الكتاب: هداية المسترشدين
المؤلف: الشيخ محمد تقي الرازي
الجزء: ٣
الوفاة: ١٢٤٨
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك:
ملاحظات:

هداية المسترشدين ج 3
مؤلف
آية العظمى الحاج الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الأصفهاني (قدس سره)
المتوفى عام 1248 المدفون في بقعته الخاصة في مقبرة تخت فولاد بمدينة
إصبهان، فألف هذا السفر القيم والأثر الخالد المسمى ب‍ " هداية المسترشدين " ألفه
في ثلاث مجلدات
1

معالم الدين:
البحث الثاني في النواهي
أصل
اختلف الناس في مدلول صيغة النهي حقيقة، على نحو اختلافهم
في الأمر. والحق أنها حقيقة في التحريم، مجاز في غيره، لأنه المتبادر
منها في العرف العام عند الإطلاق، ولهذا يذم العبد على فعل ما نهاه
المولى عنه بقوله: لا تفعله، والأصل عدم النقل، ولقوله تعالى: * (وما
نهيكم عنه فانتهوا) *، أوجب سبحانه الانتهاء عما نهى الرسول (صلى الله عليه وآله)،
عنه، لما ثبت من أن الأمر حقيقة في الوجوب، وما وجب الانتهاء عنه
حرم فعله.
وما يقال: من أن هذا مختص بمناهي الرسول (صلى الله عليه وآله)، وموضع النزاع
هو الأعم، فيمكن الجواب عنه: بأن تحريم ما نهى عنه الرسول (صلى الله عليه وآله)،
يدل بالفحوى على تحريم ما نهى الله تعالى عنه. مع ما في احتمال
الفصل من البعد، هذا. واستعمال النهي في الكراهة شايع في أخبارنا
المروية عن الأئمة (عليهم السلام)، على نحو ما قلناه في الأمر.
3

وبه نستعين
قوله: * (في النواهي) *.
لفظ النهي قد يكون مصدرا لقولك: " نهى " كما أن لفظ الأمر يكون مصدرا
ل‍ " أمر " وحينئذ قد يراد مطلق طلب الترك على النحو الخاص كما تقول: " أنهاك
عن كذا " أي: أطلب منك تركه، وحينئذ يصدق النهي على طلب الترك بالإشارة
والكتابة أيضا، وقد يراد به خصوص طلب الترك بالقول المخصوص، وقد يراد
قول القائل " لا تفعل " على الوجه المخصوص، وقد يكون اسما يراد به القول
المخصوص الدال على طلب الترك.
والظاهر أنه حقيقة في الأمرين كما هو الحال في لفظ الأمر، وظاهر حكمهم
بجريان ما مر في الأمر دعوى على كون النهي حقيقة في الصيغة المذكورة حسب
ما مر من دعوى الاتفاق عليه في الأمر. هذا.
والتعاريف المذكورة له في كلام الأصوليين مختلفة على حسب اختلاف
الوجوه المذكورة فيوافق كل منها بعض الوجوه المذكورة، ففي المعارج أنه قول
القائل لغيره: " لا تفعل " أو ما جرى مجراه على سبيل الاستعلاء مع كراهة المنهي
عنه، وقريب منه ما في العدة وفي النهاية: أنه طلب الترك بالقول على جهة
الاستعلاء، وفي منية اللبيب: أن النهي القول الدال على طلب الترك على جهة
الاستعلاء، وفي غاية المأمول: أنه طلب كف عن فعل بالقول استعلاءا، إلى غير
ذلك من حدودهم المذكورة في الكتب الأصولية، وقد يطلق على الصيغة المعروفة
4

سواء استعمل في الطلب أو غيره، وهو من اصطلاح بعض أهل العربية ولا ربط له
بالمقام.
ثم إنه قد وقع الكلام في كونها حقيقة في خصوص الطلب الواقع على وجه
التحريم أو الصيغة المستعملة فيه، أو أنها موضوعة لمطلق طلب الترك أو الصيغة
المستعملة فيه، على نحو ما مر في الأمر.
والحق أنها تفيد مطلق طلب الترك سواء كان على وجه التحريم أو الكراهة مع
ظهوره في التحريم وانصراف الإطلاق إليه، حسب ما مر الكلام فيه في الأمر من
غير فرق بينهما في ذلك.
نعم يأتي لفظ الأمر اسما بمعنى الشئ والشأن - كما عرفت - سواء كان
مجازا فيه كما هو المعروف أو حقيقة أيضا كما هو المختار ولا يأتي له لفظ النهي
أصلا وفيه إشارة إلى ما اخترناه، إذ لو كان استعماله فيه من جهة العلاقة بينه وبين
الصيغة أو الطلب لجرى في النهي أيضا، والكلام في اعتبار العلو في معناه أو
الاستعلاء أو هما معا أو أحدهما وعدم اعتباره مطلقا نظير ما مر في الأمر،
والمختار منها ما اخترناه هناك من غير فرق بينهما في ذلك، وبذلك يحصل الفرق
بينه وبين الدعاء والالتماس نظير ما مر في الأمر، والدليل الدليل، فلا حاجة إلى
التطويل.
قوله: * (اختلف الناس... الخ) *.
قد استعملت صيغة النهي كالأمر في معاني عديدة: أنهاها في النهاية إلى سبعة:
التحريم والكراهة والتحقير نحو * (لا تمدن عينيك... الخ) * (1) وبيان العاقبة نحو
* (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون) * (2) والدعاء والالتماس نحو * (لا
تعتذروا اليوم) * (3) والإرشاد نحو * (لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) * (4)
ويجئ أيضا لمعان اخر منها: طلب الترك الجامع بين التحريم والكراهة ومنها:

(1) الحجر: 88.
(2) إبراهيم: 42.
(3) التحريم: 7.
(4) المائدة: 101.
5

رفع الحرج عن الترك فيفيد الإذن في الفعل، كالنهي الوارد عقيب الإيجاب ومنها
الالتماس ومنها: التهديد، كقول المولى لعبده لا تطعني فيما آمرك به ومنها: الإنذار،
كقولك لمن يريد أن يصنع شيئا يترتب عليه بعض المعايب: " لا تقع في هذه البلية
ولا تسع في هتك عرضك وسفك دمك " ومنها: التشفي كما تقول لمن حذرته عن
شئ وقد أبى عن تركه فتواردت عليه الأهوال " لا تتعرض لهذه الأهوال " ومنها:
السخرية والاستهزاء، كما تقول لمن يدعيك بألف وأنت تنكره " لا تأخذه مني إلا
بسكة واحدة " ومنها: التسلية، كقولك للمصاب " لا تحزن " ومنها: الامتنان، كما
تقول لمن أجرته في مقام إظهار النعمة " لا تخف في داري ولا تتعب ولا تستعن
بأحد ولا تخسر درهما ولا دينارا " إلى غير ذلك من المعاني المناسبة له،
وملخصها يرجع إلى الاستعمال في الطلب مطلقا أو في خصوص أحد قسميه أو
في صورة الطلب لإفادة أحد الأمور المذكورة، من الإذن أو الإرشاد أو التهديد أو
التحقير أو غيرها، على حسب ما يفهم منها بملاحظة المقام حسب ما مرت
الإشارة إليه، ولا خلاف في عدم كونها حقيقة في جميع تلك المعاني.
قال في الغنية بعد ذكر عدة من المعاني المذكورة: ليست حقيقة في الجميع
إجماعا، وإنما وقع الخلاف في عدة منها، نظير ما ذكرناه في الأمر.
وقد أطلق جماعة منهم المصنف أن الحال هنا في الخلاف كالحال في
اختلافهم في الأمر وهو كذلك إلا أنه لم ينقل جميع الأقوال المنقولة هناك في
المقام، بل ذكر بعض الأفاضل أنه لم يقل بوضع النهي للتهديد أحد. وكيف كان
فالأقوال المنقولة هنا أيضا عديدة.
أحدها: أنه حقيقة في التحريم مجاز في غيره، وهو المعروف وعزي إلى
الأكثر وقد اختاره الشيخ والمحقق والعلامة في التهذيب والمبادئ والسيد
العميدي وشيخنا البهائي وتلميذه الجواد والمصنف وغيرهم.
ثانيها: أنها حقيقة في الكراهة وعزاه في غاية المأمول وغيره إلى بعض.
ثالثها: أنها مشتركة لفظا بين التحريم وغيره وعزي القول به إلى ظاهر
6

الذريعة والغنية، وذكر أنه يظهر من الأخير أنها مشتركة بين التحريم والتهديد
والتوبيخ.
قلت: الذي يظهر من السيد في الذريعة أن صيغة لا تفعل ليست مخصوصة
بالنهي لورودها في التهديد أيضا كقول المولى لعبده " لا تطعني ولا تفعل ما آمرك
به " فليس عنده للنهي صيغة تخصه، فظاهره كون الصيغة حقيقة في صورة إرادة
التحريم وغيره، بل وفي التهديد أيضا، وقد نص هناك باشتراك الصيغة بين الأمر
والإباحة وقد نص في المقام أيضا بأن الكلام في أنه لا صيغة للنهي تخصه كالأمر،
فلا وجه لإعادته، وذهب في مبحث الأمر إلى أن صيغة الأمر يفيد كون الآمر
مريدا لفعل المأمور به.
وظاهر كلامه دلالتها على ذلك بالوضع فقد يراد به الوجوب وقد يراد به
الندب إما بالاشتراك اللفظي أو المعنوي، وقد نص هنا أيضا بدلالة النهي على كون
الناهي كارها للمنهي عنه، فيكون صيغة النهي دالة عليه وضعا، على حسب ما ذكر
في الأمر، لتنظيره بين المقامين فيفترق الحال عند السيد بين مطلق افعل ولا تفعل
وبين صيغة الأمر والنهي، والأولان لا يخصان طلب الفعل أو الترك، والأخيرتان
تخصان به إما على سبيل الاشتراك اللفظي أو المعنوي بين الوجوب والندب
والتحريم والكراهة، حسب ما مر الكلام فيه في الأوامر، لكنه نص في المقام بأن
نهيه تعالى يفيد وجوب الترك وإن لم يكن أمره مفيدا لوجوب الفعل، لأجل أنه
يقتضي قبح الفعل، والقبيح يجب أن لا يفعل.
وظاهر كلامه هذا يفيد دلالة نواهي الشرع على التحريم، مع قطع النظر عما
ذكر لحمل أوامر الشرع على الوجوب من جهة حمل الصحابة والتابعين وإجماع
الشيعة عليه، حسب ما ذكره فهو أيضا يقول بتعين حمل نواهي الشرع على
التحريم، بل حملها على ذلك أولى من حمل أوامره على الوجوب، لاستناده في
ذلك إلى قيام الدليل عليه من الخارج بخلاف المقام كما عرفت.
فالظاهر أن مختار السيد في المقام كمختاره في الأمر إلا أنه يقول بكون
7

نواهي الشرع للتحريم ولو مع الغض عما ذكره في الأمر. وقريب منه ما ذكره السيد
ابن زهرة في الغنية، والظاهر موافقته للسيد في المقام في جميع ما قرره كما هو
شأنه في معظم المسائل.
رابعها: أنها للقدر المشترك بين التحريم والكراهة. ففي النهاية: أن من جعل
الأمر للقدر المشترك بين الوجوب والندب جعل النهي مشتركا بين التحريم
والكراهة. والظاهر أنه أراد وضعه للقدر المشترك بينهما.
خامسها: القول بذلك مع حمل نواهي الشريعة مع الإطلاق على التحريم لقيام
قرائن عامة عليه، وهو مختار صاحب الوافية نظير ما ذكره في الأمر.
سادسها: القول بذلك أيضا مع القول بانصراف الطلب مطلقا إلى التحريم كما
هو المختار في المقام نظير ما مر في الأمر.
سابعها: القول بالتوقف كما يظهر من جماعة حكاية القول به حيث جعلوا
القول بالتوقف هنا نظير ما ذكروه في الأمر. هذا وحجة المختار هنا نظير ما مر في
الأمر من غير فرق فلا حاجة إلى الإعادة، ويظهر حجج سائر الأقوال بالمقايسة
فلا حاجة إلى الإعادة.
قوله: * (ولهذا يذم العبد... الخ) *.
هذا تقرير وتوضيح لكون المفهوم والمنساق من النهي عند الإطلاق هو
التحريم، لملاحظة استحقاق الذم عند كون الآمر ممن يجب إطاعته على المأمور،
إذ لولا مفاده التحتيم والإلزام لما تفرع عليه استحقاق الذم، وربما يعد ذلك دليلا
آخر سوى التبادر، ولا وجه له. ثم إن الكلام على الدليل المذكور نظير ما مر ذكره
في الأمر فلا حاجة إلى إعادته.
قوله: * (وما وجب الانتهاء عنه حرم فعله) *.
فإن الانتهاء عن الشئ هو تركه والاجتناب عنه، ووجوب الاجتناب عن
الفعل ولزوم تركه هو مفاد حرمته.
وقد يورد على الاحتجاج المذكور بأمور:
8

أحدها: ما أشار إليه المصنف من أنه مختص بمناهي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا يثبت
به الحال في مناهيه تعالى ومناهي الأئمة (عليهم السلام) فضلا عن مفاد النهي بحسب اللغة
كما هو المدعى.
ثانيها: أن أقصى ما يفيده الآية حمل نواهيه على التحريم ولا يفيد وضع النهي
لذلك، غاية الأمر أن يكون ذلك قرينة عامة على استعمال النهي في التحريم كما
هو مختار البعض ولا تفيد وضعه لذلك.
ثالثها: أنها ظاهرة في عدم وضع الصيغة للتحريم، إذ لو كانت موضوعة لما
احتيج إلى بيانه تعالى، إذ ليس من شأنه تعالى بيان الأوضاع اللفظية، للرجوع فيها
إلى أهل اللسان.
فالظاهر من بيانه ذلك عدم دلالة الصيغة عليه، ليكون حكمه بوجوب الانتهاء
قاضيا به، فهي بالدلالة على خلاف المدعى أولى.
رابعها: أنها إنما تفيد كون لفظ النهي مفيدا للتحريم أي موضوعا للصيغة
المستعملة في التحريم، سواء كان استعمال الصيغة فيه من جهة وضعها له أو على
سبيل المجاز أو الاشتراك، فأقصى ما يفيده كون لفظ النهي موضوعا للصيغة
المستعملة في التحريم وهو غير المدعى.
خامسها: المنع من استعمال قوله " فانتهوا " في الوجوب وإن سلمنا وضع
الأمر للوجوب، وذلك لأن جملة من مناهي الرسول يراد بها الكراهة قطعا، فإن
أريد الوجوب من الأمر المذكور لزم التخصيص في قوله وما نهاكم عنه فانتهوا، إذ
لا يتصور وجوب الانتهاء من المكروه، فلا بد إذن من حمله على الأعم من
الوجوب والاستحباب فلا يفيد المدعي، أو يقال بالتوقف من التزام المجاز
المذكور، أو التخصيص فلا ينهض أيضا بإثبات المطلوب.
سادسها: المنع من دلالته على عموم الحكم لمناهي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن الأمر
المذكور من الخطاب الشفاهي فلا مانع من أن يكون إشارة إلى مناهي معهودة
صدرت من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنسبة إليهم.
9

سابعها: أن المراد بالانتهاء قبول النهي والتدين به والأخذ بمقتضاه، إن
تحريما فتحريم وإن كراهة فكراهة، فالمقصود وجوب تلقيهم أوامره ونواهيه
بالقبول، وأين ذلك من الدلالة على استعمال نواهيه في التحريم فضلا عن وضعها
له ولا أقل من احتمال حمله على ذلك ومعه لا يتم الاستدلال.
ثامنها: أن لفظ الإيتاء ظاهر في الإعطاء وهو ظاهر في التعلق بالأعيان كما
هو الظاهر من لفظ الأخذ أيضا فيكون المراد بالنهي في مقابلته بمعنى المنع منه كما
في قوله: ولقد أتيتك اكماء وعسا قلا ولقد نهيتك عن بنات الأوبر. والآية إنما
وردت بعد ذكر الغنائم، فالمراد على هذا: أن ما أعطاكم الرسول من الغنيمة وعين
لكم من السهم فخذوه، وما ذاد عنكم ومنعكم منه فانتهوا عنه، ولا تزاحموه في
القسمة ولا تطلبوا منه زيادة عما عينه لكم، كما ورد نظيره في غيره من الآيات ولا
ريب في لزوم اتباعه في ذلك، فلا ربط للآية بالخطابات الشرعية.
تاسعها: أن أقصى ما تفيده الآية بعد الغض عن جميع ما ذكر دلالة صيغة النهي
مجردة عن القرائن على التحريم، ولا يستلزم ذلك وضع الصيغة له، إذ قد يكون
ذلك من جهة انصراف الإطلاق إليه على نحو ما مر في الأمر حسب ما اخترناه في
المقامين.
ويمكن الجواب عن الأول: أنه إذا ثبت كون نواهيه للتحريم ثبت ذلك بالنسبة
إلى العرف واللغة بأصالة عدم النقل. وأجاب عنه المصنف بوجهين:
أحدهما: أن تحريم ما نهى عنه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يدل بالفحوى على تحريم ما
نهى الله سبحانه عنه، وكان الوجه فيه: أنه إذا دل ذلك على وجوب طاعة الرسول
في نواهيه أفاد وجوب طاعته تعالى بالأولى، لظهور أن وجوب طاعة الرسول إنما
يأتي من وجوب طاعته تعالى.
وأنت خبير بوهن التعليل فإن وجوب الطاعة إنما يقضي بوجوب ترك ما أراد
تركه على سبيل الحتم، دون ما كان على سبيل الكراهة، فإن كان مفاد الآية مجرد
وجوب الطاعة لم يرتبط بالمقصود، وإلا كان الاحتجاج بما دل على وجوب
10

طاعته تعالى وطاعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) من الآيات والأخبار أولى،
وربما استدل به بعضهم إلا أنه موهون جدا كما مرت الإشارة إليه في بحث
الأوامر. فغاية الأمر حمل دلالة الآية حسب ما ادعاه المستدل على كون النهي
موضوعا في لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للتحريم، ولذا يجب الاجتناب عن الفعل بمجرد
نهيه فأي أولوية لكون النهي في كلامه تعالى أيضا موضوعا لذلك، كيف!
والأوضاع أمور اصطلاحية تتبع وضع الواضع، ولا وجه لأولوية ثبوته في مقام
من ثبوته في مقام آخر.
نعم، لو قيل: إن مفاد الآية حمل نواهي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع الإطلاق على
التحريم فربما يدعى أن دلالتها بالفحوى على حمل نواهيه تعالى على ذلك أيضا.
بل قد يقال بدلالته على حمل نواهي الشريعة مطلقا عليه. لكن ذلك مخالف لما هو
بصدده من إثبات الوضع، ولو لوحظ حينئذ مع ظهور ذلك في ثبوت الوضع اندفعت
به الأولوية المدعاة، إذ لو كان الحمل من جهة لم يتجه الأولوية كما عرفت.
ثانيهما: أن احتمال القول بالفصل بعيد مخالف للظاهر فبعد ثبوته بالنسبة إلى
كلامه (عليه السلام) يثبت إلى غيره من جهة بعد التفصيل. وكأنه أراد بذلك بعد التفصيل في
ذلك بين كلام الله تعالى إذ لم نر أحدا ذهب إليه.
وفيه: أنه أقصى ما يفيده القول بعدم الفصل هو ثبوت ذلك بالنسبة إلى نواهيه
تعالى بل نواهي الأئمة (عليهم السلام) ولا يفيد ذلك ثبوت الحكم في اللغة إلا أن يستند
حينئذ إلى أصالة عدم النقل، وحينئذ فالأولى الاستناد إليه من أول الأمر حسب ما
ذكرنا. وقد ينزل كلامه على إرادة ذلك فاستبعاده التفصيل من جهة مخالفته
للأصل، ولا يخلو عن بعد.
وعن الثاني: أن تعليق وجوب الانتهاء على مجرد النهي يفيد كون النهي بنفسه
مفيدا للتحريم، إذ لولا ذلك لم يحسن تعليقه على مجرد ذلك.
وفيه أنه لو علق استفادة التحريم على مجرد النهي تم ما ذكر في الجواب،
وليس كذلك، بل إنما علق أمره بالانتهاء على مجرد نهيه، ولا دلالة في ذلك على
11

كون النهي بنفسه مفيدا للتحريم، بل أقصى الأمر أن يراد منه التحريم ولو كان
استفادته منه بعد ضم الأمر المذكور إليه، والفرق بين الوجهين المذكورين واضح،
فتكون الآية المذكورة قرينة عامة لإفادة نواهيه التحريم. ولذا استدل بها صاحب
الوافية على مذهبه.
فالأولى الجواب عنه: بأن ذلك بيان للازم الوضع فإنه إذا دل ذلك على حمل
نواهيه المطلقة على التحريم أفاد عرفا حصول الوضع له - كما إذا قال القائل متى
وجدت اللفظ الفلاني خاليا عن القرينة في العرف فاحمله على كذا أفاد كونه
موضوعا بإزائه - واحتمال كون ذلك قرينة عامة لحمل النهي عليه وبيانا للمراد
منه بعيد في المقام، وليس ذلك من شأنه تعالى.
وعن الثالث: أنه ليس المقصود بالآية الشريفة بيان مقصود النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من
نواهيه ولا بيان وضعه لذلك، بل المراد به الحث على طاعته والاجتناب عن
مخالفته كسائر الآيات الدالة عليه، إلا أن التعبير بلزوم الاجتناب عند نهيه دليل
على كون نهيه للتحريم، حيث إن الاجتناب عن مخالفته لترك مناهيه المطلقة يفيد
كون نواهيه المطلقة مفيدا للتحريم، إذ لو كان نهيه لمطلق الكراهة أو الأعم منها لم
يلزم من الإتيان بالمنهي عنه مخالفته.
وعن الرابع: أن الصيغة المطلقة الصادرة من العالي نهى قطعا، كما هو ظاهر من
ملاحظة العرف، فمقتضى الآية الشريفة حينئذ بوجوب الاجتناب وهو قاض
بكون الصيغة للتحريم.
وعن الخامس: ان وجوب الانتهاء إنما علق على ما تعلق به النهي على سبيل
الحقيقة، وعند القائل بكون النهي للتحريم لا يكون المكروه منهيا عنه، نعم لو كان
لفظ النهي موضوعا للأعم صح الإيراد المذكور، إلا أن المستدل لا يقول به وإنما
يرد ذلك على من يلتزم به، وهو وجه ضعيف بعد القول بكون الصيغة حقيقة في
التحريم، ومع الغض عنه يفيد الدوران بين التخصيص والمجاز تقدم التخصيص
عليه، ودعوى كونه من قبيل التخصيص بالأكثر، فعلى فرض جوازه يقدم المجاز
عليه، ممنوع.
12

وعن السادس: أن الظاهر من الآية كون الخطاب للأمة لا لخصوص
الحاضرين في المجلس، وسيأتي تفصيل الكلام فيه في محله، وعلى فرض
اختصاصه بهم فالظاهر عموم الحكم لجميع نواهيه المتعلقة بهم، وكون اللام فيه
للعهد بعيد عن الظاهر.
وعن السابع: أنه بعيد عن الظاهر إن صح الحمل عليه، والاحتجاج مبني على
الظاهر.
وعن الثامن: أن حمله على خصوص ذلك خلاف الظاهر وإن ذكر بعض
المفسرين وظاهر غيره عمومه للنهي وغيره، والعبرة بعموم اللفظ، فيعم ما منعهم
منه من الغنائم أو غيرها، وفيه تأمل.
نعم في الأخبار الخاصة دلالة على ورودها في الأوامر والنواهي وقد
استمرت الطريقة بين الأصوليين على الاحتجاج بها في المقام.
وعن التاسع: أنه إذا دلت الآية على كون مفاد النهي عند الإطلاق هو التحريم
كان قضية الأصل وضعه بإزائه، إلا أن يدل دليل على خلافه. وفيه: أنه إنما يتم إذا
قلنا بكون الأصل في التبادر أن يكون مستندا إلى الوضع، وهو على إطلاقه محل
منع، ومع الغض عنه ففي بعض الشواهد دلالة على استناد الانصراف إلى غير
الوضع، فالوجه المذكور دافع للاحتجاج بالآية وقد مر توضيح القول في ذلك.
ثم إنه قد يحتج للقول بكون النهي للتحريم بوجوه اخر:
منها: أن فاعل المنهي عنه عاص، وكل عاص مستحق للعقوبة - كما دلت عليه
الآية الشريفة - ويمكن الإيراد عليه تارة بمنع المقدمة الأولى، إذ هي في مرتبة
الدعوى. وفيه: أن العرف شاهد على صدق العصيان بذلك، وأخرى بأن أقصى ما
يثبت بذلك حمل النواهي الشرعية على التحريم، وهو أعم من وضعها له شرعا
فضلا عن الوضع له لغة. وفيه: أن قبح العصيان عند أي آمر كان معلوم في العرف،
غاية الأمر دلالة الآية على خصوص قبحه عند الشارع فيستفاد منه دلالته على
التحريم عند الإطلاق والخلو عن القرينة فيفيد وضعه له. فالأولى في الإيراد عليه
13

أن يقال: إن أقصى ما ثبت من ذلك ظهور النهي المجرد عن القرائن في التحريم،
ونحن نقول به - حسب ما عرفت - ولا دلالة فيه على المدعى.
ومنها: أن الأمر للوجوب فيكون النهي للتحريم، لعدم القول بالفصل أو للقطع
باتحاد مفادهما في العرف، سوى أن الأول متعلق بالفعل والثاني بالترك أو الكف.
ويضعفه ما عرفت من عدم ثبوت وضع الأمر للوجوب.
ومنها: أن الصحابة والتابعين كانوا يستدلون بالنواهي على التحريم كما كانوا
يستدلون بالأوامر على الوجوب، حسب ما مر من تصريح جماعة به هناك، وقد
نص عليه هنا أيضا غير واحد من العامة. وربما يمنع ذلك في المقام إذ لا يوجد
ذلك في كلام من يوثق به عندنا، لكن الانصاف أنه لا فرق في ذلك بين الصيغتين.
فالأولى في الجواب أن يقال: إن أقصى ما يفيده ذلك ظهور النهي في التحريم،
وهو أعم من وضعه له كما عرفت.
قوله: * (واستعمال النهي في الكراهة شائع... الخ) *.
قد عرفت ما يرد مفصلا في بحث الأوامر فلا حاجة إلى إعادته.
* * *
14

معالم الدين:
أصل
واختلفوا في أن المطلوب بالنهي ما هو؟. فذهب الأكثرون إلى أنه
هو الكف عن الفعل المنهي عنه، ومنهم العلامة (رحمه الله) في تهذيبه. وقال في
النهاية: المطلوب بالنهي نفس أن لا تفعل. وحكى: أنه قول جماعة
كثيرة. وهذا هو الأقوى.
لنا: أن تارك المنهي عنه كالزنا، مثلا، يعد في العرف ممتثلا،
ويمدحه العقلاء على أنه لم يفعل، من دون نظر إلى تحقق الكف عنه،
بل لا يكاد يخطر الكف ببال أكثرهم. وذلك دليل على أن متعلق
التكليف ليس هو الكف، وإلا لم يصدق الامتثال، ولا يحسن المدح
على مجرد الترك.
احتجوا: بأن النهي تكليف، ولا تكليف إلا بمقدور للمكلف. ونفي
الفعل يمتنع أن يكون مقدورا له، لكونه عدما أصليا، والعدم الأصلي
سابق على القدرة وحاصل قبلها، وتحصيل الحاصل محال.
والجواب: المنع من أنه غير مقدور، لأن نسبة القدرة إلى طرفي
الوجود والعدم متساوية. فلو لم يكن نفي الفعل مقدورا، لم يكن
إيجاده مقدورا، إذ تأثير صفة القدرة في الوجود فقط، وجوب، لا قدرة.
15

فان قيل: لا بد للقدرة من أثر عقلا، والعدم لا يصلح أثرا، لأنه نفي
محض. وأيضا فالأثر لا بد أن يستند إلى المؤثر ويتجدد، والعدم سابق
مستمر، فلا يصلح أثرا للقدرة المتأخرة.
قلنا: العدم إنما يجعل أثرا للقدرة باعتبار استمراره. وعدم
الصلاحية بهذا الاعتبار في حيز المنع، وذلك لأن القادر يمكنه أن لا
يفعل فيستمر، وأن يفعل فلا يستمر. فأثر القدرة إنما هو الاستمرار
المقارن لها، وهو مستند إليها، ومتجدد بها.
16

قوله: * (فذهب الأكثرون إلى أنه هو الكف) *.
وقد اختار ذلك الحاجبي والعضدي، وكأنه المراد بما عزى إلى الأشاعرة من
كون المطلوب فعل ضد المنهي عنه. ثم قد يتخيل أن المراد بالكف هو زجر النفس
عن فعل الشئ عند حصول الشوق إليه وقيام الداعي إلى فعله، بملاحظة ما يقاوم
ذلك أو يغلب عليه فيمنع من حصول مقتضاه، وحينئذ فهو أخص مطلقا بحسب
الوجود من الترك الذي هو عدم الإتيان بالفعل، فإن الكف بالمعنى المذكور
يستلزم الترك بخلاف الترك، فإنه لا يستلزم حصول الكف، إذ قد لا يكون له شوق
إلى الفعل من أول الأمر، فلا يصدق معه اسم الكف مع حصول الترك، فعلى القول
المذكور يكون المطلوب بالنهي خصوص ذلك، فلو لم يكن للمكلف شوق إلى
الفعل ولم يقم له داع إليه لم يكن الترك الحاصل منه مطلوبا للناهي عند القائل
المذكور ولا يتعلق النهي به، والظاهر أنه يقول حينئذ بسقوط النهي تنجيزا وإن
تعلق به معلقا على حصول الشوق، فعلى هذا يكون النواهي المتعلقة بالمكلفين
مشروطة بشوقهم إلى الفعل ورغبتهم فيه لا مطلقا، إذ لا مجال للقول بوجوب
الكف على الوجه المذكور مطلقا حتى يجب عليه تحصيل الشوق إلى الفعل
ليتصور منه حصول ما وجب من الكف، ويمكن توجيه القول بسقوط التكليف مع
انتفاء الشوق إلى الفعل وعدم الداعي إليه بأنه لما كان مقصود الشارع من تحريم
الفعل عدم حصوله في حيز الوجود كان ميل المكلف عن الفعل، وعدم شوقه إليه
مغنيا عن التكليف بتركه، للاكتفاء به في الصرف عن الفعل، والمنع عن إدخاله في
الوجود، فلا حاجة إلى تكليفه به، وإنما الحاجة إلى التكليف المفروض فيما إذا
كان مائلا إلى الفعل راغبا فيه ليتعلق التكليف إذا بالكف. ويرد عليه أن فيه خروجا
عن ظاهر الإطلاق من غير جهة باعثة عليه، وما ذكر من الوجه يتم مع إمكان
ورود التكليف على الوجه المذكور لا وقوعه، كيف ولم يعتبره الشارع في جانب
الأمر، إذ لم يقل أحد بعدم شمول الأوامر لمن يريد المأمور به ويرغب إليه ويأتي
به، مع قطع النظر عن أمر الشارع به، وحينئذ فالتزام القائل المذكور بذلك في
17

جانب النهي بعيد جدا، سيما وقد ذهب جماعة من الأجلة إلى إطلاقه على نحو
الأمر، كما هو الظاهر المفهوم من النهي في العرف. بل الظاهر أنه لا مجال لتوهم
عدم تحريم المحرمات على غير الراغب فيها، فيظهر من ذلك وهن القول المذكور
جدا إن حمل على ظاهره. ويمكن أن يقال في توجيهه: إن المراد بالكف هو الميل
عن الفعل والانصراف عنه عند تصور الطرفين، سواء حصل له الرغبة إلى الفعل أو
لا، فإن العاقل المتصور للفعل والترك لا بد من ميله إلى أحد الجانبين، فالمراد
بالكف هو ميله إلى جانب الترك ويجعل متعلق الطلب الحاصل في النهي هو ذلك
الميل، نظرا إلى ما يتوهم من عدم قابلية نفس الترك لأن يتعلق الطلب به بخلاف
الإيجاد، إذ لا مانع من تعلق الطلب به فيكون الميل المذكور من جملة مقدماته،
وحينئذ فلا فرق بين القولين المذكورين إلا بالاعتبار، حيث يقول القائل بتعلق
الطلب بالكف بكون المطلوب هو ميل النفس عن الفعل وانصرافه عنه. ويقول
القائل بتعلقه بالترك: بكون المكلف به نفس الترك المسبب من ذلك المتفرع عليه،
وكأنه إلى ذلك نظر بعض شراح المنهاج حيث عزي إليه القول بعدم الفرق بين
القولين المذكورين، ويشير إليه ما ذكره التفتازاني في المطول من تقارب القولين
وكيف كان فالمختار ما اختاره المصنف من كون متعلق الطلب في النهي هو الترك،
إذ هو المتبادر من الصيغة بعد ملاحظة العرف والتأمل في الاستعمالات، ولأن الذم
والعقوبة إنما يترتب على مخالفة المأمور لما طلب منه، فإن كان المطلوب بالنهي
هو الكف لزم أن لا يتعلق الذم أو العقوبة لفعل المنهي عنه، بل على ترك الكف عنه،
ومن الواضح خلافه، وعلى القول بكون المطلوب هو الترك يصح وقوع الذم
والعقوبة على الفعل، إذ هو في مقابلة الترك، ويشهد له أيضا أن مفاد المادة هو
الطبيعة المطلقة، كما مر في الأمر وحرف النهي الواردة عليها إنما يفيد نفيها ومفاد
الهيئة الطارئة على تلك المادة هو إنشاء الطلب، فالمتحصل من المجموع هو طلب
عدم ذلك الفعل - أعني طلب الترك - ويعضده أيضا أن الأمر طلب لإيجاد الفعل
فيكون النهي المقابل له طلبا لتركه. وما يتخيل في دفع ذلك ولزوم صرف الطلب
18

إلى الكف بدعوى عدم مقدورية العدم فلا يمكن تعلق التكليف به واه جدا،
كما سيجئ الإشارة إليه إن شاء الله تعالى.
قوله: * (يعد في العرف ممتثلا [ويمدحه العقلاء] على أنه لم يفعل) *.
لا يخفى أن صدق الامتثال موقوف على كون الترك لأجل النهي لا لجهة
أخرى، وحينئذ يمدح على ترك الفعل من جهة قصده الترك لأجل النهي، وهو مفاد
الكف عن الفعل، فلا دلالة في ذلك على كون المطلوب نفس الترك. وفيه: أن حيثية
الكف مغايرة للجهة المذكورة وإن كان صادقا، له فحصول المدح على الجهة
المذكورة شاهد على كون المطلوب نفس الترك حتى عد الترك الحاصل من جهة
النهي امتثالا، فإن حقيقة الامتثال هو الإتيان بما كلف به من جهة كونه مكلفا به،
فلو كان المكلف به هنا هو الكف لكان الامتثال حاصلا به من الجهة المذكورة لا
من جهة الترك، فلما وجدنا حصول الامتثال بمجرد الترك الحاصل على الوجه
المذكور دل على كونه هو المكلف به في النهي هذا، ومرجع الدليل المذكور إلى ما
ذكرناه من التبادر.
وقد يستدل عليه أيضا بأنه كثيرا ما يترك الحرام مع إرادة الفعل على وجه لو
حصل له القدرة عليه لأتى به أو من دون إرادة أصلا، وعلى الوجهين لا يحصل
الكف، فلو كان المكلف به هو الكف لزم حينئذ فواته ويلزمه ترتب العقاب.
وأورد عليه: بالتزام ترتب العقاب في المقام، لكون العزم على ترك الحرام من
أحكام الإيمان والمفروض انتفاؤه في الصورتين، فيترتب العقاب عليه. وضعفه
ظاهر، فإن العصيان حينئذ - على فرض تسليمه - إنما يترتب على مخالفة تكليف
آخر، دون ترك المكلف به بالتكليف المفروض، إذ لا يصدق مخالفته للنهي
المذكور قطعا، وإن حصل عزمه على المخالفة في الصورة الأولى وترك العزم على
الطاعة في الثانية، فلو كان المطلوب بالنهي الكف لصدق مخالفته لنفس النهي
المذكور أيضا، لانتفاء مطلوبه الذي هو الكف، ومن الواضح خلافه.
19

قوله: * (احتجوا بأن النهي تكليف... الخ) *.
محصله أن النهي تكليف، ولا شئ من التكليف متعلقا بغير المقدور، فلا شئ
من النهي يتعلق بغير المقدور، وكل عدم غير مقدور، فلا شئ من النهي متعلقا
بالعدم. والمقدمات المأخوذة في الاحتجاج المذكور مسلمة، إلا الكبرى الأخيرة
فبينه بقوله: " لكونه عدما أصليا... الخ ".
هذا وقد يستدل أيضا على ذلك بوجه آخر أشار إليه في غاية المأمول
وحاصله: أن الامتثال إنما يتحقق بالكف عن الفعل، والثواب إنما يترتب عليه دون
مجرد الترك، فما تعلق الطلب به هو الذي ترتب الامتثال والثواب عليه.
وأجاب عنه بالمنع من ترتب الثواب على الكف، بل إنما يترتب الثواب على
الترك من دون مدخلية الكف.
وأنت خبير: بأن حصول الامتثال وترتب الثواب إنما يتصور فيما إذا ترك
المنهي عنه لأجل نهيه عنه، وأما إذا تركه لأجل أمر آخر مع علمه بالنهي أو عدمه
فليس ذلك قاضيا بصدق الامتثال ولا باعثا على ترتب الثواب، حسب ما مر
بيانه، لكن لا يقضي ذلك بعدم حصول المطلوب بالترك المفروض، لما عرفت من
الفرق بين أداء الواجب وترك المحرم وحصول الامتثال. فقوله: إن تحقق الامتثال
وترتب الثواب إنما هو في صورة الكف - على فرض تسليمه - لا يقضي بتعلق
النهي بالكف، إذ تعلق النهي بالترك لا يستدعي حصول الامتثال بمجرد الترك، كما
أن تعلق الأمر بالفعل لا يقضي بحصول الامتثال بمجرد الإتيان به، بل يتوقف أيضا
على كون أدائه من جهة أمر الآمر به، وبدونه يكون أداءا للواجب من غير أن
يكون امتثالا كما مر تفصيل القول فيه. فما زعمه المستدل من الملازمة ممنوعة،
ولو سلم ذلك نقول: إن حصول الامتثال وترتب الثواب حينئذ إنما هو من أجل
الترك دون الكف وإن كان مجامعا له، إذ مجرد حصول الكف حينئذ لا يستدعي
كون الامتثال من جهته، لما عرفت من الفرق بين الأمرين. وكون الامتثال حاصلا
من جهة الترك، فإن أراد المجيب بترتب الامتثال على الترك ترتبه عليه في
20

الصورة المفروضة المجامعة للكف فهو كذلك، وإن أراد ترتبه على مجرد الترك
كيف ما حصل فهو بين الفساد لما عرفت.
قوله: * (المنع من أنه غير مقدور) *.
لما كانت المقدمة المذكورة مستدلا عليه في كلام المستدل ولم يتعلق المنع
المذكور بشئ من مقدمات دليله لم يتجه الإيراد عليه بالمنع، ولذا وجهه المحقق
المحشي (رحمه الله) بأن المراد بالمنع هنا غير المنع المصطلح، بل المنع اللغوي، فالمقصود
إبطال ما ذكره من كون العدم غير مقدور، نظرا إلى ما أقام عليه من الدليل، فيكون
ذلك معارضة للدليل المذكور، ويكون قوله " فإن قيل " معارضة على المعارضة،
وقد صرح بعضهم بجوازه. نعم وقعت المعارضة الثانية بعين ما ذكر في الدليل
ولا يخفى قبح إعادته.
قلت يمكن حمل المنع في كلامه على المنع المصطلح والوجه فيه: أنه لما
كانت المقدمة المذكورة مستدلا عليها في كلامه توقف ورود المنع عليها على إبطال
دليلها، فجعل ما يبطل به الدليل المذكور على وجه المعارضة سندا للمنع، فيكون
ذكر السند في المقام مصححا لورود المنع، إذ بعد إبطال ما أقامه من الدليل عليها
يبقى المقدمة المذكورة خالية عن الدليل، فيصح توجيه المنع إليها. فلما كانت
قضية المعارضة المذكورة لما ذكره من الدليل على إيجاب تلك المقدمة ثبوت تأثير
القدرة في كل من الوجود والعدم - حيث ذكر أن تأثير صفة القدرة في الوجود فقط
وجوب لا قدرة - أورد عليه: بأنه لا بد للقدرة من أثر عقلا، ضرورة كون التأثير
مستلزما للأثر والعدم غير صالح لذلك لكونه نفيا محضا، ولأنه لا بد من استناد الأثر
إلى المؤثر وهو غير ممكن في المقام، حسب ما قرره، فالملحوظ في المقام نفي
كون العدم أثرا للقدرة، ليلزم من ذلك نفي تأثير القدرة فيه، ليتفرع عليه نفي كونه
مقدورا، إذ المقدورية يستدعي تأثير القدرة فيه، حسب ما اعترف المستدل به.
والوجه الأول من هذين الوجهين غير مذكور في كلام المستدل. والثاني وإن
كان عين ما ذكره المستدل إلا أنه إنما ذكر في المقام لدفع كون العدم أثرا للقدرة
ليتفرع عليه عدم مقدوريته، والمستدل إنما أخذ ذلك حجة على عدم المقدورية
21

من أول الأمر، وهذا القدر كاف في التفاوت مضافا، إلى اشتمال ما ذكره ثانيا على
بيان جواب آخر عن أصل الاستدلال: فلا يخلو إعادته عن فائدة. فتحصل بما
ذكر جوابان عن الاستدلال: أحدهما المنع من عدم مقدورية العدم حسب ما
قررناه، والآخر إثبات مقدوريته في الزمان المتأخر عن الصيغة وإن جعلهما جوابا
واحدا أو جعل الجواب الثاني رفعا لما يورد على الجواب الأول فتأمل.
قوله: * (باعتبار استمراره... الخ) *.
هذا الوجه جواب عن الإيراد الآخر وكأنه لم يتعرض للجواب عن الأول
اكتفاءا بما ذكر في الجواب عنه، فإن لاستمرار العدم حظا من الوجود، ولذا يستند
في ملاحظة العقل إلى اختيار المكلف ويترتب ذلك عليه، فلا يكون أثر القدرة نفيا
محضا، حسب ما ادعاه المستدل، لكنك خبير بأن عدم الفعل نفي محض بحسب
الخارج لا تأثير ولا تأثر فيه أصلا، وليس استمرار العدم أمرا حاصلا بحسب
الواقع وإنما هو اعتبار عقلي محض، ثبوته في العقل كمفهوم العدم، فتأثير صفة
القدرة فيه بحسب الخارج غير معقول.
والحق أن يقال: إن مقدورية الفعل إنما يكون باقتدار الفاعل على قطع
استمرار العدم بالتأثير في الوجود، لا بتأثيره في العدم أيضا، وإن صح بذلك حكم
العقل باستناد عدم المعلول إلى عدم علته، فإن مناط الحكم بالاستناد المذكور هو
عدم حصول الأثر عند عدم حصول التأثير لا بتأثير الفاعل في عدمه، فالمراد
باستناد عدم المعلول إلى علته والترتب العقلي الحاصل بينهما في لحاظ العقل هو
ذلك، لا بتأثير العدم في العدم. كيف! وحصول التأثير والتأثر غير معقول بين
الأعدام، فليس تأثير القدرة في المقام إلا في جهة الوجود ويكون العدم مقدورا
بذلك أيضا، وحينئذ فما ادعاه المجيب " من لزوم تأثير القدرة في كل من جانبي
الوجود والعدم وإلا لكان وجوبا لا قدرة " كما ترى. ويمكن تنزيل كلامه على ما
ذكرنا فيكون مقصوده بالتأثير في العدم هو مفاد الترتب العقلي المذكور، وهو لا
ينافي كون عدم الفعل نفيا محضا بحسب الخارج.
* * *
22

معالم الدين:
أصل
قال السيد المرتضى (رضي الله عنه) وجماعة منهم العلامة في أحد قوليه: " إن
النهي كالأمر في عدم الدلالة على التكرار، بل هو محتمل له وللمرة ".
وقال قوم: بإفادته الدوام والتكرار، وهو القول الثاني للعلامة (رحمه الله)، اختاره
في النهاية، ناقلا له عن الأكثر وإليه أذهب.
لنا: أن النهي يقتضى منع المكلف من إدخال ماهية الفعل وحقيقته
في الوجود، وهو إنما يتحقق بالامتناع من إدخال كل فرد من أفرادها
فيه، إذ مع إدخال فرد منها يصدق إدخال تلك الماهية في الوجود،
لصدقها به، ولهذا إذا نهى السيد عبده عن فعل، فانتهى مدة كان يمكنه
إيقاع الفعل فيها ثم فعل، عد في العرف عاصيا مخالفا لسيده، وحسن
منه عقابه، وكان عند العقلاء مذموما بحيث لو اعتذر بذهاب المدة
التي يمكنه الفعل فيها وهو تارك، وليس نهي السيد بمتناول غيرها، لم
يقبل ذلك منه، وبقي الذم بحاله. وهذا مما يشهد به الوجدان.
احتجوا: بأنه لو كان للدوام، لما انفك عنه، وقد انفك. فان الحائض
نهيت عن الصلاة والصوم، ولا دوام. وبأنه ورد للتكرار، كقوله تعالى:
* (ولا تقربوا الزنا) * وبخلافه، كقول الطبيب: * (لا تشرب اللبن) *،
23

* (ولا تأكل اللحم) *. والاشتراك والمجاز خلاف الأصل، فيكون حقيقة
في القدر المشترك. وبأنه يصح تقييده بالدوام ونقيضه، من غير تكرار
ولا نقض، فيكون للمشترك.
والجواب عن الأول: أن كلامنا في النهي المطلق. وذلك مختص
بوقت الحيض، لأنه مقيد به، فلا يتناول غيره. ألا ترى أنه عام لجميع
أوقات الحيض.
وعن الثاني أن عدم الدوام في مثل قول الطبيب، إنما هو للقرينة،
كالمرض في المثال. ولولا ذلك، لكان المتبادر هو الدوام. على أنك قد
عرفت في نظريه سابقا: أن ما فروا منه بجعل الوضع للقدر المشترك
- أعني: لزوم المجاز والاشتراك - لازم عليهم، من حيث إن الاستعمال
في خصوص المعنيين يصير مجازا فلا يتم لهم الاستدلال به.
وعن الثالث: أن التجوز جائز، والتأكيد واقع في الكلام مستعمل،
فحيث يقيد بخلاف الدوام يكون ذلك قرينة المجاز، وحيث يؤتى بما
يوافقه يكون تأكيدا.
فائدة:
لما أثبتنا كون النهي للدوام والتكرار، وجب القول بأنه للفور، لأن
الدوام يستلزمه. ومن نفى كونه للتكرار، نفى الفور أيضا. والوجه في
ذلك واضح.
24

قوله: * (إن النهي كالأمر في عدم الدلالة على التكرار... الخ) *.
يمكن تقرير النزاع في ذلك على نحو الأمر فيكون الكلام في وضع الصيغة له،
فالقائل بدلالتها على الدوام يقول بوضعها لخصوص ذلك، والقائل بكونها للأعم
يجعل مفادها مجرد ترك الطبيعة في الجملة. ويمكن تقريره في الدلالة الالتزامية
فيقال: إن النهي موضوع لطلب ترك الطبيعة، لكن هل يستلزم ذلك الدوام والتكرار
أو لا بل هو أعم من الأمرين؟ وعلى هذا فيجري الكلام في كل طلب متعلق بالترك
وإن كان بصيغة الأمر ك‍ " اترك " و " انته " و " كف " ونحوها وكذا في مادة النهي ك‍
" أنهاك عن كذا " أو " نهانا عن كذا " ونحو ذلك، ويخرج عنه ما يكون أمرا بصورة
النهي نحو " لا تترك " ويمكن تقرير النزاع في الأعم من الوجهين المذكورين
فيصح للقائل بدلالتها على الدوام الاستناد إلى كل من الوجهين المذكورين فلا بد
للنافي من إبطال كل منهما، والظاهر البناء في تحرير محل النزاع على أحد
الوجهين الأخيرين.
ثم إن المقصود بالتكرار هنا هو خصوص الدوام، لا مسمى التكرار كما مر
احتماله في الأمر، وإن كان الظاهر هناك أيضا خلافه، ولذا عبروا هنا عن التكرار
بالدوام. ثم إن المقصود بالدوام هل هو خصوص التأبيد والدوام مدة العمر أو
يرجع فيه إلى العرف؟ فيختلف بحسب اختلاف الأفعال والأحوال وجوه: أظهرها
الأخير.
وهل المطلوب حينئذ خصوص الترك المستدام فيتوقف حصول الامتثال
على ترك الكل من غير أن يحصل هناك امتثال بالنسبة إلى خصوص التروك
الحاصلة في كل من الأزمنة، أو أن كل ترك منها مطلوب في نفسه مع قطع النظر
عن انضمام الآخر إليه؟ فينحل ذلك إلى تكاليف عديدة، وإن عبر عن الكل بتعبير
واحد، وجهان: أظهرهما الثاني كما يشهد به العرف.
وهل الكلام في وضع الصيغة المطلقة للدوام أو لما يستلزمه؟ فلا تجري في
النواهي المقيدة بزمان خاص، أو في وضع مطلق الصيغة؟ فيلزم التجوز في بادئ
25

الرأي فيما يقيد بخصوص بعض الأزمنة بناء على القول بوضعه لذلك، وعلى هذا
يلزمه التزام التجوز في معظم النواهي الواردة، وسنبين لك ما هو الحق في المقام
هذا. ولهم في المسألة قولان معروفان أشار المصنف (رحمه الله) إليهما.
أحدهما: اقتضاؤه للدوام ذهب إليه الآمدي والحاجبي والعضدي، واختار
جماعة من علمائنا - منهم المصنف (رحمه الله)، والعلامة في النهاية، والسيد العميدي،
وشيخنا البهائي، وتلميذه الفاضل الجواد، وغيرهم - وعزاه في النهاية والمنية
والزبدة إلى الأكثر، وحكاه الشيخ عن أكثر المتكلمين والفقهاء ممن قال بأن الأمر
يفيد المرة، ومن قال بأنه يفيد التكرار، وقال الآمدي في الإحكام اتفق العلماء
على أن النهي عن الفعل يقتضي الانتهاء عنه دائما، وقال العضدي النهي يقتضي
دوام ترك المنهي عنه عند المحققين اقتضاءا ظاهرا فيحمل عليه إلا إذا صرف عنه
دليل.
ثانيهما: نفي دلالتها على ذلك، ذهب إليه جماعة من علمائنا: منهم السيد
والشيخ والمحقق والعلامة في التهذيب، وعزاه الآمدي إلى بعض الشاذين،
والعضدي إلى شذوذ، والسيد العميدي إلى الأقل.
وحينئذ فإما أن يكون موضوعا لمطلق طلب الترك الشامل للوجهين كما هو
المصرح به في كلام بعض هؤلاء، أو يكون موضوعا لخصوص المرة، وحكاه في
غاية المأمول حيث قال: إن القائلين بعدم الدوام منهم من ذهب إلى أنه للمرة فقط،
ومنهم من يجعله مشتركا بينها وبين التكرار، بحيث يتوقف العلم بأحدهما على
دليل من خارج كما في الأمر، فيكون الأقوال حينئذ ثلاثة، وربما يحكى هنا قول
رابع: وهو وضعه لهما على سبيل الاشتراك اللفظي، وقد يعزى ذلك إلى السيدين،
كما هو قضية مذهبهما من أصالة الاشتراك اللفظي فيما يستعمل في معنيين.
وخامس: وهو القول بالتوقف حكاه الشيخ في العدة عن بعض.
والحق عندنا وضع الصيغة لمجرد طلب ترك مطلق الطبيعة المعراة عن الوحدة
والكثرة على حذو ما مر في الأمر، وقد تقدم الدليل عليه، وحينئذ نقول: إن النهي
26

إن لم يقيد بقيد أفاد طلب ترك الطبيعة المطلقة، أعني المفهوم اللابشرط، ولا يمكن
حصوله إلا بترك جميع الأفراد، بخلاف طلب إيجاد الطبيعة فإنه يحصل أداؤه
بإيجاد فرد من أفرادها، والفرق بين الأمرين أن إيجاد المطلق حاصل بإيجاد فرد
منه، فإذا حصل ذلك حصل به أداء المأمور به والإتيان بالمنهي عنه، فيحصل
امتثال الأمر ومخالفة النهي بإيجاد فرد من الطبيعة، فلا بد إذن في حصول امتثال
النهي من ترك المخالفة الحاصلة بترك كل فرد من أفراد المنهي عنه وهو ما أردناه.
وليس تركها في ضمن بعض الأفراد تركا للطبيعة المطلقة، وإنما هو ترك الطبيعة
المقيدة وترك المقيد لا يستلزم ترك المطلق، كما أن فعله يستلزم فعله حسب ما
عرفت، هذا مع إطلاق النهي. وأما إذا قيد الطبيعة بزمان مخصوص أو قيد خاص
لم يكن هناك تجوز في الصيغة، ولا في المادة، لصدق اللابشرط على ذلك أيضا.
والحاصل: أن النهي موضوع لطلب ترك مطلق الطبيعة، وهو قدر جامع بين
طلب ترك الطبيعة المطلقة والمقيدة، فإن وجد هناك قيد انصرف إلى الثاني وكان
حصوله في ضمن المقيد، وإلا انصرف إلى المطلق، إذ مع عدم القيد لا يكون مفاد
اللفظ إلا المطلق، فلا يكون النهي مع الإطلاق دائرا بين الأمرين، ليكون مجملا
غير منصرف بحسب اللفظ إلى أحد الوجهين.
فإن قلت: إن المراد بالطبيعة في المقام إما الطبيعة من حيث هي أو من حيث
حصولها في ضمن الفرد، لا سبيل إلى الأول، فإن الأحكام الشرعية بل وغيرها من
الأحكام المتداولة بين أهل العرف واللغة بل وأرباب العلوم العقلية إنما ينتسب إلى
الطبائع من حيث وجودها في ضمن الفرد، لعدم العبرة بالقضية الطبيعية. وأما
الثاني فإما أن يراد من حيث حصولها في ضمن الفرد في الجملة أو في ضمن
جميع الأفراد، ولا يثبت إرادة الدوام إلا في الصورة الثانية، وإرادتها في المقام
أول الدعوى، غاية ما يسلم إرادة ترك الطبيعة في ضمن الفرد في الجملة.
قلت: قد عرفت أن المبادئ المأخوذة في الأفعال بمعنى الطبائع المطلقة
وحيث إن الطلب الحاصل في الأمر والنهي إنما يتعلق بالإيجاد والترك لا حاجة
27

إلى اعتبار حيثية الحصول في ضمن الفرد في مدلول المادة، فإن إيجاد الطبيعة إنما
يكون بإيجاد فردها، وتركها إنما يكون بترك جميع أفرادها - حسب ما عرفت -
فمرجع الأمر في ذلك إلى المحصورة وإن لم يلاحظ الحصول في ضمن الفرد في
خصوص مواردها، ولو سلم كون الطبائع المدلولة لمواردها ملحوظة من حيث
وجودها في ضمن الفرد فهو أيضا كاف في المقام، لأن المرجع فيها إلى النكرة
وهي تفيد العموم في المقام، فإن ترك مطلق الطبيعة في ضمن الفرد إنما يكون بترك
جميع أفرادها، لعين ما مر. نعم لو كان مفاد ذلك حصول الترك في ضمن الفرد في
الجملة تم ذلك، إلا أنه ليس من مدلول الصيغة في شئ هذا.
ومع الغض عن كون الدوام لازما عقليا للنهي على الوجه المذكور، فلا شك
في كون ذلك هو المنساق منه عرفا، فلا أقل إذا من الظهور العرفي لو لم نقل
باللزوم العقلي، ومنع انفهام ذلك منه في العرف يكاد يشبه إنكار الضروريات، كما
لا يخفى على من تأمل في الاستعمالات وموارد الإطلاقات.
ثم إن بعض الأفاضل بعدما أنكر ثبوت الدلالة على كل من الوجهين
المذكورين تمسك في دلالة النواهي المطلقة على الدوام بوجه ثالث، وذلك
بالرجوع إلى دليل الحكمة إذ لا وجه لإرادة النهي عن الفعل في وقت غير معين،
لما فيه من الإغراء بالجهل ولا معين، لانتفاء التعيين إذ المفروض إطلاق النهي
فتعين إرادة النهي عنه على وجه العموم.
وأنت خبير بما فيه: فإنه مدفوع أولا: بالنقض بالأمر فإنه لا وجه لإرادة
الإتيان به في زمان معين، لانتفاء التعيين، ولا في زمان غير معين، لما فيه من
الإغراء بالجهل، فتعين إرادة الدوام، مع أنه لا يقول به. وثانيا بأن هناك احتمالا
آخر وهو إرادة التخيير في أداء المطلوب بالنسبة إلى الأزمنة كما هو الحال في
الأمر، فإذا كان الحال في النهي نظير الأمر في عدم الدلالة على الدوام جرى فيه
التخيير الذي يثبت في الأمر.
قوله: * (إن النهي يقتضي منع المكلف من إدخال ماهية الفعل... الخ) *.
28

يمكن تقرير هذه الحجة بوجهين:
أحدهما: ما أشرنا إليه من الرجوع إلى العقل بعد إثبات دلالة اللفظ على المنع
من إدخال طبيعة الفعل في الوجود، وهذا هو الذي يقتضيه ظاهر الآية.
ويرد عليه حينئذ أن ذلك إنما يقتضي كون الدوام مدلولا التزاميا لطلب ترك
الطبيعة، سواء أدي ذلك بصيغة النهي أو بغيره، فلا يفيد وضع الصيغة للدوام، فإن
أريد بذلك بيان وضع الصيغة له فهو ظاهر الفساد، وإن أريد به بيان الدلالة
الالتزامية فهو متجه، كما مر القول فيه، إلا أنه مخالف لما يظهر من كلامه في آخر
المبحث، لظهوره في دعوى الوضع للدوام.
وقد يورد عليه أيضا بأنه إن أريد بالمنع من إدخال الماهية في الوجود دائما
فهو أول الكلام، وإن أريد بالمنع من إدخاله في الوجود في الجملة فغاية ما يقتضيه
عدم إدخال شئ من أفراد الماهية في الوجود في بعض الأوقات، لصدق عدم
إدخال الماهية في الوجود مع عدم إيجاد شئ من أفرادها في بعض الأزمنة.
ويدفعه ما عرفت من أن عدم إيجاد الطبيعة المطلقة لا يصدق إلا بتركها
بالمرة، دون ما إذا تركها في وقت وأتى بها في آخر، لظهور صدق إتيانه حينئذ
بالطبيعة وهو لا يجامع صدق تركه لها.
غاية الأمر أن يصدق تركه للطبيعة في الزمان المفروض وهو لا يستلزم
صدق ترك الطبيعة مطلقا كما عرفت. ويشهد له أن المنع من الترك الحاصل
بإيجاب الفعل إنما يقتضي عدم ترك الفعل مطلقا، كيف! ولو صدق ترك الفعل مع
ترك جميع أفرادها في آن من الأوان لزم القول بالملازمة بين الأمر والنهي في
الدلالة على الدوام، مع أنهم لا يقولون به، فإن وجوب الشئ يستلزم المنع من
تركه أو يتضمنه - حسب ما مر - ومع البناء على حصول ترك الشئ بتركه في آن
ما يلزم تركه أن يكون تركه في كل آن متعلقا للمنع، بناء على استلزام المنع من
الشئ المنع من جميع أفراده في جميع الأزمنة - كما هو مختار القائل بدلالة النهي
على الدوام - فلا يصح البناء على الفرق بين الأمرين.
29

ودعوى كون المنع من الترك تابعا لإيجابه فلو لم يكن إيجابه على سبيل
التكرار لم يكن المنع منه كذلك، مدفوع: بأنا نقرر الكلام على فرض دلالة الأمر
على طلب مطلق الطبيعة - كما هو مختار معظم المحققين - فيكون المنع من الترك
التابع للأمر هو المنع من ترك نفس الطبيعة - كما هو مدلول سائر النواهي الواردة
من غير فرق أصلا - فإذا صدق ترك الطبيعة بترك جميع أفرادها في آن واحد لزم
أن يكون متعلقا للمنع، إذ المفروض تعلق المنع بترك الطبيعة وقضاء ذلك بتركها في
جميع الأزمان، فلزم من ذلك أن يكون إيجادها مطلوبا في كل زمان.
نعم لو قلنا بدلالة الأمر على المرة تم ما ذكر، إلا أنه غير ما هو المفروض في
التقرير المذكور. فظهر بما قررنا صحة ما ذكرنا من كون مفاد ترك الطبيعة تركها في
جميع الأزمان، وهو الذي يتعلق به الأمر (1) عند الأمر بالفعل ويحصل امتثاله بأداء
المطلوب ولو مرة واحدة - كما مر بيانه في محله - وقد تبين بملاحظة جميع ما
بيناه ضعف ما أورده المحقق المحشي (رحمه الله) من منع اقتضاء النهي سلب جميع
الأفراد، فإن ورود النفي على المفهوم خبرا وإنشاءا يتصور على وجهين: وروده
في ضمن جميع أفراده، ووروده عليه في الجملة، بحيث يصلح تحققه في ضمن
السلب الكلي والسلب الجزئي، فلا يلزم ترك جميع الأفراد ولو في آن واحد أيضا
انتهى ملخصا. كيف! وصريح العرف ينادي بخلاف ما ذكره وليس المطلوب بالنهي
إلا عدم إيجاد الفعل - كما مر - وهو رفع لما هو المطلوب بالأمر، وكيف يعقل رفع
إيجاد الفعل مع فرض الإتيان به مما لا يتناهى من أفراده، فيكون مفاد النهي أمرا
هو واجب الحصول. فما ذكره من الاحتمال فاسد قطعا لا مجال للخلاف فيه.
فدلالة النهي على كون المطلوب ترك جميع أفراد المنهي عنه ولو في زمان واحد
مقطوع به غير قابل للنزاع، إنما الكلام في دلالته على اعتبار دوام الترك المفروض
وعدمه، وقد عرفت دلالته على ذلك حسب ما بيناه.
ثانيهما: أن يكون مقصوده بذلك الرجوع إلى التبادر بدعوى أن المتبادر من

(1) كذا في نسخة " ق 1 " وفي سائر النسخ: المنع.
30

الصيغة هو المنع من إدخال ماهية الفعل في الوجود مطلقا، وذلك إنما يتحقق بعدم
إدخال شئ من أفرادها في الوجود. فيكون قوله: " ولذا إذا نهى السيد... الخ "
استشهادا بالمثال المذكور على حصول التبادر، وعد جماعة منهم الآمدي
والعلامة في النهاية والفاضل الجواد ذلك دليلا برأسه على المطلوب، وهو رجوع
إلى التبادر المدعى.
ويدفعه حينئذ المنع من استناد التبادر إلى نفس اللفظ، وإنما ذلك من جهة
استلزام مدلول اللفظ، فالانتقال إليه إنما يكون بتوسط ذلك، فإن أريد بذلك
الاستناد إليه في وضع النهي للدوام فهو ممنوع، وإن أريد التمسك به في استفادة
الدوام منه في الجملة فمسلم ومرجعه إلى ما قررناه، وقد يمنع من حصول التبادر
وفهم العرف للدوام وهو ضعيف كما عرفت.
نعم، لو قام هناك قرينة على إرادة عدم الدوام لم يفهم منه ذلك - كما لو اشتغل
أحد بضرب زيد فنقول له لا تضرب زيدا فإن المستفاد حينئذ من اللفظ نهيه عما
يقع منه من الضرب دون منعه منه على سبيل الدوام كما هو الحال في نواهي
الطبيب بالنسبة إلى المريض - فالاستشهاد بذلك على المنع من حصول التبادر
بالنسبة إلى المجرد عن القرينة كما هو محط النظر في المقام كما ترى.
هذا وقد يستدل أيضا على القول المذكور بوجوه اخر:
منها: دعوى الاجماع عليه، فإن العلماء لم يزالوا يستدلون بالنواهي على
الدوام من غير نكير، وقد حكى ذلك عنهم جماعة من الخاصة والعامة، فمن
الخاصة العلامة في النهاية والسيد العميدي في المنية وشيخنا البهائي في الزبدة
والفاضل التوني في الوافية وغيرهم، ومن العامة الحاجبي والعضدي وغيرهما.
ويرد عليه مثل ما مر من عدم دلالة ذلك على حصول الوضع. غاية الأمر
حصول الاستفادة ولو من جهة الالتزام العقلي أو العرفي، فإن أريد بذلك بيان
حصول مجرد الدلالة في الجملة فهو متجه، وإن أريد الاستناد إليه في حصول
الوضع فهو ضعيف.
31

ودعوى أصالة كون الدلالة تضمنية عند الدوران بينها وبين الالتزامية مما
لا يعرف الوجه فيه.
والقول بأن الدلالة الالتزامية مغايرة بالذات للدلالة المطابقية بخلاف
التضمنية، لاتحادهما بالذات وتغايرهما بحسب الاعتبار، فبأصالة عدم تعدد أصل
الدلالة يترجح كون الدلالة في المقام تضمنية، مما لا يصغى إليه، لو سلم قضاء
الأصل بذلك، لدوران الأمر في المقام مدار الظن. وعدم حصوله من التخريج
المذكور واضح جدا.
ثم إنه قد يمنع في المقام من جريان طريقتهم على ذلك، أو من دلالته على
فرض ثبوته على استفادته من اللفظ، فقد يكون ذلك من جهة انضمام القرائن، ولا
وجه له بعد نقل الجماعة استنادهم في فهم الدوام إلى مجرد النواهي الواردة.
ومنها: أن مبادئ الأفعال نكرات في المعنى فإذا وردت في سياق النفي أو
النهي أفادت العموم.
وأورد عليه: بالمنع من جريان ذلك في المصادر التي في ضمن الأفعال سيما
في المقام، غاية الأمر ان يسلم ذلك في النكرة المصرحة. ويدفعه فهم اشتراك
العرف.
وقد يورد عليه أيضا: بأن غاية ما يستفاد من النكرة في سياق النفي نفي
الحكم عن جميع الأفراد، وأما في جميع الأوقات والأزمان فلا، ألا ترى أن قولك
لا رجل في الدار لا يفيد نفي وجود الرجل فيها في كل زمان.
وفيه: أنه إنما يتبع الزمان الذي وقع الحكم بالنسبة إليه من الماضي والحال
والاستقبال، ويفيد عدم الحكم بالنسبة إلى ذلك الزمان إن كان قابلا له. وأما قولك:
لا رجل في الدار فلا يفيد إلا النفي في الحال، كما هو قضية الجملة الاسمية في
الإثبات (1). فالأولى الإيراد عليه: بأنه لا دلالة في ذلك على ثبوت الوضع لما
سيجئ بيانه إن شاء الله من عدم وضع النكرة في سياق النفي للعموم، فإن أريد بما
ذكر إفادة الموضوعية للعموم لم يتجه ذلك وإلا كان وجها كما عرفت.

(1) الإيجاب - خ ل.
32

ومنها: ما أشار إليه شيخنا البهائي في حاشية الزبدة وحكاه الفاضل الجواد
في الشرح وهو: أن ترك الفعل في وقت من الأوقات أمر عادي للمكلف حاصل
منه بحسب العادة فلا حاجة إلى النهي عنه، فلو لم يكن النهي مفيدا للدوام لكان
صدوره من الحكيم لغوا.
وأورد عليه تارة: بأن من قال بأن النهي للمرة قال بالفور، كما هو ظاهر من
كلام بعضهم حيث صرح بأن النهي لا يفيد إلا الانتهاء في الوقت الذي يلي وقت
النطق بالنهي، فلا يلزم عبث على مذهبهم، وكذا عند من يجعله مشتركا، فإنه
يتوقف في الحكم إلى أن يظهر دليل، وحينئذ فلا يلزم من كون الترك عاديا في
بعض الأوقات أن يكون النهي عبثا. كذا ذكره الفاضل الجواد.
ويدفعه عدم دلالة النهي على الفور عند القائل بكونه للمرة أو لمطلق الطبيعة،
حسب ما سيشير إليه المصنف (رحمه الله): من أن القائل بنفي دلالته على الدوام ينفي
الدلالة على الفور، وهو وإن لم يكن متجها كما سنشير إليه، إلا أن القائل المذكور
لا يلزمه القول بدلالته على الفور قطعا، فلا وجه للإيراد المذكور عند من نفى
الدلالة على الفور كما هو المختار.
وتارة: بأنه يثمر ذلك في حصول الامتثال فإنه وإن حصل الترك مع انتفاء
النهي إلا أنه لا يتفرع عليه حصول الامتثال بالترك إلا مع حصول النهي فيمكن معه
قصد الامتثال.
وأورد عليه: بأنه لا اعتبار لقصد الامتثال في جانب النهي، إذ ليس المقصود
من تشريعه قصد التقرب المعتبر في العبادات، لوضوح عدم اندراج النواهي
الشرعية في العبادة إلا ما ورد من النواهي المأخوذة في بعض العبادات
- كالصوم - فالمراد به في الحقيقة بيان حقيقة تلك العبادة المأمور بها، واعتبار
الوجه فيه إنما هو من جهة الأمر فلا ربط له بالمقام.
وفيه: أن مقصود المورد إمكان قصد الامتثال حينئذ، فيترتب عليه الثواب
على فرض حصول القصد المذكور، وهو كاف في الخروج عن اللغوية، لا لزوم
33

حصوله، واعتباره في نفس التكليف ليكون القصد المذكور مأخوذا في النواهي
ليعتبر القربة في التروك المطلوبة بها ليلزم اندراجها في العبادة، وهو ظاهر.
فالحق في دفعه: أن يقال: إن ذلك لا يكفي في تصحيح التكليف، إذ لا بد في
صحة التكليف بالفعل أو الترك كونه في حيز الإمكان، فيكون خارجا عن درجتي
الوجوب والامتناع، فلو كان الفعل أو الترك واجبا لم يصح تعلق الأمر أو النهي به.
غاية الأمر أنه إذا كان تركه واجبا كان تعلق الأمر به قبيحا من قبح التكليف
بما لا يطاق، وإن كان فعله واجبا كان قبحه من جهة الهذرية، وهي أيضا إحدى
الجهات في امتناع التكليف - حسب ما تقرر في محله - وكذا الحال لو كان الفعل
أو الترك واجبا في تعلق النهي به، لكن على عكس الحال في الأمر، وليس مجرد
صحة قصد الامتثال في صورة وجوب الفعل بالنسبة إلى الأمر وامتناعه بالنسبة
إلى النهي كافيا في صحة التكليف، فإن صحة القصد المذكور فرع تحقق التكليف،
فإذا كان التكليف قبيحا لم يصححه ذلك ولو اخذ ذلك قيدا في الفعل. وتوضيح
القول في ذلك يتوقف على إطالة الكلام ولا يناسبه المقام، سيما مع وضوح المرام
ولعلنا نتعرض في المقام اللائق به. وبالجملة فقبح ما ذكر في الجملة من الأمور
الظاهرة عند العقل. ألا ترى وضوح قبح أمر المكلف بالكون في المكان والزمان
ونهيه عن الجمع بين النقيضين والطيران في الهواء مطلقا أو مقيدا بقصد التقرب؟
مع جريان ما ذكره المستدل هنا فيها أيضا. والتحقيق في الإيراد على الدليل
المذكور ما عرفته في الجواب عن غيره: من عدم دلالة ذلك على وضع الصيغة
للدوام، إذ لو كان موضوعا لما يستلزم الدوام مع الإطلاق - حسب ما قررنا - كان
كافيا في حصول الثمرة المطلوبة.
ومنها: ظهور التناقض عرفا بين قولنا - اضرب زيدا ولا تضربه - وقد عرفت
أن مفاد اضرب هو طلب حقيقة الضرب في الجملة الحاصلة بمرة واحدة، فلو كان
النهي أيضا موضوعا لذلك لم يكن بينهما مناقضة، لرجوعهما حينئذ إلى قضيتين
مهملتين هما في قوة الجزئية، ولا تناقض بين الجزئيتين بوجه من الوجوه.
34

وفيه: أن المناقضة بينهما قد تكون من جهة أن تعلق الأمر بالطبيعة يفيد
مطلوبية الفعل في كل آن من الآنات مع عدم فعله في الأول، كما هو قضية الإطلاق
فيرجع إلى العموم لكن على سبيل التخيير بين جزئياته، وهو لا يجامع الجزئية
المستفادة من النهي، ومع الغض عن ذلك فقد يكون مبنى المناقضة على انصراف
إطلاق النهي إلى الدوام لا وضعه له، فإن كان المقصود من الدليل المذكور إفادة
الوضع له لم يتم ذلك. ودعوى أصالة كون الدلالة تضمنية عند الدوران بينها وبين
الالتزامية وقد عرفت وهنها. وهناك حجج أخرى للقول المذكور موهونة جدا فهي
بالإعراض عنها أحرى.
قوله: * (بأنه لو كان للدوام لما انفك عنه... الخ) *.
قد يورد عليه: بأن الكلام حينئذ في الدلالة اللفظية، والتخلف جائز، واقع
بالنسبة إليها، كيف! وباب المجاز واسع حتى قيل بأغلبيته على الحقيقة، فالملازمة
المدعاة فاسدة جدا.
ويمكن دفعه تارة بأن الكلام هنا في الملازمة العقلية - حسب ما مر -
ويحتمله الدليل المتقدم في كلامه، بناء على أن ترك الطبيعة لا يتحقق إلا بترك
جميع أفرادها، فيقال لو تم ذلك لجرى في جميع النواهي وليس كذلك. وأخرى
بأن التخلف في الدلالات اللفظية إنما يكون بالنسبة إلى الإرادة دون نفس الدلالة،
والمفروض حصول الثاني فيما ذكره من المثال، إذ لا يدل نهي الحائض عن
الصلاة والصيام على المنع منهما على سبيل الدوام، فذلك وجهان في تقرير
الاحتجاج المذكور.
ويمكن الإيراد عليهما: بأن أقصى ما يلزم منها عدم وضع الصيغة لخصوص
الدوام وعدم استلزام مدلول الصيغة للدوام مطلقا، حيث حصل الانفكاك بينهما،
ولا يلزم منهما عدم وضع الصيغة لما يستلزم الدوام حال الإطلاق، وإن أمكن
الانفكاك بينهما بعد قيام القرينة متصلة أو منفصلة على عدم إرادة المطلق، بل هي
حينئذ قد تفيد الدوام أيضا على حسب القيد.
35

والحاصل: أن النهي يفيد الدوام مطلقا مع الإطلاق والدوام على حسب القيد
مع التقييد، ولا يفيد الدوام أصلا مع قيام القرينة على إرادة الترك في الجملة من
دون لزوم المجاز في شئ من الصور، حسب ما مر بيانه.
وقد يقرر الاحتجاج بوجه ثالث: وهو أنه لو كان حقيقة في خصوص الدوام
لما كان مستعملا في غيره على وجه الحقيقة، والملازمة ظاهرة، والتالي باطل،
لنهي الحائض عن الصلاة والصوم مع كون النهي المتعلق بهما على وجه الحقيقة
دون المجاز.
وفيه: أن الدعوى المذكورة محل خفاء، إذ كون النهي عنهما على وجه الحقيقة
أول الكلام.
وأورد عليه أيضا برجوعه حينئذ إلى الدليل الثالث.
وأنت خبير بما فيه لاختلاف كيفية الاستدلال في المقامين وإن اتحدت
المقدمات المأخوذة فيهما على أن ذلك أيضا ممنوع بناءا على حمل المناقضة في
الدليل الآتي على المناقضة الحقيقية دون الصورية الحاصلة في المجازات الباعثة
على صرفها من الحقيقة.
وقد يقرر ذلك بوجه رابع حاصله: أن بعض صيغ النهي ورد لا للتكرار ومجيئه
للتكرار أمر مقرر معلوم، فيجب أن يكون للقدر المشترك بينهما دفعا للاشتراك
والمجاز.
وأنت خبير ببعده عن العبارة جدا فحملها على ذلك تعسف ركيك، مضافا إلى
أنه عين الدليل الثاني. فلا وجه لحمل العبارة عليه، ثم الإيراد بعدم الفرق بين
الدليلين - كما فعله المدقق المحشي (رحمه الله) -.
وقد يقرر بوجه خامس: وهو أنه لو كان للتكرار لما انفك عنه مع إطلاق
النهي، والتالي باطل فالمقدم مثله.
وهو أيضا خارج عن ظاهر العبارة ولا يوافقه الجواب المذكور في كلامه،
وإنما يناسبه منع الملازمة إن أريد بإطلاق النهي إطلاقه بحسب الظاهر وإن ورد
36

التقييد بعد ذلك، لجواز تأخير البيان عن وقت الخطاب. ومنع بطلان التالي إن أريد
إطلاقه بحسب الواقع. فاحتمال حمل العبارة كما صنعه المدقق المحشي (رحمه الله) ليس
على ما ينبغي، وهو ظاهر.
قوله: * (وبأنه ورد للدوام) * إن أريد بذلك دفع وضعه لخصوص أحد
المعنيين وكل منهما ليكون مجازا في الآخر أو مشتركا لفظيا بينهما فله وجه بناءا
على صحة الاستناد في إثبات الأوضاع إلى الأصل المذكور إلا أنه لا يفيد عدم
دلالته على الدوام ولو على سبيل الالتزام، وإن أريد به دفع دلالته على الدوام
مطلقا فلا إشعار في الدليل المذكور على دفعه، أقصى الأمر أن يفيد عدم وضعه
للدوام.
قوله: * (وبأنه يصح تقييده بالدوام... الخ) *.
يمكن تقرير ذلك بوجهين:
أحدهما: أن يراد به أن مدلول النهي على ما هو المنساق منه في العرف قابل
للتقييد بالدوام ونقيضه، من غير أن يعد ذلك تكرارا ولا تناقضا في الظاهر ليلزم به
الخروج عن ظاهر النهي، بل مفاده أمر قابل للأمرين، فيعلم بذلك كون المفهوم منه
أعم منهما.
ثانيهما: أن يقال إنه يجوز تقييد النهي بكل من القيدين، والأصل فيما يقيد أن
يكون حقيقة في كل منهما هربا من التأكيد والمجاز - حسب ما مر بيانه في محله -.
قوله: * (والجواب عن الأول... الخ) * يمكن تقرير الجواب عن كل من
الوجهين الأولين المذكورين في تقرير الاستدلال، أما على الأول: فبأن يقال: إن
ما يدعى من الملازمة المذكورة العقلية إنما هو بالنسبة إلى النواهي المطلقة، إذ
اقتضاء ترك الطبيعة على سبيل الإطلاق قاض بعدم إدخال شئ من أفرادها في
الوجود، إذ لا يعقل ترك الطبيعة المطلقة إلا بذلك كما مر. أما إذا قيد النهي أو
المنهي عنه بشئ فإنما يكون قضية النهي حينئذ عدم إدخال شئ من أفراد المنهي
عنه في الوجود - على حسب ما ذكر من القيد - فالدلالة على الدوام حينئذ حاصلة
37

أيضا، لكن على حسب ما حصل من النهي أو على النحو الذي تعلق به النهي
عن الفعل.
وأما على الثاني: فبأن الصيغة إنما وضعت لإفادة الدوام بالنسبة إلى ما تعلقت
به، فإن تعلقت بالمطلق أفادت إطلاق الدوام - كما هو المقصود في المقام - وإن
تعلقت بالمقيد أفادت دوامه - على حسب ذلك القيد - ففي المثال المفروض إنما
تعلق النهي بالصلاة والصيام الواقعين في أيام الحيض لا مطلقا، فليس هناك
خروج عن مقتضى وضع الصيغة، وإنما حصل الخروج عن الظاهر في تقييد المادة
حيث إن مقتضاه الإطلاق وقد التزم تقييدها بما ذكر من القيد، والصيغة تفيد الدوام
في الصورتين.
قوله: * (إن عدم الدوام في مثل قول الطبيب... الخ) *.
أراد بذلك أنه بعد تسليم قضاء الأصل بما ذكر فإنما يفيد ما أراده إذا لم يقم
دليل على خلافه وقد قام في المقام، حيث إن المتبادر من النهي هو الدوام ولا
يفهم منه غيره إلا لقيام القرينة عليه - كما في نهي الطبيب - فيكون ذلك دليلا على
كونه حقيقة في الأول مجازا في غيره.
وأنت خبير: بأن التبادر المدعى في المقام ليس مستندا إلى نفس اللفظ ليفيد
كونه حقيقة في خصوص الدوام فلا يتم ما ذكره، بل لو قيل بكون المتبادر من نفس
الطبيعة طلب ترك الطبيعة مطلقا - كما أن المتبادر من الأمر طلب إيجادها كذلك
من غير دلالة في نفس اللفظ على مرة أو تكرار ودوام - كان أولى.
قوله: * (من حيث إن الاستعمال في خصوص المعنيين يصير... الخ) *.
قد عرفت فيما مر أن ما ذكره يتم إذا ثبت استعمال اللفظ في خصوص كل من
المعنيين، فأريد من ذلك إثبات كونه حقيقة في القدر الجامع بينهما من غير ثبوت
استعماله فيه أو مع ثبوته أيضا، إلا أنه مع عدم الثبوت أوضح فسادا، وأما إذا علم
استعماله في القدر الجامع وعلم استعماله في مقام إرادة الدوام تارة وغيره أخرى
من غير أن يعلم استعمال الصيغة في خصوص الدوام أو المرة، بل لكونه قسما من
38

الطلب كما هو الحال في المقام فلا يلزم ما ذكره، إذ قضية الأصل حينئذ كونه
حقيقة في القدر الجامع، وتنزيل الإطلاقات الخاصة على كونها من قبيل إطلاق
الكلي على الفرد، وإطلاق طلب ترك الطبيعة على قسم خاص منه، مع فهم
الخصوصية من القرينة المنضمة إليه أو غيرها، لاندفاع المجاز والاشتراك إذا،
وفرض جواز استعماله حينئذ في خصوص كل من المعنيين فيلزم المجاز
والاشتراك أيضا لا يثمر في المقام، إذ المقصود التخلص من المجاز والاشتراك في
الاستعمالات الواردة، حيث إن الأصل فيها الحقيقة المتحدة لا فيما يفرض
الاستعمال فيه، بل لا يبعد القول بما ذكرنا فيما إذا لم يعلم حينئذ استعماله في
مطلق طلب الترك أيضا، ودار الاستعمال بين كونه في المطلق أو الخاص. وقد مر
تفصيل القول في ذلك في محله.
قوله: * (بأن التجوز جائز... الخ) *.
لا يخفى أن الجواب المذكور بظاهره لا يلائم شيئا من الوجهين المتقدمين في
تقرير الاحتجاج، إذ ليس مبنى التقريرين المذكورين على عدم جواز التجوز
والتأكيد حتى يجاب بجوازهما ووقوعهما في الكلام، بل مبنى الأول على كون ما
يستفاد من إطلاق النهي عرفا قابلا للقيدين المذكور من غير أن يخرج النهي به من
ظاهره، فلا وجه لدفعه بجواز كل من الأمرين المذكورين. ومبنى الثاني على كون
ما ذكر من الأمرين على خلاف الأصل، فمهما أمكن البناء على انتفائهما تعين
البناء عليه، فيكون ذلك تمسكا بالأصل، فلا وجه لدفعه بجواز وقوع الأمرين.
ويمكن الجواب بإمكان قطعيته على كل من الوجهين: أما على الأول فبأن
المقصود منه منع ما ادعاه من قبول المفهوم من إطلاق النهي لكل من القيدين وما
يرى من استعماله على الوجهين فمبني على الخروج عن الظاهر من التزام التجوز
أو التأكيد.
وأما على الثاني: فبأن بقال: إن التجوز والتأكيد وإن كانا على خلاف الأصل
إلا أنهما شائعان في الاستعمالات، فمجرد كونهما على خلاف الأصل لا يثبت
39

الوضع، لأنه أمر توقيفي لا بد في ثبوته من الرجوع إلى توقيف الواضع لا إلى مجرد
الأصول المذكورة.
غاية الأمر أن يرجع إليها في تعيين المراد ويقال: إن المقصود أنهما وإن كانا
على خلاف الأصل لكنهما واقعان في الكلام فلا مانع من الالتزام به بعد قيام
الدليل عليه، لما مر من بيان ما يفيد دلالته على الدوام. هذا. وقد يذكر للقول
المذكور حجج موهونة أخرى لا بأس بالإشارة إلى جملة منها:
منها: أنه لو كان موضوعا للدوام لكان قولنا: " لا تضرب زيدا غدا " غلطا،
والتالي واضح الفساد، أما الملازمة فلانحصار استعمال الصحيح في الحقيقة
والمجاز، والأول منفي قطعا وكذا الثاني، إذ لا علاقة بينه وبين الدوام، ولذا لا
يجوز أن يطلق لفظ الدوام ويراد به خصوص الغد - مثلا - ويوهنه أنه لو تم ذلك
فإنما يتم لو كان الدوام تمام مفاد الصيغة، وأما إذا كان بعض مفاده كما هو واضح
فأقصى الأمر اسقاط قيد الدوام، واستعماله في الباقي فيكون من قبيل استعمال
اللفظ الموضوع للكل في الجزء، ولا يتصور إذن مانع من صحة الاستعمال.
ومنها: أنه لو كان للدوام لكان مفاد قوله: " لا تفعل " لا تفعل في شئ من
الأوقات، فإذا قلت: " لا تفعل غدا " صار من قبيل تخصيص العام بأكثر من النصف
وهو غير جائز. وضعفه ظاهر مما عرفت، إذ أقصى الأمر حينئذ اسقاط قيد الدوام
فلا يكون من تخصيص العام في شئ.
ومنها: أن " لا تفعل " مركب من حرف وفعل وشئ منهما لا يفيد العموم
انفرادا قطعا، والأصل عدم دلالة الهيئة التركيبية زيادة على ما هو من مقتضيات
التركيب ولوازمه عقلا، ومن الظاهر أن الدوام ليس منها.
وفيه: بعد الغض عن عدم جريان الأصل في مداليل الألفاظ أن أقصى ما
يفيده ذلك عدم وضع الهيئة لإفادة الدوام، وأما عدم كون الدوام مدلولا التزاميا له
مع الإطلاق حسب ما بيناه فلا، ويجري ذلك في دفع الوجهين الأولين أيضا.
قوله: * (لما أثبتنا كون النهي للدوام... الخ) * إذا قلنا بكون النهي موضوعا
40

لطلب ترك الطبيعة وقلنا بكون ذلك مستلزما للدوام لزمه الفور قطعا، وهو ظاهر،
وأما إذا قلنا بدلالة صيغة النهي على جواز التراخي ووجوبه كما قد يقال بذهاب
شاذ إليه في الأمر كما مر فلا منافاة بينه وبين القول بدلالتها على الدوام، فإنها إنما
تفيد الدوام على حسب الطلب الحاصل في المقام، فإذا كان الطلب على سبيل
التراخي جوازا أو وجوبا كان الدوام الملحوظ فيه كذلك أيضا، سيما إذا قلنا بكون
دلالتها على الدوام على سبيل الالتزام، فإن دلالته على التراخي بحسب الوضع،
فيكون الدوام المعتبر فيه تابعا للطلب الحاصل. فما ذكره من " أن القول بدلالتها
على الدوام يستلزم القول بالفور " غير ظاهر على إطلاقه.
قوله: * (ومن نفى كونه للتكرار) * لا يخفى أنه لا ملازمة بين الأمرين
المذكورين فما ذكره من أن النافي للتكرار ناف للفور إن أراد به أنه يلزمه ذلك
- حسب ما ذكره في الصورة الأولى - فهو واضح الفساد ودعوى وضوح الوجه
فيه أوضح فسادا وإن أراد النافي للتكرار نافيا للفورية على سبيل الاتفاق ففيه
أيضا أنه خلاف الواقع إذ الشيخ (رحمه الله) من النافين لدلالتها على التكرار ويقول
بدلالتها على الفور كما ذهب إليه في الأمر، بل قال في غاية المأمول: إن من قال
بأن النهي للمرة قال بالفورية كما هو ظاهر من كلام بعضهم حيث صرح بأن النهي
لا يفيد إلا الانتهاء في الوقت الذي يلي وقت النطق بالنهي انتهى.
* * *
41

معالم الدين:
أصل
الحق امتناع توجه الأمر والنهي إلى شئ واحد. ولا نعلم في ذلك
مخالفا من أصحابنا. ووافقنا عليه كثير ممن خالفنا. وأجازه قوم.
وينبغي تحرير محل النزاع أولا فنقول:
الوحدة تكون بالجنس وبالشخص. فالأول يجوز ذلك فيه، بأن
يؤمر بفرد وينهى عن فرد، كالسجود لله تعالى، وللشمس، والقمر. وربما
منعه مانع، لكنه شديد الضعف، شاذ. والثاني إما أن يتحد فيه الجهة، أو
تتعدد. فان اتحدت، بأن يكون الشئ الواحد من الجهة الواحدة
مأمورا به منهيا عنه، فذلك مستحيل قطعا. وقد يجيزه بعض من جوز
تكليف المحال - قبحهم الله - ومنعه بعض المجيزين لذلك، نظرا إلى
أن هذا ليس تكليفا بالمحال، بل هو محال في نفسه، لأن معناه الحكم
بأن الفعل يجوز تركه، ولا يجوز. وإن تعددت الجهة، بأن كان للفعل
جهتان، يتوجه إليه الأمر من إحديهما، والنهي من الأخرى، فهو محل
البحث، وذلك كالصلاة في الدار المغصوبة، يؤمر بها من جهة كونها
صلاة، وينهى عنها من حيث كونها غصبا، فمن أحال اجتماعهما
أبطلها، ومن أجازه صححها.
43

لنا: أن الأمر طلب لايجاد الفعل، والنهي طلب لعدمه، فالجمع
بينهما في أمر واحد ممتنع. وتعدد الجهة غير مجد مع اتحاد المتعلق،
إذ الامتناع إنما ينشأ من لزوم اجتماع المتنافيين في شئ واحد. وذلك
لا يندفع إلا بتعدد المتعلق، بحيث يعد في الواقع أمرين، هذا مأمور به
وذلك منهي عنه. ومن البين أن التعدد بالجهة لا يقتضي ذلك بل
الوحدة باقية معه قطعا، فالصلاة في الدار المغصوبة، وإن تعددت فيها
جهة الأمر والنهي، لكن المتعلق الذي هو الكون متحد، فلو صحت،
لكان مأمورا به - من حيث إنه أحد الأجزاء المأمور بها للصلاة وجزء
الجزء جزء والأمر بالمركب أمر باجزائه - ومنهيا عنه، باعتبار أنه بعينه
الكون في الدار المغصوبة، فيجتمع فيه الأمر والنهي وهو متحد. وقد
بينا امتناعه، فتعين بطلانها.
احتج المخالف بوجهين، الأول: أن السيد إذا أمر عبده بخياطة
ثوب، ونهاه عن الكون في مكان مخصوص، ثم خاطه في ذلك المكان،
فانا نقطع بأنه مطيع عاص لجهتي الأمر بالخياطة والنهي عن الكون.
الثاني: أنه لو امتنع الجمع، لكان باعتبار اتحاد متعلق الأمر والنهي،
إذ لا مانع سواه اتفاقا. واللازم باطل، إذ لا اتحاد في المتعلقين. فان
متعلق الأمر الصلاة، ومتعلق النهي الغصب، وكل منهما يتعقل انفكاكه
عن الآخر، وقد اختار المكلف جمعهما، مع إمكان عدمه. وذلك لا
يخرجهما عن حقيقتهما اللتين هما متعلقا الأمر والنهي، حتى لا يبقيا
حقيقتين مختلفتين، فيتحد المتعلق.
والجواب عن الأول: أن الظاهر في المثال المذكور إرادة تحصيل
خياطة الثوب بأي وجه اتفق. سلمنا، لكن المتعلق فيه مختلف، فان
الكون ليس جزء من مفهوم الخياطة، بخلاف الصلاة. سلمنا، لكن نمنع
44

كونه مطيعا والحال هذه. ودعوى حصول القطع بذلك في حيز المنع،
حيث لا يعلم إرادة الخياطة كيف ما اتفقت.
وعن الثاني: أن مفهوم الغصب، وإن كان مغايرا لحقيقة الصلاة، إلا
أن الكون الذي هو جزؤها بعض جزئياته، إذ هو مما يتحقق به. فإذا
أوجد المكلف الغصب بهذا الكون، صار متعلقا للنهي، ضرورة أن
الأحكام إنما تتعلق بالكليات باعتبار وجودها [في ضمن الأفراد]،
فالفرد الذي يتحقق به الكلي هو الذي يتعلق به الحكم حقيقة. وهكذا
يقال في جهة الصلاة، فان الكون المأمور به فيها وإن كان كليا، لكنه إنما
يراد باعتبار الوجود. فمتعلق الأمر في الحقيقة إنما هو الفرد الذي
يوجد منه، ولو باعتبار الحصة التي في ضمنه من الحقيقة الكلية، على
أبعد الرأيين في وجود الكلي الطبيعي.
وكما أن الصلاة الكلية تتضمن كونا كليا، فكذلك الصلاة فالجزئية
تتضمن كونا جزئيا، فإذا اختار المكلف إيجاد كلي الصلاة بالجزئي
المعين منها، فقد اختار إيجاد كلي الكون بالجزئي المعين منه الحاصل
في ضمن الصلاة المعينة. وذلك يقتضي تعلق الأمر به. فيجتمع فيه
الأمر والنهي، وهو شئ واحد قطعا،
فقوله: " وذلك لا يخرجهما عن حقيقتهما، الخ "، إن أراد به
خروجهما عن الوصف بالصلاة والغصب، فمسلم، ولا يجديه، إذ لا
نزاع في اجتماع الجهتين، وتحقق الاعتبارين، وإن أراد أنهما باقيان
على المغايرة والتعدد بحسب الواقع والحقيقة، فهو غلط ظاهر
ومكابرة محضة، لا يرتاب فيها ذو مسكة.
وبالجملة فالحكم هنا واضح، لا يكاد يلتبس على من راجع
وجدانه، ولم يطلق في ميدان الجدال والعصبية عنانه.
45

قوله: * (الحق امتناع توجه الأمر والنهي... الخ) *.
هذه المسألة أيضا من المسائل المتعلقة بالأحكام، ولذا ذكرها هناك جماعة
من الأعلام فلا ربط لخصوصية الأمر والنهي بمحل الكلام، وإنما يناط البحث في
المقام باجتماع الوجوب والتحريم في شئ واحد، فترتبط المسألة بمباحث
الأوامر والنواهي من جهة كون الوجوب والتحريم مدلولا للأمر والنهي على نحو
غيرها من المقامين المتقدمة، فالكلام في جواز اجتماع الوجوب والتحريم بأي
لفظ وردا، هذا بالنظر إلى الكلام في الجواز العقلي. وأما بالنسبة إلى الفهم العرفي
الذي هو أحد المقامين اللذين وقع البحث فيهما فإنما تقدم البحث في الظواهر
والإطلاقات دون النصوص والتصريحات، وسيجئ الكلام أيضا في اجتماع
سائر الأحكام بعضها مع بعض واجتماع كل منها مع كل من الوجوب والتحريم
ونحن نفصل القول في جميع ذلك في آخر المسألة إن شاء الله تعالى.
ثم نقول: إن الأمر والنهي إما أن يتعلقا بشيئين أو بشئ واحد، وعلى الأول
فإما أن يكونا متباينين أو متساويين أو يكون بينهما عموم وخصوص مطلق مع
تعلق النهي بالأخص أو الأعم أو عموم من وجه، وعلى الأول فإما أن يكونا
متلازمين بحسب الوجود أو متفارقين، أو يكون المأمور به ملازما للمنهي عنه أو
بالعكس، وعلى الثاني فإما أن يكون تعلق الأمر والنهي من جهة واحدة أو من
جهتين، والجهتان إما أن تكونا تعليليتين أو تقييديتين، أو يكون الجهة المأخوذة
في المأمور به تقييدية والأخرى تعليلية أو بالعكس، ثم إن الجهتين إما أن تكونا
متباينتين أو متساويتين أو يكون بينهما عموم مطلق أو من وجه، وعلى فرض
التباين يجري فيهما. والتلازم من الجانبين أو من جانب واحد. والتفارق حسب
ما مر. ثم إن الوحدة الملحوظة في متعلق الأمر والنهي إما أن تكون شخصية أو
نوعية أو جنسية. والوجوب والتحريم المتعلقتين بالشئ الواحد أو الشيئين إما أن
يكونا نفسيين أو غيريين أو الوجوب نفسيا والحرمة غيريا أو بالعكس، وإما أن
يكونا أصليين أو تبعيين أو الوجوب أصليا والحرمة تبعيا أو بالعكس، وإما أن
46

يكونا تعيينيين أو تخييريين أو الوجوب عينيا والحرمة تخييريا أو بالعكس، وكذا
يجري الكلام بالنسبة إلى العيني والكفائي.
فهاهنا مسائل:
منها: ما لا إشكال فيه أصلا.
ومنها: ما يقع فيه الإشكال وإن كان خارجا عن محل البحث في المقام ونحن
نشير إلى الحال في جميع ذلك. فمن الصورة الأولى تعلق الأمر والنهي بشيئين
متباينين متفارقين في الوجود فإنه لا إشكال في جوازه سواء كانا متعاندين
كالصلاة والزنا أو غير متعاندين كالصلاة والنظر إلى الأجنبية.
ومنها: أن يتعلقا بأمر واحد جنسي بالنظر إلى قيدين منوعين له كعبادة الله
تعالى وعبادة الصنم وهذا مما لا خلاف في جوازه ومرجعه إلى الصورة الأولى.
ومنها: أن يتعلقا بأمر واحد نوعي باعتبار قيدين مصنفين له أو مشخصين ولا
تأمل عندنا في جوازه ومرجعه أيضا إلى القسم الأول، إلا أنه قد يجئ على قول
من يجعل الحسن والقبح ذاتيين للأفعال غير مختلفين بحسب الاعتبارات المنع
من ذلك، كما سيجئ الإشارة إليه في كلام المصنف، وهو قول ضعيف كما فصل
الكلام فيه في محله، وتفريع ذلك عليه غير متجه أيضا، كما سنشير إليه إن شاء الله.
ومنها: توجيه الأمرين إلى شئ واحد شخصي من جهة واحدة، ولا إشكال
في المنع منه، كما سيشير إليه المصنف (رحمه الله)، وكذا الحال إلى واحد نوعي أو جنسي
من جهة واحدة فإن مآله إلى التوجيه إلى الواحد الشخصي.
ومنها: تعلقهما بشيئين متساويين ولا تأمل أيضا في المنع منه، فإن ما يجب
على المكلف بحسب الخارج المتعلق هو إيجاد المأمور به وترك المنهي عنه،
والمفروض اتحادهما بحسب الوجود فيتحد متعلق الطلبين مضافا إلى عدم إمكان
الخروج عن عهدة التكليفين.
ومنها: أن يكون بين متعلقهما عموم مطلق مع تعلق الأمر والنهي بشئ واحد
من جهتين متلازمتين.
47

ومنها: تعلقهما بشئ واحد شخصي أو نوعي أو جنسي من جهتين متلازمتين
وإن كانت الجهتان مميزتين لمتعلق الأمر والنهي، إذ عدم الانفكاك بينهما في
الوجود يقضي بامتناع الخروج عن عهدة التكليفين، فيكون توجيه الخطابين إلى
المكلف من قبيل التكليف بالمحال، إذ لا فرق في استحالة التكليف بالمحال بين
التكليف الواحد والتكاليف العديدة. ومنه يظهر الحال في امتناع تعلقهما بشئ
واحد من جهتين مع ملازمة جهة الأمر لجهة النهي لا لاستحالة الخروج عن عهدة
التكليفين - كما أشرنا إليه - وكذا الحال في تعلقهما بشيئين متلازمين أو ما يلازم
المأمور به منهما للمنهي عنه.
ومنها: تعلقهما بشئ واحد من جهتين تعليليتين وإن أمكن تفارق الجهتين،
فإن تعدد العلة لا يقضي باختلاف المتعلق، فلا فرق إذن بين الواحد الشخصي
وغيره.
ثم إن ما ذكرناه من المنع ظاهر بالنسبة إلى الوجوب العيني التعييني سواء كان
نفسيا أو غيريا أصليا أو تبعيا، نعم لو كان وجوبه مشروطا بحصول الحرام
المفروض فيما إذا تعدد المتعلق فلا مانع - حسب ما مرت الإشارة إليه -.
وأما بالنسبة إلى الوجوب التخييري أو الكفائي فقد يقع فيه الإشكال، سيما
فيما إذا كان الوجوب تبعيا أو غيريا أو هما معا خصوصا إذا كان التحريم كذلك
أيضا، والحق فيه أيضا المنع، كما سنفصل القول فيه إن شاء الله تعالى. وبعض
الصور المذكورة هو موضوع البحث في المقام - على ما ذكره جماعة من الأعلام -
وستعرف حقيقة الحال فيه. هذا وبقية الوجوه المذكورة مما يقع الكلام في جوازها
ومنعها. ونحن بعد ما نفصل القول في المسألة نبين الحال في كل من الوجوه
المذكورة إن شاء الله تعالى.
قوله: * (الوحدة قد يكون بالجنس... الخ) *.
المراد بالجنس هنا يعم النوع كما هو المتداول بين علماء المنقول ويشير إليه
مقابلته بالوحدة الشخصية.
48

قوله: * (وربما منعه مانع لكنه شديد الضعف... الخ) *.
الظاهر أنه مبني على القول بكون حسن الأفعال وقبحها ذاتيا لها غير منفك
عنها - حسب ما عزى إلى قدماء المعتزلة - لا بحسب الوجوه والاعتبارات، فإذا
ثبت الحسن أو القبح لطبيعة في ضمن بعض الأفراد كان منوطا بنفس الذات
- أعني الطبيعة النوعية - فلا يمكن انفكاكه عنها بالعوارض المصنفة أو المشخصة،
لأن ما بالذات لا يزول بالغير، ومنه يعرف اختصاص المنع بالوحدة النوعية ولا
يجري في غيرها، لكن المبنى المذكور ضعيف جدا، فإن التحسين والتقبيح
العقليين يدور غالبا مدار الوجوه والاعتبارات، كما سيجئ الكلام فيه مفصلا إن
شاء الله تعالى، ومع الغض عن ذلك وتسليم كونهما ذاتيين للأفعال فليس الأمر
والنهي دائرا مدار ذلك قطعا، لوجوب الأمر بأقل القبيحين حينئذ عند دوران الأمر
بينهما، فأي مانع إذا من أن يكون بعض أصناف الطبيعة المنهي عنها مأمورا به؟
فيرتفع النهي بالنسبة إليه لدوران الأمر بين ارتكاب القبح الحاصل فيه وما هو أقبح
منه وإن لم نقل حينئذ بانقلاب القبيح حسنا فتأمل.
قوله: * (ومنعه بعض المجيزين لذلك نظرا إلى أنه... الخ) * يمكن أن
يقرر كونه تكليفا محالا لا تكليفا بالمحال من وجوه:
أحدها: أن الوجوب مشتمل على جواز الفعل وعدم جواز الترك والحرمة
مشتملة على جواز الترك وعدم جواز الفعل، وجواز الفعل يناقض عدم جوازه كما
أن جواز الترك يناقض عدم جوازه، فجنس الوجوب يناقض فصل الحرمة كما أن
جنس الحرمة يناقض فصل الوجوب، فيكونان في اجتماع الحكمين في محل
واحد من جهة واحدة اجتماع النقيضين من وجهين. ولو لوحظ اجتماع المجموع
مع المجموع أعني نفس الحكمين كان من اجتماع الضدين.
ويدفعه: أن مفاد الوجوب ليس إلا مطلوبية الفعل على سبيل الحتم كما أن
مفاد الحرمة هو مطلوبية الترك على الوجه المذكور، ومن البين أنه لا منافاة بين
الطلبين من حيث أنفسهما، واستلزام مطلوبية الفعل لجوازه بحسب الواقع
49

ومطلوبية الترك كذلك أول المسألة، والقائل بجواز التكليف بالمحال لا يقول به.
ثانيها: أن إيجاب الشارع للفعل يفيد حسنه ونهيه عنه يفيد قبحه، فيلزم من
اجتماع الأمر والنهي كذلك اجتماع الحسن والقبح في شئ واحد من جهة واحدة
وهو جمع بين الضدين.
ويضعفه: أنه إنما يتم عند العدلية القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين.
وأما الأشاعرة المجوزون للتكليف بالمحال فلا يقولون به، وليس مفاد
الحسن عندهم إلا ما تعلق به أمر الشارع والقبيح إلا ما تعلق به نهيه، ولا يتفرع
على أمره ونهيه تعالى حسن عقلي للفعل ولا قبح كذلك، فإنه كما ينكر الحسن
والقبح العقليين مع قطع النظر عن أمر الشارع ونهيه كذا ينكرهما بعد تعلق الأمر
والنهي أيضا، بل ينكر ذلك ولو على فرض تسليمه للأول، حيث إنه يمنع وجوب
شكر المنعم الحقيقي على فرض تسليم الحسن والقبح العقليين، فلا يحصل للفعل
من تعلق أمر الشارع به إلا كونه مأمورا به ولا من تعلق النهي به سوى كونه منهيا
عنه، وهو مفاد الحسن والقبح الشرعيين عنده. ومن البين أنه لا تضاد بين الأمرين
المذكورين بحسب أنفسهما ليلتزم القائل بجواز التكليف بالمحال بالمنع منه.
نعم لا يمكن ذلك عند العدلية القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين.
ثالثها: أن اجتماع الأمر والنهي يقتضي اجتماع الضدين بالنظر إلى الآمر فإن
الآمر مريد للفعل كما أن الناهي مريد للترك، واجتماع الإرادتين بالنسبة إلى شئ
واحد في زمان واحد اجتماع للضدين.
ويدفعه: أنه إنما يتم إذا قلنا باشتمال الأمر والنهي على إرادة الفعل والترك
وليس الحال كذلك عند القائل المذكور، إذ ليس الأمر والنهي عندهم إلا نوعين من
الطلب، والطلب عندهم يغاير الإرادة النفسية، إذ ليس الطلب عندهم إلا نفس
الاقتضاء الانشائي الحاصل بالأمر والنهي دون الإرادة النفسية الحاصلة مع قطع
النظر عن الأمر والنهي، وقد مر بيان ذلك في مقامات عديدة. هذا على مذهب
هؤلاء الجماعة. وقد عرفت أن التحقيق عندنا اتحاد الطلب والإرادة الفعلية
50

التشريعية الحاصلة بإنشاء الصيغة وإثبات التضاد بين هاتين الإرادتين محل نظر،
إلا على قواعد العدلية من ثبوت التحسين والتقبيح العقليين. فظهر مما قررنا أنه لا
مانع من اجتماع الحكمين المذكورين في شئ واحد من جهة واحدة على قواعد
الأشاعرة. فالذي ينبغي أن يقال به على أصولهم هو الجواز، فما عزي إلى جماعة
منهم من القول بالمنع غير متجه على أصولهم. وأما على أصول العدلية فلا يجوز
ذلك مع قطع النظر عن امتناع التكليف بالمحال عندهم، لكونه حينئذ تكليفا محالا
حسب ما قرر من الوجهين الأولين، إذ لا مجال للمناقشة فيهما على أصول
الجماعة، نعم لا يتم الوجه الآخر على أصولهم أيضا إلا مع القول باتحاد الطلب
والإرادة النفسية، كما هو ظاهر من كلامهم كما مر، إلا أنه موهون بما فصلنا القول
فيه في محله.
قوله: * (لأن معناه الحكم بأن الفعل يجوز... الخ) *.
كأنه إشارة إلى الوجه الأول وهو اجتماع الجواز وعدمه في شئ واحد فإن
حكم الشارع بالجواز وعدمه في شئ واحد يقتضي ثبوتهما بحسب الواقع لعدم
جواز الكذب عليه تعالى فيلزم الجمع بين الضدين.
وأنت خبير: بأنه بعد تسليم إرجاع الأمر والنهي إلى الحكمين الخبريين أنهم
لا يثبتون الكذب عليه تعالى بناءا على أصولهم، فلا يقتضي حكمه بثبوت الضدين
وجودهما بحسب الواقع ليلزم المحال. وقد يقال: إن المراد لزوم حكمنا بثبوت
الجواز وعدمه يعني أن اللازم من اجتماع الأمر والنهي ثبوت المتنافيين - حسب
ما أشرنا إليه - فينطبق على الوجه الأول وقد عرفت ما فيه.
قوله: * (فهو محل البحث في المقام) *.
لا يخفى أنه لا فرق في ذلك بين تعلقهما بواحد شخصي أو كلي إذا لم يكن
هناك ما يميز مورد الأمر عن مورد النهي بأن يجعلهما شيئين، ومرجع ذلك إلى
الواحد بالشخص كما مرت الإشارة إلى نظيره.
ثم إن المختار عند جماعة من المتأخرين في تحرير مورد النزاع - حسب
51

ما يستفاد من الدليل الآتي - أن البحث في تعلق الأمر والنهي بكليين يكون النسبة
بينهما عموما من وجه وأن ذلك هل يقتضي تقييد أحدهما بالآخر؟ فيكون المأمور
به والمنهي عنه غير مورد الاجتماع، أو أنه لا حاجة إلى الالتزام بالتقييد؟ بل
يؤخذ بمقتضى الإطلاقين غاية الأمر اجتماع المأمور به والمنهي عنه في مورد
اجتماع الطبيعتين.
وأما توارد الأمر والنهي على خصوص الفرد فلا يصح ولو تعددت جهتا الأمر
والنهي، إذ بعد فرض تعلقهما بخصوص الشخص لا يجدي تعدد الجهة، ولذا نص
بعضهم بابتناء النزاع في المقام على تعلق الأمر والنهي بالطبائع أو الأفراد فيقال
بالجواز على الأول ويتعين المنع على الثاني.
فعلى هذا يشكل الحال فيما قرره المصنف في بيان محل النزاع، إلا أن ما
ذكره موجود في كلام جماعة من الأصوليين منهم العلامة في النهاية والقاضي عبد
الوهاب في جمع الجوامع والزركشي في شرحه والآمدي والحاجبي والعضدي
حيث حرروا محل النزاع على الوجه المذكور، ويمكن الجمع بين الوجهين
وإرجاع أحدهما إلى الآخر، بأن يقال: إن المقصود من تعلق الأمر والنهي بالواحد
الشخصي من جهتين هو تعلق التكليفين المفروضين بالفرد بملاحظة الجهتين
الحاصلتين فيه، فيكون المطلوب بالذات فعلا أو تركا هو نفس الجهتين، ويكون
الفرد مطلوبا كذلك تبعا بملاحظة حصول الجهة المفروضة فيه وانطباقها عليه
سراية من الجهة المفروضة إلى الفرد. وهذا بعينه مقصود الجماعة من المتأخرين
من تقرير النزاع في بقاء إطلاق التكليفين عند تعلقهما بالطبيعتين اللتين بينهما
عموم من وجه، لاجتماع الأمر والنهي حينئذ في الفرد الذي يكون مصداقا
للطبيعتين من الجهتين المفروضتين. فإن شئت قلت: إنه هل يجوز تعلق الأمر
والنهي بالفرد الواحد من جهة تعلقه بالجهتين الحاصلتين فيهما - أعني الطبيعتين
المفروضتين - أولا؟ وإن شئت قلت: إنه لو تعلق الأمر بالطبيعتين اللتين بينهما
عموم من وجه فهل يبقيان على إطلاقهما ليكون المكلف آتيا بالمأمور به والمنهي
52

عنه معا في مورد الاجتماع أولا؟ ويبقى الفرق بين ظاهر التعبيرين المذكورين
في أمور:
أحدها: أن تعبير المصنف يعم ما إذا كان الأمر والنهي متعلقين بالفرد صريحا
أو من جهة تعلقهما بالطبيعتين بخلاف التعبير الآخر لاختصاصه بالأخير.
ثانيها: أن التعبير المذكور يعم ما إذا تعلق الأمر والنهي المعينين بالفرد من
جهتين حاصلتين فيه، والظاهر أنه لا كلام في المنع منه بناءا على امتناع التكليف
بالمحال، ولا بد من حمل كلامهم على غير هذه الصورة، كما هو صريح ما ذكره من
أن الاجتماع من سوء اختيار المكلف، بل الظاهر أن مرادهم من تعلق الأمر
والنهي بالفرد تعلقهما به من جهة الطبيعة سواء قلنا بتعلق الأوامر حقيقة بالطبائع أو
الأفراد، لا ما إذا فرض تعلقهما صريحا بخصوص الفرد فلا فرق بين التعبيرين
المذكورين في ذلك.
ثالثها: أن التعبير المذكور يعم ما لو كانت النسبة بين الجهتين العموم المطلق أو
من جهة بل التساوي أيضا وما إذا كانت الجهتان متلازمتين أو كانت جهة الأمر
ملازمة لجهة النهي أو بالعكس، ولا ريب في خروج صورة التساوي والتلازم
وملازمة جهة الأمر لجهة النهي عن محل الكلام، لوضوح امتناعه بناءا على
استحالة التكليف بالمحال - كما مرت الإشارة إليه - وأما العموم المطلق فالذي
يقتضيه كلام الحاجبي ظاهرا والعضدي والأبهري والزركشي والأصفهاني على ما
نقل الكرماني من كلامه في جواب القاضي هو خروجه عن محل البحث. والظاهر
مما نقل عن القطب نسبته إلى الجمهور. وصرح الفاضل الشيرازي بدخوله في
محل البحث واعترض على العضدي في قوله بتخصيص الدعوى وهو الظاهر من
جمال المحققين وغيره. والأظهر خروجه عن محل البحث حسب ما ذكره
الجماعة المذكورة - ويستفاد من فحاوى كلماتهم عند تحرير الأدلة مضافا إلى أن
العرف أقوى شاهد هناك على التقييد، إذ حمل المطلق على المقيد حينئذ مما لا
مجال للريب فيه فلا فائدة في البحث عنه في المقام وإن كان ما ذكروه من الوجه
53

العقلي جاريا في العموم المطلق أيضا على بعض الوجوه كما سيجئ الإشارة إليه
إن شاء الله تعالى. فالظاهر تنزيل إطلاق المصنف وغيره على ذلك. ثم إن ما ذكرناه
من جريان الكلام المذكور في العموم المطلق إنما هو فيما إذا تعلق الأمر بالأعم
والنهي بالأخص، وأما صورة العكس فلا مجال للكلام فيه حسب ما مر.
نعم لو كان الأمر أو النهي حينئذ تخييريا فربما يقع الكلام فيه وسيجئ
الإشارة إليه إن شاء الله تعالى.
فإن قلت: إذا انحصر الفرد في المحرم يجئ على ظاهر التعبيرين المذكورين
إدراجه في محل البحث، لتعلق الأمر والنهي بطبيعتين يكون النسبة بينهما هو
العموم من وجه، ومن الظاهر أن بقاء التكليفين حينئذ ليس إلا تكليفا بالمحال.
قلت: قد عرفت خروج الجهتين المتلازمتين عن محل النزاع وقد نص عليه
بعضهم أيضا، والجهتان المفروضتان وإن أمكن انفكاك إحداهما عن الأخرى في
نفسهما إلا أنه لا يمكن الانفكاك بينهما بالعارض. ومن البين أن المخرج عن محل
البحث هو الأعم من الوجهين لاتحاد العلة الباعثة عليه.
قوله: * (فمن أحال اجتماعهما أبطلها) *.
قد يحتمل عدم بطلانها مع استحالة الاجتماع بناءا على كون الغصب أمرا
خارجا عن الصلاة غير متحد معها، وإنما هو متحد مع الكون الذي هو من
مقدماتها - كما قد يستفاد من كلام بعضهم - وهو ضعيف جدا. وقد يحتمل البناء
على الصحة من جهة تغليب جانب الأمر كما حكي القول به عن بعض المحققين،
وأيد ذلك بما ورد من أن للناس من الأرض حقا لأجل الصلاة. وفيه أيضا ضعف
كما سيجئ إن شاء الله تعالى.
قوله: * (ومن أجازه صححها) * لا ملازمة بين الأمرين، بل القول بالفصل
بينهما مختار غير واحد من أفاضل المتأخرين، نظرا إلى الاجماعات المحكية
على بطلان الصلاة في الدار المغصوبة مطلقا، المعتضدة بظاهر بعض الروايات
المأثورة، وكان بناء الحكم فيها على هذه المسألة حسب ما ذكره كان معروفا
54

منهم، حيث إن الأصحاب حكموا بالبطلان من الجهة المذكورة كما يقتضيه
تعليلاتهم حسب ما أشرنا إليه وأكثر العامة حكموا بالصحة نظرا إلى بنائهم على
الجواز.
قوله: * (لنا أن الأمر... الخ) *.
أقول يمكن الاحتجاج لما صرنا إليه من المنع بوجوه:
أحدها: أن متعلق الوجوب والتحريم هو إيجاد الفعل وترك إيجاده لا نفس
الطبيعة من حيث هي، والطبيعتان المفروضتان متحدتان بحسب الوجود في
المقام، فيتحد متعلق الوجوب والتحريم، وحيث إن الحكمين المذكورين متضادان
يستحيل اجتماعهما في شئ واحد ويستحيل من الحكيم إنشاءه لهما. والمقدمة
الأخيرة ظاهرة على أصولنا، غنية عن البيان. وإنما الكلام في المقدمتين الأوليين
أما المقدمة الأولى فيدل عليها أمور:
منها: أن متعلق الطلب في الأمر هو إيجاد الفعل ومتعلقه في النهي عدم إيجاده
كما عرفت من كون المطلوب بالنهي هو العدم والمضاف إليه للعدم هو الوجود في
الحقيقة وإن أضيف إلى نفس الماهية في الظاهر.
فإن قلت: إن متعلق الأوامر والنواهي إنما هو الطبائع المطلقة المأخوذة لا
بشرط شئ - كما مر مرارا - حسب ما يظهر من الرجوع إلى التبادر، ويومئ إليه
كون الأفعال مشتقة من المصادر الخالية عن اللام والتنوين الموضوعة بإزاء
الطبيعة المطلقة - كما نصوا عليه - والطبيعتان المفروضتان شيئان متغايران.
غاية الأمر إيجاد المكلف إياهما في مصداق واحد وليس خصوص المصداق
متعلقا للتكليف ليلزم اجتماع المتنافيين، بل محل الحكمين نفس الطبيعتين وقد
اختار المكلف بسوء اختياره إيجادهما بوجود واحد وفي ضمن مصداق واحد.
قلت: إن متعلق الأمر والنهي وإن كان نفس الطبيعة المطلقة - حسب ما ذكر -
إلا أن متعلق الطلب في الأمر هو إيجاد تلك الطبيعة، كما أن متعلقه في النهي عدم
إيجاده، فمفاد هيئة الأمر هو طلب الإيجاد، كما أن مفاد هيئة النهي بضميمة حرف
55

النهي هو طلب عدم الإيجاد، ومفاد المادة المعروضة لهما هو نفس الطبيعة
وملاحظة التبادر أقوى شاهد على ذلك. وقد يقال: إن معنى الوجود والإيجاد
مأخوذ في المصادر، ألا ترى أن ضرب ويضرب يفيد الحكم بإيجاد الضرب في
الماضي أو المستقبل. وفيه: أن دلالة الجمل على الوجود إنما هي من جهة اشتمالها
على النسبة، فإن مناط النسبة الإيجابية هو الوجود، كما أن مناط النسبة السلبية
هو سلب الوجود، وتلك النسبة في الإخبارات خبرية وفي الإنشاءات إنشائية
حاصلة باستعمال الصيغة في معناها، ومفاد ذلك في المقام إيجاد الطلب لا إيجاد
المطلوب، فلا دلالة في نفس المبدأ على الوجود، وإنما يستفاد كون الطلب متعلقا
بالوجود من جهة الوضع الهيئي - حسب ما ذكرنا - فكون متعلق الأمر والنهي نفس
الطبيعة المطلقة لا ينافي كون متعلق الطلب هو الإيجاد وعدم الإيجاد كما هو
المدعى.
ومنها: أن الأحكام الشرعية من الوجوب والندب والحرمة وغيرها إنما يتعلق
بالماهيات مقيسا إلى الوجود الخارجي، فإن الوجوب رجحان إيجاد الماهية
على عدمه رجحانا مانعا من النقيض، والحرمة بالعكس وهكذا، إذ لا يعقل
اتصاف الماهية مع قطع النظر عن الوجود بشئ من الأحكام الشرعية. فظهر بذلك
أن متعلق الرجحان والمرجوحية هو الوجود دون نفس الماهية.
ومنها: أن الوجوب والحرمة وغيرهما من الأحكام الشرعية من عوارض
الوجود الخارجي لأفعال المكلفين دون الوجود الذهني ولا نفس الماهية،
ضرورة أنه لا يتصف بالوجوب وأخواته إلا فعل المكلف بحسب الخارج فعلا أو
تقديرا، إذ من الواضح أن تصور فعله لا يتصف بالوجوب حتى يكون من عوارض
الماهية أو من عوارض الوجود الذهني، وإذا كانت الأحكام المذكورة من
عوارض الوجود الخارجي كان المتصف بها إما نفس الوجود الخارجي أو الماهية
الموجودة بذلك الوجود، وعلى التقديرين يتم المقصود.
وأما المقدمة الثانية: فلأن المفروض اتحاد الطبيعتين المفروضتين في
56

المصداق وهو لا يكون إلا مع اتحادهما في الوجود، إذ مع تعددهما وتميزهما
بحسب الخارج كليا لا تكون النسبة بينهما إلا تباينا كليا لا عموما من وجه. كما
هو المفروض في محل البحث.
فإن قلت: كيف يصح القول باتحادهما بحسب الوجود مع أن المفروض كون
النسبة بين الكليين عموما من وجه وقد تقرر في محله استحالة اتحاد الكليين
المفروضين بحسب الوجود ليؤول الأمر في تركيبهما إلى الوحدة الحقيقية، بل لا
يمكن اتحاد الكليين بحسب الوجود إلا إذا كان بينهما عموم مطلق ليكون أحدهما
جنسا والآخر فصلا، وأما غيرهما فهما متغايران بحسب الوجود عند التحقيق
قطعا وإن اتحدا اتحادا عرضيا ويعدان بحسب العرف واحد، كما هو المفروض في
محل البحث، فإن هذا الوجه من الاتحاد غير مانع من تعددها بحسب الواقع، وهو
كاف في تغاير الموضوعين.
قلت: فيه أولا: أن ما ذكر إنما يتم بالنسبة إلى الماهيات المتأصلة في الخارج
بحيث يكون ما يحاذيها موجودا في الخارج، وأما الأمور الاعتبارية المنتزعة من
الوجود الخارجي مما لا يكون الموجود المتأصل في الخارج إلا ما ينتزع منها
ويكون وجودها الخارجي بوجود ما ينتزع منها فلا نسلم ذلك، إذ يمكن اتحادها
في الوجود الخارجي أيضا من جهة اتحاد وجود ما ينتزع منها، وحينئذ فيكون
ذلك الوجود الواحد واجبا محرما من الجهتين المفروضتين فيهما.
وثانيا: بعد تسليم تعدد الأمرين المذكورين خارجا بحسب الواقع وتغايرهما
في الوجود فلا شك في اتحادهما أيضا بحسب الواقع من وجه، ولذا يصح حمل
أحدهما على الآخر ويكون النسبة بينهما عموما من وجه من تلك الجهة، فهناك
جهة اتحاد بين الأمرين المذكورين وجهة مغايرة بينهما، والنسبة بين الكليين
المفروضين بالملاحظة الأولى عموم من وجه، لتصادقهما على مصداق واحد،
وبالاعتبار الثاني مباينة كلية فإن كان تعلق الحكمين المذكورين بهما بالملاحظة
الثانية فلا مانع منه، وهو حينئذ خارج عن محل النزاع، إذ ليس حينئذ بين مورد
57

الحكمين عموم من وجه، بل هي مباينة كلية، وإن كان تعلقهما بالملاحظة الأولى
كما هو المفروض في موضع النزاع لم يجر ذلك، لاتحادهما إذا في مورد
الاجتماع نظرا إلى الوجه المذكور، ويكون الأمر والنهي متعلقين بهما من حيث
كونهما متحدين في الوجود - حسب ما قررنا - وسيجئ لهذا مزيد توضيح إن شاء
الله تعالى.
ثانيها: أن الأحكام الشرعية إنما يتعلق بالماهيات من حيث حصولها في
ضمن أفرادها فالحكم على الماهية حينئذ إنما يرجع إلى الحكم على أفرادها، كما
نصوا عليه في تقرير دليل الحكمة لإرجاع المفرد المحلى باللام إلى العموم،
فصرحوا بأن الطبيعة من حيث هي لا يصح أن يراد من المفرد المعرف إذا تعلق به
أحد الأحكام الشرعية، كيف! ومن المقرر أن القضية الطبيعية غير معتبرة في شئ
من العلوم، إذ المقصود منها معرفة حال ما وجد أو يوجد في الخارج، ولا يستفاد
من القضية الطبيعية حال الطبيعة في الخارج أصلا ولو على سبيل الجزئية، ولذا لم
يتوهم أحد إرجاع القضية الطبيعية إلى الجزئية كما أرجعوا المهملة إليها، وليس
المقصود بذلك تعلق الأحكام بخصوص الأفراد ابتداءا، بل المدعى تعلق الحكم
بنفس الطبيعة من حيث حصولها في ضمن أفرادها، وهناك فرق بين لحاظ الأفراد
ابتداءا وإناطة الحكم بها - كما يقول القائل بتعلق الأوامر بالأفراد - وبين إناطة
الحكم بالطبيعة من حيث حصولها في ضمن الأفراد، كما في تعريف الجنس في
نحو قولك: البيع حلال، فإن المراد به تعريف الطبيعة على ما هو ظاهر اللفظ. لكن
لا من حيث هي بل من حيث حصولها في ضمن الأفراد واتحادها بها، وانما يتعلق
الحكم المذكور بها من تلك الجهة فهو في الحقيقة قضية مهملة إلا أنه يرجع إلى
العموم بملاحظة الحكمة، وليس المراد بتعريف الجنس في الغالب إلا ذلك دون ما
يكون المراد به تعريف نفس الطبيعة من حيث هي، كما في القضية الطبيعية في نحو
" الرجل خير من المرأة " فإن ذلك لا يفيد إلا حكم تلك الجهة من غير أن يفيد
حكم الأفراد، إلا أن ذلك غير متداول في المخاطبات العرفية أيضا، بل الملحوظ
58

عندهم في الغالب بيان حكم الأفراد. وسيجئ تفصيل القول في ذلك في محله إن
شاء الله تعالى.
إذا تمهد ذلك، فنقول: إن كلا من الماهيتين المفروضتين إن تعلق به الأمر
والنهي من حيث حصوله في ضمن جميع الأفراد كما هو ظاهر الإطلاق، وإن كان
تعلق الأمر به في ضمن أي فرد منه على سبيل العموم البدلي والتخييري بين
الأفراد وتعلق النهي به من حيث حصوله في ضمن كل منها على سبيل التعيين
والعموم الاستغراقي، أمكن القول بما ذكر من حصول الامتثال من جهة والعصيان
من أخرى لو أتى بمورد الاجتماع. إلا أنه لا مجال للقول به، لاتحاد الكليين حينئذ
في المصداق، فيلزم أن يكون ذلك الفرد الواحد مطلوبا فعله وتركه معا وهو جمع
بين المتنافيين، فلا بد إذا من التزام عدم شمول الأمر أو النهي للفرد المفروض وهو
المدعى. نعم، لو صح القول بثبوت الأحكام لنفس الطبائع من حيث هي حتى
يكون القضايا المستفادة من الشريعة قضايا طبيعية لم يكن هناك مانع من اجتماع
الطبيعة المطلوبة مع المبغوضة ولم يقض ذلك بارتكاب التقييد في شئ من
الجانبين، ولا يلزم منه اجتماع المتنافيين في الفرد، لما تقرر من عدم استفادة
حكم الأفراد من القضايا الطبيعية أصلا، فقد يكون حكم الفرد المفروض حكما
ثالثا غير كل من الحكمين المفروضين، وقد يثبت له إذا أحد الحكمين دون الآخر
- كما إذا رجح الشارع حينئذ جانب التحريم فحكم بحرمة الفرد - فإنه لا ينافي
وجوب الطبيعة على الوجه المفروض أصلا، بل ولا حكمه بوجوب الفرد من حيث
حصول الطبيعة المفروضة في ضمنه، فإن ثبوت شئ لشئ من جهة لا يستلزم
ثبوته له في الواقع حتى ينافي ثبوت التحريم له، ألا ترى أن خيرية طبيعة الرجل
من طبيعة المرأة لا ينافي خيرية كل من أفراد المرأة من كل من أفراد الرجل؟
غاية الأمر أن يكون كل من أفراد الرجل من حيث كونه رجلا خيرا من كل
من أفراد المرأة من حيث كونه مرأة، وهو لا يستلزم خيريته منه بالنظر إلى الواقع،
فالقول باجتماع الأمر والنهي على الوجه المذكور مما لا مانع فيه أصلا. إلا أنك قد
59

عرفت أنه لا مجال لتوهم تعلق الأحكام الشرعية بالطبائع على الوجه المذكور.
وربما يستفاد من كلام جماعة من المجيزين للاجتماع توهم كون المسألة من قبيل
المذكور، وهو بمكان من الضعف. وسيجئ زيادة بيان لذلك إن شاء الله تعالى.
ثالثها: أن الأمر إذا تعلق بطبيعة فإن كانت تلك الطبيعة على إطلاقها متعلقة
للأمر من غير أن يكون تعلق الأمر بها مقيدا بقيد قضى ذلك في حكم العقل
بوجوب كل واحد من أفرادها على سبيل التخيير، ضرورة انطباق الواجب عليه
وأدائها به، وإذا تعلق النهي بعبادة على الوجه المذكور قضى بالمنع من كل واحد
من أفرادها على سبيل الاستغراق أو العموم - حسب ما عرفت - وحينئذ فنقول: إن
الأمر والنهي المتعلقين بالطبيعتين المفروضتين إن قيد أحدهما بالآخر فهو
المدعى، إذ لا اجتماع حينئذ، وإن بقيا على إطلاقهما كما هو مقصود الخصم لزم أن
يكون الفرد الذي يجتمع فيه الطبيعتان واجبا محرما معا.
غاية الأمر أن يكون وجوبه على سبيل التخيير وتحريمه على وجه التعيين
وهما متنافيان.
فإن قلت: إن الأمر والنهي إنما يتعلقان بالطبيعة دون الأفراد فيكون خصوصية
الأفراد مقدمة لأداء الواجب - أعني الطبيعة - فلا يشملها الأمر المتعلق بالفعل،
غاية الأمر أن تكون واجبة من باب المقدمة إن قلنا بوجوبها، وهو في محل المنع،
فلا اجتماع هناك للوجوب والتحريم.
قلت: ولو سلم ذلك فأقصى الأمر حينئذ اجتماع الوجوب والتحريم في
المقدمة، فلا مانع - كما مرت الإشارة إليه في كلام المصنف - حيث قال: إن
الوجوب فيها ليس على حد غيرها من الواجبات... الخ ولو سلم المنع منه فغاية
الأمر أن تكون خصوصية الفرد محرمة محضة لا واجبا، وهو لا ينافي وجوب
أصل الطبيعة كما هو المدعى، إذ تحريم المقدمة يجامع وجوب ذيها مع عدم
انحصارها في الحرام كما هو المفروض في المقام، فغاية الأمر أن تكون المقدمة
المحرمة مسقطة للواجب كما هو الحال في قطع المسافة إلى الحج على الوجه
60

المحرم، فإنه يسقط الواجب بالإتيان به على الوجه المفروض، ويصح الإتيان
بالحج، فكذا في المقام فيكون الإتيان بالخصوصية المحرمة مسقطا للتكليف
بإحدى الخصوصيات المحللة مما يتوقف عليها أداء الطبيعة، ويكون الطبيعة التي
يتوصل بها إليها واجبة حسنة على نحو الحج في المثال المفروض.
قلت: أما ما ذكر من منع وجوب المقدمة فقد عرفت وهنه في محله، مضافا
إلى منع كون الخصوصية مقدمة - كما سنشير إليه إن شاء الله - وأما ما ذكر: من
اجتماع الواجب الغيري مع الحرمة وإنه ليس الوجوب هنا على حد غيره من
أقسام الوجوب. فقد عرفت وهنه، كيف! والقائل بامتناع اجتماع الوجوب
والحرمة إنما يقول بتنافي مطلق الوجوب والتحريم - كما هو مقتضى دليلهم -
وحينئذ فلا فرق في ذلك بين أقسام الوجوب من الوجوب النفسي والغيري
والأصلي والتبعي والعيني والتخييري وغيرها.
نعم هنا كلام بالنسبة إلى اجتماع الوجوب والتحريم الغيري - وسيجئ
الإشارة إليه - وأما ما ذكر: من كون الحرام حينئذ مسقطا للواجب من غير أن
تكون تلك الخصوصية واجبة أصلا.
ففيه أولا: ان الخصوصية متحدة مع الطبيعة بحسب الخارج، فكيف يعقل كون
الخصوصية مقدمة لإيجادها بحسب الخارج مع وضوح قضاء التوقف بمغايرة
المتوقف للمتوقف عليه في الخارج. وكون الوجوب في أحدهما نفسيا وفي الآخر
غيريا فرع تغاير الموجودين دون ما إذا اتحدا - كما هو الحال في المقام - حسب
ما فرض من اتحاد الطبيعتين في المصداق، فغاية الأمر مغايرة الخصوصية للماهية
في التحليل العقلي وهو لا يقتضي كونها مقدمة لها في الخارج موصلة إليها، كيف!
والوصول إلى الخصوصية المفروضة عين الوصول إلى الطبيعة. فظهر بذلك أن
دعوى التوقف الخارجي بينهما غير ظاهرة. وقضية اتحادهما في الوجود وجوب
الخصوصية بوجوب الطبيعة في الخارج، ضرورة اتصاف المتحد مع الواجب
بالوجوب، فكيف! يقال بعدم وجوب الخصوصية أصلا.
61

نعم، غاية ما يقال اختلاف الحيثية في الوجوب، فإن الخصوصية إنما يجب
حينئذ، لاتحادها مع الطبيعة في الخارج لا بملاحظة نفسها بخلاف نفس الطبيعة،
وكذا الحال في تحريم الخصوصية بالنسبة إلى تحريم الطبيعة، وإذا كان الحال على
ما ذكر فكيف يعقل القول بوجوب الطبيعة خاصة وتحريم الخصوصية.
وأما ثانيا: فبأن تسليم حرمة الفرد والمنع منه من غير أن يتعلق الوجوب به
قاض بعدم تعلق الأمر بالطبيعة من حيث هي، بل من حيث حصولها في ضمن غير
الفرد المذكور، إذ لو كانت الطبيعة مطلوبة على إطلاقها لزمه وجوب الفرد المذكور
من حيث انطباق الطبيعة عليها - حسب ما ذكرنا - فتكون إذا واجبة قطعا وهذا
خلف.
نعم، غاية الأمر عدم وجوب الخصوصية في حد نفسها، ولا ينافي ذلك
وجوبها من الجهة المذكورة اللازم من تعلق الأمر بالطبيعة الحاصلة بها إلا مع
التزام التقييد - حسب ما ذكرنا - فيثبت به ما اخترناه هذا. ولو قيل بعدم اتحاد
الطبيعتين المفروضتين في الوجود اتجه ما ذكر من إطلاق ثبوت كل من الحكمين
لكل من الطبيعتين، إلا أنه لا ربط له بالكلام المذكور. وهو أيضا مدفوع بما مرت
الإشارة إليه ويأتي توضيح القول فيه إن شاء الله تعالى.
رابعها: أن ما يجب على المكلف من الأفعال سواء كان من العبادات أو غيرها
لا بد أن يكون فعله راجحا بحسب الواقع على تركه رجحانا مانعا من النقيض، ولا
يمكن اتصاف شئ من الأفعال بالرجحان على حسب الواقع إلا إذا كانت جهة
رجحانه كذلك خالية عن المعارض أو غالبة على غيرها من الجهات الحاصلة فيه،
إذ لولا ذلك لم يكن الفعل الصادر عن المكلف راجحا على عدمه، بل قد يكون
عدمه راجحا على وجوده، وما يكون كذلك يستحيل أن يكون مرادا للشارع،
مطلوبا حصوله من المكلف بناءا على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين.
فإن قلت: إن القدر اللازم في حقيقة الواجب على قواعد العدلية أن تكون
حقيقة الفعل وطبيعته مما يرجح وجودها على عدمها رجحانا مانعا من النقيض،
62

فرجحان وجود نفس الطبيعة بملاحظة ذاتها كاف في كونها عبادة راجحة، مطلوبة
للشارع وإن انضم إليها من القيود والخصوصيات المرجوحة ما يقابل ذلك
الرجحان، بل ويزيد عليه بحيث يجعل الفرد الحاصل في الخارج مرجوحا،
راجحا عدمه على وجوده رجحانا مانعا من الوجود، إذ لا ينافي ذلك رجحان
نفس الطبيعة المعتبرة في تعلق الأمر بها.
قلت: إذا كان الأمر على ما ذكر لم يكن الطبيعة الحاصلة في الخارج متصفة
بالرجحان بحسب الواقع، إذ المفروض انضمام القيود الخارجة عنها إليها، الباعثة
على مرجوحية وجودها، الغالبة على جهة رجحان نفس الطبيعة الحاصلة لها
بملاحظة ذاتها، فيزول عنها الرجحان بسبب انضمام دواعي المرجوحية إليها، إذ
ليس ذلك الرجحان من لوازم ذاتها ليستحيل انفكاكه عنها، بل إنما يدور مدار
الوجوه والاعتبارات الحاصلة لها، وإذا كانت الطبيعة الحاصلة في الخارج خالية
عن الرجحان - بل ومرجوحة - استحال أن تكون مطلوبة للحكيم، مرادة له.
فإن قلت: لا ريب حينئذ في رجحان نفس الطبيعة الحاصلة في الخارج
بملاحظة ذاتها مع قطع النظر عن الخصوصيات المنضمة إليها فليس الرجحان
مسلوبا عنها بالمرة حتى لا يصح تعلق الأمر بها على قواعد العدلية، أقصى الأمر
أن تكون المرجوحية الحاصلة للخصوصية غالبة على رجحانها بعد ملاحظة
المعارضة بين الجهتين، ولا يكون ذلك مانعا من تعلق الأمر بنفس الطبيعة، غاية
الأمر حصول الجهتين في الفرد، فيكون المكلف عند اختياره الفرد المذكور مطيعا
عاصيا، من جهتين إتيان بالراجح والمرجوح كذلك، فإن مكافئة مرجوحية
الخصوصية لرجحان الطبيعة أو غلبتها عليه لا يرفع رجحان أصل الطبيعة،
فالحيثيتان حاصلتان بحسب الواقع تكون إحداهما مصححة للأمر والأخرى
للنهي، فمصادفة جهة المرجوحية الحاصلة بسبب الخصوصية للرجحان الحاصل
بنفس الطبيعة كمصادفة الإتيان بالمحرم لأداء الواجب مع تعدد الفعلين بحسب
الخارج، فكما لا يمنع ذلك من تعلق الأمر والنهي بهما فكذا لا يمنع هذا من تعلق
الأمر والنهي بالجهتين إذا تقارنتا في الوجود بسوء اختيار المكلف.
63

قلت: رجحان وجود الطبيعة بملاحظة ذاتها لا يستلزم رجحان وجود الطبيعة
بحسب الخارج، فإن الأول قضية طبيعية لا يقتضي إلا ثبوت الحكم المذكور في
الاعتبار المفروض، كما أن خيرية طبيعة الرجل من طبيعة المرأة لا يستلزم خيرية
أفراد الرجل من أفراد المرأة بحسب الواقع.
غاية الأمر أن يقضي بخيرية جهة الرجولية من جهة الأنوثية، فثبوت شئ
لشئ باعتبار مخصوص لا يقتضي ثبوته له بحسب الواقع، ألا ترى أن قولك
" الماء بارد " بملاحظة ذاته وطبيعته لا ينافي كونه حارا بالعارض بمجاورة النار.
فظهر من ذلك أن قياس الفعل الواحد على الفعلين بين الفساد، لوضوح الفرق بين
الأمرين. فتبين مما قررنا: أن ثبوت الرجحان للطبيعة على الوجه المذكور لا يفيد
إلا كون الرجحان من شأن الطبيعة الموجودة لا ثبوت الرجحان لها بحسب الواقع،
إذ قد يكون في الفرد ما ينافي ذلك.
ومن البين: أن المعتبر على قواعد العدلية رجحان الفعل على الترك بحسب
الواقع في تعلق الأمر به، ومرجوحيته كذلك في تعلق النهي، فبعد اجتماع الجهتين
المفروضتين في الفرد إما أن يتساويا أو يترجح جانب الأمر أو جانب النهي،
وعلى كل حال فلا يكون واجبا محرما - كما هو مختار القائل باجتماع الأمرين -.
فإن قلت: إن ذلك كله إنما يتم مع عروض الرجحانية والمرجوحية
المفروضتين لمعروض واحد. وأما مع عروض كل منهما لشئ واقترانهما في
الوجود بالنسبة إلى الفرد المفروض فلا مانع فيه، إذ لا مانع من اتصاف ذات
الشئ مثلا بالرجحان واتصاف بعض أعراضه بالمرجوحية من غير تدافع بين
الأمرين.
قلت: ليس الحال في المقام على الوجه المذكور، إذ المفروض اتحاد الكليين
المفروضين في الوجود وبحسب المصداق. وقد نص جماعة بتسليمه من
المجوزين للاجتماع وإنما قالوا إن ذلك لا يقضي بعدم تمايز الطبيعتين في أنفسهما.
قال بعض الأفاضل منهم: إن متعلق الأمر طبيعة الصلاة ومتعلق النهي طبيعة
64

الغصب وقد أوجدهما المكلف بسوء اختياره في شخص واحد. فإن ذلك قاض
بتسليمه اتحاد الطبيعتين في الوجود والمصداق غير أنه يدعي أن ذلك لا
يخرجهما عن كونهما حقيقتين. وقد نص الفاضل المذكور بعد ذلك بأنه لا ريب في
تعدد الطبيعتين مع اتحاد الفرد وأنه لا ينتفي إحدى الحقيقتين في الخارج بحسب
اتحاد الفرد ولم يصيرا شيئا ثالثا أيضا، بل هما متغايرتان في الحقيقة متحدتان في
نظر الحس في الخارج.
وأنت خبير: بأن اتحاد الطبيعتين في الوجود لا يخرجهما عن كونهما حقيقتين
لكن يخرجهما عن كونهما شيئين في الخارج، فإذا كان الاتصاف خارجيا لم يفد
بيان كونهما حينئذ حقيقتين أيضا في إثبات المقصود. فالاستناد إلى ذلك في دفع
الإشكال موهون جدا، وكذا ما قد يتخيل من عدم اتحاد الطبيعتين في المصداق
وتعددهما بحسب الوجود بناءا على ما هو التحقيق عندهم من عدم إمكان اتحاد
الماهيتين اللتين بينهما عموم من وجه بحسب الموجود - حسب ما مرت الإشارة
إليه - فإن ذلك إنما يتم إذا لم يكن بينهما اتحاد في الخارج أيضا، وليس في الوجه
المذكور ما يفيد خلاف ذلك، فإن أقصى ما يستفاد منه عدم اتحاد الماهيتين
بحسب الذات، وأما مع اتحادهما في بعض مراتب الواقع فلا مانع منه، كيف!
والاتحاد بين الشيئين قد يكون بالذات وقد يكون بالعرض وهو حاصل هنا قطعا،
إذ هو المأخوذ في محل النزاع. فإن حيثية تعلق الأمر والنهي بالطبيعتين هنا إنما
هي بملاحظتهما على وجه يتحدان في الخارج. ولذا كانت النسبة بينهما عموما من
وجه - حسبما قرر في بيان محل النزاع - ومع الغض عن جميع ذلك فنقول: إن ما
ذكر إنما يتم لو قلنا بكون الحسن والقبح الحاصلين للأفعال مقصورا على الذاتي
المستند إلى ذواتها، وأما لو قلنا باستنادهما إلى الوجوه والاعتبارات أيضا - كما
هو الحق - فكون جهة الحسن أو القبح عارضيا غير متحد مع الذات اتحادا ذاتيا لا
يقضي بعدم عروض الحس أو القبح للذات من جهتها، بل قضية ذلك اتصاف
الذات بالحسن والقبح مع كون الجهة عارضية مغايرة للذات كما هو الحال في
65

المقام، إذ المفروض حسن الكون الواحد وقبحه من الجهتين المفروضتين، وإن
كانت إحدى الجهتين ذاتية والأخرى عرضية أو كانتا عرضيتين فلا بد من ملاحظة
المعادلة أو الترجيح بين الجهتين المذكورتين، فتعدد الجهتين وتكثرهما في حدود
أنفسهما لا يصحح اتصاف الكون الشخصي في المثال المشهور بالحكمين
المتضادين، فإن الكون الذي يجتمع فيه الجهتان المذكورتان إن كان بملاحظة
تينك الجهتين مما يتساوى وجوده وعدمه لم يتصف بوجوب ولا تحريم، وإن كان
تركه راجحا على سبيل المنع من النقيض كان محرما خاصة، وإن كان بالعكس
كان واجبا خاصة، واتصافه فعلا بهما معا غير معقول.
نعم يمكن اتصافه بهما على سبيل الشأنية بمعنى اتصافه بالوجوب بملاحظة
الجهة الموجبة خاصة أو التحريم بملاحظة الجهة المحرمة من دون ملاحظة لكل
من الجهتين والمصادفة الحاصلة في البين. فصار المتحصل أن الأمر الحاصل من
المكلف في المقام أمر واحد قطعا - كما يشهد به الضرورة - وهو الكون الخاص
في المثال المفروض، وله حال واحد بحسب الواقع من الحسن والقبح والرجحانية
والمرجوحية بعد ملاحظة ذاته وعوارضه الحاصلة له - كما هو قضية أصول
العدلية - فكيف! يعقل القول بحصول كل من الحكمين المتضادين في المقام بالنظر
إلى كل من الجهتين. نعم الممكن حصولهما معا بملاحظة القضية الطبيعية المفيدة
لشأنية ثبوت الحكم المذكور للكون المفروض لولا قيام المانع منه وهو خارج عن
محل الكلام، إذ قد لا يحصل شئ من الحكمين للفرد المفروض أو يثبت له
أحدهما خاصة من غير أن ينافي ذلك ثبوت كل من الحكمين بملاحظة خصوص
كل من الجهتين مع قطع النظر عن الأخرى، إذ لا يفيد ذلك سوى شأنية ثبوت
الحكم المذكور للفرد كما لا يخفى.
قوله: * (وتعدد الجهة غير مجد... الخ) *.
أورد عليه بوجهين:
أحدهما: أن ما لا يجدي في المقام هو تعدد الجهة التعليلية، إذ المانع هو
66

اجتماع المتنافيين في موضوع واحد، واختلاف العلة غير مفيد مع فرض
الاجتماع. وأما تعدد الجهة التقييدية فمجد في ذلك، حيث إن ذلك قاض حقيقة
بتكثر الموضوع وتعدده بحسب الواقع، والظاهر أن الحاصل في المقام من قبيل
الثاني، فإن متعلق الوجوب وموضوعه في المثال المفروض هو مطلق الكون من
حيث هو كون مطلق، ومتعلق الحرمة وموضوعها هو خصوصية الكون وتشخصه،
وهما أمران يمكن الانفكاك بينهما وقد جمعهما المكلف بسوء اختياره.
غاية الأمر: أن يكون أحد الموضوعين عارضا للآخر، فخصوصية الغصبية
عارضة لمطلق الكون، ومعروضها متعلق للوجوب، والعارض المفروض متعلق
للحرمة، ولا يتصور فيه المانع المذكور أصلا، إذ ليس ذلك من اتحاد المتعلق
في شئ.
وأورد عليه: بأن جعل متعلق الوجوب مطلق الكون خروج عن ظاهر كلام
المصنف (رحمه الله)، فإن الظاهر من عبارته كون متعلق الوجوب والتحريم هو الكون
الخاص، حيث ذكر أن الكون المفروض مأمور به من حيث إنه أحد أجزاء الصلاة
ومنهي عنه باعتبار أنه بعينه الكون في الدار المغصوبة، فالاتحاد المفروض في
كلامه هو الاتحاد الشخصي لا الاتحاد الحاصل بين المطلق والمقيد.
وفيه: أنه ليس في كلام المصنف (رحمه الله) ما يفيد كون متعلق الأمر بحسب الحقيقة
هو الكون الخاص، كيف! والمفروض فيه تعلق الأمر بمطلق الصلاة فيكون
الواجب هو مطلق الكون، غير أن ذلك المطلق لما كان حاصلا في ضمن الفرد
المفروض كان ذلك الفرد واجبا من حيث حصول الطبيعة في ضمنه وانطباقها معه
وكان بعينه محرما من جهة الخصوصية، ولا بعد في حمل العبارة على ذلك بوجه
من الوجوه مع موافقته لما هو الواقع، إذ الحال في المقام على الوجه المذكور.
وحينئذ يرد عليه بعد التأمل في حقيقة الحال ما ذكره المورد من أن وجوب الفرد
من حيث حصول الطبيعة به إنما هو لقيام الوجوب بالطبيعة، وتحريمه لأجل
الخصوصية إنما هو لقيام الحرمة بالخصوصية، وهما موضوعان متعددان بحسب
67

الواقع - حسب ما ذكره - ولو سلم عدم انطباق العبارة عليه فلا يقضي ذلك بدفع
الإيراد المذكور، بل غاية الأمر حينئذ منع ما ادعاه من تعلق الأمر والنهي بشئ
واحد عند التحقيق - أعني خصوص الكون المفروض - وإنما يتعلق الأمر بالكون
المطلق والنهي بالخصوصية حسب ما قررناه.
ثم إنه قد يقال: مع الغض عما ذكر وتسليم تعلق الأمر والنهي بالكون الخاص
في الجملة إلا أنه لا شك في اختلاف جهتي الأمر والنهي، فإن ذلك الفرد إنما
يكون مأمورا به من حيث كونه جزءا من الصلاة ومنهيا عنه من حيث كونه غصبا،
فهناك طبائع ثلاثة مشتركة " كون وصلاة وغصب " حاصلة بالكون المفروض،
وحينئذ فإما أن يقال: بكون الفرد المذكور ملتئما من الماهيات الثلاث المفروضة
حتى تكون تلك الماهيات متحدة بحسب الخارج في الشخص المفروض، أو
يقال: بأن هناك أفراد ثلاثة للطبائع الثلاث المفروضة متميزة بحسب الخارج.
غاية الأمر أن يكون بعضها عارضا للبعض بأن يقال - مثلا - بعروض الصلاة
والغصب للكون الخاص المفروض، فذلك الكون من حيث كونه فردا من الكون
معروض للأمرين المذكورين، وهما شيئان متعددان بحسب الخارج عارضان له،
لا سبيل إلى الوجه الأول لما تقرر عندهم من استحالة التئام الطبيعة من جزئين
يكون بينهما عموم من وجه - كما أشرنا إليه - فتعين الثاني. وحينئذ فيكون
معروض الوجوب والحرمة بالذات هو العارضان المذكوران ويتصف معروضها
بالأمرين على سبيل التبعية ولا مانع منه، لعدم كون الاتصاف حينئذ حقيقيا. لكنك
بعد التأمل فيما قررنا تعرف ضعف الإيراد المذكور - حسب ما مر تفصيل القول
فيه وسيجئ أيضا مزيد توضيح له إن شاء الله - على أنه قد يقال بكون الجهتين
في المقام تعليليتين لا تقييديتين. وتوضيح ذلك في المثال المفروض أنه لا شك
في أن الحاصل من المكلف في الخارج كون شخصي خاص حاصل في المكان
المغصوب وليس الحاصل هناك كونان في الخارج كما يشهد ضرورة الوجدان،
وذلك الكون المفروض متحد مع الصلاة والغصب معا، فهو بملاحظة وجوب
68

الصلاة وكونه جزءا منها يكون واجبا، وبملاحظة كونه عين الغصب وجزئيا من
جزئياته يكون محرما، فليس الواجب والحرام حينئذ بحسب الخارج إلا شيئا
واحدا، وعلى هذا فلا يكون الجهتان المذكورتان إلا تعليليتين.
بيان ذلك: أن الحيثية المعتبرة في الموضوعات قد تكون مميزة لما اعتبرت
فيه بحسب الخارج، بأن يكون المحيث بإحدى الحيثيتين مغايرا في الوجود
للمحيث بالأخرى، كما في ملاحظة الحيوان من حيث كونه ناطقا، وملاحظته من
حيث كونه ناهقا، وضرب اليتيم من حيث كونه تأديبا ومن حيث كون ظلما،
وحينئذ فلا مانع من اتصاف المحيث بالحيثيتين بالمتضادين من الجهتين
المذكورتين لتغاير المتعلقين وكون الوحدة الملحوظة في الموضوع من قبيل
الوحدة النوعية وقد مر أنه لا إشكال في جواز اتصافه بالحكمين المذكورين، وقد
لا يكون مميزة لذات ما اعتبرت فيه من غيره بحسب الخارج، بل الذات المحيثة
بالحيثيتين أمر واحد في الخارج، وحينئذ فإن ثبت الوصفان المتضادان لنفس
الجهتين فلا مانع أيضا، كما تقول: إن العلم صفة كمال والفسق صفة نقص ولا مانع
من قيام الوصفين بموضوع واحد - كالعالم الفاسق - فيثبت له الكمال بملاحظة
الجهة الأولى والنقص بملاحظة الثانية على نحو ما ذكر في الأحكام الثابتة للقضايا
الطبيعية، فإنها تسري إلى أفرادها على الوجه المذكور لا بملاحظة الواقع، ولو
أريد ملاحظة ثبوت الكمال للفرد بحسب الواقع وعدمه فلا بد من ملاحظة حال
الصفتين فإن تساويتا في القوة فلا كمال في ذلك الفرد بحسب الواقع بعد ملاحظة
جميع صفاته، لتساقط الجهتين وإلا كان الفرد تابعا للأقوى منهما، ويجري ذلك
بعينه فيما نحن فيه أيضا، إذ لا مانع من القول بكون الكون المفروض واجبا من
جهة كونه جزءا من الصلاة مع قطع النظر عن كونه غصبا، وكونه محرما من حيث
كونه غصبا مع قطع النظر عن كونه جزءا من الصلاة، لكن لا يفيد شئ منهما حال
الفرد المذكور بحسب الواقع. فإن أريد ملاحظته على الوجه المذكور فلا بد من
ملاحظة حال الجهتين في القوة والضعف فإن تساوت مصلحة الوجوب والتحريم
69

في القوة كان الفعل مساويا للترك، وحينئذ فلا أمر ولا نهي وإلا تعلق به ما يتفرع
على الجهة الغالبة، وإن أريد إثبات الوصفين المتضادين للمحيث بتينك الحيثيتين
بحسب الواقع نظرا إلى تعدد الجهتين كما هو الملحوظ في المقام فهو بين الفساد
سواء جعل محل الصفتين خصوص متعلق الحيثيتين أو المحيث والحيثية معا.
أما الأول فواضح والحيثية حينئذ تكون تعليلية نظرا إلى كون الحيثية
المذكورة علة لثبوت الحكم في المحيث بها.
وأما في الثاني فلقيام الضدين أيضا بالمحيث المفروض في الجملة، ألا ترى
أنه إذا كان الإتيان بالكون المفروض من حيث كونه صلاة واجبا والإتيان به من
حيث كونه غصبا حراما ما كان نفس الكون المحيث بالحيثيتين مشتركا بين
الواجب والحرام بعضا من كل منهما، فيكون واجبا محرما من حيث كونه محصلا
للواجب والحرام، على أن الكلام في الاتصاف بالصفات الخارجية وهي في
الحقيقة عارضة لذوات الموضوعات إذا حصلت معها تلك الحيثيات، ألا ترى أنه
لو قال " الماء طاهر والملاقي للنجاسة نجس " لم يكن المقصود بذلك أن طبيعة
الماء من حيث هي طاهرة وطبيعة الملاقي من حيث هي نجسة، بل المقصود منه
ثبوت الحكم لأفراد الماء وأفراد الملاقي - حسب ما عرفت - وحينئذ فالمتصف
بالطهارة والنجاسة ذات الماء من حيث كونه فردا من الماء وفردا من الملاقي،
فلا يصح اتصافها بهما واقعا ولو مع تعدد الحيثيات والجهات المعتبرة في كل من
الحكمين.
نعم، يصح اتصافهما بهما على سبيل الشأنية حسب ما يعطيه ثبوت الحكم
على سبيل القضية الطبيعية - كما أشرنا إليه - إلا أنه غير مقصود في هذه المقامات،
فيرجع الحال في هذه الصورة أيضا إلى الصورة الأولى وتكون الحيثية أيضا
تعليلية بالملاحظة المذكورة. وكأنه إلى ما قررنا نظر المحقق الداماد حيث قال (قدس سره)
في السبع الشداد: إن الوجوب والحرمة من الأمور المتضادة والحيثيات المتقابلة
بالذات فلا يصح اجتماعهما في ذات فعل واحد بالشخص كهذا الكون في هذا
70

المكان بحيثيتين تعليليتين، لكونه جزءا من الصلاة المأمور بها وكونه تصرفا
عدوانيا في الدار المغصوبة، بل لا بد من اختلاف حيثيتين تقييديتين يجعل أولا
نفس ذلك الكون الشخصي الموصوف بالوجوب والحرمة كونين، ثم يعرض
الوجوب والحرمة لهما من تلقاء الاستناد إلى تينك الحيثيتين التقييديتين انتهى
كلامه (رحمه الله).
قوله: * (احتج المخالف بوجهين... الخ) *.
قد زاد عليه بعض المتأخرين وجها ثالثا. وربما يستأنس له بوجوه اخر
وسنشير إلى الجميع إن شاء الله.
قوله: * (إن السيد إذا أمر عبده... الخ) *.
يمكن أن يقرر هذه الحجة.
تارة: بإرجاعها إلى التمسك بحكم العرف، فإنه إذا أمر السيد عبده بالخياطة
ونهاه عن الكون في مكان خاص فأتى بها فيه عد مطيعا وعاصيا قطعا، فيدل ذلك
على حصول الاجتماع فإن الإطاعة هنا بموافقة الأمر والعصيان بمخالفة النهي.
وأخرى: بإرجاعها إلى التمسك بحكم العقل، فإنه بعد ورود الأمر والنهي على
الوجه المذكور يقطع العقل حينئذ بحصول الطاعة والعصيان بالخياطة المفروضة
الكاشف عن تعلق الأمر والنهي به، وكان هذا هو مقصود المستدل، إذ الوجه الأول
غير نافع في مقام إثبات الجواز عقلا، كما هو المفروض في محل البحث، إذ لا
يتجه الاستناد فيه إلى حكم العرف، لإمكان الغلط في شأنهم بالنسبة إلى الأمور
العقلية، نعم إنما يصح الرجوع إليهم في المداليل الوضعية والمفاهيم اللفظية، فيصح
الاستناد إلى الوجه المذكور بعد إثبات الجواز العقلي عند بيان عدم فهم التقييد
عرفا، وعدم الحاجة إلى حمل أحد الإطلاقين على الآخر وتقييده به حسب ما
يأتي الكلام فيه إن شاء الله.
قوله: * (إذ الاتحاد في المتعلقين... الخ) *.
قد يقال: إن هذا مناف لما مر في تحرير محل النزاع لتقرير الخلاف هناك
71

في تعلق الأمر والنهي بشئ واحد شخصي من جهتين، فما ذكر من عدم تعلق
الأمر والنهي بشئ واحد في المقام يقضي بخروج ذلك عن محل الكلام.
ويدفعه: ما عرفت من أن المراد من تعلق الأمر والنهي بشئ واحد من
جهتين كون الأمر والنهي بحسب الحقيقة متعلقا بالجهتين ويكون اجتماعهما في
الفرد لأجل حصول الجهتين فيه، فحصول الاجتماع في محل واحد إنما هو بتلك
الملاحظة، وهذا هو محل البحث في المقام ومورد النفي والإثبات، والمستدل
بالمنع يتخيل أن ذلك قاض باجتماع الحكمين حقيقة في الفرد المفروض، والقائل
بالجواز يتخيل عدم اجتماع الحكمين في محل واحد في دقيق النظر.
غاية الأمر ان يتراءى الاجتماع في جليل النظر والامتناع الناشئ من حكم
العقل إنما يتبع الحقيقة دون ظاهر الحال ولا اجتماع في المقام بحسب الحقيقة،
لقيام الحكمين حقيقة بنفس الجهتين، وهما شيئان متعددان لا اتحاد بينهما بحسب
الحقيقة كما مر الكلام فيه.
نعم لا يجري الدليل المذكور فيما إذا تعلق الأمر والنهي بنفس الفرد من
الجهتين المفروضتين من غير أن يتعلق الأمر بنفس الجهتين، فيكون كل من
الجهتين المفروضتين واسطة في ثبوت الحكم المفروض لا في عروضه، وقد مر
أن البناء على التطبيق بين الوجهين المذكورين في تحرير محل النزاع يقضي
باخراج ذلك عن محل البحث، وقد يجعل الاستناد إلى الدليل المذكور شاهدا عليه
كما أشرنا إليه. ومما قررنا يظهر ضعف ما يتوهم في المقام من: أن من يلتزم
باختلاف متعلق الأمر والنهي فيما يتخيل فيه الاجتماع قائل في الحقيقة بعدم
جواز الاجتماع، فلا خلاف له مع القائل بالمنع في أصل المسألة، وإنما كلامه في
خصوص الأمثلة، ولذا تخيل بعضهم عد بعض من هؤلاء من القائلين بمنع
الاجتماع، فليس المخالف في المسألة إلا من يقول بجواز الاجتماع في الواحد
الشخصي من جهتين.
ووهنه ظاهر بعد التأمل في كلماتهم، كيف! ومعظم المصرحين بجواز
72

الاجتماع مصرحون بما ذكر من اختلاف المتعلق مستندون إليه، ولو صح ما ذكر
لارتفع الخلاف في المسألة بحسب المعنى ولكان البحث في خصوص الأمثلة بأن
الحال فيها من قبيل الاجتماع أولا؟ وليس كذلك قطعا، فالمناط في الاجتماع
المأخوذ في مورد البحث هو ما ذكرنا دون الاجتماع الحقيقي، وإنما يؤخذ ذلك
وجودا وعدما دليلا على المنع والجواز فتأمل.
ثم إن هذا الوجه هو الأصل فيما ذهب إليه القائلون بجواز الاجتماع، وهو
عمدة ما استندوا إليه في المقام، فلنفصل القول في بيانه، وفي دفعه وإن تبين الحال
فيه مما قررناه في الاحتجاج على المختار.
فنقول توضيح الاستدلال: إن المفروض في محل النزاع تعلق كل من الأمر
والنهي بطبيعة غير ما تعلق به الآخر، فهناك طبيعتان مختلفتان يتعلق الأمر
بإحداهما والنهي بالأخرى. غاية الأمر أن يكون المكلف أوجدهما في مصداق
واحد وقارن بينهما في الوجود بسوء اختياره ولا مانع من ذلك لا من جهة: قيام
الضدين بأمر واحد، إذ المفروض قيام الحكمين بالطبيعتين وهما أمران لا اتحاد
بينهما في لحاظ الطبيعة الذي هو المناط في تعلق التكليف به، فإن المكلف به هو
الطبيعة المطلقة المأخوذة لا بشرط شئ - حسب ما قرر في محله - وهما
متغايران بهذا اللحاظ قطعا لا اتحاد بينهما أصلا، ألا ترى في المثال المشهور أنه
لا يصير طبيعة الصلاة غصبا ولا طبيعة الغصب صلاة؟ غاية الأمر أنهما يتصادقان
على مصداق واحد. ومن ذلك يظهر أنه لا مانع من صدور الإرادتين من المكلف
أيضا، نظرا إلى اختلاف المرادين. ولا من جهة: لزوم إرادة القبيح من الحكيم،
لعدم تعلق الأمر إلا بالطبيعة الراجحة الخالية عن الوجوه المقبحة. ولا من جهة:
لزوم التكليف بالمحال، ضرورة إمكان الانفكاك بين الأمرين، وإنما جمع المكلف
بينهما بسوء اختياره.
وقد يقرر الاحتجاج المذكور بوجه آخر قد مرت الإشارة إليه أيضا وهو: أنه
قد تقرر في محله أن الطبيعتين اللتين بينهما عموم من وجه لا يمكن اتحادهما
73

بحسب الوجود، لأن مصداق كل منهما يغاير مصداق الآخر عند التحقيق، وإذا كان
الحال في الطبيعتين المفروضتين في المقام على الوجه المذكور فلا اجتماع للأمر
والنهي بحسب الحقيقة ليلزم قيام الوجوب والتحريم بشئ واحد، لاختلاف
المتعلقين بحسب الوجود. غاية الأمر حصول اتحاد بينهما بالعرض على بعض
الوجوه، والمفروض انفكاك كل من الطبيعتين عن الأخرى وانتفاء الملازمة بينهما،
وكون الجمع بينهما من سوء اختيار المكلف فلا يلزم التكليف بالمحال أيضا.
والجواب اما عن التقرير الأول فبما عرفت: من أن متعلق الأمر والنهي إنما
هو الطبائع من حيث الوجود، إذ لا يعقل طلب نفس الماهية من حيث هي مع قطع
النظر عن الوجود، فتغاير الماهيتين في حدود أنفسهما لا يفيد شيئا في المقام مع
اتحادهما في الوجود الذي هو مناط التكليف ومتعلقه، ومع الغض عنه فليس
الوجوب والحرمة وأخواتهما إلا (1) من عوارض الوجود لا من عوارض الماهية،
فلا يتصف بها الماهية إلا من حيث وجودها في الخارج إما محققا أو مقدرا،
والمفروض اتحاد الماهيتين بالنظر إلى الوجود الذي هو مناط الاتصاف.
فإن قلت: إن المطلوب إنما هو وجود الماهية دون الخصوصية، والمفروض
رجحان وجود الماهية على عدمها وإن لم يكن الإتيان بالماهية الأخرى راجحا
بل كان مرجوحا، فالوجود المفروض إذا قيس إلى الماهية الراجحة كان راجحا
على عدمه، وإن قيس إلى الماهية الأخرى كان بالعكس، فأي مانع حينئذ من
اجتماع الراجحية والمرجوحية على الوجه المذكور في شئ واحد نظرا إلى
اختلاف الجهتين.
قلت: من البين امتناع اتصاف الوجود الواحد بالرجحان والمرجوحية
بحسب الواقع وإن أمكن حصول الجهتين المذكورتين فيه. فغاية الأمر رجحانه
بالنظر إلى إحداهما ومرجوحيته بالنظر إلى الأخرى وهذا غير رجحان إيجاده
على عدمه ومرجوحيته بحسب الواقع، إذ لا بد حينئذ من ملاحظة النسبة بين

(1) في (ق) لا من عوارض الوجود ولا من عوارض الماهية.
74

الجهتين والأخذ بالراجح أو الحكم بالمساواة كيف! ولو جاز حصول الوصفين في
الواقع نظرا إلى اختلاف الجهتين فإما أن يتفرع عليها التكليف بالإيجاد والترك
معا فيلزم التكليف بالمحال أو يتعلق بأحدهما فلا اجتماع للحكمين.
فإن قلت: إنا نقول بوجوب إيجاد الطبيعة المطلقة من غير أن يتعلق الوجوب
بشئ من خصوصيات أفرادها، إذ لا يتعلق الأمر بشئ منها على ما حقق في
محله.
أقصى الأمر: أنه لما توقف إيجاد الطبيعة على إيجاد واحد من الأفراد - إذ
لا يمكن إيجاد الكليات إلا بإيجاد أفرادها - كان الإتيان بأحد الأفراد واجبا من
باب المقدمة - وهي تحصل في ضمن الحرام أيضا، سواء قلنا بإمكان اجتماع
الوجوب التوصلي مع الحرام أو قلنا بقيام الحرام مقام الواجب منها، فيكون
الإتيان بالمحرم مسقطا للتكليف المتعلق بالمحلل، لحصول التوصل بالحرام - كما
هو المختار حسب ما مر القول فيه - وحينئذ نقول بتحريم الفرد المفروض
وحصول التوصل به إلى أداء الطبيعة الواجبة. كذا يتلخص من كلام بعض الأفاضل
في المقام.
قلت: لا ريب أن الماهية متحدة مع الفرد بحسب الخارج، وليس الإتيان
بالفرد في الخارج إلا عين الإتيان بالطبيعة، وليس الامتياز بينهما إلا في تحليل
العقل، فكيف! يعقل أن يكون مقدمة موصلة إليه بل ليس الإتيان بالفرد إلا عين
الإتيان بالطبيعة، فيكون ذلك أداءا لنفس الواجب. غاية الأمر أن عنوان
الخصوصية إذا ميز في نظر العقل من عنوان الطبيعة لم يحكم بوجوبه لنفسه، بل من
حيث اتحاده مع الواجب في الخارج إذ توقف حصول الواجب في الخارج على
اتحاده معه، وكون الشئ بالنظر إلى بعض عناوينه مقدمة لعنوانه الآخر في لحاظ
العقل لا يقضي بكون وجوب ذلك الشئ في الخارج من باب المقدمة حتى يمكن
القول بصحته وسقوط الواجب بأدائه، إذ قد يكون ذلك الشئ بعينه واجبا نفسيا
بملاحظة صدق ذلك العنوان عليه، ولا يمكن الحكم بتحريمه كما هو الحال بالنسبة
75

إلى الطبيعة والخصوصية -، بل قد يكون الشئ بملاحظة بعض عناوينه مباحا أو
مكروها - مثلا - ويكون بملاحظة عنوان آخر واجبا، فحينئذ لا يصح القول
بإباحته في الواقع، لوضوح غلبة جهة الوجوب على جهة الإباحة، فيتصف الفعل
بالوجوب بحسب الواقع كما هو الحال في جميع الواجبات لعدم وجوبها بجميع
العناوين الصادقة عليها وهو ظاهر.
والحاصل: أنه لا مجال للقول بكون الإتيان بالفرد إتيانا بالمقدمة الموصلة
إلى الواجب لا أداءا لنفس الواجب، بل ليس إتيانا بعين الواجب لكن بملاحظة
كونه الطبيعة المأمور بها، كيف! ولولا ذلك لما كان الصادر عن المكلفين إلا
المقدمات دون نفس الواجبات، إذ ليس الحاصل منهم في الخارج إلا الأفراد.
وهو واضح الفساد. وحينئذ فتسليم حرمة الفرد في المقام والحكم بعدم وجوبه مع
الحكم بأداء الطبيعة الواجبة واتصافها بالوجوب كما ترى.
ومن العجيب! ما ذكره الفاضل المذكور في المقام حيث قال: قلت كاشفا
للحجاب عن وجه المطلوب ورافعا للنقاب عن السر المحجوب: إنه لا استحالة
في أن يقول الحكيم: هذه الطبيعة مطلوبتي ولا أرضي إيجادها في ضمن هذا الفرد
لكن لو عصيتني وأوجدتها فيه أعاقبك لما خالفتني في كيفية الإيجاد لا لأ نك لم
توجد مطلوبي، لأن ذلك الأمر المنهي عنه خارج عن العبادة، فهذا معنى مطلوبية
الطبيعة الحاصلة في ضمن هذا الفرد لا أنها مطلوبة مع كونها في ضمن الفرد. فقد
أسفر الصبح وارتفع الظلام فإلى كم قلت وقلت ومن ذلك يظهر الجواب عن
الإشكال في نية التقرب، لأن قصد التقرب إنما هو الإتيان بالطبيعة لا بشرط
الحاصلة في ضمن هذا الفرد الخاص، لا بإتيانه في ضمن هذا الفرد الخاص المنهي
عنه انتهى كلامه رفع مقامه.
فإنه بعد تسليم كون إيجاد الطبيعة في ضمن الفرد المفروض عصيانا باعثا
على استحقاق العقاب لا يعقل القول بكون الطبيعة الحاصلة في ضمنه مطلوبة
للآمر مرادة له، فإنه إن كان إيجاد تلك الطبيعة بأي إيجاد كان مطلوبا له لم يتصور
76

معه القول بحرمة الإيجاد المفروض والمنع منه، وإن لم يكن ايجادها كذلك مأمورا
به بل كان المطلوب إيجادها بغير الإيجاد المفروض لم يعقل القول بحصول
الامتثال بالإيجاد المفروض ولو من جهة حصول الطبيعة به، إذ ليس ذلك الإيجاد
حينئذ إلا عصيانا محضا لا يشوبه شائبة الطاعة والانقياد.
فإن قلت: ليس المقصود شئ من الوجهين المذكورين بل المدعى كون
المطلوب إيجاد نفس الطبيعة لا بشرط العموم ولا التخصيص. ولا شك في حصول
اللابشرط في ضمن الفرد المذكور، فأي مانع من حرمة ذلك الإيجاد الخاص
ومطلوبية مطلق إيجاد الطبيعة اللابشرط، فيكون الآتي بذلك الخاص مطيعا بالنظر
إلى الإتيان بالطبيعة اللابشرط عاصيا من جهة الخصوصية. وقد أشار إلى هذا
المعنى بقوله: فهذا معنى مطلوبية الطبيعة الحاصلة في ضمن الفرد لا أنها مطلوبة مع
كونها في ضمن الفرد. وقوله: إن قصد التقرب إنما هو في الإتيان بالطبيعة لا بشرط
الحاصلة في ضمن هذا الفرد لا بإتيانه في ضمن هذا الفرد الخاص.
قلت: إن ما ذكر خيال ظاهري لا يكاد يعقل حقيقته بعد التأمل فيه.
فإنه إن أريد بذلك بقاء مطلوبية الطبيعة اللابشرط على حالها مع فرض
مطلوبية ترك إيجادها على الوجه الخاص.
فهو واضح الفساد، ومن البين أنه مع عدم مطلوبية إيجادها على الوجه
الخاص يكون المطلوب إيجادها على غير ذلك الوجه، فلا يكون اللابشرط
مطلوبا، بل يكون المطلوب مشروطا على خلاف ما هو المفروض، وحينئذ فلا
يعقل حصول الامتثال مع إتيانه بغير مطلوب الآمر.
وإن أريد به أن مطلوبية الطبيعة - وإن قيدت بإيجادها على غير الوجه
المذكور - لا تفيد عدم مطلوبية الإتيان بأصل الطبيعة الراجحة بالإيجاد
المفروض، إذ قد يكون ذلك من جهة المرجوحية الحاصلة في الخصوصية،
فرجحانية الطبيعة ومطلوبيتها من حيث هي على حالها إلا أن الجمع بين ذلك
والاجتناب عن المرجوحية الحاصلة لأجل الخصوصية يقتضي تقييد الأمر
77

بإيجاد الطبيعة بغير الصورة المفروضة، فلا يدل ذلك على عدم مطلوبية أصل
الطبيعة، فلو فرض أنه عصى بإقدامه على الإيجاد المفروض فإنما يكون عاصيا
من جهة إقدامه على الخصوصية المرجوحة لا بتركه إيجاد أصل الطبيعة.
فهو أيضا فاسد، فإنه بعد تقييد الأمر المتعلق بالطبيعة بغير الصورة المفروضة
لا يعقل وجه لحصول الامتثال بأدائها، وكون النهي المتعلق بها لا من جهة ملاحظة
نفس الطبيعة بل لأجل الخصوصية لا يفيد شيئا في المقام، إذ لا يعتبر في تحريم
الفعل أن تكون العلة في تحريمه ذات ذلك الفعل، بل لا إشكال في صحة اتصافه
بالتحريم لعلة خارجة عن ذاته - كما في كثير من المحرمات - فإن التحسين
والتقبيح غالبا إنما يكون بالوجوه والاعتبارات ومنه المفروض في المقام، وحينئذ
فكيف! يعقل حصول الامتثال مع تقييد الأمر المتعلق بالطبيعة بالنهي المفروض إلا
أن لا يلتزم حينئذ بتقييد الأمر، بل يقول بتعلق الوجوب والتحريم معا بالإيجاد
المفروض بالنظر إلى اختلاف الجهتين - أعني بملاحظة كونه إيجادا للطبيعة
المطلقة وكونه إيجادا للخصوصية - وهو مع وضوح فساده للزوم اجتماع الضدين
في محل واحد مخالف لما هو بصدده من البيان، فإنه أراد بذلك دفع لزوم اجتماع
الضدين - أعني الوجوب والتحريم في شئ واحد - بالتزام حصول التحريم
خاصة في المقام دون الوجوب وإن حصل به أداء الواجب حسب ما زعمه.
وأما الجواب عن التقرير الثاني فمن وجوه:
أحدها: ان الطبائع المقررة في الشريعة ك‍ " الصلاة والغصب " في المثال
المفروض من الأمور الاعتبارية: بحسب الخارج لا وجود لها إلا بوجود ما ينتزع
منها، والمفروض اتحاد ما ينتزع منه الأمران المذكوران في الوجود، فإن نفس
الكون في المكان المغصوب ينتزع منه الصلاة والغصب وإن كانت حيثية كونه
صلاة مغايرة بالاعتبار لحيثية كونه غصبا، فليس للصلاة وجود متميز من الغصب،
بل الحاصل من المكلف في الخارج أمر واحد هو الكون المفروض وينتزع منه
الأمران المذكوران، فكل من الأمرين المذكورين في وجوده الاعتباري مغايرا
78

للآخر، لكن لا وجود لشئ منهما في الخارج استقلالا، وإنما الموجود هناك منشأ
انتزاع الأمرين. فالطبيعتان المفروضتان متحدتان بحسب الوجود الخارجي
التبعي نظرا إلى اتحاد ما ينتزعان منه، ولما عرفت أن المكلف به هو إيجاد الماهية
وترك إيجاده لزم اجتماع المتنافيين في تكليفه بإيجاد منشأ انتزاع الأمرين وتركه
له. ألا ترى أنه لو قال " ايتني بواحد من القوم ولا تأتني بالفاسق " لم يمكن إبقاء
التكليفين على إطلاقهما، فإن المأمور بالإتيان به والمنهي عنه بحسب الحقيقة إنما
هو من ينتزع منه الوصفان المذكوران، لا مجرد الإتيان بالواحد من حيث إنه
واحد. ومفهوم الفاسق من حيث هو، فمجرد تغاير الوحدة للفسق بحسب الاعتبار
لا ينفع في المقام مع اتحادهما في الخارج بحسب ما ينتزعان منه.
ويرد عليه: أن منشأ انتزاع الأمرين المذكورين وإن كان أمرا واحدا في
الخارج إلا أن كلا منهما مغاير للآخر بحسب وجوده الضعيف الاعتباري، إذ من
البين أن انتزاع العقل لشئ من شئ يتفرع على نحو وجود لذلك الشئ في
المنتزع منه، وإلا لكان الانتزاع بمحض التعمل من غير أن يكون له حقيقة أصلا.
ومن البين أيضا أن ذلك الوجود ليس عين وجود المنتزع منه بملاحظة ذاته
بل هو من توابعه ولواحقه. فإذا تقرر ذلك ظهر أن اتحاد منشأ انتزاع الأمرين لا
يقضي باتحادهما بحسب الوجود الخارجي ليكون وجود منشأ انتزاعهما عين
وجود الأمرين المذكورين في الخارج.
نعم غاية الأمر: أن يكون وجودهما تابعا لوجوده فإذا كان هناك شيئان
موجودان في الخارج ولو بحسب الوجود الضعيف فأي مانع من قيام الضدين بهما
نظرا إلى تغاير محلهما، أقصى الأمر توقف وجودهما على وجود ما ينتزع منه ولا
ربط له بلزوم المانع المذكور. نعم يتم الكلام المذكور على قول من يرى عدم
وجود الأمور الاعتبارية في الخارج أصلا ويجعل وجودها في الخارج بمعنى
وجود ما ينتزع منه، فيرجع التكليف بإيجادها عنده إلى التكليف بإيجاد ما ينتزع
منه وحينئذ يتم المدعى.
79

ثانيها: أن التكاليف المتعلقة بالطبائع المنتزعة من الأفعال إنما يتعلق حقيقة
بتلك الأفعال التي ينتزع منها الطبائع المفروضة، لا بمجرد تلك الطبائع من حيث
هي. فمفاد الأمر بالصلاة هو الإتيان بالفعل الذي ينتزع منه تلك الطبيعة،
فالمطلوب هو نفس الحركات والسكنات - مثلا - الصادرة عن المكلف نظرا إلى
انتزاع الصلاة منها، لا أن المأمور به هو تلك الأمور المنتزعة من غير أن تكون
نفس الأفعال الصادرة مطلوبة للآمر وإنما تكون مطلوبة تبعا من جهة إيصالها إلى
المطلوب، نظرا إلى قيام المطلوب بها وتبعيته لوجودها، بل هي مطلوبة بعين
مطلوبية الفعل المنتزع منها، وفهم العرف أقوى شاهد على ذلك. ألا ترى أنه لو قال
" ايتني بأخي زيدا وبأبي عمرو " كان المفهوم منه هو الإتيان بالذات التي ثبت له
المفهوم المذكور - أعني المضاف المشهوري دون المضاف الحقيقي - وحينئذ
فنقول: إن ما ينتزع منه المأمور به والمنهي عنه أمر واحد في الخارج وقد عرفت
تعلق الطلب به فعلا وتركا فيلزم اجتماع الضدين بالنسبة إليه حسب ما قررناه.
ثالثها: أن المفروض في محل البحث كون النسبة بين الطبيعتين هو العموم من
وجه، وقضية ذلك اجتماع الطبيعتين المفروضتين في المصداق، كيف! ولو لم
تجتمعا في المصداق وكان مصداق كل منهما مغايرا للآخر لكانت النسبة بينهما
تباينا كليا هذا خلف. فتغاير كل من الطبيعتين للآخر بحسب الوجود بملاحظة
ذاتها حسب ما قرر لا ينافي اتحادهما ولو بالعرض من بعض الوجوه، ألا ترى أن
الحيوان والأسود يصدقان على شئ واحد ويحملان عليه مع كون مفاد الحمل هو
الاتحاد في الوجود، ولا ينافيه كون وجود ذلك المصداق في نفسه مغايرا لوجود
السواد في نفسه - أعني الأسود بما هو أسود - فهناك جهة اتحاد في الخارج وجهة
مغايرة، وإنما يصح الحمل بملاحظة الجهة الأولى دون الثانية ولذا لا يصح حمل
السواد على الجسم ويصح حمل الأسود عليه.
إذا تقرر ذلك فنقول: إن ما يتعلق به الأمر والنهي من الماهيات الملحوظة
في المقام إنما اعتبرت بالجهة الأولى، إذ المفروض كون النسبة بين المأمور به
80

والمنهي عنه هي العموم من وجه، ولو كانت ملحوظة بالاعتبار الثاني لكانت
النسبة بينهما المباينة الكلية، ألا ترى أن تصادق الصلاة والغصب إنما هو بالاعتبار
الأول وهي الجهة التي يتعلق بهما الأمر والنهي بالنظر إليها، ولذا فرض تصادق
الطبيعتين في الفرد الواحد كما هو المفروض في محل البحث. وأما مع ملاحظتهما
بالاعتبار الثاني فلا ريب في عدم تصادقهما وتباينهما في المصداق، إذ لا شئ
من حيثية الصلاة بغصب ولا من حيثية الغصب بصلاة. وحينئذ فنقول: إنه على
القول بجواز اجتماع الأمر والنهي يلزم اجتماع الضدين في الشئ الواحد، إذ
المفروض اتحاد الطبيعتين بحسب الواقع في ذلك الاعتبار وثبوت الحكمين
المذكورين لهما بتلك الملاحظة، فلا فائدة في تغايرهما وتباينهما من جهة أخرى.
رابعها: أن وجوب الطبيعة علة لوجوب الفرد فتكون جهة تعليلية واسطة في
ثبوت الوجوب له لا تقييدية واسطة في العروض، فالمتصف بالوجوب هو نفس
الفرد وإنما يجب من أجل حصول الطبيعة به، وكذا الحال في التحريم فيجتمع
الحكمان في الفرد.
فإن قلت: إن أريد بذلك كون وجوب الفرد معللا بوجوب الطبيعة بأن يكون
هناك وجوبان يتعلق أحدهما بالطبيعة والآخر بالفرد ويكون وجوب الفرد معللا
بوجوب الطبيعة حاصلا به. فمن الظاهر فساده، لوضوح أنه ليس هناك واجبان
ليكون المكلف بأداء الفرد آتيا بواجبين، بل ليس الواجب إلا نفس الطبيعة ويكون
الفرد واجبا بوجوب الطبيعة نظرا إلى اتحاده معها في الخارج وإن تغايرا في
ملاحظة العقل.
وإن أريد أن وجوب الفرد معلل بنفس الطبيعة - بمعنى - ان حصول الطبيعة في
ضمن الفرد هو الباعث على وجوبه - فإنما يجب الإتيان به لأجل حصول الطبيعة
في ضمنه من غير أن يتعلق الوجوب بنفس الطبيعة، بل إنما يتعلق بالفرد ويكون
الطبيعة الحاصلة به علة لثبوت الوجوب له. فهو وإن صح به ما ذكر من لزوم
81

اجتماع المتنافيين إلا أن مبنى الكلام المذكور كون متعلق الأمر والنهي في
خصوص الأفراد دون نفس الطبائع.
غاية الأمر: أن تكون الطبيعة جهة تعليلية في وجوب الفرد، وهذا القول
مرغوب عنه لا معول عليه كما مر الكلام فيه فلا يتم المدعى. وأقصى ما يتخيل في
المقام أن يقال: إن الحاصل هناك وإن كان وجوبا واحدا إلا أنه ينسب ذلك
الوجوب أولا وبالذات إلى الطبيعة وثانيا بالعرض إلى الفرد نظرا إلى اتحاده معها،
وحينئذ فانتساب الوجوب إلى الفرد معلل بوجوب الطبيعة في نظر العقل وإن لم
يكن هناك واجبان بحسب الخارج. وفيه: أن الطبيعة حينئذ تكون واسطة في
العروض لثبوت الوجوب للفرد، فلا تكون الجهة حينئذ إلا تقييدية بحسب الخارج
لا تعليلية كما ادعى.
قلت: إن الواجب هو أفراد الطبيعة من حيث انطباق الطبيعة عليها وهو مفاد ما
ذكرناه من تعلق الأمر بالطبائع من حيث الوجود لا من حيث هي على نحو القضية
الطبيعية فإن الطبيعة بملاحظة وجودها في الخارج عين الفرد، إذ إيجاد الطبيعة إنما
يكون بإيجاد فرد منها ولا ينافي ذلك ما ذكرناه من كون الجهة تعليلية، لما عرفت
من أن التعليل المذكور إنما هو في لحاظ العقل بعد ملاحظة الاعتبارين لا في
الخارج، إذ لا تميز بينهما حسب ما عرفت، فلا يلزم أن يكون هناك وجوبان يتعلق
أحدهما بالطبيعة والآخر بالفرد كما يقتضيه ظاهر ما يتراءى من اعتبار الحيثية في
المقام تعليلية مع تعلق الوجوب أولا بنفس الطبيعة، ولا أن تكون الطبيعة واسطة
في العروض وتكون الجهة تقييدية وذلك لتعلق الحكم بحسب الذات بالأفراد فإن
الحكم على الطبيعة بالوجوب حكم على أفرادها.
غاية الأمر: أن يكون ذلك بتسريته من الطبيعة إليها، وبه يفرق بين تعلق
الأوامر بالأفراد وتعلقها بنفس الطبائع كما مرت الإشارة إليه وسيجئ بيانه أيضا
إن شاء الله، وكون الجهة هنا تعليلية إنما هو من جهة التسرية المفروضة فتأمل.
فتحصل مما قررناه أنه ليس وجوب الفرد حاصلا بالعرض، إذ ليس مفاد وجوب
82

الطبيعة في الخارج إلا عين مفاد وجوب الفرد، إذ لا يتصف الطبيعة من حيث هي
بالوجوب كما عرفت وإنما تتصف به من حيث الوجود وهو عين الفرد، إلا أن كلا
من الاعتبارين في لحاظ العقل غير الآخر، وإسناد الوجوب إلى الثاني معلل
بإسناده إلى الأول.
خامسها: أن إيجاد الطبيعة يتوقف على إيجاد الخصوصية، فلو لم نقل بكون
خصوصية العوارض اللاحقة متحدة مع الطبيعة بحسب الوجود بل مغايرة لها في
الوجود عند التدقيق فلا ريب في توقف حصول الماهية في الخارج على انضمامها
إليها، فإذا كانت تلك الخصوصيات مقدمة لحصول الواجب كانت واجبة، لما تقرر
من وجوب مقدمة الواجب حينئذ، فيكون وجوب الطبيعة مقدمة لثبوت الوجوب
للخصوصية وعلة مقتضية له، كما أن وجود الخصوصية مقدمة لوجود الطبيعة،
والمفروض أن تلك الخصوصية محرمة، إذ مفاد النهي عن الشئ تحريم جزئياته
المندرجة تحته، فيلزم اجتماع الوجوب والتحريم في شئ واحد شخصي، غاية
الأمر أن يكون الوجوب غيريا تخييريا والتحريم نفسيا تعيينيا. وقد يورد عليه
بوجوه:
أحدها: أن وجوب المقدمة - حسب ما ذكر - غيري تبعي ولا مانع من
اجتماع الوجوب الغيري مع الحرمة العينية، إذ المقصود من إيجاب المقدمة هو
الإيصال إلى ذيها وهو حاصل بالحرام أيضا.
ويدفعه: ما عرفت من عدم الفرق بين ذلك وغيره من أقسام الوجوب وإن
السبب القاضي بامتناع الاجتماع في غيره قاض بذلك بالنسبة إليه أيضا.
ثانيها: أن القدر المسلم هو وجوب المقدمة الجائزة، وأما المقدمة المحرمة
فليست بواجبة وإنما هي مسقطة للواجب لحصول الغرض بها، كما في قطع
المسافة إلى الحج على الوجه المحرم، فلا تكون تلك الخصوصية المحرمة واجبة.
وفيه: أنه إذا لم تكن تلك الخصوصية واجبة أصلا لم يعقل تعلق الوجوب
بالطبيعة الحاصلة بها، فإن تلك الخصوصيات وإن كانت خارجة عن نفس الماهية
83

مغايرة لذاتياتها إلا أنها متحدة معها بنحو من الاتحاد في وجودها الشخصي، فإنها
إنما تكون شخصا بعد انضمام العوارض المشخصة إليها، فهي في تحصلها
الشخصي متقومة بتلك الخصوصية وإن لم تكن متقومة بها في مرتبة ذاتها، فهي
بهذا اللحاظ متحدة مع الخصوصية وإن تغايرتا في لحاظ آخر ولا تقوم للطبيعة بها
بالنسبة إلى تلك الملاحظة، فإذا فرض كون الخصوصية حراما محضا كان تحصلها
الشخصي محرما، ومعه لا يمكن أن يكون الطبيعة المتحدة معها الحاصلة بذلك
الحصول واجبا - حسب ما قضى الجواب المذكور بالاعتراف به -.
والحاصل: أنه إذا كان الشخص المفروض من الطبيعة محرما غير واجب كان
المطلوب إيجاد تلك الطبيعة في ضمن غير ذلك الشخص لا مطلقا، وحينئذ فيكون
ذلك مقيدا لإطلاق الأمر.
نعم لو لم يكن بين الطبيعة والخصوصية اتحاد أصلا ولم يكن هناك إلا توقف
وجود الطبيعة على وجود الخصوصية صح ما ذكر من القول بوجوب نفس الطبيعة
الحاصلة وسقوط المقدمة الواجبة بأداء المحرم، لكن ليس الحال في المقام على
ما ذكر - حسب ما قرر في محله -.
ثالثها: مع كون الخصوصية مقدمة لأداء الطبيعة وإنما هي من لوازم وجودها
فالأمر متعلق بإيجاد نفس الطبيعة غاية الأمر أن يستلزم ذلك إحدى
الخصوصيات الحاصلة، إذ لا يمكن وجود المطلق على إطلاقه بل إذا وجد لزم
الخصوصية.
ويدفعه: أن ذلك لو تم لزم حرمة الطبيعة الباعثة على وجود المحرم، فإن
تحريم اللازم يستدعي تحريم الملزوم فيعود المحذور.
فإن قلت: إنا لا نقول حينئذ بكون إيجاد الطبيعة مستلزما لإيجاد تلك
الخصوصية بل نقول إن الطبيعة والخصوصية متلازمتان في الوجود.
قلت: إن المتلازمين إما أن يكونا علة ومعلولا أو معلولي علة واحدة، وعلى
الأول فالأمر كما قلنا، وعلى الثاني يكون وجوب الطبيعة مستلزما لوجوب علتها
84

وحرمة المعلول الآخر مستلزما لحرمة علته فيلزم المحذور المذكور بالنسبة إلى
تلك العلة.
فإن قلت: إنا نقول حينئذ بوجوب الطبيعة دون علتها المحرمة وإنما الواجب
الإتيان بغيرها من عللها السابقة، فغاية الأمر أن يكون الإتيان بالمحرمة مسقطا
لما هو الواجب.
قلت: إن حصول الطبيعة بالخصوصية المفروضة غير حصولها بخصوصية
أخرى، فإن تلك الخصوصيات جهات مكثرة للموضوع فإن كانت الطبيعة مطلوبة
على إطلاقها من غير أن يقيد بغير النحو المفروض لزم وجوب الحصة الحاصلة
بالخصوصية المفروضة، فيلزم أن يكون تلك الخصوصية واجبة أيضا، وإن قيل
بتقييد الطبيعة المطلوبة بغير تلك الصورة لم يكن الإتيان بها واجبا كما هو المدعى.
سادسها: أنه لا ريب في كون الوجوب والتحريم ضدين لا يجوز قيامهما
بشئ واحد، وغاية ما يلزم من التقرير المذكور تغاير الطبيعتين المفروضتين
بحسب الوجود لكنهما قائمان بمحل واحد، إذ المفروض كونهما خلافين لا
ضدين، فيلزم أيضا قيام الضدين بالمحل المفروض بتوسط الخلافين القائمين به.
ويدفعه: أنه إن كان الخلافان واسطتين في ثبوت الضدين للمحل المفروض
كان الحال على ما ذكر، وأما إن كانا واسطتين في عروضهما فلا مانع منه كما في
قيام الحسن والقبح المتقابلين بالفعلين القائمين بالفاعل.
قوله: * (وقد اختار المكلف جمعهما... الخ) *.
الظاهر أنه أراد بجمعهما في الوجود إيجادهما بوجود واحد حسب ما ذكر
في التقرير الأول. فالمراد بقوله: وذلك لا يخرجهما عن حقيقتهما... الخ أن
الاتحاد في الوجود لا يقضي باتحاد الطبيعتين، لوضوح أن الطبيعتين بما هما
طبيعتان شيئان لا اتحاد بينهما في لحاظ الطبيعة، والمفروض أن هذه الجهة هي
جهة تعلق الأمر والنهي فإنهما إنما يتعلقان بالطبائع من حيث هي، وربما يحمل
كلامه على التقرير الثاني فيكون المراد بجمعهما في الوجود هو الاقتران بينهما في
85

الوجود مع تعددهما وتميزهما في ذلك. وهو بعيد عن العبارة لا يلائمه قوله: وذلك
لا يخرجهما عن حقيقتهما... الخ.
قوله: * (إن الظاهر في المثال... الخ) *.
لا يخفى أن الكلام المذكور إنما يتم لو كان المستدل في مقام إثبات فهم
العرف بأن يقول بعد تسليم جواز الاجتماع عقلا إن فهم العرف حينئذ أيضا
يساعد ذلك - كما هو الحال في المثال المذكور - فيصح الجواب حينئذ بأن فهم
العرف إنما يسلم مع قيام الشاهد على كون الطبيعة متعلقة للأمر مطلقا مطلوبة على
أي نحو كان، وأما مع الإطلاق فلا، إذ من الواضح أن الفرق بين العموم والإطلاق
إنما هو بحسب دلالة الألفاظ، وأما في حكم العقل فلا فرق بين الوجهين أصلا،
لوضوح أنه مع استحالة الاجتماع عقلا لا يجوز عند العقل تصريح الآمر بإرادة
الطبيعة على أي وجه كان. فما ذكره في الجواب لا يدفع الاستدلال بل يثبته
ويؤكده، حيث سلم جواز الاجتماع مع إرادة التعميم وهو كاف في إثبات الجواز
العقلي.
وقد يذب عنه: بأن مراده بذلك بيان حصول الغرض بالإتيان بالفرد المفروض
من حيث إن مقصود المولى حصول الخياطة بأي وجه اتفقت، وليس الغرض هناك
حصول معنى الطاعة والانقياد كما في العبادات لئلا يحصل بأداء المنهي عنه
حسب ما نقول به، فيكون ما ذكره مبنيا على الفرق بين أداء المقصود وحصول
الامتثال. وهذا الوجه مع بعده عن ظاهر العبارة لا يلائم آخر كلامه كما سنشير
إليه.
ويمكن دفعه أيضا: بأن المقصود المنع من اجتماع الأمر والنهي على الوجه
المذكور بالنسبة إلى كلام الحكيم العالم بحقائق الأشياء، وإلا فجواز الاجتماع في
الجملة مما لا مجال لإنكاره، إذ لا يصل جميع الأفهام إلى المعرفة بامتناعه، كيف!
ومن البين أن القائلين بجواز اجتماع الأمر والنهي يجوز منهم صدور التكليف
على الوجه المذكور غير أنه لا يترتب على أمرهم إلا الوجوب والتحريم
86

الانشائيين الحاصلين في نظرهم دون الواقعيين، ولو فرض كون الانشاء الصادر
منهم باعثا على الوجوب والتحريم الواقعي فلا يتفرع ذلك واقعا إلا على أحدهما،
وكيف كان فحصول التكليف على الوجه المذكور قاض بحصول الطاعة والعصيان
من الوجهين، فالحكم بحصول الإطاعة والعصيان على فرض أمر السيد بالخياطة
كيف ما اتفقت لا يفيد جواز الجمع بينهما في نظر العقل عند صدور التكليف من
الحكيم، وما يتراءى من ظاهر كلام بعض الأعلام - من عدم الفرق وأنه إذا ثبت
ذلك في حق غيره تعالى ثبت الجواز بالنسبة إليه تعالى أيضا، إذ المقصود جواز
اجتماع الأمر والنهي من غير نظر إلى خصوص المادة - ليس على ما ينبغي. نعم
مع ملاحظة الحكمة والعلم بالحقيقة لا فرق بين المقامين.
قوله: * (سلمنا لكن المتعلق فيه مختلف... الخ) *.
قد يورد عليه تارة: بأن المراد بالكون في المقام إما نفس الأين والكون في
المكان أو خصوص الحركة والسكون على حسب إطلاقه المعروف، فإن أريد
الأول كان ذلك من لوازم الفاعل والفعل وكان خارجا عن حقيقة الفعلين، وإن
أريد الثاني لم يعقل خروجه عن حقيقة الفعل في شئ من المقامين، فإن ذلك عمدة
أجزائهما وأركانهما سيما بالنسبة إلى الخياطة إذ ليست الخياطة سوى الحركات
الخاصة الصادرة من الخياط فكيف يقال باختلاف المتعلق هنا دون الصلاة.
وتارة: بعد تسليم خروج الحركات المذكورة عن مفهوم الخياطة فلا شك في
كونها من مقدماتها العقلية وعللها الإعدادية فتكون واجبة من باب المقدمة،
فيجتمع الحرمة النفسية مع الوجوب الغيري وهو كاف في المقام، لما عرفت من
عدم الفرق.
وأخرى: بأن ذلك كله بعد تسليمه إنما يكون مناقشة في المثال، فيندفع بإيراد
مثال آخر وهو أن يأمر السيد عبده بمشي خمسين خطوة في كل يوم وينهاه عن
الدخول في الحرم فيمشي الخطوات المأمور بها في الحرم، فإنه أيضا يعد مطيعا
عاصيا على نحو ما ذكر في مثال الخياطة من غير فرق.
87

ويمكن دفع الجميع:
أما الأول: فبعد اختيار أن المراد بالكون هو الحركة والسكون بأن مقصود
المولى من الأمر بالخياطة هو الخياطة الحاصلة بالمصدر لا نفس الحركات
المعينة، ولو فرض تعلق الأمر صورة بنفس الحركات فليست مقصودة إلا من باب
المقدمة، وليس المأمور به على الحقيقة إلا تحصيل الخياطة بالمعنى الأول كما هو
ظاهر من ملاحظة المقام.
ومن البين: أن الحركات المخصوصة ليست داخلة في حقيقتها بخلاف
الصلاة.
وأما الثاني: فبالمنع من اجتماع الأمر والنهي هنا في المقدمة بل ليست
المقدمة في المقام إلا محرمة.
غاية الأمر: أنه يحصل به التوصل إلى الواجب فيسقط به ما هو الواجب من
مقدمته المحللة كما هو الحال في ركوب الدابة المغصوبة إلى الحج فتأمل.
وأما الثالث: فبجريان الكلام المذكور بعينه بالنسبة إلى المثال المفروض
أيضا، فإن الدخول والكون المطلق من مقدمات المشي لا نفسه، لوضوح كون
الحركة في المكان مغايرة للكون فيه، وإنما المثال الموافق في المقام أن يفرض
أمر السيد بمشي خمسين خطوة ونهيه عن المشي في دار مخصوصة فاتفق مشي
خمسين خطوة هناك، وكذا لو أمره بخياطة الثوب المعلوم ونهاه عن الخياطة في
بيت معلوم فأتى بخياطة الثوب المعين في ذلك المكان.
ومن البين: أنه لا يعد مطيعا بأداء المأمور به على الوجه المذكور ولا أقل من
منع ما ادعوه من الحكم بحصول الإطاعة لو لم نقل بثبوت خلافه.
قوله: * (سلمنا لكن نمنع... الخ) *.
قد يقال: بأنا نقطع بأن العبد إنما يستحق العقوبة لمخالفة النهي لا لمخالفة
الأمر، إذ مع إتيانه بالخياطة لا وجه لعقوبته على تركها، ولو عاقبه المولى على
ذلك لذمه العقلاء وعد سخيفا، فهو شاهد على حصول الإطاعة من الجهة
88

المذكورة، ولذا يصح أن يقول العبد: إن عصيتك بالكون في المكان المخصوص
فقد أديت مقصودك من الخياطة.
وفيه: أن عدم استحقاق العبد للعقوبة على ترك المأمور به لا يفيد أداءه
للمأمور به حتى يصح عده مطيعا من تلك الجهة، بل قد يكون ذلك من جهة اسقاط
المأمور به بأداء غيره، وذلك لا يقضي بمخالفة الأمر كما هو ظاهر ومرت الإشارة
إليه في المباحث المتقدمة.
والحاصل: أن اسقاط المأمور قد يكون بعصيانه، وقد يكون بأداء ما يكون
باعثا على الأمر به، أو عدم بقاء متعلقه، وسقوط الأمر على الوجه الثاني لا يقضي
بحصول العصيان كما هو ظاهر من ملاحظة إنقاذ الغريق على الوجه المحرم، فإن
ذلك ليس مما أمر الشارع به، لكنه مسقط للتكليف بالإنقاذ فلا امتثال حينئذ ولا
عصيان. نعم لو علم تعلق غرض الآمر بخياطة الثوب في غير المكان المفروض
تفرع عليه العصيان من تلك الجهة أيضا إلا أنه مخالف لظاهر الإطلاق وإن قلنا
بتقييد جانب الأمر بالنهي، فإن ذلك التقييد إنما يجئ من جهة النهي المفروض
والجمع بينه وبين الأمر، لا لتعلق غرض بخصوص الخياطة الحاصلة في غير ذلك
المكان.
قوله: * (حيث لا يعلم إرادة الخياطة كيفما اتفقت) *.
هذا أيضا ناظر إلى ما هو الظاهر من الجواب المتقدم من جواز اجتماع
الطاعة والعصيان مع كون جهة الأمر مطلقة ليتعلق الطلب بالفعل كيفما اتفق. وقد
عرفت وهنه وأنه مخالف لما هو بصدده، وبه يبعد أيضا ما مر من التوجيه الأول.
قوله: * (فإذا أوجد المكلف الغصب بهذا الكون صار متعلقا للنهي) *
قد يقال: إنه إذا كان الكون المفروض من أفراد طبيعة الغصب وكان النهي المتعلق
بها متعلقا حقيقة بأفرادها كان الكون المفروض متعلقا للنهي سواء أوجد المكلف
كلي الغصب في ضمنه أو لا، إذ ليس إيجاد المنهي عنه سببا لتعلق النهي به، فلا
يتجه ما ذكره من: أنه إذا أوجد المكلف مطلق الغصب في ضمن الكون الخاص
صار متعلقا للنهي.
89

ويمكن دفعه: بأن متعلق الأمر والنهي إنما هو نفس الطبيعة لكن لا من حيث
هي بل من حيث الوجود، وقضية ذلك أن يتصف أي فرد من أفراد الطبيعة مما
يتحقق إيجاد تلك الطبيعة في ضمنه بالوجوب أو التحريم، وفي صورة الترك انما
يكون الواجب أو المحرم أيضا أمرا واحدا وهو الطبيعة المطلقة من حيث الوجود،
فليس في تركه لجميع الأفراد تاركا لواجبات متعددة ولا تاركا لمحرمات عديدة
كما قد يتوهم، ذلك بناءا على القول بتعلق الأمر والنهي بالأفراد سيما بالنظر إلى
النهي لقضائه بتحريم جميع الجزئيات المندرجة في الماهية المفروضة الظاهر في
تعدد المحرمات. فظهر بذلك أنه مع إتيانه بفرد من الحرام يكون ذلك الفرد متعلقا
للنهي قطعا لاتحاد الطبيعة المحرمة به، وكون إيجاده عين إيجاد المحرم، وأما مع
ترك الجميع فلا يتصف شئ من تلك الخصوصيات بالتحريم وإنما المحرم هو
الطبيعة من حيث الوجود، نعم يصح الحكم على أفرادها بالتحريم من حيث اتحادها
مع الطبيعة إلا أنه لا يستفاد من ذلك أكثر من تحريم نفس الطبيعة بحسب الواقع.
وتوضيح المقام: أن هناك فرقا بين اتحاد الطبيعة مع خصوصية الفرد بحسب
الواقع وبين اتحادها معها على فرض وجودها من غير أن يتحقق هناك اتحاد
بينهما في الواقع فان الأول قاض بحرمة الفرد قطعا بخلاف الثاني، إذ لا يثبت
التحريم هناك بحسب الواقع إلا لنفس الطبيعة دون أفرادها.
غاية الأمر: أنها على فرض وجودها واتحادها مع الطبيعة يكون متصفة
بالتحريم، ولا يقضي ذلك باتصافها بالحرمة قبل اتحادها مع الطبيعة ووجود
الطبيعة في ضمنها.
والحاصل: أن النهي إنما يتعلق بنفس الطبيعة وهي المتصفة بالحرمة بملاحظة
ذاتها، واتحادها مع الفرد قاض بثبوت التحريم لخصوص الفرد المتحد معها فما لم
يحصل السبب المذكور لم يصح الحكم بثبوت الحرمة لخصوصيات الأفراد، نعم
يصح الحكم عليها بالتحريم على فرض وجودها حسب ما ذكرنا. فظهر بما قررنا
صحة ما ذكره المصنف (رحمه الله) من التعبير.
90

قوله: * (فمتعلق الأمر في الحقيقة إنما هو الفرد... الخ) *.
قد يستفاد من البيان المذكور سيما من هذه العبارة ذهاب المصنف إلى تعلق
الأوامر والنواهي بالأفراد، وهو قول مرغوب عنه عند المحققين وإنما المختار
عندهم تعلقهما بالطبائع، وقد نص عليه المصنف فيما مر. وفيه ما عرفت: من أن
الحكم بتعلقهما بالأفراد إنما هو بتسرية الحكم من الطبيعة إليها، لا أنها بنفسها
يتعلق بها الأوامر والنواهي من أول الأمر - كما هو ظاهر القائل بتعلقهما بالأفراد -
والظاهر: أن المختار عند المحققين هو تعلقهما بالطبائع من حيث الوجود وهو
يرجع إلى مطلوبية الفرد، فإن وجود الطبيعة في الخارج عين وجود الفرد فيكون
الأمر بالطبيعة على الوجه المذكور عين الأمر بالفرد لكن لا مطلقا بل من حيث
انطباق الطبيعة عليه، وهذا هو الفرق بين القولين حسب ما فصلنا القول فيه في
محله. ولا يذهب عليك أن ما قرره المصنف هنا يوافق القول بتعلقهما بالطبائع
على الوجه الذي قررنا وليس مبنيا على اختيار تعلقهما بالأفراد بل ربما ينافيه
حسب ما أشرنا إليه.
قوله: * (باعتبار الحصة التي في ضمنه من الحقيقة الكلية... الخ) *.
يريد أن الفرد إنما يؤمر به من جهة الحصة الحاصلة في ضمنه من الطبيعة
الكلية بناءا على القول بوجود الكلي الطبيعي خارجا في ضمن الأفراد على أبعد
الرأيين فيه، وأما على القول الأقرب وهو وجوده بعين وجود أفراده فالأمر أظهر.
وأنت خبير: بأن القول بوجود الكلي الطبيعي في ضمن الفرد إن أريد به أن
وجود الفرد بحسب الحقيقة ملفق من وجودين أو أكثر - أعني وجود الطبيعة
وسائر العوارض المكتنفة بها - لما تقرر من أنه لا اتحاد بينهما بملاحظة وجود كل
منهما في حد ذاته فتكون الطبيعة موجودة في ضمن الفرد بهذا المعنى وإن كانت
تلك الطبيعة عين تلك العوارض في بعض الاعتبارات لاتحادهما بحسب الوجود
أيضا اتحادا عرضيا. فيكون الطبيعة حينئذ عين أفرادها بتلك الملاحظة فليس هذا
أبعد الرأيين في وجود الكلي الطبيعي، وحينئذ إنما يجئ البطلان من جهة اتحاد
91

المأمور به للمنهي عنه ولو كان الاتحاد الحاصل بينهما عرضيا لا ذاتيا حسب ما
قدمنا بيانه. وإن أريد به أن وجود الكلي الطبيعي إنما يكون في ضمن الفرد من غير
حصول اتحاد بينه وبين العوارض اللاحقة بل بتلفيق الفرد من جزءين خارجيين
أو أجزاء أحدها الطبيعة والباقي غيرها من الأمور اللاحقة لها. ففيه - مع وضوح
فساده ضرورة صحة الحمل القاضي بحصول الاتحاد - أنه على فرض صحته لا
يصح معه البناء على المنع، إذ مع حصول الطبيعة في ضمن الفرد إنما يتعلق الأمر
بتلك الحصة الحاصلة، لا بمجموع الفرد الملفق منها ومن غيرها.
غاية الأمر: أن يتعلق الأمر حينئذ بالفرد على سبيل المجاز بأن يكون
مطلوبيته بمعنى مطلوبية جزئه، فالقول بتعلق الأمر حينئذ بالفرد على سبيل الحقيقة
ليتفرع عليه المنع من الاجتماع بناءا على الجزئية أيضا ليس على ينبغي، وإنما يتم
ذلك على القول بكون وجود الكلي متحدا مع الفرد في الجملة حسب ما مر تفصيل
القول فيه.
قوله: * (وإن أراد أنهما باقيان على المغايرة... الخ) *.
فيه: أن القائل بجواز الاجتماع يجعل متعلق كل من الأمر والنهي نفس الطبيعة
من حيث هي، ولا ريب أن كلا من الطبيعتين من الحيثية المفروضة مغايرة
للأخرى لا اتحاد بينهما.
غاية الأمر: أن يكون المكلف بسوء اختياره أوجدهما في ضمن فرد واحد
وليس الفرد عند القائل المذكور متعلقا للتكليف حتى يلزم اجتماع الحكمين في
شئ واحد، وإنما مورد الحكمين هو الطبيعتان وهما شيئان متغايران في حد
أنفسهما، بل يمكن أن يقال بتغايرهما بحسب الوجود أيضا، بل ومغايرتهما للكون
الخاص في المقام فإن الكون الحاصل من حيث ذاته لا يكون صلاة ولا غصبا،
فالصلاتية والغصبية من الأمور الطارئة على الكون الخاص بحسب الاعتبارين.
ومن البين: أن العارض غير المعروض فهناك أمور ثلاثة موجودة أعني
الكون الخاص من حيث ذاته وما ذكر من عارضيه، ومتعلق الأمر والنهي
92

خصوص العارضين المفروضين وهما متغايران وجودا ومتغايران لمعروضهما
كذلك حسب ما مرت الإشارة إليه في تقرير دليل الخصم، لكنك قد عرفت ما يرد
على الوجهين المذكورين بما لا مزيد عليه. هذا.
الوجه الثالث للقائل بجواز الاجتماع ما أشار إليه بعض المتأخرين تقريره:
أنه لو لم يجز اجتماع الأمر والنهي التحريمي لما جاز اجتماعه مع النهي التنزيهي،
إذ المسألتان من قبيل واحد فإن جاز الثاني جاز الأول وإن امتنع الأول امتنع
الثاني، إذ لا مانع هناك سوى لزوم اجتماع الضدين، والأحكام بأسرها متضادة لا
يمكن الاجتماع بينهما على سبيل الحقيقة، فإن كان المفروض في المقام من قبيل
اجتماع المتضادين لم يجز في المقامين وإلا جاز فيهما، لكن جواز الاجتماع في
الثاني معلوم كما هو ظاهر من ملاحظة العبادات المكروهة الواردة في الشريعة
- كالصلاة في الحمامات وفي معاطن الإبل وفي الأوقات المكروهة والصيام
المكروه ونحوها - وهذه النواهي وإن لم تكن نظير ما هو المبحوث عنه في المقام،
إذ الكلام هنا فيما إذا كان المنهي عنه بالنهي التحريمي أعم من وجه من المأمور به،
والمنهي عنه هنا أخص مطلقا منه، إلا أنه يثبت المدعى بطريق أولى، إذ مع القول
بالجواز في العموم والخصوص المطلقين لا مناص من القول بجوازه في العموم من
وجه أيضا.
قلت: ويمكن التنظير بما هو من قبيل المقام أيضا، وذلك كالصلاة في دار
الظالم مع ظن غصبيته والوضوء والغسل من ماء وهبه له ظالم مع ظن الغصبية
ونحو ذلك، فإن يد المسلم وإن كان طريقا شرعيا لجواز التصرف إلا أن التصرف
فيه مرجوح لما ذكر، فيجتمع حينئذ مرجوحية التصرف فيما ذكر مع وجوب
التصرف الخاص.
والجواب: أما عما ذكرناه - من جواز اجتماع الكراهة والوجوب فيما هو من
قبيل محل النزاع - فبأن أقصى ما يقتضيه ذلك مرجوحية تلك التصرفات بالنظر
إلى ذواتها وهي لا ينافي رجحانها من جهة أخرى نظرا إلى وقوعها جزءا من
العبادة الواجبة وحينئذ يقع المعارضة بين الجهتين.
93

ومن البين: أن مرجوحية المكروه لا يوازي رجحان الواجب، فغاية الأمر أن
يحصل هناك نقص في ثواب الواجب ويكون الفعل بعد ملاحظة الجهتين راجحا
لا مكروها بمعناه المصطلح، نعم يثبت له الكراهة بالمعنى المذكور بالنظر إلى ذاته،
وذلك لا يستدعي ثبوت الكراهة له في خصوصيات الموارد مطلقا، إذ قد يعرضه
ما يحصل بسببه رجحان يوازي تلك المرجوحية ويزيد عليها فيرتفع الكراهة
بالمعنى المذكور عن ذلك الفعل، غاية الأمر أن يكون أقل ثوابا عن العاري عن
تلك المنقصة.
نعم لو قلنا حينئذ ببقاء المرجوحية بالمعنى المذكور صح ما ذكره من النقض
إلا أنه ليس كذلك. ومن ذلك يظهر الجواب عما ذكروه من ثبوت الكراهة لبعض
العبادات، فإن الكراهة هناك ليس بمعناها المصطلح بل بمعنى أقلية الثواب كما
نص عليه جماعة من علمائنا، وقد اختاره هنا جماعة من الأفاضل جوابا عن
الإيراد المذكور.
وأورد عليه: أنه يلزم حينئذ أن يكون معظم العبادات مكروهة، إذ ما من
عبادة إلا وهو أقل ثوابا من الأفضل كالصلاة في البيت بالنسبة إلى الصلاة في
مسجد المحلة والصلاة في مسجد المحلة بالنسبة إلى الصلاة في مسجد الجامع
وهكذا مع أنه لم يتوهم أحد عد شئ من ذلك من جملة المكروهات.
والجواب: أنه ليس المراد مجرد أقلية ثوابها بالنظر إلى غيرها، بل المقصود
كونها أقل ثوابا بالنظر إلى ما أعد من الثواب لتلك العبادة في حد ذاتها فقد يجئ
هناك ما يوجب مزيد ثوابها عن ذلك - كما في الصلاة في المسجد والجماعة
ونحوها - وقد يجئ هناك ما يوجب النقص عنه - كالصلاة في الحمام - فكراهة
الصلاة في الحمام نظير استحباب الصلاة في المسجد، فكما أن ذلك يقتضي زيادة
ثواب فهذا يقتضي نقصانه، فمطلوبية تركها على الوجه المذكور إنما هو من جهة
النقص الحاصل فيها، فالغرض من النهي المفروض إخلاء الفعل عن تلك المنقصة
بأن يترك الفعل المشتمل عليها ويأتي بالخالي عنها، لا أن ذلك الفعل المشتمل
94

عليها خال عن الرجحان بالمرة ليكون النقص الحاصل من الخصوصية مقاوما
لرجحان أصل الطبيعة وزائدا عليها، وعلى هذا فيكون المباح على طباق المعنيين
المذكورين هو ما لا يكون فيه زيادة ولا نقيصة بالنسبة إلى أصل الطبيعة - كالصلاة
في البيت - فرجحان الفعل مع عدم المنع من النقيض على الوجه المذكور
كمرجوحيته كذلك ومساواته لا ينافي بوجه من الوجوه وجوب الفعل ورجحانه
على تركه رجحانا مانعا من النقيض. فما ذكره بعض الأفاضل - من أن ما ذكر لا
يسمن ولا يغني من جوع، فإن مطلوبية الترك المتعلق بهذا الشخص من الصلاة من
جهة هذا النهي لا يجتمع مع مطلوبية الفعل من جهة مطلق الأمر بالصلاة، مع أنك
قد اعترفت بأن الخصوصية أوجبت نقصا لهذا الفرد الموجود عن أصل العبادة،
فمع هذه المنقصة إما أن يطلب فعلها بدون تركها أو تركها كذلك أو كلاهما، فإنه لا
يمكن بحسب الواقع خلوها عن أحد الوجوه الثلاثة، فعلى الأول يلزم انتفاء
الكراهة وعلى الثاني انتفاء الوجوب وعلى الثالث يلزم المحذور - بين الاندفاع
ونحن نقول: إن أردت بكون المطلوب فعلها دون تركها أن يكون فعل الصلاة على
الوجه الناقص مطلوبا على سبيل المنع من تركها بالمرة أعني أعم من إتيانها على
الوجه الناقص أو الكامل على ما هو الشأن في المنع من الترك المأخوذ في
الواجبات التخييرية، فإنه انما يؤخذ على الوجه الأعم من ترك ذلك الفعل وبدله
- حسب ما مر بيانه في محله - فنختار أن هذا الوجه هو المقصود في المقام. قولك:
إنه يلزم حينئذ انتفاء الكراهة مدفوع، بأنه إن أريد بذلك انتفاء الكراهة بمعناها
المعروف فمسلم وعليه مبنى الجواب المذكور، وان أريد انتفاؤها بالمعنى الذي
ذكرناه فممنوع، إذ لا مانع من أن لا يكون ترك الفعل من أصله على وجه يعم ذلك
وغيره من أبداله مطلوبا ومع ذلك يكون ترك الفعل الخاص مطلوبا بالإضافة إلى
بدله فيراد تركه لاختيار بدله نظرا إلى اشتماله على المنقصة وخلو البدل عنها، فإنه
لا تضاد بين الوجوب والكراهة بالمعنى المذكور وإنما المقابلة بينه وبين الكراهة
بمعناها المشهور. وإن أردت بكون المطلوب فعلها دون تركها أن لا يكون الترك
95

مطلوبا أصلا ولو على الوجه الذي قررنا قلنا نختار الوجه الثالث. قولك: فيلزم
المحذور قلنا ممنوع، وإنما يلزم لو قلنا بكون الترك بالمرة مطلوبا وأما لو كان
الترك في الجملة مطلوبا على الوجه الذي ذكرنا فلا محذور أصلا - حسب ما
قررناه -.
فصار المحصل أن الفعل المذكور راجح على تركه، لكنه لما كان مشتملا على
النقيصة بالنسبة إلى الرجحان الحاصل لأصل تلك العبادة نهى الشارع عنه إبداء
لتلك المنقصة وتحريضا على الإتيان بالفرد الآخر الخالي عنها من غير مناقضة
بين الراجحية والمرجوحية المفروضتين أصلا نظرا إلى اختلاف النسبة، فإن
رجحانه بالنسبة إلى الترك بالمرة ومرجوحيته نظرا إلى اشتماله على النقيصة
المفروضة بالنسبة إلى ما قرر لأصل تلك العبادة فطلب تركه لتخلية العمل عن تلك
الوصمة. وما يقال في المقام: من أن هذا الجواب لا ينفعهم ولا يدفع الإيراد
المذكور على مذاقهم إذ مدار كلامهم على تعلق الأحكام بالأفراد بخصوصها وإن
كان تخييرا وما ذكر إنما يناسب مختارنا من تعلق الحكم بالطبيعة مدفوع أيضا، إذ
لا تدافع بين الراجحية والمرجوحية على الوجه المفروض أصلا وإن قلنا بتعلق
الأوامر بخصوص الأفراد بل لا مانع من تعلق الأمر التخييري بخصوص الفعل
على الوجه المذكور ثم يتعلق به النهي التنزيهي بالمعنى الذي بيناه كما لا يخفى.
وحينئذ فيكون الملحوظ في الثواب المعد لأصل العبادة هو المعد لخصوص
أفرادها الغير المشتملة على المزية أو النقيصة، أو نقول: إن لتلك الأفراد من حيث
انطباق الطبيعة عليها ثوابا ورجحانا قد ينقص عنه من جهة الاشتمال على
الخصوصية المرجوحة أو يزيد عليه من جهة الاشتمال على الخصوصية الراجحة
فالمقيس عليه هو الرجحان الثابت لها في تلك الملاحظة، وأي ارتباط لذلك بتعلق
الأوامر بالطبائع المطلقة كما توهمه، مضافا إلى أن القائل بامتناع الاجتماع لا
يلتزم بتعلق الأوامر بخصوص الأفراد، بل أقصى الأمر أن يقول بتسرية الحكم من
الطبيعة إلى الفرد من حيث انطباق الطبيعة عليه وهو غير القول بتعلقها بخصوص
96

الفرد - كما عرفت تفصيل القول فيه - فكلامه المذكور ساقط من أصله وكذا ما
يقال أيضا: من أنه مع البناء على هذا الجواب عليهم أن يلتزموا أن الصلاة في
البيت التي هي أحد الأفراد المطلوبة مباحة وهو أيضا فاسد، إذ كما لا يكون
العبادة مرجوحة لا يكون مباحة أيضا.
والقول بأن المباح إيقاعها في البيت لا نفسها جار فيما نحن فيه، فلم لا
يقولون إن المكروه هو فعلها في الحمام لا نفسها وإن الحرام هو فعلها في الدار لا
الغصبية نفسها، فذلك بعينه رجوع إلى ما ذكرنا وذهبنا إليه. فإذا بطل الجواب على
مذهبهم بقي الإيراد بحاله فلا تغفل واغتنم هذا الخيال واضبطه فإنه ظاهر الاندفاع
بعد التأمل فيما قررناه، فإن المباح بالمعنى الذي ذكرناه لا ينافي رجحان الفعل
ووجوبه وإنما المباح بمعناه المعروف هو الذي ينافيه، والمقصود بإباحة إيقاعها
في البيت أن خصوصية الإيجاد في البيت لا رجحان فيه ولا مرجوحية وإن كان
نفس طبيعة العبادة راجحة، ولذا كان الفرد المطابق لها راجحا من حيث إنه فرد من
تلك الطبيعة، كما أن خصوصية الإيجاد في الحمام مرجوحة باعثة لنقص العبادة
عما هي عليه من الرجحان، وخصوصية الإيجاد في المسجد راجحة باعثة على
زيادة الفضيلة، وليس المراد به أن خصوصية الإيقاع في البيت مباحة بالمعنى
المصطلح، كيف وهو متحد مع الإيقاع المطلق، وإذا وجب المطلق وجبت أفراده
حسب ما عرفت فلا يتعقل القول بإباحته الواقعية.
غاية الأمر أن يقال: إن تلك الجهة ليست جهة وجوب بل جهة إباحة من
حيث إنه إنما يجب الفرد من حيث كونه إيقاعا للصلاة لا من جهة خصوصية كونه
في البيت لكن لا يجري ذلك بالنسبة إلى ما ذكر من المكروه، إذ ليست تلك
الخصوصية مكروهة في نفسها بل هي جهة تعليلية في كراهة العبادة المتحدة بها،
إذ ليس نفس الكون مكروهة بل الصلاة الملابسة له مكروهة من جهته.
نعم، يمكن القول به فيما ذكرناه من المثال المطابق لما نحن فيه كالكون في
مكان يكره نفس الكون فيه - حسب ما مثلنا - إلا أنه بعد اتحاده مع الواجب
97

ومصادمته لجهة الوجوب لا يبقى مكروها بمعناه الاصطلاحي، لرجحان جهة
الوجوب على جهة الكراهة - حسب ما قدمنا - ولو أجرى نظير ذلك بالنسبة إلى
الحرام لم يحصل أيضا اجتماع بينه وبين الواجب، لملاحظة الترجيح حينئذ بين
الجهتين أو المقاومة ويكون الحكم الثابت له على حسبه فلا معنى أيضا لاجتماع
الحكمين.
وقد يورد أيضا في المقام: أنه إذا فسرت الكراهة بالمعنى المذكور لم يكن
المقصود من النهي طلب الترك، بل كان كناية عن بيان حال الفعل بأنه أقل ثوابا من
غيره فلا طلب حتى يلزم اجتماع الأمر والنهي وهو مع بعده وكونه تعسفا بحتا لا
يجدي بالنظر إلى الواقع، فإن ذلك الفعل حينئذ إما أن يطلب إيجاده أو تركه أو هما
معا ويجري فيه الكلام المتقدم إلى آخره.
ويضعفه أن مجرد الخروج عن الظاهر لا يقضي ببطلان الجواب، فإن مبناه
على التوجيه والتزام التأويل، وكونه تعسفا بحتا غير ظاهر بعد ظهور العلاقة. نعم،
الأظهر حمله إلى إرادة الطلب مهما أمكن فيه ذلك - حسب ما يأتي بيانه - وأما مع
عدم إمكانه كما في بعض المقامات فالحمل على ما ذكر ليس بالبعيد، بل يتعين
الحمل عليه بعد القول بامتناع اجتماع الحكمين، أما لو قلنا بجواز الاجتماع لم
يكن هناك باعث على التزام التوجيه وكان ارتكابه حينئذ تعسفا بحتا إلا أن ذلك
أمر آخر والجواب المذكور مبني على خلافه، وما ذكر من عدم إجدائه بالنظر إلى
الواقع فاسد، والمختار حينئذ مطلوبية الفعل المفروض واللازم منه انتفاء الكراهة
بمعناها المعروف لا بمعنى أقلية الثواب فأي فساد في التزام انتفاء الكراهة في
المقام بالمعنى المذكور حتى يجعل ذلك إيرادا في المقام كيف! ومبنى الجواب
المذكور انتفاء الكراهة بهذا المعنى وهم مصرحون بذلك، ومع ذلك كيف يعقل
الإيراد عليهم بلزوم انتفاء الكراهة الحقيقية، نعم لو أريد بذلك لزوم انتفاء الكراهة
مطلقا حتى بمعنى أقلية الثواب صح ما ذكر إلا أن ذلك من الوهن بمكان غني عن
البيان.
98

هذا، ويمكن الجواب أيضا عن الدليل المذكور بوجهين آخرين:
أحدهما: أن النواهي التنزيهية المتعلقة بالعبادات ليست متعلقة بنفس العبادة
أو جزئها، وإنما هي متعلقة بحكم الاستقراء بأمور خارجة عنها فلا اتحاد في
متعلق الأمر والنهي - مثلا - النهي عن الصلاة في الحمام إنما يتعلق حقيقة
بالتعرض للرشاش، والنهي عن الصلاة في معاطن الإبل إنما يتعلق بأنفارها،
والنهي عن الصلاة في البطائح إنما يتعلق بالتعرض للسبيل.
وأورد عليه بوجوه:
منها: أن ذلك خروج عن ظواهر النواهي من غير دليل والاستدلال المذكور
إنما يناط بالظاهر.
ويوهنه: أن الكلام في المقام في الجواز العقلي ولا ريب أن مجرد الظاهر لا
يفي في مقابلة من يدعي الامتناع، نعم لو لم يقم دليل على المنع لربما صح
الاستناد إليه، فمجرد الخروج عن الظاهر لا يدفع التوجيه المذكور فإن بناء
التوجيه على الخروج من الظاهر لعدم إمكان الأخذ به.
ومنها: أن معنى كراهة تعرض الرشاش الكون في معرض الرشاش مكروه،
وهذا الكون هو الكون الحاصل في الصلاة فيعود المحذور.
ويدفعه: أن التعرض للرشاش بحسب الحقيقة مغاير للكون، وإنما الكون من
مقدماته فلا وجه لتفسير التعرض له بالكون في معرض الرشاش، غاية الأمر
حصول التعرض للرشاش بالكون في معرضه فلا اتحاد بين متعلق الأمر والنهي.
نعم يمكن أن يقال: إن الكون في معرض الرشاش سبب للتعرض له، فمع
مرجوحية التعرض له يكون السبب المفضي إليه مرجوحا فيعود المحذور
المذكور. إلا أن يقال: إنه لا مانع من اجتماع الكراهة الغيرية مع الاستحباب
والوجوب النفسيين كما قد يقال به بالنسبة إلى الوجوب النفسي والحرمة الغيرية
حسب ما يأتي الإشارة إليه. وقد يشكل ذلك بأنا لو قلنا بجواز اجتماعهما في
الجملة فجريانه في المقام محل تأمل كما سيظهر الوجه فيه إن شاء الله.
99

ومنها: أنه لا كراهة في التعرض للرشاش في نفسه وإلا لكان الكون في
الحمام مكروها في غير حال الصلاة أيضا، وإنما المكروه التعرض له في حال
الصلاة فيصير مفاده أن الصلاة في الحمام منهي عنها، لكونها في معرض الرشاش
فيتعلق النهي بالصلاة أيضا ويعود المحذور.
وفيه: أنه لو كان التعرض للرشاش مكروها حال الصلاة لم يلزم منه أن يكون
نفس الصلاة مكروهة، إذ لا اتحاد بين الصلاة والتعرض المفروض في الوجود
غاية الأمر أن يكونا متقارنين، فكيف يصح القول بكون مفاد كراهة التعرض
للرشاش في الصلاة كراهية نفس الصلاة لأجل العلة المذكورة، وكون النهي عن
التعرض له لأجل الصلاة لا يقضي بتعلق النهي بنفس الصلاة.
غاية الأمر أن يكون ثبوت الكراهة الحقيقية الثابتة للتعرض معللا بتسبيبه
نقصا في الصلاة، فعلى هذا يكون كراهة التعرض للرشاش معللا بالصلاة لا
العكس.
ومنها: أن ذلك لا يجري في كثير من الحمامات وفي كثير من الأوقات،
وتخصيص الكراهة بغير تلك الصورة في غاية البعد.
ثم إنه لا يجري الجواب المذكور في جميع موارد الكراهة مما عدا الأمثلة
المذكورة كما يظهر بالتأمل فيها.
قلت: إن كان مقصود المجيب جريان الجواب المذكور في جميع المكروهات
من العبادات فلا يخفى ما فيه، لظهور عدم جريانه في جملة منها. وإن أراد بذلك
جريانه في جملة منها ويجاب عن غيرها بوجه آخر فلا بأس بما ذكر من الجواب،
وما ذكر من الإيراد حينئذ بين الاندفاع، وبذلك يندفع ما قد يورد أيضا في المقام:
من أن مثل الصلاة في مواضع التهمة مما هو من جزئيات المفروض في هذه
المسألة لا يجري فيه الكلام المذكور، لتعلق الكراهة هناك بفعل آخر اتحد مع
الصلاة حسب ما هو المفروض في محل النزاع فلا وجه حينئذ للقول بتعلق النهي
التنزيهي بأمر آخر سوى العبادة، إذ المفروض اتحاده معها فكما لا يجوز اتحاد
100

الواجب مع الحرام نظرا إلى تضاد الأحكام كذا لا يجوز اتحاده مع المكروه على
الوجه المذكور، فلا بد من القول ببطلان العبادة حينئذ أو الحكم بارتفاع الكراهة
وكل من الوجهين في غاية البعد، بل لا يظن أن أحدا يلتزمه فالظاهر أنه لا مجال
للتأمل في صحة العبادة وكراهة ذلك الأمر المتحد معها، وإذا كان الحال هناك على
الوجه المذكور لا جرم صح القول به في المقام لاشتراك العلة، والمجوز له هناك
قاض بجوازه هنا أيضا لاتحاد المناط.
ويمكن دفع ذلك تارة: بأن مرجوحية الكون في موضع التهمة مما لا كلام
فيها، ولا نقول بانتفاء تلك المرجوحية إلا أنا نقول بمعارضتها برجحان الصلاة
الواقعة في ذلك المكان، وبعد حصول الجهتين نقول برجحان الصلاة فحصول جهة
المرجوحية لا يستلزم ثبوت المرجوحية والكراهة واقعا بالنسبة إلى الفعل الذي
حصل فيه تلك المرجوحية وما يعارضها من الجهة المرجحة، بل لا بد من موازنة
الجهتين، فلا يتم الإيراد إلا بعد ثبوت رجحان جهة الكراهة حتى يكون الكون
المذكور مما يطلب تركه ولو مع اتحاده بالصلاة فيكون تركه راجحا على إيجاده
مطلقا وهو في محل المنع، إذ يمكن أن يقال برجحان الفعل على الترك بعد
ملاحظة الجهتين وإن كان فيه منقصة من جهة حصول المرجوحية.
نعم لو ثبت مرجوحية الكون المذكور مع ملاحظة كونه جزءا من الصلاة
أمكن الإيراد المذكور وأنى له بإثباته.
وتارة: بالتزام مرجوحية الكون في ذلك المكان ورجحان تركه مطلقا إلا أنه
لا يستدعي بطلان الصلاة ومرجوحيتها، إذ مرجوحية الجزء وكراهته لا يستلزم
مرجوحية الكل، فالكراهة إنما تتعلق بالكون المذكور، والاستحباب أو الوجوب
إنما يقوم بالكل ولا اتحاد في متعلقيهما حتى يلزم اجتماع الضدين، فغاية ما يلزم
حينئذ أن يتصف ذلك الجزء بالرجحان الغيري من جهة توقف حصول الكل عليه
والمرجوحية الذاتية - حسب ما فرض - ولا تضاد بينهما ويأتي بيانه إن شاء الله،
ولذا يمكن أن يتصف مقدمة الواجب بالكراهة الحقيقية مع أنا نقول بوجوبها
101

الغيري، ولا يجري ذلك بالنسبة إلى تحريم الجزء فإن وجوب الكل واستحبابه
يستلزم جواز الجزء قطعا، ولا يجامع تحريمه وجوب الكل وجوازه حسب ما
ظهر من البيان المتقدم.
وينبغي التنبيه لأمور:
أحدها: أنه هل يجوز اجتماع الوجوب الغيري والحرمة النفسية أم لا؟ والذي
يظهر من المصنف هو القول بجواز الاجتماع فيه، وظاهر كلامه وإن كان مطلق
حيث قال: إنه ليس على حد غيره من الواجبات فيجوز أن يجتمع مع الحرام إلا أن
الظاهر أنه إنما يقول بجواز الاجتماع إذا كان وجوبه الغيري تخييريا، وأما
الوجوب العيني الغيري مع الحرام العيني فاجتماعهما قاض بالتكليف بالمحال كما
لا يخفى.
وكيف كان فحجته على الجواز أن الغرض من الوجوب الغيري هو التوصل
إلى الغير لا حصول الامتثال والانقياد به حتى لا يمكن حصوله بالمحرم، وهو مما
يحصل بالحرام أيضا كما في الوصول إلى الحج بالدابة المغصوبة. وفيه: أن غاية ما
يلزم من البيان المذكور حصول التوصل بالحرام وأداء الغرض به، وذلك لا
يستدعي تعلق التكليف به، فإنه إنما يقتضي ذلك تعلق التكليف به وإذا لم يكن
هناك مانع من تعلقه به لتعلق الوجوب نظرا إلى حصول العلة الموجبة، لكن
المفروض حصول المانع من جهة تعلق الحرمة به، فغاية الأمر ترتب تلك الثمرة
الموجبة للفعل عليه من غير تحقق الوجوب بالنسبة إليه لما عرفت.
والحاصل: أن حصول الغرض مقتض لوجوبه عليه وهو إنما يتفرع عليه
الوجوب مع انتفاء المانع وهو موجود في المقام، كيف ولو جاز تعلق الأمر به
لحصل الامتثال والانقياد بفعله، فأي فرق بين ما يراد به الامتثال والانقياد أو ما
يكون المقصود منه أداء الفعل؟ إذ لو جاز تعلق الأمر به حصل به الامتثال والانقياد
أيضا، فإن كان تعلق النهي به مانعا من تعلق الأمر جرى في المقامين.
غاية الأمر تفرع الثمرة القاضية بالوجوب على الحرام أيضا من غير أن يكون
102

سببا لإيجابه نظرا إلى حصول المانع منه، على أنه لو تم ذلك لما اختص
بالواجبات التوصلية بل جرى في غير العبادات من الواجبات، إذ المقصود فيها
حصول الفعل وهو حاصل بالحرام كما يحصل بغيره من غير فرق بينها وبين
الواجبات التوصلية، فالقول بجواز الاجتماع فيه ضعيف جدا. وكان مقصود
المصنف هو حصول الثمرة المطلوبة من الواجب من الحرام، فيسقط التكليف بأداء
الحرام كما يسقط بأداء الواجب بخلاف ما يكون المقصود منه الامتثال دون مجرد
حصول الفعل.
ثانيها: أنه هل يجوز اجتماع الوجوب النفسي والحرمة الغيرية أم لا؟ والذي
يتقوى في النظر جوازه نظرا إلى أن الوجوب النفسي إنما يقتضي رجحان الفعل
على الترك رجحانا مانعا من النقيض، والحرمة الغيرية إنما يقتضي مرجوحيته
بالنسبة إلى الفعل الآخر الذي هو أهم منه مرجوحية قاضية بتعين الإتيان بالآخر
ولا تدافع بين الوصفين، إذ لا مانع من رجحان الفعل على تركه ومرجوحيته
بالنسبة إلى فعل آخر سواء لم يكن الراجحية والمرجوحية مانعة من النقيض كما
في المندوبات المتعارضة أو كانت مانعة منه كما في الواجبات المتعارضة أو كانت
الراجحية غير مانعة والمرجوحية مانعة كما في المندوب والمعارض للواجب.
ويرد عليه: أنه إن اخذت الراجحية والمرجوحية في المقام بالنسبة إلى كل
من الجهتين المفروضتين فلا مانع من اجتماعهما قطعا إلا أن ثبوت الراجحية
والمرجوحية حينئذ إنما يكون على نحو القضية الطبيعية من غير أن يكون الصفتان
حاصلة له في الخارج على نحو ما يلحظ في القضية المحصورة، ومفاد ذلك
اجتماع الجهتين لا اجتماع الحكمين، وقد عرفت أنه لا مانع منه قطعا بل هو
حاصل في محل النزاع أيضا من غير أن يكون هناك تأمل في جوازه، وإن لوحظ
ثبوت الراجحية والمرجوحية المفروضتان (1) له بحسب الواقع فيريد الشارع في
الواقع بعد ملاحظة جميع جهات الفعل الحاصلة له بحسب ذاته وبحسب الخارج

(1) كذا في الأصل والصواب المفروضتين.
103

إيجاد الفعل ويريد أيضا عدم إيجاده فيكون ملزما لفعله وملزما لتركه معا فهو
محال - حسب ما قررناه في محل النزاع - من غير فرق، كيف ولا أقل من كونه
تكليفا بالمحال لكونه إلزاما للمكلف بالضدين، والمفروض في المقام كون
التكليف بالأهم مقدما فيسقط التكليف بالآخر.
ويدفعه أنه إنما يلزم ذلك لو كان التكليفان حاصلين في مرتبة واحدة، وأما لو
كانا مترتبين فلا مانع منه فيكون مطلوب الآمر أولا هو الإتيان بالأهم ولا يكون
طالبا في هذه المرتبة لضده، بل يكون الضد مطلوب الترك من حيث الأداء إلى
الأهم ويكون مطلوبه ثانيا هو الإتيان بالثاني على تقدير عدم الإتيان بالأهم، ولا
مانع من تعلق التكليفين كذلك بالمكلف، إذ لا مدافعة بينهما من حيث التكليف
والإلزام لملاحظة الترتيب ولا من حيث اجتماع الحسن والقبح، لما عرفت من
عدم المدافعة بين الحسن والقبح المفروضين وجواز اجتماعهما في محل واحد،
وإنما يجئ التكليف على الترتيب المفروض من ملاحظة الجهتين والأخذ
بمقتضاهما فإن جهة المنع من فعله بملاحظة أهمية ضده إنما تنافي إلزامه بالفعل
على تقدير الإتيان بالأهم لا مطلقا، وليست تلك الجهة كالجهة المقبحة للفعل
بملاحظة نفسه، فإنه لا يمكن الجمع بينهما - حسب ما مر - وأما الجهة المفروضة
الملزمة للترك من جهة لزوم الإتيان بالأهم إنما تنافي الإلزام بغير الأهم مع
الإطلاق دون الإلزام به على تقدير ترك الأهم - حسب ما قررنا - فظهر بما ذكرنا
أن الأهم يتعلق به الأمر من غير أن يتعلق به النهي اللازم من الأمر بغير الأهم، إذ
ليس غير الأهم متعلقا للأمر في مرتبة الأهم حتى يكون إيجابه نهيا عن ضده
الذي هو الأهم ليلزم اجتماع الأمر والنهي بالنسبة إليه.
فإن قلت: إن غير الأهم وإن لم يكن مطلوبا في مرتبة الأهم إلا أن الأهم
مطلوب في مرتبة غير الأهم ولذا يعاقب على ترك الأهم عند إتيانه بغير الأهم
من غير عكس فيلزم أيضا أن يتعلق به النهي اللازم من الأمر بغير الأهم لو جاز
القول به.
104

قلت: إنما يلزم ذلك في المقام لو كان وجوب غير الأهم مطلقا، وأما لو كان
مقيدا بصورة ترك الأهم - كما هو قضية ما ذكرناه حيث إن المفروض ترتب
الأمرين - فلا يلزم ذلك، لأن وجوب غير الأهم حينئذ مشروط بترك الأهم فيكون
ترك الأهم مقدمة لوجوب غير الأهم. ومن المقرر عدم وجوب مقدمة الواجب
المشروط فلا يكون ترك الأهم واجبا للأداء إلى غير الأهم حتى يلزم اجتماع
الأمر والنهي في الأهم، بل ترك الأهم حرام محض يترتب عليه وجوب غير الأهم
وفعله حسب ما قررنا.
فإن قلت: إن ترك الأهم إن كان شرطا في وجوب غير الأهم كان وجوبه
متوقفا عليه، فلا بد من حصوله أولا حتى يتفرع عليه وجوب غير الأهم، فينبغي أن
لا يتحقق التكليف بغير الأهم إلا عند مضي زمان الأهم أو مضي ما يتمكن من أداء
الأهم فيه ليصدق معه ترك الأهم وليس كذلك في المقام، إذ المفروض أداء غير
الأهم في الزمان الذي يجب فيه أداء الأهم مع التمكن من ترك غير الأهم
والإتيان بالأهم مقامه، فليس هناك إلا البناء على ترك الأهم ولا يمكن أن يكون
وجوب غير الأهم مشروطا بالبناء المذكور، إذ هو غير الترك المفروض ولا يندفع
بالتزام اشتراط الوجوب به ما ذكر من الإيراد بالنسبة إلى الأهم لوجوب الإتيان
بالأهم عند البناء على تركه ضرورة أن البناء على عصيان الأمر لا يسقطه
ووجوب تركه أيضا نظرا إلى كونه مقدمة لفعل غير الأهم المفروض وجوبه على
تقدير البناء على العصيان المفروض وهو عين المفسدة المذكورة.
قلت: إنا لا نقول بكون وجوب غير الأهم مشروطا بالبناء على ترك الأهم
وإنما نقول باشتراطه بترك الأهم، لكن لا نقول بالتزام كون الشرط متقدما على
المشروط، بل يمكن تأخره عنه وتقارنه لجميع المشروط فلا يكون بتمامه حاصلا
حين الشروع في المشروط، بل نقول بأن وجود ذلك الشرط بحسب الواقع كاف
في وجود المشروط به وإن كان تحققه بعد حصول المشروط به كما في الإجازة
اللاحقة للعقد الفضولي بناءا على القول بكون الإجازة كاشفة كما هو الأظهر، فكذا
105

الحال في المقام، والعلم العادي بعد وقوع الأهم منه كما هو حاصل في كثير من
الأحيان كاشف عن عدمه فيتعلق الوجوب حينئذ بغير الأهم ويصح الإتيان به.
فإن قلت: إنه يرد حينئذ لزوم المفسدة المذكورة بالنسبة إلى فعل غير الأهم
من جهة إلزام المكلف حينئذ بفعله وإلزامه بتركه أيضا، لكونه مانعا من فعل الأهم
الواجب عليه حينئذ أيضا، ضرورة عدم سقوط التكليف به بالبناء على عصيانه
وعلم المكلف بعدم إتيانه به وهو عين المفسدة المترتبة على اجتماع الأمر والنهي
- حسب ما مر - فلا فائدة فيما ذكر من ترتب التكليفين في تصحيح ذلك.
قلت: إنه قد يدفع ذلك بأن ترك غير الأهم إنما يجب من حيث كونه مقدمة
لفعل الأهم، وقضية ذلك وجوب خصوص الترك الموصل إلى فعل الأهم دون
غيره - حسب ما مر في بحث المقدمة من الإشارة إلى ما قد يتراءى من أن
الواجب منها خصوص المقدمة الموصلة دون غيرها - والواجب بمقتضى التكليف
الثانوي - على حسب ما فرض - هو الفعل الغير الموصل تركه إلى الأهم حيث كان
وجوبه مبنيا على ترك الأهم فلا يكون فعل شئ واحد وتركه واجبين معا ليلزم
المحذور، بل الترك الواجب هو ما يوصل إلى فعل الأهم والترك الحرام هو ما لا
يوصل إليه، وهما شيئان مختلفان لا اتحاد بينهما حتى يلزم من ذلك التدافع بين
الطلبين المذكورين، فالواجب فعل والمحرم فعل آخر. وقد مرت الإشارة إلى ذلك
في بحث اقتضاء الأمر بالشئ للنهي عن ضده.
وفيه: ما عرفت في ذيل بحث مقدمة الواجب من أن تنويع الفعل إلى النوعين
وكون المقدمة الواجبة هو خصوص الفعل الموصل دون غيره غير متجه، بل
المقدمة الواجبة ما يتوقف عليه فعل الواجب سواء تحقق به الإيصال أو لم يتحقق.
غاية الأمر: أنه مع عدم حصول الإيصال به قد ترك نفس الواجب دون
المقدمة المفروضة فلا يكون ترك المقدمة المفروضة مع بنائه على ترك الواجب
جائزا غير ممنوع منه عند الآمر ليمكن تعلق الأمر به منه، لوضوح كون ذي
المقدمة حين البناء المذكور ممنوعا من تركه إذ لا يقضي البناء على العصيان
106

بسقوط الواجب ومع حصول المنع من تركه فلا ريب في حصول المنع من ترك
مقدمته أيضا، غير أن منعه من تركه ليس مطلقا ليكون مطلوبا في نفسه واجبا في
حد ذاته، بل إنما يجب بملاحظة إيصاله إلى الفعل الآخر سواء تحقق به الإيصال أو
لا وبون بعيد بين ما ذكر وما ذكرناه - حسب ما مر القول فيه في بحث المقدمة -
فاللازم حينئذ كون ذلك الترك واجبا بخصوصه بملاحظة إيصاله إلى الأهم
ومحرما أيضا بملاحظة تعلق الأمر بذلك الفعل في ذاته فيثبت له الحرمة
والوجوب من جهتين، والمفروض عدم إجداء تعدد الحيثية مع اتحاد الفعل -
حسب ما مر القول فيه - فالمحذور على حاله سيما مع تضيق الواجبين، إذ
القائلون بالاكتفاء بتعدد الجهة لا يقولون به أيضا - حسب ما مر -.
والتحقيق في الجواب أن يقال: إن متعلق الأمر والنهي هنا على تقدير الحكم
بصحة الصلاة شئ واحد كما هو ظاهر في المقام، فإن ما يوقعه من الصلاة عند
مزاحمته لإزالة النجاسة قد ألزمه الشارع بتركها وإيصال ذلك الترك إلى فعل
الإزالة، والمفروض تعلق الأمر بها أيضا بملاحظة ذاتها وإنما يصحح ذلك ويجوزه
أن الأمر والنهي المتعلقين به مترتبان لا مطلقان، فإن المفروض أن ترك ذلك الفعل
المطلوب في المقام إنما هو من حيث إيصاله إلى الأهم، وفعله إنما يطلب من حيث
ذاته على تقدير عدم حصول ذلك الترك الموصل، إذ لو حصل منه الترك الموصل
لم يرد منه إيجاد ذلك الفعل أصلا، لما عرفت من كون مطلوبية الثاني إنما هو على
تقدير خلو ذلك الزمان عن ضده المفروض فمع الإتيان به وإيصال ترك الثاني إلى
فعله لا تكليف بالثاني أصلا، وإنما الواجب هو ذلك الأهم خاصة، فالفعل الثاني
إنما يراد على تقدير عدم حصول ذلك الترك ولا محذور فيه.
فإن قلت: إن إيجاب الفعل على الوجه المذكور يكون إيجابا مشروطا بعدم
تركه وهو ممتنع إذ محصله أن يكون وجوبه مشروطا بعدم تركه وهو محال، إذ لا
يعقل ملاحظة الترتيب بين وجوب شئ وعدم حصول تركه حسب ما فرض.
قلت: لو كان ملاحظة الفعل والترك مطلقين كان الحال على ما ذكر، إذ لا يعقل
107

إيجاب الشئ على تقدير عدم تركه، وأما لو كان الترك ملحوظا على جهة خاصة
فلا مانع منه أصلا.
وتوضيح الحال: أن الترتب المفروض في المقام إنما يلحظ ابتداءا بين
التكليف بغير الأهم والتكليف بالأهم - حسب ما قررناه - وهو إنما يأمره بالثاني
على تقدير تركه للأهم، لكنه لما كان التكليف بذي المقدمة مستتبعا للتكليف
بالمقدمة وكان الأمر بالمقدمة من لوازم الأمر بذي المقدمة لزم من ذلك حصول
الترتيب بين ذلك التكليف والتكليف المتعلق بمقدمة الآخر أيضا اللازم من
التكليف به، فيكون التكليف المتعلق بذلك الفعل مترتبا على عصيان التكليف
المتعلق بتركه لكن ليس التكليف المتعلق بتركه مطلقا ليلزم المحذور المذكور، بل
إنما يتعلق به من حيث إيصاله إلى الأهم، وكما يتحقق عصيانه بإيجاد الفعل
المذكور كذا يتحقق بتركه مع عدم إيصال الترك إلى فعل الأهم لعدم إتيانه بالترك
من حيث الإيصال في الصورتين، وحينئذ فليس ما ترتب عليه التكليف بالفعل
مجرد عدم الترك ليتفرع عليه كون وجوب الفعل مشروطا بوجوده، بل إنما يكون
مشروطا بعدم تركه على الوجه الخاص وهو أعم من فعله ومن تركه لا على ذلك
الوجه.
فالمحصل: أن اللازم مما ذكر كون تكليفه بالفعل مترتبا على عدم حصول
الترك من حيث إيصاله إلى الأهم، وهو أعم من عدم تركه مطلقا لحصول ذلك على
الوجهين المذكورين.
ومن البين: أنه لا مانع من ترتب وجوب الأخص على البناء على إيجاد
الأعم ولا مفسدة فيه أصلا.
فإن قلت: إن ذلك عين الجواب المتقدم فإن انتفاء الترك الموصل إنما يكون
بالوجهين المذكورين إذ انتفاء المقيد قد يكون بانتفاء القيدين وقد يكون بانتفاء
أحدهما، فيكون الواجب من المقدمة حينئذ هو خصوص الترك الموصل ويكون
التكليف الثانوي مترتبا على عدم حصول ذلك الترك الموصل لا ترك ذلك الفعل
108

مطلقا ليلزم المحذور، فيختلف الفعل المتوقف وجوبه مع ما يتوقف الوجوب على
تركه وهو عين ما مر.
قلت: ليس الحال على ما ذكر، إذ الملحوظ في الوجه الأول اختلاف متعلق
التكليفين وتعددهما في الخارج، فإن المأمور به هو الترك الموصل إلى الأهم
والممنوع منه هو الترك الغير الموصل إليه، ولما كان الجمع بين ذينك التكليفين
ممتنعا قيل بكون التكليف الثاني على فرض عصيان الأول على الوجه الذي مر،
وعلى هذا فلا اجتماع بين الأمر والنهي أصلا ولا يتم ما قررناه من جواز اجتماع
الوجوب النفسي والحرمة الغيرية - حسب ما ذكرناه في ذيل ذلك الجواب -
والملحوظ في الوجه الثاني اتحاد متعلق التكليفين - كما هو الواقع في ذلك
الفرض - فإن فعل غير الأهم مطلوب في ذاته وتركه بخصوصه مطلوب من حيث
ايصاله إلى الأهم - حسب ما أشرنا إليه - فقد تعلق الطلبان بشئ واحد إلا أنهما
من جهتين مختلفتين، وإنما قررنا تسويغ ذلك بما عرفت من عدم لزوم اجتماع
الضدين في نفس الفعل، لعدم المدافعة بين حسن الفعل في ذاته وقبحه بالنظر إلى
ما هو أحسن منه، وعدم التدافع بين نفس التكليفين لما عرفت من اعتبار الترتيب
بين الأمرين فإن امتناع التكليف بالضدين إنما يجئ من جهة استحالة الجمع
بينهما، وإلا فلا استحالة في ذلك التكليف من جهة أخرى، ومع كون التكليف
بالثاني على تقدير إخلاء ذلك الزمان عن الضد الآخر فلا مانع منه بوجه،
فالتكليف بفعله من حيث ذاته مترتب على ترك ما تعلق من التكليف بتركه من
جهة إيصاله، ولا محذور في الترتيب المذكور حسب ما قررناه.
ثالثها: أنه قد ظهر مما قررناه عدم جواز اجتماع الوجوب والاستحباب
واجتماع الكراهة والتحريم، لما قررناه من اضمحلال جهة الاستحباب والكراهة
في جنب جهة الوجوب والتحريم، وأن الحكم في ذلك يتبع جهة الوجوب
والتحريم لبلوغ تلك الجهة إلى الحد المنع من الترك وعدم وصول الجهة الأخرى
إليها فالرجحان مشترك بينهما، وجهة المنع من الترك غالبة على جهة عدم المنع
109

من الترك إن سلم المدافعة بينهما، وإلا فالظاهر عدم المدافعة، حيث إن جهة
الاستحباب إنما يقتضي عدم المنع من الترك لعدم اقتضائه من الرجحان ما يزيد
على تلك الدرجة فلا ينافي حصول ذلك الاقتضاء من جهة أخرى، وحينئذ فيتعين
حكمه بالوجوب أو التحريم، ولا تدافع بين الجهتين وحصول الاقتضائين لكون
أحدهما وجوديا والآخر عدميا، وإنما التدافع في المقام بين الحكمين المذكورين
لتقوم الوجوب والتحريم بالمنع من الخلاف القاضي بزوال الاستحباب والكراهة
المتقومين بعدمه، ولا يمكن القول حينئذ بقيام الاستحباب والكراهة بالجهة
المفروضة وقيام الوجوب أو التحريم بالجهة الأخرى، لما عرفت من كون ثبوت
الأحكام لموضوعاتها على سبيل القضية المحصورة دون الطبيعة.
ومن البين: أنه مع اتصاف الفرد بالوجوب أو التحريم نظرا إلى الجهة
المفروضة لا يمكن اتصافه فعلا بالاستحباب أو الكراهة، فيكون ثبوت
الاستحباب أو الكراهة إنما هو للجهة من دون ثبوته واقعا للفرد المطابق لها وهو
عين مفاد القضية الطبيعية - حسب ما عرفت - ومن ذلك يتبين عدم جواز اجتماع
الوجوب والكراهة - حسب ما مر تفصيل الكلام فيه - وكذا اجتماع الحرمة
والاستحباب، بل الحال فيه أظهر، وأما اجتماع الكراهة والاستحباب فالذي
يقتضيه ظاهر النظر المنع منه أيضا، نظرا إلى تضاد الأحكام فكما لا يجوز اجتماع
الوجوب والتحريم - حسب ما قررنا - فلا يجوز اجتماع الندب والكراهة
للاشتراك في العلة المانعة، كيف! وقضية الندب رجحان الفعل على الترك بحسب
الواقع، وقضية الكراهة رجحان الترك على الفعل كذلك، والتدافع بينهما واضح،
فكيف يعقل اجتماعهما. وقد يقال: إن رجحان الفعل على الترك واقعا من جهة لا
ينافي رجحان الترك على الفعل واقعا من جهة أخرى، نعم الممتنع حصولهما من
جهة واحدة فأي مانع من القول باجتماعهما من جهتين.
فإن قلت: إن اختلاف الجهتين حاصل في الحرام والواجب، وكذا في الواجب
والمندوب، والحرام والمكروه، فكيف لا يقولون به.
110

قلت: لا ريب أن المنع من الترك والفعل متضادان لا يمكن اجتماعهما في فعل
واحد وإن كان من جهتين إلا على طريق الشأنية - بمعنى اجتماع جهتي
الحكمين - وحصول تينك الجهتين قاض بترجيح أحدهما فيثبت الحكم التابع لها
دون الآخر، أو التخيير بينهما فيرتفعان معا، ويتخير المكلف في العمل، وظاهر أنه
لا يمكن حصول المنع من ترك فعل والمنع من فعله معا بحسب الواقع، كيف وهو
تكليف بالمحال لا يمكن القول به عند العدلية، وكذا الحال في رجحان الفعل على
الترك مع المنع من النقيض ورجحان الترك على الفعل مع عدم المنع من الفعل وكذا
عكسه، إذ مع حصول المنع من الفعل أو الترك يتعين الحكم بالوجوب أو التحريم،
فلا يعقل الحكم الندبي والكراهة، إذ لا يجامع المنع من الفعل أو الترك بحسب
الواقع عدم حصوله، للزوم الجمع بين النقيضين وهو واضح.
فغاية الأمر هناك أيضا جواز اجتماع الجهتين دون الحكمين - حسب ما مر -
وأما رجحان الفعل على الترك من دون حصول المنع من الترك ورجحان الترك
على الفعل كذلك بحسب الواقع من جهتين فلا مانع منه، إذ لا مانع من القول
برجحان فعل على تركه واقعا من جهة ورجحان تركه على فعله كذلك من جهة
أخرى، وإنما يستحيل حصول الأمرين من جهة واحدة.
فإن قلت: إن لوحظ ثبوت الحكمين على نحو القضية الطبيعية بأن يثبت
الحكمان للجهتين ويكون حصولهما للفرد بملاحظة الجهة من دون ثبوتها للفرد
بحسب الواقع فذلك مما لا مانع منه في المقام وغيره من الصور المتقدمة، لما
عرفت من جواز اجتماع جهتي الوجوب والتحريم وغيرهما وذلك غير اجتماع
الحكمين. وإن لوحظ ثبوتهما بحسب الواقع على نحو القضية المحصورة فمن
الظاهر امتناعه، فكما لا يمكن اتصاف الفرد واقعا بالوجوب والتحريم، كذا لا
يمكن اتصافه بالاستحباب والكراهة واقعا، إذ كما يثبت التضاد بين المنع من
الترك والمنع من الفعل، فكذا يثبت بين رجحان الفعل على الترك ومرجوحيته
بالنسبة إليه وإن خليا عن المنع من الخلاف.
111

فغاية الأمر أن المضادة في الواجب والحرام من جهتين - أعني جهة
الرجحانية والمرجوحية وجهة الإلزام بالفعل والإلزام بالترك - وهنا إنما يكون
المضادة من الجهة الأولى خاصة.
قلت: لا ريب أن رجحان الفعل والترك في الواجب والحرام متقوم بالمنع من
النقيض كما أنه متقوم في المندوب والمكروه بعدمه، فالمدافعة الحاصلة بين
الرجحان والمرجوحية فيها حاصلة بحصول المنع من النقيض، وحاصلة في
المندوب والمكروه لعدم المنع منه، إلا أنه بعد بلوغ رجحان الفعل أو الترك إلى حد
المنع من النقيض لا يمكن تعلق الرجحان بالنقيض إلا على نحو الشأنية والقضية
الطبيعية، بل لا يمكن تعلق إذن الشارع به فضلا عن رجحانه وطلبه من المكلف،
لوضوح عدم جواز اجتماع المنع من شئ والاذن فيه ولو من جهتين إلا أن يكون
الجهتان مميزتين لأحدهما عن الآخر في الخارج - كضرب اليتيم على وجه
التأديب أو على جهة الظلم - وهو خارج عن محل الكلام. وأما مع عدم بلوغ
الرجحان إلى حد المنع من النقيض فالإذن في النقيض حاصل بملاحظة رجحانه
من الجهة المفروضة، ولا ينافي الرجحان المفروض رجحان الخلاف أيضا من
جهة أخرى، فيجتمع الرجحانان في فعل واحد من جهتين.
والحاصل: أن المنع من الترك أو الفعل بحسب الواقع إنما يكون بعد ملاحظة
جميع جهات الفعل، وبحسب الواقع بأن يكون الفعل بعد ملاحظة جميع جهاته
على الوجه المفروض ممنوعا من تركه أو فعله، سواء كان الباعث على الحكم
المذكور جهة واحدة منها أو جهات متعددة إلا أنه لا بد من عدم مزاحمة غير تلك
الجهة أو الجهات لحصول المنع المفروض وإلا لم يتحقق المنع واقعا.
غاية الأمر أن يكون ثبوت المنع من الترك لنفس الطبيعة من حيث هي أو
حيثية أخرى على النحو القضية الطبيعية من غير أن تسري الحكم إلى الفرد وهو
خارج عن محل الكلام كما عرفت. وأما مع عدم تحقق المنع من الترك والفعل
فيمكن رجحان كل من الجانبين من جهته بحسب الواقع، ولا يلزم في الحكم بذلك
112

الرجحان من ملاحظة جميع جهات الفعل، بل لو كان راجحا حينئذ بملاحظة بعض
الجهات صح الحكم برجحانه وإن كان مرجوحا من جهة أخرى فلا مانع من
تحقق الرجحان من الجانبين بملاحظة الجهتين التقييديتين لثبوت الرجحان في
الواقع حينئذ لكل من الجهتين، ويكون المصداق الواحد متصفا بكل منهما بحسب
الواقع بملاحظة انطباقه بكل من الجهتين، فيكون كل من الفعل والترك مطلوبا
كذلك من جهته.
غاية الأمر أن يكون الفعل والترك المفروضان نظير الفعلين إذا لم يمكن
التفريق بينهما وكان أحدهما مندوبا والآخر مكروها فإنه إن أتى بالمندوب فقد
أتى بالمكروه وإن ترك المكروه فقد ترك المندوب أيضا، فحينئذ إن تعادلا في
الرجحان والمرجوحية تخير المكلف بين الوجهين من غير ترجيح لأحد الجانبين
على الآخر، وإلا كان الأولى ترجيح الأرجح لكن ليس اختيار المرجوح في
المقام إذا كان هو الفعل مكروها مطلقا، إذ المفروض رجحانه على الترك بملاحظة
عنوانه المفروض وإنما يكون مرجوحا بالنسبة إلى العنوان الآخر فيكون قد اختار
الإتيان بالمندوب من جهة والمكروه من أخرى وإن كانت جهة الكراهة أقوى،
وكذا الحال لو تعادلا فيكون المكلف في كل من صورتي الفعل والترك آتيا براجح
ومرجوح.
فإن قلت: إنه مع تساوي الفعل والترك في الرجحان والمرجوحية عند تعادل
الجهتين يكون الفعل متصفا بالإباحة من غير أن يكون هناك مندوب ومكروه،
ومع ترجيح إحدى الجهتين يكون الحكم تابعا للراجح فليس هناك اجتماع
الحكمين.
قلت: تساوي الفعل والترك على الوجه المفروض لا يقضي باندراجه في
المباح، فالظاهر من المباح ما لا يكون مصلحة في فعله وتركه، ولو فرض وجود
المصلحة في فعله على وجه يساوي مصلحة الترك فربما أمكن إدراجه في المباح
أيضا، لتساوي الفعل والترك في المصلحة - على حسب ما فرض - أما لو تحقق
113

المصلحة الغير المانعة من النقيض في عنوان والمفسدة كذلك في عنوان آخر
وتساويا واتفق اجتماعهما في مصداق واحد فأدرج ذلك في المباح غير ظاهر،
بل قضية ظاهر الخطابين هو الأخذ بمقتضى التكليفين وثبوت الحكم على
حسبهما، فيكون ذلك المصداق مندوبا من جهة ومكروها من أخرى ولا معارضة
بين الأمرين حتى يلحظ التعادل والترجيح بينهما، بل يثبت له الحكمان بملاحظة
العنوانين، فمع تعادل الوجهين كما في هذه الصورة يتخير المكلف في الإقدام على
أي منهما، ومع رجحان أحد الوجهين كما في الصورة الأخرى ينبغي ترجيح
الراجح وذلك تخيير في الأخذ بمقتضى التكليفين والحكمين من دون ترجيح
لأحد الجانبين أو معه وهو غير ثبوت حكم واحد في المقام من الإباحة أو
الاستحباب أو الكراهة كما لا يخفى.
إلى هنا جف قلمه الشريف ويا ليت امتد قلمه ومن هو مثله من أول الدهر
إلى آخره.
* * *
114

معالم الدين:
أصل
اختلفوا في دلالة النهي على فساد المنهي عنه، على أقوال. ثالثها:
يدل في العبادات، لا في المعاملات. وهو مختار جماعة، منهم المحقق
والعلامة.
واختلف القائلون بالدلالة، فقال جمع منهم المرتضى: إن ذلك
بالشرع، لا باللغة. وقال آخرون: بدلالة اللغة عليه أيضا، والأقوى
عندي: أنه يدل في العبادات بحسب اللغة والشرع دون غيرها مطلقا.
فهنا دعويان.
لنا على أوليهما: أن النهي يقتضي كون ما تعلق به مفسدة، غير مراد
للمكلف. والأمر يقتضي كونه مصلحة مرادا. وهما متضادان، فالآتي
بالمنهي عنه لا يكون آتيا بالمأمور به. ولازم ذلك عدم حصول الامتثال
والخروج عن العهدة. ولا نعني بالفساد إلا هذا.
ولنا على الثانية: أنه لو دل، لكانت احدى الثلاث، وكلها منتفية. أما
الأولى والثانية فظاهر. وأما الالتزام، فلأنها مشروطة باللزوم العقلي،
أو العرفي، كما هو معلوم، وكلاهما مفقودان. يدل على ذلك: أنه يجوز
عند العقل وفي العرف أن يصرح بالنهي عنها، وأنها لا تفسد
115

بالمخالفة، من دون حصول تناف بين الكلامين. وذلك دليل على عدم
اللزوم بين.
حجة القائلين بالدلالة مطلقا بحسب الشرع لا اللغة: أن علماء
الأمصار في جميع الأعصار، لم يزالوا يستدلون على الفساد بالنهي في
أبوابه، كالأنكحة والبيوع وغيرها. وأيضا لو لم يفسد، لزم من نفيه
حكمة يدل عليها النهي، ومن ثبوته حكمة تدل عليها الصحة. واللازم
باطل، لأن الحكمتين، إن كانتا متساويتين تعارضتا وتساقطتا، وكان
الفعل وعدمه متساويين، فيمتنع النهي عنه، لخلوه عن الحكمة. وإن
كانت حكمة النهي مرجوحة فهو أولى بالامتناع، لأنه مفوت للزائد من
مصلحة الصحة، وهو مصلحة خالصة، إذ لا معارض لها من جانب
الفساد، كما هو المفروض. وإن كانت راجحة فالصحة ممتنعة، لخلوها
عن المصلحة، بل لفوات قدر الرجحان من مصلحة النهي، وهو
مصلحة خالصة لا يعارضها شئ من مصلحة الصحة.
وأما انتفاء الدلالة لغة، فلأن فساد الشئ عبارة عن سلب أحكامه.
وليس في لفظ " النهي " ما يدل عليه لغة قطعا.
والجواب عن الأول: أنه لا حجة في قول العلماء بمجرده، ما لم
يبلغ حد الاجماع. ومعلوم انتفاؤه في محل النزاع، إذ الخلاف
والتشاجر فيه ظاهر جلي.
وعن الثاني: بالمنع من دلالة الصحة، بمعنى ترتب الأثر على
وجود الحكمة في الثبوت، إذ من الجائز عقلا انتفاء الحكمة في إيقاع
عقد البيع وقت النداء مثلا مع ترتب أثره - أعني انتقال الملك - عليه.
نعم، هذا في العبادات معقول، فإن الصحة فيها باعتبار كونها عبارة عن
حصول الامتثال، تدل على وجود الحكمة المطلوبة، وإلا لم يحصل.
116

وبما قدمناه في الاحتجاج على دلالة النهي على الفساد في
العبادات يظهر جواب الاستدلال على انتفاء الدلالة لغة، فإنه على
عمومه ممنوع. نعم هو في غير العبادات متوجه.
واحتج مثبتوها كذلك لغة أيضا، بوجهين:
أحدهما: ما استدل به على دلالته شرعا، من أنه لم يزل العلماء
يستدلون بالنهي على الفساد.
وأجاب عنه أولئك: بأنه إنما يقتضي دلالته على الفساد، وأما أن
تلك الدلالة بحسب اللغة، فلا. بل الظاهر أن استدلالهم به على الفساد
إنما هو لفهمهم دلالته عليه شرعا، لما ذكر من الدليل على عدم دلالته
لغة.
والحق ما قدمناه: من عدم الحجية في ذلك. وهم وإن أصابوا في
القول بدلالته في العبادات لغة، لكنهم مخطئون في هذا الدليل.
والتحقيق ما استدللنا به سابقا.
الوجه الثاني لهم: أن الأمر يقتضي الصحة، لما هو الحق من دلالته
على الأجزاء بكلا تفسيريه. والنهي نقيضه، والنقيضان مقتضاهما
نقيضان. فيكون النهي مقتضيا لنقيض الصحة، وهو الفساد.
وأجاب الأولون: بأن الأمر يقتضي الصحة شرعا، لا لغة، ونقول
بمثله في النهي. وأنتم تدعون دلالته لغة. ومثله ممنوع في الأمر.
والحق أن يقال: لا نسلم وجوب اختلاف أحكام المتقابلات،
لجواز اشتراكها في لازم واحد، فضلا عن تناقض أحكامها. سلمنا، لكن
نقيض قولنا: " يقتضي الصحة ": أنه " لا يقتضي الصحة "، ولا يلزم منه
أن " يقتضي الفساد ". فمن أين يلزم في النهي أن يقتضي الفساد؟ نعم
يلزم أن لا يقتضي الصحة. ونحن نقول به.
117

حجة النافين للدلالة مطلقا، لغة وشرعا: أنه لو دل لكان مناقضا
للتصريح بصحة المنهي عنه. واللازم منتف، لأنه يصح أن يقول:
" نهيتك عن البيع الفلاني بعينه مثلا. ولو فعلت لعاقبتك. لكنه يحصل
به الملك ".
وأجيب: بمنع الملازمة، فان قيام الدليل الظاهر على معنى لا يمنع
التصريح بخلافه، وأن الظاهر غير مراد. ويكون التصريح قرينة صارفة
عما يجب الحمل عليه عند التجرد عنها.
وفيه نظر، فان التصريح بالنقيض يدفع ذلك الظاهر وينافيه قطعا.
وليس بين قوله في المثال: " ولو فعلت لعاقبتك الخ "، وبين قوله:
" نهيتك عنه " مناقضة ولا منافاة. يشهد بذلك الذوق السليم.
فالحق: أن الكلام متجه في غير العبادات وهو الذي مثل به. وأما
فيها، فالحكم بانتفاء اللازم غلط بين، إذ المناقضة بين قوله: " لا تصل في
المكان المغصوب " و " لو فعلت لكانت صحيحة مقبولة " في غاية
الظهور، لا ينكرها إلا مكابر.
118

قوله: * (اختلفوا في دلالة النهي) *.
ينبغي قبل الشروع في المرام توضيح المقام برسم أمور:
أحدها: أن الظاهر أن دلالة النهي على الفساد في العبادات أو مطلقا على القول
بها ليس من جهة وضعه لذلك، بل لاستلزام مدلوله ذلك أو لفهمه من المقام - حسب
ما يأتي القول فيه إن شاء الله - كيف! وليس مدلول النهي إلا مطلق الطلب أو خصوص
التحريم وذلك معنى غير الفساد، ولو قيل بكون الفساد جزء من معناه لزم التجوز
في كثير من النواهي الشرعية مما لا يتصور فيه الفساد - كالنهي عن الزنا وأكل
الميتة وشرب الخمر ونحوها - بل معظم النواهي الجارية في العرف كذلك.
نعم ربما يتوهم من كلام القائل بدلالة النهي على الفساد شرعا - حسب ما ذكر
في أقوال المسألة وذهب إليه السيد من علمائنا - أنه موضوع للفساد في الشريعة.
وحينئذ إما أن يقال: بنقله في الشريعة من الطلب أو التحريم إلى الفساد إما
مطلقا، أو فيما إذا تعلق بالأمور القابلة للفساد. وهو واضح الفساد لا مجال لأن
يتوهمه أحد في المقام سيما الأخير، لمخالفته لما هو المعهود في الأوضاع،
والظاهر أنه مما لا قائل به.
أو يقال: بضم معنى الفساد في الشريعة إلى الطلب أو التحريم، فيكون منقولا
من معناه الأولي - الذي هو مجرد طلب الترك أو التحريم - إلى الطلب أو التحريم
مع الفساد، فيكون مدلوله الأولي جزء من معناه الثانوي. وهو أيضا فاسد، إذ لو
ثبت النقل على الوجه الأول لزم التجوز في كثير من النواهي الشرعية - كالنهي عن
المحرمات الغير القابلة للفساد - وهو ظاهر الفساد. وإن قيل به على الوجه الثاني.
ففيه: ما عرفت من عدم معهودية مثله في الأوضاع اللفظية، فلو ثبت الوضع له ثبت
مطلقا ولزمه المفسدة المذكورة. والأظهر أن يقال: إن مقصودهم من دلالته شرعا
على الفساد انفهام ذلك من ملاحظة المقام في الاستعمالات الشرعية - حسب
ما نقرره إن شاء الله - والحق فيه ما سنفصله إن شاء الله وإن كان كلام القائل
المذكور مطلقا.
119

أو يقال بكون الفساد مستفادا من غلبة استعمال الشارع النواهي الشرعية في
مقام إرادة الفساد فيظن من ملاحظة تلك الغلبة كون النهي الوارد من الشارع واردا
في مقام إرادة الفساد فيما إذا كان قابلا له من دون أن يكون الفساد مما استعمل فيه
اللفظ، بل لما جرى طريقته على النهي عن العبادات أو العقود والإيقاعات
ونحوها من الأمور القابلة للفساد - إذا كانت فاسدة - فهم منه الفساد بملاحظة تلك
الغلبة، وهو كاف في استفادته من اللفظ فيكون لازما له من جهة الغلبة.
ثانيها: أن ما يتعلق به النواهي قد تكون قابلة للصحة والفساد - كالعبادات
والعقود والإيقاعات وغيرها من الأفعال الموضوعة لترتب آثار معينة كغسل
الثياب ونحوها والتذكية - وقد لا تكون قابلة لذلك - كالنهي عن الزنا والسرقة
ونحوهما مما أشرنا إليه - والثاني مما لا كلام فيه ولا كلام أيضا في عدم خروجه
عن حقيقة النهي، ومحل الخلاف هو الأول سواء قام هناك دليل عام على الصحة
أولا.
ومن المقرر أن الأصل الأصيل في الجميع هو الفساد، لوضوح توقف العبادة
على تعلق الأمر بها وهو خلاف الأصل، كما أن ترتب الآثار على المعاملات على
خلافه، لأصالة بقاء الشئ على ما هو عليه، وحينئذ فالحكم بصحتها يتبع الدليل
الدال عليها من عموم أو خصوص، وحينئذ فإن قام دليل على صحة العبادة أو
المعاملة وتعلق النهي به كان ذلك دليلا على فسادها وخص به الدليل الدال على
الصحة بناءا على القول بإفادته الفساد. وإن لم يقم دليل على الصحة كان عدم
الدليل كافيا في الحكم بالفساد من جهة الأصل، والنهي أيضا دليل لفظي دال على
فساده، والفرق بين الدليلين ظاهر ولا أقل من كونه مؤكدا. فتخصيص النزاع
بالصورة الأولى كما نص عليه بعض الأفاضل مما لا وجه له.
ثالثها: أن المراد بالعبادة ما يتوقف صحته على نية القربة أي: يكون المطلوب
إيقاعه على جهة الامتثال والطاعة لا أن يكون المقصود منه حصول نفس الفعل،
فلا بد فيها من أمر ومن كون المأمور به إيقاع الفعل على تلك الجهة، فيقابله ما لا
120

يتعلق به أمر كما هو الحال في معظم العقود والإيقاعات، أو يتعلق به أمر لكن لا
يتقيد بوقوعه على جهة الامتثال، كأداء الدين وإزالة النجاسات عن الثوب والبدن
ونحوهما. وقد يتوقف صحة العمل على مجرد قصد الامتثال والطاعة وإن لم يكن
في الواقع أمر بذلك الواقع منه كما في الوقف والعتق، لصحة ما يقع منهما من
المخالف والكافر، وفي إدراجهما في العبادة بالمعنى المذكور إشكال، والمعروف
بين الأصحاب ذكرهما في طي المعاملات إما لذلك أو لكون معظم البحث عنهما
من جهة ترتب الآثار لا من جهة ملاحظة الامتثال.
وقد يراد بالعبادة ما يقع من المكلف على وجه الطاعة، سواء كان تشريعه
على جهة تحصيل الامتثال وأداء الطاعة أو يكون أداء المكلف له على جهة
الطاعة فيما يتعلق به الطلب على بعض الوجوه فيكون عبادة بالنية. والظاهر
جريان حكم العبادة فيها بالنسبة إلى وقوعها على تلك الجهة، ولحوق حكم
المعاملات بالنسبة إلى نفسها على حسب ما يجئ الكلام فيه إن شاء الله.
رابعها: أن الصحيح من العبادات على ما فسرها المتكلمون ما وافق الشريعة
وعند الفقهاء ما أسقط القضاء. قالوا: ويظهر الثمرة بين التفسيرين فيمن صلى
باستصحاب الطهارة ثم انكشف الخلاف، فإنها صحيحة على الأول، لأدائها موافقا
لأمر الشارع حيث جعله متعبدا بالعمل به، فاسدة على الثاني، لعدم إسقاطه
القضاء.
أقول: إن أريد بما وافق الشريعة ما وافقها بحسب الواقع وبما أسقط القضاء ما
أسقطها كذلك لم يصح ما ذكر من التفريع، لوضوح عدم موافقة ما أتى به من الصلاة
للواقع وعدم إسقاطه القضاء كذلك. وإن أريد موافقته للشريعة بحسب ظاهر
التكليف فينبغي أن يراد إسقاطه القضاء كذلك أيضا، إذ لا وجه للتفكيك بين
التعبيرين. وحينئذ فكما يصدق موافقة العمل للشريعة كذلك يكون مسقطا للقضاء
في ظاهر الشريعة، وبعد انكشاف الخلاف كما يتبين عدم إسقاطه القضاء كذا يتبين
عدم موافقته للشريعة أيضا، فلا فرق بين التعريفين.
121

فإن قلت: إنه إذا فسر ما وافق الشريعة بما وافقها في ظاهر التكليف صدق
الحد على الفعل المفروض وإن انكشف الخلاف بعد ذلك، إذ لا يرتفع به الأمر
الحاصل حين الفعل. وليس ذلك الفعل حينئذ مسقطا للقضاء في ظاهر التكليف
مطلقا، غاية الأمر إسقاطه له قبل الانكشاف، والمأخوذ في الحد هو إسقاطه له
على سبيل الإطلاق، فلا يكون صحيحا على التعريف المذكور أيضا حسب ما
ذكروه.
قلت: الظاهر عدم صحتها بعد انكشاف الخلاف على التفسير الأول أيضا، فإن
الأمر المتعلق بالفعل حين الإتيان به إنما هو من جهة الحكم بكون المأتي به هو
الواقع وكون الطريق المذكور موصلا إلى الواقع، فليست المطلوبية الحاصلة هناك
إلا من جهة إيصاله إلى الواقع وكون المأتي به هو عين الواقع في حكم الشارع لا
أمر آخر قائم مقامه ليكون واقعيا ثانويا مطلوبا من حيث ذاته، بل ليست مطلوبيته
إلا من حيث كونه نفس ما هو الواقع أيضا، فيحكم حينئذ بموافقة العمل للشريعة
لحكم الشارع حينئذ بالحكم به ما لم يتبين الخلاف، فإذا انكشف الخلاف لم يكن
موافقا للشريعة في الظاهر أيضا وإن كان موافقا له قبل الانكشاف كما أنه كان
مسقطا للقضاء قبله.
وتوضيح الكلام في ذلك مبني على تحقيق القول في الحكم الظاهري
والواقعي ولتفصيل الكلام محل آخر. فالظاهر من قولهم: " ما وافق الشريعة " ما
أتى به على وفق ما قرر في الشريعة واقعا ولو بالطريق المقرر في ظاهر الشريعة،
وبعد انكشاف الخلاف لم يكن المأتي به ما قرر في الشريعة واقعا ولو بحسب
ظاهر الشريعة، وإنما كان محكوما بموافقته للشريعة قبل انكشاف الخلاف
- حسب ما قررنا - فالمناط موافقته للواقع لكن الحكم بالموافقة قد يكون من جهة
العلم بالمطابقة وقد يكون من جهة الطريق المقرر في الشريعة لكشف الواقع، فلا
يكون مطابقا بعد انكشاف الخلاف.
نعم لو أريد بما وافق الشريعة ما وافقها بحسب الأمر المتعلق به في ظاهر
122

الشريعة سواء كشف عن الواقع أو انكشف خلافه فانقطع كونه طريقا صح الفرق
بين الحدين، فإن الفعل بعد انكشاف الخلاف قد وقع على وفق الأمر المقرر في
الشريعة، وإن لم يكن حينئذ كاشفا عن الواقع كان متجها لكنه بعيد عن التفسير
المذكور. فالأظهر - على حسب ما قررنا - عدم اختلاف الحدين في ذلك فلا
فارق بين الحدين من الجهة المذكورة، وليس اختلاف الحدين مبنيا على اختلاف
الاصطلاح في الصحة حتى يكون الصحيح في اصطلاح فاسدا في آخر، وإنما
اعتبر كل من الفريقين أمرا في التعريف خلاف ما اعتبره الآخر يوافق غرضه.
والصحة في المعاملات كون الفعل بحيث يترتب عليه الآثار المطلوبة منه
عقودا كانت أو إيقاعاتا أو غيرهما. والفاسد في العبادات والمعاملات ما يقابل
حد الصحيح المذكور فيختلف بحسب اختلاف الحدود المذكورة.
وقد يتراءى من ظاهر كلامهم كون الصحة والفساد مشتركا لفظيا بين
الوجهين، حيث جعلوا حد الصحة في العبادات مغايرا لحده في المعاملات لكن
الظاهر خلافه، فإن المنساق من الصحة معنى واحد وهو أمر واحد يتصف به
العبادة والمعاملة. فلا يبعد أن يكون المناط في الحدين أمرا واحدا وهو في
الحقيقة مفاد الصحة وإن اختلف الحال فيه بحسب اختلاف الموصوف به، وانما
لاحظوا اختلاف الحدين من تلك الجهة. وقد نبه على ذلك بعضهم حيث جعل مفاد
الصحة في المقامين كونه بحيث يترتب عليه أثره، فإن كان في العبادات المطلوبة
منها الانقياد كان أثرها المترتب عليها هو الطاعة والانقياد وأداء مطلوب الشارع
ويتبعه الاجزاء وسقوط التعبد به ثانيا، وقد لوحظ واحد من ذينك الأمرين في كل
من التعريفين على حسب ما يلائم قصد المعرف، وإن كان في المعاملات كان
الأثر المترتب عليها هو ما وضعت لها تلك المعاملات من الآثار المترتبة عليها.
خامسها: أن النهي قد يتعلق بذات العبادة، وقد يتعلق بجزئها، وقد يتعلق
بشرطها، وقد يتعلق بأمر خارج عنها لازم لها أو مفارق عنها. والنهي المتعلق
بالخارج إما متعلق به لأجل العبادة أو لا لأجلها، ثم الخارج إما أن يكون أمرا
123

مباينا له أو متحدا معه. والنهي المتعلق بذات العبادة إما أن يكون متعلقا بها لذاتها
أو لغيرها سواء كان ذلك الغير جزءا لها أو لا. ثم النهي المتعلق إما أن يكون أصليا
أو تبعيا، نفسيا أو غيريا. والنهي المتعلق بالخارج المفارق المتحد مع العبادة هو
بعينه الكلام في المسألة المتقدمة - أعني مسألة اجتماع الأمر والنهي - ولذا نص
بعض الأفاضل باخراج ذلك عن محل البحث وخص البحث بالنسبة إلى العبادات
في المقام بما إذا كان النسبة بين المأمور به والمنهي عموما مطلقا، وأما إذا كانت
النسبة بينهما عموما من وجه - كما في الفرض المذكور - فهو المسألة المتقدمة،
وصرح أيضا بخروج ما يكون النهي متعلقا بأمر خارج مفارق مباين للعبادة عن
محل النزاع، لعدم ارتباط النهي حينئذ بالعبادة كما في الأمر بالعبادة والنهي عن
النظر إلى الأجنبية.
وفيه: أنه إن كان النهي عن ذلك الأمر الخارج لا لأجل العبادة فالأمر كما ذكر
وإن كان النهي عنه لأجل العبادة فالمتجه إدراجه في المسألة - كالنهي عن التكفير
في الصلاة، وعن قول آمين ونحوهما - وأيضا البحث المتقدم عما إذا كانت النسبة
بين الكليين عموما من وجه إنما كان من جهة حكم العقل، حيث إنه الملحوظ
بالبحث عندهم ولذا أدرج ذلك جماعة منهم في مباحث الأحكام، والبحث الواقع
هنا من جهة الدلالة اللفظية. أو يقال: إن المبحوث عنه هنا هو حال النهي المتعلق
بالعبادة وإن كان من جهة خارجة عن ذات العبادة فيستدل هنا على دلالته على
الفساد، والملحوظ في مسألة اجتماع الأمر والنهي هو المنع من اجتماع الطبيعتين
اللتين بينهما عموم من وجه إذا كان أحدهما متعلقا للأمر والآخر للنهي في
مصداق واحد. ومرجع كلام المجوز هناك إلى عدم تعلق النهي بالعبادة، فإن كلا
من متعلق الأمر والنهي إنما هو الطبيعة. وكل من الطبيعتين مغايرة للأخرى، غاية
الأمر إيجاد المكلف لهما بسوء اختياره في فرد واحد، وليس الفرد متعلقا للأمر
والنهي. نعم مرجع كلام المانع كما مر إلى كون الطبيعة من حيث الوجود متعلقة
للأمر والنهي، وهما متحدان وجودا، فيكون النهي متعلقا بنفس العبادة وإن كان من
124

جهة خارجة عن ذاتها وهو لا يقضي أيضا باتحاد المسألتين، إذ يقع مسألتنا هذه
كبرى للدليل الدال على المنع هناك. فلا مجال لتوهم إدراج المسألة المتقدمة في
هذه المسألة وكونها من بعض جزئياتها، حتى يلتزم بالتخصيص هنا في مورد
البحث لئلا يتحد البحثان.
قوله: * (ثالثها يدل في العبادات... الخ) *.
المحكي في المسألة أقوال عديدة:
أحدها: القول بالدلالة على الفساد في العبادات والمعاملات لغة وشرعا،
حكاه الرازي عن بعض أصحابه، وحكاه في النهاية عن جمهور فقهاء الشافعية
ومالك وأبي حنيفة والحنابلة وأهل الظاهر كافة وجماعة من المتكلمين.
ثانيها: القول بعدم الدلالة مطلقا، حكاه في النهاية عن جماعة من الأشاعرة
كالقفال والغزالي وغيرهما وجماعة من الحنفية وجماعة من المعتزلة كأبي عبد الله
البصري وأبي الحسن الكرخي والقاضي عبد الجبار.
ثالثها: الدلالة فيهما شرعا لا لغة، ذهب إليه الحاجبي وعزي إلى السيد (رحمه الله).
رابعها: الدلالة في العبادات مطلقا دون المعاملات مطلقا، ذهب إليه
المصنف (رحمه الله) وجماعة - حسب ما أشار إليه - واختاره الرازي وحكاه عن أبي
الحسين البصري.
خامسها: الدلالة فيهما شرعا لا لغة إلا إذا رجع النهي في المعاملة إلى أمر
مقارن للعقد غير لازم كالنهي عن البيع في وقت النداء يوم الجمعة، وحكي القول به
عن الشهيد الثاني والشهيد (رحمهما الله).
سادسها: القول بالدلالة في العبادات مطلقا وفي المعاملات شرعا خاصة،
اختاره بعض متأخري الأصحاب.
سابعها: الدلالة على الفساد لغة وشرعا في العبادات والمعاملات إن رجع
النهي إلى العين أو الجزء أو اللازم وصفا كان أو غيره دون الوصف والخارج الغير
اللازم، وحكي القول به عن الرازي في المعاملة والعدي وعزاه العضدي إلى
الشافعي وربما يحكى عن الشيخ في العدة.
125

ثامنها: القول بالدلالة في العبادات والدلالة في المعاملات شرعا بشرط أن
يكون تعلقه بالمنهي عنه لعينه أو وصفه اللازم دون ما إذا كان لأمر خارج مفارق
كالبيع وقت النداء وذبح الغاصب، اختاره السيد الأستاذ (قدس سره) وحكاه عن الشهيد في
القواعد، والمحقق الكركي في شرح القواعد قال: وكلام الفقهاء هناك في كتب
الفروع يعطي ذلك.
تاسعها: الدلالة عليه شرعا خاصة في العبادات والمعاملات إن رجع إلى
العين أو الجزء أو اللازم، وحكي القول به من البيضاوي في المنهاج.
عاشرها: الدلالة عليه في العبادات مطلقا وفي المعاملات إن كان مقتضى
الصحة منحصرا في ما يفيد الحلية.
حادي عاشرها: الدلالة عليه في العبادات شرعا خاصة عزاه ذلك إلى أكثر
الأصحاب.
ويدل على المختار: أما على عدم دلالة النهي الغيري على الفساد في
العبادات، فبما عرفت الوجه فيه إلا فيما مر من الصورة المتقدمة نظرا إلى امتناع
مجامعة النهي للأمر على الوجه المذكور.
وأما على عدم دلالته على الفساد في المعاملات، فلوضوح عدم المنافاة عقلا
بين التحريم وترتب الآثار ولا عرفا وشرعا فيما إذا كان المنع حاصلا لأجل الغير.
وأما على دلالة النهي النفسي المتعلق بالعبادات على الفساد إذا تعلق بذات
العبادة أو جزئها فلوجوه:
أحدها: وضوح المنافاة بين الأمر والنهي والرجحانية والمرجوحية، فإذا
تعلق به النهي قضى بارتفاع الأمر، ومعه يرتفع الصحة عن العبادة، إذ الصحة في
العبادة بمعنى موافقة الأمر أو كونها بحيث يحصل بها الانقياد والإطاعة فيها وهو
فرع الأمر، ولا فرق حينئذ بين أن يتعلق النهي بها لذاتها أو لأمر خارج عنها متحد
معها وإن كان الحال أوضح في الصورة الأولى، لوضوح أن ما ذكرناه من ارتفاع
الأمر فرع تعلق النهي بها وهو حاصل في الصورتين.
126

فإن قلت: إن النهي في الصورة الثانية إنما يتعلق حقيقة بالخارج وإنما يتعلق
بالعبادة من جهة اتحاده معها، فإذا لوحظت تلك العبادة بذاتها لم يتحقق
مرجوحية بالنسبة إليها لينافي صحتها.
قلت: المفروض في المقام تعلق النهي بذات العبادة، غاية الأمر أن لا يكون
النهي معللا بنفس الذات، والمانع من تعلق الأمر هو تعلق النهي بالذات لا تعليل
النهي بها. وما ذكر من تعلق النهي حقيقة بالخارج فاسد، إذ الحيثية المأخوذة هنا
تعليلية لا تقييدية. فالنهي متعلق بنفس العبادة، على أنك قد عرفت أنه مع تعلق
النهي أولا بالخارج يرجع الأمر إلى تعلقه بالعبادة ولو من جهة اتحادهما بحسب
الوجود، وإلا لم يندرج في موضوع النزاع، إذ محل البحث إذا تعلق النهي بالعبادة،
ولولا ذلك لرجع إلى البحث في المسألة السابقة - حسب ما تخيله القائل بجواز
الاجتماع - على أنك قد عرفت أن الحق هناك هو المنع من الاجتماع وإرجاع
الأمر في الطلبين إلى جهة الوجود. فعند التحقيق يرجع الأمر فيها إلى تعلق النهي
بالعبادة وإن لم يلتزمه القائل بالجواز حيث توهم تعلق كل من الأمر والنهي بطبيعة
غير ما تعلق به الآخر.
فإن قلت: إن أقصى ما يدل عليه الوجه المذكور - على فرض تسليمه - دلالة
النهي المتعلق بذات العبادة على الفساد دون المتعلق بجزئها، إذ لا يتعلق الأمر
هناك إلا بالكل دون كل من الأجزاء سيما على القول بعدم وجوب المقدمة، فغاية
ما يلزم من تعلق النهي بجزء العبادة عدم تعلق الأمر بذلك الجزء، وهو لا يستدعي
فساد الكل، إذ لا يتوقف صحة الكل على تعلق الأمر بالأجزاء وإنما يتوقف على
تعلقه بالكل.
قلت: من البين أنه إذا تعلق الأمر بالكل كان كل من الأجزاء مطلوبا بمطلوبية
الكل واجبا بوجوبه - سواء قلنا بوجوب المقدمة أو لا، حسب ما مر بيانه عند
الكلام في مقدمة الواجب - وهو لا يجامع تحريمه بنفسه من جهة تعلق النهي به،
فمع فرض حرمة الجزء لا يعقل تعلق الوجوب بالكل، فإنه إما أن يقال: حينئذ
127

بكون المطلوب هو نفس الأجزاء خاصة فيلزم خروج الجزء بعد تعلق الوجوب
بالكل عن الجزئية وهو خلف، وإما أن يقال بكون المطلوب هو الإتيان بالجميع
وإن يكن كل منهما مطلوبا مستقلا فهو لا يجامع حرمة البعض والمنع من الإتيان
به، ومع الغض عن ذلك فلا ريب في استلزام الكل لجزئه وعدم انفكاكه عنه، فإذا
فرض كون اللازم حراما امتنع الأمر بالملزوم لما عرفت من استحالة تعلق كل من
الأمر والنهي بالمتلازمين نظرا إلى استحالة التكليف بالمحال.
ثانيها: صريح فهم العرف في المقام، فإنه إذا قال للمكلفين " صلوا وللحائض
لا تصلي " فهم التخصيص وخروج الحائض عن متعلق الأمر، وكذا لو أمر بالصلاة
المشتملة على السورة ثم قال: ولا يقرأ سور العزائم في الصلاة دل على كون
المطلوب هو الصلاة التي لا يؤتى فيها بتلك السور وهكذا، فإذا خرج ذلك عن
متعلق الأمر في حكم العرف لزمه فساد العمل.
فإن قلت: غاية ما يفهم من العبارة المذكورة عدم كون الصلاة التي يقرأ أحد
العزائم مكان السورة الواجبة فيها مطلوبا للشارع، فيكون النهي المتعلق بقراءة
العزيمة دالا على عدم الاجتزاء بها في الصلاة، لا أن الصلاة المشتملة عليها فاسدة
وإن أتى فيها بسورة أخرى حتى يكون النهي المتعلق به قاضيا بفساد العبادة.
قلت: المقصود في المقام من دلالة النهي المتعلق بجزء العبادة على فسادها
هو ما لو جعل المنهي عنه جزءا للعبادة وأتى به مكان الجزء المطلوب، كما في
الصورة المفروضة. وأما لو تعلق النهي حينئذ بالجزء مطلقا من غير أن يكون هناك
ما يؤتى به مكانه، فإنه يقضي بفساد أصل العبادة، كما إذا طرءه مرض في آخر
النهار يضر معه الصوم لنهيه حينئذ عن الإمساك، فإذا صام على الوجه المذكور
فسد صومه - حسب ما بيناه - وأما إذا تعلق النهي ببعض أجزاء العبادة مع التمكن
من إتيان الجزء على الوجه الغير المنهي عنه فأتى به على الوجهين لم يفد ما
ذكرناه من دلالة النهي على الفساد على فسادها في المقام، وذلك يشبه ما لو تعلق
النهي بأمر خارج عن العبادة الحاصلة على الوجه المطلوب كالإتيان بفعل منهي
عنه في أثنائها.
128

توضيح ذلك: أن النهي المتعلق بالجزء على الوجه المذكور يخرج الجزء
المذكور من كونه جزءا للعبادة وقد خرج عن الجزئية بتعلق النهي.
ثالثها: أنه إذا تعلق النهي بالعبادة فلا بد هناك من مصلحة قاضية به فإن فرض
تعلق الأمر به أيضا لزم هناك من وجود مصلحة قاضية بذلك أيضا، فإما أن
يتساوى المصلحتان أو يترجح مصلحة الأمر أو النهي، لا سبيل إلا إلى الثالث، إذ
لا يمكن تعلق النهي بالعبادة إلا مع البناء عليه. وحينئذ فلا سبيل إلى تعلق الأمر به،
لاضمحلال مصلحة الأمر بالنسبة إلى مصلحة النهي، فلا يكون باعثا على الأمر
ومع انتفائه يتعين البناء على الفساد.
وأما دلالته على الفساد إذا تعلق بأمر خارج لازم لها، فلما عرفت من امتناع
تعلق الأمر والنهي بالمتلازمين. ولا فرق في اللازم بين أن يكون لازما لأصل
الفعل أو لبعض من أنواعه بل ولبعض أفراده، لما عرفت من أن الفرد الملزوم
للمحرم يكون خارجا حينئذ عن مورد التكليف، فإن إيجاده في ضمن ذلك الفرد
إذا كان مستلزما للمحرم لم يكن ذلك الإيجاد مطلوبا للآمر، فتقيد به الطلب
المتعلق بالطبيعة فلا يكون الإتيان به مجزيا.
وأما دلالته على الفساد إذا تعلق بأمر خارج متحد مع الماهية في الوجود،
فبما عرفت من امتناع اجتماع الأمر والنهي ورجوع النهي في ذلك إلى نفس
العبادة وإن لم يكن لذاتها، حسب ما مر تفصيل القول فيه.
وأما دلالته على الفساد إذا تعلق بأمر خارج لأجل العبادة سواء كان وصفا
عارضا للعبادة أو أمرا مباينا مساويا لها، فلقضاء ظاهر العرف حينئذ بفهم المانعية
وكون ذلك الأمر الخارج مخلا بأداء المطلوب، بل وقد لا يفهم منه حرمة ذلك
الفعل وإنما يراد منه مجرد بيان كونه مانعا عن حصول ذلك الفعل أو عن ترتب
آثاره عليه، فكما أن أجزاء الفعل وشرائطه يعبر عنها بالأوامر فكذا موانعه.
ويجري ذلك في التكاليف العرفية أيضا إذا كان للمكلف به أجزاء وشرائط، فإنهم
يفهمون من الأوامر المتعلقة بخصوصيات الأفعال الواقعة والنهي عنها اعتبار تلك
129

الأفعال وجودا وعدما في صحتها. ولا فرق في ذلك بين كون ذلك الأمر الخارج
شرطا في العبادة أولا، إلا أن الحكم بالنسبة إلى الشرط أوضح، فإنه قد يستفاد منه
أيضا عدم حصول الشرط بذلك فيفيد الفساد.
وأما عدم دلالته على الفساد إذا لم يكن النهي لأجل العبادة، فبانتفاء الملازمة
العقلية والدلالة العرفية. ولا فرق حينئذ بين كون المنهي عنه شرطا أو غيره.
فإن قلت: إذا كان المنهي عنه شرطا دل النهي عنه على عدم وجوبه وهو لا
يجامع وجوب المشروط، لما عرفت من كون وجوب المقدمة من لوازم وجوب
ذيها، وحينئذ فسقوط الوجوب عن ذيها يكون قاضيا بفسادها، حسب ما مر (1).
وأما دلالته على الفساد إذا تعلق بذات المعاملة لذاتها أو لجزئها كذلك أو بأمر
خارج عنها لازم لها أو مفارق عنها لأجل تلك المعاملة شرطا كان أو غيره
فلوجوه:
أحدها: أن ذلك هو المنساق منها بحسب الاستعمال وإن لم يكن هناك ملازمة
عقلية بين التحريم والفساد - حسب ما قررناه بالنسبة إلى العبادات - إذ ليست
الصحة هنا إلا ترتب الأثر، ولا مانع من ترتبه على المحرم، إلا أنه لما كان الغرض
الأهم من المعاملة هو ترتب الأثر وكان كمالها الذاتي يتفرع آثارها عليها كان
النهي المتعلق بها لذاتها دالا بحسب المقام على نقصها في حد ذاتها وعدم كونها
مثمرة للثمرة المقصودة منها - كما يظهر ذلك من التأمل في المقام - بل لا يبعد
استفادة ذلك من النواهي الواردة في العرف أيضا من الموالي بالنسبة إلى العبيد أو
الحكام إلى الرعية ونحوهم في مثل هذا المقام، فإنه لا ريب في ظهوره بملاحظة
المقام في عدم ترتب الآثار المطلوبة من تلك الأفعال، بل ليس المقصود من تلك
النواهي غالبا إلا بيان ذلك، فإيرادها في صورة الطلب إنما هو لبيان ذلك لا لإرادة
التحريم، ولا يبعد القول في كثير من النواهي الشرعية بل في معظمها إلا ما شذ
وندر، فإن نهيه عن بيع الغرر وبيع الملامسة والحصاة ونحوها إنما يراد به بيان

(1) لم يرد في النسخ جواب إن قلت.
130

فساد تلك البيوع، لا أن الإتيان بها من المحرمات في الشريعة بحسب ذاتها مع
قطع النظر عن حصول التفريع بها كما هو قضية ظاهر النهي مضافا إلى أن التفريع
غير حاصل في جميع الصور.
الثاني: أن العلماء خلفا عن سلف لم يزالوا يستدلون بالنواهي على الفساد
ويستندون إليها في أبواب البيوع والأنكحة وغيرهما من مباحث المعاملات إذا
تعلق النهي بها على أحد الوجوه المذكورة، يظهر ذلك من ملاحظة كتب الاستدلال
في المباحث المتفرقة دون ما إذا تعلق النهي بذاتها لأمر خارج عنها كالنهي عن
البيع وعن النكاح في المكان المغصوب أو الذبح المتعلق بالحيوان المغصوب أو
الآلة المغصوبة أو في المكان المغصوب ونحو ذلك فلم يحكموا بالفساد في شئ
منها، وأورد على ذلك بوجوه:
أحدها: أنه لا حجة في أقوال العلماء ما لم يصل إلى حد الاجماع، ودعوى
وصوله في المقام إلى ذلك في حيز المنع بل الظاهر خلافه، حيث إن الخلاف
والتشاجر في المسألة من الأمور الظاهرة الجلية.
ثانيها: أن احتجاج العلماء بالنواهي على الفساد في أبواب المعاملات
معارض بتصريحهم بعدم دلالة النهي على الفساد حيث اشتهر في ألسنتهم عدم
دلالة النهي في المعاملات على الفساد، وإذا كان الحال على ذلك لم يصح الحكم
بدلالتها على الفساد بمجرد حكمهم بفساد عدة من المعاملات التي ورد النهي
عنها، إذ قد يكون ذلك من جهة قيام ضرورة أو إجماع أو دليل آخر على الفساد
ليصح به الجمع بين الأمرين المذكورين.
ثالثها: أنه قد يكون استناد الفقهاء في حكمهم بفساد المعاملات المفروضة إلى
الأصل بعد انحصار دليل الصحة فيما دل على حل نوع تلك المعاملة أو الأمر
بإيقاعها ونحوهما، إذ بعد النهي عن خصوص بعض أقسامها لا يندرج ذلك فيما
يفيد الصحة لثبوت المنع منه، وقضية الأصل حينئذ هو الحكم بالفساد فلا يفيد ذلك
دلالة النهي على الفساد كما هو المدعى.
131

ويدفع الأول: أولا بأنه لا حاجة إلى إثبات الاجماع عليه، فإن المسألة من
مباحث الألفاظ ويكتفى فيها بالظن.
ومن البين أن اشتهار ذلك في كلامهم خصوصا عند القدماء منهم من أقوى
الأسباب على حصول الظن بالاستفادة المذكورة، إذ يبعد جدا استناد معظم
الأصحاب في المداليل اللفظية إلى ما لا دلالة فيه أصلا، كيف! ولا يقصر ذلك عن
الاستناد إلى كلمات أهل اللغة والرجوع إلى سائر الأمارات الظنية في إثبات
المداليل اللفظية فلا مانع من الاحتجاج به مع عدم البلوغ حد الاجماع المفيد
للقطع، إذ ليست المسألة إلا من مباحث الألفاظ ولا حاجة فيها إلى القطع.
وثانيا: بأن دعوى الاجماع في المقام غير مستبعد فالذي يظهر من تتبع
كلامهم في المباحث المتفرقة كون الاستناد إلى ذلك معروفا في كلام القدماء من
عصر الصحابة والتابعين، وقد نقله علماء الفريقين في المقام، وذكروا أن الاستناد
إلى النواهي في الحكم بالفساد مما اتفق عليه علماء الأعصار في جميع الأمصار.
والثاني بأن أقصى ما يلزم من ذلك وقوع الخلاف في المسألة وعدم انعقاد
الاجماع عليها.
وقد عرفت أنه غير مناف لما هو المقصود من حصول الظن باستفادة الفساد
إلا أن يدعى شهرة خلافه بينهم، وهو غير ظاهر بعد ملاحظة ما قررناه من حمل
النواهي على الفساد. وما يدعى من اشتهار القول بعدم دلالة النهي في المعاملات
على الفساد - على فرض تسليمه - يمكن حمله على عدم دلالة مجرد النهي على
الفساد، وهو كذلك فإنا لا نقول بدلالة مجرد النهي على الفساد وإنما نستفيد الفساد
من كون النهي لأجل المعاملة فيكون ذلك أمارة قاضية بذلك، مضافا إلى أن وجود
الخلاف بل واشتهاره لا ينافي انعقاد الاجماع الكاشف عن قول الحجة كما هو
الحال في عدة من مسائل الأصول وكثير من مسائل الفروع وهو ظاهر.
وعن الثالث بأن الكلام المذكور حجة القول بالتفصيل بين الصورتين
المذكورتين كما هو المحكي من بعض المتأخرين وسنقرر ضعفه.
132

الثالث: أن ذلك هو المستفاد من تتبع الأخبار فقد روي (1) وجه الدلالة أن
المراد بالتعليل المذكور انه لم يعص بالنكاح من حيث كونه نكاحا، إذ ليس العقد
المذكور محرما لأجل كونه عقدا وإنما المنع منه من جهة عصيان السيد وإيقاع
العقد من دون إذنه ورضاه، فهو محرم لأمر خارج، فليس المراد من نفي عصيانه
تعالى نفي عصيانه له مطلقا، لوضوح كون عصيان السيد عصيانا له تعالى بل
المقصود نفي عصيانه تعالى على الوجه المذكور، كما هو واضح بعد التأمل في
الرواية، وحينئذ فالمستفاد منها أنه لو تعلق النهي بنفس المعاملة من حيث نفسها
حتى يتحقق عصيانه تعالى بنفس إيقاع المعاملة كانت باطلة، وأما إذا لم يتعلق بها
نهي لأجل نفسها وإن تعلق بها من جهة خارجية ككونها عصيانا للسيد لم يقض
ذلك بفسادها، فحينئذ ينطبق ذلك على ما اخترناه من أن النهي إن تعلق بالمعاملة
إما بنفسها أو بجزئها أو بأمر خارج عنها لازم لها أو مفارق لأجل المعاملة كان
قاضيا بفسادها، لكون الإتيان بالعقد المفروض حينئذ مخالفة له تعالى وأما إذا
تعلق النهي بها على أحد الوجوه المذكورة لكن لا لأجل المعاملة بل من جهة
خارجية لم يقض ذلك بالفساد.
وقد يورد عليه بوجوه:
أحدها: أن المستفاد من التعليل المذكور أنه لو كان تحريم المعاملة من جهة
منعه تعالى وحصول عصيانه تعالى ابتداء من جهة الإتيان بها كان ذلك قاضيا
بفسادها سواء كان ذلك لأجل المعاملة أو لغيرها وأما إن كان تحريمها لا من جهة
منعه تعالى ابتداء... (2).

(1) الرواية هكذا: ما رواه ثقة الاسلام الكليني وشيخ الطائفة في التهذيب في الحسن -
بإبراهيم بن هاشم - ورئيس المحدثين الصدوق فيمن لا يحضره الفقيه في الموثق - بعبد الله
بن بكير - عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن مملوك تزوج بغير إذن سيده؟ فقال
ذاك إلى سيده إن شاء أجازه وإن شاء فرق بينهما، قلت: أصلحك الله إن الحكم بن عتيبة
وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون: إن أصل النكاح فاسد ولا يحل له إجازة السيد له فقال
أبو جعفر (عليه السلام): إنه لم يعص الله بل عصى سيده فإذا أجاز فهو له جائز. هامش المطبوع)
(2) كذا.
133

حجة التفصيل المذكور أما على عدم الدلالة مع عموم دليل الصحة وشموله
للمحرم وغيره فبما مر من عدم المنافاة بين الصحة والتحريم فلا معارضة بين
الأمرين حتى يحتاج إلى الجمع فلا بد من العمل بهما معا، لعدم جواز تقييد
الإطلاق وتخصيص العام من دون حصول المعارضة بينه وبين المقيد والخاص،
وأما على استفادة الفساد منه مع اختصاص دليلها بالمحلل فظاهر أيضا، لما
عرفت من قضاء الأصل الأصيل في المعاملات بالفساد، والمفروض أن ما دل على
الصحة غير شامل للمحرم فيكون النهي الدال على تحريمه مخرجا له عن
الاندراج فيما يدل على صحة تلك المعاملة وترتب الأثر عليه فيتعين الحكم
بفساده أخذا بمقتضى الأصل المذكور هذا. ولما كان الشأن هنا في بيان عدم
شمول الإطلاقات الدالة على صحة جملة من المعاملات للقسمين وكون دليل
الصحة في بعضها منحصرا في المحلل منها تصدى المفصل المذكور لإثبات ذلك
وبين ما يدل على صحة المنع وترتب الأثر له أمور:
الأول: قوله تعالى * (أحل الله البيع) * (1) فإن من البين عدم شموله للبيوع
المحرمة فلا بد بعد ثبوت التحريم في بعض أنواعه من تقييد الإطلاق المذكور.
الثاني: قوله تعالى * (أوفوا بالعقود) * (2) فإن مقتضاه صحة العقد الذي يجب
الوفاء به والحرام لا يجب الوفاء به، لأنه يعاقب على فعله فكيف يعاقب على ترك
الوفاء به، فإن الظاهر أن أهل العرف يفهمون التنافي بين هذين.
الثالث: قوله تعالى والكلام فيه نظير الكلام في الآية السابقة.
الرابع: قوله تعالى * (إلا أن تكون تجارة عن تراض) * (3) استثنى التجارة عما
نهى عنه من أكل أموال الناس فمعناه انتفاء التحريم بالنسبة إلى التجارة فهو نص
صريح في الحكم بالحلية، وبما ذكر يرتفع ما يتوهم من التناقض في كلام الفقهاء
فإن الموضع الذي يستدلون به على الفساد هو الموضع الذي يكون مقتضى الصحة

(1) سورة البقرة: 275.
(2) سورة المائدة: 1.
(3) سورة النساء: 29.
134

منحصرا في نحو ما ذكر، وما يحكم فيه بعدم الدلالة على الفساد هو غير ذلك مما
يعم فيه دليل الصحة، أو أن مقصودهم من ذلك عدم دلالة النهي بنفسه على الفساد
وإنما يأتي الفساد فيما ذكر من جهة الأصل لاختصاص دليل الصحة لا من جهة
النهي.
والجواب أما عن عدم المنافاة بين الصحة والتحريم فبأنه كذلك إلا أن هناك
فرقا بين النهي المتعلق لأجل المعاملة والمتعلق بها لأمر خارج - حسب ما بيناه -
بل قد عرفت أن استفادة التحريم من الأول محل تأمل فالمنافاة بينهما على ما
قررناه ظاهرة لا بد من تقييد ما دل على الصحة بذلك. وأما عما ذكر " من استفادة
الفساد مع اختصاص دليل الصحة بالمحلل " فبأن استفادة الفساد منه حينئذ من
جهة الأصل مما لا تأمل فيه إلا أن الشأن في بيان اختصاص أدلة الصحة - حسب
ما ذكر - فبأن أقصى ما يسلم عدم شمول الآية الأولى للبيوع المحرمة. وأما عن
آيات المتاجر فما ذكر من الوجه " في اختصاصها بالمحلل " غير متجه، أما الأولى
منها فلأن مدلول الآية الشريفة وجوب الوفاء بمقتضى العقود، وغاية ما دل عليه
النهي هو حرمة نفس العقود ولا منافاة بين الأمرين بالذات لوضوح اختلاف
متعلق التحريم والحل ولا بالالتزام، فإنه إنما يتحقق المنافاة إذا قلنا باستلزام
حرمة العقد لحرمة الوفاء بمقتضاه - أعني الفساد - فإنه ينافي ما يستفاد من الحل
إلا أن ذلك أول الدعوى، ومبنى كلام القائل على عدم المنافاة بينهما - حسب ما
صرح به في القسم الأول - والظاهر أن قوله " فإن الظاهر أن أهل العرف يفهمون
التنافي " رجوع عن حصول المنافاة العقلية - حسب ما يقتضيه أول الكلام -
واستناد إلى التنافي العرفي.
وأنت خبير: بأن المنافاة العرفية إنما يتم على ما ذكرناه من دلالة النهي عن
المعاملة على الوجه الذي قررناه على الفساد عرفا، فإنه لما كان مفاد النهي هنا
الفساد ظهر المنافاة بين الحكمين في فهم العرف فهو حينئذ رجوع إلى ما قلناه.
ومنه يظهر الكلام في الآية الثانية. وأما الآية الأخيرة فبأن استثناء أكل المال على
135

سبيل التجارة من الأكل المنهي إنما يفيد عدم تعلق النهي بالأكل المفروض، وعدم
تحريمه القاضي بحصول الانتقال وهو لا يقضي بجواز التجارة الواقعة وإباحتها،
إلا أن يقال: إن جواز التصرف في المال الحاصل بواسطتها يفيد بحسب العرف
إباحتها أيضا، وهو لا يجامع القول بعدم دلالة النهي على الفساد، لوضوح بطلان
القول بحرمة المعاملة وترتب الأثر عليه وجواز التصرف في المال، فيكون البناء
على ذلك أيضا مبنيا على دلالة النهي على الفساد كما هو المدعى. وينبغي تتميم
الكلام في المرام بذكر أمور:
أحدها: أن ما عنونوه من البحث إنما هو في غير النهي الذي يراد به الكراهة
وأما النهي المستعمل في الكراهة فظاهر أنه لا يفيد الفساد في المعاملات، لما هو
واضح من عدم المنافاة بين الكراهة والصحة، وبعد استعماله في الكراهة لا دلالة
فيها على الفساد من جهة المقام أيضا، بل ربما يشير إلى الصحة لإفادة الجواز
الظاهر في الصحة. وأما بالنسبة إلى العبادات فقد يقال بإفادته الفساد، لما تقرر من
اعتبار الرجحان في العبادة فالمرجوحية المدلول للنهي المفروضة يناقض
الرجحان المعتبر في مفهومها فيجئ الفساد من تلك الجهة، لكن الذي يقتضيه
النظر في المقام أن النهي المفروض إما أن يكون متعلقا بالعبادة أو بجزئها أو
بشرطها أو بغيره من الأمور الخارجة عنها المتحد بها أو غيرها، وعلى كل حال
فإما أن يكون متعلقا بها لأجل العبادة أولا ثم المتعلق بالعبادة إما أن يكون متعلقا
بها لذاتها أو لوصفها فإن تعلق النهي بذات العبادة لذاتها اتجه القول بفسادها
وخروجها عن مفهوم العبادة وإن تعلق بها لوصفها.
والثاني: أنك قد عرفت أن دلالة النهي في العبادة على الفساد إنما هو من جهة
قضاء النهي بارتفاع الأمر لاستحالة كون شئ واحد مأمورا به ومنهيا عنه فإذا
انتفى عنه الأمر قضى بفساده، إذ الصحة فيه موافقة الأمر حسب ما مر فإذا كان
الحال على وجه يجوز حصول التكليف بالمحال كما إذا كان ذلك بسوء اختيار
المكلف بناءا على جواز التكليف بالمحال حينئذ كما إذا توسط المكان المغصوب،
136

فإنه إذن مأمور بالخروج منهي عن التصرف بالخروج أيضا، بل لا مانع حينئذ من
تعلق الأمر به على وجه كونه عبادة أيضا، إن لم تكن الجهة عبادة.
لا فرق في دلالة النهي على الفساد بين النهي النفسي والغيري والأصلي
والتبعي، إذ الجهة المذكورة للدلالة عقلية لا يختلف الحال فيها بين الوجوه
المذكورة، لكن ذلك إنما يتم في التكليفين المستقلين، أما لو كان أحد التكليفين
مترتبا على الآخر أمكن اجتماع الأمر المترتب مع النهي الغيري إذا كان التكليف
بالأول مترتبا على عصيان الثاني - حسب ما فصلنا القول فيه في بحث اقتضاء
الأمر بالشئ للنهي عن ضده في الواجبين المضيقين والموسع المعارض للمضيق
والمندوب - فإذا كان أحدهما أهم من الآخر صح المعارض للواجب، فإن غير
الأهم في الأول منهي عنه من جهة الإيصال إلى الأهم وكذا الموسع أو المندوب
بالنسبة إلى الواجب المضيق. ولا مانع من كونه مأمورا به على فرض العصيان
بالآخر، إذ لا مانع من الأمر بالضدين على سبيل الترتيب فلا مانع من اجتماع
الأمر والنهي في الواجب المذكور فلا يكون النهي المفروض قاضيا بارتفاع الأمر
كذلك، ولا فرق بين كون النهي الغيري حينئذ أصليا أو تبعيا، إذ المناقضة بينهما
عقلية لا لفظية فإذا ارتفعت جاز في الصورتين ولا يجري ذلك بالنسبة إلى النهي
النفسي، فإن حرمة الشئ في نفسه لا يجامع وجوبه كذلك ولو على سبيل الترتب.
نعم يصح ترتب الوجوب على التحريم لكن بعد حصول الوجوب بحصول
المترتب عليه يرتفع عنه التحريم فيخرج عن مورد النهي، والفرق بين النفسي
والغيري في ذلك مع اشتراكهما في مطلوبية الترك أن المنهي عنه لنفسه يكون تركه
مطلوبا كذلك فلا يجامع ذلك فعله لا لنفسه ولا لغيره، ولا يعقل الترتب المسوغ في
المقام إذ لا يمكن ترتب وجوب الشئ على وجوده، وأما لو كان التحريم غيريا
كان التحريم المتعلق به إنما هو لأجل الغير فإذا فرض عصيانه وتركه لذلك الغير
صح الأمر بذلك المنهي عنه، فإنه إنما لا يصح الأمر به من جهة استحالة اجتماع
الأمر بالضدين وهو إنما يتم إذا كان في مرتبة واحدة لا مرتبتين، ولا يرتفع عنه
137

التحريم حينئذ لظهور أن عصيان الأمر لا يقضي بسقوط التكليف مع بقاء التمكن
منه، فهو في حال كونه مأمورا به منهي عنه أيضا من جهة الأداء إلى الآخر ولا
يحكم بعصيانه في تلك الحال.
فإن قلت: إن تحريم ذلك الفعل حينئذ إنما هو من حيث أدائه إلى ترك
الواجب فإذا فرض ترك المكلف له وعدم أداء هذا الترك إليه لم يتصف بالتحريم،
لوضوح عدم تحريم ذلك في نفسه وإنما كان تحريمه لأداء تركه إلى فعل الواجب،
فإذا علم عدم حصول الأداء فلا تحريم له، وحينئذ يصح اتصافه بالوجوب فهو
متصف بالتحريم على تقدير وحينئذ لا يتصف بالوجوب، وإنما يتصف بالوجوب
على تقدير آخر ولا يتصف حينئذ بالتحريم، فلا تعلق للنهي بما هو واجب حتى
يقضى فعله. ألا ترى أنه قد يكون الشئ حراما في نفسه واجبا لغيره، كالدخول
في دار الغير بغير إذنه، فإنه محرم في نفسه لكن لو توقف حفظ النفس عليه وجب
ذلك، غير أن وجوبه من الجهة المذكورة يرفع التحريم لكن من تلك الجهة خاصة
لا مطلقا، فإذا دخله حينئذ لا لأجل حفظ النفس كان ما أتى به محرما صرفا وإن
كان الإتيان به لأجل الحفظ واجبا، فكذا الحال في المقام فيكون ترك ذلك الفعل
المؤدي إلى الواجب الآخر واجبا ويكون فعله حينئذ حراما، ولا يكون تركه الغير
المؤدي إلى ذلك الواجب واجبا فلا يكون فعله حراما، فلا مانع من اتصافه
بالوجوب.
قلت: لا يخفى أن تركه الذي لا يؤدي إلى فعل الآخر واجب أيضا لوجوب
ذلك الواجب بالفعل ووجوب ذلك الترك للأداء إليه، لوضوح أن عصيان الأمر لا
يقتضي سقوطه.
غاية الأمر: عدم وجوب ذلك الترك في نفسه ومن حيث إنه لا يؤدي إلى فعل
ذلك الواجب، فعدم أدائه بالفعل مع إمكان كونه مؤديا لا يسقط عنه الوجوب من
حيث الأداء، فغاية الأمر أن لا يجعله المكلف مؤديا إلى فعل الآخر فذلك الترك
حين كونه غير مؤد إلى الواجب واجب من حيث أدائه إليه، فما يقتضيه الحيثية
138

الملحوظة أن لا يكون في تلك الحال واجبا إلا من جهة الأداء سواء تحقق به
الأداء أو لا، وذلك لا يقضي بعدم وجوب الترك الغير المؤدى مطلقا، وإنما يقضي
بعدم وجوبه من حيث إنه لا يؤدي، فلا ينافي وجوبه من حيث الأداء وإن لم يؤده
المكلف إليه لعدم سقوط الوجوب بعدم إتيان الواجب، فالفرق بينه وبين المثال
المذكور ظاهر حيث إن الدخول في دار الغير بغير إذنه محرم، ولا يستثنى منه إلا
الدخول المؤدى إلى الواجب المفروض فغيره يندرج في الحرام. فما تحقق به
الإيصال أو كان ملحوظ الداخل إيصاله إليه وإن لم يتحقق به الإيصال لطرو مانع
بعد ذلك متصف بالوجوب، فيكون الإتيان به لا لأجل ذلك محرما غير مستثنى
من التحريم.
فإن قلت: إنه قد يكون الدخول لأجل أداء ذلك الواجب واجبا، لكون
الدخول مقدمة له فيكون ذلك واجبا من حيث الأداء إليه - كما هو المفروض في
محل البحث - وحينئذ لو أتى بذلك لا لأجل الأداء إليه كان محرما قطعا، فظهر
بذلك أن الواجب في المقام هو الدخول المؤدي من حيث أدائه فالواجب في
المقام أيضا هو الترك المؤدي من حيث الأداء لا مطلقا من غير فرق بين المقامين.
فيظهر بذلك كون الواجب هو الفعل الموصل على حسب ما مر القول فيه.
قلت: الفرق بين الصورة المذكورة وما هو المفروض في المقام ظاهر حيث إن
الحكم هنا على عكس ما ذكرنا من المثال، فإن المفروض في المقام كون الفعل
واجبا في نفسه محرما من حيث أداء تركه إلى الواجب، ويكون الترتيب هناك بين
وجوب الأهم وتحريم غير الأهم من جهة أداء تركه إلى الفعل الأهم، وهنا إنما
يتعين عليه الواجب الأهم من الحرام ويكون ذلك الحرام واجبا من جهة الأداء
إليه ويكون محرما مطلوبا تركه على تقدير ترك ذلك الأهم، فيكون تحريمه مترتبا
على ترك ذلك الأهم فهو حين ترك الأهم وجب عليه ترك مقدمته المفروضة من
حيث ترتب تحريمه على ترك ذلك الواجب، فيكون ذلك الترك حراما واجبا من
حيث الأداء إلى الواجب، ولا مانع من اجتماعهما من جهة الترتب على عكس
139

المفروض في المقام ولا دلالة في ذلك على كون الحرام بعد الواجب، بل اجتمع
الأمران على سبيل الترتب المفروض فذلك الترك حينئذ واجب وإن كان محرما
من حيث كونه مانعا عن أداء الواجب. فظهر بذلك جواز اجتماع الوجوب الغيري
والحرمة النفسية أيضا على وجه الترتيب على الوجه المذكور كما أنه يجوز
اجتماع الوجوب النفسي والحرمة الغيرية على ذلك الوجه فتأمل في المقام، فإنه
من مزال الأقدام.
* * *
140

معالم الدين:
المطلب الثالث
في العموم والخصوص
وفيه فصول:
الفصل الأول
في الكلام على ألفاظ العموم
أصل
الحق: أن للعموم في لغة العرب صيغة تخصه. وهو اختيار الشيخ،
والمحقق، والعلامة، وجمهور المحققين. وقال السيد (رحمه الله) وجماعة: إنه
ليس له لفظ موضوع إذا استعمل في غيره كان مجازا، بل كل ما يدعى
من ذلك مشترك بين الخصوص والعموم. ونص السيد على أن تلك
الصيغ نقلت في عرف الشرع إلى العموم، كقوله بنقل صيغة الأمر في
العرف الشرعي إلى الوجوب. وذهب قوم إلى أن جميع الصيغ التي
يدعى وضعها للعموم حقيقة في الخصوص، وإنما يستعمل في
العموم مجازا.
141

لنا: أن السيد إذا قال لعبده: " لا تضرب أحدا " فهم من اللفظ
العموم عرفا، حتى لو ضرب واحدا عد مخالفا. والتبادر دليل الحقيقة،
فيكون كذلك لغة، لأصالة عدم النقل، كما مر مرارا. فالنكرة في سياق
النفي للعموم لا غير، حقيقة، وهو المطلوب.
وأيضا، لو كان نحو: " كل " و " جميع " من الألفاظ المدعى عمومها،
مشتركة بين العموم والخصوص، لكان قول القائل: " رأيت الناس كلهم
أجمعين " مؤكدا للاشتباه، وذلك باطل بيان الملازمة: أن " كلا "
و " أجمعين " مشتركة عند القائل باشتراك الصيغ، واللفظ الدال على
شئ يتأكد بتكريره، فيلزم أن يكون الالتباس متأكدا عند التكرير. واما
بطلان اللازم، فلأنا نعلم ضرورة أن مقاصد أهل اللغة في ذلك تكثير
الإيضاح وإزالة الاشتباه.
احتج القائلون بالاشتراك بوجهين.
الأول: أن الألفاظ التي يدعى وضعها للعموم تستعمل فيه تارة
وفي الخصوص أخرى. بل استعمالها في الخصوص أكثر، وظاهر
استعمال اللفظ في شيئين أنه حقيقة فيهما. وقد سبق مثله.
الثاني: أنها لو كانت للعموم، لعلم ذلك إما بالعقل، وهو محال، إذ لا
مجال للعقل بمجرده في الوضع، وإما بالنقل، والآحاد منه لا تفيد
اليقين. ولو كان متواترا لاستوى الكل فيه.
والجواب عن الأول: أن مطلق الاستعمال أعم من الحقيقة
والمجاز، والعموم هو المتبادر عند الإطلاق. وذلك آية الحقيقة،
فيكون في الخصوص مجازا، إذ هو خير من الاشتراك حيث لا دليل
عليه.
وعن الثاني: منع الحصر فيما ذكر من الأوجه، فان تبادر المعنى
142

من اللفظ عند إطلاقه دليل على كونه موضوعا له، وقد بينا أن المتبادر
هو العموم.
حجة من ذهب إلى أن جميع الصيغ حقيقة في الخصوص: أن
الخصوص متيقن، لأنها إن كانت له فمراد، وإن كانت للعموم فداخل
في المراد، وعلى التقديرين، يلزم ثبوته. بخلاف العموم، فإنه مشكوك
فيه، إذ ربما يكون للخصوص، فلا يكون العموم مرادا، ولا داخلا فيه،
فجعله حقيقة في الخصوص المتيقن أولى من جعله للعموم المشكوك
فيه.
وأيضا: اشتهر في الألسن حتى صار مثلا أنه: " ما من عام إلا وقد
خص منه "، وهو وارد على سبيل المبالغة وإلحاق القليل بالعدم.
والظاهر يقتضي كونه حقيقة في الأغلب مجازا في الأقل، تقليلا
للمجاز.
والجواب: أما عن الوجه الأول، فبأنه إثبات اللغة بالترجيح، وهو
غير جائز على أنه معارض بأن العموم أحوط، إذ من المحتمل أن
يكون هو مقصود المتكلم، فلو حمل اللفظ على الخصوص لضاع غيره
مما يدخل في العموم. وهذا لا يخلو من نظر.
وأما عن الأخير، فبأن احتياج خروج البعض عنها إلى التخصيص
بمخصص ظاهر في أنها للعموم. على أن ظهور كونها حقيقة في
الأغلب، إنما يكون عند عدم الدليل على أنها حقيقة في الأقل، وقد بينا
قيام الدليل عليه. هذا، مع ما في التمسك بمثل هذه الشهرة، من الوهن.
143

قوله: * (في العموم والخصوص) *.
لما كان العموم والخصوص من عوارض الأدلة وكان متعلقا بمباحث الألفاظ
كما مر في بحث الأوامر والنواهي، عقبوا البحث فيهما بالبحث عن العام والخاص،
وهو أيضا من المشتركات بين الكتاب والسنة إلا أنه قد يجري في غيرهما أيضا
في الجملة. وكيف كان فالأولى أولا تقديم تعريف العام والخاص ثم الشروع في
مباحث الباب. وقد اختلفوا في تعريف العام وعرفوه على وجوه شتى وذكروا له
حدودا مختلفة، وليس ذلك مبنيا على الاختلاف في المحدود، بل إنما هو من جهة
المناقشة فيما يرد على الحدود. فاختار كل منهم حدا على حسب ما استجوده:
أحدها: ما حكي عن أبي الحسين البصري واختاره جماعة وإن اختلفوا في
زيادة بعض القيود " من أنه اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له " ويرد عليه أمور:
منها: أن أخذ المستغرق في الحد يوجب الدور، إذ هو مرادف للعام، نعم لو
كان التعريف لفظيا جاز ذلك لكنه غير مقصود في المقام، إذ المراد به كشف
الحقيقة. وضعفه ظاهر، لمنع المرادفة بين العموم والاستغراق، ومع تسليمه فليس
مرادفا للعموم بالمعنى المحدود غاية الأمر أن يكون مرادفا للعموم اللغوي.
ومنها: أنه إن أريد مما يصلح له الجزئيات التي وضع اللفظ لما يعمها ويصدق
عليها - كما هو الظاهر من العبارة - لم يكن جامعا، لخروج الجمع المحلى باللام
والمضاف من الحد، فإن المنساق منهما على المشهور المنصور هو استغراق كل
من الآحاد دون المجموع وليس ذلك من جزئيات الجمع وإنما هو من أجزائه.
وإن أريد به الأجزاء التي تصلح اللفظ للإطلاق عليها أجمع لم ينطبق على
المحدود، إذ لا يصدق ذلك على كثير من العمومات، فإن عمومها من جهة
استغراقها الجزئيات دون الأجزاء، مضافا إلى عدم كونه مانعا، لشموله لسائر
الألفاظ الموضوعة بإزاء المعاني المركبة - كأسماء العدد - بل الأعلام الشخصية،
بل ويندرج فيه المركبات نحو ضرب زيد عمرا فإن المأخوذ في الحد مطلق اللفظ
الشامل للمفرد والمركب مع عدم صدق العام على شئ منها.
144

ومنها: أنه إن أريد بما يصلح له إطلاق اللفظ عليه سواء كان على سبيل
الحقيقة أو المجاز لزم خروج معظم الألفاظ العامة، لعدم كونها مستغرقة لمعانيها
الحقيقية والمجازية معا. وإن أريد به ما يصلح إطلاق اللفظ عليه حقيقة خرج عنه
نحو رأيت كل أسد يرمي، مع أنه يندرج في العام. ويمكن دفعه بأن المراد ما
يستغرق جميع ما يصلح له بالنظر إلى المفهوم الذي أريد منه، فإن كان ذلك المفهوم
حقيقيا أو مجازيا كان الاستغراق بالنسبة إليه ملحوظا.
ومنها: أنه إن كان المراد باستغراقه لجميع ما يصلح له استغراقه له وضعا لزم
خروج جملة من العمومات من الحد - كالنكرة في سياق النفي والجمع المحلى
باللام وغيرهما - حسب ما يبين الحال فيها إن شاء الله، بل نقول بجريان الإشكال
في غيرهما أيضا، فإن لفظ الرجل في قولك " كل رجل عادل " إن عد عاما غير
مستغرق لجميع جزئياته وضعا، وإن عد لفظة كل عاما - كما يستفاد من ظاهر
كلماتهم حيث عدوا لفظ كل وجميع ونحوهما من ألفاظ العموم - فهي غير
مستغرقة لجميع جزئياتها، إذ ليس كل من الآحاد من جزئيات المفهوم الذي
وضعت بإزائه - حسب ما مرت الإشارة إليه - في الإيراد السابق. وإن أريد مجرد
استغراقه لها ولو من جهة انضمام سائر الشواهد إليه - كدليل الحكمة وملاحظة
ترك الاستفصال ونحوهما - لزم اندراج المطلقات بل وغيرها أيضا في العموم،
وليس كذلك ولذا اعتبر بعضهم في الحد كون الاستغراق من جهة الوضع، حسب ما
يأتي الإشارة إليه.
ومنها: أنه يندرج فيه التثنية والجمع فإنهما يستغرقان ما يصلحان له من
الفردين أو الأفراد.
ولا يخفى وهنه، لوضوح أن التثنية صالحة لكل اثنين وليس مستغرقا لها فغاية
الأمر استغراقها لما اندرج فيه من الآحاد دون الجزئيات.
نعم قد يشكل الحال في تثنية الأعلام بناء على الاكتفاء في بنائها على
الاتفاق في اللفظ.
145

ويدفعه - مع وهنه بفساد المبنى المذكور - أنه ليس الاستغراق هناك بالنظر
إلى الوضع الواحد بل بملاحظة الوضع المتعدد، فلو بنى على شمول الحد لذلك
فليس ذلك أيضا مستغرقا لجميع ما وضع له غاية الأمر أن يشتمل معنيين.
نعم لو فرض عدم وضع ذلك العلم إلا لشخصين أمكن الإيراد بذلك، على أنه
لا يجري الإيراد بالنسبة إلى الجمع على الوجه الأول أيضا إلا في جمع الأعلام
على الوجه الضعيف المذكور.
نعم لو أريد به جميع الآحاد اندرج في الحد، وحينئذ يندرج في العام فلا
انتقاض من جهته.
وعن قاضي القضاة اعتبار قيد آخر في الحد لإخراج التثنية والجمع حيث
قال " إنه اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له في أصل اللغة من غير زيادة " وأراد
بقوله من غير زيادة الاحتراز عن ذلك فإن الاستغراق الحاصل هناك من جهة
زيادة علائم التثنية والجمع. وفيه: - مع ضعفه بما عرفت - أن زيادة القيد المذكور
يقتضي خروج جمع المحلى عن الحد، فإن إفادته العموم إنما هي من جهة ضم
اللام إليه وكذا الحال في الجمع المضاف.
ومنها: أنه يندرج فيه المشترك إذا استعمل في جميع معانيه مع عدم اندراجه
في ألفاظ العموم ولذا زاد جماعة في الحد منهم الرازي والعلامة في التهذيب
والشهيد في الذكرى التقييد بوضع واحد ليخرج عنه ذلك، وربما يحترز به أيضا
عن استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه نظرا إلى كون استعماله فيهما بملاحظة
الوضع الحقيقي والترخيصي.
ويدفعه: أنه إن كان المشترك حينئذ مستغرقا لجميع آحاد معنييه كان مندرجا
في العام وإلا فلا يصدق الحد عليه.
ثانيها: ما حكي عن الغزالي من " أنه اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على
شيئين فصاعدا " فالتقييد بالواحد لإخراج المركبات - كزيد قائم في الدار - الدال
على معاني مفرداتها، وبالدال من جهة واحدة لإخراج المشترك، فإن دلالته على
146

المعنيين من جهة وضعين فما زاد، وبقوله على شيئين فصاعدا لإخراج سائر
الألفاظ المفردة ما عدا العمومات ويرد عليه أيضا أمور:
منها: أنه يخرج عنه الجمع المضاف والموصول بل الجمع المحلى باللام أيضا،
إذ ليس شئ منها لفظا واحدا، وأيضا فقوله من جهة واحدة مغن عن ذلك فإن
الدلالة هناك من جهة وضعين أو أوضاع متعددة فلا حاجة إلى التقييد به.
وقد يذب عن الأول: بأن العام في الحقيقة هو المضاف والإضافة شرط في
عمومه، وكذا العام هو الموصول والصلة قيد خارج رافع لإبهام الموصول، واللام
في الجمع المحلى بمنزلة الجزء. وقد يجاب أيضا بأن المراد بالواحد ما يقابل
الجملة ولا شك أن الموصول مع صلته ليس بجملة تامة بل جزء منها. وفيه: - مع ما
فيه من الوهن - أنه يلزم حينئذ اندراج المركبات الناقصة في العام لاستغراقها
لمعاني أجزائها، فإن الملحوظ في التقييد بالواحد على ما ذكر هو اخراج الجمل
الدالة على معاني مفرداتها فيبقى غيرها مندرجة في الحد. وعن الثاني: بأن إغناء
القيد الآخر عن الأول غير مستنكر في التعريفات وإنما المرغوب عنه عكسه.
ومنها: أنه ينتقض بالمثنى والمجموع لدلالة الأول على شيئين والثاني على
أزيد منها مع عدم اندراجها في العام.
وقد يذب عن الانتقاض بالمثنى: بأن المأخوذ في الحد دلالته على شيئين
فصاعدا والمثنى إنما يدل على شيئين فقط. وأنت خبير: بأنه مع حمل العبارة على
ذلك لا وجه للتعبير المذكور بل كان ينبغي التعبير عن دلالته على الكثرة بلفظ
واحد كأن يقول ما دل على أشياء أو أمور ونحوهما.
وعن الانتقاض بالجمع: أنه يقول بعموم الجمع المنكر. وفيه: أنه إنما يقول
بإفادته العموم وأما مع عدم إرادة العموم منه فلا ريب في عدم اندراجه في العام
مع دخوله في الحد، نعم لو التزم عمومية الجمع حينئذ مع ظهور فساده كما قد يقال
بالتزامه عمومية المثنى اندفع عنه الإيراد.
ومنها: أنه يندرج فيه أسماء العدد كعشرة ونحوها إلا أن يلتزم أيضا بعمومها.
147

ومنها: أنه يندرج فيه العمومات المخصصة مع عدم اندراجها في العام.
ومنها: أنه ينتقض بنحو قولك " كل مستحيل وكل معدوم " فإن كلا منهما عام
شامل لأفراده، مع أن مدلوله ليس شيئا إذ الشيئية تساوق الوجود.
ويدفعه: أن المفهوم المتصور شئ في الذهن وإن لم يكن شيئا في الخارج،
والمراد بالشئ ما يعم الأمرين على أن الشيئية المفهومية يعد في العرف شيئا وإن
لم يكن موجودا وليس الشيئية منحصرة في الوجودية.
ومنها: ما ذكره الحاجبي من " أنه ما دل على مسميات باعتبار أمر اشتركت
فيه مطلقا ضربة " فبقوله مسميات يخرج المفردات التي لا عموم فيها بالنظر إلى
دلالتها على معناها الإفرادي وكذا المثنيات بملاحظة دلالتها على التثنية، وأما
بالنظر إلى دلالتها على آحاد كل منهما فبالقيد الأخير - كما سنشير إليه إن شاء
الله - وبقوله باعتبار أمر اشتركت فيه عشرة ونحوها من أسماء العدد، فإن دلالتها
على آحادها ليست باعتبار أمر مشترك بينهما لعدم اشتراك الأجزاء في مسمى
ذلك العدد.
ويشكل بأنه إما أن يريد بالمسميات خصوص المسميات بتلك اللفظة أو
مطلق المسميات وإن لم يكن من مسميات ذلك اللفظ. فعلى الأول يخرج أسماء
العدد من التقييد بالمسميات إذ ليست الآحاد من مسميات تلك اللفظة من غير
حاجة إلى القيد المذكور إلا أنه يشكل الحال حينئذ في صدق الحد على ألفاظ
العموم، إذ ليست الجزئيات المندرجة تحت العام من مسميات اللفظ الموضوع
للعموم، وقد يدفع ذلك بأن المقصود من مسميات تلك اللفظة ما يصح إطلاق ذلك
اللفظ عليه ولو كان من جهة انطباقه لما وضع له اللفظ كما يدل عليه قوله باعتبار
أمر اشتركت فيه.
وفيه: أنه إنما يتم في مثل النكرة في سياق النفي وما دخل عليه لفظة كل
ونحوه إذا عد العام خصوص مدخوله وجعل الآخر أداة للعموم، وأما الجمع
المعرف والمضاف ونحو كل وجميع فليس الحال فيها على ما ذكر. نعم لو جعل
148

استغراق الجمع باعتبار الجموع دون الآحاد فربما أمكن فيه ذلك إلا أنه وجه
ضعيف كما سنشير إليه إن شاء الله.
وعلى الثاني فلا يخرج من التقييد بالمسميات سوى المفرد الموضوع بإزاء
البسيط دون الألفاظ المفردة الموضوعة بإزاء المعاني المركبة، فإن لأجزائها
حينئذ ألفاظا سميت بها وكذا الحال في مثنياتها. ويمكن دفعه: بأن التعدد غير
ملحوظ في مفاهيم تلك المفردات أصلا بل لم يلحظ في أوضاعها إلا معنى واحد
وإن انحل ذلك إلى أمور بخلاف أسماء العدد فإن المفهوم منها وإن كان أمرا واحدا
في الاعتبار إلا أن التعدد مأخوذ في معناها وليس اتحادها إلا بمجرد الاعتبار.
وقد يقال بعدم اخراجها لأسماء العدد إذ دلالتها على كل من الآحاد لأمر
مشترك بينهما أعني الجزئية من مفهومها. وقد يجاب عنه بأن المراد بالأمر
المشترك هو مفهوم ذلك اللفظ، والجزئية ليست من مفهوم أسامي الأعداد.
وفيه: أنه خروج عن ظاهر الإطلاق فلا بد من قيد يدل عليه، وخرج بقوله
مطلقا المعهود إذا كان متعددا، فإنه وإن دل على مسميات باعتبار أمر اشتركت فيه
إلا أنه ليست دلالته عليها مطلقا بل مقيدا بالمعهودية. وبقوله ضربة - يعني دفعة -
يخرج النكرة فإنه وإن دل على مسمياته - أعني الآحاد التي يندرج تحته - إلا أن
دلالته عليها على سبيل البدلية لا الدفعة، وكذا الحال في المثنى بالنسبة إلى دلالته
على آحاد الاثنين، فإن دلالته عليها على سبيل البدلية دون الجمع. ويرد على
الحد المذكور - مضافا إلى ما عرفت - أنه إن أريد بالأمر المشترك المعتبر في
دلالته على المسميات هو الكلي الصادق على جزئياته لزم خروج الجمع المحلى
باللام والمضاف عن الحد، لعدم صدقه على الآحاد وكذا لفظة كل وجميع ونحوهما.
نعم قد يعد العام مدخول لفظة كل ونظائره ويجعل تلك الألفاظ أداة للعموم،
وحينئذ فلا انتقاض إلا أنه مخالف لظاهر ما ذكروه وإن أريد به ما يعم ذلك وصدق
الكل على أجزائه اندرج فيه الجمع المنكر وأسماء العدد، مضافا إلى ما في الحد
المذكور من الخفاء الغير اللائق بالحدود.
149

رابعها: ما اختاره المحقق في المعارج من " أنه اللفظ الدال على اثنين
فصاعدا من غير حصر " وينتقض بالمثنى والجمع المنكر، إلا أن يراد به الدلالة
على ما يزيد على الاثنين فحينئذ يخرج عنه المثنى، لكن يبقى السؤال في اختيار
التعبير المذكور مع إمكان التعبير عن الدلالة على الكثرة بلفظ واحد - حسب ما مر
نظيره في بعض الحدود المتقدمة - وينتقض أيضا بلفظ الكثير ونظائره لدلالتها
على الكثرة من غير حصر، وبالعام المخصوص كأكرم العلماء إلا زيدا.
خامسها: ما ذكره العلامة في النهاية من " أنه اللفظ الواحد المتناول بالفعل لما
هو صالح له بالقوة مع تعدد موارده " واحترز بالواحد عن الجملة، وبالمتناول
بالفعل عن النكرة، لصلاحيتها بالقوة لجميع الآحاد لكنها غير متناول لها فعلا،
وباعتبار التعدد في موارده عما له معنى واحد - كالأعلام الشخصية - وقد عد من
ذلك الكليات المنحصرة في الفرد - كالشمس والقمر - وفيه تأمل فإن قولك كل
شمس وكل قمر ولا شمس ولا قمر عام قطعا ويندرج في الحد ومجرد الأفراد
الفرضية كاف في صدقه وإن لم يتحقق منها في الخارج إلا فرد واحدا ولم يوجد
أصلا كما في لا شريك له.
وقد يورد على الحد المذكور أمور:
أحدها: أن الفعلية تقابل القوة فلا يجتمعان فكيف يقيد حصول أحدهما
بحصول الآخر.
ويدفعه: أن عدم اجتماع الأمرين من الأمور الظاهرة فهو قرينة واضحة على
سبق القوة فالمراد تناولها حين العموم لما هو صالح له قبل طروه.
نعم يرد عليه: أنه إنما يشمل الألفاظ التي يطرؤها العموم بسبب أدواته، وأما
ما يفيد العموم وضعا - كأسماء الاستفهام والمجازات - فلا يندرج فيه، وكذا لفظ
كل وجميع ونحوهما مع عدهما من ألفاظ العموم كما هو المعروف.
ثانيها: أنه ينتقض بالأطفال، إذ ليس متناولا بالفعل لما هو صالح له بالقوة من
المشايخ وكذا الحال في العلماء والسلاطين وفي غيرهما.
150

ويدفعه: أن لفظ الطفل والعالم والسلطان غير صالح قوة للشيخ والجاهل
والرعية، غاية الأمر أن يكون ما يطلق عليه قابلا للخروج عن ذلك العنوان إلى
العنوان الآخر، وأين ذلك من صلاحية اللفظة المأخوذة في الحد.
ثالثها: أنه ينتقض بالعشرة ونحوها من أسماء العدد إن أريد مفاهيمها.
ويدفعه: أن أسامي الأعداد صالحة لما لا تحصى ولا يراد منها بالفعل إلا
مصداق واحد من مصاديقها إلا إذا اقترنت بما يفيد عمومها كقولك كل عشرة
وحينئذ يندرج في العام.
رابعها: أنه إن أريد بموارده الجزئيات المندرجة تحته انتقض بالجمع المحلى،
فإنه إنما يتناول أجزاءه دون جزئياته من مراتب الجموع. وإن أريد ما يعم ذلك
والأجزاء اندرج فيه أسماء الأعداد، فإنها وإن لم يتناول جزئياتها إلا أنها متناولة
فعلا لما يصلح له من أجزائها. ويمكن دفعه بما سيجئ الإشارة إليه.
سادسها: ما اختاره شيخنا البهائي من " أنه اللفظ الموضوع لاستغراق أجزائه
أو جزئياته " ويرد عليه تارة: أن عدة من ألفاظ العموم ليست موضوعة لاستغراق
أجزائها أو جزئياتها وإنما يفيد العموم ظهورا أو من جهة الالتزام كما هو الحال في
الجمع المحلى باللام والنكرة في سياق النفي - حسب ما يأتي الكلام فيها إن شاء
الله - وتارة: أنهم عدوا لفظة كل من ألفاظ العموم وليس كل من الجزئيات جزءا
من الكل الاستغراقي ولا جزئيا له، ولو جعل لفظة كل أداة للعموم وعد مدخوله
عاما فهو خارج عن الحد أيضا لعدم وضعه للاستغراق. وأخرى: أنه يندرج فيه
العام المخصوص والمستعمل في غير العموم من جهة المبالغة وغيرها لصدق الحد
عليه مع عدم اندراجه إذن في العام هذا. ولهم أيضا حدود غير ذلك مذكورة في
كلامهم لا طائل في ذكرها وبيان ما يرد عليها. والذي ينبغي أن يقال في المقام أن
العموم يكون على وجوه:
أحدها: أن يكون استغراقيا بأن يراد بالعام جميع ما اندرج فيه على وجه
يكون كل واحد منها مناطا للحكم المتعلق بالعام.
151

ثانيها: أن يكون مجموعيا بأن يراد بالعام جميع ما اندرج فيه على وجه يناط
الحكم بالمجموع، وعلى التقديرين فإما أن يكون شمول اللفظ ملحوظا بالنظر إلى
أجزائه أو جزئياته.
ثالثها: أن يكون بدليا بأن يكون جميع الجزئيات المندرجة تحت العام مرادا
من اللفظ في الجملة لكن على وجه يناط الحكم بواحد منها على سبيل البدلية.
وهذه الوجوه الثلاثة مشتركة في الدلالة على الاستغراق، وملاحظة الآحاد
المندرجة تحت العام اندراج الجزئي تحت الكلي أو الجزء تحت الكل إلا أنه
يلحظ تلك الآحاد تارة على نحو يكون الحكم منوطا بكل منها وتارة على نحو
يكون منوطا بالمجموع وأخرى على نحو يكون منوطا بواحد منها. وحينئذ فنقول
إن العام هو اللفظ المستغرق لما اندرج تحته من الأجزاء أو الجزئيات فلا يندرج
فيه نحو العشرة إذ ليس كل من الآحاد ملحوظا فيها وإنما الملحوظ هناك هو
المجموع بما هو مجموع كما هو المفهوم من معنى العشرة، فالفرق بين العشرة
والعام المجموعي أن كلا من الآحاد ملحوظ في العام المجموعي بالملاحظة
الإجمالية إلا أن الحكم منوط بالمجموع بخلاف أسماء العدد، فإنه لا يلاحظ فيها
الكل بما هو كل، وأما الجمع المنكر فهو وإن لوحظ فيه الوحدة إلا أنه ليس
بمستغرق لآحادها.
وأما المثنى فهو وإن كان مستغرقا لما اندرج فيه على الوجه المفروض إلا أنه
ليس ما اندرج فيه مصداقا للجميع ليندرج في الحد. وأما العموم البدلي المفهوم من
الإطلاق - كما في أعتق رقبة - فليس من مدلول اللفظ إذ ليس مفاد اللفظ هناك
سوى فرد ما وهو معنى صادق على كل من الآحاد فليس كل من الآحاد هناك
مدلولا للفظ أصلا.
واعلم أنهم اختلفوا في أن العموم هل هو من عوارض الألفاظ خاصة أو
المعاني أيضا بعد أن حكي الاتفاق على كونه من عوارض الألفاظ - كما في النهاية
والمنية وكشف الرموز - على أقوال:
152

أحدها: أنه من عوارض الألفاظ ولا يطلق العام إلا عليها وإطلاقها على
المعاني مجاز، وحكي عن جماعة من الخاصة والعامة كالسيد وظاهر الفاضلين
والشهيد وشيخنا البهائي وأبي الحسين البصري والغزالي والبيضاوي وعزي ذلك
إلى الأكثر بل حكي عن البعض المنع من إطلاقه في غير الألفاظ حقيقة ومجازا.
ثانيها: أنه حقيقة في المعنى الأعم من الأمرين وحكي عن جماعة منهم
القاضي والعضدي.
ثالثها: أنه مشترك لفظي بين الأمرين ذهب إليه الشيخ في ظاهر العدة وحكاه
عن قوم من الأصوليين.
حجة القول الأول وجوه:
الأول: أنه حقيقة في شمول الألفاظ اتفاقا، حكاه الجماعة المذكورون فيكون
مجازا في غيره دفعا للاشتراك.
الثاني: أنه المتبادر منه عند الإطلاق، وهو علامة الحقيقة وعدمه علامة
المجاز.
الثالث: أنه لو كان حقيقة لاطرد فيقال عم الانسان وعم الجدار وعم البلد مع
أنه لا يطلق معها، إلا أن يقال: إنه لا بد في الإطلاق من حصول معناه على الوجه
المذكور المأخوذ في التسمية وهو غير حاصل في تلك الموارد ولذا قيل
باختصاصه بالمعاني العرضية وهو مطرد فيه فيكون علامة على الحقيقة.
حجة الثاني: الأصل لإطلاقه على الأمرين فيكون حقيقة في القدر المشترك
دفعا للاشتراك والمجاز وأن العموم لغة الشمول وهو حاصل في المقامين.
وحجة الثالث: أنه اشتمل على الوجهين فيكون حقيقة في الأمرين.
قلت: لا يخفى أن محل النزاع في هذه المسألة غير منقح في كلامهم بل
الخلاف فيه غير متصور، فإن العموم قد يطلق على شمول شئ لأشياء في حصوله
لها فيكون المشمول مباينا للشامل - كما في عموم المطر للأراضي وعموم الخصب
للبلاد وعموم الجود للأشخاص وعموم الحاجة للممكنات - وقد يطلق على
153

عمومه في الصدق عليها - كما هو الحال في عموم المفاهيم الكلية كالإنسان
والحيوان لمصاديقها - وهذا هو العموم الملحوظ عند أهل المعقول، وقد يدرج
ذلك في المعنى الأول على أن يراد به شمول شئ لأشياء إما صدقا أو حصولا،
وقد يطلق على شمول اللفظ في الدلالة لجميع جزئيات مدلوله أو أجزائه - حسب
ما مر - فإن كان الكلام في تعيين مفاد العموم بحسب اللغة فمن الواضح الذي لا
مجال للريب فيه كونه في اللغة بمعنى الشمول الصادق على الوجه الأول على نحو
الحقيقة ولذا يصح الحكم بالعموم في تلك الموارد بحسب الإطلاقات العرفية على
سبيل الحقيقة من غير ريبة، ولا يبعد القول بشموله للمعنى الثاني لشمول تلك
المعاني لجزئياتها فالملحوظ في تلك المفاهيم والكليات عند أهل المعقول نحو
من الشمول اللغوي إلا أنه على حسب ما اعتبروا من شمول المفهوم لجزئياته يعم
المعاني وهو حينئذ لا يصدق على شمول اللفظ للمعنى قطعا. وقد يورد في المقام:
بأن شمول المطر للأماكن وشمول الخصب للبلاد وشمول الموت للأشخاص
ونحوها ليس من حقيقة الشمول، فإن كل فرد منها يختص شخصا ومحلا فليس
ذلك من حقيقة الشمول فيكون الإطلاق مجازا. وهو واضح الفساد، إذ ليس
المقصود شمول الخصوصيات والأفراد بل المدعى شمول الكلي والقدر الجامع
بينها للجميع وهو حاصل قطعا، وحينئذ فهذا المعنى غير حاصل بالنسبة إلى
الألفاظ إذ لا حصول للألفاظ بالنسبة إلى معانيها.
نعم يتم ذلك بالنسبة إلى ملاحظة دلالتها عليها لشمول الدلالة حصولا بالنسبة
إلى الكل وإن كان الكلام في العموم الاصطلاحي أعني استغراق اللفظ في دلالته
على حسب ما مر، فمن الواضح أنه يخص الألفاظ ولا يثبت للمعاني فإن استغراق
دلالة اللفظ على جزئيات مدلوله أو أجزائه كما هو المصطلح لا يعقل انفكاكه من
اللفظ ولا يمكن إثباته للمعاني قطعا، وكون الاستغراق في الحقيقة وصفا للدلالة
وهي غير اللفظ لا يقضي بكون استغراق دلالة اللفظ وصفا لغير اللفظ وهو ظاهر،
فليس هناك معنى يصح وقوع النزاع فيه، فيمكن أن يعود النزاع هنا لفظيا كما نبه
154

عليه بعض الأعلام قائلا " إنه إن أريد بالعموم استغراق اللفظ لمسمياته على ما هو
مصطلح أهل الأصول فهو من عوارض الألفاظ خاصة، وإن أريد شمول أمر
لمتعدد عم الألفاظ والمعاني، وإن أريد شمول مفهوم لأفراد كما هو مصطلح أهل
الاستدلال اختص بالمعاني " وقد يقال: إن شمول اللفظ لمسميات معناه نحو من
الشمول اللغوي فالنسبة بينه وبين اللغوي من قبيل العموم والخصوص، وحينئذ
فيمكن تقرير النزاع في أن الشمول على ما هو مفاد العموم لغة هل يختص بمعناه
الاصطلاحي فيكون من عوارض الألفاظ خاصة أو أنه يعم غيره أيضا؟ وحينئذ
يبتني الخلاف على أن المعاني الذهنية هل هي أمور موجودة في الأذهان أو لا؟
فعلى الأول يتصف بالعموم قطعا وعلى الثاني لا يعقل العموم في غير الألفاظ على
الوجه المذكور، إذ لا يتصور عموم الشئ الخارجي لأشياء متعددة، ألا ترى أن
المطر والخصب لا عموم في الموجود منهما في الخارج، إذ الموجود منهما في كل
مكان غير الموجود في الآخر. فالعموم إنما يتصور للكلي الجامع بينها وهو مفهوم
ذهني لا وجود له عند الجماعة.
قال العضدي: إن الإطلاق اللغوي أمره سهل إنما النزاع في واحد متعلق
بمتعدد، وذلك لا يتصور في الأعيان الخارجية إنما يتصور في المعاني الذهنية
والأصوليون ينكرون وجودها. فكأنه أراد بذلك أن العموم والشمول بمعناه
اللغوي مما لا يتصف به شئ من المعاني على سبيل الحقيقة إذ المراد بها الأعيان
الخارجية وهي لا يعقل اتصافها بشمول، وإن أريد بها المعاني الذهنية فهي غير
موجودة عندهم فكيف يتصف بالشمول فيكون النزاع حينئذ في أمر عقلي لا
لفظي. والظاهر أنه لا يساعده ظاهر أدلتهم المذكورة على أن ما ذكره من امتناع
شمول الواحد للمتعدد في الأعيان الخارجية غير متجه، لإمكان شمول المكان
لمتمكنات عديدة وكذا شمول الظرف لمظروفات شتى، وشمول الخباء لأشخاص
كثيرين، وهكذا، وليس ذلك خارجا عن معناه الحقيقي له.
قوله: * (ان للعموم في لغة العرب صيغة تخصه... الخ) *.
قد يقال: إن الظاهر أن المراد بالعموم هنا هو العموم المصطلح - أعني استغراق
155

اللفظ لجميع ما يصلح له - وحينئذ فالقول بأن هنا صيغة تدل على ذلك غير ظاهر،
فإن ما يفيده اللفظ هو عموم المعنى لا عموم اللفظ، وحمل العموم في المقام على
إرادة شمول المعنى بعيد، إذ مع خروجه عن ظاهر الاصطلاح لا يقول الأكثر
باتصاف المعاني به إلا على سبيل المجاز - كما عرفت - وأيضا فالظاهر كون
الخلاف في وضع اللفظ بإزاء العموم حسب ما يعطيه ملاحظة أدلتهم وليست
الألفاظ المذكورة موضوعة بإزاء العموم وإنما العموم كيفية ملحوظة في معانيها.
قلت: لا مانع من أن يراد بالعموم في المقام معناه المصطلح، فإن المراد أنه هل
للعموم بالمعنى المذكور صيغة تدل عليه - بأن يكون ذلك اللفظ دالا على استغراقه
لما يصلح له - فلا منافاة في التعبير المذكور لما هو المقصود، فإنه إذا دل اللفظ على
الاستغراق لما يصلح له صح أن يقال باستغراق ذلك اللفظ لما يصلح له، وان ذلك
الاستغراق مدلوله بحسب الوضع وإن لم يكن الاستغراق المذكور عين الموضوع
له، فليس المراد بكون الصيغة مختصة بالعموم أن يكون العموم تمام معناه
الموضوع له بل المراد به أن لا يكون مشتركا بينه وبين غيره ولا مختصا بالغير.
ثم لا يخفى أن التعبير المذكور يعم ما لو كان اللفظ المفروض موضوعا للعموم
أو يكون العموم من لوازم معناه - كما هو الحال في النكرة في سياق النفي على ما
هو المختار - فإن الاختصاص قابل للوجهين إلا أن الظاهر أن مقصودهم بذلك هو
الوضع له بخصوصه حسب ما يستفاد من ملاحظة أدلتهم.
ثم اعلم أن الألفاظ الدالة على العموم قد تكون هي بنفسها عامة فتكون دالة
على معانيها على سبيل العموم والشمول، وقد يكون اللفظ دالا على العموم لكن
ذلك العموم لم يكن وضعا لمعناه بل لمعنى آخر فيكون العام هو اللفظ الدال على
ذلك المعنى وتكون إرادة العموم من اللفظ الأول باعثا على عموم ذلك اللفظ - كما
في لفظ كل ونظائره - فإن العام إنما هو مدخوله وهو أداة العمومية وحينئذ
فالموضوع للعموم إنما هو الأداة المذكور دون اللفظ الآخر، فمحل الخلاف في
المقام هو ما يعم الوجهين ولذا عدوا لفظة " كل " ونظائره من ألفاظ العموم.
* * *
156

معالم الدين:
أصل
الجمع المعرف بالأداة يفيد العموم حيث لا عهد. ولا نعرف في ذلك
مخالفا من الأصحاب. ومحققوا مخالفينا على هذا أيضا. وربما خالف
في ذلك بعض من لا يعتد به منهم، وهو شاذ ضعيف، لا التفات إليه.
وأما المفرد المعرف، فذهب جمع من الناس إلى أنه يفيد العموم.
وعزاه المحقق إلى الشيخ. وقال قوم بعدم إفادته، واختاره المحقق
والعلامة، وهو الأقرب. لنا: عدم تبادر العموم منه إلى الفهم، وأنه لو عم
لجاز الاستثناء منه مطردا، وهو منتف قطعا.
احتجوا بوجهين، أحدهما: جواز وصفه بالجمع، فيما حكاه
البعض من قولهم: " أهلك الناس الدرهم البيض والدينار الصفر ".
الثاني: صحة الاستثناء منه، كما في قوله تعالى: " ان الانسان لفي
خسر إلا الذين آمنوا ".
وأجيب عن الأول: بالمنع من دلالته على العموم، وذلك لأن
مدلول العام كل فرد، ومدلول الجمع مجموع الأفراد، وبينهما بون بعيد.
وعن الثاني: بأنه مجاز، لعدم الاطراد.
وفي الجواب عن كلا الوجهين نظر:
أما الأول، فلأنه مبني على أن عموم الجمع ليس كعموم المفرد،
وهو خلاف التحقيق، كما قرر في موضعه.
157

وأما الثاني، فلأن الظاهر: أنه لا مجال لإنكار إفادة المفرد المعرف
العموم في بعض الموارد حقيقة، كيف ودلالة أداة التعريف على الاستغراق
حقيقة وكونه أحد معانيها، مما لا يظهر فيه خلاف بينهم، فالكلام حينئذ
إنما هو في دلالته على العموم مطلقا، بحيث لو استعمل في غيره كان
مجازا، على حد صيغ العموم التي هذا شأنها. ومن البين: أن هذه الحجة
لا تنهض بإثبات ذلك، بل إنما تثبت المعنى الأول الذي لا نزاع فيه.
فائدة مهمة:
حيث علمت أن الغرض من نفي دلالة المفرد المعرف على العموم،
كونه ليس على حد الصيغ الموضوعة لذلك، لا عدم إفادته إياه مطلقا،
فاعلم: أن القرينة الحالية قائمة في الأحكام الشرعية غالبا، على إرادة
العموم منه، حيث لا عهد خارجي، كما في قوله تعالى: " وأحل الله البيع
وحرم الربا " وقوله (عليه السلام): " إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ "، ونظائره،
ووجه قيام القرينة على ذلك امتناع إرادة الماهية والحقيقة، إذ الأحكام
الشرعية إنما تجري على الكليات باعتبار وجودها، كما علم آنفا.
وحينئذ، فإما أن يراد الوجود الحاصل بجميع الأفراد أو ببعض
غير معين. لكن إرادة البعض ينافي الحكمة، إذ لا معنى لتحليل بيع من
البيوع، وتحريم فرد من الربا، وعدم تنجيس مقدار الكر من بعض
الماء، إلى غير ذلك من موارد استعماله في الكتاب والسنة، فتعين في
هذا كله إرادة الجميع، وهو معنى العموم.
ولم أر أحدا تنبه لذلك من متقدمي الأصحاب، سوى المحقق -
قدس الله نفسه - فإنه قال في آخر هذا البحث: " ولو قيل: إذا لم يكن ثم
معهود، وصدر من حكيم، فإن ذلك قرينة حالية تدل على الاستغراق،
لم ينكر ذلك ".
158

قوله: * (الجمع المعرف بالأداة) *.
لا خلاف بينهم - على ما نص عليه غير واحد منهم - في إفادة الجمع المحلى
باللام للعموم حيث لا عهد، ويشهد لذلك بعد اتفاقهم عليه ملاحظة العرف
والإطلاقات. فالمسألة ظاهرة إلا أن هناك تأملا في أمور:
أحدها: أن دلالته على العموم هل هي من جهة وضعه له بخصوصه أو أنه
يفيده من جهة أخرى؟ وعلى الأول فالموضوع للعموم هل هو المجموع المركب
أو أن اللام هي الموضوعة لإفادته فتكون أداة للعموم.
ثانيها: أن تقييدهم إفادته العموم بما إذا لم يكن عهد هل هو من جهة اشتراط
الواضع ذلك في وضعه للعموم فيكون له وضعان في حالتين أو من جهة كونه قرينة
صارفة عن العموم فاعتبروا عدمه؟ وعلى كل من التقديرين فلا يخلو الكلام عن
الإشكال، إذ الأول كأنه عديم النظير في الأوضاع اللغوية، وعلى الثاني أي وجه
لتخصيص القرينة المذكورة من بين القرائن الصارفة؟
ثالثها: أن المراد بانتفاء العهد أن لا يكون هناك عهد معلوم أو ما يعمه
والمظنون أو ما يعمهما والمحتمل، وسنبين لك حقيقة الحال في ذلك كله
إن شاء الله.
واختلفوا في إفادة المفرد المحلى باللام لذلك: فعن المحقق والشهيد الثاني
عدم دلالته على العموم وهو المحكي عن أبي هاشم وجماعة من المحققين وعزي
إلى أكثر البيانيين والأصوليين وعن الشيخ في العدة وشيخنا البهائي عدم دلالته
على العموم وحكي ذلك عن المبرد والشافعي وأبي علي الجبائي والحاجبي
والبيضاوي وعزاه في التمهيد إلى جماعة من الأصوليين وجعله المعروف من
مذهب البيانيين. وحكاه الآمدي عن الأكثرين ونقله الرازي عن الفقهاء.
والحق أنه عند التجرد عن القرائن لا يفيد العموم وإن لم تكن إرادة
الاستغراق منه خروجا عن مقتضى وضعه واستعمالا له في غير ما وضع له.
وتحقيق الكلام في المرام يحصل برسم مقامات:
159

الأول
في بيان الجنس واسم الجنس أفراديا وجميعا
وعلم الجنس والمعرف بلام الجنس وغيرها
والنكرة والجمع واسم الجمع
فنقول: أما الجنس فهو اسم الماهية الكلية المأخوذة لا بشرط شئ من
القيودات الزائدة عليها. والمراد بالماهية المأخوذة في الحد هو الكلي الذي دل
عليه جوهر الكلمة مع قطع النظر عن لواحقه، فمفهوم الواحد جنس وإن كانت
الوحدة ملحوظة فيه، إذ ليست قيدا زائدا عليه وإنما لوحظ المجموع (1) باعتبار
واحد، وفي المثنى والمجموع لحاظان فبملاحظة المفرد فيهما مع اعتبار التثنية
والجمعية معه لا يعدان من الجنس، وبملاحظة التثنية والجمع بأنفسهما يمكن
عدهما من الجنس، إذ جنس التثنية والجمع أيضا من الأجناس.
وقد ظهر بما ذكرنا: أن أسماء الإشارة ليست من أسماء الأجناس بناء على ما
هو التحقيق من وضعها لخصوصيات الجزئيات، وكذا الحال في الجمع بالنسبة إلى
معنى الجمعية لو قلنا بأن لفظ الجمع موضوع لكل واحد من مراتب الجمع بالوضع
العام ليكون وضعه عاما والموضوع له خاصا، ولا ينافي ذلك ملاحظة الجنسية
بالنسبة إلى كل واحد من المراتب فلا ينافي ما قدمناه فتأمل.
قال بعض الأفاضل: لا اختصاص لجنسيته بالمفردات بل قد يحصل للجمع لا
بمعنى أن المراد من الجمع هو الجنس الموجود في ضمن جماعة بل بمعنى أن
الجماعة أيضا مفهوم كلي، فيقال: إن لفظة رجال مع قطع النظر عن اللام والتنوين
موضوعة لما فوق الاثنين وهو يشمل الثلاثة والأربعة وجميع رجال العالم انتهى
ملخصا.
أقول: ما ذكره من وضع الجمع للمعنى الشامل لمراتبه ليكون الموضوع له فيه

(1) خ ل: المفهوم.
160

أيضا عاما محل تأمل. والظاهر أن صيغ الجموع موضوعة لنفس آحاد ما فوق
الاثنين من مصاديق الجماعة لا أن نفس مفهوم الجماعة ما وضعت لها، فإذا
دخلت عليها لام الجنس كانت اللام فيها إشارة إلى مطلق الجنس الحاصل في
ضمن الأفراد، فتارة لا يلاحظ وجوده في ضمن المتعدد بل يكون الملحوظ مجرد
الماهية فيكون مفاده كالمفرد المعرف به، كما تقول: فلان يركب الخيل أو لا أتزوج
النساء، فإنه ليس المراد ركوبه لما زاد على الدابتين أو عدم تزويج ما زاد على
الاثنتين منهن ولا مجاز في لفظ الجمع كما توهم على ما سنبينه إن شاء الله تعالى.
وتارة يلحظ الجنس من حيث وجوده فيما زاد على الاثنين وإرادة جنس
الجماعة المفهوم من الجمع وإن أمكن إلا أنه كأنه بعيد عن اللفظ فظهر بذلك ما في
كلامه - زيد في إكرامه - فلا تغفل.
واسم الجنس عبارة عن اللفظ الموضوع لتلك الماهية المطلقة من دون
ملاحظة الأفراد والتعدد على ما هو ظاهر إطلاقاتهم فليس المثنى والمجموع من
اسم الجنس وإن أشير بهما إلى الجنس - كما في لا أتزوج الثيبات فيما أشرنا إليه -
وقد صرح بوضع أسماء الأجناس للماهية المطلقة غير واحد من محققي أهل
العربية - كنجم الأئمة والأزهري - وهو ظاهر التفتازاني في مطوله. وذهب بعضهم
إلى وضعه للفرد المنتشر - كالنكرة - والأول هو الأظهر، لتبادر نفس الجنس عند
سماعه مجردا عن اللواحق الطارئة، ولأنه المفهوم منه عند دخول اللام عليه أو
" لا " التي لنفي الجنس، ولو كان موضوعا للفرد المنتشر لكان مجازا أو موضوعا
هناك بالوضع الجديد. وكلاهما في غاية البعد، إذ لا وجه لالتزام التجوز في مثله
مع كثرته وعدم خروجه عن الظاهر - كما يظهر بالتأمل في الإطلاقات - والقول
باختصاص وضعه بتلك الحال كأنه خروج عن ظاهر الطريقة في الأوضاع، ولا
يرد ذلك في النكرة نظرا إلى كونها حقيقة في الفرد المنتشر، إذ يمكن أن يقال بكون
نفس اللفظ فيها دالا على الجنس والتنوين على الخصوصية. فوضعه للجنس
المطلق لا ينافي إطلاقه على الفرد مع دلالة شئ آخر على إرادة الخصوصية
161

بخلاف ما لو قيل بوضعه للفرد، إذ لا يمكن إرادة الجنس منه إذن على الحقيقة.
فظهر بما بينا أن النكرة دالة على الفرد المنتشر لا بوضع واحد بل بوضعين،
فإن نفس اللفظ تدل على الجنس المطلق والتنوين اللاحق له على كون ذلك
الجنس في ضمن فرد، فيدل مجموع الاسم والتنوين على الفرد المنتشر، وهذا هو
المراد بكون النكرة حقيقة في الفرد المنتشر لا بمعنى أنها موضوعة للفرد المنتشر
بوضع مخصوص فلا تغفل.
ومن هنا يظهر مؤيدا آخر لما ذكرناه من وضع أسماء الأجناس للماهيات
المطلقة فإنها القابلة لاعتبار ما يدل عليه الطوارئ الطارئة على اللفظ من اللام
والتنوين وعلامتي التثنية والجمع من الخصوصيات، فإنه إذا دل مجرد اللفظ على
المعنى المطلق صح تقييده بتلك القيود بخلاف ما لو قلنا بوضعها للفرد.
والمعرف بلام الجنس هو ما دخل عليه لام الجنس وهي التي يشار بها إلى
الجنس فتفيد تعريف الجنس والإشارة إليه، فنفس اللفظ وإن دل على الجنس إلا
أنه لا يفيد تعريفه والإشارة إليه من حيث إنه معين بل إنما يدل عليه مطلقا، وإنما
يستفاد التعيين من اللام الداخلة عليه. فما ذكره نجم الأئمة " من أن هذه الفائدة
مما يقوم بها نفس الاسم المجرد عن اللام فالحق أن تعريف اللام في مثله لفظي "
ليس على ما ينبغي وسيظهر لك حقيقة الحال.
وعلم الجنس ما وضع للجنس بملاحظة حضوره وتعينه في الذهن، فمدلوله
كمدلول المعرف بلام الجنس ولذا كانا من المعارف، ومجرد اسم الجنس وإن دل
على الماهية - كما مر - إلا أن مدلوله لم يتقيد بشرط الحضور.
فإن قلت: إن اللفظ إشارة إلى معناه فلا يكون مدلوله إلا حاضرا في الذهن
فما الفارق بين الأمرين.
قلت: فرق ظاهر بين حصول الصفة للشئ واعتباره معه، فالماهية إذا اخذت
مطلقة كانت منكرة، لعدم ملاحظة التعيين معها فلفظ أسد يدل على الماهية
المعروفة من غير تقييدها بالحضور في الذهن، وإن لزمها الحضور عند دلالة اللفظ
162

عليها فهو دال على الماهية المطلقة والحضور في الذهن من لوازم الدلالة، ولفظة
" أسامة " موضوعة للماهية الحاضرة في الذهن فالحضور والتشخص في الذهن
مأخوذ في وضعها.
وبتقرير أوضح: قد يوضع اللفظ للماهية الخارجية سواء حصل عند العقل أو
لا لكن دلالة اللفظ عليها يستلزم حصولها فيه حال الدلالة فليس خصوص المقيدة
بالحصول هو الموضوع له.
وقد يوضع للماهية المقيدة بالحصول في الذهن فالحصول بالفعل فيه قيد
للوضع مأخوذ فيه وليس ما عداه من موضوع اللفظ، فالأول هو حال الوضع في
اسم الجنس والثاني هو الحال في علم الجنس والمعرف بلام الجنس والعهد
الذهني. فظهر بذلك ما في كلام نجم الأئمة حيث بنى على أن التعريف في اللام
لفظي في الجنس والاستغراق والعهد الذهني وأن اللام المفيدة للتعريف حقيقة هي
التي للعهد الخارجي لا غير، وبنى أيضا على أن التعريف في علم الجنس من قبيل
التعريف اللفظي، قال - بعد توجيه كلامهم في جعل الأعلام الجنسية من المعرف
الحقيقي - أقول: إذا كان لنا تأنيث لفظي كغرفة وبشرى ونسبة لفظية نحو كرسي فلا
بأس أن يكون لنا تعريف لفظي إما باللام - كما ذكرنا قبل - وإما بالعلمية كما في
أسامة، انتهى. فعلى هذا لا فرق بين اسم الجنس وعلم الجنس في المعنى وكذا بينه
وبين المعرف بلام الجنس وإنما الفرق بينهما في الأمور اللفظية.
قلت: وتنقيح المرام يتم ببيان معنى التعريف في المقام، فنقول: إن التعريف هو
تعيين الشئ وإحضاره في الذهن من حيث كونه معينا إما في الخارج أو في
الذهن، فلا منافاة بين الكلية والتعريف، إذ الكلي متعين في الذهن فإن أريد من
حيث تعيينه فيه كان معرفة وإلا كان نكرة، فلفظ انسان مع قطع النظر عن لواحقه
العارضة له نكرة، لدلالتها على الطبيعة المطلقة، وكذا لو لحقها التنوين بل يزيده
تنكيرا إذا كان تنوين التنكير، ولو لحقه لام التعريف كانت إشارة إلى الطبيعة
الحاضرة في الذهن، إذ بنفس لفظة " الانسان " تحضر الماهية المخصوصة في الذهن
163

فيشار باللام إليها، فيكون لفظة " الانسان " معرفا إشارة إلى الشئ المعين فيكون
معرفة. فتبين إذن فرق بين بين انسان والإنسان وأسد وأسامة وإن كان اللفظ
إشارة إلى المعنى فيهما، إلا أن الأول إشارة إلى المعنى مع عدم تعينه فيتعين بتلك
الإشارة والثاني إشارة إلى المعنى المتعين قبل تلك الإشارة فتأمل.
ومما ذكرنا ظهر الوجه في كون الضمائر العائدة إلى النكرات معرفة، وذلك
لتعين معانيها في الذهن وإرادة ذلك المعين من ضمائرها كما هو الحال في المعهود
الذكري إذا كان نكرة كما في قوله تعالى * (إلى فرعون رسولا فعصى فرعون
الرسول) * (1) وبالجملة المعرفة ما دل على معنى معين وذلك التعين إما أن يكون
لتعين المعنى بذاته - كما في الأعلام الشخصية - أو لضم ما يعينه كذلك، إما في
الخارج - كما في الضمائر الراجعة إلى النكرات المعينة بحسب الواقع وأسماء
الإشارة إذا أشير بها إليها - فإن تقدم المرجع وخصوصية الإشارة بها قاض بتعين
معانيها، أو في الذهن - كما في المعرف بلام الجنس - ونحوه علم الجنس لوضعه
للماهية الحاضرة في الذهن - كما مر - وهي بهذه الحيثية معينة مشخصة فيه
ويجري القسمان الأخيران في الموصولات والمضاف إلى المعرفة. فما ذكره (رحمه الله)
من " أن التعريف في المعرف بلام الجنس وغيره مما مر لفظي " ليس على ما ينبغي،
لما عرفت من ظهور الفرق بين الماهية المرسلة والمقيدة بالحضور في الذهن،
كيف! ولولا ذلك لجرى ما ذكره في الموصولات والضمائر وأسماء الإشارة
والمضاف إلى المعارف. والقول بنفي التعريف عن جميع ذلك حينئذ خروج عن
كلام القوم، بل نقول بجريان ما ذكره في المعرف بلام العهد أيضا إذا كان المعهود
كليا - كما في قولك أكرم رجلا وليكن الرجل عالما - إذ ليس التعريف هناك إلا من
جهة كونه إشارة إلى المعنى الحاضر بالبال المتقدم في الذكر، فلا تعين له إلا من
الجهة المذكورة وهي بعينها جارية في جميع المذكورات.
وقد اعترف (رحمه الله) بكون اللام في العهد الخارجي مفيدا للتعريف على الحقيقة

(1) المزمل: 73.
164

والعهد الذكري من أوضح صوره هذا. وقد ظهر بما قررنا أنه ليس التعريف في
الاستغراق إلا من الجهة المذكورة دون تعين معناه بحسب الواقع من جهة استغراقه
لجميع الآحاد، إذ لو كان ذلك باعثا على التعريف لجرى في غيره من - نحو كل
رجل وكل عالم - ولا يتوهم أحد اندراجه في المعرفة، إذ لا تعين له بأحد الوجوه
الثلاثة المذكورة فلا تغفل.
فإن قلت: على ما ذكرت يكون أسامة والأسد اسمين للصورة الذهنية
الحاصلة في العقل فإطلاقهما على الفرد يكون مجازا، وعن الحاجبي أن أعلام
الأجناس وضعت أعلاما للحقائق الذهنية كما أشير باللام في نحو اشتر اللحم إلى
الحقيقة الذهنية فكل واحد من هذه الأعلام موضوع لحقيقة في الذهن متحدة فهو
إذن غير متناول غيرها وضعا، وإذا أطلق على فرد من الأفراد الخارجية - نحو هذا
أسامة مقبلا - فليس ذلك بالوضع بل لمطابقة الحقيقة الذهنية لكل فرد خارجي
مطابقة كل كلي عقلي لجزئياته الخارجية.
قال نجم الأئمة: ولم يصرح المصنف بكون استعماله في الفرد الخارجي
مجازا ولا بد من كونه مجازا على مذهبه قال: وكذا ينبغي عنده أن لا يقع أسامة
على الجنس المستغرق خارجا فلا يقال: إن أسامة كذا إلا الأسد الفلاني، لأن
الحقيقة الذهنية ليس فيها معنى الاستغراق كما ليس فيها التعيين انتهى.
ويظهر منه بعد ذلك إسناده الوجه المذكور إلى النحاة وإلزامه عليهم ما ألزمه
على الحاجبي. ولا يخفى عليك أن التزام ذلك في غاية البعد، إذ المحتاج إليه في
غالب الاستعمالات هو الحكم على الأفراد الخارجية والإخبار عنها وبيان
أحوالها فيلزم التجوز في غالب استعمالاتها وهو في غاية البعد، بل لا وجه للقول
به، فيلزم من فساد اللازم المذكور بطلان ملزومه، وهو ما ذكر في معنى المعرف
بلام الجنس والأعلام الجنسية.
قلت: لا يلزم على ما ذكرنا أن يكون أعلام الأجناس ونحوها أسامي للصور
الذهنية، بل نقول إنها أسامي للأمور الخارجية من حيث كونها متصورات عند
165

العقل حاضرات لديه فإن لفظة " الأسد " مع قطع النظر عن اللام إشارة إلى الجنس
الخارجي على ما هو التحقيق من وضع الألفاظ للمعاني الخارجية دون الصور
الذهنية فبتكلمنا بنفس اللفظ تحضر الماهية الخارجية في الذهن، واللام - كما
يأتي بيانه - للإشارة فيكون المعرف بها إشارة إلى الطبيعة الخارجية الحاضرة في
الذهن وهو ما أردناه، وكذا الحال في أعلام الأجناس بل وكثير من المعارف، ألا
ترى أن المعهود الذكري اسم للشئ الخارجي من حيث معهوديته في الذكر
وحضوره عند العقل فهو مع كونه إشارة إلى الشئ الحاضر عند العقل اسم للشئ
الموجود في الخارج فتبين عدم المنافاة بين الأمرين فعلى هذا لا يلزم من
استعماله في الأمر الخارجي مجاز في الاستعمال في شئ مما ذكر. وما ذكره
المحقق الاسترآبادي مبني على القول بكونه اسما لنفس الحقيقة الذهنية كما
يتراءى من المنقول من كلام الحاجبي، وهو خلاف التحقيق وقد يؤول كلامه بما
ذكرناه فلا تغفل.
هذا وقد عرفت مما بيناه تحقيق الحال فيما مر من المفرد المعرف بلام الجنس
وأعلام الجنسية وأنه لا فرق بينهما إلا في كون المفرد المعرف إشارة إلى الطبيعة
الحاضرة بواسطة اللام وعلم الجنس اسما لذلك. ولا يذهب عليك أن الفرق
المذكور يرجع إلى شيئين:
أحدهما: في كون الدال على الحضور في الذهن جوهر الكلمة في الثاني وفي
الأول أداة التعريف.
ثانيهما: أن في المعرف معنى الإشارة من جهة اللام بخلاف العلم فإنه اسم
للطبيعة الحاضرة فهناك تقييد في نفس تركيب في المعنى بخلافه. فما يظهر من
الفاضل السمرقندي من انحصار الفرق بينهما في الأول - حيث ذكر في الفرق
بينهما أن علم الجنس دل بجوهره على حضور الماهية في الذهن والمعرف
بواسطة اللام - ليس على ما ينبغي. وقد ظهر أيضا من البيان المذكور معنى النكرة
والفرق بينهما وبين كل من اسم الجنس وعلمه والمعرف بلامه، وكذا يتبين معنى
الجمع والفرق بينه وبين المذكورات.
166

وأما اسم الجمع فالظاهر أنه كالجمع في المعنى وإنما الفرق بينهما في أن
للجمع مفردا من لفظه بخلاف اسم الجمع، نعم لا يبعد أن يقال بكون الجمع اسما
لخصوص مراتبه - كما مر - وأما اسم الجمع فيحتمل القدر المشترك بين الجمع
فيكون الوضع والموضوع له فيه عامين.
وأما اسم الجنس الجمعي فهو كغيره من أسماء الأجناس فيكون موضوعا
لمطلق الجنس لكن الفرق بينهما أنه خص في الاستعمالات بما فوق الاثنين، فعدم
إطلاقه على الواحد والاثنين من جهة الاستعمال لا الوضع كذا ذكره نجم الأئمة
فتأمل.
أما المعرف بلام العهد والاستغراق فيتبين عند بيان معنى العهد والاستغراق
وسيظهر ذلك في المقام الآتي إن شاء الله.
المقام الثاني
في بيان معنى اللام
اعلم أن هناك معان استظهرت للأم لا بأس لو نقلناها ثم أتبعناها بما هو
التحقيق في المقام.
فنقول المعاني المذكورة لها ثلاثة: أحدها الجنسية وهي نوعان:
أحدها: أن تكون إشارة إلى الجنس من حيث هو من دون ملاحظة شئ من
خصوصيات الأفراد والجزئيات كما في قولهم " الرجل خير من المرأة " فإنه ليس
المراد بالرجل سوى ماهية الرجل من حيث هي ولذا لا دلالة فيه لفظا على خيرية
شئ من أفراده بالنسبة إلى أفراد المرأة، فيصدق الحكم المذكور ولو كان جميع
أفراد المرأة في الخارج خيرا من أفراد الرجل.
ثانيهما: أن يراد به الجنس لكن لا من حيث هو بل بملاحظة الفرد فيتعلق
الحكم فيه بالجنس من جهة حصوله في ضمن الفرد كما في قولك: " لا أتكلم
المرأة ولا أتزوج النساء ولا أشرب الماء إلى غير ذلك " فإن الحكم فيها لا يتعلق
167

بالجنس من حيث هو بل إنما تعلق به بملاحظة حصوله في الأفراد، فيثبت هناك
حكم الفرد كليا في النفي وجزئيا في الإثبات أو كليا أيضا فيما يأتي بيانه إن شاء
الله وكان الغالب في لام الجنس هو الثاني.
ثانيها: الاستغراق وهو أن يكون إشارة إلى جميع أفراد مدخوله وهو أيضا
قسمان: حقيقي وعرفي ويفسران بوجهين:
أحدهما: ما ذكره التفتازاني في مطوله وهو أنه إن كان المراد جميع أفراد
المفهوم من اللفظ حقيقة كان الاستغراق حقيقيا، كما في قوله تعالى * (وهو بكل
شئ عليم) * (1) فإن المراد من لفظة " الشئ " مطلق الشئ لغة. وإن كان المراد
جميع أفراد المفهوم منه عرفا في ذلك المقام كان الاستغراق عرفيا، كما في قولك:
جمع الأمير الصاغة، فإن المتبادر منه عرفا في خصوص المقام هو صاغة البلد أو
مملكة الأمير فيكون الاستغراق بالنسبة إلى ذلك المعنى لا ما وضع له.
وثانيهما: ما ذكره التفتازاني في شرح المفتاح وتبعه السيد الشريف وجعله
بعض المحققين أقرب إلى التحقيق وهو أن الشمول إن كان حقيقيا بأن لا يخرج
عنه شئ من أفراد متعلقه كان الاستغراق حقيقيا، وإن لم يكن شموله كذلك لكن
يعد في العرف شمولا كان الاستغراق عرفيا، فالاستغراق الحقيقي على المعنيين لا
اختلاف فيه. وأما العرفي فيختلف بملاحظة اختلاف العرف في المقامات على
التفسيرين، والفرق بين المعنيين أن الخروج من مقتضى الحقيقة اللغوية في
الاستغراق على الأول في مدخول الأفراد والاستغراق فيها على حد سواء وعلى
الثاني يكون الخروج في الاستغراق فيكون التصرف في نفس الأداة.
أقول: لا يخفى أن ملاحظة العرف في مدخول اللام في جعل الاستغراق عرفيا
مما لا يتم، إذ لو بني على ذلك لزم أن يكون جميع الألفاظ المستعملة في غير
معانيها اللغوية - مما استعملت في حقائقها العرفية أو مجازاتها اللغوية - إذا تعلقت
بها أداة الاستغراق من الاستغراق العرفي لا الحقيقي، وذلك ما لا يتوهمه أحد

(1) الحديد: 57.
168

منهم. فليس المناط في كون الاستغراق حقيقيا أو عرفيا كون مدخوله مستعملا في
حقيقته الأصلية أو فيما يفهم منه في العرف الطارئ مطلقا ولو بمعونة المقام، فتعين
البناء على الوجه الثاني في تعيين القسمين. فالاستغراق الحقيقي ما يكون شموله
حقيقيا، والعرفي ما كان الشمول فيه عرفيا. لكن لا يخفى عليك أن البناء على ما
ذكر يشكل أيضا بأن الشمول في قولك: " جمع الأمير الصاغة " ليس شمولا لجميع
أفراد الصاغة ليكون جمعه بجميع صياغ مملكته منزلا في العرف منزلة جمع جميع
صاغة العالم كما لا يخفى.
وكان التحقيق في المقام أن يقال باتحاد مدخول اللام في الحالين والمقصود
من أداة العموم الداخل على اللفظ هو الشمول والاستغراق فيهما، لكن قد يراد
منها الشمول لجميع أفراد مدخولها، وقد يراد بها الشمول لنوع خاص يساعد عليه
المقام أو العرف فالأول هو الحقيقي والثاني هو العرفي. فلا فرق بينهما بملاحظة
مدخول الأداة ولا في إرادة الشمول بها، وإنما الفرق بينهما في كيفية الشمول لا
غير. فتدبر جدا.
وثالثها: أن يكون للعهد أي الإشارة إلى المعهود وهو على ما فسره التفتازاني
أن يكون إشارة إلى حصة من الحقيقة معهودة بين المتكلم والمخاطب واحدا كان
أو اثنين أو جماعة، وعنه في التلويح تحديده اللام التي للعهد بما أشير إلى حصة
معينة من الحقيقة.
قلت: وتخصيص العهد بكونه إشارة إلى الحصة خلاف الظاهر، فإن المعهود قد
يكون جنسا بل وجميع الأفراد فإنه إذا تقدم ذكر الجنس أو جميع الأفراد ثم أشير
بالمعرف باللام إليه من حيث تقديمه في الذكر ومعهوديته عند المخاطب كان اللام
للعهد عند التحقيق.
فالحق التعميم في ذلك، ولذا فسره بدر الدين بما يعم الإشارة إلى الحصة
وغيرها حيث عرفه بأنه ما عهد مصحوبها بتقدم ذكر أو علم، وكذا أطلق المحقق
الاسترآبادي في تحديده. وكان الحامل له على التخصيص أن ملاحظة المعهودية
169

اعتبار زائد لا حاجة إليه مع إرادة الجنس أو الاستغراق، إذ يمكن الاهتداء إليهما
من دون ملاحظة كونهما معهودا بخلاف ما لو كان إشارة إلى الحصة إذ تعريف
الحصة المخصوصة إنما يكون بالعهد.
وأنت خبير: بأن ما ذكر إنما يفيد عدم لزوم اعتبار العهدية عند إرادتهما لا
عدم صحته لو اعتبرت. غاية الأمر أن لا يكون فائدة في اعتبارها على أنه يتصور
فيه بعض الفوائد أيضا كما لا يخفى.
ثم إن ما ذكره من تخصيص العهد بكونه بين المتكلم والمخاطب غير متجه
أيضا، إذ يكفي فيه المعهودية عند المخاطب إذا علم به المتكلم وإن لم يكن معهودا
بينهما. ولذا فسره نجم الأئمة بالتي عهد المخاطب مطلوب مصحوبها قبل ذكره
وهو ظاهر إطلاق العبارة المنقولة عن بدر الدين. وقد يقال: إن مراده بمعهوديته
بينهما مجرد علمهما به ولا يخفى بعده عن العبارة. ثم إن العهد قد يكون خارجيا،
كقولك: خرج الأمير وحكم القاضي، إذا لم يكن في البلد أميرا وقاضيا مشتهرا
غيره، وقد يكون ذكريا إما مصرحا به سابقا كقوله تعالى * (كما أرسلنا إلى فرعون
رسولا فعصى فرعون الرسول) * (1) أو مذكورا ضمنا وقد يعبر عنه بالعهد التقديري
كما في قوله تعالى * (وليس الذكر كالأنثى) * (2) فإن خصوص الذكر غير مذكور
سابقا لكن قولها * (نذرت لك ما في بطني محررا) * (3) يدل عليه بالالتزام، وقد
يكون حضوريا إما محسوسا كقولك لمن يشتم رجلا بحضرتك: لا تشتم الرجل،
أو غيره كما في قوله تعالى * (الآن وقد عصيت قبل) * (4) و * (اليوم أكملت لكم
دينكم) * (5) هذا واعلم أن الفرق بين كل من الجنس والاستغراق واضح لا خفاء
فيه. وقد يفرق بينهما وبين العهد بأن العهد إشارة إلى الحصة بخلاف الآخرين، فإن
أحدهما إشارة إلى نفس الطبيعة الحاضرة والآخر إلى جميع الأفراد. وفيه: ما قد

(1) المزمل: 15 و 16.
(2) آل عمران: 36.
(3) آل عمران: 35.
(4) يونس: 91.
(5) المائدة: 3.
170

عرفت من أن العهد قد يكون إشارة إلى نفس الطبيعة أو إلى جميع الأفراد. وقد
يفرق أيضا بأن العهد يتوقف على علم سابق بخلافهما. وفيه: أن العهد الحضوري لا
يتوقف على علم سابق، إذ هو إشارة إلى الحاضر حال التكلم كما أن اللام التي
للجنس إشارة إلى الماهية الحاضرة في الذهن بلا فارق بينهما إلا في كون الحضور
في أحدهما خارجيا والآخر ذهنيا. فالأظهر في بيان الفرق أن يقال: إن العهدية
يتوقف على أمر خارج عن مدلول اللفظ به يتحصل العهد من تقدم ذكر أو حضور
حال التكلم ونحوهما بخلاف الجنس والاستغراق إذ لا حاجة فيهما إلى ذلك، فإن
الأول إشارة إلى الطبيعة الحاضرة عند سماع مدخوله له، فيكون اللام إشارة إليه
من غير حاجة إلى ملاحظة أمر آخر غير مدخوله ونظيره القول في الاستغراق.
نعم قد يكون فهمه في بعض المقامات متوقفا على قيام دليل دال على عدم
إرادة الجنسية - كما في المفرد المعرف على ما يأتي - وليس ذلك مما يحصل به
الاستغراق وإنما هو صارف له عن إرادة الجنسية بخلاف العهد فإن قوامه بالمعرفة
الخارجية.
وقد ظهر مما قررناه عدم اندراج العهد الذهني في أفراد العهد، إذ الانتقال
هناك إلى الفرد ليس بسبب معهوديته وحصول العلم به خارجا عن تلك العبارة، بل
من جهة عدم صحة تعلق ذلك الحكم إلا بالجنس في ضمن بعض الأفراد خاصة
كما في قولك: أكلت اللحم وشربت الماء، وأكله الذئب، ومررت على اللئيم ونحو
ذلك، فإن الأمور المذكورة مما لا ربط لها بالطبيعة من حيث هي وإنما يتعلق بها
في ضمن الأفراد، ولا يراد في ضمن جميع الأفراد إما لعدم قابليتها لذلك - كما هو
ظاهر في كثير من أمثلته - أو لدلالة المقام على خلافه. والحاصل أن الانتقال إلى
الفرد إنما يكون من الجنس بتوسط القرينة القائمة في المقام، فاللام إشارة إلى
الجنس ويكون الفعل المتعلق به دالا على كون ذلك الجنس في ضمن بعض
الأفراد كما لا يخفى بعد التأمل في موارد استعماله.
وتوضيح المقام: أن المعرف بلام الجنس قد يكون متعلقا بالفعل أو الترك
171

وعلى التقديرين إما أن يقع متعلقا للتكليف أو الأخبار، وعلى الأول يكون المراد
هو الطبيعة في ضمن بعض الأفراد، وعلى الثالث يراد في ضمن الجميع لتوقف
الترك عليه وكذا على الرابع في وجه قوي، فكما يعد بعض ذلك من لام الجنس
قطعا فليعد الباقي أيضا من ذلك، لاتحاد المناط في الجميع. وبالجملة أنا لا نعقل
فرقا في المستعمل فيه في قولك " أهن اللئيم ومررت على اللئيم ولا تكرم اللئيم
وما رأيت اللئيم " فإنه قد جعل المتعلق للحكم في كل منها هو جنس اللئيم ولا
يتعلق ذلك الحكم المذكور إلا بالفرد غير أنه في الثاني في ضمن أحد الأفراد،
وهذا القدر اللازم في الأول، ولا يكون الثالث إلا بتركه في ضمن الجميع ولا الرابع
إلا مع انتفائه في الكل، وهذه كلها خارجة عن مدلول نفس اللفظ وإنما يأتي
بملاحظة المقام، فلا وجه لجعل بعضها لتعريف الجنس وبعضها لإرادة الفرد فردا
ما بل المستعمل فيه في الجميع واحد، فليس المعرف باللام في المقام مستعملا في
خصوص فرد ما كما قد توهم، ومما قد يشير إلى ذلك ملاحظة ما ذكرناه من أمثلة
الوجه الثاني من وجهي الجنس، لوضوح أن اللام هناك ليس لتعريف شئ من
الأفراد وقد نصوا على كونه لتعريف الجنس مع عدم تعلق الحكم المتعلق به إلا
بالطبيعة في ضمن الفرد فكذا في المقام. وتفصيل الكلام في المرام أن المعرف
باللام في نحو مررت على اللئيم يحتمل وجوها:
أحدها: أن يراد به الطبيعة المطلقة الحاضرة في الذهن من غير أن يراد به
خصوص الفرد أو يطلق عليه وإنما يفهم حصول تلك الطبيعة في ضمن الفرد من
نسبة المرور إليه فيكون الخصوصية مفهومة من الخارج من غير أن يكون لللفظ
فيه مدخلية.
ثانيها: أن يراد بها الطبيعة مع الخصوصية الحاصلة في ذلك الفرد بأن يستعمل
في مجموع الأمرين فيكون مستعملا في خصوص الفرد الذي وقع المرور عليه.
ثالثها: أن يراد به الطبيعة مع خصوصية ما ليكون مستعملا في فرد ما من الطبيعة
كما هو المفهوم للمخاطب عند سماع الكلام إذ لا يتعين عنده شئ من الأفراد.
172

رابعها: أن يراد به الفرد ويطلق عليه لا من حيث خصوصيته بل من حيث
مطابقته لتلك الحقيقة فيكون ما استعمل فيه اللفظ حينئذ هو تلك الطبيعة المطلقة إلا
أنه أطلق على الفرد مع إرادة تلك الطبيعة منه. والحال في الوجه الأول ظاهر
لكونه مستعملا فيما وضع له قطعا فهو حقيقة بلا إشكال. وبيان الحال في الوجوه
الاخر يتوقف على تفصيل القول في إطلاق الكلي على الفرد وبيان الحال فيه.
فنقول: إن اطلاق الكلي على فرده يتصور على وجهين:
أحدهما: أن يستعمل في الطبيعة والخصوصية بأن يراد منه خصوص الفرد ولا
شك إذن في كونه مجازا لاعتبار غير الموضوع له معه فيما استعمل اللفظ فيه
فيكون مفاد ذلك اللفظ مخصوصا بما استعمل فيه من الفرد من غير أن يصدق على
غيره، ضرورة عدم صدق تلك الخصوصية المأخوذة فيه على غيره فينحصر
مدلول ذلك اللفظ فيه، ومن ذلك أيضا أن يستعمل في الطبيعة وخصوصية ما في
الجملة وذلك بأن يراد منه فرد ما لاعتبار غير الموضوع له فيكون مجازا أيضا.
ثانيهما: أن يستعمل في الطبيعة المطلقة ويطلق على الفرد من جهة انطباقه
على الطبيعة وصدقها عليه لا من جهة خصوصيته وتشخصه، وإن شئت قلت: إنه
يستعمل في الفرد من جهة انطباقه على الطبيعة فالطبيعة المطلقة مرادة منه قطعا
غير أن ما أطلق عليه الفرد من جهة كونه مصداقا له متحدا معه فقد أطلق اللفظ مع
إرادة الطبيعة منه على الفرد لاتحاده معه. ألا ترى أن " هذا الرجل عالم " يفيد
ثبوت مفهوم الرجولية لذلك الفرد، فهو بمنزلة حمل ذلك المفهوم عليه حملا
متعارفا وإن كان هناك فرقا بينهما يأتي الإشارة إليه، وهو بخلاف ما إذا استعمل
في خصوص الفرد فإنه لا يراد منه إذا معناه الكلي بل المستعمل فيه هو خصوص
الفرد، فيكون حمله على ذلك الفرد حملا ذاتيا لاتحاد الموضوع والمحمول فيه
بالذات ولذا كان اللفظ هناك مجازا وها هنا حقيقة، لاستعمال اللفظ فيما وضع له
من غير ضم شئ إليه.
فإن قلت: لاشك في كون الفرد مغايرا للطبيعة من جهة اشتماله على
173

الخصوصية فإن أريد من اللفظ الطبيعة المطلقة فلا إشارة فيه إذا إلى الفرد ولم
يطلق عليه، وإن أطلق على الفرد كان المستعمل فيه مغايرا للموضوع له - حسب
ما ذكر - فكيف! يدعى استعماله فيه مع فرض اطلاقه على الفرد. وبالجملة أي فرق
بين الإطلاق على الفرد والاستعمال فيه؟ مع أن إطلاق اللفظ على المعنى هو
استعماله فيه، وحينئذ فبعد فرض استعماله في الطبيعة المطلقة كيف يقال بإطلاقه
على خصوص الفرد، وهل هو إلا من قبيل استعمال اللفظ في معناه الحقيقي
والمجازي.
قلت: لما كان الفرد متحدا مع الطبيعة في الخارج وكانت النسبة بين الطبيعة
والتشخص نسبة اتحادية بحسب الخارج كان هناك اعتباران:
أحدهما: ملاحظة الفرد من حيث كونه هي الطبيعة. والآخر: من حيث اشتماله
على التشخص فإن أطلق عليه اللفظ بملاحظة الجهتين معا كان مستعملا في
خصوص الفرد وكان مجازا - حسب ما قدمناه - وإن استعمل فيه من جهة كونه هي
الطبيعة نظرا إلى اتحادها معه كان حقيقة ولم يكن اللفظ مستعملا إلا في الطبيعة.
غاية الأمر أن تلك الطبيعة مقيدة في الواقع بالتشخص. لا يقال: على هذا
يكون المستعمل فيه هو الطبيعة المقيدة مع خروج القيد عن المستعمل فيه فيكون
التقييد معتبرا فيه وهو معنى الحصة، وكما أن استعمال الكلي في الفرد ليس
استعمالا فيما وضع له كذلك الحال في الحصة لدخول التقييد فيها وإن كان القيد
خارجا. لأ نا نقول إنه ليس المستعمل فيه في المقام هو الحصة من الطبيعة بل ليس
مستعملا إلا في مطلق الطبيعة الحاصلة هناك، إذ من البين أن الطبيعة لا بشرط
حاصل في الطبيعة مع شرط شئ، فالتقييد والقيد خارجان عن المستعمل فيه وإن
كانا من لوازم ما أطلق عليه، فخصوصية الحصة والفردية غير ملحوظة فيما
استعمل اللفظ فيه وإنما هما من لوازم إطلاقه على الفرد. ومن الظاهر أيضا أن
دلالة اللفظ على الطبيعة اللابشرط أعني ما استعمل فيه في المقام غير مفتقر إلى
ملاحظة قرينة تفيده، إذ المفروض وضعه بإزائها فلا حاجة في استعماله فيها إلى
174

القرينة. وأما في إطلاقه على الفرد أعني كون المستعمل فيه هو تلك الطبيعة المقيدة
بحسب الواقع وإن كان القيد والتقييد خارجين عنه فيفتقر إلى ضم قرينة إليه حتى
يعلم ذلك، كأن يقول " هذا الرجل وهذا الفرس وهذا البساط " فإن كون الرجل
والفرس والبساط بدلا أو عطف بيان لهذا دال على إطلاقه على ذلك، وحينئذ يقال
بإطلاق الكلي على فرده وكون المستعمل فيه هو الطبيعة الحاصلة في ضمنه فصح
القول بإطلاق الكلي حينئذ على فرده واستعماله في الطبيعة المطلقة.
وإن شئت قلت باستعماله في الفرد وفي الطبيعة لاتحادهما من الجهة المذكورة،
إلا أن ذكر الإطلاق على الفرد كأنه أوضح في المقام من ذكر الاستعمال فيه،
لظهور الأخير في اعتبار الخصوصية. وكيف كان فظهر أنه ليس إطلاقه على الفرد
واستعماله في الطبيعة إطلاقا له على معنيين كما توهم في الإيراد. ومما يوضح ما
قررناه ملاحظة قولك " هذا رجل وهذا الرجل " فإنه لا تجوز في شئ منهما قطعا.
ومن الواضح أنه قد استعمل الرجل في الطبيعة المطلقة في المثالين من غير
إطلاقه على الفرد في المثال الأول وإنما حمل عليه ليفيد اتحادهما في الوجود
وفي المثال الثاني قد أطلق على الفرد، ولذا كان قولك " هذا رجل " مشيرا به إلى
البساط كذبا لا غلطا، بخلاف قولك " هذا الرجل " مشيرا به إليه فإنه غلط، وليس
ذلك إلا لإطلاقه ذلك على الفرد مع عدم اتحاده مع مفهوم الرجل وعدم مناسبته له،
وقد ظهر بما قلناه أن حمل الكلي على الفرد غير إطلاقه عليه، غير أن إطلاقه على
الفرد يستلزم حمله عليه كما لا يخفى.
إذا تقرر ما ذكرناه فقد اتضح الحال في كل من الوجوه الثلاثة الأخيرة فإن كلا
من الوجهين الأولين منها مجاز لاعتبار ما يزيد على الطبيعة في كل منهما والثالث
حقيقة لاستعماله في مطلق الطبيعة وإنما أطلق على الفرد حسب ما عرفت.
بقي الكلام في تعيين المراد بالمعهود الذهني من الوجوه المذكورة فنقول: إن
الذي يقتضيه الأصل في ذلك هو الوجه الأول، لوضع مدخول اللام للطبيعة المطلقة
وكون اللام للتعريف، فيكون لتعريف تلك الطبيعة ولا يدل الحكم بالمرور عليه إلا
175

على كون الطبيعة في ضمن الفرد وهو لا ينافي إرادة الطبيعة اللابشرط من اللفظ،
ضرورة أن الماهية لا بشرط شئ يجامع ألف شرط. وقد ذكروا مثل ذلك في
الماهيات المطلقة المتعلقة للأحكام الشرعية، إلا أن هذا الوجه بعيد عن ظاهر
كلماتهم، إذ لا ربط له إذا بالإشارة إلى الفرد ولا لمعهوديته في الذهن، إلا أن يجعل
ذلك بسبب ما يعلم من دلالة القرينة على كون ذلك في ضمن الفرد وهو مخالف
لظاهر كلامهم. فالوجه الرابع أقرب إلى ظاهر كلماتهم بل هو ظاهر كلام التفتازاني
في المطول، والظاهر أن اللام حينئذ إشارة أيضا إلى الطبيعة غير أن تلك الطبيعة
حاصلة في ضمن الفرد لإطلاق اللفظ عليه فكأنها إشارة إليه بالتبع من جهة
اتحاده بالطبيعة. ولما كان أحد أفراد الطبيعة من الأمور المعهودة في الأذهان
وكان اللام إشارة إليه تبعا - حسب ما ذكرنا - عد ذلك من لام العهد.
وأنت خبير: بأن ذلك ليس من حقيقة العهد في شئ، إذ لا معهود هناك حقيقة
ولا يراد " باللام " الإشارة إليه فليس هناك تعريف للفرد على حسب غيره من
العهود، فكان في جعله حينئذ من العهد نوع توسع نظرا إلى الاعتبار المذكور، أو
أنه اصطلاح منهم. والوجهان الآخران مما يبعد إرادتهما في المقام لبعدهما عن
ظاهر اللفظ نظرا إلى اقتضاء استعمال الكلي في خصوص الفرد انحصار مدلول
اللفظ فيه وهو خلاف الظاهر في المقام، مضافا إلى لزوم التجوز في اللفظ المخالف
للأصل مع عدم قيام دليل عليه. وقد اتضح بما قررنا أن المعهود الذهني معرفة
بالنظر إلى ما استعمل فيه - أعني الماهية المطلقة - لحضورها في الذهن والإشارة
إليها باللام كما في غيرها من الأجناس المعرفة وفي معنى النكرة بالنسبة إلى الفرد
الذي أطلق عليه، إذ لا تعيين فيه إلا من جهة اتحاده مع الطبيعة وذلك مما لا يعين
الفرد إذ معرفة الشئ بالوجه العام ليس معرفة لذلك الخاص في الحقيقة، بل معرفة
للعام الذي صار وجها لمعرفته، فليس اللام في الحقيقة إشارة إلى خصوص الفرد
ولا تعريفا له، ولذا نصوا على كونه في معنى النكرة يعنون به بالنسبة إلى خصوص
الفرد لا بالنظر إلى الطبيعة التي استعمل فيها.
176

ولبعض الأعلام كلام في المقام أحببت إيراده مع تلخيص له وتوضيح لما يرد
عليه ليكون تتميم الكلام في المرام قال: إن ما اشتهر بينهم من أن المفرد المحلى
بلام الجنس إذا استعمل في إرادة فرد ما ويقال له المعهود فهو حقيقة غير واضح،
لأن معيار كلامهم فيما ذكروه أنه من باب إطلاق الكلي على الفرد وهو حقيقة،
فأورد على ذلك أمورا:
منها: أن المعرف بلام الجنس معناه الماهية المتعينة في الذهن المعراة عن
ملاحظة الأفراد عموما وخصوصا وإطلاقه وإرادة الماهية باعتبار الوجود خلاف
معناه الحقيقي.
فإن قلت: إن الماهية المعراة عن ملاحظة الأفراد لا يستلزم ملاحظة عدمها.
قلت: نعم لكنه ينافي اعتبار وجود الأفراد وإن لم يناف تحققها في ضمن
الأفراد الموجودة.
ومنها: أنه لا مدخلية للأم في دلالة الكلي على فرده فيصير " اللام " ملغاة فإن
اللفظ الموضوع للكلي من حيث هو كلي مدخول اللام لا المعرف باللام، فكأنه
أراد بذلك أن الوجه المذكور إنما يفيد كون مدخول " اللام " بنفسه حقيقة إذا أطلق
على الفرد، فإذا جعل مفاد المعرف باللام هو مفاد الخالي عنه كان " اللام " ملغاة،
وإن جعل مفاده مغايرا لذلك فلا يفيد كون المعرف باللام حقيقة في الفرد.
ومنها: أن المعرف باللام قد وضع للماهية المعراة في حال عدم ملاحظة
الأفراد ولذلك مثلوا له بقولهم " الرجل خير من المرأة " ورخصة استعمالها في حال
ملاحظة الأفراد لم يثبت من الواضع كاستعمال المشترك في أكثر من معنى. لا
يقال: يرد هذا في أصل المادة بتقريب أنها موضوعة للماهية في حال عدم
ملاحظة الأفراد. لأ نا نقول إن استعمالها على هذا الوجه أيضا مجاز. وما ذكرناه
" من كونها حقيقة " إنما كان من جهة الحمل لا من جهة الإطلاق، وهو غير متصور
فيما نحن فيه، لعدم صحة حمل الطبيعة على فرد ما.
ومنها: أن ما أطلق عليه المعرف بلام العهد الذهني هو فرد ما كما ذكر.
177

ومن البين أنه لا معنى لوجود الكلي في ضمن فرد ما، لأنه لا وجود له إلا في
ضمن فرد معين. فوجود الكلي واتحاده مع الفرد إنما يصح في الفرد الموجود
الذي هو مصداق فرد ما لا مفهوم فرد ما المطلوب هنا من المعرف بلام الجنس،
فإن المفهوم المذكور مما لا وجود له حتى يتحقق الطبيعة في ضمنه.
وبالجملة: مقتضى ما ذكروه أن المراد بالمفرد المعرف باللام إذا أطلق وأريد
منه العهد الذهني هو الطبيعة بشرط وجودها في ضمن فرد ما لا حال وجودها في
الأعيان الخارجية، ولا معنى محصل لذلك إلا إرادة مفهوم فرد ما من الطبيعة من
اللفظ ولا شبهة أن مفهوم فرد ما مغاير للطبيعة المطلقة ولا وجود له.
نعم، مصداق فرد ما يتحد معها في الوجود وليس بمراد جزما، فهذا من باب
اشتباه العارض بالمعروض.
فإن قلت: هذا بعينه يرد على قولك " جئني برجل " فإنه أريد به الماهية بشرط
الوجود في ضمن فرد ما يعنى مصداق فرد ما لا مفهوم فرد ما، فلم قلت هنا: إنها
حقيقة، ولم تقل فيما نحن فيه؟
قلت: كونها حقيقة من جهة إرادة النكرة الملحوظة في مقابل اسم الجنس وله
وضع نوعي من جهة التركيب مع التنوين ونفس معناه فرد ما وهو أيضا كلي وطلبه
يرجع إلى طلب الكلي لا طلب الفرد ولا طلب الكلي في ضمن الفرد. فالمطلوب
منه فرد ما من الرجل لا طبيعة الرجل الحاصلة في ضمن فرد ما، إلا أن الإتيان
بالكل يتوقف على الإتيان بمصداق فرد ما وهو فرد معين في الخارج بتعيين
المخاطب. فلو أردت من قولك " جئني برجل " جئني بالطبيعة الموجودة في ضمن
الفرد فهو مجاز أيضا، لعدم الوجود بالفعل اللازم لصحة الإطلاق بالفعل بخلاف
" هذا الرجل " مشيرا إلى الطبيعة الموجودة بالفعل في ضمن فرد. ثم قال: ومع هذا
كله فالعجب من هؤلاء أنهم أخرجوا العهد الخارجي عن حقيقة الجنس وهو أولى
بالدخول. ولعلهم توهموا أن ها هنا لما أطلق وأريد الفرد بخصوصه فهو مجاز.
وهو توهم فاسد، لأن هذا ليس معنى إرادة الخصوصية - كما بينا - فإن قولنا " هذا
178

الرجل " أيضا من باب العهد الخارجي الحضوري، ولا ريب أن المشار إليه هو
الماهية الموجودة في الفرد لا أن المراد أن المشار إليه هو هذا الكلي لا غير حتى
يكون مجازا انتهى.
والوجوه المذكورة كلها مدفوعة، ففي كلامه مواضع للنظر:
أحدها: ما ذكره من " أن إطلاق اسم الجنس الموضوع للماهية المعينة في
الذهن وإرادة الماهية بحسب الماهية بحسب الوجود خلاف معناه الحقيقي " فإنه
إن جعل وجه المخالفة كون الموضوع له أمرا ذهنيا فإرادة الأمر الخارجي يخالفه
فقد عرفت ما فيه، إذ ليس المعرف باللام موضوعا بإزاء الأمر الذهني بل قد اعتبر
فيه الحضور في الذهن من جهة التعريف والإشارة وهو لا ينافي كونه موضوعا
لنفس الماهية أو لها باعتبار وجودها في الخارج - كما مر بيانه - وإن جعل وجه
المخالفة كونها معراة عن ملاحظة الأفراد فاعتبار كونها في ضمن الفرد ينافيه - كما
هو ظاهر كلامه - ففيه: أن المراد بتعريتها عن ملاحظة الأفراد عدم ملاحظة الأفراد
معها لا اعتبار عدمها، وهو أيضا قد نص على ذلك، وحينئذ فلا ينافيه اعتبار كونها
في ضمن الفرد إذا لم يكن مستعملا في خصوص الفرد بل إنما أطلق عليه حسب
ما مر تفصيل القول فيه. فظهر بذلك ما في قوله " لكنه ينافي اعتبار وجود الأفراد
وإن لم يناف تحققها في ضمن الأفراد الموجودة " فإن إطلاقه على الفرد من حيث
الوجود في الخارج نظرا إلى اتحاده مع الطبيعة المطلقة لا يوجب تجوزا في اللفظ
وليس المراد باعتبار الوجود ما يزيد على ذلك كما عرفت.
ومن الغريب أنه اعترف به بالنسبة إلى اسم الجنس ونص على كون إطلاقه
كذلك على الفرد الموجود حقيقة مع جريان الكلام المذكور فيه بعينه - على أن
دعوى المنافاة المذكورة - مع ما فيه - هو عين ما سيورده بعد ذلك فلا وجه لجعله
ايرادا آخر.
ثانيها: قوله " لا مدخلية للأم إلى آخره. إذ مع تسليم ذلك لا يلزم كون " اللام "
ملغاة فإن من البين كون اللام مفيدا حينئذ لتعريف الحقيقة وهذا هو فائدة اللام
179

كما في غيره، وإطلاق الحقيقة على الفرد من الجهة المتقدمة لا ينافي تعريفها على
أن فيها نحو تعريف للفرد من جهة اتحاده مع الطبيعة حسب ما مر.
والحاصل: أن من البين أن الدال على إطلاق الكلي في المقام على الفرد وهو
الحكم المتعلق به - كالمرور في المثال السابق أو غيره - وليس للأم مدخلية في
الدلالة على إطلاقه على الفرد أصلا - كما هو ظاهر - وحينئذ فجعل ذلك سببا
لإلغاء اللام مع إفادتها تعريف الطبيعة كما هو المفروض غريب.
ثالثها: ما ذكره " من أن الوضع إنما ثبت حال عدم ملاحظة الأفراد فلا بد من
الاقتصار عليه لتوقيفية الوضع فلا يثبت الوضع في حال الملاحظة " فإن من البين
أنه إن اعتبر الواضع تلك الحال في وضعه اللفظ لمعناه فقد صار ذلك المعنى
موضوعا له بشرط عدم ملاحظة الأفراد وهو لا يقول به، بل هو ظاهر الفساد،
لوضوح عدم اعتباره ذلك. وإن لم يعتبر تلك الحال في الوضع بل جعل الموضوع
له هو تلك الطبيعة لا بشرط شئ، فمن الواضح حينئذ كون الاستعمال حقيقة إذا
استعمل فيه سواء أطلق على الطبيعة في ضمن الفرد أو لا - كما أشرنا إليه - وقد بنى
على مثله الحكم في مواضع متعددة وأشرنا إلى ما فيه. ومما يستغرب في المقام
جدا إيراد جريان مثل ذلك بالنسبة إلى مدخول اللام إذا أطلق على الفرد - كما
أشار إليه - بقوله: " لا يقال... إلخ " ثم دفعه بالتزام المجازية هناك أيضا إذا
أطلق على فرد ما نظرا إلى أنه لا اتحاد للطبيعة بالنسبة إليه وإنما هي متحدة مع
الفرد المعين. فإن ذلك إن صح فلا ارتباط له بالكلام المذكور وما أورد عليه، فإن
مبنى الكلام المذكور على كونه موضوعا للطبيعة في حال تعزية عن ملاحظة
الأفراد عموما وخصوصا فيكون إطلاقه عليها حال ملاحظة الفرد بعينه أو إجمالا
مخالفا لما وضع له، والإيراد عليه بنفس مدخول اللام يعم الحالين. وحينئذ
فالغض عن ذلك في الجواب والرجوع إلى وجه آخر وهو عدم اتحاد الطبيعة مع
فرد ما كما ترى مما لا ربط له باعتبار كون الوضع في حال التعري عن ملاحظة
الأفراد وعدمه، إذ لو قلنا بشمول الوضع للحالين جرى الكلام المذكور، إذ
180

المفروض وضع اللفظ للطبيعة وعدم حصول الطبيعة إلا في ضمن الفرد المعين دون
فرد ما. فلا يصح إطلاق اللفظ حقيقة على ما لم يوضع له، فليس الخروج عن
الموضوع له حينئذ من جهة انتفاء تلك الحالة الحاصلة في حال الوضع بل لانتفاء
أصل المعنى الذي وضع بإزائه وقد جعل ذلك وجها آخر في الإيراد عليه - حسب
ما ذكرناه - فلو صح ما ذكرناه من إرجاع هذا الإيراد إليه فلا وجه لعدهما
إيرادين، فالتمسك في أحدهما بملاحظة وضعه للطبيعة حال الانفراد فلا يصح
إطلاقه عليه حال ملاحظة الأفراد ثم إرجاع ذلك إلى عدم وجود الطبيعة هناك
أصلا فليس إطلاقا للفظ عليها كما هو قضية إيراده.
رابعها: ما ذكره من " أن المراد في المقام هو الطبيعة في ضمن فرد ما ولا
وجود للطبيعة كذلك " فإن على ما ذكره يكون قد أطلق الكلي على فرد ما مبهم
بحسب الواقع ولا ريب أن ذلك غير مراد من المعهود الذهني بل ولا من الكليات
التي يطلق على أفرادها إلا نادرا، فإن الكليات المأخوذة على الوجه المذكور مما
لا وجود لها في الخارج ولا يمكن إيجادها كذلك، فلا يتعلق بها غرض في الغالب.
واللئيم في المثال المفروض قد أطلق على لئيم معين بحسب الواقع لكن لم يرد
المتكلم بيانه للمخاطب إلا بعنوان أنه أحد الأفراد حيث لم يأت بما يدل على
التعيين، وإنما دلت نسبة المرور إليه على كونه في ضمن فرد معين بحسب الواقع
غير معين في العبارة، وهذا هو المراد بإطلاقه على فرد ما، ضرورة أن المبهم على
إبهامه مما لا يمكن تعلق المرور ولا شئ من الأحكام الخارجية به. وكذا الكلام
في نحو ادخل السوق إذا لم يكن هناك سوق معهود في الخارج فإنه قد أطلق
حينئذ على أحد الأسواق المعينة بحسب الواقع وقد اتحدت الطبيعة بكل واحد
منها فهي لا محالة متحدة مع أحدها لا بمعناه الإبهامي، إذ لا يصدق على شئ
منها ولا وجود له في الخارج أصلا ولا مفهوم أحدها إذ لا اتحاد للطبيعة إياه بنفسه
بل المراد مصداق أحدها، فالمراد به الطبيعة المتحدة مع أفرادها فهو بهذا المعنى
قد أطلق على أحدها، فالسوق في قولك ادخل السوق قد أطلق على أحد
181

الأسواق الخارجية وقد استعمل اللفظ في الطبيعة المطلقة من حيث انطباقها لأحد
تلك الأسواق، وهذا بعينه جار في قولك: " مررت على اللئيم " إلا أنه لما كان
الممرور به معينا بحسب الواقع أمكن القول بإطلاقه عليه حسب ما قررنا أولا.
فظهر بذلك ضعف قوله " إنه قد أطلق هنا على مفهوم فرد ما ولا وجود له في
الخارج حتى يتحقق الطبيعة في ضمنه. وقوله " نعم مصداق فرد ما يتحد معه في
الوجود وليس بمراد جزما " فإنه إن أراد به خصوص الفرد المعين فكذلك لكنه
ليس بمراد جزما، وإن أراد به خصوص أحد تلك الأفراد الذي يعبر عنه بأحد
الأفراد فأي شئ أوجب الجزم بعدم إرادته؟ وأي مانع من أن يراد من الدخول
في السوق الدخول في أحد أفراده؟ بإطلاق السوق عليه من حيث اتحاد الطبيعة
معه، ضرورة أنها إذا اتحدت مع كل منها فقد اتحدت مع أحدها بالمعنى المذكور.
خامسها: إثبات الوضع النوعي للنكرة حيث قال " إن له وضعا نوعيا من جهة
التركيب مع التنوين ونفس معناه فرد ما وطلبه يرجع إلى طلب الكلي لا طلب
الفرد ولا طلب الكلي في ضمن الفرد فالمطلوب منه فرد ما من الرجل لا طبيعة
الرجل الحاصلة في ضمن فرد ما " فإن الظاهر - كما أشرنا إليه - إن للتنوين وضعا
شخصيا حرفيا للدلالة على كون الكلي المدخول له حاصلا في ضمن الفرد، لا أن
مجموع الرجل والتنوين قد وضع وضعا نوعيا ليدل على فرد ما ليكون المجموع
كلمة واحدة بحسب الحقيقة ويكون وضع الرجل الخالي عن التنوين مرتفعا في
المقام، ضرورة زيادة حرف آخر في أصل اللفظ الموضوع، فيكون " كضارب "
المأخوذ من الضرب في عدم بقاء الوضع الشخصي الحاصل بمبدئه في ضمنه وانما
وضعت المادة والهيئة للمعنى المعروف بوضع نوعي - كما حقق في محله - بل لكل
من الاسم والتنوين وضع مستقل فلفظ " الرجل " مثلا خاليا عن اللواحق موضوع
لنفس الطبيعة - كما بيناه - وهو المعنى الصالح للحوق الطوارئ عليه من اللام
والتنوين وعلامتي التثنية والجمع، ولكل من تلك اللواحق إفادة لا ينافي مفاد تلك
اللفظة بل يجامعه، لعدم المنافاة بين الطبيعة اللابشرط والخصوصيات الواردة
182

عليه. فالاسم المفروض يدل بنفسه على الطبيعة المطلقة والحروف اللاحقة
الطارئة عليه تدل على الخصوصيات الحاصلة له ولذا صارت مكملة له، كيف! ولو
كان لحوق تلك اللواحق مانعا لبقاء الوضع المذكور لانتفى معظم الفائدة في وضع
أسماء الأجناس خالية عن اللواحق.
وقد عرفت أن أحد الشواهد على وضعها للماهية المطلقة هو صلاحيتها
للحوق تلك اللواحق.
ثم إن ما نفاه في المقام " من كون معنى النكرة الطبيعة الحاصلة في ضمن فرد
ما " قد أثبته سابقا في المقدمات حيث صرح بأن اسم الجنس الخالي عن اللواحق
إذا دخله التنوين صار ظاهرا في فرد من تلك الطبيعة الحاصلة في ضمن فرد غير
معين.
سادسها: قوله " فلو أردت من قولك: جئني برجل، إلى آخره " أما أولا فلأنه
لا وجه لنفيه الوجود عنه بالفعل مطلقا، وكأنه مبني على منافاة إرادة فرد ما لكونه
موجودا كما مر. وقد عرفت ما فيه كيف! ولا شك في صحة أن يقول: صريحا
جئني بفرد من أفراد الرجل موجود بالفعل، ألا ترى أن ما أطلق عليه حينئذ غير
موجود. وأما ثانيا فبأن عدم وجوده حال الإطلاق لا ينافي صحة استعماله فيه
على سبيل الحقيقة، إذ ليست النكرة موضوعة بإزاء الفرد الموجود حال الإطلاق،
بل لو وجد بعد ذلك أيضا كان إطلاقه عليه حقيقة. ألا ترى أنه لو قال " ائتني بماء "
فأتاه بماء وجد بعد القول المذكور كان ممتثلا وكان مندرجا في قوله قطعا.
والحاصل: أن النكرة يدل وضعا على الفرد الخارجي - أعني الطبيعة بملاحظة
حصوله في ضمن الفرد الخصوصية الخارجية - وإن شئت قلت: وضع بإزاء الطبيعة
والخصوصية الخارجية اللاحقة لها الباعثة على كونها فردا سواء كانت موجودة
حال الإطلاق أو لا، كما يظهر الحال من ملاحظة إطلاقات النكرات.
سابعها: قوله " والعجب من هؤلاء أنهم أخرجوا العهد الخارجي إلى آخره " إذ
لا عجب لوضوح الفرق، فإن اللام في العهد الخارجي ليس لتعريف الطبيعة وإنما
183

هو لتعريف الفرد غالبا - كما مر - والإشارة إلى خصوص المقدم في الذكر أو
الحاضر أو المعلوم من الخارج من غير كونه إشارة إلى الجنس المدلول للفظ أصلا
كما هو واضح من ملاحظة أمثلته بخلاف الحال في العهد الذهني، إذ ليس اللام
هناك إلا لتعريف الجنس والإشارة إليه من حيث حضوره في الذهن غير أنه يراد
به الجنس الحاصل في ضمن الفرد لقيام القرينة عليه، وليس ذلك من حقيقة العهد
في شئ، إذ الفرد الغير المعين غير معلوم ولا متعين عند المخاطب ولا معهود
معروف مع قطع النظر عن المقام، وإنما انصرف الذهن إليه من جهة قيام القرينة
عليه فلا إشارة إليه باللام من جهة حضوره بالبال ولا تعينه في الخارج، ولذا
أخرجناه عن حقيقة العهد. واللام في " الرجل " فيما ذكرنا من المثال إن جعلناه
للعهد الحضوري كان لتعريف الشخص ولا ينافي كون مدخوله مستعملا في نفس
الطبيعة، فإن المقصود تعريفه في ضمن الخصوصية دون نفس الطبيعة. وإن جعل
لتعريف الجنس كان إطلاقه على الفرد من جهة اتحاد الطبيعة معه فليس حينئذ من
العهد الحضوري في شئ كما لا يخفى. وجميع ما ذكرناه ظاهر لمن أعطى النظر
حقه في ملاحظة ما هو الملحوظ في إطلاق اللفظ في تلك المقامات. إذا عرفت
جميع ما ذكرناه في معاني اللام فاعلم أنه قد وقع الخلاف في المقام في بيان ما
وضع له ويدل عليه بحسب الحقيقة، وكذا في إرجاع بعض المعاني المذكورة إلى
البعض فها هنا وجوه وأقوال:
أحدها: أنها حقيقة في تعريف الجنس وسائر الوجوه من الاستغراق والعهد
الخارجي بأقسامه والذهني راجعة إلى الجنس فيكون اللام في الجميع لتعريف
الجنس لا بشرط شئ. والاستغراق والعهد الخارجي والذهني أمور مفهومة من
الخارج، إذ قد يقوم القرينة من ملاحظة المقام أو غيره على كون تلك الطبيعة في
ضمن جميع الأفراد فيكون استغراقا، أو على كونها في ضمن فرد معين بعد أن علم
من الحضور أو من الخارج فيكون للعهد بأقسامه، أو على كونها في ضمن بعض
الأفراد من غير تعيين فيكون للعهد الذهني، فلا تجوز في اللام في شئ من تلك
184

الإطلاقات، لاستعماله فيما وضع له من تعريف الجنس، وإنما يعلم تلك
الخصوصيات من الأمور الخارجية، وحكي القول به عن الفاضل القوشجي،
والوجه فيه ثبوت مجيئها لتعريف الجنس، كما يعرف من ملاحظة الاستعمالات،
وشهادة التبادر، وعدم وضوح استعمالها في خصوص شئ من المعاني الاخر
لإمكان إرجاعها على الوجه المذكور بإرادة تعريف الطبيعة من اللفظ، وفهم تلك
الخصوصيات من الخارج فلا حاجة إلى تكثير معانيها ليلزم الاشتراك أو المجاز
المخالفين للأصل.
وفيه: أن اللام في العهد ليس إلا لتعريف خصوص الفرد والإشارة إليه، وليس
فيه تعريف للجنس أصلا. ألا ترى إلى قوله تعالى * (فعصى فرعون الرسول) * (1)
فإنه ليس المراد بقوله " الرسول " إلا الإشارة إلى الرسول المقدم في الذكر، وأين
ذلك من تعريف الجنس والإشارة إليه! والعلم بإطلاقه على الفرد من جهة القرينة
- نظير ما ذكرناه في العهد الذهني - ولو كان ذلك لتعريف الجنس لم يفد تعريف
خصوص الفرد والإشارة إليه أصلا، لما هو واضح من أن تعريف العام وتعينه لا
يفيد تعريف الخاص وتعينه أصلا، وكذا معرفة الخاص بالوجه العام ليس إلا معرفة
لذلك العام دون الخاص كما مر. وكذلك الحال في الاستغراق بالنسبة إلى الجمع،
فإن التعريف والإشارة فيه ليس إلا لخصوص الأفراد من غير إشارة إلى الطبيعة
أصلا - كما هو واضح من ملاحظة أمثلته - إذ الجمع الذي هو مدخول اللام إنما
وضع لخصوص الآحاد واللام الداخلة عليه إنما يفيد تعريف تلك الآحاد
والإشارة إليها وأين ذلك من تعريف الطبيعة.
ثانيها: أنها موضوعة لخصوص الجنس والعهد فهي مشتركة بين المعنيين
ويرجع الاستغراق والعهد الذهني إلى الجنس فيكون الجنس على وجوه ثلاثة
فإنه إذا أشير باللام إلى الجنس فإما أن يكون إشارة إلى الطبيعة من حيث هي
أو من حيث حصوله في الأفراد، وعلى الثاني فإما أن يراد به الجنس الحاصل في

(1) سورة المزمل: 73.
185

ضمن جميع الأفراد أو بعضها، فالأول لتعريف الحقيقة والثاني للاستغراق والثالث
للعهد الذهني، والجميع يندرج في تعريف الجنس وحكي القول به من العلامة
التفتازاني والمحقق الشريف، والوجه فيه ما عرفت من وهن إرجاع العهد إلى
الجنس فهما معنيان مستقلان، والظاهر من ملاحظة الإطلاقات كونها حقيقة في
كل منهما، على أن كونه حقيقة في تعريف الجنس في الجملة مما لا كلام فيه،
وإرادة العهد أوضح منه مع وجود المعهود، حيث إنه أقرب إلى الفهم، ولذا يقدم
حينئذ على الجنس فيكون أولى بثبوت الوضع له. وإنما أرجعوا الاستغراق إلى
الجنس نظرا إلى أن حضور الطبيعة يكون سببا لإحضار أفراده في الذهن عند قيام
القرينة الباعثة على الانتقال وجميع الأفراد أمر متعين في الذهن، فيعرف حينئذ
بتعريف الجنس وقد عرفت الحال في سهولة الأمر في إرجاع العهد الذهني إلى
تعريف الطبيعة.
وفيه: أولا ما عرفت من وهن إرجاع الاستغراق إلى الجنس في الجمع
المعرف، وأنه في كمال البعد، بل الظاهر أنه ظاهر الفساد. نعم يحتمل القول به
بالنسبة إلى المفرد المعرف إذا أريد به الاستغراق - حسب ما مرت الإشارة إليه -
وذلك على فرض تسليمه لا يقضي بإرجاع الاستغراق مطلقا إلى الجنس.
وثانيا ما سيجئ الإشارة إليه من بعد القول بالاشتراك في المقام.
ثالثها: أنها موضوعة لكل من المعاني المذكورة من غير إرجاع شئ منها إلى
الآخر فتكون مشتركة بينها لفظا، حكاه بعضهم عن ظاهر كلام العلامة التفتازاني
في بعض تصانيفه، والوجه فيه أنها معان مستقلة يستعمل اللفظ فيها ويراد منه
إفهامها، فإرجاع بعضها إلى البعض تكلف مستغنى عنه، وظاهر الاستعمالات
كونها حقيقة في الجميع، إما لترجيح الاشتراك على المجاز، أو لاستظهار ذلك من
ملاحظة موارد استعمالها.
ويضعفه ما عرفت من ظهور إرجاع العهد الذهني إلى الجنس، وأن القول
باشتراكها بين تلك المعاني خلاف الظاهر، بل الظاهر وضعها لمعنى وحداني جار
في الجميع حسب ما يأتي الإشارة إليه.
186

رابعها: أنها موضوعة لتعريف الجنس خاصة فاستعمالها في غيره من المعاني
مجاز، من غير إرجاع شئ من المعاني المذكورة إلى آخر، ذهب إليه غير واحد
من متأخري المتأخرين، إلا أنه جعل الجمع المحلى باللام موضوعا للعموم بوضع
جديد - حسب ما يجئ تفصيل القول فيه - والوجه فيه أن المتبادر من المعرف
باللام هو تعريف الجنس فيكون حقيقة فيه مجازا في غيره، لرجحان المجاز على
الاشتراك، ولتبادر الغير الذي هو من أمارات المجاز. ومن يدعي كونه حقيقة
في العهد والاستغراق لا بد له من إثبات وضع جديد للهيئة التركيبية وأنى له بذلك.
نعم لا يبعد القول به في الجمع المعرف بالنسبة إلى الاستغراق لما دل عليه مما
سيجئ ذكره.
ويضعفه: أن تبادر الجنس من المعرف باللام إنما هو في خصوص الفرد مع
انتفاء العهد، وليس ذلك من جهة وضع اللام لخصوص تعريف الجنس بل لكونه
موضوعا لمطلق التعريف ووضع مدخوله للجنس فيفيد لذلك تعريف الجنس، فلا
يدل ذلك على وضعها لخصوص تعريف الجنس، كيف! وكون استعماله في العهد
حقيقة مما لا يعتريه ريب عند ملاحظة العرف. وهو الذي يستفاد من كلام أهل
العربية بل الظاهر تقديمه على غيره - كما يأتي - وكذا الحال في الاستغراق
بالنسبة إلى الجمع بعد انتفاء العهد من غير حاجة إلى التزام وضع فيه للهيئة
التركيبية كما ادعاه وقد عرفت الحال في إرجاع العهد الذهني إلى تعريف الجنس.
خامسها: ما احتمله بعضهم في المقام وهو أن يجعل كل من الجنس
والاستغراق والعهد معنى برأسه ويرجع العهد الذهني خاصة إلى الجنس.
وهذا الوجه أقرب من الوجوه المتقدمة إلى ظاهر الاستعمالات. فإن قيل
بوضعها لما يعم الجميع من غير أن يكون مشتركا لفظيا بينها فهو التحقيق في المقام
- كما سنبينه - وإن قيل باشتراكها لفظا بين المعاني الثلاثة فهو - بعد مخالفته
للأصل - موهون بأن تلك الخصوصيات مما لا دلالة في اللام عليها ولا يستعمل
في خصوص شئ منها.
187

سادسها: ما احتمله البعض المتقدم أيضا وهو أن يكون اللام لتعريف الجنس
والفرد. ثم ينقسم الأخير إلى الوجوه الثلاثة من العهد والاستغراق والعهد الذهني،
وكان الوجه فيه سهولة الأمر في إرجاع الثلاثة الأخيرة إلى المعنى المذكور مع
تقليل الاشتراك وعدم لزوم المجاز في شئ من الاستعمالات.
ويضعفه: أن اللام لا يفيد تعريف الفرد على جهة الإطلاق ليجعل موضوعا
بإزائه وإنما يفيد تعريف خصوص المعهود أو جميع الأفراد، وقد عرفت وهن
القول بتعريفه للفرد في العهد الذهني، هذا ملخص الوجوه المذكورة في المقام.
وأنت إذا أحطت خبرا بما ذكرنا عرفت: أن اللام ليست موضوعة إلا لمعنى
واحد هو التعريف والتمييز والإشارة كما هو قضية جعلها أداة للتعريف مفيدا له، إذ
الإشارة من أسبابه، ولذا عد أسماء الإشارة من المعارف لما تتضمن من معنى
الإشارة الباعثة على التعيين.
وقد حكي عن التلويح وغيره أن اللام بالإجماع للعهد ومعناه الإشارة
والتعيين والتمييز.
فنقول حينئذ: إن ذلك مما يصح تعلقه بكل من الوجوه المذكورة فيختلف
الحال باختلاف ما تعلق به، فقد يتعلق بالجنس والطبيعة المطلقة فيكون لتعريف
الجنس، وقد يتعلق بجميع الأفراد فيكون للاستغراق، وقد يتعلق بفرد مقدم في
الذكر أو معلوم بالحضور [أو] (1) من الخارج فيكون للعهد، فليس اللام موضوعة
إلا لمطلق التعريف وتلك الخصوصيات إنما يجئ من جهة متعلقه، فعند التحقيق
لا يرجع شئ من المعاني المذكورة إلى آخر بل كلها أمور متغايرة، إلا أن اللام لم
يوضع لخصوص شئ منها، وإنما يتحصل تلك المعاني من جهة ضم معنى اللام
إلى ما يراد من مدخوله، فهي إنما تأتي من التركيب من غير أن يكون هناك وضع
للهيئة التركيبية كما ظن في بعضها.
نعم الظاهر إرجاع العهد الذهني إلى تعريف الجنس - حسب ما مر تفصيل

(1) لم يرد في بعض النسخ.
188

القول فيه - فيحتمل إرجاع الاستغراق في المفرد المعرف إليه، إلا أن كونه لتعريف
الأفراد المفهومة من الجنس - بعد قيام القرينة على إرادته في ضمن الأفراد ليكون
خارجا عن تعريف الجنس - ليس ببعيد أيضا. وأما الاستغراق المراد من الجمع
فلا ربط له بالجنس، وكأن من أرجع الاستغراق إلى الجنس إنما أراد ذلك بالنسبة
إلى المفرد المعرف، وأما بالنظر إلى الجمع فلا يتصور ذلك أصلا، ضرورة أنه لا
إشارة فيه إلى الجنس وإنما المراد من مدخوله خصوص الأفراد.
وأما إرادة الجنس منه فلا يكون إلا بواسطة القرينة كما سيأتي إن شاء الله.
المقام الثالث
في بيان مفاد الجمع المعرف باللام
وإذ قد عرفت كون اللام موضوعة للتعريف والإشارة فلا محالة تكون مع
انتفاء القرائن ظاهرة في الإشارة إلى ما دل عليه صريح مدخوله، ولما كان
موضوع الجمع على ما عرفت هو خصوص مراتب الجمع من الثلاثة إلى ما فوقها
وكانت تلك المراتب مختلفة لا تعين في شئ منها لصدق كل منها على كثيرين
مختلفين سوى جميع الأفراد إذ ذاك بمنزلة شخص واحد كانت اللام إشارة إليه،
لتعينه وعدم عروض الإبهام له المنافي للتعيين والتعريف دون غيره من المراتب،
إذ لا معروفية لها عند العقل ليشار إليها، وأيضا ليس في لفظ الجمع تخصيص
بشئ من خصوص المراتب فتخصيص بعضها بالإرادة دون الباقي ترجيح بلا
مرجح، والبناء على الإبهام والإجمال ينافي التعريف، فيظهر من الإشارة
المستلزمة للتعيين إرادة الجميع إذ هو المرتبة الجامعة لجميع المراتب، ولهذين
الوجهين صار الجمع المحلى باللام ظاهرا في العموم، لا من جهة وضعه له
بالخصوص كما يظهر من جماعة.
بل صرح بعض الأفاضل بكونه حقيقة فيه بخصوصه مجازا في غيره مطلقا
حتى في العهد، وجعل قضية وضع اللام والجمع كونه لتعريف الجنس، لكنه قال
189

بكونه حقيقة في الاستغراق من جهة الوضع الجديد للهيئة التركيبية قال: الظاهر أن
هذا وضع مستقل للهيئة التركيبية على حدة، وصار ذلك سببا لهجر المعنى الذي
كان يقتضيه الأصل المقرر في المقدمات من إرادة جنس الجمع على طريق المفرد
المحلى، وكيف كان فالدليل قائم على كونه حقيقة في العموم فيكون في غيره
مجازا، والدليل: الاتفاق ظاهرا، والتبادر، وجواز الاستثناء مطردا انتهى.
ويرد عليه أمور:
أحدها: أن ما ذكره من أن قضية وضع اللام والجمع كون الجمع المحلى
لتعريف جنس الجماعة غير ظاهر ولو من جهة ظهوره في ذلك، فإنه إنما يتم إذا
قلنا بوضع الجموع لطبيعة الجمع وقد عرفت وهنه، وأن الظاهر وضعها لخصوص
الآحاد سواء قلنا بكون الوضع فيها عاما والموضوع له خصوص كل مرتبة مرتبة
أو الموضوع له هو مصداق الجماعة أعني خصوص الوحدات كائنة ما كانت
ليكون الموضوع له كليا أيضا كما هو الأظهر - حسب ما مرت الإشارة إليه - وأين
ذلك من وضعها لجنس الجماعة ليكون المستفاد منها بعد دخول اللام عليها
الإشارة إلى جنس الجماعة حسب ما ادعاه. بل لا يبعد القول بكون المفرد
الحاصل في ضمنها موضوعا بإزاء المعنى الجنسي، وأداة الجمع حرفا موضوعا
بالوضع المرآتي لإفادة الفردية، وفي الجموع المكسرة بكون المادة والهيئة
ملحوظة على الوجه المذكور على نحو مواد الأفعال وهيئاتها - حسب ما مر بيانه -
وحينئذ فلا يعقل ورود التعريف على معنى الجمعية في المقام لكونه من المعاني
الحرفية الغير القابلة للتعريف.
ثانيها: أن الأوضاع الطارئة للهيئات التركيبية ينبغي أن لا تنافي أوضاع
المفردات ليصح ضم مفاد الهيئة الطارئة على الأجزاء إلى ما يستفاد منها،
والمفروض في المقام خلاف ذلك. فالظاهر أنه أراد بالهيئة التركيبية مجموع
اللفظين لا نفس الهيئة الطارئة عليها حال اجتماعهما، فيكون ذلك من قبيل وضع
عبد الله في حال العلمية الناسخة لأوضاع مفرداته، ويشير إلى ذلك ما ذكره من
190

الحكم بانسلاخ معنى الجمعية عنه وأن الوضع المذكور صار سببا لهجر المعنى
الأول من إفادته تعريف جنس الجماعة، فعلى هذا يكون مجموع اللام والجمع
لفظا واحدا فيخرج اللام عن كونه أداة للتعريف ولفظ الجمع عن كونه جمعا بل
يكون المجموع لفظا واحدا مفيدا للاستغراق، ولا ينبغي عده من المعارف، إذ من
البين أن مجرد الدلالة على الاستغراق لا يدرج اللفظ في المعارف كما في كل
رجل. وجميع ذلك من الفساد بمكان لا يحتاج إلى البيان.
وقد يصحح ما ذكر بجعل اللام للتعريف والإشارة والجمع مستعملا في معناه
ويكون الهيئة موضوعة لإفادة أن المراد من الجمع أعلى مراتبه وأن المشار إليه
كل واحد من الجزئيات المندرجة فيه، فبعد انضمام هذه الأمور بعضها إلى البعض
يكون مفاد الجمع المعرف كل واحد واحد من جزئيات مفردة.
وأنت خبير ببعد ذلك عن التعبير المذكور، وبما فيه من الوهن - بعد ملاحظة ما
قررناه - وإن كان أقرب مما يظهر مما حكيناه عن الفاضل المذكور.
ثالثها: أن ما ذكره من تفريع كونه مجازا في غير العموم على قيام الدليل على
كونه حقيقة في العموم غير ظاهر، فإنه إن أريد بذلك أن قيام الدليل على كونه
حقيقة في العموم قاض بمجازيته في غيره تقديما للمجاز على الاشتراك فهو
فاسد، فإن الأصل المفروض إنما يتم إذا لم يثبت الوضع للمعنى الآخر، وأما مع
ثبوت الوضع له أولا فالبناء على الهجر يتوقف على الدليل، بل قضية الدليل الدال
على كونه حقيقة في المعنى الجديد حصول الاشتراك بين المعنيين وليس ذلك من
الدوران بين المجاز والاشتراك ليقدم المجاز عليه بل من الدوران بين الاشتراك
والنقل. وإن أريد به قيام الدليل على كونه حقيقة في العموم مجازا في غيره - فمع
بعده عن ظاهر العبارة - فيه: أنه لا دليل على كونه مجازا في غير العموم. وما ذكره
من الأدلة غير ناهض عليه أما الاتفاق فظاهر، فإنه بعد تسليم ذلك إنما اتفقوا على
كونه حقيقة في العموم حيث لا عهد، والقدر الثابت من ذلك هو الاتفاق على كون
إرادة العموم منه على وجه الحقيقة وأنه المنساق منه عند الإطلاق مع انتفاء العهد،
191

ونحن نقول به ولا منافاة فيه لكونه حقيقة في غيره أيضا من الجنس والعهد، ولذا
لم يصرح أحد بكونه حقيقة في العموم ولا ظاهرا فيه - مع وجود المعهود - بل
الظاهر من اعتبارهم انتفاء العهدية في ذلك كون انصرافه إلى المعهود مقدما على
الحمل على العموم، وقضية ذلك كونه حقيقة بل ظاهرا في العهد - مع وجود
المعهود - فكيف يدعى الاتفاق على مجازيته في العهد.
فإن قلت: إن وجود العهد قرينة صارفة له عن معناه الموضوع له، فلا يكون
اللفظ ظاهرا في الموضوع له مع وجودها، وهذا هو السبب في تقييدهم إفادته
العموم بذلك.
قلت: إن ما ذكر - مع بعده عن الظاهر لعدم جريان الطريقة على أخذ انتفاء
القرينة الصارفة عند بيان معاني الألفاظ فإن ذلك أمر معلوم من الخارج لا حاجة
إلى الإشارة إليه فيه ولا اختصاص لتلك القرينة المعينة بذلك لجريانه في سائر
القرائن الصارفة - فيه أن مجرد وجود المعهود إنما يصحح إرادة العهدية وليس فيه
ما يقتضي تعيين ذلك في الإرادة وصرف اللفظ إليه، فكيف! يصح جعله قرينة
صارفة عن إرادة الحقيقة. والقول بأن القدر الملحوظ في القرائن صرفها اللفظ عن
الظاهر بحسب متفاهم العرف وإن لم يكن هناك التزام عقلي وهذا القدر حاصل
في المقام إذ المفروض حينئذ فهم العرف انصرافه إلى المعهود مدفوع، بأن القرينة
الصارفة عن الموضوع له لا بد أن تكون معاندة للحقيقة ولو بحسب متفاهم العرف
حتى يصح كونها صارفة للفظ عن معناه الحقيقي في فهم العرفي.
ومن البين أن مجرد وجود معهود في المقام لا ينافي إرادة العموم في المقام
ولو بحسب العرف، فكيف يصح جعله صارفا للفظ عن معناه الحقيقي، وحينئذ
فنقول: إنه ليس في انصرافه إلى المعهود خروج عن مقتضى الوضع بوجه من
الوجوه، إذ قد عرفت أن اللام موضوعة لتعريف مدخولها والإشارة إليه، وحيث إن
المراد بمدخولها في الجمع هو الأفراد في الجملة فإن كان في المقام أفراد معهودة
بأن تكون تلك الأفراد من جهة معهوديتها أعرف في نظر العقل من غيرها فلا
192

محالة تنصرف الإشارة إليها، فيكون المراد بالجمع هو تلك الآحاد، وتكون اللام
تعريفا لها وإشارة إليها، فإن الإشارة إنما تنصرف مع الإطلاق إلى ما هو أعرف في
نظر العقل وأبين من غيره، ولا قاضي حينئذ بانصرافها إلى العموم، فإنها إنما كانت
تنصرف إليه من الجهة التي قررناه وهي غير جارية في مقام وجود المعهود. فهذا
هو الوجه في ظهوره في العهدية مع وجود المعهود على الوجه المذكور لا من جهة
حصول قرينة على إرادته له ليكون فهمه متوقفا على قيام القرينة ليجعل ذلك
شاهدا على مجازيته - كما قد يتوهم - فظهر بما قررناه أن إرادة العهد منه جارية
على الظاهر لا خروج فيها عن قانون الوضع بالنظر إلى اللام ومدخولها. وذلك هو
الوجه في تقييدهم إفادته العموم بانتفاء العهد في المقام.
وأما تبادر العموم منه: فقد عرفت الوجه فيه، وأنه غير مستند إلى نفس اللفظ
بل مبني على ظهوره نظرا إلى الوجه المذكور. ومنه يظهر الحال في حسن
الاستفهام، فإنه مبني على انفهام العموم وهو حاصل من الجهة التي قررناه، فلا
دلالة في شئ من الوجوه المذكورة على مجازيته في غير العموم، بل هو حقيقة
في العهد قطعا لما عرفت من انتفاء التجوز بالنسبة إلى اللام ومدخولها، بل يتقدم
الحمل عليه على الحمل على العموم، ولذا قيدوا إفادته العموم بانتفاء العهد.
وأما استعماله في الجنس كما في قولك: " فلان يركب الخيل أو يتزوج
الأبكار " فهل هو على وجه الحقيقة أو المجاز؟ وتوضيح الكلام في ذلك يتوقف
على تصوير استعماله فيه فنقول: إن إرادة الجنس في المقام يتصور على وجوه:
منها: أن يراد بالجمع مفهوم الجماعة ويكون اللام إشارة إليها وآلة لتعريفها
فيكون مؤداه تعريف جنس الجماعة. وهذا الوجه هو الذي نص غير واحد من
متأخري المتأخرين على ظهوره من لفظ الجمع المعرف بناء على بقاء كل من اللام
والجمع على معناه الأصلي وعدم طرو وضع آخر عليهما، فيكون استعماله في
الجنس على الوجه المذكور مبنيا على ملاحظة وضعه الأولى.
وقد عرفت وهنه مما بيناه، إذ ليس معنى الجمع مفهوم الجماعة ليرد التعريف
193

عليه وإنما معناه مصداق الجمع، وهو على إطلاقه غير قابل للتعريف إلا أن
يتصرف في لفظ الجمع باخراجه عن معناه الحقيقي واستعماله في مفهوم الجماعة
إن صح التجوز عنه بذلك فيكون التجوز إذن في مدخول اللام.
ومنها: أن يكون اللام الداخل عليه لتعريف الجنس على أن يكون الجنس
قيدا مأخوذا في معناها على وجه المجاز، فيكون تعريف الجنس مفهوما من اللام
ويكون الجمع باقيا على معناه فيكون المستفاد منه تعريف جنس الجمع، ولا يخفى
ما فيه من التعسف.
ومنها: أن يقال باستعمال الجمع في مدلول اسم جنسه بانسلاخه عن الجمعية
مجازا أو بالوضع الطارئ فيكون اللام الوارد عليه لتعريف الجنس كالفرد. وفيه
أيضا تكلف ظاهر، لبعد دعوى الوضع الطارئ مع عدم مساعدة الفهم، وكون
التجوز المذكور مبنيا على وجود العلاقة المصححة وهو محل تأمل.
ومنها: أن يقال باستعمال الجمع في معناه أعني ما فوق الاثنين من الأفراد
لكن يكون التعريف الوارد عليه لا بملاحظة خصوصية الأفراد - حسب ما يعطيه
ظاهر اللفظ كما في تعريف العهد والاستغراق - بل من جهة اتحاد تلك الأفراد مع
الطبيعة وكون الطبيعة حاصلة بها، فيكون مفاده بملاحظة ما ذكر تعريف الطبيعة
المتحدة مع الأفراد، وحيث كان حينئذ ورود التعريف على الأفراد من الجهة
المذكورة مع قطع النظر عن ملاحظة خصوصياتها لم يتوقف تعريفها على حمل
الجمع على أقصى درجاته أو على خصوص مرتبة معينة من سائر مراتبه ليتعين
بذلك مدلوله حتى يصح ورود التعريف عليه - حسب ما مر - وذلك لخروجه عن
الإبهام بملاحظة الجهة المذكورة وصحة تعريفه والإشارة إليه من تلك الجهة، فيراد
بالجمع مطلق الأفراد على الوجه المذكور ويكون اللام تعريفا لها من تلك الجهة.
وهذا الوجه هو الذي يخطر بالبال في هذا المقام، وهو المختار، ويساعده التأمل
في الاستعمالات، ولا تجوز حينئذ في اللام ولا في مدخولها، أما الأول فلكونها
موضوعة للتعريف والإشارة إلى مدخولها وهو حاصل في المقام، غير أن التعريف
194

الوارد على مدخولها من جهة مخصوصة لا بملاحظة خصوصيته، وذلك غير
مخرج لها عن مقتضى وضعها وإن كان الظاهر منه مع الإطلاق وانتفاء القرينة هو
الوجه الثاني. وأما الثاني فلاستعماله في مدلوله أعني خصوص الأفراد وإن لم
يطلق على مرتبة معينة من مراتبه، وورود التعريف عليها بملاحظة اتحادها مع
الطبيعة، وكونها عينها في الخارج لا يقضي بخروجها عن معناها، إذ لا يمنع ذلك
من إرادة الأفراد منها فالحال في المقام على عكس المفرد المعرف، فإن صرف
التعريف هناك إلى الفرد يتوقف على قيام الدليل عليه بإطلاق الكلي على الفرد أو
جعل الطبيعة مرآتا لملاحظة جزئياته - على ما سيجئ بيانه إن شاء الله - كصرف
التعريف في الجمع المعرف إلى الطبيعة بملاحظة الأفراد من حيث اتحادها مع
الطبيعة ومرآتا لملاحظتها وإيراد التعريف عليها من تلك الجهة حسب ما قررناه
هذا.
ولنتمم الكلام في المرام برسم أمور:
أحدها: أنه لا ريب أن الاستغراق الوارد على المفرد أشمل من الاستغراق
الوارد على الجمع، فإن قولك " لا رجل في الدار " يفيد نفي الآحاد بخلاف " لا
رجال فيها " ولذا يصدق الثاني مع وجود رجل أو رجلين في الدار، وكذا قولك:
كل رجل أتاني فله درهم وكل رجال أتوني فلهم كذا، فإنه لا يثبت ذلك لرجل أو
لرجلين على الثاني بخلاف الأول.
وقد اختلفوا في المفرد المحلى بلام الاستغراق والجمع المحلى بلام
الاستغراق أن المفرد أشمل من الجمع أم هما سيان في الشمول؟ فذهب بعضهم إلى
الأول والمختار عند جماعة هو الثاني وهو المعروف بين المتأخرين وبه نص
صاحب الكشاف وغيره من أئمة التفسير وهو المختار.
حجة الأول: أنه كما يكون استغراق المفرد بشموله لجميع الوحدات والأفراد
المندرجة تحت مدخول اللام كذا استغراق الجمع إنما يكون بشموله لجميع
الجموع ووحدات الجمع المندرجة تحت جنس الجمع.
195

ومن البين صدق الثاني مع تخلف الحكم عن الواحد والاثنين بخلاف الأول
حسب ما ذكر في الاستغراق الحاصل في غير المعرف.
قال المحقق الشريف - بعدما نص على أن المفرد المعرف بلام الاستغراق يفيد
استغراق الآحاد - وأما الجمع فلما دل على الجنس مع الجمعية فلو أجرى حاله
في الاستغراق على قياس حال المفرد كان معناه كل جماعة جماعة لا كل واحد،
فإذا نسب إليه حكم كان الظاهر انتسابه إلى كل جماعة انتهى.
وأورد عليه بوجوه:
منها: أنه لو كان مفاد الجمع ما ذكر لزم التكرار في معناه، فإن الثلاثة جماعة
والأربعة جماعة فيندرج الثلاثة فيها والخمسة كذلك فيندرج الثلاثة والأربعة فيها
وهكذا إلى أن يبلغ من حيث (1) هو كل فإنه أيضا جماعة فيكون معتبرا في الجمع
المستغرق مع اندراج سائر المراتب المعتبرة فيه كلا ألا ترى الأئمة يفسرون
الجماعة المعرفة بكل واحد واحد أو بالمجموع من حيث هو مجموع لا بكل جمع
جمع كذا يستفاد من كلام المحقق الشريف.
وفيه أولا: النقض بالاستغراق الوارد على الجماعة كما في قولك " أكرم كل
جماعة من العلماء، وأعط كل جمع من القوم " إذ لا ريب في صحة الاستعمال
المذكور من دون غضاضة مع جريان الكلام المذكور فيه حرفا بحرف.
وثانيا: أن المستفاد من قولنا كل جماعة هو استغراق الجماعات الغير
المتداخلة كما يشهد به ملاحظة العرف ولذا لا يتوهم فيه حصول التكرار، فكذا
الحال في الاستغراق المفهوم من الجمع المعرف.
ومنها: أنه لو سلم كون مفاد الجمع في المقام كل جمع فلا يمكن خروج
الواحد والاثنين، لأن الواحد مع اثنين آخرين من الآحاد والاثنين مع واحد آخر
منها جمع من الجموع داخل في الحكم فيعم الحكم لجميع الآحاد على نحو عموم

(1) كذا وجد فيما عندنا في النسخ ولا يخفى ما فيه والمقصود إلى أن يبلغ أعلى المراتب الذي
هو الكل.
196

المفرد ولا يتم ما ذكر من الفرق. كذا أورد التفتازاني في شرح التلخيص.
ويدفعه: أن أقصى ما يفيد ذلك ثبوت الحكم للوحدات في ضمن الجمع لا في
نفسها بخلاف الاستغراق المتعلق بالمفرد فقوله " أكرم الرجل الذي يأتيني " يعم
الوحدات أجمع بخلاف " أكرم الرجال الذين يأتوني " فإنه لا يشمل ما إذا كان
الجائي واحدا أو اثنين. وما ذكره من الوجه غير جار فيه على أنه إذا عد الواحد
أو الاثنين مع الاثنين أو الواحد جمعا لم يصح اعتباره مع غيره جمعا آخر، لما
عرفت من عدم انفهام التكرار، فيبقى ذلك الواحد أو الاثنين بعد ملاحظة سائر
الجموع خارجا عنها، إلا أن يعد تلك الجماعات أربعة أو خمسة ولا دليل عليه
وقضية الأصل عدمه مضافا إلى حصول فرق آخر وهو تعلق الحكم بناء على كونه
مستغرقا للوحدات بخصوص كل من الآحاد، وبناء على القول الآخر يتعلق
الحكم بالجماعات فلا يكون الواحد والاثنين مناطا للحكم وإنما يناط بالحكم
بهما في ضمن الجماعة.
ومنها: أنه إنما يتم ذلك لو كان إفادته الاستغراق بملاحظة وضع كل من اللام
والجمع بالاستقلال بناء على إفادة اللام للاستغراق ومدخوله للجمع ليكون ضم
الأول إلى الثاني مفيدا لاستغراق الجموع وليس كذلك، بل إفادته الاستغراق إنما
هي بوضع جديد متعلق بالهيئة التركيبية - حسب ما مر - وليس مفاد ذلك استغراق
الجموع بل الآحاد كما سيجئ بيانه، بل لو لوحظ فيه كل من الوضعين بأنفسهما
كان المستفاد منهما إذن تعريف جنس الجمع دون استغراق آحاد الجموع كما
مرت حكايته عن غير واحد من المتأخرين.
وفيه ما تقدم من ضعف القول بثبوت وضع جديد للهيئة التركيبية، بل ليس
استفادة العموم من الجميع (1) إلا بملاحظة كل من وضع اللام والجمع حسب ما مر
بيانه.
حجة القول الثاني على ما يستفاد من كلام جماعة من المتأخرين وجوه:

(1) " الجمع المعرف خ ل ".
197

أحدها: التبادر فإن المفهوم من الجمع المعرف بحسب العرف هو استغراق
الآحاد دون الجموع كما يعرف ذلك من ملاحظة موارد استعماله، ولذا نص
جماعة بانسلاخه عن معنى الجمعية حيث لا تفاوت بين ما يستفاد منه وما يستفاد
من الاستغراق الوارد على المفردات، فإن المفهوم من قولك " أكرم العلماء " هو
المفهوم من قولك " أكرم كل عالم ".
ثانيها: نص جماعة من أئمة الفن عليه قال التفتازاني: إنه مما ذكره أكثر أئمة
الأصول والنحو وصرح به أئمة التفسير في كل ما وقع في التنزيل من هذا القبيل
نحو * (إني أعلم غيب السماوات والأرض) * (1) * (وعلم آدم الأسماء كلها) * (2) * (وإذ
قلنا للملائكة اسجدوا) * (3) * (والله يحب المحسنين) * (4) * (وما هي من الظالمين
ببعيد) * (5) * (وما الله يريد ظلما للعالمين) * (6) إلى غير ذلك. وذكر أن كلام
الزمخشري في الكشاف مشحون بذلك حيث قال في قوله تعالى * (والله يحب
المحسنين) * إنه جمع يتناول كل محسن، وفي قوله تعالى * (وما الله يريد ظلما
للعالمين) * إنه نكر ظلما وجمع العالمين على معنى ما يريد شيئا من الظلم لأحد
من خلقه، وفي قوله تعالى * (ولا تكن للخائنين خصيما) * (7) أي ولا تخاصم عن
خائن قط، وفي قوله * (رب العالمين) * (8) إنه جمع ليشمل كل جنس مما سمي
بالعالم.
ثالثها: أنه يصح بلا خلاف " جاءني العلماء إلا زيدا، وجائني القوم إلا عمرا "
مع امتناع قولك " جاءني كل جماعة من العلماء إلا زيدا " بناء على إرادة الاستثناء
المتصل ولو كان مفاد اللفظين واحدا لجاز ذلك في المقامين.
وأورد عليه: بأنه لا شك في جواز استثناء البعض من الكل على نحو

(1) البقرة: 33.
(2) البقرة: 31.
(3) البقرة: 34.
(4) آل عمران: 134.
(5) هود: 83.
(6) آل عمران: 108.
(7) النساء: 105.
(8) الفاتحة: 2.
198

الاستثناء المتصل - حسب ما نص عليه المحققون من النحاة - تقول " رأيت زيدا
إلا صدره، وله علي عشرة إلا واحدا " ونحو ذلك، مع عدم كون المستثنى من أفراد
المستثنى منه بل من أجزائه فلم لا يجوز أن يكون الاستثناء في المقام على الوجه
المذكور.
ويدفعه: أن من الظاهر أن قضية الاستثناء اندراج المستثنى في المستثنى منه
سواء كان من قبيل اندراج الخاص تحت العام أو الجزء تحت الكل، فيصح
الاستثناء على كل من الوجهين إلا أنه إذا كان هناك عموم وارد على كل كان
الظاهر ورود الاستثناء على العموم دون ذلك الكل ولذا لم يجز أكرم كل جماعة
من العلماء إلا زيدا، هذا بالنظر إلى ما هو الظاهر من اخراجه عن العام. وأما
اخراجه عن خصوصيات ما اندرج في العام فلا مانع منه أيضا إلا أنه خارج عن
ظاهر العبارة، ومبنى الاستدلال على جواز استخراجه عن العام كما هو الظاهر من
ملاحظة الاستعمالات لا على المنع منه على الوجه الآخر وإن كان خارجا عن
مقتضى الظاهر حسب ما توهم. وبهذه الوجوه وإن ظهر كون المفهوم من الجمع
المحلى استغراق الآحاد دون الجموع لكن لا يظهر منها الجهة الباعثة على
انصرافه إليه واستفادة ذلك منه، مع أن الذي يتراءى في الظاهر كون مفاد
الاستغراق الوارد عليه استغراق الجماعات دون الآحاد، ولذا اختار جماعة كون
الاستفادة المذكورة من جهة وضع جديد متعلق به ينسلخ باعتباره من معنى
الجمعية، وقد يشير إليه كلام المحقق الشريف حيث قال - بعد أن ذكر كون مفاد
الجمع المعرف استغراق الآحاد دون الجموع - كأنه قد بطل فيه معنى الجمعية.
لكنك قد عرفت وهن القول بثبوت وضع جديد للهيئة التركيبية يكون انفهام
الاستغراق من جهته كما زعموه، وكذا القول بانسلاخه عن الجمعية، إذ قد عرفت
إطلاقه حينئذ على الدرجة العليا من مراتب الجمع فهو في إفادة الجمعية فوق
سائر الجموع ما أطلقت على ما دونه من المراتب فكيف يصح القول بعدم إفادته
لمعنى الجمعية.
199

فالحق في المقام أن الاستغراق هنا متعلق بأجزاء ذلك الجمع والوحدات
المندرجة فيه وليس ذلك مستندا إلى وضع اللام، بل الجمع في نفسه مستغرق
للآحاد المندرجة تحته سواء أطلق على أعلى مراتبه أو على ما دونه من المراتب
إلى الثلاثة، إلا أنه مع إطلاقه على ما دون الكل من المراتب لا يندرج في العام،
لعدم استغراقه لجميع ما يصلح له بخلاف ما إذا أطلق على الدرجة العليا، ومدخلية
اللام في استفادة العموم منه إنما هو من جهة دلالته على إطلاق الجمع على
الدرجة المذكورة نظرا إلى تعينه من بين المراتب وانصراف التعريف مع الإطلاق
إليه، وليس اللام بمعنى كل ليفيد عمومه عموم مدخوله، وليس مفاده بحسب
الوضع سوى الإشارة والتعريف - حسب ما مر القول فيه - وحينئذ فتحقيق المرام
أن الجمع في المقام إنما أطلق على مرتبة واحدة من مراتبه أعني المرتبة العليا
وليس فيه استغراق لمراتب الجمع أصلا بل ليس مفاده قابلا لأن يلاحظ
الاستغراق فيه بحسب الجماعات.
نعم لو كان موضوعا لجنس الجماعة حتى يكون مفاده مفاد لفظ الجماعة
أمكن فيه ذلك لكنك قد عرفت فساده، وأنه موضوع لصدق الجماعة، وأن دلالته
على الكثرة والتعدد من قبيل دلالة الحروف، ومعناه المستقل هو معناه الإفرادي
فالتعريف وغيره من الضمائم إنما يرد عليه دون معناه الحرفي، فلا يعقل دلالته
على العموم بحسب أفراد الجماعة كما أنه لا يعقل تعريفه لجنس الجماعة حسب
ما مرت الإشارة إليه.
وكيف كان فالاستغراق الحاصل في المقام إنما هو من جهة شمول الجمع
للوحدات المندرجة فيه، ولذا جعلنا العموم فيه من جهة استغراقه لأجزائه كما
أشرنا إليه عند تحديد العام فهذا هو الوجه في استغراقه للآحاد دون الجموع،
وليس ذلك مستندا إلى وضع تركيبي ولا قاضيا بانسلاخه عن الجمعية. وليس في
شئ من الأدلة المتقدمة الدالة على استغراقه للآحاد دلالة على خلاف ذلك،
وأقصى ما يفيده تلك الأدلة كون مفاد اللفظ استغراق الآحاد دون الجماعات وهو
200

حاصل بما ذكرناه، فتبين بما بيناه أن الاستناد إلى الوجوه المتقدمة في وضعه
للمعنى المذكور ليس في محله، لما عرفت من عدم استناد التبادر إلى نفس اللفظ
وأن الوجه فيه ما قررناه، وكذا الحال فيما ذكره أئمة الفن من إفادته عموم الأفراد
وجواز استثناء الواحد منه على ما مر.
ثانيها: أن الجمع المعرف هل هو حقيقة في خصوص العموم الأفرادي أو يعمه
والعموم المجموعي؟ وجهان، وقد نص بعض المتأخرين على كونه حقيقة في
خصوص العموم الأفرادي مجازا في غيره. ونص المحقق الشريف بأن الأول أكثر
تداولا عن الثاني لكن لم يصرح بكونه حقيقة فيه بخصوصه. ولم أر في كلماتهم
تنصيصا على كونه حقيقة في خصوص الأول سوى من أشرنا إليه من متأخري
المتأخرين ومن يحذو حذوه. وظاهر ما حكاه المحقق الشريف عنهم - من الحكم
بأن قول القائل للرجال: " عندي درهم " إقرار بدرهم واحد للكل بخلاف قوله لكل
واحد من الرجال: " عندي درهم " فإنه إقرار لكل رجل بدرهم - يعطي تكافؤ
الاحتمالين المذكورين عندهم حيث لم يحكموا باشتغال ذمته بما يزيد على
درهم، ولو كان المفهوم منه عندهم خصوص العموم الأفرادي لنزلوه منزلة كل كما
في المثال الثاني، وربما يتراءى انصراف القول بكونه حقيقة في العموم إلى العموم
الاستغراقي وهو ضعيف، لما عرفت من كونه أعم من الوجهين، وما ذكر عنهم في
مسألة الإقرار أقوى شاهد عليه. وكيف كان فالتحقيق كما عرفت كون إفادته
العموم من الجهة التي ذكرناه، لا لوضعه لخصوص العموم حسب ما توهمه
الجماعة من المتأخرين، وذلك أعم من كونه على وجه العموم الأفرادي ليكون
الحكم منوطا بكل واحد من الآحاد المندرجة فيه أو مجموعيا يتعلق الحكم
بالمجموع، فكل من اللام ومدخوله حقيقة على كل من الوجهين فإن ظهر من
المقام أو من الحكم المتعلق به أحد الوجهين بني عليه من دون تجوز، وإن احتمل
الأمران من غير ظهور وترجيح لأحد الوجهين من شواهد المقام لزم التوقف في
مقام الاجتهاد، والرجوع إلى الأصول الفقهية في مقام العمل. ومنه ما ذكر من مثال
201

الإقرار، لقضاء الأصل ببراءة ذمته من الزائد، ودعوى أغلبية الأول بحيث يوجب
ظنا بإرادته غير ظاهرة.
نعم قد يتخيل كون إرادة العموم المجموعي أقرب إلى ظاهر اللفظ حيث أطلق
الجمع على الدرجة العليا وأشير باللام إليها فظاهر ذلك تعلق الحكم بمجموع
الأفراد، فإن ملاحظة كل منها على وجه يستقل في تعلق الحكم به اعتبار زائد
يتوقف على قيام الشاهد عليه وإن لم يكن فيه خروج عن موضوع اللفظ، لكن
يمكن أن يقال: إن شيوع استعمال الجموع المعرفة على الوجه الثاني يكافؤ ذلك
إن لم نقل بزيادته عليه، وكيف كان فالظاهر أنه لا شاهد يعول عليه في المقام على
ترجيح أحد الوجهين مع عدم قيام شاهد هناك على التعيين.
ثالثها: أنه مع إرادة الجنس من الجمع المعرف هل يكون الحال فيه كالمفرد
المعرف إذا أريد به الجنس فيعم الواحد والاثنين والثلاثة وما فوقها لانسلاخه
حينئذ عن الجمعية أو أنه يعتبر فيه كون الجنس هنا في ضمن الجماعة فلو قال " لله
علي أن أتزوج الأبكار، أو أركب الأفراس، أو أن أشتري الجواري " حصل البرء
بالإتيان بما دون الثلاث على الأول بخلاف الثاني، إذ لا يحصل الوفاء حينئذ إلا
بالإتيان بما فوق الاثنين وجهان. وذكر بعض الأفاضل وجهين في إرادة الجنس
من الجمع المعرف.
أحدهما: أن يراد به جنس الجماعة لتكون الجنسية ملحوظة بالنسبة إلى
مفهوم الجماعة فإنه أيضا من جملة الأجناس.
ثانيهما: أن يراد به مطلق الجنس فيسقط عنه اعتبار الجمعية ويبقى إرادة
الجنس، فحينئذ يجوز إرادة الواحد منه أيضا، قال: لكنه مجاز لأن انسلاخ معنى
الجمعية لا يوجب كون اللفظ حقيقة في المفرد، على أن انسلاخ الجمعية لا يوجب
انسلاخ العموم، فعلى القول بكونه حقيقة في العموم كما هو المشهور يكون حينئذ
مجازا.
نعم يمكن أن يقال: إنه بعد هذا التجوز بإرادة الجنس لا يكون إرادة الواحد
مجازا بالنسبة إلى هذا المعنى المجازي.
202

وأنت قد عرفت وهن الوجه الأول وكذا الثاني، فإنه الوجه الثالث من الوجوه
المتقدمة لتصوير إرادة الجنس في المقام وهو في غاية البعد، فإن اسقاط معنى
الجمعية وإرادة نفس الطبيعة من اللفظ مع كونه مجازا كما اعترف به بعيد عن ظاهر
الاستعمالات.
وقد عرفت أن الظاهر في حمله على الجنس هو ما مرت الإشارة إليه وحينئذ
فيكون التعدد ملحوظا في معناه على ما هو مقتضى الجمعية.
غاية الأمر أن يكون تعريف الأفراد الملحوظة فيه من حيث اتحادها مع
الطبيعة - حسب ما مر بيانه - فلا تجوز في المقام ولا يحصل الامتثال حينئذ إلا
بالإتيان به كذلك، ولذا لو أوصى شيئا للفقراء أو السادات وغيرهم من غير
المحصور حيث لا يمكن إرادة العموم منها ويتعين حملها على الجنس لم يجز
الدفع إلى ما دون الثلاثة كما نصوا عليه، وكذا الحال في النذور والأيمان وغيرها.
نعم لو قامت القرينة على قطع النظر عن ملاحظة الجمعية وإنما أريد حصول
الفعل من ذلك الجنس وإنما لوحظ فيه خصوص الجنسية دون غيرها اكتفي
بالواحد، وحينئذ فإما أن يكون ذلك بتخصيص الجمع بمطلق الجنس أو بإسناد
الفعل المتعلق بالبعض إلى الجماعة على نحو " بنو فلان قتلوا فلانا " وكلا الوجهين
مجاز بعيد غالبا عن ظاهر الاستعمالات كما لا يخفى.
رابعها: أن ظاهر ما يتراءى من دلالة الجمع المعرف على العموم أن يكون
متعلقا للنفي أو النهي قاضيا بإفادة سلب العموم - أي دفعا للإيجاب الكلي
الحاصل بالسلب الجزئي على حد النفي الوارد على سائر العمومات نحو قوله: ما
كل ما يتمنى المرء يدركه، وما كل برق لاح لي تستفزني، إلى غير ذلك - لكن لا
يساعده في المقام كثير من الإطلاقات، فإن الظاهر هو السلب الكلي. ويمكن
توجيهه بأن النفي أو النهي قد يرد على كل من جزئيات الجمع ليكون كل منها
مناطا للنفي أو النهي وقد يرد ذلك على العموم المستفاد منه كان العموم الملحوظ
فيه مجموعيا أو أفراديا.
203

وتوضيح المقام: أن العموم الملحوظ في الجمع إما أن يكون مجموعيا أو
أفراديا، فعلى الأول يكون مفاده في المقام سلب الكلي الحاصل برفع بعضه،
وعلى الثاني فإما أن يكون السلب واردا على العموم أو على كل واحد من
جزئيات العام، فعلى الأول يكون مفاده رفع السلب الكلي أيضا على نحو قولك
" ما تزوجت بكل بكر في هذه البلدة، وما زرت كل واحد من علمائنا " وعلى
الثاني يكون مفاده سلبا كليا، والظاهر من هذين الوجهين في المقام هو الثاني وإن
كان الظاهر من ورود النفي على لفظة " كل " وما بمعناه هو الأول.
بيان ذلك أنه ليس في المقام ما يفيد المفهوم من لفظة " كل " وما بمعناه، وإنما
مفاد الجمع هو خصوص الجزئيات المندرجة تحته فالاستغراق من أحواله
وصفاته من غير أن يكون هناك ما يفيد خصوص معنى الشمول ليرد النفي عليه
كما هو الحال في النفي الوارد على " كل " وما يفيد مفاده، فإذا تعلق حكم بالجمع
على الوجه المفروض فقد تعلق بكل واحد من جزئياته سواء كان ذلك الحكم نفيا
أو إثباتا، فكما يكون تعلق الحكم المثبت به حكما على كل من تلك الجزئيات
فكذا الحال في النفي.
نعم لو لوحظ شموله للجمع نظرا إلى اندراج جميع الآحاد في مدلوله وعلق
النفي عليه صح ما ذكر من دلالته على سلب العموم إلا أنه اعتبار زائد لا يساعد
عليه ظاهر الإطلاق ليتوقف على قيام شاهد عليه، وحينئذ فإن كان في المقام ما
يستظهر منه كون المقصود من الجمع عموم الآحاد تعين كون المراد منه عموم
السلب إلا أن يقوم دليل على خلافه، وإن ظهر كون المراد منه العموم المجموعي
دل على سلب العموم، وإن دار الأمر بين الوجهين من غير ظهور ترجيح لأحد
الجانبين تعين الرجوع إلى أصول الفقاهة حسب ما بيناه في وقوعه في سياق
الإثبات، والقدر المفهوم من اللفظ حينئذ هو السلب الجزئي، وما يزيد عليه فغير
مفهوم من اللفظ بل يتوقف على قيام شاهد عليه.
204

المقام الرابع
في بيان الحال في المفرد المعرف
وقد عرفت وقوع الخلاف في إفادته العموم وظاهر ما يتراءى من كلماتهم
وصريح المصنف فيما يأتي كون الخلاف في وضعه لخصوص العموم على أن
يكون استعماله في غيره مجازا فلا يكون موضوعا لما عدا العموم ولا مشتركا بين
العموم وغيره.
وأنت خبير بوهن ذلك جدا، كيف واستعماله في العهد مما لا مجال لإنكار
كونه على وجه الحقيقة، بل هو أظهر من إرادة الجنس والعموم قطعا ولذا ينصرف
إليه عند وجود المعهود، وقد قيدوا إفادة الجمع المحلى للعموم بما إذا لم يكن هناك
عهد فيكون الحال كذلك في المفرد بطريق أولى. والذي يخطر بالبال في المقام أن
الخلاف هنا نظير الخلاف في الجمع المحلى في تقديم تعريفه للأفراد على تعريف
الجنس بعد انسداد طريق العهد، فالمراد أنه إذا لم يكن هناك عهد هل ينصرف
المفرد المحلى باللام مع الإطلاق إلى تعريف الأفراد ليفيد العموم - كما في الجمع
المعرف - أو إنما ينصرف حينئذ إلى تعريف الجنس فلا يفيد العموم. والقول بوضعه
لخصوص العموم - على أن يكون هناك وضع متعلق بالهيئة التركيبية مغايرة لوضع
اللام ومدخوله - قاض بإفادته الاستغراق أو القول بكون اللام سورا بمنزلة " كل "
ليفيد الاستغراق من أبعد الأوهام. وحمل الخلاف الواقع بينهم على إرادة ذلك مع
وضوح فساده من دون قيام شاهد في كلماتهم على إرادته في المقام بعيد جدا.
وغاية ما يستفاد من كلام القائل بكونه للعموم استفادة العموم منه عند
الإطلاق وانتفاء العهد وهو لا يأبى الحمل على ما قررناه، غاية الأمر أن يلحظ
الخلاف على الوجه الأعم فلا حاجة إلى حمله على ذلك الوجه الفاسد، وكيف كان
فلهم في المسألة أقوال عديدة:
أحدها: ما ذهب إليه غير واحد من المتأخرين من كونه حقيقة في تعريف
الجنس في مقابلة العهد والاستغراق مجازا في غيره.
205

ثانيها: أنه حقيقة في العموم مجاز في غيره، حكي ذلك قولا حسب ما نص
عليه المصنف فإنه حمل كلام القائل بإفادته العموم على كونه موضوعا لخصوص
العموم مجازا في غيره على حد سائر الصيغ المختصة.
ثالثها: القول بالاشتراك اللفظي بين العموم وغيره، وهو الذي يلوح من
المصنف بل قضية كلامه كما سيجئ حكاية الاتفاق عليه ممن لا يقول بوضعه
للعموم خاصة.
رابعها: التفصيل بين ما يتميز الواحد منه بالتاء وما لا يتميز به، فيفيد العموم
في الأول دون الثاني، وحكي القول به عن إمام الحرمين.
خامسها: التفصيل المذكور بعينه إلا أنه ألحق بما يتميز الواحد منه بالتاء ما
يصح توصيفه بالوحدة - كالدينار والدرهم - فإنه يصح أن يقال: دينار واحد
ودرهم واحد، بخلاف نحو الذهب والفضة، إذ لا يقال: ذهب واحد وفضة واحدة
وحكي القول به عن الغزالي.
والمختار عندنا أنه عند انتفاء القرائن وعدم حصول عهد في المقام إنما يفيد
تعريف الجنس وينصرف إليه، وذلك لما عرفت من كون اللام موضوعة للإشارة
إلى مدخولها وإفادة تعريفه، وقد مر أيضا أن أسامي الأجناس إنما وضعت للطبائع
المطلقة المأخوذة لا بشرط شئ، وإنما يجئ إفادة الخصوصيات بملاحظة ما
يطرؤها من الطوارئ واللواحق، والمفروض أن الطارئ الحاصل في المقام -
أعني اللام - لا يفيد سوى التعريف والإشارة، فيكون مفاد اللفظين بملاحظة
الوضعين هو تعريف الطبيعة نفسها حيث لم يلحظ أمر آخر معها، فيكون مفادها
تعريف الطبيعة من حيث هي أي مع قطع النظر عن كونها متحدة مع فرد خاص منها
- كما في تعريف العهد - أو مع جميع الأفراد كما في الاستغراق.
والحاصل: أن ما وضع له اسم الجنس هو الطبيعة لا بشرط شئ فيعم الوجوه
الثلاثة المذكورة حيث إن اللابشرط يجامع ألف شرط، فيتم تعريفه على كل من
تلك الوجوه من غير لزوم تجوز، إلا أن كلا من الوجهين الأخيرين يتوقف على
206

انضمام أمر آخر ليكون اللفظ بتلك الواسطة دالا عليه ويكون التعريف والإشارة
منصرفا إليه، وأما إرادة الجنس فلا يتوقف على انضمام أمر إليه إذ مجرد اللفظ
كاف في الدلالة عليه، ويكفي في عدم إرادة تلك الخصوصيات انتفاء ما يدل
عليها، فيكون مفاد اللفظ حينئذ بملاحظة وضع اللام واسم الجنس منضما إلى ما
ذكرنا هو الطبيعة من حيث هي على الوجه الذي بينا، فليس مجرد وضع اللام
للتعريف والإشارة ووضع مدخولها لمطلق الجنس قاضيا بكونه حقيقة في الجنس
بالمعنى المذكور مجازا في غيره، لما عرفت من كون الجنس الذي وضع أسامي
الأجناس بإزائه هو الطبيعة المطلقة الحاصلة في صورة العهد والاستغراق أيضا،
أما الجنس المقابل لهما فهو مأخوذ على وجه اللابشرط حاصل في صورة إرادة
العهد عند إطلاقه على خصوص المعهود، وكذا في صورة إرادة الاستغراق فإن
اللابشرط لا ينافي وجود الشرط.
غاية الأمر أن تكون الخصوصية مدلولة عليها بأمر خارجي لوضوح أن ما
يدل على اللابشرط لا يفيد خصوصية الشرط.
والحاصل: أن ملاحظة الوضعين المذكورين لا يقضي بكونه حقيقة في
خصوص تعريف الجنس المقابل للعهد والاستغراق، بل مقتضاه كونه حقيقة في
الأعم من الوجوه الثلاثة.
غاية الأمر أنه لما كان إطلاق اللفظ على خصوص المعهود أو على جميع
الأفراد متوقفا على ضم خصوصية إليه - ولم يكن نفس اللفظ دالا على تلك
الخصوصية، لوضعه للقدر المشترك - توقف الدلالة على كل منهما على قيام قرينة
دالة عليه بخلاف الحمل على الجنس المقابل لهما، فإن عدم قيام الدليل على
إطلاق اللفظ على إحدى الخصوصيتين المذكورتين كاف في إفادته. فتبين بما
قررنا أن المفرد المعرف حقيقة في القدر المشترك بين الوجوه الثلاثة إلا أنه
ينصرف عند الإطلاق إلى الجنس، والظاهر أن ما اخترناه من كونه حقيقة في
الأعم مختار جماعة من الأعلام كما يستفاد من كلماتهم. قال بعض الأفاضل: إن
207

طريقة تقسيمهم الجنس المعرف باللام إلى أقسامه يقتضي القول بكونه حقيقة في
الجميع، لكن لا على سبيل الاشتراك، بل من باب استعمال الكلي في الأفراد
انتهى.
وكيف كان فحمل اللام على الجنس في المفرد المعرف متقدم على حمله على
العهد والاستغراق وإن كان الحمل على العهد متقدما عليه مع وجود المعهود، إذ هو
أظهر من غيره كما مر في الجمع المعرف إلا أن صحة الحمل عليه موقوف على
وجود المعهود ولا يعقل الحمل عليه من دونه، فهو في الحقيقة مصحح للحمل على
العهد لا قرينة على الحمل عليه، كما مرت الإشارة إليه وسيجئ أيضا إن شاء الله.
هذا والقول بكونه للعموم يتوقف على القول بتعلق وضع خاص باللام الداخلة
على المفرد يفيد الاستغراق من جهته أو القول بحصول وضع للهيئة التركيبية
حسب ما مر نظيره للقول بوضع الجمع المعرف لخصوص العموم وهو - مع بعده
عن الظاهر - مدفوع بالأصل، مضافا إلى قضاء التبادر بخلافه، إذ لا يتبادر من
المفرد المحلى مع الإطلاق إلا الطبيعة المطلقة المعرفة بواسطة الإشارة، ويشير إليه
أيضا عدم صحة الاستثناء منه مطردا، ولو كان موضوعا للعموم ظاهرا فيه لاطرد
جواز الاستثناء منه.
حجة القول بوضعه لتعريف الجنس خاصة وكونه مجازا في إرادة العهد
والاستغراق وجوه:
أحدها: ما أشار إليه بعض المتأخرين على نحو ما أشرنا إليه من أن ذلك قضية
وضع اللام للإشارة والتعريف ووضع أسامي الأجناس للطبائع المطلقة - حسب ما
مر الكلام فيها - فيكون مفاد اللفظ المذكور بملاحظة الوضعين المفروضين هو
تعريف الجنس. ودعوى طرو وضع آخر متعلق بالهيئة التركيبية يفيد الاستغراق
من جهته خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا بدليل.
وأورد عليه أنه لا ريب في حصول وضع متعلق بالهيئة التركيبية يصح
التركيب بين اللفظين من جهته، ولا ريب أيضا في حصول الرخصة في الجملة في
208

استعمالها على كل من الوجوه الثلاثة المذكورة من الجنس والعهد والاستغراق،
واحتمال إرادة التكلم بالنسبة إلى الكل متساوية، فلا يجري أصل العدم بالنسبة
إلى شئ منها والقول بأن مدخول اللام حقيقة في الطبيعة اللابشرط فأصل الحقيقة
لا يثبت الحقيقة بالنسبة إلى الهيئة التركيبية.
وأنت خبير بوهن الإيراد فإن تركيب اللام مع مدخوله ليس إلا كسائر
التراكيب والوضع المتعلق به كلي نوعي يندرج فيه هذا التركيب أيضا، ولا داعي
إلى التزام وضع شخصي يتعلق بهذا التركيب الخاص حتى يحتمل أن يكون
خصوصية الدلالة على الاستغراق أو غيره حاصلة من جهته، وليس مفاد الوضع
العام المتعلق بالتراكيب سوى الترخيص المتعلق بتراكيب الألفاظ بعضها مع بعض
وضم بعضها مع آخر لحصول المعاني المركبة من ذلك.
نعم قد لوحظ في بعض الهيئات معنى آخر يضم إلى معاني المفردات - كالنسبة
الإضافية الملحوظة في وضع الإضافة والنسبة التوصيفية في التوصيف ونحو
ذلك - وهو غير متحقق الحصول في المقام، وقضية الأصل عدمه، ومقتضى
الترخيص المطلق في التركيب ليس إلا ضم معنى التعريف إلى معنى الجنس. فما
ذكره من أن أصل الحقيقة لا يثبت الحقيقة بالنسبة إلى الهيئة التركيبية كما ترى، إذ
ليس المقصود إثبات مفاد الهيئة التركيبية من جهة ذلك الأصل، بل المقصود أن
قضية الأصل حمل اللفظين على معناهما الموضوع له، وقضية التركيب المرخص
فيه صحة ضم أحدهما إلى الآخر، وجواز إرادة المعنى المركب كما هو قضية
الترخيص الحاصل في سائر التراكيب وتعلق وضع خاص بتلك الهيئة غير معلوم،
فالأصل عدمه، ولم يتحقق هناك وضع خاص متعلق ليشك فيما تعلق به لئلا يصح
إجراء الأصل بالنسبة إليه. ومن الغريب أن المورد المذكور لا زال يتمسك في دفع
المعاني الزائدة بالأصل بالنسبة إلى الهيئات بعد تعلق الوضع بها كما نص في دفع
اعتبار الفورية فيما وضع له هيئة الأمر إلى غير ذلك من سائر الأبواب، فكيف! لم
يعول عليه في المقام.
209

الثاني: تبادر تعريف الجنس من المفرد المعرف عند الإطلاق من دون أن
يتردد الذهن بينه وبين العهد أو الاستغراق، وذلك دليل على كونه حقيقة فيه مجازا
في غيره.
الثالث: عدم صحة الاستثناء منه مطردا، القبح " جاءني الرجل إلا البصري،
وأكرم الرجل إلا الفساق " إلى غير ذلك.
ولا يذهب عليك أن شيئا من الوجوه المذكورة لا ينافي ما اخترناه من كونه
حقيقة في تعريف الجنس بمعناه المطلق الشامل لإطلاقه على المعهود والاستغراق
والجنس المأخوذ في مقابلتهما، فإنا نقول به بانصرافه عند استعماله في الجنس
المأخوذ على الوجه الأول إلى خصوص الأخير حسب ما قررناه وهو الوجه في
تبادره منه فلا يفيد وضعه له بالخصوص. وغاية ما يقتضيه عدم اطراد الاستثناء
عدم وضعه للعموم ونحن نقول به أيضا. وما ذكر في الوجه الأول من الرجوع إلى
الأصل فهو في الحقيقة دليل على المختار - حسب ما مر بيانه - والاحتجاج به
على القول المذكور مبني على الخلط بين مفادي الجنس على الوجهين
المذكورين.
هذا، وقد يتخيل في المقام أنه لا تجوز هنا بالنسبة إلى اللام في شئ من
الإطلاقات المذكورة لكونها موضوعة لتعريف مدخولها والإشارة إليه وهو
حاصل في كل من الوجوه المذكورة، وإنما التجوز في المقام عند استعمال المفرد
المعرف في العهد أو الاستغراق أو العهد الذهني في مدخول اللام، لكونه حقيقة في
مطلق الجنس حسب ما تقرر من وضع أسامي الأجناس لنفس الأجناس والطبائع
المطلقة، فاستعمالها في الفرد المعين أو في جميع الأفراد أو الفرد المنتشر مجاز،
لضم الخصوصية المذكورة إلى مفاد نفس الكلمة، ولأن إرادة أي من المعاني
المذكورة منها متوقفة على قيام القرينة سوى إرادة الجنس، وذلك شاهد على
المجازية، وحيث لا تجوز بالنسبة إلى الأداة حسب ما قررناه فالتجوز في
مدخولها.
210

وضعفه ظاهر مما قررناه فإن ما وضع له أسامي الأجناس هو الطبائع المطلقة
المأخوذة لا بشرط شئ، ومن المقرر أن الماهية اللابشرط يجامع ألف شرط
فإطلاقه على الماهية المطلقة المقيدة لا يقضي بخروج اللفظ عن موضوعه إذا
كانت الخصوصية مرادة من الخارج لا من نفس اللفظ حسب ما قررناه في إطلاق
الكلي على الفرد كما هو الحال في معظم استعمالات الكليات، فإنها في الغالب
إنما تطلق على المفاهيم المقيدة مع أنه لا تجوز فيها كما هو ظاهر من ملاحظة
استعمالاتها.
وقد مر تفصيل القول فيه ومن ذلك موضع الكلام في المقام فإن من تأمل في
استعمالاته العرفية في المخاطبات الجارية يكاد يقطع بكون استعماله على وجه
الحقيقة حين إطلاقه على المعهود كما في قولك " يا أيها الرجل أو أكرم هذا الرجل
وائتني بذلك الرجل ونحوها " من الاستعمالات الشائعة المتكثرة وكذا الحال في
إطلاقه على جميع الأفراد والفرد المنتشر عند التأمل في المقام، فالحيثية
الملحوظة في وضع المادة أعم من الجنس الملحوظ في المقام، فإن المراد
بالجنس هناك يعم ما إذا أريد به العهد أو الاستغراق أو العهد الذهني أيضا بخلاف
ما يراد من الجنس هنا، فإنه يقابلها فالجنسية على الوجه الثاني ملحوظة بشرط
لا، لعدم اجتماع إرادتها مع إرادة أحد المعاني المذكورة بخلاف الجنس الملحوظ
في الوجه الأول، فإنه مأخوذ على وجه اللابشرط فيعم كلا من الوجوه المذكورة.
وما ذكر من توقف فهم تلك المعاني على ضم القرينة فيكون شاهدا على مجازيته
فيها أوهن شئ، وذلك لأن ضم أحد القيود المذكورة إلى الطبيعة المطلقة وكون
الطبيعة اللابشرط حاصلة مع أحد الشروط المعينة لا بد له من دليل يدل عليه، فإن
مجرد اللفظ الموضوع للطبيعة المطلقة لا يدل عليه، فلا بد من قرينة تدل على كون
تلك الطبيعة المطلقة مقترنة بواحد منها حاصلة معها - كما هو الحال في إطلاق
الكلي على الفرد في سائر المقامات - فإنه لو لم يقم دليل على إطلاق الكلي على
الفرد لم يحمل اللفظ إلا على الطبيعة المطلقة إذ لا يزيد مدخول اللفظ على ذلك.
211

فإن قلت: إذا كان نفس مدلول اللفظ لا يزيد إلا على ذلك ولا يفيد سوى إرادة
الطبيعة المطلقة كان إرادة ما سوى ذلك منه خروجا عن مقتضى وضعه فيكون
مجازا، فإذا كان الألفاظ الخالية عن اللام والتنوين موضوعة لنفس الأجناس كان
مفادها بعد ضم لام التعريف هو الجنس المعرف لا غيره من العهد أو الاستغراق أو
غيرها فلا محالة يكون إطلاقه مجازا.
قلت: إنما يتم ذلك لو أدرجت تلك الخصوصيات في المراد من اللفظ وليس
كذلك، بل انما تراد تلك من القرائن المنضمة ولا يراد من اللفظ إلا نفس الطبيعة،
فمراد المتكلم هو الطبيعة المقيدة وقد أطلق اللفظ عليها لكن نفس الطبيعة مدلولة
لنفس اللفظ والقيد مستفاد من القرائن المنضمة إليه - حسب ما فصل الكلام فيه في
بيان إطلاق الكلي على الفرد - وبينا أن الاستعمال المفروض على وجه الحقيقة
وإن أطلق اللفظ على خصوص الفرد إذا كان ذلك من حيث اتحاده مع الطبيعة
وانطباقها عليه مع كون الخصوصية مفهومة من الخارج.
حجة القول بكونه للعموم وجوه تأتي الإشارة إلى وجهين منها في كلام
المصنف.
قوله: * (لنا عدم تبادر العموم منه) *.
لا يخفى أنه لو تم الاستدلال المذكور لأفاد كونه مجازا في العموم، فإن عدم
التبادر من أمارات المجاز وحينئذ ينافي ذلك ما سيصرح به من كونه حقيقة في
العموم قطعا، وإنما الكلام في كونه حقيقة فيه خاصة أو أنه حقيقة فيه وفي غيره
أيضا، ويمكن توجيهه بأن المقصود عدم تبادر العموم منه على وجه يعلم أنه
المراد وهو يفيد عدم كونه حقيقة فيه بخصوصه سواء كان مجازا فيه أو مشتركا بينه
وبين غيره.
قوله: * (لو عم لجاز الاستثناء منه مطردا) *.
أراد بذلك الدلالة على عدم وضعه خاصة سواء كان مجازا فيه أو مشتركا بينه
وبين غيره حيث لا يجري اطراد الاستثناء حينئذ بالنسبة إلى معناه الآخر، فلا
ينافي ذلك أيضا ما سيجئ من اعترافه بوضعه للعموم في الجملة.
212

ويمكن الإيراد عليه بأن عدم اطراد الاستثناء إن كان مع الخلو عن القرائن
أفاد عدم وضعه للعموم أصلا، إذ لو كان موضوعا للعموم لجاز إرادة العموم منه في
كل موضع خال عن القرينة فيصح الاستثناء ويكون ذلك قرينة معينة لاستعماله في
العموم. وإن كان مع وجود القرينة لم يكن فيه دلالة على وضعه للعموم أصلا،
ضرورة عدم صحة الاستثناء بعد قيام القرينة على عدم إرادة العموم ولو كان اللفظ
موضوعا للعموم.
نعم قد يتضح الاستدلال بذلك على ما هو المختار من كونه موضوعا للأعم إذ
ليس معناه الموضوع له خصوص العموم فلا يطرد صحة الاستثناء بالنسبة إليه
وإنما يتبع ذلك خصوص المقامات.
هذا وقد يستدل على القول المذكور بوجوه اخر موهونة:
منها: أنه لو كان للعموم لما صح أن يقال " أكلت الخبز وشربت الماء " وقد أكل
خبزا واحدا وشرب شربة من الماء، فإنه مع انتفاء الوضع يتوقف صحة الاستعمال
على وجود العلاقة بينهما وحيث لا علاقة بينهما - كما هو الحال في سائر
العمومات إذا أريد بها الواحد حسب ما فصل في محله - يتعين كونه غلطا. وهو ما
ذكرناه من الملازمة والتالي باطل قطعا فكذا المقدم.
وأورد عليه بأن غاية ما يلزم من ذلك عدم صحة ذلك حقيقة وأما جوازه
مجازا فلا مانع منه، والقرينة عليه حاصلة في المقام، لوضوح عدم تمكن أحد من
أكل كل خبز وشرب جميع الماء.
وأورد عليه بعض الأفاضل بأن المقام محل تأمل، لوضوح أن صحة
التخصيص المذكور محل تشاجر بين الأصوليين. ومحققوهم ذهبوا إلى المنع منه
واشتراط بقاء جمع يقرب من مدلول العام كما سيجئ بيانه إن شاء الله.
واستندوا في المنع إلى استهجان العرف وعدم وجود العلاقة المعتبرة، فلو كان
المفرد المعرف عاما كان ما ذكر مندرجا تحت ذلك وكان مستهجنا في العرف
خاليا عن العلاقة المعتبرة على ما ذكروه، بل لو قلنا بجواز التخصيص المذكور
213

فلا أقل من كون ذلك محلا للخلاف، موردا للالتباس، ممنوعا عند الجماعة، مع
جواز الاستعمال المذكور عند الكل، بل قضاء ضرورة اللغة به، حيث لا مجال
لاحتمال المنع منه، فكيف! يبنى صحته على الوجه المذكور المختلف فيه بل
الممنوع منه عند المحققين، فالاتفاق على صحة التعبير المذكور مع ظهور الخلاف
في صحة التخصيص إلى الحد المذكور دليل على عدم استناد جوازه إلى ذلك،
فيكون شاهدا على عدم وضعه للعموم. ويوضح ذلك أن العبارة المذكورة بناء على
كون المفرد المعرف للعموم بمنزلة قولك أكلت كل خبز وشربت جميع المياه ومن
الواضح استهجان الثاني في العرف وعدم جريانه في الاستعمالات والمنع منه عند
الجماعة بخلاف الأول، لجريانه في الاستعمال وعدم استهجانه أصلا، وعدم توهم
أحد حصوله المنع منه فهو أقوى دليل على الفرق، وليس إلا من جهة إفادة الثاني
للعموم دون الأول كما هو المدعى.
ويدفعه: أنه إنما يتم ذلك لو انحصر طريق التجوز فيه في التخصيص كما في
المثال المذكور، أما لو أمكن التجوز فيه بغيره كإرادة الجنس أو العهد فلا مجال
للإيراد المذكور أصلا، ولا خلاف لأحد في جواز استعمال المفرد المعرف في كل
من المعنيين وإن اختلفوا في اختصاصه وضعا بالعموم على ما يتراءى من ظاهر
كلماتهم.
وهذا هو الوجه في الاتفاق على جواز الاستعمال المذكور مع وضوح
الخلاف في جواز التخصيص بالأكثر، فالاحتجاج المذكور ضعيف جدا على أنه
- مع الغض عما ذكرنا والقول بصحة البيان المذكور - فهو لا يقضي بنفي كونه حقيقة
في العموم مطلقا أقصى الأمر أن يفيد عدم وضعه لخصوص العموم، فلا ينافي ما
اخترناه من وضعه للقدر المشترك. فإن كان المقصود بالاحتجاج بيان ذلك فلا
كلام. وإن أريد نفي كون إطلاقه مع إرادة العموم حقيقة مطلقا فهو موهون جدا،
على أنه يمكن الإيراد عليه بأنه لا مانع من القول بكونه موضوعا للعموم بكون
الاستعمال المذكور مجازا، وما ذكر من منع إطلاق العام على الواحد على فرض
214

تسليمه إنما يتم إذا كان على سبيل التخصيص، ولا مانع من القول بكون اللام
بحسب وضعه للاستغراق ويستعمل في الجنس على سبيل المجاز لعلاقة له، حيث
إن كلا منهما إنما يراد به تعريف مدخوله، كيف! وجواز إرادة الجنس من الفرد
المعرف حقيقة أو مجازا مما لا خلاف فيه وإن اختلفوا في اختصاصه وضعا
بالعموم على ما يتراءى من ظاهر كلامهم.
ومنها: أنه لو كان للعموم لجاز وصفه بالجمع المعرف وتأكيده به وهو غير
جائز، إذ لا يقال: رأيت الرجل العدول، أو ذهب الفقيه كلهم.
وفيه: أنه قد يكون من جهة مراعاة المشاكلة اللفظية.
قوله: * (جواز وصفه بالجمع... الخ) * توضيح الاستدلال: أنه قد وقع
توصيف المفرد المحلى بالجمع المعرف في كلام من يعتد بشأنه من العرب - حسب
ما حكاه الأخفش من العبارتين المذكورتين - فيفيد ذلك جواز توصيفه به وحيث
إن الجمع المحلى يفيد العموم كما مر فكذا المفرد وإلا لم يحصل المطابقة بين
الموصوف والصفة.
قوله: * (صحة الاستثناء منه) *.
يمكن أن يريد به جواز الاستثناء منه مطردا فإنه دليل الوضع للعموم، وقد
يراد به صحة الاستثناء منه في الجملة بدعوى كون ذلك أيضا دليلا على الوضع
للعموم، أو يجعل ذلك دليلا على استعماله هناك في العموم، ويتمسك حينئذ في
كونه حقيقة بأن الأصل في الاستعمال الحقيقة.
قوله: * (بالمنع من دلالته على العموم) * كأنه يريد بذلك أن العموم
الحاصل في المفرد على القول به إنما يكون بدلالته على كل فرد، وعموم الجمع
إنما هو بدلالته على مجموع الأفراد ولا تطابق بينهما، ولو قلنا بعموم المفرد فلا بد من
التوجيه في تطبيق الوصف على الموصوف على كل حال، ومعه لا يبقى فيه
دلالة على المدعى لعدم انحصار الوجه في التوجيه.
وقد يتراءى من ظاهر تعبيره أن المراد بما ذكره في سند المنع أن بناء العموم
215

هو الدلالة على كل فرد، إذ العام هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له، ومدلول
الجمع هو مجموع الأفراد حيث أطلق الجمع في المقام على أعلى مراتبه ودلالته
على خصوصيات الأفراد المندرجة تحته من قبيل دلالة الكل على أجزائه، وليس
ذلك من قبيل دلالة العام، فلا دلالة في توصيفه به على عموم المفرد، إذ لا عموم
فيه كذلك حتى يفيد العموم في موصوفه. ويضعفه حينئذ ما عرفت من دلالة الجمع
المحلى على العموم وأن مبنى العموم يعم الوجهين، ولذا ذهب المعظم إلى عموم
الجمع من غير خلاف يعتد به كما مر.
قوله: * (بأنه مجاز لعدم الاطراد) *.
أراد بذلك أن مجرد صحة الاستثناء في بعض الفروض لا يفيد الوضع للعموم
بل عدم اطراده كما في المقام يفيد خلافه، إذ لو كان موضوعا له لاطرد ذلك وجاز
الاستثناء في سائر الموارد لصحة الاستثناء من العام في كل مقام.
قوله: * (فلأنه مبني على أن عموم الجمع ليس كعموم المفرد) *.
يريد أن التحقيق أن عموم الجمع على نحو عموم المفرد، فمفاد الجمع المحلى
هو كل واحد من أفراد مفرده - كما أن عموم المفرد هو كل واحد منه - ولذا اختار
بعضهم ثبوت وضع جديد للهيئة التركيبية في الجمع المحلى مفيد لذلك كما مرت
الإشارة إليه.
وقد يورد عليه بأن القول بحصول وضع جديد للجمع المحلى يفيد بسببه
العموم الأفرادي بعيد جدا، بل فاسد ظاهرا - حسب ما مر بيانه - وإنما يفيد العموم
الأفرادي من جهة تعلق الحكم بكل واحد من الجزئيات المندرجة تحت الجميع
اندراج الجزء تحت الكل، حيث أطلق الجمع على مرتبته العليا، فتعلق الحكم بكل
واحد من الآحاد المندرجة فيها، وحينئذ فالمراد بالجمع هو مجموع الأفراد التي
هي المرتبة العليا من الجمع، وعموم الحكم إنما هو بالنسبة إلى جزئيات مفرده
المندرجة فيها حيث تعلق الحكم بكل واحد منها، فشمول الحكم لكل واحد من
الآحاد لا ينافي استعمال الجمع بنفسه في المجموع. والتوصيف في المقام إنما
216

يلاحظ بالنسبة إلى معناه الأفرادي ولا يراد به سوى مجموع تلك الآحاد، والعموم
الأفرادي إنما يجئ من ملاحظة التركيب وتعلق الحكم به ولا ربط له بالتوصيف
حتى يجعل ذلك مصححا لتوصيفه بالجمع. وفيه نظر المذكور في الأصل بعد
الإيراد. ويدفعه من غير ذكر وجه.
قوله: * (لا مجال لإنكار إفادة) *.
هذا الكلام ظاهر في ذهابه - بعد إنكاره كون المفرد المعرف من ألفاظ
العموم - إلى اشتراكه لفظا بين الاستغراق والعهد والجنس، وقد عرفت وهنه.
نعم كون الاستعمال الواقع على كل من الوجوه الثلاثة على سبيل الحقيقة هو
الظاهر، لكن لا من جهة الاشتراك اللفظي، بل من جهة الاشتراك المعنوي وحصول
ما وضع له اللفظان أعني اللام ومدخوله كما مر تفصيل القول فيه.
قوله: * (وكونه أحد معانيها مما لا يظهر فيه خلاف) *.
هذه العبارة واضحة الدلالة على كون الاستغراق مدلول اللام عنده وأنها
موضوعة بإزائه، وقد عرفت أنه لا وجه له وأن الاستغراق حاصل بمعونة المقام،
وأن نفس الاستغراق مما لا يستعمل فيه اللفظ قطعا، كما هو الحال فيما يراد منه
الجنس والعهد.
نعم يتحصل من ضم اللام إلى مدخوله معنى يكون مستغرقا للآحاد المندرجة
فيه. هذا بالنسبة إلى الجمع وأما المفرد فعلى أحد الوجوه فيه.
وتوضيح المقام: أن إرادة الاستغراق من المفرد المعرف يتصور على وجوه:
أحدها: أن يكون الهيئة التركيبية أو المجموع المركب من اللفظين موضوعة
لإفادة الاستغراق على ما مر نظيره في الجمع.
ثانيها: أن يكون اللام الداخلة عليه بمعنى كل ويكون قولك " العالم " بمنزلة
كل عالم، وحينئذ فيكون التعريف فيه لفظيا - حسب ما مرت الإشارة إليه في كلام
نجم الأئمة - أو يقال حينئذ بكون مفاده مفاد كل من حيث حضور الكل في الذهن
والإشارة إليه ليكون ذلك سببا مفيدا للتعريف، وقد مر نظير ذلك في الجمع أيضا.
217

ثالثها: أن يكون المراد من مدخول اللام هو الطبيعة المطلقة من حيث كونها
مرآتا للآحاد المندرجة تحتها نظرا إلى القرينة الدالة عليه ويكون اللام الداخلة
عليها إشارة إلى الطبيعة المفروضة تعريفا لها من تلك الحيثية، فيكون مفاده هو
تعريف الآحاد، إذ مفاد الطبيعة الملحوظة على الوجه المفروض عين مفاد الفرد.
رابعها: أن يطلق الجنس المدخول للأم على جميع الآحاد كما أنه يطلق في
المعهود على خصوص فرد أو أفراد معهودة، فيكون اللام حينئذ للإشارة إلى
خصوص تلك الأفراد وتعريفها، كما هو الحال في تعريف العهد من غير لزوم مجاز
في اللام ولا في مدخوله.
خامسها: أن يكون المراد من مدخوله نفس الجنس والطبيعة المطلقة
المأخوذة لا بشرط شئ ولكن قامت القرينة على إطلاق تلك الطبيعة على جميع
الآحاد المندرجة تحتها، فيكون اللام تعريفا للطبيعة بالذات ولتلك الآحاد
بالعرض بملاحظة إطلاقها عليها.
سادسها: أن يكون اللام لتعريف نفس الطبيعة كغيرها من المقامات لكن تقوم
هناك قرينة خارجية على الاستغراق وحصول تلك الطبيعة في ضمن جميع
الآحاد من غير أن يراد من لفظ الجنس المذكور بوجه من الوجوه، فلا يكون
الاستغراق حينئذ من مدلول المفرد أصلا، وإنما هو مدلول خارجي حاصل من
القرينة من غير أن تفيد القرينة استعمال اللفظ فيه ولا إطلاقه عليه.
قوله: * (إن القرينة الحالية قائمة... الخ) *.
الظاهر العبارة المذكورة - سيما بملاحظة ما تقدم - يعطي كون مراده كون
العموم المحمول عليه هنا من جهة حمل اللام على الاستغراق حملا للمشترك على
أحد معانيه، فيكون عموم المفرد حينئذ استغراقيا وضعيا كسائر ألفاظ العموم، إلا
أن الفرق اشتراكه هنا بين العموم وغيره، وتعيين الأول من جهة القرينة بخلاف
غيره من ألفاظ العموم، فلا يندرج إذن في المطلقات لينصرف إلى الأفراد الشائعة
- حسب ما سيجئ الكلام فيه - وهو ضعيف وما يذكره في بيانه غير متجه - كما
سيجئ الإشارة إليه -.
218

وفي قوله " غالبا " إشارة إلى عدم إفادته العموم في بعض المواضع مما يقع
متعلقا للأمر أو يقع في سياقه للاكتفاء بإيقاعه في ضمن فرد ما، ولذا فصل بعض
الأفاضل في المقام فقال: إن المفرد المعرف إذا وقع متعلقا للأمر كان مفاده الطبيعة
في ضمن فرد ما، لشهادة العرف بحصول الامتثال به، وإذا وقع متعلقا للنهي أفاد
العموم، لعدم حصول ترك الطبيعة إلا بتركها في ضمن جميع الأفراد مضافا إلى
شهادة فهم العرف بإرادة ذلك وتوقف حصول الامتثال عندهم على ذلك، وإذا وقع
متعلقا لسائر الأحكام - كالحلية والطهارة وعدم الانفعال بالنجاسة ونحوها - أفاد
العموم بالنظر إلى دليل الحكمة - حسب ما أشار إليه - ويمكن أن يقال باستفادة
العموم منه في مقام الأمر أيضا، إذ ليس المقصود حينئذ إيجاد الطبيعة في ضمن
فرد معين إذ لا تعيين، ولا في ضمن فرد ما على سبيل الإبهام والإجمال لخروج
الكلام منه عن الإفادة، بل المقصود أداؤها في ضمن أي فرد كان.
غاية الأمر أن يكون العموم فيه بدليا فاستفادة العموم حاصلة في المقامين
غير أن العموم هنا بدلي وفي غيره استغراقي، والظاهر أن المفصل المذكور قائل
بذلك أيضا، والمصنف أيضا يقول به، فلا خلاف في المعنى إنما الكلام في التسمية.
والحق أن يقال: إن متعلق الأحكام الشرعية إنما هي الطبائع من حيث
اتحادها مع أفرادها، وكونها عنوانات لمصاديقها من غير أن يكون الأفراد بنفسها
متعلقا للأحكام، بل من حيث اتحادها مع الطبيعة، حيث إن الأمر قد تعلق بالطبيعة
من الحيثية المذكورة - حسب ما أشرنا إليه - وحينئذ فإما أن يتعلق الأمر بها من
حيث اتحادها مع فرد مخصوص أو مع فرد ما أو جميع الأفراد، وحيث لا سبيل
إلى الأول لانتفاء العهدية والجهة المعينة وعدم حصول فائدة في الثاني يتعين
الثالث، وليس ذلك قاضيا باستعمال اللفظ في العموم، بل إنما يفيد كون المراد من
تعليق الحكم على الطبيعة هو الطبيعة الحاصلة في ضمن كل فرد من أفرادها،
فيكون اعتبار الحكم المذكور مكملا للمراد دالا على العموم من دون أن يكون
ذلك مرادا من اللفظ، ويحتمل القول بكون الحكمة المذكورة قرينة على إرادة ذلك
219

من اللفظ بأن يفيد كون المراد من اللفظ الدال على الطبيعة هو الطبيعة من حيث
اتحادها مع كل من الآحاد ولا مجاز أيضا - كما عرفت الحال فيه مما مر - فإن
ذلك أيضا من إطلاق الكلي على الفرد مع كون المفهم له أمرا خارجيا وهذا هو
الأظهر، وكيف كان فالعموم المستفاد على الوجه المذكور لا يتعدى إلى الأفراد
الشائعة، بل إنما ينصرف إليها دون النادرة، بل ينصرف إلى ما يقتضيه خصوص
المقام - كما إذا وكله في شراء العبد - فإن ظاهر التوكيل في الشراء ينصرف إلى
إرادة العبد السليم الخالي من العيب مع أن لفظ العبد في نفسه يعم ذلك وغيره.
وهذا في الحقيقة خارج عما نحن بصدده، لرجوعه إذن إلى فهم الخصوصية من
خصوص المقام لا بانصراف اللفظ إليه في نفسه - كما هو الملحوظ من انصراف
المطلق إلى الأفراد الشائعة -.
ولنتبع الكلام في المقام بذكر أمور:
أحدها: أنه يجري في الجمع المضاف والمفرد المضاف ما ذكرناه في الجمع
المعرف والمفرد المعرف، فكما أن الجمع المعرف يفيد العموم فكذا الجمع
المضاف، والتبادر الحاصل هناك قائم هنا أيضا، إلا أن العموم في الجمع المعرف
بالنسبة إلى أفراد الجمع وهنا إلى أفراده المقيدة بالمضاف إليه.
والتحقيق فيه نظير ما ذكرنا في الجمع المعرف فإن التعريف كما يحصل
بالألف واللام كذا يحصل بالإضافة، وكما أن التعريف قد يكون بتعريف الجنس قد
يكون بتعريف العهد وقد يكون بالاستغراق، فلما كان الجمع اسما للوحدات
- حسب ما عرفت - وكان المرتبة المتيقنة من الجمع هي الدرجة العليا منه -
حسب ما مر - لزم انصراف التعريف إليه إلى آخر ما ذكر. وأما على القول المذكور
في الجمع فينبغي القول بوضع الهيئة التركيبية هنا للعموم، فينبغي القول بتعلق وضع
خاص لإضافة الجمع نظرا إلى زيادة ذلك في معناه بخلاف غيره من الإضافات،
وهو أيضا يوهن الدعوى المذكورة، إذ ثبوت وضع خاص للإضافة المفروضة
خلاف الأصل والظاهر.
220

ثم إن قضية ما ذكرناه في بيان المختار اختصاص القول بالعموم بالجمع
المضاف إلى المعرفة ليتحصل به تعريف المضاف، وأما المضاف إلى النكرة فلا
يجزي فيه الوجه المذكور، فالظاهر عدم إفادته للعموم، ولو قيل بكون دلالته عليه
من جهة الوضع التركيبي فربما يقال بتعميم الحكم للأمرين، وقد يشير إلى ذلك
إطلاق بعضهم بكون الجمع المضاف للعموم - كما في كلام شيخنا البهائي في الزبدة
وغيره -.
وقد يحتج عليه بالتبادر، لكنك خبير بأن التأمل في العرف قاض بالفرق،
ودعوى التبادر بالنسبة إلى المضاف إلى النكرة ممنوعة والمسلم منه إنما هو
بالنسبة إلى المضاف إلى المعرفة، وليس مستندا إلى نفس اللفظ ليفيد الوضع وإنما
هو مستند إلى ما ذكرناه من الوجه - حسب ما مر القول فيه -.
وأقصى ما يسلم في المضاف إلى النكرة هو الإطلاق الراجع إلى العموم في
كثير من المقامات من جهة دليل الحكمة ولا ربط له بالمقام. والحق في المفرد
المضاف ما ذكرناه في المفرد المعرف بالأداة.
ثانيها: أنه قد يتوهم أن انصراف المطلق إلى الشائع بحصول النقل وكون اللفظ
منقولا في العرف إلى خصوص ما يعم الأفراد الشائعة وهجره من المعنى العام
الشامل للجميع، نظرا إلى تبادر غيره منه في العرف، فيكون حقيقة عرفية في
الشائع مجازا في غيره أخذا بمقتضى العلامتين، فلا بد إذن من الحمل عليه لتقديم
الحقيقة العرفية على اللغوية القديمة قطعا، وانصراف كلام الشارع إليه مع دورانه
بين الأمرين، لتقديم العرف على اللغة حسب ما قرر في محله.
وهذا الوجه فاسد جدا، إذ دعوى كونه مجازا في المعنى العام وحصول الهجر
بالنسبة إليه مما ينافيه صريح العرف، كيف! ولو كان كذلك لم يكن هناك فرق بين
العمومات والمطلقات، إذ العموم إنما يعرض اللفظ بالنسبة إلى ما وضع بإزائه،
ودعوى دلالة التبادر على كونه حقيقة في خصوص الشائع وعدم تبادر المعنى
الأعم منه ومن النادر على كونه مجازا فيه فاسدة، إذ التبادر في المقام ليس
221

مستندا إلى نفس اللفظ بل من جهة غلبة الإطلاق، فهو نظير تبادر المجاز الراجح
على الحقيقة بملاحظة الشهرة، فلا يكون علامة على الحقيقة ولا عدمه علامة
للمجاز حسب ما مر بيانه، ومع الغض عن ظهور ذلك في المقام فمجرد الشك في
استناده إلى اللفظ أو الغلبة الظاهرة كاف في دفع ذلك، لأصالة عدم النقل. ودعوى
أن الأصل في التبادر أن يكون مستندا إلى نفس اللفظ وكونه أمارة على الحقيقة
على إطلاقها فاسدة، بل الأصل في المقام قاض بخلافه، لظهور حصول الشهرة
الباعثة على الفهم، فالأصل عدم حصول سبب آخر ليستند الفهم إلى الوضع. وقد
مر بيان ذلك في محله.
ويظهر من بعض الأفاضل القول بثبوت الوضع الجديد العرفي لخصوص ما
يعم الأفراد الشائعة من غير هجر المعنى القديم الشامل للجميع، فيكون اللفظ
مشتركا بين المعنيين، إذ حصول الشهرة لاستعماله في خصوص الجامع بين
الأفراد الشائعة ليكون مجازا مشهورا فيه من غير أن يبلغ إلى حد الحقيقة، فعلى
الوجهين لا يتجه الحمل على الأفراد الشائعة، بل لا بد من التوقف بين المعنيين،
لعدم مدخلية مجرد شهرة أحد معاني المشترك في ترجيح الحمل عليه، لمعارضة
الشهرة في المجاز المشهور بأصالة الحقيقة، إلا أنه لما كانت الأفراد الشائعة
مندرجة في المعنيين كان الحكم ثابتا بالنسبة إليها قطعا، فيحكم بثبوت الحكم
بالنسبة إليها دون غيرها، لعدم إفادة اللفظ حينئذ ما يزيد على ثبوت الحكم
بالنسبة إلى الأفراد الشائعة من جهة الاجمال المفروض.
وفيه: أن القول بثبوت الوضع الجديد بعيد جدا ولا شاهد عليه سوى التبادر
المذكور، وقد عرفت الحال فيه، وهو أيضا مدفوع بالأصل - كما عرفت - والتزام
التجوز في إطلاقه على الأفراد الشائعة - كما جرى عليه مسلم الاستعمالات -
موهون جدا. ويدفعه الأصل أيضا مع عدم الحاجة إلى التزامه، كيف ولو كان
الوجه فيه ما ذكر لم يكن اللفظ منصرفا إلى الشائع بحيث يفهم منه عرفا إرادة
الشائع، بل يكون مجملا في مقام الفهم، وإنما يثبت الحكم للشائع من جهة
222

اندراجه في المفهوم على الوجهين وهو خلاف ما يقتضيه الرجوع إلى المخاطبات
العرفية، حيث إن المفهوم منها إرادة الشائع دون الحكم به من جهة الاجمال
- حسب ما قررنا - وهو ظاهر. وأيضا لو كان الوجه فيه ما ذكر لزم الرجوع إلى
الأصل، وهو كما يقتضي الاقتصار على الأفراد الشائعة فقد يقتضي التعميم - كما
إذا كان الحكم المدلول عليه موافقا للأصل - فيكون ذلك قاضيا في مقام الفقاهة
بثبوت الحكم للأعم، بل قد يقال بكون الأصل مرجحا لحمله عليه أيضا.
ويمكن أن يقال: إن الكلام في المقام في بيان ما يستفاد من اللفظ والأصل
المذكور إنما يعمل عليه في مقام الفقاهة ولا يقضي باستفادته من اللفظ، فلا يصح
جعله مرجحا لحمل اللفظ عليه. وأما ثبوت الحكم للأفراد الشائعة فهو مستفاد من
اللفظ دون غيره نظرا إلى الوجه المذكور من جهة الاجمال المفروض، فيكون
القدر الثابت من اللفظ هو ثبوت الحكم للأفراد الشائعة دون غيره، فمقتضاه
الأصل بثبوت الحكم للأعم غير أن يكون ذلك هو القدر المستفاد من اللفظ كما
يقتضيه الوجه المذكور وذلك هو الملحوظ في المقام.
وفيه: أن ذلك لا يتم على التقرير المذكور أيضا، إذ قد يكون قضية الأخذ
بالمتيقن حمله على الأعم فيكون ذلك هو القدر المستفاد عن اللفظ كما إذا علق
عليه تكليف وجودي - كما إذا قال " إذا لم يأتك الانسان فاقتل زيدا " فإنه إن
حمل على الأفراد الشائعة وجب القتل عند عدم مجيئه ولو جاءه غير الشائع، وهو
خلاف الأصل، فالقدر الثابت من الاجمال هو وجوب القتل عند عدم مجئ
الشائع وغيره، ولا بد من الاقتصار عليه حتى يقوم دليل على الوجوب عند عدم
مجئ الشائع - نظير ما قررنا هناك -.
فالحق أن يقال: إن انصراف المطلق إلى الشائع إنما هو من جهة غلبة إطلاق
المطلق عليه من دون لزوم تجوز ولا نقل ولا التزام وضع جديد.
وتوضيح الكلام فيه: أنك قد عرفت أن إطلاق الكلي على الفرد غير استعماله
في خصوص الفرد، وأنه لا يستلزم ذلك تجوزا في اللفظ وإن كانت الخصوصية
223

ملحوظة للمستعمل إذا لم يقحمه في معنى اللفظ وإنما يريدها من الخارج، وأنه قد
ينتهي الغلبة المذكورة إلى حد النقل فيتعين اللفظ لما أطلق عليه ويكون حقيقة فيه
بخصوصه من غير أن يكون نقله إليه مسبوقا بالتجوز، فحينئذ نقول: إنه إذا لم ينته
إلى حد النقل - بحيث يكون اللفظ منصرفا إليه من دون ملاحظة الشهرة - فقد
يكون بحيث ينصرف إليه بملاحظة الشهرة نظير المجاز المشهور فيما يستعمل
اللفظ فيه، وحينئذ يكون اللفظ باقيا على الحقيقة الأصلية منصرفا إلى الشائع
بملاحظة الشهرة المفروضة. والقول بأن الشهرة لا تكون باعثة على الحمل وأنها
معارضة بأصالة الحقيقة - كما في كلام الفاضل المذكور - قد عرفت فساده مما
قررناه في محله، إذ ذاك مما يتبع درجة الشهرة كما عرفت الحال فيه.
غاية الأمر تردد الذهن عند عدم بلوغها إلى تلك الدرجة إذا كانت مطابقة لما
يقتضيه ظاهر الإطلاق، وأما إذا كان الظن الحاصل من الشهرة راجحا على
الحاصل من ظاهر الإطلاق - كما هو الحال في موارد انصراف المطلق إلى الشائع
- فلا ريب في ترجيحها عليه - نظير ما ذكرناه في درجات المجاز المشهور -.
فغاية الأمر أن يكون الأفراد الشائعة في بعض الصور مما يتردد الذهن بين
حمل اللفظ عليها أو على الأعم، نظرا إلى معادلة ظاهر الإطلاق للظهور الحاصل
من الغلبة، ولا ينافي ذلك ما قررناه من الانصراف إلى الشائع في محل الكلام، ولو
أدرجت تلك الصور في محل الكلام فغاية الأمر أن يقال: حينئذ بالتفصيل المذكور
نظير ما ذكر في المجاز المشهور. ثم إن عدم كون الشهرة قرينة لحمل المشترك
على المعنى المشهور ضعيف جدا، كدعوى معارضة الشهرة لأصالة الحقيقة في
المجاز المشهور، فإنه إنما يصح إذا تكافأ الظنان، وأما إذا ترجح ظن الشهرة لقوته
فلا محيص عن الأخذ بمقتضاه.
والحاصل: أنه بعد قيام الاجماع على حجية الظن في مباحث الألفاظ
وجريان المخاطبات عليه لا محيص من الاكتفاء به في القرائن الظنية المعينة
والصارفة، ومن جملتها الشهرة بل هي من أقوى الأمور الباعثة على المظنة، فلا
وجه لعدم جواز الاتكال عليها.
224

فإن قلت: إن غلبة إطلاق المطلق على الشائع إن كان مع ملاحظة الخصوصية
لزمه التجوز في الإطلاق، وإن كان من دون ملاحظة الخصوصية بأن لا يلاحظ في
المقام إلا المفهوم العام الذي وضع اللفظ بإزائه فلا ثمرة لغلبة الإطلاق في انصراف
المطلق إلى الشائع، إذ لا يراد من اللفظ إلا معناه العام الشامل للأمرين. غاية الأمر
أن يكون ذلك المفهوم حاصلا في الغالب في ضمن مصاديقه الشائعة دون غيرها،
وذلك لا يقضي بعدم ثبوت الحكم بمقتضى مدلول ذلك اللفظ لغير الشائع إذا فرض
تحققه فيه.
ألا ترى أن غلبة إطلاق الماء على المياه الموجودة عندنا أو الموجودة في
زمان الشارع لا يقضي بانصراف إطلاقه عندنا وفي كلام الشارع إليه، وكذا الحال
في سائر المفاهيم بالنسبة إلى غلبة إطلاقها على الأفراد الموجودة المتداولة، إذ لا
يلاحظ في الإطلاق خصوصية ذلك الوجود أصلا، بل لا يلاحظ فيه إلا المفهوم
العام، ولذا لا يقال بانصراف الإطلاق إلى الشائع في مثل ذلك قطعا، فندور وجوده
بل وعدمه حينئذ لا يقضي بانصراف الإطلاق عنه، ولذا لو فرض حصوله في
المقام على خلاف المتعارف اندرج في الإطلاق قطعا.
ألا ترى أنه لو قال المولى لعبده " اسقني الماء " فأتاه بماء السيل من طي
الأرض - مثلا - كان ممتثلا قطعا، فغلبة الإطلاق على الوجه المذكور لا يقضي
بانصراف الإطلاق إلى الغالب أصلا.
قلت: إنا لا نقول بعدم ملاحظة الخصوصية في المقام أصلا حتى لا يكون
شيوع الإطلاق قاضيا بالانصراف - كما في الصورة المذكورة - بل نقول
بملاحظتها في المقام إلا أن تلك الملاحظة لا تستلزم المجازية، وتوضيح ذلك: أن
الخصوصية قد تقحم في المفهوم الذي يراد من نفس اللفظ ويستعمل اللفظ فيه،
وقد لا يقحم فيه ولكن يراد الخصوصية من الخارج ويلحظ في الاستعمال وإن لم
يكن مرادا من نفس اللفظ، وقد لا يكون الخصوصية ملحوظة أصلا، إلا أنه قد
أطلق عليه لأنه الموجود على سبيل الاتفاق أو لغلبة وجوده، فلا تكون
225

الخصوصية ملحوظة للمستعمل لا بأخذها جزءا للمفهوم الذي استعمل اللفظ فيه
ولا بإرادة الخصوصية من القرائن القاضية به، فاستعمال اللفظ على الوجه الأول
مجاز قطعا، وحصول الشهرة على الوجه المذكور قاض بالنقل أو شهرة المجاز،
وعلى الوجه الثاني لا تجوز فيه، إذ لا يراد من نفس اللفظ إلا المفهوم الذي وضع
بإزائه.
غاية الأمر إرادة الخصوصية من الخارج وإطلاق اللفظ على ذلك الخاص
إنما هو من جهة حصول ذلك المعنى فيه وانطباقه عليه، إلا أن غلبة ذلك الإطلاق
يقضي بالانصراف فتقوم تلك الغلبة مقام سائر القرائن الخاصة القائمة عليه قبل
حصولها. وقد ينتهي الأمر فيه إلى النقل - حسب ما مر - والوجه الثالث لا تجوز
فيه أيضا ولا يقضي بالانصراف أصلا، إذ ليست تلك الخصوصية ملحوظة في
إطلاق اللفظ من الوجوه، ولذا لا يكون مجرد ندور الفرد قاضيا بانصراف الإطلاق
عنه.
والفرق بين الوجوه الثلاثة ظاهر للمتأمل ومورد انصراف الإطلاق إلى الشائع
هو القسم الثاني ما لم يتحقق النقل. وأما القسم الأول فهو مندرج في المجاز
المشهور قبل حصول النقل. وأما الثالث فلا انصراف للإطلاق إليه - كما بيناه - وقد
يقع الخلط بين الأقسام في كلمات الأعلام وتحقيق الحال ما ذكرنا، حسب ما
يقتضيه التأمل في المقام.
ثالثها: أنه إذا دار الأمر في المفرد المعرف بين كونه للعهد أو الجنس أو العموم
فإن كان هناك معهود حمل عليه، لانصراف التعريف إليه كما عرفت، إلا إذا كان في
المقام ما يفيد إرادة غيره، كما إذا قال: لا تنقض يقين الطهارة بالشك في الحدث
فإن اليقين لا ينقض بالشك، إذ التعليل ظاهر في إرادة العموم. وإن لم يكن هناك
معهود انصرف إلى الجنس، والقدر اللازم منه ثبوت الحكم لذلك الجنس على
سبيل الإهمال الراجع إلى الجزئية على ما هو الحال في القضايا المهملة، كما إذا
قلت: جاء الانسان وأكرمت الرجل، وكذا الحال فيما إذا نذر اكرام الانسان أو دفع
226

الدرهم إلى الفقير ونحو ذلك. ولو لم يصح حمله على ذلك لزم حمله على العموم،
ومن ذلك قضاء المقام به - حسب ما قررناه في إرجاع المفرد المحلى إلى العموم
من جهة الحكمة - بأن يجعل المعنى الجنسي مرآتا لملاحظة الأفراد المندرجة
تحته، ويحكم عليه من حيث اتحاده بها فيراد به استغراق الأفراد الشائعة - حسب
ما مر - كما في البيع حلال، واليقين لا ينقض بالشك، والشك لا عبرة به بعد الفراغ،
ونحوها.
قال الشهيد (رحمه الله) في التمهيد: إذا احتمل كون " ال " للعهد وكونها لغيره، كالجنس
أو العموم، حملت على العهد، لأصالة البراءة عن الزائد، ولأن تقدمه قرينة مرشدة
إليه، ومن فروعها: ما لو حلف أن لا يشرب الماء، فإنه يحمل على المعهود، حتى
يحنث بنقضه إذ لو حمل على العموم لم يحنث. ومنها: أنه إذا حلف أن لا يأكل
البطيخ، قال بعضهم: لا يحنث بالهندي، وهو الأخضر. وهذا يتم حيث لا يكون
الأخضر معهودا عند الحالف إطلاقه عليه إلا مقيدا. ومنها: الحالف بأن لا يأكل
الجوز، لا يحنث بالجوز الهندي. والكلام فيه كالسابق، إذ لو كان إطلاقه عليه
معهودا في عرفه حنث به، إلا أن الغالب خلافه، بخلاف السابق، فإنه على العكس.
قلت: أما ما ذكره من تقديم العهد على المعنيين فهو المتجه، كما عرفت لكن
الوجه فيه ما ذكرنا، وكأنه أشار بتعليله الثاني إليه، وأما تعليله الأول: فهو إن تم فلا
يفيد انصراف اللفظ ودلالته عليه، بل غاية ما يدل عليه أنه بعد الدوران بين العهد
والعموم يكون المعهود متعلقا للتكليف على الوجهين، وتعلق التكليف بغيره مبني
على احتمال كونه للعموم، وبمجرد الاحتمال لا يثبت التكليف فيدفع الزائد
بالأصل، فيكون القدر الثابت من اللفظ هو ثبوت الحكم للمعهود دون غيره، ولا
بأس بذكره في المقام لموافقته للأول في الثمرة.
وأورد عليه بعض الأفاضل: أنه لا يقتضي ما ذكره إلا عدم ثبوت التكليف في
غير المعهود، لعدم العهد بأزيد منه، لا أن المتكلم استعمل اللفظ في العهد. فالأولى
أن يقال: في موضع أصالة البراءة أصالة عدم ثبوت الحكم إلا في المعهود، يعني
227

إذا دار الأمر بين إرادة الجنس والعهد فالمعهود مراد بالضرورة، لدخوله تحتهما،
والأصل عدم ثبوت الحكم في غيره.
وأنت خبير بأنه لا يعقل فرق بين الوجهين فيما ذكره بعده، بل ما أورده على
الأول وارد على الثاني بعينه، لوضوح عدم دلالة الأصل المذكور على استعمال
اللفظ في خصوص العهد، كيف! ولو دل عليه الأصل المذكور لدل عليه أصالة
البراءة أيضا من غير فرق بينهما في ذلك أصلا، فكون القدر الثابت من اللفظ تعلق
الحكم بالمعهود مشترك بينهما.
ثم أورد عليه حينئذ إنه إنما يتم لو لم يحتمل الجنس إرادة وجوده في ضمن
فرد ما، فإن المعهود حينئذ غير معلوم المراد جزما.
وفيه أن المعهود أيضا مندرج في المراد لكونه من أحد الأفراد غاية الأمر أن
لا يتعين الإتيان به بناء على الجنسية، فهو مطلوب إما بخصوصه أو لحصول
المطلوب به، ومطلوبية غيره مع أحد الوجهين غير معلومة فهي أيضا مدفوعة
بالأصل، ويوضح الحال في ذلك ما لو تعذر عليه الإتيان بالمعهود، فإن الحكم
بوجوب إتيانه بفرد من غير المعهود مما لا دليل عليه، إذ لا يفيد وجوبه إلا مجرد
الاحتمال، وهو لا يثبت التكليف، وأصالة عدم وجوب خصوصية المعهود لا يثبت
التكليف به، فإن الأصل أيضا عدمه.
فالحق أن يقال: إن التكليف ثابت في المقام ويقين الامتثال حاصل بأداء
المعهود دون غيره، فيتعين الإتيان به عند التمكن منه، ولا يثبت تكليف بغيره، ومع
عدمه فتحقق التكليف بغيره غير معلوم، فهو مدفوع بالأصل. هذا وكان مقصود
الشهيد من التمسك بأصالة البراءة هو قضاء الأصل به في الجملة فيما إذا تعلق
التكليف به، كما إذا قال " أكرم العالم، وأغن المسكين، وتصدق بالدينار " إذا تقدمه
المعهود، فإن حمله على العموم على خلاف الأصل في مقابلة حمله على المعهود،
وإلا فمن البين أنه لو تعلق به الإباحة أو رفع التكليف، كما إذا قال " لا يجب عليك
إكرام المسكين، أو يباح لك إعطاء الدرهم " لا معنى حينئذ لدفع العموم بأصل
البراءة.
228

نعم لو تمسك حينئذ بأصالة عدم إرادة غيره في دفع الزائد حيث إن إرادة
المتكلم ثبوت الحكم المعهود مستفاد من اللفظ مدلول له، فإنه إما أن يكون هو
المراد أو يكون مندرجا في المراد، وأما إرادته ثبوت الحكم لغيره فغير ظاهر من
اللفظ، فهو مدفوع بالأصل في مورد التكليف وغيره، إلا أن التمسك بذلك في بيان
مداليل الألفاظ وحملها على معانيها غير متجه، والحكم بكون المعهود مرادا في
الجملة ولو تبعا غير كونه هو المراد. ألا ترى أنه لو كان لفظ مشتركا بين الكل
والبعض واستعمل مجردا عن القرائن لم يصح ترجيح إرادة البعض بالأصل
المذكور، بل يتوقف في مقام الحمل كما هو قضية الاشتراك، وحينئذ لو كان ثبوت
الحكم للكل قاضيا بثبوته للبعض حكم به لثبوته حينئذ على الوجهين، وليس ذلك
قاضيا بحمل المشترك على البعض، كما هو المقصود في المقام، لكنك خبير بأن
دلالته على ثبوت الحكم للبعض لا يتم أيضا في جميع الموارد، بل إنما يتم فيما
يكون ثبوت الحكم للكل قاضيا بثبوته للبعض دون غيره، وحينئذ لا حاجة إلى
ضميمة الأصل في بيان مفاد اللفظ. أو يقال حينئذ: إن القدر المستفاد من اللفظ عند
التجرد من القرائن إرادة الأقل، لكونه مرادا على كل من الوجهين المحتملين
بخلاف ما يزيد عليه لابتناء إرادته على مجرد الاحتمال، فلا يكون مدلوله عند
الإطلاق إلا ما ذكرناه.
وقوله: " من فروعه ما لو حلف إلى آخره ". أراد به أنه يحمل الماء في المثال
على المعهود من إطلاق الماء إذا تعلق به الشرب ولذا يحنث بشرب بعض المياه،
ولو أراد به العموم لم يحنث بشرب البعض، لعدم وقوع الحلف حينئذ إلا على ترك
شرب الجميع.
وأنت خبير بأن ما ذكره إنما يتم إذا أخذ عموم المفرد المعرف من قبيل العموم
المجموعي، فيكون قد نذر ترك شرب مجموع المياه فلا يحنث بشرب البعض، أو
جعل النفي واردا على نفس العموم لا على الجزئيات المندرجة في العام، كما
تقول ما كل انسان أبيض، فيكون قد نذر ترك شرب كل واحد من المياه، فيكون
229

منذوره شيئا واحدا وهو ترك الكل، والمعنيان المذكوران كما ترى في غاية البعد
عن المفرد، بل الظاهر فساد الحمل عليهما، أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلأنه إنما
يتم إذا كان هناك أداة للعموم ليتعلق النفي به، فيكون سببا للعموم، كما في قولك: ما
جاءني كل واحد من الناس إذا جاءك بعضهم.
وأما إذا كان مفاد اللفظ نفس الوحدات، كما إذا قلت: ما جاءني العالم، مريدا
بالعالم خصوص عالم عالم، بأن تجعل ذلك المفهوم مرآتا لملاحظة الأفراد
المندرجة تحته، فلا يكون مفاده إلا عموم السلب.
وعلى هذا فيكون مفاد العبارة في المقام الحلف على عدم شرب آحاد المياه،
فيحنث إذا شرب واحدا منها، كما إذا نذر أن لا يتزوج الثيبات، فإنه يحنث بتزويج
واحدة منها على التحقيق، إذ ثبت منها على القول الآخر. فما ذكره من التفريع لا
يتم إلا على أحد الوجهين، وقد عرفت ضعف إرادتهما في المقام.
ثم لا يخفى أنه لم يتعرض في المثال لحمله على الجنس، مع أن الحمل عليه
أظهر في المقام، لما عرفت من أن حمل المفرد على الجنس أوضح من غيره، بعد
انتفاء معهود خاص يحمل عليه، كما في المقام وحمله على المتعارف بين الناس
ليس من العهد، بل من حمل المطلق على المتعارف إن سلم الشيوع في المقام في
إطلاق الماء، لكن لا يذهب عليك أن حمله على الجنس في المقام يرجع إلى
العموم على الوجه الثالث، حسب ما يأتي بيانه إن شاء الله، فيتحقق الحنث بشرب
البعض قطعا.
ثم إنك قد عرفت أن ما ذكره - من قضاء أصالة البراءة عن الزائد بحمله على
المعهود - ليس جاريا في جميع الموارد، ولا يريد أن الاحتجاج بها على ذلك
كلها، بل إنما أراد به قضاء الأصل به في الجملة، كما عرفت الحال فيه في الأمثلة
المتقدمة، فلا يرد عليه عدم جريانه في المثال المذكور، لكون حمله للعموم هنا
أوفق بالأصل، إذ لا يجب عليه حينئذ ترك شرب شئ من المياه.
فالإيراد المذكور عليه - بأن لزوم الكفارة في الحنث يعني عند شرب البعض
عند إرادة العهد مخالف لأصل البراءة - ليس على ما ينبغي.
230

وما ذكر في توجيه قضاء أصالة البراءة بحمله على العهد " من أنه لو حمل
على المعهود المتعارف يحصل الحنث بشرب بعض المياه فينحل اليمين، فلا يبقى
مانع من الشرب، بخلاف ما لو حمل على العموم لعدم انحلال اليمين " أغرب
شئ، لوضوح أن ما يشرب بعد الانحلال وقبله أنه هو بعض من المياه، فعلى
العموم لا مانع منه قبل الانحلال لا بعده، فكيف يصح بذلك كون العموم موافقا
للأصل دون العهد، على أن الأصل بعد ثبوت التكليف عدم ارتفاعه عن المكلف
إلا بعد قيام الدلالة، فالحكم بارتفاع التكليف بمجرد الاحتمال من جهة الأصل
المذكور غير متجه، بل قضية الأصل حينئذ خلافه.
ثم إنه لا يخفى أن تعلق التكليف بترك شئ يستحيل صدوره من المكلف
- كالطيران في الهواء واجتماع النقيضين - مما لا وجه له، فانعقاد النذر على الوجه
المذكور غير متجه، فهو أقوى دليل على عدم إرادة العموم في المثال على الوجه
المذكور. وأصالة حمل فعل المسلم على الصحة يقتضي عدم قصده ذلك من غير
حاجة إلى ملاحظة ما ذكر لو صح التمسك به هذا.
وما ذكره في الفرع الثاني: إنه إذا حلف لا يأكل البطيخ قال بعضهم لا يحنث
بالهندي إلى آخره. وتوضيحه: أن هناك معهودا في أكل البطيخ بحسب المقدار
ومعهودا بحسب الجنس منه، من الهندي وغيره، فلو حمل البطيخ على العموم
بالنسبة إلى الأول لم يحنث بأكل شئ منه. لا من الهندي ولا من غيره. ولو حمل
ذلك على المعهود، كما ذكره في الفرع الأول، فإن كان هناك جنس خاص معهود
حنث بالأكل منه دون غيره، وإن لم يكن يحنث بأكل أي من القسمين. وملحوظ
الشهيد في المقام هو ملاحظة المعهودية الثانية وعدمها، وإلا فهو محمول عنده
على المعهود الأول كما في مثال الماء من غير فرق. وكذا الحال في الفرع الثالث.
وبذلك يندفع ما أورد على قوله في المثال السابق، إذ لو حمل على العموم لم
يحنث بأن في صورة العموم يحصل الحنث، كما إذا جعل البطيخ أعم من الهندي
على سبيل المساواة، لما عرفت من عدم ارتباط أحد المعهودين بالآخر، وحصول
231

الحنث بالهندي أو بغيره مبني على حمل البطيخ على المعهود بحسب المقدار،
لا على جميع أفراده، حسب ما ذكر في الماء وإن لم يحصل الحنث بشئ منهما
كما في الماء. والمعهودية الملحوظة في المقام إثباتا أو نفيا انما هي في جنس
البطيخ حسب ما ذكرنا.
ثم إن ما قرره الشهيد (رحمه الله) من - أنه يتم حيث لا يكون الأخضر معهودا عند
المخاطب - غير متجه، فإن حمل البطيخ على غير الأخضر حينئذ ليس من العهد
في شئ، وإنما هو من قبيل حمل الإطلاق على الشائع من غير فرق بين ما يكون
معرفا باللام وغيره حسب ما مر تفصيل القول فيه.
فالحق حمل البطيخ في المقام على الجنس الراجع إلى العموم في المقام، من
جهة ورود النفي عليه، إلا أنه يحمل على الشائع في الإطلاق - أعني غير الهندي -
إذا ورد في كلام من يكون ذلك هو الشائع عنده في الإطلاقات وإن كان الشائع في
الإطلاق عنده القسمان، كما هو المتعارف في بعض البلدان شمول النوعين، وكذا
الحال في الفرع الثالث ربما يجعل الجوز من قبيل المشترك اللفظي، فلا ربط له
بالمقام.
[النكرة في سياق النفي]
واعلم أن من ألفاظ العموم النكرة في سياق النفي، ولا خلاف ظاهرا بين
الأصوليين - ممن قال بأن للعموم صيغة تخصه كما هو المعروف - أنها تفيد العموم
إذا كان اسما لا وصفا، وهي مختلفة في وضوح الدلالة وعدمه، فالكائنة بعد لا
النافية للجنس نحو " لا رجل " أو ما زيد عليها " من " الزائدة، نحو ما من رجل في
الدار، أو كانت النكرة مثل لفظ " أحد " و " بد " مما لا يستعمل إلا مع النفي صريحة
في العموم، والحق بها ما إذا كانت النكرة صادقة على القليل والكثير، كالشئ
والماء والدهن والدبس ونحوها.
وقد ذكر الشهيد (رحمه الله) في التمهيد: أن الكائنة بعد " ليس " و " ما " و " لا "
232

المشبهتين به ظاهر فيه، وألحق بعضهم النكرة الواقعة بعد " لم " أو " لن " بالأول،
قالوا: والفرق بين المعنيين أنه لا يصح إثبات الزائد على الواحد في الأول
بخلاف الثاني، فلا يقال " لا رجل عندي بل رجلان " أو " ما من رجل عندي بل
رجلان " بخلاف " ليس عندي رجل بل رجلان " أو " ما عندي رجل بل رجلان
أو رجال ".
وأنت خبير بأن نصوصية الأول وظهور الثاني إنما هي في الدلالة على
العمومية مطلقا، وأما الدلالة على العموم بالنسبة إلى المعنى المراد بالنكرة فلا فرق
بينهما في ذلك كما مرت الإشارة إليه.
نعم قد يقال: إن النكرة في قولك: " ليس عندي رجل " يحتمل أن يراد به الفرد
المعين في الواقع، المبهم عند المخاطب، كما في النكرة الواقعة متعلقا بالخبر
المثبت في كلام بعضهم، حسب ما مرت الإشارة إليه، وحينئذ فلا دلالة فيها على
العموم أصلا. وربما كان المفرد في قولك: " عندي رجل " ظاهرا في العموم، من
جهة احتمال أن يراد بالتنوين في " رجل " الوحدة البدلية المقابلة للتثنية والجمع،
ولذا صح أن يقول: " بل رجلان أو رجال " كما مرت الإشارة إليه. وأما لو أريد به
الوحدة المطلقة فلا فرق بينه وبين " لا رجل " إذ لا فرق بين نفي الطبيعة ونفي فرد
ما في إفادة العموم، حسب ما عرفت. وهذا الاحتمال قائم في الجمع الأفراد (1)، إذ
لا يصح أن يراد بالتنوين فيه الإشارة إلى جمع (2) واحد، ولذا لا يجوز أن يقابله
بنفي الستة أو التسعة - مثلا - وإن أمكن أن ينفي الجميع (3)، فإن ذلك من الأمور
النادرة ولا يلحظ بالتنوين المقابلة لهما.
فإن قلت: إنه يحتمل أن يكون قد أطلق رجالا على عدة معينة وحكم بنفيها
فلا يفيد نفي الجميع فلذا لا يكون نصا في العموم.
قلت: إن الكلام في النصوصية من جهة دلالة اللفظ لا من جهة الإرادة،

(1) في المخطوطتين: في الجميع، بدون لفظ " الأفراد ".
(2) في المخطوطتين: جميع.
(3) في المخطوطتين زيادة: أو يجمع.
233

وإلا فليس " لا رجل " نصا فيه أيضا كما مر، ولا ريب أن قضية ظاهر اللفظ هو
الإطلاق، ونفي ذلك يفيد العموم قطعا، كما هو الحال في لا رجل. وأما احتمال
إطلاقه على الخاص وورود النفي عليه فهو قائم في " لا رجال " أيضا، بأن يكون
قد أطلقه على رجال مخصوصين وأورد النفي عليها، ثم يأتي بعد ذلك بقرينة تدل
على ذلك، كما هو الحال في قوله: ليس عندي رجال.
والحاصل: أن ذلك خروج عما يقتضيه مدلول اللفظ ورجوع إلى ما يقتضيه
القرائن، ولا ينافي ذلك النصوصية الملحوظة في المقام، فتأمل. وينقل فيه خلاف
عن النحاة فيما إذا كان الدال على النفي " ليس " ومشابهتاه في نحو قولك: ليس في
الدار رجل و " ما في الدار رجل " و " لا رجل قائما " فالمحكي عن سيبويه أنها
للعموم، والمحكي عن المبرد والجرجاني والزمخشري أنها ليست للعموم لا نصا
ولا ظاهرا، وعن اليمنى في المغنى أن " ما من رجل " و " لا رجل في الدار " و " لا
رجل قائما " جواب لسؤال مطابق له في العموم، منطوق به أو مقدر، وهو " هل من
رجل " و " هل فيها رجل " و " هل رجل في الدار " وإن السؤال في الأولين كان عن
الجنس فجاء الجواب بنفي الجنس، وفي الثاني عن الواحد فجاء نافيا له.
ومن ثم امتنعت المخالفة في الأولين وصحت في الثاني، فيجوز بل رجلان.
ثم ذكر أن هذا تحقيق مذهب النحاة، وحكي من أرباب الأصول إطلاق القول
بالعموم، قال: والتحقيق ما قال النحاة. وظاهر كلامه إطباق النحاة عليه، حيث
أسنده إليهم من غير نقل خلاف عنهم. وظاهر ما يستفاد من كلامه أن استفادة
العموم من النكرة في الأولين إنما هي من جهة نفي الجنس القاضي بنفي جميع
الآحاد لا من جهة الوضع بالخصوص، وعدم الدلالة في الأخير من جهة كون
المنفي خصوص الواحد، فلا يدل على نفي ما عداه. ثم إن ظاهر ما حكى عن
الأصوليين إنها تفيد العموم بالوضع، وقد اختاره جماعة من المتأخرين، وحينئذ
فالموضوع للعموم إما الهيئة التركيبية أو خصوص النكرة المقيدة بالوقوع في
سياق النفي.
234

وعن السبكي والحنفية أن دلالة النكرة المنفية عليه التزامية، وهذا هو الظاهر
عندي. وقد احتجوا على كونها للعموم بوجوه:
أحدها: التبادر فإن السيد إذا قال لعبده: " لا تضرب أحدا " فضرب واحدا عد
عاصيا، وذمه العقلاء، وصح للمولى عقوبته.
ثانيها: صحة الاستثناء منه مطردا، وهو دليل الوضع للعموم، فإن الاستثناء
اخراج ما لولاه لدخل.
ثالثها: أنها لو لم تكن مفيدة للعموم لكان كلمة " لا إله إلا الله " غير مفيدة
للتوحيد، لعدم إفادتها نفي الألوهية عن جميع من سواه تعالى، وهو باطل إجماعا.
رابعها: أن أهل اللسان إذا أرادوا تكذيب من قال: " ما أكلت شيئا " قالوا: قد
أكلت كذا، وهو موجبة جزئية، فيكون الأول سلبا كليا، وإلا لم يكن ذلك تكذيبا
له، لجواز صدق الجزئيتين.
خامسها: إجماع العلماء على التمسك بقوله (عليه السلام): " لا يقتل والد بولده ولا
يقتل مؤمن بكافر " ونحوهما على العموم، ولولا دلالتهما عليه لما صح ذلك.
سادسها: ظهور الاتفاق عليه من القائلين بوضع صيغة للعموم تخصه، كما هو
مختار المعظم.
سابعها: أن النكرة المثبتة لا تفيد ثبوت الحكم على سبيل الجمع والاستغراق
إجماعا، ولا ثبوته لفرد مخصوص، وإلا لكان علما، فهو إنما يفيد ثبوت الحكم
لواحد غير معين، فنفيه إنما يكون باستغراق النفي، إذ نقيض كل شئ رفعه، ولا
تناقض بين الجزئين ليكون أحدهما نفيا للآخر ورفعا له.
وأنت خبير بأن الوجه الأخير إنما يفيد دلالة النكرة على العموم على سبيل
الالتزام، حيث إن نفي فرد ما إنما يكون بنفي جميع الأفراد، حسب ما هو المختار،
من غير حاجة إلى وضعها لذلك، لحصول الإفادة المذكورة نظرا إلى ذلك مع فرض
انتفاء الوضع له بالخصوص، فمن فرض وقوع الاحتجاج بذلك في كلامه -
كالعلامة في النهاية - فالظاهر منه قوله بما اخترناه، بل ليس القدر المسلم من سائر
235

الأدلة المذكورة إلا حصول الإفادة في الجملة، فلا ينافي ما ذكرنا، وبذلك يندفع
دلالتها على ثبوت وضعها للعموم إجمالا.
وتفصيل القول في ذلك أنه يرد على الأول: المنع من كون التبادر المدعى
مستندا إلى نفس اللفظ ليكون دليلا على الوضع، إذ يحتمل أن يستند إلى نفي
الطبيعة أو نفي فرد ما الحاصل بنفي جميع الأفراد حسب ما نقول به.
وأجيب عنه: بأن الأصل في التبادر أن يكون من جهة اللفظ، فمجرد قيام
الاحتمال لا يكفي في الإيراد بعد قضاء الأصل بخلافه، مضافا إلى قضاء الدليل
باستناده إلى الوضع واستفادة المعنى من نفس اللفظ، إذ لو لم يكن العموم مستفادا
من نفس اللفظ لكان هناك انتقالان أحدهما الانتقال من اللفظ إلى المعنى والآخر
الانتقال منه إلى العموم، وليس هناك انتقالان، لشهادة الوجدان. وأيضا لو كان
العموم في نحو " لا رجل " مستفادا من نفي الطبيعة لما صح الاستثناء منه إلا على
سبيل الانقطاع، إذ ليست الخصوصية من جنس الطبيعة، فلا يكون الفرد المركب
منها ومن الطبيعة إلا شيئا آخر مغايرا للطبيعة، فيكون استثناؤه منها على وجه
الانقطاع وهو واضح الفساد، ولا أقل من كونه على خلاف الأصل.
وفيه: أن دعوى كون الأصل في التبادر أن يكون مستندا إلى نفس اللفظ على
إطلاقها غير متجهة. والتحقيق كما مرت الإشارة إليه في محله: أنه لو لم يكن في
الظاهر ما يمكن استناد التبادر إليه فالظاهر استناده إلى نفس اللفظ، وأما لو كان
هناك ما يصح استناد التبادر إليه مع قطع النظر عن الوضع كما في المقام حسب ما
قررناه فلا وجه لدعوى استناده إلى الوضع، وكون الوضع هو الباعث على
الانتقال، إذ لا دلالة في فهم ذلك من اللفظ على حصول الوضع، بل لا حاجة إلى
ارتكاب الوضع له بعد حصول الفهم من دونه.
وما ذكر مؤيدا لاستناد التبادر إلى نفس اللفظ بين الاندفاع، أما الأول:
فبظهور منع عدم تعدد الانتقال في المقام بل الظاهر تعدده، فإن المستفاد أولا من
قولك " ليس عندي رجل " نفي فرد ما، وقضية ذلك نفي جميع الأفراد فهو لازم بين
236

لذلك، ولغاية الاتصال بين الأمرين يتراءى في جليل النظر كون مدلول اللفظ أولا
هو نفي جميع الأفراد، وليس كذلك بعد التأمل الصحيح في مدلول اللفظ، لظهور
تعدد المدلولين حسب ما ذكرنا.
وأما الثاني: فلوضوح أن نفي الماهية إنما يراد به نفيها من حيث الوجود،
وظاهر أن نفي وجود الماهية مطلقا إنما يكون بنفي جميع أفرادها، فإذا ثبت
وجود واحد منها كان إخراجا له عن مدلول اللفظ.
فإن قلت: إن الإخراج المذكور حينئذ إنما يكون عن مدلوله الالتزامي فلا
يكون الإخراج عما هو المراد من اللفظ، وهو خروج عن قاعدة الاستثناء مخالف
للظاهر، فإن قضية الاستثناء هو الإخراج عن المستثنى منه دون الأمر اللازم له.
قلت: إن كان الأمر اللازم أمرا مباينا للمستثنى منه فالحال على ما ذكر، وأما
إن كان ذلك مصداقا لمدلول اللفظ حاصلا بحصوله منضما إلى مدلول اللفظ بيانا
لخصوصية في ذلك المدلول ملحوظا في إطلاق اللفظ بملاحظة تلك الدلالة
الالتزامية من غير لزوم تجوز في الاستعمال كما في المقام فلا مانع، فإن مفاد
" لا رجل " بضميمة الملاحظة المذكورة اللازمة لمؤداه نفي جميع الآحاد، فلا مانع
من اخراج بعض الأفراد عنه، نظرا إلى دخوله في مدلول اللفظ وإن كان استفادة
ذلك منه عند النظر الدقيق بملاحظة الخارج اللازم.
وعلى الثاني: أن اطراد الاستثناء دليل على فهم العموم منه عند الإطلاق، وهو
أعم من الوضع له، فلا مانع من أن يكون من أجل ما قررناه.
ونحوه يرد على الثالث والرابع والخامس، فإن أقصى ما يستفاد منها الدلالة
على العموم لا خصوص كونها من جهة الوضع له.
وعلى السادس: أنه إن أريد به دعوى الاتفاق منهم على استفادة العموم منه
عند الإطلاق فمسلم، ولا ينافي ما قررناه، وإن أريد دعوى الاتفاق على وضعه له
فممنوع.
ثم إن الظاهر مما حكي عن النحاة من نفي دلالتها على العموم أنهم أرادوا
237

عدم دلالتها على نفي التثنية والجمع، ولذا قالوا بجواز " ليس عندي رجل بل
رجلان " فإنه قاض بعدم دلالتها على نفي الزائد على الواحد، ومرجع ذلك إلى
اختلاف معنى النكرة، فإن المراد بالنكرة إن كان مطلق الجنس كما في " لا رجل "
فقد نصوا بإفادته العموم، وإن كان المراد بها الواحد المطلق كما في " ما من رجل "
فقد قالوا به أيضا، وإن أريد بها الواحد العددي المقابل للتثنية والجمع منعوا من
دلالتها على العموم يعني العموم بالمعنى المذكور، وأما دلالته على العموم بالنسبة
إلى الآحاد - أعني نفيه جميع الوحدات العددية على نحو إفادة النكرة بمعناه
الآخر لجميع الوحدات المندرجة فيها - فالظاهر أنهم يقولون به، ولذا لا يجوز
" ليس عندي رجل بل زيد " فليس اختلافهم في المقام من جهة عدم دلالتها على
العموم بالنسبة إلى ما يصدق عليه، بل من جهة اختلاف معنى النكرة، وهي على
الوجهين تفيد نفي جميع مصاديقها، فتفيد نفي جميع الوحدات المطلقة في الأولين،
وتفيد نفي جميع الوحدات العددية في الثالث، فالبحث معهم حينئذ في مدلول
النكرة، والظاهر من ملاحظة الاستعمالات العرفية كون المنساق من النكرة في
مدخولة " ليس " ومشابهتيه أيضا هو الواحد المطلق، فلذا قلنا بظهورها في العموم
على نحو الأولين وإن قام فيه الاحتمال المذكور دون الأولين، وهم قالوا بعدم
دلالتها على ذلك إما لدعوى ظهورها في الواحد العددي أو لدورانها بين
الوجهين، فينبغي دلالتها على الوجه المذكور من جهة قيام الاحتمال المساوي،
والفهم العرفي كما عرفت يدفع ما ذكروه.
نعم لو ذكر بعده الإضراب المذكور دل على إرادة الواحد العددي، والظاهر
أنه لا تجوز في النكرة حينئذ وإن كان ذلك خلاف الظاهر، فإن الظاهر كون النكرة
حقيقة في الصورتين وإن انصرفت عند الإطلاق إلى الأول، وقد مر الكلام فيه.
هذا، ولنتمم الكلام في المرام بذكر أمور:
أحدها: انه يختلف الحال في النكرات وضوحا وخفاء في الدلالة على العموم،
فالكائنة بعد " لا " النافية للجنس نحو " لا رجل " وما زيد عليها " من " الزائدة نحو
238

" ما من رجل في الدار " وما كانت النكرة مثل لفظ " بد " و " ديار " و " أحد " إذا كان
اسما لا وصفا مما لا يستعمل إلا مع النفي صريحة في العموم، والحق بها ما إذا
كانت النكرة صادقة على القليل والكثير على نحو واحد - كالشئ والماء والدهن
والدبس ونحوها - وقد نبه عليه الشهيد (رحمه الله) في التمهيد، والكائنة بعد " ليس " و " ما
ولا " المشابهتين لها ظاهرة فيه. قالوا والفرق بين القسمين أنه لا يصح إثبات
الزائد على الواحد في الأول بخلاف الثاني، فلا يقال " لا رجل عندي بل رجلان "
أو " ما من رجل عندي بل رجلان " بخلاف " ليس عندي رجل بل رجلان أو
رجال ".
وأنت خبير بأن نصوصية الأول وظهور الثاني انما هي في الدلالة على العموم
مطلقا، وأما الدلالة على العموم بالنسبة إلى المعنى المراد بالنكرة فلا فرق بينهما
في ذلك، حسب ما مرت الإشارة إليه.
نعم يمكن أن يقال: إن النكرة في قولك " ليس عندي رجل " يحتمل أن يراد به
الفرد المعين في الواقع، المبهم عند المخاطب، كما في النكرة الواقعة في الخبر
المثبت على ما نص عليه بعضهم فيما مر، ولا دلالة فيها على العموم أصلا،
فظهورها في العموم إنما هو من جهة قيام الاحتمال المذكور في الصورة الثانية
بخلاف الأولى.
ويشكل ذلك بأن الاحتمال المذكور أبعد الوجوه في النكرة في المقام، وربما
لا يكون قيام مثل هذا الاحتمال منافيا للنصوصية، ولذا لم يعلل الحكم بالظهور
بذلك في كلامهم، وكيف كان فقيام هذا الاحتمال هنا قاض بالاختلاف في وضوح
الدلالة لو سلم عدم اخراجه لها عن النصوصية في الجملة هذا. وألحق بعضهم
بالأول النكرة الواقعة بعد " لم " و " لن " وهو غير متجه، لقيام ما ذكر من الاحتمال
بالنسبة إليهما أيضا، إذ لا مانع من أن يقال: لم يجئني رجل بل رجلان. ومثله
الواقع بعد ما النافية للفعل نحو " ما جاءني رجل بل رجلان " ويقوم فيها الاحتمال
الأخير أيضا، فالأظهر إلحاق الجميع بالظاهر في العموم المطلق.
239

ثانيها: أنه يجري ما ذكرناه في النكرة الواقعة في سياق النفي من الدلالة على
العموم - بالنسبة إلى الواقعة في سياق النهي، نحو " لا تضرب أحدا " و " لا تشتم
رجلا " وهي أيضا مختلفة في وضوح الدلالة، فإن كانت النكرة مما لا يقع إلا بعد
النفي وما بمعناه، نحو " لا تضرب أحدا " و " لا تقتل ديارا " كان أوضح في الدلالة.
وكذا لو اشترك القليل والكثير في الاسم نحو " لا تعط زيدا شيئا " وأما نحو قولك:
" لا تضرب رجلا " فهو دونه في الوضوح، ويقوم فيه احتمال إرادة الوحدة العددية
فيعقبه بقوله: بل رجلين إلا أنه بعيد، لكنه يفيد العموم بالنسبة إلى معناه حسب ما
مر. ويحتمل أيضا على بعد إرادة النكرة الإبهامية، فلا دلالة فيه إذن على العموم
أصلا، وقد عرفت بعد إرادة ذلك من النكرة جدا.
ثم إنه يجري ما ذكرناه في النكرة المتعقبة للنهي وغيره، ويجري في النكرة
الواحدة والمتعددة، تقول: لا تعط من شتمك وشتم أباك درهما، ولا تعط رجلا
أهانك درهما.
ثالثها: أن النكرة الواقعة في سياق الاستفهام تفيد العموم أيضا على ما صرح
به بعضهم، كما في قولك " هل أكرمت رجلا " فمفاده السؤال عن جميع آحاد
الرجال أنه وقع الإكرام عليه لكن على سبيل البدل فالمسؤول هو إكرام الواحد
وإن وقع السؤال عن الكل، ويتفرع على ذلك أنه لو وقع السؤال عن الماء القليل
أنه هل ينجسه شئ؟ فقال: لا، أفاد عدم تنجيس شئ من الأشياء له، فإنه لما وقع
السؤال عن كل نجاسة يكون " لا " جوابا بالنسبة إلى كل منها ليطابق السؤال.
ويمكن أن يجعل ذلك من قبيل النكرة المقدرة في سياق النفي، أي لا ينجسه شئ
فلا حاجة إلى ملاحظة ذلك، نعم لو قال " لا ينجسه ما سئلت عنه " انحصر في
الوجه الأول، فتأمل.
رابعها: أنهم اختلفوا في دلالة النكرة الواقعة في سياق الشرط على العموم،
فحكى الشهيد (رحمه الله) في التمهيد عن جماعة من الأصوليين ذلك، قال: وبه صرح
الجوهري في البرهان وتابعه الأنباري في شرحه واقتضاه كلام الآمدي، والمختار
عند آخرين عدم إفادته العموم.
240

نعم لو انضم إليه قرينة المقام كما في قوله وقوله (1) أفاد ذلك ولا كلام فيه.
وفرعوا عليه ما إذا قال الموصي: إن ولدت ذكرا فله الألف، وإن ولدت أنثى فلها
مائة. فولدت ذكرين أو أنثيين فيشترك الذكران في الألف والأنثيان في المائة، لأنه
ليس أحدهما أولى من الآخر فيكون عاما، وقيل: إنه على العموم تعطى كل واحد
من الذكرين ألفا ومن الأنثيين مائة، إذ المعنى حينئذ كل من ولدته فله كذا، وبدونه
تشتركان في العين ولا يخص أحدهما، لانتفاء الأولوية. ويحتمل حينئذ القول
بثبوته للواحد يستخرج بالقرعة، أو يقال بتخيير الوصي حينئذ في الدفع إلى أي
منهما. ويحتمل أيضا سقوط الوصية فلا يعطى شئ، لتعلق الوصية بولادتها ذكرا
واحدا أو أنثى واحدة لظهور اللفظ في الوحدة، فمع انتفائها ينتفي الوصية. وكيف
كان فالمختار عندنا عدم إفادتها العموم وضعا قطعا ولا لزوما، إذ مجرد التعليق لا
يدل عليه.
نعم يشير تعليق الحكم على النكرة إلى كون مناط الحكم مجرد ثبوت مفاد
النكرة فيثبت الحكم المعلق عليه بمجرد ثبوته، فإن كان الحكم المعلق عليه مطلق
الفعل كما في قولك " إن جاءك رجل فأكرم عمرا " أفاد ثبوت وجوب إكرام عمرو
بمجرد مجئ أي رجل كان، فيشير إلى العموم البدلي، وإن كان مما يثبت
لمصاديق المعلق عليه أو على ما يتعلق به نحو " إن جاءك رجل فأكرمه ". وقوله
تعالى * (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا... الخ) * (2) أفاد ثبوت الحكم لجميع مصاديق
المعلق عليه، فيشير إلى العموم الاستغراقي.
خامسها: أن النكرة إذا وقعت في سياق الأمر أفادت العموم، كما في " أعتق
رقبة " فإنه يفيد الاجتزاء بعتق أي رقبة كان، فيستفاد منه وجوب عتق رقبة ما،
والتخيير بين مصاديقه من الرقاب، وليس استفادة العموم هنا من جهة وضعه له
قطعا، وإنما هو من جهة صدق فرد ما على كل من مصاديق الرقبة وقضاء الأمر
بالاجتزاء، فيرجع إلى العموم الاستغراقي في ثبوت الوجوب لكل منها على سبيل

(1) كذا في النسخ.
(2) الحجرات: 6.
241

التخيير، لكن يكون استغراقه بالنسبة إلى الأفراد الشائعة، إذ لا يزيد ذلك له على
الإطلاق، وإنما يرجع الإطلاق إلى العموم بملاحظة ما ذكرناه. فيكون ذلك مدلولا
التزاميا، ويكون عمومه على حسب ما ينصرف الإطلاق إليه من القدر الجامع بين
الأفراد الشائعة حسب ما مرت الإشارة إليه.
فما ذكره الرازي من: أن النكرة إن وقعت في الخبر نحو " جاءني رجل " فلا
تعم، وإن وقعت في الأمر ك‍ " أعتق رقبة " عمت عند الأكثرين، بدليل الخروج عن
العهدة بإعتاق ما شاء. فإن أراد به ما ذكرناه فلا كلام، وإن أراد عمومه على حسب
اللغة فلا وجه له. وما احتج به عليه من الخروج عن العهدة بإعتاق ما شاء لا يدل
عليه، وأقصى الأمر فيه ما ذكرناه، وفي معنى الأمر ما يفيد مفاده " ولو كان بصورة
الإخبار، كما يجب في الظهار عتق رقبة، ولا حاجة في إرجاعه حينئذ إلى العموم
إلى ضم أصالة البراءة عن اعتبار قيد زائد إلى ذلك ليكون الإطلاق والأصل
المذكور معا قاضيين بالاجتزاء بأي فرد من ذلك، بل مجرد الإطلاق كاف في
الدلالة عليه، حسب ما عرفت من التقرير المذكور كما هو الحال في سائر
الإطلاقات.
والحاصل: أن مدلول اللفظ كاف في إفادة ذلك، وأصالة البراءة من الزائد أمر
آخر، وأما أصالة عدم التقييد فهو عين مفاد الأخذ بظاهر الإطلاق وليس أمرا
ينضم إليه الظاهر.
فما ذكره بعض الأفاضل - من أنه لو كانت مدخولة للأمر نحو " أعتق رقبة "
فيفيد العموم على البدل لا الشمول، وهذا العموم مستفاد من انضمام أصالة البراءة
عن اعتبار قيد زائد من الايمان وغيره، فالإطلاق مع أصل البراءة يقتضيان كفاية
ما صدق عليه الرقبة أي فرد يكون منه - ليس على ما ينبغي.
ثم إن ما ذكرناه إنما يجري فيما إذا أريد بالنكرة النكرة المطلقة كما هو الظاهر
منها، وأما إذا أريد بها المعينة في الواقع المبهمة عند المخاطب - كما في الآية
الشريفة على حسب ظاهر فهم اليهود - فلا يرجع إلى العموم أصلا ويكون مجملا،
إلا أنه خلاف الظاهر من إطلاق النكرة، فهي إما مجاز فيه أو انه خلاف ما ينصرف
242

الإطلاق إليه. وقد أشرنا إلى مثل ذلك في النكرة الواقعة في سياق النفي ونحوه،
وقد مر الكلام فيه عند بيان معنى النكرة.
سادسها: أن النكرة في مقام الإثبات إن كانت في مقام بيان وقوع فعل منه أو
عليه في الماضي أو المستقبل نحو " جاء رجل " أو " يجئ رجل " أو " ضربته
بعصا " أو " أكرمته يوما " فلا عموم فيه مطلقا، وإنما يفيد ثبوت الحكم لفرد ما من
غير الدلالة على الخصوصية المعينة أصلا لا ابتداءا ولا إلزاما. وإن كان في مقام
إثبات حكم له فإن لم يكن المقام مقام البيان فلم يحكم بعمومه، وإنما يفيد ثبوت
الحكم لفرد ما على وجه الاجمال، كما إذا قال " أوجبت عليكم اليوم شيئا، أو
كلفتكم بتكليف " ونحو ذلك. وإن ورد في مقام البيان وكان بيان ثبوت الحكم لفرد
ما غير مفيد بحسب المقام والمفروض أنه لا إشارة إلى تعيين الفرد انصرف إلى
العموم، من جهة قضاء الحكمة به على ما مرت الإشارة إليه في المفرد المعرف.
وقد يكون المراد بالنكرة حينئذ هو مطلق الطبيعة المرسلة ويكون التنوين فيه
لمحض التمكن على نحو " أسد علي " ويعم ثبوت الحكم للطبيعة لأفراده المتحدة
بها كما في قولك: رجل... (1) تبعا، وحمل النكرة على ذلك وإن كان خلاف ما هو
الظاهر منها، إلا أن قرينة المقام حسب ما ذكرنا قاضية بالحمل عليه، ومن ذلك ما
إذا وردت في مقام الامتنان ولم يحصل بإثبات الحكم لفرد ما منه على ما هو
الظاهر من النكرة ولا للطبيعة بالنسبة إلى بعض أفرادها - كما في الآية الشريفة -
فيعم الظهور لجميع أفراد الماء النازل من السماء، وهذا هو المراد من قولهم: إن
النكرة الواقعة في مقام الامتنان تفيد العموم. وأما إذا حصل الامتنان بثبوت فرد ما
له - كما في قولك " قد أعطاك سمعا وبصرا، وآتاك قوة، ومنحك علما وفضلا "
ونحو ذلك - فلا دلالة فيه على العموم قطعا. وكذا لو حصل ذلك بالحكم على
الطبيعة في ضمن بعض الأفراد - كما في قوله تعالى * (فيها فاكهة ونخل
ورمان) * (2) - فإنه لا يدل على وجود أفراد الفواكه والنخل والرمان في الجنة،

(1) قد سقط من هنا شئ.
(2) الرحمن: 68.
243

بل إنما يفيد وجود هذه الأجناس فيه، فالتنوين فيها بحسب ظاهر المقام للتمكن،
لكن لا يفيد ثبوت الحكم لجميع أفراده، لحصول الامتنان بثبوت تلك الأجناس
فيها، فما ذكره في الوافية كما ترى، وكذا الحال في قوله * (وأنزلنا من السماء ماء
طهورا) * (1) فإنه لا يفيد إلا ثبوت المطهرية لما نزله عليهم من غير أن يفيد نزول
جميع المياه عليهم أصلا، وهو ظاهر، فما ذكره فيها من الآية كما ترى.
سابعها: أن ما ذكرناه في النكرة المنفية أو المنهي عنها هل يجري في الفعل
المنفي نحو " ما ضربت " أو المنهي عنها نحو " لا تضرب " فتكون المادة المنفية أو
المنهي عنها كالنكرة الواقعة في سياق النفي أو النهي؟ وجهان، فالمحكي عن ظاهر
العضدي أنه كذلك فيفيد العموم.
وقد يحتج عليه بوجوه:
أحدها: أن المتبادر منها ذلك - حسب ما ادعي من التبادر في النكرة
المصرحة - من غير فرق، ونحن نقول: إن التبادر المدعى متجه، إلا أنه من
مقتضيات الإطلاق، وليس دليلا على الوضع، نظير ما مر في النكرة المصرحة فإن
أريد بذلك قضاء الإطلاق به فمتجه، وإن أريد بذلك إثبات الوضع فلا. وقد مر
تفصيل القول في ذلك في مبحث النهي، ويجري ما ذكرناه في الفعل المنفي من
غير فرق.
ثانيها: أن الفعل نكرة باتفاق النحاة فيجري فيه حكمها وأنه يوصف به النكرة
دون المعرفة.
وأورد على الأول: بأن نجم الأئمة منع من كون الأفعال نكرات، محتجا بأن
التنكير كالتعريف من خواص الأسماء ومن عوارض الذات. وفيه: أنه إن أريد
بذلك عدم اتصاف الأفعال بملاحظة تمام معناها بالتعريف والتنكير فهو كذلك،
لظهور كون معنى الفعل مركبا من المعنى الاسمي والحرفي، ولا يوصف بهما
الحروف فلا يصح اتصاف الملفق منه ومن غيره بهما، وإن أريد عدم اتصافها

(1) سورة الفرقان: 48.
244

بملاحظة معناه التام بذلك فغير متجه، إذ لا يمكن خلو المعنى التام عن أحد
الوجهين، أقصى الأمر عدم اندراج الأفعال في النكرة المصطلحة حيث إنه اصطلح
المعرفة والنكرة في الألفاظ بملاحظة معناها المطابقي دون التضمني، والتنكير
الحاصل في معناها التام من قبيل تنكير المصادر الغير المنونة وليس كتنكير الفرد
المنكر ليكون المراد بها فردا ما - حسب ما مرت الإشارة إليه - وقد عرفت أن
النكرة على وجهيها يفيد العموم عند الوقوع في سياق النفي أو النهي.
وعلى الثاني: بأن ذلك لمناسبتها لها من حيث إنه يصح تأويلها بها كما تقول
في " قام رجل ذهب أبوه ذاهب أبوه " كذا حكى عن نجم الأئمة. وفيه: أنه إن أريد
بذلك عدم اندراجها في النكرة المصطلحة فمسلم، ولا يجدي في المقام. وإن أريد
عدم إفادتها مفاد النكرة فغير متجه، إذ لولا ذلك لما قامت النكرة مقامها.
ثالثها: أن مفاد الفعل حكم، والأحكام من النكرات، لأن الحكم بشئ على
آخر يجب أن يكون مجهولا عند السامع، وإلا لغى الكلام وخرج عن الإفادة،
كبيان الواضحات نحو " السماء فوقنا " وهذا الوجه ضعيف جدا، فإن النكرة في
اصطلاحهم ليست عبارة عن كون الشئ مجهولا عند السامع، بل كون الذات غير
مشاربها إلى متعين في الذهن أو الخارج، وأيضا سلمنا كون الشئ مجهولا نكرة
لكن لا يلزم من ذلك أن يكون نفس الخبر والصيغة نكرة، إذ المجهول انتساب ما
تضمنه الخبر والصيغة إلى المحكوم عليه، فإن المجهول من مجئ زيد انتساب
المجئ إلى زيد لا مفهوم المجئ المحمول عليه، كيف ولو لزم تنكير المحكوم لم
يجز أن يقول: " زيد القائم وأنا زيد " وكان التعريف في المقام قاضيا بمعرفة
النسبة، فكان كقولك " السماء فوقنا " وليس كذلك ضرورة. وذلك محصل ما حكي
عن نجم الأئمة وهو متجه.
وكيف كان فالمختار عندنا إفادته العموم على مقتضى الإطلاق من غير أن
يكون تقييده ببعض الصور قاضيا بالتجوز فيه، فالعموم من لوازم الإطلاق
ومقتضياته من غير أن يكون اللفظ موضوعا بإزائه حسب ما مر تفصيل القول فيه
في مبحث النهي.
245

ويجري الكلام المقدم في النكرة الواقعة في سياق فعل الشرط نحو إن أكلت
فأنت حر أو أنت طالق، وظاهر اللفظ دوران الجزاء مدار مطلق حصول ماهية
الشرط فيرجع أيضا إلى العموم البدلي، وظاهر التعليق على الطبيعة دوران الحكم
على مجرد ذلك من دون اعتبار شئ من الخصوصيات فيه، إلا أنه كغيره ينصرف
إلى الشائع.
ثامنها: الجمع المنكر الواقع في سياق النفي يفيد العموم على نحو المفرد
الواقع في سياقه، كما هو ظاهر من ملاحظة الاستعمالات. وقد ذكر بعضهم أن
الحكم بالنصوصية والظهورية لا يختلف في المقامين ف‍ " لا رجال في الدار " و " ما
من رجال " نص في العموم، و " ليس في الدار رجال " و " ما في البيت رجال "
ظاهر فيه، وعندي في ذلك كلام، لعدم ظهور فرق بين تلك العبارة في فهم العرف،
إلا أن ما زيد فيه " من " أبلغ في العموم من الحالي عنه.
نعم، هنا كلام في إفادته النفي من الآحاد كالمفرد أو أنه يفيد النفي عن أفراد
الجموع، وقد نص بعضهم بأن " لا رجال " نص في عموم أفراد الجموع وإن قلنا
بكونه ظاهرا في عموم الأفراد أيضا كالجمع المحلى يسلخ معنى الجمعية. قلت:
دعوى ظهوره في نظر الوجدان لا يخلو من خفاء كيف! ولو كان الأغلبية لكان
قوله " ليس لي على زيد دراهم " إقرار بعدم اشتغال ذمته بدرهم ودرهمين، وليس
كذلك قطعا، وكذا لو نذر أن لا يستقرض من زيد دراهم لم يحنث باستقراض
درهم أو درهمين.
وبالجملة: أن الجمع اسم للوحدات الثلاث وما فوقها، والنفي الوارد عليه
يمكن أن يرد على تلك الوحدات وعلى المجموع، فعلى الأول يعم الآحاد، وعلى
الثاني لا يفيد إلا نفي مراتب الجمع، ونفي الأول يستلزم نفي الثاني بخلاف
العكس، فالقدر المتحقق من الأول هو الثاني، ويتوقف إرادة الآخر به على قيام
القرينة عليه. ودعوى ظهوره فيه مع الإطلاق غير متجهة، ولذا يصح أن يقال " لا
رجال في الدار بل رجل أو رجلان " مع أنه لا يصح أن يقال: لا رجل في الدار بل
رجلان أو رجال وكذا الحال في أسماء العدد الواقعة في سياق النفي، إذ يمكن
246

ورود النفي على الوحدات المندرجة فيها وعلى المجموع فلا ينافي ثبوته لبعضه
- ويجري ما ذكرناه في الواقع في سياق النهي، نحو " لا تشتر عبيدا " و " لا تأكل
أرغفة " والحق أنها لا تفيد المنع عن شراء الواحد أو الاثنين - إلا أن يقوم قرينة
في المقام على تسلط النفي على الوحدات.
ولو وقع الجمع المعرف في سياق النفي فالظاهر منه عموم السلب، كما في
قولك " ما جاءني العلماء " و " ما أكرمت الفساق " و " ما أهنت العلماء " فإنه ظاهر
في عدم مجئ أحد من العلماء إليه، وعدم إكرامه أحدا من الفساق، وعدم إهانته
أحدا من العلماء.
فإن قلت: إن الجمع المعرف يفيد العموم، فالنفي الوارد عليه يكون سلبا
للعموم، كما في قولك " ما جاءني كل عالم " فكيف يكون ظاهرا في عموم السلب.
قلت: إنما يتم ما ذكر لو كان مدخول النفي ما يدل على مفهوم الشمول كما في
المثال، فيرجع النفي إليه ويكون سلبا للعموم، وليس من ذلك العموم في الجمع،
حسب ما مر بيانه، بل الجمع المعرف إشارة إلى جميع الوحدات المندرجة فيه،
ويكون الحكم متعلقا بجميع تلك الوحدات، فهو شامل لجميع الوحدات المندرجة
من غير أن يكون مفهوم الشمول مأخوذا فيه، فيتعلق الحكم بكل من تلك الآحاد
إيجابيا كان أو سلبيا، فيرجع في الإيجاب إلى موجبة كلية وفي السلب إلى سالبة
كلية، فلو حلف أن لا يتزوج الثيبات حنث بتزويج ثيبة واحدة، هذا كله على
المختار من كونه حقيقة في استغراق الآحاد. أما لو قلنا بدلالته على استغراق
المجموع لم يحنث بتزويج واحدة أو اثنتين. وكذا الحال إذا وقع الجمع المعرف في
سياق النهي من غير فرق. هذا إذا أريد بالجمع المعرف ما هو الظاهر منه أعني
الاستغراق. وأما إذا أريد به الجنس ففيه وجهان: من إرادة الجنس المطلق فيفيد
عموم النفي والنهي بالنسبة إلى الآحاد، ومن إرادة جنس الجمع فلا يفيد إلا عمومه
بالنسبة إلى المجموع فلا يفيد نفي الحكم عن الواحد والاثنين، وكذا النهي عنه وقد
مر الكلام فيه حينئذ، ولا فرق في ذلك بين وروده في سياق الإيجاب أو السلب.
ولو وقع في سياق الشرط تعلق الجزاء بحصول الجميع، فلا يثبت إلا مع حصول
247

الكل كما إذا قال: إن جاءك العلماء فأكرم زيدا. هذا إذا لم يكن حكم الجزاء متعلقا
بهم، وأما إذا كان متعلقا بهم فهو ظاهر في إفادة إناطة الحكم في كل منها بحصول
الشرط المذكور بالنسبة إليه، كما إذا قال: إن جاءك العلماء فأكرمهم. ويحتمل أن
يكون المقصود إناطة إكرام الكل على مجئ الكل، إلا أنه خلاف ظاهر الإطلاق
حسب ما هو المفهوم منه في العرف.
ولو وقع الجمع المنكر في سياق الأمر أو الإيجاب ففي إفادته العموم خلاف،
أشار إليه المصنف بقوله: أكثر العلماء على أن الجمع المنكر لا يفيد العموم، هذا هو
المعروف من الأصوليين بل لا يبعد حصول الاتفاق عليه بعد الخلاف المذكور، إذ
لم ينقل فيه خلاف بعد من نسب الخلاف إليه من القدماء، والظاهر أنه لا خلاف
فيه أيضا من جهة وضعه لخصوص العموم، بل لا يبعد قضاء ضرورة اللغة بخلافه،
وإنما الخلاف المذكور في انصرافه إلى العموم من جهة اقتضاء الحكمة به، كما
عزي إلى الشيخ أو غيره مما عزى إلى أبي علي الجبائي، وهو أيضا خلاف
ضعيف. ولا يبعد تنزيل كلام الشيخ على ما سنقرره إن شاء الله.
وكيف كان، فالمختار عدم انصرافه إلى العموم أيضا إلا في بعض مواضع
نادرة تقضي الحكمة به بحسب المقام كما سنقرره، ويدل عليه أن المتبادر من
الجمع المنكر في الاستعمالات بعد الرجوع إلى العرف ليس إلا الوحدات المتعددة
ما فوق الاثنين كما هو المفهوم من الجمع، وليس مفاد التنوين فيه إلا التمكن، ولا
دلالة فيه على الوحدة كما هو الحال في المفرد، ولا يفيد إطلاقه على عدد خاص
ولا مرتبة مخصوصة من الجمع، فالمعنى المستفاد منه صادق على جميع مراتب
الجمع من غير ترجيح لخصوص المرتبة العليا منه بوجه من الوجوه، والقدر
المتيقن منه هو الأول، فلا دلالة في لفظه على خصوص المرتبة العليا ولا قرينة،
فإنه يفيد إطلاقه عليها، وإلا لانساق ذلك منه إلى الفهم عند الإطلاق ومن المعلوم
عدمه، ودعوى قضاء الحكمة به ممنوعة إلا في بعض موارد خاصة، ولا ربط له
بمحل البحث في المسألة.
وتوضيح القول في ذلك أن الجمع المنكر إما أن يقع في مورد الأخبار،
248

وحينئذ فإما أن يتعلق به حكم من الأحكام كأكل [اللحوم] وأرباح متاجر ونحو
ذلك، أو غيرها من سائر الأخبار كجاءني رجال، أو يقع متعلقا للأمر، أو يقع
للشرط المتعلق عليه حكم من الأحكام الشرعية أو غيرها.
فها هنا صور:
أحدها: أن يقع متعلقا للأخبار سواء كان ركنا في الإسناد نحو " جاءني
رجال " أو كان من متعلقات المخبر به ك‍ " دفعت إليه دراهم " وحينئذ فالقدر
المستفاد منه وقوع أقل الجمع، ولا دلالة فيه على ما يزيد على ذلك، إذ العام لا
دلالة فيه على الخاص، وإنما أفاد الأقل لاشتراكه بين جميع المراتب، ولا دلالة
فيه على تعيين المصداق على نحو ما ذكرناه في المفرد المنكر، إلا أن ذلك يفيد
وحدة المخبر به، وهذا يفيد تعدده بما يزيد على الاثنين.
فالإبهام الحاصل في المفرد من جهة واحدة وهو عدم تعين الفرد الذي تعلق
الإخبار به، وهنا من جهتين: أحدهما: دوران الجمع بين الثلاثة وما فوقها إلى أن
يستغرق الجميع ليكون الجمع موضوعا لإفادة القدر المشترك بينها، فلا يتعين
شئ من مراتبه، وحيث كان أقلها الثلاثة دل على حصوله قطعا، ويكون إطلاقه
على ما يزيد عليها في مقام الاحتمال، وليس ذلك من جهة إجمال اللفظ ودورانه
بين أمور، كما هو الحال في المشترك بين المعاني وإن كانت تلك المعاني متداخلة،
فإن نفس المعنى غير متعين هناك، بل من جهة كون معناه صادقا على الجميع
وحاصلا بكل منها فمعنى اللفظ ومفاده متعين في المقام أعني ما فوق الاثنين،
إلا أن ذلك المعنى غير متعين الصدق على مرتبة معينة، بل يصدق على مراتب
غير متناهية، فلا دلالة في اللفظ إلا على القدر المشترك من غير أن يدل على شئ
من تلك. إلى هنا جف القلم (1).
* * *

(1) لا يخفى أن في المعالم قبل مباحث التخصيص أصلين:
1 - أصل: أكثر العلماء على أن الجمع المنكر لا يفيد العموم... الخ.
2 - أصل: ما وضع لخطاب المشافهة... الخ.
لم يأت في النسخ شرحهما.
249

معالم الدين:
الفصل الثاني
في
جملة من مباحث التخصيص
أصل
اختلف القوم في منتهى التخصيص إلى كم هو، فذهب بعضهم إلى
جوازه حتى يبقى واحد. وهو اختيار المرتضى، والشيخ، وأبي المكارم
ابن زهرة. وقيل: حتى يبقى ثلاثة. وقيل: اثنان. وذهب الأكثر ومنهم
المحقق إلى أنه لا بد من بقاء جمع يقرب من مدلول العام، إلا أن
يستعمل في حق الواحد على سبيل التعظيم. وهو الأقرب.
لنا: القطع بقبح قول القائل: " أكلت كل رمانة في البستان "، وفيه
آلاف وقد أكل واحدة أو ثلاثة. وقوله: " أخذت كل ما في الصندوق من
الذهب " وفيه ألف، وقد أخذ دينارا إلى ثلاثة. وكذا قوله: " كل من دخل
داري فهو حر "، أو " كل من جاءك، فأكرمه "، وفسره بواحد أو ثلاثة،
فقال: " أردت زيدا أو هو مع عمرو وبكر ". ولا كذلك لو أريد من اللفظ
في جميعها كثرة قريبة من مدلوله.
251

احتج مجوزوه إلى الواحد بوجوه:
الأول: أن استعمال العام في غير الاستغراق يكون بطريق المجاز،
على ما هو التحقيق، وليس بعض الأفراد أولى من البعض، فوجب
جواز استعماله في جميع الأقسام إلى أن ينتهى إلى الواحد.
الثاني: أنه لو امتنع ذلك، لكان لتخصيصه وإخراج اللفظ عن
موضوعه إلى غيره. وهذا يقتضي امتناع كل تخصيص.
الثالث: قوله تعالى: " وإنا له لحافظون "، والمراد هو الله تعالى
وحده.
الرابع: قوله تعالى: " الذين قال لهم الناس "، والمراد نعيم بن
مسعود، باتفاق المفسرين. ولم يعده أهل اللسان مستهجنا، لوجود
القرينة، فوجب جواز التخصيص إلى الواحد، مهما وجدت القرينة.
وهو المدعى.
الخامس: أنه علم بالضرورة من اللغة صحة قولنا: " أكلت الخبز
وشربت الماء "، ويراد به أقل القليل مما يتناوله الماء والخبز.
والجواب عن الأول: المنع من عدم الأولوية، فان الأكثر أقرب إلى
الجميع من الأقل. هكذا أجاب العلامة (رحمه الله) في النهاية.
وفيه نظر، لأن أقربية الأكثر إلى الجميع يقتضى أرجحية إرادته
على إرادة الأقل، لا امتناع إرادة الأقل، كما هو المدعى.
فالتحقيق في الجواب أن يقال: لما كان مبنى الدليل على أن
استعمال العام في الخصوص مجاز، كما هو الحق، وستسمعه، ولا بد
في جواز مثله من وجود العلاقة المصححة للتجوز، لا جرم كان الحكم
مختصا باستعماله في الأكثر، لانتفاء العلاقة في غيره.
فان قلت: كل واحد من الأفراد بعض مدلول العام، فهو جزؤه.
252

وعلاقة الكل والجزء حيث يكون استعمال اللفظ الموضوع للكل في
الجزء غير مشترط بشئ، كما نص عليه المحققون. وإنما الشرط في
عكسه، أعني: استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل، على ما مر
تحقيقه. وحينئذ فما وجه تخصيص وجود العلاقة بالأكثر؟
قلت: لا ريب في أن كل واحد من أفراد العام بعض مدلوله، لكنها
ليست أجزاء له، كيف؟ وقد عرفت أن مدلول العام كالفرد، لا مجموع
الأفراد. وإنما يتصور في مدلوله تحقق الجزء، والكل، لو كان بالمعنى
الثاني. وليس كذلك. فظهر أنه ليس المصحح المتجوز علاقة الكل
والجزء، كما توهم. وإنما هو علاقة المشابهة، أعني: الاشتراك في صفة،
وهي ههنا الكثرة، فلا بد في استعمال لفظ العام في الخصوص من
تحقق كثرة تقرب من مدلول العام، لتحقق المشابهة المعتبرة لتصحيح
الاستعمال. وذلك هو المعني بقولهم: " لا بد من بقاء جمع يقرب، الخ ".
وعن الثاني: بالمنع من كون الامتناع للتخصيص مطلقا، بل
لتخصيص خاص، وهو ما يعد في اللغة لغوا، وينكر عرفا.
وعن الثالث: أنه غير محل النزاع، فإنه للتعظيم، وليس من التعميم
والتخصيص في شئ وذلك لما جرت العادة به، من أن العظماء
يتكلمون عنهم وعن أتباعهم، فيغلبون المتكلم، فصار ذلك استعارة
عن العظمة ولم يبق معنى العموم ملحوظا فيه أصلا.
وعن الرابع: أنه، على تقدير ثبوته، كالثالث في خروجه عن محل
النزاع، لأن البحث في تخصيص العام، و " الناس "، على هذا التقدير
ليس بعام بل للمعهود، والمعهود غير عام. وقد يتوقف في هذا، لعدم
ثبوت صحة إطلاق " الناس " المعهود على واحد. والأمر عندنا سهل.
وعن الخامس: أنه غير محل النزاع أيضا، فإن كل واحد من الماء
253

والخبز في المثالين ليس بعام، بل هو للبعض الخارجي المطابق
للمعهود الذهني، أعني: الخبز والماء المقرر في الذهن أنه يؤكل
ويشرب، وهو مقدار ما معلوم.
وحاصل الأمر أنه أطلق المعرف بلام العهد الذهني - الذي هو
قسم من تعريف الجنس - على موجود معين، يحتمله وغيره اللفظ
وأريد بخصوصه من بين تلك المحتملات بدلالة القرينة. وهذا مثل
إطلاق المعرف بلام العهد الخارجي على موجود معين من بين
معهودات خارجية، كقولك لمخاطبك: " أدخل السوق " مريدا به
واحدا من أسواق معهودة بينك وبينه عهدا خارجيا معينا له من بينها
بالقرينة، ولو بالعادة، فكما أن ذلك ليس من تخصيص العموم في
شئ، فكذا هذا.
حجة مجوزية إلى الثلاثة والاثنين: ما قيل في الجمع، وأن أقله
ثلاثة أو اثنان، كأنهم جعلوه فرعا لكون الجمع حقيقة في الثلاثة أو في
الاثنين.
والجواب: أن الكلام في أقل مرتبة يخصص إليها العام، لا في أقل
مرتبة يطلق عليها الجمع، فان الجمع من حيث هو ليس بعام، ولم يقم
دليل على تلازم حكميهما، فلا تعلق لأحدهما بالآخر، فلا يكون
المثبت لأحدهما مثبتا للآخر.
254

قوله: * (في جملة مباحث التخصيص) *.
التخصيص قصر الحكم المتعلق بالعام على بعض مدلوله، فلو تعلق الحكم من
أول الأمر على بعض مدلوله لم يكن تخصيصا، كما في قولك " أكرم بعض العلماء "
وكذا يخرج عنه التخصيص المتعلق بغير العام في نحو قولك " له علي عشرة إلا
ثلاثة " و " أكلت الخبز إلا نصفه " ويخرج عنه أيضا التخصيص المتعلق ببعض
أحوال العام، كما في قولك " أكرم العلماء إلى يوم الجمعة " أو " في يوم الجمعة " إذ
لا عموم بالنسبة إلى الأحوال حتى يكون اخراج الحال المذكور تخصيصا له،
وإنما العموم الحاصل فيه بالنسبة إلى الأفراد وهو حاصل في المثال المفروض،
فهو يفيد بحسب الظاهر الإطلاق القاضي بالاكتفاء بالإكرام الحاصل في أي وقت
كان، ويخرج عنه أيضا إطلاق العام على بعض أفراده لا على وجه التخصيص، كما
إذا قلت: رأيت كل الرجل، وقد رأيت زيدا تنزيلا له منزلة الجميع، ويندرج فيه ما
إذا كان التخصيص قرينة على إطلاق العام على بعض مدلوله، وما إذا كان مخرجا
لبعض الأفراد عن الحكم المتعلق به، وإذا استعمل العام فيما وضع له من العموم في
وجه، وقد يطلق التخصيص على ما يعم قصر الحكم المتعلق بغير العام على بعض
مدلوله، ويعرف حينئذ بأنه اخراج بعض ما يتناوله الخطاب، وذلك كالتخصيص
المتعلق بأسماء العدد وإخراج بعض الأجزاء عن الكل، كما في " أكلت السمكة إلا
رأسها " ثم إن المخصص قد يكون متصلا وقد يكون منفصلا، والصلة وإن كانت في
معنى الصفة إلا أنها ليست مخصصة للموصول، وذلك لعدم تمامية الموصول إلا
بها، فعمومه إنما هو على حسب صلته بخلاف الموصوف، وأما القيود المتعلقة
بالصلة فهل يعد تخصيصا؟ وجهان: من تمامية الموصول بنفس الصلة فيكون ذلك
مخصصا له ببعض الأفراد، ومن كونه بمنزلة جزء الصلة فيكون عموم الموصول
على حسبه.
والمخصص المتصل أمور خمسة: الاستثناء، والشرط، والصفة، والغاية، وبدل
البعض من الكل، ويندرج في الصفة سائر القيود المنضمة إلى اللفظ مما يوجب
255

تقييد الحكم به. والمراد بالمتصل ما لا يستقل بنفسه، وبالمنفصل ما يكون مستقلا
في إفادة الحكم وإن اتصل بالعام لفظا، والتخصيص المنفصل قد يكون عقليا
وقد يكون نقليا نصا أو إجماعا.
قوله: * (اختلفوا في منتهى التخصيص إلى كم هو) *.
ظاهر إطلاقهم في المقام يعم التخصيص الواقع على كل من الوجوه المتقدمة،
والظاهر أن المراد بالتخصيص هو الإطلاق الأول، أعني ما يرد على العام
المصطلح دون ما يرد على الكل من جهة شموله لأجزائه، كما في أسماء العدد
ونحوها، وإن لم يبعد اتحاد المناط في المقامين.
ثم إن التخصيص الوارد على العام إما أن يكون بالنسبة إلى خصوص الأفراد
المندرجة تحته، أو الأنواع المندرجة فيه، وحصول تخصيص الأكثر على كل من
الوجهين إما أن يستلزم له كذلك على الوجه الآخر أو لا.
ثم إنه إما أن يلحظ الأكثر بالنسبة إلى ما هو الموجود من أفراد العام وإن كان
غير الموجود أضعافه، أو يلحظ بالنسبة إلى الأفراد أو الأنواع مطلقا مع بقاء أغلب
الأفراد أو الأنواع الموجودة وعدمه.
ثم إن التخصيص إما أن يكون مع إرادة العموم من اللفظ فيخرج المخرج من
الحكم، وقد يكون باستعمال اللفظ في خصوص الباقي حسب ما أشرنا إليه.
ثم إن لهم في المسألة أقوالا عديدة أشار المصنف (رحمه الله) إلى جملة منها:
ومنها: أن يعتبر فيه بقاء جمع غير محصور سواء كان المخرج أقل أو أكثر.
ومنها: التفصيل بين الجمع وغيره فيعتبر بقاء أقل الجمع في الأول، ويجوز إلى
الواحد في الثاني.
ومنها: ما ذهب إليه الحاجبي ففصل بين المخصص المتصل والمنفصل، ثم
فصل في المتصل بين ما يكون باستثناء أو بدل بعض فجوزه إلى الواحد، وما
يكون بغيرهما من الشرط والصفة والغاية فاعتبر فيه بقاء الاثنين، وفي المنفصل
بين ما يكون العام منحصرا في محصور قليل نحو " قتلت كل زيدين " وهم ثلاثة
256

أو أربعة مثلا فيجوز التخصيص حينئذ إلى الاثنين، وما لا ينحصر أفراده فاعتبر
بقاء جمع يقرب من مدلول العام.
والأظهر عندي دوران الأمر في الجواز والمنع مدار الاستنكار والاستقباح
العرفي، فكلما لم يكن مستقبحا بحسب العرف يجوز التخصيص على حسبه، ومع
الاستقباح يمنع منه، وذلك مما يختلف جدا بحسب اختلاف المقامات.
لنا على الجواز مع عدم الاستقباح: إنه إن كان التخصيص على وجه الحقيقة
من دون لزوم تجوز في المقام فظاهر، وإن كان على وجه التجوز فلما عرفت
سابقا من دوران الأمر في المجاز مدار عدم الاستقباح، وعدم إباء العرف عن
الاستعمال، من غير لزوم مراعاة شئ من خصوصيات العلائق المعروفة، ولو سلم
اعتبار تلك الخصوصيات فعلاقة العام والخاص من جملة تلك العلائق، وهو
الحاصل في العمومات المخصوصة. والقول بكون المراد به العام والخاص
المنطقي دون الأصولي موهون بما سيجئ بيانه إن شاء الله، مضافا إلى أنه يمكن
حصول علاقة المشابهة في المقام أيضا وإن كان الباقي أقل إذا كان مقاربا للكل
في الثمرة، كما في قولك " أخذت كل ما في الصندوق " وفيه آلاف من الأشياء وقد
أخذت واحدا منها يعادل في القيمة جميع الباقي ويزيد عليه، وقولك " أكلت كل
رمانة في المحرز إلا ما كان فاسدا " ولم يكن الصحيح منه إلا أقله، وقد يكون ذلك
من جهة إفادة المبالغة في دعوى المشابهة وكون الباقي كالعدم، كقول الضيف
للمضيف " أكلت كل ما في الخوان " وإنما أكل قليلا منه، إلى غير ذلك من الأمثلة.
وعلى المنع منه مع الاستقباح: أن التخصيص إما تجوز في لفظ العام، أو
تصرف في مدلوله على وجه يقتضي بالتصرف في اللفظ، وكلا الأمرين يتوقف
على ترخيص الواضع وهو غير حاصل مع استقباحه في العرف، ولو قيل بعدم
توقفه عليه في الوجه الأخير فلا ريب في قضاء منعه منه بعدم الجواز، والقبح
العرفي كاشف من حصول المنع.
فإن قلت: إن الاستقباح الحاصل في المقام ليس من جهة قبح نفس
257

الاستعمال الكاشف عن منع الواضع، بل من جهة سوء التعبير وركاكة البيان، على
نحو قولك " أكلت رمانة ورمانة ورمانة " وهكذا أن تكمله عشرا أو عشرين، فإنه
ينبغي أن يعبر عنه بقوله " أكلت عشر رمانات أو عشرين " وكذا إذا أراد التعبير عن
أكل رمانتين أو ثلاث ينبغي أن يعبر عنه بلفظه، لا أن يقول: أكلت كل رمانة، ثم
يستثنى عنه إلى أن يبقى واحد أو اثنان أو ثلاثة، ومما يشير إلى ذلك أنه لو كان
المنع من جهة اللغة لاطرد الاستقباح المذكور وليس كذلك، لوضوح استحسانه في
بعض المقامات، حسب ما أشرنا إليه، فذلك شاهد على كون الاستقباح من جهة
ركاكة التعبير وخلو العدول إليه من النكتة اللائقة، فلذا يستحسن مع وجودها في
المقام، ولو كان ذلك من أجل المنع اللغوي لم يحسنه مراعاة المقام.
قلت: الظاهر أن القبح الحاصل في المقام إنما هو في إطلاق لفظ العام على
الوجه المذكور، وليس ذلك من قبيل سوء التعبير الحاصل بملاحظة التراكيب، بل
من جهة نفس إطلاقه الأفرادي، وذلك قاض بكون الاستعمال غلطا، خارجا عن
قانون اللغة، كما هو الحال في نظائره من الأغلاط، إذ ليس القاضي بالمنع من
الاستعمال بالنسبة إليها سوى الاستقباح المذكور، وعدم تجويز العرف للاستقباح
كما في هذا المقام. وما ذكر من أنه لو كان مستندا إلى الوضع لجرى في جميع
الاستعمالات وإن لم يختلف الحال فيه بحسب المقامات غير متجه، لوضوح
اختلاف المعاني المجازية صحة وفسادا بحسب اختلاف المقامات، لاختلاف
الخصوصيات الملحوظة في كل مقام، وليس مجرد صحة التجوز في مقام قاضيا
باطراده في سائر المقامات، ولذا قالوا بعدم لزوم الاطراد في المجازات.
ألا ترى أنه يصح إطلاق " اليد " على الانسان في مقام الأخذ والإعطاء
ونحوهما ولا يصح إطلاقها عليه في غير ذلك المقام، وكذا إطلاق " الرقبة " في
مقام يرتبط بالرقبة ونحوها دن غيره، حسب ما مر تفصيل القول فيه في محله،
وهذا أمر واضح بالنسبة إلى المجازات، بل يمكن القول به في الحقائق أيضا إذا
اشتمل على تصرف زائد على مجرد استعماله فيما وضع له، كما هو المفروض في
258

المقام لو قلنا باستعماله فيه، فإذا صح بحسب المقام تخصيص العام بالأكثر
بملاحظة خصوصية مجوزة له جاز استعمال العام على الوجه المذكور، كما إذا نزل
الباقي منزلة المعظم أو الكل وأطلق لفظ العام عليه تنزيلا له بتلك المنزلة، فيصح
الاستعمال ولو كان المخرج أضعاف ما أطلق اللفظ عليه، أو نزل القليل الحاصل
منه منزلة الكثير إما لدعوى استجماعه لصفات الكل أو الجل، أو لاكتفائه بذلك عن
الكل على حد قولك: " حصل لي اليوم كل الربح " إذا حصلت منه قدرا كافيا لا
تتوقع الزيادة عليه، فيدور الأمر جوازا ومنعا مدار ذلك، وليس ذلك كاشفا عن
جواز الاستعمال كذلك مطلقا وإن كان في بعض المقامات مستحسنا موافقا
للبلاغة واردا على وفق مقتضى الحال وفي بعض المقامات خلافه، بل الحال على
خلاف ذلك، وإنما يدور الجواز والمنع مدار ذلك، من جهة حصول المصحح في
بعض تلك المقامات دون غيره حسب ما بينا.
نعم لو كان الأمر الملحوظ في كل من تلك المقامات شيئا واحدا من غير
اختلاف في اعتباراته والجهات الملحوظة معه، فحسن في مقام وقبح في آخر،
كان ذلك شاهدا على عدم استناد التحسين والتقبيح إلى الوضع، وإلا لم يختلف
الحال فيه كذلك وليس الحال على ذلك.
فظهر بما قررنا أن تخصيص العام إلى أن يبقى واحد أو اثنان أو ثلاثة ونحوها
من مراتب تخصيص الأكثر مما لا يجوز، مع قطع النظر عن ضم أمر آخر وملاحظة
جهة أخرى معه، ولا يختلف الحال فيه من تلك الجهة بحسب المقامات، وإنما
يختلف الحال فيه بحسب اختلاف سائر الأمور المنضمة إليه، ومن ذلك ما إذا كان
المخرج صنفا والباقي صنفا آخر مع انحصار الباقي بحسب المصداق في الواحد
أو الاثنين أو الثلاثة أو نحوها، وهو في التوصيف والشرط ونحوهما مما لا ينبغي
الريب فيه، بل لا يبعد القول بكون الاستعمال على وجه الحقيقة، كما في قولك
" أكرم كل عالم عادل " و " أكلت كل رمانة صحيحة في البستان " و " أهن كل فاسق
إن أمنت شره " إذ لا يبعد القول بانتفاء التجوز فيه وإن كان الباقي أقل. وسيجئ
259

تفصيل القول في المسألة الآتية إن شاء الله تعالى، وهو اختيار المرتضى (رحمه الله) وقد
عزاه الشريف الاستاد إلى أكثر أصحابنا قال وبه قال ابن إدريس وحكي الخلاف
في ذلك عن ابن الجنيد، وهو قول العلامة، وظاهره انتفاء الخلاف في ذلك بين
الأصحاب، حيث نسب الخلاف في ذلك إلى العامة.
قوله (رحمه الله): * (لنا القطع بقبح قول القائل... الخ) *.
هذا أحد الوجوه التي يحتج بها على القول المذكور.
وأنت خبير: بأن ما ذكر لا يفيد الحكم بالمنع على سبيل الإطلاق كما هو
المدعى، غاية الأمر ثبوت المنع مع حصول الاستقباح كما في الأمثلة المذكورة،
سيما مع ثبوت القول بالتفصيل بين المخصص المتصل والمنفصل، فحصول
الاستقباح مع انفصال المخصص لا يستلزم المنع من اتصاله وعدم ظهور
استقباحه، كما في قولك " أكلت كل رمانة حامضة في البستان " وفيه آلاف من
الرمان ولا حامض فيها إلا ثلاثة، وكذا قولك " كل من دخل داري من أصدقائي
فأكرمه " ولم يكن الداخلون من أصدقائك سوى ثلاثة مثلا، وهكذا، مضافا إلى ما
عرفت من عدم دلالته على المنع بالنسبة إلى المخصص المنفصل على سبيل
الإطلاق أيضا.
غاية الأمر أن يفيد المنع مع عدم ضم جهة خارجية مسوغة للتعبير المذكور
يرتفع به القبح، وأما مع انضمامها كما عرفت تفصيل الكلام فيه مما قررنا فلا قبح
ولا منع، وقد يمنع في المقام من دلالة التقبيح المذكور على المنع كما مرت
الإشارة إليه وقد عرفت الجواب عنه فلا نعيده.
ثانيها: أن معاني الألفاظ حقائقها ومجازاتها توقيفية، لا بد من ثبوتها بتوقيف
الواضع على سبيل الخصوص أو العموم المستفاد من نقل النقلة أو الرجوع إلى
الاستعمالات المجازية، فيقتصر فيها على القدر الثابت، والثابت من ملاحظة
الأدلة هو الإذن في التخصيص مع بقاء الأكثر، فيبقى جواز الاستعمال بالنسبة إلى
غيره خاليا عن الدليل، فلا يجوز التخطي إليه مع عدم قيام دليل عليه.
وأنت خبير بأن غاية ما يقتضيه الوجه المذكور عدم جواز استعمالنا على
260

الوجه المذكور، لا الحكم بفساد الاستعمال المنقول، حتى يطرح الرواية المشتملة
عليه، أو يحكم بعدم جواز حمل الرواية على المعنى المشتمل عليه، على ما هو
الملحوظ في أنظار أرباب الأصول.
غاية الأمر أن لا يصح الحكم بالحمل عليه، وليس ذلك ثمرة يعتد بها في
المقام.
ثالثها: أن التخصيص استعمال العام في غير ما وضع له، فيتبع جوازه وجود
العلاقة المصححة، ولا علاقة مصححة في المقام سوى علاقة المشابهة، وهي غير
حاصلة إلا بقاء الأكثر، وسيأتي الكلام إليه في كلام المصنف.
ويضعفه المنع من انحصار العلاقة هنا بالمشابهة، إذ علاقة العام والخاص أيضا
من جملة العلائق المعتبرة الجارية في تخصيص العمومات، بناء على القول
بمجازيتها، وهو أمر مشترك بين مراتب التخصيص، إلا أنه لما دار الأمر مدار عدم
الاستقباح لم يطرد في جميع الصور حسب ما قررناه.
والقول بكون علاقة العام والخاص إنما هي في العام والخاص المنطقي دون
الأصولي - كما ذكره المدقق المحشي (رحمه الله) - مما لا وجه له، إذ لا باعث على حملها
عليه، مع أن ملاحظة الاستعمالات كما يقضي بجواز استعمال العام المنطقي في
الخاص، كذا يقضي بجواز استعمال العام الأصولي في الخاص. واستعمال المنطقي
في الخاص من قبيل استعمال المطلق في المقيد، وقد عدت علاقة أخرى فيختص
علاقة العام والخاص بالثاني، إلا أن يفرق بينهما بأخذ المطلق على سبيل التفصيل
في الإطلاق على المقيد بخلاف إطلاق العام على الخاص. وفيه: أنه لا وجه
لتقييده بذلك مع صدق الإطلاق والتقييد على الوجهين.
ومع البناء عليه بناء على كون التعدد المذكور مبنيا على تكثير الأقسام لا مانع
من عد اطلاق العام الأصولي على الخاص من جملة العلائق أيضا، كإطلاق العام
المنطقي على الخاص، وملاحظة الاستعمالات كما تشهد للثاني فهي شاهدة للأول
أيضا، بل الأمر فيه أظهر لكونه أشيع في الإطلاقات.
* * *
261

معالم الدين:
أصل
وإذا خص العام وأريد به الباقي، فهو مجاز مطلقا على الأقوى،
وفاقا للشيخ، والمحقق، والعلامة في أحد قوليه، وكثير من أهل
الخلاف. وقال قوم: إنه حقيقة مطلقا. وقيل: هو حقيقة، إن كان الباقي
غير منحصر، بمعنى أن له كثرة يعسر العلم بعددها، وإلا، فمجاز.
وذهب آخرون إلى كونه حقيقة، إن خص بمخصص لا يستقل بنفسه،
من شرط، أو صفة، أو استثناء، أو غاية، وإن خص بمستقل، من سمع
أو عقل، فمجاز. وهو القول الثاني للعلامة، اختاره في التهذيب. وينقل
ههنا مذاهب للناس كثيرة سوى هذه، لكنها شديدة الوهن، فلا جدوى
للتعرض لنقلها.
لنا: أنه لو كان حقيقة في الباقي، كما في الكل، لكان مشتركا بينهما.
واللازم منتف. بيان الملازمة: أنه ثبت كونه للعموم حقيقة، ولا ريب أن
البعض مخالف له بحسب المفهوم، وقد فرض كونه حقيقة فيه أيضا،
فيكون حقيقة في معنيين مختلفين، وهو معنى المشترك. وبيان انتفاء
اللازم: أن الفرض وقع في مثله، إذ الكلام في ألفاظ العموم التي قد
ثبت اختصاصه بها في أصل الوضع.
263

حجة القائل بأنه حقيقة مطلقا، أمران:
أحدهما: أن اللفظ كان متناولا له حقيقة بالاتفاق، والتناول باق
على ما كان، لم يتغير، إنما طرء عدم تناول الغير.
والثاني: أنه يسبق إلى الفهم، إذ مع القرينة لا يحتمل غيره. وذلك
دليل الحقيقة.
والجواب عن الأول: أن تناول اللفظ له قبل التخصيص إنما كان مع
غيره، وبعده يتناوله وحده، وهما متغايران، فقد استعمل في غير ما
وضع له.
واعترض: بأن عدم تناوله للغير أو تناوله له، لا يغير صفة تناوله لما
يتناوله.
وجوابه: أن كون اللفظ حقيقة قبل التخصيص ليس باعتبار تناوله
للباقي، حتى يكون بقاء التناول مستلزما لبقاء كونه حقيقة، بل من
حيث إنه مستعمل في المعنى الذي ذلك الباقي بعض منه، وبعد
التخصيص يستعمل في نفس الباقي، فلا يبقى حقيقة. والقول بأنه كان
متناولا له حقيقة مجرد عبارة، إذ الكلام في الحقيقة المقابلة للمجاز،
وهي صفة اللفظ.
وعن الثاني: بالمنع من السبق إلى الفهم. وإنما يتبادر مع القرينة،
وبدونها يسبق العموم. وهو دليل المجاز.
واعترض: بأن إرادة الباقي معلومة بدون القرينة. إنما المحتاج إلى
القرينة، عدم إرادة المخرج.
وضعفه ظاهر، لأن العلم بإرادة الباقي قبل القرينة إنما هو
باعتبار دخوله تحت المراد، وكونه بعضا منه. والمقتضي لكون
اللفظ حقيقة فيه، هو العلم بإرادته على أنه نفس المراد، وهذا
264

لم يحصل إلا بمعونة القرينة. وهو معنى المجاز.
حجة من قال بأنه حقيقة، إن بقي غير منحصر، أن معنى العموم
حقيقة هو كون اللفظ دالا على أمر غير منحصر في عدد، وإذا كان
الباقي غير منحصر، كان عاما.
والجواب: منع كون معناه ذلك، بل معناه تناوله للجميع. وكان
للجميع أولا، وقد صار لغيره. فكان مجازا.
ولا يذهب عليك أن منشأ الغلط في هذه الحجة اشتباه كون النزاع
في لفظ العام أو في الصيغ. وقد وقع مثله لكثير من الأصوليين في
مواضع متعددة، ككون الأمر للوجوب، والجمع للاثنين، والاستثناء
مجازا في المنقطع. وهو من باب اشتباه العارض بالمعروض.
حجة القائل بأنه حقيقة، إن خص بغير مستقل: أنه لو كان التقييد
بما لا يستقل يوجب تجوزا في نحو: " الرجال المسلمون " من المقيد
بالصفة، و: " أكرم بني تميم ان دخلوا " من المقيد بالشرط، و " اعتزل
الناس إلا العلماء " من المقيد بالاستثناء، لكان نحو: " مسلمون "
للجماعة مجازا، ولكان نحو: " المسلم " للجنس أو للعهد مجازا،
ولكان نحو: " ألف سنة إلا خمسين عاما " مجازا. واللوازم الثلاثة باطلة.
أما الأولان: فإجماعا، وأما الأخير، فلكونه موضع وفاق من الخصم.
بيان الملازمة: أن كل واحد من المذكورات يقيد بقيد هو كالجزء له،
وقد صار بواسطته لمعنى غير ما وضع له أولا. وهي بدونه، لما نقلت
عنه، ومعه لما نقلت إليه. ولا يحتمل غيره. وقد جعلتم ذلك موجبا
للتجوز. فالفرق تحكم.
والجواب: أن وجه الفرق ظاهر. فان الواو في " مسلمون "، كألف
" ضارب " وواو " مضروب " جزء الكلمة، والمجموع لفظ واحد.
265

والألف واللام في نحو " المسلم " وإن كانت كلمة، إلا أن المجموع يعد
في العرف كلمة واحدة، ويفهم منه معنى واحد من غير تجوز ونقل من
معنى إلى آخر. فلا يقال إن " مسلم " للجنس، والألف واللام للقيد
والحكم بكون نحو " ألف سنة إلا خمسين عاما " حقيقة - على تقدير
تسليمه - مبني على أن المراد به تمام مدلوله، وأن الإخراج منه وقع
قبل الإسناد والحكم.
وأنت خبير بأنه لا شئ مما ذكرناه في هذه الصور الثلاث
بمتحقق في العام المخصوص، لظهوره الامتياز بين لفظ العام وبين
المخصص، وكون كل منهما كلمة برأسها، ولأن المفروض إرادة الباقي
من لفظ العام، لا تمام المدلول مقدما على الإسناد. وحينئذ فكيف يلزم
من كونه مجازا كون هذه مجازات؟
266

قوله: * (وإذا خص العام وأريد به الباقي... الخ) *.
لا يخفى أن ظاهر العنوان لا يوافق القول بكون ألفاظ العموم حقيقة في العموم
بخصوصه حسب ما مر، إذ بعد فرض كون اللفظ حقيقة في العموم دون غيره لا
يقبل النزاع في كونه حقيقة في الباقي، فعقد هذا النزاع بعد الفراغ من المسألة
المذكورة والبناء على كون ألفاظ العموم حقيقة فيه بخصوصه لا يخلو في بادئ
الرأي عن التدافع، وربما يوجه ذلك بأن عقد هذا النزاع إنما يبتنى على وجود لفظ
يفيد العموم في الجملة، ولا يبتنى على كون تلك الألفاظ موضوعة للعموم خاصة،
فعقدهم لهذا النزاع إنما هو مع قطع النظر عن كون العام حقيقة في العموم بخصوصه
مجازا في غيره، فمن يقول بكون ألفاظ العموم حقيقة في الخصوص خاصة ومن
يقول باشتراكها بين العموم والخصوص يقول بكونها حقيقة في الباقي، بخلاف
القائل بوضعها للعموم خاصة.
وفيه: أنه لا فائدة إذن في عقد ذلك نزاعا آخر وجعله عنوانا برأسه لتفرع
كونه حقيقة أو مجازا على المختار في تلك المسألة حسب ما ذكر.
كيف! والقائل بكونه حقيقة عند إرادة الباقي إنما يقول به على فرض كون
اللفظ للعموم، لا من جهة كونه حقيقة في خصوص الخصوص، أو مشتركا بين
العموم والخصوص، ولذا لم يستند إلى ذلك أحد من القائلين بكونه حقيقة عند
إرادة الباقي، كما استند القائل بالتجوز إلى أنه قضية كونه حقيقة في العموم، كما في
احتجاج المصنف وغيره، فظاهر كلامهم عقد هذا النزاع بعد البناء على كون اللفظ
حقيقة في العموم خاصة كما هو ظاهر العنوان، حيث فرضوا البحث في أن
تخصيص العام وإرادة الباقي هل يقضي بمجازيته أولا؟ فالملحوظ أن كون اللفظ
للعموم هل يقضي بالتجوز عند التخصيص وإرادة الباقي أو لا يقتضي ذلك؟
وسيأتي التنصيص عليه في كلام المصنف، فالإشكال المذكور على حاله. ويمكن
تصحيح محل النزاع في المقام بوجهين:
أحدهما: إنه ليس الكلام في استعمال العام بخصوصه في خصوص الباقي
267

وإنما الكلام في تخصيص العام وإرادة الباقي، فإنه يتصور ذلك مع إرادة الباقي من
العام بخصوصه، أو من مجموع العام والمخصص، أو بإرادة العموم من اللفظ
وإسناد الحكم إلى الباقي على ما يأتي تفصيل القول فيها.
فعلى الأول لا مناص من القول بالتجوز بخلاف الأخيرين، إذ لا مانع من
القول بكونه حقيقة، فيصح أن يكون بناء القائل بكونه حقيقة على أحد الوجهين
الأخيرين من غير أن ينافي كونه موضوعا للعموم بخصوصه.
وقد اختار ذلك جماعة في الاستثناء كما سيجئ تفصيل القول فيه إن شاء
الله. هذا إذا أريد تصحيح النزاع على المذاهب المعروفة، وأما على بعض المذاهب
النادرة فالأمر واضح لا حاجة إلى التوجيه كما يتبين الحال من ملاحظة أدلتهم،
لكنك خبير بأن ذلك لا يوافق الحجة المعروفة من القائل بكونه حقيقة، فإن مقتضاه
كونه حقيقة في خصوص الباقي حسب ما هو ظاهر عنوان المصنف، إلا أن يقال:
إن ضعف الحجة لا يقتضي فساد النزاع في المسألة، ولذا قد دفعوه بذلك كما في
كلام المصنف وغيره فتأمل.
ثانيهما: إن العموم كيفية عارضة على دلالة اللفظ، قاضية بشمول اللفظ لجميع
مصاديقه الحقيقية، أو جميع معانيه الموضوع لها عند القائل بكون المشترك ظاهرا
في الجميع، فملحوظ القائل بكونه حقيقة عند عروض التخصيص أن الباقي أيضا
مصداق حقيقي للفظ، فمع إرادته يكون اللفظ مستعملا في معناه الحقيقي أيضا.
غاية الأمر سقوط تلك الكيفية في المقام، وذلك لا يقضي بالتجوز في العام
الذي هو معروض العموم، نعم لو ذهب القائل بكونه حقيقة في الباقي إلى كونه
بعضا من الموضوع له لم يعقل ذهابه إلى كونه حقيقة فيه حينئذ، لكن ليس الحال
على ذلك عنده، إذ دلالة العام على كل من جزئياته على سبيل المطابقة عندهم،
كما مرت الإشارة إليه، فبذلك يتصور القول فيه بكون العام حقيقة في الباقي، مع
القول بأن للعموم صيغة تخصه وإن فرض فساده بعد التأمل فيه، وكأن هذا هو
ملحوظ بعض القائلين به كما يظهر من احتجاجهم الآتي، والأولى أن يصحح
268

النزاع على الوجهين المذكورين، فيكون الوجه الأول ملحوظا عند بعض القائلين
بكونه حقيقة، والثاني عند غيره.
ثم إن الأقوال المذكورة في المسألة ثمانية كما سيجئ إن شاء الله الإشارة
إليها. والمختار عندنا أنه لا تجوز غالبا في لفظ العام، وإنما التجوز على فرض
حصوله فيما يفيد العموم إن كان هناك لفظ موضوع بإزائه، فإنك قد عرفت أن
أغلب الألفاظ المستعملة في العموم ليست بنفسها موضوعة لخصوص العموم، فإن
الدال على العموم هناك مغاير لما يفيد المعنى الذي يتعلق العموم به، ففي بعضها
يكون العام لفظا والموضوع لإفادة عمومه لفظا آخر كما في " كل رجل " وفي
بعضها يكون معنى العموم مستفادا بالالتزام، وفي بعضها من ظاهر المقام أو نحو
ذلك.
نعم لا يبعد في بعضها أن يكون العام والمفيد للعموم لفظا واحدا، كما في
أسماء المجازات، ومع كون لفظ العام موضوعا لخصوص العموم أو كون الدال
على عمومه موضوعا لذلك انما يلزم التجوز فيه إذا استعمل فيه في غير الشمول،
وأما مع استعماله فيه كما في عدة من المخصصات فلا مجاز أيضا، فهناك تفصيل
في المقام.
ولنوضح الكلام في المرام برسم أمور:
أحدها: أنه نص جماعة منهم بأن الغرض من وضع الألفاظ المفردة ليس
إفادتها معانيها الأفرادية، وإنما المقصود من بعضها إفهام معانيها التركيبية بعد
تركيب بعضها مع بعض، والظاهر أن مقصودهم من ذلك أن الغرض من تقرير
الأوضاع هو إظهار ما في الضمير من المطالب والحاجات، وظاهر أن ما يتعلق به
الأغراض إنما هو بيان المعاني التركيبية دون المفاهيم الأفرادية، لعدم تعلق
الأغراض بها إلا نادرا، فالحاجة إنما تمس إلى بيانها من جهة توقف المطالب
التركيبية عليها، فالوضع إنما تعلق بالألفاظ المفردة من جهة توقف المعاني
التركيبية على المعاني الأفرادية المدلول عليها بالألفاظ المفردة، والغرض الباعث
269

إلى وضعها هو الإيصال إلى المعاني التركيبية الحاصلة من ضم بعضها إلى البعض
بعد وضع الهيئات العارضة عليها لمعانيها النسبية على حسب ما تقرر في محله.
فالمقصود الأصلي من وضع المفردات هو إفهام المعاني التركيبية الحاصلة
من تركيبها للعالم بأوضاعها، وهذا ظاهر لكنهم عللوا الحكم المذكور بأنه لو كان
الغرض من أوضاعها إفادة معانيها الأفرادية لزم الدور، لأن استفادة المعاني منها
يتوقف على العلم بأوضاعها، ضرورة توقف الدلالات الوضعية على العلم
بالوضع، والعلم بالوضع للمعنى يتوقف على تصور ذلك المعنى وحصوله في
النفس، وهو دور مصرح.
وضعف هذا التعليل ظاهر، ضرورة أن المراد من كون الوضع لإفادة المعنى
كون اللفظ باعثا لإخطار المعنى ببال السامع والإشارة إليه، والعلم بالوضع إنما
يتوقف على تصور المعنى وحصوله في البال في الجملة، لا على ذلك الإخطار
الحاصل بسماع اللفظ عند تلفظ المتكلم به، فلا مجال لتوهم الدور وهو واضح.
ويمكن أن يقال: إن المقصود مما ذكروه أنه ليس الغرض من وضع المفردات
إفادة معانيها وتصويرها في ذهن السامع من أول الأمر، لما عرفت من لزوم الدور،
لتوقف حصول تلك المعاني في النفس بواسطة تركيب تلك الألفاظ على العلم
بوضعها لتلك المعاني المتوقف على تصويرها وحصولها في النفس بخلاف المعاني
التركيبية، فإنه يمكن حصولها بواسطة تركيب تلك الألفاظ من غير أن تكون
حاصلة للنفس قبل ذلك أصلا، فالمقصود أن وضع الألفاظ المفردة ليس لتصوير
معانيها الأفرادية للزوم الدور، وإنما هي لأجل تصوير معانيها التركيبية الغير
الحاصلة للمخاطب قبل تلفظ المتكلم بها.
وأنت خبير بأنه لو أريد ذلك فكون الوضع لأجل تصوير المعاني التركيبية إنما
هو على سبيل الإهمال، إذ يمكن أن يكون الإفهام في المركبات على الوجهين:
من إفادة تصوير المعنى المركب، ومن الإشارة إلى المعنى الحاصل في الذهن قبل
تلفظ المتكلم به على ما هو الحال في المفردات.
270

وكيف كان، فالأنسب بالتعليل هو ما ذكرناه وإن صح توجيه ما عللوه بما
قلناه، ثم إنك بعد التأمل مما ذكرناه من الوجهين تعرف أنه لا منافاة بين ما ذكروه
في المقام وما أخذوه في تعريف الوضع من " أنه تعيين اللفظ أو تعينه للدلالة على
المعنى بنفسه " نظرا إلى أن ظاهره كون وضع المفردات لأجل الدلالة على معانيها
الأفرادية فينافي ذلك ما قرروه هناك، وذلك لأن المراد بالدلالة هنا هو إخطار
معانيها الموضوع لها عند التلفظ بها وإن كان ذلك مقصودا بالتبع من أجل حصول
معانيها التركيبية حسب ما قرر أولا، وليس المراد به تحصيل تصور تلك المعاني
من أصلها لوضوح امتناعه نظرا إلى ما قررناه، وإنما المراد مجرد إحضارها
والإشارة إليها من بين المعاني المخزونة في الخيال وهو واضح.
ومن الغريب ما ذكره بعض الأفاضل في بيان عدم المنافاة بين ما ذكروه في
المقامين أن مقصودهم مما نفوه - من كون استفادة المعاني الأفرادية غرضا في
الوضع - أنه ليس الغرض من وضعها إفادة معانيها، بمعنى حصول التصديق من
وضعها بأن تلك المعاني قد وضعت لها تلك الألفاظ (1) والمقصود فيه.
ثانيها: أن استعمال اللفظ في المعنى - أعني إطلاق اللفظ وإرادة المعنى -
يكون تارة بإرادة ذلك المعنى على وجه يكون هو المقصود بالإفادة فيريد
المتكلم إفادة تصديقه للمخاطب، وتارة لا يكون على الوجه المذكور، بل يكون
مقصود المتكلم تصوير ذلك المعنى في ذهن المخاطب لينتقل منه إلى غيره
بملاحظة القرينة الحالية أو المقالية القاضية به، ويكون ذلك الغير هو المقصود
بالبيان والإفادة، وحينئذ فهل يكون المستعمل فيه هو المعنى الأول أو الثاني؟
وجهان: والذي يتقوى في النظر كون المستعمل فيه حينئذ هو الثاني، حسب ما مر
تفصيل القول فيه، فإن الملحوظ في الاستعمال هو المعاني التي يكون المقصود من
الكلام بيانها وإفادتها، فيكون اللفظ مستعملا فيها دون المعاني التي جعلت وسيلة
للانتقال إليها من غير أن تكون مقصودة في الإسناد، ولا يراد بيانها ولا إفادتها

(1) في هامش المطبوع ما يلي: هذه المقدمة ناقصة في الأصل.
271

أصلا، فيكون المناط فيما يستعمل فيه اللفظ هو المعنى المقصود بالإفادة، فإن كان
ذلك مما وضع اللفظ بإزائه كان اللفظ حقيقة، وإلا كان مجازا وإن أريد من اللفظ
صورة ما وضع بإزائه ليجعل وسيلة للانتقال إليه، على ما مر التفصيل فيه.
بقي الكلام في شئ وهو أنه قد يكون المعنى الذي يراد الانتقال إليه حاصلا
من ملاحظة أوضاع متعددة ويكون ذلك المعنى حاصلا باستعمال الألفاظ في
معانيها الموضوع له، إلا أن ذلك قد يستلزم أن لا يكون خصوص المعنى الموضوع
له لبعض تلك الألفاظ مقصودا بالإفادة حقيقة، بل يكون المقصود بالإفادة غيره
إلا أنه ليس مقصودا بالإفادة من تلك اللفظة، بل من مجموع تلك الألفاظ
بملاحظة أوضاعها المنتقلة بها.
وتوضيح المقام: أن المعنى الذي يراد الانتقال إليه قد يكون معنى مجازيا
لتلك اللفظة ويراد من اللفظ خصوص معناه الحقيقي لأجل الانتقال إلى معناه
المجازي الذي هو المقصود بالإفادة، وقد يكون معنى مجازيا مقصودا من
ملاحظة مجموع الألفاظ من غير أن يراد ذلك المعنى من خصوص بعض منها، بل
إنما يراد من خصوص كل من تلك الألفاظ معناه الحقيقي لينتقل من المجموع إلى
معناه الحقيقي التركيبي الحاصل من الأوضاع العديدة ثم ينتقل منه إلى المعنى
المجازي المقصود بالإفادة، كما في التمثيل، وحينئذ يكون التجوز في المركب، بل
وفي خصوص كل من تلك الألفاظ أيضا، وقد يكون معنى حقيقيا مقصودا
بالإفادة من إرادة المعاني الحقيقية من كل من تلك الألفاظ المستعملة لكن يكون
اللازم من ذلك عدم كون المراد من بعض تلك الألفاظ مقصودا بالإفادة، لا بأن
يراد بتلك اللفظة الانتقال إلى المعنى الآخر ليجعل إرادة معناه الحقيقي وسيلة إليه،
بل ذلك المعنى إنما يراد من مجموع تلك الألفاظ بملاحظة أوضاعها الحقيقية،
فليس ذلك المعنى مرادا من تلك اللفظة ليقال بكونها مستعملة فيه على وجه
المجاز، كما في الصورة الأولى، وليس المعنى المراد من الجملة خارجا عما
وضعت له ليكون الانتقال من الجملة إلى ذلك المعنى قاضيا بالخروج عن أوضاع
272

المفردات، حسب ما قلناه في الصورة الثانية، فلا مجاز حينئذ، فيكون كل من
المفردات مستعملة فيما وضع له وإن كان المعنى الموضوع له المراد من بعض تلك
الألفاظ غير مقصود بالإفادة على الوجه الذي قررناه.
وتوضيح ذلك: أنه كما يكون الحقيقة دالة على المعنى الحقيقي بواسطة وضع
اللفظ، فكذا المجاز هو الدال على المعنى المجازي بواسطة القرينة القائمة عليه،
فالمستعمل في المعنى المجازي والمجعول عليه هو لفظ المجاز وإن كانت دلالته
عليه بواسطة القرينة، فإذا لم يكن اللفظ مما أريد به معناه المجازي - ولم يكن تلك
اللفظة دالة على ذلك المعنى بواسطة القرينة، بل كان ذلك اللفظ وغيره دالا عليه،
وكان ذلك المعنى مرادا من مجموع اللفظين أو الألفاظ - لم يكن ذلك اللفظ
مستعملا في ذلك المعنى، بل كان المستعمل فيه هو ما أريد منه من معناه الحقيقي
والمجازي.
نعم لو كان المعنى مجازيا للمركب وكانت تلك الألفاظ في حال التركيب
مستعملة فيه - كما في التمثيل - كان كل من الألفاظ المستعملة فيه مجازا حسب ما
قررناه في التمثيل على تأمل فيه من بعضهم كما مر بيانه في محله.
وبالجملة أن حصول التجوز مبني على أحد أمور ثلاثة: من استعمال اللفظ
ابتداء في غير ما وضع له كما في " رأيت أسدا يرمي " أو كون المراد منه بالأصالة
غير ما وضع له وإن أريد به الموضوع له لأجل التوصل إليه كما في الكناية في
المفرد، أو عدم كون المقصود بالإفادة منه معناه الموضوع له وإن لم يستعمل في
معنى مجازي مخصوص، بل كان المقصود منه في ضمن الجملة إفادة غير ما وضع
له، بأن كانت الجملة المركبة منه مستعملة في غير معناه الموضوع له، كما في
المجاز المركب والكناية المركبة، ولا شئ من الوجوه الثلاثة حاصلة في المقام،
فلا وجه لالتزام التجوز فيه.
ثالثها: أن القيود الواردة على اللفظ لا يقضي بتجوز فيه، إلا أن يكون مفاد
ذلك القيد مندرجا في المعنى المراد من المطلق، فيكون ذلك قرينة على إرادة
273

خصوص ذلك المعنى منه، فيندرج حينئذ في المجاز، لكن ذلك غير شائع في
التقييدات، بل الشائع فيها ضم القيد المدلول عليه باللفظ الدال عليه إلى المطلق
المدلول عليه بلفظه، فيكون اللفظ الدال على المطلق مستعملا في معناه، وحيث إنه
مأخوذ على وجه اللابشرط فلا ينافيه ضم الشرط إليه المدلول عليه بالقيد
اللاحق، فإن اللابشرط يجامع ألف شرط، وحينئذ فيكون ذلك المطلق مما أطلق
على المقيد مع كون التقييد مستفادا من الخارج - أعني القيد المأخوذ معه - فلا
تجوز فيه حسب ما قررناه في إطلاق الكليات على أفرادها.
ولا فرق في ذلك بين التقييد المتصل والمنفصل، فأقصى ما يفيده التقييد
بالمنفصل إطلاق المطلق على خصوص ذلك القيد مع استفادة الخصوصية من
الخارج وكونه قرينة على الإطلاق المذكور، إذ إطلاق المطلق على خصوص
بعض الأفراد نظير التجوز باللفظ في افتقاره إلى وجود القرينة الدالة عليه، وبدونه
لا يحمل المطلق إلا على معناه الإطلاقي المأخوذ على وجه اللابشرط من دون
ضم شرط إليه.
رابعها: أن العموم الوارد على الألفاظ المقيدة إنما يرد عليها بملاحظة القيود
المنضمة إليها، وذلك لأن المطلوب من تلك المطلقات هو معانيها الإطلاقية المقيدة
بالقيود المنضمة إليها، فتكون تلك المطلقات مطلقة على خصوص بعض أنواعها
على حسب التقييد الوارد عليها، كما عرفت، فيكون العموم الوارد عليها على
حسب ذلك، فإن العموم الوارد على اللفظ إنما يتبع ما أطلق عليه ذلك اللفظ،
وحينئذ فعد الصفة والشرط ونحوهما من القيود مخصصا للعام إنما هو من جهة
اخراجه عن معناه الإطلاقي، بحيث لم يلحظ العموم فيه على حسب ظاهر مدلوله،
بل خص ذلك بما يفيده القيد المنضم إليه، فسمي تخصيصا للعام، حيث إنه بمعناه
وإن لم يكن ذلك عند التحقيق تخصيصا له، بإيراد العموم على المطلق ثم اخراج
بعضه بالقيود المذكورة، بل لم يرد العموم إلا على خصوص ما أطلق عليه ذلك
المطلق نظرا إلى ما انضم إليه من القيد، ويجري نحو ذلك في المخصص المنفصل
274

إذا دل ذلك على إطلاق ما يتعلق العموم به على بعض مصاديقه، كما في قولك
" أكرم كل رجل ولا تكرم الجهال " فإن ذلك يفيد كون ما أطلق عليه الرجل هناك
خصوص العالم، فيكون العموم الوارد عليه بحسب ما أريد من اللفظ وأطلق عليه
دون مطلق الرجل، وحينئذ لا مجاز في لفظة " كل " وما في معناه حيث استعمل في
معناه، ولا في مدخولها حيث أطلق على بعض مصاديقها.
وقد عرفت أن إطلاقه عليه على وجه الحقيقة، نعم لو أريد بذلك هو معناه
اللابشرط من غير أن يقال بدلالة المخصص على إطلاقه على خصوص المقيد
تعين التزام التجوز فيما يفيد العموم من لفظة " كل " وما بمعناه.
خامسها: أن الألفاظ الدالة على العموم على وجوه:
فمنها: ما يكون موضوعا لإفادة العموم والشمول ويكون الأمر الشامل غيره
كما في لفظة " كل " وما بمعناه.
ومنها: ما يفيد ذلك من جهة المقام لوروده في سياق الشرط أو العموم كما في
قولك " كلما جاءك رجل فأكرمه " ومنه أسماء المجازات ونحوها.
ومنها: ما يدل على العموم على سبيل الالتزام كالنكرة الواقعة في سياق النفي.
ومنها: ما يدل عليه من جهة انصراف ظاهر الإطلاق إليه كما في الجمع
المعرف، إذ ليس موضوعا لخصوص العموم كما مرت الإشارة إليه.
سادسها: إنك قد عرفت أن شمول العام إنما هو لمصاديقه والجزئيات
المندرجة تحته، فلذا عرفوه باللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له سوى بعض
العمومات، كالجمع المعرف حيث إن شموله بالنسبة إلى أجزائه حسب ما مر بيانه،
فحينئذ نقول: إن صدق العام على كل من جزئياته على وجه الحقيقة من حيث
انطباقه عليه، فيكون العموم الطارئ عليه قاضيا بإطلاقه على جميع مصاديقه،
فيكون مستغرقا لجميع ما يصلح له، وحينئذ فمفاد التخصيص الوارد عليه إطلاق
ذلك العام على بعض مصاديقه والجزئيات المطابقة له، فلا تجوز إذن في اللفظ من
تلك الجهة، إنما التجوز هناك - على القول به - بالنسبة إلى ما يفيد عموم اللفظ
275

وشموله لمصاديقه حيث لم يرد به معناه بعد ظهور التخصيص، وحينئذ فإن كان
الدال على العموم موضوعا بإزائه كان ذلك مجازا، حيث أريد به غير ما وضع له
من الشمول، وكذا لو كان دالا على عموم النفي، فإنه إنما يجئ التجوز فيه من تلك
الجهة، وأما إن لم يكن إفادته العموم بالوضع بل بالالتزام أو ظهور الإطلاق فلا
تجوز، كما في النكرة الواقعة في سياق النفي.
فإن قلت: إن العموم إذا كان معنى التزاميا له كان عدم ثبوت العموم شاهدا
على انتفاء ملزومه، فيلزم التجوز فيه من تلك الجهة.
قلت: لا وجه لالتزام التجوز من تلك الجهة إذ أقصى الأمر أنه أن يكون
النكرة الواقعة هناك قد أطلق على قسم خاص ليكون النفي واردا عليه، من غير أن
يراد بها مطلق الفرد المنتشر ليستلزم انتفاؤه انتفاء الجميع، وذلك أيضا مما لا تجوز
فيه كما عرفت.
وأما الجمع المعرف إذا ورد التخصيص عليه فلا يخلو إما أن يكون ذلك مع
إطلاقه على جميع الأفراد وإخراج المخرج عن الحكم فليس ذلك إذن مستعملا
إلا في العموم. وإما أن يكون باستعماله فيما دون الدرجة العليا من الجمع على
حسب ما ورد عليه التخصيص وهو إذن مستعمل في بعض مراتب الجمع، وليس
إطلاق الجمع على تلك المرتبة إلا على وجه الحقيقة، لوضع الجمع لما يشمل
الجميع ولا اختصاص له وضعا بالدرجة العليا، وإنما ينصرف إليه مع الإطلاق لما
مر بيانه.
إذا تقرر هذه الجملة فقد تلخص لك منها أنه لا تجوز في التخصيص بالمتصل
من الاستثناء وغيره: من الوصف والغاية والشرط ونحوها.
أما الاستثناء فلما عرفت من عدم استعمال المستثنى منه في خصوص الباقي،
بل إنما يراد الباقي من مجموع المستثنى والمستثنى منه، فنحو " عشرة إلا ثلاثة "
قد أريد من لفظ " العشرة " مفهومها وأريد " بإلا ثلاثة " اخراج الثلاثة منها من
حيث تعلق الحكم به، فيبقى السبعة متعلقا للحكم الوارد عليه، فالمستفاد من
276

مجموع الألفاظ المذكورة بملاحظة أوضاعها هو ذلك، فكل من تلك الألفاظ قد
استعمل في موضوعه، وتلخص ذلك من ملاحظة المجموع، ولو كان لفظ " العشرة "
مستعملا في خصوص السبعة على سبيل المجاز لكان ما يستفاد منه خصوص
الباقي هو العشرة، وكان الاستثناء قرينة عليه، كسائر القرائن المقالية القائمة على
إرادة المعاني المجازية من غير أن يتلخص ذلك من المجموع، حسب ما قررناه
في دلالة المجاز وهو مما يأبى عنه ظاهر الفهم عند التأمل في المقام.
ومما يشير إلى ذلك أنهم أنكروا أن من فوائد الاستثناء تدارك ما فات
المتكلم عند ذكر المستثنى منه، إذ قد يغفل من خروج المستثنى فيذكر المستثنى
منه على اطلاقه فيظهر منه إسناد الحكم إلى المجموع ثم إذا تنبه على خروج
المستثنى منه تداركه بالاستثناء مع بقاء محله، وحينئذ فلا يراد به اخراج المستثنى
عن المستثنى منه من حيث تعلق الحكم به، وليس حينئذ قرينة على استعمال
المستثنى في الباقي، إذ المفروض استعماله في المجموع، وقد يجعل الاستثناء في
المقام قاضيا بنسخ الإرادة الأولية ودلالته على إرادة البعض من ذلك اللفظ ثانيا،
إلا أن الظاهر بعده، كما لا يخفى على المتأمل.
وإذا ظهر ورود الاستثناء في المقام على الوجه المذكور فالظاهر جريانه في
سائر الصور، لوروده على وجه واحد في الجميع وإن كان في بعض الصور مبنيا
على الغفلة دون البعض، ومما يشهد بما ذكرناه أنه لو كان ما استعمل فيه المستثنى
منه هو الباقي بقرينة الاستثناء لجاز التخصيص المستوعب وبالأزيد من المستثنى
منه إذا ورد استثناء آخر على المستثنى بجعله أنقص من المستثنى منه، كما إذا قال
" له علي عشرة إلا عشرة إلا خمسة " أو " له عندي عشرة إلا عشرين إلا خمسة
عشر " إذ لا استيعاب بالنظر إلى ما أريد من المستثنى في المقام، مع أن ملاحظة
الاستعمالات تأبى عنه جدا، بل الظاهر عدم التأمل في فساده، والظاهر أن الوجه
فيه هو ما قررناه فيتأيد به ما قلناه ويشير إلى ذلك أن أسامي الأعداد لا يجوز
إطلاق الأكثر منها على الأقل من جهة علاقة الكل والجزء في غير الاستثناء،
277

كما إذا قال " أكرم هذه العشرة " مشيرا إلى رجل واحد، أو قال " لزيد هذه الدراهم
العشرون " مشيرا إلى عشرة دراهم، إلى غير ذلك من الأمثلة. فعدم جواز
الاستعمال المذكور مطردا في غير الاستثناء، وجوازه فيه على سبيل الاطراد
شاهد على عدم استعماله هناك في العدد الأقل، إذ لو جاز الاستعمال فيه من جهة
العلاقة المذكورة لجاز في المقامين، لاتحاد المعنى والعلاقة في الصورتين، غاية
الأمر أن يكون التفاوت بينهما من جهة القرينة. ومن البين أنه لا يختلف الحال في
المجازات من جهة اختلاف القرائن.
وأما سائر المخصصات المتصلة من الشرط والصفة والغاية ونحوها فلأن
الظاهر تقييد ما يرد العموم عليه بها، فقد قيد بذلك على حسب سائر المطلقات
المقيدة، ويكون العموم واردا عليه على حسب ما أريد منه وأطلق عليه بعد ضم
القيد، فيكون العموم واردا على المقيد، لأن التقييد حصل بعد إرادة العموم، بل
نقول: إن التقييد المذكور كاشف في بعضها من إطلاق المطلق على خصوص المقيد
من حيث انطباقه معه حسب ما بيناه، وحينئذ فيكون العموم واردا عليه كذلك.
نعم لو كان العموم مرادا من أول الأمر ثم تنبه المتكلم على خلافه فتداركه
بالتوصيف أو غيره من التقييدات لم يتجه في ذلك. إلا أنه يكون ذلك حينئذ قصرا
للحكم الأول على محل الوصف وإخراجا لغيره عما حكم به، فيكون كل من تلك
الألفاظ مستعملا فيما وضع له، ويكون الباقي هو المتلخص من المجموع على نحو
ما ذكر في الاستثناء، ولا تجوز فيه حسب ما عرفت.
وقد يقال بكون التقييد حينئذ رفعا للإرادة الأولى من اللفظ ونسخا لما أريد به
من الطبيعة المطلقة بتقييده بالوصف المذكور وإطلاق ذلك المطلق على المقيد،
حسب ما ذكرنا في المتفطن، ولا مانع منه مع بقاء محله، ولا تجوز فيه أيضا كما
عرفت، ويجري ما ذكرناه في أسماء الشرط ونحوها، نظرا إلى ورود التقييد هناك
على حمل الشرط أو الصفة، فيكون عمومه أيضا على حسب ذلك على نحو ما
قررناه.
278

ثم إنك قد عرفت أن استفادة العموم من بعض العمومات ليست بالوضع، بل
من جهة الالتزام أو ظهور الإطلاق، فعدم اقتضاء التخصيص هناك تجوزا في اللفظ
أظهر حسب ما مر بيانه.
وأما المخصصات المنفصلة فقد عرفت جريان الوجهين فيها، فيمكن أن
يكون التخصيص الوارد هناك على غير وجه التجوز بدلالة المخصص على إطلاق
ما ورد العموم عليه حين استعماله على خصوص المقيد، ويكون المخصص ولو
كان منفصلا قرينة دالة على ذلك، فيكون العموم واردا على المقيد، وأن يكون
قرينة دالة على عدم إرادة العموم من اللفظ الموضوع له إلا أنه إنما يتم المجازية
فيما إذا كان العام موضوعا للعموم، وأما مع استفادة العموم من جهة أخرى فلا
مجاز أيضا، حسب ما مرت الإشارة إليه، هذا وقد ظهر بما قررناه دفع ما يورد في
المقام من لزوم التناقض في الاستثناء نظرا إلى ما يترائى من إثبات الحكم تارة
للمستثنى ونفيه عنه أخرى.
ولهم في التفصي عنه وجوه:
أحدها: أن المراد بالمستثنى منه هو معناه الحقيقي وقد اخرج عنه المستثنى
ثم أسند الحكم إلى الباقي من غير أن يكون هناك إسنادان ليحصل التناقض في
المقام.
وقد عزي ذلك إلى جماعة منهم العلامة واختاره المحقق الرضي وحكاه عن
جماعة.
ثانيها: أن المراد بالمستثنى منه خصوص الباقي على سبيل المجاز والاستثناء
قرينة على التجوز، فليس المستثنى داخلا في المستثنى منه ليلزم التناقض بالحكم
عليه تارة بالإثبات وأخرى بالنفي.
وعزي ذلك إلى الأكثر تارة وإلى الجمهور أخرى، وأسنده المحقق الرضي إلى
البعض وحكاه بعضهم عن السكاكي.
ثالثها: أن مجموع المستثنى منه والمستثنى والأداة اسم للباقي، فعشرة
279

إلا ثلاثة اسم للسبعة، وله اسمان مفرد ومركب، حكاه المحقق الرضي عن القاضي
عبد الجبار وعزاه العضدي إلى القاضي أبي بكر، وحيث كانت الوجوه المذكورة
مسوقة لبيان دفع الإيراد المذكور لم يتعرضوا للاحتجاج على ما اختاروا منها،
اكتفاء به في مقام دفع الإيراد، كما هو الحال في سائر الأجوبة المذكورة عما يورد
في المقام، وإنما اكتفوا بذكر الوجه المختار والإيراد على غيره من الإشكال.
ويمكن الاستناد لكل من الوجوه المذكورة ببعض الوجوه: كأن يستند للوجه
الأول بأصالة حمل اللفظ على الحقيقة مهما أمكن، وللثاني بأن المقصود بالإفادة
من المستثنى منه بحسب الحقيقة إنما هو الباقي خاصة دون المجموع والاستثناء
قرينة عليه فيكون اللفظ مستعملا فيه كسائر المجازات المنضمة إلى قرائنها.
وللثالث بأن التبادر أمارة الحقيقة فيكون المجموع حقيقة في ذلك.
والوجوه المذكورة بعضها فاسد، وبعضها محل نظر، وسنبين لك حقيقة الحال
إن شاء الله.
وكيف كان فقد أورد على الوجه الأول: تارة بأن البناء على ذلك يستلزم أن لا
يكون الاستثناء من النفي إثباتا ومن الإثبات نفيا، فلا يثبت على من قال " ليس له
علي شئ إلا خمسة " شئ أصلا، فإن اخراج المستثنى قبل تعلق الحكم
بالمستثنى منه يجعل المستثنى في حكم المسكوت عنه، وهو خلاف التحقيق، بل
الثاني منه فاسد عند الكل على ما قيل. وتارة بأنه لو أشير إلى عشرة مجتمعة
شخصية كأن يقول " خذ هذه العشرة إلا ثلاثة منها " لم يتصور هناك اخراج إلا عن
الحكم، إذ المفروض عدم اخراج أشخاص الثلاثة من جملة العشرة، فلا يمكن إلا
أن يكون المراد اخراجها عنها بحسب الحكم، فلا بد من القول بإخراجها عن
الحكم المتعلق بالمجموع، إذ لا حكم هناك إلا الإسناد الموجود في الكلام وهو
متعلق بالمجموع. وأخرى بلزوم اللغو في كلام الحكيم، فإن إرادة الاستغراق من
اللفظ حينئذ مع إسناد الحكم إليه مما لا فائدة فيه بل يندرج في الأغلاط، إذ
الغرض من وضع الألفاظ تركيب معانيها، وتفهيم المعاني التركيبية الحاصلة منها،
280

وبيان الأحكام المتعلقة بمفاهيم تلك الألفاظ المنضمة بعضها إلى البعض، فإذا
لم يرد في الكلام إسناد إلى مفهوم العام ولا إسناد إلى شئ إسنادا تاما أو ناقصا
لم يكن هناك فائدة في إرادتها، وكان إخراجا (1) مما هو ملحوظ الواضع في وضع
الألفاظ. كذا ذكره بعض الأفاضل.
وأنت خبير بوهن الكل.
أما الأول: فلأن من الواضح أنه ليس المراد باخراج المستثنى عن المستثنى
منه اخراجه من جملتها بحسب الخارج، ولا اخراجه عن كونه مدلولا له، ضرورة
حصول الدلالة بعد ثبوت الوضع، ولا اخراجه عن المراد من اللفظ، فإنه غير
معقول على سبيل الحقيقة، إلا أن يراد الإخراج عن ظاهر اللفظ ليكون قرينة على
كون المراد هو الباقي، لكنه مخالف لصريح ما بنى عليه الجواب المذكور. فالمراد
اخراجه عنه من حيث كونه متعلق الحكم، فإن ظاهر تعليق الحكم على العام
شموله لجميع جزئياته، فيكون إخراجا لبعض مدلوله من كونه متعلقا للحكم
فيختص الحكم بالباقي.
وهذا الوجه كما ترى مما لا ربط له بما ذهب إليه أبو حنيفة، إذ يصح مع القول
به، لكن (2) دلالة الاستثناء على مخالفة حكم المستثنى للمستثنى منه وعدمها، فإن
دلالته على مخالفة حكم المستثنى للمستثنى منه بحسب الواقع وعدمها مبنية على
كون الإخراج بملاحظة ما حكم به المتكلم من الإثبات والنفي، أو بملاحظة الواقع
- أعني المطابقة لتلك النسبة الإيقاعية - فإن كان بملاحظة الثاني كما هو المشهور
ويدل عليه ظاهر اللفظ تعين الأول، وإن كان بملاحظة الأول تعين ما ذهب إليه أبو
حنيفة. وهذا مما لا ربط له بكون الإسناد قبل الإخراج أو بعده.
نعم لو توهم كون الإخراج عن معناه الأفرادي من دون ملاحظة الإسناد
والحكم أصلا توجه ذلك، إلا أنه توهم فاسد لا مجال له في المقام كما عرفت.
وأما الثاني: فلابتنائه على كون مراد المجيب باخراج المستثنى عن المستثنى

(1) في " ق 1 " و " ق 2 ": خارجا.
(2) خ ل، بكل من دلالة.
281

منه هو اخراجه عن جملته بحسب الخارج وهو واضح الفساد وحمل كلام
المجيب عليه غريب.
وأما الثالث: فبأنه إن أريد من كون المقصود من وضع الألفاظ إفادة معانيها
التركيبية أن يكون تلك المعاني الحاصلة من ملاحظة المفردات هي المقصودة
بالإفادة حتى إنها إذا لم تكن مقصودة كذلك صار الكلام غلطا خارجا عن القانون
اللغوي، فهو أوهن شئ، كيف! وفيه سد لباب المجاز في المركبات، إذ من البين
أن من يقول " تقدم رجلا وتؤخر أخرى " عند بيان كونه مرددا في الأمر يريد
بالألفاظ المذكورة موضوعها اللغوي مع كون المقصود بالإفادة هو ما يشابه
معناها التركيبي أعني التردد في الأمر. وإن أريد أن المعنى التركيبي مقصود سواء
كان مقصودا بالذات أو بالتبع فهذا القدر حاصل في المقام، ضرورة تعلق الإسناد
بالكل صورة للانتقال إلى إسناده إلى البعض بعد اخراج المستثنى.
فإن قلت: على ما ذكرت يكون هناك إسنادان أحدهما بالنظر إلى الظاهر وهو
متعلق بالكل، والآخر بالنظر إلى الواقع وما هو المقصود بالأصالة وهو متعلق
بالباقي، فلا يوافق ما ذكرت من كون الإسناد واحدا حاصلا بعد الإخراج، فهو مع
عدم انطباقه على الجواب المذكور غير مفيد في دفع التناقض، لحصول التدافع إذن
بين الإسنادين المذكورين.
قلت: الجواب المذكور يحتمل في بادئ الرأي وجوها:
أحدهما: أن يكون المقصود اخراج المستثنى عن المستثنى منه بالنظر إلى
معناه الأفرادي مع قطع النظر عن التركيب وملاحظة الإسناد رأسا، فيلاحظ تركيبه
مع الغير والإسناد المتعلق به بعد الإخراج فلا إسناد هناك إلا إلى الباقي.
وقد عرفت وهن هذا الوجه وفساده، إذ لا يعقل الإخراج عن المعنى
الأفرادي سوى أن يراد به الإخراج عن ظاهر مدلوله الوضعي ليفيد كون المقصود
به هو الباقي، كما ذكره في الجواب الآتي، فيكون قرينة على كون المستثنى منه
مستعملا في خصوص الباقي ولا ربط له بالجواب المذكور.
282

ثانيها: أن يكون المقصود اخراج المستثنى عن المستثنى منه من حيث تركيبه
ومن جهة تعلق الحكم به فإنه لما أريد من اللفظ تمام معناه كان قضية ذلك لولا
الاستثناء إسناد الحكم إلى تمامه فيكون ورود الاستثناء عليه مخرجا للمستثنى
عن المراد من حيث تعلق الحكم به نظرا إلى ما يقتضيه الظاهر، وحينئذ فيكون
الإخراج بالنسبة إلى ظاهر اللفظ من حيث كونه مرادا من غير أن يكون ذلك
الظاهر مرادا، فيكون ذلك هو الكاشف عن عدم إرادته من حيث التركيب والدليل
على تعلق الإسناد بالباقي دون الجميع، وكأن هذا هو المراد مما عده بعض الفضلاء
جوابا رابعا في المقام: من أن المستثنى منه من حيث الأفراد واللفظ خارج عنه
من حيث التركيب والحكم، إذ الاستثناء بيان تغيير، وكل كلام التحق بآخره التغيير
توقف حكم صدره على آخره، فلا تناقض، ويمكن تنزيله على الوجه الآتي
أيضا.
ويرد على الوجه المذكور: أنه لا مجال للقول بتأخر الإسناد إلى مجئ ورود
الاستثناء، وذلك لوضوح إهمال القائل فيه قبل ورود الكاشف عن حصول الإسناد
سيما إذا كان هناك فصل بينه وبين الاستثناء.
ثالثها: أن يقال بحصول الإسناد الصوري إلى الكل والحكم عليه كذلك من
جهة إحضار ذلك في ذهن السامع ليتبعه باخراج البعض، فيتبين بذلك ما هو
المقصود بالإفادة من تلك العبارة، فكما أنه يريد من المستثنى منه ما وضع له،
فكذا يريد الإسناد إليه كذلك على حسب الصناعة وقانون العربية، إذ لا وجه
للإسناد إلى بعض مدلول اللفظ الا مع استعمال اللفظ فيه، ويكون ذلك حينئذ جميع
مدلوله لاندراج المجاز في المطابقة، إلا أنه ليس الإسناد المذكور مقصودا
بالإفادة وإنما اتي به للتوصل إلى غيره، والإسناد المقصود في المقام إنما هو
الإسناد إلى البعض، وقد جعل الإسناد إلى الكل صورة وإخراج المستثنى دالا
عليه.
وقد عرفت فيما مر أن المناط في الاستعمال إنما هو المعنى المقصود بالإفادة
283

دون ما يجعل ذريعة إلى الانتقال، فما يدل على النسبة إنما استعمل حقيقة في
النسبة الثانية دون الأولى، إذ ليست النسبة الأولى مقصودة بالإفادة مرادا بيانها
من ذكر تلك العبارة، كما هو الحال في النسبة الحاصلة في قولك " زيد يقدم رجلا
ويؤخر أخرى " فإن المنسوب إلى زيد بحسب الصناعة إنما هو مفهوم يقدم بمعناه
المعروف لكن ذلك غير مقصود بالإفادة، وإنما المقصود نسبة التردد إليه، فليست
تلك النسبة مقصودة إلا من جهة التوصل إلى النسبة الثانية، والمراد من العبارة هو
النسبة الثانية خاصة، فالمستعمل فيه هي تلك النسبة خاصة دون الأولى، وكذا في
غير ذلك من المجازات والكنايات المركبة. وحينئذ فالمراد من كون الإخراج قبل
النسبة إنما هو بالنظر إلى النسبة الثانية دون الأولى، إذ هي المستعمل فيها، والمراد
من الكلام المذكور إفادتها، وإن تقدمها نسبة صناعية صورية لأجل الانتقال إليها،
كما هو الحال في نظائره، وهذا هو المراد مما ذكره بعض المحققين في الجواب عن
التناقض المورد في المقام، من قوله ولك أن تريد أنه يخرج عن النسبة إلى المتعدد
بأن تريد جميع المتعدد وتنسب الشئ إليه فتأتي بالاستثناء لإخراجه عن النسبة
ولا تناقض، لأن الكذب صفة النسبة المتعلقة للاعتقاد، ولم ترد بالنسبة إفادة
الاعتقاد، بل قصدت النسبة ليخرج عنه شيئا، ثم تفيد الاعتقاد، فإنه أراد بالنسبة
المتعلقة للاعتقاد هي النسبة المقصودة بالإفادة، وبالنسبة الأخرى الموصلة إليها
هي النسبة الصورية الصناعية، والمناط في الاستعمال إنما هي الأولى، إذ هي
المقصودة من الكلام، وبه ينوط الصدق والكذب في المقام، فكون الإخراج قبل
النسبة حسب ما قررنا في الجواب المذكور إنما لوحظ بالنسبة إلى تلك النسبة التي
استعملت فيها العبارة، دون النسبة الصورية الموصلة إليها مما لا يندرج في المراد
من العبارة، والإخراج حينئذ إنما يكون بالنسبة إلى ظاهر اللفظ، نظرا إلى ظهوره
فيما هو المقصود بالإفادة، فيخرج المستثنى عن المستثنى منه من حيث كونه
متعلقا للحكم المذكور، فلا يتعلق إلا بالباقي، وهذا الوجه هو المتجه في المقام،
ولا يرد عليه شئ من الإيرادات المذكورة، كما لا يخفى على المتأمل.
284

بقي الكلام في أن البناء على الوجه المذكور هل يشتمل على تجوز في المقام
أو لا؟ والذي يتراءى فيه احتمال التجوز هنا أمور:
أحدها: خصوص المستثنى منه وقد عرفت أنه لا تجوز بالنسبة إليه حسب ما
مر تفصيل القول فيه.
ثانيها: التجوز في الجملة حيث إن مفادها مع قطع النظر من الاستثناء هو
الحكم على المستثنى منه بكماله ولم يرد منها ذلك.
ويدفعه: أنه لم يرد من الجملة المذكورة بعد ضم المفردات بعضها إلى البعض
إلا ما هو مفادها بعد التركيب، فلا تجوز في المركب بما هو مركب، حيث إنه لم يرد
به غير معناه الحاصل بالتركيب على نحو سائر المجازات المركبة.
ثالثها: التجوز فيما وضع لإفادة النسبة بناء على وضعه للإسناد إلى ما
يستعمل فيه لفظ المنتسبين دون بعضه، كما هو المفروض في المقام، لحصول
الإسناد هنا حقيقة بالنسبة إلى بعض مدلوله، حسب ما عرفت إلا أن القول بوضعه
لخصوص ذلك محل تأمل، لإمكان القول بوضعه للأعم وإن كان المتبادر منه من
جهة الإطلاق هو الإسناد إلى المجموع، فيكون الانصراف إليه لظهور الإطلاق لا
من جهة وضعه له بالخصوص.
والحاصل أن احتمال التجوز فيه من الجهة المذكورة قائم في المقام نظرا إلى
الاحتمالين المذكورين هذا.
وأورد على الوجه الثاني أيضا بوجوه:
أحدها: ما أشار إليه المحقق الرضي وذكره الحاجبي والعضدي وغيرهما من
إجماع أهل اللغة على أن الاستثناء مخرج، ولا اخراج إلا بعد الدخول. ويمكن
دفعه بأن المراد دخوله في الظاهر دون ما هو المقصود بحسب الواقع، فهو في
المقام وإن لم يكن داخلا في المقصود من اللفظ، لكنه داخل فيما هو الظاهر منه،
المحكوم بكونه المراد لولا تعلق الاستثناء به، وهو مخرج حقيقة عن ظاهر ما يدل
عليه اللفظ، إلا أنه مخرج صورة من دون أن يكون هناك اخراج حقيقة، كما
285

يوهمه بعض العبائر، فتكون الأداة مستعملة في حقيقة الإخراج على ما هو مقتضى
وضعها حسب ما نصوا عليه.
ثانيها: ما أشار إليه المحقق المذكور من أنه يتعذر دعوى عدم الدخول في
قصد المتكلم في نحو " له علي عشرة إلا واحدا " إلا إن واحدا داخل في المراد
وبالعشرة يقصده ثم أخرج عنه، وإلا كان مريدا بلفظ العشرة تسعة، وهو محال
قطعا.
توضيحه: أن الاستثناء الوارد على أسماء العدد وغيرها على نحو واحد ولا
يصح اختيار الوجه المذكور بالنسبة إلى أسماء العدد قطعا، وإلا لزم جواز إطلاق
كل عدد على ما دونه من الأعداد، كأن يطلق العشرة على خمسة أو ثلاثة أو
واحد، كيف! ولو جاز ذلك من جهة علاقة الكل والجزء وكان الاستثناء قرينة على
التجوز لجاز ذلك عند قيام غيره من القرائن عليه، فنقول " ائتني بهذه العشرة "
مشيرا إلى خمسة أو " بهذه الخمسة " مشيرا إلى واحد أو مفسرا لهما بذلك.
ومن البين بملاحظة الاستعمالات العرفية فساده وقبحه على نحو سائر
الأغلاط.
ويمكن الجواب عنها بأنه لا يلزم الاطراد في المجازات، فأي مانع من
تجويز الواضع لاستعمال العدد في بعض منه على الوجه المذكور دون غيره، ألا
ترى أنه يجوز استعمال " الرقبة " و " اليد " في الانسان في موضع دون أخرى.
ويشكل ذلك بالفرق بين المقامين، وذلك لقوة العلاقة بين المعنيين في بعض
المواضع فيجوز الاستعمال دون غيره مما ليست العلاقة بتلك القوة، وليس الحال
كذلك في المقام لاتحاد العلاقة قوة وضعفا في المقامين.
غاية الأمر اختلاف الحال في القرينة من كونها استثناء أو غيره، والتزام
اختلاف الحال في التجوز جوازا أو منعا بمجرد اختلاف القرينة بعيد جدا، بل
فاسد ظاهرا.
ثالثها: ما أشار إليه الحاجبي والعضدي وغيرهما على ما ذكره العضدي أنه
لو قيل " اشتريت الجارية إلا نصفها " فإما أن يكون الضمير راجعا إلى كل الجارية
286

أو نصفها، فعلى الأول يلزم الاستثناء المستغرق، وعلى الثاني يلزم التسلسل، فإن
المستثنى حينئذ هو الربع، وإذا كان المراد بالنصف الربع فيكون المراد بالمستثنى
منه الثمن وهكذا.
وفيه: أنه لا وجه للزوم الاستثناء المستغرق على الأول، لوضوح أن النصف
المستثنى غير النصف الباقي، والإيراد عليه بعدم اندراج المستثنى في المستثنى
منه بين الوهن، لظهور أن الاندراج إنما يعتبر بالنظر إلى الظاهر دون ما هو المراد،
كيف! ولولا ذلك لجرى في جميع موارد الاشتباه. فالأولى في تقرير الإيراد أن
يقال: إنه لو كان المستثنى منه مستعملا في خصوص الباقي لكان الضمير في
المثال المذكور راجعا إلى الباقي، لوضوح وضع الضمير لما أريد من المرجع، مع
أنه لا يراد ذلك قطعا، إذ المستثنى نصف الجارية لا ربعها، وأيضا لو كان المراد
ذلك لزم التسلسل إلى آخر ما ذكر.
وأجيب عنه بالتزام الاستخدام في المقام بإرجاع الضمير إلى كل الجارية مع
أن المراد بالمرجع نصفها.
وأنت خبير بما فيه وإن كان جائزا لكنه بعيد عن المقام جدا، والاستخدام
نادر في الاستعمالات، غير متداول في المخاطبات، سيما في أمثال هذه المقامات.
وأورد على الثاني أيضا بوجوه:
منها: ما مر من مخالفته لإجماع أهل اللغة من كون أداة الاستثناء للإخراج.
منها: القطع بأن في الكلام المذكور إثباتا ونفيا وعلى الوجه المذكور ليس
الحال على ما ذكر إذ ليس مفاده إلا إثبات الباقي ويفيد ابتداء.
ومنها: العلم بخروجه عن قانون اللغة، إذ ليس في اللغة لفظ مركب من ألفاظ
ثلاثة يعرب الجزء الأول منه وهو غير مضاف.
ومنها: أنه يلزم إرجاع الضمير إلى بعض الكلمة في نحو قولك: اشتريت
الجارية إلا نصفها. ويمكن دفع بعض المذكورات بنحو ما مرت الإشارة إليه،
ويندفع الجميع بما سيجئ من بيان مراده في المقام إلا أنه يرجع حينئذ إلى
المذهب المختار.
287

قوله: * (وينقل للناس هنا مذاهب كثيرة) *.
منها: انه حقيقة إن خص بدليل متصل أو منفصل، ومجاز إن خص بغيره.
ومنها: أنه حقيقة إن خص باستثناء أو شرط دون الوصف وغيره.
ومنها: أنه حقيقة إن خص بشرط أو صفة دون الاستثناء وغيره، وحكي القول
به عن القاضي عبد الجبار.
ومنها: أنه حقيقة في تناوله، مجاز في الاقتصار عليه، وحكي عن الرازي.
قوله: * (كان متناولا له حقيقة بالاتفاق) *.
أورد عليه تارة بالنقض بما إذا استعمل اللفظ الموضوع للكل في الجزء، فإنه
كان متناولا له حقيقة في ضمن الكل والتناول باق. غاية الأمر عدم تناوله للباقي
مع أنه لا كلام في مجازيته.
وتارة بالحل حسب ما يشير إليه المصنف بأن تناوله للباقي إن كان على سبيل
الحقيقة بملاحظة نفسه تم ما ذكر في الاستدلال لكنه محل منع بل فاسد، وأما إن
كان تناوله له على سبيل الحقيقة في ضمن تناوله للجميع من جهة اندراجه في
الجميع كما هو الواقع فلا معنى لدعوى بقاء ذلك التناول مع فرض عدم إرادة
الجمع.
وأخرى بمنع كون تناوله للباقي في ضمن الكل على سبيل الحقيقة
المصطلحة، إذ اللفظ إنما يتصف بالحقيقة باعتبار تناوله للجميع دون الباقي، وكون
الباقي داخلا في المعنى الحقيقي لا يستدعي كون اللفظ حقيقة فيه.
ويمكن أن يقال في المقام: إن مقصود المستدل بتناول العام للباقي تناول
المفهوم لجزئياته لا تناول الكل لأجزائه، فإن مفاد كونه مستغرقا لما يصلح له كونه
صالحا لكل واحد مما يستغرقه على سبيل الحقيقة، فيكون إطلاقه على الجميع
إطلاقا له على جميع مصاديقه الحقيقية، فيصير محصل الاحتجاج إن صدقه على
كل من الجزئيات المندرجة تحته إذا كان على سبيل الحقيقة حال إرادة العموم
كان صدقه عليه كذلك أيضا عند اخراج الباقي، فإن تناوله له على حاله إنما طرأ
عدم تناوله الغير ولا ربط لكون إطلاقه على الباقي على وجه الحقيقة بتناوله لغيره
288

وعدمه، وحينئذ فالنقض المذكور ساقط من أصله، وكذا ما ذكر في الحل، فإن
دلالة العام على كل من جزئياته دلالة تامة، لانطباق ذلك المفهوم عليه وكونه
جزئيا من جزئياته حسب ما مر بيانه في أول مباحث العموم.
وما يقال: من أن دلالة العام على كل من جزئياته وإن كانت دلالة تامة إلا أنه
لا يثبت بذلك كون إطلاقه على كل منها حال انفراده عن إرادة الباقي حقيقة، فإن
الموضوع له وإن كان كل فرد بدون قيد الانفراد والاجتماع لكن الوضع إنما يثبت
في حال إرادة جميع الأفراد بعنوان الكلي التفصيلي الأفرادي حسب ما مر نظيره
في بحث استعمال المشترك في معنييه، فإرادته على غير الوجه المذكور خروج
عن القدر الثابت من الوضع، فلا يجوز التخطي إليه من غير قيام دليل عليه، لما
تقرر من كون الأوضاع توقيفية.
مدفوع: بأن دلالة العام على كل جزئي من جزئياته إذا كان على سبيل
المطابقة يلزم أن يكون استعماله في الباقي على وجه الحقيقة، والقول بكون الوضع
له حال الانضمام وإن لم يكن بقيد الانضمام غير مفيد، ضرورة شمول الوضع إذن
للصورتين فيكون حقيقة على الوجهين، إذ المفروض عدم اعتبار القيد المذكور
في الوضع، فوقوع الوضع في الحال المفروض مع عدم اعتباره في الوضع كما هو
المفروض لا يفيد شيئا في المقام، حسب ما مر الكلام في نظائره مرارا. وأيضا لو
تم ما ذكر من البيان لم يجز معه الحكم بكون الاستعمال على وجه الحقيقة، لا (1)
أن يثبت به كون الاستعمال على وجه المجاز كما هو المدعى.
نعم لو قيل بكون الوضع بشرط الانضمام صح ما ذكر، إلا أنه نص على
خلافه، على أن القول بكون الوضع لكل منها مستقلا لكن بشرط الانضمام غير
ظاهر، بل فاسد، إذ ليس نفس اللفظ موضوعا لخصوص الجزئيات، وإنما هو
موضوع للمفهوم العام ويكون إطلاقه على الجزئيات إطلاقا له على مصاديق ما
وضع بإزائه، وشموله لجميع مصاديقه إنما يكون من انضمام أداة العموم تدل عليه

(1) في " ق 1 " و " ق 2 " إلا.
289

بالوضع، كما في " كل رجل " وما بمعناه، أو من جهة الالتزام أو دلالة المقام فهناك
دلالتان: إحداهما على نفس المعنى، والأخرى على شموله وعمومه لجميع ما
يندرج فيه، لا (1) أن هناك دلالة واحدة على جميع الآحاد حاصلة بوضع واحد كما
يتراءى في بادئ الرأي حسب ما مر تفصيل القول فيه، وحينئذ فالتجوز في المقام
إنما يفيد الشمول إن كانت دلالته عليه بالوضع حسب ما قررناه.
ومن ذلك يظهر ضعف الإيراد الآخر أيضا، فإنه مبني على البيان المذكور
حسب ما قرره المورد حيث قال: إن الخاص وإن لم يكن جزء من العام ليكون
دلالته عليه تضمنية نظرا إلى كون دلالة العام على كل من أفراده دلالة تامة، بل
يكون القدر الثابت وضعها لكل من الآحاد حال اجتماعها مع الباقي، فيكون
استعمالها في الباقي استعمالا في غير ما وضع له، وكونه حقيقة في الباقي في
الصورة الأولى لا يستدعي كونه حقيقة في الثانية.
وأنت بعدما علمت ضعف الكلام المذكور لا تحتاج إلى تفصيل الكلام في
الإيراد عليه. ومن الغريب أنه قال بعد ذلك: ومما ذكرنا يظهر أنه لا معنى للتمسك
بالاستصحاب، إذ لم يكن تناول العام للباقي في حال تناوله للجميع بعنوان
الحقيقة حتى يستصحب، بل لأنه كان تابعا للمدلول الحقيقي وهو الجميع انتهى.
فإن كلامه الأول صريح في تعلق الوضع بكل من الأفراد، حال انضمامه إلى
الباقي وهذا الكلام منه صريح في كون مدلوله الحقيقي هو الجميع وإن كلا من
الآحاد المندرجة فيه حال انضمام بعضها إلى البعض مدلول تبعي غير حقيقي.
ثم إنه قال بعد ذلك: ولو سلمنا كونه حقيقة فإنما يثبت ذلك في حال كونه
في ضمن الجميع وقد تغير الموضوع. وفيه: أن دعوى تغيير الموضوع غير ظاهرة
بعد تسليم كون الباقي موضوعا له حال الانضمام، إذ لا تفاوت حينئذ بين
الصورتين سوى تبدل حال الانضمام بحال الانفراد، ولا وجه للحكم بتغير
الموضوع بمجرد ذلك.

(1) في " ق 1 " و " ق 2 " إلا.
290

فالمتجه حينئذ في الإيراد منع حجية الاستصحاب في المقام، لدوران الأمر
في مباحث الألفاظ مدار الظن وهو غير حاصل هنا من مجرد الاستصحاب، فلا بد
أن يقتصر فيه على القدر الثابت وهو وضعه له في خصوص حال الانضمام دون
غيره حسب ما عرفت في نظائره.
نعم يتم ما ذكره لو قلنا بكون دلالة العام على كل من الجزئيات المندرجة
تحته تضمنية إما مطلقا أو في خصوص العام المجموعي، إذ كونه مدلولا في ضمن
الكل لا يقضي بكونه مدلولا مع الانفراد أيضا، بل دلالته على الجزء في ضمن
الكل ليست باقية على وجه الحقيقة وإن اتحدت الدلالتان، إذ مناط اختلافهما هو
اختلاف الاعتبار وهو كاف، فهي خارجة عن كونها على وجه الحقيقة بذلك
الاعتبار الذي يتميز به عن المطابقة حسب ما مر الكلام فيه في محله.
قوله: * (إنه يسبق إلى الفهم إذ مع القرينة... الخ) *.
كأنه أراد بذلك أن الباقي يسبق إلى الفهم بعد قيام القرينة على خروج المخرج
من دون حاجة إلى قيام قرينة على إرادته، فلو كان مجازا لتوقف على قيام قرينة
معينة له بين المجازات، لتعددها في المقام فلا باعث على الفهم سوى الوضع.
ويدفعه حينئذ أن أقربية المجاز كافية في الانصراف إليه، حسب ما مر الكلام
فيه في محله، ومع الغض عن ذلك فمراتب الباقي مختلفة بحسب اختلاف
المخصصات الواردة عليه، والمفروض أنه حقيقة في الجميع عند القائل المذكور،
إذ لا تخصيص في دعواه بمرتبة دون أخرى، فأي داع إلى انصرافه إلى تمام الباقي
بعد اخراج المخرج، فما يجعل قاضيا بذلك على فرض كونه حقيقة يجعل ذلك
شاهدا على تعيين المجاز أيضا.
قوله: * (إن تناول اللفظ له قبل التخصيص إنما كان مع غيره... الخ) *.
يمكن حمله على كل من الوجهين المتقدمين بأن يراد به كون الباقي مدلولا
عليه هناك في ضمن الكل على وجه التضمن وقد صار مدلولا في المقام على وجه
المطابقة، فكون التناول هناك على وجه الحقيقة لا يستدعي كونه هنا على وجه
الحقيقة أيضا، نظرا إلى اختلاف المدلولين، إذ المدلول هناك هو الكل وإنما يكون
291

الباقي مدلولا عليه بمدلوليته بخلاف المقام، وقد عرفت ما يرد عليه، وقد يراد به
أن كون دلالته على الباقي على وجه الحقيقة حال انضمامه إلى الغير لا يقضي
بكون الدلالة عليه كذلك حال عدمه، فكونه حقيقة في الصورة الأولى لا يستلزم
كونه حقيقة في الثانية.
وقد عرفت ما يرد عليه أيضا، ولا يساعد حمله على ذلك ما سنذكره في
الجواب عن الاعتراض المذكور.
قوله: * (ليس باعتبار تناوله للباقي... الخ) *.
مبنى الاحتجاج والاعتراض المذكور على كون شمول العام لكل من
الجزئيات المندرجة تحته على سبيل الحقيقة لإطلاقه على جميع مصاديقه
الحقيقية، ومبنى الجوابين المذكورين على نفي ذلك وكونه حقيقة بالنسبة إلى
الجميع خاصة، كما هو صريح هذا الجواب والظاهر من الأصل الجواب على أصل
الدليل.
قوله: * (كون النزاع في لفظ العام... الخ) *.
لا يخفى أنه لا يتم ذلك في لفظ العام أيضا، فإن اللفظة موضوعة أيضا للشمول
ويختلف ذلك بحسب اختلاف الأمر المشمول، فقد يكون ذلك منحصرا وقد يكون
غير منحصر وقد لا يصدق معناه مع عدم الانحصار.
قوله: * (وأما الأخير فلكونه موضع وفاق من الخصم) *.
كأنه يشير بذلك إلى خصم معين كان يقول بذلك، وإلا فليس كل من يقول
بكون التخصيص مطلقا قسما من المجاز يقول بكون الاستثناء الوارد على اسم
العدد غير قاض بالمجازية، كيف! والمعزي إلى الأكثر كون المستثنى منه مجازا
في الباقي مطلقا.
قوله: * (إن كل واحد من المذكورات يقيد بقيد) *.
توضيح ذلك أن التقييد بالوصف أو غيره من المخصصات المتصلة كسائر
التقييدات الواردة في الكلام فكما لا يوجب ذلك تجوزا فيما وردت عليه، فكذا
في المقام، وإنما خص الأمثلة المذكورة بالذكر للاتفاق على عدم ثبوت التجوز في
292

الأولين، ودعوى موافقة الخصم على الأخير، فكما أن لفظة " مسلم " مع الإطلاق
موضوعة للطبيعة المطلقة، وبعد ورود اللام عليه تكون للطبيعة المتعينة، ومع تقييده
بعلامة الجمع للطبيعة الحاصلة في ضمن الجماعة، ولفظ " الألف " مع تقييده
بالاستثناء المذكور للألف المخرج منه خمسون من دون حصول تجوز في تلك
الألفاظ، فكذا الحال في التخصيص المتصل الوارد على العمومات لورود الجميع
على وجه واحد، فلو كان اخراج اللفظ عن إطلاقه بسبب ضم الضمائم موجبا
للمجازية جرى في الجميع، وإلا فلا تجوز في الكل.
قوله: * (إلا أن المجموع في العرف يعد كلمة واحدة) *.
لا يخفى أن ما ذكره من كون لفظ " مسلمون " ونحوه موضوعة بوضع واحد
خلاف التحقيق، إذ الأظهر كون علامة الجمع موضوعة بوضع حرفي مستقل كما
مرت الإشارة إليه.
ومع الغض عن ذلك فأقصى الأمر أن يتم الجواب المذكور بالنسبة إليه، وأما
بالنسبة إلى لفظة " المسلم " فلا وجه له أصلا، إذ عدها في العرف لفظا واحدا لا
يفيد شيئا في المقام، مع كون الموضوع له للفظة " مسلم " شيئا وكون المراد به بعد
ضم اللام شيئا آخر، إذ لو كان البيان المذكور مفيدا لتعلق وضع آخر بالمجموع تم
ما ذكره، وليس كذلك، لوضوح تعدد الوضع المتعلق باللفظتين، والتجوز إنما يتبع
الخروج عن الوضع كما هو المفروض في المقام، فأي فائدة في عدها لفظا واحدا
بحسب العرف.
قوله: * (مبني على أن المراد به تمام المدلول) *.
لو صح الكلام المذكور في ذلك جرى في محل النزاع، لكون الاستثناء في
المقامين على وجه واحد وقوله * (إن المفروض إرادة الباقي من لفظ العام) * غير
واضح، إذ القدر المفروض كون الباقي مقصودا بالإفادة، وأما كونه مستعملا فيه
بخصوصه فلا، كيف! ولو كان كذلك لما كان النزاع فيه معقولا بعد فرض اختصاص
اللفظ وضعا للعموم حسب ما أشرنا إليه فتأمل.
* * *
293

معالم الدين:
أصل
الأقرب عندي أن تخصيص العام لا يخرجه عن الحجية في غير
محل التخصيص، إن لم يكن المخصص مجملا مطلقا. ولا أعرف في
ذلك من الأصحاب مخالفا. نعم يوجد في كلام بعض المتأخرين ما
يشعر بالرغبة عنه. ومن الناس من أنكر حجيته مطلقا. ومنهم من فصل،
واختلفوا في التفصيل على أقوال شتى، منها: الفرق بين المتصل
والمنفصل، فالأول حجة، لا الثاني. ولا حاجة لنا إلى التعرض لباقيها،
فإنه تطويل بلا طائل، إذ هي في غاية الضعف والسقوط. وذهب بعض
إلى أنه يبقى حجة في أقل الجمع، من اثنين أو ثلاثة، على الرأيين.
لنا: القطع بأن السيد إذا قال لعبده: " كل من دخل داري، فأكرمه " ثم
قال بعد: " لا تكرم فلانا "، أو قال في الحال: " إلا فلانا "، فترك إكرام غير
من وقع النص على اخراجه، عد في العرف عاصيا، وذمه العقلاء على
المخالفة. وذلك دليل ظهوره في إرادة الباقي، وهو المطلوب.
احتج منكر الحجية مطلقا بوجهين:
الأول: أن حقيقة اللفظ هي العموم، ولم يرد، وسائر ما تحته من
المراتب مجازاته. وإذا لم ترد الحقيقة وتعددت المجازات، كان اللفظ
مجملا فيها، فلا يحمل على شئ منها. وتمام الباقي أحد المجازات،
295

فلا يحمل عليه، بل يبقى مترددا بين جميع مراتب الخصوص، فلا
يكون حجة في شئ منها.
ومن هذا يظهر حجة المفصل، فان المجازية عنده إنما تتحقق في
المنفصل، للبناء على الخلاف في الأصل السابق.
الثاني: أنه بالتخصيص خرج عن كونه ظاهرا، وما لا يكون ظاهرا
لا يكون حجة.
والجواب عن الأول: أن ما ذكرتموه صحيح، إذا كانت المجازات
متساوية ولا دليل على تعيين أحدها. اما إذا كان بعضها أقرب إلى
الحقيقة، ووجد الدليل على تعيينه، كما في موضع النزاع، فان الباقي
أقرب إلى الاستغراق. وما ذكرناه من الدليل يعينه أيضا، لافادته كون
التخصيص قرينة ظاهرة في إرادته، مضافا إلى منافاة عدم إرادته
للحكمة، حيث يقع في كلام الحكيم، بتقريب ما مر في بيان إفادة المفرد
المعرف للعموم، إذ المفروض انتفاء الدلالة على المراد ههنا من غير
جهة التخصيص. فحينئذ يجب الحمل على ذلك البعض، وسقط ما
ذكرتموه. هذا مع أن الحجة غير وافية بدفع القول بحجيته في أقل
الجمع، إن لم يكن المحتج بها ممن يرى جواز التجاوز في التخصيص
إلى الواحد، لكون أقل الجمع حينئذ مقطوعا به، على كل تقدير.
وعن الثاني: بالمنع من عدم الظهور في الباقي، وإن لم يكن حقيقة.
وسند هذا المنع يظهر من دليلنا السابق. وانتفاء الظهور بالنسبة إلى
العموم لا يضرنا.
واحتج الذاهب إلى أنه حجة في أقل الجمع: بأن أقل الجمع هو
المتحقق، والباقي مشكوك فيه، فلا يصار إليه.
والجواب: لا نسلم أن الباقي مشكوك فيه، لما ذكرنا من الدليل على
وجوب الحمل على ما بقي.
296

قوله: * (الأقرب عندي أن تخصيص العام) *.
لا يخفى أن ظاهر إطلاقهم في العنوان ثبوت الخلاف في حجية العام
المخصص مطلقا سواء كان التخصيص بطريق الإخراج من غير تعيين للباقي أو
بتعيين الباقي في بعض أفراده، متصلا كان كالتخصيص بالوصف أو الشرط
ونحوهما أو منفصلا كما إذا فسر العام بالخاص. والظاهر كما يتبين من ملاحظة
الأدلة اختصاص الخلاف بالصورة الأولى، وأما الثانية فلا مجال للخلاف فيه،
لوضوح دلالته وصراحته في تعيين المراد بالعام، ولا خلاف أيضا في عدم حجية
العام المخصص بالمجمل مع تسرية إجماله إلى العام مطلقا، كما في " أكرم القوم إلا
بعضهم " أو " أردت به بعضهم " ومن ذلك قوله: ولو قضي بإجمال بعض الأنواع
المندرجة في العام سقط العام عن الحجية بالنسبة إليه، كما لو قال " اقتل المشركين
إلا بعض اليهود " ولو صدق المخصص حينئذ على الأقل والأكثر لم يقتصر فيه
على الأقل، فيحكم بالرجوع إلى حكم العام بالنسبة إلى الباقي.
قوله: * (لنا القطع... الخ) *.
وقد يحتج عليه بوجوه اخر:
منها: أن المقتضي للحجية في الباقي موجود والمانع مفقود فوجب حصوله.
أما الأول: فلوجود اللفظ الموضوع للعموم وهو مقتض لثبوت الحكم لجميع
أفراده التي من جملتها الباقي.
وأما الثاني: فلأن قضية التخصيص نفي الحكم الواقع من المتكلم عن محل
التخصيص، وظاهر أن نفيه في مورد التخصيص لا يفيد نفيه عن غيره، ولذا يصح
التصريح بانتفاء الحكم في محل التخصيص وثبوته فيما عداه.
كيف! ولو أفاد التخصيص نفيه من غير محل التخصيص أيضا (1) هذا خلف.
وفيه: المنع من وجود المقتضي، لأن المقتضي لإفادة الحكم في الباقي هو العام
على فرض إرادة العموم منه، وأما مع عدم إرادته كما هو المفروض في المقام فلا.

(1) الظاهر: فيسقط من قوله لكان التخصيص بالمستوعب.
297

ويمكن الذب عنه بأنه إنما يتم ذلك لو قلنا بعدم إرادة العموم من اللفظ وحصول
الإخراج عن الحكم، وأما لو قلنا باستعماله في العموم وتعلق الإخراج بالحكم كما
مر في الاستثناء فلا يتم ذلك، إذ لا يمكن دفع وجود المقتضى حينئذ، نعم لا يتم
ذلك في جميع المخصصات.
ومنها: أن العام متناول لكل أفراده، وكونه حجة في كل واحد منها ليس
متوقفا على كونه حجة في الباقي، لأنه إن عكس لزم الدور، وإلا كان ترجيحا من
غير مرجح.
ويدفعه: أنه إن أريد بالتوقف ما يعم التوقف في اللبنتين المتساندتين فمسلم
ولا مانع منه، وإن أريد به التوقف المبتني على علية المتوقف عليه في الوجود
فممنوع.
ونقول بتقرير آخر: إنه لا يتوقف على كونه حجة في خصوص المخرج إنما
يتوقف على كونه حجة في الجميع فإذا انتفى ذلك من جهة التخصيص لم يكن
حجة في الباقي.
فإن قلت: إنا ننقل الكلام بالنسبة إلى الجميع فنقول: إن حجيته في كل واحد
منها لا يتوقف على حجيته في الجميع وإلا لزم الدور أيضا، لتوقف حجيته في
الجميع على حجيته في كل واحد من الأفراد لالتئام الكل مع الأفراد.
قلت: هذا ضعيف جدا، إذ لا توقف لحجيته في الكل على حجيته في
خصوص الأفراد، وإنما يستلزم حجيته في الجميع حجيته في الأفراد، والقول
بالتئام الكل مع الأفراد فيتوقف عليها إن أريد به من حيث الوجود فمسلم ولا ربط
له بالمقام، وإن أريد من حيث المدلولية فممنوع، بل الدلالة إنما يتعلق بالكل، وكل
من الأفراد يكون مدلولا عليه بالدلالة على الكل.
ومنها: الاستصحاب فإنه كان قبل ورود المخصص حجة في الباقي وكان
العمل بمقتضاه واجبا فيستصحب ذلك بعد ورود التخصيص عليه.
وفيه: أن حجية الدليل في الأول إنما يتبع حصول الدلالة، وحجيته في الباقي
298

إنما كان من جهة مدلولية الكل، ولا ريب أن المدلول الابتدائي هنا هو العموم، فمع
انتفاء ذلك الدلالة لا يبقى حجة في الجميع، فينتفي الحكم المساوي منه إلى
جزئياته، ومجئ دلالة أخرى يفيد ثبوت الحكم للباقي أول الكلام. ومنه يظهر
فساد دعوى الاستصحاب في دلالة اللفظ، كما قد يومئ إليه كلام بعضهم نظرا إلى
حصول الدلالة على حكم الباقي قبل ورود التخصيص فالأصل يقتضي بقاءه.
ويمكن أن يقال: إن ما ذكر إنما يتم لو لم نقل باستعمال العام في معناه، وأما
مع البناء على استعماله فيه وإخراج مورد التخصيص عن الحكم كما هو الحال في
بعض المخصصات حسب ما مر فلا يتم ذلك، لحصول الدلالة اللفظية حينئذ
بالنسبة إلى الكل، وغاية ما قضى به المخصص خروج مورد التخصيص، فيبقى
حجة في غيره.
قوله: * (وإذا لم ترد الحقيقة وتعددت المجازات... الخ) *.
لا يخفى أن ما ذكر إنما يتم إذا قال: مثلا أن هذا العام مخصوص، ولم يبين
خصوص المخرج لكن ذلك ليس من مسألتنا، لكون ذلك إذن قرينة صارفة عن
إرادة العموم من غير تعيين ما هو المراد من اللفظ، وأما إذا قال " أكرم العلماء إلا
زيدا " فليس المستفاد من قوله " الا زيدا " مجرد الصرف عن الظاهر من غير بيان
للمراد، بل مفاده اخراج زيد عن العموم، فيبقى الباقي مندرجا فيه.
فإن قلت: انه إذا اخرج زيد عن القوم كان قاضيا بعدم استعماله في معناه
الحقيقي نظرا إلى خروج الفرد المذكور منه، فمن أين ثبت أن المراد تمام الباقي
وأنه لم يخرج عنه فرد آخر أيضا، فلو لم يكن هناك ما يفيد الخروج عن حقيقة
اللفظ كانت أصالة الحقيقة قاضية باندراج جميع الأفراد فيه، وأما بعد ثبوت
التجوز في اللفظ فأي دليل على تعيين المرتبة التي استعملت فيها اللفظ؟ وكون
المخرج خصوص الفرد المذكور لا يفيد عدم خروج غيره معه مع اشتراك الجميع
في التجوز والخروج عن الظاهر، ومع قيام الاحتمال يخرج اللفظ عن الظهور.
قلت: ظهور اللفظ في إرادة الجميع كاف في الحكم بعدم خروج شئ سوى
299

المستثنى، فإنه إذا لوحظ الأمران كان مفادهما ثبوت الحكم لتمام الباقي، كما هو
المفهوم في العرف، فلو غض النظر عن الوجه المذكور كان فهم العرف كافيا في
المقام حسب ما أشار إليه المصنف وغيره.
ثم لا يذهب عليك أن ما ذكره المصنف لو تم فإنما يتم لو قلنا باستعمال العام
في خصوص الباقي.
وأما لو قلنا باستعماله في العموم واخراج المخرج عن الحكم فإن الكلام
المذكور ساقط من أصله.
قوله: * (خرج عن كونه ظاهرا... الخ) *.
لا يخفى أنه إنما خرج عن كونه ظاهرا في العموم لا أنه خرج من الظهور
بالمرة، بل هو ظاهر في الباقي، كما أنه ظاهر قبل التخصيص في إرادة الجميع، بل
ربما يقال: إن ظهوره في إرادة الباقي أقوى من ظهور العام في العموم.
قوله: * (أما إذا كان بعضها أقرب... الخ) *.
لا يخفى أن مجرد الأقربية غير كاف في إفادة المقصود، كيف! ولو كان ذلك
كافيا في الانصراف لجرى فيما إذا قال: هذا العام مخصوص في الحكم بخروج
الواحد دون ما زاد عليه، لدوران المخصص هناك بين إرادة الأقرب والأبعد، وكذا
الحال في نظائره، مع أنه لا يحكم هناك بإرادة الأقل وبقاء ما عداه تحت العام
حسب ما مرت الإشارة إليه.
فظهر بذلك أن الأقربية غير قاضية بذلك، وإنما الوجه فيه ما ذكرناه، ولفهم
العرف المنبعث عنه فالصواب الاستناد إليه دون الأقربية المذكورة.
قوله: * (مع أن الحجة غير وافية بدفع القول... الخ) *.
لا يخفى أن اعتبار بقاء أقل الجمع في التخصيص غير كاف في خروج العام
المخصوص من الاجمال، لدورانه إذن بين أفراد شتى، كما هو الحال في الواحد
الباقي، بناء على جواز التخصيص إلى الواحد، بل وكذا الحال بناء على عدم جواز
300

التخصيص إلى النصف، فإنه حجة على هذا القول فيما يزيد على النصف، لكن لا
يتعين به خصوص المخرج والباقي، ومن ذلك يجئ الاجمال في الكلام.
نعم لو تعين الأفراد المخرجة بحيث لا يجوز التخصيص زيادة عليها على
حسب ما يختاره القائل في منتهى التخصيص فالظاهر أنه لا إشكال في كونه حجة
في الباقي، ولا مجال فيه للنزاع، وهو أيضا خارج عن محل الكلام.
قوله: * (بأن أقل الجمع هو المحقق... الخ) *.
قد عرفت أن ذلك لا يقضي بخروج العام عن الاجمال، لوضوح دوران
المتيقن من الباقي بين أفراد كثيرة، وأما حجيته في الحكم ببقاء أقل الجمع على
وجه الاجمال فهو مما لا ريب فيه على هذا القول، كما أنه حجة بالنسبة إلى الواحد
على القول بجواز التخصيص إليه، وكذا بالنسبة إلى الأكثر بناء على القول بعدم
جواز التخصيص إلا بالأقل، فإن كان التفصيل المذكور من الجهة المذكورة فلا
اختصاص له بالمذهب المذكور، بل يجئ التفصيل في هذه المسألة على المختار
في الأخرى حسب ما ذكرنا، والظاهر أن ذلك مما لا ربط له بهذا الخلاف، إذ
اعتبار بقاء أصل ما يجوز التخصيص إليه غير قابل للنزاع، فهذا القول في الحقيقة
راجع إلى ما تقدمه، فتأمل (1).
* * *

(1) في المعالم بعد ذلك الأصل الذي تم شرحها، أصل لم يأت في النسخ شرحها، وهو:
أصل: ذهب العلامة في التهذيب إلى جواز الاستدلال بالعام قبل استقصاء البحث في
طلب التخصيص... الخ.
301

معالم الدين:
الفصل الثالث
في ما يتعلق بالمخصص
أصل
إذا تعقب المخصص متعددا، سواء كان جملا أو غيرها، وصح
عوده إلى كل واحد، كان الأخير مخصوصا قطعا. وهل يخص معه
الباقي، أو يختص هو به؟ أقوال. وقد جرت عادتهم بفرض الخلاف
والاحتجاج، في تعقب الاستثناء. ثم يشيرون في باقي أنواع
المخصصات إلى أن الحال فيها كما في الاستثناء. ونحن نجري على
منهجهم، حذرا من فوات بعض الخصوصيات بالخروج عنه،
لاحتياجه إلى تغيير أوضاع الاحتجاجات.
فنقول: ذهب قوم إلى أن الاستثناء المتعقب للجمل المتعاطفة،
ظاهر في رجوعه إلى الجميع. وفسره بعضهم بكل واحدة. ويحكى هذا
القول عن الشيخ (رحمه الله). وقال آخرون: إنه ظاهر في العود إلى الأخيرة.
وقيل: بالوقف، بمعنى لا ندري أنه حقيقة في أي الأمرين. وقال السيد
المرتضى (رضي الله عنه): إنه مشترك بينهما، فيتوقف إلى ظهور القرينة. وهذان
القولان موافقان للقول الثاني في الحكم.
303

قوله: * (إذا تعقب المخصص) *.
أراد به المتصل فإن المنفصل خارج عن محل البحث لاستقلاله بالإفادة،
وإنما يقضي بتخصيص العام من جهة بنائه على الخاص على ما هو قضية تعارض
العام والخاص المطلقين، وهو إنما يكون بعد معارضة العام والخاص، وحينئذ فلا
يرتبط بغير ما حصل التعارض بالنسبة إليه.
نعم لو اتحد حكم العامين كما لو قال " أكرم الفقهاء " و " أكرم الأدباء " ثم قال
" لا تكرم زيدا " وهو مندرج في الفقهاء والأدباء فالظاهر عدم التأمل في رجوع
التخصيص إلى العامين، لقضاء إطلاق النهي عن إكرامه فيه ثم تعلق الإكرام به
مطلقا فيتخصص به العمومات سواء كان جملا أو غيرها أو كان ملفقا من الأمرين
وسواء كان متعاطفا أو غيره ذا حكم واحد أو أحكام مختلفة، وربما يظهر من
العضدي خروج غير المتعاطفين عن محل البحث، حيث عنون البحث في
خصوص المتعاطفة فيكون غير المتعاطفة راجعا إلى الأخير على الأقوال،
والمحكي عن البعض دعوى الاتفاق على رجوع المتعقب للمفردات إلى الجميع،
فيكون خارجا عن محل النزاع، وهو غير ظاهر، وظاهر إطلاقهم يعم ما لو كانت
الجمل أو العمومات المفروضة متناولة أو غيرها ما لم يكن الفصل الحاصل مانعا
من رجوع المخصص إليه.
قوله: * (وصح عودة إلى كل واحد) *.
احترز عما لا يصح عوده إلى الكل لعدم اندراج المستثنى في الجميع، نحو
" أكرم العلماء " و " أحسن إلى الصلحاء إلا الجهال " فلا بد من اخراجه عن الأخير
ولو عكس الترتيب اختص بالأول.
ومنه ما لو كان المستثنى شخصا معينا لا يندرج في بعضها نحو " أكرم العلماء "
أو " أعن الأدباء إلا زيدا " إذا لم يكن زيد إلا من أحدهما، أما لو اندرج فيهما
فالظاهر اندراجه في محل البحث، لتوارد الحكمين عليه، فيحتمل تخصيصه
بالنسبة إلى الأخيرة وإلى الجميع، هذا إذا لم يشتمل تخصيصه بالنسبة إلى الأخيرة
وإلى الجميع على التدافع، وإلا لم يصح عوده إلى الجميع، كما إذا قال " أكرم
304

العلماء " و " لا يجب إكرام الفساق إلا زيدا " مع اندراجه في العامين، ولا يمكن
تخصيصه بالنسبة إليهما، وإلا لوجب الحكم عليه بوجوب الإلزام وعدمه.
بقي الكلام هنا في أمور:
أحدها: أن تقييد محل النزاع بذلك لا يخلو عن تأمل، فإنه إن كان النزاع في
وضع المخصص المتعقب لتلك العمومات - كما هو الظاهر من جملة من كلماتهم -
لم يتجه ذلك، إذ غاية الأمر أن يقال باستعماله إذن في غير ما وضع له على القول
بوضعه للعود إلى الجميع من جهة قيام القرينة الصارفة عليه، فلا ينافي ذلك ثبوت
وضعه للرجوع إلى الجميع حينئذ أيضا، إلا أن يقال باختصاص وضعه لذلك بغير
الصورة المفروضة، فيكون حينئذ حقيقة في الرجوع إلى غيره، وهو بعيد جدا وإن
كان الخلاف في مجرد الظهور دون الوضع، فظاهر أن ذلك إنما يكون من جهة
انصراف الإطلاق فلا ينافي عدم انصرافه إليه مع قيام القرينة على خلافه، فلا
حاجة أيضا إلى التقييد، إلا أن يقال: إن ذلك بمنزلة أن يقال: إن محل النزاع فيما
ينصرف إليه الإطلاق إذا كان اللفظ قابلا للرجوع إلى الأخيرة والجميع، وإنما
خص ذلك بالذكر دون سائر القرائن، لكونها قرينة داخلية قاضية بعدم الرجوع إلى
الجميع بخلاف سائر القرائن الخارجية، فكان فرض انتفاء الأول من تتمة
المقتضي، وانتفاء الثاني من قبيل انتفاء المانع، واعتبار عدم الثاني ظاهر لا حاجة
إلى التنبيه عليه، فاعتبر الأول في المقام لبيان مورد الاقتضاء.
ثانيها: أن ظاهر العبارة " خروج ما لو لم يصح عوده إلى الجميع عن محل
البحث " وهو قد يكون باختصاص عوده إلى الأخيرة أو باحتمال عوده إلى متعدد
سوى الجميع، كما إذا تقدمه عمومات ثلاثة لا يحتمل عوده إلى الأول فيدور
الحال فيه بين عوده إلى الأخيرة وعوده إلى الأمرين، فظاهر العنوان أنه حينئذ ذو
وجه واحد فيرجع إلى الأخيرة وهو محل خفاء، إذ على القول بظهورها في العود
إلى الجميع لا يبعد القول أيضا بظهوره في العود إلى المتعدد، وأيضا قد يكون عدم
صحة عوده إلى الجميع من جهة عدم قابليته للعود إلى الأخيرة فيدور بين كونه
305

عائدا إلى جميع ما عداها والى واحد مما تقدمها أو خصوص ما قبل الأخير مما
يصح عوده إليه فذلك أيضا مما يقع الكلام فيه.
ويمكن أن يقال: إن اخراج المذكورات عن محل النزاع لا يقتضي أن يكون
الحال فيها ظاهرا، بل غاية الأمر خروجها عن مورد هذا الخلاف وإن دار الأمر
فيها أيضا بين وجهين أو وجوه فتأمل.
ثالثها: أن صلاحية المستثنى للعود إلى الجميع تكون على وجوه:
أحدها: أن يكون من المبهمات الصادقة على الجميع، كما إذا قال: أكرم
العلماء وأعن الصلحاء إلا من أهانك أو إلا الذي شتمك.
ثانيها: أن يكون من المشتقات المندرجة في كل منهما، نحو " أهن كل من
شتمك واضرب كل من ضربك إلا العالم " وكذا لو كان بمنزلة المشتق كما لو كان
المستثنى إلا البغدادي في المثال المذكور، ونحوه ما لو كان من المفاهيم الكلية
المندرجة في الجميع كما لو كان المستثنى هناك إلا المراد، ولا فرق في ذلك بين
المفرد والجمع، وعلى كل من الوجهين المذكورين فإما أن يكون المستثنى مطلقا
كما في المثالين المذكورين، أو عاما كما إذا دخل على المستثنى أداة العموم،
وعلى كل من الوجوه الأربعة فإما أن يكون المصداق الذي يصدق عليه مفهوم
المستثنى شيئا واحدا مندرجا في كل من تلك العمومات كما إذا قال " أكرم العلماء
وأعطهم درهما إلا من أهانك " ومن ذلك آية القذف، وإما أن يختلف المصداقان
كما في الأمثلة المتقدمة وإن احتمل اتفاقهما في بعض المصاديق.
ثالثها: أن يكون المستثنى جزئيا حقيقيا مندرجا في العمومين نحو " أكرم
العلماء وأعن الصلحاء إلا زيدا " إذا كان من العلماء والصلحاء معا، فيصح اخراجه
من الأخير ومن الجميع.
رابعها: أن يكون المستثنى من النكرات مما يصح اندراجه في كل منهما، كما
في أكرم العلماء وأعن الظرفاء إلا رجلا أو إلا واحدا.
وقد يشكل الحال فيه بأن النكرة حقيقة في فرد واحد دائر بين الأفراد، وهنا
306

على تقدير رجوع الاستثناء إلى الأمرين إنما يراد بها ما يزيد على الواحد، فتكون
قد أطلقت في المثال المذكور على رجل من العلماء واستثنى منهم، ورجل من
الظرفاء واستثنى منهم، وهو خروج عن وضعها إن لوحظ الأمران معا في ذلك
الاستعمال، بأن يكون خروج الأول من الأول والثاني من الثاني فلا تكون صالحة
لذلك، وإن لوحظ إطلاقها على كل منها بلحاظ مستقل - كما هو الظاهر في المقام -
كان ذلك من إطلاق اللفظ على كل من مصداقيه استقلالا ليقوم الاستعمال الواحد
مقام استعمالين، نظير استعمال المشترك في معنييه، فيدور جوازه مدار جواز ذلك
الاستعمال وقد عرفت أن التحقيق المنع منه.
ويمكن دفعه بأن النكرة في المقام لم تستعمل إلا في مفهومها - أعني فرد ما -
لا غير، ويكون اخراجها من العمومين دليلا على كون فرد ما - الخارج من الأول -
مغايرا للخارج من الثاني، فيكون مصداقه بالنسبة إلى الأول غير مصداقه بالنسبة
إلى الثاني، ولا يستلزم ذلك أن تكون النكرة قد أطلقت على فردين أولا، أو تكون
قد أطلقت على مصداق وعلى آخر استقلالا ليقوم مقام استعمالين، ألا ترى أنه لو
قال " أكرم رجلا من العلماء ومن الظرفاء " لم يرد عليه المحذور المذكور، مع كون
فرد ما من العلماء مغايرا لفرد ما من الظرفاء، وكذا إذا قال " أكرم كل عالم " فقد
أطلق النكرة على كل من مصاديقها لكن بضميمة لفظ " كل " فلا منافاة بين الوحدة
الملحوظة في معنى النكرة وإطلاقها على المتعدد إذا كان الدال عليه أمرا خارجا
وكان المراد بالنكرة نفسها هو فرد ما كما في كل من الأمثلة المذكورة.
خامسها: أن يكون المستثنى من المشتركات اللفظية، فيصح عوده إلى
الأمرين باعتبار معنييه، وهذا الوجه مبني على جواز استعمال المشترك في معنييه،
وعلى القول بالمنع فلا صلاحية لذلك، ومن ذلك ما لو قال " أكرم العلماء وأحسن
إلى الأدباء إلا زيدا " إذا كان هناك زيدان أحدهما من العلماء والآخر من الأدباء،
وإذا أريد بزيد في المثال مفهوم المسمى به كان من الوجه المتقدم.
سادسها: أن يكون صلوحه للعود إلى الكل بتقسيط المستثنى عليها، كما إذا
307

قال " أكرم العلماء وأحسن إلى الظرفاء إلا الرجلين " فيحتمل اخراجهما من
الأخير وإخراج أحدهما من الأول والآخر من الثاني، ولو أريد اخراج رجلين من
الأولين ورجلين من الثاني كان من قبيل الوجه الرابع، ومن ذلك ما لو كان
المستثنى مشتركا لفظيا وأريد به مجموع المعنيين على أن يكون المخرج من
الأول أحدهما ومن الثاني الآخر.
وقد يقال: إن أداة الاستثناء إنما وضعت لإخراج المستثنى عن المستثنى منه،
فإن عاد الاستثناء إلى الجميع لزم أن يراد اخراج جميع المستثنى من كل من
الأمرين، فإرادة اخراج البعض خارج عما يقتضيه وضع الاستثناء، فإذا أريد من
العبارة ذلك فلا بد أن يلحظ المستثنى منه شيئا منتزعا من العامين، فيلحظ اخراج
ذلك بالنسبة إليه وهو حينئذ خارج عن محل النزاع.
وفيه: أنه يمكن أن يقال بأن أداة الاستثناء موضوعة لمطلق الإخراج
لمدخولها من العموم، سواء أريد اخراج المستثنى من كل من العمومين، أو من
أحدهما، أو اخراج مجموعه من العمومين معا على وجه التقسيط، فيكون ما
استعمل فيه هو اخراج واحد متعلق بالمجموع عن العمومين معا، كما أن اخراجه
عن كل منهما اخراج واحد متعلق بكل منهما حسب ما يأتي توضيح القول فيه إن
شاء الله، إلا أن القول بعموم وضع الاستثناء لما ذكر محل خفاء.
وأنت خبير بأن هذا الوجه من الصلوح لو تم فهو خارج عن ظاهر المفروض
في كلام القوم، فإن الظاهر مما عنونوه للمبحث كون المستثنى بتمامه مخرجا من
كل من العمومين.
ويمكن أن يقال: إن كون المستثنى مخرجا عن كل منهما إنما يتصور فيما إذا
كان المستثنى بنفسه مندرجا في العامين، كما مر في المثال المتقدم فيما يكون
المستثنى شخصا معينا مندرجا فيهما أو كان مفهومه مطلقا مندرجا فيهما معا، وأما
إذا كان بعض مصاديقه مندرجا في الأول وبعضها في الآخر فلا محالة يكون
رجوع المخصص إلى العامين على وجه التقسيط، فإن " من أهانك " في المثال
308

المتقدم - يعم من أهانه من العلماء والصلحاء، وقد حصل تخصيص العلماء بمن
أهانه من العلماء والصلحاء بمن أهانه من الصلحاء بعد قسط المستثنى على
العامين، وحصل تخصيص كل منهما ببعض مصاديق المستثنى المفروض، ولو كان
المستثنى حينئذ عاما لغويا فالأمر أظهر، لكون المخصص لكل من العمومين بعض
جزئيات ذلك العام، فعلى هذا يكون عمدة ما عد صالحا في المقام للرجوع إلى
الجميع من قبيل الوجه المذكور، فكيف يقال بخروجه عن ظاهر كلام القوم.
وفيه أن لا شمول للمستثنى للأمرين على أن يكون ذلك مأخوذا في معناه.
كيف! ولو كان كذلك وقلنا برجوعه إلى الأخيرة لزم عدم ارتباط بعض مدلوله
بالمستثنى منه ليمكن اخراجه عنه، بل المستثنى في المقام مفهوم واحد قد لوحظ
مخرجا عن كل من العمومين بناء على رجوعه إلى الجميع، غاية الأمر اختلاف
مصداقه واقعا بملاحظة الأمرين، وذلك لا يقضي باختلاف نفس المعنى ومدلوله
في المقامين، فمفهوم المستثنى في المقامين شئ واحد لا اختلاف فيه أصلا قد
لوحظ مخرجا عن كل من العمومين، وأين ذلك من بعض مسماه مخرجا عن
أحدهما وبعضه الآخر عن الآخر.
فإن قلت: إنه يلزم على ذلك أن يكون قد أطلق ذلك اللفظ تارة على مصداق
منطبق على مفهومه وعلى مصداق آخر كذلك، فيكون الإطلاق المفروض منزلا
منزلة إطلاقين نظير استعمال المشترك في معنييه، فيكون إرادة ذلك مبنية على
القول بجواز مثل ذلك.
قلت: ليس الحال كذلك وإنما استعمال اللفظ في المقامين في مفهومه
الوحداني وإنما يأتي الاختلاف المفروض بملاحظة ضمه إلى العام المخرج منه
من غير أن يلحظ ذلك في إطلاق اللفظ واستعماله في معناه فتأمل.
قوله: * (ثم يشيرون في باقي أنواع المخصصات... الخ) * ظاهر كلامه
يومئ إلى الاتفاق على عدم الفرق وهو محل تأمل، بل قد حكي القول بالفرق في
الجملة عن بعضهم، والذي يقتضيه التأمل في المقام هو الفرق، وسيجئ تفصيل
الكلام فيه في آخر المسألة إن شاء الله تعالى.
309

قوله: * (للجمل المتعاطفة) *.
لا يخفى أن كون الجمل متعاطفة مما لم يؤخذ في عنوان المسألة فكأن القائل
بعوده إلى الجميع نظر إلى اتصال الجملتين من جهة العطف.
وأنت خبير بأن اتصال الجملتين لا يتوقف على العطف، على أن اعتباره ذلك
في سائر الأقوال أيضا كما هو ظاهر تقريره أيضا مما لا وجه له.
كيف والعود إلى الأخيرة مع عدم اتصال الجملتين أولى، إلا أن يقال بخروج
ذلك عن محل الخلاف، كما قد يومئ إليه كلام العضدي حسب ما أشرنا إليه، وهو
لا يلائم إطلاقه الأول.
ثم إن تقرير النزاع في الجمل يومئ إلى كون النزاع فيها دون المفردات، مع أن
المذكور في العنوان ما يعمها والمفردات، وقد يحمل ذلك في كلامه وكلام غيره
ممن عنون البحث في الجمل على المثال، إلا أنك قد عرفت تنصيص بعضهم على
خروج المتعقب للمفردات عن محل النزاع.
قوله: * (ظاهر في رجوعه إلى الجميع) *.
التعبير المذكور هنا وفي القول الآتي أعم من دعوى الوضع لخصوص
الإخراج عن الجميع أو الأخيرة أو ظهور الإطلاق فيه ولو بالقول بوضعه للأعم،
لكن قضية المقابلة بين الأقوال المذكورة كون المقصود من الظهور في المقام هو
الظهور الوضعي دون الانصرافي، وعليه فيمكن تصوير النزاع في المقام بوجهين:
أحدهما: أن يكون الخلاف في وضع الأداة حال كونها متعقبة للجمل المتعددة
ونحوها، بأن يقال: حينئذ بوضعها للإخراج عن الجميع أو الأخيرة وإن كان أصل
وضعها لمطلق الإخراج، حيث إنها لو وقعت عقيب جملة واحدة كانت حقيقة في
الإخراج عنها قطعا.
ثانيهما: أن يكون البحث هنا من جهة الهيئة التركيبية وذلك بأن يقال بوضع
الأداة لإفادة الإخراج المطلق، أو لجزئياته من غير ملاحظة لوروده عقيب
المتعدد أو الواحد، أو لرجوعها في الفرض الأول إلى الآخر أو الجميع، فيكون
310

النزاع في وضع الهيئة التركيبية الطارئة على الاستثناء الوارد عقيب المتعدد لإفادة
الرجوع إلى الجميع أو الأخيرة أو اشتراكها بين الأمرين، وكون الأداة موضوعة
بإزاء المعنى الحرفي الرابطي لا يستلزم ملاحظة الخصوصية المذكورة في وضعها،
فيكون الإخراج الرابطي مستفادا من الأداة، وخصوصية رجوعها إلى الجميع أو
الأخيرة من الهيئة المذكورة. وعلى القول بعدم وضع الهيئة لا يكون المستفاد من
الأداة سوى الإخراج المطلق من غير إفادة لإحدى الخصوصيتين على ما هو أحد
الأقوال في المقام، فيكون محصل البحث أن الهيئة التركيبية هل وضعت لإفادة
تعلق الإخراج الرابطي المدلول عليه بالأداة بالجميع أو بخصوص الأخيرة، أو لم
يوضع لشئ من الأمرين وإنما الموضوع خصوص الأداة لمطلق الإخراج من غير
الدلالة على شئ من الخصوصيتين.
قوله: * (وفسره بعضهم بكل واحدة) *.
كان إسناده التفسير المذكور إلى البعض يشير إلى عدم تعين الحمل عليه، إذ
قد يقول القائل المذكور بغيره أو الأعم منه.
وتوضيح المقام: أن رجوع الاستثناء إلى الجميع يتصور على وجوه:
أحدها: أن يكون راجعا إلى المجموع بأن يكون المستثنى مخرجا من
مجموع المذكورات فيقسط ذلك عليها، كأن يراد من قوله " لزيد علي مائة ولعمرو
خمسون ولبكر أربعون إلا خمسة عشر " اخراج الخمسة عشر من مجموع
المذكورات من غير أن يراد به اخراجه عن كل واحد منها، فلا يتعين حينئذ
خصوص القدر المخرج عن كل منها.
ثانيها: أن يراد اخراجه عن كل واحد منها من المذكورات، فيكون المراد
بالأداة هو الإخراج المتعلق بالمتعدد، فيكون التعدد في متعلق الإخراج،
والمستعمل فيه للأداة هو الإخراج المخصوص المتعلق بكل من المتعددات،
فالمستعمل فيه هناك أمر واحد لكنه ينحل في الخارج إلى إخراجات عديدة.
ثالثها: أن يستعمل في مجموع الإخراجات المتعلق كل واحد منها بواحد من
311

العمومات المتقدمة، فإن مجموع تلك الإخراجات أيضا معنى واحد، فيكون من
قبيل استعمال المشترك في مجموع معانيه.
رابعها: أن يستعمل في كل واحد من الإخراجات المفروضة على أن يكون
كل من اخراجه عن كل من المذكورات مما استعمل فيه اللفظ بخصوصه، فيكون
اللفظ مستعملا في كل منها بإرادة مستقلة نظير استعمال المشترك في جميع معانيه
على ما هو محل النزاع كما مر الكلام فيه. فالقائل برجوعه إلى الجميع إما أن يقول
به على أحد الوجوه المذكورة في الجملة من غير تعيين للخصوصية، أو يقول به
على الوجه الأعم من الكل، فيصح عنده الرجوع إلى الجميع على أي من الوجوه
المذكورة. وقد يكون تأمل المصنف في تفسير المذكور لأجل ذلك. لكن الأظهر أن
يقال بخروج الوجه الأول عن ظاهر كلامه، إذ ظاهر كلامه في المقام وقوع
الخلاف في خروج المستثنى بتمامه من الكل دون تقسيطه عليه، كما مرت
الإشارة إليه. والظاهر أيضا خروج الأخير عما يريده القائل بالرجوع إلى الكل،
بل الظاهر خروج ذلك عن محل الخلاف في المقام، وإن زعم بعض الأفاضل
تنزيل كلام القائل برجوعه إلى الجميع إلى ذلك وجعل النزاع في رجوعه إلى
الجميع أو الأخيرة منزلا على ذلك وهو غير متجه، حسب ما يأتي تفصيل الكلام
فيه إن شاء الله عند نقل كلامه (رحمه الله).
بقي الكلام في الوجهين الباقيين ويمكن تنزيل كلامه على كل منهما وعلى
إرادة الأعم منهما، وظاهر كلام البعض تنزيله على الأول منهما. فيمكن أن يكون
تأمل المصنف في ذلك من جهة احتمال الوجه الثاني، أو احتمال حمله على
الأعم. وكان الأظهر هو ما ذكره البعض، إذ لا يخلو الوجه الثاني عن التكلف.
وسيأتي تتمة الكلام في ذلك إن شاء الله.
قوله: * (وهذان القولان موافقان للقول الثاني في الحكم) *.
ما ذكره مأخوذ من كلام العضدي، وقد تبعه جماعة من المتأخرين. وظاهر
هذا الكلام الحكم بموافقة القولين للقول الثاني في الحكم بتخصيص الأخيرة وبقاء
غيرها على العموم على ما يقتضيه ظاهر اللفظ.
312

وقد استدرك ذلك بثبوت فرق بينهما في أمر لفظي أشار إليه بقوله: نعم... إلى
آخره. فهو كالصريح بل صريح في عدم حصول فرق بينهما أظهر من ذلك.
وقد أورد عليه الفاضل المحشي بأن ما ذكره محل تأمل، لوضوح أنه يحكم
بالعموم في غير الأخيرة على القول الثاني قطعا. وأما على هذين القولين فلا وجه
للحكم بعمومه، إذ بعد ملاحظة الاستثناء المفروض المشترك بين الوجهين أو
المتردد بينهما يتوقف في حمله على أحدهما فيكون مجملا، ومع التوقف فيه
يشكل الحكم بالعموم فيها.
إلا أن يقال: إن قضية التردد والاشتراك هو التوقف بالنظر إلى نفس
المخصص، ولا ينافي ذلك ترجيح جانب العموم بالنظر إلى ملاحظة وضع العام
وأصالة عدم التخصيص.
قال: ولا يخفى ما فيه سيما فيما إذا كان إبقاء العموم مخالفا للأصل.
وقد أورد الفاضل المدقق على ذلك أولا: بأنه لا إشكال في موافقة القولين
الأخيرين للثاني في تمام الحكم، إذ يجب أن لا يعمل في غير الأخيرة أصحابهما
إلا على العموم، لثبوت وضعه للعموم خاصة ولم يتحقق في الكلام دلالة أخرى
تعارضها، ومجرد احتمال المعارض لا يكفي في الصرف عنها وإلا كان ذلك قائما
على تقدير عدم الاستثناء المفروض، فكما أن البحث عن انتفاء المخصص كاف
في دفع التخصيص والبناء على العموم فكذا الحال في المقام، فإن ثبوت الاشتراك
وعدم العثور على قرينة تقتضي رجوعه إلى الجميع، وعدم العثور عليه بعد الفحص
القاضي بالتوقف كاف فيه أيضا.
والحاصل: أنه لا بد من حمل العام على مقتضى وضعه بعد الفحص عن
المخصص فيه حتى يتبين المخرج عنه.
* * *
313

المطلب الخامس في الاجماع (1)
لما فرغ المصنف عن الكلام في المباحث المتعلقة بالألفاظ مما يشترك فيه
الكتاب والسنة شرع في بيان الأدلة الشرعية وأغمض النظر عن مباحث الكتاب
فإن حجيته كان معدودا من الضروريات، ولذا لم يعنونوا له بحثا في سائر الكتب
المعدة لذكر الخلافيات، فإن الظاهر أن الخلاف الواقع فيه إنما وقع من جماعة من
ظاهرية علمائنا ممن ينتمون إلى الأخبار ويأخذون بظواهر الآثار ولم يكن
الخلاف مشتهرا في تلك الأعصار وإنما هو أمر حدث بين المتأخرين. وأما سائر
المباحث المتعلقة بالكتاب فمما لا يتفرع عليه ثمرة مهمة في الأحكام حتى
يناسب ذكره في أمثال هذه المختصرات.
ثم إن الأدلة عندنا منحصرة في الكتاب والسنة والإجماع ودليل العقل،
ولنذكر قبل الشروع في بيانها مطالب:
- المطلب الأول -
في بيان معنى الدليل وتفسيره على حسب ما بينوه.

(1) لا يخفى أن المؤلف (قدس سره) من أول الكتاب إلى هنا كان يورد قطعة من متن المعالم قبل الشروع
في الشرح، ونحن تسهيلا للمراجعة رأينا أن نورد قبل كل مبحث تمام المتن، وكان العمل
على ذلك إلى هنا، وبعد لاحظنا أنه (قدس سره) فيما يأتي قلما ينقل من المعالم كلاما، فلم نر كثير
فائدة في إيراد المتن فأغمضنا عن ذلك.
315

- ثانيها -
أن الدليل ينقسم إلى ما يكون حجة في نفسه مطلقا - كظاهر الكتاب وخبر
الواحد - وما يكون حجة عند عدم قيام حجة على خلافه فتكون حجة في نفسه لا
مطلقا. فإذا كان تعارض في القسم الأول لزم الرجوع إلى حكم الترجيح والتعادل
بخلاف ما إذا وقعت المعارضة بينه وبين القسم الثاني من الأدلة، فإن الدليل على
الوجه الثاني غير قابل لمزاحمة شئ من الأدلة على الوجه الأول، إذ المفروض
كونه دليلا حيث لا دليل، فلو قام هناك دليل من القسم الأول ولو من أضعف الأدلة
قدم عليه، لعدم اندراجه في الدليل مع وجوده.
فإن قلت: إن حجية القسم الأول أيضا ليست مطلقة، فإنه إنما يكون حجة مع
عدم حصول معارض أقوى منه، وأما مع حصوله فلا ريب في سقوطه عن الحجية.
قلت: المراد بإطلاقه في الحجية كون حجيته في نفسه مطلقة غير مقيدة بشئ
كما في القسم الثاني لا وجوب العمل به مطلقا، إذ من البين كون المعمول به أقوى
الحجتين، ولا ملازمة بين الحجية على الوجه المذكور ووجوب العمل به بالفعل،
فهناك فرق بين ترك حجة لوجود حجة أقوى منها وعدم حجية شئ من أصله.
وبعبارة أخرى: ثم إن الأدلة الشرعية تنقسم أيضا إلى أقسام:
أحدها: ما يفيد القطع بالواقع كالإجماع المحصل ودليل العقل.
ثانيها: ما يفيد الظن بالواقع ويكون حجيته من حيث حصول الظن منه،
فالدليل هنا على الحقيقة هو الظن الحاصل من تلك الأدلة، فلولا حصول الظن منها
لم تكن حجة، وحصول هذا القسم في الأدلة غير ظاهر عندنا كما سنفصل القول
فيه إن شاء الله.
ثالثها: ما تكون الحجة خصوص أمور ناظرة إلى الواقع كاشفة عنها بحسب
دلالتها سواء كانت مفيدة للظن بالواقع أو لا، ومن ذلك كثير من الأدلة الشرعية
كظواهر الكتاب والسنة، فإن حجيتها غير منوطة بإفادة الظن بالحكم الواقعي كما
مرت الإشارة إليه غير مرة في المباحث المتقدمة.
316

رابعها: أن لا يكون الدلالة على الواقع ملحوظة فيها أصلا لا من حيث إفادة
المظنة بالواقع ولا من حيث النظر إليه والدلالة عليه، بل يكون المناط فيه هو بيان
حكم المكلف في ما يرد عليه من التكليف، ويراد منه في الحال التي هو عليها كما
هو الحال في أصالة البراءة والاستصحاب، فإن الثابت بهما هو الحكم الظاهري
من غير دلالة على بيان الحكم الواقعي، وإن اتفق حصول الظن منهما بالواقع في
بعض الوقائع.
وقد عرفت مما قررناه وجود القسم الأول والأخيرين من الأقسام المذكورة.
وأما القسم الثاني فلا يكاد يتحقق حصوله في الأدلة الشرعية، بل الظاهر
عدمه وإن تسارع إلى كثير من الأوهام كون معظم أدلة الأحكام من ذلك القبيل،
إلا أن الذي يظهر بالتأمل خلافه، لعدم إناطة الحجية بحصول الظن بالأحكام
الواقعية في شئ من الأدلة الشرعية كما يتبين الحال فيه إن شاء الله.
فإن قلت: إن المدار في حجية أخبار الآحاد على الظن دون التعبد من حيث
الإسناد ومن جهة الدلالة كما سيجئ تفصيل القول فيه في محله، ومع إناطة
الحجية بالمظنة لا يعقل المنع من حصول الظن منها مع القول بحجيتها، وأيضا
الوجوه الواردة في التراجيح عند تعارض الأخبار إنما يناط الترجيح بها بالأخذ
بالأقوى والرجوع إلى ما هو الأحرى فيكون الأمر دائرا مدار الظن دون غيره، إذ
لا يعقل الترجيح بين الشكوك لمساواتها في الدرجة.
قلت: هنا أمران ينبغي الفرق بينهما في المقام ليتبين به حقيقة المرام:
أحدهما: كون الخبر مفيدا للظن بما هو الواقع حتى يكون الأرجح في نظر
المجتهد أن ما يفتي به هو المطابق لمتن الواقع.
ثانيهما: كون الخبر محلا للوثوق والاعتماد من حيث الدلالة والإسناد، ولو
كان له معارض كان الظن الحاصل منه أقوى من الحاصل من الآخر.
وتبين الفرق بين الأمرين بأن الظن الحاصل في الصورة الأولى يقابله الوهم،
لوضوح كون ما يقابل الظن بالواقع وهما.
317

وأما الحاصل في الصورة الثانية فيمكن أن يقابله كل من الظن والشك
والوهم، إذ ليس متعلق الظن هناك إلا الصدور والدلالة، ولا منافاة بين حصول
الظن بصدور خبر والظن بصدور معارضه أيضا أو الشك فيه. وكذا الحال في الظن
بدلالة أحدهما على مضمونه والظن بدلالة الآخر أيضا أو الشك فيه. فغاية الأمر
أن يؤخذ حينئذ بالمظنون منهما، أو بأقوى الظنين منهما، وذلك لا يستدعي الظن
بما هو الواقع في حكم المسألة حتى يكون ما يقابله وهما.
إذ من البين أن مجرد ظن الصدور أو الدلالة لا يقتضي الظن بالواقع، إذ قد
يحتمل المكلف - احتمالا مساويا لعدمه - وجود ما يعارضه بحسب الواقع، بل قد
يرى ما يعارضه بسند ضعيف مع وضوح عدم قضاء ضعف الخبر بالظن بكذبه، ومع
الشك فيه لا يمكن تحصيل الظن فيه بالواقع من الخبر الآخر وإن كان ذلك حجة
وهذا غير حجة، فإن مقام الظن غير مقام الحجية، بل قد يكون ما يعارضه مظنونا
أيضا من حيث الإسناد والدلالة، إذ لا منافاة بين الظنين.
غاية الأمر حينئذ أن يؤخذ بأقوى الظنين المفروضين، وهو أيضا لا يستلزم
ظنا بالواقع، ومجرد كونه أقوى سندا ودلالة لا يقضي بالظن بكذب الآخر أو
سقوط دلالته، ومع عدم حصول الظن به لا يعقل حصول الظن بالحكم الواقعي في
المقام.
فإن قلت: كون الخبر مفيدا للظن وعدمه إنما يلحظ بالنظر إلى الواقع، فإذا كان
أحد الخبرين المفروضين مفيدا للظن بالنظر إلى الواقع دون الخبر الآخر، أو كان
مفيدا للظن الأقوى والآخر للأضعف فلا محالة يكون الحكم الحاصل من أحدهما
راجحا على الآخر، فيكون ذلك مظنونا والآخر موهوما، وإن كان الأضعف مفيدا
للظن في نفسه مع قطع النظر عن الأقوى، فإن ملاحظة الأقوى يمنع من حصول
الظن من الأضعف، بل يجعله موهوما فكيف لو كان مشكوكا فيه في نفسه؟
فالحاصل للمجتهد هنا أيضا هو الظن بالواقع المقابل للوهم كما فرض في الصورة
الأولى.
318

قلت: ليس الأمر على ما ذكر، وكشف الحال أن يقال: إنه إن كان الخبران
المفروضان على وجه لا يمكن الجمع بينهما بوجه من الوجوه وكان أحدهما أقوى
من الآخر كان الأمر - على ما ذكر - لظن الكذب حينئذ في طرف المرجوح، وأما
لو كان الجمع بينهما ممكنا كالعام والخاص والحقيقة والمجاز لكن لم يكن الخاص
أو الخبر المشتمل على قرينة المجاز بالغا إلى حد ما يفيد الظن بالصدور وكان
مشكوكا من تلك الجهة لم يجر العمل به، ولا يجوز أن يترك الحجة من أجله، ومع
ذلك لا يعقل حصول الظن بإرادة العموم من العام المفروض بالنظر إلى الواقع وكذا
إرادة المعنى الحقيقي من اللفظ مع الشك في ورود التخصيص عليه في الواقع أو
قيام قرينة المجاز.
والحاصل أنه مع استفادة المعنى من اللفظ بحسب فهم العرف لا يصح تركه
بمجرد الشك الحاصل في تخصيصه أو الخروج عن ظاهره، بل لا بد من العمل به
إلى أن يثبت المخرج عنه.
وقد عرفت مما قررناه في المباحث السالفة أن مداليل الألفاظ إنما يبنى
حجيتها على كونها مفهومة منها عند أهل اللسان، سواء حصل منها الظن بالمراد أو
لا، حسب ما فصلناه. ومن ذلك يعرف الحال في باقي المعارضات مع عدم بلوغ
المعارض إلى حد الحجية أو بلوغه إليه وعدم مكافأته له في القوة، هذا بالنظر إلى
الدلالة.
وأما بالنسبة إلى الإسناد فنقول: إن ترجيح أحد الخبرين من حيث القوة
بحسب الصدور لا يقضي بالظن بكذب الآخر وعدم صدوره إلا في الصورة
المتقدمة، ولا يكاد يوجد تلك في الأخبار المعروفة، وأما في غيرها فلا يقضي
قوة الظن بصدور أحد الخبرين لوهن صدور الآخر وعدم ثبوته في الواقع، إذ
المفروض إمكان صدور الخبرين وورودهما عن الحجة، إلا أنه لما كان صدور
أحدهما مظنونا والآخر مشكوكا فيه كان عليه الأخذ بالمظنون، وكذا لو كان
أحدهما مظنونا بالظن الأقوى والآخر بالأضعف تعين الأخذ بالأقوى، ولا يلزم
319

من ذلك كون الحكم المدلول عليه بالأقوى مظنونا ليكون خلافه حسب ما يقتضيه
الخبر الآخر موهوما، إذ لا يجامع ذلك الشك في صدق الخبر الآخر أو ظن صدقه
بالظن الأضعف، مع أنه يحصل الظن والشك المذكوران في غالب الحال.
فإن قلت: إذا كان أحد الخبرين أقوى من الآخر كان الظن الحاصل منه أقوى
من الظن الحاصل من معارضه وإن تساويا في وجه الدلالة أيضا فضلا عما لو
كانت الدلالة أقوى أيضا، فكيف يقال حينئذ بعدم حصول الظن من الأقوى؟
قلت: على فرض كون دلالته أيضا أقوى لا يلزم منه كون الحكم مظنونا
بالنظر إلى الواقع فكيف لو تساويا فيها؟ وذلك لأن غاية ما يقتضيه قوة الإسناد
كون الوثوق بصدور تلك الرواية أكثر من الوثوق بصدور الأخرى، وما يقتضيه
قوة الدلالة كون إفادته لمضمونه أوضح وأقوى من إفادة الآخر، ولا يستلزم ذلك
الظن بكون الحكم المدلول عليه هو المطابق للواقع، إذ قد يحتمل عنده وجود
الصارف عنه احتمالا متساويا كما إذا كان الخبر الآخر مشتملا على مشترك دائر
بين معنيين يكون حمله على أحدهما صارفا لهذه الرواية عن معناها، فإنه مع
تساوي الاحتمالين هناك ولو مع الشك في صدوره عن الإمام (عليه السلام) بعد ملاحظة
هذه الرواية المعارضة لا يعقل حصول الظن من الرواية القوية، لوضوح اقتضاء
الظن بكون الشئ مطابقا للواقع كون ما يقابله موهوما، وهو لا يجامع الشك فيه
حسب ما هو الحال في مقتضى الخبر الآخر.
فإن قلت: إذا كان الحكم الحاصل من الخبر المظنون الصدور أو الخبر الأقوى
مشكوك المطابقة للواقع كان الحال فيه على نحو غيره من الخبر المشكوك
المطابقة كالرواية الضعيفة أو الخبر الذي دونه في القوة فكيف يؤخذ به ويطرح
الآخر مع تساويهما في ذلك؟
قلت: أي مانع من ذلك؟ بعد اختيار كون الحجية غير منوطة بمظنة إفادة
الواقع كما هو المدعى، فإذا وجدت شرائط الحجية في خبر دون خبر اخذ به وإن
شارك الآخر في عدم إفادة المظنة بالواقع في خصوص الواقعة.
320

ودعوى كون التراجيح مبنية على الظنون دون التعبد لا يراد به حصول الظن
بالواقع، بل المقصود كون الخبر المشتمل على الرجحان في حد ذاته أقرب إلى
مطابقة الواقع، فإنه إذا كان أقوى من حيث الصدور أو من حيث الدلالة كان
بالترجيح أحرى وإن كان مساويا لما يترجح عليه في عدم إفادته الظن بالواقع
إلا أن جهات الشك في إصابة الواقع قد تتحد وقد تتعدد، والجهات المتعددة
قد تكون أقل وقد تكون أكثر، وحصول الترجيح بين الوجوه المفروضة ظاهر مع
اشتراك الكل في عدم إفادة الظن بالواقع، وكون المكلف مع ملاحظتها في مقام
الشك في الإصابة نظر إلى حصول الجهة المشككة متحدة كانت أو متكثرة.
ومن هنا يعلم إمكان حصول الترجيح بين الأخبار مع إفادتها للظن وسنفصل
القول في ذلك إن شاء الله في محله. وليس المقصود مما قررنا المنع من حصول
الظن بالواقع كليا، بل المراد عدم استلزامه له وعدم إناطة الحجية بحصول المظنة
وإن حصل منه الظن بالواقع في بعض الأحيان. ويؤيد ما ذكرناه أنه قد يقوم في
المقام أمارات ظنية كالشهرة أو القياس أو عدم ظهور الخلاف ونحوها مما يفيد
ظنا بالحكم غير معتبر شرعا في مقابلة الخبر الصحيح ونحوه من الأدلة المعتبرة.
ولا شك حينئذ في عدم حصول الظن من الدليل لاستحالة تعلق الظنين بالمتقابلين
في آن واحد عدم سقوط الدليل بذلك عن الحجية، والقول بأن قيام الدليل
على عدم حجية تلك الوجوه قاض بعدم حصول الظن منها كما يستفاد من بعض
الأجلة مما لا يعقل وجهه.
- ثالثها -
أن مدار حجية الأدلة الشرعية حصول العلم منها واليقين دون مجرد الظن
والتخمين، سواء كانت مفيدة للعلم ابتداء أو بواسطة أو وسائط، فلا عبرة بما إذا
حصل منها الظن من حيث هو ظن من دون انتهائه إلى اليقين.
ويدل عليه العقل والنقل، إذ من البين استقلال العقل في إيجاب دفع الضرر
عن النفس سيما المضار الأخروية لعظمها ودوامها، فلا بد من تحصيل الاطمئنان
321

بارتفاعها والأمن من ترتبها، ولا يحصل ذلك بمجرد الظن، لقيام الاحتمال الباعث
على الخوف، وأن الأخذ بطريق الظن مما يغلب فيه عدم الانطباق ويكثر فيه
الخطأ فلا يؤمن مع الأخذ به من ترتب الضرر.
كيف؟ ولولا ذلك لما قامت الحجة للأنبياء على الرعية، إذ بمجرد ادعاء النبوة
ودعوى إقامة المعجزة لا يحصل إلا خوف الضرر مع المخالفة وعدم الاستكشاف
عن حقيقة حاله، فلولا حكم العقل إذن بوجوب ذلك لجاز لهم عدم الالتفات إلى
كلامه وترك الظن مع معجزته فلا يتم الحجة عليهم. والحاصل أن ذلك من الأمور
الواضحة التي تشهد بها الفطرة السليمة على سبيل الوضوح. ثم إن في عدة من
الآيات الكريمة دلالة عليه على ما قررناه من المنع من الأخذ بالظن كذلك.
وفي عدة من الآيات الكريمة دلالة عليه.
والقول بورودها في الأصول دون الفروع فلا تدل على عدم جواز الاستناد
إليها في الأحكام، وأن الأخذ بذلك أخذ بالظن في عدم جواز الأخذ بالظن
فيدور مدفوع.
أما الأول: فبأن جملة من تلك الآيات إنما وردت في الفروع وإنما المستفاد
منها إعطاء القاعدة في عدم الاكتفاء بالظن في تحصيل الحق، بل هي واردة في
مقام الانكار على الكفار وذمهم في اتكالهم على الظنون والاحتجاج عليهم بحكم
العقل بقبحه، فهو استناد إلى ما هو مرتكز في العقول من عدم جواز الاعتماد على
الظن والتخمين في أمور الدين مع عظم خطرها وشدة الضرر المتفرع عليها،
فالمقصود إقامة الحجة عليهم بمقتضى عقولهم لا بالنص المتوقف على صدقه
ليدور الاحتجاج، ولا يكون وقع لإيراد الذم عليهم مع عدم ظهور قبح ما ارتكبوه
إلا من جهة نصه (1) فيكون ذلك شاهدا شرعيا على صحة ما وجدناه من حكم
العقل بقبح الأخذ بالظن، فاحتمال طرو التخصيص عليه ساقط جدا مضافا إلى
أخذه كبرى في القياس، فلا يراد به إلا الكلية ليتم الاحتجاج.

(1) في " ف " و " ق ": ذمه.
322

وأما الثاني: فبعد تسليم عدم اقتضاء المقام نصوصيتها في الدلالة بأن دلالة
الظواهر على عدم حجية الظن كافية في المقام، إذ لا يخلو الواقع عن أحد الأمرين
من حجية وعدمها. وعلى التقديرين فالمطلوب ثابت، إذ الثاني عين المقصود
والأول قاض بصحة الاستدلال (1)، وأيضا كيف يمكن الحكم بالتعبد بمجرد الظن
مع اقتضاء الظن عدم حجيته؟ فلو كان الظن حجة لم يكن حجة لاندفاعه بنفسه،
وكون حصول الحجية مقتضيا لعدمها.
وما يتوهم حينئذ من لزوم مراعاة أقوى الظنين من الظن المتعلق بالحكم
والمتعلق بعدم حجية ذلك الظن فاسد، إذ لا معارضة بينهما لاختلاف متعلقيهما،
فإن الأول إنما قضى بثبوت الحكم على نحو غير مانع من النقيض، والثاني إنما
قضى بعدم حجية ذلك الظن كذلك وعدم الاعتداد به في الفتوى والعمل، وأي
منافاة بين ذينك الظنين حتى يلزم الأخذ بأقواهما؟ فلا معارض أصلا للظن
القاضي بعدم حجية الظن فلا بد من الأخذ به على فرض حجية الظن ولو كان
أضعف من الأول بمراتب.
نعم إن دل دليل على حجية الظن حصل المعارضة بين ذلك الدليل وهذه
الظواهر، وهو كلام آخر لا ربط له بالمقام.
ثم إن في الأخبار الكثيرة دلالة على وجوب تحصيل العلم وعدم الاكتفاء
بغيره كالروايات الآمرة بالتعلم ومعرفة الأحكام والدالة على توقف العمل على
العلم، والروايات المشتملة على النهي عن الحكم بغير العلم والأخذ بالظن، إلى
غير ذلك مما يقف عليه المتتبع. ولا يبعد دعوى التواتر (2) فيها بعد ملاحظة الجميع.
وفي ملاحظة الطريقة الجارية بين العلماء من الصدر الأول إلى الآن من مطالبة
الدليل على حجية ما يدعى من الظنون وعدم الاكتفاء بكونه مظنة كفاية في ذلك،
فإنه لا زالت العلماء مطبقة عليه في جميع الأعصار والأمصار. ومن ادعى حجية

(1) في " ف ": إذ الأول عين المقصود والثاني قاض بصحة الاستدلال.
(2) في " ف " و " ق ": التواتر المعنوي.
323

مطلق الظن فإنما يستند فيه إلى حجة قطعية كيف؟ ولو استند فيه إلى الظن لدار.
فظهر مما قررنا أن المستفاد من العقل والنقل كتابا وسنة وإجماعا عدم حجية
الظن من حيث إنه ظن، نعم لو قام دليل قطعي ابتداء أو بواسطة على حجيته كان
حجة وجاز الاستناد إليه وكان ذلك الظن خارجا عن القاعدة المذكورة.
فإن قلت: من المقرر عدم قبول القواعد العقلية للتخصيص، فلو كان العقل
مستقلا في الحكم المذكور لم يمكن القول بحجية شئ من الظنون الخاصة.
قلنا: لا نقول باستثناء ذلك من القاعدة المذكورة وإنما نقول بخروجها عن
موضوع تلك القاعدة.
وتوضيح ذلك أن مقتضى القاعدة المذكورة عدم حجية الظن من حيث هو
ظن إذا لم يلاحظ انتهاؤه إلى اليقين، والمقصود في الاستثناء المذكور هو حجية
الظنون المنتهية إلى اليقين، وليس أحدهما مندرجا في الآخر، بل هما أمران
متباينان، فالقاعدة المذكورة غير مخصصة ولا قابلة للتخصيص، والعقل والنقل
متطابقان في الحكم بها من غير طريان تخصيص عليها. وكيف يتوهم لزوم
التخصيص في تلك القاعدة من جهة حجية بعض الظنون، مع أن الآخذ به بعد
انتهائه إلى اليقين أخذ باليقين دون الظن؟
فإن قلت: إذا اخذ الظن في بعض مقدمات المطلوب كانت النتيجة تابعة
للأخس، فكيف يدعى كونها قطعية في المقام مع أن المفروض كون بعض مقدماتها
ظنية؟
قلت: فرق بين أخذ القضية الظنية في المقدمات وأخذ الظن بها فيها، إذ لا شك
في كون الثاني من الأمور المعلومة الوجدانية، والمأخوذ في المقام إنما هو الثاني
دون الأول.
والحاصل: أن المدعى عدم حجية الظن من حيث هو، والظن الذي دل الدليل
القاطع أو المنتهي إلى القطع على حجيته ليس من هذا القبيل، إذ ليس الحجة حينئذ
في الحقيقة هو ذلك الظن، بل الدليل القاطع الدال عليه، فيرجع الأمر حينئذ إلى
324

العلم فكذا الحال لو قلنا بقيام الدليل القاطع على حجية مطلق الظن، فإن الحكم
هناك إنما يتبع ذلك الدليل القاطع لا مجرد الظن الحاصل المتعلق بثبوت الحكم،
وهو ظاهر.
وربما توهم متوهم حجية الظن من حيث هو ظن من دون انتهائه إلى اليقين،
وهو ضعيف سخيف قد ظهر فساده مما بيناه وربما يؤول كلام قائله بما يرجع إلى
ما ذكرناه.
- رابعها -
أن المناط في وجوب الأخذ بالعلم وتحصيل اليقين من الدليل هل هو اليقين
بمصادفة الأحكام الواقعية الأولية إلا أن يقوم الدليل على الاكتفاء بغيره، أو أن
الواجب أولا هو تحصيل اليقين بتحصيل الأحكام وأداء الأعمال على وجه إرادة
الشارع منا في الظاهر وحكم به قطعا بتفريغ ذمتنا بملاحظة الطرق المقررة
لمعرفتها مما جعلها وسيلة للوصول إليها سواء علم مطابقته للواقع، أو ظن ذلك، أو
لم يحصل به شئ من العلم والظن (1) أصلا؟ وجهان، والذي يقتضيه التحقيق هو
الثاني فإنه القدر الذي يحكم العقل بوجوبه ودلت الأدلة المتقدمة على اعتباره،
ولو حصل العلم بها على الوجه المذكور لم يحكم العقل قطعا بوجوب تحصيل
العلم بما في الواقع ولم يقض شئ من الأدلة النقلية بوجوب تحصيل شئ آخر
وراء ذلك، بل الأدلة الشرعية قائمة على خلاف ذلك، إذ لم يبين الشريعة من أول
الأمر على وجوب تحصيل كل من الأحكام الواقعية على سبيل القطع واليقين، ولم
يقع (2) التكليف به حين انفتاح سبيل العلم بالواقع. وفي ملاحظة طريقة السلف من
زمن النبي والأئمة (عليهم السلام) كفاية في المقام، إذ لم يوجب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على جميع من
في بلده من الرجال والنسوان السماع منه لجميع الأحكام، أو حصول التواتر
لآحادهم بالنسبة إلى آحاد الأحكام، أو قيام القرينة القاطعة على عدم تعمد

(1) في " ف " و " ق ": ولا الظن.
(2) في " ق ": يقطع.
325

الكذب أو الغلط في الفهم أو في سماع اللفظ بالنظر إلى الجميع، بل لو سمعوه من
الثقة اكتفوا به، والقول بإفادة قول الثقة القطع بالنسبة إلى السامع منه بطريق
المشافهة، نظرا إلى أن العلم بعدالته والوقوف على أحواله يوجب العلم العادي
بعدم اجترائه على الكذب كما هو معلوم عندنا بالنسبة إلى كثير من الأخبار العادية
سيما مع انضمام بعض القرائن القائمة مجازفة بينة، إذ بعد فرض المعرفة بالعدالة
بطريق اليقين مع عدم اعتبارها في الشرع المبين كيف يمكن دعوى القطع مع
انفتاح أبواب السهو والنسيان وسوء الفهم، سيما بالنسبة إلى الأحكام البعيدة عن
الأذهان كما نشاهد ذلك في أفهام العلماء فضلا عن العوام؟ مضافا إلى قيام
احتمال النسخ في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) في كل آن، ومع ذلك لم يوجب على جميع أهل
بلده التجسس بما يفيد العلم بعده في كل زمان، بل كانوا يبنون على الحكم الوارد
إلى أن يصل إليهم نسخه، هذا كله بالنسبة إلى البلدة التي فيها الرسول والإمام (عليهما السلام)
فكيف بالنسبة إلى سائر الأماكن والبلدان سيما الأقطار البعيدة والبلاد النائية؟
ومن الواضح أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يكتفي منهم بالأخذ بالأخبار الواردة عليهم
بتوسط الثقات كما تدل عليه آية النفر والطريقة الجارية المستمرة المقطوعة، ولم
يوجب (صلى الله عليه وآله) يوما على كل من لم يتمكن العلم من المهاجرة ونحوها، أو أخذ
الأحكام على سبيل التواتر ونحوه. وكذا الحال في الأئمة (عليهم السلام) وذلك أمر معلوم
من ملاحظة أحوال السلف والرجوع إلى كتب الرجال وإنكاره يشبه إنكار
الضروريات، وليس ذلك إلا للاكتفاء بالأخذ بطرق ظنية.
ودعوى حصول العلم بالواقع من الأمور البعيدة خصوصا بالنسبة إلى البلاد
النائية، سيما بعدما كثرت الكذابة على النبي والأئمة صلوات الله عليهم حتى
قام (صلى الله عليه وآله وسلم) خطيبا في ذلك، ونادى به الأئمة (عليهم السلام) كما يظهر من ملاحظة الأخبار.
وما يتراءى من دعوى السيد وغيره إمكان حصول القطع بالأحكام في تلك
الأعصار مما يقطع بخلافه، ويشهد له شهادة الشيخ (رحمه الله) وغيره بامتناعه. والظاهر
أن تلك الكلمات مؤولة بما لا يخالف ما قلناه، لبعد تلك الدعوى من أضرابه. ومما
326

ينادي بعدم بناء الأمر على تحصيل القطع ملاحظة حال العوام مع المجتهدين، فإن
من البين عدم وجوب تحصيل القطع عليهم بفتاوى المجتهد على حسب المكنة،
بل يجوز لهم الأخذ عن الواسطة العادلة مع التمكن من العلم بلا ريبة. وعليه جرت
طريقة الشيعة في سائر الأزمنة، بل الظاهر أنه مما أطبقت عليه سائر الفرق أيضا
وهل كان الحال في الرجوع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) في ذلك العصر إلا
كحال العوام في هذه الأعصار في الرجوع إلى المجتهدين.
فبملاحظة جميع ما ذكرناه يحصل القطع بتجويز الشارع العمل بغير العلم في
الجملة مع انفتاح طريق العلم، سيما مع ملاحظة ما في التكليف بالعلم في
خصوصيات الأحكام من الحرج التام بالنسبة إلى الخواص والعوام، وهو مما لا
يناسب هذه الشريعة السمحة السهلة التي رفع عنها الحرج والمشقة، ووضعت على
كمال اليسر والسهولة. ويشهد بذلك أيضا ملاحظة الحال في موضوعات الأحكام
فإنه اكتفى الشارع في إثباتها بطرق مخصوصة من غير التزام بتحصيل العلم بها
بالخصوص لما فيه من الحرج والمشقة في كثير من الصور. فإذا كان الحال في
الموضوعات على الوجه المذكور مع أن تحصيل العلم بها أسهل فذلك بالنسبة إلى
الأحكام أولى، وأيضا من الواضح كون المقصود من الفقه هو العمل، وتحصيل
العلم به إنما هو من جهة العلم بصحة العمل وأدائه مطابقا للواقع.
ومن البين أن صحة العمل كما يتوقف على العلم بالحكم كذا يتوقف على العلم
بالموضوع، فالاقتصار على خصوص العلم بالنسبة إلى الحكم لا يثمر العلم بصحة
العمل بالنظر إلى الواقع مع الاكتفاء بغيره في تحصيل الموضوع، وليس المتحصل
للمكلف حينئذ بالنسبة إلى العمل إلا العلم بمطابقة العمل لظاهر الشريعة والقطع
بالخروج عن العهدة في حكم الشارع، فينبغي أن يكون ذلك هو المناط بالنسبة
إلى العلمين.
فتحصل مما قررنا كون العلم الذي هو مناط التكليف أولا هو العلم بالأحكام
من الوجه المقرر شرعا لمعرفتها والوصول إليها، والواجب بالنسبة إلى العمل هو
327

أداؤه على وجه يقطع معه بتفريغ الذمة في الحكم الشرعي، سواء حصل العلم
بأدائها على طبق الواقع أو على طبق الطريق المقرر من الشرع وإن لم يعلم ولم
يظن بمطابقتها لمتن الواقع.
وبعبارة أخرى لا بد من المعرفة بالتكليف وأداء المكلف به على وجه اليقين
أو على وجه منته إلى اليقين من غير فرق بين الوجهين ولا ترتب بينهما.
نعم لو لم يظهر طريق مقرر من الشارع لمعرفتها تعين الأخذ بالعلم بالواقع مع
إمكانه، إذ هو طريق إلى الواقع بحكم العقل من غير توقف لإيصاله إلى الواقع على
بيان الشرع، بخلاف غيره من الطرق المقررة.
وظهر أيضا مما بينا تقرير الشارع طريقا إلى الواقع سوى العلم في معرفة
الأحكام ولو مع انفتاح سبيل العلم، وهي الأدلة الشرعية مما لا يفيد العلم بالواقع
حسبما يجئ تفصيل الكلام فيها في محلها إن شاء الله.
- خامسها -
في بيان أن الحجة في معرفة الأحكام الشرعية في زمن الغيبة وانقطاع اليد
من الرجوع إلى أرباب العصمة وانسداد باب العلم بالأحكام الواقعية هل هي ظن
المجتهد مطلقا من أي طريق حصل إلا ما قام الدليل على عدم جواز الأخذ به
بخصوصه من غير فرق بين الطرق المفيدة للظن، أو أن هناك طرق مخصوصة هي
الحجة دون غيرها فيجب على المجتهد الأخذ بها دون ما عداها من الظنون
الحاصلة من الطرق التي لم يقم على جواز الأخذ بها بخصوصها حجة؟
وهذه المسألة وإن لم تكن معنونة في كتب الأصول ولا تعرض لبيانها مستقلة
أحد من علماء المعقول والمنقول، إلا أنه لا بد من بنائهم فيها على أحد الوجهين
واختيارهم لأحد المسلكين ويمكن استعلام مذهبهم من الرجوع إلى طريقتهم
وكيفية استنباطهم وملاحظة احتجاجاتهم كما سنشير إليه إن شاء الله وكان كلهم أو
جلهم كانوا قاطعين بأحد الوجهين المذكورين حيث لم يعنونوا لذلك بحثا ولا
ذكروا فيه خلافا ولا فصلوا فيه قولا مع ما يترتب عليه من الثمرة العظيمة والفائدة
328

المهمة في استنباط الأحكام الفرعية، ولما كانت تلك المسألة من أمهات المسائل
الأصولية، بل كان عليها أساس استنباط الأحكام الشرعية لم يكن بد من تفصيل
الكلام فيها، وإشباع القول في وجوهها، وبيان أدلتها، وتميز صحيح المذهب من
المزيف منها.
فنقول: إن الذي يستفاد من كلام المعظم هو البناء على الوجه الثاني، بل لا
يبعد دعوى اتفاقهم عليه حيث إنه جرت طريقتهم على إثبات حجية كل من
الظنون الخاصة بأدلة مخصوصة ذكروها في الباب المعد له ولو بنوا على حجية
مطلق الظن لأثبتوا ذلك وقرروه واعتنوا ببيانه.
ثم بنوا عليها تلك المسائل من غير أن يحتاجوا في إثبات حجية كل منها إلى
تجشم ذكر الأدلة، بل كان المتوقف على الدليل بعد تأصيل ذلك الأصل الأصيل
هو بيان عدم الحجية في ما لم يقولوا بحجيته من الظنون، مع أن الأمر بالعكس،
فإنهم في بيان الحجج يفتقرون إلى الاستناد إلى الأدلة لا في بيان عدم الحجية ولم
يعرف منهم الاستناد في الحكم بحجية تلك الظنون إلى القاعدة المذكورة، ولو
قالوا بها لكان ذلك رأس الأدلة المذكورة في كلامهم وأصلها المعول عليه عندهم.
نعم ربما يوجد الاستناد إليه في كلام آحاد منهم في طي الأدلة على سبيل
الندرة كما في النهاية في بيان حجية أخبار الآحاد، وذلك مما لا يثبت به المذهب
فإن طريقته (قدس سره) ضم المؤيدات إلى الأدلة والاستناد في كتبه إلى وجوه موهونة لا
يقول بحجيتها أحد من الفرقة، وإنما يأتي بها تأييدا للمرام أو من جهة إيراد الحجة
على المخالفين ممن يقول بحجيته في مثل ذلك.
ومن هنا توهم بعض القاصرين ذهابه إلى حجية مثل تلك الوجوه ففتح باب
الطعن عليه وعلى نظائره بأنهم يعملون بقياسات عامية واستحسانات عقلية،
وليس الأمر كما توهم، بل ما يوجد من أمثال ذلك في كلامهم مبني على أحد
الوجهين المذكورين كما لا يخفى على من مارس كلماتهم، فإسناد القول المذكور
إلى العلامة (رحمه الله) لما ذكر كما يستفاد من بعضهم ليس على ما ينبغي، وكذا إسناده إلى
329

صاحب المعالم نظرا إلى ذكر ذلك في طي الأدلة على حجية خبر الواحد وعدم
تعرضه للمناقشة فيه، مع أن كلامه في دفع حجية الشهرة وغيرها صريح في
خلافه، وكذا الحال في ملاحظة طريقته في العمل بالأخبار وكان مقصوده
بالاحتجاج المذكور بيان حجية الظن في الجملة، وأن الظن الحاصل من خبر
الواحد أولى بالحجية من غيره فيتعين كونه حجة.
وكيف كان، فالقول بعدم حجية الظن إلا ما قام الدليل على حجيته مصرح به
في كلام جماعة من القدماء والمتأخرين، فمن القدماء السيدان والشيخ ذكروا ذلك
عند بيان المنع من العمل بالقياس حيث استندوا بعدم ورود العمل به في الشريعة
فلا يكون حجة، إذ الظن إنما يكون حجة مع قيام الدليل عليه. وقد يعزى القول
بذلك إلى الحلي والمحقق، ومن المتأخرين المحقق الأردبيلي وتلميذه السيد
وصاحب الذخيرة فيما حكي عنهم، وبه نص صاحب الوافية حيث قال فيه بعد
ذكر احتجاج القائل بحجية الاستصحاب بأنه مفيد للظن للبقاء.
وفيه: أنه بناء على حجية مطلق الظن وهو عندنا غير ثابت واختار ذلك
جماعة ممن عاصرناه من مشايخنا منهم الاستاذان الأفضلان تغمدهما الله
برحمته، والمختار عند جماعة آخرين من أفاضل العصر هو حجية الظن المطلق
إلا ما خرج بالدليل منهم المحقق البهبهاني (قدس سره) وتلميذاه السيدان الأفضلان
صاحب الرياض وشارح الوافية وتلميذه الفاضل صاحب القوانين (قدس سرهم)، ولا نعرف
القول به صريحا لأحد ممن تقدمهم.
نعم ربما يستظهر ذلك من الشهيد في الذكرى بل العلامة وصاحب المعالم
حسب ما أشرنا إليه، وقد عرفت ما فيه والظاهر أن طريقة الأصحاب مستقيمة
على الأول، ولذا لا ترى منهم الاتكال على الشهرات ونحوها مما يقول به القائل
بحجية مطلق الظن، بل جماعة منهم يصرحون بخلافه حتى أن الشهيد (رحمه الله) مع
استقرابه حجية الشهرة لا يعهد منه الاستناد إليها في المسائل مع كثرتها وحصولها
في كثير من الخلافيات. نعم ربما يوجد نادرا في بعض كلماته الاستناد إليها
330

ولا يعرف منه اتكاله عليه، بل الظاهر أنه من قبيل ضم المؤيدات إلى الأدلة.
هذا وربما يوجد في كلام بعضهم ممن لا تحصيل له مخالفة القولين والبناء
على فساد الوجهين بدعوى عدم حجية الظن مطلقا في استنباط الأحكام وعدم
انسداد سبيل العلم بالتكليف ما دام التكليف باقيا وأن الأخبار المعروفة الواردة
عن أهل بيت العصمة سلام الله عليهم مما تداولته الشيعة قطعي الصدور والدلالة،
وأنها كافية في بيان ما يرد علينا من الفروع المتجددة مفيدة للقطع بحكم الواقعة
وهو من الأوهام الفاسدة التي لا يخفى وهنها على من له أدنى مسكة ولا علينا في
المقام الإشارة إلى بيان وهنها وإبداء وجوه فسادها، إذ ليس ذلك من الأمور
المهمة ولا مما يحتاج إلى إعمال نظر وروية ولعلنا نشير إليه في مباحث الاجتهاد
والتقليد إن شاء الله وإنما المعقود عليه البحث في المقام هو الكلام في تميز الحق
من القولين الأولين وبيان أدلة الجانبين.
ثم إنه يقوم في كل من القولين المذكورين وجهان: فيحتمل أن يراد من حجية
الظن مطلقا كون الحجة بعد انسداد سبيل العلم بالواقع هو الظن بالواقع فيكون
حجية الأدلة عند القائل به منوطة بالظن بالواقع، بل لا تكون الحجة عنده إذن إلا
نفس الظن، فمع عدم حصول الظن من الدليل لمانع يمنع منه لا تنهض حجة وإن لم
يكن المانع المفروض حجة (1)، إذ منعه من حصول الظن إنما يتبع الوجدان دون
الحجية، وقضية عدم الحجية عدم الاتكال على الظن الحاصل المانع ولا ربط له
بالمنع من حصول الظن منه. ويحتمل أن يراد به حجية ما يفيد الظن في نفسه سواء
حصل به الظن بالحكم فعلا لانتفاء ما يمنع من حصوله (2) أو لم يحصل لحصول
مانع منه، والأول هو الذي يقتضيه ظاهر بعض كلماتهم وتقتضيه أدلتهم.
وأما الثاني فلا يفي به ما قرروه من الأدلة كما ستعرف إن شاء الله.
ويمكن أن يقال بحجية الظن مطلقا سواء تعلق بالواقع أو بالطريق الموصل

(1) في " ق " بإضافة: كالظن الحاصل من القياس في مقابل خبر الواحد.
(2) في " ق " بإضافة: وذلك كالخبر الواحد المعارض بالقياس.
331

في حكم الشارع، فلو قام دليل ظني على حجية أمر خاص - كظاهر الكتاب - قام
حجة ولو لم يحصل منه الظن بالواقع لمانع منه، وكان الأظهر بناء على القول
المذكور هو ذلك، فإنه إذا قام الظن مقام العلم قضى بحجية الظن المتعلق بالطريق
أيضا، فإنه أيضا من جملة الأحكام الشرعية.
إلا أن يقال: إن المقصود حجية الظن في مسائل الفروع بعد انسداد سبيل العلم
بها دون ما يتعلق بالأصول وبيان الطريق إلى استنباط الأحكام من مسائل
الأصول، فلا يندرج تحت الأصل المذكور، وفيه تأمل.
ويحتمل أيضا على القول الثاني أن يقال بحجية الظنون الخاصة ليكون الحجة
نفس الظن الحاصل من الأدلة، فيناط حجية الأدلة عنده بالوصف المذكور، إلا أنه
لا يوافقه بعض كلماتهم، وأن يقال بحجية طرق خاصة وظنيات مخصوصة أفادت
الظن بالواقع أو لم تفده.
وهذا هو التحقيق في المقام، إذ ليست حجية الأدلة الشرعية منوطة بحصول
الظن منها بالواقع وإنما هي طرق مقررة لإفادة الواقع على نحو الطرق المقررة
للموضوعات في إجراء الأحكام المقررة لها والنسبة بين القولين على الوجهين
الأولين عموم مطلق كما هو الحال في الوجه الثاني منهما في وجه. وكذا الحال في
الاحتمال الثالث من الأول مع الثاني وكذا من الثاني لو قيل بأحد الأخيرين من
الأول والأول من الثاني، وفي عكسه يكون بينهما عموما من وجه.
هذا وقد يستشكل في القول الأول (1) بأنه إذا كانت قضية حكم العقل بعد
انسداد سبيل العلم حجية مطلق الظن وقيامه مقام العلم لزم القول به على الإطلاق،
فلا وجه لتخصيص بعض الظنون وإخراجه عن العموم المذكور لقيام الدليل عليه
لما تقرر من عدم ورود التخصيص على القواعد العقلية وإنما وروده على
العمومات اللفظية والقواعد الشرعية ونحوها، فكما أن لا تخصيص في الحكم
بحجية العلم فكذا ينبغي أن يكون الحال في الظن القائم مقامه بعد انسداد سبيله.

(1) في " ف ": القول، وفي " ق ": القول الثاني.
332

وأنت خبير بأن الإشكال المذكور مشترك الورود بين القولين فإن القائل
بحجية الظنون الخاصة يقول بأصالة عدم حجية الظن وأنه لا يقوم شئ من الظنون
حجة في حكم العقل إلا ما قام الدليل على حجيته، ففي ذلك أيضا التزام
بالتخصيص في القاعدة العقلية.
وقد عرفت الجواب عنه في ما مر، وأنه ليس ذلك من التخصيص في شئ
وإنما هو اختصاص في حكم العقل، فإن مفاد حكم العقل هو عدم حجية كل ظن
لم يقم دليل على حجيته، فالمحكوم عليه بحكم العقل هو الظن الخالي عن الدليل
لا مطلقا، وكذا الحال في القول الثاني، فإن المحكوم عليه بالحجية هو الظن الذي
لم يقم دليل على عدم حجيته، والظن الذي قام الدليل على عدم حجيته خارج عن
الموضوع لا أنه يخرج عنه بعد حكم العقل بحجية الظن مطلقا حتى يكون
تخصيصا في حكم العقل.
نعم هو تخصيص بالنسبة إلى ظاهر التعبير حيث يعبر بلفظ عام ثم يخرج عنه
ذلك كما هو الحال في التخصيصات الواردة على العمومات النقلية، إذ ليس ذلك
إلا بحسب ظاهر التعبير دون الواقع إلا ما كان من التخصيص البدائي فإنه
تخصيص بحسب الواقع، ولا يجري في حكم العقل ولا في شئ من التخصيصات
الواردة في الشرع.
فظهر بما ذكرنا أن ما ذكر من امتناع التخصيص في الأحكام العقلية إنما يراد
به التخصيص الواقعي، وهو أيضا مستحيل في العمومات الشرعية، والتخصيص
في التعبير جائز في الصورتين، إذ لا مانع من إبداء الحكم على وجه العموم ثم
إيراد التخصيص عليه حتى يكون الباقي هو المحكوم عليه بحكم العقل، كما في
المقام.
فظهر بذلك أنه لا فرق بحسب الحقيقة بين ورود التخصيص على الحكم
العقلي والشرعي غير أنه لما كان المدار في الحكم الشرعي على ظواهر الألفاظ
كان علينا الأخذ بالظاهر حتى يتبين المخصص بخلاف حكم العقل، فإنه إن قضى
333

بالعموم لم يرد عليه التخصيص، وإن لم يورد فلا تخصيص، وإنما يلحظ
التخصيص بحسب تعبيرنا عن حكم العقل فهذا هو الفرق بينهما حيث حكموا بعدم
جواز التخصيص في حكم العقل دون غيره ويستفاد من كلام بعض الأفاضل في
الجواب عن الإيراد المذكور وجوه اخر موهونة:
أحدها: أنا لا نلتزم بالتخصيص، بل نقول بعد انسداد باب العلم بحجية جميع
الظنون، وما دل على عدم حجية القياس ونحوه فإنما هو قبل انسداد باب العلم،
وأما بعده فلا فرق بين الظن الحاصل منه ومن غيره.
وأنت خبير بما فيه، إذ المنع من العمل بالقياس في عصرنا وما شابهه من
الإجماعيات عند الشيعة بل لا يبعد دعوى الضرورة عليه فالتزام العمل به حينئذ
مما لا يقول به أحد، والظاهر أن المجيب لا يعمل به أيضا.
ثانيها: المنع من حصول الظن من القياس ونحوه وذلك علة منع الشارع من
الأخذ به، وهو كما ترى، إذ حصول الظن من القياس ونحوه من الأمور الوجدانية
التي لا مجال لإنكارها.
ثالثها: أن مورد القياس ونحوه لم يثبت انسداد باب العلم بالنسبة إلى مقتضاه،
فإنا نعلم بالضرورة من المذهب حرمة العمل بمؤدى القياس، فيعلم أن حكم الله
غيره وإن لم نعلمه أي شئ هو، ففي تعيينه نرجع إلى سائر الأدلة وإن كان مؤداها
عين مؤداه.
وملخص هذا الجواب خروج مورد القياس ونحوه عن محل الكلام، فإن
البحث في ما انسد فيه باب العلم والمفروض عدم انسداد باب العلم بالنسبة إليه
فلا تخصيص. ويمكن أن يرجع ذلك أيضا إلى عدم إفادته الظن نظرا إلى قيام
الدليل القاطع على عدم حجيته فكيف يفيد الظن بمقتضاه مع قيام القاطع على
خلاف ما يقتضيه؟ وفيه: أن الذي لم ينسد فيه باب العلم هو حرمة العمل بالقياس
لا عدم موافقة مؤداه للواقع، فالأخذ به أخذ بغير العلم لا أخذ بخلاف الواقع،
فتفريعه العلم بكون حكم الله غير مؤدى القياس على العلم الحاصل من الضرورة
على حرمة العمل به إن أراد به حصول العلم من حرمة العمل بالقياس أن حكم الله
334

بالنسبة إلينا عدم الاعتماد على القياس والاتكال عليه في استنباط الحكم فلا
يجوز لنا الأخذ بمؤداه من حيث إنه مؤداه وإن جاز الأخذ به من حيث كونه مؤدى
دليل آخر، فهو كذلك، إلا أنه لا ربط له بالجواب عن الإيراد المذكور، فإن ذلك
عين مفاد عدم حجية القياس.
وحاصل الإيراد: أنه إذا قضى العقل بعد انسداد سبيل العلم بالواقع بقيام الظن
مقامه لم يتجه عدم الاعتماد على الظن الحاصل من القياس ونحوه. ولا وجه لقيام
الدليل على عدم الاعتداد به بعد قطع العقل بما ذكر، وهو على حاله لا ربط لما ذكر
بالجواب عنه وإن أراد أن العلم بحرمة العمل بالقياس قاضية بكون الحكم في
الواقع غير ما دل عليه القياس فهو واضح الفساد. واعتبار كون الحكم مستفادا من
القياس لا يقضي بتعدد الحكم حتى يقال: إن الحكم الواقعي من حيث كونه
مستفادا من القياس غيره من حيث كونه مستفادا من دليل شرعي حتى يعلم انتفاء
الأول بعد العلم بحرمة العمل بالقياس، وهو ظاهر.
ثم إنه قد يورد على القول المذكور أيضا بأنه إذا دل الدليل على حجية الظن
من حيث هو وقيامه مقام العلم فلا وجه لورود التخصيص عليه، إذ المفروض كون
المناط في الحجية بعد انسداد سبيل العلم هو الرجحان الحاصل فيه، فلا وجه
لإخراج بعض الظنون عنه والحكم بعدم حجيته مع حصول المناط المذكور في
الجميع. وقد تخلص عنه الفاضل المذكور بالوجوه المتقدمة، وقد عرفت ضعفها.
وأجاب أيضا بأنه مستثنى من الأدلة المفيدة للظن لا أن الظن الحاصل منه
مستثنى من مطلق الظن وقال: إن تكليف ما لا يطاق وانسداد باب العلم من جهة
الأدلة المقتضية للعلم أو الظن المعلوم الحجية مع بقاء التكليف يوجب جواز العمل
بما يفيد الظن في نفسه، يعني مع قطع النظر عما يفيد ظنا أقوى.
وبالجملة: ما يدل على مراد الشارع ولو ظنا ولكن لا من حيث إنه يفيد الظن
وهذا المعنى قابل للاستثناء فيقال: إنه يجوز العمل بكل ما يفيد الظن بنفسه إلا
القياس، وبعد استثناء القياس إذا تعارض باقي الأدلة المفيدة للظن فحينئذ يعتبر
الظن النفس الأمري ويلاحظ القوة والضعف.
335

وأنت خبير بما فيه، فإن ما ذكروه من الأدلة إنما يفيد حجية نفس الظن دون
الأمور التي من شأنها إفادة الظن وإن لم يحصل منها ظن، ولو سلم إفادة تلك
الأدلة حجية تلك الأمور فلا ريب أن حجيتها إذا منوطة بالظن، فلا تكون حجة إلا
مع المناط المذكور، ومتى وجد ذلك المناط حصلت الحجية، ولا ترتبط الحجية
على مقتضى تلك الأدلة بشئ من خصوص تلك الموارد، فلا وجه للتخلف،
وحينئذ فأي فرق بين إيراد التخصيص على الظن أو الشئ المفيد له؟
نعم إن دل الدليل على حجية ما من شأنه إفادة الظن وإن لم يحصل منه الظن
كما قد يستفاد من ملاحظة طرق الاستدلال اتجه الفرق، إلا أنه لا يساعده الأدلة
التي قررها لحجية مطلق الظن.
ثم لا يذهب عليك أنه لا حاجة في دفع الإيراد المذكور إلى شئ من الوجوه
المذكورة، بل هو بين الاندفاع بعد ملاحظة ما سنقرره إن شاء الله في تقرير دليلهم،
فإن قضية انسداد باب العلم وبقاء التكليف هو حجية الظن في الجملة على سبيل
القضية المهملة، وإنما تصير كلية بملاحظة انتفاء المرجح بين الظنون، وقيام الدليل
القاطع على عدم جواز الرجوع إلى بعض الظنون يكفي مرجحا في المقام، ومعه
لا اقتضاء في الدليل المذكور لحجيته أصلا، فإنه إنما يقضي بحجية الظن الذي
لم يقم دليل على عدم حجيته حسب ما أشرنا إليه.
نعم يرد ذلك على غير الدليل المذكور من بعض أدلتهم، وفيه دلالة على فساد
ذلك الدليل حسب ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله.
هذا ولنقدم أولا حجج المختار حسب ما قررت في المقام ونذكر ما فيه من
النقض والإبرام، ثم نبين ما تيسر لنا من وجوه الاحتجاج على ذلك المرام، فنقول:
قد احتجوا على ذلك بوجوه:
- الأول -
الآيات والأخبار المأثورة الدالة على النهي عن العمل بالظنون، أو المشتملة
على ذم الأخذ بها، الدالة على قبح ذلك، خرج منها ما خرج بالدليل، وبقي غيره
تحت الأصل المذكور.
336

أما الآيات فمنها: قوله تعالى: * (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من
الحق شيئا) * (1) ففي الفقرة الأولى منها دلالة على ذم الأخذ بالظن، وفي الثانية
حكم بعدم إيصاله إلى الواقع وعدم الاكتفاء به فتفيد المنع من الأخذ به وقبح
الاتكال عليه، بل فيها إشارة إلى أن ذلك من الأمور الواضحة المقررة في العقول
حيث ذكره سبحانه في مقام الاحتجاج على الكفار المنكرين للشريعة.
ومنها: قوله تعالى: * (وما لهم به من علم إن يتبعون الا الظن) * (2) وفيها دلالة
على ذم اتباع الظن وقبحه عند الشرع، بل العقل.
ونحوه قوله تعالى: * (إن يتبعون الا الظن وما تهوى الأنفس) * (3).
وقوله تعالى: * (ما لهم به من علم الا اتباع الظن) * (4).
ومنها: قوله تعالى في عداد ما حرم الله سبحانه: * (وأن تقولوا على الله
ما لا تعلمون) * (5) فقد دل على المنع من القول في الشريعة بغير العلم سواء كان
ظانا أو شاكا أو غيرهما.
ومنها: قوله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): * (ولا تقف ما ليس لك به علم) * (6) وهو كسابقه
دال على المنع من الأخذ بغير العلم سواء بناء على وجوب التأسي أو لأصالة
الاشتراك في التكاليف، لانحصار الخواص في أمور مخصوصة لم يذكر ذلك في
جملتها، أو لكون الخطاب له خطابا لامته حسب ما ذكر في محله، إلى غير ذلك
من الآيات الدالة على ذلك.
وأما الأخبار فهي مستفيضة في ذلك جدا، بل ربما يدعى تواترها كالأخبار
الدالة على وجوب تعلم الأحكام فإنها تفيد تعين تحصيل العلم بها، وما دل من
الروايات (7) على عدم جواز الأخذ بغير العلم والعمل بغير العلم والإفتاء بدون العلم،

(1) يونس: 36.
(2) النجم: 28.
(3) النجم: 23.
(4) النساء: 157.
(5) الأعراف: 33.
(6) الإسراء: 36.
(7) وسائل الشيعة: ج 18 ص 20 ب 6 من أبواب صفات القاضي.
337

وخصوص ما رواه المفضل قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " من شك أو ظن
فأقام على أحدهما فقد حبط عمله، إن حجة الله هي الحجة الواضحة (1)، وخبر
تحف العقول عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إذا علمت فاقض، وإذا ظننت فلا تقض " (2).
ورواية مسعدة بن صدقة عن الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إياكم والظن فإن الظن أكذب الكذب " (3)، وخبر سليم بن قيس
عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: " ومن عمي نسي الذكر واتبع الظن وبارز خالقه
- إلى أن قال: - ومن نجا من ذلك فمن فضل اليقين " (4) إلى غير ذلك من الأخبار
مما يقف عليه المتتبع في الآثار.
وقد أورد على الآيات المذكورة بوجوه:
منها: أن معظم تلك الآيات واردة في أصول الدين، والمنع من العمل بالظن
فيها من الأمور المسلمة عند المعظم، ولا دلالة فيها على المنع من العمل بالظن في
الفروع كما هو المدعى.
وفيه: أن إطلاقها يعم الأصول والفروع فلا وجه للتخصيص، وكون المقصود
هنا خصوص الأصول غير ظاهر، وورودها في شأن الكفار الآخذين بظنونهم في
أصول الدين لا يقضي باختصاصها بالأصول بناء على ما تقرر عندنا من كونهم
مكلفين بالفروع، بل قد ورد عدة من الآيات في خصوص الفروع مما يحكم به
الكفار من الأحكام الباطلة. ومع تسليمه فالعبرة بعموم اللفظ لا خصوص المورد،
والقول باختصاص القاعدة المذكورة بالعمومات اللغوية دون الإطلاقات - ومنها
المفرد المحلى فإن الدعوى المذكورة محل منع بالنسبة إليها لضعف دلالتها على
العموم فتنصرف إلى المورد - ضعيف على إطلاقه.

(1) وسائل الشيعة: ج 18 ص 25 ب 6 من أبواب صفات القاضي ح 8.
(2) تحف العقول: ص 50.
(3) وسائل الشيعة: ج 18 ص 38 ب 6 من أبواب صفات القاضي ح 42.
(4) وسائل الشيعة: ج 18 ص 25 ب 6 من أبواب صفات القاضي ح 9.
338

نعم إن كان المورد بحيث يصرف اللام إلى العهد صح ما ذكر، وإلا فلا وجه
لتقييد الإطلاق بمجرد كون المورد خاصا. والظاهر أن القاعدة المذكورة في
كلمات الأصوليين يعم العموم الوضعي وغيره، ولذا مثلوا له في المشهور
بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " خلق الله الماء طهورا لا ينجسه... إلى آخره " بعد وقوع السؤال عن
بئر بضاعة. ولم نجد هناك من ناقش في ذلك بما ذكر، مضافا إلى عدة من تلك
الآيات قد وردت في مقام الاحتجاج الظاهر في عموم الحكم.
واستظهار كون اللام في الآية الأولى للعهد نظرا إلى تقدم ذكر الظن، أو لا
على (1) وجه التنكير مرادا به الظن المتعلق بالأصول وقد تقرر عندهم كون النكرة
المعادة (2) معرفة عين الأول فيتعين اللام فيها للعهد موهون جدا، وسياق الآية
كالصريح في خلافه. وورودها في مقام الاحتجاج ظاهر جدا في إرادة العموم كما
يعرف ذلك من ملاحظة نظائرها كما إذا قلت: فلان قتل مؤمنا متعمدا، وإن من قتل
المؤمن متعمدا كان مخلدا في العذاب، وفلان أعان ظالما، ومن أعان الظالم سلطه
الله عليه، إلى غير ذلك، وهو ظاهر.
والحاصل: أن الظاهر عرفا من الآية الشريفة هو إرادة الاستغراق أو الجنس
الراجع إليه دون العهد، والاحتجاج المذكور مبني على الظاهر، وقيام الاحتمال
المرجوح لا يهدم الاستدلال بالظواهر.
ومنها: أن مفاد هذه الآيات لا يزيد على الظن، فلا يجوز الاستناد إليها في
المقام:
أما أولا: فلأن هذه المسألة من عمدة مسائل الأصول فلا يصح الاتكال فيها
على مجرد الظن.
وأما ثانيا: فلأن قضية ظاهرها عدم حجية ظواهرها، فلو صح العمل بتلك
الظواهر لم يصح العمل بها، وما يستلزم وجوده عدمه فهو باطل.
ويدفعها: أن الظن الحاصل من ظاهر الكتاب من الظنون التي دل القاطع

(1) في " ف ": أو على.
(2) في " ف ": المفادة.
339

على حجيتها، فلا مانع من الاتكال عليها. والقول بعدم جواز الاستناد إلى الظن
في المسائل الأصولية ولو من الظنون المفروضة من الأغلاط كما مر الكلام فيه
مرارا، وقضاء ظاهرها بعدم حجية ظاهرها إنما يمنع من الاتكال عليها لو لم يقم
دليل على استثناء ظواهرها من الظاهر المذكور. وأما بعد قيام الدليل عليه كما هو
مبنى الاحتجاج المذكور فلا مانع منه أصلا.
ومع الغض عن ذلك نقول: إن مفاد الظنون المذكورة عدم حجية الظن، فلو كان
الظن حجة لم يكن حجة فليس المقصود من الاحتجاج بتلك الظواهر الاتكال
على الظن الحاصل منها في عدم حجية الظن حتى يرد أنه إذا لم يصح الاتكال
على الظن لم يصح الاتكال على الظن في ذلك أيضا، بل المقصود أنه لما قضى
الدليل الظني بعدم حجية الظن قضى ثبوت الحجية بعدمها، وما قضى وجوده بعدمه
فهو باطل.
وقد يقال حينئذ: إن المدعى حجية الظن في الفروع، وما دل على عدم حجية
الظن فإنما هو في مسألة أصولية فلا يقضي القول بحجيتها عدمها.
وفيه: أنه يرجع الأمر في ذلك إلى الفروع، إذ مآله إلى الظن بعدم ثبوت الحكم
الفرعي في شأننا (1) من جهة الظن، فلو كان الظن المتعلق بالفروع حجة لم يكن
الظن بها حجة، فتأمل.
ومنها: أن الظن المذكور في الآيات الشريفة لا يراد به العلم الراجح، بل هو
مرادف للتردد والشك والتخمين، وضعفه ظاهر، إذ لا داعي لحمل الظن على ذلك
مع بعده عن ظاهر اللفظ في العرف واللغة. والتزام التخصيص فيه لو حمل على
معناه الظاهر نظرا إلى حجية ظنون خاصة قطعا بخلاف ما لو حمل على ذلك
لا يقضي بالحمل عليه، لوضوح ترجيح التخصيص، مضافا إلى لزوم التخصيص
مع الحمل عليه أيضا، لجواز العمل في بعض صور الشك في الواقع كما إذا لم يفد
البينة ظنا بالواقع، أو لم يحصل من الاستصحاب ظن به.

(1) في " ف ": شأنها.
340

ومنها: أن مفاد هذه الآيات عدم حجية الظن من حيث هو، وأما إذا قام الدليل
القاطع على حجيته فليس الاتكال على الظن، بل على القاطع الذي دل على
الأخذ بمقتضاه، فمفاد هذه الآيات هو ما دل عليه العقل من عدم جواز الاتكال
على مجرد الظن على حسب ما بيناه سابقا، وحينئذ فلا ترتبط بالمدعى فإن من
يقول بحجية مطلق الظن إنما يقول به من جهة قيام الدليل عليه كذلك، فمفاد هذه
الآيات مما اتفق عليه القائلون بالظنون الخاصة والقائل بحجية مطلق الظن، إلا أن
القائل بحجية مطلق الظن إنما يقول به بعد إقامة الدليل عليه كذلك كالقائل بحجية
الظنون الخاصة، فلا دلالة في هذه الآيات على إبطال شئ من الأمرين.
ومنها: أن هذه الآيات عمومات وما دل على حجية ظن المجتهد ظن خاص
قد قام الدليل القاطع على حجيته، فلا بد من تخصيص تلك العمومات.
وفي هذين الوجهين ما سيأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى.
وهناك إيرادات اخر على خصوص بعض تلك الآيات:
منها: ما أورد على الآية الأولى من أن المراد بالحق الثابت المعلوم، فالمقصود
أن المعلوم الثابت لا يترك بالمظنون، إذ الظن لا يغني عنه حتى يترك لأجله، وهو
حينئذ مما لا كلام فيه ولا يفيد عدم جواز التمسك بالظن مطلقا.
وفيه: أنه خلاف ما يستفاد من ظاهر الآية فإن الظاهر أن المراد بالحق هو
الأمر الثابت في الواقع والمراد بعدم إغناء الظن عنه عدم كونه طريقا موصلا إليه
كافيا في الحكم به.
وقد فسره بذلك الرازي في تفسيره أو أنه يراد به العلم أي أن الظن لا يغني
من العلم شيئا ولا يقوم مقامه، وقد فسره الطبرسي به في المجمع، وعلى كل من
الوجهين يفيد المقصود.
ومنها: ما قد يورد على الآية الثانية من أن الذم هناك بمقتضى ظاهر الآية
على حصرهم الأمر في اتباع الظن. فغاية الأمر أن تدل الآية على لزوم تحصيل
العلم في بعض المسائل، وعدم جواز الاقتصار على الظن في الجميع، ولا كلام
لأحد فيه.
341

وفيه: أن ظاهر سياق الآية هو الذم على اتباع الظن مطلقا، وحملها على إرادة
الحصر الحقيقي لا يخلو عن بعد، بل قد يقطع بفساده. وعلى فرض حملها عليه
فليس الذم واردا على خصوص الانحصار فيه، بل ظاهر السياق كون أصل الذم
على اتباع الظن، وإن كان حصر الأمر فيه أشنع كما تقول في مقام الذم لا يشتغل
فلان إلا بالعصيان، فإنه يفيد شناعة أصل العصيان، كما لا يخفى.
ومنها: ما قد يورد على الآية الثالثة من أنه لا عموم فيها حتى يشمل جميع
الظنون، غاية الأمر دلالتها على عدم حجية بعض الظنون أو عدم حجية الظن
مطلقا في بعض الأشياء، ولا كلام فيه، وأيضا أقصى ما يستفاد من الآية عدم جواز
إسناد الحكم إليه تعالى على سبيل الجزم مع حصول الظن به، وأما إذا أبرز الحكم
على سبيل الظن كما هو الواقع فلا دلالة فيها على المنع، وكذا لا دلالة فيها على
المنع من العمل به.
ويدفع الأول أن في الإطلاق كفاية في المقام سيما مع إشعاره بالعلية، بل
ودلالته فيها.
والثاني أنه لو جاز الإفتاء على سبيل الظن جاز الحكم على وجه البت أيضا
من غير تأمل لأحد فيه، فإذا دلت الآية على المنع منه دلت على المنع من الإفتاء
رأسا، ومع المنع من الإفتاء مطلقا لا يجوز العمل به، إذ لا قائل بالفرق.
ومنها: ما يورد على الآية الأخيرة وهو من وجوه:
أحدها: أنها خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا يعم غيره. ومن البين أنه مكلف بالعمل
بالوحي ولا يجوز له الأخذ بالظن، نعم فيها دلالة على بطلان قول من يجوز عليه
الاجتهاد.
وقد يجاب عنها تارة: بأن ما دل على وجوب التأسي قاض بجريان الحكم
بالنسبة إلى أمته أيضا كيف؟ والأصل الاشتراك في التكاليف إلا أن يعلم اختصاصه
به، ولذا حصرت خواصه في أمور معينة. وأخرى: بأنه لا تأمل لأحد في شمول
الحكم المذكور للأمة إما لأن الخطاب إليه خطاب لامته في الحقيقة حسب ما هو
342

المتداول في اختصاص الخطاب بالرئيس مع كون المطلوب حقيقة فعل الأتباع،
أو للاتفاق عليه نظرا إلى انحصار خواصه (صلى الله عليه وآله وسلم) في أمور لم يذكر ذلك في
جملتها.
ويمكن دفع الوجهين بأنا نسلم الاشتراك، لكن مع الاتفاق في ما يحتمل
إناطة الحكم به، وليس الحال كذلك في المقام، لوضوح الاختلاف حيث إنه
متمكن من العلم، وليس ذلك حاصلا لنا، إذ المفروض انسداد سبيل العلم بالنسبة
إلينا، فأقصى الأمر أن يجري ذلك بالنسبة إلى المتمكنين من العلم من أمته،
ولا كلام فيه.
ثانيها: أنه لا عموم في الآية لتفيد المنع من جميع الظنون والنهي عن بعضها
مما لا كلام فيه، وقد فسرها جماعة من المفسرين بأمور مخصوصة فقيل: معناه لا
تقل سمعت ولم تسمع ولا رأيت ولم تر ولا علمت ولم تعلم، وقيل: معناه لا تقل
في قفا غيرك شيئا، وقيل: هو شهادة الزور، وقيل: معناه لا ترم أحدا بما ليس لك به
علم. وعلى كل من هذه التفاسير لا ترتبط بالمدعى.
ثالثها: أنه على فرض كونه للعموم إنما يفيد رفع الإيجاب الكلي دون السلب
الكلي، فهي إنما تدل على النهي عن العموم لا عموم النهي كما هو المدعى.
والجواب عنها: أن الإطلاق هنا كاف في إفادة العموم لرجوع المطلق في
المقام إلى العام، نظرا إلى دليل الحكمة، مضافا إلى وقوعه في سياق النهي الذي هو
بمنزلة النفي في اقتضائه عموم ما يقع في سياقه كما تقول: لا تهن العالم، وعلى كل
من الوجهين فهو يفيد عموم النهي لا النهي عن العموم كما ظن.
وما ذكر من كلام المفسرين مبني على إرادة المثال ومع الغض عنه فلا حجة
فيه مع مخالفته لظاهر الإطلاق.
ومما قررناه يظهر الإيراد على الأخبار المذكورة أيضا، فإنه قد يناقش في
إسنادها ودلالتها بأن أقصى ما تفيده الظن وحجيته أول الكلام، بل نقول: إن
مفادها عدم جواز الاتكال على الظنون، فلو صح مفادها لما جاز الاعتماد عليها.
343

ويمكن الجواب عنها بنحو ما مر. ويرد عليها أيضا أن ما تفيده تلك الروايات
عدم الاتكال على الظن من حيث هو حسب ما ذكر في مفاد الآيات، وهو خارج
عن محل الكلام.
وقد توافقت عن المنع منه الأفهام فلا تدل على المدعى، وأيضا أقصى ما
تفيده عموم المنع عن الأخذ بالظن، وقد خرج ظن المجتهد، للأدلة القاطعة الدالة
على حجيته، فأقصى ذلك تخصيص العام أو تقييد المطلق، لقيام الدليل عليه.
ويمكن دفع الوجهين بأن ذلك لا ينافي ما هو المقصود من الاحتجاج بتلك
الظواهر، حيث إن المقصود من ذلك بيان أن مقتضى الأدلة القائمة من الكتاب
والسنة عدم حجية شئ من الظنون إلى أن يقوم دليل على حجيته، فإن تم الدليل
على حجية خصوص ظن المجتهد مطلقا فلا كلام ولم يزاحمه شئ من تلك
الظواهر، وإلا كان مقتضى الدليل المذكور المنع من الأخذ به كذلك، وهو ظاهر،
وسيأتي إن شاء الله توضيح القول فيه.
- الثاني -
الاجماع، ويقرر بوجوه:
أحدها: الاجماع على عدم حجية الظن وأن الحجة إنما هي العلم وأن على
كل من الأحكام الشرعية دليلا قطعيا يصل إليه الطالب، فلا فرق بينهما في ذلك،
ولا وجه للرجوع إلى الظن في الفروع كما هو الحال في الأصول. يظهر ذلك من
السيد في ما حكي عنه قائلا: " إن الخلاف في فروع الدين يجري مجرى الخلاف
في أصوله. وهذا المخالف في الأمرين على حكم واحد، لأن فروع الدين عندنا
كأصوله في أن على كل واحد منها أدلة قاطعة واضحة لا محالة، وأن التوصل إلى
العلم بكل من الأمرين يعني الأصول والفروع ممكن صحيح، لأن الظن لا مجال له
في شئ من ذلك ولا الاجتهاد المفضي إلى الظن دون العلم، والشيعة الإمامية
مطبقة على أن مخالفها في الفروع كمخالفها في الأصول في الأحكام " انتهى.
والإجماع المذكور وإن قضى ببطلان القول بحجية مطلق الظن إلا أنه مخالف
344

للقول بحجية الظنون الخاصة أيضا، نظرا إلى قضائه بعدم حجية الظن مطلقا - كما
ذهب إليه الأخبارية - فلا يصح التمسك به في المقام، بل لا بد من القطع بفساده،
لقيام الضرورة على حجية الظن في الفروع في الجملة.
وقد يقال: إن ما ذكره السيد (رحمه الله) إنما كان بالنظر إلى زمانه الذي لم ينسد فيه
باب العلم وكان أخذ الأحكام من الأدلة القطعية ممكنا حسب ما ذكره السيد في
مقام آخر أيضا.
ومن البين أنه مع عدم انسداد باب العلم لا داعي إلى القول بحجية الظن
بخلاف هذه الأزمنة وما ضاهاها فلا يرتبط الاجماع المدعى بالمقام، لكنا نقول:
إن الظاهر أن انفتاح السبيل كذلك لم يكن حاصلا في عصره، بل وما تقدم على
عصره أيضا، كيف! ولو كانت الأدلة القطعية قائمة واضحة لما وقع هذه
الاختلافات بين القدماء لبعد تفرع الخلاف كذلك على الأدلة القطعية، النقلية،
وعلى فرض حصوله فإنما يقع على سبيل الندرة، مع أن الخلاف الواقع بين القدماء
لا يقصر عن الخلاف الحاصل بين المتأخرين، ويشهد له أيضا ملاحظة طرق
استدلالهم ووجوه احتجاجهم على المسائل، فإنهم يتمسكون غالبا بوجوه لا تفيد
العلم بالواقع قطعا. فالدعوى المذكورة من السيد (رحمه الله) بعيدة جدا، بل يكاد يقطع
بخلافه. ويومئ إليه ما ذكره من قطع الإمامية بأن مخالفها في الفروع كمخالفها في
الأصول، فإنه لا يعنى منه أن كلا منهم يقطع بأن مخالفه في المسألة الفرعية ولو كان
من الإمامية كمخالفه في الأصول، للقطع بخلافه، كيف! والاختلافات الواقعة بينهم
معروفة واضحة، ولم يقطع أحد منهم بضلالة مخالفه ولا قطع موادته، بل ولم
يتحقق منه جزمه لذلك ولا الظن فيه (1) كما هو الحال في مخالفة الأصول، وهو من
الأمور الواضحة، بل الضرورية بعد ملاحظة طريقتهم، والظاهر أن مقصوده بذلك
قطعهم بكون مخالفهم في الفروع من سائر المذاهب الآخذين فروعهم من غير
الطرق المقررة في الشريعة عند الشيعة كمخالفهم في الأصول وإن كان المخالف

(1) في " ق ": الطعن فيه.
345

في الفروع على الوجه المذكور هو المخالف في الأصول، إلا أن الحيثية مختلفة
والجهة متعددة، والظاهر أنه (قدس سره) عنى بقيام الدليل القاطع على كل مسألة من الفروع
ما يعم القطع بالواقع والقطع (1) بوجوب العمل، لاشتراكهما في القطع بالتكليف.
فلا بد أن يكون الدليل مفيدا للقطع بالواقع أو (2) القطع بالتكليف بقيام القاطع على
حجيته حسب ما نص عليه في مقام آخر فلا يكتفى بمجرد ما يفيد الظن بالواقع
كما هو الحال في الاجتهاد المتداول بين العامة، ولذا حكم بالمنع من الاجتهاد
المفضي إلى الظن دون العلم.
والحاصل: أن القطع بالطريق الموصل كالقطع بالواقع في قطع عذر المكلف
ووضوح التكليف عنده وبلوغ الحجة بالنسبة إليه.
فإن قلت: إن مطلق الظن عند من يعمل به ويقول بحجيته بتلك المثابة أيضا،
فليس بناء العامة على العمل بالظن إلا مع القطع بحجيته، ولذا قالوا: إن ظنية
الطريق لا تنافي قطعية الحكم.
قلت: مقصود السيد من الاجماع المذكور هو دفع ذلك والرد عليه، وأن الظن
مطلقا مما لا دليل على حجيته، بل لا بد من الأخذ بالعلم أو طريق قام الدليل
العلمي على حجيته، فما ادعاه من الاجماع إنما هو على أصالة عدم حجية الظن
وأن الحجة إنما هي الطرق الخاصة التي دلت عليه الأدلة القاطعة، فمن أخذ الفروع
من غير تلك الطرق العلمية يحكمون بضلالته كالمخالف في أصول الدين
والمذهب، وعلى هذا فيرجع ما ذكره من الاجماع إلى:
الوجه الثاني في تقرير الاجماع، وهو أن يدعى الاجماع على أن الأصل
الثابت بعد انسداد سبيل العلم هو عدم حجية الظن مطلقا وإنما الحجة كل واحد من
الطرق الخاصة التي قامت عليها الأدلة القاطعة في الشريعة.
وسيظهر دعوى الاجماع عليه كذلك من الشريف الأستاذ (قدس سره) حيث ذكر في
بعض تحقيقاته في دفع حجية الشهرة أن اعتبارها مبني على حجية الظن مطلقا،

(1) في " ف " و " ق ": أو القطع.
(2) في " ف " وبدل أو.
346

وليس ذلك من مذهبنا وإن أوهمه بعض العبارات، والحجة عندنا ليس إلا اليقين أو
الظن المعتبر شرعا وهو المنتهي إلى اليقين - كظواهر الكتاب - وهو المطابق لما
ادعاه السيد (رحمه الله) حسب ما عرفت فيتأيد به الدعوى المذكورة، مضافا إلى ملاحظة
طريقة العلماء خلفا عن سلف، فإنه لا زال علماؤنا يستدلون على حجية الأدلة
الظنية والطرق الخاصة بالأدلة القائمة عليها من الكتاب والسنة وغيرهما، ولم
نجدهم يستندون إلى مجرد كونه مفيدا للظن، وأيضا لا زالوا يتمسكون في غير
القطعيات بالظنون الحاصلة من الكتاب والسنة أو القواعد المأخوذة عنهما دون
غيرهما، وعلى ذلك جرت طريقتهم من لدن أعصار الأئمة (عليهم السلام) إلى يومنا هذا،
كما يظهر ذلك من ملاحظة الكتب الاستدلالية ومناظراتهم المحكية كيف! ولو كان
مطلق الظن حجة عندهم لأقاموا الدليل على ذلك واستراحوا عن مؤنة الأدلة
الخاصة على الظنون المخصوصة، بل الذي يظهر أن ذلك من طريقة العامة حيث
إنهم يركنون إلى سائر ما يفيد الظن كما يشعر به كلام الشريف الأستاذ، وربما يشير
إليه عبارة السيد (رحمه الله)، وعليه مبنى الاجتهاد عندهم حيث إنهم يطلبون به الظن
بالحكم الشرعي، ولذا ورد ذم الاجتهاد في الأخبار، وأنكره علماؤنا يعنون به
ذلك دون مطلق الاجتهاد، فإنه مطلوب عندنا أيضا وإنما يراد به بذل الوسع في
تحصيل مفاد الأدلة التي يقطع بحجيتها والعمل بمؤداها، وتحصيل ما هو الأقوى
منها عند تعارضها، وأين ذلك من الاجتهاد المطلوب عند العامة؟ فمطلق الظن
عندنا إنما يعتبر في التراجيح الحاصلة بين ما يقطع بحجيتها دون نفس الأدلة.
والحاصل: أن الحكم بانعقاد الاجماع على ما ذكرنا غير بعيد من ملاحظة
طريقتهم والتأمل في مطاوي كلماتهم حسب ما قررناه، وقد ادعاه السيدان
الأفضلان حسب ما عرفت. وربما يدعى الاجماع على عكس ذلك لبعض ما قد
يوهم ذلك من كلماتهم، وهو توهم فاسد كما سيجئ الإشارة إليه.
ثالثها: أن يدعى الاجماع على أن الظن ليس بحجة إلا ما قام الدليل القطعي
أو المنتهي إلى القطع على اعتباره، فإن قام ذلك فلا كلام وإلا بني على عدم
347

حجيته. والظاهر أنه لا مجال لأحد في إنكاره حسب ما عرفت، بل هو مما
اجتمعت عليه العقلاء كافة، وإن فرض خلاف شاذ فيه فهو من قبيل الخلاف في
الضروريات على نحو ما يقع من السوفسطائية، وحكاية إجماع المسلمين عليه
مذكورة في كلام غير واحد من الأفاضل.
وأورد عليه: أن غاية ما يستفاد مما ذكر أن الظن ليس بحجة من أول الأمر،
والأصل الأولي فيه عدم الحجية على عكس العلم فلا يجوز التمسك بشئ من
الظنون إلا ما قام الدليل على حجيته من مطلق الظن أو الظنون الخاصة، وهذا كما
عرفت خارج عن محل الكلام إنما البحث في أن الأصل المذكور هل انقلب بعد
انسداد باب العلم فصار الأصل الثانوي حجية الظن حينئذ إلا ما قام الدليل على
خلافه، أو الأصل فيه أيضا عدم الحجية وإنما قام الدليل على حجية ظنون
مخصوصة؟ ولا ربط للإجماع المذكور بإثبات ذلك ونفيه، وانقلاب الأصول إلى
أصول اخر بخلافها شائع في الفقه كحجية شهادة العدلين وإخبار ذي اليد ودلالة
يد المسلم على الطهارة بعد العلم بنجاسته، مع أن الأصل الأولي في الجميع على
خلاف ذلك، والكلام هنا في إثبات هذا الأصل، ولا يثبت بالإجماع المدعى على
ثبوت الأصل في التقدير الآخر.
قلت: المقصود من التمسك بالإجماع المذكور بيان هذا الأصل المسلم وأن
قضية الأصل عدم حجية شئ من الظنون إلا ما قام الدليل عليه، فالقائل بحجية
مطلق الظن حينئذ لا بد له من إقامة دليل علمي عليه، فإن تم له ذلك فلا كلام وإلا
لم يكن له بد من القول بنفي حجية الظن بمقتضى الاجماع المذكور إلا ما قام
الدليل القاطع على حجيته بالخصوص من الظنون فالإجماع القائم على الأصل
الأولي كان حجة على ثبوت الأصل في المقام الثاني بعد المناقشة في الدليل
القائم على خلافه، فإذا لم ينهض دليل القائل بأصالة حجية مطلق الظن بالأصل
الثانوي حجة في المقام انحصر الدليل بمقتضى الاجماع المذكور في الظنون
الخاصة من غير حاجة في إثبات هذا الأصل إلى إقامة دليل آخر، وهذا هو
348

المقصود من الاحتجاج المذكور، فمرجع هذا الدليل إلى الوجه السابق إلا أن
التفاوت بينهما أن ذلك الأصل قد يستدل عليه بعمومات الكتاب والسنة، وقد
يستدل عليه بالعقل حسب ما مرت الإشارة إليه، فالأدلة الأربعة مطابقة على
إثبات الأصل المذكور، وهو قاض بعدم حجية مطلق الظن وعدم جواز الاتكال
عليه إلا ما قام دليل على حجيته. فإذا نوقش في ما يستنهض دليلا على ذلك ولم
نجد دليلا آخر سواه تم الاحتجاج المذكور، فيمكن أن يقرر ذلك بالملاحظة
المذكورة دليلا واحدا على المقصود، ويمكن أن يقرر أدلة أربعة نظرا إلى تعدد
الأدلة القاضية به ولا مشاحة فيه.
- الثالث -
أنه لو كان مطلق الظن حجة في الشريعة وكانت العبرة في استنباط الأحكام
بعد انسداد باب العلم بالواقع بمطلق المظنة لورد ذلك في الأخبار المأثورة ونص
عليه صاحب الشريعة، بل تواترت فيه الروايات الواردة، إذ هو من المطالب
المهمة وينوط به بقاء الشريعة وبه يتسق تكاليف الأمة فكيف يقع من صاحب
الشريعة إهمال البيان؟! مع أنا لا نجد في الكتاب والسنة دلالة على ذلك ولا بيانا
من صاحب الشريعة، بل ولا إشارة إليه في الروايات المأثورة، بل نجد الأمر
بعكس ذلك حيث ورد في الأخبار ذم الآخذ بالظن والمنع من التعويل عليه، فعدم
قيام الدليل من الشرع على حجيته مع كون المسألة مما يعم به البلية أقوى دليل
على عدم ثبوت الحكم، بل قد ورد عنه طريق آخر لاستنباط الأحكام غير مطلق
الظن قد وقع التنصيص عليه في أخبار كثيرة وهو الأخذ بالكتاب والسنة والأخبار
المأثورة عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام).
وقد ورد الحث الأكيد على الرجوع إلى ذلك، ففيه أقوى دلالة على عدم
الرجوع إلى مطلق الظن مع التمكن من الرجوع إلى ذلك. نعم الرجوع إلى ما ذكر
إنما يكون غالبا على سبيل الظن، إلا أنه ظن خاص لا مدخل له بمطلق الظن،
ومن الغريب ما أورد في المقام أنه قد ورد الأمر بالعمل بالظن في الأخبار،
349

فلا وجه لما يدعى من عدم وروده في الأخبار مشيرا بذلك إلى الأخبار الدالة
على الأمر بالأخذ بالكتاب والسنة، نظرا إلى أن الأخذ بهما غالبا إنما يكون على
سبيل الظن، إذ من الواضح أن ذلك أمر بالأخذ بالظن الخاص دون المطلق،
فهو يؤيد مقصود المستدل ويعاضد ما ادعاه حسب ما ذكرنا لا أنه ينافيه.
وقد يورد على الاحتجاج المذكور: بأنه لم يكن سبيل العلم منسدا في أزمنة
المعصومين (عليهم السلام) وإنما حصل الانسداد بعد ذلك، ولو كان ذلك حاصلا في أزمنتهم
صح ما ذكر في الاحتجاج، وأما إذا حصل بعد تلك الأزمنة فلا دلالة في خلو
الأخبار عنه على عدم كونه طريقا، وعموم البلوى بها بعد ذلك لا يقضي بذكرها
في الأخبار حال عدم الاحتياج إليها، وهذا هو الوجه في خلو الأخبار عن بيانه.
ويدفعه أنه لو سلم جواز إهمال الشارع لحال التكليف في زمن الغيبة مع
اشتداد الحاجة إليه نقول: إن انسداد باب العلم كان حاصلا بالنسبة إلى كثير ممن
كان في أعصارهم (عليهم السلام) سيما من كان منهم في البلدان البعيدة والأقطار النائية مع
شدة التقية، وفي ملاحظة أحوال الرجال وما يرى من اختلافهم في الفتاوى أقوى
دلالة عليه، فمنع حصول الانسداد في تلك الأزمنة وإنكار شدة الحاجة إلى حكمه
ضعيف، فكيف يصح القول حينئذ بإهمالهم في بيان حكم المسألة وركونهم إلى
مجرد حكم العقل مع ما يشاهد من إختلاف العقول في الإدراكات؟
- الرابع -
أن الظنون مما يختلف الحال فيها بحسب اختلاف السلائق والأفهام فكيف (1)
يصلح أن يجعل مطلق الظن مناطا لاستنباط الأحكام؟ وإلا لزم الهرج والمرج في الشريعة
وعدم انضباط الأحكام الشرعية. نعم ما كان من الطرق الظنية مضبوطة بعيدة عن
الاضطراب - كظنون الكتاب والسنة - لم يكن مانع من حجيتها والاتكال عليها.
وفيه: أن ذلك إن تم فإنما يتم بالنسبة إلى الظنون التي لا معيار لها كالأهواء
والآراء والاستحسانات العقلية والوجوه التخريجية، ولا كلام عندنا في عدم صحة

(1) في " ف " و " ق " بدل " فكيف ": فلا.
350

الاستناد إليها وقضاء الاجماع، بل الضرورة بعدم الاعتماد عليها، وأما ما سوى
ذلك من الظنون فلا يجري فيها الوجه المذكور.
ويمكن دفعه: بأن ذلك خلاف ما اختاروه، فإنهم إنما (1) يقولون بقضاء العقل
بحجية الظن مطلقا، وإنما قالوا بعدم جواز الاستناد إلى الظنون المذكورة لوجود
المانع عنه، وإلا فالمقتضي لجواز الاتكال عليها موجود عندهم حسب ما قرروه،
والوجه المذكور يدفعه.
نعم يمكن أن يقال: إنه ليس الكلام في بناء الشريعة على الظنون إلا حين
انسداد سبيل العلم وحصول الضرورة الملجئة إليها، واختلافها في الانضباط
وعدمه إنما يقضي بقوة المنضبط وضعف غيره، وذلك إنما يقضي بعدم جواز الأخذ
بالضعيف مع التمكن من الأقوى، ولا كلام فيه لتعين الرجوع إلى الأقوى حينئذ.
وأما مع عدم حصول الأقوى فلا ريب أن الأخذ بالضعيف أولى من الأخذ بخلافه
وأقرب إلى إصابة الواقع، فهو في حال الضرورة بالترجيح أحرى، والمفسدة
اللازمة في الأخذ بخلافه أقوى.
هذا وربما استدل بعضهم في المقام بأنه لا دليل في الشرع على حجية مطلق
الظن حين انسداد باب العلم، وإنما الدليل عليه عند القائل به هو العقل وهو لا يفيد
وجوب الأخذ به شرعا كما هو المقصود، إذ الوجوب الشرعي لا يثبت إلا بحكم
الشرع دون العقل، وهذا الوجه موهون جدا، لأنه مبني على أصل فاسد مقطوع
بفساده، أعني نفي الملازمة بين العقل والشرع وإنكار كون العقل القاطع من أدلة
الشرع، وقد قرر وهنه في محله مستقصى.
ثم إن لنا طرقا أخرى في المقام ووجوها شتى في تصحيح هذا المرام نوضح
القول في بيانها، ونشير إلى ما يرد عليها وما به يمكن دفعه عنها.
أحدها:
أنه لا ريب في كوننا مكلفين بأحكام الشريعة وأنه لم يسقط عنا التكاليف

(1) كذا، والظاهر: لا.
351

والأحكام الشرعية في الجملة وأن الواجب علينا أولا هو تحصيل العلم بتفريع الذمة
في حكم المكلف بأن يقطع معه بحكمه بتفريغ ذمتنا عما كلفنا به وسقوط التكليف
عنا سواء حصل منه العلم بأداء الواقع أو لا، حسب ما مر تفصيل القول فيه.
وحينئذ نقول: إن صح (1) لنا تحصيل العلم بتفريغ الذمة في حكم الشارع فلا
إشكال في وجوبه وحصول البراءة به، وإن انسد علينا سبيل العلم به كان الواجب
علينا تحصيل الظن بالبراءة في حكمه، إذ هو الأقرب إلى العلم به فيتعين الأخذ به
عند التنزل من العلم في حكم العقل بعد انسداد سبيل العلم والقطع ببقاء التكليف
دون ما يحصل معه الظن بأداء الواقع كما يدعيه القائل بأصالة حجية الظن، وبينهما
بون بعيد، إذ المعتبر في الوجه الأول هو الأخذ بما يظن كونه حجة لقيام دليل ظني
على حجيته سواء حصل منه الظن بالواقع أو لا، وفي الوجه الثاني لا يلزم حصول
الظن بالبراءة في حكم المكلف، إذ لا يستلزم مجرد الظن بالواقع ظنا باكتفاء
المكلف بذلك الظن في العمل سيما بعد ما ورد من النهي عن العمل بالظن والأخذ
به، فإذا تعين تحصيل ذلك بمقتضى حكم العقل حسب ما عرفت لزم اعتبار أمر
آخر يظن معه برضاء المكلف بالعمل به، وليس ذلك إلا الدليل الظني الدال على
حجيته، فكل طريق قام دليل ظني على حجيته واعتباره في نظر الشرع يكون
حجة دون ما لم يقم عليه ذلك.
فإن قلت: إن قام أولا طريق مقرر من الشرع في الوصول إلى الحكم والحكم
معه بتفريغ الذمة عن التكليف فلا كلام، وإن لم يقم فالواجب أولا تحصيل العلم
بالواقع، فمع تعذره ينوب منابه الظن بالواقع، أو يقال: إنه إن لم يقم طريق مقرر من
الشارع للوصول إلى الواقع كان العلم هو الطريق الواقع، وإن قام اكتفى بما جعله
طريقا، فإن لم يثبت عندنا ذلك أو ثبت وانسد سبيل العلم به كان المرجع هو العلم
بالواقع، إذ القدر المسلم من التكليف بالرجوع إلى الطريق إنما هو مع العلم به،
وبعد انسداد سبيل العلم به يرجع إلى الظن بالواقع حسب ما قرروه.

(1) في " ق ": إن أمكن.
352

قلت: لا ترتيب بين تحصيل العلم بالواقع بالطريق المقرر من الشرع، وليس
تعين الرجوع إلى العلم مع عدم الطريق المقرر أو عدم العلم به قاضيا بترتب العلم
بالواقع عليه ولا تعين الرجوع إلى العلم بالواقع إلى أن يقوم دليل على الاكتفاء
بغيره من الطريق الذي قرره دليلا على ترتب الآخر عليه، بل الجميع في مرتبة
واحدة، وإنما يتعين الرجوع إلى العلم مع انتفاء الطريق المقرر أو عدم العلم به،
لانحصار العلم بالخروج عن عهدة التكليف في ذلك، ولذا يجوز الرجوع إلى العلم
مع وجود الطريق المقرر أيضا ويتخير المكلف في الرجوع إلى أيهما شاء.
والحاصل: أن القدر اللازم أداء الفعل وحصول البراءة بحسب حكم الشارع،
وهو حاصل بكل من الوجهين. وتعين تحصيل العلم بالواقع مع فرض انتفاء العلم
بالطريق المقرر أو انتفائه واقعا ليس لكونه متعينا في نفسه، بل لحصول البراءة به
على النحو الذي ذكرناه، وفرق بين بين كون الشئ مطلوبا بذاته وكون المطلوب
حاصلا به، فهو إذن أحد الوجهين في تحصيل تفريغ الذمة، فإذا انسد باب العلم
بتفريغ الذمة على الوجه المفروض بكل من الوجهين المذكورين بأن لم يحصل
هناك طريق قطعي من الشارع يحكم معه بتفريغ الذمة وانسد سبيل العلم بالواقع
القاضي بالقطع بتفريغ الذمة كذلك يرجع (1) الأمر بعد القطع ببقاء التكليف إلى الظن
بتفريغ الذمة في حكم الشارع حسب ما عرفت، وهو يحصل بقيام الأدلة الظنية
على حجية الطرق المخصوصة حسب ما يقام الدليل عليها في محالها من غير أن
يكتفى في إفادة حجيتها بمجرد كونها مفيدة للظن بالواقع كما هو قضية الوجه
الآخر.
فإن قلت: إن الظن بأداء الواقع يستلزم الظن بتفريغ الذمة على الوجه المذكور
لولا قيام الدليل على خلافه كما في القياس ونحوه، إذ أداء المكلف به واقعا
يستلزم تفريغ الذمة بحسب الواقع قطعا لقضاء الأمر بالإجزاء على الوجه
المذكور، والظن بالملزوم قاض بالظن باللازم، فكل ما يفيد الظن بالواقع يفيد الظن

(1) في المطبوع: رجع.
353

بتفريغ الذمة في حكم الشرع لولا قيام الدليل على خلافه، إذ ليس مقصود الشارع
حقيقة إلا الواقع، وإذا قام الدليل على خلافه فإن كان قطعيا فلا إشكال في عدم
جواز الرجوع إليه، لعدم مقاومة الظن المفروض للقطع، وإن كان ظنيا وقعت
المعارضة بين الظنين المفروضين، حيث إن الظن بالواقع يستلزم الظن بتفريغ الذمة
على الوجه المذكور حسب ما عرفت، والدليل القاضي بعدم حجية ذلك الظن
قاض بالظن بعدم تفريغ الذمة كذلك، فيراعى حينئذ أقوى الظنين كما هو الشأن في
سائر المتعارضين، بل القوي حينئذ هو الظن والآخر وهم في مقابله، ولا يتحاشى
عنه القائل بأصالة حجية الظن، بل ذلك مصرح به في كلام جماعة منهم.
نعم غاية ما يلزم من التقرير المذكور أن يقال بحجية ما لا يفيد ظنا بالواقع
كالاستصحاب في بعض الموارد إذا قام دليل ظني على كونه طريقا شرعيا إلى
الواقع، لحصول الظن منه حينئذ بتفريغ الذمة في حكم الشرع وإن لم يحصل منه
الظن بأداء الواقع، والظاهر أنه لا يأبى عنه القائل بحجية مطلق الظن، فغاية الأمر
أن يقول: حينئذ بحجية كل ظن بالواقع ويضيف إليه حجية ما يظن كونه طريقا إلى
الواقع شرعا وإن لم يفد ظنا بالواقع.
والحاصل: أن القول بحجية ذلك لا ينافي مقصود القائل بحجية مطلق الظن،
سواء التزم به في المقام أو لم يلتزم به لبعض الشبهات.
قلت: قد عرفت مما مر أن الظن بما هو ظن ليس طريقا إلى الحكم بتفريغ
الذمة، فمجرد الظن بالواقع ليس قاضيا بالظن بتفريغ الذمة في حكم الشرع مع قطع
النظر عن قيام دليل على حجية ذلك الظن، لوضوح عدم حصول التفريغ به كذلك،
وإنما يحتمل حصوله به من جهة قيام الدليل على حجيته.
ومن البين تساوي احتمالي قيام الدليل المذكور وعدمه في نظر العقل،
فتساوي نسبة الحجية وعدمها إليه فدعوى الاستلزام المذكور فاسدة جدا، كيف؟
ومن الواضح عدم استلزام الظن بالواقع الظن بحجية ذلك الظن، ولا اقتضائه له،
فكيف يعقل حصول الظن به من جهته؟!
354

نعم إنما يستلزم الظن بالواقع الظن بتفريغ الذمة بالنظر إلى الواقع لا في حكم
المكلف الذي هو مناط الحجية، والمقصود في المقام هو حصول الظن به في
حكمه، إذ قضية الدليل المذكور حجية ما يظن من جهته بتفريغ الذمة في حكم
الشارع بعد انسداد سبيل العلم به، وهو إنما يتبع الدليل الظني القائم على حجية
الطرق الخاصة، ولا يحصل من مجرد تحصيل موضوع الظن بالواقع، لما عرفت
من وضوح كون الظن بالواقع شيئا والظن بحجية ذلك الظن شيئا آخر، ولا ربط له
بنفس ذلك الظن.
وقد عرفت أن ما يتراءى من استلزام الظن بالواقع الظن بتفريغ الذمة، نظرا
إلى أن المكلف به هو الواقع إنما يصح بالنسبة إلى الواقع، حيث إنه يساوق الظن
بالواقع الظن بتفريغ الذمة بالنسبة إليه عند أدائه كذلك، وذلك غير الظن بتفريغ
الذمة في حكم المكلف كيف؟ والظن المفروض حاصل في القياس أيضا بعد قيام
الدليل على عدم حجيته، فإنه إذا حصل منه الظن بالواقع فقد حصل منه الظن بفراغ
الذمة بالنظر إلى الواقع عند أداء الفعل كذلك، إلا أن الظن المفروض كالظن المتعلق
بنفس الحكم مما لا اعتبار له بنفسه، وقد قام الدليل الشرعي هناك أيضا على عدم
اعتباره فقضى بالقطع بعدم حصول التفريغ به في حكم الشرع.
فظهر بما قررناه أن الإيراد المذكور إنما جاء من جهة الخلط بين الوجهين
وعدم التميز بين الاعتبارين. ومما يوضح ما قلناه أن الظن بالملزوم لا يمكن أن
يفارق الظن باللازم، فبعد دعوى الملازمة بين الأمرين كيف يعقل استثناء ما لو قام
الدليل على خلافه، والقول بأنه بعد قيام الدليل القطعي يعلم الانفكاك ومع قيام
الدليل الظني يظن ذلك؟ وهل ذلك إلا تفكيك بين اللازم والملزوم؟
فظهر بما قررناه أن اللازم أولا في حكم العقل هو تحصيل العلم بالتفريغ في
حكم الشارع وبعد انسداد سبيله يتنزل إلى الظن بالتفريغ في حكمه لا مجرد الظن
بالواقع، وقد عرفت عدم الملازمة بين الأمرين وحصول الانفكاك من الجانبين.
نعم لو كان الحاصل بعد انسداد سبيل العلم بحصول التفريغ في حكمه أمور
355

مفيدة للظن بالواقع من غير أن يكون هناك دليل قطعي أو ظني على حجية شئ
منها وتساوت تلك الظنون في ذلك كان الجميع حينئذ حجة في حكم العقل وإن لم
يحصل من شئ منها ظن بالتفريغ أولا، وذلك لعدم إمكان تحصيل الظن بالتفريغ
من شئ منها على ما هو المفروض، فينتقل الحال إلى مجرد تحصيل الظن بالواقع،
ويحكم العقل - من جهة الجهل المذكور وتساوي الظنون في نظره بالنسبة إلى
الحجية وعدمها حيث لم يقم دليل على ترجيح بعضها على بعض - بحجية الجميع
والأخذ بأقواها عند التعارض من غير فرق بينها، فصار المحصل أن اللازم
تحصيل العلم بالتفريغ في حكم الشارع كما مر القول فيه.
وبعد انسداد سبيله يتعين تحصيل الظن بالتفريغ في حكمه تنزلا من العلم به
إلى الظن، فينزل الظن به منزلة العلم. وإذا انسد سبيله أيضا تعين الأخذ بمطلق ما
يظن معه بأداء الواقع حسب ما ذكر في المقام، فهناك مراتب متدرجة ودرجات
مترتبة، ولا يتدرج إلى الوجه الثالث إلا بعد انسداد سبيل الأولين، والمختار عندنا
حصول الدرجة الأولى وعدم انسداد سبيل العلم بالتفريغ من أول الأمر كما سيأتي
الإشارة إليه في الوجه الأخير.
لكنا نقول: إنه بعد تسليم انسداد سبيله إنما يتنزل إلى الوجه الثاني دون
الثالث، وإنما يتنزل إليه بعد انسداد سبيل الثاني أيضا وتساوي الظنون من كل
وجه، وأنى لهم بإثبات ذلك؟ بل من البين خلافه، إذ لا أقل من قيام الأدلة الظنية
على حجية ظنون مخصوصة كافية في استنباط الأحكام الشرعية، وهي كافية في
وجوب الأخذ بها وعدم جواز الاتكال على غيرها، نظرا إلى قيام الدليل القطعي
المذكور، فليس ذلك من الاتكال على الظن في إثبات الظن ليدور كما ظن.
فإن قلت: إن معرفة الطريق المقرر من الشرع للوصول إلى الأحكام - أعني
ظن المجتهد مطلقا سوى ما استثني، أو خصوص الظنون المخصوصة والطرق
الخاصة - ليس من مسائل الفروع وإنما هو من مسائل الكلام، فيتعين الأخذ فيها
بالعلم، ولا يمكن القول بانسداد سبيل العلم بالنسبة إليها، وعلى فرض عدم
356

اندراجها في مسائل الكلام فليس سبيل العلم منسدا بالنسبة إليها، كيف! والقائل
بحجية مطلق الظن يتمسك فيها بالبرهان القاطع العقلي، فلا وجه للقول بانسداد
سبيل العلم فيها ليرجع بعده إلى الظن بها.
قلت: كون المسألة من مسائل الكلام من أوهن الكلام، إذ لا ربط لها به كما هو
ظاهر من ملاحظة حده، بل هي من مسائل أصول الفقه لكونها بحثا عن الدليل
وبيانا لما يناط به حجية الدليل، وبملاحظة حد الأصول يتضح كونها من أوضح
المسائل المندرجة فيه.
نعم لو صح اعتبار القطع في أصول الفقه صح القول باعتبار القطع فيها، إلا أن
ذلك فاسد جدا إن أريد به اعتبار تحصيل القطع بها أولا، وإن أريد به ما يعم
الانتهاء إلى القطع فهو مما لا اختصاص له بالأصول ولا ربط له بالمقام، لوضوح
حصول الانتهاء إليه هنا أيضا، وما ذكر من قيام البرهان القاطع على حجية الظن
عند القائل به، فكيف يسلم انسداد باب العلم فيها أوهن شئ! فإن الدليل العقلي
المذكور على فرض صحته إنما يقرر على فرض انسداد باب العلم بالواقع
وبالطريق المقرر من الشرع، كيف! ولو كان عنده طريق خاص قطعي مقرر من
الشارع لاستفادة الأحكام لما تم دليله المذكور قطعا لابتنائه على انتفائه حيث
اخذ ذلك من جملة مقدماته كما سيجئ بيانه إن شاء الله.
ولا يدعى أيضا قيام الدليل القطعي أولا على حجية كل ظن، وإلا لما احتاج
إلى الدليل المذكور، بل إنما يقول بانسداد سبيل العلم بالواقع وبالطريق المقرر من
الشرع أولا للوصول إلى الواقع، ويريد بيان أن قضية العقل بعد الانسداد المذكور
هو الرجوع إلى مطلق الظن، فالبرهان الذي يدعيه إنما هو بعد فرض الجهل
فيستكشف به حال الجاهل، وأن قضية جهله مع علمه ببقاء التكليف ماذا، ونحن
نقول: إن قضية ذلك هو الانتقال إلى الظن على الوجه الذي قررناه دون ما ادعوه،
فالكلام المذكور ساقط جدا.
357

الثاني:
إنه كما قرر الشارع أحكاما واقعية كذا قرر طريقا للوصول إليها إما العلم
بالواقع أو مطلق الظن أو غيرهما قبل انسداد باب العلم وبعده، وحينئذ فإن كان
سبيل العلم بذلك الطريق مفتوحا فالواجب الأخذ به والجري على مقتضاه، ولا
يجوز الأخذ بغيره مما لا يقطع معه بالوصول إلى الواقع من غير خلاف فيه بين
الفريقين، وإن انسد سبيل العلم به تعين الرجوع إلى الظن به، فيكون ما ظن أنه
طريق مقرر من الشارع طريقا قطعيا حينئذ إلى الواقع نظرا إلى القطع ببقاء
التكليف بالرجوع إلى الطريق وقطع العقل بقيام الظن حينئذ مقام العلم حسب ما
عرفت ويأتي.
فالحجة إذا ما يظن كونه حجة وطريقا إلى الوصول إلى الأحكام وذلك إنما
يكون لقيام الأدلة الظنية على كونه كذلك، وليس ذلك إثباتا للظن بالظن حسب ما
قد يتوهم، بل تنزلا من العلم بما جعله الشارع طريقا إلى ما يظن كونه كذلك
بمقتضى حكم العقل حسب ما مرت الإشارة إلى نظيره في الوجه المتقدم.
وقد يورد عليه بوجوه سخيفة نشير إلى جملة منها:
أحدها: ما أشرنا إلى نظيره سابقا من أن هذه المسألة من المسائل الكلامية،
وانسداد سبيل العلم فيها معلوم البطلان، وقد عرفت وهنه.
ثانيها: أن سبيل العلم بهذه المسألة مفتوح فإن كل من سلك مسلكا في المقام
يدعي العلم به من البناء على مطلق الظن أو الظن الخاص، وقد أشرنا سابقا إلى
وضوح فساده.
ثالثها: أن الانتقال إلى الظن بما جعله طريقا إنما يكون مع العلم ببقاء التكليف
بالأخذ بالطريق المقرر بعد انسداد باب العلم به، وهو ممنوع، إذ لا ضرورة قاضية
ببقاء التكليف في تلك الخصوصية لو سلم انسداد باب العلم بها، بخلاف الأحكام
الواقعية فإن بعد انسداد باب العلم بها قد قامت الضرورة ببقاء التكليف، وإلا لزم
الخروج عن الدين وهو أيضا في الوهن نظير سابقيه، إذ من الواضح أن للشارع
358

حكما في شأن من انسد عليه سبيل العلم من وجوب عمله بمطلق الظن أو الظن
الخاص، ولا نعني نحن بالطريق المقرر إلا ذلك. وحينئذ كيف يمكن منعه؟ مع أن
الضرورة القاضية به بعد القطع ببقاء التكليف أوضح من الضرورة القاضية ببقاء
التكاليف، إذ مع البناء عليه لا مجال لأن يستريب ذو مسكة فيه مع قطع النظر عن
ضرورة الدين القاضية ببقاء الأحكام، فإذا علم ثبوت طريق للشارع في شأنه
حينئذ من الأخذ بمطلق الظن أو غيره تعين تحصيل العلم به أولا فإن قام عليه
دليل قطعي من قبله كما يدعيه القائل بالظنون الخاصة فلا كلام، وإلا تعين الأخذ
بما يظن كونه طريقا. ولا يصح القول بالرجوع إلى مطلق الظن بالواقع من جهة
الجهل المفروض، بل قضية علمه بتعين طريق عند الشارع في شأنه وجهله من
جهة انسداد سبيل العلم به هو الرجوع إلى الظن به، أعني الأخذ بمقتضى الدليل
الظني الدال عليه حتى يحصل له القطع من ذلك بكونه الحجة عليه بضميمة الدليل
المذكور، وذلك حاصل في جهة الظنون الخاصة دون مطلق الظن.
نعم لو لم يكن هناك طريق خاص يظن حجيته مما يكتفى به في استنباط
القدر اللازم من الأحكام وتساوت الظنون بالنسبة إلى ذلك مع القطع بوجوب
الرجوع إلى الظن في الجملة كان الجميع حجة حسب ما مر، ونحن نسلمه إلا أنه
ليس الحال كذلك في المقام.
رابعها: أنه إن أريد بذلك حصول العلم الاجمالي بأن الشارع قد قرر طريقا
لإدراك الأحكام الواقعية والوصول إليها فكلفنا في كل واقعة بالبناء على شئ كما
هو مقتضى الاجماع والضرورة فمسلم، ولكن نقول: هو ظن المجتهد مطلقا من أي
سبب كان من الأسباب التي لم يعلم عدم الاعتداد بها.
وإن كان المراد القطع بأن الشارع قد وضع طريقا تعبديا كالبينة للوصول إلى
الأحكام فممنوع، وأين القطع به؟ بل خلافه من المسلمات، لقيام الاجماع
والضرورة على توقف التكليف على الإدراك والفهم، وأقله الظن بالواقع، وهذا
أوضح فسادا من الوجوه المتقدمة.
359

أما أولا: فلأن ما سلمه من تعيين طريق من الشارع للوصول إلى الأحكام
مدعيا قضاء الضرورة به هو عين ما أنكره أولا. وحينئذ فقوله: إنا نقول: " إن ذلك
الطريق هو مطلق الظن " بين الفساد، فإنه إن كان ذلك من جهة اقتضاء انسداد سبيل
العلم وبقاء التكليف له فهو خلاف الواقع، فإن مقتضاه بعد التأمل في ما قررناه
هو ما ذكرناه دون ما توهموه، وإن كان لقيام دليل آخر عليه فلا كلام، لكن أنى له
بذلك؟
وأما ثانيا: فبأنه لا مانع من تقرير الشارع طرقا تعبدية للوصول إلى الأحكام
كما قرر طرقا بالنسبة إلى الموضوعات، بل نقول: إن أدلة الفقاهة كلها من هذا
القبيل، بل وكذا كثير من أدلة الاجتهاد حسب ما فصلنا القول فيها في محل آخر.
وأما ثالثا: فبأن ما ذكره من الترديد مما لا وجه له أصلا، فإن المقصود من
المقدمة المذكورة تعين طريق إلى ذلك عند الشارع في الجملة من غير حاجة إلى
بيان الخصوصية، فما ذكره من الترديد خارج عن قانون المناظرة، ويمكن الإيراد
في المقام بأنه كما انسد سبيل العلم بالطريق المقرر كذا انسد سبيل العلم بالأحكام
المقررة في الشريعة، وكما ننتقل من العلم بالطريق المقرر بعد انسداد سبيله إلى
الظن به فكذا ننتقل من العلم بالأحكام الشرعية إلى ظنها تنزلا من العلم إلى الظن
في المقامين، لكون العلم طريقا قطعيا إلى الأمرين، فبعد انسداد طريقه يؤخذ
بالظن بها (1). فغاية ما يستفاد إذا من الوجه المذكور كون الظن بالطريق أيضا حجة
كالظن بالواقع، ولا يستفاد منه حجية خصوص الظنون الخاصة دون مطلق الظن،
بل قضية ما ذكر حجية الأمرين، ولا يأبى عنه القائل بحجية مطلق الظن فيثبت
ذلك مقصوده من حجية مطلق الظن وإن أضيف إليه شئ آخر أيضا.
ويدفعه: أنه لما كان المطلوب أداء ما هو الواقع لكن من الطريق الذي قرره
الشارع فإن حصل العلم بذلك الطريق وأداه كذلك فلا كلام، وكذا إن أداه على وجه
يقطع معه بأداء الواقع، فإن العلم طريق إليه قطعا، سواء اعتبره الشارع بخصوصه

(1) في " ق ": بهما.
360

في المقام أو لا، وسواء حصل له العلم بالطريق الذي قرره الشارع أو لا، للاكتفاء
بالعلم بأداء الواقع قطعا، بل يتعين الأخذ به على تقدير انسداد سبيل العلم بالطريق
المقرر وانفتاح سبيل العلم بالواقع، وأما إذا انسد سبيل العلم بالأمرين تعين الأخذ
بالظن بالطريق دون الظن بالواقع لأداء التكليف المتعلق بالطريق بذلك وأداء
الواقع به على حسب الطريق. وأما الأخذ بمطلق الظن بالواقع فليس فيه أداء
التكليف المتعلق بالطريق لا علما ولا ظنا. وكون أداء الواقع على سبيل القطع أداء
لما هو الواقع من طريقه قطعا لا يستلزم أن يكون الظن بأداء الواقع أداء للواقع
على سبيل الظن مع الظن بكونه من طريقه، لوضوح أن كون العلم طريقا قطعيا لا
يستلزم أن يكون الظن طريقا ظنيا، إذ قد لا يكون طريقا أصلا فليس في أدائه
كذلك علم بأداء ما هو الواقع ولا بأدائه على الوجه المقرر، ولا ظن بأدائه على
الوجه المقرر، وإنما هناك ظن بأداء الواقع لا غير، فلا يؤدي به التكليف المتعلق
بالطريق مطلقا، ويبقى الخروج عن عهدة التكليف المتعلق بالطريق في محل
الشك، إذ لا يعلم ولا يظن أداء التكليف المتعلق بالطريق فلا علم ولا ظن بأداء
الفعل على الوجه الذي قرره الشرع، ولا يمكن معه الحكم بالبراءة.
فإن قلت: إنه كما قام الظن بالطريق مقام العلم به من جهة الانسداد فأي مانع
من قيام الظن بالواقع مقام العلم به حينئذ، وإذا قام مقامه كان بمنزلة العلم بأداء
الواقع، كما أن الظن بالطريق بمنزلة العلم به، فكما يحصل البراءة بالعلم مع انفتاح
سبيله يحصل أيضا بالظن مع انسداد سبيله.
قلت: لو كان أداء التكليف المتعلق بكل من الفعل والطريق المقرر مستقلا صح
ذلك، لقيام الظن في كل من التكليفين مقام العلم به مع قطع النظر عن الآخر، وأما
إذا كان أحد التكليفين منوطا بالآخر مقيدا له فمجرد حصول الظن بأحدهما من
دون حصول الظن بالآخر الذي قيد به لا يقتضي الحكم بالبراءة. وحصول البراءة
في صورة العلم بأداء الواقع إنما هو لحصول الأمرين به نظرا إلى أداء الواقع، وكونه
من الوجه المقرر لكون العلم طريقا إلى الواقع في حكم العقل والشرع، فلو كان
361

الظن بالواقع ظنا بالطريق أيضا جرى الكلام المذكور في صورة الظن أيضا، لكنه
ليس كذلك، فلذا لا يحكم بالبراءة حسب ما قلنا.
الثالث:
إن قضية بقاء التكليف وانسداد سبيل العلم به مع كون قضية العقل أولا
تحصيل العلم به هو الرجوع إلى الظن قطعا على سبيل القضية المهملة، وحينئذ فإن
قام دليل قاطع على حجية بعض الظنون مما فيه الكفاية في استعلام الأحكام
انصرف إليه تلك القضية المهملة من غير إشكال، فلا يفيد حجية ما زاد عليه ولو
تساوت الظنون من كل وجه قضى ذلك بحجية الجميع نظرا إلى انتفاء الترجيح في
نظر العقل وعدم إمكان رفع اليد عن الجميع ولا العمل بالبعض دون البعض لبطلان
الترجيح بلا مرجح، فيجب الأخذ بالكل حسب ما يدعيه القائل بحجية مطلق
الظن.
وأما إذا قام الدليل الظني على حجية بعض الظنون مما فيه الكفاية دون
البعض فاللازم البناء على ترجيح ذلك البعض، إذ لا يصح القول بانتفاء المرجح
بين الظنون بالحجية في بعض تلك الظنون دون البعض.
وتوضيح المقام: أن الدليل الظني القائم على بعض الظنون إما أن يكون مثبتا
لحجية عدة منها كافية في استنباط الأحكام من غير أن يقوم هناك دليل ظني على
نفي الحجية عن غيرها ولا إثباتها، وإما أن يكون نافيا لحجية عدة منها من غير أن
يكون مثبتا لحجية ما عداها ولا نافيا لحجيتها، وإما أن يكون مثبتا لحجية عدة
منها كذلك نافيا لحجية الباقي، وإما أن يكون مثبتا لحجية البعض على الوجه
المذكور نافيا لحجية عدة أخرى مع خلو الباقي عن الأمرين، ويجب في حكم
العقل الأخذ بمقتضى الظن في الجميع في مقام الترجيح وإن اختلف الحال فيها
بالقوة والضعف، غير أنه في القسم الثاني لا بد من الحكم بحجية غير ما قضى الظن
بعدم حجيته، نظرا إلى انتفاء المرجح بينها (1).

(1) في " ف " و " ق ": بينهما.
362

فإن قلت: إن أقيم الدليل على حجية الظن مطلقا فقد ثبت ما يدعيه الخصم،
وإن لم يقم عليه دليل فلا وجه للحكم بمقتضى الدليل الظني من البناء على الحجية
أو نفيها، فإنه رجوع إلى الظن واتكال عليه، وإن كان في مقام الترجيح والاتكال
عليه مما لا وجه له قبل قيام القاطع عليه، بل نقول: إن لم يكن الدليل الظني القائم
في المقام من الظنون المخصوصة لم يعقل الاتكال عليه من المستدل، إذ المختار
عنده عدم حجيته وأن وجوده كعدمه وإن كان من الظنون المخصوصة كان الاتكال
عليه في المقام دوريا.
قلت: ليس المقصود في المقام إثبات حجية تلك الظنون بالأدلة الظنية القائمة
عليها ليكون الاتكال في الحكم بحجيتها على مجرد الظن، بل المثبت بحجيتها هو
الدليل العقلي المذكور.
والحاصل من تلك الأدلة الظنية هو ترجيح بعض تلك الظنون على البعض
فيمنع ذلك من إرجاع القضية المهملة إلى الكلية، بل يقتصر في مفاد المهملة
المذكورة على تلك الجهة، فالظن المفروض إنما يبعث على صرف مفاد الدليل
المذكور إلى ذلك وعدم صرفه إلى سائر الظنون، نظرا إلى حصول القوة بالنسبة
إليها لانضمام الظن بحجيتها إلى الظن الحاصل منها بالواقع بخلاف غيرها حيث لا
ظن بحجيتها في نفسها، فإذا قطع العقل بحجية الظن بالقضية المهملة ثم وجد
الحجية متساوية النسبة بالنظر إلى الجميع فلا محالة يحكم بحجية الكل حسب ما
مر، وأما إن وجدها مختلفة وكان جملة منها أقرب إلى الحجية من الباقي نظرا إلى
الظن بحجيتها مثلا دون الباقي فلا محالة يقدم المظنون على المشكوك أو
الموهوم، والمشكوك على الموهوم في مقام الحيرة والجهالة، فليس الدليل الظني
المفروض مثبتا لحجية تلك الظنون حتى يكون ذلك اتكالا على الظن في ثبوت
مظنونه، وإنما هو قاض بقوة جانب الحجية في تلك الظنون فينصرف إليه ما قضى
به الدليل المذكور من حجية الظن في الجملة.
فإن قلت: إن صرف مفاد الدليل المذكور إلى ذلك إن كان على سبيل اليقين تم
363

ما ذكر وإن كان ذلك أيضا على سبيل الظن كان ذلك أيضا اتكالا على الظن، فإن
النتيجة يتبع أخس المقدمات، والظاهر أنه من القبيل الثاني لتقوم الظن بقيام
احتمال الخلاف، فإذا فرض تحقق ذلك الاحتمال كان الظن المذكور كعدمه
فتساوى الظنون المفروضة بحسب الواقع، ولا يتحقق ترجيح بينها حتى ينصرف
الدليل المذكور إلى الراجح منها.
والحاصل: أنه لا قطع حينئذ بصرف الدليل المذكور إلى خصوص تلك الظنون
من جهة ترجيحها على غيرها، لاحتمال مخالفة الظن المفروض للواقع ومساواتها
لغيرها من الظنون بحسب الواقع، بل احتمال عدم حجيتها بخصوصها فلا قطع
بحجيتها بالخصوص بوجه من الوجوه حتى يكون الاتكال هنا على اليقين، وغاية
الأمر حصول الظن بذلك، فالمحذور على حاله.
قلت: الاتكال في حجية تلك الظنون ليس على الظن الدال على حجيتها
بحسب الواقع ولا على الظن بترجيح تلك الظنون على غيرها بعد إثبات حجية
الظن في الجملة، بل التعويل فيها على القطع بترجيح تلك الظنون على غيرها عند
دوران الحجية بينها وبين غيرها.
وتوضيح ذلك: أن قضية الدليل القاطع المذكور هو حجية الظن على سبيل
الإهمال، فيدور الأمر بين القول بحجية الجميع والبعض، ثم الأمر في البعض يدور
بين البعض المظنون وغيره، والتفصيل وقضية حكم العقل في الدوران هنا بين
حجية الكل والبعض هو الاقتصار على البعض أخذا بالمتيقن، ولذا قال علماء
الميزان: إن القضية المهملة في قوة الجزئية.
واعترف الجماعة: بأنه لو قام الدليل القاطع على حجية ظنون خاصة كافية
للاستنباط لم يصح التعدي عنها في الحجية إلى غيرها من الظنون، وأنه لا يثبت
بالقضية المهملة المذكورة ما يزيد عليها، ولو لم يتعين البعض الخاص حجة في
المقام ودارت الحجة بين سائر الأبعاض من غير تفاوت بينها في نظر العقل لزم
الحكم بحجية الكل، لبطلان ترجيح البعض من غير مرجح، إلى آخر ما مر.
364

وأما لو كانت حجية البعض مما فيه الكفاية مظنونة بخصوصه بخلاف الباقي
كان ذلك أقرب إلى الحجية من غيره مما لم يقم على حجيته كذلك دليل، فيتعين
عند العقل الأخذ به دون غيره، فإن الرجحان حينئذ قطعي وجداني، والترجيح من
جهته ليس ترجيحا بمرجح ظني بل قطعي وإن كان ظنا بحجية تلك الظنون، فإن
كون المرجح ظنا لا يقتضي كون الترجيح ظنيا، وهو ظاهر.
والحاصل: أن العقل بعد حكمه بحجية الظن في الجملة ودوران الأمر عنده
بين القول بحجية خصوص ما قام الدليل الظني على حجيته من الظنون والبناء
على حجية ذلك وغيره مما لم يقم دليل على حجيته من سائر الظنون لا يحكم إلا
بحجية الأول، لترجيحه على غيره في نظر العقل قطعا، فلا يحكم بحجية الجميع
من غير قيام دليل على العموم.
الرابع:
إنه بعد قضاء المقدمات الثلاث بحجية الظن على سبيل الإهمال وإن اكتفينا
بالمرجح الظني كما مر في الوجه السابق كان ما دل على حجية الدليل الظني هو
المتبع دون غيره حسب ما قرر في الوجه المتقدم. وإن سلمنا عدم العبرة به
وتساوي الظنون حينئذ بالملاحظة المذكورة بالنسبة إلى الحجية وعدمها فاللازم
حينئذ حجية الجميع إلا ما قام الدليل المعتبر على عدمه، ومن الدليل المعتبر حينئذ
هو الدليل الظني، لقيامه مقام العلم، فإذا قضى الدليل الظني بكون الحجة هي
الظنون الخاصة دون غيرها تعين الأخذ بها دون ما سواها، فإنه بمنزلة الدليل
القاطع الدال عليه كذلك.
فإن قلت: إذا قام الدليل القاطع على حجية بعض الظنون مما فيه الكفاية كانت
القضية المهملة الثابتة بالدليل المذكور منطبقة عليه فلا يتسرى الحكم منها إلى
غيرها حسب ما مر. وأما إذا قام الدليل الظني على حجية بعض الظنون كذلك لم
يكن الحال فيها على ما ذكر. وإن قلنا بقيام الظن مقام العلم وتنزيله منزلته فلا
وجه إذن للاقتصار عليه، إذ الدليل الدال على حجيته هو الدال على حجية الباقي.
365

غاية الأمر أن يكون الدال على حجيته أمران الدليل القاطع العام والدليل الظني
المفروض، والدال على حجية غيره هو الثاني خاصة.
قلت: الحال حينئذ على ما ذكرت وليس المقصود في المقام تنزيل الدليل
الظني القائم على خصوص بعض الظنون منزلة الدليل القاطع الدال عليه في تطبيق
القضية المهملة المذكورة عليه، لوضوح الفرق بين الأمرين، بل المقصود أن قيام
الدليل الظني على عدم حجية غير الظنون الخاصة قاض بسقوطها عن الحجية،
فإن تنزيل ذلك الدليل الظني منزلة القطع قاض بعدم حجية غيرها من الظنون.
فإن قلت: إنه يقع المعارضة حينئذ بين الظن المتعلق بالحكم والظن المتعلق
بعدم حجية ذلك الظن لقضاء الأول بالظن بأداء المكلف به القاضي بحصول الفراغ
وقضاء الثاني بالظن ببقاء الاشتغال فيتدافعان، ولا بد حينئذ من الرجوع إلى أقوى
الظنين المذكورين لا القول بسقوط الأول رأسا.
قلت: لا مصادمة بين الظنين المفروضين أصلا، نظرا إلى اختلاف متعلقيهما،
مع انتفاء الملازمة بينهما أيضا، لوضوح إمكان حصول الظن بالواقع مع الظن بعدم
حصول البراءة به في الشريعة، أو العلم به كما هو الحال في القياس ونظائره، بل لا
اقتضاء فيه لذلك كما مرت الإشارة إليه. وأيضا أقصى ما يسلم في المقام أن يكون
الظن بأداء الواقع مقتضيا للظن بحصول البراءة في الشريعة، وهو لا يزاحم الدليل
الظني القائم على خلافه حتى يتدافعان، ويرجع الأمر إلى ملاحظة الترجيح، بل
مع ملاحظة حصول الثاني لا يحصل من الأول إلا مجرد الظن بالواقع من غير
حصول الظن بالبراءة الشرعية.
فإن قلت: على هذا يقع المعارضة بين الدليل الظني المفروض والدليل القاطع
المذكور الدال على حجية مطلق الظن لقضاء ذلك بعدم حجية الظن المفروض فهو
دليل ظني خاص معارض لما يقتضيه القاعدة القطعية المذكورة. ومن البين أن
الظني لا يقاوم القطعي فلا وجه لالتزام التخصيص فيها وإخراج ذلك عن القاعدة
من جهة قيام الدليل المفروض.
366

قلت: لا تعارض في المقام بين الدليلين حتى تكون ظنية أحدهما قاضية
بسقوطه في المقام، بل نقول: إن ما يقتضيه الدليل القاطع مقيد بعدم قيام الدليل
على خلافه حسب ما مر بيانه. فإذا قام الدليل عليه لم يعارض ذلك ما يقتضيه
الدليل المذكور، بل ينتهي عنده الحكم المدلول عليه، فالظن الذي قام الدليل
المذكور على عدم حجيته خارج عن موضوع الحكم المذكور.
وقد عرفت سابقا أن خروج الظنون التي قام الدليل القاطع على عدم حجيتها
ليس من قبيل التخصيص ليلزم التخصيص في الأدلة العقلية، فكذا ما بمنزلته من
الدليل الظني إذا أفاد عدم حجية بعض الظنون فلا مدافعة أصلا.
فإن قلت: إن قام هناك دليل على عدم حجية بعض الظنون كان الحال فيه على
ما ذكرت، وأما مع قيام الدليل الظني عليه فإنما يصح كونه مخرجا عن موضوع
القاعدة المقررة إذا كانت حجيته معلومة، وهي إنما تبتني على القاعدة المذكورة،
وهي غير صالحة لتخصيص نفسها، إذ نسبتها إلى الظنين على نحو سواء. فنقول: إن
مقتضى الدليل المذكور حجية الظنين معا، ولما كانا متعارضين لا يمكن الجمع
بينهما كان اللازم مراعاة أقواهما والأخذ به في المقام على ما هو شأن الأدلة
المتعارضة من غير أن يكون ترك أحد الظنين مستندا إلى القاعدة المذكورة كما هو
مبنى الجواب، إذ لا يتصور تخصيصها لنفسها.
والحاصل: أن المخرج عن حكم تلك القاعدة في الحقيقة هو الدليل الدال
على حجية الظن المفروض، إذ الظن بنفسه لا ينهض حجة قاضية بتخصيص
القاعدة الثابتة، والمفروض أن الدليل عليها هي القاعدة المفروضة فلا يصح جعلها
مخصصة لنفسها أقصى الأمر مراعاة أقوى الظنين المفروضين.
قلت: الحجة عندنا هي كل واحد من الظنون الحاصلة وإن كان المستند في
حجيتها شيئا واحدا، وحينئذ فالحكم بحجية كل واحد منها مقيد بعدم قيام دليل
على خلافه. ومن البين حينئذ كون الظن المتعلق بعدم حجية الظن المفروض دليلا
قائما على عدم حجية ذلك الظن فلا بد من ترك العمل به.
367

والحاصل: أن العقل قد دل على حجية كل ظن حتى يقوم دليل شرعي على
عدم حجيته، فإذا تعلق ظن بالواقع وظن آخر بعدم حجية ذلك الظن كان الثاني
حجة على عدم جواز الرجوع إلى الأول وخرج بذلك من الاندراج تحت الدليل
المذكور، فليس ذلك مخصصا لتلك القاعدة أصلا.
فإن قلت: إن العقل كما يحكم بحجية الظن الأول إلى أن يقوم دليل على
خلافه كذا يحكم بحجية الأخير كذلك، وكما يجعل الثاني باعتبار كونه حجة دليلا
على عدم حجية الأول فليجعل الأول باعتبار حجيته دليلا على عدم حجية الثاني،
إذ لا يمكن الجمع بينهما في الحجية فأي مرجح للحكم بتقديم الثاني على الأول؟
قلت: نسبة الدليل المذكور إلى الظنين بأنفسهما على نحو سواء لكن الظن
الأول متعلق بحكم المسألة بالنظر إلى الواقع والظن الثاني متعلق بعدم حجية
الأول، فإن كان مؤدى الدليل حجية الظن مطلقا لزم ترك أحد الظنين ولا ريب إذن
في لزوم ترك الثاني، فإنه في الحقيقة معارض للدليل القاطع القائم على حجية
الظن مطلقا لا للظن المفروض. وحينئذ فلا ظن بحسب الحقيقة بعد ملاحظة الدليل
القطعي المفروض، وأما إن كان مؤداه حجية الظن إلا ما دل الدليل على عدم
حجيته فلا مناص من الحكم بترك الأخذ بالظن الأول، إذ قضية الدليل المفروض
حجية الظن الثاني فيكون دليلا على عدم حجية الأول، ولا معارضة فيه للدليل
القاضي بحجية الظن لكون الحكم بالحجية هناك مقيدا بعدم قيام الدليل على
خلافه ولا للظن الأول، لاختلاف متعلقيهما. ولو أريد الأخذ بمقتضى الظن الأول
لم يمكن جعل ذلك دليلا على عدم حجية الظن الثاني، لوضوح عدم ارتباطه به
وإنما يعارضه ظاهرا نفس الحكم بحجيته.
وقد عرفت أنه لا معارضة بينهما بحسب الحقيقة ولا يصح أن يجعل حجية
الظن الأول دليلا على عدم حجية الثاني، إذ الحجة في المقام هي نفس الظنين
والدليل المذكور في المقام دال على حجيتهما، وهو أمر واحد بالنسبة إليهما
بأنفسهما على نحو سواء كما عرفت، وليست حجية الظن حجة في المقام، بل
الحجة نفس الظن.
368

وقد عرفت أنه بعد ملاحظة الظنين وملاحظة حجيتهما على الوجه المذكور
ينهض الثاني دليلا على عدم حجية الأول دون العكس، فيكون قضية الدليل القائم
على حجية الظن - إلا ما قام الدليل على عدم حجيته بعد ملاحظة الظنين
المفروضين - حجية الثاني وعدم حجية الأول من غير حصول تعارض بين الظنين
حتى يؤخذ بأقواهما حسب ما اتضح مما قررنا.
فإن قلت: إن مقتضى الدليل المذكور حجية الظن المتعلق بالفروع، والظن
المذكور إنما يتعلق بالأصول، حيث إن عدم حجية الظنون المفروضة من مسائل
أصول الفقه فلا دلالة فيه إذن على عدم حجيتها فيندرج تلك الظنون حينئذ تحت
القاعدة المذكورة ويكون الدليل المذكور حجة قاطعة على حجيتها.
قلت: أولا: إن مفاد الدليل المذكور حجية الظن في ما انسد فيه سبيل العلم مع
العلم ببقاء التكليف فيه، ولا اختصاص له بالفروع وإن كان عقد البحث إنما يستند
إليها، والمفروض انسداد سبيل العلم في هذه المسألة وعدم المناص عنه في العمل.
وثانيا: أن مرجع الظن المذكور إلى الظن في الفروع، إذ مفاده عدم جواز
العمل بمقتضى الظنون المفروضة والإفتاء الذي هو من جملة أعمال المكلف،
فتأمل.
الخامس:
إنه بعد البناء على حجية الظن في الجملة على سبيل القضية المهملة كما قضت
به المقدمات الثلاث المذكورة إذا دار الأمر فيه بين حجية جميع الظنون أو الظنون
الخاصة من دون قيام مرجح لأحد الوجهين لزم البناء على حجية الجميع،
لتساوي الظنون إذن في نظر العقل وبطلان الترجيح من غير مرجح قاض بالتعيين.
وأما إذا كان البعض من تلك الظنون مقطوعا بحجيته على فرض حجية الظن في
الجملة دون البعض الآخر تعين ذلك البعض للحكم بالحجية دون الباقي، فإنه
القدر اللازم من المقدمات المذكورة دون ما عداه، إذ حكم العقل بحجية الكل على
ما ذكر ليس من جهة انتفاء المرجح بينها بحسب الواقع حتى يجب الحكم بحجية
369

الجميع كذلك، بل إنما هو من جهة عدم علمه بالمرجح فلا يصح له تعيين البعض
للحكم بالحجية دون البعض من دون ظهور مرجح عنده فيتعين عليه الحكم
بحجية الكل بعد القطع بعدم المناص عن الرجوع إليه في الجملة، فعموم الحكم إنما
يجئ حينئذ من جهة الجهل بالواقع، ولا يجري ذلك عند دوران الأمر بين
الأخص والأعم على نحو ما هو المفروض في المقام، لثبوت حجية الأخص
حينئذ على التقديرين، فبعد ثبوت حجية الظن في الجملة لا كلام إذن في حجية
الأخص، وإنما التأمل في الحكم بحجية الباقي وحينئذ فكيف يسوغ للعقل في
مقام الجهل أن يحكم بجواز الرجوع إلى الباقي مع الاكتفاء بتلك الظنون في
استعلام الأحكام، والمفروض كون حجية الأخص حينئذ مقطوعا بها عند العقل
وحجية الباقي مشكوكة، بل الضرورة العقلية إذن قاضية بترجيح الأخص
والاقتصار عليه في مقام الجهل حتى يتبين حجية غيره من الظنون؟!
فإن قلت: إن الظنون الخاصة لا معيار لها حتى يؤخذ بها على مقتضى اليقين
المفروض لحصول الخلاف في خصوصياتها، ودوران الأمر بين الأخذ بالكل
والبعض المبهم لا ينفع في المقام، لوضوح عدم إمكان الرجوع إلى المبهم،
والمفروض أنه لا دليل على شئ من خصوص الظنون ليكون ترجيحا
بالخصوص فيلزم الحكم بحجية الجميع، لانتفاء المرجح عندنا.
قلت: لا بد في حكم العقل حينئذ من الأخذ بأخص الوجوه مما اتفق عليه
القائلون بالظنون الخاصة بأن لا يحتمل الاقتصار على ما دونه بناء على القول
المذكور إن اكتفى به في دفع الضرورة ويترك الباقي مما وقع فيه الخلاف المذكور
على القول المذكور، فلا يثبت بالقضية المهملة الحاكمة بحجية الظن حينئذ ما يزيد
على ذلك. وإن لم يكتف بالقدر المعلوم حينئذ لاستنباط الأحكام اخذ بالأخص
بعده أخذا بمقتضى المقدمات المذكورة وجريا على مفاد الدليل المذكور بعينه
بالنسبة إلى ما بعده، فإن لم يكتف أيضا بالأخص بعده تعين ما ذكر إلى أن يدفع به
الضرورة ويترك الباقي بعد ذلك، هذا إذا كانت الظنون متداخلة.
370

وأما إذا كانت متباينة بأن كان أرباب الظنون الخاصة مختلفين من غير أن
يكون هناك ظن متفق عليه بينهم، أو كان ولم يكن وافيا بالأحكام كان اللازم
الحكم بحجية جميع تلك الظنون، لدوران البعض المحكوم بحجيته قطعا بين تلك
الظنون، ولا ترجيح بينها فيجب الأخذ بجميعها من غير أن يتسرى إلى غيرها مما
يتعدى عن تلك المرتبة، فالقدر الثابت من تلك المقدمات القاضية بحجية الظن
على سبيل الإهمال هو الحكم بحجية البعض، ولما دار ذلك البعض بين ظنون
عديدة كان قضية انضمام المقدمة الرابعة - أعني عدم الترجيح بينها وبطلان
الترجيح بلا مرجح - هو حجية جميع تلك الظنون ولا يتعدى إلى غيرها من سائر
الظنون.
فإن قلت: إن المرجح للأخذ بالبعض إنما هو الأخذ بالمتيقن بعد إثبات حجية
الظن في الجملة، وإذا دار ذلك البعض بين ظنون عديدة وقع الاختلاف فيها انتفى
المرجح المذكور فلا قاضي إذن بترجيح البعض، بل تتساوى تلك الأبعاض
وغيرها من الظنون، لوقوع الخلاف في الجميع.
قلت: إن هناك درجتين لتسرية الحجية إلى الظنون:
أحدهما: أن يحكم بحجية تلك الأبعاض الخاصة بعد العلم بحجية الظن في
الجملة، ودوران الحجية بين جميع تلك الأبعاض وبعضها نظرا إلى انتفاء الترجيح
بين تلك الأبعاض وعدم المناص عن العمل.
وثانيهما: أن يتسرى إلى جميع الظنون منها ومن غيرها.
ومن البين أن العقل حين جهالته ودوران الأمر عنده بين الوجهين إنما يأخذ
بالأخص، فإن المهملة إنما تكون كلية على قدر ما قام الدليل القاطع عليه دون ما
يزيد عليه.
والحاصل: أنه بعد قيام الاحتمالين المذكورين إذا لم يقم دليل خاص على
شئ منهما كان قضية حكم العقل في شأن الجاهل بالحال هو الاقتصار على الأقل،
وعدم تسرية الحكم إلى ما عدا تلك الظنون أخذا بالمتيقن على التقدير المفروض.
371

وبتقرير آخر أوضح: أن العقل بعد علمه بحجية الظن في الجملة والتزامه
بالعمل بالظن المعين - إذ لا يعقل العمل بالمبهم - يتعين عليه الحكم بحجية المعين،
وحيث لم يقم عنده دليل خاص على تعيين ما هو الحجة من الظنون لا كلا ولا
بعضا ودار الأمر عند العقل بين حجية البعض المعين - أعني الظنون المفروضة -
وحجية الكل ووقع الخلاف بين العلماء في ذلك لم يجز له الحكم حينئذ بحجية ما
يزيد على ذلك البعض، فإن الضرورة الملجئة له إلى العمل يندفع به، فلا داعي لضم
غيره من الظنون إليه والحكم بحجية الكل من دون ضرورة قاضية به، وعدم قيام
دليل خاص على التعيين لا يقضي بتسرية الحكم للجميع من جهة انتفاء المرجح
حينئذ، لما عرفت من أن أخصية أحد الوجهين في مثل هذا المقام من أعظم
المرجحات للحكم بالأخص، ولا يجوز عند العقل حين جهله بالحال التعدي منه
إلى غيره قطعا، وهو ظاهر.
فإن قلت: إن تم ما ذكر من البيان فإنما يتم لو لم يعارض الظن الخاص غيره
من الظنون، وأما مع المعارضة ورجحان الظن الآخر فلا يتم ذلك، لدوران الأمر
حينئذ بين الأخذ بأحد الظنين فيتوقف الرجحان على ثبوت المرجح بالدليل، ولا
يجري فيه الأخذ بالأخص، ولا اتفاق على الأخذ بالظن الخاص ليتم الوجه
المذكور، فيتساوى الجميع إذن في الحجية، وقضية بطلان الترجيح بلا مرجح هو
حجية الكل حسب ما قرروه، ولا بد حينئذ من الأخذ بالأقوى على ما يقتضيه
قاعدة التعارض.
قلت: لما لم يكن تلك الظنون حجة مع الخلو عن المعارض حسب ما ذكر فمع
وجوده لا تكون حجة بالأولى، فلا يعقل إذن معارضته لما هو حجة عندنا.
فإن قلت: إنا نقلب ذلك ونقول: إذا حكم إذن بحجية الكل نظرا إلى بطلان
الترجيح بلا مرجح لزم القول بحجيته مع انتفاء المعارض بالأولى، ويتعين الأخذ
بذلك دون عكسه، فإن قضية الدليل المذكور ثبوت الحجية في الصورة المفروضة
بخلاف ما اقتضاه الوجه الآخر من دفع الحجية في الصورة الأخرى، فإنه إنما
372

يقول به من جهة الأصل وانتفاء الدليل على الحجية، لعدم وفاء الدليل المذكور
بإثباته، فيكون إثباتها هنا حاكما على نفيها فيثبت الحجية إذن في جميع الظنون.
قلت: يمكن أن يقال في دفعه بأن القائل بحجية الظن مطلقا لا يمنع من حجية
الخبر مثلا إذا عارضه الشهرة وكانت أقوى. غاية الأمر أنه يرجح جانب الشهرة
حينئذ لقوة الظن في جهتها، فهي حينئذ عنده أقوى الحجتين يتعين العمل بها عند
المعارضة وترك الأخرى، لوجود المعارض الأقوى المانع من العمل بالحجة لا أنه
يسقطها عن الحجية بالمرة، وفرق بين انتفاء الحجية من أصلها وثبوتها وحصول
مانع عن العمل بها، لوجود المقتضي في الثاني، إلا أنه مصادف لوجود المانع
بخلاف الأول، إذ لا حجية هناك حتى يلاحظ التعارض بينه وبين غيره.
إذا تقرر ذلك فنقول: إنه على ما قررنا يكون بين القول بحجية الظنون الخاصة
ومطلق الظن عموم مطلق، كما هو أحد الوجهين المتقدمين في أول المسألة، فكل
من يقول بحجية مطلق الظن يقول بحجية الظنون الخاصة إلا أن يقوم عنده دليل
على خلافه دون العكس، وبذلك يتم المطلوب، إذ بعد تسليم حجية الخبر في
الصورة المفروضة لا دليل على حجية الشهرة حتى يعارض بها تلك الحجة
المسلمة فضلا عن ترجيحها عليها، فإن الحكم بالترجيح فرع الحجية، فإذا كانت
منتفية لعدم قيام الدليل عليها لم يعقل الترجيح، ويتم ما قررناه، فإن الفريقين
متفقان حينئذ على حجية الخبر وجواز العمل به في نفسه لولا وجود المعارض
الأقوى، إلا أن القائل بحجية مطلق الظن يقول حينئذ بوجود المعارض، فلا يجوز
عنده العمل بالخبر من تلك الجهة وإنما يتم له تلك الدعوى على فرض إثباته.
وقد عرفت أنه لا دليل عليه حينئذ فيتعين العمل بالخبر، هذا غاية ما يمكن
تقريره في تصحيح هذا الوجه، ولا يخلو عن تأمل.
السادس:
إنه قد دلت الأخبار القطعية والإجماع المعلوم من الشيعة على وجوب
الرجوع إلى الكتاب والسنة، بل ذلك مما اتفقت عليه الأمة وإن وقع الخلاف بين
373

الخاصة والعامة في موضوع السنة، وذلك مما لا ربط له بالمقام، وحينئذ نقول: إن
أمكن حصول العلم بالحكم الواقعي من الرجوع إليهما في الغالب تعين الرجوع
إليهما على الوجه المذكور حملا لما دل على الرجوع إليهما على ذلك، وإن لم
يحصل ذلك بحسب الغالب وكان هناك طريق في كيفية الرجوع إليهما تعين الأخذ
به وكان بمنزلة الوجه الأول. وإن انسد سبيل العلم به أيضا وكان هناك طريق ظني
في كيفية الرجوع إليهما لزم الانتقال إليه والأخذ بمقتضاه وإن لم يفد الظن بالواقع
تنزلا من العلم إلى الظن مع عدم المناص عن العمل، وإلا لزم الأخذ بهما والرجوع
إليهما على وجه يظن منهما بالحكم على أي وجه كان، لما عرفت من وجوب
الرجوع إليهما حينئذ فيتنزل إلى الظن، وحيث لا يظهر ترجيح لبعض الظنون
المتعلقة بذلك على بعض يكون مطلق الظن المتعلق بهما حجة فيكون المتبع حينئذ
هو الرجوع إليهما على وجه يحصل الظن منهما.
والحاصل: أن هناك درجتين:
أحدهما: الرجوع إليهما على وجه يعلم معه بأداء التكليف من أول الأمر إما
لكون الرجوع إليهما مفيدا للعلم بالواقع أو لقيام دليل أولا على الرجوع إليهما على
وجه مخصوص سواء أفاد اليقين بالواقع أو الظن به أو لم يفد شيئا منهما.
ثانيهما: الرجوع إليهما على وجه يظن معه بذلك، وذلك بعد انسداد سبيل العلم
إلى الأول مع العلم ببقاء التكليف المذكور فينزل في حكم العقل إلى الظن به، فإن
سلم انسداد سبيل الوجه الأول على وجه مكتفى به في استعلام الأحكام كما
يدعيه القائل بحجية مطلق الظن فالمتبع في حكم العقل هو الوجه الثاني، سواء
حصل هناك ظن بالطريق أو الواقع، وإن ترتب الوجهان على حسب ما مر من
التفصيل، وحينئذ فالواجب الأخذ بمقتضى الظن المذكور بخصوصه في استنباط
الأحكام من غير تعدية إلى سائر الظنون.
فإن قلت: إنا نمنع وجوب الأخذ بالكتاب والسنة مطلقا ولو مع عدم إفادتهما
اليقين بالحكم ولم يقم عليه دليل قاطع، وقيام الاجماع على وجوب الرجوع
374

إليهما من القائل بحجية مطلق الظن، والظن المخصوص لا يفيد حجيتهما
بالخصوص، إذ القائل بحجية مطلق الظن لا يقول بحجيته من حيث الخصوصية
وإنما يقول به من جهة اندراجه تحت مطلق الظن، والقائل بحجية الظن الخاص لا
يثبت بقوله إجماع مع مخالفة الباقين ولم يقم دليلا قاطعا عليه حتى يثبت به ذلك،
والقول بدلالة الأخبار القطعية عليه ممنوع.
أقصى الأمر دلالتها على حجية ذلك بالنسبة إلى المشافهين المخاطبين بتلك
الخطابات ومن بمنزلتهم وحينئذ قد يقال بحصول العلم بالنسبة إليهم، إذ لا بعد إذن
في احتفافها إذن بالقرائن القاطعة، ومع تسليم عدمه. فغاية الأمر حجية الظن
الحاصل بالنسبة إليهم وذلك غير الظن الحاصل لنا، للاحتياج إلى ضم ظنون
عديدة لم تكن محتاجا إليها حينئذ، ولا دليل على حجيتها عندنا إلا ما دل على
حجية مطلق الظن.
قلت: المناقشة في ما ذكرناه واهية، إذ انعقاد الاجماع على وجوب الرجوع
إلى الكتاب والسنة بالنسبة إلى زماننا هذا وما قبله من الأمور الواضحة الجلية، بل
مما يكاد يلحق بالضروريات الأولية، وليس بناء الإيراد على إنكاره، حيث إنه
غير قابل للمنع والمنازعة.
ولذا نوقش فيه من جهة اختلاف المجمعين في المبنى، فإن منهم من يقول به
من جهة كونه من جزئيات ما يفيد الظن لا لخصوصية فيهما، فلا يقوم إجماع على
اعتبار الظن الحاصل منهما بخصوصه.
وفيه: أنه بعد قيام الاجماع عليه لا عبرة بالخلاف المذكور في ما نحن
بصدده، إذ ليس المقصود دعوى الاجماع على وجوب الرجوع إلى الكتاب
والسنة باعتبار خصوصيتهما، بل المدعى قيام الاجماع بالخصوص على وجوب
الرجوع إليهما ليكون الظن الحاصل منهما حجة ثابتة بالخصوص، إذ لا حاجة إذن
في إثبات حجيتهما إلى ملاحظة الدليل العقلي المذكور، بل هو ثابت بالاجماع
القطعي، فيكون هو ظنا ثابتا بالدليل الخاص، وليس يعني بالظن الخاص إلا ما
375

يكون حجيته ثابتة بالخصوص لا ما يكون حجيته بحسب الواقع بملاحظة
الخصوصية الحاصلة فيه لا من جهة عامة، وهو واضح لا خفاء فيه، فإذا ثبت
حجية الظن الحاصل منهما في الجملة ووجوب العمل بهما وعدم سقوط ذلك
عنده، ولم يتعين عندنا طريق خاص في الاحتجاج بهما كان قضية حكم العقل
حجية الظن المتعلق بهما مطلقا، حسب ما قررناه.
وأما المناقشة في الأخبار الواردة في ذلك فإن كان من حيث الإسناد فهو واه
جدا، وكذا من جهة الدلالة، إذ من البين بعد ملاحظة فهم الأصحاب وعملهم
شمولها لهذا العصر ونحوه قطعا، وليس جميع تلك الأخبار من قبيل الخطاب
الشفاهي ليخص الحاضرين، ويتوقف الشمول للباقين على قيام الاجماع، ومع
الغض عن ذلك ففي ما ذكرناه من الاجماع المعلوم كفاية في المقام.
وكيف كان، فإن سلم عدم قيام الدليل القاطع من الشارع أولا على حجية
الظن المتعلق بالكتاب والسنة على وجه يتم به نظام الأحكام - حسب ما ندعيه
كما سيأتي الإشارة إليه - فقضية حكم العقل هو حجية الظن المتعلق بهما من أي
وجه كان على ما يقتضيه الدليل المذكور، والمقصود بالاحتجاج المذكور بيان هذا
الأصل، وبعد ثبوته لا وجه للرجوع إلى شئ من سائر الظنون، إذ لا ضرورة إليها
ولم يقم عليها دليل خاص.
فإن قلت: إن القدر المسلم وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة في الجملة ولا
يقضي ذلك بحجية الظن الحاصل منهما مطلقا، بل القدر الثابت من ذلك هو ما قام
الاجماع عليه فيقتصر من الكتاب على خصوصه، ومن السنة على الخبر الصحيح
الذي يتعدد مزكي رجاله، فلا يعم سائر وجوه الظن الحاصل من الكتاب والسنة.
وحينئذ نقول: إنه لا يكفي الظن المذكور (1) في استنباط الأحكام فيتوقف الأمر

(1) المعلوم بإجماع الشيعة بل الأمة والأخبار القطعية وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة
الواقعية التي هي قول المعصوم أو فعله أو تقريره، ولا فرق في ذلك بين أن يفيد ذلك القطع
بالحكم الواقعي أو الظن، بل وإن لم يفد أحدهما. وليس شئ من ذلك من باب الظن
المطلق الثابت بدليل الانسداد، فإذا انسد طريق العلم بالسنة الواقعية فاللازم الأخذ بالظن
بكونها سنة.
ومن المعلوم أن الظن الحاصل من الشهرة وأخواتها من الظنون المطلقة مساوية مع
الأخبار في كونها كاشفة ظنا عن السنة الواقعية، أعني القول أو الفعل أو التقرير الصادر من
المعصوم (عليه السلام)، فهذا هو الاستدلال المشهور لحجية الظن المطلق في الأحكام الواقعية مع
اختلال وفساد في تقريره، من جهة أن وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة ليس لذاته، بل
لأجل ثبوت التكليف بالأحكام الواقعية الموقوف معرفتها على الرجوع إلى الكتاب والسنة،
فهذا بعينه دليل المشهور على مطلق الظن من شيخنا الشيخ المرتضى أدام الله إفادته (من
هامش ط. والظاهر أنه من الشيخ محمد باقر نجل المؤلف (قدس سرهما)).
376

على الرجوع إلى ظن آخر، ويؤول الأمر أيضا إلى وجوب الرجوع إلى كل ظن
لانتفاء المرجح على حسب ما مر، فلا يتم التقريب المذكور.
قلت: بناء على اختيار الوجه المذكور لا نسلم قيام الدليل القاطع على حجية
خصوص شئ من الأخبار كيف؟ ومن البين أن غالب التوثيقات الواردة من
علماء الرجال ليس من قبيل الشهادة حتى يقوم تعديل معدلين منهم مقام العلم،
ومع ذلك فقيام الدليل القاطع على قيام شهادة الشاهدين مقام العلم في المقام محل
منع، ومع الغض عنه فحجية خبر الثقة مطلقا مما لم يقم عليه دليل قطعي، وإذا لم
يقم دليل قاطع على حجية خصوص شئ من الأخبار كان الحال على نهج واحد،
وكان الأمر دائرا مدار الظن حسب ما قررناه، ولو فرض قيام دليل قاطع على
حجية بعض أقسامه فهو أقل قليل منها، ومن البين أنه لا يكتفي به في الخروج عن
عهدة ذلك التكليف. ومن المعلوم كون التكليف بالرجوع إلى الكتاب والسنة في
يومنا هذا زائدا على القدر المفروض. وبملاحظة ذلك يتم التقريب المذكور.
والفرق في ذلك بين نصوص الكتاب وظواهره إن كان الملحوظ فيه حصول
القطع من الأول دون الثاني فهو فاسد، إذ دعوى حصول القطع من النصوص مطلقا
غير ظاهرة حسب ما قرر ذلك في محله. وإن كان المقصود دعوى القطع بحجيتها
دون الظواهر نظرا إلى حصول الاتفاق على حجية النصوص دون غيرها ففيه أنه
377

لا فرق في ذلك بين الأمرين، لقيام الاتفاق في المقامين، وليس الحال في مفاد
ألفاظ الكتاب إلا كألفاظ السنة، والتفصيل المذكور وإن ذهب إليه شذوذ إلا أنه
موهون جدا حسب ما قرر الكلام فيه في محله.
كيف! والرجوع إلى الكتاب والسنة والتمسك بهما وما بمعناهما مما ورد في
الروايات يعم الأمرين كما يعلم الحال فيه من ملاحظة نظائر تلك العبارات في
سائر المقامات.
فإن قلت: إن قضية ما ذكر من وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة هو الرجوع
إلى ما علم كونه كتابا وسنة وإن كان الأخذ منهما على سبيل الظن تحقيقا
للموضوع كما هو قضية الأصل، فلا عبرة بالكتاب الواصل إلينا على سبيل الظن
حسب ما أشاروا إليه في بحث الكتاب. وكذا لا ينبغي أن لا يعتبر من السنة إلا ما
ينقل إلينا على وجه اليقين من المتواتر والمحفوف بقرينة القطع، وحينئذ فلا يتم ما
قرر في الاحتجاج، لظهور عدم وفاء المقطوع به منهما بالأحكام وإن كان استنباط
الحكم منهما على سبيل الظن، فلا بد أيضا من الرجوع إلى مطلق الظن.
قلت: لا ريب أن السنة المقطوع بها أقل قليل، وما يدل على وجوب الرجوع
إلى السنة في زماننا هذا يفيد أكثر من ذلك، للقطع بوجوب رجوعنا اليوم في
تفاصيل الأحكام إلى الكتب الأربعة وغيرها من الكتب المعتمدة في الجملة
بإجماع الفرقة واتفاق القائل بحجية مطلق الظن والظنون الخاصة، فلا وجه للقول
بالاقتصار على السنة المقطوعة، وبذلك يتم التقريب المذكور.
فإن قلت: لما كان محصل الوجه المذكور إرجاع الأمر بعد القطع ببقاء
التكليف بالرجوع إلى الكتاب والسنة وانسداد سبيل تحصيل العلم منهما، وعدم
قيام دليل على تعيين طريق خاص من الطرق الظنية في الرجوع إليهما وإلى مطلق
الظن الحاصل منهما كان هذا الوجه بعينه هو ما قرروه لحجية مطلق الظن، فإن هذا
التكليف جزئي من جزئيات التكاليف التي انسد سبيل العلم بها وقضية العقل في
الجميع هو الرجوع إلى الظن بعد العلم ببقاء التكليف حسب ما مر، فلا اختصاص
378

إذن للظن المذكور، بل يندرج على ما عرفت تحت القاعدة الكلية التي ادعوها.
قلت: لا حاجة في الحكم بالرجوع إلى الظن في المقام إلى ملاحظة الدليل
العام، بل العلم ببقاء التكليف بالرجوع إلى الكتاب والسنة في الجملة بعد انسداد
سبيل العلم بالتفصيل حسب ما فرض يقضي بحكم العقل بتعين الرجوع إلى الظن
في ذلك، فيكون الظن المذكور قائما مقام العلم قطعا، ومعه فلا حاجة إلى الرجوع
إلى غيره من الظنون، وينطبق عليه ما دل عليه العقل من حجية الظن في الجملة.
فإن قلت: إن الوجه المذكور الدال على الانتقال من العلم إلى الظن في المقام
كما يجري في ما ذكر كذا يجري في سائر التكاليف عند انسداد باب العلم بها،
وكما لا يكون اعتباره في كل منهما منفردا قاضيا بتعدد الدليل وخروجه عن
الاندراج تحت الأصل المذكور، فكذا هنا.
قلت: ليس المقصود بالظن الخاص إلا ما قام الدليل الخاص على حجيته مع
قطع النظر عن قيام الدليل على حجية مطلق الظن، وذلك حاصل بالنسبة إلى الظن
الحاصل من الرجوع إلى الكتاب والسنة، لقيام الدليل على وجوب الرجوع إليهما
مع عدم حصول العلم منهما بالواقع وعدم ثبوت طريق خاص في الرجوع إليهما
كما هو المفروض، إذ مؤداه حينئذ حجية الظن الحاصل منهما مطلقا ولا ربط لذلك
بالقول بحجيتها من جهة انسداد باب العلم بالحكم المستفاد منهما وانحصار الأمر
في الوصول إليه بالرجوع إلى الظن حسب ما قرروه في الاحتجاج، فلا وجه
لإدراج ذلك في مصاديق الأصل المذكور، لما عرفت من وضوح خلافه.
فإن قلت: إن المراد من القول بإدراجه تحت الأصل المذكور أن جهة حجية
الظن المستفاد منهما مطلقا هو العلم ببقاء التكليف بالرجوع إليهما وانسداد سبيل
العلم بالطريق الذي يجب الأخذ به في الرجوع إليهما، فجهة حجية هذا الظن في
المقام هي بعينه جهة حجية مطلق الظن بسائر الأحكام فلا يكون لخصوصيته
مدخلية في ذلك.
قلت: كون الدليل المذكور على طبق ذلك الدليل العام لا يقضي بكون ذلك من
379

جزئيات ذلك الدليل وكون الأخذ به من جهة الاندراج تحت الأصل العام ليكون
المناط في حجيته هي الجهة العامة، وهو ظاهر.
ومع الغض عن ذلك نقول: إن كون الطريق بعد القطع ببقاء التكليف وانسداد
سبيل العلم به وعدم ثبوت طريق آخر هو الظن بذلك أمر واضح في نظر العقل لا
مجال لإنكاره، فإذا لوحظ ذلك بالنسبة إلى نفس الأحكام قضى بحجية الظن
المتعلق بها من أي طريق كان إن لم يثبت هناك طريق خاص، وإذا لوحظ بالنسبة
إلى الطريق المقرر لاستنباط الأحكام كالرجوع إلى الكتاب والسنة بعد ثبوت
مطلوبية الأخذ بذلك الطريق بعد انسداد سبيل العلم بتفصيل ما هو الحجة منه قضى
ذلك بحجية الظن المتعلق به مطلقا إن لم يثبت هناك خصوصية لبعض الوجوه.
وحينئذ نقول: إنه إذا [لوحظ هذان الأمران قضى العقل بتقديم الثاني على
الأول] (1) ثبت بذلك حجية الظن بحجية بعض الطرق لاستنباط الأحكام إذا كان
كافيا في الاستنباط قضي بانصراف ما دل على حجية الظن في الجملة إلى ذلك،
فإن ما يستفاد منه هو حجية جميع الظنون المتعلقة بالواقع، إلا إذا ثبت هناك طريق
خاص للاستنباط، والمفروض هنا ثبوت الطريق المذكور فلا يثبت من ملاحظة
الوجه الأول ما يزيد على ذلك، فإن حجية الظن على خلاف الأصل وإنما يقتصر
فيه على القدر الثابت، وحيث لا يكون ترجيح بين الظنون يحكم بحجية الكل،
لعدم المناص عن الأخذ به وعدم ظهور الترجيح بين الظنون، وبعد ثبوت هذا
الوجه الخاص والاكتفاء به في الاستنباط لا يحكم العقل قطعا بعد ملاحظة الوجه
الأول بحجية ما عدا ذلك من الظنون.
السابع:
إنه لا شك في كون المجتهد بعد انسداد باب العلم مكلفا بالإفتاء وأنه لا يسقط
عن التكليف المذكور من جهة انسداد سبيل العلم.
ومن البين أن الإفتاء فعل كسائر الأفعال يجب بحكم الشرع على بعض

(1) هذه العبارة أثبتناها من " ف " و " ق ".
380

الوجوه، ويحرم على آخر. فحينئذ إن قام عندنا دليل علمي على تميز الواجب منه
عن الحرام فلا كلام في تعين الأخذ به ووجوب الإفتاء بذلك الطريق المعلوم
وحرمة الإفتاء على الوجه الآخر، وإن انسد سبيل العلم بذلك أيضا تعين الرجوع
في التمييز إلى الظن، ضرورة بقاء التكليف المذكور وكون الظن هو الأقرب إلى
الواقع. فإذا دار أمره بين الإفتاء بمقتضى مطلق الظن أو بمقتضى الظنيات الخاصة
دون مطلق الظن لم يجز له ترك الفتوى مع حصول الأول ولا الإقدام عليه بمجرد
قيام الثاني، إذ هو ترك الظن وتنزل إلى الوهم من دون باعث عليه.
فإن قلت: إن الظن بثبوت الحكم في الواقع في معنى الظن بثبوت الحكم في
شأننا وهو مفاد الظن بتعلق التكليف ينافي الظاهر فكيف يقال بالانفكاك بين الظن
بالحكم والظن بتعلق التكليف في الظاهر المرجح للحكم والإفتاء؟
قلت: إن أقصى ما يفيده الظن بالحكم هو الظن بثبوت الحكم في نفس الأمر،
وهو لا يستلزم الظن بجواز الإفتاء أو وجوبه بمجرد ذلك، ضرورة جواز الانفكاك
بين الأمرين حسب ما مر بيانه في الوجوه السابقة، ألا ترى أنه يجوز قيام الدليل
القاطع أو المفيد للظن على عدم جواز الإفتاء حينئذ من دون العارض (1) ذلك الظن
المتعلق بنفس الحكم، ولذا يبقى الظن بالواقع مع حصول القطع أو الظن بعدم جواز
الإفتاء بمقتضاه.
ودعوى: أن قضية الظن بثبوت الحكم في الواقع هو حصول الظن بتعلق
التكليف ينافي الظاهر والظن بجواز الإفتاء بمقتضاه، إلا أن يقوم دليل قاطع أو
مفيد للظن بخلافه عرية عن البيان، كيف! وضرورة الوجدان قاضية بانتفاء
الملازمة بين الأمرين ولو مع انتفاء الدليل المفروض نظرا إلى احتمال أن يكون
الشارع قد منع من الأخذ به.
نعم لو لم يقم هذا الاحتمال كان الظن بالحكم مستلزما للظن بتعلق التكليف
في الظاهر.

(1) في " ق ": أن يعارض.
381

فإن قلت: إن مجرد قيام الاحتمال لا ينافي حصول الظن سيما بعد انسداد
سبيل العلم بالواقع وحكم العقل حينئذ بالرجوع إلى الظن.
قلت: الكلام حينئذ في مقتضى حكم العقل، فإن ما يقتضيه العقل يتوقف
الإفتاء على قيام الدليل القاطع على جوازه وبعد انسداد سبيله ينتقل إلى الظن به،
ومجرد الظن بالواقع لا يقتضيه مع عدم (1) قيام الدليل الظني على جواز الإفتاء
بمجرد حصوله، فإذا قام الدليل الظني على جواز الإفتاء بقيام ظنيات مخصوصة
لزم الأخذ بمقتضاه، وإذا لم يقم على جواز الإفتاء بحصول الظن (2) لم يجز الإفتاء
بها.
نعم إن لم يقم دليل ظني على الرجوع إلى بعض الطرق مما يكتفى به في
استنباط القدر اللازم من الأحكام أو على جواز الرجوع إلى بعضها وكانت الظنون
متساوية من حيث المدرك في نظر العقل كان مقتضى الدليل المذكور القطع
بوجوب العمل بالجميع، وجواز الإفتاء بكل منها، لوجوب الإفتاء حينئذ وانتفاء
المرجح بينها. وأما مع قيام الدليل الظني على أحد الأمرين المذكورين أو كليهما
فلا ريب في عدم جواز الرجوع إلى مطلق الظن بالواقع.
والحاصل: أن الواجب أولا بعد انسداد سبيل العلم بالطريق المجوز للإفتاء هو
الأخذ بمقتضى الدليل القاضي بالظن بجواز الإفتاء، سواء أفاد الظن بالواقع أو لا،
ومع انسداد سبيل الظن به يؤخذ بمقتضى الظن بالواقع ويتساوى الظنون حينئذ في
الحجية، ويكون ما قررناه دليلا قاطعا على جواز الإفتاء بمقتضاها.
ثم إنه لا يذهب عليك أن ما قررناه بالنسبة إلى جواز الإفتاء وعدمه يجري
بعينه لو قرر بالنسبة إلى العمل بالظن بالواقع وتركه، فيقال: إن الأخذ بالظن والعمل
به حين انسداد سبيل العلم بالواقع يتوقف على قيام الدليل القاطع عليه، فإن قام
دليل قاطع عليه من أول الأمر فذاك، ومع انسداد سبيله يتنزل بحكم العقل إلى
الدليل الظني القاضي بالعمل به والجري على مقتضاه، ومع انسداد سبيله يؤخذ بما

(1) ليس في " ف ".
(2) في " ف " و " ق ": ظنون أخرى.
382

يظن منه ثبوت الحكم في الواقع فيتساوى الظنون بأجمعها من حيث المدرك
حينئذ لا قبل ذلك، ولا ريب إذن في حجية الجميع وأين ذلك من القول به قبل
حصول الانسداد المذكور؟ فالخلط الواقع من الجماعة القائلين بأصالة حجية
الظن بعد انسداد سبيل العلم بالواقع إنما وقع من جهة عدم التمييز بين المرتبتين
المذكورتين وعدم إعطاء التأمل حقه في ما يقتضيه العقل من الأمرين المفروضين
ولا ريب في حصول الترتب بين الصورتين، وذلك بحمد الله تعالى واضح لا سترة
عليه.
الثامن:
إن الدليل القاطع قائم على حجية الظنون الخاصة والمدارك المخصوصة، وقد
دل على أن هناك طريقا خاصا مقررا من صاحب الشريعة لاستنباط الأحكام
الشرعية لا يجوز التعدي عنه في الحكم والإفتاء ما دام التمكن منه حاصلا، وما
ذكروه من اعتبار القطع في الأصول لا بد من حمله على إرادة هذه المسائل
ونحوها من مسائل الأصول إن أرادوا بذلك ما يعم أصول الفقه فكيف يلتزم
بانسداد سبيل العلم فيها؟ والطريق عندنا هو الرجوع إلى الكتاب والسنة حسب ما
دلت النصوص المستفيضة بل المتواترة على أخذ الأحكام منهما والرجوع إليهما
والتمسك بهما، وهناك أخبار كثيرة متجاوزة عن حد التواتر دالة على حجية
الكتاب، وكذلك أخبار اخر دالة على حجية الأخبار المأثورة على حسب ما فصل
القول فيه في محله.
ويدل عليه أيضا جريان الطريقة المألوفة من لدن زمان الأئمة (عليهم السلام) على
العمل بالأمرين بين الشيعة وأخذ الأحكام منهما دون سائر الوجوه حسب ما تراه
العامة الضالة. والأمر في رجوعهم إلى الأخبار أوضح من الشمس في رائعة
النهار، فإن عليها مدار المذهب، ولا زالت عمل الشيعة من أزمنة الأئمة (عليهم السلام) على
الأخبار المأثورة بتوسط من يوثق به من الروايات، أو مع قيام القرينة الباعثة على
الاعتماد عليها والظن بصدقها وإن كان راويها مخالفا لأهل الحق كالسكوني
383

وأضرابه حسب ما نشاهده من طريقتهم. ويؤيده حكاية الشيخ اتفاق العصابة
على العمل بأخبار جماعة هذا شأنهم كالسكوني وابن الدراج والطاطريين وبني
فضال وأضرابهم، ويشير إليه الاجماع المحكي عن الجماعة المخصوصين، وفيهم
فاسد العقيدة.
ومن البين أن الصحيح في اصطلاح القدماء هو المعمول به عندهم، وقد ذكر
الصدوق أن كل ما صححه شيخنا محمد بن الحسن بن الوليد فهو صحيح، وظاهر
في العادة أن مجرد تصحيحه لا يقتضي القطع بصدق الرواية، فلا يزيد على
حصول الاعتماد عليها من أجله، فبملاحظة ذلك وغيره مما يقف عليه المتتبع في
كتب الرجال وغيرها مما ليس هنا موضع ذكره لا يبقى ريب وشبهة في كون
الطريقة المستقيمة الجارية بينهم الكاشفة عن تقرير الأئمة (عليهم السلام) أو قولهم على كون
المدار في حجية الأخبار على حصول الوثوق والاعتماد بصدق قائله وحصول
الظن الغالب بصدوره عنهم (عليهم السلام)، ويأتي إن شاء الله تفصيل القول فيه في محله.
فظهر أن الظن الخاص الذي نقول بالعمل به وجعله الشارع طريقا إلى معرفة
أحكامه هو الظن الحاصل من الرجوع إلى الكتاب والسنة ولا نقول بحجية ظن
سوى ذلك.
نعم هناك قواعد مستنبطة من السنة وأصول مقررة في الأخبار المأثورة
يستفاد منها الأحكام حسب ما نصوا (عليهم السلام) عليه في الروايات من أن علينا إلقاء
الأصول وعليكم بالتفريع، فتلك إذن مندرجة في السنة، وأما العقل والإجماع فهما
يفيدان القطع وليستا من الأدلة الظنية، والمنقول بخبر الواحد إنما نقول بحجيته، لما
دل من السنة على حجية قول الثقة والاعتماد عليه في الشريعة، فهو أيضا مستفاد
من السنة مأخوذ منها.
فإن قلت، إن حجية الكتاب قد وقع الخلاف فيها عن جماعة من الأخبارية
مطلقا ومن آخرين منهم بالنسبة إلى ظواهره، فغاية الأمر تحصيل الظن
الاجتهادي بحجيته مطلقا. ولا وجه لدعوى القطع فيها مع شيوع خلافهم والخلاف
384

في حجية أخبار الآحاد معروف حتى أن السيد (رحمه الله) ادعى إجماعنا على عدم
حجيتها، بل ربما يدعى كونه من ضروريات مذهبنا كالمنع من العمل بالقياس
عندنا.
ومع الغض عنه فالخلاف في تفاصيلها متداول بين الأصحاب حتى
المتأخرين منهم، فإن منهم من يقتصر على العمل بالصحيح ومنهم من يقول بحجية
الحسان أيضا، ومنهم من يقول بحجية الموثق أيضا، إلى غير ذلك من الآراء
المتفرقة، ومع هذه المعركة العظمى من فحول العلماء كيف يعقل دعوى القطع فيها؟
هذا بالنسبة إلى أصل الحجية.
وأما بالنسبة إلى الدلالة فالأمر أظهر، لوضوح ابتناء الأمر فيها على الظن تارة
من جهة ثبوت مفاد ألفاظها وتحصيل الأوضاع الحاصلة لها حين صدور
الخطابات كوضع ألفاظ العموم للعموم، ووضع الأمر للوجوب والنهي للتحريم
مثلا، إلى غير ذلك من المباحث الخلافية المتعلقة بالأوضاع سواء كانت شخصية
أو نوعية، وكثير من أوضاع الألفاظ مأخوذ من نقل الآحاد تارة من جهة عدم
التصرف في استعمال تلك الألفاظ بإرادة خلاف حقائقها، أو طرو الإضمار، أو
التخصيص، أو التقييد عليها، إلى غير ذلك.
وما يتخيل من قيام الاجماع على حجية الظنون المتعلقة بمباحث الألفاظ
ممنوع على إطلاقه، وإنما المسلم منه ما تعلق باستعمال المستعمل بإرادة ظواهرها
وعدم الخروج عن مقتضى أوضاعها بعد ثبوت الوضع إلى أن يقوم القرينة على
خلافه، وليس ذلك أيضا على إطلاقه، بل إنما المسلم منه خصوص صورتين لا
يتعداهما، لاختصاص الدليل بهما:
أحدهما: بالنسبة إلى المخاطب بذلك الخطاب عليه بناء اللغات، وعليه
تجري المخاطبات والمحاورات الدائرة بين الناس في جميع الألسنة من لدن
زمان آدم (عليه السلام) إلى يومنا هذا، كيف! ولولا ذلك لكان تقرير اللغات لغوا، إذ ليس
مفادها غالبا إلا الظن، وأما غير من ألقى إليه ذلك الكلام سواء كان في ذلك العصر
385

أو الأعصار المتأخرة فلا يفيد الوجه المذكور حجية ظنه في فهم مراد ذلك
المتكلم، لعدم وقوع المخاطبة إياه وعدم كونه مقصودا بالإفادة من العبارة، فلا بد
له تحصيل فهم المخاطب، فإن أمكن تحصيله على وجه اليقين فلا كلام، وإلا كان
الاعتماد على الظن به موقوفا على أصالة حجية الظن، إذ لا دليل عليه بالخصوص
يفيد القطع بحجيته والدليل المتقدم لا يجري بالنسبة إليه فينحصر الأمر في
الاعتماد عليه في الاندراج تحت ذلك الأصل.
ثانيهما: أن يكون الكلام موضوعا لإفهام من يصل إليه مطلقا أو لإفهام من
يصل إليه من صنف خاص فيكون مقصود المتكلم بقاءه والاستفادة منه، وحينئذ
فلا فرق بين من وقعت المخاطبة معه من الحاضرين الذين القي إليهم الكلام
والغائبين والمعدومين ممن يأتي في الأعصار اللاحقة الذين قصد استفادتهم من
ذلك الكلام وإن لم يكونوا مخاطبين بذلك الخطاب على وجه الحقيقة، وذلك
كتصنيفات المصنفين، فإن الظن الحاصل لهم من ذلك الكلام حجة بالنسبة إلى
الجميع في الوقوف على مراد المتكلم والطريقة المستمرة من أهل العرف قاضية
بذلك بحيث لا مجال أيضا ولا ريب فيه، وعليه يبتنى في العادة فهم الكتب
المصنفة والرسائل الواردة ونحوها، وشئ من الأمرين المذكورين لا ينفعنا
في المقام.
أما الأول: فظاهر، لعدم وقوع المخاطبة معنا في شئ من الخطابات الواردة
في الشريعة. نعم لو قيل بعموم الخطاب الشفاهي لربما أمكن القول به إلا أن القول
المذكور ضعيف حسب ما بين في محله.
وأما الثاني: فلعدم قيام دليل عليه، كيف! والمقصود في المقام حصول القطع
بالحجية، ولا يتم ذلك إلا مع قيام الدليل القاطع على كون تلك الخطابات من هذا
القبيل، بل من الظاهر خلافه بالنسبة إلى الأخبار، فإن الظاهر أن خطاب
الصادق (عليه السلام) لزرارة ومحمد بن مسلم مثلا لا يشمل غيره، ولا يريد بحسب ظاهر
المخاطبة إلا تفهيمه وإن كان غيره مشاركا للحكم معه، فإن مجرد المشاركة
386

لا يقتضي إرادة تفهيمه بذلك الخطاب حتى يكون الكلام الوارد منه (عليه السلام) بمنزلة
كلام المصنفين وخطابهم المقصود منه إفهام الجميع.
وهذا الوجه وإن لم يكن بعيدا بالنسبة إلى الكتاب - فإن الظاهر كونه موضوعا
لإفهام الأمة واستفادتهم منه بالتدبر فيه والتأمل في معانيه إلى يوم القيامة على ما
هو الظاهر من وضع الكتب ويستفاد من بعض الأخبار أيضا - إلا أنه لم يقم عليه
دليل قاطع، فلا يخرج أيضا من دائرة الظن المطلق، ولا دليل على حجية ذلك
الظن المخصوص، فلا فائدة في ادراج خطاباته تحت القسم المذكور (1) إلا مع
إقامة الدليل القاطع عليه لا بدونه، كما هو الواقع.
فظهر بما ذكرنا أنه ليس شئ من الظنون الحاصلة عندنا مما قام الدليل على
حجيته (2) على سبيل السلب الكلي، ولا يتم القول بحجية شئ منها إلا بالدليل
العام القاضي بحجية ظن المجتهد مطلقا. هذا كله بالنسبة إلى السند والدلالة.
ثم يأتي بعد ذلك ملاحظة التعارض الحاصل بينهما، فإنه لا يحصل دليل ظني
خال عن المعارض بالمرة وعلاج التعارض بين الأدلة من الأمور الظنية في
الأغلب، والأخبار الواردة فيه مع كونها ظنية معارضة أيضا، ولا يستفاد المقصود
منها إلا بالظن، فهو ظن في ظن.
قلت: أما المناقشة في قطعية حجية الكتاب من جهة وقوع الخلاف فيها فهو
أوهن شئ، لوضوح أن مجرد وقوع الخلاف في مسألة لا يقضي بكونها ظنية
كيف! وأغلب المطالب الكلامية مما وقع الخلاف فيها من جماعة من العقلاء، ومع
ذلك فالحكم فيها من القطعيات، وليس المدرك لحجية الكتاب منحصرا في
الاجماع حتى يناقش من جهة وجود الخلاف، وعلى فرض انحصار دليله القطعي
فيه ووجود الخلاف فيه من الجماعة مسبوق بالإجماع، بل قد يدعى قيام
الضرورة عليه، وقد بلغت تلك المسألة في الوضوح مبلغا لا يلتفت معه إلى
الخلاف المذكور ولا إلى الشبهة الواردة فيها.

(1) في " ق ": الأول.
(2) كذا، والظاهر أن في العبارة سقط.
387

وأما السنة المروية والأخبار الواردة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) وإن
أمكن المناقشة في بادئ الرأي في كون حجيتها إجماعية نظرا إلى شيوع الخلاف
فيها بيننا من قديم الزمان، إلا أن الطريقة التي قررناها في الرجوع إليها والأخذ بها
هي التي استقامت عليه الشيعة من لدن زمان الأئمة (عليهم السلام) بحيث يحصل القطع من
التأمل فيها كون ذلك ناشئا عن إجماع وإن خالف فيه من خالف، فإن مجرد وجود
الخلاف من جهة بعض الشبهات والتباس الأمر على المخالف لا يقضي بكون
المسألة ظنية، حتى أن الأخباريين توهموا من ملاحظة ذلك كون الأخبار
المأثورة عن الأئمة (عليهم السلام) قطعي الصدور معلوم الورود عنهم (عليهم السلام) بحسب الواقع،
وهو خطأ في مقابلة التوهم المذكور، إلا أنهم خلطوا بين معلوم الحجية ومعلوم
الصدور، والذي ثبت من ملاحظة طريقة السلف وعملهم - الكاشف عن تقرير
الأئمة أو تصريحهم - هو القطع بالحجية وتقرير صاحب الشرع ذلك طريقا موصلا
إلى الأحكام كما قرروا لإثبات الموضوعات لا العلم بالصدور، إذ ليس شئ من
الوجوه المذكورة مقيدا له، وقد فصل القول فيه في محله.
وأما ما ذكر من المناقشة في حجية الظن المتعلق بالألفاظ فأوهن شئ، إذ
جريان السيرة المستمرة من أهل اللغات على ذلك ظاهر أيضا، فكما أن المخاطب
يحمل الكلام على ظاهره حتى يتبين المخرج عنه كذا غيره حسب ما هو ظاهر
من ملاحظة طريقة الناس في فهم ما يسمعونه من الأقوال المحكية والخطابات
المنقولة، وقد ملئت منه كتب التواريخ وغيرها، ولا يتوقف أحد في فهمها وحملها
على ظواهرها.
حجة القول بحجية مطلق الظن وجوه:
- أحدها -
وهو أقواها وأظهرها ما أشار إليه جماعة منهم، تقريره على ما ذكره بعض
المحققين منهم: أن باب العلم بالأحكام الشرعية منسد في أمثال زماننا إلا في نادر
388

من الأحكام مما قضت به الضرورة، أو قام عليه إجماع الأمة أو الفرقة، أو ثبت
بالتواتر المعنوي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الأئمة (عليهم السلام) وليس ذلك إلا في قليل من
الأحكام، ومع ذلك فلا يثبت بها في الغالب إلا الأمور الإجمالية فلا بد في معرفة
التفصيل من الرجوع إلى سائر الأدلة. وشئ منها لا يفيد العلم غالبا، لعدم خلوها
عن الظن من جهة أو جهات، وحينئذ فيتعين العمل بالظن لقيام الاجماع، بل
الضرورة على مشاركتنا مع الحاضرين في التكاليف وكونه أقرب إلى العلم.
قلت: وتوضيح ذلك أن هناك مقدمات يتفرع عليها حجية مطلق الظن:
أحدها: أن التكاليف الشرعية ثابتة بالنسبة إلينا ولم يسقط العمل بالأحكام
الشرعية عنا، فنحن مكلفون بالأحكام مشاركون للموجودين في زمن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام)، وهذه المقدمة قد قام عليها إجماع الأمة، بل قضت به
الضرورة الدينية.
ثانيها: أن الطريق إلى معرفة تلك الأحكام هو العلم مع إمكان تحصيله، ولا
يجوز الأخذ بمجرد الظن والتخمين وسائر الوجوه ما عدا اليقين كما عرفت أولا
من أنه مقتضى العقل والنقل.
ثالثها: أن طريق العلم بالأحكام الشرعية منسد في أمثال هذه الأزمنة إلا في
نادر منها، لوضوح أن معظم أدلة الأحكام ظنية، وما يفيد القطع منها إنما يدل غالبا
على أمور إجمالية يفتقر تفاصيلها إلى إعمال الأدلة الظنية، وقد فرضنا أصل
المسألة في هذه الصورة.
رابعها: أنه لا ترجيح عند العقل بين الظنون من حيث المدرك والمستند
ولو بعد الرجوع إلى الأدلة الشرعية، إذ لم يقم دليل قاطع على حجية شئ منها
بالخصوص. ولو سلم قيام الدليل القاطع على حجية البعض كنصوص الكتاب
وبعض أقسام أخبار الآحاد فليس ذلك مما يكتفى به في معرفة الأحكام بحيث
لا يلزم مع الاقتصار عليه الخروج عن الدين، فلا بد إذن من الرجوع إلى غيرها،
وليس هناك دليل قاطع على حجية ظن بالخصوص فيتساوى بقية الظنون في ذلك.
389

إذا تمهدت هذه المقدمات فنقول: قضية المقدمة الأولى والثالثة انتقال
التكليف إلى العمل بغير العلم وإلا لزم التكليف بغير المقدور، وقضية المقدمة الثانية
كون المرجع حينئذ هو الظن، إذ هو الأقرب إلى العلم في تحصيل الواقع، بل نقول:
إنه بمنزلة بعض منه، إذ الاعتقاد يتكامل إلى أن ينتهي إلى حد اليقين، فإذا تعذر
القدر الزائد وجب مراعاة ما دونه وهكذا. ولذا يجب مراعاة أقوى الظنون،
فالأقوى من غير فرق بين الظنون المخصوصة وغيرها، إذ تخصيص بعض
بالحجية دون الباقي ترجيح من غير مرجح، فيتساوى الجميع إلا أن يقوم دليل
على المنع من العمل ببعضها.
فإن قلت: إن قضية الدليل المذكور حجية أقوى الظنون مما يمكن تحصيل
أكثر الأحكام به بحيث لا يلزم من الاقتصار عليه الخروج عن الدين لكونه
الأقرب إلى العلم، فلا يثبت به حجية ما دونه من مراتب الظنون، فإن نسبتها إلى
ذلك الظن كنسبة الظن إلى العلم، فالقائم مقام العلم هو تلك المرتبة من الظن دون
ما دونه من المراتب، وعدم حصول تلك المرتبة في خصوص بعض المسائل لا
يقضي بحجية ما دونها، إذ ليس في ترك العمل بها إذن خروج عن الدين، وأيضا
بعد بطلان احتمال الترجيح بين الظنون نظرا إلى انتفاء المرجح لا يتعين الأخذ
بالجميع، لاحتمال البناء على التخيير، وأيضا الأخذ بالجميع أيضا ترجيح لأحد
المحتملات من غير مرجح، إذ كما يحتمل حجية البعض دون البعض كذا يحتمل
حجية الجميع، فكما أنه لا مرجح لحجية البعض كذا لا مرجح لحجية الكل.
قلت: أما الأول فمدفوع بوضوح بطلان الاحتمال المذكور، لإطباق العلماء
على خلافه، فلذا لم يؤخذ بطلانه في الاحتجاج، لكونه مفروغا عنه في المقام ومع
ملاحظة ذلك يتم ما ذكر من التفريع.
وأما الثاني فبأن احتمال التخيير بين الظنون مدفوع باستحالته، فإن تعارض
الظنين كتعارض العلمين غير ممكن، إذ مع رجحان أحد الجانبين يكون الآخر
وهما. وإنما يعقل التعارض بين الظنين، وهو غير محل الكلام.
390

ومع الغض عن ذلك فالبناء على التخيير بين الظنون مما لم يقل به أحد في
المقام، فهو مدفوع أيضا بالإجماع. ولو أريد به التخيير في القول بحجية أنواع
الظنون المتعلقة بالمسائل المختلفة بأن يكتفى ببعضها مما يتم به نظام الأحكام
بحيث لا يلزم معه الخروج عن الدين فيتخير حينئذ في تعيين ذلك البعض وترك
غيره، فهو وإن أمكن تصوره في الخارج إلا أنه بين الفساد أيضا بالإجماع، بل
الضرورة.
وأما الثالث فبأن الثابت من الدليل المذكور مع قطع النظر عن المقدمة الأخيرة
هو حجية الظن في الجملة، وحيث لا دليل على اعتبار خصوص بعض الظنون
دون غيره وكانت الطرق الظنية متساوية في نظر العقل مع قيام الضرورة على
الأخذ بالظن لزم مراعاة نفس المظنة من غير اعتبار لخصوص مأخذه، لعدم إمكان
اعتباره من جهة بطلان الترجيح من غير مرجح، فلزم اعتبار كل ظن حسب ما
أوردنا، وليس ذلك ترجيحا لحجية الجميع عند دوران الأمر بينها وبين حجية
البعض من غير مرجح، بل قول به من جهة قيام الدليل عليه، كما عرفت.
هذا، ويمكن الإيراد على الدليل المذكور بوجوه:
أحدها: منع المقدمة الأولى، بأن يقال: المراد ببقاء التكليف والمشاركة مع
الحاضرين في التكليف إما التكاليف الواقعية الأولية أو التكاليف الظاهرية
المتعلقة بالمكلفين بالفعل في ظاهر الشريعة بأن يكونوا مخاطبين فعلا على نحو
خطابهم، والأول مسلم، إلا أنه لا يفيد كوننا مكلفين بها فعلا وإنما يفيد تعلقها بناء
على فرض اطلاعنا عليها وعلمنا بها، إذ ليست التكاليف الواقعية إلا خطابات
شأنية وإنما يتعلق بالمكلفين فعلا إذا استجمعوا شرائط التكليف حسب ما فصل في
محله. والثاني ممنوع، بل فاسد، ضرورة اختلاف تلك التكاليف باختلاف الآراء،
ألا ترى أن كل مجتهد ومقلديه مكلف بما أدى إليه إجتهاده مع ما بين المجتهدين
من الاختلافات الشديدة في المسائل؟! فلسنا مكلفين فعلا بجميع ما كلفوا به
كذلك قطعا.
391

والحاصل: أن المشاركة في التكاليف الواقعية الأولية لا يفيد تكليفنا بها فعلا
حتى نتدرج بعد انسداد باب العلم بها إلى الظن، والمشاركة في التكاليف الظاهرية
الفعلية ممنوعة، بل باطلة، فكونهم مكلفين ظاهرا بالتكاليف الواقعية لتمكنهم من
تحصيل العلم لا يقضي بكوننا مكلفين بتلك الأحكام حتى يتنزل بعد انسداد باب
العلم بها إلى ظنها، إذ قد يكون تكليفنا الظاهري حينئذ أمرا آخر.
وفيه: أن الحكم الظاهري التكليفي هو الحكم الواقعي في نظر المكلف
وبحسب اعتقاده، وليس حكما آخر متعلقا بالمكلف مع قطع النظر عن انطباقه مع
الواقعي ليقابل سقوط الأول ثبوت (1) الثاني، بل إنما يثبت الحكم الظاهري من
جهة ثبوت التكليف بالواقع وعدم سقوطه عن المكلف فيضطر إلى تحصيل الواقع،
فيكون ما حصله حكما ظاهريا متعلقا به فعلا، فإن طابق الواقع بحسب الواقع كان
واقعيا أيضا، وإلا كان ظاهريا محضا قائما مقام الواقع، وبه يسقط تكليفه بالواقع
بالنظر إلى الواقع وإن كان مكلفا به في الظاهر معتقدا كون ما يأتي به هو الواقع
فليس الحكم الظاهري أمرا ثابتا مستقلا مع قطع النظر عن ثبوت التكليف بالواقع
وكونه هو الواقع، وإلا لكان ذلك أيضا حكما واقعيا مستقلا.
نعم قد يكون الحكم الظاهري بالنسبة إلى المكلف أمرا مخالفا للواقع مع العلم
بمخالفته، كما إذا لم يتمكن من استعلام المجمل ولم يكن له طريق في الخروج عن
عهدة التكليف به، فإنه يرتفع عنه ذلك التكليف في الظاهر، ويحكم ببراءة ذمته مع
علمه بخلافه، وقد يكون مع الظن أو الشك في المخالفة كما إذا دار العمل بين
الوجوب والندب وظن كونه واجبا من غير طريق شرعي أو شك فيه، فإنه ينفى
الوجوب بالأصل ويحكم بالاستحباب مع عدم الظن بكونه واقعيا، لكن ذلك كله
في مقام رفع الحكم والتكليف لا في مقام إثبات الحكم، وإن لزمه (2) ثبوت حكم
شرعي ظاهرا في الأخيرين، وذلك في الحقيقة طريق شرعي للحكم بكونه الواقع
بالنسبة إلى ذلك المكلف وإن لم يثبت به الواقع لا علما ولا ظنا، فإن الطريق

(1) في " ق ": ذهاب.
(2) في " ف ": لزم.
392

إلى الحكم بالشئ شرعا غير الطريق إلى نفس ذلك الشئ، يعرف ذلك بملاحظة
الطرق المقررة للموضوعات، فإنه إنما يستفاد منها الحكم شرعا بثبوتها إلا أنه
يحصل هناك اعتقاد بحصولها في الواقع، والمقصود هو الأول، وهو المراد بكون
شئ طريقا إلى الواقع، وإنما يتفرع عليه الحكم المنوط بالواقع من جهة الحكم
بثبوت ذلك في الواقع.
إذا تقرر ذلك فنقول: إنه لما كانت التكاليف الواقعية ثابتة على المكلفين بالنظر
إلى الواقع ولم يمكن القول بسقوطها عنا بالمرة كان الواجب حصول طريق لنا
إليها، ولما لم يكن هناك طريق قطعي ثابت عن الشارع وجب الأخذ بالظن
بمقتضى العقل إلى آخر ما ذكرنا. فإن كان المظنون مطابقا للواقع فلا كلام، وإلا
كان التكليف بالواقع ساقطا عنا بحسب الواقع، وكان ذلك حكما ثانويا قائما مقام
الأول بالنظر إلى الواقع أيضا وإن كان مكلفا به في الظاهر من حيث إنه الواقع.
فالقول بأن الاشتراك في التكاليف الواقعية لا يقتضي ثبوتها بالنسبة إلينا
وتعلقها بنا إن أريد به عدم اقتضائه لحكمنا باشتغال ذمتنا بالواقع ولزوم تفريغها
عنه فهو بين الفساد، كيف؟ والمفروض قضاء الاجماع والضرورة به، وإن أريد به
عدم اقتضائه تعين تلك التكاليف علينا بحسب الواقع مع عدم ايصال الطريق المقرر
في الظاهر للإيصال إليها بالنظر إلى الواقع فمسلم، ولا منافاة فيه لما نحن بصدده.
وربما يورد في المقام بأن الانتقال من العلم إلى غيره من جهة انسداد سبيل
العلم إنما يلزم في حكم العقل إذا سلم بقاء تلك التكاليف بعد فرض انسداد سبيل
العلم بها، وهو في محل المنع، لاحتمال القول بسقوطها مع عدم التمكن من العلم
بها لانتفاء الطريق إلى الوصول إليها، وعدم ثبوت كون الطريق طريقا شرعيا
قاضيا بثبوتها وهو بمكان من الوهن والسقوط، إذ المقدمة القائلة ببقاء التكاليف
الشرعية في الجملة وعدم سقوطها عن المكلفين بالمرة قد دل عليها إجماع الأمة
بل الضرورة، والاقتصار على القدر المعلوم من التكاليف يوجب هدم الشريعة
وسقوط معظم التكاليف عن الأمة.
ويمكن أن يقرر المقدمة المذكورة ببيان أوضح لا مجال فيها للمنع المذكور
393

ويقوم مقام المقدمتين المفروضتين بأن يقال: إنه قد دل إجماع الفرقة بل الأمة، بل
الضرورة الدينية على ثبوت أحكام بالنسبة إلينا يزيد تفصيلها عما قامت عليها
الأدلة القطعية التفصيلية على خصوصها بحيث لو اقتصرنا على مقدار المقطوع به
من التفاصيل وتركنا العمل بالباقي لتركنا كثيرا مما كلفنا به قطعا، إذ ليس المقطوع
به من الأحكام على سبيل التفصيل إلا أقل قليل، وثبوت هذا القدر من التكليف
كاف في إثبات المقصود وإن منع مانع من توجه جميع الأحكام الواقعية الثابتة في
أصل الشريعة إلينا، فلا حاجة إلى أخذها مقدمة في الدليل ليتمسك في دفعه
بالوجه المتقدم.
هذا ويمكن الإيراد في المقام بأنه كما قرر الشارع أحكاما واقعية كذا قرر
طريقا للوصول إليها عند انسداد باب العلم بها أو قيام الحرج في التكليف بتحصيل
اليقين بخصوصياتها، فيكون مؤداها هو المكلف به في الظاهر، سواء حصل به
الإيصال إلى الواقع أو لا. وتقريره للطريق المذكور مما لا يدانيه ريب بعد الحكم
ببقاء التكليف، سواء كان ذلك هو مطلق الظن كما يقوله المستدل أو الظن الخاص
كما ذهب إليه غيره.
وحينئذ فلا بد من تحصيل العلم بذلك الطريق مع الإمكان كما هو الشأن في
غيره من الأحكام المقررة، فإذا انسد سبيل العلم - بما قرره حسب ما يدعيه
المستدل من عدم قيام دليل قاطع على حجية شئ من الظنيات الخاصة، وعدم
إفادة شئ من الأدلة المنصوبة له - لزم الرجوع إلى الظن بتحصيله أخذا بما هو
الأقرب إلى العلم حسب ما قرره، فيجب الأخذ بما يظن كونه طريقا منصوبا من
الشارع لاستنباط الواقع، ويكون مؤداه هو الحكم المطلوب هنا في الظاهر،
فالواجب علينا أولا تحصيل العلم بما جعله طريقا عند انسداد باب العلم، وبعد
انسداد سبيل العلم به يجب علينا الانتقال إلى الظن به، وأين ذلك من الانتقال
إلى الظن بالواقع في خصوصيات المسائل كما دله (1) المستدل؟

(1) في " ق ": رآه.
394

فالحاصل أنه لا تكليف بالأحكام الواقعية إلا بالطريق الموصل إليها فنختار
القول بتكليفنا بالأحكام الواقعية، لكن من الطريق المقرر عند صاحب الشريعة،
سواء كان هو العلم أو غيره. فالمكلف به في الظاهر ليس سوى الطريق، فإذا انسد
سبيل العلم بالطريق كما اعترف به المستدل فلا بد من الانتقال إلى الظن بما هو
مؤداه دون الظن بالواقع كما هو مقصود المستدل، ولا ملازمة بين الأمرين كما
لا يخفى.
فإن قلت: إن الانتقال إلى الظن بما جعله طريقا إلى الواقع إنما يلزم في حكم
العقل إذا علم بقاء التكليف بالأخذ بالطريق المقرر ولا دليل عليه بعد انسداد سبيل
العلم، إذ لا ضرورة قاضية به كما اقتضت ببقاء التكليف في الجملة بطريق ما مما لا
مناص عنه في استنباط الأحكام فلا بد حينئذ من طريق مقرر عند الشارع بحسب
الواقع لمعرفة الأحكام والوصول إليها ولو مع انسداد باب العلم بنفس الطريق
المقرر للاستنباط، إذ لا مناص عن العمل ولا عن الأخذ بطريق من الطرق. وحينئذ
فإذا لم يمكن العلم بذلك الطريق تعين الأخذ بظنه، حسب ما قرر في الدليل
المذكور.
والحاصل: أن للشارع حينئذ طريقا لمعرفة الأحكام، إذ المفروض عدم
سقوط التكليف بها، فإذا انسد سبيل العلم به تعين الأخذ بظنه. فما ذكر في الإيراد
من احتمال سقوط التكليف بالأخذ بالطريق المقرر إن أريد به سقوط الأخذ
بالطريق المقرر مطلقا فهو واضح الفساد، فإنه لا يقوم ذلك الاحتمال إلا إذا احتمل
سقوط التكليف بغير المعلومات وأما مع بقائه فلا يعقل سقوط التكليف بالأخذ
بطريق موصل إليها في حكم الشارع، إذ لا بد حينئذ من طريق يوافق رضاه وهو
المراد من الطريق المقرر، مضافا إلى أنه بعد تسليم طريق مقرر من الشارع من
أول الأمر وعلم المكلف به إجمالا لا يجوز عند العقل ترك الأخذ به مطلقا مع عدم
ثبوت سقوط الأخذ به، بل يحكم حينئذ بتقديم الأخذ بالظن به عند انسداد سبيل
العلم إليه على ترك الأخذ لمجرد احتمال سقوطه مع ظن خلافه، فيقدم الظن حينئذ
395

عند انسداد باب العلم قطعا أخذا بما هو الأقوى والأحرى والأقرب إلى الواقع مع
عدم إمكان العلم به.
ثانيها (1): أن ما ذكر في المقدمة الثانية " من أن الطريق إلى الوصول إلى
الأحكام هو العلم مع الإمكان " إن أريد به أن الطريق أولا إلى الواقع هو ما يعلم
معه بأداء التكليف في ظاهر الشريعة وحصول الفراغ عن الاشتغال في حكم
الشرع فمسلم، ولا يلزم منه بعد انسداد طريق العلم به - ولو باعتبار العلم بأداء
المكلف به بحسب الواقع نظرا إلى توقف اليقين بالفراغ عليه مع عدم قيام دليل
على الاكتفاء بغيره من سائر الطرق - إلا الرجوع إلى الظن بما جعله الشارع طريقا
إلى معرفة ما كلف به، فيقوم ذلك مقام العلم به، بل يحصل منه العلم أيضا بعد
ملاحظة ذلك وإن كان في المرتبة الثانية. ولا ربط لذلك بحجية الظن المتعلق
بخصوصيات الأحكام كما هو مقصود المستدل.
وإن أريد به أن الطريق أولا هو العلم بالأحكام الواقعية فينتقل بعد انسداد
سبيله مع العلم ببقاء التكليف إلى الأخذ بالظن بها فهو ممنوع، بل القدر اللازم منه
أولا هو ما عرفت من العلم بأداء التكليف شرعا كما مر تفصيل القول فيه، وكون
الطريق المقرر أولا في الشريعة هو العلم بالأحكام الواقعية ممنوع، وليس في
الشرع ما يدل على لزوم تحصيل العلم بكل الأحكام الواقعية، بل الظاهر أنه مما لم
يقع التكليف به مع انفتاح طريق العلم لما في إناطة التكليف به من الحرج التام
بالنسبة إلى عامة الأنام، بل المقرر من الشارع طرق خاصة لأخذ الأحكام كما قرر
طرقا خاصة للحكم بالموضوعات التي أنيط بها الأحكام، ونزلها منزلة العلم بها.
وقد مر تفصيل القول في تضعيف ما قد يقال من إناطة التكليف بالواقع وأنه
لا بد من القطع بالواقع في خصوصيات المسائل، وعدم الاكتفاء بالطرق الظنية
إلا بعد انسداد سبيل العلم كما هو مبنى الاحتجاج المذكور.
ومحصل الكلام: أن الطريق أولا إلى الواقع هو ما قرره الشارع وجعله طريقا

(1) أي: الوجه الثاني من وجوه الإيراد على دليل الانسداد، تقدم أولها في ص 391.
396

إلى العلم بتفريغ الذمة لا نفس العلم بأداء الواقع، ولذا إذا علمنا ذلك صح البناء
عليه قطعا ولو مع انفتاح باب العلم بالواقع، فعدم وجوب مراعاة القطع بالواقع إذا
حصل القطع بتفريغ الذمة في ظاهر الشريعة أقوى شاهد على ما قلناه.
نعم إذا انسد علينا الطريق المذكور تعين العمل بما يعلم معه بأداء الواقع مع
إمكانه، نظرا إلى عدم قيام دليل على حصول البراءة بغيره، وقضاء اليقين بالشغل
باليقين بالفراغ في حكم العقل لا لتعين ذلك بخصوصه، بل لإيجابه ذلك من جهة
الجهل بحصول الفراغ من حكم الشرع بغيره، فإذا انسد علينا ذلك تعين الأخذ
بالطريق الذي يظن كونه طريقا إلى تفريغ الذمة، ويرجح في نظر العقل جعله
الشارع سبيلا إلى معرفة التكليف وثبوت الحكم في ظاهر الشريعة، فيقدم ذلك
على مطلق الظن المتعلق بالواقع الخالي عن الظن بكونه المكلف به في الظاهر،
فكما أنه لو علم هناك طريق مقرر من الشرع في معرفة تفريغ الذمة كان ذلك هو
المتبع في أداء التكليف وصح تقديمه على الأخذ بما فيه العلم بالبراءة الواقعية،
فكذا لو كان هناك ظن بالطريق المقرر قدم على ما يظن معه بالإتيان بما هو الواقع،
غير أن هناك فرقا بينهما من حيث إن الأخذ بالطريق المعلوم جائز هناك أيضا مع
عدم منع الشرع من الأخذ به، نظرا إلى استقلال العقل في الحكم برجحان الأخذ
بالاحتياط ما لم يمنع منه مانع، وهنا لا يجوز الأخذ بمجرد الظن المتعلق بالواقع
من دون ظن بكونه الطريق إلى تفريغ الذمة، لما عرفت من أن الملحوظ في نظر
العقل أولا هو المعرفة بفراغ الذمة في ظاهر الشريعة، وحيث تعذر العلم به وكان
باب الظن به مفتوحا لا وجه لعدم الإتيان بمقتضاه والأخذ بالمشكوك أو الموهوم
من حيث الأخذ وإن كان هناك ظن بأداء الواقع.
والحاصل: أن الإتيان بما هو معلوم يقضي بالعلم بأداء تكليفه بحسب الشرع
ولو مع العلم بما جعله الشارع طريقا إلى الواقع، بخلاف الإتيان بما يظن مطابقته
للواقع بعد انسداد باب العلم، إذ لا يستلزم ذلك الظن بأداء ما كلف به في ظاهر
الشريعة من الرجوع إلى الطريق المقرر لكشف الواقع، لما هو ظاهر من جواز
397

حصول الظن بالواقع والقطع بعدم كونه طريقا في الشريعة إلى الواقع كما في ظن
القياس، وقد يظن عدمه كما في ظن الشهرة، لقيام الشهرة على عدم الاعتداد به في
الشريعة، وقد يشك فيه كما في بعض الظنون المشكوك حجيتها وجواز الأخذ بها،
ولا ترجيح في نظر العقل لجواز الاعتماد عليها في الشريعة على عدمه. فظهر أنه
لا ملازمة بين الظن بالواقع والظن بكون الأخذ بذلك المظنون هو المكلف به في
الشريعة والحجة علينا في استنباط الحكم والمتبع بمقتضى الدليل المذكور هو
الظن الثاني دون الأول، وسيأتي تتمة الكلام في ذلك إن شاء الله.
ثالثها (1): المنع من المقدمة الثالثة لإمكان المناقشة فيها بأنه إن أريد بانسداد
سبيل العلم بالأحكام انسداد سبيل المعرفة بنفس الأحكام الشرعية على سبيل
التفصيل فمسلم، ولا يقضي ذلك بالانتقال إلى الظن، إذ الواجب على المكلف بعد
تعين الاشتغال بالأحكام الشرعية في الجملة هو تحصيل اليقين بالفراغ منها، ولا
يتوقف ذلك على تحصيل اليقين بحكم المسألة ليتنزل بعد انسداد سبيله إلى الظن
به. وإن أريد انسداد سبيل العلم بأداء التكاليف الشرعية والخروج عن عهدتها
فممنوع، فإنه كما يمكن العلم بالفراغ بتحصيل العلم بحكم المسألة والجري على
مقتضاه، كذا يمكن تحصيله بمراعاة الحائطة في الغالب ولو بتكرار العمل، وكثيرا
مما لا يمكن فيه ذلك لا مانع من القول بسقوط التكليف بالنسبة إليه، إذ لا يلزم من
البناء عليه خروج عن الدين، فإن معظم الواجبات والمحرمات معلوم بالضرورة
أو الاجماع.
غاية الأمر عدم قيام الدليل القاطع على تفاصيل تلك المجملات وتحصيل
القطع بأداء الواجبات ممكن في الغالب بأداء فرد يقطع باندراجه في الطبيعة
المطلوبة، وفي ترك المحرمات قد يبنى أيضا على الاحتياط وقد يقتصر على
القدر المتيقن على اختلاف المقامات، ومع عدم جريان الاحتياط في بعض
المقامات مع العلم ببقاء التكليف فلا أقل من لزوم مراعاته في ما يمكن فيه

(1) الوجه الثالث من وجوه الإيراد على دليل الانسداد.
398

المراعاة، لإمكان تحصيل اليقين بالنسبة إليه، فلا وجه للرجوع فيه إلى الظن، لما
عرفت من أن المناط في تحصيل اليقين هو اليقين بأداء التكليف دون اليقين بحكم
المسألة لينتقل إلى الظن به بعد انسداد سبيله، فلا يتم القول بلزوم الرجوع إلى الظن
بالحكم بعد انسداد سبيل العلم به كما هو المدعى.
ولو سلم توقف الخروج عن عهدة التكليف على العلم بالحكم في بعض
المقامات مع القطع ببقاء التكليف حينئذ فغاية الأمر حينئذ القول بحجية الظن
هناك، وأين ذلك من المدعى؟ ودعوى عدم القول بالفصل بعد ثبوت حجية الظن
فيه مطلقا محل تأمل، على أنه غير مأخوذ في الاحتجاج، مضافا إلى أن مقتضى ما
سلمناه من لزوم تحصيل العلم بالفراغ هو الانتقال بعد انسداد سبيله إلى ما هو
الأقرب إلى اليقين بالفراغ، فيجب حينئذ مراعاة الأحرى في تحصيل الواقع،
ولا ملازمة بينه وبين الأخذ بما يظن من الأحكام.
فغاية الأمر أن يكون الواجب في ما لا يمكن فيه تحصيل العلم بالفراغ - من
مراعاة الاحتياط أو العلم بالحكم والجري على مقتضاه - أن ينتقل إلى ما يكون
الظن بالفراغ معه أقوى، ويكون الحكم بتحصيل الواقع مع مراعاته أحرى، وهو
غير الأخذ بما هو المظنون في حكم المسألة كما هو المدعى إن أمكن توقف
حصوله على مراعاته في بعض المقامات.
فغاية الأمر ثبوت حجية الظن في ذلك المقام لو تحقق حصوله في الخارج
وثبت بقاء التكليف به حينئذ من ضرورة أو إجماع. وما قد يقال: من عدم قيام
دليل على وجوب الاحتياط مدفوع بأن هذا الدليل على فرض صحته كاف فيه،
فإن مقتضاه كما عرفت وجوب تحصيل القطع بالفراغ مع الإمكان، ولا ريب في
حصوله بمراعاة الاحتياط.
وما قد يتراءى من وقوع الخلاف في جواز الاحتياط، لمخالفة الحلي فيه
حيث عزي إليه القول بكونه تشريعا محرما، فكيف يمكن القطع بحسنه مع
مخالفته؟ ومن أنه لا يمكن مراعاته في معظم العبادات، لوقوع الخلاف في
399

وجوب كثير من أجزائها واستحبابه، فلا بد مع مراعاة القول باعتبار الوجه من
تكرار العمل، وهو يصل في الغالب إلى حد لا يمكن الفراغ منه موهون بأن طريق
العلم غير مسدود في هاتين المسألتين لقطع العقل بحسن الاحتياط في تفريغ
الذمة، بل والقطع به بملاحظة ما ورد في الشرع، ومجرد وقوع الخلاف في مسألة
لا يقضي بعدم إمكان تحصيل القطع (1) فيها، على أنه خلافه في محل الفرض
- أعني ما إذا انسد باب العلم بالحكم وانحصر طريق العلم بتفريغ الذمة في
الاحتياط مع عدم قيام الدليل على حجية الظن - غير معلوم، بل الظاهر خلافه.
وكذا الحال في المسألة الثانية، فإن القول بوجوب نية الوجه في الأجزاء موهون
جدا، بل مقطوع بفساده سيما بعد عدم إمكان تحصيل القطع وعدم قيام دليل على
الاكتفاء بالظن، ومع الغض عن ذلك فبعد وجوب تحصيل العلم بالفراغ وكون
الاحتياط طريقا إلى العلم لانحصار الطريق فيه، يجب البناء عليه، ومعه يكون
الإتيان بالأجزاء الدائرة بين الوجوب والندب - مثلا - واجبا فلا بد على القول
باعتبار نية الوجه من أدائها على جهة الوجوب فلا حاجة إلى التكرار.
وما قد يتخيل: من اتفاق الأصحاب على عدم وجوب الأخذ بالاحتياط في
جميع المقامات - أعني في مقام الجهل بالتكليف الإيجابي أو التحريمي، أو الشك
في المكلف به إيجابا أو منعا - فكيف يمكن الالتزام في الجميع؟ مدفوع بالالتزام
به في محل الاجماع، فيتمسك فيه حينئذ بالأصل.
والحاصل: أن الأمر دائر في المقام بين القول بسقوط التكليف من جهة
الأصل والأخذ بالاحتياط [وشئ منهما لا ربط له بالعمل بالظن. نعم قد يقال
باتفاقهم على عدم وجوب العمل بالاحتياط] (2) في ما دل على خلافه الأدلة
الظنية في الجملة، لاتفاق القائل بأصالة الظن والقائل بالظنون المخصوصة عليه،
إلا أن كون الاتفاق المذكور حجة شرعية محل تأمل، لوضوح المناقشة في كشفه
عن قول الحجة كما لا يخفى، على أنهم إنما قالوا به من جهة قيام الأدلة عندهم

(1) في " ق " الواقع.
(2) أثبتناها من " ف " و " ق ".
400

على حجية ما سواه من وجوه الأدلة. فإذا فرض عدم قيام دليل عليه عندنا وعدم
صحة ما ذكروه من الأدلة، فكيف يجعل الاتفاق المذكور دليلا على المنع مع
اختلاف الحال؟ إذ عدم حجيته مع قيام الدليل غير عدمها مع عدم قيامه، وهو
ظاهر.
والقول بأن الأخذ بالاحتياط موجب للعسر والحرج محل منع، كيف؟ والعمل
به متعين بالنسبة إلى من لم يتمكن من الرجوع إلى الطرق المقررة للاستنباط، ولا
إلى عالم مستنبط للأحكام عن تلك الأدلة إذا أمكنه تحصيل الاحتياط في
المسألة، كما فصل القول فيه في مباحث الاجتهاد والتقليد، فلو كان ذلك حرجا
منفيا في الشريعة لما وقع التكليف به حينئذ. ومع تسليمه فالقول برفع العسر
والحرج مطلقا مبني على العمل بإطلاق ما دل عليه من الأدلة الشرعية، وهو
استناد إلى الظن.
وقد يقال: إن الرجوع إلى الأصل في غير ما يمكن فيه تحصيل القطع ولو
بمراعاة الاحتياط رجوع إلى الظن أيضا، فكيف يصح الرجوع إليه في التخلص
عن الأخذ بالظن؟
ويدفعه: أن الأخذ بالأصل ليس من جهة حصول الظن به، إذ قد لا يحصل منه
الظن في المقام وإنما الأخذ به من جهة انسداد طريق الوصول إلى التكليف - أعني
العلم - وعدم قيام دليل على الرجوع إلى غيره فيندفع التكليف، لانتفاء السبيل
إليه، فهو في الحقيقة رفع للتكليف لا إثبات له، ومع ذلك فهو رجوع إلى العلم نظرا
إلى الوجه المذكور دون الظن، وبعد الغض عن ذلك فالملحوظ في المقام هو
الإيراد على الدليل المذكور، والمأخوذ فيه إبطال الرجوع إلى الأصل من جهة أن
فيه خروجا مما علم ثبوته في الدين.
وقد قررنا أنه لا يلزم ذلك. والقول بأنه رجوع إلى الظن على فرض تسليمه
كلام آخر غير مأخوذ في الاحتجاج، وبما قررنا يظهر الجواب عما قد يقال: من
أنا إن سلمنا جريان الاحتياط في أعمال نفسه فلا يمكن جريانه بالنسبة إلى بيان
401

الحكم لغيره، إذ من البين وجوب ذلك أيضا والاقتصار في ذلك على بيان
الاحتياط من غير بيان للحكم مع طلب السائل له، وظنه بالحكم من الأدلة الظنية
مشكل، على أنه قد لا يتمكن من ذلك أيضا، كما إذا دار مال بين يتيمين أو غائبين
أو يتيم وغائب، ونحو ذلك. والسكوت عن الفتوى حينئذ وترك التعرض له مشكل
أيضا، إذ قد يكون محرما باعثا على تلف مال اليتيم أو الغائب، فإن الالتزام بجميع
ذلك في خصوص تلك المقامات لا يوجب الخروج عما يقطع به من التكليف
المتعلق ينافي الشريعة مما دلت عليه الضرورة ونحوها حسب ما بني عليه تقرير
الدليل المذكور.
نعم لو قرر الاحتجاج بنحو آخر أمكن جريان الكلام المذكور وسنشير إليه إن
شاء الله، هذا.
وقد ذكر أيضا في المقام إيرادا على الدليل المذكور بأن تسليم انسداد باب
العلم غير مفيد في ثبوت المرام والانتقال إلى الظن في تحصيل الأحكام، لإمكان
الاقتصار على المعلوم مما دل عليه الضرورة والإجماع، وينفى ما عداه بالأصل لا
لإفادته الظن، بل لحكم العقل بأنه لا يثبت علينا تكليف إلا بالعلم أو بظن قام عليه
دليل علمي. وفي ما انتفى الأمران يحكم العقل بفراغ الذمة قال: ويؤكد ذلك ما
ورد من النهي عن اتباع الظن.
وعلى هذا فإذا لم يحصل العلم به على أحد الوجوه وكان لنا مندوحة عنه
كغسل الجمعة فالأمر سهل، للحكم إذن بجواز تركه، وإن لم يكن كذلك كالجهر
بالتسمية أو الإخفات بها في الصلاة الإخفاتية فإنه مع وجوب أصل التسمية
بالإجماع وقع الخلاف في تعيين إحدى الكيفيتين، وحينئذ نقول: إن قضية حكم
العقل هو البناء على التخيير، لعدم ثبوت الخصوصية عندنا، فلا حرج علينا في فعل
شئ منهما إلى أن يقوم دليل على التعيين.
قلت: وأنت خبير بأنه ليس مبنى الاستدلال على الاستناد إلى مجرد انسداد
باب العلم حتى يورد عليه بأن انسداد طريق العلم لا يوجب العمل بالظن، بل
402

اعتبر معه قيام الاجماع والضرورة على بقاء الدين والشريعة، والمفروض في
المقدمة القائلة بانسداد باب العلم [أن باب العلم] بالأحكام على نحو يحصل به
نظام الشريعة ويرتفع به القطع الحاصل من الاجماع والضرورة المفروضة مسدود
قطعا. وحينئذ بعد تسليم الانسداد وعدم التعرض لدفعه في المقام كيف يقابل ذلك
بالاكتفاء بما دل عليه الضرورة والإجماع، والرجوع في ما عداه إلى الأصل،
والمفروض لزوم انهدام الشريعة مع الاقتصار على ذلك كما عرفت.
ويمكن أن يقال: إن ذلك إنما يتم إذا قلنا بعدم جريان الأصل المذكور في
العبادات المجملة مطلقا، أو في ما إذا كان أجزاء بعضها منوطا بالبعض مع تعين
أجزائها وشرائطها على سبيل التفصيل، إذ لا يصح الاقتصار على القدر المتيقن من
الأجزاء، لعدم العلم بكونه هو المكلف به، ولا الحكم بسقوط الكل من جهة عدم
تعين المكلف به، لما فيه من الخروج عن ضرورة الدين. وأما إن قلنا بجريان
الأصل فيها - كما هو مختار البعض - بناء على أن التكليف إنما يتعلق بالمكلف
بمقدار علمه، ولا يتعلق بنا التكليف بالمجملات إلا بمقدار ما وصل إلينا من البيان،
فلا يجب علينا إلا الإتيان بما يفي به الأدلة القاطعة من الأجزاء والشرائط، إذ
المفروض كون القطع هو الطريق في البيان وعدم ثبوت حصول البيان بغيره
ولا قطع لنا بعد الاقتصار على ذلك بوجوب جزء أو شرط آخر، إذ لم يقم ضرورة
ولا إجماع ونحوهما من الأدلة القاطعة على اعتبار شئ مما وقع الخلاف فيه من
الأجزاء والشرائط ولو في الجملة.
وما قد يقال من حصول القطع إجمالا بوجوب أجزاء اخر غير ما دلت عليه
الأدلة القاطعة بين السقوط بعد ملاحظة الحال في العبادات من الطهارة والصلاة
والصوم والزكاة وغيرها، ومع الغض عن ذلك وتسليم حصول علم إجمالي بذلك
فإنما المعلوم اعتبار جزء أو شرط كذلك بحسب الواقع. وأما تعلق ذلك بنا مع عدم
ظهور طريق إليه فمما لم يقم عليه إجماع ولا غيره، فأي مانع من نفيه بالقاعدة
المذكورة وإن علم كون الحكم الواقعي الأولي خلافه، لوضوح جريان أصالة البراءة
مع العلم الاجمالي باشتغال الذمة بحسب الواقع إذا لم يكن هناك طريق إليه.
403

وقد يشكل الحال في المقام في القضاء والإفتاء، سيما في مسائل المعاملات،
لدوران الأمر حينئذ بين محذورين، لكن الذي يقتضيه القاعدة المذكورة هو
الحكم بعدم تعلق وجوب القضاء والإفتاء بنا، وإلا في ما ثبت وجوبه علينا بالدليل
القاطع أخذا بمقتضى القاعدة العقلية المذكورة، وليس في الالتزام به خروج عن
مقتضى الأدلة القاطعة القاضية بكوننا مكلفين فعلا بأحكام الشريعة في الجملة،
فإنها لا تفيد كوننا مكلفين بالفعل بجميع التكاليف الواقعية وإن كانت معلومة
إجمالا حسب ما مرت الإشارة إليه.
فظهر مما قررنا اندفاع ما يقال: من أن الاقتصار على القدر المتيقن من
التكاليف لا يكتفى به في الخروج عن عهدة التكليف، للقطع الاجمالي ببقاء
تكاليف اخر غير ما يقطع به على جهة التفصيل.
نعم قد يشكل الحال في الطوارئ الواردة كأحكام الشكوك ونحوها مما
يقطع بتعلق التكليف هناك على أجد وجهين أو وجوه.
ويمكن دفعه بناء على الوجه المذكور بالتزام التخيير فيها بعد العلم بتعلق
التكليف في الجملة وعدم قيام دليل على التعيين، حيث إن المقطوع به حينئذ هو
أحد الوجهين أو الوجوه، فيقتصر في ثبوت التكليف بذلك المقدار ويتخير في
أدائه بين ذينك الوجهين أو الوجوه، وبمثله يقال: إذا دار الواجب من أصله بين
أمرين لا قطع بأحدهما مع القطع بتعلق التكليف بأحدهما كدوران الصلاة يوم
الجمعة بين الظهر والجمعة، لكن البناء على جريان الأصل في مثل ذلك بعيد جدا،
إذ كون الإتيان بكل منهما أداء للمأمور به غير ظاهر بعد دوران التكليف هناك بين
الأمرين وكون القدر المعلوم من المكلف به هو أحدهما، لا أنه تعلق هناك أمر
بالقدر الجامع بين الأمرين ليكون الشك في الخصوصية قاضيا بدفعها بالأصل،
فيبقى التكليف بالمطلق هو القدر الثابت من المكلف به، فالموافق للقاعدة حينئذ
هو البناء على تحصيل اليقين فيجب الإتيان بالفعلين، ولا مانع من الالتزام
بالاحتياط في مثل الصورة المفروضة، ولا يقع ذلك إلا في صورة نادرة.
404

ثم إني أقول: إنه لو قرر الاستدلال بنحو آخر بأن يكون الاستناد فيه إلى
مجرد انسداد باب العلم بعد ثبوت التكليف في الجملة كان ما أورده من قيام ما
ذكر من الاحتمال غير ناهض في هدم الاستدلال، إذ نقول حينئذ: إن قضية حكم
العقل بعد العلم بحصول التكليف في الجملة ولزوم الإتيان بالواجبات وترك
المحرمات هو التخيير بين متعلق الوجوب وغيره ومتعلق المنع والإباحة ليتمكن
من الامتثال بالفعل والترك، لتوقف دفع الخوف من الضرر عليه كما أنه يجب النظر
إلى المعجزة بمجرد ادعاء النبوة لاحتمال كونه نبيا في الواقع، وترتب الضرر على
مخالفته في الآجل. وحينئذ فكما أن ثبوت الحكم يحتاج إلى الدليل القاطع
فكذلك نفيه أيضا.
فنقول: إن قضية انسداد باب العلم في المقام هو الرجوع إلى الظن، إذ هو
الأقرب إلى العلم، فما ذكره من جواز أن يكون المرجع في الإثبات هو العلم
ويحكم في ما عدا المعلوم، وإن كان مظنونا بالنفي لا وجه له، إذ هو أخذ بالوهم
وتنزل من العلم إلى ما دونه بدرجات.
نعم إن قام الدليل عليه كذلك صح الإيراد المذكور حينئذ، فإبراز مجرد
الاحتمال كما هو ظاهر كلام المورد غير كاف في المقام.
وإن ادعي قيام الدليل عليه كذلك كما يومئ إليه آخر كلامه فممنوع، سيما
إذا حصل الظن بخلافه، إذ قضية التنزل من العلم هو الأخذ بما هو أقرب إليه في
الإثبات والنفي من غير فرق.
وإن ادعي الاجماع على أصالة البراءة حتى يعلم النقل فهو أيضا مما لا وجه
له، سيما في نحو ما ذكره من مسألة الجهر والإخفات بعد العلم بوجوب إحدى
الكيفيتين، إذ لا يبعد في مثله الحكم حينئذ بوجوب التكرار كما نصوا عليه في
صورة اشتباه الموضوع كالصلاة في الثوبين المشتبهين. ودعوى الاجماع هنا على
السقوط وعدم الرجوع إلى الاحتياط مجازفة بينة.
ومن غريب الكلام ما صدر في المقام عن بعض الأعلام حيث إنه أورد
405

على المورد المذكور في فرقه بين مسألة غسل الجمعة، ووجوب الجهر والإخفات
في جريان الأصل: بأنه إن أراد نفي الوجوب مع عدم الحكم بالاستحباب فهو
لا يلائم ما ثبت يقينا من الشرع، وإن أراد إثبات الاستحباب فهو ليس إلا معنى
ترجيح أحاديث الاستحباب على أحاديث الوجوب بالأصل، وأن الرجحان
الثابت بالإجماع والضرورة لا بد أن يكون هو الرجحان الاستحبابي دون
الوجوبي، فهو لا يتم إلا بترجيح أصل البراءة على الاحتياط، وهو موقوف على
حجية هذا الظن.
وبالجملة الجنس لا بقاء له بدون الفصل والثابت من الشرع أحد الأمرين
وأصل البراءة لا ينفي إلا المنع من الترك، وعلى فرض أن يكون الرجحان الثابت
بالإجماع هو الحاصل في ضمن الوجوب فقط في نفس الأمر، فمع نفي المنع من
الترك بأصل البراءة لا يبقى رجحان أصلا، لانتفاء الجنس بانتفاء فصله. وأصل
البراءة من المنع عن الترك لا يوجب كون الثابت بالإجماع في نفس الأمر هو
الاستحباب، فكيف يحكم بالاستحباب؟ فلم يصح ترجيح الحديث الدال على
الاستحباب على الحديث الدال على الوجوب بسبب اعتضاده بأصل البراءة،
وهذا ليس مراده، وإنما المناسب لما رامه من المثال هو أن يقال في نجاسة عرق
الجنب بالحرام مثلا: إن خبر الواحد في ذلك أو الاجماع المنقول الدال على ذلك
لا حجية فيه، والأصل براءة الذمة عن وجوب الاجتناب.
وحينئذ فالجواب عن ذلك يظهر مما قدمنا من منع حصول الجزم أو الظن
بأصل البراءة مع ورود الخبر الصحيح. ومما ذكرنا ظهر أن حكم غسل الجمعة نظير
الجهر بالتسمية والإخفات على ما فهمه.
والحاصل: أن الكلام في ما كان الخبر الواحد الظني في مقابل أصل البراءة
وفي غسل الجمعة الحكم بمطلق الرجحان القطعي الحاصل من الاجماع والنوعين
من الأخبار الواردة فيه في مقابل أصل البراءة. انتهى.
وأنت خبير بما فيه: أما أولا فبأن إثبات الاستحباب حينئذ بضميمة الأصل
406

مما لا غبار عليه، فإن مطلق الرجحان - أعني القدر المشترك بين الوجوب
والندب - معلوم بالإجماع والمنع من الترك منفي بأصل البراءة فيلزم من الأمرين
ثبوت الاستحباب في ظاهر الشرع، وليس ذلك من ترجيح أحاديث الاستحباب
بوجه، لوضوح جريانه بعينه مع فرض انتفاء الحديث من الجانبين، أو من جهة
الاستحباب خاصة، مع عدم نهوض ما دل على الوجوب حجة في المقام، كما هو
المفروض.
والحاصل: أنه مع اليقين بثبوت الرجحان والحكم بعدم المنع من الترك من
جهة أصالة البراءة لا يبقى مجال لإنكار الاستحباب. ودعوى كونه مبنيا على
ترجيح أصل البراءة على الاحتياط وهو موقوف على حجية هذا الظن غير
واضحة.
كيف؟ وقد نص المستدل أولا بكون البناء على أصل البراءة ليس من جهة
الظن، بل من جهة قطع العقل بأنه لا تكليف إلا بعد البيان وقيام طريق للمكلف إلى
الوصول إلى التكليف، ومنع ذلك كلام آخر أشار إليه المورد أيضا. وسيجئ
الكلام فيه إن شاء الله.
وما يتخيل من: أن الجنس لا بقاء له بدون الفصل فقد يكون الرجحان في
ضمن الوجوب بحسب الواقع فلا يعقل بقاؤه بعد انتفاء فصله مدفوع بالفرق البين
بين رفع الفصل في الواقع وفسخ الحكم كما في نسخ الوجوب والحكم بعدمه في
الظاهر، لعدم قيام دليل عليه كما في المقام، لوضوح قضاء الأول برفع الجنس
الثابت به بخلاف الثاني ضرورة عدم الحكم هنا برفع حكم ثابت، وإنما المقصود
عدم حصول المنع من الترك من أول الأمر الذي هو فصل للنوع الآخر أعني
الاستحباب، فبعد ثبوت الجنس بالإجماع والفصل المذكور بالأصل ثبت
خصوص الاستحباب في الظاهر، وليس رفع الفصل بالأصل في الظاهر قاضيا
بانتفاء الجنس الثابت بالدليل، بل أقصاه ما ذكرناه من الحكم بقيام الجنس في
الظاهر بالفصل الآخر، فيكون المستفاد منها حصول النوع الآخر في الظاهر.
407

نعم لو لم يكن هناك دليل على حصول الجنس أمكن القول بنفيه أيضا من
جهة الأصل أولا، لا لقضاء انتفاء الفصل المفروض بنفيه ظاهرا، والمفروض في
المقام خلاف ذلك، لقيام الدليل القاطع على ثبوت الجنس. فقوله: أصل البراءة عن
المنع من الترك لا يوجب كون الثابت بالإجماع... إلى آخره غير متجه، إذ ليس
ذلك مما ادعاه المورد أصلا، بل مراده إثبات الاستحباب في الظاهر، وبيان كون
الرجحان الثابت بالإجماع حاصلا مع عدم المنع من الترك بحسب تكليفنا،
فالرجحان معلوم والمنع من الترك في الظاهر منفي بحكم الأصل فيثبت بذلك
الاستحباب في الظاهر، وكيف يعقل القول بقضاء أصل البراءة بكون الرجحان
الثابت بالإجماع حاصلا في الواقع مع عدم المنع عن الترك، ومن المعلوم عدم
ارتباط أصل البراءة بالدلالة على الواقع، وقد نص عليه المورد في كلامه.
فإن قلت: إن مقصود المورد هو العمل بالعلم وترك الأخذ بالظن، والوجه
المذكور لا يفيد ظنا بثبوت الاستحباب فضلا عن العلم به، فكيف يصح الحكم
بثبوته؟!
قلت: ليس مراد المورد إلا البناء على العلم في إثبات الحكم ورفع غير
المقطوع به بالأصل، لانتفاء الطريق إليه، ولما كان الرجحان مقطوعا به في المقام
حكم به، ورفع الزائد بالأصل، لعدم قيام دليل عليه. فيكون الثابت على المكلف
في الظاهر الاستحباب قطعا وإن لم يظن بحصوله واقعا، فإن رفع الحكم في
الظاهر لانتفاء الطريق إليه لا يفيد نفي الحكم بحسب الواقع، وإذا كانت إحدى
المقدمات مفيدة لثبوت الحكم في الظاهر كان الحكم الثابت من الجميع ظاهريا.
ومع الغض عما ذكرنا، فلو سلم كون نفي الفصل في الظاهر بمنزلة رفعه بحسب
الواقع تم المقصود أيضا، فإنه مع ارتفاعه كذلك وقيام الدليل على حصول الجنس
بحسب الواقع - كما هو الواقع في المقام - لا مجال للتأمل في تحقق النوع
المتقوم (1) بعدم ذلك الفصل كما في نسخ الوجوب إذا قام دليل على تحقق

(1) في " ف ": المنعدم.
408

الرجحان إذ لا إشكال بل لا خلاف في الحكم بالاستحباب، فغاية الأمر أن يكون
المقام من قبيل ذلك.
والحاصل: أن أصل البراءة بالنسبة إلى الظاهر حجة نافية للحكم فحاله حال
الخبر النافي للحكم إذا قام الدليل على حجيته ووجوب العمل به في الظاهر، فكما
أنا إذا علمنا بالإجماع ونحوه رجحان الفعل ودلت الرواية المفروضة على عدم
المنع من الترك حكمنا بحصول الاستحباب فكذا في المقام من غير فرق في ما
نحن فيه بصدده من ثبوت الحكم بالنسبة إلى الظاهر، وليس ذلك إثباتا للحكم
بالأصل، إذ ليس قضية الأصل هنا سوى عدم المنع من الترك وبملاحظته مع
الرجحان المعلوم الثبوت من الخارج يثبت الاستحباب، ولا يعد ذلك من قبيل
الأصول المثبتة قطعا، كما لا يخفى.
ومن ذلك ظهر ما في قوله: أن حكم غسل الجمعة نظير الجهر والإخفات في
التسمية، إذ بعد صحة جريان الأصل في غسل الجمعة حسب ما قررنا وعدم صحة
جريانه بالنسبة إلى الجهر والإخفات للعلم بثبوت أحد التكليفين ومخالفة كل
منهما للأصل من غير تفاوت بينهما في ذلك يتضح الفرق بينهما كمال الوضوح.
ومع الغض عما ذكرنا وتسليم دوران الأمر هناك أيضا بين حكمين وجوديين
فجعلهما من قبيل واحد غير متجه، مع كون أحد الحكمين في مسألة الغسل أقل
مخالفة للأصل، والآخر أكثر على خلاف مسألة الجهر والإخفات، إذ لا فرق بينهما
في مخالفة الأصل بوجه من الوجوه.
وأما ثانيا فبأن ما ذكره: من أن المثال المناسب لما رامه نجاسة عرق الجنب
من الحرام محل مناقشة، إذ رفع وجوب الاجتناب في المقام بالأصل حسب ما
ذكره قاض بارتفاع جواز الاجتناب الحاصل في ضمنه على ما قرره من ارتفاع
الجنس بارتفاع فصله. وأصل البراءة من المنع من ترك الاجتناب لا يقضي بكون
جواز الاجتناب الثابت بالإجماع حاصلا في نفس الأمر في ضمن الكراهة أو
الإباحة، فإن أريد بالأصل المذكور رفع المنع من ترك الاجتناب مع عدم الحكم
409

بجواز الاجتناب فهو مخالف لما دل الاجماع عليه، وإن أريد معه الحكم بجواز
الاجتناب (1) أيضا فأي دليل قضى ببقائه على نحو ما ذكره في مسألة غسل
الجمعة، غاية الأمر دوران الاحتمال هناك بين الحكمين وهناك بين أحكام ثلاثة.
وأما ثالثا فبأن ما ذكره: من أن الحكم بالرجحان القطعي... إلى آخره غير
مستقيم، إذ لا وجه لاعتبار الحكم القطعي في مقابلة أصالة البراءة، وليس في كلام
المورد ما يوهم ذلك أصلا، وكيف يعقل مقابلة الأصل بما وقع الاجماع على ثبوته
والحكم برجحانه عليه ورفعه له؟! وإنما المقصود رفعه المنع من الترك. وإن قام
عليه دليل ظني فيكون أصل البراءة في مقابلة ذلك الدليل الظني، كيف؟ وعبارة
المورد صريحة في رفع أصالة البراءة للمنع من الترك. والظاهر أن ما ذكره مبني
على ما زعمه من كون رفع المنع من الترك بالأصل قاضيا برفع رجحان الفعل
فيؤول الأمر إلى مزاحمة أصالة البراءة للرجحان المقطوع به.
وقد عرفت ضعفه، ولو صح ما ذكره لجرى ذلك بعينه في المثال الذي أورده
أيضا.
غاية الأمر أن الجنس الحاصل في المقام رجحان الفعل، والحاصل هناك
جوازه، فيكون رفع المنع من الترك هناك في معنى رفع الجواز المعلوم الثبوت
أيضا، ويكون ما دل على الجواز من الدليل القطعي مقابلا بأصالة البراءة دون
الدليل الظني القاضي بوجوب الاجتناب، وهو كلام ساقط جدا، ولو تم لقضى بعدم
جريان أصالة البراءة في شئ من المقامات.
ثم إن للفاضل المذكور إيرادات اخر على هذا الإيراد أحببنا إيراد جملة منها
في المقام، ونشير إلى ما يرد عليها من الكلام حتى يتضح به حقيقة المرام.
منها: منع جواز الاستناد في رفع التكليف إلى أصل البراءة وقوله: " إن العقل
يحكم بأنه لا يثبت تكليف... إلى آخره " إن أراد به الحكم القطعي فهو أول الكلام
كما يعرف من ملاحظة أدلة أصالة البراءة، سيما بعد ورود الشريعة والعلم

(1) في " ف " بإضافة: فهو مخالف.
410

الاجمالي بثبوت الأحكام الشرعية خصوصا بعد ورود مثل الخبر الصحيح في
خلافه، وإن أراد الحكم الظني كما يشعر به كلامه سواء كان بذاته مفيدا للظن أو من
جهة استصحاب الحالة السابقة فهو ظن مستفاد من ظواهر الأخبار والآيات التي
لم يثبت حجيتها بالخصوص، مع أنه ممنوع بعد ورود الشرع ثم بعد ورود خبر
الواحد إذا حصل منه ظن أقوى.
ومنها: أن قوله: " ويؤكد ذلك... إلى آخره " فيه أنها عمومات لا تفيد إلا الظن،
بل هي ظاهرة في غير الفروع، وشمول عموم ما دل على حجية ظواهر القرآن لما
نحن فيه ممنوع، لأنه إن كان هو الاجماع ففيما نحن فيه أول الكلام، وإن كان
غيرها فليس إلا الظنون الحاصلة من الأخبار، وقد مر الكلام في الاستدلال بها.
ومنها: أن قوله: " وأما في ما لم يكن مندوحة عنه... إلى آخره " إن أراد به أن
التخيير المفروض هو مفاد أصل البراءة فيقدم على الدليل الظني فهو فاسد، إذ بعد
تعارض دليلي القولين لا شئ في مقابلة أصل البراءة حتى يقال: إنه ظن لا يعمل
به، بل يرجع الكلام إلى جريان أصل البراءة في ما لا نص فيه، ومقابله حينئذ أدلة
التوقف والاحتياط، والمورد أيضا لا يقول بذلك، فإنه لا يقول ببراءة الذمة عن
مقتضى القولين جمعا لعده ذلك مما لا مندوحة، عنه والمستدل أيضا لا يقول به
لذهابه إلى ترجيح الظن، وإن أراد أن هذا التخيير إنما هو في العمل بما اختاره من
القولين، ومع اختيار أي منهما يكون العمل به واجبا عليه، فذلك مما لا ربط له
بأصل البراءة. انتهى ملخصا.
ويتوجه عليها، أما على الأول: فأولا بأن منظور المورد هو المنع من قضاء
انسداد باب العلم بالرجوع إلى الظن ووجوب الأخذ به باحتمال الرجوع إلى
أصل البراءة وترك العمل بالظن نظرا إلى حكم العقل... إلى آخره. وصحة المنع لا
يتوقف على قطع العقل بانتفاء التكليف مع انتفاء العلم بالواقع.
كيف؟ ولو أراد ذلك لما أبدى الإيراد المذكور بصورة المنع ولو ادعى العلم
بذلك، فإن ادعى كونه ضروريا عند العقل لزم أن يكون القول بحجية الظن عنده
مصادما للضرورة، وهو واضح الفساد.
411

وإن ادعى كونه نظريا كان الدليل الموصل إليه معارضا للدليل المذكور،
وهو خلاف ما يعطيه كلام المورد، إذ ليس بصدد المعارضة ولو أراد ذلك لكان
اللازم عليه حينئذ بيان ذلك حتى يتم المعارضة، مع أنه لم يشر إليه في الإيراد.
وثانيا: نختار أن المراد بحكم العقل قطعه بانتفاء التكليف مع انتفاء العلم، لكن
لا يريد به خصوص العلم بالواقع، بل ما يعمه والعلم به من الطريق المقرر للوصول
إلى الحكم وإن لم يكن مفيدا للعلم بالواقع بل ولا الظن به أيضا. وقطع العقل حينئذ
بانتفاء التكليف ظاهر، لوضوح قبح التكليف مع انتفاء طريق موصل إليه مع العلم،
وما يقوم مقامه من الطرق المقررة. ومحصل الإيراد حينئذ المنع من قضاء انسداد
باب العلم بالرجوع إلى الظن، لاحتمال الحكم بسقوط التكليف نظرا إلى قطع
العقل بانتفاء التكليف مع انتفاء السبيل الموصل إليه، فكما أن انسداد سبيل العلم
بالواقع الذي هو الطريق المقرر أولا للوصول إليه قد يكون قاضيا بانفتاح سبيل
آخر إلى الواقع - كما هو مقصود المستدل، وذلك فيما إذا علم بقاء التكليف بعد
حصول الانسداد - كذا قد يكون قاضيا بسقوط التكليف مع عدم العلم ببقائه، نظرا
إلى انسداد الطريق إليه وقطع العقل بانتفاء التكليف مع انتفاء طريق إليه.
فظهر بما قررنا أن قطع العقل بانتفاء التكليف مع انتفاء الطريق إليه إنما قد
يقتضي (1) قطع العقل في المقام بانتفاء التكليف، إذ كون الظن حينئذ طريقا إلى
الواقع هو المبحوث عنه في المقام، فما ذكره من أن حكم العقل ببقاء التكليف
حينئذ أول الكلام مشيرا به إلى أن ذلك نفي لعين (2) المدعى كما ترى، والظاهر أن
ما ذكر غير قابل للمنع فإنه من الواضحات حسب ما مر الكلام فيه.
كيف؟ ولولا ذلك لم يتم ما ذكره القائل بحجية الظنون من الدليل المذكور
وغيره مما احتجوا به على ذلك لمن قال بحجية الظن، فمنع ذلك في المقام ليس
في محله. وكذا لا فرق في ذلك مطلقا بعد ورود الشرع وقبله، فإن عدم ثبوت

(1) في " ق ": لا يقضي.
(2) في " ف " و " ق ": بعين.
412

التكليف من غير طريق للمكلف إلى الوصول إليه أمر عقلي لا يختلف الحال فيه
قبل ورود الشرع وبعده.
وثالثا: أن تسليم كون نفي التكليف حينئذ مظنونا كاف في مقام رفع الحجية،
وليس من قبيل الاستدلال بالظن على الظن ليدور بل، رفع الظن بالظن، وهو مما
لا مانع منه، فإنه لو كان حجة لم يكن حجة، وما يستلزم وجوده عدمه فهو باطل،
وقد مر الكلام فيه.
وأما على الثاني فبأن كونها عمومات لا تفيد إلا الظن على فرض تسليمه
كاف في ما هو مقصود المعترض من رفع حجية الظن، لما عرفت من جواز رفع
الظن بالظن وأيضا لم يستند إليها المورد في مقام الاستدلال حتى يورد عليه
بذلك، وإنما ذكره في مقام التأييد والاستشهاد ليتبين اعتضاد ما ادعاه من حكم
العقل بالشواهد الشرعية.
ومن الواضح كفاية الدلالة الظنية في ذلك، فلا وجه للإيراد عليه بكونه ظنيا.
ودعوى كونها ظاهرة في غير الفروع مما لا وجه لها كما مرت الإشارة إليه. وما
ذكره من منع شمول عموم ما دل على حجية القرآن لمحل الكلام غير متجه أيضا،
وكأنه أراد به منع شمول ما دل على حجية الكتاب بالنسبة إلى هذه الأعصار
حسب ما أشار إليه في محل آخر وهو مدفوع بما قرر في محله، حتى أن الاجماع
القائم على حجيته شامل لذلك أيضا كما سيأتي الإشارة إليه إن شاء الله. ولو أراد
بذلك المنع من الحجية بالنسبة إلى خصوص محل الكلام نظرا إلى حصول الخلاف
المانع من قيام الاجماع على حجيته بحيث يشمل المقام فهو موهون جدا،
لوضوح أن الاجماع القائم على حجية الكتاب لا ينافي الخلاف الواقع في
المسائل التي دل بها الكتاب على حكمها، فلا وجه للقول بكون شمول الاجماع
لما نحن فيه أول الكلام.
وأما على الثالث فبأن القول بكون التخيير المذكور مفاد أصالة البراءة إنما
يصح بدفع خصوص كل من الوجهين بالأصل، حيث لم يقم عليه دليل قاطع،
413

ولما لم يكن هناك مندوحة من الأخذ بأحدهما لقيام الدليل القاطع على وجوب
أحدهما نظرا إلى اتفاق الفريقين عليه لزم البناء على التخيير، وحينئذ فليس
التخيير المذكور مفاد أصل البراءة خاصة، بل إنما يجئ من جهة العلم بوجوب
أحدهما مع عدم ثبوت كل من الخصوصيتين لعدم قيام دليل قاطع عليه، فأصالة
البراءة هنا دافعة لكل من الدليلين الظنيين، سواء كانا متعادلين أو كان أحدهما
راجحا على الآخر. وانتفاء المندوحة إنما يجئ من جهة قيام الدليل القاطع على
وجوب أحدهما، فلا مناص عن الأخذ بأحدهما، هذا على أحد الوجهين في بيان
مراده كما مرت الإشارة إليه.
والوجه الآخر أن يراد به رفع وجوب كل من الجهر والإخفات بالأصل، وإن
لم يمكن تركهما معا لعدم المندوحة عن فعل أحدهما فلا يحكم إذن بوجوب شئ
منهما، والعلم الاجمالي بوجوب أحدهما غير مفيد، لسقوطه عن المكلف بعد انتفاء
التعيين، فيكون مختارا في أداء أي من الكيفيتين، ولا يرتبط ما أورده في المقام
بالإيراد المذكور على شئ من التفسيرين، وقد بنى ايراده على أن مراد المورد
بيان الحال في خصوص ما إذا تعارض دليلا القولين وتعادلا من غير ظهور مرجح
في البين، حيث جعل ذلك مما لا مندوحة عنه، ولو كان دليل أحدهما راجحا على
الآخر لكان هو المظنون واللائق بمقابلة أصالة البراءة دون الآخر، وإن كان هناك
مندوحة عنه فإنه يرجع إلى أصل البراءة عما دل عليه الدليل الراجح فأورد عليه
بما ذكرنا.
وأنت خبير بأن حمل العبارة المذكورة على ذلك بعيد جدا، بل لا إشارة فيها
بذلك أصلا، إذ لا إشعار في كلامه بفرض المسألة في خصوص صورة المعارضة
بين الدليلين فضلا عن اعتبار المكافئة بينهما، وإنما ذكر في كلامه المعارضة بين
القولين وعدم إمكان ترك مقتضى الاحتمالين، حيث إنه لا مندوحة للمكلف عن
اختيار أحد الوجهين، كيف؟ وقد بنى المورد كلامه على نفي حجية الظن، وحينئذ
فلا تفاوت بين حصول المعادلة بينهما في القوة والضعف وعدمها، فإنه إنما يفرق
414

بين الأمرين في الأدلة المعتبرة في الجملة دون ما لا عبرة بها مع الانفراد فضلا
عن المعارضة.
ثم إنه لو سلم فرض المسألة في صورة المعادلة بين دليلي القولين وعدم
حصول مرجح لأحد الجانبين لم يقض ذلك بانتفاء المندوحة في المقام بوجه من
الوجوه، إذ المفروض عدم حجية شئ من الظنين وكون وجودهما كعدمهما،
فكيف ترتفع المندوحة من جهتهما؟ وما ذكره من أنه: " لو كان أحدهما راجحا...
إلى آخره " غير متجه، إذ مع كون الأصل رافعا للمظنون يكون رافعا لغيره بالأولى
فكيف يجعل المرفوع بالأصل حينئذ خصوص المظنون؟ وحتى يكون المندوحة
في المقام بأخذ مقابله وإن كان هو أيضا مخالفا للأصل كما هو المفروض في المثال.
وبالجملة أن بناء المورد على الأخذ بمقتضى الأصل في غير ما حصل اليقين
به سواء كان ما يقابله مظنونا أو لا، وإنما فرض في المقام كونه رافعا للأدلة الظنية
حيث إن الكلام وقع في ذلك، فلا يعقل أن يكون قوة أحد الظنين في المقام وضعف
الآخر قاضيا بحصول المندوحة في الصورة المفروضة حتى يكون المرفوع
بالأصل خصوص المظنون دون الآخر.
وأما الرابعة فبوجوه (1):
أحدها: أنه يمكن ترجيح البعض لكونه المتعين بعد فرض حجية الظن في
الجملة، ودوران الأمر بينه وبين الأخذ بمطلق الظن.
وتوضيح ذلك أنه بعد ما ثبت بالمقدمات الثلاث المذكورة حجية الظن في
الجملة لم يلزم من ذلك إلا حجية بعض الظنون مما يكتفى به في معرفة الأحكام
بالقدر المذكور، لأن المهملة في قوة الجزئية، فإن كانت الظنون متساوية في نظر
العقل من جميع الجهات لزم القول بحجية الجميع، لامتناع الحكم بحجية بعض
معين منها من دون مرجح باعث على التعيين أو الحكم بحجية بعض غير معين
منها، إذ لا يعقل الرجوع إليه في ما هو الواجب من استنباط الأحكام.

(1) أي: الإيراد على المقدمة الرابعة من مقدمات الانسداد، راجع ص 391.
415

وأما إذا كان البعض من تلك الظنون مقطوعا بحجيته على فرض حجية الظن
في الجملة دون البعض الآخر تعين ذلك البعض للحكم بالحجية دون الباقي، فإنه
هو القدر اللازم من المقدمات المذكورة دون ما عداه، إذ حكم العقل بحجية الكل
على ما ذكر ليس من جهة انتفاء المرجح بينها بحسب الواقع حتى يجب الحكم
بحجية الجميع كذلك بل إنما هو من جهة عدم علمه بالمرجح، فلا يصح له تعيين
البعض للحجية دون البعض من غير ظهور مرجح عنده، فيتعين عليه الحكم بحجية
الكل بعد القطع بعدم المناص عن الرجوع إليه في الجملة، فعموم الحكم المذكور
إنما يجئ من جهة جهل العقل بالواقع.
وأنت خبير بأن قضية الجهل المذكور هي ترجيح الأخص في المقام عند
دوران الأمر حينئذ بينه وبين الأعم، لثبوت حجيته على التقديرين، فبعد ثبوت
حجية الظن في الجملة لا كلام في حجية ظنون خاصة لدوران الأمر حينئذ بين
الأخذ بها وبغيرها، فكيف يسوغ حينئذ للعقل تجويز الرجوع إلى غير الظنون
الخاصة مع كون تلك الظنون كافية في استنباط الأحكام.
فان قلت: إن القائل بحجية كل الظنون إنما يقول بحجية الظنون الخاصة من
حيث إنها ظن لا لأجل خصوصيتها، وتلك الحيثية جارية في جميع الظنون،
والقائل بحجية خصوص تلك الظنون الخاصة من حيث إنها ظن لم يقم على ذلك
حجة قاطعة، فلم يثبت إذن خصوصية في تلك الظنون حتى يقال بترجيحها على
غيرها.
قلت: ليس المقصود في المقام الاستناد في مقام الترجيح إلى الدليل الدال
على حجية الظنون الخاصة حتى يقال بعدم ثبوت مرجح قطعي قاض بحجيتها
بخصوصها وعدم اتفاق الأقوال عليها كذلك، بل المراد أنه لما دار الأمر في نظر
العقل بعد العلم بحجية الظن على جهة الإهمال بمقتضى المقدمات الثلاث
المذكورة، حيث إنه لا يحتمل هناك وجها ثالثا، وكان حجية الظنون الخاصة ثابتة
على كل من الوجهين المذكورين، فحكم العقل بحجيتها ليس من أجل قيام الحجة
416

على حجيتها ابتداء حتى يقابل ذلك بعدم نهوض دليل عليها كذلك، بل من جهة
جهله بعموم الحجية واختصاصها بالبعض بعد علمه بحجية الظن في الجملة، فإن
قضية ذلك عدم ثبوت حجية ما يزيد على ذلك، فليس له الحكم إلا بالقدر الثابت
على التقديرين أخذا باليقين، وإن احتمل أن يكون حجية ذلك البعض واقعا من
جهة كونه ظنا مطلقا لتعم الجميع أو بملاحظة الخصوصية، إذ مجرد الاحتمال
لا يثمر شيئا في المقام، ولا يجوز تعدي العقل في الحكم عن المقدار المذكور.
والحاصل: أن جهله بالترجيح في المقام قاض بحكمه بترجيح ذلك البعض
عند الدوران بينه وبين الكل دون حكمه بحجية الكل من جهة الترجيح بلا مرجح
كما هو المدعى.
فظهر بما قررنا أن الحكم بترجيح البعض المذكور ليس من جهة الاتفاق عليه
بخصوصه حتى يقابل ذلك بمنع حصول الاتفاق على خصوص ظن خاص وأنه لو
سلم ذلك فالقدر المتفق عليه لا يكفي في استعلام الأحكام كما هو الحال في العلم،
فالإيراد في المقام بأحد الوجهين المذكورين بين الاندفاع.
فإن قلت: إن الظنون الخاصة لا معيار لها حتى يؤخذ منها حينئذ على مقتضى
اليقين لحصول الاختلاف في خصوصياتها أيضا.
قلت: يؤخذ حينئذ بأخص وجوهها مما اتفق عليه القائلون بالظنون الخاصة
بأن لا يحتمل الاقتصار على ما دونها بناء على ذلك، فإن اكتفى به في دفع
الضرورة فلا كلام، والأخذ بالأخص بعده أخذا بمقتضى المقدمات المذكورة إلى
أن يدفع به الضرورة ويترك الباقي بعد ذلك، ولو فرض دوران الأمر بين ظنين أو
ظنون في مرتبة واحدة حكم بحجية الكل، لانتفاء الترجيح، ولا يقضي ذلك بحجية
ما بعده من المراتب.
فإن قلت: إنه لو تم ما ذكر فإنما يتم مع عدم معارضة الظن الخاص لغيره من
الظنون، وأما مع المعارضة ورجحان الظن الآخر عليه أو مساواته له فلا يتم
لدوران الأمر حينئذ بين الظنين، فيتوقف الرجحان على ثبوت المرجح بالدليل،
417

ولا يجري فيه الوجه المذكور، بل يقضي الدليل المذكور حينئذ بحجية الجميع،
لانتفاء الترجيح حينئذ حسب ما قرر في الاحتجاج فيعمل حينئذ بما يقتضيه
قاعدة التعارض.
قلت: لما لم يكن تلك الظنون حجة مع الخلو عن المعارض على ما قررنا،
فمع وجود المعارض لا تكون حجة بطريق أولى، فلا يعقل معارضتها لما هو حجة
عندنا.
وأنت خبير بأنه يمكن أن يقلب ذلك ويقال: إنه مع التساوي أو الترجيح
يحكم بحجية الكل نظرا إلى بطلان الترجيح بلا مرجح حسب ما قرر في الدليل،
فيلزم القول بحجيته مع انتفاء المعارض بالأولى، بل يتعين الأخذ بالوجه المذكور
دون عكسه فإن قضية الدليل المذكور وثبوت الحجية في الصورة المفروضة
بخلاف رفع (1) الحجية في الصورة الأخرى، فإنه إنما يقال به من جهة الأصل
وانتفاء الدليل على الحجية، فيكون الثبوت هنا حاكما على النفي هناك، فينتفي
القول بحجية الكل كما هو مقصود المستدل، فتأمل.
ثانيها: أن عدم قيام الدليل القاطع على حجية بعض الظنون لا يمنع من
حصول الترجيح للاكتفاء فيه بالأدلة الظنية من غير أن يكون ذلك استنادا إلى الظن
في إثبات الظن كما قد يتوهم.
توضيح ذلك: أنه بعد قطع العقل بحجية الظن في الجملة ودوران الحجة بين
بعض الظنون وكلها إن تساوى الكل بحسب الحجية في نظر العقل أمكن الحكم
بحجية الجميع، لما عرفت من امتناع الحكم بعدم حجية شئ منها وانتفاء الفائدة
في الحكم بحجية بعض غير معين منها، وحكمه بحجية بعض معين منها ترجيح
بلا مرجح، فيتعين الحكم بحجية الجميع.
وأما لو اختلفت الظنون بحسب القرب من الحجية والبعد عنها في نظر العقل
ودار الأمر بين حكمه بحجية القريب أو البعيد أو هما معا، فلا ريب أن الذي يقطع

(1) في " ف " و " ق ": دفع.
418

به العقل حينئذ هو الحكم بالأول وإبقاء الباقي على ما يقتضيه حكم العقل قبل
ذلك، فهو في الحقيقة استناد إلى القطع دون الظن.
والحاصل أن الذي يحكم العقل بحجيته هو القدر المذكور ويبقى الباقي على
مقتضى حكم الأصل (1).
ثالثها: أن مقتضى الدليل المذكور حجية كل ظن عدا ما قام دليل قطعي أو منته
إلى القطع على عدم جواز الرجوع إليه.
وبالجملة ما قام دليل معتبر شرعا على عدم جواز الأخذ به. وحينئذ نقول: إنه
إذا قام دليل ظني على تعين الرجوع إلى ظنون مخصوصة وعدم جواز الرجوع
إلى غيرها تعين الأخذ بها ولم يجز الرجوع إلى ما عداها، إذ مع قيام الظن مقام
العلم يكون الدليل الظني القائم على ذلك منزلا منزلة العلم بعدم جواز الرجوع إلى
سائر الظنون.
فمقتضى ما أفاده الدليل المذكور - من حجية كل ظن عدا ما دل الدليل المعتبر
شرعا على عدم جواز الرجوع إليه - عدم جواز الرجوع حينئذ إلى سائر الظنون
مما عدا الظنون الخاصة، وليس ذلك حينئذ من قبيل إثبات الظن بالظن فلا يعتد به،
بل إنما يكون كل من الإثبات والنفي بالعلم، إذ المفروض العلم بقيام الظن مقام
العلم عدا ما قام الدليل على خلافه.
فإن قلت: إنه يقع التعارض حينئذ بين الظن المتعلق بالحكم والظن المتعلق
بعدم حجية ذلك لقضاء الأول بصحة الرجوع إليه ودفع الثاني له، فلا بد حينئذ من
الرجوع إلى أقوى الظنين المذكورين لا القول بسقوط الأول رأسا.
قلت: من البين أنه لا مصادمة بين الظنين المفروضين، لاختلاف متعلقيهما،
لما هو ظاهر من صحة تعلق الظن بالحكم، والظن بكونه مكلفا بعدم الاعتداد
بذلك الظن والأخذ به في إثبات الحكم، فلا يعقل المعارضة بينهما ليحتاج إلى
الترجيح.

(1) في " ق ": العقل.
419

نعم قد يقال: بوقوع التعارض بين الدليل الدال على حجية الظن والظن
القاضي بعدم حجية الظن المفروض.
ويدفعه: أن قضية الدليل الدال على حجية الظن هو حجية كل ظن لم يقم على
عدم جواز الأخذ به دليل شرعي، فإذا قام عليه دليل شرعي كما هو المفروض لم
يعارضه الدليل المذكور أصلا.
فإن قلت: إن قام هناك دليل علمي على عدم حجية بعض الظنون كان الحال
على ما ذكرت، وأما مع قيام الدليل الظني فإنما يصح جعله مخرجا عن مقتضى
القاعدة المذكورة إذا كانت حجيته معلومة، وهو إنما يبتني على القاعدة المذكورة
وهي غير صالحة لتخصيص نفسها، إذ نسبتها إلى الظنين على نحو سواء، فكما
يكون الظن بعدم حجية ذلك الظن قاضيا بعدم جواز الأخذ به كذا يكون الظن
المتعلق بثبوت الحكم في الواقع أيضا قاضيا بوجوب العمل بمؤداه، ومقتضى
القاعدة المذكورة حجية الظنين معا، ولما كانا متعارضين لم يمكن الجمع بينهما
كان اللازم مراعاة أقواهما والأخذ به في المقام على ما هو شأن الأدلة المتعارضة
من غير أن يكون ترك أحد الظنيين مستندا إلى القاعدة المذكورة - كما زعمه
المجيب - إذ لا يتصور تخصيصها لنفسها.
والحاصل: أن المخرج عن حكم تلك القاعدة في الحقيقة هو الدليل الدال
على حجية الظن المفروض، إذ الظن بنفسه لا ينهض حجة قاضية بتخصيص
القاعدة الثابتة، والمفروض أن الدليل عليه هو القاعدة المفروضة فلا يصح جعلها
مخصصة لنفسها، أقصى الأمر مراعاة أقوى الظنين المفروضين في المقام.
قلت: الحجة عندنا حينئذ كل واحد من الظنون الحاصلة وإن كان المستند في
حجيتها شيئا واحدا، وحينئذ فالحكم بحجية كل واحد منها مقيد بعدم قيام دليل
على خلافه.
ومن البين حينئذ كون الظن المتعلق بعدم حجية الظن المفروض دليلا قائما
على عدم حجية ذلك الظن فلا بد من تركه.
420

والحاصل: أن العقل قد دل على حجية كل ظن حتى يقوم دليل شرعي على
عدم حجيته، فإذا تعلق ظن بالواقع وظن آخر بعدم حجية ذلك الظن كان الثاني
حجة على عدم جواز الرجوع إلى الأول وخرج بذلك عن الاندراج تحت الدليل
المذكور، فليس ذلك مخصصا لتلك القاعدة أصلا.
فإن قلت: إن العقل كما يحكم بحجية الظن الأول إلى أن يقوم دليل على
خلافه كذا يحكم بحجية الأخير كذلك، وكما يجعل الثاني باعتبار كونه حجة دليلا
على عدم حجية الأول فليجعل الأول باعتبار حجيته دليلا على عدم حجية الثاني،
إذ لا يمكن الجمع بينهما في الحجية فأي مرجح للحكم بتقديم الثاني على الأول.
قلت: نسبة الدليل المذكور إلى الظنين بأنفسهما على نحو سواء، لكن يتعلق
الظن الأول بحكم المسألة في الواقع والظن الثاني بعدم حجية الأول، فإن كان
مؤدى الدليل حجية الظن مطلقا لزم ترك أحد الظنين، ولا ريب إذن في لزوم ترك
الثاني، فإنه في الحقيقة معارض للدليل القاطع القائم على حجية الظن مطلقا لا
للظن المفروض، وحينئذ فلا ظن بحسب الحقيقة بعد ملاحظة الدليل القطعي
المفروض.
وأما إن كان مؤداه حجية الظن إلا ما دل الدليل على عدم حجيته، فلا مناص
من الحكم بترك الأخذ بالظن الأول، إذ قضية الدليل المفروض حجية الظن الثاني،
فيكون دليلا على عدم حجية الأول، ولا معارضة فيه للدليل القاضي بحجية الظن،
لكون الحكم بالحجية هناك مقيدا بعدم قيام الدليل على خلافه، ولا للظن الأول،
لاختلاف متعلقيهما. ولو أريد الأخذ بمقتضى الظن الأول لم يمكن جعل ذلك
الحكم دليلا على عدم حجية الظن الثاني، لوضوح عدم ارتباطه به، وإنما يعارضه
ظاهرا نفسه الحكم بحجيته، وقد عرفت أنه لا معارضة بينهما بحسب الحقيقة، ولا
يصح أن يجعل حجية الظن الأول دليلا على عدم حجية الثاني، إذ الحجة في المقام
هي نفس الظنين، والدليل المذكور في المقام دال على حجيتهما، وهو أمر واحد
نسبته إليهما بأنفسهما على نحو سواء كما عرفت، وليست حجية الظن حجة في
المقام، بل الحجة نفس الظن.
421

وقد عرفت أنه بعد ملاحظة الظنين وملاحظة حجيتهما على الوجه المذكور
ينهض الثاني دليلا على عدم حجية الأول دون العكس، فيكون قضية الدليل القائم
على حجية الظن - إلا ما قام الدليل على عدم حجيته بعد ملاحظة الظنين
المفروضين - حجية الثاني وعدم حجية الأول، من غير حصول تعارض بين
الظنين حتى يؤخذ بأقواهما، كما لا يخفى على المتأمل.
رابعها: أن هناك أدلة خاصة قائمة على حجية الظنون المخصوصة على قدر
ما يحصل به الكفاية في استنباط الأحكام الشرعية، وهي إما قطعية أو منتهية إلى
القطع حسب ما فصل القول فيها في الأبواب المعدة لبيانها، ونحن نحقق القول في
ذلك في تلك المقامات إن شاء الله، ولعلنا نشير إلى بعض منها في طي هذه المسألة
أيضا. وحينئذ فلا إشكال في كونها مرجحة بين الظنون فلا يثبت بالمقدمات
الثلاث المتقدمة ما يزيد على ذلك، فطريق العلم بالأحكام الواقعية وإن كان
مسدودا في الغالب، إلا أن طريق العلم بتفريغ الذمة والمعرفة بالطرق المقررة في
الشريعة للوصول إلى الأحكام الشرعية غير مسدود، فيتعين الأخذ به، هذا.
وقد يقرر الدليل المذكور بنحو آخر بأن يقال: إنه لو لم يكن مطلق الظن بعد
انسداد باب العلم حجة لزم أحد أمور ثلاثة: من التكليف بما لا يطاق، والخروج
من الدين، والترجيح بلا مرجح، وكل من اللوازم الثلاثة بين البطلان.
وأما الملازمة فلأنه لا يخلو الحال بعد انسداد باب العلم من وجوب تحصيل
العلم ولو بسلوك سبيل الاحتياط أو ترك العمل بما لا علم به رأسا، أو العمل ببعض
الظنون دون بعض، أو الرجوع إلى مطلق الظن عدا ما ثبت المنع منه من الظنون
الخاصة فعلى الأول يلزم الأول، إذ المفروض انسداد باب العلم في معظم الأحكام
وعدم إمكان مراعاة الاحتياط في كثير منها مضافا إلى ذهاب المعظم إلى عدم
وجوب الاحتياط مع ما في القول بوجوبه من العسر العظيم والحرج الشديد.
وعلى الثاني يلزم الثاني لخلو معظم الأحكام عن الأدلة القطعية. وعلى الثالث
يلزم الثالث، إذ لا ترجيح بين الظنون، لعدم قيام دليل قطعي على حجية ما يكتفى
422

به من الظنون في معرفة الأحكام. والرجوع إلى المرجح الظني في إثبات الظن
ممتنع، فيتعين الرابع، وهو المدعى.
ويمكن الإيراد عليه على نحو ما مرت الإشارة إليه تارة: بأنا نلتزم وجوب
تحصيل العلم بالواقع أو بطريق دل الدليل القاطع على حجيته، وفي ما عدا ذلك
يبنى على الاحتياط على حسب ما مر تفصيل القول فيه، وفي ما لا يمكن
الاحتياط فيه إن لم يعلم تعلق التكليف بنا في خصوص تلك المسألة من إجماع أو
ضرورة وكان لنا مندوحة عنه يبنى على سقوط التكليف، لعدم ثبوت طريق
موصل إليه بحسب الشرع. وإن علم ثبوت التكليف بالنسبة إلينا يبنى فيه بالتخيير
بين الوجهين أو الوجوه المحتملة في تعلق التكليف، يعني أنه يؤخذ بالقدر المتيقن
ويدفع اعتبار ما يزيد عليه، لانتفاء الطريق إليه. كما أنا مع القول بقيام الدليل
القاطع على طريق يعلم معه بتفريغ الذمة نلتزم به بالنسبة إلى من يكون في أطراف
بلاد الاسلام إذا لم يتمكن من الوصول إلى الطريق المقرر في الشريعة وتمكن من
تحصيل طريق الاحتياط، فإنه يلزم البناء على نحو ما أشرنا إليه.
وتارة بالتزام سقوط التكليف في ما لا سبيل إلى العلم به. قوله: إنه يلزم
الخروج عن الدين، قلنا: ممنوع، على حسب ما مر تفصيل القول فيه.
وأخرى بالتزام البناء على العمل ببعض الظنون. قوله: " إنه يلزم الترجيح من
دون مرجح " قلنا: ممنوع، وإنما يلزم ذلك إذا لم يقم عندنا دليل قطعي أو منته إلى
القطع على حجية جملة من الظنون كافية في حصول المطلوب.
ومع الغض عنه فإنما يلزم ذلك مع عدم الاكتفاء بالمرجح الظني إن قلنا بعدم
حجية الظن المتعلق بحجية بعض الظنون دون بعض، وكلا الدعويين محل منع، بل
فاسد حسب ما مر القول فيهما.
وأيضا نقول: إنه إن أريد بالشرطية المذكورة لزوم أحد الأمور الثلاثة على
تقدير عدم حجية مطلق الظن بالواقع بعد انسداد طريق العلم به فالملازمة ممنوعة،
وما ذكر في بيانها غير كاف في إثباتها، لإمكان الرجوع إلى الظن بما كلفنا به من
423

غير أن يلزم شئ من المفاسد الثلاثة، وهو غير المدعى كما عرفت. وإن أريد به
الأعم من الوجهين، فهو مسلم ولا يفيد حجية الظن المتعلق بالواقع كما هو
المدعى، على أن التقرير المذكور لا يفي بوجوب الرجوع إلى الظن به.
غاية الأمر دلالته على لزوم الرجوع إلى ما عدا العلم ولو كان الرجوع إلى
تقليد الأموات مثلا، فلا بد من أخذه فيه ما يفيد وجوب الأخذ بالظن حسب ما
أخذناه في التقرير المتقدم.
- الثاني - (1)
أنه لو لم يجب العمل بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح، وهو غير
جائز بديهة، فالمقدم مثله. بيان الملازمة: أنه مع عدم الأخذ بالمظنون لا بد من
الأخذ بخلافه، وهو الموهوم.
ومن البين أن المظنون راجح والموهوم مرجوح لتقومهما بذلك، وهو ما
ذكرناه من اللازم.
فإن قلت: أنه إنما يلزم ذلك إذا وجب الحكم بأحد الجانبين، وأما مع عدمه
فلا، إذ قد لا يحكم إذن بشئ من الطرفين.
قلت فيه: أولا: إن ترك الحكم مرجوح أيضا في نظر العقل فإنه مع رجحان
جانب المظنون يكون الحكم به راجحا على نحو رجحان المحكوم به، فيكون
ترك الحكم أيضا مرجوحا كالحكم بخلاف ما ترجح عنده من المحكوم به.
وثانيا: أنه إنما يمكن التوقف في الحكم والفتوى، وأما في العمل فلا وجه
للتوقف، إذ لا بد من الأخذ بأحد الجانبين، فإما أن يؤخذ الجانب الراجح أو
المرجوح، ويتم الاستدلال.
وقد أشار إلى هذه الحجة في الإحكام في حجج القائل بحجية أخبار الآحاد
وقال: إنه إما أن يجب العمل بالاحتمال الراجح والمرجوح معا، أو تركهما معا،

(1) أي: الوجه الثاني من وجوه حجية مطلق الظن.
424

أو العمل بالمرجوح دون الراجح، أو بالعكس. لا سبيل إلى الأول والثاني والثالث
فلم يبق سوى الرابع، وهو المطلوب. وأشار إليه في النهاية أيضا في ذيل الحجة
الآتية.
والجواب عنه المنع من بطلان التالي. ودعوى البداهة فيه ممنوعة، إذ قد
يؤخذ فيه بالاحتياط، وهو مع كونه عملا بخلاف المظنون حسن عند العقل قطعا،
فليس مجرد العمل بخلاف المظنون مرجوحا عند العقل، وقد يؤخذ فيه بالأصل
نظرا إلى توقف تعلق التكليف في نظر العقل بإعلام المكلف، وحيث لا علم فلا
تكليف، إلا أن يثبت قيام غيره مقامه، كيف؟ ولو كان ترجيح المرجوح في العمل
على الراجح المفروض بديهي البطلان لكانت المسألة المفروضة ضرورية، إذ
المفروض فيها حصول الرجحان مع أنها بالضرورة ليست كذلك، بل مجرد
رجحان حصول التكليف في نظر العقل لا يقضي بوجوب الأخذ بمقتضاه والقطع
بتحقق التكليف على حسبه كما زعمه المستدل إذا لم يقم هناك دليل قاطع على
وجوبه، كيف؟ وهو أول الدعوى، بل نقول: إن رجحان حصول الحكم في الواقع لا
يستلزم رجحان الحكم بمقتضاه، لإمكان حصول الشك حينئذ في حسن الحكم أو
الظن بخلافه، بل والقطع به أيضا، فلا ملازمة بين الأمرين فضلا عن القول بوجوب
الحكم بذلك والقطع به، كيف؟ ويحتمل عند العقل حينئذ حصول جهة الحظر في
الإفتاء بمقتضاه، ولحوق الضرر عليه من جهته، ومعه لا يحكم العقل بجواز الإقدام
عليه بمجرد الرجحان المفروض.
فظهر بذلك: أن ما ذكر من كون الحكم بالراجح راجحا على نحو رجحان
المحكوم به غير ظاهر، بل فاسد، فلا مرجوحية إذن لترك الحكم ولا للحكم بجواز
كل من الفعل والترك في ما يصح فيه الأمران، نظرا إلى عدم قيام دليل قاطع للعذر
عليه، وكأنه أشار إلى ذلك في الإحكام مشيرا إلى دفع الحجة المذكورة قائلا بأنه
لا مانع من القول بأنه لا يجب العمل ولا يجب الترك، بل هو جائز الترك، على أنه
لو تم الاحتجاج المذكور لقضى بحجية الظن مطلقا من غير أن يصح اخراج شئ
425

من الظنون عنها، لعدم جواز الاستثناء من القواعد العقلية، إذ بعد كون الأخذ
بالمظنون راجحا وعدمه مرجوحا وكون ترجيح المرجوح قبيحا لا وجه للقول
بعدم جواز الأخذ ببعض الظنون، لصدق المقدمات المذكورة بالنسبة إليه قطعا، فلا
وجه لتخلف النتيجة، مع أن من الظنون ما لا يجوز الأخذ به إجماعا، بل ضرورة.
إلا أن يقال: إن قضية رجحان الشئ أن يكون الحكم به راجحا إلا أن يقوم
دليل على خلافه وهو مع عدم كونه بينا ولا مبينا غير ما بني عليه الاحتجاج
المذكور، إذ قد يقال: إنه بعد قيام الدليل على عدم حجية ذلك الظن لا يبقى هناك
رجحان في نظر العقل، وهو أيضا بين الفساد، لوضوح عدم المنافاة بين الظن
بحصول الشئ والعلم بعدم جواز الحكم بمقتضاه.
وقد يقرر الاحتجاج المذكور بنحو آخر بأن يقال: إن الفتوى والعمل
بالموهوم مرجوح، أي قبيح قاض باستحقاق الذم عند العقل، والفتوى والعمل
بالمظنون راجح، أي حسن يستحق به المدح عند العقل، فلو لم يجب العمل بالظن
لزم ترجيح القبيح على الحسن، وهو قبيح ضرورة. أما كون الفتوى والعمل
بالموهوم قبيحا فلأنه يشبه الكذب، بل هو هو بخلاف الحكم بالراجح والعمل به.
وأنت خبير بأن ما ذكر من كون الحكم والعمل بمطلق المظنون حسنا عند
العقل هو عين المدعى، فأخذه دليلا في المقام مصادرة، إلا أن يجعل المدعى
حسنه في حكم الشرع، والدليل على حسنه حكم العقل نظرا إلى ثبوت الملازمة
بين حكم العقل والشرع.
وفيه: أن الدعوى المذكورة أيضا في مرتبة المدعى في الخفاء، لوضوح أن
القائل بالملازمة بين الحكمين - كما هو مبنى الاحتجاج بالعقل - إذا لم يثبت عنده
حسن العمل بالظن شرعا فلا يسلم استقلال العقل بإدراك حسنه، فكان اللازم أن
يجعل الدليل الدال على ذلك دليلا على المطلوب، وليس في التقرير المذكور
ما يفيد الاحتجاج عليه، إذ ليس فيه سوى دعوى قبح الأول وحسن الثاني.
نعم علل قبح الأول بأنه يشبه الكذب، بل هو هو وهو على فرض تسليمه
426

لا يستلزم حسن الحكم بالمظنون والعمل به، لإمكان قبح الأمرين، مع أن الوجه
المذكور قاض بقبح الحكم بالمظنون أيضا، لأنه أيضا يشبه الكذب نظرا إلى توقف
الإخبار بالعلم بالمطابقة، فغاية الفرق بين الأمرين قوة احتمال عدم المطابقة في
الأول وضعفه في الثاني، وذلك لا يقضي بخروجه عن دائرة الكذب على تقدير
عدم المطابقة ولا (1) التجري على الكذب بالإتيان بما يحتمله، لما فيه من انتفاء
العلم بالحقيقة، فالتقرير المذكور ليس على ما ينبغي، وكأنه مبني على وجوب
الحكم والعمل بأحد الجانبين حال انسداد باب العلم وإن لم يؤخذ ذلك في
الاحتجاج.
وقد أشير إلى ذلك في الإيراد الآتي في كلام المستدل فيضم إليه حينئذ قبح
الأخذ بالموهوم في العمل والفتوى دون المظنون، والوجه فيه ما مر في الدليل
المتقدم من كون تحصيل الواقع هو المناط في العمل والفتوى، وحيث إن الطريق
إليه هو العلم فبعد انسداد ذلك الطريق وبقاء وجوب الحكم والعمل لا بد من الأخذ
بما هو الأقرب إليه، أعني الطرف الراجح دون المرجوح، فلذا يحكم العقل بحسن
الأول وقبح الثاني. فيكون الدليل على الدعوى المذكورة وهي المقدمات الثلاث
المتقدمة من غير حاجة إلى ضم الرابعة نظرا إلى استقلال العقل بقبح ترك الراجح
وأخذ المرجوح. ويجري ذلك بالنسبة إلى سائر الظنون، وهذا كما ترى تقرير آخر
للاحتجاج المذكور بحذف المقدمة الرابعة، فإن الموصل إلى الحكم بحجية مطلق
الظن بناء على التقرير المذكور هو المقدمات المذكورة. وأما الحكم بقبح ترك
الراجح وأخذ المرجوح الحاصل بملاحظة تلك المقدمات فهو مساوق للمدعى
أو عينه، كما عرفت.
وأنت بعد ملاحظة ما بيناه تعرف أن المتجه في تقرير الاحتجاج هو ما ذكرنا
دون التقرير المذكور، فإن الرجحانية والمرجوحية بالمعنى الذي ذكرناه بعد ضم
المقدمات الثلاث هو الموصل إلى الرجحانية والمرجوحية بالمعنى الذي ذكره.

(1) في " ف " و " ق ": إلا.
427

وأيضا إذا ثبت ما ادعاه من حكم العقل بالحسن والقبح في المقام لكان مثبتا
للمقصود من غير حاجة إلى ضم قوله: " فلو لم يجب العمل بالظن... إلى آخره "
فيكون أخذه في المقام لغوا، وإنما ضمه إليه من جهة أن العلامة (رحمه الله) وغيره أخذوه
في الاحتجاج المذكور فقرر الاستدلال على حسب ما قرروه إلا أنهم لم يريدوا
بالراجح والمرجوح ما فسرهما به، بل أرادوا بهما ما قررناه فلا بد لهم من ضم
المقدمة المذكورة بخلاف ما قرره، إذ لا يعقل حينئذ وجه لضم المقدمة المذكورة
أصلا، فهو (رحمه الله) مع تفسيره الرجحانية بما مر أورد الاحتجاج على نحو ما ذكروه
ومنه نشأ الإيراد المذكور.
هذا وقد ذكر الفاضل المتقدم بعد بيان الاحتجاج على الوجه المذكور ايرادا
في المقام، وهو: أنه إنما يتم ما ذكر إذا ثبت وجوب الإفتاء والعمل، ولا دليل عليه
من العقل ولا النقل، إذ العقل إنما يدل على أنه لو وجب الإفتاء أو العمل يجب
اختيار الراجح، وأما وجوب الإفتاء فلا يحكم به العقل، وأما النقل فلأنه لا دليل
على وجوب الإفتاء عند فقد ما يوجب القطع بالحكم، والإجماع على وجوب
الإفتاء ممنوع في المقام، لمخالفة الأخباريين فيه حيث يذهبون إلى وجوب
التوقف والاحتياط عند فقد ما يوجب القطع.
وأجاب عنه أولا: بمنع وجوب العمل بالمقطوع به في الفروع وهو أول
الكلام، وما دل عليه من ظواهر الآيات ليست إلا ظنونا لا حجة فيها قبل إثبات
حجية الظن.
وثانيا: بعد تسليم وجوب القطع فإنما يعتبر ذلك في حال إمكان تحصيله
لا بعد انسداد سبيله كما هو الحال عندنا.
وثالثا: أن العمل بالتوقف أو الفتوى بالتوقف أيضا يحتاج إلى دليل يفيد
القطع، ولو تمسكوا في ذلك بالأخبار الدالة عليه عند فقدان العلم، فمع أن تلك
الأخبار لا تفيد القطع لكونها من الآحاد معارضة بما دل على أصالة البراءة ولزوم
العسر والحرج، وعلى فرض ترجيح تلك الأخبار فلا ريب في كونه ترجيحا ظنيا،
فلا يثمر في المقام.
428

ورابعا: أنه قد ينسد سبيل الاحتياط فلا يمكن الاحتياط في العمل ولا
التوقف في الفتوى، كما لو دار المال بين شخصين سيما إذا كانا يتيمين، إذ لا
يقتضي الاحتياط إعطاءه أحدهما دون الآخر، ولا دليل قطعي أيضا على جواز
السكوت وترك التعرض للحال والإفتاء بأحد الوجهين بعد استفراغ الوسع
وحصول الظن، فلعل الله سبحانه يؤاخذه على عدم الاعتناء وترك التعرض للفتوى
لعدم قيام دليل قطعي على حرمة العمل بالظن، بل ليس ما دل على حرمة العمل به
من الأدلة الظنية معادلا للضرر المظنون في إتلاف مال اليتيم وتعطيل أمور
المسلمين وإلزام العسر والحرج في الدين، فمع عدم قيام دليل قطعي من الجانبين
ليس في حكم العقل إلا ملاحظة جانب الرجحان والمرجوحية من الطرفين
والأخذ بما هو الأقوى منهما في نظر العقل والأبعد عن ترتب الضرر حسب ما
مرت الإشارة إليه في الدليل المتقدم.
فالعاقل البصير لا بد أن يلاحظ مضار طرفي الفعل والترك في كل مقام ويأخذ
بما هو الأقوى بعد ملاحظة الجهتين، ولا يقتصر على ملاحظة أحد الجانبين، فإن
مجرد كون الاحتياط حسنا في نفسه لا ينفع في مقابلة حفظ النظام ودفع المنكر
وإقامة المعروف وإغاثة الملهوف ورفع العسر والحرج وحفظ النفوس والأموال
عن التلف وعدم تعطيل الأحكام إلى غير ذلك من الفوائد المترتبة على الفتوى، فلا
وجه لترجيح جانب الاحتياط بعد انسداد باب العلم في المسألة وترك العمل
بالظن الحاصل من الطرق الظنية، بل لا بد في كل مقام من ملاحظة الترجيح
والأخذ بالراجح، غاية الأمر أن يكون في الاحتياط إحدى الجهات المحسنة،
وهذا هو السر في القول بالأخذ بالظن بعد انسداد سبيل العلم.
قلت: ويرد عليه، أما على ما ذكره أولا: فبأنه خارج عن قانون المناظرة،
لكونه منعا للمنع، فإن المورد المذكور بين توقف ما ذكره المستدل على ثبوت
وجوب الإفتاء والعمل، إذ مع البناء على عدمه لا قاضي بلزوم الأخذ بالظن،
لإمكان البناء على التوقف والاحتياط حسب ما ذهب إليه الأخباريون في موارد
429

الشبهة وانتفاء الدليل القاطع على حكم المسألة، وحينئذ أورد عليه بمنع المقدمة
المذكورة حيث لم يثبته المستدل ولم يقم عليها حجة، بل لم يأخذها في
الاحتجاج. فمنع المنع المذكور مما لا وجه له، لاكتفاء المورد في المقام بمجرد
الاحتمال الهادم للاستدلال.
وأما على ما ذكره ثانيا: فبأن القول بعدم وجوب تحصيل القطع بعد انسداد
سبيله لا يقتضي إثبات المقدمة المذكورة، لقيام الاحتمال المذكور في ما انسد فيه
سبيل العلم، كيف؟ ومن البين أنه بعد انسداد سبيل العلم لا يتصور التكليف
بتحصيل العلم، ومع ذلك ذهب الأخباريون في غير المعلومات إلى وجوب
التوقف والاحتياط.
نعم قد يريد بذلك انسداد سبيل العلم في معظم المسائل مع القطع ببقاء
التكليف بعده، فيثبت بذلك المقدمة الممنوعة حسب ما ذكر ذلك في الدليل الأول
حيث أثبت بهاتين المقدميتن كون المكلف به هو العمل بغير العلم، فحينئذ يرد عليه
ما مر في الدليل المتقدم مع أن ذلك غير مأخوذ في هذا الاستدلال.
وأما على ما ذكره ثالثا: فبأن عدم ثبوت دليل قاطع أو منته إلى القطع كاف في
التوقف عن الفتوى، فإن الحكم بالشئ يحتاج إلى الدليل لا التوقف عن الحكم،
سيما بعد حكم العقل والنقل بقبح الحكم من غير دليل وحرمته في الشريعة، فإذا لم
يثبت حينئذ جواز العمل بمطلق الظن كان قضية ما ذكرناه التوقف عن الفتوى
قطعا، وحيث لم يقطع حينئذ بجواز البناء على نفي التكليف رأسا كان اللازم في
حكم العقل من جهة حصول الاطمئنان بدفع الضرر هو الأخذ بالاحتياط.
نعم لو قام دليل قاطع على جواز الأخذ بغيره كان متبعا ولا كلام فيه، وأما مع
عدم قيامه فلا حاجة في إثبات وجوب الاحتياط إلى ما يزيد على ما قلناه.
وأما على ما ذكره رابعا: فبأن ما ينسد فيه سبيل الاحتياط لا يجب فيه الحكم
بأحد الجانبين إلا مع قيام الدليل على تعيين أحد الوجهين، بل لا بد مع عدم قيام
الدليل كذلك من التوقف عن الفتوى.
430

وما ذكره من أنه " لا دليل قطعي أيضا على جواز السكوت... إلى آخره " إما
أن يريد به عدم قيام الدليل القطعي من أول الأمر على جواز السكوت وترك
الحكم مع (1) عدم قيام الدليل القاطع على أحد الجانبين، أو عدم قيام الدليل
القطعي عليه حينئذ ولو بعد ملاحظة عدم قيام الدليل القاطع على جواز الحكم بعد
العلم ولا على عدم جوازه، فإن أراد الأول فمسلم، ولا يلزم منه عدم العلم بجواز
السكوت وترك الحكم، وإن أراد الثاني فهو مدفوع بما هو ظاهر عقلا ونقلا من
عدم جواز الحكم بغير دليل، فإذا فرض عدم قيام الدليل على جواز الحكم تعين
البناء على المنع منه، وكان ذلك حكما قطعيا عند العقل بالنسبة إلى من لم يقم دليل
عنده.
نعم لو قام هناك دليل على وجوب الحكم ودار الأمر بين الحكم بالمظنون
وغيره فذلك كلام آخر لا ربط له بما هو بصدده إذ كلامه المذكور مبني على الغض
عن ذلك، فحكمه بالتساوي بين الحكم وتركه في التوقف على قيام الدليل عليه
ليس على ما ينبغي، لوضوح الفرق بينهما بما عرفت، فإن عدم قيام الدليل على
الحكم كاف في الحكم بالمنع منه حتى يقوم دليل على جوازه وإن اشتركا في لزوم
تحصيل القطع في الجملة في الإقدام والإحجام.
وقوله: " مع عدم قيام دليل قطعي من الجانبين ليس في حكم العقل... إلى
آخره " إما أن يريد به ملاحظة حال الرجحان والمرجوحية بالنظر إلى الواقع، أو
من جهة التكليف الظاهري بالنسبة إلى جواز الإقدام على الفعل أو الترك.
فإن كان هو الأول فالأخذ بما هو الراجح غير لازم، إذ قد يكون الراجح في
نظر العقل حينئذ هو ترك الأخذ به وعدم إثبات الحكم بمجرد الرجحان الغير
المانع من النقيض.
وإن أراد الثاني فلا ريب في أن ما يحكم به العقل بعد انسداد سبيل العلم
وعدم قيام دليل على الأخذ بالظن هو التوقف وترك الحكم، كيف! ومن البين على

(1) في " ف " و " ق ": ومع.
431

وجه الاجمال عدم جواز الحكم من غير دليل، فإذا لم يقم دليل على جواز الركون
إلى الظن كان الحكم بمقتضاه محظورا، وإنما يصح الحكم به لو قام دليل على
جواز الحكم بمقتضاه، وهو حينئذ أول الكلام، فمجرد استحسان العقل وملاحظة
الجهات المرجحة للفعل أو الترك لا يقطع عذر المكلف في الإقدام على الحكم بعد
ملاحظة ما هو معلوم إجمالا من المنع من الحكم بغير دليل.
فظهر بما قررنا أنه مع الغض عن ثبوت وجوب الحكم في الصورة المفروضة
عند الدوران بين الوجهين لا وجه للاحتجاج المذكور أصلا، فما رامه من إتمام
الدليل مع ترك أخذه في المقام فاسد.
- الثالث - (1)
إن مخالفة المجتهد لما ظنه من الأحكام الواجبة أو المحرمة أو ما يستتبعها
مظنة للضرر، وكل ما هو مظنة للضرر فتركه واجب، فيكون عمل المجتهد بما ظنه
واجبا. والكبرى ظاهرة، وأما الصغرى فلأنه إذا ظن وجوب شئ أو حرمته فقد
ظن ترتب العقاب على ترك الأول وفعل الثاني، وهو مفاد ظن الضرر.
وأورد عليه: تارة بمنع الكبرى. ودعوى الضرورة فيها غير ظاهرة، غاية الأمر
أن يكون أولى رعاية للاحتياط، ولو سلم ذلك فإنما يسلم في الأمور المتعلقة
بالمعاش دون الأمور المتعلقة بالمعاد، إذ لا استقلال للعقل في إدراكها.
وتارة بمنع الصغرى، فإنه إنما يترتب خوف الضرر على ذلك إذا لم نقل
بوجوب نصب الدليل على ما يتوجه إلينا من التكليف، وأما مع البناء على وجوبه
فلا وجه لترتب الضرر مع انتفائه كما هو المفروض.
وأخرى بالنقض بخبر الفاسق بل الكافر إذا أفاد الظن ولا يتم القول بالتزام
التخصيص في ذلك، نظرا إلى خروج ما ذكر بالدليل يبقى غيره تحت الأصل، لعدم
تطرق التخصيص في القواعد العقلية الثابتة بالأدلة القطعية.

(1) أي: الوجه الثالث من وجوه حجية مطلق الظن.
432

والجواب عن الأول ظاهر، فإن وجوب رفع الضرر المظنون بل وما دونه من
النظريات التي لا مجال لإنكاره، كيف! وهو المبدأ في إثبات النبوات والتجسس
عن الحق، ولولاه لزم إفحام النبي في أمره بالنظر إلى معجزته. والتفصيل المذكور
بين المضار الدنيوية والأخروية من أوهن الخيالات، إذ لا يعقل الفرق بينهما في
ذلك، بل المضار الأخروية أعظم في نظر العقل السليم، لشدة خطره وعظم المنال
فيه ودوامه، وعدم حيلة للمكلف في دفعه بعد خروج الأمر من يده. وعدم استقلال
العقل في خصوصياتها لا يقتضي عدم إدراكه لما يتعلق بها ولو على سبيل
الاجمال.
وأجاب بعض الأفاضل عن الثاني بأن مراد المستدل أنه إذا علم بقاء التكليف
ضرورة وانحصر طريق معرفة المكلف به في الظن وجب متابعته ولم يجز تركه، إذ
ما ظنه حراما أو واجبا يظن أن الله يؤاخذه على مخالفته، وظن المؤاخذة قاض
بوجوب التحرز عقلا، ولا وجه لمنع ذلك. وما ذكره من سند المنع مدفوع بأن
وجوب نصب الدلالة القطعية (1) بالخصوص على الشارع ممنوع، وهو أول الكلام،
ألا ترى أن الإمامية يقولون بوجوب اللطف على الله في نصب الإمام (عليه السلام) لإجراء
الأحكام وإقامة الحدود، ومع ذلك خفي عن الأمة من جهة الظلمة؟ فكما أن
المجتهد صار نائبا عنه بالعقل والنقل وكان اتباعه واجبا كاتباعه، فكذلك ظن
المجتهد بقولهم وشرائعهم صار نائبا عن علمه بها، وكما أن الإمام (عليه السلام) يجب أن
يكون عالما بجميع الأحكام مما يحتاج الأمة إليها وإن لم يكونوا محتاجين فعلا،
فكذا يجب على المجتهد الاستعداد لجميع الأحكام بقدر طاقته ليرفع احتياج
الأمة عند احتياجهم، ولا ريب أنه لا يمكن تحصيل الكل باليقين فناب ظنه مناب
يقينه.
نعم لو فرض عدم حصول ظن المجتهد في مسألة أصلا رجع فيها إلى أصل
البراءة.

(1) في ط: العقلية.
433

لا يقال: إنه يوجب على التقرير المذكور يرجع هذا الدليل إلى الدليل الأول.
لأ نا نقول: إن مرجع الدليل الأول إلى لزوم التكليف بما لا يطاق في معرفة
الأحكام لو لم يعمل بظن المجتهد، ومرجع هذا الدليل إلى أن ترك العمل بالظن
يوجب الظن بالضرر.
فإن قلت: لو لم يحصل الظن بشئ حين انسداد باب العلم فما المناص في
العمل والتخلص من لزوم تكليف ما لا يطاق؟ فإن عملت بأصل البراءة حينئذ فلم
لم تعمل به من أول الأمر؟
قلت: إنما لا نعمل به أولا لأن الثابت من الأدلة كون جواز العمل به متوقفا
على اليأس عن الأدلة بعد الفحص، فكما يعتبر الفحص في اليأس عن الأدلة
الاختيارية فكذا الحال في الأدلة الاضطرارية، فالحال في الظنون الغير المعلوم
حجيتها بالخصوص إذا تعارضت أو فقدت حال الظنون المعلوم الحجية إذا
تعارضت أو فقدت، فما يبنى عليه هناك من التوقف في الفتوى أو الرجوع إلى
الأصل يبنى عليه هنا، وكما لا يرجع هناك إلى الأصل مع وجود الدليل وانتفاء
المعارض كذا لا يرجع إليه هنا.
وأجاب عن الثالث: تارة بأن عدم جواز العمل بخبر الفاسق إذا أفاد الظن أول
الكلام، واشتراط العدالة في الراوي معركة للآراء، وقد نص الشيخ (رحمه الله) بجواز العمل
بخبر المتحرز عن الكذب وإن كان فاسقا بجوارحه، والمشهور بينهم أيضا جواز
العمل بالخبر الضعيف المنجبر بعمل الأصحاب، ولا ريب أن ذلك لا يفيد إلا الظن.
والحاصل: أنا لا نجوز العمل بخبر الفاسق لأجل عدم حصول الظن أو
لحصول الظن بعدمه لا من جهة كونه فاسقا وإن حصل الظن به، وبمثل ذلك نقول:
إذا ورد النقض بالقياس فيكون حرمة العمل به من جهة عدم حصول الظن منه،
وذلك علة منع الشارع من العمل به لا أنه لا يعمل به على فرض حصول الظن.
وتارة بأن ما دل الدليل على عدم حجيته كخبر الفاسق أو القياس إنما يستثنى
من الأدلة المفيدة للظن، لا أن الظن الحاصل منه مستثنى من مطلق الظن حتى يرد
434

التخصيص على القاعدة العقلية ليورد الإشكال المذكور، بل إنما يرد التخصيص
على متعلق القاعدة المذكورة، فيكون القاعدة العقلية متعلقة بالعام المخصوص،
وهي باقية على حالها كذلك من غير ورود تخصيص عليها.
وذكر المجيب المذكور أن ما ذكر من الإيراد وارد على الدليل الأول أيضا،
لأن تكليف ما لا يطاق إذا اقتضى العمل بالظن بعد انسداد سبيل العلم فلا وجه
لاستثناء الظن الحاصل من القياس مثلا. وأجاب عنه بوجوه:
أحدها: أن تكليف ما لا يطاق وانسداد باب العلم - من الأدلة المقتضية للعلم
أو الظن المعلوم الحجية مع العلم ببقاء التكليف - يوجب جواز العمل بما يفيد
الظن، يعني في نفسه مع قطع النظر عما يفيد ظنا أقوى.
وبالجملة أنه يدل على حجية الأدلة الظنية دون مطلق الظن النفس الأمري،
والأول أمر قابل للاستثناء، إذ يصح أن يقال: إنه يجوز العمل بكل ما يفيد الظن
بنفسه ويدل على مراد الشارع ظنا إلا الدال الفلاني، وبعد اخراج ما خرج عن ذلك
يكون باقي الأدلة المفيدة للظن حجة معتبرة، فإذا تعارضت تلك الأدلة لزم الأخذ
بما هو أقوى وترك الأضعف منها، فالمعتبر حينئذ هو الظن الواقعي، ويكون مفاد
الأقوى حينئذ ظنا والأضعف وهما، فيؤخذ بالظن ويترك غيره.
ثانيها: أن في مورد القياس ونحوه لم ينسد باب العلم بالنسبة إلى ترك
مقتضاه، فإنا نعلم بالضرورة من المذهب حرمة العمل بمؤدى القياس فنقطع أن
حكم الله غير مؤداه، من حيث إنه مؤداه، وإن لم نعلم أنه ما هو فنرجع في تعيينه
إلى سائر الأدلة وإن كان مؤداه عين مؤداها لمخالفته له في الحيثية.
ثالثها: أنه يمكن منع بداهة حرمة العمل بالقياس ونحوه في موضع لا سبيل
إلى الحكم إلا به، غاية ما يسلم قضاء الضرورة بعدم جواز الأخذ به مع حصول
طريق آخر إلى الحكم فلا نقض.
وأنت خبير: بأن جميع ما ذكر محل نظر لا يكاد يصح منها، أما ما ذكره في
جواب الإيراد الثاني ففيه: أن المقدمتين المذكورتين لم تؤخذا في الحجة
المذكورة حسب ما عرفت، فالوجه المذكور لا يدفع الإيراد، بل يحققه. ومع الغض
435

عن ذلك فلو أخذتا في الاحتجاج وسلمها الخصم حصل منها القطع بتكليفه بالظن
وحصول المؤاخذة مع ترك العمل بالمظنة بالمرة، إذ المفروض القطع ببقاء التكليف
وانحصار الطريق في الظن، فأي حاجة إذن إلى ضم المقدمة المذكورة؟ وأي داع
لاعتبار الظن بالضرر؟ وحصول المؤاخذة مع المخالفة على أن ما ذكره من
انحصار الطريق في الأخذ بالظن غير مبين في المقام، إلا أن يؤخذ فيه ما ذكر في
الدليل الأول من المقدميتن الأخيرتين من كون الطريق الأولى إلى الواقع هو
العلم، وكون الظن هو الأقرب إليه، فينحصر الطريق في الأخذ به بعد انسداد سبيل
العلم وبقاء التكليف حسب ما مر بيانه في الدليل الأول.
ويبقى الكلام في عموم حجية الظن ليشمل جميع أفراده عدا ما خرج
بالدليل، إذ أقصى ما يفيده الوجه المذكور كون الظن دليلا في الجملة ويترتب
الضرر على مخالفته كذلك.
وأما ترتبه على مخالفة أي ظن كان فغير بين ولا مبين، والعقل يحكم بعدم
ترتب المضار الأخروية كذلك من دون قيام الحجة على عموم الحجية، فظن
ترتب الضرر على مخالفة مطلق الظن من دون قيام الحجة القاطعة لعذر المكلف لا
وجه له، وإنما يتم ذلك بعد ملاحظة عدم الترجيح بين الظنون حسب ما مرت
الإشارة إليه فيرجع ذلك إلى الدليل المتقدم.
فظهر بذلك فساد ما جعله فارقا بين هذا الدليل والدليل الأول من كون المناط
في الانتقال إلى الظن هناك بطلان تكليف ما لا يطاق وهنا دفع الضرر المظنون، إذ
قد عرفت أن مجرد الظن بالحكم لا يقتضي ظن الضرر بمخالفته مع عدم قيام دليل
قاطع لعذر المكلف. والكلام في المقام إنما وقع في ذلك الدليل، ولو أريد إثباته
بمجرد الظن بالحكم لزم الدور، ولو أخذ فيه المقدمتان المذكورتان كان الانتقال
إلى الظن من جهتهما دون ظن الضرر كما أشرنا إليه، على أن الانتقال إلى الظن في
المقام لا يتصور مع قطع النظر عن لزوم تكليف ما لا يطاق، كيف! ولو قيل بجوازه
لجاز حصول القطع ببقاء التكليف وانحصار الطريق في الظن، مع كونه مكلفا بالعلم
وعدم اكتفاء الشارع بغيره، ومجرد الظن بأداء التكليف بموافقة المظنون لا يكتفي
436

به في الخروج عن عهدة التكليف الثابت، بل لا يكون مثبتا للتكليف بالمظنون مع
عدم كونه قاطعا لعذر المكلف في عدم ثبوت التكليف عندنا وقيام الحجة عليه في
بيان التكليف، إذ لا ملازمة بين الظن بالحكم والظن بالضرر مع مخالفة المظنون
بعدما قام الدليل على عدم تعلق التكليف قبل قيام الحجة على المكلف، وحصول
طريق له في الوصول إلى المكلف به.
وما ذكره جوابا عما أورد من إمكان العمل بأصل البراءة من أول الأمر: من
أنا إنما لا نعمل به من أول الأمر إلى آخر ما ذكره مدفوع، بأن الحال وإن كان على
ما ذكره من عدم الرجوع إلى أصل البراءة إلا مع اليأس عن الأدلة الاختيارية
والاضطرارية، غير أنه لا بد من ثبوت الأدلة الاضطرارية ليمكن الرجوع إليها
والاعتماد عليها. وأما مع عدم ثبوتها فلا وجه للاعتداد بها، بل لا بد من الرجوع
إلى أصل البراءة. فالظنون التي لا يعلم حجيتها بالخصوص إن ثبت حجيتها على
جهة العموم فلا كلام في تقديمها على الأصل، لكنها لم يثبت حجيتها بعد، وإنما
يتوقف ثبوتها على عدم جواز الرجوع حينئذ إلى الأصل المذكور كما هو مبنى
الاستدلال. ومجرد احتمال حجيتها لا يقضي بالمنع من الرجوع إلى الأصل، إذ لا
يتم الحجة على المكلف بمجرد الاحتمال، ولذا يدفع احتمال حصول التكليف
بالأصل المذكور، ولا يتعقل فرق بين الاحتمال المتعلق بنفس التكليف
والاحتمال المتعلق بإثبات التكليف بمجرد الظن، فكما ينهض الأصل حجة دافعة
للأول إلى أن يقوم دليل على ثبوت التكليف، فكذا بالنسبة إلى الثاني.
والقول بأن حجية الأصل إنما هي مع اليأس عن الدليل ولا يأس مع وجود
واحد من الظنون المفروضة مما يحتمل حجيته واضح الفساد، فإن المراد بالدليل
هو القاطع لعذر المكلف. ومجرد احتمال كونه مثبتا للتكليف غير قاطع لعذره، كما
أنه لا يقطع عذره باحتمال ثبوت التكليف حسب ما قررنا، فيقوم الأصل حينئذ
حجة على دفع كل من الاحتمالين إلى أن يقوم دليل على خلافه.
نعم لو قرر رفع الإيراد بأن البناء على أصل البراءة في غير معلوم الحجية
بالخصوص من الظنون المفروضة يوجب هدم الشريعة والخروج عن الدين لكان
437

له وجه حسب ما مر بيانه في تقرير الاستدلال الأول.
وأما ما علل المنع به فمما لا يكاد يمكن تصحيحه.
وأما ما ذكره في الجواب عن الإيراد الثالث ففيه: أن ما دفعه به أولا من منع
مادة الانتقاض فهو موهون جدا، إذ عدم حجية جملة من الظنون في الشريعة ولو
بالنسبة إلى هذه الأزمان مما قضى به إجماع الفرقة، بل ضرورة المذهب كظن
القياس والاستحسان ونحوهما، ودعوى عدم حصول الظن منها مكابرة للوجدان.
نعم إنما يتم ما ذكره بالنسبة إلى خبر الفاسق مثلا بناء على الاكتفاء في حجية
الخبر بظن الصدور كما هو المختار، إذ احتمال الاكتفاء به لا يتحقق معه النقض،
لوضوح أن مجرد الاحتمال غير كاف في حصول الانتقاض، وما دفعه به ثانيا فهو
أيضا كسابقه لبقاء الإشكال على حاله، ولا ثمرة لاعتبار الإخراج عن الأدلة
المفيدة للظن أصلا، وذلك لوضوح التزام اخراجها عما دل على حجية مطلق الظن
أيضا.
فإن مؤدى الأدلة المذكورة حجية مطلق الظن بعد انسداد سبيل العلم،
والمفروض عدم حجية الظنون المفروضة فتكون مخرجة عن القاعدة المذكورة
قطعا. والقول بأن الحجة مطلق الظن الحاصل عما سوى الأدلة المفروضة - فلا
تخصيص في القاعدة، لاختصاص الحكم بما عدا المذكور - غير مفيد في المقام،
إذ لو كان ذلك كافيا في دفع الإيراد كان جاريا في نفس الظن أيضا بأن يقال: إن
الحجة بعد انسداد سبيل العلم هو ما عدا الظنون التي علم عدم حجيتها فأي فائدة
في الخروج عن ظاهر ما يقتضيه تقرير الدليل وبنائه على الوجه المذكور؟
ومع الغض عن ذلك فمقتضى ما ذكره قيام الدليل على حجية الظن الحاصل
من الأدلة المفيدة للظن، وحينئذ فورود التخصيص على متعلق الظن المفروض
تخصيص في القاعدة العقلية أيضا من غير فرق بينه وبين ورود التخصيص على
حجية مطلق الظن أصلا.
نعم يمكن الجواب عن الإيراد المذكور: بأنه بعد ما قام الدليل على عدم
حجية الظن الحاصل من القياس ونحوه لا يتحقق خوف من الضرر عند مخالفته
438

ليجب الأخذ بمقتضاه من جهة دفعه، وذلك للعلم بعدم الاعتماد عليه في الشريعة،
بل منع الشارع عن الأخذ به، فإنما يترتب الضرر حينئذ على التمسك به دون
عدمه.
ويمكن الإيراد عليه: بأن مدار الاحتجاج المذكور على كون الظن بالواقع
قاضيا بظن الضرر مع مخالفة المظنون، فإذا قيل بإمكان التخلف وعدم حصول
الظن مع حصول الظن بالحكم بطل الاحتجاج من أصله.
ويدفعه: أن مدار الاحتجاج على كون الظن بالواقع مقتضيا لظن الضرر لولا
قيام المانع منه، فإذا قام الدليل على عدم حجية بعض الظنون كان ذلك مانعا من
الظن بالضرر، ومع عدمه فالظن بالضرر حاصل عند حصول الظن بالتكليف.
وفيه منع ظاهر، إذ لا دليل على الدعوى المذكورة سيما بعد ملاحظة خلافه
في عدة من الظنون، وقيام بعض الوجوه المشككة في عدة اخر منها، بل ضرورة
الوجدان قاضية بعدم الملازمة بين الظن بالحكم والظن بالضرر مع عدم الأخذ به،
وقد مرت الإشارة إلى ذلك، ويأتي تتمة الكلام فيه إن شاء الله.
إلا أن ذلك إيراد آخر على الدليل المذكور لا ربط له بالإيراد المذكور، وما
ذكر من الجواب كاف في دفع هذا الإيراد.
وأما ما ذكره في الجواب عن تقرير الإيراد المذكور على الدليل الأول فيرد
على ما ذكره، أولا: أن مفاد المقدمات المذكورة هو حجية مطلق الظن وقيامه مقام
العلم دون الأدلة الظنية، ولو دل على حجيتها فإنما هي من حيث إفادتها الظن
فيعود إلى الأول، فكيف يصح القول بأن مفادها حجية الأدلة الظنية المفيدة للظن
في نفسها مع قطع النظر عما يعارضها دون نفس المظنة الواقعية؟
ومع الغض عن ذلك فأي فرق في ما ذكر بين دلالتها على حجية كل من الأدلة
الظنية وكل ظن من الظنون؟ فإنه بناء على ثبوت العموم بحكم العقل لا يصح ورود
التخصيص عليه في شئ من الصورتين على ما تقرر عندهم من عدم جواز
التخصيص في القواعد العقلية.
* * *
439

قوله: * (الثالثة: حكي فيها أيضا عن بعض الأصحاب... الخ) *.
شهرة الحكم بين الأصحاب تداوله بينهم وذهاب الأكثر إليه، سواء كان القول
الآخر نادرا أو شائعا في الجملة ويعبر عنه حينئذ بالأشهر، وقد تطلق على مطلق
تداول الحكم بينهم وذهاب كثير منهم إليه وإن لم يبلغ إلى حد الأكثرية. ولذا يطلق
المشهور على الحكمين المتقابلين، كما يقال فيه قولان مشهوران، والأغلب في
إطلاق المشهور هو الوجه الأول، وكأنه المقصود بالبحث في المقام، ولها مراتب
مختلفة في القوة والضعف، نظرا إلى فضيلة القائلين به وحذاقتهم في الفن وخلافه
وكثرة القائلين به وشذوذ الآخر جدا وعدم بلوغها إلى تلك الدرجة.
ثم إنه قد يكون في مقابلة المشهور قول آخر، وقد لا يعرف هناك قول، بل
يكون تردد من الآخرين وتوقف فيه أو سكوت منهم في الحكم، ويندرج في
الاجماع السكوتي. وليس بإجماع عندنا، وقد لا يكون هناك تعرض من الباقين
للحكم ليتبين خلافهم أو وفاقهم، ويندرج حينئذ في عدم ظهور الخلاف فيكون
من بعض صور المسألة، بل قد يستظهر عدم خلاف الباقين أيضا فيكون من ظهور
عدم الخلاف، ويكون إجماعا ظنيا، وهو أيضا يندرج في الشهرة.
ولو حصل هناك اتفاق بين الأصحاب من دون كشفه عن قول المعصوم (عليه السلام)
- كما قد يتفق في بعض الأحيان - فالظاهر أيضا اندراجه في المشهور.
هذا وقد يكون الشهرة في الرواية والمراد بها كثرة الرواة الناقلين لها، أو
تداولها بين الأصحاب وذكرها في الكتب الكثيرة وإن كانت روايته بطريق واحد،
440

وقد يضم إلى ذلك تلقيهم لها بالقبول، ولا يستلزم اشتهار الرواية ندور ما يقابلها،
بل قد يكون ذلك أيضا مشهورا، وفي مقبولة عمر بن حنظلة وغيرها دلالة عليه.
وقد يجتمع الشهرتان في بعض الأحيان، وليست الشهرة في الرواية مقصودة
بالبحث في المقام، بل المبحوث عنه هنا هو الشهرة في الفتوى.
والمشهور بين الأصحاب من قدمائهم ومتأخريهم، بل لا خلاف يعرف فيه
بينهم - إلا ممن عبر عنه الشهيد (رحمه الله) ببعض الأصحاب واستقربه - عدم حجية
الشهرة وعدم جواز الاتكال عليها بمجردها في إثبات الأحكام الشرعية.
والظاهر عدم حجيتها عند معظم العامة أيضا، ولذا لم يتداول عدها في عداد
الأدلة الشرعية في الكتب الأصولية ولا استندوا إليها في إثبات الأحكام في
الكتب الاستدلالية، بل لا زالوا يطلبون الدليل على الأحكام المشهورة ويناقشون
في أدلتهم المذكورة.
ومن المثل السائر في الألسنة - في مقام عدم الاعتداد بالشهرة - " رب
مشهور لا أصل له ".
نعم ربما استند إليها العلامة (رحمه الله) في المختلف في بعض المسائل على سبيل
الندرة، وليس ذلك اعتمادا منه على مجرد الشهرة، بل لا يبعد أن يكون من قبيل
ضم المؤيدات إلى الأدلة حسب ما هو ديدنه في كتبه الاستدلالية. كيف! ولو كان
ذلك حجة لشاع ذلك عنه وأشار إليه في كتبه الأصولية وتكثر استناده إليها في كتبه
الاستدلالية. وإنما ظهر الخلاف فيه عن نادر من علمائنا مجهول عبر عنه
الشهيد (رحمه الله) ببعض الأصحاب واستقربه (رحمه الله) لكن لم نجد جريه عليه في كتبه
الاستدلالية، فقد لا يكون مقصوده بالاستقراب حكما أو لا يكون مقصود القائل
ومقصوده الاستناد إلى مجرد الشهرة، بل المراد التمسك بالقطع بوجود المستند
الشرعي من اتفاق الجماعة، فيدور الحكم مدار ذلك القطع كما هو أحد الطرق
المتقدمة في الاجماع، فيكون مقصوده صحة التمسك به من جهة حصول ذلك
القطع كما يومئ إليه تعليله الأول " وإن لم يكن مفيدا للقطع أو الظن بالواقع "
441

ويكون تعليله الثاني تأييدا له من جهة حصول الظن منها بمطابقة الواقع، بناء على
عدم حجية مطلق الظن كما هو المقرر عندنا، وبذلك يندفع التدافع المتخيل بين
تعليله حسب ما أورده بعض الأجلة كما سيأتي الإشارة إليه إن شاء الله.
وكيف كان، فقد حكي اختيار ذلك عن المحقق الخوانساري وربما يعزى ذلك
إلى المصنف نظرا إلى كلامه الآتي مع ما ذكره في الدليل الرابع على حجية أخبار
الآحاد، وهو بعيد عن مذاقه جدا، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله.
وقد اختار بعض الأفاضل من متأخري المتأخرين حجيتها إذا لم تخل عن
حجة ولو رواية ضعيفة ونحوها، فصارت الأقوال فيها إذن ثلاثة، والأقوى الأول.
ويدل عليه أمور:
أحدها: الأصل فإن إثبات الحجية يتوقف على قيام الدليل عليه، وحيث لا
دليل على صحة الرجوع إليها والحكم بمقتضاها - حسب ما نقرره من ضعف
متمسك المجيز - لم يجز التعويل عليها، مضافا إلى أن النواهي المتعلقة بالأخذ
بالظنون شاملة لها من غير ريب، فمع عدم قيام دليل على جواز الاتكال عليها لا
يجوز الأخذ بها.
ثانيها: أن المعلوم من حال الفقهاء قديما وحديثا أصولا وفروعا عدم الحكم
بشئ بمجرد شهرته بين الأصحاب، بل لا زالوا يطالبون بأدلة المشهورات
ويتوقفون عن الحكم حتى ينهض دليل عليها، وذلك أمر معلوم من ملاحظة
تصانيفهم والتتبع في مناظراتهم واحتجاجاتهم، قد استمرت عليه طريقتهم بحيث
لا مجال لإنكاره، فصار ذلك إجماعا من الكل، كيف ولو كانت الشهرة حجة
عندهم لكان من أبين الحجج وأوضحها وأظهر الأدلة وأكثرها وأقلها مؤنة
وأسهلها، وشاع الاحتجاج بها عندهم، وكانت أكثر دورانا من سائر الحجج مع أن
الأمر بعكس ذلك، فإنا لم نجد أحدا من المتقدمين والمتأخرين قد تمسك بها في
مقام الاحتجاج على شئ من المطالب إلا ما يوجد في بعض كلمات العلامة (رحمه الله)
في شذوذ من المقامات عن التمسك بها، وهو من قبيل ضم المؤيد إلى الدليل على
442

ما هو طريقته حسب ما أشرنا إليه، ويدل عليه أيضا أنهم لم يعتدوا بها في الكتب
الأصولية ولا ذكروها في عداد الحجج الشرعية كما عدوا الاجماع وغيره من
الحجج الوفاقية والخلافية، مع أنه أولى بذلك لكثرة حصولها وسهولة تحصيلها.
فتحصل من جميع ما ذكرنا اتفاقهم من قديم الزمان إلى الآن على المنع من
العمل بها والتعويل عليها والرجوع إليها، فصار ذلك إجماعا من الكل.
وقد عرفت أن الاجماع من أقوى الحجج الشرعية نعم في المطالب التي
يتسامح في أدلتها من السنن والآداب لا مانع من الرجوع إليها والأخذ بها، بل
ربما يؤخذ فيها بفتوى الفقيه الواحد أيضا حسب ما فصل في محله.
ثالثها: أنها لو كانت حجة لم تكن حجة، لوضوح قيام الشهرة على عدم حجية
الشهرة، وما يلزم من وجوده عدمه فهو باطل.
وبتقرير آخر: أنه إما أن يقال بعدم حجية الشهرة مطلقا، أو بحجيتها كذلك، أو
بحجيتها في بعض المقامات دون البعض، والأول هو المدعى، والثاني باطل لما
فيه من التناقض، نظرا إلى قيام الشهرة على عدم حجية الشهرة، فلو اخذ بمقتضى
الشهرة المتعلقة بالمسائل الفرعية لزم ترك الشهرة المتعلقة بعدم حجية الشهرة مع
أنها من أقوى الشهرات، والثالث ترجيح من غير مرجح، إذ لا مرجح بينها حتى
يقال بحجية بعض الشهرات دون بعضها من دون قيام معارض يقاومها أو يترجح
عليها.
أو يرد عليه: أولا: منع قيام الشهرة على عدم حجية الشهرة مطلقا وإنما
المسلم شهرة القول بعدم حجية الشهرة إذا خلا عن المستند، ولو كان ضعيفا كرواية
ضعيفة ونحوها.
وأما إذا كان مستندا إلى دليل ولو كان رواية ضعيفة فحصول الشهرة بعدم
حجيتها غير واضح، بل المشهور عندهم خلافه، حيث إنهم يعتمدون على الشهرة
المقترنة بالرواية الضعيفة ويحكمون بمقتضاها، فأقصى الأمر حينئذ عدم حجية
الشهرة المجردة الخالية عن المستند لا مطلقا.
443

وثانيا: أنا إنما نقول بحجية الشهرة في ما إذا لم يعارضها معارض أقوى على
ما هو شأن الحجج الظنية، وحينئذ نقول: إن الشهرة القائمة على عدم حجية الشهرة
معارضة بالدليل القطعي القائم على حجية الظنون عند انسداد باب العلم على ما مر
تقريره.
ومن البين أن الظن لا يقاوم القطع، ومع الغض عنه فهناك أدلة ظنية قاضية
بحجية الشهرة كما سنشير إليها، ولا يقاومها الظن الحاصل من الشهرة فلا بد من
تركها.
ومن ذلك يظهر ضعف التقرير الثاني فإنا نقول بحجية الشهرة مطلقا في ما لم
يعارضها معارض أقوى لا مطلقا، وقد ظهر بذلك أيضا اندفاع الحجتين الأوليين،
فإن الأصل يخالف الدليل.
ومن البين أن القائل بحجية الشهرة يتمسك في ذلك بالدليل حسب ما يأتي
بيانه، والإجماع المدعى لو سلم فإنما يسلم في الشهرة المجردة دون المنضمة إلى
متمسك ولو كان ضعيفا، حسب ما أشرنا إليه، وفي ذلك كله نظر سيأتي تفصيل
القول فيه إن شاء الله.
حجة القول بحجيتها مطلقا أو في ما إذا لم تخل عن مستند أصلا - ولو رواية
ضعيفة لا يجوز التمسك بها بنفسها - أمور:
منها: الوجهان المذكوران في كلام الشهيد (رحمه الله). والأول منهما ضعيف جدا
حسب ما قرره المصنف ومر الكلام فيه، إلا أن يرجع إلى الوجه الثاني. والثاني
مبني على قاعدة الظن والبناء على حجيته إلا ما قام الدليل على خلافه وإن لم
ينهض عليه في الاحتجاج، لوضوح أن مجرد حصول الظن أو قوة الظن لا يقضي
بجواز الاعتماد عليه ما لم يلاحظ معه أصالة حجية الظن. ويمكن إرجاعه أيضا
إلى بعض الوجوه الآتية، كما سنشير إليه إن شاء الله.
ومنها: قيام الاتفاق على حجية جملة من الظنون مما هي أضعف من الظن
الحاصل من الشهرة قطعا، وهو قاض بحجية الظن الحاصل من الشهرة بالأولى،
444

ألا ترى أنهم يقولون بحجية أخبار الآحاد مع أن فيها من جهات الوهن ما لا
يحصى، لابتناء الاحتجاج بها على معرفة أحوال رواتها وتعيين الراوي المشترك،
ولا يكون شئ منها غالبا إلا بإعمال ظنون ضعيفة وأمارات خفية، وكذا الحال في
تصحيح دلالتها ومعرفة مفاد الألفاظ الواردة فيها أفرادا وتركيبا، وكذا الحال في
التعارض الحاصل بينها.
والحاصل: أن جهات الظن فيها سندا ودلالة وعلاجا كثيرة جدا، وكثير منها
ظنون موهومة في الأغلب لا مناص لهم عن الأخذ بها والظن الحاصل من الشهرة
أقوى بكثير من كثير منها.
ويرد عليه: أن ما ذكره من قبيل القياس بالطريق الأولى - المعبر عنه بالقياس
الجلي - وهو من قبيل القياسات العامة لا حجة فيه عندنا.
نعم ما كان منه من قبيل مفهوم الموافقة بحيث يندرج في الدلالات اللفظية
كان خارجا عن القياس وكان حجة، وذلك غير حاصل في المقام، إذ ليس هنا لفظ
يدل على حجية ما ذكر من الظنون الموصوفة ليكون التعدي عنها إلى ذلك مندرجا
في مداليل الألفاظ، أقصى الأمر أن يثبت حجيتها بالإجماع ونحوه، فيكون
التعدي عنها من قبيل القياس الجلي.
وقد يجاب عنه: تارة بأن الاجماع ونحوه وإن لم يتضمنا لفظ الشارع صريحا
إلا أنهما كاشفان عن قوله، وليست حجيتهما عندنا إلا من جهة الكشف عن قوله،
فهو الحجة في الحقيقة لا هما، وحينئذ مآلهما إلى اللفظ، فإذا كان الأصل المذكور
مستفادا من اللفظ كان ما يلزمه أيضا كذلك، وإن لم يتعين ذلك اللفظ عندنا.
وأخرى بأن المناط في الرجوع إلى الأدلة الظنية، وهو تحصيل الواقع على
سبيل الظن بعد انسداد سبيل العلم به، وبعد تنقيح المناط المذكور كما هو ظاهر عند
العقل السليم يثبت ذلك في ما نحن فيه بطريق الأولوية القطعية، لحصول المناط
هنا بالنحو الأقوى.
ومنها: الروايات المستفيضة الدالة عليه الواردة من طرق العامة والخاصة،
445

مثل ما رووه عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله: " عليكم بالسواد الأعظم " (1) وقوله: " الحق مع
الجماعة " وقوله: " يد الله على الجماعة " (2) إلى غير ذلك، وفي نهج البلاغة في
كلامه (عليه السلام) للخوارج: " والزموا السواد الأعظم، فإن يد الله على الجماعة، وإياكم
والفرقة فإن الشاذ من الناس للشيطان، كما أن الشاذ من الغنم للذئب " (3) وما في
مقبولة عمر بن حنظلة: " ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكاه
المجمع عليه بين أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور
عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه، وإنما الأمور ثلاثة بين رشده - إلى أن
قال: - قلت: فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم " (4) الخبر.
وفي قوله: " ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور " وقول الراوي: " فإن كان
الخبران عنكم مشهورين " دلالة على كون المراد من المجمع عليه هو المشهور،
فلا يرد دلالة الرواية على حكم الاجماع دون الشهرة. وما في مرفوعة زرارة
قلت: " جعلت فداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ؟
فقال (عليه السلام): يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر، فقلت: يا سيدي
إنهما معا مشهوران مرويان مأثوران عنكم... إلى آخره " (5).
ومنها: أن المعروف بينهم بل من المسلم عند المحققين بينهم حجية الخبر
الضعيف المنضم إلى الشهرة.
ومن البين عدم حجية الخبر الضعيف، فلو كانت الشهرة أيضا كذلك لم يصح
الحكم المذكور، لظهور أن انضمام غير الحجة إلى مثله لا يجعل غير الحجة حجة
كانضمام أحد الخبرين الضعيفين إلى الآخر، فتعين أن يكون الشهرة هي الحجة
حتى يكون انضمامها إلى الخبر قاضيا بالحجية.

(1) سنن ابن ماجة: ج 2 ص 1303 ح 3950.
(2) مجمع الزوائد: ج 5 ص 218. وفيه: على الجماعة، كما في المتن.
(3) نهج البلاغة: 184، رقم الخطبة " 127 "، صبحي الصالح وفيه: مع الجماعة.
(4) وسائل الشيعة: ج 18 باب 9 من أبواب صفات القاضي ص 75 ح 1.
(5) البحار: ج 2 ص 245 ح 57.
446

ومن هنا استشكل صاحب المدارك وبنوه (1) في حجية الخبر المنجبر بالشهرة
لزعمه عدم حجية الشهرة أيضا، فمن أين يجئ الحجية بعد انضمام أحدهما
بالآخر؟ لكنه بعد ملاحظة الطريقة الجارية بين العلماء قديما وحديثا مقطوع
الفساد، كما سيجئ بيانه في بحث أخبار الآحاد إن شاء الله، ولولا البناء على ما
ذكرناه من حجية الشهرة لكان ما ذكره متينا متجها، فلا محيص بعد ذلك عدا
الاعتراف بعدم حجية الرواية المنجبرة بالشهرة، وهو يستلزم باختلال كثير من
الأحكام الشرعية، وهذه من الثمرة العظمى في القول بحجية الشهرة كما هو واضح
لمن تدبرها. فهذه الوجوه دالة على حجية الشهرة مطلقا وإذا ضم إليها قيام الشهرة
على عدم حجية الشهرة المعراة عن المستند بالمرة ولو رواية ضعيفة قضى ذلك
بخروج الشهرة المفروضة عن مقتضى دلالة الأدلة المذكورة، إما لقيام الشهرة على
فرض حجيتها كما هو مقتضى الأدلة المذكورة حجة شرعية على عدم حجية ذلك
النوع من الشهرة وهي أجلى منها، فيؤخذ بمقتضاها، أو لأنها لو كانت حجة مطلقا
لما كانت حجة كذلك، نظرا إلى حصول الشهرة المذكورة على نحو ما مر بيانه على
أن الوجه الأخير لا يفيد إلا حجية الشهرة المنضمة إلى المستند، ولو كان خبرا
ضعيفا دون الشهرة المجردة، إذ لا عمل عليها في المشهور.
فظهر بما قررنا أدلة القولين المذكورين والكل ضعيف.
أما الأول: فبما مر بيانه في كلام المصنف ويأتي تتمة الكلام فيه أيضا
إن شاء الله.
وأما الثاني: فبما عرفت تفصيله من عدم صحة ما ادعوه من أصالة حجية
الظن وعدم نهوض ما استنهضوه من الأدلة عليها.
وأما الثالث: فبأن ما ذكر من دعوى الأولوية في المقام أوهن شئ. ودعوى
كونها مندرجة في الدلالة اللفظية بناء على كشف الاتفاق المذكور عن لفظ دال
على الحكم فيكون من مفهوم الموافقة مقطوع الفساد كما يشهد به صريح العرف

(1) كذا في النسخ، ولعله كناية عمن تبعه.
447

بعد عرض الواقع عليه، على إن دعوى كشف الاجماع عن لفظ دال عليه محل
منع. وإنما يكشف الاجماع عن رأي المعصوم، والطريق إلى معرفته غير منحصر
في اللفظ حتى يستعلم من الاجماع على شئ صدور لفظ دال عليه.
ودعوى تنقيح المناط في حجية الظنون فيقطع معه بالأولوية ممنوعة، إذ لم
يقم عندنا دليل من عقل أو نقل على كون الاحتجاج بالوجوه الظنية مبنيا على
إفادة المظنة وحدها، منوطا بها وجودا وعدما من دون مدخلية التعبد في ذلك،
ومع قيام الاحتمال المذكور لا تصح الدعوى المذكورة، كيف؟ وقيام الدليل على
عدم حجية عدة من الظنيات - مما قد يكون الظن الحاصل منها أقوى جدا من
الظنون المعتبرة - أقوى شاهد على خلافه، ولو تمت تلك الدعوى لما كان هناك
حاجة إلى ملاحظة الأولوية.
وأما الرابع: فبأن الأخبار العامية مما لا حجية فيها مع أنها ليست بتلك
المكانة من الظهور، وقد تداول عند العامة الاستناد إليها في حجية الاجماع
فيمكن أن يكون ذلك هو المقصود منها فقد فسرت الجماعة في بعض الروايات
بأهل الحق وإن قلوا، فلا يوافق المدعى.
ويمكن أن يحمل على ذلك أيضا ما في رواية النهج، وقد يقال: إن الظاهر منها
الاتفاق في ما عدا الأحكام الشرعية فإن قوله (عليه السلام): " فإن الشاذ من الناس
للشيطان كما أن الشاذ من الغنم للذئب يفيد أن تفرد الانسان في الأمر مظنة
لاستيلاء الشيطان كما أن تفرد الشاة مظنة لاستيلاء الذئب، إذ لو كان باطلا لكان
عين استيلاء الشيطان لا أنه مظنة لحصوله بعد ذلك من جهة التفرد، وقد يكون ذلك
هو المقصود من الروايات العامية المتقدمة. وما في المقبولة والمرفوعة مع الغض
عن إسنادهما لا دلالة فيهما على المدعى، فإن في الأولى هو الأخذ بالخبر المجمع
عليه كما هو صريح الرواية، فلا دلالة فيها على حكم الفتوى المشهورة ولو سلم
كون المراد من المجمع عليه هو المشهور بقرينة ما بعده، وكذا الحال في الثانية،
فإن الموصول في قوله " خذ بما اشتهر بين أصحابك " للعهد كما هو ظاهر العبارة،
448

بل صريحها بعد عرضها على العرف، فلا يعم غيره حتى يقال: إن العبرة بعموم
اللفظ لا خصوص المورد، سواء كانت الشهرة المذكورة فيهما شهرة في الرواية
أو الفتوى أو أعم منهما.
وقد يقال: إن التعليل المذكور في المقبولة من قوله (عليه السلام) " فإن المجمع عليه
لا ريب فيه " بعد بيان كون المراد بالمجمع عليه هو المشهور، أو ما يعمه يفيد شمول
الحكم لشهرة الفتوى أيضا ولو كانت خالية عن الرواية، وفيه أيضا إشارة إلى أن
الباعث على نفي الريب إنما هو الشهرة، فلو كانت الرواية المنضمة إليها ضعيفة
لكانت الشهرة حجة دون الرواية.
وفيه: أولا: أن كون المراد بالمجمع عليه هو المشهور أو ما يعمه غير ظاهر،
فإن الاجماع هو الاتفاق دون مجرد الشهرة وأمره أولا بأخذه بالخبر المجمع عليه
بين أصحابه وتركه للشاذ الذي ليس بمشهور عندهم لا يفيد ذلك، إذ الاتفاق على
أحد الخبرين لا ينافي روايتهم للأخرى أيضا.
غاية الأمر أن يكون الرواية حينئذ شاذة غير مشهور عندهم كما هو
المفروض في الخبر، وقوله (عليه السلام) بعد ذلك: " وإنما الأمور ثلاثة بين رشده... " يفيد
كون الأخذ بالمجمع عليه بين الرشد وهو يشير إلى كون المراد بالإجماع الاتفاق
المفيد للقطع دون مجرد الشهرة الباعثة على الظن.
وثانيا: أن المقصود في الخبر المذكور بيان ما يترجح به أحد الخبرين
المتعارضين على الآخر، فلا يبعد أن يكون المراد من قوله: " فإن المجمع عليه
لا ريب فيه " هو الخبر المجمع عليه ليكون اللام للعهد، بل لا يستفاد من سياق
الخبر ما يزيد على ذلك. ومجرد احتمال إرادة العموم بحيث يفيد نفي الريب من
الفتوى المشهورة غير كاف في مقام الاستدلال. ودعوى ظهورها في ذلك غير
مسموعة مع عدم إقامة شاهد عليه، بل مع عدم انفهامه منه بعد عرض العبارة
على العرف.
وأما الروايات العامية فلا حجة فيها مع إمكان المناقشة في دلالتها، لعدم
449

وضوح دلالتها، وقد احتجوا بها على حجية الاجماع، فيمكن أن يكون المراد بها
المنع من مخالفة الاجماع.
وقد فسرت الجماعة في بعض الروايات بأهل الحق وإن قلوا، ويمكن أن
يحمل على ذلك ما في رواية النهج.
وقد يستظهر ورودها في ما عدا الأحكام الشرعية، فإن مفاد قوله (عليه السلام): " فإن
الشاذ من الناس للشيطان كما أن الشاذ من الغنم للذئب " أن تفرد الانسان مظنة
لاستيلاء الشيطان كما تفرد الغنم مظنة لاستيلاء الذئب، وهذا مما لا ربط له بكون
ما ذهب إليه الجمهور حقا، وكون مخالفة المشهور باطلا، وقد يحمل عليه الأخبار
العامية، ويشير إليه ذكره (عليه السلام) لبعض تلك الألفاظ المروية.
وأما الخامس: فبأن ما يدل عليه عباراتهم هو حجية الخبر المنجبر بالشهرة
دون الشهرة المنضمة إلى الخبر، كيف! والأول هو الذي لهجت به ألسنتهم وجرت
عليه عملهم، والثاني ما لم يتفوه به أحد منهم، ولم يوجد في شئ من كلماتهم
سوى شاذ منهم ممن مرت الإشارة إليه، ومع ذلك لم نر الجري عليه في مقام
الاحتجاج من أحد منهم ولو كان المناط في ذلك حجية الشهرة عندهم لاشتهر
منهم كما اشتهر ذلك.
وما يقال: من جهة القول بالتفصيل من أن الحجة في الحقيقة إنما هي نفس
الشهرة لا الرواية، وإنما ذكرت الرواية حجة وأسندت إليها الحجية مسامحة تعويلا
على الوضوح من الخارج، والمقصود من ذكر الرواية حقيقة إنما هو جعلها طريقة
ووسيلة إلى التخلص من الشهرة المانعة عن حجية الشهرة لعدم قيامها عليها
لاختصاصها بالشهرة المجردة، وإلا فليس الرواية هي الحجة، بل إنما الحجة هي
الشهرة كما ترى، بل ذلك مما يقطع بفساده بعد التأمل في كلماتهم وتعبيراتهم،
كيف؟ ولو أرادوا ذلك لعبروا عنه في بعض الأحيان على الوجه المذكور ولم يتجه
التزامهم للتعبير بذلك الوجه الموهم لخلاف مقصودهم، بل الصريح فيه.
ومع الغض عن ذلك فلو كانت الشهرة هي الحجة عندهم فأي مانع من حجيتها
450

مع عدم علمنا بمصادفتها للخبر الضعيف، بل وعدم مصادفتها له واقعا، فإنه إذا كان
المناط والملاك في الحجية هو نفس الشهرة دون غيرها لزم صحة الاعتماد عليها
مهما حصل، وإن لم ينضم الرواية إليها، كيف؟ ومن الواضح أن عدم انضمام غير
الحجة إلى الحجة لا يوجب سقوط الحجة عن الحجية، ففي ما حكموا به من عدم
حجية الشهرة الخالية عن الخبر أقوى شهادة على عدم كون الشهرة حينئذ هي
الحجة عندهم.
فإن قلت: إن ذلك بعينه جار في الخبر أيضا فإنهم لا يقولون بحجية الخبر
الضعيف في نفسه كالشهرة الخالية عن الخبر.
قلت: غاية ما يلزم من ذلك أن يكون الحجة حينئذ هو مجموع الأمرين
المنضمين من دون أن يقال بحجية كل منهما منفردا ولا مانع من التزامه. وما أورد
عليه من أن انضمام غير الحجة إلى مثله لا يجعل غير الحجة حجة أوهن شئ، إذ
من البين تقوية كل منهما بالآخر، فلا مانع من بلوغها بعد الانضمام إلى درجة
الحجية إذا قام الدليل عليه كذلك حسب ما فرض في المقام، فلا داعي إذن إلى
التزام كون الحجة هي الشهرة، ويشير إليه أنه قد ينتهي الأمر في انضمام الظنون
بعضها إلى البعض إلى الوصول إلى حد القطع، فيكون حجة قطعا كما ترى في الخبر
المتواتر، لحصول القطع هناك من تراكم الظنون الحاصل من الآحاد مع عدم بلوغ
شئ من آحاده إلى درجة الحجية مع ضعف راويه، فأي مانع منه في المقام؟
ومع الغض عن ذلك أيضا فنقول: إن الحجة عند أصحابنا هو الخبر الموثوق به
المظنون الصحة والصدور عن المعصوم. وإثبات حجيته يتوقف على قيام الدليل
عليه، وقد بين في محله والشهرة المفروضة من أسباب الوثوق والاعتماد فهي
محققة للموضوع المفروض من غير أن يكون هي بنفسها حجة شرعية، ولا يثبت
بها إذن حكم شرعي حتى يتوقف على قيام الدليل على حجيته في الشرع، بل
الحاصل به حكم عادي، أعني الاعتماد والوثوق بصدق الخبر. ولا يتجه القول
بعكس ذلك بأن يجعل الخبر محققا لموضوع ما هو الحجة من الشهرة حسب ما قد
451

يتخيل في المقام، إذ ذاك - مع عدم مساعدة شئ من عبائرهم له، بل صراحتها في
خلافه - مما يأبى عنه الطبع السليم، بل الاعتبار الصحيح شاهد على أن وجدان
الرواية الضعيفة لا مدخل له في كون الشهرة مثبتة للحكم موصلة إلى الواقع، فإن
الظن الحاصل منها يتحقق في الصورتين كما يشهد به الوجدان، وانضمام الخبر
إليها لا يوجب مزيد وثوق بها لو لم يوجب وهنا، إذ مع عدم الاستناد إلى الرواية
الضعيفة يحتمل قويا وجود مستند واضح لهم، حتى أنه اعتمد الجمهور عليه. ومع
استنادهم إلى الرواية الضعيفة يظهر كون ذلك هو المستند، فيضعف الظن المذكور
وإن أمكن الذب عنه بأن ضعف الرواية عندنا لا يستلزم ضعفها في الواقع،
فيستكشف من الشهرة المفروضة كونها معتبرة قابلة للتعويل والاعتماد، إلا أن
ذلك لا يقتضي ترجيح الظن الحاصل منها في هذه الصورة على الظن الحاصل منها
في الصورة الأخرى.
أقصى الأمر مساواة هذه الصورة للأخرى إن لم يرجح الأخرى عليها، وبناء
الأمر في التفصيل بين الوجهين في الحجية وعدمها على التعبد المحض بعيد جدا،
بل مما لا وجه له أصلا.
وقد يجاب أيضا عن الإيراد المتقدم عن صاحب المدارك ليدفع به
الاحتجاج المذكور بأنا نختار كون الحجة هي الرواية المنجبرة بالشهرة، نظرا إلى
استفادته من آية النبأ، لظهورها في جواز الاتكال على خبر الفاسق بعد التبين، فإن
الله سبحانه لم يأمر بطرح الرواية الضعيفة، بل أمر فيها بالتثبت واستظهار الصدق،
فإن ظهر عمل بها، وإلا طرحت. ولا ريب أن الشهرة مما يحصل التثبت بها
ويستظهر صدق الخبر معها.
وأورد عليه بعض الأفاضل: بأنه مبني على تعميم التبين بها للتبين الظني، وهو
منظور فيه، إذ ليس معناه لغة إلا انكشاف حقيقة الخبر وصدقه، ولا يحصل ذلك إلا
بكونه محصلا للعلم به، والأصل بقاء هذا المعنى إلى أن يظهر من أهل العرف
خلافه بحيث يفهم شموله للظن الحاصل من نحو الشهرة، بل الظاهر منهم خلافه
452

والموافقة لمفهوم اللغة، وعندي فيه تأمل سيجئ تفصيل القول فيه في بحث
الأخبار إن شاء الله.
ثم إنه ذكر الفاضل المذكور أنا لو سلمنا تعميم التبين للظن أيضا حتى يشمل
التبين الحاصل بالشهرة كانت الآية الشريفة ظاهرة في حجية الشهرة بنفسها
مطلقا، سواء كانت هناك رواية، أو لا. فيكون ذلك إذن دليلا آخر على حجيتها.
تقريره: ظهور الآية حينئذ في أن الاعتماد في الحكم بمضمون الخبر في الحقيقة
إنما هو على التبين دون الخبر، فليس رخصة العمل بالخبر بعد التبين إلا من حيث
كونه الكاشف عن صدقه، والدليل عليه، فتكون الشهرة هي الحجة على إثبات
مضمونه، وذلك قاض بحجية الشهرة مطلقا ولو خلت عن الرواية، إذ المفروض
أنها المناط في العمل، وأنها المبين للواقع والكاشف عن الحق. والاعتبار القاطع
شاهد على أن الرواية لا مدخل لها في وصف كون الشهرة مبينة ولا في رخصة
العمل بها بعد حصول البيان من جهتها، وذلك لأن الرواية الضعيفة بنفسها لا محصل
لها إلا التردد بين احتمالي الصدق والكذب، ولو ترجح الأول رجحانا ضعيفا فهو
غير معتبر في نظر الشارع، إذ وجود ذلك الرجحان كعدمه، واحتمال صدقها
وكذبها متساويان في حكم الشارع، فإذا صلحت الشهرة أن تكون دليلا على
صحة أحد الجانبين والحكم بأحد الاحتمالين صح كونها دليلا على تعيين أحد
الاحتمالين القائمين، كذلك في كل مسألة سواء كانت هناك رواية أو لا، لما عرفت
من أن الدليل الباعث على تعيين أحد الاحتمالين إنما هو الشهرة دون الخبر،
لكون الاحتمالين على حالهما قبل ورود الخبر وبعده، فدلت الآية الشريفة حينئذ
على حجية الشهرة دون الخبر المنجبر بها.
قلت: لو تم ما ذكره لكانت الآية الشريفة دليلا على حجية الظن مطلقا من غير
اختصاص لها بالشهرة، لكنك بعد التأمل في ما قررناه خبير بضعفه، فإن حصول
الظن بصدق الخبر والوثوق به غير حصول الظن بالحكم ابتداء من غير أن يكون
هناك خبر يوثق به. وما يستفاد من الآية الشريفة بناء على ما ذكر هو حجية الخبر
453

الموثوق به وإن كان الموثوق به من جهة الشهرة. ولا يفيد ذلك جواز الاتكال على
الشهرة من حيث كشفها عن الواقع ودلالتها عليه، بل إنما يدل على الاتكال عليها
من حيث كونها محققة لموضوع الدليل - أعني الخبر الموثوق به - ولا إشعار في
ذلك بحجية الشهرة في إثبات الأحكام الشرعية أصلا، فكون الخبر الضعيف مع
قطع النظر عن الشهرة المفروضة محتملا للأمرين من غير أن ينهض حجة لإثبات
أحد الجانبين لا ينافي كونه حجة بعد انضمام الشهرة إليه، من جهة حصول الوثوق
به بعد انضمامها إليه. ولا يستدعي ذلك كون الشهرة بنفسها حجة مع قطع النظر عن
الخبر المفروض. ويشهد بذلك ملاحظة القرائن المنضمة إلى المجاز القاضية
بحصول الظن بالصرف أو تعيين خصوص المراد من بين المعاني المجازية، فإنه
يصح الاتكال عليها قطعا في فهم المراد وإثبات الحكم الشرعي من جهتها، مع أنه
لو قامت تلك القرينة على ثبوت الحكم من غير حصول لفظ في المقام لم يكن
حجة مع جريان الكلام المذكور فيه بعينه.
والحاصل: أن في المقام أمرين:
أحدهما: كون الشهرة قاضية بالوثوق بالخبر وقوة الظن بصدقه.
وثانيهما: كون الخبر الموثوق به والمعتمد عليه بحسب العادة حجة في
الشريعة، ولا ريب أن الأول لا يتوقف على قيام دليل شرعي عليه، فإن الوثوق
والاعتماد على الخبر أمر وجداني حاصل من ملاحظة القرائن والأمارات، كما
أنه لا ريب في توقف الثاني على قيام الدليل الشرعي عليه، لكونه حكما شرعيا
متوقفا على دليله. وحينئذ نقول: إن الوثوق والاعتماد العرفي حاصل بالخبر
المنجبر بالشهرة قطعا كما يشهد به الوجدان من غير حاجة إلى قيام الدليل عليه
شرعا. وأما كونه حينئذ حجة فلظاهر الآية الشريفة بعد حملها على الوجه
المذكور، فما استفاده من الآية بناء على حملها على ما ذكر لا وجه له أصلا، فإن
الشهرة إذن شرط في قبول الخبر - لا أنها هي المثبتة للحكم - نظير عدالة الراوي
من غير فرق وإن كانت الشهرة مع قطع النظر عن إفادتها الوثوق بالخبر مفيدة
454

للظن بثبوت الحكم، إلا أن تلك الحيثية غير معتبرة، ولا دلالة في ما ذكر من الوجه
على الاعتماد عليه من تلك الجهة أصلا، أن غاية ما يدل عليه هو الاعتماد على
الخبر من جهة الوثوق به نظرا إلى اعتضاده بالشهرة فيقوم الشهرة مقام عدالة
الراوي في إفادة الوثوق بالخبر. والفرق بين الوجهين ظاهر لا يخفى، ومقصود
المستدل حجيتها من الجهة الثانية، وهو محل منع كما بينا، إذ لا ملازمة بين
الأمرين، بل لا إشعار في ما يدل على حجية الثاني شرعا على كون الحجة في
الحقيقة هي الجهة الباعثة على الوثوق استقلالا من دون اعتبار لكون الوثوق
حاصلا بالخبر وكون الحكم مستفادا منه.
ودعوى ذلك في المقام مجازفة بينة. فتحصل مما فصلناه أن الحجة هي
الرواية المنضمة إلى الشهرة، نظرا إلى حصول الوثوق بها من جهة انضمامها إليها،
كما تدل عليه الآية الشريفة ويفيده صريح كلماتهم حسب ما قررنا، لا أن يكون
الحجة مجموع الأمرين، ولا ما رامه المستدل من عكسه بأن تكون الشهرة بنفسها
حجة لكن مع انضمامها إلى الرواية ونحوها، على أن الاحتمال كاف في مقام دفع
الاستدلال. وعدم حجية الرواية الضعيفة في نفسها مع عدم انضمامها لا يدفعه، كما
أنه لا يدفع الاستناد إليها عند المفصل عدم حجية الشهرة بنفسها مع عدم انضمام
الخبر إليها.
فظهر بما قررنا ضعف القولين المذكورين، لاشتراكهما في الدليل ويزيد القول
الثاني ضعفا أن ما ذكر تكملة لبيان التفصيل - من خروج الشهرة المجردة عن
المستند عن مقتضى الأدلة المذكورة، نظرا إلى قيام الشهرة على عدم حجيتها إلى
آخر ما ذكر - غير متجه.
أما أولا فلما قرره المستدل المذكور وغيره من المعتمدين على القاعدة
المذكورة بكون المخرج عنها هو الدليل القاطع القاضي بعدم حجية بعض الظنون
الخاصة كظن القياس، إذ مجرد الدليل الظني لا يقاوم الدليل القاطع المذكور حتى
يكون مخرجا عنه.
455

وما ذكره من الوجه الآخر " من أنها لو كانت حجة لما كانت حجة " مدفوع
أيضا بأن الشهرة من الأدلة الظنية، فمجرد قيام الشهرة على عدم حجية الشهرة
الخالية عن المستند لا يقضي بعدم حجية الشهرة، فإنه إنما يتم ذلك إذا لم يعارض
الشهرة المذكورة دليل أقوى.
ومن البين أن الدليل العقلي المذكور على فرض صحته دليل قطعي فلا يقاومه
الشهرة المدعاة، فهذه الشهرة من حيث الحجية مستندة إلى الدليل المذكور متوقفة
عليه، لكنها بحسب المفاد معارضة له لدلالتها على عدم حجية الظن المفروض
فيسقط أيضا عن الحجية، إذ ليس مفاد ذلك الدليل إلا الأخذ بأقوى الظنون، فلا
يفيد ترك العلمي بالظني.
ولي في ذلك نظر يعرف وجهه مما قررناه سابقا في الإيراد على الدليل العقلي
المذكور من أن قيام الدليل الظني على عدم حجية بعض الظنون كاف في اخراجه
عن القاعدة المذكورة، لكن المستدل لا يقول بذلك.
ومن الغريب أن الفاضل المذكور مع إبائه عن ذلك كما أشار إليه في طي
تقريره لذلك الدليل التزم به في المقام.
وأما ثانيا فلأن الشهرة كما قامت على عدم حجية الشهرة المعراة عن المستند
كذا قامت على عدم حجية غيرها، إذ لم ير منهم من عدها من الأدلة ولو في
الجملة، أو استند إليها في المسائل الشرعية أو ذكرها في عداد الأدلة الشرعية في
الكتب الأصولية، حتى أنهم لم يفردوا له عنوانا في كتب الأصول ولا أشاروا فيه
إلى وفاق أو خلاف.
نعم أشار إليه شذوذ منهم كما عرفت وهم لم يفرقوا بين الصورتين.
ثم إنه قد تردد الفاضل المفصل في بعض ما نمي إليه (رحمه الله) من المسائل في
التفصيل المذكور، ومال إلى اختيار حجيتها على الإطلاق قال: ويختلج كثيرا
بالبال وإن لم أطمئن به في الحال حجية الشهرة مطلقا، ولو خلت عن الرواية
أصلا، وذلك أن المانع الحاجز عن حجيتها ليس إلا الشهرة، وحجيتها إنما يكون لو
456

لم يظهر دليلها وأما لو ظهر وظهر في النظر ضعفها فليس بحجة ظاهرة، وهذه
الشهرة الحاجزة قد ظهر لنا دليلها من كلماتهم فبين من احتج منهم على عدم
حجيتها بمثل ما ذكره صاحب المعالم - وقد ظهر لك ما فيه - وبين من اعتذر منهم
بأنه رب مشهور لا أصل له، ويرجع حاصله إلى تخلف الشهرة عن الصواب في
بعض الأحيان، وهذا أضعف من سابقه، وإلا لخرج جميع الأدلة الشرعية الظنية
عن الحجية.
وأنت خبير بما فيه، فإنه إنما يتم لو علم انحصار دليل المشهور في الوجه
الفاسد، فإن حكم الجمهور بصحة الفاسد لا يوجب ظنا بصحته بعد ظهور فساده،
وأما في ما عدا ذلك فلا.
وتوضيح المقام: أن متمسكهم في الحكم إما أن يكون معلوما لنا أو مجهولا،
وعلى الأول فإما أن نعلم انحصاره في ما نعلم أو يحتمل وجود متمسك آخر لهم
أيضا، وعلى التقديرين فإما أن يكون الدليل المنقول إلينا صحيحا عندنا أو ضعيفا،
ومع ضعفه فإما أن يكون معلوم الفساد بالنظر إلى الواقع أو يكون فاسدا بالنسبة
إلينا، وإن احتملنا صحته واقعا كالخبر الضعيف، لاحتمال صحته في الواقع وإن لم
يجز لنا التمسك به في نفسه. ولا مانع من الاستناد إلى الشهرة في شئ من الوجوه
المذكورة على القول بحجيتها عدا صورة واحدة، وهي ما إذا علم انحصاره في ما
علم فساده واقعا، وكذا إذا ظن انحصاره فيه أو علم انحصاره في مظنون الفساد
كذلك، أو ظن انحصاره فيه إذا لم يرجح عليه الظن الحاصل من الشهرة بصحة
المستند، وأما باقي الصور فلا وجه لإنكار حجيتها إلا في ما زعمه المفصل من
الشهرة الخالية عن المستند، ويحتمل إلحاق الشهرة التي يكون الموجود من
مستنده ضعيفا مع العلم بوجود مستند آخر لهم لا نعرفه أو احتماله. وأما ما نحن
فيه فمن البين أن الأوائل لم يذكروا لعدم الاتكال على الشهرة مستندا، بل ليس
للمسألة عنوان في كلماتهم، وإنما يعرف مذهبهم فيها من عدم ذكرهم لها في عداد
الأدلة، وعدم استنادهم إليها أصلا في إثبات الأحكام الشرعية في الكتب
457

الاستدلالية، بل حصر جماعة منهم الأدلة في غيره، وإنما تصدى الشهيد (رحمه الله)
لعنوان المسألة وتبعه المصنف وبعض من تأخر عنه، ولم يتعرض المصنف
للاحتجاج على نفي حجيته، وإنما تعرض للايراد على ما احتج به الشهيد (رحمه الله)
لحجيته. فدعوى العلم لمستند الجماعة وحصره في ما ذكره غريب جدا، ولو سلم
ذكر الدليل المذكور في كلام جماعة منهم فمن أين يعلم أو يظن حصر الدليل في
ذلك، كيف؟ ولو بنى على عدم حجية مثل هذه الشهرة القوية القريبة من الاجماع -
لو قطعنا النظر عن كون المسألة إجماعيا - بمجرد ضعف ما ذكر من التعليلات في
كلام بعض المتأخرين أو المعاصرين لكان أكثر الشهرات ضعيفة مطرودة ولكان
ذلك إذن تفصيل آخر في المسألة غير التفصيل الأول، ويظهر ضعفه بما قررناه فلا
حاجة إلى تطويل الكلام فيه.
قوله: * (ولقوة الظن في جانب الشهرة... الخ) *.
أورد عليه بأن بين تعليليه تدافعا، فإن الوجه الأول يقتضي العلم والثاني
صريح في الظن.
وأجيب عنه بأن كون أحد الدليلين مفيدا للعلم والآخر للظن مما لا حجز فيه،
ولا يعد ذلك تدافعا، ومثله متداول في الاحتجاجات، كيف؟ ولو كان كذلك لكان
ضم المؤيد إلى الدليل تدافعا وهو واضح الفساد. وأيضا كون دليله الأول مقتضيا
للعلم على حسب دعواه ممنوع، فإن الظاهر أن مراده من قوله: " إن عدالتهم تمنع
عن الاقتحام... إلى آخره " هو منعها عن ذلك ظنا، إذ المفروض ثبوت العدالة لهم
دون العصمة. والعدالة وإن فسرت بمعنى الملكة فأقصى ما يحصل منه الظن بذلك
دون العلم، وقوله: " عن الاقتحام على الفتوى بغير علم " أراد به بغير علم معتبر في
الاجتهاد من الاستناد إلى دليل معتبر شرعا، سواء كان قطعيا أو ظنيا بالنسبة إليه،
ومع ذلك كله كيف يمكن ادعاء أن عدالتهم تمنع قطعا عن الفتوى بذلك من غير
دليل قطعي بالنسبة إليه (1) وإلى غيرهم؟

(1) في " ق ": إليهم.
458

وبذلك يندفع ما أورده المصنف عليه كما مرت الإشارة إليه، ويتطابق مفاد
الدليلين، بل دليله الثاني يفيد ظنا أقوى من الأول، حيث إن المستفاد من الأول
مجرد الظن ومن الثاني قوة الظن، نظرا إلى أن اتفاق الجمع الكثير من الموصوفين
أقوى في إفادة الظن من دونهم، فلو عد مثل ذلك تدافعا كان تقرير الإيراد
بالعكس أولى.
قلت: ليس مقصود المورد اختلاف مؤدى الدليلين في كون أحدهما مفيدا
للعلم والآخر للظن، إذ ليس في ذلك مجال لتوهم التدافع، بل مراده أن قضية دليله
الأول كونه مدعيا لحصول العلم في المقام وكون الشهرة دليلا قطعيا، حيث إن
ظاهر القطع بكون عدالتهم مانعة عن الإفتاء من غير علم فيكون مفيدا للقطع بقول
المعصوم كاشفا عن رأيه، ولذا اختار - بناء على ما ذكره من حصول القطع -
حجيته، وكونه إذن إجماعا على خلاف ما اختاره الشهيد (رحمه الله)، فإن الاجماع عندنا
هو الاتفاق الكاشف عن قول المعصوم، سواء كان من الجميع أو البعض، وقضية
دليله الثاني كون الشهرة دليلا ظنيا مفيدا للظن القوي، فمقصوده أن مقتضى
الدليلين متدافع في إفادة ما هو المدعى.
والقول بأن حكم الجماعة مع قطع النظر عن الشهرة إذا كان مفيدا للقطع - نظرا
إلى كون عدالتهم مانعة عن الإفتاء بغير علم، فكيف يجعل اشتهاره بينهم وندور
المخالف قاضيا بإفادة الظن؟ مع أنه ينبغي أن يفيد العلم بالأولى - مدفوع، بأن
هناك جهتين أحدهما يفيد العلم بالإصابة، والآخر يفيد الظن بها، فإن ملاحظة
خبرتهم وعدالتهم قاضية بالعلم العادي على حسب دعواه بعدم إقدامهم على
الإفتاء عن غير علم. وملاحظة مجرد الاشتهار مع قطع النظر عن تلك الملاحظة لا
يفيد إلا قوة الظن، فيكون ضم الثاني إلى الأول من قبيل ضم المؤيد إلى الدليل.
لكنك خبير بضعف الدعوى الأولى، فإن أقصى ما يفيده عدالتهم القطع بإصابة
ما يعتقدونه دليلا حسب ما أشار إليه المصنف، وأين ذلك من القطع بالواقع؟
غاية الأمر حصول ذلك في بعض الأحيان، ويندرج حينئذ عندنا في الاجماع
كما عرفت، ويبعد إدراجه إذن في المشهور.
459

ويمكن أن يقال: إن مقصوده القطع بإصابة المدرك المعتبر دون القطع بقول
المعصوم، فيكون الفرق بينه وبين الاجماع المعروف في ذلك، وهذا أقرب من
سابقه في حمل كلام الشهيد (رحمه الله).
إلا أن الدعوى المذكورة غير ظاهرة أيضا، بل الظاهر عدم حصول العلم
المذكور في كثير من الشهرات، غاية الأمر حصول العلم بإصابة المدرك المعتبر في
نظرهم.
نعم لو حصل العلم به على الوجه المذكور كان كافيا، وكان الأولى إلحاقه إذن
بالمجمع عليه في كونه إجماعا، كما هو أحد الاحتمالين المذكورين في الذكرى
وإن اختار خلافه.
وحينئذ فما ذكره المورد (قدس سره) من أن الحق حينئذ أنه إجماع - لأن الاجماع
عندنا هو الاتفاق الكاشف عن قول المعصوم دون اتفاق الجميع - محل مناقشة،
للفرق الظاهر بين الكشفين، وظاهر المصطلح تخصيص الاجماع بالكشف على
الوجه الأول وإن لم يكن التعميم بعيدا عن الاعتبار. ولذا ذكرنا الوجه المذكور في
وجوه الكشف الحاصل بالإجماع كما مر القول فيه، والظاهر أن مبنى كلام المورد
على حمل الكشف على الوجه الأول حسب ما بيناه أولا. وحينئذ فما ذكره متجه
إلا أن حمل كلام الشهيد (رحمه الله) عليه بعيد جدا كما عرفت.
فظهر بما قررنا أن هناك وجوها ثلاثة في حمل كلام الشهيد (رحمه الله) أقربها الوجه
الأخير، ومعه يظهر الفرق بين تعليليه المذكورين وعلى ما حمله المجيب وغيره
عليه لا يكون هناك كثير فرق بينهما كما لا يخفى.
قوله: * (ويضعف بنحو ما ذكرناه في الفتوى) * الظاهر أنه أراد بذلك
تضعيف الدليلين المذكورين نظرا إلى أن العدالة والاشتهار بين الطائفة إنما يفيدان
العلم أو قوة الظن بوجود مدرك معتبر في اجتهاد الحاكم، ولا يؤمن من الخطأ في
المسائل الاجتهادية وإن توافقت فيها أراء الجماعة أو معظم الفرقة.
غاية الأمر حصول المظنة ولا أمن معه إلا مع قيام دليل على اعتبار ذلك الظن
في الشريعة، ولا دليل عليه في المقام. وحينئذ فما قد يدعى من ظهور كلامه في
460

موافقة الشهيد (رحمه الله) ليس على ما ينبغي، كيف؟ وقد أطلق الحكم بضعف كلامه.
وقوله: " وبأن الشهرة التي يحصل معها إلى آخره " مزيد بيان لدفع الوجه الثاني.
وبالجملة: أن فحوى كلامه كالصريح في عدم حجية الشهرة، كيف؟ ولو قال
بها لفصل القول فيها زيادة على ذلك وبين صحة الاستناد إليها في الأحكام
الشرعية في ما عدا ما يتراءى من الشهرة الحاصلة بين المتأخرين عن الشيخ (رحمه الله)،
فإن ذلك هو الذي يقتضيه المقام، ومع ذلك أطلق القول بضعف الاستناد إليها، هذا.
وقد ظهر بما قررنا ضعف ما يورد عليه في المقام، من أن احتمال الخطأ في
دليلهم إنما ينافي قطعية الشهرة لا ظنيتها، وبعد الخطأ معها جدا، وذلك لأن اتفاق
المعظم مع نهاية عدالتهم وفقاهتهم واختلاف أفهامهم وآرائهم وعدم موافقة
بعضهم لبعض في المسائل الخلافية الاجتهادية - حتى أن بعضهم ربما خالف نفسه
واختار في المسألة أقوالا عديدة في الكتب العديدة أو الأبواب المتعددة - إذا
رأيناهم متفقين على حكم من دون تزلزل وإبداء ريب استبعدنا وقوع خلل منهم
في الاستدلال، بل يحصل الظن القوي غاية القوة بصحته.
أما أولا فلأنه بصدد دفع كونه باعثا على العلم بوجود المستند به المعتبر كما
هو ظاهر كلام الشهيد (رحمه الله) بكون القدر المعلوم وجود المستند الصحيح على حسب
اجتهادهم وهو لا يستلزم الصحة بحسب الواقع فلا يرتبط به الإيراد المذكور.
وأما ثانيا فلأن غاية الأمر كون الشهرة مفيدا للمظنة، وكون تلك المظنة حجة
أول الدعوى، فإن الخطأ غير مأمون على الظنون إلا أن يقام دليل على حجيتها
وجواز الاتكال عليها، وهو غير مذكور في كلام الشهيد (رحمه الله) ولو بنى ذلك على
أصالة حجية الظن لأشار إليه في كلامه ولاتحد الدليلان المذكوران، وهو مخالف
لظاهر تقريره، وليست تلك القاعدة عندهم مقررة واضحة حتى يجعل كبرى
مطوية، لغاية وضوحه، كيف؟ وطريقتهم جارية على خلافه حيث إنهم لا زالوا
يطالبون الحجة على حجية كل من الظنون، ولا يأخذون بشئ منها إلا مع قيام
الدليل عليه. والاحتجاج بتلك الطريقة العامة لحجية الظن مطلقا غير معروف
بينهم، وإنما أشار إليه المصنف وبعض منهم ولا يعلم ارتضاؤه، بل دفعه للشهرة في
461

المقام أقوى شاهد على خلافه.
نعم لو اخذت تلك المقدمة في الاحتجاج المذكور اتجه ما ذكره، وليس في
المقام ما يفيد اتكال المستدل عليه أصلا.
وقد يتخيل من احتجاجه بإفادة الشهرة قوة الظن قوله " بتلك المقدمة " إلا أن
احتمال كونه من قبيل ضم المؤيد إلى الدليل قريب جدا حسب ما أشرنا إليه.
قوله: * (وبأن الشهرة التي... الخ) *.
هذه العلاوة التي ذكرها لتوهين جملة من الشهرات وهي الحاصلة من بعد
الشيخ (رحمه الله) موهونة جدا، بل فاسدة قطعا، كيف! وفيه تفسيق علماء الفرقة وتضليلهم
أو تجهيلهم بحيث لم يبق في الفرقة مجتهد يرجع إليه حتى التجأوا إلى تقليد
الأموات، وكل ذلك واضح الفساد، وجلالة هؤلاء وعظم منزلتهم في الفرقة
معلومة، وذكر خلافهم ووفاقهم في المسائل متداول بين أساطين علمائنا
كالفاضلين والشهيدين وغيرهم، ولو كانوا هؤلاء بمنزلة العوام المقلدة لما التفتوا
إلى خلافهم ووفاقهم، وما اعتنوا بذكر أقوالهم، ومخالفة هؤلاء ومن تأخر عنهم
للشيخ (رحمه الله) معروفة مذكورة في كتب الاستدلال، كما يعرف ذلك من ملاحظة
فتاويهم المذكورة في كتبهم والمنقولة في كتب الأصحاب، ومخالفات المحقق ابن
إدريس للشيخ (قدس سره) من الأمور البينة الجلية، وكتاب السرائر مشحون به، ورده
لفتاوى الشيخ ظاهر معروف حتى انتصر الفاضلان للشيخ (رحمه الله) وأخذا في رده
والذب عن الشيخ كما هو ظاهر من ملاحظة المعتبر والمنتهى وغيرهما.
ثم إن مخالفات الفاضلين ومن بعدهما للشيخ (رحمه الله) واستبدادهم في الاستدلال
أمر واضح غني عن البيان. وكان الأصل في ما ذكره الجماعة هو ما حكاه
الورام (قدس سره) عن الحمصي، والحكم باشتباهه في ذلك أولى من التزام ما ذكر، وكان
الجماعة من تلامذة الشيخ (رحمه الله) وتلامذة تلامذته لغاية وثوقهم به في الفن ما كانوا
يتجرون في الفتاوى على مخالفته في الغالب لا تقليدا له، بل كانوا يرجحون ما
رجحه، ويعتمدون على احتجاجاته، ويرون أن ما اختاره أقوى من سائر الأقوال
والاحتمالات، كما هو الحال لنا بالنسبة إلى بعض مشايخنا ممن نرى له قدما
462

راسخا في الفن، وخبرة تامة في طرق الاستدلال وفهم الأخبار وتطبيق الأحكام
على القواعد وتفريع الفروع على الأصول وأين ذلك من التقليد؟
ألا ترى أن المهرة في الفن لا يتجرون على مخالفة المشهور إلا مع باعث
قوي ودليل ظاهر يصرفهم عنه؟! ولا زالوا يحرصون على موافقة المشهور
وتحصيل دليل يوافقه ويأخذون به ولو كان الدال على غيره أقوى في نفسه، وذلك
لأن الاعتضاد بالشهرة يجعل المرجوح أقوى من الراجح الدال على خلافه، ولا
يعد ذلك تقليدا للأكثر وأخذا بقول الجماعة ولا حكما بحجية الشهرة، وذلك أمر
ظاهر لا مرية فيه، بل ذلك طريقة جارية في سائر الفنون، فإن مخالفة الأئمة في
كل صناعة مما لا يقع من أرباب الخبرة والمهارة إلا مع باعث قوي وحجة واضحة
تقودهم إليها، والظاهر أن ذلك هو المنشأ في وهم الحمصي، وهو من المقاربين
لعصر الشيخ (رحمه الله)، ومقصوده ممن ذكره هو من ذكرناهم من تلامذته وتلامذة
تلامذته - مثلا - إلى أن نشأ الفاضل ابن إدريس وبنى على مخالفة الشيخ (رحمه الله)
والمناقشة معه في الأدلة. فظهر أن ما ذكر من كون الشهرة المتأخرة عن الشيخ (رحمه الله)
ناشئة عن تقليده في كمال الوهن والقصور.
ولو سلم ذلك في الجملة فغاية الأمر أن يتم بالنسبة إلى الشهرة الحاصلة ما
بين زماني الشيخ وابن إدريس، بل الظاهر أن الحمصي لم يدع زيادة عليه، إذ لا
مجال لادعائه، فإن عدم متابعة الحلي ومن تأخر عنه للشيخ (رحمه الله) من الأمور
الواضحة لمن له أدنى خبرة.
فغاية الأمر أن لا يعتمد على تلك الشهرة المخصوصة فلو سلم وجود شهرة
كذلك يتم الإشكال بالنسبة إليها ومعظم الشهرات الحاصلة عندنا غير مأخوذة من
خصوص فتاوى تلك الجماعة.
غاية الأمر أن ينضم في بعض المقامات فتاواهم إلى فتاوى غيرهم ممن
تقدمهم أو تأخر عنهم ويلحظ الشهرة من اتفاق الجميع، ولا يجري فيه الإشكال
المذكور بوجه، وذلك أمر واضح غني عن البيان.
* * *
463

- أصل -
قد وقع الخلاف في جواز الاكتفاء بالخبر الضعيف مع عدم انجباره بالعمل
ونحوه مما يفيد حجيته في السنن والآداب.
فالمعروف بين المتأخرين التسامح في أدلتها والاكتفاء بثبوتها بما يدل عليها
ولو من طريق ضعيف، والظاهر أن ذلك هو الطريقة الجارية بين القدماء أيضا
حيث يكتفون في الدعوات الواردة والزيارات والصلوات المندوبات وغيرها من
المستحبات بما دل عليها من الروايات، والغالب ضعف الأخبار الواردة في تلك
المقامات، ويومئ إليه ما يظهر من جماعة من اتفاق الأصحاب عليه كما سنشير
إليه. وقد جرى عليه الطريقة بين المتأخرين في العمل.
وخالف فيه جماعة منهم: السيد في المدارك والفاضل الجزائري وصاحب
الحدائق فقالوا بعدم الفرق في ذلك بين الأحكام وأنه لا بد في جميعها من قيام
الحجة المعتبرة على ثبوتها حتى يجوز الحكم بها.
حجة القول الأول وجهان:
أحدهما
الأخبار المستفيضة الواردة في ذلك
وهي مروية من طرق الخاصة والعامة.
فمنها: صحيحة هشام بن سالم المروية في الكافي عن الصادق (عليه السلام): من سمع
464

شيئا من الثواب على شئ فصنعه كان له، وإن لم يكن على ما بلغه.
ورواه ابن طاووس في الإقبال عن أصل هشام عن الصادق (عليه السلام) وفي
المحاسن بإسناده الصحيح عن هشام عنه (عليه السلام) قال: من بلغه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شئ
من الثواب فعمله كان أجر ذلك له، وإن كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقله.
وروى الصدوق (رحمه الله) في ثواب الأعمال عن أبيه، عن علي بن موسى، عن
أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن هشام، عن صفوان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)
قال: " من بلغه شئ من الثواب على شئ من الخير فعمل به كان له أجر ذلك، وإن
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقله " وليس في الإسناد من يتأمل في شأنه سوى علي
بن موسى، والظاهر أنه الكمنداني الذي هو أحد رجال عدة ابن عيسى المذكور
في الكافي ولم يصرحوا بتوثيقه، إلا أن الظاهر أنه من المشايخ المعروفين.
وفي رواية الاجلاء كالكليني وعلي بن بابويه (رحمهما الله) عنه إشارة إلى جلالته
فالظاهر عد خبره قويا، بل الظاهر أنه لا مانع من قبول الرواية من جهته، ولا
يقضي رواية هشام لهذا الخبر هنا بالواسطة وهناك من دون واسطة وهنا في
الرواية، إذ لا بعد في وقوع الأمرين سيما مع اختلاف اللفظين.
وروى الكليني (رحمه الله) أيضا بإسناده إلى محمد بن مروان قال سمعت أبا
جعفر (عليه السلام) يقول: من بلغه ثواب من الله على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك
الثواب أوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه (1).
وروى البرقي في المحاسن بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من بلغه عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شئ من الثواب فعمل ذلك طلب قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان له ذلك
الثواب وإن كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقله (2).
وروى ابن فهد في عدة الداعي عن الصدوق (رحمه الله) أنه روى عن محمد بن
يعقوب بطرقه إلى الأئمة (عليهم السلام): " أنه من بلغه شئ من الخبر فعمل به كان له من

(1) الكافي: ج 2 ص 87 باب من بلغه ثواب من الله على عمل ح 2.
(2) المحاسن: ص 25 باب من بلغه ثواب شئ فعمل به طلبا لذلك الثواب ح 1.
465

الثواب ما بلغه وإن لم يكن الأمر كما نقل إليه " (1).
وروى السيد في الإقبال مرسلا عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: من بلغه شئ من
الخير فعمل به كان له ذلك وإن لم يكن الأمر كما بلغه (2).
قال العلامة المجلسي في البحار بعد ذكر صحيحة هشام بن سالم المروية في
المحاسن: هذا الخبر من المشهورات، رواه الخاصة والعامة بأسانيد (3).
قلت: فهي مع استفاضتها واعتضاد بعضها بالبعض وذكرها في الكتب المعتمدة
لا مجال للتأمل في أسنادها ونفى بعض المتأخرين البعد عن عدها من المتواترات
مضافا إلى صحة عدة من طرقها بحسب الاصطلاح أيضا، واعتضادها بعمل
الأصحاب وتلقيهم لها بالقبول كما هو ظاهر من ملاحظة الطريقة الجارية، بل يظهر
من جماعة اتفاق الأصحاب على ذلك وانعقاد الاجماع عليه فقال الشهيد (رحمه الله) في
الذكرى: أن أحاديث الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم.
وفي عدة الداعي بعد ذكر عدة من الأخبار المذكورة: فصار هذا المعنى
مجمعا عليه بين الفريقين (4).
وقال شيخنا البهائي (رحمه الله) بعد الإشارة إلى بعض ما مر من الأخبار: وهذا هو
سبب تساهل فقهائنا في البحث عن دلائل السنن (5).
وقال أيضا في موضع آخر: قد شاع العمل بالضعاف في أدلة السنن وإن اشتد
ضعفها ولم ينجبر، ثم قال: وأما نحن معاشر الخاصة فالعمل عندنا ليس في
الحقيقة، بل بحسبه مع من سمع... إلى آخره (6). وهي ما تفردنا بروايته. وقال
الشيخ الحر بعد ذكر جملة من الأخبار: هذه الأحاديث سبب تسامح الأصحاب

(1) عدة الداعي: ص 9.
(2) إقبال الاعمال: ص 627.
(3) بحار الأنوار: ج 2 ص 256 باب 30 من بلغه ثواب من الله على عمل فأتى ذيل حديث 3.
(4) عدة الداعي ص 13.
(5) الأربعين ص 389.
(6) والعبارة في الأربعين هكذا: لأن حكمهم باستحباب تلك الأعمال وترتب الثواب عليها
ليس مستندا في الحقيقة إلى تلك الأحاديث الضعيفة، بل إلى هذا الحديث الحسن المشتهر
المعتضد بغيره من الأحاديث.
466

وغيرهم في الاستدلال على الاستحباب والكراهة بعد ثبوت أصل المشروعية.
وقد نص جماعة من المحققين إلى اشتهار ذلك بين الأصحاب قال الشهيد
الثاني (قدس سره): جوز الأكثر العمل بالخبر الضعيف في نحو القصص والمواعظ وفضائل
الأعمال إلا في صفات الله وأحكام الحلال والحرام، وهو حسن حيث لا يبلغ
الضعيف حد الوضع والاختلاق، لما اشتهر بين العلماء المحققين عن التساهل في
أدلة السنن، وليس في المواعظ والقصص غير محض الخبر.
وقال المحقق الخوانساري: قد اشتهر بين العلماء أن الاستحباب إنما يكتفى
فيه بالأدلة الضعيفة و.... (1) بعد ذلك لكن اشتهار العمل بهذه الطريقة بين الأصحاب
من غير نكير ظاهر (2) بل هي في الغاية يجري النفس ويستحقها عليه لعل الله تعالى
يقبل عذره.
وقد أورد عليه بوجوه:
أحدها: أن هذه المسألة من أصول المسائل الأصولية - حيث يثبت بها مدرك
في الشريعة لركن من الأحكام الشرعية - فلا يكتفى في مثلها بمجرد المظنة،
حسب ما تقرر عندهم من عدم الاكتفاء بالظن في المسائل الأصولية يريدون به
أمثال هذه المسألة.
ويدفعه أولا: منع اشتراط القطع في مسائل أصول الفقه، والمقصود مما ذكروه
مسائل أصول الدين، كيف؟ ومبنى أدلتهم في مسائل الأصول على الظن كمسائل
الفقه. غاية الأمر اعتبار انتهاء الظن فيها إلى اليقين، وهو معتبر في الفقه أيضا.
نعم انتهاء المسائل الفقهية إلى القطع إنما يكون في علم الأصول. وأما
المسائل الأصولية فهي إنما تنتهي إلى القطع في ذلك الفن دون غيره، فلا بد أن
يكون في جملة مسائلها مسألة قطعية يكون الاتكال في الظنون المتعلقة بسائر
المسائل عليها، وعلى فرض أن يراد بالكلام المذكور هنا ما يشمل مسائل أصول
الفقه فكان المراد به هو هذا المعنى، فعنوا باعتبار القطع في الأصول أنه يعتبر بلوغ

(1) كلمة غير مقروءة.
(2) مشارق الشموس ص 34.
467

مسائلها إلى حد القطع في ذلك الفن بخلاف مسائل الفقه، فإنها ظنية في فن الفقه
وإنما ينتهي إلى القطع في فن آخر.
وثانيا: أن الأخبار المذكورة مشهورة بين الأصحاب بل مروية من طريقين:
العامة والخاصة، معروفة عند الفريقين قد تلقاها معظم الأصحاب بالقبول مع
اعتضاد بعضها بالبعض وتكررها في الكتب المعتمدة، فلا تأمل في حجية مثلها
ولو عند القائل بعدم حجية الآحاد، فإنه يعد مثل ذلك من المتواتر - كما ادعي في
المقام - أو من المحفوف بقرائن القطع، كيف؟ ولولا البناء على حجية مثلها لسقط
اعتبار الأخبار بالمرة، وفيه هدم للشريعة. كذا يستفاد من كلام بعض الأفاضل،
وفيه تأمل، إذ ليس ذلك جوابا غير الأول، إذ أقصى ما يستفاد من ذلك حجية مثل
الأخبار الظنية المفروضة في الفروع، وأما حجيتها في الأصول فمبني على عدم (1)
منع المقدمة المذكورة. نعم إن ثبت قطعية الأخبار المذكورة كان ذلك جوابا آخر.
وثالثا: أنا لا نقول بحجية الأخبار الضعيفة في إثبات الآداب والسنن
الشرعية، بل نقول بكونها قاضية باستحباب الفعل من الجهة المفروضة، سواء كان
ذلك الخبر صدقا بحسب الواقع أو كذبا، فهو حكم واقعي ثابت للفعل من تلك
الجهة قد دلت عليه الأخبار المذكورة.
كيف! ولو قلنا بحجية الروايات الضعيفة في إثبات الأحكام المفروضة لكانت
تلك الروايات أدلة على الواقع، فإن وافقت الواقع كان الحكم ثابتا بحسب الواقع
وإلا فلا، كما هو الحال في غيرها من الأدلة الظنية، وليس الحال هنا كذلك، إذ نقول
حينئذ بثبوت الحكم بحسب الواقع وإن لم يطابق الواقع، كما هو مقتضى الأخبار
المذكورة.
وحينئذ نقول: إن القول بحصول الرجحان في الفعل من جهة بلوغ الخبر
المفروض حكم شرعي ندبي كسائر الأحكام الشرعية، فهي جهة مرجحة للفعل
على نحو سائر الجهات المرجحة للأفعال، فكما أنه لا مانع من الرجوع فيها،

(1) ليس في " ق " و " ق 2 ".
468

بل وفي ما هو أهم منها - من الأحكام الوجوبية والتحريمية - إلى الأدلة الظنية
فكذا بالنسبة إليها، بل الأمر فيها أسهل جدا.
وربما يجاب أيضا: بأنه لا يترتب على حجية الأخبار المفروضة مفسدة حتى
يلزم هناك باعتبار القطع، إذ أقصى الأمر الوقوع في ما لا حرج فيه ولا رجحان.
وفيه: أن الحكم والإفتاء من غير دليل معتبر في الشريعة من الأمور المحرمة،
بل من جملة الكبائر، فكيف يقال بالأمن عن الوقوع في الحرام في هذا المقام؟
نعم إن لم يلحظ الخصوصية في العمل اتجه ذلك إلا أنه خلاف المقصود،
فإنهم أرادوا ثبوت الاستحباب في المقام من جهة ورود الخبر الضعيف.
ثانيها: أن مفاد الأخبار المذكورة أخص من المدعى، لاختصاصها بصورة
ورود الثواب على العمل، فلو دل على رجحان الفعل من دون بيان ثوابه كما هو
الغالب كان خارجا عن مورد الأخبار المذكورة.
وأجيب عنه: بأن ما دل على رجحان الفعل يدل على ترتب الثواب عليه
بالالتزام، وهو كاف في اندراجه تحت الأخبار المذكورة. وتنظر فيه بعض الأجلة،
وهو في محله، إذ مجرد الدلالة الالتزامية لا يكفي في اندراجها في الأخبار
المذكورة، إذ ظاهرها ذكر الثواب صريحا على العمل.
نعم يمكن إتمام الكلام حينئذ بالقطع بالمناط، إذ ليس لخصوص التصريح
بالثواب مدخل فيه بعد كونه مفهوما من الكلام ولو بالالتزام، مضافا إلى عدم القول
بالفصل، والطريقة الجارية في العمل على أن صحيحة البرقي يعم ذلك، بناء على
حمل الثواب فيها على العمل الذي فيه الثواب إطلاقا للمسبب على السبب كما هو
ظاهر الضمير الراجع إليه، ويقضي به زيادة لفظ " الأجر " في قوله: كان أجر ذلك
له، وإلا كان ينبغي أن يقال كان ذلك له، فيعم حينئذ ما ذكر فيه الثواب صريحا
أو التزاما.
وفي مرسلة الإقبال دلالة عليه أيضا، وكذا في مرسلة العدة في وجه.
ثالثها: أن هذه الروايات إنما دلت على ترتب الثواب على العمل، وذلك
لا يقتضي تعلق الطلب من الشرع لا وجوبا ولا استحبابا كما هو المدعى.
469

ويدفعه: أن حكم الشارع بترتب الثواب على عمل يساوق الحكم برجحانه،
إذ لا ثواب على غير الواجب والمندوب كيف ومن البين أنه لو حكم الشارع
ثبوت ثواب على عمل مخصوص - كما ورد في كثير من الأخبار - دل ذلك على
استحباب ذلك العمل من غير إشكال، فكيف لا يحكم به مع حكمه به على سبيل
الكلية كما في المقام.
قال صاحب الحدائق في بيان الإيراد أن غاية ما تضمنته تلك الأخبار هو
ترتب الثواب على العمل، ومجرد هذا لا يستلزم أمر الشارع وطلبه لذلك، فلا بد أن
يكون هناك دليل آخر على طلب الفعل والأمر به ليترتب عليه الثواب بهذه
الأخبار. قال: وهذا الكلام جيد وجيه لا مجال لإنكاره، فقول المجيب: " إن ترتب
الثواب على عمل يساوق رجحانه... إلى آخره " كلام قشري لا معنى له عند
التأمل الصادق، لأن العبادات توقيفية من الشارع واجبة كانت أو مستحبة، فلا بد
لها من دليل صريح ونص صحيح يدل على مشروعيتها، وهذه الأخبار لا دلالة
فيها على الثبوت والأمر بذلك، وإنما غايتها ما ذكرناه انتهى.
ولا يخفى ضعفه، إذ بعد تسليم دلالة الأخبار المذكورة على حكم الشارع
بترتب الثواب على العمل الذي روي فيه الثواب كيف يعقل التأمل في حكم الشرع
برجحان ذلك الفعل من الجهة المفروضة؟ وكيف يحتمل انفكاك الحكم بالرجحان
عن الحكم بترتب الثواب، وليس معنى الراجح في الشرع إلا ما ترتب الثواب
على فعله، فقوله " إن مجرد ذلك لا يستلزم أمر الشارع وطلبه " من الغرائب،
وتعليله ذلك " بأن العبادات توقيفية من الشارع واجبة كانت أو مستحبة " مما لا
ربط له بذلك، فإن المفروض حصول التوقيف من الشارع، لورود الأخبار
المذكورة الدالة على حصول الرجحان من الجهة المفروضة، وكأنه أشار بذلك إلى
ما استدلوا به على المنع من الأخبار الدالة على توقيفية أحكام الشريعة، وأنه لا بد
فيها من الرجوع إلى الكتاب والسنة فإنها تعم جميع الأحكام الشرعية، فأراد بذلك
معارضتها بالأخبار المذكورة، وستعرف ما فيه.
470

نعم قد يقال في المقام: إن مفاد هذه الأخبار أن من بلغه ثواب مخصوص على
عمل من أعمال الخير فعمل ذلك طلبا لنيل ذلك الثواب أعطاه الله سبحانه ذلك وإن
لم يكن على ما بلغه، فليس المقصود الحكم برجحان الفعل المفروض، ولا ترتب
الثواب عليه مطلقا، بل لا بد من ثبوت كونه خيرا أو راجحا من الأدلة الخارجية
حتى يترتب عليه ذلك الثواب الخاص بمقتضى هذه الأدلة، فليس المقصود بهذه
الأخبار بيان مشروعية العمل بمجرد ورود الرواية الضعيفة، بل المراد ترتب
الثواب المخصوص على العمل المشروع من جهة وروده في الخبر وبلوغه إليه،
كما إذا ورد ثواب مخصوص لصلاة الليل أو زيارة مولانا الحسين (عليه السلام) مع ثبوت
المشروعية لقيام الضرورة، فمشروعية العمل يتوقف على طريقها المقرر في
الشريعة، ولا يتوقف ترتب الثواب الخاص بعد ثبوت المشروعية وكون ما يأتي به
خيرا وعملا شرعيا حسب ما يستفاد منها حيث علق الحكم على ذلك وهو إيراد
رابع في المقام، وقد يحمل عليه كلام صاحب الحدائق وإن لم يوافق ظاهر عبارته.
ويدفعه: أنه وإن لم يدل ذلك إذن على ثبوت استحباب أصل الفعل بالخبر
المفروض لكنه يفيد استحباب الخصوصية ورجحانها فيما إذا ذكر الأجر على
الخصوصية، وهو أيضا حكم شرعي، كما إذا ورد صلاة ركعتين في ليلة مخصوصة
وذكر له فضيلة عظيمة أو قراءة سورة معينة في ليلة ونحو ذلك، فإن هذه الصورة
مندرجة في الأخبار المذكورة قطعا، فيثبت بها مشروعية الخصوصية واستحبابها،
فيثبت بها المدعى في الجملة، على أنه لم يعتبر في تلك الأخبار كون الثواب على
الخبر إلا في رواية الصدوق، والأخبار الباقية خالية عنه، فبعضها مطلق كصحيحة
المحاسن وفي بعضها أضيف الثواب إلى العمل والشئ، ومن الظاهر شمولها لكل
الأفعال. والبناء على حمل المطلق على المقيد مما لا وجه له في المقام، إذ لا
معارضة بين الحكمين.
غاية الأمر أن يثبت ببعض تلك الأخبار ما هو أخص مما يثبت بالباقي،
وهو ظاهر.
471

خامسها: أن الثواب الوارد في الأخبار المذكورة مطلق، وكما أن الثواب يثبت
للمندوب يثبت للواجب أيضا، فلم خصوا الحكم بالمندوب ولم يجروه بالنسبة إلى
الواجبات مع أن مفاد الأخبار المذكورة أعم منه لحصول الثواب على كل من
الأمرين، وإطلاق لفظ العمل ونحوه مما ورد في تلك الأخبار.
وجوابه ظاهر، إذ ليس مفاد تلك الروايات لزوم الأخذ بما دل عليه الخبر من
الحكم، بل مقتضاها الحكم بترتب الثواب على الفعل المذكور، وذلك إنما يفيد
رجحان ذلك الفعل لا وجوبه، إذ ليس فيها ما يدل على ترتب العقاب على تركه،
فإن دل الخبر على الأمرين بنى عليه في الحكم بترتب الثواب من جهة ظاهر هذه
الأخبار دون ترتب العقاب على تركه، لانتفاء ما يدل عليه، وعدم نهوضها حجة
في نفسها ولا ملازمة بين الأمرين، مضافا إلى ما عرفت من صراحة سياق هذه
الروايات في إرادة الاستحباب مع عدم ثبوت الوجوب من الخارج، فكيف يمكن
إجراؤها في وجوب ما دل الخبر المفروض على وجوبه، مع إطلاق الأخبار
المذكورة بالنسبة إلى الواجب والمندوب يكون مقتضاها استحباب الإتيان بما دل
الأخبار على وجوبه أيضا، ولا مانع منه مع عدم نهوض ما دل على الوجوب على
إثباته.
فإن قلت: إن مفاد هذه الروايات ترتب الثواب الذي بلغه على الفعل
المفروض سواء كان ذلك الفعل مما ثبت وجوبه - كما إذا بلغه ثواب على أداء
الصلاة اليومية، أو صيام شهر رمضان - أو كان مما ثبت ندبه - كصلاة الليل - أو كان
دائرا بين الوجوب والندب، أو دائرا بين الإباحة والاستحباب، ودل الخبر
المفروض على وجوبه أو ندبه، إلى غير ذلك. وحينئذ كيف يقال بدلالة تلك
الأخبار على استحباب الإتيان بذلك الفعل وكونه مطلوبا على وجه الندب؟
قلت: لا نقول بصراحة الأخبار المذكورة في استحباب الإتيان بما ورد
الثواب فيه حتى يزاحم ما دل على وجوب ذلك الفعل فلا يصح اجراؤها في جميع
الصور المذكورة، بل نقول: إنه لا دلالة فيها على وجوب الإتيان بذلك الفعل الذي
472

ورد الثواب فيه بوجه من الوجوه، إذ مفادها ترتب الثواب على الفعل لا العقاب
على الترك، فإن ثبت وجوب ذلك الفعل من الخارج فلا كلام، إذ لا دلالة في هذه
الأخبار على خلافه.
غاية الأمر أنه يحكم بترتب الثواب الخاص عليه إذا اتي به رجاء ذلك
الثواب، وإن لم يثبت كان قضية الأخبار المذكورة حينئذ استحبابه حسب ما يفيده
سياقها، نظرا إلى إفادتها كون تلك الجهة مرجحة للفعل ترجيحا غير مانع من
النقيض، فلا تزاحم ما دل على ثبوت جهة أخرى مانعة من النقيض، إلا أنه مع عدم
ثبوتها يتعين الندب بمقتضى تلك الأخبار، مضافا إلى قضاء الأصل أيضا حينئذ
بالندب، لعدم دلالة تلك الأخبار على الوجوب أصلا كما عرفت، وعدم نهوض
دليل آخر على الوجوب.
ومن غريب الكلام! ما اتفق لصاحب الحدائق في المقام حيث إنه حكى
الإيراد المذكور عن بعض الفضلاء والجواب المتقدم عن بعض مشايخه.
ثم أورد على المجيب بأن مراد المورد - كما هو ظاهر سياق كلامه - أنه لو
اقتضى ترتب الثواب الوارد في هذه الأخبار طلب الشارع لذلك الفعل لكان
الواجب عليهم الاستناد إلى هذه الأخبار في وجوب ما تضمن الخبر الضعيف
وجوبه كما جروا عليه بالنسبة إلى ما تضمن الخبر الضعيف استحبابه، مع أنهم لم
يجروا هذا الكلام في الواجب.
وحاصل الكلام الإلزام لهم بأنه لا يخلو إما أن يقولوا: إن ترتب الثواب في
هذه الأخبار يقتضي الطلب والأمر بالفعل أم لا؟
فعلى الأول يلزمهم ذلك في جانب الوجوب كما التزموه في جانب
الاستحباب، مع أنهم لا يلتزمونه.
وعلى الثاني لا بد من دليل آخر يقتضي ذلك ويدل عليه. انتهى بعبارته.
وأنت خبير بوهن ما ذكره، وعدم ترتب فائدة على تقرير الإيراد على النحو
الذي قرره، إذ نقول: إن ترتب الثواب الوارد في هذه الأخبار يقتضي رجحان
473

الإتيان بذلك الفعل. وهذا كما ذكرنا إنما يفيد استحباب ذلك الفعل لا وجوبه حتى
يلزمهم الالتزام بالوجوب في ما دل عليه، بل قضية ذلك استحباب ما دل الخبر
الضعيف على وجوبه أيضا.
نعم لو دلت هذه الأخبار على وجوب الحكم بمقتضى الخبر الوارد في الثواب
قد يتجه ما ذكره، لكن ليس فيهما إيماء بذلك أصلا، وهو واضح.
فان قلت: إن مفاد الأخبار المذكورة يعم ما إذا كان البلوغ بطريق معتبر وغير
معتبر، ولا يختص بالأخير حتى يقال حينئذ باستحباب ما دل على وجوبه، فلو
كان البلوغ على الوجه المعتبر كان ما دل على وجوبه واجبا، وما دل على ندبه
مندوبا قطعا، فإذا فرض اعتبار البلوغ الغير المعتبر نظرا إلى اعتبار الأخبار
المذكورة فينبغي أن لا يختلف الحال في الصورتين، فكيف يقال بالتفكيك بين
الأمرين؟!
قلت: ثبوت الوجوب والاستحباب في الصورة الأولى إنما هو من جهة اعتبار
الدليل الدال عليه ولا ربط له بمؤدى هذه الأخبار، فإن مقتضاها ثبوت الرجحان
لمجرد البلوغ مع قطع النظر عن كونه بالطريق المعتبر، فهذا الوجه إنما يفيد رجحان
الإتيان بالفعل من الجهة المذكورة مطلقا أو رجحانا غير مانع من النقيض، وذلك لا
ينافي حصول الرجحان المانع من جهة أخرى.
فمحصل ما يستفاد من الأخبار المذكورة: أن مجرد بلوغ الخبر إليه قاض
برجحان ذلك الفعل على أحد الوجهين المذكورين، من غير أن يستفاد منها
وجوب ذلك الفعل بوجه من الوجوه، فإن دل دليل شرعي على الوجوب فذاك،
وإلا فليس المستفاد من تلك الأخبار إلا الندب.
وما قد يقال: من أن مقتضى الروايات المذكورة ترتب ثواب الواجب فيما إذا
روي وجوبه وثواب المندوب فيما إذا روي ندبه - فكما يقال بدلالة الحكم بترتب
ثواب المندوب في ما روي ندبه فكذا ينبغي القول بدليليته بالنسبة إلى ما روي
وجوبه - فاسد، إذ الفرق بين الواجب والمندوب إنما هو في ترتب العقاب على
474

الترك لا في مقدار الثواب، إذ قد يكون الثواب المترتب على المندوب أكثر من
الواجب - حسب ما قيل في ثواب الابتداء بالسلام وثواب رده - على أنه لا مانع
من القول بالتزام ترتب ثواب الواجب في المقام من باب التفضل، نظرا إلى الجهة
المذكورة وإن قلنا بنقصان ثواب المندوب من الواجب في أصله.
سادسها: أن الآية الشريفة الدالة على رد خبر الفاسق أخص من هذه الأخبار
لدلالتها على رد خبر الفاسق، سواء كان مما تعلق بالسنن أو غيرها، وهذه
الروايات قد اشتملت على ترتب الثواب المذكور على العمل، سواء كان المخبر به
عادلا أو فاسقا، ولا ريب أن الأول أخص من الثاني فيجب حمل تلك الأخبار
على غير تلك الصورة حملا للمطلق على المقيد، كما هو مقتضى القاعدة، كذا قيل.
وفيه: أن المعارضة بينهما من قبيل العموم من وجه، لوضوح عدم دلالة هذه
الأخبار على قبول الخبر مطلقا ليكون ما دل على رد خبر الفاسق مقيدا لها، بل إنما
دلت على قبول الخبر في ترتب الثواب على العمل من دون دلالة على ما يزيد
على ذلك أصلا.
وحينئذ نقول: إن قضية هذه الأخبار قبول مطلق الخبر المشتمل على ترتب
الثواب، سواء كان راويه عادلا أو فاسقا، وقضية ظاهر الآية رد خبر الفاسق مطلقا
سواء دل على ترتب الثواب على العمل أو غير ذلك.
ومن الواضح: أن النسبة بينهما من قبيل العموم من وجه، ومن العجب إصرار
صاحب الحدائق (رحمه الله) في المقام على كون التعارض بينهما من قبيل العموم المطلق،
مع أنه في غاية الوضوح من الفساد.
قال (رحمه الله) في بيان ذلك: إن الأخبار دلت على ترتب الثواب على العمل الوارد
بطريق عن المعصوم (عليه السلام) سواء كان المخبر عدلا أم لا، طابق خبره الواقع أم لا، من
الواجبات كان أم من المستحبات، ومورد الآية خبر الفاسق تعلق بالسنن أو
بغيرها. ولا ريب أن هذا العموم أخص من ذلك العموم مطلقا لا من وجه.
وضعفه ظاهر بما عرفت، كيف! ولو تعلق خبر الفاسق بترتب عقاب على عمل
475

وغير ذلك من الأمور التي لا يقتضي ترتب الثواب على العمل كان مندرجا في
الآية قطعا ولا إشعار في هذه الأخبار بقبوله فكيف يعقل القول بكون المعارضة
بينهما من قبيل العموم المطلق؟!
فإن قلت: تسليم كون المعارضة بينهما من قبيل العموم من وجه كاف في
سقوط الإحتجاج المذكور، إذ لا بد إذن من الرجوع إلى المرجحات الخارجية،
ولا ريب أن الأصل ومقطوعية المتن مرجحان للعمل بالآية الشريفة، سيما
بملاحظة ما ورد من عرض الأخبار على الكتاب.
قلت: دلالة الأخبار المذكورة أوضح وأبين في جواز العمل بخبر الفاسق في
ذلك من دلالة الآية على المنع، سيما بملاحظة ما حكم فيها من جريان الحكم ولو
على فرض كذب الخبر، فيقدم على إطلاق الآية.
وأجيب عنه أيضا: بأن مفاد الآية الشريفة عدم جواز العمل بقول الفاسق من
دون تثبت، والعمل في ما نحن فيه ليس كذلك، لورود تلك المعتبرة بجواز العمل
بها، فيكون ذلك تثبتا في خبر الفاسق وعملا به بعد التثبت. كذا ذكره غير واحد من
الأجلاء.
أقول: يرد عليه: أن التبين المأمور به في الآية هو التجسس من صدق الخبر
وكذبه، وهو غير حاصل بهذه الأخبار، إذ مفاد هذه الروايات هو العمل بمضمونها
وإن لم يطابق الواقع من دون حاجة إلى التعيين والتثبت، فمفادها مناف لما دلت
عليه الآية الشريفة في الجملة، فإن كانت أخص منها عملنا بها وخصصنا الآية من
جهتها، لكنها كما عرفت أعم من وجه حسب ما ذكره المورد.
والتحقيق في الجواب أن يقال: إنه ليس حكمنا باستحباب ما دل خبر الفاسق
على ترتب الثواب عليه عملا بقول الفاسق ليجب رده قبل التبين، وإنما هو من
جهة العمل بهذه الأخبار المعتبرة الحاكمة به، فيكون مجئ الفاسق بالخبر محصلا
لموضوع الحكم الثابت بهذه الأخبار من دون أن يكون هناك اتكال على الفاسق
أصلا حسب ما قدمنا الإشارة إليه.
476

وبالجملة: أن الشارع قد طلب منا الإتيان بما بلغنا فيه ثواب وحكم بترتب
ذلك الثواب عليه وإن لم يكن الحال على ما بلغنا وقد دلت هذه المعتبرة على
صدور ذلك التكليف من الشرع، فالحكم بالرجحان في ما نحن فيه من جهة هذه
الأخبار دون خبر الفاسق. ولذا يثبت الرجحان وإن كان المخبر كاذبا كما هو قضية
هذه الروايات، فيكون بلوغ الثواب على الوجه المذكور سببا لترتب الثواب على
الفعل لا كاشفا عن حصوله في الواقع ومبينا له كما هو شأن الدليل ليكون الاعتماد
فيه على الفاسق، فليس مدلول هذه الأخبار تصديق الفاسق في ما أخبر به من
حكاية الثواب فيه عن المعصوم، وإنما دلت على الحكم بترتب الثواب واقعا
بسبب بلوغ الخبر إلى العامل، ورجحان الفعل بالنسبة إليه، وليس في ذلك عمل
بقول الفاسق أصلا.
وبهذا التقرير يظهر أن لا معارضة بين هذه الروايات والآية الشريفة رأسا
ليفتقر إلى بيان طريق الجمع، فما ذكرناه أولا من كون المعارضة من قبيل العموم
من وجه كان مماشاة مع المورد.
ومن ذلك يظهر ضعف ما أورده بعض الأجلاء - وهو إيراد سابع في المقام -
من أن الأحاديث المطلقة تحمل عندهم على الأخبار المقيدة، وتعرض مع هذا
على الكتاب فما لم يوافقه منها يضرب به عرض الحائط، مع أنه يجب إطراحها أو
تأويلها إذا خالفت السنة المقطوع بها، والأمور الثلاثة حاصلة في المقام.
أما الأخبار المقيدة فهي ما دلت على النهي البليغ عن أخذ العلوم كلها إلا عن
العالم الرباني، وأنه لا يؤخذ شئ من العلم من جماهير المخالفين وأن الرشد في
خلافهم، وكتاب أصول الكافي مشحون بمثل هذه الأخبار، وأما الكتاب فقوله عز
من قائل: * (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق... الآية) * (1) ولا شك أن الأحكام
المستحبة والمكروهة من أعظم الأخبار، لأنها أحكام إلهية.
وأما السنة القطعية فظاهرة من قطع الأصحاب، لنص الأخبار على رد شهادة

(1) الحجرات: 6.
477

الفاسق والتوقف عند اخباره، إلا في موارد نادرة ليس هذا منها. وحينئذ فيجب
علينا أن نقول: لهذه الأخبار معنى صحيحا، وهو أن معنى " من بلغه ثواب من الله "
البلوغ والسماع المعتبرين عند الشرع الأقدس، وهو أن يكون سماعا ممن يفيد
قوله الظن وإن لم يفد العلم، انتهى.
إذ ليس (1) عندنا في الأخبار ما هو أخص من هذه الأخبار ليحمل هذه عليها،
وما ذكره من الأخبار الدالة على المنع من أخذ العلم، إلا عن العالم الرباني فلا
دخل له بالمقام، إذ لا يعتبر ذلك في الأخذ عن الراوي قطعا، ويحتمل أن يراد
بذلك الإمام (عليه السلام).
فالمراد به الأخذ عنهم (عليهم السلام) ولو بالواسطة لا عن مخالفيهم، أو المراد به الأخذ
على سبيل التقليد والتعلم من غير أن يكون هو عالما مستنبطا، ولو سلم كون
المراد به الراوي فالحال فيها كالآية الشريفة ويجري فيها ما عرفت في بيان الحال
في مفاد الآية. وأما ما دل على المنع من الرجوع إلى كتب المخالفين فبالالتزام به
أخذا بتلك الأدلة المعتضدة بإعراض الأصحاب عن الرجوع إلى كتبهم وأخبارهم
الموجودة عندهم حسب ما يأتي الإشارة إليه، ولا يقضي ذلك بعدم الرجوع إلى
سائر الأخبار الضعيفة.
وأما الكتاب فقد عرفت الحال فيه.
وأما السنة المقطوعة فإن أراد بها الأخبار المروية فقد عرفت الحال فيها وهو
عين ما ادعاه أولا من وجود الأخبار المقيدة وإن أراد بها الطريقة المعلومة من
الشرع المأخوذ من الروايات المقررة عند الأصحاب من رد قول الفاسق، فإن أراد
به قيامها في خصوص المقام فهو في محل المنع، بل القول بعكسه أولى حسب
ما ادعاه أولا من عمل الأصحاب بالأخبار الضعيفة في السنن والمكروهات،
وإن أراد ردها في الشهادات ونحوها فهو حق ولا دخل له بالمقام، مضافا إلى
ما عرفت من الإلزام به والقول بأن الرجوع إليه في المقام ليس رجوعا إلى قول

(1) تعليل لقوله: يظهر ضعف ما أورده.
478

الفاسق وإنما ذلك أخذ بهذه الروايات المعتبرة على ما فصلنا القول فيه، وما ذكره
في حمل الأخبار فهو تقييد بعيد عن ظواهرها من دون قيام دليل عليه بل لا يلائم
سياقها كما عرفت الحال فيها.
الوجه الثاني (1)
التمسك بقاعدة الاحتياط
وهو ظاهر فيما إذا دل الخبر الضعيف على وجوب شئ أو حرمته، لوضوح
أن الاحتياط حينئذ في فعل الأول وترك الثاني، ويدل على رجحان الاحتياط فيه
العقل والنقل المستفيض، بل هو الفرد المتيقن من الأخبار الدالة على رجحان
الاحتياط في الدين، وأما إذا دل على الاستحباب أو الكراهة فالظاهر أنه كذلك،
إذ البناء على موافقة أوامر المولى ونواهيه مطلقا قاض بذلك من غير فرق بين كون
المطلوب حتميا أو غيره، لقطع العقل بأن الباني على امتثال جميع أوامر المولى
وجوبية كانت أو ندبية وترك جميع نواهيه كذلك ينبغي البناء له على ذلك، ولذا
ترى العقل يقطع بمدح العبد الذي يأتي بكل فعل يحتمل كونه محبوبا لمولاه وترك
كل فعل يحتمل كونه مبغوضا له من جهة احتمال كونه محبوبا أو مبغوضا. والظاهر
أن الأخبار الدالة على رجحان الاحتياط دالة عليه أيضا، إذ هو احتياط في
تحصيل المندوب أو ترك المكروه، وهما متعلقان لطلب الشرع وإن لم يكن الطلب
فيهما مانعا من النقيض، فهذه الجهة - أعني ملاحظة الاحتياط في أداء ما أراده
الشارع من الفعل أو الترك - جهة محسنة للفعل أو الترك بحسب الواقع وإن لم يكن
كل منهما في حد ذاته راجحا في الواقع، فذلك من الجهات الاعتبارية المحسنة
للفعل أو الترك.
وقد تقرر أن حسن الأفعال وقبحها بالوجوه والاعتبارات، وليسا من لوازم
الذات.

(1) قد تقدم الوجه الأول في ص 464.
479

والحاصل: أن الأخذ في المقام بمقتضى الخبر الضعيف أخذ بمقتضى
الاحتياط في الدين، والأخذ بمقتضى الاحتياط حسن راجح في الشرع. أما
الصغرى فقد عرفت الحال فيها، وأما الكبرى فلما دل عليه من صريح حكم العقل،
وما ورد فيه من الأخبار المستفيضة المعتضدة بحكم العقل وتلقي الأصحاب لها
بالقبول.
فإن قلت: إن ما ذكرته في بيان الصغرى إنما يصح مع عدم قيام احتمال المنع،
وهو قائم في المقام، إذ مع عدم موافقة ذلك للواقع يكون الإتيان به على سبيل
الاستحباب، وتركه على وجه الكراهة بدعة محرمة، فلا وجه لإجراء الاحتياط
في شئ من المقامين.
وقد نص على ذلك بعض أفاضل المتأخرين قائلا: بأن احتمال الحرمة في
هذا الفعل الذي تضمن الحديث الضعيف استحبابه حاصل فيما إذا فعله المكلف
بقصد القربة ولاحظ رجحان فعله شرعا، فإن الأعمال بالنيات، وفعله على هذا
الوجه دائر بين كونه سنة ورد الحديث بها في الجملة، وبين كونه تشريعا وإدخالا
لما ليس من الدين فيه.
ولا ريب أن ترك السنة أولى من الوقوع في البدعة، فليس الفعل المذكور
دائرا في وقت من الأوقات بين الإباحة والاستحباب ولا بين الكراهة والإباحة،
فتاركه متيقن السلامة وفاعله متعرض للندامة، على أن قولنا بدورانه بين الحرمة
والاستحباب إنما هو على سبيل المماشاة وإرخاء العنان، وإلا فالقول بالحرمة من
غير ترديد ليس عن السداد ببعيد، والتأمل الصادق على ذلك شهيد. انتهى.
وأيضا فنية الوجه معتبرة عند جماعة من الأصحاب في أداء الواجبات
والمندوبات، وهي متوقفة على ثبوت الخصوصية عند المكلف، لعدم جواز الترديد
في النية واعتبار الجزم فيها، وهو غير حاصل مع قيام الاحتمالات، فبملاحظة
ذلك لا نسلم الاحتياط في المقام.
قلت: أما الوجه الأول فمدفوع بأن احتمال البدعة مرتفع بالاحتياط، إذ بعد
480

حكم العقل والشرع برجحان الاحتياط ومطلوبيته لا يبقى مجال لاحتمال الحرمة
في المقام من جهة البدعة، لرجحان الفعل إذن من جهة الاحتياط، وإن فرض عدم
رجحانه في نفسه بالمرة فلا وجه إذن لاحتمال تحريم قصد القربة مع حصول
الجهة المقربة. وما لعله يتوهم من أنه لا كلام في حسن الاحتياط ورجحانه
والاكتفاء به في قصد القربة - إنما الكلام في تحققه في المقام، فالبحث هنا في
موضوع الاحتياط فلا يرتبط ثبوته بإثبات حكمه من جهة العقل والنقل، فإن ذلك
إنما يدل على حسن الاحتياط في العمل لا على كون العمل على وفق الاحتياط
وقضية الإيراد المذكور عدم إندراج ذلك في الاحتياط نظرا إلى قيام احتمال
التحريم - مدفوع بأن احتمال التحريم في المقام إنما يقوم في بادئ الرأي من جهة
الغفلة عن رجحان الاحتياط، فإنه إذا احتمل عدم الحسن في الاحتياط قام
احتمال البدعة.
وأما بعد العلم بحسنه ورجحانه عقلا وشرعا فلا ريب في كون الإتيان بالأمر
الدائر بين الإباحة والوجوب - مثلا - أحوط، إذ لو كان مباحا لم يكن مانع من
الإتيان به وإن كان واجبا كان تركه قاضيا بالعقاب، وحينئذ فيصح التقرب به من
جهة رجحانه.
فإن قلت: إن كان الفعل المفروض مما لا يتوقف الإتيان به (1).
* * *

(1) هكذا في النسخ.
481

المطلب السابع في النسخ
النسخ في اللغة يطلق على أمرين:
أحدهما: الإزالة يقال: نسخت الشمس الظل أي أزالته، ونسخت الريح آثار
القدم يعني أزالتها.
ثانيهما: النقل والتحويل، ومنه تناسخ المواريث أي نقلها وتحويلها من وارث
إلى آخر مع قيام المال، وتناسخ الأرواح أي نقلها من أبدان إلى أبدان اخر، ونسخ
الكتاب واستنساخه أي نقله إلى كتاب آخر، وهو المراد بقوله تعالى: * (إنا كنا
نستنسخ ما كنتم تعملون) * (1) يعني به نقله إلى الصحف.
وقد اختلف في معناه الحقيقي، فقيل: إنه حقيقة فيهما، واختاره الشيخ
والغزالي، وحكي عن القاضي أبي بكر.
وقيل: إنه حقيقة في الأول مجاز في الثاني، واختاره العلامة في النهاية
والسيد العميدي في المنية، وحكي القول به عن أبي هاشم وأبي الحسين البصري.
وقيل بالعكس، وحكي عن القفال.
وكان الأظهر الأول، فإنهما إطلاقان شائعان، ولا مناسبة ظاهرة بينهما، ليكون
علاقة في مثله، فظاهر الاستعمالات في الحقيقة، والمعنيان مكرران في كلام أهل
اللغة من غير إقامة دلالة على تعيين الحقيقة فقد يفيد ذلك كونهما حقيقتين:

(1) الجاثية: 29.
482

حجة القول الثاني أمور:
منها: أن المجاز أولى من الاشتراك، فيدور الأمر بين كونه حقيقة في الأول
أو الثاني، والأول أولى، لمشابهة الثاني له في الاشتمال على الزوال عن الحالة
الأولى بخلاف العكس.
وفيه: أن مشابهة الأول للثاني حاصلة أيضا، لما في إزالة الشئ من تحويله
من الوجود إلى العدم، وقد يجعل التجوز في المقام من قبيل المجاز المرسل، فإن
الإزالة لازم للنقل حيث إن نقل الشئ عن محل قاض بإزالته عنه. فإن قيل بكونه
حقيقة في النقل يكون استعماله في الإزالة من قبيل استعمال الملزوم في اللازم،
ولو قيل بالعكس كان استعماله في النقل من قبيل استعمال اللازم في الملزوم، كذا
يظهر من التفتازاني، ونص عليه الفاضل الصالح، وحكي عن بعض نسخ شرح
العضدي عكس ذلك. وكيف كان، فدعوى حصول العلاقة من أحد الجانبين دون
الآخر فاسدة.
ومنها: أن إطلاق اسم النسخ على الإزالة ثابت والأصل في الإطلاق الحقيقة،
فيكون مجازا في النقل، لأن المجاز خير من الاشتراك.
وضعفه ظاهر، فإنه مقلوب عليه، لأن إطلاقه على النقل ثابت أيضا، فالأصل
فيه الحقيقة، فيكون مجازا في الآخر.
ومنها: أن إطلاق اسم النسخ على النقل في قولهم نسخت الكتاب مجاز، لأن
ما في الكتاب لم ينقل حقيقة، وإذا كان مجازا في النقل كان حقيقة في الإزالة،
لعدم استعماله في ما سواهما.
ووهنه ظاهر، فإن كونه مجازا في المثال المفروض لعدم استعماله في النقل
حقيقة لا يقضي بكونه مجازا فيه إذا استعمل في حقيقته. ولو أريد بذلك المنع من
استعماله في النقل بمعناه الحقيقي فهو فاسد، لاستعماله فيه في أمثلة أخرى،
والظاهر أنه غير قابل للإنكار، على أن عدم استعماله في المثال في حقيقة النقل
غير ظاهر، فإنه إن أريد به نقل خصوص المكتوب كان الأمر على ما ذكر، وأما إن
483

أريد به نقل كلي المكتوب الحاصل بذلك الحصول إلى حصول آخر فلا مانع منه،
ألا ترى أنه يصح أن يقال: انقل الحساب وحوله من هذا الدفتر إلى دفتر آخر، من
دون ظهور تجوز فيه؟!
ومع الغض عن ذلك فكون النقل في مثله مجازا لا يستلزم كون النسخ أيضا
مجازا، إذ قد يقال بكونه حقيقة في النقل مطلقا، سواء كان بمعناه الحقيقي أو
المجازي. وقد يقال أيضا: بأن استعمال النسخ في المقام إن كان مجازا فلا يصح
أن يكون مجازا عن النسخ بمعنى الإزالة، إذ لا مناسبة بينهما، فهو مجاز عن النسخ
بمعنى النقل فيفيد كونه حقيقة فيه، لوضوح عدم جواز سبك المجاز عن المجاز،
هذا.
وربما يظهر من القاموس أن المراد بنسخ الكتاب معنى آخر غير النقل، حيث
فسره بالكتابة عن معارضة.
ولم يذكروا حجة للقول الثالث.
وربما يستدل له ببعض الوجوه المذكورة، والكلام في المقام طويل، وحيث
إنه لا يتفرع عليه ثمرة أصولية فلنقتصر على ذلك.
وفي العرف رفع حكم شرعي بدليل شرعي، وزاد في التهذيب قوله: متأخر
عنه على وجه لولاه لكان ثابتا. فقولنا: " حكم " يعم الأحكام الخمسة الشرعية
والوضعية. والتقييد بالشرعي، لإخراج الحكم العقلي من الإباحة أو الحظر
العقليين، فإن رفعه لا يعد نسخا، بل لو حكم الشارع بالإباحة أو الحظر قبل ورود
البيان من الشرع لم يعد بيان خلافه نسخا، إذ ليس فيه رفعا للحكم الأول، بل تغيير
لموضوعه وربما يجري ذلك في الأول أيضا.
نعم لو حكم الشرع بإباحته مطلقا ثم رفعه اندرج في النسخ قطعا، ويجري ما
قلناه في الحظر الحاصل بسبب البدعة، لعدم تشريع الحكم وإن حكم به الشارع
أيضا، فإن رفعه بتشريعه لا يعد نسخا، وقولنا: " بدليل شرعي " يراد به أن يكون
الرافع للحكم هو الدليل الشرعي القائم عليه لا أمر آخر من عارض يقضي به
484

ويتعين (1) الطهارة إلى التيمم الرافع لحكم المائية، وإن كان ثبوت الحكم الثاني
لقيام الدليل الشرعي عليه، ومن ذلك طرو العجز عن أداء المأمور به والنوم
والجنون ونحوها الرافع للتكليف الثابت على المكلف، وإن دل الشرع عليه، إذ
ليس الدليل الدال على ذلك رافعا للحكم الأول، بل يثبت به حكم ذلك العارض
وهو ثابت مع ثبوت أصل الحكم، ورفع الحكم حينئذ إنما يتسبب عن ذلك
العارض فاعتبر في الحد كون الرافع نفس الدليل القاضي بالرفع لا أمر آخر ليخرج
عنه ارتفاع الحكم بالمذكورات، فإنه لا يعد نسخا، وجعل في النهاية اخراج رفع
الحكم بالنوم والغفلة نحوهما من جهة التقييد بالشرعي، حيث إن رفع الحكم هناك
بالدليل العقلي، وفيه ما لا يخفى.
وأورد عليه في المنية: بأن رفع الحكم بالعجز لا يجب اخراجه عن حد النسخ
إلا إذا لم يكن نسخا، وهو ممنوع. وقد اعترف المصنف في ما تقدم بجواز النسخ
والتخصيص بالعقل. سلمنا، لكن لا يخرج بالقيد المذكور، لأن دلالة العقل عليه
لا يمنع من دلالة الشرع، وهو ظاهر من قوله تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا
وسعها) * (2).
وفيه: أن القول بكون رفع الحكم بالعجز نسخا بين الفساد، ضرورة أن كون
العجز رافعا أمر ظاهر حين صدور الخطاب فأصل التكليف بالفعل مغيا ببقاء
القدرة عليه، ومثل ذلك كيف يمكن عده نسخا؟
غاية الأمر أن يورد على المصنف أن حمله الدليل الشرعي على ما يقابل
العقلي يقضي بعدم كون العقل ناسخا، وهو ينافي ما قرره أولا من جواز كون العقل
ناسخا. ثم إن قوله تعالى * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * ليس ناسخا للخطابات
المطلقة، وإنما هو مبين لعدم شمولها حال العجز.

(1) قد سقط هنا بعض الكلام في الأصل، والمقصود التمثيل للعارض المذكور بالأمر الموجب
لانتقال الفرض في الطهارة المائية إلى التيمم. (من هامش المطبوع)
(2) البقرة: 286.
485

والتحقيق: أن العقل أو النقل القاضي بكون التكاليف مشروطة بالعقل والقدرة
والشعور ونحو ذلك أدلة مبينة للواقع وليست رافعة لشئ من التكاليف، والرفع
هناك إنما يستند إلى طرو تلك الحالات بعد ثبوت التكليف على المكلف، فإنه
الذي يرفع عنه التكليف الثابت عليه، فالأدلة الدالة على اشتراط التكليف بانتفاء
تلك الأمور ليست رافعة لأمر ثابت، وما يرفع الأمر الثابت من طرو تلك الحالات
بعد تعلق التكليف ليس دليلا حسب ما قررناه، سواء كان الدليل على بعثها على
الرفع العقل أو النقل، والتقييد بقوله: " متأخر عنه " للاحتراز عما يقضي بارتفاع
الحكم، ومما يعادل الدليل على الثبوت من استثناء وشرط وصفة ونحوها، فإنه لا
يعد ذلك نسخا.
وفيه: أن تلك القيود أمور مبينة للمقصود، وليست رافعة للحكم الثابت، ففيها
رفع للدلالة لا رفع للمدلول، فهي إذن خارجة عن الجنس، كيف! ولو بنى على
شمول الرفع لمثل ذلك فالقيد المذكور غير كاف في إفادة المقصود لاندراج
التخصيص بالمنفصل إذن في النسخ، فلا يكون الحد مانعا، فلو دفع ذلك بكونه بيانا
ودفعا لا رفعا، فهو جار في المتصل بالأولى.
وأورد عليه أيضا: بأن قيد التأخر لا يخرج شيئا من المذكورات فإنها تقع
متأخرة، غاية الأمر أن لا تقع متراخية عن الأول، ولا دلالة في التأخر على
التراخي.
ويدفعه: أنها مع الاتصال تعد مقارنة للخطاب حسب ما نصوا عليه في بحث
العام والخاص المتعارضين، والتقييد بالأخير لإخراج ما لا يكون الحكم الأول
مقتضيا للبقاء، كما إذا أمره بفعل فأتى به ثم نهاه عن ذلك الفعل، فإنه لا مقتضى
لبقاء ذلك التكليف بعد أدائه، إذ لا دلالة في الأمر على التكرار فلا يكون الحكم
بخلافه نسخا للأمر المفروض. وبعضهم جعل هذا القيد مخرجا للموقت إذا ورد
الحكم بخلافه عند مضي وقته، فإنه لا يعد نسخا، لعدم شمول الحكم الأول لما
بعد الوقت.
486

وضعف الوجهين ظاهر، أما الأول: فلظهور أنه مع عدم دلالة الأمر على
التكرار لا يشمل الحكم المذكور ما بعد الفعل، ويسقط بالإتيان به، فلا أمر حتى
يرتفع بالنهي المتأخر، إذ لا يعقل ارتفاع غير الثابت.
وأما الثاني: فالحال فيه أوضح ضرورة ارتفاع الحكم بمضي وقته، فلا يكون
النهي المتأخر ناسخا.
نعم لو قيل ببقاء التكليف بعد فوات الوقت - على ما ذهب إليه شاذ - صح
القول بارتفاعه، إلا أنه حينئذ لا يخرج بالقيد المذكور.
ثم إن أخذ الرفع جنسا في الحد المذكور مبني على كون النسخ رفعا للحكم
كما هو المختار عند جماعة وحكي القول به عن القاضي أبي بكر، والمختار عند
بعضهم عدم كونه رفعا، وإنما هو بيان لانتهاء هذا الحكم، والحكم إنما ينتهي بنفسه،
وحكي القول به عن الأستاذ أبي إسحاق، وأسنده في المستصفى إلى الفقهاء.
فإطلاق الرفع عليه - حينئذ - على سبيل المجاز.
ويدل على الأول: أن الظاهر من لفظ النسخ الإزالة فلا بد من حمله على
ظاهره، وكذا الظاهر من الحكم الأول الدوام والاستمرار، فيكون الحكم بخلافه
مزيلا له رافعا لمقتضاه، إلا أن يقوم دليل على خلاف ذلك.
ويمكن الإيراد في المقام: بأنه إن أريد كونه مزيلا له بحسب الواقع بأن يكون
الحكم ثابتا في الواقع أولا على وجه الدوام، ثم يرفعه طريان الناسخ فهو مما لا
وجه له، لأنه إما أن يكون حكم الشارع به على وجه الدوام على وفق المصلحة
المقتضية لذلك فلا يمكن إذن رفع ذلك الحكم بخلافه، وإن لم يقتض المصلحة ذلك
على الوجه المذكور لم يمكن تشريعه على وجه الدوام بحسب الواقع وإن لم يكن
مانع من إبرازه على صورة الدوام لبعض المصالح.
نعم يمكن في حق غيره تعالى ممن يتصور في شأنه الجهل بالواقع أن يرى
المصلحة في الحكم به في وجه الدوام، ثم يتبين له بعد ذلك خلافه فيزيل ذلك
الحكم، وهو محال في شأنه تعالى.
487

وإن أريد به كونه مزيلا له في الظاهر بيانا لانتهاء الحكم بحسب الواقع فيتبين
بملاحظة الناسخ أن ما حكم به كان معينا في الواقع بالغاية المفروضة غير متجاوز
عن تلك النهاية، وإن أبرز الحكم أولا في صورة الدوام لبعض المصالح، فهو
كالتخصيص بالمنفصل الوارد على العموم، حيث إن ظاهر اللفظ عموم الحكم
فيتبين بملاحظة المخصص كون ذلك الظاهر غير مراد وأن المراد بالعام بحسب
الحقيقة هو الباقي، فيكون النسخ إذن قرينة منفصلة دالة على أن المراد بما دل على
استمرار المنسوخ خلاف ظاهره مبينة لما هو المقصود منه، كما أن التخصيص
كذلك، ولذا قيل: إن النسخ نحو من التخصيص، فإنه تخصيص في الأزمان كما أن
التخصيص المعروف تخصيص في الأعيان.
ففيه: أن الظاهر أن ذلك غير قابل للإنكار، وليس مما يقع فيه الخلاف، فيعود
النزاع إذن لفظيا، إلا أن ذلك خلاف الظاهر من كلام القائل بكونه رافعا في مقابلة
من يقول بكونه بيانا، وحينئذ يكون الرفع المذكور في الحد مجازا لا يناسب
استعماله في الحدود.
قلت: ويمكن رفع ذلك باختيار كون المراد هو الرفع بحسب الواقع،
والمقصود أنه قد وقع أولا تشريع الحكم على وجه الدوام مع اختصاص المصلحة
المرجحة لذلك ببعض الوقت، ثم رفع ذلك الحكم عند انتهاء ما يقتضيه المصلحة
المفروضة، فهو رفع للمدلول لا رفع للدلالة، ليكون تصرفا في اللفظ الدال على
الحكم، وقرينة على كون المراد به خلاف ظاهره على ما هو الحال في المخصص،
والقرائن الدالة على التجوز في اللفظ وتشريع الحكم على وجه الدوام مع
اختصاص المصلحة ببعض الوقت مما لا مانع منه إذا كان هناك مصلحة قاضية
بتشريعه كذلك ثم نسخه بعد ذلك، وهذا مبني على القول بكون الطلب المراد من
الأمر هو إنشاء اقتضاء الفعل، سواء وافق الإرادة القلبية من الأمر لوقوع الفعل أو
لا، نظرا إلى اختيار مغايرة الطلب للإرادة بالمعنى المذكور، كما هو المختار حسب
ما مر تفصيل القول فيه، فإنه حينئذ يصح إنشاء طلب الفعل واقتضاؤه من المكلف
وإن لم يكن له مصلحة فيه إذا كان هناك مصلحة في الاقتضاء المذكور.
488

ولا فرق بينه وبين ما فيه مصلحة للمكلف بالنسبة إلى حصول التكليف في
الاقتضاء، فغاية الأمر أنه يرفع ذلك التكليف وينسخه عند زوال المصلحة، وهذا
بخلاف ما إذا قيل بكون الطلب عين إرادة الفعل على الوجه المفروض، أو بعدم
حصول حقيقة الطلب من دونه، فلا يتصور إذن حصول حقيقة الطلب على وجه
الدوام مع عدم إرادته وقوع الفعل في الزمان اللاحق وعلمه بنسخ ذلك الفعل،
فليس الطلب المتعلق بالفعل بالنسبة إلى ذلك الزمان إلا صوريا خارجا عن حقيقة
الطلب على القول المذكور، فلا يتحقق هناك تكليف بحسب الواقع إلا بالنسبة إلى
ما قبل ورود الناسخ دون ما بعده، وإن أبرز الجميع أولا بصورة واحدة، فيكون
النسخ إذن كاشفا عن ذلك مبينا لحقيقة الحال.
فمع البناء على الوجه المذكور كما هو ظاهر المعروف عن الأصحاب لا
يمكن أن يكون النسخ رافعا للحكم إلا بالنظر إلى الظاهر من دون أن يكون هناك
رفع لحكم ثابت بحسب الواقع لولا حصول الرفع المفروض، فهو في الحقيقة قرينة
مبينة للمقصود قاضية بالخروج عن ظاهر اللفظ بخلاف البناء على الوجه الأول
الذي اخترناه، فإنه يجوز أن يكون رفعا إذا حصل التكليف على الوجه الذي
قررناه، وأن يكون بيانا لما هو الواقع رفعا بالنسبة إلى ما أفاده الظاهر قبل ظهور
الناسخ إذا وقع التكليف على الوجه الثاني، فعلى المختار يجوز وقوع التكليف
على كل من الوجهين المذكورين ويتفرع على كل حكمه من حصول النسخ
بالبيان أو الرفع، ويكون إذن تعيين كل من الوجهين بملاحظة الدليل الدال على
ذلك نصا أو ظاهرا، هذا كله بالنسبة إلى أوامر الشرع كما هو محل الكلام. وأما
بالنظر إلى غيره فلا إشكال في صحة وقوع النسخ على كل من الوجهين مطلقا هذا
ما يقتضيه التدبر في المقام.
وقد احتج القائل بكونه بيانا لا رفعا بوجوه موهونة لا بأس بالإشارة إليها:
أحدها: أن المرفوع إما الحكم الموجود أو غيره، ولا سبيل إلى شئ منهما.
أما الأول فللزوم سلب الشئ عن نفسه نظرا إلى رفع الوجود عنه حين
كونه موجودا.
489

وأما الثاني فللزوم تحصيل الحاصل، فتعين أن يكون بيانا لا رفعا.
ثانيها: أن طرو الطارئ إن كان حال كون الأول معدوما لم يكن رافعا لوجوده
كما هو المدعى، وإن كان حال كونه موجودا فقد اجتمعا في الوجود فلا يتباينان
حتى يكون رافعا له.
ثالثها: أن الحكم هو الخطاب فهو قسم من الكلام، ومع قدم الكلام لا يتصور
رفعه.
رابعها: أن الحكم الطارئ ضد للسابق، لامتناع اجتماعهما فالقول برفع
اللاحق للسابق ليس بأولى من رفع اللاحق بالسابق، إذ لا وجه لقوة اللاحق على
السابق، أقصى الأمر أن يتساويا.
خامسها: أن طريان الطارئ مشروط بزوال السابق لامتناع اجتماع الضدين
فيشترط في وجوده انتفاء ضده، لكونه مانعا من حصوله، وانتفاء المانع من جملة
الشرائط، وأيضا طريان الطارئ مشروط بمحل يطرأ عليه، وليس كل محل قابلا
لحلول كل عرض، بل لا بد من محل خاص قابل لعروضه وإنما يكون قابلا إذا خلا
عن ضده، فإذا ثبت توقف طرو الطارئ على زوال الباقي فلو كان زوال الباقي
موقوفا بطريان الطارئ لزم الدور.
سادسها: أنه يستلزم البداء، فإنه إذا نهى عن الشئ بعد أن أمر به فقد بدا له
حتى عدل الأمر إلى النهي.
سابعها: أن علمه تعالى إن تعلق باستمرار الحكم استحال رفعه، وإلا لزم
انقلاب علمه تعالى جهلا، وإن تعلق باستمراره إلى الوقت المعين بطل القول
بالرفع، إذ لا بقاء له إلى ذلك الوقت، بل يستحيل وجوده فيه للزوم انقلاب علمه
تعالى جهلا، وإن كان ممتنع الوجود لذاته امتنع أن يكون ممتنعا لغيره.
ويدفع الأول: أنها شبهة مصادمة للضرورة قاضية بعدم إمكان رفع شئ من
الأشياء، لجريان الكلام المذكور بعينه في كل منها، مثلا يقال: " إن الحياة الزائلة
بالقتل إما الموجودة حين وجود السبب المفروض أو المعدومة... إلى آخره "
490

ويقال: " إن الزائل بسبب كسر الآنية إما الشكل حين وجوده أو حين عدمه... إلى
آخره " والحل أنه ليس المراد رفعه بالنسبة إلى حال وجوده بالنسبة إلى الحالة
الثانية، لكن لما كان مقتضى وجوده في الحالة الثانية حاصلا لولا الطارئ المذكور
كان العدم الحاصل بسببه مع وجود مقتضيه رفعا، بخلاف ما إذا لم يكن هناك
مقتض للبقاء في الحالة الثانية.
والثاني: أن طرو الطارئ مقارن للعدم المسبب عنه نظرا إلى لزوم مقارنة
السبب للمسبب بحسب الزمان فهو سبب لانتفاء استمرار وجوده مع قيام المقتضي
للاستمرار، وهو مفاد الرفع.
والثالث: مع فساده في نفسه لابتنائه على الأصل الفاسد أنه ليس معنى النسخ
رفع الكلام القديم، بل مفاده قطع تعلقه بالمخاطب على نحو سائر الطوارئ القاطعة
لتعلقه كالموت والإغماء والجنون ونحوها.
وأورد عليه: بأن التعلق إن كان عدميا استحال رفعه، إذ ليس شيئا يرتفع وإن
كان وجوديا، فإن كان قديما استحال رفعه كالكلام، وإن كان حادثا لزم كونه
تعالى محلا للحوادث، فإن التعلق صفة للخطاب، والخطاب صفة له تعالى قائمة به،
والقائم بالقائم بالشئ قائم به، وهو ما ذكر من اللازم. وفيه كلام ليس هنا موضع
ذكره.
والرابع: بأنها شبهة مصادمة للضرورة فإنها لو تمت لزم أن لا ينعدم موجود
ولا يوجد معدوم، فإن المعدوم إنما يكون عدمه عن علة، وكذا الموجود، فعلة
العدم تنافي الوجود كما أن علة الوجود تنافي العدم، فإذا لم تكن إحدى العلتين
أقوى من الأخرى لزم ما ذكرناه، بل لزم أن لا يكون موجودا ولا معدوما، إذ بعد
تعادل العلتين لا يمكن ترجيح أحدهما على الأخرى من دون مرجح، فيلزم
انتفاء الأمرين، وهو رفع للنقيضين.
والحل أنه لا معارضة بين العلتين أما على القول باستغناء الباقي عن المؤثر
فظاهر، إذ البقاء لا يستند إذن إلى علة فيكون علة العدم أو الوجود هو الطارئ
عليه من دون مزاحم.
491

وأما على القول بالاحتياج فطرو الثاني إنما يكون برفع علة الأول وجودا
كان أو عدما ولو برفع جزء من أجزاء تلك العلة، لوضوح عدم إمكان اجتماع
العلتين التامتين، لوجود الشئ وعدمه، وإلا لزم المفسدة المذكورة وهو ظاهر.
الخامس: أن مجرد المنافاة بين الحكمين لا يستلزم أن يكون وجود الطارئ
مشروطا بزوال السابق، كيف؟ والمنافاة بين وجود العلة وعدم المعلول ظاهرة مع
وضوح عدم اشتراط وجود العلة بانتفاء عدم المعلول يعني وجوده.
وفيه: أنه ليس بناء الاحتجاج على إثبات الاشتراط بمجرد ثبوت المنافاة،
بل لما ذكر من الدليل القاضي بثبوت الاشتراط، وحينئذ فالحق في الجواب أنه
ليس المراد كون الحكم الطارئ بنفسه رافعا للحكم الأول، إذ قد لا يخلف الحكم
المنسوخ حكم آخر من الشرع، بل المقصود رفعه بالدليل الطارئ القاضي برفعه.
ومن البين عدم قيام الدليل بمحل الحكم (1) وورود المفسدة المذكورة.
وحينئذ فالدليل المفروض وإن قضى بثبوت حكم آخر بدل المنسوخ فذلك
الدليل هو الرافع للحكم الأول.
وعن السادس: أنه إن أريد به لزوم انكشاف شئ لم يتبين له أولا فهو فاسد،
إذ لا يلزم من القول بالرفع عدم علمه بوجوه المفاسد والمصالح، ولا يلزم من علمه
بها عدم تشريعه الحكم على وجه الدوام حسب ما عرفت.
وإن أريد به لزوم نفيه شيئا بعد إثباته له أولا فهذا مما لا مفسدة فيه ولا دليل
على فساده.
وعن السابع: أنه منقوض بسائر الممكنات فإنها من جهة تعلق علمه تعالى
بوجودها أو عدمها يستحيل وقوع خلافه نظرا إلى ما ذكر، فتكون إذن واجبة أو
ممتنعة بالذات، وهذا خلف. والحل أن أقصى ما يلزم من ذلك - على فرض صحته
- استحالة وجود ذلك الحكم في الزمان اللاحق، وهو لا يقضي باستحالته بالذات،
لكونها أعم من الذاتي والعرضي، فأي مانع من أن يكون محالا من جهة وقوع

(1) في الأصل هنا بياض يسير لم يكتب فيه شئ.
492

الرفع بالناسخ، وعلمه بذلك؟ فقوله " امتنع ان يكون ممتنعا بغيره " بين الفساد.
والحاصل: أنه تعالى كما يعلم انتفاء الحكم في الزمان اللاحق كذا يعلم كون
ذلك الانتقاض من جهة رفعه الحكم بالناسخ، هذا.
وقد ذكروا حدودا اخر للنسخ قد اخذ الإزالة في عدة منها جنسا، وهو بمعنى
الرفع، وفي عدة منها اخذ اللفظ وما بمعناه كالنص والخطاب جنسا، فحده الغزالي
بأنه الخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه، والآمدي بأنه
خطاب الشارع المانع من استمرار ما ثبت من حكم خطاب شرعي سابق، وعن
المعتزلة أنه اللفظ الدال على أن الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل على وجه لولاه
لكان ثابتا.
وعن الجويني أنه اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الأول،
وعن الفقهاء أنه النص الدال على انتهاء مدة الحكم الشرعي مع التأخر عن مورده،
وعنهم أيضا أنه الخطاب الثاني الكاشف عن مدة العبادة أو عن انقطاع زمان
العبادة.
وأنت خبير بأن أخذ اللفظ وما بمعناه جنسا في المقام غير مناسب، لوضوح
كون النسخ فعلا حاصلا باللفظ المفروض. وإن قلنا بكون الناسخ هو الله سبحانه
فإن النسخ فعله لا مجرد قوله، فهو بقوله الدال على الرفع قد رفع الحكم المتقدم،
وليس نفس قوله رفعا. ولذا لا يصح حمله عليه وإن قلنا بكون الناسخ هو القول
المفروض - كما حكي عن المعتزلة - فالأمر ظاهر، فما يستفاد من الآمدي من بناء
ذلك على كون الناسخ حقيقة هو الله سبحانه أو الخطاب الصادر منه فعلى القول
بكون الناسخ هو الله يكون النسخ هو خطابه الصادر عنه، وإن قلنا بكون الناسخ هو
الخطاب، كما أن المنسوخ هو الخطاب لا يكون نفس الخطاب نسخا، بل النسخ
الأثر الحاصل من الخطاب المفروض ليس على ما ينبغي، كيف؟ ولا يتحقق النسخ
عندهم إلا بالنسبة إلى تعلق الخطاب، وأما نفس الخطاب فهو قديم عندهم فلا
يكون ناسخا ولا منسوخا، فالمرتفع هو تعلق الخطاب والنسخ رفع ذلك التعلق.
493

فكيف يصح القول بكون الخطاب الثاني أو تعلقه عين رفع الأول؟! وكان
ما ذكروه من كون الخطاب الأول منسوخا والثاني نسخا - لو سلم - مبني على
التسامح في التعبير، هذا.
وقد ظهر بما قررنا في تفسير النسخ الفرق بينه وبين التخصيص، إذ ليس
التخصيص إلا بيانا لمفاد العام ورافعا لدلالته على العموم بحمله على إرادة
الخاص بخلاف النسخ، فإنه رافع لمدلول المنسوخ من دون بعث على خروج
اللفظ عن ظاهره، واستعماله في غير ما وضع له حسب ما أشرنا إليه، هذا إن جعلنا
النسخ رفعا للحكم على سبيل الحقيقة.
وأما إن جعلناه رافعا له في الظاهر نظرا إلى ما ظهر من قيام المنسوخ، فبعد
ظهور النسخ يكون كاشفا مبينا عن انتهاء مدة الحكم، وأن غايته في الواقع بلوغ
ذلك الزمان، فلا فرق بينه وبين التخصيص في ذلك، إنما الفرق بينهما إذن في كون
النسخ تخصيصا للحكم ببعض الأزمان، والتخصيص بالنسبة إلى الأحوال والأفراد
فهو إذا بحسب الحقيقة نوع من التخصيص وإن فارقه في بعض الأحكام، بل
يندرج في التخصيص المعروف وإن كان هناك عموم لغوي يفيد شمول الحكم
للأزمان، وإلا كان تقييد الإطلاق ما دل على شمول الحكم كذلك، ولذا جاز اتصاله
إذن بالخطاب الأول كأن يقول: افعل هذا إلى الزمان الفلاني، وانفصاله عنه كأن
يقول بعد مضي مدة زمن (1) الخطاب الأول: إن ما ذكر من استمرار الحكم إنما أريد
به استمراره إلى هذا الزمان، فهذا بالنسبة إلى ما دل على شمول الحكم للأزمان
تخصيص لا رفع فيه، وبالنسبة إلى نفيه (2) الحكم الثابت نسخ حيث رفع الثابت،
هذا مع تراخيه.
وأما مع الاتصال فليس إلا تخصيصا، إذ لا ثبوت للحكم إذن على وجه
الدوام حتى يكون ذلك المخصص رافعا له وكيف كان، فالفرق بينه وبين
التخصيص حينئذ كون النسخ رفعا للحكم الثابت بحسب الظاهر بخلاف

(1) في " ق " و " ق 2 ": من.
(2) نفس، خ ل.
494

التخصيص إذ هو بيان صرف. ولذا لا يجوز اقتران النسخ بالخطاب وإن جاز
اقترانه به على جهة الاجمال بأن يقول: إن هذا الحكم سينسخ عنكم، أو يقول:
افعلوا كذا إلى أن أرفعه عنكم، ونحو ذلك.
وقد اعتبروا في مفهومه أيضا كون الحكم الأول شرعيا وكون الرافع له شرعيا
أيضا، فلو ارتفع بالعقل كزوال القدرة لم يكن نسخا، فإذا تحقق الأمور الثلاثة ثبت
مفهوم النسخ، والافتراق بينه وبين التخصيص حاصل من الوجوه الثلاثة، بل
الأربعة.
وهناك وجوه اخر للفرق بينهما مذكورة في كلماتهم:
منها: عدم جواز نسخ القطعي بالظني، كنسخ الكتاب بالخبر الواحد.
ومنها: أن النسخ يخرج المنسوخ عن الحجية بخلاف التخصيص فإنه يبقى
حجة في الباقي.
ومنها: أن النسخ يجوز أن يزيل مدلول ما يرد عليه من الحكم بالمرة بخلاف
التخصيص، فإنه لا بد من بقاء بعض من مدلوله، لبطلان التخصيص المستوعب.
ومنها: أن التخصيص لا بد أن يكون قبل حضور وقت العمل به، لعدم جواز
تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولا بد أن يكون النسخ بعد حضور وقت العمل به
على القول به كما سيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
قوله: * (لا ريب في جواز النسخ ووقوعه... الخ) *.
قد وقع هنا خلاف ضعيف في المقامين وقد اتفق عليهما أهل الشرائع سوى ما
يحكى عن طائفة من اليهود.
* * *
495

[الأدلة العقلية]
قوله (رحمه الله): * (المطلب الثامن... الخ) *.
قد تقرر أن أدلة الأحكام عندنا أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والعقل، وقد
مر تفصيل القول في ثلاثة منها بقي الكلام في الأدلة العقلية، والمصنف (رحمه الله) لم
يتعرض إلا لبعض المسائل المعدودة منها ونحن بعون الله سبحانه وحسن توفيقه
نفصل الكلام في أقسامها ونميز الصحيح من المزيف منها، ونوضح القول في
وجوهها وشعبها إن شاء الله.
فنقول: المراد بالدليل العقلي كل حكم عقلي يستنبط منه حكم شرعي، سواء
حكم به العقل استقلالا من دون ترتبه على حكم الشرع، أو كان حكم العقل به
مترتبا على ثبوت حكم آخر ولو من جهة الشرع ثم يترتب على ذلك الحكم
العقلي حكم شرعي آخر.
وعلى الأول إما أن يكون ما حكم به العقل أمرا ثابتا لموضوعه في نفسه
بحسب الواقع، أو يكون ثابتا له بالنظر إلى ظاهر التكليف وإن لم يكن كذلك
بحسب الواقع ونفس الأمر. فهذه أقسام ثلاثة:
والأول: مسألة التحسين والتقبيح العقليين، والملازمة بين حكمي العقل
والشرع.
والثاني: مسائل الملازمات كاستلزام وجوب الشئ وجوب مقدمته،
496

واستلزام وجوب الشئ حرمة أضداده، فإن العقل أولا لا يحكم بوجوب المقدمة
ولا بحرمة الضد، وإنما يحكم بهما بعد الحكم بوجوب الشئ ولو من جهة حكم
الشرع به، فهو إذن حكم عقلي تابع لحكم الشرع، والظاهر أن ما كان اللزوم فيها
بينا بالمعنى الأخص خارج عن الأدلة العقلية، لاندراجه إذن في المداليل اللفظية
فيندرج في مداليل الكتاب والسنة. وعلى هذا فدرج بعضهم مباحث المفاهيم في
هذا القسم ليس على ما ينبغي.
ومن الثالث أصالة البراءة والإباحة عند عدم قيام دليل على الوجوب
والحرمة فان مقتضاهما جواز الترك والفعل في ظاهر الشرع، وإن كان الفعل واجبا
أو محرما بحسب الواقع كما سيجئ تفصيل القول فيهما إن شاء الله.
وقد يورد في المقام: أن القسم الأول - وهو ما يستقل العقل بإدراكه - لا يصح
عده من أدلة الأحكام، فإن الدليل ما يستدل به العقل على الحكم في ما يحتاج إلى
الاستدلال، والعقل في المقام هو الحاكم والمدرك للحكم كما أن الشارع حاكم به،
فكما لا يعد الشارع دليلا على الحكم بحسب الاصطلاح فكذا العقل.
وأجيب عنه: بأنه ليس المقصود من ذلك كون نفس العقل دليلا، بل المدعى
كون حكم العقل دليلا على ما حكم به، فالدليل هو تحسين العقل وتقبيحه وحكمه
باستحقاق المدح والذم والثواب والعقاب، ومدلوله من الأحكام الشرعية من
الوجوب والتحريم وغيرهما مما دل العقل عليه، وهذا المدلول هو ما حكم به ودل
العقل عليه.
وفيه: أن حكم العقل وإدراكه ليس دليلا على المحكوم به، بل الدليل هو الأمر
الموصل إلى الإدراك المفروض من المقدميتن أو الحد الأوسط.
فالحق في الجواب أن يقال: إن الدليل في المقام هو حكم العقل بحسن الفعل
أو قبحه عقلا، فإنه دال على حكم الشارع به أيضا، نظرا إلى ما دل على الملازمة
بين حكمي العقل والشرع. نعم قد يجعل متعلق ادراك العقل نفس حكم الشرع
حيث يدرك العقل أولا كون ذلك مما حكم به الشرع، وحينئذ لا يصح عد الحكم
497

المذكور دليلا على حكم الشرع، لكن إمكان الفرض المذكور لا يخلو عن نظر، إذ
لا مجال ظاهرا في إدراك ذلك إلا بتوسط حكمه بالتحسين والتقبيح وحكمه
بانطباق الحكم الشرعي على ما حكم به حسب ما يقتضيه القواعد العقلية، فإن ما
يدرك حكم الشرع حينئذ بالملازمة المذكورة، ويكون الدليل على حكم الشرع
حينئذ هو ما حكم به من التحسين والتقبيح على ما قررنا.
وكيف كان، فعلى فرض وقوع ما ذكر من الفرض يكون الدليل العقلي هو ما
يوصل العقل إلى الحكم المفروض لا نفس حكمه، هذا إذا كان حكمه نظريا، وإن
كان ضروريا لم يمكن عده إذن من الأدلة بحسب الاصطلاح، وكان عد العقل
بالنسبة إليه دليلا مبنيا على معناه اللغوي، حيث إنه الهادي إليه لكن دعوى حصول
الضرورة في الإدراك المفروض غير ظاهر، حسب ما يأتي الإشارة إليه، هذا.
وقد ظهر بما قررنا أن هنا أمرين:
أحدهما: إثبات حكم العقل بالنسبة إلى التحسين والتقبيح.
ثانيهما: كون حكمه به دليلا على حكم الشرع والثاني من مسائل الأصول، إذ
مفاده إثبات حكومة العقل وليس بحثا عن الأدلة، بل إثبات لما يدعى دلالته على
حكم الشرع، والثاني من مباحث أصول الفقه نظير إثبات حجية الكتاب وخبر
الواحد وغيرهما من الأدلة، فالأول مبادئ للثاني، حيث إنه يتحقق موضوع
البحث فيه وحيث كان مقصودهم في المبادئ الأحكامية إثبات حكومة العقل
جرت الطريقة على بيان مسألة التحسين والتقبيح العقليين في المبادئ الأحكامية
دون الأدلة الشرعية، نظرا إلى ملاحظة الجهة المذكورة، واكتفوا بذكرها هناك من
بيانها في مباحث الأدلة حذرا من التكرار، وربما يجعل الوجه فيه ندور المسائل
المتفرعة عليها، لكون ما يستقل العقل بإدراكه من المسائل على الوجه المذكور
من الأمور الواضحة في الشريعة، بل الضروريات الخارجة من عدد المسائل
الفقهية، فلذا لم يذكروها في طي الأدلة وأدرجوها في المبادئ الأحكامية، وهو
كما ترى، هذا.
498

ولنورد الكلام في تلك الأقسام في فصول:
الفصل الأول (1): في بيان استقلال العقل بادراك حكم الفعل بحسب الواقع
وأنه من الأدلة على حكم الشرع مع قطع النظر عن توقيفه وبيانه له على لسان
حججه، وهو الذي ذهب إليه علماؤنا الإمامية، بل وأطبقت عليه العدلية، بل قال به
أكثر العقلاء من الحكماء والبراهمة والملاحدة وكثير من الفرق المثبتة للشرائع
والنافية.
وقد أنكر ذلك الأشاعرة وطائفة من متأخري علمائنا الأخبارية في الجملة
وبعض من يحذو حذوهم إلا أن الأشاعرة قد أنكروا ثبوت المحكوم به رأسا
فلزمهم إنكار إدراك العقل له وكونه دليلا على حكم الشرع، فليس عندهم بحسب
الواقع ما يتعلق به إدراك العقل، إذ لا حسن ولا قبح عندهم للأفعال مع قطع النظر
عن حكم الشرع فلا حكم للعقل في التحسين والتقبيح أصلا، ولا حسن ولا قبح
عندهم مع قطع النظر عن حكم الشرع، بل كل الأفعال عندهم ساذجة قابلة لكل
من الأمرين بواسطة أمر الشارع ونهيه، فهي في نفسها مع قطع النظر عن تعلق الأمر
والنهي بها خالية عن الصفتين فاقدة للأمرين.
وأما الجماعة المذكورة فلا يظهر منهم إنكار الحسن والقبح الواقعيين على ما
يقوله الأشاعرة، بل الظاهر منهم اعترافهم به كما هو مذهب العدلية، ودلت عليه
النصوص المستفيضة، بل المتواترة في الجملة، وإنما ينكر جماعة منهم صحة
إدراك العقل في غير ضروريات الدين والمذهب، وبغضهم ينكر المطابقة بين حكم
العقل وما حكم به الشرع، وإن كان العقل مطابقا لما هو الواقع فلا يعد الحكم
شرعيا ويحكم بوجوب الأخذ به ما لم يرد الحكم به من الشرع حسب ما يأتي
تفصيل القول في نقل أقوالهم وأدلتهم إن شاء الله.
وتوضيح المقام: أن الكلام في المرام يقع في مقامات:
أحدها: أنه هل يثبت للأشياء مع قطع النظر عن حكم الشرع وتعلق خطابه بها

(1) لا يوجد فيما يأتي الفصل الثاني والثالث و...
499

أحكام عقلية - من حسنها وقبحها ليكون حكم الشرع على وفق مقتضياتها كاشفة
عن تلك الصفات الواقعية الحاصلة لها، فيكون تشريعه للشرائع من جهة إرشاده
العباد إلى ما فيه صلاحهم وتحذيرهم عما يترتب عليه فسادهم، لقصور عقولهم
عن إدراك ما فيه هلاكهم ونجاتهم - أو أنها لا حكم لها بملاحظة أنفسها مع قطع
النظر عن أمر الشارع بها أو نهيه عنها، فهي حسنة بأمره قبيحة بنهيه، خالية عن
الأمرين مع انتفاء الخطابين، وهذا هو الذي ذهب إليه الأشاعرة والظاهر مما حكي
إنكارهم للحسن والقبح بالمعنى الأول بعد خطاب الشرع أيضا، وإنما حسنها
وقبحها عندهم هو مجرد كونها متعلقا لأمر الشارع ونهيه من غير استحقاق مدح
عقلا على الامتثال، أو ترتب ذم على تركه، وهذا هو الظاهر من مذهبهم، لأنهم
يعزلون العقل من منصب الحكومة بالمرة، فلا فرق عندهم في نفي العقل باستحقاق
المدح والذم بين ما إذا كان قبل تعلق أمر الشارع ونهيه وبعده، إذ كونه متعلقا لذلك
وجه من الوجوه واعتبار من الاعتبارات المحسنة والمقبحة عند العقل على
مذهب العدلية، ضرورة أن طاعة المولى والمنعم الحقيقي من أعظم الجهات
المحسنة، وكذا عصيانه ومخالفته من أعظم الوجوه المقبحة.
وقضية أدلتهم الآتية نفي الحكومة عن العقل، كيف؟ ولو جوزوا حكمه في
المقام لجرى في غيره أيضا، فالظاهر أنهم يجوزون أن يجعل الشارع من أطاع
أوامره موردا للذم ومن عصاه موردا للمدح كما يقتضيه بعض أدلتهم، فينعكس
الأمر. فما في شرح المواقف وشرح القوشجي من تفريع استحقاق المدح والذم
على تعلق الأمر والنهي عندهم وأن استحقاق المدح والذم إنما كان بسبب أمر
الشارع بالفعل ونهيه عنه ليس على ما ينبغي، فليس الحسن والقبح عندهم إلا
مجرد كونه متعلق حكم الشارع باستحقاق المدح على فعله وحكمه باستحقاق
الذم عليه كما نصوا عليه، ومنهم الرازي في الأربعين، وغيره.
ثم إن الكلام في هذا المقام في الإيجاب والسلب الكليين، فكل من المثبتين
والنافين يقول به كليا وينفيه كذلك، والقول بالتفصيل وإن أمكن إلا أنه حكي
الاتفاق على خلافه وإن كان للمناقشة فيه مجال كما سيأتي.
500

ثانيها: أن العقل هل يدرك حسن الأفعال وقبحها من غير إعلام الشارع بهما
وبيانه لشئ منهما، فالأشاعرة المنكرون لأصل الحسن والقبح العقليين يلزمهم
نفي ذلك رأسا، وأما الآخرون فالمعروف بينهم جواز ذلك، بل وحصوله في بعض
المطالب.
وقد أنكر ذلك جماعة منهم المحدث الاسترآبادي حيث ذهب إلى أنه لا
اعتماد على شئ من الإدراكات العقلية في غير الضروريات فلا يثبت شئ من
الحسن والقبح الواقعيين بإدراك العقل، وبنى الأمر في ذلك على أن الأمور المبنية
على المقدمات البعيدة عن الإحساس - مما يكثر فيها وقوع الغلط والالتباس -
فلا يمكن الركون إلى شئ منها. ومحصله نفي الإدراك المعتبر، وأن ما يتراءى من
إدراكه فليس بإدراك على وجه الحقيقة ليصح الاعتماد عليه. وقد تبعه في ذلك
الفاضل الجزائري، وقرره في غير واحد من كتبه إلا أنه نص على أن ما كان من
البديهيات يمكن الاستناد فيه إلى العقل، وأنه الحجة فيه، وما كان من النظريات لا
يصح الاستناد فيه إلى العقل أصلا. وكأنه أراد بالبديهي ما كان بديهيا عند أرباب
العقول دون ما كان بديهيا عند المدرك من غير طريق الإحساس وإن كانت
المسألة من نظريات الدين، كما يظهر ذلك من التأمل في كلامه وأدلته، فيرجع إلى
ما ذكره المحدث المذكور.
وقد نص أيضا - كالمحدث المتقدم - بانحصار المدرك في غير ضروريات
الدين بالأخبار المأثورة عن الصادق (عليه السلام)، وقد تبعهما في المقالة المذكورة
صاحب الحدائق إلا أن في كلامه بعض خصوصيات نشير إليه بعد ذلك. وكيف
كان، فمحصل كلام هؤلاء ومن تبعهم في ذلك عدم الاعتماد في أمر الدين أصوله
وفروعه على الادراكات العقلية مطلقا، بل لا اعتماد لهم على شئ من إدراكات
العقول في شئ من الأحكام التي مبادئها غير محسوسة ولا قريبة من المحسوسة
كمسائل الهندسة إلا ما كان من قبيل البديهيات الواضحة المتلقاة بالقبول عند
أرباب العقول.
501

وذهب بعض أفاضل المتأخرين من علمائنا الأصوليين إلى التفصيل بين العلم
الحاصل للعقل بطريق الضرورة والحاصل بطريق الاكتساب والنظر، فحكم بصحة
الاعتماد على الأول دون الأخير وكان الفرق بينه وبين كلام الجماعة أنه يقول
بالاعتماد على العلم البالغ إلى حد الضرورة مطلقا، سواء كان مما تسالم فيها
العقول أو كان ضروريا عند المستدل، وإن نازع غيره في كونه ضروريا أو في
أصل ثبوته، لتفاوت العقول في قبول العلوم والإدراكات، وهم لا يقولون
بالاعتماد على الضروريات إلا في ما اتفق العقول عليها حسب ما أشرنا إليه.
وسيبين ذلك من ملاحظة أدلتهم الآتية بعون الله تعالى، وقد ينقل هنا قول
آخر أسنده بعضهم إلى بعض المتأخرين، وهو التفصيل بين المعارف الدينية
والأعمال البدنية، فقال بحجيته في أصول الدين دون الفروع، فهذه جملة الأقوال
في المقام، والكلام هنا إنما هو في الإيجاب الجزئي والسلب الكلي، إذ لا يعقل
ادعاء الموجبة الكلية في المقام.
ولا يذهب عليك أنه بناء على مذهب الأشعري ليس للعقل إدراك شئ من
الحسن والقبح الشرعيين، لكون الحكم عنده توقيفيا متوقفا على توقيفه وبيانه
كالأوضاع اللفظية، فليس للعقل فيها مدخلية.
نعم قد يحصل العلم بها من طريق العادة ويمكن إرجاعه إلى النقل إذ سبيل
معرفة العادة النقل (1). وقد يقال بحصول العلم بها على سبيل الإلهام ونحوه، وهو
على فرض تحققه لبعض الأشخاص نحو من التوقيف.
ثالثها: أنه إذا قيل بإدراك العقل الحسن والقبح على نحو ما ثبت في الواقع
فهل يثبت بذلك حكم الشرع به كذلك فيكون ما تعلق به واجبا أو محرما في
الشريعة - مثلا - على نحو ما أدركه العقل، أو لا يثبت الحكم الشرعي إلا بتوقيف
الشارع وبيانه فلا وجوب ولا حرمة ولا غيرهما من الأحكام الشرعية، إلا بعد
وروده في الشريعة، ولا يترتب ثواب ولا عقاب على فعل شئ ولا تركه إلا بعد
بيانه؟

(1) في " ط 1 ": إذ به دل العقل النقل.
502

فالمعروف من المذهب هو الأول، بل الظاهر إطباق القائلين بالحسن والقبح
عليه عدا شذوذ منهم، فإنهم يقولون بالملازمة بين حكم الشرع والعقل فكل ما
حكم به العقل حكم به الشرع وبالعكس.
وقد خالف فيه بعض العامة، حكاه الزركشي عن جماعة من العامة واختاره،
قال: وحكاه الحنفية عن أبي حنيفة نصا، وقد مال إليه صاحب الوافية من أصحابنا،
إلا أنه تردد في المقام. وكيف كان، فلم يحكم بثبوت الملازمة المذكورة،
واستشكل في الحكم بثبوت الحكم في الشريعة بعد استقلال العقل في الحكم
بثبوت حسن الفعل أو قبحه، وقد تبعه في ذلك السيد الشارح لكلامه.
وقد ينسب إلى بعض الجماعة المتقدمة القول بإنكار الملازمة المذكورة
وليس كذلك، بل قد صرح غير واحد منهم بثبوت الحكم إذا قضى به الضرورة
العقلية حسب ما مر. نعم قد يومئ إليه بعض أدلتهم، وليس صريحا فيه، فلا وجه
للنسبة المذكورة.
وقد ظهر بما قررناه أنه قد وقع الكلام في المرام في مقامات ثلاثة، إلا أنه لما
كان الخلاف المعروف في المقام هو النزاع مع الأشاعرة، وكان ذلك هو المعنون
في الكتب الكلامية والأصولية، وكان أصل نزاعهم في المسألة إنما هو في المقام
الأول، وإنما منعوا من الثاني لتفرعه على الأول لم يفرقوا في المقام بين الأمرين،
وجعلوا المسألتين مسألة واحدة، لما عرفت من اتحاد المناط في البحث معهم في
المقامين، لكن أدلتهم المعروفة في الكتب الكلامية والأصولية إنما تفيد ثبوت
الحسن والقبح في الجملة، إذ ليس احتجاجاتهم في المسألة إلا من جهة إدراك
العقل لحسن بعض الأفعال وقبحه في الجملة، وكأنهم اكتفوا بذلك عن إثبات
الكلية لعدم القول بالفصل كما ادعاه بعض الأجلة ويعطيه تتبع كلماتهم في المسألة
أو لأنه المثمر في الأحكام الشرعية.
وأما تلك الدعوى - مع قطع النظر عن إدراك العقل لخصوص الحكم فيها - فلا
يظهر لها ثمرة مهمة. وكيف كان، فتلك الأدلة كافية في إبطال ما اختاره الأشاعرة،
503

وإن لم تف بأنفسها بتمام ما ادعوه في المقام والخلاف في ذلك مع الأشاعرة
في الإيجاب الجزئي والسلب الكلي لينطبق أدلتهم على تمام المقصود، ونحن
نتكلم في الخلاف الأول على نحو ما ذكروه، ثم نتبعه بالكلام في المقامين
الآخرين.
وتفصيل القول في ذلك كله في أبحاث ثلاثة:
البحث الأول
في التحسين والتقبيح العقليين
والخلاف فيه كما عرفت إنما وقع من الأشاعرة، وجمهور العقلاء اتفقوا على
إثباته.
ولنوضح الكلام برسم مقامات:
المقام الأول: في بيان محل النزاع في المسألة والإشارة إلى تحديد كل من
الحسن والقبح عند المعتزلة والأشاعرة.
فنقول: إن المذكور للفظي الحسن والقبح في كلماتهم إطلاقات عديدة:
أحدها: كون الشئ كمالا وكونه نقصا كما يقال: إن العلم حسن والجهل قبيح،
ولم يذكره العضدي، واعتذر له غير واحد من المحشين بأن الكلام في ما يتصف به
الأفعال من معاني الحسن والقبح، وهما بالمعنى المذكور إنما يتصف بهما الصفات
كما في المثال المذكور، ولذا نص في شرح المواقف: أنه أمر ثابت للصفات.
وأنت خبير بصحة اتصاف الأفعال به أيضا إذا نسب إلى الفاعل، بل هي من
تلك الحيثية بمنزلة الصفات، بل لا يبعد اندراجها فيها، ألا ترى أنه يصح أن يقال:
إن طاعة العبد للمولى كمال العبد، كما أن عصيانه له نقص فيه، وقد احتج في
المواقف من قبل الأشاعرة على امتناع الكذب عليه تعالى بأنه نقص، والنقص
ممتنع عليه تعالى.
ثانيها: موافقة المصلحة ومخالفتها، والمراد ما يعم المصلحة الواقعية
504

والمصلحة الملحوظة بالنسبة إلى جهة خاصة وإن لم تكن مصلحة له في الواقع،
فالأول كما نقول: إن طاعة الله سبحانه حسنة أي مشتملة على مصلحة العبد،
ومعصيته قبيحة يعني مشتملة على مفسدة، والثاني كما تقول: إن قتل زيد مصلحة
للسلطان أي بالنظر إلى أمور سلطنته، وإن كانت السلطنة وما يؤدي إليها مفسدة له
بحسب الواقع، وهذا المعنى مما يختلف بحسب الاعتبار بالنسبة إلى الأشخاص،
فقد يكون وقوع فعل واحد مصلحة لشخص ومفسدة للآخر، بل قد يختلف بالنسبة
إلى الشخص الواحد كما إذا كان مصلحة له من جهة مفسدة من أخرى.
ثالثها: موافقة الغرض ومخالفتها وجعلها في المواقف وشرح الجديد للتجريد
وغيرهما عبارة أخرى للمعنى الثاني، وهو بعيد للمغايرة الظاهرة بينهما، ولا داعي
إلى التكلف.
رابعها: ملائمة الطبع ومنافرته، ذكره الرازي والعميدي، وقد يتكلف بإرجاعه
أيضا إلى الثاني ولا باعث عليه. نعم قد يرجع هذان الإطلاقان إلى الثاني، لعدم
ثبوت إطلاقهما عليهما بالخصوص، فيحتمل أن يكون إطلاقهما عليهما لكونهما
نحوين من المصلحة والمفسدة.
خامسها: كون الفعل مشتملا على الحرج وخاليا عنه، ذكره العضدي.
وسادسها: كونه مما يمدح فاعله أو يذم، وقد نص جماعة بأن ذلك هو محل
الخلاف ويمكن إرجاع الخامس إليه، إذ المراد بالحرج في المقام هو المنع، سواء
كان من حكم العقل أو الشرع، وهو يساوق الذم، فيتطابق الحدان في القبح. فما
يوجد في كلام بعض الأعلام من اخراج الحسن والقبح - بمعنى ما لا حرج فيه وما
فيه الحرج - عن محل الكلام مما لا وجه له، إذ لا معنى لحكم العقل بعدم كون
الفعل سائغا إلا حكمه بحرمته وترتب الذم عليه، ومقصود العضدي وغيره ممن
ذكر المعنى المذكور إنما هو بيان اختلاف معنى الحسن، إذ لم يلاحظ فيه استحقاق
المدح ولا ما يساوقه فيه كما اعتبر في الحد الأخير، ولم يعتبر فيه سوى ارتفاع
المنع، ويجئ نظيره في الحد الأخير أيضا إذا اكتفى في صدق الحسن بمجرد
505

ارتفاع الذم، فلا فرق في الحقيقة بين أخذ الحرج وعدمه في الحدين وأخذ الذم
وعدمه فيهما كذلك، وكذلك الحال لو أخذ الثواب والعقاب في ذلك ويجري فيهما
ما يجري في الأولين.
والحاصل: أن المدح والثواب ومطلوبية الفعل يساوق بعضها بعضا، كما أن
الذم والعقاب والحرج متساوقة. فما أورده بعض الأفاضل في المقام: من أن ترتب
الثواب والعقاب على الفعل مما لا يستقل به العقل إذ لا استقلال له في أمر الآخرة
بين الاندفاع، إذ ليس المقصود في المقام الحكم بترتب الثواب والعقاب في
الواقع، بل ليس المقصود إلا حسن الثواب والعقاب على فرض ورودهما على
الفاعل، وهو لا يتوقف على الاعتقاد بالمعاد الجسماني أو ضرورة القول به
بالنسبة إلى ما يدرك الحال فيه بالضرورة.
وقد ظهر بما قررنا أن للحسن عندهم تفسيرين.
أحدهما: أنه ما يترتب المدح أو ما يساوقه عليه.
والثاني: أنه ما لا يترتب الذم أو ما يساوقه عليه، فعلى الأول ينحصر الحسن
في الواجب والمندوب، وعلى الثاني يشمل ما عدا الحرام من الأحكام.
وإلى الأول ينظر ما حكي عن بعض المعتزلة من تحديد الحسن على طريقتهم
بأنه ما اشتمل على صفة توجب المدح والقبيح بأنه ما اشتمل على صفة توجب
الذم، وما ذكره بعض الأشاعرة في حده من أنه ما أمر الشارع بالثناء على فاعله أو
بالذم له.
وإلى الثاني ينظر الحد الآخر للمعتزلة، وهو أن الحسن هو الذي لا يكون على
صفة تؤثر في استحقاق الذم، والقبيح هو الذي يكون على صفة تؤثر فيه. وكذا
الحال في الحد المعروف عندهم وهو أن الحسن ما للقادر عليه العالم بحاله أن
يفعله، وأن القبيح ما ليس كذلك. ونحوه الحد المعروف من الأشاعرة من أن القبيح
ما نهى عنه شرعا والحسن ما لا يكون متعلقا للنهي، وكذا الحد الآخر المذكور في
كلام بعضهم من أن الحسن ما لا حرج فيه والقبيح ما فيه حرج، والظاهر أنهما
506

معنيان مختلفان للحسن يندرج أحدهما في الآخر، فليس هناك خلاف في
التفسير وإنما هناك اختلاف بين التفسيرين.
وقد عرفت أن أكثر تحديداتهم يوافق الأخير فكأنه الأعرف في الاستعمال،
وهو الأنسب بالمقام ليعم الكلام سائر الأحكام.
ثم إن ما ذكرنا من تعاريف الحسن والقبح حدود ستة: ثلاثة منها للمعتزلة،
وثلاثة للأشاعرة.
وقد أورد على الأول بأنه لا يشمل ما كان حسنه أو قبحه ثابتا لذاته مع قطع
النظر عن الصفات الخارجة عنه، ويرد نحوه على الحد الثاني للمعتزلة بالنسبة إلى
حد القبيح.
ويرد عليه في حد الحسن شموله للقبيح الذاتي، إذ ليس فيه صفة تؤثر في
استحقاق الذم.
والجواب: أن ما ثبت لذات الفعل يمكن اسناده إلى الصفة الذاتية أيضا - أعني
المنتزعة من نفس الذات - فيندفع الإيراد عن الحدود المذكورة.
وقد يجاب عنه أيضا: بأن الاختلاف الحاصل في حدودهم مبني على ما
اختلفوا من كون الحسن والقبح اللاحقين للأفعال حاصلا لهما لذواتهما، أو
للوجوه والاعتبارات على ما سيجئ الكلام فيه، فالحدان الأولان مبنيان على
الثاني، والحد الثالث على الأول.
وأنت خبير بأن المناسب للتحديد صحة الحد على جميع الأقوال ليصح تعلق
الخلاف بالمحدود وما ذكر من الجواب اعتراف بفساد الحد على بعض تلك
الأقوال على ما هو التحقيق هناك من التفصيل، إذ الظاهر ثبوت الحسن والقبح
لبعض الأفعال بالنظر إلى ذاته كما سيجئ الإشارة إليه إن شاء الله، على أن الحد
الثالث يصح على كل من الأقوال المذكورة في تلك المسألة، فلا اختصاص له
بالقول الأول على ما يظهر مما ذكر.
وقد يناقش في الحدود المحكية عن الأشاعرة: بأن محل النزاع في الحسن
507

والقبح عندهم كما نصوا عليه هو كون الفعل بحيث يترتب المدح أو الذم عليه، فهم
لما نفوا حكم العقل جعلوا الحسن عبارة عن كون الفعل متعلق مدح الشارع أو
حكمه بنفي الذم عليه على اختلاف التفسيرين، والقبح كونه متعلق لذمه من غير
حصول استحقاق هناك في حكم العقل قبل ورود الشرع وبعده، فلا فرق عندهم
في ذلك بالنظر إلى العقل بين ما ورد الأمر به في الشريعة والنهي عنه في استحقاق
المدح أو الذم، إلا أنه ورد مدح المطيعين فصارت الطاعة حسنة وذم العاصين
فصارت المعصية قبيحة، ولو انعكس الأمر كان بالعكس.
فظهر بذلك: أنه لا مدخل في النهي وعدمه في التحسين والتقبيح وكذا غيره
مما ورد في الحدين المذكورين. وقد يصحح الحدود المذكورة بالملازمة الاتفاقية
بين الأمور المذكورة وتعلق مدح الشرع أو ذمه، فلا مانع من أخذ أي منها في
الحد.
وهو كما ترى، مضافا إلى أنه قد يورد على الحد الثاني أن ما لم يتعلق به النهي
يعم الحسن وغيره مما لم يتعلق به حكم الشرع كأفعال المجانين والأطفال
ونحوهما، وكذا حال الأشياء قبل تعلق حكم الشرع بها على ما ذهبوا إليه من
خلوها إذن عن الحكم فلا يكون حد الحسن مانعا.
وقد يورد ذلك على الثالث أيضا، إذ لا حرج في شئ من الأفعال المذكورة،
وكذا في الأفعال قبل ورود الشرع، وقد يذب عنه بأن الظاهر تقابل الحرج وعدمه
تقابل العدم والملكة فلا يندرج فيه ما لا يكون قابلا لورود النهي.
وفيه: أولا: أنه يلزم عدم صحة اتصاف شئ من أفعاله تعالى بالحسن مع
توصيفهم له بذلك.
وثانيا: أن الأفعال قبل ورود الشرع قابلة للنهي، وكذا أفعال الأطفال وغيرهم
لجواز تعلق التكليف بهم على مذهبهم، ومع الغض عن ذلك نقول: إنهم يجوزون
خلو بعض الأفعال عن الحكم، وحينئذ يندرج ذلك في الحد.
ثم إن الظاهر من الحدود المذكورة للحسن على التفسير الأخير شموله لأربعة
من الأحكام فيختص القبيح بالحرام.
508

وعن الخنجي الحكم بإدراج المكروه في القبيح فيختص الحسن بثلاثة من
الأحكام ذكر ذلك في بيان الحد المعروف من المعتزلة، وقد أشرنا إليه.
وفيه أن الظاهر من الحد المذكور شمول الحسن للمكروه، إلا أن يقال: إن
الظاهر منه ما يكون له فعله من دون غضاضة عليه، وهو في محل المنع.
وعن شارح المنهاج الحكم بإدراج المكروه في القبيح في الحد المنسوب إلى
الأشاعرة، وكأنه لاحظ كون المكروه مما نهي عنه عندهم، وهو كما ترى، إذ كما
أنه ليس المندوب بمأمور به عند الجمهور وكذا المكروه ليس بمنهي عنه عندهم،
ومعه لا يتم الكلام المذكور.
نعم إنما يتم ذلك على القول بكون النهي حقيقة في الأعم وظاهر الشهيد
الثاني في التمهيد عند بيان الحد المذكور إدراج المكروه في الحسن، وهو أوفق
بظاهر الحد، هذا.
وقد يورد في المقام: أن الظاهر من الحدود المذكورة اختلاف معنى الحسن
والقبح عند الفريقين من غير اشتراك بينهما إلا في التسمية، إذ المعتزلة يقولون
بكون الحسن صفة قائمة بالفعل من شأنها استحقاق المدح عليه عند العقل أو عدم
ترتب الذم عليه، وكون القبح صفة قائمة به من شأنها استحقاق الذم عليه،
والأشاعرة يقولون بكون الحسن عبارة عن كون الفعل مما مدح الشارع فاعله، أو
حكم بعدم ذمه، والقبح كونه مما ذم عليه من غير حصول استحقاق للمدح أو الذم
في الصورتين، ولا حصول صفة باعثة عليه بعد حكم الشرع أو قبله، فلا جامع
ظاهرا بين المعنيين ليكون ذلك المعنى متفقا عليه عند الفريقين، ويكون الحسن
والقبح عبارة عنه ليقع الخلاف في كونه عقليا أو شرعيا، بل الخلاف بينهم في معنى
الحسن والقبح دون وصفهما كما هو ظاهر عنوان البحث.
ويمكن الجواب عنه بأن الحسن بالمعنى الذي وقع فيه الخلاف كون الفعل
بحيث يترتب عليه المدح، إذ لا يترتب الذم عليه والقبح كونه يترتب الذم عليه،
ولا خلاف بين الفريقين في تفسير الحسن والقبح بالمعنى المذكور، وإنما الكلام
509

في الحاكم بالمدح والحاكم بالذم، فالعدلية على أن المدح إنما يترتب عليه بحكم
العقل لصفة قائمة به وكذا الذم والأشاعرة على أنه إنما يترتب عليه بمجرد حكم
الشارع من غير أن يكون لحكم العقل مدخلية فيه قبل حكم الشرع أو بعده،
فالمفهوم المذكور هو القدر الجامع بين المعنيين وإن كان القيد المذكور باعثا على
اختلاف الأمرين حسب ما ذكر هنا، والمأخوذ في محل النزاع هو القدر المذكور،
وهو كاف في المقام، ويمكن أن يجعل النزاع في إثبات الحسن والقبح العقليين
ونفيهما، فيكون تفسير الأشاعرة لهما بما مر مبنيا على مذهبهم بعد بنائهم على نفي
العقليين، فتأمل.
المقام الثاني: في بيان حجج العدلية على ثبوت الحسن والقبح العقليين
وإدراك العقل في الجملة لكل من الأمرين، ولهم في ذلك متمسكات من العقل
والنقل.
أما الأول فمن وجوه:
أحدها: أن حسن العدل والإحسان وقبح الظلم والعدوان مما يشهد بهما في
الجملة ضرورة الوجدان، ولذا يحكم به الفرق المنشعبة من صنوف الانسان حتى
منكري الشرائع والأديان، بل ربما لم يخف الحال في بعض مصاديقه على
الصامت من الحيوان، فإن الحكم بحسن الإحسان على بعض المضطرين ممن له
كمال الحاجة والإنعام عليه بما يحفظ حياته عند الوقوع في الهلكة كقبح فعل من
جازاه بعد ذلك بكمال الإساءة وقابل صنعه الجميل على قدر تمكنه من الإيذاء
والإهانة من الضروريات الأولية والفطريات الجلية، بحيث لا يخفى الفرق بين
الأمرين في استحقاق المدح والذم على أحد من البرية، ولا يتوقف فيه من كان
على الغريزة الانسانية.
ألا ترى ان من صادف رجلا منقطعا عن الرفقة وقد بقي منفردا في مهمة قفر
في شدة من الحر بلا زاد ولا راحلة ولم يعرف طريقا إلى نجاته ولا حيلة وقد
غلب عليه حينئذ الحر والعطش بحيث لم يبق له قوة على النهوض والحركة وقد
510

بقي طريحا على الرمضاء تصهره شمس السماء وانقطع عنه الرجاء بالبقاء وأيقن
بالموت والفناء قد غلبه الإغماء، لما ألفى من التعب والنصب والعناء، فلما وافاه
أقبل عليه بكله ووضع رأسه في حجره ومسح التراب من وجهه، وكان أشفق عليه
من أبيه وأمه، وجعل يضع الماء شيئا فشيئا في حلقه وقد أظلله عن الشمس بنفسه
إلى أن أفاق من غشوته وتقوى مما كان فيه من شدة ضعفه فأخذه من ذلك المكان
وأتى به إلى منزله، فمهد له الموائد، وسقاه من الزلال البارد، وأنعم عليه غاية
الإنعام، وأكرمه فوق ما يتوقع من الإكرام، وأخدمه أهله وعياله ومن له من
الخدام، إلى أن زال ما كان فيه من التعب، وارتفع عنه ما لقي من النصب، أعطاه
زادا وراحلة ودفع إليه سلاحا ليتمكن من دفع عدوه، وتبعه إلى أن أوصله إلى
طريقه، ودله إلى ما كان يرومه من مقصده، ولم يفعل به كل ما ذكر من الجميل إلا
لمجرد دفع الضرر عن المضطرين من غير أن يقصد به مجازاة أو شيئا آخر.
ثم إن ذلك الرجل لما رأى حينئذ قوة نفسه وانفراد صاحبه وتمكنه من قهره
كر عليه بسلاحه، وأخذ جميع ما عنده، ثم قابله بأنواع البلاء من الشتم والضرب
والجرح والإيذاء إلى أن صرعه على الأرض في أشد الحال وأسوأ الأحوال، ثم
عاد إلى أهله وعياله فهتك عرضه، وأخذ من أمواله ما قدر على أخذه، وأحرق ما
لم يقدر عليه، إلى غير ذلك من أنواع الإضرار والإيذاء والإهانة. كل ذلك من غير
ضرورة داعية إليه، أو شدة حاجة أو اضطرار باعث عليه، أو عداوة سابقة تدعو
إليه، بل لمحض مقابلة الإحسان بالإساءة ومجازات النعمة بالنقمة، فأي عاقل
يحكم بتساوي الفعلين في استحقاق المدح والذم وترتب الثناء واللوم؟! أفيجوز
في عقل من العقول الحكم بمساواة الصنيعين وتساوي ذينك الشخصين في ما أتيا
به من الفعلين إلى أن يرد الشرع بمدح أحدهما وذم الآخر مع تساوي نسبة مدحه
وذمه إلى الأول والآخر، ليكون حسن أحد الفعلين وقبح الآخر بمجرد مدحه
وذمه من غير ملاحظة شئ آخر غيره، وهو كما ترى أوضح في البطلان من أن
يخفى على ذهن من الأذهان حتى النسوان والصبيان.
511

ومما ينادي بضرورة إدراك العقل استحقاق المدح على بعض الأفعال والذم
على بعضها إطباق العقلاء على المدح على جملة من الأفعال والذم على جملة
أخرى، ولذا يحكمون بحسن عقوبة السيد عبده إذا عصاه، ويذمونه على عصيانه
مولاه، ويمدحونه إذا رأوه ممتثلا لأوامره ومنتهيا عما نهاه، ويذمون المولى لو أذاه
بغير ما يستحقه. ولا زالت العلماء والخطباء في سائر الأعصار والأزمان في جميع
الأمصار والبلدان ينهون الناس بمقتضى ضرورة العقل على حسن بعض الأفعال
وقبح بعضها وعدم إقدام الفاعل على ترك بعضها وفعل بعضها كحسن طاعة المنعم
الحقيقي وقبح معصيته، سيما إذا علم بما يترتب على الأمرين من المثوبات
الجزيلة والعقوبات الشنيعة، فإن ضرورة العقل قاضية بحسن الإتيان بالأول وقبح
الإقدام على الثاني مع قطع النظر عن ملاحظة ما ورد فيه من الشرع.
ومما ينبه على ذلك أيضا بأنه لو خير العاقل بين الصدق والكذب مع
تساويهما في النفع والضرر وسائر الجهات الخارجية لاختار الصدق على الكذب،
وليس ذلك إلا لحسنه، إذ لا سبب غيره.
وما يتوهم من عدم استواء الصدق والكذب من جميع الجهات، ومجرد فرضه
غير نافع مع انتفائه في الواقع، إذ لا أقل من الاختلاف بينهما في المطابقة
واللا مطابقة، ومن أنه لا يستلزم أن يكون إيثار الصدق من جهة حسنه بالمعنى
المعروف أو قبح الكذب كذلك، بل ليس ذلك إلا من جهة كون الكذب نقصا، أو
لكونه منافرا للطبع بخلاف الصدق، فلا يفيد ذلك ثبوت الحسن أو القبح بالمعنى
المتنازع فيه مدفوع.
أما الأول، فلأن المفروض استواؤهما في المصالح والمفاسد وسائر الجهات
الموافقة للغرض والمخالفة [له] لا في مطلق الصفات، إذ لا فائدة في اعتباره في
المقام، ومن البين إمكان استوائهما في ما فرض في كثير من الأحيان.
وأما الثاني، فلأنه من البين أن شيئا من الصدق والكذب من حيث هو لا
موافقة فيه للطبع ولا منافرة، سيما مع تحقق ما فرض من المساواة في الآثار، ولذا
512

إذا صدر من غير المميز لم يجد اختلافا بينهما أصلا، مع أن مخالفات الطبع مما
يدركه غير المميز في الغالب، فليست الموافقة والمخالفة في المقام إلا للعقل، وهو
ملزوم الحسن والقبح العقليين، لملائمة العقل للأمور المحسنة وتنفره من الأمور
المستقبحة كما هو الشأن بالنسبة إلى سائر الحواس بالنسبة إلى ما يلائمها وينفر
عنها، وصفة الكمال والنقص إن ثبت حصولها في الأفعال فليس إلا من جهة
الحسن أو القبح، إذ ليس الفعل المتصف بالكمال إلا ما يمدح فاعله والمتصف
بالنقص ليس إلا ما يذم فاعله.
وقد اعترف به صاحب المواقف حيث أورد على أصحابه المستدلين على
امتناع الكذب عليه تعالى بكونه صفة نقص والنقص عليه محال بالإجماع قائلا:
إنه لم يظهر لي فرق بين النقص في الفعل وبين القبح العقلي، فإن النقص في الأفعال
هو القبح العقلي بعينه فيها، وإنما يختلف العبارة. وهو كما ترى بمنزلة اعترافه
بالحق، لإقرار أصحابه كما هو مقتضى الضرورة من كون الكذب نقصا، واعترافه
بكون ذلك عين القبح المتنازع.
وقد يورد في المقام تارة: بمنع قيام الضرورة من العقل بحسن شئ أو قبحه،
وما ادعي من إدراك الحسن والقبح في الأمور المذكورة فإنما هو من جهة الإلف
بالشريعة وملاحظة أحكام الشرع والعادة، لا من مجرد العقل.
وتارة بالمنع: من كون المدرك هو الحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه، بل قد
يكون بأحد المعاني الاخر الخارجة عن محل النزاع كموافقة الغرض ومخالفته
وصفة الكمال والنقص ونحوهما.
وأخرى: بأن ذلك لو سلم فإنما يفيد ثبوت الحسن والقبح بالنسبة إلى أفعالنا
دون أفعاله تعالى، واستنباط الأحكام الشرعية من العقل مبني عليه. وقياس
الغائب على الشاهد مما لا وجه له سيما بالنسبة إلى الله تعالى، مع أنا نقطع بأنه
تعالى لا يقبح منه تمكين العبد من المعصية، مع أنه قبيح منا.
واندفاع الجميع ظاهر.
513

أما الأول: فإنا نفرض ذلك فيمن لا إلف له بالشريعة والعادة أصلا.
ومن البين: أنه يحكم بعين ما حكمنا ويقطع بمثل ما قطعنا، أو نقطع النظر عن
ملاحظة الشرع والعادة بالمرة ومع ذلك نجد من أنفسنا إدراك الحكم المذكور
كذلك من غير ريبة.
وما قد يتوهم: من أن فرض انتفاء الشئ غير انتفائه في الواقع، فإذا كان
الإلف بالشرع قاضيا بذلك كان ذلك سببا لإدراك العقل وإن فرض العقل انتفاء
الشرع أو العرف مدفوع بأن العلم الحاصل من الأسباب إنما يكون بملاحظة العقل
ذلك السبب، وإن فرض العقل انتفاء تلك الأسباب لا يحصل العلم بتلك الأشياء
على ذلك التقدير.
ألا ترى أنه لو قطع النظر عن المقدمتين لم يحصل للنفس علم بالنتيجة، وإنما
يحصل لها العلم بها مع ملاحظتها إما تفصيلا أو إجمالا، وكذلك العلم الحاصل من
جهة الحواس كالإبصار والإسماع ونحوهما، فلو قطع النظر عن الإحساس
وفرض عدمه لم يحكم العقل بشئ منها، وكذا الحال في الأحكام العادية كقبح
المشي عريانا في المجالس والأسواق ومجامع الناس، والأحكام الشرعية حتى
ضروريات الدين والمذهب - كوجوب الصلاة والصيام ونحوهما - فإنه لو قطع
النظر عن ملاحظة العادة والشرع لم يكن هناك حكم بأحد الطرفين، مع أنا نعلم
في المقام علما ضروريا بثبوت الحكم المذكور من دون تفاوت أصلا بين وجود
الشرع والعادة وعدمهما.
والحاصل: أن العقل إذا قطع النظر عن جميع ما عداه وجد العلم المذكور
حاصلا له، وهو دليل على كونه من الفطريات الأوليات، إذ لو لم يكن كذلك وكان
متوقفا على أحد الأسباب لم يكن حكم العقل به كذلك.
فظهر بما قررنا ضعف ما قد يورد في المقام من أن الحكم في المقام ضروري
حاصل من العادة فيتوقف العلم به على العلم بسببه في الجملة، لكن لما حصل ذلك
وشاع ورسخ في النفوس وصار من الواضحات عندها بلغ في الوضوح إلى حيث
استغنت النفس عن ملاحظتها فيحكم بها مع غفلتها عن السبب.
514

ومع الغض عنه فإن غير الأوليات مما لا يصل إلى الحد المذكور وإن بلغت في
الوضوح ما بلغت. نعم قد يحصل الاشتباه في المقام في تجريد النظر عما عداه
وملاحظة الشئ بنفسه من غير ملاحظة لما سواه، وهو مما يمكن (1) تمييزه
بالوجدان الصحيح كما في المقام فتعين الحال فيها بنحو ما بينا.
ومع الغض عن ذلك كله نقول: إنا نقطع أيضا أن الشرع والعادة مما لا مدخل
له في العلم المذكور أصلا، كيف؟ وليس ذلك بأوضح في الشريعة والعادة من سائر
ضروريات الدين من وجوب الصلاة والزكاة والصوم ونحوها وسائر ما جرت
عليه العادات في المأكولات والملبوسات والآداب، ومع ذلك نجد الفرق البين بين
الأمرين والاختلاف الواضح بين المقامين ونقطع بانتفاء القطع في ما ذكر مع
الغض عن الشرع والعادة بخلاف ما ذكرنا، كما لا يخفى.
وأما الثاني: فبأن المعلوم عند العقل في المقام على سبيل الضرورة هو
خصوص استحقاق المدح والذم، مع أن موافقة الغرض ومخالفته مما يختلف
باختلاف المقامات والأغراض، والحكم المذكور مما لا اختلاف فيه، ولذا يعترف
بحسن أحدهما وقبح الآخر من وافق ذلك أغراضه أو خالفها، وصفة الكمال
والنقص إذا لوحظت بالنسبة إلى الأفعال لم يبعد إرجاعها إلى محل النزاع كما
اعترف به صاحب المواقف كما أشرنا إليه.
وأما الثالث: فمع اندفاعه إذن بعدم القول بالفصل فاسد من جهة حصول القطع
المذكور بالنسبة إلى الله تعالى أيضا.
ألا ترى أنه لو عاقب - العياذ بالله - خاتم الأنبياء عليه آلاف السلام والثناء
مع أنه من أول عمره إلى آخره كان مشتغلا بطاعته متحملا للأذى في جنبه لم
يعصه طرفة عين، ولم يحصل منه سوى الانقياد لرب العالمين، حتى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم
يقع منه مكروه أبدا ولا مباح غالبا فضلا عن الحرام لكان مستقبحا عند العقل
مستنكرا في حكمه، ولذا يقطع العقل بخلافه ولا يحتمل وقوع مثله عن جنابه؟!

(1) في " ق 2 ": مما لا يمكن.
515

الثاني: أنه لو لم يثبت التحسين والتقبيح العقليان لم يقبح من الله شئ من
الأفعال، والتالي باطل، فالمقدم مثله، والملازمة ظاهرة.
وأما بطلان التالي فلأنه لولاه لزم جواز إظهار المعجزة على يد الكاذب،
فينسد باب إثبات النبوات، ولا يتم معه الحجة على أحد من البريات، وجاز
الكذب في جميع أخباره وأخبار رسوله وخلفائه، فيحتمل أن يكون جميع
الواجبات محرمة وبالعكس، والمستحبات مكروهة وبالعكس، إلى غير ذلك،
فينسد الطريق إلى معرفة الأحكام وتميز الحلال من الحرام، فيتعطل الشرائع
المنزلة، وينتفي الفائدة في إنزال الكتب وبعثة الرسل بالمرة، ولزم أيضا جواز
الخلف في وعده ووعيده وثوابه وعقابه وإن وقع الحكم بها على سبيل البت
والتحتيم، فينتفي الوثوق بوعده ووعيده، وجاز أن يعامل مع المحسن معاملة
المسئ ومع المسئ بالعكس، فيعاقب أطوع عباده بأشد العقاب ويثيب أعصى
العصاة فوق ما وعده المطيعين من الثواب، وينتفي حينئذ فائدة الوعد والوعيد
والترغيب والترهيب.
وقد أجيب عنه بوجهين: ينحل كل منهما إلى وجهين:
أحدهما: القول بثبوت الحسن والقبح في أفعاله تعالى بغير المعنى المذكور،
فتارة يؤخذ فيها الحسن بمعنى موافقة المصلحة ومخالفتها فيقال: إن إظهار
المعجزة في يد الكذاب مخالف للمصلحة فلا يقع منه تعالى، وكذا الكلام في
الكذب ومخالفة الوعد.
وتارة يقال: إن كلا من المذكورات نقص فلا يمكن في حقه سبحانه، وقد نص
الأشاعرة في الاحتجاج على استحالة الكذب عليه تعالى بأنه نقص والنقص عليه
تعالى محال.
ثانيهما: أنه لا ملازمة بين جواز وقوع تلك الأفعال من الله تعالى ووقوعه
منه، بل يصح أن يقال بإمكان وقوعها منه تعالى مع القطع بعدم الوقوع، إذ لا منافاة
بين العلم بشئ واحتمال خلافه بمقتضى الإمكان.
516

فتارة نقول بجريان العادة على عدم وقوع الأمور المذكورة منه تعالى، وهي
كافية في القطع بعدم الوقوع، كما أنا نقطع بعدم انقلاب الجبل ذهبا بعد غيابنا عنه،
مع إمكان انقلابه بالنظر إلى قدرة الله تعالى، وليس ذلك إلا من جهة العادة ونقول
بمثله في المقام.
وتارة نقول: إن الله سبحانه يوجد العلم الضروري عقيب إظهار المعجزة
بصدقه في كل ما يخبر به من الأحكام والوقائع.
وقد يزاد هناك وجهان آخران بالنسبة إلى استحالة الكذب:
أحدهما: أنه لو جاز الكذب عليه تعالى لكان صفة له تعالى فتكون قديمة،
وإلا لزم اتصافه بالحوادث، وهو محال، وإذا كانت قديمة امتنع عليه الصدق، أما
الملازمة فلتقابله مع الصدق فيقتضي صدق أحدهما كذب الآخر (1)، ومن المقرر
أن ما ثبت قدمه امتنع عدمه، وأما بطلان التالي فلقضاء الضرورة بأن من علم شيئا
يمكن أن يخبر عنه على ما هو عليه.
وثانيهما: وهو الذي اعتمد عليه في المواقف في استحالة الكذب عليه إخبار
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بكونه صادقا في كلامه، وقد علم اخباره به من ضرورة الدين وقد دل
المعجزة على صدقه في خبره. ولا يذهب عليك أن ذلك بعينه هو الوجه المتقدم
من الاستناد في التصديق إلى المعجزة.
ويمكن دفع الجميع أما الأول: فبما هو بين من أن مجرد موافقة المصلحة
وعدمها لا يقضي بوجوب الفعل على الله تعالى وامتناعه، إذ لا يجب عليه الإتيان
بالأفعال على وفق المصالح ولا يمنع عليه خلافه، كما هو مختارهم في ذلك على
ما نصوا عليه ولو قالوا فيه بالوجوب والمنع عادت المسألة إلى محل النزاع
لرجوعه إذن إلى المدح والذم وقد وقع الاحتجاج بالنحو المذكور على استحالة
الكذب عليه تعالى في كلام المعتزلة، وقد صرح الأشاعرة بإبطالها بمنع المقدمة
المتقدمة.

(1) فيقتضي وجود أحدهما عدم الآخر، خ ل.
517

وأما الثاني: فلإرجاع صفة الكمال والنقص بالنسبة إلى الأفعال إلى الحسن
والقبح بالمعنى المتنازع فيه حسب ما مرت الإشارة إليه.
وأما الثالث: فبأن جريان العادة إنما يعلم بعد تكرار الفعل كثيرا على نحو
واحد حتى يستقر الأمر عليه ويعلم من جهتها بالحال، فلا يجري ذلك في أول
الأنبياء، بل ولا في أحد منهم، إذ لا يعلم صدقهم إلا بالمعجزة، فمن أين يحصل
العلم بالصدق حتى يتحقق عادة في المقام؟ وكذا الكلام في الكذب، إذ العلم
بجريان العادة إنما يحصل بعد العلم بعدم كذبه في شئ من إخباراته حتى يتحقق
العادة المذكورة، وهو غير معلوم، لاحتمال أن يكون جميع إخباراته الغائبة عن
حواسنا أو معظمها كذبا، هذا إن أرادوا بالعلم العادي هو الحاصل من جريان
العادة دائما على النحو المخصوص، وإن أريد به حصول العلم العادي الضروري
عقيب ذلك يرجع إلى الجواب الرابع، وهو الذي يظهر من كلامهم عند بيان دلالة
المعجزة على صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الكتب الكلامية.
وأما الرابع: فبأن حصول العلم الضروري في المقام بمجرد الإتيان بالمعجزة
- كما ادعوه - مخالف لما جرت عليه عادة الله سبحانه في إفاضة العلوم الضرورية،
إذ هي منحصرة بحسب الاستقراء في ثلاثة: الفطريات والوجدانيات وذوات
الأسباب من المحسوسات والحدسيات والتجربيات، ولا يندرج ذلك في شئ
منها.
ودعوى حصول العلم الضروري في غير المذكورات مخالفة لما جرت عليه
العادة. ودعوى حصول العلم الضروري في ما لم تجر العادة في نظائره بحصول
العلم غير مسموعة، كما إذا ادعى أحد حصول علم ضروري له بتركب الجسم من
الهيولى والصورة أو بحدوث الأفلاك عقيب موت زيد أو تولد عمرو ونحوهما مما
لا ارتباط له بحدوث الأفلاك، فضلا عن دعوى حصوله بعد ذلك بالنسبة إلى سائر
الناس، مضافا إلى أنه لو بني الأمر على إيجاد العلم الضروري كيف ما كان لما كان
هناك حاجة إلى المعجزة، وجاز إيجاده بمجرد ادعائه النبوة، فيكون اعتبار ذلك
518

لغوا، بل يكون إرسال الرسل وإنزال الكتب أيضا عبث، للاكتفاء بإيجاد العلم
الضروري بالأحكام من دون سبب ومقتض في الجميع كذا ذكره بعضهم في المقام،
وقد أضفنا إليه بعض ما يؤيد المرام.
قلت: ويمكن دفعه بإدراجه في المحسوسات لا بأن يكون نفسه محسوسا،
بل ما يؤدى إليه حسيا، فإنه أيضا بمنزلة الإحساس به كالعلم الضروري بالشجاعة
والسخاوة ونحوهما من الصفات النفسية من الإحساس بآثارها البينة، فإن
الإحساس بتلك الآثار بمنزلة الإحساس بمبادئها، وبذلك يندرج العلم الحاصل
بها في الضروريات، ويكون العلم به من مؤدي المحسوس.
وحينئذ نقول: إن الإحساس بالخارق بعد ادعائه النبوة كما يوجب العلم
الضروري بحصول الخارق كذا يفيد العلم بصدق المدعي كما يشاهد ذلك بالنسبة
إلى الفطرة السليمة إذا القي عليه المعجزة، إذ بمجرد رؤيته صدور المعجزة العظيمة
الخارقة للعادة يقطع بصدق ذلك المدعي في دعواه، كما يشاهد ذلك في معاشر
الأنبياء، فإن من يرى منهم ذلك لا يبقى له مجال للريب في تصديقهم إلا أن ينكر
كون ذلك معجزة بدعوى السحر، كما هو الحال في الكفار المشاهدين للمعاجز،
وإلا فبعد تسليم عدم كونه سحرا لم يكن للكفار أيضا مجال للتشكيك، وإنما كان
تلبيسهم على الناس أو على أنفسهم من جهة دعوى كونه سحرا لا معجزة، كيف؟
ولولا ذلك لم يقم للأنبياء (عليهم السلام) حجة بإبداء المعجزة إلا بعد إثبات الصانع وحكمته
وعموم علمه وقدرته حتى يتم لهم دلالة المعجزة على تصديقهم، وليس الحال
كذلك، بل كان مجرد إبدائهم المعجزة برهانا لهم على تصديقهم.
ألا ترى إلى قول فرعون لقومه: ما علمت لكم من إله غيري؟! ومع ذلك لم
ينقل عن موسى (عليه السلام) المباحثة معه في إثبات المطالب المذكورة وإقامة البرهان
عليها، ولا حكاه سبحانه تعالى في شئ من قصص موسى وفرعون، بل جعل
برهانه العصا واليد البيضاء، حيث قال له سبحانه: * (فذانك برهانان من ربك إلى
519

فرعون وملائه) * (1) وبعد ما جاء بهما لم يناقش معه فرعون في إفادة تصديقه
إلا بدعوى كونه سحرا.
والحاصل: أن إبداء المعجزة بعد دعوى الرسالة يفيد علما ضروريا بصدق
المدعي بحيث لا مجال للفطرة السليمة إنكاره، وبه يثبت وجود الصانع وسائر
صفاته الكمالية، فلا توقف لإثبات صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على قبح إجراء المعجزة
على يد الكاذب حسب ما ذكر في الاستدلال فلا يتم الاحتجاج المذكور.
نعم قد يقال بأنه لا بد من ارتباط بين إبداء المعجزة وبين صدق صاحبها
ليصح من جهته الانتقال منها إليه، والظاهر أن ذلك من جهة دلالتها علو مرتبة
الآتي بها، وبلوغه إلى أقصى درج الكمال، فلا يقع منه الكذب لعلو منصبه عن
ذلك. وحينئذ يكون ذلك أيضا مبنيا على قاعدة التحسين والتقبيح، إذ لو كان
الصدق والكذب متساويين في ذلك لجاز منه وقوع الأمرين فلا يتم الجواب أيضا
من دون البناء على القاعدة المذكورة، فتأمل.
الثالث: أنه لو لم يثبت حكم العقل بالتحسين والتقبيح لزم إفحام الأنبياء
وانقطاعهم في ما يظهرونه من الدعوى، والتالي واضح الفساد. بيان الملازمة أنه
لا حسن ولا قبح إذن مع قطع النظر عن حكم الشرع، فإذا جاءهم النبي وادعى
وجوب إطاعته على الأمة فمن البين أنه لا يجب عليهم اتباعه في أوامره ونواهيه،
وما يخبرهم به من أحكامه تعالى إلا بعد ثبوت نبوته.
كيف؟ ولو وجب عليهم ذلك بمحض الادعاء لوجب طاعة سائر المدعين
للنبوة، وهو مخالف للضرورة.
فنقول: إنه إذا ادعى النبوة وأراد إقامة الحجة بإبداء المعجزة ليجب عليهم
اتباعه، صح للأمة أن يقولوا: لا يجب علينا النظر في معجزتك ليتبين لنا صحة
نبوتك، إذ وجوب النظر إليها مما لا يثبت إلا بقولك، وكل ما لا يثبت إلا بقولك
لا يقوم حجة علينا إلا بعد ثبوت نبوتك، وإذا لم يقم حجة علينا قبل ثبوت نبوتك

(1) القصص: 32.
520

لم يرد علينا ذم ولا عقوبة من جهة تركه، فلا يجب الإتيان به، ومعه لا يثبت ما
يتوقف عليه من وجوب الاتباع، وهو ما ذكر من الإفحام. أو يقال: وجوب النظر
إلى معجزتك يتوقف على حجية قولك، وحجية قولك يتوقف على ثبوت نبوتك،
وثبوت نبوتك يتوقف على النظر إلى معجزتك، فيتوقف وجوب النظر إلى
معجزتك على حصول النظر إلى معجزتك وهو واضح الفساد.
وبما قررنا يتبين ضعف ما قد يورد في المقام: من أن النظر في المعجزة لا
يتوقف على وجوبه، فلا مانع من حصول النظر مع عدم وجوبه، لما عرفت من أن
الإفحام ليس من جهة عدم التمكن من النظر مع عدم وجوبه ولزوم دور هناك، بل
المقصود أنه يجوز للأمة ترك النظر من غير حصول ذم أو ترتب عقاب عليهم، إذ
لو وجب الإتيان به لكان ذلك بقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ثبوت نبوته بالنظر
المفروض، وإذا كان ترك النظر إلى المعجزة جائزا كان إفحاما للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، هذا
على التقرير الأول.
وعلى التقرير الثاني فاللازم منه توقف وجوب النظر في المعجزة على
حصوله، وهو فاسد، إذ لا يعقل وجوب الشئ بعد حصوله. نعم لو اخذ في
المقدمات توقف النظر على وجوبه أو حكم بكون النظر في المعجزة متوقفا على
صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في دعواه وصدقه في دعواه متوقفا على النظر في المعجزة أو
قيل بكون الحكم بوجوب النظر في المعجزة متوقفا على الحكم بصدق النبي (صلى الله عليه وآله)
في دعواه والحكم بصدق النبي (صلى الله عليه وآله) في دعواه متوقف على وجوب النظر في
المعجزة ليكون المقصود إيراد دور في المقام، ليكون النظر في المعجزة متوقفا
على النظر في المعجزة، أو يتوقف وجوبه على وجوبه أو الحكم بوجوب النظر
على الحكم بوجوبه صح الإيراد. لكن ليس كذلك، لوضوح فساد الدعوى
المذكورة، فلا مجال لتوهم الدور، لوضوح كون أحد الطرفين وجوب النظر أو
الحكم بوجوبه، والطرف الآخر الذي ينتهي إليه التوقف نفس النظر.
نعم يمكن إيراد الدور في مقام الإفحام بوجه آخر مرجعه إلى الدليل السابق
521

وهو أن يقول: علمي بأنك صادق في دعوى النبوة يتوقف على علمي بعدم صدور
المعجزة على يد الكاذب، وعلمي بذلك يتوقف على علمي بأنك صادق، إذ
المفروض كون الحسن والقبح شرعيين فيلزم توقف العلم بكونه صادقا على العلم
بكونه صادقا.
ويورد على هذه الحجة بوجهين:
أحدهما: النقض بورود ذلك على القول بالتحسين والتقبيح العقليين أيضا، إذ
حكم العقل بوجوب النظر في المعجزة يتوقف على النظر في الدليل الدال عليه، إذ
ليس الحكم به بديهيا، كيف؟ والحكم بوجوب النظر فيها إنما هو من جهة استفادة
العلم منها بصدق المدعى، فيتوقف الحكم بوجوبه على كون إظهار المعجزة مفيدا
للعلم بصدق المدعي حتى يكون النظر إليها مفيدا للعلم بصدورها منه، فيفيد ذلك
بانضمام ما دل على كون إظهار المعجزة مفيدا للعلم بالصدق يتوقف ذلك على
أمور حسب ما مرت الإشارة إليها من وجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته، بل
عموم علمه للجزئيات، وكذا عموم قدرته. وكل هذه مطالب نظرية يتوقف على
إقامة الدليل، وقد تكفل بها الكتب الكلامية، فبعد إثبات ذلك بالبرهان يتبين
بانضمام بعض المقدمات الخارجية وجوب النظر في المعجزة.
فنقول حينئذ على طبق ما ذكر في الاحتجاج: إن للأمة أن يقولوا قبل النظر في
ذلك: إنه لا وجوب علينا إلا بعد حكم العقل بالوجوب، فلا يجب علينا النظر في
المعجزة إلا بعد حكمه بوجوبه، والمفروض أنه نظري فلا يحكم به العقل قبل النظر
في دليله وفيه الإفحام.
وبتقرير أخصر: إنا لا ننظر حتى يجب علينا النظر، ولا يجب علينا النظر حتى
ننظر، وربما يتخيل لزوم الدور في المقام، وهو وهم، إذ ليس من الدور في شئ،
وإنما يقضي ذلك بعدم وجوب النظر عليهم قبل النظر في الدليل الدال على وجوبه،
وهو قاض بالإفحام نظير ما قرره المستدل في المقام.
وثانيهما: الحل بظهور الفرق بين وجوب النظر في الواقع والحكم بوجوبه في
522

الظاهر، فقوله: إن ما لا يثبت إلا بقولك لا يقوم حجة إلا بعد ثبوت نبوتك، إن أراد
به عدم قيامه حجة بحسب الواقع إلا بعد ثبوت نبوته ممنوع ولا ربط له بعدم
وجوب النظر إلى المعجزة قبل قيام الدليل عليه في الظاهر، وإن أراد عدم قيامه
حجة في الواقع إلا بعد إثبات نبوته علينا وإقامة الحجة عليها عندنا فهو ممنوع، بل
فاسد، لوضوح وجوب اتباعه في الواقع بمجرد صدقه في دعواه وحكم الشرع
هناك بالوجوب.
غاية الأمر أنه قبل النظر يكون جاهلا بحكمه، والجهل بالشئ لا يستلزم
رفعه، كما أن الجهل بحكم العقل قبل النظر في الدليل لا يقضي بعدم الوجوب. بذلك
يندفع ما ذكر في النقض المذكور، فإن وجوب النظر في المعجزة فرع حكم العقل
واقعا بالوجوب لا علمنا بحكمه، ولا يستلزم ذلك وجوب اتباع كل من ادعى النبوة
فإنا لا نقول بوجوب الاتباع واقعا إلا لمن كان محقا في دعواه بحسب الواقع.
وأنت خبير بوهن كل من الوجهين المذكورين:
أما الأول: فبأن ضرورة العقل قاضية بوجوب النظر في المعجزة بعد دعواه
النبوة وإبدائه وجوب اتباعه ولزوم الخسران العظيم على ترك متابعته وأن له بينة
واضحة على دعواه يعرفها من نظر إليها، فإن وجوب النظر في مثله مما لا يقضي
به ضرورة الفطرة الانسانية من دون حاجة إلى نظر وترتيب مقدمات، ضرورة
حصول الخوف من الضرر من كلامه ووجوب التحرز مع خوف المضرة سيما مثل
تلك المضرة العظيمة الدائمة من الضروريات الجلية والفطريات الأولية ولا يتوقف
استفادة الصدق من المعجزة على شئ من المقدمات المذكورة، بل هي مما يتفرع
عليها على سبيل الضرورة حسب ما مرت الإشارة إليه.
وأما الثاني: فبأن مجرد وجوبه في الواقع لا يوجب ارتفاع الإفحام.
وتوضيح المقام: أن هناك وجوبا واقعيا يتعلق بالمكلف على فرض علمه، فلو
كان جاهلا لم يتعلق الحكم به في الظاهر وكان معذورا في عدم الأخذ به من جهة
جهالته، ووجوبا تكليفيا يتعلق الحكم به في ظاهر الحال وإن لم يجب ذلك بحسب
523

الواقع، ويثبت ذلك الوجوب في الظاهر من جهة الاحتياط وغيره من الجهات،
والإقحام إنما يترتب على انتفاء الأخير وإن صادف وجوب الأول، إذ لا يتم
الحجة على المكلف بمجرد وجوب النظر في الواقع من دون علم المكلف ولا قيام
الحجة عليه في الظاهر، فهو لا يدفع الإقحام، إذ لا فائدة في وجوبه بحسب الواقع
مع انتفاء التكليف عن المكلف بحسب الظاهر، لثبوت العذر له حينئذ في تركه من
جهة جهالته.
فنقول حينئذ إن النظر في المعجزة بعد ادعاء النبوة إما أن يكون واجبا على
المكلفين بالوجه الثاني، أو لا، فإن قيل بالثاني لزم الإقحام، وإن قيل بالأول أبطل
بما ذكر في الدليل، إذ لا يثبت على المكلفين في ظاهر التكليف من مجرد قوله إلا
بعد ثبوت نبوته بناء على كون الوجوب والتحريم بمحض أمر الشارع ونهيه. وأما
لو كانا عقليين فيثبت الحكم مع قطع العقل به حسب ما ذكرنا.
وقد يجاب بأنه أيضا لو كان الحسن والقبح شرعيين لكانا من الأمور الجعلية
الموقوفة على تقرير جاعلها ووضعه إياها، وذلك إنما يحصل العلم بواضعها من
حيث واضعها فقبل العلم به لا تحقق لهما في الواقع، فالوجوب الشرعي من حيث
هو شرعي إنما يتحقق بحسب الواقع بالعلم بالشارع من حيث إنه شارع، فقبل
العلم به لا تحقق له في الواقع ولا يثبت على المكلف وجوب شرعي بحسب نفس
الأمر، ويترتب عليه المفسدة المذكورة بخلاف ما إذا كان الوجوب عقليا، لثبوت
الحكم إذن بحسب نفس الأمر من غير أن يتوقف ثبوته على ثبوت الشارع
والشريعة، فيختلف الواقع بحسب اختلاف المقامين، فالواقع في الأول هو الحكم
المجعول من الشارع، فيتوقف ثبوته الواقعي على ثبوته بخلاف الثاني.
وفيه: أن ما ذكر من الفرق غير واضح، بل الظاهر خلافه، وإنما الفرق بين
الأمرين أن الواقع في الأول لما كان أمرا جعليا كان حاصلا بجعل الجاعل بخلاف
الثاني، فإنه أمر حاصل في نفسه ولا ربط لشئ منها بعلم المكلف بالشارع أولا
بحكمه، بل مجرد وجود الشارع بحسب الواقع وحكمه بذلك كاف في ثبوته
524

الواقعي وإن كان الحكم به جعليا. غاية الأمر أن يتعلق تكليف بالمكلف حال
غفلته، وذلك أيضا مما لا فرق فيه بين الصورتين كما لا يخفى.
وقد يورد على الدليل المذكور بوجه آخر، وهو أن غاية ما ذكر حصول
الإفحام لو توقف المكلفون على ملاحظة المعجزة معللين بما ذكر، لكنه لم يتفق
ذلك لجريان العادة بإراءة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك للمكلفين، وعدم استنادهم إلى مثل
ذلك.
وأنت خبير بأنه لا بد من قيام الحجة على المكلف، وعدم وقوع مثل ذلك على
سبيل الاتفاق لا يقضى به، لجواز أن يقع من بعض المكلفين بعد التفطن للوجه
المذكور، وعدم تفطن الخصم لأمر يوجب عذره وإفحام مدعيه مع وجوده بحسب
الواقع لا يقضي بإتمام الحجة، وهو ظاهر.
الرابع: أنهما لو كانا شرعيين لم تجب المعرفة، لتوقف وجوبها إذن على معرفة
وجود الموجب وتكليفه به، ومعرفة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المبلغ وصدقه في التبليغ، وهو
توقف للشئ على نفسه، وهو أفحش فسادا من الدور.
وأورد عليه بنحو ما مر في الحجة السابقة: من أن وجوب المعرفة إنما يتوقف
على إيجاب من تعلق المعرفة به لا على معرفته، ليلزم المفسدة المذكورة.
وجوابه ما عرفت من الفرق بين وجوب المعرفة في الواقع ووجوبه علينا
بحسب التكليف الظاهر، والمقصود بالوجوب في الحجة إنما هو الثاني، لإجماع
الفريقين على وجوبها كذلك على المكلفين، بل هو من ضروريات الدين.
وقد عرفت أن وجوبها الواقعي مع حصول القدر المسقط للتكليف مما لا ثمرة
له في المقام. وقد يقرر الاحتجاج المذكور بوجه آخر بأن يقال: لو كانا شرعيين لم
يمكن العلم بوجوب المعرفة قبل حصولها، لتوقف العلم بوجوبها على حصول
المعرفة بالمكلف، وهو كاف (1) في المقام، ضرورة العلم به وإلا لما حكموا بوجوب
المعرفة حسب ما يطبق عليه الكل.

(1) كذا وجد والظاهر منتف.
525

الخامس: أنه لو كان الحسن والقبح شرعيين لاستوى نسبة الأفعال بالنظر إلى
الأمر والنهي، فكان ترجيح الشارع بعضها بالأمر وبعضها بالنهي - البالغين حد
المنع من خلافه وعدمه - ترجيحا من غير مرجح، وفساد التالي مع ظهوره سيبين
في محله.
ويمكن الإيراد عليه: بأنه لا ينحصر المرجح في المقام في خصوص حسنها
وقبحها بالمعنى المتنازع فيه، فقد يكون أمورا اخر كموافقة المصلحة ومخالفتها
وموافقة الطبع ومخالفته، حيث إن التكليف يناسب أن يكون بإيجاد المخالف
وترك الملائم، مضافا إلى أن الأشعري يجوز الترجيح بلا مرجح، فلا يتم
الاستدلال على مذهبه، إلا أن ذلك لا يدفع الاحتجاج لإثباتهم المقدمة المذكورة
في محله.
وأما الحجج النقلية الدالة على ذلك من الكتاب والسنة فكثيرة جدا.
فمن الأول قوله تعالى: * (إن الله يأمر بالعدل والإحسان... وينهى عن
الفحشاء والمنكر والبغي) * (1) فيدل على أن هناك فحشاء ومنكرا مع قطع النظر عن
تعلق النهي منه سبحانه بهما لا أنهما صارا فحشاء ومنكرا بنهيه، كما هو ظاهر من
عرض الكلام المذكور. على العرف، كيف؟ ولو كان كما ذهبوا إليه لكان الفحشاء
والمنكر هو عين ما نهى عنه، فيكون مفاد الآية: أن الله ينهى عما نهى عنه وهو
واضح الفساد، بل نقول: إن سياق الآية في كمال الظهور في الدلالة على أنه تعالى
يأمر بالأمور الحسنة من العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الأمور
القبيحة من الفحشاء والمنكر والبغي.
ومنه قوله تعالى: * (قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا
تعلمون) * (2) فيدل على أن هناك فحشاء لا يتعلق أمر الشارع به، ولولا ذلك لكان
الفحشاء عين المنهي عنه، فيكون مفاد الآية حينئذ إنه لا يأمر بما نهى عنه، وهو مع
فساده في نفسه مخالف لسياق الآية، إذ مفاده أن ما ذكر قبل من قبيل الفحشاء

(1) النحل: 90.
(2) الأعراف: 28.
526

في نفسه فلا يتعلق به أمره تعالى، فإنه لا يأمر بالفحشاء، ففيه دلالة على بطلان
القول بجواز أمره سبحانه بأي من الأفعال من غير فرق بينها حسب ما زعموه.
وربما يقال: بدلالتها على المقصود لو حمل الفحشاء على المعنى المذكور
أيضا لإفادتها عدم تعلق الأمر والنهي بشئ واحد، وهو مبني على القاعدة
المذكورة أيضا. ولا يخفى وهنه، إذ غاية ما يفيده حينئذ عدم وقوع ذلك منه، وأين
ذلك من عدم جواز وقوعه منه تعالى؟
ومنه قوله تعالى: * (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن...) * (1)
والتقريب ما مر، كيف؟ وسياقها صريح في أن الله سبحانه لم يحرم إلا الأمور
المستنكرة عند العقول مما يحكم صريح العقل بقبحه وذم فاعله. وقد عد في الآية
الشريفة جملة منها.
ومنه قوله تعالى بعد النهي عن الغيبة: * (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا
فكرهتموه) * (2) فإنه صريح في قبح الفعل المذكور في نفسه، فإنه كأكل لحم أخيه
الميت، القبيح في حكم العقل أيضا، فنهي الشارع عنه مقرون بالقبح المذكور، لا أن
مجرد نهيه عنه قضى بقبحه من غير حصول قبح فيه. وليس المراد بالاستكراه في
الآية الشريفة مجرد استكراه الطبع دون القبح واستحقاق الذم، فإنه لا يناسب
التعليل في المقام.
ومنه الآيات الواردة في الاحتجاج على الكفار والعصاة بإبداء فرق العقل
بين المحسن والمسئ والمطيع والعاصي ونحوهما كقوله تعالى: * (أم نجعل الذين
آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) * (3).
ومنه الآيات الدالة على الحث على الأخذ بما يحكم به صريح العقل كقوله
تعالى: * (أفلا تعقلون) * * (أفلا تذكرون) * * (لعلكم تتفكرون) * ونحوها، إلى غير
ذلك من الآيات الدالة على نحو ما ذكره صريحا أو فحوى.

(1) سورة الأعراف: 33.
(2) الحجرات: 12.
(3) ص: 28.
527

وأما السنة الدالة على ذلك فهي كثيرة جدا كما يظهر من ملاحظة الأخبار
الواردة في المواعظ وبيان علل الأحكام، وغيرها مما لا يخفى على من له أدنى
اطلاع على الروايات.
ويدل عليه أيضا بالخصوص عدة من النصوص.
منها: ما روي عن أبي الحسن (عليه السلام) حين سئل عن الحجة على الخلق اليوم،
فقال: العقل يعرف به الصادق على الله فيصدقه والكاذب على الله فيكذبه (1).
ومنها: ما روي عن الكاظم (عليه السلام) من قوله: يا هشام إن لله على الناس حجتين
حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالأنبياء والرسل والأئمة (عليهم السلام)، وأما
الباطنة فالعقول (2). إلى غير ذلك من الروايات الواردة مما يقف عليه الناظر في
مطاوي الأخبار المأثورة.
حجة الأشاعرة على نفي الحسن والقبح العقليين أمور:
أحدها: قوله تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * (3) فإنه دلت الآية
الشريفة على نفي التعذيب قبل بعث الرسول فيدل على عدم استحقاقهم للعقوبة،
وإلا لكان عدم إيرادها على المستحق لها منافيا للحكمة، واللازم منه انتفاء
الوجوب والتحريم العقليين، وإلا لثبت استحقاق العقاب بترك الأول وفعل الثاني
كما يدعيه العدلية.
ويمكن الجواب عنه بوجوه:
أحدها: أن أقصى ما يفيده الآية نفي التعذيب، واستلزامه نفي الاستحقاق نظرا
إلى ما ذكر مدفوع بالفرق بين استحقاق الثواب والعقاب، فإن الأول مما لا يمكن
فيه التخلف بخلاف الثاني لجواز العقوبة، ومن المعروف أن الكريم إذا وعد وفى
وإذا توعد عفى.

(1) الكافي: ج 1 ص 25 ح 20.
(2) وسائل الشيعة: ج 11 باب 8 من أبواب جهاد النفس ص 162 ح 6.
(3) الاسراء: 15.
528

وفيه: أن ظاهر الآية عدم استحقاقهم العقاب وأنه لو عاقبهم لما حسن منه
ذلك، فإن ظاهر التعبير المذكور أن ذلك مما لا ينبغي صدوره منه، كما إذا قلت:
ما كنت لأفعل كذا، قال الله تعالى: * (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى
يبين لهم ما يتقون) * (1).
ويمكن دفعه بأن غاية ما يسلم دلالتها عليه أن اللائق به تعالى عدم حصول
التعذيب منه قبل البعثة، وهو قد يكون من جهة العفو وأن اللائق بلطفه عدم تعذيب
العباد قبل تشفيع العقل بالنقل وإن كان الأول كافيا في استحقاق العقاب بعد وضوح
طريق الصواب، فاستحقاق العقوبة ثابت للعبد بالنظر إلى حاله من جهة عصيانه
وإن لم يصح التعذيب منه تعالى نظرا إلى ما عليه من اللطف والرحمة، واللازم
للوجوب هو الأول، ولا ينافيه الثاني كما هو الشأن في الصغائر عند ترك الكبائر.
فإن قلت: ليس المقصود استحقاق العبد لمطلق العذاب، بل لعذابه تعالى، وهو
لا يجامع عدم صلاح صدور التعذيب منه تعالى، إذ لا يعقل استحقاقه لعذابه تعالى
مع عدم حسن التعذيب منه تعالى. وما ذكر من عدم استحقاق العقوبة في ارتكاب
الصغائر عند ترك الكبائر ممنوع، لحصول الاستحقاق هناك نظرا إلى إقدامه على
المعصية. غاية الأمر أن يكون ترك الكبيرة كفارة له، وأين ذلك من عدم استحقاق
العقوبة في الإقدام عليه؟
قلت: فرق بين عدم استحقاق العقاب من أصله واستحقاق العفو نظرا إلى لطفه
تعالى مع عدم منافاته للحكمة في ذلك المقام، إذ من الواضح توقف العفو على
الاستحقاق، فإن العفو لا يكون إلا عن ذنب، فهناك استحقاق للعقوبة واستحقاق
للعفو، واللازم لمخالفة الواجب والحرام هو الأول دون الثاني. لحصول (2).
ثم إن القائلين بالحسن والقبح العقليين اختلفوا في كونهما ذاتيين للأفعال أي
ثابتين لها لنفس ذواتها أو أنهما يثبتان لها من جهة الأمور الخارجة عن الذات
على أقوال:

(1) التوبة: 115.
(2) كذا.
529

أحدها: أنهما ذاتيان للأفعال، وحكي القول به عن قدماء المعتزلة، وكأنهم
أرادوا أنهما ثابتان لها بمجرد ذواتها من غير انضمام شئ وراء الذات من صفة
وجودية، أو اعتبار، على نحو ثبوت الزوجية للأربعة، حيث لا يفتقر ثبوتها لها إلى
شئ وراء الذات، ويحتمل أن يراد به أن نفس الذات قاضية بثبوت الحسن أو
القبح وإن أمكن أن يعارض الذات جهة خارجية تمنعها عن مقتضاها، والظاهر
أنهم أرادوا الأول، حيث إن الظاهر مما حكى عنهم انحصار جهة الحسن والقبح
في الذات على الوجه الأخير لا ينحصر الأمر فيها، بل تكون نفس الذات أيضا
كأحد الاعتبارات، ويشهد له أيضا الإيرادات الموردة على القول المذكور فإنها
مبنية على فهم ذلك من كلامهم.
ثانيها: أنهما ثابتان لها لصفات حقيقية توجب ذلك، وعزي القول به إلى
جماعة ممن تأخر عن أولئك الأوائل، والظاهر أن المراد بالصفات الحقيقية هي
الصفات اللازمة دون الصفات المفارقة العارضة في بعض الأحوال دون البعض
على ما يقول به القائل بالاعتبارات.
وقد نبه عليه في شرح الشرح، إذ من البين أن حمل الصفات الحقيقية على
معناها المعروف مما لا يعقل في المقام كما لا يخفى.
ثالثها: التفصيل بين الحسن والقبح، فالأول يكفي فيه نفس الذات دون الثاني،
فهو مستند إلى الصفة الحقيقية، وكأنه أراد به اللازمة حسب ما مر وحكى القول به
عن أبي الحسين، والظاهر أنه أراد باستناد الحسن إلى الذات هو المعنى الأخير
حتى يصح استناد القبح عنده إلى أمر خارج عن الذات.
رابعها: أنهما يثبتان بالوجوه والاعتبارات فليس شئ منهما مستندا إلى نفس
الذات ولا الصفات اللازمة.
خامسها: أنه لا يتعين شئ من الوجوه المذكورة، بل قد يكون ذاتيا مستندا
إلى الذوات أو إلى الصفات اللازمة، وقد يكون اعتباريا منوطا بالوجوه
والاعتبارات نظرا إلى صحة استناده إلى كل من المذكورات فيختلف الحال
530

باختلاف الأفعال، وبعد إبطال كل من الوجوه المتقدمة يتعين البناء عليه،
وستعرف ما فيه.
وقد أورد على القولين الأولين بوجوه:
الأول: لزوم امتناع النسخ بناء على كل منهما، إذ لو كانت الذات مجردة أو هي
مع لوازمها كافية في الاتصاف بأحد الوصفين استحال الانفكاك بينهما فيستحيل
النسخ من الحكيم.
الثاني: أنهما لو كانا ذاتيين بأحد الوجهين المذكورين لم يمكن التخلف مع أنا
نرى الفعل الواحد حسنا من وجه قبيحا من الآخر كالكذب، فإنه قبيح لو اشتمل
على مفسدة خارجية، وحسن إذا اشتمل على مصلحة عظيمة - كحفظ بني آدم أو
دماء المسلمين - بل تركه حينئذ من أقبح القبائح، وكذا الحال في الصدق وغيره
من الأفعال.
الثالث: أنه لو قال: (لأكذبن غدا) لزم اجتماع الحسن والقبح، فإنه إن صدق
كان حسنا من حيث كونه صدقا، وقبيحا من حيث كونه مفضيا إلى كذبه في الخبر
الأول، والمفضي إلى القبح قبيح، وإن كذب فيه كان قبيحا من حيث كونه كذبا،
حسنا من جهة إفضائه إلى الصدق في الخبر المتقدم، والمفضي إلى الحسن حسن،
سيما إذا كان تركه مفضيا إلى القبيح كما في المقام، ويجري نحو ذلك في ما إذا
أخبر بإيقاع سائر الأمور القبيحة.
وأورد عليه: أنه لا يلزم اجتماع الحسن والقبح في كلامه الغدي على شئ
من الوجهين، إذ مراده بقوله: (لأكذبن غدا) إيجاد طبيعة الكذب في الجملة أو في
كل ما يخبر فيه، فعلى الأول مجرد صدقه في الخبر المفروض لا يؤدي إلى الكذب
في الخبر الأول، لجواز كذبه في غيره، وإن كان الثاني فكذبه فيه لا يفضي إلى
صدق الخبر المتقدم، لجواز صدقه في غيره، وقد جعل التفتازاني في ذلك وجها
لإضراب العضدي عن التقرير المذكور.
وتقريره الاحتجاج بلزوم اجتماع الأمرين في الخبر اليومي بيانه - على
531

ما ذكره -: أن قوله: (لأكذبن غدا) إما أن يطابق الواقع أو لا، فعلى الأول يكون
حسنا من جهة كونه صدقا مطابقا للواقع، قبيحا من جهة استلزامه وقوع متعلقه
الذي هو صدور الكذب، وعلى الثاني يكون قبيحا، لكونه كذبا حسنا، لاستلزامه
انتفاء متعلقه الذي هو الكذب القبيح.
قلت: ما ذكره إنما يتجه لو لوحظ ذلك بالنسبة إلى خبر مخصوص.
وأما إذا لوحظ بالنسبة إلى مطلق الكذب في الغد تم لزوم اجتماع الصفتين
فيه، إذ حينئذ نختار الأول كما هو ظاهر العبارة ونقول: إن ترك الكذب في الغد إنما
يكون مع صدقه في جميع ما يخبر به في الغد، فهي حسنة من جهة كونها صدقا،
قبيحة من جهة استلزامها الكذب في الخبر اليومي، أو يقال: إن ترك الكذب حسن
في نفسه ضرورة حسن ترك القبيح، قبيح من جهة استلزامه الكذب في خبر
الأمس، وكذا إتيانه بالكذب الحاصل بالكذب في خبر واحد، قبيح من جهة كونه
كذبا، حسن من جهة أدائه إلى الصدق في الكلام اليومي، إذ المفضي إلى الحسن
متصف بالحسن، وهذا ظاهر، بل يشكل الحال في التقرير الذي ذكره، فإنه ليس
الخبر اليومي سببا لكذبه في الغد.
غاية الأمر أن يكون صدقه فيه متوقفا على الكذب في الغد، فإن كان الصدق
المتوقف على الكذب حسنا أيضا كان الخبر اليومي حسنا من دون أن يكون
مشتملا على القبيح، وإلا لم يتصف بالحسن. والقول بأن تسليم ارتفاع الحسن
حينئذ يقتضي التخلف في الذاتي مدفوع، بأن ذلك إيراد آخر لا ربط له بما ذكر،
كما لا يخفى.
وبالجملة: أن المتوقف على القبيح لا يلزم أن يكون قبيحا، غاية الأمر أن يقال
بثبوت القبح في ما يفضي إلى القبيح ولا إفضاء إليه بالنسبة إلى الكذب في الخبر
اليومي على الأول، ولا إلى عدم وقوع الكذب منه في الغد كما ادعاه في الثاني،
وهو ظاهر، فدعوى حصول القبح في الأول والحسن في الثاني من الجهة
المذكورة ممنوعة، بل فاسدة.
532

فظهر بما ذكرنا ضعف إيراد التناقض بالنسبة إلى الخبر اليومي وأنه إن تم ذلك
فإنما يتم بالنسبة إلى الخبر الغدي حسب ما قرره الآمدي وغيره.
هذا وقد أورد على الوجهين الأولين باختلاف محل الحسن والقبح في ما ذكر.
أما الأول: فبأن الفعل المنسوخ قد اخذ فيه الزمان المعلوم، وقد اخذ الزمان
المتأخر في الناسخ. ولا ضير في كون الزمان منوعا للفعل الذي هو عرض أيضا،
فيكون كل من الحكمين متعلقا بطبيعة غير ما تعلق به الآخر، مثلا يقال: إن صلاة
اليهود قبل النسخ كانت مندرجة في طبيعة الصلاة، بل كانت الصلاة منحصرة فيه،
وبعد حصول النسخ خرجت عن تلك الطبيعة، والنسخ كاشف عن ذلك.
لا يقال: إن الحكم في الناسخ إن تعلق بالمنسوخ لزم المحذور، وإن تعلق
بغيره - كما هو مبنى الجواب - لم يتحقق النسخ، لتعلق كل من الحكمين بغير ما
تعلق به الآخر، ومع الاختلاف بين المتعلقين لا يعقل صدق النسخ.
إذ نقول: إنه يكفي في صدقه اتحاد أصل الفعل مع قطع النظر عن اختلاف
الزمان بحيث يعد الفعل في الظاهر مع عدم ظهور النسخ فعلا واحدا، وإن صار
النسخ كاشفا عن تعدد الفعلين.
وأما الثاني: فبأن كلا من القيود المذكورة التي يختلف الأفعال في الحسن
والقبح من جهتها مأخوذ في طبيعة الفعل المتصف بالحسن أو القبح، فكل من
متعلق الحسن والقبح في الفرض المذكور مغاير بالنوع لطبيعة الآخر، وإن اندرج
الجميع في جنس واحد كالكذب في الفروض المذكورة، فالكذب المشتمل على
المصلحة المهمة نوع من الفعل، والخالي عنه نوع آخر، وهكذا.
ويدفعهما: أنه لو بني على أخذ الاعتبارات والوجوه في طبيعة الفعل على
القول المذكور كان النزاع بين القولين لفظيا، إذ القائل باعتبارية الوصفين يأخذ
الفعل بمجرده طبيعة نوعية يختلف حسنها وقبحها باختلاف تلك الاعتبارات،
والقائل بكونهما ذاتيين يأخذ جميع ذلك داخلا في ذات الفعل أو يجعلها قيدا فيه.
فاختلاف الحسن والقبح باختلاف تلك الجهات والاعتبارات مما لا خلاف فيه
533

على القولين المذكورين، وإنما الخلاف في اعتبارها داخلة في طبيعة الفعل أو
خارجة عنها.
قلت: فالظاهر أن النزاع المذكور لا تعود بذلك لفظيا، إلا أنه لا يخلو حينئذ
عن ثمرة ظاهرة، إذ كل موضوع يدعى فيه اختلاف الحسن والقبح بالوجوه
الخارجة يجوز للآخر أن يجعلها داخلة في ذات الفعل.
ثم لا يخفى أن ما ذكر من اختلاف طبيعة الفعل باختلاف كل من القيود
مجازفة بينة، لوضوح أن أكل الميتة في حال السعة والشدة طبيعة واحدة، غير أن
الوقوع في الشدة قاض بتحليله بخلاف ما إذا كان في حال السعة، وكذا الحال في
سائر المعاصي حال الخوف على النفس أو العرض أو المال أو عدمه على اختلاف
المقامات، فالقول المذكور إذا كان مبنيا على الالتزام المفروض كما هو قضية
الجواب المذكور فهو بمكان من الوهن.
وقد يجاب عن الثاني أيضا: بأن القول باختلاف الطبيعتين مع اختلاف
الجهات مما لا بعد فيه في جملة من المقامات كضرب اليتيم ظلما وضربه تأديبا،
فإن مجرد اندراجهما في اسم الضرب لا يقضي باتحاد طبيعة الفعل، وكذا الحال
في القتل ظلما أو قصاصا أو على سائر الوجوه المجوزة، وكذا أكل المال تعديا أو
عن إذن المالك إلى غير ذلك، فإن من الظاهر أن القائل بكونهما ذاتيين قائل
باختلاف الحكم في المقامات المذكورة، وليس ذلك إلا بجعلها طبائع مختلفة
يكشف عنها الشريعة.
وأما في ما لا يمكن فيه ذلك فنلتزم هناك بحصول الوصفين ونقول باختلاف
محلها كما في أكل الميتة عند الشدة، فإن أكل الميتة حينئذ قبيح أيضا، إلا أن حفظ
النفس المتوقف عليه واجب أيضا، وتركه قبيح، والقبح هناك أعظم من قبح أكل
الميتة، فيترجح عليه، وكذا غصب أموال الناس قبيح وحفظ دماء المسلمين
واجب، فإذا توقف على غصب أموالهم حفظ الدماء مع بقاء القبح فلا بد حينئذ من
مراعاة أقل القبيحين إن كان هناك ترجيح، وإلا فلا بد حينئذ عن غصب أموالهم
534

وذلك لا يوجب الحكم بحسن القبيح ويدفع ذلك بأن من الظاهر انتفاء... الأفعال
المذكورة، فلا معنى... (1) بثبوت القبح فيها، وكونهما أقل القبيحين فلو كان ذاتيا لها
لما زال إذن... كيف؟ ولو كان القبيح باقيا فيها وكان الآتي مذموما عند العقل لزم
التكليف بالمحال، وهو محال باتفاق العدلية والقائلين بثبوت العقلية. والقول
بثبوت القبح فيها بملاحظة ذاتها وإن ارتفع الذم عن فعلها من جهة معارضتها بما
هو أقوى في القبح فهو قول بثبوت القبح والتحسين بالعارض أيضا ويكون قولا
بكونها ذاتيين بالتفسير الأخير.
وقد عرفت أنه لا ينافي القول بثبوت الحسن والقبح بالوجوه والاعتبارات بل
هو قول به في الحقيقة، إذ ثبوت الحسن من جهة الذات منضما إلى عدم ثبوت ما
يقتضي القبح إنما يكون بملاحظة تلك الجهة الخارجة عن الذات، فكيف مع ثبوت
القبح للجهة المقتضية له كما في الفرض المذكور؟
وأورد على الثالث تارة: بالمنع من حسن الكذب في الغد، إذ الإخبار بالأمر
المستقبل المتعلق بفعله إما وعد أوما هو بمنزلته، وليس التخلف في مثله
مندرجا...، وكان قرينة المقام في مثله قائمة على التقييد ببقاء المشيئة.
نعم إنما يتم ذلك بالنسبة إلى العواقب كما في وعده ووعيده... على بعض
الوجوه والأخبار المفروض... في حقهم فلا يتم الاحتجاج.
وأخرى: بأن ثبوت القبح للكذب وغيره من القبائح مما تعلق به الأخبار
المذكورة إنما يكون بالذات فلا يزول عنه.

(1) قد سقط في هذا المبحث في الأصل كلمات متعددة في مواضع متفرقة أبقى مواضعها ولم
يكتب شيئا فيها وقد كتبت جملة من تلك العبارات في هذه النسخة على وجه الاتصال في
غير إعلام على المواضع المختلفة ولذلك ترى أثر القصور عليها ظاهرا وكم له في الكتاب
من نظائر فإني قد وجدت سابقا في أصل النسخة التي كانت عندي بخط المصنف (قدس سره)
مواضع عديدة قد صنع فيها مثل ذلك وإلى الآن لم يظهر لي الداعي له على ذلك وربما كان
الساقط كلمة خاصة بحيث لا يصلح المقام للتعبير بغيرها فيحتمل كون الباعث على تركها
الترديد في تعيينها وفي ذلك جملة مما ترك كتبتها في هذه المسألة كما لا يخفى. محمد.
535

غاية الأمر أن يثبت هناك حسن بالعارض من جهة أدائه إلى صدق كلام
الأمس، ولا منافاة بين القبح الذاتي والحسن التبعي، إذ ليس الاتصاف به حينئذ
حقيقيا وإنما يتصف به من جهة اتصاف لازمه تبعا كما في ثبوت السكون بالذات
للجالس في السفينة مع اتصافه بالحركة التبعية.
قلت: الحسن على ما عرفت ما كان للفاعل القادر عليه العالم بحاله أن يفعله،
والقبيح ما لم يكن للفاعل كذلك أن يفعله.
ومن البين أن المقصود على تلك الصفة بحسب الواقع لا أن يثبت له تلك
الصفة في مرتبة من المراتب واعتبار من الاعتبارات وإن لم يكن متصفا به بحسب
الواقع مع ملاحظة سائر جهاته الحاصلة فيه.
فظهر بذلك امتناع اجتماع وصفي الحسن والقبح في الشئ الواحد أحدهما
ذاتيا والآخر تبعيا إذا أفضى تبعية القبح إلى المنع من ذلك الفعل كيف؟ ولو جاز
اجتماع الأمرين لزم دوران الأمر بين التعرض لأحد القبيحين (1) فإن بقي كل
منهما على قبحه والمنع من الإتيان به لزم التكليف بالمحال، وإن جاز الإتيان له
بأحدهما لزم القول بارتفاع القبح عنه، وأما لو قيل بعدم إفضائه إلى المنع من ذلك
الفعل وفسر القبح التبعي بمجرد قبح ما يتبع ذلك الفعل، فهو في الحقيقة إنكار لقبحه
من تلك الجهة رأسا، إذ يكون القبح حينئذ وصفا لمتعلقه لا لنفسه، هذا.
وقد أورد على القول باعتبارية الجهات بوجوه:
منها: أنه لو حسن الفعل أو قبح لغير الطلب من الجهة والاعتبارات لم يكن
تعلق الطلب بالفعل المطلوب لذاته، بل كان متوقفا على ما يعرض له من الجهات
والاعتبارات، والتالي باطل فكذا المقدم، والملازمة ظاهرة.
وأما بطلان التالي فلأن الطلب أمر بشئ من ذاته التعلق بالغير، فكيف يعقل
أن يكون تعلقه به للأمر الخارج عنه؟ وهذا الوجه لو تم لدل على عدم جواز
الاستناد إلى الصفات اللازمة أيضا، بل ولا إلى نفس الذات، إذ قضية الاحتجاج

(1) في الأصل هنا بياض.
536

المذكور كون التعلق من لوزام نفس الطلب فلا مدخلية فيه للفعل المطلوب. فكيف
كان، فهو في البطلان أوضح من أن يحتاج إلى البيان، لنقضه أولا بغير الطلب
الشرعي كطلب السيد من العبد، مع أنه من الواضح توقف طلبهم على الدواعي
الباعثة والأغراض المتجددة، واختلاف الحال فيه بحسب اختلاف تلك الأحوال.
وحله ثانيا بأن مفهوم الطلب لا يفتقر إلى التعلق إلى شئ مخصوص.
نعم حصوله في الخارج متوقف عليه، وهو لا ينافي توقفه على الجهات
والاعتبارات لتأخر حصوله إذن عن تلك الجهات والاعتبارات فيتعلق بالمطلق
الجامع لها دون غيره، وهو ظاهر.
ومنها: أنه كما يستند كل من الحسن والقبح إلى الجهات الخارجية كذا قد
يستند إلى نفس الذات مع قطع النظر عن سائر الوجوه والاعتبارات كأكل الميتة
وشرب الخمر ونحوهما. ولا يخفى وهنه، إذ لو سلم ذلك فإنما يكون نفس الذات أو
لوازمها مقتضية للحسن أو القبح، ويكون ثبوت كل من تينك الصفتين بمقتضى
ذلك الاقتضاء متوقفا على انتفاء الموانع الخارجية كما هو ظاهر من حسن الأمور
المذكورة حال وهو أيضا من الوجوه والاعتبارات الملحوظة في ثبوت ذلك
الحكم، إذ رفع المانع من أجزاء العلة التامة فلا يكون شئ منهما ذاتيا بالمعنى
الذي وقع الكلام فيه، وإنما يكون ذاتيا بالمعنى الأخير من المعنيين المتقدمين.
وقد أشرنا إلى أنها عبارة أخرى عن القول بإناطتهما بالاعتبار.
نعم إن ثبت عندنا في الأشياء ما يثبت الحسن والقبح لها على سائر الوجوه
والأحوال تم ذلك، والظاهر أنهما لا يثبتان كذلك في شئ من الأشياء.
ألا ترى أن أقبح القبائح الكفر بالله سبحانه، وبالرسول، وشرب الخمر،
ونحوها من الكبائر السبعة وغيرها، وكل منها يمكن وقوعه على الوجه المحلل فلا
يترتب عليه الذم؟! إلا أن يقال: إن شكر المنعم الحقيقي مما يحكم العقل بحسنه
ومدح فاعله، وكذا قبح كفران نعمه وذم فاعله. وقد يناقش في الأخير بأن ثبوت
القبح بالنسبة إليه يتوقف على إدراك العقل فلا يثبت في حق الغافل، فحينئذ فيعتبر
فيه إدراك ذلك وهو اعتبار ذاتي.
537

وقد يقال ذلك في ثبوت الحسن أيضا، إلا أن يقال: إن ثبوت الحسن لا
يتوقف على العلم، إذ مع انتفاء الذم المتوقف على العلم يثبت الحسن.
غاية الأمر أن يتوقف المدح عليه، ولا يتوقف ثبوت الحسن على ترتب
المدح كما عرفت، على أن توقف المدح عليه محل مناقشة أيضا كما لا يخفى.
فلا يبعد القول بثبوت الحسن في الجملة بمجرد الذات دون القبح، لتوقفه على
بعض الاعتبارات كما عرفت.
ويحتمل القول بعدم صدق الكفران إلا مع العلم بالحال، وحينئذ لا ينفك عن
القبح، وفيه تأمل لا يخفى.
وقد يحتج لأبي الحسين بأن القبح صفة وجودية يتوقف على صفة ثبوتية
تبعث عليه بخلاف الحسن، فإنه عبارة عن كون الفعل بحيث لا يستحق فاعله الذم،
وهو صفة عدمية لا يفتقر حصولها إلى صفة وجودية، بل مجرد انتفاء جهة القبح
كاف فيه، ولا يخفى ما فيه، إذ كون القبح صفة وجودية لا يقتضي باستناده إلى أمر
زائد على الذات، بل قد يكون نفس الذات كافية فيه، وأيضا قد يكون مستندا إلى
الوجوه الاعتبارية فلا مقتضى لاستناده إلى الصفات اللازمة كما هو ظاهر ما
حكي عنه، وأيضا كون مطلق الحسن مما يكفي فيه انتفاء علة القبح لا يستلزم أن
يكون خصوصياته أيضا كذلك، فكيف يطلق القول بثبوت الحسن بنفس الذات،
كيف؟ ومن الظاهر أن الوجوب أيضا صفة وجودية وكذا الندب، فلا بد في حصول
كل منهما من الاستناد إلى صفة وجودية حسب ما قرر.
فغاية الأمر أن يكون نفس الذات كافية في ثبوت الإباحة، وقد ينزل كلام
القائل المذكور على إرادة مطلق الحسن من حيث هو، وإن كان ثبوت أكثر
خصوصياته متوقفا على صفات زائدة.
وفيه أيضا ما لا يخفى، إذ قد يكون الشئ في نفسه موجبا لذم فاعله ويتطرقه
ثبوت المدح من ملاحظة الخارج فتغلب الجهة الخارجية على ما يقتضيه الذات،
وحينئذ يكون مطلق الحسن هناك مستندا إلى الجهة الخارجية فلا تتم الكلية
المدعاة.
538

فظهر بما ذكرنا ضعف كل من الأقوال المذكورة، وتبين أيضا ما هو أظهر
الوجوه في المسألة، فتأمل.
البحث الثاني (1)
في بيان حجية العقل وصحة الاعتماد عليه.
في إدراكاته العلمية وإن كان بعد تلفيق المقدمات النظرية وإقامة البراهين
العقلية الصرفة الخارجة مبادئها عن المحسوسات أو ما يقرب منها.
وقد وقع الخلاف في المقام من طوائف منهم: السوفسطائية المنكرة لحصول
العلم بالمرة من جميع الطرق المقررة سواء كانت ضرورية أو نظرية أو غير ذلك،
ولذا أنكروا جميع الشرائع المنزلة والأديان المقررة، والضرورة العقلية قاضية
بفساد ما توهموه، وكأنهم قد انسلخوا عن الغريزة الانسانية حيث أنكروا
الكمالات العلمية التي هي عمدة ما يمتاز بها الانسان عن الحيوانات السائمة،
وتسلط عليهم الأوهام الكاذبة فتشبثوا ببعض خيالات واهية لا يخفى وهنه على
من له أدنى مسكة، فليس ما توهموه قابلا للإيراد والمنازعة وقد نبه على جملة
من الشناعات الواردة عليهم بعض الأجلة في محله.
ومنهم: جماعة من الصوفية المدعين لأخذ العلوم من طريق الكشف
والمشاهدة بعد الإتيان بالرياضات المقررة. فذهبوا إلى عدم الاعتماد على العلوم
النظرية وإيقاعات الربانية (2) وادعوا انحصار العلم في العلوم الضرورية الحاصلة
بأسبابها المعروفة أو من طريق التصفية والمجاهدة، فيشاهد النفس بجوهرها ما
هو ثابت في الحقيقة على نحو مشاهدتها للأمور الحسية وعلمه بها بتوسط إحدى
الحواس الباطنة أو الظاهرة، بل العلم الحاصل بها أقوى منها بمراتب عديدة.
ومنهم: جماعة من الأخبارية المدعين انحصار مدارك العلم بالأحكام في
الأخبار المأثورة عن الأئمة (عليهم السلام)، وأول من أشار إلى ذلك المحدث الأمين

(1) تقدم البحث الأول في 504.
(2) في المطبوع: البرهانية والقياسات اليونانية.
539

الاسترآبادي، وقد ذكر ذلك في الفوائد المدنية، قال في عداد ما استدل به على
انحصار الدليل فيما ليس من ضروريات الدين وفي السماع عن الصادقين (عليهم السلام):
الدليل التاسع مبني على مقدمة دقيقة شريفة تفطنت لها فيه بحول الله تعالى
وهي: أن العلوم النظرية قسمان: قسم ينتهي إلى مادة هي قريبة من الإحساس،
ومن هذا القسم علم الهندسة والحساب وأكثر أبواب المنطق، وهذا القسم لا يقع
فيه الاختلاف بين العلماء والخطأ في نتائج الأفكار، والسبب فيه أن الخطأ في
الفكر إما من جهة الصورة أو من جهة المادة، والخطأ من جهة الصورة لا يقع من
العلماء، لأن معرفة الصورة من الأمور الواضحة عند الأذهان المستقيمة، والخطأ
من جهة المادة لا يتصور في هذه العلوم، لقرب مادة المواد فيها إلى الإحساس
وقسم ينتهي إلى مادة بعيدة من الإحساس، ومن هذا القسم الحكمة الإلهية
والطبيعية وعلم الكلام وعلم أصول الفقه والمسائل النظرية الفقهية وبعض القواعد
المذكورة في كتب المنطق.
ومن ثم وقع الاختلافات والمشاجرات بين الفلاسفة في الحكمة الإلهية
والطبيعية، وبين علماء الاسلام في أصول الفقه والمسائل الفقهية، وعلم الكلام
وغير ذلك، والسبب في ذلك أن القواعد المنطقية إنما هي عاصمة من الخطأ من
جهة الصورة لا من جهة المادة، وليست في المنطق قاعدة بها تعلم أن كل مادة
مخصوصة داخلة في أي قسم من الأقسام، ومن المعلوم امتناع وضع قاعدة يكفل
بذلك.
ثم استظهر ببعض الوجوه تأييدا لما ذكره وقال بعد ذلك:
فإن قلت: لا فرق في ذلك بين العقليات والشرعيات والشاهد على ذلك ما
نشاهد من كثرة الاختلافات الواقعة بين أهل الشرع في أصول الدين وفي الفروع
الفقهية.
قلت: إنما نشأ ذلك من ضم مقدمة عقلية بالمقدمة النقلية الظنية أو القطعية،
ومن الموضحات لما ذكرناه: من أنه ليس في المنطق قانون يعصم عن الخطأ
540

في مادة الفكر أن المشائين ادعوا البداهة في أن تفرق ماء كوز إلى كوزين إعدام
لشخصه وإحداث لشخصين آخرين وعلى هذه المقدمة بنوا إثبات الهيولي،
والإشراقيين ادعوا البداهة في أنه ليس إعداما للشخص الأول وإنما انعدمت صفة
من صفاته وهو الاتصال.
ثم قال إذا عرفت ما مهدناه من الدقيقة الشريفة فنقول: إن تمسكنا بكلامهم
" عليهم الصلاة والسلام " فقد عصمنا عن الخطأ، وإن تمسكنا بغيره لم نعصم عنه
إلى غير ذلك مما ذكره في المقام.
والمستفاد من كلامه عدم حجية إدراكات العقل في غير المحسوسات وما
يكون مبادئه قريبة من الإحساس، بل وفيما يقطع به على سبيل البداهة إذا لم يكن
محسوسا أو قريبا منه إذا لم يكن مما توافقت عليه العقول وتسالمت فيه الأنظار.
وقد استحسن ما ذكره غير واحد ممن تأخر عنه، وممن نص عليه الفاضل
الجزائري في أوائل شرح التهذيب قال: - بعد ذكر كلام الأمين بطوله وتحقيقه في
المقام بمقتضى ما ذهب إليه -.
فإن قلت: قد عزلت العقل عن الحكم في الأصول والفروع فهل يبقى له حكم
في مسألة من المسائل.
قلت: أما البديهيات فهي له وحده وهو الحاكم فيها، وأما النظريات فإن وافقه
النقل وحكم بحكم قدم حكمه على النقل وحده، أما لو تعارض هو والنقلي فلا
شك عندنا في ترجيح النقل وعدم الالتفات إلى ما حكم به العقل. قال: وهذا أصل
يبتنى عليه قواعد كثيرة.
ثم ذكر جملة من المسائل المتفرعة عليه. وقضية كلامه حجية العقل في
البديهيات وعدم حجيته في النظريات غير أنه يصير معاضدا للنقل فيترجح به
على ما يعارضه من النقلي الآخر.
ثم إن ما عناه من البديهي غير واضح في المقام، فإن عنى به البديهي في
اعتقاد العالم وإن لم يكن بديهيا عند غيره أو لا يعلم فيه حال الغير فقد نص
541

في تحقيقه المتقدم وكذا فيما حكاه من كلام الأمين الذي هو عنده من التحقيق
المتين بعدم حجيته وإن أراد به البديهي عند جميع العقلاء فهو مع أنه مما يتعذر
العلم به - إلا على سبيل الحدس الذي هو أيضا من العلوم الضرورية المتوقف
حجيتها على الاتفاق عليها عنده - مدفوع، بأن الاتفاق على الحكم بالبداهة
لا يفيد الحكم بالصحة إلا من جهة توافق الأفهام، واستنباط مطابقته للواقع من
قبيل الاستنباط من الاجماع وإفادته العلم في الأمور العقلية محل إشكال،
وعلى فرضه فليس أقوى من سائر الضروريات فكيف يجعل معيار الحجية غيرها
من البديهيات.
وقد وافقه على ذلك صاحب الحدائق وقد حكى عنه كلاما ذكره في الأنوار
النعمانية يشبه كلامه في شرح التهذيب واستحسنه، إلا أنه صرح بحجية العقل
الفطري الصحيح، وحكم بمطابقته للشرع ومطابقة الشرع له.
ثم نص على أنه لا مدخل له للعقل في شئ من الأحكام الفقهية - من
عبادات وغيرها - ولا سبيل إليها إلا السماع عنهم (عليهم السلام)، لقصور العقل المذكور من
الاطلاع على أغوارها.
ثم قال نعم يبقى الكلام بالنسبة إلى ما لا يتوقف على التوقيف فنقول: إن كان
الدليل العقلي المتعلق بذلك بديهيا ظاهر البداهة - كقولهم الواحد نصف الاثنين -
فلا ريب في صحة العمل به، فإن عارضه دليل عقلي آخر، فإن تؤيد أحدهما بنقلي
كان الترجيح للمؤيد بالدليل النقلي وإلا فإشكال، وإن عارضه دليل نقلي فإن تؤيد
العقلي أيضا بنقلي كان الترجيح للعقلي، إلا أن هذا في الحقيقة تعارض في
النقليات، وإلا فالترجيح للنقلي وفاقا للسيد المحدث المتقدم وخلافا للأكثر، هذا
بالنسبة إلى العقلي بقول مطلق.
أما لو أريد المعنى الأخص وهو الفطري الخالي عن شوائب الأوهام الذي
هو حجة من حجج الملك العلام وإن شذ وجوده بين الأنام ففي ترجيح النقلي
عليه إشكال.
542

[البحث الثالث] (1)
في أصالة النفي
وهي أصالة عدم أمر وجودي حتى يتبين الخلاف، وهي أقسام إذ ذلك الأمر
الوجودي إما أن يكون تكليفا بالفعل أو بالترك، أو يكون شيئا آخر غير الأمرين المذكورين
وإن استتبع أحدهما كسائر الأحكام الوضعية، ويطلق على الأولى أصالة البراءة،
وعلى الثانية أصالة الإباحة، وعلى الثالثة أصالة العدم، وقد يعم الأخير للوجوه
الثلاثة، وقد يعم الأولى للثانية بكون الحظر تكليفا ولا مشاحة في الاصطلاح.
ثم الأصل فيها هنا قد يؤخذ بمعنى الاستصحاب، والظاهر بعد صحة إطلاق
الأصل عليه بالخصوص عدم إرادته في المقام، لكونه دليلا برأسه مغايرا لأصالة
البراءة والإباحة، كما سيظهر الوجه فيه. وقد يؤخذ بمعنى الراجح كما نص عليه
جماعة، ويضعفه بعد القطع بعدم كونه حقيقة فيه - كما يعرف من عدم اطراده في
الاستعمال، بل والتأمل في ثبوت استعماله فيه، كما يظهر من ملاحظة الإطلاقات
والمثال المذكور في كلامهم غير متعين الحمل عليه - أنه ليس المناط في حجية
الأصل المذكور حصول الظن كما يوهمه كلام بعضهم لما هو معلوم من الاحتجاج
به في محل الشك والوهم أيضا، وبالجملة فيما لم يقم دليل شرعي على خلافه،
فتخصيصه بصورة الظن مما لا وجه له.
والقول بأن المقصود رجحان العدم في نفسه، بمعنى أن الراجح في نظر العقل
من الوجود والعدم هو العدم، ومن الشغل والبراءة هي البراءة إلى غير ذلك، فلا
ينافيه حصول الظن بخلافه من الخارج مدفوع بأن الرجحان فيه حينئذ يكون
شأنيا لا فعليا، وهو مخالف لظاهر اللفظ، مضافا إلى أنه لو دار الأمر مدار
الرجحان لم يثمر شأنية الظن، مع عدم تحققه كما في كثير من موارد الاحتجاج به،
وإلا فلا ثمرة للحمل على المعنى المفروض ثم تصحيحه بالتوجيه المذكور.

(1) لم يرد في بعض النسخ، وفي سائر النسخ " البحث الثاني ". والموافق للسياق ما أثبتناه،
راجع ص 504 و 539.
543

على أنه لا يظهر من شئ من الأدلة القائمة عليه اعتبار لتلك الرجحانية في
المقام، فالظاهر أن المراد بالأصل هنا هو القاعدة المستفادة من الأدلة الآتية،
والمقصود بالنفي في المقام إن تعلق بالتكاليف انتفاؤه بالنسبة إلينا وعدم تعلقه بنا
وبالنسبة إلى غيرها البناء على عدمه، والحكم بعدم ترتب شئ من الأحكام
المتفرعة على وجوده.
فظهر أنه لا ارتباط للأصل المذكور بالواقع ولا يدل على نفي الحكم في نفس
الأمر، وإنما يفيد نفي الحكم في الظاهر، ولو فرض حصول ظن هناك بانتفاء ذلك
في الواقع فهو من المقارنات الاتفاقية، ولا مدخلية له في الحجية ولم يقم شئ من
الأدلة المذكورة على حجية تلك المظنة.
نعم على القول بأصالة حجية الظن كما هو مختار بعض منا، والمعروف من
طريقة مخالفينا يمكن القول بحجيته، وكأنه الوجه فيما يستفاد من العامة وغيرهم
من أخذ الأصل فيه بمعنى الراجح غير أنه لا ينحصر الاحتجاج به في الصورة
المذكورة، لما عرفت من جريانه عندهم في محل الشك وغيره.
ثم إن الفرق بينه وبين استصحاب حال العقل ظاهر مما قررنا، فإن الملحوظ
في الاستصحاب استمرار حكم النفي بعد ثبوته أولا، وهاهنا لا يلحظ ذلك أصلا،
بل يحكم بكون العدم أصلا حتى يثبت خلافه بالدليل.
نعم يصح الاستدلال بالاستصحاب في معظم موارده، إذ كما قضت القاعدة
بالبناء على النفي حتى يثبت الوجود كذا يستصحب العدم القديم حتى يتبين
المزيل، ولذا يجعل الاستصحاب من الأدلة على أصالة البراءة والإباحة كما
سنقرر القول فيه.
والفرق بين الأصل المذكور والقاعدة الأخرى - المعبر عنها في كلامهم بأن
عدم الدليل دليل العدم - أن تلك القاعدة إنما تفيد انتفاء الحكم في الواقع، ولذا
خصها بعض المحققين بما يعم به البلوى، إذ عدم وصول الدليل في مثله دليل على
انتفائه في الواقع، وهو دليل على انتفاء الحكم في الشريعة، إذ لو كان هناك حكم
لبينه الشارع.
544

وأما أصالة البراءة ونحوها فإنما تفيد انتفاء الحكم بالنسبة إلينا وإن فرض
ثبوته في الواقع، وكان الأظهر إدراج ذلك في أصالة النفي بعد حمل النفي على
الأعم من الواقع والظاهر، بأن يقال: إن قضية الأصل النفي الواقعي مع انتفاء الدليل
عليه بحسب الواقع والنفي في الظاهر مع انتفاء الوصول إليه في الظاهر وحينئذ
ينبغي تعميم الحكم في تلك القاعدة بالنسبة إلى عام البلوى وغيره فيقال: إن عدم
الدليل في الواقع. دليل على عدم الحكم في الواقع، وعدمه في الظاهر دليل على
عدمه في الظاهر، فيرجع إحدى القاعدتين إلى الأخرى.
ولنفصل الكلام في الأصول الثلاثة المذكورة برسم مقامات ثلاثة:
المقام الأول: في أصالة البراءة والمعروف من المذهب ثبوت الأصل
المذكور، بل لا يعرف قائل معروف بالبناء على الوجوب وثبوت التكليف بأمر
وجودي من غير قيام دليل عليه، سوى ما ستعرف من بعض كلمات الأخبارية، بل
عن المحقق في أصوله: أنه أطبق العلماء على أن مع عدم الدلالة الشرعية يجب
إبقاء الحكم على ما يقتضيه البراءة الأصلية.
وذكر في المعالم في عداد أدلة القائلين بحجية الاستصحاب: أن العلماء
متفقون على وجوب إبقاء الحكم مع عدم الدلالة الشرعية على ما يقتضيه البراءة
الأصلية ولم يذكر بعد ذلك ما يومئ إلى تأمل منه في الاتفاق المذكور.
وقد حكى صاحب الحدائق مع أنه من عظماء الأخبارية الاتفاق على ما ذكر
حيث قال: في مقدمات الحدائق والدرر النجفية بعد أن قسم البراءة الأصلية فيهما
إلى قسمين:
أحدهما: أنها عبارة عن نفي وجوب في فعل وجودي إلى أن يثبت دليله،
بمعنى أن الأصل عدم الوجوب حتى يقوم عليه دليل، وهذا القسم مما لا خلاف
في صحة الاستدلال به والعمل عليه، إذ لم يذهب أحد إلى أن الأصل الوجوب
حتى يثبت عدمه، لاستلزام ذلك تكليف ما لا يطاق، وأشار في الأول إلى غيره من
الأخبار الدالة على انتفاء التكليف مع الجهل، وقال أيضا في الدرر النجفية: إن كان
الحكم المطلوب دليله هو الوجوب فلا خلاف ولا إشكال في انتفائه حتى يظهر
545

دليله، لاستلزام التكليف به بدون دليل الحرج وتكليف ما لا يطاق كما عرفت،
لا من حيث عدم الدليل كما ذكروا، بل من حيث عدم الإطلاع عليه، إذ لا تكليف
إلا بعد البيان " والناس في سعة ما لا يعلمون ".
وأشار أيضا إلى بعض الأخبار الآتية، وقد ناقش فيه صاحب الفوائد المدنية
بأن التمسك بالبراءة الأصلية من حيث هي هي إنما يجوز قبل إكمال الدين، وأما
بعد أن كمل الدين وتواترت الأخبار عن الأئمة الأبرار صلوات الله عليهم أجمعين
بأن كل واقعة يحتاج إليها الأمة إلى يوم القيامة ورد فيها خطاب قطعي من قبله
تعالى حتى أرش الخدش، فلا يجوز قطعا، وكيف يجوز وقد تواترت الأخبار
عنهم عليهم الصلاة والسلام بوجوب التوقف في كل واقعة لم نعلم حكمها معللين
بأنه بعد أن كمل الدين لا يخلو واقعة عن حكم قطعي وارد من الله تعالى، وبأن من
حكم بغير ما أنزل الله فأولئك هم الكافرون؟
ثم أقول: هذا المقام مما زلت فيه أقدام أقوام من فحول العلماء، فحري منا أن
نحقق المقام، ونوضحه بتوفيق الملك العلام ودلالة أهل الذكر (عليهم السلام).
فنقول: التمسك بالبراءة الأصلية إنما يتم عند الأشاعرة المنكرين للحسن
والقبح الذاتيين، وكذلك عند من يقول بهما ولا يقول بالوجوب والحرمة الذاتيين،
وهو المستفاد من كلامهم (عليهم السلام) وهو الحق عندي ثم على هذين المذهبين إنما يتم
قبل إكمال الدين لا بعده، إلا على مذهب من جوز من العامة خلو الواقعة عن حكم
وارد من الله تعالى.
لا يقال بقي أصل آخر وهو أن يكون الخطاب الذي ورد من الله تعالى موافقا
للبراءة الأصلية.
لأ نا نقول: هذا الكلام مما لا يرضى به لبيب، وذلك لأن خطابه تعالى تابع
للحكم والمصالح، ومقتضيات الحكم والمصالح مختلفة، إلى أن قال: لا يعلمها
إلا هو جل جلاله.
ونقول: هذا الكلام في قبحه نظير أن يقال: الأصل في الأجسام تساوي نسبة
طبائعها إلى جهة السفل والعلو، ومن المعلوم بطلان هذا المقال.
546

ثم أقول: الحديث المتواتر بين الفريقين المشتمل على حصر الأمور في
ثلاثة: " أمر بين رشده، وأمر بين غيه، وشبهات بين ذلك " (1). وحديث " دع ما
يريبك إلى ما لا يريبك " (2) ونظائرهما أخرج كل واقعة لم يكن حكمها بينا عن
البراءة الأصلية وأوجب التوقف فيها ثم استشهد بكلام بعض العامة قال:
ثم أقول: الاشتباه قد يكون في وجوب فعل وجودي وعدم وجوبه مثلا، وقد
يكون في حرمة فعل وجودي وعدم حرمته مثلا، وقد جرت عادة العامة وعادة
المتأخرين من علماء الخاصة بالتمسك بالبراءة الأصلية في المقامين، ولما أبطلنا
جواز التمسك بها - لعلمنا بأنه تعالى أكمل لنا ديننا، ولعلمنا بأن كل واقعة تحتاج
إليها الأمة إلى يوم القيامة أو تخاصم فيها اثنان ورد فيها خطاب قطعي من الله
تعالى خال عن معارض، ولعلمنا بأن كل ما جاء به نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) مخزون عند العترة
الطاهرة، ولعلمنا بأنهم (عليهم السلام) لم يرخصوا في التمسك بالبراءة الأصلية في ما لم
نعلم الحكم الذي ورد فيه بعينه، بل أوجبوا التوقف في كل ما لم نعلم حكمه بعينه
وأوجبوا الاحتياط في بعض صوره - فعلينا أن نبين ما يجب أن يعمل به في
المقامين، وسنحققه بما لا مزيد عليه في الفصل الثامن، وقد ذكر هناك وجوب
الاحتياط بالفعل فيما إذا ورد نص صحيح صريح في كون الفعل مطلوبا غير
صريح في وجوبه وندبه إذا كان ظاهرا في الوجوب، وكذا لو كان تساوى
الاحتمالين، ولو كان ظاهرا في الندبية بنى فيه على جواز الترك، وكذا فيما إذا
بلغنا حديث ضعيف دال على وجوب شئ.
واحتج عليه بقوله صلوات الله عليه: " ما حجب الله علمه عن العباد موضوع
عنهم " (3) وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): رفع القلم عن تسعة أشياء (4) من جملتها ما لا يعلمون،
قال: فنحن معذورون ما دمنا متفحصين، وخرج عن تحتهما كل فعل وجودي لم

(1) وسائل الشيعة: ج 18 باب 12 من أبواب صفات القاضي ص 114 ح 9.
(2) وسائل الشيعة: ج 18 باب 12 من أبواب صفات القاضي ص 122 ح 38.
(3) وسائل الشيعة: ج 18 باب 12 من أبواب صفات القاضي ص 119 ح 28.
(4) وسائل الشيعة: ج 11 باب 56 من أبواب جهاد النفس ص 295 ح 1، وفيه رفع عن أمتي.
547

نقطع بجوازه بالحديث المشتمل على حصر الأمور الثلاثة إلى آخر ما ذكره.
وأنت تعلم أن قضية حجته المذكورة جواز الترك في صورة تساوي
الاحتمالين أيضا، لحصول الحجب وانتفاء العلم، مع أنه نص على خلافه.
ثم نقول: إن كان الظن حجة في المقام فلم يعد مظنون الدلالة من موارد
الشبهة، وإلا فما الوجه في حكمه بوجوب الاحتياط إذا كان النص المفروض
ظاهرا في الوجوب، دون ما إذا كان ظاهرا في الندب، أو كان النص واضح الدلالة
قاصر السند، مع اشتراك الجميع في حصول الشبهة. وليت شعري هل فرقه المذكور
بنص من الأئمة (عليهم السلام)، أو بمجرد الرأي وتشهي النفس، ولو وجد عنده نص في
ذلك لكان عليه إيراده في المقام ليكتفي به في تبيين المرام.
ثم إنه ذكر بعد كلام له على جملة من المتأخرين وتكراره لبعض المطالب
المتقدمة. نعم يمكن أن يقال: بناء على ما نقله في كتاب العدة رئيس الطائفة عن
سيدنا الأجل المرتضى (رحمه الله) من أنه ذهب إلى أن في زمن الفترة الأشياء على
الإباحة - بمعنى أنه لم يتعلق بهم شئ من التكاليف الواردة التي خفي عليهم، إذ
تعلق التكليف يتوقف على بلوغ الخطاب عند الأشاعرة وعليه أو على قطع العقل
بالحكم عند المعتزلة ومن وافقهم، والمفروض انتفاء الأمرين - أن من لم يتفطن
بحكم الله في واقعة لم يتعلق به ذلك الحكم، لكن هذا خلاف قواعدهم، لأنهم لم
يبنوا فتاويهم على أن زمانهم زمان الفترة، بل يقولون: هكذا نزلت الشريعة، وبين
المقامين بون بعيد. قلت: ما ذكره سهو بين، فإن أحدا من أهل العلم لا يقول عند
استدلاله بأصالة البراءة عند الفجر عن الأدلة أنه كذا نزلت الشريعة، بل يجعلون
ذلك قضية تكليفهم عند فقد الأدلة، كما يعرف من أدلتهم المذكورة.
ثم إنه اختار معذورية أهل الفترة قال: وكذلك من علم إجمالا ولم يعلم
تفصيلها، وبعد العلم بالتفاصيل في أمهات الأحكام - مثل: * (أألله أذن لكم أم على
الله تفترون) * (1) وعد عدة من الآيات - لا يتجه العذر.

(1) يونس: 59.
548

وقال: ثم اعلم أن التمسك بما صار إليه المرتضى في زمن الفترة إنما يجري
في زمن الغيبة في سقوط وجوب فعل وجودي، وفي الفتوى بسقوطه عنا ما دمنا
جاهلين متفحصين، ولا يجري في سقوط حرمته، لأ نا تلقينا القواعد الكلية
الواردة عنهم (عليهم السلام) المشتملة على وجوب الاجتناب عن كل فعل وجودي لم يقطع
بجوازه عند الله. هكذا ينبغي أن يحقق هذا المبحث إلى آخر ما ذكر.
وأنت خبير: بأن ظاهر كلامه الآخر الحكم بجواز نفي التكاليف المتعلقة
بالأفعال الوجودية ما لم يقم عليه دليل، وهو قول بحجية أصالة البراءة حسب ما
ذكرنا. وعمدة الغرض من نقل أقاويله المذكورة الإشارة إلى شدة اضطرابه في
المسألة، وعدم استقامته على طريقة واحدة، مع دعواه قيام الدليل القاطع في كل
واقعة.
ثم إنه قد حكى بعد ما نقلنا عنه أولا ما ذكره المحقق (رحمه الله) في أصوله: من أن
الأصل خلو الذمة عن الشواغل الشرعية، فإذا ادعى مدع حكما شرعيا جاز
لخصمه أن يتمسك في انتفائه بالبراءة الأصلية.
فنقول: لو كان ذلك الحكم ثابتا لكان عليه دلالة شرعية، لكن ليس كذلك
فيجب نفيه ولا يتم هذا الدليل إلا ببيان مقدمتين:
إحداهما أنه لا دلالة عليه شرعا بأن يضبط طريق الاستدلالات الشرعية
ويبين عدم دلالتها عليه.
والثانية: أن يبين أنه لو كان هذا الحكم ثابتا لدلت عليه احدى تلك الدلائل،
لأنه لو لم تكن عليه دلالة لزم التكليف بما لا طريق للمكلف إلى العلم به، وهو
تكليف بما لا يطاق، ولو كان عليه دلالة غير تلك الأدلة لما كانت أدلة الشرع
منحصرة فيها، لكن بينا انحصار الأحكام في تلك الطرق وعند هذا يتم كون ذلك
دليلا على نفي الحكم، والله أعلم.
ثم استحسن الكلام المذكور واستجوده وأثنى على المحقق ومدحه ثم قال:
وتحقيق كلامه أن المحدث الماهر إذا تتبع الأحاديث المروية عنهم (عليهم السلام) في
549

مسألة لو كان فيها حكم مخالف للأصل لاشتهر لعموم البلوى بها، وإذا لم نظفر
بحديث يدل على ذلك الحكم ينبغي أن يقطع قطعا عاديا بعدمه، لأن جما غفيرا
من أفاضل علمائنا - أربعة آلاف منهم تلامذة الصادق (عليه السلام) كما مر نقله عن
المعتبر - كانوا ملازمين لأئمتنا (عليهم السلام) في مدة تزيد على ثلاثمائة سنة، وكان همهم
وهم الأئمة إظهار الدين عندهم وتأليفهم كل ما يسمعون منهم في الأصول لئلا
يحتاج الشيعة إلى سلوك طريق العامة، وليعمل ما في تلك الأصول في زمن الغيبة
الكبرى، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) لم يضيعوا من كان في أصلاب
الرجال من شيعتهم كما تقدم في الروايات المتقدمة، ففي مثل تلك الصورة يجوز
التمسك بأن نفي ظهور الدليل على حكم مخالف للأصل دليل على عدم ذلك
الحكم في الواقع، إلى أن قال: ولا يجوز التمسك به في غير المسألة المفروضة إلا
عند العامة القائلين بأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أظهر عند أصحابه كل ما جاء به، وتوفرت الدواعي
على جمعه (1) وأخذه ونشره، وما خص أحدا بتعليم شئ لم يظهر عند غيره، ولم
يقع بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) فتنة اقتضت إخفاء ما جاء به انتهى.
وكلامه هذا صريح في التفصيل في إجراء الأصل بين عام البلوى وغيره.
وظاهره عدم الفرق في ذلك بين أصالة البراءة والإباحة وغيرهما، فحكم بحجيته
في الأول دون الأخير. ولا يذهب عليك أن كلام المحقق هنا بعيد الانطباق على ما
فهمه، بل هو كالصريح في حجية أصالة البراءة مطلقا في نفي التكليف عنا بعد
الفحص واستقراء الأدلة بحسب الوسع.
والحاصل: أن الفقيه بعد أن ضبط طرق الاستدلالات الشرعية وبين عدم
دلالتها عليه بنى على مقتضى أصالة البراءة أن لا تكليف عليه، سواء كان هناك
تكليف واقعي أو لا، وليس غرضه الحكم بانتفاء الحكم واقعا عند انتفاء الدليل
عليه بحسب الواقع، كيف ولا إشارة في كلامه إلى اعتبار عموم البلوى في المقام
حتى يمكن حمل كلامه عليه، بل في كلامه ما يدل على خلافه، حيث قال: لأنه

(1) حمله، خ ل.
550

لو لم يكن عليه دلالة لزم التكليف بما لا طريق له، فإن قضية ذلك ارتفاع التكليف
مع عدم وصول المجتهد إليه بعد بذل وسعه، فحمله العبارة المذكورة على خصوص
عام البلوى مما لا وجه له أصلا.
وكيف كان فكلماته المنقولة من أولها إلى آخرها مبنية على الغفلة عما هو
محل الكلام في المسألة. فتوهم أن القائل بحجية أصالة البراءة يجعلها دليلا على
ثبوت الحكم في الواقع وطريقا يتوصل به إلى معرفة الحكم الثابت في نفس الأمر
ومجوزا للحكم بثبوته على الوجه المذكور فأنكر عليهم ذلك، وبين أنه لا ملازمة
بين أصالة البراءة وما حكم به الشرع في الواقع فكيف يمكن كشفه عنه. والظاهر
أنه لما تخيل وجوب بيان الأحكام على النبي والإمام (عليهم السلام) وكان الحال فيما تعم
به البلوى قاضية بوصول البيان إلينا لتوفر الدواعي عليه كان عدم وصول ذلك إلينا
كاشفا عن عدم وجوده في الواقع، الكاشف عن انتفاء الحكم كذلك، فلذا اعترف
بحجيته بالنسبة إليه دون غيره.
وقد عرفت مما أشرنا إليه: أن الكلام في المقام في حجية أصالة البراءة إنما
هو بالنسبة إلى الظاهر دون الواقع، والمقصود منه معرفة سقوط التكليف بالنسبة
إلينا من غير ملاحظة لانتفائه بحسب الواقع، إذ لا فائدة يعتد بها في معرفة ذلك بعد
معرفة التكليف. كيف ومعظم أدلة الفقه إنما يثبت ما كلفنا به في ظاهر الشريعة من
دون إثبات الواقع، لوضوح كون معظم الأدلة مما لا دلالة فيها على الواقع، وأقصى
ما في المقام أن يفيد بعضها ظنا به.
ومن البين: أن الظن بنفسه لا يعقل أن يكون طريقا مثبتا للواقع حتى يصح
الحكم بكونه الواقع، فضلا عن كونه جائزا في الشريعة أو ممنوعا عنه.
غاية الأمر أنه مع قيام الدليل على حجيته في الظاهر يصح الحكم على صورة
البت بثبوت ذلك الحكم، وذلك إنما يترتب على قيام الدليل المذكور، ولا اعتبار
في ذلك الظن المفروض سواء أنيط به الحجية أو لا، إذ من البين أن الظن ليس قابلا
لأن يجعل سبيلا إلى الواقع على سبيل البت، وانما يكون سبيلا إليه على سبيل
551

الظن، وهو مما لا يترتب عليه فائدة، ولا منع في الشريعة أيضا من الحكم بكون
المظنون ذلك ظنا غير معتبر وإن كان حاصلا من قياس أو استحسان وهو ظاهر.
فظهر بما قررنا: أن المقصود في المقام هو بيان حجيته في الظاهر وجواز
الاعتماد عليه في ظاهر التكاليف، وحينئذ فلا مدخل لإكمال الدين وثبوت الحكم
مخزونا عند الأئمة (عليهم السلام) في كل واقعة في دفع الأصل المذكور، ولا ارتباط بينهما
نفيا ولا إثباتا بوجه من الوجوه، كيف ويصح الحكم بانتفاء التكليف عنا مع العلم
بحصوله واقعا على سبيل الاجمال، كما إذا كلفنا بمجمل ولم يتمكن من بيانه في
تمام الوقت ولم يمكن تحصيله على سبيل الاحتياط، فكيف مع عدم العلم به
وعدم قيام دليل على ثبوته.
وبالجملة: غاية ما يلزم مما ذكره - على فرض تسليمه - عدم إمكان تحصيل
الحكم الواقعي من جهة الأصل المذكور، وهو كما عرفت غير ما هم بصدده في
المقام.
نعم لو عممنا الأصل المذكور بحيث يندرج فيه عدم الدليل - الذي جعلوه
دليلا آخر على عدم الحكم كما اخترناه - كان إذن في بعض صوره دليلا على
انتفاء الحكم في الواقع، حسب ما سلمه المعترض المذكور واستحسنه، على أن في
دلالته حينئذ على انتفاء الحكم في الواقع أيضا إشكالا، إذ قد يكون إخفاء الحكم
منوطا بمصالح قضت به، كما يستفاد من الأخبار ويشير إليه أيضا ما ورد في
الأخبار من أن عليكم بالسؤال وليس علينا الجواب (1).
فغاية الأمر في هذه الصورة أيضا الحكم بانتفاء التكليف عنا كما في الصورة
الأخرى. وكيف كان فلا مانع من إبراز الحكم على صورة البت في الصورتين، كما
هو الشأن في سائر الأدلة التي ثبت التعبد بها في الشرع مع عدم كشفها عن الواقع
على سبيل اليقين، كيف وصريح كلامه تسليم جواز الحكم على سبيل البت في
الصورة الأخيرة، وقد علمت انتفاء دلالته على الواقع أيضا، فإن كان كلامه

(1) وسائل الشيعة: ج 18 باب 7 من أبواب صفات القاضي ص 43 ح 9.
552

المذكور مبنيا على دلالته على انتفاء الحكم في نفس الأمر فهو من أفحش الخطأ،
وإن كان ذلك عنده كاشفا عن رضاء الإمام (عليه السلام) بالترك فالمفروض... (1) في المقام
بعد انسداد الطريق حسب ما نستنهضه من الأدلة على الأصل المذكور وقد اعترف
به في بعض صوره كما عرفت.
ومع الغض عن ذلك - والقول بقيام الدليل في سائر الأدلة على جواز الحكم
كذلك وعدم قيامه في المقام - فقد عرفت أنه لا ثمرة يعتد بها في المناقشة
المذكورة بعد الحكم بالاعتماد عليه في ارتفاع التكليف في الظاهر حتى يحتاج
إلى إطالة الكلام والمبالغة في الرد على من اختاره في المقام كما لا يخفى.
ومن أعجب العجب! ما وقع من صاحب الحدائق في المقام، حيث إنه مع
دعواه الاتفاق على الأصل المذكور في كتابيه المذكورين - كما تقدم الإشارة إليه
- نص فيهما أيضا عند ذكره مسألة الاحتياط على وجوب الاحتياط فيما إذا تردد
المكلف في الحكم إما لتعارض أدلته، أو لتشابهها وعدم وضوح دلالتها، أو لعدم
الدليل بالكلية بناء على نفي البراءة الأصلية، أو لحصول الشك في اندراج بعض
الأفراد تحت بعض الكليات المعلومة الحكم أو نحو ذلك.
ثم ذكر أيضا في مثال الاحتياط الواجب المتعلق بالفعل ما إذا اشتبه الحكم
من الدليل بأن تردد بين احتمالي الوجوب والاستحباب، فالواجب هو التوقف في
الحكم والاحتياط بالإتيان بذلك الفعل.
ومن يعتمد على أصالة البراءة يجعلها هنا مرجحة للاستحباب.
وفيه أولا: ما عرفت من عدم الاعتماد على البراءة الأصلية في الأحكام
الشرعية.
وثانيا: أن ما ذكروه يرجع إلى أن الله تعالى حكم بالاستحباب لموافقة البراءة
الأصلية، ومن المعلوم أن أحكامه تعالى تابعة للحكم والمصالح المنظورة له تعالى
وهو أعلم بها. ولا يمكن أن يقال: مقتضى المصلحة البراءة الأصلية، فإنه رجم
بالغيب وجرأة بلا ريب.

(1) بياض في الأصل.
553

ومن هذا القسم أيضا ما تعارضت فيه الأخبار على وجه يتعذر الترجيح فيها
بالمرجحات المنصوصة، فإن مقتضى الاحتياط التوقف في الحكم ووجوب
الإتيان بالفعل متى كان يقتضي الاحتياط ذلك.
فإن قيل: إن الأخبار في الصورة المذكورة قد دل بعضها على الإرجاء
وبعضها على العمل من باب التسليم.
قلنا: هذا أيضا من ذلك، فإن التعارض المذكور - مع عدم ظهور مرجح لأحد
الطرفين ولا وجه يمكن الجمع به في البين - مما يوجب دخول الحكم المذكور في
المتشابهات المأمور فيها بالاحتياط.
ومن هذا القسم أيضا ما لم يرد فيه نص من الأحكام التي لا تعم بها البلوى
عند من لم يعتمد على البراءة الأصلية، فإن الحكم فيه ما ذكر كما سلف في مسألة
البراءة الأصلية، انتهى.
وأنت خبير: بأن الصور المذكورة في كلامه مما لم يقم في شئ منها دليل
على وجوب الفعل، فيندرج الجميع فيما قرره أولا من البناء على البراءة الأصلية
في نفي الوجوب من فعل وجودي إلى أن يثبت خلافه، وقد ذكر أنه لا خلاف في
صحة الاستناد إليه، فحكمه هنا بوجوب مراعاة الاحتياط بالإتيان بالفعل تناقض
واضح، وكلامه هنا موافق لما ذكره المحدث المذكور، بل مأخوذ منه، وقد اتضح
فساده بما قررناه وبما يأتي الإشارة إليه من الأدلة على الأصل المذكور، وفي
الأخبار التي أشار إليها في المقام المتقدم كفاية في إبطال (1) الحجج.
ثم إنه قد تلخص مما قررناه ذهاب الفاضلين المذكورين ومن تبعهما إلى
لزوم مراعاة الاحتياط بالإتيان بالفعل مع دوران الأمر بين الوجوب وعدمه. وهذا
القول وإن لم يعرف لأحد من الأصحاب بل قد عرفت حكاية جماعة (2) على عدم

(1) في الأصل بعد لفظ الإبطال بياض، وبعض النسخ كتب فيه لفظ الحجج كما في الكتاب.
(2) في الأصل بعد لفظ جماعة بياض، وينبغي أن يكون الساقط فيه لفظ " الاجماع ". محمد (رحمه الله).
554

وجوبه إلا أن أهل (1) ذكروا خلافا في وجوب الاحتياط.
وحكى في المعالم عن جماعة القول بوجوبه، وقضية ذلك عدم جواز
الاعتماد على أصالة البراءة إلا أنه لا يعرف كون القائل المذكور من الأصحاب.
نعم يوجد في كلمات جماعة من الأصحاب التمسك بطريقة الاحتياط وذلك
يومئ إلى... (2) مراعاته عندهم، إلا أن كثيرا من تلك المقامات مما ثبت فيه
التكليف على سبيل الاجمال، وهو غير ما نحن بصدده الآن، والبناء فيه هناك على
وجوب الاحتياط غير بعيد كما سيأتي الإشارة إليه.
ولو وجد منهم احتجاج بالاحتياط في غير هذا المقام فيمكن أن يكون ذلك
لتشييد المرام لاختلاط الأدلة بالمؤيدات في كلماتهم، أو في مقام المنازعة مع من
يقول بوجوبه. وكيف كان فكلماتهم في كتبهم مشحونة بالاحتجاج بأصالة البراءة،
بحيث لا يخفى على من راجع كتبهم، وحيث إن المسألة وإن كانت غنية عن
التعرض لبيانها وإطالة الكلام في حجيتها، إلا أنها لما صارت محلا لمناقشة
الجماعة فبالحري أن نشير إلى أدلتها في الجملة.
أما الكتاب: فيمكن الاستناد فيه إلى عدة آيات كقوله تعالى * (ما كان الله
ليضل قوما بعد إذ هديهم حتى يبين لهم ما يتقون) * (3) وقوله تعالى * (لا يكلف الله
نفسا إلا ما آتيها) * (4) ونحوهما مما سيأتي الإشارة إليها وإلى ما فيها من المناقشة
عند بيان أصالة الإباحة.
وأما السنة: فأخبار كثيرة دالة على ذلك:
منها: ما رواه الشيخ في... (5) عن... (6) أنه قال: كل شئ مطلق حتى يرد فيه
نص فإنه يعم الأمر والنهي.

(1) ما أضيف إليه " الأهل " غير مذكور في الأصل ترك موضعه بياضا وكأن المراد أهل
الأصول. محمد.
(2) بياض في الأصل.
(3) التوبة: 115.
(4) الطلاق: 7.
(5 و 6) بياض في الأصل.
555

ومنها: الحديث المشهور " رفع عن أمتي " وسيأتي الكلام في بيان دلالتها مع
سائر الأخبار الدالة على... (1) التكليف عن... (2) ويشير إليه أيضا ما دل على
حجية الاستصحاب، إذ البراءة القديمة ثابتة من غير شك فيستصحب، وقضية ذلك
البناء على البراءة حتى يثبت الشغل، فيكون ذلك من الأدلة على الأصل المذكور
كما أشرنا إليه.
وأما الاجماع: فقد عرفت الاجماعات المحكية عليه سيما من الأخبارية وهو
أيضا... (3) من ملاحظة الكتب الاستدلالية وجريان الطريقة عليه خلفا بعد سلف
من أعصار الأئمة (عليهم السلام)، بل الظاهر ثبوته في الصدر الأول أيضا، فإن أهل البلاد
النائية ما كانوا... (4) على لزوم مراعاة الاحتياط في جميع أفعالهم بالمواظبة على
جميع ما يحتملون وجوبه إلى أن يأتي نص على عدمه، بل من البين أنهم ما كانوا
يحكمون على شئ بحكم إلا بعد قيام البينة عليه ونهوض الحجة به، كما لا يخفى
على من تأمل في طريقتهم، وفي الأخبار المتقدمة إشارة إليه.
وأما العقل: فإنه إنما بعث الأنبياء ونصب الأوصياء لتبليغ الأحكام وإرشاد
الأنام إلى مسائل الحلال والحرام، فإذا لم يرد التبليغ بوجوب شئ والتكليف به
دل ذلك على انتفاء وجوبه، إذ لو وجب لكان قضية الحكمة الباعثة على بعث
الرسل تبليغ الحكم فيه. هذا إذا انتفى البيان من أصله. وأما إذا انتفى الوصول إليه
فقد يتخيل أن الأمر بعكس ذلك، إذ قضية رفع الضرر وجوب الاحتياط فيما
يحتمل فيه الوجوب إذا انتفى فيه احتمال المنع كما هو مورد البحث.
ويدفعه: أن البناء عليه قاض بلزوم العسر والحرج الشديد الذي لا يوافق
طريقة اللطف سيما بعد العلم بكون الشريعة سمحة سهلة، بل قد يؤول الأمر إلى
التكليف بغير المقدور، لتكثر الاحتمالات، وترجيح بعضها على بعض ترجيح من
غير مرجح، فبملاحظة ذلك يقطع العقل بانتفاء التكليف.
ويرد عليه: أنه لو تم ذلك فإنما يتم فيما إذا كانت الاحتمالات كثيرة غير

(1 - 4) بياض في الأصل.
556

محصورة، وأما إذا انحصرت في أمور عديدة لا حرج في الإتيان بها فلا. وهذا أمر
حاصل في الأغلب، لقيام الاجماع وغيره من الأدلة على انتفاء احتمال الوجوب
في معظم الأفعال، وما يحتمل وجوبه مما لم يدل دليل على انتفاء الوجوب فيه
أمور عديدة يمكن مراعاة الاحتياط فيها، فمع الغض عن الأدلة المتقدمة فينبغي
القول بوجوب الاحتياط نظرا إلى حكم العقل.
نعم إذا لوحظ دلالة الشرع على سقوط التكليف حينئذ فلا كلام. وما ذكر من
الوجوه في إثبات الإباحة غير جارية في المقام لما عرفت من الفرق.
نعم إن فرض عدم انحصار الأمر في المقام - كما قد يتفق بالنسبة إلى من بعد
عن بلدان الاسلام بحيث لا يقدر على تعرف الأحكام، وكان بناؤه على مراعاة
الاحتياط متعذرا أو متعسرا جدا، بحيث يقطع العقل بعدم ابتناء الشريعة عليه -
كان ما ذكر من حكم العقل متجها. وأما في غيره فالقول بإطلاق استقلال العقل
بنفي التكليف بعيد جدا.
وقد ظهر بما قررنا ضعف ما ذكره بعض الأفاضل في تقرير الدليل المذكور:
من أن الأصل الذي لا زالت عليه الذمة قبل ثبوت التكاليف هو البراءة - إذ لو لم
يكن على ذلك لكانت على الشغل، وهو الحرج العظيم الذي دلت على نفيه الآية
والرواية. ومتى ثبت الأصل المذكور لم يحتج في التعلق به إلى حجة، لاستمراره
كما في أصل الإباحة والطهارة والعدم، فإنا لا نحتاج في إجراء هذه الأصول إلى
أكثر من إثباتها - لاندفاعه بأن الأصل المفروض إن ثبت مطلقا تم ما ذكروا، وإلا
فلا يوجب الخروج عن مقتضاه بمجرد الاحتمال ما لم يقم دليل شرعي على
خلافه.
وأما إذا كان ثبوته لجهة خاصة كما في المقام إذ لم يكن ثبوته إلا لمجرد
الحرج والضيق، لدورانه بين غير المحصور أو ما هو بمنزلته، كما هو المفروض،
فإنما يدور ثبوت الأصل المذكور مدار حصوله، فلا يمكن الحكم بثبوت الأصل
المذكور مع زوال الحرج، بل لا بد إذن من ملاحظة العقل في تلك الحال.
557

وقد عرفت: أن قضية العقل حينئذ مراعاة الاحتياط، لقيام احتمال الضرر
الباعث على الخوف. وهذا وإن جرى في الصورة المتقدمة إلا أن اشتماله هناك
على الضيق أو الحرج قد قضى بعدم لزومه القاضي بزوال الخوف.
وما قد يقال: من أن التكليف فرع العلم وأن من المقرر في الأذهان أن لا
تكليف إلا بعد البيان مدفوع، بأنه إن أريد به انتفاء التكليف بالشئ إلا بعد بيان
كونه مأمورا به بحسب الواقع فهو ممنوع، ودعوى استقلال العقل به بينة الفساد.
كيف ومن الواضح إيجاب العقل للاجتناب من كثير من المشتبهات. وإن أريد به أن
التكليف فرع العلم بلزوم الإقدام أو الأولوية من باب الاحتياط فمسلم،
والمفروض في المقام ثبوت العلم (1)، فالمسلم من بطلان التكليف قبل البيان ما إذا
كان المكلف غافلا بالمرة، أو متفطنا غير عالم بلزوم الإقدام أو المنع عنه في
الظاهر ولو من باب الاحتياط ودفع الضرر المخوف، سواء تعلق تيقن بعدم
وجوب الإقدام في الواقع لقيام بعض الشبه القاضية به بعد بذل وسعه، أو لم يعلم
وجوب الإقدام في الظاهر، كما إذا لم يكن المقام مقام الخوف لسقوط الاحتمال
في نظر العقل كما في بعض الفروض وإن قارن وجوده في الواقع.
وأما مجرد الجهل بالحكم الواقعي فغير مانع من التكليف، كما هو ظاهر مما
قررنا.
فتحصل مما ذكرنا ضعف الحكم بكون البراءة عقلية بعد ورود الشرع أيضا
على سبيل الإطلاق، بل هي عقلية في بعض الوجوه، وشرعية في بعضها حسب
ما مر.
هذا، ثم إن ما ذكرنا من البناء على أصالة البراءة فيما إذا تعلق الشك بنفس
التكليف.
وأما إذا تعلق بخصوصية المكلف به فلا وجه لجريان الأصل المذكور فيه
على كل الوجوه.

(1) والمفروض من أن المقام ترك الأصل، خ ل.
558

وتفصيل الكلام: أن ما تعلق التكليف به قد لا يتعين عند المجتهد، فيكون
دائرا بين أمرين أو أمور عديدة يتعذر عليه تعيينه بعد بذل وسعه، وقد يتعين
المكلف به عنده إلا أنه يتعذر عليه تفسيره وتعيين حقيقته، وعلى كل منهما فإما أن
يندرج أحد الوجهين أو الوجوه في الباقي أو لا؟ ثم مع تكثر الوجوه إما أن
ينحصر الاحتمالات بحيث يمكن اليقين بالامتثال بالجميع أو لا؟
وتوضيح الحال فيها: أنه إذا دار التكليف بين أمرين غير متداخلين أو أمور
مختلفة كذلك مع إمكان الإتيان بالجميع قضى ذلك بلزوم الإتيان بها أجمع،
لاقتضاء اليقين بالشغل اليقين بالفراغ، ولا يحصل بدون التكرار والإتيان بجميع
المحتملات، واحتمال سقوط التكليف بمجرد ذلك مع كونه خلاف الأصل مما لا
وجه له، لإمكان تفريغ الذمة بما قلناه، ومع القول ببقاء التكليف لا وجه للترجيح
مع انتفاء المرجح، ولا التخيير، فيتعين طريق الجمع المحصل لليقين بالفراغ. وكذا
الحال إذا تعين المتعلق لكن طرءه الاجمال ودار بين الأمرين أو أمور لذلك (1) وإذا
لم يتمكن من تحصيل اليقين بالفراغ لعدم انحصار الوجوه المحتملة فيما تعلق به
التكليف فالظاهر سقوط التكليف به، لعدم إمكان الإتيان بالجميع، والاقتصار على
البعض غير مفيد، فهو بمنزلة الجهل بأصل التكليف، إذ لا فائدة في معرفته كذلك،
لانتفاء طريق للمكلف إلى معرفة الواجب، فالتكليف به من قبيل التكليف بغير
المقدور، والإتيان بما يحتمل كونه الواجب لا يوجب تفريغ الذمة عنه، فأصالة
البراءة هنا قاضية بسقوط التكليف عنه وإن علم بحصوله في الجملة. وكذا الحال
في التكليف بالمجمل إذا دار بين أمور كثيرة حسب ما ذكرنا.
وأما إذا دار التكليف أو التفسير بين أمرين أو أمور متداخلة فهل يؤخذ
بالأقل وينفى الباقي بالأصل، أو لا بد من الإتيان بسائر ما يحتمل جزئيته أو
شرطيته إن لم يكن هناك احتمال المانعية، وإلا كرر العمل مع امكان تحصيل العلم
به وجهان.

(1) كذلك، خ ل.
559

وتحقيق الكلام فيها: أن الفعل إما أن يكون بعض أجزائه منوطا بالباقي بحيث
لو نقص شئ منها كان الفعل كعدمه ولم يحصل الامتثال بالقدر الباقي أيضا، أو لا
يكون كذلك، بل يحصل الامتثال على قدر ما يأتي منه. غاية الأمر عدم حصول
الامتثال بالباقي إذا فرض ثبوت التكليف بالزائد. فالكلام هنا في مقامين:
الأول فيما إذا لم يكن الصحة منوطا بالاجتماع، والظاهر جريان الأصل هنا
في نفي الزائد، سواء كان التكليف من أصله دائرا بين الوجهين أو الوجوه، أو تعلق
بكلي معلوم على سبيل الاجمال صادق على جميع مراتبه قد شك فيما اشتغلت
الذمة منه - كما إذا علم التكليف بأداء الدين ودار بين الأقل والأكثر مع صدق اسم
الدين على القليل والكثير - أو تعلق بمجمل ودار ذلك المجمل بين الزائد والناقص
إما للشك في وضعه للأقل أو الأكثر، أو لقيام الاجمال في تلك الواقعة - كما إذا
تلف مالا لزيد فكلف بأداء القيمة وهي دائرة بين الأقل والأكثر مع عدم الاشتراك
بينهما في الاسم - والوجه في ذلك: أن القدر المتيقن من التكليف في الوجوه
المذكورة هو اشتغال الذمة بالأقل والزيادة غير معلومة فينفى بالأصل.
والحاصل: أنه يدور الأمر في الزائد بين البراءة والشغل فيرجح جانب البراءة
على مقتضى الأصل المذكور.
فإن قلت: إنه مع العلم بحصول التكليف ودورانه بين الوجهين يدور التكليف
بين أمرين وجوديين ولا اقتضاء للأصل في تعلقه بشئ منهما.
ألا ترى: أنه لو دار التكليف بين نوعين وكان أحدهما أقل جزء من الآخر لم
يصح الحكم بالاشتغال به عملا بالأصل.
قلت: ليس المقصود في المقام اقتضاء الأصل تعلق التكليف بالأقل، لوضوح
استواء نسبتهما إلى الأصل، بل الغرض أن التكليف بالأكثر قاض باشتغال الذمة
بالأقل من غير عكس، فالاشتغال بالأقل ثابت على الوجهين، معلوم على
التقديرين، بخلاف الأكثر فينفي بالأصل ويحكم ببراءة الذمة عنه شرعا، فيرجع
الأمر إلى وجوب الأقل خاصة في ظاهر الشرع. وبما قررنا يندفع ما قد يقال فيما
560

إذا تعلق التكليف بالمجمل بأن متعلق التكليف هناك إنما هو مؤدى اللفظ ومدلوله
بحسب الوضع مثلا.
ومن البين: عدم جريان الأصل في تعلق الوضع بالأقل فكيف يحكم بأنه
الواجب.
والحاصل: ان الحكم بكون الواجب هو الأقل متلازم مع الحكم بالوضع له، إذ
المفروض القطع بكون المكلف به هو موضوع اللفظ لا غيره، فإذا لم يثبت ذلك
بالأصل لم يثبت الآخر أيضا، لما عرفت من أن الحكم بوجوب الأقل قد يكون
من جهة الحكم بكونه المراد من اللفظ، وقد يكون من جهة أنه المتيقن إرادته مع
الشك في إرادة الزائد عنه، وما لا يجري فيه الأصل هو الأول، وهو متلازم مع
الوضع في المقام. وأما الثاني فلا دلالة فيه على ما هو المراد من اللفظ بحسب
الواقع، وإنما يستفاد منه ما هو التكليف في ظاهر الشريعة، ولا ربط لذلك بما وضع
له اللفظ أو استعمل فيه كما لا يخفى.
وما قد يقال: من أنه بعد ثبوت اشتغال الذمة وحصول الاجمال في متعلق
التكليف يجب مراعاة الاحتياط لاقتضاء اليقين بالشغل اليقين بالفراغ مدفوع،
بأن الشغل اليقيني إنما يحتاج إلى اليقين بالفراغ على مقدار اليقين بالاشتغال، ولا
يقين هنا بالاشتغال بما يزيد على الأقل حتى يستدعي اليقين بالفراغ.
وما قد يتوهم: من عدم جريان البيان المذكور في الوجه الأخير، لحصول
الاشتغال هناك بمؤدى اللفظ، ولا يقين هناك بالفراغ إلا بالإتيان بجميع
المحتملات بل ولا في الوجه الأول، لدوران التكليف هناك بين أحد الوجهين ولا
يحصل اليقين بالفراغ بأداء الأقل. غاية الأمر جريانه في الوجه الثاني، إذ القدر
المتيقن هناك من الاشتغال بذلك الكلي هو الأقل، فينفي الزائد بالأصل، ولا حاجة
معه إلى اليقين بالفراغ مردود، بأنه لما كان مؤدى اللفظ في الوجه الأخير وأحد
الوجهين أو الوجوه في الوجه الثاني مبهما غير معلوم لم يحصل من العلم بتعلق
التكليف بهما إلا اليقين بالاشتغال بالأقل، إذ هو القدر الثابت من الاشتغال،
561

والاشتغال بما يزيد عليه غير معلوم، فيدور الأمر بين حصول الشغل وعدمه، وقد
تقدم تقديم البراءة حتى يتبين الاشتغال.
وبالجملة: ليس المقصود بيان أن المراد من ذلك المجمل هو الأقل
بالخصوص، بل المراد أنه لا يتحصل من التكليف بذلك المجمل علم باشتغال
الذمة بما يزيد على الأقل، فينفى الزائد بالأصل، فيكون الواجب علينا بعد دفع
الزائد بالأصل هو خصوص الأقل فليتأمل جيدا. هذا بالنسبة إلى إجراء الأصل
في الأجزاء.
وأما بالنسبة إلى الشرائط فإن قام هناك إطلاق صح نفي الاشتراط إذن من
جهته، ويصح التمسك هناك بأصالة عدم التقييد، ومع حصول الاجمال فلا يصح
الاستناد في نفيه إلى أصالة البراءة، بل لا بد من مراعاة الاحتياط حسب ما يأتي
بيانه في المقام الثاني. والقائل بجريانه هناك يقول به في المقام أيضا، وسيأتي
تفصيل القول فيه.
المقام الثاني:
فيما إذا كانت الصحة منوطة بالاجتماع وكان انضمام كل جزء إلى الآخر
معتبرا في تعلق الحكم، وحينئذ ففي الاقتصار على المتيقن ودفع المشكوك
بالأصل وعدمه وجهان.
ومن هنا وقع النزاع المعروف بين المتأخرين في إجراء الأصل في أجزاء
العبادات المجملة وشرائطها المشكوكة. فذهب جماعة منهم إلى جريان الأصل
في ذلك وجعلوا إجراءه فيها كإجرائه في التكاليف المستقلة من غير فرق. ومنعه
آخرون حيث أوجبوا مراعاة الاحتياط في ذلك وحكموا بأن ما شك في جزئيته
أو شرطيته فهو جزء وشرط، يعنون به أنه في حكم الجزء والشرط في توقف
الحكم بالصحة على الإتيان به، لا أنه جزء أو شرط بحسب الواقع، كما قد يتوهم.
ولما لم تكن المسألة في كتب الأصحاب ما عدا جماعة من متأخري
المتأخرين، اختلف النسبة إليهم في المقام، فقد عزى بعض من القائلين بالأول
562

ذلك إلى ظاهر كلمات الأوائل والأواخر واستظهر نفي الخلاف فيه، وبعض من
يقول بالثاني عزاه إلى أكثر الأصحاب، لما يرون في كلماتهم من الاستناد في ذلك
إلى أصالة البراءة تارة والاحتياط أخرى. وكيف كان فالأقوى هو الثاني.
ويدل عليه وجوه:
الأول: أنه إذا تعلق الأمر بطبيعة العبادة المفروضة فقد ارتفعت به البراءة
السابقة وثبت اشتغال الذمة بها قطعا، إلا أنه يدور الأمر بين الاشتغال بالطبيعة
المشتملة على الأقل، أو المشتملة على الأكثر، وليست المشتملة على الأقل
مندرجة في الحاصلة بالأكثر، كما في مسألة الدين، فإن اشتغال الذمة هناك بالأكثر
قاض باشتغالها بالأقل، لعدم ارتباط هناك بين الأجزاء بخلاف المقام، إذ
المفروض ارتباط بعض الأجزاء بالبعض، وقضاء زوال كل جزء منها بزوال الكل
وكونها في حكم العدم الصرف. والقول بأن التكليف بالكل قاض بالتكليف بالجزء
قطعا بخلاف العكس لا يثمر في المقام، إذ القدر المعلوم من ذلك تعلق التكليف
التبعي بالجزء في ضمن الكل، إلا أن يتعلق به تكليف على الإطلاق ولو انفصل عن
بقية الأجزاء.
نعم لو قام الدليل على عدم ارتباط بين الأجزاء في التكليف وعدم اعتبار
الماهية المجموعية فيه صح ذلك، والمفروض في محل البحث قيام الدليل على
العكس، فضلا عن عدم قيامه على إطلاق التكليف. فحينئذ نقول: إن التكليف
بالطبيعة المشتملة على الأكثر لا يقضي باشتغال الذمة بالمشتملة على الأقل، حتى
أنه إذا أتى بالأقل حصل به الفراغ على حسبه، ليدور الأمر في الباقي بين حصول
التكليف به وعدمه، ليرجح الحكم بالبراءة وعدم التكليف بعد دوران الأمر في
الباقي بين اشتغال الذمة وبراءته، وحصول التكليف به وعدمه، كما يقرر ذلك فيما
إذا دار التكليف بين الأقل والأكثر في غير المرتبط الأجزاء كما مر، إذ قد عرفت
أن التكليف بالأكثر لا يقضي باشتغال الذمة بالأقل كذلك بوجه من الوجوه، بل
الإتيان به حينئذ كعدمه. فاشتغال الذمة حينئذ دائر بين طبيعتين وجوديتين
563

لا يندرج أحدهما في الآخر وإن اشتمل الأكثر على أجزاء الأقل، لما عرفت من
عدم الملازمة بين الأمرين. فحينئذ لا وجه في إجراء أصل البراءة أو العدم في
تعيين أحد الوجهين، إذ مورد ذينك الأصلين دوران الأمر بين البراءة والشغل
ووجود الشئ وعدمه، لا ما إذا دار الأمر بين الاشتغال بأحد الأمرين أو وجود
أحد الشيئين كما هو المفروض في المقام.
فإن قلت: إن التكليف بالأكثر في المقام قاض بالتكليف بالأقل في الجملة،
فيصدق ثبوت الاشتغال به على طريق اللابشرط، وحينئذ فيدور الأمر في الزائد
بين البراءة أو الشغل وحصول التكليف وعدمه فينفى بالأصل.
قلت: ليس التكليف بالأقل ثابتا على طريق اللابشرط ليكون ثبوت التكليف
به على نحو الإطلاق، بل ثبوته هناك على سبيل الاجمال والدوران بين كونه
مطلوبا بذاته أو تبعا للكل في ضمنه، فعلى الأول لا حاجة إلى إعمال الأصل،
وعلى الثاني لا يعقل إجراؤه فيه.
والقول بأن المقصود بالأصل نفي الحكم في الظاهر بعد دوران الأمر بين
الثبوت وعدمه - وإلا فهو في الواقع إما ثابت لا مسرح فيه للأصل أو منفي لا
حاجة إليه، فلو كان ذلك مانعا عن جريانه لما جرى في سائر المقامات - مدفوع،
بأنه بعد العلم باشتغال الذمة بمقدار مخصوص بحيث يعلم إرادته على كل حال لا
تأمل في إجراء الأصل فيما زاد عليه بعد عدم قيام دليل يمكن الركون إليه، من
غير فرق بين ما إذا تعلق التكليف بمجمل وكان ذلك هو القدر المتيقن منه، أو
بمبين وشك في تعلق التكليف أيضا بما يزيد عليه.
وأما إذا لم يتعين القدر المذكور لتعلق التكليف ودار الأمر بين تعلق التكليف
به بخصوصه أو بما يزيد عليه بحيث لا يكون القدر المذكور مطلوبا بنفسه أصلا بل
مطلوبا بطلب الكل في ضمنه فلا، لدوران التكليف إذن بين طبيعتين مختلفتين.
غاية الأمر أن يكون أحدهما أقل جزء من الآخر، فإن ذلك بمجرده لا يقضى
بترجيح الأقل كما لا يخفى، ومداخلة أجزاء أحدهما في الآخر غير مجد فيه بعد
564

فرض عدم قضاء الأمر بالكل بمطلوبية الجزء إلا في ضمنه، فلا يقين إذن بإرادة
الأقل لو اتي به على انفراده كما في غير المشاركين في الجزء.
والحاصل: أن الأصل إنما يقضي بنفي التكليف لا ثبوته، وليس في الفرض
المذكور دليل على ثبوت التكليف بالأقل حتى ينفى ما عداه بالأصل، لما عرفت
من الاجمال. وبملاحظة ما قررنا يظهر ضعف ما يتخيل في المقام: من أن كلا من
إثبات الأجزاء ونفيها إنما حصل بدليل شرعي، لقضاء الأمر بالمجمل بوجوب ما
علم من الأجزاء، واقتضاء الأصل نفي الباقي، فيتعين القدر المتيقن للاشتغال.
الثاني: أنه لا شك في اشتغال ذمة المكلف بتلك العبادة المعينة، وحصول
البراءة بفعل الأقل غير معلوم، لاحتمال الاشتغال بالأكثر، فيستصحب الشغل إلى
أن يتبين الفراغ.
فإن قلت: إن المعلوم إنما هو اشتغال الذمة في الجملة وكونه بما يزيد على
الأقل غير معلوم، فيؤخذ به وينفى الباقي بالأصل.
قلت: إنما يتم ذلك إذا كان اشتغال الذمة بالأقل معلوما وليس كذلك، بل هو
أيضا غير معلوم، إذ المفروض ارتباط الأجزاء بعضها بالبعض، فالقدر المعلوم هو
اشتغال الذمة بالأقل إما استقلالا أو حال كونه في ضمن الأكثر تبعا له، وذلك لا
يقضي بالقطع بالاشتغال به مع انفصاله عن الأجزاء المشكوكة لما عرفت من
إجمال التكليف لا إطلاقه.
والحاصل: أن حصول الامتثال بالإتيان بالأقل غير معلوم مطلقا لا إجمالا
ولا تفصيلا ولا بعضا ولا كلا، فكيف يمكن العلم بحصول البراءة من التكليف
المفروض بأدائه.
وبذلك يظهر ضعف ما يقال: من أن استصحاب الشغل إنما ينهض حجة إلى أن
يقوم دليل شرعي على خلافه، إذ الحكم بالاستصحاب مغيا بقيام الدليل، فلو قام
هناك دليل ولو من أضعف الأدلة كان حاكما على الاستصحاب، إذ على ذلك لا
معارضة في الحقيقة بين الدليلين، فحينئذ نقول: إن الاشتغال بالأقل معلوم بالنص
565

والإجماع - مثلا - وتعلق التكليف بالزائد غير معلوم، فينفى بأصل البراءة وأصالة
العدم، فيكون المكلف به في ظاهر الشريعة بملاحظة الأدلة المذكورة هو الأقل،
فيكون ذلك رافعا لحكم الاستصحاب. والوجه في تضعيفه ما عرفت من إجمال
التكليف، فلا علم بإرادة الأقل على الجهة الجامعة بين الوجهين إلا حال انضمامه
إلى الأكثر، إذ لو كان التكليف متعلقا بالأقل كان مرادا بالخصوص، ولو كان متعلقا
بالأكثر كان مرادا في ضمنه، فهو حينئذ مراد قطعا، وأما إذا انفرد من الباقي فلا
علم بإرادته أصلا حتى ينفى الباقي بالأصل.
والعلم بالاشتغال بالقدر المشترك بين الانفراد والانضمام إلى الباقي غير نافع
في المقام، إذ المعلوم في الفرض المذكور أمر مبهم اعتباري لا يقضي بوجوبه على
الانفراد ولا الانضمام، إذ المفروض انتفاء العلم بتعلقه بالبعض أو الكل من حيث
هو كل.
غاية الأمر: أن يدل على وجوبه حال الانضمام لثبوت أحد الوجوبين لمرة (1)
قطعا كما بينا، فظهر أنه لا يثبت هناك التكليف بالأقل حتى ينفى الزائد بالأصل.
ومن البين: أن كلا من أصالة البراءة والعدم إنما ينفي التكليف خاصة وليس
من شأنه الإثبات، فإجراء الأصل في المقام نظير إجرائه فيما إذا كانت (2) الإتيان
غير متشاركين في الجزء مع زيادة التركيب في أحدهما، أو كانت القيود الوجودية
في أحدهما أكثر من الآخر، كما إذا علم تكليفه بشراء شئ ودار بين أن يكون
حيوانا أو جمادا فقال: إن اعتبار الجسمية في الواجب معلوم، واعتبار ما يزيد
عليه - من الحساسية والتحرك بالإرادة - غير معلوم فينفى بالأصل، ومن الواضح
فساده.
الثالث: أنه بعد الشك في الجزئية أو الشرطية في الصورة المفروضة يتوقف
العلم بأداء الواجب على الإتيان بالمشكوك فيه، فهو مقدمة للعلم بفعل الواجب.
وقد تقرر في محله وجوب مقدمة الواجب مطلقا، سواء كان من مقدمات

(1) كذا وجدت الكلمة ولم نحققها.
(2) الظاهر كان الأمران.
566

العلم، أو الوجود، وقد جرى عليه الأصحاب في عدة من المقامات، كوجوب
الصلاة في الثوبين المشتبهين، ولزوم تكرار الوضوء في المشتبه بالمضاف،
والصلاة إلى الجوانب الأربع عند اشتباه القبلة، ووجوب ترك الوطء ء عند اشتباه
الزوجة بالأجنبية، ولزوم التحرز عن الحلال المشتبه بالحرام، إلى غير ذلك من
المقامات.
وبتقرير آخر: إذا توقف العلم بأداء التكليف على الإتيان بما شك فيه حكم
العقل بلزوم الإتيان به وقبح تركه، دفعا للخوف من الضرر المترتب على ترك
الواجب، فهو وإن لم يكن في الواقع جزء من أجزاء الصلاة أو شرطا من شروطه
إلا أن هذه الجهة والملاحظة المذكورة قد قضت بحسنه ووجوب الإتيان به.
ألا ترى: أن المولى إذا أمر عبده بشئ، وأوعده على تركه، وحذره عن
مخالفته، ثم اشتبه المطلوب على العبد، ودار بين شيئين، ولم يكن له سبيل إلى
التعيين، ولا جهة مانعة عن الإتيان بالأمرين، حكم العقلاء بوجوب الإتيان بهما
ليحصل له القطع بأداء ما أراده المولى، ولم يكتفوا به بمجرد احتمال الامتثال
الحاصل بفعل أحدهما، حتى أنه إذا قصر في ذلك كان مذموما عندهم، وصح
للمولى عقوبته مع مصادفته للواقع وعدمها، إلا أن الفرق بينهما أنه مع انتفاء
المصادفة يعاقب على ترك الواجب، ومع حصولها على التجري على الترك
الحاصل من الاكتفاء بأحدهما. ولا فرق في ذلك بين دوران الواجب في نفسه بين
الأمرين أو تعينه عنده وحصول الترديد المفروض في الموضوع، لجريان المقدمة
المذكورة في المقامين، واتحاد الجهة القاضية بوجوب الإتيان بالأمرين في
الصورتين.
ومن غريب ما وقع في المقام ما صدر عن بعض الأعلام من ادعاء الفرق
والبناء على التفصيل حيث قال - بعد منع وجوب مقدمة العلم مطلقا - فإنا وإن قلنا
بوجوب المقدمة فقد نتوقف في إيجاب هذا القسم، وذلك لأن أقصى ما استنهضناه
هناك للوجوب هو أنا نعلم من حال من أمر بشئ الأمر بجميع ما يتوقف عليه
567

ذلك الشئ ورجعنا في ذلك إلى العرف، ولما رجعنا في مقدمة العلم إلى حال
الشارع في التكاليف لم نقطع بأنه مما يوجب في الأمر الإتيان بكل ما وقع فيه
الاشتباه، ولا في النهي تركه، بل نجيز أن يقنع هنا بأحد الأمرين، فإنا نفرق بين
الشاهد والغائب من حيث إن المصلحة في الشاهد تعود إليه بخلاف الغائب، فإنها
تعود إلى المأمور، فلا يبعد أن يقنع منه عند الاشتباه بالتكليف بأحد الأمرين، ولا
أقل من الجواز. وحينئذ فنمنع وجوب ما وقع فيه الاشتباه متعلقين بأصل البراءة،
وهذا بخلاف ما إذا كان المكلف به معلوما ثم عرض الاشتباه ولا يتم إلا
بالضميمة، كما في غسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين وستر العورة
ونحو ذلك، فإنه مما علم فيه الشغل بشئ بعينه ولم يقع الاشتباه في التكليف
انتهى. وضعفه ظاهر من وجوه:
أحدها: أنه كما يعقل من حال الأمر وجوب الإتيان بجميع ما يتوقف عليه
ذلك الفعل كذا يعقل منه وجوب العلم والاطمئنان بأداء ما هو الواجب، إذ الاكتفاء
بمجرد احتمال الأداء تفويت للمصلحة المترتبة عليه، إذ الاحتمال قد يطابق الواقع
وقد لا يطابقه، من غير فرق بين ما يكون المصلحة عائدة إلى الآمر أو المأمور،
كيف وقد أقر به في الصورة الثانية وقد مثله بغسل الوجه واليدين ومسح الرأس
وستر العورة، مع أنه ليس مما يتوقف عليه أداء الواجب.
ثانيها: أن الدليل على وجوب المقدمة ليس منحصرا في المذكور فلو سلم
عدم جريانه في المقام كان ما ذكرناه من حكم العقل بلزوم التحرز عند خوف
الضرر كافيا في المقام، ومجرد تجويز اكتفاء الشارع بأحد الأمرين لا يوجب
زوال الخوف وهو ظاهر.
ثالثها: أنه مع الغض عما ذكرناه أي فارق بين ما إذا دار نفس التكليف بين
شيئين أو وقع هناك شك في الموضوع؟ إذ كما يحتمل اكتفاء الشرع هناك بأحد
الأمرين يحتمل في المقام، وتعين نفس المكلف به في الثاني لا يقضي بوجوب
الجميع، إذ الاكتفاء المذكور إنما هو بحسب ظاهر التكليف في المقامين، فلا يمكن
568

الحكم في الأول بكون أحد الأمرين هو عين الواجب بحسب الواقع، فغاية ما
يقضي به الاحتمال المذكور هو الاكتفاء به في الظاهر، وهو جار في المقامين. ولو
تمسك فيه باستصحاب الشغل جرى في الأول أيضا، إذ مع الإتيان بأحد الأمرين
لا يحصل اليقين بالفراغ.
رابعها: أن ما ذكره من الفرق بين الشاهد والغائب غير واضح، إذ من الواضح
أن الغرض من ذلك عدم ثبوت المصلحة سواء كانت عائدة إلى المكلف أو المكلف
بل ربما كان الثاني أقبح، إذ ملاحظة حال النفس في ذلك آكد.
حجة القائل بإجراء الأصل في المجملات وجوه:
الأول: أن المناط في حجية أصالة البراءة وجواز الرجوع إليه في نفي
التكاليف الشرعية حاصل في ذلك من غير تفاوت، فما قضى بحجيتها في
التكاليف المستقلة قاض بها في المقام، وذلك لأن المجوز في العمل بالأصل
المذكور في سائر المقامات هو انسداد باب العلم مع بقاء التكليف بالضرورة وقبح
التكليف بما لا يطاق، فإن المقدمات المذكورة قد جوزت لنا العمل بالظن في
الأحكام الشرعية بعد التفحص والتجسس من الأدلة، وحصول الظن بسبب
رجحان الدليل على المعارضات، أو بسبب أصالة عدم معارض آخر.
ومن البين: أن ذلك كما يجري في نفس الأحكام الشرعية كذلك يجري في
ماهية العبادات المجملة. وكما أنه لا يجوز الأخذ بالظن في نفس الأحكام
الشرعية قبل بذل الوسع في ملاحظة الأدلة والتفحص والتفتيش عن كيفيات
الدلالة وتحصيل ما هو أقوى الظنون الممكنة كذلك الحال في المقام. وكما أنه
يجوز الأخذ بالأصل هناك بعد الملاحظة المذكورة فكذا في المقام من غير تفاوت
أصلا.
وما قد يقال: من أن العلم باشتغال الذمة بالعبادة المجملة في المقام قاطع
لأصالة البراءة وأصل العدم السابق - فيكون الأصل فيه بقاء الشغل حتى يثبت
الفراغ - فهو منقوض بالأحكام المستقلة، فإن اشتغال الذمة بتحصيل حقيقة كل
569

واحد من الأحكام الذي علم إجمالا بالضرورة من الدين قاطع لذلك، وثبوت
حكم إجمالي بخصوص كل مسألة من تلك المسائل رافع لحكم الأصل، للعلم
بثبوت ذلك الحكم. وكما أنه بعد التفحص عن الأدلة وبذل الوسع في ملاحظة
الضوابط الشرعية يرجع في الثاني إلى أصالة البراءة، لما عرفت من قضاء
المقدمات المذكورة بالرجوع إلى الظن بعد انسداد طريق العلم فكذا في الأول،
لجريان المقدمات المذكورة فيها بعينها. فإذا حصل لنا من جهة الأخبار أو
الاجماعات المنقولة أو المحصلة - الحاصلة من ملاحظة حال السلف - أن ماهية
الصلاة لا بد فيها من النية والتكبير والقراءة والركوع والسجود وغيرها من الأجزاء
المعلومة، وشككنا في وجوب السورة وتعارضت فيه الأدلة وتعادلت، أو لم يقم
هناك دليل على الوجوب بعد بذل الوسع، وبقي عندنا احتمال الوجوب خاليا عن
الدليل بحسب الظاهر، متوقفا على قيام دليل غير واصل إلينا، فحينئذ يصح لنا نفيه
بأصل البراءة وأصالة عدم الوجوب، فإنه يفيد وجوب الظن بالعدم، ويحصل من
مجموع المذكورات الظن بأن ماهية العبادة هو ما ذكرنا لا غيرها.
الثاني: أن من الأدلة على حجية أصالة البراءة هو استصحاب البراءة القديمة،
وهو بعينه جار في المقام، إذ من البين أن التكليف بشئ ذي أجزاء تكليف في
الحقيقة بأجزائه وإيجاب لها، فإذا قال: " صل " وكانت الصلاة مركبة من عشرين
جزء كان ذلك تكليفا وإيجابا للإتيان بتلك الأجزاء، وإلزاما للمكلف بفعلها.
فنقول: إذا تعلق التكليف بمجمل وحصلنا بعد الفحص عن أجزائه وشرائطه عدة
أمور ولم نجد في الأدلة ما يفيد اعتبار غيرها فإن لنا أن نقول: إنه قد تعلق التكليف
بتلك الأجزاء يقينا وقد حصل الشك في تعلقه بما يزيد عليها، وقضية استصحاب
البراءة السابقة البقاء على البراءة بالنسبة إلى تلك الزيادة، فلا نخرج عن مقتضى
البراءة القديمة إلا بمقدار ما حصل من العلم بالتكليف، فالاستصحاب المذكور
دليل شرعي على نفي غيرها من الأجزاء والشرائط، فيكون إثبات كل من الأجزاء
والشرائط ونفيه حاصلا من دليل شرعي.
570

والقول بأنه مع تعلق التكليف بالمجمل والشك في حصوله يستصحب الشغل
حتى يتبين الفراغ مدفوع، بأنه لا يقين بالاشتغال بما يزيد على الأجزاء والشرائط
المعلومة.
وما يقال: من أن ذلك إنما يتم مع عدم ارتباط بعض الأجزاء بالبعض وأما معه
فلا يقين بالاشتغال بخصوص المعلوم - لاحتمال تعلقه بالمجموع المركب منها
ومن غيرها، وبعبارة أخرى العلم بحصول التكليف بها بشرط شئ لا يقضى بالعلم
بالتكليف بها بشرط لا كما هو المفروض - مدفوع، بأنه إذا تعلق التكليف
بالمجموع المركب فقد تعلق بالأجزاء المذكورة، ضرورة أن التكليف بالمركب
تكليف بأجزائه، فإذا اندفع التكليف بالزائد من جهة الأصل تعين المعلوم لتعلق
التكليف به.
وما يتوهم: من أن تعلق التكليف بالخصوصية مخالف للأصل أيضا بين
الاندفاع، للعلم بتعلق التكليف به في الجملة قطعا.
غاية الأمر حصول الشك في انضمام الغير إليه وعدمه، فبعد نفي الغير بالأصل
ينحصر الأمر في التكليف به، وهو من لوازم النفي المذكور ومرجعه إلى أمر
عدمي.
ومع الغض عنه فنقول: إن وجوب الإتيان بالأجزاء والشرائط المعلومة مما لا
خلاف فيه بين الفريقين، إنما الكلام في وجوب الإتيان بالمشكوك فيه وعدمه،
والقائل بوجوب الاحتياط يقول به ونحن ننفيه بالأصل المذكور.
الثالث: قد بينا أن الأصل فراغ الذمة والحكم ببراءتها حتى يتبين الاشتغال،
فما لم يحصل العلم أو الظن المعتبر بحصول الشغل لم يحكم به، وكذا بعد حصول
العلم بالشغل لا يحكم بالبراءة ما لم يتبين الفراغ.
فنقول في المقام: إن القدر الثابت عندنا في التكاليف المتعلقة بالمجملات هو
تكليفنا بما ظهر أنه صلاة أو صوم - مثلا - إما بالعلم أو الظن الاجتهادي، ولم يثبت
اشتغالنا بما هو صلاة في نفس الأمر والواقع.
571

والقول بأن الألفاظ موضوعة بإزاء الأمور الواقعية فقضية تعلق التكليف بها
تعلقه بالأمور الواقعية، مدفوع.
أولا: بأن تلك الخطابات غير متوجهة إلينا حتى نرجع فيها إلى ظواهر الألفاظ
لو سلمنا ظهورها فيها، وإنما المرجع في المقام هو الاجماع على الاشتراك ولم
يثبت إلا بمقدار ما أمكننا معرفته علما أو ظنا، لاستحالة التكليف بالمحال في
بعضها ولزوم العسر والحرج المنفي في أكثرها.
وثانيا: بأن الألفاظ وإن كانت موضوعة بإزاء الأمور الواقعية إلا أن الخطابات
الشرعية واردة على طريق المكالمات العرفية، ومن الظاهر أنهم يكتفون بظاهر
أفهام المخاطبين، فلا يجب على الشارع أن يتفحص عن المخاطب أنه هل فهم
المراد الواقعي أو لا، فإنه مع عدم إمكانه واقعا لأدائه إلى التسلسل لم يكن بناء
الشرع عليه، مع ما يرون من اشتباه المخاطبين في الفهم كما يظهر من ملاحظة
الأخبار.
فظهر أنهم كانوا يكتفون بمجرد ظهور المراد والظن به، فلم يعلم من
الخطابات المتوجهة إلى المشافهين إلا تكليفهم بما بينوه لهم وأعلموهم أنه
الصلاة، أو أمكنهم معرفة أنه الصلاة، ولم يظهر أن الخطابات المتوجهة إليهم كان
خطابا بما في نفس الأمر مع عدم علم المخاطبين، حتى يلزمنا ذلك من جهة
الاجماع على الاشتراك. فمحصل الكلام: أنه لم يثبت حصول الاشتغال ووقوع
التكليف إلا بمقدار ما دل عليه الدليل عندنا إما بطريق العلم أو الظن المعتبر، وما
زاد عليه منفي بالأصل. فالقول بأنه بعد حصول الاشتغال لا بد من اليقين بالفراغ
مدفوع، بأن المتيقن من الاشتغال ليس إلا مقدار ما قام الدليل عليه، فينفى غيره
بالأصل، فإن اعتبار كل جزء أو شرط تكليف زائد، ولذا يعبر عنها بالأوامر
والنواهي في الغالب كسائر التكاليف.
الرابع: الأخبار الواردة في المقام الدالة على رفع التكليف بغير المعلوم وأن لا
تكليف إلا بعد البيان مما تقدمت الإشارة إلى جملة منها، فإنها شاملة لمحل
572

الكلام، وبعد دلالتها على ارتفاع التكليف بها يتعين التكليف بالباقي، فيكون
المستند في حصر الأجزاء والشرائط والمعرفة بها إثباتا ونفيا هو التوقيف من
الشرع، أما إثباتا فظاهر، وأما نفيا فلما عرفت من الاحتجاج عليه بالأخبار
المذكورة، فتكون تلك الأدلة بعد انضمامها إلى هذه الأخبار مبينا لحقيقة تلك
المجملات.
غاية الأمر أن يكون ذلك بيانا ظاهريا كاشفا عما تعلق به التكليف في ظاهر
الشريعة وإن لم يكن كذلك بحسب الواقع، كما هو قضية أصالة البراءة في سائر
المقامات.
فإن قلت: بعد فرض تعلق الأمر بالمجمل وعدم انكشاف حقيقته من الأخبار
المبينة لها يكون المأمور به مجهولا، لأداء جهالة الجزء إلى جهالة الكل، وقضية
الأخبار المذكورة سقوط التكليف بالمجهول.
قلت: قد قام الاجماع من الكل على عدم سقوط الواجب من أصله ووجوب
الإتيان بالأجزاء المعلومة قطعا، وإنما الخلاف في لزوم الإتيان بالمحتملات
وعدمه، وقد عرفت أن قضية تلك الروايات السقوط.
الخامس: أن أصل العدم حجة كافية في المقام مع قطع النظر عن أصالة
البراءة، فإن الأصل في المركب عدم تركبه من الأجزاء الزائدة وعدم اعتبار
الشروط الزائدة فيه، وأصل العدم حجة معروفة جروا عليه في كثير من المقامات.
السادس: القاعدة المعروفة عندهم من الأخذ بالأقل عند دوران الأمر بينه
وبين الأكثر، وهي جارية في المقام، وقد جروا عليها في مواضع كثيرة.
السابع: أنه كيف يصح الحكم بوجوب ما احتمل جزئيته أو شرطيته وقد
قامت الأدلة على لزوم استنباط الأحكام الشرعية من مداركها المعينة، وعدم
جواز الأخذ بمجرد الاحتمالات القائمة من دون استناد فيه إلى الأدلة الشرعية،
من ظنون مخصوصة، أو مطلق ما أفاد الظن على القول بحجيته، ومع البناء على
الجزئية أو الشرطية فيما احتمل جزئيته أو شرطيته يرجع الأمر إلى الاكتفاء في
573

إثبات مثل ذلك بمجرد الاحتمال، وهو خلاف ما قضت به الأدلة، ودلت عليه
النصوص القاطعة، بل وما هو المعلوم ضرورة من الشريعة المطهرة.
ثم إن ها هنا مسلكا آخر في الاحتجاج مبنيا على ادعاء نفي الاجمال في
تلك الماهيات وورود التكليف بها على حسب البيان، وهذه الطريقة وإن كانت
خارجة عن محل الكلام، إذ المقصود هنا إجراء الأصل مع الاجمال ليكون الأصل
المذكور من جملة ما يوجب بيان ذلك الاجمال بحسب الظاهر، إلا أنه مشارك لما
ذكرنا في الثمرة، ولذا ذكرناه في طي أدلة المسألة.
وقد احتجوا لذلك بوجوه:
الأول: أن التكليف بالمجمل وإن اقتضى بحسب اللغة التكليف بما عليه ذلك
المجمل في نفس الأمر فيجب الإتيان بجميع أجزائه الواقعية، إذ المفروض تعلق
الأمر بتمام تلك الماهية، إلا أن أهل العرف لا يفهمون من ذلك إلا التكليف بما
وصل إلى المكلف وظهر لديه وقامت الأدلة عليه، لا بكل ما يتوهم دخوله فيه
واندراجه فيما تعلق الأمر به. ألا ترى أنه لو قال " أكرم كل عالم في البلد، وتصدق
على كل مسكين فيه، وأهن كل فاسق منهم " لم يفهم من ذلك عرفا إلا تعلق
الأحكام المذكورة بمن علم اتصافه بإحدى تلك الصفات المذكورة بعد بذل الوسع
في الاستعلام وتبين الحال، فلا يجب إيقاعها بالنسبة إلى كل من يحتمل اندراجه
في أحد المذكورات لما يتوهم من لزوم الأخذ بيقين البراءة بعد اليقين بالشغل
فلا تكليف بها إلا على النحو المذكور، والمفروض الإتيان بها كذلك وهو قاض
بحصول الأجزاء والامتثال، ولا يلزم من ذلك دخول العلم في مدلول الألفاظ،
بل لا يوافقه أيضا في الثمرة، لوضوح وجوب الاستعلام في المقام بخلاف ما لو
تعلق الحكم بالمعلوم، وإنما ذلك رجوع إلى العرف في تقييد ذلك الإطلاق حسب
ما ذكر.
الثاني: أن قضية القاعدة في تلك الألفاظ المجملة هو الحمل على المعاني
الشرعية، إذ لو قلنا بثبوت الحقيقة الشرعية فلا كلام، وعلى القول بعدمه
574

فالمفروض قيام الدليل على إرادة المعاني الشرعية وإلا فلا إجمال في معانيها
اللغوية، والمعاني الشرعية ليست إلا ما صار اللفظ حقيقة فيها عند المتشرعة كما
هو معلوم من ملاحظة موضع النزاع في الحقيقة الشرعية، وحينئذ فالمرجع في
تعيين المعاني الشرعية إلى عرف المتشرعة، ولا إجمال في فهم العرف من تلك
الألفاظ، لوضوح اشتهار المعاني الشرعية وبلوغها إلى حد الحقيقة.
ومن الواضح: ظهور المعاني الحقيقية ونفيها عند أرباب الاصطلاح، فما
ينصرف إلى أذهانهم من الأجزاء والشرائط هو المعنى الشرعي الموضوع بإزائه
على الأول، أو المراد منه بعد قيام القرينة الصارفة على الثاني، فإذا شك في جزئية
شئ أو شرطيته يرجع فيه إلى عرف المتشرعة، كما هو القاعدة في معرفة سائر
الأوضاع الخاصة والعامة.
الثالث: أن البيان حاصل بما تلقيناه من حملة الشريعة ورواة الأحكام
الشرعية بعد بذل وسعهم ووسعنا فيه، فإن العادة قاضية في ذلك بعد البحث
والتفتيش على الأدلة بالعثور على الحقيقة، كيف ولو كان هناك شئ آخر غير ما
ثبت وظهر من الأجزاء والشرائط لبينه النبي والأئمة صلوات الله عليهم، إذ ليس
بعث الأنبياء ونصب الأوصياء إلا لتعليم الأحكام وإرشاد الأنام، وليس ذلك
حاصلا بمجرد إلقاء المجملات، وحكم الناس بالرجوع إلى الاحتياط، فإن ذلك
معلوم من ملاحظة حال السلف، ولو ورد هناك شئ من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
والأئمة (عليهم السلام) لذكره الحملة، وأشاروا إليه، وبينوا الأدلة القائمة عليه، مع ما هو
معلوم من حرصهم على بيان الأحكام وبذل وسعهم في إرشاد الأنام، فلو كان
هناك بيان من الشرع لما بقي في الخفاء ولاتضح كمال الوضوح والجلاء، لما فيه
من عموم البلوى، فلا عبرة إذن بما قد يطرء من الاحتمالات وما قد يتخيل هناك
من الإشكالات. كيف والأمر في تعرف معاني الألفاظ موكول إلى الظن، كما هو
معلوم من الطريقة الجارية في تعريف الحقائق اللغوية والعرفية وحمل الألفاظ
على معانيها الظاهرة، ومن البين حصول الظن بعد ملاحظة ما قررناه سيما في
معظم العبادات، فإنها تعم بها البلية ويعم الحكم فيها معظم الأمة كما ذكرنا.
575

الرابع: ان الألفاظ الدالة على العبادات المفروضة (1) أسامي للأعم من
الصحيحة والفاسدة كما قرر في محله، فبعد تحصيل المعيار في التسمية ينفى غيره
بالأصل حتى يقوم دليل على اعتباره، ولا ريب أن الواجبات الإجماعية وما قام
عليها الأدلة الشرعية من الأجزاء والشروط المرعية كافية في حصول التسمية،
فيمكن إجراء الأصل في جميع ما تعلق الشك به.
الخامس: أن التكاليف الشرعية من بدو الشريعة ما كانت موضوعة إلا على
حسب البيان، ألا ترى أنهم لو كلفوا بالصلاة وبين لهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عدة من أجزائه
وشرائطه من غير تصريح منه بالحصر في المذكور، وقام هناك احتمال أن يكون
جزء آخر وشرط آخر، وحضر وقت الحاجة ما كانوا ليحكموا بوجوب الاحتياط،
بل كان منفيا بحكم الأصل، إذ لو كان هناك جزء أو شرط آخر لبينه الشرع وإذ لا
بيان فلا تكليف، لوضوح أن وضع الشريعة وبعث الرسل والحجج إلى الخليقة ليس
إلا بيان التكاليف الشرعية، وإتمام الحجة على الرعية، ولم يجعل البناء على
الاحتياط من وجوه البيان ليترك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بيان الواجبات ويحيل الناس إلى
الاحتياط كما هو واضح من ملاحظة الطريقة الجارية عند الصحابة. وحيث عرفت
أن بناء الشرع على كون التكليف مبنيا على البيان دون البناء على الاحتياط
يجري الحكم بالنسبة إلى سائر الأعصار والأمصار، لاتحاد المناط في الكل، بل
عليه جرت الطريقة في الجميع.
قال بعض القائلين بإجراء الأصل في المقام: ليت شعري كيف كان في مبادئ
التكليف ولا سيما بالنسبة إلى النائين؟ أو ليس إنما كان يرد عليهم شيئا فشيئا،
امروا بركعتين فكان التكليف بهما، ثم امروا بآخرين فكان بأربع، وهكذا، لا
يعرفون إلا ما يرد عليهم، وإن أجازوا أن يكون قد أوحي إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) شئ آخر،
أو ورد أمر ولم تأتهم بها الرسل أتراك توجب عليهم الإتيان بكل ما أوحاه أو
توهموه لما قيل لهم أولا أقيموا الصلاة إن هذا لهو التشريع انتهى.

(1) المعروفة، خ ل.
576

فهذه جملة ما يتخيل من الوجوه لإجراء الأصل في ماهية العبادة، وهي
بضميمة الوجوه المتقدمة على هذه ترتقى إلى اثنى عشر وجها، ولا يذهب عليك
وهن الجميع.
أما الأول: فبأن حجية أصالة البراءة ليست مبنية على الظن، فضلا عن البناء
على أصالة الحجية فيه، بل الغالب في موارد الاحتجاج به عدم حصول الظن منها.
ولو فرض حصول ظن منهما في بعض المقامات فذلك من المقارنات الاتفاقية لم
يقم دليل على حجيته، ولذا لا يكون قابلا لمعارضة شئ من الأدلة. ولو كانت
حجيتها من جهة الظن كانت كباقي الأدلة يراعى في الترجيح بينها جانب القوة مع
أنها ليست كذلك.
والحاصل: أن أصالة البراءة قاعدة مستفادة من العقل والنقل كما مر القول فيه
في نفي الحكم، والحكم ببراءة الذمة مع عدم قيام شئ من الأدلة على ثبوت شئ
من التكاليف الشرعية، فعلى القول باعتبار الظنون المخصوصة إنما تنهض حجة مع
عدم حصول شئ من تلك الظنون على ثبوت التكليف، ومع البناء على أصالة
حجية الظن إنما يصح الاستناد إليها مع انتفاء مطلق الظن بثبوت الحكم، فهي نافية
للحكم إلا فيما دل الدليل فيه على الثبوت، وليست حجيتها مبنية على الظن بالنفي
كما عرفت في وجوه الاحتجاج عليها، ويدل عليه ملاحظة إجرائها في سائر
مواردها، فهي قاعدة في مقابلة قاعدة الظن فيما إذا لم يقم هناك دليل ظني على
النقل مطلقا على القول بأصالة حجية الظن، أو ظن مخصوص على القول الآخر،
وإنما لم يجروا عليه أولا من جهة لزوم الخروج عن الدين حسب ما قرر في
الاحتجاج على أصالة الظن.
إذا عرفت ذلك ظهر ضعف الاحتجاج المذكور، لظهور فساد ابتنائه على
أصالة حجية الظن وإذا بطل كونه المناط في حجية الأصل المذكور لم يصح الحكم
بالحجية في المقام من جهة جريان المناط المذكور فيه، بل الأمر فيه بالعكس، إذ
بعد فرض اشتغال الذمة بالمجمل ينبغي استصحاب ذلك الشغل حسب ما مر.
577

نعم على القول بأصالة حجية الظن لو فرض حصول ظن من الأصل المذكور
في المقام أمكن القول بحجيته، ويراعى فيه حينئذ قوة الظن الحاصل منه بالنسبة
إلى ما عرفت من الاستصحاب، فإن رجحت عليه صح الاستناد إليه. وهو كما
ترى وجه جديد لم يعلم ذهاب أحد إليه، بل ظاهرهم الإطباق على خلافه.
ثم ما ذكر في دفع ما أورد عليه - بانقطاع أصالة البراءة بحصول اليقين
بالاشتغال فيستصحب الشغل حتى نعلم بالفراغ - من النقض بسائر التكاليف
المتعلقة إذا شك فيها نظرا إلى حصول العلم إجمالا بثبوت حكم خاص بالنسبة إلى
خصوص كل مقام واشتغال الذمة بتحصيل حقيقة تلك الأحكام بين الاندفاع،
لوضوح الفرق بين المقامين، مع ما في الكلام المذكور من الإبهام.
فإنه لو أريد به اشتغال الذمة بمعرفة كل حكم حكم وتعلق التكليف بالعلم بها
ولا يحصل بمجرد الأصل المذكور فهو بين الفساد، إذ لسنا مكلفين في معرفة
الأحكام إلا بما دلت عليه الأدلة ونهضت عليه الشواهد الشرعية، ومع عدمها يبنى
على الاحتياط أو أصالة البراءة، حسب ما ظهر من حكم العقل والشرع به، وكيف
يعقل تكليفنا بتحصيل حقائق الأحكام الواقعية مع انسداد الطريق إليها في الغالب،
ولا يمكن الوصول إليها، لا من أصالة البراءة ولا من البناء على الاحتياط، إذ ليس
شئ منهما طريقا لمعرفة ما هو الواقع. وغاية ما يحصل من الاحتياط العلم بفراغ
الذمة، إما لفراغها من أصلها، أو للإتيان بما اشتغلت به، وأين ذلك من معرفة
حقائق الأحكام المتعلقة.
وإن أريد به اشتغال الذمة هناك بأداء التكليف فهو أيضا واضح البطلان، إذ
المفروض عدم قيام دليل على الاشتغال مع دوران الواقع بين حصول التكليف
وعدمه، فأي علم قضى هناك بالاشتغال؟
ولو اعتبر العلم الاجمالي باشتغال الذمة بأداء تكاليف الشرع جملة من
الضرورة والآيات والأخبار الدالة على وجوب الطاعة التي هي موافقة الأمر
والنهي فيجعل ذلك قاضيا باعتبار العلم بالفراغ، كما قد يستفاد من كلمات بعض
578

المتأخرين أيضا، حيث حكم بعدم الفرق بين أن يكلف أولا على الاجمال ثم يأمر
وينهى على التفصيل، أو يكلف بالتفصيل ثم يأمر بالمجمل تأكيدا، كما يقول:
امتثلوا ما أمرتم به.
وتوضيح المقام: أن الأوامر المتعلقة بوجوب الامتثال لتكاليف الشرع ولزوم
الطاعة قد أفادت وجوب طاعته في جميع أوامره ونواهيه، ولا ريب في إجمال
هذا المأمور به وعدم وضوحه عندنا، للشك في كثير من الأوامر والنواهي
الشرعية، فإن كان الاجمال المفروض باعثا على لزوم الاحتياط في تفريغ الذمة
جرى في المقامين، وإن بنى على الاقتصار على القدر المعلوم ونفي ما عداه
بالأصل جرى فيهما أيضا.
فيدفعه: أن التكليف المذكور ليس زائدا على التكاليف الخاصة المتعلقة
بمواردها المخصوصة حتى يكون هناك واجبان، أحدهما من جهة الأمر المتعلق
بالفعل، والآخر من جهة الضرورة القاضية بوجوب الطاعة، أو الأوامر الدالة عليه.
وحينئذ نقول: إن العلم الاجمالي بحصول تلك التكاليف المتفرقة لا يفيد العلم
بحصول تكليف زائد على القدر المعلوم من التكاليف، والامتثال بذلك القدر
المعلوم لا يتوقف على غيره قطعا، فبعد تحقق الامتثال بالنسبة إليها، وعدم العلم
بتعلق الطلب بغيرها لم يتحقق علم بالاشتغال رأسا حتى يتوقف على العلم
بالفراغ، بخلاف المقام، لتحقق التكليف بالمجمل، وعدم العلم بالامتثال أصلا، مع
الاقتصار على القدر المعلوم. ولو سلم حصول تكليف آخر على جهة الاجمال
متعلق بوجوب الامتثال فليس امتثاله بحسب متعلقاته مما يتوقف بعضها على
بعض فيقتصر إذن على القدر المعلوم وينفى الباقي بالأصل، للعلم بحصول
الامتثال بالنسبة إلى المعلوم، وعدم تحقق الاشتغال من أصله بالنسبة إلى غيره
حسب ما مر تفصيل القول فيه. وهذا بخلاف المقام، إذ المفروض حصول العلم
بالاشتغال مع انتفاء العلم بحصول الامتثال رأسا.
وأما الثاني: فبأن متعلق التكليف مجمل في المقام، وليس التكليف بالأقل
579

متحققا على الحالين ليؤخذ به وينفى الباقي بالأصل، على ما مر تفصيل القول فيه
عند الاحتجاج على المختار.
وأما الثالث: فبأن من البين وضع الألفاظ للأمور النفس الأمرية من غير
مدخلية في وضعها للعلم والجهل بالمرة، وقضية الأصل والطريقة الجارية في
المخاطبات البناء على استعمالها في معانيها الموضوعة حتى تقوم قرينة صارفة
عنها. فالقول باستعمالها في خصوص ما يفهمه المخاطب من ذلك الخطاب - كما
يتخلص من ملاحظة الاحتجاج المذكور وعليه يدور صحة الاحتجاج به - غير
وجيه، بل غير معقول، لرجوع ذلك إلى عدم قصد شئ مخصوص من العبادة،
واستعماله في معنى مجهول هو ما يفهمه المخاطب كائنا ما كان. وأعجب منه ما
حكم به من جريان طريقة التخاطب عليه. وأما ما ذكر من جريان الطريقة على
الأفهام بحسب ظاهر الحال فهو لا يدل على ذلك بوجه، أفذاك إنما يكون وجها
لعدم تنصيص الشارع على المقصود بحيث لا يحتمل الخلاف بأن يقال: إنما جرى
في المخاطبات على ظواهر الألفاظ كما هو قانون أصحاب اللسان في البيان، لا
أن مقصوده من العبارة هو ما يفهمه المخاطب وإن غلط في الفهم وفهم خلاف ما
هو الظاهر من اللفظ بحسب الواقع، فالقدر اللازم حينئذ هو تكليفهم بظواهر
الألفاظ ما لم يقم هناك صارف عنها.
ومن البين: كشف ذلك حينئذ عما هو مقصوده في الواقع، إذ لو أراد حينئذ
غيره لزم الإغراء بالجهل والتكليف بالمحال، وأين ذلك من كون المراد بتلك
الخطابات ما يعتقده المخاطب ويفهمه من تلك العبارات.
نعم ما يفهمه المخاطب من تلك الخطابات مع عدم التقصير في الفهم يكون
مكلفا به في ظاهر الشرع إلى أن يتبين له الخطأ في الفهم. وكذا الكلام فيما يثبت
عند المجتهد من الأحكام بعد بذل الوسع في تحصيله، فإنه مكلف [بما يعمل (1)]
بما أداه إليه الأدلة الشرعية وإن فرض مخالفته لما هو الواقع، وذلك لا يستلزم أن

(1) " ق 2 " و " ف 2 ".
580

يكون ذلك مراد الشارع من خطابه، ولا أن يكون ذلك هو الحكم بحسب الواقع،
كيف ولو كان كذلك لزم القول بالتصويب، بل هو في ظاهر الشرع مكلف بما أدى
إليه اجتهاده فإن طابق الواقع وإلا كان مخطئا، فالتكليف الأولي متعلق بما هو مراد
الشارع بحسب الواقع، ولا بد من بذل الوسع في تحصيله. فالقول بعدم كونه مكلفا
بما هو الواقع رأسا غير متجه. وكونه مكلفا في الظاهر بما يؤدى إليه اجتهاده غير
نافع في المقام، وإنما يفيد ذلك لو قامت الأدلة عنده على تعيين أجزاء الصلاة -
مثلا - وشرائطه ليجب عليه العمل بمقتضاه وليس كذلك، إذ المفروض أن الثابت
من الأدلة هو اندراج جملة من الأفعال واعتبار عدة من الشرائط فيه، مع الشك في
الزيادة القاضي بالشك في صدق الصلاة على تلك الأجزاء المعلومة المستجمعة
للشرائط المعينة فالثابت بالدليل اعتبار الأجزاء والشرائط المذكورة في ذلك
الفعل، لا صدق ذلك الفعل على تلك الأجزاء كذلك، فكيف يصح القول بتحقق
الامتثال بمجرد الإتيان بها مع الشك المذكور وعدم قيام دليل شرعي على كون
ذلك المأمور به في المقام.
والقول بأن الواجب في الظاهر هو خصوص ما قام الدليل على اعتباره جزء
كان أو شرطا فينفى غيره بالأصل كما يقال في سائر التكاليف مع عدم ارتباط
بعضها بالبعض مدفوع، بأنه أول الكلام، إذ الكلام في تعلق الأمر حينئذ بذلك
المقدار الذي يشك في حصول الماهية بحصوله. فالقول بأنه القدر المسلم مما
تعلق التكليف به واضح الفساد، إذ لا تكليف هناك بخصوص الأجزاء، إذ
المفروض ارتباط بعضها بالبعض بحيث لو ارتفع واحد منها ارتفع التكليف بالباقي.
فقضية الأصل حينئذ أن يقال: إن التكليف الواقعي بما هو مؤدى اللفظ واقع
في المقام، وحصوله بمجرد الإتيان بتلك الأجزاء المعلومة المستجمعة للشرائط
المعينة غير معلوم بالنظر إلى الأدلة الظاهرية، فلا بد من الحكم ببقاء التكليف وعدم
سقوطه إلا مع الإتيان بكل جزء أو شرط شك فيه مع الإمكان ليعلم معه بحصول
البراءة وأداء الواجب، وهو واضح لا خفاء فيه.
581

وأما الرابع: فبأن شمول الأخبار لمحل الكلام غير معلوم، بل لا يبعد انصرافها
إلى غيره، وهو ما إذا كان أصل التكليف بالشئ مجهولا أو كان جاهلا به بالمرة
- كما إذا لم يخطر بباله - أو قام عنده دليل شرعي على عدم اعتباره، دون ما إذا
حصل اليقين بالتكليف وشك في حصول المكلف به بما يؤديه، سيما مع علمه
بحصوله في الفرد الآخر المستجمع للجزء أو الشرط المشكوكين، بل علمه
بحصوله في الفرد المذكور دون غيره مما يعين الإتيان به، فليس ذلك مندرجا في
الجهالة المسقطة للتكليف، ولا أقل من الشك في اندراجه في الأخبار وهو كاف
في المقام. ولو سلم شمول إطلاقها لذلك فهو معارض بما دل على عدم نقض اليقين
بالشك، ولزوم تحصيل اليقين بالفراغ بعد اليقين بالشغل، ومع تعارض القاعدتين
المذكورتين لا يمكن الحكم بمشروعية الفعل المذكور والحكم بسقوط التكليف به
كما لا يخفى.
ومن عجيب الكلام ما صدر عن بعض الأعلام: من أنه لا فائدة في الإتيان
بالجزء أو الشرط المشكوكين لتحصيل اليقين بالفراغ، مع أن سائر الأجزاء
والشرائط إنما ثبتت أو نفيت بالأدلة الظنية الغير البالغة حد اليقين، فأي فائدة في
مراعاة اليقين في جزء أو شرط مخصوص مع انتفائه في سائر الأحوال والشرائط.
وكيف يعقل تحصيل اليقين من جهة الإتيان بالجزء أو الشرط المشكوك مع
أنه لا يقين في سائر الشرائط والأجزاء، إذ قد عرفت أن المطلوب من اليقين في
المقام ما قام عليه الدليل المعتبر المنتهي إلى اليقين لا ما حصل اليقين بكونه عين
المكلف به بحسب الواقع، لوضوح عدم اعتباره في الشرعيات لا حكما ولا
موضوعا، والمفروض أن سائر الأجزاء والشرائط مما ثبت بالدليل المعتبر بخلاف
ما هو محل الكلام، فاعتبار اليقين الواقعي فيه على فرضه ليس لتحصيل اليقين
بأداء المكلف به كذلك بالنحو المذكور، بل المقصود منه تحصيل فرد يقوم الدليل
الشرعي على الاكتفاء به، إذ المفروض عدم قيام دليل شرعي على كون الفاقد
لذلك الجزء أو الشرط من أفراد ذلك الواجب حتى يقال بصدقه عليه.
582

والقول بان الأصل المذكور من الأدلة على نفيه مدفوع، بأن ذلك أول الكلام
وقد عرفت عدم نهوض شئ من الأدلة عليه، كيف ولو سلم قيام دليل شرعي على
اعتباره في المقام لم يعقل معه القول بوجوب الاحتياط كما لا يخفى.
وأما الخامس: فبأن المكلف به في المقام هو ما استعمل فيه اللفظ ومدلوله،
وهو من هذا الاعتبار ليس من الأحكام الشرعية، بل هو من الأمور العادية
الجارية على نحو المخاطبات العرفية سواء قلنا بثبوت الحقيقة الشرعية أو لا.
وسنقرر أن أصل العدم من حيث هو لا يتفرع عليه ثبوت الأحكام الغير
الشرعية مما يجعل موضوعا للأحكام الشرعية. ونقول أيضا: إن الماهيات
المفروضة أمور جعلية توقيفية، ومثل ذلك لا مدخل لأصل العدم فيه، كيف ولو كان
كذلك لجاز إثبات بساطة الموضوع له بالأصل لو دار الوضع بين كونه للبسيط أو
للمركب منه ومن غيره، وكذا بساطة اللفظ الموضوع لو دار بين كون اللفظ
الموضوع بسيطا أو مركبا، كما إذا شك في كون اللفظ الموضوع بإزاء شخص لفظ
" عبد " أو " عبد الله " فيحكم بالأول بمقتضى الأصل.
ومن البين: أن الاستناد إليه في ذلك يشبه الهذيان في وضوح البطلان، ثم مع
الغض عن ذلك كله فأصل العدم على فرض حجيته في سائر المقامات إنما ينهض
حجة فيما يدور الأمر بين وجود الشئ وعدمه، سواء تعلق الشك بوجود شئ
استقلالا أو مع أمور اخر، وليس المقام من ذلك، فإن المفروض دوران المطلوب
بين شيئين، لا قطع بتعلق التكليف بأحدهما من (1) التكليف بالآخر كما قدمنا القول
فيه، فهو نظير ما إذا دار التكليف بين مركبين مختلفين وكان أحدهما أقل جزء من
الآخر، فإن عاقلا لا يتخيل هناك ترجيح الأقل بالأصل، مع أنه لا فرق بينه وبين
ما نحن فيه سوى اشتمال الأكثر في المقام على الأقل، ولا ثمرة يترتب عليه، لما
عرفت من عدم اقتضاء التكليف بالأكثر للتكليف بالأقل إلا في ضمنه لا مطلقا،

(1) مع، خ ل.
583

فيتردد المكلف به بين شيئين لا يقطع بتعلق التكليف بأحدهما على كل من
التقديرين كما هو الحال في الفرض المذكور.
وأما السادس: فبأن المرجع في الأصل المذكور إلى أصالة البراءة أو أصل
العدم وقد عرفت الحال فيها.
وأما السابع: فبأنه لا يحكم في المقام بكون المشكوك جزء أو شرطا بحسب
الواقع فيكون الحكم به من غير دليل، وإنما يحكم بوجوب الإتيان في الظاهر،
وليس المستند فيه مجرد الاحتمال كما توهم، بل تحصيل اليقين بالفراغ بعد اليقين
بالاشتغال الواجب مراعاته في المقام، حسب ما عرفت من قيام الأدلة عليه. كيف
ولا تأمل في رجحان الاحتياط في المقام إن لم نقل بوجوبه، وذلك أيضا حكم من
الأحكام الشرعية والمنشأ فيه قيام الاحتمال المذكور.
وأما الثامن: فبأنه لو صح ذلك وكانت الأوامر المتوجهة إلى المكلفين متعلقة
في الواقع بما قام الدليل عليه عند المكلف لزم القول بالتصويب، لاختلاف
المكلفين في ذلك وتفاوت الأفهام في تعرف الأحكام، وهو مخالف لإجماع
الشيعة. ودعوى فهم العرف في ذلك ممنوعة بل فاسدة، إذ ليس ما استعمل فيه
اللفظ عندهم إلا ما أراده المتكلم بحسب الواقع على مقتضى قانون الاستعمال،
فإن أخطأ أحد في الفهم أو لم يصل إليه شئ لم يلزم منه عدم تعلق التكليف به
بحسب الواقع.
غاية الأمر أن يكون ذلك عذرا له في الترك، فغاية ما في المقام فهم العرف
كون العلم طريقا إلى الواقع في تعيين ما تعلق التكليف به في الفروض المذكورة
ونحوها، فيكون التكليف الظاهري منوطا بالعلم. فلو تم ذلك لزم القول بوجوب
مراعاة الاحتياط في المقام وكان ذلك حجة لما اخترناه، إذ الفرد المعلوم اندراجه
في المأمور به حينئذ هو ما كان جامعا لجميع الأجزاء والشرائط المشكوكة
والحاصل: أنه يكون الأمر بالصلاة بحسب أنه أمر بما علم أنه صلاة لا علم
584

إلا بالإتيان به (1) على النحو المذكور، وأين ذلك من الاقتصار على القدر المعلوم
اعتباره في الصلاة؟ وجواز الاقتصار على القدر المعلوم في الأمثلة المذكورة إنما
هو لكون التكليف بكل منها مستقلا، فينحل الأمر المذكور إلى أوامر يحصل
الامتثال في كل منها بجنسه من غير ارتباط بينها في الامتثال، ولذا يكتفي بالقدر
المعلوم من غير حاجة إلى مراعاة الاحتياط حسب ما مر تفصيل القول فيه.
وأما التاسع: فبأن غاية ما يفهمه أهل العرف في المقام هو المعاني الإجمالية
وأما التفصيل وتعيين الأجزاء والشرائط بالخصوص فيرجع فيه أهل العرف إلى
الفقهاء وحملة الشرع.
فإن قلت: أي فرق بين هذه الألفاظ وغيرها حيث يصح الرجوع في تعيين
معاني سائر الألفاظ إلى العرف ولا يصح في المقام.
قلت: إنما يرجع إلى العرف في تعيين المفهوم الذي وضع اللفظ بإزائه دون
تعيين مصاديقه، بل لا بد هناك من مراعاة العلم باندراجه في مسمى اللفظ، سواء
حصل ذلك من الرجوع إلى العرف أو الحس أو العقل، فاللازم من الدليل المذكور
صحة الرجوع إلى العرف في معرفة مسمى الألفاظ المذكورة في الجملة وهو
كذلك، ولذا رجعوا في كونها موضوعة بإزاء الصحيحة أو الأعم منها إلى العرف.
وأما تمييز أجزاء المعنى وشرائطه على التفصيل فليس مأخوذا في وضع اللفظ
حتى يرجع فيه إلى العرف - حسب ما فصل في محله - فلا بد من تمييزه بمقتضى
الأدلة القائمة، وهو مما يختلف باختلاف الأوضاع والأحوال. ألا ترى أن الصلاة
الصحيحة أيضا من الألفاظ المستعملة في العرف ولا يمكن الرجوع في تفاصيله
إلى العرف، وإنما يرجع إليه في كونه العبادة المخصوصة المبرئة للذمة، ويختلف
أجزاؤه وشرائطه بحسب اختلاف المقامات على نحو ما قامت عليه الأدلة

(1) هكذا وجدنا العبارة في جميع ما عندنا من النسخ، والصواب فيها هكذا:
والحاصل أنه يكون الأمر بالصلاة حسب ما ذكر أمرا بما علم أنه صلاة ولا علم إلا
بالإتيان. هامش المطبوع.
585

الشرعية، وكذا الحال في مطلق الصلاة، فإنما يرجع إلى العرف في كونها عبارة عن
العبادة المعروفة المختلفة أجزاؤها وشرائطها بحسب اختلاف الأحوال، وليس من
شأن العرف تميز ذلك، وإنما يرجعون فيه إلى الفقهاء وهم يرجعون إلى الأدلة
الشرعية، ولذلك يحكم فيه كل منهم على حسب ما فهمه من الأدلة.
وأما العاشر: فبأن معرفة أجزاء الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات
ومعرفة شرائطها وموانعها من عمد الأحكام الشرعية، ومعظم المسائل الفقهية،
وأكثرها مما خفيت على معظم الأمة، لوقوع الفتنة المعروفة، واختلاف الأخبار
المأثورة، وخفاء دلالتها بالذات، أو بملاحظة مجموع الأدلة. ولذا صار كثير منها
معارك للآراء واختلف فيه أساطين الفقهاء وقصاراهم الاستناد فيها إلى الظن إن
أمكن، وليت شعري كيف يمكن دعوى الوضوح في المقام مع أن الفقهاء الأعلام
من قديم الأيام بل من عصر أئمتنا (عليهم السلام) لا زالوا مختلفين في ذلك، وكل يبذل
وسعه في تحصيل المدارك ويستنهض الأدلة على ما يرجحه هناك لعموم البلوى
بتلك المسائل.
ولو أفاد وضوح الأمر فإنما يفيده بالنسبة إلى الأمور الإجمالية أو بعض
الأجزاء أو الشرائط الواضحة. وأما الخصوصيات المعتبرة وسائر الأجزاء
والشرائط المرعية فلا، كما هو المعلوم من ملاحظة أجزاء الصلاة وشرائطها مع
أنها أهم التكليفات الشرعية وأعم من جميع العبادات بلية. وما ادعي من حصول
الظن بحقيقة الصلاة من ملاحظة ما ذكره ممنوع، إذ ليست المعرفة بالمجملات
المذكورة كالمعرفة بسائر الأحكام الشرعية من الرجوع في استفادتها إلى
الضوابط المرعية سواء أفادت ظنا بالحكم أو لا؟
ومن الواضح: أن ادعاء حصول الظن نظرا إلى الوجه المذكور بمعرفة تفاصيل
أجزاء الصلاة وشرائطها الواقعية من غير زيادة عليها ولا نقيصة بعيد جدا، سيما
بالنسبة إلى الظواهر الواردة لأحكام الشكوك ونحوها، بل يمكن دعوى القطع
بفساده، على أنك قد عرفت أن تعيين تلك الخصوصيات ليس من قبيل إثبات
586

الموضوع له بالظن المكتفى فيه بمطلق الظن، بل الظاهر أنه إثبات للمصداق،
والموضوع له هو المعنى الاجمالي الأعم حسب ما فصل في محله فلا يكتفى في
تعيين المصداق بمطلق الظن، بل لا بد فيه من العلم، أو الأخذ بطريق ينتهي إلى
العلم، كما هو معلوم من ملاحظة سائر المقامات. وما قام الاجماع على حجية
الظن فيه إنما هو موضوعات الألفاظ دون سائر الموضوعات كما قد يتوهم.
وأما الحادي عشر: فبما قرر في محله من فساد الدعوى المذكورة، وكون
ذلك الألفاظ موضوعة بإزاء الصحيحة كما بيناه في محله.
وأما الثاني عشر: فبأن ما لم يبينه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مما يحتمل جزئيته أو شرطيته
وقد حضر وقت العمل به محكوم بعدمه قطعا، إذ ليس نصب الأنبياء إلا لبيان
الأحكام وإرشاد الأنام، لا لأن يأتونهم بالتكاليف المجملة، ويكلون بيانها على
مراعاة الاحتياط كما مرت الإشارة إليه.
وبالجملة: أن بيان الأحكام من الواجبات عليه (صلى الله عليه وآله)، فإذا ترك البيان زيادة
على المفروض دل على انحصار الأمر فيه، إذ لا يترك ما هو واجب عليه سيما في
أمر التبليغ. وقد نص الأصوليون على أنه لو وقع تكليف بالمجمل ثم صدر عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فعل يمكن أن يكون بيانا له ولم يفعل غيره وحضر وقت الحاجة تعين
أن يكون ذلك بيانا له، وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو بعينه جار في
المقام، فكما أن بيان الأجزاء المفروضة دليل على جزئيتها كذلك عدم ذكره لما
يزيد عليها دليل على عدم اعتباره، وهذا بخلاف ما نحن فيه من قيام احتمال عدم
الوصول، ومقايسة أحدهما بالآخر مما لا وجه له، إذ لا يجب على الله تعالى
إيصال آحاد الأحكام إلى آحاد العباد، كيف! ومن البين خلافه، وحينئذ بعد تعلق
التكليف بالمجمل كيف! يمكن الحكم بحصول البراءة بالناقص استنادا إلى عدم
وصول القدر الزائد، لما عرفت من أن الإيصال ليس من الواجب على الله تعالى
ولا على الرسول حتى يدل انتفاؤه على انتفاء الزيادة.
وما ذكر: من أن النائين عن حضرته (عليه السلام) لم يكونوا يحتاطون في شئ من
587

المجملات بل يأتون ما يصل من البيانات ويتركون ما لم يثبت عندهم وإن
احتملوا وروده عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مدفوع.
بأنه إن كان عندهم من البيان ما حصلوا به معنى ذلك المجمل والمدلول عليه
بالخطاب ثم شكوا في تغيير حصل هناك وشك وروده في المقام فلا شك إذن في
الجريان على الحكم السابق، وهو غير محل النزاع، لثبوت الدليل الشرعي إذن
على نفي الزائد.
وأما إذا لم يكن كذلك - بل وصل إليهم عدة أجزاء حصلوها من أماكن
متعددة، ولم يعلموا صدق ذلك المجمل عليه، وتيقنوا بحصولها مع انضمام عدة
أخرى من الأفعال المشكوكة جزئيتها أو شرطيتها - فالقول بجريان طريقتهم على
الأول والاكتفاء في أداء التكليف رجم بالغيب، بل جرأة بلا ريب، وكان الأظهر
خلافه كيف! ومن المستبين عند عامة ذوي العقول توقف اليقين بالاشتغال على
اليقين بالفراغ هذا.
ولنتمم الكلام في المرام برسم أمور:
أحدها: أن الكلام المذكور كما يجري في الشك في الأجزاء كذا يجري في
الشك في الشرائط والموانع، من غير فرق لجريان جميع ما ذكر في الجميع، وقد
أشرنا إليه في ضمن الأدلة. وقد يتخيل التفصيل بين الأجزاء وغيرها فيقال: بعدم
جريان الأصل في الأول ويحكم بجريانه في الشرائط والموانع.
وقد يقال: بعدمه في الأولين وجريانه في الأخير. وربما يظهر من بعضهم
ندرة الخلاف في عدم جريانه في الأخير حيث ذكر الخلاف في جريانه في
الأجزاء والشرائط، وربما تجاوز بعضهم إلى المانع.
وأنت خبير: بأن عدم المانع من جملة الشرائط في الحقيقة، فتوهم الفرق بينه
وبين الشرط في المقام من الغرائب، وكأن وجه الفرق بينهما: أن الفعل يتم وجوده
باجتماع الأجزاء والشرائط، ومانعية المانع يتوقف على الدليل فينفى بالأصل.
ولا يخفى وهنه، إذ انتفاء المانع أيضا مأخوذ في تحقق الفعل على نحو الشروط،
588

ولا علم بحصول الفعل مع فرض الشك فيه. والقول بأن المعتبر فيه لما كان عدما
كان موافقا للأصل واضح الفساد، إذ ليس الكلام في الشك في تحقق المانع، وإنما
الكلام في الشك المتعلق بنفس المانعية، كما إذا علم تحقق شئ وشك في مانعيته.
والقول بأصالة عدم المانعية إن تم جرى بعينه في عدم الشرطية.
فظهر أن توهم الفرق بين الشرط والمانع في المقام موهون جدا.
بقي الكلام في الفرق بين الشك فيهما وبين الشك في الأجزاء. وقد حكي عن
بعض أفاضل المحققين التفصيل بين الأمرين فحكم بعدم إجراء الأصل في
الأجزاء وجريانه في الآخرين، والوجه في ذلك: أن قضية الجزئية اندراجه في
الكل وعدم تحقق الكل بدون تحقق كل من الأجزاء، فالشك في الجزء شك في
تحقق الكل.
وبالجملة: أن كل واحد من الأجزاء لاندراجه في الموضوع له مما أنيط به
التسمية فلا يتصور حصول الموضوع له بدونه، فلا يمكن العلم بإيجاده من دون
الإتيان به، وذلك بخلاف الشرائط والموانع، لخروجها عن ماهية العبادة.
والقول بأن الشغل اليقيني يحتاج إلى اليقين بالفراغ - ولا يحصل إلا بالإتيان
بما لم يعلم عدم شرطيته، وترك ما لم يعلم عدم مانعيته - مدفوع بأن ذلك إنما
يجري بالنسبة إلى الأجزاء لدخولها في المسمى، بخلاف الأمور الخارجية من
الشرائط والموانع، لأن المشكوك في شرطيته ومانعيته معلوم عدم جزئيته فلا
دخل له بمسمى اللفظ. فامتثال الأمر بالصلاة وغيرها من العبادات إنما يتوقف
على اليقين بحصول الأجزاء، ومع تحقق حصولها يصدق المسمى، ومعه يحصل
الامتثال القاضي بحصول الفراغ شرعا ما لم يدل دليل على خلافه - على نحو ما
يذكر في المعاملات - وهو المراد باليقين بالفراغ، إذ المقصود منه هو الفراغ
الشرعي.
وما يقال: من أن الشك في الشرط يقتضي الشك في المشروط ففيه: أن
العبارة المذكورة لا يخلو عن إجمال، وهي على بعض معانيها لا كلام فيها، لكنه
غير مرتبط بالمقام.
589

توضيح ذلك: أن المراد بالشك في الشرط إما الشك في وجوده أو في
شرطيته، وكذا الشك في المشروط إما أن يراد به الشك في وجوده أو في
مشروطيته. فإذا لوحظ كل من الاحتمالين الأولين مع كل من الأخيرين تكون
الوجوه أربعة.
فإن أريد به: أن الشك في وجود الشرط يقتضي الشك في وجود المشروط
فحق، ولا ربط له بالمقام.
وإن أريد به: أن الشك في الشرطية قاض بالشك في المشروطية فهو واضح
أيضا، ولا نفع له في المرام، إذ الحاصل منه هو الشك في مشروطية الفعل به، لا
الشك في وجوده، كيف! والمفروض تحقق الأجزاء بأجمعها، ومع العلم به كيف
يعقل الشك في نفس وجود المشروط الذي هو عين تلك الأجزاء.
وأما الوجهان الآخران فلا وجه لإرادتهما: إذ لا ارتباط بين الشكين
المفروضين حتى يستلزم أحدهما الآخر.
قلت: هذا الكلام مبني على كون أجزاء المأمور به بأجمعها معتبرة في التسمية
بحيث يرتفع المسمى بارتفاع أي منها، كما هو قضية الجزئية في بادئ النظر، نظرا
إلى قضاء الضرورة بانتفاء الكل عند انتفاء جزئه، فإذا تعلق الشك بجزئية شئ
كان شكا في حصول الكل بدونه، فلا يعلم حصول مسمى اللفظ من دونه، بخلاف
الشرط والمانع، لإحراز المكلف أداء المسمى عند أداء الأجزاء بتمامها، فإذا علم
شرطية شئ أو مانعيته وجب التزام التقييد في المطلق على القدر المعلوم، وإذا
حصل الشك فيه دفع ذلك بالأصل، لقضاء الإطلاق بحصول الامتثال من دونه.
وأنت خبير: بأن مرجع ذلك إلى القول بكون تلك الألفاظ أسامي للصحيحة
بحسب الأجزاء دون الشرائط، فاستجماع جميع الأجزاء معتبر عنده في التسمية
بخلاف استجماع الشرائط، حسب ما مر تفصيل القول فيه في محله، وهو أضعف
الوجوه في تلك المسألة. ومع البناء عليه فهو يوافق ما اخترناه من عدم إجراء
الأصل في المجملات، فإن مقتضى القول المذكور التزام الاجمال في تلك الألفاظ
590

بالنسبة إلى الأجزاء دون الشرائط، بل هي مطلقة بالنسبة إليها، لتوهم قضاء
الدخول والخروج بذلك، وحينئذ فجريان الأصل بالنسبة إلى الثاني في غير البيان،
وإنما الكلام في المقام في جريانه بالنسبة إلى الأول، نظرا إلى إجمال اللفظ، وقد
منع منه القائل المذكور حسب ما اخترناه.
ولو سلم القائل المذكور إجمال اللفظ بالنسبة إلى الشروط أيضا لم يتحصل
عنده المفهوم الذي تعلق الأمر به، مع الشك في حصول جميع الشرائط المعتبرة فيه
فلا يمكنه الحكم بالامتثال، لعين ما ذكره في الأجزاء من غير فرق أصلا في بيان
الحال في شبهة الموضوع، والمراد به ما إذا اشتبه موضوع الحكم ودار الأمر فيه
بين تقسيم الحلال والحرام وإن علم تفصيلا حكم تلك الأقسام، فيكون الجهل
بالحكم في المقام ناشئا عن الجهل المذكور، حيث لا يعلم كون الحاصل هناك أي
قسم منها.
وأما إذا كان الحال بعكس ذلك بأن تعين الموضوع بجميع خصوصياته لكن
شك مع ذلك في اندراجه في الحلال أو الحرام من جهة الشك فيما أنيط به الحل
والحرمة في الشريعة، كالمذبوح على غير القبلة أو من دون التسمية، فإن الفعل
الحاصل من المكلف حينئذ مما لا شبهة فيه، وإنما الاشتباه في حكمه. فالشك
حينئذ في اندراجه تحت الميتة أو المذكى مع العلم بحكم كل من القسمين لا
يدرجه في شبهة الموضوع وإن كان يتراءى ذلك في بادئ الرأي.
[الشبهة الموضوعية]
ثم إن الشبهة في الموضوع قد يكون من جهة الشك في طرو ما يقتضي
تحريمه على الوجه المفروض، كما إذا شك في طريان الغصب على المال الحلال،
أو طريان النجاسة على المأكول الطاهر، أو طرو ما يقتضي إباحته بعد العلم
بتحريمه أولا، كالمغصوب إذا شك في زوال الغصب عنه، أو النجس إذا شك في
طهارته.
591

وقد يكون من جهة الجهل بحال المصداق بدورانه بين الاندراج في النوع
الحلال أو الحرام مع عدم العلم بحصول النوعين في المقام بل بدوران الأمر ابتداء
في الفرد الحاصل (1) بين الوجهين، كما إذا شك في كون المرأة رضيعة له يحرم
عليه نكاحها، أو أجنبية يجوز له التزويج بها، أو وجد لحما ولم يدر كونها ميتة أو
مذكاة، أو دار بين كونه من الحيوان المأكول أو غيره، أو رأى حيوانا وشك في
اندراجه في النوع الحلال أو الحرام.
وقد يكون من جهة الجهل بتعيين الحلال والحرام.
وقد يكون من جهة امتزاج الحرام بالحلال واختلاطه بحيث لا يمكن التمييز،
على نحو اختلاط الدبس أو المائع المغصوب بالمباح، وكذا السمن والطحين
والسويق بل الحنطة ونحوها.
وقد يكون من جهة اشتباه الفرد الحلال بالحرام عند حصولهما معا وعدم
تمايزهما في المقام، مع الجهل بالتعيين كالإنائين المشتبهين عند العلم بنجاسة
أحدهما، والدرهم الحلال المشتبه بالحرام إذا علم حرمة أحدهما وحلية الآخر،
ولحم الميتة والمذكاة عند اشتباه أحدهما بالآخر. وحينئذ قد يكون الأمور المردد
بينها محصورة محدودة، وقد تكون غير محصورة، فهذه صور المسألة.
أما إذا كانت الشبهة من جهة طريان ما يزيل الحكم الثابت من الحل أو
الحرمة، فلا ريب حينئذ في البناء على الحكم الأول حتى يثبت خلافه، سواء كان
الثابت أولا هو الحل أو الحرمة من غير خلاف فيه بين الأصولية والأخبارية، فإن
حجية الاستصحاب فيه متفق عليه بين الفريقين، ولا مجال لتوهم الحل في
الصورة الثانية نظرا إلى عدم حصول اليقين بالحرمة حينئذ، إذ مجرد الاستصحاب
لا يفيد العلم، وقد أنيط الحكم بالتحريم في الرواية المذكورة بعد الدوران بين
الحل والحرمة بالعلم بالحرمة، الظاهر في اليقين فيحكم بالحل من دونه، إذ المراد
من العلم في الشرعيات هو العلم الشرعي - أعني ما حصل من الدليل المعتبر عند

(1) الخاص، خ ل.
592

الشارع سواء أفاد اليقين بالواقع أو لا - حسب ما نقول بمثله في مسألة
الاستصحاب كما سيجئ بيانه.
ومع الغض عن ذلك فالحكم بالحل في الرواية مغيى بعدم العلم بالتحريم.
وبعد العلم به لو حصل الشك أو الظن بالحل فلا دلالة في الرواية على الحكم بحله
أصلا، فيستصحب التحريم من دون معارض. ولو كان مما توارد عليه الحالان ولم
يعلم تقدم أحدهما وتأخر الآخر - ليؤخذ بمقتضاه - ففي جريان القاعدة المذكورة
فيه نظرا إلى عدم العلم بالحرمة فيؤخذ بالحل إلى أن يعلم التحريم، وعدمه نظرا
إلى حصول العلم بحرمته بالخصوص في الجملة فيخرج عن مورد النص المذكور
وجهان. وقد يؤيد الأول عمومات الحل، وكأنه الأظهر.
وإن كان من الثاني (أعني ما إذا دار الأمر في المصداق بين الوجهين) فإن
كان هناك قاعدة شرعية قاضية بالحل - كيد المسلم وإخبار ذي اليد القاضي بالحل
والطهارة - فلا إشكال. أو بالمنع - كإخباره بحرمته أو نجاسته، وكأصالة عدم
التذكية بالنسبة إلى اللحوم والجلود ونحو ذلك - قضي بالمنع. وإن خلا من الأمرين
فظاهر الرواية المذكورة قاضية فيه بالحل، بل لا يبعد أن يكون ذلك هو مورد
الرواية كما سنشير إليه.
ولو وجد حيوانا وشك في كونه من جنس المأكول أو غيره فهل يحكم بمجرد
ذلك بحله، أو لا بد من استعلام الحال في اندراجه في أحد الأصناف المحللة أو
المحرمة بالرجوع إلى أهل الخبرة والعلامات المنصوبة من الشرع؟ وكذا الحال في
غير الحيوان من المأكول والمشروب الدائر بين المباح والمحرم وجهان.
والذي يتقوى في النظر أن يقال: إن كان ذلك معلوم العين وكان مجهول الاسم
أو مجهول الصفة - التي به يتميز الحلال عن الحرام فيشك في شأنه من تلك الجهة -
فلا يبعد كونه من الجهل بالحكم، فيجب عليه التجسس عنه، ولا يجوز له البناء
على الحل بمجرد الجهل المفروض نظرا إلى الأصل المذكور. وهل يجوز له البناء
على الحل مع العجز عن التجسس وجوه: ثالثها التفصيل بين المجتهد وغيره.
593

وأما إذا كان الموضوع غير معلوم العين وكان دائرا بين الأمر المحلل
والمحرم فالظاهر اندراجه تحت الأصل المذكور فلا يجب التجسس عنه، فعلى
هذا يجوز تناول المعاجين ونحوها - من المركبات التي لا يعرف أجزاؤها - قبل
التفحص عنها والمعرفة بحالها وإن احتمل أن يكون بعض أجزائها مما يحرم أكله.
هذا وما ذكر من الحكم بحل المشتبه في هذه الصورة ظاهر بالنسبة إلى الحكم
بحله في نفسه.
وأما بالنسبة إلى حله في العبادات إذا دار الأمر بين المنع من التلبس بها نظرا
إلى احتمال منافاته لها وعدمه ففيه وجهان. وذلك كالجلد الدائر بين كونه من
مأكول اللحم وغيره، أو الشعر الملاصق للباس الدائر بين الأمرين، فيحتمل
اندراجه في إطلاق الرواية المذكورة فيبنى فيه أيضا على الحل والجواز حتى
يتبين الخلاف، ويحتمل انصراف الرواية إلى حل الشئ وحرمته في نفسه دون
كونه مانعا من صحة عمل آخر وعدمه، وكما أن الأصل في العبادات المجملة عند
الدوران بين جواز فعل فيها وعدمه بحسب الحكم هو البناء على المنع، حسب ما
عرفت من وجوب مراعاة الاحتياط نظرا إلى العلم بحصول التكليف والشك في
أداء المكلف به، كذا الحال في صورة الشك في الحاصل في الأداء من جهة
الموضوع، بل لا يتفاوت الحال في الشك المفروض بين العبادات المجملة
وغيرها، إذ لا ثمرة للإطلاق بالنسبة إلى الشك الحاصل في أداء الشئ المعين أو
الإتيان به لقضاء اليقين بالاشتغال في مثله باليقين بالفراغ مطلقا.
وقد يفصل في المقام بين ما إذا كان الشك المفروض قاضيا بالشك في أداء
شرط من شروط العبادة - كما إذا لم يدر كون اللباس منسوجا من صوف المأكول
أو غير المأكول وأراد ستر العورة الواجب في الصلاة به - وما إذا تعلق الشك
بوجود المانع - كما إذا أراد لبس الثوب المفروض في الصلاة في غير ستر العورة
- والفرق أن المقتضى للصحة غير ثابت في الأول للشك في وجود الشرط القاضي
بالشك في وجود المشروط، فيبقى التكليف بحاله إلى أن يتحقق العلم بالفراغ،
بخلاف الثاني، لوجود المقتضي هناك.
594

غاية الأمر احتمال وجود المانع، وهو مدفوع بالأصل.
ويشكل ذلك: بأن مرجع المانع إلى الشرط فإن عدم المانع شرط في الصحة
وحينئذ فالشك فيه أيضا قاض بالشك في وجود المشروط به كغيره من الشروط
الوجودية، وقد يدفع: بأنه وإن كان مرجع المانع إلى الشرط إلا أن الملحوظ في
الشرط وجود الشئ، وفي المانع عدمه، فتحقق الأول مخالف للأصل بخلاف
الثاني، وكفى به فارقا بين المقامين.
ألا ترى أنه لو شك في تحقق الحدث في الصلاة بنى على عدمه. ولو شك في
تحقق الطهارة أو الاستقبال بنى على عدمهما أيضا.
وقد يشكل ذلك: بالفرق بين ما إذا دار الأمر بين وجود الشئ المانع وعدمه،
وبين وجود الشئ والشك في مانعيته - أي الشك في كونه هو الأمر المانع أو
غيره - فإنه لا شك في دفع الأول بالأصل، وأما الثاني فدفعه بالأصل مشكل،
لاحتمال أن يكون ذلك هو ما اعتبر عدمه في تحقق المطلوب وأن يكون غيره،
ونسبة الأصل إلى الأمرين على وجه واحد، بل قد يقال: إن قضية الأصل هنا أيضا
هو الأول نظرا إلى أن حصول الاشتغال بأداء المأمور به معلوم، والخروج عنه غير
معلوم، فيبنى على عدمه.
نعم لو كان هناك أصل يقضي بانتفاء المانع صح الإشكال عليه، كما لو شك في
الشعرات الملصقة بالثوب أنها من المأكول أو غيره، فإنه يمكن أن يقال: إن الصلاة
في الثوب المفروض قبل حصول الشعرات فيه كانت صحيحة فيستصحب ذلك إلى
أن يعلم المنع. هذا كله إذا كان تحريم الشئ في المقام على وجه المانعية.
أما إذا لم يكن مانعا، بل كان دائرا بين الإباحة ومجرد التحريم وإن تبعه
المانعية، فلا شك في كون الأصل فيه أيضا عدم التحريم، كما في الصورة السابقة،
فيدفع المانعية من جهة نفي التحريم.
ثم إنه لا فرق فيما ذكرنا بين العبادة المجملة وغيرها من المطلقات، إذ
المفروض ثبوت المانعية. غاية الأمر دوران الشئ بين كونه ذلك المانع أو غيره.
595

وأما ما كان من الثالث - أعني ما كان الحرام ممتزجا مع الحلال على نحو لا
يمتاز أحدهما عن الآخر - فلا إشكال في تحريم استعمال الجميع، إذ استعمال كل
جزء من المباح استعمال لجزء من الحرام المنضم إليه. وفي بعض صور المسألة
يحصل الإشاعة والشركة القهرية فيكون استعمال المباح استعمالا للحرام.
نعم في بعض صور امتزاج الحرام يحكم بالحل - كما إذا استهلك الحرام
الطاهر في الماء، أو كان نجسا ولم يتنجس به الماء، لاعتصامه وعدم تغير أحد
أوصافه - فإن الظاهر حله وإن كان عينه موجودا بحسب الواقع.
وتوضيح الكلام في ذلك: أن حرمة المحرم قد يتبع اسمه - كالطين - فإن خرج
بالامتزاج عن اسمه، كاستهلاك الطين في الماء أو غيره انتفى التحريم. وكذا لو دار
مدار وصف ينتفي بالامتزاج كالاستخباث في وجه. وإن كان دائرا مدار حقيقته
فإن حصل استهلاكه في الماء على الوجه المذكور قضى بحله، لما دل على طهارة
الماء وطهوريته. وأما الاستهلاك في غير الماء من الجوامد فلا يقضي بالحل. وفي
سائر المائعات إشكال، ويقوى البناء على التحريم في غير المضاف. هذا كله إذا لم
يكن التحريم من جهة كونه ملك الغير.
أما إذا كان من جهة كونه ملكا للغير، فالظاهر عموم المنع في جميع الصور ولو
كان قليلا غير متمول في وجه قوي، بناء على كون التصرف تابعا لملكيته لا ماليته
كما هو الظاهر.
نعم لو حصل إتلافه بالامتزاج - كما إذا قطر قطرة من الدبس الحرام في الماء -
فالظاهر عدم المنع، ولو ظهر أثره فيه كماء الورد ونحوه من المعطرات والأدوية
القوية الآثار قوي المنع وإن استهلك فيه والظاهر عدم صدق التلف فلا يبعد القول
بحصول الشركة لمالكه بالنسبة. ولو كان الممازج مماثلا فالظاهر عدم حصول
الاستهلاك ولو كان قليلا، وكذا عدم صدق التلف بامتزاجه. فتأمل.
وأما القسم الرابع: وهو ما إذا كانت الشبهة من جهة وجود الحلال والحرام معا
واشتباه مصداق أحدهما بالآخر، فإن كان ما وقع فيه الاشتباه من الأفراد غير
محصور فلا إشكال في الحل وجواز التصرف.
596

ويدل عليه أمور:
الأول: الاجماع المعلوم والمنقول في لسان جماعة، بل الضرورة قاضية به
في الجملة، فإن وجود ماء نجس في العالم إذا احتمل أن يكون ما عندنا من الماء
هو ذلك النجس وكذا حرمة شئ كذلك لا يقضي بالمنع من التصرف فيما عندنا
من جهة الاحتمال المذكور إذا لم نعلم نجاسته أو حرمته، وهو ظاهر.
الثاني: لزوم العسر والحرج لولاه وهو منفي في هذه الشريعة آية ورواية.
وما يورد في المقام أولا: من أن لزوم العسر والحرج لا يقضي بالحل
والطهارة، غاية الأمر جواز التصرف من جهة الضرورة كأكل الميتة في المخمصة،
فإنه لا يفيد حل الميتة حينئذ بالذات ولا طهارتها. غاية الأمر جواز الإقدام على
أكلها من جهة الضرورة وأين ذلك من المقصود في المقام. وثانيا: أن الحل
الحاصل بسبب العسر والحرج إنما يتبع حصول ذلك، ومن البين أن الاجتناب من
غير المحصور ليس عسرا وحرجا في جميع الأزمان بالنسبة إلى جميع
الأشخاص. ألا ترى أن من يزاول الصحاري المتسعة يعسر عليه الاجتناب من
جميعه بسبب علمه ببول شخص في مكان غير معين منه، بخلاف من يجتاز فيها
ولا يحتاج إلى ملاقاة شئ منها. وقد يتحقق العسر والجرح في الاجتناب عن
المحصور أيضا في محل الحاجة والضرورة إليه، فلا بد إذن من بناء الأمر على
الدوران مدار الضرورة والحرج اللازم وعدمها دون انحصار الشبهة وعدمه
مدفوع.
أما الأول: فبأن لزوم العسر والحرج قد ينافي تشريع الحكم، وقد يقضي
بالجواز في محل الضرورة، فإن ثبت الحرج والمشقة في أصل تشريع الحكم بأن
حصل الحرج في أغلب موارده لم يقع من الشارع تشريع لمثله، وإن لم يكن هناك
حرج في أغلب موارده بل اتفق هناك حرج وضيق في الاجتناب عنه في بعض
الموارد فلا ينافي ذلك تشريع أصل الحكم، وإنما يقضي بالرخصة في محل
الضرورة، كما في أكل الميتة في المخمصة. فما ذكره من أن العسر والحرج لا
يقضي بالحل والطهارة مستشهدا بأكل الميتة كما ترى.
597

ومن ذلك يتبين الجواب عن الثاني أيضا: فإن عموم لزوم الحرج في المقام
قاض بعدم تشريع الحكم، فيعم الموارد النادرة أيضا مما لا حرج فيها، بخلاف ما
إذا كان الحرج اتفاقيا، فإنه إنما يتبع حصول الحرج والفرق بين الصورتين ظاهر
لا يخفى. فما ذكره من دوران الحكم مدار حصول الحرج مطلقا ضعيف جدا، كما
يتضح ذلك من ملاحظة نظائره في سائر المقامات.
الثالث: أنك قد عرفت: أن الأصل في الأشياء بمقتضى العمومات المتقدمة هو
الحل حتى يعلم ثبوت التحريم، والعلم الحاصل في غير المحصور بوجود الحرام
في الجملة لا يعد في العرف علما بثبوت التحريم بالنسبة إلى شئ من
الخصوصيات حتى يمنع من الإقدام بالنسبة إلى خصوص الموارد الدائر احتمال
كون المحرم خصوص شئ منها في نظر العرف جدا بحيث لا يلتفت إليه في
الإقدام على خصوص الموارد، بل يعد التحرز منه عن الجهة المذكورة من ظنون
أصحاب السوداء، وذلك كالتحرز عن كثير من المطعومات لاحتمال كونه مسموما
نظرا إلى حصول العلم بوجود طعام مسموم في العالم، فقد يكون هو ذلك الذي
يريد الإقدام على أكله. وإذا لم يكن الاحتمال المذكور ملتفتا إليه بحسب العرف
في شئ من الموارد الخاصة لم يعد ذلك العلم الاجمالي علما في المقام، فمقتضى
العمومات المذكورة ثبوت الحل والإباحة بالنسبة إلى خصوص الموارد - كما هو
المدعى - ولا يجري نحو ذلك بالنسبة إلى الشبهة المحصورة كما سيأتي الإشارة
إليه إن شاء الله فتأمل.
بقي الكلام في المراد بغير المحصور: ففسره بعضهم بما يكون خارجا عن
حد الإحصاء بحسب العادة، فيتعذر أو يتعسر إحصاؤه في العادة، لكثرته
وانتشاره. ويمكن أن يقال: إنه ما يكون احتمال إصابة الحرام المعلوم بالنسبة إلى
الإقدام على خصوص المصاديق الخاصة موهونا غير ملتفت إليه بحسب العادة.
أو إنه ما لا يكون الإقدام على المصداق الخاص قاضيا برفع العلم الاجمالي
الحاصل بوجود الحرام، بل مع البناء على حرمة ذلك المصداق أو حليته يقطع
بوجود الحرام في الجملة من دون تفاوت.
598

والوجوه الثلاثة متقاربة، إلا أن الوجه الأخير أخص مطلقا، إذ قد يرتفع العلم
الاجمالي على تقدير كون ذلك حراما نظرا إلى احتمال انطباق ذلك الاجمال
عليه، ومع ذلك يعد من غير المحصور أيضا. فأظهر الوجوه هو الأول إلا أنه لا
يفارق الثاني، بل ولا الثالث في الأغلب.
وإن كان ما وقع فيه الاشتباه محصورا فالمعروف من المذهب هو المنع من
الإقدام على كل من الأفراد التي وقع فيها الاشتباه، وعدم جواز التصرف في شئ
منها حتى يزول الاشتباه بوجه شرعي من غير فرق بين الإقدام عليها في نفسها أو
في أداء واجب يتوقف على المباح منها، كاستعمال أحد الإنائين المشتبهين
بالمغصوب أو النجس في الوضوء أو الغسل فيسقط ذلك الواجب المتوقف عليه،
إلا أن يغلب جهة وجوبه على تحريم ذلك المحرم، كما هو الحال في بعض
الواجبات. وهذا هو الذي ذهب إليه المعظم، بل حكاية الاجماع عليه مستفيضة
في خصوص بعض المقامات كمسألة الإنائين المشتبهين.
وذهب بعض المتأخرين إلى كون الشبهة محللة للحرام، بمعنى جواز الإقدام
عليه في حال الاشتباه، بحيث لا يعلم حين ما يقدم عليه كون ذلك إقداما على
الحرام فيجوز الإقدام على جميع تلك المشتبهات إلى آخرها وإن لم يجز الإقدام
عليها مجموعا، للعلم بالتعرض للحرام في ذلك الإقدام الخاص. وقد ذهب إلى
ذلك بعض المتأخرين ولم نجد القول به من أحد من المتقدمين.
وذهب بعض آخر من المتأخرين إلى جواز الإقدام إلى أن يحصل العلم
بالإقدام على الحرام، فإن وقع الاشتباه بين الفردين جاز التصرف في كل منهما
انفرادا، ومع التصرف في أحدهما يحرم التصرف في الآخر. وإن كان الاشتباه بين
الثلاثة وكان الحرام المشتبه واحدا جاز التصرف في كل منها انفرادا أيضا وفي
اثنين منها انفرادا ومجتمعا، ومع حصول التصرف فيهما يحرم التصرف في الثالث.
وإن كان الحرام اثنين جاز التصرف في كل منها انفرادا أيضا، إلا أنه مع الإقدام
على واحد منها لا يجوز التصرف في شئ من الآخرين.
599

ومن ذلك يعرف الحال في سائر فروض المسألة ومرجع ذلك إلى القول
بالتخيير بين الفردين أو الأفراد على حسب ما فيها من الحلال، فهو مخير في
الإقدام على كل منها على حسبه، فإذا استوفى مقدار الحلال تعين الباقي للحرام
على مقتضى اختياره، فهو قول بتحريم التصرف في الجميع أيضا وإن حكم بجواز
التصرف في كل واحد منها على سبيل التخيير.
ويعزى إلى بعض الأصحاب قول باستعمال القرعة في المقام، فيحكم بالحل
والحرمة على حسب ما أخرجته، ومرجع هذا القول إلى الأول، فإن الظاهر منعه
من التصرف قبل القرعة مطلقا. غاية الأمر أنه يقول بحصول اليقين والخروج عن
الشبهة شرعا بالقرعة، وهو أمر آخر لا ربط له بالمقام.
وكيف كان فالأقوال المذكورة في المسألة أربعة: والمختار هو ما ذهب إليه
المعظم.
ويدل عليه أمور:
الأول: أنه بعد حصول الاشتباه فإما أن يحكم في الظاهر بحرمة الإقدام على
الأمرين وعدم جواز الإقدام على شئ منهما، أو بجواز الإقدام على الجميع فلا
يحرم في الظاهر التصرف في شئ منهما، أو بجواز الإقدام على أحدهما دون
الآخر، ولا سبيل إلى شئ من الوجهين الأخيرين فتعين الأول، وهو المدعى.
أما الأول فللزوم الحكم بحلية المحرم وطهارة النجس، إذ المفروض العلم
بحرمة أحدهما أو نجاسته، والبناء على الثاني قاض بالترجيح بلا مرجح، إذ نسبة
الإباحة والتحريم إليهما على نحو سواء. ولو فرض حصول الظن بالحل أو الحرمة
فلا عبرة به في المقام، لما دل على عدم الاعتداد بالظن في مثل المقام، فإنه من
جملة الموضوعات الصرفة، ولا عبرة فيها بالمظنة. ومع الغض عنه فلا يجري في
جميع الصور، إذ قد يتساوى الحال بالنسبة إليهما، كما في صورة الشك وهو
مندرج في محل الكلام قطعا. ويمكن الإيراد عليه بوجوه:
الأول: النقض بأن اختيار الوجه المذكور كما يقتضي الحكم بتحليل الحرام،
600

فاختيار الوجه الأول قاض بتحريم الحلال وإجراء حكم النجس على الطاهر،
للعلم بحلية أحدهما وطهارته، فكيف! يحكم بالتحريم بالنسبة إليهما ويسلب
حكم الطاهر عنه، فما يجاب به بناء على اختيار هذا الوجه يجاب به على التقدير
الآخر.
الثاني: إنا نختار الوجه الأول من الوجهين الأخيرين، وما قيل: من أنه يؤدي
إلى آخره. إن أريد به الحكم بحلية الحرام بحسب الواقع وكذا طهارة النجس كذلك
فهو فاسد، إذ لا كلام في ثبوت التحريم والنجاسة في الواقع، ولذا لا يجوز الإقدام
عليهما مجموعا. وإن أريد أداؤه إلى الحكم في الظاهر بجواز الإقدام على ما هو
محرم في الواقع مع عدم العلم بالإقدام على خصوص الحرام حين التلبس بكل
منهما فبطلانه أول الدعوى، وأي مانع من ذلك بعد وضوح ثبوت كون الجهل عذرا
للمكلف في موارد شتى؟
الثالث: إنا نختار الوجه الثاني، وما قيل: من لزوم الترجيح بلا مرجح، إنما يتم
إذا قلنا بحلية أحدهما بالخصوص وحرمة الآخر كذلك، وأما إذا قلنا بحلية
أحدهما وحرمة الآخر في الجملة فلا.
فإن قلت: لا وجه للقول بإباحة المبهم وحرمته، فإن الترك والإتيان إنما
يكون للمعين فيتعين الوجه الأول ويلزم المحذور. وهذا هو الذي رامه المستدل.
قلت: المقصود حرمة أحدهما وحلية الآخر على وجه التخيير بأن يكون
المكلف مختارا في الإقدام على أي منهما، وبعد الإقدام عليه لا يجوز له الإقدام
على الآخر، على حسب ما ذكرناه في تقرير القول الثالث من الأقوال المذكورة،
فلا يرد عليه شئ من المحذورين.
ويمكن الذب عن الأول: بأنه لما كان الإقدام على الحرام مؤديا إلى الضرر
قاضيا بورود المفسدة على من يقدم عليه بخلاف ترك الحلال إذ لا محذور فيه
كان مقتضى العقل عند دوران الأمر بين الأمرين هو ترجيح جانب الترك، لحصول
الأمن من الضرر في البناء عليه بخلاف جانب الفعل، لما فيه من خوف الإقدام
601

على الضرر، ومن المقرر وجوب دفع الضرر والخوف. فهذا هو الوجه في تعيين
العقل ترجيح جانب الترك. وليس في ذلك تحريم الحلال، بل حكم بوجوب ترك
الحلال لئلا يؤدي إلى فعل الحرام، ولا مانع منه. فمقتضى القاعدة حينئذ حرمة
الأمرين في الظاهر نظرا إلى الوجه المذكور.
نعم لو قام دليل خاص على جواز الفعل حينئذ فلا مانع وقضى بالخروج عن
مقتضى القاعدة المذكورة، إلا أنه لم يقم ذلك في المقام، وما احتج به الخصم على
ذلك مدفوع حسب ما يأتي الإشارة إليه إن شاء الله.
وعن الثاني: بأن الأحكام الشرعية جارية على موضوعاتها الواقعية، فإن
الألفاظ موضوعة بإزاء الأمور الواقعية من دون مدخلية في مفاهيمها للعلم
والجهل، فإذا حصل موضوع التحريم بحسب الواقع كان من الواجب الاجتناب
عنه، فإذا قيل بجواز الإقدام على كل من الأمرين لزم الحكم بجواز الإقدام على
الحرام، وهو ما ذكر من اللازم. والقول بكون الجهل عذرا في جواز الإقدام إنما
يتم في الجاهل المحض الغافل عنه، إذ هو القدر الثابت في اشتراط التكليف.
وأما الجاهل المتردد بين الوجهين مع علمه بحرمة أحدهما - على ما هو
مفروض المقام - فلا دليل على كون جهله المفروض عذرا، بل مقتضى القاعدة
لزوم الاجتناب عنه أخذا بمقتضى التحريم حتى يتبين خلافه.
نعم لو قام دليل خاص على جواز الإقدام حينئذ وسقوط التكليف المذكور
بهذا النوع من الجهل وجب الخروج عن مقتضى الأصل المذكور، وحينئذ فلا كلام،
والمقصود من الدليل المذكور قضاء الأصل أولا بالمنع من الإقدام إلى أن يثبت
الجواز وأنى لهم باثباته.
وعن الثالث: بأنه إنما يتم الحكم بالتخيير في المقام إذا لم يكن هناك مناص
للمكلف عن الإتيان بأحدهما، وأما إذا أمكن تركهما معا فلا وجه للتخيير، لعدم
تساوي جانبي الفعل والترك بحسب ترتب المصلحة والمفسدة حتى يحكم العقل
بتساويهما في الإقدام والإحجام، وأما مع ترتب المفسدة على أحد الجانبين
602

والقطع بعدم ترتب مفسدة على الجانب الآخر فلا وجه لحكم العقل بالتخيير
بينهما، لعدم تساويهما.
والحاصل: أن مفسدة الحكم بالتخيير عدم تساوي الأمرين في نظر العقل،
لوضوح التفاوت بينهما، فيتعين عنده جانب الترك، ومفسدة التعيين ما ذكر من
لزوم الترجيح بلا مرجح والعقل لا يحكم في مثل ذلك بالتخيير إلا مع قيام دليل
خاص عليه، كما أنه لا يحكم بتعيين أحدهما إلا لدليل دال عليه. ولا يذهب عليك
أن الأولى في تقرير الدليل المذكور تربيع الاحتمالات وإبطال ثلاثة منها بالوجوه
المذكورة ليتعين الرابع.
الثاني: أن اجتناب الحرام مطلوب لله تعالى فيجب امتثال طلبه، ولا يتم ذلك
إلا باجتناب الجميع، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فاجتناب الجميع
واجب.
ويرد عليه أمور:
أحدها: أنه إن أريد أن اجتناب ما هو حرام بحسب الواقع واجب سواء علم
كونه حراما أو لا فهو ممنوع، بل هو أول الدعوى. وإن أريد أن اجتناب ما هو
حرام واجب في الجملة فمسلم، ولا يرتبط به المقدمة الثانية لينتج المدعى.
ثانيها: أن ما ذكر: من أن اجتناب الحرام لا يتم إلا باجتناب الجميع، ممنوع،
إذ قد يحصل ذلك باجتناب البعض، لاحتمال مصادفته لترك الحرام. وفيه: أن
المقصود صدق امتثال طلبه تعالى لأداء ذلك، ولا يحكم بتحققه عرفا بمجرد
الاحتمال، فصدق الامتثال عرفا غير الإتيان بما هو مطلوبه تعالى في الواقع مع
عدم العلم بحصوله.
ومع الغض عن ذلك فيمكن تغيير الاحتجاج في الجملة بأن يراد فيه: أنه
يجب العلم بأداء مطلوبه تعالى، إذ كما يجب الإتيان بمطلوبه تعالى يجب العلم
بأدائه أيضا والعلم بأدائه يتوقف على ترك الجميع من غير إشكال.
ثالثها: النقض بغير المحصور، فإن اجتناب الحرام هناك واجب أيضا، ولا يتم
إلا باجتناب الجميع، فما يجاب به هناك يجاب به في المقام.
603

ويمكن دفعه أولا بأنه وإن كان يقتضي وجوب الاجتناب عن الجميع هناك
أيضا إلا أنه خرج ذلك بالدليل، لقيام الاجماع على عدم وجوبه، وقضاء العسر
والحرج به، مضافا إلى الفرق الظاهر بين المحصور وغير المحصور، حيث إن
احتمال إصابة الحرام في المحصور مما يعتد به في العادة، بخلاف غير المحصور
وقد مر تفصيل القول فيه.
الثالث: أن أحد المشتبهين محرم، وكل محرم يجب الاجتناب عنه، فالاجتناب
عن الحرام المفروض واجب، أما الكبرى فظاهر، وأما الصغرى فلقضاء ما دل
على تحريم ذلك الشئ بدورانه مدار التحريم الواقعي، والمفروض حصول العلم
بوجوده في المقام، وأيضا المفروض في المقام اشتباه الفرد الحلال بالفرد الحرام،
مع تحقق الأمرين، فلولا وجود الفرد الحرام لم يتحقق الفرض المذكور.
غاية الأمر أن يدعى حصول الإباحة من جهة الاشتباه، لقيام الدليل عليه
كذلك، وإذا ثبت تحريم المصداق المفروض تخصص به القاعدة الدالة على
الإباحة، بل كان خارجا عنها، للعلم بحصول التحريم بالنسبة إليه. وحيث إن
الخارج مجهول دائر بين الأمرين كانت القاعدة المذكورة بالنسبة إليه كالعام
المخصص بالمجمل، فلا حجية فيها بالنسبة إلى مورد الاشتباه، فلا دليل إذن على
حلية شئ منهما في الظاهر، ولا كلام ظاهرا بعد ذلك في عدم جواز الإقدام عليه،
فإن القائل بجواز الإقدام انما يقول به من جهة اندراجه تحت الأصل المذكور،
ومع الغض عنه فالعقل حاكم في مثله بعد دوران الأمر بين الوجهين وعدم قيام
دليل في الظاهر على البناء في خصوص كل من الأمرين على المنع من الإقدام،
حسب ما مر بيانه في الوجه المتقدم.
الرابع: ما روي عنه (عليه السلام) " انه ما اجتمع الحرام والحلال إلا غلب الحرام
الحلال " (1) وهذه الرواية وإن كانت ضعيفة إلا أنها مجبورة بعمل الأصحاب.
وحملها على خصوص صورة الامتزاج مما لا داعي إليه. ودعوى ظهور تلك

(1) البحار: 65 ص 144.
604

الروايات في غير صورة الامتزاج وهذه فيها أو كونها أعم من الامتزاج وغيره
- فيكون التعارض بينهما من قبيل العموم المطلق فيحمل المطلق على المقيد - غير
متجهة.
أما القول بانصراف هذه إلى خصوص الامتزاج فمما لا شاهد عليه في
الرواية، بل ظاهر إطلاقها يعم غيره قطعا. وأما دعوى كون التعارض من قبيل
المطلق فمدفوعة، بظهور تلك الروايات في صورة دوران الفرد بين الاندراج
تحت النوعين، كما هو المفروض في الصورة الثانية من الصور المتقدمة من غير أن
يكون هناك علم بحصول المصداقين في المقام والاشتباه في التعيين، كما هو
المفروض في الشبهة المحصورة، وهذه الرواية ظاهرة فيما يعم هذه الصورة
وصورة الامتزاج، فلا يتواردان على محل واحد حتى يثبت التعارض بينهما. ولو
قيل بشمول تلك الروايات للشبهة المحصورة، لدوران كل من المصداقين بين
الاندراج تحت كل من النوعين فالمعارضة بينهما من قبيل العموم من وجه،
لشمولها للصورة السابقة قطعا وعدم اندراج تلك الصورة في هذه الرواية،
والمرجحات من جانب الرواية المذكورة نظرا إلى موافقتها للمشهور بين
الأصحاب والروايات الكثيرة الواردة في جزئيات الشبهة المحصورة الدالة على
المنع في الموارد الخاصة.
الخامس: أن الظاهر من تتبع الأخبار الواردة في خصوصيات الشبهة
المحصورة، مثل ما ورد في الإنائين المشتبهين (1)، وما ورد من الأمر بغسل الثوب
كله عند اشتباه المحل النجس منه، وما ورد من بيع اللحم إذا اشتبه الميتة منه
بالمذكاة ممن يستحل الميتة الظاهر في حرمتهما، كما في روايتين، وما دل على
الصلاة في الثوبين المشتبهين كما في حسنة صفوان، وقد أفتوا بمضمونها، إلى غير
ذلك مما ورد أن المشتبه بالحرام مما يجب الاجتناب عنه، وأن المشتبه بالنجس

(1) الوسائل: 1 باب 8 من أبواب الماء المطلق 113 ح 2 و 14. وباب 12 ص 124 ح 1.
605

في حكم النجس في عدم جواز استعماله فيما يشترط بالطهارة من رفع حدث
أو إزالة خبث أو أكل أو شرب ونحوها. وليس ذلك من قبيل الاستقراء الظني كما
قد توهمه بعض العبائر ليكون من قبيل إثبات القواعد النحوية ونحوها من تتبع
مواردها. بل نقول: إنه مستفاد من ملاحظة جميع تلك الأخبار فهو مدلول عرفي
لمجموع تلك الروايات، وكما أن المستفاد من ظاهر خبر واحد حجة شرعا فكذا
المستفاد من جميعها بعد ضم بعضها إلى البعض، لاندراجه إذن تحت المداليل
اللفظية، فيدل على جواز الاتكال عليه ما دل على حجية ظواهر الألفاظ.
حجة القول بالإباحة مطلقا أمور:
أحدها: أن حرمة تلك المصاديق وجريان أحكام النجس عليها في المشتبه
بالنجس تكليف شرعي، يتوقف ثبوتها على العلم، سيما بالنسبة إلى الموضوعات،
ولذا يجوز استعمال ما لم يعلم حرمته أو نجاسته بالمرة، والعلم بحرمة أحدهما أو
نجاسته لا يثمر في المقام، لعدم قضائه بالعلم بحرمة شئ خاص فالجهل الأولي
باق بالنسبة إلى كل منهما وهو قاض بنفي التكليف، كيف! ولو كان العلم الاجمالي
كافيا في إثبات التكليف لجرى في غير المحصور، للعلم بحرمة البعض ونجاسته
أيضا مع أنه لا يثمر في الحكم بنجاسة شئ من الخصوصيات، وكذا الحال في
الجنابة الدائرة بين الشخصين مع العلم به بالنسبة إلى أحدهما، فإنه لا يثمر في
إثبات التكليف بالنسبة إلى شئ منهما. فمقتضى الأصل المقرر هو البناء على عدم
التكليف حتى يقوم دليل على ثبوته، والعلم بتحريم أحد الشيئين أو الأشياء غير
قاض بالعلم بتحريم الخاص، كما أن العلم بثبوت حرام ما ونجس ما غير قاض
بثبوت الحرمة بالنسبة إلى الخاص، والعلم بثبوت الجنابة لأحدهما لا يقضي
بالحكم بها بالنسبة إلى شئ منهما.
الثاني: عدة من الأخبار الدالة على معذورية الجاهل - مما مرت الإشارة
إليها - فإنها بإطلاقها تعم الجاهل بالموضوع، بل ربما يدعى ظهور بعضها في ذلك
دون الحكم، حسب ما مرت الإشارة إليه، منها: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) رفع عن أمتي تسعة
606

أشياء، وعد منها ما لا يعلمون. وقوله (عليه السلام) أيما امرى ركب أمرا بجهالة فلا شئ
عليه (1) ونحوهما.
الثالث: الأخبار المستفيضة الدالة على حلية الحلال المختلط بالحرام إلا ما
علم أنه حرام بعينه، منها: صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة المروية في الفقيه
والتهذيب عن الصادق (عليه السلام). ومنها (2): ما رواه عبد الله بن سنان أيضا في الصحيح
عن عبد الله بن سليمان قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الجبن فقال لي: قد سألتني
عن طعام يعجبني، ثم أعطى الغلام درهما، فقال: ابتع لنا جبنا، ودعا بالغذاء
فتغذينا معه وأتى بجبن فأكل وأكلنا معه، فلما فرغنا من الغذاء قلت له: ما تقول في
الجبن؟ فقال لي: أو لم ترني آكله قلت: بلى، ولكني أحب أن أسمعه منك، فقال:
سأخبرك عن الجبن وغيره، كل ما فيه حرام وحلال فهو لك حلال حتى تعرف
الحرام بعينه فتدعه (3). وفي رواية مسعدة بن صدقة عن الصادق (عليه السلام) قال: سمعته
يقول: كل شئ لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك
يكون مثل الثوب عليك قد اشتريته وهو سرقة، أو المملوك عندك ولعله حر قد باع
نفسه، أو خدع فبيع، أو قهر، أو امرأة تحتك وهي أختك، أو رضيعتك، والأشياء
كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة (4).
ومن ذلك ما رواه جماعة من المشايخ، منهم الكليني بإسنادهم الصحيح عن
حنان بن سدير أنه قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) وأنا حاضر عنده، عن جدي رضع
من خنزيرة حتى كبر وشب واشتدت عظمه، أن رجلا استفحله في غنمه، فأخرج
له نسل فقال: أما ما عرفت من نسله بعينه فلا تقربنه، وأما ما لم تعرفه فكله،
فهو بمنزلة الجبن ولا تسأل عنه (5).

(1) الوسائل: 5 باب 30 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة 344 ح 1.
(2) التهذيب: 9 ص 79 ح 337، الفقيه: 3 ص 341 ح 4208.
(3) الوسائل: 17 باب 61 من أبواب الأطعمة المباح 90 ح 1.
(4) الوسائل: 12 باب 4 من أبواب ما يكتسب به 60 ح 4.
(5) الكافي: 6 ص 249 ح 1.
607

وروى الشيخان بإسنادهما عن بشر بن سلمة عن أبي الحسن (عليه السلام) في جدي
رضع من خنزيرة ثم صرف في الغنم، فقال: هو بمنزلة الجبن فما عرفت أنه خنزير
فلا تأكله وما لم تعرفه فكله (1). فقد دلت هاتان الروايتان على الحل في الصورة
المذكورة مع عدم العلم بتحريمه بعينه، بل هما صريحتان في المدعى.
ومن ذلك ما رواه جماعة من المشايخ بإسنادهم الصحيح إلى سماعة قال:
سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أصاب مالا من عمل بني أمية، وهو يتصدق منه
ويصل منه قرابته، ويحج ليغفر له ما اكتسب، ويقول: إن الحسنات يذهبن السيئات،
فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ان الخطيئة لا تكفر الخطيئة وإن الحسنة تحط الخطيئة، ثم
قال إن كان خلط الحرام حلالا فاختلطا جميعا فلم يعرف الحرام من الحلال فلا
بأس (2) ودلالتها على المطلوب واضحة لا يخفى.
الرابع: الأخبار المستفيضة الدالة على جواز الشراء عن السارق والعامل مع
العلم بظلمه إلا أن يعلم أنه الحرام بعينه كصحيحة أبي عبيدة عن الباقر (عليه السلام) قال:
سألته عن الرجل يشتري من السلطان من إبل الصدقة وغنم الصدقة وهو يعلم أنه
يأخذ منهم أكثر من الحق الذي يجب عليهم، قال، فقال: ما الإبل إلا مثل الحنطة
والشعير وغير ذلك لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه (3).
وفي صحيحة معاوية بن وهب قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أشتري من العامل
الشئ وأنا أعلم أنه يظلم؟ فقال: اشتر منه (4).
وفي موثقة إسحاق بن عمار، قال: سألته عن الرجل يشتري من العامل
وهو يظلم، قال: يشتري منه ما لم يعلم أنه ظلم فيه أحدا (5).

(1) الكافي: 6 ص 250 ح 2، التهذيب: 9 ص 44 ح 184.
(2) الكافي: 5 ص 126 ح 9، التهذيب: 6 ص 369 ح 1068.
(3) الوسائل: 12 باب 52 من أبواب ما يكتسب به 162 ح 5.
(4) الوسائل: 12 باب 52 من أبواب ما يكتسب به 161 ح 4.
(5) الوسائل: 12 باب 53 من أبواب ما يكتسب به 163 ح 2.
608

وفي القوي، قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أشتري الطعام ممن يظلم ويقول ظلمني
فقال: اشتره (1). وفي رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
سألت عن الرجل يشري من العامل وهو يظلم، فقال: يشرى منه (2). وروى أحمد
بن محمد بن عيسى في نوادره عن أبيه قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن شراء الخيانة
والسرقة، قال: إذا عرفت ذلك فلا تشتره إلا من العمال (3).
الخامس: ما دل على حلية الحلال المختلط بالحرام مع عدم التميز عند
اخراج الخمس فإن لم يكن عدم الامتياز قاضيا بالحل لما كان اخراج الخمس
كافيا في المقام.
فإن قلت: إنه لو كان عدم الامتياز قاضيا بالحل كما هو المدعى لما كان حاجة
إلى اخراج الخمس.
قلت: إن فائدة اخراجه الحكم بحلية الجميع وجواز استعماله، وعدم حصول
ضمان في استعماله، بخلاف ما إذا استعمله قبل الإخراج، فإنه وإن حل استعمال
الجميع في الجملة إلا أنه لا يحل استعمال المخرج (4)، وحكم أيضا بالضمان في
الجملة ولا كذلك الحال ما بعد الإخراج.
ويرد على الأول: أن التكليف إنما يتوقف على العلم في الجملة، وهو حاصل
في المقام، إذ المفروض حصول العلم بوجود الحرام أو النجس، وأما توقفه على
حصول العلم التفصيلي فمما لا دليل عليه من جهة العقل، بل ولا من جهة النقل،
كما مر الكلام فيه في الجواب عن الأخبار المذكورة، بل نقول: إن مقتضى العلم
بالتكليف في الجملة - كما هو المفروض في المقام - هو الأخذ بمقتضى العلم
الاجمالي والجري عليه، إذ لا مناص بعد القطع بالتكليف من الأخذ بمقتضاه،
كما يشاهد ذلك في طاعة العبيد لمواليهم، ولذا يعد المخالف لمقتضى علمه حينئذ

(1) الوسائل: 12 باب 52 من أبواب ما يكتسب به 161 ح 3.
(2) الوسائل: 12 باب 53 من أبواب ما يكتسب به 163 ح 3.
(3) الوسائل: 12 باب 52 من أبواب ما يكتسب به 162 ح 6.
(4) المحرم، خ ل.
609

عاصيا لمولاه إلا أن يصرح المولى ويقوم دليل من جهته على عدم تكليفه حينئذ،
وإلا فقضية إطلاق وجوب الطاعة هو وجوب مراعاة الامتثال في ذلك أيضا،
وذلك يقتضي وجوب مراعاة الاحتياط مع الاشتباه حسب ما مر بيانه، فهو في
الحقيقة دليل تفصيلي على وجوب الاحتياط عن الأمرين، وإنما يتم ما ذكر - على
فرض تسليمه - لو لم يقم ما ذكر من الدليل قاضيا بوجوب الاجتناب. وما ذكر من
جريان ذلك في غير المحصور من غير ظهور فرق في ذلك بينه وبين المحصور قد
عرفت فساده مما ذكرناه سابقا فلا حاجة إلى تكراره.
وعلى الثاني: أن ما ينصرف إليه تلك الأخبار هو الجاهل الصرف، وغاية ما
يسلم اندراج غير المحصور فيه، لعدم الاعتداد بالعلم الاجمالي الحاصل هناك في
نظر العرف، فيعد جاهلا مطلقا، وأما فيما نحن فيه فلا ريب في حصول العلم
بالحرام والحلال معا.
غاية الأمر دوران الحل والحرمة بين الفردين، ومثل ذلك لا يعد جهلا
بالحرام، فلا يندرج ذلك في تلك الأخبار، ولا أقل من عدم انصراف ظاهر إطلاقها
إليه، وهو كاف في عدم نهوضها حجة في المقام.
وعلى الثالث: المستفاد من صحيحة عبد الله بن سنان وما بمعناها أنه إذا كانت
الطبيعة النوعية مشتملة على الفرد الحلال والحرام كانت محكومة بحلها حتى
يتبين حرمتها، ومحصله أن مجرد وجود الحرام في أفراد الطبيعة المفروضة لا
يقضى بالاجتناب عن جزئياتها إلا مع العلم بحرمتها. وأين ذلك مما إذا علم
وجود حرام وحلال هناك واشتبه أحدهما بالآخر؟ ليفيد الرواية حل الحرام
المعلوم من جهة الاشتباه المفروض، بل غاية ما يستفاد منها هو حل الحرام
المجهول من أصله حسب ما قررنا.
كيف! ولو كان الدوران بين الفردين مع العلم بحرمة أحدهما بخصوصه محللا
من غير لزوم تجسس عن خصوص المحرم ولو مع سهولة الأمر في استعلامه - كما
هو مقتضى الروايات المسطورة - لزم تحليل معظم المحرمات بذلك، كالمرأة
610

الأجنبية المشتبهة بالزوجة من جهة ظلمة أو... (1) أو نحو ذلك، وكذا حلية الخمر إذ
اشتبه لونها وطعمها بغيرها، وكذا الحال في نحوهما من المحرمات، وذلك مما
يقطع بخلافه فلا وجه لإدراجها في الرواية المذكورة.
وقد مر توضيح القول في مفاد الروايات المذكورة في المسألة المتقدمة فلا
حاجة إلى تكرار القول فيه. وقد يحمل الروايات المذكورة على ما إذا كانت هناك
يد قاضية بالحل، كما هو مورد رواية عبد الله بن سنان، حيث سأله عن حال الجبن،
والأمثلة المذكورة في رواية مسعدة بن صدقة. ولا شبهة إذن في ثبوت الحكم
المذكور مع الانحصار أيضا، وهو خارج عن محل الكلام كما مرت الإشارة إليه.
وهذا هو الوجه في حمل الخبرين الواردين في نسل الفحل المرتضع من
الخنزيرة مع الاشتباه. وقد يحملان على غير المحصور، والوجه الأول أوفق بظاهر
الخبرين.
وأما موثقة سماعة فهي محمولة على ما إذا أخرج منه الخمس فيقيد إطلاقها
بذلك، لما دل على توقف حلية المال الممتزج بالحرام على اخراج الخمس،
فيحمل المطلق على المقيد كما هو مقتضى القاعدة.
وعلى الرابع: أنه لا دلالة في شئ منها على المدعى، لقضاء يد المسلم بصحة
التصرف إلا إذا علم فساده بخصوصه، وقد عرفت الحال فيه.
وعلى الخامس: أن الحكم بحلية الحلال المختلط بالحرام من جهة اخراج
الخمس لا ربط له بالمحصور، كيف ولو كان كذلك لما كان هناك خصوصية
للخمس، بل كان إفراز القدر الذي... (2) يعلم كونه حراما قاضيا بحل الباقي.
والحاصل: أن تزكية المال المفروض باخراج الخمس منه من جملة الأحكام
الشرعية المخالفة للأصل الثابتة لقيام الدليل عليه، ولذا يقول به القائل بالأصل
المدعي وغيره، ولا مدخلية له في المقام، ولا يثبت به الأصل المذكور بوجه
من الوجوه.

(1) هنا بياض.
(2) هنا بياض.
611

فظهر بما قررناه ضعف القول المذكور، لانحصار مداركه حسب ما عرفت في
الوجوه المذكورة، وبظهور وهنها يظهر وهن القول المذكور.
حجة القول الثالث: أما بالنسبة إلى جواز التصرف ما لم يحصل العلم
بارتكاب الحرام فبالوجوه المتقدمة. وأما بالنسبة إلى المنع من الإقدام بما يحصل
معه العلم باستعمال المحرم فبأنه كما يحرم ارتكاب المحرم الواقعي، كذا يحرم
تحصيل اليقين بارتكاب الحرام، وهو حاصل بارتكاب الفرد الآخر الذي يوجب
العلم بارتكاب الحرام الواقعي، فارتكاب الفرد الآخر مقدمة لتحصيل اليقين
بارتكاب الحرام، ومقدمة المحرم محرمة، فيكون ارتكاب الفرد الآخر محرما من
هذه الجهة لا من جهة كونه حراما بحسب الواقع، ضرورة كون نسبة التحريم إليهما
على وجه سواء، فلا معنى للترجيح حتى يقال بإباحة أحدهما وحرمة الآخر.
وأورد عليه تارة: بمنع كون مقدمة الحرام حراما، ويمكن دفعه: بأن مقدمة
الحرام إن كان شرطا للحرام وما بمعناه فمن الظاهر عدم تحريمه، نعم إن قصد به
فعل المحرم كان محرما من جهة أخرى، لا من جهة كونه مقدمة، وهو غير المقصود
في المقام. وأما إذا كانت علة مقتضية لحصول المحرم فالظاهر أنه لا مجال للتأمل
في تحريمه، حسب ما قرر في محله، كما هو الحال في المقام.
وأخرى: بمنع كون تحصيل العلم بارتكاب الحرام محرما، وإنما المحرم هو
الإتيان بالحرام، كيف ولو كان تحصيل العلم بارتكاب الحرام حراما لحرم أن
يتجسس الانسان عن تحريم ما فعله بحسب الواقع حتى يعلم حرمته، كما إذا
تصرف في شئ أو أكل أو شرب ثم حصل له الشك في تحريمه، أو كان شاكا فيه
من أول الأمر على وجه لا يقتضي المنع منه، ثم بعد التعرض له استعلم حاله فعلم
تحريمه، ومن الواضح عدم تحريم ذلك بوجه من الوجوه.
فإن قلت: إنه لا تحريم هناك حال التعرض نظرا إلى جهل التكليف، غاية
الأمر حصول التحريم حال العلم بما يستكشف به تحريم ما فعله، لا حين ما أتى
به حتى يكون محرما، نظرا إلى ما ذكر بخلاف المشتبهين، للعلم بحرمة أحدهما
612

فإذا استعملهما فقد استعمل المحرم قطعا، فيحصل باستعمالهما العلم بارتكاب
الحرام.
قلت: لا فارق بين الصورتين، فإن الحرمة الواقعية حاصلة في المقامين.
والمفروض كون الجهل بحرمته بخصوصه قاضيا بجواز الإقدام، فيكون الإقدام
على كل من المشتبهين سائغا، فلا يحرم في الظاهر في شئ من الصورتين،
والحرام الواقعي والعلم به حاصل في المقامين، والعلم بحرمة أحدهما في الظاهر
لا يثمر في المقام بعد عدم تأثيره في تحريم الخصوصية.
نعم لو ثبت من الخارج تحريم تحصيل العلم بارتكاب الحرام الواقعي تم
الكلام، وقد عرفت ما فيه، فظهر بذلك ضعف التفصيل المذكور، مضافا إلى ما
عرفت من وهن الأدلة الدالة على الجزء الأول من مقصوده.
وقد يحتج عليه بأنه مع استعمال الجميع يشغل ذمته بحق الناس قطعا، وشغل
الذمة بحقوق الناس محظور، فيحرم ما يحكم معه باشتغال الذمة، وهو أوهن من
سابقه، إذ مع عدم جريانه في جميع الفروض، وعدم وضوح بطلان الفصل، لا دليل
على حرمة اشتغال الذمة بالحق. كيف! وجميع المعاملات والمحاكمات مشتملة
على اشتغال الذمة إما على وجه ثبوتها في الذمة أو باشتغال الذمة بوجوب الدفع.
نعم لو كان ذلك على الوجه المحرم - كالغصب - كان محرما، ومع ذلك ليس
هناك تحريمان، بل هناك حرام واحد يتبعه اشتغال الذمة، فجعل الذمة مشغولة
بحق ليس حراما مستقلا هناك أيضا وإن وجب تفريغه والخروج عنه. وأما في
المقام فلما قضى الدليل - على حسب ما يدعيه المستدل - بجواز التصرف كان
اشتغال ذمته بالحق على الوجه السائغ، كما في نظائره من المعاملات، مثل ما إذا
كان التصرف في المال عن إذن المالك له فيدفع عوضه إليه، فإن الإذن الشرعي
على حسب ما يدعيه لا يقصر عن إذن المالك، فإن كان لا يحرم هناك قطعا فمن
أين يجئ التحريم في المقام، وهو ظاهر.
* * *
613

[الاجتهاد]
قوله (رحمه الله): * (الاجتهاد في اللغة مأخوذ من الجهد) *.
بالضم أو الفتح بمعنى الوسع والطاقة، وقد يخص حينئذ بالضم فهو بذل الوسع
والطاقة في أمر من الأمور. أو مأخوذ من الجهد - بالفتح - بمعنى المشقة فهو تحمل
المشقة، وقد يخص معناه اللغوي بالأول ويجعل الثاني تفسيرا له باللازم، وكان
الأظهر أنهما معنيان متعددان والمناسبة بين كل من ذينك المعنيين ومعناه
الاصطلاحي على كل من الوجهين الآتيين ظاهرة وإن اختلفت فيها جهة المناسبة.
قوله: * (وفي الاصطلاح استفراغ الفقيه وسعه... الخ) *.
قد ذكروا للاجتهاد حدودا شتى، والذي يتلخص في المقام: أن له بحسب
الاصطلاح إطلاقان: (1)
أحدهما: أن يؤخذ مصدرا، فيكون بمعناه الحدثي، وقد يجعل حينئذ اسما
للحال في مقابلة ما سيجئ من إطلاقه على الملكة. وقد عرفه المصنف - تبعا
للعضدي - بأنه استفراغ الفقيه وسعه إلى آخره. وفي الوافية أنه الاصطلاح المشهور.
ويرد على الحد المذكور أمور:
أحدها: أن أخذ الفقيه في الحد يوجب الدور، فإن الفقيه هو العالم بالمسائل
عن الاجتهاد، لوضوح خروج معرفة الأحكام عن التقليد عن اسم الفقه، فأخذه
في حد الاجتهاد قاض بالدور.

(1) إطلاقين، خ ل.
614

ثانيها: أن الفقيه إنما يصدق بعد المعرفة بقدر يعتد به من الأحكام، فإن القادر
على استنباط المسائل من الأدلة لا يعد فقيها في العرف قبل تحصيله العلم بقدر
يعتد به من الأحكام، حسب ما مرت الإشارة إليه عند تعريف الفقه، كما هو الحال
في المتكلم، والنحوي، والصرفي، وغيرها. وحينئذ نقول: إن الاستفراغ الحاصل
منه قبل حصول الفعلية المذكورة اجتهاد مع أنه غير حاصل من الفقيه، فلا ينعكس
الحد.
ثالثها: أن الحد المذكور إن كان تحديدا للاجتهاد الصحيح فلا بد من ضم قيود
اخر لينطبق على المحدود، وإن كان تحديدا للأعم فلا وجه لأخذ الفقيه في الحد.
رابعها: أن استفراغ الوسع غير معتبر في تحصيل كل من الأحكام، بل وأقصى
ما يلزم المجتهد ذلك في المسائل المفصلة، وأما سائر المسائل مما لا يكون بتلك
المثابة فلا يلزم فيها ذلك.
توضيح ذلك: أن أقصى ما يجب على المجتهد هو الاطمئنان بتحصيله ما
يستفاد من الأدلة الموجودة، وذلك قد يحصل بأول نظرة في المسألة، كما في كثير
من المسائل التي مداركها ظاهرة وقد لا يحصل إلا بعد استفراغ منتهى الوسع، كما
في بعض المسائل المشكلة، وقد يكون بين الأمرين. ومن البين تحقق الاجتهاد
في جميع ذلك فلا ينعكس الحد أيضا.
خامسها: أن جملة من الأدلة الفقهية ليست مفيدة للظن بالواقع، بل إنما يكون
حجة على سبيل التعبد وإن لم يفد ظنا بالواقع، كما هو الحال في الاستصحاب
وأصالة البراءة، بل وكذا الحال في مداليل الألفاظ في كثير من الموارد، حسب ما
نبهنا عليه في المباحث السالفة، فليس هناك تحصيل ظن بالأحكام في كثير من
الأحيان، مع أن تحصيل الحكم المستفاد من تلك الأدلة يندرج في الاجتهاد قطعا
فلا ينعكس أيضا.
سادسها: أنه قد يتوقف الفقيه في الحكم بعد اجتهاده في المسألة، فليس هناك
تحصيل ظن بالحكم الشرعي مع استفراغه الوسع في ملاحظة الأدلة، وكون
استفراغه المذكور اجتهادا قطعا.
615

سابعها: أن الفقيه كثيرا ما يحصل له القطع بالحكم، إذ ليس جميع مسائل الفقه
ظنية، غاية الأمر أن يكون معظمها ظنية، فأخذ الظن في الحد يقضي بخروج
القطعيات، مع أن استنباطها عن الأدلة يكون بالاجتهاد.
كيف! ومن البين: أن الاجتهاد قد ينتهي في بعض الأحيان إلى القطع لتراكم
الظنون، وظاهر الحد المذكور يقضي بخروجه من الاجتهاد.
ثامنها: أنه يندرج في الحد استفراغ الفقيه وسعه في تحصيل الظن بالأحكام
الأصولية مما يندرج في أصول الدين - كخصوصيات عالم المعاد أو البرزخ - أو
في أصول الفقه - كحجية الحسن والموثق والضعيف المنجبر بالشهرة ونحوها - مع
أن ذلك لا يعد اجتهادا في العرف.
تاسعها: أنه يندرج فيه استفراغ وسعه في تحصيل الأحكام الظنية الخاصة
المتعلقة بالموضوعات، كتعيين الهلال لوجوب الصوم أو الإفطار، والقيمة، وسائر
ما يتعلق به القضاء، ولا يندرج شئ من ذلك في الاجتهاد.
وقد يذب عن الأول: بأن المراد بالفقيه من مارس الفقه احترازا من غير
الممارس، كالمنطقي الصرف. وفيه: أن مجرد ممارسة الفقه مع عدم المعرفة بالأدلة
وكيفية إجرائها والاقتدار على رد الفروع إلى الأصول غير كاف في المقام، بل هو
بمنزلة المنطقي الصرف في عدم الاعتداد باستفراغه، وعدم كونه اجتهادا بحسب
الاصطلاح، وعدم اندراج المستفرغ المذكور في عنوان المجتهد، مضافا إلى ما في
الحمل المذكور من التعسف لخروجه عن المعنى المصطلح من غير قيام قرينة
عليه.
والقول بأن استفراغه الوسع في تحصيل الأحكام لا يحصل إلا بتحصيل جميع
ما يتوقف عليه مدفوع، بأنه يأباه ظاهر الإطلاق، إذ الظاهر منه استفراغ الوسع
الحاصل للمستدل على حسب ما يقتضيه حاله، وقد لا يسع لجميع ذلك، ولو أريد
به خصوص ما يعتد به شرعا من استفراغ الوسع صح ذلك، إلا أنه لا شاهد في
العبارة على التقييد.
616

وقد يقال: إنه مع افتقاره إلى تحصيل تلك المقدمات لا يعد الاستفراغ
الحاصل منه قبل تحصيلها استفراغا للوسع. وفيه: - مع ظهور كونه في محل المنع -
أن التقييد بالفقيه حينئذ يكون لغوا، وكأنه لذا أو لانصراف الإطلاق إلى خصوص
الاستفراغ الحاصل منه ولو بملاحظة المقام ترك التقييد به في كلام جماعة من
الأعلام، منهم: المحقق في المعارج، والعلامة في النهاية والمبادئ، والآمدي في
الإحكام.
وقد يقال: إن الاجتهاد يعم الصحيح - الذي يترتب عليه الآثار - والفاسد،
فينبغي أن يكون التحديد للأعم لا خصوص الصحيح منه، فيندرج فيه الاستفراغ
الحاصل من الفقيه وغيره.
غاية الأمر أن لا يعتد به إذا كان من غير الفقيه، وذلك لا يقضي بخروجه عن
الاجتهاد. فعلى هذا لا يتجه التقييد بكونه من الفقيه، كذا ذكره بعض الأفاضل ولذا
عرف الاجتهاد: بأنه استنباط الحكم من الأدلة. ولذا تراهم - بعد ذكر تعريف
الاجتهاد - يجعلون المعرفة بما يتوقف عليه ومنه القوة القدسية من شرائطه، لا من
مقوماته.
وأنت خبير بما فيه، لظهور أنه لا يعد كل استنباط من الأدلة اجتهادا في
الاصطلاح ولو صدر من العوام، بل من غير القادر على الاستنباط المعتبر، بل من
القادر عليه إذا لم يأت به على وجهه. فظاهر الاصطلاح اختصاصه بالواقع عن
المجتهد القادر على الاستنباط إذا أتى به على الوجه المعتبر، وكان عدم التقييد به
في كلام الجماعة مبني على أحد الوجهين المتقدمين، ولذا وقع التقييد به في كلام
آخرين - كالعلامة في التهذيب والسيد العميدي في منية اللبيب والعضدي - ولم
يبنوا ذلك على اختلافهم في المقام. وعدهم المعرفة بطرق الاستدلال، والقوة
القدسية الباعثة على الاقتدار من رد الفروع إلى الأصول من شرائطه لا ينافي
ذلك، لوضوح أنه بعد تقييده بالحاصل من القادر على الاستنباط يكون القدرة
المذكورة شرطا في تحقق الاجتهاد لا جزء مقوما له، فيوافق ذلك عدهم ما ذكر
617

من شرائط الاجتهاد، إذ ظاهر ما ذكروه كون ذلك من شرائط تحقق الاجتهاد
وحصوله، لا من شرائط جواز الأخذ به والاعتماد عليه، كما حاوله الفاضل
المذكور، فهو بالدلالة على خلاف ما حاوله أولى هذا.
والأظهر في الجواب أن يقال: إن عدم تحقق الفقاهة إلا بتحقق الاجتهاد لا
يقضي يتوقف تصوره على تصوره، والدور المذكور إنما يلزم بناء على الثاني دون
الأول، على أن تحقق الفقاهة من أصله غير مفتقر إلى الاجتهاد كما هو الحال
بالنسبة إلى من يأخذ الأحكام من الإمام (عليه السلام) من غير واسطة، إلا أنه قد توقف
حصوله على ذلك في عهد الغيبة من جهة العارض، نظرا إلى خفاء الطرق، ووقوع
الفتن الباعثة على اختفاء الأحكام الشرعية.
وقد يورد الدور في المقام بوجه آخر بأن يقال: إن أخذ الفقيه في حد
الاجتهاد يعطي توقف حصول الاجتهاد على تحقق الفقاهة، ضرورة كونه
الاستفراغ الحاصل من الفقيه، ومن البين توقف حصول الفقاهة على الاجتهاد
فيلزم الدور في تحقق الاجتهاد في الخارج، لا في تصوره ليندفع بما ذكر.
ويدفعه: منع توقف كل من الاجتهاد والفقاهة على الآخر على نحو يوجب
الدور، غاية الأمر أن يستحيل انفكاك أحدهما عن الآخر لحصول الإناطة بينهما،
فالدور هناك معي.
ومنه يظهر الجواب عن الإيراد الثاني: فإن ذلك الاستفراغ إنما يعد اجتهادا
إذا كان المستفرغ عالما بقدر يعتد به من الأحكام، فإنه حينئذ يكون حجة بالنسبة
إليه، ويجوز لغيره تقليده فيه.
وأما قبل حصول الفعلية المفروضة فهو كغيره ممن يستنبط الأحكام من غير
أن يعتد باستنباطه، فصدق الفقه والاجتهاد في آن واحد وإن تقدم منه حصول
الاستفراغ. هذا إذا قلنا بتوقف حجية ظنه على حصول الفعلية المذكورة كما يبنى
عليه (1) الحد المذكور.

(1) ينبئ عنه، خ ل.
618

وأما إذا قلنا بجواز الرجوع إلى ظنه بمجرد قدرته على الاستنباط وحصول
ملكة الاجتهاد له فلا إشكال إذن في صدق الاجتهاد على استفراغه الحاصل قبل
حصول الفعلية، فحينئذ يشكل الحال في الحد المذكور، وينبغي أن يراد بالفعلية
حينئذ من له ملكة الفقه وإن لم يكن عالما بشئ منه فعلا، ولا يخلو عن بعد،
والأولى على هذا ترك أخذ الفقيه في الحد.
وعن الثالث: أن المقصود حينئذ استفراغ الوسع في تحصيل الحكم على
الوجه المعتبر، كما هو الظاهر من لفظ الاجتهاد في الاصطلاح، فلا يندرج فيه ما لا
يعتد بشأنه. والقول بأنه لا حاجة حينئذ إلى اعتبار قيد الفقيه في الحد مدفوع، بأنه
إنما اخذ ذلك فيه لإخراج استفراغ المقلد وسعه في تحصيل قول المجتهد فيما إذا
توقف معرفته على ذلك، فهو أيضا استفراغ للوسع في تحصيل الحكم الشرعي، إلا
أنه لا يعد اجتهادا في الاصطلاح، وكذا فيما إذا بذل وسعه في تحصيل الاحتياط،
أو المشهور فيما وجب عليه العمل بذلك.
وعن الرابع: بأن المراد ببذل الوسع هو صرف النظر في التفتيش عن الأدلة إلى
أن يحصل له الاطمئنان بتحصيل ما هو مقتضى الأدلة الموجودة، بحيث يحس من
نفسه العجز عن تحصيل ما عدا ذلك مما يفيد خلاف ما استفاده، فيكون ما أدى
نظره إليه هو غاية ما يمكنه الوصول إليه، وذلك أنه يختلف حصوله بحسب
اختلاف المسائل، فربما يحصل بأدنى نظر في المسألة، وقد يتوقف على فحص
جديد وتجسس واف في الأدلة، وتأمل تام في وجوه الاستنباط وطرق
الاستدلال. وليس المراد به أن يصرف ما يسعه من النظر والزمان في كل واحد
واحد من المسائل، إذ المعلوم خلافه.
وفيه: أنه لا يوافقه ظاهر التقرير المذكور، فإن مفاد بذل الوسع في ذلك هو
صرف الطاقة فيه على وجه لا يؤدى إلى الحرج وأين ذلك من التفسير المذكور،
إلا أن يقال: إن بذل الوسع إنما يعتبر بالنسبة إلى مجموع المسائل التي يحتاج إلى
استنباطها، لا حصول كل مسألة. وحينئذ فيكتفي في كل منها بما يحصل به
619

الاطمئنان حسب ما ذكر، وهو أيضا لا يوافق ظاهر الحد حيث اعتبر فيه بذل
الوسع بالنسبة إلى خصوص الأحكام.
وعن الخامس: أن المطلوب عند المجتهد في المسائل الاجتهادية هو تحصيل
الظن بالواقع، إذ هو القائم مقام العلم بعد انسداد بابه، غاية الأمر أنه مع عدم
تحصيل الظن بالواقع وعجزه عن ذلك في مقام الاجتهاد يرجع إلى أدلة الفقاهة،
فيندرج استفراغه المفروض في الحد المذكور لكونه في تحصيل الظن وإن لم
يحصل له الظن، إذ لم يعتبر في الحد حصوله. فثمرة الاجتهاد فيما إذا حصل منه
الظن بالحكم هو الأخذ به، وكونه مكلفا بالعمل بمؤداه، وفيما إذا عجز عن تحصيل
الظن الرجوع إلى أدلة الفقاهة: من الحكم بأصالة البراءة والاحتياط ونحوهما.
فظهر بذلك: أن التوقف في المسألة لا ينافي الاجتهاد فيها كما توهمه بعضهم،
كما سيجئ الإشارة إليه إن شاء الله ومنه يظهر الجواب عن السادس.
وأنت خبير بأن ذلك إنما يتجه في دفع هذا الإيراد.
وأما دفعه للرابع فيبتنى على اعتبار الترتيب المذكور بأن يكون الواجب أولا
على المجتهد في المقام تحصيل الظن بالأحكام، ثم بعد العجز عنه ينتقل إلى ما
يقتضيه أدلة الفقاهة، وهو في محل المنع، بل الظاهر أن اللازم عليه هو الرجوع إلى
الأدلة الشرعية، وتحصيل ما يستفاد منها سواء أفادت الظن بالواقع أولا. وتقديم
بعض الأدلة على بعض عند التعارض بينها لا يقضي بكون اللازم على المجتهد هو
تحصيل تلك الأدلة في جميع الأحكام حتى يؤخذ بما يستفاد منها، إذ قد يعلم من
أول الأمر عدم قيام شئ منها في بعض المسائل، فلا يمكن استفراغه الوسع في
تحصيلها أصلا، مضافا إلى أن بعض الأدلة الاجتهادية قد لا يكون مفيدا للظن
بالواقع أيضا - كما مرت الإشارة إليه - فلا يتم الجواب بوجوب بذل الفقيه وسعه
في تحصيل الظن في كل مسألة.
وقد يقال في الجواب: إن الرجوع إلى أدلة الفقاهة أيضا إنما يفيد الظن في
الغالب، لا بملاحظة الواقع، بل بالنظر إلى الحكم الذي يقتضيه الأدلة الموجودة،
620

فإن كون ما استنبطه هو مفاد تلك الأدلة وأنه هو الحكم الظاهري - المستفاد من
الأدلة القائمة - إنما يثبت عند المستنبط على سبيل الظن، نظرا إلى احتمال حصول
المعارض، أو احتمال حصول سهو منه في كيفية الاستنباط ونحو ذلك.
وعن السابع: بالتزام خروج استنباط المسائل القطعية عن الاجتهاد واندراج
العلم بها في الفقه لا يستدعي كونها اجتهادية، إذ مسائل الفقه كما سبقت الإشارة
إليه على قسمين: قسم لم ينسد فيه سبيل القطع، والأدلة القطعية قائمة على إثباتها،
فتلك المسائل ليست متعلقة للاجتهاد بحسب الاصطلاح، ولذا ينقض حكم الحاكم
مع خطائه فيها. وقسم آخر مما انسد فيه سبيل العلم، فيؤخذ فيه بالظن، وهو الذي
يتعلق به الاجتهاد، ولا ينقض فيه حكم الحاكم ولو عدل عنه، أو رجعوا فيه إلى
حاكم آخر.
نعم لو اتفق حصول القطع للمجتهد في تلك المسائل بأن أداه النظر إلى ذلك
أحيانا لم يخرج عن كونها اجتهادية، وكون استفراغ وسعه في تحصيلها اجتهادا.
فقد يشكل الحال في الحد بالنظر إلى ذلك، إلا أنه يمكن دفعه إذن بنحو ما مر: من
أن استفراغه الوسع في تلك المسألة إنما كان لتحصيل الظن حيث إنه المتوقع فيها،
وإن اتفق له حصول القطع فيندرج في الحد، إذ لم يعتبر فيه حصول الظن أيضا،
فكما يندرج فيه ما إذا استفرغ الوسع في تحصيل الظن فاتفق عجزه عن ذلك كذا
يندرج فيه ما إذا اتفق له حصول القطع بالحكم.
ويستفاد من غير واحد منهم استشكال الأمر في المقامين، إلا أنه لا شاهد في
الظاهر على اعتباره فلا إيراد عليه من جهته.
فظهر بما ذكرنا: أن ما زعمه بعض الأفاضل من اتحاد متعلق الفقاهة
والاجتهاد - حيث جعل معرفة المسائل النظرية فقها وتحصيلها واستنباطها عن
أدلتها اجتهادا سواء كانت قطعية أو ظنية - ليس على ما ينبغي، لخروجه عن ظاهر
الاصطلاح، حسب ما ينادي به ملاحظة حدودهم في المقام ويعطيه ملاحظة
استعمالاتهم، حيث يجعلون المسائل الاجتهادية في مقابلة المسائل الفقهية
621

القطعية. والظاهر أن الشبهة في المقام إنما نشأ من ملاحظة ما ذكروه في حد الفقه،
ولما زعم اتحاد متعلق الأمرين حكم بتعميم الاجتهاد للصورتين حيث رأى
حكمهم بشمول الفقه لهما.
وقد وقع عكس ذلك لشيخنا البهائي (رحمه الله) حيث خص الفقه بالظنيات وقطع
بخروج القطعيات عنه لما رأى من تخصيصهم الاجتهاد بالظنيات، كما مرت
الإشارة إليه في أول الكتاب.
وقد عرفت: أن الحق اختلاف متعلق الأمرين وأن متعلق الاجتهاد أخص
مطلقا من متعلقات الفقاهة، كما هو ظاهر من ملاحظة إطلاقاتهم والرجوع إلى
تحديداتهم في المقامين.
وعن الثامن: أن الظاهر من الحكم الشرعي هو الفرعي، كما هو المنساق
من حده المعروف، بل ربما يقال باختصاصه به بحسب الاصطلاح فتأمل.
وبنحو ذلك ايجاب عن التاسع، إذ المنساق من الحكم الشرعي هو الحكم الثابت
من الشرع للأفعال من غير ملاحظة لخصوصية الموضوعات، وأما التمييز بينها
وإثبات الأحكام الخاصة لها حسب ما يستكشف في القضاء فمما لا ينصرف إليه
الإطلاق.
ثانيهما (1):
أن يؤخذ اسما غير مصدر وقد عرفه شيخنا البهائي: بأنه ملكة يقتدر بها على
استنباط الحكم الشرعي من الأصل فعلا أو قوة قريبة. فبأخذ الملكة في الحد
يخرج استنباط بعض الأحكام تعسفا من غير حصول ملكة، أو تلقينا للأدلة من
غيره من غير أن يكون له استقلال في الاستنباط. وبأخذ القوة القريبة يدخل من له
تلك الملكة من غير أن يستنبط بالفعل، بل يحتاج إلى زمان، إما لتعارض الأدلة،
أو لعدم استحضار الدليل، أو لاحتياجه إلى التفات أو نحو ذلك، كذا ذكر الشارح
الجواد.

(1) ثاني الإطلاقين للاجتهاد.
622

وأنت خبير: بأن قوله " فعلا أو قوة قريبة " إما أن يكون قيدا للاقتدار، أو
للاستنباط.
فعلى الأول يكون المقصود تعميم الاقتدار للصورتين، وحينئذ فشموله لما إذا
كان الاستنباط حاصلا بالفعل لا يخلو عن خفاء، إذ لا قدرة بعد حصول الفعلية.
وقد يدرج إذن في القوة القريبة إذ تلك الحالة الحاصلة من شأنها أن يقتدر بها على
تحصيل الحكم من غير فرق بين حصول الفعلية وعدمه. غاية الأمر أن لا يصدق
الاقتدار فعلا بعد حصول الفعلية فتلك الشأنية حاصلة.
وعلى الثاني يكون المقصود به بيان أنه ليس المراد بالملكة في المقام مجرد
القوة القريبة المقابلة للفعلية، بل المراد بها الحالة التي يتسلط بها على استنباط
المسائل، سواء كان الاستنباط حاصلا بالفعل أو لا.
ثم إن ظاهر الحد المذكور يعم ما لو كان استنباطه الحكم على سبيل العلم أو
الظن، وهو ينافي ما نص عليه من خروج القطعيات عن الفقه، معللا بأنه لا اجتهاد
فيها.
ويدفعه: أن اخراج القطعيات إنما يتصور بالنسبة إلى إطلاقه الأول، وأما
بالنظر إلى الإطلاق المذكور فلا، إذ الملكة التي يقتدر بها على كل من الأمرين
شئ واحد، فلذا لم يؤخذ فيه خصوص الظن. ويشكل بأن اتحاد المبدأ للأمرين
لا يقضي بجواز الإطلاق في الحد نظرا إلى اختلاف الحيثية. والاجتهاد بناء على
ما ذكر إنما هو ملكة الاستنباط الظني دون العلمي.
وكان الأظهر: أن الاجتهاد بالنسبة إلى المعنى المذكور لم يؤخذ فيه الظن، إذ
المقصود به مطلق الاقتدار على استنباط المسائل في مقابلة المقلد الغير القادر
عليه، سواء كان استنباطه ذلك بطريق القطع أو الظن، بخلاف إطلاقه على المعنى
الأول، فإنه كما لا يقع من المقلد كذا لا يحصل من المجتهد أيضا بالنسبة إلى
المسائل المقطوع بها، ولذا يقابل المسائل الاجتهادية بالمسائل القطعية.
والاجتهاد بهذا المعنى يساوق الفقاهة وإن اختلفا في الاعتبار.
623

وقد يقال: بأن اعتبار الاجتهاد على الوجه المذكور أعم صدقا من الفقاهة،
لإمكان حصول الملكة المذكورة من دون علم بالفعل بشئ من المسائل الفقهية
وهو متجه إن اعتبرنا في صدق الفقاهة حصول الفعلية بقدر يعتد به كما هو الأظهر،
حسب ما مر. وأما إن اكتفينا بمجرد حصول القوة القريبة لاستنباط الأحكام عن
الأدلة فلا يتجه ذلك. وقد يقال بناء على الأول باعتبار الفعلية كذلك في صدق
الاجتهاد أيضا، نظرا إلى مساوقة لفظ المجتهد للفقيه بحسب إطلاقاتهم، فمن يعتبر
ذلك في صدق الفقيه لا بد أن يعتبره في صدق المجتهد أيضا. فعلى هذا يشكل
الحال في التحديد المذكور أيضا.
ثم إن ظاهر الحد المذكور يعم الاجتهاد المطلق وغيره، وهو بناء على جواز
التجزي لا إشكال فيه، وأما بناء على المنع منه فيشكل الحال فيه، فإن الظاهر بناء
على القول المذكور عدم كون استفراغه فيما يقدر على استنباطه من المسائل ولا
ملكته التي يقتدر بها على ذلك اجتهادا في الاصطلاح، كما ينبئ عنه تعبيرهم عن
تلك المسألة بأن الاجتهاد هل يقبل التجزئة أم لا؟
والقول باندراجه في الاجتهاد وإن لم يعول به بناء على القول بعدم التجزي
خروج عما يقتضيه ظاهر الإطلاقات كما لا يخفى.
هذا وللاجتهاد إطلاق ثالث، وهو أن يراد به استنباط حكم المسألة عما عدا
النص من الأمارات الظنية، ومنه: ما يقال في مقام دفع بعض الاستنباطات الظنية
أنه اجتهاد في مقابلة النص، وقد يحمل عليه ما مر في الذريعة في تعريف
الاجتهاد من أنه عبارة عن إثبات الأحكام الشرعية بغير النصوص، بل بما طريقة
الأمارات والظنون، وكأنه المراد بما ورد من ذم الاجتهاد وعدم جواز البناء عليه
في استنباط الأحكام، وبما ذكره علماء الرجال من تصنيف بعض قدمائنا كتابا في
الرد على الاجتهاد، حيث إن المناط في استنباط الأحكام الشرعية عندنا هو
النص وما بمنزلته دون سائر الأمارات والاعتبارات التي يبتنى عليها الاجتهاد
بالمعنى المذكور.
624

قوله: * (وقد اختلف الناس في قبوله للتجزئة... الخ) *.
اعلم أن كلا من الاجتهاد بمعنى الملكة والفعل إما أن يكون مطلقا - بأن يكون
هناك ملكة استنباط جميع المسائل مع حصول الفعلية كذلك، ونعني بإطلاق
حصول الفعلية أن يكون مستفرغا لوسعه في المسائل المعروفة المدونة مما يعد
العالم به عارفا بمسائل الفقه، لا جميع ما يمكن تصويره من المسائل، لعدم
تناهيها، وامتناع إحاطة القوة البشرية بها - وإما أن يكونا جزئيين، وإما أن يكون
القوة تامة كلية على الوجه المذكور، والفعلية ناقصة جزئية. وأما العكس فغير
متصور غالبا، ويمكن تصويره فيما إذا استنبط الحكم في المسائل المشكلة
بمعاون من أستاد ونحوه من غير أن يقتدر نفسه على الاستنباط بخلاف غيرها من
المسائل.
فالأول اجتهاد مطلق من غير إشكال، كما أن الثاني تجزي كذلك.
وأما الثالث فالذي قطع به غير واحد من الأفاضل أنه أيضا من الاجتهاد
المطلق نظرا إلى أن تجزي الاجتهاد وإطلاقه إنما يعقل بالنسبة إلى القوة والملكة،
وأما بالنسبة إلى الفعلية فلا يعقل فيه إلا التجزي، إذ لا يتصور إحاطة الاجتهاد
بجميع المسائل، لعدم تناهيها.
وفيه: أنه إنما يتم ذلك إذا أريد بإطلاق الفعلية هو إطلاقها بالنسبة إلى ما
يمكن تصويره من المسائل، وأما لو أريد به المسائل المعروفة المدونة حسب ما
ذكرنا فلا.
ومن البين أنه مع علمه بتلك المسائل يعد عالما بحسب العرف بمسائل الفقه،
بل الظاهر الاكتفاء في صدقه بما دون ذلك أيضا فيما إذا كان عالما بقدر يعتد به
من تلك الأحكام، حسب ما مرت الإشارة إليه.
ومع الغض عن ذلك فقد يناقش في امتناع الاجتهاد في جميع المسائل نظرا
إلى إمكان استفراغ الوسع فيها على سبيل الكلية والاندراج تحت القاعدة وإن لم
يتصورها بخصوصها. فما ذكر: من عدم تناهي المسائل والفروع المتجددة، إنما
625

يفيد امتناع استعلامها واستفراغ الوسع فيها على سبيل التفصيل وبعنوان مستقل
وملاحظة خاصة، دون ما إذا أريد ذلك بعنوان كلي على سبيل الاجمال في
الملاحظة فتأمل، وسيجئ تتمة الكلام في ذلك إن شاء الله.
ومن الغريب أن بعض من حكينا عنه القطع بذلك في المقام قد نص في أول
المسألة بخلاف ذلك، حيث قال: لا شك في جواز الأخذ من العالم إذا كان عالما
بكل الأحكام أو ظانا لها من الطرق الصحيحة، وهو المسمى بالمجتهد المطلق
والمجتهد في الكل. وأما جواز الأخذ عن الظان ببعضها من الطرق الصحيحة على
الوجه الذي ظنه المجتهد المطلق وهو المسمى بالمتجزئ ففيه خلاف انتهى
ملخصا.
وهذا كما ترى ظاهر جدا في تقريره النزاع بملاحظة الفعلية دون مجرد القوة
والملكة، وقد يؤول بعيدا بما يرجع إلى الأول، ثم إن في المقام وجوها ثلاثة
أخرى:
أحدها: أن يحصل الاقتدار على استنباط جميع المسائل من دون استفراغ
الوسع في تحصيل شئ منها، فيكون القوة تامة، والفعلية منتفية بالمرة.
ثانيها: أن يحصل الاقتدار على استنباط بعض المسائل خاصة مع عدم
استفراغ الوسع في تحصيله، فالقوة ناقصة، والفعلية منتفية أيضا.
ثالثها: أن يتحقق هناك استنباط بعض المسائل من غير أن يكون للمستنبط
ملكة في الاستنباط، وإنما حصل له ذلك على سبيل التكلف والتعسف، أو بتفهيم
الغير وإعانته في بيان الأدلة وإبداء وجوه الاستنباط، بحيث حصل له الاطمئنان
باستيفاء الأدلة ووجوه دلالتها على حكم المسألة، فهناك فعلية ناقصة من دون
حصول القوة والملكة.
فتحصل مما ذكرنا أن الوجوه المتصورة في المقام ستة لا إشكال في الوجه
الأول منها، وهو ما لو كانت الملكة تامة مع حصول الفعلية كذلك على الوجه
المذكور، والظاهر الاكتفاء في حصول الفعلية بما يعد معها عالما بالأحكام
626

الشرعية، وذلك بأن يعلم جملة وافية من الأحكام ويستنبط قدرا يعتد به من
أبواب الفقه وإن لم يكن عالما بالفعل بخصوصيات جميع المسائل المدونة على
سبيل الاستفراغ الحقيقي. وأما من سوى ذلك ففي كونه مكلفا معه بالرجوع إلى
الأدلة الشرعية، أو إلى تقليد غيره تأمل واشكال، إلا أن إدراج جميع تلك الوجوه
في التجزي غير ظاهر، والقدر المتيقن منه هو ما لو كان كل من القوة والفعلية
ناقصة وإن كان الظاهر شموله لبعض الوجوه الاخر أيضا كما سيجئ الإشارة إليه
إن شاء الله.
ثم إن الخلاف في مسألة التجزي يمكن أن يكون في مقامين:
أحدهما: أن يقع النزاع في إمكان حصول التجزي وعدمه، بأن يحصل للعالم
ملكة الاجتهاد في بعض المسائل دون بعضها إن قرر النزاع في الملكة، أو بأن
يستفرغ الوسع في تحصيل الظن ببعض المسائل دون بعضها إن اعتبر الخلاف
بالنسبة إلى الفعلية.
ثانيهما: أن يقرر الخلاف في الحجية بعد تسليم أصل التجزي. وقد يتخيل في
المقام عدم تعقل الخلاف في المقام الأول، لوضوح إمكان التبعيض في القوة،
ضرورة اختلاف مسائل الفقه في الوضوح والغموض.
ومن البين أن ملكة استنباط الجميع لا تحصل دفعة بل على سبيل التدريج، إذ
ملكة استنباط المسائل الظاهرة تحصل بأدنى ممارسة بخلاف الغامضة، ويلزم من
ذلك إمكان تحصيل الظن ببعض المسائل دون البعض، فهو مع غاية وضوحه في
نفسه، ظاهر بالبيان المذكور، كيف ولولا ذلك لما أمكن تحصيل الظن بشئ من
المسائل، لتوقف تحصيل الظن بكل منهما على تحصيل الظن بالآخر، وهو دور
ظاهر.
وأنت خبير: بأن شيئا مما ذكر لا ينافي وقوع الخلاف فيه، غاية الأمر أن
يكون الخلاف فيه ضعيفا ساقطا، كيف وصريح كلام بعضهم وقضية بعض أدلتهم
المذكورة في المسألة وقوع الخلاف في كلا المقامين. فقد نص بعضهم بأن الظاهر
627

أن التجزي في القوة والملكة غير معقول، وكان الوجه فيه أن مسائل الفقه كلها من
قبيل واحد لاشتراكها في معظم المقدمات، والاحتجاج عليها إنما يكون بسياق
واحد، فإن بلغ المستدل إلى حيث يتمكن من إجراء الأدلة وتفريع الفرع على
الأصل يصح له ذلك في الجميع، وإلا لم يصح له في شئ منها.
والحاصل: أن القوة الباعثة على الاقتدار على تحصيل تلك المسائل أمر
واحد يختلف إعمالها بحسب اختلاف المسائل، فلا يعقل فيها التجزي والتبعيض.
وقد احتجوا على المنع من التجزي بأن كل ما يقدر جهله به يجوز تعلقه
بالحكم، فلا يحصل له ظن بعدم المانع من الحكم بمقتضى ما وصل إليه من الأدلة،
وهو كما ترى يعطي المنع من تحصيل الظن من أصله وعدم حصول الاجتهاد قبل
تحصيل الجميع، إذ لا بد في الاجتهاد من استيفاء الأدلة الموجودة ولو ظنا، ولا
يحصل ذلك حسب ما ذكر لغير المجتهد المطلق. وهذان الوجهان وإن كانا في غاية
الوهن والركاكة إلا أنهما مذكوران في كلامهم، وقضية الأول المنع من تجزي
الاجتهاد بمعنى الملكة، وقضية الثاني المنع من تجزي الفعلية وعدم إمكان انفكاك
الظن ببعض المسائل عن بعض آخر، فالظاهر وقوع الخلاف في كل من المقامين
المذكورين، إلا أن الخلاف في المقام الأول في غاية الضعف والسخافة.
قال الشيخ سليمان البحراني في العشرة الكاملة: إن فرض التجزي بمعنى
الاقتدار على بعض المسائل دون بعض على وجه يساوي استنباط المجتهد
المطلق أمر جائز، بل واقع، والمنازع فيها يكاد يلحق نزاعه بالمباهتة والمكابرة،
إلى آخر ما ذكر. فحق الخلاف أن يقرر في المقام الثاني، والظاهر أن ملحوظ
الجماعة في البحث عن التجزي وإن عنونوا المسألة بقبول الاجتهاد للتجزي
وعدمه الظاهر في إرادة المقام الأول، إلا أن الظاهر أن الملحوظ بالبحث هو
اعتبار الحجية دون حصول المظنة، حيث إن الاجتهاد بحسب الاصطلاح كما
عرفت إنما يطلق حقيقة على استفراغ الوسع في تحصيل الأحكام الشرعية، بحيث
يترتب عليه أثر في الشريعة من جواز الأخذ بمؤداه، أو الرجوع إلى الأصول
628

الفقهية مع عجزه حينئذ من تحصيل المظنة. وأما مجرد تحصيل الظن بالأحكام عن
ظواهر الأدلة فمما يمكن حصوله لغير البالغين إلى درجة الاجتهاد مطلقا، مع عدم
عده من الاجتهاد قطعا، ولذا اعتبروا في حده أن يكون الاستفراغ المذكور من
الفقيه - حسب ما مر الكلام فيه - فاستظهار التوقف في المقام الأول من الشهيد في
الألفية وشيخه فخر الاسلام والسيد العميدي ليس في محله. ولا يبعد تنزيل ما
ذكروه على المقام الثاني بالتقريب الذي بيناه.
فظهر بما قررناه: أن مآل الحكم بقبول الاجتهاد التجزي وعدمه والحكم
بحجية ظن المتجزي وعدمه أمر واحد، ولذا وقع التعبير في معظم كلماتهم بالأول،
مع أن الملحوظ في المقام كما عرفت هو الثاني.
ومنه يظهر ضعف ما استشكل في المقام: من أن المانعين من التجزي إن
اعتبروا في الاجتهاد - كما هو ظاهر العنوان - ملكة استنباط جميع المسائل، فإن
كان ذلك لجواز العمل به لم يخل عن وجه لكن ذلك كلام في الحجية لا في أصل
حصول الاجتهاد كما هو ظاهر العنوان، وإن كان ذلك لنفس تحقق الاجتهاد فلا
يظهر وجهه، إذ الاجتهاد ليس إلا الظن بالمسألة بعد استفراغ الوسع في أدلتها، وهو
غير متوقف على الاقتدار على الجميع - استنباط غيرها - والقول بأن القائل بعدم
التجزي لا يسمي الاقتدار على استنباط بعض المسائل اجتهادا بل يعتبر في
التسمية الاقتدار على الجميع لا يرجع إلى طائل، فإنه بحث لفظي لا فائدة فيه، مع
أن المعظم قائلون بجواز التجزي، فهم حاكمون بصدق الاجتهاد حينئذ، والمعاني
الاصطلاحية إنما تثبت بقول الأكثر. وإن اعتبروا في تحقق الاجتهاد العلم بجميع
أدلة المسألة وهو غير حاصل للمتجزي، فهو منقوض بالمطلق، لعدم حصوله
بالنسبة إليه أيضا، إذ اقتضاء حصول الظن له بذلك وانعقاد الاجماع على تنزيل
ظنه منزلة العلم دون غيره لا يفيد في المقام، إذ ذلك إنما يلحظ بالنسبة إلى حجية
ذلك الظن، لا في نفس حصول المظنة، وتحقق الاجتهاد في المسألة. وإن اكتفوا فيه
بالظن باستيفاء الأدلة فهو مما يمكن حصوله للمتجزي قطعا، من غير فرق بينه
وبين المطلق في ذلك فلا يقضي ذلك بالمنع من التجزي انتهى ملخصا.
629

إذ قد عرفت أن الاجتهاد في ظاهر اصطلاحهم اسم لاستفراغ الوسع في
تحصيل الأحكام الشرعية على وجه يعتد به في الشريعة، فحينئذ فالخلاف في
حجية ظن المتجزي يرجع إلى الخلاف في قبول الاجتهاد بالمعنى المذكور
للتجزي، فيلزم القائل بعدم حجيته أن لا يسمي ذلك اجتهادا كما يلزم القائل
بحجيته إدراجه في الاجتهاد. وحينئذ فذهاب المعظم إلى جواز التجزي ومخالفة
آخرين ليس مبنيا على البحث اللفظي. وليس القائل بالمنع من التجزي قائلا بعدم
إمكان حصول الظن لغير المجتهد المطلق، والقول به كما يظهر من بعض كلماتهم
سخيف، إن صح وجود القائل به فهو لشذوذ منهم، لا يتجه إسناده إلى الأفاضل فلا
تغفل هذا. وحيث علمت أن المتيقن من موضوع التجزي هو التجزئة بحسب كل
من القوة والفعلية فلنفرض المسألة في تلك الصورة، ثم نتبعها بالكلام في باقي
الوجوه المذكورة.
فنقول: إن في المسألة قولان معروفان (1) أحدهما: القول بالتجزي وعزي إلى
أكثر الأصوليين. وفي الوافية: أن الأكثر على أنه يقبل التجزئة، وقد اختاره جماعة
من علمائنا منهم العلامة (رحمه الله) في عدة من كتبه الأصولية والفقهية، والشهيدان،
وشيخنا البهائي ووالده، وجماعة من المتأخرين، بل استظهر بعضهم اتفاق
أصحابنا الامامية عليه، وعلى تقدير منعه فلا أقل من الشهرة العظيمة التي لا يعد
معها في دعوى شذوذ المخالف، واختاره أيضا جماعة من العامة منهم: الغزالي،
والرازي، والتفتازاني، ويظهر القول به من الآمدي.
وثانيهما: المنع منه وحكى القول به عن قوم، وعزاه بعضهم إلى أكثر العامة،
واختاره بعض مشايخنا المحققين. ويظهر من جماعة التوقف في ذلك منهم:
الحاجبي والعضدي من العامة، وفخر المحققين والسيد عميد الدين من الخاصة،
حيث ذكروا احتجاج الطرفين ولم يرجحوا شيئا من القولين.

(1) قولين معروفين، خ ل.
630

حجة القول بقبوله للتجزي وجوه:
- الأول -
ما أشار إليه المصنف ويأتي الكلام فيه إن شاء الله.
- الثاني -
أن قضية حكم العقل بعد انسداد باب العلم وبقاء التكاليف هو الرجوع إلى
الظن، لكونه الأقرب إلى العلم - حسب ما مر تفصيل القول فيه - سواء كان الظان به
قادرا على استنباط غيره من الأحكام أو لا. فالذي يقتضيه الدليل المذكور قيام
الظن مقام العلم للقادر على تحصيله، فالعامي الصرف الغير المتمكن من تحصيل
المظنة واستنباط الأحكام عن الأدلة خارج عن موضوع المسألة، بخلاف
المتجزي.
وبالجملة: أن العبرة بحال الظن حسب ما يقتضيه الدليل المذكور - على ما مر
تفصيل القول فيه - فيحكم به، لقيامه مقام العلم من غير ملاحظة لحال الظان
والمستنبط، فمهما كان المكلف قادرا على تحصيل الظن كان ذلك قائما عنده مقام
العلم، مطلقا كان، أو متجزئا. وإن لم يكن قادرا على ذلك كما هو الحال في
الخارج عن القسمين المذكورين فهو خارج عن مؤدى الدليل، وكان تكليفه شيئا
آخر ويورد عليه: بأنه لو تم ذلك لدل على حجية الظن الحاصل لغير القادر على
ملاحظة جميع الأدلة والتمكن عن البحث عن معارضاتها ووجوه دلالتها حتى
العوام القادرين على تحصيل الظن بمجرد الرجوع إلى بعض الروايات أو ملاحظة
ترجمتها، لكون الجميع ظنا بالحكم، بل قد يكون الظن الحاصل لهؤلاء أقوى من
الظنون الحاصلة للمجتهدين، لعدم انسباق الشبهة إلى أذهانهم. والقول بخروج ظن
هؤلاء بالإجماع مدفوع، بلزوم تخصيص القاعدة العقلية. فما دل على عدم حجية
الظن المفروض يدل على عدم جواز التعويل على الوجه المذكور.
ويدفعه: أن قضية الدليل المذكور هو حجية كل ظن لم يقم الدليل على خلافه،
فما قام الدليل على عدم جواز الأخذ به خارج عن موضوع تلك القاعدة، إلا أنه
631

تخصيص لها نظرا إلى قيام الدليل عليه. والتحقيق في الإيراد عليه وجهان:
أحدهما: أن قضية العقل بعد انسداد باب العلم هو حجية أقوى الظنون وقيامه
مقام العلم، إذ هو الأقرب إليه. ولا ريب أن الظن الحاصل لصاحب الملكة القوية
- الباعثة على الاقتدار على استنباط جميع المسائل، ومعرفة جميع الأدلة
الشرعية، والوصول إلى وجوه دلالتها، وكيفية استنباط الأحكام منها - أقرب إلى
إصابة الحق والوصول إلى الواقع من استنباط من هو دونه في الملكة بحيث لا
يقدر إلا على استنباط بعض المسائل، ولا يتمكن إلا من إدراك بعض الدلائل. فإذا
دار الأمر بين اعتبار القدرة على استنباط جميع الأدلة والبحث عن معارضاتها
وكيفية دلالتها - كما هو شأن المجتهد المطلق - أو الاكتفاء باستنباط مدارك
المسألة الخاصة ولو مع العجز عن إدراك غيرها - كما هو شأن المتجزي - كان
الأول هو الأولى.
والحاصل: أنه كما يجب تحصيل أقوى الظنون من حيث المدرك مع اختلاف
المدارك في القوة والضعف، كذا يجب مراعاة الأقوى من حيث المدرك. فكما
يجب عليه البحث عن الأدلة لتحصيل المدرك الأقوى، كذا يجب عليه السعي في
تحصيل القوة القوية حتى يكون مدركا بالملكة الأقوى، لكون الظن الحاصل معها
أقرب إلى مطابقة الواقع من الحاصل من القوة الناقصة والملكة الضعيفة.
فإن قلت: لو كان الأمر على ما ذكر لما اكتفى بالظن الحاصل من المجتهد
المطلق مطلقا، بل كان الواجب عليه تحصيل القوة الأتم والملكة الأقوى على
حسب الإمكان، لوضوح اختلاف المجتهدين المطلقين في القوة والملكة، مع أن
أحدا لم يقل بوجوب ذلك.
قلت: لولا قيام الدليل القاطع على الاكتفاء بظن المجتهد المطلق مطلقا كان
مقتضى الدليل المذكور ذلك، إلا أنه لما قام الاجماع على عدم وجوب تحصيل
كمال القوة بعد تحصيل ملكة الاجتهاد المطلق كان ذلك دليلا على عدم وجوب
مراعاة الزائد، فهو نظير ما إذا دل الدليل القاطع على الاكتفاء في مقدار البحث
632

والنظر في الأدلة على قدر مخصوص من غير حاجة إلى اعتبار ما يزيد عليه ولو
مع التمكن من الزيادة، فإنه لا منافاة فيه لمقتضى الدليل المذكور أصلا، إذ اعتبار
وجوب تحصيل الأقوى إنما هو لعدم قيام الدليل على الاكتفاء بما دونه، وأما بعد
قيام الدليل عليه فلا. فصار المتحصل من الدليل المذكور هو حجية الظن الحاصل
من صاحب الملكة المطلقة بعد تحصيل ما هو الأقوى من المدارك، حيث إنه الظن
الأقرب إلى إصالة الواقع، فيجب على المكلف إذن تحصيل الأقوى بعد انسداد
سبيل العلم بالحكم ليكون مؤديا للتكليف خارجا في حكم العقل عن عهدة
التكليف الثابت باليقين، لعدم القطع بتحصيل البراءة من دونه. فذلك هو الظن القائم
مقام العلم بحكم العقل دون سائر الظنون، وكان ذلك هو الاجتهاد الواجب في
تحصيل الأحكام. ولما دل الدليل القاطع على عدم وجوب الاجتهاد على الأعيان
بل على سبيل الكفاية قضى ذلك بعدم وجوب تحصيل المرتبة المذكورة إلا على
بعض المكلفين، فيرجع الباقون إلى ظنه، والأخذ بمقتضى اجتهاده.
فإن قلت: إن قضية حكم العقل وجوب تحصيل العلم بالأحكام بالنسبة إلى
آحاد الأنام، وبعد انسداد باب العلم يرجع إلى الظن بالنسبة إلى كل واحد منهم،
لاشتراك الجميع في التكليف.
غاية الأمر: قيام الدليل من الاجماع والضرورة على جواز الرجوع إلى
التقليد لغير البالغ إلى درجة التجزي. وأما المتجزئ فلا دلالة في الاجماع
والضرورة على جواز أخذه بالتقليد، ولا دليل قاطع سواه على خروجه عن
الاشتغال المعلوم بمجرد التقليد. ومجرد دوران الأمر في شأنه بين الوجهين لا
يقضي بتجويز الأمرين بالنسبة إليه والتخير بين المسلكين، بل الذي يقتضيه العقل
عند دوران أمره بين الرجوع إلى ظنه والأخذ بتقليد غيره في ما يكون المظنون
عنده خلافه هو الأخذ بظنه، فإن بناءه على التقليد حينئذ أخذ بالوهم وتنزل من
الظن إلى ما دونه من غير قيام دليل عليه، وهو خلاف ما يقتضيه حكم العقل. هذا
إذا اجتهد في تلك المسألة وحصل له الظن بخلافه. وأما لو كان ذلك قبل اجتهاده
633

فلا أقل من احتمال أن يكون المظنون عنده خلاف ذلك بعد اجتهاده فيه وهو أيضا
كاف في المقام.
قلت: بعد ما تقرر بملاحظة ما بيناه أن الاجتهاد الواجب هو استفراغ الوسع
في معرفة الحكم بعد تحصيل المرتبة المفروضة من الملكة كان ذلك هو الواجب
على سبيل الكفاية، فدوران الأمر في المكلف بين أن يكون مجتهدا أو مقلدا،
عالما أو متعلما يقضي بوجوب التقليد عليه، لما دل على وجوب التقليد على كل
من لم يبلغ تلك الدرجة نظرا إلى عدم انتهاء ظنه إلى العلم فلا يندرج في العالم، إذ
مجرد الظن الغير المنتهي إلى اليقين لا يعد علما، فيندرج فيما يقابله - أعني
الجهل - ووظيفته الرجوع إلى العالم. فليس المقصود بالوجه (1) المذكور إثبات
وجوب التقليد عليه ابتداءا حتى يقال: إنه عند دوران الحكم في شأنه بين الأمرين
لا وجه لترجيح التقليد على الأخذ بظنه مع اشتراكهما في مخالفة الأصل، بل ينبغي
ترجيح الأخذ بالظن إلى ما ذكر. وإنما المراد أن الملحوظ في المقام اندراجه في
موضوع الجاهل ليتعين عليه الرجوع إلى العالم، أو من قام الدليل القاطع على قيام
ظنه مقام العلم، فصار المحصل أن وجوب رجوع الجاهل إلى العالم أمر معلوم،
وإنما الكلام في المقام في اندراج المتجزئ في موضوع الجاهل.
وبعد ملاحظة الوجه المذكور يتبين اندراجه فيه، إذ قد عرفت أن قضية العقل
حينئذ هو حجية الظن في الجملة على سبيل القضية المهملة، وقضية ترجيح ظن
المطلق من جهة القوة انصراف المهملة إليه، فيبقى ظن غيره مجهولا، فلا يكون
الظان المذكور عالما بما هو الحكم في شأنه فلا محالة يندرج في الجاهل.
وما ذكر: من أن الظن أقرب إلى العلم فيتعين عليه الأخذ به حتى يقوم الدليل
على الاكتفاء بغيره إنما يفيد في المقام إذا ثبت كونه من أهل الاستنباط، إذ بعد
وجوب الاستنباط عليه لا وجه لترك الأقوى والأخذ بالأضعف من دون قيام
الدليل عليه.

(1) بالأخذ، خ ل.
634

وأما إذا دار أمره بين الأمرين وجهل الحال في شأنه فذلك مما يحقق اندراجه
في الجاهل، ومجرد أقربية الظن إلى العلم لا يثمر في حقه شيئا، ألا ترى أنه لو كان
سبيل العلم بالأحكام مفتوحا كان الأمر أيضا دائرا بين العلم بالأحكام وبين
أخذها عن العالم، فلا يصح أن يقال: إن شأن غير العالم ممن له الاقتدار على
تحصيل الظن أن يأخذ بظنه دون أن يقلد العالم، لكون الظن أقرب إلى العلم بالنظر
إلى التقليد، بل الواجب في شأنه هو التقليد، حيث إنه أحد الوجهين المذكورين من
العلم أو التعلم.
ومنه يظهر الحال في المقام، فإنه إذا كانت تلك المرتبة من الظن نظرا إلى
الوجه المذكور قائمة مقام العلم يكون الواجب في شأن كل من المكلفين إما
تحصيل تلك المرتبة، أو الرجوع إلى من يكون مستنبطا للحكم على الوجه
المذكور، فمع عدم حصول الأول للمتجزئ يتعين عليه الأخذ بالثاني. وأيضا لو
تعين على كل من المكلفين تحصيل العلم بالأحكام عن مداركها كان انسداد باب
العلم قاضيا بالتنزل إلى الظن بالنسبة إلى كل واحد منهم، وأما إذا قلنا بعدم تعين
ذلك على كل واحد منهم وكان القدر اللازم قيام جماعة بتحصيل العلم بالأحكام
بحيث يكتفى بهم في تعليم الباقين ليرجعوا إليهم في أخذ تلك الأحكام لم يقض
انسداد باب العلم إلا بالرجوع إلى الظن الأقوى مع انفتاح سبيله، ولو بالنسبة إلى
البعض المذكورين دون ما دونه من المراتب وإن لم يتمكن الكل من الأخذ بذلك
الأقوى، فإن تمكن من يقوم به الكفاية كاف في ذلك وكان وظيفة الباقين الرجوع
إليهم.
فإن قلت: إن الواجبات الكفائية تتعلق بكل واحد من الأعيان وإن كان تعلقه
على سبيل الكفاية، وتعلق الوجوب بكل واحد منهم في الجملة كاف فيما نحن
بصدده من الانتقال إلى الظن بالنسبة إلى من يتمكن منه بعد انسداد سبيل العلم.
قلت: إن جميع المكلفين في تحصيل العلم بالأحكام بمنزلة شخص واحد،
فإذا تمكن من تحصيله من يقوم به الكفاية لم ينتقل الأمر إلى الاكتفاء بالظن، وكذا
635

لو تمكنوا من الظن الأقوى على الوجه المذكور ولم ينتقل الحال في الباقين إلى
ما دونه، لحصول التمكن من الأقوى بالنسبة إلى الكل، فإن الملحوظ بالتكليف
الكفائي حال الكل دون كل واحد من الآحاد.
ثانيهما: أنه إنما يتم ما ذكر من الدليل لو لم يقم الاجماع على حجية الظن
المطلق، وأما بعد قيام الاجماع على حجية ظنه فلا وجه للحكم بحجية الظن
الحاصل لغيره، فإن قضية انسداد باب العلم وبقاء التكليف هو الرجوع إلى الظن
في الجملة، والقدر الثابت هو الظن الخاص، لقيام الاجماع عليه، فالباقي يندرج
تحت ما دل على المنع من الأخذ بالظن.
نعم إن لم يثبت هناك مرجح بين الظنون من حيث المدرك - كما أنه لا مرجح
بينها من حيث المدرك على ادعاء القائل بأصالة حجية الظن - لزم الحكم بتساوي
الكل من الجهة المذكورة أيضا، لانتفاء المرجح أيضا وليس كذلك، لما عرفت من
كون الاجماع على حجية ظن المطلق مرجحا في المقام.
وما قد يقال: من منع انعقاد الاجماع على حجية ظن المطلق على وجه ينفع
في المقام نظرا إلى وقوع الخلاف في طرق الاستنباط من الأخذ بطريقة الاجتهاد،
أو الأخبار، أو الطريقة الوسطى، حيث ذهب إلى كل من تلك الطرق الثلاثة
جماعة، وفي هؤلاء من يمنع الرجوع إلى غيره، فلا إجماع على الأخذ بظن خاص
منها ليكون دليلا قاطعا في المقام، وكون الرجوع إلى المطلق في الجملة في مقابلة
المتجزئ مقطوعا لا يكفي في المقام بعد دوران الأمر فيه بين الوجوه المذكورة
وانحصار الأمر في الرجوع إلى واحد منهم، فلا مناص إذن من الرجوع إلى الظن
ويتم الاستدلال مدفوع، بأن قيام الاجماع على حجية ظن المطلق مما لا مجال
للتأمل فيه. وجعل دوران الأمر بين أحد الطرق الثلاثة مانعا لانعقاد الاجماع
موهون جدا، إذ الاختلاف الواقع في ذلك كالاختلاف الحاصل بين المجتهدين في
تعيين الأدلة، حيث لا يسع (1) أحدا من أجل ذلك الرجوع إلى غيره.

(1) في " ق " يمنع.
636

نعم ربما وقع في البين خلاف لبعض القاصرين في جواز الرجوع إلى علمائنا
المجتهدين، لشبهات واهية عرضت لهم، وليسوا ممن يعتد بشأنهم في مقابلة أولئك
الأعلام ليكون خلافهم ناقضا لإجماعهم.
فإن قلت: إن ما ذكر لا يجدي فيما نحن فيه من المعرفة بتكليف المتجزئ، إذ
لا إجماع على جواز رجوعه إلى المطلق، بل الأشهر خلافه. وقيام الاجماع على
حجية ظن المطلق في شأن نفسه وشأن من يقلده من العوام غير مفيد في شأنه،
فلا بد له إذن من الرجوع إلى الظن، ويتم الاحتجاج المذكور بالنسبة إليه. والقول
بقضاء الأصل بعدم حجية الظن فيقتصر فيما دل على خلافه على المقدار المعلوم
مدفوع، بأنه كما قضى الأصل الأولي بعدم حجية الظن في شأنه فقد قضى أيضا
بعدم جواز رجوعه إلى التقليد والأخذ بقول الغير، فلا وجه لترجيح الثاني، بل
نقول: إنه لا بد من ترجيح الأول نظرا إلى الدليل المذكور، إذ بعد دوران أمره بين
أمرين مخالفين للأصل وعدم دليل قطعي على شئ منهما لا بد من البناء على
الظن والأخذ بمقتضاه، لكونه الأقرب إلى العلم، فيتعين البناء عليه بعد انسداد
سبيل العلم والقطع ببقاء التكليف، فلا وجه للأخذ بالتقليد. وأيضا لو دار أمره بين
تقليد العالم بالحكم والأخذ بالظن لربما أمكن القول بتعادلهما. وأما لو دار بين
الأخذ بالظن وتقليد الظان فلا ريب في تقديم الأول، إذ ليس فيه مخالفة الأصل
إلا من جهة الاتكال على الظن، بخلاف الثاني لمخالفته للأصل من جهتين نظرا
إلى اتكاله على الظن وعلى فهم الغير، فالاتكال على الظن مشترك بين الوجهين
ويزيد الثاني بالأخذ بفهم الغير ودعواه.
قلت: لما انقسم الناس في حكم الشرع إلى قسمين: عالم بالأحكام ومستنبط
لها عن مداركها ومتعلم آخذ بقول ذلك العالم كان العلم بالأحكام عن أدلتها
مطلوبا من ذلك العالم دون غيره، وحينئذ فإذا فرض انسداد باب العلم بالنسبة إليه
مع القطع ببقاء التكليف قضى ذلك بالانتقال إلى الظن في الجملة، وحينئذ فإن لم
يكن هناك ترجيح بين الظنون قضى ذلك بحجية الجميع، لاستحالة الترجيح مع
انتفاء المرجح، فتكون القضية المهملة المذكورة بعد ملاحظة ذلك كلية.
637

وأما إذا قام هناك دليل قطعي على حجية بعضها وقيامه مقام العلم في
استنباط الأحكام كان ذلك مرجحا بين الظنون، ولم يكن المستفاد من الدليل
المذكور جواز الاستناد إلى غيره، فينطبق القضية المهملة المستفادة من العقل على
ذلك، وحينئذ نقول: إنه لما قام الاجماع على قيام الظن الحاصل بعد تحصيل
الملكة التامة - والقدرة الكاملة على استنباط الأحكام الشرعية وإعمال تلك
الملكة على حسب الوسع والطاقة - مقام العلم وتنزيله منزلته قضى ذلك بكون ما
دل عليه العقل من قيام الظن في الجملة مقام العلم هو خصوص الظن المفروض، إذ
لا يستفاد حينئذ من المهملة المذكورة ما يزيد عليه، فيكون وظيفة العالم بعد
انسداد سبيل العلم هو تحصيل الظن المفروض بتحصيله الملكة المفروضة،
وإعمالها في البحث عن الأدلة على حسب وسعه، ويكون وظيفة المتعلم هو
الرجوع إليه. وهذا كله ظاهر في حكم العقل بعد التأمل فيما يقتضيه الدليل
المذكور.
إذا تقرر ذلك تفرع عليه أن يكون وظيفة المتجزئ الرجوع إلى العالم المذكور
دون ظنه الحاصل عن ملاحظة الأدلة، فليس المقصود من جعل الاجماع على
حجية الظن المطلق مرجحا في المقام إلا إثبات كون المرجع حال انسداد باب
العلم هو الظن المذكور، وأنه القائم مقام العلم من غير ملاحظة لخصوص المتجزئ
وغيره، فعدم قيام الاجماع في خصوص المتجزئ على جواز رجوعه إلى العالم
المفروض لا ينافي ما قررنا، إذ يتفرع على ما ذكر أن تكليف المتجزئ في حكم
العقل هو ما ذكرناه وإن لم يقم إجماع على جواز رجوعه إلى التقليد والأخذ بقول
الغير.
فإن قلت: لو كان حكم العقل بكون المناط في التكليف هو الظن المذكور - من
جهة إدراكه أن ذلك هو المطلوب في الشريعة والحجة بعد انسداد باب العلم دون
غيره - تم ما ذكر من غير إشكال. وأما إذا كان حكمه به من جهة عدم قيام دليل
عنده على جواز الرجوع إلى غير الظن المذكور فيحكم بوجوب الأخذ به من جهة
638

قيام الدليل على حصول البراءة به دون غيره فلا يتفرع عليه حكم المتجزئ، إذ
كما لم يقم دليل قطعي على رجوعه إلى ظنه فليس في رجوعه إلى العالم
المفروض أخذ باليقين، لدوران تكليفه في بادئ الرأي بين الأمرين، فكيف يصح
القول بكون تكليفه في حكم العقل هو الرجوع إلى الغير.
قلت: لما كان الظن القائم مقام العلم في حكم العقل هو الظن المفروض لزمه
الحكم بوجوب تحصيله في حصول البراءة، وإن ذلك لعدم قيام الدليل على
الاكتفاء بغيره، إذ حينئذ يكون الظن المعتد به في ظاهر الشريعة هو ذلك دون
غيره، فإذا لم يقم دليل على تنزيل غيره من الظنون منزلة العلم لزمه الحكم بعدم
قيامه مقامه، لما دل من القاعدة على عدم الاكتفاء بالظن، فإذا كان الظن المذكور
في ظاهر التكليف منزلا منزلة عدمه كان قضية الأدلة القطعية الدالة على وجوب
رجوع الجاهل إلى العالم وجوب رجوع الظان المذكور إلى العالم المفروض،
فالمقصود مما قررناه هو إدراج الظان المذكور بحكم العقل في عنوان الجاهل.
لا يقال: إنه كما قضى أصالة عدم حجية الظن بعدم حجية ظنه وإدراجه في
عنوان الجاهل، كذا يقضي أصالة عدم جواز التقليد بإدراجه في العالم.
لأ نا نقول: إنه من الظاهر أن ما دل على المنع من التقليد إنما هو في شأن
العالم، وأما الجاهل فليس وظيفته إلا التقليد إجماعا، فإذا شك في اندراج
المتجزئ تحت العالم أو الجاهل كان مشكوك الاندراج تحت ما دل على المنع من
التقليد، فلا يمكن الاستناد إليه في المقام، على أنه لو سلم شمول ما دل على المنع
من التقليد لمجهول الحال فإنما يدل على المنع بالنسبة إليه من حيث إنه مجهول،
فلا يدل على اندراجه تحت العالم فلا يعارض ذلك ما دل على اندراجه في
الجاهل، فيجب عليه التقليد، لخروجه بذلك عن الجهالة المأخوذة فيما يستفاد من
الأول، مضافا إلى ما قد يقال: من أنه مع عدم قيام الدليل على حجية ظنه وجواز
عمله به يندرج في عنوان الجاهل بالوجدان، إذ المفروض جهله بالحكم، فيجب
عليه التقليد من غير حاجة إلى الاحتجاج عليه بعموم ما دل على المنع من العمل
639

بالظن. ولا يعارضه حينئذ ما دل على المنع من التقليد، إذ بعد اندراجه في عنوان
الجاهل لا يشمله تلك الأدلة قطعا.
ومما قررنا ظهر اندفاع الوجوه المقررة في الإيراد، ثالثها: أن انسداد باب
العلم والعلم ببقاء التكليف إنما يقضي بجواز العمل بما ظن أنه مكلف به في ظاهر
الشريعة لا ما ظن أنه كذلك بحسب الواقع، كما هو ملحوظ المستدل.
وتوضيح ذلك: أنه بعد العلم بوقوع التكاليف إنما يجب في حكم العقل الإتيان
بما يحصل معه العلم بحصول البراءة في حكم المكلف حسب ما قررناه في معرفة
أداء ما كلف به حكما وموضوعا، سواء حصل معه العلم بمطابقته للواقع أو لا؟ فلا
يجب على المكلف مراعاة ما يزيد عليه بعد العلم بما جعله طريقا إلى الواقع، إلا
أن يجعل الطريق إليه خصوص العلم به، فالقدر المعتبر في الحكم بالبراءة
والامتثال هو ما يعلم معه بتفريغ الذمة في حكم الشرع وهو أعم مطلقا من العلم
بأداء المكلف به بحسب الواقع، فيحصل الأول مع تعين (1) المكلف لمراعاة الثاني
بخلاف العكس، ولذا لو لم يقرر المكلف طريقا إلى الواقع أو قررها ولم يصل إلينا
وكان سبيل العلم بالواقع مفتوحا تعين مراعاة ذلك، لعدم العلم بحصول البراءة
والخروج عن عهدة التكليف إلا به، بل جاز مراعاته مع العلم بالطريق المقرر
أيضا، إذ لم يكن هناك مانع آخر. وحينئذ نقول: إذا انسد سبيل العلم بما جعله
المكلف طريقا إلى معرفة ما كلف به وانسد أيضا سبيل العلم بالواقع مع القطع ببقاء
التكليف تعين تحصيل الظن بما هو مكلف به في ظاهر الشريعة، ومراعاة ما يظن
كونه طريقا إلى تفريغ الذمة في حكم المكلف، لقيام الظن بذلك حينئذ مقام العلم به
في حكم العقل حسب ما مرت الإشارة إليه.
ولا يصح الاكتفاء حينئذ بمجرد ما يظن معه بأداء الواقع، إذ لا ملازمة بينه
وبين الأول، وليس ذلك أخص مطلقا من مراعاة ما يظن معه بتفريغ الذمة كما أن
العلم به أخص مطلقا من العلم بذلك - حسب ما مر - بل النسبة بينهما عموم من

(1) في ق: يقين.
640

وجه، لظهور أنه قد يحصل الظن بتفريغ الذمة في حكم الشرع مع عدم حصول
الظن بأداء الواقع.
وقد يكون بالعكس فيما إذا شك في كون ذلك مناطا في حكم الشرع أو ظن
خلافه، والمعتبر في المقام بمقتضى حكم العقل كما عرفت هو الأول، وحينئذ فلا
يتم الاحتجاج إذ مجرد ظن المتجزئ بالحكم مع الشك في كونه مكلفا شرعا
بالعمل بظنه أو رجوعه إلى ظن المجتهد المطلق لا يكفي في الحكم بحجية ظنه،
وجواز الاعتماد عليه في حكم الشرع.
نعم، لو أقيم دليل ظني على حجية ظنه والاكتفاء به في الشريعة أمكن
الاستناد إلى الوجه المذكور، وهو غير مأخوذ فيما ذكر من البيان.
رابعها: أن الاحتجاج المذكور إنما يتم إذا قام دليل قطعي على عدم وجوب
الاحتياط على مثله، إذ مع احتمال وجوب الاحتياط عليه يتعين ذلك بالنسبة إليه،
إذ هو أيضا نحو من العمل بالعلم، إذ المقصود في المقام تحصيل اليقين بالفراغ
الحاصل بذلك وهو ممنوع، بل الظاهر خلافه، إذ أقصى ما يستفاد مما دل على
عدم وجوبه هو عدمه في أصل الشريعة، وعدم وجوبه على المجتهد المطلق ومن
يقلده.
وأما عدم وجوبه في الصورة المفروضة فلا، كما هو الحال بالنسبة إلى غير
البالغ درجة الاجتهاد إذا تعذر عليه الرجوع إلى المجتهد فإن القول بوجوب
الاحتياط عليه حينئذ - إذا أمكن من تحصيله - هو الموافق لظاهر القواعد، بل لا
يبعد البناء عليه، وحينئذ فلا يصح الحكم بانتقاله إلى الظن بعد انسداد باب العلم
والعلم ببقاء التكليف.
فإن قلت: إنما يتم ما ذكر فيما يمكن فيه الاحتياط، وأما فيما لا يمكن
مراعاته فلا يتم ذلك، وحينئذ فيمكن إقامة الدليل بالنسبة إليه فيتم إثبات المدعى
حينئذ بعدم القول بالفصل.
قلت: انعقاد الاجماع على عدم القول بالفصل غير معلوم، غاية الأمر عدم
641

قائل به في الكتب المعروفة، ومجرد ذلك لا يعد إجماعا سيما في المقام، فغاية
الأمر حينئذ هو جواز الاعتماد على ظنه في بعض الفروض النادرة مما لا يمكن
فيه مراعاة الحائطة بشئ من وجوهها، لمكان الضرورة وأين ذلك من المدعى.
- الثالث -
إطلاق ما دل على المنع من التقليد والأخذ بقول الغير من العقل والنقل، غاية
الأمر جوازه في شأن غير القادر على الاستنباط لمكان الضرورة وقيام الاجماع
عليه، فيبقى غيره مندرجا تحت أدلة المنع.
ويمكن الإيراد عليه بوجوه:
أحدها: أن العمل بالظن على خلاف الأصل أيضا خرج عنه ظن المجتهد
المطلق لقضاء الاضطرار به وقيام الاجماع عليه، فيبقى غيره مندرجا تحت
قاعدة (1) المنع.
وأجيب عنه: بأن رجوعه إلى الظن مما لا كلام فيه، إذ بعد انسداد باب العلم لا
يجوز للمتجزئ البناء على ترك العمل، فلا بد له من الرجوع إلى الظن الحاصل من
الاجتهاد، أو الحاصل من التقليد، فلا يكون منهيا عن اتباع الظن على الإطلاق
بخلاف التقليد.
ورد ذلك: بأنه ضعيف في الغاية، إذ غاية ما يحصل للمتجزئ العلم بكونه
مكلفا بالعمل بغير العلم، وأما أنه التقليد أو الاجتهاد فغير معلوم عنده، إذ لا دليل
على التعيين، فعلى هذا يجب عليه العمل بأحد الأمرين دون الآخر من دون علم
بالتعيين، فهو حينئذ من باب اشتباه الحرام بالحلال، كالزوجة المشتبهة بالأجنبية
فيجب الاجتناب عنهما، ولو لم يكن هناك بد من الإقدام على أحدهما تخير، وأين
هو من لزوم الرجوع إلى الاجتهاد كما هو المدعى.
ويمكن دفعه: بأن مقصود المجيب أن هناك عمومات قاضية بالمنع عن العمل

(1) أدلة، خ ل.
642

بالظن، وأدلة قاضية بالمنع من خصوص الظن الحاصل من التقليد، فتلك
العمومات مخصوصة قطعا، إذ لا مناص له من الأخذ بأحد الظنين، بخلاف ما دل
على المنع من خصوص التقليد، إذ لا دليل على الخروج من مقتضاه حينئذ، فبعد
تعين الرجوع إلى الظن لا بد من الأخذ بالظن الحاصل من غير التقليد، للأدلة الدالة
على المنع من التقليد من غير باعث للخروج عنها.
نعم يمكن الإيراد عليه: بأن الرجوع إلى التقليد ليس أخذا بالظن حتى يكون
بين ما دل على المنع من الرجوع إلى الظن وما دل على المنع من الأخذ بالتقليد
عموم مطلق ليكون عدم المناص من الرجوع إلى أحد الظنين موجبا للخروج عن
مقتضى تلك الأدلة، دون هذه، بل هو نوع آخر من الأخذ بغير العلم قد دل الدليل
على المنع منه. فبعد عدم المناص من الأخذ بأحد الوجهين يدور الأمر بين
تخصيص كل من الدليلين، ولا دليل على الترجيح، فيجب تركهما، أو يتخير في
البناء.
ولا يمكن دفعه تارة: بأن الترجيح حينئذ في تخصيص ما دل على المنع من
العمل بالظن، إذ بعد كون السبيل إلى الواقع أولا هو العلم بكون الأقرب إليه هو
الظن، فبعد دوران الأمر بين الرجوع إلى الأقرب إليه أو الأبعد من غير قيام دليل
على التعيين يتعين الأخذ بالأقرب. وفيه: أنه إنما يتم إذا جعلنا الواجب أولا هو
الأخذ بالعلم بالواقع، وأما إذا قلنا بوجوب الأخذ بما يعلم معه بتفريغ الذمة من
حكم الشرع سواء حصل معه العلم بالواقع أولا كما هو الأظهر، ومر تفصيل القول
فيه فلا يتم ذلك، إذ لو ظن بكونه مكلفا شرعا بالرجوع إلى التقليد لزم اتباعه، ومع
الشك في كونه مكلفا بالأخذ بالظن أو التقليد لا يصح له الحكم بالرجوع إلى شئ
منهما، لتساويهما بالنسبة إلى الحكم بتفريغ الذمة في حكم الشرع كما هو قضية
الشك.
فأقصى الأمر مع عدم المناص في الأخذ بأحد الوجهين أن يحكم بالتخيير.
ومجرد اقتضاء أحد الوجهين ظنا بالواقع لا يقضي بحصول الظن بالبراءة في حكم
643

الشرع، إذ لا ملازمة بين الأمرين حسب ما مر بيانه. نعم لو قام دليل ظني على
كونه مكلفا بالاجتهاد صح الأخذ به، وليس في الاحتجاج المذكور ما يفيده.
وتارة: بأن التقليد أيضا اتكال على الظن وإن لم يوجب حصول الظن للمقلد
نظرا إلى حكمه بحجية الظن الحاصل للمجتهد بالنسبة إليه، وما دل على عدم
حجية الظن وعدم جواز الاتكال عليه يفيد عدم جواز الاستناد إليه مطلقا، سواء
كان المستند إليه هو الظان أو غيره، بل ربما كان الثاني أولى بالمنع، فلا بد من التزام
التخصيص فيما دل على عدم الاعتداد بالظن فيتم التقرير المذكور.
ومع الغض عنه فالحاصل في تقليد المجتهد جهتان للمنع نظرا إلى الاتكال
فيه إلى الظن وإلى الغير ففيه استناد إلى التقليد وإلى الظن بخلاف العمل بالظن.
نعم لو كان من يقلده عالما بالحكم كان المانع هناك مجرد التقليد، فربما
يكافئ ذلك رجوعه إلى الظن، إلا أنه لا يكون ذلك إلا في نادر من الأحكام. وقد
يدفع ذلك: بأنه لا كلام في حجية ظن المجتهد المطلق، إنما الكلام في حجية ظنه
بالنسبة إلى المتجزئ وهو المراد من تقليده له، فليس هناك أمران مخالفان للأصل.
وبعبارة أخرى: إن ظن المجتهد المطلق منزل منزلة العلم قطعا، فليس في المقام إلا
إثبات جواز التعويل على علم الغير، أو ما بمنزلته. وفيه: أن ما دل على حجية ظن
المجتهد إنما أفاد حجيته بالنسبة إلى نفسه ومن يقلده من العوام دون المتجزئ، ولا
دليل على تنزيله منزلة العلم مطلقا، فما يدل على عدم جواز الاتكال على الظن
يدل على المنع منه، وكون ذلك عين التقليد لا ينافي تعدد الحيثية وحصول جهتين
قاضيتين بالمنع، بخلاف الأخذ بالظن، فتأمل.
ثانيها: أنه ليس فيما دل على المنع من التقليد ما يشمل تقليد المجتهد مع
كمال ثقته، وأمانته، ووفور علمه، وكونه بحسب الحقيقة حاكيا لقول الإمام (عليه السلام)
بحسب ظنه.
غاية الأمر أنه لا دليل على جواز اعتماد المتجزئ على ذلك، فلا يمكن
الحكم ببراءة ذمته بمجرد ذلك، وحينئذ فالدليل على المنع منه هو الدليل على
644

المنع من الأخذ بالظن مع اختصاص الظن بظواهر أخرى، فليس على المنع من
التقليد دليل خاص يلزم الخروج عن مقتضاه لو قلنا بوجوب الرجوع إليه، بخلاف
ما لو قلنا برجوعه إلى الظن ليتم ما ذكر في الاحتجاج. ومنه يظهر وجه آخر
لضعف ما ذكر في الإيراد المتقدم.
ثالثها: أن المتلخص من الأدلة الدالة عليه والملحوظ في المقام (1): أن
المتجزئ بعد تحصيل الظن بالحكم هل هو داخل في عنوان الجاهل أو العالم؟
فاندراجه فيما دل على المنع من التقليد غير ظاهر، بل الظاهر خلافه، لدلالة الأدلة
الدالة على المنع من العمل بالظن على عدم الاعتداد بظنه، فيندرج في الجاهل،
ويشمله ما دل على وجوب رجوعه إلى العالم حسب ما مرت الإشارة إليه.
- الرابع -
ان الأدلة الدالة على حجية الظنون الخاصة - من الروايات الدالة على وجوب
الرجوع إلى الكتاب والسنة، والأخذ بالأخبار المأثورة عن الأئمة (عليهم السلام)، بتوسط
من يعتمد عليه من النقلة وغيرها - يعم المطلق والمتجزئ، ولا دليل على
اختصاصها بالمطلق، بل الظاهر منها كون الأخذ بها وظيفة لكل قادر على استنباط
الحكم منها.
ومن هنا نشأ توهم كون الاجتهاد واجبا عينيا، ولولا قيام العسر والحرج
العظيم واختلال نظام المعاش - الباعث على اختلال أمور المعاد - مضافا إلى غير
ذلك من الأدلة الدالة على جواز التقليد لكان القول بوجوبه العيني متجها نظرا إلى
ما ذكر.
والحاصل: أن مرتبة الاجتهاد متقدمة على مرتبة التقليد، ولولا قيام ما قام من
الأدلة على جواز التقليد لقلنا بوجوب الاجتهاد على الأعيان. وحينئذ نقول: إن

(1) لا يخفى قصور العبارة، وينبغي أن يكون هكذا: أن المتحصل من الأدلة حرمة التقليد
بالنسبة إلى العالم بالحكم وما بمنزلته، وأما الجاهل بالحكم فيجوز التقليد في حقه إجماعا
والملحوظ في المقام.
645

غاية ما ثبت من الأدلة جواز التقليد بالنسبة إلى غير المتمكن من الاستدلال، وأما
القادر عليه على نحو المجتهد المطلق فلا دليل على جواز التقليد بالنسبة إليه.
وحينئذ فيتعين عليه الرجوع إلى الكتاب والسنة وسائر الأدلة المقررة.
ويرد عليه: أن أقصى ما يفيده تلك الأدلة هو الظن بشمول الحكم للمتجزئ،
ومن المقرر أن الظن من حيث هو لا حجية فيه، فالعبرة في المقام بالدليل القاطع
القائم على حجية الظن، وليس إلا الاجماع أو الضرورة، وهما لا يفيدان ما يزيد
على حجية ظن المطلق، إذ لا اجماع ولا ضرورة بالنسبة إلى غيره. ولو قلنا بأصالة
حجية الظن مطلقا وقيامه مقام (1) بنفسه حجة على المطلق من غير حاجة إلى
ملاحظة تلك الأدلة.
نعم لو قلنا بقيام الظن بتفريغ الذمة مقام العلم به حسب ما مر بيانه صح إلا أن
جريان تلك القاعدة هنا على فرض ثبوتها غير ظاهر، لابتنائها على مقدمات لا
يمكن إثبات غير واحد منها في المقام كما ظهر الحال فيه مما قدمناه.
- الخامس -
أن جواز التقليد في الأحكام مشروط بعدم كون المكلف مجتهدا فيها،
ضرورة عدم جواز تقليد المجتهد لغيره، وحينئذ فإن قام دليل على عدم جواز
رجوعه إلى ظنه وعدم تحقق الاجتهاد في شأنه فلا كلام.
وأما مع عدم قيامه كما هو الواقع فلا وجه لرجوعه إلى التقليد، إذ لو كان
أمران مترتبان يكون التكليف بأحدهما متوقفا على انتفاء الآخر لم يصح الأخذ
بالثاني مع عدم قيام الدليل على انتفاء الأول، وهذا الوجه بظاهره في غاية الوهن،
إذ من البين أن الوجه المذكور على فرض صحته إنما يفيد عدم جواز الحكم
بالرجوع إلى التقليد قبل قيام الدليل عليه.

(1) هكذا وجد فيما عندنا من النسخ والظاهر هكذا: وقيامه مقام العلم كان الأصل المذكور
بنفسه... إلى آخره.
646

أما صحة الرجوع إلى الاجتهاد كما هو المدعى فلا، كيف! ولو أريد إثبات
جواز رجوعه إلى ظنه قبل إثبات اجتهاده - نظرا إلى قضاء توقف صحة تقليده
على انتفاء اجتهاده، وترتب الأمرين، وتقدم الرجوع إلى الاجتهاد على الأخذ
بالتقليد ليكون قضية الأصل هو الرجوع إلى الاجتهاد، حتى يتبين المخرج عنه -
لكان ذلك مقلوبا عليه، فإن صحة اجتهاده في المسألة وجواز رجوعه إلى ظنه
مشروط بأن لا يكون وظيفته التقليد، ضرورة أنه ليس الرجوع إلى الأدلة من
وظيفة المقلد إلى آخر ما ذكر. فمجرد اشتراط جواز تقليده على انتفاء اجتهاده
لا يفيد تقدم الآخر بحسب التكليف على الوجه المذكور، كيف! ومن البين أن
وجود كل من الضدين يتوقف على انتفاء الآخر، ومع ذلك فلا ترتب بينهما كذلك،
وإلا لزم حصوله من الجانبين وهو غير معقول.
- السادس -
جريان الطريقة في أعصار الأئمة (عليهم السلام) وما قاربها بالرجوع إلى الروايات
الواردة عن الأئمة (عليهم السلام)، ومعلوم بعد ملاحظة كتب الرجال عدم اطلاع الجميع
على جميع روايات الباب فضلا عن غيرها، بل ربما كان عند واحد منهم أصل أو
أصلان أو أصول عديدة متعلقة ببعض مباحث الفقه - كالطهارة والصلاة والصوم
ونحوها - مع أنهم كانوا بانين على الأخذ بها والعمل بمقتضاها من غير استنكار
منهم لذلك، فكان إجماعا منهم كاشفا عن تقرير أئمتهم (عليهم السلام) لقيام العلم العادي
على اطلاعهم على ذلك.
ويرد عليه أولا: بالنقض، لقضاء ذلك بجواز الأخذ بما عثر عليه من الروايات
من غير أن يجب البحث عما يعارضها، أو يؤيدها، وملاحظة الترجيح بينها،
ولا قائل به.
وثانيا: بالحل وذلك، لظهور الفرق بين أعصار الأئمة (عليهم السلام) وما قاربها وهذه
الأعصار وما ضاهاها، لكون الإمام (عليه السلام) بالنسبة إلى كثير من أهل تلك الأعصار
647

كالمجتهد بالنسبة إلى عوامنا، فكما أنه يأخذ العامي بقول المجتهد عند سماعه منه
أو نقله إليه بتوسط الثقات من غير حاجة إلى تحصيله لملكة الاجتهاد، فكذا الحال
بالنسبة إلى كثير من الموجودين في تلك الأعصار في جملة من الأحكام، وليس
ذلك من التجزي في الاجتهاد في شئ، كيف! ولا خلاف في جواز العمل بما
يأخذه المكلف عن الإمام (عليه السلام) بالمشافهة وإن كان حكما واحدا أو أحكاما
عديدة، فلو كان ذلك من التجزي فالاجتهاد لما كان محلا للخلاف، فظهر أن
استنباط الأحكام على النحو المذكور خارج عما هو محل الكلام، فلا حجة فيه
على ما هو مورد النزاع في المقام.
- السابع -
ظواهر عدة من الأخبار:
منها: مشهورة أبي خديجة (1) المروية في الفقيه وغيره، وقد ادعي اشتهارها
بين الأصحاب واتفاقهم على العمل بمضمونها، فينجبر بذلك ضعفها، وفيها: انظروا
إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم قاضيا، فإني قد جعلته قاضيا
فتحاكموا إليه، وورود الرواية في القضاء لا يمنع من دلالتها على المدعى، للاتفاق
على عدم الفرق بين القضاء والإفتاء.
وقد يناقش فيه: بأن المذكور في الرواية خصوص العلم، ولا شك في جواز
عمل المتجزئ به، إنما الكلام في الظن الحاصل له، ولا دلالة في الرواية على
جواز أخذه به، وحمل العلم على الأعم من الظن وإن كان ممكنا لشيوعه في
الاستعمالات سيما في الشرعيات، إلا أنه مجاز لا يصار إليه إلا بدليل، ومجرد
الاحتمال غير كاف في مقام الاستدلال. وحمل قوله (عليه السلام) " عرف أحكامنا " في
مقبولة عمر بن حنظلة على الأعم من الظن نظرا إلى الاجماع على عدم اعتبار
خصوص العلم في الأخذ بقول المطلق لا يكون دليلا على حمل العلم هنا أيضا
على ذلك، لإمكان الفرق بين الأمرين.

(1) من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص 3 ح 3216.
648

وقد يجاب عنه: بقيام الاجماع على اعتبار الاجتهاد في القاضي، فإن كان ما
يظنه ذلك العالم بالبعض حجة ثبت المقصود، وإلا لم يكن مجتهدا، فيلزم الحكم
بصحة قضاء من لم يبلغ درجة الاجتهاد، وهو كما عرفت خلاف الاجماع فتأمل.
ومنها: مكاتبة إسحاق بن يعقوب (1) إلى الحجة (عليه السلام) وفيها: وأما الحوادث
الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله. فإن
ظاهر إطلاقها يعم القضاء والإفتاء، ويتناول ما لو كانوا قادرين على استنباط
جميع الأحكام أولا؟
وقد يناقش فيه: بأن أمره (عليه السلام) بالرجوع إليهم في الحوادث الواقعة شاهد على
كون المرجوع إليهم عالمين أو قادرين على استنباط الجميع، إذ لا يمكن
إرجاعهم إلى غير القادر على الاستنباط، ولا يكون ذلك في شأن المتجزئ.
وقد يدفع ذلك: بأن غاية الأمر اعتبار قدرة الكل على استنباط الكل، ولا
يلزم من ذلك اقتدار كل من الآحاد على الكل لئلا ينطبق على المدعى فتأمل.
ومنها: مكاتبة ابن ماجيلويه وأخيه إلى أبي الحسن الثالث (عليه السلام) المروية في
رجال الكشي، حيث سألاه عمن يأخذا معالم دينهما، فكتب (عليه السلام) إليهما: فاعتمدا
في دينكما على كل مسن في حبنا وكل كثير القدم في أمرنا فإنهم كافوكما (2).
ومنها: ما في تفسير الإمام (عليه السلام) " فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا
لدينه، مخالفا لهواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه " (3) فإن ظاهر إطلاقها
يعم المتجزئ في الجملة بناء على شمول لفظ " الفقيه " لمن قدر على استنباط
جملة وافية من الأحكام، وعرفها عن الأدلة وإن عجز عن الباقي، وفيه تأمل.
ويمكن الإيراد على الاستناد إلى تلك الأخبار: بأن أقصى ما يستفاد من
إطلاقها على فرض دلالتها الظن بجريان الحكم في المتجزئ، ومن المقرر عدم
جواز الاستناد إلى الظن من حيث هو، فلا يصح اعتماد المتجزئ عليها. نعم لو قام

(1) وسائل الشيعة: ج 18 باب 11 من أبواب صفات القاضي ص 101 ح 9.
(2) رجال الكشي: ص 4 رقم 7.
(3) تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): 300.
649

دليل على حجية الظن الحاصل من الأخبار مطلقا تم الاستدلال، إلا أنه محل
المنع، لعدم قيام الاجماع عليه كذلك، كيف! ولو سلم ذلك لكان بنفسه حجة مستقلة
على جواز التجزي من غير حاجة إلى ضمها إلى ذلك.
حجة القول بالمنع من التجزي وجوه:
- أحدها -
أصالة المنع من العمل بالظن الثابت من العقل، والعمومات الناهية عن الأخذ
به كتابا وسنة خرج عنه ظن المجتهد المطلق بالإجماع فيبقى غيره تحت الأصل،
إذ لم يقم دليل قطعي على حجية ظن المتجزئ كما قام على حجية ظن المجتهد
المطلق.
وفيه: أن الأصل كما قضى بالمنع من العمل بالظن كذا قضى بالمنع من التقليد،
بل هو أولى بالترجيح، لكونه كاشفا عن الواقع على سبيل الرجحان، بخلاف
التقليد، إذ لا يدور مدار ذلك، سيما فيما إذا قضى الظن الحاصل للمتجزئ بخلافه.
ويمكن دفعه بما مرت الإشارة إليه: من أن ما دل على عدم جواز رجوعه إلى
ظنه لما قضى بعدم حجية ظنه في شأنه كان الظن الحاصل له كعدمه، فيندرج حينئذ
في عنوان الجاهل، فلا يندرج فيما دل على المنع من التقليد.
والقول بقضاء ما دل على المنع من التقليد أيضا باندراجه في العالم - لانتفاء
الواسطة بين الأمرين - مدفوع، بأن ما دل على المنع من التقليد لا يفيد جواز عمله
بالظن، إذ أقصى الأمر قضاء الإطلاقين بعدم جواز عمله بشئ منهما، لكن بعد
دلالة إطلاق الأول على عدم جواز عمله بالظن يتعين عليه الأخذ بالتقليد،
لاندراجه حينئذ بذلك في عنوان الجاهل حسب ما ذكرنا لا يقال: إنه بعد قضاء
الإطلاقين بعدم جواز عمله بكل من الظن والتقليد وقضاء الاجماع بكون وظيفته
في الشرع الأخذ بأحد الوجهين، لا بد من ملاحظة الترجيح بين الأمرين،
أو التخيير، فلا يصح الحكم بتحكيم الأول نظرا إلى ما ذكر. أو (1) نقول: ذلك إنما

(1) كذا، والظاهر: إذ.
650

يتم لو لم يكن هناك دليل على وجوب رجوعه إذن إلى التقليد، وأما إذا أفاد ما دل
على عدم جواز عمله بالظن اندراجه في الجاهل ولم يفد ما دل على المنع من
التقليد سوى منعه من الرجوع إلى الغير كان الأول حاكما على الأخير، بملاحظة
ما دل على وجوب رجوع الجاهل إلى العالم، لوجوب تقديم الخاص على العام،
فليس الحكم بوجوب التقليد عليه إلا بملاحظة ذلك، لا بمجرد تحكيم الإطلاق
الأول على الأخير.
وبالجملة: بعد دلالة الإطلاقين على ما ذكرنا يكون قضية ما دل على وجوب
رجوع الجاهل إلى العالم لزوم التقليد، فلا يبقى تردد بين الأخذ بأحد الإطلاقين
ليرجع إلى التخيير، أو غيره.
فإن قيل: إن ذلك مقلوب على المستدل، لدلالة الاجماع على حجية الظن
على من ليس شأنه التقليد، فإذا دل الإطلاق الثاني على عدم جواز التقليد في
شأن المتجزئ اخذ بما يقتضيه الاجماع من وجوب رجوعه إلى الظن لكونه حجة
في شأن غير المقلد.
والحاصل: أنه كما قضى ما دل على المنع من العمل بالظن باندراجه في
الجاهل، فيدل ما دل على وجوب التقليد في شأن الجاهل على وجوبه في شأنه،
كذا قضية ما دل على حجية الظن في شأن غير المقلد هو وجوب أخذه بالظن.
قلت: لولا اقتضاء الإطلاق الأول بنفسه اندراجه في الجاهل وعدم اقتضاء
الثاني كذلك اندراجه في المجتهد صح ما ذكر، نظرا إلى قضاء الإطلاق الأول بعدم
اندراجه في المجتهد، فيلزم اندراجه في المقلد، للإجماع على لزوم التقليد في
شأن غير المجتهد، وقضاء الإطلاق الثاني بمنعه من التقليد، فيرجع إلى الظن، لقيام
الاجماع أيضا على حجية الظن بالنسبة إلى غير المقلد - أعني المجتهد - فلا وجه
لتحكيم أحد الإطلاقين على الآخر من غير قيام دليل عليه، وأما بعد ملاحظة
اندراجه في الجاهل بنفس ملاحظة الإطلاق الأول وعدم دلالة الثاني على
اندراجه في العالم يكون قضية الإطلاقين المذكورين عدم جواز أخذ الجاهل
651

المفروض بالظن، ولا التقليد، وحينئذ فلا ريب في لزوم ترك الإطلاق الثاني،
للدليل الخاص القاضي بوجوب تقليد الجاهل فتأمل.
- ثانيها -
أنه قد قام الدليل القاطع على عدم العبرة بالظن من حيث إنه ظن، وإنما يصح
الاعتماد عليه بعد قيام القاطع على الاعتداد به وانتهائه بذلك إلى اليقين، وحيث لم
يقم دليل قاطع على حجية ظن المجتهد في المقام كما عرفت من ملاحظة أدلتهم
لم يصح له الاعتداد بظنه، فيكون جاهلا بتكليفه فيما حصل له ظن بالحكم من
المسائل التي اجتهد فيها، ومع اندراجه في الجاهل يتعين عليه الرجوع إلى
المجتهد في استعلام الأحكام الشرعية، لما دل من الأدلة على وجوب رجوع
الجاهل إلى المجتهد، فينتظم قياس بهذه الصورة: المتجزئ جاهل بتكاليفه المتعلقة
به في الشريعة، وكل جاهل يجب عليه الرجوع إلى العالم. أما الصغرى فلما
قررناه، وأما الكبرى، فللأدلة الدالة عليه المقررة في محله.
وقد يناقش فيه: بعدم ظهور شمول ما دل على وجوب التقليد لمثله، لعدم
شمول الاجماع للمقام نظرا إلى شياع الخلاف فيه، بل ذهاب الأكثر إلى خلافه،
وأما غير ذلك من الأدلة الدالة عليه لو قلنا لشمولها لذلك فهي أيضا ظواهر لا تفيد
القطع.
وقد يذب عنه: بأن وقوع الخلاف في المقام إنما هو من جهة البناء على حجية
ظنه.
وأما مع البناء على عدم الاعتماد به وعدم حجيته فلا ريب في وجوب
تقليده.
- ثالثها -
الاستصحاب فإنه قبل البلوغ إلى درجة التجزي كان مكلفا بالتقليد فيجب
عليه الجرى على التقليد إلى أن يثبت خلافه، ببلوغه إلى درجة المطلق إن حصل
652

له ذلك. والقول بعدم جريانه فيمن بلغ درجة التجزي أول بلوغه أو قبله فلا يتم به
المدعى مدفوع، بإمكان تتميم المقصود حينئذ بعدم القول بالفصل.
وفيه: أن جواز احتجاج المتجزئ بالأصل المذكور أول الكلام، إذ لا فرق بين
إجرائه الاستصحاب في المقام أو في المسائل الفقهية مما يجري فيه ذلك، فلا
يصح استناده إلى ذلك إلا بعد إثبات كونه حجة في شأنه، ومعه يتم المدعى، ولا
حاجة إلى الاستناد إلى الاستصحاب، على أنه منقوض بما إذا بلغ درجة الاجتهاد
المطلق ثم صار متجزئا فإن قضية الاستصحاب حينئذ بقاؤه على العمل بظنه.
- رابعها -
ظاهر مقبولة عمر بن حنظلة المروية عن الصادق (عليه السلام) " انظروا إلى من كان
منكم قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فارضوا به
حكما، فإني قد جعلته عليكم حاكما " (1) فإن الجمع المضاف حقيقة في العموم،
فإن لم يكن يراد به الاستغراق الحقيقي فلا أقل من حمله على العرفي، بأن يعرف
جملة وافية من الأحكام بحيث يعد مع علمه بها عارفا بالأحكام.
وقد يناقش فيه: بأن الظاهر كون الإضافة فيه جنسية بقرينة ما تقدمه من
المفرد المضاف الظاهر في الجنسية وليجمع بينه وبين رواية أبي خديجة المتقدمة.
ومع الغض عن ذلك فأقصى ما يفيده الرواية اعتبار الإطلاق في نصبه للقضاء
والرجوع إليه في الحكومات، وأين ذلك من الرجوع إليه في الفتيا، بل حجية ظنه
بالنسبة إلى نفسه كما هو المدعى. ودعوى الملازمة بين الأمور المذكورة ممنوعة،
فلا يثبت بها المدعى، ولو سلم ذلك فليس في الروايات دلالة على اعتبار الظن
سواء تعلق بالكل أو بالبعض، إذ المفروض فيها هو العلم الظاهر في اليقين، إلا أن
يقال: إنه إذا اعتبر الإطلاق في نصبه للقضاء في صورة تحصيله العلم بالأحكام
فاعتباره عند تحصيله الظن بالأولى، ولو سلم حمله على الأعم من الظن فأقصى

(1) وسائل الشيعة: ج 18 باب 31 من أبواب كيفية الحكم ص 220 ح 2 وفيه ينظران.
653

ما في الرواية الدلالة على اعتبار ظن المجتهد المطلق، وأما ظن المتجزئ فلا
دلالة فيها على اعتباره ولا عدمه.
- خامسها -
أن القول بجواز رجوع المتجزئ إلى ظنه يستلزم الدور. وقد يقرر ذلك
بوجوه:
منها: ما قرره الفاضل الجواد " من أن صحة اجتهاد المتجزئ في مسائل
الفروع متوقفة على صحة اجتهاده في مسألة التجزي، وصحة اجتهاده في مسألة
التجزي موقوفة على صحة اجتهاد المتجزئ مطلقا، لكونها من جزئيات تلك
المسألة، حيث إنها مسألة اجتهادية، فالموقوف عليه في الثاني وإن لم يكن
خصوص المتوقف في الأول، لكنه أعم منه بحيث يندرج ذلك فيه اندراج الخاص
تحت العام الأصولي وهو كاف في لزوم الدور. وأورد عليه: بمنع كون صحة
اجتهاده في مسائل الفروع متوقفة على صحة اجتهاده في مسألة التجزي وإنما
يتوقف على صحتها نفسها، ومع الغض عنه فالتوقف فرع التغاير، وظاهر أن صحة
اجتهاده في المسائل الفرعية هي عين صحة اجتهاده في تجزي الاجتهاد.
قلت: إن أريد يتوقف صحة اجتهاده في مسائل الفروع على صحة اجتهاده في
جواز التجزي أن مطابقة اجتهاده في الواقع يتوقف على ذلك فهو واضح الفساد، إذ
لا يعقل توقف بينهما. وإن أريد أن جواز عمله بما اجتهد فيه من المسائل يتوقف
على جواز عمله بما اجتهد فيه من جواز التجزي ففيه أيضا ذلك، وإنما يتوقف
على جواز التجزي في نفسه كما أن جواز عمله بما اجتهده من جواز التجزي
يتوقف على ذلك أيضا.
فغاية الأمر أن لا يكون عالما بالجواز، فلا يعقل الدور على شئ من
التقريرين المذكورين. ويمكن أن يقال: إن المراد بذلك أن حكم المتجزئ بجواز
اجتهاده في المسائل الفقهية وجواز عمله به في حكمه يتوقف على حكمه بصحة
654

اجتهاده في جواز التجزي. وحينئذ فالتوقف ظاهر لا إشكال فيه، لوضوح أن
حكمه بجواز عمله في كل مسألة اجتهد فيها بالظن المتعلق فيها مبني على ثبوت
كلية الكبرى الواقعة في استدلاله على جواز عمله بظنه في تلك المسألة، كما أن
المجتهد المطلق يتوقف حكمه بجواز عمله بظنه في خصوص المسائل، على أن
كل ما يظنه المجتهد المطلق مطلقا، أو عن الأدلة الخاصة حجة في شأنه لينتظم له
قياس بهذه الصورة. هذا الظن مما حصل للمجتهد المطلق، وكل ظن حصل
للمجتهد المطلق فهو حجة في حقه، لينتج أن ظنه المتعلق بكل من المسائل الخاصة
حجة في حقه، فإن نظير ذلك جار في حق المتجزئ، وبيانه لكلية الكبرى هو
إثباته للمتجزئ فإنكار التوقف مما لا وجه له. ودعوى اتحاد الأمرين غير معقول
أيضا. وتوقف حكمه بصحة اجتهاده في جواز التجزي على حكمه بحجية ظن
المتجزئ مطلقا ظاهر أيضا، إذ ذلك أيضا مسألة ظنية على نحو سائر المسائل
الفقهية، فيتوقف علمه بحجية ظنه فيها على علمه بتلك الكلية الواقعة في كبرى
القياس الدال على حجية ظنه به.
وقد يورد عليه: بأن الحكم بقبول الاجتهاد للتجزي من المسائل الأصولية
فيتوقف جواز الاجتهاد في الفروع على جواز الاجتهاد في تلك المسألة
الأصولية، ولا يتوقف جواز الاجتهاد في تلك المسألة على جواز التجزي في
الاجتهاد مطلقا، بل على جواز التجزي في المسائل الأصولية، وهو خارج عن
محل الكلام، بل لا خلاف في جوازه على ما قيل فلا دور، وأيضا لا ملازمة بين
التجزي في مسائل الفروع والتجزي في الأصول، فقد لا يكون متجزئا في
الأصول بأن يكون قادرا على استنباط جميع مسائل (1) له عن أدلتها، فلا يتوقف
العلم بالتجزي في الاجتهاد على العلم بالتجزي أصلا، كيف! ولو تم ما ذكر لجرى
ذلك بعينه في شأن المطلق، إذ جواز اجتهاده في مسائل الفقهية يتوقف على جواز
اجتهاده في جواز الاجتهاد، وجواز اجتهاده في هذه المسألة يتوقف على جواز

(1) سقط من هنا شئ.
655

اجتهاده في المسائل، لكون تلك المسألة أيضا كغيرها من المسائل. والجواب في
المقامين أمر واحد، وهو ما ذكر من الفرق بين مسائل الأصول والفروع.
ويدفعه: أنه لا فرق بين حجية ظن المتجزئ في الفروع أو الأصول، كيف!
والمسألة جارية فيما يجري فيه التكليف بالتقليد.
ومن البين: ثبوته في مسائل أصول الفقه في الجملة مما يتوقف عليه عمل
العوام، إذ ما دل على الأخذ بالتقليد في الفروع دل عليه في الأصول أيضا كما
سنفصل القول فيه في محله إن شاء الله.
وما ذكر: من إمكان كونه مجتهدا مطلقا في الأصول فيخرج عن محل البحث
مدفوع، بأنه لا فائدة في فرض كونه مطلقا في استنباط الأصول، إذ الكلام في
المقام أن المتجزئ في مسائل الفروع هل يعتد بظنه شرعا أو لا؟ سواء تعلق ذلك
الظن بالفروع أو الأصول، وسواء كان مطلقا في الأصول أولا؟ بل يجري ذلك في
سائر العلوم المرتبطة بالفروع.
ألا ترى: أنه لو كان متجزئا في الفقه كان جواز استناده في لفظ الصعيد - مثلا -
إلى ظنه مبنيا على هذه المسألة، ولم يتجه القول بجواز استناده إلى ظنه مع عدم
القول بحجية ظن المتجزئ نظرا إلى كونه لغويا غير متجز بحسبه، كيف! ولو كان
كذلك لجرى في المقلد إذا كان لغويا والظاهر أنهم لا يقولون به.
وبالجملة: أن البلوغ إلى درجة الاجتهاد المطلق قاض بحجية ظنه في
المسائل الفقهية وما يرتبط بها من مقدماتها الاستنباطية، سواء كانت أصولية، أو
لغوية، أو غيرهما، ولا حجية في شئ من ذلك الظن المقلد في المسائل الشرعية.
وأما المتجزئ فيها فالكلام المذكور جار فيه بعينه من غير فرق في ذلك بين
كونه مطلقا في سائر العلوم، أو متجزئا فيها أيضا. وما ذكر من جريان الإيراد في
المجتهد المطلق بين الفساد، نظرا إلى قيام الاجماع على حجية ظنه. وقد عرفت
فساد المناقشة في ثبوت الاجماع، ولو سلم ذلك فقضاء العقل به بعد انسداد سبيل
العلم كاف في الحكم بحجيته ولا يجرى ذلك في المتجزئ كما عرفت.
656

نعم يمكن دفع الدور على التقرير المذكور باختلاف طرفيه نظرا إلى أن حكمه
بحجية ظن المتجزئ مطلقا غير حكمه بحجية الظن الحاصل للمستنبط المفروض
في خصوص كل مسألة من المسائل الفقهية مما اجتهد فيها، كيف! ويقع الكلية
المذكورة كبرى في القياس الدال عليه، فكيف يتحد معه ليلزم الدور، حسب ما
ذكر في الإيراد.
ومنها: أن يقال: إن صحة اجتهاد المتجزئ في المسائل الفقهية وجواز عمله به
متوقفة على صحة اجتهاده في أن الاجتهاد يتجزى، وصحة اجتهاده في تجزي
الاجتهاد متوقفة على تجزي الاجتهاد وجواز عمله بظنه - أعني صحة اجتهاده في
المسائل الفقهية - ضرورة أن صحة كل حكم يتوقف على وقوع المحكوم به
بحسب الواقع.
ودفعه ظاهر، لاختلاف معنى الصحة في المقامين، فإن صحة الاجتهاد في
المسائل بمعنى جواز عمله على وفق اجتهاده وإن لم يكن مطابقا للواقع، وصحة
الحكم المتوقف على وقوع المحكوم به بمعنى مطابقته للواقع وإن لم يتعلق
التكليف على حسبه.
ومنها: أنه قد تقرر أن شيئا من الظنون لا يكون حجة إلا بعد انتهائه إلى
اليقين، فلا يجوز الاعتماد على الظن من حيث إنه ظن. فحينئذ نقول: إن علم
المتجزئ بجواز عمله بظنه في مسألة التجزي وبالدليل الظني الدال على حجية
ظن المتجزئ يتوقف على علمه بقبول الاجتهاد للتجزي - أعني حجية كل ظن
للمتجزئ، إذ المفروض أن المسألة المفروضة من المسائل الظنية، وعلمه بحجية
كل ظن للمتجزئ متوقف على علمه بجواز عمله بالدليل الظني الدال عليه، إذ
المفروض توقف إثباته على ذلك، وعدم قيام دليل قطعي عليه. والحاصل أن علمه
بحجية هذا الظن الحاصل متوقف على علمه بحجية كل ظن من ظنونه، وعلمه
بحجية كل ظن له يتوقف على علمه بحجية هذا الظن الخاص. وإن شئت قلت: إن
علمه بقيام ظنه في المسائل مقام العلم يتوقف على علمه بصحة الدليل الدال على
657

التجزي، وعلمه بصحة الدليل يتوقف على علمه بقيام ظنه مقام العلم في المسائل.
ولا يمكن دفعه إلا بالقول بالفرق بين مسائل الأصول والفقه، بأن يقال: إن
المختلف فيه هو حجية ظن المتجزئ في المسائل الفقهية، وأما المسائل الأصولية
فلا كلام في حجية ظن المتجزئ بالنسبة إليها. ولذا وقع في كلام شيخنا البهائي
حكاية الاجماع عليه، وقد عرفت وهنه، إذ لا فرق في مقام الحكم بالحجية
وجواز العمل بين مسائل الفقه والأصول وغيرهما من المسائل المربوطة بالعمل،
وإن كان موضوع التجزي هو خصوص المسائل الفقهية نظرا إلى اختصاص
الاجتهاد اصطلاحا بالمسائل الفرعية دون الأصولية، إلا أنه لا فرق في البحث عن
حجية ظن المتجزئ فيها بين الظن المتعلق بها وبغيرها مما يرتبط بها حسب ما
أشرنا إليه.
ومنها: أن علم المتجزئ بجواز عمله بظنه في المسائل يتوقف على علمه
بقبول الاجتهاد للتجزي، إذ مسألة التجزي أيضا من جملة المسائل الظنية، وعلمه
بجواز بنائه عليه موقوف على علمه بحجية الظن الحاصل له.
ويرد عليه: أن علمه بحجية ظنه في المسائل هو عين علمه بقبول الاجتهاد
للتجزي، إذ مفاده هو حجية كل ظن حاصل للمتجزئ في المسائل الفقهية
ومقدماتها، فلا يتجه لزوم الدور، إذ هو فرع مغايرة الطرفين.
نعم هو من توقف الشئ على نفسه وهو كاف في المقام، فإنه وإن لم يكن
دورا في الاصطلاح، إلا أنه نظيره في المفسدة، بل هو أوضح فسادا منه في وجه.
وما قد يقال: من انه إن أريد بتوقف علمه بجواز عمله بظنه في المسائل على
علمه بقبول الاجتهاد للتجزي أن علمه بجواز اجتهاده في المسائل الفقهية موقوف
على علمه بصحة اجتهاده في تلك المسألة ليس اجتهادا في المسألة الفقهية
ليتوقف على جواز التجزي في الاجتهاد، وانما هي مسألة أصولية، ولا خلاف في
جواز التجزي في الأصول، على أنه قد يكون مجتهدا مطلقا فيه وإن كان متجزئا
في الفروع، إذ لا ملازمة بين الأمرين. وإن أريد به أن علمه بجواز عمله بظنه في
658

المسائل أصولية كانت أو فروعية يتوقف على علمه بقبول الاجتهاد للتجزي، فهو
على إطلاقه ممنوع، إذ لا توقف للعلم بحجية ظنه في المسائل الأصولية على صحة
التجزي في المسائل الفقهية.
فمدفوع، بما مر بيانه من عدم الفرق في الحكم بحجية الظن المتجزئ في
المسائل الفقهية والأصولية وغيرهما مما يتوقف عليه استنباط الأحكام الشرعية،
فمنع التوقف في المقام غير متجه، وفرض كونه مطلقا في استنباط الأحكام
الأصولية غير مفيد كما عرفت.
والذي يقتضيه التحقيق في المقام أن يقال: إن استنباط المتجزئ إما أن يكون
بالنسبة إلى المسائل القطعية أو الظنية، وعلى الثاني فإما أن يتفق له القطع بالمسألة
أو لا، وعلى الثاني فإما أن يراد معرفة جواز التجزي في الاجتهاد وعدمه في نفسه
ولو كان الحاكم به مجتهدا مطلقا على نحو غيرها من المسائل، أو يراد معرفة
الحكم بالنسبة إلى معرفة تكليف المتجزئ نفسه في جواز بنائه على ما يستنبطه
في المسائل إذا ذهب إلى جواز التجزي وحجية ظن المتجزئ، وعلى كل حال
فإما أن يراد معرفة حاله في جواز رجوعه إلى ظنه، أو جواز رجوع غيره إليه في
الفتيا وإمضاء حكوماته في القضاء.
فنقول: لا ينبغي التأمل ظاهرا في حجية ما يحصله من الأدلة بالنسبة إليه في
الصورتين الأوليين، إذ لا مزيد على القطع في معرفة التكاليف، فبعد حصول القطع
بالحكم لا مجال للتأمل في حجيته، ولو حصل له القطع بكونه مؤدى الأدلة
الموجودة وإن من خالفه فيه مخطئ قطعا لما قامت عليه الأدلة الشرعية مما
يمكن الوصول إليه، ففي جواز اتكاله عليه وجهان: من عدم حصول القطع بالواقع
فيكون الحال فيه كسائر ظنونه، ومن تحصيله القطع بالطريق وهذا هو الظاهر.
وكون المتيقن من حجية تلك الأدلة حجيتها بالنسبة إلى المجتهد المطلق دون
المتجزئ فلا فائدة في تحصيله القطع بمقتضاها. مدفوع، بأن قول المجتهد إنما
يكون حجة من حيث كشفه عن الأدلة الشرعية، وليس قوله حجة من حيث هو،
659

فإذا حصل له القطع بذلك، فلا حاجة إلى التوصل بقوله إليه، بل لا يجوز له الرجوع
إليه بعد القطع المذكور إذا كان ما فهمه مخالفا لذلك.
هذا إذا علم انحصار الأدلة الموجودة فيما إذا وصل إليه وعلم كون مقتضاها
ذلك، وأما لو حصل له الظن بالأمرين أو أحدهما فهو يندرج في مسألة الظن،
والظاهر أنه الملحوظ بالبحث في المقام.
وحينئذ فإن أريد معرفة حكم التجزي في نفسه ولو كان الحاكم به مجتهدا
مطلقا فالظاهر حينئذ هو القول بحجية الظن الحاصل له وجواز أخذه به، ولو قيل
بعدم جواز الأخذ بمجرد ظن المتجزئ وكونه حجة في شأنه، فإن طريان المنع من
الأخذ به من جهة عدم انتهائه إلى اليقين، فلا ينافي ذلك جواز الأخذ به في حكم
المطلق، وحينئذ فله أن يحكم بجواز التجزي وإن لم يكن للمتجزئ الرجوع إليه
بمجرد ظنه.
فإن قلت: إنه إذا لم يجز للمتجزئ الرجوع إلى ظنه لعدم دليل قاطع على
جواز رجوعه إليه لم يكن أيضا للمجتهد المطلق الحكم بجواز رجوعه إلى ظنه بل
اللازم عليه الحكم بمنعه من الرجوع إليه.
قلت: فرق بين عدم قبول الاجتهاد للتجزي في نفسه وعدم حجية ظن
المتجزئ من أصله وبين حجيته في الواقع وعدم جواز كون المتجزئ إليه من جهة
انتفاء علمه به، فهناك جواز للتجزئ وعلم بجوازه، فعدم جواز الحكم بالتجزئ في
شأن المتجزئ لانتفاء علمه به غير الحكم بعدم جوازه من أصله، وإنما يمتنع حكم
المطلق بالجواز مع اختيار عدمه في الثاني دون الأول، فأقصى الأمر أن يحكم
بعدم جواز اعتماد المتجزئ بمجرد ظنه وإن جاز التجزء في نفسه، والملحوظ في
المقام هو نفس الجواز وإن كان الحاكم به هو المطلق دون المتجزئ. ومن هذا
القبيل ما لو حكم المجتهد بجواز تقليد المفضول مع التمكن من الرجوع إلى
الأفضل، فإنه يجوز استناده إلى الأدلة الظنية وإن لم يجز ذلك للمقلد ولم يكن له
في نفسه إلا الرجوع إلى الأفضل، لعدم علمه بحصول البراءة إلا به. وحينئذ يدل
660

على جواز التجزي عدة من الوجوه الظنية قد مرت الإشارة إلى بعضها، ويأتي
الكلام في بعضها عند تعرض المصنف إن شاء الله.
ولا مانع من استناد المجتهد المطلق إليها بعد قيام الدليل القاطع على جواز
حكمه بتلك الأدلة الظنية بخلاف حكم المتجزئ بها، لعدم قيام دليل قطعي على
جواز استناده إليها، مضافا إلى أنه المعروف من مذهب الأصحاب والشهرة
محكية عليه حد الاستفاضة.
وإن أريد معرفة حكم المتجزئ نفسه في معرفة تكليفه من الأخذ بظنه أو
رجوعه إلى غيره، فإن حصل له القطع في مسألة التجزي بجوازه أو عدم جوازه
فلا كلام في حجيته إذن في شأنه، فيرجع على الأول إلى ظنه، وعلى الثاني إلى
تقليد غيره، ولا إشكال، لانتهاء الأمر في ظنه أو تقليده إلى العلم، فيخرج بذلك
عما دل على المنع من الأخذ بالظن أو التقليد، لما عرفت من أن المنهي عنه هناك
إنما هو الاتكال على الظن أو التقليد بما هو، دون ما انتهى الأمر فيه إلى اليقين
وحصل الاتكال فيه على القطع، فإنه في الحقيقة أخذ بالعلم حسب ما مر تفصيل
القول فيه. وإن لم يحصل له القطع بالواقع في المسألة المفروضة، فإن تم ما مر من
الكلام في تقرير القاعدة النقلية في المقام - من كون الظن القائم مقام العلم بحكم
العقل هو الظن الحاصل من صاحب الملكة القوية دون غيره، وإن الواجب على
غيره الرجوع إليه، لما دل على أن الرعية صنفان: عالم ومتعلم، ومجتهد ومقلد،
حسب ما مر تفصيل القول فيه - تعين عليه الرجوع إلى المجتهد المطلق، وكذا إن
تم ما مرت الإشارة إليه من اندراجه إذن في عنوان الجاهل نظرا إلى عدم انتهاء
ظنه في خصوصيات المسائل وفي مسألة التجزي إلى اليقين، وقيام الدليل القاطع
من صريح العقل أو النقل على عدم جواز التعويل على الظن من حيث إنه ظن،
فيندرج إذن في الكلية القائلة بوجوب رجوع الجاهل إلى العالم. فهما إذن دليلان
ظاهريان يفيدان القطع بالتكليف في مقام العمل من وجوب رجوعه إلى التقليد،
ومنعه من الأخذ بظنه.
661

وحينئذ فنقول: إن كانت مسألة التجزي من المسائل التي لا يقدر على
استنباط حكمها، وكان من يرجع إليه من المجتهدين قائلا بمنع التجزي فليس
وظيفته إلا الأخذ بتقليده في خصوصيات المسائل، وإن كان قائلا بجوازه تعين
الرجوع إلى ظنه، فيكون اتكال المتجزئ حينئذ في الأخذ بظنه على تقليد المجتهد
المطلق، ولا مانع منه بعد قضاء الدليل به، فهو في الحقيقة رجوع إلى التقليد لانتهاء
أمره إليه. وإن كانت المسألة المذكورة مما استنبط حكمه فإن كان قائلا بجواز
التجزي وكان المجتهد الذي يرجع إليه قائلا بجوازه أيضا وجب عليه الرجوع إلى
اجتهاده، وإن كان قائلا بالمنع منه تعين عليه الرجوع إلى التقليد، ولا عبرة بظنه
المتعلق بمسألة التجزي، وكذا لو كان قائلا بالمنع منه سواء كان من يرجع إليه قائلا
بمنعه أو جوازه.
هذا كله إذا كان المتجزئ قاطعا بجواز التقليد في المسائل المتعلقة بالعمل من
غير فرق بين الأصول والفروع كما هو الحق.
وأما لو كان قاطعا بعدمه فلا يصح له في الصورة المفروضة سوى تقليد
المجتهد في الأحكام الفرعية، سواء كان ذلك المجتهد مجوزا للتقليد في الأصول
أو لا، قائلا بتجزء الاجتهاد أولا.
وأما لو كان مترددا في تلك المسألة أو ظانا بأحد الجانبين لزمه مراعاة
الاحتياط مع الإمكان، إما باعتبار ما يحصل معه العلم بأداء الواقع، أو بأداء
التكليف حسب ما نقرره في الصورة الآتية.
ثم إن جميع ما ذكرناه مبني على صحة ما ذكر، وإن لم ينهض شئ من
الوجهين المذكورين القاضيين بوجوب رجوعه إلى العالم حجة في المقام
- حسب ما نوقش فيهما بما مرت الإشارة إليه - وتم ما ذكر من الإيراد تعين القول
برجوعه إلى الاحتياط، ولم يصح له الرجوع إلى التقليد والأخذ بقول الغير، لعدم
قيام الدليل القاطع عليه بالنسبة إليه وإلى مجرد ما يظنه، لما عرفت من عدم قيام
دليل قطعي على حجية ظنه، والدليل العقلي القائم على حجية ظن المقلد لا يتم في
662

شأن المتجزئ، لتوقفه على إثبات عدم وجوب الاحتياط في شأنه، وليس هناك
دليل قاطع على عدم وجوبه بالنسبة إليه، كما مر التنبيه عليه، وحينئذ فقضية
الأصل رجوعه إلى الاحتياط مع الإمكان.
ويتصور الاحتياط في شأنه على وجوه:
أحدها: مراعاة ما يحصل منه القطع بأداء الواقع.
ثانيها: مراعاة التوافق بين ما ظنه وما يفتيه المجتهد المطلق لحصول القطع له
بتفريغ الذمة، لدوران أمره بين الأخذ بقوله ورجوعه إلى المجتهد المطلق،
والمفروض إثباته (1) على كل من الوجهين.
ثالثها: أنه يرجع إلى فتوى المطلق في جواز التجزي، والرجوع إلى الوجه
المذكور مبني على جواز التقليد في مسائل الأصول، كما أن مع عدم القول بجوازه
لا يتم له الاحتياط بمراعاة ذلك. فحينئذ نقول: إنه إما أن يكون المتجزئ قادرا
على استنباط حكم التجزي أو لا، وعلى الأول فإما أن يكون مرجحا لجواز
التجزي أو لمنعه، وعلى التقادير المذكورة فإما أن يكون من يرجع إليه قائلا
بالتجزي أو مانعا منه، فيجري فيه الاحتمالات الستة المتقدمة أيضا، فإن كان
عاجزا عن ترجيح مسألة التجزي تعين عليه الرجوع إلى المجتهد المطلق في
جوازه ومنعه، لوضوح وجوب التقليد عليه فيما لا يقدر على استنباطه، فعلى
الأول يأخذ بظنه، وعلى الثاني يرجع إلى تقليد المجتهد في المسائل، وإن كان
قادرا عليه وكان قائلا بجوازه كالمجتهد الذي يرجع إليه فلا إشكال، وإن كان من
يرجع إليه قائلا بمنعه فلا مجال للاحتياط فيه على الوجه المذكور، كما هو الحال
في عكسه، بل يتعين فيهما الرجوع إلى أحد الوجهين المذكورين، ولو كانا قائلين
بمنع التجزي تعين عليه الأخذ بالتقليد هذا كله مع إمكان الاحتياط في حقه على
أحد الوجوه المذكورة، وأما مع عدم إمكانه، فإن كان مرجحا لجواز التجزي
وحجية ظن المتجزئ تعين به كتعين أخذه بالتقليد إذا كان مرجحا لعدمه، وذلك

(1) إتيانه، خ ل.
663

لقضاء العقل بقيام الظن بتفريغ الذمة مقام العلم به بعد انسداد سبيله، والمفروض
حصوله بذلك. ولو كان متوقفا في المسألة من غير ترجيح عنده لأحد الجانبين
تخير بين الوجهين ولا ترجيح حينئذ للأخذ باجتهاده نظرا إلى تحصيله الظن
بالواقع، لما عرفت فيما مضى من أن المناط أولا هو تحصيل العلم بتفريغ الذمة
فينوب منابه الظن بالتفريغ بعد انسداد باب العلم به، والمفروض عدم حصوله في
المقام، لتساوي الاحتمالين عنده في مقام الفقاهة، فالرجوع إلى ظنه وإن كان
راجحا من جهة تحصيل الواقع إلا أن رجوعه إلى ظن المجتهد المطلق أرجح من
جهة أخرى كما لا يخفى.
والحاصل: أن المفروض تساوى الاحتمالين في نظره بحسب التكليف فلا
مناص له عن التخيير، ومما ذكرنا يظهر ما في كلام بعض الأفاضل: من أنه مع عدم
تمكنه من الأخذ بالاحتياط يتخير بين العمل بظنه وتقليد المجتهد المطلق - كما هو
الحال في الخبرين المتعارضين - لكن الأولى أخذه بما أدى إليه ظنه لرجحان
القول به، إذ مع رجحان القول بأخذه بظنه لا وجه لتخييره بينه وبين الوجه
المرجوح، لقطع العقل إذن بترجيح الراجح بعد القطع ببقاء التكليف وعدم إمكان
الاحتياط، وليس المانع من الأخذ بظنه من أول الأمر إلا تقدم الأخذ بالاحتياط
على الرجوع إلى الظن، فمع فرض عدم إمكانه وحصول الظن بكونه مكلفا شرعا
بالأخذ بظنه لا وجه لجواز أخذه بالطرف المرجوح. وكذا الحال لو ترجح عنده
الرجوع إلى التقليد كما هو الحال في الخبرين المتعارضين إذا كان أحدهما راجحا
على الآخر في إفادة ما هو المكلف به في ظاهر الشريعة. نعم لو تساوى
الاحتمالان في نظره تعين البناء على التخيير حسب ما بيناه.
ومن ذلك يظهر ضعف ما في كلام بعض آخر من تعيين أخذه بظنه بعد انسداد
سبيل العلم بالواقع، إذ مع الغض عن تكليفه أولا لمراعات الاحتياط. يرد عليه أن
اللازم عليه حينئذ مراعاة ما هو الراجح عنده في أداء التكليف دون ما يظن معه
بأداء الواقع، إذ قد يظن عدم أدائه التكليف الشرعي بالرجوع إلى ظنه، أو يتساوى
664

عنده الوجهان، فلا وجه للترجيح مع تساويهما بالنسبة إلى أداء التكليف فتأمل.
قوله: * (بمعنى جريانه في بعض المسائل) *.
لما كان التفسير المذكور مشعرا بكون الكلام في جواز التجري بحسب الفعلية
وعدمه - بأن يستفرغ وسعه في تحصيل بعض المسائل دون بعضها ولو كانت القوة
والملكة تامة - عقب ذلك بقوله بأن يحصل للعالم إلى آخره، مفيدا بذلك كون
التجزئة المذكورة لنقص الاقتدار على الاستنباط، لا بمجرد عدم التصدي
لاستفراغ الوسع في ذلك البعض، فيكون محل الكلام على ظاهر كلامه في جواز
تجزي القوة وعدمه، وقد فرع عليه جواز الاستفراغ في ذلك البعض بمعنى حجية
ظنه في ذلك وعدمه.
وأنت خبير بأن تقرير النزاع في جواز التجزي في نفس الاقتدار والقوة في
كمال الضعف، لوضوح جوازه كما مرت الإشارة إليه، كيف! والقوة على استنباط
الكل مسبوق غالبا بالقوة الجزئية، فإن الاقتدار على الجميع لا يحصل غالبا إلا
على سبيل التدريج، ثم مع البناء على جواز التجزي في القوة لا وجه لتفريع
حجيته على ذلك.
نعم قد يقال: بعدم حجية الظن الحاصل له كما هو الظاهر من كلام المانعين.
والجواب عنه ما عرفت: من أن المقصود من الاجتهاد في المقام هو الاستفراغ
المعتبر في نظر الشرع، إذ هو المعنى المصطلح عندهم دون مطلق الاستفراغ.
وحينئذ يتجه تقرير النزاع في جواز التجزي بحسب القوة والملكة، إذ القدر
المعلوم الذي ليس قابلا للنزاع هو مجرد الاقتدار على تحصيل الظن ببعض
المسائل دون البعض، دون الاقتدار عليه على الوجه المعتبر. وحينئذ يندفع عنه ما
ذكر من عدم صحة التفريع المذكور، لوضوح تفريع حجية ظنه على القول بقبوله
للتجزي كما هو ظاهر العبارة، ففي تعبير المصنف (رحمه الله) إشارة إلى ما ذكرناه. وقد
يجعل قوله: فله أن يجتهد فيها أو لا بيانا لمحل النزاع، فيكون المقصود أنه بعد
تحصيل ما هو المناط في الاجتهاد بالنسبة إلى بعض المسائل دون بعضها هل
665

يجوز الاجتهاد في ذلك البعض أو لا؟ فليس المفروض في تقرير الخلاف في
جواز تجزي القوة وعدمه، بل في حجية ظن المتجزئ وعدمها. وهو بعيد عن
ظاهر العبارة كما لا يخفى.
قوله: * (وذهب العلامة (رحمه الله)... الخ) *.
وقد اختار ذلك جماعة ممن تأخر عن هؤلاء كشيخنا البهائي ووالده
وصاحب الوافية وكشف اللثام، واختاره أيضا جماعة من العامة منهم: الرازي
والتفتازاني وابن النعماني، وقد حكي القول به عن المعظم.
قوله: * (وصار قوم إلى الثاني...) * وكأنهم من العامة، إذ لم نجد في
أصحابنا ممن تقدم على المصنف من صرح بالمنع منه.
قوله: * (إنه إذا اطلع على دليل مسألة بالاستقصاء... الخ) *.
توضيح الاستدلال أن المناط في حجية ظن المجتهد المطلق في كل مسألة
بعد استفراغ وسعه في الأدلة القائمة عليها هو اطلاعه على الأدلة الموجودة في
تلك المسألة ووقوفه على وجوه دلالتها، وما هو المناط في قوة الظن فيها على
حسب وسعه وطاقته بحيث يحصل العلم أو الظن بانتفاء ما ينافيها والمفروض
حصول ذلك للمتجزئ إذ الكلام فيما إذا اطلع على الأدلة القائمة في المسألة التي
اجتهد فيها على نحو المجتهد المطلق من غير فرق بينهما سوى اقتدار المطلق على
استنباط الحكم في غيره وعدم اقتداره أو اطلاعه على الأدلة القائمة في غيرها
وعدم اطلاعه. وهذا مما لا مدخل له قط في استنباط حكم هذه المسألة
المفروضة، ضرورة أن استنباط حكم المسألة إنما يتوقف على الأدلة القائمة عليه
دون غيره، فلا ربط له بحجية ظنه الحاصل في تلك المسألة، فمع ثبوت انتفاء
الفارق بينهما إلا في ذلك وعدم العبرة بما هو الفارق قطعا يتعين القول بحجية
حكم المتجزئ أيضا.
قوله: * (فلا يحصل له ظن عدم المانع) *.
هذا الكلام يوهم كون القائل بمنع التجزي مانعا عن تحصيل الظن وقد عرفت
وهنه جدا، ضرورة إمكان حصول الظن لغير المطلق من غير إشكال. ويمكن
666

توجيهه: بأنه مع قيام احتمال وجود المعارض في الأدلة لا بد من مراجعتها فلا
يكون ظنه بانتفاء المانع قبل المراجعة حجة شرعا، فإن ظن المجتهد إنما يكون
حجة بعد المراجعة إلى الأدلة الشرعية، دون ما إذا حصل من ملاحظة بعض الأدلة
من غير استيفاء لما يعارضه وما يحتمل ترجيحه عليه أو مساواته له. وحينئذ فما
ذكر في الجواب عنه: من أن المفروض تحصيل جميع ما هو دليل في تلك المسألة
بحسب ظنه، لا يجدي نفعا في المقام فإن ذلك إنما يقضي بحصول الظن له.
وأما جواز الاعتماد على ذلك الظن من غير مراجعة إلى سائر الأدلة واقتداره
على استنباط الأحكام منها فغير متجه. والفرق بين ذلك والظن الحاصل للمجتهد
المطلق - الناظر في جميع الأدلة والعارف بوجوه استنباط الأحكام منها - ظاهر،
وهل ذلك إلا نظير الظن الحاصل للمجتهد المطلق قبل ملاحظة جميع الأدلة
واستفراغ وسعه في تحصيلها؟.
ومن البين أن الظن الحاصل له حينئذ بانتفاء المعارض لا حجة فيه، غاية
الأمر في الفرق بينهما أن المجتهد المطلق قادر على استيفاء الأدلة وهذا غير قادر
عليه وهو غير مجد في المقام.
نعم يمكن الإيراد عليه: بأنه لا يجب على المجتهد ملاحظة جميع الأدلة
الشرعية القائمة على المسائل الفرعية في استنباط كل حكم بل لا بد من ملاحظة
مظان الأدلة، وذلك مما يمكن حصوله للمتجزئ أيضا. وقد يمكن استيفاء جميع
الأدلة من حيث استنباط الحكم المذكور عنها وعدمه وإن لم يقدر على استنباط
سائر الأحكام عنها. ومع الغض عن ذلك أيضا فقد يحصل للمجتهد القطع بكون ما
حكم به هو مقتضى الأدلة الموجودة التي يمكن الوصول إليها بحسب العادة، وقد
يحصل له الظن بذلك. وغاية ما يستفاد من الوجه المذكور عدم جواز اعتماد
المتجزئ على الظن الحاصل له كذلك، وأما مع قطعه به كما يتفق ذلك في كثير من
الأحكام أو قطعه بانتفاء ما يعارضه في سائر المقامات فلا، وليس ما استفاده
حينئذ قطعيا حتى يخرج عن محل البحث، إذ لا ينافي ذلك كونه ظانا بالحكم
الواقعي بل وشاكا فيه فتأمل.
667

قوله: * (ولكن الشأن في العلم بالعلة) *.
أنت خبير بأن ذلك إن تم فلا يتم فيما إذا قطع بكون الحكم مقتضى الأدلة
الموجودة حسب ما أشرنا إليه لكن (1) التعويل في الاعتماد على الاجماع وقضاء
الضرورة، فبعد تسليمه إنما يفيد عدم قيام دليل على تعويله على ظن المتجزئ ولا
يفيد ذلك عدم تعويل المتجزئ على ظنه. وإن أراد أن تعويل المجتهد على ظنه
إنما هو من الجهتين المذكورتين فغير مسلم، إذ الأدلة الدالة على حجية الأدلة
الشرعية إنما تفيد حجيتها لكل من يقدر على الوصول إليها ويقتدر على استنباط
الأحكام منها، والمفروض مساواة المتجزئ للمطلق بالنسبة إلى المسائل
المفروضة، فلا وجه لسقوطها عن الحجية بالنسبة إليها مع إطلاق ما دل على
حجيتها وعدم رجحان المجتهد المطلق عليه بالنسبة إلى تلك المسائل.
وقد يورد عليه أيضا: بأن الباعث على التعويل على ظن المجتهد المطلق ليس
منحصرا في ذلك، بل العمدة فيه هو انسداد سبيل العلم بعد القطع ببقاء التكليف
القاضي برجوعه إلى الظن وتقديمه على غيره بعد ثبوت عدم وجوب الاحتياط،
إما لعدم إمكانه في كثير من الصور، أو لاشتماله على العسر والحرج العظيم
المرجوح في هذه الشريعة السمحة المؤيد بجريان الطريقة من الأصحاب على
خلافه، حيث إن القول بوجوب الاحتياط الشاذ من الأصحاب، بل لا قائل
بوجوبه على الإطلاق. وهذا كما ترى جار في المتجزئ أيضا، إذ بعد إمكان
رجوعه إلى الظن لا وجه لرجوعه إلى التقليد الموهوم بعد ظنه بخلافه، وقد عرفت
ما فيه مما قررناه سابقا فلا نعيد القول فيه.
قوله: * (وهو إجماع الأمة عليه وقضاء الضرورة به) *.
قد يورد عليه تارة: بما مرت الإشارة إليه من أنه لا إجماع في المقام على
الرجوع إلى ظن مخصوص، للاختلاف الظاهر بين الطائفة في اختيار طريقة
المجتهدين أو الأخباريين أو المتوسطين. وقيام الاجماع على الرجوع إلى

(1) الظاهر سقوط شئ من العبارة.
668

المطلق في الجملة في مقابلة المتجزئ لا ينفع في المقام بعد الاختلاف المذكور.
وقد عرفت الجواب عنه فيما سبق.
وتارة: بأن حصول الاجماع في هذه المسألة غير ظاهر، إذ ظاهر أن هذه
المسألة مما لم يسأل عنه الإمام (عليه السلام)، فالعلم بالإجماع الذي يقطع بدخول
المعصوم فيه بالنسبة إليها وإلى ما يضاهيها من المسائل التي لم يوجد فيها نص
شرعي مما لا يكاد يمكن، كيف! والعمل بالروايات في عصر الأئمة (عليهم السلام) للرواة
بل وغيرهم لم يكن موقوفا على إحاطتهم بمدارك الأحكام والقوة القوية على
الاستنباط بل يظهر بكلامه بأدنى الاطلاع (1) على حقيقة أحوال القدماء، فلا معنى
لدعوى الاجماع في المسألة.
وما ذكره من قضاء الضرورة به، إن أراد كونه بديهيا من غير ملاحظة أمر
خارج فهو بديهي البطلان. وإن أريد بداهته بعد ملاحظة أمر خارج وهو احتياج
المكلف إلى العمل وانحصار الأمر بين الاجتهاد والتقليد فالبديهة تحكم بتقديم
الاجتهاد فهو صحيح، لكنه مشترك بين المطلق والمتجزئ.
كذا ذكره بعض الأفاضل وهو موهون جدا، إذ المناقشة في الاجماع المذكور
عجيبة بعد وضوح اتفاق الكل على حجية ما فهمه المطلق من غير شائبة تأمل
لأحد فيه. كيف! ولو لم يكن فهم المطلق حجة عند البعض لم يكن فهم المتجزئ
حجة عنده بالضرورة، وفيه هدم للدين.
ولا يتوقف كشف الاجماع عن قول المعصوم (عليه السلام) على ورود النص، بل يكفي
فيه وجود الكاشف من قوله ولو بتوسط العقل، على أن الأخبار المأثورة في
الرجوع إلى العلماء والمشتملة على أمرهم بالرجوع إلى جماعة من فضلاء
أصحابهم كثيرة، بل قد يكون متواترة. وجريان طريقة العوام في عصرهم في
الرجوع إلى أهل العلم أمر ظاهر لا سترة فيه، فقول الإمام (عليه السلام) وتقريره موجودان
في المقام، فكيف! يتوهم عدم كشف الاتفاق عن قول الإمام (عليه السلام)، لخلو المسألة

(1) كذا، والظاهر: وذلك ظاهر لكل من له أدنى اطلاع.
669

من الرواية. فما ذكره: من وضوح انتفاء السؤال عن المسألة، إن أراد به عدم
سؤالهم عن خصوص حجية فهم المجتهد المطلق فمسلم، ولا يمنع ذلك من كشف
الاتفاق عن قول الإمام (عليه السلام) بعد ورود ما يدل على الرجوع إلى العالم الشامل
لذلك. وإن أراد عدم ورود ما يدل على حجية فهمه وجواز الرجوع إليه فممنوع،
كيف! ومن الظاهر خلافه، وهو كاف في كشف الاتفاق عن قول المعصوم على
مذاقه أيضا.
والحاصل: أن مقصود المصنف (رحمه الله) أن القدر المقطوع به المتفق عليه بين الكل
هو حجية ظن المجتهد المطلق، وما زاد عليه لم يتفق عليه اتفاق ولم يقم عليه دليل
قاطع آخر، فلا يصح الأخذ به مع انتفاء القطع بجوازه. فلو نوقش في المقام فإنما
يناقش في منعه من قيام القاطع على حجية ظن غيره لا في حجية ظنه.
فما ذكره: من أن العمل بالروايات في عصر الأئمة (عليهم السلام) للرواة، غير مرتبط
بمنع الاجماع على جواز الرجوع إلى صاحب القوة القوية المحيطة بمدارك
الأحكام الشرعية. غاية الأمر أنه يدعى جريان الطريقة هناك على الرجوع إلى
غيره أيضا، وهو كلام آخر لا ربط له بالمقام، وقد مرت الإشارة إلى ما فيه.
ثم إن الظاهر أن مقصود المصنف من " قضاء الضرورة بحجية ظن المطلق " هو
أن الاضطرار إلى العمل بعد خفاء مدارك الأحكام يقضي بحجية فهم من يستنبط
الأحكام منها، وإلا لزم الخروج عن الدين والقدر المتيقن من ذلك هو حجية فهم
المطلق لاندفاع تلك الضرورة به دون ما يزيد عليه، وليس مقصوده شيئا من
الوجهين اللذين أشار إليهما، كيف! والوجه الأول منهما ضروري الفساد، والثاني
فاسد أيضا وإن سلمه المعترض، إذ لا بداهة قاضية بترجيح الناقص فهم نفسه على
فهم الكامل المتدرب حتى يكون عدم جواز تقليده له من الضروريات، كيف! وقد
ذهب جماعة من الفحول إلى عدم جواز ترجيح ظنه على ظن الآخر ووجوب
الأخذ بقوله.
قوله: * (ومع ذلك فالحكم في نفسه مستبعد) *.
670

لا يخفى أنه لو كان وظيفة المتجزئ هو التقليد لم يكن من شأنه إلا الرجوع
إلى المجتهد، فإذا كان ذاهبا إلى جواز التجزي وحجية ظن المتجزئ وقائلا بجواز
التقليد في المسائل المتعلقة بالعمل من أصول الفقه كهذه المسألة لم يكن له بد من
الحكم بعمله بمؤدى ظنه، فالاستبعاد المذكور ليس في محله.
ثم لا يذهب عليك: أن ما ذكره المصنف على فرض صحته لا يفيد كون وظيفة
المتجزئ هو الأخذ بالتقليد، إذ غاية ما يلزم حينئذ بطلان الدليل الدال على
وجوب رجوعه إلى ظنه، ولم يقم دليلا قطعيا على جواز أخذه بالتقليد. وكما أن
رجوعه إلى ظنه يتوقف على قيام دليل قاطع قطعي عليه فكذا رجوعه إلى التقليد،
ومع عدم قيام دليل قطعي عليه لا يتم الحكم بعدم جواز أخذه بظنه، بل قضية
التقرير المذكور هو حجية ظنه في الجملة، إذ غاية الأمر حينئذ تخييره بين
الوجهين وهو يفيد جواز رجوعه إلى ظنه أيضا فتأمل. هذا ملخص القول في
مسألة التجزي.
وقد عرفت: أن المتيقن من المتجزئ هو من كان كل من استنباطه للمسائل
واقتداره على ذلك جزئيا، وأما لو كانت قوته تامة مع كون الفعلية ناقصة على
الوجه الذي أشرنا إليه فالذي نص عليه جماعة أنه مجتهد مطلق، كما قدمنا
الإشارة إليه. وكان الفقيه الاستاد (قدس سره) ذاهبا إلى عدم حجية ظنه فما لم يكن
مستنبطا لقدر يعتد به من الأحكام - بحيث يعد فقيها عرفا على نحو صدق سائر ما
يشتق من أسامي العلوم على أربابها - لا حجية في ظنه بالنسبة إليه وإلى غيره.
وهو قبل البلوغ إلى تلك الدرجة ليس بفقيه ووظيفته الرجوع إلى الفقيه، لما دل
على أن الناس صنفان: فقيه وغير فقيه وإن وظيفة الثاني الرجوع إلى الأول، ولأن
المذكور في مقبولة عمر بن حنظلة اعتبار معرفتهم بأحكامهم (عليهم السلام) وهو جمع
مضاف يفيد العموم ولا أقل من العموم العرفي، وهو غير صادق بمجرد عموم
الملكة ما لم يكن عالما بالفعل بقدر يعتد به بحيث يصدق عليه عرفا أنه عارف
بالأحكام. فالتفصيل بين حجية ظنه بالنسبة إليه دون غيره خارج عن الطريقة، إذ
671

لو كان مجتهدا صح له الرجوع إلى ظنه ولغيره الرجوع إليه، وإلا لم يجز في
المقامين.
ويشكل بأنه لا دليل على دوران المكلف بين الوجهين سوى ما قد يتخيل من
الاجماع، والقدر المسلم منه على ثبوته هو لزوم كون المكلف عالما بحكمه على
سبيل الاجتهاد أو آخذا له بطريق التقليد وأما كونه مجتهدا في بعضها ومقلدا في
بعضها لم يقم اجماع على المنع منه، كيف وكثير منهم قد جوزوا التجزي في
الاجتهاد على أنه قد يقال: بصدق عنوان الفقيه عليه بالنسبة إلى ما اجتهد فيه، إلا
أنه غير متجه حسب ما مرت الإشارة إليه في أوائل الكتاب. وقيام الاجماع على
الملازمة بين عدم حجية ظنه بالنسبة إلى غيره وعدمها بالنسبة إليه غير ظاهر،
كيف! والافتراق بينهما في المجتهد الفاسق والمفضول مع وجود الأفضل بناء على
المنع من الرجوع إليه ظاهر، فأي مانع من البناء على التفصيل في المقام أيضا؟
لكن لا يخفى عليك: أنه لم يقم أيضا إجماع على حجية ظنه بالنسبة إليه.
وحينئذ فيشكل اعتماده عليه على نحو ما مر بيانه في المتجزئ فيجري فيه ما
قدمناه من التفصيل في حكم المتجزئ، فالظاهر أنه بمنزلته وإن كان القول بحجية
ظنه أقوى من الحكم بحجية ظن المتجزئ. ويجري الكلام المذكور في صاحب
القوة التامة الخالية عن الفعلية بالمرة، فإن قلنا بجواز التقليد للمجتهد المطلق
بالنسبة إلى المسائل التي لم يجتهد فيها فالأمر فيه ظاهر، وأما بناء على المنع منه
فيشكل الحال فيه أيضا. والأظهر حينئذ رجوعه إلى ظنه حسب ما مر في
المتجزئ لما عرفت.
هذا بالنسبة إلى ما يقتضيه ظواهر الأدلة في شأنه، وأما تكليفه في نفسه
وبحسب فهمه في صحة تقليده أو وجوب اجتهاده ورجوعه إلى ظنه فيجري فيه
ما قدمناه من التفصيل، لعدم قيام دليل قاطع على جواز تقليده، أو رجوعه إلى ظنه
على نحو ما ثبت بالنسبة إلى العامي والمجتهد المطلق. وظاهر الجماعة أيضا
إدراجه في المطلق، وهو ضعيف. ولو كانت فعلية تامة مع نقص القوة - بأن كان
672

عاجزا عن إدراك المسائل المشكلة من دون تلقين الغير وتعليمه إياه لوجه
الترجيح فلا يقتدر بنفسه على استخراجها والابتداء إليها - فالظاهر إدراجه في
الفقيه، لصدق العنوان فيندرج تحت الاجماع القاضي بحجيته.
وربما يتراءى من ظاهر بعض كلماتهم عدم اندراجه فيه، نظرا إلى أن القدر
المتيقن من الحكم بجواز التقليد هو تقليد المجتهد المطلق، وأما غيره فلم يقم دليل
قاطع على جواز الرجوع إليه، وقضية الأصل عدم جواز الرجوع إليه وعدم
الاكتفاء في الحكم بالبراءة بعد اليقين بالاشتغال بمجرد تقليده. والأظهر أن حجية
ظنه بالنسبة إليه قاض بحجيته بالنظر إلى غيره أيضا في الجملة. وفي مشهورة أبي
خديجة المتقدمة دلالة عليه. فلو انحصر الأمر في الرجوع إليه لم يبعد وجوبه.
نعم لو دار الأمر بين الرجوع إليه وإلى المطلق من الأحياء لم يجز الرجوع
إليه، بناء على وجوب تقليد الأفضل، فلا فرق بينه وبين المطلق في ذلك. هذا
بالنظر إلى ما يقتضيه الأدلة الظنية. وأما المقلد فلا يجوز له الرجوع إليه من غير
قيام دليل قاطع عنده على جواز تعويله عليه، لما عرفت. ولو رجع إلى المجتهد
المطلق في جواز رجوعه إليه لم يكن به بأس، كما إذا قلد الميت أو المفضول
بتقليده الحي أو الأفضل في ذلك.
ولنتمم الكلام في مباحث الاجتهاد برسم أمور:
- أحدها -
في بيان شرعية الاجتهاد وإثبات الاعتماد على ظن المجتهد، ويمكن
الاستدلال عليها بوجوه:
الأول: العقل ويبتني ذلك على بيان انسداد باب العلم في كثير من الأحكام
الشرعية بل معظمها وانحصار الطريق في العمل بالظن والأخذ بالظنيات والقواعد
التي لا يفيد علما بالواقع في الخصوصيات، ويدل عليه بعد قضاء ضرورة الوجدان
بذلك - إذ لا يحصل للنفس بعد كمال الجد وبذل الوسع في معرفة الأحكام وغاية
673

الاهتمام في النظر في الأدلة والبحث عن مدارك الأحكام الشرعية وملاحظة
الأمارات المؤيدة ما يزيد على المظنة فيكفي فيه ملاحظة الوجدان عن مؤنة
البيان - أن ما يكون من الأدلة الشرعية علمية مفيدة للقطع بالواقع في الوقائع، أو
محتملة لإفادة اليقين بالواقع، أو قيل بإفادتها لذلك. إما الاجماع أو العقل
المستقل، أو الكتاب، أو السنة المتواترة وما بمنزلتها، أو سائر الأخبار المأثورة
عن العترة الطاهرة المذكورة في الكتب المعتمدة.
أما الاجماع والعقل الكاشف عن الواقع فلم ينهضا إلا في قليل من الأحكام،
ومع ذلك فلا يفيان غالبا بالتفصيل.
وأما الكتاب فهو وإن كان قطعي المتن إلا أنه في الغالب ظني الدلالة، ومع
ذلك لا يستفاد منه غالبا إلا أمور إجمالية.
وأما السنة المتواترة وما بمنزلتها فلا توجد إلا في نادر من الأحكام، مع أنها
لا تفي غالبا إلا بالأحكام الإجمالية.
وأما سائر الأخبار المأثورة المذكورة في الكتب المعتمدة فهي ظنية بحسب
المتن والدلالة، إذ وجود الاختلال الطارئة عليها سندا ودلالة كثيرة قد أشرنا إليها
فيما مضى، وقد فصلنا القول في بيان ظنيتها وعدم إفادتها اليقين بالواقع بما لا
مزيد عليه، وأوضحنا فساد ما لفقه جماعة من الأخبارية من الشبه في بيان
قطعيتها، ولو سلم قطعية تلك الأخبار حسب ما ادعوه، فمن البين أنها لا تفي ببيان
جميع الفروع المتجددة على سبيل التفصيل، بل لا بد من التأمل في إدراجها فيما
يناسبها من القواعد المقررة في تلك الأخبار. ومن الظاهر أيضا اختلاف الأنظار
في ذلك وعدم إمكان تحصيل اليقين غالبا بذلك، كما لا يخفى على من مارس
التفريعات الفقهية وأمعن النظر فيما يرد عليه من الفروع المتجددة، فإنه لا مناص
غالبا من الأخذ بالظن في الحكم باندراجها في خصوص كل من القواعد المقررة.
وذلك أيضا من الوضوح بمكان لا يحتاج إلى البيان. فإذا تقرر انسداد باب العلم
في معرفة الأحكام مع القطع ببقاء التكليف تعين الانتقال إلى الظن، أو الأخذ
674

بالوجوه الظنية التي دلت على حجيتها الأدلة المخصوصة، وهو المعني بالاجتهاد.
الثاني: انعقاد الاجماع عليه من الخاصة والعامة، وقد نص بانعقاد الاجماع
عليه جماعة من أجلاء الطائفة، وهو معلوم من ملاحظة الطريقة الجارية المستمرة
في سائر الأعصار والأمصار بين الشيعة. وملاحظة كتب الفتاوى والاستدلال
كافية في العلم به.
وقد ناقش في ذلك بعض من الأخباريين بوجوه موهونة لا بأس بالإشارة
إليها ليقضى بالعجب منها.
قال: والجواب أولا: بمنع حجية الاجماع إذ لم يوردوا لها دليلا قطعيا،
والاعتماد على الظن في الأصول غير معقول، بل الدليل الظني الذي أوردوه غير
تام ولا سالم عن المعارضة بما هو أقوى منه.
وثانيا: بمنع انعقاد الاجماع هنا بمخالفة المتقدمين والمتأخرين وتصريحاتهم
بذلك يطول الكلام بنقلها.
وثالثا: بتقدير انعقاد الاجماع فهو دليل ظني لا يجوز العمل به في الأصول.
ورابعا: أنه ظني لا يجوز الاستدلال به على الظن، إذ يلزم منه الدور.
وخامسا: المعارضة بمثله فقد نقل الشيخ في العدة الاجماع على خلافه
وهو مقدم، لتقدمه وتواتر النصوص به.
وسادسا: أن الاجماع عند محققيهم إنما يعتبر مع العلم بدخول الإمام (عليه السلام)،
ولا سبيل إلى تحقيق ذلك هنا.
وسابعا: أنه على تقدير ثبوت قول الإمام (عليه السلام) هنا فالحجة قول الإمام (عليه السلام)
لا الاجماع، وهو على ذلك التقدير خبر واحد لا يعارض المتواتر.
وثامنا: أنه على تقدير ثبوت قول الإمام (عليه السلام) هنا فهو خلاف الآيات
الصريحة، ومعارضته (1) من قول الأئمة (عليهم السلام) موافق لها فيتعين المصير إليه للأمر
بالعرض على الكتاب.

(1) بصيغة الاسم الفاعل المؤنث.
675

وتاسعا: أنه على ذلك التقدير موافق للعامة فيتعين حمله على التقية، والعمل
بما يعارضه، لعدم احتمال التقية، ونظيره الاجماع على بيعة أبي بكر فقد دخل فيها
أمير المؤمنين (عليه السلام) ولم يدل دخوله على صحتها، للتقية وهذا أقوى المرجحات
المنصوصة على تقدير وجود المعارض الصحيح، فكيف! وأهونها غير موجود
انتهى.
وأنت خبير بأن أقصى ما يمكن ايراده في المقام وإن كان واضح الفساد أيضا:
المنع من تحقق الاجماع، لما يتوهم من كلمات جماعة من الأصحاب من المنع
من الاجتهاد، أو العمل بالظن، وقد أشار إليه بما ذكره: من مخالفة جماعة من
المتقدمين والمتأخرين فيه، وحكاية الشيخ الاجماع عليه، وسيجئ الإشارة إلى
جملة من عبائرهم بما يوهم دلالتها على ذلك. وتوضيح القول في فساده
إن شاء الله.
وأما سائر ما ذكر من الإيرادات فغير معقولة، لما هو واضح من أن الاجماع
على فرض تحققه من الأدلة القطعية الكاشفة عن رأي الإمام (عليه السلام)، أو عن الحجة
التي لا مجال للتشكيك في حجيته، ولزوم الأخذ به حسب ما حقق في محله.
نعم لو أريد به الاجماع المنقول صحت دعوى كونه ظنيا، إلا أنه غير مراد
المستدل قطعا، وحينئذ فمعارضته بحكاية الشيخ غير متجهة، على أنه من الواضح
أن مراد الشيخ من الاجتهاد غير ما هو المقصود في المقام، وليت شعري كيف يعقل
القول بدعوى الشيخ الاجماع على حرمة الاجتهاد والمنع منه، مع ما يرى من
طريقته في الاحتجاج في المبسوط والخلاف وغيرهما. وسنوضح ما هو مقصوده
من الاجتهاد في ذلك المقام، وأنه مما لا ربط له بالمرام. وما ذكره: من أن مفاد
الاجماع المذكور مخالف للآيات الصريحة والأخبار المأثورة، ضعيف جدا،
لوضوح كون مفاد الاجماع على فرض تحققه قطعيا، وأقصى ما يسلم كون ظاهر
إطلاق الآيات والروايات ذلك فكيف! يمكن أن يقاوم القاطع، مضافا إلى أن
الاستناد إليها استناد إلى الظن والمدعى خلافه، فلو صح الاستناد إليها بطل ما ذكر
676

من الدعوى، على أن دلالتها على ذلك محل منع أيضا كما ستعرف الوجه فيه
إن شاء الله.
الثالث: ظواهر كثير من الأخبار:
منها: الصحاح المستفيضة الدالة على أن عليهم (عليهم السلام) إلقاء الأصول وإن علينا
التفريع عليها. فقد رواه زرارة وأبو بصير في الصحيح عن الباقر (عليه السلام) والصادق (عليه السلام)
ورواه البزنطي في جامعه عن هشام بن سالم عن الصادق (عليه السلام)، ورواه البزنطي
بنفسه عن الرضا (عليه السلام)، إذ من البين ان تفريع الفروع على الأصول والقواعد لا
يكون غالبا إلا على سبيل الظن، إذ دلالة العمومات على حكم كل من الجزئيات
المندرجة فيها إنما تكون في الغالب على سبيل الظهور دون التنصيص، وأيضا كثير
من التفريعات مما يختلف فيه الأنظار ويتفاوت الأفهام في إدراجها تحت القواعد
المقررة. وكثيرا ما لا يتأتى الحكم باندراج الفرع تحت أصل معين إلا على سبيل
يندرج فيها المداليل الالتزامية المفهومة بتوسط الخطاب، كدلالة الأمر بالشئ
على الأمر بمقدمته ودلالة النهي على الفساد، وكثير من دلالات المفاهيم ونحوها.
وقد يناقش فيه بالمنع من شمولها للتفريعات الظنية فلا يفيد المدعى.
ويمكن دفعها: بأن قضية الأمر بالتفريع إثبات ما يتفرع على الكلام من
الأحكام بحسب العرف، وهو أعم مما يفيد العلم بالواقع هذا.
وقد أورد بعض المحدثين في المقام: بأنه لا دلالة في الأخبار المذكورة على
صحة الاجتهاد الظني في أحكام الله تعالى، فإن مفادها الأخذ بالقواعد الكلية
المأخوذة عن أهل العصمة كقولهم (عليهم السلام) " إذا اختلط الحلال بالحرام غلب الحرام "
وقولهم (عليهم السلام) " كل شئ فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه
فتدعه " وقوله (عليه السلام) " الشك بعد الانصراف لا يلتفت إليه " وقولهم " لا تنقض اليقين
بالشك أبدا وإنما تنقضه بيقين آخر " وذلك أن الأنظار العقلية إذا كانت مادة الفكر
فيها وصورته مأخوذين عن أهل العصمة فلا ريب في جواز العمل به، لأنه معصوم
عن الخطأ. ولا شك أن مفاد الأخبار المذكورة هو التفريع على الأصول المأخوذة
677

عن الأئمة (عليهم السلام) خاصة، وهو عين مذهب الأخباريين وخلاف دعوى الأصوليين.
قلت: من البين أن تفريع الأحكام على الأصول المأخوذة عن أهل العصمة
إما أن يكون ثابتا بإثبات تلك الأحكام للجزئيات الظاهرة الاندراج أو للجزئيات
التي يتأمل في اندراجها تحت أي من تلك القواعد ويتوقف اندراجها في
خصوص بعضها على البحث والنظر، أو بإثبات اللوازم المتفرعة على الملزومات
المأخوذة عنهم (عليهم السلام). وحينئذ فقد يكون اللزوم بينا، وقد يفتقر إلى البيان، فقد
يكون المبين له العقل، أو النقل، أو الملفق منهما. وظاهر تلك الأخبار تعميم ذلك
للجميع. ومن البين حينئذ أنه لا يلائم طريقة الأخباريين. وتخصيصها بالصورة
الأولى خروج عما يقتضيه إطلاق تلك النصوص. بل ربما يقال بعدم عد ذلك
تفريعا، فإن تلك الصور الجزئية هو نفس ما ذكر في تلك القواعد الكلية، لظهور أن
المحكوم عليه في القضايا الكلية هو خصوص كل من الجزئيات، فإثبات الحكم
لكل منها من جهة الأخذ بعين المنصوص لا التفريع على المنصوص.
ومع الغض عن ذلك فلا ينفك ما ذكر أيضا من استعمال الظن، لظهور احتمال
التخصيص في تلك العمومات. فالقول بحصول العصمة عن الخطأ بمجرد الأخذ
بظواهر تلك العمومات والإطلاقات كما ترى.
ومنها: الأخبار الكثيرة الدالة على الرجوع إلى المرجحات الظنية عند
تعارض الأخبار المأثورة ليتميز الصحيح منها عن السقيم، والمقبول من المردود،
ومن البين أن ذلك من أعظم موارد الاجتهاد، فإن تمييز المعول عليه من الأخبار
من غيرها قد يشكل جدا.
وقد دلت الأخبار المذكورة على الرجوع في التميز إلى وجوه ظنية،
والمستفاد من جميعها بعد الجمع بينها هو الأخذ بالراجح من حيث المفاد والسند.
وما قد يتوهم من أن المرجحات المذكورة إنما هي لأجل تمييز الخبر الوارد من
جهة التقية من غيرها - وإن جميع أخبارنا المذكورة في الكتب المعتمدة قطعي
الصدور من الأئمة (عليهم السلام) - واضح الفساد حسب ما مرت الإشارة إليه، مضافا إلى
678

أن في تلك الأخبار شهادة على خلافه، إذ الرجوع إلى الأعدل وترجيحه على
غيره لا ربط له بالجهة المذكورة. وكذا الحال في عدة من المرجحات المقررة، كما
لا يخفى على المتدبر.
ومنها: ما دل من الأخبار على حجية قول الثقة والاعتماد على نقله، إذ من
البين أن الوثاقة لا يبلغ إلى درجة العصمة حتى يمتنع في شأنه الخطأ والغفلة كيف!
وقد وقع من أعاظم الثقات من السهو والاشتباه في أسناد الروايات ومتونها ما
لا يخفى على المتتبع في الأخبار، سيما كتابي التهذيب والاستبصار، مضافا إلى ما
عرفت من الاكتفاء في العدالة بحسن الظاهر. ومن الظاهر أنه بمجرده لا يفيد العلم
بحصول العدالة، فلو سلمنا قضاء تلك الصفة بعدم وقوع الكذب والغفلة والزيادة
والنقيصة من المتصف بها فكيف! يعقل القول بقضاء الظن بها للعلم بذلك.
ومنها: غير ذلك من الأخبار المتكثرة الدالة على حجية أخبار الآحاد حسب
ما فصل في محله.
فالملخص من ملاحظة مجموع الأخبار المذكورة القطع بحجية الظن في نفس
إثبات الأحكام الشرعية. وكون كل واحد من تلك الروايات ظنيا لا يقدح في
المقصود بعد كون القدر الجامع بينها قطعيا، على أنهم يدعون قطعية الأخبار، فكل
واحد منها حجة قاطعة بالنسبة إليهم.
هذا وقد زعمت الأخبارية عدم جواز الاجتهاد في نفس الأحكام الشرعية
وحكموا بحظرها في الشريعة لشبه واهية، وشكوك ركيكة، واضحة الفساد، غير
صالحة للاعتماد عند من له أدنى مسكة لا بأس بالإشارة إلى جملة منها.
منها: أنه لا دليل على جواز العمل بالظن، فلا وجه للرجوع إليه والتعويل في
استنباط الأحكام عليه.
وفيه: أنه لا كلام في عدم جواز الاستناد إلى الظن من غير قيام دليل عليه،
وما ادعي من انتفاء الدلالة في المقام فهو بين الفساد. كيف! ولو لم يكن هناك دليل
على حجيته سوى انسداد سبيل العلم - وانحصار الطريق في الظن مع القطع ببقاء
679

التكليف - لكفى في القطع بحجيته، مع أن هناك أدلة خاصة على حجية عدة من
الطرق الظنية، كما قرر في محله.
وقد اعترف الأخباريون بحجية قول الثقة وجواز الاعتماد عليه في الأحكام
الشرعية - كما دلت عليه عدة من النصوص - مع أنه لا يفيد غالبا ما يزيد على
الظن ودعوى إفادة قول الثقة القطع بالواقع - كما صدر من جماعة منهم - مما
يشهد ضرورة الوجدان بخلافه مع ثبوت وثاقته بطريق اليقين فكيف! مع ثبوتها
بحسن الظاهر.
ومنها: أن العمل بالظن مما يستقل العقل بقبحه فيستحيل تجويز الشرع له،
ووهنه ظاهر، فإنه إن تم ذلك فإنما يتم بالنسبة إلى الاعتماد على الظن من حيث
إنه ظن، وأما مع أوله إلى العلم وانتهائه إلى اليقين فكلا. وكيف! يتوهم ذلك ولا
عمل حينئذ إلا بالعلم.
ومن البين أن المسائل الفقهية إنما يراد لأصل العمل، ومن الظاهر أيضا أنه
بعد قيام الدليل القاطع على وجوب العمل بمؤدى الأدلة الظنية يكون العمل
حاصلا على وجه اليقين، دون الظن والتخمين. كيف! ولولا ذلك لم يجز بناء
الشرع على الأخذ بالظن أصلا لعدم جواز الاستثناء في القواعد العقلية، مع أن
جواز العمل بالظن في كثير من المقامات - كالحكم بالشهادات والاعتماد على
إخبار ذي اليد ونحوهما - مما لا كلام في وروده في الشرع، بل وكذا الحال
بالنسبة إلى دلالة الألفاظ، لقيام الاجماع على جواز الاعتماد فيها على الظنون،
وكذا الحال في جواز الاعتماد على قول الثقة، كما دلت عليه روايات عديدة.
ومنها: ما ذكره بعض المحدثين: من أن المتقدمين من علمائنا لا يقولون
بجواز الاجتهاد والتقليد ولا يجيزون العمل بغير الكتاب والسنة من وجوه
الاستنباطات الظنية. ومن المعلوم أن طريقة المتقدمين هي الموافقة للأئمة (عليهم السلام)
ولأحاديثهم المتواترة، فإن شذ منهم شاذ أحيانا أنكر عليه الأئمة إن كان في زمان
ظهورهم. وفي هذه الطريقة مباينة لطريقة العامة مباينة كلية. وطريقة المتأخرين
680

موافقة لهم لا تخالفهم إلا نادرا، وناهيك بذلك على تحقيق الحق من الطريقين.
ثم قال: وبالجملة فعدم جواز الاجتهاد في نفس الأحكام الشرعية وعدم
جواز العمل بالاستنباطات الظنية كان معلوما من مذهب المتقدمين من الإمامية
إلى زمان العلامة. بل كان معلوما عند العامة والخاصة أنه من اعتقادات الشيعة
وقد نقلوه عن أئمتهم لتواتر النص بذلك عنهم، وهذا كما ترى يفيد دعوى إجماع
الشيعة الكاشف عن قول الأئمة (عليهم السلام) على بطلان الاجتهاد في الأحكام الشرعية.
وقال في موضع آخر: إن القول بحجية ظن المجتهد على نفسه وعلى من
يقلده مذهب العلامة والشهيدين والشيخ حسن والشيخ علي والشيخ بهاء الدين لا
غير، وباقي علمائنا المتقدمين والمتأخرين على بطلان ذلك كله هذا.
وقد ذكر جملة من عبائر القدماء الموهمة لما ادعاه لا بأس بأن نشير إلى
جملة منها ثم نتبعها بإيضاح فساد تلك الدعوى، فمن ذلك: ما ذكره الكليني في
أول الكافي قال: والشرط من الله فيما استعبد به خلقه أن يؤدوا جميع فرائضه بعلم
ويقين وبصيرة إلى أن قال: ومن أراد خذلانه وأن يكون إيمانه معارا مستودعا
سبب له أسباب الاستحسان والتقليد والتأويل بغير علم وبصيرة.
وقال الصدوق في العلل بعد ذكر حديث موسى (عليه السلام) والخضر (عليه السلام): إن موسى
مع كمال عقله وفضله ومحله من الله تعالى لم يدرك باستنباطه واستدلاله معنى
أفعال الخضر حتى اشتبه عليه وجه الأمر به، فإذا لم يجز لأنبياء الله تعالى ورسله
القياس والاستدلال والاستخراج كان من دونهم من الأمم أولى بأن لا يجوز لهم
ذلك. إلى أن قال: فإذا لم يصلح موسى (عليه السلام) للاختيار مع فضله ومحله فكيف!
تصلح الأمة لاختيار الإمام (عليه السلام)، وكيف! يصلحون لاستنباط الأحكام الشرعية
واستخراجها بعقولهم الناقصة وآرائهم المتفاوتة.
وقال السيد في الذريعة: عندنا أن الاجتهاد باطل وأن الحق مدلول عليه، وأن
من أخطأ غير معذور، وقد نص السيد هناك أيضا بأن الإمامية لا يجوز عندهم
العمل بالظن ولا الرأي ولا القياس ولا الاجتهاد. وقال في الانتصار في أول كتاب
681

القضاء: إنما عول ابن الجنيد في هذه المسألة على ضرب من الرأي والاجتهاد،
وخطؤه ظاهر.
وقال في المسألة التي بينها: إن من خالفنا اعتمد على الرأي والاجتهاد دون
النص والتوقيف، وذلك لا يجوز. وقال في كتاب الطهارة منه في مسألة مسح
الرجلين: إنا لا نرى الاجتهاد ولا نقول به. وقد ذكر أيضا في عدة من كتبه: أن ما
يفيد الظن دون العلم لا يجوز العمل به عندنا.
وقال الشيخ في العدة: وأما القياس والاجتهاد فعندنا أنهما ليسا بدليلين، بل
محظور في الشريعة استعمالهما.
وقال في موضع آخر منه: ولسنا نقول بالاجتهاد والقياس. وقال أيضا: وأما
الظن فعندنا أنه ليس بفاصل في الشريعة تنسب الأحكام إليه وإن كان تقف أحكام
كثيرة عليه، نحو تنفيذ الحكم عند شهادة الشاهدين، ونحو جهات القبلة وما يجري
مجراه. انتهى.
ومعلوم أن ما حكم بجواز العمل فيه بالظن من الموضوعات دون الأحكام.
وقال في مواضع من التهذيب: وإنا لا نتعدى الأخبار.
وقال ابن إدريس (رحمه الله) في مسألة تعارض البينتين بعد ذكر عدة من
المرجحات: ولا ترجيح بغير ذلك عند أصحابنا، والقياس والاستحسان
والاجتهاد باطل عندنا.
وقال الطبرسي في المجمع: لا يجوز العمل بالظن عند الإمامية إلا في شهادة
العدلين، وقيم المتلفات، وأرش الجنايات. وظاهر أن ما استثناه من قبيل
الموضوعات دون الأحكام.
وقال المحقق في المعتبر: ثم إن أئمتنا مع هذه الأخلاق الطاهرة والعدالة
الظاهرة يصوبون رأي الإمامية في الأخذ عنهم، ويعيبون على غيرهم ممن أفتى
باجتهاده وقال برأيه، ويمنعون من يأخذ عنه، ويستخفون رأيه، وينسبونه إلى
الضلال، ويعلم ذلك علما ضروريا صادرا عن النقل المتواتر. فلو كان ذلك يسوغ
682

لغيرهم لما عابوه. وقال فيه أيضا: واعلم أنك مخبر في حال فتواك عن ربك، فما
أسعدك إن أخذت بالجزم، وما أخيبك إن بنيت على الوهم، فاجعل فهمك تلقاء
قوله تعالى * (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) * (1) انتهى.
وفي ملاحظة أحوال الرواة أيضا ما يفيد ذلك فقد روى الكشي عن أبي حنيفة
قال له: أنت لا تقول شيئا إلا برواية؟ قال: أجل (2). وروى الكشي وغيره من أكثر
علمائنا المتقدمين وخواص الأئمة (عليهم السلام) أيضا مثل ذلك، بل ما هو أبلغ منه.
وقد صنف جماعة من قدمائنا كتبا في رد الاجتهاد وعدم جواز الأخذ به.
منها: كتاب النقض على عيسى بن أبان في الاجتهاد، وذكره النجاشي والشيخ
في مصنفات الشيخ الجليل إسماعيل بن إسحاق عن أبي سهل بن نوبخت.
ومنها: كتاب نقض اجتهاد الرأي على ابن الراوندي، ذكره الشيخ في ترجمة
إسماعيل المذكور نقلا عن ابن النديم أنه من مصنفاته.
ومنها: الاستفادة في الطعون على الأوائل والرد على أصحاب الاجتهاد
والقياس، من مصنفات عبد الله بن عبد الرحمن التبريزي، ذكره النجاشي.
ومنها: كتاب الرد على من رد آثار الرسول واعتمد على نتائج العقول، من
مؤلفات الشيخ الجليل هلال بن إبراهيم بن أبي الفتح المدني ذكره النجاشي.
ومنها: كتاب النقض على ابن الجنيد في اجتهاد الرأي، من مؤلفات الشيخ
المفيد. إلى غير ذلك من الكتب المؤلفة في هذا الشأن.
أقول: وأنت خبير بأنه لا دلالة في شئ مما ذكر على ما ادعاه بل لا إشعار
فيها على ما ذكره. أما عبارة الكليني والصدوق (رحمهما الله) فلظهور أن المقصود مما ذكراه
عدم جواز الاعتماد في الأحكام الشرعية على الظنون العقلية والاستحسانات
الظنية والتخريجات التخمينية كما هي الطريقة المتداولة بين العامة. ومن البين
إطباق أصحابنا على المنع منه، وليس في كلامهما ما يفيد غير ذلك. وليس
مقصودهما عدم جواز الاجتهاد، بمعنى بذل الوسع في فهم الكتاب والأخبار

(1) البقرة: 169.
(2) رجال الكشي: ص 384، رقم 718.
683

النبوية والإمامية وتمييز الأخبار المعتبرة عن غيرها، وفي إجراء القواعد المقررة
في الشريعة من أصالة البراءة والإباحة والاحتياط وغيرها من الأصول الممهدة
في الشريعة.
وأما ما ذكره السيد والشيخ من المنع من الرجوع إلى الاجتهاد والأخذ بالظن
في مذهب الشيعة، فالمراد بالاجتهاد هو المتداول بين العامة - أعني تحصيل
مطلق الظن بالحكم - دون الرجوع إلى الأدلة الشرعية المقررة في الشريعة التي
قامت عليها الأدلة، وبذل الوسع في تحصيل الظن من تلك المدارك المعينة المفيدة
للعلم من جهة أخرى.
والحاصل: أن هناك اجتهادا في استخراج الأحكام ولو بمجرد الظنون العقلية
ونحوها، واجتهادا في فهم الحكم واستخراجه من الأدلة المذكورة، والممنوع منه
في كلامهم إنما هو الأول دون الثاني، لوضوح رجوعهم إلى الأدلة وتحصيل الظن
بالأحكام الشرعية. والحكم على سبيل الظن والاستظهار عن الأدلة غير عزيز في
كلام السيد والشيخ وغيرهما. وقد كان الاجتهاد في كلام الأوائل إنما يطلق على
تحصيل الحكم بالوجه الأول، كما يظهر من ملاحظة كتب الأصول.
ومن ذلك: ما اشتهر في مقام دفع بعض الوجوه التخريجية أنه اجتهاد في
مقابلة النص ويشير إليه ذكر القياس والرأي معه، ومقابلته بالرجوع إلى النص
والتوقيف. بل في ظاهر العدة وغيره دلالة على إطلاق الاجتهاد عندهم على
خصوص استنباط الحكم بالقياس.
وقد حملوا الاجتهاد الوارد في حديث معاذ على القياس، وجعلوا تلك
الرواية دليلا على مشروعيته وقد ذكروه في باب القياس، وكأنها وما في معناها
مما رووا هي الأصل في إطلاق تلك اللفظة على القياس والرأي. والمراد بالظن
الممنوع منه هو مطلق الظن من حيث إنه ظن، حيث إن المدارك الشرعية للأحكام
المقررة في الشريعة وأمور مضبوطة مقررة عند الشيعة في الجملة مقطوع بها
عندهم، ولا يجوزون الرجوع إلى مطلق الظن كما جوزه أهل الخلاف.
684

ومن البين: أن الحكم المستفاد مما قام على حجية الأدلة القطعية يكون قطعيا
بحسب الشريعة وإن كانت مصادفته للواقع ظنية، فهم إنما يريدون بالدليل القطعي
ما يقطع بوجوب العمل به، فإذا كان الدليل قطعيا بحسب العمل كان كغيره من
الأدلة المفيدة للقطع بالواقع، حيث إن المقصود من الفقه تصحيح العمل دون مجرد
الاعتقاد، والمفروض كون ما يفيد العلم بالواقع وما يفيد العلم بوجوب العمل
مشتركين في القطع بالعمل ومعرفة التكليف، فلذا صح عد الأدلة المذكورة علمية
مفيدة للقطع في مقابلة سائر الأمارات المفيدة للظن. ومنه يظهر الوجه في عدم
تجويزهم للعمل بالظن حيث لم يقم عندهم دليل قطعي على جواز الأخذ به، بل
قام على خلافه، كما بين في محله.
وفي كلام الشيخ في العدة ما يشير إلى ما ذكرنا، حيث إنه دفع استدلال
القائلين بالمنع من القياس بالآيات الدالة على المنع من الحكم بغير العلم، بأن
للمخالف أن يقول: ما قلنا بالقياس إلا بالعلم وعن العلم فلم نخالف ظاهر الكتاب
وإنما ظننتم علينا أنا نعلق الأحكام بالظنون وليس نفعل ذلك بل الحكم عندنا
معلوم وإن كان الطريق إليه الظن، هذا.
ولا يذهب عليك أن المستفاد من العبارات المذكورة: أن عدم جواز العمل
بمطلق الظن من الاتفاقيات بين الخاصة، وأن القول بجوازه من خواص العامة.
وظاهر ذلك يعطي كون الأصل عندهم عدم جواز العمل بالظن إلا ما قام الدليل
القاطع أو المنتهي إلى القطع على خلافه كما هو المختار، لا ما يدعيه جماعة من
متأخري المتأخرين من انقلاب الأصل وكون قضية الأصل حينئذ حجية الظن إلا
ما قام الدليل على خلافه، فإنه أشبه شئ بمذهب العامة، بل عين ما ذهبوا إليه.
وأما الوجه الأول فهو بعيد جدا عن طريقتهم كما لا يخفى. ومنه يظهر ضعف
ما ذكره المحدث المذكور من كون طريقة المجتهدين موافقة العامة لا مخالفتهم إلا
نادرا.
ثم إن ما ذكره الشيخ: من أنه لا يتعدى مضمون الأخبار، فهو من الأمور
685

المعلومة عند الشيعة، لعدم حجية القياس عندهم. والاستناد إلى منصوص العلة.
أو مفهوم الموافقة ونحوهما ليس تعديا عن الأخبار كما قرر في محله.
ومما ذكرنا: يظهر الحال في باقي العبارات المنقولة.
وقد نص المحقق في المعارج: بأن الاجتهاد في عرف الفقهاء بذل الجهد في
استخراج الأحكام الشرعية. قال: وبهذا الاعتبار يكون استخراج الأحكام
الشرعية من أدلة الشرع اجتهادا، لأنها يبتنى على اعتبارات نظرية ليست مستفادة
من ظواهر النصوص في الأكثر، سواء كان ذلك الدليل قياسا أو غيره، فيكون
القياس على هذا التقدير أحد أقسام الاجتهاد.
فإن قيل: يلزم على هذا أن يكون الإمامية من أهل الاجتهاد.
قلنا: الأمر كذلك، لكن فيه إبهام، من حيث إن القياس من جملة الاجتهاد، فإذا
استثني القياس كنا من أهل الاجتهاد في تحصيل الأحكام بالطرق النظرية التي
ليس أحدها القياس انتهى.
والحاصل: أن اختيار كثير من هؤلاء - كالسيد والشيخ وابن إدريس والمحقق
وأضرابهم - لطريقة المجتهدين أمر ظاهر جلي معلوم من ملاحظة كتبهم في
الاستدلال. وكذا الحال في اعتمادهم على الاجماع واستنادهم إليه في كثير من
المسائل مما لا مجال لإنكاره، كما ينادي به ملاحظة كتبهم. وكذا الحال في
اعتمادهم على كثير من المطالب المقررة في الأصول، كما يظهر من الرجوع إلى
كيفية استدلالهم في المسائل الفقهية. ومن ملاحظة ما قرره السيد في الذريعة
والشيخ في العدة والمحقق في المعارج: بأن للعامي تقليد العالم والأخذ بقوله،
وحكينا (1) الاجماع عليه.
وبالجملة: أن اختيار هؤلاء لطريقة المجتهدين أمر واضح، يكاد يلحق
بالضروريات. فالاستناد إلى ما يوهمه العبارة المذكورة لدفعهم طريقة الاجتهاد
واختيارهم مذهب الأخباريين من العجائب. وحيث إنهم لم يقرروا خلافا بين

(1) في " ق " حكيا.
686

الشيعة في الطريقة على حسب ما وقع الاختلاف فيه بين المتأخرين ولا أشاروا
إلى ذلك في شئ من كتبهم الأصولية - كالذريعة والعدة والغنية والمعارج وكتب
العلامة وغيرها - دل ذلك على انتفاء الخلاف في ذلك وإن اختلفوا في بعض
الخصوصيات حسب ما بينوا كلا منها في محله.
فما ذهب إليه الأخبارية من متأخري علمائنا: من حرمة العمل بالأدلة الظنية
مطلقا ووجوب تحصيل العلم بالأحكام وانفتاح سبيله على المكلفين في المسائل
الشرعية، والمنع من التقليد بالمرة، فالظاهر أنه مذهب جديد لم يذهب إليه أحد
من علمائنا المتقدمين قد أحدثه مولانا محمد أمين الاسترآبادي، لزعمه أنه
مذهب قدمائنا، أخذا بما يوهمه بعض إطلاقاتهم من غير إمعان النظر فيما حاولوا
من ذلك، ولشبهات عرضت له قد عجز عن حلها، وزعم أنها أدلة على الطريقة
التي سلكها وسنشير إليها، ونوضح القول في فسادها إن شاء الله. كيف! ولو كان
ذلك مذهبا معروفا بين علماء الشيعة لذكروه في الكتب الأصولية وأشاروا إلى من
خالف فيه.
فإن قلت: إن علماء الشيعة قد كانوا من قديم الزمان على صنفين: أخباري،
وأصولي، كما أشار إليه العلامة في النهاية وغيره.
قلت: إنه وإن كان المتقدمون من علمائنا أيضا على صنفين، وكان فيهم
أخبارية يعملون بمتون الأخبار، إلا أنه لم يكن طريقتهم ما زعمه هؤلاء، بل لم
يكن الاختلاف بينهم وبين الأصولية إلا في سعة الباع في التفريعات الفقهية وقوة
النظر في القواعد الكلية والاقتدار على تفريع الفروع عليها.
فقد كانت طائفة منهم أرباب النصوص ورواة الأخبار، ولم يكن طريقتهم
التعدي عن مضامين الروايات وموارد النصوص، بل كانوا يفتون غالبا على طبق
ما يروون، ويحكمون على وفق متون الأخبار في المسائل المتعلقة بالفروع
والأصول، ولم يكن كثير منهم من أهل النظر والتعمق في المسائل العلمية ممن له
سعة باع في الاقتدار على الاستدلال في المسائل الكلامية والفروع الفقهية وإن
687

تصدوا لذلك أحيانا عند مسيس الحاجة، وهؤلاء لا يتعرضون غالبا للفروع الغير
المنصوصة وهم المعروفون بالأخبارية.
وطائفة منهم أرباب النظر والبحث عن المسائل، وأصحاب التحقيق والتدقيق
في استعلام الأحكام من الدلائل، ولهم الاقتدار على تأصيل الأصول والقواعد
الكلية عن الأدلة القائمة عليها في الشريعة، والتسلط على تفريع الفروع عليها
واستخراج أحكامها منها، وهم الأصوليون منهم: كالعماني والإسكافي وشيخنا
المفيد وسيدنا المرتضى والشيخ قدس الله أرواحهم وغيرهم ممن يحذو حذوهم.
وأنت إذا تأملت لا تجد فرقا بين الطريقتين إلا من جهة كون هؤلاء أرباب
التحقيق في المطالب، وأصحاب النظر الدقيق في استنباط المقاصد، وتفريع
الفروع على القواعد، ولذا اتسعت دائرتهم في البحث والنظر، وأكثروا من بيان
الفروع والمسائل، وتعدوا عن متون الأخبار إلى ما يستفاد منها بالفحوى أو
بطريق الالتزام أو غيرهما. وأولئك المحدثون ليسوا غالبا بتلك القوة من الملكة
وذلك التمكن من الفن، فلذا اقتصروا على ظواهر الروايات ولم يتعدوا غالبا عن
ظاهر مضامينها، ولم يوسعوا الدائرة في التفريعات على القواعد، وإنهم لما كانوا
في أوائل انتشار الفقه وظهور المذهب كان من شأنهم تنقيح أصول الأحكام التي
عمدتها الأخبار المأثورة عن العترة الطاهرة، فلم يتمكنوا من مزيد إمعان النظر في
مضامينها، وتكثير الفروع المتفرعة عليها. ثم إن ذلك إنما حصلت بتلاحق الأفكار
في الأزمنة المتأخرة، ولا زالت تتزايد بتلاحق الأعصار وتزايد الأفكار.
هذا، وقد ظهر مما ذكرناه: أن ما حكاه عن ضرير وأضرابه من اقتصارهم على
موارد النصوص مما لا منافاة فيه لما ذكرنا، مع ما هناك من البون البعيد بيننا وبين
أولئك، لكونهم في عصر الإمام (عليه السلام) وعدم احتياجهم في كثير من المسائل إلى
الاجتهاد، على أنه لا يبعد أن يكون مقصوده بذلك عدم احتياجه في استنباط
الأحكام الشرعية إلى القياس ونحوه من التخريجات العقلية الظنية مما لا يستند
688

إلى صاحب الشريعة، ويؤيده أنه قد روى الكشي (رحمه الله) عنه (1) وهذا يشير إلى عمله
بظاهر الكتاب من دون حاجة إلى ورود رواية في تفسيره، وأخذه بما يتفرع عليه
من الفروعات وعدم اقتصاره في الأحكام على موارد الأخبار.
وظهر أيضا مما بيناه: أن تصانيفهم المتعلقة برد الاجتهاد وبيان المنع منه مما
لا ربط له بما نحن فيه، إذ المقصود هناك على ما عرفته هو رد ما عليه العامة العميا
من الرجوع إلى القياس أو غيره من سائر الوجوه التخريجية والاستحسانات
العقلية الغير المستندة إلى صاحب الشريعة، واشتراك ذلك وما نحن فيه في إطلاق
لفظ " الاجتهاد " عليه لا يوجب سريان المنع إلى الاجتهاد بالمعنى المقصود في
المقام وهو واضح.
ومنها: نصوص الكتاب الدالة على المنع من الأخذ بالظن، والروايات
المتكثرة بل المتواترة الدالة على لزوم الأخذ بالعلم وعدم جواز الحكم بالظن، وما
دل على عدم جواز الإفتاء بالرأي، مثل قوله: اتقوا الله ولا تفتوا الناس بما لا
تعلمون (2). وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): إياك أن تدين الله وتفتي الناس بما لا تعلم (3).
وقوله (عليه السلام): إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا وإذا جاءكم ما لا تعلمون فها (4). ووضع
يده على فيه. وقوله (عليه السلام): رجل قضى بحق وهو لا يعلم فهو في النار (5). وقوله (عليه السلام):
من أفتى الناس وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه فقد هلك
وأهلك (6). وقوله (عليه السلام): من دان الله بالرأي لم يزل دهره في التباس (7). وقول

(1) بياض في الأصل.
(2) البحار: ج 2 ص 113 ح 1، وفيه عن أمير المؤمنين (عليه السلام).
(3) الكافي: ج 1 ص 42 ذيل ح 1، وفيه: عن أبي عبد الله، وهكذا لفظه " أنهاك أن تدين الله
بالباطل وتفتي الناس بما لا تعلم ".
(4) وسائل الشيعة: ج 18 باب 6 من أبواب صفات القاضي ص 23 ح 3.
(5) وسائل الشيعة: ج 18 باب 4 من أبواب صفات القاضي ص 11 ح 6.
(6) الكافي: ج 1 ص 43 ذيل ح 9.
(7) وسائل الشيعة: ج 18 باب 6 من أبواب صفات القاضي ص 25 ح 11، وفيه ارتماس.
689

الباقر (عليه السلام): من أفتى برأيه فقد دان الله بما لا يعلم (1). وقول الصادق (عليه السلام) فيما رواه
محمد بن مسلم وقد قال له: إن قوما من أصحابنا قد تفقهوا وأصابوا علما، ورووا
أحاديث فيرد عليهم، ويقولون برأيهم فقال: لا وهل هلك من مضى إلا بهذا
وأشباهه (2). وقوله (عليه السلام) فيما رواه ابن مسكان عن حبيب قال: قال لنا أبو
عبد الله (عليه السلام): إن الناس سلكوا سبلا شتى، فمنهم من أخذ بهواه، ومنهم من أخذ
برأيه، وإنكم أخذتم بما له أصل (3)، يعني بالكتاب والسنة، وقوله (عليه السلام): إياكم
وأصحاب الرأي فإنهم أعيتهم السنن أن يحفظوها فقالوا في الحلال والحرام
برأيهم، فأحلوا ما حرم الله (4). وقوله (عليه السلام) في أصحاب الرأي: استغنوا بحملهم (5)
وتدابيرهم من علم الله واكتفوا بذلك دون رسوله، والقوام بأمره، وقالوا لا شئ إلا
أدركته عقولنا وعرفته ألبابنا وأما هم ماتوا (6) وأهملهم وخذلهم حتى صاروا عبدة
أنفسهم من حيث لا يشعرون (7). وقوله (عليه السلام): إياك أن تفتي الناس برأيك، أو تدين
بما لا تعلم (8) إلى غير ذلك من الأخبار.
فالمستفاد من هذه الروايات وما يفيد مفادها عدم جواز الاجتهاد في
الأحكام الشرعية، والمنع من العمل بالاستنباطات الظنية.
قال في الفوائد الطوسية: إن الأخبار في هذا المعنى قد تجاوزت حد التواتر،
وقد جمعنا منها في مواضع اخر أكثر من ألف حديث.
وفيه أما أولا: فبأن المراد بالآيات والروايات الدالة على وجوب الرجوع إلى
العلم وعدم جواز الأخذ بالظن، هو عدم الاكتفاء في الحكم والإفتاء بالظن من

(1) وسائل الشيعة: ج 18 باب 6 من أبواب صفات القاضي ص 25 ح 12.
(2) البحار: ج 2 ص 305 ح 51.
(3) وسائل الشيعة: ج 18 باب 6 من أبواب صفات القاضي ص 31 ح 31.
(4) البحار: ج 2 ص 308 ح 69.
(5) كذا، والظاهر: بحيلهم - في الوسائل بجهلهم.
(6) بياض في الأصل.
(7) وسائل الشيعة: ج 18 باب 6 من أبواب صفات القاضي ص 32 ضمن ح 32.
(8) وسائل الشيعة: ج 18 باب 4 من أبواب صفات القاضي ص 10 ح 3.
690

حيث إنه ظن. وأما بعد الأول إلى العلم وقيام الدليل القاطع على تعيين العمل
بالوجوه المقررة أفادت العلم بالواقع أو لم تفد، فلا ريب أن الفتوى والعمل إنما
يكون حينئذ بالعلم دون غيره، فلا تندرج الصورة المفروضة في شئ من الآيات
والروايات المذكورة لعلم المفتي (1) والعامل بكون ذلك هو المقصود منه في
الشريعة والمكلف به في حكم الشرع وإن لم يعلم بكون ذلك هو الحكم الأولي.
وقد أشار إلى ذلك الشيخ في العدة كما مر، والأخبار المانعة عن الفتوى
بالرأي إنما يراد بها ما تداولته العامة أو ما بمعناه من الاستحسان ونحوه. وأما
الرجوع إلى الكتاب والسنة وسائر الأصول المقررة في الشريعة فليس من
الرجوع إلى الرأي أصلا وإن لم يستفد منها العلم بالواقع، سيما بعد قيام الدليل
القاطع على وجوب الأخذ بها كما هو المدعى.
وأما ثانيا: فبأن تلك الروايات وإن سلم كونها متواترة لكن دلالتها على ما
ذكر ليست قطعية، فلو لم نقل بأن الظاهر منها النهي عن الأخذ بما لا يعلم تجويز
الشارع الأخذ به فلا أقل من احتمال ذلك ولو احتمالا مرجوحا. وكذا يحتمل
ورود التقييد على تلك الإطلاقات فلا يزيد مفادها على الظن، ففي الاستناد إليها
على المدعى إبطال لأصل الدعوى.
وأما ثالثا: فبأنه لو سلم دلالتها على ذلك وجواز الاستناد إليها فيما ذكر، فلا
مانع من ورود التقييد عليها بعد ثبوت المقيد.
ومن البين: أن القائل بحجية الظنون الخاصة أو مطلق المظنة حين انسداد
سبيل العلم به إنما يقول به بدليل قطعي، لما عرفت من عدم حجية الظن من حيث
إنه ظن من غير خلاف ظاهر فيه، وظاهر أنه بعد ثبوته بالدليل لا وجه للاستناد
إلى الإطلاق.
ومنها: ما دل عليه الأخبار المتواترة بل ضرورة دين الاسلام من أن حلال
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة، فإن ذلك ينافي

(1) بياض في الأصل.
691

جواز الأخذ بالأدلة الظنية، ضرورة أن الظن مما يتغير ويتبدل، وحرام الله وحلاله
مما لا تغير فيه ولا تبديل.
وقد قرر بعضهم هذا الوجه بهذه الصورة، وهي: أن كل حكم اجتهادي قابل
للتغيير، وكل حكم قابل للتغيير مخالف للشريعة الإسلامية الأبدية، فينتج أن كل
حكم اجتهادي مخالف للشريعة الإسلامية.
ووهنه واضح، أما أولا: فبأنه منقوض بما يحكم به الأخباريون، لجواز
الرجوع عن الحكم بالنسبة إليهم أيضا، كما إذا عملوا بالعموم ثم عثروا بعد ذلك
على خبر يخصصه، أو فهموا أولا من الخبر حكما ثم عدلوا عن فهمهم. وإنكار
إمكان ذلك في شأنهم مكابرة ظاهرة. وحينئذ فنقول: إن حكم الأخباري قابل
للتغيير إلى آخر ما ذكر.
وأما ثانيا: فبأنه لو تم فإنما يتم لو قلنا بكون ما يفيد الظن هو حكم الله
الواقعي ليكون الأخذ بالظنون هو المطلوب الأول. وأما إذا قلنا بكون الأخذ به
مطلوبا من حيث كشفه عن الواقع وكونه طريقا إليه - ليكون حكما ظاهريا كما هو
المذهب عندنا - فلا، إذ تغيير الأحكام الظاهرية غير عزيز في الشريعة. وقد اتفق
عليه الفريقان، كما إذا وجد شيئا في أسواق المسلمين فحكم بحله ثم علم بعد ذلك
كونه حراما، أو أخذ لحما من يد مسلم ثم علم كونه لحم خنزير أو ميتة، فإن حكمه
بالحل أولا حكم ظاهري قد انكشف بعد ذلك خلافه. ولو جعل كل من الحل
والحرمة المتعلقين بالموضوع الواحد حكما واقعيا في المقام فمع وضوح فساده
يجري الدليل المذكور بالنسبة إليه أيضا، فلا بد من الالتزام بفساده والقول بعدم
جواز الأخذ بأحد الحكمين المذكورين، وهو واضح الفساد.
فظهر أنه لا دلالة لأبدية الأحكام على عدم جواز الأخذ بالاجتهاد القابل
للتغيير، إذ لا يتوهم أحد نسخ الحكم بعد رجوع المجتهد عنه حتى يلزم انقطاع
الحكم وخروجه عن التأبيد، بل ليس اختلاف الحكم من جهة الاختلاف في
الاجتهاد والرجوع عن الحكم الأول إلا ظاهريا، كاختلاف الحاصل في الحكم
692

المتعلق بالموضوع الواحد من جهة انكشاف خلاف ما ثبت أولا، كما عرفت في
المثال المذكور، فكما يحكم هناك بالحل في وقت وبالحرمة في وقت آخر مع
كون الحكم الواقعي المتعلق بذلك الموضوع المعين شيئا واحدا لا يختلف بحسب
اختلاف العلم والجهل به فكذا في المقام، وكما أن ذلك لا يقضي بانقطاع حكم
الشريعة وخروجه عن التأبيد فكذا الحال في محل الكلام.
وأما ثالثا: فبأنه إن أراد بقوله " كل حكم اجتهادي قابل للتغيير " أنه قابل
للتغيير بالنسبة إلى الموضوع المفروض حينئذ مع جميع خصوصياته فممنوع،
ضرورة أنه ما دام المجتهد باقيا على حاله الأول لا يمكن تغيير ذلك الحكم في
شأنه أصلا. وإن أراد أنه قابل للتغيير في الجملة ولو بسبب تغير حاله، كأن يصير
ظانا بخلاف ما ظنه أولا فمسلم ولا مانع منه، ضرورة أن أبدية الأحكام لا تقضي
بعدم اختلافها بحسب اختلاف أحوال المكلفين. كيف! واختلاف صلاة الحاضر
والمسافر، والصحيح والمريض، والقادر والعاجز، من الضروريات، ولا منافاة فيه
لأبدية الأحكام الثابتة بالضرورة أصلا فكذا الحال في المقام.
وأما رابعا: فبأنه إن أراد بكون كل حكم اجتهادي قابلا للتغيير أن ما يحكم به
المجتهدون من الأحكام قابل للتغيير فهو ممنوع، بل فاسد، لأن ما يدركه من
الأحكام غير قابل للتغيير عما هو عليه، فإنه إن كان ما أدركه مطابقا للواقع لم يكن
قابلا للتغيير عما هو عليه وإن أدرك بعد ذلك خلافه. غاية الأمر أن يكون معذورا
في خطئه فيه ثانيا، وإن كان غير مطابق للواقع فكذلك أيضا، غاية الأمر أن يكون
معذورا في خطئه فيه أولا.
وإن أراد به أن نفس حكمه وإدراكه قابل للتغيير، بأن يدرك ثانيا خلاف ما
أدركه أولا فيزول إدراكه الأول ويخلفه الثاني فمسلم، ولا يلزم من ذلك أن يكون
إدراكه مطلقا منافيا للشريعة الأبدية، كما هو قضية الكلية المدعاة، إذ قبول
الإدراك للتغيير إنما يقضي بعدم الملازمة بينه وبين إصابة الواقع، لأنه لا يكون
مصيبا للواقع مطلقا. وحينئذ فأقصى ما يلزم من الدليل المذكور أن ظنون
693

المجتهدين قد تصيب الواقع وقد تخطئه. وهذا مما اتفق عليه أصحابنا واتفقوا مع
ذلك على وجوب العمل بظنه، إذ لا منافاة بين عدم إصابة الظن للواقع ووجوب
العمل بمؤداه، كما هو الحال في سائر الطرق المقررة في الشريعة فلا تغفل.
ومنها: أن الدليل الدال على وجوب عصمة الإمام (عليه السلام) قاض بعدم جواز
الرجوع إلى الظن، فإنهم قالوا باعتبار العصمة في الإمام (عليه السلام) من جهة حصول
الاعتماد بقوله والوثوق بما يؤديه. فقضية ذلك أن لا يجب اتباع ما لا يقطع
مصادفته للواقع ويحتمل فيه انتفاء الإصابة نظرا إلى العلة المذكورة، فكما أن جعل
الإمام حجة يقضي بعصمته فيكون كلامه مفيدا للقطع وحجة قاطعة للعذر في
الكشف عن الواقع، كذا كون سائر الوجوه والأدلة حجة على المكلف يتوقف على
كونها مفيدة للقطع كاشفة عن الواقع ليكون قاطعة لعذر المكلف.
ومن البين أن رأي المجتهد مما لا وثوق بكشفه عن الواقع بالنسبة إلى
المجتهد نفسه فكيف لغيره.
وفيه أولا: أن ذلك منقوض بما يذهب إليه الأخبارية من جواز رجوع
الجاهل إلى العالم والبصير بالأخبار، وكذا اعتماد العالم بقول الثقة.
ومن البين أن قول الواحد لا يفيد العلم بالواقع ولو فرضنا حصول العلم
بوثاقته بالمعاشرة الباطنة الموصلة إلى درجة اليقين بالعدالة مع أنه في كمال
الندرة، لعدم بلوغه بذلك إلى درجة العصمة. كيف! ولو كان كذلك لاكتفى بذلك في
الإمام أيضا فكيف مع الاكتفاء فيها بحسن الظاهر كما هو المذهب، إذ لا يقطع معه
بحصول العدالة فضلا عن القطع بمطابقة ما يحكيه للواقع. فلو تم ما ذكروه لقضى
باعتبار العصمة في الوسائط التي بين المكلف وبين الإمام في زمان الحضور وفي
أزمنة الغيبة، مضافا إلى أن القواعد المقررة في الشريعة لاستكشاف أحكام
الموضوعات - كأصالة طهارة الماء، وأصالة صحة فعل المسلم، وقبول إخبار ذي
اليد ونحوها - لا يفيد قطعا، مع أن الشارع حكم بجواز الرجوع إليها اتفاقا من
الفريقين، بل إجماعا من المسلمين. وكذا الحال في استصحاب حكم العموم إلى
694

أن يأتي المخصص، واستصحاب الحكم الثابت إلى أن يثبت نسخه. ولو قيل
بحصول القطع هناك بتجويز الشرع فهو بعينه جار في المقام، إذ القائلون بحجية
الظن إنما يقولون به لقيام الدليل القاطع عليه لا بمجرد كونه ظنا.
وثانيا: بالفرق الظاهر بين الإمام والمجتهد، فإن الإمام (عليه السلام) أمين الله على
كافة الأنام وله الرئاسة العامة ووجوب الطاعة على الخاص والعام وهو مرجع
الجميع في استفادة الأحكام، ومع ذلك لا يستند في العلم بها إلى الأسباب
الظاهرة.
ومن البين أن مجرد العدالة غير كاف في اطمئنان النفس بمثل ذلك، إذ لا
تطمئن بقول العدل إذا ادعى شيئا خارجا عن المعتاد خارقا للعادة الجارية بين
الناس، بل يتسارع الظنون إليه بالتهمة.
نعم لو دل الدليل على عصمته كان قوله برهانا قاطعا لا مجال لإنكاره.
فالفرق بينه وبين المجتهد ظاهر من وجوه شتى فاعتبار العصمة فيه لا يقضي
باعتبارها في المجتهد الذي هو بمنزلة الراوي عنهم (عليهم السلام)، ولا يكون السبيل الذي
يستنبطه ذلك المجتهد قطعيا بعد القطع بوجوب العمل بمؤداه.
ومنها: أن فتح سبيل العلم على المكلفين وتكليفهم بالعلم بالأحكام من
اللطف، فيجب أن يكون حاصلا لوجوب اللطف على الله تعالى. أما الصغرى فلما
فيه من تقريب العبد إلى الطاعة وإبعاده عن المعصية ما ليس في الظن، لوضوح أن
اليقين أدعى إلى تحصيل الامتثال من الظن. وأما الكبرى فظاهرة.
والجواب عنه أما أولا: فبأن العلم والظن مشتركان فيما ذكر إذا كان الظن
منتهيا إلى اليقين كما هو المفروض في المقام، لظهور كون المكلف في مقام العمل
عالما بالتكليف قاطعا به.
نعم لو قيل بابتناء التكليف على الظن من حيث إنه ظن لربما أمكن التمسك
في دفعه بما ذكر. فظهر بذلك فساد ما قد يقال: إنه مع كون المسألة ظنية لا ركون (1)

(1) في النسخ: لا كون على ترتب.
695

على ترتب الثواب أو العقاب ليكون ذلك داعيا إلى الإقدام والإحجام، نظرا إلى
وضوح ترتب الثواب أو العقاب على مخالفة الأحكام الظاهرية لقيامها مقام
الواقعية. بل قد يقال بإناطة الثواب والعقاب مدار التكليف الظاهري سواء طابق
الواقع أو لا وإن أمكن القول باختلاف الثواب والعقاب مع المطابقة وعدمها، وذلك
لا يستلزم التصويب كما لا يخفى.
وأما ثانيا: فبالمنع من كلية الكبرى، إذ ليس كل لطف واجبا عليه تعالى. كيف!
وظهور الإمام (عليه السلام) من اللطف على الوجه المذكور قطعا. ودفع أهل الفساد
المانعين من تمكنه من اللطف كذلك فيكون واجبا عليه تعالى مع أن المعلوم
خلافه، فلا مانع من أن يكون البناء على الظن في أزمنة الغيبة وانقطاع اليد عن
الرجوع إلى الأئمة (عليهم السلام) من قبيل ذلك. بل يمكن أن يكون ذلك من فروعه، حيث
إن انسداد سبيل العلم إنما جاء من جهة غيبة الإمام (عليه السلام) وخفاء طرق الأحكام
فيكون الأمران من قبيل واحد، مضافا إلى أن كون التكليف بالعلم لطفا محل منع،
بل قد يقال بأن عدم إلزام المكلفين بتحصيل اليقين في خصوصيات التكاليف هو
اللطف، لما في إناطة التكليف بخصوص العلم بالأحكام من الحرج التام، ولذا
اكتفى الشارع في زمانه عن المكلفين بالأخذ بعدة من الطرق الظنية مع انفتاح
سبيل العلم حينئذ كما أشرنا إليه في محله.
ومنها: أن الظن مداركه مختلفة غير جارية على وجوه منضبطة فلا يكون
الأحكام المبتنية عليها جارية على قانون واحد بل يختلف جدا بحسب اختلاف
الآراء، ومثل ذلك لا يصلح أن يكون مدارا للتكليف سيما بالنسبة إلى عامة الأنام
إلى قيام القيام.
ويوهنه: أن ذلك لو تم فإنما يتم لو قلنا بكون المرجع هو مطلق الظن من أي
طريق. وأما إذا قلنا بكون المناط هو الأخذ بظنيات خاصة والتمسك بقواعد
مخصوصة منضبطة كما هو المختار فلا، مضافا إلى أن ذلك وجه استحساني لا
يصلح حجة لتأسيس حكم شرعي، وأي مانع من اختلاف التكاليف في ظاهر
الشريعة على حسب اختلاف الظنون وإن كان الحكم الواقعي أمرا واحدا.
696

ومنها: أنه يتفرع على بناء التكاليف على الظنون وجوه من الفساد: من إثارة
الفتن وإقامة الحروب وسفك الدماء ونحوها، فلا يقع التكليف به من الحكيم. كيف!
وذلك من شبهات العامة في الاعتذار عما صدر من سلفهم من وجوه الفساد في
الاسلام من إثارة الحروب وسفك الدماء وهتك الأعراض ونهب الأموال وغيرها.
ويدفعه: أن الأخذ بالطرق الظنية الشرعية على الوجه المعتبر في الشريعة لا
يفضي إلى شئ من ذلك، بل نقول: إنها في الانضباط ليست دون الوجوه العلمية.
وجعل الاجتهاد الشرعي عذرا لإقدام أولئك على الفساد لا يقضي بفساد الرجوع
إلى الاجتهاد، مع وضوح فساد دعواهم في ذلك الاستناد. كيف! وربما يعتذرون
لهم بقطع كل منهم بشرعية ما يأتي به من الفساد، مضافا إلى اتفاق الفريقين على
جواز العمل بالظن في الجملة بالنظر إلى الموضوعات. وإثارة الفتن وإقامة
الحروب ونحوها إنما يتفرع في الغالب على ذلك دون نفس الأحكام الشرعية،
واعتذار العامة عن سلفهم إنما هو بالنسبة إلى ذلك غالبا، فلو تم ذلك لقضى بعدم
جواز الرجوع إلى الظن في ذلك ولا قائل به.
ومنها: أن الاجتهاد أمر خفي لابتنائه على الاستنباطات الخفية وعلى الملكة
التي يقتدر بها على استنباط حكم المسألة وهي أيضا من الأمور الخفية النفسية،
فلا يمكن أن يكون مناطا للأحكام الشرعية سيما بالنسبة إلى جميع الأمة.
ووهنه واضح، إذ لا خفاء في شئ من ذلك عند المجتهد، والعامي ليس وظيفته
الرجوع إلى الأدلة، فلا ربط لخفاء وجوه الاستنباط لذلك، وعلمه بكون من يقلده
بالغا درجة الاجتهاد يحصل بالرجوع إلى أهل الخبرة أو بغيره مما يجئ الإشارة
إليه. فنفس الملكة وإن لم تكن ظاهرة إلا أن الطريق أمر ظاهر كما هو الحال في
العدالة وغيرها من الملكات، مضافا إلى جريان ذلك على طريقة الأخباريين
أيضا، إذ لا بد عند المحققين منهم في الرجوع إلى الأدلة الشرعية من الاقتدار على
فهم الأخبار والجمع بينها والتمكن من رد الفروع إلى الأصول، وذلك أيضا من
الأمور النفسية الغير الظاهرة. فلو كان ذلك مانعا لجرى في كل من الطريقتين.
697

- المسألة الثانية - (1)
أنهم اختلفوا في وجوب تجديد النظر على المجتهد عند تجدد الواقعة التي
اجتهد في حكمها وجواز بقائه على مقتضى اجتهاده الأول إلى أن ينساه أو يتغير
رأيه عنه فيجوز له الإفتاء باجتهاده السابق في الوقائع المتأخرة من غير حاجة
إلى اجتهاد آخر على أقوال:
ثالثها: التفصيل بين نسيان دليل المسألة وعدمه فيجب عليه تجديد الاجتهاد
في الأول دون الثاني، ذهب إليه المحقق والسيد العميدي، وحكي القول به عن
الإمام والآمدي، وعزاه في النهاية إلى قوم، وقال العلامة في قواعده أنه تفصيل
حسن يقرب من قواعدهم الفقهية.
رابعها: التفصيل بين ما إذا قويت قوته في الاستنباط لكثرة الممارسة
والاطلاع على وجوه الأدلة وعدمها فيجب على الأول دون الثاني، وقد نفى عنه
البعد في الزبدة، ومال إليه الفاضل الجواد في شرحها.
والمحكي عليه الشهرة بين الأصوليين من أصحابنا والعامة هو القول بعدم
وجوب تجديد النظر مطلقا وقد احتجوا عليه بوجوه:
أحدها: استصحاب الحكم الثابت بالاجتهاد الأول.
ثانيها: حصول ما وجب عليه من الاجتهاد بالمرة الأولى نظرا إلى تعلق
الوجوب بالطبيعة وحصول الطبيعة بالمرة. ووجوب الإتيان به مرة أخرى يحتاج
إلى قيام دليل عليه عدا ما دل على وجوب أصل الاجتهاد، وحيث لم يقم دليل
آخر عليه قضى ذلك بالاجتزاء بالمرة الأولى.
وغاية ما يتخيل لاحتمال وجوب التجديد إمكان اطلاعه على ما لم يطلع
عليه في الاجتهاد السابق وهو مع عدم قيام دليل على منعه من الحكم، مدفوع
بالأصل، على أنه لو كان مانعا من الحكم لجرى بالنسبة إلى الواقعة الأولى، مع أنه
لا يجب تكرار النظر بالنظر إليها بالاتفاق.

(1) المناسب " ثانيها " يعني ثاني الأمور، تقدم أولها بلفظ " أحدها " في ص 673.
698

ثالثها: أن القول بوجوب تجديد النظر موجب للعسر العظيم والحرج الشديد
المنفى في الشريعة نظرا إلى شيوع تكرر الوقائع سيما فيما يعم به البلوى، فوجوب
تكرر الاجتهاد بحسبها باعث على ما ذكرنا.
رابعها: جريان السيرة المستمرة على عدم وجوب التكرار، ولذا لو سئل
مجتهد عن المسألة التي اجتهد فيها مرات عديدة لم يتوقف عن الإفتاء في غير
المرة الأولى بل يفتي أخرى بما ذهب إليه ولا من غير تأمل أصلا. وربما يستدل له
أيضا بإطلاق ما دل على حجية كل من الأدلة الشرعية، فإن قضية ما دل على ذلك
هو جواز الرجوع إلى كل منها والأخذ بما يدل عليه من غير حاجة إلى البحث عما
يعارضه خرج عن ذلك ما إذا كان الرجوع إليه قبل البحث عن الأدلة والاجتهاد
في تحصيل حكم المسألة نظرا إلى ما دل على وجوب استفراغ الوسع في ملاحظة
الأدلة، فيبقى غير تلك الصورة مندرجا تحت الأدلة المذكورة فلا يجب الاجتهاد
ثانيا وإن زادت القوة أو نسي ما لاحظه من تفصيل الأدلة.
وأنت خبير بوهن ذلك لعدم انطباقه على المدعى، فإن أقصى ما يدل عليه
الاكتفاء حينئذ في الاستدلال بمجرد الرجوع إلى أحد الأدلة المذكورة من غير
حاجة إلى البحث عما يعارضها، وأين ذلك عن المدعى، على أن الظاهر قيام
الاجماع على وجوب البحث عن المعارض على فرض الاستدلال بتلك الأدلة
والأخذ بها، وعلى القول بعدم وجوب تجديد النظر لا حاجة إلى الرجوع إلى أحد
الأدلة المذكورة أيضا، مضافا إلى أن ذلك لا يوافق القول بحجية الظنون الخاصة
حيث إنه أقيم الدليل حينئذ على حجية كل واحد منها.
وأما على القول بحجية مطلق الظن فإنما قام الدليل على الرجوع إلى الظن بعد
بذل الوسع والاجتهاد في تحصيل الأدلة، فحينئذ يبقى الكلام في اعتبار الإتيان
بالاجتهاد المذكور بالنسبة إلى كل واقعة أو يكتفي باجتهاد واحد للجميع، وليس
هناك ما يدل على الثاني لو لم نقل باقتضائه الوجه الأول فتأمل هذا.
ويرد على الأول: أن الاستصحاب إنما يكون حجة عند عدم قيام دليل شرعي
699

ولو ظاهر عموم أو إطلاق على خلافه، فلذا لا يقاوم الاستصحاب شيئا من
الظواهر والإطلاقات.
وحينئذ فنقول: إن قضية العمومات والإطلاقات الدالة على عدم جواز الأخذ
بالظن هو عدم جواز الرجوع إليه والعمل به في شئ من الأحوال والأزمان،
خرج عن ذلك ظن المجتهد المطلق بالنسبة إلى الإفتاء الحاصل عقيب الاجتهاد.
وأما العمل به بعد الحكم الأول فمما لا إجماع عليه، وقضية تلك الإطلاقات
هو المنع من الأخذ به والحكم ثانيا بمقتضاه فلا يصح الخروج عن مقتضاه بما ذكر
من الاستصحاب.
ويمكن دفعه: بأن قضية تلك الإطلاقات عدم حجية الظن من حيث هو مع
عدم قيام دليل شرعي قاطع على جواز الرجوع إليه، لوضوح أنه مع قيام الدليل
عليه يكون الاتكال على العلم دون الظن، كما مرت الإشارة إليه. فإذا قضى
الاستصحاب بجواز الرجوع إليه كفى في المقام، إذ لا معارضة إذن بينه وبين تلك
الإطلاقات حيث إنها لم تدل إلا على عدم جواز الرجوع إلى كل ظن لم يقم دليل
على حجيته، فبعد قضاء الدليل بحجية الاستصحاب وقضاء الاستصحاب بحجية
الظن المذكور لا يكون الاتكال في المقام على الظن، بل على الدليل القاطع الذي
ينتهي إليه الظن المذكور. فهذا غاية ما يوجه به التمسك بالاستصحاب في المقام،
وفيه تأمل.
وعلى الثاني: أن جواز الحكم والإفتاء بمجرد الظن على خلاف الأصل خرج
عنه ما إذا وقع ذلك عقيب الاجتهاد لقيام الاجماع عليه، فيبقى غيره تحت قاعدة
المنع، إذ لا دليل على جواز الحكم حينئذ عند تجدد الواقعة من غير تجدد النظر.
وعلى الثالث: أنه إن سلم فإنما ينفي وجوب تجديد النظر مطلقا دون القول
بالتفصيل. ومثله يرد على الرابع أيضا، لعدم وضوح قيام السيرة مع نسيان دليل
المسألة أو زيادة القوة زيادة ظاهرة يحتمل بسببها عثوره على دليل آخر أو
استدراك وجه آخر للاستنباط.
700

حجة القول بوجوب تجديد النظر مطلقا، أنه يحتمل حينئذ تغير اجتهاده بعد
تجديد نظره، كما يتفق في كثير من المسائل الظنية، ومع الاحتمال المذكور لا بقاء
للظن، فلا بد ثانيا من استكشاف الحال لدفع هذا الاحتمال.
ويدفعه أولا: النقض بقيام الاحتمال المذكور قبل إفتائه في الواقعة الأولى
أيضا، فلو صح ما ذكر لزم تكرر النظر بالنسبة إليها أيضا، وهو باطل اتفاقا كما نص
عليه العضدي، وهو الظاهر من ملاحظة كلماتهم.
وثانيا: بالمنع من كون قيام الاحتمال المذكور مانعا من حصول الظن، وهو
ظاهر جدا.
قلت: ويمكن الاحتجاج للقول المذكور بالإطلاقات المانعة عن العمل بالظن
حسب ما عرفت بيانه، وحينئذ يتوقف دفعه على إثبات الجواز بالدليل، فالقاعدة
إذن قاضية بوجوب تجديد النظر إلى أن يثبت خلافه.
حجة القول الثالث: العمومات الدالة على المنع من الأخذ بالظن خرج عنه
صورة تذكر الدليل لما دل على حجية ذلك الدليل ووجوب الأخذ بمقتضاه، فيبقى
الباقي تحت دليل المنع. وأيضا من لم يذكر دليل المسألة لم يكن حكمه فيها
مستندا إلى الدليل فيكون محظورا، الوضوح حرمة الحكم من غير دليل.
ويرد على الأول: أنه إن سلم قيام الدليل على حجية الأدلة التي استند إليها
في الحكم للواقعة الأولى بالنسبة إلى سائر الوقائع أيضا كان ذلك الاجتهاد كافيا
في الحكم للجميع من غير حاجة إلى تجديد الاجتهاد، ولا فرق حينئذ بين نسيان
الدليل وتذكره، إذ المفروض نسيان خصوصية الدليل. وأما كون الحكم مستندا إلى
الحجة الشرعية فالمفروض علمه به، هو كاف في جواز الأخذ به.
وإن قلنا بأن القدر الثابت حجية تلك الأدلة نظرا إلى تلك الملاحظة بالنسبة
إلى حكم الواقعة الأولى دون غيرها، فلا فرق أيضا في عدم جواز الاستناد إليه
بين تذكر الدليل على سبيل التفصيل وعدمه.
وعلى الثاني: أنه إنما يتم إذا لم يذكر استناد الحكم إلى الدليل بأن احتمل عدم
701

استناده إلى الدليل رأسا، وأما إذا علم استناده إلى الدليل إجمالا لكن لم يذكر
تفصيل الدليل على ما هو المفروض في المقام فليس الحكم به حكما بغير دليل،
لوضوح كونه حينئذ حاصلا عن الدليل مستندا إليه وإن لم يذكر حين الحكم
تفصيله، كيف ولو كان ذلك مانعا عن الحكم لكان نسيان تفصيل الدليل قبل حكمه
في الواقعة الأولى مانعا عن الاعتماد عليه بالنسبة إليها أيضا، ولا قائل به ظاهرا.
حجة القول الرابع: أن مزيد القوة بكثرة الاطلاع والممارسة والاقتدار على
استنباط وجوه الدلالة قاض بقوة احتمال اطلاعه على ما لم يطلع عليه في المرة
الأولى، فلا يبقى له ظن بصحة ما حكم به أولا. ويمكن أن يستدل له أيضا بأن ظن
صاحب القوة القوية أقرب إلى إصابة الواقع من غيره. ولذا قدم تقليد الأفضل على
تقليد المفضول، فيكون ظنه الحاصل من الاجتهاد الثاني هو المتبع بالنسبة إليه
دون ظنه الأول، فلا بد لتحصيله من تجديد الاجتهاد له.
ويرد على الأول: أن مجرد مزيد القوة لا يقضي بذلك، كيف! ومن البين عدم
اختلاف الحال في الحكم في كثير من المسائل بين زيادة القوة ونقصها، بل ربما
يقطع المجتهد مع زيادة القوة بعدم اختلاف فهمه للحكم سيما إذا تذكر تفصيل
الأدلة، فلا حاجة إلى المراجعة الجديدة.
ومنه يظهر الجواب عن الوجه الثاني لاختلاف المسائل في ذلك، فلا يتم
إطلاق القول بوجوب تجديد النظر مع زيادة القوة.
والذي يقتضيه التحقيق في المقام أن يقال: إن الإفتاء الثاني إما أن يكون
عقيب الأول من غير تراخ عنه أو مع التراخي، مع استحضاره لدليل المسألة
واستقصائه فيه - بحيث يعلم عدم تغيير رأيه مع تجديد النظر كما يتفق في كثير من
المسائل - أو عدمه بأن يكون ناسيا للدليل أو يحتمل تجدد رأيه بتجدد النظر. فإن
كان الإفتاء الثاني عقيب الأول الحاصل عقيب الاجتهاد في المسألة فالظاهر أنه
لا مجال للتأمل في عدم توقفه على النظر الجديد، إذ المفروض وقوع الإفتاء
المذكور عقيب النظر والاجتهاد وإن سبقه الإفتاء الأول، إذ لا يعقل مانع من
702

تعاقب فتاوى عديدة لاجتهاد واحد. وكذا لو كان مستحضرا للدليل على سبيل
التفصيل قاطعا بعدم انقلاب رأيه بالنظر الجديد، وكأنه مما لا ينبغي الخلاف فيه.
ولا يبعد جريان ذلك فيما إذا قطع بعدم انقلاب رأيه بتجديد الاجتهاد ولو لم يكن
مستحضرا للدليل. وإن عثر على معارض للدليل الذي اعتمد عليه، أو عن له بعض
الوجوه الدافعة لاستدلاله ونحو ذلك، فالظاهر أنه لا تأمل في وجوب تجديد
النظر وملاحظة الراجح، سيما إذا تراخى إفتاؤه عن الاجتهاد ولو بالنظر إلى
الواقعة الأولى، لوجوب بذل الوسع على المجتهد. وعدم عثوره أولا على
المعارض إنما يصحح حكمه في تلك الحال دون الحالة الثانية، فلا يصح له الحكم
قبل إمعان النظر فيه ثانيا. وقد نبه عليه بعض الأفاضل وكأنه مما لا خلاف فيه
أيضا.
وإن تراخى إفتاؤه عن النظر الأول من غير أن يعرض له ما يعارض دليله
على المسألة واحتمل عدوله عن الحكم بعد تجديد النظر ففي وجوبه حينئذ
للواقعة الثانية الوجوه المذكورة، أجودها: القول بعدم الوجوب، ويدل عليه - بعد
الاستصحاب بالتقريب المذكور المعتضد بالشهرة - كما نص عليه بعضهم أنه لا
كلام ظاهرا في جواز جريان المقلد على تقليد المجتهد ما لم يعلم رجوعه عن
الحكم، وهو لا يتم إلا مع حجية ظنه بالنسبة إلى الوقائع المتأخرة من غير
اختصاص لها بالواقعة الأولى والأزمنة المقاربة لزمان اجتهاده، إذ لو كان طول
المدة باعثا على عدم اعتماد المجتهد على ظنه الأول ولزمه تجديد النظر
والاجتهاد ثانيا للواقعة المتأخرة كان عدم اعتماد المقلد على فتواه أولى، لظهور
كون رجوعه إلى ظن المجتهد فرع حجية قول المجتهد. فلو لم يجز له البناء على
ظنه السابق ولم يكن ذلك الظن حجة في شأنه فوجب عليه تجديد النظر لم يجز
لمقلده البناء على فتواه السابق، ووجب عليه الرجوع ثانيا لاستعلام ما يؤدى إليه
نظره الثاني، ولم نقف إلى الآن على من أوجب عليه ذلك وقال بعدم مضي
الاجتهاد الأول في شأنه بعد طول المدة بالنسبة إلى الوقائع المتأخرة، بل ظاهر
703

كلامهم الإطباق على جواز الجري على ذلك إلى أن يعلم رجوع المجتهد عنه.
نعم فرق بعض العامة في المقام فرجح وجوب تجديد السؤال عند تجدد
الواقعة إذا علم استناد المجيب إلى الرأي والقياس أو شك فيه وكان المقلد حيا
وقطع بعدم الوجوب في غيره، وهو وجه ضعيف مبني على أصولهم. وأيضا الظاهر
إطباقهم على جواز حكاية المقلد فتاوى المجتهد لسائر المقلدين وجواز أخذهم
بذلك مع وثاقة الواسطة ولو بعد طول المدة، ولا يتم ذلك إلا مع حجية ظنه بالنسبة
إلى الوقائع المتأخرة، ويؤيده ما مر من لزوم العسر والحرج. والقول بالفرق بين
نسيانه دليل المسألة وتذكره لها، مما لا يظهر له وجه يعتمد عليه كما عرفت. وكذا
القول في التفصيل الآخر.
نعم لو كان الأمر بحيث يرتفع معه وثوق المجتهد بما أفتى به وأوجب تزلزله
في المسألة فلا يبعد القول بوجوب تكرار النظر ليحصل الوثوق والاطمئنان،
والظاهر جريان ذلك بالنسبة إلى فتواه الأول أيضا إذا تخلل فصل بينه وبين زمان
الاجتهاد مع خروجه عن محل البحث على ما هو ظاهر عناوينهم.
والحاصل: أنه مع بقاء اطمئنان المجتهد بما ظنه ووثوقه بكونه مقتضى الأدلة
الشرعية، لا ينبغي الإشكال في عدم وجوب تجديد النظر. وأما مع انتفاء وثوقه إما
لعدم اعتماده على نظره السابق، أو لاحتمال عثوره على ما لم يعثر عليه أولا من
المدارك - بحيث يضطرب ويتزلزل في كون ما أدركه هو مقتضى الأدلة - فلا يبعد
حينئذ وجوب التجديد سيما إذا لم يبق له ظن بالحكم.
فإن قلنا بخروج هذه الصور عن محل البحث - بناء على النزاع فيما إذا بقي
ظن المجتهد على الصفة التي يطلب حين الاجتهاد بأن يطمئن كون ذلك مقتضى
الأدلة ويحس من نفسه العجز عن تحصيل غيره لو فرض كونه حكم الله بحسب
الواقع - كان ذلك اختيارا لما هو المشهور وإلا كان تفصيلا آخر، ولا مانع من عدم
العثور على من ذهب إليه، إذ لا إجماع على خلافه.
هذا وربما يتخرج على هذه المسألة الاجتهاد المتعلق بالموضوعات فهل
704

يجب التكرار هناك بتكرر الحاجة أو لا؟ كما إذا اجتهد في طلب القبلة لصلاة
فحضرت أخرى، أو طلب الماء للتيمم مرة فأحدث ثم أراد أن يتيمم أخرى،
أو زكي الشاهد عند الحاكم لقبول شهادته في واقعة وشهد في أخرى، ونحو ذلك
فقد يقال بوجوب التكرار هنا بناء على وجوب التكرار في الاجتهاد المتعلق
بالأحكام، وعدمه بناء على عدم وجوبه هناك، والأظهر انتفاء الملازمة بين
الأمرين، والمتبع هو ما يقتضيه الدليل في خصوص كل من تلك المقامات.
- المسألة الثالثة -
إذا حكم المفتي بشئ ثم عدل عنه وجب عليه الأخذ بمقتضى اجتهاده الثاني
سواء كان قاطعا أولا بالحكم ثم ظن خلافه أو بالعكس، أو كان الحكمان ظنيين
مختلفين في القوة أو متفقين، وسواء كان أقوى نظرا وأوسع باعا حال اجتهاده
الأول أو بالعكس، أو تساوى حاله في الحالين. وكذا الحال بالنسبة إلى من قلده
فيه فإنه يجب عليه العدول عن فتواه الأول مطلقا بلا خلاف ظاهر في شئ من
المقامين، بل قد حكي الاجماع على الأمرين.
ففي شرح المبادئ: إذا اجتهد في مسألة فأداه اجتهاده إلى حكم ثم اجتهد في
تلك المسألة فأداه اجتهاده إلى غير ذلك الحكم فإنه يجب عليه الرجوع إلى ما أداه
اجتهاده ثانيا إليه إجماعا، ويجب على المستفتي العمل بما أداه اجتهاده إليه ثانيا
والرجوع عن الأول إجماعا انتهى.
وظاهره دعوى الاجماع على تعين أخذ المقلد بفتواه الثاني، وهو غير ظاهر،
إذ بعد رجوعه عن تقليده في حكمه الأول لا دليل على تعين أخذه بالحكم الثاني،
لجواز رجوعه حينئذ إلى مجتهد آخر، كما هو قضية الأصل. وقد ينزل العبارة على
تعين أخذه بالفتوى الثاني إن أراد الرجوع إليه والفرض بيان عدم جواز أخذه
بفتواه الأول، أو بحمل الوجوب على التخييري. وكيف كان فالمتعين رجوع المقلد
عن حكمه الأول، ويتخير حينئذ بين الأخذ بفتواه الثاني أو الرجوع إلى غيره على
ما كان تكليفه في ذلك قبل تقليده فيه.
705

ويظهر من الفقيه الاستاد (قدس سره) احتمال الفرق بين ما إذا كان عدول المجتهد عن
فتواه الأول على سبيل القطع أو الظن، فقد قطع في الأول بعدول المقلد عن الأول
وأخذه بالثاني، وجعل ذلك في الثاني هو الأقوى.
قال (قدس سره): وإن علم عدوله عن حكم مخصوص بطريق علمي عدل مما كان
عليه أولا إلى ما صار إليه أخيرا وإن كان ظنيا كان الأقوى ذلك أيضا وإن لم
نوجب هنا قضاء ما عمل أولا ولا إعادته، وكان الوجه فيه أن كلا من فتواه الأول
والأخير ظني فلا وجه لترجيح الثاني. وفيه: أنه بعد عدوله عنه يكون حاكما
بفساد ظنه الأول، فقضية الرجوع إليه ترك الأخذ بحكمه الأول، مضافا إلى
الاتفاق عليه ظاهرا. وقد عرفت إطلاق ما حكي من الاجماع، فالوجه المقابل
للأقوى ضعيف جدا. وهل يجب على المفتي إعلام من قلده برجوعه؟ وجهان، بل
قولان، فظاهر العلامة في غير واحد من كتبه وجوب ذلك، وظاهر المحقق عدمه
حيث جعل التعريف أولى، وهو الظاهر من السيد العميدي حيث جعله أليق.
واحتج للأول: بأن المقلد إنما عمل في المسألة بقول المفتي والمفروض
رجوعه عنه، فلو استمر لبقي عاملا بالحكم من غير دليل ولا فتوى مفت. وأنه
روي عن ابن مسعود: أنه كان يقول باشتراط الدخول في تحريم الزوجة، فلقي
أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وذاكرهم فكرهوا، فرجع ابن مسعود إلى من أفتاه بذلك
قال: سألت أصحابي فكرهوا.
وأنت خبير: بأن ما حكي عن ابن مسعود على فرض صحته ودلالته على
رجوعه وعلى كون الإعلام على سبيل الوجوب لا حجة فيه. وأما ما ذكر من لزوم
كونه عاملا بالحكم من غير دليل ولا فتوى مفت فمدفوع، بأن المفروض كونه
آخذا بالحكم عن فتوى المفتي بانيا على استمراره من جهة الاستصحاب المقطوع
حجيته في مثل المقام، فلا يكون أخذه بالحكم خاليا عن المستند، ولذا يحكم
بصحة أعماله.
حجة القول الثاني: الأصل السالم عن المعارض، لبطلان حجة القائل
706

بالوجوب، ولزوم الضيق والحرج الشديد بناء على وجوب الإعلام سيما مع
تشتت المقلدين في البلدان، وظاهر السيرة المستمرة الجارية بين العلماء الأعلام
لشيوع تجدد الآراء مع عدم تعرضهم للإعلام، مضافا إلى ما في ذلك من سقوط
اعتماد العامة على اجتهاد المجتهدين وتنفر طباعهم عما يفتون به من أحكام
الدين.
أقول وتوضيح الكلام في المرام مع خروج من خصوص المقام أن يقال: إن
الرجوع عن الحكم إما أن يكون في الأحكام أو في الموضوعات، وعلى كل حال
فإما أن يكون من المجتهد أو من المقلد - كما إذا حكى العدل فتوى المجتهد ثم
تبين له فساد حكايته، أو شهد في خصوص واقعة ثم تبين له خلافه - ثم الرجوع
إما أن يكون بقطعه بخلاف ما حكم به أو بظنه ذلك أو بتردده فيه، ثم إن ذلك إما أن
يكون في المسائل القطعية التي لا تكون مورد الاجتهاد أو غيرها من المسائل
الاجتهادية، وعلى كل حال فإما أن يعلم بأخذ الغير بقوله وجريه عليه بعد ذلك أو
يعلم بعدمه أو لا يعلم شيئا منهما.
فنقول: إن الذي يقتضيه الأصل في جميع ذلك في صورة علمه بعمل الغير به
هو وجوب الإعلام مع الإمكان، نظرا إلى أن إيقاع المكلف إلى ما يخالف الواقع
علما أو ظنا إنما كان من جهته فلا بد من تنبيهه وإرجاعه عن ذلك. وجواز عمله به
قبل علمه بالحال لا يقضي بجواز إبقائه على حاله، إذ المفروض كون جواز الجري
عليه من جهة جهله بالحال وكونه معذورا من جهته لا لكونه هو المكلف به بحسب
الواقع.
ألا ترى أنه لا مجال لإنكار وجوب الإعلام في كثير من صور المسألة، كما
إذا شهد الشاهد عند الحاكم ثم تفطن أن الأمر على خلاف ما شهد به، وكذا الحال
فيما إذا علم باشتباهه في حكاية قول المجتهد. وكذا لو علم المجتهد بفساد حكمه
الأول سيما فيما يتعلق بأموال الناس. ولو تم ما ذكر لم يجب الإعلام في شئ من
الصور المذكورة مع وضوح خلافه.
707

نعم لو قلنا بأن كلا من حكمي المجتهد حكم ظاهري تكليفي يجوز الجري
عليه في حكم الشرع إلا أن يعلم عدوله عنه - فلا يكون العدول باعثا على رجوع
المقلد عن الأول في حكم الشرع إلا بعد بلوغه إليه فيكون عدوله حينئذ كعدمه
بالنسبة إليه - أمكن القول بعدم وجوب الإعلام إلا أن الظاهر خلافه، إذ المكلف به
بحسب الواقع أمر واحد والطريق إليه في ظاهر الشرع هو ما ظنه المجتهد،
والمفروض صيرورة ظنه الأول وهما خارجا عن كونه مظنونا، فوجب على
المجتهد ومن يقلده الأخذ بالثاني. وجواز أخذ المقلد بالأول قبل علمه به إنما هو
لحكمه ببقاء الظن ومعذوريته في جهالته بذلك على نحو نظائره عن موارد الجهل
حسب ما أشرنا إليه، فوجوب عمله بذلك فعلا لكونه هو المظنون عند المجتهد فعلا
لا يجعل الأخذ به حكما شرعيا من حيث تعلق ظن المجتهد به في الزمان السابق
وجهله بعدوله عنه، وبون بين بين الاعتبارين، وعدم وجوب الإعلام إنما يتفرع
على الثاني فلا تغفل.
هذا، وإن علم عدم الأخذ به فالظاهر عدم وجوب الإعلام مطلقا لانتفاء
الباعث عليه، ومجرد اعتقاده بما يخالف الواقع لا يقضي بوجوب الإعلام. وأما مع
جهله بالحال ففي وجوب الإعلام وجهان: من الأصل، ومراعاة الاحتياط،
لاحتمال أخذه به، فلا بد من إعلامه لئلا يقع في الخطأ من جهته. إذا عرفت ذلك
تبين لك ما يرد على الأدلة المذكورة للقول بعدم وجوب الإعلام، أما الأصل فبما
عرفت. وأما لزوم الضيق والحرج فإنما يتم لو قلنا بوجوب ذلك ولو مع جهله بعمله
به، وأما إذا قلنا باختصاصه بما إذا علم بذلك فلا، لتوقفه على العلم بحاجة المقلد
إلى تلك المسألة وبنائه في العمل على مجرد الفتوى دون الرجوع إلى الاحتياط،
والعلم بذلك ليس أغلبيا حتى يلزم العسر والحرج. ومنه يظهر ما في دعوى
السيرة، إذ قيامها في صورة العلم بالأمرين غير واضح، فأقصى ما يلزم من
ملاحظة السيرة عدم وجوب الإعلام مطلقا، لا عدم وجوبه مع علمه بعمل المقلد
بفتواه السابق. فغاية ما يسلم من لزوم الحرج ودعوى السيرة هو عدم وجوب
الإعلام مع الشك في عمل المقلد بفتواه، وهو لا يستلزم المدعى.
708

فظهر بما قررنا أن الحكم بعدم وجوب الإعلام مطلقا كما يظهر من بعض
الأفاضل ليس على ما ينبغي، بل الظاهر فيما إذا قطع (1) ببطلان فتواه السابق وعلم
عمل المقلد به سيما إذا كان المسألة قطعية. وأما إذا ظن بخلافه أو تردد في المسألة
مع قضاء أصل الفقاهة عنده بخلاف ما أفتى به أولا فالحكم بعدم وجوب الإعلام
مع العلم بعمل المقلد به لولا إعلامه بالحال لا يخلو عن الإشكال، سيما بالنسبة إلى
مسائل المعاملات مع تصريح جماعة هناك بعدم مضي ما وقع بفتوى المجتهد حال
ظنه بالحكم بعد رجوعه عنه إذا لم يضم إليه حكم الحاكم كما سيجئ الإشارة إليه
إن شاء الله.
ولو سلم قيام السيرة في المقام أو لزوم الضيق والحرج التام فإنما هو في هذه
الصورة دون غيرها، فلا بد من الاقتصار عليها في الخروج عن مقتضى القاعدة
المذكورة فتأمل.
بقي الكلام في المقام في الأعمال الواقعة على مقتضى فتواه الأول قبل
رجوعه عنه، فهل يحكم بمضيها بعد العدول عنه أو لا؟ وتفصيل القول في ذلك أن
الأخذ بالفتوى الأول إما أن يكون في العبادات والطاعات أو في العقود
والإيقاعات أو في الأحكام، وعلى كل حال فإما أن يقطع المفتي بفساد فتواه
السابق أو يظنه أو يتردد فيه، وعلى كل حال فإما أن يكون المسألة قطعية أو
اجتهادية، ثم إنه إما أن يراد معرفة حال العمل الواقع عن المفتي أو الأعمال
الواقعة عن مقلديه.
فنقول: إن كانت المسألة قطعية وقد قطع المفتي بذلك، فالظاهر حينئذ فساد ما
أتى به من الأفعال الواقعة على مقتضى فتواه الأول، لعلمه بوقوعه على خلاف ما
قرره الشارع، من غير فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات.

(1) العبارة غلط والغرض بيان أولوية هذه الصورة في الحكم بوجوب الإعلام وأن الحكم في
هذه الصورة مقطوع به ولا يبعد أن يكون في الأصل هكذا، بل قطعي البطلان. هامش
المطبوع.
709

والحق انتفاء الاثم عنه مع عدم تقصيره في استنباط الحكم، كما مرت
الإشارة إليه. وكذا الحال بالنسبة إلى مقلده إذا رجع إليه أو إلى غيره ممن يعتقد
كون المسألة قطعية، وأما إذا رجع إلى من يعتقد كونها اجتهادية فحكم بصحة ما
فعله اجتزى به، ولا يلزمه الرجوع إلى المفتي الأول إلا أن يكون قد تعين عليه
تقليده من جهة أخرى، ووقوع عباداته على مقتضى الأمر لا يقضي بصحتها، لكون
الأمر ظاهريا صرفا وهو لا يقضي بالإجزاء بعد انكشاف الخلاف. وإن ظن خلاف
ما أفتى به أو تردد فيه مع قضاء أصول الفقاهة عنده بخلاف فتواه السابق جرى
حكم العدول في المسائل الاجتهادية بالنسبة إليه، لاندراج المسألة في جملتها
بحسب اعتقاده. وكذا الحال فيمن قلده إن رجع في ذلك إليه أو إلى من يوافقه في
ذلك. وإن رجع إلى من يعتقد كون المسألة قطعية جرى عليها حكمها المتقدم من
البناء على الفساد، كما أنه يحكم بعدم ترتب الآثار على العقود والإيقاعات
المفروضة الواقعة عن المجتهد المفروض ومن قلده في ذلك، إذ أقصى ما يترتب
على الاجتهاد حينئذ ارتفاع الاثم، وأما الصحة الشرعية فلا، كما عرفت.
وإن كانت المسألة اجتهادية لكن بلغ اجتهاده الثاني إلى حد القطع بفساد
الأول، فالذي نص عليه بعضهم هو الحكم بفساد ما أتى به من العبادات الواقعة
على النحو المذكور، فيجب عليه الإعادة والقضاء فيما يثبت فيه القضاء بالفوات،
ويدل عليه ما أشرنا إليه في الصورة المتقدمة وهو الأظهر. وظاهر بعض فضلاء
العصر عدم وجوب الإعادة والقضاء في المقام وفي المسألة المتقدمة أيضا - نظرا
إلى قضاء الأمر بالإجزاء وعدم تكليفه بغير ما أدى إليه الاجتهاد، إذ المفروض
بذل وسعهم في فهم المسألة - وهو ضعيف، لما عرفت من كون تكليفه بما أدى إليه
ظنه ظاهريا فلا يراد منه الأخذ بالظن إلا من حيث كونه كاشفا عن الواقع موصلا
إليه، والفعل المفروض مطلوب شرعا من حيث إنه واقع لا من حيث ذاته ولو مع
مخالفته للواقع، فلما كان ذلك قبل انكشاف الخلاف محكوما في الشرع بأنه الواقع
كان مجزيا، فبعد انكشاف المخالفة لا يمكن الحكم بأداء الواجب، فيجب عليه
710

الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه فيما ثبت وجوب قضائه بعد فواته.
وسيأتي إن شاء الله توضيح القول في ذلك في مباحث التقليد. هذا بالنسبة إلى
العبادات. وأما بالنظر إلى غيرها من العقود والإيقاعات والأحكام فلا بد من
حكمه بالنقض إلا فيما إذا انضم إلى الفتوى حكم الحاكم فيجري فيه الكلام الآتي،
والوجه فيه ظاهر بعد القول بالتخطئة وعدم كون فتوى المجتهد باعثا على تغيير
الحكم بحسب الواقع، والظاهر أنه مما لا كلام فيه عندنا. ولا فرق فيه أيضا بين
الأعمال الصادرة عن المجتهد أو عن مقلديه إن رجعوا في ذلك إليه. وأما إن
رجعوا إلى غيره ممن لا قطع له بالحكم فحكم بصحة الأفعال الواقعة منهم جروا
عليه.
وإن بلغ اجتهاده الثاني إلى حد الظن أو تردد في المسألة وقضى أصل الفقاهة
عنده بخلاف ما أفتى به أولا فظاهر المذهب عدم وجوب الإعادة والقضاء
للعبادات الواقعة منه ومن مقلديه، ويدل عليه بعد لزوم العسر والحرج في القول
بوجوب القضاء أن غاية ما يفيده الدليل الدال على وجوب الأخذ بالظن الأخير
هو بالنسبة إلى حال حصوله وأما بالنظر إلى ما قبل حصوله فلا دليل على وجوب
الأخذ به، وقد وقع الفعل المفروض على مقتضى حكم الشرع، وما دل عليه الدليل
الشرعي فيكون مجزئا، والظن المذكور القاضي بفساده لم يقم دليل على وجوب
الأخذ به بالنسبة إلى الفعل المتقدم. وحينئذ فلا داعي إلى الخروج عن مقتضى
الظن الأول بعد وقوع الفعل حال حصوله وكون إيقاعه على ذلك الوجه مطلوبا
للشرع، ومنه يعلم الحال بالنسبة إلى من قلده.
نعم لو سئل عن الواقعة المفروضة غير من قلده وكانت المسألة قطعية عند من
استفتاه فأفتاه بوجوب الإعادة والقضاء لزمه ذلك.
فإن قلت: إنه كما قضى الظن الأول بصحة الفعل الواقع على مقتضاه فقد قضى
الظن الثاني باشتغال الذمة بالفعل المطابق لمقتضاه، فغاية الأمر حينئذ عدم وجوب
القضاء لعدم تحقق صدق الفوات، وأما الإعادة فلا وجه لسقوطه عنه، إذ مع بقاء
711

الوقت وقضاء الظن الثاني باشتغال الذمة بأداء الفعل على الوجه الذي اقتضاه الظن
المفروض لا بد من الإتيان به على ذلك الوجه، فلا يفتقر الحكم بالاشتغال حينئذ
إلى تعلق أمر آخر حتى يمكن دفعه بالأصل.
قلت: بعد الحكم شرعا بحصول البراءة بأداء الفعل على مقتضى الظن الأول
لا يبقى مجال للحكم بالاشتغال به بناء على الوجه الثاني، لوضوح أنه ليس هناك
إلا تكليف واحد، فإذا كان الوجه الأول طريقا إلى تفريغ الذمة شرعا ولم يقم دليل
على فساد ذلك الطريق وعدم جواز الأخذ به صح الحكم بالبراءة، وحينئذ فلا
وجه للحكم بالاشتغال من جهة الظن الثاني. نعم لو لم يأت بالفعل على الوجه
الأول تعين الإتيان به على نحو ما يقتضيه الظن الثاني.
فإن قلت: كما قضى الظن الأول بحصول البراءة بإتيان الفعل على الوجه
الأول فقد قضى الظن الثاني بعدم حصول البراءة إلا بإتيانه على الوجه الثاني،
وكما أن الأول طريق شرعي فكذا الثاني فأي وجه للترجيح؟
قلت: لا ريب أنه بعد تعارض الظنين المفروضين لا وجه للحكم بترجيح
الأول بل يتعين الأخذ بالثاني، كما إذا لم يأت به على الوجه الأول حسب ما
ذكرناه. وأما في الصورة المفروضة فلا تعارض بين الظنين المفروضين، إذ بعد
الحكم بحصول البراءة بالفعل الأول لا اشتغال في ظاهر الشرع حتى تكون قضية
الثاني توقف البراءة عنه بإتيانه على الوجه الثاني.
نعم لو قضى الظن الثاني بعدم حصول البراءة بما أتى به أولا تم الكلام
المذكور، إلا أنك قد عرفت أنه لا دليل على حجية الظن الثاني إلا بالنسبة إلى ما
بعد حصوله أما بالنظر إلى الفعل الواقع قبل حصوله فلا. وحينئذ فمع عدم حجية
الظن المفروض إلا بذلك الوجه المخصوص لا يبقى مجال للمعارضة بين الظنين
حسب ما قررناه. وأما العقود والإيقاعات الواقعة على مقتضى الاجتهاد الأول
فإما أن تكون صادرة عن المجتهد المفروض أو عن مقلديه، فإن كانت صادرة عن
المجتهد فإما أن ينضم إليها حكم الحاكم أولا؟ أما على الأول فقد نص جماعة
بعدم نقضه ويعلل ذلك بوجهين:
712

أحدهما: أنه قد اعتضد الفتوى حينئذ بالحكم وتقوى به فلا يجوز نقضه
بمجرد الفتوى الثاني.
وأورد عليه في النهاية ومنية اللبيب: بأن حكم الحاكم تابع لحكم الشئ
في نفسه لا متبوع له، إذ حكم الشئ عندنا لا يتغير من جهة حكم القاضي وعدمه،
فلا يجعل حكم القاضي ما ليس بحلال حلالا أو بالعكس. وحينئذ فأي فائدة في
انضمام حكم القاضي وعدمه.
ثانيهما: أن جواز نقض الحكم بمجرد تغيير الاجتهاد مخالف للمصلحة التي
تنصب القضاة لأجلها فإن المقصود...
إلى هنا جف قلمه الشريف أعلى الله مقامه ورفع الله درجته (1).
قد عرفت أن الناس في زمان الغيبة صنفان: مجتهد أو مقلد، وعرفت الحال
في الواسطة بينهما من المحتاطين، ومر تفصيل القول فيهم. وكذا عرفت الحال في
غير القادر على الاجتهاد والوصول إلى فتوى المجتهد الحي. وأما من يكون قادرا
عليه أو على سائر المراتب المتأخرة عنه جاهلا بالحكم غير آخذ به على الوجه
المقرر على ما هو الحال في كثير من عوام المسلمين فقد وقع الخلاف في حاله أنه
هل يعذر لجهالته أو لا؟ والمقصود حينئذ في المقام توضيح الحال فيه، وتفصيل
الكلام في صحة عمله وفساده، ولنجر الكلام في مطلق الجاهل.
فنقول: إن الجاهل إما أن يكون جاهلا بالحكم أو بموضوعه، وعلى التقديرين
فإما أن يكون جاهلا صرفا أو مترددا، وعلى كل حال فإما أن يأتي بالفعل على
وفق الواقع من جهة الموافقة الاتفاقية أو لرعاية الاحتياط، أو لا يأتي به على ما
هو الواقع، وما يراعى فيه الاحتياط إما أن يكون في الحقيقة موردا للاحتياط أو
يكون الاحتياط فيه من جهة جهله بالحال مع وضوح الأمر بعد الرجوع إلى العالم،
وعلى كل حال فإما أن يلحظ ذلك في العبادات أو في العقود والإيقاعات
أو غيرهما من الأفعال.

(1) من هنا إلى آخر الكتاب لم يرد في المخطوطات.
713

ثم إن الملحوظ في المقام إما معذورة (1) من جهة ترتب العصيان واستحقاق
العقاب أو من جهة الصحة أو من جهة ترتب سائر الآثار.
وأما الجاهل بالحكم فالكلام فيه إما من جهة ترتب الإثم والعقوبة (2). ونقول
حينئذ: إنه إن كان جاهلا صرفا وغافلا محضا فلا إشكال حينئذ في عدم ترتب إثم
عليه، سواء كان غافلا عن التكليف مطلقا أو عن ذلك التكليف الخاص أو كان
ملتفتا إليه معتقدا حصوله على وجه خاص لا يستريب في أداء التكليف به فجرى
على وفق معتقده، لوضوح توقف التكليف على العلم، والغافل عن الشئ لا يتعلق
به تكليف بالفعل أو الترك حين جهله وغفلته، ولا يجب عليه السؤال عنه، فإن
وجوب السؤال موقوف على تصوير الشئ وقيام الاحتمال عند السائل لينبعث
النفس إلى السؤال، وأما إن كان غافلا عن الشئ بالمرة أو كان معتقدا لحكمه على
وجه لا يحتمل خلافه من جهة غفلته عن الطريق المقرر له لم يمكن في شأنه
الترديد الباعث على السؤال. هذا إذا كان جهله كذلك بدون تقصير منه في معرفة
الحكم كما إذا كان غافلا محضا عن تعلق التكليف به أو تفحص عن الأحكام
المتعلقة به على حسب معرفته وغفل عن ذلك.
وأما إذا كان مع التقصير في الرجوع واستعلام الأحكام فاتفق غفلته عن
الحكم في المسألة لأجل ذلك، ففي تحقق الاثم والعصيان بالنسبة إليه وجهان: من
حصول الغفلة الباعثة على سقوط التكليف، ومن كون الغفلة ناشئة عن تقصيره في
الاستعلام، فلو لم يقصر في الاستعلام لتفطن لذلك ولم يتحقق غفلته عنه وكان
الأظهر هو الثاني. وتحقق السؤال عنه حين الغفلة وإن كان ممتنعا إلا أن امتناعه
مستند إلى اختياره، وإن كان متفطنا مترددا في الحكم سواء كان ظانا على وجه لا
يعلم جواز الركون إليه والأخذ به أو شاكا جرى عليه حكم العصيان مع إمكان
الاستعلام والتماهل فيه، ومع عدم التمكن منه كان عليه الاحتياط في الظاهر مع
الإمكان ثم الأخذ بمقتضى الظن على ما مر تفصيل القول فيه، فإن أخذ به فلا

(1) كذا في ظاهر النسخة.
(2) كذا، والكلام مقطوع.
714

إشكال في ارتفاع الإثم عنه. ولو قصر في الاستعلام ثم عرض الضيق المانع منه أو
غيره مما يتعذر معه ذلك ففيه الوجهان المذكوران. ويحتمل وجه ثالث وهو أنه إن
تاب من ذلك جرى عليه الحكم المتقدم، ومع عدم توبته يحكم عليه بالعصيان
لاستناده إلى تقصيره، وهذا الوجه لا يخلو عن قرب.
وأما من جهة الصحة وترتب الآثار، فإما أن يكون البحث في العبادات
والصحة المترتبة عليها أو في المعاملات ونحوها مما يترتب عليه الآثار.
أما بالنسبة إلى العبادات فإن كان الغافل غافلا عن المسألة غير ملتفت إليها
وكان معتقدا للصحة من دون تردد فيها فعند الالتفات إذا وجد العمل مطابقا لما
أخذه عن المجتهد جرى عليه حكم الصحة، لأدائه المأمور به على ما أمر به
الشارع سواء كان ما أتى به موافقا لمتن الواقع كما في المسألة الإجماعية، أو
لفتوى جميع الأحياء، أو خصوص من أخذ الحكم عنه. فعلى الأول ظاهر، وكذا
على الثاني إذ تكليفه الأخذ بقول الأحياء، أما على الثالث فلكون فتواه طريقا له
إلى الوصول إلى الواقع فيجري عليه ذلك الحكم بالنسبة إلى السابق واللاحق.
ويشكل ذلك: بأن ما دل على توقف العمل على العلم واشتراطه به قاض
ببطلان العمل الحاصل من دون العلم مطلقا قضاء لحق الشرطية.
ويدفع ذلك: أن اشتراط العلم بالعمل مطلقا ممنوع، بل الذي يقتضيه الأصل
- وهو المستفاد من الأخبار الآمرة بالتفقه والعلم لأجل العمل وذم العامل من غير
بصيرة - توقف العمل على العلم في الجملة.
أما بالنسبة إلى غير العبادات فللزوم كون التصرف الحاصل منه على وفق ما
يقتضيه الأسباب الشرعية الحاصلة فلا بد من العلم بتلك الأسباب وما تقتضيه
ليجري على مقتضاها، وذلك قاض بالمنع من التصرف فيما يحتمل المنع من
التصرف فيه قبل استعلام الحال دون إيقاع نفس العقود أو الإيقاعات وغيرها.
وأما في العبادات فلأن الإقدام على الطاعة والإتيان بالفعل على وجه القربة
لا يتم إلا بعد معرفة المأمور به والتميز بينه وبين غيره ليأتي به على ذلك الوجه،
715

وذلك إنما يتم بالنسبة إلى المتفطن. وأما الجاهل الغافل فلا يتعلق به الأمر بهذا
التميز حسب ما عرفت في الصورة الأولى، ولا عصيان بالنسبة إليه في التلبس
بتلك الأفعال وافقت الواقع أو لا، فلا باعث على فسادها مع توافقها وتحقق قصد
التقرب بها.
فإن قلت: إن وافق عباداته ما هو المعلوم من الواقع كان الحال على ما ذكرت.
وكذا الحال لو وافق فتاوى جميع الأحياء، وأما إذا وافق خصوص فتوى المجتهد
الذي قلده فيه فمن أين يثبت صحته؟ إذ غاية الأمر ثبوت ذلك الحكم عليه من
حين أخذه بقوله وبناء عمله على فتواه، وذلك لا يصحح عمله الواقع قبل ذلك.
قلت: إن قول المجتهد حجة شرعية بالنسبة إليه وطريق شرعي له في
استكشاف الواقع والوصول إليه، فهو بمنزلة الظن الحاصل من الأدلة بالنسبة إلى
المجتهد، فإذا ثبت أن ذلك هو حكم الله في شأنه جرى عليه بالنسبة إلى المتقدم
والمتأخر.
فإن قلت: إن غاية ما ثبت من الأدلة حجيته عليه بعد الأخذ به دون ما قبله، إذ
هو القدر الثابت من الاجماع وغيره، فلا وجه للحكم بصحة العمل الواقع قبل
الأخذ به من جهة التقليد اللاحق.
قلت: إن هناك صحة للعمل وحكما به والتقليد إنما يفيد الحكم بها دون نفس
الصحة، فإن الصحة الواقعية تتبع الأمر الواقعي، والحكم بالصحة إن ثبت بالتقليد أو
الاجتهاد إنما يفيد الحكم الظاهري، فغاية الأمر أن حكمه بالصحة إنما يكون بعد
تقليده، وذلك الحكم كما يتعلق بالحال أو الاستقبال كذا يتعلق بالماضي أيضا.
فالحكم وإن ثبت في الحال إلا أن المحكوم به هو ما وقع منه في الماضي وهو
المطلوب. والقول بتخصيصه بالأولين خلاف المستفاد من الأدلة الدالة على حجية
ظن المجتهد ولزوم أخذ العامي به، فإنه لا تفصيل فيه بين الوجوه المذكورة أصلا.
هذا وإن وجدها مخالفا لفتواه قضى ذلك بعدم تحقق الامتثال وبقاء الشغل
على حاله، فإن كان الوقت باقيا أو لم يكن الواجب موقتا وجب عليه الإعادة
716

لبقاء الاشتغال وعدم الإتيان بالمكلف به، وإن كان فائتا توقف وجوب القضاء
على ثبوت الأمر الجديد، فإن ثبت وجوب قضائه مع الفوات جرى في المقام،
لصدق الفوات عند عدم المطابقة وإن لم يكن مكلفا بالأداء من جهة الجهل والغفلة
فإن انتفاء التكليف من جهة الغفلة ونحوها لا ينافي صدق الفوات كما في النائم
والناسي.
وتوهم توقف صدق الفوات على تحقق التكليف بالفعل الفائت في الوقت -
كما يظهر من بعض الأفاضل فالحكم بوجوب القضاء في النائم والناسي لقيام
الدليل عليه لا لصدق الفوات - ضعيف جدا، لوضوح صدق اسم الفوات فيهما في
المقام ونظائره مما يتفوت بسببهما فعل مشتمل على مصلحة المكلف، فيصح أن
يقال فات عنه بسبب نومه الفعل الفلاني من غير تجوز أصلا. واعتقاده حال العمل
كونه مكلفا بما أتى به لا يقضي بصحة العمل، إذ هو فرع الأمر ولا أمر في المقام، إذ
أقصى الأمر حينئذ عدم ترتب الإثم عليه من جهة الغفلة. وتعلق الأمر به في
الظاهر بذلك العمل غير ظاهر، فإنه ممنوع وإن كان تركه بالمرة عصيانا في معتقده،
فإن ذلك تجر على العصيان لا أنه عصيان، كما هو الحال في الطاعات المقررة في
سائر الأديان إذا كان العامل بها قاطعا بصحتها غير محتمل لفسادها أصلا، فإن
ذلك لا يقضي بتعلق الأمر بها من الشارع حتى تكون تلك الأعمال أمورا مقربة
من الشارع مطلوبة له على نحو ما نقوله في فتاوى المجتهد إذا لم يطابق ظنه الواقع.
ومع الغض عن ذلك وتسليم تعلق الأمر به في الظاهر فهو مغيا بظهور خلافه،
وبعد انكشاف الخلاف يتبين أنه لا أمر به فلا صحة حسب ما قررناه في مسألة
دلالة الأمر على الاجزاء.
وأنت خبير بأن ما ذكر إنما يتم فيما إذا كان الحكم المذكور مخالفا لأمر
قطعي. وأما إذا كانت المخالفة في أمر اجتهادي أشكل حينئذ جريان الوجه
المذكور بالنسبة إليه، لكون الثاني أيضا تكليفا ظاهريا، فلا بد إذن من الأخذ بكل
من الحكمين في محله - على نحو ما قررناه في مسألة رجوع المجتهد عن رأيه -
717

فلا يتم الجواب المذكور على إطلاقه. وإن كان مترددا في الحكم فإن لاحظ فيه
جانب الاحتياط وأتى به كذلك كان ما أتى به صحيحا، لما عرفت من كون
الاحتياط أيضا طريقا وإن كان ذلك بتكرار العمل. ولو بنى على التكرار ثم علم
بعد الإتيان بأحد وجهين أو الوجوه أنه هو الصحيح فلا حاجة إلى الإتيان بالآخر.
والإتيان به أولا على وجه احتمال مصادفته الواقع لا ينافي الحكم بصحته بعد
العلم بالحال. وإن حصل عنه غفلة في معرفة الاحتياط فقطع بكونه احتياطا ثم
ظهر له بعد العمل خلافه جرى فيه ما ذكر من التفصيل في الحكم بصحة عمل
الغافل وعدمه، إذ هو أيضا من مورد القطع بالصحة مع ظهور فساد قطعه. هذا إذا
علم كونه موردا للاحتياط بحيث لو رجع فيه إلى الفقيه حكم فيه بالاحتياط. وأما
إذا أراد بالاحتياط إحراز الواقع من غير علم بكونه من مورد الإشكال والاحتياط.
فهناك وجوه أربعة:
أحدها: أن يتعين عنده نفس العمل تفصيلا من واجباته ومندوباته، لكن يتعلق
الجهل بموانعه وما يقضي بفساده. وحينئذ لا إشكال ظاهرا في الصحة بعد تركه
جميع ما يحتمل كونه مانعا، لقطعه حينئذ بأدائه مطلوب الشارع. وعدم تعين المانع
في نظره تفصيلا لا يمنع من الصحة بعد علمه إجمالا بخلو ما أتى به من العبادة عن
جميع الموانع قطعا وإتيانه بما أمر به يقينا. والظاهر أنه يجري ذلك بالنسبة إلى
الشرائط أيضا، فإذا أتى بكل ما يحتمل الشرطية حينئذ كان كافيا في الحكم
بالصحة إلا أن يكون هناك مانع آخر.
ثانيها: أن يتبين عنده أجزاء العبادة تفصيلا ويتميز له من غيرها، لكن لا يتميز
عنده الواجب من الأجزاء عن ندبها. فإن اعتبرنا نية الوجه ثم اعتبرناها بالنسبة
إلى الأجزاء أيضا تعين عليه التميز ولم يصح العبادة من دونها مع إمكانها في شأنه،
إلا أن القول باعتبار نية الوجه ضعيف، وأضعف منه اعتبارها في الأجزاء، فلا مانع
إذن من الصحة مع الجهل المذكور أيضا إذا أتى بالجميع، لعلمه حينئذ بأداء
الواجب. نعم إذا أراد ترك شئ منها لم يجز له ذلك إلا بعد الرجوع والاستعلام.
ثالثها: أن لا يتميز عنده أجزاء العبادة من غيرها إلا أنه ينحصر عنده في
718

جملة أمور يعلم عدم خروجه منها، ويدور أجزاء الفعل بينها إما بأن يعلم وجود ما
هو خارج عن العمل في جملتها ولكن لا يتعين عنده بالخصوص، أو لا يعلم ذلك
ولكن يحتمله. وعلى كل حال فهو يعلم عدم مانعية شئ منها لتلك العبادة. وحينئذ
فالظاهر صحة العمل الواقع منه على الوجه المذكور من غير حاجة إلى التميز، بأن
ينوي التقرب بالإتيان بذلك الفعل إجمالا الحاصل بإتيان ما يؤديه من الأجزاء،
فهو ينوي أداء الفعل المطلوب في الشريعة ويقطع بحصوله بما يأتي به من الأفعال،
فالمصداق الذي يأتي به من مصاديق ذلك المفهوم قطعا، وهو ينوي القربة بالمفهوم
الحاصل بحصوله وإن لم يتميز عنده خصوص المأخوذ في ذلك المفهوم من تلك
الأجزاء، فإن ذلك مما لا دليل على اعتبار العلم به في أداء التكليف، إذ القدر
اللازم من العلم هو ما يحصل منه العلم بأداء الواجب فيه، وهو حاصل بذلك قطعا.
فتوهم الفساد في هذه الصورة - كما هو صريح البعض - إما من جهة انتفاء
العلم بالحقيقة التفصيلية فيكون ما دل من الأخبار وغيره على اشتراط العمل
بالعلم قاضيا بفساده، وهو فاسد، لعدم قيام الدليل عليه كذلك. وأقصى ما يستفاد
من الأدلة اعتبار العلم به على وجه يحصل العلم بأداء مطلوب الشارع به، وهو
حاصل بما ذكرناه قطعا. أو من جهة إبهام المنوي وعدم تعينه عند العامل فلا يكون
قصده قبل ارتفاع الإبهام للزوم تعين المقصود عنده، وهو أيضا ظاهر الفساد، لأنه
إن أريد تعينه في الجملة ولو بوجه ما فهو حاصل في المقام قطعا، وإن أريد تعينه
بالكنه ليتميز حقيقة الفعل على وجه التفصيل فهو مما لا دليل عليه.
وأورد في المقام: أن ذلك إنما يجوز عند عدم التمكن من الاستعلام وقيام
الضرورة فيصح من جهته، التقرب (1) بمجموع أمور مشتملة على المطلوب
لتحصيل اليقين بالفراغ إنما يصح بعد عجز المكلف عن التميز وانحصار أمره في
ذلك، كما في الصلاة في الثوبين المشتبهين وإلى الجوانب الأربع عند اشتباه القبلة،
ولا يجوز ذلك مع إمكان تعيين الجهة أو تميز الطاهر من النجس قطعا.

(1) كذا في الأصل، والأظهر: إذ التقرب (هامش المطبوع).
719

ويدفعه: أنه إنما ينوي التقرب في المقام بخصوص ما تعلق به الأمر الحاصل
في ضمن المجموع، مثلا ينوي التقرب بالصوم المأمور به شرعا الحاصل في ضمن
التروك الخمسين، ولا ينوي الصوم بمجموع التروك الخمسين حتى يندرج في
البدعة. ولا مانع من عدم تعين الأجزاء وتميزها عنده كلا أو بعضا، إذ لا دليل على
لزوم تعينها بعد قصد الفعل المعين في الشرع المعلوم حصوله بذلك.
والحاصل: أن تصور الفعل بوجه ما وتعينها كذلك كاف في قصده ونيته.
والعلم بحصوله في ضمن تلك الجملة كاف في أدائه وتفريغ الذمة منه، فلا بدعة
من جهة النية حيث إنه لم ينو التقرب إلا بنفس المأمور به، ولا محذور في أدائه في
ضمن الجملة، لحصول العلم بالإتيان به بذلك من غير لزوم مفسدة.
غاية الأمر عدم تعين الأجزاء على وجه التفصيل ولا مانع منه، إذ لا باعث في
اعتباره في أداء المأمور به، وهذا بخلاف الصلاة في الثوبين المشتبهين ونحوها،
لقصده هناك التقرب بما ليس بمقرب في الواقع.
فإن قلت: إنه إن كان الداعي له على التلبس بجميع تلك الأفعال هو القربة، فقد
نوى التقرب بما ليس بمقرب، أو بغير ما يعلم أنه يندرج في المقرب، فيندرج في
البدعة إلا حال الضرورة، لتوقف الواجب عليه. وإن لم يكن الداعي على بعضها
القربة لم يمكن الحكم بالصحة، لاحتمال اندراجه في المطلوب فلا يحصل التقرب
بالمجموع مع إيقاع بعضه لا على وجه القربة.
قلت: إن قصد التقرب بالفعل الشرعي إجمالا كالصوم والصلاة - مثلا - مع
العلم بحصول مصداقه بالفعل المفروض كاف في أداء المأمور به على وجه القربة
وإن لم ينو التقرب بالمجموع وهو مستمر فعلا أو حكما حين الإتيان بتلك
الأجزاء، ولا يعتبر فيه التقرب بخصوص كل من الأجزاء، بل لا بد من مقارنتها
لتلك النية فعلا أو حكما وهو حاصل في المقام.
نعم لو نوى الإتيان بها على أنها أجزاء للفعل المطلوب كان ذلك بدعة، لكنه
غير معتبر في الإتيان بالعبادة. ولو اعتبرت نية الجزئية في الجملة فالإتيان بكل
720

منها من جهة احتمال اندراجه في المطلوب كاف في ذلك من غير أن يشوبه شائبة
البدعية.
رابعها: أن يدور الواجب بين فعلين أو أفعال عديدة فلا بد له من تكرار العمل
حتى يحصل له اليقين بالفراغ، كأن يدور الأمر بين كون بعض الأفعال جزء منه أو
شرطا أو مانعا فلا يحصل له اليقين إلا بالتكرار، وحينئذ فلا يصح له الأخذ
بالاحتياط مع إمكان الاستعلام، إذ قصد التقرب لغير المقرب من باب الاحتياط
إنما يتم عند الضرورة وعدم التمكن من الوصول إلى الواقع.
نعم يصح ذلك في الصورة السابقة حيث يعلم كون التكرار محلا للاحتياط
بخلاف هذه الصورة. هذا بالنسبة إلى العبادات المتوقفة على قصد القربة.
وأما بالنسبة إلى غيرها من سائر الواجبات مما يمكن إحراز الواقع فيها
بالتكرار فلا إشكال، مع عدم قيام احتمال التحريم. وكذا الحال بالنسبة إلى
المعاملات فلا مانع من تكرار العقود والإيقاعات عند الشك في صحة كل منها
والعلم بحصول الصحيح في جملتها. وكذا الحال في الصور المتقدمة من غير
إشكال في الجميع.
وقد يستشكل في قصد الانشاء في المقام مع التردد في حصول المنشأ بكل
من الصيغ.
ويدفعه: ما مر من الفرق بين حصول ذلك في حكم الشرع وإيقاع مدلوله
العرفي، ولا ريب في حصول الثاني بمجرد قصد الانشاء بالصيغة سواء ترتب عليه
الأول أولا، وهو الذي يقصد بإنشاء العقود والإيقاعات، وأما الأول فلا ربط له
بالإنشاء، وإنما هو حكم شرعي متفرع عليه على فرض استجماعه الشرائط هذا.
وإن لم يمكن إحراز الواقع بمراعاة الاحتياط على أحد الوجوه المذكورة وأتى
بالفعل مترددا في صحتها، فإن كان من العبادات كان فاسدا، لعدم إمكان قصد
التقرب بالفعل والإتيان به على وجه الامتثال مع التردد في كونه مطلوبا للآمر
راجحا عنده ولو من باب الاحتياط، بل يكون الإتيان به كذلك بدعة محرمة
لا يجامع كونه واجبا مطلوبا في الشريعة، ولو فرض مصادفة العمل للواقع فإنها
721

مصادفة صورية، وإلا فمع عدم تحقق القربة لا يعقل مصادفة العمل للواقع،
لوضوح كونها شرطا مأخوذا في صحة العبادة. هذا إذا كان المكلف عارفا بذلك.
وأما إذا كان جاهلا به زاعما إمكان حصول القربة مع الاحتمال، لتوهمه جواز
التقرب به من جهة احتماله كون ذلك مطلوبا لمولاه محصلا لرضاه على نحو ما
ذكر في بيان التسامح في أدلة السنن فاعتقد صحة التقرب في المقام - وإن لم يكن
كذلك - قوي القول بصحته مع المطابقة للواقع لعين ما مر.
فما ذكرناه من عدم إمكان قصد التقرب في مثله إنما هو بالنسبة إلى العارف
المتفطن لذلك، وأما غيره فيمكن صدور القصد المذكور من جهة غفلته عما ذكر.
وحينئذ فلا مانع من صحة عمله. فما ذكره بعض الأفاضل: من عدم إمكان قصد
التقرب مع التقصير في الاستعلام والتردد في المطابقة، ليس على إطلاقه. هذا في
العبادات.
وأما في غيرها من الواجبات فلا إشكال في حصولها بمجرد المصادفة للواقع
دون ما إذا لم يصادفها، إذ المناط هناك حصول نفس العمل وعدمه. وكذا الحال في
المعاملات فلا إشكال إذن في فسادها مع عدم المطابقة وصحتها مع استجماعها
للشرائط ولو وقعت في حال التردد في صحتها، نظرا إلى حصول المقتضي وانتفاء
المانع.
وقد عرفت عدم منافاة التردد لقصد الانشاء إلا أنه لا يمكن إجراء أحكام
الصحة عليها ولا الفساد إلا بعد الرجوع إلى الفقيه، ولا يجوز له البناء حينئذ على
استحباب عدم ترتب الآثار، إذ لا حجية فيه في المقام بالنسبة إلى العوام. فظهر من
ذلك عدم جواز التصرف في المبيع والثمن حينئذ من البائع أو المشتري قبل
الرجوع، بل لا بد من الرجوع إلى الفقيه ثم التصرف على حسب ما يفتيه. ثم إن
جميع ما ذكرناه إنما هو في الجاهل بالحكم.
وأما الجاهل بالموضوع: فإن كان جهله متفرعا عن الجهل بالحكم سواء كان
جهلا بأصل الحكم - كما إذا تصرف في المبيع أو الثمن معتقدا لتملكه مع انتفائه
بحسب الواقع وجهله بالحال - أو كان جاهلا بالطريق المقرر كما إذا شهد عنده
722

عدلان بنجاسة الثوب ولبسه في الصلاة لجهله بكونه طريقا في الشرع إلى ثبوت
الحكم، فالحكم فيه هو ما ذكر من التفصيل في جاهل الحكم. فلو كان الفساد
متفرعا على التحريم لم يحكم به في محل يحكم فيه بنفي التكليف، وإلا جرى
عليه في تلك الصورة حكمه الوضعي من الصحة والفساد.
ويمكن أن يقال بالصحة فيما إذا كان جاهلا محضا بالطريق واتفق تخلف
ذلك الطريق عن الواقع فكان العمل مصادفا لما هو الواقع - كما إذا شهد عنده
عدلان بنجاسة الثوب وكان جاهلا كذلك باعتبار قولهما في الشرع فلبسه في
الصلاة ثم تبين سهوهما - لم يبعد القول بالصحة وإن كان مخالفا للطريق المقرر.
وكذا الحال في نظائره لانتفاء التكليف عنه مع الغفلة ومصادفة العمل للواقع، كما
أنه لو كان بالعكس كان عليه الإعادة والقضاء لو فرض ثبوته مع فوات الأداء، إلا
ما قام الدليل على خلافه أو كان الفساد فيه ناشئا عن التحريم.
وإن كان جهله بالموضوع من غير جهة الجهل بالحكم: فإن كان غافلا بالمرة
فلا تكليف بالنسبة إليه قطعا ولا إثم عليه، ولكن لا يثمر ذلك في صحة العمل،
لكونه حكما وضعيا إلا فيما ترتب الفساد فيه على التحريم، كالصلاة في المكان أو
الثوب المغصوبين بخلاف الصلاة في جلد ما لا يؤكل لحمه أو شعره ونحوهما. وإن
كان مترددا كان عليه الأخذ بالطريق المقرر شرعا في تعيين ذلك الموضوع،
ويتفرع عليه الأحكام على طبق ذلك، ومع تخلف الطريق عن الواقع كان عليه
مدار الإثم وعدمه دون الواقع، ويدور الحكم بالصحة أو الفساد مدار الواقع
بالنسبة إلى غير العبادات، وكذا فيها بالنسبة إلى الحكم بالفساد. ولو انكشفت
الموافقة لم يحكم فيها بالصحة من جهة النهي.
نعم ما تفرع فيه الفساد على العصيان لم يحكم به مع انتفائه. ولو لم يكن هناك
طريق معين للتعيين وأمكن الاحتياط تعين عليه ذلك، كالصلاة في الثوبين
المشتبهين وإلى الجهات الأربع، وإذا أتى بواحد منها فانكشف موافقتها للواقع
سقط عنه إكمال الباقي وتبين صحة ما أتى به، لموافقته لما امر به القاضي بإجزائه
فلا حاجة إلى إعادته.
723

وقد يتوهم أن ما أتى به حينئذ بعض ما كلف به فلا يقضى بالبراءة وقد سقط
عنه ذلك التكليف بعد العلم بالتعيين، فيرجع إلى ما كلف به أولا من الصلاة الواقعة
في ثوب معلوم الطهارة أو الجهة المعينة للعلم بحصول الاشتغال وعدم أداء
المكلف له. ووهنه ظاهر، إذ كونه مكلفا بتكرار العمل ليس تكليفا واقعيا، لوضوح
كون الصلاة الواجبة متحدة، وإنما وجوب ذلك من جهة المقدمة العلمية وتحصيل
اليقين بتفريغ الذمة فإذا تيقن بعد الإتيان بالفعل بأداء الواجب على ما هو عليه
وحصل له العلم فقد حصل له ما هو المطلوب من التكرار، وسقط التكليف به
وسقط عنه أصل الواجب لأدائه مستجمعا لشرائطه. وكون ما أداه بعضا من
المكلف به ظاهرا نظرا إلى الجهة المذكورة لا يقضي بعدم تفريغ ذمته بعد القطع
بأداء الواجب.
هذا ما يتقوى في النظر في أعمال الجاهل الذي لم يأخذ الأحكام أو
الموضوعات على الوجه المقرر في الشريعة.
وللقوم في مسألة عبادات الجاهل أقوال عديدة:
أحدها: ما حكي الشهرة عليه بين الأصحاب، وهو الحكم بفساد عباداته
أجمع سواء اتفقت مطابقته للواقع أو لا، وسواء كان قاصرا عن معرفة الأحكام أو
مقصرا في معرفتها.
ثانيها: الحكم بالصحة مع المطابقة الاتفاقية، سواء كان مقصرا في استعلام
الأحكام أو قاصرا غافلا عنه، وهو مختار المحقق الأردبيلي.
ثالثها: أن المسألة إن كانت من ضروريات الدين أو المذهب أو الإجماعيات
وخالف فيها الواقع كانت فاسدة، وإن لم تكن كذلك كانت صحيحة، سواء كان
قاصرا أو مقصرا، وافق الواقع أو خالفه. وهو الذي ذهب إليه الفاضل التستري
على ما يظهر من كلامه في منبع الحياة وشرحه على تهذيب الحديث.
رابعها: صحة عباداته الواقعة منه حال قصدها وغفلته وزعمه صحتها من جهة
جهالته سواء طابقت الواقع أو خالفته. ولو كانت المخالفة في المسائل الضرورية
724

وفساد ما يأتي به بعد التفطن لوجوب الاستعلام وتقصيره فيه سواء طابقت الواقع
صورة أو خالفته. هذا، كله في العبادات الواقعة منه.
وأما بالنسبة إلى المعاملات الصادرة عنه، فالظاهر عدم التأمل في صحتها
مع الموافقة، وفسادها مع عدمها - حسب ما قررناه - ولم يعلم من هؤلاء خلافا
في ذلك.
حجة القول الأول بعد الاعتضاد بالشهرة المدعاة والاحتياط في الدين أمران:
أحدهما: الأصل فإن أقصى ما دل الدليل على حجيته وحصول البراءة به هو
ظن المجتهد بالنسبة إليه وإلى من يأخذ عنه. وأما ظن غيره ممن لم يبلغ درجة
الاجتهاد ولم يأخذ الأحكام عن الأدلة الشرعية فلا دليل على حجية قوله بالنسبة
إليه وإلى من يأخذ عنه ولو كان من الجهال الغافلين، إذ أقصى ما يقتضيه الغفلة
سقوط الإثم لا صحة العبادة.
فإن قلت: إن ذلك إن تم فإنما يتم بالنسبة إلى الظن الحاصل من ذلك أو ما
دون الظن. وأما إذا كان قاطعا بذلك متيقنا به فلا مجال للريب في حجيته عليه، إذ
لا يمكن أن يطلب من المكلف ما فوق اليقين. فإذا كان مكلفا بالأخذ على مقتضى
يقينه مأمورا بالعمل به مؤديا له على الوجه المذكور كان قضية الأمر الاجزاء.
قلت: لا ريب أن اليقين الحاصل له ليس من الطرق المفيدة للعلم، وإنما حصل
له ذلك من جهة الجهل والغفلة وقلة الإدراك وعدم الفطنة. واليقين الحاصل على
الوجه المذكور ليس طريقا موصلا إلى الواقع وإن كان قاضيا بسقوط تكليفه
بالواقع بحسب حاله، لاستحالة تكليف الغافل.
فغاية الأمر أن يكون ذلك عذرا له ما دامت الجهالة باقية. وأما بعد انكشاف
الخلاف والعلم بعدم كون ما أخذ به طريقا شرعيا فلا يصح الحكم بمقتضاه.
والحاصل: أن مجرد حصول اليقين ولو من الطرق الفاسدة مما لا يمكن
تحصيل العلم بل الظن منه بحسب الواقع ليس طريقا إلى الواقع عقلا، فإن إصابة
الحق في مثله إنما يكون على وجه الاتفاق، ومثل ذلك لا يمكن أن يكون طريقا
إليه. نعم لو قام في الشريعة على كونه طريقا إليه كان طريقا شرعيا إلى ذلك. وفي
725

الحقيقة يكون حينئذ طريقا عقليا إلى حكم الشرع به، لا يمكن الانفكاك بينهما بعد
جعله أو تقريره. فمجرد اليقين بالشئ من دون أن يكون مستندا إلى برهان علمي
ليس طريقا عقليا إلى الوصول إلى الشئ. ولم يقم دليل شرعي أيضا على كونه
طريقا. كيف! ولو كان طريقا إليه لزم تصويب أكثر أهل الأديان الباطلة والشرائع
الفاسدة، لحصول اليقين لكثير من أربابها من الطرق الفاسدة.
فغاية الأمر أن يكون اليقين الحاصل من غير الطريق عذرا لصاحبه مع عدم
إصابته وعدم تقصيره في تحصيل الحق، وأين ذلك من كونه مكلفا به مطلوبا منه
العمل به. ولو سلم كون مجرد اليقين من أي وجه حصل طريقا موصلا إلى المكلف
به فغاية ما يقتضيه ذلك أداء الواجب به ما دام باقيا، وأما بعد انكشاف الخلاف فلا
وجه للجري على مقتضاه، فإن قضية كونه طريقا أن يكون ذلك مكلفا به من حيث
إنه الواقع لا من حيث ذاته. وإن لم يوافق الواقع فلا يتم ذلك مع انكشاف المخالفة.
ثانيهما: الأخبار الآمرة بتعلم الأحكام والتفقه في الدين والرجوع إلى العلماء
الدالة على توقف العمل على العلم وإناطته به، وإن العامل على غير بصيرة كالسائر
على غير الطريق لا يزيده كثرة السير إلا بعدا ونحو ذلك، مما ورد في الروايات.
فيكون عبادات الجاهل المفروض فاسدة من جهة انتفاء الشرط المذكور. فلو
فرض انه أدى عين ما هو الواقع على سبيل الاتفاق لم يكن مؤديا له على ما هو
عليه عند التأمل، لانتفاء الشرط المذكور أعني العلم بالأحكام بالرجوع إلى الأدلة
الشرعية، أو الرجوع إلى الثقات من العلماء الآخذين بها، فإنه أيضا من شرائط
صحة العبادة كما يستفاد من تلك الأدلة.
وأورد على الأول: أن ما ذكر إنما يتم بالنسبة إلى العارف المتفطن لذلك الذي
لم يقصر فهمه عن إدراك ما ذكر، ولا ريب في كونه مكلفا بالأخذ عن الطرق
المقررة ومنعه عن الرجوع إلى غيرها من الطرق المذكورة.
وأما الغافل القاصر عن إدراك ذلك الذي غاية مبلغ فهمه أن ما يعلمه أبواه
أو معلمه هو الحق الصريح الذي لا يحتمل الخلاف ولا يختلج بباله ريب في ذلك،
فلا يعقل القول بكونه مكلفا مع ما ذكر بالرجوع إلى المجتهد الجامع لشرائط
726

الإفتاء. وكيف يمكن القول بتكليفه بما يريد على مرتبة فهمه وإدراكه، وليس ذلك
إلا من قبيل التكليف بما لا يطاق. وبنحو ذلك يجاب عن الثاني، فإن تلك الأوامر
الواردة كلها خطابات شرعية متعلقة بمن يفهم تلك ويتفطن بها ويطلع عليها، وأما
الجاهلون بها الغافلون عنها بالمرة ممن لا يتفطن لأزيد مما وصل إليه من جهة أبيه
أو أمه ومن بمنزلتهما ولا يحتمل أن يكون تكليفه ما عدا ذلك فلا، وكيف! يعقل
القول بتكليفهم بذلك وتوجيه تلك الخطابات إليهم مع وضوح بطلان تكليف
الغافل وتكليف ما لا يطاق، فلا يتم الحكم بالبطلان مطلقا.
والجواب عنه: أن ما ذكر من لزوم التكليف بما لا يطاق إنما ينفى القول بتعلق
ذلك التكليف بالغافلين، ولا يقتضي ذلك تكليفهم بالأخذ بقول آبائهم أو أمهاتهم،
فإن ذلك أيضا مما لا دليل عليه. وكونهم مكلفين بالأباطيل والأعمال الفاسدة التي
قرروها لهم مما لم يقم عليه إجماع ولا ضرورة.
فغاية الأمر أن يكونوا معذورين في ترك التكاليف الشرعية، وأما تكليفهم
بتلك الأعمال المخالفة للشريعة ليقوم تلك الأعمال مقام الواقع ليكون تكليفا
واقعيا ثانويا على نحو فتاوى المجتهد عند عدم إصابته فيحصل بها التقرب
المطلوب حصوله فيحكم بحصول البراءة من التكاليف الواقعية من جهة الإتيان بها
حتى أنه لو علم بالحال في الوقت أو خارجه سقط عنه تداركها، فمما لا يقضي به
الوجه المذكور أصلا، وقضية الأصل كما عرفت عدم حصول الفراغ من جهة
الإتيان بها، وسقوط التكليف من جهة المعذورية لا يقضي بحصول البراءة بالمرة،
حتى أنه لو انكشف له الحال في الوقت أو خارجه لم يلزمه تداركه على تقدير
وجوب قضائه عند فواته، وكذا الإتيان بما يعتقده مأمورا به لا يقوم مقام الواقع
لما عرفت من انتفاء التكليف به. فدفع الاحتجاج المذكور بذلك مما لا وجه له.
جف قلمه الشريف، ويا ليت امتد في الليالي والأيام
شكر الله سعيه وحشره مع سيد الأنام
وفقنا الله بفهم كلماته وعلماء الأعلام
وأنا العبد الذليل أقل الطلاب جرما وأكثرهم جرما ميرزا محمد
727