابن عباس وابن مسعود حتى قال الأول: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى ثم ورث عنهم التابعون لهم بإحسان ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه فنوعوا علومه وقامت كل طائفة بفن من فنونه، وقيل: لا يخلو الزمان من عارف بجميع ذلك وهو الوارث المحمدي ويسمى الغوث وقطب الأقطاب والمظهر الأتم ومظهر الاسم الأعظم إلى غير ذلك، ويرد على هؤلاء القائلين حديث التأبير وقوله صلى الله عليه وسلم: " أنتم أعلم بأمور دنياكم " وأجيب بأنه يحتمل أن يكون ذلك منه صلى الله عليه وسلم قبل نزول ما يعلم منه عليه الصلاة والسلام حال التأبير، ويحتمل أن يكون بعد النزول وقال ذلك صلى الله عليه وسلم قبل الرجوع إليه والنظر فيه ولو رجع ونظر لعلم فوق ما علموا فأعلميتهم بأمور دنياهم إنما جاءت لكون علمهم بذلك لا يحتاج إلى الرجوع والنظر وعلمه عليه الصلاة والسلام يحتاج إلى ذلك وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم: " لو استقبلت ما استدبرت لما سقت الهدى " مع أن سوق الهدى من الأمور الدينية، وقد قالوا: إن القرآن العظيم تبيان لها، وهذا يرد عليهم لولا هذا الجواب فتأمل فالبحث بعد غير خال عن القيل والقال، وقال بعضهم: إن الأمور إما دينية أو دنيوية والدنيوية لا اهتمام للشارع بها إذ لم يبعث لها والدينية إما أصلية أو فرعية والاهتمام بالفرعية دون الاهتمام بالأصلية فإن المطلوب أولا بالذات من بعثة الأنبياء عليهم السلام هو التوحيد وما أشبهه بل المطلوب من خلق العباد هو معرفته تعالى كما يشهد له قوله سبحانه: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56) بناء على تفسير كثير العبادة بالمعرفة، وقوله تعالى في الحديث القدسي المشهور على الألسنة المصحح من طريق الصوفية: " كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف " والقرآن العظيم قد تكفل ببيان الأمور الدينية الأصلية على أتم وجه فليكن المراد من * (كل شيء) * ذلك، ولا يحتاج هذا إلى توجيه كونه تبيانا إلى ما احتاج إليه حمل * (كل شيء) * على أمور الدين مطلقا من قولنا: إنه باعتبار أن فيه نصا على البعض وإحالة للبعض الآخر على السنة الخ، واختار بعض المتأخرين أن * (كل شيء) * على ظاهره إلا أن المراد بالتبيان التبيان على سبيل الإجمال وما من شيء إلا بين في الكتاب حاله إجمالا، ويكفي في ذلك بيان بعض أحواله والمبالغة باعتبار الكمية لا الكيفية على ما علمت سابقا، ولو حمل التبيان على
216

ما يعم الإجمال والتفصيل مع اعتبار مراتب المبين لهم واعتبر التوزيع جاز أيضا فليتدبر، ونصب * (تبيانا) * على الحال كما قال أبو حيان.
وجوز أن يكون مفعولا من أجله أي نزلنا عليك الكتاب لأجل التبيان * (وهدى ورحمة) * للجميع بقرينة قوله تعالى: * (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) * (الأنبياء: 107) وحرمان الكفرة من جهة تفريطهم * (وبشرى للمسلمين) * خاصة، وجوز صرف الجميع لهم لأنهم المنتفعون بذلك أو لأنه الهداية الدلالة الموصلة والرحمة الرحمة التامة.
* (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتآء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم تذكرون) *
.
* (إن الله يأمر) * أي فيما نزله عليك تبيانا لكل شيء، وإيثار صيغة الاستقبال فيه وفيما بعده لإفادة التجدد والاستمرار * (بالعدل) * أي بمراعاة التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، وهو رأس الفضائل كلها يندرج تحته فضيلة القوة العقلية الملكية من الحكمة المتوسطة بين الجربزة والبلادة، وفضيلة القوة الشهوية البهيمية من العفة المتوسطة بين الخلاعة والجمود، وفضيلة القوة الغضبية السبعية من الشجاعة المتوسطة بين التهور والجبن.
فمن الحكم الاعتقادية التوحيد المتوسط بين التعطيل ونفي الصنائع كما تقوله الدهرية والتشريك كما تقوله الثنوية والوثنية، وعليه اقتصر ابن عباس في تفسير * (العدل) * على ما رواه عنه البيهقي في الأسماء والصفات. وابن جرير. وابن المنذر. وغيرهم، وضم إليه بعضهم القول بالكسب المتوسط بين محض الجبر والقدر. ومن الحكم العملية التعبد بأداء الواجبات المتوسط بين البطالة وترك العمل لزعم أنه لا فائدة فيه إذ الشقي والسعيد متعينان في الأزل كما ذهب إليه بعض الملاحدة والترهب بترك المباحات تشبيها بالرهبان. ومن الحكم الخلقية الجد المتوسط بين البخل والتبذير. وعن سفيان بن عيينة أن العدل استواء السريرة والعلانية في العمل. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: دعاني عمر بن عبد العزيز فقال لي: صف لي العدل فقلت بخ سألت عن أمر جسيم كن لصغير الناس أبا ولكبيرهم ابنا وللمثل منهم أخا وللنساء كذلك وعاقب الناس على قدر ذنوبهم وعلى قدر أجسادهم ولا تضربن لغضبك سوطا واحدا فتكون من العادين، ولعل اختيار ذلك لأنه الأوفق بمقام السائل وإلا فما تقدم في تفسير أولى * (والاحسان) * أي إحسان الأعمال والعبادة أي الاتيان بها على الوجه اللائق، وهو إما بحسب الكيفية كما يشير إليه ما رواه
البخاري من قوله صلى الله عليه وسلم: " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " أو بحسب الكمية كالتطوع بالنوافل الجابرة لما في الواجبات من النقص، وجوز أن يراد بالإحسان الإحسان المتعدي بإلى لا المتعدي بنفسه فإنه يقال: أحسنه وأحسن إليه أي الإحسان إلى الناس والتفضل عليهم، فقد أخرج ابن النجار في تاريخه من طريق العكلي عن أبيه قال: مر علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه بقوم يتحدثون فقال: فيم أنتم؟ فقالوا: نتذاكر المروءة فقال: أو ما كفاكم الله عز وجل ذاك في كتابه إذ يقول: * (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) * فالعدل الانصاف والإحسان التفضل فما بقي بعد هذا، وأعلى مراتب الإحسان على هذا الإحسان إلى المسيء وقد أمر به نبينا صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي قال: قال عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام: إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما بعدما فسر
217

العدل بالتوحيد فسر الإحسان بإداء الفرائض، وفيه اعتبار الإحسان متعديا بنفسه، وقيل: العدل أن ينصف وينتصف والإحسان أن ينصف ولا ينتصف؛ وقيل: العدل في الأفعال والإحسان في الأقوال.
* (وإيتاىء ذي القربى) * أي إعطاء الأقارب حقهم من الصلة والبر، وهذا داخل في العدل أو الإحسان وصرح به اهتماما بشأنه، والظاهر أن المراد بذي القربى ما يعم سائر الأقارب سواء كانوا من جهة الأمم أو من جهة الأب، وهذا هو المراد بذوي الأرحام الذين حث الشارع صلى الله عليه وسلم على صلتهم على الأصح، وقيل: ذوو الأرحام الأقارب من جهة الأم، وذكر الطبرسي أن المروي عن أبي جعفر أن المراد من ذي القربى هنا قرابته صلى الله عليه وسلم المرادون في قوله سبحانه: * (فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى) *.
* (وينهى عن الفحشاء) * الإفراد في متابعة القوة الشهوية كالزنا مثلا، وفسر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الفحشاء به، ولعله تمثيل لا تخصيص * (والمنكر) * ما ينكر على متعاطيه من الإفراط في إظهار القوة الغضبية، وعن ابن عباس. ومقاتل تفيسره بالشرك، وعن ابن السائب أنه ما وعد عليه بالنار، وعن ابن عيينة أنه مخالفة السريرة للعلانية، وقيل: ما لا يوجب الحد في الدنيا لكن يوجب العذاب في الآخرة.
وقال الزمخشري: ما تنكره العقول. وتعقبه ابن المنير فقال: إنه لفتة إلى الاعتزال ولو قال: المنكر ما أنكره الشرع لوافق الحق لكنه لا يدع بدعة المعتزلة في التحسين والتقبيح بالعقل، وقال في " الكشف " بعد قوله: ما تنكره العقول أي بعد رده إلى قوانين الشرع فالأنكار بالعقل بالضرورة، وإنما الخلاف في مأخذه والمقصود أن ما يمكن أن يجري على المذهبين لا يحق المحاقة فيه وهو كالتعريض بابن المنير، واستظهر أبو حيان أن المنكر أعم من الفحشاء قال: لاشتماله على المعاصي والرذائل، وعلى أولا ليس الأمر كذلك وسيأتي إن شاء الله تعالى * (والبغي) * الاستعلاء والاستيلاء على الناس والتجبر عليهم، وهو من آثار القوة الوهمية الشيطانية التي هي حاصلة من رذيلتي القوتين المذكورتين الشهوانية والغضبية، وأصل معنى البغي الطلب ثم اختص بطلب التطاول بالظلم والعدوان، ومن ثم فسر بما فسر وبذلك فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وتخصيص كل من المتعاطفات الثلاثة المنهي عنها بالإشارة إلى قوة من القوى الثلاث مما ذهب إليه غير واحد.
واعترض بأن ذلك مما لا دليل عليه، وقال بعضهم: المنكر أعم الثلاثة باعتبار أن المراد به ما ينكره الشرع ويقبحه من الأقوال أو الأفعال سواء عظم قبحه ومفسدته أم لا وسواء كان متعديا إلى الغير أم لا، وأن المراد بالفحشاء ماعظم قبحه من ذلك، ومنه قيل لمن عظم قبحه في البخل فاحش، وعلى ذلك حمل الراغب قول الشاعر: أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي * عقيلة مال الفاحش المتشدد
والبغي التطاول بالظلم والعدوان ففي الآية عطف العام على الخاص وعطف الخاص على العام، وقيل: المراد بالفحشاء مقابل العدل ويفسر بما خرج عن سنن الاعتدال إلى جانب الإفراط، وبالمنكر ما يقابل ما فيه الإحسان ويفسر بما أتى به على غير الوجه اللائق بل على وجه ينكر ويستقبح وبالبغي ما يقابل إيتاء ذي القربى
218

ويفسر بما فسر ويكو قد قوبل في الآية الأمر بالنهي وكل من المأمور به بكل من المنهي عنه وجمع بين الأمر والنهي مع أن الأمر بالشيء نهى عن ضده والنهي عن الشيء أمر بضده لمزيد الاهتمام والاعتناء. والإمام الرازي قد أطال الكلام في هذا المقام وذكر أن ظاهر الآية يقتضي المغايرة بين الثلاثة المأمور بها ويقتضي أيضا المغايرة بين الثلاثة المنهي عنها وشرع في بيان المغايرة بين الأول ثم قال: والحاصل أن العدل عبارة عن القدر الواجب من الخيرات والإحسان عبارة عن الزيادة في الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية وبحسب الدواعي والصوارف وبحب الاستغراق في شهود مقام العبودية والربوبية، ويدخل في تفسيره التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خليقه سبحانه، ومن الظاهر أن الشفقة على الخلق أقسام كثيرة أشرفها وأجلبها صلة الرحم لا جرم أنه سبحانه أفرده بالذكر، ثم شرع في بيان المغايرة بين الأخيرة وقال: تفصيل القول في ذلكم أنه تعالى أودع في النفس البشرية قوى أربعة وهي الشهوانية البهيمية والغضبية السبعية والوهمية الشيطانية والعقلية الملكية، وهذه الأخيرة لا يحتاج الإنسان إلى تهذيبها لأنها من جوهر الملائكة عليهم السلام ونتائج الأرواح القدسية العلوية وإنما المحتاج إلى التهذيب الثلاثة قبلها، ولما كانت الأولى أعني القوة الشهوانية إنما ترغب في تحصيل اللذات الشهوانية وكان هذا النوع مخصوصا باسم الفحش - ألا ترى أنه تعالى سمي الزنا فاحشة - أشار إلى تهذيبها بقوله سبحانه: * (وينهى عن الفحشاء) * المراد منه المنع من تحصيل اللذات الشهوانية الخارجة عن إذن الشريعة، ولما كانت الثانية أعني القوة الغضبية السبعية تسعى أبدا في إيصال الشر والبلاء والإيذاء إلى سائر الناس أشار سبحانه إلى تهذيبها بنهيه تعالى عن المنكر إذ لا شك أن الناس ينكرون تلك الحالة فالمنكر عبارة عن الإفراد الحاصل في آثار القوة الغضبية، ولما كانت الثالثة أعني القوة الوهمية الشيطانية تسعى أبدا في الاستعلاء على الناس والترفع وإظهار الرياسة والتقدم أشار سبحانه إلى تهذيبها بالنهي عن البغي إذ لا معنى له إلا التطاول والترفع على الناس، ثم قال: ومن العجائب في هذا الباب أن العقلاء قالوا: أخس هذه القوى الثلاث الشهوانية
وأوسطها الغضبية وأعلاها الوهمية، ولله تعالى راعى هذا الترتيب فبدأ سبحانه بذكر الفحشاء التي هي نتيجة القوة الشهوانية ثم بالمنكر الذي هو نتيجة القوة الغضبية ثم بالبغي الذي هي نتيجة القوة الوهمية اه‍. وما تقدم عن غير واحد مأخوذ من هذا، ولينظر هل يثبت بما قرره دليل التخصيص فيندفع الاعتراض السابق أم لا، ثم إن الظاهر عليه أن عطف البغي على ما قبله كعطف * (إيتاء ذي القربى) * على ما قبله.
وبالجملة أن الآية كما أخرج البخاري في الأدب. والبيهقي في شعب الإيمان. والحاكم وصححه عن ابن مسعود أجمع آية للخير والشر، وأخرج البيهقي عن الحسن نحو ذلك، وأخرج الباوردي. وأبو نعيم في معرفة الصحابة عن عبد الملك بن عمير قال: بلغ أكتم بن صيفي مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يأتيه فأتى قومه فانتدب رجلان فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: نحن رسل أكتم يسألك من أنت وما جئت به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا محمد بن عبد الله عبد الله ورسوله ثم تلا عليهم هذه الآية * (إن الله يأمر) * الخ قالوا: ردد علينا هذا القول فردده عليه الصلاة والسلام عليهم حتى حفظوه فأتيا أكتم فأخبراه فلما سمع الآية قال: إني لأراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن مذامها فكونوا في هذا الأمر رأسا ولا تكونوا فيه أذنابا، وقد صارت هذه الآية أيضا كما أخرج أحمد. والطبراني. والبخاري في الأدب عن ابن عباس سبب استقرار الايمان في قلب عثمان بن مظعون ومحبته للنبي صلى الله عليه وسلم ولجمعها ما جمعت أقامها عمر بن عبد العزيز حين آلت
219

الخلافة إليه مقام ما كانو بنو أمية غضب الله تعالى عليهم يجعلونه في أواخر خطبهم من سب علي كرم الله تعالى وجهه ولعن كل من بغضه وسبه وكان ذلك من أعظم مآثره رضي الله تعالى عنه، وقال غير واحد: لو لم يكن في القرآن غير هذه الآية الكريمة لكفت في كونه تبيانا لكل شيء وهدى. ولعل إيرادها عقيب قوله تعالى: * (ونزلنا عليك الكتاب) * للتنبيه عليه فإنها إذا نظر إلى أنها قد جمعت ما جمعت مع وجازتها استيقظن عيون البصائر وتحركت للنظر فيما عداها. وأخرج أحمد عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا إذ شخص بصره فقال أتاني: جبريل عليه السلام فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع أن الله يأمر الخ.
واستدل بها على أن صيغة أمر تتناول الواجب والمندوب وموضوعها القدر المشترك وتحقيق ذلك في الأصول.
* (يعظكم) * أي ينبهكم بما يأمر وينهى سبحانه أحسن تنبيه، وهو إما استئناف وإما حال من الضمير في الفعلين * (لعلكم تذكرون) * طلبا لأن تتعظوا بذلك وتنتبهوا.
* (وأوفوا بعهد الله إذا ع‍اهدتم ولا تنقضوا الايم‍ان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون) *
.
* (وأوفوا بعهد الله) * قال قتادة. ومجاهد: نزلت فيما كان من تحالف الجاهلية في أمر بمعروف أو نهي عن منكر، وأخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عن مزيدة بن جابر أنها نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم كان من أسلم بايع على الإسلام، وظاهره أنها في البيعة على الإسلام مطلقا، فالمراد بعهد الله تعالى البيعة كما نص عليه غير واحد. واعترض بأن الظاهر أنه عام في كل موثق وهو الذي يقتضيه كلام ميمون بن مهران، وسبب النزول ليس من المخصصات، ولذا قالوا: الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وأجيب بأن قرينة التخصيص قوله تعالى فيما قبل: * (إن الذين كفروا) * الآية، وفيه نظر، وقال الأصم: المراد به الجهاد وما فرض في الأموال من حق ولا يلائمه قوله تعالى: * (إذا عاهدتم) * وقيل: المراد به النذر، وقيل: اليمين وتعقب ذلك الإمام بأنه حينئذ يكون قوله تعالى:
* (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها) * تكرارا لأن الوفاء بالعهد والمنع من النقض متقاربان لأن الأمر بالفعل يستلزم النهي عن الترك، وإذا حمل العهد على العموم بحيث دخل تحته اليمين كان هذا من باب تخصيص بعض الأفراد بالذكر للاعتناء به وبعض من فسر العهد بالبيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمل الأيمان على ما وقع عند تلك البيعة، وجوز بعضهم حملها على مطلق الأيمان.
وفي " الحواشي السعدية " أن الظاهر أن المراد بها الأشياء المحلوف عليها كما في قوله عليه الصلاة والسلام: " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه " لأنه لو كان المراد ذكر اسم الله تعالى كان عين التأكيد لا المؤكد فلم يكن محل ذكر العطف كما تقرر في المعاني ورد بأن المراد بها العقد لا المحلوف عليه لأن النقض إنما يلائم العقد ولا ينافي ذلك قوله تعالى: * (بعد توكيدها) * لأن المراد كون العقد مؤكدا بذكر الله تعالى لاب ذكر غيره كما يفعله العامة الجهلة فالمعنى أن ذلك النهي لما ذكر لا عن نقض الحلف بغير الله تعالى وقال الواحدي: إن قوله سبحانه: * (بعد توكيدها) * لإخراج لغو اليمين نحو لا والله بلى والله بناء على أن المعنى بعد توكيدها بالعزم والعقد ولغو اليمين ليست كذلك. ثم إذا حمل الأيمان على مطلقها فهو - كما قال الإمام - عام دخله التخصيص بالحديث السابق الدال على أنه متى كان الصلاح في نقض اليمين جاز نقضها. وتعقب بأن فيه تأملا لأن الحظر لو لم يكن باقيا لما احتيج إلى الكفارة الساترة للذنب. وأجيب بأن وجوب الكفارة بطريق الزجر إذ أصل الايمان الانعقاد ولو محظورة فلا ينافي لزوم موجبها، وجوز أن يقال: إن ذلك للإقدام على الحلف بالله
220

تعالى في غير محله فليتأمل، والتوكيد التوثيق، ومنه أكد بقلب الواو همزة على ما ذهب إليه الزجاج وغيره، من النحاة، وذهب آخرون إلى أن وكد وأكد لغتان أصليتان لأن الاستعمالين في المادة متساويان فلا يحن القول بأن الواو بدل من الهمزة كما في " الدر المصون " وهو الذي اختاره أبو حيان.
* (وقد جعلتم الله عليكم كفيلا) * أي شاهدا رقيبا فإن الكفيل مراع لحال المكفول به رقيب عليه واستعمال الكفيل في ذلك إما من باب الاستعارة أو المجاز المرسل والعلاقة اللزوم.
والظاهر أن جعلهم مجاز أيضا لأنهم لمافعلواذلك والله تعالى مطلع عليهم فكأنهم جعلوه سبحانه شاهدا قتاله الخفاجي ثم قال: ولو أبقى الكفيل على ظاهره وجعل تمثيلا لعدم تخلصهم من عقوبته وأنه يسلمهم لها كما يسلم الكفيل من كفله كما يقال: من ظلم فقد أقام كفيلا بظلمه تنبيهاعلى أنه لا يمكنه التخلص من العقوبة كما ذكره الراغب
لكان معنى بليغا جدا فتدبر، والظاهر أن الجملة في موضع الحال من فاعل * (تنقضوا) * وجوز أن تكون حالا من فاعل المصدر وإن كان محذوفا، وقوله سبحانه: * (إن الله يعحلم ما تفعلون) * أي من النقض فيجازيكم على ذلك في موضع التعليل للنهي السابق، وقال الخفاجي: إنه كالتفسير لما قبله.
* (ولا تكونوا ك التى نقضت غزلها من بعد قوة أنك‍اثا تتخذون أيم‍انكم دخلا بينكم أن تكون أمة هى أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القي‍امة ما كنتم فيه تختلفون) *
.
* (ولا تكونوا) * فيما تصنعون من النقض * (كالتي نقضت غزلها) * مصدر بمعنى المفعول أي مغزولها، والفعل منه غزل يغزل بكسر الزاي، والنقض ضد الإبرام، وهو في الجرم فك أجزائه بعضا من بعض، وقوله تعالى: * (من بعد قوة) * متعلق بنقضت على أنه ظرف له لا حال و - من - زائدة مطردة في مثله أي كالمرأة التي نقضت غزلها من بعد إبرامه وإحكامه.
* (أنكاثا) * جمع نكث بكسر النون وهو ما ينكث فتله وانتصابه قيل على أنه حال مؤكدة من * (غزالها) * وقيل: على أنه مفعول ثان لنقض لتضمنه معنى جعل، وجوز الزجاج كون النصب على المصدرية * (لأن نقضت) * بمعنى نكثت فو ملاق لعامله في المعنى. وقال في " الكشف ": إن جعله مفعولا على التضمين أولى من جعله حالا أو مصدرا، وفي الإتيان به مجموعا مبالغة وكذلك في حذف الموصوفة ليدل على الخرقاء الحمقاء وما أشبه ذلك، وفي " الكشاف " ما يشير إلى اعتبار التضمين حيث قال: أي لا تكونوا كالمرأة التي أنحت على غزلها بعد أن أحكمته فجعلته أنكاثا، وفي قوله: أنحت - على ما قال القطب - إشارة ءلى أن * (نقضت) * مجازا عن أرادت النقض على حد قوله تعالى: * (إذا قمتم إلى * (الصلاة) * (المائدة: 6) وذكر أنه فسر بذلك جمعا بين القصد والفعل ليدل على حماقتها واستحقاقها اللوم بذلك فإن نقضها لو كان من غير قصد لم تستحق ذلك ولأن التشبيه كلما كان أكثر تفصيلا كان أحسن، ولا يخفى ما في اعتبار التضمين وهذا المجاز من التكليف وكأنه لهذا قيل: إن اعتبار القصد لأن المتبارد من الفعل الاختياري وفي الكشف خرج ذلك المعنى من قوله تعالى: * (من بعد قوة) * فإن نقض المبرم لا يكون إلا بعد انحاء بالغ وقصد تام ولم يرد بالموصول امرأة بعينها بل المراد من هذه صفته ففي الآية تشبيه حال الناقض بحال الناقض في أخس أحواله تحذيرا منه وأن ذلك ليس من فعل العقلاء وصاحبه داخل في عداد حمقى النساء، وقيل: المراد امرأة معلومة عند المخاطبين كانت تغزل فإذا برمت غزلها تنقضه وكانت تسمى خرقاء مكة، قال ابن الأنباري: كان اسمها ربطة بنت عمرو المرية تلقب الحفراء، وقال الكلبي ومقاتل: هي امرأة من قريش اسمها ربطة بنت سعد التيمي اتخذت
221

مغزلا قدر ذراع وصنارة مثل أبع وفلكة عظيمة على قدرها فكانت تغزل هي وجوارها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر بن حفص قال: كانت سعيدة الأسدية مجنونة تجمع الشعر والليف فنزلت هذه الآية * (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها) * وروى ابن مردويه عن ابن عطاء أنها شكت جنونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبت أن يدعو لها بالمعافاة فقال لها عليه الصلاة والسلام: " إن شئت دعوت فعافاك الله تعالى وإن شئت صبرت واحتسبت ولك الجنة " فاختارت الصبر والجنة، وذكر عطاء أن ابن عباس أراه إياها، وعن مجاهد هذا فعل نساء نجد تنقض أحداهن غزلها ثم تنفشه فتغزله بالصوف، وإلى عدم التعيين ذهب قتادة عليه الرحمة * (تتخذون أيمانكم دخلا بينكم) * حال من الضمير في * (لا تكونوا) * أو في الجار والمجرور الواقع موقع الخبر.
وجوز أن يكون خبر تكونوا و * (كالتي) * نقضت في موضع الحال وهو خلاف الظاهر، وقال الإمام: الجملة مستأنفة على سبيل الاستفهام الإنكاري أي أتتخذون، والداخل في الأصل ما يدخل الشيء ولم يكن منه ثم كنى به عن الفساد والعداوة المستبطنة كالدغل، وفسره قتادة بالغدر والخيانة، ونصبه على أنه مفعول ثان، وقيل: على المفعولية من أجله، وفائدة وقوع الجملة حالا الإشارة إلى وجه الشبه أي لا تكونوا مشبهين بامرأة هذا شأنها متخذين أيمانكم وسيلة للغدر والفساد بينكم * (أن تكون أمة) * أي بأن تكون جماعة * (هي أربى) * أي أزيد عددا وأوفر مالا * (من أمة) * أي من جماعة أخرى، والمعنى لا تغدروا بقوم بسبب كثرتكم وقلتهم بل حافظوا على أيمانكم معهم، وأخرج ابن جرير. وابن المنذر. وغيرهما عن مجاهد أنه قال: كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعز فينقضون حلفهم ويحالفون الذين هم أعز فنهوا عن ذلك فالمعنى لا تغدروا بجماعة بسبب أن تكون جماعة أخرى أكثر منها وأعزل بل عليكم الوفاء بالأيمان والمحافظة عليها وإن قل من خلفتم له وكثر الآخر وجوز فيه * (تكون) * أن تكون تامة وناقصة - هي - أن يكون مبتدأ وعمادا * (فأربى) * إما مرفوع أو منصوب وأنت تعلم أن البصريين لا يجوزون كون * (هي) * عماد التنكر * (أمة) * وزعم بعض الشيعة أن هذه الآية قد حرفت وأصلها أن تكون أئمة هي أزكى من أئمتكم؛ ولعمري قد ضلوا سواء السبيل * (إنما يبلوكم الله به) * الضمير المجرور عائد إما على المصدر المنسبك من * (أن تكون) * أو على المصدر المنفهم من * (أربى) * وهو الربو بمعنى الزيادة، وقول ابن جبير. وابن السائب. ومقاتل يعني بالكثرة مرادهم من هذا واكتفوا ببيان حاصل المعنى، وظن ابن الأنباري أنهم أرادوا أن الضمير راجع إلى نفس الكثرة لكن لما كان تأنيثها غير حقيقي صح التذكير وهو كنما ترى، وقيل: إنه لأربى لتأويله بالكثير، وقيل: للأمر بالوفاء المدلول عليه بقوله تعالى - وأوفوا - الخ ولا حاجة إلى جعله منفهما من النهي عن الغدر بالعهد واختار بعضهم الأول لأنه أسرع تبادرا أي يعاملكم معاملة المختبر بذلك الكون لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله تعالى وبيعة رسوله عليه الصلاة والسلام أم تغترون بكثرة قريش وشوكتهم وقلة المؤمنين وضعفهم بحسب ظاهر الحال * (وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون) * فيجازيكم بأعمالكم ثوابا وعقابا.
* (ولو شآء الله لجعلكم أمة واحدة ول‍اكن يضل من يشآء ويهدى من يشآء ولتس‍الن عما كنتم تعملون) *
.
* (ولو شاء الله لجعلكم) * أيها الناس * (أمة واحدة) * متفقة على الإسلام * (ول‍اكن) * لا يشاء ذلك رعاية للحكمة بل * (يضل من يشاء) * إضلاله بأن يخلق فيه الضلال حسبما يصرف اختياره التابع
222

لاستعداده له * (ويهدى من يشاء) * هدايته حسبما يصرف اختياره التابع لاستعداده لتحصيلها * (ولتسألن) * جميعا يوم القيامة سؤال محاسبة ومجازاة لا سؤال استفسار وتفهم * (عما كنتم تعملون) * تستمرون على عمله في الدنيا بقدركم المؤثرة بإذن الله تعالى، والآية ظاهرة في أن مشيئة الله تعالى لإسلام الخلق كلهم ما وقعت وأنه سبحانه إنما شاء منهم الافتراق والاختلاف، فإيمان وكفر وتصديق وتكذيب ووقع الأمر كما شاء جل وعلا، والمعتزلة ينكرون كون الضلال بمشيئته تعالى ويزعمون أنه سبحانه إنما شاء من الجميع الايمان ووقع خلاف ما شاء عز شأنه. وأجاب الزمخشري عن الآية بأن المعنى لو شاء على طريقة الإلجاء والفسر لجعلكم أمة واحدة مسلمة فإنه سبحانه قادر على ذلك لكن اقتضت الحكمة أن يضل ويخذل من يشاء ممن علم سبحانه أنه يختار الكفر ويصمم عليه ويهدي من يشاء بأن يلطف بمن علم أنه يختار الايمان، والحاصل أنه تعالى بني الأمر على الاختيار وعلى ما يستحق به اللطف والخذلان والثواب والعقاب ولم ينبه على الاجبار الذي لا يستحق به شيء ولو كان العبيد مضطرين للهداية والضلال لما أثبت سبحانه لهم عملا يسئلون عنه بقوله: * (ولتسألن عما كنتم تعملون) * اه‍، وللعسكري نحوه، وقد قدمنا لك غير مرة أن المذهب الحق على ما بينه علامة المتأخرين الكوراني وألف فيه عدة رسائل أن للعبد قدرة مؤثرة بإذن الله تعالى لا أنه لا قدرة له أصلا كما يقول الجبرية ولا أن له قدرة مقارنة غير مؤثرة كما هو المشهور عند الأشعرية ولا أن له قدرة مؤثرة وإن لم يؤذن لله تعالى كما يقول المعتزلة وإن له اختيارا أعطيه بعد طلب استعداده الثابت في علم الله تعالى له فللعبد في هذا المذهب اختيار والعبد مجبور فيه بمعنى أنه لا بد من أن يكون له لأن استعداده الأزلي الغير المجعول قد طلبه من الجواد المطلق والحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها والإثابة والتعذيب إنما يترتبان على الاستعداد للخير والشر الثابت في نفس الأمر والخير والشر يدلان على ذلك نحو دلالة الأثر على المؤثر والغاية على ذي الغاية وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ومن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجه غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
وقال ابن المنير: إن أهل السنة عن الإجبار بمعزل لأنهم يثبتون للعبد قدرة واختيارا وأفعالا وهم مع ذلك يوحدون الله تعالى حق توحيده فيجعلوه قدرته سبحانه هي الموجدة والمؤثرة وقدرة العبد مقارنة فحسب وبذلك يميز بين الاختياري والقسري وتقوم حجة الله تعالى على عباده اه‍ وهذا هو المشهور من مذهب الأشعرية وهو كما ترى، وسيأتي أن شاء الله تعالى تمام الكلام في هذا المقام وما فيه من النقض والإبرام.
* (ولا تتخذوا أيم‍انكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم) *
.
* (ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم) * قالوا هو تصريح بالنهي عن اتخاذ الأيمان دخلا بعد التضمين لأن الاتخاذ المذكور فيما سبق وقع قيدا للمنهي عنه فكان منهيا عنه ضمنا تأكيدا ومبالغة في قبح النهي عنه وتمهيدا لقوله تعالى: * (فتزل قدم) * عن محجة الحق * (بعد ثبوتها) * عليها ورسوخها فيها بالأيمان، وقيل ما تقدم كان نهيا عن الدخول في الحلف ونقض العهد بالقلة والكثرة وما هنا نهى عن الدخل في الأيمان التي يراد بها اقتطاع الحقوق فكأنه قيل: لا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم لتتوصلوا بذلك إلى قطع حقوق المسلمين.
وقال أبو حيان: لم يتكرر النهي فإن ما سبق إخبار بأنهم اتخذوا أيمانهم دخلا معللا بشيء خاص وهو أن تكون أمة هي أربى من أمة وجاء النهي المستأنف الإنشائي عن اتخاذ الايمان دخلا على العموم فيشمل جميع الصور من الحلف في المبايعة وقطع الحقوق المالية وغير ذلك. ورد بأن قيد المنهي عنه منهى عنه فليس إخبارا صرفا
223

ولا عموم في الثاني لأن قوله تعالى: * (فتزل) * الخ إشارة إلى العلة السابقة إجمالا على أنه قد يقال: إن الخاص مذكور في ضمن العام أيضا فلا محيص عن التكرار أيضا ولو سلم ما ذكره فتأمل، ونصب - تزل - بأن مضمرة في جواب النهي لبيان ما يترتب عليه ويقتضيه، قال في " البحر " وهو استعارة للوقوع في أمر عظيم لأن القدم إذا زلت انقلبت الإنسان من حال خير إلى حال شر، وتوحيد القدم وتنكيرها - كما قال الزمخشري - للإيذان بأن زلل قدم واحدة أي قدم كانت عزت أو هانت محذور عظيم فكيف بأقدام، وقال أبو حيان: إن الجمع تارة يلحظ فيه المجموع من حيث هو مجموع وتارة يلحظ فيه كل فرد فرد وفي الأول يكون الإسناد معتبرا فيه الجمعية وفي الثاني يكون الإسناد مطابقا للفظ الجمع كثيرا فيجمع ما أسند إليه ومطابقا لكل فرد فيفرد كقوله تعالى: * (واعتدت لهن متكأ) * فأفرد المتكأ لما لوحظ في * (لهن) * كل واحدة منهن ولو جاء مرادا به الجمعية أو على الكثير في الوجه الثاني لجمع وعلى هذا ينبغي أن يحمل قوله:
فإني وجدت الضامرين متاعهم * يموت ويفنى فارضخي من وعائيا
أي كل ضامر، ولذا أفرد الضمير في يموت ويفنى، ولما كان المعنى هنا لا يتخذ كل واحد منكم جاء * (فتزل قدم) * مراعاة لهذا المعنى، ثم قال سبحانه: * (وتذوقوا السوء) * مراعاة للمجموع أو للفظ الجمع على الوجه الكثير إذ قلنا: إن الإسناد لكل فرد فرد فتكون الآية قد تعرضت للنهي عن اتخاذ الأيمان دخلا باعتبار المجموع وباعتبار كل فرد ودل على ذلك بإفراد * (قدم) * وجمع الضمير في * (وتذوقوا) *. وتعقب بأن ما ذكره الزمخشري نكتة سرية وهذا توجيه للأفراد من جهة العربية فلا ينافي النكتة المذكورة، والمراد من السوء العذاب الدنيوي من القتل والأسر والنهب والجلاء غير ذلك مما يسوء ولا يخفى ما في * (تذوقوا) * من الاستعارة * (بما صددتم) * بسبب صدودكم وإعراضكم أو صد غيركم ومنعه * (عن سبيل الله) * الذي ينتظم الوفاء بالعهود والأيمان فإن من نقض البيعة وارتد جعل ذلك سنة لغيره يتبعه فيها من بعده من أهل الشقاء والإعراض عن الحق فيكون صادا عن السبيل.
وجعل ذا بعضهم دليلا أن الآية فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كما ترى * (ولكم في الآخرة * (عذاب عظيم) * لا يعلم عظمه إلا الله تعالى.
* (ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون) *
.
* (ولا تشتروا بعهد الله) * المراد به عند كثير بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الايمان والاشتراء مجاز عن الاستبدال لمكان قوله تعالى: * (ثمنا قليلا) * فإن الثمن مشترى لا مشترى به أي لا تأخذوا بمقابلة عهده تعالى عوضا يسيرا من الدنيا، قال الزمخشري: كان قوم ممن أسلم بمكة زين لهم الشيطان لجزعهم مما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين وإيذائهم لهم ولما كانوا يعدونهم من المواعيد إن رجعوا أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبتهم الله تعالى بهذه الآية ونهاهم عن أن يستبدلوا ذلك بما وعدوهم به من عرض الدنيا، وقال ابن عظية: هذا نهي عن الرشا وأخذ الأموال على ترك ما يجب على الآخذ فعله أو فعل ما يجب عليه تركه، فالمراد بعهد الله تعالى ما يعم ما تقدم وغيره ولا يخفى حسنه * (إنما عند الله) * أي ما أخبأه وادخره لكم في الدنيا والآخرة * (هو خير لكم) * من ذلك الثمن القليل * (إن كنتم تعلمون) * أي إن كنتم من أهل العلم والتمييز، فالفعل منزل منزلة اللازم، وقيل: متعد والمفعول محذوف وهو فضل ما بين العوضين والأول أبلغ ومستغن عن التقدير، وفي التعبير
224

بأن ما لا يخفى، والجملة تعليل للنهي على طريقة التحقيق [بم كما أن قوله تعالى:
* (ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) *.
* (ما عندكم) * الخ تعليل للخيرية بطريق الاستئناف أي ما تتمتعون به من نعيم الدنيا بل الدنيا وما فيها جميعا * (ينفد) * ينقضي ويفنى وإن جم عدده وطال مدده، يقال: نفد بكسر العين ينفد بفتحها نفادا ونفودا إذا ذهب وفنى، وأما نفذ بالذال المعجمة فبفتح العين ومضارعه ينفذ بضمها * (وما عند الله) * من خزائن رحمته الدنيوية والأخروية * (باق) * لا نفاد له؛ أما الأخروية فظاهر، وأما الدنيوية فحيث كانت موصولة بالأخروية ومستتبعة لها فقد انتظمت في سلك الباقيات الصالحات. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن المراد بما عند الله في الموضعين الثواب الأخروي واختاره بعض الأئمة، وفي إيثار الاسم على صيغة المضارع من الدلالة على الدوام ما لا يخفى. ورد بالآية على جهم بن صفوان حيث زعم أن نعيم اجلنة منقطع، وقوله تعالى: * (ولنجزين) * بنون العظمة وهي قراءة عاصم. وابن كثير على طريقة الالتفات من الغيبة إلى التكلم تكرير للوعد المستفاد من قوله سبحانه: * (إن ما عند الله هو خير لكم) * على نهج التوكيد القسمي مبالغة في الحمل على الثبات على العهد. وقرأ باقي السبعة بالياء فلا التفات.
والعدول عما يقتضيه ظاهر الحال من أن يقال: ولنجزينكم - بالنون أو بالياء - أجركم بأحسن ما كنتم تعملون للتوسل إلى التعرض لأعمالهم والأشعار بعليتها للجزاء أي والله لنجزين * (الذين صبروت) * على العهد أو على أذية المشركين ومشاف الإسلام التي من جملتها الوفاء بالعهود وإن وعد المعاهدون على نقضها بما وعدوا * (أجرهم) * مفعول * (لنجزين) * أي لنعطينهم أجرهم اخلاص بهم بمقابلة صبرهم * (بأحسن ما كانوا يعملون) * وهو الصبر فإنه من الأعمال القلبية، والكلام على حذف مضاف أي لنجزينهم بجزاء صبرهم، وكان الصبر أحسن الأعمال لاحتياج جميع التكاليف إليه فهو رأسها قاله أبو حيان. وفي إرشاد العقل السليم إنما أضيف الأحسن إلى ما ذكر الأشعار بكمال حسنة كما في قوله تعالى: * (وحسن ثواب الآخرة) * (آل عمران: 148) لا لإفادة قصر الجزاء على الأحسن منه دون الحسن فإن ذلك مام لا يخطر ببال أحد لا سيما بعد قوله تعالى: * (أجرهم) * فالإضافة للترغيب.
وجوز أن يكون المعنى لنجزينهم بحسب أحسن أفراد أعمالهم أي لنعطينهم بمقابلة الفرد الأدنى من أعمالهم ما نعطيه بمقابلة الفرد الأعلى منها من الأجر الجزيل لا أنا نعطي الأجر بحسب أفرادها المتفاوتة في مراتب الحسن بأن نجزي الحسن منها بالحسن والأحسن بالأحسن، وفيه ما لا يخفي من العدة الجميلة باغتفار ما عسى يعتريهم في تضاعيف الصبر من بعض جزع ونظمه في سلك الصبر الجميل، وأن يكون * (أحسن) * صفة جزاء محذوفا والإضافة على معنى من التفضيلية أي لنجزينهم بجزاء أحسن من أعمالهم، وكونه أحسن لمضاعفته، وقيل: المراد بالأحسن ما ترجح فعله على تركه كالواجبات والمندوبات أو بما ترجح تركه أيضا كالمحرمات والمكروهات والحسن ما لم يترجح فعله ولا تركه وهو لا يثاب عليه. وتعقبه في الإرشاد بأنه لا يساعده مقام الحث على الثبات على ما هم عليه من الأعمال الحسنة المخصوصة والترغيب في تحصيل ثمراتها بل التعرض لإخراج بعض أعمالهم من مدارية الجزاء من قبيل تحجير الرحمة الواسعة في مقام توسيع حماها، وقيل: المراد بالأحسن النفل، وكان
225

أحسن لأنه لم يحتم بل يأتي الإنسان به مختارا غير ملزم، وإذا علمت المجازاة على النفل الذي هو أحسن علمت المجازاة على الفرض الذي هو حسن، ولا يخفى أنه ليس بحسن أصلا.
* (من عمل ص‍الحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حيواة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) *
.
* (من عمل صالحا) * أي عملا صالحا أي عمل كان، وهذا - كما قيل - شروع في تحريض كافة المؤمنين على كل عمل صالح غب ترغيب طائفة منهم في الثبات على ما هم عليه من عمل صالح مخصوص دفعا لتوهم الأجر الموفور بهم وبعملهم، وقوله تعالى: * (من ذكر أو أنثى) * دفع لتوهم تخصيص * (من) * بالذكور لتبادرهم من ظاهر لفظ * (من) * فإنه مذكر وعاد عليه ضميره وإن شمل النوعين وضعا على الأصح، واستدل عليه بما رواه الترمذي من قوله صلى الله عليه وسلم:
" من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله تعالى إليه، وقول أم سلمة: " فكيف تصنع النساء بذيولهن " الحديث فإن أم سلمة رضي الله تعالى عنها فهمت دخول النساء في * (من) * وأقرها على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأنهم أجمعوا على أنه لو قال: من دخل داري فهو حر فدخلها الاماء عتقن، وبعضهم يستدل على ذلك أيضا بهذه الآية إذ لولا تناوله الأنثى وضعا لما صح أن يبين بالنوعين. وفي الكشف كان الظاهر تناوله للذكور من حيث أن الإناث لا يدخلن في أكثر الأحكام والمحاورات وإن كان التناول على طريق التعميم والتغليب حاصلا لكن لما أريد التنصيص ليكون أغبط للفريقين ونصا في تناولهما بين بذكر النوعين اه‍، والقول الأصح أن التناول لا يحتاج إلى التغليب، وتمام الكلام في ذلك في كتب الأصول، وقوله تعالى: * (وهو مؤمن) * في موضع الحال من فاعل * (عمل) * وقيد به إذ لا اعتداد بأعمال الكفرة الصالحة في استحقاق القواب إجماعا، واختلف في ترتب تخفيف العقاب عليها، فقال بعضهم: لا يترتب أيضا لقوله تعالى: * (وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم) * وقوله تعالى: * (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ".
وقال الإمام: إن إفادة العمل الصالح لتخفيف العقاب غير مشروطة بالإيمان لقوله تعالى: " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره " وحديث أبي طالب أنه اخف الناس عذابا لمحبته وحمايته النبي صلى الله عليه وسلم. وفي البحر أن قوله تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) * (الزلزلة: 7) مخصص بهذه الآية ونحوها أو يراد - بمثقال ذرة - مثقال ذرة من إيمان كما جاء فيمن يخرج من النار من عصاة المؤمنين، وقال الكرماني: إن تخفيف العذاب عن أبي طالب ليس جزاء لعمله بل هو لرجاء غيره أو هو من خصائص نبينا عليه الصلاة والسلام، وقال بعضهم: الإيمان شرط لترتب التخفيف على الأعمال الصالحة إذا كانت مما يتوقف صحتها على النية التي لا تصح من كانفر وليس شرطا للترتب عليها إذا لم تكن كذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في هذا المقام، وإيثار الجملة الاسمية لإفادة وجوب دوام الإيمان ومقارنته للعمل الصالح في ترتب قوله تعالى: * (فلنحيينه حياة طيبة) * الخ، والمراد بالحياة الطيبة الحياة التي تكون في الجنة إذ هناك حياة بلا موت وغنى بلا فقر وصحة بلا سقم وملك بلا هلك وسعادة بلا شقاوة، أخرج ابن جرير. وابن المنذر. وغيرهما عن الحسن قال: ما تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة، وروي نحوه عن مجاهد. وقتادة. وابن زيد، ولله تعالى در من قال: لا طيب للعيش ما دامت منغصة * لذاته بادكار الموت والهرم
وقال شريك: هي حياة تكون في البرزخ فقد جاء " القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ".
226

وقال غير واحد: هي في الدنيا وأريد بها حياة تصحهبا القناعة والرضا بما قسمه الله تعالى له وقدره، فقد أخرج البيهقي في الشعب. والحاكم وصححه. وابن أبي حاتم. وغيرهم عن ابن عباش رضي الله تعالى عنهما أنه فسرها بذلك وقال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو اللهم قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه واخلف على كل غائبة لي بخير " وجاء القناعة ما لا ينفد.
وقال أبو بكر الوراق: هي حياة تصحبها حلاوة الطاعة، وأخرج عبد الرزاق. وغيره عن ابن عباس أنه سئل عن ذلك فقال: الحياة الطيبة الرزق الحلال، وروى عن الضحاك. ووجه بعضهم طيب هذه الحياة بأنه لا يترتب عليها عقاب بخلاف الحياة بالرزق الحرام فقد جاء " أيما لحم نبت من سحت فالنار أولى به " وهو كما ترى، وقيل: غير ذلك؛ وأولى الأقوال على تقدير أن يكون ذلك في الدنيا تفسيرها بما يصحبه القناعة.
قال الواحدي: إن تفسيرها بذلك حسن مختار فإنه لا يطيب في الدنيا إلا عيش القانع وأما الحريض فإنه أبدا في الكد والعناء، وقال الإمام: إن عيش المؤمن في الدنيا أطيب من عيش الكافر لوجوه. الأول أنه لما عرف أن رزقع إنما حصل بتدبير الله تعالى وأنه سبحانه محسن كريم لا يفعل إلا الصواب كان راضيا بكل ما قضاه وقدره وعرف أن مصلحته في ذلك، وأما الجاهل فلا يعرف هذه الأصول فكان أبدا في الحزن والشقاء.
الثاني أن المؤمن يستحضر أبدا في عقله أنواع المصائب والمحن ويقدر وقوعها ويجد نفسه راضية بذلك فعند الوقوع لا يستعظمها بخلاف الجاهل فإنه غافل عن تلك المعارف فعند وقوع المصائب يعظم تأثيرها في قلبه.
الثالث أن المؤمن منشرح بنور معرفة الله تعالى والقلب إذا كان مملوءا بالمعرفة لم يتسع للأحزان الواقعة بسبب أحوال الدنيا وأما الجاهل فقلبه خال عن المعرفة متفرغ للأحزان من المصائب الدنيوية.
الرابع أن المؤمن عارف أن خيرات الحياة الجسمانية خسيسة فلا يعظم فرحه بوجداناه ولا غمه بفقدانها والجاهل لا يعرف سعادة أخرى تغايرها فيعظم فرحه بوجدانها وغمه بفقدانها.
الخامس أن المؤمن يعلم أن خيرات الدنيا واجبة التغير سريعة الزوال ولولا تغيرها وانقلابها ما وصلت إليه فعند وصولها إليه لا يتعلق بها قلبه ولا يعانقها معانقة العاشق فلا يحزنه فواتها والجاهل بخلاف ذلك اه‍، وللبحث فيه مجال. وأورد على التفسير المختار أن بعض من عمل صالحا وهو مؤمن لم يرزق القناعة بل قد ابتلى بالقنوع، وأجيب بأن المراد بالمؤمن من كمل إيمانه أو يقال: المراد - بمن عمل صالحا - من كان جميع عمله صالحاف.
وقال البيضاوي في بيان ترتب احيائه حياة طيبة: إنه إن كان معسرا فظاهر وإن كان موسرا فطيب عيشه بالقناعة والرضى بالقسمة وتوقف الأجر العظيم في الأخرة أي على تخلف بعض مراداته عنه وضنك عيشه فقال الخفاجي: إن هذه الأمور لا بد من وجود بعضها في المؤمن والأخير - يعني توقع الأجر في الآخرة - عام شامل لكل مؤمن فلا يرد عليه أن هذا لا يوجد في كل من عمل صالحا حتى يؤول المؤمن بمن كمل إيمانه إلى آخر ما سمعت. وتعقب بأن القناعة هي الرضا بالقسم كما في القاموس وغيره وتوقع الأجر العظيم لا يوجد بدون ذلك ويكف يحصل الأجر على تخلف المراد وضنك العيش مع الجزع وعدم الرضا، وكلامه ظاهر في تحقق هذا التوقع وإن لم يكن هناك قناعة ورضا ولا يكاد يقع هذا من مؤمن عارف فلا بد من التأويل.
وبحث بعضهم فيه أيضا بأن كمال الإيمان لا يكون بدون الرضا وكذا كون جميع الأعمال صالحة لا يوجد بدونه لأن الأعمال تشمل القلبية والقالبية والرضا من النوع الأول. والمراد من * (لنحيينه حياة طيبة) *
227

لنعطينه ما تطيب به حياته فيؤول معنى الآية حينئذ على تقدير أن يراد القناعة الرضا من رضى بالقسمة وفعل كذا وكذا وهو مؤمن أو من عمل صالحا وهو راض بالقسمة متصف بكذا وكذا مما فيه كمال الإيمان فلنعطينه الرضا بالقسمة الذي تطيب به حياته ويتضمن من رضى بالقسمة فلنعطينه الرضا بالقسمة الذي تطيب به حياته وهو كما ترى وفيه ما لا يخفى. نعم تفسير الحياة الطيبة بما يكون في الجنة سالم عن هذا القيل والقال، ويراد بها ما سلمت من توعم الموت والهرم وحلول الالم والسقم فيكون قوله تعالى: * (لنحيينه حياة طيبة) * إشارة إلى درء المفاسد، وقوله سبحانه: * (ولعنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) * إشارة إلى جلب المصالح ولكون الأول أهم قدم فليتأمل، وكأن المراد ولنجزينهم الخ حسبما يفعل بالصابرين فليس في الآية شائبة تكرار كما زعم الطبرسي، والجمع في الضمائر العائدة إلى الموصول لمراعاة جانب المعنى كما أن الأفراد فيما سلف لرعاية جانب اللفظ، وإيثار ذلك على العكس بناءا على كون الأحياء حياة طيبة في الدنيا وجزاء الأجر في الآخرة لما أن وقوع الجزاء بطريق الاجتماع المناسب للجمعية ووقوع ما في حيز الصلة وما يترتب عليه بطريق الافتراق والتعاقب الملائم للأفراد، وقيل بناءا على كون ذلك في الآخرة: إن الجمع والأفراد لما تقدم، وكذا إيثار ذلك على العكس فيما عدا ضمير " لنحيينه " واما في ضميره فلما أن الأحياء حياة طيبة بمعنى ما سلمت مما تقدم أمر واحد في الجميع لا يتفاوت فيه أهل الجنة فكأنهم في ذلك شيء واحد، ولما لم يكن الجزاء كذلك وكان أهل الجنة فيه متفاوتين جيء بضمير الجمع معه فتأمل كل ذلك. وروي عن نافع أنه قرأ " وليجزينهم " بالياء على الالتفات من التكلم إلى الغيبة.
قال أبو حيان: وينبغي أن يكون ذلك على تقدير قسم ثان لا معطوفا على * (فلنحيينه) * فيكون من عطف جملة قسمية على مثلها وكلتاهما محذوفتان، ولا يكون من عطف جواب على مثله لتغاير الإسناد وإفضاء الثاني إلى إخبار المتكلم عن نفسه اخبار الغائب وذلك لا يجوز، وعلى هذا لا يجوز زيد قال لأضربن هند أو لينفينها تريد ولينفينها زيد فإن جعلته على إضماء قسم ثان جاز أي وقال زيد لينفينها لأن لك في هذا التركيب حكاية المعنى وحكاية اللفظ، ومن الثاني * (وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى) * ومن الأول * (يحلفون بالله ما قالوا) * ولو حكى اللفظ قيل ما قلنا ا ه‍. واستدل بالآية على أن الإيمان مغاير للعمل الصالح مغايرة الشرط للمشروط.
هذا وإذ قد انتهى الأمر إلى مدار الجزاء وهو صلاح العمل وحسنه رتب عليه بالفاء الإرشاد إلى ما به يحسن العمل الصالح، ويخلص عن شوب الفساد فقيل:
* (فإذا قرأت القرءان فاستعذ بالله من الشيط‍ان الرجيم) *
.
* (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) * أي إذا أردت قراءة القرآن فاسأله عز جاره أن يعيذك * (من) * وساوس * (الشيطان الرجيم) * كيلا يوسوسك في القراءة، فالقراءة مجاز مرسل عن إرادتها إطلاقا لاسم المسبب على السبب، وكيفية الاستعاذة عند الجمهور من القراء وغيرهم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لتظافر الروايات على أنه صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ كذلك.
وروى الثعلبي. والواحدي أن ابن مسعود قرأ عليه عليه الصلاة والسلام فقال: أعوذ باا السميع
228

العليم من الشيطان الرجيم فقال له صلى الله عليه وسلم: " يا ابن أم عبد قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبريل عن القلم عن اللوح المحفوظ " نعم أخرج أبو داود. والبيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها في ذكر الافك قالت: " جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكشف عن وجهه وقال: اعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم إن الذين جاؤوا بالافك " الآية، وأخرجا عن سعيد انه قال: " كان رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا قام من الليل فاستفتح الصلاة قال: سبحانك للهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ثم يقول أعوذ بالله السميع العليم " الخ وبذلك أخذ من استعاذ كذلك، وفي الهداية الأولى أن يقول: أستعيذ بالله ليوافق القرآن ويقرب أعوذ باا من الشيطان الرجيم اه‍، والمخاتر ما سمعت أولا لأن لفظ * (استعذ) * طلب العوذ وقوله: * (أعوذ) * امتثال مطابق لمقتضاه. والقرب من اللفظ مهدر، ويكفي لأولوية ما عليه الجمهور مجيؤه في المأثور: وقال بعض أصحابنا، ولا ينبغي أن يزيد المتعوذ السميع العليم لأنه ثناء وما بعد التعوذ محل القراءة لا محل الثناء وفيه أن هذا بعد تسليم الخبرين السابقين غير سديد على أنه ليس في ذلك اتيان بالثناء بعد التعود بل اتيان به في أثنائه كما لا يخفى، والأمر بها للندب عندهم، وأخرج عبد الرزاق في المصنف. وابن المنذر عن عطاء وروي عن الثوري أنها واجبة لكل قراءة في الصلاة أو غيرها لهذه الآية فحملا الأمر فيها على الوجوب نظرا إلى أنه حقيقة فيه، وعدم صلاحية كونها لدفع الوسوسة في القراءة صارفا عنه بل يصح شرع الوجوب معه، وأجيب بأنه خلاف الإجماع، ويبعد منهما أن يبتدعا قولا خارقا له من بعد علمهما بأن ذلك لا يجوز فالله تعالى أعلم بالصارف على قول الجمهور، وقد يقال: هو تعليمه صلى الله عليه وسلم الاعرابي الصلاة ولم يذكرها عليه الصلاة والسلام.
وقد يجاب بأن تعليمه إياها بتعليمه ما هو من خصائصها وهي ليست من واجباتها بل من واجبات القراءة أو إن كونها تقال عند القراءة كان ظاهرا معهودا فاستغنى عن ذكرها، وففيه أنه لا يتأتى على ما ستسمع قريبا إن شاء الله تعالى من قول أبي يوسف عليه الرحمة، وقال الخفاجي: إن حمل الأمر على الندب لما روي من ترك النبي صلى الله عليه وسلم لها، وإذا ثبت هذا كفى صارفا؛ ومذهب ابن سيرين. والنخعي وهو أحد قولي الشافعي أنها مشروعة في القراءة في كل ركعة لأن الأمر معلق على شرط فيتكرر بتكرره كما في قوله تعالى: * (وإن كنتم جنبا فاطهروا) * (المائدة: 6) وأيضا حيث كانت مشروعة في الركعة الأولى فهي مشروعة في غيرها من الكرعات قياسا للاشتراك في العلة، ومذهب أبي حنيفة - وهو القول الآخر للشافعي - أنها مشروعة في الأول فقط لأن قراءة الصلاة كلها كقراءة واحدة، وقيل: إنها
عند الإمام أبي حنيفة للصلاة ولذا لا تكرر، والمذكور في الهداية وغيرها أنها عند الإمام ومحمد للقراءة دون الثناء حتى يأتي بها المسبوق دون المقتدى، وقال أبو يوسف: انها للثناء وفي الخلاصة أنه الأصح، وتظهر ثمرة الخلاف في ثلاثة مسائل ذكرت فيها فما ذكره صاحب القيل لم نعثر عليه في كتب الاصحاب، ومالك لا يرى التعوذ في الصلاة المفروضة ويراه في غيرها كقيام رمضان، والمروى عنه في غير الصلاة فيما سمعت من بعض مقلديه وعن أبي هريرة. وان سيرين. وداود. وحمزة من القراء أن الاستعاذة عقب القراءة أخذا بظاهر الآية.
وللجمهور ما رواه أئمة القراءة مسندا عن نافع عن جبير بن مطعم أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول قبل القراءة: * (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) *: قال في الكشف، دل الحديث على أن التقديم هو السنة فبقي سببية القراءة لها، والفاء في * (فاستعذ) * دلت على السببية فلتقدر الإرادة ليصح، وأيضا الفراغ عن العمل لا يناسب الاستعاذة من العدو وإنما يناسبها الشروع فيه والتوسط فلتقدر ليكونا - أي القراءة والاستعاذة - مسببتين عن سبب واحد لا يكون بينهما مجرد الصحبة الاتفاقية التي تنافيها الفاء، وإليه أشار صاحب المفتاح بقوله: بقرينة الفاء والسنة المستفيضة انتهى.
ومنه يعلم أن ما قيل من أن الفاء لا دلالة فيها على ما ذكر وأن اجماعهم على صحة هذا المجاز يدل على أن القرينة المانعة عن إرادة الحقيقة ليس بشرط فيه ليس بشيء؛ وكذا القول بالفرق بين هذه الآية وقوله
229

تعالى: * (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا) * الخ بأن ثمة دليلا قائما على المجاز فترك الظاهر له بخلاف ما نحن فيه، والظاهر أن المراد بالشيطان ابليس وأعوانه، وقيل: هو عام في كل متمردعات من جن وإنس، وتوجيه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخصيص قراءة القرآن من بين الأعمال الصالحة بالاستعاذة عند إرادتها للتنبيه على أنها لغيره عليه الصلاة والسلام وفي سائر الأعمال الصالحة أهم فإنه صلى الله عليه وسلم حيث أمر بها عند قراءة القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فما الظن بمن عداه عليه الصلاة والسلام فيما عدا القراءة من الأعمال.
* (إنه ليس له سلطان على الذين ءامنوا وعلى ربهم يتوكلون) *
.
* (إنه) * الضمير للشأن أو للشيطان * (ليس له سلطان) * تسلط واستيلاء على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) * أي إليه تعالى لا إلى غيره سبحانه يفوضون أمورهم وبه يعوذون فالمراد نفي التسلط بعد الاستعاذة فتكون الجملة تعليلا للأمر بها أو لجوابه المنوى أي أن يعذك ونحوه.
وقال البعض: المراد نفي ذلك مطلقا، قال أبو حيان: وهو الذي يقتضيه ظاهر الأخبار وتعقب بأنه إذا لم يكن له تسلط فلم أمروا بالاستعاذة منه. وأجيب بأن المراد نفي ما عظم من التسلط. وقد أخرج ابن جرير. وغيره عن سفيان الثوري أنه قال في الآية: ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر لهم والاستعاذة من المحتقران فهم لا يطيعون أوامره ولا يقبلون وساوسه إلا فيما يحتقرونه على ندور غفلة فأمروا بالاستعاذة منه لمزيد الاعتناء بحفظهم، وقد ذهب إلى هذا البيضاوي ثم قال: فذكر السلطنة بعد الأمر بالاستعاذة لئلا يتوهم منه أن له سلطانا.
وفي الكشف أن هذه الجملة جارية مجرى البيان للاستعاذة المأمور بها وأنه لا يكفي فيها مجرد القول الفارغ عن اللجأ إلى الله تعالى واللجأ إنما هو بالإيمان أولا والتوكل ثانيا، وأيا ما كان فوجه ترك العطف ظاهر وايثار صيغة الماضي في الصلة الأولى للدلالة على التحقيق كما أن اختيار صيغة الاستقبال في الثانية لإفادة الاستمرار التجددي، وفي التعرض لوصف الربوبية تأكيد لنفي السلطان عن المؤمنين المتوكلين.
* (إنما سلط‍انه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) *
.
* (إنما سلطانه على الذين يتولونه) * أي يجعلونه واليا عليهم فيحبونه ويطيعونه ويستجيبون دعوته فالمراد بالسلطان التسلط والولاية بالدعوة المستتبعة للاستجابة لا ما يعم ذلك والتسلط بالقسر والإلجاء فإن في جعل التولي صلة * (ما) * يفصح بنفي أرادة التسلط القسري فإن المقسور بمعزل عنه بهذا المعنى، وقد نفى هذا أيضا عن الكفرة في قوله تعالى حكاية عن اللعين: * (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم) * (إبراهيم: 22) فاستجبتم لي * (والذين هم به) * أي بسبب الشيطان وإغوائه إياهم * (مشركون) * بالله تعالى، وقيل: أي بإشراكهم الشيطان مشركون بالله تعالى، وجوز أن يكون الضمير للرب تعالى شأنه والباء للتعدية، وروي ذلك عن مجاهد ورجح الأول باتحاد الضمائر فيه مع تبادره إلى الذهن، وفي إرشاد العقل السليم ما يشعر باختيار الأخير، وذكر فيه أيضا أن قصر سلطان اللعين على المذكورين غب نفيه عن المؤمنين المتوكلين دليل على أنه لا واسطة في الخارج بين التوكل على الله تعالى وتولي الشيطان وإن كان بينهما واسطة في المفهوم وأن من لم يتوكل عليه تعالى ينتظم في سلك من يتولي الشيطان من حيث لا يحتسب إذ به يتم التعليل، ففيه مبالغة في الحمل على التوكل والتحذير عن مقابله.
وإيثار الجملة الفعلية الاستقبالية في الصلة الأولى لما مر آنفا والاسمية في الثانية للدلالة على الثبات، وتكرير الموصول للاحتراز عن توهم كون الصلة الثانية حالية مفيدة لعدم دخول غير المشركين من أولياء الشيطان تحت سلطانه.
230

وتقديم الأولى على الثانية التي هي بمقابلة الصلة الأولى فيما سلف لرعاية المقارنة بينها وبين ما يقابلها من التوكل على الله تعالى ولو روعي الترتيب السابق لانفصل كل من القرينتين عما يقابلها اه‍، وقيل لما كان كل من الإيمان والتولي منشأ لما بعده قدم عليه، وتقديم الجار والمجرور لرعاية الفواصل.
* (وإذا بدلنآ ءاية مكان ءاية والله أعلم بما ينزل قالوا إنمآ أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون) *
.
* (وإذا بدلنا ءاية مكان ءاية) * أي إذا نزلنا آية من القرآن مكان آية منه وجعلناها بدلا منها بأن نسخناها بها، والظاهر على ما في البحر أن المراد نسخ اللفظ والمعنى، ويجوز أن يراد نسخ المعنى مع بقاء اللفظ * (والله أعلم بما ينزل) * من المصالح فكل من الناسخ والمنسوخ منزل حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة فإن كل وقت له مقتضى غير الآخر فكم من مصلحة تنقلب مفسدة في وقت آخر لانقلاب الأمور الداعية إليها، ونرى الطبيب الحاذق قد يأمر المريض بشربة ثم بعد ذلك ينهاه عنها ويأمره بضدها، وما الشرائع إلا مصالح للعباد وأدوية لأمراضهم المعنوية فتختلف حسب اختلاف ذلك في الأوقات وسبحان الحكيم العليم، والجملة اما معترضة لتوبيخ الكفرة والتنبيه على فساد رأيهم، وفي الالتفات إلى الغيبة مع الإسناد إلى الاسم الجليل ما لا يخفى من تربية المهابة وتحقيق معنى الاعتراض أو حالية كما قال أبو البقاء وغيره، وقرأ ابن كثير. وأبو عمرو * (ينزل) * من الإنزال * (قالوا) * أي الكفرة الجاهلون بحكمة النسخ * (إنما أنت مفتر) * مقتول على الله تعالى تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه، وقد بالغوا قاتلهم الله تعالى في نسبه الافتراء إلى حضرة الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حيث وجهوا الخطاب إليه عليه الصلاة والسلام وجاؤوا باجلملة الاسمية مع التأكيد بإنما، وحكاية هذا القول عنهم ههنا للإيذان بأنه كفرة ناشئة من نزغات الشيطان وأنه وليهم. وفي الكشف أن وجه ذكره عقيب الأمر بالاستعاذة عند القراءة أنه باب عظيم من أبوابه يفتن به الناقصين يوسوس إليهم البداء والتضاد وغير ذلك * (بل أكثرهم لا يعلمون) * أي لا يعلمون شيئا أصلا أو لا يعلمون أن في التبديل المذكور حكما بالغة، وإسناد هذا الحكم إلى أكثرهم لما أن منهم من يعلم ذلك وإنما ينكر عنادا. والآية دليل على نسخ القرآن بالقرآن وهي ساكتة عن نفي نسخه بغير ذلك مما فصل في كتب الأصول.
* (قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين ءامنوا وهدى وبشرى للمسلمين) *
.
* (قل نزله) * أي القرآن المدلول عليه بالآية، وقال الطبرسي: أي الناسخ المدلول عليه بما تقدم * (روح القدس) * يعني جبريل عليه السلام وأطلق عليه ذلك من حيث انه ينزل بالقدس من الله تعالى أي مما يطهر النفوس من القرآن والحكمة والفيض الإلهي، وقيل: لطهره من الادناس البشرية، والإضافة عند بعض للاختصاص كما في * (رب العزة) * وجعلها بعض المحققين من إضافة الموصوف للصفة على جعله نفس القدس مبالغة نحو - خبر سوء ورجل صدق - على ما ارتضاه الرضى، ومثل ذلك حاتم الجود وسحبان الفصاحة وخالف في ذلك صاحب الكشف مختارا أنها للاختصاص، ولا يخفى ما في صيغة الاتفعيل بناء على القول بأنها تفيد التدريج من المناسبة لمقتضى المقام لما فيها من الإشارة إلى أنه أنزل دفعات على حسب المصالح * (من ربك) * في إضافة الرب إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من الدلالة على تحقيق إفاضة آثار الربوبية عليه عليه الصلاة والسلام ما ليس في إضافته إلى ياء المتكلم المنبئة عن التلقين المحض كما في إرشاد العقل السليم، وكأنه اعتناء بأمر هذه الدلالة لم يقل من ربكم على أن في ترك خطابهم من حط قدرهم ما فيه، و * (من) * لابتداء الغاية مجازا * (بالحق) * أي ملتبسا بالحكمة المقتضية له بحيث لا يفارقها ناسخا كان أو منسوخا * (ليثبت الذين ءامنوا) * أي على الإيمان بما يجب الإيمان به لما فيه
231

من الحجج القاطعة والأدلة الساطعة أو على الإيمان بأنه كلامه تعالى فانهم إذا سمعوا الناسخ وتدبروا ما فيه من رعاية المصالح رسخت عقائدهم واطمأنت به قلوبهم، وأول بعضهم الآية على هذا الوجه بقوله: ليبين ثباتهم وتعقب بأنه لا حاجة إليه إذا لتثبيت بعد النسخ لم يكن قبله فإن نظر إلى مطلق الإيمان صح. وقرىء * (ليثبت) * من الأفعال.
* (وهدى وبشرى للمسلمين) * عطف على محل * (ليثبت) * عند الزمخشري ومن تابعه وهو نظير زرتك لأحدثك واجلالا لك أي تثبيتا وهداية وبشارة، وتعقب بأنه إذا اعتبر الكل فعل المنزل على الإسناد المجازي لم يكن للفرق بادخال اللام في البعض والترك في البعض وجه ظاهر، وكذا إذا اعتبر فعل الله تعالى كما هو كذلك على الحقيقة وإذا اعتبر البعض فعل المنزل ليتحد فاعل المصدر وفاعل المعلل به فيترك اللام له والبعض الآخر فعل الله تعالى ليختلف الفاعل فيؤتي باللام لم يكن لهذا التخصيص وجه ظاهر أيضا ويفوت به حسن النظم.
وقال الخفاجي يوجه ترك اللام في المعطوف دون المعطوف عليه مع وجود شرط الترك فيهما بأن المصدر المسبوك معرفة على ما تقرر في العربية والمفعول له الصريح وإن لم يجب تنكيره كما عزى للرياشي فخلافه قليل كقوله: وأغفر عوراء الكريم ادخاره.
ففرق بينهما تفننا وجريا على الأفصح فيهما، والنكتة فيه أن التثبيت أمر عارض بعد حصول المثبت عليه فاختير فيه صيغة الحدوث مع ذكر الفاعل إشارة إلى أنه فعل لله تعالى مختص به بخلاف الهداية والبشارة فإنهما يكونان بالواسطة، وقيل: إن وجود الشرط مجوز لا موجب والاختيار مرجح مع ما في ذلك من فائدة بيان جواز الوجهين، وفيه أنه لا يصلح وجها عند التحقيق، وقد اعترض أبو حيان هنا بما تقدم في الكلام على قوله تعالى: * (لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة) * (النحل: 64)، وذكر أنه لا يمتنع أن يكون العطف على المصدر المنسبك لأنه مجرور فيكون * (هدى وبشرى) * مجرورين، وجوز أبو البقاء أن يكونا مرفوعين على أنهما خبرا مبتدأ محذوف أي وهو هدى وبشرى، والجملة في موضع الحال من الهاء في دنزله) *.
والمراد بالمسلمين الذين آمنوا، والعدول عن ضميرهم لمدحهم بكلا العنوانين، وفسر بعضهم الإسلام بمعناه اللغوي فقيل: إن ذلك ليفيد بعد توصيفهم بالإيمان، والظاهر * (أن للمسلمين) * قيد للهدى والبشرى ولم أر من تعرض لجواز كونه قيدا للبشرى فقط كما تعرض لذلك في قوله تعالى: * (هدى ورحمة وبشرى للمسلمين) * على ما سمعت هناك. وفي هذه الآية على ما قالوا تعريض لحصول أضداد الأمور المذكورة لمن سوى المذكورين من الكفار من حيث ان قوله تعالى: * (قل نزله) *
جواب لقولهم: * (إنما أنت مفتر) * فيكفي فيه * (قل نزله روح القدس) * فالزيادة لمكان التعريض وقال الطيبي إن * (نزله روح القدس) * بدل نزل الله فيه زيادة تصوير في الجواب وزيد قوله تعالى: * (بالحق) * لينبه على دفع الطعن بألطف الوجوه ثم نعى قبيح أفعالهم بقوله تعالى: * (ليثبت) * الخ تعريضا بأنهم متزلزلون ضالوان موبخون منذرون بالخزى والنكال واللعن في الدنيا والآخة * (وأن) * عذابهم في خلاف ذلك ليزيد في غيظهم وحنقهم، وفي الكلام ما هو قريب من الأسلوب الحكيم اه‍ فتأمل.
* (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذى يلحدون إليه أعجمى وه‍اذا لسان عربى مبين) *
.
* (ولقد نعلم أنهم يقولون) * غير ما نقل عنهم من المقالة الشنعاء * (إنما يعلمه) * أي يعلم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، وهو الذي يقتضيه ظاهر كلام قتادة. ومجاهد: وغيرهما واختير كون الضمير للقرآن ليوافق ضمير * (أنزله) * أي يقولون إنما يعلم القرآن النبي عليه الصلاة والسلام * (بشر) * على طريق البت مع ظهور أنه نزوله روح القدس عليه عليه الصلاة والسلام، وتأكيد الجملة لتحقيق ما تتضمنه من الوعيد، وصيغة الاستقبال لإفادة استمرار العلم
232

بحسب الاستمرار التجددي في متعلقه فانهم مستمرون على التفوه بتلك العظيمة، وفي البحر أن المعنى على المضي فالمراد علمنا وعنوا بهذا البشر قيل: جبرا الرومي غلام عامر بن الحضرمي وكان قد قرأ التوراة والإنجيل وكان صلى الله عليه وسلم يجلس إليه إذا آذاه أهل مكة فقالوا ما قالوا.
وروي ذلك عن السدي، وقيل: مولى الحويطب بن عبد العزى اسمه عائش أو يعيش كان يقرأ الكتب وقد أسلم وحسن إسلامه قاله الفراء. والزجاج، وقيل: أبا فكيهة مولى لامرأة بمكة قيل اسمه يسار وكان يهوديا قاله مقاتل. وابن جبير إلا أنه لم يقل كان يهوديا. وأخرج آدم بن أبي إياس. والبيهقي. وجماعة عن عبد الله بن مسلم الحضرمي قال: كان لنا عبدان نصرانيان من أهل عين التمر يقال لأحدهما يسار وللآخر جبر وكانا يصنعان السيوف بمكة وكانا يقرءان الإنجيل فربما مر بهما النبي صلى الله عليه وسلم وهما يقرءان فيقف ويستمع فقال المشركون: إنما يتعلم منهما، وفي بعض الروايات أنه قيل لأحدهما أنك تعلم محمدا صلى الله عليه وسلم فقال لا بل هو يعلمني، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كان بمكة غلام أعجمي رومي لبعض قريش يقال: له بلعام وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه الإسلام فقالت قريش: هذا يعلم محمدا عليه الصلاة والسلام من جهة الأعاجم؛ وأخرج ابن جرير. وابن المنذر عن الضحاك أنه سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، وضعف هذا بأن الآية مكية وسلمان أسلم بالمدينة، وكونها إخبارا بأمر مغيب لا يناسب السباق، ورواية أنه أسلم بمكة واشتراه أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأعتقه بها قيل ضعيفة لا يعول عليها كاحتمال أن هذه الآية مدنية.
وقد أخبرني من أثق به عن بعض النصارى أنه قال له: كان نبيكم صلى الله عليه وسلم يتردد إليه في غار حراء رجلان نصراني ويهودي يعلمانه، ولم أجد هذا عن أحد من المشركين وهو كذب بحت لا منشأ له وبهت محض لا شبهة فيه، وإنما لم يصرح باسم من زعموا أنه يعلمه عليه الصلاة والسلام مع أنه أدخل في ظهور كذبهم للإيذان بأن مدار خطئهم ليس بنسبته صلى الله عليه وسلم إلى التعلم من شخص معين بل من البشر كائنا من كان مع كونه عليه الصلاة والسلام معدنا لعلوم الأولين والآخرين * (لسان الذي يلحدون إليه أعجمي) * اللسان مجاز مشهور عن التكلم، والإلحاد الميل يقال: لحد وألحد إذا مال عن القصد، ومنه لحد القبر لأنه حفرة مائلة عن وسطه، والملحد لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها، والأعجمي الغير البين، قال أبو الفتح الموصلي: تركيب ع ج م في كلام العرب للإبهام والإخفاء وضد البيان والإيضاح، ومنه قولهم: رجل أعجم وامرأة عجماء إذا كانا لا يفصحان؛ وعجم الزبيب سمي بذلك لاستتاره واختفائه ويقال للبهيمة العجماء لأنه لا توضح ما في نفسها وسموا صلاتي الظهر والعصر العجماوين لأن القراءة فيهما سر وأما قولهم: أعجمت الكتاب فمعناه أزلت عجمته كأشكيت زيدا أزلت شكواه، والأعجمي والأعجم الذي في لسانه عجمة من العجم كان أو من العرب، ومن ذلك زياد الأعجم وكان عربيا في لسانه لكنة وكذاك حبيب الأعجمي تلميذ الحسن البصري قدس الله تعالى سرهما على ما رأيته في بعض التواريخ.
والمراد من * (الذي) * على القول بتعدد من زعموا نسبة التعليم إليه الجن ومفعول * (يلحدون) * محذوف أي تكلم الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه أي ينسبون التعليم إليه غير بين لا يتضح المراد منه.
وظاهر كلام ابن عطية أن اللسان على معناه الحقيقي وهو الجارحة المعروفة. وقرأ الحسن * (اللسان الذي) * بتعريف
233

اللسان بآل ووصفه بالذي. وقرأ حمزة. والكسائي. وعبد الله بن طلحة. والسلمي. والأعمش * (يلحدون) * بفتح الياء والحاء من لحد، وألحد ولحد لغتان فصيحتان مشهورتان * (وه‍اذا) * القرآن الكريم * (لسان عربي مبين) * ذو بيان وفصاحة على ما يشعر به وصفه - بمبين - بعد وصفه - بعربي - والكلام على حذف مضاف عند ابن عطية أي سرد لسان أو نطق لسان، والجملتان مستأنفتان عند الزمخشري لإبطال طعنهم، وجوز أبو حيان أن يكونا حالين من فاعل * (يقولون) * ثم قال: وهو أبلغ في الإنكار أي يقولون هذا والحال أن علمهم بأعجمية هذا البشر وعربية هذا القرآن كان ينبغي أن يمنعهم عن مثل تلك المقالة كقولك: أتشتم فلانا وهو قد أحسن إليك وإنما ذهب الزمخشري إلى الاستئناف لأن مجىء الاسمية حالا بدون واو شاذ عنده، وهو مذهب مرجوح تبع فيه الفراء إذ مجيئها كذلك في كلام العرب أكثر من أن يحصى اه‍، وتقرير الإبطال - كما قال العلامة البيضاوي - يحتمل وجهين، أحدهما أن ما يسمعه من ذلك البشر كلام أعجمي لا يفهمه هو ولا أنتم والقرآن عربي تفهمونه بأدنى تأمل فكيف يكون ما تلقفه منه. وثانيهما هب أنه تعلم منه المعنى باستماع كلامه ولكن لم يلقف منه اللفظ لأن ذلك أعجمي وهذا عربي والقرآن كما هو معجز باعتبار المعنى فهو معجز من حيث اللفظ مع أن العلوم الكثيرة التي في القرآن لا يمكن تعلمها إلا بملازمة معلم فائق في تلك العلوم مدة متطاولة فكيف تعلم جميع
ذلك من غلام سوقى سمع منه بعض المنقولات بكلمات أعجمية لعله لم يعرف معناها، وحاصل ذلك منع تعلمه عليه الصلاة والسلام منه مع سنده ثم تسليمه باعتبار المعنى إذ لفظه مغاير للفظ ذلك بديهية فيكفي دليلا له ما أتى به من اللفظ المعجز ويمكن تقريره بنحو هذا على سائر الأقوال السابقة في البشر، وقال الكرماني: المعنى أنتم أفصح الناس وأبلغهم وأقدرهم على الكلام نظما ونثرا وقد عجزتم وعجز جميع العرب عن الإتيان بمثله فكيف تنسبونه إلى أعجمي ألكن وهو كما ترى، وبالجملة التشبث في أثناء الطعن بمثل هذه الخرافات الركيكة دليل قوي على كمال عجزهم فقد راموا اجتماع اليوم والأمس واستواء السها والشمس.
فدعهم يزعمون الصبح ليلا * أيعمى الناظرون عن الضياء
* (إن الذين لا يؤمنون بآي‍ات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم) *
.
* (إن الذين لا يؤمنون بآيات الله) * أي يصدقون بأنها من عنده تعالى بل يقولون فيها ما يقولون يسمونها تارة افتراء وأخرى أساطير معلمة من البشر، وقيل: المراد بالآيات المعجزات الدالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم ويدخل فيها الآيات القرآنية دخولا أولياء والأول على ما قيل أوفق بالمقام.
* (لا يهديهم الله) * قيل: أي إلى الجنة بل يسوقهم إلى النار كما يشير إليه قوله تعالى: * (ولهم عذاب أليم) *.
وقال بعض المحققين: المعنى لا يهديهم إلى ما ينجيهم من الحق لما يعلم من سوء استعدادهم، وقال في " البحر ": أي لا يخلق الإيمان في قلوبهم، وهذا عام مخصوص فقد اهتدى قوم كفروا بآيات الله تعالى، وقال الجلبي: المعنى أن سبب عدم إيمانهم هو أنه تعالى لا يهديهم لختمه على قلوبهم أو لا يهديهم سبحانه مجازاة لعدم إيمانهم بأن تلك الآيات من عنده تعالى، وقال العسكري: يجوز أن يكون المعنى أنهم إن لم يؤمنوا بهذه الآيات لم يهتدوا، والمراد - بلا يهديهم الله - لا يهتدون فإنه إنما يقال هدى الله تعالى فلانا على الإطلاق إذا اهتدى هو، وأما من لم يقبل الهدى فإنه يقال فيه: إن الله تعالى هداه فلم يهتد كما قال تعالى: * (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) * (فصلت: 17) وقيل: المعنى إن الذين لا يصرفون اختيارهم إلى الإيمان بآياته تعالى لا يخلقه سبحانه في قلوبهم، وقال ابن عطية: المفهوم من الوجود أن
234

الذين لا يهديهم الله تعالى لا يؤمنون بآياته ولكنه قدم وأخر تتميما لتقبيح حالهم وللتشنيع بخطئهم كما في قوله تعالى: * (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) * (الصف: 5) ويؤدي مؤدى التقديم والتأخير ما ذكره الجلبي، أولا والأكثر لا يخلو عن دغدغة.
وقال القاضي: أقوى ما قيل في الآية ما ذكر أولا، وكونه تفسيرا للمعتزلة مناسبا لأصولهم فيه نظر، وأيا ما كان فالمراد من الآية التهديد والوعيد لأولئك الكفرة على ما هم عليه من الكفر بآيات الله تعالى ونسبة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الافتراء والتعلم من البشر بعد إماطة شبهتهم ورد طعنهم [بم وقوله سبحانه:
* (إنما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون بآي‍ات الله وأول‍ائك هم الك‍اذبون) *
.
* (وأول‍ائك هم الك‍اذبون) * إشارة إلى قريش القائلين: إنما أنت مفتر وهو تصريح عبد التعريض ليكون كالوسم عليهم، وهذا الأسلوب أبلغ من أن يقال: أنتم معشر قريش مفترون لما أشير إليه، وإقامة الدليل على أنهم كذلك وأن من زنوه به لا يجوز أن يتعلق بذيله نشب منه أي إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن لأنه لا يترقب عقابا عليه وقريش كذلك فهم الكاذبون أو إشارة إلى * (الذين لا يؤمنون) * فيستمر الكلام على وتيرة واحدة، والمعنى أن الكاذب بالحقيقة هذا الكاذب على ما قرروه في قوله تعالى: * (وأولئك هم المفلحون) * واللام للجنس وهو شهادة عليهم بالكمال في الافتراء، فالكذب في الحقيقة مقيد بالكذب بآيات الله تعالى، وأطلق إشعارا بأن لا كذب فوقه ليكون كالحجة على كمال الافتراء أو الكذب غير مقيد على هذا الوجه على معنى أنهم الذين عادتهم الكذب فلذلك اجترؤا على تكذيب آيات الله تعالى دلالة على أن ذلك لا يصدر إلا ممن لهج بالكذب قيله، ويدل على اعتبار هذا المعنى التعبير بالجملة الاسمية ولذا عطفت على الفعلية، وفيه قلب حسن وإشارة إلى أن قريشا لما كان من عادتهم الكذب أخذوا يكذبون بآيات الله تعالى ومن أتى بها، ثم لم يرضوا بذلك حتى نسبوا من شهدوا له بالأمانة والصدق إلى الافتراء.
وموضع الحسن الإيماء إلى سبق حالتي النبي صلى الله عليه وسلم وقريش أو الكذب مقيد على هذا الوجه أيضا بما نسبوا إليه عليه الصلاة والسلام من الافتراء، و * (الذين لا يؤمنون) * على هذا المراد به قريش من إقامة الظاهر مقام المضمر، وإيثار المضارع على الماضي دلالة على استمرار عدم إيمانهم وتجدده عقب نزول كل آية واستحضارا لذلك وهذا الوجه أيضا بما نسبوا إليه عليه الصلاة والسلام من الافتراء، و * (الذين لا يؤمنون) * على هذا المراد به قريش من إقامة الظاهر مقام المضمر، وإيثار المضارع على الماضي دلالة على استمرار عدم إيمانهم وتجدده عقب نزول كل آية واستحضارا لذلك وهذا الوجه مرجوح بالنسبة إلى السوابق، وقد ذكر هذه الأوجه صاحب الكشاف وقد حررها بما ذكر المولى المدقق في كشفه، والحصر في سائرها غير حقيقي، ولا استدراك في الآية لا سيما على الأول منها، وهي من الكلام المنصف في بعضها. وتعلقها بقوله سبحانه حكاية عنهم: * (إنما أنت مفتر) * (النحل: 101) لأنها كما سمعت لرده، وتوسيط ما وسط لما لا يخفى من شدة اتصاله بالرد الأول.
* (من كفر بالله من بعد إيم‍انه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيم‍ان ول‍اكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم) *
.
* (من كفر بالله) * أي بكلمة الكفر * (من بعد إيمانه) * به تعالى. وهذا بحسب الظاهر ابتداء كلام لبيان حال من كفر بآيات الله تعالى بعدما آمن بها بعد بيان حال من
لم يؤمن بها رأسا و * (من) * موصولة محلها الرفع على الابتداء والخبر محذوف لدلالة * (فعليهم غضب) * الآتي عليه وحذف مثل ذلك كثير في الكلام، وجوز أيضا الرفع وكذا النصب على القطع لقصد الذم أي هم أو أذم من كفر والقطع للذم والمدح وإن تعورف في النعت، و * (من) * لا يوصف بها لكن لا مانع من اعتباره في غيره كالبدل وقد نص عليه سيبويه. نعم قال أبو حيان: إن النصب على الذم بعيد. وأجاز الحوفي. والزمخشري كونها بدلا من * (الذين لا يؤمنون بآيات الله) * وقوله تعالى: * (وأولئك هم الكاذبون) * اعتراض بينهما. واعترضه أبو حيان.
235

وغيره بأنه يقتضي أن لا يفتري الكذب إلا من كفر بعد إيمانه والوجود يقتضي أن من يفتري الكذب هو الذي لا يؤمن مطلقا وهم أكثر المفترين. وأيضا البدل هو المقصود والآية سيقت للرد على قريش وهم كفار أصليون. ووجه ذلك الطيبي بأن يراد بقوله تعالى: * (من بعد إيمانه) * من بعد تمكنه منه كقوله تعالى: * (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) * وذكر أن فيه ترشيحا لطريق الاستدراج وتحسيرا لهم على ما فاتهم من التصديق وما اقترفوه من نسبته عليه الصلاة والسلام إلى الافتراء وفيه كما في " الكشف " أن قوله سبحانه: * (إلا من أكره) * لا يساعد عليه، وحمل التمكن منه على ما هو أعم من التمكن في إحداثه وبقائه لا يخفى ما فيه.
وقال المدقق: الأولى في التوجيه أن يجعل المعنى من وجد الكفر فيما بينهم تعييرا على الارتداد أيضا وأن من وجد فيهم هذه الخصلة لا يبعد منهم الافتراء ويجعل ذلك ذريعة إلى أن ينعى عليهم ما كانوا يفعلونه مع المؤمنين من المثلة ويدمج فيه الرخصة بإجراء كلمة الكفر على اللسان على سبيل الإكراه وتفاوت ما بين صاحب العزيمة والرخصة، ولا يخفى ما فيه أيضا وأنه غير ملائم لسبب النزول، وقال الخفاجي: لك أن تقول: الأقرب أن يبقى الكلام على ظاهره من غير تكلف وأن هذا تكذيب لهم على أبلغ وجه كما يقال لمن قال: إن الشمس غير طالعة في يوم صاح هذا ليس بكذب لأن الكذب يصدر فيما قد تقبله العقول ويكون هذا على تقدير أن يكون المراد في * (لا يهديهم الله) * لا يهديهم إلى الحق فالله تعالى لما لم يهدهم إلى الحق والصدق وختم على حواسهم نزلوا منزلة من لم يعرفه حتى يساعده لسانه على النطق به فقبح إنكارهم له أجل من أن يسمى كذبا وإنما يكذب من تعمد ذلك ونطق به مرة، فتكون الآية الأولى للرد على قريش صريحا والأخرى دلالة على أبلغ وجه انتهى، ولعمري إنه نهاية في التكلف، ومثل هذا الإبدال الإبدال من * (أولئك) * والإبدال من * (الكاذبون) * وقد جوزهما الزمخشري أيضا؛ وجوز الحوفي الأخير أيضا ولم يجوز الزجاج غيره.
وجوز غير واحد كون * (من) * شرطية مرفوعة المحل على الابتداء واستظهره في " البحر " والجواب محذوف لدلالة الآتي عليه كما سمعت في الوجه الأول، والكلام في خبر من الشرطية مشهور، وظاهر صنيع الزمخشري اختيار الإبدال وهو عندي غريب منه. وفي " الكشف " أن كون * (من) * شرطية مبتدأ وجه ظاهر السداد إلا أن الذي حمل جار الله على إيثار كون * (من) * بدلا طلب الملاءمة بين أجزاء النظم الكريم لا أن يكون ابتداء بيان حكم، ولا يخفى ما في هذا العذر من الوهن، والظاهر أن استثناء * (من أكره) * أي على التلفظ بالكفر بأمر يخاف منه على نفسه أو عضو من أعضائه - ممن كفر - استثناء متصل لأن الكفر التلفظ بما يدل عليه سواء طابق الاعتقاد أولا.
قال الراغب: يقال كفر فلان إذا اعتقد الكفر ويقال إذا أظهر الكفر وإن لم يعتقد، فيدخل هذا المستثنى في المستثنى منه المذكور، وقيل: مستثنى من الخبر الجواب المقدر، وقيل: مستثنى مقدم من قوله تعالى: * (فعليهم غضب) * وليس بذاك، والمراد إخراجه من حكم الغضب والعذاب أو الذم؛ وقوله سبحانه: * (وقلبه مطمئن بالإيمان) * حال من السمثتنى، والعامل - كما في إرشاد العقل السليم - هو الكفر الواقع بالإكراه لا نفس الإكراه لأن مقارنة اطمئنان القلب بالإيمان للإكراه لا تجدي نفعا وإنما المجدي مقارنته للكفر الواقع به أي إلا من كفر بإكراه أو إلا من أكره فكفروا لحال أن قلبه مطمئن بالإيمان لم تتغير عقيدته، وأصل معنى الاطمئنان سكون بعد انزعاج، والمراد هنا السكون والثبات على ما كان عليه بعد إزعاج الإكراه، وإنما لم
236

يصرح بذلك العامل إيماء إلى أنه ليس بكفر حقيقة.
واستدل بالآية على أن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار ليس ركنا فيه كما قيل. واعترض بأن من جعله ركنا لم يرد أنه ركن حقيقي لا يسقط أصلا بل أنه دال على الحقيقة التي هي التصديق إذ لا يمكن الاطلاع عليها فلا يضره عند سقوطه لنحو الإكراه والعجز فتأمل.
* (ول‍اكن من شرح بالكفر صدرا) * أي اعتقده وطاب به نفسا و * (صدرا) * على معنى صدره إذ البشر في عجز عن شرح صدر غيره، ونصبه - كما قال الإمام - على أنه مفعول به - لشرح - وجوز بعضهم كونه على التمييز، و * (من) * إما شرطية أو موصولة لكن إذا جعلت شرطية - قال أبو حيان - لا بد من تقدير مبتدأ قبلها لأن لكن لا تليها الجمل الشرطية، والتقدير هنا ولكن هم من شرح بالكفر صدرا أي منهم ومثله قوله: ولكن متى تسترفد القوم أرفد
أي ولكن أنا متى تسترفد الخ. وتعقب بأنه تقدير غير لازم، وقوله تعالى: * (فعليهم غضب) * جواب الشرط على تقدير شرطية * (من) * وهي على التقديرين مبتدأ وهذا خبرها على تقدير الموصولية وكذا على تقدير الشرطية في رأي والخلاف مشهور، وجعله بعضهم خبرا لمن هذه ولمن الأولى للاتحاد في المعنى إذ المراد - بمن كفر - الصنف الشارح بالكفر صدرا. وتعقبه في " البحر " بأن ههنا جملتين شرطيتين وقد فصل بينهما بأداة الاستدراك فلا بد لكل واحدة منهما من جواب على حدة فتقدير الحذف أحرى في صناعة الإعراب.
وقد ضعفوا مذهب أبي الحسن في إدعائه أن قوله تعالى: * (فسلام لك من أصحاب اليمين) * وقوله سبحانه: * (فروع وريحان) * جواب - لأما - ولأن هذا وهما أداتا شرط تلي إحداهما الأخرى، ويبعد بهذا عندي جعله خبرا لهما على تقدير الموصولية والاستدراك من الإكراه على ما قيل؛ ووجه بأن قوله تعالى: * (إلا من أكره) * يوهم أن المكره مطلقا مستثنى مما تقدم، وقوله سبحانه: * (وقلبه مطمئن بالإيمان) * لا ينفي ذلك الوهم فاحتيج إلى الاستدراك لدفعه وفيه بحث ظاهر، وقيل
: المراد مجرد التأكيد كما في نحو قولك: لو جاء زيد لأكرمتك لكنه لم يجىء. وأنت تعلم ما في ذلك فتأمل جدا، وتنوين * (غضب) * للتعظيم أي غضب عظيم لا يكتنه كنهه كائن * (من الله) * جل جلاله * (ولهم عذاب عظيم) * لعظم جرمهم فجوزوا من جنس عملهم، وفي اختيار الاسم الجليل من تربية المهابة وتقوية وتعظيم العذاب ما فيه، والجمع في الضميرين المجرورين لمراعاة جانب المعنى كما أن الإفراد في المستكن في الصلة لرعاية جانب اللفظ. روي أن قريشا أكرهوا عماراف وأبويه ياسرا وسمية على الارتداد فأبوا فربطوا سمية بين بعيرين ووجىء بحربة في قبلها وقالوا إنما أسلمت من أجل الرجال فقتلوها وقتلوا ياسرا وهما أول قتيلين في الإسلام، وأما عمار فأعطاهم بلسانه ما أكرهوه عليه فقيل يا رسول الله إن عمارا كفر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا إن عمارا ملىء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه فأتى عمار رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو يبكي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال: مالك إن عادوا فعد لهم بما قلت، وفي رواية أنهم أخذوه فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه فلما أتى رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: ما وراءك؟ قال: شر ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان
237

قال صلى الله عليه وسلم إن عادوا فعد فنزلت هذه الآية، وكأن الأمر بالعود في الرواية الأولى للترخيص بناء على ما قال النسفي أنه أدنى مراتبه وكذا الأمر في الرواية الثانية أن اعتبر مقيدا بما قيد به في الرواية الأولى، وأما إن اعتبر مقيدا بطمأنينة القلب كما في الهداية أي عد إلى جعلها نصب عينيك وأثبت عليها فالأمر للوجوب، والآية دليل على جواز التكلم بكلمة الكفر عند الإكراه وإن كان الأفضل أن يتجنب عن ذلك إعزازا للدين ولو تيقن القتل كما فعل ياسر وسمية وليس ذلك من إلقاء النفس إلى التهلكة بل هو كالقتل في الغزو كما صرحوا به. وقد أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن وعبد الرازق في تفسيره عن معمر أن مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله قال: فما تقول في؟ فقال: أنا أصم فأعاد عليه ثلاثا فأعاد ذلك في جوابه فقتله فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما فقال: أما الأول فقد أخذ برخصة الله تعالى، وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئا له. وفي أحكام الجصاص أنه يجب على المكره على الكفر إخطار أنه لا يريده فإن لم يخطر بباله ذلك كفر. وفي " شرح المنهاج " لابن حجر لا توجد ردة مكره على مكفر قلبه مطمئن بالإيمان للآية، وكذا إن تجرد قلبه عنهما فيما يتجه ترجيحه لإطلاقهم أن المكره لا يلزمه التورية فافهم، وقال القاضي: يجب على المكره تعريض النفس للقتل ولا يباح له التلفظ بالكفر لأنه كذب وهو قبيح لذاته فيقبح على كل حال ولو جاز أن يخرج عن القبح لرعاية بعض المصالح لم يمتنع أن يفعل الله سبحانه الكذب لها وحينئذ لا يبقى وثوق بوعده تعالى ووعيده لاحتمال أنه سبحانه فعل الكذب لرعاية المصلحة التي لا يعلمها إلا هو، ورده ظاهر، وهذا الخلاف فيما إذا تعين على المكره إما التزام الكذب وإما تعريض النفس للتلف وإلا فمتى أمكنه نحو التعريض أو إخراج الكلام على نية الاستفهام الإنكاري لم يجب عليه تعريض النفس لذلك إجماعا. واستدل بإباحة التلفظ بالكفر عند الإكراه على إباحة سائر المعاصي عنده أيضا وفيه بحث، فقد ذكر الإمام أن من المعاصي ما يجب فعله عند الإكراه كشرب الخمر وأكل الميتة ولحم الخنزير فإن حفظ النفس عن الفوات واجب فحيث تعين الأكل سبيلا ولا ضرر فيه لحيوان ولا إهانة لحق الله تعالى وجب لقوله تعالى: * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * ومنها ما يحرم كقتل إنسان محترم أو قطع عضو من أعضائه وفي وجوب القصاص على المكره قولان للشافعي عليه الرحمة، وذكر أن من الأفعال ما لا يقبل الإكراه ومثل بالزنا لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد وذلك يمنع من انتشار الآلة فحيث دل الزنا في الوجود علمنا أنه وقع بالاختيار لا على سبيل الإكراه، وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله.
* (ذالك بأنهم استحبوا الحيواة الدنيا على الاخرة وأن الله لا يهدى القوم الك‍افرين) *
.
* (ذلك) * إشارة إلى الكفر بعد الإيمان أو الوعيد الذي تضمنه قوله تعالى: * (فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم) * أو المذكور من الغضب والعذاب * (بأنهم) * أي بسبب أن الشارحين صدورهم بالكفر * (استحبوا الحياة الدنيا) * أي آثروها وقدموها ولتضمن الاستحباب معنى الإيثار قيل * (على الآخرة) * فعدى بعلى، والمراد على ما في " البحر " أنهم فعلوا فعل المستحبين ذلك وإلا فهم غير مصدقين بالآخرة.
* (وأن الله لا يهدي) * إلى الإيمان وإلى ما يوجب الثبات عليه، وقيل: إلى الجنة. ورده الإمام وفسر بعضهم
238

الهداية المنفية بهداية القسر أي لا يهدي هداية قسر وإلجاء ونسب إلى المعتزلة * (القوم الكافرين) * أي في علمه تعالى المحيط فلا يعصمهم تعالى عن الزيغ وما يؤدي إليه من الغضب والعذاب، ولولا أحد الأمرين إما إيثار الحياة الدنيا على الآخرة وإما عدم هداية الله تعالى إياهم بأن آثروا الآخرة على الدنيا أو بأن هداهم الله سبحانه لما كان ذلك لكن كلاهما لا يكون لأنه خلاف ما في العلم بالأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر وقال البعض: لكن الثاني مخالف للحكمة والأول مما لا يدخل تحت الوقوع [بم وإليه الإشارة بقوله سبحانه:
* (أول‍ائك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبص‍ارهم وأول‍ائك هم الغ‍افلون) *.
* (أول‍ائك) * أي الموصوفون بما ذكر * (الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم) * فلم تفتح لإدراك الحق واكتساب ما يوصل إليه، واستظهر أبو حيان كون ذلك إشارة إلى ما استحقوه من الغضب والعذاب، وقال: إن قوله تعالى استحبوا إشارة إلى الكسب * (وأن الله لا يهدي القوم الكافرين) * (المائدة: 67) إشارة إلى الاختراع فجمعت الآية الأمرين وذلك عقيدة أهل السنة فافهم، وقد تقدم للكلام على الطبع * (وأول‍ائك هم الغافلون) * أي الكاملون في الغفلة إذ لا غفلة أعظم من الغفلة عن تدبر العواقب والنظر في المصالح، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: غافلون عما يراد منهم في الآخرة.
* (لا جرم أنهم فى الاخرة هم الخ‍اسرون) *
.
* (لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون) * إذ ضيعوا رؤوس أموالهم وهي أعمارهم وصرفوها فيما لا يفضي إلا إلى العذاب المخلد ولله تعالى من قال: إذا كان رأس المال عمرك فاحترس * عليه من الإنفاق في غير واجب
ووقع في آية أخرى * (الأخسرون) * وذلك لاقتضاء المقام على ما لا يخفى على الناظر فيه أو لأنه وقع في الفواصل هنا اعتماد الألف كالكافرين والغافلين فعبر به لرعاية ذلك وهو أمر سهل، وتقدم الكلام في * (لا جرم) * فتذكره فما في العهد من قدم.
* (ثم إن ربك للذين ه‍اجروا من بعد ما فتنوا ثم ج‍اهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم) *
.
* (ثم إن ربك للذين هاجروا) * إلى دار الإسلام وهم عمار. وأضرابه أي لهم بالولاية والنصر لا عليهم كما يقتضيه ظاهر أعمالهم السابقة فالجار والمجرور في موضع الخبر لإن، وجوز أن يكون خبرها محذوفا لدلالة خبر إن الثانية عليه، والجار والمجرور متعلق بذلك المحذوف، وقال أبو البقاء: الخبر هو الآتي وإن الثانية واسمها تكرير للتأكيد ولا تطلب خبرا من حيث الإعراب، والجار والمجرور متعلق بأحد المرفوعين على الأعمال، وقيل: بمحذوف على جهة البيان كأنه قيل: أعني للذين أي الغفران وليس بشيء، وقيل: لا خبر لأن هذه في اللفظ لأن خبر الثانية أغنى عنه وليس بجيد كما لا يخفى و * (ثم) * للدلالة على تباعد رتبة حالهم هذه عن رتبة حالهم التي يفيدها الاستثناء من مجرد الخروج عن حكم الغضب والعذاب لا عن رتبة حال الكفرة * (من بعد ما فتنوا) * أي عذبوا على الارتداد، وأصل الفتن إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته ثم تجوز به عن البلاء وتعذيب الإنسان. وقرأ ابن عامر * (فتنوا) * مبنيا للفاعل، وهو ضمير المشركين عند غير واحد أي عذبوا المؤمنين كالحضرمي أكره مولاه جبرا حتى ارتد ثم أسلما وهاجرا أو وقعوا في الفتينة فإن فتن جاء متعديا ولازما وتستعمل الفتنة فيما يحصل عنه العذاب.
وقال أبو حيان: الظاهر أن الضمير عائد على * (الذين هارجوا) * والمعنى فتنوا أنفسهم بما أعطوا المشركين من القول كما فعل عمار أو كانوا صابرين على الإسلام وعذبوا بسبب ذلك صاروا كأنهم عذبوا أنفسهم * (ثم جاهدوا) * الكفار * (وصبروا) * على مشاق الجهاد أو على ما أصابهم من المشاق مطلقا * (إن ربك من بعدها) * أي المذكورات من الفتنة والهجرة
239

والجهاد والصبر، وهو تصريح بما أشعر به بناء الحكم على الموصول من علية الصلة.
وجوز أن يكون الضمير للفتنة المفهومة من الفعل السابق ويكون ما ذكر بيانا لعدم إخلال ذلك بالحكم، وقال ابن عطية: يجوز أن يكون للتوبة والكلام يعطيها وإن لم يجر لها ذكر صريح * (لغفور) * لما فعلوا من قبل * (رحيم) * ينعم عليهم مجازاة لما صنعوا من بعد، وفي التعرض لعنوان الربوبية في الموضعين إيماء إلى علة الحكم وما في إضافة الرب إلى ضميره عليه الصلاة والسلام مع ظهور الأثر في الطائفة المذكورة إظهار لكمال اللطف به صلى الله عليه وسلم بأن إفاضة آثار الربوبية عليهم من المغفرة والرحمة بواسطته عليه الصلاة والسلام ولكونهم أتباعا له.
هذا وكون الآية في عمار واضرابه رضي الله تعالى عنهم مما ذكره غير واحد، وصرح ابن إسحاق بأنها نزلت فيه وفي عياش بن أبي ربيعة. والوليد بن أبي ربيعة. والوليد بن الوليد، وتعقبه ابن عطية بأن ذكر عمار في ذلك غير قويم فإنه أرفع طبقة هؤلاء، وهؤلاء ممن شرح بالكفر صدرا فتح الله تعالى لهم باب التوبة في آخر الآية، وذكر أن الآية مدنية وأنه لا يعلم في ذلك خلافا، ونقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت فكتب بها المسلمون إلى من كان أسلم بمكة إن الله تعالى قد جعل لكم مخرجا فخرجوا فلحقهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل، وأخرج ذلك ابن مردويه، وفي رواية أنهم خرجوا واتبعوا وقاتلوا فنزلت، وأخرج هذا ابن المنذر. وغيره عن قتادة، فالمراد بالجهاد قتالهم لمتبعيهم، وأخرج ابن جرير عن الحسن. وعكرمة أنها نزلت في عبد الله ابن أبي سرح الذي كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأزله الشيطان فلحق بالكفار فأمر به النبي عليه الصلاة والسلام أن يقتل يوم فتح مكة فاستجار له عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه فأجاره النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد نزلت فيه وفي أشباهه كما صرح به في بعض الروايات، وفسروا * (فتنوا) * على هذا بفتنهم الشيطان وأزلهم حتى ارتدوا باختيارهم، وما ذكره ابن عطية فيمن ذكر مع عمار غير مسلم، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن عياشا رضي الله تعالى عنه كان أخا أبي جهل لأمه وكان يضربه سوطا وراحلته سوطا ليرتد عن الإسلام. وفي التفسير الخازني أن عياشا وكان أخا أبي جهل من الرضاعة، وقيل: لأمه. وأبا جندل بن سهل بن عمرو. وسلمة بن هشام. والوليد بن المغيرة. وعبد الله بن سلمة الثقفي فتنهم المشركون وعذبوهم فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم ثم إنهم بعد ذلك هاجروا وجاهدوا والآية نزلت فيهم، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
* (يوم تأتى كل نفس تج‍ادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون) *
.
* (يوم تأتي كل نفس) * نصب على الظرفية - برحيم - وقيل: على أنه مفعول به لأذكر محذوفا، ورجح الأول بارتباط النظم عليه ومقابلته لقوله تعالى: * (في الآخرة هم الخاسرون) * (النحل: 109) ولا يضر تقييد الرحمة بذلك اليوم لأن الرحمة في غيره تثبت بالطريق الأولى، والمراد بهذا اليوم يوم القيامة * (تجادل عن نفسها) * تدافع وتسعى في خلاصها بالاعتذار ولا يهمها شأن غيرها من ولد ووالد وقريب. أخرج أحمد في الزهد. وجماعة عن كعب قال: كنت عند عمر بن الخطاب فقال: خوفنا يا كعب فقلت: يا أمير المؤمنين أوليس فيكم كتاب الله تعالى وحكمة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى ولكن خوفنا قلت: يا أمير المؤمنين لو وافيت
يوم القيامة بعمل سبعين نبيا لازدرأت عملك مما ترى قال: زدنا قلت: يا أمير المؤمنين إن جهنم لتزفر زفرة يوم القيامة
240

لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل الآخر جاثيا إلى ركبتيه حتى أن إبراهيم خليله ليخر جاثيا على ركبتيه فيقول: رب نفسي نفسي لا أسألك اليوم إلا نفسي فأطرق عمر مليا قلت: يا أمير المؤمنين أو ليس تجدون هذا في كتاب الله؟ قال: كيف؟ قلت: قول الله تعالى في هذه الآية: * (يوم تأتي كل نفس) * (النحل: 111) الخ، وجعل بعضهم هذا القول هو الجدال ولم يرتضه ابن عطية، والحق أنه ليس فيه إلا الدلالة على عدم الاهتمام بشأن الغير وهو بغض ما تدل عليه الآية وعن ابن عباس أن هذه المجادلة بين الروح والجسد يقول الجسد: بك نطق لساني وأبصرت عيني ومشت رجلي ولولاك لكنت خشبة ملقاة وتقول الروح: أنت كسبت وعصيت لا أنا وأنت كنت الحامل وأنا المحمول فيقول الله تعالى: أضرب لكما مثلا أعمى حمل مقعدا إلى بستان فأصابا من ثماره فالعذاب عليكما، والظاهر عدم صحة هذا عن هذا الحبر وهو أجل من أن يحمل المجادلة في الآية على ما ذكر. وضمير * (نفسها) * عائد على النفس الأولى فكأنه قيل: عن نفس النفس، وظاهره إضافة الشيء إلى نفسه، فوجه بأن النفس الأولى هي الذات والجملة أي الشخص بأجزائه كما في قولك، نفس كريمة ونفس مباركة، والثانية عينها أي التي تجري مجرى التأكيد ويدل على حقيقة الشيء وهويته بحسب المقام، والفرق بينهما أن الأجزاء ملاحظة في الأول دون الثاني، والأصل هو الثاني لكن لعدم المغايرة في الحقيقة بين الذات وصاحبها استعمل بمعنى الصاحب ثم أضيف الذات إليه، فوزان * (كل نفس) * وزان قولك: كل أحد كذا في " الكشف " وفي " الفرائد " المغايرة شرط بين المضاف والمضاف إليه لامتناع النسبة بدون المنتسبين فلذلك قالوا: يمتنع إضافة الشيء إلى نفسه إلا أن المغايرة قبل الإضابة كافية وهي محققة ههنا لأنه لا يلزم من مطلق النفس نفسك ويلزم من نفسك مطلق النفس فلما أضيف ما لا يلزم أن يكون نفسك إلى نفسك صحت الإضافة وإن اتحدا بعد الإضافة، ولذا جاز عين الشيء وكله ونفسه بخلاف أسد الليث وحبس المنع ونحوهما، وقال ابن عطية: النفس الأولى هي المعروفة والثانية هي البدن، وقال العسكري: الإنسان يسمى نفسا تقول العرب: ما جاءني إلا نفس واحدة أي إنسان واحدة، والنفس في الحقيقة لا تأتي لأنها هي الشيء الذي يعيش به الإنسان فتأمل ففي النفس من بعض ما قالوه شيء، والظاهر أن السؤال والجواب المشهورين في - كل رجل وضيعته - يجريان ههنا فتفطن.
وفي " البحر " إنما لم تجىء - تجادل عنها - بدل * (تجادل عن نفسها) * لأن الفعل إذا لم يكن من باب ظن وفقد لا يتعدى ظاهرا كان فاعله أو مضمرا إلى ضميره المتصل فلا يقال. ضربتها هند أو هند ضربتها وإنما يقال: ضربت نفسها هند وهند ضربت نفسه، وتأنيث * (تأتي) * مع إسناده إلى * (كل) * وهو مذكر لرعاية المعنى؛ وكذا يقال فيما بعد، وعلى ذلك جاء قوله: جادت عليها كل عين ثمرة * فتركن كل حديقة كالدرهم
* (وتوفى كل نفس) * أي تعطي وافيا كاملا * (ما عملت) * أي جزاء عملها أو الذي عملته إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب إشعارا بكمال الاتصال بين الأجزية والأعمال، والإظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير وللإيذان باختلاف وقتي المجادلة والتوفية وإن كانتا في يوم واحد.
* (وهم لا يظلمون) * بزيادة العقاب أو بالعقاب بغير ذنب، وقيل: بنقص أجورهم. وتعقب بأنه علم
241

من السابق. وأجيب بأن القائل به لعله أراد بجزاء ما عملت العقاب، وعلى تقدير إرادة الأعم فهذا تكرار للتأكيد ووجه ضمير الجمع ظاهر.
* (وضرب الله مثلا قرية كانت ءامنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) *
.
* (وضرب الله مثلا قرية) * أي أهل قرية وذلك إما بإطلاق القرية وإرادة أهلها وإما بتقدير مضاف، وانتصابه على أنه مفعول أول - لضرب - على تضمينه معنى الجعل، وأخر لئلا يفصل الثاني بين الموصوف وصفته وما يترتب عليها، وتأخيره عن الكل مخل بتجاوب أطراف النظم الجليل وتجاذبه، ولأن تأخير ما حقه التقديم مما يورث النفس شوقا لوروده لا سيما إذا كان في المقدم ما يدعو إليه كما هنا فيتمكن عند وروده فضل تمكن، وعن الزجاج أن النصب على البدلية والأصل عندهم ضرب الله مثلا مثل قرية فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، والمراد بالقرية إما قرية محققة من قرى الأولين، وإما مقدرة ووجود المشبه به غير لازم، ولم يجوز ذلك أبو حيان لمكان * (ولقد جاءهم رسول منهم) * (النحل: 113) وأنت تعلم أنه غير مانع.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس. ومجاهد أنها مكة، وروى هذا عن ابن زيد. وقتادة. وعطية، وأخرج ابن أبي حاتم. وغيره عن سليم بن عمر قال: صحبت حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي خارجة من مكة إلى المدينة فأخبرت أن عثمان قد قتل فرجعت وقالت: ارجعوا بي فوالذي نفسي بيده إنها للقرية التي قال الله تعالى وتلت ما في الآية، ولعلها أرادت أنها مثلها؛ ويمكن حمل ما روى عن الحبر ومن معه على ذلك، والمعنى جعلها الله تعالى مثلا لأهل مكة أو لكل قوم أنعم الله تعالى عليهم فأبطرتهم النعمة ففعلوا ما فعلوا فجوزوا بما جوزوا، ودخل فيهم أهل مكة دخولا أوليا. ولعله المختار * (كانت ءامنة) * قيل: ذات أمن لا يأتي عليها ما يوجب الخوف كما يأتي على بعض القرى من إغارة أهل الشر عليها وطلب الإيقاع بها * (مطمئنة) * ساكنة قارة لا يحدث فيها ما يوجب الانزعاج كما يحدث في بعض القرى من الفتان بين أهاليها ووقوع بعضهم في بعض فإنها قلما تأمن من إغارة شرير عليها وهيهات هيهات أن ترى شخصين متصادقين فيها: والمرء يخشى من أبيه وابنه * ويخونه فيها أخوه وجاره
وقيل: يفهم من كلام بعضهم أن الاطمئنان أثر الأمن ولازمه من حيث أن الخوف يوجب الانزعاج وينافي الاطمئنان، وفي " البحر " أنه زيادة في الأمن * (يأتيها رزقها) * إقواتها * (رغدا) * واسعا * (من كل مكان) * من جميع نواحيها، وغير أسلوب هذه الصفة عما تقدم إلى ما ترى لما أن إتيان الرزق متجدد وكونها آمنة مطمئنة ثابت مستمر، وذكر الإمام أن الآية تضمنت ثلاث نعم جمعها قولهم: ثلاثة ليس لها نهاية * الأمن والصحة والكفاية
فآمنة إشارة إلى الأمن و * (مطمئنة) * إلى الصحة و * (يأتيها رزقها) * الخ إلى الكفاية، وجعل سبب الاطمئنان ملاءمة هواء البلد لأمزجة أهله وفيه تأمل * (فكفرت بأنعم الله) * جمع نعمة كشدة وأشد على ترك الاعتداد بالتاء لأن المطرد جمع فعل على أفعال لا فعلة، وقال الفاضل اليمني: اسم جمع للنعمة، وقطرب جمع نعم بضم النون كبؤس وأبؤس، والنعم عنده بمعنى النعيم، وحمل على ذلك قولهم: هذا يوم طعم ونعم، وعند غيره بمعنى النعمة، والمراد بالنعم ما تضمنته الآية قبل؛ ولعله في قوة نعم كثيرة بل هو كذلك، وفي إيثار جمع القلة إيذان بأن كفران نعم قليلة أوجبت هذا العذاب فما ظنك بكفران نعم كثيرة * (فأذاقها الله لباس الجوع والخوف) *
242

شبه أثر الجوع والخوف وضررهما الغاشي باللباس بجامع الإحاطة والاشتمال فاستعير له اسمه وأوقع عليه الإذاقة المستعارقة للإصابة، وأوثرت للدلالة على شدة التأثير التي تفوت لو استعملت الإصابة، وبينوا العلاقة بأن المدرك من أثر الضرر شبه بالمدرك من طعم المر البشع من باب استعارة محسوس لمعقول لأن الوجدانيات لزت في قرن العقليات، وكذا يقال في الأول، ولشيوع استعمال الإذاقة في ذلك وكثرة جريانها على الألسنة جرت مجرى الحقيقة ولذا جعل إيقاعها على اللباس تجريدا، فإن التجريد إنما يحسن أو يصح بالحقيقة أو ما ألحق بها من المجاز الشائع، فلا فرق في هذا بين أذاقها إياه وأصابها به، وإنما لم يقل: فكساها إيثارا للترشيح لئلا يفوت ما تفيده الإذاقة من التأثير والإدراك وطعم الجوع لما في اللباس من الدلالة على الشمول وصاحب المفتاح حمل اللباس على انتقاع اللون ورثاثة الهيئة اللازمين للجوع والخوف، والاستعارة حينئذ من باب استعارة المحسوس للمحسوس، وما ذكر أولا أولى إذ لا يجل موقع الإذاقة وتكون الإصابة أبلغ موقعا. ونقل عن الأصحاب أن لفظ اللباس عندهم تخييل، وبين ذلك بأن يشبه الجوع والخوف في التأثير بذي لباس قاصد للتأثير مبالغ فيه فيخترع له صورة كاللباس ويطلق عليها اسمه واعترض بأن ذلك لا يلائم بلاغة القرآن العظيم لأن الجوع إذا شبه بالمؤثر القاصد الكامل فيما تولاه ناسب أن تخترع له صورة ما يكون آلة للتأثير لا صورة اللباس الذي لا مدخل له فيه، وتعقب بأن صاحب المفتاح يرى أن التخييلية مسعملة في أمر وهيم توهمه المتكلم شبيها بمعناه الحقيقي فاللباس إذا كان تخييلا يجوز أن يكون المراد به أمرا مشتملا على الجوع اشتمال اللباس كالقحط ومشتملا على الخوف كإحاطة العدو فلا وجه لقوله: صورة اللباس مما لا دخل له في التأثير، والقول بأنه لا يناسب مع الفاعل إلا ذكر الآلة للتثير ما لم يصرح به أحد من القوم ولا يتأتى التزامه في كل مكنية، ألا تراك لو قلت. مسافة القريض ما زال يطويها حتى نزل ببابه على تشبيه المدح بمسافر ثبت له المسافة تخييلا وما بعده ترشيح كانت استعارة حسنة وليس قرينتها آلة لذلك الفاعل بل أمر من لوازمه، ومثله كثير في كلام البلغاء اه‍.
وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يفيد عند صحيح التخيل تمييز ما نقل عن الأصحاب على ما ذكر أولا ولا مساواته له، والمشهور أن في * (لباس) * استعارتين تصريحية ومكنية، وبين ذلك بأن شبه ما غشى الإنسان عند الجوع والخوف من أثر الضرر من حيث الاشتمال باللباس فاستعير له اسمه ومن حيث الكراهة بالطعم المر البشع فيكون استعارة مصرحة نظر إلى الأول ومكنية إلى الثاني وتكون الإذاقة تخييلا، وفيه بحث مشهور بين الطلبة، وجوز أن يكون لباس * (الجوع) * كلجين الماء أي أذاقها الله الجوع الذي هو في الإحاطة كاللباس، والأول أيضا أولى، ومثل ذلك قول كثير:
غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا * غلقت لضحكته رقاب المال
فإنه استعار الرداء للمعروف لأنه يصون عرض صاحبه صوت الرداء لما يلقى عليه وأضاف إليه الغمر وهو في وصف المعروف استعارة جرت مجرى الحقيقة وحقيقته من الغمرة وهي معظم الماء وكثرته، وتقديم * (الجوع) * الناشيء من فقدان الرزق على * (الخوف) * المترتب على زوال الأمن المقدم فيما تقدم على إتيان الرزق لكونه أنسب بالإذاقة أو لمراعاة المقارنة بين ذلك وبين إتيان الرزق.
وفي مصحف أبي * (لباس الخوف والجوع) * بتقديم الخوف، وكذا قرأ عبد الله إلا أنه لم يذكر اللباس وعد ذلك أبو حيان تفيرا لا قراءة، وروى العباس عن أبي عمرو أنه قرأ * (والخوف) * بالنصب عطفا على * (لباس) *
243

وجعله الزمخشري على حذف مضاف وإقامة المضاف مقامه أي ولباس الخوف.
وقال " صاحب اللوامح " يجوز أن يكون نصبه بإضمار فعل، وفي مقابلة ما تقدم بالجوع والخوف فقط ما يشير إلى عد الأمن والاطمئنان كالشيء الواحد وإلا فكان الظاهر فإذاقها الله لباس الجوع والخوف والانزعاج * (بما كانوا يصنعون) * فيما قبل أو على وجه الاستمرار وهو الكفران المذكور، و * (ما) * موصولة والعائد محذوف أي يصنعونه، وجوز أن تكون مصدرية والباء على الوجهين سببية والضميران قيل: عائدان على - أهل - المقدر المضاف إلى القرية بعد ما عادت الضمائر السابقة إلى لفظها، وقيل: عائدان إلى القرية مرادا بها أهلها.
وفي إرشاد العقل السليم أسند ما ذكر إلى أهل القرية تحقيقا للأمر بعد إسناد الكفران إليها وإيقاع الإذاقة عليها إرادة للمبالغة، وفي صيغة الصنعة إيذان بأن كفران الصنيعة صنعة راسخة لهم وسنة مسلوكة.
* (ولقد جآءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظ‍المون) *
.
* (ولقد جاءهم) * من تتمة التمثيل، والضمير فيه عائد على من عاد إليه الضميران قبله، وجيء بذلك لبيان أن ما صنعوه من كفران أنعم الله تعالى لم يكن مزاحمة منهم لقضية العقل فقط بل كان ذلك معارضة لحجة الله تعالى على الخلق أيضا أي ولقد جاء أهل تلك القرية * (رسول منهم) * أي من جنسهم يعرفونه بأصله ونسبه فأخبرهم بوجوب الشكر على النعمة وأنذرهم بسوء عاقبة ما هم عليه * (فكذبوه) * في رسالته أو فيما أخبرهم به مما ذكر، فالفاء فصيحة وعدم ذكر ما أفصحت عنه
للإيذان بمفاجأتهم بالتكذيب من غير تلعثم * (فاخذهم العذاب) * المستأصل لشأفتهم غب ما ذاقوا منه ما سمعت * (وهم ظالمون) * أي حال التباسهم بالظلم وهو الكفران والتكذيب غير مقلعين عنه بما ذاقوا من المقدمات الزاجرة عنه، وفيه دلالة على تماديهم في الكفر والعناد وتجاوزهم في ذلك كل حد معتاد.
وترتيب أخذ العذاب على تكذيب الرسول جرى على سنة الله تعالى حسبما يرشد إليه قوله سبحانه: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * (الإسراء: 15) وبه يتم التمثيل فإن حال أهل مكة سواء ضرب المثل لهم خاصة أو لهما ولمن سار سيرتهم كافة أشبه بحال أهل تلك القرية من الغراب بالغراب فقد كانوا في حرم آمن يتخطف الناس من حولهم ولا يمر ببالهم طيف من الخوف ولايزعج قطا قلويهم مزعج وكانت تجيء إليه ثمرات كل شيء ولقد جاءهم رسول منهم وأي رسول تحار في إدراك سمو مرتبته العقول صلى الله عليه وسلم ما اختلف الدبور والقبول فأنذرهم وحذرهم فكفروا بأنعم الله تعلى وكذبوه عليه الصلاة والسلام فأذاقهم الله تعالى لباس الجوع والخوف حيث أصابهم بدعائه صلى الله عليه وسلم: " اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف " ما أصابهم من جدب شديد وأزمة ما عليها مزيد فاضطروا إلى أكل الجيف والكلاب الميتة والعطام المحروقة والعلهز وهو طعام يتخذ في سني المجاعة من الدم والوبر وكان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانوا يغيرون على مواشيهم وعيرهم وقوافلهم ثم أخذهم يوم بدر ما أخذهم من العذاب هذا ما اختاره شيخ الإسلام وقال: إنه الذي يقتضيه المقام ويستدعيه النظام، وأما ما أجمع عليه أكثر أهل التفسير من أن الضمير في قوله تعالى: * (ولقد جاءهم) * لأهل مكة والكلام انتقال إلى ذكر حالهم صريحا بعد ذكر مثلهم وأن المراد بالرسول محمد
244

صلى الله عليه وسلم وبالعذاب ما أصابهم من الجدب ووقعة بدر فبمعزل عن التحقيق كيف لا وقوله تعالى:
* (فكلوا مما رزقكم الله حللا طيبا واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون) *
.
* (فكلوا مما رزقكم الله) * مفرع على نتيجة التمثيل وصد لهم عما يؤدي إلى مثل عاقبته، والمعنى وإذ قد استبان لكم حال من كفر بأنعم الله تعالى وكذب رسوله وما حل بهم بسبب ذلك من اللتيا والتي أولا وآخرا فانتهوا عما أنتم عليه من كفران النعم وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم كيلا يحل بكم ما حل بهم واعرفوا حق نعم الله تعالى وأطيعوا الرسول عليه الصلاة والسلام في أمره ونهيه فكلوا من رزق الله تعالى حال كونه * (حلالا طيبا) * وذروا ما تفترون من تحريم البحائر ونحوها * (واشكروا نعمة الله) * واعرفوا حقها ولا تقابلوها بالكفران.
والفاء في المعنى داخلة على الأمر بالشكر وإنما دخلت على الأمر بالأكل ذريعة إلى الشكر فكأنه قيل: فاشكروا نعمة الله غب أكلها حلالا طيبا وقد أدمج فيه النهي عن زعم الحرمة ولا ريب في أن هذا يتصور حين كان العذاب المستأصل متوقعا بعد وققد تمهدت مبادية وأما بعدما وقع فمن ذا الذي يحذر ومن ذا الذي يحذر ومن ذا الذي يؤمر بالأكل والشكر وحمل قوله تعالى: * (فأخذهم العذاب وهم ظالمون) * (النحل: 113) لاستصلاحهم بالأمر والنهي وإن لم يأباه التعبير بالماضي لأن استعماله في المستقبل المتحقق الوقوع مجازا كثير.
وتوجيه خطاب الأمر بالأكل إلى المؤمنين مع أن ما يتلوه من خطاب النهي متوجه إلى الكفار كما فعل الواحدي قال: فكلوا أنتم يا معشر المؤمنين مما رزقكم الله تعالى من الغنائم مما لا يليق بشأن التنزيل اه‍. وتعقب بأنه بعد ما فسر العذاب بالعذاب المستأصل للشأفة كيف يراد به ما وقع في بدر وما بقي منهم أضعاف ما ذهب وإن كان مثل ذلك كافيا في الاستئصال فليكن المحذر والمأمور الباقي منهم، وما ذكره عن الواحدي من توجيه خطاب الأمر بالأكل للمؤمنين رواه الإمام عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ثم نقل عن الكلبي ما يستدعي أن الخطاب لأهل مكة حيث قال: إن رؤساء مكة كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جهدوا وقالوا: عاديت الرجال فما بال الصبيان والنساء وكانت الميرة قد قطعت عنهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذن في الحمل إليهم فحمل الطعام إليهم فقال الله تعالى: * (فكلوا مما رزقكم الله) * الخ ثم قال: والقول ما قال ابن عباس يدل عليه قوله تعالى فيما بعد: * (إنما حرم عليكم الميتة) * (البقرة: 173) الخ يعني إنكم لما آمنتم وتركتم الكفر فكلوا الحلال الطيب وهو الغنيمة وارتكوا الخبائث وهو الميتة والدم اه‍. وفي " التفسير الخازني " أن كون الخطاب للمؤمنين من أهل المدينة هو الصحيح فإن الصحيح أن الآية مدنية كما قال مقاتل وبعض المفسرين، والمراد بالقرية مكة وقد ضربها الله تعالى لأهل المدينة يخوفهم ويحذرهم أن يصنعوا مثل صنيعهم فيصيبهم ما أصابهم من الجوع والخوف ويشهد لصحة ذلك أن الخوف المذكور في الآية كان من البعوث والسرايا التي كانت يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول جميع المفسرين لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يؤمر بالقتال وهو بمكة وإنما أمر به وهو بالمدينة فكان صلى الله عليه وسلم يبعث البعوث إلى مكة يخوفهم بذلك وهو بالمدينة، والمراد بالعذاب ما أصابهم من الجوع والخوف وهو أولى من أن يراد به القتل يوم بدر، والظاهر أن قوله تعالى: * (ولقد جاءهم) * الخ عنده كما هو عند الجمهور انتقال من التمثيل بهم إلى التصريح بحالهم الداخلة فيه وليس من تتمته فإنه على ما قيل خلاف المتبادر إلى الفهم. نعم كون خطاب النهي فيما بعد للمؤمنين بعيد غاية البعد، وجعله للكفار
245

مع جعل خطاب الأمر السابق للمؤمنين بعيد أيضا لكن دون ذلك. وادعى أبو حيان أن الظاهر أن خطاب النهي كخطاب الأمر للمكلفين كلهم، ونقل كون خطاب للنهي لهم عن العسكري، وكونه للكفار عن الزمخشري وابن عطية. والجمهور، ولعل الأولى ما ذكره شيخ الإسلام إلا أن تقييد العذاب بالمستأصل ودعوى أن حال أهل مكة كحال أهل تلك القرية حذو القذة بالقذة من غير تفاوت بينهما ولو في خصلة فذة لا يخلو عن شيء من حيث أن أهل مكة لم يستأصلوا فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك * (إن كنتم إياه تعبدون) * تطيعون أو إن صح زعمكم أنكم تقصدون بعبادة الآلهة عبادته سبحانه ومن قال؛ إن الخطاب للمؤمنين أبقى هذا على ظاهره أي إن كنتم تخصونه تعالى بالعبادة، والكلام خارج مخرج التهييج.
* (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم) *
.
* (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به) * تعليل لحل ما أمرهم بأكله مما رزقهم، والحصل إضافي على ما قال غير واحد أي إنما حرم أكل هذه الأشياء دون ما تزعمون من البحائر والسوائب ونحوها فلا ينافي تحريم غير المذكورات كالسباع والحمر الأهلية، وقيل: الحصر على ظاهره والسباع ونحوها لم تحرم قبل وإنما حرمت بعد وليس الحصر إلا بالنظر إلى الماضي، وقال الإمام: إنه تعالى حصر المحرمات في الأربع في هذه السورة وفي سورة الأنعام بقوله سحبانه: * (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة) * (الأنعام: 145) الخ وهما مكيتان وحصرها فيها أيضا في البقرة وكذا في المائدة فإنه تعالى قال فيها: * (أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم) * (المائدة: 1) فأباح الكل إلا ما يتلى عليهم، وأجمعوا على أن المراد بما يتلى هو قوله تعالى في تلك السورة: * (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به) * وما ذكره تعالى من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع داخل في الميتة وما ذبح على النصب داخل فيما أهل به لغيره الله، فثبت أن هذه السور الأربع دالة على حصر المحرمات في هذه الأربع، وسورتا النحل والأنعام مكيتان وسورتا البقرة والمائدة مدنيتان، والمائدة من آخر ما نزل بالمدينة فمن أنكر حصر التحريم في الأربع إلا ما خصه الإجماع والدلائل القاطعة كان في محل أن يخشى عليه لأن هذه السور دلت على أن حصر المحرمات فيها كان مشروعا ثابتا في أول أمر مكة وآخرها وأول المدينة وآخرها، وفي إعادة البيان قطع للأعذار وإزالة للشبه اه‍ فتفطن ولا تغفل * (فمن اضطر) * أي دعته ضرورة المخمصة إلى تناول شيء من ذلك * (غير باغ) * على مضطر آخر * (ولا عاد) * متعد قدر الضرورة وسد الرمق * (فإن الله غفور رحيم) * أي لا يؤاخذه سبحانه بذلك فأقيم سببه مقامه، ولتعظيم أمر المغفرة والرحمة جيء بالاسم الجليل، وقد سها شيخ الإسلام فظن أن الآية * (فإن ربك غفور رحيم) * فبين سر التعرض لوصف الربوبية والإضافة إلى ضمير صلى الله عليه وسلم وسبحان من لا يسهو.
واستدل بالآية على أن الكافر مكلف بالفروع، ثم إنه تعالى أكد ما يفهم من الحصر بالنهي عن التحريم والتحليل بالأهواء [بم فقال عز قائلا:
* (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب ه‍اذا حل‍ال وه‍اذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) *
.
* (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم) * الخ، ولا ينافي ذلك العطف كما لا يخفى، واللام صلة القول مثلها في قوله تعالى: * (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات) * (البقرة: 154) وقولك: لا تقل للنبيذ إنه حلال، ومعناها الاختصاص، و * (ما) * موصولة والعائد محذوف أي لا تقولوا في شأن الذي تصفه ألسنتكم
246

من البهائم بالحل والحرمة في قولكم: * (ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا) * من غير ترتب ذلك الوصف على ملاحظة وفكر فضلا عن استناده إلى وحي أو قياس مبني عليه بل مجرد قول باللسان.
* (الكذب) * منتصب على أنه مفعول به - لتقولوا - وقوله سبحانه: * (هذا حلال وهذا حرام) * بدل منه بدل كل، وقيل: منصوب بإضمار أعني، وقيل: * (الكذب) * منتصب على المدرية و * (هذا) * مقول القول.
وجوز أن يكون بدل اشتمال، وجوز أن يكون * (الكذب) * مقول القول المذكور ويضمر قول آخر بعد الوصف واللام على حالها أي لا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم فتقول هذا حلال وهذا حرام، والجملة مبينة ومفسرة لقوله تعالى: * (تصف ألسنتكم) * كما في قوله سبحانه: * (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم) * وجوز أن لا يضمر القول على المذهب الكوفي وأن يقدر قائله على أن المقدر حال من الألسنة، ويجوز أن يكون اللام للتعليل و * (ما) * مصدرية و * (الكذب) * مفعول الوصف و * (هذا حلال) * الخ مقول القول أي لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لأجل وصف ألسنتكم الكذب، وإلى هذا ذهب الكسائي. والزجاج، وحاصله لا تحصلوا ولا تحرموا لمجرد وصف ألسنتكم الكذب وتصويرها له وتحقيقها لماهيته كأن ألسنتهم لكونها منشأ للكذب ومنبعا للزور شخص عالم بكنهه ومحيط بحقيقته يصفه للناس ويعرفه أوضح وأبين تعريف، ومثل هذا وارد في كلام العرب والعجل تقول: له وجه يصف الجمال وريق يصف السلاف وعين تصف السحر، وتقدم بيت المعري، وقد بولغ في الآية من حيث جعل قولهم كذبا ثم جعل اللسان الناطقة بتلك المقالة ينبوعه مصورة إياه التي هو عليها وهو من باب الاستعارة بالكناية وجعله بعضهم من باب الإسناد المجازي نحو نهاره صائم كأن ألسنتهم لكونها موصوفة بالكذب صارت كأنها حقيقة ومنبعه الذي يعرف منه حتى كأنه يصفه ويعرفه كقوله: أضحت يمينك من جود مصورة * لإبل يمينك منها صور الجود
وقرأ الحسن. وابن يعمر. وطلحة. والأعرج. وابن إسحق. وابن عبيد. ونعيم بن ميسرة * (الكذب) * بالجر، وخرج على أن يكون بدلا من * (ما) * مع مدخولها، وجعله غير واحد صفة - لما - المصدرية مع صلتها.
وتعقبه أبو حيان بأن المصدر المسبوك من ما أوان أو كي مع الفعل معرفة كالمضمر لا يجوز نعته فلا يقال: أعجبني أن تقوم السريع كما يقال: أعجبني قيامك السريع، وليس لكل مقدر حكم المنطوق به وإنما يتبع بذلك كلام العرب. وقرأ معاذ. وابن أبي عبلة. وبعض أهل الشام * (الكذب) * بضم الثلاثة صفة للألسنة وهو جمع كذوب كصبور وصبر، قال " صاحب اللوامح " أو جمع كذاب بكسر الكاف وتخفيف الذال مصدر كالقتال وصف به مبالغة وجمع فعل ككتاب وكتب أو جمع كاذب كشارف وشرف. وقرأ مسلمة بن محارب كما قال ابن عطية أو يعقوب كما قال " صاحب اللوامح " ونسب قراءة معاذ ومن معه إلى مسلمة * (الكذب) * بضمتين والنصب، وخرج على أوجه. الأول: أن ذلك منصوب على الشتم والذم وهو نعت للألسنة مقطوع.
الثاني: أنه مفعول به - لتصف - أو * (تقولوا) * والمراد الكلم الكواذب. الثالث: أنه مفعول مطلق - لتصف - من معناه على أنه جمع كذاب المصدر، وأعرب * (هذا حلال) * الخ على ما مر ولا إشكال في إبداله لأنه كلم باعتبار مواده وكلامان ظاهرا * (لتفتروا على الله الكذب) * اللام لام العاقبة والصيرورة وللتعليل لأن
247

ما صدر منهم ليس لأجل الافتراء على الله تعالى بل لأغراض أخر ويترتب على ذلك ما ذكر، وإلى هذا ذهب الزمخشري وجماعة، وقال بعضهم: يجوز أن تكون للتعليل ولا يبعد قصدهم لذلك كما قالوا: * (وجدنا عليها ءاباءنا والله أمرنا به) * (الأعراف: 28) وفي " البحر " أنه الظاهر ولا يكون ذلك على سبيل التوكيد للتعليل السابق على احتمال كون اللام للتعليل وما مصدرية لأن في هذا التنبيه على من افتروا الكذب عليه وليس فيما مر بل فيه إثبات الكذب مطلقا ففي ذلك إشارة إلى أنهم لتمرنهم على الكذب احترئا على الكذب على الله تعالى فنسبوا ما حللوا وحرموا إليه سبحانه، وقال الواحدي: إن * (لتفتروا) * بدل من * (لما تصف) * الخ لأن وصفهم الكذب هو افتراء على الله تعالى، وهو على ما في البحر أيضا على تقدير كون ما مصدرية لأنها إذا جعلت موصولة لا تكون اللام للتعليل ليبدل من ذلك ما يفهم التعليل، وقيل: لا مانع من التعليل على تقدير الموصولية فعند قصد التعليل يجوز الإبدال، وحاصل معنى الآية على ما نص عليه العسكري لا تسموا ما لم يأتكم حله ولا حرمته عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم حلالا ولا حراما فتكونوا كاذبين على الله تعالى لأن مدار الحل والحرمة ليس إلا حكمة سبحانه، ومن هنا قال أبو نضرة: لم أزل أخاف الفتيا منذ سمعت آية النحل إلى يوم هذا.
وقال ابن العربي كره مالك وقوم أن يقول المفتي هذا حلال وهذا حرام في المسائل الاجتهادية وإنما يقال ذلك فيما نص الله تعالى عليه، ويقال في مسائل الاجتهاد؛ إني أكره كذا وكذا ونحو ذلك فهو أبعد من أن يكون فيه ما يتوهم منه الافتراء على الله سبحانه * (إن الذين يفترون على الله الكذب) * في أمر من الأمور * (لا يفلحون) * لا يفوزون بمطلوب.
* (مت‍اع قليل ولهم عذاب أليم) *
.
* (متاع قليل) * أي منفعتهم التي قصدوها بذلك الافتراء منفعة قليلة منقطعة عن قريب - فمتاع - خبر مبتدأ محذوف و * (قليل) * صفته والجملة استئناف بياني كأنه لما نفي عنهم الفوز بمطلوب قيل: كيف ذلك وهم قد تحصل لهم منفعة بالافتراء؟ فقيل: ذاك متاع قليل لا عبر به ويرجع الأمر بالآخرة إلى أن المراد نفي الفوز بمطلوب يعتد به، وإلى كون * (متاع) * خبر مبتدأ محذوف ذهب أبو البقاء إلا أنه قال: أي بقاؤهم متاع قليل ونحو ذلك. وقال الحوفي: * (متاع قليل) * مبتدأ وخبر، وفيه أن النكرة لا يبتدأ بها بدون مسوغ وتأويله بمتاعهم ونحوه بعيد * (ولهم) * في الآخرة * (عذاب أليم) * لا يكتنه كنهه.
* (وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمن‍اهم ول‍اكن كانوا أنفسهم يظلمون) *
.
* (وعلى الذين هادوا) * خاصة دون غيرهم من الأولين * (حرمنا ما قصصنا عليك من قبل) * أي من قبل نزول هذه الآية وذلك في قوله تعالى في سورة الأنعام: * (وعلى الذي هادوا حرمنا كل ذي ظفر) * (الأنعام: 146) الآية، والظاهر أن * (من قبل) * متعلق - بقصصنا - وجوز تعليقه - بحرمنا - والمضاف إليه المقدر ما مر أيضا.
ويحتمل أن يقدر * (من قبل) * تحريم ما حرم على أمتك، وهو أولى على ما قيل، وجوز أن يكون الكلام من باب التنازع، وهذا تحقيق لما سلف من حصر المحرمات فيما فصل بإبطال ما يخالف من فرية اليهود وتكذيبهم في ذلك، فإنهم كانوا يقولون: لسنا أول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح. وإبراهيم. ومن بعدهما حتى انتهى الأمر إلينا * (وما ظلمناهم) * بذلك التحريم * (ول‍اكن كانوا أنفسهم يظلمون) * حيث فعلوا ما عوقبوا عليه بذلك حسبما نعى عليهم قوله تعالى: * (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) * (النساء: 160) الآية، وفيه تنبيه على الفرق بينهم وبين غيرهم في التحريم وأنه كما يكون للمضرة يكون للعقوبة. q
248

* (ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجه‍الة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم) *
. * (ثم إن ربك للذين عملوا السوء) * هو ما يسىء صاحبه من كفر أو معصية ويدخل فيه الافتراء على الله تعالى، وعن ابن عباس أنه الشرك، والتعميم أولى * (بجهالة) * أي بسببها، على معنى أن الجهالة السبب الحامل لهم على العمل كالغيرة الجاهلية الحاملة على القتل وغير ذلك، وفسرت الجهالة بالأمر الذي لا يليق، وقال ابن عطية: هي هنا تعدى الطور وركوب الرأس لا ضد العلم، ومنه ما جاء في الخبر " اللهم أعوذ بك من أن أجهل أو يجهل على " وقول الشاعر: ألا لا يجهلن أحد علينا * فنجهل فوق جهل الجاهلينا
نعم كثيرا ما تصحب هذه الجهالة التي هي بمعنى ضد العلم، وفسرها بعضهم بذلك وجعل الباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال أي ملتبسين بجهالة غير عارفين بالله تعالى وبعقابه أو غير متدبرين في العواقب لغلبة الشهوة عليهم * (ثم تابوا من بعد ذلك) * أي من بعد ما عملوا ما عملوا، والتصريح به مع دلالة * (ثم) * عليه للتوكيد والمبالغة * (وأصلحوا) * أي أصلحوا أعمالهم أو دخلوا في الصلاح، وفسر بعضهم الإصلاح بالاستقامة على التوبة * (إن ربك من بعدها) * أي التوبة كما قال غير واحد، ولعل الإصلاح مندرج في التوبة وتكميل لها.
وقال أبو حيان: الضمير عائد على المصادر المفهومة من الأفعال السابقة أي من بعد عمل السوء والتوبة والإصلاح، وقيل: يعود على الجهالة، وقيل: على السوء
على معنى المعصية وليس بذاك * (لغفور) * لذلك السوء * (رحيم) * يثيب على طاعته سبحانه فعلا وتركا، وتكرير * (إن ربك) * لتأكيد الوعد وإظهار كمال العناية بإنجازه، والتعرض لوصف الربوبية من المغفرة والرحمة عليهم بتوسطه صلى الله عليه وسلم وكونهم من أتباعه كما مر عنق ريب، والتقييد بالجهالة قيل: لبيان الواقع لأن كل من يعمل السوء لا يعمله إلا بجهالة.
وقال العسكري: ليس المعنى أنه تعالى يغفر لمن يعمل السوء بجهالة ولا يغفر لمن عمله بغير جهالة بل المراد أن جميع من تاب فهذه سبيله، وإنما خص من يعمل السوء بجهالة لأن أكثر من يأتي الذنوب يأتيها بقلة فكر في عاقبة الأمر أو عند غلبة الشهوة أو في جهالة الشباب فذكر الأكثر على عادة العرب في مثل ذلك، وعلى القولين لا مفهوم للقيد.
* (إن إبراهيم كان أمة ق‍انتا لله حنيفا ولم يك من المشركين) *
.
* (إن إبراهيم كان أمة) * قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أي كان عنده عليه السلام من الخير ما كان عند أمة وهي الجماعة الكثيرة، فإطلاقها عليه عليه السلام لاستجماعه كمالات لا تكاد توجد إلا متفرقة في أمة جمة. وليس على الله بمستنكر * أن يجمع العالم في واحد
وهو صلى الله عليه وسلم رئيس الموحدين وقدوة المحققين الذي نصب أدلة التوحيد ورفع أعلامها وخفض رايات الشرك وجزم ببواتر الحجج هامها، وقال مجاهد: سمي عليه السلام أمة لانفراده بالإيمان في وقته مدة ما، وفي " صحيح البخاري " أنه عليه السلام قال لسارة: ليس على الأرض اليوم مؤمن غيري وغيرك، وذكر في " القاموس " أن من معاني الأمة من هو على الحق مخالف لسائر الأديان، والظاهر أنه مجاز بجعله كأنه جميع ذلك العصر لأن الكفرة بمنزلة العدم، وقيل: الأمة هنا فعلة بمعنى مفعول كالرحلة بمعنى
249

المرحول إليه، والنخبة بمعنى المنتخب من أمه إذا قصده أو اقتدى به أي كان مأموما أو مؤتما به فإن الناس كانوا يقصدونه للاستفادة ويقتدون بسيرته.
وقال ابن الأنباري: هذا مثل قول العرب: فلان رحمة وعلامة ونسابة يقصدون بالتأنيث التناهي في المعنى الموصوف به. وإيراد ذكره عليه السلام عقيب تزييف مذاهب المشركين من الشرك والطعن في النبوة وتحريم ما أحل الله تعالى للإيذان بأن حقية دين الإسلام وبطلان الشرك وفروعه أمر ثابت لا ريب فيه. وفي ذلك أيضا رد لقريش حيث يزعمون أنهم على دينه، وقيل: إنه تعالى لما بين حال المشركين وأجرى ذكر اليهود بين طريقة إبراهيم عليه السلام ليظهر الفرق بين حاله وحال المشركين وحال اليهود * (قانتا لله) * مطيعا له سبحانه قائما بأمره تعالى * (حنيفا) * مائلا عن كل دين باطل إلى الدين الحق غير زائل عنه.
* (ولم يك من المشركين) * في أمر من أمور دينهم أصلا وفرعا، صرح بذلك مع ظهوره قيل: ردا على كفار قريش في قولهم: نحن على ملة أبينا إبراهيم، وقيل: لذلك وللرد على اليهود المشركين بقولهم: * (عزير بن الله) * في افترائهم وزعمهم أنه عليه السلام كان على ما هم عليه كقوله تعالى: * (ما كان إبراهيم يهويدا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين) * (آل عمران: 67) إذ به ينتظم أمر إيراد التحريم والسبت سابقا ولاحقا.
* (شاكرا لانعمه اجتب‍اه وهداه إلى صراط مستقيم) *
.
* (شاكرا لأنعمه) * صفة ثالثة لأمة - والجار والمجرور متعلق - بشاكرا - كما هو الظاهر، وأوثر صيغة جمع القلة قيل: للإيذان بأنه عليه السلام لا يخل بشكر النعمة القليلة فكيف بالكثيرة وللتصريح بأنه عليه السلام على خلاف ما هم عليه من الكفران بأنعم الله تعالى حسبما أشير إليه بضرب المثل، وقيل: إن جمع القلة هنا مستعار لجمع الكثرة ولا حاجة إليه.
وفي بعض الآثار أنه عليه السلام كان لا يتغدى إلا مع ضيف فلم يجد ذات يوم ضيفا فأخر غداءه فإذا هو بفوج من الملائكة عليهم السلام في صورة البشر فدعاهم إلى الطعام فخيلوا أن بهم جذاما فقال: الآن وجبت مؤاكلتكم شكرا لله تعالى على أنه عافاني مما ابتلاكم به، وجوز أبو البقاء كون الجار والمجرور متعلقا بقوله تعالى: * (اجتباه) * وهو خلاف الظاهر. وجعل بعضهم متعلق هذا محذوفا أي اختاره واصطفاه للنبوة، وأصل الاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء، ويطلق على تخصيص الله تعالى العبد بفيض إلهي يتحصل له منه أنواع من النعم بلا سعي منه ويكون للأنبياء عليهم السلام ومن يقاربهم * (وهدي‍اه إلى صراط مستقيم) * موصل إليه تعالى وهو ملة الإسلام وليست نتيجة هذه الهداية - كما في إرشاد العقل السليم - مجرد اهتدائه عليه السلام بل مع إرشاد الخلق أيضا إلى ذلك والدعوة إليه بمعنوة قرينة الاجتباء.
وجوز بعضهم كون * (إلى صراط) * متعلقا - باجتباه وهداه - على التنازع، والجملة إما حال بتقدير قد على المشهور وإما خبر ثان لإن، وجوز أبو البقاء الاستئناف أيضا.
* (وءاتين‍اه فى الدنيا حسنة وإنه فى الاخرة لمن الص‍الحين) *
.
* (وءاتين‍اه في الدنيا حسنة) * بأن حببه إلى الناس حتى أن جميع أهل الأديان يتولونه ويثنون عليه عليه السلام حسبما سأل بقوله: * (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) * (الشعراء: 84) وروي هذا عن قتادة. وغيره، وعن الحسن الحسنة النبوة، وقيل: الأولاد الأبرار على الكبر وقيل: المال يصرفه في وجوه الخير والبر، وقيل: العمر الطويل في السعة والطاعة - فحسنة - على الأول
250

بمعنى سيرة حسنة وعلى ما بعده عطية أو نعمة حسنة كذا قيل: وجوز في الجميع أن يراد عطية حسنة، والالتفات إلى التكلم لإظهار كمال الاعتناء بشأنه وتفخيم مكانه عليه السلام * (وإنه في الآخرة لمن الصالحين) * داخل في عدادهم كائن معهم في الدرجات العلى من الجنة حسبما سأل بقوله: * (وألحقني بالصالحين) * وأراد بهم الأنبياء عليهم السلام.
* (ثم أوحينآ إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) *
.
* (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم) * وهي على ما روي عن قتادة الإسلام المعبر عنه آنفا بالصراط المستقيم، وفي رواية أخرى عنه أنها جميع شريعته إلا ما أمر صلى الله عليه وسلم بتركه، وفي التفسير الخازني حكاية هذا عن أهل الأصول، وعن ابن عمرو بن العاص أنها مناسك الحج.
وقال الإمام: قال قوم إن النبي صلى الله عليه وسلم كان على ملة إبراهيم وشريعته وليس له شرع متفرد به بل بعث عليه الصلاة والسلام لإحياء شريعة إبراهيم لهذه الآية، فحملوا الملة على الشريعة أصولا وفروعا وهو قول ضعيف، والمراد من * (ملة إبراهيم) * التوحيد ونفي الشرك المفهوم من قوله تعالى: * (وما كان من المشركين) * فإن قيل: إنه صلى الله عليه وسلم إنما نفى الشرك وأثبت التوحيد للأدلة القطعية فلا يعد ذلك متابعة فيجب حمل الملة على الشرائع التي يصح حصول المتابعة فيها، قلنا: يجوز أن يكون المراد الأمر بمتابعته في كيفية الدعوة إلى التوحيد وهي أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن اه‍. وتعقبه أبو حيان بأنه لا يحتاج إليه لأن المعتقد الذي تقتضيه دلائل العقول لا يمتنع أن يوحي ليتضافر المعقول والمنقول على اعتقاده، ألا ترى قوله تعالى: * (قل إنما يوحى إلي إنما إلهكم إله واحد) * (الأنبياء: 108) كيف تضمن الوحي بما اقتضاه الدليل العقلي، فلا يمتنع أن يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه السلام بنفي الشرك والتوحيد وإن كان ذلك مما ثبت عنده عليه الصلاة والسلام بالدليل العقلي ليتضافر الدليلان العقلي والنقلي على هذا المطلب الجليل، وآخر بأنه ظاهر في حمل الملة على كيفية الدعوة ولا شك أن ذلك ليس داخلا في مفهومها فإنها ما شرعه الله تعالى لعباده على لسان الأنبياء عليهم السلام من أمللت الكتاب إذا أمليته وهي الدين بعينه لكن باعتبار الطاعة له، وتحقيقه أن الوضع الإلهي مهما نسب إلى من يؤديه عن الله تعالى يسمى ملة ومهما نسب إلى من يقيمه يسمى دينا، قال الراغب: الفرق بينها وبين الدين أنها لا تضاف إلا للنبي صلى الله عليه وسلم الذي يسند إليه ولا تكاد توجد مضافة إلى الله تعالى ولا إلى آحاد أمة النبي عليه السلام ولا تستعمل إلا في جملة الشرائع دون آحادها ولا كذلك الدين، وأكثر المفسرين على أن المراد بها هنا أصول الشرائع، ويحمل عليه ما روي عن قتادة أولا ولا بأس بما روي عنه ثانيا.
واستدلال بعض الشافعية على وجوب الختان وما كان من شرعه عليه السلام ولم يرد به ناسخ مبني على ذلك كما لا يخفى. ما روي عن ابن عمرو بن العاص ذكره في " البحر " والذي أخرجه ابن المنذر. والبيهقي في الشعب. وجماعة عنه أنه قال: صلى جبريل عليه السلام بإبراهيم الظهر والعصر بعرفات ثم وقف حتى إذا غابت الشمس دفع به ثم صلى المغرب والعشاء بجمع ثم صلى به الفجر كأسرع ما يصلي أحد من المسلمين ثم وقف به حتى إذا كان كأبطأ ما يصلي أحد من المسلمين دفع به ثم رمى الجمرة ثم ذبح وحلق ثم أفاض به إلى البيت فطاف به فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم) * ولعل ما ذكر أولا مأخوذ منه.
وأنت تعلم أنه ليس نصا فيه ولا أظن أن أحدا يوافق على تخصيص ملته عليه السلام بمناسك الحج.
251

و * (أن) * تفسيرية أو مصدرية ومر الكلام في وصلها بالأمر، و * (ثم) * قيل: للتراخي الزماني لظهور أن أيامه صلى الله عليه وسلم بعد أيامه عليه السلام بكثير، واختار المحققون أنها للتراخي الرتبي لأنه أبلغ وأنسب بالمقام.
قال الزمخشري: إن في * (ثم) * هذه إيذانا بأنه أشرف ما أوتي خليل الله عليه السلام من الكرامة وأجل ما أوتي من النعمة اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملته وتعظيما لمنزلة نبينا عليه الصلاة والسلام وإجلالا لمحله، أما الأول فمن دلالة ثم على تباين هذا المؤتي وسائر ما أوتي عليه السلام من الرتب والمآثر، وأما الثاني فمن حيث أن الخليل مع جلالة محله عند الله تعالى أجل رتبته أو أوحي إلى الحبيب اتباع ملته، وفي لفظ * (أوحينا) * ثم الأمر باتباع الملة لا اتباع إبراهيم عليه السلام ما يدل كما في " الكشف " على أنه صلى الله عليه وسلم ليس بتابع له بل هو مستقل بالأخذ عمن أخذ إبراهيم عليه السلام عنه * (حنيفا) * حال من إبراهيم المضاف إليه لما أن المضاف لشدة اتصاله به جرى منه مجرى البعض فعد بذلك من قبيل رأيت وجه هند قائمة.
ونقل ابن عطية عن مكي عدم جواز كونه حالا منه معللا ذلك بأنه مضاف إليه، وتعقبه بقوله: ليس كما قال لأن الحال قد يعمل فيها حروف الخفض إذا عملت في ذي الحال نحو مررت بزيد قائما، وفي كلا الكلامين بحث لا يخفى.
ومنع أبو حيان مجىء الحال من المضاف إليه في مثل هذه الصورة أيضا وزعم أن الجواز فيها مما تفرد به ابن مالك والتزم كون * (حنيفا) * حالا من * (ملة) * لأنها والدين بمعنى أو من الضمير في * (اتبع) * وليس بشيء ولم يتفرد بذلك ابن مالك بل سبقه إليه الأخفش وتبعه جماعة * (وما كان من المشركين) * بل كان قدوة المحققين وهذا تكرير لما سبق لزيادة تأكيد وتقرير لنزاهته عليه السلام عما هم عليه من عقد وعمل [بم وقوله تعالى:
* (إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القي‍امة فيما كانوا فيه يختلفون) *
.
* (إنما جعل السبت) * بمعنى إنما فرض تعظيمه والتخلي للعبادة وترك الصيد فيه تحقيق لذلك النفي الكلي وتوضيح له بإبطال ما عسى يتوهم كونه قادحا في الكلية فإن اليهود كانوا يزعمون أن السبت من شعائر الإسلام وأن إبراهيم عليه السلام كان محافظا عليه أي ليس السبت من شرائع إبراهيم وشعائر ملته عليه السلام التي أمرت باتباعها حتى يكون بينه وبين بعض المشركين علاقة في الجملة، وإنما شرع ذلك لبني إسرائيل بعد مدة طويلة، وإيراد الفعل مبنيا للمفعول جرى على سنن الكبرياء وإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بالفاعل لاستحالة الإسناد إلى الغير. وقرأ أبو حيوة * (جعل) * بالبناء للفاعل، وعن ابن مسعود والأعمش أنهما قرءا * (إنما أنزلنا السبت) * وهو على ما قال أبو حيان تفسير معنى لا قراءة لمخالفة ذلك سواد المصحف، والمستفيض عنهما أنهما قرءا كالجماعة إنما جعل السبت * (على الذين اختلفوا فيه) * على نبيهم حيث أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت وهم اليهود.
أخرج الشافعي في الأم والشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم يعني الجمعة فاختلفوا فيه فهدانا الله تعالى له فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد " وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: أمر موسى عليه السلام اليهود بالجمعة وقال: تفرغوا لله تعالى في كل سبعة أيام يوما واحدا وهو يوم الجمعة ولا تعملوا فيه شيئا من أعمالكم فأبوا أن يقبلوا ذلك وقالوا: لا نريد إلا اليوم الذي فرغ الله تعالى فيه من الخلق وهو يوم السبت فجعل عليهم وشدد فيه الأمر ثم جاء عيسى عليه
252

السلام بالجمعة فقالت النصارى: لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا فاتخذوا الأحد وكأنهم إنما اختاروه لأنه مبتدأ الخلق، واختار هذا الإمام وحمل * (في) * على التعليل أي اختلفوا على نبيهم لأجل ذلك اليوم، وقال الخفاجي: معنى * (اختلفوا فيه) * خالفوا جميعهم نبيهم فهو اختلاف بينهم وبين نبيهم، وظاهر الإخبار يقتضي أنه عين لهم أولا يوم الجمعة، وقال القاضي عياض: الظاهر أنه فرض عليهم تعظيم يوم الجمعة بغير تعيين ووكل إلى اجتهادهم فاختلفت أحبارهم في تعيينه ولم يهدهم الله تعالى له وفرض على هذه الأمة مبينا ففازوا بفضيلته ولو كان منصوصا عليه لم يصح أن يقال * (اختلفوا) * بل يقال خالفوا، وقال الإمام النووي: يمكن أن يكونوا أمروا صريحا ونص عليه فاختلفوا فيه هل يلزم تعيينه أم لهم إبداله فأبدلوه وغلطوا في إبداله، وقال الواحدي: قد أشكل أمر هذا الاختلاف على كثير من المفسرين حتى قال بعضهم: معنى اختلافهم في السبت أن بعضهم قال هو أعظم الأيام حرمة لأن الله تعالى فرغ من خلق الأشياء فيه، وقال الآخرون: أعظمها حرمة الأحد لأن الله سبحانه ابتدأ الخلق فيه؛ وهذا غلط لأن اليهود لم يكونوا فرقتين في السبت وإنما اختار الأحد النصارى بعدهم بزمان وقيل: المراد اختلفوا فيما بينهم في شأنه ففضلته فرقة منهم على الجمعة ولم ترض بها وفضلت أخرى الجمعة عليه ومالت إليها بناء على ما روي من أن موسى عليه السلام جاءهم بالجمعة فأبى أكثرهم إلا السبت ورضي شرذمة منهم بها فأذن الله تعالى لهم في السبت وابتلاهم بتحريم الصيد فيه فأطاع أمر الله تعالى الراضون بالجمعة فكانوا لا يصيدون وأعقابهم لم يصبروا عن الصيد فمسخهم الله تعالى قردة دون أولئك المطيعين، والتفسير الأول تفسير رئيس المفسرين وترجمان القرآن وحبر الأمة المروي من طرق صحيحة عن أفضل النبيين وأعلم الخلق بمراد رب العالمين صلى الله عليه وسلم * (وإن ربك ليحكم بينهم) * أي المختلفين * (يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) * أي يقضي بينهم بالمجازاة على اختلافهم على نبيهم ومخالفتهم له في ذلك أو يفصل ما بين الفريقين منهم من الخصومة والاختلاف فيجازى كل فريق بما يستحقه من الثواب والعقاب، وفيه على هذا إيماء إلى أن ما وقع في الدنيا من مسخ أحد الفريقين وإنجاء الآخر بالنسبة إلى ما سيقع في الآخرة شيء لا يعتد به، وعبر عن الفرض بالجعل موصولا بكلمة * (على) * للإيذان بتضمنه للتشديد والابتلاء المؤدي إلى العذاب، وعن اليهود بالاسم الموصول بالاختلاف إشارة إلى علة ذلك، وقيل: المعنى إنما جعل وبال ترك تعظيم السبت وهو المسخ كائنا أو واقعا على الذين اختلفوا فيه أي أحلوا الصيد فيه تارة وحرموه أخرى وكان حتما عليهم أن يتفقوا على تحريمه حسبما أمر الله تعالى به وروي ذلك عن قتادة، وفسر الحكم بينهم بالمجازاة باختلاف أفعالهم بالإحلال تارة والتحريم أخرى.
ووجه إيراد ذلك ههنا بأنه أريد منه إنذار المشركين وتهديدهم بما في مخالفة الأنبياء عليهم السلام من الوبال كما ذكرت القرية التي كفرت بأنعم الله تعالى تمثيلا لذلك. واعترض بأن توسيط ذلك لما ذكر بين حكاية أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه السلام وبين أمره صلى الله عليه وسلم بالدعوة إليها كالفصل بين الشجر ولحائه. وأجيب بأن فيه حثا على إجابة الدعوة التي تضمنها الكلام السابق وأمر بها في الكلام اللاحق فللمتوسط نسبة إلى الطرفين تخرجه من أن يكون الفصل به كالفصل بين الشجر ولحائه وهو كما ترى.
واعترض أيضا بأن كلمة * (بينهم) * تحكم بأن المراد بالحكم هو فصل ما بين الفريقين من الاختلاف دون المجازاة باختلاف أفعالهم بالإحلال تارة والتحريم أخرى. ويرد هذا أيضا على تفسيره بالقضاء بالمجازاة
253

على اختلافهم جميعهم على نبيهم ومخالفتهم له فيما جاءهم به، وقد فسر بذلك على التفسير المأثور عن ترجمان القرآن، ومنهم من فسره عليه بما فسر به على التفسير المروى عن قتادة فيرد عليه أيضا ما ذكر مع ما في ضمنه من القول باختلاف الاختلافين بمعنى، والظاهر اتحادهما. وأجاب بعضهم عن الاعتراض بمنع حكم كلمة * (بينهم) * بما تقدم فتأمل، وتفسير السبت باليوم المخصوص هو الظاهر الذي ذهب إليه الكثير، وجوز كونه مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها، قيل: ويجوز على هذا أن يكون في الآية استخدام.
* (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وج‍ادلهم بالتى هى أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) *
.
* (ادع) * أي من بعثت إليهم من الأمة قاطبة فحذف المفعول دلالة على التعميم، وجوز أن يكون المراد إفعل الدعوة تنزيلا له منزلة اللازم للقصد إلى إيجاد نفس
الفعل إشعارا بأن عموم الدعوة غني عن البيان وإنما المقصود الأمر بإيجادها على وجه مخصوص. وتعقب بأن ذلك لا يناسب المقام كما لا يناسب قوله تعالى: * (وجادلهم) *.
* (إلى سبيل ربك) * إلى الإسلام الذي عبر عنه تارة بالصراط المستقيم وأخرى بملة إبراهيم عليه السلام، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى.
* (بالحكمة) * بالمقالة المحكمة وهي الحجة القطعية المزيحة للشبه؛ وقريب من هذا ما في " البحر " أنها الكلام الصواب الواقع من النفس أجمع موقع * (والموعظة الحسنة) * وهي الخطابات المنقعة والعبر النافعة التي لا يخفى عليهم إنك تناصحهم بها * (وجادلهم) * ناظر معانديهم * (بالتي هي أحسن) * بالطريقة التي هي أحسن طرق المناظرة والمجادلة من الرفق واللين واختيار الوجه الأيسر واستعمال المقدمات المشهورة تسكينا لشغبهم وإطفاء للهبهم كما فعله الخليل عليه السلام. واستدل - كما قيل - أرباب المعقول بالآية على أن المعتبر في الدعوة من بين الصناعات الخمس إنما هو البرهان والخطابة والجدل حيث اقتصر في الآية على ما يضير إليها، وإنما تفاوتت طرق دعوته عليه الصلاة والسلام لتفاوت مراتب الناس، فمنهم خواص وهم أصحاب نفوس مشرقة قوية الاستعداد لإدراك المعاني قوية الانجذاب إلى المبادىء العالية مائلة إلى تحصيل اليقين على اختلاف مراتبه وهؤلاء يدعون بالحكمة بالمعنى السابق.
ومنهم عوام أصحاب نفوس كدرة ضعيفة الاستعداد شديدة الألف بالمحسوسات قوية التعلق بالرسوم والعادات قاصرة عن درجة البرهان لكن لا عناد عندهم وهؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة بالمعنى المتقدم. ومنهم من يعاند ويجادل بالباطل ليدحض به الحق لما غلب عليه من تقليد الأسلاف ورسخ فيه من العقائد الباطلة فصار بحيث لا تنفعه المواعظ والعبر بل لا بد من إلقامه الحجر بأحسن طرق الجدال لتلين عريكته وتزول شكيمته وهؤلاء الذين أمر صلى الله عليه وسلم بجدالهم بالتي هي أحسن، وإنما لم تعتبر المغالطة والشعر لأن فائدة المغالطة تغليط الخصم والاحتراز عن تغليطه إياه ومرتبة الرسول عليه الصلاة والسلام تنافي أن يغلط وتتعالى أن يغلط، والشعر وإن كان مفيدا للخواص والعوام فإن الناس في باب الإقدام والإحجام أطوع للتخييل منهم للتصديق إلا أن مداره على الكذب ومن ثمة قيل: الشعر أكذبه أعذبه فلا يليق بالصادق المصدوق كما يشهد به قوله تعالى: * (وما علمناه الشعر وما ينبغي له) * (يس: 69) لا يقال: الشعر الذي هو أحد الصناعات قياس مؤلف من مقدمات مخيلة والشعر الذي مداره على الكذب هو الكلام الموزون المقفى وهو الذي نفى تعليمه عنه صلى الله عليه وسلم لما قيل: كون الشعر مذموما ليس لكونه كلاما موزونا مقفى بل لاشتماله على تخيلات كاذبة فهما من واد واحد ذكر ذلك بعض المتأخرين، وقد ذهب
254

غير واحد إلى أن فيها إشارة إلى تفاوت مراتب المدعوين إلا أنه خالف في بعض ما تقدم، ففي " الكشف " بعد أن ذكر أن كلام الزمخشري يدل على أنه عليه الصلاة والسلام ينبغي أن يجمع في الدعوة بين الثلاث فيكون الكلام في نفسه حسن التأليف منتجا لما علق به من الغرض ومع ذلك مقصودا به المناصحة لمن خوطب به ويكون المتكلم حسن الخلق في ذلك معلما ناصحا شفيقا رفيقا ما نصه: والأحسن على ما ذهب إليه المحققون أنه تعميم للدعوة حسب مراتب المدعوين في الفهم والاستعداد، فمن دعي بلسان الحكمة ليفاد اليقين العياني أو البرهاني هم السابقون، ومن دعي بالموعظة الحسنة وهي الإقناعات الحكمية لا الخطابات المشهورة طائفة دون هؤلاء، ومن دعي بالمجادلة الحسنة هم عموم أهل الإسلام والكفار أيضا اه‍، ولا أرى ما يوجب نفى أن يكون المراد بالموعظة الحسنة الخطابات المشهورة، وكونها مركبة من مقدمات مظنونة أو مقبولة من شخص معتقد فيه ولا يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم استعمال الظنيات أو أخذ كلام الغير والدعوة به هو الموجب لذلك لا يخفى ما فيه فتدبر.
وذكر الإحسائي رئيس الفرقة الظاهرة في زماننا المسماة بالكشفية في كتابه " شرح الفوائد " ما محصله إن المدعوين من المكلفين ثلاثة أنواع، وكذا الأدلة التي أشارت إليها الآية فإن كانوا من الحكماء العقلاء والعلماء النبلاء فدعوتهم إلى الحق الذي يريده الله تعالى منهم من معرفته بدليل الحكمة وهو الدليل الذوقي العياني الذي يلزم منه العلم الضروري بالمستدل عليه لأنه نوع من المعاينة كقولنا في رد من زعم أن حقائق الأشياء كانت كامنة في ذاته تعالى بنحو أشرف ثم أفاضها إنه لا بد وأن يكون لذاته سبحانه قبل الإفاضة حال مغاير لما بعدها سواء كان التغير في نفس الذات أو فيما هو في الذات فإن حصل التغير في الذات لزم حدوثها وإن حصل فيما هو في الذات - أعني حقائق الأشياء الكامنة - لزم أن تكون الذات محلا للمتغير المختلف ويلزم من ذلك حدوثها.
وكقولنا في إثبات أنه سبحانه أظهر من كل شيء: إن كل أثر يشابه صفة مؤثرة وأنه قائم بفعله قيام صدور كالأشعة بالنيرات والكلام بالمتكلم، فالأشياء هي ظهور الواجب بها لها لأنه سبحانه لا يظهر بذاته وإلا لاختلفت حالتاه، ولا يكون شيء أشد ظهورا من الظاهر في ظهوره لأن الظاهر أظهر من ظهوره وإن كان لا يمكن التوصل إلى معرفته إلا بظهوره مثل القيام فإن القائم أظهر في القيام من القيام والقاعد أظهر في القعود من القعود وإن كان لا يمكن التوصل إلى معرفتهما إلا بالقيام والقعود فتقول: يا قائم ويا قاعد، والمعنى لك إنما هو القائم والقاعد لا القيام والقعود لأنه بظهوره لك بذلك غيب عليك مشاهدته وإن التفت إليه احتجب عنك القائم والقاعد، وهو آلة لمعرفة المعارف الحقية كالتوحيد وما يلحق به، ومستنده الفؤاد وهو نور الله تعالى المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى " والنقل من الكتاب والسنة، وشرطه الذي يتوقف عليه فتح باب النور ثلاثة أشياء. أحدها أن تنصف ربك وتقبل منه سبحانه قوله ولا تتبع شهوة نفسك. وثانيها أن تقف عند بيانك وتبينك وتبيينك على قوله تعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا) * (الإسراء: 36) وثالثها أن تنظر في تلك الأحوال أعني البيان وما بعده بعينه تعالى وهي العين التي هي وصف نفسه لك أعني وجودك من حيث كونه أثرا ونورا لا بعينك التي هي أنت من حيث - أنك أنت - أنت فإنك لا تعرف بهذه العين إلا الحادثات المحتاجة الفانية.
وإن كانوا من العلماء ذوي الألباب وأرباب القلوب فدعوتهم إلى الحق الذي يريده سبحانه منهم من اليقين الحقيقي في اعتقاداتهم بدليل الموعظة الحسنة وهي الدليل العقلي اليقيني الذي يلزم منه اليقين في الإيمان به
255

سبحانه وبغيره مما أمرهم بالإيمان به وهو آلة لعلم الطريقة وتهذيب الأخلاق وعلم اليقين والتقوى، وهذه العلوم وإن كانت قد تستفاد من غيره ولكن بدون ملاحظته لا يوقف على اليقين والاطمئنان الذي هو أصل علم الأخلاق، ومستنده القلب والنقل، وشرط صحته والانتفاع به اتصاف عقلك به بأن تلزم ما ألزمك به ولا تظلمه وهو كقوله تعالى: * (قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد) * (فصلت: 52) وقوله تعالى: * (قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) * (الأحقاف: 10) إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة، وإن كانوا من العلماء أصحاب الرسوم كالمتكلمين ونظائرهم فدعوتهم إلى الحق الذي يريده سبحانه منهم من اليقين الرسمي بمقتضى طبيعتهم القاصرة بدليل المجادلة بالتي هي أحسن وهي الدليل العلمي القطعي الذي يلزم منه العلم فيما ذكر وهو آلة لعلم الشريعة، ومستنده العلم والنقل، وشرطه إنصاف الخصم بأن يقيمه على النحو المقرر في علم الميزان، وقد ذكره العلماء في كتبهم الأصولية والفروعية بل لا يكاد يسمع منهم غير هذا الدليل وهو محل المناقشات والمعارضات، وأما الدليلان الأولان فليس فيهما مناقشة ولا معارضة فإذا اعترض عليهما معترض فقد اعترض فيهما بغيرهما اه‍ المراد منه وهو كما ترى، وإنما ذكرته لتعلم حال المرؤوس من حال الرئيس، ولقد رأيت مشايخ هذه الطائفة يتكلمون بما هو كشوك القنافذ ويحسبونه كريش الطواويس، وجوز أن يراد بالحكمة والموعظة الحسنة القرآن المجيد فإنه جامع لكلا الأمرين فكأنه قيل: ادع بالقرآن الذي هو حكمة وموعظة حسنة وقيل غير ذلك، ومنه أن الحكمة النبوة وليس من الحكمة، وفسر بعضهم المجادلة الحسنة بالإعراض عن أذاهم وادعى أن الآية منسوخة بآية السيف، والجمهور على أنها محكمة وأن معنى الآية ما تقدم، ولكون الحكمة أعلى الدلائل وأشرافها والمدعوين به الكاملين الطالبين للمعارف الإلهية والعلوم الحقيقية وقليل ما هم جىء بها أولا، ولكون الجدل أدنى الدلائل إذ ليس المقصود منه سوى إلزام الخصم وإفحامه ولا يستعمل إلا مع الناقصين الذين تغلب عليهم المشاغبة والمخاصمة وليسوا بصدد تحصيل هاتيك العلوم ذكر أخيرا، ولكون الموعظة الحسنة دون الحجة وفوق الجدل والمدعوين بها المتوسطين الذين لم يبلغوا في الكمال حد الحكماء المحققين ولم يكونوا في النقصان بمرتبة أولئك المشاغبين وسطت بين الأمرين، وكأنه إنما لم يقل: ادع إلى سبيل بالحكمة والموعظة والجدال الأحسن لما أن الجدال ليس من باب الدعوة بل المقصود منه غرض آخر مغاير لها وهو الإلزام والإفحام كما قاله الإمام فليفهم.
* (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله) * الذي أمرك بدعوة الخلق إليه وأعرض عن قبوله.
* (وهو أعلم بالمهتدين) * إليه وهو تعليل لما ذكر أولا من الأمرين كأنه قيل: اسلك في الدعوة والمناظرة الطريقة المذكورة وما عليك غير ذلك وأما حصول الهداية والضلال والمجازاة عليهما فإلى الله سبحانه لا إلى غيره إذ هو أعلم بمن يبقى على الضلال وبمن يهتدي إليه فيجازي كلا منهما ما يستحقه كذا قيل. واعترض بأن دلالة الآية على المجازاة مسلمة وأما أن حصول الهداية والضلالة ليس لغيره تعالى فالآية لا تدل عليه أصلا. وأجيب بأنه إذا انحصر علم الهداية والضلالة فيه تعالى علم أنه لا يكون لغيره سبحانه علمهما فكيف يكون له حصولهما فالقول بعدم دلالة الآية على ذلك غير سديد، وقيل: المعنى اسلك في الدعوة والمناظرة الطريقة المذكورة فإنه تعالى هو أعلم بحال من لا يرعوي عن الضلال لسوء اختياره وبحال من يصير أمره إلى الاهتداء لما فيه من الخير فما شرعه لك في الدعوة هو الذي تقتضيه الحكمة فإنه كاف في هداية المهتدين وإزالة
256

عذر الضالين، وقيل: المعنى إنما عليك البلاغ فلا تلح عليهم أن أبوا بعد الإبلاغ مرة أو مرتين مثلا فإن ربك هو أعلم بهم فمن كان فيه خير كفته النصيحة اليسيرة ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل، وتقديم الضالين لأن الكلام فيهم، وإيراد الضلال بصيغة الفعل الدال على الحدوث لما أنه تغيير لفطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها وإعراض عن الدعوة وذلك أمر عارض بخلاف الاهتداء الذي هو عبارة عن الثبات على الفطرة والجريان على موجب الدعوة ولذلك جىء به على صيغة الاسم المنبىء عن الثبات، وجملة * (هو أعلم بالمهتدين) * قيل: عطف على جملة * (إن ربك) * الخ أو على خبر إن وتكرير * (هو أعلم) * للتأكيد والإشعار بتباين حال المعلومين ومآلهما من العقاب والثواب وهو في الجملة الأولى ضمير فصل للتخصيص كما هو ظاهر كلام البعض أو للتقوية كما قيل، ولا يخفى ما في التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من اللطافة.
* (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للص‍ابرين) *
.
* (وإن ع‍اقبتم) * أي إن أردتم المعاقبة * (فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) * أي مثل ما فعل بكم وقد عبر عنه بالعقاب على طريقة اطلاق اسم المسبب على السبب نحو كما تدين تدان على نهج المشاكلة، وقال الخفاجي: إن العقاب في العرف مطلق العذاب ولو ابتداء وفي أصل اللغة المجازاة على عذاب سابق فإن اعتبرالثاني فهو مشاكلة وإن اعتبر الأول فلا مشاكلة، وعلى الاعتبارين صيغة المفاعلة ليست للمشاركة، والآية نزلت في شأن التمثيل بحمزة رضي الله تعالى عنه يوم أحد، فقد صح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة يوم استشهد فنظر إلى منظر لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه ونظر إليه قد مثل به فقال: رحمة الله تعالى عليك فإنك كنت ما علمت وصولا للرحمة فعولا للخيرات ولولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله تعالى من أرواح شتى أما والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك فنزل جبريل عليه السلام والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بخواتيم النحل * (وإن عاقبتم) * إلى آخرها فكفر عليه الصلاة والسلام عن يمينه وأمسك عن الذين أراد وصبر، فهي على هذا مدينة. وذهب النحاس إلى أنها مكية وليست في شأن التمثيل بحمزة رضي الله تعالى عنه واختاره بعضهم لما يلزم على ذلك من عدم
الارتباط المنزع عنه كلام رب العزة جل شأنه إذ لا مناسبة لتلك القضية لما قبل، وأما على القول بأنها مكية فوجه الارتباط أنه لما سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بالدعوة وبين طريقها أشار إليه عليه الصلاة والسلام وإلى من يتابعه بمراعاة العدل مع من يناصبهم والمماثلة فإن الدعوة لا تكاد تنفك عن ذلك كيف لا وهي موجبة لصرف الوجوه عن القبل المعبودة وادخال الاعناق في قلادة غير معهودة قاضية عليها بفساد ما يأتون وما يذرون وبطلان دين استمرت عليه آباؤهم الأولون وقد ضاقت بهم الحيل وعيت بهم العلل وسدت عليهم طرق المحاجة والمناظرة وأرتجت دونهم أبواب المباحثة والمحاورة. وترددت في صدورهم الأنفاس ووقعوا في حيص بيص يضربون أخماسا في أسداس لا يجدون إلا الأسنة مركبا ويختارون الموت الأحمر دون دين الإسلام مذهبا، وإلى الأول ذهب جمهور المفسرين ووقع ذلك في صحيح البخاري بل قال القرطبي: إنه مما أطبق عليه المفسرون، وما ذكر من لزوم عدم الارتباط عليه ليس بشيء، فإن التنبيه على تلك القضية للإشارة إلى أن الدعوة لا تخلو من مثل ذلك وأن المجادلة نتجر إلى المجالدة فإذا وقعت فاللائق ما ذكر فلا فرق في الارتباط بحسب المآل بين أن تكون
257

مكية وأن تكون مدنية، وخصوص السبب لا ينافي عموم المعنى، فالمعول عليه عدم العدول عما قاله الجمهور.
وقرأ ابن سيرين: * (وان عقبتم فعقبوا) * بتشديد القافين أي وان قفيتم بالانتصار فقفوا بمثل ما فعل بكم غير متجاوزين عنه. واستدل بالآية على أن للمقتص أن يفعل بالجاني مثل ما فعل الجنس والقدر وهذا مما لا خلاف فيه. وأما اتحاد الأدلة بأن يقتل بحجر من قتل به وبسيف من قتل به مثلا فذهب إليه بعض الأئمة، ومذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه لا قود إلا بالسيف، ووجه ذلك مع أن الآية ظاهرة في خلافه أن القتل بالحجر ونحوه مما لا يمكن مماثلة مقداره شدة وضعفا فاعتبرت مماثلته في القتل وازهاق الروح والأصل في ذلك السيف كما ذكره الرازي في أحكامه. وذكر بعضهم أنه اختلف في هذه الآية فأخذ الشافعي بظاهرها، وأجاب الحنفية بأن المماثلة في العدد بأن يقتل بالواحد واحد لأنه نزلت لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأمثلن بسبعين منهم لما قتل حمزة ومثل به كما سمعت فلا دليل فيها، وقال الواحدي: إنها منسوخة كغيرها من المثلة وفيه كلام في شروح الهداية.
وفي تقييد الأمر بقوله سبحانه * (وان عاقبتم) * حث على العفو تعريضا لما في " إن " الشرطية من الدلالة على عدم الجزم بوقوع ما في حيزها فكأنه قيل: لا تعاقبوا وان عاقبتم الخ كقول طبيب لمريض سأله عن أكل الفاكهة ان كنت تأكل الفاكهة فكل الكمثري، وقد صرح بذلك على الوجه الآكد فقيل: * (ولن صبرتم) * أي عن المعاقبة بالمثل * (لهو) * أي لصبركم على حد * (اعدلوا هو أقرب للتقوى) * (المائدة: 8) * (خير) * من الانتصار بالمعاقبة * (للصابرين) * أي لكم إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الجليل مدحا لهم وثناء عليهم بالصبر، وفيه أرشاد إلى أنه إن صبرتم فهو شيمتكم المعروفة فلا تتركوها إذا في هذه القضية أو وصفا لهم بصفة تحصل لهم إذا صبروا عن المعاقبة فهو على حد من قتل قتيلا وهو الظاهر من اللفظ، وفيه ترغيب في الصبر بالغ، ويجوز عود الضمير إلى مطلق الصبر المدلول عليه بالفعل، والمراد بالصابرين جنسهم فيدخل هؤلاء دخولا أوليا، ثم إنه تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم صريحا بما ندب إليه غيره تعريضا من الصبر لأنه عليه الصلاة والسلام أولى الناس بعزائم الأمور لزيادة علمه بشؤونه سبحانه ووثوقه به تعالى [بم فقال تعالى:
* (واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك فى ضيق مما يمكرون) *
.
* (واصبر) * على ما أصابك من جهتهم من فنون الآلام والأذية وعاينت من أعراضهم بعد الدعوة عن الحق بالكلية * (وما صبرك إلا بالله) * استثناء مفرغ من أعم الأشياء أي وما صبرك ملابسا ومصحوبا بشيء من الأشياء إلا بذكر الله تعالى والاستغراق بمراقبة شؤونه والتبتل إليه سبحانه بمجامع الهمة، وفيه من تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتهوين مشاق الصبر عليه وتشريفه ما لا مزيد عليه أو إلا بمشيئته المبنية على حكم بالغة مستتبعة لعواقب حميدة فالتسلية من حيث اشتماله على غايات جليلة قاله شيخ الإسلام.
وقال غير واحد: أي الا بتوفيقه ومعونته فالتسلية من حيث تيسير الصبر وتسهيله ولعل ذلك أظهر مما تقدم.
* (ولا تحزن عليهم) * أي على الكافرين وكفرهم بك وعدم متابعتهم لك نحو * (فلا تأس على القوم الكافرين) * (المائدة: 68) وقيل: على المؤمنين وما فعل بهم من المثلة يوم أحد * (ولاع تك في ضيق) * بفتح الضاد، وقرأ ابن كثير بكسرها وروي ذلك عن نافع، ولا يصح على ما قال أبو حيان عنه وهما لغتان كالقول والقيل أي
258

لا تكن في ضيق صدر وحرج وفيه استعارة لا تخفى ولا داعي إلى ارتكاب القلب، وقال أبو عبيدة: الضيق بالفتح مخفف ضيق كهين وهين أي لا تك في أمر ضيق. ورده أبو علي كما في البحر بأن الصفة غير خاصة بالموصوف فلا يجوز ادعاء الحذف ولذلك جاز مررت بكاتب وامتنع بآكل. وتعقب بالمنع لأنه إذا كانت الصفة عامة وقدر موصوف عام فلا مانع منه * (مما يمكرون) * أي من مكرهم بك فيما يستقبل فالأول كام في إرشاد العقل السليم نهي عن التألم بمطلوب من جهتهم فات والثاني نهي عن التألم بمحذور من جهتهم آت، وفيه أن انلهي عنهما مع أن انتفاءهما من لوازم الصبر المأمور به لزيادة التأكيد وإظهار كمال العناية بشأن التسلية وإلا فهل يخطر ببال من توجه إلى الله تعالى بشراشره متنزها عن كل ما سواه سبحانه من الشواغل شيء مطلوب فينهي عن الحزن بفواته، وقيل: يمكرون بمعنى مكروا، وإنما عبر بالمضارع استحضارا للصورة الماضية، والأول نهى عن الحزن على سوء حالهم في أنفسهم من اتصافهم بالكفر والاعراض عن الدعوة والثاني نهى عن الحزن على سوء حالهم معه صلى الله عليه وسلم من إيذائهم له بالتمثيل بأحبابه ونحوه والمراد من النهيين محض التسلية لا حقيقة النهي، وأنت تعلم أن الظاهر إبقاء المضارع على حقيقته فتأمل.
* (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) *
.
* (إن الله مع الذين اتقوا) * تعليل لما سبق من الأمر وانلهي، والمراد بالمعية الولاية الدائمة التي لا يحول حول صاحبها شيء من الجزع والحزن وضيق الصدر وما يشعر به دخول كلمة * (مع) * من متبوعية المتقين من حيث أنهم المباشرون للتقوى، والمراد بها هنا أعلى مراتبها أعني التنزع عن كل ما يشغل السر عن الحق سبحانه والتبتل إليه تعالى بالكلية لأن ذلك هو المورث لولايته عز وجل المقرونة ببشارة * (ألا أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * (يونس: 120) والمعنى أن الله تعالى ولي الذين تبتلوا إليه سبحانه بالكلية وتنزهوا عن كل ما يشغل سرهم عنه عز وجل فلم يخطر ببالهم شيء من مطلوب أو محذور فضلا عن الحزن عليه فواتا أو وقوعا وهو المعنى بما به الصبر المأمور به على أول الاحتمالات السالفة وبذلك يحصل التقريب ويتم التعليل وإلا فمجرد التوقي عن المعاصي لا يكون مدارا لشيء من العزائم المرخص في تركها فكيف بالصبر المشار إليه ورديفيه وإنما مداره المعنى المذكور فكأنه قيل: إن الله مع الذين صبروا، وإنما أوثر عليه ما في النظم الكريم مبالغة في الحث على الصبر بالتنبيه على أنه من خصائص أجل النعوت الجليلة وروادفه كما أن قوله تعالى: * (والذين هم محسنون) * للاشعار بأنه من باب الاحسان الذي فيه يتنافس المتنافسون على ما يؤذن بذلك قوله تعالى: * (واصبر فإن الله لا يضيع أجر المجسنين) * (هود: 115) وقد نبه سبحانه على أن كلا من الصبر والتقوى من قبيل الإحسان بقوله تعالى: * (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المجسنين) * (يوسف: 90) وحقيقة الإحسان الإتسان بالأعمال على الوجه اللائق، وقد فسره صلى الله عليه وسلم بأن تعبد الله تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وتكرير الموصول للإيذان بكفاية كل من الصلتين في ولايته سبحانه من غير أن تكون احداهما تتمة للأخرى، وإيراد الأول فعلية للدلالة على الحدوث كما أن إيراد الثانية اسمية لافادة كون مضمونها شيمة راسخة لهم، وتقديم التقوى على الإحسان لما أن التخلية مقدمة على التحلية، والمراد بالموصولين اما جنس المتقين والمحسنين ويدخل عليه الصلاة والسلام في زمرتهم دخولا أوليا وإما هو صلى الله عليه وسلم وأشياعه رضي الله تعالى عنهم وعبر بذلك عنهم مدحا لهم وثناء عليهم بالنعتين الجمليلين، وفيه رمز إلى أن صنيعه عليه الصلاة والسلام مستتبع لاقتداء الأمة به كقول من قال لابن عباس رضي الله تعالى عنهما عند التعزية:
259

اصبر نكن بك صابرين وإنما * صبر الرعية عند صبر الرأس
قال كل ذلك في إرشاد العقل السليم، وإلى كون الجملة في موضع التعليل لما سبق ذهب العلامة الطيبي حيث قال: إنه تعالى لما أمر حبيبه بالصبر على أذى المخالفين ونهاه عن الحزن على عنادهم وآبائهم الحق وعما يلحقه من مكرهم وخداعهم علل ذلك بقوله سبحانه: * (إن الله) * الخ أي لا تبال بهم وبمكرهم لأن الله تعالى وليك ومحبك وناصرك ومبغضهم وخاذلهم، وعمم الحكم أرشادا للاقتداء به عليه الصلاة والسلام، وفي تعريض بالمخالفين وبخذلانهم كما صرح به في قوله تعالى: * (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم) * (محمد: 11) وذكر أن إيراد الجلمة الثانية اسمية وبناء * (محسنون) * على * (هم) * على سبيل التقوى مؤذن باستدامة الإحسان واستحكامه وهو مستلزم لاستمرار التقوى لأن الإحسان إنما يتم إذا لم يعد إلى ما كان عليه من الإساءة، وإليه الإشارة بما ورد " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " وما ذكر من حمل التقوى على أعلى مراتبها غير متعين، وما ذكره في بيانه لا يخلو عن نظركما لا يخفى على المتأمل، وقد أخرج ابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. وغيرهم عن الحسن أنه قال في الآية: اتقوا فيما حرم الله تعالى عليهم وأحسنوا فيما افترض عليهم، ويوهم كلام بعضهم أن اجلملة في موضع التعليل للأمر بالمعاقبة بالمثل حيث قال: إن المعنى إن الله بالعون والحرمة والفضل مع الذين خافوا عقاب الله تعالى وأشفقوا منه فشفقوا على خلقه بعد الإسراف في المعاقبة، وفسر الاحسان بترك الاساءة كما قيل: ترك الإساءة احسان وإجمال. ولا يخفى ما فيه من البعد، وقد اشتملت هذه الآيات على تعليم حسن الأدب في الدعوة وترك التعدي والأمر بالصبر على المكروه مع البشارة للمتقين المحسنين، وقد أخرج سعيد بن منصور. وابن جرير. وغيرهما عن هرم بن حيان أنه قيل له حين الاحتضار: أوصى فقال: إنما الوصية من المال ولا مال لي وأوصيكم بخواتيم سورة النحل هذا.
ومن باب الإشارة في الآيات: * (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء) * (النحل: 89) أي مما كان وما يكون فيفرق به بين المحق والمبطل والصادق والكاذب والمتبع والمبتدع، وقيل: كل شيء هو النبي صلى الله عليه وسلم كما قيل إنه عليه الصلاة والسلام الإمام في قوله سبحانه: * (وكل شيء أحصيناه في امام مبين) * (يس: 12) * (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) * (النحل: 90) قال السيادي: العدل رؤية المنة منه تعالى قديما وحديثا، والإحسان الاستقامة بشرط الوفاء إلى الأبد، وقيل: العدل أن لا يرى العبد فاترا عن طاعة مولاه مع عدم الالتفات إلى العوض، وإيتاء ذي القربى الإحسان إلى ذوي القرابة في المعرفة والمحبة والدين فيخدمهم بالصدق والشفقة ويؤدي إليهم حقهم، والفحشاء الاستهانة بالشريعة، والمنكر الإصرار على الذنب كيفما كان، والبغي ظلم العباد، وقيل: الفحشاء إضافة الأشياء إلى غيره تعالى ملكا وإيجادا * (وأوفوا بعهد الله) * المأخوذ عليكم في عالم الأرواح بالبقاء على حكمه وهو الاعراض عن الغير والتجرد عن العلائق والعوائق في التوجه إليه تعالى إذا عاهدتم أي تذكرتموه بإشراق نور النبي صلى الله عليه وسلم عليكم وتذكيره إياكم؛ قال النصر آبادي: العهود مختلفة فعهد العوام لزوم الظواهر وعهد الخواص حفظ السرائر وعهد خواص الخواص التخلي من الكل لمن له الكل * (ما عندكم) * من الصفات ينفد لمكان الحدوث * (وما عند الله باق) (النحل: 96) لمكان القدم فالعبد الحقيقي من كان فانيا من أوصافه باقيا بما عند الله تعالى كذا في أسرار القرآن * (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى) * أي
260

عملا يوصله إلى كماله الذي يقتضيه استعداده * (وهو مؤمن) * معتقد للحق اعتقادا جازا * (فلنحيينه حياة طيبة) * أي حياة حقيقية لا موت بعدها بالتجرد عن المواد
البدنية والانخراط في سلك الأنوار القدسية والتلذذ بكمالات الصفات ومشاهدات التجليات الافعالية والصفاتية * (ولنجزينهم أجرهم) * من جنات الصفات والأفعال * (بأحسن ما كانوا يعلمون) * (النحل: 97) إذ عملهم يناسب صفاتهم التي هي مبادى أفعالهم وأجرهم يناسب صفات الله تعالى التي هي مصادر أفعاله فانظركم بينهما من التفاوت في الحسن، ويقال: الحياة الطيبة ما تكون مع المحبوب ومن هنا قيل:
كل عيش ينقضي ما لم يكن * مع مليح ما لذاك العيش ملح
* (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغور رحيم) * (النحل: 110) قال سهل هو اشارة إلى الذين رجعوا القهقري في طريق سلوكهم ثم عادوا أي إن ربك للذين هجروا قرناء السوء من بعد أن ظهر لهم منهم الفتنة في صحبتهم ثم جاهدوا أنفسهم على ملازمة أهل الخير ثم صبروا معهم على ذلك ولم يرجعوا إلى ما كانوا عليه في الفتنة لساتر عليهم ما صدر منهم منعهم منعهم عليهم بصنوف الانعام، وقيل: إن ربك للذين هاجروا أي تباعدوا عن موطن النفس بترك المألوفات والمشتهيات من بعد ما فتنوا بها بحكم النشأة البشرية ثم جاهدوا في الله تعالى بالرياضات وسلوك طريقه سبحانه بالترقي في المقامات والتجريد عن التعلقات وصبروا عما تحب النفس وعلى ما تكرهه بالثبات في السير إن ربك لغفور يستر غواشي الصفات النفسانية رحيم بإفاضة الكمال والصفات القدسية * (ضرب الله مثلا) * للنفس المستعدة القابلة لفيض القلب الثابتة في طريق اكتساب الفضائل الآمنة من خوف فواتها المطمئنة باعتقادها * (يأتيها رزقها رغدا) * من العلوم والفضائل والأنوار * (من كل مكان) * من جميع جهات الطرق البدنية كالحواس والجوارح والآلات ومن جهة القلب * (فكفرت بانعم الله) * ظهرت بصفاتها بطرا وإعجابا بزينتها ونظرا إلى ذاتها ببهجتها وبهائها فاحتجبت بصفاتها الظلمانية عن تلك الأنوار ومالت إلى الأمور السلفية وانقطع إمداد القلب عنها وانقلبت المعاني الواردة عليها من طرق الحس هيآت غاسقة من صور المحسوسات التي أنجذبت إليها * (فأذاقها الله لباس الجوع) * بانقطاع مدد المعاني والفضائل والأنوار من القلب والخوف من زوال مقتنياتها من الشهوات والمألوفات * (بما كانوا يصنعون) * (النحل: 112) من كفران أنعم اا تعالى * (ولقد جاءهم رسول منهم) * أي من جنسهم وهي القوة الفكرية * (فكذبوه) * بما ألقى إليهم من المعاني المعقولة والآراء الصادقة * (فأخذهم العذاب) * أي عذاب الحرمان والاحتجاب * (وهم ظالمون) * (النحل: 113) في حالة ظلمهم وترفعهم عن طريق الفضيلة ونقصهم لحقوق صاحبهم * (أن إبراهيم كان أمة) * لاجتماع ما تفرق في غيره من الصفات الكاملة فيه وكذا كل نبي ولذا جاء في الخبر على ما قيل لو وزنت بأمتي لرجحت بهم * (قانتا لله) * مطيعا له سبحانه على أكمل وجه * (حنيفا) * (النحل: 120) مائلا عن كل ما سواه تعالى * (وما كان من المشركين) * بنسبة شيء إلى غيره سبحانه * (شاكرا) * لا نعمه مستعملا لها على ما ينبغي * (اجتباه) * اختياره بلا واسطة عمل لكونه من الذين سبقت لهم الحسنى فتقدم كشوفهم على سلوكهم * (وهداه) * بعد الكشف * (إلى صراط مستقيم) * (النحل: 121) وهو مقام الإرشاد والدعوة ينعون به مقام الفرق بعد الجمع * (وآتيناه في الدنيا حسنة) * وهي الذكر الجميل والملك العظيم والنبوة * (وإنه في الآخرة) * قيل أي في عالم الأرواح * (لمن الصالحين) * (النحل: 122) المتمكنين في مقام الاستقامة وقيل أي يوم القيامة لمن الصالحين للجلوس على بساط القرب والمشاهدة بلا حجاب وهذا لدفع توهم أن ما أوتيه في الدنيا ينقص مقامه في العقبى كما قيل إن مقام الولي المشهور دون الولي الذي في زوايا الخمول، وإليه الإشارة بقولهم: الشهرة آفة، وقد نص
261

على ذلك الشعراني في كتبه * (إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه) * (النحل: 125) وهم اليهود واختاروه لأنه اليوم الذي انتهت به أيام الخلق فكان بزعمهم أنسب لترك الأعمال الدنيوية وهو على ما قال الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات يوم الأبد الذي لا لا انقضاء له فليله في جهنم ونهاره في الجنة واختيار النصارى ليوم الأحد لأنه أول يوم اعتني الله تعالى فيه بخلق الخلق فكان بزعمهم أولى بالتفرع لعبادة الله تعالى وشكره سبحانه، وقد هدى الله تعالى لما هو أعظم من ذلك وهو يوم الجمعة الذي أكمل الله تعالى به الخلق وظهرت فيه حكمة الاقتدار بخلق الإنسان الذي خلق على صورة الرحمن فكان أولى بأن يتفرغ فيه الإنسان للعبادة والشكر من ذنينك اليومين وسبحان من خلق فهدى * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) * (النحل: 126) لما في ذلك من قهر النفس الموجب لترقيها إلى أعلى المقامات * (واصبر وما صبرك إلا بالله) * قيل: الصبر أقسام. صبر لله تعالى. وصبر في الله تعالى. وصبر مع الله تعالى. وصبر عن الله تعالى. وصبر بالله تعالى، فالصبر لله تعالى هو من لوازم الإيمان وأول درجات الإسلام وهو حبس النفس عن الجزع عند فوات مرغوب أو وقوع مكروه وهو من فضائل الأخلاق الموهوبة من فضل الله تعالى لأهل دينه وطاعته المقتضية للثواب الجزيل، والصبر في اا تعالى هو الثبات في سلوك طريق الحق وتوطين النفس على المجاهدة بالاختيار وترك المألوفات واللذات وتحمل البليات وقوة العزيمة في التوجه إلى منبع الكمالات وهو من مقامات السالكين يهبه الله تعالى لمن يشاء من أهل الطريقة، والصبر مع الله تعالى هو لأهل الحضور والكشف عند التجرد عن ملابس الأفعال والصفات والتعرض لتجليات الجمال والجلال وتوارد واردات الأنس والهيبة فهو بحضور القلب لمن كان له قلب والاحتراس عن الغفلة والغيبة عند التلوينات بظهور النفس، وهو أشق على النفس من الضرب على الهام وإن كان لذيذا جدا، والصبر عن الله تعالى هو لأهل العيان والمشاهدة من العشاق المشتاقين المتقلبين في أطوار التجلي والاستتار المنخلعين عن الناسوت المتنورين بنور اللاهوت ما بقي لهم قلب ولا وصف كلما لاح لهم نور من سبحات أنوار الجمال احترقوا وتفانوا وكلما ضرب لهم حجاب ورد وجودهم تشويقا وتعظيما ذاقوا من ألم الشوق وحرقة الفرقة ما عيل به صبرهم وتحقق موتهم، والصبر بالله تعالى هو لأهل التمكين في مقام الاستقامة الذين أفناهم الله تعالى بالكلية وما ترك عليهم شيئا من بقية الأنية والاثنينية ثم وهب لهم وجودا من ذاته حتى قاموا به وفعلوا بصفاته وهو من أخلاق الله تعالى ليس لأحد فيه نصيب، ولهذا بعد أن أمر سبحانه به نبيه صلى الله عليه وسلم بين له عليه الصلاة والسلام إنك لا تباشره إلا بي ولا تطيقه إلا بقوتي ثم قال سبحانه له صلى الله عليه وسلم: * (ولا تحزن عليهم) * فالكل مني * (ولا تك في ضيق مما يمكرون) * (النحل: 127) لانشراح صدرك بي * (إن الله مع الذين اتقوا) * بقاياهم وفنوا فيه سبحانه * (والذين هم محسنون) * (النحل: 128) بشهود الوحدة في الكثرة
وهؤلاء الذين لا يحجبهم الفرق عن الجمع ولا الجمع عن الفرق ويسعهم مراعاة الحق والخلق، وذكر الطيبي أن التقوى في الآية بمنزلة التوبة للعارف والإحسان بمنزلة السير والسلوك في الأحوال والمقامات إلى أن ينتهي إلى محو الرسم والوصول إلى مخدع الأنس، هذا والله سبحانه الهادي إلى سواء السبيل فنسأله جل شأنه أن يهدينا إليه ويوفقنا للعلم النافع لديه ويفتح لنا خزائن الأسرار ويحفظنا من شر الأشرار بحرمة القرآن العظيم والرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم.
262