الكتاب: نهاية النهاية
المؤلف: المولى محمد كاظم الخراساني
الجزء: ٢
الوفاة: ١٣٢٩
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

نهاية النهاية الجز الثاني
على يد مصنفه علي بن المرحوم
الشيخ عبد الحسين الغروي الإيرواني في المشهد المقدس الغري غرة
شهر جمادى الثانية من شهور سنة الف وثلاثمائة وخمس وأربعين
1345 هجرية
1

بسم الله الرحمن الرحيم
8

المقصد السادس:
في بيان الامارات المعتبرة شرعا أو عقلا
10

في بيان الامارات المعتبرة شرعا أو عقلا بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ولي التوفيق وهو حسبي ونعم المعين، وصلى الله على محمد
البشير النذير وعلى آله وأصحابه المنتجبين.
قوله (قده): وإن كان خارجا من مسائل الفن:
وذلك لما عرفت من أن مسائل الفن هي الباحثة عما تقع نتيجته في طريق الاستنباط وتحصيل العلم بالأحكام الشرعية عن أدلتها، فلا
يكون البحث عن نفس هذا العلم منها، واما وجه شباهته بمسائل الكلام، فهو: ان البحث واقع هنا عن حسن العقاب والثواب وقبحهما
بالموافقة والمخالفة للقطع، وهذا يشبه مباحث الكلام المتضمنة للبحث عن فعل المبدأ وتمييز ما يليق صدوره منه من الافعال عما لا
يليق. نعم، الموضوع في هذا المبحث حسن صدور العقاب وعدمه عن مطلق العقلا لا خصوص. المبدأ جل وعلا، ولذا كان شبيها بمباحث
الكلام لا نفسها، واما مناسبته مع المقام، فلحصول الاستقصاء في مسائل الحجية، التي يتضمنها بحث حجية الظن.
قوله: فاعلم أن البالغ الذي وضع عليه القلم:
يعني من شمله التكليف الانشائي ووضع عليه قلم الانشاء، وحصل للمولى الاذعان والتصديق بصلاح فعله، وإن كان مزاحما بما يمنعه
عن الوصول إلى درجة الفعلية والإرادة والكراهة، وهذا تفسير
11

للفظ المكلف الواقع في كلام شيخنا المرتضى (قده) دفعا للاعتراض الوارد عليه، وهو: ان التكليف يكون في رتبة متأخرة عن الالتفات،
فكيف يؤخذ عنوان المكلف في رتبة سابقة عليه ويجعل مقسما. ويقال: فاعلم أن المكلف إذا التفت إلى حكم... إلخ.
وحاصل الدفع: ان الاعتراض متجه إن كان المراد من المكلف من توجه إليه التكليف الفعلي، كما هو ظاهر لفظه، لكن المراد منه هو
الداخل تحت التكليف الانشائي بقرينة التقييد بقوله: إذا التفت. ثم إن التقييد بالبلوغ لم أعرف وجهه، فان الحكم الملتفت إليه ان عم
أحكام الغير تحقق هذا التقسيم في شأن الصبي المميز إذا التفت إلى حكم البالغين، وان اختص بحكم نفس الملتفت لم يشمل الالتفات إلى
أحكام المقلدين. ودعوى: ان المقسم الالتفات الذي يكون له أثر، اما في حق نفسه أو في شأن الغير، والتفات غير البالغ لا أثر له، ولذا
قيد الالتفات بالبالغ. مدفوعة: بأن اللازم على ذلك التقييد بسائر شرائط جواز التقليد، لان التفات الفاسق إلى أحكام الغير وقطعه و
ظنه وشكه لا أثر له.
قوله: إلى حكم فعلي واقعي أو ظاهري... إلخ:
الحصر الثنائي بين الحكم الواقعي والظاهري غير تام على مسلكه، من: أن مؤدى أدلة اعتبار الامارات جعل الحجية دون جعل الحكم
الظاهري. والصحيح على هذا المسلك، أن يقال: إذا التفت إلى حكم واقعي أو ظاهري أو حجة شرعية على أحدهما، فإما أن يحصل له
القطع أو لا، وعلى الثاني، المرجع هو العقل، والمتبع هو حجته. ثم إن المصنف العلامة (قده) غفل عما هو مقصد شيخه من تثليث الأقسام،
فإنه أراد بذلك بيان موضوع كل رسالة رسالة من الرسائل التي اشتمل عليها كتابه، فنبه بحصر الأقسام في ثلاثة: على موضوع الرسالة
الأولى، وهو القطع، وموضوع الرسالة الثانية: وهو الظن، وموضوع الرسالة الثالثة والرابعة، وهو الشك بأقسامه الأربعة، التي بينها
في كتابه، وهي موضوع رسالة الاستصحاب، والأقسام الثلاثة لموضوع رسالة البراءة الباحثة عن أصول ثلاثة، وإن كان عنوانها
أصالة البراءة.
12

ومن المعلوم ان هذا الغرض يفوت بتلخيص العبارة وذكر الأقسام الثلاثة في ضمن حصر ثنائي، وليس كل اختصار وتلخيص مرغوب
فيه، بل ما لم يخل بالغرض والمقصود.
قوله: لعدم اختصاص أحكامه:
كما لا تختص أحكامه بما إذا كان متعلقا بالحكم، بل تعم ما إذا تعلق بالحجة، بل لو عممنا الحجة للحجة العقلية انحصرت الأقسام في
واحد، فان الشخص إذا التفت إلى القانون الذي ينبغي أن يعمل عليه سوأ كان ذلك حكما واقعيا أو ظاهريا أم حجة شرعية أو عقلية
حصل له القطع به البتة من غير ثان.
قوله: وإن أبيت إلا عن ذلك فالأولى أن يقال:
هذا شروع في بيان إشكال آخر أورده على عبارة شيخه، حيث جعل عنوان الأقسام الثلاثة: القطع والشك والظن، جاعلا الثاني
موضوعا للأصول، والثالث موضوعا للامارات، مع أنه ربما تقوم في حال الشك أمارة معتبرة والتكليف يقضي بالأخذ بها دون الأصول،
كما ربما يكون التكليف في مورد الظن هو الرجوع إلى الأصول، لعدم الدليل على اعتباره، فيحصل التداخل بين القسمين في حكمهما،
فلذلك عدل إلى التقسيم الثلاثي الذي بينه في المتن.
حجية القطع
قوله: لا شبهة في وجوب العمل:
ليس وجوب العمل على وفق القطع من مدركات العقل، كما في حسن الاحسان وقبح الظلم، بل هو عبارة عن تأثير القطع في الحركة
الخارجية نحو المقطوع حسنه، أو في الفرار عن المقطوع ضرره وقبحه، وهذا التأثير خصوصية تكوينية وقوة عقلية عمالة، فإذا أدرك
العقل بقوته العلامة حسن فعل، كإطاعة المولى مثلا، ثم قطع بصغرى هذا الكبرى، المدركة أثر قطعه ذلك في الحركة نحو المقطوع
تأثيرا اقتضائيا ما لم يمنع عنه سائر القوى، كالقوة الشهوية
13

والغضبية، فإن لكل من القوى هاتين الجهتين: جهة الادراك وجهة التأثير في الحركة نحو ما أدرك ملائمته، ولولا ذلك لم يكن مجرد
إدراك العقل ملائمة شئ، وإدراك سائر القوى ملائمة أشياء، مؤثرا في تحريك الشخص نحو ما أدرك ويبقى واقفا لا يتحرك،
فالحركة عقلية كانت أم شهوية أم غضبية لا زالت نتيجة قوتين:
قوة الادراك وقوة التحريك، فلو كان وجوب العمل على وفق القطع من قوة الادراك لآل الامر إلى التسلسل، فإن القطع بحكم العقل
بوجوب العمل بالقطع أيضا، مصداق للقطع، يحكم العقل بوجوب العمل على وفقه وهلم جرا، ولكان هذا الحكم العقلي عين حكم العقل
بوجوب الإطاعة لا حكما آخر، ولما أثر في الحركة الخارجية.
قوله: موجبا لتنجز التكليف الفعلي:
يعني كونه موجبا لحكم العقل بحسن العقاب على مخالفته، والثواب على موافقته فيما أصاب بناء على أن استحقاق الثواب والعقاب عقلي،
لا بالوعد والوعيد. وأيضا كونه موجبا لحكم العقل بقبح العقاب بموافقته فيما أخطأ. واما حكم العقل باستحقاق العقل بمخالفته فيما
أخطأ وكذلك الثواب بموافقته في هذا الحال، فهو من محل الاشكال، الذي سيأتي البحث عنه مستقلا بعنوان التجري والانقياد. ثم
الظاهر: ان أعذار العقل في صورة الخطأ ليس بعنوان القطع بما هو قطع، بل بعنوان الجهل القصوري العام، فان من مصاديق الجاهل
القاصر، هو القاطع بخلاف الواقع، فعد ذلك من أحكام القطع، ليس على ما ينبغي.
قوله: ولا يخفى ان ذلك لا يكون بجعل جاعل:
يعني انه خصوصية تكوينية لازمة لذات القطع، وما هذا شأنه لا يكون مجعولا بسيطا، كما هو واضح ولا تأليفيا تكوينيا ولا تشريعيا لان
جعله يرجع إلى تحصيل الحاصل بعد فرض لزومه للذات تكوينا، المستلزم لمجعوليته بجعلها، فهو حاصل مجعول بجعل محله بلا انتظار
جعل آخر، ومعه لا يعقل أن يكون مجعولا بجعل آخر، مع أن جعله مستلزم للتسلسل، لتعلق القطع بهذا الجعل المحتاج أيضا إلى الجعل، و
هلم جرا. ثم إن ما ذكره من المجعولية
14

بجعل القطع لا بجعل آخر بالنسبة إلى الحكم الأول، أعني وجوب متابعة القطع صحيح، بناء على ما قدمناه من معنى وجوب المتابعة، وان
ذلك بمعنى التأثير التكويني في الحركة. والظاهر أنه المراد من اسم الإشارة بقرينة ما سيذكره، من لزوم اجتماع الضدين في صورة
المنع. واما بالنسبة إلى حكم العقل بالمنجزية والمعذرية، أعني حكمه بحسن العقاب والثواب وقبحه، فلا معنى محصل له، فان حكم
العقل بهما قائم بالنفس، وليس من الخصوصيات القائمة بالقطع ليكون مجعولا بجعله، فلا بد ان يراد من ذلك مجعولية الخصوصية
القائمة بالقطع، الموجبة لحكم العقل لا نفس حكم العقل.
قوله: مع أنه يلزم منه اجتماع الضدين اعتقادا مطلقا:
يعني وجوب الواقع المقطوع وجوبه وحرمة العمل بهذا القطع، فيكون الواقع بذاته واجبا، وبما انه مقطوع الوجوب حراما، ويكون كما
إذا قيل أكرم زيدا ولا تكرم زيدا العالم. ولا فرق في ذلك بين أن يكون القطع جز الموضوع وأن يكون تمامه، فان اجتماع الضدين
في نظر القاطع لا محالة لازم. ويحتمل أن يراد من اجتماع الضدين وجوب العمل بالقطع المجعول بجعل ذاته تكوينا، والمنع عن العمل
به تشريعا. ومن ذلك يظهر لزوم اجتماع المثلين اعتقادا مطلقا وحقيقة في صورة الإصابة من جعل وجوب المتابعة للقطع، فيكون
المتحصل من ذلك ومما ذكرناه أولا براهين ثلاثة في جانب عدم معقولية الجعل برهان تحصيل الحاصل، وبرهان التسلسل، وبرهان
اجتماع المثلين، وفي جانب المنع عن العمل برهان واحد، وهو برهان اجتماع الضدين ولو اعتقادا، ثم إن إطلاق الحجة على القطع في
أحكامه الثلاثة، أعني وجوب المتابعة والمنجزية والمعذرية، جار على اصطلاح أهل الميزان، لان القطع موضوع للأحكام الثلاثة العقلية،
فصح جعله وسطا لاثباتها، فيقال: هذا ما قطع بوجوبه، وكل ما قطع بوجوبه يجب الاتيان به عقلا، ويصح العقاب على مخالفته مع
الموافقة، ويقبح العقاب على مخالفته مع الموافقة.
قوله: وإن كان ربما يوجب موافقته استحقاق المثوبة:
وذلك فيما إذا كان المانع
15

عن الفعلية من قبيل مصلحة التسهيل على العباد وعدم إيقاعهم في المشاق، فان هذا يحصل بعدم توجيه تكليف إلزامي إليهم، مع كون
الفعل تام المصلحة غير مزاحمة مصلحته بمفسدة.
اما إذا كان المانع عن الفعلية مفسدة اشتمل عليها الفعل فلا استحقاق، بل أقول: إن الثواب والعقاب من خواص الإطاعة والعصيان، واما
الاتيان بالمصالح والمفاسد العارية عن الطلب، فلا يترتب عليه إلا المدح واللوم من العقلا دون الثواب والعقاب من المولى.
نعم، فيما كان المانع من فعلية التكليف مصلحة التسهيل، بأن لم تكن مصلحة الفعل بمثابة تقوى على مفسدة إيقاع الغير في المشقة
بالتكليف والالزام، استحق الثواب. ولكن ذلك ليس لأجل مجرد الاتيان بما فيه المصلحة بل الطلب الفعلي غير الالزامي موجود على
طبقها، فان المانع لم يمنع إلا عن الالزام. واما أصل الطلب فالمقتضي له غير مزاحم بمانع، فلا بد أن يكون فعليا.
وعلى ما ذكرنا يقع الاشكال في استحقاق الثواب بالاحتياط في مجاري البراءة والأصول النافية للتكليف، إلا أن يلتزم بالاستحباب
المولوي في أوامر الاحتياط، أو يلتزم بأن ذلك ثواب الانقياد، ولذا يستحقه، خالف الواقع أو اصابه.
قوله: نعم، في كونه بهذه المرتبة موردا:
لا مناسبة معتدا بها لهذه العبارة مع المقام.
استحقاق العقوبة والمثوبة على وفق القطع
قوله: الأمر الثاني: قد عرفت أنه لا شبهة:
ان العقاب والثواب في الإطاعة والمعصية الحقيقتين، اما أن يترتبا على الخصوصيات الكامنة في النفس، من الشقاوة والسعادة
الذاتيتين، أو يترتبا على ما ينشأ من القصد: وهي الحركة الخارجية المعنونة بعنوان الإطاعة تارة، وبعنوان المعصية أخرى لكن الأول
باطل بالقطع، والثاني مختار المصنف (قده)، والثالث مختار شيخنا المرتضى (قده).
وتحقيق هذا الكلام أجنبي عن مسألة التجري، وإن أدرجه المصنف (قده) فيها
16

ومزجه بها مزجا، تحتاج فيه تصفية كل من الكلامين عن الاخر إلى إمعان النظر والبحث عن مسألة التجري وظيفة من يقول: بأن العقاب
أو الثواب في المعصية والاطاعة الحقيقيتين على الفعل. واما من يقول: بأنهما على القصد أو على تلك الخصوصية الذاتية المستتبعة
للقصد، ففي راحة عن هذا البحث. وأيضا نزاع القائلين بترتبهما على الفعل نزاع صغروي، فإنهم مع قصدهم الثواب والعقاب على
الإطاعة والمعصية الحقيقيتين، يبحثون عن ترتبهما على التجري والانقياد بحثا صغرويا، وهو:
ان القطع بحرمة شئ ليس بحرام، أو وجوب شئ ليس بواجب، هل يوجب انقلاب الفعل عما هو عليه من الحسن والقبح، بتأثير منه في
ذلك، وكذلك يوجب انقلاب الذي كان عليه، فيصير الفعل المباح بالقطع بحرمته قبيحا وحراما، ويكون إتيانه حينئذ معصية، فيستحق
عقاب العصاة. وكذلك جانب القطع بالوجوب، أو لا يوجب الانقلاب، وليس القطع من العناوين المؤثرة في الحسن والقبح والايجاب و
التحريم.
والحاصل: ان النزاع واقع في أنه هل من العناوين القبيحة فعل مقطوع القبح، وبالملازمة يثبت تحريمه شرعا، ثم يترتب عليه استحقاق
العقاب؟ والانصاف: ان سلب كونه من العناوين القبيحة ليس بذلك الوضوح، بل لا تبعد دعوى ذم العقلا على إتيان ما يعتقد الشخص
قبحه، فلو أرسل العبد ماء أو أجج نارا أو ألقى حائطا، باعتقاد ان ذلك يقع على مولاه ويهلكه، وكذا لو أرسل إليه سبعا أو ألقى نفسه من
شاهق، فإنه يذم في كل ذلك على فعله، فيكشف ذلك عن قبحه، وحيث انه لا قبح في ذاته، يكشف ذلك عن أن القبح قد أتى إليه من قبل
وصف القطع بالقبح.
نعم، فيما إذا تجري بفعل واجب أو ترك حرام، لا يبعد من عدم استحقاق الذم واللوم على الفعل، وإن كان ملوما من حيث الخبث
الفاعلي، أو يوازن بين جهات الواقع وجهات التجري، فيحكم بتأثير الأقوى منهما ملاكا، فيمكن على ذلك اتصاف الفعل المتجري به بكل
من الأحكام الخمسة، كما ذهب إليه بعض الفحول.
17

ثم إن المصنف (قده) قد استدل على عدم تحريم الفعل المتجري به، بأن الفعل بعنوان مقطوع الحرمة أو الوجوب لا يكون اختياريا، ومع
ذلك كيف يكون متعلقا للحكم، ومحكوما بالوجوب والتحريم؟ وتوضيح ما أفاده هو: ان الفعل المتجري به كشرب الماء المقطوع
بحرمته أو خمريته، له عنوانان واقعيان، وهو كونه شرب ماء وكونه مقطوع الحرمة، أو شرب مقطوع الخمرية، وعنوان واحد خيالي،
وهو كونه حراما أو كونه شرب خمر، وقد تعلق القصد به بعنوانه الخيالي، والمفروض انه ليس له واقع دون عنوانه الواقعي، أعني كونه
شرب ماء للقطع بأنه ليس له واقع، أو عنوان كونه مقطوع الحرمة، لعدم التفات القاطع إليه، وإنما هو متوجه إلى ذات ما قطع به دون
عنوان المقطوعية الآتي من قبل قطعه، فإنه غير ملتفت إليه، فما تعلق القصد به ليس له مطابق في الخارج، وما هو المتحقق في الخارج، لم
يتعلق القصد به.
واما دعوى: ان الفعل بعنوان الشرب لجنس المائع المشترك بين عنوانه الواقعي، الذي هو شرب الماء، وعنوانه الاعتقادي المقصود،
الذي هو شرب الخمر، مقصود لا محالة، وان لم يكن مقصودا بعنوان شرب الماء.
فهي محجوجة: بأن الاختيار إذا تعلق بالجنس تحت فصل من فصوله لم يكن الجنس المطلق متعلقا للاختيار، بل كان المتعلق للاختيار
خصوص الحصة الموجودة في ضمن ذلك الفصل، والمفروض انها ليست الواقعية، فليس شئ من مراتب الأجناس المتصاعدة، صادرة
بالاختيار.
والجواب عن هذا الاستدلال:
اما أولا: فبأنه إذا قصد الفعل بعنوان حرام، وكان في الواقع معنونا بعنوان آخر حرام، كفى ذلك في كون الفعل الحرام اختياريا وفي
استحقاق العقاب عليه، فلو قطع الشخص بخمرية ماء فشربه ثم ظهر انه نجس، أو اعتقد انه المصداق الكذائي للخمر فظهر انه المصداق
الاخر لها، عوقب على شربه. وأوضح من ذلك: ما لو اعتقد ان فعلا بمرتبة خاصة من تأكد الحرمة فارتكبه، ثم ظهر انه بمرتبة أخرى،
فان
18

الفعل في الجميع بعنوان انه حرام اختياري. والسر في ذلك: ان ذات الحركة الصادرة من الشخص في صورة اشتباه العنوان اختيارية و
ليست قسرية، فان الضرورة شاهدة بأن الانقباض والانبساط الحاصلين حينئذ، حاصلان عن مبدأ الاختيار، والعناوين المعتقدة من
قبيل دواعي الإرادة لا من قبيل قيود المراد.
نعم، لا يكفي مجرد هذا الاختيار في ترتب التحسين والتقبيح، المترتبين عقلا على العنوان، بل يحتاج إلى قصد ذلك العنوان الحسن و
الاخر القبيح، ولكن يكفي قصد جامع كل من العنوانين، فلو قصد عنوانا حسنا فظهر انه عنوان حسن آخر، أو قصد عنوانا قبيحا فظهر
انه عنوان قبيح آخر، ترتب على الأول التحسين وعلى الثاني التقبيح.
واما ثانيا: فالذهول عن القطع وعن عنوان المقطوعية في الغالب، ممنوع، بل أول ما يلتفت الانسان إليه هو علمه، وانه يعلم ما يعلم،
فيختار ما يعلم أنه أكل كذا أو شرب كذا والذهاب إلى كذا إلى غير ذلك، ويكفي في التقبيح الاتيان بالفعل مع العلم بانطباق عنوان
قبيح عليه، ولا يلزم أن يكون ذلك العنوان هو المحرك للعمل، فلو علم بأن فعله هذا قتل أو ضرب كان قبيحا ويذم على فعله، وإن لم
يقصده بعنوان انه قتل، بل كان له في ذلك غرض آخر.
قوله: وإن قلنا: بأنه لا يستحق مؤاخذة أو مثوبة:
سينتهي كلام المصنف (قده) إلى ما يستلزم ترتب الثواب والعقاب على الخصوصيات الذاتية، الكامنة في النفس، حيث علل تكليف العصاة
بأنه لأجل إقامة الحجة، ومرجع ذلك إلى حصول سبب العقاب، لولا التكليف، وإنما التكليف لأجل أن لإيجابه العبد مولاه، بان ذاتي ذات
طيبة، لو كنت كلفتني لرأيتني ممتثلا، وكي لا تكون له على الله الحجة.
قوله: ضرورة ان القطع بالحسن:
بل لا يبعد أن يكون القطع من الوجوه والاعتبارات المغيرة للفعل، فيكون من جملة الافعال القبيحة فعل ما يعتقد الشخص قبيحة، اما
مطلقا أو بشرط أن لا يكون فيه حسن ملزم يصادم القبح الآتي من قبل اعتقاد القبح. وما أدعاه المصنف (قده) من الضرورة، باطل. فان
ما ذكرناه لو
19

لم يكن ضروريا فلا أقل من غموض المسألة، وكونها محتاجة إلى النظر والتأمل.
قوله: لا يقصده إلا بما أنه قطع انه عليه:
إذا علم والتفت إلى انطباق عنوان قبيح على فعله، كفى ذلك في تحقق اختيار القبيح، وان لم يقصده بما انه قبيح. ودعوى الذهول عن
الانطباق المذكور، وهي الدعوى الآتية قد عرفت فسادها، بل قد عرفت ان اعتقاد انطباق عنوان قبيح خطأ، يكفي في التقبيح بالعنوان
الواقعي القبيح.
عدم استحقاق العقوبة على مخالفة القطع
قوله: إن قلت: إذا لم يكن الفعل كذلك:
لم أعرف موقعا لهذا الاشكال بعد التصريحات السابقة: بأن العقاب ليس على الفعل بل على القصد، كما أجاب به عن الاشكال. والظاهر أن
المصنف (قده) أراد بذكره ذلك التمهيد للاشكال الآتي، وفيه ما لا يخفى. ولقد كان حق الاشكال الآتي هو التقديم، وذكره عند ذكر
العقاب على القصد، وقد خلط المصنف (قده) بين مسألة التجري ومسألة ما يكون عليه العقاب في المعاصي، فتارة تتكلم في هذه و
أخرى في تلك.
والحق: ان القصد بنفسه لا يترتب عليه العقاب في أحكام العقلا، بل العقاب على فعلية مخالفة التكليف لا على مجرد قصد المخالفة، بحيث
لو دل دليل على ترتب العقاب على القصد، كشف ذلك عن تعلق النهي بالقصد، وكون القصد بنفسه مخالفة عملية للتكليف، كيف، ولو
كان القصد بنفسه موجبا لاستحقاق العقاب، لزم أن يستحق من قصد مخالفة التكليف، العقاب، وان عدل عن قصده وأطاع، أو لم يتمكن
من المخالفة، مع وضوح بطلانه.
ودعوى: ان الندم يسد مسد العقاب، مدفوعة: بأنا نفرض عدم حصول الندم عما مضى ليكون توبة، بل كان مجرد عدول عن القصد فيما
سيأتي، أو كان مجرد عدم الفعل، ولو بلا اختيار ثم إن إشكال عدم اختيارية القصد يسري إلى الفعل، فلو لم يكن القصد اختياريا يصح
العقاب عليه، ولم يكن الفعل - أيضا - اختياريا،
20

لأنه صادر بذلك القصد غير الاختياري، والمعلول لأمر غير اختياري، غير اختياري. فليس إشكال العقاب على أمر غير اختياري مختصا
بالعقاب على القصد، إلا أن يقال: إن الاختياري حيث ما يطلق، يراد منه ما كان صادرا عن مبدأ العلم بالصلاح والخير، مقابل الاضطراري
الصادر لا عن هذا المبدأ، وهذا هو الذي يترتب عليه الثواب والعقاب في حكم العقل، وهو حاصل في الفعل وغير حاصل في القصد، وإلا
لزم التسلسل، إلا أن يلتزم بأن اختيارية القصد بنحو آخر وبنفس ذاته لا بقصد آخر، كي يلزم التسلسل، واما ما ذكره المصنف (قده)،
من:
ان بعض مبادئ الاختيار غالبا يكون بالاختيار، وان لم يكن مبدأه الأول، أعني تصور الفعل، وكذا مبدأه الثاني، أعني الميل إليه
بالاختيار، وقد أوضح ذلك في حاشيته على الرسائل.
ففيه: مع أن الغلبة لا تجدي لأن المفروض استحقاق العقاب دائما ان إشكال التسلسل وارد عليه ولا يكاد يتخلص منه، فان ذلك المبدأ
الذي يكون بالاختيار يحتاج إلى مقدمات الاختيار حيث كان بالاختيار، فننقل الكلام إلى مقدمات ذلك الاختيار، فإن كانت بلا اختيار
كان الاختيار بلا اختيار، وإلا عاد هذا الكلام إلى ما لا نهاية له وتسلسل.
واما ما أجاب به أخيرا من الالتزام باستحقاق العقاب على القصد، وإن لم يكن بالاختيار، فتترتب على ما لا بالاختيار، أعني القصد
المنبعث عن الخصوصية الذاتية الكامنة في ذات العبد، حالة في العبد يعبر عنها بالبعد عن المولى، ويكون من آثارها العقاب، فالعقاب
أثر تلك الحالة، وهي أثر قصد المعصية، وقصد المعصية أثر خصوصية كامنة في ذات العبد، مثل ان طينته من عليين أو من سجين،
فالذات تؤثر في حصول العقاب تأثير العلل التكوينية في معاليلها، ولا ينافي ذلك لحوق التوبة والشفاعة وسائر موجبات الخلاص من
النار، فان الذات الموفقة للتوبة والتي تشملها الشفاعة ذات خيرة وطينتها من عليين، والذات الشريرة التي تعصي وتقود معصيتها
صاحبها إلى أن توصله إلى جهنم، لا تتوفق للتوبة ولا تصلح أن
21

تشملها العناية الإلهية والشفاعة النبوية (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى).
هذه خلاصة ما رامه المصنف (قده)، وأنت خبير بأن سلوك هذا المنهج يفضي إلى أن يكون تكليف العصاة نقمة عليهم، قائدا لهم إلى
الدركات، كما أن تكليف المطيعين يكون رحمة لهم، موصلا لهم إلى الدرجات، فإن ظهور الخصوصيات الكامنة بالقرب والبعد الفعليين
يكون بسبب التكليف، فيطيع طائفة المطيعين، فيستحقون بذلك الدرجات، ويكون تكليفهم لطفا لهم وموجبا لفعلية كمالاتهم، ويعصي
طائفة العصاة فيستحقون بها الدركات، ويكون تكليفهم قهرا عليهم، موجبا لفعلية نقائصهم الذاتية.
والذي يختلج بالبال: هو ان التكليف الذي هو هداية السبيل المترتب عليه كون المكلف (إما شاكرا وإما كفورا)، لطف من الله العزيز،
لأجل تكميل النفوس وإيصالها إلى كمالاتها الفعلية، من غير فرق بين العصاة والمطيعين، وحيث إن الوصول إلى تلك الكمالات لا يكون
إلا بإتعاب النفس وحملها على المشاق، بالإرادة والاختيار، كما قال شاعر العجم: (نابرده رنج گنج ميسر نميشود)، والمشقة المكملة
إحدى مشقتين: مشقة العمل بالتكليف في دار التكليف، ومشقة العقاب في دار الجزاء، فإذا اختار المكلف مشقة دار التكليف، كمل في دار
التكليف واستحق نعيم الجنان، بمجرد الرحلة من هذه الدنيا، وإذا اختار مشقة العذاب، احتاج إلى التكميل في الدار الآخرة بالعقاب، فإذا
عوقب التحق بأولئك الأولين، وقد اختار المولى اختيار المشقة الأولى، لكونها أهون بمراتب في جنب عذاب الآخرة.
لكن هذا المنهج لا ينجح عموما ولا يصحح الخلود في نار جهنم، وقد أنكر الخلود في العذاب بعض أهل المعقول مع الاعتراف بالخلود في
نار جهنم، قائلا: بأن أهل جهنم ينتهي شأنهم إلى الالتذاذ بنار جهنم والانس بمؤلماتها. وأنت خبير: بأن كل ما يقال في أمثال هذه
المسائل التي لا سبيل إلى العلم بحقيقة الحال فيها، ان لم يكن كفرا، فهو فضول ورجم بالغيب وتخرص، والمتبع في ذلك كلام أهل
الوحي، فكل
22

ما يصدر منهم نؤمن به وكل ما سوى ذلك نكفر به.
ما يرد على بعث الرسل وغيره
قوله: ويكون حجة على من سأت سريرته:
أي يكون قاطعا سبيل الاعتراض عنهم، بمثل (لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك)، وأنت خبير: بأن التكليف لغرض العقاب من أقبح
ما يكون، ويظهر من هذه العبارة: أن تلك الخصوصية الذاتية هي المستتبعة للعقاب، وان الاستحقاق ثابت بلا توسط قصد المعصية، وان
التكليف لمجرد قطع اعتراضهم ومقتضى ما سبق منه أن يكون التكليف هو المحصل لسبب الاستحقاق، وهو القصد إلى العصيان، وهو
أشد فسادا من هذا، لما عرفت من أنه مستلزم لان يكون التكليف نقمة على العصاة، كما كان رحمة للمؤمنين الأبرار.
قوله: إذ للخصم أن يقول: بأن استحقاق:
مقصوده: ان المصادف قطعه للواقع هو الذي خالف وعصى عن عهد، واما غير المصادف فلم يتحقق منه اختيار المعصية الواقعية.
نعم، المتحقق منه اختيار ما تخيله معصية، فظهر عدمها، فهو غير عاص بلا اختيار، وغير العاصي بلا اختيار لا يستحق العقاب كغير
العاصي بالاختيار، فان الاستحقاق يحتاج إلى سبب اختياري، فإذا انتفى، انتفى الاستحقاق، كمن ترك المعاصي نسيانا أو لا عن شعور.
قوله: بل عدم صدور فعل منه:
مقصوده: التفصيل بين الجهل بالحكم والجهل بالموضوع.
ففي الأول: نفس الفعل الصادر من المتجري اختياري، وعدم كونه معصية لا بالاختيار.
واما في الثاني: فنفس الفعل خارج عن الاختيار. وقد تقدم توضيح القول في عدم اختيارية الفعل، مع جوابه.
23

قوله: كما لا وجه لتداخلهما:
نعم، لا وجه لتداخلهما إذا كان أحد الاستحقاقين بسبب القصد والاخر بسبب الفعل، واما إذا كان أحد الاستحقاقين بالقصد والاخر
بالفعل المجرد، الصادر عن القصد، وقد تكرر القصد في المقامين، فلا جرم يكون في مورد الفعل الصادر عن القصد سبب واحد، لان
القصد واحد، ومعه يتحد المسبب البتة، مع أنه يحتمل أن يكون المراد من التداخل اشتداد العقاب لا سقوط التأثير عن أحد السببين رأسا.
إلا أن يقال: أن الاشتداد إن كان بمعنى الجمع بين العقابين، فهو ليس تداخلا، وإلا فما ذا يكون عدم التداخل في المقام؟ وإن كان بمعنى
الشدة في السنخ الواحد من العقاب، فلا وجه له مع فرض اختلاف موجب العقاب في السنخ، وهو عين عدم التداخل مع فرض عدم
الاختلاف.
أقسام القطع وأحكامها
قوله: وقد يؤخذ في موضوع حكم آخر يخالف:
في العبارة تسامح، ومقصوده جواز أخذ القطع بحكم في موضوع حكم آخر متعلق بموضوع آخر، كما إذا أخذ القطع بحرمة الخمر قيدا
لموضوع وجوب التصدق، أو لموضوع حرمة الكذب، وكون متعلق القطع هو الحكم المماثل، كما في الصورة الثانية، أو المخالف كما في
الأولى، حيث إنهما، أعني الحكم المترتب على القطع والحكم المتعلق به القطع، في موضوعين، فلا يلزم اجتماع الضدين أو المثلين.
نعم، يستحيل أخذه قيدا في نفس موضوع الحكم الأول، الذي تعلق به القطع للزوم اجتماع المثلين أو الضدين، بنحو يكون أحدهما
استقلاليا والاخر ضمنيا في متعلق الحكم الأول، وإن لم يلزم ذلك في متعلق الحكم الثاني.
قوله: وفي كل منهما يؤخذ طورا بما هو كاشف:
فان للقطع جهتين وحيثيتين:
جهة كونه صفة من صفات النفس، وفي هذه الجهة يشارك سائر صفات النفس، من الجود والشجاعة والعدالة. وجهة كونه ذا كشف و
حكاية عن متعلقه، وفي هذه
24

الجهة يمتاز عن سائر الصفات النفسانية، إذ ليس فيها هذا الكشف.
وحينئذ قد يؤخذ في الموضوع بجهته الأولى، كما قد يؤخذ فيه بجهته الثانية.
ويمكن أن يؤخذ فيه بكلتا الجهتين، كأخذ زيد في الحكم بما هو عالم وهاشمي جميعا.
ولكن الحق بطلان التقسيم المذكور. بيان ذلك: ان الحكم إن تعلق بالقطع بما هو صفة، كان اللازم أن يعم الحكم سائر الصفات أيضا،
لما تقدم من مشاركته بهذه الجهة لسائر صفات النفس، مع أنهم لا يلتزمون به، وخلاف المفروض من تعلق الحكم بالقطع. وان اختص
الحكم بالقطع، كان ذلك الحكم حكما على جهة كشفه وواردا على فصله، المميز له عن سائر الصفات، وليس ذلك إلا جهة كشفه عن
الواقع، إذ ليس له جهة مميزة غيره.
وبالجملة: ان تعلق الحكم بالجهة المميزة، كان ذلك حكما على القطع بما هو كاشف، وان تعلق الحكم بالجهة المشتركة، لم يكن ذلك
حكما على القطع، بل حكما على كل صفة للنفس ومن ذلك القطع.
نعم، لا بأس بالحكم عليه تارة بما هو كاشف بإلغاء جهة كونه صفة للنفس، أو أخرى بما هو صفة خاصة كاشفة عن الواقع، فيكون الدخيل
في الموضوع على الأول محض جهة الكشف، وعلى الثاني جهة الصفتية منضما إلى جهة الكشف.
وربما يتوهم: ان القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الكشف لا يعقل أن يكون على وجه تمام الموضوع، وهو توهم ناشئ من حسبان
ان المراد من الكشف هنا الكشف الحقيقي، الموجود في العلم، مع أن المراد منه الكشف الزعمي، أعني به الكشف في نظر القاطع، فان
القطع هو الاعتقاد الجازم، والعلم هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع.
نعم، أخذ العلم في الموضوع على وجه تمام الموضوع غير معقول.
قوله: من الصفات الحقيقية ذات الإضافة:
أخرج بالقيد الأول الصفات الاعتبارية التي لا وجود لها في الخارج، فإن العلم ان لم يكن جوهرا وعين النفس
25

فلا أقل من كونه صفة حقيقية قائمة بها، وبالقيد الثاني أخرج سائر الصفات الحقيقية، التي لا إضافة لها إلى شئ، كالشجاعة والجبن و
الكرم والبخل، ولكن لا يخفى ان إضافة العلم إلى الخارج، وبعبارة أخرى إضافة المعلوم بالذات إلى المعلوم بالعرض، ليست إلا بمعنى
التطابق بين الامرين، وكون ما في النفس عالما عقليا مضاهيا للعالم الحسي، وإلا فأي نسبة وإضافة منقولية بين الصور المجردة
العقلية، والصور المادية الخارجية؟.
قوله: ثم لا ريب في قيام الطرق والامارات:
هذا البحث راجع إلى مقام الاثبات، وإن أدلة التنزيل ناهضة بتنزيل الامارات منزلة القطع بأقسامه، أو غير ناهضة إلا بتنزيلها منزلة
القطع الطريقي، وخصوص القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الكشف، أو غير ناهضة إلا بالتنزيل منزلة القطع الطريقي فقط، وإلا
ففي مقام الثبوت لا إشكال في إمكان قيام الامارات مقام القطع بأقسامه، وفي إمكان التعبير عن ذلك بعبارة واحدة جامعة.
فالنزاع في أن مثل تنزيل الظن منزلة القطع ونحوها من العبارات المشتملة عليها أدلة الاعتبار، وافية بمجموع التنزيلات الثلاثة، أو غير
وافية إلا بتنزيل واحد، بل لا يمكن شمولهما لأزيد من تنزيل واحد حسب زعم المصنف (قده)، أو بتنزيلين، أعني بهما تنزيل الظن منزلة
القطع الطريقي وتنزيله منزلة القطع المأخوذ في الموضوع على جهة الكشف، كما ذهب إليه شيخنا المرتضى (قده).
والحق: ان أدلة الاعتبار غير ناظرة إلى تنزيل الظن منزلة القطع المأخوذ في الموضوع رأسا، بل مفادها ليس إلا جعل المؤدى، كما هو
صريح قوله عليه السلام:
(ما يقوله عني فعني يقول) فلا حاجة بعد ذلك إلى البحث عن إمكان إرادتهما جميعا من هذه العبارة.
نعم: هاهنا أمر آخر، وهو انه هل يغني تنزيل الظن منزلة القطع الطريق عن تنزيله منزلة القطع الموضوعي مستقلا، لأنه يستفاد تنزيله
منه بالالتزام، أو يغني تنزيل الظن منزلة القطع الموضوعي عن تنزيله منزلة القطع الطريقي، عكس ما قلناه
26

أولا، لاستفادته منه التزاما، فيترتب على الظن آثار القطع الموضوعي بكلا قسميه والقطع الطريق أو لا يغني أحدهما عن الاخر. هذا بناء
على أن المجعول في الطرق والامارات هو المؤدى.
واما بناء على مذهب المصنف (قده) من أن الحجية أمر قابل للجعل، وان مؤدى أدلة الاعتبار هو ذلك، فالامر واضح جدا. ويكفي تنزيل
الظن منزلة القطع في ترتب تمام الآثار، لان الحجية من أحكام نفس القطع عقلا، فإذا فرضنا: ان الشارع أيضا رتب عليه حكمين آخرين:
أحدهما بجهة كاشفيته والاخر بجهة صفتيته، فصار القطع ذا أحكام ثلاثة: أحدها عقلي والاخران شرعيان، فتنزيل الشارع الظن منزلة
القطع تترتب عليه أحكامه الثلاثة، فيصير الظن منجزا شرعا، كما كان القطع منجزا عقلا، ولا حاجة في هذا التنزيل إلى لحاظ القطع آليا،
ليلزم اجتماع اللحاظين: لحاظه كذلك مع لحاظه استقلالا، لان الحجية حكم نفس القطع، والقطع موضوع فيها، كما هو موضوع في
الحكمين الآخرين، فلا حاجة إلى لحاظ المؤدي في حصول هذا التنزيل، ليكون القطع مأخوذا على سبيل المرآتية له، بل تلحظ نفس صفة
الظن ونفس صفة القطع، وتنزل تلك منزلة هذه، فتترتب به الأحكام الثلاثة.
ثم لو أغمضنا عن هذا المسلك وقلنا: بان الحجية غير قابلة للجعل، وإنما القابل للجعل هو الحكم التكليفي على طبق مؤدى الامارات،
أمكن تنزيل مؤدى الظن منزلة المقطوع بلحاظ الظن والقطع آليا ومرآة إلى المتعلق، فيكون هذا مدلول أدلة الاعتبار مطابقة، ثم
يحصل تنزيل الظن منزلة القطع في أحكام القطع بالدلالة الالتزامية، وإن شئت قلت: تنزيل القطع بهذا الحكم الظاهري المجعول على
طبق المؤدى، منزلة القطع بالحكم الواقعي فيما يترتب عليه من الاحكام، بجهته الصفتية والكشفية. وهو الذي نقله المصنف (قده) من
حاشيته على الرسائل، ثم أورد عليه.
وسيجئ دفع الاشكال.
لكن يتجه عليه منع التلازم بين التنزيلين، ولذا لا ملازمة بين تنزيل زيد منزلة
27

الأسد، وبين تنزيل أبيه منزلة أبي الأسد وأخيه منزلة أخي الأسد.
وهناك تقرير ثالث يصحح ما صار إليه شيخنا المرتضى (قده)، وهو: ان يكون دليل التنزيل متمما لجهة كشف الظن وحاكما بإلغاء
احتمال خطأه، وان كشفه الناقص هو ذلك الكشف التام القطعي، مريدا بذلك جعل حكم القطع المترتب على جهة كشفه للظن بالمطابقة،
وأيضا جعل مؤدى الظن بالملازمة العرفية بين الجعل الأول والجعل الثاني.
لكن الملازمة باطلة، كما عرفت في نظيره، فيصار المتحصل عدم معقولية تكفل دليل تنزيل الظن منزلة القطع بالتنزيلين بعد عدم ثبوت
التلازم بينهما.
لكن ذلك على مسلك جعل المؤدى في الامارات، لا على ما ذهب إليه المصنف (قده) من جعل الحجية، فان المعقولية على هذا أوضح من
الشمس، كما عرفت.
قوله: ولحاظه في أحدهما آلي وفي الاخر استقلالي:
يعني ان لحاظ الظن والقطع في تنزيل المؤدى التي يشار به إلى المؤدي، وقد أتي بهما للعبرة للمؤدى، كما في لفظ التبين في قوله
تعالى (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) ونظيره سائر الكنايات، مثل طويل النجاد ومهزول الفصيل، وفي تنزيل
أنفسهما استقلالي، كما في مثل زيد عالم وعمرو ظان، ومن المعلوم: ان في استعمال واحد لا يمكن الجمع بين المعنى الحقيقي و
الكنائي، فيراد من طويل النجاد طول النجاد وطول القامة.
قوله: في الحقيقة إلى الواقع ومؤدى الطريق:
هذا الكلام ليس من حق المصنف (قده)، فان مؤدى دليل الاعتبار عنده ليس هو جعل المؤدى، بل جعل الحجية للظن، نحو ما هو منجعل
تكوينا للقطع.
نعم، الاشكال متجه على شيخنا المرتضى (قده) حيث جمع بين التنزيلين، مع ذهابه إلى جعل المؤدى، إلا أن يقول باستفادة تنزيل
المؤدى والمنكشف من أدلة الاعتبار بالدلالة الالتزامية، على أن يكون دليل الاعتبار بمدلول المطابقي، متكفلا
28

بتنزيل الكشف الناقص الظني منزلة الكشف التام القطعي، وبالمدلول الالتزامي، مفيدا لتنزيل المظنون منزلة المقطوع. لكن عرفت منع
الملازمة.
قوله: ولا يكاد يمكن الجمع بينهما:
بل لو أمكن الجمع بينهما لتوقف الحكم به على دلالة دليل، فهو كاستعمال المشترك في أكثر من معنى واحد، إذا جوزناه في احتياج
إرادتهما إلى قرينة، ومع عدمها يحكم بالاجمال.
قوله: نعم، لو كان في البين ما بمفهومه جامع:
يعني لو كان في البين مفهوم واحد يكون أحد مصاديقه هو الواقع والاخر هو الظن، وأتي به في مقام التنزيل، نهض ذلك بإثبات
التنزيل من غير حاجة إلى تعدد اللحاظ، كما يحتاج إليه في مثل عبارة الظن منزل منزلة العلم، أو صدق الظن، لكن ليس لنا مثل هذا
المفهوم.
وبالجملة: القصود انما هو في الدليل ومقام الاثبات، وإلا فليس الجمع بين التنزيلين أمرا ممتنعا بحسب مقام الواقع والثبوت.
قوله: فيكون حجة موجبة لتنجز متعلقه:
قد عرفت ان جعل الحجية غير منوط بلحاظ الظن والقطع آليا، بل اللحاظ كذلك مضر به، لان الحجية من أحكام نفس القطع عقلا، فتكون
من أحكام نفس الظن بالجعل والتنزيل.
نعم، جعل المؤدى يحتاج إلى اللحاظ فيكون القطع بهذا المؤدى المجعول حجة عقلية، كالقطع بالحكم الواقعي، بل لا يعقل لجعل الحجية
معنى سوى ذلك وما ليس بحجة لا يكون حجة، بقول: جعلته حجة، فالحجة منحصرة في القطع وليس وراء القطع شئ، يكون هو الحجة.
نعم، لا فرق في القطع الذي يكون حجة بين أن يكون متعلقا بالحكم الواقعي، وأن يكون متعلقا بالحكم الظاهري.
وبالجملة: معنى جعلت الظن حجة جعل مؤداه، فيكون المظنون منجزا كالمقطوع، لكن منجزه هو القطع بذلك الحكم المجعول، ولذلك لا
يتنجز بمجرد الظن به لولا القطع بجعل المظنون كالمقطوع، إلا إذا تمت مقدمات الانسداد وكانت نتيجتها حجية الظن عقلا على سبيل
الحكومة، فان الظن حينئذ هو المنجز، كالقطع عند الانفتاح.
29

والحاصل: ان ما يكون حجة بالذات لا يخرج عن الحجية، وما ليس حجة بالذات لا يدخل في الحجية، فجعل الحجية باطل، كرفعها.
قوله: واما الأصول فلا معنى لقيامها مقامه:
إن أراد قصور أدلة الأصول عن إفادة القيام مقام الواقع، وإن لسانها جعل الوظيفة عند عدم تيسر العلم بالواقع.
ففيه: ان جريان هذا البحث لا يتوقف على كون أدلة الاعتبار بلسان التنزيل منزلة الواقع، ولذا يجري هذا البحث في الاستصحاب -
باعتراف المصنف (قده) - مع اشتراك دليله مع أدلة سائر الأصول، في عدم كونه بلسان التنزيل، بل بلسان عدم نقض اليقين. فيعلم: ان
مناط هذا البحث وملاكه ما يعم ذلك، وهو أخذ اليقين أو الظن في لسان الدليل.
وان أراد: عدم معقولية التنزيل مقام الواقع في جعل الأصول، لعدم نظرها إلى الواقع وحكايتها عنه، كما هو قضية التعبير بقوله: فلا
معنى لقيامها مقامه.
ففيه: ان التنزيل ومعقوليته لا يختص بباب الامارات، وهل الطواف أمارة، حتى صح أن يقال: الطواف بالبيت صلاة؟ فكما صح أن يقال:
الظن كالعلم بقصد تنزيل المؤدى، أو بإرادة تتميم الكشف، صح أن يقال: ما لم تعلم حرمته كما علمت حليته بقصد جعل الحل، أو بإرادة
جعل أحكام العلم بالحل، طابق النعل بالنعل. ثم إن العبارة، ظاهرها: انه لا معنى لقيام الأصول مقام الواقع، كما لا معنى لقيامها مقام
القطع، فتمتاز الأصول عن الامارات في عدم القيام مقام الواقع، حيث أن الامارات كانت تقوم مقام الواقع، وانما لم تكن تقوم مقام القطع
فقط.
هذا، ولكن مقتضى تعليله بقوله: لوضوح أن المراد... إلخ، هو عدم القيام مقام القطع.
وذلك لوضوح: ان التنجيز من أحكام القطع وخواصه لا من أحكام الواقع.
لكن المصنف (قده) حكم في الامارات بالتنجيز مع حكمه بأن مفاد أدلة اعتبارها هو تنزيل المؤدى منزلة الواقع لا تنزيل نفسها منزلة
القطع. ولم أدر، كيف جمع بين الامرين
30

قوله: واما النقلي: فإلزام الشارع به:
إلزام الشارع بالاحتياط ليس إلزاما نفسيا في عرض الواقع، بل ناشئ من فعلية التكليف في ظرف الجهل، وعدم رفع اليد عنه بسببه. و
في الحقيقة يكون إلزامه إرشادا إلى حكم العقل وتنبيها على أن الحكم بمثابة لا يعذر فيه بالجهل، ويكون منجزا بحكم العقل بمجرد
الاحتمال، فيكون المنجز هو الاحتمال، كما في موارد الدماء والفروج، كما أن المنجز هو العلم التفصيلي تارة، والاجمالي أخرى فتأثير
كل من العلم التفصيلي والاجمالي والاحتمال في تنجيز التكليف في عرض واحد عقلي ليس بجعل الشارع، بل قد عرفت: ان التنجيز و
الحجية لا يعقل أن يكون بالجعل، بل لا بد أن يكون ذاتيا وبحكم العقل.
قوله: فإنه لا يكاد يصح تنزيل جز الموضوع:
لا يخفى أن الاحكام لم تجعل ابتدأ بالانشاءات اللفظية بل هي مجعولة في الواقع مرسومة في اللوح المحفوظ، وهذه الانشاءات الصادرة
بالخطابات قوالب لتلك الواقعيات، فإذا جعل مؤدى الاستصحاب أو سائر الأصول، وكذلك مؤدى الامارات، حكما ظاهريا في حق
المكلف في اللوح المحفوظ، وقلنا: بأن ذلك يستلزم ويستتبع جعلا آخر في ذلك المقام متعلقا بالقطع بذلك الحكم الظاهري، وانه
كالقطع بالحكم الواقعي، فيما يترتب عليه من الاحكام، ثم علمنا: بدليل التنزيل بذلك الحكم الأول، علمنا:
بالدلالة الالتزامية الثابتة لهذا الدليل بهذا الحكم الثاني.
نعم، مصداق متعلق الحكم الثاني يتحقق بعد ورود الخطاب بالحكم الأول، إذ به يعلم الحكم الظاهري المجعول موضوعا للحكم الثاني و
هذا مما لا بأس به ولا محذور يترتب عليه على فرض تسليم الملازمة بين الجعلين، إلا أن الملازمة ممنوعة، فإنه يمكن التفكيك بين
التنزيلين، فينزل مؤدى الامارات والأصول منزلة الحكم الواقعي ولا ينزل القطع به منزلة القطع بالحكم الواقعي.
وقد عرفت: ان تنزيل زيد منزلة الأسد لا يستلزم تنزيل أبيه منزلة أبي الأسد وهكذا، ليكون أقارب زيد كلهم أسود بهذا التنزيل.
وبالجملة: لا مانع من جعل الحكم الظاهري وجعل القطع بالحكم الظاهري
31

كالقطع بالحكم الواقعي في الآثار، في عرض واحد، وإن كان حصول القطع بالحكم الظاهري في رتبة متأخرة عن جعل الحكم
الظاهري، إلا أن تنزيل القطع بالحكم الظاهري منزلة القطع بالحكم الواقعي لا يتوقف على حصول القطع في الخارج، ليكون جعل حكمه
متأخرا عن جعل ذلك الحكم الظاهري بمرتبتين، فان الحكم متأخر عن موضوعه لحاظا وتصورا لا خارجا، فما أورده المصنف (قده)
هنا على ما أفاده في الحاشية من إشكال الدور ليس في محله، بل ما أفاده في الحاشية هو الصواب لولا أن الملازمة بين الجعلين باطلة،
فلا يدل دليل جعل المؤدى على جعل أحكام القطع بالواقع للقطع بالمؤدى.
نعم، لو لم يكن المؤدى بنفسه حكما شرعيا قابلا للجعل أو موضوعا لحكم شرعي مستقلا، بل كان موضوعا على سبيل قيد الموضوع و
جزئه، بأن كان الأثر مرتبا على القطع بالمؤدى كما إذا أخبرت البينة بحياة الولد ولم تكن الحياة بنفسها منشأ للأثر، بل كان الأثر
للقطع بالحياة، لم يصح تنزيل المؤدى بلحاظ ذلك الأثر المشترك، لان التنزيل المذكور يتوقف على تنزيل الجز الاخر بعد عدم
إحرازه بالوجدان، كما في المقام وتنزيل الجز الاخر يتوقف على هذا التنزيل، لان الملازمة بين تنزيل المؤدى منزلة الواقع وتنزيل
القطع بالواقع التنزيلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي، فيلزم الدور، كما ذكره المصنف (قده).
قوله: في موضوع نفس هذا الحكم للزوم الدور:
وكذا لزوم الخلف، فان مقتضى تعلق القطع بالحكم أن يكون الحكم ثابتا للموضوع مع قطع النظر عن متعلق القطع به فلو فرض دخل
تعلق القطع به في ثبوته، كان خلفا، وأيضا يلزم اجتماع النقيضين، أعني دخل القطع في الموضوع وعدمه.
قوله: نعم، يصح أخذ القطع بمرتبة من الحكم:
وقيل لا يصح بعين الوجه الذي لم يكن يصح به أخذ القطع بحكم في موضوع نفس ذلك الحكم.
بيان ذلك: ان كل مرتبة من الحكم تقوم بما قامت به مرتبته الأخرى، ولا تقوم مرتبة الفعلية بغير ما قامت به مرتبة الانشاء، وإلا لم تكن
الفعلية فعلية
32

تلك الانشاء، بل فعلية مرتبة انشاء قائمة بما قامت به هذه الفعلية، فالانشاء الذي يصير بالقطع فعليا، إن كان انشاء هذا الفعلي لزم دخل
القطع فيه، كدخله في الفعلية، فيكون القطع بالحكم الانشائي دخيلا في الحكم الانشائي، وهذا محال. وإن كان انشاء غير هذا الفعلي، لم
يكن ذلك من أخذ القطع بمرتبة من الحكم في موضوع، مرتبة أخرى منه.
ولكن المختار: صحة أخذ القطع بمرتبة من الحكم في موضوع مرتبة أخرى منه، فيؤثر القطع المتعلق بالمصلحة في بلوغها إلى درجة
التأثير في الفعلية، وذلك لأن مرتبة الفعلية انما تقوم بما قامت به مرتبة الانشاء، إذا كانت مرتبة الانشاء علة تامة للفعلية، اما إذا كانت
من مجرد الاقتضاء، فلا محيص من دخل عدم المانع في الفعلية مع عدم دخله في الاقتضاء، وليكون المقام من ذلك، فيكون القطع مزيلا
للمانع المتمم لفعلية التأثير.
قوله: لاستلزامه الظن باجتماع الضدين:
بل ونفس اجتماع الضدين أو المثلين في صورة الإصابة.
قوله: يمكن أن يكون الحكم فعليا:
لا يخفى أن تغيير العبارة وتسمية ما ليس بفعلي فعليا، لا يرفع الاشكال، فإنا نقول: إن الإرادة أو الكراهة التي هي مرتبة الفعلية إن
كانت موجودة على طبق الواقعيات والأحكام الشرعية، من لزوم العمل بالظن أو حرمته، لزم ما ذكر من اجتماع الضدين أو المثلين
اعتقادا مطلقا وواقعا في صورة المصادفة، وإن لم تكن موجودة على طبقها لزم أن لا تتنجز بالقطع بها، لان القطع المتعلق بالحكم غير
الفعلي لا أثر له في التنجيز مع ضرورة تنجز الأحكام الشرعية بتعلق القطع بها. ودعوى: انها بالقطع بها تصير فعلية، لما ذكر من جواز
أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أخرى منه. يدفعها: ان هذا القطع لا يعقل أن يكون مؤثرا في التنجيز، فان مرتبة التنجيز لا بد أن
تكون متأخرة عن مرتبة الفعلية، فإذا صار الحكم بالقطع (فعليا توقف تنجزه على قطع آخر يتعلق بذلك الذي صار فعليا بالقطع، بأن
يعلم المكلف ان قطعه هذا أثر في فعلية
33

الحكم، وإلا فهو معذور في ترك الامتثال، كما في سائر الأحكام الفعلية إذا جهلها.
والحاصل: ان القطع الواحد لا يؤثر في الفعلية والتنجيز جميعا، مع ضرورة تنجز الأحكام الشرعية بالقطع بها بلا قطع آخر، فيعلم انها
فعلية مع قطع النظر عن القطع، وقد تعلق القطع بالحكم الفعلي، ولذا أثر في تنجيزه. فإشكال اجتماع المثلين أو الضدين فيما إذا أوجب
العمل بالظن بتلك الاحكام، أو حرم، يكون بحاله. وبالجملة: لا يمكن الجمع بين القول بجواز إيجاب العمل بالظن بالتكليف أو تحريمه،
وبين القول بتنجز ذلك التكليف بالعلم به، فإن قضية الثاني فعليته لولا العلم، وقضية الأول عدم فعليته وإلا لزم اجتماع المثلين أو
الضدين، لكن تنجز الاحكام في الشريعة بالقطع مما لا ريب فيه، فلا بد من رفع اليد عن القول بجواز إيجاب العمل بالظن. وحينئذ يكون
معنى صدق الظن أو صدق الامارة الفلانية فعلية الواقع عند المطابقة، ورفع اليد عنه عند المخالفة.
قوله: إن قلت كيف يمكن ذلك:
هذا الاشكال وجوابه عين الاشكال السابق وجوابه، فكان اللازم الاقتصار على أحدهما وترك الاخر.
الموافقة الالتزامية
قوله: يقتضي موافقته التزاما:
لم أفهم المراد من الموافقة الالتزامية، وهل في النفس شئ يقال له: الموافقة الالتزامية. وراء العزم والتوطين على الامتثال فيما سيأتي. و
وراء الاذعان والتصديق بصدور هذه التكاليف من المولى الذي هو التصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وآله، وورأ كون الداعي
على الامتثال طلب المولى، الذي هو معنى إتيان الفعل على وجه العبودية وورأ إتيان الفعل بالطوع والرغبة وطيب النفس، مقابل
إتيانه بالكره والاجبار وخوفا من العقاب، وليس شئ من ذلك من الموافقة الالتزامية في كلامهم، كما هو واضح، ولا أرى في النفس
شيئا سوى ما تقدم يكون هو الموافقة الالتزامية ويشبه أن يكون ذلك نظير
34

الكلام النفسي الذي أثبته الأشاعرة. ثم إن تعرض المصنف (قده) لهذا البحث هنا انما هو لبيان جريان الأصول في أطراف العلم الاجمالي
مع عدم ترتب مخالفة عملية عليها. وهذا البحث يختص بمن يرى عموم أدلة الأصول للاطراف، فيبحث حينئذ عن منع المخالفة الالتزامية
عنه، كمنع المخالفة العملية عنه، واما من يرى عدم العموم، ففي فسحة عن هذا البحث لهذا الغرض، وأيضا انما يحتاج إلى هذا البحث إذا
صدقت الشرطية، أعني كان من أثر إجراء الأصول في الأطراف، إلغاء العلم الاجمالي في الالتزام، وهو عندي محل نظر، وتحقيقه يظهر
من بيان ما يجب الالتزام به من التكاليف.
فنقول: متعلق وجوب الالتزام اما أن يكون هي التكاليف الفعلية المنجزة، كما يظهر من جعله عدلا للموافقة العملية، أو الأعم منها ومن
التكاليف غير المنجزة، بل والواقعية غير الفعلية. غاية الأمر: التزام كل على ما هو عليه من الشأن والمنزلة، فيلتزم في التكليف الفعلي
المنجز بتكليف فعلي منجز، وفي التكليف غير المنجز بتكليف غير منجز، وفي التكليف غير الفعلي بتكليف غير فعلي. وعلى كل تقدير
لا نعقل أن يلزم من إجزاء الأصول مخالفة التزامية أو ترك موافقة عملية.
اما على الأول فواضح، إذ بعد جريان دليل الحكم الظاهري لتعيين حكم العمل، وحكمه بإباحة الفعل المردد بين الوجوب والحرمة، لا
يبقى إلزام منجز ليلتزم به، فيكون الالتزام دائما في مرتبة متأخرة عن تنجز الحكم، فلا يعقل أن يكون وجوبه مزاحما لما يكون رافعا
للتنجز أو للفعلية.
واما على الثاني: فلان الحكمين لعمل واحد، إن أمكن اجتماعهما خارجا، مع قطع النظر عن لزوم مخالفة التزامية، بأن يكون أحدهما
واقعيا والاخر ظاهريا، أو يكون أحدهما اختياريا والاخر اضطراريا، لم يكن هناك ما يتصور أن يكون مانعا من التزامه، فتجري
الأصول لاثبات حكم ظاهري، ومع ذلك يكون الحكم الواقعي محفوظا في مرتبته، ويلتزم المكلف بهما معا، فأين لزوم ترك الالتزام
35

بالحكم الواقعي من إجزاء الأصول في الأطراف؟ ولعمري ان ذلك، أعني عدم لزوم المخالفة الالتزامية بإجراء الأصول في الأطراف،
واضح لا سترة عليه. ولا أدري كيف خفي على هؤلاء الفحول فأتعبوا أنفسهم في منع بطلان اللازم بإنكار وجوب الالتزام رأسا، أو
الاعتراف به، وإنكار لزوم الالتزام بالأحكام تفصيلا، وانه يلتزم بما هو الثابت في الواقع، وإن لم يعلم بتفصيله، وهو يجتمع مع إجراء
الأصول، ودعوى سقوطه بعد الاعتراف بثبوته، بعدم القدرة عليه عند الاشتباه وعدم المعرفة به، والمفروض عدم الظفر به بعد
الفحص عنه، فان الالتزام بالواقع تفصيلا غير مقدور، والالتزام بأحد الاحتمالين تخييرا، فرارا عن لزوم المخالفة القطعية لخطاب التزم
مستلزم للوقوع في محذور احتمال التشريع، أو دعوى ان الالتزام يجب بحكم العقل فيما لا يشمله عموم أدلة الأصول دون ما يشمله.
وأنت خبير: بأن كل ذلك مستغنى عنه، وان الالتزام بالحكم الواقعي تفصيلا على تقدير التمكن منه، أو الالتزام بأحد المحتملين من
الوجوب والحرمة، فيما إذا تردد الامر بينهما، يجتمع مع إجراء الأصول في كل من الاحتمالين، كالحكم بالإباحة في المردد بين الوجوب
والحرمة.
قوله: تجب، ولو فيما لا يجب عليه الموافقة:
إذا لم تحرم الموافقة القطعية، لعدم التمكن من تركها، بل وكذا الموافقة القطعية. كان معنى ذلك سقوط التكليف بالتعذر، ومع ذلك لا
يبقى شئ يلتزم به، إلا أن يقال: بوجوب الالتزام بالتكاليف الواقعية، وإن لم تبلغ مرتبة الفعلية.
قوله: لما كانت موافقته القطعية الالتزامية حينئذ ممكنة:
وذلك لغرض الفحص واليأس عن الظفر بالتكليف، ووصول النوبة إلى إجراء البراءة. ويمكن أن يقال: إن التمكن العقلي من موافقة
التكليف لا يرتفع بمجرد اليأس عن الظفر بالدليل الموجب لجريان الأصل، فلأجل امتثال وجوب الالتزام يجب الفحص حتى يحصل
القطع بعدم التكليف، ولا يقتصر على الفحص المعتبر في البراءة.
36

والذي يهون الامر، بل يوجب عدم الالزام بالفحص من جهة امتثال وجوب الالتزام، ان الشك في توجه هذا التكليف عند العلم الاجمالي
بأحد الحكمين الالزاميين، بدوي للشك في القدرة على امتثاله بالظفر بما يدل على أحدهما، فتجري البراءة عن وجوب الالتزام إلا أن
يقال: إن وجوب الالتزام عقلي لا شرعي، ولا معنى لاجراء البراءة عن الحكم العقلي.
نعم، لا يبعد عدم حكم العقل بوجوب الالتزام عند الفحص واليأس عن الظفر بدليل يعين أحد الحكمين، كما لا يحكم بوجوب الإطاعة،
عملا عند الفحص واليأس كذلك.
قوله: فان محذور الالتزام بضد التكليف عقلا ليس بأقل:
يعني انه بعد عدم التمكن من الالتزام بالتكليف الواقعي على وجه القطع بالالتزام بالوجوب والحرمة جميعا، تجب الموافقة الاحتمالية
بالالتزام بأحدهما، إن كان المكلف متمكنا منها. لكنه غير متمكن، لدوران الامر في ذلك بين محذورين، فإنه بأيهما التزم، اما أن يكون
التزامه به واجبا، إن كان الحكم هو الذي التزم به، أو يكون حراما، إن كان الحكم غيره، لأنه تشريع محرم، والحكم في دوران الامر بين
المحذورين هو التخيير في مقام العمل، والعمل فيما نحن فيه هو الالتزام، فله اختيار ترك الالتزام، بل يتعين ذلك إن قلنا: بأن محذور
التشريع أشد.
سيجئ من المصنف (قده) في مبحث دليل الانسداد، انه لا يرى وجوب الموافقة الاحتمالية عقلا عند تعذر الموافقة القطعية، فهو هاهنا في
فسحة من هذه التعليلات، بإنكار حكم العقل بوجوب الالتزام بأحد الحكمين، تحصيلا للموافقة الاحتمالية بعد تعذر الموافقة القطعية
بالالتزام بكليهما.
قوله: مع ضرورة ان التكليف لو قيل:
هذا تعليل آخر للمدعى، لكنه عليل، فان التخيير لا يلتزم به باقتضاء دليل التكليف، بل بحكم العقل بوجوب الموافقة الاحتمالية بالأخذ
بأحد احتمالي التكليف، مخيرا بينهما، بعد تعذر الموافقة القطعية، بالأخذ بكليهما.
37

نعم، لو قيل: إن التكليف يقتضي ذلك، صح ما ذكره من المنع، ولم يكن يختص المنع بالمقام، بل يجري في التخيير في الموافقة العملية
بالأخذ بأحد الاحتمالين، عملا عند تعذر الاخذ بكليهما. وقد عرفت: ان المصنف (قده) ليس ذلك من مذهبه، فهو في غنى من هذه
التعليلات.
قوله: إلا على وجه دائر:
قد ضرب على هذه العبارة في بعض النسخ المصححة، ولنعم ما صنع، فان الدور انما يلزم إذا توقف جريان الأصول على تحقق عدم
المخالفة الالتزامية، أو عدم الموافقة الالتزامية في الخارج. وقد فرض: ان عدم لزوم المخالفة الالتزامية تكون بجريان الأصول، و
يتوقف على جريانها وإخراجها للموضوع المشتبه عن موضوع الحكمين، فيلزم الدور. لكن جريان الأصول لا يتوقف على شئ من
ذلك، فان أدلة الأصول على الفرض تشمل كل مشتبه، وإن كان مشوبا بالعلم، وقد خرج منها ما يلزم من شمولها له محذور المخالفة
العملية، أو محذور المخالفة الالتزامية للتكليف المعلوم، ولا يلزم هذا المحذور في الأصول الموضوعية، بل وكذا الأصول الحكمية في
موارد العلم الاجمالي، حسبما ذهب إليه شيخ مشايخنا المرتضى (قده). لان موضوع خطاب التزم هو الحكم، ولا حكم بعد جريان الأصل
وهذا كما في الأصول الموضوعية النافية لموضوعات التكاليف، فتجري الأصول بلا مزاحمة أدلتها بمانع عقلي أو شرعي، فأين الدور
الذي ذهب إليه المصنف (قده)؟ نعم، ما ذكره شيخ مشايخنا (قده) أيضا غير مستقيم، وقد عدل عنه بعد ذلك
بأسطر. فلا وجه للاشكال عليه.
قوله: مع عدم ترتب أثر عملي عليها:
الظاهر اشتباه عدم لزوم المخالفة العملية، المفروض في محل البحث، بعدم أثر عملي، وإلا فالأثر العملي ثابت فيما نحن فيه، إذا كانت
الشبهة موضوعية، كالمرأة المرددة بين منذورة الوطء ومنذورة تركه، ومجرى الأصل بنفسه حكم العمل إذا كانت الشبهة حكمية،
كالحكم بعدم الوجوب وعدم الحرمة فيما تردد أمره بينهما.
38

وبالجملة: جريان الأصول من جهة وجود مصحح التنزيل لا إشكال فيه، فان الكلام بعد فرض كون المجرى حكما أو موضوعا ذا حكم،
فيبحث عن مانعية المخالفة الالتزامية.
قوله: مضافا إلى عدم شمول أدلتها لاطرافه:
يعني ان البحث عن مانعية المخالفة الالتزامية مبني على شمول أدلة الأصول للاطراف اما إذا لم تكن شاملة لها، فالبحث ساقط رأسا، و
الأصول غير جارية حتما، سوأ كانت المخالفة الالتزامية مانعة أم لم تكن مانعة، وقد قرر عدم الشمول شيخ مشايخنا (قده) بالتعارض
بين قوله عليه السلام: (لا تنقض اليقين بالشك) وقوله عليه السلام: (بل انقضه بيقين آخر)، فان الأولى تشمل كلا من أطراف العلم، و
الثانية تشمل الواحد المعلوم بالاجمال، المسقط للفقرة الأولى عن الحجية، أو الظهور في أطراف العلم. وقد أجاب المصنف (قده) عنه:
بأن الروايات غير المشتملة على فقرة الذيل، الموجبة للاجمال، كافية لاثبات المقصود والأولى أن يقال: إن هذا البيان إن صح لم يجر
في المقام المفروض فيه عدم لزوم مخالفة عملية من إجراء الأصول، فإنه لا معنى لنقض اليقين السابق فيما علم إجمالا بتوجه أحد
الالزامين: اما الالزام بالفعل أو الالزام بالترك، إذ ليس لهذا العلم أثر عملي ليعقل النقض وعدمه، بالإضافة إليه، وعليه يبقى خطاب (لا
تنقض) في الأطراف سالما عن المزاحم، كما بقي في الشبهات البدوية سالما عنه.
اتحاد القطع: قطع القطاع
قوله: لا تفاوت في نظر العقل أصلا فيما رتب:
ان موضوع حكم العقل بمتابعة القطع هو القطع بالواقع، على أن يكون القطع جز الموضوع لا تمامه، وجزئه الاخر هو الواقع، بل الامر
كذلك حتى في نظر القاطع، فإنه لا يحكم بمتابعة القطع الذي أخطأ الواقع المعبر عنه بالجهل المركب.
نعم، هو مشتبه في الصغرى ويزعم عدم الخطأ في قطعه، ومن ذلك يعلم
39

اختصاص حكم العقل بالحجية، الذي هو من رشحات حكمه بوجوب المتابعة بما اختص به وجوب المتابعة، فالحجة هو القطع المصيب، و
أوضح من هذا في الاختصاص بالقطع المصيب حكم العقل، بالمنجزية، فإنه لولا الواقع والإصابة تكون منجزا لأي شئ، واما المعذرية،
فهو حكم ثابت في موضوع القطع المخطئ، بل قد عرفت: انه حكم مطلق الجهل بالواقع، بسيطا كان أو مركبا، ما لم يكن عن تقصير. ثم:
ان أثر اختصاص الحجية بالقطع المصيب يظهر في حق الغير، إذا توجه إليه حكم في موضوع قيام الحجة عند القاطع، بل في حق القاطع
أيضا، فيما إذا علم قبل قطعه بخطأ مقدمات خاصة، ومع ذلك زاولها حتى أثرت في حصول القطع، فإنه لا يعذر فيه. وإن كان في حال
القطع لا يخاطب بترك العمل به، لأنه يرى إصابة قطعه. فإذا صح قصر الحجية بطائفة خاصة من القطع، وقام الدليل الشرعي على النهي
عن متابعة ما يحتمل الانطباق عليه، يحكم بالانطباق. فإذا نهى الشارع عن متابعة القطع الحاصل من المقدمات العقلية، يحكم بأن القطع
الحاصل من هذه المقدمات كله خطأ، لا إصابة فيه، كما هو ظاهر اخباره أيضا، وفي الحقيقة القصر في الحجية من العقل لا من الشرع، و
الشارع بنهيه يكشف عن خروج مورد
النهي عن موضوع الحجية العقلية.
نعم، قد عرفت: ان لا أثر لهذا الخطاب بالنسبة إلى القاطع، ولا يوجه إليه.
ثم إن هناك وجها آخر لقصر الحجية ببعض أقسام القطع، بل سلب الحجية عنه بالمرة.
وحاصله: ان من المحتمل أن يؤثر القطع مطلقا أو في الجملة مفسدة في المتعلق، مزاحمة لما في متعلقه من المصلحة، مسقطة لها عن
التأثير، فيكون الحكم الثابت - لولا القطع - مرتفعا به، ويكون القطع عنوانا ثانويا، كسائر العناوين الثانوية، رافعا للحكم المقطوع به،
في هذا لا محيص للمولى من ترك الطلب وعدم بعث العبد نحو الفعل، لان ذلك نقض لغرضه، وليس له طريق للوصول إلى مقصده إلا
بجعل الاحتياط فيما كان الأثر لمطلق القطع.
40

واما فيما كان الأثر لقطع خاص، فله ان ينهى عن العمل بذلك القطع الخاص، ويكون ذلك القطع لوجوده رافعا للحكم، مزاحما لملاك
المتعلق، فيكون الحكم فعليا إذا تعلق به غير هذا القطع الخاص. ولا يتوهم: ان ذلك من باب دخل قطع خاص في موضوع الحكم، فيخرج
عن محل الكلام، ويدخل في القطع الموضوعي، الذي لا كلام في جواز التصرف فيه بدخل نوع خاص من القطع في متعلق الحكم. وذلك:
لان هذا من باب دخل عدم قطع خاص، وهو غير ملازم لدخل ما يقابله من سائر أنواع القطع، فاعتبار أن يكون القطع حاصلا من
المقدمات العقلية أو مما لا يتعارف حصول القطع منه، لا يستلزم اعتبار أن يكون حاصلا من المقدمات النقلية، أو مما يتعارف حصول
القطع منه.
وحسب هذين الوجهين: إذا ورد دليل رادع عن العمل ببعض أفراد القطع أخذ به، ولم يكن وجه لرده والاخذ في تأويله، كما ورد
بالنسبة إلى الحاصل من المقدمات العقلية.
نعم: القطع الحاصل مما يتعارف حصول القطع منه، وهو المعبر عنه بقطع القطاع، لم يرد منع فيه، ولا يشمله ما دل على عدم اعتناء
الوسواسي بشكه. ويمكن أن يقال: إن حكم العقل بالحجية لا يعمه، بل هو معدود من الأمراض، ولا سيما بعض مراتبه.
نعم، القاطع بنفسه معذور لو حصل ذلك له بلا اختيار منه ومن غير تعمد النظر إلى ما يوجبه.
قوله: كما ينادي به بأعلى صوته ما حكى:
وينادي أيضا بأعلى صوته بمخالفته في هذا المقام، ما حكي عنه من عبارته الأخرى قال: إن المعلوم هو انه يجب فعل شئ أو تركه أو لا
يجب، إذا حصل الظن أو القطع بوجوبه أو حرمته أو غيرهما، من جهة نقل قول المعصوم أو فعله أو تقريره، لا أنه يجب فعله أو تركه أو لا
يجب، مع حصولهما من أي طريق كان. انتهى. ومع هذه الصراحة، كيف يكذب نسبة الخلاف في المسألة إليهم، وهل يمتنع اجتماع
الخلاف في مسألة الملازمة مع
41

الخلاف في هذا المقام؟ فليكن الاخباري مخالفا في كلا المقامين.
قوله: وأنت إذا تأملت في هذا الدليل علمت:
فيه ان مراده من الخطأ الواقعي هو الخطأ الواقعي وإن لم يلتفت إليه العبد حين العمل، وهو الذي يقبح الامر باتباعه من غير مدخلية
للالتفات واحتمال الخطأ في قبحه.
القطع الاجمالي
قوله: فهل القطع الاجمالي كذلك:
القطع الاجمالي: إما أن لا يكون له تأثير في تنجيز التكليف وفي الاعذار أصلا، ويكون حاله كحال الشك البدوي، أو يكون له تأثير
ناقص، وهو التأثير في حرمة المخالفة القطعية فقط، أو يكون له تأثير تام، وهو التأثير بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية أيضا، و
على فرض التأثير: إما أن يكون تأثيره بنحو الاقتضاء أو بنحو العلة التامة أو بالاختلاف بين تأثيره في وجوب الموافقة القطعية، فعلى
سبيل الاقتضاء، وتأثيره في حرمة المخالفة القطعية، فعلى وجه العلية التامة، فهذه ستة احتمالات، أقواها التأثير على وجه العلية التامة،
فيما كان القطع التفصيلي مؤثرا، أعني القطع بالحكم الفعلي التام التأثير في البعث، وعدم التأثير أصلا، حتى على وجه الاقتضاء، فيما لا
يكون كذلك، فإن القطع الاجمالي لا يزيد على القطع التفصيلي، والقطع التفصيلي بحكم غير تام الفعلية لا أثر له، فكيف بالقطع الاجمالي
بمثل هذا الحكم، ولو كان عدم تمام فعليته، لتوقف تمامية فعليته على القطع التفصيلي، إذ لا فرق بين توقف تمام الفعلية على القطع و
توقفه على أمر آخر، في أن القطع بغير تام الفعلية لا أثر له. وقد اختار المصنف (قده) هنا تأثير العلم الاجمالي في كلتا الجهتين على
سبيل الاقتضاء. لكن كلامه هنا في غير
مفروض البحث، وهو تعلق العلم الاجمالي بالحكم التام الفعلية، لا ما تكون فعليته ناقصة، ويتوقف تمامها على العلم التفصيلي، فان
البحث في مجرد نقص العلم وإجماله مع تمام الحكم، وإلا كان عدم التأثير من تلك الجهة، ولذا اختار في مسألة الاشتغال في الموضوع
الذي ذكرناه، التأثير على سبيل العلية التامة.
42

وبالجملة: تأثير العلم الاجمالي في التنجيز فيما إذا تعلق بحكم غير عادم لما سوى التنجيز، مما لا ريب فيه، كما لا ريب في أن تأثيره في
ذلك على سبيل العلية التامة، غير مراعى بعدم إذن من الشارع في الأطراف كلا أو بعضا، فإن الاذن في الأطراف يعد مناقضا للامر
الفعلي بالواحد المشتبه في تلك الأطراف، بل حكم العقل بالتأثير على سبيل الاقتضاء مما لا يعقل له معنى، وهل يعقل أن يكون وجوب
الإطاعة منوطا بأن لا يوجد أمر كذا أو حالة كذا، بحيث لو وجد رخص العقل في ترك الإطاعة وإلغاء أمر المولى، بل تمام موضوع حكم
العقل هو الإطاعة، فإن كان الفعل إطاعة وجب بلا منع مانع، وإلا لم يجب رأسا، فحكم المصنف (قده) بالتأثير على وجه الاقتضاء، لم
نفهم وجهه، فإن الحكم إذا لم يكن تام الفعلية، كما هو موضوع كلامه، لم يكن القطع التفصيلي به مقتضيا لوجوب العمل، فضلا عن القطع
الاجمالي، كما أنه إذا كان تام الفعلية كان القطع الاجمالي مؤثرا على وجه العلية التامة، كما صرح به في باب الاشتغال، فالقول بالتأثير
على وجه الاقتضاء باطل على كل حال.
ثم إن المصنف (قده) توهم من كلام شيخه (قده) في الرسالة، التفصيل جزما أو احتمالا، بين الموافقة القطعية والمخالفة القطعية، بتأثير
العلم في الأول على سبيل الاقتضاء، فيجوز الاذن والترخيص في بعض الأطراف، وتأثير في الثاني على سبيل العلية التامة.
وأنت إذا تأملت الرسالة لا تشك في أن مختاره التأثير على وجه العلية التامة في جميع الأطراف ما دام العلم الاجمالي باقيا، فإنه صرح
بعدم جواز الاذن في شئ من الأطراف مع بقاء العلم.
نعم، للمولى التحيل بحل العلم الاجمالي أولا بجعل بعض الأطراف بدلا عن الواقع، فيصير الشك في الاخر بدويا، فيأذن حينئذ فيه، وهذا
غير التأثير على وجه الاقتضاء في موضوع بقاء العلم الاجمالي.
وتوضيح الانحلال: إنا إذا علمنا بحرمة أحد شيئين، ثم أمر الشارع في موضوع
43

الاشتباه بالبناء على حرمة واحد معين، انحل علمنا الأول بالعلم تفصيلا بحرمة هذا المعين والشك، بدوا في حرمة الاخر، فيعامل بما
يعامل به الشك البدوي، وهذا واضح لا إشكال فيه.
قوله: فإنه يقال: كيف المقال في موارد ثبوته:
لا يخفى ان المصنف (قده) أيضا يرفع اليد عن فعلية الحكم الواقعي في موارد الترخيص، ولو رفعا جزئيا ومن جهة واحدة، مع الالتزام
بالفعلية من سائر الجهات، فيكون تمام الفعلية منوطا بالعلم التفصيلي بالحكم، فهو يعترف باستحالة الجعل الظاهري مع الحكم الفعلي
التام الفعلية من كل الجهات. سوأ علم به إجمالا في أطراف محصورة أو غير محصورة، أو شك فيه، فعدم فعلية الحكم الواقعي في كل
مورد من موارد الجعل الظاهري مقطوع عنده.
وعليه لا بد من حمل عبادته هذه الموهمة للخلاف على إرادة الفعلية الناقصة، أعني الفعلية من غير جهة الإناطة بالعلم التفصيلي.
ومحصل الجواب عما ذكره، هو: انه يلتزم بعدم الفرق مع عدم الفعلية التامة بين صور العلم تفصيلا وإجمالا، بين أطراف محصورة و
غير محصورة، وصورة الشك والغفلة في عدم تنجز الواقع، فإنه ما لم يكن تمام الفعلية لا يتنجز بالعلم التفصيلي فضلا عن غيره، كما لا
فرق مع الفعلية التامة بين العلم به تفصيلا والعلم به إجمالا بين أطراف محصورة أو غير محصورة في تنجز الواقع، وعدم معقولية جعل
حكم ظاهري.
نعم، صورة الاحتمال والشك تفترق عن ذلك، فإنه يصح جعل الحكم الظاهري مع احتمال الحكم الواقعي الفعلي، ويكون دليل الجعل
المذكور حجة على عدم فعلية الواقع، فيصح الاخذ بعموم دليل الحكم الظاهري في صورة احتمال الفعلية التامة، واستكشاف عدم الفعلية
التامة من هذا الدليل، ولا يصح في صورة العلم بها، من غير فرق بين صور العلم، فجعل جميع الصور بنحو واحد، كما في المتن، في غير
محله.
قوله: مع القطع به أو احتماله، أو بدون ذلك:
لا يعقل أن يكون الواقع فعليا مع
44

عدم القطع والاحتمال، أعني صورة الغفلة والذهول، والقطع بالخلاف، فان التكليف مشروط بالالتفات، فلا محذور أصلا في جعل حكم
آخر مخالف أو مماثل.
قوله: نعم، كان العلم الاجمالي، كالتفصيلي في مجرد الاقتضاء:
قد عرفت: بطلان القول بالتأثير على وجه الاقتضاء مطلقا، سوأ كان المعلوم بالاجمال حكما تام الفعلية أم حكما غير تام، وان التأثير
في الأول على سبيل العلية التامة، بحيث لا يعقل الترخيص في شئ من أطراف العلم، مع بقاء هذه الفعلية، وفي الثاني لا تأثير أصلا حتى
على سبيل الاقتضاء، فإنه لو علم تفصيلا بحكم غير تام الفعلية لم يكن له تأثير، فكيف بما إذا علم به إجمالا؟ نعم، إذا كانت قاعدة
المقتضي والمانع قاعدة عقلائية أمكن أن يحكم بفعلية الحكم بعد إحراز المقتضي له والشك في المانع، فإذا ورد دليل على الترخيص
كشف عن عدم الفعلية ووجود المانع. ثم إن الذي قلناه، من: ان تأثير العلم الاجمالي على وجه العلية، بحيث يمتنع معه الاذن في الأطراف،
يختص بما إذا كان العلم الاجمالي بالحكم علما وجدانيا، اما إذا كانت الحجة قائمة على الحكم على سبيل الاجمالي فيمكن أن يقال: إن
عموم دليل صدق لتلك الحجة يعارض بدليل كل شئ مطلق، الشامل للاطراف، فان دليل الامارة، وإن كان مقدما على دليل الأصل
حكومة أو ورودا، في غير مقام، لكن يعارض به في المقام.
والسر في ذلك: أن دليل الامارة انما يذهب بموضوع الأصل حقيقة أو حكما، في مورد الامارات لا في غير موردها.
وبعبارة أخرى فيما لو كان الوجدان بدل هذه الامارة لكان الشك ذاهبا حقيقة، ومن المعلوم انه لو كان العلم الاجمالي بدل هذه الامارة
الاجمالية في المقام، لم يوجب ارتفاع الشك من الطرفين، فإذا لم يكن دليل الامارة متعرضا للشك حقيقة ولا حكما، شملته أدلة الأصول و
عارضت بشمولها لجميع أطراف العلم دليل الامارة، فيتساقطان، ويكون المرجع الأصول العقلية.
قوله: واما احتمال انه بنحو الاقتضاء بالنسبة:
هذا تعريض بشيخه (قده). وقد
45

عرفت: ان كلام شيخه (قده) بري عن هذه النسبة، بل صريح فيما اخترناه، من العلية التامة وانه لا يجوز الاذن في شئ من الأطراف مع
بقاء العلم.
نعم للمولى أن يتحيل بإذهاب العلم الاجمالي بجعل شئ من الأطراف بدلا عن الواقع، فيكون الطرف الآخر مشكوكا بالشك البدوي،
فيرخص حينئذ فيه.
قوله: واما في العبادات، فكذلك فيما لا يحتاج إلى التكرار:
ما يحتاج إلى التكرار وما لا يحتاج يشتركان في توجه الاشكالات ودفعها، لأنه إن اعتبرنا في الاجزاء قصد الوجه والتمييز فإنما
نعتبرهما في مجموع العمل المركب المأمور به وهو ليس إلا الاجزاء بالاسر فيعتبران في الاجزاء بالاسر، فإذا لم نعلم جزئية أمر، فكيف
يمكننا قصدهما في العمل المشتمل على ذلك الجز؟ فلا تكون الاجزاء بالاسر صادرة بهما، وهكذا الحال في إشكال اللعب، ولا سيما إذا
تردد الجز بين أمرين ولم يعلم أن أيهما هو الجز، فأتى بهما جميعا، بل لا يبعد أن يكون ذلك من قبيل ما يحتاج إلى التكرار، ويكون
تكراره بإتيانهما جميعا في ضمن عمل واحد.
قوله: فربما يشكل من جهة الاخلال بالوجه تارة:
يتوجه إشكال الاخلال بقصد القربة أيضا، فان الامر من المولى انما هو لغرض علم المكلف بطلبه وإتيانه بالفعل بتحريك علمه، وهذا
عين الاتيان بالفعل بداعي الامر، وهو معنى قصد القربة، ومن المعلوم: ان هذا لا يكون مع عدم العلم تفصيلا بالامر، سوأ شك فيه أم
علم به إجمالا.
إن قلت: على هذا تكون كل الأوامر تعبدية، ويستحيل الامر التوصلي، بمعنى أن يكون الغرض من الامر الاتيان بالفعل ولولا بداعي
الامر، بل بداع نفساني.
قلت: نعم، يستحيل الامر لغرض إتيان العبد بالفعل بدواع نفسية، فان الغرض هو الذي يترتب على الفعل في الوجود، ولا يترتب بين
الامر وإتيان الفعل بالدواعي النفسانية، فليس امتياز الامر التوصلي عن غيره بما ذكر، وانما يمتاز عن غيره بحصول الغرض الأقصى،
وإسقاط الامر في التوصلي وبذات الفعل بخلاف التعبدي، فغسل الثوب النجس الصادر لا بداعي الامر يسقط الامر لارتفاع موضوع
46

القذر الذي أمر بغسله، فليس هذا الغسل مصداقا للواجب، بل هو والغسل، بإطارة الريح الذي ليس فردا للمأمور به قطعا، يسقطان الامر
بجهة واحدة.
نعم، في الأوامر العرفية، حيث إن سنخ الأغراض معلوم لديهم وانه متعلق بذات المأمور به، يحكمون بسقوط الامر بالاتيان بمتعلقه، ولولا
بداعي الامر، وهذا بخلاف الأوامر الشرعية التي لها أغراض خفية، وحكم لا تنالها الافهام العرفية، وليست من سنخ أغراضهم التي
يجدونها في أفعالهم، ولذلك يحتمل دخل الاتيان بداعي الامر في حصول تلك الأغراض فلا سبيل حينئذ إلى الحكم بسقوط الأوامر
الشرعية بالاتيان بمتعلقاتها.
ويمكن دفع ما ذكرناه ب: ان في موارد الامر غرضين مترتبين:
أحدهما: الغرض من البعث، الذي يحمل المولى على الامر، وهو حصول الفعل بداعي البعث، وهذا غرض مقدمي.
ثانيهما: الغرض الأصلي، الحاصل من نفس الفعل والموجب لإرادته، وهذا الغرض لا يعقل دخل قصد الامر في حصوله، وهو إشكال دخل
قصد القربة في المأمور به في العبادات، فإذا حصل ذات الفعل حصل هذا الغرض ولم يبق للبعث لأجل الغرض المقدمي محل وسقط الامر،
فالمأتي به لا بداع البعث مصداق للمراد الأصلي وليس مصداقا للمراد التبعي المقدمي.
نعم، إذا كان الحاصل بتحريك البعث بقيد حصوله بتحريكه متعلقا للإرادة الأصلية، وكانت الإرادة متعلقة بالفعل الحاصل عقيب بعثه
بداعي بعثه وبتحريكه، ثم بعث إلى الفعل، يكون الفعل لا بداعي البعث خارجا عن حين الإرادة والبعث، وكان الواجب عباديا مقابل
القسم الأول، ثم الدخيل في متعلق الإرادة.
تارة: يكون هو قيد الحصول بتحريك العلم بالإرادة تفصيلا.
وأخرى: قيد الحصول بتحريك مطلق العلم الشامل للاجمالي منه.
وثالثة: ما يعم الحاصل بداعي احتمال الامر.
فإن كان الأول: بطل الاحتياط رأسا، يعني في موارد العلم الاجمالي، ووجب
47

تحصيل الإطاعة الظنية، ولو بالعمل بالظن، وإن كان الثاني، بطل الاحتياط في موارد الشك البدوي. وإن كان الثالث، لم يبطل
الاحتياط في شئ من الموارد، وأدلة اعتبار النية في العبادات لا يزيد مؤداها على الثالث، وانه تحتاج العبادات إلى نية في الجملة في
قبال عدم الحاجة إلى النية رأسا، ولذلك صح الاحتياط في جميع موارد الجهل.
قوله: وكونه لعبا وعبثا، ثالثة:
م آل هذا الوجه إلى عدم تحقق قصد التقرب لتحقق ما يضاده، وهو العبث بأمر المولى والتمسخر بأوامره، وذلك لا يجتمع مع قصد
التقرب، وكيف يتأتى قصد التقرب بما هو مصداق للإهانة والاستهزاء والسخرية، وإلا فاللعب بنفسه ليس من العناوين المانعة عن
صحة العمل.
ثم إن عنوان اللعب ان حصل، فإنما هو فيما أتى بمحتملات كثيرة لادراك واقع واحد، فتوضأ بألف إناء، أحدها ماء مطلق، وصلى في ألف
ثوب أحدها طاهر.
وهذا في الشبهات الحكمية لا يتفق إلا بتداخل عدة شبهات واختلاط بعضها ببعض، فتزيد المحتملات من أجل ذلك، كما إذا علم إجمالا
بوجوب واحد من القصر والاتمام، وواحد من الجهر والاخفات، وهكذا.
قوله: هذا كله في قبال ما إذا تمكن من القطع تفصيلا:
إذا كان الاحتياط باطلا والاطاعة به غير حاصلة للوجوه المتقدمة، كلا أو بعضا، لم يكن معنى للتفصيل بين صورة التمكن من الإطاعة
التفصيلية قطعا أو ظنا، وبين صورة عدم التمكن منها، بل كانت القاعدة قاضية بسقوط التكليف عند عدم التمكن من الامتثال التفصيلي
بعين الوجه الذي كان، يوجب تحصيل الإطاعة التفصيلية مع التمكن منها، إلا أن يدل دليل على انقلاب الواجب من التعبدية إلى التوصلية
بتعذر إتيانه على وجه التعبدية.
ومن ذلك ظهر عدم الفرق بين قسمي الظن، أعني الظن الخاص والظن المطلق، وان مسلك الاحتياط إذا بطل ببعض تلك الوجوه بطل
رأسا، وانحصر الامتثال بالامتثال التفصيلي مع التمكن، وسقط التكليف مع عدم التمكن.
48

قوله: وان ثبوتها لها محتاج إلى جعل:
لا تثبت الحجية بالجعل كي يكون غير الحجة حجة بإنشاء حجيته، بل ما هو حجة حجة بحكم العقل اما مطلقا أو في حال الانسداد، وما
ليس بحجة لا يكون حجة أبدا، لا لان الحجية غير قابلة للجعل، وإن كان الامر كذلك، بل لان الحجية إن كانت بالجعل لزم التسلسل إلى
حجة أخرى مثبتة للحجة الأولى، وهي إن كانت عقلية كانت الحجة في الحقيقة هي تلك الحجة العقلية لا هذه الشرعية، وإن كانت حجة
جعلية شرعية عادة ذكرناه أولا، وهكذا.
وبالجملة: لا بد أن تكون الحجية صادرة من باب العقل، ولا محيص عن أن يكون مناخ رحال التكليف ببابه، فصح أن يقال: ليست الحجة
إلا القطع أو الظن على الحكومة.
قوله: ولعله لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل:
المراد من المحتمل هنا ما يشمل الموهوم، ودفعه غير لازم، وإن قلنا بوجوب دفع الضرر المشكوك، لكن ذلك لا يجدي في المقام
المقطوع فيه توجه الضرر، فإن العقل يلزم في مثله بوجوب دفعه على سبيل القطع ولا يكتفي بالظن، مع بقاء احتمال عدم الدفع، ولو
ضعيفا، وهو المعبر عنه بقاعدة الاشتغال.
قوله: وعدم لزوم محال منه عقلا:
يعني أن البحث في الامكان الوقوعي بعد التسالم على الامكان الذاتي، لكن ظاهر كلام ابن قبة عكس ذلك، وإن التعبد بالظن بنفسه
محال لا أنه مستلزم للمحال، وهو كذلك، لان البحث في التعبد بالظن بعد ثبوت الأحكام الواقعية، وإلا فلا استحالة بوجه، لا ذاتا ولا
بالغير، لو قطع النظر عن الأحكام الواقعية، كما يراه المصوبة. وبعد ثبوت الأحكام الواقعية يكون التعبد بالظن محالا ذاتا، لأنه من
اجتماع الضدين مع الخطأ والمثلين مع الإصابة.
نعم، يلزم من التعبد تفويت المصالح الواقعية والالقاء في المفاسد الواقعية، وكذلك يلزم طلب الضدين فيما إذا أخطأ وأدى إلى طلب
ضد ما هو المطلوب واقعا، وكل منهما قبيح، ليس بمحال، وإن كان يستحيل صدوره من الحكيم.
49

قوله: وليس الامكان بهذا المعنى، بل مطلقا:
يعني الامكان بجميع معانيه، من الامكان الذاتي والوقوعي والاستعدادي، والامكان بالقياس ليس مما يبني عليه العقلا عند الشك، و
احتمال ما يقابله من الامتناع. لكن الذي ينبغي أن يقال، هو: ان امتناع التعبد بغير العلم مع بقاء الأحكام الواقعية على فعليتها ضروري لا
ينبغي الشك فيه، وإن الشك فيه شك في إمكان اجتماع الضدين وامتناعه، وهل يحتمل عاقل إمكانه، فلا بد أن يكون البحث في المقام
بحثا صغرويا، وعن كون المقام من صغريات اجتماع الضدين وعدمه، فالقائل: بأنه ليس من صغرياته لا بد له من أن يرفع اليد عن أحد
أمرين، لا محيص له عن ذلك: اما ان يرفع اليد عن فعلية الأحكام الواقعية الثابتة في موارد الظن على الخلاف، بل مطلقا، أو يرفع اليد عن
كون مفاد أدلة الاعتبار جعل أحكام ظاهرية، فليست جهة الاستحالة مجهولة حتى يتمسك بدليل وقوع التعبد بغير العلم، لاثبات إمكانه،
بل الاستحالة ثابتة ما لم يرفع اليد عن أحد الامرين اللذين ذكرناهما، ومع رفع اليد عن أحدهما لم تكن استحالة قطعا من غير حاجة إلى
الاستدلال على الامكان، بدليل وقوع التعبد به.
قوله: بمعنى الاحتمال القابل للقطع:
يعني احتمال وقوع الغريب المسموع، وذلك يستلزم احتمال الامكان أيضا، وحصول هذا الاحتمال قهرا الموجب للغوية هذا الكلام من
الشيخ الرئيس، يكون قرينة على أن المراد إظهار هذا الامكان بمعنى الاحتمال في مقابل المبادرة بالانكار، كما هو شأن سواد الناس،
فيكون الكلام دستورا أخلاقيا.
قوله: أمور، أحدها اجتماع المثلين:
لا تجتمع المحاذير الثلاثة إلا في مورد واحد، وهو ما إذا أدت الامارة أو الأصل إلى وجوب ضد ما هو الواجب، وما عدى ذلك:
اما يلزم فيه محذوران، وهو ما إذا أدت الامارة إلى خلاف الحكم الواقعي في موضوع الحكم الواقعي، فان اللازم اجتماع الضدين و
تفويت مصلحة الواقع.
أو يلزم فيه محذور واحد، وهو ما إذا أدت إلى ما يوافق الحكم الواقعي، فإن محذوره هو اجتماع المثلين لا غير.
50

إمكان التعبد بالامارات
قوله: ثالثها ان الأصل فيما لا يعلم اعتباره:
المراد من الأصل هنا القاعدة دون الأصل العملي بالمقرر في موضوع الشك، فإنه لا شك في عدم الحجية عند الشك في الحجية، بل عدم
الحجية قطعي.
واما رفع المناقضة بين كون عدم الحجية قطعيا والشك فيها، فيما مر من تعلق الشك بمرتبة من الحكم والقطع بمرتبة أخرى منه، فإن
الحجية عند المصنف (قده) حكم مجعول له مراتب، حسب ما للحكم التكليفي من المراتب، فيشك في الحجية الانشائية، وعند الشك في
الحجية الانشائية يقطع بعدم الحجية الفعلية، لان الحجية الفعلية قوامها القطع، وإلا لم يحصل تعذير وتنجيز.
قوله: واما صحة الالتزام بما أدى إليه من الاحكام:
شرع في الايراد على شيخه (قده) حيث تمسك لعدم الحجية عند الشك فيها بأدلة حرمة الافتراء والتشريع، فان نسبة ما أدت إليه الامارة
إلى الله تعالى افتراء، كما أن الالتزام به على أنه من الدين، تشريع.
وحاصل ما أورده، هو: ان حرمة الافتراء والتشريع أجنبية عما هو المقصود، ولا يثبت بها عدم الحجية، فان الافتراء، وهو نسبة الحكم
إلى الله مع عدم العلم بأنه منه، أو الالتزام به على أنه من الدين، حرام، حتى مع القطع بالحجية، كما في الظن على الحكومة، فحرمتهما لا
تكشف عن عدم الحجية ولا هي عين عدم الحجية.
وهذا الاعتراض من المصنف (قده) في غير محله، لأنه كلام شيخه (قده) يبتنى على ما سلكه من أن الحجية الشرعية عبارة عن جعل
المؤدى فان الحكم الذي أدت إليه الامارة، إذا كان مجعولا بدليل اعتبار تلك الامارة، جاز نسبته إلى الله تعالى، وجاز الالتزام به على أنه
من الدين، فكان معنى عدم جوازهما عند الشك بأدلة حرمة الافتراء والتشريع عدم حجية تلك الامارة. والمصنف (قده) يختلف معه في
المبنى، لاعتقاده أن الحجية الشرعية عبارة عن المعذرية والمنجزية، وهي مجعولة بجعل مستقل.
51

وعليه: فلا يسمح له بالاشكال على متفرعاته في كل مورد مورد.
نعم، له حق النزاع في المبنى عند وقوع البحث فيه.
حجية الظواهر
لا شبهة في لزوم اتباع ظاهر كلام الشارع في تعيين مراده في الجملة
قوله: فصل: لا شبهة في لزوم اتباع:
ينبغي البحث هنا في مقامين:
الأول: في حجية الظهور الملقى من المتكلم المتلقى منه بجميع مكتنفاته وقرائنه، حالية ومقالية، متصلة ومنفصلة، بحيث لم يشذ مما
اعتمد عليه في أداء مقصده شئ، ومع ذلك احتمل عدم مطابقته لمقصوده، وانه ترك القرينة المفهمة لتمام مقصوده: اما عمدا أو سهوا و
اشتباها، وهذا هو ظاهر عنوان المصنف (قده)، حيث جعل الكلام في حجية الظهور، فان ذلك لا يكون إلا مع العلم بأن ما وصل تمام ما
هو الصادر، وتمام ما اعتمد عليه في إفادة المقصود، وحينئذ يمكن أن يتمسك لحجيته، مضافا إلى ما ذكره المصنف (قده): بأن الشارع
اختار في إفادة مقاصده هذه الطريقة، وتلك مسلك الألفاظ وإلقاء الظواهر، فلو لا انه أراد العمل بها كان ذلك لغوا منه.
ثم إن الظاهر عدم الفرق في بناء العقلا على الاخذ بالظهور بين من قصد افهامه ومن لم يقصد بعد وصول تمام ما وصل إلى المقصود
افهامه إليه، حسب ما هو المفروض.
نعم، الظاهر التفصيل في اعتبار الظن بالمراد، بل الاطمئنان به بين الظواهر، التي يكون بها المخاصمة والاحتجاج، فلا يعتبر، بل لا
يضر الظن بالخلاف وبين الظواهر الأخرى، التي ترجع إلى مقاصد العقلا من منافعهم ومضارهم فلا يعملون إلا بالوثوق والاطمئنان،
فإنهم كما يعتبرون في سند الحكاية، الاطمئنان، يعتبرون في دلالتها أيضا الاطمئنان، ليكون ورودهم وصدورهم عن اطمئنان.
52

الثاني: في حجية أصالة عدم القرينة عند الشك فيها، وعدم القطع بوصول تمام ما اعتمد عليه المتكلم في إفادة مقصوده إلى الشخص، و
قد جعل عنوان البحث شيخنا المرتضى (قده) في رسائله ذلك، وهذا لا يكون إلا بعد الفراغ عن المقام الأول، و حجية أصالة الظهور.
والحق في هذا المقام، عدم الحجية، فان بناء العقلا على حمل الكلام على ظاهره الأولي عند تردد الامر بينه وبين صدوره متصلا بما
يصرفه عن ظهوره، أو منفصلا عما يصرفه عن حجيته، ممنوع، فان تردد الامر بين صدور رأيت أسدا، أو ظهور رأيت أسدا يرمي،
كتردد الامر بين صدور أحد ظهورين متباينين في عدم البناء منهم على صدور أحدهما إلا بقطع، أو ما هو كالقطع.
نعم، في خصوص المقصودين بالافهام، إذا كان المتكلم حكيما، لا يبعد ذلك، فان تعمده لترك القرينة مدفوع بمنافاته للحكمة، واحتمال
الغفلة عن نصبها لا يعتنى به، وهذا بخلاف غير المقصودين بالافهام، فان احتمال تعمد الترك قائم.
ومن هنا صح التفصيل في هذا المقام بين المقصودين بالافهام وغيرهم.
نعم، لا فرق بينهما في المقام السابق، المقطوع فيه وصول تمام ما اعتمد عليه المتكلم في إفادة مقصوده.
قوله: اما بدعوى اختصاص فهم القرآن:
الاخبار التي يستفاد منها المنع عن العمل بظواهر الكتاب والاستقلال بالتمسك به، بل وكذلك نصوصه، لاحتمال النسخ، على طوائف
خمس:
الأولى: الأخبار الدالة على المنع من التفسير بالرأي، مثل النبوي: (من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) وفي آخر: (فقد افترى
على الله الكذب)، وفي ثالث: (فأصاب فقد أخطأ)، وعن الصادق عليه السلام: (ان أصاب لم يؤجر وإن أخطأ سقط أبعد من السماء) إلى
غير ذلك.
والجواب: ان التفسير هو كشف المعاني المحجوبة دون الظاهرة الواضحة، فان ذلك هو الترجمة. وأيضا العمل طبق الكلام من دون
نسبة إرادة مفاده إلى متكلم
53

لا يعد تفسيرا، فيعمل على طبق ظاهر القرآن قضاء لحجية الظهور، ولا تنسب إرادة مدلوله إلى الله تعالى، كما تقدم ذلك من المصنف
(قده) في مطلق الحجة.
واما الجواب عن ذلك: بأن المراد بالرأي هو الاعتبار الظني والاستحسان العقلي.
فمدفوع: بأن الرأي مطلق الاعتقاد بالشئ عن اجتهاد واستدلال ولو عن طريق معتبر، كتعيين مداليل الألفاظ بالعلائم المقررة لذلك،
كالتبادر وعدم صحة السلب، ولذا يطلق الرأي على ما استنبطه الفقيه من الأدلة الشرعية.
الثانية: الأخبار الدالة على اختصاص فهم القرآن ومعرفته بمن خوطب به، وهذا يحتمل أن يكون من جهة عدم استقلاله بإفادة المقصود،
بل بقرائن منصوبة للمخاطب، ويحتمل أن يكون من جهة غموض مطالبه وعدم نيل الافهام لدركها، فان الكتب العلمية لا ينال معانيها
كل أحد، مع الالتفات إلى معاني كل جملة منها وفهم ظواهرها.
لكن ظاهر رواية زيد الشحام، اختصاص تفسير القرآن بمن خوطب به، لا فهم ظواهره، فترجع حينئذ إلى الطائفة الأولى. قال: دخل
قتادة على أبي جعفر عليه السلام فقال عليه السلام له: (أنت فقيه أهل البصرة) فقال: هكذا يزعمون. فقال عليه السلام: (بلغني انك تفسر
القرآن). قال: نعم، إلى أن قال عليه السلام: (يا قتادة ان كنت قد فسرت من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت قد فسرت من
الرجال فقد هلكت، وأهلكت يا قتادة، ويحك انما يعرف القرآن من خوطب به.) الثالثة: ما دل على النهي عن الاخذ بالمتشابه بدعوى
شمول المتشابه لغير النص، سوأ كان ظاهرا أم لم يكن.
والأولى أن يقال: إن المتشابه هو كل ما له ظاهر أريد منه خلافه، مع عدم نصب قرينة واضحة، مثل (الرحمن على العرش استوى)، ومثل
(يد الله فوق أيديهم)، ومثل (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)، فيكون المتشابه قسما واقعيا من الظواهر، فإذا نهى عن اتباع هذا
القسم الواقعي ولم يعلم به المكلف عينا،
54

وجب أن لا يؤخذ بشي من الظواهر مقدمة لترك العمل بالمتشابه الواقعي.
الرابعة: ما دل على النهي عن التمسك بالقرآن لإرادة خلاف الظاهر فيه بالنسخ والتخصيص ونحوهما، عما لا يعرف مواقعه إلا أهل بيت
الوحي.
الخامسة: ما دل على وقوع التحريف في القرآن، وما هذا شأنه، لا يتمسك به.
ويضاف إلى هذه الطوائف الخمس من الاخبار: دعوى العلم الاجمالي بإرادة خلاف الظاهر فيه، كما هو مؤدى الطائفة الرابعة، ويفترق
هذا الوجه عنها، بأن دعوى انحلال العلم الاجمالي بالظفر بموارد إرادة خلاف الظاهر بمقدار المعلوم بالاجمال، لا تجري في التمسك
بالاخبار التي عزلت جميع الظواهر عن الحجية، باشتمالها على تصرفات واقعا، مع أن دعوى انحلال العلم الاجمالي في بناء العقلا، كما
ترى، فان العلم الاجمالي بارتكاب خلاف الظاهر في أطراف، يوجب إلغاء تلك الأطراف، وعدم العمل بشي منها حتى يحصل الظفر بما
يعلم انما تمام ما وقع من التصرف في تلك الأطراف، ولا يجري الظفر بمقدار المعلوم في العمل بالباقي، ولا أقل من عدم إحراز بنائهم
على ذلك، وكون الحال في التكاليف كذلك لا يقتضي أن تكون في العمل بأصالة عدم القرينة كذلك، بل عرفت: ان لا أصل لأصالة عدم
القرينة مطلقا، وانه يلزم القطع بعدمها.
ثم إنه يذكر بإزاء الطوائف الخمس اخبارا أخرى دلت على الاخذ بظواهر الكتاب، فيجمع بين الطائفتين بحمل المانعة على المجملات، و
لكن لا دلالة في شئ منها، فمن جملة تلك الأخبار حديث الثقلين، وفيه: ان جواز التمسك بالكتاب، بل وجوبه بمعنى الاخذ بمضمونه، مما
لم ينكره أحد، وانما أنكر جواز استقلال كل شخص بتعيين ذلك المضمون من دون دلالة العترة، التي هي الثقل الاخر، ولا سيما بعد
ورود الاخبار بالمنع عنه، الذي يوجب كون التمسك بظواهره بعد ذلك تركا للتمسك بالعترة، أ ترى ان حديث الثقلين يقتضي أن يأخذ
ما يفهمه من الكتاب كل سوقي وبدوي من أهل اللسان وغيرهم كلا، وأهل اللسان بعد ورود ما يدل على اختصاص فهم القرآن بأهل
البيت عليهم السلام، يكون حالهم حال
55

الأجانب من اللسان.
ومن جملتها ما دل على الاخذ بما وافق الكتاب من الخبرين المتعارضين.
وفيه: انه لم يدع أحد اختصاص تشخيص ظاهر الكتاب بالمعصوم، وانما المدعى عدم جواز الاخذ بظاهره ما لم ترد على طبقه رواية
من المعصوم، وبعد ورود خبر يوافق ظاهر الكتاب، يخرج عن موضوع المنع الأدلة المانعة، ويكون مما ورد على طبقه رواية.
ومن جملتها: ما دل على رد ما خالف الكتاب من الشروط.
وفيه: ان المخالفة والمطابقة تتصوران بالنسبة إلى مضمون الكتاب لا لفظه، ولا إشكال في بطلان مضمون ما خالف الكتاب، ولا دلالة
فيه بوجه على جواز تشخيص هذا المضمون لكل أحد بالأخذ بظواهره، ولا سيما بعد ورود الاخبار بالمنع.
ومن جملتها عدة روايات تمسك فيها المعصوم بظاهر الكتاب، ولا يخفى الاستدلال بها انما يتم إذا كان الإمام عليه السلام بصدد
التنبيه على التمسك وإرجاع الناس إلى الاخذ بظاهر الكتاب، وهو ممنوع، حتى في قوله عليه السلام في رواية عبد الاعلى: (هذا و
أشباهه يعرف من كتاب الله)، (ما جعل عليكم في الدين من حرج) ثم قال عليه السلام: (امسح عليه) مشيرا إلى المرارة التي وضعها على
إصبعه. لأنه لم يثبت ان المراد من (يعرف) معرفة كل أحد، بل الظاهر معرفة أهل المعرفة بالقرآن، وهم أنفسهم عليهم السلام. ويشهد
له انه لا يستفاد من الآية ما استفاده عليه السلام، أعني المسح على المرارة، لولا تنبيهه عليه السلام على ذلك.
ومن جملتها: ما دل على عدم العذر لمن سمع بالآية ثم ترك الاخذ بظاهرها.
منها: ما ورد فيمن أتم في السفر من أنه إن قرأ عليه آية التقصير أعاد وإلا فلا، وفيه: ان ذلك مقيد بما ورد في روايات أخر من أنه إن
قرئت عليه وفسرت له، بل يجب تقييده بذلك ولو لم ترد هذه الروايات، لان الآية من الظواهر التي أريد خلافها لظهور، لا جناح في
الترخيص دون الايجاب.
56

ومنها قوله عليه السلام في جواب من أطال الجلوس، في بيت الخلا لاستماع الغناء، معتذرا بأنه لم يكن شئ أتاه برجله: (أما سمعت قول
الله عز وجل (ان السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا). وفيه ان الآية لو كانت دليلا على حرمة استماع الغناء صح
الاستدلال بالرواية للمقام، لكن الآية بمعزل عن ذلك، وانما مدلولها تعذيب الله على ارتكاب المعاصي الثابت كونها من المعاصي بالأدلة
الخارجية، فيعلم ان المخاطب كان عالما بالحكم، متحيلا في ارتكابه، والعذاب على المعاصي مع أنه ليس من أحكام العمل، مما ثبت
بالضرورة من الدين، ومثل هذا الظاهر المطابق للدليل القطعي لا منع عن الاخذ به، بل لا يسوغ المنع، بل ليس الاخذ به حقيقة إلا أخذا
بذلك الدليل القطعي.
وبما ذكرناه تقدر على الجواب عن كل ما استدل به للمقام، مثل ما دل على الامر بقرأة القرآن والتفكر في معانيه وغير ذلك.
حجية العمل بالكتاب
قوله: نعم، لو كان الخلل المحتمل فيه أو في غيره:
لا يخفى ان الخلل الحاصل بالتحريف من هذا القبيل فإنه خلل حاصل بالمتصل اما في هذا أو غيره، وقد عرفت ان الاحتمال البدوي
للقرينة المتصلة مضر بالأخذ بالظهور، فضلا عما إذا علم بها إجمالا، لان الظهور الملقى من المتكلم غير معلوم على التعيين، ولم يثبت
البناء على أصالة عدم القرينة في تعيين الظاهر الصادر، بل وكذلك الحال في احتمال القرينة المنفصلة، ويحتمل أن يكون المراد من
العبارة إحراز اتصال شئ بالكلام، والعلم الاجمالي بكونه مخلا بظاهره أو بأظهر غيره، فلا يتجه عليه ما ذكرناه، وإن كان يتجه عليه
ان العلم الاجمالي بحصول الخلل غير لازم، بل يكفي في السقوط عن الحجية الشك البدوي، كما سيجئ.
قوله: ولم يثبت تواتر القراءات:
ولو ثبت تواتر القراءات، فإن كان هناك جمع
57

دلالي بين الاثنين أخذ به كما في كل ظاهرين تعارضا، فان كلتا الآيتين بعد التواتر تكونان من القرآن ويكون المنزل من الله تعالى
كلتاهما، فيجمع بينهما إن أمكن وإلا تساقطتا، وكان المرجع العموم إن كان، وإلا فالأصل، فيحكم في مثل آية يطهرن بجواز إتيانهن
بعد انقطاع دم الحيض قبل الاغتسال، بمقتضى العموم الازماني، في قوله تعالى: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) ولو فرض
عدم العموم، كان المحكم استصحاب الحرمة.
قوله: فلا وجه لملاحظة الترجيح بينها:
بل يمكن أن يقال: لا وجه للجمع الدلالي أيضا إن أمكن، لان الاستدلال بهما الظاهر في الاخذ بظاهر كلتيهما الذي قام عليه الدليل لا
يمكن، وترك ظاهر إحداهما والاخذ بظاهر الأخرى لم يدل عليه دليل إلا في ظاهرين مقطوعي الصدور أو في حكم مقطوعي الصدور
لقيام الدليل على التعبد بالصدور، والمفروض هاهنا عدم قيام دليل على التعبد بالصدور، بل على الاخذ والاستدلال.
حجية كلام اللغويين
قوله: فلا خلاف في أن الأصل عدمها:
لا أصل لهذا الأصل ولا سيما إذا احتملت القرينة المتصلة، إذ في الحقيقة الظهور الصادر من المولى غير محرز، فان اللفظ مع القرينة له
ظهور، وبلا قرينة له ظهور، ولا يعلم أن أيهما هو الصادر، وبناء أهل المحاورات على صدور معين عند الشك الذي هو معنى أصالة عدم
القرينة غير ثابت، بل حال هذه الصورة حال صورة احتمال قرينية الموجود المتصل.
قوله: لكن الظاهر أنه معه يبنى على المعنى الذي:
يعني إذا كان عدم القرينة والعراء عنها قرينة على معنى غير ما هو معنى اللفظ في حد ذاته، كعدم البيان في مقام البيان، الذي هو قرينة
إرادة الشيوع والسريان من لفظ اسم الجنس الموضوع للماهية المهملة، كانت قضية أصالة عدم القرينة، حمل اللفظ على ما هو معناه
58

الوضعي الأولي لا ما هو معناه بقيد عدم القرينة، فليس بناء العقلا على عدم القرينة بناء على عدم القرينة، من حيث إن نفس عدم القرينة
بنفسه قرينة، ليكون ذلك منهم بناء على القرينة، بل بناء منهم على ترتيب آثار عدم كل قرينة حتى عدم القرينة من حيث كونه قرينة، و
أثر ومقتضى ذلك حمل اللفظ على ما هو معناه الأولى مع قطع النظر عن كل قرينة، ولكن يمكن أن يقال: إن ظهور اللفظ في معناه
الحقيقي، أعني إبرام هذا الظهور واستقراره، انما يكون مع عدم انضمام قرينة صارفة بحيث كان عدم الانضمام هو الموجب لاستقرار
الظهور، فعلى ما ذكره يلزم عدم حمل اللفظ على معناه الحقيقي بأصالة عدم القرينة، ولا يكون لأصالة عدم القرينة أثر وفائدة في مورد
من الموارد.
قوله: لا انه يبنى عليه:
العبارة لا تخلو عن استخدام، فان ضمير عليه لا يرجع إلى ما ذكره من المعنى بما أريد منه هناك، بل إلى مطلق المعنى.
قوله: بناء على حجية أصالة الحقيقة:
الشك في أن حجية أصالة الحقيقة من باب التعبد أو من باب الاخذ بالظهور، صار منشأ الاشكال، لا ان الاشكال مبني على اعتبارها من
باب التعبد، كما يوهمه ظاهر العبارة، فالمقصود ان أصالة عدم القرينة إن كان معناها الاخذ بالظهور ودفع احتمال القرينة بسببه، فلا
ظهور في صورة الاتصال بما يحتمل القرينية ليدفع آخذا به احتمال قرينيته ما اتصل وإن كان معناها البناء على عدم القرينة تعبدا من
العقلا وإن لم يكن ظهور في البين، جرت أصالة عدم القرينة في الصورة المذكورة. وقد عرفت منع البناء على أصالة عدم القرينة
مطلقا في هذه الصورة وفي صورة الشك في وجود القرينة ولا سيما المتصلة، فان الظهور غير محرز هناك أيضا، ثم إن الشك في
القرينية لا معنى له، فان الصالح للقرينية هو الأقوى دلالة، فمع كون المتصل متصفا بقوة الدلالة كان قرينة فعلية وإلا لم تكن قرينة
قطعا. نعم، يتصور ذلك مع الجهل بمقدار الدلالة، والظاهر أن ليس الكلام فيه وانما المراد ان يتصل بالكلام ما يساويه في الظهور و
يعانده في الدلالة، فان ذلك يوجب إجمال الكلام، كما أن اتصال الأقوى ظهورا يوجب
59

صرف الكلام عن ظاهره إلى ظهور ثانوي.
حجية الاجماع المنقول
قوله: فصل: الاجماع المنقول بخبر الواحد حجة:
اعلم أن البحث عن حجية الاجماع المنقول يكون بعد القول بحجية المحصل منه، بأحد الطرق الآتية، إذ مع إنكار حجيته لعدم الاذعان
بمسلك التضمن وبقاعدة اللطف، كما هو واضح، وعدم الحدس القطعي برأي المعصوم من الاجماع لا يبقى للبحث عن المنقول منه
مجال، وأيضا البحث عنه مبني على عدم اختيار مسلك التضمن وإلا كان سبيله سبيل خبر الواحد في أنه نقل لقول المعصوم عن حس.
غاية الأمر، عدم معرفة الامام تفصيلا، ومن المعلوم عدم دخل ذلك في الحجية، ومثل ذلك ما إذا نقل عن الامام في زماننا، كبعض
الأدعية التي أخبر السيد الجليل ابن طاوس انه سمعها من الإمام عليه السلام، فان شمول دليل صدق له واضح، ولا مجال للتأمل فيه
بمجرد الاستبعاد، ولا ينافيه ما ورد من الامر بتكذيب مدعي الرؤية إذ لم يدع الرؤية بل ادعى السماع.
نعم، لو نقل رأي المعصوم حدسا، جاء الاشكال من جهة شبهة اختصاص اعتبار دليل حجية الخبر بالاخبار عن حس، وذلك غير بعيد
بالنسبة إلى الأدلة اللفظية التي أقيمت على اعتباره، فان ظاهر أكثرها عدم الاعتناء باحتمال تعمد الكذب من حيث اعتبارها الوثاقة،
فيعلم ان مورده ما إذا كان احتمال الخطأ ملغى ببناء العقلا وهذا ليس إلا في الاخبار عن حس فان احتمال الخطأ في الحدس مما يعتنون
به نعم، في بعض الأخبار ما ظاهره العموم، مثل ما عن أبي الحسن عليه السلام فيما كتبه جوابا عن السؤال عمن يعتمد عليه في الدين،
قال: (اعتمدا في دينكما على كل مسن في حبنا، كثير القدم في أمرنا).
واما الاجماع الذي أقيم على حجية خبر الواحد، فاختصاصه بالخبر الحسي
60

لا إشكال فيه لاختلاف المجمعين على حجية الخبر الواحد في حجية الاجماع المنقول.
نعم، لا يبعد أن يقال: إن بناء العقلا على العمل بخبر الواحد لا يختص بالخبر الحسي، بل بنائهم على العمل بالخبر الموثوق به مطلقا. نعم،
في الخبر الحدسي يعتبرون مع ذلك كون المخبر من أهل الخبرة، وممن يكون الغالب في حدسه الإصابة، وإن شئت قلت: ان بناءهم
على العمل بما يثقون به، وهذا يحصل في الخبر الحسي بكون المخبر ثقة لا يتعمد الكذب، وفي الخبر الحدسي بكونه ثقة لا يتعمد
الكذب في الاخبار عن حدسه، وكونه من أهل الخبرة الذين لا يخطئون في حدسهم غالبا، لغلبة الخطأ في الحدس دون الحس. ثم انا لو
لم نقل بحجية نقل الاجماع من باب نقل المسبب وقول المعصوم لكونه عن حدس، فلا وجه لاعتباره من باب نقل السبب، وقول
المجمعين سوأ كان المنقول تمام السبب أو بعضه، وقد احتاج إلى تحصيل ما يكون متمما له، فان السبب المذكور انما كان معتبرا من
جهة حصول الحدس القطعي منه لا بما هو، ومن المعلوم ان الحدس لا يحصل ما لم يقطع بالسبب.
نعم، إذا كان السبب ملازما لقول المعصوم وكاشفا عنه كشفا عقليا أو عاديا، ولم يكن بنحو يحدس المنقول إليه منه اتفاقا، بحيث كان
معنى دليل صدق الشامل له ترتيب قول المعصوم عليه، كدليل صدق الشامل لألفاظ المعصوم، الكاشف عن إرادة معناه، اعتبر نقل
الاجماع من حيث نقل السبب، فإن كان تمام السبب ترتب عليه لازمه وإلا توقف ترتبه على تتميمه بما يكون معه تمام السبب، ومن ذلك
يظهر الكلام في نقل التواتر، فان الكلام فيه كالكلام في نقل الاجماع، من حيث نقل السبب والمسبب، بل لا يبعد اعتبار نقل التواتر من
حيث نقل المسبب، وإن لم نقل به في الاجماع، لقرب الحدس هنا من الحس، فيكون كالشهادة بالعدالة والاجتهاد، من الأمور الحدسية
القريبة من الاحساس، فان كل واحد من الرواة ينقل الرواية حسا من المعصوم ويحصل الحدس القطعي من المجموع بقول المعصوم، و
هذا بخلاف فتوى المجمعين، فإنها ناشئة عن مقدمات حدسية، فيكون الحدس
61

فيها بقول المعصوم حدسا ناشئا من الحدس، فيبعد من أجل ذلك عن الاحساس.
قوله: وأخرى لا ينقل إلا ما هو السبب عند ناقله:
إذا نقل ما هو السبب عند ناقله فلا جرم يكون قد نقل المسبب. نعم، نفس ما نقله من السبب، حيث اختصت سببيته بنظره، لا يكون كاشفا
ولو بالالتزام عن نقل المسبب، فان ذلك انما يكون إذا كانت علاقة السببية عقلية أو عادية دون ما إذا كانت في نظرنا، فله كذلك، لكن
إذا انضم اعتقاده إلى نقله كشف عن نقل المسبب، فنقل السبب لا ينفك عن نقل المسبب.
قوله: إلا أنه كان سببا بنظر المنقول إليه:
قد عرفت عدم كفاية السببية بنظر المنقول إليه ما لم يكن سببا عقليا أو عاديا كاشفا عن المسبب، ليكون معنى صدق المتوجه إليه
ترتيب لازمه وإثبات قول المعصوم به.
قوله: إذ المتيقن من بناء العقلا:
قد عرفت عموم بناء العقلا وشموله للخبر عن حدس إذا كان الحدس من أهل الخبرة، بل لا يبعد أن يكون بناؤهم بملاك حصول
الوثوق والاطمئنان بلا خصوصية في سببه، ولذا لا يفحصون عن حال الخبر وانه عن حس أو حدس فيما إذا جهلوا ذلك، وقد التجأ
المصنف إلى الالتزام بتحقق بنائهم على العمل لدى الجهل، ما لم تكن أمارة على الحدس.
قوله: إذا كان من نقل إليه ممن يرى الملازمة:
قد تقدم انه إذا كانت حكاية رأي الامام عن حدس لا تشملها أدلة الاعتبار، ومجرد ان المنقول إليه ممن يعتقد الملازمة لا يجدي في ذلك.
نعم، تعتبر حينئذ من حيث نقل السبب، لكن بما عرفته من الشرط كون الملازمة بين ذلك السبب وقول المعصوم عادية أو عقلية، ليكون
كاشفا عنه لا مجرد اعتقاد المنقول إليه بالملازمة.
قوله: نعم، لو كان هناك أثر للخبر المتواتر:
لا يخفى ان اخباره حينئذ يكون اخبارا عن موضوع خارجي ذي أثر، وهو اعتقاده، فيتوقف ثبوته على البينة إلا أن يكتفى باخباره من
باب انه مما لا يعلم إلا من قبله.
62

حجية الشهرة
قوله: لوضوح أن المراد بالموصول:
لا يخفى ان اشتهار الرواية بين الأصحاب لا يصدق إلا مع تلقيهم لها بالقبول وأخذهم إياها وإذعانهم بها، وان اتحد سندها، نقلهم لها
معرضين عنها غير حاملين بها، فلا يعد من الاشتهار بين الأصحاب وإن تعدد سندها وتكثر رواتها، فالعبرة في الصدق باشتهار
الفتوى دون مجرد النقل من غير اعتماد وإتكال. ثم إن المقبولة وإن دلت على وجوب الاخذ بالرواية المشتهرة بين الأصحاب، لكن
تعليلها يقتضي التسرية إلى كل ما اشتهر، وإن كان حكما ليس في مورده رواية.
قوله: لكن دون إثبات ذلك خرط القتاد:
كون بناء العقلا دائرا مدار الاطمئنان وسكون النفس، بلا دخل شئ من الأسباب فيه، من الواضحات التي لا تنكر، بل عملهم بالعلم أيضا
بهذا الملاك لا بما هو علم، غير محتمل للخلاف.
حجية الخبر الواحد
قوله: وعليه لا يكاد يفيد في ذلك:
يفيد في ذلك إذا كان المراد من الأدلة الأدلة الحاكية، فيكون المراد من السنة الاخبار الحاكية عن قول المعصوم وفعله وتقريره، فان
البحث عن حجيتها بحث عن عوارضها، ولا سيما على مذاق المصنف من كون الحجية بنفسها أمرا مجعولا قائما بذات الحجة، وانها غير
وجوب العمل، وإلا أمكن أن يقال أيضا: ان الوجوب ليس من عوارض الخبر، بل من عوارض فعل المكلف وعمله، على طبق الخبر.
قوله: مع أنه لازم لما يبحث عنه في المسألة:
يريد ان عنوان البحث هو حجية الخبر لا ثبوت السنة بالخبر، نعم، هو لازمه، والمناط في الدخول والخروج عن مسائل
63

الفن نفس ما هو عنوان البحث لا ما هو لازمه. قلت: بل هو عينها لا يختلف عنها إلا في مجرد التعبير، واختلاف التعبير عن مطلب واحد لا
يضر بحقيقة المطلب إذا كان بحقيقته داخلا في مسائل الفن، وإن عبر عنه بتعبير يوهم الخروج.
قوله: والجواب: اما عن الآيات فبأن الظاهر منها:
لا تخفى قوة ظهورها في العموم بملاحظة ما فيها من التعليل، فان قوله تعالى: (إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) و
قوله تعالى: (لا تقف ما ليس لك به علم أن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) كيف يسوغ دعوى اختصاصها بالظن في
الأصول الاعتقادية، وإن فرض ان مورد الآية الأولى ذلك، ومنه يظهر ما في دعوى تخصيصها بما دل على حجية خبر العدل، فإنها
بملاحظة ما فيه من التعليل غير قابلة للتخصيص.
فالصواب في الجواب أن يقال: إن مفاد الآيات لا يتجاوز ما يحكم به العقل من عدم جواز الاتكال والاعتماد على مجرد الظن، واما الاخذ
بدليل ظني قامت الحجة القطعية على اعتباره، فليس اعتمادا على الظن، بل على تلك الحجة القطعية، وإن شئت قلت: ان الحكم الظاهري
المنشأ على طبق الأمارة الظنية يكون قطعيا، فيؤخذ بهذا الحكم القطعي، فالدليل القطعي على اعتبار أمارة ظنية لا يزاحم ظهور الآيات،
بل يوجب خروج مورد موضوعها على سبيل التخصيص.
قوله: فبأن الاستدلال بها خال عن السداد، فإنها اخبار آحاد:
يمكن أن يقال: إنها
وإن كانت اخبار آحاد لكنها القدر المتيقن من الحجة، لأنها موافقة للكتاب، أعني الآيات الناهية عن اتباع الظن، وقد دلت على عدم
حجية الاخبار المخالفة، فتكون حجة على ذلك وتعارض الأخبار الدالة على حجية خبر العدل بالعموم من وجه، فاما أن تقدم هذه
بموافقة الكتاب أو تتساقطان، ويكون المرجع أصالة عدم حجية المخالف، لا يقال: إنها مخالفة للكتاب، أعني آية النبأ ونحوها، مما دل
على حجية خبر العدل. قلت: ان سلمت دلالة آية النبأ فهي معارضة للآيات المتقدمة بعد أن عرفت عدم قبولها للتخصيص، وبعد التساقط
تكون الأخبار الناهية غير
64

مخالفة للكتاب، وقد دلت على عدم حجية الاخبار المخالفة، ويمكن أن يكون التمسك بهذه الاخبار على عدم حجية أخبار الآحاد مع
كونها بنفسها أخبار آحاد لا لاثبات عدم الحجية بها، بل لتحطيم أخبار الحجية، فان تلك الأخبار لو كانت بنفسها مفيدة للقطع لولا هذه
لم تكن مع هذه مفيدة له.
قوله: بل لا محيص عنه في مقام المعارضة:
يعني ان م آل عدم حجية المخالف للكتاب والسنة جميعا إلى ترجيح أحد الخبرين المتعارضين، أعني السنة الموافقة للكتاب على هذا
الخبر المخالف له وللكتاب، وترجيح السنة على الخبر بموافقة الكتاب، وهذا مما لا محيص عنه، وفيه:
أولا: ان ذلك لا يصح فيما يمكن الجمع الدلالي بين الكتاب والسنة وبين الخبر المخالف لهما، كما إذا كان الخبر خاصا والكتاب والسنة
عامين، فان السنة لا ترجح حينئذ بموافقة الكتاب، بل يخصصان جميعا بالخبر.
وثانيا: انه يمكن دعوى تواتر بقية الاخبار مما عدا ما تضمن الامر بطرح ما خالف الكتاب والسنة، فينبغي الاخذ بالأخص من البقية، مع أنه
يمكن دعوى الجزم بأن المراد من هذا أيضا هو مخالفة كل واحد من الكتاب والسنة لا مخالفة مجموعهما، فتكون الواو بمعنى أو.
فالجواب الحاسم لمادة الاشكال، هو: أن هذه الأخبار طائفتان: طائفة دلت على أن ما خالف الكتاب باطل وزخرف، ولم يقولوه. و
أخرى دلت على الامر بطرح ما خالف أو ما لم يوافق أو لم يكن عليه شاهد أو شاهدان من كتاب الله تعالى. فاما الطائفة الأولى: فهي
أجنبية عن المقام ومضمونها مقطوع به لولا هذه الروايات أيضا، فان المراد من الكتاب فيها واقع الكتاب وحكمه لا ظاهره وما نفهمه
منه.
واما الطائفة الثانية: فهي وإن دلت على أن المقياس فيما يؤخذ وما يطرح هي المخالفة وعدم المخالفة، أو الموافقة وعدم الموافقة
للكتاب، اللتين لا محيص من حملهما على المخالفة والموافقة بحسب ما نفهمه من الكتاب لا ما هو واقعه، لكن الاخبار التي دلت على
تصديق العادل حاكمة على هذه.
65

بتقريب، ان هذه الأخبار لا مزاحمة لها بوجه مع ما نسمعه من الامام من المخالفات لظواهر الكتاب مخالفة جزئية، فإنها لا تدل إلا على
طرح الاخبار المخالفة لظاهر الكتاب لا أقوالهم المخالفة لظاهره، فما تسمعه منهم أو نقطع بصدوره منهم يؤخذ به ويتصرف في ظاهر
الكتاب، وحينئذ فإذا دل الدليل على تنزيل قول العادل منزلة السماع منهم، مثل قوله عليه السلام: (ما يقوله عني فعني يقول) كان ذلك
دليلا حاكما على دليل طرح ما خالف من الاخبار، ويكون المتحصل من المجموع حجية قول العدل مطلقا، وقول غير العدل إذا وافق
الكتاب.
قوله: خصوصا في المسألة، كما يظهر وجهه للمتأمل:
فان دليل حجية الاجماع المنقول هو دليل حجية الخبر الواحد، فالتمسك به على عدم حجية الخبر تمسك بالخبر على نفي حجية الخبر، و
يمكن إصلاحه بالنسبة إلى عدم حجية خصوص الاخبار المخالفة، بما تقدم في التمسك بالاخبار على طرح ما خالف الكتاب.
قوله: ولا يخفى انه على هذا التقرير لا يرد ان الشرط:
فيه أولا: ان هذا التقرير بمعزل عن ظاهر الآية، فان المعلق عليه، المدخول لأداة الشرط فيها هو مجئ الفاسق بالنبأ لا فسق الجائي،
ليكون المفهوم عدم فسقه بعد مفروغية أصل النبأ.
وثانيا: ان هذا التقرير أيضا لا يسلم عن الاشكال أيضا، وذلك لوضوح ان موضوع التبين الذي هو كناية عن عدم العمل في تالي القضية،
هو التبين عن ما جاء به الفاسق من النبأ لا كل نبأ ولا طبيعة النبأ بما هي طبيعة، وقانون المفهوم، هو انتفاء هذا التالي عند انتفاء المقدم،
ومن المعلوم ان انتفاء هذا التالي عند كون الجائي بالنبأ عادلا، يكون من السالبة بانتفاء الموضوع فان موضوع النبأ الذي جاء به
الفاسق يكون منفيا حينئذ، فينتفي حكمه، واما النبأ الذي جاء به العادل فلا يكون تعرض لحكمه في جانب شرطية المنطوق ليكون بذلك
قد تعرض له في جانب شرطية المفهوم، ومن المعلوم أن الشرطيتين لا تختلفان في غير جهة الايجاب والسلب، إن قلت: لا ريب في
ثبوت المفهوم في قولنا: زيد إن أكرمك أكرمه، ويكون مفهومه ان لم يكن كذلك لا يجب إكرامه. وما نحن فيه يكون من ذلك
66

القبيل، وتكون القضية هكذا: النبأ إن كان الجائي به فاسقا تبين عنه ولا تعمل به، ويكون مفهومه: النبأ إن لم يكن الجائي به فاسقا لا
تبين عنه، بل اعتمد به.
قلت: فرق بين المقام والمثال، فان زيدا موجود خارجي، يكون له حالتان:
حالة الاكرام وحالة عدمه، وهذا الموجود الخارجي جعل موضوعا للحكم معلقا على تحقق إحدى الحالتين، فينتفي عنه الحكم عند انتفاء
هذه الحالة، وهذا بخلاف النبأ، فإنه لا تحقق له إلا بالمجئ به، ويكون المجئ به عبارة عن إيجاده، كما أن رزق الولد يكون عبارة عن
وجوده، فيكون الحكم في التالي معلقا على موضوعه، وهو وجود بناء الفاسق، فحينئذ يتوجه إشكال انه لا يكون مفهوم له أصلا، أو
يكون مفهومه سالبة بانتفاء الموضوع، وعليه، فلا فرق بين الشرطية التي فسرها المصنف وبين الشرطية الأخرى التي هي ظاهر الآية،
ومن هنا ظهر الكلام عليها وان التالي إذا كان هو وجوب التبين في خبر الفاسق وعدم العمل به لم ينتف بانتفاء المقدم إلا هو، فيكون
المفهوم إن كان سالبة بانتفاء الموضوع، ولا يكون تعرض عن خبر العادل بخبر في جانب المنطوق ليكون عنه التعرض في جانب
الموضوع، فان المفهوم لا يختلف عن المنطوق إلا في الايجاب والسلب.
قوله: إلا انها ظاهرة في أن انحصار:
هذا الظهور مبنى على كون الآية في مقام بيان تمام ما يتبين فيه، ولم تذكر سوى خبر الفاسق، لكنه لم يثبت، بل لا يبعد أن تكون في
مقام الردع عما كان فعلا مظنة العمل، وهو خبر خالد. نعم، في الاقتصار في الردع على خبر الفاسق إيماء إلى التقرير بالنسبة إلى خبر
العادل، لكنه لا تبلغ مرتبة الدلالة لتكون حجة.
الآيات التي استدل بها
قوله: ولا يخفى ان الاشكال انما يبتنى:
الظاهر عدم الاشكال حتى بناء على كون الجهالة بمعنى عدم العلم، كما هو الظاهر، وسنشير إلى وجهه، فإنه لا جهالة في نظر العرف
في خبر العادل المأمون من الكذب، فإنه يفيد العلم العادي، بل في الآية
67

أيضا إيماء إلى ذلك، فان تخصيص الامر بالتبين بخبر الفاسق ثم الإشارة إلى علته، بأنه الإصابة بجهالة، يشير إلى اختصاص هذا الخبر
بها وعدم وجودها في خبر العادل.
واما حمل الجهالة على السفاهة فيأباه ذيل الآية، أعني قوله: (فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)، فان مقتضاه كون خوف الندم وعدم الامن
هو السبب لترك العمل، وهو يناسب أن تكون الجهالة، بمعنى عدم العلم، وإلا فالجهالة بمعنى السفاهة بنفسه باطل ولا يعلل بخوف
الندم.
ثم إنه لو سلمنا عموم التعليل وشموله لخبر العادل لم يكن ريب في أنه أقوى دلالة من المفهوم، فيمنع أن ينعقد للقضية ظهور في
المفهوم، فيستدل حينئذ بالآية على عدم حجية خبر الواحد، ولو فرض التكافؤ حصل الاجمال فلم يستدل بالآية على شئ من المذهبين.
قوله: ربما أشكل شمول مثلها للروايات الحاكية لقول الإمام عليه السلام
: قد ذكر هاهنا إشكالان متعاكسان، أحدهما شمول دليل اعتبار الخبر للخبر مع الواسطة، أعني للخبر الحاكي عن الخبر، والاخر
شموله للخبر المحكي بالخبر، ومناط الاشكالين متعدد.
فمناط الأول هو: ان دليل صدق لا يتوجه إلى مورد خلي عن الأثر لعدم معقولية التصديق واللا تصديق. فيه، فكل مورد كان محكي الخبر
مما يشتمل على الحكم بحيث لو كان المخبر له عالما بالمحكي بلا واسطة الحاكي لتوجه إليه الحكم، توجه هناك دليل صدق، وكان معنى
توجهه انشاء ما يماثل المحكي من الحكم، وكل مورد لا يكون كذلك للتوجه دليل صدق، فإذا فرضنا ان خطاب صدق انحصر في خطاب
واحد لم يعقل أن يشمل إلا الخبر الحاكي عن الامام بلا واسطة، لأنه المشتمل على الأثر بلا لحاظ نفس صدق، واما شموله للخبر الحاكي
عن الحاكي فذاك يتوقف على شمول صدق ابتدأ للحاكي الأول ليكون بشموله له ذو أثر، فيشمل بلحاظه للحاكي الثاني، وذلك
مستحيل، لاستلزامه اتحاد الحكم والموضوع،
68

كما في كل خبري صادق لو شمل نفسه، إذ كما أن صادق حينئذ يكون موضوعا ومحمولا، كذلك صدق الذي هو بمعنى رتب الأثر يكون
في الخبر مع الواسطة حكما وموضوعا للحكم، فإنه فيه يكون بمعنى رتب الأثر الذي هو عبارة عن نفس رتب هذا.
ولا يخفى ان حمل القضية على الطبيعية في كل خبري صادق وإرادة طبيعة الأثر في صدق العادل لا يدفع المحذور، فإنه إن أريد من
الطبيعة، الطبيعة في الجملة لم يجد ذلك، وإن أريد منها الطبيعة السارية حتى في هذا الفرد عاد المحذور، إذ كفى في توجه المحذور
إرادة الحصة الموجودة في هذا الفرد وإن خرجت الخصوصيات الشخصية عن حيز الحكم، فالصواب في دفع الاشكال، هو أن يقال: إن
دليل صدق معناه فرض الخبر صادقا والمعاملة معه معاملة ما إذا كان قاطعا بالصدق، فإذا كان قاطعا بصدق الخبر بلا واسطة عن حكم
عملي كان عمله هو القيام بمقتضى ذلك الحكم، واما إذا كان قاطعا بصدق الخبر مع الواسطة فذاك، وإن لم يكن له أثر مطلقا لكن له أثر
إذا كان قاطعا أيضا بصدق ذلك الخبر الواسطة، فإذا قام دليل الاعتبار على تنزيل كلا الخبرين الواسطة وذي الواسطة جميعا في عرض
واحد منزلة المقطوع صدورهما لم يكن مانع من الاخذ بمؤداه، ولا يكون ذلك، كما إذا لم يكن لفرض صدق الخبر أثر أصلا، فدليل
صدق يفيد الحكم بتصديق الخبر بلا واسطة، وأيضا يفيد الحكم بتصديق الخبر مع الواسطة، ولكن بواسطته لا مجردا، كي يشكل بعدم
الأثر. هذا تمام الكلام في الاشكال الأول.
واما الاشكال الثاني: فمناطه عدم شمول عموم دليل الحكم للفرد المتولد من موضوعه بنفس الحكم في القضية، وإلا لزم تأخر
الموضوع عن حكمه، مع أنه سابق عليه، واما كون ما نحن فيه على تقدير شمول دليل صدق لخصوص الوسائط من ذاك القبيل، فهو: أن
ثبوت خبر المفيد الذي حكاه الشيخ يكون بنفس شمول دليل صدق لخبر الشيخ، فكيف يكون هذا الثابت بدليل صدق مشمولا لدليل
صدق؟
69

والجواب: بأن الموضوع طبيعة الخبر الشاملة للفرد المتولد من الحكم في القضية عليها، قد عرف ما فيه. فالصواب في الجواب، أن يقال: إن
شمول دليل صدق للخبر المحكي ليس من حقيقة الشمول، كي يتوقف على ثبوت الموضوع وتحققه، فيلزم المحذور المذكور، بل من
باب المعاملة معه معاملة الثبوت، والتحقق بترتيب أثره عليه وهو حكم صدق، كما في الأصول الموضوعية والامارات القائمة على
الموضوعات.
قوله: وهو الترجي الايقاعي الانشائي:
لا يبعد أن يقال: إن مفهوم الترجي، وهو ترقب حصول ما هو مطلوب ومحبوب، غير منوط معنى تحققه بالجهل بالحصول، بل يحصل
من العالم كما يحصل من الجاهل، فان ترقب حصول ما يعلم أنه سيتحقق رجأ له، كما أن هذا المعنى بعينه في جانب المكروه خوف،
فالعالم بتحقق العقاب، وانه سيعاقب خائف، وعلى ذلك، فحقيقة الرجاء يتحقق من الله تبارك وتعالى بلا حاجة إلى التكلفات التي
ارتكبوها، مع أن فيها ما فيها، فإنه أية علاقة بين الترجي والمحبوبية، فان كون الترجي ترقب أمر محبوب، لا يصحح الاستعمال في قيد
الموضوع له، وكذا كون الداعي لانشاء الترجي هو المحبوبية، من غير استعمال اللفظ في المحبوبية، كما صنعه المصنف، فإنه أية مناسبة
بين الامرين ليكون أحدهما داعيا محركا لإيجاد الاخر؟
قوله: لعدم الفصل:
لا حاجة إلى ضم عدم الفصل، فان إطلاق الحكم بالمحبوبية لموارد اخبار العدل بالوجوب مع احتمال الحرمة، وكذلك العكس يكشف عن
الوجوب والحجية لعدم تصوير المحبوبية في الموردين اللذين كان العمل بهما على خلاف الاحتياط لولا الحجية.
نعم، الآية لا تعم أخبار العدل عن الاحكام غير الالزامية، فلا بد فيها من ضم عدم القول بالفصل.
قوله: لوجوبه مع وجود ما يقتضيه:
هذا مبني على انحصار مادة التحذر بالفرار عن العقاب، اما إذا قلنا بعمومها وشمولها للفرار عن المفاسد أو فوت المصالح الدنيوية،
70

فلا يتم الاستدلال إلا بعد ضم ما ذكرناه، من إطلاق الآية لمورد عدم إمكان الاحتياط لاحتمال حكمين إلزاميين، فإنه لا يمكن ذلك الفرار
حينئذ، فإن كان العمل بقول العادل مع ذلك محبوبا كان ذلك لحجيته، بل يمكن أن يقال: إن مادة الحذر إن أطلقت على الفرار عن
المفاسد أو ترك المصالح، فإنها لا تطلق إلا على الفرار عن أحد الملزمتين منهما دون غيرها، ومن المعلوم أنه لا إلزام في المفاسد و
المصالح الموجودة في مورد اخبار العدل، إذا لم يكن اخباره حجة.
قوله: ثانيها: انه لما وجب الانذار لكونه غاية للنفر الواجب:
لا يخفى عدم توقف هذا الوجه من الاستدلال على وجوب الانذار، بل لو كان الانذار راجحا أيضا كفى في الاستدلال على وجوب القبول
للزوم اللغوية لولاه، وهذا الوجه يحتاج إلى ضم ما تقدم في ذيل الوجه الأول، من عدم معقولية محبوبية الحذر ورجحانه من غير وجوب
وإلا كفى ذلك في خروج الامر بالانذار عن اللغوية، ولم يمكن إثبات وجوب الحذر ببرهان اللغوية.
قوله: ثالثها: انه جعل غاية للانذار الواجب:
الأولى في تقرير هذا الوجه أن يقال: إن كلمة لولا تدل على وجوب مدخولها، وهو النفر، فإذا وجب النفر وجب جميع غاياته ما كان بلا
واسطة، كالتفقه والانذار، أو ما كان مع الواسطة، كالحذر، وذلك لان غاية الواجب لا بد أن تكون مما لا يرضى الامر بعدمها، ولازمه
أن تكون واجبة إذا كانت من الأفعال الاختيارية.
وفيه: ان المراد من غاية الواجب إن كان هو الفعل الاختياري الذي ترشح وجوب ذي الغاية من وجوبه، فيكون وجوب ذي الغاية ناشئا
من وجوبه، فلا إشكال في أنه لو ثبت وجوب ذي الغاية بهذا الوجوب الغيري كان ذلك كاشفا عن وجوب الغاية، لكن المقام بمعزل عن
ذلك، فان وجوب النفر والتفقه والانذار لا يكاد يترشح من وجوب الحذر على القوم لعدم وجوب فعل على أحد، وجب بوجوب غايته
على آخر، وإن كان المراد من غاية الواجب الحكم والمصالح المترتبة عليه، فهذا مما لا يجب بوجوب الواجب، بل يتحقق بتحققه البتة، إن
كان
71

الواجب علة تامة له، هذا مضافا إلى أن غاية النفر ثم التفقه والانذار ليس هو الحذر الخارجي حتى يقال: إن غاية الواجب واجبة، وانما
احتمال الحذر وترقبه في نفس المولى، هو الذي دعى المولى إلى الامر، وهذا لا يقتضي وجوب نفس الحذر في الخارج.
والجواب العام الشامل لجميع وجوه الاستدلال: ان الآية ليست في مقام إيجاب التحذر تعبدا، بل مسوقة بعد الفراغ عن اقتضاء الانذار
للتحذر، اما الحصول القطع أو لأجل بناء العقلا على العمل بخبر العدل، لبيان وجوب الانذار، لترقب ترتب مسبب عليه، طبعا في مقابل
تخلفه عنه عمدا وعصيانا. نعم، لو قيل: إن الآية بإطلاقها الشامل لغير مورد إفادة الانذار للعلم، تدل على تقرير بناء العقلا على العمل
باخبار الثقة، لكان قريبا.
قوله: ويشكل الوجه الأول بأن:
قد تقدم الجواب عن هذا الاشكال بوجهين:
أحدهما: إطلاق الآية وشمولها، لما إذا أخبر العادل بالحرمة، واحتمل الوجوب أو العكس، فإنه لا يجري هنا ما أفاده من الاشكال.
والثاني: ان الحذر عن المفسدة أو ترك المصلحة انما يطلق إذا كانت المفسدة والمصلحة المذكورتان ملزمتين، فلا يطلق على الاحتياط
في الشبهات البدوية، فصح ان مادة الحذر لا يطلق إلا مع الالزام.
قوله: والوجه الثاني والثالث:
بعد الاعتراف بإطلاق الآية في إيجاب النفر الشامل لما إذا أفاد العلم وما إذا لم يفد، تم الاستدلال سيما إذا علم بعدم تيسر ضم ما يحصل
به العلم والانذار من إنذار سائر الناس، ولم يحتج إلى إثبات إطلاق آخر في جانب غائية التحذر، فإنه بعد فرض كونه غاية وكون
المغيا مطلقا، كانت الغاية أيضا مطلقة. نعم، إذا كانت الآية مهملة في إيجاب النفر والانذار، كما صح ما ذكره (ره) لكن منع الاطلاق، مما
لا وجه له.
قوله: عند إحراز ان الانذار بها:
لا يخفى أن الخطاب ليس. للمنذرين بالفتح بأنكم إذا أنذرتم احذروا، ليتجه ما أفاده (ره) بل للنافرين المتفقهين، بأنه أنذروا،
72

والمنذر يعلم بأنه منذر بالأحكام، وهو موضوع وجوب الحذر على المنذرين بالفتح، مع أن صدق عنوان الانذار بشي أو الاخبار به
يحصل بمجرد إنذار المنذر والمخبر بلا توقف على إحراز تحقق المنذر به أو المخبر به، فان الاخبار بقيام زيد يحصل بمجرد قول
المخبر: زيد قائم. وإن لم يعلم بتحقق القيام منه في الخارج، بل وإن علم بعدم تحققه، ولذا يتصف الخبر بكل من الصدق والكذب.
ثم إنه إن صح هذا الجواب اتجه على جميع وجوه الاستدلال ولا يختص بالوجهين الأخيرين، وكان لازمه عدم وجوب النفر والانذار إذا
علم بعدم حصول العلم للمنذرين، ولو من جهة عدم انضمام إنذار من يحصل بانضمام إنذارهم العلم.
قوله: لا يذهب عليك انه ليس حال الرواة:
يظهر من هذا الجواب ان المصنف لم يصل إلى حقيقة الاشكال، وهو: ان عنوان الرواية انما ينطبق على نقل ما سمعه الشخص من الامام
بلفظه أو بمعناه: وعنوان الانذار ينطبق على الاجتهاد في فهم ما سمعه وبذل ما اعتقده، ولو بلفظ يجب ويحرم من غير تصريح
بالعقاب، فان ذلك متضمن للوعيد بالعقاب بمدلوله الالتزامي، وكذلك عنوان الانذار ينطبق على التخويف الحاصل من الوعاظ، مع علم
المنذرين بأصل الحكم أو تلقيهم له من طريق معتبر عندهم، من اجتهاد أو تقليد، فالراوي بما هو راوي، الذي يراد إثبات حجية روايته
في حق مجتهد آخر لا يطلق عليه المنذر، لتكون الآية من أدلة حجية الرواية، كما أنه بما هو منذر، لو انضم إلى روايته الانذار والتخويف،
لا يكون إنذاره حجة إلا للعوام، إذ اعتقدوه جامعا للشرائط، فان منذريته تكون متقومة بجهة فهمه للرواية، الذي هو عبارة عن فتواه
بمؤداها، وفهمه ليس حجة على مجتهد آخر.
ومن ذلك يظهر ان الاستدلال بالآية على حجية نقل الراوي إذا انضم إلى نقله الانذار، ثم تتميم المدعى في ما لم ينضم بالاجماع في غير
موقعه، فإنه في ما إذا انضم، ليس نقله حجة لينضم إليه الاجماع، وإنما الحجة إنذاره، فيختص بمن يجوز له تقليده.
73

قوله: وتقريب الاستدلال بها: ان حرمة الكتمان يستلزم القبول:
حرمة الكتمان انما كان يستلزم القبول إذا كان مستلزما لوجوب الاظهار، وهو ممنوع، فان الظاهر ثبوت الواسطة بين الكتمان و
الاظهار وليس الكتمان عبارة عن مجرد عدم الاظهار، بل عبارة عن الستر والاخفاء، لما من شأنه الظهور لولا الستر، كما في آية
كتمان الحمل، فيكون مفاد الآية لعن من يكتم ويستر الهدى والبينات ويمنعها عن الظهور، وذلك بمعزل عن المطلوب.
نعم، يستعمل مادة الكتمان في التعمد بعدم إظهار ما ينبغي إظهاره، كما في آية كتمان الشهادة، فلو كان الكتمان في هذه الآية بذاك
المعنى صح التمسك بها للمقام. ولعل الاستثناء في الآية الثانية بقوله عز من قائل: (إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا) يشهد على ذلك، إلا
أن يقال: إن الارتداع عن الكتمان بعد تحققه انما يكون بالبيان، وإلا بقي الامر مكتوما، فاستمر بذلك العصيان.
قوله: ولا يخفى انه لو سلمت هذه الملازمة:
لا يخفى: ان الملازمة تتبع الاطلاق، وشمول الآية إذا لم يكن إظهار البينات والهدى مفيدا للعلم لا بنفسه ولا بانضمام إظهار من يفيد
انضمام إظهاره للعلم، فإنه لو كان الاظهار حينئذ واجبا لاقتضى وجوبه جواز القبول، وإلا لزم اللغوية، فلو لم يكن للآية إطلاق يشمل
هذه الصورة، وكان ظاهرها أو متيقنها صورة إفادة العلم لم تتم الملازمة. ومنه يظهر ما في كلام المصنف، من أنه لا مجال لمنع الاطلاق
مع تسليم الملازمة، فان الامر على العكس:
لا مجال لمنع الملازمة مع تسليم الاطلاق.
قوله: لا مجال للايراد على هذه الآية:
لعل عدم المجال من جهة إفادة الموصول للعموم في صلته، فيكون العموم وضعيا.
قوله: لتحصيل العلم لا للتعبد بالجواب:
نعم، الظاهر أن هذه الآية وبقيتها ليست بصدد بيان الحكم الشرعي وإعطاء التعبد، بل وكذا آية النبأ، ولكنها تدل بإطلاقها على كون
الجواب معمولا به بالطبع، ولو لم يفد، فتكشف عن العلم ثبوت بناء من العقلا على العمل وتكون الآيات تقريرا له.
74

نعم، يجب التقييد بخصوص ما إذا حصل العلم في مورد هذه الآية، حيث إنه من الأمور الاعتقادية، بل التمسك بها في غير موردها غير
صحيح، لعدم ثبوت الاطلاق فيها وان فرض عموم أهل الذكر لغير الأئمة، وأيضا عدم إرادة خصوص علماء أهل الكتاب منها.
قوله: وفيه: ان كثيرا من الرواة يصدق عليهم انهم أهل الذكر:
قد تقدم في ذيل آية النفر ما في هذا الايراد من الضعف والوهن. نعم، قد أضاف هنا شيئا آخر، وهو إطلاق الامر بالسؤال وشموله لما
إذا كان السائل بنفسه من أهل العلم، وكأنه يريد أن قضية الاطلاق المزبور هو أن يكون السؤال بما هم رواة لا بما هم أهل العلم، وإلا لم
تكن تشمل لمن هم مثلهم في قوة الاجتهاد.
وفيه: ان ظهور دخل حيثية كون المسؤول منه من أهل العلم، ظهور لفظي يمنع من انعقاد الاطلاق في جانب السائل، مع أن فقرة (إن كنتم
لا تعلمون) كالصريح في خروج السائل عن عنوان أهل الذكر، مع أن عدم جواز تقليد من له قوة الاجتهاد، بالاجماع، وخروجه عن
إطلاق الآية لا يوجب التصرف في الآية إلا بالتقييد دون التصرف في ظهورها في التقليد بحملها على العمل بالرواية، فان التقييد أقرب
وجوه التصرف.
قوله: فإنه تبارك وتعالى مدح نبيه بأنه يصدق المؤمنين:
يحتمل أن يكون من الايمان للمؤمنين بمعنى الأمان لهم لا بمعنى التصديق لقولهم، ويكون اختلاف التعدية بالباء واللام في الموردين
للإشارة إلى ذلك، ويكون من أمانه لهم عدم مؤاخذتهم بأقوالهم بعضهم في حق بعض وفي حق أنفسهم.
قوله: انما مدحه بأنه اذن، وهو سريع القطع:
كون الاذن هو سريع القطع ممنوع، وإن كان يشهد له قوله عز شأنه (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) إذا قلنا: بأن المراد منه هو الايمان
بمعنى التصديق، فان الاذن فسر بالمستمع القابل لما يقال له، وهو أعم من المستمع عن تصديق ومن مجرد ترتيب الأثر. ويساعده ان
سرعة القطع بنفسها ليست من الصفات المحمودة، فان القاطع يمشي على مقتضى قطعه، ان
75

أضر الناس أو نفعهم. نعم، بمنكشفه، حيث إنه يكشف عن صفاء النفس من الغل والغش، حتى لا يتصور الدغل في حق أحد من الصفات
الكريمة، ويساعده أيضا انه لا معنى للقطع باخبار الله وباخبار غير الله، على طرفي النقيض، كما نقل في مورد الآية، فلا بد من أن
يكون المراد من الاذن هو المستمع ومن الايمان للمؤمنين هو مجرد الاستماع بترتيب الأثر الخارجي، فيما ينفعهم من دون حصول
إذعان له على طبقه.
قوله: هو ترتيب خصوص الآثار التي تنفعهم:
ويشهد لذلك انه لو كان المراد ترتيب جميع الآثار لما كان ذلك خيرا، ومما يستحق الشخص للمدح عليه، وأيضا يشهد له تعدية الايمان
باللام الدال على إرادة ترتيب ما ينفعهم من الآثار، لا يقال:
يثبت المطلوب بذلك أيضا في الجملة، وهو حجية خبر الواحد فيما كان مفاده ينفع المؤمنين، بل لو ضم ذلك الاجماع على عدم الفضل
يثبت المطلوب على سبيل العموم، فإنه يقال: لم يثبت ان ذلك كان لأجل حجيته حتى يزاحم حجة أخرى إذا كانت على الخلاف، بل الظاهر أن
ذلك من باب انه ينفعهم ولا يضر أحد، ولا يكون فيه إلغاء لحكم شرعي.
الاخبار التي دلت على اعتبار أخبار الآحاد
قوله: إلا انها متواترة إجمالا:
يمكن منع حصول القطع بصدور واحد على سبيل الاجمال بعد ملاحظة الأخبار المانعة، وإن كان يحصل القطع لولاها، ولو سلم حصول
القطع فلا ريب ان الأخبار المانعة أيضا، مفيدة للقطع كذلك، إلا أن يقال: إن الجمع العرفي يقتضي الاخذ بهذه، فلا ينتهي الامر إلى
التساقط، فراجع ما تقدم. ويمكن أن يقال: إن الاخبار كالآيات ليست في مقام تشريع حكم، بل وردت على العادة الجارية على العمل
بخبر الثقة، وليس مناط العادة الجارية هو
76

العمل بالخبر بما هو خبر مطلق أو خبر مخصوص مفيد للوثوق، بل العمل على الوثوق وسكون النفس، كان ذلك حاصلا من الخبر أو
غيره، فصح دعوى ان العمل بالخبر عند الإمامية جار مجرى العمل بالقياس في البطلان.
وبالجملة: مناط السيرة ما ذكرناه، والأدلة الاخر كلها ظاهرة في تقرير السيرة لا تفيد جعلا تعبديا وراء ما جرت عليه السيرة، واما
الاجماع فينهدم بوجود من يعمل بالخبر بمناط الاطمئنان في جملة المجمعين، ثم الفرق بين التواتر الاجمالي والمعنوي، هو اتفاق
المجمعين في المعنوي على الحكم بعنوان واحد تحت مفهوم فارد، ولو كان ذلك مستفادا من لازم كلامهم واتفاقهم في الاجمالي على
الحكم في مصداق واحد ولو بعناوين متعددة ومفاهيم متشتتة، فالخبر الواحد المشتمل لمجموع الخصوصيات معتبر عند الكل، لكن
واحد يعتبره لخصوصيته وآخر لاخرى وثالث لثالثة وهكذا، لكن الوجه في اعتباره خبر واحد خصوصية عند الاخر غيرها، وهكذا.
الاجماع على حجية الخبر الواحد
قوله: إلا أنه يتعدى عنه فيما إذا كان بينها:
ان مجرد فرض وجود خبر كذائي لا يجدي شيئا، بل اللازم في مقام الاستدلال إحراز وجود مثل هذا الخبر، وينبغي أن يكون هذا الخبر
خارجا عن ما يتم به التواتر، وإلا لم يكن حجة بنفس هذا التواتر.
قوله: من زماننا إلى زمان الشيخ، فيكشف رضاه:
لم أعلم وجه خصوصيته لزمان الشيخ، فاما أن يلزم انتهاء ذلك إلى ما بعد زمان الشيخ، أو لا يلزم الوصول إلى زمان الشيخ أيضا.
قوله: أو من تتبع الاجماع المنقولة:
إذا اختلفت مباني نقلة الاجماع، فواحد ينقل على سبيل الحدس بأحد وجوه الحدس، وآخر على سبيل الحس، لم تكن عبرة بتواتر النقل،
بل وكذلك إذا اتفق الكل على النقل من باب الحدس إلا من باب نقل السبب على الوجه المتقدم، فيكون السبب قطعيا ويحتاج إلى ضم
المتمم هنا، كما كان يحتاج في الاجماع المنقول.
قوله: اللهم إلا أن يدعى تواطؤها على الحجية:
التواطؤ على الحجية حاصل على كل حال، والمقصود من العبارة تواطؤ طوائف المجمعين على الحجية التي هي الكلمة
77

الجامعة بلا رفع اليد عنها في حال من الأحوال، لو فرض رفع اليد عن ما يعتبره من الخصوصية، ولكن يتجه عليه منع الجدوى في هذا
الاجماع التقديري إن لم يكن يجدي الاجماع الفعلي، من جهة اختلاف المجمعين فيما اعتبروه من الخصوصيات.
قوله: ومن الواضح انه يكشف عن رضا الشارع:
يكشف كشفا قطعيا عن تقرير الشارع، ومع ذلك يحتمل أن لا يكون الحكم الواقعي ذلك، لاحتمال التقية وشبهها في التقرير.
قوله: فإنه مضافا إلى انها وردت:
قد عرفت: ان الآيات عامة وإن خصت موارد بعضها، بل بتعليلاتها بالغة إلى حيث لا يمكن تطرق التخصيص إليها.
نعم، الظن الذي قام على اعتباره حجة قطعية خارج عن مدلولها تخصصا، لكن ذلك لا يمنع عن شمولها للسيرة وردعها لها، لان السيرة
مما لم يقم على حجيتها دليل قطعي، فهي مندرجة تحتها.
نعم، لولا الآيات لكان على اعتبارها دليل قطعي، واما ما ذكره المصنف من الدور فهو مما لا أصل له، ولذا خالفه عند التمسك على
حجية الاستصحاب بالسيرة.
ووجهه: ان كشف السيرة وأماريتها كشف طولي وفيما لا أمارة ولا ظهور يقضي بالردع، فأول مرتبة من الظهور في الردع يكون
متبعا، وتنتفي معه أمارية السيرة، كما في الغلبة مع سائر الامارات، ولا يكون مجال لمزاحمته بالسيرة وإلا لم يحصل الردع بالنص
القطعي أيضا، بل زاحمته السيرة، فيسقطان من الجانبين، فان السيرة المخصصة للظاهر تكون معارضة للنص البتة.
وبالجملة: بناء العقلا انما هو الاخذ بظهور دليل الردع ورفع اليد عن ما جرت عليه سيرتهم، وإن شئت قلت: ان اعتبار السيرة انما هو
لاستكشاف رأي المعصوم استكشافا قطعيا لا للتعبد، ولا يبقى للاستكشاف القطعي مجال مع قيام ما ظاهره الردع، بل وما يكون
محتمله ذلك.
قوله: انما يكفي في حجيته بها، عدم ثبوت الردع عنها:
بل يكفي في حجية عموم
78

دليل الردع عدم ثبوت التخصيص له بالسيرة، فالأولى ان يجاب بهذا عما أورده من الدور هناك، لان بناء العقلا وأهل المحاورة على
العمل بالعموم، حتى يثبت التخصيص، وهذا بخلاف السيرة، فإنها ليست دليلا تعبديا، بل العمل بها من باب الاستكشاف القطعي لرأي
المعصوم، ولا استكشاف مع احتمال الردع ودعوى قيام السيرة، وبناء العقلا على العمل بالسيرة ما لم يثبت الردع، باطلة، لأنا ننقل
الكلام إلى هذه السيرة، فإنها مع احتمال الردع عنها كيف يعمل بها هذا، مع أن ما أفاده المصنف من كفاية عدم ثبوت الردع يكشف عن
تسليمه كون عدم الردع دوريا، ولذا أنكر التوقف عليه، مع أنه لا يعقل أن يكون الردع وعدمه دوريا، وإلا كان اللازم ارتفاع
النقيضين.
الوجوه العقلية الدالة على حجية الخبر الواحد
قوله: ولازم ذلك لزوم العمل على وفق جميع الأخبار:
الأول بمقتضى قاعدة الاحتياط والثاني بمقتضى قاعدة البراءة بعد انحلال العلم الاجمالي، ولذا أشكل عليه: بأن قضية ذلك اختصاصه
بما إذا لم تقم حجة على الخلاف، كقيام أمارة معتبرة مطلقا أو قيام استصحاب مثبت للتكليف أو قاعدة اشتغال في مورد الامارات
النافية لعدم جريان الأصل في مقابل الامارة ولا البراءة في مقابل الاستصحاب، أو قاعدة الاشتغال، إذا كان المقام موردا لقاعدة
الاشتغال، كما لو علم إجمالا بوجوب واحد من الظهر والجمعة، ودل خبر من أطراف ما علم بصدوره على عدم وجوب الجمعة، أو شك
في جزئية السورة على القول فيه بالاشتغال، ودل خبر على عدم الجزئية.
قوله: أو الاستصحاب بناء على جريانه في أطراف علم إجمالا:
إذا كان الأصل في مسألة جزئية هو الاستصحاب، كما في الشك في وجوب صلاة الجمعة، ويدل خبر من أطراف العلم الاجمالي بالصدور
على النفي، يكون العمل على الاستصحاب من غير ابتناء على ما ذكره، لعدم كون المسألة من أطراف العلم الاجمالي
79

بالانتقاض، وكذلك إذا أريد استصحاب الحكم من الشريعة السابقة، فان العلم الاجمالي بانتقاض أكثر أحكام تلك الشريعة لا يمنع من
هذا الاستصحاب بعد انحلال هذا العلم الاجمالي بالظفر على أحكام ثابتة في هذه الشريعة في طي جريان الاخبار المثبتة للتكليف، وإن
لم يعلم كونها بعنوان النسخ للشريعة السابقة أو بعنوان التقرير، فان ذلك لا يمنع من الانحلال، وإلا لم يجر أصالة عدم النسخ في شئ
من الموارد.
قوله: وفيه أنه لا يكاد ينهض على حجية الخبر:
وأيضا لا يكاد ينهض على وجوب العمل على طبق الخبر المثبت للتكليف فيما إذا دل الخبر على وجوب شئ، واحتمل في المسألة، مع
كون تلك الحرمة المحتملة أهم، فإنه مع أهمية الحرمة المحتملة في مسألة دوران الامر بين الوجوب والحرمة، يتعين الاخذ بالحرمة و
ترك الاعتداد باحتمال الوجوب.
قوله: ثانيها: ما ذكره في الوافية:
ان ما ذكره في الوافية يرجع إلى الوجه الأول، ولذا كان الجواب عنه هو الجواب عنه. نعم، قد خص صاحب الوافية العلم الاجمالي بالاخبار
الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة مع عمل جمع به، وذلك لا يوجب عدة، وجها مستقلا في مقابل الوجه الأول.
قوله: ثالثها: ما أفاده بعض المحققين بما ملخصه: أنا
: ان وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة إن كان بمعنى استعلام الاحكام من الكتاب والسنة، وجوبا نفسيا في عرض سائر التكاليف
الشرعية، أو كان بمعنى العمل بالأحكام من طريق الكتاب والسنة من باب تعدد المطلوب، على أن يكون الاتيان بالتكاليف الشرعية
مطلوبا، وكون العمل منبعثا من العلم الحاصل من الكتاب والسنة مطلوبا آخر، فذلك لا يقتضي بطلان العمل الحاصل لا من غير الكتاب
والسنة، بل العمل صحيح. غاية الأمر، يفوت الواجب الآخر الأكيد بانتفاء موضوعه، فلا بد أن يكون مراد بعض المحققين: كون ان
الواجبات الواقعية والمحرمات الواقعية مقيدة بأن يكون حصولها من طريق الكتاب والسنة، ليكون الحاصل لا من طريقهما باطلا
عاطلا،
80

فيتنزل عند انسداد باب العلم إلى ما ظن كونه واقعا، وكان حاصلا من طريق ظن أنه الكتاب والسنة، فحيث انتفى أحد الظنين لم يجد
ذلك.
وفيه: منع هذا التقييد، فان وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة وجوب طريقي، لمحض إدراك الواقع، لا من باب الموضوعية والسببية
كسائر الاجزاء والشرائط المعتبرة في متعلق التكليف، ليتنزل من العلم بالكتاب والسنة إلى الظن بهما.
مع أن العلم إذا كان سببا دخيلا فلا وجه لقيام الظن مقامه عند تعذره، بل سقط التكليف كما في الظن في أصول الدين، وانما يقوم الظن
مقام العلم الطريقي عند تعذره، وأيضا مقتضى هذا الوجه هو العمل بالاخبار المظنون الصدور أو مظنون الاعتبار إذا أريد بالسنة ما
يعم حكاية قول المعصوم إذا أفاد الظن بالحكم لا مطلقا.
في الوجوه الدالة على حجية الظن
قوله: الا انه لا يستقل أيضا بعدم استحقاقها معه:
لعل ذلك من جهة العلم الاجمالي بالتكليف، وكون تأثيره مختصا بالاطراف المظنون، كونها موردا للتكليف دون الموهوم كونه كذلك.
مبحث انسداد باب العلم
في مقدمات دليل الانسداد
قوله: ولا مانع كذلك لو كانت موارد الأصول المثبتة بضميمة:
لا مطلقا، بل بمقداره المحتمل مطابقته للواقع. وإلا فمقدار منه كاذب لا يوجب الانحلال قطعا.
قوله: بمقدار المعلوم إجمالا:
هذا انما يكون، إذا كان العلم بثبوت أحكام جديدة في هذه الشريعة، على خلاف الشريعة السابقة في الجملة، بان احتمل أن يكون جميع
ذلك في موارد الأصول المثبتة، على خلاف الحالة السابقة، وعليه، فلا ينبغي
81

التأمل في جريان الأصول النافية والمثبتة جميعا.
واما إذا علم بارتفاع جملة من الالزاميات في الشريعة السابقة، بالإباحة لا بالالزام على الخلاف وجملة من غير الالزاميات بالالزام، فلا
يكاد يجدي جريان الأصول المثبتة في الانحلال، فالانحلال في فرض العلم بالنسخ، وعدمه في فرض آخر.
قوله: من جهة ما أوردنا على المقدمة الأولى:
ومن جهة ما أوردنا على المقدمة الثانية، من انفتاح باب العلمي بمقدار واف بمعظم الفقه.
في نتيجة مقدمات دليل الانسداد
قوله: بنصب طرق خاصة باقية فيما بأيدينا:
أقول: يعتبر العلم بالبقاء، لو لم يكن مضرا لاقتضائه الاحتياط في ما بأيدينا، كما سيذكره المصنف (قده) فلو علمنا بنصب طرق خاصة
أعم مما في أيدينا ومما لم يصل إلينا، الذي مثاله إلى التقييد، أعني العلم بالتكليف في مؤديات هذه الامارات التي بأيدينا، والتي ليست
بأيدينا، وحسب الاحتياط في جميع ما احتمل كونه مؤدى الامارة، وحيث ينجر إلى العسر يجب التنزل إلى الظن.
قوله: وكذا فيما إذا تعارض فردان:
هذا مبني على العلم بحجية الثاني، على تقدير حجية المثبت.
ولعل ذلك هو المراد من قوله: فردان من بعض الأطراف، وإن عمت العبارة.
اما إذا احتمل حجية المثبت خاصة، فيجب الاخذ به، ولو كان المرجح مع النافي، فإنه من تعارض الحجة واللاحجة، وليس مورد الملاحظة
الترجيح.
قوله: وكذا كل مورد لم يجر فيه الأصل:
هذا انما يفيد مع احتمال انتقاض حكم الجميع، وإلا وجب الاحتياط أيضا، مع جهة العلم الاجمالي.
قوله: وثانيا: لو سلم ان قضيته:
هذا الاشكال ناشئ عن عدم تحرير وجه دلالة ما أفاده من العلمين الاجماليين على ما أدعاه من قصر الحجية بالظن بالطريق.
82

والظاهر: ان الوجه: اما الصرف والتقييد في الأحكام الواقعية.
واما تعدد المطلوب، بأن يكون الاخذ بالطرق الخاصة مخلا للتكليف النفسي.
والأول مضافا إلى فساده، خلاف ظاهر تعليله الأخير للاخذ بالظن بالطريق، بكونه أقرب إلى الواقع مما عداه.
واما الثاني فلا ينتج فساد العمل بالظن بالواقع، غايته حصول المخالفة للتكليف الاخر، المتوجه إلى العمل بالطريق.
قوله: لا بما هو مؤدى طريق القطع:
هذا لا يعلم من الاجماع. فالأولى ان يقال: إن
العمل المصادف للواقع يجزي، ولو لم يكن حين العمل، مما تعلق القطع به، ولا مؤدى دليل معتبر.
قوله: لا يكاد ينفك عن الظن بأنه مؤدى:
لكن لا بقيد كونه فيما بأيدينا، بل يعلم أنه ليس فيما بأيدينا من الطريق، والفرض ان العلم الاجمالي عنوان بذلك.
قوله: غير مجد:
بل مجد، كما في صورة القطع بالطريق، فإنه ربما لا يورث الظن بالواقع، ومع ذلك يجب العمل به، اما لأنه الواقع أو عذر عنه.
قوله: والفرض عدم اللزوم:
فيما إذا كان الطريق المعلوم نصبه على سبيل الاجمال، لم يعلم كونه فيما بأيدينا، أو علم بعدم كونه فيما بأيدينا، فان رعايته يفضي إلى
ترك التكاليف رأسا، لتعذر قيده، باعتبار تعذر الاحتياط في أطراف الطرق المحتملة.
قوله: بل عدم الجواز:
لم يعلم وجه عدم الجواز، فإنه ليس نظير الاحتياط التام.
83

المقصد السابع:
في الأصول العملية
85

في الأصول العملية قوله: مما دل عليه حكم العقل أو عموم النقل:
لا يخفى ان المستفاد من الأصول العملية التي دل عليها النقل أحكام فرعية كلية ظاهرية، متعلقة بالعمل والأصول ما بمعونتها تستنبط
هذه الأحكام وأضرابها، كلية وجزئية، من أدلتها التفصيلية، واما الأصول العقلية، فالبحث عنها ليس بحثا عن مدرك الحكم الشرعي، و
لا يراد بها استفادة الحكم الشرعي منها بقاعدة الملازمة، ليكون بحثا عما يقع في طريق الاستنباط، ولذا التجأ المصنف في أول الكتاب
لأجل إدراج مثل ذلك في علم الأصول بزيادة قيد أو التي ينتهي إليه المجتهد في مقام العمل في تعريف الأصول، وكلامه هناك - وإن
كان مطلقا - يشمل الأصول النقلية.
لكن عرفت: ان الأصول النقلية أحكام فرعية عملية، وعلم الأصول ما بمعونته تستنبط مثل هذه الأحكام عن الأدلة، ومجرد ان ذلك
أحكام الشك، فيكون موضوعها متأخرا عما إذا قام دليل خاص على الحكم الجزئي، فيختص بما بعد الفحص واليأس لا يجعله من علم
الأصول.
87

قوله: ولم تنهض عليه حجة:
ولو مثل دليل الاستصحاب فيما كان هناك حالة سابقة متيقنة، أو العلم الاجمالي بواحد من الوجوب والحرمة لا على سبيل التعيين أو
العلم إجمالا بأحدهما معينا في أطراف محصورة أو غير معين، كما إذا علم بوجوب هذا، أو حرمة ذلك، فيخرج مجاري الأصول الثلاثة عن
موضوع البحث.
فصل:
لو شك في وجوب شئ أو حرمته ولم تنهض عليه حجة
قوله: وكان عدم نهوض الحجة لأجل فقدان النص:
هذا تعريض على شيخه حيث أفرد لكل من فقد النص وإجماله وتعارض النصين مسألة مستقلة. وأضاف إلى ذلك بمسألة رابعة للشبهات
الخارجية، ولكن لا يخفى من راجع كلامه (ره) ان ذلك منه لأجل اختصاص بعض تلك المسائل بخصوصية، من ثبوت خلاف أو وفاق و
نحو ذلك، فيكون الاجمال مخلا بهذا المقصود.
قوله: أظهرها قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا):
الاستدلال بالآية مبني على إرادة بعث الرسول بعنوان كونه رسولا لا ذات الرسول وشخصه، وإن لم يبلغ بعد رسالته. وعلى إرادة
الرسول في كل مسألة، فلا يجدي الرسول في مسألة بالنسبة إلى مسألة أخرى. وعلى إرادة معنى عام من الرسول وهو مطلق المبلغ،
ليكون شاملا للرواة المبلغين للأحكام من المعصومين عليهم السلام دون شخص النبي صلى الله عليه وآله المبلغ للكل بواسطة الرواة،
فلا يجدي التبليغ إلى الوسائط، وإن أمروا بتبليغ الشاهد منهم للغائب، وقد أنكر الأخباريون هذا الأخير، وقالوا بجريان البراءة قبل
بعث الرسول، واما بعده واختفاء الاحكام فلا.
قوله: وفيه: ان نفي التعذيب قبل إتمام الحجة:
ان ظاهر الآية نفي كون التعذيب قبل بعث الرسول، من شأنه تعالى، فيدل على القبح، ولازمه عدم الاستحقاق، إذ
88

لولاه كان من شأنه ذلك، فان كل ما هو حسن فهو من شأنه تعالى. وبذلك يندفع إشكال اختصاص الآية بالأمم السابقة، إذ هي حكاية عن
معاملته تعالى معهم، مع أنه لا اشعار فيها بالاختصاص بهم، بل حذف المتعلق يفيد العموم.
نعم، غاية ما يستفاد من هذه الآية وغيرها، تقرير حكم العقل، إذ لا يعقل لنفي الاستحقاق معنى راجعا إلى غير باب العقل.
نعم، نفي فعلية العقاب يمكن أن يكون من المولى تفضلا.
قوله: ليس عنده بأعظم مما علم حكم:
مع أنه فيما علم حكمه قد ثبت العفو، كما في الظهار، ومع ذلك الاستحقاق ثابت حتى عند الخصم، فيعلم ان الملازمة بين نفي الفعلية و
الاستحقاق غير مسلم عنده، كي يتمسك بالآية على إلزامه.
قوله: منها حديث الرفع:
ان الاستدلال بهذا الحديث على المطلوب يتوقف على أن يكون المراد بالموصول في (ما لا يعلمون)، هو الحكم دون الموضوع، بإرادة
عدم معلومية عنوانه، كاللحم الذي لا يعلم أنه لحم غنم، ليكون حلالا، أو لحم خنزير ليكون حراما، وإلا كان دليلا على البراءة في الشبهات
الموضوعية، فيخرج عن محل البحث، لكن إرادة الحكم من الموصول خلاف ظاهر سياق باقي الفقرات، فان المتعين فيها إرادة الموضوع.
لا يقال: إرادة الموضوع من الموصول يستلزم التقدير في الكلام. لان الموضوع غير قابل للرفع، فلا بد من تقدير المؤاخذة أو تمام
الآثار أو الأثر الظاهر، وحيث إن التقدير خلاف الأصل يقتصر فيه على مورد الضرورة، وهو سائر الفقرات، واما هذه الفقرة فتحمل
على ما لا يستلزم التقدير، وهو الحكم، فإنه بنفسه قابل للرفع، فإنه يقال: نمنع الحاجة إلى التقدير على تقدير إرادة الموضوع أيضا،
فان رفع الفعل ووضعه يكون بالتكليف به، ورفع التكليف عنه، ويكون التكليف من قبيل الواسطة في العروض.
والسر فيه: ان الفعل يثقل على النفس بتعلق التكليف به، فكأنه موضوع على الشخص كوضع الحمل الثقيل عليه، كما أنه يخف برفع
التكليف عنه، فكأنه مرفوع عنه برفع ثقله عنه، كرفع الحمل الثقيل، ولذا يطلق لفظي الرفع والوضع في
89

الدين والعيال وأشباههما، وليس ذلك استعادة من رفع الثقيل الخارجي، بل الكلمة موضوعة لمعنى عام يشمل رفع كل ثقيل على
النفس، لا خصوص الثقيل بالمادة، بل إطلاقه في التكليف أيضا، باعتبار ان متعلقه يثقل على النفس بسببه، وإلا فلا ثقل يتصور في
التكليف بما هو هو.
ومن ذلك يظهر جهة أخرى لحمل الموصول على الفعل دون الحكم، فإنه مضافا إلى سياق باقي الفقرات ظهور مادة الرفع يقتضيه.
ولكن الحق مع ذلك جواز التمسك بالحديث على ما هو المطلوب في المقام من غير أن يأباه السياق، ولا ان يمنعه ظهور مادة الرفع.
وذلك أن الموصول في هذه الفقرة وباقي الفقرات يحمل على عمومه، وهو رفع كل ما استكرهوا وما اضطروا وما لا يطيقون وما لا
يعلمون، دون خصوص الفعل أو الحكم أو نحوهما، وانحصار مصداق ذلك في سائر الفقرات بالفعل، لعدم معقولية الاضطرار والاكراه
وعدم الاطاقة بالحكم، لا يوجب أن يكون الفعل هو المستعمل فيه للفظ الموصول، كي يقضي السياق بأن المراد من الموصول في فقرة
(ما لا يعلمون) أيضا هو الفعل، فإذا كان المراد من الموصول هو معناه العام، وحصل له في هذه الفقرة مصداقان: أحدهما الحكم والاخر
الفعل المتعلق للحكم، أخذ بالفقرة في مصداقها، وتكون دليلا على البراءة في الشبهة الحكمية والموضوعية جميعا، ولا يمنع عن ذلك
انحصار مصداق سائر الفقرات بالفعل.
وأما مادة الرفع، فنمنع:
أولا: انه لرفع ما فيه ثقل، فان رفع الحجاب والساتر والغطاء وأشباه ذلك رفع، وليس في شئ من ذلك ثقل.
وثانيا: ان ثقل الفعل إذا كان من جهة التكليف، ففي الحقيقة، الثقيل وإن كان هو التكليف والفعل المتعلق له يكون ثقيلا بالعرض، و
بواسطته، إلا أن ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات، فيصح نسبة الرفع إلى التكليف، كما في رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم، ويكون هو
المصحح لنسبته إلى الفعل.
90

ومن ذلك يظهر عدم اختصاص الرفع بالأحكام الالزامية، بل يعم كل موضوع على المكلفين ومجعول في حقهم وضعيا أو تكليفيا غير
إلزامي، اقتضى المنة رفعه لما عرفت: ان مادة الرفع لا يختص إطلاقه بما فيه كلفة ومشقة، كما لا يخفى على من راجع موارد استعماله. و
اما تقدير المؤاخذة أو الاسناد بلحاظها، ففيه مضافا إلى أن التقدير لا يصار إليه عند عدم الضرورة: ان المؤاخذة المقدرة إن كانت هي
المؤاخذة الفعلية لم تدل الرواية على نفي الاستحقاق، كما في آية (وما كنا معذبين.). وإن كان استحقاق المؤاخذة لم يكن معنى لرفع
الاستحقاق العقلي إلا رفع منشأ الاستحقاق، وهو التكليف، فيؤول الامر إلى رفع التكليف.
ثم إن معنى رفع (ما لا يعلمون) كما في رفع (ما اضطروا) وباقي أخواته، هو رفع التكليف واقعا لا رفعه ظاهرا مع ثبوته واقعا، كما هو
مقصود المتمسكين بالحديث على البراءة، فان الرفع ظاهرا مع الثبوت واقعا لا معنى له، ولا يلزم مما ذكرنا محذور الدور، وهو توقف
ثبوت التكليف على العلم به، مع أن العلم لا يكون إلا بعد التكليف.
وذلك لان التكليف الذي حقيقته هو الإرادة القائمة بنفس المولى لو توقف على العلم بهذه الإرادة، لكونها إرادة متعلقة بالعالمين بهذه
الإرادة، لزم ما ذكر، لكنه لا يتوقف على هذا العلم، بل على العلم بإنشائها وطلبها، فيكون الموقوف غير الموقوف عليه، لان التكليف
يتوقف على العلم بإنشاء التكليف والاطلاع على البعث الصادر من المولى، فإرادة المولى تعلق بإتيان من ظفر على بعثه واطلع على
إعلامه بداعي التحريك دون من لم يظفر ولم يطلع. والاختصاص المذكور عقلي، فيكون مفاد حديث الرفع مطابقا لما هو قضية حكم
العقل بلا تعبد شرعي.
وبالجملة: التكليف مختص بمن وصل إليه إعلام المولى، لا يتجاوز إرادة المولى عن ذلك قيد شعرة.
نعم، لا يختص الاعلام المذكور والبعث نحو الفعل بأن يكون مطابقا لإرادته، بل يكفي البعث بعنوان الاحتياط تحفظا على إرادته، فمن
لم يصل إليه أحد البعثين،
91

اما البعث النفسي أو البعث الغيري الاحتياطي، فهو خارج عن حيطة التكليف، كما اعترف به الأخباريون المخالفون في المسألة.
لا يقال علي ما ذكر: يكون الرفع عقليا من غير منة ولا اختصاص بهذه الأمة، مع أن ظاهر الحديث هو المنة والاختصاص. فإنه يقال: المنة
هو في عدم إيجاب الاحتياط والاقتصار على الطلب النفسي، الموجب لقصر التكليف بمن علم بالطلب النفسي مع التمكن من تكليف من لم
يعلم بذلك، بإيجاب الاحتياط، لما عرفت، من: ان أحد الاعلامين كاف في حصول الالزام عقلا.
والحاصل: ان الإرادة سوأ تعلقت بفعل النفس أو بفعل الغير تكون على تقدير ترتيب المقدمات في تحصيل المراد، ومن المقدمات في
تحصيل المراد في الإرادة المتعلقة بفعل الغير، هو إعلام ذلك الغير بتحقق هذه الإرادة لغرض حصول الانبعاث منه نحو المراد، سوأ
كان بصيغة افعل أو بالجملة الخبرية، فإذا اختص الاعلام بشخص اختصت الإرادة بالتعلق بفعله دون فعل من لم يصدر إعلام في حقه، و
لو لأجل عدم الظفر بإعلام المولى، وهذا واضح بالتأمل في موارد الإرادات المتعلقة بالفعل بالمباشرة والفعل بالتسبيب.
إن قلت: الاعلام انما يكون بالتكليف لا بأمر آخر، ودخله في توجه التكليف انما يكون من أجل انه يوجب العلم بالتكليف، فيؤول اشتراط
التكليف بالأعلام إلى اشتراطه بالعلم بالتكليف، والحال ان العلم بالتكليف متوقف على ثبوت أصل التكليف، فالدور المتقدم يكون
باقيا على حاله بلا دافع عنه.
قلت: للاعلام بالطلب بداعي البعث جهتان: جهة كونه إعلاما بما في النفس من الطلب وجهة كونه بعثا وتحريكا ومقدمة، أعملها المولى
لغرض التوصل إلى وصول مراده، فهو بالجهة الأولى: كاشف عن ذاك المعنى النفساني، الذي لا يجب تنفيذه عقلا، وبالجهة الثانية:
يوصل ذلك المعنى إلى حد يجب تنفيذه عقلا، إذ يكون بذلك إرادة فعلية يجب إنجازها، وبعبارة أخرى: به يتحقق العلم بمادة التكليف و
به يتحقق فعليته، فان الإرادة القائمة بالنفس ليس تكليفا وطلبا، بل
92

وإرادة ما لم يصر المولى بصدد إنفاذه بتهيئة مقدمات نفوذه، الذي منه الاعلام به بداعي تحريك العبد المسمى ذلك بالبعث، وبالاعلام
المذكور يكون ذلك تكليفا يجب إطاعته، فالاعلام إعلام بمادة التكليف، وهو بنفسه محقق لصورته وموجب بصيرورة تلك المادة
تكليفا فعليا، يجب إطاعته، فالتكليف الذي يتعلق به العلم ويتوقف عليه العلم، هو مادة التكليف، والذي يكون هو متوقفا على العلم هو
صورته وفعليته الواجب امتثاله، فصح أن يقال: لا تكليف حقيقة مع عدم البعث والاعلام، وان اعلم وبعث آخرين، فان تكليف أحد لا
يوجب بعث آخرين.
إن قلت: يلزم على ما ذكر من اختصاص الاحكام بالعالمين، التصويب الباطل بالاجماع.
قلت: مادة التكليف عام بالنسبة إلى العالم والجاهل، وإن كان بعثه الذي عليه يدور الإطاعة والامتثال خاصا، وهو كاف في دفع
التصويب الباطل.
قوله: لا يقال: ليست المؤاخذة من الآثار الشرعية:
هذا الاشكال أشكله وأورده شيخ مشايخنا المرتضى (ره) على نفسه، حيث لما قدر المؤاخذة، وتبعه على ذلك حضرة الأستاذ المصنف
(قده) مع أنه لم يذهب إلى عدم تقديره للمؤاخذة، بل جعل الموصول عبارة عن نفس الحكم، ونفس الحكم قابل للرفع ويرتفع المؤاخذة
عقلا بارتفاع الحكم، فان حكم العقل بالبرأة عن العقاب موضوعه أعم من عدم الحكم واقعا وعدمه ظاهرا، ومع ذلك فتوجيهه للاشكال
على نفسه عجيب، ثم الأعجب وقوعه في المخمصة في الجواب عنه، أعجب، مع وضوح جوابه وعدم الحاجة إلى ما أفاده على أنه فاسد في
حد نفسه، فإنه يتجه عليه:
أولا: ان المقدر حينئذ يكون هو إيجاب الاحتياط، مع أن الكلام على فرض تقدير المؤاخذة.
وثانيا: ان العقاب منشؤه هو ثبوت التكليف فعلا، وفي حال الجهل، وثبوت التكليف يكون منشأ أيضا، لايجاب الاحتياط، تحفظا على
التكليف المذكور،
93

فإيجاب الاحتياط والعقاب كلاهما ينشئان في عرض واحد من ثبوت التكليف حال الجهل لا أن يكون منشأ العقاب هو وجوب الاحتياط،
بل ظاهر اخبار الاحتياط هو العكس، وإن منشأ إيجاب الاحتياط هو التحرز عن الوقوع في المهلكة، ثم إنه يتجه الاشكال على التمسك
بالحديث بوجهين:
الأول: انه على فرض تقدير المؤاخذة، كان الحديث دليلا على رفع فعلية المؤاخذة دون استحقاقها، وهو أعم من المطلوب، وكون
المنفي في سائر الفقرات هو الاستحقاق، لا ينافي نفي الفعلية في الجميع.
نعم، لو قدر استحقاق المؤاخذة، صح الاستدلال بالحديث على المطلوب، لكن تقدم انه لا معنى لرفع الاستحقاق إلا رفع منشئه، وهو
خلف، لان المرفوع حينئذ يكون ذلك المنشأ دون العقاب.
الثاني: ان الحديث إنما يصح التمسك به إذا أريد منه رفع التكليف عن كل فرد من أفراد الأمة، ما لا يعلمه ذلك الفرد، اما إذا أريد رفعه
عن الجميع، ما لا يعلمه الجميع، فالحديث يكون دليلا على أن الأصل في الأشياء قبل الشرع، الإباحة، كما اعترف به، واما بعد الشرع و
عروض الاختفاء فلا دلالة على شئ ولا ظهور له في المعنى الأول، إلا أن يقال: سياق باقي الفقرات يعينه.
قوله: وإن كان في غيره لا بد من تقدير الآثار:
قد عرفت: عدم اللابدية، وإن الفعل يوضع ويرفع عن الشخص بالالزام به وترك الالزام به، على أن يكون الوضع والرفع منسوبا إلى
الفعل حقيقة، ويكون التكليف من قبيل الواسطة في الثبوت، وهذا كما في ثبوت الدين في الذمة والعيال في العهدة، فان كل ذلك على
الحقيقة.
وبالجملة: كلما يكون ثابتا في العهدة شرعا أو عرفا، فهو موضوع على الشخص، فيكون رفعه رفعا عن الشخص، ولولا ذلك كان
سياق باقي الفقرات قاضيا بالتقدير هنا أيضا، فان التكليف بين الفقرات بالتقدير في غاية البعد وعدمه.
94

في الشبهة البدوية
قوله: بعد وضوح ان المقدر في غير واحد غيرها:
الظاهر أن مراده: ان المقدر في غير واحد من فقرات الحديث غير المؤاخذة. لان الحديث في مقام الامتنان، ولا منة في رفع المؤاخذة عما
اضطروا وبعض أخواته، لان رفعه عقلي لا يختص بأمة دون أمة.
وفيه ان المنة تكون في رفع المؤاخذة في سائر الفقرات أيضا، فان الظاهر: ان المراد من الاضطرار ليس هو الاضطرار الموجب لسلب
الاختيار، بل كما في اضطرار المريض إلى شرب الخمر، وكذلك لا يقبح عقاب الناسي بإيجاب التحفظ عليه، فإذا عمت المنة وأمكن
تقدير خصوص المؤاخذة وتقدير تمام الآثار، كان تقدير خصوص المؤاخذة هو المتيقن، مع أن التحفظ على عموم أدلة سائر الآثار
يقتضي قصر المقدر بالمؤاخذة.
نعم، تمسك الإمام عليه السلام بمثل هذا الحديث على بطلان ما استكره عليه من الحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك، يدل على
عموم المقدر.
قوله: والموضوع للأثر مستدع لوضعه:
ان هذا البيان لا يجدي شيئا على تقدير عموم حديث الرفع لكل أثر، حتى المترتب على نفس العناوين. غاية الأمر، تقع المعارضة بينه و
بين الأدلة المثبتة لتلك الآثار على تلك العناوين، فهذا الحديث يرفعها، وتلك الأدلة تثبتها.
فالحق أن يقال: إن ظاهر الحديث رفع الأحكام الثابتة في مورد عروض العناوين بعروضها، بحيث يكون الحكم الذي يرفعه ثابتا بدليله
قبلها، وفي رتبة سابقة عليها، لا ثابتا بعدها، كما في الأحكام المترتبة على تلك العناوين، أو ثابتا في عرضها، كما في الأحكام الثابتة
للعناوين المضادة لتلك العناوين التسعة، مثل ما ثبت من الحكم بعنوان العمد، فان الخطأ والنسيان لا يرفع هذا، بل هو بنفسه يرتفع و
ينفد لنفاد موضوعه، بحصول الخطأ والنسيان.
95

قوله: وإيجاب التحفظ في الخطأ والنسيان:
ان إيجاب التحفظ عن الوقوع في الخطأ والنسيان ليس من الأحكام المترتبة على الخطأ والنسيان الحاصلان من ترك التحفظ، فإنهما
حاصلان بعد سقوط التكليف بالتحفظ، اما عمدا عصيانا أو لعذر، فهما لا يرفعان إيجاب التحفظ لأجل ما ذكرنا لا لأجل ان إيجاب
التحفظ حكم أتي من جهة هذين العنوانين، فلا يرتفع بهما.
نعم، نسيان إيجاب التحفظ عن النسيان، نسيان رافع لايجاب التحفظ، وليس إيجاب التحفظ حكما لهذا النسيان حتى لا يرتفع به.
وبالجملة: إيجاب التحفظ أجنبي عن المقام.
نعم، إيجاب الاحتياط حكم نفس الجهل ولا مجال لانكاره.
وما أفاده المصنف في الجواب من أنه يكون باقتضاء الواقع في مورد الجهل، ان أراد: ان الجهل ليس علة تامة لهذا الحكم، بل جز من
العلة وجزئه الاخر قيد كون الجهل متعلقا بالواقع.
ففيه: ان دخل أحد هذه العناوين ولو بأدنى دخل في حكم، كاف في عدم توجه الرفع إلى ذلك الحكم، ولا يلزم أن يكون تمام الموضوع
في ذلك، فان الوجه القاضي بذلك عام يعم جميع صور الدخل، والذي ينبغي أن يقال في الجواب، هو:
ان إيجاب الاحتياط، وإن كان حكم الجهل لكنه ناشئ من عموم الحكم الواقعي الثابت بدليله، وشموله لحالي العلم والجهل، وليس
الحكم الواقعي هذا حكما للجهل، فالجهل يرفعه، فإذا رفعه الجهل لم يبق ما هو منشأ إيجاب الاحتياط في ظرف الجهل، فالجهل لا يرفع
حكم الجهل وهو وجوب الاحتياط ابتدأ، بل يرفع سبب هذا الحكم وعلته، فيرتفع هو بارتفاع سببه وعلته، ومن هنا كان اللازم
استثناء الأحكام الثابتة لهذه العناوين بسبب أحكام العناوين الأولية، من كلية عدم ارتفاع أحكام هذه العناوين بحديث الرفع. و
الاستثناء، وإن كان منقطعا، لما عرفت:
ان هذه أيضا لا يرتفع بهذا الحديث بل يرتفع منشؤه، فيرتفع هو، لكن يجب التنبيه عليه.
قوله: إلا أنه ربما يشكل بمنع ظهورها:
هذا مضافا إلى أن ظاهر الحديث حجب
96

علمه عن جميع العباد، فلا يشمل ما بينه لبعضهم، ثم اختفى على آخرين.
ويمكن الجواب عن الاشكالين: بأن استصحاب الحجب الثابت في صدر الشرع ينقح به الموضوع، فيتم الاستدلال بالحديث بضميمة لا
يقال: عنوان الحجب يتوقف على ثبوت واقع مستور، وهذا لا يقين لنا به كي يستصحب، لأنا نقول:
الامر مردد بين أن لا يكون حكم إلزامي واقعا، أو يكون وقد حجب. فعلى الأول:
فلا إشكال، وعلى الثاني: يكون استصحاب الحجب منتجا للبرأة الظاهرية، إلا أن يقال: باعتبار صفة اليقين في جريان الاستصحاب و
توجه حكم (لا تنقض) ولا يكفي ثبوت الواقع في ذلك ليتجه ما قلناه من ثبوت الإباحة على كل حال، اما إباحة واقعية أو ظاهرية، و
استصحاب الإباحة المرددة بين الواقعية والظاهرية الثابتة قبل الشرع أيضا غير جار لعدم إحراز الموضوع فيه، لاحتمال كونها إباحة
ظاهرية موضوعها الحجب، وهو غير محرز في الزمان الثاني، والذي يهون الخطب انه ينبغي ان المراد القطع من الحجب في الحديث
هو: عدم ورود البيان من قبل الشارع في خصوص الواقعة من غير دخل لثبوت الواقع في ذلك، وإلا لغي الحديث، لان إحراز موضوع
الحجب يكون بالعلم بثبوت الواقع، وبه يرتفع الحجب ويحصل الاطلاع على الواقع، فلا يبقى مورد يتمسك بالحديث.
وعلى ما ذكرنا، فاستصحاب عدم البيان يكفينا المئونة، هذا مضافا إلى أن مناط الوضع على ما هو اللائح من الحديث، هو عدم اطلاع
العباد على الواقع، من غير دخل لثبوت الواقع، وتحقق عنوان الحجب، ويشهد له حديث الرفع المتحد مضمونا مع هذا الحديث، ثم إن هذا
الحديث إن تم دلالته عارض اخبار الاحتياط، التي مضمونها عدم وضع ما حجب علمه عن العباد، بل وضعه عليهم وإلزامهم به بإيجاب
الاحتياط عليهم، فلا يقال: وجوب الاحتياط مما علمناه باخبار الاحتياط، ولم يحجب علمه عنا، فليس موضوعا عنا. فتكون تلك الأخبار
واردة على هذا الحديث.
قوله: ومنها قوله عليه السلام: (كل شئ لك حلال):
واما قوله عليه السلام: (كل شئ فيه
97

حلال وحرام، فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه) فدلالته مبنية على أن يكون المراد من قوله: (فيه حلال وحرام) أن يكون فيه
احتمال الحل والحرمة، وهو خلاف الظاهر، بل ظاهره الانقسام إليهما، فيحمل قوله: (كل شئ) على إرادة كل كلي ينقسم إلى قسم حرام
وآخر حلال، أو على مجموع أشياء، مشتمل على الحرام بالعلم الاجمالي، فتكون الرواية على هذا دليلا على حل أطراف العلم الاجمالي،
كما انها على الأول دليلا على البراءة في الشبهات الموضوعية، ويحتمل بعيدا أن يكون المراد ان كل شخص كان في كليه قسما حلالا و
آخر حراما، وشك في اندراج ذلك الشخص في أحد الكليين، فتختص الرواية أيضا بالشبهة الموضوعية، ومع فرض تساوي الاحتمالات،
يؤول إلى الاجمال المبطل للاستدلال.
في الأدلة الدالة على أصالة البراءة في الشبهة البدوية
قوله: مطلقا، ولو كان من جهة عدم الدليل:
يعني ان إطلاقه يشمل الشبهة الحكمية التحريمية ولا يختص بالشبهة الموضوعية، المتسالم على البراءة فيها، فإذا شمل الشبهة الحكمية
التحريمية ألحقت بها الشبهة الوجوبية بعدم القول بالفصل، ثم إن ظاهر الحديث ان الغاية للحل معرفة الحرمة، حرمة ثابتة للشئ بعنوان
نفسه أوليا كان ذلك العنوان أو ثانويا، نفسية كانت الحرمة أو غيرية، فلا يشمل الحرمة الثابتة بعنوان الاحتياط لأجل التحفظ على
الواقع، الذي معناه عدم حلية الشئ عند الجهل بحرمته، فلا يكون اخبار الاحتياط واردا على هذا الحديث.
قوله: تأمل:
لعله إشارة إلى أن منصرف الشئ في قوله صلى الله عليه وآله: (كل شئ) هو الشئ الوجودي، فلا يشمل العدمي. وفيه: انه مع ذلك
يمكن التمسك بالحديث على إثبات المطلوب. بتقريب: ان ظاهر (حلال) هو الحلية، بمعنى الترخيص في الفعل والترك دون ما يشمل
الوجوب، ومعلوم ان الحلية بهذا المعنى مغياة بعدم معرفة الالزام بكل من الفعل والترك، وإن لم يذكر الحديث إلا أحدهما.
قوله: فيعارض به ما دل على وجوبه:
المعارضة موقوفة على أن تكون الميم موصولة،
98

أضيف إليها لفظ (سعة) فيكون المعنى: الناس في سعة من جهة الالزام الذي يجهلونه ليسوا في ضيق منه، ويلزمهم الاحتياط لأجل التحفظ
عليه. اما إذا كانت مصدرية ظرفية على أن يكون معنى الحديث: الناس في سعة ما دام لم يعلموا الضيق.
فيكون قد علمنا الضيق باخبار الاحتياط، ومع تشابه الامر كانت النتيجة مطابقة مع الاحتمال الثاني، ولم يجز التمسك بالحديث في
مقابل اخبار الاحتياط.
قوله: ودلالته تتوقف على عدم صدق:
وأيضا يتوقف على أن يكون المراد من النهي غير النهي لأجل حفظ الواقع المشتبه، الذي معناه عدم كون المشتبه بما هو مشتبه مطلقا، و
إلا كان اخبار الاحتياط واردا عليه ولم يجز التمسك به في قبالها.
نعم، يتجه عليه انه لا ريب في عموم النهي وشموله لكل نهي كان بعنوان أولي أو ثانوي غيري أو نفسي حتى النهي بعنوان الجهل، ولذا
يقدم اخبار الاستصحاب على مثل هذه الأخبار، فيتجه الاشكال على ذلك بأنه لم يقدم الأخبار الدالة على ثبوت الالزام في موضوع الجهل
بما هو جهل على هذه الأخبار، مع أنها نظير اخبار الاحتياط في إثبات الحكم في موضوع الجهل، فإن كان تقدم من حكومة أو ورود،
ففي المقامين، أو معارضته، ففي المقامين. لكن يمكن أن يدفع بأن ذلك لسان الخصوصية في اخبار الاستصحاب، حيث كان بعنوان عدم
نقض اليقين بالشك، كما بين في محله.
قوله: ولا يكاد يعم ما إذا ورد النهي:
يمكن أن يقال: في مثل هذا الفرض المرجع استصحاب النهي لانتقاض الحالة السابقة قطعا بورود النهي، وقد شك في ارتفاع النهي،
فيستصحب. فصح أن يقال: كل موارد الجهل الخالي عن أمارة أو أصل يقتضي ثبوت النهي، يحكم عليه بأنه مطلق، سوأ كان ذلك بمعونة
الاستصحاب، أو بنفس هذا الحديث، حسب الاختلاف في المعنى المراد من الورود.
قوله: انما يجدي فيما كان المثبت للحكم بالإباحة:
يعني ان الملازمة بين الحكم الظاهري لشبهة للحكم الظاهري لاخرى، وإن كانت ثابتة، حيث لم يفعل الأصوليون ولا الأخباريون بين
موارد الشبهة، بل هؤلاء على البراءة مطلقا، وأولئك
99

على الاحتياط كذلك، لكن الأصل لا يترتب عليه الملازمات إلا أن تكون الملازمة بين الحكمين الظاهريين أيضا، والحكم من أصله في
المقام، وإن كان ظاهريا حيث إنه حكم الشك، لكنه واقعي بالإضافة إلى البراءة الثابتة بمعونة الاستصحاب، فان البراءة الثابتة بأصالة
عدم ورود النهي، ظاهري في ظاهري، والملازمة بين الظاهريين في المرتبة الأولى لا تقتضي الملازمة بينهما في المرتبة الثابتة، حتى
يترتب على البراءة الثابتة بحكم الاستصحاب في مورد البراءة في مورد آخر.
قوله: فإنه قد استقل بقبح العقوبة والمؤاخذة:
اعلم: ان حكم العقل بالإطاعة وحرمة المعصية لا ينحصر ملاكه في دفع العقاب والضرر، ولذا يحكم مع الامن من العقاب بالعفو من
المولى، وعليه فلا يجدي حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان في ثبوت الرخصة في الاقدام على المشتبه ما لم يثبت حكم عقلي آخر، و
هو قبح التكليف من غير بيان، فان ثبت هذا أغنانا عن الأول، بل خرجت الشبهة عن موضوع قبح العقاب بلا بيان ودخلت في موضوع
قبح العقاب بلا تكليف، المسلم بين الكل. لكن الشأن في ثبوت ذلك إذا لم نقل بما تقدم من تقوم حقيقة التكليف بالبيان والبعث، لكن
تقدم: ان الحق ذلك، فلا نبالي ان ثبت هذا أو لم يثبت، ثم إن هنا شبهة عويصة وهي: ان البيان في قاعدة قبح العقاب بلا بيان يعم بيان
التكليف وبيان الاحتياط، كما أنه بيان الشارع وبيان العقل، فإذا حكم العقل بالاحتياط في مادة، كموارد العلم الاجمالي، لم يكن مجال
لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، لحصول البيان بلسان العقل، وعليه فإذا ظن بالتكليف أو احتمل احتمالا معتدا به، كان قاعدة دفع الضرر
المحتمل بيانا واردا على قاعدة القبح، كما أن قاعدة القبح حيث ما تحققت كانت رافعة لموضوع احتمال الضرر، وبالنتيجة
واردة على قاعدة دفع الضرر المحتمل، ولا مجال لتقديم إحدى القاعدتين وإخراج المورد عن موضوع الأخرى، كما صنعه حضرة
الأستاذ (ره) بل اللازم ملاحظة المورد قاطعا للنظر عن القاعدتين، ثم ملاحظة انه مورد ولايتهما، والمورد في المقام مورد لكلتيهما،
لكن القاعدتين بأنفسهما لا تجتمعان، لان العقل لا يحكم
100

متخالفين، فاما هذه أو تلك، أو لا هذه ولا تلك.
نعم، يمكن أن يقال: إن تحير العقل ولم يجزم بانطباق إحدى القاعدتين على سبيل التعيين أو لا انطباقهما جميعا، حكم حكما ثانويا في
موضوع عدم جزمه بالبرأة فإنه إذا لم يكن له ملزم خارجي، وهو بيان الشارع، ولا داخلي، وهو حكم العقل بالاحتياط في الشبهة،
حكم بالبرأة، بمعنى أنه رخص في الفعل والترك، وبعد هذا الترخيص كان العقاب قبيحا بقبح العقاب مع الترخيص العقلي، فكانت
النتيجة مطابقة مع حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان، وان لم تكن بملاكه.
ثم لا فرق فيما ذكرنا بين الضرر الأخروي المترتب على المعصية، والدنيوي المرتب على الفعل المحتمل حرمته، الا في عدم ترتب
الضرر في الأول بعد ترخيص العقل في الاقدام، وترتبه في الثاني، واما إباحة الفعل فهي ثابتة في كلتا الصورتين، ولا مضادة بين
الرخصة في الفعل وترتب الضرر عليه لو صادف نظيره ما إذا لم نوجب دفع الضرر المحتمل، فارتكب فصادفه. بل ذكر الأستاذ (ره)
في المتن: ان الضرر المقطوع ربما لا يجب دفعه فضلا عن المحتمل، وإن كان فيه عندي نظر سأبين وجهه.
قوله: كما أنه مع احتماله لا حاجة:
الحاجة إلى القاعدة انما هي في الحكم بقبح الاقدام لا في ترتب العقاب عند تحقق المخالفة.
قوله: ضرورة عدم القبح في تحمل بعض المضار:
لولا تدارك تلك المضار بما يوازنها أو يرجح عليها من المنافع قبح تحمل أدنى ضرر، واما مع الموازنة فيخرج مورد الضرر عن
الموردية له، إذ بعد التكاسر لا يبقى ضرر، ثم لو صح ما ذكره لم يختص بالضرر الدنيوي، بل عم الضرر الأخروي، إلا أن يقال: إن
الضرر الأخروي لعظمه لا يسوغه شئ من الدواعي الدنيوية.
قوله: ليست براجعة إلى المنافع والمضار:
لا ريب أن لا ضرر فيه لا مفسدة فيه، وإن كل مفسدة لا تنفك من أن تكون: اما ضررا للبدن أو المال أو العرض أو الجاه،
101

وكأن توهم التغاير نشأ من تخيل ان بعض المفاسد، كالخروج مكشوف العورة إلى المجامع والأسواق ليست من قبيل المضار، وهو
فاسد، فإنها ضرر بالنسبة إلى الجاه والاعتبار، وليس الضرر مقصورا على ضرر المال والنفس، بل ربما يكون الضرر الحاصل من
ذلك أعظم من ضرر النفس، فيرضى الانسان بذهاب الأنفس ولا يرضى بذلك، ثم على تقدير التعدد وكون المفسدة غير الضرر، لا
ينبغي الريب في أن الحكم حكمه في قبح الاقدام على مقطوعه ومظنونه ومحتمله حكمه، ولا يصغى إلى ما يقال من التفكيك بينهما بقبح
الاقدام على ما لا يؤمن ضرره، وعدم قبح الاقدام على ما لا يؤمن مفسدته.
قوله: نعم، ربما يكون المنقصة أو المضرة مناطا:
وعليه فينفتح باب احتمال الضرر في موارد الشبهات لاحتمال كون مناط الحكم فيها هي المضرة، فيحصل الكر على ما فر منه، إلا أن
يضعف ذلك الاحتمال بحيث لا يعتد به، حيث إنه احتمال في احتمال، لان أصل التكليف احتمال، وكون مناطه الضرر احتمال في احتمال،
لكن ربما يكون هذا الاحتمال الأخير قويا جدا، حتى كان الاحتمال في الاحتمال بمنزلة احتمال واحد مساو طرفيه.
قوله: كيف وقد اذن الشارع:
الشارع اذن في موارد احتمال الضرر، بل القطع به أيضا. والحل في الجميع ان اذنه يكشف عن تدارك ما ندركه من المفاسد والمضار
بما يوازنه من المصالح والمنافع الخفية الخارجة عن إدراكنا، فلا قبح.
قوله: والجواب: انه لا مهلكة في الشبهة البدوية:
يعني ان هذا الاخبار بمقتضى تعليلها تكون مختصة بما فيه المهلكة من الشبهات، مع قطع النظر عن هذه الأخبار، ولا مهلكة في غير
الشبهات قبل الفحص، والشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي، بعد حكم العقل ودلالة النقل على البراءة.
وبالجملة: الامر بالتوقف في هذه الأخبار ناش عن ثبوت العقاب بسبب سابق، فلا يكون منشأ لثبوت العقاب فتختص بموارد تنجز
التكليف بسبب سابق، لا انها هي المنجزة للتكليف، فلا تزيد هذه الأخبار على ما هو قضية حكم العقل،
102

وهو وجوب التحرز عن العقاب، ومورده الشبهات المنجز فيها العقاب بعلم إجمالي أو شبهة قبل الفحص، ويمكن أن يقال: إن التعليل
في هذه الأخبار وان أوهم ما ذكره، لكن بيان فعلية الطلب في مورد الشبهة بإثبات العقاب، كأن يقول: قف عند الشبهة، فإني أعاقبك
على مخالفة الواقع بارتكابها: شايع صحيح، وإثبات العقاب، كما يكون على الوجه الذي ذكرناه، يكون على وجه التعليل، كما في
الروايات، مريدا بذلك تسجيله وفرضه مفروغا عنه متسالما عليه، فان ذلك أبلغ في إفادة المقصود وأتم في بيان المطلوب، فان بيان
ثبوت الأهوال في ركوب البحر، تارة يكون بالتصريح به بعبارته المطابقي، وأخرى بمثل ترك الاسترباح خير من ركوب الأهوال. و
على ما ذكرنا يؤخذ بعموم الشبهة في الاخبار وشمولها للشبهات البدوية غير المشتملة على العقاب، لولا هذه الأخبار، ويحكم بأن هذه الأخبار
مثبتة للعقاب فيها بهذا اللسان، الذي عرفت انه أبلغ لسان.
قوله: لما عرفت من أن إيجابه يكون طريقيا:
يعني طريقيا لأجل حفظ امتثال التكاليف الواقعية لا طريقيا لأجل التحرز عن عقاب الواقع، فان العقاب يكون بسببه، فيكون هذا قسما
ثالثا وراء القسمين اللذين أبطلهما القائل في مقام الجواب عن الاخبار.
قوله: إلا انها تعارض بما هو أخص وأظهر:
ان الأخصية انما تكون بعد تخصصها بالشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي والشبهات قبل الفحص، وليس من قانون المعارضة ملاحظة
النسبة بين المتعارضين بعد علاج أحدهما مع ما يعارضه، بل يلاحظ مجموع المتعارضات في عرض واحد، ويعالج حسب تلك النسبة
الأولية الكائنة بينها، إلا أن يمنع شمول اخبار البراءة لموارد العلم الاجمالي، وفيه نظر. هذا مضافا إلى أن اخبار الاحتياط آبية عن
التخصيص، وكيف يخصص قوله عليه السلام:
(أخوك دينك فاحتط لدينك) وقوله عليه السلام: (ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل الاحتياط)، ومع ذلك فأي جدوى لأخصية
اخبار البراءة، وقد صرح المصنف الأستاذ (ره) بما نذكر بعد أسطر، ومع ذلك أتى بخلافه هنا.
103

فيما استدل به على الاحتياط في الشبهة البدوية
قوله: مع أن هناك قرائن دالة على انها للارشاد:
قرائن الارشاد ليست في جميع الأخبار، بل في مثل (أخوك دينك فاحتط لدينك) ونظائره، مع أن حمل الامر على الارشاد لا يجدي
القائل بالبرأة، فان معنى الارشاد هو أن يكون الامر صادرا من مصدر العقل، والمولى بما هو أحد العقلا قد تكلم به لا بما هو مولى، و
قضية ذلك عدم جعل تعبدي من قبل المولى، وكون الحكم هو حكم العقل، لكن ذلك لا يقتضي قصر وجوب الاحتياط بمورد يحكم العقل
حكما فعليا بوجوب الاحتياط فيه، بل يعم وجوبه موارد وجود ملاك حكم العقل بوجوب الاحتياط، لأهمية التكليف المشتبه، وإن لم
يدرك العقل هذه الأهمية.
وبالنتيجة: عدم حكمه فعلا بالاحتياط، فإذا عم الامر الارشادي الايجابي حسب ظاهر الدليل جميع موارد الشبهة كشف ذلك عن ثبوت
هذه الأهمية في جميع تلك الموارد، ويشهد على عدم اعتبار فعلية حكم العقل في تحقق الامر الارشادي، ان أوامر الطبيب إرشادي مع أن
العقل لا يحكم صغروية في مواردها، بل من أمر الطبيب يستكشف عن وجود ملاك إلزام العقل.
وبالجملة: لا سبيل إلى المناقشة في اخبار الاحتياط سندا، فإنها متظافرة إن لم تكن متواترة، ولا دلالة برميها إلى كل مرمى سحيق،
فان فيها ما هو نص في الوجوب، فلا سبيل إلى حملها على الاستحباب، وكيف يحمل على الاستحباب قوله عليه السلام: (ليس بناكب عن
الصراط من سلك سبيل الاحتياط).
وقد عرفت ما في التخصيص والحمل على الارشاد، ومع ذلك فالحق في المسألة هو البراءة لعدم التعارض بين اخبار الطرفين، و
ورود اخبار البراءة على اخبار الاحتياط، فان اخبار البراءة تفيد حل المشتبه، فيخرج بذلك عن موضوع الشبهة ويدخل في الحلال
البين، فان ظاهر الشبهة ما لم يعلم حكمه بوجه من الوجوه وبعنوان من العناوين، حتى بعنوان مشتبه الحكم، كما أن ظاهر الحلال و
الحرام
104

البين هو ما علم حكمه بوجه، فالخمر المحرم واقعا من الحلال البين عند الاضطرار إليه، والتتن المحرم، كذلك من الحلال البين إذا اشتبه
حكمه، وكان حكم مشتبه الحكم هو الحل.
لا يقال: الحلية في اخبار البراءة مغياة بورود النهي، والنهي، شامل للنهي بأي عنوان كان، ومنه النهي بعنوان الاحتياط، فتكون اخبار
الاحتياط واردة على اخبار البراءة محصلة لغايتها، فإنه يقال: نعم، لكن لا يجدي مع كون موضوع ما ورد فيه النهي في اخبار الاحتياط
هو عنوان الشبهة المرتفعة بورود اخبار الحل، فلا يصل الامر إلى ملاحظة حكمه، حتى يقال: تحصل به غاية الحل.
والحاصل: لا ينبغي أن يرتاب في أن قضية (كل شئ حلال حتى تعلم أنه حرام) كسائر الأدلة المشتملة على الأحكام الواقعية واردة على
قوله صلى الله عليه وآله: (من ترك الشبهات نجا من المحرمات)، وان موضوع الشبهة يزول بحكم الأول، فلا يبقى محل لحكم الثاني،
حتى يرتفع موضوع الأول.
نعم، الموضوع في بعض اخبار الاحتياط هو الجهل، كما في موضوع البراءة لكن تلك الأخبار واردة في الشبهات قبل الفحص، الخارجة
عن محل البحث.
قوله: كيف لا يكون قوله: (قف عند الشبهة):
ان المصنف (قده) قد خلط البحث، وعاد إلى الطائفة الأولى من الاخبار المعللة، التي تقدم منه الجواب عنها، فالأولى إسقاط هذه العبارة
إلى قوله: واما العقل، قد تقدم منا كيفية التمسك بهذه الاخبار، فلا يلتبس عليك الامر بما أفاده (قده) هاهنا.
قوله: واما العقلا فلإستقلاله:
قد تقدم في طي الدليل العقلي على البراءة تقرير ثالث للدليل العقلي، وهو وجوب دفع الضرر المحتمل، بل الضرر المظنون عند مظنة
التكليف، وقد تكلم الأستاذ هناك على هذا الدليل، وسيتكلم أيضا في ذيل التقرير الثاني من تقرير حكم العقل، ونحن قد بينا وسنبين
ما فيما أفاده، فلاحظ.
قوله: وقد انحل هاهنا:
اعلم: ان العلم التفصيلي الحاصل في مورد العلم الاجمالي
105

يكون على صور ثلاث:
الأول: أن يعلم تفصيلا بعين ما كان يعلمه إجمالا، كما إذا علم تفصيلا بتلك القطرة من الدم، الذي كان يعلمها إجمالا.
الثاني: ان يعلم تفصيلا بغير ما كان يعلمه إجمالا، كما إذا علم بوقوع قطرة دم أخرى في إناء معين، في أطراف المعلوم بالاجمال وقوع
قطرة دم فيها.
الثالث: أن يعلم تفصيلا بما يحتمل أن يكون هو عين المعلوم بالاجمال، ويحتمل أن يكون غيره، وانه لا إشكال في جميع الصور، فيما إذا
كان العلم التفصيلي سابقا على العلم الاجمالي، يعني ان العلم التفصيلي يكون مانعا عن حصول العلم الاجمالي، فلا يحصل بعده إلا شك
بدوي، كما أنه لا إشكال أيضا في انحلال العلم الاجمالي وزواله - العلم الاجمالي - موضوعا في جميع الصور الثلاث فيما إذا كان العلم
التفصيلي لاحقا، انما الاشكال في بقاء حكمه، أعن بقاء حكم العقل بالاحتياط والاشتغال، وان لم يبق العلم الاجمالي، لا إشكال. اما في
الصورة الأولى فلا إشكال ان العقل بعد الظفر تفصيلا على ما كان يعلمه إجمالا، لا يحكم بالاحتياط في ما عدى الطرف المعلوم تفصيلا،
بل يحكم عليها بحكم الشك البدوي، كما أنه لا ينبغي الاشكال في بقاء حكم العقل بالاحتياط والخروج عن عهدة التكليف، الذي كان
يعلمه إجمالا بتحصيل القطع التفصيلي بالامتثال في الصورة الثانية، ويظهر من شيخ مشايخنا المرتضى (ره) في هذا المقام خلاف ذلك،
فإنه صرح بعدم الفرق في وقوع قذر في أحد الانأين المعلوم نجاسة أحدهما بين أن يكون سابقا على العلم الاجمالي أو لاحقا في أنه لا
يجب الاحتياط عن الاخر. وأنت خبير بأنه
لو صح ذلك لأمكن حل العلم الاجمالي في غالب موارده بإيجاد علم تفصيلي بحكم جديد في بعض الأطراف، وهو باطل قطعا.
والظاهر: ان قيام الامارة أو الأصل في بعض الأطراف على الحكم بناء على انشاء الحكم به يكون من هذا القبيل، فان الحكم التفصيلي
المنشأ بعنوان اخبار العدل أو أداء الأصل غير الحكم المعلوم بالاجمال الذي موضوعه نفسه الواقع،
106

فلا يوجب هذا انحلال ذلك إلا مع نفي الامارة. أو الأصل للحكم عن غير مورد قيامهما بأن يفيد ان للحصر، وان الحكم مختص بذاك
الطرف الذي قاما، فتكون الحجة حينئذ حجتان: حجة على الاثبات، وأخرى على النفي. وبعد قيام الحجة في الطرفين لا يبقى مجال لحكم
العقل بالاحتياط.
بقي الكلام في حكم الصورة الثالثة، وهو: ان يعلم تفصيلا بما يحتمل انطباقه على المعلوم بالاجمال، والظاهر أن حكم هذه الصورة حكم
الصورة الثانية، وان حكم العقل بالاحتياط لا يرتفع بذلك، وان ذهب العلم الاجمالي، فان حكمه بالاحتياط لا يدور مدار العلم الاجمالي
حدوثا واستمرارا، بل يبقى، وإن ذهب العلم الاجمالي، كما يبقى في مورد ثبوت التكليف بالعلم التفصيلي بعد زوال - العلم التفصيلي،
فإذا علم تفصيلا بتوجه التكليف ثم شك في سقوطه وجب عقلا الاحتياط، فكذلك إذا علم إجمالا بتوجهه ثم شك في سقوطه.
وإن شئت، قلت: ان الحكم العقل بالاحتياط عنوانان: أحدهما: إجمال التكليف وتردده بين الأطراف، والاخر: الشك في سقوط التكليف
بعد العلم بثبوته. وفيما نحن فيه، حكمه بالاحتياط بالعنوان الأول يرتفع لزوال موضوعه ويبقى حاكما بالاحتياط بالعنوان الثاني.
ومما ذكرنا ظهر ما في جواب المصنف عما أورده على نفسه، بقوله: قلت انما يضر السبق... إلخ. لما عرفت: ان قيام الأصل أو الامارة على
الحكم في بعض الأطراف من قبيل الصورة الثانية، وان الحكم المتوجه بهما حكم جديد بعنوان جديد، وهو لا يوجب انحلال العلم
الاجمالي به لحكم الأول، لا من قبيل الصورة الثالثة، وعلى تقدير كونه من الصورة الثالثة لم يكن يجدي أيضا، لما عرفت من اتحاد في
الصورتين بحسب الحكم، وان الواجب فيهما هو الاحتياط.
فتحصل: انه لا سبيل إلى المناقشة في هذا الدليل من طريق الانحلال على الوجه المذكور.
نعم، يمكن المناقشة فيه بإنكار العلم الاجمالي بالتكاليف قبل قيام الطرق
107

والامارات وأداء الأصول، بل العلم الاجمالي حاصل بقيامها، فيختص بالأحكام التي تكون في مؤدياتها، فينحل بالظفر على مقدار
المعلوم بالاجمال في مؤدياتها، فإنه يكون من الصورة الأولى التي لا إشكال في الانحلال فيها، وسيشير إليه المصنف في آخر كلامه، و
دعوى ان العلم بالأحكام حاصل من الاجماع والضرورة، بلا دخل لقيام الامارات في ذلك.
مدفوعة: بأن ما علم بالاجماع والضرورة، علم بهما تفصيلا أيضا، وتلك هي الاحكام القطعية التي لا تحتاج إلى التعبد، والبقية معلومة
إجمالا بالاطلاع على قيام الامارات إجمالا، ثم يعلم تفصيلا بالاطلاع على موارد الامارات تفصيلا.
قوله: يكون عقلا بحكم الانحلال:
قيام الحجة في بعض الأطراف لا يوجب إلا تأكد الحجة القائمة في جميع الأطراف، وهو العلم، فيكون هناك حجتان: حجة عقلية عامة، و
أخرى شرعية خاصة، فيكون الحكم بالاحتياط في جانب الحجتين بملاكين: ملاك الحجة العقلية، وملاك الحجة الشرعية، وهذا لا يوجب
رفع تأثير الحجة العقلية القائمة في الطرف الآخر حتى لا يجب الاحتياط فيه.
نعم، لو كان المعلوم بالاجمال في الأطراف على وجه الانحصار كانت حينئذ على الحكم في طرف حجة على عدم الحكم في الطرف الآخر
، ولم يجب الاحتياط، لمكان قيام الحجة في الجانبين. واما ما مثل به المصنف (ره) من العلم الاجمالي بحرمة إناء زيد. ففيه: انه مع
انحصار إناء زيد في واحد، يكون من قبيل ما ذكرنا، ومع عدم الانحصار واحتمال كون كلا الانأين لزيد، نمنع الانحلال بقيام البينة
على واحد معين منهما، انه لزيد.
قوله: ولولا ذلك لما كان يجدي:
أحدهما لا ربط له بالآخر حتى يكون الانحلال على أحد التقديرين منوطا على انحلال على التقدير الاخر. وقد عرفت: عدم الانحلال على
كلا التقديرين، لكن عدم انحلال كل معلل بجهة غير جهة عدم انحلال الاخر.
قوله: من استقلال العقل بالحظر في الافعال الضرورية:
لعل الوجه في حكمه
108

ذلك هو كون مباشرة الافعال اقدام على التصرف فيما يرجع امره إلى الغير، فان العالم برمته لله تبارك وتعالى، ولا يجوز لاحد
التصرف في شئ منه إلا بإذنه تعالى، وفيه ان العقل انما يحكم بذلك بمناط ان التصرف بغير إذن المالك مزاحمة لسلطان المالك، و
فيما نحن، المتصرف وما تصرف فيه كله في قبضة الله تعالى، وأي عقل يحكم بأن الأثمار تبقى على أصولها حتى تخيس ولا ينتفع بها
الآكلون.
نعم، لو سلمنا حكم العقل هذا، لم يكن وجه للفرق بين المقام وبين ما قبل الشرع، فان مناط الحكم في المقامين واحدا، فإن كان حكم
العقل في أحدهما هو الحظر، كان حكمه في الاخر أيضا ذلك، وإن كان حكمه في أحدهما الإباحة وقبح العقاب بلا بيان، كان حكمه في
الاخر أيضا هو ذلك.
قوله: لا وجه للاستدلال بما هو محل الخلاف:
لكن الاستدلال به يجدي في إلزام القائلين بالحظر في تلك المسألة بالقول به هنا، لما عرفت، من: اتحاد مناط الحكم فيهما منعا وجوازا.
قوله: وثالثا: انه لا يستلزم:
قد عرفت اتحاد طريق المسألتين ولا تختص إحداهما بأمر لا يجدي في الأخرى. وما نقله المصنف في مقام الفرق بينهما بقوله: وما قيل
من أن الاقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه، كالاقدام على ما تعلم فيه المفسدة، مشترك بين المسألتين لا يختص بإحداهما.
قوله: ممنوع، ولو قيل:
قد تقدم انا لا نعقل للمفسدة معنى غير الضرر، وعلى تقدير تعدادهما مشتركان في حكم العقل بوجوب دفع محتملهما ولا وجوبه، مع أن
احتمال أن يكون ملاك الحكم في المشتبه هو الضرر، كاف في اندراجه تحت قاعدة دفع الضرر المحتمل، ودعوى ضعف الاحتمال
المذكور على إطلاقها، كاف في اندراجه تحت قاعدة دفع الضرر المحتمل ودعوى ضعف الاحتمال المذكور على إطلاقها، ضعيف، فربما
يكون قويا جديا، وعليه، فينبغي التفصيل بين موارد الشبهات، مع أنه لم يذهب إليه أحد.
قوله: مع أن الضرر ليس دائما مما يجب التحرز عنه:
لكن لا يبعد دعوى وجوب
109

التحرز حتى يعلم بالتدارك، ولا علم بالتدارك قبل قيام دليل شرعي على الإباحة.
قوله: فإنه معه لا مجال لها أصلا، لوروده عليها:
تقدمه عليها يكون من جهتين: من جهة انه في رتبة السبب، والأصل في السبب عندهم مقدم على الأصل في المسبب.
ومن جهة انه استصحاب، الاستصحاب عندهم مقدم على أصالة البراءة، ولو في موضوع واحد. وتحقيق الكلام في التقدمين يطلب من
تنبيهات مسألة الاستصحاب.
قوله: فلا تجري مثلا أصالة الإباحة:
اعلم: ان للتذكية أعمالا صورية من فري الأوداج والتسمية والاستقبال، وكون آلة الذبح جديد أو الذابح مسلما، وخصوصية أخرى
معنوية قائمة بالحيوان. ولذا تقع هذه الأعمال بعينها في حيوان ولا تجدي شيئا، وليس وجهه إلا فقد تلك الخصوصية، فالأعمال
بخصوصية كذا مؤثرة في الحل والطهارة أو في الطهارة فقط، فإذا شككنا بالشبهة الحكمية في اعتبار فعل أو صفة، ككون الذابح
مسلما، أو في وجود الخصوصية في حيوان، أعني كون الحيوان حلال الاكل، أو شككنا بالشبهة الموضوعية في تحقق فعل من الافعال
المعتبرة، أو في كون الحيوان ذلك الحيوان الحلال الاكل أو الاخر الحرام الاكل، كان استصحاب عدم التذكية، أعني عدم تلك الأفعال
بخصوصيتها موجبا لادراج الحيوان في غير المذكى، المحكوم عليه بالحرمة. ولا يبقى مجال الرجوع إلى أصالة الإباحة، والعلم بتحقق
الافعال جميعا عند الشك في وجود الخصوصية، لا يكون مانعا من الرجوع إلى الأصل في الافعال، مقيدة بتلك الخصوصية، كما لا يمنع
العلم بتحقق الافعال المعلوم دخلها من الرجوع إلى الأصل في مجموع ما هو الدخيل واقعا عند الشك في اعتبار فعل آخر مضافا إلى ما
علم، ويمكن أن يقال: إن الشك إذا
كان في اشتمال الحيوان على تلك الخصوصية ثم قطع بتحقق سائر ما يعتبر في التذكية، لم يكن مجال الرجوع إلى أصالة عدم التذكية،
لان تلك الخصوصية كسائر الخصوصيات المنبعثة عنها الاحكام، من قبيل مناط الحكم وعلته، وليست
110

في موضوعه، ليكون ترتب الحكم عليه ترتبا شرعيا، ويجري الأصل فيها نفيا وإثباتا، ولو بمعنى جريان الأصل في المركب المقيد بها،
فيقال: لم تكن الافعال المقيدة بوقوعها في المحل القابل، واقعة حين لم يقع فعل، وهو إلى الان وبعد وقوع جميع الأفعال غير واقع، و
لو لأجل عدم قيدها.
نعم، المأخوذ في موضوع الحكم، نفس الافعال، فهذه الافعال موضوع الحكم بالطهارة والحلية في حيوان، لوجود مناط الحكم في ذلك
الحيوان، وليس موضوعا للحكم في حيوان آخر، لعدم وجود مناطه فيه.
ثم إن ما ذكرنا يسد باب الأصل الموضوعي، واما استصحاب حرمة أكل لحم الحيوان من حال حياته، بناء على حرمة أكل الحيوان حيا، و
بناء على أن الحياة والممات حالان للموضوع لا يختلف بهما الموضوع، فهو جار، ولا يبقى معه مجال الرجوع إلى البراءة لتقدم
الاستصحاب عندهم على أصالة البراءة.
قوله: فأصالة الإباحة فيه محكمة:
لا فرق في جريان أصالة عدم التذكية بين المقام والفرض السابق، فان صح جريانها هناك جرت هاهنا أيضا، والعلم بقبول الحيوان
للتذكية المؤثرة في الطهارة يجتمع مع الشك في قبوله للتذكية المؤثرة في الحل، فيجري أصالة عدم تلك التذكية الخاصة المؤثرة في
الحل والطهارة جميعا، وإن علم بتحقق التذكية المؤثرة في الطهارة، فللتذكية مرتبتان: تذكية ذات أثر واحد، وأخرى ذات أثرين، و
كلتاهما عبارتان عن أفعال مخصوصة مع خصوصية في المحل، واختلاف الاثرين منشأه اختلاف الخصوصيتين، وإلا فأصل الافعال
مشتركة بينهما، فكما إذا شككنا في اشتمال الحيوان على خصوصية، يوجب تأثير وقوع الافعال عليها الحل والطهارة، يرجع إلى أصالة
عدم التذكية، كذلك إذا شككنا في اشتماله على خصوصية، توجب تأثير الافعال فيه الحل، مع العلم باشتماله على خصوصية، توجب
تأثيرها فيه الطهارة، يرجع إلى أصالة عدم التذكية، والعلم بوقوع التذكية عليه بالمعنى الأخير لا يمنع من الرجوع إلى أصالة عدم
التذكية بالمعنى الأول.
111

قوله: فهو قبل الجلل كان يطهر ويحل بالفري:
هذا هو الاستصحاب التعليقي المعارض عندي، حسب ما يأتي تحقيقه بالاستصحاب الاخر التنجيزي، وهو استصحاب الحرمة من حال
الحياة، وبعد التساقط يرجع إلى أصالة الحل. هذا ما في ما قرره من الاستصحاب بهذه العبارة، واما ما في ما قرره بعبارته السابقة،
أعني استصحاب القابلية، فقد عرفت وستعرف في مبحث الاستصحاب التعليقي: انه لا أثر لها.
قوله: لا شبهة في حسن الاحتياط شرعا وعقلا:
حسن الاحتياط عقلا بعد قيام الدليل النقلي على الإباحة شرعا ممنوع، فإنه بعد ترخيص الشارع في الفعل وحكمه بإباحته المستلزم
لسقوط الواقع عن فعليته لا يبقى ملاك الحكم الواقعي، بل بمزاحمة ملاك الإباحة التي هي مؤدى الأصل يضمحل، كما في كل ملاك ابتلي
بملاك آخر أقوى منه.
قوله: كما لا ينبغي الارتياب في استحقاق الثواب:
أعني ثواب الانقياد في صورة الخطأ وثواب الواقع، بل والانقياد أيضا في صورة الإصابة.
قوله: عند دوران الامر بين الوجوب وغير الاستحباب:
بل وعند دوران الامر بين الوجوب والاستحباب، بناء على عدم كفاية قصد مطلق الطلب واعتبار قصد الوجه، فان المولى حيث يوجب،
يقصد ان يأتي المكلف بالفعل بداعي إيجابه، وحيث يندب، غرضه ان ينبعث المكلف إلى الفعل بندبه، ولا يعقل أن يكون غرض المولى
في كل من الايجاب والندب إتيان المكلف بالفعل بداعي مطلق الرجحان، ثم إن محصل الاشكال في المسألة هو ان معنى الاحتياط
المرغب إليه شرعا وعقلا هو الاتيان بما يحتمل مطابقته للواقع، ويحتمل كونه صحيحا مطابقا لغرض المولى، وهذا لا يعقل فيما اعتبر
إتيانه بداعي امتثال الامر على أن يكون العلم بالامر محركا للعبد نحو العمل، فان هذا لا يكون مع الشك في الامر الذي هو مورد
الاحتياط، فلا يحتمل مطابقة ما أتى به لا بداعي العلم بالامر للواقع، سوأ كان اعتبار قصد امتثال الامر قيدا مأخوذا في المأمور به أو
دخيلا في حصول الغرض
112

عقلا، فلا يجدي في التخلص عن الاشكال إخراج قصد الامر عن حيز الامر مع اعتباره في دخله حصول الغرض، فإنه مع الاتيان لا بداعي
العلم بالامر يقطع بعدم مطابقة العمل لغرض المولى، فيكون إتيانه لغوا عبثا، والذي يجدي في دفع الاشكال هو تعميم قصد القربة لما
يشمل الاتيان بداعي احتمال الامر أو بداعي حسن الفعل أو بداعي مصلحته، سوأ كان كل ذلك معتبرا في المأمور به أو في حصول
الغرض عقلا. ومن ذلك يظهر ما في ما أفاده حضرة الأستاذ العلامة، حيث بنى الاشكال في المسألة على دخول قصد القربة في المأمور
به، فلا يكون إشكال على مختاره من الخروج.
ويظهر أيضا أن الامر المتوجه إلى عنوان الاحتياط، سوأ استفيد ذلك من الأدلة النقلية أو من حكم العقل بالثواب انا أو من حكمه بحسن
الاحتياط لما لا يجدي في تصور الاحتياط على أن يقصد المحتاط هذا الامر، فان هذا الامر يتبع متعلقه، ففي مورد لا يكون متعلقه معقولا
لا يكون أمر، فكيف معقولية المتعلق يكون بهذا الامر، وهل هذا إلا الدور؟ فالصواب في دفع الاشكال: التمسك باخبار من بلغ وقبل
الخوض في تقريب الاستدلال. نقول: إن الثواب في الواجبات والمستحبات، حتى التوصلية منها، متوقف على إتيان العمل بقصد الامتثال،
فيكون معتبرا في موضوع الثواب في مطلق المطلوبات، ما هو معتبر في خصوص الصحة في العبادات.
وعليه: فإشكال الاحتياط في العبادات يعم بالنسبة إلى استحقاق الثواب، مطلق الواجبات والمستحبات، يعني لا يتأتى للشخص تحصيل
الثواب الموجود مع الشك في الامر، لعدم تأتي قصد الامتثال حينئذ.
إذا عرفت ذلك، فنقول: ظاهر اخبار من بلغ، هو ان ترتب الثواب على العمل برجاء الثواب ورجاء الواقع ثابت على وجه الاستحقاق، على
تقدير، وعلى وجه التفضل، على آخر. فاما تقدير الاستحقاق فهو تقدير مطابقة العمل للواقع، واما تقدير التفضل فهو تقدير لا مطابقة،
فإذا تأتى الاتيان بموضوع استحقاق الثواب مع
113

الشك في الامر، تأتى الاتيان بموضوع الصحة في العبادات مع الشك في الامر، لان الثواب متفرع على العمل المأتي به على وجه العبادة،
فمن ترتب الثواب يعلم أن العمل المأتي به بداعي احتمال الامر واقع على وجه العبادة، وانه لا يعتبر في العمل العبادي إتيانه بداعي
الجزم بالامر، بل يكفي إتيانه برجاء الامر والثواب.
قوله (ره): غاية الأمر، انه لا بد أن يؤتى به على نحو:
يظهر من العبارة ان الامر الواقعي بواقعيته يكون هو الداعي، فيما إذا أتى بداعي احتمال الامر، ثم ظهر ثبوت الامر واقعا، فيكون العمل
مأتيا به على وجه التقرب بأمره الواقعي، وهو فاسد، فان الداعي على العمل اما هو العلم بالامر أو احتماله، واما الامر الواقع بما هو، فلا
يعقل أن يكون داعيا محركا نحو العمل، حتى يقال: إنه على تقدير الامر به واقعا، يقع الفعل مقربا.
قوله: لما كان من الاحتياط:
بل كان من الاحتياط بالنسبة إلى الواقع المشكوك وإن لم يكن منه بما هو مأمور به بهذا الامر، كسائر ما تعلق به الامر بعنوان قيام
الامارة أو أداء أصل هذا، مع أن المقصود تصحيح الأعمال المشكوك تعلق الامر الواقعي العبادي بها، مقابل وقوعه باطلا، ولو كان هذا
الشك موجبا لتعلق أمر بعنوان من العناوين بها، ولا غرض بالخصوص متعلق بتصحيحه بعنوان الاحتياط، حتى يقال: يخرج بعد فرض
تعلق الامر بها عن عنوان الاحتياط.
فظهر انه لو قيل بدلالة اخبار من بلغ على استحباب العمل البالغ عليه الثواب، كفى في ثبوت المقصود، مضافا إلى ما تقدم من تقريب
الاستدلال بهذه الاخبار على المقصود بطريق مخصوص. فراجع.
قوله: لكان توصليا:
التوصلية غير ضار في إثبات المقصود، وهو التمكن من الاحتياط بقصد هذا الامر، فان قصد التعبد بالامر التوصلي بمكان من الامكان.
نعم، لا يعتبر في سقوطه ذلك، وليس المقصود في المقام إثبات أمر عبادي.
قوله: ظاهرة في أن الاجر كان مترتبا على نفس العمل:
ظهورها في ترتب الثواب على نفس العمل ممنوع، بل ظاهرة في ترتبه على العمل المأتي به برجاء الثواب، كما
114

هو قضية الفاء التفريعية في قوله (فعمله) فتطابق الصحيحة باقي الاخبار المصرحة بذلك، ودعوى ان ثواب الانقياد لا يلزم أن يكون هو
الثواب البالغ بعينه، مع أن ظاهر الصحيحة ترتب الثواب البالغ بعينه. مدفوعة: بأن تعيين ذلك المقدار لعله يكون تفضلا من الله تعالى.
قوله: بداهة ان الداعي إلى العمل لا يوجب له وجها:
اعلم: ان هناك احتمالات ثلاث: كون الثواب على نفس العمل، كسائر المستحبات، وكونه على الانقياد والقصد، وكونه على العمل،
بعنوان الاحتياط، والمدعى هو الأول، فيلزم إبطال الأخيرين ليتعين به ذلك، فأبطل كونه على القصد، بظهور الصحيحة، في كون الثواب
على نفس العمل، وأبطل كونه على العمل، بعنوان الاحتياط، لا على نفس العمل بهذه العبارة. وحاصلها: ان عنوان الاحتياط عنوان مترتب
على الداعي الخاص، أعني قصد إتيان الفعل برجاء الثواب، والعنوان المترتب على الداعي، والقصد لا يكون مقصودا لان العنوان المتعلق
به القصد لا بد أن يكون سابقا على القصد، وهذا لا حق، فإذا لم يكن مقصودا لم يكن يعقل ترتب الثواب عليه، لان الثواب لا يكون على
أمر غير مقصود، فلا بد أن يكون الثواب على ذات العمل المتعلق به القصد، وهذا هو المقصود، ولا يخفى ما فيه. فان الثواب على جرم
العمل وذاته مما لا يكون حتى في سائر المستحبات، بل لا بد في استحقاق الثواب وقوع الفعل بعنوان الامتثال، وظاهر هذه الأخبار،
حتى الصحيحة، كفاية الاتيان على وجه الرجاء واحتمال الواقع في ترتب الثواب وعدم اعتبار القصد إلى الامتثال
الجزمي، وهذا لا يقتضي استحباب العمل البالغ عليه الثواب، فلعل الثواب من جهة كون الفعل انقياد، كما هو الظاهر الذي لا يبقى فيه
الريب بعد التأمل في الاخبار، ومع ذلك فالفتوى باستحباب العمل يكون بلا مدرك.
نعم، ظاهر قوله عليه السلام: (أوتيه وإن لم يكن الامر كما بلغه) يعطي ان إيتاء الثواب في صورة الخطأ من باب التفضل، وهذا مما يدل
على أن الثواب على نفس العمل، وإلا فثواب الانقياد ليس من باب التفضل، وفيه: ان الثواب على نفس
115

العمل أيضا على تقدير الاستحباب لا يكون من باب التفضل.
قوله: في زمان أو مكان:
أو مطلقا وبلا تقييد بقيد.
قوله: ولو بالأصل:
ولو كان ذلك الأصل أصالة البراءة، فان قضية كل شئ حال في الفرد المشتبه هو جواز الارتكاب، وإن كان العقل حاكما بالاحتياط
لولاه، للشك في حصول برأة الذمة عن التكليف المتوجه إلى الطبيعة لولاه، إن قلت: الطبيعة مما قد علمنا حرمتها، فيجب الخروج عن
عهدة النهي المتوجه إليها.
قلت: نعم، ولكن الاتيان بالافراد المشتبهة انما هو بضم حكم العقل، ولا حكم للعقل بعد ترخيص الشارع.
وبالجملة: لا حاجة إلى الاستصحاب الموضوعي كما أفاده حضرة الأستاذ، بل قضية أصالة البراءة هو جواز ارتكاب الافراد المشتبهة
مطلقا، سوأ توجه النهي إلى الطبقة أو إلى الافراد وسواء كان تعلقه بالافراد على سبيل الاستغراق أو على سبيل العموم المجموعي، كما
إذا كان مجموع التروك مطلوبا واحدا للمولى، ثم علم بفردية طائفة وان تروكها تروك للطبيعة وشك في فردية طائفة أخرى. نعم،
جريان البراءة في هذا الأخير مبني على القول بالبرأة في الأقل والأكثر. ثم لو قلنا بالحاجة إلى الأصل الموضوعي، فلا ريب ان الأصل
الموضوعي دائما موجود لسبق حال الشك دائما بالترك، إلا أنه لو كان مسبوقا بالفعل لكان النهي ساقطا بسبب ذلك الفعل، ولم يبق
شك في سقوط النهي.
قوله: إلا أن قضية لزوم إحراز الترك:
قد عرفت: ان لزوم إحراز الترك حكم العقل، ولا مساغ للعقل مع ترخيص الشارع في الفعل.
قوله: عقلا ونقلا:
اما عقلا فواضح، واما نقلا فلظاهر الامر به في الاخبار، بلا داعي يدعو إلى حمله على الارشاد، واشتمال بعض الأخبار على التعليلات
العقلية لا يكون صارفا لظهورها، فان الأحكام الشرعية تنبعث عن المناطات العقلية، كانبعاث الأحكام العقلية عنها.
نعم، فيما لا يمكن حمل الامر على حقيقته، كأوامر الإطاعة يتعين فيه الحمل على الارشاد.
116

قوله: ولا يخفى انه مطلقا كذلك حتى فيما كان هناك حجة:
إطلاق حسن الاحتياط عقلا مع قيام الحجة على عدم الالزام بناء على جعل الحكم في مورد الامارات، كما في الأصول، دون مجرد جعل
الحجية ممنوع، سوأ سلكنا مسلك السببية وحدوث المصلحة على وفق ما قامت عليه الامارة، أو اخترنا مسلك الطريقية. اما على الأول
فواضح، فان مناط الواقع بمزاحمة ما حدث بقيام الامارة من المناط صار كأن لم يكن، ومع ذلك فما معنى الاحتياط؟ واما على الثاني:
فلان الشارع إذا أباح ما إباحته الامارة، ولو على وجه الطريقية، في الفعل ملاك الإباحة البتة، كائنا ما كان هذا الملاك، ومعه: أي معنى
يبقى للاحتياط، وهل فرق بين هذا المباح والمباحات الواقعية؟ بل أقول: حتى على مسلك جعل الحجية، لا معنى للاحتياط، فان الشارع
برأفته على عباده إذا نصب لهم حجة، لكي لا يقعوا في ضيق تحصيل الواقع، كان تتبع وراء ذلك الطريق، من التضييق على النفس، الذي
ربما لا يرضى الشارع به، وإن أدركوا به مصالح الواقعيات لا ان كونهم في وسع، أحب إليه من درك تلك المصالح، وفي الحديث (لعن
الله الخوارج بتضييقهم على أنفسهم) و (ان الدين أوسع من ذلك).
إن قلت: هذا بالنسبة إلى حكم العقل، واما الأدلة النقلية الدالة على حسن الاحتياط فلا مانع من شمول إطلاقها لموارد قيام الحجة.
قلت: عنوان الأدلة النقلية هو الاحتياط في الدين، سوأ وقع التصريح بهذا العنوان فيها أو لم يقع، وما قامت عليه الحجة هو الدين، والاخذ
به أخذ بحقيقة الدين، لم يفت منه شئ من الدين.
قوله: ترجيح بعض الاحتياطات احتمالا أو محتملا:
فيختار للاحتياط موارد قوة احتمال التكليف فيها، بلغ مرتبة المظنة أو لا على موارد ضعف احتماله، وكذلك موارد احتمال التكليف
المهمة على موارد احتمال التكاليف الغير المهمة، ومع الدوران بين رعاية قوة الاحتمال وقوة المحتمل يتخير.
ثم إنه بقي أمر لم يشر إليه المصنف الأستاذ (ره) وهو: انه لا فرق في جريان
117

البراءة بين أن يكون التكليف المحتمل تعيينيا أو تخييريا، وأيضا بين أن يكون عينيا أو كفائيا، فلو شك في وجوب شيئين تخييرا أو
أباحتا أو وجوب شئ كفاية على جماعة أو إباحته لهم، فأدلة البراءة عقلا ونقلا تقتضي الإباحة في المقامين، ولو علم بوجوب شيئين أو
أشياء وشك في التعيينية والتخييرية، كالكفارة المرددة بين كفارة الجمع وكفارة التخيير، أو علم بوجوب شئ على جماعة وشك انه
على سبيل الكفاية، حتى يسقط بفعل أحدهم، أو على سبيل العينية فالاستصحاب يقتضي التعييني العيني، فإنه يشك في سقوط الوجوب
عن أحد الأشياء أو عن أحد المكلفين بفعل الاخر أو بإتيان واحد، والأصل البقاء على صفة الوجوب وذلك كاف، في إلزام العقل بلا حاجة
إلى إثبات حد الوجوب من التعيينية العينية، ودعوى ان البراءة جارية تنفي حدي التعينية والعينية، لأنه كلفة زائدة على أصل الوجوب، بل
يمكن أن يقال: إن بيان العقاب لم يتم في الأول إلا بالنسبة إلى ترك الفعلين معا، كما أنه لم يتم في الثاني إلا بالنسبة إلى ترك جميع
المكلفين. واما بالنسبة إلى ترك أحد الفعلين أو بعض المكلفين فلم يبين عقاب. والأصل يقتضي البراءة.
مدفوعة: بأن الاستصحاب بيان قاطع لأصالة البراءة ومن هنا يظهر حكم صورة أخرى، وهي ما إذا علم بوجوب أحد شيئين أو أشياء و
شك في أنه عيني أو تخييري بينه وبين الشئ الآخر فيكون الشك في وجوب الشئ الآخر تخييرا أو علم وجوب شئ على شخص وشك
في أنه واجب عيني كصلاة الميت على الولي أو كفائي بينه وبين غيره من المكلفين، وان الأصل البراءة عن وجوب ما شك في وجوبه أو
الوجوب على من شك في وجوبه عليه. ونتيجة هذا الأصل أيضا تطابق الوجوب التعييني العيني، بل مقتضى استصحاب وجوب ما علم
وجوبه أو الوجوب على من علم وجوبه عليه، وعدم سقوطه بفعل محتمل الوجوب أيضا، هو ذلك.
قوله: أو مع الحكم عليه بالإباحة شرعا:
لا يقال: هذا هو عين الوجه الأول، أعني البراءة عقلا ونقلا، فان التخيير بين الفعل والترك عقلا هو البراءة العقلية، فإذا
118

انضم إلى الحكم بالإباحة شرعا صار الحكم هو البراءة عقلا ونقلا، وهو الوجه الأول، فإنه يقال: التخيير بين الفعل والترك ليس بمناط
قبح العقاب بلا بيان لما سيجئ من عدم قصور البيان، فان البيان يشمل البيان الاجمالي، وهو هنا حاصل، بل البيان بالنسبة إلى جنس
الالزام تفصيلي، بل بمناط عدم الترجيح بينهما وبطلانه بلا مرجح.
والحق في المسألة هو البراءة عقلا فقط عكس ما اختاره المصنف (ره)، فان موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان هو عدم البيان
المحرك نحو الفعل أو الترك المصحح للعقاب وهذا العدم هنا حاصل فان البيان الاجمالي المردد بين الايجاب والتحريم لا يكون
محركا نحو شئ منهما في حكم العقل، فلا يكون مجوزا للعقاب، فيكون وجوده كعدمه، ويكون العقل على حكمه الأصلي من قبح العقاب
بلا بيان، وإن ضايقت من ذلك قلنا: للعقل حكم آخر بقبح العقاب، وذلك في موضوع البيان الاجمالي للالزام، بل العقاب على خصوص
كل من الفعل أو الترك مستندا إلى هذا البيان الاجمالي أقبح من العقاب معترفا بعدم البيان رأسا، واما أدلة البراءة النقلية فموضوعها أو
منصرفها ما لم يعلم فيه بإلزام اما بالفعل أو الترك، وهنا قد علم فيه ذلك، فظهر ان أصالة التخيير، أعني كون الحكم عند دوران الامر
بين وجوب شئ وحرمته، هو ما اختاره المكلف لنفسه منهما باطل لم يقم عليه دليل، بل الدليل قائم على البراءة مضافا إلى أنه غير
معقول، فان الايجاب والتحريم من فعل الغير، وهو الشارع، فكيف يتعلق به اختيار المكلف، مضافا إلى أن تبعية الاختيار ينافي حقيقة
التكليف، الذي هو القهر والاكراه، إلا أن يقال: إن جنس
الالزام يكون بالقهر، وإن كان كل من حديه بالاختيار، هذا مع أنه يحتاج إلى تكليف آخر باختيار أحد الحكمين في حق نفسه وإلا فله
أن لا يختار شيئا منهما، فلا يكون في حقه شئ من الحكمين، بل لو التزمنا بهذا التكليف أيضا كان في صورة عصيان واحد لهذا
التكليف، لعدم توجه التكليف إيجابا، وتحريما بالنسبة إلى الواقع لفرض عدم اختياره.
119

واما التخيير بين الروايتين فليس معناه ان ما يختاره المكلف للحجية فيهما يكون هو الحجة، ليكون نظير المقام في عدم المعقولية، بل
معناه ان ما يختاره للعمل يكون هو الحجة، وليس يمكن نظيره في المقام بأن يقال: إن ما يختاره المكلف من الفعل والترك يكون هو
المتعين في حقه، فيجب باختياره للفعل ويحرم باختياره للترك، فان ذلك غير معقول إذ الاختيار علة لحصول الامتثال في الخارج،
المتأخر عن الحكم، فكيف يصير علة للحكم أيضا المستلزم لا أن يكون الحكم وامتثاله في مرتبة واحدة معلولان للاختيار
قوله: وشمول مثل كل شئ لك حلال:
فيه منع الشمول، فان منصرف الرواية هو حل محتمل الحل والحرمة، والمراد من الحل في الموردين هو بالمعنى الأخص دون الحل
المجامع للوجوب، فيكون مفاد الرواية إباحة محتمل الإباحة والحرمة. والمصنف أخذ بالظهور الأول وأنكر ما ادعيناه من الانصراف، و
لكن الناظر في الاخبار يكاد يقطع بأنه ليس في شئ منها التعرض لحكم المقام.
قوله: وأين ذلك مما إذا لم يكن المطلوب:
العبارة لا تخلو عن تشابه، والمقصود، هو إبدأ الفارق بين المقام وبين تعارض الخبرين باشتمال كل من الخبرين على شرائط الحجية
ومناط الطريقية، غاية الأمر، التعارض عن الاخذ بهما بخلاف المقام الذي لا مقتضى إلا في جانب أحد الحكمين، فلا يكون التخيير هناك
مستلزما للتخيير هنا، لاختلاف الموضوع.
قوله: ولا مجال هاهنا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان:
قد عرفت: ان له مجال واسع وان المراد بالبيان فيهما هو البيان المصحح للعقاب وليس البيان الاجمالي، وإن كان بيانا مصححا
للعقاب، مع انا لو سلمنا عدم المجال لهذه القاعدة هاهنا فلا ينبغي أن يرتاب ان العقاب في المقام أيضا قبيح، بل أقبح من موارد عدم
البيان رأسا، فان الاستناد في العقاب على خصوص الفعل أو على خصوص الترك على بيان جنس الالزام بالأعم من الوجوب و
الاستحباب أقبح من العقاب بلا بيان أصلا.
قوله: والموافقة الاحتمالية حاصلة:
قد بينا في محله ان التكليف بشي
120

موافقة المكلف إياه احتمالا باطل، فان التكليف ان ثبت وجب موافقته قطعا، كما أنه إن لم يمكن موافقته قطعا لم يثبت التكليف، بل كان
ساقطا رأسا. وحضرة الأستاذ (ره) معترف بأن مقتضى القاعدة ذلك، ما لم يقم دليل خارجي من إجماع ونحوه على لزوم الموافقة
الاحتمالية، الكاشف ذلك الدليل عن أن التكليف منجز في بعض احتمالاته، فهو على مبناه مطالب بالدليل على التخيير بين الفعل و
الترك، وهو فإن لم يكن له ثمر في التوصليين، لكن له ثمرة في التعبديين أو التعبدي أحدهما، وقد استدل على ذلك ببطلان الترجيح
بلا مرجح. ولا يخفى ان هذا الدليل انما يجدي في قبال من يرجح واحد من الفعل والترك على صاحبه، واما على ما اخترناه من الإباحة
عقلا فلا أثر لهذا الاستدلال.
قوله: إذا كان كذلك هو التخيير عقلا:
بل الحكم فيهما على حذو التوصليين هو الإباحة وجواز ترك كليهما، ولا أثر لهذا العلم الاجمالي، وفي الحقيقة لا علم إجمالي بتكليف
فعلي لعدم معقولية إلزام فعلي مردد بين الايجاب والتحريم، فان الالزام المذكور إذا لم يكن مؤثرا عقلا في تحريك العبد نحو جانب
كان إلزامه محالا من المولى الحكيم، لكونه لغوا. وقد عرفت: ان التكليف بالواقع لغرض موافقته احتمالا، باطل.
قوله: بالنسبة إلى ما هو المهم في المقام:
فان المهم في المقام تعيين حكم ما تزاحم فيه احتمال حكمين إلزاميين من غير مدخلية، لعدم إمكان المخالفة القطعية وإمكانها. نعم، انما
يجدي ذلك في عدم جواز إجراء البراءة الشرعية من الحكمين، لاستلزامه المخالفة العملية في هذا المقام على خلاف المقام السابق، لكن
قد عرفت: ان البراءة العقلية جارية في المقام على حذو المقام السابق.
قوله: ولا يذهب عليك ان استقلال العقل بالتخيير:
لكن على ما اخترناه من حكم العقل بالإباحة لا فرق بين كون أحد المحتملين مقطوع الأهمية فضلا عن محتمل الأهمية وبين غيره، فان
العقل حاكم بقبح العقاب في جميع الموارد، كما يحكم بقبحه في الشك البدوي كذلك، إلا إذا علم باهتمام الشارع بمثابة أوجب
121

الاحتياط في الشك البدوي.
قوله: وكذا وجب ترجيح احتمال ذي المزية:
الترتيب الطبيعي يقتضي تقديم هذا في الذكر على سابقه، فان مزية أحد المحتملين هنا قطعي وهناك محتمل، فكان أصل الحكم محتملا
ومزيته محتمل آخر، فإذا كان الترجيح ثابتا هناك كان ثابتا هنا بطريق أولى.
فصل: لو شك في المكلف به مع العلم بالتكليف من الايجاب أو التحريم
قوله: لو شك في المكلف به مع العلم بالتكليف من الايجاب أو التحريم:
وكذا الجهل بكل من الايجاب والتحريم مع العلم بجنس الالتزام، لكن مع إمكان الاحتياط، كما إذا علم إجمالا بالالزام المتعلق بأحد
الفعلين، لكن لم يعلم أنه وجوب متعلق بهذا أو تحريم متعلق بذاك، فيجب فعل هذا وترك ذاك، اما إذا لم يعلم الوجوب و التحريم على كل
تقدير المتعلق هو هذا أو ذاك، كان ذلك من دوران الامر بين المحذورين، الداخل في موضوع البحث المتقدم، فان كلا من الفعلين يكون
مرددا بين الواجب والحرام.
قوله: فلا محيص عن تنجزه وصحة العقوبة:
لكن للمولى جعل الأصل في بعض الأطراف بان يحتال ابتدأ في حل العلم الاجمالي إلى علم تفصيلي وشك بدوي، ثم يرخص في جانب
الشك البدوي وحيلته هو ان يوجب الاجتناب عن بعض الأطراف بعنوان قيام أمارة أو أداء أصل إلى الاجتناب عن ذلك الطرف، فيكون
هذا الطرف معلوم الاجتناب بالعلم التفصيلي والاخر مشكوكا بالشك البدوي.
نعم، حكم العلم الاجمالي لا يزول بهذا الانحلال بل وجب الاحتياط عقلا لكن يمكن الترخيص في مورده شرعا، ولا يكون مثل ما قبل
الانحلال في مناقضة الترخيص لما علم من الحكم، فظهر ان العلم الاجمالي وإن كان علة تامة في التنجيز كالعلم التفصيلي، لكن يمتاز
عنه بإمكان الترخيص في بعض أطراف العلم بعد إخراجه عن الطرفية للعلم.
122

قوله: مخصصا عقلا لأجل مناقضتها معه:
هذا إذا كان العلم الاجمالي المتعلق بالحكم في الأطراف حكما وجدانيا، اما إذا كانت الحجة قائمة على الحكم في بعض الأطراف كان
عموم تلك الحجة أو عموم دليل حجية تلك الحجة معارضا بدليل الأصل في كل واحد من الأطراف، مثلا عموم دليل صدق العادل وشموله
لاخبار العادل بحرمة أحد شيئين يكون معارضا بعموم دليل كل شئ حلال وشموله لذينك الشيئين، بل دليل كل شئ حلال يكون
شارحا مبينا لاختصاص حرمة المحرمات بصورة العلم التفصيلي، وليس هذا من معارضة الدليل بالأصل، بل تقديم الأصل عليه، فان
موردهما مختلف والدليل مقدم على الأصل إذا تواردا على موضوع واحد، ولذا لو كان بدل الدليل علم وجداني لم يرتفع به موضوع
الأصل، وكان الشك محفوظا في الأطراف، لا يقال: تقييد أدلة المحرمات بصورة العلم التفصيلي مستلزم للدور المحال، فإنه يقال: اما
الشبهات الموضوعية المشوبة بالعلم، مثل العلم الاجمالي بخمرية أحد الانأين أو نجاسة أحد الثوبين، فلا إشكال في تقييد دليل الحرمة و
النجاسة فيها بالخمر والنجس المعلومين بالتفصيل، لان متعلق العلم فيها هو الموضوع دون الحكم، واما الشبهات الحكمية فإن كان
الحكم
المعلوم بالاجمال مما قامت عليه الحجة، كخبر العدل وظهور الكتاب، فيقيد حجيتهما بما إذا أفادت تفصيلا حرمة شئ، فتخرج الحجة
الاجمالية عن الحجية.
قوله: ولو كان بحيث لو علم تفصيلا لوجب امتثاله:
يعني لو علم تلك المرتبة الغير تامة الفعلية لبلغت إلى تمام الفعلية وصارت إرادة وكراهة بسبب تعلق العلم، ولا مانع من أن يكون للعلم
تأثير كذلك. وقد تقدم إمكان أخذ القطع بمرتبة من الحكم في موضوع مرتبة أخرى منه. وغرض المصنف من هذه العبارة رفع التهافت
بين إجراء الأصل في الأطراف في مورد العلم الاجمالي وإيجاب الامتثال، والحكم تنجيز الواقع في مورد العلم التفصيلي، فإنه ربما
يخطر بالبال في بادي النظر: ان الحكم المتعلق للعلم إن كان حكما فعليا بالغا إلى مرتبة البعث لم يكن فرق بين العلمين في تنجيز الواقع
وعدم جريان الأصل، وإن لم يكن فعليا كذلك لم يكن أيضا
123

فرق بين العلمين في عدم وجوب الامتثال وتنجيز الواقع، فما وجه التفكيك؟ فأفاد (قده) إلى إمكان أن يكون متعلق العلم في المقامين
حكما غير تام الفعلية، ومع ذلك يجب الامتثال ويتنجز الواقع في مورد العلم التفصيلي بتأثير من العلم في فعليته، وإلا فالعلم التفصيلي
بحكم غير فعلي كالعلم الاجمالي به في عدم إيجاب التنجيز، ويتجه على المصنف (ره) بأن التنجيز لا محيص له من علم يتعلق بحكم
فعلي، فلو كانت فعلية الحكم بالعلم فلا بد من علم آخر يتعلق بما صار فعليا بالعلم الأول ليكون هذا العلم الثاني منجزا له، وإلا فيمكن أن
يبلغ الحكم مرتبة الفعلية التامة بالعلم الأول ولا يبلغ مرتبة التنجز، لعدم العلم بأن العلم الأول أثر في وصوله إلى مرتبة الفعلية، حتى
يكون الحكم الفعلي قد تعلق به العلم، وما لم يكن كذلك لا يعقل التنجز، مع أنه في موارد تعلق العلم بالأحكام ليس إلا علم واحد، وهو
الذي ينجز الاحكام، فيعلم ان متعلقه هو حكم فعلي تام، وعليه، فلو كان بدل هذا العلم التفصيلي علم إجمالي، وجب الحكم بالتنجيز و
عدم جريان الأصل في الأطراف.
قوله: لا محالة يصير فعليا معه من جميع الجهات:
لا ضرورة تستدعي ذلك، لامكان دخل العلم بمرتبة خاصة أو عن سبب مخصوص في التأثر في فعلية الحكم المتعلق به، فلا يكون كل علم
مؤثرا في الفعلية، فصح جعل الحكم الظاهري في مورد العلم التفصيلي، كما صح جعله في مورد العلم الاجمالي، وإن كان في تسمية ذلك
كله حكما ظاهريا، نظر، فان الحكم الظاهري عندهم هو الحكم المجعول بعنوان الجهل بالحكم الواقعي، وظاهرهم الجهل بالحكم
الواقعي الفعلي على تقدير وجوده، والحكم الفعلي في الموارد المفروضة مقطوع الارتفاع، فكان هذا أولى بتسميته حكما واقعيا ثانويا،
كالحكم المنشأ بعنوان الاضطرار.
قوله: ولو كانت أطرافه غير محصورة:
الظاهر: ان العلم الاجمالي في أطراف غير محصورة الأثر له في تنجيز العلم، فإنه لضعف الاحتمال فيه صار بحيث لا يعتد به العقلا ولا
يكون مؤثرا في انبعاثهم، فان من المشاهد بالوجدان ان أعز الأشياء التي
124

هي النفس إذا علم ذهابها بركوب سفينة من سفن العراق أو شرب إناء من الأواني الموجودة في البلد، لم يعتني به العقلا في اجتناب
ركوب كل تلك السفن أو شرب كل تلك الأواني، بل يسفهون من اجتنب، ولو ارتكب ووقع في المحذور لم يكن ملوما عندهم، وهذا
شاهد على أنه لا تأثير لهذا العلم، وإن تعلق بتكليف فعلي.
نعم، مع هذا الوصف لا يعقل من المولى الحكيم التكليف الفعلي مقتصرا على البيان الاجمالي في أطراف غير محصورة، فان البيان إذا لم
يكن باعثا لم يكن يعقل ان يصير مقدمة أمرية رتبها المولى للتوصل إلى حصول مقصوده في الخارج، كما بيناه في المبحث السابق.
وبالنتيجة: لم يعقل علم إجمالي بتكليف فعلي من المولى الحكيم في أطراف غير محصورة، فظهر الفرق بين كل واحد من العلم التفصيلي
والعلم الاجمالي في أطراف محصورة، والعلم الاجمالي في أطراف غير محصورة وبين صاحبه، وإن الأول منجز للتكليف بلا مجال
للترخيص، والثاني منجز للتكليف مع إمكان الترخيص في بعض الأطراف بالطريق المتقدم، والثالث غير منجز للتكليف رأسا.
قوله: وقد انقدح انه لا وجه لاحتمال:
كما انقدح مما ذكرناه: ان هذا الاحتمال هو المتعين، لكن على الوجه المتقدم، بحل العلم ابتدأ ثم الترخيص في مادة الشك.
قوله: كذلك يكون مانعا لو كان إلى غير معين:
الاضطرار إلى غير المعين ليس اضطرارا إلى الحرام ولا يحتمل أن يكون ما اضطر إليه هو الحرام، ولذا لو كان عالما بالحرام تفصيلا
وجب أن يختار للارتكاب ذاك الاخر المباح، فالاضطرار المذكور لا يندرج تحت دليل رفع (ما اضطروا)، فيكون التحريم باقيا على
حاله غير مرتفع بالاضطرار، وحينئذ نقول: إن الاضطرار المذكور: اما أن يكون اضطرارا مرخصا للارتكاب، أو يكون اضطرارا موجبا
له.
فإن كان الأول لم يزد الاضطرار ذلك على إباحة الطرف الآخر بشي، فكان
125

أحدهما محرما والاخر مباحا ذاتا ومباحا بعنوان الاضطرار، والاحتياط في مثل هذه الصورة واجب كما كان واجبا أولا قبل عروض
الاضطرار، وإن كان الثاني، كان أحدهما معينا حراما والاخر واجبا، وقد اشتبه الواجب بالحرام.
والحكم في مثل ذلك هو التخيير لدوران الامر في كل منهما بين الايجاب والتحريم، لكن إذا اختار أحدهما للفعل وجب اختيار الاخر
للترك.
وعلى مختارنا في مسألة دوران الامر بين المحذورين هو البراءة عقلا، فيجوز له فعلهما جميعا أو تركهما كذلك، فيطابق مختار
المصنف (ره).
في دوران الامر بين المتباينين
قوله: وكذلك لا فرق بين أن يكون الاضطرار كذلك سابقا:
هذا مختاره هنا، وقد عدل عنه في الدورة الأخيرة من بحثه، فحكم بوجوب الاحتياط في الاضطرار اللاحق إلى أحدهما معينا.
وحاصل ما أفاد، هو: ان العلم الاجمالي حاصل بحرمة أحد الانأين، اما هذا المضطر إليه إلى زمان الاضطرار أو ذلك الاخر أبدا، فيجب
ترك هذا إلى زمان الاضطرار والاخر أبدا، لان أطراف العلم الاجمالي هما ذلك، نظيره ما إذا علم إجمالا بوجوب صوم يوم من رجب أو
عشرة من شعبان، في أن يوما من رجب يقابل مجموع عشرة من شعبان، فيكون أحد الطرفين يوم واحد والاخر عشرة أيام، فيحتاط
بإتيان الطرفين جميعا، وليس ذلك من قبيل الأقل والأكثر لينحل العلم الاجمالي، لان ضابط الأقل والأكثر الموجب للانحلال هو دخول
الأقل في الأكثر، وليس الامر كذلك في المقام.
والحق عندي: ما اختاره هنا، لان مجرد تعلق العلم الاجمالي بخطاب مردد، متعلقه بين أمر مستمر وآخر منقطع، على أن يكون خطاب
(اجتنب) قد توجه فعلا، وتردد بين أن يكون متعلقه اجتناب هذا اجتنابا أبديا أو ذاك إلى زمان،
126

كذلك لا يقتضي وجوب الاحتياط على طبق علمه الاجمالي ما لم يكن التكليف بنفسه مستمرا، فان مجرد تعلق التكليف بأمر مستمر لا
يقتضي وجوب إتيان ذلك المستمر في العلم التفصيلي، فضلا عن المقام، بل لا بد من استمرار نفس التكليف أيضا، ونظيره إباحة المالك
للتصرف في أمواله أبدا، فان مجرد ذلك لا يوجب حل التصرف أبدا ما لم يستمر الإباحة والرضي بنفسها ولو بالاستصحاب وحينئذ إذا
تردد التكليف بين أن يكون متعلقا بفعل كذا وباقيا، وبين أن يكون متعلقا بفعل آخر ومرتفعا. فالحكم الاحتياط بإتيان الطرفين ما
دام القطع بالتكليف باقيا، فإذا ارتفع القطع يرجع إلى البراءة، لان علمه الاجمالي ينحل إلى مقدار من التكليف معلوم بالعلم التفصيلي، و
مقدار آخر مشكوك بالشك الابتدائي، ولا يضر في ذلك ان التكليف حين ما علم توجهه كان متوجها في أحد الاحتمالين بفعل مستمر لما
أشرنا إليه ان مجرد تعلقه بفعل مستمر لا يوجب الاتيان بالفعل مستمرا ما لم يكن التكليف بنفسه مستمرا. واستصحاب كلي التكليف لا
يثبت تعلق التكليف بذلك الطرف المستمر تكليفه، وما لم يثبت لا يكون له أثر.
نعم، الاستصحاب يجري إذا تردد تكليف متعلق واحد بين دائم ومنقطع، هذا إذا اضطر إلى واحد معين من الطرفين بعد العلم الاجمالي،
اما إذا اضطر إلى واحد غير معين، ففيما ذكرناه من التفصيل: لا فرق في ذلك بين السابق منه على العلم الاجمالي وبين اللاحق. و
المصنف أيضا لم يرجع في البحث بالنسبة إلى هذه الصورة عن ما اختاره هنا. وقد صرح بذلك في حاشية منه ألحقها بالكتاب، فراجع.
ثم لا فرق في ما ذكرنا بين أن يرتفع التكليف من أحد الجانبين بالاضطرار أو بسائر الأمور الأخر، مثل الخروج عن محل الابتلاء أو فقد
الطرف ولو بشرب أحد الانأين المعلوم خمرية أحدهما. وحينئذ فيشرب الجانب الآخر أيضا، ولا ضير في الالتزام به. فيقال: يجب
الاجتناب من الأطراف ما دام العلم الاجمالي باقيا، فإذا زال، ولو بارتكاب بعض الأطراف، جاز ارتكاب البعض الاخر أيضا، ولا وجه
للاستبعاد.
127

قوله: فإنه يقال: حيث إن فقد المكلف به ليس:
محصل ما أفاده في بيان الفرق، هو: ان دوران التكليف مدار متعلقه وجودا وعدما ليس من قصر التكليف وتقييده بالمتعلق، بل التكليف
باق على إطلاقه، وانما التكليف بحسب الهوية يدور مدار المتعلق ولا يكون، ويتعلق بلا متعلق، فلا يكون المتعلق إلا محققا لحقيقة
التكليف ومقوما لذاته لا محددا مخصصا لوجوده. وهذا بخلاف الاختيار المقابل للاضطرار، فإنه من قواسر التكليف ومقيداته الثابت
بدليل رفع الاضطرار. وعلى ذلك فيكون العلم بالتكليف المردد بين طرفين يخرج أحدهما عن محل الابتلاء بعد زمان، علما بتكليف
مطلق غير مقيد بقيد بخلاف العلم بالتكليف المردد بين طرفين، يضطر إلى أحدهما بعد حين، فإنه علم بتكليف لم يثبت إطلاقه، فلا
يكون المعلوم أزيد من التكليف إلى زمان الاضطرار، وأثر هذا الفرق انه في الصورة الأولى حيث علم بتوجه تكليف مطلق، وجب
الخروج عن عهدته يقينا، لان الشغل اليقيني يستدعي ذلك، وذلك لا يكون إلا بالاجتناب عن كلا الطرفين ما دام الابتلاء بهما باقيا، و
عن الطرف المبتلى به عند خروج أحدهما عن محل الابتلاء. وفي الصورة الثانية حيث لم يعلم من ابتدأ الامر إلا بتكليف إلى حد طرو
الاضطرار على
أحدهما، فلا يجب عليه الاحتياط لا إلى هذا الحد، وبعد هذا الحد يرجع إلى البراءة.
ولا يخفى ما فيه، فإنه كلام صوري. فان كون الاضطرار من حدود التكليف دون فقد المتعلق لا يوجب الفرق بينهما في وجوب الاحتياط،
لان واقع التكليف في كلتا الصورتين منقطع غير دائم، ومجرد كون الانقطاع لفقد الموضوع أو لحصول الحد لا يؤثر في حكم العقل،
فإن كان شئ مؤثر فهو انقطاع التكليف المعلوم، يعني عدم العلم بدوامه، وهذا حاصل في الصورتين. فينبغي أن لا يجب الاحتياط
فيهما، وإلا فينبغي أن يجب الاحتياط فيهما، بلا وجه للتفرقة والتفصيل.
قوله: لأجل أن يصير داعيا للمكلف نحو تركه لو لم يكن له داعي آخر:
بل الغرض من النهي، بل من مطلق الطلب، هو احداث الداعي مطلقا، حتى فيما هناك داعي آخر، ومقتضاه قلب الداعي إلى داعي الطلب
فيما كان هناك داعي آخر،
128

ولولا ذلك بأن كان الغرض من الطلب احداث الداعي لو لم يكن للمكلف داعي آخر، لزم أن لا يكون طلب لو كان للمكلف داعي آخر، أو
يكون الطلب لغوا، وكلاهما باطل. لا يقال في المولى غير العالم بالعواقب يمكن القول بأن طلبه من باب الاحتياط، ولأجل احتمال أن لا
يكون للعبد داعي نفساني، فيكون هذا داعيا له، فلا يكون طلبه لغوا، ويكون الطلب عاما للجميع، فإنه يقال: لازم ما ذكر أن لا يكون
طلب وتكليف واقعا عند وجود داعي آخر، لان معنى الاحتياط هو ان تكليفه واقعا للاشخاص الذين لا داعي لهم، وحيث لا يعرف ذي
الداعي عن غير ذي الداعي، وجه التكليف إلى الجميع، لاحتمال أن يكون الجميع من غير ذي الداعي، وإلا فلا تكليف بحسب الواقع
بالنسبة إلى ذي الداعي.
ثم إن ما ذكره المصنف (ره) من: ان الغرض من النهي أن يكون داعيا حيث لا داعي لا ينتج ما أراد استنتاجه منه، وهو عدم صحة التكليف
فيما لا ابتلا به عادة، بل هذه نتيجة ما ذكرناه من كون الغرض هو أن يكون النهي داعيا فعليا، فلو رفع اليد عن الدعوة الفعلية أمكن أن
يقال: إن النهي فيما لا ابتلا به لغرض أن يكون داعيا حيث يبتلى به، ويكون عدم الابتلاء من قبيل وجود الداعي إلى الترك الغير المانع
من توجه النهي فعلا.
قوله: كان الابتلاء بجميع الأطراف مما لا بد منه في تأثير العلم:
هذا الكلام عندي على إطلاقه غير مستقيم، ولنشر إلى ضابط العلم المؤثر في التنجيز، ثم نعقبه ببيان ضعف ما أطلقوه في المقام، فنقول:
كل علم تعلق بإرادة المولى إرادة يجب تنفيذها عقلا، فهو منجز لتلك الإرادة، والإرادة الواجب تنفيذها هي الإرادة الموجبة لبعث المولى
وتحريكه نحو الفعل دون الإرادة الساذجة التي هي مادة الإرادة، وإلا فعنوان كونها إرادة، يتحقق بفعلية البعث والتحريك من قبل
المولى، وفعلية البعث والتحريك انما يكون مع اجتماع شرائط التكليف، ومن جملتها القدرة، فغير المقدور الذي من افراده ما خرج عن
ابتلا المكلف رأسا وكان تركه ضروريا له بحسب العادة لا يتعلق به التكليف، وعلى ذلك فلو علم إجمالا بتعلق إرادة المولى بين
129

أطراف، خرج بعضها عن ابتلا المكلف، لم يكن العلم المذكور مؤثرا في التنجيز، وحكم العقل بالاحتياط بين تلك الأطراف لاحتمال
كون متعلقها ذلك الخارج عن محل الابتلاء، الذي على تقديره لا إرادة يجب تنفيذها، فلا يكون علم إجمالي بإرادة واجب التنفيذ عقلا.
لا يقال: الإرادة لا تتعلق بغير المقدور والخارج عن ابتلا المكلف، فكيف يعقل علم إجمالي بإرادة بين أطراف بعضها كذلك، فإنه يقال:
القدرة وغيرها من شرائط التكليف ليست شرائط لمادة الإرادة، التي هي العلم بالصلاح أو الشوق المؤكد على الخلاف في معنى الإرادة،
بل شرائط للبعث على طبق تلك الإرادة، فان البعث مع فقد تلك الشرائط يكون لغوا، وحيث إن التكليف هو عنوان هذه المرتبة، لعدم
وقوع العبد قبل تأثير الإرادة في البعث من قبل المولى في كلفة إلزام العقل بالانبعاث على طبق الإرادة، لهذا عد هذه الشرائط شرائط
للتكليف، فصح تعلق العلم الاجمالي بالإرادة بين أطراف بعضها، خارج عن محل الابتلاء.
لكن العلم الاجمالي المذكور لا يكون علما مؤثرا في التنجيز، لعدم تعلقه بالتكليف، لقيام احتمال أن يكون متعلق الإرادة ذلك الطرف
الذي على تقديره لا تكليف ولا بعث. إذا ظهر ذلك نقول:
إذا كانت الإرادة بالنسبة إلى الخارج عن محل الابتلاء فعلا، مما لا مانع عن قيامها بنفس المولى، وانما كان المانع عن البعث الفعلي،
فليرفع اليد عن مقتضى إطلاقات دليل التكليف بمقدار المانع، وهو البعث الفعلي، واما البعث على وجه التعليق بالابتلاء فلا مانع منه،
فيؤخذ بالاطلاقات ويحكم بالبعث على وجه التعليق فيما إذا كانت الواقعة مما يبتلى بها بعد حين.
وعليه، فالعلم الاجمالي بين طرفين داخل في محل الابتلاء وخارج عنه فعلا، مع الابتلاء به بعد حين يكون منجزا للتكليف، ووجب
اجتناب هذا فعلا، وذلك بعد الابتلاء، للعلم بالتكليف الفعلي المتوجه اما إلى هذا فعلا أو إلى ذلك وبعد حين، بمعنى ان التكليف فعلي
على كل حال، والمتعلق اما الترك الحالي أو
130

الاستقبالي، وقد التزم المصنف (ره) بالاحتياط في العلم الاجمالي، بالتكليف بين أطراف تدريجي الحصول، إذا كان التكليف فعليا على
كل حال، وإن كان المتعلق استقباليا على تقدير، فان بعد الزمان كبعد المكان في اقتضاء الخروج عن محل الابتلاء.
نعم، في صورة لا يتفق ابتلا المكلف بالطرف أصلا، صح ما ذكروه، فصار المحصل في العلم الاجمالي بين أطراف لا يبتلى ببعضها، هو
التفصيل بين ما لا يبتلى به أصلا، فلا يحتاط، أو يبتلى به بعد حين، فيحتاط، وكذلك العلم بين أطراف بعضها غير مقدور، فيفصل بين
غير المقدور رأسا وبين غير المقدور فعلا مع القدرة بعد حين.
قوله: ولو شك في ذلك كان المرجع هو البراءة:
لكن البراءة العقلية لا البراءة الشرعية، فان دليل البراءة الشرعية ترفع حكما يسوغ وضعه، كما أنه مع سبق إحدى الحالتين، من الخروج
عن محل الابتلاء أو الدخول، لا يرجع إلى الاستصحاب، لعدم أثر شرعي مترتب عليه، فان ترتب التكليف على عنوان الداخل في محل
الابتلاء ليس ترتبا شرعيا، بل ترتب عقلي، لان الشرط شرط اعتبره العقل دون الشرع، واما استصحاب التكليف فإنه أيضا غير جار،
لان التكليف حتى الظاهري الاستصحابي منه مشروط بشرائط التكليف، فكيف يتمسك به عند الشك في تحقق شرطه فالرجوع إلى أدلة
البراءة النقلية وأدلة الاستصحاب باطل بعين ملاك بطلان الرجوع إلى إطلاق أدلة التكاليف الواقعية، فان تلك الأدلة مقيدة طرا بشرائط
التكاليف العقلية، فإذا شك في تحقق تلك الشرائط، كيف يسوغ التمسك بإطلاقها المقيدة؟ نعم، في موارد الشك في الدخول في محل
الابتلاء لا يحكم العقل بوجوب الاحتياط، كما لا يحكم في موارد القطع بالخروج، لعدم تحقق موضوع حكمه، وهو العلم بتوجه تكليف
فعلي على كل تقدير.
قوله: نعم، ربما يكون كثرة الأطراف في مورد موجبة لعسر:
ينبغي التكلم هنا في
131

مقامات ثلاثة: الأول: ان تعسر الاحتياط أو ضروريته، هل يوجب سقوط التكليف المردد بين الأطراف عن فعليته أو لا؟ الثاني: انه لو
أوجب، فهل يوجب السقوط المطلق وفي جميع الأطراف، حتى يجوز المخالفة القطعية، أو يوجب السقوط في الجملة وبمقدار يرتفع
العسر والضرر؟ الثالث: في جواز التمسك بإطلاق الخطاب عند الشك في حصول العسر أو الضرر وعدمه.
فنقول: اما الكلام في المقام الأول: فقد وقع الخلاف بين الأستاذ العلامة وشيخه المرتضى في تعيين مفاد دليل نفي الحرج والضرر،
فاختار الأستاذ: ان مفادهما نفي كل حكم كان متعلقه حرجيا أو ضرريا، واختار شيخه: ان مفادهما نفي كل حكم يلزم منه الحرج أو
الضرر وإن لم يكونا في متعلقه. والثمرة بين القولين تظهر في مثل المقام.
فعلى الأول: لا يسقط التكليف المشتبه اللازم من الاحتياط في أطرافه أحد المحذورين عن الفعلية، بل كان باقيا على فعليته، ووجب
الاحتياط في أطراف الاشتباه، ما لم يلزم محذور عقلي من الاحتياط. فحينئذ يسقط.
وعلى الثاني: يسقط عن الفعلية، إذ لولا أن الحكم فعلي في متعلقه لم يلزم الاحتياط الموجب لاحد المحذورين، فالمحذور ناش من الحكم
وإن لم يكن في متعلقه، ولا يبعد دعوى ظهور دليل النفيين في ما اختاره الأستاذ. وان ظاهر نفي الحرج والضرر في الدين نفي
التكليف بأمر حرجي أو ضرري لا نفي ما يلزم منه أحد الامرين، وإن لم يكن ذلك في متعلقه، كما في المقام، ودعوى المناط العام
الشامل للمقامين غير ثابتة.
ومما ذكرنا ظهر: ان كلامه الأستاذ في المقام جار على غير مذاقه.
واما الكلام في المقام الثاني: فقد اختلف نظر الأستاذ العلامة (ره) وشيخه (قده) أيضا في ذلك، فاختار الأستاذ سقوط التكليف بعدم
وجوب الاحتياط التام في الأطراف، أو عدم التمكن منه، فلا يجب الاحتياط رأسا إلا أن
132

يقوم دليل خاص من إجماع ونحوه على التبعيض في الاحتياط، كما في مورد الانسداد، واختار شيخه سقوط الاحتياط بمقدار يندفع به
المحذور، فيجب الاحتياط بما لا يلزم معه المحذور، وإذا لزم المحذور رفع اليد عنه، والحاصل يسقط الموافقة القطعية دون الاحتمالية،
والحق في ذلك أيضا مع الأستاذ (ره)، فان التكليف إذا كان فعليا في متعلقه الواقعي افتضح القطع بالموافقة، وإذا لم يجب القطع
بالموافقة لم يكن التكليف فعليا في متعلقه، وليس التكليف بالاحتياط إلا تكليفا مقدميا لأجل إحراز الواقع لا تكليفا نفسيا حتى إذا تعذر
الاحتياط التام وجب الاحتياط الناقص.
والحاصل: تعذر الاحتياط عقلا أو شرعا يزاحم بقاء التكليف بالواقع، فيسقط الاحتياط رأسا، لا أنه يزاحم وجوب الاحتياط حتى يكون
مزاحمته بمقدار التعذر لا أزيد من ذلك.
واما الكلام في المقام الثالث: فالحق هو الرجوع في موارد الشك في ترتب محذور الحرج أو الضرر، على الاحتياط في الأطراف إلى
أصالة البراءة، ولا يجوز التمسك بإطلاق خطاب دليل التكليف، لان الاطلاق المذكور بعد أن صار محكوما بأدلة نفي الحرج والضرر
يسقط عن درجة الحجية بالنسبة إلى موارد الاشتباه في مصداق المخصص.
نعم، إذا بنينا على حجية العموم في الشبهة المصداقية جاز التمسك، لكن ذلك خلاف مختار المصنف، ومع ذلك فقد تمسك بها في المقام.
قوله: الرابع: انه انما يجب عقلا رعاية الاحتياط:
اعلم: ان مناط إلزام العقل بالاحتياط امران: الأول: العلم بالتكليف. الثاني: تردد متعلقه بين أمرين أو أمور، فيحكم العقل حينئذ بالاتيان
بمجموع الامرين أو الأمور بلا تجاوز عن أطراف التردد إلى غيره، وإن كان ذلك الغير متحد الحكم مع بعض الأطراف. وعليه، فإذا
علم إجمالا بوقوع قطرة واحدة من البول في هذا الاناء وقطرتين في إناءين آخرين، أو علم بوجوب صوم يوم من رجب أو يومين من
شعبان، كان الاحتياط
133

واجبا في مجموع الأطراف الثلاثة، واما إذا علم بوقوع قطرة بول في أحد إناءين ثم علم بملاقاة إناء ثالث لأحدهما، أو علم بأنه مديون
اما لزيد بدينار واحد أو لعمرو بدينارين، فإنه لا يجب الاحتياط إلا بالاجتناب عن إناءين، وإعطاء دينارين لشخصين، وإن كانت
صورة القضية هنا كصورتها في الفرض الأول، فإنه صادق أيضا انه يعلم إجمالا بنجاسة هذا الاناء أو ذينك الانأين، أعني الملاقى و
الملاقي.
والسر في ذلك انطباق ما ذكرناه من الضابط هنا على الطرفين خاصة، وفي انطباقه في الفرض الأول على أطراف ثلاثة.
توضيح ذلك يتم ببيان أمرين:
الأول: ان تكليفا واحدا لا يتخذ لنفسه إلا متعلقا واحدا بسيطا أو مركبا من عدة أمور.
الثاني: ان كلما علم إجمالا بتوجه تكليف واحد أو تكليفين، فالمعلوم لا يكون إلا التكليف الواحد، والزائد عليه يكون مشكوكا بالشك
البدوي.
وعليه: فالمعلوم في كل من صورتي العلم الاجمالي ليس إلا تكليف واحد والزائد عليه غير معلوم، ومع ذلك يجب الاحتياط في الأطراف
الثلاثة في صورة وفي الطرفين في أخرى، وذلك لتردد متعلق هذا الواحد المعلوم بين أطراف ثلاثة في صورة وبين طرفين في أخرى،
فان في مثال العلم بنجاسة هذا الاناء أو ذينك الانأين لا يتعين أحد ذينك الانأين، لان يكون طرفا للشبهة حتى يخرج الأخرى عن
الطرفية، بل هذا الواحد المعلوم مردد بين كل واحد من الثلاثة بنسبة واحدة، بخلافه في مثال العلم بنجاسة أحد إناءين ثم لاقي مع واحد
منهما ثالث، فان التكليف الواحد المعلوم يعلم أن متعلقه غير خارج عن الانأين، واما الاناء الاخر الملاقي لأحدهما، فإن كان بالنسبة إليه
تكليف، كان تكليف آخر وراء التكليف المعلوم بالاجمال، فلذا يخرج عن كونه عن أطراف العلم الاجمالي، ويدخل في الشبهة البدوية، ثم
لا فرق في ذلك بين أن يكون الملاقاة قبل العلم وبين أن يكون بعده، لاشتراكهما فيما ذكرناه من خروج الملاقي عن أطراف ما علم
134

بالاجمال.
نعم، إذا كان الملاقى - بالفتح - حين حدوث العلم خارجا عن قابلية توجه التكليف، اما بالخروج عن محل الابتلاء وغير ذلك، وجب
الاحتياط عن ملاقيه وذاك الطرف الآخر، بل وكذا لو خرج بعد حدوث العلم، لان العلم الاجمالي بتوجه خطاب (اجتنب) عن أحد أمرين
اما الملاقي - بالكسر - أو ذاك الطرف الآخر، حاصل فعلا، ثم لو فرض دخول ذلك الخارج إلى ما كان قد خرج عنه صار حاله حال
الملاقي - بالكسر - في الصورة السابقة، في عدم وجوب الاجتناب لعدم العلم بتوجه (اجتنب) آخر بدخوله في محل الابتلاء.
نعم، لو حصل التبادل بان خرج الملاقي - بالكسر - بعد دخول الملاقى - بالفتح - انتقل الاحتياط منه إليه لانتقال العلم الاجمالي منه إليه،
وهكذا الحال. فيكون المحصل وجوب الاحتياط بين طرفين أبدا، لكن أحد الطرفين لا يتغير، وهو صاحب الملاقى - بالفتح -، والتبادل
انما يكون من الملاقي والملاقى.
ولا يخفى ان ما ذكرناه يختص بما إذا لم يجر استصحاب النجاسة في الملاقى - بالفتح -، وإلا كان من أحكامه نجاسة ملاقيه، وأيضا
يختص بما إذا لم يحصل للطرف الآخر أيضا ملاق يمكن التكليف بالاجتناب عنه، وإلا وجب الاجتناب عن الفرعين كالاصلين، لحصول
علم إجمالي آخر بينهما.
قوله: فان حال الملاقي في هذه الصورة بعينها حال ما لاقاه:
لا يخفى ان الملاقي - بالكسر - يطلق اصطلاحا على الخارج عن أطراف العلم الاجمالي من المتلاقيين، كما يطلق الملاقى - بالفتح - على
الداخل منهما، وعلى ذلك لا يكون فرق بين هذا المثال وبين الصورة السابقة في عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر -، فان
العلم الاجمالي الثاني الحاصل بين الملاقي - بالكسر - وبين طرف الملاقى - بالفتح - لا أثر له بعد عدم العلم بتوجه خطاب جديد وراء
ما علم توجهه أولا بالعلم الاجمالي، فكما لا أثر للعلم الاجمالي بوقوع قطرة دم في الاناء النجس أو الاناء الطاهر كذلك لا أثر للعلم
الاجمالي بوقوع قطرة دم اما في الاناء النجس أو الاناء الطاهر
135

كذلك لا أثر للعلم الاجمالي بوقوع قطرة دم، اما في بعض أطراف العلم الاجمالي بالنجاسة أو في إناء آخر طاهر.
والحاصل: فرض العلم الاجمالي الثاني لغو، ولا يختلف حكم هذا المثال عن حكم الصورة السابقة التي لا علم إجمالي فيها، ولكن أصل
الصورة صحيح، وكفى مثالا له المثال الثاني المذكور في المتن.
قوله: وثالثة: يجب الاجتناب عنهما:
قد عرفت: انه لا فرق بين تقدم العلم الاجمالي على الملاقاة وبين تأخره، في عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر -، لعدم العلم
بخطاب وراء الخطاب المعلوم بالاجمال المتشخص بأحد متعلقين، اما الملاقى - بالفتح - أو طرفه، وليس من قبيل العلم الاجمالي
بنجاسة هذا الاناء أو ذينك الانأين، لان الخطاب الواحد المعلوم بينهما غير معلوم التشخص بإناءين منها ليخرج الاخر عن الطرفية، بل
مردد بين أن يكون متشخصا بإحدى أوان ثلاث، فيكون المعلوم بالاجمال مرددا بين أطراف ثلاثة، ويكون كما إذا علم بوقوع نجس
في إحدى الأواني الثلاث.
دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطيين
قوله: المقام الثاني: في دوران الامر بين الأقل والأكثر:
محل البحث فعلا دوران الامر بين الأقل والأكثر الخارجيين على أن يكون للزيادة وجود على حدة احتمل اعتبارها منضمة إلى الأقل و
الامر بالمجموع المركب، وهذا معنى كونهما ارتباطيين مقابل كونهما استقلاليين، وهو أن تكون الزيادة على تقدير التكليف بها
مستقلا بالتكليف، كما في دوران الامر في الفوائت بين مقدار أقل وآخر أكثر، وهكذا في الدين، واما دوران الامر بين المشروط
بشي وبين مطلقه، أو دورانه بين طبيعة وبين فرد من تلك الطبيعة، فيجئ البحث عنهما. ثم إن البحث يقع تارة في موضوع الأقل و
الأكثر، وان ما يعدونه من دوران الامر بين الأقل والأكثر، هل هو من دوران الامر بين الأقل والأكثر أو من دورانه بين المتباينين و
أخرى في حكمه،
136

حتى لو فرض كونه من دوران الامر بين المتباينين؟ اما الكلام في المقام الأول: فاعلم أن الأقل الذي هو طرف للعلم الاجمالي ليس هو
ذات الأقل وهو الجنس الموجود في ضمن كل من الأقل بحد القلة والأكثر، بل هو الأقل بحد القلة الذي يباينه الأكثر، فيكون دوران الامر
بين هذا الأقل والأكثر من دوران الامر بين المتباينين ولو باعتبار حديهما، وهو الأقل بشرط لا والأكثر، واما ذات الأقل اللا بشرط
الموجود في ضمن كل من الأقل بشرط قطعا لا والأكثر، فهو ليس متعلقا للتكليف باليقين، بل المتعلق محدود بأحد حدين لا محالة.
واما الكلام في المقام الثاني، وهو حكم دوران الامر بين هذا النحو من المتباينين واختصاصه بحكم من كلية دوران الامر بين
المتباينين وعدمه: فالحق ان هناك علمين إجماليين: علم إجمالي بالتكليف وآخر بالغرض، فاما العلم الاجمالي بالتكليف فهو منحل
بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل والشك البدوي في وجوب الزائد عليه، واما العلم الاجمالي بالغرض فهو باق على حاله، ولمكانه يجب
الاحتياط.
اما انحلال العلم الاجمالي الأول فبيانه: ان العقل يحكم حتما بالاحتياط في كل مورد يحتمل التكليف المنجز، يعني يحتمل تكليف لا يقبح
العقاب عليه، سوأ كان من أطراف العلم الاجمالي بالتكليف أو لم يكن، وفي مورد دوران الامر بين الأقل والأكثر احتمال التكليف في
جانب الأقل، احتمال التكليف منجز، واحتمال التكليف كان بيانه تاما من قبل المولى، فإنه كفى بيانا للتكليف، الاعلام بأن الأقل واجب،
واما بيان انه تمام الواجب فغير محتاج إليه، بل لو كان الأقل تمام الواجب في الواقع ولم يأت به المكلف مع هذا البيان لم يعد معذورا، و
كانت الحجة من جانب المولى تامة، ولم يكن للعبد أن يعتذر بأنه لم يكن يعلم أنه كان تمام الواجب.
والحاصل: العلم الاجمالي بتكليف مردد بين الأقل والأكثر يكون بيانا منجزا لحكم الأقل، لو كان هو الواجب واقعا، وهذا المقدار كاف
في إلزام العقل بإتيان
137

الأقل، واما الأكثر فيبقى بلا بيان، والمرجع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
نعم، لو كان التنجيز في جانب الأقل لأجل قيام العلم الاجمالي، اقتضى العلم الاجمالي المذكور، التنجيز في جانب الأكثر أيضا، لكن
عرفت: ان التنجيز في جانبه لقيام العلم التفصيلي بالوجوب وإن لم يعلم حد الواجب، ويمكن تقرير الانحلال بنحو آخر مبني على إمكان
تبعض حكم واحد في التنجيز وعدمه، فيتنجز بنسبة ما علم من أجزأ متعلقه ولا يتنجز بنسبة ما لم يعلم. فيقال: ان التكليف المردد بين
الأقل والأكثر منجز بالنسبة إلى الأقل، سوأ كان متعلقا به أو بالأكثر، لان وجوبه معلوم، فيكون تركه مستتبعا للعقاب، اما على ترك
نفسه أو على ترك الأكثر المستند إلى تركه، وإن كان ترك الأكثر لأجل ترك سائر الأجزاء غير معاقب عليه.
وهذا البيان يظهر من كلام شيخ مشايخنا المرتضى، وإن فهم الأستاذ العلامة من كلامه معنى آخر، أو هو: ان التكليف بالأقل منجز على
كل حال، اما بتنجز التكليف بالأكثر وفي ضمنه، إن كان التكليف بالأكثر، واما مستقلا، إن كان التكليف بالأقل. فأورد عليه كما في
المتن بأن إجراء البراءة مع ذلك عن الأكثر خلف، لان ذلك معنى عدم تنجزه إن كان متعلقا بالأكثر، وأيضا مستلزم للمحال، وهو
لزوم عدم تنجز التكليف بالأقل على كل حال من تنجزه على كل حال، وعدم انحلال التكليف من انحلاله، فان الاشكالين واردان لو
كان الامر كما فهمه، لكن التعمق في كلامه يعطي خلاف ما فهمه، وان مراده التبعض في التنجيز، فيبقى البحث معه في إمكان التبعض
المذكور. والحق استحالته. فان تكليفا واحدا شخصيا كيف يعقل اتصافه بصفة التنجز وعدمه باعتبار أبعاض متعلقه، بل إن تمت الحجة
والبيان كان منجزا في جميع متعلقه وإلا لم يكن منجزا في شئ من متعلقه.
واما عدم انحلال العلم الاجمالي الثاني، وهو العلم الاجمالي بالغرض فان الغرض يجب تحصيله عقلا كما يجب إطاعة الامر، بل لعل
وجوب إطاعة الامر أيضا بملاك تحصيل الغرض، حيث إن عنوان الإطاعة من جملة أغراض المولى،
138

فبيانه: ان الغرض المعلوم بالاجمال غرض واحد شخصي مردد بين أن يكون قائما بالأقل أو بالأكثر، ولازمه انه إذا أتي بالأقل لا يعلم
بحصول شئ من هذا الغرض وانما يعلم بحصوله إذا أتى بالأكثر.
نعم، إذا كان الأقل مشتملا على غرض ملزم على كل حال واحتمل غرض آخر قائم بالأكثر، لم يجب الاتيان بالأكثر، لانحلال العلم
الاجمالي بالغرض بالعلم التفصيلي به، وسيجئ عن قريب احتمال الانحلال بالنسبة إلى التكليف والغرض جميعا، بل عدم جواز التكلم
في مسألة الغرض في عرض مسألة التكليف، بل هو طولي بالنسبة إلى التكليف. وقد يقرر وجوب الاحتياط من باب وجوب العلم
بتحصيل الغرض بوجه آخر مذكور في المتن غير ما ذكرناه، وهو ان الامر بالشئ لا يسقط ما لم يحصل الغرض منه، فمتى شك في
حصول الغرض فقد شك في سقوط الامر، والعقل يحكم في مثله بالاحتياط حتى يقطع بسقوط الامر وسيجئ ما فيه.
ويمكن تقرير وجوب الاحتياط في خصوص ما إذا كان المردد بين الأقل والأكثر تكليفا عباديا بوجه آخر. وحاصله: ان الامر لا يدعو
إلا إلى تمام متعلقه، ودعوته إلى أبعاضه يكون تبعيا وفي ضمن دعوته إلى الكل، فالامر الواحد يحدث داعيا واحدا إلى مجموع ما تعلق
به، فإذا تردد الامر بين أن يكون متعلقا بالكل أو بالابعاض لم يعقل أن يدعو هذا الامر المردد إلى الابعاض لاحتمال تعلقه بالكل الذي لا
يدعو على تقديره إلى الابعاض استقلالا، فإذا أتى بالأقل فلا بد أن يكون إتيانه بداعي احتمال الامر لا الجزم به. ويبقى الاحتمال الاخر
غير ممتثل أصلا، فالمأتي به لا يكون متيقن الوجوب على كل حال ليكون الجز الزائد مشكوكا بالشك البدوي، بل يكون أحد طرفي
العلم الاجمالي بالوجوب، والطرف الآخر لم يؤت بشي منه، لكن يرده ان أصالة البراءة عن وجوب الأكثر يعين توجه التكليف إلى
الأقل، فيؤتى بداعي هذا الامر الظاهري بالأقل.
فتحصل في المقام وجوه ثلاثة لوجوب الاحتياط، ويختص الأوليان منها بغير مذهب الأشاعرة، ويعم الأخير جميع المذاهب مع
اختصاصه بالعبادات، واما
139

التمسك لايجاب الاحتياط باستصحاب كلي الوجوب، المردد بين تعلقه بالأقل وبين تعلقه بالأكثر، بعد ان يؤتى بالأقل فهو مبني على
القول بالأصل المثبت، وان استصحاب القسم الثاني من الكلي يثبت به كون الموجود هو الفرد الطويل العمر، فحينئذ يؤتى بالأكثر،
بعنوان الوجوب لا بعنوان الاحتياط، اما لو لم نقل بالأصل المثبت فالتكليف المردد الثابت بالأصل لا يزيد على المردد الثابت بالقطع،
الذي لم يوجب الاحتياط فيه. ثم إن أرد الأقوال في المسألة ما اختاره الأستاذ العلامة من التفصيل بحسب المدرك بين البراءة الشرعية و
العقلية، فتجري الأولى دون الثانية.
اما جريان الأولى فلعموم أدلتها، واما عدم جريان الثانية فللعلم الاجمالي وعدم الانحلال. وفيه: ان الانحلال ان لم يحصل لم تجر البراءة
النقلية أيضا، فان عموم الأدلة إن لم ننكر شموله لصورة العلم الاجمالي، فلا أقل من سقوطه عن الحجية بالمعارضة.
نعم، إذا كانت الجزئية قابلة للجعل الاستقلالي بنفسها لا بمنشأ انتزاعها جاز أن يقال: إن جزئية الجز المشكوك غير معلومة، فان العقل
يحكم في مثل ذلك بالاحتياط، خلافا للأستاذ ووفاقا لشيخه المرتضى (ره) وذلك لان الحجة والبيان قد تم من جانب المولى، وتعيين
المصداق ليس من وظيفته، فيجب القطع بإتيان المفهوم المبين المتعلق به التكليف، وعلى ذلك يبتنى جعل ثمرة النزاع في مسألة الصحيح
والأعم هو الرجوع إلى البراءة والاحتياط عند الشك في جزئية شئ وشرطيته، بناء على وضع الألفاظ على مذهب الصحيحي بإزاء
مفهوم مبين، كعنوان الناهي عن الفحشاء، وقد أنكر الأستاذ (ره) هذه الثمرة بناء على مذاقه من عموم البراءة للشبهة الحكمية و
الموضوعة، واما شيخه المعترف بالتفصيل فإنكاره للثمرة مبني على حسبان ان الشبهة تكون حكمية ولأجل إجمال من جهة النص ان
الألفاظ تكون موضوعة بإزاء ذوات الاجزاء لا عنوان النافي عن الفحشاء، وهو فاسد من جهة عدم جامع مركب بين الافراد الصحيحة،
يكون هو المسمى بلفظ الصلاة مثلا. فهي مرفوعة بحديث الرفع، لكنه بمعزل عن التحقيق، ولو صح جرت
140

العقلية أيضا. ثم انا لو قلنا بالبرأة في هذه المسألة، فإنما نقول بها في الشبهة الحكمية دون الشبهة الموضوعية لأجل اشتباه الأمور
الخارجية، مع كون متعلق التكليف مفهوما مبنيا، كما إذا أمر بصوم ما بين الهلالين بما هو هذا العنوان، أعني هذا العنوان بما هو هذا
العنوان، الذي مصداقه مجموع أيام الشهر لا أن يكون عنوانا مشيرا إلى آحاد الأيام على سبيل الاستغراق، أو مجموع الأيام على سبيل
الاجتماع، ثم شك في أن مصداق هذا العنوان هو ثلاثون يوما وتسعة عشرون يوما
قوله: على تنجز التكليف مطلقا:
قد عرفت عدم توقفه عليه، بل احتمال تكليف منجز كاف في حكم العقل بوجوب الأقل، كما في كل شك بدوي، كان التكليف على تقدير
ثبوته واقعا منجزا، كما في الدماء والفروج. وقد عرفت بيان تنجز التكليف بالأقل على تقدير تحققه، فيرجع في الزيادة إلى البراءة.
قوله: مع أنه يلزم من وجوده عدمه:
يعني من وجود الانحلال عدم الانحلال، ويمكن أن يقال: إنه يلزم من وجوب الأقل على حال عدم وجوبه على كل حال، فان وجوبه على
كل حال مستلزم لعدم وجوب الأكثر المستلزم لعدم وجوبه على كل حال، والواسطة هنا واحدة، وفي بيان المتن اثنتان.
قوله: نعم، انما ينحل إذا كان الأقل:
في هذه الصورة أيضا العلم الاجمالي بالتكليف لا ينحل وانما يجب الأقل على كل حال، تحصيلا لما فيه من الغرض، وذلك لوضوح ان
التكليف للتوجه إلى متعلق واحد واحد وان نشأ من ألف غرض، فإذا تردد التكليف بين أن يكون متعلقا بالأقل أو بالأكثر وكان على
تقدير تعلقه بالأكثر ناشئا من غرضين: غرض قائم بالأقل، وآخر بالأكثر، أو مرتبة منه قائما بالأقل وأخرى قائما بالأكثر، وجب
الاحتياط بمقتضى هذا العلم الاجمالي بإتيان الأكثر، وكون الأقل واجب الاتيان عقلا على كل حال تحصيلا لما فيه من الغرض، لا يوجب
رفع اليد عما يقتضيه العلم الاجمالي، بالتكليف من الاحتياط.
نعم، إذا كان الجز الزائد على تقدير وجوبه مستقلا بالتكليف انحل العلم الاجمالي بالتكليف، وكان من قبيل دوران الامر بين الأقل و
الأكثر الاستقلاليين،
141

الجاري فيه البراءة بلا إشكال.
قوله: هذا مع أن الغرض الداعي:
يمكن أن يقال: إن الغرض الباعث على الطلب الثابت في متعلق الطلب لا يزيد على الغرض المترتب على الطلب الثابت في موضوع
الإطاعة، كما يقوله من لا يرى الأوامر والنواهي ناشئا من المصالح والمفاسد في المتعلق، فكما ان الغرض الثاني لا يجب تحصيل القطع
بحصوله بإتيان ما يقطع بحصول الإطاعة معه، بل يقتصر على الاتيان بما هو مكلف به يقينا، كذلك الغرض الأول، وتكون الإطاعة
الواجبة بحكم العقل مقياسا للغرض اللازم تحصيله بحكم العقل، بحيث لا يزيد أحدهما على الاخر ولا ينقص، فكما ان العقل لا يلزم بإتيان
أزيد مما علم دخله في المأمور به من الاجزاء، إن كان هو تمام المأمور به أو لم يكن كذلك، لا يلزم برعاية الغرض المحتمل تحققه في هذا
الاجزاء المعلوم دخله في المأمور به، ولا يوجب تتبع ما وراء ذلك، وان احتمل كون الغرض فيه وكونه هو المأمور به. وبالجملة: أحد
احتمالي العلم الاجمالي تكليفا وغرضا يكون هو المنجز دون الاحتمال الاخر، ولو سلمنا وجوب تحصيل العلم بحصول الغرض في
سقوط الامر لم يكن فرق بين الغرضين، أعني الغرض الموجود في ذات الفعل الناشئ منه الامر، والغرض المترتب على عنوان الإطاعة. و
الحق: ان الغرض طولي بالنسبة إلى
التكليف، ولا يليق ان يتكلم فيه في عرض التكلم عن التكليف، فإذا فرضنا جريان البراءة عن الأكثر، وانه يثبت به تعلق الامر بالأقل،
ثبت به كون متعلق الغرض أيضا هو الأقل، وكان كما لو قام الدليل الاجتهادي على وجوب الأقل.
قوله: بل من ذهب إلى ما عليه غير المشهور:
غير المشهور، ومنهم المصنف (ره) هم المكتفون في التكليف من الامرين، أعني ثبوت المصلحة في الامر وثبوته في المأمور به، فان
ثبوته في المأمور به على هذا المذهب يكون محتملا، فلا يقطع بسقوط الامر بإتيان الأقل، لاحتمال أن يكون الغرض مترتبا على الأكثر.
وفيه: ان الغرض في الامر إذا لم يكن مما يجب القطع بحصوله في سقوط الامر على خلاف الغرض في المأمور به كانت النتيجة عند الشك
تابعة لأخس الاحتمالين، وهو كون الغرض في
142

الامر، فيكون العقل مستريحا من جهة الغرض ويبقى همه مصروفا في تحصيل الإطاعة فقط، والمفروض الاكتفاء في تحصيلها بالاتيان
بما يقطع بكونه مأمورا به، فيكون مذهب غير المشهور من العدلية في مسألة البراءة مطابقا لمذهب الأشاعرة.
قوله: كيف، ولا إشكال في إمكان الاحتياط هاهنا:
القائل بإمكان الاحتياط لا بد له أن يرفع اليد من اعتبار قصد الوجه مطلقا أو في خصوص مورد الحاجة إلى الاحتياط، وإلا فقصد الوجه
بمعنى الاتيان بالمأمور بداعي العلم بالامر إيجابا أو استحبابا، مما لا يعقل في الاتيان بالأكثر، وان تعقلناه في المتباينين. بتقريب: ان
العلم الاجمالي بالامر بأحد الفعلين يدعو إلى الاتيان بمجموع الفعلين، فان الأقل هاهنا معلوم الوجوب تفصيلا، فيعقل إتيانه بداع العلم
بالامر، والجز الزائد عليه مشكوك الوجوب فلا يعقل إتيانه إلا بداعي احتمال الامر. والمفروض انه غير كاف، ودعوى ان المأمور به
الواقعي الحاصل في ضمن الاتيان بالأكثر يأتي به بداعي العلم بالامر، فلا خلل في قصد الوجه.
نعم، قد اختل تميز المأمور به الواقعي عن غيره، فلا يعرف الأجزاء الواجبة عن غير الواجبة، ومعرفته أيضا غير معتبر.
مدفوعة: بأن الداعي انما يدعو إلى الأعمال الخارجية لا إلى عنوان المأمور به، والافعال الخارجية بين معلوم الوجوب، وهو الأقل،
فيمكن أن يصدر عن مبدأ العلم بالامر وبين غيره، فلا يمكن أن يصدر إلا عن مبدأ احتمال الامر، فلا محالة يكون قصد الوجه بالنسبة
إلى الجز المشكوك الوجوب مفقودا. ومن ذلك يظهر ان تردد الجز المشكوك بين كونه جزا للماهية المأمور بها، وبين كونه جزا
للفرد، وهي الأجزاء المستحبة، مما لا يجدي في تحقق هذا المعنى، وهو قصد الوجه بالنسبة إليه وإن كان محققا بالنسبة إلى غيره من
الاجزاء المعلوم الوجوب.
قوله: فلا وجه معه للزوم مراعاة الامر المعلوم:
لعل المراد من العبارة هو ان قصد الوجه كما لا يتيسر في إتيان الأكثر كذلك لا يتيسر في إتيان الأقل، لاشتراكه معه في عدم العلم بتعلق
الامر به، فكيف يؤتى به بداعي العلم بالامر واما العلم
143

بالامر الحاصل من تردد المأمور به بين الأقل والأكثر فيكون الأقل مأمورا به، على كل حال، فهو لا يجدي في البعث نحو إتيان المأمور
به، وذلك لما عرفت: ان الامر لا يدعو إلا إلى تمام ما تعلق به لا إلى بعض ما تعلق به، وكون الأقل هو تمام ما تعلق به غير معلوم حتى
يبعث الامر نحوه.
نعم، المعلوم هو انه مما تعلق به الامر بالأعم من كونه تمامه أو بعضه، وهذا لا يجدي في حصول الداعي. وحينئذ فإن كان قصد الوجه
دخيلا في حصول الغرض، لا جرم يسقط وجوب امتثال الامر بسبب عدم التمكن من الاتيان من تحصيل الغرض، وكان الاتيان بذات
الأقل كالاتيان بذات الأكثر لغوا، وإن لم يكن دخيلا وجب الاتيان بالأكثر لأجل تحصيل القطع بالغرض.
وعلى كل حال يكون الاتيان بالأقل باطلا، بل اما أن لا يجب شئ أو يجب الاتيان بالأكثر. هذا، ولكن مبنى كلام المجيب هو التمكن من
قصد الوجه في إتيان الأقل مع احتمال دخله في حصول الغرض، فيدور الامر بين مراعاة قصد الوجه وبين إتيان الأكثر حيث لا يمكن
الجمع بينهما وكل منهما روعي، ينتفي الاخر، ومن أجله لا يقطع بحصول الغرض، فلا جرم يكون القطع بحصول الغرض غير لازم
لتعذره، فيبقى إطاعة الامر واجبا، واللازم منها هو الاتيان بما يقطع بتعلق الامر به، فيرجع نزاع المصنف (ره) معه كبرويا، وإلى
إمكان الاتيان بالأقل الذي علم تعلق الامر به بقصد الوجه وعدمه.
قوله: واما النقل فالظاهر أن عموم:
قد تقدم بطلان التفصيل بين حكم العقل والنقل، فان مناط الشمول واللا شمول فيهما واحد، فان أدرج المقام تحت العلم الاجمالي الدائر
بين المتباينين لم يحكم العقل بالبرأة ولا يشمل الأدلة النقلية ولو لأجل تزاحم فردين من أفرادها، حسب ما قرر في دوران الامر بين
المتباينين، وإلا حكم العقل وشمل الدليل النقلي، وقد نبه على ذلك الأستاذ العلامة في مجلس البحث ورجع عما هنا.
قوله: وهذا كاف في صحة رفعها:
إن أراد صحة رفعها تبعا وبرفع منشأ
144

انتزاعها، وهو الامر بالأكثر، كما هو صريحه هنا، المطابق لمذهبه، من عدم كون الجزئية قابلة للجعل بالاستقلالي، فلا تكون قابلة
للرفع بالاستقلالي، وإن كان صريحه في مقامين من مبحث الاستصحاب خلافه، فالأصل المذكور يكون معارضا بأصالة البراءة من الامر
بالأقل، لان العلم الاجمالي حاصل بوجوب الأقل، اما ضمنا وفي ضمن الأكثر، أو استقلالا، وأصالة البراءة من وجوب الأكثر الذي هو في
قوة أصالة البراءة، من وجوب الأقل ضمنا، يكون معارضا بأصالة البراءة من وجوب الأقل استقلالا، وإن أراد صحة رفعها استقلالا فهو،
وإن كان يطابق كلامه في مبحث الاستصحاب، لكن يخالف مذاقه في الجزئية من عدم كونها قابلة للجعل الاستقلالي، فان ما لا يكون
قابلا للجعل الاستقلالي لا يكون قابلا للرفع الاستقلالي، بل يكون وضعه ورفعه بوضع منشأ انتزاعه ورفعه.
قوله: لا يكاد يتوهم هاهنا:
وذلك لان الانحلال المتوهم فيه كان منشؤه وجوب الاجزاء ضمنا على تقدير وجوب الأكثر، حتى صح أن يقال: إن الأقل واجب على كل
حال، اما استقلالا أو في ضمن الأكثر. وهذا كما ترى يختص بالاجزاء الخارجية، لان المتصف بالوجوب هو ما في الخارج، فإجزاء ما في
الخارج يتصف بالوجوب الضمني دون ما في العقل، لتتصف الاجزاء العقلية بالوجوب التبعي، ثم لو تم الانحلال هنا أيضا، فالذي يكون
واجبا ضمنا بوجوب الخاص هي الطبيعة اللا بشرط المقسمي، وهي الطبيعة المهملة دون الطبيعة المطلقة، فان التقييد يرد على هذه
الطبيعة فيكون المتيقن وجوبه هي هذه الطبيعة، وذلك لا يجدي في المطلوب، وهو جواز الاقتصار على سائر أفراد الطبيعة، فان سائر
الافراد مباينة للأكثر، أعني الخاص المعلوم وجوبه، لأنها مقيدة بقيود تخالفه لا انها داخلة فيه وجز منه، هذا، ولكن لو صح ما ذكر بطل
الانحلال في الأجزاء الخارجية أيضا، فإنه لولا لحاظ الاجتماع والتركب لم يكن عنوان الكلية والجزئية، وكانت أجزأ المركب أمورا
متباينة متشتتة، ومعلوم إذا جاء اللحاظ في البين صار التركب عقليا، إذ لا موطن للحاظ إلا العقل، فصار المركب من أجزأ الأقل مباينا
للمركب من
145

أجزأ الأكثر، لا ان يكون الأول داخلا في الثاني. نعم، ذات الاجزاء يكون داخلا ويكون التوصيف بالأقلية والأكثرية أيضا بهذا الاعتبار.
لكن عرفت: ان لا أمر بذات الاجزاء كذلك، وإلا تعدد الامر بتعدد الاجزاء، وخرج عن الأقل والأكثر الارتباطي إلى الأقل والأكثر
الاستقلالي.
قوله: نعم، لا بأس بجريان البراءة النقلية:
التخصيص بالنقلية من جهة ان مبناه في الشك في الجزئية أيضا ذلك، والظاهر أن منشأ التفصيل بين مسألة الشك في الشرطية ومسألة
دوران الامر بين وجوب المطلق ووجوب الخاص، هو: ان للشرط والمشروط وجودان في الخارج، اعتبر أحدهما مقيدا بالآخر، فالتعدد
حقيقي والوحدة اعتبارية، فصح أن يقال: إن المتيقن وجوب الاتيان بأحد الوجودين، وهو المشروط، ووجوب الاخر مشكوك، يرفع
بالأصل، وهذا بخلاف الخصوصية في الخاص، فإنه موجود بعين وجود الكلي الحاصل في ضمن تلك الخصوصية، فالوحدة حقيقته و
التعدد اعتباري، فلا يصح أن يقال: إن هذا الوجود الواحد باعتبار انه وجود للكلي واجب، وباعتبار انه وجود للخصوصية مشكوك
وجوبه يرجع فيه إلى البراءة، ولولا ذلك لم يكن فرق بين المسألتين، فان دوران الامر بين المشروط بشي وبين المطلق عن ذلك
الشرط أيضا وجود خاص، غاية الأمر خصوصيته اعتبارية لا حقيقية، فيكون وجوده من غير ذلك الشرط مباينا لوجوده مع ذلك الشرط
لا جزا منه، واما الحاجة في المشروط إلى ضم شئ زائد على الذات في الخارج بخلافه في مسألة الخاص، فهذا لا يجدي في ما هو
المطلوب، لان هذا الزائد
غير دخيل في المأمور به على الذات في الخارج، بخلافه في مسألة الخاص، فهذا لا يجدي في ما هو المطلوب، لان هذا الزائد غير دخيل في
المأمور به، وانما يؤتى به مقدمة لتحصيل الخصوصية المعتبرة إذا لم تكن حاصلة، ومثل هذا الاحتياج موجود في الوجود الخاص أيضا،
فإذا أمر بعتق مؤمنة ولم يتمكن منها وجب السعي إلى إهداء الكافرة إلى الايمان أولا، ثم عتقها.
قوله: الثاني: أنه لا يخفى ان الأصل فيما إذا شك في جزئية شئ:
اعلم أن الجزئية
146

بالنسبة إلى حال النسيان ليس بمعنى الجزئية للمأمور به الفعلي للقطع بعدم الامر فعلا بالمركب من الجز المنسي وغيره، بل بمعنى
دخل الجز المنسي في متعلق الغرض، وعليه فلا معنى لاجراء البراءة عن الجزئية، فان البراءة شأنها رفع التكليف الفعلي، وعدم
التكليف الفعلي بالمركب قطعي، والشك انما هو في التكليف الفعلي بما عدى الجز المنسي، والأصل البراءة عن هذا التكليف الفعلي،
الذي هو لازم الجزئية، بمعنى الدخل في متعلق الغرض. هذا، مع أن البراءة شأنها التخفيف والتسهيل، وإجرائها هاهنا في الجز المنسي
تثمر التشديد، ان أثبت وجوب الباقي، ويكون لغوا ان لم يثبت، إلا أن يقال: العلم حاصل بتوجه التكليف فعلا اما إلى الناقص وفي هذا
الحال، أو إلى التام بعد رفع النسيان، ومقتضى ذلك هو الاحتياط بإتيان الناقص فعلا والتام بعد رفع النسيان هذا إذا كان ارتفاع
النسيان بعد خروج الوقت، اما إذا كان في الوقت فالعلم حاصل بتوجه التكليف، اما إلى الكلي المنطبق على كل من الناقص في هذا الحال
أو التام بعد رفع النسيان، أو توجهه إلى خصوص التام بعد رفع النسيان، فيكون من الدوران حين التخيير والتعيين، فيبتني على الأصل
في تلك المسألة.
اما مع عدم هذا العلم فالبرأة تجري عن الناقص في هذا الحال، وعن التام بعد رفع النسيان، كما في كل علم إجمالي بين أطراف
تدريجي الحصول، هذا إذا لم يكن إطلاق يقتضي وجوب التام بعد رفع النسيان، وإلا وجب تمسكا بخطاب:
أقيموا الصلاة في الوقت، وبدليل: اقض ما فات في خارج الوقت. هذا كله بعد معقولية تكليف الناسي بما عدى الجزئي المنسي، وإلا كان
عدم التكليف بالنسبة إلى كل من الناقص والتام قطعيا.
والظاهر: ان المعقولية مما لا ينبغي الريب فيه، وإن كان الخطاب بعنوان الناسي غير معقول، فان التكليف الذي هو الإرادة النفسانية لا
يتوقف معقوليته على جواز الخطاب على طبقه، ولا مانع من إرادة الباقي من الناسي، واما بعثه فلا حاجة إليه، لان الناسي بنفسه ينبعث
بتوهم دخوله تحت الخطابات المتوجهة
147

إلى العمل التام، بتوهم ان عمله تام، والحاجة إلى البعث انما هو لأجل التحريك نحو المراد، فإذا كان سبب التحريك موجودا لم تكن
حاجة بعد إلى البعث. هذا كله مع قطع النظر عن حديث (لا تعاد)، وإلا فالامر واضح.
قوله: لا يذهب عليك انه كما يمكن رفع الجزئية:
توجيه خطاب الرفع إلى الناسي حال نسيانه بمثل حديث الرفع أيضا غير معقول الغفلة عن نسيانه، فلا يختص الغير المعقولية بالخطاب
بالدليل الاجتهادي، واما بعد رفع النسيان فكل من الخطابين معقول بلا إشكال، ولذا وقع التمسك بحديث (لا تعاد) منضما إلى حديث
الرفع.
قوله: بعنوان آخر عام أو خاص:
المراد من العموم هو العموم لكل ناس، كما إذا فرض ان غلبة البلغم يلازم النسيان، فوجه الخطاب بعنوان بلغمي المزاج، واما الخطاب
الخاص فهو أن يوجه الخطاب إلى كل واحد من الافراد الناسين بشخصه، ولكن ليس لنا في الشريعة خطاب شخصي. وقد عرفت انه لا
حاجة إلى هذه التكليفات، بل إرادة الباقي منه، ثم تنبيهه على ذلك بعد النسيان، بمكان من الامكان، من غير حاجة إلى بعثه في حال
النسيان، لحصول الغرض من البعث بنفس الخطابات الواقعية.
قوله: الثالث: انه ظهر مما مر حال زيادة الجز إذا شك في اعتبار عدمها:
اعلم:
انه لا فرق فيما ذكر في مسألة الأقل والأكثر، بين أن يكون الزائد الذي شك في دخله أمرا وجوديا أو عدميا، فعلى القول بالبرأة في
تلك المسألة جاز ترك ذلك الامر العدمي، الذي شك في دخله بإتيانه عمدا، فضلا عن الجهل والنسيان.
نعم، هناك إشكال آخر أجنبي عن إشكال مسألة الأقل والأكثر، ويعم هذا الاشكال لصورة ترك ما يشك في دخل وجوده، بل يعم هذا
الاشكال ترك ما يقطع بعدم دخله، وجوديا كان أو عدميا.
وحاصل الاشكال هو: انه لو كان العمل عباديا وقصد الشخص قصد التقرب والامتثال بمجموع الزائد والمزيد عليه، اما عمدا تشريعا
أو سهوا أو جهلا، وباعتقاد الامر، فهل تقع عبادته صحيحة لقصده الامتثال بها، وقصده للزيادة
148

لا يضر، بل يبطل الزائد بنفسه ويصح هذا، أو تقع باطلة، لان ما قصد التقرب به، وهو المجموع المركب غير قربي، وما هو قربي، وهو
خصوص المزيد عليه، لم يقصد الامتثال والتقرب به.
الحق في خبر الزيادة السهوية، أعني الزيادة العمدية، اما تشريعا أو جهلا، قصوريا أو تقصيريا، هو الثاني. لان الداعي إلى الجز في
المركبات هو الداعي إلى المجموع، والمفروض ان الداعي إلى المجموع في المورد لم ينشأ من أمر واقعي، بل من أمر اعتقادي أو بنائي،
والأمل الواقعي المتعلق بالجز لم يكن داعيا فعلا، وإن كان في صورة الجهل، لو التفت إلى أن الامر متعلق بالجز لدعاه إلى إتيان
الجز، لكن فعلا ليس داعيه إلى إتيانه ذلك.
نعم، إذا كان في مورد الجهل القصوري أمر ظاهري بالمجموع، كما إذا أدى اجتهاده إلى وجوب المجموع فأتي به، ثم ظهر خطؤه، فإنه لا
يبعد الحكم بالصحة والاجزاء لأنه قصد امتثال الامر الظاهري، وهو وإن لم نقل باقتضائه للاجزاء، لكن هاهنا يجزي لأنه طابق الواقع
بالنسبة إلى البعض المأتي، ولا دليل على اعتبار قصد التقرب بالامر الواقعي استقلالا، بل كفى التقرب به ضمنا.
قوله: مع عدم اعتباره في جزئه:
يعني لم يقطع باعتبار عدمها في جز الواجب، إذ لو قطع كان بذلك إتيانه نقصا لذلك الجز، وفيه: ان الزيادة ان قطع بعدم دخل
عدمها في المركب ولا في جزئه، فلا إشكال انها بما هي زيادة غير مضر إلا أن يؤل الامر إلى النقيصة أيضا، من جهة عدم التقرب
بالعمل العبادي، وهو خصوص المزيد عليه، وإلا كان م آلها اما إلى النقيصة، ان قطع بدخل عدمها في المركب أو في جزئه، أو إلى الشك
في النقيصة، ان شك في كل من الامرين. وعلى كل حال لا يكون للبحث عن الزيادة بما هي زيادة محل، بعد البحث عن النقيصة.
قوله: وذلك لاندراجه:
تعليل لقوله ظهر.
قوله: واما لو أتي به على نحو يدعو إليه على أي حال:
دعوته إليه على أي حال لا يجدي في وقوع العمل فعلا صحيحا، لان المعيار في وقوع العمل صحيحا، صدوره
149

فعلا لأجل التقرب بالامر الواقعي، والمفروض في المقام صدوره فعلا لأجل التقرب بالامر التشريعي، وإن كان لولا دخل الزيادة
تشريعا لكان آتيا أيضا بالعمل، لكن ذلك داعي آخر حادث على تقدير عدم التشريع بالزيادة، واما داعيه فعلا حال التشريع، فداعي
تشريعي لا واقعي، لكي يحكم بالصحة.
نعم، إذا كان داعيه فعلا هو الامر الواقعي وشرع في ادعائه تعلق ذلك الامر بالكل، وهو في الواقع متعلق بالبعض، لم يبعد الحكم
بالصحة. ومقصود المصنف أيضا هو هذه الصورة، كما يظهر من تعليله.
قوله: باستصحاب الصحة:
استصحاب الصحة على تقدير سلامته من الاشكال يختص بما إذا لم يقصد الاتيان بالزيادة من أول الأمر، وأيضا لم تكن الزيادة واقعة
في ابتدأ العمل، وإلا جاء احتمال عدم الانعقاد من أول الأمر، ولم يكن متيقن سابق ليستصحب.
قوله: لاستقلال العقل بالبرأة عن الباقي:
إلا أن يعلم إجمالا بتوجه الخطاب بأحد فعلين، اما الناقص في هذا الحال أو التام بعد رفع الاضطرار، فإنه يجب عليه الاحتياط بالجمع بين
أطراف العلم الاجمالي، وقد تقدم ما ينفع في المقام في مسألة نسيان الجز، فان الكلام في المسألتين واحد، وان اختلف كلام المصنف
(ره) فيهما، لكن الحق ما ذكره هنا.
قوله: فإنه يقال: إنه لا مجال هاهنا لمثله بداهة:
مضافا إلى ما عرفت في مسألة نسيان الجز: ان حديث الرفع انما يرفع التكليف، وعدم التكليف هاهنا قطعي، وأيضا لا يثبت تعلق
التكليف بالباقي، ولا يقاس المقام على الموارد التي ثبت فيها أصل التكليف، كما في الشك في أصل الجزئية.
قوله: في بعض الصور:
وهي صورة طرو العجز بعد دخول الوقت وتوجه التكليف إلى الكل.
قوله: ولكنه لا يكاد يصح الأبناء على صحة:
فيقال: ما عدى الجز المتعذر من الاجزاء كان متصفا بجنس الوجوب الشامل للأصلي والتبعي، والآن أيضا
150

على اتصافه، وإن كان الفرد المتيقن من هذا الاتصاف هو الاتصاف بالوجوب التبعي، والفرد المشكوك منه هو الاتصاف بالوجوب
الاستقلالي.
قوله: أو على المسامحة في تعيين الموضوع:
غرضه استصحاب اتصاف الباقي بالوجوب الأصلي، حيث يكون المتعذر جزا يسيرا لا يضر فقده بتوصيف البقية عرفا بالوجوب
الأصلي، كما في توصيف الماء بالكرية بعد أخذ مقدار يسير منه، لكن يتجه عليه انهم لا يعتبرون المسامحات العرفية في القيود المعلوم
دخلها، كما في المقام.
وانما يعتبرونها في القيود المشكوك دخلها، وإن كان وجه التفصيل غير معلوم لنا.
قوله: لا بيانية ولا بمعنى الباء:
لا يحتمل البيانية في الرواية، إذ لا تفيد إيضاحا، لم يكن حاصلا من قبل، وشأن من البياني ذلك. نعم، كونه بمعنى الباء خلاف الظاهر.
قوله: إلا أن كونه بحسب الاجزاء غير واضح:
التبعيض لا يكون إلا بحسب الاجزاء إذ الفرد ليس بعضا من الكلي، بل في الخارج هو هو، وعلى تقدير التسليم يشمل النبوي الجز و
الفرد جميعا، وليسا هما مانعة الجمع، حتى إذا شمل الفرد لا يشمل الجز، كما يظهر من المصنف. ومنه يظهر: ان غاية ما يقتضيه مورد
النبوي شموله للفرد لا عدم شموله للجز، فبمقتضى الاطلاق يحكم بإرادة الامرين جميعا.
نعم، لو كان ظاهر في الجز وبقرينة المورد رفع اليد عن هذا الظهور، دار الامر بين حمله على الفرد وعلى الكلي الجامع بين الفرد و
الجز المعبر عنه بعموم المجاز، لم يكن أحد المجازين أولى من الاخر، فيحصل الاجمال، وكان المتيقن دخول الفرد في الحكم، اما
استقلالا أو في ضمن الكلي الشامل له وللجزء.
قوله: لاحتمال إرادة عدم سقوط الميسور من افراد العام:
لا يخفى ظهور عدم السقوط في الثبوت العيني، وليس الثبوت في افراد العام عينيا، فلا بد أن يراد من عدم السقوط عدم سقوط الجز
الميسور من المركب بتعسر الجز المعسور منه، أو يراد عدم سقوط واجب بتعسر واجب مستقل آخر لكن الثاني باطل، فيتعين الأول،
إذ ليس مما يتوهم فيه السقوط ليحتاج إلى البيان، مع أن إرادته لا تنافي إرادة الأول أيضا.
151

قوله: مضافا إلى عدم دلالته على عدم السقوط لزوما:
ان ظهور هذه الرواية وكذلك الرواية الآتية في أن حكم الميسور لا يتغير بتعسر المعسور، فهو باق على حكمه، كائنا ما كان، مما لا يقبل
الانكار. فلا مجال لهذا الكلام أصلا. ثم على تقدير التسليم لا ريب في تقديم ظهور الفعل، وهو قوله: لا يسقط في الوجوب على ظهور
متعلقه في العموم والشمول للواجب والمستحب، كما قيل في مثل لا تضرب أحدا، مع أن ظهور الفعل في المقام بالوضع وظهور متعلقه
بالاطلاق، فتختص الرواية حينئذ بالواجبات. ومما ذكرنا، ظهر ما في كلام المصنف في الرواية الثالثة.
قوله: لصدقه حقيقة عليه:
صدقه عليه مطلقا، ممنوع. نعم، لا يبعد الصدق فيما إذا كان للشرط وجود مستقل اعتبر المشروط مقيدا به، فشابه الجز في ذلك، كما في
الطهارة والستر، اما في مثل الرقبة المؤمنة، فالرقبة الكافرة مع تعذر المؤمنة، تعد مباينة لها لا ميسورة منها، وكذلك الفاسق للعادل و
العامي للمجتهد.
قوله: فيما إذا لم يصدق عليه الميسور عرفا:
ان صدق الميسور من المركب عرفا لا يختص بمعظم الاجزاء منه، بل يصدق، وهو كان الميسور جزا واحدا، وإلا لم يصدق المعسور منه
أيضا إلا بتعسر معظم اجزائه، فيحصل التدافع بين الفقرتين.
ثم لو سلمنا اختصاص هذه الرواية بمعظم الاجزاء فكفى للعموم الرواية الأخرى، وهي رواية (ما لا يدرك كله لا يترك كله).
خاتمة: في شرائط الأصول
قوله: اما الاحتياط فلا يعتبر في حسنه شئ:
ليس الاحتياط الذي لا يعتبر في حسنه شئ، من الأصول العملية الأربعة، التي يتكلم الان في شرائطها، فان ما هو معدود من الأصول
الأربعة هو الاحتياط الواجب، المختص بمورد العلم الاجمالي والاحتياط الحسن، احتياط يعم مورد العلم الاجمالي والشك البدوي، بل و
على
152

ما تقدم من المصنف مورد قيام الامارة. وعلى ما ذكرناه فالاحتياط الواجب أيضا يكون مشروطا بشرائط سائر الأصول، إلا أن يقال: إن
الاحتياط يجب بمجرد حصول العلم الاجمالي، وجواز الفحص لرفع العلم الاجمالي لا يمنع من الوجوب في موضوع العلم الاجمالي.
ثم اعلم: ان الأصول العقلية موضوعها هو عدم الظفر بالتكليف في طريق اعتاده المولى في بيان تكاليفه اعتيادا شخصيا، أو كان عادة
النوع، واما الفحص فليس بنفسه عنوانا يعتبر في جريان الأصول، وانما يلزم أحيانا لأجل تحقيق هذا الموضوع. فإذا كانت عادة المولى
إيصال التكليف وتسليمه بيد العبد، فبمجرد عدم الوصول يحكم العقل بحكم الأصل، بلا حالة منتظرة، وتوقف على التفتيش والفحص.
وإذا كانت عادته إيداعه في كتاب أو عند شخص أو بيانه بطريق السؤال عنه، احتاج إلى الفحص والتفتيش عن هذه الطرق، لاحتمال
وجود التكليف فيها، والعقل لا يعذر العبد في إجراء البراءة لان موضوعها، وهو عدم الظفر بالتكليف في طريق اعتاده المولى، لا
يحصل حتى ينظر في ذلك الطريق، ثم لا يظفر بالتكليف فيه. ومن ذلك يظهر ما في كلام المصنف (ره).
قوله: إلا إذا كان موجبا لاختلال النظام:
إن كان اختلال النظام غير مانع عن التكليف، كان الاحتياط على حسنه، وإن كان مانعا، لم يتحقق موضوع الاحتياط بالنسبة إلى
التكليف، واما الاحتياط لادراك مصلحة التكليف فليس مصلحته إلا إدراك مصلحة التكليف، وهذا يحصل بالاتيان بالاطراف، وان وقع
في محذور أشد ومفسدة أقوى، قائمة في بعض الأطراف. نعم، يلام على إتيان ذي المفسدة بل وإتيان ذي المصلحة أيضا، لان الامر إذا
دار بين إتيان الجميع وترك الجميع حكم العقل، مع غلبة مفسدة ذي المفسدة على مصلحة ذي المصلحة، بترك الجميع، فلو خالف وأتى
بالجميع يلام على إتيانه، ولكن تترتب على فعل ذي المصلحة مصلحته.
قوله: مع أنه لو لم يكن بهذا الداعي وكان أصل إتيانه:
هذا إذا كان في اختياره
153

لطريق الاحتياط عابثا لم يناف ذلك كون داعيه لاتيان الواجب أمر المولى، واما إذا كان متمسخرا بأمر المولى مستهزئا إياه، الذي لعله
المراد من اللعب، نافى ذلك كون داعيه لأصل الفعل أمره.
قوله: لقوة احتمال أن يكون المستند مجمل لولا الكل:
لا يخفى ان العقل لا يحكم في مقابل الاطلاقات، فتقييدهم للاطلاق أدلة البراءة كاشف عن كون مستند فتواهم دليلا نقليا، وصل إليهم.
قوله: لقوة ظهورها في أن المؤاخذة والاحتجاج:
وعلى ما ذكره لا تصلح الآيات والاخبار لتقييد إطلاق أدلة البراءة لأن مفادها حينئذ وجوب تحصيل العلم وجوبا نفسيا، كما نسب إلى
المحقق الأردبيلي ومال إليه المصنف (ره) هاهنا، وانما تصلح لتقييد إطلاق أدلة البراءة إذا كان ظهورها في وجوب تحصيل العلم
وجوبا طريقيا، لأجل العمل بالواقع، وترتب العقاب على ترك الواقع بترك تحصيل العلم، كما يشير إلى ذلك قوله في الرواية: وإن قال:
لا، قيل: هل تعلمت حتى تعمل؟ فتكون دالة على تنجز التكاليف الواقعية قبل الفحص، ثم لو سلم ظهور الاخبار فيما أظفرنا إليه، فلا تبعد
دعوى انصرافها إلى موارد العلم الاجمالي بثبوت التكاليف الواقعية، أو لا أقل من أن يكون محملها القريب جمعا بينها وبين إطلاق أدلة
البراءة ذلك.
قوله: ولا يخفى اعتبار الفحص في التخيير العقلي أيضا:
ينبغي التقييد بالنقلي فتقييد إطلاق دليل التخيير النقلي، إن كان بعين ما قيل به إطلاق أوله البراءة، واما العقلي، فقد عرفت: ان موضوع
الأصول العقلية طرأ بعد عدم الظفر بالتكليف في الطرق العادية، فيحتاج الجميع إلى الفحص تارة ولا يحتاج إليه أخرى، حسب اختلاف
عادة المولى في طريق إيصال تكاليفه.
قوله: لعدم التمكن منه بسبب الغفلة:
أو لعدم سعة الوقت له، وإن لم يكن غافلا.
قوله: أو بالالتزام بكون المشروط والموقت مطلقا:
لكن هذا الوجه لا يجدي في دفع الاشكال بقول مطلق، بل يختص أثره بما إذا علم بتحقق الشرط فيما بعد، اما إذا
154

احتمل عدمه، كان توجه التكليف إليه غير معلوم ليجب عليه تعلم تفاصيله مقدمة.
قوله: لكنه قد اعتبر على نحو لا تتصف:
ان اعتبر في المأمور به أن يكون حاصل عن مقدمات حاصلة في الوقت، لزم أن لا يجب الفعل الذي ادخرت مقدماته وهيئات من خارج
الوقت ولو بداعي انفصالي، وهو باطل بالقطع، وإن اعتبر أن تكون القدرة عليه بمقدماته في الوقت، وإن كان المأتي به عن مقدمات
أتى بها خارج الوقت، لزي أن يجب كل من المقدمات الوقتية والخارج الوقتية وجوبا تخييريا، والمفروض انه لا تتصف المقدمات
الخارج الوقتية بالوجوب التخييري أيضا.
قوله: فلا إشكال في وجوب الإعادة في صورة المخالفة:
اعلم أن الواقع الذي مخالفته وموافقته مناط الحكم بالصحة والفساد غير الواقع الذي مخالفته وموافقته مناط استحقاق العقاب والثواب.
فالأول: عبارة عن كل ما أمر به الشارع أمرا أوليا، أو بعنوان قيام أمارة أو اقتضاء أصل، فكل عمل طابق الواقع أو وافق مؤدى أمارة أو
أصل صحيح، لان دليل اعتبار تلك الامارة أو الأصل ذلك، ولا يختص مؤداهما بما بعد العلم بهما حتى لا يصح العمل الواقع قبل العلم
المطابق لهما، وكل عمل خالف الواقع أو الحجة الغير المعلوم الخطاب كساده وكذا إذا لم يظهر الحال.
والثاني: عبارة عن الواقع القائمة عليه الحجة، بحيث لو تفحص لظفر بها، فلو خالف عمله الواقع الخالي عن الحجة واقعا، بحيث لو
تفحص أيضا لم يصل إليه، وإن ظفر بحجة أخطأت لم يعد مقصرا، ليصح عقابه، كما لا يكفي في استحقاق العقاب مخالفة الحجة فقط مع
موافقة الواقع، إلا بناء على ترتب العقاب على مخالفة الأوامر الظاهرية.
قوله: فيما لا يتأتى منه قصد القربة:
قصد القربة يتأتى دائما، إذ لا أقل من الاتيان احتياطا وبداعي احتمال الامر، فمن يكتفي بذلك في غير المقام، فليكتفي
155

به في المقام أيضا.
قوله: واما الحكم باستحقاق العقوبة مع التمكن:
لا يخفى ان المصنف لم يدفع إشكال استحقاق العقوبة مع عدم التقصير والتعليم في الوقت، فإنه كان له أن يؤخر التعلم إلى آخر الوقت،
ولم يصنع، غير أنه أتى بخلاف الواقع جهلا، وهذا الذي أتاه، فوت عليه مصلحة الواقع بحكم الشارع، فلا وجه لان يعاقب العبد عليه.
والجواب الحاسم لمادة الاشكال، هو أن يقال: إن دليل كفاية المأتي به عن المأمور به كاشف عن أن المأمور به هو الواقع، بشرط عدم
سبق خلافه جهلا، وقد ترك هذا الواقع عن تقصير في تعلم حكمه، ولا يمكنه الاتيان بهذا الواقع، وإن تعلم في الحكم الوقت، لأن المفروض
ان شرطه عدم سبق الاتيان بخلافه، وهذا قد تعذر بسبق الاتيان بخلافه، فكلما أتى به بعد ذلك فهو خلاف الواقع، لكان فقد
شرطه.
قوله: لا محالة تكون جارية:
بل لا محالة لا تكون جارية، إذا كان المترتب عليها حكم إلزامي، لان أدلة البراءة سيقت للامتنان، ولا منة في رفع حكم ترتب عليه إثبات
حكم.
نعم، إذا جرى الاستصحاب في نفي الحكم ترتب عليه كافة ما يترتب على الأعم من الواقع والظاهر من الاحكام الوجودية.
إن قلت: البراءة بنفسها لا مانع من جريانها، فليجر البراءة ولا يرتب عليها ذلك الحكم الالزامي. قلت: المفروض ان نفي الحكم ظاهرا
موضوع لهذا الحكم، وكيف يعقل ان يثبت الموضوع ولا يترتب عليه حكمه فلا محيص من رفع اليد عن البراءة حتى لا يلزم منها خلاف
الامتنان والتشديد مع أن دليلها كان في مقام الامتنان والتسهيل، ولعل هذا مراد من جعل من جملة شرائط أصالة البراءة أن لا يكون
موجبا لثبوت حكم شرعي آخر، لا ما فهمه المصنف، من إرادة إخراج المثبت منها، ليتجه عليه ما وجهه من الاشكال.
156

قاعدة لا ضرر ولا ضرار
قوله: فالظاهر أن الضرر هو ما يقابل النفع:
وقد فسر أيضا بالنقص في الأعيان وبالنقص في الحق وبالضيق وبإدخال المكروه، والكل خال عن السداد. والظاهر أن الضرر هو
الشر الطارئ، ومقابلة النفع، وهو الخير الطارئ، سوأ كان في النفس أو في المال أو الجاه، فمن كان من بدو خلقته ناقصا أو كاملا لا
يطلق عليه انه قد تضرر أو انتفع.
نعم، كفى في صدق الضرر فعلية الاستعداد للكمال فحبس دابة الغير عن الحمل أو منع شجره عن الثمر أو عبده عن الوصول إلى مبلغ
درجة الكمال، إضرار له.
قوله: كما أن الاظهر أن يكون الضرار بمعنى الضرر:
وقد فسر أيضا مضافا إلى ما أشار إليه المصنف بالضرر مع عدم الانتفاع، مع تفسير الضرر بالضرر مع الانتفاع ولا يخفى ان التأكيد
مع كونه في حد نفسه خلاف الظاهر، ينافيه الاهتمام في الاخبار بذكر أحدهما مع الاخر لا سيما مع تخلل العاطف، كما أن تعقيب نفي
طبيعة الضرر الشامل لما كان منه بين الواحد والاثنين، لما كان منه بين الاثنين، مع عدم اشتماله على مزية يوجب الاهتمام به، لا يخلو عن
ركاكة. واما حمله على المجازات على الضرر، فيبطله: ان المجازات غير منفي في الشريعة، بل مجعول بقوله تعالى: (من اعتدى عليكم
فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) إلا أن يحمل على التجاوز عن الحد في المجازات، ولو بدعوى ان ما يكون منه بمثل ما اعتدى، لا يعد
ضررا، حيث إنه لحكمة حفظ الناس عن الاضرارات.
واما إرادة الضرر مع عدم الانتفاع، فيوهنه: ان اللائق حينئذ تقديم الضرار على الضرر في الذكر، كما لا يخفى وجهه.
وبالجملة: لم يظهر لنا معنى الضرار، إلا أن إجماله لا يضر بالاستدلال بفقرة
157

لا ضرر، فإنهما فقرتان مستقلتان.
قوله: كما أن الظاهر أن يكون لا لنفي الحقيقة:
لكن حقيقة (لا) ادعاء، كما ارتكبه المصنف (ره) فيراد من نفي الضرر نفي وجود حقيقة العمل الضرري في جملة الأعمال التي قررها
القانون الاسلامي، كما يشهده وجود قيد في الاسلام في بعض الأخبار، فيكون العمل الضرري منفيا وجوده في عداد تلك الأعمال لا في
الخارج، كي يحتاج إلى حمل القضية على النفي الادعائي، فيكون الكلام مسبوقا لبيان ان ما هو الثابت من الضرر في الخارج خارج عن
الأعمال الاسلامية، والأصل في ذلك ان الأعمال المرخصة في شريعة أو دولة بأي أنحاء الترخيص كان إلزاميا أو غير إلزامي، يعد من
إعمال تلك الشريعة، بخلاف الأعمال الممنوعة عنها، فإنها تعد خارجة عن إعمال تلك الشريعة والدولة، أجنبية عنهما. فإذا أريد بيان
الترخيص والمنع، فكما صح أن ينشأ بنفس عبارة الترخيص والمنع، صح أن ينشأ بلسان: ان العمل الكذائي من إعمال هذه الشريعة أو
الدولة، أوليس من أعمالهما، بل هذه أبلغ في إفادة المقصود.
فتدل قضية لا ضرر بأبلغ وجه: على نفي كل حكم تكليفي أو وضعي ضرري، وأيضا تدل على حرمة الاضرار.
ثم إنه قد ذكر لهذا التركيب معاني اخر، غير ما ذكرناه:
أحدها: نفي الحقيقة ادعاء، ذكره المصنف (ره)، ويتجه عليه مضافا إلى أنه خلاف الظاهر ولا يصار إليه، مع إمكان الحقيقة على الوجه
الذي ذكرناه.
أولا: ان هذا لا ينفي الضرر الناشئ من عدم الحكم، كالضرر اللازم من عدم الحكم بضمان منافع الحر.
وثانيا: ان نفي الحقيقة ادعاء، انما يصح بانتفاء الآثار والاحكام المترتبة على تلك الحقيقة، فإذا كان حكم مترتب على موضوع الضرر
جاز نفي حقيقة الضرر بانتفاء ذلك الحكم، اما الحكم المنبعث منه الضرر، المترتب على موضوع آخر، فانتفاؤه لا يوجب نفي حقيقة
الضرر.
158

الثاني: ما ذهب إليه شيخ مشايخنا المرتضى (ره) من تقدير الحكم الذي يلزم منه الضرر تكليفيا كان أو وضعيا، أو على طريق ذكر
الضرر وإرادة سببه، فيكون المنفي هو الحكم الضرري، وهذا مع أنه خلاف الظاهر يتجه عليه ثاني الاشكالين المتقدمين.
الثالث: تقدير الصفة، فيكون المنفي هو الضرر الغير المحكوم بالتدارك شرعا، أو نفي حقيقة الضرر ادعاء، بلحاظ الشارع بتدارك ما
يوجد من الضرر، فان وجوده حينئذ كلا وجود، فان الضرر بعد تداركه في الخارج بما يوازيه من النفع لا يعد ضررا حقيقة، واما
المحكوم بالتدارك فإنه، وإن عد ضررا حقيقة، لكن صح نفي الضرر ادعاء، بلحاظ هذا الحكم. وفيه، مضافا إلى كونه خلاف الظاهر: ان
الرواية حينئذ لا تنفي الاحكام الضررية، التي لا يعقل في مواردها الحكم بالتدارك، كالصوم الضرري والغسل الضرري، فتختص
بموارد الاضرارات المالية، كالاتلافات والغبن في المعاملة، وحبس الحر عن العمل.
الرابع: إرادة النهي من النفي، كما في مثل (لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج)، وهو مع كونه خلاف الظاهر، بل لا يمكن في بعض
الروايات، يتجه عليه الاشكال بعدم دلالية حينئذ على نفي الحكم الضرري من قبل الشارع، كالوضوء الضرري والصوم الضرري، بل ولا
على ثبوت التدارك في الضرر الوارد من بعض على بعض، وانما مفاده مجرد الحكم التكليفي، وهو حرمة الضرر.
فتحصل: ان المتعين في معنى الرواية هو ما ذكرناه على كون الضرر بمعناه الاسمي.
نعم، يحتمل أن يكون الضرر بمعناه المصدري، فيكون مفاد الرواية: ان الشارع لا يورد الضرر على أحد بسبب تشريع حكم ضرري، و
هذا غير تقدير الحكم.
قوله: وقد انقدح بذلك بعد إرادة:
نعم، بعيد، لكن على وجه التقدير للحكم لا على وجه حمل الضرر على معناه المصدري، المنطبق على حكم الشارع حكما ضرريا، فان
حكمه ذلك مصداق للاضرار.
159

قوله: بعد إمكان حمله على نفيها ادعاء:
قد عرفت: ان مصحح النفي الادعائي للحقيقة هو انتفاء آثار تلك الحقيقة المنفية وأحكامها لا أحكام حقائق اخر متصادقة مع تلك الحقيقة
تصادقا جزئيا، كما في المقام، فان الأحكام المترتبة على عنوان الضرر غير منفية بل ثابتة، وانما المنفي حكم الوضوء والصوم مثلا، إذا
صارا ضرريان.
قوله: ومن هنا لا يلاحظ النسبة:
ينبغي البحث عن أن دليل نفي الضرر، هل هو حاكم على أدلة الاحكام أو مقدم عليها توفيقا عرفيا، وان خرج عن عنوان الحكومة، وكذا
العموم والخصوص أو مخصص لها بغير مورد الضرر أو معارض له بالعموم، من وجه، حتى يجري عليه أحكام هذا النوع من التعارض،
أو ان أدلة الاحكام واردة عليه.
الحق من بين الوجوه، هو التخصيص، وإن كانت النسبة العموم من وجه، لوجود ملاك التخصيص، فإنه لو أخذ بدليل النظر لم يلزم طرح
الأدلة رأسا، بخلاف ما لو أخذ بالأدلة، ومجموع تلك الأدلة بمنزلة عام بالنسبة إلى دليل نفي الضرر، ومن ذلك يظهر بطلان معاملة
المعارضة بينهما.
واما الحكومة ونظر دليل نفي الضرر إلى أدلة الاحكام فلم يثبت عندنا، ولم يقم عليه ظهور وقرينة، بل الظاهر: انه كسائر أدلة
الاحكام، ناظر إلى الواقع من غير تعرض إلى مقام إثبات سائر الأحكام، كما أن دعوى التوفيق العرفي بدعوى ان أدلة الاحكام،
العناوين الثانوية كلية مقدمة في نظر العرف على الأدلة، الاحكام الأولية موجبة لحملها على مجرد الاقتضاء، وهذه على الفعلية ممنوعة،
فان التوفيق الكذائي انما هو بين الأدلة، الاحكام الترخيصية والالزامية، ولو في عنوانين عرضيين، بل ولو كان الترخيص في العنوان
الثانوي والالزام في العنوان الأولي، ومجرد ترتب العنوانين لا يوجب تقدم الثانوي على الأولى.
واما التزام التخصص، أعني ورود أدلة الاحكام الأولية على دليل نفي الضرر، بتقريب: ان عموم أدلة الاحكام لمورد يحسب فيه الضرر،
كاشف
160

نفي الضرر عن عدم الضرر في موردها، ولو بمعنى تدارك ما يرى فيه من الضرر بمنافع خفيت علينا، فان الضرر المتدارك لا يعد
ضررا.
ففيه: ان المستفاد من اخبار نفي الضرب بيان قاعدة عامة للمكلفين لينتفعوا هم بها في مواردها، وهذا لا يتم إلا بكون المدار على ما
يحسبونه هم ضررا، وإلا فاحتمال التدارك في جميع الموارد قائم.
فلو بني على الاعتداد بهذا الاحتمال لزم إلقاء هذه القاعدة، فأمر التخصيص والتخصص يدور مدار ان المستفاد من اخبار نفي الضرر،
هل هو إعطاء القاعدة لأجل العمل أو انها بيان لمدرك استفادتهم عليهم السلام للحكم، من غير إرجاع الناس إليها؟ فعلى الأول: يتعين
التخصيص، وعلى الثاني: يتعين التخصص.
والانصاف: انه لا يظهر من الاخبار انها في مقام إعطاء الضابطة للعمل، وذلك كفى في الالتزام بالتخصص وعدم الانتفاع بالقاعدة إلا
في موارد وقع التصريح بها، إلا أن يقال: إن الاجماع على التمسك بها قرينة على كونها في مقام إعطاء الضابطة إن لم يوهن بظهور
كون مدرك المجمعين استظهار ذلك من نفس هذه الأخبار، التي هي بأعيننا ولا نرى فيها دلالة على ذلك.
قوله: واما لو كان بين ضرر نفسه وضرر غيره:
اعلم: ان المستفاد من الاخبار هو نفي حكم يلزم منه الضرر لا إثبات حكم يمنع من الضرر ويدفعه، بحيث كان الانسان يقع في الضرر
لولاه، فلو توقف دفع الضرر من النفس على إضرار الغير وأخذ ماله لم يرتفع بذلك حرمة التصرف في مال الغير، لان الضرر غير جاء
من حرمة التصرف، كي يحكم بارتفاع الحرمة.
نعم، لو كانت الحرمة باقية مع ذلك، لم يكن الشارع سند الضرر، فدفع الضرر عن النفس بإيراده على الغير من هذا الباب كلية، ومن
فروعه وجوب رد العين المغصوبة، وإن لزم منى ذلك هدم دار أو غرق سفينة، إذ لا فرق بين الغصب الابتدائي لدفع الضرر عن النفس
وبين استمرار الغصب، فالسبيل المتوجه إلى دار الشخص وبستانه لا يجوز سد سبيله وإرساله إلى دار الجار وبستانه، هذا في الضرر
161

المتوجه إلى النفس، ومنه يظهر الكلام في الضرر المتوجه إلى الغير، فإنه لا يجب صرفه إلى النفس، وليس ورود الضرر مستندا إلى
حكم الشارع بجواز تركه حتى يرد الجواز المذكور بدليل نفي الضرر.
حجية الاستصحاب
قوله (ره): وهو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم:
يحتمل أن يكون المراد من الحكم الأول: إذعان المكلف وتصديقه والتزامه ببقاء ما كان أولا، حكما كان أو موضوعا. حكم الشارع على
الشئ بعنوان بقاء ما كان وعدم نقضه وعلى كل حال. المراد من الحكم الثاني هو حكم الشارع، فالاستصحاب على الأول من فعل
المكلف فعلا جوانحيا، ويشهد له استعمال مشتقاته، كما يعين إرادته.
قوله: اما من جهة بناء العقلا إلى آخر العبارة:
وعلى الثاني: هو من فعل الشارع، كما هو الظاهر، وقد صرح (ره) به في مجلس البحث. وفي التنبيه السابع من تنبيهات الاستصحاب
الآتي، صرح: بأن قضية الاخبار انشاء الحكم المماثل للحكم المتيقن سابقا أو انشاء الحكم للموضوع المتيقن سابقا بما انه متيقن.
وتوضيح الحال في المقام، هو: ان الاستصحاب يحتمل أن يكون هو اليقين بثبوت حكم أو موضوع ذي حكم، والشك في استمراره، و
يحتمل أن يكون هو حكم الشارع في هذا الموضوع، بعنوان البقاء وبلسان عدم نقض اليقين بالشك، ويحتمل أن يكون هو إذعان
المكلف وتصديقه بالحكم المذكور، ويحتمل أن يكون هو بناء العقلا على العمل على الحالة السابقة.
فالاستصحاب على الأول: من الامارات المفيدة للظن بالبقاء، وعلى الثاني:
من الأصول العملية. فقول الشارع: (لا تنقض اليقين بالشك) انشاء لاحكام جزئية مطابقة للحالة المتيقنة عند الشك في استمرارها بهذا
العنوان العام والإشارة الاجمالية، ولا يكون الاستصحاب إلا هذه الأحكام الجزئية المنشأة بهذا العنوان،
162

ويكون إطلاق الاستصحاب عليها جاريا على طبق معناه اللغوي، فان الشارع بحكمه ذلك قد أخذ الحالة السابقة مصاحبة، وهذا أحد
احتمالي تعريف المصنف الذي أشرنا إليه، كما أن الاحتمال الثالث: هو الاحتمال الاخر المساعد له نسبة مشتقاته إلى المكلفين، فيقال:
استصحب زيد حكم كذا إذا أفتى بذلك وأعتقده.
واما الاحتمال الرابع: فهو قضية عد الاستصحاب من الأدلة العقلية، فان الدليل العقلي هو الحكم العقلي المتوصل به إلى حكم الشارع، و
بناء العقلا ناشئ عن حكم العقل، المستلزم لحكم الشارع.
ولا يخفى ان تعريف الاستصحاب يختلف باختلاف الاحتمالات المذكورة، بحيث لا يحويه ضابط واحد، يتوارد عليه الأقوال في مسألة
الاستصحاب.
والحق من بين المعاني هو المعنى الثاني، فيكون الاستصحاب فعلا من أفعال الشارع وهو حكمه المنشأ بلسان عدم نقض اليقين بالشك،
وعليه فلا يكون له عنوان استقلالي في الأصلية والفرعية، بل يكون تابعا للمستصحب، فإن كان أصوليا فهذا أصولي، أو كان فرعيا
فهذا فرعي، إذ المفروض انه انشاء حكم مماثل، وكيف يسوغ لمن يقول: بأن الاستصحاب عبارة عن انشاء حكم مماثل أن يبحث في أنه
حكم أصلي أو فرعي، كما صدر من حضرت الأستاذ العلامة (ره) كما أن من يقول بواحد من المعاني الثلاثة الأخر ليس له ان يبحث عن
كونه حكما فضلا عن أن يبحث عن كونه أصوليا أو فرعيا لوضوح عدم كونه بواحد من تلك المعاني حكما، فيكون البحث الآني في كلام
الأستاذ ساقطا على كل حال.
ومما ذكرنا ظهر: ان البحث عن كون الاستصحاب من الأدلة العقلية أو من الأمارات الشرعية أو من الأصول العملية، لا يرد على
الاستصحاب بمعنى واحد، بل الأول: مبني على كون الاستصحاب هو بناء العقلا تعبدا أو بمناط المظنة، والثاني: مبني على كونه نفس
اليقين وعدم العلم بالزوال الموجب للظن بالبقاء، من غير فرق بين أن يكون مدركه بناء العقلا أو الاخبار والاجماع، والثالث: مبني
على كونه حكم الشارع على المشكوك بعنوان الابقاء وعدم نقض اليقين بالشك.
163

قوله: اما من جهة بناء العقلا:
بناء على أن يكون المراد من الحكم الأول في التعريف هو حكم الشارع، لا إذعان المكلف، لا بد من حمل العبارة على أن استكشاف
الحكم المذكور يكون من بناء العقلا أو من الاخبار، وإلا فلا معنى لان يكون حكم الشارع ناشئا من بناء العقلا أو الاخبار.
قوله: ثم لا يخفى ان البحث في حجيته مسألة:
قد عرفت سقوط هذا البحث كائنا ما كان معنى الاستصحاب، وانه ليس يحكم على بعض المعاني، وهو أكثرها، وعلى البعض الاخر،
ليس له عنوان مستقل، بل يتبع في الأصولية والفرعية للحالة السابقة، فيكون الاستصحاب حكما أصوليا، إن كان المستصحب حكما
أصوليا، وفرعيا، إن كان حكما فرعيا. ومن ذلك يظهر فساد ما استدل به على كونه حكما أصوليا، بأن مجرى الاستصحاب ربما لا
يكون إلا حكما أصوليا، فان هذا الاستدلال انما يجدي فيما كان المستصحب حكما أصوليا، ولا ينفع فيما كان حكما فرعيا. وبمثله
يستدل على كونه حكما فرعيا فيما يكون المستصحب حكما فرعيا.
قوله: لتمهيد قاعدة تقع في طريق:
ليت شعري كيف يقع الاستصحاب بمعنى انشاء الحكم المماثل في طريق استنباط الحكم؟ وهل هو إلا الحكم، ليس ما ورائه حكم آخر
يستنبط به؟ ومن أجل ذلك التجأ المصنف في صدر الكتاب عند تعريف علم الأصول بصناعة تعرف بها القواعد، التي يمكن أن تقع في
طريق استنباط الاحكام إلى زيادة، أو التي ينتهي إليه المجتهد في مقام العمل لتندرج بذلك الأصول العملية في علم الأصول.
قوله: اعتبار أمرين في مورده القطع بثبوت شئ:
لا يخفى عدم اشتمال تعريف المصنف ولا تعريف شيخه للاستصحاب بإبقاء ما كان على دخل صفة اليقين فيه، وغاية ما يقتضيه أخذ
مادة البقاء في التعريف، هو دخل الثبوت السابق. وقد صرح المصنف في التنبيه الثاني من تنبيهات الاستصحاب بعدم اعتبار صفة
اليقين، وإن المستفاد من الاخبار: هو جعل الملازمة بين ثبوت حكم أو موضوع ذي حكم في زمان وبين استمراره في زمان آخر شك
في استمراره، وقد ألجأه إلى ذلك الفرار
164

عما يلزمه من تعطيل الاستصحاب في موارد كانت الحالة السابقة ثابتة بالامارات المعتبرة لا باليقين الوجداني، بناء على مبناه من عدم
جعل الحكم الظاهري في موارد الامارات. وإن مؤدى أدلة الاعتبار لا يزيد على جعل الحجية، أعني المعذرية عند الخطأ، والمنجزية لدى
الإصابة، فالتزم بعدم اعتبار اليقين وكفاية ثبوت شئ واقعا في الحكم باستمراره، فتكون الحجة على الثبوت حجة على الاستمرار،
حيث إن الحجة على أحد المتلازمين حجة على ملازمه، فالامارات كما تكون حجة على ثبوت الاحكام تكون حجة على استمرارها ظاهرا
عند الشك، ويكون شأن اخبار الاستصحاب إثبات هذه الملازمة.
ولا يخفى ان ظاهر اخبار الاستصحاب دخل صفة اليقين في الاستصحاب كدخل صفة الشك، وإن صفة اليقين صفة لا ينبغي أن تنقض
بصفة الشك، ومع ذلك كيف يؤخذ بظهورها في الثاني ويحكم بعدم جريان الاستصحاب مع غفلة الشخص عن حاله، وكان بحيث لو
التفت لشك. ويترك ظهورها في الأول، بأن يحمل اليقين على اليقين الطريقي المحض مع أن العكس أولى بذلك، فبذاك الملاك الذي
عمموا الشك للظن وحكموا باعتبار الاستصحاب في مورد غير المعتبر، ينبغي أن يعمم لمطلق عدم العلم، ومنه الغفلة، فان المنقول عن
الصحاح تفسير الشك بخلاف اليقين الشامل للغفلة.
وفي صحيحة زرارة الآتية: فان حرك في جنبه شئ وهو لا يعلم، قال: (لا، حتى يستيقن انه قد نام) وفي ذيل هذه الصحيحة: (ولكن
ينقضه بيقين آخر).
وفي مكاتبة القاساني، التفريع على قوله اليقين لا يدخله الشك، قوله: (صم للرؤية وأفطر للرؤية).
ودعوى: انه لا تكليف مع الغفلة، مدفوعة: بأن ذلك أمر لا اختصاص له بباب الاستصحاب، وأجنبي عن دخل الشك في موضوع
الاستصحاب، مع أن في الاستصحابات العدمية التي يكون الثابت بالاستصحاب عدم الحكم لا إثباته، لا يجري هذا الكلام، فان الغفلة إنما
تمنع عن التكليف لا عن عدم التكليف، فمن
165

كان محدثا ثم غفل عن حاله وصلى، كان مقتضى الاستصحاب لو عممناه لمطلق عدم اليقين بالخلاف، بطلان صلاته، بمعنى عدم كونه
مصداقا للمأمور به كمن، كان محدثا واقعا وصلى غافلا ثم التفت.
قوله: فيشكل حصوله فيها:
هذا فيما لو أريد استصحاب اتصاف المتعلق بصفة الوجوب مثلا، اما لو أريد استصحاب شخص ما كان من الوجوب، لاحتمال بقائه من
جهة عدم دخل ما تخلف من القيود المحتمل دخلها، فجريانه مما لا ينبغي الريب فيه، لان الموضوع فيه هو الوجوب دون الفعل، فيقال:
الوجوب الشخصي الذي قد كان سابقا هو باق إلى زمان الشك. نعم، لا يثبت به اتصاف الفعل الباقي بالوجوب إلا على القول بالأصل
المثبت، وما لم يثبت لا يحكم العقل بلزوم إتيانه فلو كان لثبوت الوجوب بنحو مفاد كان التامة أثر رتب وعاد الأصل موضوعيا بالنسبة
إلى ذلك الأثر، وإلا لم يجر الأصل.
لا يقال: يجري الأصل على كل حال ويثبت الحكم، ثم يحكم العقل بوجوب تفريغ الذمة عنه على سبيل القطع، وذلك لا يكون إلا بالاتيان
بالفعل الناقص، فإنه يقال: لا معنى لتكليف لا يدعو إلى متعلقه ولو متعلقا معلوما على سبيل الاجمال، فأصل الطلب في المقام غير معقول،
حتى يلتمس المسقط له.
قوله: إلا أنه لما كان الاتحاد بحسب نظر العرف كافيا:
انما كان الاتحاد بحسب نظر العرف كافيا إذا كان النقض في لسان الأدلة مسندا إلى المتيقن، واما مع الاسناد إلى نفس صفة اليقين كما
هو الواقع، فالنقض له لا يصدق إلا مع اتحاد الموضوع دقة، فان شخص ما كان له من اليقين هو الموضوع لحكم لا تنقض، والمفروض ان
يقينه كان متقوما بقيد تخلف، فلا يقين له في الموضوع الباقي حتى ينقضه أولا ينقضه، ولا وجه للمسامحة في نسبة اليقين إلى الباقي
فيقال: قد كان على يقين من وجوب هذا، ثم نسبة النقض إليه، فان موضوع الحكم يتسامح فيه عرفا دون موضوع اليقين.
نعم، لو كان اليقين مأخوذا على وجه المرآتية إلى متعلقه، وكان النقض حقيقة
166

منسوبا إلى متعلقه صحت المسامحة العرفية المذكورة.
لكن المصنف يرى: ان مصحح نسبة كلمة النقض نفس ما في اليقين من الابرام الوهمي، وذلك لا يجتمع مع أخذه مرآة محضا وستجئ
الإشارة إلى المناقضة بين دعواه هذا، مع حمله لليقين على اليقين المرآتي، الذي هو مما ينظر به لا إليه.
قوله: لأجل طرو انتفاء بعض ما احتمل دخله فيها:
بل بعض ما علم دخله أيضا، لان مناط جريان الاستصحاب في تخلف محتمل الدخل هو اجتماع أركان الاستصحاب وصدق مفهوم
النقض، وهو جار في تخلف مقطوع الدخل، إذ لو لم يكن الدخل الواقعي مضرا، - ولذا يجري الاستصحاب مع احتمال الدخل - لم يعقل
أن يكون الدخل المعلوم مضرا، فان العلم لا تأثير له في ذلك، والتأثير لو كان، فهو للدخل الواقعي. والظاهر: ان أحدا لا يلتزم بجريان
الاستصحاب مع تخلف قيد معلوم الدخل. ودعوى انه مع العلم بالدخل لا يبقى شك، بل كان اليقين السابق منتقضا بيقين آخر، مدفوعة
باحتمال عدم دخل القيد المنفي في أصل المطلوب، بل في تمامه وكماله، فانتفاؤه لا يوجب الانتفاء عن تأكد الطلب لا أصله، كما سيأتي
في كلام المصنف عن قريب، ويأتي منا الاشكال على ذلك.
قوله: ضرورة صحة إمكان دعوى بناء العقلا:
الظاهر أن بناء العقلا مختص بما إذا كان الموضوع بحسب الدقة باقيا، لا سيما إذا كان منشأ حصوله الظن من اليقين السابق، ولا أقل من
أن يكون المتيقن من بنائهم ذلك، فيختص الاستصحاب عندهم بالشك في الرافع، واما المسامحة في الموضوع والرجوع إلى الموضوع
العرفي، فمنشؤه التمسك بالاخبار، وقد أخذ كلمة النقض في لسانها، والنقض العرفي يدور مدار بقاء الموضوع العرفي، فمن تمسك
بالاخبار على اعتبار الاستصحاب صح له هذه المسامحة دون من لم يتمسك، ولكن مع ذلك قد تقدم إشكال على هذه المسامحة.
قوله: بلا تفاوت في ذلك بين كون دليل الحكم نقلا أو عقلا:
منشأ الاشتباه في جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية المستكشفة من الأحكام العقلية هو
167

تخلف بعض ما يعلم دخله من القيود، ومع تخلف قيد معلوم الدخل لا يجري الاستصحاب.
بيانه: ان عند الشك ليس للعقل حكم قطعا، وإلا لم يكن شك، وارتفاع حكم العقل ليس إلا لأجل تخلف قيد يكون دخيلا في حكمه، بحيث
لا يحكم بدونه، فإذا كان دخيلا في حكم العقل لا جرم كان دخيلا في حكم الشرع المستكشف به، لان حكم العقل والشرع المذكور
يتواردان على موضوع واحد، لان قاعدة الملازمة تقتضي حكم الشرع في موضوع حكم العقل بلا زيادة ونقيصة، فإذا ارتفع قيد دخيل
في أحد الحكمين لم يجر الاستصحاب في الحكم الاخر أيضا، لدخله فيه أيضا، فيكون الشك شكا في حكم حادث في موضوع جديد لا في
استمرار ما كان من الحكم أولا. والحق مع ذلك جريان الاستصحاب.
توضيح الحال: ان هنا أمورا ثلاثة:
الأول: درك العقل حسن الافعال وقبحها، أعني ملائمة بعض الأفعال له، كمنافرة بعض آخر له.
الثاني: تطبيق العنوان الكلي، الذي أدرك حسنه وقبحه، على الجزئيات الخارجية مثل ان هذا إحسان، وذلك ظلم.
الثالث: بعث العقل بعد ذا الدرك، وهذا التطبيق إلى جلب الملائم ودفع المنافر، وهذه هي القوة العمالة للعقل، المستخدمة للقوة الأولى
العلامة، ولولاها ثم لولا التطبيق لبقيت مدركات العقل في بوتقة الادراك ولم تتخط إلى الخارج، فالبعث يكون نتيجة الادراك و
التطبيق.
ومن هذا ظهر لك: ان موضوع كل من حكمي العقل - أعني حكمه العلامة والعمالة - لا يعقل فيه الاجمال، فان الحاكم لا يضيع عليه
موضوع حكمه، وهذا كذلك في حكم سائر القوى، من الشهوية والغضبية، وانما الاجمال يكون في حكم الغير ولا يشتبه على النفس ما
في النفس، فالاحسان الذي يدرك العقل ملائمة لا يضيع عليه قيوده الدخيلة فيه، وكذا المصداق الخارجي الذي يحرك نحوه، من
168

مصاديق هذا الاحسان.
نعم، يقع الاشتباه في محل انطباق ذلك العنوان، فيشتبه الخصوصيات الدخيلة، بغير الدخيلة لكن بالنتيجة لا يبعث إلا إلى الجامع للقيود،
المعلوم الدخل والمحتمل الدخل، بحيث لو انتفى قيد واحد منها توقف عن البعث، وان لم يعلم بدخل ذلك القيد في موضوع إدراكه
واقعا، واحتمل ان يكون الفعل بعد انتفاء ذلك القيد باقيا على حسنه، وبالنتيجة باقيا تحت حكم الشارع، وذلك أن حكم الشارع يكون
ملازما لحكم العقل، بمعنى إدراكه، لا حكم العقل، بمعنى بعثه، فيمكن أن لا يبعث العقل، ومع ذلك كان حكم الشارع موجودا، لكون حكمه
بمعنى دركه موجودا، فإذا كان التقدير تقدير احتمال بقاء موضوع إدراك العقل وبالم آل تقدير احتمال بقاء موضوع حكم الشرع، كان
سبيل استصحاب حكم الشرع واضحا إذا كان القيد المنفي قيدا لا يضر فقده بصدق بقاء الموضوع عرفا، كما فيما إذا كان الحكم
مستفادا من دليل لفظي، طابق النعل بالنعل.
والحاصل: ارتفاع موضوع بعث العقل بالقطع لا يوجب ارتفاع موضوع إدراكه كذلك، والحكم الشرعي يلازم الثاني دون الأول، كي لا
يجري الاستصحاب لمكان القطع بارتفاع الموضوع.
قوله: قلت ذلك، لان الملازمة انما تكون:
بل الملازمة ثابتة في مقام الثبوت والاثبات، لكن الملازمة مع أحد حكمي العقل - وهو حكمه العلامة دون العمالة - المتوقف على العلم
بانطباق موضوع حكم العلامة على الجزئي الخارجي، فالعقل يحكم بحسن الاحسان وقبح الظلم، ليس له سوى هذين الحكمين اللذين
هما مفاد الآية الكريمة المباركة: (ان الله يأمر بالعدل والاحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر) وبالملازمة يحكم بأن الشارع أيضا أمر
بالأول ونهى عن الثاني، لكن لا يبعث نحو شئ أو يزجر عن شئ إلا بعد العلم بانطباق ذينك العنوانين، فإذا لم يعلم وجهل، توقف عن
الحكم، وتوقفه لا يوجب عدم حكمه الأول.
وبالنتيجة: لا يوجب عدم حكم الشارع، الملازم لحكمه الأول.
169

قوله: أو احتمال أن يكون معه ملاك آخر:
هذا جواب آخر عن الاشكال بعد تسليم القيد المرتفع في موضوع حكم العقل، وبالنتيجة في موضوع حكم الشارع.
وحاصله: ان دخل القطع بالدخل لا يمنع من جريان الاستصحاب، إذا احتمل اشتمال الفعل على ملاك آخر غير ما اطلع عليه العقل، غير
دخيل فيه ذلك القيد المرتفع، فإذا احتمل ذلك فقد احتمل بقاء حكم الشرع، فيستصحب حكم الشرع بعد انقطاع حكم العقل، إذا كان القيد
المرتفع مما لا يضر بوحدة الموضوع عرفا.
وهذا البيان يجري في الاحكام المستفادة من الأدلة اللفظية أيضا بعد ارتفاع القيود المقطوع دخلها، لكن يشكل عليه: بأن الحكم الناشئ
من الملاك الكامل الدخيل فيه القيد المرتفع كان متقوما بالموضوع بقيده المرتفع، فيكون ذلك الحكم مقطوع الارتفاع بارتفاع القيد، و
اما الحكم الاخر الناشئ من ملاك آخر، فذاك شخص آخر من الحكم لم يتعلق به اليقين في وقت ليستصحب، واستصحاب القدر المشترك
بين الحكمين داخل في استصحاب القسم الثالث من الكلي، مع أنه لا يثبت له الفرد - أعني تعلق الحكم بما عدى القيد المرتفع - وما لم
يثبت ذلك لا يجدي في إلزام العقل بالاتيان بالباقي.
قوله: مع تطرقه إلى ما هو موضوع حكمه شأنا:
قد عرفت، وهو عدم تطرق الاجمال والاشتباه إلى شئ من موضوع حكم العقل، أعني حكمه الشأني المعني به إدراكه وحكمه الفعلي،
المراد به بعثه وزجره.
نعم، قد يجهل انطباق موضوع حكمه الشأني على شئ من الجزئيات الخارجية، كأن يجهل ان الفعل الكذائي إحسان أو ذلك الاخر ظلم أو
لا، أو يعلم انطباقه إجمالا ولكن يشتبه القيود الدخيلة بغير الدخيلة، وهذا أجنبي عن إجمال موضوع حكم العقل.
الاستدلال على حجية الاستصحاب بالاخبار
قوله: وفيه: أولا: منع استقرار بنائهم على ذلك تعبدا:
لا يقال: المهم ثبوت
170

وعدم الردع كائنا ما كان منشأ البناء، فإنه يقال: إذا كان منشأ البناء شئ من المذكورات، اختص البناء بما إذا تحقق ذلك المنشأ، و
المدعى حجية الاستصحاب مطلقا.
نعم، إذا كان البناء من باب الظن النوعي، عم اعتباره مورد وجود الظن الشخصي وعدمه، وكان الاستصحاب حجة مطلقا، إلا أن يفرض
مورد لا يفيد الاستصحاب المظنة في نوع ذلك المورد.
قوله: أو غفلة:
يعني كان عملهم من باب الغفلة وعدم الالتفات، إلى احتمال ارتفاع الحالة السابقة، بحيث لو حصل منهم الالتفات والشك لم يكونوا
يعملون.
قوله: كما هو الحال في سائر الحيوانات:
هذا رجم بالغيب، فان معرفة حال الحيوانات يتوقف على أن يكون الشخص منهم، كي يطلع على مدركاتهم بالقياس إلى مدركاته.
نعم، صح هذا لان يكون جوابا عن الاستدلال بعمل الحيوانات، فان الاستدلال نظير الجواب في الابتناء على الترخص، فإن العمل على
طبق الحالة السابقة أعم من أن يكون ذلك لأجل الاستصحاب، وكونه معتبرا عندهم.
قوله: ويكفي للردع عن مثله ما دل:
قد تقدم في مبحث حجية خبر الواحد: ان الردع بالمذكورات دوري، لكن الحق ما هنا دون ما هناك.
ووجهه: ان اعتبار السيرة انما هو من باب إفادة القطع لا من باب التعبد، ولا يبقى للقطع مجال مع قيام ما ظاهره الردع، بل وما
محتمله ذلك.
قوله: ولولا القول: بأن الاستصحاب:
هذه العبارة زائدة غير دخيلة في الدليل، فان نفس إجماعهم ان تم كان إجماعا على الاستصحاب، وترجيح الدوام، الحالة السابقة على
ارتفاعها عند الشك.
قوله: المستفاد من قوله عليه السلام: لا في جواب:
والمستفاد من نفس قوله: فإنه على يقين إلى آخره.
قوله: في القضية الكلية الارتكازية:
ان كلية القضية وشمولها لغير باب الوضوء
171

فضلا عن ارتكازيتها، سوأ أريد بالارتكازية الارتكازية من الشرع أو الارتكازية من بناء العقلا، محل نظر، بل منع، وظهور الرواية
في عموم القاعدة مبني أولا:
على كون الجزاء مقدرا والمذكور علة لها، سادة مسدها. وثانيا: على عدم إرادة العهد من اللام في قضية (لا تنقض)، وكونها ظاهرة في
إرادة الجنس من غير وجود ما يصرفها عنه، وكل من الامرين في محل المنع.
اما الأول: فلان التقدير خلاف الظاهر مطلقا، ولا سيما في المقام، بعد ملاحظة ظهور قضيته (فإنه على يقين من وضوئه) المتصدرة
بالفاء في أنها هي الجزاء بعينها، مع أن القضيتين المذكورتين لا تكونان صغرى وكبرى للجزاء المقدر، حتى تكونا علة لها، سادة
مسدها، فان القضية الثانية قضية خبرية قد استعملت في الانشاء، والجملة الانشائية لا تكون من أجزأ البرهان ومن مقدمات القياس،
كما هو واضح.
واما الثاني: فكون اللام مما له معنى، محل نظر، بل منع عند المصنف، كما تقدم في مباحث الألفاظ، وكون معناه الحقيقي هو الجنس،
حتى يحمل عليه عند عدم القرينة على العهد، محل نظر آخر، كما أن عدم كفاية الاقتران بمعهود ذكري للقرينية على إرادته أو لا أقل من
إيراثه الاجمال، محل نظر ثالث. واما ما سيأتي عن المصنف عن قضيب، من: ان المعهود أيضا هو الجنس، فستسمع ما فيه إن شاء الله
تعالى.
وبالجملة: العبارة لا ينكر ظهورها في الشرطية الكاملة بشرطها وجزائها، كما لا ينكر ظهور قوله: (فإنه على يقين) في اليقين الوجداني
من الوضوء السابق دون اليقين التعبدي، أو اليقين الوجداني من الوضوء التعبدي الفعلي الذي هو المعنى المتحصل من الاستصحاب، وإلا
فسدت قضية (ولا ينقض اليقين إلى آخرها) إلا بالتفكيك بين اليقينين، بإرادة اليقين من الوضوء الواقعي من أحدهما واليقين بالوضوء
التعبدي من الاخر، وذلك مخالفة أخرى للظاهر.
ودعوى: انه لا يمكن الاخذ بالظهورين جميعا، ظهور التفريع في أن قضية. (فإنه
172

على يقين) هي الجزاء للشرط، وظهور اليقين في اليقين الفعلي الوجداني من الوضوء السابق، فمع الاخذ بظهور التفريع في الجزاء لا
محيص من حمل اليقين على اليقين بالوضوء التعبدي، كما أنه مع الاخذ بظهور اليقين في اليقين بالوضوء الواقعي، لا بد من رفع اليد عن
ظهور التفريع، وذلك لعدم الترتب والتفرع بين هذا التالي وذلك المقدم، كي تتألف منهما الشرطية.
مدفوعة: بأن ذلك التوهم ناشئ من توهم اعتبار الترتب بين ذات الجزاء والمقدم، وإذ لا ترتب كذلك في مورد الرواية، فلا جرم
يتكلف بالتصرف في ظهور القضية، لكن التوهم المزبور فاسد، إذ يكفي في تأليف الشرطية وترصيعها ترتب شأن من شؤون الجزاء
على الشرط لا ترتب ذاتها، والترتب المذكور حاصل في المقام، فان اليقين بالوضوء السابق، وإن كان لا يترتب ذاتا وتحصلا على عدم
اليقين بالحدث، لكنه يترتب في مقام محكوميته بحكم (لا تنقض) الذي هو عبارة أخرى، عن ترتب حكم (لا تنقض)، كما وقع التصريح به
في الرواية. ولذا كان حكم الاستصحاب مستفادا من نفس الشرطية مع قطع النظر عن التصريح من باب دلالة الاقتضاء حفظا للترتب
بين جزئي الشرطية، فإنه حيث لا ترتب بين ذات الجزاء وذات المقدم، لا جرم كان اللازم الالزام بأن الترتب موجود في مقام المحكومية
بالحكم الذي هو بقرينة صدر الرواية، عبارة عن الجري على اليقين السابق، فلليقين بالوضوء السابق فردان: فرد حكمه ان لا ينقض، و
آخر حكمه النقض. فالأول: هو الذي لم يتعقبه اليقين بالخلاف دون الثاني، فيشير عليه السلام بقوله:
(فإنه على يقين) بأنه ان لم يحصل اليقين بالخلاف فقد حصل اليقين الذي حكمه ان لا ينقض، فالمكلف في راحة من تكليف الوضوء. فقوله
عليه السلام: (لا تنقض) تأكيد لما استفيد من الشرطية من باب دلالة الاقتضاء، أو لعله يستفاد منه أزيد مما استفيد من نفس الشرطية،
لان المستفاد من الشرطية حرمة النقض في مورد الرواية، ولعل من قضية (لا تنقض) يستفاد الحكم على نحو العموم.
وبالجملة: فعبارة الرواية ظاهرها يؤخذ به من القرن إلى القدم من غير تصرف
173

وتأويل في شئ من أطرافها، فيكون الجزاء قوله: (فإنه على يقين) مع حمل اليقين على ظاهره من اليقين الوجداني بالوضوء السابق.
قوله: وهو إلى الغاية بعيد:
سيما بملاحظة قوله بعد ذلك: (ولا تنقض اليقين أبدا بالشك) فإنه لا يتم إلا بالتفكيك بين اليقين، وحمل اليقين في ذلك على ظاهره من
اليقين الفعلي بالوضوء السابق، وذلك مخالفة أخرى للظهور.
قوله: وأبعد منه كون الجزاء:
بل ذلك أقرب الاحتمالات بعد الاحتمال الذي ذكرنا، أعني ما هو ظاهر القضية، وذلك لما عرفت ان تقدير الجزاء خلاف الظاهر، ثم
التصرف في ظهور الفاء التفريعية الجزائية، خلاف ظاهر آخر، مع أن القضيتين المذكورتين ليستا علة لها لتسد مسدها، وليس في هذا
الاحتمال إلا اعتراض جملة (فإنه على يقين) بين الشرط وجزائها، وتوطئة ذلك للجزاء بالقياس إلى تلك العنايات هين، وعلى ذلك لا
تكون القضية عامة تعم غير مورد الرواية، لان التفريع يمنع من العموم.
قوله: فإنه ينافيه ظهور التعليل:
قد عرفت: منع كونه تعليلا، بل هو الجزاء بعينه، ثم منع ظهوره في أنه أمر ارتكازي، واحتمالا انه قانون جعلي إلهي عام، أو خاص يختص
بباب الوضوء.
قوله: مع أنه لا موجب لاحتماله:
قد عرفت: ان ظهور القضية في كونها جزأ، موجب آخر لتعين ذلك الاحتمال ولا دخل له باللام. نعم، إذا وجب ترك ذلك الظهور،
انحصر الموجب في كون اللام للعهد.
قوله: مع أنه غير ظاهر في اليقين:
غرضه انه على تقدير إرادة العهد أيضا يستفاد عموم القاعدة بلا انصدام، لان المعهود الذكري أيضا هو الكون على جنس اليقين.
نعم، قد حصل جنس اليقين من قبل الوضوء وليس المعهود، الكون على الخاص، أعني اليقين الوضوئي على أن يكون قيد من وضوئه،
جزا من المحمول، فلا فرق بين أن يكون اللام للجنس أو للعهد بعد أن كان المعهود أيضا هو الجنس، لكن يتجه عليه عدم الفرق بين
الصورتين إلا في العبارة، وإلا فاليقين الذي هو عليه هو اليقين
174

الوضوئي، على كل حال ولا تتفاوت وتختلف الحال بين أن يقال: هو على يقين حاصل من قبل وضوئه، أو هو على يقين وضوئي، بل لو
لم يذكر قيد من وضوئه أيضا، وأطلق قوله (فإنه على يقين) كان المعهود أيضا يقينا خاصا، وهو اليقين الذي كان هو عليه في الخارج
الذي ليس ذلك إلا اليقين بالوضوء.
ثم إن هاهنا إشكالا آخر يخطر بالبال، يتجه على الاستدلال بالرواية وهو: ان ظاهر نسبة اليقين إلى الوضوء الظاهر في الغسلتان و
المسحتان دون الأثر الحاصل منهما، هو إرادة قاعدة المقتضي والمانع، ولا ينافي ذلك، قوله: الرجل ينام وهو على وضوء، لصدق
الكون على الوضوء الذي هو الغسلتان والمسحتان، بالكون على أثره من غير حاجة إلى التصرف في الكلمة، وحمل الوضوء على
الطهارة الحاصلة منه، تسمية للمسبب باسم السبب.
قوله: وهو ضد الابرام:
لا يبعد أن يكون ذلك مأخوذا من مادة النقيض والتناقض، فيكون بمعنى قلب الشئ إلى نقيضه وإعدامه. اما حقيقة أو حكما، وفي مقام
ترتيب الأثر، ومنه نقض الغرض، ويطلق ذلك على إبطال العمل وإلغائه عن الأثر بعد الاتمام، كإبطال رفع الصدقة بالمن والأذى، و
على رفع اليد عنه في الأثناء. ومن الحقيقة إطلاق نقض الغزل، ومن التوسع إطلاق نقض الدليل والبرهان.
ثم التوسع: اما أن يكون من جهة واحدة، ومن جهة عدم كون الابطال حقيقيا بل حكما حاصلا من جهة عدم ترتيب الأثر، واما أن يكون
من جهتين: من الجهة التي ذكرناها، ومن جهة عدم كون الأثر الذي لم يرتب على الشئ أثرا حقيقيا له، بل أثرا جعليا تعبديا ظاهريا، كما
هو كذلك في المقام. فان اليقين بتحقق شئ سابقا لو كان أثره الجري عليه لاحقا، كان حينئذ عدم الجري عليه نقضا له، مسامحة من
الجهة الأولى فقط، اما لو لم يكن أثره ذلك إلا تعبدا ظاهريا، وفي مقام الشك في الاستمرار، كان عدم الجري عليه نقضا مسامحيا من
جهتين، فلو لم يكن لا هذا ولا ذاك لم يصح إطلاق النقض على رفع اليد عنه، ومن أجل ذلك يحكم
175

بدلالة الاقتضاء عند قوله: (لا تنقض اليقين بالشك) ان اليقين بشي أثره تعبدا هو الجري عليه ظاهرا حتى يأتي اليقين بالخلاف، فتكون
الروايات دلالتها على اعتبار الاستصحاب من باب دلالة الاقتضاء، وإلا لم يصح إطلاق النقض إلا بمسامحة ثالثة، هي إلغاء خصوصية
الزمان، بحيث لولا تلك المسامحة كانت الرواية دليلا على اعتبار قاعدة اليقين.
ومن ذلك يظهر ان لا فرق بين افراد اليقين بين ما كان متعلقا بما أحرز فيه مقتضى الاستمرار والدوام، وكان الشك في طرق الرافع و
بين ما كان متعلقا بما لم يحرز فيه ذلك، ومن أجل ذلك شك في الاستمرار، فان الاستكشاف المزبور بعد عموم (لا تنقض) يعم
المقامين، وتوهم الفرق انما هو على غير المسلك الذي سلكناه، أعني مسلك التمسك بنفس قضية (لا تنقض) وبمدلولها المطابقي على
حكم الاستصحاب.
قوله: بملاحظته لا بملاحظة متعلقه:
مقتضى ذلك أن يكون اليقين ملحوظا بالنظر الاستقلالي، فينافي ذلك ما سيجئ منه، من لحاظه آليا ومرآة إلى متعلقه، بحيث يكون
لحاظه فانيا في حين لحاظ المتعلق، ولم يقصد من ذكره إلا إراءة المتعلق، كما إذا لم يذكر إلا لفظ المتعلق.
قوله: فلا موجب لإرادة:
تارة يقال: إن حقيقة النقض هو حل الامر المبرم، وأخرى يقال: إن حقيقة قطع الامر المتصل وإزالة الهيئة الاتصالية. فعلى الأول:
التنزل عن تلك الحقيقة لا يكون إلا بما فيه، نحو إبرام أو تخيل إبرام، وذلك لا يكون إلا في نفس صفة اليقين. واما ملاحظة المتيقن وما
هو عليه من تخيل الدوام، لمكان وجود مقتضى الدوام، فذلك أجنبي لا يصح إطلاق مادة النقض، كما أنه على الثاني ينعكس الامر، وكان
لحاظ إبرام اليقين لغوا، لا يصحح إطلاق مادة النقض.
ولكن عبارة الكتاب هاهنا وفيما بعد لا يخلو عن الخليط، فإنه يظهر منه بعد أن اختار ان حقيقة النقض هو حل الامر المبرم، ان ملاحظة
المتعلق وشبهه بالمتصل حيث يكون فيه مقتضى الدوام موجودا، يجدي، ولكن لا حاجة إليه، مع أن ذلك
176

لغو محض، على تقدير كون النقض حل الامر المبرم لا قطع الامر المتصل.
قوله: الظاهر أن وجه الاسناد:
مجرد ذلك لا يصحح إطلاق لفظ النقض، فان اليقين بهذا المتعلق الواحد باق غير منتقض، إلا أن يعتبر الاستمرار أيضا متعلقا لليقين، حتى
يكون منتقضا بالشك الحادث، فيصح حينئذ إطلاق (لا تنقض اليقين) وهذا الاعتبار انما يصح في الشك في الرافع مع إحراز المقتضي
للدوام.
قوله: فلا محالة يكون المراد:
يعني بقرينة مورد الاخبار وبقرينة نسبة النقض إلى اليقين، وكون ذلك بسبب الشك بعد أن كان اليقين لا محالة منتقضا بالشك، لا بد
أن يراد من لا تنقض النهي عن المعاملة معه معاملة الانتقاض بعدم ترتيب أثر الكون على اليقين السابق، وإلا فالنقض الاختياري لنفس
صفة اليقين بإزالته وإذهابه بتحصيل الشك بالنظر في الأمور المورثة للشك، وكذا النقض الاختياري للمتيقن، كالطهارة مثلا، بإحداث
الحدث، بمكان من الامكان، لكنه بمعزل من مفاد الاخبار. وإذا أريد النقض العملي ومعاملة نقض اليقين، فترك ترتيب آثار المتيقن
نقض للمتيقن ونقض لليقين، فصح بملاحظته أن يقال: لا تنقض اليقين كما صح أن يقال لا تنقض المتيقن، وإذا صح فلا وجه لحمل اليقين
على المتيقن، والظاهر أن مقصود من يحمل اليقين على إرادة المتيقن، هو ما ذكرناه، ولم يرد: ان اليقين مستعمل في المتيقن على نحو
التجوز في الكلمة أو في الاسناد بل أراد: ان النقض لليقين هنا قد أطلق باعتبار عدم الالتزام بأحكام المتيقن. فقد ظهر بما ذكرناه ما في
كلام المصنف (ره) بداهة انه كما لا يتعلق النقض الاختياري القابل لتوجه النهي إلى آخر.
نعم، عدم الالتزام بالحكم عملا ليس نقضا للحكم، بل نقض الحكم لا يكون إلا من الحاكم نفسه، فلا يصح أن يقال: لا تنقض الحكم. فتأمل.
قوله: ومنها صحيحة أخرى لزرارة:
هذه الصحيحة مروية عن العلل مسندا عن أبي جعفر عليه السلام.
قوله: وقد ظهر مما ذكرناه في الصحيحة الأولى بتقريب الاستدلال:
لكن دلالة
177

كلتا فقرتي الرواية على عموم القاعدة لمكان الفاء التفريعية ممنوعة، ففي الفقرة الأولى قلت: لم ذلك؟ قال: (لأنك كنت على يقين من
طهارتك ثم شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا). وفي الفقرة الثانية: (لأنك لا تدري، لعله شئ أوقع عليك، فليس
ينبغي لك أن تنقض اليقين أبدا بالشك). واما استفادة العموم من التعليل فذلك لا يكون إلا بإلغاء الخصوصيات، المشتمل عليها مدخول
لام التعليل، وإلا فمفاده لا يزيد على علية الكون على اليقين من الطهارة، ثم الشك في استمرارها. ولذا عد شيخ مشايخنا في رسالة
الاستصحاب رواية عبد الله بن سنان الواقع فيها السؤال عمن يعير ثوبه الذمي، وانه يجب عليه غسله أم لا؟ وفيها قوله: (لا، لأنك أعرته
إياه وهو طاهر ولم تستيقن انه نجسه) من الروايات الخاصة، مع أنها مثل هذه الصحيحة طابق النعل بالنعل. فإن كان التعليل مفيدا
للعموم استفيد العموم في المقامين، وإلا لم يستفد في المقامين.
نعم، الرواية عندي أجنبية من باب الاستصحاب، وانما تدل على عدم وجوب الغسل لعدم تحقق سببه، وهو العلم بالنجاسة. وقد بينه عليه
السلام موضحا عن شقوقه، بقوله: (أعرته وهو طاهر) فلست أنت الذي تنجسه ولا الذمي يعلم أنه نجسه، فلا سبب لوجوب الغسل.
قوله: ثم إنه أشكل على الرواية:
إشكالات الرواية ثلاث:
الأولى: هي ان الإعادة ليست نقضا لليقين ولا عدمها إبقاء ومضيا على اليقين، وذلك من جهة ان عدم الإعادة ليس من آثار الصلاة، مع
الطهارة الواقعية شرعا.
نعم، هو أثرها عقلا، من جهة اقتضاء امتثال الامر الواقعي للاجزاء، الذي لا يشمله خطاب (لا تنقض). الثانية: ان الإعادة ليست نقضا لليقين
بالشك، بل هو نقض له باليقين، أعني اليقين بوقوع الصلاة في النجس، فلا يندرج تحت خطاب (لا تنقض اليقين بالشك) بل يندرج تحت
خطاب (ولكن تنقضه بيقين
178

آخر)، وهذا بناء على أن من آثار وقوع الصلاة في النجس إعادتها متى علم.
الثالث: معارضة الفقرة الأولى من الرواية مع فقرة أخرى بعدها، هي قوله:
ان رأيت في ثوبي وأنا في الصلاة. قال: (تنقض الصلاة وتعيد) والاشكالان الأخيران مبنيان على أن يكون معنى الفقرة، رؤية ما ظن أنه
اصابه أولا، لا ما إذا احتمل إصابة جديدة.
واما الاشكال الأول، فمتجه على كل حال علم أنه المرئي هو ما أصابه أولا أو لم يعلم، بل احتمل ذلك غيره، واحتمل انه اصابه بعد الصلاة.
والجواب: اما عن الشبهة الأولى: فبأن كل أثر مترتب على المتيقن السابق.
كان ذلك شرعيا أو عقليا أو عاديا، يكون عدم ترتيبه نقضا لليقين، ومشمولا لخطاب (لا تنقض). غاية الأمر كان ترتبه عند اليقين
بحكم العقل، وعند الشك يكون ذلك بحكم الشارع وبخطاب (لا تنقض)، ولولا ذلك لم تكن لقاعدة الفراغ والتجاوز معنى، لعدم أثر
شرعي مترتب فعلا، وبعد الفراغ والتجاوز على صحة ما أتى به، فلو لم يكن المنشأ بخطاب (امضه) كما هو عدم الإعادة، لم تكن
للقاعدة مسرح ومجال بعد عدم قبول الصحة للجعل.
واما عن الشبهة الثانية، فيمنع المبنى، وكون أثر وقوع الصلاة في النجس، إعادتها لدى العلم بذلك، بل مقتضى حكمه عليه السلام بأن
الإعادة نقض لليقين بالشك، هو عدم تأثير اليقين بعد الفراغ، بوقوع الصلاة في النجس في إعادتها، ليكون الوجه في الإعادة منحصرا
في وقوع الصلاة مع الشك في طهارة الثوب، إلا أن يقال: إن القضية خبرية، حاكية عن توجه خطاب (لا تنقض) حال الصلاة، لا توجهه في
الحال وبعدها، ويكون التعليل بها بملاحظة اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء، أو بملاحظة كون الشرط أعم من الطهارة الواقعية و
الظاهرية، لكن ذلك كله خلاف ظاهر الرواية، فان هذه الفقرة ظاهرة في كون الإعادة بنفسها نقضا لليقين بالشك، وان القضية قضية
إنشائية، قد توجهت فعلا بعد اليقين بوقوع الصلاة في النجس، لا في حال الصلاة وحال الشك في الإصابة. هذا مضافا إلى
179

ما سيجئ من الجواب عن ثالث الشبهات.
وحاصل ذلك: منع ظهور الفقرة في العلم بكون النجاسة المرئية، هي المظنونة اصابتها أولا، ولو سلم فهو أول. مرتبة من الظهور و
الفقرة الأخرى أقوى ظهورا منها بملاحظة اشتمال قوله: (إذا شككت في موضع منه ثم رأيته)، على الضمير المنصوب، بل لا يبعد
صراحتها بملاحظة التفصيل بين ذلك وبين قوله: (وإن لم تشك ثم رأيته رطبا إلى آخره)، في العلم بكون النجاسة المرئية هي الواقعة
أولا، فيتعين الجمع بين الفقرتين برفع اليد عن ظهور هذه الفقرة وحملها على صورة احتمال الحدوث، سيما ويقرب ذلك تمسكه عليه
السلام في آخر الرواية بهذه القضية عينا، على عدم الإعادة في صورة احتمال تجدد الإصابة، مفصلا بينها وبين صورة القطع بسبقها.
قوله: إلا بأن يقال: إن الشرط:
ذلك لا يصح كون الإعادة نقضا لليقين بالشك، الذي هو عنوان الاشكال، كما لا يصححه الالتزام باقتضاء الامر الظاهري للاجزاء، فما
أفاده في الاشكال على ذلك متجه عليه بأبلغ وجه.
نعم، لو كان الاشكال هو عدم ارتباط العلة بالحكم المعلل به صح كل من الجوابين وانذب بهما الاشكال.
قوله: بل هو شرط واقعي اقتضائي:
مجرد كونه شرطا واقعيا اقتضائيا لا يصحح التنزيل، لعدم أثر فعلي مترتب على الشرط الاقتضائي ليصح بلحاظه التنزيل، فالوجه أن
يقال: إنها شرط فعلي، لكنه تخييري يتخير بينها وبين استصحاب الطهارة على أن يكون الشرط أحد الامرين، من الطهارة الواقعية و
استصحاب الطهارة، وعليه صح التنزيل منزلتها بلحاظ ما لها من الأثر من فعلية الاشتراط.
قوله: هذا مع كفاية:
لكن الكفاية انما تكون إذا كان الشرط وذات المقيد محرزا بالوجدان أو بأصل آخر، حتى يترتب الأثر فعلا بتنزيل القيد، ودعوى ان
الاحراز الاستصحابي محرز من الشارع في المقام بالوجدان.
يدفعها: ان ذلك لا يصحح التنزيل، وإلا لزم تصحيح التنزيل بنفس
180

التنزيل، مع أن الشئ لا يصحح نفسه، مع أن الطهارة الواقعية إذا اعتبرت جزا من الموضوع الذي عليه يبتنى جريان الأصل فيها دون
مجرد كون اليقين يقينا بالطهارة، مقابل كونه يقينا بأمر آخر، عاد الاشكال الأول، ولم تكن الإعادة نقضا لليقين بالشك، ولم يجد
إضافة العلم بها واعتباره في الشرط، في إزالة الاشكال، كما هو واضح.
قوله: لنكتة التنبيه:
التنبيه كان يحصل على كل حال، فلا يبقى ما يكون مسوغا للعدول.
قوله: وإلا لما كانت الإعادة:
قد عرفت ان الإعادة ليست نقضا على كل حال، بل عدم كونها نقضا على التقدير الأول، أوضح، لان عدمها حينئذ من آثار الاستصحاب لا
من آثار المستصحب، الواجب ترتيبها بالاستصحاب.
قوله: إلا أن يقال:
هذا القول لا أثر له في صيرورة الإعادة نقضا.
نعم، إن كان اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء في غاية الوضوح والبداهة، بحيث لم يكد يتطرق إليه الانكار، كشفت الإعادة حينئذ عن
النقض وعدم الالتزام بالامر الظاهري، بالنسبة إلى حال قبل ظهور الخلاف، لا ان الإعادة بنفسها كانت مصداقا للنقض، كما هو ظاهر
الآية. إلا أن يمنع ذلك الظهور، كما في حاشية من المصنف على الكتاب.
قوله: إشكالا في دلالة:
أي إشكال أعظم من بقاء الرواية على الاجمال، والتردد بين إرادة الاستصحاب وإرادة القاعدة، وعدم اتضاح المراد من ذلك بملاحظة
مورد الرواية، كما في الرواية السابقة، مع أن العجز عن دفع الاشكال وتوجهه لا محالة يورث الوهن في صدور الرواية ويخل بسنده.
قوله: مبني على إرادة اليقين بعدم الاتيان:
أو اليقين بالكون في الثالثة، والشك في الانتقال عنها. وهذا الاحتمال أقرب إلى النظر. بل هو المتعين بملاحظة قوله في صدر الرواية
(إذا لم يدر في ثلاث هو أو أربع، وقد أحرز الثلاث)، فان الظاهر:
ان المراد من اليقين والشك هو ذلك الذي وقع التصريح به مضافا إلى أن أصالة
181

عدم الاتيان بالرابعة لا يثبت ان ما بيده ثالثة، ليترتب عليه وجوب الاتيان بركعة متصلة، وأيضا بقاء الامر لازم عقلي، لعدم الاتيان
بالمأمور به.
قوله: وعلى هذا يكون المراد باليقين:
إطلاق لفظ (نقض اليقين) على ترك تحصيل اليقين الغير الحاصل فعلا، بسبب ترك الاحتياط، من الغرابة بمكان، فان النقض بعد تنزيله
عن معناه الأصلي الذي هو حل المبرم على مذهب المصنف (ره) ينحصر في أن يراد منه عدم الاخذ والالتزام باليقين، الحاصل فعلا، فإنه
الذي يناسب معناه الحقيقي، فالمتعين على تقدير لزوم التصرف، حمل اليقين على اليقين بالاشتغال، وتوجه خطاب أقيموا الصلاة، و
النهي عن نقضه بالشك، في حصول البراءة، ثم الامر بنقضه بيقين البراءة الحاصل ذلك بالاحتياط، بما هو عليه من الكيفية.
قوله: لا يأبى عن إرادة اليقين:
يأباه أشد إباء، فان أصل الاتيان وخصوصية كونه متصلا، ليسا أثرين عرضيين، كي يجري الاستصحاب بلحاظ أحدهما، ويخصص دليل
الاستصحاب بالنسبة إلى الاخر، بل هما أثر واحد بسيط ينحل إليهما، فان جري الاستصحاب كان مقتضاه وجوب الاتيان بها متصلة، كما أنه
إن لم يجب الاتيان متصلة، لم يكن للاستصحاب مجال أصلا، والعجب أن المصنف صرح بما ذكرناه في مبحث الأقل والأكثر من
مباحث البراءة، ومع ذلك خالف نفسه هنا.
والتحقيق: ان المراد من اليقين والشك، هو اليقين والشك المصرح بهما في الرواية بقوله عليه السلام: (وإذا لم يدر في ثلاث هو أو
أربع، وقد أحرز الثلاث)، وعدم نقض هذا اليقين، وهو اليقين بالثلاثة بهذا الشك، أعني الشك في الرابعة، يراد منه عدم إبطال العمل و
رفع اليد عنه في الخارج، كما يصنعه الشاك، فيكون قد عامل مع يقينه عمل الشك وهذا هو المراد من إدخال الشك في اليقين، وكذا لا
يعتد بشكه بأن يعد مشكوكه متيقن الوقوع، فيكون قد أعطى للشك حكم اليقين، بل يعطي لكل من يقينه وشكه حكم نفسه بلا خلط
بينهما، ولولا
182

ما ذكرناه، وكان المراد هو الاستصحاب، كان التعبير بعدم الخلط غير مناسب، ثم لو سلمنا ظهور الصحيحة في الاستصحاب، تعين
حملها على ما ذكرناه، لمخالفة الاستصحاب لمذهب الخاصة، ويحتمل أن يراد من إدخال الشك في اليقين، عد مشكوكه، أعني الركعة
الرابعة متيقن الوقوع، فيقتصر عليه ويسلم ويمضي، فيكون ذلك عكس الفقرة الأولى، ويكون مؤدى مجموع الفقرتين هو النهي عن
معاملة الشك مع المتيقن ومعاملة اليقين مع المشكوك، وانه يجب أن يعامل مع كل معاملة نفسه، فيعامل مع اليقين معاملته بعدم تركه و
نقضه، ومع الشك معاملته بعدم عده يقينيا مفروغ التحقق، مقتصرا عليه، من غير إضافة ركعة، فيعطي كل ذي حق حقه، ولعل ذلك هو
المراد من قوله: ولا يخلط أحدهما بالآخر.
واما الفقرات الثلاث الاخر، فهي على عكس الفقرات الأول فمجموع الفقرات الثلاث الأخيرة نسبته إلى مجموع الفقرات الثلاث الأول،
نسبة قوله عليه السلام في الصحيحة المتقدمة (ولكن تنقضه بيقين آخر) إلى قوله: (لا تنقض اليقين بالشك).
ثم إن الفقرات ان ثبت بناؤها للمفعول فهو، وإلا كان الضمير المستتر فيها عائدا إلى (من لم يدر في ثلاث هو أو في أربع) ولم يثبت
العموم في شكوك الصلاة فضلا عن غيرها، وقوله في الفقرة الأخيرة: (ولا يعتد بالشك) في حال من الحالات. لا يجدي في التعميم بعد
اختصاص موضوعها بالشاك بين الثلاث والأربع، وتكون الحالات حالات هذا الشاك من القيام والقعود.
قوله: لظهورها في اختلاف زمان الوصفين:
لا ظهور لها في اختلاف زمان الوصفين وجودا، الذي هو مناط القاعدة.
نعم، هي ظاهرة في اختلافهما حدوثا، بأن يكون مبدأ حدوث اليقين قبل المبدأ حدوث الشك، وهذا يجتمع مع الاجتماع من حيث الوجود
الذي هو مناط الاستصحاب، ومع الافتراق، الذي هو مناط القاعدة. ولعل الأول هو المتعين بملاحظة قوله عليه السلام: (فليمض على
يقينه) الظاهر في اليقين الفعلي دون ما كان عليه
183

سابقا من اليقين الزائد، ولعل نكتة ذلك التعبير غلبة سبق اليقين حدوثا على الشك في موارد الاستصحاب.
وليس ظهور الرواية في وحدة المتعلق وحدة حقيقية يزاحم ما ذكرناه من الظهور. وعلى فرض المزاحمة تستفاد قاعدة الاستصحاب
من عموم التعليل في الرواية، بناء على ما سيجئ من إمكان الجمع بينهما في العبارة، وحمل اللام على العهد، مع توقفه على القرينة
المفقودة في المقام يوجب أن يكون التعليل لمجرد التأكيد، إذ لا يفيد توسعة وتضييقا مع أن التأسيس أولى. واما الكلام في الرواية
الأخرى، أعني قول أبي الحسن عليه السلام: (إذا شككت فابن علي اليقين)، فهو كالكلام في هذه الرواية بعينه، فإنها ظاهرة أيضا في
البناء على اليقين، الذي هو عليه فعلا، وفي حال البناء لا اليقين، الذي كان عليه سابقا. واما توهم اختصاصها بشكوك الصلاة فلعله ناش
من ذكر صاحب الوسائل للرواية في عداد اخبار شكوك الصلاة، وإلا فلا وجه له أصلا، مع أن قوله في ذيل الرواية قال:
قلت: هذا أصل؟ قال: نعم، كالصريح في العموم، فهي من هذه الجهة أقوى ما في الباب من الروايات.
قوله: حيث دل على أن اليقين بالشعبان:
قال شيخنا المرتضى بعد نقل الرواية، والانصاف ان هذه الرواية أظهر ما في هذا الباب من اخبار الاستصحاب، إلا أن سندها غير سليم.
أقول: بل الانصاف انها أوهن ما في الباب، من حيث الدلالة، اما أولا:
فلاحتمال العهد فيها. واما ثانيا: فلان اليقين والشك فيها يحتمل أمورا: الأول:
اليقين بدخول كل من هلال شعبان ورمضان، والشك في خروجه، فتدل الرواية على الاستصحاب الثاني، اليقين بكل من دخول رمضان
وخروجه والشك في ذلك الدخول والخروج، فتكون الرواية كاشفة عن إناطة حكمي الصيام والافطار باليقين، فيكون وجوب الصوم
دائرا مدار اليقين بدخول شهر رمضان وحرمته مدار اليقين بخروجه، فيكون الواجب صوم ما بين اليقينين لا صوم الشهر الواقعي، و
عليه
184

تكون قضية اليقين لا يدخل فيه الشك على حقيقته بلا تعبد.
وتنزيل الثالث: أن يكون المراد من اليقين، اليقين بهلال شعبان ورمضان، والمراد من الشك الشك في دخول ما يقابله، فيكون كل من
دخول الهلالين من قبيل المقتضي للحكم، وكل ما يقابله من قبيل المانع، فيفطر يوم الشك من شعبان ويصوم يوم الشك من رمضان،
لأجل اليقين بالمقتضي والشك في المانع.
قوله: وانه لا بد في وجوب الصوم ووجوب الافطار:
يعني ان حكمي الصوم والافطار غير متوجهان إلى واقع الرمضان وواقع الشوال، بل إلى المعلوم منهما، على أن يكون العلم دخيلا في
الموضوع، فتكون قضية اليقين لا يدخل فيه الشك منزلا على حقيقته، من عدم الدخول الخارجي الوجداني دون التنزيلي التعبدي، فان ما
أخذ في موضوعه القطع لا يعقل دخول الشك فيه، بل هو: اما قطعي الثبوت أو قطعي الانتفاء، من غير أن يكون له حالة ثالثة.
قوله: أن يقال: إن الغاية فيها:
من الواضح ان الغاية في القضية المغياة حد من حدود تلك القضية، كاشفة عن كون المغيا محدودا من جانب الانتهاء بتلك الغاية، ولأجل
ذلك سميت الغاية غاية، فليست هي قضية مستقلة في عرض المغيا، فإذا قيل: كل شئ حلال حتى تعرف انه حرام، كان معنى حتى، هو:
ان الحكم الذي أفيد في كل شئ حلال، محدود بحد وهو خاص العلم بالحرمة، وينتهي وينفد عند العلم. وما لم ينته إلى ذلك فهو على
حليته. وحيث إن من الواضح: ان الحكم الواقعي لا يكون محدودا بحد العلم، فلا بد أن تكون القضية المغياة بالعلم بالخلاف، اما حكما
ظاهريا فقط، مسوقا لبيان الحكم في مجهول الحل والحرمة، أو مختلطا من الحكم الواقعي والظاهري، فتكون القضية مفيدة لامرين
حلية الأشياء بعناوينها الواقعية، فتكون بهذا الاعتبار مخصصة بالعناوين المحرمة بأدلتها، وأيضا حلية مشتبه الحل والحرمة، ولا ضير
في احتواء عبارة واحدة للحكمين، كما يقال: ما عدى معلوم الحرمة حلال وإذا كانت الحرمة المحتملة طارئة مسبوقة بالحلية القطعية
الواقعية، كانت من موارد الاستصحاب، ويكون حكمها
185

بمقتضى ما عرفت من القضية، هو الحلية الموافقة للحالة السابقة، لكن مجرد ذلك لا يصير الحكم الظاهري من الاستصحاب ما لم يكن
ذلك بعنوان إبقاء اليقين السابق وبلحاظ الحالة السابقة، وإلا كان كل حكم ظاهري موافق للحالة السابقة، استصحابا.
وبالجملة: فرق بين الحكم الظاهري، بلسان إدامة الحالة السابقة، وبين الحكم الظاهري، الذي يكون مصداقا للإدامة، وصح بعد جعله أن
يقال: إن الحكم المتيقن مستمر إلى زمان الشك، بل صح التعبير بمثل كل شئ طاهر أو حلال حتى تعلم أنه قذر أو حرام، فان ذلك غير
كون مناط الدوام هو الثبوت أو القطع بالثبوت، وليس تستفاد هذه الإناطة من تلك العبارة.
نعم، ذلك مفاد (لا تنقض اليقين) ومفاد (إذا تيقنت انك توضأت فإياك أن تحدث وضوءا حتى تستيقن انك أحدثت) أو شبههما، مما
يؤدي علية اليقين للحكم بالدوام.
قوله: إلا أنه بغايته دل على الاستصحاب:
بل بغايته دل على أن مورد الحكم في جانب المغيا، كلما هو كل ما عدى الغاية، وليست الغاية مفادها حكما مستقلا في عرض المغيا، بل
شأنها تحديد المغيا، سوأ كان التحديد تحديدا للموضوع في المغيا ليكون مفاد (كل شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر) كل شئ لم يعلم
نجاسته طاهر، أو تحديدا للمحمول، فيكون مفاده ان كل شئ طاهر طهارة خاصة كذائية، محدودة بحد العلم بالقذارة، أو تحديدا
للنسبة وبيانا لأمدها، فيكون مفاده ان اتصاف كل شئ بالطهارة يكون إلى زمان العلم بالقذارة، ثم لا اتصاف بعد ذلك. والفرق في
التعبيرات مجرد فرق في التعبيرات من غير أن يسري إلى مقام واقع الحكم، فان معنى جميع التعبيرات يكون مخلوطا من الطهارة
الواقعية للأشياء وقاعدة الطهارة في المشتبهات، والكل أجنبي عن الاستصحاب.
ثم لو سلمنا: ان مفاد الغاية استمرار ما أفيد في المغيا، فليس مطلق ما هو مصداق الاستمرار من الاستصحاب، وإلا فقاعدة الطهارة في
المتيقن طهارته
186

سابقا، مصداق للاستمرار، بل الاستصحاب ما كان بعنوان الاستمرار بل ولا مطلق ما كان الحكم فيه بعنوان الاستمرار ما لم يكن اليقين
السابق دخيلا في الحكم بالاستمرار، ومنه يظهر.
قوله: ليدل على القاعدة والاستصحاب:
إن كان المراد من الاستصحاب استصحاب الطهارة الواقعية للأشياء، ففيه: ان القضية المغياة غير متعرضة لها، وإن كان المراد
استصحاب ما أفادته القضية المغياة، أعني طهارة المشكوك، ففيه: ان طهارة المشكوك غير محكومة بالاستمرار في ظرف الجهل، بل
هي بنفسها في ظرف الجهل، فالحالة السابقة بنفسها مستوعبة لأزمنة الجهل، فلا يبقى جهل آخر حتى يستصحب ما في هذا الجهل في
ذلك الجهل، بل كل ما يفرض من جهل فهو بنفسه داخل في حكم المغيا، ثم إن استفادة القاعدة من الرواية لا بأن تكون الغاية حدا من
حدود الموضوع، بل تستفاد القاعدة منها. وإن كانت الغاية من حدود المحمول أو من قيود النسبة، أعني ثبوت المحمول للموضوع، فان
المعنى لا يتغير بذلك، بل كان مفاد الجميع طهارة المشتبه، وكان الاختلاف في مجرد التعبير. فيقال تارة:
مشكوك الطهارة طاهر، وأخرى: المشكوك طهارته طاهر طهارة مستمرة إلى زمان العلم بحدوث القذارة. وثالثة: الأشياء في ظرف
الجهل بقذارتهما طاهر.
نعم، لو كان الحكم بالطهارة عند الشك بملاك عدم نقض يقين الطهارة، كان ذلك من الاستصحاب، لكنه بمعزل عن الرواية.
بيان الفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي
قوله: ويؤيد ما استظهرنا منها:
بل يشهد ذلك على خلاف ما استظهره، فان قوله:
فإذا علمت تصريح بما هو المستفاد من قضيته حتى تعلم، مفهوما، وقوله: ما لم تعلم، فليس عليك بيان لمنطوقه. فيعلم ان منطوق الرواية
لا يزيد على أن ما لا يعلم قذارته، لا إلزام على المكلف من قبله. واما ما أفاده في مقام التعليل بقوله: لظهوره في أنه متفرع على الغاية
فذلك حق، لكن لا ينتج ما أدعاه. فان الغاية هي التي أوجبت
187

تشكل تطور القضية المغياة بهذا الطور، وأعني كونها في مقام بيان حكم مجهول الطهارة والنجاسة، فلو لا الغاية كان ظاهر القضية
المغياة هو طهارة الأشياء واقعا وبعناوينها الأولية، فالغاية من قبيل قرائن المجاز التي توجب صرف المعنى، من غير أن يكون لها
مدلول عرضي ينضم إلى المغيا على سبيل تعدد الدال والمدلول، كما في قرائن المشتركات المعنوية.
قوله: هو ان الوضع كالتكليف في أنه مجعول تشريعا:
المراد من المجعولية على ما فسره هنا، وفيما يأتي من كلامه: هو تحقق حقيقة الشئ بمجرد انشاء تحققه، فيكون وجوده الحقيقي متولد
من إنشائه، فاما التحقق الانشائي بالانشاء فذلك مما لا ريب فيه، والبحث في التحقق الحقيقي، وان حقيقة الحجية والولاية والسببية هل
في حقيقة إنشائية، حاصلة بمجرد إنشائها، كحصول الملكية بعد الفراغ عن كون حقائق التكاليف من الايجاب والتحريم، وسائر ما
عداها، حقائق إنشائية حاصلة بإنشائها.
والتحقيق: ان شيئا من التكليف، فضلا عن الموضع، ليس مما يحصل بالانشاء، فليس التكليف أمرا جعليا، فضلا عن الوضع، بل التكليف
أمر واقعي، كسائر الأمور الخارجية، من أبوة زيد وحياة عمرو وقيام بكر، وهو عبارة عن الإرادة المتعلقة بفعل الغير، وهذه الإرادة
صفة واقعية قائمة بنفس المريد، فإن كانت تلك الصفة متحققة، كان هناك تكليف، وإلا لم يكن، ولو أنشأ ألف مرة، بل كانت إنشاءاته
المنشأة خالية عن اللب والجد، ولم تكن من التكليف بشي، فالتكليف ينفك عن الانشاء كما تنفك الانشاء عن التكليف، فهو سابق على
الانشاء وعلة للانشاء ومحرك نحو الانشاء لا انه لا حق به ومعلول له ومتولد منه مجعول به. هذا حال التكليف.
واما الوضع: فمنه أمر واقعي أجنبي عن التكليف، بل سبب للتكليف، كالسببية والشرطية والمانعية للتكليف، ومنه أمر منتزع من
التكليف ليست حقيقته سوى حقيقة التكليف ولا واقع له وراء واقع التكليف، وهذا كالحجية والولاية
188

والشرطية والجزئية والمانعية للمكلف به. فإنا لا نعقل معنا محصلا للحجية سوى وجوب المتابعة، ولا للولاية، سوى نفوذ التصرفات، و
لا الشرطية والجزئية والمانعية، سوى الامر بالمركب من أجزأ وقيود، وكل من فسرها بغير ذلك فقد أتي بألفاظ جوفاء خالية عن
اللب، وإن أعدت القول معه وطلبت منه زيادة البيان تلجلج لسانه، حتى أنهاها إلى التكليف، فاستراح.
وتفصيل المقال بأزيد مما قلناه خارج عن وضع التعليقة، وخذ تفصيل ذلك من صدرك، فليس كل علم يحويه القرطاس.
قوله: وتلك الخصوصية لا يكاد:
لم لا يكاد يوجد، فلعلها بحسب التكوين تتولد من الانشاء، أو ان نفس الانشاء عبارة عن تلك الخصوصية، فإذا التحقت بذات ما هو
السبب، صار ذات ما هو السبب سببا فعليا مؤثرا فيما هو مسببه، فلا تقصر الانشاء عن النفخ في النار الموجب لاشتعال الحطب أو تنور
الفحم.
قوله: حيث إنها، وإن كان من الممكن:
يعني في عالم الامكان، كلا الامرين من الجعل والانتزاع ممكن، لكن بالنظر إلى عالم الفعلية، وملاحظة ما بأيدينا من الأدلة، لا يمكن إلا
الجعل، لعدم منشئية الاحكام، التي في مواردها، من إباحة التصرفات ونحوها، للانتزاع، فإنها أحكام مشتركة تكون مع عدم الملك، كما
تكون مع المالك، لما عرفت عدم معنى معقول لها وراء التكليف، ليتجه الحكم بأنه منتزع أو أصيل، بل هو والتكليف عبارتان يعبر بهما
عن معنى واحد تفسيره بخلاف اليقين.
تنبيهات الاستصحاب
قوله: يعتبر في الاستصحاب فعلية الشك:
قد تقدم عن قريب ان بذلك الملاك الذي يتجاوز من الشك إلى الظن فيحكم بجريان الاستصحاب مع الظن، يتجاوز إلى الغفلة أيضا، بل
عن الصحاح.
قوله: وللزم أن لا يقع ما قصد:
يعني لا يقع ما قصد وهو الملك ويقع ما لم يقصد وهو
189

إباحة التصرفات: وفيه: انما قصد، أعني الملك لا محالة يقع، وكون ذلك بتبع ما أنشأه الشارع من الاحكام عند وقوع العقد، مما لا يضر
بحديث العقود تتبع القصود.
قوله: أو المقولية كملك:
الصواب أن يقال: أو الاعتبارية بدل أو المقولية، وقد اعتبر هو (ره) قبل أسطر وفي أول المبحث، اليقين والشك الفعليين في موضوع
الاستصحاب، فما هذا التناقض؟
قوله: بخلاف من التفت قبلها وشك ثم غفل:
ان الغفلة الطارئة بعد الالتفات والشك توجب انقطاع الاستصحاب، فلا فرق بين الغفلة ابتدأ والغفلة بعد الشك في عدم جريان
الاستصحاب معها. فالتفصيل بين الصورتين لا وجه له ظاهرا.
واما ما أفاده (ره) في وجه ذلك بقوله: لكونه محدثا قبلها بحكم الاستصحاب، مع القطع بعدم رفع حدثه.
ففيه: ان الاستصحاب لا يجعل الشخص محدثا واقعيا، بل يجعله محدثا حكميا، أعني ممن توجه إليه خطاب توضأ ظاهرا، فإذا حدثت الغفلة
انقطع هذا الخطاب، وكان كما إذا لم يلتفت أصلا.
قوله: وهذا هو الاظهر:
هذا استحسان محض، وإلا فعنوان الدليل عدم نقض اليقين الغير الصادق من دون يقين فعلي، ولذا اعتبر الشك الفعلي في المسألة
السابقة، ولم يكتف بالشك على تقدير الالتفات.
وبالجملة: موضوع الحكم بالبقاء في الاستصحاب هو اليقين بحالة سابقة لا مجرد تحقق الحالة السابقة، فالملازمة التي تكون انما هي
بين اليقين بثبوت شئ وبين.
دوامه في الظاهر لا بين ثبوته واقعا ودوامه، كي تكون الحجة على الثبوت حجة على الدوام.
قوله: فتكون الحجة على ثبوته حجة على بقائه:
فيكون دليل التعبد بالبقاء هي أدلة الأحكام الواقعية دون أدلة الاستصحاب، لان أدلة الاستصحاب دليل على الملازمة، والحجة على
ثبوت أحد المتلازمين هي الحجة على الملازم الاخر لا
190

على الملازمة، وعلى ذلك فالاستصحاب معناه قيام الحجة على الحكم الظاهري لا نفس الحكم الظاهري، مع أن رأي المصنف في الأصول
جعل الحكم الظاهري لا الحجية، وقد صرح بذلك في خصوص الاستصحاب في بعض المباحث الآتية، إلا أن يكون ذلك في خصوص ما
إذا كانت الحالة السابقة ثابتة باليقين، لا بقيام الحجة.
قوله: أو ما يشترك بين الاثنين منها:
إذا كان معنى الاستصحاب هو انشاء المماثل فأي معنى يكون لانشاء القدر المشترك بين الحكمين، فان انشاء القدر المشترك غير
معقول، بل المنشأ لا بد أن يكون اما محدودا بحد الوجوب مثلا، أو بحد الاستحباب. واما انشاء خصوص الوجوب أو خصوص
الاستحباب، فهو غير مسبوق باليقين، فإنشاؤه يكون خارجا عن وسع الاستصحاب، الذي هو انشاء المماثل، فكيف ينشأ بالاستصحاب
حكم لم يجتمع فيه الأركان؟ وبالجملة: الكلي المجتمع فيه الأركان غير قابل للاستصحاب، والقابل للاستصحاب، وهو كل من الوجوب
والاستحباب، غير مجتمع في الأركان، فلا محيص من الرجوع إلى سائر الأصول، اللهم إلا أن يقال: أن المتيقن إذا كان هو القدر
المشترك بين الوجوب والاستحباب، كان استصحابه بمعنى انشاء الاستحباب، إذ يكون المتيقن من الرجحان هو الرجحان الغير المانع
من النقيض، فينشأ بالاستصحاب هذا الرجحان المتيقن، والاستحباب ليس إلا عبارة عن ذاك، ولا يحتاج إلى حد وجودي آخر.
قلت: هب ان استصحاب الكلي لا يجري، ولكن في استصحاب الفرد المردد غنى وكفاية.
قلت: كما لا يمكن انشاء القدر المشترك، كذلك لا يمكن انشاء الفرد المردد بين الوجوب والاستحباب واقعا، واما المعين واقعا، المردد
عندنا، فهو غير معلوم لنا لنستصحبه، والاستصحاب يتبع العلم دون الواقع.
قوله: كان استصحابه كاستصحابه:
معنى جريان الاستصحاب في كل من
191

الكلي والفرد هو شمول خطاب (لا تنقض) لكل منهما، ومقتضى ذلك أن يكون اليقين الشخصي بوجود الفرد مشمولا لهذا الخطاب
مرتين: مرة بما هو يقين بوجود الفرد، وآخر بما هو يقين بوجود الكلي، وبحسبه ينشأ الحكم كل شمول مرة، فكان الحكم منشأ مرتين،
وهذا باطل بالقطع، والصحيح ان عموم (لا تنقض) يشمل افراد اليقين الموجودة في الخارج، فإن كان اليقين في الخارج متعلقا بالكلي
دون الفرد، كان هذا اليقين مشمولا للعموم، وكان معناه جريان استصحاب الشخص ليس إلا، ولا يجتمع اليقينان: اليقين بالكلي واليقين
بالفرد في مورد ليجتمع الاستصحابان، بل مقتضى ما ذكرنا عدم جريان استصحاب الكلي في شئ من الموارد، لان الكلي بما هو كلي
لا يتعلق به اليقين، بل اليقين، اما متعلق بالفرد المعين أو بالفرد المردد، وعلى كل حال يكون الاستصحاب جاريا في الفرد، اما معينا أو
غير معين.
قوله: المحكوم بعدم حدوثه:
قيد كونه محكوما بعدم الحدوث، خير دخيل في الاشكال، الذي هو عدم اجتماع أركان الاستصحاب.
بيان الاشكال ان الكلي في الخارج ليس إلا عين الافراد، وكل من الفردين لا يقين بوجوده، مضافا إلى أن الفرد القصير لا شك أيضا فيه،
فالكلي أيضا ينبغي أن لا يجتمع فيه الأركان.
ويندفع: بأن اتصاف الكلي بالصفات الخارجية كالبياض والسواد، لا يكون إلا باتصاف الافراد، فإذا لم تتصف الافراد بصفة لم يتصف
الكلي بتلك الصفة، واما اتصاف الكلي بالمعلومية والمشكوكية الذي معناه وجود الكلي في النفس وجودا تصديقيا، ووجود غير
تصديقي بل شكي، فذلك لا يكون بتبع اتصاف الافراد، فربما لا يكون شئ من الفرد المعينة معلوما موجودا في النفس وجودا تصديقيا،
ويكون الكلي موجودا فيه وجودا تصديقيا، كما في العلم الاجمالي.
ثم إنه يمكن الاشكال في استصحاب الكلي بإشكالين آخرين غير الاشكالين اللذين تعرض لهما المصنف (ره).
192

أحدهما: ان المتيقن ليس إلا وجود الكلي في أحد فردين على سبيل الاجمال، والمشكوك ليس ذلك، بل وجوده في فرد معين، فكانت
القضية المشكوكة غير المتيقنة.
الثاني: ان استصحاب الكلي يعارضه استصحاب عدم كل من الفردين فيما جرى فيه استصحاب عدهما، لعدم لزوم مخالفة قطعية عملية.
ويمكن الذب عن الأول: بأن نفس الكلي أيضا متيقن، بسبب اليقين بوجود فرد مردد، وكذلك نفس الكلي مشكوك بالشك في فرد
معين، فاتحدت القضيتان في الكلي وان تعددت في غيره. فصح أن يقال: الكلي متيقن الوجود والكلي مشكوك البقاء.
ويمكن الذب عن الثاني: بأن وجود الكلي في الخارج، وإن كان عين وجود الفرد، لكن التعبد به ليس عين التعبد بالفرد، حتى يحصل
التنافي بين التعبد بالكلي والتعبد بعدم الفردين، بل معنى التعبد بالكلي ترتيب آثار الكلي، ومعنى التعبد بعدم الفردين عدم ترتيب
آثار الفردين، فيرتب آثار وجود الكلي دون آثار الفردين، بما هما فردان.
قوله: بل من لوازم كون الحادث:
بل من لوازم عدم حدوث الفرد الطويل العمر، لان الكلي وجوده بوجود أفراده وعدمه بعدم أفراده، والمفروض في المقام انحصار ما
يوجد به الكلي في فردين، فينحصر أن يكون وجوده بوجود أحدهما وانتفائه بانتفائهما، واما الحادث فلا غرض مترتب على إحرازه،
وانه الفرد القصير العمر، المرتفع قطعا، أو الاخر الباقي.
نعم، إذا كان أثر مترتب على عنوان الارتفاع، الذي هو العدم بعد الوجود، توقف ترتيبه على إثبات كون الحادث ذلك القصير العمر،
لكن الأثر في المقام لوجود الكلي وعدمه، وهما متفرعان على وجود الفرد وعدمه. هذا كله بناء على تسليم أصل اللزوم، وسيجئ
إنكاره وادعاء العينية.
قوله: مع أن بقاء القدر المشترك:
دعوى العينية تغلق بابا من الاشكال وتفتح
193

بابا آخرا، تغلق باب الحكومة وتفتح باب المعارضة، إذ على تقدير العينية استصحاب بقاء الكلي يعارض باستصحاب عدم حدوث الفرد
الطويل، فيتساقطان. لكنك عرفت آنفا جواب إشكال المعارضة، وان الكلي بوجوده الخارجي عين وجود الفرد لا بوجوده التعبدي،
حتى يكون التعبد بالكلي عين التعبد بالفرد، فيعارضه التعبد بعدم الفرد.
قوله: واما إذا كان الشك في بقائه:
وهناك قسم رابع، وهو أن يكون الشك في بقاء الكلي من جهة تردد المتيقن بين ما هو متيقن الحدوث والارتفاع، وبين ما هو
مشكوك الحدوث، كمن وجد في ثوبه منيا، علم أنه منه، وشك انه من جنابة سابقة اغتسل منها، أو جنابة حادثة لم يغتسل منها، فان
الجنابة الحادثة بالقطع حال خروج هذا المني الشخصي المردد بين الأولى الزائلة والاخرى المحتمل الحدوث، مشكوك البقاء، وكذا من
علم بتعاقب حالتين، الطهارة والبول وشك في السابق منهما، مع علمه بالحالة السابقة على الحالتين، وانه الحدث. استصحاب الطهارة
في حقه معارض باستصحاب الحدث المتيقن، حال خروج البول المردد بين أن يكون نفس ذلك الحدث السابق، الذي تطهر منه لأجل
كون البول واقعا عقيب الحدث، وبين أن يكون حدثا جديدا حادثا عقيب ارتفاع الأول.
لكن جريان هذا الاستصحاب عندي محل نظر، بل منع. لان المردد بين ما هو منتقض بيقين آخر وبين غيره، مشكوك الاندراج تحت
قضية (لا تنقض) والمحتمل الاندراج تحت قضية (ولكن تنقضه بيقين آخر) وفي مثل ذلك لا يتمسك بشي من القضيتين لحكمه.
قوله: ففي استصحابه إشكال:
منشأ الاشكال هو الاشكال في صدق البقاء على استمرار الكلي في ضمن الافراد المتبادلة، أو ان تبادل الافراد يمنع عن صدق البقاء،
فالمتيقن من وجود الكلي مقطوع الارتفاع، والمشكوك مشكوك الحدوث، أو انه يفصل بين احتمال وجود فرد آخر منضما إلى الفرد
الأول، فيكون بقاء الكلي ببقائه، وبين احتمال حدوثه مقارنا لارتفاعه، أظهرها هو الأول، فان الافراد وإن
194

كانت متبادلة بين حادث ومرتفع، لكن ذاك الخيط الرابط لشتاتها. والكلي الجامع بين متفرقاتها، في نظر العرف واحد مستمر، فكما
ان تشتت الافراد لا يمنع عن وحدة ذلك الجامع، لذلك تبادلها لا يمنع عن استمراره. أ ترى ان لحية زيد اليوم في نظر العرف غير لحيته
قبل عام، فيقال: ان هذه اللحية حادثة له، أم يقال: إنها باقية من أوان نموها إلى الان، وكذلك أظفاره وسائر الأمور المتدرجة منه، و
سائر النباتات، مع أنه عند اللاحق، ليس من السابق عين ولا أثر، وعلى ذلك يبتني جريان كثير من الاستصحابات الآتية، كالاستصحاب
في الزمان والزمانيات المتدرجة، واستصحاب النبوات، واستصحاب الاحكام، الشرائع السابقة، ثم مع الإغماض عن ذلك، فالوجه
إطلاق القول بالمنع وبطلان القول بالتفصيل، فان مجرد احتمال البقاء في صورة احتمال مقارنة فرد آخر للفرد الأول لا يجدي ما لم
يكن محتمل البقاء هو المتيقن الحدوث.
قوله: بنفسه أو بملاكه:
المقارنة في الأحكام التكليفية لا يكون إلا بين الملاكين ولا يعقل بين الفعليتين وإلا لزم اجتماع الأمثال فإذا بطل أحدهما عن التأثير
قام الاخر بالتأثير.
قوله: ليس إلا بشدة الطلب وضعفه:
تقدم في مبحث الأوامر: عدم اختلاف الطلب بالشدة والضعف، وانه لا مراتب في الإرادة، وانما الاختلاف في مراتب الحب وان الطلب لا
يكون إلا إيجابيا، وان الاستحباب خارج عن حقيقة الطلب.
قوله: ويكون رفع اليد عنها مع الشك:
الظاهر التباس الامر، فان النقض يصدق على رفع اليد عن كل أمر تركيبي، حصل الشروع فيه، كما في نقض الصلاة والصوم والحج، و
بهذا الاعتبار يصدق النقض على رفع اليد عن الأمور التدريجية، كنقض التكلم والمشي وغيرهما. واما عنوان نقض اليقين بالشك فغير
صادق، سيما على مذاق المصنف، من كون مصحح إطلاق مادة النقض هو لفظ اليقين دون المتيقن، إذ اليقين لم يتعلق إلا بجز من ذلك
الامر التدريجي، وقد انتقض ذلك بيقين آخر، والجز الاخر المشكوك الحدوث لم يتعلق به يقين، بل اليقين تعلق
195

بعدمه، فعدمه هو المستصحب دون وجوده، مثلا صبح يوم الجمعة الذي كان متيقنا قد انقضى وتصرم باليقين، وعصره الذي هو
مشكوك فعلا، ومن أجل الشك فيه شك في بقاء النهار مشكوك الحدوث، فكيف يحكم بخطاب (لا تنقض اليقين) ببقاء النهار؟ واما ما قد
يقال في تصحيح إطلاق النقض من أن نهار يوم الجمعة مثلا في نظر العرف شئ واحد يصدق ان الشخص على يقين منه باليقين بجز
منه، وانه قد شك فيه بالشك في جز آخر منه، فصح توجيه خطاب (لا تنقض) إليه، فكلام ظاهري إذ لو أريد ان صدق الشخص على يقين
من مجموع يوم الجمعة باليقين بجز منه، فذاك باطل بالقطع. ولو أريد صدق انه على يقين من جزئه فذاك لا يجدي في المطلوب، و
الالتباس كله في ما سمعت من صدق النقض والبقاء في الأمور التدريجية برفع اليد عنها في الأثناء، والاستمرار عليها إلى المنتهى، مع أن
ذلك النقض والبقاء، غير النقض والبقاء المبحوث عنهما.
قوله: وهي كونه بين المبدأ والمنتهى:
الكون بين المبدأ والمنتهى، الراسم للحركة القطعية، كلي ذو أفراد. فالكون في كل جز من أجزأ المسافة فرد من عنوان الكون بين
المبدأ والمنتهى، وقد حصل اليقين بهذا الكون الكلي باليقين بفرد منه ثم حصل الشك فيه بالشك في فرد آخر بعد اليقين، بارتفاع
الفرد الأول. فاستصحابه مبني على جريان الاستصحاب في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي، وهذا الكون الكلي، وإن كان
قارا، وإلا لزم السكون، لكن قراره يكون بتبادل الافراد، كقرار الانسان في الحمام بتبادل الافراد، هذا إذا أريد استصحاب الكون بين
المبدأ والمنتهى، ككون الشمس في القوس النهاري أو الليلي، اما إذا أريد استصحاب عدم الدخول في قوس مقابله كاستصحاب عدم
دخول الشمس في قوس الليل عند استصحاب النهار أو قوس النهار عند استصحاب الليل، فالأصل المذكور يكون معارضا بأصل آخر في
مرتبته، إذ الشمس لا محالة قد دخلت بعد الخروج عما كانت فيه في أحد قوسين، اما في جز من قوس النهار الذي كانت فيه، أو في جز
من قوس الليل، فاستصحاب عدم دخوله في قوس الليل، يكون
196

معارضا باستصحاب عدم دخوله في قوس النهار.
قوله: وترتيب مالهما من الآثار:
يعني آثار نفس بقاء الليل واستمرار النهار، اما آثار اتصاف الجز الموجود فعلا بالليلية أو النهارية أو الشهر الموجود بالرمضانية أو
الشعبانية. فلا، إلا على القول بالأصل المثبت أو دعوى خفاء الواسطة.
قوله: من جهة الشك في انتهاء حركته:
يعني حركة ما حركته تدريجية، بأن كانت تلك الذات السائلة المتحركة أو لا قد شك في استمرار سيلانها، وحركتها أخيرا، ولازمه
وحدة الذات في الزمانين، كان علم مقدار من الماء قد أخذ في الجريان ثم شك في بقاء جريان هذا المقدار من الماء أو تبدله بالركود و
السكون، فصح أن يقال: إن شخص ذلك الماء الذي كان جاريا باق على جريانه، وانه بعد بين المبدأ والمنتهى، وفي الخروج من أين إلى
أين؟ لكن عرفت: ان كل جز من أجزأ الجريان غير الجز الاخر، وان كلي الجريان باق بتبادل افراده، فاستصحابه مبني على جريان
الاستصحاب في القسم الثالث، واما استصحاب الجريان بمعنى تتابع أجزأ أخر من الماء وتواصلها من المنبع جاريا، وتواصل الدم من
الرحم سائلا بعد القطع بركود ما جرى وسال أولا أو بجريانه، فذلك يحتاج إلى مسامحة أخرى في جانب الذات، وعد الجريان
المستمر كالخيط الواحد المستمر واحدا، وهي الحركة القطعية، وإن كان راسمها متعددا، وهي الحركة التوسطية التي أشرنا إليها أولا
وذات ما هو الجاري أيضا متعددا، فيقال: الجريان باق، ما لم يتخلل السكون، ولو في جريانات متعددة قائمة بمياه متعددة، ثم لا فرق
في الجهة المبحوث عنها في المقام
بين أن يكون الشك في الجريان لاحتمال وجود مقدار آخر من الماء في المنبع غير ما جرى، أو لاحتمال انسداد المجرى بما يمنع من
الجريان، مع العلم بوجود الماء.
نعم، التفصيل بين الصورتين راجع إلى التفصيل في اعتبار الاستصحاب بين الشك في المقتضي والرافع.
قوله: ثم لا يخفى ان استصحاب بقاء الامر التدريجي:
الوحدة العرفية بين الاجزاء التدريجية متقومة باتصال تلك الأجزاء بعضها ببعض، سوأ كان وجودها بداع
197

واحد أو بدواعي متعددة، فالقسمين الأخيرين من استصحاب الكلي لا يجريان في الأمور التدريجية، بل كلها من قبيل القسم الأول و
أيضا من قبيل استصحاب الشخص، فان الشخص شخص واحد من الحركة ما لم يتخلل السكون في البين، وإذا تخلل السكون لم يكن
محل للاستصحاب.
قوله: فلا بأس باستصحاب قيده:
مع جريان استصحاب القيد يتعين استصحاب القيد لحكومته، انما الاشكال فيما إذا لم يجر لترتب الأثر على كون هذا الزمان، متصفا
بكذا، وذلك لا يثبت باستصحاب بقاء النهار. ومن ذلك يظهر ما في استصحاب المقيد الذي في كلام المصنف (ره)، فان استصحاب
كون الامساك في النهار لا يثبت ان إمساكه هذا متصف بكونه في النهار ليتصف بالوجوب، ولم يتيقن في وقت اتصاف هذا الامساك
بالكون في النهار ليستصحب اتصافه وما هو مفاد كان الناقصة.
قوله: لا ظرفا لثبوته:
الكلام كان في المقيد بالزمان، ففرض الظرفية مع ذلك غريب، إلا أن يريد من المقيد بالزمان، في عنوان البحث المقيد بحسب الدقة
المجامع مع الظرفية العرفية.
قوله: لا يقال: فاستصحاب كل واحد من الثبوت والعدم يجري لثبوت كلا النظرين:
يعني ان النظر العقلي والعرفي كلاهما موجودان محققان، فبحسب كل نظر يجري استصحاب، فيتعارض الاستصحابان.
وحاصل الجواب هو: ان مجرد ثبوت النظر لا يجدي ما لم يكن الدليل مسوقا بذاك النظر، ولا يعقل أن يكون دليل الاستصحاب مسوقا
بكلا النظرين، بل اما مسوق بنظر العرف فقط أو بنظر العقل فقط، وأي منهما كان لا يكون إلا استصحاب واحد. هذا، وعبارة المتن
مضطربة جدا ولا تنتهي إلى نتيجة، فان ظرفية الزمان وقيديته انما تؤثر في جريان الاستصحاب الوجودي وعدم جريانه، واما
الاستصحاب العدمي فلا يختلف بكون الزمان قيدا في جانب الوجودي أو ظرفا. والمصنف أراد بهذه العبارة التنبيه على ما قيل في
المقام، من معارضة
198

استصحاب الوجودي في الأحكام الشرعية دائما باستصحاب العدمي، وعلى جوابه، لكن سلك مسلكا زلقا وعرا ضرره أكبر من نفعه.
والحق عندي صحة المعارضة، وبطلان ما أجيب به عنها. بيانه: ان الحكم قبل الشريعة لم يكن بالنسبة إلى شئ من الأزمنة، يعني ان
الفعل في شئ من الأزمنة لم يقع تحت الطلب، وقد جاء الطلب بمجئ الشريعة، والمتيقن من الطلب الآتي هو الطلب للفعل إلى ما قبل
زمان الشك، فعدم الطلب للفعل إلى هذا الزمان قد انقلب إلى الطلب. واما عدم الطلب للفعل مما بعد هذا الزمان، فلم يعلم انقلابه،
فيستصحب عدم الانقلاب، كما يستصحب أيضا الحكم الوجودي من الزمان المتصل بهذا الزمان، فيحصل التعارض بين الاستصحابين.
وبالجملة: قبل ورود الشرع لم يكن طلب بالنسبة إلى الزمان الأول من الأزمنة اللاحقة، ولم يكن طلب بالنسبة إلى الزمان الثاني، و
هكذا. والمتيقن انقلاب بعض هذا الاعدام والبعض الاخر مشكوك الانقلاب، فيستصحب في البعض الاخر العدم، كما يستصحب من قطعة
الانقلاب - أيضا - الوجود.
واما ما جئت به عن المعارضة، فملخصه: ان الاستصحابين لا يجتمعان في الجريان في شئ من الموارد بل الجاري اما الوجودي فقط أو
العدمي فقط، لأنه ان أخذ الزمان ظرفا لمتعلق التكليف، جرى الاستصحاب الوجودي من قطعه بالتكليف، وإن أخذ قيدا، جرى
الاستصحاب العدمي، وأخذه ظرفا وقيدا في مورد واحد، لا يكون ليحصل التعارض بين الاستصحابين.
توضيحه: ان الذي أسس عليه الاستصحاب العدمي هو ملاحظة الزمان قطعة قطعة، وجعل التكليف بالفعل في زمان غير التكليف به في
آخر، حتى صح أن يقال: إن عدم التكليف بالنسبة إلى الزمان الأول قد انقلب إلى التكليف دون عدمه بالنسبة إلى الزمان الثاني،
فيستصحب عدم هذا التكليف، وفي هذا الفرض لا يجري الاستصحاب الوجودي، لاختلاف الموضوع. فان المقيد بالزمان غير الخالي عن
القيد، فكيف يستصحب الحكم منه إليه؟ واما الذي أسس عليه
199

الاستصحاب الوجودي فهو إلغاء الزمان عن الدخل في المتعلق، فيقال: الفعل كان واجبا، فهو واجب، ومع هذا الالغاء ولحاظ نفس الفعل،
عاريا عن قيد الزمان متعلقا للتكليف، لا يكون تكاليف. وفي مقابله إعدام تكاليف، حتى يقال:
انقلاب عدم من تلك الاعدام لا يضر باستصحاب عدم آخر، بل هناك عدم واحد لتكليف متعلق بذات الفعل، وقد انقلب هذا العدم إلى
الوجود بالنسبة إلى هذا الفعل، فأين العدم ليستصحب؟ وفيه: أولا: انا نتكلم على تقدير أخذ الزمان ظرفا، الجاري فيه استصحاب
الوجود، وفي عين هذا التقدير. نقول: استصحاب العدم أيضا جار وليس التقطيع في الزمان المبتني عليه جريان استصحاب العدم،
مستلزما لاعتبار الزمان قيدا، ولذا هذا التقطيع بعينه موجود في جانب استصحاب الوجود المبني على أخذ الزمان ظرفا، فيقال: ولا
يضر بالاستصحاب وجوب الجلوس قبل الزوال معلوم ويشك في وجوبه بعده، والأصل الاستصحاب، فلم هذا التقطيع؟ إذا فرضناه في
جانب عدم التكليف واستصحبنا عدم التكليف وعارضنا به الاستصحاب الأول، قلتم هذا تقييد بالزمان، وفي تقديره لا استصحاب
وجودي.
وثانيا: ان التقطيع وأخذ الزمان قيدا في جانب العدم، لأجل إجراء استصحاب العدم لا يستلزم التقطيع أيضا في جانب الوجود لئلا
يجتمع الاستصحابان، بل يقطع الأول على ما هو واقعه، فيجري استصحاب العدم، ثم يؤخذ بظاهر دليل الحكم الوجودي في كون الزمان
ظرفا، فيجري استصحاب الوجود، فيتعارض الاستصحابان.
ثم لا يخفى ان الاتصال المعتبر في الاستصحاب حاصل في الاستصحاب العدمي، كحصوله في الاستصحاب الوجودي، وثبوت التكليف
في الزمان الأول لا يخل باتصال عدم تكليف هذا الزمان بالشك في تكليفه.
وربما يجاب عن إشكال المعارضة بأن عدم التكليف قبل الشرع قد انقلب إلى وجود التكليف المحكوم عليه بالاستمرار بحكم
الاستصحاب، فدليل
200

منضما إلى دليل الواقع يفيد عموم الانقلاب وعدم بقاء شئ من الاعدام. وفيه:
ان ذلك انما يصح إذا سلم دليل الاستصحاب عن المعارض، وهل الكلام إلا فيه. فان ما يدل على عموم الانقلاب هو الذي يدل على
خصوصه، وان عدم التكليف في سائر القطعات باق على عدمه، فكيف يؤخذ بأحد مدلوليه في الخروج به عن الاخر، ولا يؤخذ بالآخر
في الخروج به عنه؟ وكل منهما باطل وبلا مرجح.
ومما ذكرنا ظهر: ان ما أفاده المصنف (ره) بقوله: لما عرفت من أن العبرة في هذا الباب إلى آخر العبارة. لا يسمن ولا يغني، فإنه منع
من جريان الاستصحاب الوجودي على تقدير قيدية الزمان، وهذا مما لا إشكال فيه. واما عدم جريان الاستصحاب العدمي على تقدير
ظرفيته فلم يتعرض له.
قوله: فيما إذا كان الشك في بقاء حكمه:
هذا هو الذي كان كلامه فيه ابتدأ، كما أشرنا إليه. وقد خرج عن ذلك وسار سيرا إلى مسألة جريان الاستصحاب في فرض ظرفية
الزمان، ثم رجع رجوعا إلى ما كان فيه من فرض قيديته، أو انه ذهل عن عنوان كلامه، وكيف كان، فلا مجال للاستصحاب في فرض
القيدية، كان القيد قيدا لتمام المطلوب أو لاصله، إذ الحكم الفعلي على كل تقدير متوجه إلى المقيد بالقيد، فكيف يستصحب في الخالي
عنه وهل ذلك إلا إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع.
قوله: فلا أصل لأصالة عدم جعل الوضوء سببا:
بل له أصل أصيل، فان معنى أصالة عدم جعل الوضوء سببا للطهارة بعد المذي، معناه عدم جعل الشارع أحكام الطهارة بعد خروج
المذي، وإن كان ذلك لأجل خروج المذي الذي هو معنى واقعية المذي لا لقصور الاقتضاء، فان النتيجة واحدة، وهي: عدم جعل الأثر، و
اما كون ذلك لقصور الاقتضاء أو لوجود الرافع، فلا أثر له، فيما هو المطلوب. فصح أن يقال: في صورة الشك في رافعية الموجود: ان
السبب لم يكن مؤثرا في جعل أحكام الطهارة قبل الشريعة أبدا. وما علم من التأثير بورود الشرع هو التأثير ما لم يخرج مذي، فإذا خرج
المذي شك في تأثيره. وبعبارة أخرى في جعل أحكام الطهارة
201

والأصل عدمه، كما صح هذا القول في صورة الشك في مقدار الاقتضاء، وهذا الأصل بحسب النتيجة يوافق جعل مشكوك الرافعية رافعا،
فيعارضه أصالة عدم جعل مشكوك الرافعية رافعا، إن كانت الرافعية من الأمور الجعلية، لكن الظاهر انتزاعها من عدم جعل الأثر المسبب
بعد تحقق ذات الرافع.
قوله: لا انه لا يكون موجودا أصلا:
لم أفهم معنى كون الشئ موجودا ومع ذلك لا يكون فعليا، فان كل موجود هو فعلي، وكل ما ليس بفعلي فهو ليس بموجود.
وبالجملة: لا شئ من الحكم بفعلي في الحكم المشروط قبل تحقق شرطه، وانما يصير فعليا بعد الشرط.
نعم، إنشاؤه يكون قبل الشرط، كما أن مناط الحكم، أعني تلك الخصوصية التي تكون في الفعل، التي بها استحق الفعل لان يتعلق به
الطلب المشروط أيضا تكون قبل الشرط كفعلية الملازمة بين الشرط وتوجه الحكم، لكن كل هذه الثلاثة غير قابل للاستصحاب، اما
الانشاء فلانتفائه بالقطع، واما الأخيران فلعدم ترتب أثر شرعا عليهما، وليست فعلية الحكم عند تحقق الشرط أثرا شرعيا مرتبا على
تلك الخصوصية ولا على الملازمة.
والحاصل: لا شئ من الحكم المجعول في الواجبات المشروطة موجودا قبل الشرط، وما هو الموجود ليس بمجعول ولا له أثر مجعول و
صحة الخطاب معلقا على الشرط، لا يقتضي إلا ثبوت الحكم في وعاء الشرط، كما أن في الجمل الشرطية الاخبارية ليس مفادها إلا ثبوت
التالي عند ثبوت المقدم.
نعم، إذا كان الحكم منجزا ثابتا فعلا، وإن كان متعلقه مقيدا بالشرط، وهو المسمى في الاصطلاح بالتعليقي، لم نمنع من استصحابه، لكنه
خارج عن الاستصحاب التعليقي، والذي يهون الخطب ويحسم مادة الاشكال، هو: ان المعتبر في الاستصحاب ليس إلا اليقين والشك
الفعليين، وذلك حاصل في الحكم المشروط، كحصوله في الحكم المطلق، ولا يعتبر أن يكون الحكم المتعلق به فعليا، ولم يدل دليل على
اعتبار ثبوت أمر في الاستصحاب، ما عدى اليقين والشك، ليعتبر فعلية المتيقن.
202

قوله: إن قلت: نعم، ولكنه لا مجال:
ليست المعارضة بين استصحاب الحرمة والحلية الثابتتين في حال العنبية، أعني الحرمة المعلقة على الغليان والحلية الفعلية قبل الغليان،
كما يظهر من جواب الأستاذ العلامة (ره)، فان حلية العصير الزبيبي قبل الغليان قطعي لا يحتاج إلى الاستصحاب، انما المعارضة بين
الاستصحاب، الحرمة التعليقية المشار إليه وبين استصحاب الحلية الثابتة في الزبيب قبل الغليان.
وهذه المعارضة عندي مما لا مفر عنها. وتوهم ان الشك في الحلية بعد الغليان ناش عن وجود خطاب تعليقي قبل الغليان بالاجتناب عنه
بعده، والاستصحاب يقتضي ثبوت مثل هذا الخطاب، فلا يبقى مجال لاستصحاب الحلية معه، فاسد، إذ ليس هنا شكان أحدهما سبب و
الاخر مسبب، بل ليس إلا شك واحد تعلق بحرمة العصير الزبيبي المغلي وحليته. وهذا الشك يتعارض فيه استصحابان: أحدهما يعين
احتمال الحرمة والاخر يعين احتمال الحل، ومجرد ان أحدهما جار قبل الغليان، لا يجعله حاكما، مع أن الاخر أيضا جار قبل الغليان، حين
الالتفات إلى حكمه فيما بعد الغليان، والشك فيه. ولعل توهم الحكومة نشأ من توهم ان الحكم التعليقي قبل حصول المعلق عليه والحكم
التنجيزي بعده، حكمان: أحدهما ناش من الاخر، فإذا ثبت الأول بالأصل لم يبق مجال للأصل في الثاني، وهو باطل.
فان الحكم حكم واحد، والتعليق والتنجيز تعبيران عن حكم واحد، باعتبار ما قبل حصول المعلق عليه وما بعده.
نعم، لو كانت الملازمة الخصوصية أو المستتبعة للحكم مما تترتب عليها فعليته شرعا، لم يبق مع استصحابها مجال الاستصحاب الحكم
الفعلي، وكان استصحاب الملازمة أو الخصوصية حاكما على استصحاب الحل، لكن عرفت: ان لا أثر مرتب عليها شرعا.
قوله: حيث كان ثابتا لافراد المكلف، كانت محققة وجودا أو مقدرة:
لم أتعقل تكليف الافراد المقدرة وتكليف الافراد الموجودة مقطوع الزوال بانقراضهم، وقريب منه في عدم المعقولية ما يقال: إن
التكليف لم يتعلق بالاشخاص ليزول بانقراضهم،
203

بل بكلي البالغ العاقل الباقي، على وجه تبادل الافراد، فيستصحب حكم هذا الكلي إذا شك. وذلك: ان الكلي بما هو كلي غير قابل
للتكليف، والكلي في ضمن الاشخاص عين الاشخاص، وقد انقرض من تعلق اليقين بتكليفه، فلا شك في تكليفه، كما لا يقين بتكليف من
حدث منهم، مع أن استمرار الكلي في الافراد المتبادلة لا يجدي في جريان الاستصحاب إلا على القول بالاستصحاب في القسم الثالث، من
أقسام الكلي.
قوله: وإلا لما صح الاستصحاب:
وهو كذلك لا يصح. فان مناط المنع عام لا يختص بأحكام الشرائع السابقة إلا أن يتمسك في أحكام هذه الشريعة، بأصالة عدم النسخ،
بمعنى إطلاقات الأدلة إطلاقا أزمانيا إن كان في المسألة دليل لفظي ذو إطلاق لا بمعنى الأصل العملي والاستصحاب.
والحق: ان جريان الاستصحاب في هذه المسألة وفي الأمور التدريجية مبني على جريانه في القسم الثالث من أقسام الكلي، فإنه منه.
وقد عرفت: ان المختار جريانه، وعليه فلا إشكال في المسألتين، هذا لو لم يكن إطلاق لفظي، وإلا لم يكن مجال لأصالة عدم النسخ.
بمعنى الاستصحاب، وكان أصالة عدم النسخ بمعنى التمسك بالاطلاق وهو المحكم.
قوله: فيما إذا كان من أطراف ما علم ارتفاعه إجمالا:
بل لا يمنع، ولو كان من أطراف ما علم ارتفاعه إجمالا، إذا لم يجر الأصل في بعض الأطراف، من جهة عدم الأثر، فإنه يجري حينئذ الأصل
في طرف ذي الأثر، وما نحن فيه من هذا القبيل، فان العلم الاجمالي بالنسخ حاصل بين مجموع موارد مخلوط مما قام عليه الدليل، وما
لم يقم. وأصالة عدم النسخ بالنسبة إلى ما قام عليه الدليل لا محل لها، فتبقى فيما لم يقم عليه الدليل بلا مزاحم، إلا أن يكون علم إجمالي
آخر صغير بالنسبة إلى موارد عدم قيام الدليل، مع دخولها كلا في محل الابتلاء، وهو ممنوع. هذا كله في أصالة عدم النسخ بمعنى
الاستصحاب.
واما أصالته بمعنى التمسك بالاطلاق، فتلك يضرها العلم الاجمالي ويهبطها عن
204

الاعتبار مطلقا، لأن هذه الأصالة تدور مدار بناء أهل اللسان، ولا بناء لهم على الاخذ بالظهور، مع العلم الاجمالي بالقرينة الصارفة، فضلا
عن العلم الاجمالي، بعدم تمامية مقتضى الظهور ومقدمات الحكمة في بعض الأطراف، كائنة ما كانت الأطراف، في الدخول في محل
الابتلاء جميعا وعدمه، والتأثير وعدمه.
قوله: وقد علم بارتفاع ما في موارد:
هذا مع العلم بالنسخ بمقدار المعلوم بالاجمال في موارد تلك الأحكام، اما إذا احتمل عدم النسخ في تلك الموارد أو علم بالنسخ فيها، لكن
بأقل من ذلك المقدار، فلا انحلال، ولكن مع ذلك الأصل جار في الموارد الخالية عن الدليل، لما عرفت: من عدم جريانه في موارد قيام
الدليل.
قوله: يمكن إرجاع ما أفاده:
قد عرفت: بطلان كلا الجوابين، فلا جدوى في إرجاع باطل إلى باطل، ولا مفر من الاشكال إلا بالقول بالاستصحاب في القسم الثالث.
قوله: بواسطة غير شرعية عادية كانت أو عقلية:
ان مناط الاشكال يعم الآثار الشرعية المترتب على المستصحب بواسطة شرعية، إذا كان الموضوع للأثر هو خصوص الحكم الواقعي
دون الأعم منه ومن الظاهري.
قوله: أو بلحاظ مطلق ما له من الآثار:
وهذا يختص ب آثار اللوازم ولا يشمل الملزوم والملازم وآثارهما، ولا يمكن الجعل فيهما إلا بتنزيل مستقل متعلق بتلك الأمور، وهو
الطريق الأول، الذي أشار إليه المصنف (ره) في كلامه، وهو ان يستلزم تنزيل لاخر، فيكون هناك تنزيلان: واحد مطابقي، وآخر
التزامي.
قوله: فان المتيقن انما هو لحاظ آثار نفسه:
ان عدم نقض اليقين بقول مطلق ومن كل جهة يقتضي ترتيب جميع ما للمتيقن من الآثار بالأعم مما كان مترتبا عليه بلا واسطة أو معها،
ومجرد ان المتيقن لحاظ آثار نفسه بلا واسطة لا يمنع من انعقاد الاطلاق، لأنه متيقن خارجي لا خطابي. ولذا لا يفرق في الامارات بين
الاثرين، فلو كان وجود القدر المتيقن الكذائي مانعا عن انعقاد الاطلاق كان مانعا هناك أيضا، ومجرد عمومه حكاية الامارة لا يوجب
شمول دليل صدق لجميع حكاياتها،
205

بل لا بد مع ذلك من انعقاد إطلاق في جانب صدق. وقد فرض القدر المتيقن المانع من انعقاد الاطلاق، بل لا يبعد أن يقال: إن العموم في
دليل (لا تنقض) لفظي. ومن جهة وقوع الجنس في حيز النهي، فهو أولى بالشمول والعموم من دليل صدق.
قوله: أو بواسطة ما لأجل وضوح لزومه له:
لم أدر كيف يكون وضوح اللزوم سببا لعد أثر كل من المتلازمين أثرا لصاحبه، فان ذلك شأن خفاء الواسطة ومحوها في نظر العرف،
حتى كان أثر الواسطة أثر لذيها في نظرهم، واما وضوح اللزوم فهو مستلزم لجلا التعدد والاثنينية.
نعم، ان أوجب ذلك شيئا فإنما يوجب الملازمة بين التنزيلين، فكان تنزيل أحد المتلازمين مستلزما عرفا لتنزيل الاخر.
قوله: أو بواسطة عنوان كلي ينطبق:
ان الكلي بما هو كلي والكلي بما هو محدود بحد كذا، منوع أو مشخص أمران، فربما يقع أحدهما تحت التنزيل ولا يقع الاخر، ولذا وقع
الخلاف في أن الاحكام متعلقة بالطبائع أو الافراد، وعلى ذلك فلو فرضنا ان الأثر للكلي لم يجد تنزيل الشخص في ترتيبه، فان الكلي و
ان حصل تنزيله بتنزيل الشخص، لكن حصل تنزيله بما له من الوجود ضمنا، فكل أثر يكون كان له بهذا الوجود الضمني، الذي هو عبارة
عن أثر الشخص، يرتب دون ما يكون له بما هو كلي.
والحاصل: ان معنى تنزيل الشخص: جعل ما يماثل أحكام الشخص، كما أن معنى تنزيل الكلي: جعل ما يماثل أحكام الكلي، فكما ان الحكم
الواقعي لأحدهما غير الحكم الواقعي للاخر، كذلك الحكم الظاهري لأحدهما غير الحكم الظاهري للاخر.
نعم، إذا كان التنزيل للشخص بما هو مصداق للكلي لا بما هو شخص رتب آثار الكلي، وكان التنزيل في الحقيقة للكلي لا للشخص.
قوله: كان منتزعا عن مرتبة ذاته:
يعني إذا استصحبنا حياة زيد رتبنا عليه آثار
206

الانسان والحيوان، وهكذا إلى جنس الأجناس، ورتبنا عليه آثار الأب والابن وما كان من عنوان منتزع من الذات بلحاظ أمر عرضي
اعتباري، ولكن لا ترتب عليه آثار أبيض وعالم، وكل ما كان من العنوان منتزعا من الذات بلحاظ أمر متصل منضم إليها في الخارج، بل
احتاج ترتيب هذه الآثار إلى استصحاب الذات بما لها من العنوان. فيقال: زيد العالم كان والآن كما كان. أو يقال: زيد كان عالما والآن
أيضا عالم. هذا، ولكن عرفت الاشكال في استصحاب الشخص لترتيب آثار الكلي المنتزع من مرتبة الذات، فكيف بالمنتزع من مرتبة
العرضيات؟ فان ما بإزاء العنوان في الخارج ليس هو الذات الأطلس، بل الذات بتلك الخصوصية الموجبة لانتزاع العنوان المتحدة مع
الذات في الخارج، ومجرد الاتحاد الخارجي لا يصير منشأ لترتيب آثار جميع العناوين، إذا كان التنزيل متوجها إلى محض الذات لا إلى
الذات بعناوينها، بل احتاج ترتيب آثار العنوان إلى تنزيل للذات بما لها من العنوان، كما في العناوين المحمولة بالضميمة.
والحاصل: ان العنوان المحل للأثر لا بد أن يكون هو المجرى للأصل والمصب للتنزيل، حتى يرتب عليه الأثر، ولا يجدي تنزيل المعنون
لترتيب آثار العنوان هذا مع أن الفرق في العناوين بين ما كان منها خارج محمول وما كان محمولا بالضميمة، مما لا وجه له أصلا، بل اما
أن يترتب أثر الكل أو لا يرتب أثر الكل.
قوله: وكذا لا تفاوت في الأثر المستصحب:
الاستصحاب عبارة عن جعل حكم ظاهري استقلالا، فلا بد أن يكون المجعول به قابلا للجعل الاستقلالي، فمثل الجزئية والشرطية الغير
القابلين للجعل الاستقلالي لا يكون مجرى للأصل المتكفل للجعل الاستقلالي، إلا أن يوجه الجعل والتنزيل إلى منشأ انتزاعهما، كما يوجه
الجعل الواقعي إلى ذلك، فالتعميم في كلام الأستاذ العلامة لا وجه له. وقد صرح بمثل ما ذكرنا في رسالة البراءة في بحث الأقل و
الأكثر، واما استصحاب الشرطية والمانعية فم آله إلى استصحاب بقاء الامر بالمقيد بوجود الشرط وبالمقيد بعدم المانع.
قوله: فليس استصحاب الشرط والمانع:
عدم كون الاستصحاب المذكور مثبتا،
207

ليس من فروع هذه المسألة، بل من فروع المسألة السابقة. واما نتيجة هذه المسألة فهي جريان هذا الاستصحاب في مقابل عدم جريانه
رأسا، ولو قلنا بالأصل المثبت، حيث لا أثر مرتب على ذلك ولو مع الواسطة، واما على ما ذكرناه فاستصحاب ذات الشرط انما يكون
لترتيب الحكم المتوجه إلى الصلاة متطهرا والطواف متطهرا، وهكذا سائر ما يشترط بالطهارة، لما عرفت: ان الشرطية غير قابلة
للجعل الاستقلالي.
قوله: أو نفيه وعدمه:
ليس النفي حكما مجعولا، بل عبارة عن نفي الجعل، ومن ثم لا يقبل الانشاء أيضا، وانما يخبر عنه. ومجرى الأصل لا بد أن يكون مجعولا
بنفسه أو بأثره، والمفروض ان لا أثر مجعولا أيضا مترتب على نفي الجعل. واما عدم استحقاق العقاب فهو ليس حكما شرعيا، بل حكم
من أحكام العقل في موضوع عدم عصيان التكليف الفعلي. وهذا الاشكال سيان في جميع الأصول العملية من غير فرق بين استصحاب
البراءة وأصالة البراءة، واما دليل كل شئ حلال، وكل شئ مطلق، فمفاده جعل الإباحة، التي هي أحد الأحكام الخمسة. وسيصرح
المصنف (ره) بأن عدم التكليف ليس بمجعول في الأزل ولا ذا حكم مجعول.
نعم، قال: بأنه حكم مجعول فيما لا يزال، ويشكل عليه بعدم الفرق بين الاعدام، وان عدم الفرق بين عدم وعدم أوضح من عدم قبول
العدم للجعل، مع أن عدم الجعل فيما لا يزال عبارة عن استمرار عدم الجعل في الأزل، وكيف يكون هذا مجعولا وذاك غير مجعول، مع أن
الاستصحاب عبارة عن جعل المماثل؟ فإذا كان العدم فيما لا يزال مجعولا دون ما زال، لم يماثل أحد العدمين للاخر، ليجعل
بالاستصحاب.
قوله: أو بواسطة أثر شرعي:
قد عرفت: ان مناط عدم اعتبار الأصل المثبت يعم ما كان من الآثار بواسطة شرعية ما لم يكن موضوعه أعم من الحكم الواقعي و
الظاهري.
قوله: إلا أنه حكم مجعول فيما لا يزال:
قد عرفت: ان ما زال وما لم يزل سيان في
208

عدم الجعل، وانه لا يعقل الفرق بينهما، إذ لا ميز في الاعدام، مع أن المجعول لا يماثل غير المجعول، حتى يجعل بالاستصحاب.
قوله: السابع: لا شبهة في أن قضية اخبار الباب:
لا إشكال في أن خطاب (لا تنقض) كخطابات سائر الأصول، خطاب سيق لجعل الحكم، فلذلك اعتبر أن يكون مجراه حكما أو موضوعا
ذي حكم، انما الاشكال والخلاف في أن مفاده هل هو جعل الأحكام المترتبة على مجراه بلا واسطة، أو بواسطة أمر شرعي، أو يعم
الاحكام مع الواسطة، أو لا يعتبر أن يكون حكما مترتبا أيضا، يشمل جعل الملزوم والملازم؟ فالمثبتة يكون ببعد الأثر عن المجرى،
أعني كونه مع الواسطة كما تكون بعدم كون الحكم أثرا، بل ملزوما أو ملازما، ثم إن منشأ الاشكال في المسألة هو:
ان مفاد (لا تنقض) هو هل تنزيل المشكوك منزلة المتيقن في مطلق ما للمتيقن من الاحكام، أو في خصوص ما يتنجز عليه الاحكام بما هو
متيقن، فكل ما يكون له بما هو متيقن بهذا اليقين السابق يرتبه لذي الشك دون ما يكون بتوسيط يقين آخر يتولد من هذا اليقين،
كاليقين بالواسطة وبالملزوم والملازم، فإنه عند اليقين السابق كانت يقينات متعددة مرتبطة بعضها ببعض، فاما الغير المرتبطة فلا
كلام فيها، وكل من تلك اليقينيات كان منجزا لحكم. فإذا توجه خطاب (لا تنقض) بواحد منها كان مفاده جعل ما يماثل ما يتنجز بذلك
اليقين دون ما يتنجز بغيره مما هو متولد منه. وهذا هو الحق، ولكن مع ذلك دليل الاستصحاب يشمل الأثر مع الواسطة، وانما لا يشمل
الملزوم والملازم خاصة، اما كون ذلك هو الحق، فلوضوح ان كل حكم يرد على عنوان يتقوم بذلك العنوان الذي يرد عليه، فإذا قيل:
(لا تنقض اليقين) كان معناه ان كل ما كان يتنجز لأجل هذا اليقين فهو ثابت لدى الشك دون كل حكم كان عند اليقين، ولو لأجله، بل
لأجل يقين آخر حصل منه.
واما شمول دليل الاستصحاب مع ذلك للأثر مع الواسطة: فلان النقض أريد به معاملة النقض دون النقض الحقيقي. والمفروض ان اليقين
أطلق مرآة إلى متعلقه.
209

فكان محصل المعنى: وجوب أن يعمل الشاك عمل المتيقن، بالالتزام بأحكامه، ومن المعلوم ان عمل بقاء المتيقن لا يختص بما يترتب
عليه بلا واسطة، بل يعمه وما يترتب عليه مع الواسطة، إلا أن تتباعد الواسطة وتصل إلى حد لا يعد العمل عملا لليقين، ولا ترك العمل
نقضا له. ودعوى: ان ذلك وإن كان كذلك إلا أنه لا إطلاق في الاخبار يشمل الأثر مع الواسطة. مدفوعة بمنع عدم الاطلاق، مع أنه لو صح
ذلك لزم ان لا يرتب ما كان بواسطة أمر شرعي أيضا، مع أنه لا إشكال في ترتيبه.
والحاصل: ان معنى (لا تنقض) جعل كل حكم يتنجز باليقين، بالأعم من المتصل والمنفصل، هذا ولكن الأصل بالنسبة إلى الأثر مع
الواسطة متعارض متساقط، وبالنتيجة لا يعتبر الأصل المثبت، بل عدم الاعتبار بسبب المعارضة يكون أشد من عدم الاعتبار لأجل عدم
المقتضي، فإنه يشمل الوسائط الخفية أيضا، لان المعارضة موجودة هناك أيضا.
بيان المعارضة: ان مورد ثمرة النزاع في اعتبار الأصل المثبت، هو ما لو كان الأصل في الواسطة على خلاف الأصل في ذيها وفي هذه
الصورة بعينها، يعارض الأصل في الواسطة مع الأصل في ذيها، فكما ان الأصل بقاء حياة زيد، كذلك الأصل عدم نبات لحيته. ولا حكومة
لاحد الأصلين على الاخر لعدم ترتب مجرى أحدهما على مجرى الاخر ترتبا شرعيا، وما لم يكن ترتب شرعي لا تكن حكومة، وإن كان
أحد الشكين ناشئا من الاخر. واما بالنسبة إلى أثر نبات اللحية فكلا الأصلين موضوعيان: أحدهما في موضوع بعيد والاخر في موضوع
قريب، فكما ان استصحاب حياة زيد يقتضي ترتيب آثار نبات لحيته كذلك يقتضي استصحاب عدم نبات لحيته عدم ترتيبه،
فيتعارضان ثم يتساقطان، فيرجع إلى الأصول الأخر.
هذا ان اعتبر الأصل المثبت على المسلك الذي سلكناه، وكذلك تكون المعارضة على المسلك الاخر الذي أشير إليه في المتن، وهو:
استفادة تنزيل الوسائط من تنزيل ذويها. فيكون مفاد أدلة الاستصحاب تنزيلان: تنزيل استصحابي،
210

منها بالمطابقة، وآخر غير استصحابي، مستفاد منها بالالتزام.
نعم، طرفي المعارضة لا يكونا استصحابين، بل يكون أحدهما استصحابا ويكون الاخر ذلك الأصل الاخر، المستفاد اعتباره من دليل
الاستصحاب.
قوله: الحادي عشر: لا إشكال في الاستصحاب:
لا ينبغي الاشكال في: ان العلم بانتقاض الحالة السابقة في الجملة لا يمنع عن الاستصحاب بالنسبة إلى زمان الشك، فإذا علم بالحادث و
شك في زمان حدوثه، استصحب عدمه إلى زمان اليقين بوجوده. ويرتب على ذلك آثار عدم حدوثه في زمان الشك، لا آثار حدوثه
بعده، أو آثار عنوان تأخره أو عدم تقدمه.
وبالجملة: كل عنوان ما عدى عنوان عدم الحدوث في زمان الشك لا يرتب أثره، حتى أنه لا يرتب آثار عدم كون الموجود حادثا في
زمان الشك، لعدم اليقين بهذا السلب الناقص، وانما المتيقن السلب التام، فيستصحب السلب التام، ويرتب كل أثر كان للسلب التام. هذا
إذا قيس الحادث إلى أجزأ الزمان، وهكذا الحال إذا قيس إلى حادث آخر معلوم التاريخ أو مجهوله، فإنه يستصحب عدم حدوثه في
زمان الاخر، ويرتب كل أثر يكون لهذا السلب التام، ولا يرتب كل أثر يكون للسلب الناقص، أعني كون هذا الموجود غير حادث في
زمان الاخر، أو كان مرتبا على كون هذا مقدما على الاخر أو مؤخرا عنه أو مقارنا معه.
نعم، لو كان لهذه العناوين أثر نفي ذلك بأصالة عدم التقدم، وعدم التأخر، وعدم التقارن، على سبيل السلب التام، فإنه حين لم يكن
وجود لم يكن وجود مقارن ولا وجود متقدم ولا وجود متأخر، فكما يستصحب عدم الوجود المطلق عند الشك كذلك يستصحب عدم
الوجود المقيد عند الشك فيه، بشرط عدم معارضته بمثله في جانبه أو جانب الحادث الاخر.
ثم إن المصنف أشكل فيما ذكرناه من استصحاب عدم حدوث أحدهما في زمان الاخر، بعدم إحراز اتصال زمان المشكوك بالمتيقن. و
هو مما يعتبر في صدق النقض والبقاء، فان الزمان الذي يراد بالاستصحاب أن يحكم بعدم حدوث الحادث فيه،
211

هو عبارة عن زمان الحادث الاخر، وزمان الحادث الاخر مجهول، مردد بين متصل ومنفصل، فيكون الزمان الذي يراد أن يحكم بعدم
حدوث هذا الحادث فيه مجهولا مرددا بين متصل ومنفصل.
وفيه: أولا: ان زمان الاخر حيث كان مجهولا مرددا بين متصل ومنفصل، كان كل أطراف الشبهة زمان الشك، فيكون متصلا لا محالة،
لان الكل متصل بزمان اليقين، فيحكم بعدم الحادث في كل هذا الزمان.
وثانيا: ان المستصحب إذا لم يكن لاستمراره في قطعة من قطعات زمان شكه المتصلة بزمان اليقين أثر شرعي، لم يمنع ذلك من أجزأ
الاستصحاب في القطعة الأخرى المنفصلة، فيحكم باستمرار المتيقن من زمان اليقين إلى زمان يكون لوجوده أثر من أزمنة الشك، ولو
كان ذلك الزمان منفصلا.
والوجه: ان رفع اليد عن اليقين في القطعة المنفصلة نقض لليقين بالشك، والمقام من هذا القبيل، فان القطعة وإن كانت منفصلة، لكن
يحكم ببقاء المتيقن مستمرا من القطعة المتصلة إليها.
قوله: انما هو خصوص ساعة:
بل مجموع الساعتين المحتمل كل منهما أن تكون ساعة ثبوت الاخر، فزمان الشك هو ساعة الشك في ثبوت الاخر، وهو عبارة عن
مجموع الساعتين لا خصوص ساعة ثبوت الاخر واقعا، فكما ان مجموع الساعتين زمان الشك في ثبوت كل منهما، كذلك هو زمان
الشك في حدوث كل منها في زمان الاخر، وذلك لوضوح انه ليس لنا شكان، بل شك واحد في حدوث كل منهما، وهذا الشك يراعى
نسبته إلى الزمان بما هو زمان: تارة، وبما هو زمان الاخر أخرى، فكما يستصحب عدم أحدهما عدما مطلقا إلى زمان اليقين بوجوده
كذلك يستصحب عدم أحدهما عدما مقيدا وعدما في زمان حدوث الاخر، لتحقق هذا العدم الخاص في الزمان الأول، كتحقق ذاك العدم
المطلق في الزمان الأول، ويشك في انقلابه إلى الوجود في الزمان الثاني، لاحتمال انه هو الحادث أولا، فيكون موجودا في زمان حدوث
الاخر، فيستصحب عدم كونه موجودا في زمان
212

حدوث الاخر، لكن هذا الاستصحاب يرجع إلى نفي الوجود الخاص والوجود المقدم على الاخر، الذي تقدم في كلام المصنف (ره). و
المصنف هاهنا يريد نفي الوجود المطلق، ولكن في زمان الاخر، على أن يكون زمان الاخر ظرفا للسلب لا ظرفا للمسلوب.
ويمكن تصحيحه: بأنه إذا سلب الحادث في جميع أزمنة الشك، وانتهى السلب إلى زمان العلم بوجودهما جميعا، فقد سلب وجود أحدهما
في زمان حدوث الاخر، ولا يحتاج السلب بالقياس إلى زمان الاخر إلى مئونة زائدة على ذلك الذي اعترف بالاستصحاب فيه، فان
الزمان المتصل بزمان حدوث الحادث الأخير، الذي هو زمان القطع بهما هو زمان الشك فيهما جميعا، فينفى حينئذ حدوث أحدهما
المرتب عليه الأثر. فيقال: لم يكن موجودا أولا، فهو غير موجود أخيرا، وذلك بعينه عبارة عن عدم وجوده في زمان حدوث الاخر الغير
الخارج عن هذه الأزمنة الكائنة بين يدي حدوث الحادث الأخير، التي استوعبها السلب الاستصحابي، ولذا يجري هذا الاستصحاب في
جانب مجهول التاريخ، ويحكم بعدمه في زمان الاخر المعلوم التاريخ. وسيجئ في كلام المصنف (ره).
ولا فرق بينه وبين المقام، إلا بأن العلم بالتاريخ هنا على سبيل الاجمال وهناك على وجه التفصيل. فكما يستصحب عدم الحادث
المشكوك في التاريخ التفصيلي، فليستصحب في أطراف الاجمال من التاريخ الاجمالي.
قوله: كما انقدح انه لا مورد للاستصحاب:
لا ريب ان إحدى الحالتين، وهي الحالة الأخيرة، مستمرة بالقطع، كما أن الحالة الأولى، منتقضة كذلك، وحيث اشتبهت إحداهما
بالأخرى، احتمل انتقاض كل منهما واستمرارها، فيحتمل أن تكون الطهارة من زمان وجودها مستمرة إلى هذا الحال، من غير أن
ينقضها حدث، كما يحتمل أن يكون الحدث من زمان وجوده مستمرا، من غير أن ترفعه طهارة، ولا يعتبر في الاستصحاب أن يكون
الشك في البقاء بحيث يكون الاستمرار على اليقين إبقاء، ورفع اليد عنه نقضا له، والمقام كذلك، فان زمان الشك الذي
213

هو ما بعد الحالتين المتعاقبتين، وإن لم يحرز اتصاله بما يراد استصحابه، إلا أنه صح لنا أن نقول: إن الطهارة في ظرفها الواقعي
المتحقق هي فيه، لم يقطع بزوالها، بل يحتمل استمرارها، فإذا احتمل استمرارها حكم باستمرارها. وكذلك في جانب الحدث. ولسنا
نقول: إن الطهارة والحدث مستمران من الزمان المتصل بزمان الشك إلى زمان الشك، حتى يقال: إن اتصالهما بزمان الشك غير معلوم،
فكيف يستصحب؟
قوله: وكذا موضوعا فيما:
وهذا كما في استصحاب الأحكام الشرعية العملية، لأجل الالتزام وعقد القلب، إذا قلنا بوجوب الالتزام بتفاصيل الاحكام. فان استصحاب
الاحكام لأجل ترتيب هذا الأثر أصل موضوعي، بل ربما لا يجري لولا هذا الأثر، كاستصحاب التكليف المعلوم بالاجمال بين أطراف أتى
ببعضها، فإنه لا أثر عملي مرتب على هذا الاستصحاب، لعدم إثباته تعلق الوجوب بالباقي ووجوب الاحتياط بإتيانه حكم عقلي، موضوعه
العلم الاجمالي، وهو موجود بلا حاجة إلى الاستصحاب.
قوله: إلا إذا كان حجة من باب إفادته:
بل إلا إذا أفاد الظن فعلا ولو لم يكن حجة، أو كان حجة من باب التعبد.
قوله: وقد انقدح بذلك انه لا مجال له:
إذا شك في بقاء صفة النبوة الذي لا يكون ذلك إلا مع كون هذه الصفة قابلة للزوال، أو محتمل لقبولها له، أو شك في بقاء منصب
الرسالة، بمعنى المأمورية بالتبليغ من قبل الله جل وعلا، وكان وجودها الواقعي دون الاذعاني الاعتقادي موضوعا لاثر، وقام الدليل
على الاستصحاب من صاحب الشريعة اللاحقة، المحتمل حقيته، وكان الشخص ممن بلغ حد التكليف في عصر القطع بنبوة النبي السابق،
استصحبت صفة النبوة أو منصب الرسالة: فاما إذا انتفى واحد من هذه القيود، لم يكن للاستصحاب مجال، اما مع عدم الأثر للوجود
الواقعي فواضح، بعد أن كان الاستصحاب لا يؤثر في حصول اليقين.
214

واما مع عدم قيام الدليل من صاحب الشريعة اللاحقة، فلانه لا يكفي قيام الدليل من صاحب الشريعة السابقة، لأن المفروض الشك في
استمرار نبوته، فكيف يؤخذ بأحكامه؟ واما مع قيام الدليل منه، فتستصحب الشريعة السابقة من غير حاجة إلى قيام الدليل من صاحبها،
لان الحق لا يخلو عن أحدهما. فإن كان الأول فقد عمل عليه، وإن كان الثاني فهو الذي ارجع إلى الأول. وفي الحقيقة قد عمل بشريعته
بالعمل بشريعة الأول.
واما مع عدم البلوغ حد التكليف إلا في عصر الشك، فلانه لم يتيقن ثبوت نبوة النبي السابق في حقه كي يستصحبه، واستصحاب النبوة
من الأمم السابقة إسراء للحكم من موضوع إلى موضوع.
نعم، بناء على جريان استصحاب القسم الثالث من الكلي صح هذا الاستصحاب، يعني يستصحب جنس النبوة وإن تبادلت أشخاصه و
كانت نبوته فعلا نبوة بالنسبة إلى أشخاص اخر، لكن استصحاب الجنس لا يثبت به الفرد، وكون النبي السابق نبيا بالنسبة إلى
اللاحقين أيضا، فيختص أثر هذا الاستصحاب، بما إذا كان لبقاء جنس النبوة أثر شرعي.
واما الاحتياط بالجمع بين أحكام الشريعتين في مورد العلم الاجمالي، فذلك منوط بعدم توقف صحة الأعمال على الاذعان التفصيلي
بحقية إحدى الشريعتين، وإلا لم يتمكن من الاحتياط.
قوله: نعم، لو كانت النبوة من المناصب:
أو كانت عبارة عن أمر الشخص بتبليغ الاحكام، فيكون الشك في النبوة شكا في بقاء أمره بالتبليغ، فيستصحب بقاء أمره إذا كان ذلك
موضوعا لاثر بالنسبة إلى المستصحب، فان هذا الأصل أصل موضوعي بالنسبة إلى المستصحب، محتاج إلى أثر شرعي، وإن كان حكميا
بالنسبة إلى النبي نفسه، لو فرض في حقه الشك.
قوله: مع أنه لا يكاد يلزم به:
لعل امتياز هذا الجواب عن سابقه، هو: انه مع
215

الشك أيضا لا يتحقق إلزامه ما لم يعترف بشكه.
وفيه: ان الالزام في مقام المناظرة، وان لا يحصل بحيث يظهر ذلك للغير الجاهل بشكه، ما لم يعترف بالشك، لكن إلزامه في نفسه مع
شكه واقعا، يحصل بحيث يعرف هو من نفسه انه أفحم.
قوله: لا عقلا ولا شرعا:
الظاهر أن أصالة عدم النسخ مما عليها بناء العقلا وعمل جميع أهل الملل والأديان، ولولاها لاختل أمرهم في ديانتهم لانسداد سبيل
القطع بالاستمرار غالبا، إلا أن يقال: إن القطع بالواقع، وإن كان كذلك، لكن القطع بالحجة على الاستمرار من عموم لفظ أو إطلاقه،
غالبا حاصل، فلعل حكمهم بالاستمرار كان ناشئا من أدلتهم اللفظية. هذا، مع أن دعوى عدم الدليل على اعتبار الاستصحاب في الشرائع
السابقة، تخرص ورجم بالغيب، وعدم الدليل عندنا على ذلك لا يستلزم عدمه عندهم.
قوله: ووجوب العمل بالاحتياط عقلا:
هذا إذا لم تتوقف صحة الأعمال على الاعتقاد بحقية الدين تفصيلا، كما هو كذلك في شريعتنا، وإلا لم يمكن الاحتياط.
قوله: إلا إذا علم بلزوم البناء:
كما إذا كان الاستصحاب من جملة أحكام الشريعة اللاحقة المشكوكة، أو من أحكام كلتا الشريعتين.
قوله: والتحقيق: أن يقال إن مفاد العام:
اعلم، ان البحث في هذا التنبيه يقع في مقامين:
الأول: في مرجعية العام عند الشك وعدمه. الثاني: في مرجعية استصحاب حكم المخصص وعدمه.
اما المقام الأول، فتوضيح الحال فيه: ان العام يكون على أقسام أربعة: فان قطعات الزمان، تارة: تكون قيدا دخيلا في موضوع الحكم و
مكثرا لافراد العام، فيكون للعام افراد عرضية وافراد طولية، وهي عبارة عن تلك الافراد العرضية بعينها، لكن ملاحظا لكل من تلك
الافراد مع كل قطعة قطعة من قطعات الزمان.
وأخرى: تكون ظرفا غير مكثر للموضوع، فلا يكون للعام إلا سنخ واحد من الافراد،
216

وهي الافراد العرضية فقط.
ثم كل من هذين القسمين أيضا ينقسم إلى قسمين: فإن ما كان الزمان قيدا فيه مكثرا لافراد العام، تارة: يكون مكثرا لحكمه أيضا، بأن
كان العموم استغراقيا وبإزاء كل فرد حكم، فكانت الاحكام متعددة بتعدد الافراد العرضية والطولية.
وأخرى: لا يكون مكثرا للحكم، بل كان مكثرا لافراد العام فقط، وكان الحكم حكما واحدا متعلق بمجموع الافراد على سبيل العموم
المجموعي. وما كان الزمان ظرفا فيه ينقسم إلى ما كان الزمان ظرفا محضا فيه بلا شائبة القيدية، كما في مثل أكرم العلماء، فإن
الاكرام حيث إنه زماني يحتاج إلى الزمان، وإلا فتمام موضوع الحكم نفس الاكرام بلا دخل للزمان فيه، وإلى ما كان الزمان دخيلا مع
ذلك في الجملة، كما في أكرم العلماء في شهر كذا أو يوم كذا أو ساعة كذا، فان الأزمنة المذكورة دخيلة في الحكم، ولذا كان الواقع من
الاكرام في غير تلك الأزمنة أجنبيا عن المطلوب، لكن أجزأ هذه الأزمنة بخصوصياتها لا دخل لها، بل في كل جز من أجزائها، إذا أتى
بالاكرام فقد أتى بالمأمور به، فكان المأمور به طبيعة الاكرام الواقع في شهر كذا، المنطبقة على كل جزئي من جزئيات الاكرام في هذا
الشهر.
هذه تمام الأقسام الأربعة. لا إشكال في حكم القسمين الأولين منها، وهما قسما القيدية، فإن العموم مرجع في أحد القسمين دون القسم
الاخر.
فأما الذي يرجع فيه إلى العموم فهو ما كان الزمان مكثرا للموضوع والحكم جميعا، فإنه بعد خروج قطعة من قطعات فرد واحد يرجع
إلى العموم في باقي قطعاته، لان خروج كل قطعة تخصيص مستقل، والأصل عدم التخصيص، زائدا على ما ثبت تخصيصه.
واما القسم الذي لا يرجع فيه إلى العموم: فهو ما كان الزمان مكثرا فيه للموضوع ولافراد العام فقط لا لحكمه، بل كان الحكم حكما
واحدا متوجها إلى مجموع القطعات، فإنه إذا خرجت قطعة أضر ذلك بالعموم وهدمه هدما كليا، فان الحكم الواحد المتوجه إلى المجموع
من حيث المجموع ينافيه كليا خروج فرد كما
217

ينافي خروج جميع الافراد.
واما القسمان الأخيران، وهما قسما الظرفية: فالحق، ان خروج الخاص في بعض قطعات زمان استمرار إطلاق العام تقييد لاطلاق العام،
والتقييد لا يمنع من الرجوع إلى الاطلاق في غير مورد القيد، وأي فرق بين أن يحكم بإكرام زيد صريحا ثم يقيد إطلاقه، بمثل لا تكرمه
يوم الجمعة في أنه يرجع فيما عدى يوم الجمعة، بإطلاق أكرم، وبين أن يوجب إكرامه في ضمن أكرم العلماء ثم يقيده بهذا التقييد.
فتلخص: ان تمام الأقسام الأربعة يرجع فيه إلى العموم أو الاطلاق ما عدى قسما واحدا، وهو ما أخذ فيه الزمان قيدا غير مكثر للحكم.
ثم اعلم: انه لا فرق فيما يتمسك فيه بالعموم، بين أن يكون الخارج من مبدأ زمان شمول العام أو من منتهاه ووسطه، فان العموم
المجموعي ينهدم في كل ذلك، فلا يبقى ما يرجع إليه، كما لا فرق في عدم الرجوع إلى العام بين ما قبل قطعة الخارج وما بعده، يعني لو
خرج زمان منه لا يرجع إلى ذلك العام في زمان سابق عليه، كما لا يرجع في زمان لا حق به، فان ملاك عدم الرجوع، وهو انهدام العام
المجموعي بذلك، مشترك بين الجميع، وحفظ صفة الاجتماع، فيما إذا كان الخارج من المبدأ والمنتهى لا يجدي، فان مجموع ما عدى
الخارج غير مجموع الخارج مع الباقي.
واما المقام الثاني: فملخص الكلام فيه هو: انه ليس كل ما لا يرجع فيه إلى العام يرجع فيه إلى استصحاب المخصص، بل يختص الرجوع
إلى الاستصحاب بما إذا كان الزمان ظرفا في دليل المخصص، وهذا يجتمع مع كونه ظرفا أيضا في دليل العام أو قيدا هناك، كما أن
القيدية في دليل المخصص يجتمع مع كل من الظرفية والقيدية في دليل العام، وربما يلوح من كلام شيخ أساتيذنا المرتضى (ره)
الملازمة بين الامرين، وان الظرفية والقيدية من جانب يلازم مثله من جانب آخر، وهو واضح الضعف.
قوله: ثبوت حكمه لموضوعه على نحو:
يعني ان الزمان كان خارجا عن الموضوع غير
218

مشخص للحكم، وكان ظرفا لاستمرار فرد واحد شخصي من الحكم، كأزمنة وجود زيد، ومثله ما إذا كان الزمان قيدا، لكن لا كل زمان
زمان، بل مجموع الأزمنة، فيكون الموضوع موضوعا واحدا مقيدا بمجموع الأزمنة، فإذا خرج فرد في زمان، كان عدم جواز التمسك
بالعموم في ذلك الفرد فيما بعد ذلك الزمان، أوضح من صورة الظرفية.
قوله: وكذلك مفاد مخصصه تارة:
جواز التمسك بالعموم وعدمه، يدور مدار قيدية الزمان وظرفيته فيه خاصة.
نعم، في صورة عدم التمسك بالعموم يحتاج الرجوع إلى استصحاب المخصص، إلى كون الزمان ظرفا في دليل المخصص.
قوله: نعم، لو كان الخاص غير قاطع لحكمه:
لم أعرف، كيف لا يكون قاطعا لحكمه.
نعم، من حين وجود الحكم لا ينقطع استمراره، بل يبقى مستمرا بخلاف الخروج من الوسط، وبالجملة: خروج قطعة من جانب المبدأ أو
المنتهى لا يضر باستمرار الحكم فيما عدى ذلك الخارج من الأزمنة، بخلاف الخروج من الوسط، لكن أين الدليل على الحكم؟ واما العام
فإن لم يضره خروج قطعة عن إطلاق استمراره من جانب المبدأ أو المنتهى، في الاخذ به، فيما عداها، لم يضره الخروج من الأثناء أيضا،
ومجرد أن عنوان الاتصال والاستمرار موجود، فيما عدى الخارج في الأول دونه في الثاني، لا يصلح لان يكون فارقا. والحق: هو
الرجوع إلى العام في المقامين، فان الدليل إذا أفاد دوام الحكم بإطلاقه الازماني انحل ذلك إلى أحكام عديدة، حسب كثرات أجزأ
الزمان، كما في صورة قيدية الزمان، فإذا خرج فرد من ذلك أخذ بالاطلاق فيما عداه، ولذا لو قال: أكرم زيدا في كل وقت، ثم خرج
وقت من الأوقات، أخذ بعموم أكرم في سائر الأوقات، من غير فرق بين الأوقات السابقة على الخارج والأوقات اللاحقة، كما لا فرق بين
أن يكون الاخراج من الابتداء أو من الوسط، ولا يعقل الفرق بين المثال وبين أن يكون استفادة الدوام
219

من الاطلاق وقرينة الحكمة، كما لا فرق بين أن يكون حكم زيد مستفادا في ضمن العام أو صريحا.
والحاصل: لا فرق في جواز التمسك بالعام، بين كون الزمان قيدا أو ظرفا، بل القيدية مستبشعة جدا، حتى في مثل قوله تعالى: (نساؤكم
حرث لكم فأتوا حرثكم انى شئتم) ومع ذلك لا يتوقف من الرجوع إلى العام بعد زمان التخصيص.
نعم، فيما كان الحكم حكما واحدا شخصيا مقيدا بمجموع الأزمنة لم يكن مجال للرجوع إليه، ولا يبعد أن يكون من هذا القبيل، قوله
تعالى: (أوفوا بالعقود) فان معنى الوفاء هو القيام بما يقتضيه العقد دائما، وعدم التخلف عن مقتضاه في وقت من الأوقات. فان القائم
بمقتضى الآخرة طول دهره ما عدى يوم لا يعد وفيا، فيكون التأبيد مأخوذا في مادة الوفاء، فإذا دل الدليل على عدم وجوب القيام
بمقتضى عقد في زمان، فقد انهدم دليل أوفوا بالنسبة إلى ذلك العقد، انهداما كليا، لا رجعة فيه.
ثم لو سلمنا عدم جواز الرجوع إلى العموم عند خروج قطعة من الأثناء، فلا نسلم الفرق بين القطعتين الحافتين، بل هما مشتركتان في
الحكمين، فكما لا يجوز الرجوع في القطعة اللاحقة، كذلك لا يجوز الرجوع في القطعة السابقة.
قوله: نفيا أو إثباتا:
فإنه (ره) نفى الرجوع إلى الاستصحاب، فيما إذا كان الزمان في جانب العام قيدا، حتى لو فرض عدم جواز الرجوع إلى العام، كما أنه
(ره) أثبت الرجوع إلى الاستصحاب في صورة الظرفية، حتى لو كان الزمان قيدا في جانب المخصص، كما هو قضية إطلاق كلامه، وإن
لم يصرح بذلك.
أقول: يلوح من كلامه (ره) انه يرى الملازمة العرفية بين قيدية الكلام في جانب وقيديته في جانب آخر، وكذلك بين ظرفيته من جانب
وظرفيته من جانب آخر، فلا إطلاق في كلامه ليتوجه اعتراض المصنف (ره)، وكيف يسوغ نسبة ذلك إليه، مع تصريحه في تنبيه
جريان الاستصحاب في الزمان والزمانيات، بعدم جريان الاستصحاب في المقيد بالزمان؟
قوله: وقوله بعده: و (لا تنقض اليقين بالشك) يدل على:
كلمة قوله: مبتدأ
220

جملة. يدل على أن الحكم في المغيا مطلقا، هو: عدم نقض اليقين بالشك.
والمقصود بهذه العبارة تتميم الدليل السابق، وان التعبد بالطهارة، المستفاد من الفقرة السابقة، الشامل لصورة المظنة، ليس تعبدا
مستقلا في عرض التعبد بالاستصحاب، بل هو هو، وقد حكم من جهة انطباقه على الاستصحاب، كما يشهده قوله في الفقرة اللاحقة: (ولا
تنقض اليقين بالشك).
قوله: وإن كان مما شك في اعتباره:
إذا لم يقم على عدم اعتباره دليل خاص، كفى عموم الآيات والاخبار، الناهية عن العمل بالظن للدلالة على عدم الاعتبار، فإنه لا فرق بين
قيام دليل خاص ودليل عام، فلا موقع للشقيق وإفراز كل شق بوجه، مع أن ما أفاده في هذا الشق يختص بما إذا كان ذلك الظن مشكوك
الاعتبار، ولا يشمل الظن المظنون الاعتبار بلا أن ينتهي إلى شك أصلا.
قوله: لعدم الدليل على اعتباره:
ما أفاده جواب عن الشق الأول، واما الشق الثاني فهو باق بلا جواب، بل مقتضى ما سيجئ منه في تقديم الامارات على الاستصحاب، من أن
ذلك على سبيل الورود، وكون النقض في مورد قيام الامارة نقضا بالحجة، هو الاعتراف بما ذكره المستدل في الشق الثاني.
لا بد في الاستصحاب من بقاء الموضوع
قوله: بمعنى اتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة:
والتعبير بالبقاء عن ذلك باعتبار استمرار الموضوع في النفس من صفة اليقين إلى صفة الشك، فكان في النفس حال اليقين مستمرا إلى
حال الشك. والدليل على اعتبار بقاء الموضوع، هو: توقف صدق عنوان النقص، المأخوذ في لسان الدليل على ذلك، فلولاه لم يكن
الاستمرار على المتيقن إبقاء ولا رفع اليد عنه نقضا، وهذا الدليل انما يفي بلزوم أن يكون المحكوم عليه عند الشك، هو الذي كان
محكوما عليه عند اليقين. وعليه:
فاستصحاب حياة زيد عند الشك في حياته، أو استصحاب بياضه عند الشك في بياضه، أو استصحاب كونه أبيض عند هذا الشك كله مما
كان الموضوع فيه باقيا،
221

وإن لم يحرز في جميع ذلك وجود زيد في الخارج، فان زيد المحكوم بالحياة في زمان الشك هو الزيد المحكوم بالحياة في زمان
اليقين، وكذا بياض زيد، أعني هذا القيد والمقيد المحكوم بالوجود في زمان الشك، هو بياض زيد، المحكوم بالوجود في زمان اليقين،
وان لم يحرز وجود زيد، وكذا كون زيد أبيض، فان المستصحب هو الاتصاف وثبوت الربط الخاص بين زيد وبين البياض، وهذا
الربط والاتصاف المحكوم عليه في زمان الشك، هو ذاك الربط والاتصاف المحكوم عليه في زمان اليقين، لا شئ غيره، وليس يلزم في
التعبد بالاتصاف إحراز وجود زيد في الخارج.
نعم، الاتصاف الخارجي لا يكون إلا في زيد الخارجي، كما أن البياض الخارجي لا يكون إلا قائما بزيد الخارجي.
وبالجملة: استصحاب بياض زيد على سبيل مفاد كان التامة أو الناقصة، كل منهما لا يحتاج إلى إحراز استمرار وجود زيد في الخارج،
كما لا يحتاج استصحاب حياته.
نعم، لا يثبت بهذا الاستصحاب اتصاف الشخص الخارجي المشكوك كونه زيدا، بالبياض. فلو كان الأثر الشرعي لاتصاف الشخص
الخارجي لم يرتب، واحتاج إلى أن يقال: هذا كان أبيض، فهو إلى الان أبيض، وهو يحتاج إلى اليقين أولا باتصاف هذا، ثم الشك في
اتصاف هذا مع اليقين بوجوده، ثم الظاهر: ان النقض سوأ كان هو قطع الامر المتصل أو حال الامر المبرم أو غير ذلك: ليس له إلا
مفهوم واحد، لا يختلف مفهومه بحسب نظر العرف ونظر العقل.
نعم يختلف مصداقه بحسب الانظار، فربما مصداق للنقض عرفا، لاتحاد الموضوع في القضيتين، بحسب نظرهم ليس بمصداق للنقض
حقيقة وعقلا، لاختلاف الموضوع دقة، كما في مفهوم التعظيم المختلف مصداقه بحسب الانظار والعرف، متبع في تعيين المفاهيم لا في
تعيين المصاديق، إلا أن يقال: إن ذلك يوجب أن يكون للنقض مفهوم عرفي مستقل في عرض النقض العقلي، فينزل خطاب (لا تنقض)
222

على مفهومه العرفي، وفيه تأمل، أو يقال: إن عدم ردع الشارع عن المصداق العرفي كاشف قطعي، عن أن المصداق عنده هو المصداق
عندهم. ثم إن معنى تحكيم العرف، هو الرجوع إليهم في تشخيص اتحاد القضيتين وتعددهما، وقال: ذلك دوران صدق النقض والبقاء
مدار اتحاد ما هو بنظرهم من الموضوع بحسب مناسبة الحكم والموضوع، وإن كان خلاف ما هو في لسان الدليل. فالموضوع في حكم
جواز النظر إلى الزوجة في نظر العرف، هو بدن الزوجة، فلو ماتت وشك في جواز النظر إليها ولم يكن في الدليل إطلاق، استصحب
جواز النظر إليها، وإن كان لفظ الزوجة في لسان الدليل لا يصدق عليها، ويحتمل أن تكون العبرة بالموضوع في لسان الدليل، فلا
يجري الاستصحاب في الصورة المفروضة، لعدم صدق عنوان الزوجة بالموت، فان دليل: (لا تنقض) كأنه ناظر إلى الاحكام الموجودة
في لسان الأدلة، ويوسع تلك الأحكام في موضوعاتها، فلا يتجاوز ويتخطى عن تلك الموضوعات.
قوله: والاستدلال عليه باستحالة:
مع أنه لو تمت الاستحالة اقتضت عدم جريان الاستصحاب في شئ من الاعراض، حتى على سبيل مفاد كان التامة، فلا يقال: كان السواد
موجودا فهو إلى الان موجود، إلا إذا أحرز وجود الجسم في الزمان الثاني، مع أن موضوع المستصحب في هذه القضية ليس هو الجسم،
بل نفس ماهية السواد، كما في استصحاب وجود الانسان في الدار.
بل قد عرفت: ان الموضوع في استصحاب السواد على سبيل مفاد كان الناقصة أيضا، ليس هو الجسم، بل هو نفس الربط والاتصاف، فلا
يعتبر في استصحاب كون الجسم أسود، إحراز بقاء الجسم عند الشك.
وبالجملة: نتيجة هذا البرهان: اعتبار إحراز موضوع العرض في استصحاب الاعراض، لا موضوع المستصحب، وأحدهما غير الاخر.
قوله: لا يحتاج إلى إحراز حياته لجواز تقليده:
يعني للبقاء على تقليده، لكن هذا بناء على جواز البقاء على تقليد الميت، وإلا احتاج إلى إحراز حياته، ولو بالاستصحاب، فيستصحب
عدالة زيد على تقدير الحياة، ويستصحب أيضا حياته،
223

فيرتب على مجموع الاستصحابين جواز تقليده ابتدأ واستدامة.
قوله: هل هو بنظر العرف:
قد عرفت: ان هذا الاختلاف راجع إلى الاختلاف في ما هو مصداق للنقض، مع اتحاد مفهومه بحسب جميع الانظار، كالاختلاف بين
الطوائف في مصداق التعظيم، مع الاتفاق على مفهوم واحد، والعرف انما يكون مرجعا في تعيين المفاهيم المشتبهة لا في تعيين المصداق
للمفاهيم المبينة، مضافا إلى ما عرفت: أيضا أن دليل (لا تنقض) موسع للأحكام التي في لسان سائر الأدلة في موضوعاتها، فما دامت
موضوعاتها المأخوذة في لسان الدليل قائمة، حكم فيها بحكم (لا تنقض)، وإذا انقطعت انقطع، فتكون العبرة بالموضوع في لسان
الدليل، ويعتبر بقاء هذا الموضوع دقة.
قوله: ولكن العرف بحسب ما يرتكز في أذهانهم:
العرف بحسب هذه بالمناسبات المرتكزة في أذهانهم، يلغون اعتبار بعض الخصوصيات حكومة واستبدادا، لا تمييزا للدخيل في نظر
الشارع عن غير الدخيل، ولذا ربما يلغون خصوصية يقطعون بدخلها في نظر الشارع، ويعدون زوال الحكم بزوال تلك الخصوصية،
ارتفاعا للحكم، ووجود الحكم بعد تلك الخصوصية بقاء له، فلو بنى على تحكيم نظر العرف، اقتضى عدم الفرق بين القطع بدخل هذا
السنخ من الخصوصية، وبين الشك في دخله، مع أن الظاهر: ان أحدا لا يلتزم بالاستصحاب بعد انتفاء الخصوصية المقطوع دخلها، لا
يقال: إن ذلك من جهة القطع بزوال الحكم بزوال هذه الخصوصية، فلا يبقى شك حتى يستصحب. فإنه يقال: القطع انما يكون بزوال
شخص ذلك الحكم بالدقة، لتقومه بالخصوصية الزائلة، اما المعدود في نظر العرف شخص ذلك الحكم، وإن كان دقة سنخه، فلا قطع
بزواله، وحيث لا قطع، حكم دليل (لا تنقض) ببقائه.
قوله: فالتحقيق أن يقال: إن قضية إطلاق خطاب (لا تنقض):
التمسك بالاطلاق لاثبات ان المعيار، هو نظر العرف، كالتمسك بإطلاق (أحل الله البيع) بناء على القول بوضع ألفاظ المعاملات، للصحيح
المؤثر، لاثبات: ان الصحيح
224

المؤثر في نظر العرف، هو الصحيح عند الشارع. وليس هذا حقيقة من التمسك بإطلاق الخطاب، فان الاطلاق انما يكون في مقابل
التقييد وليس الشك في المقام في التقييد، بل هذا تنزيل للخطاب على المصاديق العرفية، ما لم يثبت ردع من الشارع، فان ثبت ذلك من
قانون أهل المحاورة فهو، وكان أصلا برأسه، في مقابل أصالة الاطلاق، وإلا لم تكن به عبرة.
عدم جريان الاستصحاب مع الامارة
قوله: والتحقيق انه للورود:
توضيحه: ان الاخذ بدليل الامارة في الخروج عن الحالة السابقة ليس من نقض اليقين بالشك، بل باليقين بالحجة بخلاف الاخذ
بالاستصحاب، فإنه وظيفة للشك، ولا يوجب الاخذ به خروج الشك عن كونه شكا، وإلا نافى الحكم موضوعه، فموضوع الامارة باق مع
جريان الاستصحاب بخلاف العكس، وكلما دار الامر بين دليلين، كذلك وجب الاخذ بالذي يرفع موضوع صاحبه وفي الحقيقة لا
معارضة بينهما، إذ بشمول أحدهما يقصر الاخر عن الشمول، والمعارضة فرع انحفاظ كل من الشمولين في عرض شمول الاخر، ومن
ذلك يظهر بطلان التخصيص، فان التخصيص فرع شمول العام في عرض شمول المخصص، والمفروض ان دليل الأصل لا يشمل في
عرض شمول دليل الامارة ليخصص به.
وفيه، أولا: ان دليل الاستصحاب وإن كان مغيا باليقين بالخلاف، لكن الظاهر: ان متعلق اليقين فيه هو اليقين بالواقع، كما أن متعلق
الشك فيه، هو ذلك لا بمطلق اليقين، ولو بالحجة.
وثانيا: ان اعتبار الامارة أيضا انما يكون في موضوع الشك، وعدم قيام حجة على الواقع والتصريح بذلك، وان لم يقع في دليل
الاعتبار. لكن معلوم: ان الامارة لا تكون مع اليقين بالواقع أو اليقين بالحجة، فكان الاخذ بدليل الأصل أيضا رافعا لموضوع دليل الامارة.
فحصلت المعارضة، وكان ترجيح أحد الدليلين على الاخر بلا مرجح.
225

قوله: واما حديث الحكومة فلا أصل له أصلا:
كيف يسوغ لاحد منع الحكومة في مثل قوله صلى الله عليه وآله: (لا عذر لاحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه ثقاتنا) أو في مثل
قوله: (ما يقوله عني فعني يقول).
نعم، في مثل آية النبأ أو النفر وأشباههما، مجال الانكار واضح. هذا، مع أن الحكومة لا تنحصر في أن يكون أحد الدليلين ناظرا إلى
الاخر شارحا لمؤداه، بحيث كان هذا لغوا لولاه، بل كل دليل وسع الحكم المأخوذ في الدليل الآخر أو ضيقه، لكن كان بلسان التوسعة و
التضييق في موضوع لا بلسان المزاحمة للحكم، كان ذلك حاكما، فلا معارضة بين دليل أكرم العلماء مع مثل دليل زيد ليس بعالم مع كونه
عالما واقعا أو مع دليل زيد عالم، مع كونه ليس بعالم واقعا، وإن لم يكن أحد الدليلين ناظرا إلى الدليل الآخر، بل كان ناظرا إلى واقع
ما ثبت من الحكم للعلماء.
والتحقيق: أنه لا وجه لتقديم دليل الامارة على دليل الأصل بقول مطلق، بل لا بد في كل مورد مورد من ملاحظة دليل ذلك المورد، فربما
يقدم دليل الامارة وربما يعكس، وربما يحصل التعارض المنتهي إلى التساقط. والضابط ان كل دليل كان بلسان تنزيل الظن أو الشك
منزلة اليقين أو تنزيلا لمؤدى منزلة الواقع، سوأ كان بمناط الكشف عن الواقع أو بمناط التعبد، يقدم على ما ليس بذلك اللسان، بل
بلسان جعل الوظيفة في موضوع الشك، وإن كانت حكمة التعبد هو الكشف الامارية، وإذا كان مجموع الدليلين بذلك اللسان أو
مجموعهما لا بذلك اللسان، لم يقدم أحدهما على الاخر، وحصل التعارض بينهما. ومن ذلك يظهر: ان دليل الأصل ربما يكون حاكما على
دليل الامارة، وذلك فيما إذا كان دليل الأصل بلسان ان اليقين حاصل، كما في دليل الاستصحاب، وكان دليل الامارة مجرد التعبد، و
إن كان بمناط الكشف.
قوله: هذا مع لزوم اعتباره معها:
لا أعلم كيف يلزم على الحكومة ذلك فان دليل الامارة حيث كان بلسان إلغاء الشك، اقتضى إلغاء كل حكم كان في
226

موضوع الشك، ومترتبا على الشك، سوأ كان موافقا أو مخالفا، فلا يبقى موضوع لدليل الأصل ليشمله دليله، ومن أجل ذلك لا يفرق
القائل بالحكومة بين الحكم الأصل الموافق والمخالف، ولا يعتبر الأصل مع الامارة، على كل حال، مع أنه لا ثمرة لهذا البحث عملا، وانما
هو علمي محض، فإنه ان قلنا باعتبار الأصل الموافق أو لم نقل، لم يكن له أثر بعد لزوم العمل، على وفق الامارة على كل حال.
خاتمة: بيان النسبة بين الاستصحاب وسائر الأصول العملية
قوله: فالنسبة بينه وبينها هي بعينها:
يشكل ذلك إذا كان كل من دليل الأصلين مغيا بالعلم بالخلاف، كدليل الاستصحاب مع دليل كل شئ حلال، إذ الغاية في كل منهما اما هو
اليقين بالواقع أو الأعم منه ومن اليقين بالحجة، وعلى كل حال حصل التعارض فيما إذا اقتضى الاستصحاب حرمة شئ وأصالة البراءة
حليته.
اما على الأول: فلعدم حصول الغاية في كل منهما، وهو العلم بالواقع، فيكون المورد تحت المغيين. واما على الثاني: فلان كلا منهما
صالح لان يكون غاية للاخر، لحصول اليقين بسببه بالحكم الظاهري. ومع هذا الوصف كان تقديم أحدهما على الاخر ترجيحا على الاخر
بلا مرجح. واما جعل الغاية في الاستصحاب، اليقين بالواقع وفي دليل (كل شئ حلال)، اليقين بالأعم من الواقع والظاهر والحجة،
ليكون دليل الاستصحاب واردا على دليل البراءة، فذلك جزاف. ثم إن من يقدم دليل الاستصحاب على دليل البراءة حكومة ينظر إلى أن
لسان دليل الاستصحاب، الاخذ باليقين وطرد الشك، واما لسان دليل البراءة، فهو جعل الحكم والوظيفة في موضوع انحفاظ الشك. و
معلوم ان لا مزاحمة بين هذين اللسانين. وفيه: ان التعبير بعدم نقض اليقين بالشك ليس معناه جعل الحكم بلسان (انك متيقن)، بل معناه
الاخذ بالاحتمال المطابق لليقين السابق من احتمالي الشك.
227

وقد حكم دليل البراءة بالأخذ بالاحتمال المخالف، وهو احتمال الحل، فقد تعارض اللسانان.
تعارض الاستصحابين
قوله: كاستصحاب وجوب أمرين حدث بينهما:
مع حدوث التضاد يحصل القطع بارتفاع الحالة السابقة على وجه الاجمال في أحدهما، مع احتمال أهمية أحدهما أو العلم بالأهمية و
اشتباه الأهم بغيره، ويحصل القطع بارتفاع الحكم في كليهما وانقلاب حكمهما إلى الحكم التخييري، مع العلم بعدم الأهمية، لا سبيل إلى
الاستصحاب في الثاني. والاستصحابان متعارضان في الأول، كسائر صور العلم الاجمالي بانتقاض الحالة السابقة.
وبالجملة: التزاحم يؤدي إلى العلم الاجمالي بانتقاض الحالة السابقة، المميت للاستصحابين، فلا يبقى صورة لتعارض الأصول ليكون
الحكم فيه التخيير، كما في تعارض الامارات، وكذا فيما إذا علم إجمالا بعدم حجية أحد الاستصحابين تخصيصا لدليل الاستصحاب مع
اجتماع أركانه في كل واحد، فإنه يسقط الاستصحابين عن الاعتبار في الجميع لحصول الاجمال في دليل الاستصحاب بخروج فرد
مشتبه عن تحته، فيسقط عن الحجية في كلاهما، لا أنه يحكم بالتخيير في العمل بالاستصحاب في كل منهما.
قوله: فإن كان أحدهما أثرا للاخر فلا مورد:
الاحتمالات في هذا أربع: الأول:
العمل بكل من الأصلين في نفسه، لكن هذا انما يتمشى إذا كان كل منهما حكما مجعولا، اما إذا كان السببي موضوعا لا يصح جعله إلا
بلحاظ أثره، لم يكن معنى للعمل بالاستصحاب فيه وفي أثره جميعا.
الثاني: عدم العمل بهما جميعا، لمعارضة الاستصحابين. الثالث: العمل بالسببي دون المسببي. الرابع: عكس الثالث، وهذا لا قائل به، و
لنذكر وجه تقديم الأصل السببي المستقر عليه الرأي اليوم، وبه يتضح وجه البقية. فنقول: استدل لذلك
228

بوجوه، عمدتها وجهان:
أحدهما: ما أشار إليه المصنف، وحاصله: ان كلا من السبب والمسبب، وإن اشتمل على أركان الاستصحاب، إلا انا لو أبقينا الشك السببي
تحت الأدلة لم يلزم تخصيص في الأدلة بخروج المسببي، بل خرج المسببي تخصصا، لأنه يكون من نقض اليقين باليقين بالحجة وهو
دليل (لا تنقض) الشامل للشك السببي، المقتضي لوجوب ترتيب آثاره، ومنه هذا المسبب. ولو أبقينا الشك المسببي لزم التخصيص في
الأدلة بخروج الشك السببي، وذلك لان شمول الدليل للوازم لا يقتضي ترتيب الملزومات، وكلما دار الامر في الدليل بين التخصيص و
التخصص، كانت القاعدة، - أعني حفظ أصالة العموم - قاضية بالتخصص، هذا مضافا إلى أن تخصيصه يكون بلا وجه أو بوجه دائر، و
كلاهما باطل، فإنه ان لم يكن معتمدا على مخصص، فهو الأول، وإن كان المخصص شمول العموم للشك في جانب المسبب، فهو الثاني،
حيث إن فردية الشك المسبب للعموم وشمول العموم له موقوف على عدم شمول العموم للشك السبب، فلو كان عدم شمول العموم
للشك السبب لأجل شمول العموم للشك المسبب، لزم الدور.
الثاني: ان الشك السبب لازمان واردان عليه في عرض واحد، أحدهما من جانب الاله، وهو حكم (لا تنقض)، والثاني من جانب العبد، و
هو الشك المسبب، فإذا كان الشك المسبب وذلك الحكم في عرض واحد، فكيف يمكن أن يشمل عموم ذلك الحكم للشك المسبب، مع أن
الحكم ينبغي أن يكون متأخرا عن موضوعه بمرتبة؟ ويتجه على الأول: ان عموم (لا تنقض) انما يشمل حكما أو موضوعا ذي حكم، اما لا
هذا ولا ذاك، فلا يشمله تخصصا. وعليه: فيدور الامر في المقام بين تخصصين لا بين تخصص وتخصيص، فإنه ان شمل عموم (لا تنقض)
للشك المسبب يكون الشك السبب خلوا عن ما يصحح التنزيل، وهو هذا الأثر الذي شمله استقلالا دليل (لا تنقض) فلا يشمله عموم (لا
تنقض) تخصصا، كما أنه ان
229

شمل الشك السبب كان النقض في المسبب باليقين لا بالشك، فيحصل التزاحم في مدلول (لا تنقض) بين شمول هذا وشمول ذاك،
فيسقط الدليل عن الاعتبار في كليهما.
ويتجه على الثاني: بأن حكم العام وإن كان أحد اللازمين المترتبين على الشك السبب، لكن ترتبه انما يكون إذا خلى عن المزاحم، وهو
أول الكلام، فكيف يحكم بعدم المزاحم من جهة ترتبه، وكونه في عرض الشك السبب، وتأخر مرتبة الشك المسبب لا يوجب عدم
مزاحمة شمول العموم له، لشموله للشك السبب، فان إكرام العلماء يشمل الأب والابن العالمين، في مرتبة واحدة، فلو حصل التزاحم
بينهما لا يتعين الا لوجوب الاكرام؟
قوله: فالأظهر جريانهما فيما لم يلزم:
اعلم: ان هنا صورا ثلاثا، لان الأصلين اما أن يكون كلاهما ذا أثر أو يكون الأثر لأحدهما، ثم الذي كان الأثر لكليهما، اما أن يلزم من
أجزأ الأصل في كليهما مخالفة قطعية عملية للتكليف المعلوم بالاجمال، أو لا يلزم إلا مخالفة التزامية، وأيضا هنا احتمالات ثلاث في
عبارة (لا تنقض اليقين بالشك ولكن تنقضه بيقين آخر): على أحد الاحتمالات لا يجري الأصل في شئ من الصور الثلاث. وعلى الاخر
يجري في مجموع الصور الثلاث، ما لم يمنع مانع، وهو لزوم طرح التكليف في مقام العمل. وعلى الثالث يجري في ما كان الأثر
لأحدهما في طرف ذي الأثر ولا يجري في الصورتين الاخرتين.
اما الاحتمال الأول، الذي لا يجري معه الأصل في شئ من الأطراف، فهو:
أن يكون منصرف الشك في القضية هو الشك البدوي، فيخرج المقرون بالعلم الاجمالي عن تحته، ولو اختص الأثر بأحدهما، فلو علم
بجنابته أو جنابة جاره، لم يجري استصحاب عدم الجنابة في حقه، لكن الانصراف لا وجه له.
واما الاحتمال الثاني، فهو: ان يشمل الشك للشك المشوب بالعلم الاجمالي، ولكن لمزاحمة فقرة، ولكن تنقضه بيقين آخر، الشامل لذلك
اليقين الاجمالي، الحاصل على خلاف الحالة السابقة. وعدم مرجح لاحدى الفقرتين يحصل
230

المسقط للرواية عن صلاحية الاستدلال في شئ من الأطراف.
ومعلوم: ان مورد التزاحم انما يكون هو مورد شمول، ولكن تنقضه، ومورد شموله هو ما إذا كان لذلك المتيقن بالاجمال أثر شرعي،
وليس لذلك المتيقن بالاجمال المردد بين ذي أثر وغير ذي أثر أثر شرعي. فتبقى هذه الصورة تحت قضية (لا تنقض) وتخرج بقية
الصور بالمزاحمة.
واما الاحتمال الثالث، فهو: شمول الشك لكل شك ذاتا، وعدم المزاحم له اما لعدم الفقرة الثانية في جميع الروايات، فيؤخذ بعموم
الروايات الخالية عن هذه الفقرة، ولا يضر بها إجمال المشتمل منها على ذلك. واما لان اليقين في الفقرة الثانية لا يشمل اليقين الاجمالي،
أو لأنه وإن شمل اليقين الاجمالي، لكن الظاهر ورود اليقين بالخلاف، مورد اليقين الأول، وهو غير حاصل في اليقين الاجمالي في
المقام، وإن كان حاصلا فيما إذا كان يقينه الأول أيضا إجماليا، كما إذا تيقن بغيبة أحد الشخصين على سبيل الاجمال، ثم علم بموت ذلك
الشخص الغائب، فان هذا اليقين يندرج تحت (ولكن تنقضه)، واما اليقين الاجمالي في المقام، فهو غير مندرج تحته، لا لكونه إجماليا، بل
لكونه غير وارد على محل ورود اليقين الأول، لان اليقين السابق هو اليقين التفصيلي في كل من الطرفين، لا اليقين الاجمالي بأحد
الأطراف، وهذا الوجه مما لم يسبقني إليه أحد فيما أعلم.
واما لان شمول (لا تنقض) لافراده بالعموم وشمول (ولكن تنقضه) بالاطلاق، والاطلاق لا يزاحم العموم، بل يكون العموم بيانا له. و
اما لان كلمة (ولكن تنقضه) ليست كلمة جعل وتشريع وتعبد، بل إشارة إلى حكم العقل، بلزوم العمل بالقطع.
ومن المعلوم: اختصاص حكم العقل بمورد يلزم من ترك العمل بالقطع مخالفة عملية، ولا حكم للعقل فيما إذا علم إجمالا بتطهير أحد
نجسين، ولذا لا يكون مانع عقلا من التعبد بنجاسة كليهما، فتختص الرواية التي هي للارشاد إليه بذلك المورد، ويبقى سائر صور
العلم الاجمالي تحت كلمة (لا تنقض).
231

والحق من الاحتمالات الثلاث، هو: هذا الاحتمال الأخير، وعليه، فالمقتضى لجريان الأصل في أطراف العلم الاجمالي، وهو عموم الدليل
موجود، والمانع ليس إلا حكم العقل، وهو يختص بمورد يلزم من الترخيص في الأطراف طرح تكليف في مقام العمل.
ثم إن قلنا: إن العلم الاجمالي بالتكليف يمنع من الترخيص في بعض الأطراف، فلا إشكال.
وإن قلنا: إنه لا يمنع عن الترخيص في بعض الأطراف، وانما يمنع عن الترخيص في المجموع، احتاج عدم جريان الأصل في شئ من
الأطراف إلى ضم مقدمة أخرى، وهي ان الاخذ بواحد معين من الأطراف ترجيح بلا مرجح، والواحد المردد لا وجود له خارجا، ومفهوم
أحدهما ليس من أفراد العام، وشمول العام لجميع الأطراف عن كون الحكم تخييريا، مستلزم لاستعمال اللفظ في معنيين:
التعييني والتخييري، فيحصل الاجمال المميت للعموم عن الحجية في جميع الأطراف.
واما الحكم بالتخيير في العمل بين الاستصحابين، كما في كل حجتين اعتبرتا على وجه السببية إذا تعارضتا، فقد يمنع عنه بعدم العلم في
المقام بوجود المقتضي للاستصحاب في جميع الأطراف، ليدخل في باب التزاحم بين المقتضيين، ويحكم بالتخيير.
وفيه: ان المقام لا يمتاز عن سائر المقامات فكل طريق لاستكشاف الملاك في سائر المقامات بعد فرض سقوط التكليف، عن الفعلية،
موجود هنا أيضا ولو تمت المناقشة هنا عمت سائر المقامات، وصح أن يقال: لا يعلم بوجود ملاك وجوب الانقاذ في إنقاذ الغريقين
المتزاحمين بعد سقوط التكليف عن الفعلية، الذي كان هو الكاشف عن الملاك انا.
232

المقصد الثامن:
مبحث التعادل والتراجيح
233

مبحث التعادل والتراجيح
تعارض الأدلة والامارات
قوله: التعارض هو تنافي الدليلين أو الأدلة:
اعلم: ان كل دليلين أو أزيد لا يمكن درجهما جميعا تحت دليل الاعتبار، سوأ كان بين مدلوليهما أو دلالتيهما تعارض، كما في
المتعارضين لأجل العلم الاجمالي بكذب أحدهما، أو لم يكن، كما في المتعارضين لأجل التناقض أو التضاد، داخل في محل البحث، و
ينبغي أن يبحث عنهما في مقامات ثلاث:
الأول: في شمول أدلة الاعتبار عموما لهما، وعدم شمولها، بل بقائهما تحت أصالة عدم الحجية، بل القطع بعدم الحجية.
الثاني: بعد الفراغ عن شمول الأدلة وضعا في اقتضاء المانع، وهو العلم بكذب أحدهما، وانه هل يقتضي رفع اليد عن ظهور الأدلة
بالنسبة إلى كليهما أو لا يقتضي رفع اليد إلا عن أحدهما، المعلوم الكذب، وهو أحدهما، لا على سبيل التعيين، فيكون الباقي أيضا
أحدهما، لا على التعيين. وبعبارة أخرى: هل الأصل هو التساقط أو التخيير.
235

الثالث: فيما هو قضية الأدلة المختصة بالمتعارضين.
اما الكلام في المقام الأول: فالظاهر أن الأدلة الدالة على اعتبار الاخبار دلالة كلها بالنسبة إلى حال التعارض، إن كان فبالاطلاق ولا
عموم وضعي أحوالي فيها، وإن كان فيها عموم وضعي أفرادي، لكنه غير نافع في المقام، ولا يكاد ينعقد الاطلاق وتتم مقدمات الحكمة
بالنسبة إلى المتعارضين بعد المانع العقلي عن الاطلاق بالنسبة إلى كليهما، وخروج أحدهما لا بعينه عن افراد المطلق، إذ ليس وراء
الآحاد المعينة فرد آخر لا بعينه يكون فردا للطبيعة، والفرد المعين أيضا لا يقتضيه الاطلاق، فإنه يحتاج إلى بيان التعيين، والمفروض
عدم بيان التعيين.
فعليه تكون أدلة الاعتبار خالية عن التعرض لحال المتعارضين، فيبقى المتعارضان تحت أصالة عدم الحجية، حتى يرى قضية الأدلة
الخاصة ما ذا؟ واما الكلام في المقام الثاني: فلو سلمنا عموم لفظي يشمل المتعارضين وأغمضنا النظر عما ذكرناه سابقا، وقلنا: بأن
قضية العموم الافرادي في قوله:
(اعتمدا في دينكما كل مسن في حبنا) إذا أخبر أحد المسنين بخبر وأخبر المسن الاخر بخبر آخر يخالفه، هو حجية كلا المتعارضين، و
إلا لزم التخصيص في لفظ (كل) كان الاخذ بهذا العموم اللفظي بالنسبة إلى كلا المتعارضين غير ميسور. اما في المتعارضين بالتناقض
والتضاد فواضح، واما في المعلوم كذب أحدهما من غير تناقض وتضاد، فلان ظاهر أدلة الاعتبار، الحكم لرعاية احتمال الواقع،
فيختص بما إذا احتمل الواقع لا ما علم بعدمه تفصيلا أو إجمالا، وإلا فلا مانع عقلي من شموله له، لان معنى صدق ترتيب آثار الصدق، ولا
مانع من الحكم بترتيب آثاره، مع العلم بعدم كونه هو الواقع، بناء على مسلك السببية وحدوث المصلحة بأخبار العادل، وانقلاب عنوان
الواقع بعنوان ثانوي مؤثر في الحكم الفعلي على خلاف الواقع، فإذا خرج أحدهما، لا بعنوان: وهو أحدهما معلوم الكذب، عن تحت عنوان
الدليل، بقي أحدهما لا بعنوان، تحته، وهذا صار كذلك ببركة خروج اللا بعنوان،
236

فان خروج اللا بعنوان يقتضي بقاء اللا بعنوان، وإلا فالدليل بحسب طبعه الأولي لم يدل على اعتبار اللا بعنوان، وهذا كما إذا اخرج
الفرد الغير المعين واقعا بدليل متصل، فقال: أكرم العلماء إلا واحدا منهم. فان الباقي أيضا يكون وحدات غير معينة، وهو ما عدى ذلك
الواحد في أي أفراد عين واختار، وإن كان اللفظ بحسب شموله الأولي لم يشمل إلا وحدات معينة، إذ لم يكن الفرد المردد من أفراد
العام، ثم إن لازم ما ذكرناه من اعتبار الواحد اللا بعنوان هو التخيير كما في كل نكرة، فصار الأصل في المتعارضين بحسب العمومات،
وأدلة الاعتبار هو التخيير دون التساقط، ولا يصغى إلى ما قد يقال: من أن الفرد الغير المعين إذا خرج أجمل اللفظ في جميع أطراف
الترديد وسقط عن الحجية، وهو معنى أصالة التساقط، إذ بعد عدم إمكان حمل اللفظ على ظاهره في كلا الفردين، لمنافاة ذلك لخروج
الواحد، لا على التعيين وحمله على أحد الفردين معينا، يحتاج إلى معين، وليس الواحد، لا على التعيين من أفراده، ليحمل عليه بعد عدم
إرادة الجميع، وذلك لما عرفت: ان خروج الواحد، لا على التعيين بنفسه قرينة على إرادة الواحد لا على التعيين، كما يتضح ذلك في
صورة اتصال القرينة المخرجة، وليس ذلك من التخصيص والاخذ
بالعام فيما عدى المخرج، حتى يقال: إن الفرد المردد لم يكن من افراد العام، وداخلا فيه ابتدأ، حتى يكون باقيا تحته انتهاء وبعد
التخصيص، بل هذا من قبيل قرينة المجاز وإرادة معنى جديد من اللفظ، بمعونة القرائن، ثم لا فرق بين المتعارضين بحسب الأصل الأولي
وقبل ملاحظة دليل الحجية، وكذلك بحسب الأصل الثانوي، وبلحاظ عموم أدلة الاعتبار، الذي هو التخيير أو التساقط، فإنه يعم كل ما
هو داخل تحت عنوان التعارض، من غير اختصاص له، بما لم يكن بينهما جمع دلالي عرفي. فان شمول صدق لكل من المتعارضين يزاحم
شموله للمعارض الاخر، وإن كان بينهما جمع دلالي عرفي، إذ مقتضى صدق هو الاخذ بالظهور الأولي لكل من المتعارضين، والفرض
عدم إمكان الاخذ بالظهور الأولي لكل منهما، على أن يؤخذ بالعموم بحد عمومه، وكذلك يؤخذ بالخصوص، والاخذ بما هو قضية
237

الجمع، أعني الاخذ بالعام فيما عدى مورد الخاص، وبالخاص في مورد الخاص، خارج عن وسع صدق.
وتوضيح هذا الاجمال: ان مؤدى دليل الاعتبار المعبر عنه بصدق، ليس اعتبار سند الاخبار ولا اعتبار دلالتها، بل الاعتبار سندا ودلالة
بنفس سند دليل الاعتبار القطعي سندا وبنفس دلالته، فهو الحجة سندا، وهو الحجة دلالة، وانما الاخبار ودلالتها مقدرة لدلالة دليل
الاعتبار ومحددة لمضمونه، ومنها يعرف تفصيل ذلك الاجمال وما في بطنه وتحت طيلسانه، فالاخبار المفصلة ساقطة عن الاعتبار، و
ليست إلا كالاخبار الفاقدة لشرائط الحجية وتتميز عنها. ان بملاحظة مضامينها يتعين عندنا مدلول دليل الاعتبار ويتفصل عندنا
إجماله، فنحن نتكل عليه ونعتمد عليه في كل الجهات، وتعيين مدلوله بالرجوع إلى الاخبار المفصلة ليس اعتبارا بوجه للاخبار
المفصلة، وليس شأنها إلا كشأن كتب اللغة في تعيين الألفاظ المشتبهة، وحصول العلم بمداليلها بالرجوع إليها. فلا يتوهم: ان دليل صدق
يوجب القطع بصدور ألفاظ الاخبار أو التعبد بصدور ألفاظها، بل دليل صدق ينشأ أحكاما ويحكي عن أحكام على طبق ما في الروايات
من الألفاظ، فالألفاظ هناك والمعاني هنا والقشور هناك واللباب هنا، وليس ظهور صدق إلا ظهورا واحدا بالنسبة إلى جميع الأحكام
المنشأة به المطابقة للاخبار المختلفة في الكشف
والدلالة.
وفيها صريح وظاهر، على تفاوت مراتب الظهور، لكن المختلفات الدلالة هناك متحدة الدلالة هنا، وفي بطن صدق الذي عليه المدار و
به الاعتبار، فإذا توجه صدق إلى عام وتوجه أيضا إلى خاص، أفاد صدق بالنسبة إلى العام حكما عاما وأفاد بالنسبة إلى الخاص حكما
خاصا، وكان إحدى الافادتين في مرتبة الظهور مساوية للإفادة الأخرى، فالظهوران متساويان والحكمان بحديهما متناقضان أو
متضادان، فليطرح ظهور صدق بالنسبة إلى الجميع بناء على أن الأصل في المتعارضين التساقط، ويؤخذ في الواحد لا بعينه، بناء على أن
الأصل التخيير، فليس
238

يمتاز هذان المتعارضان عن المتعارضين الغير المشتملين على جمع دلالي عرفي.
نعم، لو كان مفاد صدق التعبد بصدور ألفاظ الروايات، حتى يكون معنى التعبد بصدورها الاخذ بظواهرها الأولية أو الثانوية، الحاصلة
بسبب الجمع بين القرينة وذي القرينة، حسب معاملة أهل اللسان في ألفاظ محاوراتهم، كان المتبع هو الجمع الدلالي العرفي في مورد
كان، فكانت الاخبار لأجل دليل صدق كمقطوع الصدور، فيعامل معها معاملة مقطوع الصدور، فتقع ألفاظ الروايات حينئذ تحت القوانين
المعمولة في باب الألفاظ من الاخذ بظهور غير المتعارض منها، والاخذ بالأظهر أو النص في الظهور المتعارض.
بل أقول: مع ذلك يشكل ذلك، فإن دليل صدق لو فرضنا كونه مصلحا لسند الاخبار وجاعلا لمتونها بمنزلة المتون القطعية، حتى يرجع
تكليفنا إلى العمل بظواهرها، وما هو قضية الأصول والقواعد اللفظية فيها، لكن يختص ذلك بكل خبر يجري تحت دليل صدق ويدخل
تحت حيطته دون ما لا يجري ويخرج عن تحت حيطته، والمتعارضان اللذان يجري فيهما الجمع الدلالي لا يدخلان تحت مدلوله، حتى
يؤخذ بما هو قضية الجمع الدلالي فيهما، وذلك لان مدلول صدق هو وجوب تصديق كل خبر خبر، على أن يكون الافراد المشمولة له هذا
الخبر وذاك الخبر وذاك الخبر الثالث، كل على حياله وعلى استقلاله، ومع قطع النظر عن الاخر، وبشموله لكل يجي أصالة الظهور
فيه، فإذا تعارض أصالة الظهور في واحد مع أصالة الظهور في الاخر، فكما لا يمكن الجمع بين أصالة الظهورين، ولذا يلغي العرف
أحدهما، الظاهر، ويأخذ بالآخر الاظهر أو النص كذلك لا يمكن شمول صدق لهما جميعا، وشموله لهما جميعا، ثم اقتضاء هذا الشمول
للجمع بينهما برفع اليد عن أحدهما، فيه من الغلط ما لا يخفى، فان شمولا يكون م آله رفع اليد والطرح، كشموله للمتعارضين، الغير
الممكن فيه الجمع العرفي، ثم اقتضاء شموله لهما لطرحهما، لا يتصور له معنى،
فضلا عن أن يتصور ويكون لغوا.
والقول: بأن شموله لهما يقتضي من ابتدأ الامر الاخذ. بالظهور الثانوي،
239

الحاصل لأحدهما بقرينة الاخر، حسب ما هو قضية الجمع العرفي، لا انه يقتضي الاخذ بالظهور الأولي لهما، ثم لما لم يمكن ذلك يرفع اليد
عن ظهور أحدهما بقرينة الاخر، ليتجه عليه عدم المعقولية، ولذا في نفس أصالة الظهور أيضا الامر على هذا المنوال، لا تكون أصالة
الظهور عند التعارض إلا مع الأقوى ظهورا لا أنه يكون الأصل في الجانبين، ثم يرفع اليد من أحدهما عملا بالآخر، فإنه غلط فاحش،
محجوج بأن ذلك انما يصح إذا كان مفاد صدق تصديق أحد الخبرين المتعارضين، منضما إلى الاخر، وعلى صفة الاجتماع، فان قضية
هذا التصديق الاخذ بالظهور الثانوي أو الاعتبار الثانوي الحاصل من الانضمام.
وقد عرفت: ان مؤدى صدق التعبد بصدور كل خبر خبر لا بكل خبرين خبرين أو ثلاثة ثلاثة، والفرض عدم إمكان الاخذ في صورة
التعارض بما هو قضية كل خبر خبر من الخبرين المتعارضين، لعدم إمكان الاخذ بظهورهما. فدليل (صدق) بمنزلة أصالة الظهور
الموجودة في كل منهما، مع قطع النظر عن الاخر ومحيية لها، والمفروض عدم إمكان حياتهما جميعا في صورة التعارض، كان هناك
جمع دلالي وأصل ثانوي، بملاحظة انضمامهما، أو لم يكن إلا أن يكون على صفة الانضمام مشمولا لصدق أيضا، فيكون مصاديقه هذا
وحده وذاك وحده، وكلاهما منضما، فإذا رفعنا اليد عن شموله للأولين لمانع التعارض بقي شموله للثالث على حاله، لكن الواقع خلافه
بل يلزم التكرر في شمولات العام، ويكون كل فرد داخلا تحت العام ومشمولا له دفعات لا تحصى، بانفراده دفعة وبانضمامه انضماما
ثنائيا وثلاثيا ورباعيا وهكذا، وأيضا باختلاف منضماته في كل عقد من العقود الثنائية والثلاثية.
نعم، فيما لا يلزم من شمول صدق لكل من المتعارضين، قصر في اقتضاء صدق في أحدهما بوجه. وبعبارة أخرى: لم يلزم التصرف في
ظاهر أحد المتعارضين والتنزل من ظاهره الأولي إلى غيره، لم يكن مانع من شمول صدق لكليهما، وإن لزم من شموله لهما، قصر
أحدهما أو كلاهما، مصداقا، وخروج بعض مصاديقه
240

المصداقية، اما حقيقة أو تعبدا من دون قصر في المفهومين، بل المفهومان كانا على سعتهما الأولى مثلا من شمول صدق للاخبار الحاكية
عن الأحكام الواقعية، وللاخبار الحاكية عن الاحكام الظاهرية في الشبهات الحكمية، وهي الأصول الأربعة العملية، حيث إنه بلسان تحقق
الواقع، وان (ما أداه عني فعني يؤدي) وإن مؤديات الاخبار هي معالم الدين، يجعل في حقنا في عرض واحد مؤديات جميع الأخبار،
فكأنما علمنا بدليل صدق دفعة واحدة الأحكام الواقعية التي هي مؤدى طائفة منها، والاحكام الظاهرية الأصلية المعمولة لدى الشك في
تلك الأحكام الواقعية، التي هي مؤدى طائفة أخرى. فإذا كانت الأصول معتبرة بدليل صدق، لا جرم كانت الامارات الحاكية عن الأحكام الواقعية
معتبرة أيضا في عرضها، بدليل صدق، وهذان الاعتباران يؤخذ بهما جميعا من غير نقص في أحد الجانبين، مقدار شعرة.
نعم، يلزم من الاخذ بما هو قضية (صدق) في الاخبار الحاكية عن الأحكام الواقعية تنقيص في مصاديق الأصول، بخروج الشكوك
الموجودة في مورد قيام الخبر الحاكي عن الحكم الأولي عن المصداقية لها، اما خروجا حقيقيا كما يراه المصنف (ره)، بناء على أن
المأخوذ في موضوعها ليس هو مطلق الشك في الحكم الواقعي، بل مع التحير وعدم وجود ما يعتمد عليه من الشارع أبدا، كما لا تبعد
دعواه في أدلة أصل البراءة، ومع شمول دليل (صدق) للخبر الحاكي عن الحكم الواقعي، يرتفع هذا التحير، واما خروجا حكميا، كما يراه
شيخه الأنصاري.
وتقريب الخروج الحكمي: اما بالقول: بأن مفاد صدق إلغاء احتمال الخلاف، الذي م آله إلى كون مؤداه تتميم الكشف، وجعل الظن علما،
وهذا خلاف ظاهر دليل الاعتبار، أو بالقول: بأن مفاده تنزيل المؤدى وجعله واقعا في حق المكلف، كما هو ظاهر (ما أداه عني فعني
يؤدي) وانه معالم الدين، فيكون العلم تحقيقيا بما هو واقع تنزيلا، ومع العلم بهذا الواقع لا شك تعبدا بالواقع. وإن كان الشك حاصلا
فيه بالعيان، فدليل (صدق) يخرج موارد الاخبار عن موضوع
241

الأصول، الذي هو الشك، إخراجا تعبديا حكميا.
ويمكن تقريب الورود بوجه آخر لطيف، وهو: ان الشك شكان: شك في صدور الروايات، بالأعم مما كان حاكيا عن حكم أولي واقعي،
ومما كان حاكيا عن حكم الشك، وشك آخر تعلق بالحكم الواقعي، وقد أخذ موضوعا للأصول في الاخبار التي دلت على حكم الأصول،
فإذا جاء دليل (صدق) سد مسد الشك الأول، الذي هو الشك في الصدور. ففي عرض الحكم بصدور أدلة الأصول قد حكم بصدور سائر الأخبار
، فصارت تمام الاخبار كالمسموع من الامام دفعة واحدة. ومن المعلوم: انا لو كنا قد سمعنا هذه الأخبار جميعا من الامام لم نكن
نرتاب في عدم الموضوع للأصل في مورد سمعنا منه حكما واقعيا، وإن كان شكنا بالنسبة إلى الواقع باقيا، لعدم صراحة كلامه، بل
كانت دلالته بالظهور أو احتمل أن لا يكون صدر لبيان الواقع، وذلك لان المراد من الشك في موضوع الأصل شك لم يكن في مورده
لفظ حال عن الواقع متبع ظهوره عند العقلا.
وبالجملة: الشك الموجود في مورد سائر الأخبار إن كان هو الشك في الصدور، ومن أجله يقال: إن هذه الموارد مشمول لأدلة الأصول،
كما هي مشمولة لدليل (صدق)، فلا ريب ان الشك الكذائي موجود في نفس الأخبار الدالة على حكم الأصول، فنفس صدور اخبارها يلزم
أن يكون مورد متونها، وذلك للشك في كون حكم الشك ذاك الذي إفادته لاحتمال الكذب والخطأ في الحكاية، وذلك باطل بالقطع. و
إن كان هو الشك في الواقع من أجل كون الدلالة فيها بالظهور، أو جهة الصدور فيها محتملة ان لا تكون بيان الواقع، ومن باب بناء
العقلا، قد حكم انه لغرض بيان الواقع، فهذا لو لم يجر مثله في أدلة الأصول، لكون دلالتها بالنصوصية وجهتها قطعية، لا يوجب صدق
موضوع الأصول، لوضوح ان موضوع الأصول شك لم يكن في مورده بيان للواقع، ولو بالألفاظ والظواهر.
نعم، فيما إذا كانت أدلة الأصول قطعي السند، ولم يكن اعتبارها بدليل (صدق) لم يجر ما ذكرناه من التقرير.
242

قوله: بحسب الدلالة ومقام الاثبات:
الدلالة والكشف ليس شئ يعقل فيه التنافي واللا تنافي، فان اتصف بالتنافي أو اللا تنافي، فبحسب التنافي واللا تنافي، الثابتين في
المدلول، فصح أن يقال: إن التعارض تنافي الدليلين أو الأدلة، بحسب المدلول، وليس يعقل أن يكون المدلولان متنافيين، ومع ذلك لا
يكون تناف في الدلالة، كما زعمه المصنف، في مورد الحكومة وموارد الجمع الدلالي، وكان ذلك نشأ من خيال: ان كيفية الكشف
يختلف، فعن أمرين متنافيين واقعا، يمكن الكشف على نحو لا يكون بين الكشفين تناف، ويمكن الكشف على نحو يكون بين الكشفين
تناف. وأنت خبير: بأن كل كشف عن المتنافيين متناف، وجمع العرف برفع اليد عن أحد الكشفين بأقوائية الاخر لا يرفع المنافاة من
البين.
واما الحكومة: فالحق، انه ليس لها عنوان مستقل، بل هي من أقسام التعارض الذي هو تنافي الدليلين بحسب مدلولهما، والتقديم فيها
بملاك الاقوائية والأظهرية، وإن كان الحاكم لسانه لسان التفسير، وبعبارة (أعني: وأي) فان المحكوم بظهوره كشف عن إرادة
معنى، وهذا الحاكم كشف عن إرادة خلاف ذلك المعنى وهل ذلك إلا المعارضة وتنافي الدليلين بمدلوليهما؟ وهل يعقل لتقديم دليل
الحاكم وجه إلا قوة كشفه عن إرادة الخلاف، فتحصل عن كشف نفسه عن إرادة الوفاق.
كل ما كان المدلولان متنافيين كان الدليلان متنافيين وتنعكس هذه القضية كنفسها كليا، يعني كل ما لا يكون الدليلان متنافيين لا
يكون مدلولهما متنافيين، وأيضا كل جمع بين دليلين فهو بملاك أقوائية الظهور من غير فرق بين ما يسمى حاكما وغيره، فما يسمى
حاكما، شعبة من شعب مطلق المعارض، والتسمية مجرد اصطلاح لا أثر مترتب عليه.
قوله: أو عرضا، بأن علم بكذب أحدهما:
التناقض والتضاد لا يكون بالعرض، بل الدلالة على إثبات المتناقضين الحقيقيين، تكون بالعرض، مثلا: التعارض بين دليل يجب صلاة
الجمعة مع دليل يجب صلاة الظهر، يكون بالعرض، ومعنى ذلك ان دلالة أحد الدليلين على نفي ما يثبته الاخر، تكون بالالتزام الناشئ
من العلم
243

بالملازمة بين ثبوت أحد الوجوبين انتفاء الاخر، فتكون المناقضة بين المدلول الالتزامي لأحدهما، وهو النفي لما يثبته الاخر والمدلول
المطابقي للاخر، فالمناقضة حقيقة، والدلالة حدثت بسبب العلم بالكذب.
وفيه: ان العلم لا يوجب الدلالة الالتزامية، بل ولا مطلق اللزوم يوجبها ما لم يكن بينا جليا، فالصواب: ان يعمم محل البحث إلى غير صورة
المعارضة ولا يخص بالمعارضة حتى يحتاج إلى تكلف إدراج صورة العلم بكذب أحدهما، تحت المعارضة، الذي سمعت عدم تماميته، و
قد عرفت: ان الضابط في محل البحث:
كل دليلين لا يمكن إدراجهما تحت دليل (صدق)، وتلك كلمة جامعة، تشمل ما إذا كان عدم إمكان الادراج، هي المعارضة أو العلم
الاجمالي بكذب أحدهما، مع دعوى: ان المعلوم كذبه، ولو على سبيل الاجمال، خارج عن مدلوله.
قوله: قد سبق ناظر إلى بيان كمية ما أريد من الاخر:
إن كان المراد مما أريد، وما أريد واقعا وبالإرادة الجديدة، فالخاص أيضا سبق لبيان كمية ما أريد واقعا من العام، وان المراد منه ما
عدى الخاص. وإن كان المراد، ما أريد في مقام الاثبات وبالإرادة الاستعمالية، فهذا لا يكون إلا مع تأخر دليل الحاكم، والمفسر عن
دليل المحكوم، والمفسر إلا على سبيل الاخبار، بأن يخبر بأن مراده من الألفاظ التي يتلفظ بها فيما بعد كذا وكذا. هذا، وقد عرفت: ان
كل جمع عرفي تحت كلمة واحدة هي كلمة تقديم الاظهر على الظاهر، فهذه الإطالة التي أطال بها المصنف المقام، ليست بمهمة.
قوله: وفي أحدهما المعين:
اما إذا كان مجموعهما قرينة على التصرف في أحدهما لا بعينه، لم يزل التعارض بينهما مستمرا، لعدم ترجيح التصرف في هذا بعينه على
التصرف في الاخر بعينه، فيحكم بحكم التعارض من التساقط أو التخيير، عند عدم الترجيح.
قوله: حيث لا يلزم منه محذور تخصيص أصلا:
إذا كان الاخذ بالامارات من باب انه لا يلزم منه محذور التخصيص، والتصرف في ظهور أدلة الأصول بخلاف
244

العكس، كان الاخذ بها من باب اقتضاء أصالة الظهور ذلك، إذ كل ما دار الامر بين التصرف في ظاهر الأدلة وبين عدم التصرف فيها،
كان المتعين بحكم أصالة الظهور، عدم التصرف فيها، فيكون ذلك أجنبيا من تعارض الظهورين بدوا، ثم تقديم الاظهر، والتصرف في
الظاهر بحكم العرف، كما أدعاه.
ومنه يظهر: ان لزوم التخصيص والتصرف في الظاهر على أحد التقديرين دونه على التقدير الاخر، كاف في تعيين الاخذ بما لا يلزم
منه التخصيص من غير توقف، على كون تخصيصه بلا وجه أو بوجه دائر، فان أصل ارتكاب التخصيص محذور مع إمكان عدم ارتكابه،
وكونه بلا وجه أو بوجه دائر، محذور آخر.
قوله: هذا مع احتمال أن يقال:
قضية الحجية إن كانت انشاء الحكم الظاهري، أو كانت مجرد تنجيز الواقع مع المصادفة والتعذير مع الخطأ، لم توجب اختلافا في نسبة
أدلة الامارات إلى أدلة الأصول، إن كانت حكومة أو كانت ورودا، بل ولا يزيد بذلك وضوح ما هي عليها من النسبة، فلعل التعبير بلفظ
مع، ليس إلا لأجل استدراك ما صدر منه، بقوله: وقضية حجيتها، ليست إلا لزوم العمل على وفقها شرعا من غير دخل له بأصل المطلب، و
إن كان ذلك خلاف الظاهر منه.
قوله: لأجل ان الحكم الواقعي ليس حكم احتمال خلافه:
نعم، الحكم الواقعي الذي تحكيه الامارة ليس حكم احتمال خلافه، لكن ليس الكلام في مفاد الامارة ونسبته مع دليل الأصل، بل في نسبة
دليل اعتبار الامارة مع دليل اعتبار الأصل، ومن المعلوم: ان دليل اعتبار الامارة يعتبر الامارة في مورد عدم العلم بالواقع، كدليل
اعتبار الأصل نعم، ليس في لسانه مأخوذ عنوان الشك والجهل، كما هو مأخوذ في لسان دليل الأصل، لكنه بحسب واقعه، هو والأصل
سوأ، في كونه حكما واقعيا في موضوع الجهل بالواقع.
قوله: كيف، وهو حكم الشك فيه واحتماله:
يعنى حكم احتمال الخلاف هو
245

حكم الشك في الواقع، فالواقع يكون مقدما على الشك برتبة، وعلى حكم الشك برتبتين. والمقدم برتبتين كيف يعقل أن يكون مؤخرا
برتبتين، ويكون هو بنفسه حكم احتمال الخلاف في نفسه؟
قوله: هذا ولا تعارض أيضا:
عطف على قوله في صدر المبحث: وعليه فلا تعارض بينهما إلى آخر ما ذكره. ولا يخفى ان هذا تكرار، وقد تقدم قوله: أو كانا على
نحو إذا عرضا على العرف وفق بينهما بالتصرف في خصوص أحدهما. وهذا الذي ذكره هنا مندرج تحته، وليس مراده من ما ذكره
هناك، ما كان اجتماعهما قرينة، على التصرف في خصوص أحدهما، حتى يمتاز هذا عنه، بكون أحدهما فيه قرينة على الاخر، وذلك لان
صورة قرينية الاجتماع للتصرف في خصوص أحدهما المعين ذكرها بعد ذلك، ولا يبعد أن يكون مراده مما ذكره هناك، أن يكون
أحدهما قرينة على التصرف في الاخر بحكم العرف، تعبدا، لا بملاك الأظهرية، كما في العناوين الثانوية والأولية، فيمتاز حينئذ عن ما
هنا، بأن ذلك بمناط الأظهرية. لكن قد عرفت: ان الجمع في جميع صوره، حتى صورة الحكومة، بمناط الأظهرية والاخذ بالأظهر وترك
الظاهر.
قوله: وانما يكون التعارض بحسب السند فيما:
هذه العبارة تكرار لسابقتها، فالأولى الاقتصار عليها وترك السابقة، لكونها أبسط وأوفى في بيان المقصود منها.
قوله: أو لأجل أنه لا معنى للتعبد بصدورها مع إجمالها:
لا يلزم الاجمال على مذاقه، من أن القرائن المنفصلة لا تخل بالظهور وانما تذهب بالحجية، فالأولى أن يقال: أو لأجل انه لا معنى للتعبد
بصدورها مع وجوب طرح بعضها، لعدم إمكان الاخذ بأطراف المعارضة جميعا.
قوله: فصل التعارض وإن كان لا يوجب إلا سقوط:
اعلم: ان الخارج عن دليل الحجية، اما أن يكون إحدى الروايتين على سبيل التعيين، وإن لم نعلم به بعينه، كما إذا علم أن راوي إحداهما
فاسق أو غير إمامي، فلا ريب ان الحجة حينئذ هي الأخرى التي راويها جامع للشرائط المعتبرة، لكن حيث لا يعلم بها بعينها، لا يسع
246

الاخذ بمدلول شئ منهما، ولكن نفي الثالث يكون بتلك الحجة المعينة واقعا، فيرجع إلى أصل لا يخالفهما، واما أن يكون أحدهما لا على
سبيل التعيين واقعا، كما في المقام المعلوم كذب أحدهما، فان معلوم الكذب الخارج لا تعين له، وليس الكذب واقعا خارجا، فلعل كلاهما
كذب. وقد عرفت: انه إذا خرج عن تحت العام فرد أو أفراد، لا على سبيل التعيين، انقلبت الافراد الباقية بافراد لا على سبيل التعيين، فإذا
قال: أكرم العلماء إلا واحدا، كان الباقي تحت أكرم، ما عدى واحد القابل الانطباق على كثيرين، على سبيل البدل، كقبول انطباق نفس
الواحد الخارج.
ففي المقام: إذا خرج عن تحت دليل (صدق) أحد المتعارضين، لا بعنوان، كان الاخر، اللا بعنوان، حجة بدليله، فان افراده ابتدأ وإن لم
يكن هو الواحد، اللا بعنوان، بل كل واحد من المتعينات، لكن خروج اللا بعنوان اقتضى ذلك، فهو كقرينة المجاز، فلا يكون ذلك من باب
الاخذ بعموم العام فيما بقي، ومن المعلوم ان حجية مقتضى واحد لا بعنوان الذي هو مفاد النكرة، هو التخيير عقلا، كما في كل حكم تعلق
بمفاد النكرة، فيتخير في الاخذ بأي الروايتين، ويكون المأخوذ حجة في مدلوله المطابقي والالتزامي جميعا، والعجب كل العجب ان
المصنف مع اعترافه بأن خروج اللا بعنوان يقتضي حجية اللا بعنوان، ومع ذلك تركهما جميعا في مدلولهما المطابقي.
نعم، نفي الثالث بذاك الواحد، اللا بعنوان، مع أن قضية حجية الواحد، اللا بعنوان، هو التخيير دون التساقط، وانما التساقط قضية حجية
واحد معين مشتبه عندنا، وهي الصورة الأولى.
قوله: وهو بناء العقلا على أصالتي الظهور:
فان بناءهم، وإن لم يحتمل أن يكون من باب السببية وحدوث المصلحة، بل كان من باب الطريقية المحضة أو لمجرد التعبد، لكن
تقرير الشارع لهذا البناء، الذي هو علة اعتباره، يحتمل أن يكون من باب للسببية، وحيث إن بناءهم في غير معلوم الكذب خاصة، ولو
إجمالا، فتقرير الشارع أيضا يكون في ذلك الموضوع.
247

قوله: واما لو كان المقتضى للحجية:
اعلم: انه مع حدوث المصلحة في كل من المتعارضين، وعدم منع العلم بكذب أحدهما إجمالا، عن شمول دليل الحجية شرعا، كما أنه غير
مانع عقلا، بل العلم بالكذب التفصيلي أيضا غير مانع عقلا، لا تخلو الحال، اما أن لا يكون بين المتعارضين تضاد أو لا تناقض، بل كان
مجرد العلم بكذب أحدهما. واما أن يكون بينهما تضاد أو تناقض.
لا إشكال على الأول، وإن كلا منهما يؤثر في حدوث المصلحة في مؤداه، فيؤخذ بكليهما جميعا. فلو أخبر أحد العدلين بوجوب صلاة
الجمعة، وأخبر الاخر بوجوب صلاة الظهر، أخذ بكلا الخبرين، ويحكم بوجوبهما جميعا، بعنوان ما أخبر به العادل، وإن علم بعدم
الوجوب كذلك، بالعنوان الواقعي.
واما على الثاني: فاما أن يكون الخبران في حكم موضوع واحد، كأن أخبر أحدهما بوجوب فعل، وأخبر الاخر بحرمته أو كراهته أو
استحبابه أو إباحته، واما أن يكون في حكم موضوعين متضادين، كأن أخبر أحدهما بوجوب أحد الضدين، وأخبر الاخر بوجوب الاخر
أو استحبابه أو كراهته أو إباحته.
وبالجملة: إذا دل الدليلان على فعلية حكمين في موضوع واحد لا يمكن فعليتهما فيه، أو دلا على فعلية حكمين في موضوعين لا يمكن
فعليتهما فيهما، كان الحكم على طبق أقوى الملاكين، إن كان، ومع التساوي، كان الحكم في الصورة الأولى، وهي في صورة الدلالة على
حكم موضوع واحد، هو: الإباحة، لا عن اقتضاء. وفي الصورة الثانية، هو: التخيير بين الفعلين، أو إباحتهما، هذا حكم الصورتين على
سبيل الاجمال.
والتفصيل: انه لو دل دليل على وجوب فعل ودل الاخر على حرمته، كان المؤثر أقواهما ملاكا، ومع التساوي كان الحكم الإباحة إباحة
لا عن اقتضاء. وكذا الحال فيما إذا دل الدليل الآخر على إباحته، فان الإباحة الثابتة بدليل صدق إباحة اقتضائية، يزاحم بها الوجوب، بل
ربما تغلب عليه. واما إذا دل الاخر على كراهته أو استحبابه، غلب جانب الملاك الالزامي، لقوته، وبقي الملاك الغير الالزامي غير
248

مؤثر في الحكم الغير الالزامي، ومنه يظهر الحال فيما لو دل دليل على وجوب فعل ودل الاخر على وجوب ضده، وان أقواهما ملاكا إن
كان هو المؤثر، وإلا كان الحكم التخيير ومثله ما لو دل الاخر على إباحة ضده، إلا أن هاهنا لو تساوى الملاكان لم يؤثرا جميعا، وكان
الحكم في الضدين، هو الإباحة، لا عن اقتضاء، واما لو دل الاخر على استحباب الضد الاخر أو كراهته، كان ما دل على الوجوب هو
المؤثر فعلا، لقوة ملاكه على ملاكيهما، وبقيا هما بلا تأثير.
قوله: إلا أن يقال: بأن قضية اعتبار:
هذا القول هو المتعين، فليته لم يذكر ما ذكره أولا، الذي ليس إلا الخلف. فان عدم حدوث المصلحة والسببية في موارد الامارة على
الاحكام الترخيصية، خلاف ما فرض من أنه تحدث باخبار العادل، المصلحة في الحكم الذي أخبر به، والذي لازمه أن ينشأ حكم على طبق
ما أخبر به عن اقتضاء، وإن كان ما أخبر به حكما غير اقتضاء.
قوله: ويحكم فعلا بغير إلزامي:
بل يقتضي أقوى المناطين من الالزامي وغير الالزامي، ويحكم بفعليته، ومع المساواة يحكم بإباحة غير اقتضائية، بعد سقوط
المقتضيين بالتكاسر عن درجة التأثير، ففيما إذا كان الدليلان في موضوع واحد، يحكم بإباحة ذلك الموضوع، وفيما إذا كانا في
موضوعين متضادين، يحكم بإباحة كلا الموضوعين، إباحة غير اقتضائية. وظاهر عبارة المصنف هو: ان الإباحة المحكوم بها، هي تلك
الإباحة الاقتضائية، وانه لا يزاحمها ما يقتضي الحكم الالزامي، وهو واضح الضعف، لا ينطبق على شئ من المباني.
قوله: نعم، يكون باب التعارض من باب التزاحم مطلقا:
انما يكون باب التعارض من باب التزاحم مطلقا، حتى فيما إذا دل أحد الخبرين على حكم غير إلزامي، مع دلالة الاخر على حكم إلزامي
إذا كانت قضية دليل الاعتبار لزوم البناء والالتزام بمؤدى الخبر على وجه القيدية للعمل، ليكون الواجب العمل به، متدينا وملتزما. اما
إذا كان قضيته لزوم البناء في سطح وجوب العمل، على أن يكون مفاد (صدق) وجوب العمل ووجوب الالتزام عرضا، بلا ارتباط
أحدهما
249

بالآخر وتقيده به، لم يتغير الحال في جانب العمل بسبب القول بوجوب البناء، بل كان الحكم في جانبه، كما كان. نعم، جانب وجوب
البناء، يدخل في باب التزاحم، ويشكل الامر حينئذ، فيما إذا كانت قوة الملاك في جانب رواية الإباحة، حيث كان الواجب حينئذ الالتزام
برواية الإباحة، والبناء على الإباحة مع وجوب الاخذ في مقام العمل برواية الحكم الالزامي والالتزام بالفعل أو الترك، فان هذا أمر
غريب.
قوله: لو لم يكن أحدهما معلوم الأهمية:
الأهمية تارة تكون بقوة ملاك الحكم في دليل الاعتبار، ودليل صدق، كأن يكون أحد الخبرين، راويه أعدل من الاخر أو نحو ذلك، مما
هو مناط للحكم وجوب التصديق، وأخرى تكون بقوة ملاك الحكم، المخبر به في إحدى الروايتين على ملاكه في الاخر، كما إذا أخبر
أحد العدلين بوجوب فعل وأخبر الاخر بوجوب ضده وجوبا آكد من الأول، أو أخبر بحرمة نفس ذلك الفعل، بملاك يقوى على ملاك
الايجاب. فان الظاهر: انه لا إشكال في أن الحكم المنشأ باخبار العادل يكون في الشدة والضعف والتأكد وعدمه كنفس الحكم المخبر
به، كما أن في أصله يكون كهو، فإذا أخبر بإيجاب فعل إيجابا متأكدا أو باستحبابه، كذلك حدث باخباره إيجاب متأكد واستحباب
متأكد، لا أنه يحدث أول مرتبة من الايجاب أو الاستحباب، كما إذا أخبر بأول مرتبته.
قوله: أو محتملها في الجملة:
وهو ما إذا كانت المزية المقطوعة أو المحتملة بمرتبة توجب بنفسها حكما إلزاميا، اما لو لم تكن كذلك، بل كانت مقتضية في حد نفسها،
لو كانت في فعل لحكم غير إلزامي، فانضمامها لا توجب تعين ذلك الفعل عند التزاحم، وانما توجب رجحانه طبق الرجحان الذي كان
تقتضيه هذه المزية، لو كانت منفردة.
والوجه في ذلك واضح، فان المقدار المتساوي من الملاكين المتزاحمين يكون صفرا بالتزاحم وساقطا عن درجة التأثير، والمقدار
الباقي في أحد الجانبين، وهو ما
250

التفاضل، يكون هو المؤثر، ولازمه أن يكون أثره كأثره، إذا كان منفردا، ان إلزاميا فإلزامي، وإن غير إلزامي فغير إلزامي. ويحتمل
أن يقال بتعين ذي المزية مطلقا باعتبار ان سقوطهما جميعا عن التأثير بعد عدم إمكان تأثيرهما جميعا، كان بمناط بطلان الترجيح بلا
مرجح، ويكفي للترجيح مطلق المزية، ولو كانت غير إلزامي. ثم إن المصنف أشار إلى تفصيل المقام في الجملة، في رسالة البراءة عند
الكلام في المتزاحمين، ودوران الامر بين وجوب شئ وحرمته. ولم أر في مبحث الضد ذكر منه.
قوله: لا، الجمع بينهما بالتصرف في أحد المتعارضين:
اعلم: ان صور التعارض ثلاث، صورة الجمع العرفي: وقد عرفت الكلام فيها، وتقدم إنكارنا للجمع العرفي، فلا تمتاز عن غيرها من
الصور في الحكم.
وصورة التباين الغير الممكن فيها الجمع بوجه، حتى بما لا يساعد عليه العرف، وهذه هي: كل صورة لم ينحل ما أخبر به المتعارضان
إلى أحكام متعددة، نحو العمومي الاستغراقي، بل كان حكما واحدا بسيطا، وان تعلق بمتعدد اعتبر واحدا على نحو العموم المجموعي،
فان الاخذ حينئذ في بعض الاجزاء بأحد الخبرين وفي الاخر بالآخر، لا يعد جمعا بين الخبرين، بل كان طرحا لهما رأسا، وهذه
الصورة، هي الصورة المتفق على عدم الجمع فيها، ولا يمكن أيضا فيها الجمع. وقد تقدم الكلام فيما هو قضية الأصل الأولي فيها.
وثالث الصور: صورة التباين الممكن فيها الجمع بالأخذ بكل من الخبرين في جز مدلوله، وان لم يساعد عليه العرف، وهذه الصورة
هي عكس الصورة الثانية، أعني انحلال مفاد كل من الخبرين إلى أحكام متعددة، وهي محل البحث فعلا، ويبحث عن أنه هل يجمع بين
الخبرين بالتبعيض والاخذ بكل منهما أو في الجملة، كما ينسب إلى صاحب غوالي اللئالي، أو ان الحكم فيها هي الحكم في الصورة الثانية،
بحسب الأصل الأولي والثانوي، و انما يختص الجمع من بين الصور بالصورة الأولى؟ ولكن التحقيق اشتراك الصور الثلاث في جواز
الجمع فيها بين الخبرين
251

بأي أنحاء الجمع، كما جاز الاخذ بأحدهما وترك الاخر، وهو التخيير الذي اخترناه سابقا، فيكون المحصل تخييرا عاما وتخييرا بين
التبعيض بأنحائه، وبين الاخذ بواحد وترك الاخر رأسا، مخيرا أيضا في المأخوذ والمتروك.
نعم، حيث لا يمكن الجمع والتبعيض في الصورة الثانية، يتعين التخيير بأخذ أحدهما وطرح الاخر رأسا.
وتوضيح المدعى يتوقف على بيان معنى (صدق) وما هو قضية دليل الاعتبار.
فاعلم: ان دليل (صدق) نسبته إلى خبرين وثلاثة اخبار وأربعة وهكذا، وإلى خبر عدل واحد مشتمل على حكاية حكمين وثلاثة أحكام
وأربعة وهلم جرا، ولو بلفظ واحد، نسبة واحد، فلا يكاد يختلف الحال في ساحة هذا الدليل، بين أن يكون مجموع مجلدات كتاب
وسائل الشيعة قد حكى عدل واحد، وبين أن يكون كل حكم، حكم تضمنته رواية واحدة رواه عدول، مستقلا، مستقلا، فان (صدق) ينشأ
مماثل ما حكاه العدل أو يصير حجة عليه، فإذا حكى عدل واحد ألف حكم أنشأ (صدق) هناك ألف حكم، كما إذا أخبر ألف عدل لذلك
الألف حكم بلا تفاوت شعرة، وحينئذ فإذا أخبر عدل بحكم عام، كوجوب إكرام العلماء وأخبر العدل الاخر على خلافه، كوجوب
إهانتهم، فلا ريب انه لا يمكن الاخذ بدليل (صدق) فيهما بتمام مدلولهما، واما الاخذ بدليل (صدق) في أحدهما دون الاخر، أو في بعض
مدلول أحدهما منضما إلى بعض مدلول الاخر، فكل ممكن، ومعه لا وجه لتعين الأول، كما لا وجه لتعين الثاني، بل المتعين هو التخيير، و
جواز الجمع كجواز الاخذ بأحدهما وطرح الاخر رأسا.
ويظهر وجه ذلك مما ذكرناه سابقا، وجها للتخيير في مقابل من قال بالتساقط. ونحن وان ذكرنا سابقا التخيير لكن كان ذلك في
مقابل القول بالتساقط، والآن نعمم دائرة التخيير بما يشمل الاخذ بكل في جز مدلوله، فيكون المحصل تخييرا عاما إلى آخر العبارة
التي قدمناها. وهذا الامر أوضح على السببية منه على الطريقية، مثلا إذا أمر المولى بإطاعة الأب، وأمر الأب بإكرام العلماء
252

وإهانتهم في وقت لا يسع ذلك، بل يسع اما لاكرامهم فقط أو إهانتهم فقط أو إهانة بعضهم وإكرام بعضهم، فان العقل يحكم بإنفاذه
أوامرهما أمكن، من غير فرق بين صور الامكان، وترجيح بعضها على بعض، بل يحكم بالتخيير بين تلك الصور.
وبالجملة: بعد ما بيناه في المقدمة، يظهر: انه لا فرق بين إلغاء (صدق) في أحدهما رأسا وأخذه في الاخر، وبين إلغائه في جز من كل
منهما وأخذه في الجز الاخر، فان المتروك من الدليل على كل حال مقدار واحد لا يختلف كما ليتعين الأقل. نعم، إلغاء مورد الالغاء
مختلف، وهذا الاختلاف حاصل في فرض الاخذ بأحدهما وترك الاخر رأسا أيضا، فان مورد الالغاء قد يجعل هذا وقد يجعل ذاك، و
هذا ليس محذورا.
وبالجملة: إذا لم يمكن الاخذ بعموم الدليل يؤخذ منه بما أمكن، مخيرا بين مصاديقها من غير وجه لترجيح بعض المصاديق الممكنة على
بعض، في لزوم الاخذ، فعموم أكرم إذا لم يمكن الاخذ به أخذ به، فيما أمكن، فيكرم حسب المجهود، مخيرا في اختيار كل فرد شاء من
العلماء للاكرام، وكذلك المقام إذا لم يمكن الاخذ بعموم صدق في الخبرين المتعارضين بما لهما من المدلول أخذ به فيما أمكن من
مجموع مدلولهما، مخيرا في الاخذ من هذا المجموع نحو ما إذا أخبر عدل واحد بمجموع المدلولين وتعذر الاخذ به، فيدخل التبعيض في
أطراف التخيير.
فاتضح: انه لا الجمع أولى من الطرح ولا الطرح أولى من الجمع، بل كل في عرض الاخر، يتخير بينهما.
إن قلت: هذا في المخصص العقلي، أعني فيما إذا لم يتمكن من الاخذ والعمل بعموم الدليل، لكن المقام بمعزل منه، فان أحد الخبرين
المعلوم كذبه خارج عن تحت دليل صدق تخصصا، فاما هذا كذب أو ذاك كذب، والاخذ بقبضة من هذا وقبضة من ذاك، أخذ بالكذب
القطعي.
قلت: قد أشرنا سابقا إلى: انه إذا خرج عن تحت الدليل، اما تخصيصا أو تخصصا اللا بعنوان، انقلب الباقي أيضا إلى اللا بعنوان، بحكم
العرف، والخارج في
253

المقام المعلوم الكذب، وهو غير منطبق واقعا على شئ معين من الخبرين، بل ولا ينحصر أيضا أطراف تردده بين هذا الخبر بتمام
مدلوله، وذاك الخبر الآخر بتمام مدلوله، إذ من المحتمل أن يكون الكاذب، بمعنى الغير المطابق للواقع، مقدار من هذا ومقدار من ذاك،
بأن كانا صادرين جميعا ولم يكن ظاهرهما مقصود القرينة، اختفيت، فصار المحصل ان المعلوم هو كذب المجموع من حيث المجموع
من مؤدى الخبرين، وما عدى هذا المجموع - أي شكل فرض - محتمل الكذب، فيكون الواحد المردد بين هذا الماعدي، تحت دليل صدق،
ولازم ذلك ثبوت التخيير العقلي بينها جميعا.
إن قلت: هذا على السببية واضح، واما على الطريقية إذا علم بوجود الكذب في عدة أطراف إجمالا، سقط تمام تلك الأطراف عن الطريقية
والكاشفية.
قلت: السببية والطريقية مسلكان في كيفية اعتبار الامارات، لا يكاد يختلف بذلك اقتضاء اللفظ وظهور دليل الاعتبار. ونحن قد بينا:
ان هذا التخيير، قضية دليل الاعتبار بعد خروج معلوم الكذب اللا بعنوان، فلا يختلف بأن يكون اعتبار الامارة من هذه الجهة أو من تلك
الجهة.
نعم، لا كشف فعلي لشئ من أطراف العلم بالكذب، لكن المدار في الطريقية ليس على الكشف الفعلي.
قوله: إذ لا دليل عليه فيما لا يساعد عليه العرف:
قد عرفت: ان الدليل عليه هو دليل الاعتبار بعد خروج معلوم الكذب المبهم واقعا، فيكون الباقي أيضا مبهما واقعا، ولازمه التخيير، في
كل ما يحتمل صدقه منهما ومن جملته بعض كل منهما، كما في كل مقام توجه الحكم إلى مدلول النكرة، نعم، لا يتعين التبعيض المعبر عنه
بالجمع، ولا هو أولى من الاخذ بأحدهما وترك الاخر رأسا، بل هما في عرض واحد، لان التصرف في دليل (صدق) فيهما يكون بمقدار
واحد بلا زيادة ونقيصة، ليتعين صاحب النقيصة.
قوله: مع أن في الجمع كذلك أيضا طرحا للامارة والإمارتين:
ليس للظهور اعتبار لولا دليل (صدق) الشامل للسند، فحياة أصالة الظهور، الذي يكون تركه محذورا،
254

يكون بشمول دليل (صدق) لسند ذاك الظهور، وفي مرتبة متأخرة عن شمول دليل صدق، ومع الجمع، الذي م آله إلى إخراج بعض كل
من الخبرين عن تحت دليل صدق، لا تكون أصالة الظهور جارية، كي يكون رفع اليد عنها محذورا يزاحم به محذور الطرح، ومع ذلك
حق القول، ما سمعت آنفا.
في بيان التعارض بين الامارات
قوله: وقد عرفت: ان التعارض بين الظهورين:
هذه توطئة وصغرى للكبرى، التي يذكرها، بقوله: وقد عرفت: ان قضية التعارض إلى آخر عبارة فالمقصود الأصلي هو تلك الكبرى،
التي عين المدعى، أعني كون حكم التعارض سوأ كان في الظهور، وذلك فيما إذا كان السند قطعيا أو في السند، وذلك فيما إذا كان
السند قطعيا، هو التساقط.
وفيه: ان ذلك حق في التعارض في الظهور، فان العقلا لا يعتنون بشي من الظهورين المتعارضين، واما في التعارض في السند، الذي
كان اعتباره بدليل تعبدي وبظهور (صدق). فقد عرفت: ان عموم دليل صدق يقتضي التخيير بالمعنى الشامل للجمع، بالأخذ ببعض كل
منهما، وللاخذ بأحدهما وطرح الاخر رأسا.
قوله: ولا ينافيه الحكم، بأنه أولى مع لزومه حينئذ:
الأولوية هنا بمعنى اللزوم والتعين على كل حال، لان الجمع التبرعي عند من يقول: بأن الجمع مهما أمكن أولى من الطرح أولى على وجه
التعين لا سبيل إلى الطرح ما كان إلى الجمع سبيل.
نعم، على ما اخترناه لا تعين له، بل قد عرفت: ان عليه لا أولوية له أيضا، بل هو والطرح في حد سوأ.
قوله: ولا يخفى: ان اللازم فيما إذا لم تنهض حجة:
يعني بعد نهوض الحجة، وهو الاجماع على عدم التساقط، إذا دار الامر بين أن تكون الحجة ما اختاره المكلف أو خصوص ذي المزية،
كانت حجية ذي المزية معلومة وحجية الأخرى مشكوكة، المساوق ذلك للقطع بعدم حجيته، فيقتصر على معلوم الحجية. ولو قلنا: إن
الأصل
255

في دوران الامر بين التعيين والتخيير في التكليف: هو التخيير بإجراء أصالة البراءة عن خصوصية التعين، ومن ذلك يظهر حكم ما إذا
دار الامر بين أن تكون الحجة ما اختاره المكلف من المتعارضين أو خصوص واحد معين واقعا، غير معين لدى المكلف. فإنه لا بد من
معاملة حجية ذلك المعين بالاحتياط في الأطراف، إذا دل أحد الخبرين على وجوب شئ ودل الاخر على وجوب آخر، وبالرجوع إلى
البراءة لو دل أحدهما على حكم إلزامي ودل الاخر على حكم ترخيصي.
قوله: كخبر الحسن بن جهم عن الرضا عليه السلام قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة:
الدال على التخيير من هذه الأخبار هو هذا الخبر فقط، لقوة احتمال أن يكون خبر ابن المغيرة في مقام أصل اعتبار خبر الثقة، فإنه في
سياق سائر ما دل على حجية خبر الواحد، ولا إشارة فيه إلى أن المقصود صورة التعارض.
نعم، في قوله: حتى يرى القائم فيرد عليه إيهام بذلك، حيث إن حجية خبر العدل غير مغيا برؤية القائم، إلا أن ينتقض بأن التخيير بين
المتعارضين أيضا عند من يقول به غير مغيا برؤيته، واما مكاتبة عبد الله بن محمد، فالظاهر: ان التوسعة والتخيير فيه تخيير في الحكم
الفرعي لا في الحجة، وان ركعتي الفجر يجوز في كل من المحمل والأرض، اختيارا، سيما ومن المستبعد ان يترك الامام بيان حكم
المسألة الفرعية، ويحيل السائل إلى التخيير في المسألة الأصولية، ومثل ذلك الكلام في مكاتبة الحميري، ولا ينافيه قوله عليه السلام
فيها: (وبأيهما أخذت) من باب التسليم، كان صوابا، فان المراد من التسليم هو التسليم لقول المعصوم، والمروي عنه، والانقياد والطوع
له لا التسليم لقول الثقة الراوي، ليكون ذلك شاهدا على أن المراد هو التخيير في العمل بقول كل من الراويين، بما هو قول الراويين.
قوله: ومنها ما دل على التوقف مطلقا:
لعل ارتباط هذه الطائفة بالمدعى، وهو عدم التساقط كشفها عن وجود حجة فعلية مبهمة في البين، ومن باب الرعاية لها أوجب التوقف
والاحتياط في العمل، فلو كان التساقط حقا لم يكن مجال للتوقف، وكان المحكم هو الأصل الموافق لأحدهما أو مطلقا، ولو كان مخالفا
لهما.
256