الكتاب: أضواء البيان
المؤلف: الشنقيطي
الجزء: ٧
الوفاة: ١٣٩٣
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: مكتب البحوث والدراسات.
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤١٥ - ١٩٩٥م
المطبعة: بيروت. - دار الفكر للطباعة والنشر.
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر
ردمك:
ملاحظات:

((سورة فصلت))
* (حم * تنزيل من الرحمان الرحيم * كتاب فصلت ءاياته قرءانا عربيا لقوم يعلمون * بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون * وقالوا قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه وفىءاذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون * قل إنمآ أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنمآ إلاهكم إلاه واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكواة وهم بالا خرة هم كافرون * إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون * قل أءنكم لتكفرون بالذى خلق الا رض فى يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسى من فوقها وبارك فيها وقدر فيهآ أقواتها فى أربعة أيام سوآء للسآئلين * ثم استوى إلى السمآء وهى دخان فقال لها وللا رض ائتيا طوعا أو كرها قالتآ أتينا طآئعين * فقضاهن سبع سماوات فى يومين وأوحى فى كل سمآء أمرها وزينا السمآء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم * فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود * إذ جآءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شآء ربنا لانزل ملائكة فإنا بمآ أرسلتم به كافرون * فأما عاد فاستكبروا فى الا رض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذى خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بأاياتنا يجحدون) * قوله تعالى: * (حم تنزيل من الرحمان الرحيم) *. قد قدمنا الكلام عليه وعلى نظائره من الآيات، في أول سورة الزمر. قوله تعالى: * (كتاب فصلت ءاياته) *. كتاب خبر مبتدأ محذوف، أي هذا كتاب، والكتاب، فعال بمعنى مفعول، أي مكتوب.
وإنما قيل له كتاب، لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، كما قال تعالى * (بل هو قرءان مجيد فى لوح محفوظ) *.
ومكتوب أيضا في صحف عند الملائكة كما قال تعالى: * (كلا إنها تذكرة فمن شآء ذكره فى صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدى سفرة كرام بررة) *.
وقال تعالى في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، لما تضمنته الصحف المكتوب فيها القرآن: * (رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة) *.
وقوله تعالى: في هذه الآية الكريمة: * (فصلت ءاياته) *.
التفصيل ضد الإجمال، أي فصل الله آيات هذا القرآن، أي بينها وأوضح فيها ما يحتاج إليه الخلق، من أمور دينهم ودنياهم.
والمسوغ لحذف الفاعل في قوله تعالى: * (فصلت ءاياته) * هو العلم بأن تفصيل آيات هذا القرآن، لا يكون إلا من الله وحده.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تفصيل آيات هذا الكتاب، جاء موضحا في آيات أخر، مبينا فيها أن الله فصله على علم منه وأن الذي فصله حكيم خبير، وأنه فصله ليهدي
3

به الناس ويرحمهم، وأن تفصيله شامل لكل شيء، وأنه لا شك أنه منزل من الله كقوله تعالى: * (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون) * وقوله تعالى: * (كتاب أحكمت ءاياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) *. وقوله تعالى * (وما كان هاذا القرءان أن يفترى من دون الله ولاكن تصديق الذى بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين) * وقوله تعالى * (ما كان حديثا يفترى ولاكن تصديق الذى بين يديه وتفصيل كل شىء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) * وقوله تعالى: * (أفغير الله أبتغى حكما وهو الذى أنزل إليكم الكتاب مفصلا) * والآيات بمثل ذلك كثيرة. قوله تعالى: * (قرءانا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون) *. قوله: قرآنا عربيا قد تكلمنا عليه وعلى الآيات التي بمعناه في القرآن في سورة الزمر، في الكلام على قوله تعالى: * (قرءانا عربيا غير ذى عوج) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (لقوم يعلمون) *، أي فصلت آياته، في حال كونه قرآنا عربيا لقوم يعلمون.
وإنما خصهم بذلك، لأنهم هم المنتفعون بتفصيله، كما خصهم بتفصيل الآيات في سورة يونس في قوله تعالى: * (ما خلق الله ذالك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون) *، وفي سورة الأنعام في قوله تعالى * (قد فصلنا الا يات لقوم يعلمون وهو الذى أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الا يات لقوم يفقهون) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقد أوضحنا وجه تخصيص المنتفعين بالأمر المشترك دون غيرهم في سورة فاطر في الكلام على قوله تعالى * (إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلواة) * وبينا هناك أن تخصيصهم بالإنذار دون غيرهم، في آية فاطر هذه، وفي قوله تعالى في يس * (إنما تنذر من اتبع الذكر وخشى الرحمان بالغيب) * وقوله في النازعات: * (إنمآ أنت منذر من يخشاها) * وقوله في الأنعام * (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولى ولا شفيع) *.
4

مع أن أصل الإنذار عام شامل للمذكورين وغيرهم كما يدل عليه قوله تعالى * (تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) *.
وإنما خص المذكورين بالإنذار، لأنهم هم المنتفعون به، لأن من لم ينتفع بالإنذار، ومن لم ينذر أصلا سواء في عدم الانتفاع، كما قال الله تعالى * (وسوآء عليهم أءنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) *.
وقوله تعالى، في هذه الآية الكريمة * (بشيرا ونذيرا) * حال بعد حال. وقد قدمنا الكلام عليه وبعض شواهده العربية، في أول سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى * (لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين) *. وبسطنا الكلام عليه في أول سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى * (كتاب أنزل إليك فلا يكن فى صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (فأعرض أكثرهم) *.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يس في الكلام على قوله تعالى * (لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون) * وفي سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى *
(وإن تطع أكثر من فى الا رض يضلوك عن سبيل الله) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (فهم لا يسمعون) * أي لا يسمعون سماع قبول وانتفاع.
وقد أوضحنا ذلك بالآيات القرآنية في سورة النمل في الكلام على قوله تعالى * (إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعآء) *. قوله تعالى: * (وقالوا قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه وفىءاذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب) *. ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن الكفار صرحوا للنبي صلى الله عليه وسلم، بأنهم لا يستجيبون له ولا يؤمنون به، ولا يقبلون منه ما جاءهم به فقالوا له قلوبنا التي نعقل بها، ونفهم في أكنة، أي أغطية.
5

والأكنة، جمع كنان، وهو الغطاء والغلاف الذي يغطي الشيء ويمنعه من الوصول إليه.
ويعنون أن تلك الأغطية، مانعة لهم من فهم ما يدعوهم إليه صلى الله عليه وسلم، وقالوا إن في آذانهم التي يسمعون بها وقرا أي: ثقلا وهو الصمم. وأن ذلك الصمم مانع لهم من أن يسمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، ومما يقول، كما قال تعالى عنهم: * (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهاذا القرءان والغوا فيه) *.
وأن من بينهم وبينه حجابا، مانعا لهم من الاتصال والاتفاق، لأن ذلك الحجاب يحجب كلا منهما عن الآخر، ويحول بينهم وبين رؤية ما يبديه صلى الله عليه وسلم من الحق.
والله جل وعلا، ذكر عنهم هذا الكلام في معرض الذم، مع أنه تعالى صرح بأنه جعل على قلوبهم الأكنة، وفي آذانهم الوقر، وجعل بينهم وبين رسوله حجابا، عند قراءته القرآن، قال تعالى في سورة بني إسرائيل: * (وإذا قرأت القرءان جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالا خرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفىءاذانهم وقرا) *. وقال تعالى في الأنعام * (ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفىءاذانهم وقرا وإن يروا كل ءاية لا يؤمنوا بها) *، وقال تعالى في الكهف: * (إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفىءاذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا) *.
وهذا الإشكال الذي أشرنا إليه في هذه الآيات قوي، ووجه كونه مشكلا ظاهر، لأنه تعالى ذمهم على دعواهم الأكنة والوقر والحجاب في هذه الآية الكريمة من فصلت، وبين في الآيات الأخرى أن ما ذمهم على ادعائه واقع بهم فعلا، وأنه تعالى هو الذي جعله فيهم.
فيقال: فكيف يذمون على قول شيء، هو حق في نفس الأمر.
والتحقيق في الجواب عن هذا الإشكال، هو ما ذكرناه مرارا، من أن الله إنما جعل على قلوبهم الأكنة، وطبع عليها وختم عليها، وجعل الوقر في آذانهم، ونحو ذلك من الموانع من الهدى، بسبب أنهم بادروا إلى الكفر، وتكذيب الرسل طائعين مختارين، فجزاهم الله على ذلك الذنب الأعظم، طمس البصيرة، والعمى عن الهدى، جزاء وفاقا.
6

فالأكنة والوقر والحجاب المذكورة إنما جعلها الله عليهم، مجازاة لكفرهم الأول.
ومن جزاء السيئة، تمادي صاحبها في الضلال، ولله الحكمة البالغة في ذلك.
والآيات المصرحة بمعنى هذا كثيرة في القرآن، كقوله تعالى: * (وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم) *.
فقول اليهود في هذه الآية * (قلوبنا غلف) * كقول كفار مكة: * (قلوبنا) * * (فى أكنة) * لأن الغلف، جمع أغلف وهو الذي عليه غلاف، والأكنة جمع كنان، والغلاف والكنان كلاهما بمعنى الغطاء الساتر.
وقد رد الله على اليهود دعواهم ببل التي هي للإضراب الإبطالي، في قوله * (بل طبع الله عليها بكفرهم) *.
فالباء في قوله: بكفرهم سببية، وهي دالة على أن سبب الطبع على قلوبهم هو كفرهم، والأكنة والوقر والطبع كلها من باب واحد.
وكقوله تعالى: * (ذلك بأنهم ءامنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون) *، والفاء في قوله: فطبع سببية أي ثم كفروا، فطبع على قلوبهم بسبب ذلك الكفر.
وقد قدمنا مرارا أنه تقرر في الأصول أن الفاء من حروف التعليل، ومن المعلوم أن العلة الشرعية سبب شرعي.
وكذلك الفاء في قوله: * (فهم لا يفقهون) * فهي سببية أيضا، أي فطبع على قلوبهم، فهم بسبب ذلك الطبع لا يفقهون أي لا يفهمون من براهين الله وحججه شيئا.
وذلك مما يبين أن الطبع والأكنة يؤول معناهما إلى شيء واحد، وهو ما ينشأ عن كل منهما من عدم الفهم.
لأنه قال في الطبع * (فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون) *.
وقال في الأكنة: * (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه) * أي كراهة أن يفقهوه، أو لأجل ألا يفقهوه، كما قدمنا إيضاحه.
7

وكقوله تعالى: * (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) * فبين أن زيغهم الأول، كان سببا لإزاغة الله قلوبهم، وتلك الإزاغة قد تكون بالأكنة والطبع والختم على القلوب.
وكقوله تعالى: * (فى قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) * وقوله تعالى: * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) *. وقوله تعالى: * (وأما الذين فى قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم) *.
وإيضاح هذا الجواب: أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم * (قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه وفىءاذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب) * يقصدون بذلك إخباره صلى الله عليه وسلم بأنهم لا يؤمنون به بوجه، ولا يتبعونه بحال، ولا يقرون بالحق الذي هو كون كفرهم هذا هو الجريمة، والذنب الذي كان سببا في الأكنة، والوقر والحجاب.
فدعواهم كاذبة، لأن الله جعل لهم قلوبا يفهمون بها، وآذانا يسمعون بها، خلافا لما زعموا، ولكنه، سبب لهم الأكنة، والوقر والحجاب، بسبب مبادرتهم إلى الكفر، وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا المعنى أوضحه رده تعالى على اليهود في قوله عنهم: * (وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم) *.
وقد حاول الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة، الجواب على الإشكال المذكور فقال: فإن قيل إنه تعالى حكى هذا المعنى عن الكفار فقال في معرض الذم، وذكر أيضا ما يقرب منه في معرض الذم، فقال: * (وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم) * ثم إنه تعالى ذكر هذه الأشياء الثلاثة بعينها في معنى التقدير والإثبات في سورة الأنعام، فقال: * (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفىءاذانهم وقرا) * فكيف الجمع بينهما؟
قلنا: إنه لم يقل ها هنا إنهم كذبوا في ذلك، إنما الذي ذمهم عليه، أنهم قالوا إذا إنا كنا كذلك، لم يجز تكليفنا وتوجيه الأمر والنهي علينا، وهذا الثاني باطل.
أما الأول: فلأنه ليس في الآية ما يدل على أنهم كذبوا فيه. ا ه منه. والأظهر: هو ما ذكرنا.
8

قال صاحب الكشاف في تفسير قوله تعالى: * (ومن بيننا وبينك حجاب) *.
فإن قلت: هل لزيادة: من في قوله: ومن بيننا وبينك حجاب فائدة؟ قلت: نعم.
لأنه لو قيل: وبيننا وبينك حجاب، لكان المعنى أن حجابا حاصل وسط الجهتين.
وأما بزيادة (من) فالمعنى: أن حجابا ابتدأ منا وابتدأ منك. فالمسافة المتوسطة لجهتنا، وجهتك مستوعبة بالحجاب، لا فراغ فيها. انتهى منه.
واستحسن كلامه هذا الفخر الرازي وتعقبه ابن المنير على الزمخشري، فأوضح سقوطه والحق معه في تعقبه عليه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ومن بيننا وبينك حجاب) *، وقد قدمنا تفسيره وإيضاحه بالآيات القرآنية، في سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى: * (وإذا قرأت القرءان جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالا خرة حجابا مستورا) *. قوله تعالى: * (قل إنمآ أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنمآ إلاهكم إلاه واحد) *. أمر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة، نبيه صلى الله عليه وسلم، أن يقول للناس: * (إنمآ أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنمآ إلاهكم إلاه واحد) *.
والقصر في قوله: * (إنمآ أنا بشر) * إضافي أي لا أقول لكم إني ملك، وإنما أنا رجل من البشر.
وقوله: * (مثلكم) * في الصفات البشرية، ولكن الله فضلني بما أوحى إلي من توحيده.
كما قال تعالى عن الرسل في سورة إبراهيم: * (قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولاكن الله يمن على من يشآء من عباده) * أي كان من علينا بالوحي والرسالة.
وما ذكره الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة ذكره في آخر سورة الكهف في قوله تعالى: * (قل إنمآ أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنمآ إلاهكم إلاه واحد فمن كان يرجو لقآء ربه فليعمل عملا صالحا) *.
9

وقد أوضحنا وجه حصر ما أوحي إليه صلى الله عليه وسلم، في مضمون لا إله إلا الله، في قوله تعالى * (قل إنمآ يوحى إلى أنمآ إلاهكم إلاه واحد فهل أنتم مسلمون) * في سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى * (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) *.
وبينا في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك إنكار المشركين كون الرسل من البشر، وأنهم ينبغي أن يكونوا من الملائكة، وما رد الله عليهم به ذلك من الآيات القرآنية، أوضحنا ذلك في سورة ص، في الكلام على قوله تعالى: * (وعجبوا أن جآءهم م نذر منهم) * وفي سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى: * (وما منع الناس أن يؤمنوا) * إلى قوله: * (لنزلنا عليهم من السمآء ملكا رسولا) *. قوله تعالى: * (وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكواة وهم بالا خرة هم كافرون) *. قد استدل بعض علماء الأصول بهذه الآية الكريمة، على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، لأنه تعالى صرح في هذه الآية الكريمة، بأنهم مشركون، وأنهم كافرون بالآخرة، وقد توعدهم بالويل على شركهم وكفرهم بالآخرة، وعدم إيتائهم الزكاة، سواء قلنا إن الزكاة في الآية هي زكاة المال المعروفة، أو زكاة الأبدان بفعل الطاعات واجتناب المعاصي.
ورجح بعضهم القول الأخير لأن سورة فصلت هذه، من القرآن النازل بمكة قبل الهجرة، وزكاة المال المعروفة إنما فرضت بعد الهجرة سنة اثنتين، كما قدمناه في سورة الأنعام، في الكلام على قوله تعالى: * (وءاتوا حقه يوم حصاده) *.
وعلى كل حال، فالآية تدل على خطاب الكفار بفروع الإسلام.
أعني امتثال أوامره واجتناب نواهيه، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة، من كونهم مخاطبين بذلك وأنهم يعذبون على الكفر، ويعذبون على المعاصي، جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى عنهم مقررا له: * (ما سلككم فى سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخآئضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين) *.
10

فصرح تعالى عنهم، مقررا له أن من الأسباب التي سلكتهم في سقر، أي أدخلتهم النار، عدم الصلاة، وعدم إطعام المسكين، وعد ذلك مع الكفر بسبب التكذيب بيوم الدين.
ونظير ذلك قوله تعالى: * (خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم فى سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه) * ثم بين سبب ذلك فقال: * (إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين فليس له اليوم هاهنا حميم ولا طعام إلا من غسلين) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم أجر
غير ممنون) *. الأجر جزاء العمل، وجزاء عمل الذين آمنوا وعملوا الصالحات، هو نعيم الجنة وذلك الجزاء غير ممنون، أي غير مقطوع، فالممنون اسم مفعول منه بمعنى قطعه، ومنه قول لبيد بن ربيعة في معلقته: ومنه قول لبيد بن ربيعة في معلقته:
* لمعفر فهد تنازع شلوة
* غبس كواسب ما يمن طعامها
*
فقوله: ما يمن طعامها أي ما يقطع، وقول ذي الأصبع: فقوله: ما يمن طعامها أي ما يقطع، وقول ذي الأصبع:
* إني لعمرك ما بابي بذي غلق
* على الصديق ولا خيري بممنون
*
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من أن أجرهم غير ممنون، نص الله تعالى عليه في آيات أخر من كتابه، كقوله تعالى في آخر سورة الانشقاق * (إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون) *. وقوله تعالى في سورة التين * (إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون) * وقوله تعالى في سورة هود * (وأما الذين سعدوا ففى الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والا رض إلا ما شآء ربك عطآء غير مجذوذ) *.
فقوله: غير مجذوذ أي غير مقطوع، وبه تعلم أن غير مجذوذ وغير ممنون، معناهما واحد.
وقوله تعالى في ص * (إن هاذا لرزقنا ما له من نفاد) * أي ماله من انتهاء ولا انقطاع. وقوله في النحل * (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) *.
11

وهذا الذي ذكرنا هو الذي عليه الجمهور خلافا لمن قال: إن معنى غير ممنون، غير ممنون عليهم به.
وعليه، فالمن في الآية من جنس المن المذكور، في قوله تعالى: * (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والا ذى) *.
ومن قال: إن معنى غير ممنون، غير منقوص، محتجا بأن العرب تطلق الممنون على المنقوص، قالوا: ومنه قول زهير: ومن قال: إن معنى غير ممنون، غير منقوص، محتجا بأن العرب تطلق الممنون على المنقوص، قالوا: ومنه قول زهير:
* فضل الجياد على الخيل البطاء فلا
* يعطي بذلك ممنونا ولا نزقا
*
فقوله ممنونا أي منقوصا.
وهذا وإن صح لغة، فالأظهر أنه ليس معنى الآية.
بل معناها: هو ما قدمنا. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (وجعل فيها رواسى من فوقها وبارك فيها وقدر فيهآ أقواتها فى أربعة أيام) *. الظاهر أن معنى قوله هنا في أربعة أيام: أي في تتمة أربعة أيام.
وتتمة الأربعة حاصلة بيومين فقط، لأنه تعالى قال: * (قل أءنكم لتكفرون بالذى خلق الا رض فى يومين) * ثم قال في أربعة أيام، أي في تتمة أربعة أيام.
ثم قال: * (فقضاهن سبع سماوات فى يومين) * فتضم اليومين إلى الأربعة السابقة، فيكون مجموع الأيام التي خلق فيها السماوات والأرض وما بينهما، ستة أيام.
وهذا التفسير الذي ذكرنا في الآية لا يصح غيره بحال، لأن الله تعالى صرح في آيات متعددة من كتابه بأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام كقوله في الفرقان: * (الذى خلق السماوات والا رض وما بينهما فى ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمان فاسأل به خبيرا) *. وقوله تعالى في السجدة * (الله الذى خلق السماوات والا رض وما بينهما فى ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع) *. وقوله تعالى في ق. * (ولقد خلقنا السماوات والا رض وما بينهما فى ستة أيام وما مسنا من لغوب) * وقوله تعالى في الأعراف * (إن ربكم الله الذى
12

خلق السماوات والا رض في ستة أيام ثم استوى على العرش) *. إلى غير ذلك من الآيات.
فلو لم يفسر قوله تعالى * (فى أربعة أيام) * بأن معناه في تتمة أربعة أيام، لكان المعنى أنه تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في ثمانية أيام، لأن قوله تعالى: * (فى أربعة أيام) * إذا فسر بأنها أربعة كاملة ثم جمعت مع اليومين اللذين خلقت فيهما الأرض المذكورين في قوله * (قل أءنكم لتكفرون بالذى خلق الا رض فى يومين) *، واليومين اللذين خلقت فيهما السماوات المذكورين في قوله تعالى: * (فقضاهن سبع سماوات فى يومين) * لكان المجموع ثمانية أيام.
وذلك لم يقل به أحد من المسلمين.
والنصوص القرآنية مصرحة بأنها ستة أيام، فعلم بذلك صحة التفسير الذي ذكرنا وصحة دلالة الآيات القرآنية عليه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (وجعل فيها رواسى من فوقها) * قد قدمنا الكلام على أمثاله من الآيات، في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: * (وألقى فى الا رض رواسى أن تميد بكم) *، وقوله تعالى: * (وبارك فيها) * أي أكثر فيها البركات، والبركة الخير، وقوله تعالى * (وقدر فيهآ أقواتها) *.
التقدير والخلق في لغة العرب معناهما واحد.
والأقوات جمع قوت، والمراد بالأقوات أرزاق أهل الأرض ومعايشهم وما يصلحهم.
وقد ذكرنا في كتابنا دفع إيهام الاضطراب، عن آيات الكتاب:
إن آية فصلت هذه، أعني قوله تعالى: * (وقدر فيهآ أقواتها) * يفهم منها الجمع بين الآيات الدالة على أن الأرض خلقت قبل السماء كقوله هنا * (قل أءنكم لتكفرون بالذى خلق الا رض فى يومين) * ثم رتب على ذلك بثم، قوله * (ثم استوى إلى السمآء وهى دخان) * إلى قوله * (فقضاهن سبع سماوات فى يومين) * مع بعض الآيات الدالة على أن السماء خلقت قبل الأرض، كقوله تعالى في النازعات: * (أءنتم أشد خلقا أم السمآء بناها) * إلى قوله: * (والا رض بعد ذلك دحاها) *.
فقلنا في كتابنا المذكور ما نصه: قوله تعالى: * (هو الذى خلق لكم ما فى الا رض
13

جميعا ثم استوى إلى السمآء) *، هذه الآية تدل على أن خلق الأرض قبل خلق السماء، بدليل لفظة التي هي للترتيب والانفصال.
وكذلك آية حم السجدة، تدل أيضا على خلق الأرض قبل السماء، لأنه قال فيها: * (قل أءنكم لتكفرون بالذى خلق الا رض فى يومين) * إلى أن قال * (ثم استوى إلى السمآء وهى دخان) *.
مع أن آية النازعات تدل على أن دحو الأرض بعد خلق السماء، لأنه قال فيها * (أءنتم أشد خلقا أم السمآء بناها) *، ثم قال: * (والا رض بعد ذلك دحاها) *.
اعلم أولا أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن الجمع بين آية السجدة وآية النازعات، فأجاب بأن الله تعالى خلق الأرض أولا قبل السماء غير مدحوة، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبعا في يومين، ثم دحا الأرض بعد ذلك، وجعل فيها الرواسي والأنهار وغير ذلك.
فأصل خلق الأرض قبل خلق السماء، ودحوها بجبالها وأشجارها ونحو ذلك، بعد خلق السماء.
ويدل لهذا أنه قال: * (والا رض بعد ذلك دحاها) * ولم يقل خلقها ثم فسر دحوه إياها بقوله: * (أخرج منها مآءها ومرعاها) * وهذا الجمع الذي جمع به ابن عباس بين هاتين الآيتين واضح لا إشكال فيه. مفهوم من ظاهر القرآن العظيم إلا أنه يرد عليه إشكال من آية البقرة هذه.
وإيضاحه أن ابن عباس جمع بأن خلق الأرض قبل خلق السماء، ودحوها بما فيها بعد خلق السماء.
وفي هذه الآية التصريح بأن جميع ما في الأرض مخلوق قبل خلق السماء لأنه قال فيها * (هو الذى خلق لكم ما فى الا رض جميعا ثم استوى إلى السمآء) *.
وقد مكثت زمنا طويلا أفكر في حل هذا الإشكال حتى هداني الله إليه ذات يوم ففهمته من القرآن العظيم.
وإيضاحه: أن هذا الإشكال مرفوع من وجهين، كل منهما تدل عليه آية من القرآن.
14

الأول: أن المراد بخلق ما في الأرض جميعا قبل خلق السماء: الخلق اللغوي الذي هو التقدير لا الخلق بالفعل، الذي هو الإبراز من العدم إلى الوجود، والعرب تسمي التقدير خلقا. ومنه قول زهير: الأول: أن المراد بخلق ما في الأرض جميعا قبل خلق السماء: الخلق اللغوي الذي هو التقدير لا الخلق بالفعل، الذي هو الإبراز من العدم إلى الوجود، والعرب تسمي التقدير خلقا. ومنه قول زهير:
* ولأنت تفري ما خلقت
* وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
*
والدليل على أن المراد بهذا الخلق التقدير، أنه تعالى نص على ذلك في سورة فصلت. حيث قال: * (وقدر فيهآ أقواتها) * ثم قال: * (ثم استوى إلى السمآء وهى دخان) *.
الوجه الثاني: أنه لما خلق الأرض غير مدحوة وهي أصل لكل، ما فيها كان كل ما فيها كأنه خلق بالفعل لوجود أصله فعلا.
والدليل من القرآن على أن وجود الأصل يمكن به إطلاق الخلق على الفرع، وإن لم يكن موجودا بالفعل، قوله تعالى: * (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة) *، فقوله * (خلقناكم ثم صورناكم) * أي بخلقنا وتصويرنا لأبيكم آدم الذي هو أصلكم.
وجمع بعض العلماء بأن معنى قوله * (والا رض بعد ذلك دحاها) * أي مع ذلك، فلفظة بعد، بمعنى مع.
ونظيره قوله تعالى: * (عتل بعد ذلك زنيم) * وعليه فلا إشكال في الآية.
ويستأنس لهذا القول بالقراءة الشاذة وبها قرأ مجاهد، والأرض مع لك دحاها.
وجمع بعضهم بأوجه ضعيفة. لأنها مبينة على أن خلق السماء قبل الأرض وهو خلاف التحقيق.
منها أن ثم: بمعنى الواو.
ومنها: أنها للترتيب الذكري كقوله تعالى * (ثم كان من الذين ءامنوا) *.
15

قوله تعالى: * (وزينا السمآء الدنيا بمصابيح وحفظا) *. المصابيح: النجوم.
وما تضمنته هذه الآية من تزيين السماء الدنيا بالنجوم، قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية، في سورة الأنعام، في الكلام على قوله تعالى * (وهو الذى جعل لكم النجوم
لتهتدوا بها) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (وحفظا) * قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة الحجر، في الكلام على قوله تعالى: * (وحفظناها من كل شيطان رجيم) *. قوله تعالى: * (قالوا لو شآء ربنا لانزل ملائكة فإنا بمآ أرسلتم به كافرون) *. قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة ص، في الكلام على قوله تعالى: * (وعجبوا أن جآءهم م نذر منهم) *.
* (فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا فى أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزى فى الحيواة الدنيا ولعذاب الا خرة أخزى وهم لا ينصرون * وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون * ونجينا الذين ءامنوا وكانوا يتقون * ويوم يحشر أعدآء الله إلى النار فهم يوزعون * حتى إذا ما جآءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون * وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذى أنطق كل شىء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون * وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولاكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون * وذلكم ظنكم الذى ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين * فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين * وقيضنا لهم قرنآء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول فى أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين * وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهاذا القرءان والغوا فيه لعلكم تغلبون * فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذى كانوا يعملون * ذلك جزآء أعدآء الله النار لهم فيها دار الخلد جزآء بما كانوا بأاياتنا يجحدون * وقال الذين كفروا ربنآ أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الا سفلين) * قوله تعالى: * (فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا فى أيام نحسات) *. الصرصر: وزنه بالميزان الصرفي فعفل، وفي معنى الصرصر لعلماء التفسير وجهان معروفان.
أحدهما: أن الريح الصرصر هي الريح العاصفة الشديدة الهبوب، التي يسمع لهبوبها صوت شديد، وعلى هذا فالصرصر من الصرة، التي هي الصيحة المزعجة.
ومنه قوله تعالى * (فأقبلت امرأته فى صرة) * أي في صيحة، ومن هذا المعنى صرير الباب والقلم، أي صوتهما.
الوجه الثاني: أن الصرصر من الصر الذي هو البرد الشديد المحرق، ومنه على أصح التفسيرين قوله تعالى: * (كمثل ريح فيها صر) *. أي فيها برد شديد محرق، ومنه قول حاتم الطائي: كمثل ريح فيها صر) *. أي فيها برد شديد محرق، ومنه قول حاتم الطائي:
* أوقد فإن الليل ليل قر
* والريح يا واقد ريح صر
*
* عل يرى نارك من يمر
* إن جلبت ضيفا فأنت حر
*
16

فقوله: ريح صر، أي باردة شديدة البرد.
والأظهر أن كلا القولين صحيح، وأن الريح المذكورة. جامعة بين الأمرين، فهي عاصفة شديدة الهبوب، باردة شديد البرد.
وما ذكره جل وعلا من إهلاكه عادا بهذه الريح الصرصر، في تلك الأيام النحسات، أي المشؤومات النكدات، لأن النحس ضد السعد، وهو الشؤم جاء موضحا في آيات من كتاب الله.
وقد بين تعالى في بعضها عدد الأيام والليالي التي أرسل عليهم الريح فيها، كقوله تعالى: * (وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية) * وقوله تعالى: * (وفى عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شىء أتت عليه إلا جعلته كالرميم) *: وقوله تعالى: * (إنآ أرسلنا عليهم ريحا صرصرا فى يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر) * وقوله تعالى: * (هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شىء بأمر ربها) *.
وهذه الريح الصرصر هي المراد بصاعقة عاد في قوله تعالى: * (فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد) *.
وقرأ هذا الحرف نافع، وابن كثير، وأبو عمر، نحسات، بسكون الحاء، وعليه فالنحس، وصف أو مصدر، نزل منزلة الوصف.
وقرأه ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، نحسات بكسر الحاء ووجهه ظاهر.
قد قدمنا أن معنى النحسات: المشؤومات النكدات.
وقال صاحب الدر المنثور: وأخرج الطستي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن نافع بن الأزرق قال له أخبرني عن قوله عز وجل: * (فى يوم نحس) *. قال:
17

النحس، البلاء والشدة، قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت زهير بن أبي سلمى يقول: فى يوم نحس) *. قال: النحس، البلاء والشدة، قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت زهير بن أبي سلمى يقول:
* سواء عليه أي يوم أتيته
* أساعة نحس تتقي أم بأسعد
*
وتفسير النحس بالبلاء والشدة تفسير بالمعنى، لأن الشؤم بلاء وشدة. ومقابلة زهير النحس بالأسعد في بيته يوضح ذلك، وهو معلوم.
ويزعم بعض أهل العلم، أنها من آخر شوال، وأن أولها يوم الأربعاء وآخرها يوم الأربعاء، ولا دليل على شيء من ذلك.
وما يذكره بعض أهل العلم من أن يوم النحس المستمر، هو يوم الأربعاء الأخير من الشهر، أو يوم الأربعاء مطلقا، حتى إن بعض المنتسبين لطلب العلم وكثيرا من العوام صاروا يتشاءمون بيوم الأربعاء الأخير من كل شهر، حتى إنهم لا يقدمون على السفر، والتزويج ونحو ذلك فيه، ظانين أنه يوم نحس وشؤم، وأن نحسه مستمر على جميع الخلق في جميع الزمن، لا أصل له ولا معول عليه، ولا يلتفت إليه، من عنده علم، لأن نحس ذلك اليوم مستمر على عاد فقط الذين أهلكهم الله فيه، فاتصل لهم عذاب البرزخ والآخرة، بعذاب الدنيا، فصار ذلك الشؤم مستمرا عليهم استمرارا لا انقطاع له.
أما غير عاد فليس مؤاخذا بذنب عاد، لأنه لا تزر وازرة وزر أخرى.
وقد أردنا هنا أن نذكر بعض الروايات التي اغتر بها، من ظن استمرار نحس ذلك اليوم، لنبين أنها لا معول عليها.
قال صاحب الدر المنثور: وأخرج ابن أبي حاتم عن زر بن حبيش * (فى يوم نحس مستمر) * (قال: يوم الأربعاء).
وأخرج ابن المنذر وابن مردويه، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال لي جبريل أقض باليمين مع الشاهد. وقال: يوم الأربعاء يوم نحس مستمر).
وأخرج ابن مردويه عن علي قال: (نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد والحجامة ويوم الأربعاء يوم نحس مستمر).
18

وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يوم نحس يوم الأربعاء).
وأخرج ابن مردويه عن أنس قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأيام، وسئل عن يوم الأربعاء قال: يوم نحس، قالوا كيف ذاك يا رسول الله؟ قال: أغرق فيه الله فرعون وقومه، وأهلك عادا وثمود).
وأخرج وكيع في الغرر وابن مردويه والخطيب بسند ضعيف عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر).
فهذه الروايات وأمثالها لا تدل على شؤم يوم الأربعاء على من لم يكفر بالله ولم يعصه لأن أغلبها ضعيف وما صح معناه منها، فالمراد بنحسه شؤمه على أولئك الكفرة العصاة الذين أهلكهم الله فيه بسبب كفرهم ومعاصيهم.
فالحاصل أن النحس والشؤم إنما منشأة وسببه الكفر والمعاصي.
أما من كان متقيا لله مطيعا له، في يوم الأربعاء المذكور فلا نحس، ولا شؤم فيه عليه. فمن أراد أن يعرف النحس والشؤم والنكد، والبلاء والشقاء على الحقيقة، فليتحقق أن ذلك كله في معصية الله وعدم امتثال أمره، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) *. قوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (فهديناهم) * المراد بالهدى فيه هدى الدلالة والبيان، والإرشاد، لا هدى التوفيق والاصطفاء.
والدليل على ذلك قوله تعالى بعده * (فاستحبوا العمى على الهدى) *، لأنها لو كانت هداية توفيق لما انتقل صاحبها عن الهدى إلى العمى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (فاستحبوا العمى على الهدى) * أي اختاروا الكفر على الإيمان، وآثروه عليه، وتعوضوه منه.
وهذا المعنى الذي ذكرنا يوضحه قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا ءابآءكم وإخوانكم أوليآء إن استحبوا الكفر على الإيمان) * فقوله في آية التوبة هذه:
19

* (إن استحبوا الكفر على الإيمان) * موافق في المعنى لقوله هنا: فاستحبوا العمى على الهدى.
ونظير ذلك في المعنى قوله تعالى: * (الذين يستحبون الحيواة الدنيا على الا خرة ويصدون عن سبيل الله) *.
فلفظة استحب في القرآن كثيرا ما تتعدى بعلى، لأنها في معنى اختار وآثر.
وقد قدمنا في سورة هود في الكلام على قوله تعالى: * (مثل الفريقين كالا عمى) *. أن العمى الكفر، وأن المراد بالأعمى في آيات عديدة الكافر. وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من أن الهدى يأتي في القرآن بمعناه العام، الذي هو البيان، والدلالة، والإرشاد، لا ينافي أن الهدى قد يطلق في القرآن في بعض المواضع، على الهدى الخاص الذي هو التوفيق، والاصطفاء، كقوله تعالى: * (أولائك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) *.
فمن إطلاق القرآن الهدى على معناه العام قوله هنا: * (وأما ثمود فهديناهم) * أي بينا لهم طريق الحق وأمرناهم بسلوكها، وطرق الشر ونهيناهم عن سلوكها على لسان نبينا صالح، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام * (فاستحبوا العمى على الهدى) * أي اختاروا الكفر على الإيمان بعد إيضاح الحق لهم.
ومن إطلاقه على معناه العام قوله تعالى: * (إنا هديناه السبيل) * بدليل قوله بعده * (إما شاكرا وإما كفورا) *، لأنه لو كان هدى توفيق لما قال: * (وإما كفورا) *.
ومن إطلاقه على معناه الخاص قوله تعالى: * (فبهداهم اقتده) *. وقوله تعالى: * (والذين اهتدوا زادهم هدى) *. وقوله: * (من يهد الله فهو المهتد) *.
وبمعرفة هذين الإطلاقين تتيسر إزالة إشكال قرآني: وهو أنه تعالى: أثبت الهدى لنبينا صلى الله عليه وسلم في آية، وهي قوله تعالى: * (وإنك لتهدى إلى صراط
مستقيم) * ونفاه عنه في آية أخرى وهي قوله تعالى: * (إنك لا تهدى من أحببت) *.
20

فيعلم مما ذكرنا: أن الهدى المثبت له صلى الله عليه وسلم، هو الهدى العام الذي هو البيان، والدلالة والإرشاد، وقد فعل ذلك صلى الله عليه وسلم فبين لمحجة البيضاء، حتى تركها ليلها كنهارها لا يزيغ عنها هالك.
والهدى المنفي عنه في آية: * (إنك لا تهدى من أحببت) * هو الهدى الخاص الذي هو التفضل بالتوفيق، لأن ذلك بيد الله وحده، وليس بيده صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: * (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولائك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم) *. وقوله تعالى: * (إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدى من يضل) * والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وكذلك قوله تعالى: * (شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن هدى للناس) *، لا منافاة فيه بين عموم الناس في هذه الآية. وخصوص المتقين في قوله تعالى: * (ذالك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) * لأن الهدى العام للناس هو الهدى العام، والهدى الخاص بالمتقين، هو الهدى الخاص كما لا يخفى.
وقد بينا هذا في غير هذا الموضع، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (فأخذتهم صاعقة العذاب الهون) *. الفاء في قوله: فأخذتهم سببية، أي فاستحبوا العمى على الهدى، وبسبب ذلك، أخذتهم صاعقة العذاب الهون.
واعلم أن الله جل وعلا عبر عن الهلاك الذي به ثمود، بعبارات مختلفة، فذكره هنا باسم الصاعقة في قوله: * (فأخذتهم صاعقة العذاب الهون) * وقوله: * (فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) *.
وعبر عنه أيضا كالصاعقة في سورة الذاريات في قوله تعالى: * (وفى ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون) *.
وعبر عنه بالصيحة في آيات من كتابه، كقوله تعالى في سورة هود، في إهلاكه ثمود: * (وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا فى ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيهآ ألا
21

إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود) * وقوله تعالى في الحجر: * (وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا ءامنين فأخذتهم الصيحة مصبحين) * وقوله تعالى في القمر: * (إنآ أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر) *. وقوله تعالى في العنكبوت * (ومنهم من أخذته الصيحة) * يعني به ثمودا المذكورين في قوله قبله: * (وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم) *.
وعبر عنه بالرجفة، في سورة الأعراف في قوله تعالى: * (فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا ياصاح ائتنا بما تعدنآ إن كنت من المرسلين فأخذتهم الرجفة) *.
وعبر عنه بالتدمير في سورة النمل، في قوله تعالى: * (فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين) *.
وعبر عنه بالطاغية في الحاقة في قوله تعالى: * (فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية) *.
وعبر عنه بالدمدمة في الشمس في قوله تعالى: * (فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها) *.
وعبر عنه بالعذاب، في سورة الشعراء، في قوله تعالى: * (فعقروها فأصبحوا نادمين فأخذهم العذاب إن فى ذلك لأية) *.
ومعنى هذه العبارات كلها راجع إلى شيء واحد، وهو أن الله أرسل عليهم صيحة أهلكتهم، والصيحة الصوت المزعج المهلك.
والصاعقة تطلق أيضا على الصوت المزعج المهلك، وعلى النار المحرقة، وعليهما معا، ولشدة عظم الصيحة وهو لها من فوقهم، رجفت بهم الأرض من تحتهم، أي تحركت حركة قوية، فاجتمع فيها أنها صيحة وصاعقة ورجفة، وكون ذلك تدميرا واضح. وقيل لها طاغية، لأنها واقعة مجاوزة للحد في القوة وشدة الإهلاك.
والطغيان في لغة العرب: مجاوزة الحد.
ومنه قوله تعالى: * (إنا لما طغا المآء) *. أي جاوز الحدود التي يبلغها الماء عادة.
22

واعلم أن التحقيق، أن المراد بالطاغية في قوله تعالى: * (فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية) * أنها الصيحة التي أهلكهم الله بها، كما يوضحه قوله بعده: * (وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية) *.
خلافا لمن زعم أن الطاغية، مصدر كالعاقبة، والعافية، وأن المعنى أنهم أهلكوا بطغيانهم، أي بكفرهم، وتكذيبهم نبيهم، كقوله: * (كذبت ثمود بطغواهآ) *.
وخلافا لمن زعم أن الطاغية هي أشقاهم، الذي انبعث فعقر الناقة، وأنهم أهلكوا بسبب فعله وهو عقره الناقة، وكل هذا خلاف التحقيق.
والصواب إن شاء الله هو ما ذكرنا، والسياق يدل عليه واختاره غير واحد.
وأما قوله تعالى: * (فدمدم عليهم ربهم بذنبهم) * فإنه لا يخالف ما ذكرنا، لأن معنى دمدم عليهم ربهم بذنبهم، أي أطلق عليهم العذاب وألبسهم إياه، بسبب ذنبهم.
قال الزمخشري في معنى دمدم: وهو من تكرير قولهم ناقة مدمومة، إذا ألبسها الشحم.
وأما إطلاق العذاب عليه في سورة الشعراء فواضح، فاتضح رجوع معنى الآيات المذكورة إلى شيء واحد.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (صاعقة العذاب الهون) * من النعت بالمصدر، لأن الهون مصدر بمعنى الهوان، والنعت بالمصدر أسلوب عربي معروف، أشار إليه في الخلاصة بقوله: لأن الهون مصدر بمعنى الهوان، والنعت بالمصدر أسلوب عربي معروف، أشار إليه في الخلاصة بقوله:
* ونعتوا بمصدر كثيرا
* فالتزموا الإفراد والتذكيرا
*
وهو موجه بأحد أمرين:
أحدهما: أن يكون على حذف مضاف. أي العذاب ذي الهون.
والثاني: أنه على سبيل المبالغة، فكأن العذاب لشدة اتصافه بالهوان اللاحق بمن وقع عليه، صار كأنه نفس الهوان، كما هو معروف في محله.
23

وقوله تعالى: * (بما كانوا يكسبون) * كالتوكيد في المعنى لقوله * (فاستحبوا العمى على الهدى) * لأن كلا منهما سبب لأخذ الصاعقة إياهم، فالفاء في قوله: فأخذتهم سببية، والباء في قوله بما كانوا سببية، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ونجينا الذين ءامنوا وكانوا يتقون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه أهلك ثمود بالصاعقة، ونجى من ذلك إهلاك الذين آمنوا وكانوا يتقون الله، والمراد بهم صالح ومن آمن معه من قومه.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، جاء مبينا في غير هذا الموضع، كقوله تعالى في سورة هود * (فلما جآء أمرنا نجينا صالحا والذين ءامنوا معه برحمة منا ومن خزى يومئذ إن ربك هو القوى العزيز وأخذ الذين ظلموا الصيحة) *، وقوله تعالى في النمل: * (ولقد أرسلنآ إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون) * إلى قوله تعالى في ثمود * (فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن فى ذالك لاية لقوم يعلمون وأنجينا الذين ءامنوا وكانوا يتقون) * أي وهم صالح ومن آمن معه. قوله تعالى: * (ويوم يحشر أعدآء الله إلى النار فهم يوزعون) *. قرأ هذا الحرف عامة القراء غير نافع (يحشر) بضم الياء وفتح الشين مبنيا للمفعول (أعداء الله) بالرفع على أنه نائب الفاعل.
وقرأه نافع وحمزة، من السبعة (نحشر أعداء الله) بالنون المفتوحة الدالة على العظمة، وضم الشين مبنيا للفاعل، (أعداء الله) بالنصب على أنه مفعول به، أي واذكر * (ويوم يحشر أعدآء الله) * أي يجمعون إلى النار.
وما دلت عليه هذه الآية، من أن لله أعداء، وأنهم يحشرون يوم القيامة إلى النار. جاء مذكورا في آيات أخر.
فبين في بعضها أن له أعداء وأن أعداءه هم أعداء المؤمنين وأن جزاءهم النار كقوله تعالى * (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) * وقوله تعالى: * (ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) * وقوله تعالى * (ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم) *.
24

وقوله تعالى: * (فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لى وعدو له) * وقوله تعالى: * (ذلك جزآء أعدآء الله النار لهم فيها دار الخلد) *. إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (فهم يوزعون) * أي يرد أولهم إلى آخرهم، ويلحق آخرهم بأولهم، حتى يجتمعوا جميعا، ثم يدفعون في النار، وهو من قول العرب: وزعت الجيش، إذا حبست أوله على آخره حتى يجتمع.
وأصل الوزع الكف، تقول العرب وزعه، يزعه وزعا، فهو وازع له، إذا كفه عن الأمر، ومنه قول نابغة ذبيان: وأصل الوزع الكف، تقول العرب وزعه، يزعه وزعا، فهو وازع له، إذا كفه عن الأمر، ومنه قول نابغة ذبيان:
* على حين عاتبت المشيب على الصبا
* فقلت ألما أصح والشيب وازع
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* ولن يزع النفس اللجوج عن الهوى
* من الناس إلا وافر العقل كامله
*
وبما ذكرنا تعلم أن أصل معنى يوزعون. أي يكف أولهم عن التقدم وآخرهم عن التأخر حتى يجتمعوا جميعا.
وذلك يدل على أنهم يساقون سوقا عنيفا، يجمع به أولهم مع آخرهم.
وقد بين تعالى أنهم يساقون إلى النار في حال كونهم عطاشا في قوله تعالى: * (ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا) *، ولعل الوزع المذكور في الآية يكون في الزمرة الواحدة من زمر أهل النار، لأنهم يساقون إلى النار زمرا زمرا كما قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الزمر في الكلام على قوله تعالى: * (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا) *. قوله تعالى: * (حتى إذا ما جآءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يس في الكلام على قوله تعالى: * (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنآ أيديهم) *، وفي سورة النساء في الكلام على قوله تعالى: * (ولا يكتمون الله حديثا) *.
25

وبينا هناك وجه الجمع بين قوله تعالى: * (ولا يكتمون الله حديثا) * مع قوله * (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) *. قوله تعالى: * (ولاكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذى ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين فإن يصبروا فالنار مثوى لهم) *. قد قدمنا الكلام عليه في سورة ص في الكلام على قوله تعالى: * (ذالك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) *. قوله تعالى: * (وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين) *. قد بينا معناه مع شواهده العربية في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: * (ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون) *. قوله تعالى: * (وقيضنا لهم قرنآء فزينوا لهم ما بين
أيديهم وما خلفهم) *. لعلماء التفسير في تفسير قوله: * (وقيضنا) * عبارات يرجع بعضها، في المعنى إلى بعض.
كقول بعضهم: * (وقيضنا لهم قرنآء) * أي جئناهم بهم: وأتحناهم لهم.
وكقوله بعضهم: * (وقيضنا) * أي هيأنا.
وقول بعضهم: * (وقيضنا) * أي سلطنا.
وقول بعضهم: أي بعثنا ووكلنا.
وقول بعضهم: * (وقيضنا) * أي سببنا.
وقول بعضهم: قدرنا ونحو ذلك من العبارات، فإن جميع تلك العبارات راجع إلى شيء واحد، وهو أن الله تبارك وتعالى هيأ للكافرين قرناء من الشياطين يضلونهم عن الهدى ويزينون لهم الكفر والمعاصي وقدرهم عليهم.
والقرناء: جمع قرين وهم قرناؤهم من الشياطين على التحقيق.
وقوله * (فزينوا لهم ما بين أيديهم) * أي من أمر الدنيا حتى آثروه على الآخرة:
26

* (وما خلفهم) * أي من أمر الآخرة، فدعوهم إلى التكذيب به، وإنكار البعث.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، أنه تعالى قيض للكفار قرناء من الشياطين، يضلونهم عن الهدى، بينه في مواضع أخر من كتابه.
وزاد في بعضها سبب تقييضهم لهم، وأنهم مع إضلالهم لهم، يظنون أنهم مهتدون، وأن الكافر يوم القيامة يتمنى أن يكون بينه وبين قرينه من الشياطين بعد عظيم، وأنه يذمه ذلك اليوم كما قال تعالى: * (ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جآءنا قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين) *.
فترتيبه قوله: نقيض له شيطانا، على قوله ومن يعش عن ذكر الرحمن، ترتيب الجزاء على الشرط يدل على أن سبب تقييضه له، هو غفلته عن ذكر الرحمن.
ونظير ذلك قوله تعالى: * (من شر الوسواس الخناس) * لأن الوسواس هو كثير الوسوسة ليضل بها الناس، والخناس هو كثير التأخر والرجوع عن إضلال الناس، من قولهم: خنس بالفتح يخنس بالضم إذا تأخر.
فهو وسواس عند الغفلة عن ذكر الرحمن، خناس عند ذكر الرحمن، كما دلت عليه آية الزخرف المذكورة، ودل عليه قوله تعالى: * (إنه ليس له سلطان على الذين ءامنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) * لأن الذين يتولونه، والذين هم به مشركون، غافلون عن ذكر الرحمن، وبسبب ذلك قيضه الله لهم فأضلهم.
ومن الآيات الدالة على تقييض الشياطين للكفار ليضلوهم، قوله تعالى * (أنآ أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا) *، وقد أوضحنا الآيات الدالة على ذلك في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى: * (أنآ أرسلنا الشياطين على الكافرين) *. وبينا هناك أقوال أهل العلم في معنى * (تؤزهم أزا) *.
وبينا أيضا هناك أن من الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: * (ويوم يحشرهم جميعا يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس) * أي استكثرتم من إضلال الإنس في دار الدنيا، وقوله: * (وإخوانهم يمدونهم فى الغى ثم لا يقصرون) *.
27

ومنها أيضا قوله تعالى: * (ألم أعهد إليكم يابنىءادم أن لا تعبدوا الشيطان) * إلى قوله: * (ولقد أضل منكم جبلا كثيرا) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقد دل قوله في آية الزخرف: * (فبئس القرين) * على أن قرناء الشياطين المذكورين في آية فصلت، وآية الزخرف وغيرهما، جديرين بالذم الشديد، وقد صرح تعالى بذلك في سورة النساء في قوله: * (ومن يكن الشيطان له قرينا فسآء قرينا) * لأن قوله: * (فسآء قرينا) * بمعنى * (فبئس القرين) *، لأن كلا من ساء وبئس فعل جامد لإنشاء الذم كما ذكره في الخلاصة بقوله: فبئس القرين) *، لأن كلا من ساء وبئس فعل جامد لإنشاء الذم كما ذكره في الخلاصة بقوله:
* واجعل كبئس ساء واجعل فعلا
* من ذي ثلاثة كنعم مسجلا
*
واعلم أن الله تعالى بين أن الكفار الذي أضلهم قرناؤهم من الشياطين يظنون أنهم على هدى، فهم يحسبون أشد الضلال، أحسن الهدى، كما قال تعالى عنهم: * (وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون) * وقال تعالى: * (إنهم اتخذوا الشياطين أوليآء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون) *.
وبين تعالى أنهم بسبب ذلك الظن الفاسد هم أخسر الناس أعمالا في قوله تعالى: * (قل هل ننبئكم بالا خسرين أعمالا الذين ضل سعيهم فى الحيواة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) *.
وقوله تعالى في سورة الزخرف: * (ومن يعش عن ذكر الرحمان) * من قولهم عشا بالفتح عن الشيء، يعشو بالضم إذا ضعف بصره عن إدراكه، لأن الكافر أعمى القلب.
فبصيرته تضعف عن الاستنارة بذكر الرحمن، وبسبب ذلك يقيض الله له قرناء الشياطين. قوله تعالى: * (وحق عليهم القول) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في
سورة يس في الكلام على قوله تعالى: * (لقد حق القول على أكثرهم) *. قوله تعالى: * (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهاذا القرءان) *.
28

وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى * (خذوا مآ ءاتيناكم بقوة واسمعوا) *.
* (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون * نحن أوليآؤكم فى الحيواة الدنيا وفى الا خرة ولكم فيها ما تشتهى أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نزلا من غفور رحيم * ومن أحسن قولا ممن دعآ إلى الله وعمل صالحا وقال إننى من المسلمين * ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاهآ إلا ذو حظ عظيم * وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم * ومن ءاياته اليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذى خلقهن إن كنتم إياه تعبدون * فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون * ومن ءاياته أنك ترى الا رض خاشعة فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت إن الذى أحياها لمحى الموتى إنه على كل شىء قدير * إن الذين يلحدون فىءاياتنا لا يخفون علينآ أفمن يلقى فى النار خير أم من يأتىءامنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير * إن الذين كفروا بالذكر لما جآءهم وإنه لكتاب عزيز * لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد * ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم * ولو جعلناه قرءانا أعجميا لقالوا لولا فصلت ءاياته ءاعجمى وعربى قل هو للذين ءامنوا هدى وشفآء والذين لا يؤمنون فىءاذانهم وقر وهو عليهم عمى أولائك ينادون من مكان بعيد * ولقد ءاتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم وإنهم لفى شك منه مريب * من عمل صالحا فلنفسه ومن أسآء فعليها وما ربك بظلام للعبيد * إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم أين شركآئى قالوا ءاذناك ما منا من شهيد * وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص * لا يسأم الانسان من دعآء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط * ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضرآء مسته ليقولن هاذا لى ومآ أظن الساعة قآئمة ولئن رجعت إلى ربى إن لى عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ * وإذآ أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعآء عريض * قل أرءيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو فى شقاق بعيد * سنريهم ءاياتنا فى الا فاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شىء شهيد * ألا إنهم فى مرية من لقآء ربهم ألا إنه بكل شىء محيط) * قوله تعالى: * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون نحن أوليآؤكم فى الحيواة الدنيا وفى الا خرة ولكم فيها ما تشتهى أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم) *. ما تضمنته هذه الآية الكريمة مما أعده الله في الآخرة للذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا، ذكره الله تعالى في الجملة، في قوله في الأحقاف * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولائك أصحاب الجنة خالدين فيها جزآء بما كانوا يعملون) * لأن انتفاء الخوف والحزن والوعد الصادق، بالخلود في الجنة المذكور في آية الأحقاف هذه، يستلزم جميع ما ذكر في هذه الآية الكريمة، من سورة فصلت. قوله تعالى: * (ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاهآ إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم) *. قد أوضحنا مع الآيات التي بمعناه في آخر سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى * (خذ العفو وأمر بالعرف) * إلى قوله * (إنه سميع عليم) *. قوله تعالى: * (ومن ءاياته اليل والنهار) *. وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى: * (وجعلنا اليل والنهار ءايتين) *، وفي غير ذلك من المواضع. قوله تعالى: * (لا تسجدوا للشمس ولا للقمر) *. قد قدمنا الكلام عليه في سورة النمل، في الكلام على قوله تعالى: * (ألا يسجدوا لله الذى يخرج الخبء فى السماوات والا رض) *. قوله تعالى: * (فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون) *.
29

قوله تعالى * (فإن استكبروا) * أي فإن تكبر الكفار عن توحيد الله، والسجود له وحده، وإخلاص العبادة له، فالذين عند ربك وهم الملائكة، يسبحون له بالليل، أي يعبدونه وينزهونه دائما ليلا ونهارا وهم لا يسأمون، أي لا يملون من عبادة ربهم، لاستلذاذهم لها وحلاوتها عندهم، مع خوفهم منه جل وعلا كما قال تعالى: * (ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته) *.
وقد دلت هذه الآية الكريمة من سورة فصلت على أمرين.
أحدهما: أن الله جل وعلا إن كفر به بعض خلقه، فإن بعضا آخر من خلقه يؤمنون به، ويطيعونه كما ينبغي، ويلازمون طاعته دائما بالليل والنهار.
والثاني منهما: أن الملائكة يسبحون الله ويطيعونه دائما لا يفترون عن ذلك.
وهذان الأمران اللذان دلت عليهما هذه الآية الكريمة، قد جاء كل منهما موضحا في غير هذا الموضع.
أما الأول منهما: فقد ذكره جل وعلا في قوله: * (فإن يكفر بها هاؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) *.
وأما الثاني منهما: فقد أوضحه تعالى في آيات من كتابه كقوله تعالى في الأنبياء: * (وله من فى السماوات والا رض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون) * وقوله تعالى في آخر الأعراف * (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون) * إلى غير ذلك من الآيات. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وهم لا يسأمون) * أي لا يملون.
والسآمة الملل ومنه قول زهير: والسآمة الملل ومنه قول زهير:
* سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
* ثمانين حولا، لا أبا لك، يسأم
* ومن ءاياته أنك ترى الا رض خاشعة فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت) *. هذه الآية الكريمة قد أوضحنا الكلام عليها، مع ما في معناها من الآيات، وبينا أن
30

تلك الآيات فيها البرهان القاطع على البعث بعد الموت، وذكرنا معها الآيات التي يكثر الاستدلال بها في القرآن، على البعث بعد الموت، وهي أربعة براهين قرآنية.
ذكرنا ذلك في سورة البقرة وفي سورة النحل وغيرهما وأحلنا عليه مرارا. قوله تعالى: * (أفمن يلقى فى النار خير أم من يأتىءامنا يوم القيامة) *. قد قدمنا الكلام عليه، مع ما يماثله من الآيات، في سورة الفرقان، في الكلام على قوله تعالى * (قل أذالك خير أم جنة الخلد) *. قوله تعالى: * (قل هو للذين ءامنوا هدى وشفآء) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة البقرة، في الكلام على قوله تعالى: * (هدى للمتقين) *، وفي سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى: * (وننزل من القرءان ما هو شفآء ورحمة للمؤمنين) *. قوله تعالى: * (من عمل صالحا فلنفسه ومن أسآء فعليها) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: * (إن أحسنتم أحسنتم لانفسكم وإن أسأتم فلها) * وفي سورة النمل في الكلام على قوله تعالى: * (ومن شكر فإنما يشكر لنفسه) *. قوله تعالى: * (وما ربك بظلام للعبيد) *. ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من كونه ليس بظلام للعبيد، ذكره في مواضع أخر، كقوله تعالى في سورة آل عمران * (ذالك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد الذين قالوا إن الله عهد إلينا) *. وقوله في الأنفال * (ذالك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد كدأب ءال فرعون) *. وقوله في الحج: * (ذالك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد ومن الناس من يعبد الله) *. وقوله في سورة ق: * (ما يبدل القول لدى ومآ أنا بظلام للعبيد) *.
وفي هذه الآيات سؤال معروف، وهو أن لفظة ظلام فيها صيغة مبالغة.
ومعلوم
31

أن نفي المبالغة، لا يستلزم نفي الفعل من أصله.
فقولك مثلا: زيد ليس بقتال للرجال لا ينفي إلا مبالغته في قتلهم، فلا ينافي أنه ربما قتل بعض الرجال.
ومعلوم أن المراد بنفي المبالغة، في الآيات المذكورة هو نفي الظلم من أصله.
والجواب عن هذا الإشكال من أربعة أوجه:
الأول: أن نفي صيغة المبالغة في الآيات المذكورة، قد بينت آيات كثيرة، أن المراد به نفي الظلم من أصله.
ونفي صيغة المبالغة، إذا دلت أدلة منفصلة على أن يراد به نفي أصل الفعل، فلا إشكال لقيام الدليل على المراد.
والآيات الدالة على ذلك كثيرة معروفة، كقوله تعالى: * (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها) *. وقوله تعالى: * (إن الله لا يظلم الناس شيئا ولاكن الناس أنفسهم يظلمون) *. وقوله تعالى: * (ولا يظلم ربك أحدا) *. وقوله تعالى: * (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا) *. إلى غير ذلك من الآيات كما قدمنا إيضاحه في سورة الكهف والأنبياء. الوجه الثاني: أن الله جل وعلا نفى ظلمه للعبيد، والعبيد في غاية الكثرة.
والظلم المنفي عنهم تستلزم كثرتهم كثرته، فناسب ذلك الإتيان بصيغة المبالغة للدلالة على كثرة المنفي التابعة لكثرة العبيد، المنفي عنهم الظلم، إذ لو وقع على كل عبد ظلم ولو قليلا، كان مجموع ذلك الظلم في غاية الكثرة، كما ترى.
وبذلك تعلم اتجاه التعبير بصيغة المبالغة، وأن المراد بذلك نفي أصل الظلم، عن كل عبد من أولئك العبيد، الذين هم في غاية الكثرة، سبحانه وتعالى عن أن يظلم أحدا شيئا، كما بينته الآيات القرآنية المذكورة.
وفي الحديث: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي) الحديث.
الوجه الثالث: أن المسوغ لصيغة المبالغة، أن عذابه تعالى بالغ من العظم والشدة، أنه لولا استحقاق المعذبين لذلك العذاب بكفرهم، ومعاصيهم لكان معذبهم به ظلاما بليغ
32

الظلم متفاقمه، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
وهذا الوجه والذي قبله أشار لهما الزمخشري في سورة الأنفال.
الوجه الرابع: ما ذكره بعض علماء العربية وبعض المفسرين، من أن المراد بالنفي في قوله * (وما ربك بظلام للعبيد) * نفي نسبة الظلم إليه، لأن صيغة فعال تستعمل مرادا بها النسبة فتغني عن ياء النسب كما أشار له في الخلاصة بقوله: وما ربك بظلام للعبيد) * نفي نسبة الظلم إليه، لأن صيغة فعال تستعمل مرادا بها النسبة فتغني عن ياء النسب كما أشار له في الخلاصة بقوله:
* ومع فاعل وفعال فعل
* في نسب أغنى عن اليا فقبل
*
ومعنى البيت المذكور، أن الصيغ الثلاثة المذكورة فيه التي هي فاعل كظالم وفعال كظالم، وفعل كفرح، كل منها قد تستعمل مرادا بها النسبة، فيستغنى بها عن ياء النسب، ومثاله في فاعل قول الخطيئة في هجوه الزبرقان بن بدر التميمي: ومعنى البيت المذكور، أن الصيغ الثلاثة المذكورة فيه التي هي فاعل كظالم وفعال كظالم،
وفعل كفرح، كل منها قد تستعمل مرادا بها النسبة، فيستغنى بها عن ياء النسب، ومثاله في فاعل قول الخطيئة في هجوه الزبرقان بن بدر التميمي:
* دع المكارم لا ترحل لبغيتها
* واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
*
فالمراد بقوله الطاعم الكاسي النسبة، أي ذو طعام وكسوة، وقول الآخر وهو من شواهد سيبويه: فالمراد بقوله الطاعم الكاسي النسبة، أي ذو طعام وكسوة، وقول الآخر وهو من شواهد سيبويه:
* وغررتني وزعمت أنك
* لابن في الصيف تأمر
*
أي ذو لبن وذو تمر، وقول نابغة ذبيان: وقول نابغة ذبيان:
* كليني لهم يا أميمة ناصب
* وليل أقاسيه بطيء الكواكبي
*
فقوله: ناصب أي ذو نصب، ومثاله في فعال قول امرئ القيس: فقوله: ناصب أي ذو نصب، ومثاله في فعال قول امرئ القيس:
* وليس بذي رمح فيطعنني به
* وليس بذي سيف وليس بنبال
*
فقوله: وليس بنبال أي ليس بذي نبل، ويدل عليه قوله قبله:
وليس بذي رمح وليس بذي سيف.
وقال الأشموني بعد الاستشهاد بالبيت المذكور: قال المصنف يعني ابن مالك: وعلى هذا حمل المحققون قوله تعالى: * (وما ربك بظلام للعبيد) * أي بذي ظلم ا ه.
33

وما عزاه لابن مالك جزم به غير واحد من النحويين والمفسرين، ومثاله في فعل قول الراجز وهو من شواهد سيبويه: وما عزاه لابن مالك جزم به غير واحد من النحويين والمفسرين، ومثاله في فعل قول الراجز وهو من شواهد سيبويه:
* ليس بليلى ولكني نهر
* لا أدلج الليل ولكن أبتكر
*
فقوله نهر بمعنى نهاري، وقد قدمنا إيضاحه معنى الظلم بشواهده العربية، في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (إليه يرد علم الساعة) *. تقدم الكلام على نحوه في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى: * (قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتهآ إلا هو) * وفي الأنعام عند قوله تعالى: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمهآ إلا هو) *. قوله تعالى: * (وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه) *. قد قدمنا الكلام عليه في سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى: * (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الا رحام وما تزداد) *. قوله تعالى: * (وظنوا ما لهم من محيص) *. الظن هنا بمعنى اليقين، لأن الكفار يوم القيامة إذا عاينوا العذاب، وشاهدوا الحقائق، علموا في ذلك الوقت أنهم ليس لهم من محيص، أي ليس لهم مفر ولا ملجأ.
والظاهر أن المحيص مصدر ميمي، من حاص يحيص بمعنى حاد وعدل وهرب.
وما ذكرنا من أن الظن في هذه الآية الكريمة بمعنى اليقين والعلم، هو التحقيق إن شاء الله، لأن يوم القيامة تنكشف فيه الحقائق، فيحصل للكفار العلم بها لا يخالجهم في ذلك شك، كما قال تعالى عنهم، إنهم يقولون يوم القيامة * (ربنآ أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون) *. وقال تعالى: * (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا) *. وقال تعالى: * (فكشفنا عنك غطآءك فبصرك اليوم حديد) *. وقال تعالى: * (ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هاذا بالحق قالوا بلى وربنا) * وقد
34

قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة النمل في الكلام على قوله تعالى: * (بل ادارك علمهم فى الا خرة) *.
ومعلوم أن الظن يطلق في لغة العرب، التي نزل بها القرآن على معنيين:
أحدهما: الشك كقوله * (إن الظن لا يغنى من الحق شيئا) *، وقوله تعالى عن الكفار: * (إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين) *.
والثاني: هو إطلاق الظن مرادا به العلم واليقين، ومنه قوله تعالى هنا: * (وظنوا ما لهم من محيص) * أي أيقنوا، أنهم ليس لهم يوم القيامة محيص، أي لا مفر ولا مهرب لهم من عذاب ربهم، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: * (ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها) * أي أيقنوا ذلك وعلموه، وقوله تعالى: * (الذين
يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون) * وقوله تعالى: * (قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله) * وقوله تعالى: * (فأما من أوتى كتابه بيمينه فيقول هآؤم اقرؤا كتابيه إنى ظننت أنى ملاق حسابيه) *، فالظن في الآيات المذكورة كلها بمعنى اليقين.
ونظير ذلك من كلام العرب قول دريد بن الصمة: ونظير ذلك من كلام العرب قول دريد بن الصمة:
* فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج
* سراتهم في الفارسي المسرد
*
وقول عميرة بن طارق: وقول عميرة بن طارق:
* بأن تغتزوا قومي وأقعد فيكم
* وأجعل مني الظن غيبا مرجما
*
والظن في البيتين المذكورين بمعنى اليقين، والفعل القلبي في الآية المذكورة التي هي قوله: * (وظنوا ما لهم من محيص) * معلق عن العمل في المفعولين بسبب النفي بلفظة ما في قوله: * (ما لهم من محيص) * كما أشار له في الخلاصة بقوله: * والتزم التعليق قبل نفي (ما) * قوله تعالى: * (ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضرآء مسته ليقولن هاذا لى ومآ أظن الساعة قآئمة ولئن رجعت إلى ربى إن لى عنده للحسنى) *.
35

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: * (ولئن رددت إلى ربى لأجدن خيرا منها منقلبا) *. قوله تعالى: * (وإذآ أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعآء عريض) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له، وبعض الأحاديث الصحيحة، الموافقة لها في سورة يونس في الكلام على قوله تعالى: * (وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قآئما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنآ إلى ضر مسه) *. قوله تعالى: * (سنريهم ءاياتنا فى الا فاق وفى أنفسهم) *. قد قدمنا الكلام عليه في سورة المؤمن في الكلام على قوله تعالى: * (هو الذى يريكم ءاياته وينزل لكم من السمآء رزقا) *. قوله تعالى: * (ألا إنهم فى مرية من لقآء ربهم) *. المرية: الشك.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من شك الكفار في البعث والجزاء، قد قدمنا الآيات الموضحة له، ولما يترتب عليه من الخلود في النار، في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى: * (بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا) *.
36

((سورة الشورى))
* (حم * عسق * كذلك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم * له ما فى السماوات وما فى الا رض وهو العلى العظيم * تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن فى الا رض ألا إن الله هو الغفور الرحيم * والذين اتخذوا من دونه أوليآء الله حفيظ عليهم ومآ أنت عليهم بوكيل * وكذلك أوحينآ إليك قرءانا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق فى الجنة وفريق فى السعير * ولو شآء الله لجعلهم أمة واحدة ولاكن يدخل من يشآء فى رحمته والظالمون ما لهم من ولى ولا نصير * أم اتخذوا من دونه أوليآء فالله هو الولى وهو يحى الموتى وهو على كل شىء قدير * وما اختلفتم فيه من شىء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربى عليه توكلت وإليه أنيب) * قوله تعالى: * (حم عسق كذلك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم) *. قد قدمنا الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة هود.
وقول الزمخشري في تفسير هذه الآية * (كذلك يوحى إليك) * أي مثل ذلك الوحي، أو مثل ذلك الكتاب يوحى إليك وإلى الرسل من قبلك الله.
يعني أن ما تضمنته هذه السورة من المعاني، قد أوحى الله إليك مثله، في غيرها من السور، وأوحاه من قبلك إلى رسله، على معنى أن الله تعالى كرر هذه المعاني، في القرآن وفي جميع الكتب السماوية، لما فيها من التنبيه البليغ، واللطف العظيم، لعباده من الأولين والآخرين. ا ه منه.
وظاهر كلامه، أن التشبيه في قوله: كذلك يوحى بالنسبة إلى الموحى باسم المفعول.
والأظهر أن التشبيه في المعنى المصدري الذي هو الإيحاء.
وقوله في هذه الآية الكريمة * (وإلى الذين من قبلك) * لم يصرح هنا بشيء من أسماء الذين في قبله الذين أوحى إليهم، كما أوحى إليه، ولكنه قد بين أسماء جماعة منهم في سورة النساء، وبين فيها أن بعضهم لم يقصص حبرهم عليه، وأنه أوحى إليهم وأرسلهم لقطع حجج الخلق، في دار الدنيا وذلك في قوله تعالى: * (إنآ أوحينآ إليك كمآ أوحينآ إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينآ إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والا سباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وءاتينا داوود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون
37

للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما) *.
وقوله تعالى: * (الله العزيز الحكيم) * ذكر جل وعلا فيه الثناء على نفسه، باسمه العزيز واسمه الحكيم بعد ذكره إنزاله وحيه على أنبيائه، كما قال في آية النساء المذكورة * (وكان الله عزيزا حكيما) * بعد ذكره إيحاءه إلى رسله.
وقد قدمنا في أول سورة الزمر أن استقراء القرآن. قد دل على أن الله جل وعلا إذا ذكر تنزيله لكتابه أتبع ذلك بعض أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وذكرنا كثيرا من أمثلة ذلك.
وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير ابن كثير (يوحي) بكسر الحاء بالبناء للفاعل، وعلى قراءة الجمهور هذه فقوله: الله العزيز الحكيم فاعل يوحي.
وقرأه ابن كثير (يوحى إليك) بفتح الحاء بالبناء للمفعول، وعلى هذه القراءة، فقوله: الله العزيز الحكيم، فاعل فعل محذوف تقديره يوحى كما قدمنا إيضاحه في سورة النور في الكلام على قوله تعالى: * (يسبح له فيها بالغدو والا صال رجال) *.
وقد قدمنا معاني الوحي مع الشواهد العربية في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى * (وأوحى ربك إلى النحل) * وغير ذلك من المواضع. قوله تعالى: * (وهو العلى العظيم) *. وصف نفسه جل وعلا في هذه الآية الكريمة، بالعلو والعظمة، وهما من الصفات الجامعة كما قدمناه في سورة الأعراف، في الكلام على قوله تعالى: * (ثم استوى على العرش) *.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من وصفه تعالى نفسه بهاتين الصفتين الجامعتين المتضمنتين لكل كمال وجلال، جاء مثله في آيات أخر كقوله تعالى: * (ولا يؤوده حفظهما وهو العلى العظيم) * وقوله تعالى: * (إن الله كان عليا كبيرا) *. وقوله تعالى * (عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال) * وقوله تعالى * (وله الكبريآء فى السماوات والا رض) *. إلى غير ذلك من الآيات.
38

قوله تعالى: * (تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن فى الا رض) *. قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير نافع والكسائي (تكاد) بالتاء الفوقية، لأن السماوات مؤنثة وقرأه نافع والكسائي (يكاد) بالياء التحتية لأن تأنيث السماوات غير حقيقي.
وقرأه عامة السبعة غير أبي عمرو، وشعبة عن عاصم (يتفطرن) بتاء مثناة فوقية مفتوحة بعد الياء وفتح الطاء المشددة مضارع. تفطر أي تشقق.
وقرأه أبو عمرو وشعبة عن عاصم (ينفطرن) بنون ساكنة بعد الياء وكسر الطاء، المخففة مضارع انفطرت كقوله: * (إذا السمآء انفطرت) * أي انشقت.
وقوله: تكاد مضارع كاد، التي هي فعل مقاربة، ومعلوم أنها تعمل في المبتدأ والخبر معنى كونها فعل مقاربة، أنها تدل على قرب اتصاف المبتدأ والخبر.
وإذا، فمعنى الآية أن السماوات قاربت أن تتصف بالتفطر على القراءة الأولى، والانفطار على القراءة الثانية.
واعلم أن سبب مقاربة السماوات للتفطر، في هذه الآية الكريمة، فيه للعلماء وجهان كلاهما يدل له قرآن.
الوجه الأول: أن المعنى تكاد السماوات يتفطرن خوفا من الله، وهيبة وإجلالا، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى قبله * (وهو العلى العظيم) * لأن علوه وعظمته سبب للسماوات ذلك الخوف والهيبة والإجلال، حتى كادت تتفطر.
وعلى هذا الوجه فقوله بعده: * (والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن فى الا رض) * مناسبته لما قبله واضحة.
لأن المعنى: أن السماوات في غاية الخوف منه تعالى والهيبة والإجلال له، وكذلك سكانها من الملائكة فهم يسبحون بحمد ربهم أي ينزهونه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله، مع إثباتهم له كل كمال وجلال، خوفا منه وهيبة وإجلالا، كما قال تعالى * (ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته) * وقال تعالى * (ولله يسجد ما فى السماوات وما فى الا رض من دآبة والملائكة وهم لا
39

يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) *.
فهم لشدة خوفهم من الله، وإجلالهم له بسبحون بحمد ربهم، ويخافون على أهل الأرض، ولذا يستغفرون لهم خوفا عليهم من سخط الله، وعقابه، ويستأنس لهذا الوجه بقوله تعالى * (إنا عرضنا الا مانة على السماوات والا رض) * إلى قوله: * (وأشفقن منها) * لأن الإشفاق الخوف.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (ويستغفرون لمن فى الا رض) * يعني لخصوص الذين آمنوا منهم وتابوا إلى الله واتبعوا سبيله، كما أوضحه تعالى بقوله: * (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين ءامنوا) *.
فقوله: * (للذين ءامنوا) * يوضح المراد من قوله: * (لمن فى الا رض) *.
ويزيد ذلك إيضاحا قوله تعالى عنهم إنهم يقولون في استغفارهم للمؤمنين * (فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك) * لأن ذلك يدل دلالة واضحة على عدم استغفارهم للكفار.
الوجه الثاني: أن المعنى * (تكاد السماوات يتفطرن) * من شدة عظم الفرية التي افتراها الكفار على خالق السماوات والأرض جل وعلا، من كونه اتخذ ولدا، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، وهذا الوجه جاء موضحا في سورة مريم، في قوله تعالى: * (وقالوا اتخذ الرحمان ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الا رض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمان ولدا وما ينبغى للرحمان أن يتخذ ولدا إن كل من فى السماوات والا رض إلا آتى الرحمان عبدا) * كما قدمنا إيضاحه.
وغاية ما في هذا الوجه أن آية شورى هذه فيها إجمال في سبب تفطر السماوات، وقد جاء ذلك موضحا في آية مريم المذكورة. وكلا الوجهين حق.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (يتفطرن من فوقهن) * فيه للعلماء أوجه.
قيل: يتفطرن، أي السماوات من فوقهن أي الأرضين، ولا يخفى بعد هذا القول كما ترى.
40

وقال بعضهم: من فوقهن أي كل سماء تتفطر فوق التي تليها.
وقال الزمخشري في الكشاف: فإن قلت لم قال: * (من فوقهن) * قلت: لأن أعظم الآيات وأدلها على الجلال والعظمة فوق السماوات، وهي العرش والكرسي، وصفوف الملائكة، المرتجة بالتسبيح والتقديس حول العرش، وما لا يعلم كنهه إلا الله تعالى من آثار ملكوته العظمى، فلذلك قال: * (يتفطرن من فوقهن) * أي يبتدئ الانفطار من جهتهن الفوقانية.
أو لأن كلمة الكفر جاءت من الذي تحت السماوات، فكان القياس أن يقال: يتفطرن من تحتهن من الجهة التي جاءت منها الكلمة.
ولكنه بولغ في ذلك فجعلت مؤثرة في وجهة الفوق. كأنه قيل: يكدن يتفطرن من الجهة التي فوقهن، دع الجهة التي تحتهن.
ونظيره في المبالغة قوله عز وجل * (يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما فى بطونهم) * فجعل الحميم مؤثرا في أجزائهم الباطنة ا ه. محل الغرض منه.
وهذا إنما يتمشى على القول بأن سبب التفطر المذكور هو افتراؤهم على الله في قولهم * (اتخذ الرحمان ولدا) *.
وقد قدمنا آنفا أنه دلت عليه آية مريم المذكورة وعليه فمناسبة قوله: * (والملائكة يسبحون بحمد ربهم) * لما قبله أن الكفار وإن قالوا أعظم الكفر وأشنعه، فإن الملائكة بخلافهم فإنهم يداومون ذكر الله وطاعته.
ويوضح ذلك قوله تعالى: * (فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون) * وقوله تعالى: * (فإن يكفر بها هاؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) *، كما قدمنا إيضاحه في آخر سورة فصلت. قوله تعالى: * (ألا إن الله هو الغفور الرحيم) *. أكد جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه هو الغفور الرحيم، وبين فيها أنه هو وحده المختص بذلك.
41

وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة، قد جاءا موضحين في غير هذا الموضع.
أما اختصاصه هو جل وعلا بغفران الذنوب، فقد ذكره في قوله تعالى: * (ومن يغفر الذنوب إلا الله) *، والمعنى لا يغفر الذنوب إلا الله، وفي الحديث (رب إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت) الحديث. وفي حديث سيد الاستغفار: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني) الحديث. وفيه (وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).
ووجه دلالة هذه الآية على أن الله وحده هو الذي يغفر الذنوب، هو أن ضمير الفصل بين المسند والمسند إليه في قوله: * (ألا إن الله هو الغفور الرحيم) * يدل على ذلك كما هو معلوم في محله، وأما الأمر الثاني، هو توكيده تعالى أنه هو الغفور الرحيم فإنه أكد ذلك هنا بحرف الاستفتاح الذي هو ألا، وحرف التوكيد الذي هو إن.
وقد أوضح ذلك في آيات كثيرة، كقوله تعالى: * (إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم) *. وقوله تعالى: * (وإنى لغفار لمن تاب وآمن) *. وقوله تعالى: * (إن ربك واسع المغفرة) * وقوله في الكفار: * (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) *. وقوله في الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة * (أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم) * والآيات بمثل ذلك كثيرة.
فنرجو الله جل وعلا الكريم الرؤوف الغفور الرحيم، أن يغفر لنا جميع ذنوبنا ويتجاوز عن جميع سيئاتنا ويدخلنا جنته على ما كان منا، ويغفر لإخواننا المسلمين. إنه غفور رحيم. قوله تعالى: * (والذين اتخذوا من دونه أوليآء الله حفيظ عليهم ومآ أنت عليهم بوكيل) *. قوله تعالى في هذه الآية الكريمة، * (اتخذوا من دونه أوليآء) * أي أشركوا معه شركاء يعبدونهم من دونه، كما أوضح تعالى ذلك في قوله: * (والذين اتخذوا من دونه أوليآء ما نعبدهم إلا ليقربونآ إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فى ما هم فيه يختلفون إن الله
42

لا يهدى من هو كاذب كفار) * وقوله تعالى: * (والذين كفروا أوليآؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولائك أصحاب النار هم فيها خالدون) * وقوله تعالى: * (إنهم اتخذوا الشياطين أوليآء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون) * وقوله تعالى: * (إنما ذالكم الشيطان يخوف أولياءه) * أي يخوفكم أولياءه. وقوله تعالى: * (فقاتلوا أولياء الشيطان) *.
وقد وبخهم تعالى على اتخاذهم الشيطان وذريته أولياء من دونه تعالى في قوله: * (أفتتخذونه وذريته أوليآء من دونى وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا) *.
وقد أمر جل وعلا باتباع هذا القرآن العظيم، ناهيا عن اتباع الأولياء المتخذين من دونه تعالى، في أول سورة الأعراف في قوله تعالى * (اتبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أوليآء قليلا ما تذكرون) *.
وقد علمت من الآيات المذكورة أن أولياء الكفار الذين اتخذوهم وعبدوهم من دون الله نوعان:
الأول منهما: الشياطين، ومعنى عبادتهم للشيطان طاعتهم له فيما يزين لهم، من الكفر والمعاصي، فشركهم به شرك طاعة، والآيات الدالة على عبادتهم للشياطين بالمعنى المذكور كثيرة كقوله تعالى: * (ألم أعهد إليكم يابنىءادم أن لا تعبدوا الشيطان) *. وقوله تعالى عن إبراهيم * (الشيطان إن الشيطان كان) *. وقوله تعالى: * (إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا) * أي وما يعبدون إلا شيطانا مريدا. وقوله تعالى * (قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون) * وقوله تعالى * (إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) * وقوله تعالى * (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليآئهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) * إلى غير ذلك من الآيات.
والنوع الثاني: هو الأوثان، كما بين ذلك تعالى بقوله: * (ما نعبدهم إلا ليقربونآ إلى الله زلفى) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (الله حفيظ عليهم) *.
أي رقيب عليهم حافظ
43

عليهم كل ما يعملونه من الكفر والمعاصي، وفي أوله اتخاذهم الأولياء، يعبدونهم من دون الله.
وفي الآية تهديد عظيم لكل مشرك.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ومآ أنت عليهم بوكيل) *.
أي لست يا محمد، بموكل عليهم تهدي من شئت هدايته منهم، بل إنما أنت نذير فحسب، وقد بلغت ونصحت.
والوكيل عليهم هو الذي يهدي من يشاء منهم ويضل من يشاء كما قال تعالى: * (إنمآ أنت نذير والله على كل شىء وكيل) *. وقال تعالى: * (ولو شآء ربك لآمن من فى الا رض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون) * وقال تعالى: * (وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغى نفقا فى الا رض أو سلما فى السمآء فتأتيهم بأاية ولو شآء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين) * والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وبما ذكرنا تعلم أن التحقيق في قوله تعالى: * (ومآ أنت عليهم بوكيل) *، وما جرى مجراه من الآيات ليس منسوخا بآية السيف والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (وكذلك أوحينآ إليك قرءانا عربيا) *. وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الشعراء في الكلام على قوله تعالى: * (لتكون من المنذرين بلسان عربى مبين) *، وفي الزمر في الكلام على قوله تعالى: * (قرءانا عربيا غير ذى عوج) * وفي غير ذلك من المواضع. قوله تعالى: * (لتنذر أم القرى ومن حولها) *. خص الله تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة إنذاره، صلى الله عليه وسلم بأم القرى ومن حولها، والمراد بأم القرى مكة حرسها الله.
ولكنه أوضح في آيات أخر أن إنذاره عام لجميع الثقلين كقوله تعالى * (قل ياأيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعا) * وقوله تعالى: * (تبارك الذى نزل الفرقان
44

على عبده ليكون للعالمين نذيرا) * وقوله تعالى: * (ومآ أرسلناك إلا كآفة للناس) *، كما أوضحنا ذلك مرارا في هذا الكتاب المبارك.
وقد ذكرنا الجواب عن تخصيص أم القرى ومن حولها هنا وفي سورة الأنعام في قوله تعالى: * (ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالا خرة يؤمنون به) *، في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، فقلنا فيه: والجواب من وجهين.
الأول: أن المراد بقوله: * (ومن حولها) * شامل لجميع الأرض، كما رواه ابن جرير وغيره، عن ابن عباس.
الوجه الثاني: أنا لو سلمنا تسليما جدليا، أن قوله * (ومن حولها) * لا يتناول إلا القريب من مكة المكرمة حرسها الله، كجزيرة العرب مثلا، فإن الآيات الأخر، نصت على العموم كقوله * (ليكون للعالمين نذيرا) * وذكر بعض أفراد العام بحكم العام، لا يخصصه عند عامة العلماء، ولم يخالف فيه إلا أبو ثور.
وقد قدمنا ذلك واضحا بأدلته في سورة المائدة، فالآية على هذا القول كقوله * (وأنذر عشيرتك الا قربين) * فإنه لا يدل على عدم إنذار غيرهم، كما هو واضح. والعلم عند الله تعالى ا ه منه. قوله تعالى: * (وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه) *. تضمنت هذه الآية الكريمة أمرين:
أحدهما: أن من حكم إيحائه تعالى، إلى نبينا صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العربي، إنذار يوم الجمع، فقوله تعالى: * (وتنذر يوم الجمع) * معطوف على قوله: * (لتنذر أم القرى) * أي لا بد أن تنذر أم القرى وأن تنذر يوم الجمع فحذف في الأول، أحد المفعولين وحذف في الثاني أحدهما، فكان ما أثبت في كل منهما، دليلا على ما حذف في الثاني، ففي الأول حذف المفعول الثاني، والتقدير (لتنذر أم القرى) أي أهل مكة ومن حولها، عذابا شديدا إن لم يؤمنوا، وفي الثاني حذف المفعول الأول، أي وتنذر الناس يوم الجمع وهو يوم القيامة أي تخوفهم مما فيه من الأهوال، والأوجال ليستعدوا لذلك في دار الدنيا.
45

والثاني: أن يوم الجمع المذكور لا ريب فيه، أي لا شك في وقوعه، وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة، جاءا موضحين في آيات أخر.
أما تخويفه الناس يوم القيامة، فقد ذكر في مواضع من كتاب الله كقوله تعالى: * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) *. وقوله تعالى * (وأنذرهم يوم الا زفة) *. وقوله تعالى: * (فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا السمآء منفطر به) *: وقوله تعالى: * (ألا يظن أولائك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين) * والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وأما الثاني منهما: وهو كون يوم القيامة لا ريب فيه فقد جاء في مواضع أخر كقوله تعالى: * (الله لا إلاه إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه) * وقوله * (فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه) * وقوله تعالى: * (وأن الساعة ءاتية لا ريب فيها) *. وقوله تعالى * (وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندرى ما الساعة) *. إلى غير ذلك من الآيات.
وإنما سمي يوم القيامة يوم الجمع، لأن الله يجمع فيه جميع الخلائق. والآيات الموضحة لهذا المعنى، كثيرة كقوله تعالى: * (قل إن الا ولين والا خرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم) * وقوله تعالى: * (هاذا يوم الفصل جمعناكم والا ولين) *. وقوله تعالى: * (الله لا إلاه إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة) *. وقوله تعالى: * (يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن) * وقوله تعالى * (ذالك يوم مجموع له الناس وذالك يوم مشهود) * وقوله تعالى: * (فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) * وقوله تعالى: * (وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا) *.
وقد بين تعالى شمول ذلك الجمع لجميع الدواب والطير في قوله تعالى: * (وما من دآبة فى الا رض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا فى الكتاب من شىء ثم إلى ربهم يحشرون) *، والآيات الدالة على الجمع المذكورة كثيرة. قوله تعالى: * (فريق فى الجنة وفريق فى السعير) *.
46

ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الله خلق الخلق، وجعل منهم فريقا سعداء، وهم أهل الجنة، وفريقا أشقياء وهم أصحاب السعير، جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى: * (هو الذى خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) * وقوله تعالى: * (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذالك خلقهم) * أي ولذلك الاختلاف، إلى مؤمن وكافر وشقي وسعيد، خلقهم على الصحيح، ونصوص الوحي الدالة على ذلك كثيرة جدا.
وقد ذكرنا في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، وجه الجمع بين قوله: * (ولذالك خلقهم) * على التفسير المذكور، وبين قوله * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) *، وسنذكر ذلك إن شاء الله في سورة الذاريات.
وقد قدمنا معنى السعير بشواهده العربية في أول سورة الحج في الكلام على قوله تعالى: * (ويهديه إلى عذاب السعير) *، والجنة في لغة العرب البستان.
ومنه قول زهير بن أبي سلمى: ومنه قول زهير بن أبي سلمى:
* كأن عيني في غربي مقتلة
* من النواضح تسقي جنة سحقا
*
فقوله: جنة سحقا، يعني بستانا طويل النخل، وفي اصطلاح الشرع هي دار الكرامة التي أعد الله لأوليائه يوم القيامة.
والفريق: الطائفة من الناس، ويجوز تعدده إلى أكثر من اثنين، ومنه قول نصيب: والفريق: الطائفة من الناس، ويجوز تعدده إلى أكثر من اثنين، ومنه قول نصيب:
* فقال فريق القوم لا، وفريقهم
* نعم وفريق قال ويحك ما ندري
*
والمسوغ للابتداء بالنكرة في قوله: فريق في الجنة، أنه في معرض التفصيل.
ونظيره من كلام العرب قول امرئ القيس: ونظيره من كلام العرب قول امرئ القيس:
* فلما دنوت تسديتها
* فثوب نسيت وثوب أجر
* وما اختلفتم فيه من شىء فحكمه إلى الله) *. ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن ما اختلف فيه الناس من الأحكام فحكمه إلى الله وحده، لا إلى غيره، جاء موضحا في آيات كثيرة.
47

فالإشراك بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته قال في حكمه * (ولا يشرك فى حكمه أحدا) *، وفي قراءة ابن عامر من السبعة * (ولا تشركوا فى حكمه أحدا) * بصيغة النهي.
وقال في الإشراك به في عبادته: * (فمن كان يرجو لقآء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) *، فالأمران سواء كما ترى إيضاحه إن شاء الله.
وبذلك تعلم أن الحلال هو ما أحله الله، والحرام هو ما حرمه الله، والدين هو ما شرعه الله، فكل تشريع من غيره باطل، والعمل به بدل تشريع الله عند من يعتقد أنه مثله أو خير منه، كفر بواح لا نزاع فيه.
وقد دل القرآن في آيات كثيرة، على أنه لا حكم لغير الله، وأن اتباع تشريع غيره كفر به، فمن الآيات الدالة على أن الحكم لله وحده قوله تعالى * (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه) *، وقوله تعالى: * (إن الحكم إلا لله عليه توكلت) *. وقوله تعالى: * (إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين) * وقوله: * (ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولائك هم الكافرون) *، وقوله تعالى: * (ولا يشرك فى حكمه أحدا) *، وقوله تعالى: * (كل شىء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون) *، وقوله تعالى * (له الحمد فى الا ولى والا خرة وله الحكم وإليه ترجعون) * والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقد قدمنا إيضاحها في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: * (ولا يشرك فى حكمه أحدا) *.
وأما الآيات الدالة على أن اتباع تشريع غير الله المذكور كفر فهي كثيرة جدا، كقوله تعالى: * (إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) *، وقوله تعالى: * (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) *، وقوله تعالى: * (ألم أعهد إليكم يابنىءادم أن لا تعبدوا الشيطان) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا، كما تقدم إيضاحه في الكهف.
48

مسألة
اعلم أن الله جل وعلا بين في آيات كثيرة، صفات من يستحق أن يكون الحكم له، فعلى كل عاقل أن يتأمل الصفات المذكورة، التي سنوضحها الآن إن شاء الله، ويقابلها مع صفات البشر المشرعين للقوانين الوضعية، فينظر هل تنطبق عليهم صفات من له التشريع.
سبحان الله وتعالى عن ذلك.
فإن كانت تنطبق عليهم ولن تكون، فليتبع تشريعهم.
وإن ظهر يقينا أنهم أحقر وأخس وأذل وأصغر من ذلك، فليقف بهم عند حدهم، ولا يجاوزه بهم إلى مقام الربوبية.
سبحانه وتعالى أن يكون له شريك في عبادته، أو حكمه أو ملكه.
فمن الآيات القرآنية التي أوضح بها تعالى صفات من له الحكم والتشريع قوله هنا: * (وما اختلفتم فيه من شىء فحكمه إلى الله) *، ثم قال مبينا صفات من له الحكم * (ذلكم الله ربى عليه توكلت وإليه أنيب فاطر السماوات والا رض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الا نعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شىء وهو السميع البصير له مقليد السماوات والا رض يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر إنه بكل شىء عليم) *.
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين للنظم الشيطانية، من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي تفوض إليه الأمور، ويتوكل عليه، وأنه فاطر السماوات والأرض أي خالقهما ومخترعهما، على غير مثال سابق، وأنه هو الذي خلق للبشر أزواجا، وخلق لهم أزواج الأنعام الثمانية المذكورة في قوله تعالى: * (ثمانية أزواج من الضأن اثنين) *، وأنه * (ليس كمثله شىء وهو السميع البصير) * وأنا * (له مقاليد السماوات والارض) *، وأنه * (هو الذى * يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) * أي يضيقه على من يشاء * (وهو بكل شىء عليم) *.
فعليكم أيها المسلمون أن تتفهموا صفات من يستحق أن يشرع ويحلل ويحرم، ولا تقبلوا تشريعا من كافر خسيس حقير جاهل.
ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى * (فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الا خر ذالك خير وأحسن تأويلا) *، فقوله فيها: * (فردوه إلى الله) * كقوله في هذه * (فحكمه إلى الله) *.
49

وقد عجب نبيه صلى الله عليه وسلم بعد قوله: * (فردوه إلى الله) * من الذين يدعون الإيمان مع أنهم يريدون المحاكمة، إلى من لم يتصف بصفات من له الحكم، المعبر عنه في الآية بالطاغوت، وكل تحاكم إلى غير شرع الله فهو تحاكم إلى الطاغوت، وذلك في قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا) *.
فالكفر بالطاغوت، الذي صرح الله بأنه أمرهم به في هذه الآية، شرط في الإيمان كما بينه تعالى في قوله: * (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى) *.
فيفهم منه أن من لم يكفر بالطاغوت لم يتمسك بالعروة الوثقى، ومن لم يستمسك بها فهو مترد مع الهالكين.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: * (له غيب السماوات والا رض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولى ولا يشرك فى حكمه أحدا) *.
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأن له غيب السماوات والأرض؟ وأن يبالغ في سمعه وبصره لإحاطة سمعه بكل المسموعات وبصره بكل المبصرات؟
وأنه ليس لأحد دونه من ولي؟
سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا؟
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: * (ولا تدع مع الله إلاها ءاخر لا إلاه إلا هو كل شىء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون) *.
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأنه الإله الواحد؟ وأن كل شيء هالك إلا وجهه؟ وأن الخلائق يرجعون إليه؟
تبارك ربنا وتعاظم وتقدس أن يوصف أخس خلقه بصفاته.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: * (ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلى الكبير) *.
50

فهل في الكفرة الفجرة المشرعين النظم الشيطانية، من يستحق أن يوصف في أعظم كتاب سماوي، بأنه العلي الكبير؟
سبحانك ربنا وتعاليت عن كل ما لا يليق بكمالك وجلالك.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: * (وهو الله لا إلاه إلا هو له الحمد فى الا ولى والا خرة وله الحكم وإليه ترجعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم اليل سرمدا إلى يوم القيامة من إلاه غير الله يأتيكم بضيآء أفلا تسمعون قل أرءيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إلاه غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم اليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) *.
فهل في مشرعي القوانين الوضعية، من يستحق أن يوصف بأن له الحمد في الأولى والآخرة، وأنه هو الذي يصرف الليل والنهار مبينا بذلك كمال قدرته، وعظمة إنعامه على خلقه.
سبحان خالق السماوات والأرض، جل وعلا أن يكون له شريك في حكمه أو عبادته، أو ملكه.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: * (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذالك الدين القيم ولاكن أكثر الناس لا يعلمون) *.
فهل في أولئك من يستحق أن يوصف بأنه هو الإله المعبود وحده، وأن عبادته وحده هي الدين القيم؟
سبحان الله وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
ومنها قوله تعالى: * (إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون) *.
فهل فيهم من يستحق أن يتوكل عليه، وتفوض الأمور إليه؟
ومنها قوله تعالى: * (وأن احكم بينهم بمآ أنزل الله ولا تتبع أهوآءهم واحذرهم أن
51

يفتنوك عن بعض مآ أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون * أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) *.
فهل في أولئك المشرعين من يستحق أن يوصف بأن حكمه بما أنزل الله وأنه مخالف لاتباع الهوى؟ وأن من تولى عنه أصابه الله ببعض ذنوبه؟ لأن الذنوب لا يؤاخذ بجميعها إلا في الآخرة؟ وأنه لا حكم أحسن من حكمه لقوم يوقنون؟
سبحان ربنا وتعالى عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله.
ومنها قوله تعالى: * (إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين) *.
فهل فيهم من يستحق أن يوصف بأنه يقص الحق، وأنه خير الفاصلين؟
ومنها قوله تعالى: * (أفغير الله أبتغى حكما وهو الذى أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين ءاتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا) *.
فهل في أولئك المذكورين من يستحق أن يوصف بأنه هو الذي أنزل هذا الكتاب مفصلا، الذي يشهد أهل الكتاب أنه منزل من ربك بالحق، وبأنه تمت كلماته صدقا وعدلا أي صدقا في الأخبار، وعدلا في الأحكام، وأنه لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم؟
سبحان ربنا ما أعظمه وما أجل شأنه.
ومنها قوله تعالى: * (قل أرأيتم مآ أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على الله تفترون) *.
فهل في أولئك المذكورين من يستحق أن يوصف بأنه هو الذي ينزل الرزق للخلائق، وأنه لا يمكن أن يكون تحليل ولا تحريم إلا بإذنه؟ لأن من الضروري أن من خلق الرزق وأنزله هو الذي له التصرف فيه بالتحليل والتحريم؟
سبحانه جل وعلا أن يكون له شريك في التحليل والتحريم.
ومنها قوله تعالى: * (ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولائك هم الكافرون) *.
52

فهل فيهم من يستحق الوصف بذلك؟
سبحان ربنا وتعالى عن ذلك.
ومنها قوله تعالى: * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هاذا حلال وهاذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم) *.
فقد أوضحت الآية أن المشرعين غير ما شرعه الله إنما تصف ألسنتهم الكذب، لأجل أن يفتروه على الله، وأنهم لا يفلحون وأنهم يمتعون قليلا ثم يعذبون العذاب الأليم، وذلك واضح في بعد صفاتهم من صفات من له أن يحلل ويحرم.
ومنها قوله تعالى: * (قل هلم شهدآءكم الذين يشهدون أن الله حرم هاذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم) *.
فقوله: * (هلم شهداءكم) * صيغة تعجيز، فهم عاجزون عن بيان مستند التحريم. وذلك واضح في أن غير الله لا يتصف بصفات التحليل ولا التحريم. ولما كان التشريع وجميع الأحكام، شرعية كانت أو كونية قدرية، من خصائص الربوبية. كما دلت عليه الآيات المذكورة كان كل من اتبع تشريعا غير تشريع الله قد اتخذ ذلك المشرع ربا، وأشركه مع الله.
والآيات الدالة على هذا كثيرة، وقد قدمناها مرارا وسنعيد منها ما فيه كفاية، فمن ذلك وهو من أوضحه وأصرحه، أنه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وقعت مناظرة بين حزب الرحمن، وحزب الشيطان، في حكم من أحكام التحريم والتحليل وحزب الرحمن يتبعون تشريع الرحمن، في وحيه في تحريمه، وحزب الشيطان يتبعون وحي الشيطان في تحليله.
وقد حكم الله بينهما وأفتى فيما تنازعوا فيه فتوى سماوية قرآنية تتلى في سورة الأنعام.
وذلك أن الشيطان لما أوحى إلى أوليائه فقال لهم في وحيه: سلوا محمدا عن الشاة تصبح ميتة من هو الذي قتلها؟ فأجابوهم أن الله هو الذي قتلها.
فقالوا: الميتة إذا ذبيحة الله، وما ذبحه الله كيف تقولون إنه حرام؟ مع أنكم تقولون
53

إنما ذبحتموه بأيديكم حلال، فأنتم إذا أحسن من الله وأحل ذبيحة.
فأنزل الله بإجماع من يعتد به من أهل العلم قوله تعالى: * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) * يعني الميتة أي وإن زعم الكفار أن الله ذكاها بيده الكريمة بسكين من ذهب: * (وإنه لفسق) * والضمير عائد إلى الأكل المفهوم من قوله: * (ولا تأكلوا) * وقوله: * (لفسق) * أي خروج عن طاعة الله، واتباع لتشريع الشيطان: * (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليآئهم ليجادلوكم) *. أي بقولهم: ما ذبحتموه حلال وما ذبحه الله حرام، فأنتم إذا أحسن من الله، وأحل تذكية، ثم بين الفتوى
السماوية من رب العالمين، في الحكم بين الفريقين في قوله تعالى: * (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) * فهي فتوى سماوية من الخالق جل وعلا صرح فيها بأن متبع تشريع الشيطان المخالف لتشريع الرحمن مشرك بالله.
وهذه الآية الكريمة مثل بها بعض علماء العربية لحذف اللام الموطئة للقسم، والدليل على اللام الموطئة المحذوفة عدم اقتران جملة إنكم لمشركون بالفاء، لأنه لو كان شرطا لم يسبقه قسم لقيل: فإنكم لمشركون على حد قوله في الخلاصة: وهذه الآية الكريمة مثل بها بعض علماء العربية لحذف اللام الموطئة للقسم، والدليل على اللام الموطئة المحذوفة عدم اقتران جملة إنكم لمشركون بالفاء، لأنه لو كان شرطا لم يسبقه قسم لقيل: فإنكم لمشركون على حد قوله في الخلاصة:
* واقرن بفا حتما جوابا لو جعل
* شرطا لأن أو غيرها لم ينجعل
*
وهو مذهب سيبويه، وهو الصحيح، وحذف الفاء في مثل ذلك من ضرورة الشعر.
وما زعمه بعضهم من أنه يجوز مطلقا، وأن ذلك دلت عليه آيتان من كتاب الله.
إحداهما قوله تعالى: * (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) *.
والثانية قوله تعالى: * (ومآ أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) * بحذف الفاء في قراءة نافع وابن عامر من السبعة خلاف التحقيق.
بل المسوغ لحذف الفاء في آية: * (إنكم لمشركون) * تقدير القسم المحذوف قبل الشرط المدلول عليه بحذف الفاء على حد قوله في الخلاصة: بل المسوغ لحذف الفاء في آية: * (إنكم لمشركون) * تقدير القسم المحذوف قبل الشرط المدلول عليه بحذف الفاء على حد قوله في الخلاصة:
* واحذف لدى اجتماع شرط وقسم
* جواب ما أحرت فهو ملتزم
*
وعليه: فجملة إنكم لمشركون جواب القسم المقدر، وجواب الشرط محذوف فلا دليل في الآية لحذف الفاء المذكور.
54

والمسوغ له في آية * (بما كسبت * أيديكم) * أن ما في قراءة نافع وابن عامر موصولة كما جزم به غير واحد من المحققين، أي والذي أصابكم من مصيبة كائن وواقع بسبب ما كسبت أيديكم.
وأما على قراءة الجمهور: فما موصولة أيضا، ودخول الفاء في خبر الموصول جائز كما أن عدمه جائز فكلتا القراءتين جارية على أمر جائز.
ومثال دخول الفاء في خبر الموصول قوله تعالى: * (الذين ينفقون أموالهم باليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * وهو كثير في القرآن وقال بعضهم: إن ما في قراء الجمهور شرطية، وعليه فاقتران الجزاء بالفاء واجب أما على قراءة نافع وابن عامر، فهي موصولة ليس إلا كما هو التحقيق إن شاء الله.
وكون ما شرطية على قراءة وموصولة على قراءة لا إشكال فيه. لما قدمنا من أن القراءتين في الآية الواحدة كالآيتين.
ومن الآيات الدالة على نحو ما دلت عليه آية الأنعام المذكورة قوله تعالى: * (إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) *، فصرح بتوليهم للشيطان أي باتباع ما يزين لهم من الكفر والمعاصي مخالفا لما جاءت به الرسل، ثم صرح بأن ذلك إشراك به في قوله تعالى: * (والذين هم به مشركون) * وصرح أن الطاعة في ذلك الذي يشرعه الشيطان لهم ويزينه عبادة للشيطان.
ومعلوم أن من عبد الشيطان فقد أشرك بالرحمان قال تعالى: * (ألم أعهد إليكم يابنىءادم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدونى هاذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا) *، ويدخل فيهم متبعوا نظام الشيطان دخولا أولياء * (أفلم تكونوا تعقلون) *.
ثم بين المصير الأخير لمن كان يعبد الشيطان في دار الدنيا، في قوله تعالى: * (هاذه جهنم التى كنتم توعدون اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون اليوم نختم على أفواههم وتكلمنآ أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون) * وقال تعالى: عن نبيه إبراهيم * (ياأبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمان عصيا) * فقوله:
55

لا تعبد الشيطان: أي باتباع ما يشرعه من الكفر والمعاصي، مخالفا لما شرعه الله.
وقال تعالى: * (إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا) * فقوله: * (وإن يدعون إلا شيطانا) * يعني ما يعبدون إلا شيطانا مريدا.
وقوله تعالى: * (ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهاؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون) *.
فقوله تعالى: * (بل كانوا يعبدون الجن) * أي يتبعون الشياطين ويطيعونهم فيما يشرعون ويزينون لهم، من الكفر والمعاصي على أصح التفسيرين.
والشيطان عالم بأن طاعتهم له المذكورة إشراك به كما صرح بذلك وتبرأ منهم في الآخرة، كما نص الله عليه في سورة إبراهيم في قوله تعالى: * (وقال الشيطان لما قضى الا مر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم) * إلى قوله: * (إنى كفرت بمآ أشركتمون من قبل) * فقد اعترف بأنهم كانوا مشركين به من قبل أي في دار الدنيا، ولم يكفر بشركهم ذلك إلا يوم القيامة.
وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى الذي بيننا في الحديث لما سأله عدي بن حاتم رضي الله عنه عن قوله: * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا) * كيف اتخذوهم أربابا؟ وأجابه صلى الله عليه وسلم (أنهم أحلوا لهم ما حرم الله وحرموا عليهم ما أحل الله فاتبعوهم، وبذلك الاتباع اتخذوهم أربابا).
ومن أصرح الأدلة في هذا أن الكفار إذا أحلوا شيئا، يعلمون أن الله حرمه وحرموا شيئا يعلمون أن الله أحله، فإنهم يزدادون كفرا جديدا بذلك، مع كفرهم الأول، وذلك في قوله تعالى: * (إنما النسىء زيادة فى الكفر) * إلى قوله: * (والله لا يهدي القوم الكافرين) *.
وعلى كل حال فلا شك أن كل من أطاع غير الله، في تشريع مخالف لما شرعه الله، فقد أشرك به مع الله كما يدل لذلك قوله: * (وكذالك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركآؤهم) * فسماهم شركاء لما أطاعوهم في قتل الأولاد.
56

وقوله تعالى: * (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) * فقد سمى تعالى الذين يشرعون من الدين ما لم يأذن به الله شركاء، ومما يزيد ذلك إيضاحا، أن ما ذكره الله عن الشيطان يوم القيامة، من أنه يقول للذين كانوا يشركون به في دار الدنيا، إني كفرت بما أشركتمون من قبل، أن ذلك الإشراك المذكور ليس فيه شيء زائد على أنه دعاهم إلى طاعته فاستجابوا له كما صرح بذلك في قوله تعالى عنه: * (وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى) *، وهو واضح كما ترى.
* (فاطر السماوات والا رض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الا نعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شىء وهو السميع البصير * له مقليد السماوات والا رض يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر إنه بكل شىء عليم * شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينآ إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبى إليه من يشآء ويهدى إليه من ينيب * وما تفرقوا إلا من بعد ما جآءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضى بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفى شك منه مريب * فلذلك فادع واستقم كمآ أمرت ولا تتبع أهوآءهم وقل ءامنت بمآ أنزل الله من كتاب وأمرت لاعدل بينكم الله ربنا وربكم لنآ أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير * والذين يحآجون فى الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد * الله الذى أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب * يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين ءامنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون فى الساعة لفى ضلال بعيد * الله لطيف بعباده يرزق من يشآء وهو القوى العزيز * من كان يريد حرث الا خرة نزد له فى حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له فى الا خرة من نصيب * أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضى بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم * ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين ءامنوا وعملوا الصالحات فى روضات الجنات لهم ما يشآءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير * ذلك الذى يبشر الله عباده الذين ءامنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة فى القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور * أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشإ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور * وهو الذى يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين ءامنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد * ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا فى الا رض ولاكن ينزل بقدر ما يشآء إنه بعباده خبير بصير * وهو الذى ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولى الحميد * ومن ءاياته خلق السماوات والا رض وما بث فيهما من دآبة وهو على جمعهم إذا يشآء قدير * ومآ أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير) * قوله تعالى: * (فاطر السماوات والا رض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الا نعام أزواجا يذرؤكم فيه) *. قوله تعالى: * (فاطر السماوات والا رض) * تقدم تفسيره في أول سورة فاطر.
وقوله * (جعل لكم من أنفسكم أزواجا) *.
أي خلق لكم أزواجا من أنفسكم كما قدمنا الكلام عليه في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: * (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة) * وبينا أن المراد بالأزواج الإناث كما يوضحه قوله تعالى: * (ومن ءاياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) *. وقوله تعالى: * (وأنه خلق الزوجين الذكر والا نثى من نطفة إذا تمنى) * وقوله: * (فجعل منه الزوجين الذكر والا نثى) * وقوله تعالى: * (واليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والا نثى) *. وقوله في آدم: * (ياأيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها) *. وقوله تعالى فيه أيضا: * (هو الذى خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها) *. وقوله تعالى فيه أيضا: * (خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها) *.
وقوله تعالى: * (ومن الا نعام أزواجا) * هي الثمانية المذكورة في قوله تعالى: * (ثمانية أزواج من الضأن اثنين) *. وفي قوله: * (خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الا نعام ثمانية أزواج) * وهي ذكور الضأن والمعز والإبل والبقر وإناثها، كما قدمنا إيضاحه في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى: * (والأنعام والحرث) *.
57

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (يذرؤكم فيه) * الظاهر أن ضمير الخطاب في قوله * (يذرؤكم) * شامل للآدميين والأنعام، وتغليب الآدميين على الأنعام في ضمير المخاطبين في قوله: يذرؤكم واضح لا إشكال فيه.
والتحقيق إن شاء الله أن الضمير في قوله: (فيه) راجع إلى ما ذكر من الذكور والإناث، من بني آدم والأنعام في قوله تعالى: * (جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الا نعام أزواجا) * سواء قلنا إن المعنى: أنه جعل للآدميين إناثا من أنفسهم أي من جنسهم، وجعل للأنعام أيضا إناثا كذلك، أو قلنا إن المراد بالأزواج الذكور والإناث منهما معا.
وإذا كان ذلك كذلك، فمعنى الآية الكريمة يذرؤكم أي يخلقكم ويبثكم وينشركم فيه، أي فيما ذكر من الذكور والإناث، أي في ضمنه، عن طريق التناسل كما هو معروف.
ويوضح ذلك في قوله تعالى: * (اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونسآء) * فقوله تعالى: * (وبث منهما رجالا كثيرا ونسآء) * يوضح معنى قوله: * (يذرؤكم فيه) *.
فإن قيل: ما وجه إفراد الضمير المجرور في قوله يذرؤكم فيه، مع أنه على ما ذكرتم، عائد إلى الذكور والإناث من الآدميين والأنعام؟
فالجواب: أن من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن، رجوع الضمير أو الإشارة بصيغة الإفراد إلى مثنى أو مجموع باعتبار ما ذكر مثلا.
ومثاله في الضمير: * (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إلاه غير الله يأتيكم به) *، فالضمير في قوله: به مفرد مع أنه راجع إلى السمع والأبصار والقلوب.
فقوله: * (يأتيكم به) * أي بما ذكر من سمعكم وأبصاركم وقلوبكم، ومن هذا المعنى قول رؤبة بن العجاج: فقوله: * (يأتيكم به) * أي بما ذكر من سمعكم وأبصاركم وقلوبكم، ومن هذا المعنى قول رؤبة بن العجاج:
* فيها خطوط من سواد وبلق
* كأن في الجلد توليع البهق
*
فقوله: كأنه أي ما ذكر من خطوط من سواد وبلق.
58

ومثاله في الإشارة * (لا فارض ولا بكر عوان بين ذالك) * أي بين ذلك المذكور، من فارض وبكر، وقول عبد الله بن الزبعري السهمي: لا فارض ولا بكر عوان بين ذالك) * أي بين ذلك المذكور، من فارض وبكر، وقول عبد الله بن الزبعري السهمي:
* إن للخير وللشر مدى
* وكلا ذلك وجه وقبل
*
أي كلا ذلك المذكور من الخير والشر.
وقول من قال، إن الضمير في قوله فيه راجع إلى الرحم، وقول من قال راجع إلى البطن، ومن قال راجع إلى الجعل المفهوم من جعل وقول من قال: راجع إلى التدبير، ونحو ذلك من الأقوال خلاف الصواب.
والتحقيق إن شاء الله هو ما ذكرنا والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ليس كمثله شىء وهو السميع البصير) *. وقد قدمنا الكلام عليه في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى: * (ثم استوى على العرش) *. قوله تعالى: * (له مقليد السماوات والا رض يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر) *. مقاليد السماوات والأرض هي مفاتيحهما.
وهو جمع لا واحد له من لفظه، فمفردها إقليد، وجمعها مقاليد على غير قياس.
والإقليد المفتاح. وقيل: واحدها مقليد، وهو قول غير معروف في اللغة.
وكونه جل وعلا * (له مقليد السماوات والا رض) * أي مفاتيحهما كناية عن كونه جل وعلا هو وحده المالك لخزائن السماوات والأرض لأن ملك مفاتيحها يستلزم ملكها.
وقد ذكر جل وعلا مثل هذا في سورة الزمر في قوله تعالى: * (الله خالق كل شىء وهو على كل شىء وكيل له مقاليد السماوات والا رض) *.
وما دلت عليه آية الشورى هذه وآية الزمر المذكورتان من أنه جل وعلا هو مالك خزائن السماوات والأرض، جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى: * (ولله خزآئن السماوات والا رض ولاكن المنافقين لا يفقهون) * وقوله تعالى: * (وإن من شىء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) *.
59

وبين في مواضع أخر أن خزائن رحمته لا يمكن أن تكون لغيره، كقوله تعالى: * (أم عندهم خزآئن رحمة ربك العزيز الوهاب) * وقوله تعالى * (أم عندهم خزآئن ربك أم هم المسيطرون) * وقوله تعالى * (قل لو أنتم تملكون خزآئن رحمة ربى إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا) *.
وقوله في هذه الآية الكريمة * (يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر) * جاء معناه موضحا في آيات أخر كقوله تعالى * (قل إن ربى يبسط الرزق لمن يشآء من عباده ويقدر له) *. وقوله تعالى * (قل إن ربى يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر ولاكن أكثر الناس لا يعلمون) * وقوله تعالى * (الله يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر وفرحوا بالحيواة الدنيا) *. وقوله تعالى: * (والله فضل بعضكم على بعض فى الرزق) *. وقوله تعالى: * (نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحيواة الدنيا) *. وقوله تعالى * (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما) *. وقوله تعالى * (لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق ممآ ءاتاه الله) *. وقوله تعالى: * (ومن قدر عليه رزقه) * أي ضيق عليه رزقه لقلته. وكذلك قوله * (يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر) * في الآيات المذكورة.
أي يبسط الرزق لمن يشاء بسطه له ويقدر، أي يضيق الرزق على من يشاء تضييقه عليه كما أوضحناه في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى * (فظن أن لن نقدر عليه) *.
وقد بين جل وعلا في بعض الآيات حكمة تضييقه للرزق على من ضيقه عليه.
وذكر أن من حكم ذلك أن بسط الرزق للإنسان، قد يحمله على البغي والطغيان كقوله تعالى * (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا فى الا رض ولاكن ينزل بقدر ما يشآء إنه بعباده خبير بصير) *، وقوله تعالى: * (كلا إن الإنسان ليطغى أن رءاه استغنى) *. قوله تعالى: * (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينآ إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين) *. قد قدمنا الكلام عليه في سورة الأحزاب في الكلام على قوله تعالى: * (وإذ أخذنا
60

من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح) *. قوله تعالى: * (ولا تتفرقوا فيه) *. الضمير في قوله: فيه، راجع إلى الدين في قوله: أن أقيموا الدين.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي عن الافتراق في الدين، جاء مبينا في غير هذا الموضع، وقد بين تعالى أنه وصى خلقه بذلك، فمن الآيات الدالة على ذلك، قوله تعالى * (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) *. وقوله تعالى: * (وأن هاذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذالكم وصاكم به لعلكم تتقون) * وقد بين تعالى في بعض المواضع أن بعض الناس لا يجتنبون هذا النهي، وعددهم على ذلك كقوله تعالى: * (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم فى شىء إنمآ أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) *، لأن قوله * (لست منهم فى شىء) * إلى قوله * (يفعلون) * فيه تهديد عظيم لهم.
وقوله تعالى في سورة * (قد أفلح المؤمنون) * * (وإن هاذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون فذرهم فى غمرتهم حتى حين) *.
فقوله * (وإن هاذه أمتكم أمة واحدة) * أي إن هذه شريعتكم شريعة واحدة ودينكم دين واحد، وربكم واحد فلا تتفرقوا في الدين.
وقوله جل وعلا: * (فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا) * دليل على أنهم لم يجتنبوا ما نهوا عنه من ذلك.
وقوله تعالى: * (فذرهم فى غمرتهم حتى حين) * فيه تهديد لهم ووعيد عظيم على ذلك. ونظير ذلك قوله تعالى في سورة الأنبياء: * (إن هاذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون) * فقوله تعالى: * (كل إلينا راجعون) * فيه أيضا تهديد لهم ووعيد على ذلك وقد أوضحنا تفسير هذه الآيات في آخر سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى * (إن هاذه أمتكم أمة واحدة) *.
61

وقد جاء في الحديث المشهور (افتراق اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافتراق النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، وافتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، وأن الناجية منها واحدة، وهي التي كانت على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه). قوله تعالى: * (كبر على المشركين ما تدعوهم إليه) *. بين جل وعلا أنه كبر على المشركين أي شق عليهم وعظم ما يدعوهم إليه صلى الله عليه وسلم من عبادة الله تعالى وحده، وطاعته بامتثال أمره واجتناب نهيه، ولعظم ذلك ومشقته عليهم، كانوا يكرهون ما أنزل الله ويجتهدون في عدم سماعه لشدة كراهتهم له، بل يكادون يبطشون بمن يتلو عليهم آيات ربهم لشدة بغضهم وكراهتهم لها.
والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة في كتاب الله، وفيها بيان أن ذلك هو عادة الكافرين مع جميع الرسل من عهد نوح إلى عهد محمد صلى الله عليه وسلم.
فقد بين تعالى مشقة ذلك على قوم ونوح وكبره عليهم في مواضع من كتابه كقوله تعالى: * (واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه ياقوم إن كان كبر عليكم مقامى وتذكيرى بآيات الله فعلى الله توكلت) *. وقوله تعالى عن نوح * (وإنى كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم فىءاذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا) *.
فقوله تعالى * (جعلوا أصابعهم فىءاذانهم واستغشوا ثيابهم) * يدل دلالة واضحة على شدة بغضهم وكراهتهم لما يدعوهم إليه نوح، فهو واضح في أنهم كبر عليهم ما يدعوهم إليه من توحيد الله والإيمان به.
وقد بين الله تعالى مثل ذلك في الكفار الذين كذبوا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم في آيات من كتابه كقوله تعالى * (وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات تعرف فى وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم ءاياتنا) * فقوله تعالى: * (تعرف فى وجوه الذين كفروا المنكر) * الآية. يدل دلالة واضحة، على شدة بغضهم وكراهيتهم لسماع تلك الآيات.
وكقوله تعالى: * (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهاذا القرءان والغوا فيه) *. وقوله تعالى في الزخرف. * (لقد جئناكم بالحق ولاكن أكثركم للحق
62

كارهون) *، وقوله تعالى في قد أفلح المؤمنون * (أم يقولون به جنة بل جآءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون) * وقوله تعالى في القتال * (ذلك بأنهم كرهوا مآ أنزل الله فأحبط أعمالهم) *، وقوله تعالى: * (تلك ءايات الله نتلوها عليك بالحق فبأى حديث بعد الله وءاياته يؤمنون ويل لكل أفاك أثيم يسمع ءايات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم) * وقوله تعالى * (وإذا تتلى عليه ءاياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن فى أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم) *، وقوله تعالى: * (وقالوا قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه وفىءاذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب) *. والآيات بمثل ذلك كثيرة.
واعلم أن هؤلاء الذين يكرهون ما أنزل الله، يجب على كل مسلم أن يحذر كل الحذر من أن يطيعهم في بعض أمرهم، لأن ذلك يستلزم نتائج سيئة متناهية في السوء، كما أوضح تعالى ذلك في قوله: * (أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوب أقفالهآ إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم فى بعض الا مر والله يعلم إسرارهم فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا مآ أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم) * فعلى كل مسلم أن يحذر ثم يحذر ثم يحذر كل الحذر، من أن يقول للذين كفروا، الذين يكرهون ما أنزل الله سنطيعكم في بعض
الأمر، لأن ذلك يسبب له ما ذكره الله في الآيات المذكورة، ويكفيه زجرا وردعا عن ذلك قوله ربه تعالى * (فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم) * إلى قوله * (فأحبط أعمالهم) *. قوله تعالى: * (الله يجتبى إليه من يشآء ويهدى إليه من ينيب) *. الاجتباء في اللغة العربية معناه الاختيار والاصطفاء.
وقد دلت هذه الآية الكريمة على أنه تعالى يجتبى من خلقه من يشاء اجتباءه.
وقد بين في مواضع أخر بعض من شاء اجتباءه من خلقه، فبين أن منهم المؤمنين من هذه الأمة في قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير) * إلى قوله: * (هو اجتباكم وما جعل عليكم فى الدين من حرج) *.
63

وقوله تعالى: * (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) *.
وبين في موضع آخر أن منهم آدم وهو قوله تعالى: * (ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) *. وذكر أن منهم إبراهيم في قوله: * (إن إبراهيم كان أمة) * إلى قوله * (شاكرا لانعمه اجتباه) *. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اجتباء بعض الخلق بالتعيين.
وقوله تعالى: * (ويهدى إليه من ينيب) * أي من سبق في علمه أنه ينيب إلى الله أي يرجع إلى ما يرضيه، من الإيمان والطاعة، ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الرعد * (قل إن الله يضل من يشآء ويهدى إليه من أناب) *. قوله تعالى: * (وقل ءامنت بمآ أنزل الله من كتاب وأمرت لاعدل بينكم) *. تقدمت الآيات الموضحة له في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى * (ومآ أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم) *. قوله تعالى: * (الله الذى أنزل الكتاب بالحق والميزان) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي أنزل الكتاب في حال كونه متلبسا بالحق الذي هو ضد الباطل، وقوله: * (الكتاب) * اسم جنس مراد به جميع الكتب السماوية.
وقد أوضحنا في سورة الحج أن المفرد الذي هو اسم الجنس يطلق مرادا به الجمع، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك مع الشواهد العربية.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (والميزان) * يعني أن الله جل وعلا هو الذي أنزل الميزان، والمراد به العدل والإنصاف.
وقال بعض أهل العلم: الميزان في الآية: هو آلة الوزن المعروفة.
ومما يؤيد ذلك أن الميزان مفعال، والمفعال قياسي في اسم الآلة.
وعلى التفسير الأول وهو أن الميزان العدل والإنصاف، فالميزان الذي هو آلة الوزن المعروفة داخل فيه، لأن إقامة الوزن بالقسط من العدل والإنصاف.
64

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الله تعالى هو الذي أنزل الكتاب والميزان أوضحه في غير هذا الموضع كقوله تعالى في سورة الحديد * (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) *. فصرح تعالى بأنه أنزل مع رسله بالكتاب والميزان لأجل أن يقوم الناس بالقسط، وهو العدل والإنصاف. وكقوله تعالى في سورة الرحمان * (والسمآء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا فى الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) *.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي والله تعالى أعلم: أن الميزان في سورة الشورى وسورة الحديد هو العدل والإنصاف، كما قاله غير واحد من المفسرين.
وأن الميزان في سورة الرحمان هو الميزان المعروف أعني آلة الوزن التي يوزن بها بعض المبيعات.
ومما يدل على ذلك أنه في سورة الشورى وسورة الحديد عبر بإنزال الميزان لا بوضعه، وقال في سورة الشورى * (الله الذى أنزل الكتاب بالحق والميزان) *. وقال في الحديد: * (وأنزلنا معهم الكتاب والميزان) *.
وأما في سورة الرحمان فقد عبر بالوضع لا الإنزال، قال * (والسمآء رفعها ووضع الميزان) * ثم أتبع ذلك بما يدل على أن المراد به آلة الوزن المعروفة، وذلك في قوله: * (وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) *، لأن الميزان الذي نهوا عن إخساره هو أخو المكيال، كما قال تعالى * (أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشيآءهم) * وقال تعالى * (ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) *. وقال تعالى عن نبيه شعيب: * (ولا تنقصوا المكيال والميزان) *. وقال تعالى عنه أيضا * (قد جآءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان) *. وقال تعالى في سورة الأنعام: * (وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها) * وقال تعالى في سورة بني
65

إسرائيل * (وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذالك خير وأحسن تأويلا) *.
فإن قيل: قد اخترتم أن المراد بالميزان في سورة الشورى وسورة الحديد، هو العدل والإنصاف، وأن المراد بالميزان في سورة الرحمان هو آلة الوزن المعروفة، وذكرتم نظائر ذلك من الآيات القرآنية، وعلى هذا الذي اخترتم يشكل الفرق بين الكتاب والميزان، لأن الكتب السماوية كلها عدل وإنصاف.
فالجواب من وجهين:
الأول منهما هو ما قدمنا مرارا من أن الشيء الواحد إذا عبر عنه بصفتين مختلفتين جاز عطفه على نفسه تنزيلا للتغاير بين الصفات منزلة التغاير في الذوات، ومن أمثلة ذلك في القرآن قوله تعالى * (سبح اسم ربك الاعلى * الذى خلق فسوى * والذى قدر فهدى * والذى أخرج المرعى) * فالموصوف واحد والصفات مختلفة، وقد ساغ العطف لتغاير الصفات. ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر: سبح اسم ربك الاعلى * الذى خلق فسوى * والذى قدر فهدى * والذى أخرج المرعى) * فالموصوف واحد والصفات مختلفة، وقد ساغ العطف لتغاير الصفات. ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر:
* إلى الملك القرم وابن الهما
* م وليث الكتيبة في المزدحم
*
وأما الوجه الثاني:
فهو ما أشار إليه العلامة ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين، من المغايرة في الجملة بين الكتاب والميزان.
وإيضاح ذلك: أن المراد بالكتاب هو العدل والإنصاف المصرح به في الكتب السماوية.
وأما الميزان: فيصدق بالعدل والإنصاف الذي لم يصرح به في الكتب السماوية، ولكنه معلوم مما صرح به فيها.
فالتأفيف في قوله تعالى * (فلا تقل لهمآ أف) *، من الكتاب لأنه مصرح به في الكتاب، ومنع ضرب الوالدين مثلا المدلول عليه بالنهي على التأفيف من الميزان، أي من العدل والإنصاف الذي أنزله الله مع رسله.
وقبول شهادة العدلين في الرجعة والطلاق المنصوص في قوله تعالى: * (وأشهدوا ذوى عدل منكم) * من الكتاب الذي أنزله الله، لأنه مصرح به فيه.
66

وقبول شهادة أربعة عدول في ذلك من الميزان الذي أنزله الله مع رسله.
وتحريم أكل مال اليتيم المذكور في قوله * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون فى بطونهم نارا) * من الكتاب.
وتحريم إغراق مال اليتيم وإحراقه، المعروف من ذلك من الميزان، الذي أنزله الله مع رسله.
وجلد القاذف الذكر للمحصنة الأنثى ثمانين جلدة ورد شهادته، والحكم بفسقه المنصوص في قوله تعالى * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهدآء فاجلدوهم ثمانين جلدة) * إلى قوله * (إلا الذين تابوا) * الآية من الكتاب الذي أنزله الله.
وعقوبة القاذف الذكر لذكر مثله، والأنثى القاذفة للذكر أو لأنثى بمثل تلك العقوبة المنصوصة في القرآن من الميزان المذكور.
وحلية المرأة التي كانت مبتوتة، بسبب نكاح زوج ثان وطلاقه لها بعد الدخول المنصوص في قوله تعالى * (فإن طلقها فلا جناح عليهمآ أن يتراجعآ) * أي فإن طلقها الزوج الثاني، بعد الدخول وذوق العسيلة فلا جناح عليهما أي لا جناح على المرأة التي كانت مبتوتة والزوج الذي كانت حراما عليه، أن يتراجعا بعد نكاح الثاني وطلاقه لها، من الكتاب الذي أنزل الله.
وأما إن مات الزوج الثاني بعد أن دخل بها وكان موته قبل أن يطلقها، فحليتها للأول الذي كانت حراما عليه، من الميزان الذي أنزله الله مع رسله.
وقد أشرنا إلى كلام ابن القيم المذكور، وأكثرنا من الأمثلة لذلك في سورة الأنبياء في كلامنا الطويل على قوله تعالى * (وداوود وسليمان إذ يحكمان فى الحرث) *. قوله تعالى: * (وما يدريك لعل الساعة قريب) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له، في أول سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: * (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) *. وفي سورة الأحزاب في الكلام على قوله
67

تعالى: * (وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا) * وفي سورة المؤمن في الكلام على قوله تعالى: * (وأنذرهم يوم الا زفة) *. قوله تعالى: * (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين ءامنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق) *. ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل:
الأولى: أن الكفار الذين لا يؤمنون بالساعة، يستعجلون بها أي يطلبون تعجيلها عليهم، لشدة إنكارهم لها.
والثانية: أن المؤمنين مشفقون منها، أي خائفون منها.
والثالثة: أنهم يعلمون أنها الحق، أي أن قيامها ووقوعها حق لا شك فيه.
وكل هذه المسائل الثلاث المذكورة في هذه الآية الكريمة جاءت موضحة في غير هذا الموضع.
أما استعجالهم لها فقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى * (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات) * وفي غير ذلك من المواضع. وأما المسألة الثانية: التي هي إشفاق المؤمنين وخوفهم من الساعة، فقد ذكره في مواضع أخر كقوله تعالى * (الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون) * وقوله تعالى * (يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والا بصار) * وقوله تعالى * (يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا) *. وأما المسألة الثالثة: وهي علمهم أن الساعة حق، فقد دلت عليه الآيات المصرحة بأنها لا ريب فيها، لأنها تتضمن نفي الريب فيها من المؤمنين.
والريب: الشك كقوله تعالى عن الراسخين في العلم: * (ربنآ إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه) *. وقوله تعالى * (الله لا إلاه إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه) *: وقوله تعالى * (فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه) *. وقوله تعالى: * (وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه) *. وقوله تعالى
68

* (ذالك بأن الله هو الحق وأنه يحى الموتى وأنه على كل شىء قدير وأن الساعة ءاتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من فى القبور) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (ألا إن الذين يمارون فى الساعة لفى ضلال بعيد) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى * (بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (يمارون) *، مضارع ماري، يماري، مراء ومماراة، إذا خاصم وجادل.
ومنه قوله تعالى * (فلا تمار فيهم إلا مرآء ظاهرا) *.
وقوله * (لفى ضلال بعيد) * أي بعيد عن الحق والصواب.
وقد قدمنا معاني الضلال في القرآن واللغة العربية، مع الشواهد في سورة الشعراء في الكلام على قوله تعالى * (قال فعلتهآ إذا وأنا من الضآلين) * وفي مواضع أخر من هذا الكتاب المبارك. قوله تعالى: * (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة فى القربى) *. قد بينا في سورة هود في الكلام على قوله تعالى: * (وياقوم لا أسألكم عليه مالا) *. أن جميع الرسل عليهم الصلوات والسلام، لا يأخذون أجرا على التبليغ، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك.
وقد ذكرنا في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، وجه الجمع بين تلك الآيات، وآية شورى هذه فقلنا فيه:
اعلم أولا أن في قوله تعالى * (إلا المودة فى القربى) * أربعة أقوال:
الأول: ورواه الشعبي وغيره عن ابن عباس وبه قال مجاهد وقتادة وعكرمة وأبو مالك والسدي والضحاك وابن زيد وغيرهم كما نقله عنهم ابن جرير وغيره، أن معنى الآية * (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة فى القربى) * أي إلا أن تودوني في قرابتي التي بيني وبينكم، فتكفوا عني أذاكم وتمنعوني من أذى الناس، كما تمنعون كل من بينكم وبينه مثل قرابتي منكم، وكان صلى الله عليه وسلم له في كل بطن من قريش رحم، فهذا الذي سألهم ليس
69

بأجر على التبليغ لأنه مبذول لكل أحد، لأن كل أحد يوده أهل قرابته وينتصرون له من أذى الناس.
وقد فعل له ذلك أبو طالب ولم يكن أجرا على التبليغ لأنه لم يؤمن.
وإذا كان لا يسأل أجرا إلا هذا الذي ليس بأجر تحقق أنه لا يسأل أجرا كقول النابغة: وإذا كان لا يسأل أجرا إلا هذا الذي ليس بأجر تحقق أنه لا يسأل أجرا كقول النابغة:
* ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
* بهن فلول من قراع الكتائب
*
ومثل هذا يسميه البلاغيون تأكيد المدح بما يشبه الذم.
وهذا القول هو الصحيح في الآية، واختاره ابن جرير، وعليه فلا إشكال.
الثاني: أن معنى الآية * (إلا المودة فى القربى) * أي لا تؤذوا قرابتي وعترتي واحفظوني فيهم، ويروى هذا القول عن سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب وعلي بن الحسين، وعليه فلا إشكال أيضا.
لأن المودة بين المسلمين واجبة فيما بينهم، وأحرى قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: * (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أوليآء بعض) * وفي الحديث (مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كالجسد الواحد إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) وقال صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) والأحاديث في مثل هذا كثيرة جدا.
وإذا كان نفس الدين يوجب هذا بين المسلمين، تبين أنه غير عوض عن التبليغ.
وقال بعض العلماء: الاستثناء منقطع على كلا القولين، وعليه فلا إشكال.
فمعناه على القول الأول * (لا أسألكم عليه أجرا) * لكن أذكركم قرابتي فيكم.
وعلى الثاني: لكن أذكركم الله في قرابتي فاحفظوني فيهم.
القول الثالث: وبه قال الحسن إلا المودة في القربى أي إلا أن تتوددوا إلى الله وتتقربوا إليه بالطاعة والعمل الصلح، وعليه فلا إشكال.
لأن التقرب إلى الله ليس أجرا على التبليغ.
70

القول الرابع: إلا المودة في القربى، أي إلا أن تتوددوا إلى قراباتكم وتصلوا أرحامكم، ذكر ابن جرير هذا القول عن عبد الله بن قاسم، وعليه أيضا فلا إشكال.
لأن صلة الإنسان رحمه ليست أجرا على التبليغ، فقد علمت الصحيح في تفسير الآية وظهر لك رفع الإشكال على جميع الأقوال.
وأما القول بأن قوله تعالى: * (إلا المودة فى القربى) * منسوخ بقوله تعالى: * (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم) * فهو ضعيف، والعلم عند الله تعالى. انتهى منه.
وقد علمت مما ذكرنا فيه أن القول الأول هو الصحيح في معنى الآية.
مع أن كثيرا من الناس يظنون أن القول الثاني هو معنى الآية، فيحسبون أن معنى * (إلا المودة فى القربى) * إلا أن تودوني في أهل قرابتي.
وممن ظن ذلك محمد السجاد حيث قال لقاتله يوم الجمل: أذكرك حم يعني سورة الشورى هذه، ومراده أنه من أهل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيلزم حفظه فيهم، لأن الله تعالى قال في حم هذه * (إلا المودة فى القربى) * فهو يريد المعنى المذكور، يظنه هو المراد بالآية، ولذا قال قاتله في ذلك: إلا المودة فى القربى) * فهو يريد المعنى المذكور، يظنه هو المراد بالآية، ولذا قال قاتله في ذلك:
* يذكرني حاميم والرمح شاجر
* فهل لا تلا حاميم قبل التقدم
*
وقد ذكرنا هذا البيت والأبيات التي قبله في أول سورة هود، وذكرنا أن البخاري ذكر البيت المذكور في سورة المؤمن، وذكرنا الخلاف في قائل الأبيات الذي قتل محمدا السجاد بن طلحة بن عبيد الله يوم الجمل، هل هو شريح بن أبي أوفى العبسي كما قال البخاري، أو الأشتر النخعي، أو عصام بن مقشعر، أو مدلج بن كعب السعدي، أو كعب بن مدلج.
وممن ظن أن معنى الآية هو ما ظنه محمد السجاد المذكور الكميت في قوله في أهل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم::
* وجدنا لكم في آل حاميم آية
* تأولها منا تقي ومعرب
*
والتحقيق إن شاء الله أن معنى الآية هو القول الأول * (إلا المودة فى القربى) *
71

أي إلا أن تودوني في قرابتي فيكم وتحفظوني فيها، فتكفوا عني أذاكم وتمنعوني من أذى الناس، كما هو شأن أهل القرابات. قوله تعالى: * (ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا) *. الاقتراف معنا الاكتساب، أي من يعمل حسنة من الحسنات، ويكتسبها نزد له فيها حسنا، أي نضاعفها له.
فمضاعفة الحسنات هي الزيادة في حسنها، وهذا المعنى توضحه آيات من كتاب الله تعالى كقوله تعالى * (وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما) * وقوله تعالى: * (من جآء بالحسنة فله عشر أمثالها) * وقوله تعالى: * (من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة) * وقوله تعالى * (وأقيموا الصلواة وءاتوا الزكواة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا) * فكونه خيرا وأعظم أجرا زيادة في حسنه، كما لا يخفى إلى غير ذلك من الآيات: قوله تعالى: * (وهو الذى يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه هو وحده الذي يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات. وقد جاء ذلك موضحا في مواضع أخر كقوله تعالى: * (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم) * وقوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم) *. وقوله تعالى: * (ومن يغفر الذنوب إلا الله) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا معنى التوبة وأركانها وإزالة ما في أركانها من الإشكال، في سورة النور في الكلام على قوله تعالى * (وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون) *. قوله تعالى: * (ولاكن ينزل بقدر ما يشآء) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه ينزل ما يشاء تنزيله من الأرزاق وغيرها
72

بقدر، أي بمقدار معلوم عنده جل وعلا، وهو جل وعلا أعلم بالحكمة والمصلحة في مقدار كل ما ينزله. وقد أوضح هذا في غير هذا الموضع، كقوله تعالى: * (وإن من شىء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) * وقوله تعالى: * (وكل شىء عنده بمقدار) * إلى غير ذلك من الآيات.
* (ومآ أنتم بمعجزين فى الا رض وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير * ومن ءاياته الجوار فى البحر كالا علام * إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن فى ذلك لايات لكل صبار شكور * أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير * ويعلم الذين يجادلون فىءاياتنا ما لهم من محيص * فمآ أوتيتم من شىء فمتاع الحيواة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين ءامنوا وعلى ربهم يتوكلون * والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون * والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلواة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون * والذين إذآ أصابهم البغى هم ينتصرون * وجزآء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين * ولمن انتصر بعد ظلمه فأولائك ما عليهم من سبيل * إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون فى الا رض بغير الحق أولائك لهم عذاب أليم * ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الا مور * ومن يضلل الله فما له من ولى من بعده وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل * وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفى وقال الذين ءامنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين فى عذاب مقيم * وما كان لهم من أوليآء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل * استجيبوا لربكم من قبل أن يأتى يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير * فإن أعرضوا فمآ أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ وإنآ إذآ أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور * لله ملك السماوات والا رض يخلق ما يشآء يهب لمن يشآء إناثا ويهب لمن يشآء الذكور * أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشآء عقيما إنه عليم قدير * وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من ورآء حجاب أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشآء إنه على حكيم * وكذلك أوحينآ إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولاكن جعلناه نورا نهدى به من نشآء من عبادنا وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم * صراط الله الذى له ما فى السماوات وما فى الا رض ألا إلى الله تصير الا مور) * قوله تعالى: * (ومآ أنتم بمعجزين فى الا رض) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النور في الكلام على قوله تعالى: * (لا تحسبن الذين كفروا معجزين فى الا رض ومأواهم النار) *. قوله تعالى: * (ومن ءاياته الجوار فى البحر كالا علام) *. قوله: ومن آياته أي من علاماته الدالة على قدرته واستحقاقه للعبادة وحده، الجواري وهي السفن واحدتها جارية، ومنه قوله تعالى: * (إنا لما طغا المآء حملناكم فى الجارية) * يعني سفينة نوح، وسميت جارية لأنها تجري في البحر.
وقوله * (كالا علام) * أي كالجبال، شبه السفن بالجبال لعظمها.
وعن مجاهد أن الأعلام القصور، وعن الخليل: أن كل مرتفع تسميه العرب علما، وجمع العلم أعلام.
وهذا الذي ذكره الخليل معروف في اللغة، ومنه قول الخنساء ترثي أخاها صخرا: وهذا الذي ذكره الخليل معروف في اللغة، ومنه قول الخنساء ترثي أخاها صخرا:
* وإن صخرا لتأتم الهداة به
* كأنه علم في رأسه نار
*
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن جريان السفن في البحر، من آياته تعالى الدالة على كمال قدرته، جاء موضحا في غير هذا الموضع، كقوله تعالى * (وءاية لهم أنا حملنا ذريتهم فى الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين) * * (فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناهآ ءاية للعالمين) * وقوله تعالى: * (إن في خلق السماوات والا رض واختلاف الليل والنهار والفلك التى تجرى فى البحر بما ينفع الناس) * إلى قوله: * (لآيات لقوم يعقلون) *. وقوله تعالى في سورة النحل: * (وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله) *. وقوله في فاطر: * (وترى
73

الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله) *. والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وقرأ هذا الحرف نافع وأبو عمرو (الجواري) بياء ساكنة بعد الراء في الوصل فقط، دون الوقف وقرأه ابن كثير بالياء المذكور في الوصل والوقف معا، وقرأه الباقون الجوار بحذف الياء في الوصل والوقف معا. قوله تعالى: * (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش) *. قرأ هذا الحرف الحمزة والكسائي (كبير الإثم)، بكسر الباء بعدها ياء ساكنة وراء على صيغة الإفراد.
وقرأه الباقون بفتح الباء بعدها ألف فهمزة مكسورة قبل الراء على صيغة الجمع.
وقوله * (والذين) *: في محل جر عطفا على قوله: * (وما عند الله خير وأبقى للذين ءامنوا وعلى ربهم يتوكلون) * أي وخير وأبقى أيضا للذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش.
والفواحش جمع فاحشة. والتحقيق إن شاء الله أن الفواحش من جملة الكبائر.
والأظهر أنها من أشنعها، لأن الفاحشة في اللغة: وهي الخصلة المتناهية في القبح، وكل متشدد في شيء مبالغ فيه فهو فاحش فيه.
ومنه قول طرفة بن العبد في معلقته: ومنه قول طرفة بن العبد في معلقته:
* أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي
* عقيلة مال الفاحش المتشدد
*
فقوله: الفاحش أي المبالغ في البخل المتناهي فيه.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من وعده تعالى الصادق للذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش بما عنده لهم من الثواب الذي هو خير وأبقى، جاء موضحا في غير هذا الموضع، فبين تعالى في سورة النساء أن من ذلك تكفيره تعالى عنهم سيئاتهم، وإدخالهم المدخل الكريم وهو الجنة في قوله تعالى * (إن تجتنبوا كبآئر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) *، وبين في سورة النجم أنهم باجتنابهم كبائر الإثم والفواحش، يصدق عليهم اسم المحسنين ووعدهم على ذلك بالحسنى.
74

والأظهر أنها الجنة، ويدل له حديث (الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم) في تفسير قوله تعالى: * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) * كما قدمناه.
وآية النجم المذكورة هي قوله تعالى * (ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى) * ثم بين المراد بالذين أحسنوا في قوله * (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة) *.
وأظهر الأقوال في قوله: إلا اللمم، أن المراد باللمم صغائر الذنوب، ومن أوضح الآيات القرآنية في ذلك قوله تعالى: * (إن تجتنبوا كبآئر ما تنهون عنه) *. فدلت على أن اجتناب الكبائر سبب لغفران الصغائر، وخير ما يفسر به القرآن، القرآن.
ويدل لهذا حديث ابن عباس الثابت في الصحيح: قال ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العين النظر وزنا اللسان المنطق والنفس تمني وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه).
وعلى هذا القول فالاستثناء في قوله إلا اللمم منقطع، لأن اللمم الذي هو الصغائر على هذا القول لا يدخل في الكبائر والفواحش، وقد قدمنا تحقيق المقام في الاستثناء المنقطع. في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى * (لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما) *.
وقالت جماعة من أهل العلم: الاستثناء متصل فالواو وعليه، فمعنى إلا اللمم: إلا أن يلم بفاحشة مرة ثم يجتنبها ولا يعود لها بعد ذلك.
واستدلوا لذلك بقول الراجز: واستدلوا لذلك بقول الراجز:
* إن تغفر اللهم تغفر جما
* وأي عبد لك ما ألما
*
وروى هذا البيت ابن جرير والترمذي وغيرهما مرفوعا. وفي صحته مرفوعا نظر.
75

وقال بعض العلماء. المراد باللمم ما سلف منهم من الكفر والمعاصي، قبل الدخول في الإسلام ولا يخفى بعده.
وأظهر الأقوال هو ما قدمنا لدلالة آية النساء المذكورة عليه، وحديث ابن عباس المتفق عليه.
واعلم أن كبائر الإثم ليست محدودة في عدد معين، وقد جاء تعيين بعضها كالسبع الموبقات أي المهكات لعظمها، وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة (أنها الإشراك بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) وقد جاءت روايات كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تعيين بعض الكبائر (كعقوق الوالدين واستحلال حرمة بيت الله الحرام والرجوع إلى البادية بعد الهجرة وشرب الخمر واليمين الغموس والسرقة ومنع فضل الماء ومنع فضل الكلأ وشهادة الزور).
وفي بعض الروايات الثابتة في الصحيح عن ابن مسعود (أن أكبر الكبائر الإشراك بالله الذي خلق الخلق ثم قتل الرجل ولده خشية أن يطعم معه، ثم زناه بحليلة جاره). وفي بعضها أيضا (أن من الكبائر تسبب الرجل في سبب والديه)، وفي بعضها أيضا (أن سباب المسلم فسوق وقتاله كفرا) وذلك يدل على أنهما من الكبائر.
وفي بعض الروايات (أن من كبائر الوقوع في عرض المسلم، والسبتين بالسبة).
وفي بعض الروايات (أن منها جمع الصلاتين من غير عذر).
وفي بعضها (أن منها اليأس من روح الله، والأمن من مكر الله) ويدل عليهما قوله تعالى: * (إنه لا يايأس من روح الله إلا القوم الكافرون) *. وقوله * (فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) *.
وفي بعضها (أن منها سوء الظن بالله) ويدل له قوله تعالى * (ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظآنين بالله ظن السوء عليهم دآئرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وسآءت مصيرا) *.
وفي بعضها (أن منها الإضرار في الوصية).
76

وفي بعضها أن منها الغلول، ويدل له قوله تعالى: * (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) *. وقدمنا معنى الغلول في سورة الأنفال، وذكرنا حكم الغال.
وفي بعضها (أن من أهل الكبائر الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا). ويدل له قوله تعالى: * (أولائك لا خلاق لهم فى الا خرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) * ولم نذكر أسانيد هذه الروايات ونصوص متونها خوف الإطالة، وأسانيد بعضها لا تخلو من نظر لكنها لا يكاد يخلو شيء منها عن بعض الشواهد الصحيحة، من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن أهل العلم اختلفوا في حد الكبيرة.
فقال بعضهم: هي كل ذنب استوجب حدا من حدود الله.
وقال بعضهم: هي كل ذنب جاء الوعيد عليه بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب.
واختار بعض المتأخرين حد الكبيرة بأنها هي كل ذنب دل على عدم اكتراث صاحبه بالدين.
وعن ابن عباس: أن الكبائر أقرب إلى السبعين منها إلى السبع. وعنه أيضا أنها أقرب إلى سبعمائة منها إلى سبع.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: التحقيق أنها لا تنحصر في سبع، وأن ما دل عليه من الأحاديث على أنها سبع لا يقتضى انحصارها في ذلك العدد، لأنه إنما دل على نفي غير السبع بالمفهوم، وهو مفهوم لقب، والحق عدم اعتباره.
ولو قلنا إنه مفهوم عدد لكان غير معتبر أيضا، لأن زيادة الكبائر على السبع مدلول عليها بالمنطوق.
وقد جاء منها في الصحيح عدد أكثر من سبع، والمنطوق مقدم على المفهوم، مع أن مفهوم العدد ليس من أقوى المفاهيم.
والأظهر عندي في ضابط الكبيرة أنها كل ذنب اقترن بما يدل على أنه أعظم من مطلق المعصية سواء كان ذلك الوعيد عليه بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، أو كان وجوب الحد فيه، أو غير ذلك مما يدل على تغليظ التحريم وتوكيده.
77

مع أن بعض أهل العلم قال: إن كل ذنب كبيرة. وقوله تعالى: * (إن تجتنبوا كبآئر ما تنهون عنه) *. وقوله: * (إلا اللمم) * يدل على عدم المساواة، وأن بعض المعاصي كبائر. وبعضها صغائر، والمعروف عند أهل العلم: أنه لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (وجزآء سيئة سيئة مثلها) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في آخر سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) *. وفي سورة الزمر في الكلام على قوله تعالى: * (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) *. قوله تعالى: * (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولائك ما عليهم من سبيل) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في الكلام على آية النحل وآية الزمر المذكورتين آنفا. قوله تعالى: * (وترى الظالمين لما رأوا العذاب) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى * (فهل لنا من شفعآء فيشفعوا لنآ أو نرد فنعمل غير الذى كنا نعمل) *. قوله تعالى: * (وكذلك أوحينآ إليك روحا من
أمرنا) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: * (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشآء من عباده) *. قوله تعالى: * (ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولاكن جعلناه نورا نهدى به من نشآء من عبادنا) *. قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان) *. يبين الله جل وعلا فيه منته على هذا النبي الكريم، بأنه علمه هذا القرآن العظيم ولم يكن يعلمه قبل ذلك، وعلمه تفاصيل دين الإسلام ولم يكن يعلمها قبل ذلك.
78

فقوله: ما كنت تدري ما الكتاب: أي ما كنت تعلم ما هو هذا الكتاب الذي هو القرآن العظيم، حتى علمتكه، وما كنت تدري ما الإيمان الذي هو تفاصيل هذا الدين الإسلامي، حتى علمتكه.
ومعلوم أن الحق الذي لا شك فيه الذي هو مذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان شامل للقول والعمل مع الاعتقاد.
وذلك ثابت في أحاديث صحيحة كثيرة، منها: حديث وفد عبد القيس المشهور، ومنها حديث: (من قام رمضان إيمانا واحتسابا) الحديث، فسمى فيه قيام رمضان إيمانا، وحديث (الإيمان بضع وسبعون شعبة)، وفي بعض رواياته (بضع وستون شعبة أعلاها شهادة ألا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق).
والأحاديث بمثل ذلك كثيرة ويكفي في ذلك ما أورده البيهقي في شعب الإيمان فهو صلوات الله وسلامه عليه ما كان يعرف تفاصيل الصلوات المكتوبة وأوقاتها ولا صوم رمضان، وما يجوز فيه وما لا يجوز ولم يكن يعرف تفاصيل الزكاة ولا ما تجب فيه ولا قدر النصاب وقدر الواجب فيه ولا تفاصيل الحج ونحو ذلك، وهذا هو المراد بقوله تعالى: * (ولا الإيمان) *.
وما ذكره هنا من أنه لم يكن يعلم هذه الأمور حتى علمه إياها بأن أوحى إليه هذا النور العظيم الذي هو كتاب الله، جاء في غير هذا الموضع كقوله تعالى: * (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم) *. وقوله جل وعلا * (نحن نقص عليك أحسن القصص بمآ أوحينآ إليك هاذا القرءان وإن كنت من قبله لمن الغافلين) *.
فقوله في آية يوسف هذه: * (وإن كنت من قبله لمن الغافلين) * كقوله هنا * (ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان) * وقوله تعالى: * (ووجدك ضآلا فهدى) * على أصح التفسيرات كما قدمناه في سورة الشعراء في الكلام على قوله تعالى: * (قال فعلتهآ إذا وأنا من الضآلين) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ولاكن جعلناه نورا نهدى به من نشآء) *، الضمير في قوله: جعلناه راجع إلى القرآن العظيم المذكور في قوله: * (روحا من أمرنا) *
79

وقوله: * (ما كنت تدرى ما الكتاب) * أي ولكن جعلنا هذا القرآن العظيم نورا نهدي به من نشاء هدايته من عبادنا.
وسمي القرآن نورا، لأنه يضيء الحق ويزيل ظلمات الجهل والشك والشرك.
وما ذكره هنا من أن هذا القرآن نور، جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى: * (ياأيها الناس قد جآءكم برهان من ربكم وأنزلنآ إليكم نورا مبينا) *.
وقوله تعالى * (واتبعوا النور الذى أنزل معه) * وقوله تعالى: * (قد جآءكم من الله نور وكتاب مبين يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) * وقوله تعالى: * (فأامنوا بالله ورسوله والنور الذى أنزلنا) *.
وما دلت عليه هذه الآيات الكريمة من كون هذا القرآن نورا يدل على أنه هو الذي يكشف ظلمات الجهل، ويظهر في ضوئه الحق، ويتميز عن الباطل ويميز به بين الهدى والضلال والحسن والقبيح.
فيجب على كل مسلم أن يستضيء بنوره، فيعتقد عقائده، ويحل حلاله، ويحرم حرامه ويمتثل أوامره ويجتنب ما نهى عنه ويعتبر بقصصه وأمثاله.
والسنة كلها داخلة في العمل به، لقوله تعالى: * (ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) *. قوله تعالى: * (وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم) *. الصراط المستقيم، قد بينه تعالى في قوله: * (اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين) *.
وقوله في هذه الآية الكريمة * (وإنك لتهدى) *، قد بينا الآيات الموضحة له في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى: * (وأما ثمود فهديناهم) *، وبينا هناك وجه الجمع بين قوله تعالى: * (وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم) * مع قوله * (إنك لا تهدى من أحببت) *.
80

والصراط في لغة العرب: الطريق الواضح، والمستقيم. الذي لا اعوجاج فيه، ومنه قول جرير: والصراط في لغة العرب: الطريق الواضح، والمستقيم. الذي لا اعوجاج فيه، ومنه قول جرير:
* أمير المؤمنين على صراط
* إذا اعوج الموارد مستقيم
* ألا إلى الله تصير الا مور) *. ما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الأمور كلها تصير إلى الله، أي ترجع إليه وحده لا إلى غيره. جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى: * (ولله غيب السماوات والا رض وإليه يرجع الا مر كله) * وقوله تعالى: * (ولله ما فى السماوات وما فى الا رض وإلى الله ترجع الا مور كنتم خير أمة أخرجت للناس) * إلى غير ذلك من الآيات.
81

((سورة الزخرف))
* (حم * والكتاب المبين * إنا جعلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون * وإنه فى أم الكتاب لدينا لعلى حكيم * أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين * وكم أرسلنا من نبي فى الا ولين * وما يأتيهم من نبى إلا كانوا به يستهزءون * فأهلكنآ أشد منهم بطشا ومضى مثل الا ولين * ولئن سألتهم من خلق السماوات والا رض ليقولن خلقهن العزيز العليم * الذى جعل لكم الا رض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون * والذى نزل من السمآء مآء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون * والذى خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والا نعام ما تركبون * لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذى سخر لنا هاذا وما كنا له مقرنين * وإنآ إلى ربنا لمنقلبون) * قوله تعالى: * (حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرءانا عربيا) *. قد قدمنا الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور في أول سورة هود.
وقوله تعالى * (إنا جعلناه قرءانا عربيا) * قد قدمنا الكلام عليه في سورة الشعراء في الكلام على قوله تعالى: * (لتكون من المنذرين بلسان عربى مبين) * وفي سورة الزمر في الكلام على قوله تعالى: * (قرءانا عربيا غير ذى عوج) *. قوله تعالى: * (فأهلكنآ أشد منهم بطشا ومضى مثل الا ولين) *. الضمير في قوله منهم عائد إلى القوم المسرفين، المخاطبين بقوله: * (أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين) *، وفيه ما يسميه علماء البلاغة بالالتفات من الخطاب إلى الغيبة.
وقوله * (أشد منهم) * مفعول به لأهلكنا، وأصله نعت لمحذوف، والتقدير: فأهلكنا قوما أشد منهم بطشا، على حد قوله في الخلاصة: أشد منهم) * مفعول به لأهلكنا، وأصله نعت لمحذوف، والتقدير: فأهلكنا قوما أشد منهم بطشا، على حد قوله في الخلاصة:
* وما من المنعوت والنعت عقل
* يجوز حذفه وفي النعت يقل
*
وقوله بطشا: تمييز محول من الفاعل على حد قوله في الخلاصة: وقوله بطشا: تمييز محول من الفاعل على حد قوله في الخلاصة:
* والفاعل المعنى انصبن بأفعلا
* مفضلا كأنت أعلا منزلا
*
والبطش: أصله الأخذ بعنف وشدة.
والمعنى: فأهلكنا قوما أشد بطشا من كفار مكة الذين كذبوا نبينا بسبب تكذيبهم رسلهم فليحذر الكفار الذين كذبوك أن نهلكهم بسبب ذلك كما أهلكنا الذين كانوا أشد منهم بطشا، أي أكثر منهم عددا وعددا وجلدا.
82

فعلى الأضعف الأقل أن يتعظ بإهلاك الأقوى الأكثر.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (ومضى مثل الا ولين) * أي صفتهم التي هي إهلاكهم المستأصل، بسبب تكذيبهم الرسل.
وقوله من قال: * (مثل الا ولين) * أي عقوبتهم وسنتهم راجع في المعنى إلى ذلك.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تهديد الكفار الذين كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم، بأن الله أهلك من هم أقوى منهم، ليحذروا أن يفعل بهم مثل ما فعل بأولئك، جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى: * (أولم يسيروا فى الا رض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الا رض وعمروهآ أكثر مما عمروها) *. وقوله تعالى: * (أفلم يسيروا فى الا رض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وءاثارا فى الا رض) *. وقوله تعالى: * (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم فى الا رض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السمآء عليهم مدرارا) * إلى قوله * (فأهلكناهم بذنوبهم) *. وقوله تعالى: * (وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار مآ ءاتيناهم فكذبوا رسلى فكيف كان نكير) *. وقوله تعالى: * (أولم يسيروا فى الا رض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شىء فى السماوات ولا فى الا رض إنه كان عليما قديرا) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (ومضى مثل الا ولين) * ما تضمنته هذه الآية الكريمة من تهديد كفار مكة الذين كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم، بصفته إهلاكهم وسنته فيهم التي هي العقوبة وعذاب الاستئصال، جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى: * (فلما جآءهم نذير ما زادهم إلا نفورا استكبارا فى الا رض ومكر السيىء ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة آلا ولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا) * وقوله تعالى: * (فلما جآءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون فلما رأوا بأسنا قالوا ءامنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التى قد خلت فى عباده وخسر هنالك الكافرون) * وقوله تعالى: * (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الا ولين) *. وقوله تعالى: * (فلمآ
83

ءاسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا ومثلا للا خرين) *.
وقد قدمنا بعض الآيات الدالة على هذا في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى: * (من أجل ذالك كتبنا على بنى إسراءيل) *. قوله تعالى: * (ولئن سألتهم من
خلق السماوات والا رض ليقولن خلقهن العزيز العليم) *. وقد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة بني إسرائيل، في الكلام على وقوله تعالى: * (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) *. قوله تعالى: * (الذى جعل لكم الا رض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون) *. قرأ هذا الحرف، عاصم وحمزة والكسائي * (مهادا) * بفتح الميم وسكون الهاء وقرأه باقي السبعة * (مهادا) * بكسر الميم وفتح الهاء بعدها ألف ومعناهما واحد وهو الفراش.
وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه جعل الأرض لبني آدم مهدا أي فراشا وأنه جعل لهم فيها سبلا أي طرقا ليمشوا فيها ويسلكوها، فيصلوا بها من قطر إلى قطر. وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة، من كونه تعالى جعل الأرض فراشا لبني آدم وجعل لهم فيها الطرق، لينفذوا من قطر إلى قطر، جاء موضحا في غير هذا الموضع، كقوله تعالى: * (والله جعل لكم الا رض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا) *، وكقوله تعالى: * (وجعلنا فى الا رض رواسى أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون) *.
وذكر كون الأرض فراشا لبني آدم في آيات كثيرة كقوله تعالى: * (والا رض فرشناها فنعم الماهدون) * وقوله تعالى: * (الذى جعل لكم الا رض فراشا والسمآء بنآء وأنزل من السمآء مآء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) *. وقوله تعالى: * (الله الذى جعل لكم الا رض قرارا والسمآء بنآء) *.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى:
84

* (وألقى فى الا رض رواسى أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون) *. قوله تعالى: * (والذى نزل من السمآء مآء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون) *. ما تضمنته هذه الآية الكريمة من دلالة إحياء الأرض بعد موتها على خروج الناس من قبورهم أحياء بعد الموت، في قوله تعالى: * (كذلك تخرجون) * جاء موضحا في آيات كثيرة قد قدمناها في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى: * (وأنزل من السمآء مآء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) * مع بقية براهين البعث في القرآن. وأوضحنا ذلك أيضا في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: * (هو الذى أنزل من السماء مآء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون) *، وفي غير ذلك من المواضع، وأحلنا على ذلك مرارا كثيرة في هذا الكتاب المبارك.
وقد قدمنا في سورة الفرقان معنى الإنشاء والنشور وما في ذلك من اللغات مع الشواهد العربية.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (بقدر) *.
قال بعض العلماء: أي بقدر سابق وقضاء.
وقال بعض العلماء: أي بمقدار يكون به إصلاح البشر فلم يكثر الماء جدا فيكون طوفانا فيهلكهم، ولم يجعله قليلا دون قدر الكفاية، بل نزله بقدر الكفاية من غير مضرة، كما قال تعالى: * (وأنزلنا من السمآء مآء بقدر فأسكناه فى الا رض وإنا على ذهاب به لقادرون) *. وقال تعالى: * (وإن من شىء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) * إلى قوله * (ومآ أنتم له بخازنين) *. قوله تعالى: * (والذى خلق الأزواج كلها) *. الأزواج الأصناف، والزوج تطلقه العرب على الصنف.
وقد بين تعالى أن الأزواج المذكورة هنا تشمل أصناف النبات وبني آدم وما لا يعلمه إلا الله.
قال تعالى: * (سبحان الذى خلق الا زواج كلها مما تنبت الا رض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون) *.
85

وقال تعالى: * (وأنزل من السمآء مآء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى) * وقال تعالى: * (فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج) * أي من كل صنف حسن من أصناف النبات.
وقال تعالى: * (وأنزلنا من السمآء مآء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم) *. ومن إطلاق الأزواج على الأصناف في القرآن قوله تعالى: * (وءاخر من شكله أزواج) *. وقوله تعالى: * (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم) *.
وقد قدمنا طرفا من ذلك في سورة الصافات في الكلام على قوله تعالى * (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم) *. قوله تعالى: * (وجعل لكم من الفلك والا نعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة المؤمن، في الكلام على قوله تعالى * (الله الذى جعل لكم الا نعام لتركبوا منها) *. وضمير المفرد المذكر الغائب في قوله: * (لتستووا على ظهوره) *، وقوله: * (إذا استويتم عليه) * راجع إلى لفظ ما في قوله: * (وجعل لكم من الفلك والا نعام ما تركبون) *. قوله تعالى: * (وتقولوا سبحان الذى سخر لنا هاذا وما كنا له مقرنين) *. يعني جل وعلا أنه جعل لبني آدم ما يركبونه من الفلك التي هي السفن، ومن الأنعام ليستووا أي يرتفعوا معتدلين على ظهوره ثم يذكروا في قلوبهم نعمة ربهم عليهم بتلك المركوبات ثم يقولوا بألسنتهم مع تفهم معنى ما يقولون * (سبحان الذى سخر لنا هاذا وما كنا له مقرنين) *.
وقوله: (سبحان) قد قدمنا في أول سورة بني إسرائيل معناه، بإيضاح وأنه يدل على تنزيه الله جل وعلا أكمل التنزيه وأتمه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله والإشارة في قوله * (هاذا) * راجعة إلى لفظ * (ما) * من قوله: * (ما تركبون) * وجمع الظهور نظرا إلى معنى * (ما) *، لأن معناها عام شامل لكل ما تشمله صلتها ولفظها مفرد، فالجمع في الآية باعتبار معناها، والإفراد باعتبار لفظها.
86

وقوله: * (الذى سخر لنا هاذا) * أي الذي ذلل لنا هذا الذي هو ما نركبه من الأنعام والسفن لأن الأنعام لو لم يذللها الله لهم لما قدروا عليها ولا يخفى أن الجمل أقوى من الرجل، وكذلك البحر لو لم يذلله لهم ويسخر لهم إجراء السفن فيه لما قدروا على شيء من ذلك.
وقوله تعالى: * (وما كنا له مقرنين) * أي مطيقين. والعرب تقول: أقرن الرجل للأمر وأقرنه إذا كان مطيقا له كفؤا للقيام به من قولهم: أقرنت الدابة للدابة، بمعنى
أنك إذا قرنتهما في حبل قدرت على مقاومتها، ولم تكن أضعف منها، فتجرها لأن الضعيف إذا لز في القرن أي الحبل، مع القوي جره ولم يقدر على مقاومته، كما قال جرير: وما كنا له مقرنين) * أي مطيقين. والعرب تقول: أقرن الرجل للأمر وأقرنه إذا كان مطيقا له كفؤا للقيام به من قولهم: أقرنت الدابة للدابة، بمعنى أنك إذا قرنتهما في حبل قدرت على مقاومتها، ولم تكن أضعف منها، فتجرها لأن الضعيف إذا لز في القرن أي الحبل، مع القوي جره ولم يقدر على مقاومته، كما قال جرير:
* وابن اللبون إذا ما لز في قرن
* لم يستطع صولة البزل القناعيس
*
وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه قول عمرو بن معد يكرب وقد أنشده قطرب لهذا المعنى: وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه قول عمرو بن معد يكرب وقد أنشده قطرب لهذا المعنى:
* لقد علم القبائل ما عقيل
* لنا في النائبات بمقرنينا
*
وقول ابن هرمة: وقول ابن هرمة:
* وأقرنت ما حملتني ولقلما
* يطاق احتمال الصدياد عدو الهجر
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* ركبتم صعبتي أشرا وحيفا
* ولستم للصعاب بمقرنينا
*
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن ما ذكر من السفن والأنعام لو لم يذلله الله لهم لما أقرنوا له ولما أطاقوه جاء مبينا في آيات أخر. قال تعالى في ركوب الفلك: * (وءاية لهم أنا حملنا ذريتهم فى الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) *. وقال تعالى: * (وهو الذى سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا) *. وقال تعالى: * (الله الذى سخر لكم البحر لتجرى الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله) *. وقال تعالى: * (وسخر لكم الفلك لتجرى فى البحر بأمره وسخر لكم الأنهار) *.
87

وقال تعالى: * (إن في خلق السماوات والا رض واختلاف الليل والنهار والفلك التى تجرى فى البحر بما ينفع الناس) *. وقال تعالى: * (ألم تر أن الله سخر لكم ما فى الا رض والفلك تجرى فى البحر بأمره ويمسك السمآء أن تقع على الا رض إلا بإذنه) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقال تعالى في تسخير الأنعام: * (وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون) * وقال تعالى: * (فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذالك سخرناها لكم لعلكم تشكرون لن ينال الله لحومها ولا دمآؤها ولاكن يناله التقوى منكم كذالك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين) * إلى غير ذلك من الآيات.
* (وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين * أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين * وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمان مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم * أومن ينشأ فى الحلية وهو فى الخصام غير مبين * وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون * وقالوا لو شآء الرحمان ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون) * قوله تعالى: * (وجعلوا له من عباده جزءا) *. قال بعض العلماء * (جزءا) * أي عدلا ونظيرا، يعني الأصنام وغيرها من المعبودات من دون الله.
وقال بعض العلماء: * (جزءا) * أي ولدا.
وقال بعض العلماء: * (جزءا) * يعني البنات.
وذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية: أن الجزء النصيب، واستشهد على ذلك بآية الأنعام. أعني قوله تعالى: * (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والا نعام نصيبا فقالوا هاذا لله بزعمهم وهاذا لشركآئنا) *.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر أن قول ابن كثير هذا رحمه الله غير صواب في الآية.
لأن المجعول لله في آية الأنعام، هو النصيب مما ذرأ من الحرث والأنعام، والمجعول له في آية الزخرف هذه، جزء من عباده لا مما ذرأ من الحرث والأنعام.
وبين الأمرين فرق واضح كما ترى.
وأن قول قتادة ومن وافقه: إن المراد بالجزء العدل والنظير الذي هو الشريك غير صواب أيضا.
لأن إطلاق الجزء على النظير ليس بمعروف في كلام العرب.
أما كون المراد بالجزاء في الآية الولد، وكون المراد بالولد خصوص الإناث، فهذا هو التحقيق في الآية.
88

وإطلاق الجزء على الولد يوجه بأمرين:
أحدهما: ما ذكره بعض علماء العربية من أن العرب تطلق الجزء مرادا به البنات، ويقولون: أجزأت المرأة إذا ولدت البنات، وامرأة مجزئة أي تلد البنات، قالوا ومنه قول الشاعر: أحدهما: ما ذكره بعض علماء العربية من أن العرب تطلق الجزء مرادا به البنات، ويقولون: أجزأت المرأة إذا ولدت البنات، وامرأة مجزئة أي تلد البنات، قالوا ومنه قول الشاعر:
* إن أجزأت حرة يوما فلا عجب
* قد تجزىء الحرة المذكار أحيانا
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* زوجتها من بنات الأوس مجزئة
* للعوسج اللدن في أبياتها زجل
*
وأنكر الزمخشري هذه اللغة قائلا إنها كذب وافتراء على العرب.
قال في الكشاف في الكلام على هذه الآية الكريمة: ومن بدع التفاسير، تفسير الجزء بالإناث وادعاء أن الجزء في لغة العرب اسم للإناث، وما هو إلا كذب على العرب ووضع مستحدث منحول ولم يقنعهم ذلك حتى اشتقوا منه أجزأت المرأة ثم صنعوا بيتا وبيتا: * إن أجزأت حرة يوما فلا عجب
زوجتها من بنات الأوس مجزئة ا ه. منه بلفظه.
وقال ابن منظور في اللسان: وفي التنزيل العزيز: * (وجعلوا له من عباده جزءا) *. قال أبو إسحاق يعني به الذين جعلوا الملائكة بنات الله تعالى وتقدس عما افتروا، قال: وقد أنشدت بيتا يدل على أن معنى جزءا معنى الإناث قال: ولا أدري البيت هو قديم أو مصنوع؟ * إن أجزأت حرة يوما فلا عجب * البيت
والمعنى في قوله: * (وجعلوا له من عباده جزءا) * أي جعلوا نصيب الله من الولد
89

الإناث، قال ولم أجده في شعر قديم ولا رواه عن العرب الثقات، وأجزأت المرأة ولدت الإناث، وأنشد أبو حنيفة: * زوجتها من بنات الأوس مجزئة * البيت
انتهى الغرض من كلام صاحب اللسان.
وظاهر كلامه هذا الذي نقله عن الزجاج أن قولهم: أجزأت المرأة إذا ولدت الإناث معروف، ولذا ذكره وذكر البيت الذي أنشده له أبو حنيفة كالمسلم له.
والوجه الثاني: وهو التحقيق إن شاء الله أن المراد بالجزء في الآية الولد، وأنه أطلق عليه اسم الجزء، لأن الفرع كأنه جزء من أصله والولد كأنه بضعة من الوالد كما لا يخفى.
وأما كون المراد بالولد المعبر عنه بالجزء في الآية خصوص الإناث فقرينة السياق دالة عليه دلالة واضحة، لأن جعل الجزء المذكور لله من عباده هو بعينه الذي أنكره الله إنكارا شديدا وقرع مرتكبه تقريعا شديدا في قوله تعالى بعده * (أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمان مثلا ظل وجهه مسودا) * إلى قوله: * (وهو فى الخصام غير مبين) *.
وقرأ هذا الحرف شعبة عن عاصم * (جزءا) * بضم الزاي وباقي السبعة بإسكانها وحمزة عند الوقف يسقط الهمزة، بنقل حركتها إلى الزاي مع حذف التنوين للوقف. قوله تعالى: * (أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين) *. أم هنا بمعنى استفهام الإنكار، فالكفار لما قالوا: الملائكة بنات الله أنكر الله عليهم أشد الإنكار، موبخا لهم أشد التوبيخ، حيث افتروا عليه الولد، ثم جعلوا له أنقص الولدين وأحقرهما وهو الأنثى كما قال هنا: * (أم اتخذ مما يخلق بنات) * وهي النصيب الأدنى من الأولاد، وأصفاكم أنتم، أي خصكم وآثركم بالبنين الذين هم النصيب الأعلى من الأولاد.
وإنكار هذا عليهم وتوبيخهم عليه جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله هنا * (وإذا
90

بشر أحدهم بما ضرب للرحمان مثلا) * يعني الأنثى، كما أوضحه بقوله: * (وإذا بشر أحدهم بالا نثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم) * يعني فكيف تجعلون لله الإناث وأنتم لو بشر الواحد منكم بأن امرأته ولدت أنثى لظل وجهه مسودا يعني من الكآبة وهو كظيم أي ممتلئ حزنا وغما، وكقوله تعالى هنا * (أومن ينشأ فى الحلية وهو فى الخصام غير مبين) * ففيه إنكار شديد وتقريع عظيم لهم بأنهم مع افترائهم عليه جل وعلا الولد جعلوا له أنقص الولدين الذي لنقصه الخلقي، ينشأ في الحلية من الحلي والحلل وأنواع الزينة، من صغره إلى كبره ليجبر بتلك الزينة نقصه الخلقي الطبيعي، وهو في الخصام غير مبين، لأن الأنثى غالبا لا تقدر على القيام بحجتها ولا الدفاع عن نفسها.
وقد أوضحنا هذا المعنى بشواهده العربية غاية الإيضاح في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: * (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) * وكقوله تعالى:
* (ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون) *. وقوله تعالى: * (ويجعلون لله ما يكرهون) *. وقوله تعالى: * (أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما) * وقوله تعالى * (ألكم الذكر وله الا نثى تلك إذا قسمة ضيزى) *. وقوله تعالى: * (فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون ألا إنهم من إفكهم ولد الله وإنهم لكاذبون أصطفى البنات على البنين مالكم كيف تحكمون أفلا تذكرون أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين) *.
وقد قدمنا كثيرا من الآيات الموضحة لهذا المعنى في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: * (ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون) * ووجه التعبير عن الأنثى بما ضرب مثلا الله في قوله: * (وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمان مثلا) * ظاهر، لأن البنات المزعومة يلزم ادعاءها أن تكون من جنس من نسبت إليه، لأن الوالد والولد من جنس واحد، وكلاهما يشبه الآخر في صفاته. قوله تعالى: * (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون) *.
91

قرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وابن عامر * (عند الرحمان) * بسكون النون وفتح الدال ظرف كقوله تعالى: * (إن الذين عند ربك لا يستكبرون) *، وقرأه أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي * (الذين هم عباد الرحمان) * بكسر العين وباء موحدة بعدها ألف وضم الدال جمع عبد كقوله: * (وعباد الرحمان) * الآية.
وقوله * (أشهدوا خلقهم) *. قرأه عامة السبعة غير نافع أشهدوا بهمزة واحدة مع فتح الشين، وقرأه نافع أأشهد. بهمزتين الأولى مفتوحة محققة، والثانية مضمومة مسهلة بين بين وقالوا يجعل بين الهمزتين ألف الإدخال على إحدى الروايتين.
وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أربع مسائل:
الأولى: أن الكفار افتروا على الملائكة أنهم إناث زاعمين أنهم بنات الله.
الثانية: أنه وبخهم على ذلك توبيخا شديدا وأنكر عليهم ذلك في قوله: * (أشهدوا خلقهم) * يعني هل حضروا خلق الله لهم فعاينوهم إناثا.
الثالثة: أن شهادتهم الكاذبة بذلك ستكتب عليهم.
الرابعة: أنهم يسألون عنها يوم القيامة.
وهذه المسائل الأربع التي تضمنتها هذه الآية الكريمة، جاءت موضحة في غير هذا الموضع.
أما الأولى منها. وهي كونهم اعتقدوا الملائكة إناثا، فقد ذكرها تعالى في مواضع من كتابه كقوله تعالى * (أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما) *. وكقوله تعالى: * (إن الذين لا يؤمنون بالا خرة ليسمون الملائكة تسمية الا نثى) *، وقوله تعالى * (فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثا) *. إلى غير ذلك من الآيات.
وأما المسألة الثانية، وهي سؤاله تعالى لهم على وجه الإنكار والتوبيخ والتقريع
92

هل شهدوا خلق الملائكة وحضروه، حتى علموا أنهم خلقوا إناثا فقد ذكرها في قوله تعالى: * (أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون) * وبين تعالى أنه لم يشهد الكفار خلق شيء في قوله: * (مآ أشهدتهم خلق السماوات والا رض ولا خلق أنفسهم) *.
وأما المسألة الثالثة التي هي كون شهادتهم بذلك الكفر ستكتب عليهم، فقد ذكرها تعالى في مواضع من كتابه كقوله تعالى: * (وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون) *، وقوله تعالى: * (هاذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إن كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) *، وقوله تعالى: * (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون) *، وقوله تعالى: * (إن رسلنا يكتبون ما تمكرون) * وقوله تعالى: * (وكل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك) *. وقوله تعالى: * (سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا) *.
وأما المسألة الرابعة: وهي كونهم يسألون عن ذلك الافتراء والكفر، فقد ذكرها تعالى في آيات من كتابه كقوله تعالى: * (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون) * وقوله تعالى: * (فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون) *، وقوله تعالى: * (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون) * وقوله تعالى: * (ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (وقالوا لو شآء الرحمان ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون) *. في هذه الآية الكريمة إشكال معروف، ووجهه أن قول الكفار الذي ذكره الله عنهم هنا، أعني قوله تعالى * (وقالوا لو شآء الرحمان ما عبدناهم) *، هو بالنظر إلى ظاهره كلام صحيح، لأن الله لو شاء أن يعبدوهم ما عبدوهم، كما قال تعالى * (ولو شآء الله مآ أشركوا) *، وقال تعالى: * (ولو شآء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين) *، وقال تعالى: * (ولو شئنا لاتينا كل نفس هداها) *.
93

وقال تعالى: * (فلو شآء لهداكم أجمعين) *، وقال تعالى: * (ولو شآء ربك لآمن من فى الا رض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) *.
وهذا الإشكال المذكور في آية الزخرف هو بعينه واقع في آية الأنعام، وآية النحل.
أما آية الأنعام فهي قوله: * (سيقول الذين أشركوا لو شآء الله مآ أشركنا ولا ىابآؤنا ولا حرمنا من شىء) *.
وأما آية النحل، فهي قوله: * (وقال الذين أشركوا لو شآء الله ما عبدنا من دونه من شىء نحن ولا ءاباؤنا) *.
فإذا عرفت أن ظاهر آية الزخرف وآية الأنعام، وآية النحل: أن ما قاله الكفار حق، وأن الله لو شاء ما عبدوا من دونه من شيء ولا أشركوا به شيئا، كما ذكرنا في
الآيات الموضحة قريبا.
فاعلم أن وجه الإشكال، أن الله صرح بكذبهم في هذه الدعوى التي ظاهرها حق، قال في آية الزخرف: * (ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون) * أي يكذبون، وقال في آية الأنعام * (كذالك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنآ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون) *، وقال في آية النحل * (كذالك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين) *.
ومعلوم أن الذي فعله الذين من قبلهم، هو الكفر بالله والكذب على الله، في جعل الشركاء له وأنه حرم ما لم يحرمه.
والجواب عن هذا أن مراد الكفار بقولهم * (لو شآء الرحمان ما عبدناهم) * وقولهم * (لو شآء الله مآ أشركنا) * مرادهم به أن الله لما كان قادرا على منعهم من الشرك، وهدايتهم إلى الإيمان ولم يمنعهم من الشرك. دل ذلك على أنه راض منهم بالشرك في زعمهم.
94

قالوا لأنه لو لم يكن راضيا به، لصرفنا عنه، فتكذيب الله لهم في الآيات المذكورة فنصب على دعواهم أنه راض به، والله جل وعلا يكذب هذه الدعوى في الآيات المذكورة وفي قوله * (ولا يرضى لعباده الكفر) *.
فالكفار زعموا أن الإرادة الكونية القدرية، تستلزم الرضى وهو زعم باطل، وهو الذي كذبهم الله فيه من الآيات المذكورة.
وقد أشار تعالى إلى هذه الآيات المذكورة، حيث قال في آية الزخرف: * (أم ءاتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون) * أي آتيناهم كتابا يدل على أنا رضوان منهم بذلك الكفر، ثم أضرب عن هذا إضراب إبطال مبينا أن مستندهم في تلك الدعوى الكاذبة هو تقليد آبائهم التقليد الأعمى، وذلك في قوله * (بل قالوا إنا وجدنآ ءابآءنا على أمة) * أي شريعة وملة وهي الكفر وعبادة الأوثان * (وإنا علىءاثارهم مهتدون) *.
فقوله عنهم مهتدون هو مصب التكذيب، لأن الله إنما يرضى بالاهتداء لا بالضلال.
فالاهتداء المزعوم أساسه تقليد الآباء الأعمى، وسيأتي إيضاح رده عليهم قريبا إن شاء الله.
وقال تعالى في آية النحل بعد ذكره دعواهم المذكورة: * (ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة) *.
فأوضح في هذه الآية الكريمة أنه لم يكن راضيا بكفرهم، وأنه بعث في كل أمة رسولا، وأمرهم على لسانه أن يعبدوا الله وحده، ويجتنبوا الطاغوت أي يتباعدوا عن عبادة كل معبود سواه.
وأن الله هدى بعضهم إلى عبادته وحده، وأن بعضهم حقت عليه الضلالة أي ثبت عليه الكفر والشقاء.
وقال تعالى في آية الأنعام * (قل فلله الحجة البالغة فلو شآء لهداكم أجمعين) *.
95

فملكه تعالى وحده للتوفيق والهداية، هو الحجة البالغة على خلقه، يعني فمن هديناه وتفضلنا عليه بالتوفيق، فهو فضل منا ورحمة.
ومن لم نفعل له ذلك فهو عدل منا وحكمة، لأنه لم يكن له ذلك دينا علينا ولا واجبا مستحقا يستحقه علينا، بل إن أعطينا ذلك ففضل، وإن لم نعطه فعدل.
وحاصل هذا: أن الله تبارك وتعالى قدر مقادير الخلق، قبل أن يخلق الخلق، وعلم أن قوما صائرون إلى الشقاء وقوما صائرون إلى السعادة، فريق في الجنة وفريق في السعير.
وأقام الحجة على الجميع، ببعث الرسل وتأييدهم بالمعجزات التي لا تترك في الحق لبسا فقامت عليهم حجة الله في أرضه بذلك.
ثم إنه تعالى وفق من شاء توفيقه، ولم يوفق من سبق لهم في علمه الشقاء الأزلي، وخلق لكل واحد منهم قدرة وإرادة يقدر بها على تحصيل الخير والشر، وصرف قدرهم وإراداتهم بقدرته وإرادته إلى ما سبق لهم في علمه، من أعمال الخير المستوجبة للسعادة وأعمال الشر المستوجبة للشقاء.
فأتوا كل ما أتوا وفعلوا كل ما فعلوا، طائعين مختارين، غير مجبورين، ولا مقهورين * (وما تشآءون إلا أن يشآء الله) *. * (قل فلله الحجة البالغة فلو شآء لهداكم أجمعين) *.
وادعاء أن العبد مجبور لا إرادة له ضروري السقوط عند عامة العقلاء.
ومن أعظم الضرويات الدالة عليه أن كل عاقل يعلم أن بين الحركة الاختيارية والحركة الاضطرارية، كحركة المرتعش فرقا ضروريا، لا ينكره عاقل.
وأنك لو ضربت من يدعي أن الخلق مجبورون، وفقأت عينه مثلا، وقتلت ولده واعتذرت له بالجبر، فقلت له: أنا مجبور ولا إرادة لي في هذا السوء الذي فعلته بك، بل هو فعل الله، وأنا لا دخل فيه فإنه لا يقبل منك هذه الدعوى بلا شك.
بل يبالغ في إرادة الانتقام منك قائلا:
إن هذا بإرادتك ومشيئتك.
96

ومن أعظم الأدلة القطعية الدالة على بطلان مذهب القدرية، وأن العبد لا يستقل بأفعاله دون قدرة الله ومشيئته، أنه لا يمكن أحدا أن ينكر علم الله بكل شيء، قبل وقوعه والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا ينكرها إلا مكابر.
وسبق علم الله بما يقع من العبد قبل وقوعه، برهان قاطع على بطلان تلك الدعوى.
وإيضاح ذلك أنك لو قلت للقدري: إذا كان علم الله في سابق أزله تعلق بأنك تقع منك السرقة أو الزنا في محل كذا في وقت كذا، وأردت أنت بإرادتك المستقلة في زعمك دون إرادة الله ألا تفعل تلك السرقة أو الزنا الذي سبق بعلم الله وقوعه، فهل يمكنك أن تستقل بذلك؟ وتصير علم الله جهلا، بحيث لا يقع ما سبق في علمه وقوعه في وقته المحدد له؟
والجواب بلا شك: هو أن ذلك لا يمكن بحال كما قال تعالى: * (وما تشآءون إلا أن يشآء الله) *، وقال الله تعالى: * (قل فلله الحجة البالغة فلو شآء لهداكم أجمعين) *.
ولا إشكال البتة في أن الله يخلق للعبد قدرة وإرادة يقدر بها على الفعل والترك، ثم يصرف الله بقدرته وإرادته قدرة العبد وإرادته إلى ما سبق به علمه فيأتيه العبد طائعا مختارا غير مقهور ولا يجور، وغير مستقل به دون قدرة الله وإرادته كما قال تعالى: * (وما تشآءون إلا أن يشآء الله) *.
والمناظرة التي ذكرها بعضهم، بين أبي إسحاق الإسفراييني وعبد الجبار المعتزلي توضح هذا.
وهي أن عبد الجبار قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء يعني أن السرقة والزنا ليسا بمشيئة الله، لأنه في زعمه أنزه من أن تكون هذه الرذائل بمشيئته.
فقال أبو إسحاق: كلمة حق أريد بها باطل.
ثم قال: سبحان من لم يقع في ملكه إلا ما يشاء.
فقال عبد الجبار: أتراه يشاؤه ويعاقبني عليه.
فقال أبو إسحاق: أتراك تفعله جبرا عليه، أأنت الرب وهو العبد؟
97

فقال عبد الجبار: أرأيت إن دعاني إلى الهدى، وقضى علي بالرديء، دعاني وسد الباب دوني؟ أتراه أحسن أم أساء؟
فقال أبو إسحاق: أرى أن هذا الذي منعك إن كان حقا واجبا لك عليه فقد ظلمك وقد أساء، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، وإن كان ملكه المحض فإن أعطاك ففضل، وإن منعك فعدل، فبهت عبد الجبار، وقال الحاضرون: والله ما لهذا جواب.
ومضمون جواب أبي إسحاق هذا الذي أفحم به عبد الجبار، هو معنى قوله تعالى: * (قل فلله الحجة البالغة فلو شآء لهداكم أجمعين) *.
وذكر بعضهم أن عمرو بن عبيد جاءه أعرابي فشكا إليه أن دابته سرقت وطلب منه أن يدعو الله ليردها إليه.
فقال عمرو ما معناه: اللهم إنها سرقت ولم ترد سرقتها، لأنك أنزه وأجل من أن تدبر هذا الخنا.
فقال الأعرابي: ناشدتك الله يا هذا، إلا ما كففت عني من دعائك هذا الخبيث، إن كانت سرقت ولم يرد سرقتها فقد يريد ردها ولا ترد، ولا ثقة لي برب، يقع في ملكه ما لا يشاؤه فألقمه حجرا.
وقد ذكرنا هذه المسألة في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في الكلام عن آية الأنعام المذكورة في هذا البحث، وفي سورة الشمس في الكلام عن قوله تعالى: * (فألهمها فجورها وتقواها) *. * (أم ءاتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون * بل قالوا إنا وجدنآ ءابآءنا على أمة وإنا علىءاثارهم مهتدون * وكذلك مآ أرسلنا من قبلك فى قرية من نذير إلا قال مترفوهآ إنا وجدنآ ءابآءنا على أمة وإنا علىءاثارهم مقتدون * قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه ءابآءكم قالوا إنا بمآ أرسلتم به كافرون * فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين * وإذ قال إبراهيم لابيه وقومه إننى برآء مما تعبدون * إلا الذى فطرنى فإنه سيهدين * وجعلها كلمة باقية فى عقبه لعلهم يرجعون * بل متعت هاؤلاء وءابآءهم حتى جآءهم الحق ورسول مبين * ولما جآءهم الحق قالوا هاذا سحر وإنا به كافرون) * قوله تعالى: * (أم ءاتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون) *. أم هنا تتضمن معنى استفهام الإنكار، يعني جل وعلا أن هذا الذي يزعم الكفار من أنهم على حق في عبادتهم الأوثان، وجعلهم الملائكة بنات الله، لا دليل لهم عليه. ولذا أنكر أن يكون آتاهم كتابا يحل فيه ذلك وأن يكونوا مستمسكين في ذلك بكتاب من الله، فأنكر عليهم هذا هنا إنكارا دالا على النفي للتمسك بالكتاب المذكور، مع التوبيخ والتقريع.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من أن كفرهم المذكور لم يكن عن هدى من الله، ولا كتاب أنزله الله بذلك، جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله تعالى في سورة فاطر
98

* (قل أرءيتم شركآءكم الذين تدعون من دون الله أرونى ماذا خلقوا من الا رض أم لهم شرك فى السماوات أم ءاتيناهم كتابا فهم على بينة منه) *.
وقوله تعالى في الأحقاف * (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أرونى ماذا خلقوا من الا رض أم لهم شرك فى السماوات ائتونى بكتاب من قبل هاذآ أو أثارة من علم إن كنتم صادقين) *.
وقوله تعالى في الروم: * (أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون) *.
وقوله تعالى في الصافات: * (أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين) *.
وقوله تعالى في النمل: * (أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السمآء والا رض أءلاه مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) *.
وقوله تعالى في الحج ولقمان: * (ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) *.
وقوله تعالى في الأنعام: * (قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنآ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون) *. قوله تعالى: * (وكذلك مآ أرسلنا من قبلك فى قرية من نذير إلا قال مترفوهآ إنا وجدنآ ءابآءنا على أمة وإنا علىءاثارهم مقتدون قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه ءابآءكم) *. وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة
قد أفلح المؤمنون، في الكلام على قوله تعالى * (ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جآء أمة رسولها كذبوه) *.
وفي سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: * (وكذالك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها) *، وقوله تعالى: * (قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه ءابآءكم) *.
99

قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وشعبة عن عاصم: قل أو لو جئتكم بضم القاف وسكون اللام بصيغة الأمر.
وقرأه ابن عامر وحفص عن عاصم، قال أو لو جئتكم بفتح القاف واللام بينهما ألف بصيغة الفعل الماضي.
فعلى قراءة الجمهور فالمعنى قل لهم يا نبي الله أتقتدون بآبائكم في الكفر والضلال، ولو جئتكم بأهدى، أي بدين أهدى مما وجدتم عليه آبائكم، وصيغة التفضيل هنا لمطلق الوصف لأن آباءهم لا شيء عندهم من الهداية أصلا.
وعلى قراءة ابن عامر وحفص: فالمعنى قال هو: أي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أوضحنا هذا المعنى بشواهده العربية مرارا في هذا الكتاب المبارك.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تسفيه رأي الكفار وبيان شدة ضلالهم في تقليدهم آباءهم هذا التقليد الأعمى، جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله تعالى في البقرة: * (وإذا قيل لهم اتبعوا مآ أنزل الله قالوا بل نتبع مآ ألفينا عليه ءابآءنآ أولو كان ءاباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) *، وكقوله تعالى في المائدة: * (وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه ءاباءنآ أولو كان ءاباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون) *.
وأوضح تعالى في آية لقمان أن ما وجدوا عليه آباءهم من الكفر والضلال طريق من طرق الشيطان يدعوهم بسلوكها إلى عذاب السعير، وذلك في قوله تعالى: * (وإذا قيل لهم اتبعوا مآ أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه ءابآءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير) * كقوله تعالى: * (إنهم ألفوا ءابآءهم ضآلين فهم علىءاثارهم يهرعون) *، وقوله تعالى: * (ولقد ءاتينآ إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لابيه وقومه ما هاذه التماثيل التى أنتم لها عاكفون قالوا وجدنآ ءابآءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وءابآؤكم فى ضلال مبين) * والآيات بمثل ذلك كثيرة. قوله تعالى: * (وإذ قال إبراهيم لابيه وقومه إننى برآء مما تعبدون إلا الذى فطرنى فإنه سيهدين) *.
100

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قال لأبيه وقومه: إنه براء أي بريء، من جميع معبوداتهم التي يعبدونها، من دون الله أي يعني أنه بريء من عبادة كل معبود، إلا المعبود الذي خلقه وأوجده فهو وحده معبوده.
وقد أوضح تعالى هذا المعنى الذي ذكره عن إبراهيم في مواضع أخر من كتابه كقوله تعالى: * (قال أفرءيتم ما كنتم تعبدون أنتم وءابآؤكم الا قدمون فإنهم عدو لى إلا رب العالمين الذى خلقنى فهو يهدين 4) *. وكقوله تعالى: * (فلما رأى الشمس بازغة قال هاذا ربى هاذآ أكبر فلمآ أفلت قال ياقوم إنى برىء مما تشركون إنى وجهت وجهى للذى فطر السماوات والا رض حنيفا ومآ أنا من المشركين) *.
وزاد جل وعلا في سورة الممتحنة براءته أيضا من العابدين وعداوته لهم وبغضه لهم في الله، وذلك في قوله تعالى: * (قد كانت لكم أسوة حسنة فى إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضآء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (فإنه سيهدين) * ذكر نحوه في قوله: * (الذى خلقنى فهو يهدين) * وقوله تعالى: * (وقال إنى ذاهب إلى ربى سيهدين) * وقوله تعالى: * (فلمآ أفل قال لئن لم يهدنى ربى لاكونن من القوم الضآلين) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (إننى برآء مما تعبدون) * * (إلا الذى فطرنى) * أي خلقني. يدل على أنه لا يستحق العبادة، إلا الخالق وحده جل وعلا.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، دلت عليه آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى: * (ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم) *، وقوله تعالى: * (واتقوا الذى خلقكم والجبلة الا ولين) * وقوله تعالى: * (أم جعلوا لله شركآء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شىء وهو الواحد القهار) * وقوله تعالى: * (أفمن يخلق كمن لا يخلق) *، وقوله تعالى: * (أيشركون ما لا يخلق شيئا
101

وهم يخلقون) * وقوله تعالى: * (الذى له ملك السماوات والا رض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك وخلق كل شىء فقدره تقديرا واتخذوا من دونه ءالهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (وجعلها كلمة باقية فى عقبه لعلهم يرجعون بل متعت هاؤلاء وءابآءهم حتى جآءهم الحق ورسول مبين ولما جآءهم الحق قالوا هاذا سحر وإنا به كافرون) *. الضمير المنصوب في جعلها على التحقيق راجع إلى كلمة الإيمان المشتملة على معنى لا إله إلا الله، المذكورة في قوله * (إننى برآء مما تعبدون إلا الذى فطرنى) * لأن لا إله إلا الله نفي وإثبات، فمعنى النفي منها هو البراءة من جميع المعبودات غير الله في جميع أنواع العبادات.
وهذا المعنى جاء موضحا في قوله * (إننى برآء مما تعبدون) *.
ومعنى الإثبات منها هو إفراد الله وحده بجميع أنواع العبادات على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله.
وهذا المعنى جاء موضحا في قوله: * (إلا الذى فطرنى فإنه سيهدين) *.
وضمير الفاعل المستتر في قوله * (وجعلها) *.
قال بعضهم: هو راجع إلى إبراهيم وهو ظاهر السياق.
وقال بعضهم: هو راجع إلى الله تعالى.
فعلى القول الأول فالمعنى صير إبراهيم تلك الكلمة باقية في عقبه أي ولده وولد ولده.
وإنما جعلها إبراهيم باقية فيهم لأنه تسبب لذلك بأمرين:
أحدهما: وصيته لأولاده بذلك وصاروا يتوارثون الوصية بذلك عنه، فيوصي به السلف منهم الخلف، كما أشار تعالى إلى ذلك بقوله: * (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه فى الا خرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال
102

أسلمت لرب العالمين ووصى بهآ إبراهيم بنيه ويعقوب يابنى إن الله اصطفى لكم الدين) *.
والأمر الثاني هو سؤاله ربه تعالى لذريته الإيمان والصلاح، كقوله تعالى * (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إنى جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتى) *، أي واجعل من ذريتي أيضا أئمة، وقوله تعالى عنه * (رب اجعلنى مقيم الصلواة ومن ذريتى) * وقوله عنه * (واجنبنى وبنى أن نعبد الا صنام) * وقوله عنه هو وإسماعيل * (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنآ أمة مسلمة لك) * إلى قوله * (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم) *.
وقد أجاب الله دعاءه في بعث الرسول المذكور ببعثه محمدا صلى الله عليه وسلم.
ولذا جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (أنا دعوة إبراهيم).
وقد جعل الله الأنبياء بعد إبراهيم من ذريته، كما قال تعالى في سورة العنكبوت * (ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا فى ذريته النبوة والكتاب) *، وقال عنه وعن نوح في سورة الحديد * (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا فى ذريتهما النبوة والكتاب) *.
وعلى القول الثاني، أن الضمير عائد إلى الله تعالى، فلا إشكال.
وقد بين تعالى في آية الزخرف هذه، أن الله لم يجب دعوة إبراهيم في جميع ذريته، ولم يجعل الكلمة باقية في جميع عقبه، لأن كفار مكة الذين كذبوا بنبينا صلى الله عليه وسلم من عقبه بإجماع العلماء، وقد كذبوه صلى الله عليه وسلم وقالوا إنه ساحر. وكثير منهم مات على ذلك. وذلك في قوله تعالى * (بل متعت هاؤلاء) * يعني كفار مكة وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين، هو محمد صلى الله عليه وسلم * (ولما جآءهم الحق قالوا هاذا سحر وإنا به كافرون) *.
وما دلت عليه آية الزخرف هذه من أن بعض عقب إبراهيم لم يجعل الله الكلمة المذكورة باقية فيهم، دلت عليه آيات أخر من كتاب الله، كقوله تعالى في البقرة:
103

* (قال ومن ذريتى قال لا ينال عهدي الظالمين) * أي الظالمين من ذرية إبراهيم.
وقوله تعالى في الصافات * (وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين) *.
فالمحسن منهم هو الذي الكلمة باقية فيه، والظالم لنفسه المبين منهم ليس كذلك.
وقوله تعالى في النساء * (فقد ءاتينآ ءال إبراهيم الكتاب والحكمة وءاتيناهم ملكا عظيما فمنهم من ءامن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا) *.
وقد بين تعالى في الحديد أن غير المهتدين منهم كثيرون وذلك في قوله * (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا فى ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (لعلهم يرجعون) * أي جعل الكلمة باقية فيهم لعل الزائغين الضالين منهم يرجعون إلى الحق بإرشاد المؤمنين لمهتدين منهم، لأن الحق ما دام قائما في جملتهم فرجوع الزائغين عنه إليه مرجو مأمول كما دل عليه قوله * (لعلهم يرجعون) *.
والرجاء المذكور بالنسبة إلى بني آدم، لأنهم لا يعرفون من يصير إلى الهدى، ومن يصير إلى الضلال.
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة، وفي الكلام تقديم وتأخير.
والمعنى فإنه سيهدين لعلهم يرجعون، وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون، أي قال لهم، يتوبون عن عبادة غير الله. ا ه منه.
وإيضاح كلامه، أن المعنى أن إبراهيم، قال لأبيه وقومه: إنني براء مما تعبدون لأجل أن يرجعوا عن الكفر إلى الحق.
والضمير في قوله لعلهم يرجعوا على هذا راجع إلى أبيه وقومه.
104

وعلى ما ذكرناه أولا فالضمير راجع إلى من ضل من عقبه، لأن الضالين منهم داخلون في لفظ العقب.
فرجوع ضميرهم إلى العقب لا إشكال فيه وهذا القول هو ظاهر السياق، والعلم عند الله تعالى.
مسألة
ظاهر هذه الآيات الكريمة التي ذكرنا يدل على اتحاد معنى العقب والذرية والبنين، لأنه قال في بعضها عن إبراهيم * (واجنبنى وبنى أن نعبد الا صنام) *.
وقال عنه في بعضها * (رب اجعلنى مقيم الصلواة ومن ذريتى) * وفي بعضها * (ربنآ إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلواة) *، وفي بعضها * (قال ومن ذريتى) * وفي بعضها * (وجعلنا فى ذريته النبوة والكتاب) * وفي بعضها * (وجعلها كلمة باقية فى عقبه) *.
فالظاهر المتبادر من الآيات أن المراد بالبنين والذرية والعقب شيء واحد، لأن جميعها في شيء واحد. وبذلك تعلم أن ظاهر القرآن، يدل على أن من وقف وقفا أو تصدق صدقة على بنيه أو ذريته أو عقبه، أن حكم ذلك واحد.
وقد دل بعض الآيات القرآنية على أن أولاد البنات يدخلون في اسم الذرية واسم البنين.
وإذا دل القرآن على دخول ولد البنت، في اسم الذرية والبنين والفرض أن العقب بمعناهما، دل ذلك على دخول أولاد البنات في العقب أيضا، فمن الآيات الدالة على دخول ولد البنت في اسم الذرية قوله تعالى * (ومن ذريته داوود وسليمان) * إلى قوله * (وعيسى وإلياس) * وهذا نص قرآني صريح في دخول ولد البنت في اسم الذرية، لأن عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ولد بنت إذ لا أب له.
ومن الآيات الدالة على دخول ولد البنت في اسم البنين قوله تعالى * (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم) * وقوله تعالى * (وبنات الا خ وبنات الا خت) * لأن لفظ البنات في الألفاظ الثلاثة، شامل لبنات البنات وبنات بناتهن وهذا لا نزاع فيه بين
105

المسلمين، وهو نص قرآني صحيح في استواء بنات بنيهن وبنات بناتهن.
فتحصل أن دخول أولاد البنات في الوقف على الذرية والبنين والعقب، هو ظاهر القرآن ولا ينبغي العدول عنه.
وكلام فقهاء الأمصار من الأئمة الأربعة وغيرهم في الألفاظ المذكورة معروف، ومن أراد الاطلاع عليه فلينظر كتب فروع المذاهب ولم نبسط على ذلك الكلام هنا لأننا نريد أن نذكر هنا ما يدل ظاهر القرآن على ترجيحه من ذلك فقط.
أما لفظ الولد فإن القرآن يدل على أن أولاد البنات لا يدخلون فيه.
وذلك في قوله تعالى * (يوصيكم الله فى أولادكم) *، فإن قوله في أولادكم لا يدخل فيه أولاد البنات، وذلك لا نزاع فيه بين المسلمين، وهو نص صريح قرآني على عدم دخول أولاد البنات في اسم الولد.
وإن كان جماهير العلماء على أن العقب والولد سواء.
ولا شك أن اتباع القرآن هو المتعين على كل مسلم.
أما لفظ النسل فظاهر القرآن شموله لأولاد البنات لأن قوله تعالى * (ذالك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذى أحسن كل شىء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من مآء مهين) * ظاهر في أن لفظة النسل في الآية شاملة لأولاد البنات كما لا يخفى.
والألفاظ التي يتكلم عليها العلماء في هذا المبحث هي أحد عشر لفظا ذكرنا خمسة منها وهي: الذرية والبنون والعقب والولد والنسل. وذكرنا أن أربعة منها يدل ظاهر القرآن على أنها يدخل فيها أولاد البنات وواحد بخلاف ذلك وهو الولد.
وأما الستة الباقية منها فهي الآل والأهل ومعناهما واحد.
والقرابة والعشيرة والقوم والموالي، وكلام العلماء فيها مضطرب.
ولم يحضرني الآن تحديد يتميز به ما يدخل في كل واحد منها وما يخرج عنه إلا على سبيل التقريب إلا لفظين منها وهما القرابة والعشيرة.
أما القرابة فقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم (أنه أعطى من خمس خيبر بني هاشم وبني
106

المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل) مبينا أن ذلك هو معنى قوله تعالى * (فأن لله خمسه وللرسول ولذى القربى) * كما تقدم إيضاحه في سورة الأنفال في الكلام على آية الخمس هذه.
وأما العشيرة فقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس أنه لما نزلت * (وأنذر عشيرتك الا قربين) * صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي (يا بني فهر يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا) الحديث. وفيه تحديد العشيرة الأقربين بجميع بني فهر بن مالك وهو الجد العاشر له صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية أبي هريرة في الصحيح. أنه لما نزلت الآية المذكورة قال (يا معشر قريش أو كلمة نحوها) الحديث، وقريش هم أولاد فهر بن مالك. وقيل: أولاد النضر بن كنانة، والأول هو الأظهر لحديث ابن عباس المذكور وعليه الأكثر.
تنبيه
(فإن قيل) ذكرتم أن ظاهر القرآن يدل على دخول أولاد البنات في لفظ البنين والشاعر يقول في خلاف ذلك: (فإن قيل) ذكرتم أن ظاهر القرآن يدل على دخول أولاد البنات في لفظ البنين والشاعر يقول في خلاف ذلك:
* بنونا بنوا أبنائنا وبناتنا
* بنوهن أبناء الرجال الأباعد
*
وكثير من أهل الفقه يذكرون البيت المذكور، على سبيل التسليم له، قالوا: ومما يوضح صدقه أنهم ينسبون إلى رجال آخرين، ربما كانوا أعداء لأهل أمهاتهم وكثيرا ما
يتبع الولد أباه وعصبته، في عداوة أخواله وبغضهم كما هو معلوم.
(فالجواب) أن الواحد بالشخص له جهتان، فمعنى لفظ الابن له جهة خاصة هي معنى كونه خلق من ماء هذا الرجل على وجه يلحق فيه نسبه به، وهذا المعنى منفي عن والد أمه، فلا يقال له ابن بهذا الاعتبار وثابت لأبيه الذي خلق من مائه، وله جهة أخرى هي كونه خارجا في الجملة من هذا الشخص، سواء كان بالمباشرة، أو بواسطة ابنه أو بنته وإن سفل، فالبنوة بهذا المعنى ثابتة لولد البنت، وهذا المعنى هو الذي عناه صلى الله عليه وسلم في قوله في الحسن بن علي رضي الله عنهما (إن ابني هذا سيد) الحديث وهو المراد في الآيات القرآنية كقوله تعالى: * (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم) * وقوله تعالى * (وبنات الا خ وبنات الا خت) * وكقوله تعالى: * (لا جناح عليهن فىءابآئهن ولا أبنآئهن
107

ولا إخوانهن ولا أبنآء إخوانهن ولا أبنآء أخواتهن) *.
فلفظ البنات والأبناء في جميع الآيات المذكورة شامل لجميع أولاد البنين والبنات وإن سفلوا، وإنما شملهم من الجهة المذكورة بالاعتبار المذكور، وهو إطلاق لفظ الابن على كل من خرج من الشخص في الجملة، ولو بواسطة بناته.
وأما البيت المذكور فالمراد به الجهة الأولى والاعتبار الأول.
فإن بني البنات، ليسوا أبناء لآباء أمهاتهم من تلك الجهة، ولا بذلك الاعتبار لأنهم لم يخلقوا من مائهم، وإنما خلقوا من ماء رجال آخرين، ربما كانوا أباعد وربما كانوا أعداء.
فصح بهذا الاعتبار نفي البنوة عن ابن البنت.
وصح بالاعتبار الأول إثبات البنوة له ولا تناقض مع انفكاك الجهة.
وإذا عرفت معنى الجهتين المذكورتين وأنه بالنظر إلى إحداهما تثبت البنوة لابن البنت وبالنظر إلى الأخرى تنتفي عنه.
فاعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم: (إن ابني هذا سيد) وقوله تعالى: * (وبنات الا خ وبنات الا خت) * ونحوها من الآيات ينزل على إحدى الجهتين:
وقوله تعالى: * (ما كان محمد أبآ أحد من رجالكم) * يتنزل على الجهة الأخرى. وتلك الجهة هي التي يعني الشاعر بقوله: * وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد
ويزيد ذلك إيضاحا: أن قبائل العرب قد تكون بينهم حروب ومقاتلات، فيكون ذلك القتال بين أعمام الرجل وأخواله، فيكون مع عصبته دائما على أخواله، كما في البيت المذكور.
وقد يكون الرجل منهم في أخواله فيعاملونه معاملة دون معاملتهم لأبنائهم.
كما أوضح ذلك غسان بن وعلة في شعره حيث يقول: كما أوضح ذلك غسان بن وعلة في شعره حيث يقول:
* إذا كنت في سعد وأمك منهم
* شطيرا فلا يغررك خالك من سعد
*
108

* فإن ابن أخت القوم مصغي إناؤه
* إذا لم يزاحم خاله بأب جلد
*
فقوله مصغي إناؤه من الإصغاء وهو الإمالة، لأن الإناء إذا أميل ولم يترك معتدلا لم يتسع إلا للقليل، فهو كناية عن نقص نصيبه فيهم وقلته.
وعلى الجهتين المذكورتين يتنزل اختلاف الصحابة في ميراث الجد والإخوة.
فمن رأى منهم أنه أب يحجب الإخوة، فقد راعى في الجد إحدى الجهتين.
ومن رأى منهم أنه ليس بأب وأنه لا يحجب الإخوة فقد لاحظ الجهة الأخرى.
ولم نطل الكلام هنا في جميع الألفاظ المذكورة التي هي أحد عشر لفظا خوف الإطالة. ولأننا لم نجد نصوصا من الوحي تحدد شيئا منها تحديدا دقيقا.
ومعلوم أن لفظ القوم منها قد دل القرآن على أنه يختص بالذكور دون الإناث.
وإن الإناث قد يدخلن فيه بحكم التبع إذا اقترن بما يدل على ذلك.
لأن الله تعالى قال: * (لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نسآء من نسآء) *. فعطفه النساء على القوم يدل على عدم دخولهن في لفظ القوم.
ونظيره من كلام العرب قول زهير: ونظيره من كلام العرب قول زهير:
* وما أدري وسوف إخال أدري
* قوم آل حصن أم نساء
*
وأما دخول النساء في القوم بحكم التبع عند الاقتران بما يدل على ذلك، فقد بينه قوله تعالى في ملكة سبأ: * (وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين) *.
وأما الموالي فقد دل القرآن واللغة على أن المولى يطلق على كل من له سبب يوالي ويوالي به.
ولذا أطلق على الله أنه مولى المؤمنين لأنهم يوالونه بالطاعة ويواليهم بالجزاء.
ونفى ولاية الطاعة عن الكافرين في قوله تعالى: * (ذلك بأن الله مولى الذين ءامنوا وأن الكافرين لا مولى لهم) *.
109

وأثبت له عليهم ولاية الملك والقهر في قوله تعالى: * (وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون) *. كما أثبت لهم ولاية النار في قوله: * (مأواكم النار هى مولاكم) *. وأطلق تعالى اسم الموالي على العصبة في قوله تعالى: * (ولكل جعلنا موالى مما ترك الوالدان والا قربون) *.
وأطلق اسم المولى على الأقارب ونحوهم في قوله تعالى: * (يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا) *.
ويكثر في كلام العرب إطلاق الموالي على العصبة وابن العم ومنه قول الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب: ويكثر في كلام العرب إطلاق الموالي على العصبة وابن العم ومنه قول الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب:
* مهلا بني عمنا مهلا موالينا
* لا تظهرن لنا ما كان مدفونا
*
وقول طرفة بن العبد: وقول طرفة بن العبد:
* وأعلم علما ليس بالظن أنه
* إذا ذل مولى المرء فهو ذليل
*
والحاصل أن من قال هذا وقف، أو صدقة على قومي، أو موالي أنه إن كان هناك عرف خاص، وجب اتباعه في ذلك، وإن لم يكن هناك عرف فلا نعلم نصا من كتاب ولا سنة يحدد ذلك تحديدا دقيقا.
وكلام أهل العلم فيه معروف في محاله.
والعلم عند الله تعالى.
* (وقالوا لولا نزل هاذا القرءان على رجل من القريتين عظيم * أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحيواة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون * ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمان لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون * ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون * وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحيواة الدنيا والا خرة عند ربك للمتقين * ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين * وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون * حتى إذا جآءنا قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين * ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم فى العذاب مشتركون * أفأنت تسمع الصم أو تهدى العمى ومن كان فى ضلال مبين * فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون * أو نرينك الذى وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون * فاستمسك بالذى أوحى إليك إنك على صراط مستقيم * وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون * واسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنآ أجعلنا من دون الرحمان ءالهة يعبدون * ولقد أرسلنا موسى بأاياتنآ إلى فرعون وملايه فقال إنى رسول رب العالمين * فلما جآءهم بأاياتنآ إذا هم منها يضحكون * وما نريهم من ءاية إلا هى أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون * وقالوا ياأيه الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون * فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون * ونادى فرعون فى قومه قال ياقوم أليس لى ملك مصر وهاذه الا نهار تجرى من تحتى أفلا تبصرون * أم أنآ خير من هاذا الذى هو مهين ولا يكاد يبين * فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جآء معه الملائكة مقترنين * فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين * فلمآ ءاسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين * فجعلناهم سلفا ومثلا للا خرين * ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون * وقالوا ءأالهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون * إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبنى إسراءيل * ولو نشآء لجعلنا منكم ملائكة فى الا رض يخلفون) * قوله تعالى: * (وقالوا لولا نزل هاذا القرءان على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحيواة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون. وقالوا: أي قال كفار مكة، لولا أي هلا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين، أي من إحدى القريتين، وهما مكة والطائف عظيم يعنون بعظمه، كثرة ماله وعظم جاهه، وعلو منزلته في قومه، وعظيم مكة الذي يريدون هو الوليد بن
110

المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب، وفي مرة بن كعب يجتمع نسبه بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: هو عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف.
وعظيم الطائف. هو عروة بن مسعود. وقيل حبيب بن عمرو بن عمير. وقيل هو كنانة بن عبد ياليل وقيل غير ذلك.
وإيضاح الآية أن الكفار أنكروا أولا أن يبعث الله رسولا من البشر كما أوضحناه مرارا.
ثم لما سمعوا الأدلة على أن الله لم يبعث إلى البشر رسولا إلا من البشر تنازلوا عن اقتراحهم إرسال رسل من الملائكة إلى اقتراح آخر، وهو اقتراح تنزيل هذا القرآن على أحد الرجلين المذكورين:
وهذا الاقتراح يدل على شدة جهلهم، وسخافة عقولهم، حيث يجعلون كثرة المال، والجاه في الدنيا، موجبا لاستحقاق النبوة. وتنزيل الوحي.
ولذا زعموا، أن محمدا صلى الله عليه وسلم، ليس أهلا لإنزال هذا القرآن عليه، لقلة ماله، وأن أحد الرجلين المذكورين أحق أن ينزل عليه القرآن منه صلى الله عليه وسلم.
وقد بين تعالى في هذه الآية الكريمة، شدة جهلهم، وسخافة عقولهم، بقوله * (أهم يقسمون رحمة ربك) * والظاهر المتبادر أن المراد برحمة ربك النبوة وإنزال الوحي.
وإطلاق الرحمة على ذلك متعدد في القرآن كقوله تعالى في الدخان * (إنا كنا مرسلين رحمة من ربك) *، وقوله في آخر القصص * (وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك) *، وقوله في آخر الأنبياء * (ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين) *.
وقد قدمنا الآيات الدالة، على إطلاق الرحمة: والعلم على النبوة في سورة الكهف، في الكلام على قوله تعالى: * (فوجدا عبدا من عبادنآ ءاتيناه رحمة من عندنا) *.
111

وقدمنا معاني إطلاق الرحمة، في القرآن في سورة فاطر، في الكلام على قوله تعالى * (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها) *.
وقوله تعالى في هذه الآية * (نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحيواة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات) * يعني أنه تعالى لم يفوض إليهم أمر معايشهم وحظوظهم، في الدنيا، بل تولى هو جل وعلا قسمة ذلك بينهم، فجعل هذا غنيا، وهذا فقيرا، وهذا رفيعا، وهذا وضيعا، وهذا خادما، وهذا مخدوعا، ونحو ذلك فإذا لم يفوض إليهم، حظوظهم في الدنيا، ولم يحكمهم فيها.
بل كان تعالى هو المتصرف فيها بما شاء كيف شاء، فكيف يفوض إليهم أمر إنزال الوحي حتى يتحكموا في من ينزل إليه الوحي؟
فهذا مما لا يعقل ولا يظنه إلا غبي جاهل كالكفار المذكورين.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) * التحقيق إن شاء الله أنه من التسخير.
ومعنى تسخير بعضهم لبعض، خدمة بعضهم البعض، وعمل بعضهم لبعض، لأن نظام العالم في الدنيا، يتوقف قيامه على ذلك، فمن حكمته جل وعلا، أن يجعل هذا فقيرا مع كونه قويا قادرا على العمل، ويجعل هذا ضعيفا لا يقدر على العمل بنفسه، ولكنه تعالى يهيىء له دراهم، يؤجر بها ذلك الفقير القوي فينتفع القوي بدراهم الضعيف، والضعيف بعمل القوي فتنتظم المعيشة، لكل منهما وهكذا.
وهذه المسائل التي ذكرها الله جل وعلا، في هذه السورة الكريمة جاءت كلها موضحة في آيات أخر من كتاب الله.
أما زعمهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم أنقص شرفا، وقدرا من أن ينزل عليه الوحي، فقد ذكره الله عنهم في (ص) في قوله تعالى * (أءنزل عليه الذكر من بيننا بل هم فى شك من ذكرى) *.
فقول كفار مكة * (أءنزل عليه الذكر من بيننا) * معناه إنكارهم، أن يخصه الله بإنزال الوحي من بينهم، لزعمهم أن فيهم من هو أحق بالوحي منه، لكثرة ماله، وجاهه وشرفه فيهم.
112

وقد قال قوم صالح، مثل ذلك لصالح، كما قال تعالى منهم * (أءلقى الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر) *.
فقلوب الكفار متشابهة فكانت أعمالهم متشابهة.
كما قال تعالى * (كذالك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم) * وقال تعالى * (أتواصوا به بل هم قوم طاغون) *.
وأما اقتراحهم إنزال الوحي على غيره منهم، وأنهم لا يرضون خصوصيته بذلك دونهم، فقد ذكره تعالى في سورة الأنعام في قوله تعالى: * (وإذا جآءتهم ءاية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل مآ أوتى رسل الله) * وقوله تعالى في المدثر * (بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفا منشرة) *.
أي تنزل عليه صحف بالوحي من السماء، كما قال مجاهد وغير واحد، وهو ظاهر القرآن.
وفي الآية قول آخر معروف.
وأما إنكاره تعالى عليهم، اقتراح إنزال الوحي على غير محمد صلى الله عليه وسلم، الذي دلت عليه همزة الإنكار المتضمنة مع الإنكار لتجهيلهم، وتسفيه عقولهم، في قوله: * (أهم يقسمون رحمة ربك) *. فقد أشار تعالى إليه مع الوعيد الشديد في الأنعام.
لأنه تعالى لما قال * (وإذا جآءتهم ءاية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل مآ أوتى رسل الله) * أتبع ذلك بقوله، ردا عليهم، وإنكارا لمقالتهم * (الله أعلم حيث يجعل رسالته) *.
ثم أوعدهم على ذلك فقوله * (سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون) *.
وأما كونه تعالى هو الذي تولى قسمة معيشتهم بينهم، فقد جاء في مواضع أخر كقوله تعالى: * (والله فضل بعضكم على بعض فى الرزق فما الذين فضلوا برآدى
رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سوآء) *. وقوله تعالى * (انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللا خرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا) * وقوله تعالى: * (الله يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر) * وقوله تعالى: * (ولاكن ينزل بقدر ما يشآء إنه
113

بعباده خبير بصير) * وقوله تعالى: * (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما) *.
وقد أوضح تعالى حكمة هذا التفاضل، والتفاوت في الأرزاق، والحظوظ والقوة والضعف، ونحو ذلك، بقوله هنا * (ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) *، كما تقدم.
وقوله تعالى هنا * (ورحمة ربك خير مما يجمعون) *. يعني أن النبوة، والاهتداء يهدي الأنبياء، وما يناله المهتدون يوم القيامة، خير مما يجمعه الناس في الدنيا من حطامها.
وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى، في غير هذا الموضع، كقوله في سورة يونس * (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) * وقوله تعالى في آل عمران * (ولئن قتلتم فى سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون) *.
مسألة
دلت هذه الآيات الكريمة، المذكورة هنا، كقوله تعالى: * (نحن قسمنا بينهم معيشتهم) *. وقوله * (والله فضل بعضكم على بعض فى الرزق) * ونحو ذلك من الآيات، على أن تفاوت الناس في الأرزاق، والحظوظ سنة، من سنن الله السماوية الكونية، القدرية، لا يستطيع أحد من أهل الأرض، البتة تبديلها، ولا تحويلها، بوجه من الوجوه، * (فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا) *.
وبذلك تحقق أن ما يتذرع به الآن الملاحدة المنكرون لوجود الله، ولجميع النبوات، والرسائل السماوية، إلى ابتزاز ثروات الناس، ونزع ملكهم الخاص، عن أملاكهم بدعوى المساواة بين الناس، في معايشهم أمر باطل. لا يمكن بحال من الأحوال.
مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون. وإنما يقصدون استئثارهم، بأملاك جميع الناس، ليتمتعوا بها ويتصرفوا فيها، كيف شاءوا، تحت ستار كثير من أنواع الكذب، والغرور والخداع، كما يتحققه كل عاقل مطلع على سيرتهم، وأحوالهم مع المجتمع في بلادهم.
114

فالطغمة القليلة الحاكمة، ومن ينظم إليها، هم المتمتعون بجميع خيرات البلاد. وغيرهم من عامة الشعب. محرومون من كل خير. مظلومون في كل شيء. حتى ما كسبوه بأيديهم، يعلفون ببطاقة، كما تعلف البغال والحمير.
وقد علم الله جل وعلا في سابق علمه أنه يأتي ناس يغتصبون أموال الناس بدعوى أن هذا فقير وهذا غني وقد نهى جل وعلا عن اتباع الهوى بتلك الدعوى، وأوعد من لم ينته عن ذلك، بقوله تعالى: * (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) *.
وقوله: * (فإن الله كان بما تعملون خبيرا) * فيه وعيد شديد لمن فعل ذلك. قوله تعالى: * (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمان لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحيواة الدنيا والا خرة عند ربك للمتقين) *. قوله لبيوتهم، في الموضعين، قرأه ورش وأبو عمرو وحفص، عن عاصم، بضم الباء على الأصل.
وقرأه قالون، عن نافع وابن كثير، وابن عامر، وحمزة والكسائي، وشعبة عن عاصم * (لبيوتهم) * بكسر الباء لمجانسة الكسرة للياء.
وقوله سقفا: قرأه نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وعاصم، سقفا بضمتين، على الجمع.
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو * (سقفا) * بفتح السين وإسكان القاف على الإفراد المراد به الجمع.
وقوله: * (وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحيواة) * قرأه نافع وابن كثير، وابن عامر، في رواية ابن ذكوان، وإحدى الروايتين عن هشام وأبي عمرو والكسائي * (لما متاع الحيواة الدنيا) * بتخفيف الميم من لما.
وقرأه عاصم، وحمزة وهشام، عن ابن عامر، وفي إحدى الروايتين * (لما متاع الحيواة الدنيا) * بتشديد الميم من لما.
115

ومعنى الآية الكريمة، أن الله لما بين حقارة الدنيا، وعظم شأن الآخرة في قوله: * (ورحمة ربك خير مما يجمعون) *.
أتبع ذلك ببيان شدة حقارتها، وأنه جعلها مشتركة، بين المؤمنين، والكافرين وجعل ما في الآخرة من النعيم خاصا بالمؤمنين، دون الكافرين وبين حكمته في اشتراك المؤمن مع الكافر، في نعيم الدنيا بقوله: * (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة) * أي لولا كراهتنا لكون جميع الناس أمة واحدة، متفقة على الكفر، لأعطينا زخارف الدنيا كلها للكفار.
ولكننا لعلمنا، بشدة ميل القلوب إلى زهرة الحياة الدنيا، وحبها لها لو أعطينا ذلك كله للكفار، لحملت الرغبة في الدنيا جميع الناس على أن يكونوا كفارا، فجعلنا في كل من الكافرين والمؤمنين غنيا وفقيرا، وأشركنا بينهم في الحياة الدنيا.
ثم بين جل وعلا اختصاص نعيم الآخرة بالمؤمنين في قوله: * (وإن كل ذلك لما متاع الحيواة الدنيا والا خرة عند ربك للمتقين) *.
أي خالصة لهم دون غيرهم.
وهذا المعنى جاء موضحا في غير هذا الموضع، كقوله تعالى في الأعراف: * (قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هى للذين ءامنوا فى الحيواة الدنيا خالصة يوم القيامة) *.
فقوله: * (قل هى للذين ءامنوا فى الحيواة الدنيا) * أي مشتركة بينهم في الحياة الدنيا، خالصة يوم القيامة.
أي خاصة بهم، دون الكفار، يوم القيامة.
إذ لا نصيب للكفار البتة في طيبات الآخرة.
فقوله في آية الأعراف هذه * (قل هى للذين ءامنوا فى الحيواة الدنيا) * صريح في اشتراك المؤمنين مع الكفار في متاع الحياة الدنيا.
وذلك الاشتراك المذكور، دل عليه حرف الامتناع، للوجود الذي هو لولا، في قوله هنا * (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة) *.
وخصوص طيبات الآخرة، بالمؤمنين المنصوص عليه في آية الأعراف بقوله * (خالصة يوم القيامة) * هو الذي أوضحه تعالى في آية الزخرف هذه بقوله * (والا خرة عند ربك للمتقين) *.
116

وجميع المؤمنين يدخلون في الجملة في لفظ المتقين لأن كل مؤمن اتقى الشرك بالله.
وما دلت عليه هذه الآيات. من أنه تعالى يعطي الكفار من متاع الحياة الدنيا، دلت عليه آيات كثيرة من كتاب الله. كقوله تعالى * (قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار) * وقوله * (نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ) * وقول تعالى * (ياأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحيواة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون) * وقوله * (قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع فى الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون) * والآيات بمثل هذا كثيرة.
وقد بين تعالى في آيات من كتابه، أن إنعامه على الكافرين ليس لكرامتهم عليه، ولكنه للاستدراج، كقوله تعالى * (فذرنى ومن يكذب بهاذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملى لهم إن كيدى متين) * وقوله تعالى * (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شىء حتى إذا فرحوا بمآ أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) * وقوله تعالى * (ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس ءاباءنا الضرآء والسرآء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون) * وقوله تعالى * (قل من كان فى الضلالة فليمدد له الرحمان مدا) * على أظهر التفسيرين. وقوله تعالى: * (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملى لهم خير لانفسهم إنما نملى لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين) * وقوله تعالى: * (فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير) *.
ودعوى الكفار، أن الله ما أعطاهم المال ونعيم الدنيا إلا لكرامتهم عليه واستحقاقهم لذلك، وأنه إن كان البعث حقا أعطاهم خيرا منه في الآخرة قد ردها الله عليهم في آيات كثيرة كقوله تعالى * (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم فى الخيرات بل لا يشعرون) *، وقوله تعالى * (ومآ أموالكم ولا أولادكم بالتى تقربكم عندنا زلفى إلا من ءامن وعمل صالحا) *، وقوله تعالى * (قالوا مآ أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون) *، وقوله تعالى: * (مآ أغنى عنه ماله وما كسب) *
117

وقوله تعالى: * (وما يغنى عنه ماله إذا تردى) * وقوله تعالى * (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا طرفا من هذا في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: * (ولئن رددت إلى ربى لأجدن خيرا منها منقلبا) *.
ولنرجع إلى تفسير ألفاظ الآية الكريمة. فقوله * (لجعلنا) * أي صيرنا، وقوله * (لبيوتهم) * بدل اشتمال مع إعادة العامل، من قوله لمن يكفر، وعلى قراءة سقفا بضمتين، فهو جمع سقف، وسقف البيت معروف.
وعلى قراءة سقفا بفتح السين، وسكون القاف: فهو مفرد أريد به الجمع.
وقد قدمنا في أول سورة الحج في الكلام على قوله تعالى * (ثم نخرجكم طفلا) * أن المفرد إذا كان اسم جنس. يجوز إطلاقه مرادا به الجمع وأكثرنا من أمثلة ذلك في القرآن، ومن الشواهد العربية. على ذلك.
وقوله * (ومعارج) * الظاهر أنه جمع معرج بلا ألف بعد الراء.
والمعرج والمعراج بمعنى واحد وهو الآلة التي يعرج بها أي يصعد بها، إلى العلو.
وقوله: يظهرون أي يصعدون ويرتفعون، حتى يصيروا على ظهور البيوت. ومن ذلك المعنى قوله تعالى * (فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا) *.
والسرر جمع سرير، والاتكاء معروف.
والأبواب جمع باب وهو معروف، والزخرف الذهب.
قال الزمخشري: إن المعارج التي هي المصاعد، والأبواب والسرر كل ذلك من فضة، كأنه يرى اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في ذلك، وعلى هذا المعنى فقوله زخرفا مفعول، عامله محذوف والتقدير وجعلنا لهم مع ذلك زخرفا.
118

وقال بعض العلماء: إن جميع ذلك بعضه من فضة، وبعضه من زخرف، أي ذهب.
وقد ذكر القرطبي أن إعراب قوله وزخرفا على هذا القول أنه منصوب بنزع الخافض، وأن المعنى من فضة، ومن زخرف، فحذف حرف الجر فانتصب زخرفا.
وأكثر علماء النحو على أن النصيب بنزع الخافض ليس مطردا ولا قياسيا، وما سمع منه يحفظ ولا يقاس عليه.
وعليه درج ابن مالك في الخلاصة في قوله: وإن حذف فالنصب للمتجر نقلا، إلخ.
وعلي بن سليمان وهو الأخفش الصغير يرى اطراده في كل شيء أمن فيه اللبس، كما أشار في الكافية بقوله: وعلي بن سليمان وهو الأخفش الصغير يرى اطراده في كل شيء أمن فيه اللبس، كما أشار في الكافية بقوله:
* وابن سليمان اطراده رأى
* إن لم يخف لبس كمن زيد نأى
*
وقوله تعالى: * (وإن كل ذلك لما متاع الحيواة الدنيا) * على قراءة الجمهور بتخفيف الميم من لما، فإن هي المخففة، من الثقيلة، واللام هي الفارقة بين إن المخففة من الثقيلة، وإن النافية المشار إليها بقوله في الخلاصة: وإن كل ذلك لما متاع الحيواة الدنيا) * على قراءة الجمهور بتخفيف الميم من لما، فإن هي المخففة، من الثقيلة، واللام هي الفارقة بين إن المخففة من الثقيلة، وإن النافية المشار إليها بقوله في الخلاصة:
* وخففت إن فعل العمل
* وتلزم اللام إذا ما تهمل
*
وما مزيدة للتوكيد، وأما على قراءة عاصم وحمزة وابن عامر في إحدى الروايتين عن هشام لما بتشديد الميم فإن نافية، ولما حرف إثبات بمعنى إلا.
والمعنى: وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا.
وذكره بعضهم أن تشديد ميم لما على بعض القراءات في هذه الآية وآية الطارق * (إن كل نفس لما عليها حافظ) * لغة بني هذيل بن مدركة والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جآءنا قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين) *.
119

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى: * (وقيضنا لهم قرنآء) *. قوله تعالى: * (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم فى العذاب مشتركون) *. قد قدمنا الكلام عليه في الصافات في الكلام على قوله تعالى: * (فإنهم يومئذ فى العذاب مشتركون) *.
قوله تعالى: * (أفأنت تسمع الصم أو تهدى العمى ومن كان فى ضلال مبين) *.
قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة النمل في الكلام على قوله تعالى: * (إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعآء إذا ولوا مدبرين) *. قوله تعالى: * (فاستمسك بالذى أوحى إليك إنك على صراط مستقيم) *. أمر الله جل وعلا، نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يتمسك بهدي هذا القرآن العظيم، وبين له أنه على صراط مستقيم أي طريق واضح. لا اعوجاج فيه، وهو دين الإسلام الذي تضمنه هذا القرآن العظيم، الذي أوحي إليه.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، قد جاء موضحا في آيات أخر، من كتاب الله.
أما أمره بالتمسك بالقرآن العظيم، فقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: * (واتل مآ أوحى إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته) *.
وأما إخباره له صلى الله عليه وسلم على صراط مستقيم فمن الآيات التي أوضح ذلك فيها قوله تعالى: * (ثم جعلناك على شريعة من الا مر فاتبعها ولا تتبع أهوآء الذين لا يعلمون) *، وقوله تعالى: * (وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم صراط الله الذى له ما فى السماوات وما فى الا رض) *، وقوله تعالى: * (وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم وإن الذين لا يؤمنون بالا خرة عن الصراط لناكبون) * وقوله تعالى: * (فلا ينازعنك فى الا مر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم) * وقوله تعالى: * (فتوكل على الله إنك على الحق المبين) * إلى غير ذلك من الآيات.
120

وآية الزخرف هذه تدل على أن التمسك بهذا القرآن على هدى من الله، وهذا معلوم بالضرورة. قوله تعالى: * (واسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنآ أجعلنا من دون الرحمان ءالهة يعبدون) *. ما تضمنته هذه الآية الكريمة. من أن جميع الرسل جاءوا بإخلاص التوحيد لله، الذي تضمنته كلمة لا إله إلا الله، جاء موضحا في آيات كثيرة، كقوله تعالى * (ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) *.
وقوله تعالى: * (ومآ أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إلاه إلا أنا فاعبدون) *، وذلك التوحيد هو أول ما يأمر به كل نبي أمته.
قال تعالى: * (لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره) *، وقال تعالى: * (وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره) *، وقال تعالى: * (وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره) *، وقال تعالى: * (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله) *. إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (ولقد أرسلنا موسى بأاياتنآ إلى فرعون وملايه) *. قد قدمنا الكلام على قصة موسى وفرعون في سورة الأعراف وسورة طه. قوله تعالى: * (وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون) *. لم يبين هنا نوع العذاب الذي أخذهم به، ولكنه أوضحه في الأعراف في قوله تعالى: * (وقالوا مهما تأتنا به من ءاية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ءايات مفصلات) *، وقوله تعالى: * (ولقد أخذنآ ءال فرعون بالسنين ونقص من الثمرات) *. قوله تعالى: * (وقالوا ياأيه الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون) *.
121

ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أوضحه في الأعراف بقوله: * (ولما وقع عليهم الرجز قالوا ياموسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بنى إسراءيل فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون) *.
والرجز المذكور في الأعراف هو بعينه العذاب المذكور في آية الزخرف هذه. قوله تعالى: * (ولا يكاد يبين) *. قد تقدم الكلام عليه في طه في الكلام على قوله تعالى عن موسى * (واحلل عقدة من لسانى) *. قوله تعالى: * (فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جآء معه الملائكة مقترنين) *. قد قدمنا الكلام عليه في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى: * (لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا) *. قوله تعالى: * (فلمآ ءاسفونا انتقمنا منهم) *. آسفونا معناه أغضبونا، وأسخطونا وكون المراد بالأسف الغضب، يدل عليه إطلاق الأسف على أشد الغضب في قوله تعالى: * (ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا) * على أصح التفسيرين. قوله تعالى: * (فجعلناهم سلفا ومثلا للا خرين) *. قد قدمنا الكلام عليه في هذه السورة الكريمة، في الكلام على قوله تعالى: * (فأهلكنآ أشد منهم بطشا ومضى مثل الا ولين) *. قوله تعالى: * (ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا ءأالهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون) *. قرأ هذا الحرف نافع وابن عامر والكسائي (يصدون) بضم الصاد.
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة (يصدون) بكسر الصاد.
122

فعلى قراءة الكسر فمعنى يصدون يضجون ويصيحون، وقيل يضحكون، وقيل معنى القراءتين واحد. كيعرشون ويعرشون ويعكفون ويعكفون.
وعلى قراءة الضم فهو من الصدود والفاعل المحذوف في قوله (ضرب).
قال جمهور المفسرين هو عبد الله بن الزبعري السهمي قبل إسلامه.
أي ولما ضرب ابن الزبعري المذكور عيسى ابن مريم فاجأك قومك بالضجيج والصياح والضحك، فرحا منهم وزعما منهم أن ابن الزبعري خصمك، أو فاجأك صدودهم عن الإيمان بسبب ذلك المثل.
والظاهر أن لفظة من هنا سببية، ومعلوم أن أهل العربية، يذكرون أن من معاني من السببية، ومنه قوله تعالى: * (مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا) *.
أي بسبب خطيئاتهم أغرقوا.
ومن ذلك قول الحالفين في أيمان القسامة: أقسم بالله لمن ضربه مات.
وإيضاح معنى ضرب ابن الزبعري عيسى مثلا، أن الله لما أنزل قوله تعالى * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون) *، قال ابن الزبعري: إن محمدا صلى الله عليه وسلم يقول إن كل معبود من دون الله في النار وأننا وأصنامنا جميعا في النار، وهذا عيسى ابن مريم قد عبده النصارى من دون الله فإن كان ابن مريم مع النصارى الذين عبدوه في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه.
وقالوا مثل ذلك في عزير والملائكة لأن عزيرا عبده اليهود، والملائكة عبدهم بعض العرب.
فاتضح أن ضربه عيسى مثلا، يعني أنه على ما يزعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم قاله، من أن كل معبود وعابده في النار، يقتضي أن يكون عيسى مثلا لأصنامهم، في كون الجميع في النار، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يثني على عيسى الثناء الجميل، ويبين للناس أنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
فزعم ابن الزبعري أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لما اقتضى مساواة الأصنام مع عيسى في دخول
123

النار مع أنه صلى الله عليه وسلم يعترف بأن عيسى رسول الله وأنه ليس في النار، دل ذلك على بطلان كلامه عنده.
وعند ذلك أنزل الله * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولائك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم فى ما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الا كبر) *، وأنزل الله أيضا قوله تعالى: * (ولما ضرب ابن مريم مثلا) *.
وعلى هذا القول فمعنى قوله تعالى: * (ما ضربوه لك إلا جدلا) *، أي ما ضربوا عيسى مثلا إلا من أجل الجدل والخصومة بالباطل.
وقيل إن جدلا حال وإتيان المصدر المنكر حالا كثير، وقد أوضحنا توجيهه مرارا.
والمراد بالجدل هنا الخصومة بالباطل لقصد الغلبة بغير حق.
قال جماعة من العلماء: والدليل على أنهم قصدوا الجدل بشيء يعلمون في أنفسهم أنه باطل، أن الآية التي تذرعوا بها إلى الجدل، لا تدل البتة، على ما زعموه، وهم أهل اللسان، ولا تخفى عليهم معاني الكلمات.
والآية المذكورة إنما عبر الله فيها بلفظة (ما) التي هي في الموضع العربي لغير العقلاء لأنه قال * (إنكم وما تعبدون) * ولم يقل (ومن) تعبدون وذلك صريح في أن المراد الأصنام، وأنه لا يتناول عيسى ولا عزيرا ولا الملائكة، كما أوضح تعالى أنه لم يرد ذلك بقوله تعالى بعده: * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى) *.
وإذا كانوا يعلمون من لغتهم أن الآية الكريمة، لم تتناول عيسى بمقتضى لسانهم العربي، الذي نزل به القرآن، تحققنا أنهم ما ضربوا عيسى مثلا، إلا لأجل الجدل، والخصومة بالباطل.
ووجه التعبير في صيغة الجمع في قوله * (ما ضربوه لك إلا جدلا) * مع أن ضارب المثل واحد وهو ابن الزبعري يرجع إلى أمرين:
أحدهما: أن من أساليب اللغة العربية إسناد فعل الرجل الواحد من القبيلة إلى جميع
124

القبيلة، ومن أصرح الشواهد العربية في ذلك قوله: أحدهما: أن من أساليب اللغة العربية إسناد فعل الرجل الواحد من القبيلة إلى جميع القبيلة، ومن أصرح الشواهد العربية في ذلك قوله:
* فسيف بني عبس وقد ضربوا به
* نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد
*
فإنه نسب الضرب إلى جميع بني عبس مع تصريحه بأن السيف في يد رجل واحد منهم، وهو ورقاء بن زهير، والشاعر يشير بذلك إلى قتل خالد بن جعفر الكلابي لزهير بن جذيمة العبسي، وأن ورقاء بن زهير، ضرب بسيف بني عبس، رأس خالد بن جعفر الكلابي، الذي قتل أباه ونبا عنه، أي لم يؤثر في رأسه، فإن معنى: نبا السيف ارتفع عن الضريبة ولم يقطع.
والشاعر يهجو بني عبس بذلك.
والحروب التي نشأت عن هذه القصة، وقتل الحارث بن ظالم المري لخالد المذكور، كل ذلك معروف في محله.
والأمر الثاني: أن جميع كفار قريش، صوبوا ضرب ابن الزبعري عيسى مثلا، وفرحوا بذلك، ووافقوه عليه، فصاروا كالمتمالئين عليه.
وبهذين الأمرين المذكورين جمع المفسرون بين صيغة الجمع في قوله: * (فعقروا الناقة) * وقوله * (فكذبوه فعقروها) * وبين صيغة الإفراد في قوله: * (فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر) *.
وقال بعض العلماء: الفاعل المحذوف في قوله ولما ضرب ابن مريم مثلا هو عامة قريش.
والذين قالوا إن كفار قريش لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يذكر عيسى، وسمعوا قول الله تعالى: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب) *. ثالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ما تريد بذكر عيسى إلا أن نعبدك كما عبد النصارى عيسى.
وعلى هذا فالمعنى أنهم ضربوا عيسى مثلا للنبي صلى الله عليه وسلم، في عبادة الناس لكل منهما، زاعمين أنه يريد أن يعبد كما عبد عيسى.
وعلى هذا القول فمعنى قوله * (ما ضربوه لك إلا جدلا) * أي ما ضربوا لك هذا
125

المثل إلا لأجل الخصومة بالباطل، مع أنهم يعلمون أنك لا ترضى أن تعبد بوجه من الوجوه.
وقوله تعالى: * (قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سوآء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله) *.
وإن كان من القرآن المدني النازل بعد الهجرة فمعناه يكرره عليهم النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا قبل الهجرة كما هو معلوم.
وكذلك قوله * (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) *.
ولا شك أن كفار قريش متيقنون، في جميع المدة التي أقامها صلى الله عليه وسلم، في مكة قبل الهجرة بعد الرسالة، وهي ثلاث عشرة سنة، أنه لا يدعو إلا إلى عبادة الله، وحده لا شريك له.
فادعاؤهم أنه يريد أن يعبدوه، افتراء منهم، وهم يعلمون أنهم مفترون، في ذلك.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (ءأالهتنا خير أم هو) *؟
التحقيق أن الضمير في قوله * (هو) * راجع إلى عيسى، لا إلى محمد عليهما الصلاة والسلام.
قال بعض العلماء: ومرادهم بالاستفهام تفضيل معبوداتهم على عيسى.
قيل: لأنهم يتخذون الملائكة آلهة، والملائكة أفضل عندهم من عيسى.
وعلى هذا فمرادهم أن عيسى عبد من دون الله، ولم يكن ذلك سببا لكونه في النار، ومعبوداتنا خير من عيسى، فكيف تزعم أنهم في النار.
وقال بعض العلماء: أرادوا تفضيل عيسى على آلهتهم.
والمعنى على هذا أنهم يقولون: عيسى خير من آلهتنا، أي في زعمك وأنت تزعم أنه في النار، بمقتضى عموم ما تتلوه من قوله * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) *.
وعيسى عبده النصارى من دون الله، فدلالة قولك على أن عيسى في النار، مع
126

اعترافك بخلاف ذلك، يدل على أن ما تقوله، من أنا وآلهتنا، في النار ليس بحق أيضا.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (بل هم قوم خصمون) * أي لد، مبالغون في الخصومة، بالباطل، كما قال تعالى: * (وتنذر به قوما لدا) * أي شديدي الخصومة.
وقوله تعالى: * (وهو ألد الخصام) *، لأن الفعل بفتح فكسر كخصم، من صيغ المبالغة، كما هو معلوم في محله.
وقد علمت مما ذكرنا أن قوله تعالى هنا * (ولما ضرب ابن مريم مثلا) * إنما بينته الآيات التي ذكرنا ببيان سببه.
ومعلوم أن الآية قد يتضح معناها ببيان سببها.
فعلى القول الأول، أنهم ضربوا عيسى مثلا لأصنامهم، في دخول النار، فإن ذلك المثل يفهم من أن سبب نزول الآية نزول قوله تعالى قبلها * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) * لأنها لما نزلت قالوا إن عيسى عبد من دون الله كآلهتهم فهم بالنسبة لما دلت عليه سواء.
وقد علمت بطلان هذا مما ذكرناه آنفا.
وعلى القول الثاني أنهم ضربوا عيسى مثلا لمحمد صلى الله عليه وسلم، في أن عيسى قد عبد، وأنه صلى الله عليه وسلم، يريد أن يعبد كما عبد عيسى، فكون سبب ذلك سماعهم لقوله تعالى: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب) * وسماعهم للآيات المكية النازلة في شأن عيسى يوضح المراد بالمثل.
وأما الآيات التي بينت قوله * (ما ضربوه لك إلا جدلا) * فبيانها له واضح على كلا القولين. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه) *. والتحقيق أن الضمير في قوله: هو عائد إلى عيسى أيضا لا إلى محمد عليهما الصلاة والسلام.
وقوله هنا: * (عبد أنعمنا عليه) * لم يبين هنا شيئا من الإنعام الذي أنعم به على عبده
127

عيسى، ولكنه بين ذلك في المائدة، في قوله تعالى: * (إذ قال الله ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتى عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس فى المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذنى فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذنى وتبرىء الا كمه والا برص بإذنى وإذ تخرج الموتى بإذنى وإذ كففت بنى إسراءيل عنك إذ جئتهم بالبينات) * وفي آل عمران، في قوله تعالى * (إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والا خرة ومن المقربين) * إلى قوله * (ومن الصالحين) * إلى غير ذلك من الآيات.
* (وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هاذا صراط مستقيم * ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين * ولما جآء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذى تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون * إن الله هو ربى وربكم فاعبدوه هاذا صراط مستقيم * فاختلف الا حزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم * هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون * الا خلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين * ياعباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون * الذين ءامنوا بأاياتنا وكانوا مسلمين * ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون * يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الا نفس وتلذ الا عين وأنتم فيها خالدون * وتلك الجنة التى أورثتموها بما كنتم تعملون * لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون * إن المجرمين فى عذاب جهنم خالدون * لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون * وما ظلمناهم ولاكن كانوا هم الظالمين * ونادوا يامالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون * لقد جئناكم بالحق ولاكن أكثركم للحق كارهون * أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون * أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون) * قوله تعالى: * (وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها) *. التحقيق أن الضمير في قوله: وإنه راجع إلى عيسى لا إلى القرآن، ولا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعنى قوله: * (لعلم للساعة) * على القول الحق الصحيح الذي يشهد له القرآن العظيم، والسنة المتواترة، هو أن نزول عيسى في آخر الزمان، حيا علم للساعة أي علامة لقرب مجيئها لأنه من أشراطها الدالة على قربها.
وإطلاق علم الساعة على نفس عيسى، جار على أمرين، كلاهما أسلوب عربي معروف.
أحدهما: أن نزول عيسى المذكور، لما كان علامة لقربها، كانت تلك العلامة، سببا لعلم قربها، فأطلق في الآية المسبب وأريد السبب.
وإطلاق المسبب وإرادة السبب، أسلوب عربي معروف في القرآن، وفي كلام العرب.
ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى: * (وينزل لكم من السمآء رزقا) *.
فالرزق مسبب عن المطر والمطر سببه، فأطلق المسبب الذي هو الرزق وأريد سببه الذي هو المطر للملابسة القوية التي بين السبب والمسبب.
ومعلوم أن البلاغيين، ومن وافقهم، يزعمون أن مثل ذلك، من نوع ما يسمونه المجاز المرسل، وأن الملابسة بين السبب والمسبب من علاقات المجاز المرسل عندهم.
128

والثاني من الأمرين أن غاية ما في ذلك، أن الكلام على حذف مضاف، والتقدير، وإنه لذو علم للساعة، أي وإنه لصاحب إعلام الناس، بقرب مجيئها، لكونه علامة لذلك، وحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، كثير في القرآن، وفي كلام العرب، وإليه أشار في الخلاصة بقوله: كثير في القرآن، وفي كلام العرب، وإليه أشار في الخلاصة بقوله:
* وما يلي المضاف يأت خلفا
* عنه في الإعراب إذا ما حذفا
*
وهذا الأخير أحد الوجهين اللذين وجه بهما علماء العربية النعت بالمصدر كقولك: زيد كرم وعمرو عدل أي ذو كرم وذو عدل كما قال تعالى: * (وأشهدوا ذوى عدل منكم) *، وقد أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله: وأشهدوا ذوى عدل منكم) *، وقد أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله:
* ونعتوا بمصدر كثيرا
* فالتزموا الإفراد والتذكيرا
*
أما دلالة القرآن الكريم على هذا القول الصحيح، ففي قوله تعالى سورة النساء: * (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته) * أي ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وذلك صريح في أن عيسى حي وقت نزول آية النساء هذه، وأنه لا يموت حتى يؤمن به أهل الكتاب.
ومعلوم أنهم لا يؤمنون به إلا بعد نزوله إلى الأرض.
فإن قيل قد ذهبت جماعة من المفسرين، من الصحابة فمن بعدهم إلى أن الضمير في قوله: قبل موته راجع إلى الكتابي، أي إلا ليؤمنن به الكتابي قبل موت الكتابي.
فالجواب أن يكون الضمير راجعا إلى عيسى، يجب المصير إليه، دون القول الآخر، لأنه أرجح منه من أربعة أوجه:
الأول: أنه هو ظاهر القرآن المتبادر منه، وعليه تنسجم الضمائر بعضها مع بعض.
والقول الآخر بخلاف ذلك.
وإيضاح هذا أن الله تعالى قال: * (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله) * ثم قال تعالى: * (وما قتلوه) * أي عيسى، * (وما صلبوه) * أي عيسى * (ولاكن شبه لهم) * أي عيسى * (وإن الذين اختلفوا فيه) * أي عيسى * (لفى شك منه) * أي عيسى * (ما لهم به من علم) * أي عيسى، * (وما قتلوه يقينا) * أي عيسى * (بل رفعه الله) *
129

أي عيسى * (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به) * أي عيسى * (قبل موته) * أي عيسى * (ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا) * أي يكون هو، أي عيسى عليهم شهيدا.
فهذا السياق القرآني الذي ترى، ظاهر ظهورا لا ينبغي العدول عنه، في أن الضمير في قوله قبل موته، راجع إلى عيسى.
الوجه الثاني: من مرجحات هذا القول، أنه على هذا القول الصحيح، فمفسر الضمير، ملفوظ مصرح به، في قوله تعالى: * (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله) *.
وأما على القول الآخر فمفسر الضمير ليس مذكورا في الآية أصلا، بل هو مقدر تقديره: ما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به قبل موته، أي موت أحد أهل الكتاب المقدر.
ومما لا شك فيه، أن ما لا يحتاج إلى تقدير، أرجح وأولى، مما يحتاج إلى تقدير.
الوجه الثالث من مرجحات هذا القول الصحيح، أنه تشهد له السنة النبوية المتواترة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد تواترت عنه الأحاديث بأن عيسى حي الآن، وأنه سينزل في آخر الزمان حكما مقسطا.
ولا ينكر تواتر السنة بذلك إلا مكابر.
قال ابن كثير في تفسيره، بعد أن ذكر هذا القول الصحيح ونسبه إلى جماعة من المفسرين ما نصه:
وهذا القول هو الحق كما سنبينه بعد بالدليل القاطع إن شاء الله تعالى ا ه.
وقوله بالدليل القاطع يعني السنة المتواترة، لأنها قطعية وهو صادق في ذلك.
وقال ابن كثير، في تفسير آية الزخرف هذه ما نصه:
وقد تواترت الأحاديث، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، (أنه أخبر بنزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة إماما عادلا وحكما مقسطا) ا ه منه.
وهو صادق في تواتر الأحاديث بذلك.
130

وأما القول بأن الضمير في قوله قبل موته راجع إلى الكتاب فهو خلاف ظاهر القرآن، ولم يقم عليه دليل من كتاب ولا سنة.
الوجه الرابع: هو أن القول الأول الصحيح، واضح لا إشكال فيه، ولا يحتاج إلى تأويل ولا تخصيص بخلاف القول الآخر، فهو مشكل لا يكاد يصدق، إلا مع تخصيص، والتأويلات التي يروونها فيه عن ابن عباس، وغيره، ظاهرة البعد والسقوط لأنه على القول بأن الضمير في قوله قبل موته راجع إلى عيسى فلا إشكال ولا خفاء، ولا حاجة إلى تأويل، ولا إلى تخصيص.
وأما على القول بأنه راجع إلى الكتابي فإنه مشكل جدا بالنسبة لكل من فاجأه الموت من أهل الكتاب، كالذي يسقط من عال إلى أسفل، والذي يقطع رأسه بالسيف وهو غافل والذي يموت في نومه ونحو ذلك، فلا يصدق هذا العموم المذكور في الآية على هذا النوع، من أهل الكتاب، إلا إذا ادعى إخراجهم منه بمخصص.
ولا سبيل إلى تخصيص عمومات القرآن، إلا بدليل يجب الرجوع إليه من المخصصات المتصلة أو المنفصلة.
وما يذكر عن ابن عباس من أنه سئل عن الذي يقطع رأسه من أهل الكتاب فقال إن رأسه يتكلم، بالإيمان بعيسى، وأن الذي يهوي من عال إلى أسفل يؤمن به وهو يهوي، لا يخفى بعده وسقوطه، وأنه لا دليل البتة عليه كما ترى.
وبهذا كله تعلم، أن الضمير في قوله * (قبل موته) *، راجع إلى عيسى، وأن تلك الآية من سورة النساء تبين قوله تعالى هنا: * (وإنه لعلم للساعة) * كما ذكرنا.
فإن قيل: إن كثيرا ممن لا تحقيق عندهم يزعمون أن عيسى قد توفي، ويعتقدون مثل ما يعتقده، ضلال اليهود والنصارى، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: * (إذ قال
الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلى) * وقوله * (فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم) *.
فالجواب أنه لا دلالة في إحدى الآيتين البتة على أن عيسى قد توفي فعلا.
131

أما قوله تعالى: * (إني متوفيك) * فإن دلالته المزعومة على ذلك منفية من أربعة أوجه:
الأول: أن قوله: * (متوفيك) * حقيقة لغوية في أخذ الشيء كاملا غير ناقص، والعرب تقول: توفي فلان دينه يتوفاه فهو متوف له إذا قبضه وحازه إليه كاملا من غير نقص.
فمعنى: * (إني متوفيك) * في الوضع اللغوي أي حائزك إلي، كاملا بروحك وجسمك.
ولكن الحقيقة العرفية خصصت التوفي المذكور بقبض الروح دون الجسم ونحو هذا مما دار بين الحقيقة اللغوية العرفية فيه لعلماء الأصول ثلاثة مذاهب.
الأول: هو تقديم الحقيقة العرفية، وتخصيص عموم الحقيقة اللغوية بها.
وهذا هو المقرر في أصول الشافعي وأحمد، وهو المقرر في أصول مالك إلا أنهم في الفروع ربما لم يعتمدوه في بعض المسائل.
وإلى تقديم الحقيقة العرفية، على الحقيقة اللغوية أشار في مراقي السعودي بقوله: وإلى تقديم الحقيقة العرفية، على الحقيقة اللغوية أشار في مراقي السعودي بقوله:
* واللفظ محمول على الشرعي
* إن لم يكن فمطلق العرفي
*
* فاللغوي على الجلي ولم يجب
* بحث عن المجاز في الذي انتخب
*
المذهب الثاني: هو تقديم الحقيقة اللغوية على العرفية بناء على أن العرفية وإن ترجحت بعرف الاستعمال، فإن اللغوية مترجحة بأصل الوضع.
وهذا القول مذهب أبي حنيفة رحمه الله.
المذهب الثالث: أنه لا تقدم العرفية على اللغوية، ولا اللغوية على العرفية، بل يحكم باستوائهما ومعادلة الاحتمالين فيهما، فيحكم على اللفظ بأنه مجمل، لاحتمال هذه واحتمال تلك.
وهذا اختيار ابن السبكي، ومن وافقه، وإلى هذين المذهبين الأخيرين أشار في مراقي السعودي بقوله: وهذا اختيار ابن السبكي، ومن وافقه، وإلى هذين المذهبين الأخيرين أشار في مراقي السعودي بقوله:
* ومذهب النعمان عكس ما مضى
* والقول بالإجمال فيه مرتضى
*
132

وإذا علمت هذا، فاعلم أنه على المذهب الأول، الذي هو تقديم الحقيقة اللغوية، على العرفية، فإن قوله تعالى: * (إني متوفيك) * لا يدل إلا على أنه قبضه إليه بروحه وجسمه، ولا يدل على الموت أصلا، كما أن توفي الغريم لدينه لا يدل على موت دينه.
وأما على المذهب الثاني: وهو تقديم الحقيقة العرفية على اللغوية، فإن لفظ التوفي حينئذ، يدل في الجملة على الموت.
ولكن سترى إن شاء الله، أنه وإن دل على ذلك في الجملة، لا يدل على أن عيسى قد توفي فعلا.
وقد ذكرنا في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب، عن آيات الكتاب، في سورة آل عمران، وجه عدم دلالة الآية، على موت عيسى فعلا، أعني قوله تعالى: * (إني متوفيك) * فقلنا ما نصه:
والجواب عن هذا، من ثلاثة أوجه:
الأول أن قوله تعالى: * (متوفيك) * لا يدل على تعيين الوقت، ولا يدل على كونه قد مضى.
وأما عطفه ورافعك إلى، على قوله: متوفيك، فلا دليل فيه لإطباق جمهور أهل اللسان العربي، على أن الواو لا تقتضي الترتيب ولا الجمع، وإنما تقتضي مطلق التشريك.
وقد ادعى السيرافي والسهيلي، إجماع النحاة على ذلك، وعزاه الأكثر للمحققين وهو الحق خلافا لما قاله قطرب والفراء وثعلب وأبو عمرو الزاهد وهشام والشافعي من أنها تفيد الترتيب لكثرة استعمالها فيه.
وقد أنكر السيرافي ثبوت هذا القول عن الفراء وقال لم أجده في كتابه.
وقال ولي الدين: أنكر أصحابنا نسبة هذا القول إلى الشافعي.
حكاه عنه صاحب الضياء اللامع.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (أبدأ بما بدأ الله به) يعني الصفا لا دليل فيه على اقتضائها الترتيب.
133

وبيان ذلك هو ما قاله الفهري كما ذكره عنه صاحب الضياء اللامع.
وهو أنها كما أنها لا تقتضي الترتيب ولا المعية، فكذلك لا تقتضي المنع منهما.
فقد يكون العطف بها مع قصد الاهتمام بالأول كقوله: * (إن الصفا والمروة من شعآئر الله) * بدليل الحديث المتقدم.
وقد يكون المعطوف بها مرتبا كقول حسان: * هجوت محمدا وأجبت عنه
على رواية الواو.
وقد يراد بها المعية كقوله: * (فأنجيناه وأصحاب السفينة) * وقوله * (وجمع الشمس والقمر) * ولكن لا تحمل على الترتيب ولا على المعية إلا بدليل منفصل.
الوجه الثاني: أن معنى * (متوفيك) * أي منيمك ورافعك إلي، أي في تلك النومة.
وقد جاء في القرآن إطلاق الوفاة على النوم في قوله تعالى: * (وهو الذى يتوفاكم باليل ويعلم ما جرحتم بالنهار) *، وقوله: * (الله يتوفى الا نفس حين موتها والتى لم تمت فى منامها) *، وعزى ابن كثير هذا القول للأكثرين، واستدل بالآيتين المذكورتين.
الوجه الثالث: أن متوفيك، اسم فاعل توفاه، إذا قبضه وحازه إليه، ومنه قولهم: توفي فلان دينه إذا قبضه إليه، فيكون معنى متوفيك على هذا، قابضك منهم إلي حيا، وهذا القول هو اختيار ابن جرير.
وأما الجمع بأنه توفاه ساعات أو أياما، ثم أحياه فلا معول عليه، إذ لا دليل عليه. ا ه. من دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب.
وقد قدمنا في هذا البحث أن دلالة قوله تعالى: * (متوفيك) * على موت عيسى فعلا، منفية من أربعة أوجه، وقد ذكرنا منها ثلاثة، من غير تنظيم،
134

أولها أن * (متوفيك) * حقيقة لغوية في أخذه بروحه وجسمه.
الثاني: أن * (متوفيك) * وصف محتمل للحال والاستقبال والماضي، ولا دليل في الآية على أن ذلك التوفي قد وقع ومضى، بل السنة المتواترة والقرآن دالان على خلاف ذلك، كما أوضحنا في هذا المبحث.
الثالث: أنه توفي نوم، وقد ذكرنا الآيات الدالة على أن النوم يطلق عليه الوفاة، فكل من النوم والموت، يصدق عليه اسم التوفي، وهما مشتركان في الاستعمال العرفي.
فهذه الأوجه الثلاثة ذكرناها كلها في الكلام الذي نقلنا من كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب.
وذكرنا الأول منها بانفراده لنبين مذاهب الأصوليين فيه.
أما قوله تعالى: * (فلما توفيتنى) *، فدلالته على أن عيسى مات، منفية من وجهين:
الأول منهما: أن عيسى يقول ذلك يوم القيامة، ولا شك أن يموت قبل يوم القيامة، فإخباره يوم القيامة بموته، لا يدل على أنه الآن قد مات كما لا يخفى.
والثاني منهما: أن ظاهر الآية أنه توفي رفع وقبض للروح والجسد، لا توفي موت.
وإيضاح ذلك أن مقابلته لذلك التوفي بالديمومة فيهم في قوله: * (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى) *، تدل على ذلك لأنه لو كان توفي موت، لقال ما دمت حيا، فلما توفيتني لأن الذي يقابل بالموت هو الحياة كما في قوله: * (وأوصانى بالصلواة والزكواة ما دمت حيا) *.
أما التوفي المقابل بالديمومة فيهم فالظاهر أنه توفي انتقال عنهم، إلى موضع آخر.
وغاية ما في ذلك هو حمل اللفظ على حقيقته اللغوية مع قرينة صارفة عن قصد العرفية، وهذا لا إشكال فيه.
وأما الوجه الرابع، من الأوجه المذكورة سابقا، أن الذين زعموا أن عيسى قد مات، قالوا إنه لا سبب لذلك الموت، إلا أن اليهود قتلوه وصلبوه، فإذا تحقق نفي هذا السبب
135

وقطعهم أنه لم يمت بسبب غيره، تحققنا أنه لم يمت أصلا، وذلك السبب الذي زعموه، منفي يقينا بلا شك، لأن الله جل وعلا قال: * (وما قتلوه وما صلبوه) *. وقال تعالى: * (وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه) *.
وضمير رفعه ظاهر في رفع الجسم والروح معا كما لا يخفى.
وقد بين الله جل وعلا مستند اليهود في اعتقادهم أنهم قتلوه، بأن الله ألقى شبهه على إنسان آخر فصار من يراه يعتقد اعتقادا جازما أنه عيسى.
فرآه اليهود لما أجمعوا على قتل عيسى فاعتقدوا لأجل ذلك الشبه الذي ألقي عليه اعتقادا جازما أنه عيسى فقتلوه.
فهم يعتقدون صدقهم، في أنهم قتلوه وصلبوه، ولكن العليم اللطيف الخبير، أوحى إلى نبيه، في الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أنهم لم يقتلوه ولم يصلبوه.
محمد صلى الله عليه وسلم والذين اتبعوه عندهم علم من الله بأمر عيسى لم يكن عند اليهود ولا النصارى كما أوضحه تعالى بقوله * (وإن الذين اختلفوا فيه لفى شك منه
ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه) *.
والحاصل أن القرآن العظيم على التفسير الصحيح والسنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم كلاهما دال على أن عيسى حي، وأنه سينزل في آخر الزمان، وأن نزوله من علامات الساعة، وأن معتمد الذين زعموا أنهم قتلوه ومن تبعهم هو إلقاء شبهه على غيره، واعتقادهم الكاذب أن ذلك المقتول الذي شبه بعيسى هو عيسى.
وقد عرفت دلالة الوحي على بطلان ذلك، وأن قوله * (متوفيك) * على موته فعلا.
وقد رأيت توجيه ذلك من أربعة أوجه، وأنه على المقرر في الأصول، في المذاهب الثلاثة التي ذكرنا عنهم، ولا إشكال في أنه لم يمت فعلا.
أما على القول بتقديم الحقيقة اللغوية فالأمر واضح، لأن الآية على ذلك لا تدل على الموت.
136

وأما على القول بالإجمال، فالمقرر في الأصول أن المحمل، لا يحمل على واحد من معنييه، ولا معانيه بل يطلب بيان المراد منه، بدليل منفصل.
وقد دل الكتاب هنا والسنة المتواترة على أنه لم يمت وأنه حي.
وأما على القول بتقديم الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية، فإنه يجاب عنه من أوجه:
الأول: أن التوفي محمول على النوم، وحمله عليه يدخل في اسم الحقيقة العرفية.
والثاني: أنا وإن سلمنا أنه توفي موت، فالصيغة لا تدل على أنه قد وقع فعلا.
الثالث: أن القول المذكور بتقديم العرفية، محله فيما إذا لم يوجد دليل صارف، عن إرادة العرفية اللغوية، فإن دل على ذلك دليل وجب تقديم اللغوية قولا واحدا.
وقد قدمنا مرارا دلالة الكتاب والسنة المتواترة على إرادة اللغوية هنا دون العرفية.
واعلم بأن القول بتقديم اللغوية على العرفية، محله فيما إذا لم تتناس اللغوية بالكلية، فإن أميتت الحقيقة اللغوية بالكلية، وجب المصير إلى العرفية إجماعا، وإليه أشار في مراقي السعود بقوله: واعلم بأن القول بتقديم اللغوية على العرفية، محله فيما إذا لم تتناس اللغوية بالكلية، فإن أميتت الحقيقة اللغوية بالكلية، وجب المصير إلى العرفية إجماعا، وإليه أشار في مراقي السعود بقوله:
* أجمع إن حقيقة تمات
* على التقدم له الإثبات
*
فمن حلف ليأكلن من هذه النخلة، فمقتضى الحقيقة اللغوية، أنه لا يبر يمينه حتى يأكل من نفس النخلة لا من ثمرتها.
ومقتضى الحقيقة العرفية أنه يأكل من ثمرتها لا من نفس جذعها.
والمصير إلى العرفية هنا واجب إجماعا، لأن اللغوية في مثل هذا أميتت بالكلية.
فلا يقصد عاقل البتة الأكل من جذع النخلة.
أما الحقيقة اللغوية في قوله تعالى: * (إني متوفيك) * فإنها ليست من الحقيقة المماتة كما لا يخفى.
ومن المعلوم في الأصول أن العرفية تسمى حقيقة عرفية ومجازا لغويا، وأن اللغوية تسمى عندهم حقيقة لغوية، ومجازا عرفيا.
137

وقد قدمنا مرارا أنا أوضحنا أن القرآن الكريم لا مجاز فيه على التحقيق في رسالتنا المسماة (منع جواز المجاز، في المنزل للتعبد والإعجاز).
فاتضح مما ذكرنا كله أن آية الزخرف هذه تبينها آية النساء المذكورة، وأن عيسى لم يمت وأنه ينزل في آخر الزمان وإنما قلنا إن قوله تعالى هنا: * (وإنه لعلم للساعة) * أي علامة ودليل على قرب مجيئها، لأن وقت مجيئها بالفعل لا يعلمه إلا الله.
وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك مرارا.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (فلا تمترن بها) * أي لا تشكن في قيام الساعة فإنه لا شك فيه.
وقد قدمنا الآيات الموضحة له مرارا كقوله تعالى: * (وأن الساعة ءاتية لا ريب فيها) *. وقوله: * (وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق فى الجنة وفريق فى السعير) *. وقوله * (ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه) * وقوله * (فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين) *. وقد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة مرارا كقوله: * (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا) *. وقوله * (أفتتخذونه وذريته أوليآء من دونى وهم لكم عدو) *. إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم) *. قوله هنا * (ظلموا) * أي كفروا، بدليل قوله في مريم، في القصة بعينها، * (فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم) *.
وقوله * (من مشهد يوم عظيم) * يوضحه قوله هنا: * (من عذاب يوم أليم) *.
وقد قدمنا مرارا الآيات الدالة على إطلاق الظلم على الكفر كقوله: * (إن الشرك لظلم عظيم) * وقوله: * (والكافرون هم الظالمون) * وقوله: * (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين) * وقوله تعالى
138

* (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) * أي بشرك، كما فسره به النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الثابت في صحيح البخاري. قوله تعالى: * (هل ينظرون إلا الساعة
أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون) *. الاستفهام بهل هنا بمعنى النفي، وينظرون بمعنى ينتظرون، أي ما ينتظر الكفار إلا الساعة، أي القيامة أن تأتيهم بغتة، أي في حال كونها مباغتة لهم، أي مفاجئة لهم، وهم لا يستغفرون أي بمفاجأتها في حال غفلتهم وعدم شعورهم بمجيئها.
والظاهر أن المصدر المنسبك من أن وصلتها في قوله: * (أن تأتيهم) * في محل نصب، على أنه بدل اشتمال من الساعة، وكون ينظرون، بمعنى ينتظرون، معروف في كلام العرب، ومنه قول امرئ القيس: أن تأتيهم) * في محل نصب، على أنه بدل اشتمال من الساعة، وكون ينظرون، بمعنى ينتظرون، معروف في كلام العرب، ومنه قول امرئ القيس:
* فإنكما إن تنظراني ساعة
* من الدهر تنفعني لدى أم جندب
*
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من أن الساعة تأتيهم بغتة، جاء موضحا في آيات من كتاب الله. كقوله تعالى في الأعراف: * (ثقلت فى السماوات والا رض لا تأتيكم إلا بغتة) *. وقوله تعالى في القتال * (فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جآء أشراطها) * وقوله تعالى: * (ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية) *.
فالمراد بالصيحة: القيامة.
وقوله: * (وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية) *، يدل على أنها تأتيهم وهم في غفلة، وعدم شعور بإتيانها، إلى غير ذلك من الآيات. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ياعباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين ءامنوا بأاياتنا وكانوا مسلمين) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة بعض صفات الذين ينتفي عنهم الخوف والحزن يوم القيامة.
فذكر منها هنا الإيمان بآيات الله والإسلام، وذكر بعضا منها في غير هذا الموضع.
139

فمن ذلك الإيمان والتقوى، وذلك في قوله تعالى في سورة يونس * (ألا إن أوليآء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين ءامنوا وكانوا يتقون) *.
ومن ذلك الاستقامة، وقولهم: ربنا الله، وذلك في قوله في فصلت: * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا) *: وقوله تعالى في الأحقاف * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * إلى غير ذلك من الآيات.
والخوف في لغة العرب: الغم من أمر مستقبل.
والحزن: الغم من أمر ماض.
وربما استعمل كل منهما في موضع الآخر.
وإطلاق الخوف على العلم أسلوب عربي معروف.
قال بعض العلماء: ومنه قوله تعالى * (إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود الله) *.
قال معناه: إلا أن يعلما.
ومنه قول أبي محجن الثقفي: ومنه قول أبي محجن الثقفي:
* إذا مت فادفني إلى جنب كرمة
* تروي عظامي في الممات عروقها
*
* ولا تدفني في الفلاة فإنني
* أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
*
فقوله أخاف: أي أعلم لأنه لا يشك في أنه لا يشربها بعد موته.
وقوله في هذه الآية الكريمة * (الذين ءامنوا بأاياتنا وكانوا مسلمين) * ظاهره المغايرة بين الإيمان والإسلام.
وقد دل بعض الآيات على اتحادهما كقوله تعالى: * (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) *.
ولا منافاة في ذلك، فإن الإيمان يطلق تارة على جميع ما يطلق عليه الإسلام من الاعتقاد والعمل. كما ثبت في الصحيح، في حديث وفد عبد القيس، والأحاديث بمثل ذلك كثيرة جدا.
140

ومن أصرحها في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (الإيمان بضع وسبعون).
وفي بعض الروايات الثابتة في الصحيح (وستون شعبة أعلاها شهادة ألا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق).
فقد سمى صلى الله عليه وسلم (إماطة الأذى عن الطريق) إيمانا.
وقد أطال البيهقي رحمه الله في شعب الإيمان، في ذكر الأعمال التي جاء الكتاب والسنة تسميتها إيمانا.
فالإيمان الشرعي التام والإسلام الشرعي التام معناهما واحد.
وقد يطلق الإيمان إطلاقا آخر على خصوص ركنه الأكبر الذي هو الإيمان بالقلب، كما في حديث جبريل الثابت في الصحيح.
والقلب مضغة في الجسد إذا صلحت صلح الجسد كله. فغيره تابع له. وعلى هذا تحصل المغايرة في الجملة بين الإيمان والإسلام.
فالإيمان، على هذا الإطلاق، اعتقاد والإسلام شامل للعمل.
واعلم أن مغايرته تعالى بين الإيمان والإسلام في قوله تعالى: * (قالت الا عراب ءامنا قل لم تؤمنوا ولاكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان فى قلوبكم) *.
قال بعض العلماء: المراد بالإيمان هنا، معناه الشرعي، والمراد بالإسلام معناه اللغوي.
لأن إذعان الجوارح وانقيادها دون إيمان القلب إسلام لغة لا شرعا.
وقال بعض العلماء: المراد بكل منهما معناه الشرعي، ولكن نفي الإيمان في قوله: ولما يدخل الإيمان، يراد به عند من قال هذا، نفي كمال الإيمان لا نفي أصله، ولكن ظاهر الآية لا يساعد على هذا، لأن قوله * (ولما يدخل) * فعل في سياق النفي وهو صيغة عموم، على التحقيق، وإن لم يؤكد بمصدر، ووجهه واضح جدا، كما قدمناه مرارا.
وهو أن الفعل الصناعي ينحل، عن مصدر وزمن عند النحويين، وعن مصدر وزمن، ونسبة عند البلاغيين، كما حرروه في مبحث الاستعارة التبعية، وهو أصوب.
141

فالمصدر كامن في مفهوم الفعل الصناعي إجماعا، وهو نكرة لم تتعرف بشيء فيؤول إلى معنى النكرة في سياق النفي.
وقد أشار صاحب مراقي السعود إلى أن الفعل في سياق النفي أو الشرط من صيغ العموم بقوله: وقد أشار صاحب مراقي السعود إلى أن الفعل في سياق النفي أو الشرط من صيغ العموم بقوله:
* ونحو لا شربت أو وإن شربا
* واتفقوا إن مصدر قد جلبا
*
ووجه إهمال لا في هذه الآية في قوله تعالى: * (لا خوف) * أن لا الثانية التي هي * (ولا هم يحزنون) * بعدها معرفة وهي الضمير، وهي لا تعمل في المعارف، بل في النكرات، فلما وجب إهمال الثانية، أهملت الأولى لينسجم الحرفان بعضهما مع بعض في إهمالهما معا. قوله تعالى: * (ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون) *. قوله تعالى في هذه الآية * (وأزواجكم) * فيه لعلماء التفسير وجهان:
أحدهما، أن المراد بأزواجهم، نظراؤاهم وأشباههم في الطاعة وتقوى الله واقتصر على هذا القول ابن كثير.
والثاني: أن المراد بأزواجهم، نساؤهم في الجنة.
لأن هذا الأخير أبلغ في التنعم والتلذذ من الأول.
ولذا يكثر في القرآن، ذكر إكرام أهل الجنة، بكونهم مع نسائهم دون الامتنان عليهم، بكونهم مع نظرائهم وأشباههم في الطاعة.
قال تعالى: * (إن أصحاب الجنة اليوم فى شغل فاكهون هم وأزواجهم فى ظلال على الا رآئك متكئون) *.
وقال كثير في أهل العلم: إن المراد بالشغل المذكور في الآية، هو افتضاض الأبكار. وقال تعالى: * (وزوجناهم بحور عين) *. وقال تعالى: * (وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون) *. وقال تعالى: * (فيهن خيرات حسان) * إلى قوله: * (حور مقصورات فى الخيام) *، وقال: * (وعندهم قاصرات الطرف
142

عين) * وقال تعالى: * (وعندهم قاصرات الطرف أتراب) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا: أن مفرد الأزواج زوج بلا هاء، وأن الزوجة بالتاء لغة لا لحن خلافا لمن زعم أن الزوجة لحن من لحن الفقهاء، وأن ذلك لا أصل له في اللغة.
والحق أن ذلك لغة عربية، ومنه قول الفرزدق: والحق أن ذلك لغة عربية، ومنه قول الفرزدق:
* وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي
* كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
*
وقول الحماسي: وقول الحماسي:
* فبكى يناتي شجوهن وزوجتي
* والظاعنون إلى ثم تصدع
*
وفي صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صفية (إنها زوجتي) وقوله * (تحبرون) * أقوال العلماء فيه راجعة إلى شيء واحد، وهو أنهم يكرمون بأعظم أنواع الإكرام وأتمها. قوله تعالى: * (يطاف عليهم بصحاف من ذهب) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له، وجميع الآيات التي فيها الأنعام على أهل الجنة بأواني الذهب والفضة، والتحلي بهما، ولبس الحرير، ومنه السندس والإستبرق، وفي سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: * (وتستخرجوا منه حلية تلبسونها) *. قوله تعالى: * (وفيها ما تشتهيه الا نفس وتلذ الا عين وأنتم فيها خالدون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن كل ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، أي تلتذ به الأعين أي برؤيته لحسنه، كما قال تعالى: * (صفرآء فاقع لونها تسر الناظرين) *. وأسند اللذة إلى العين، وهي في الحقيقة مسندة لصاحب العين، كإسناد الكذب والخطيئة إلى الناصية، وهي مقدم شعر الرأس، في قوله تعالى: * (ناصية كاذبة خاطئة) * وكإسناد الخشوع، والعمل والنصب، إلى الوجوه، في قوله تعالى: * (وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة) *.
143

ومعلوم أن الكذب والخطيئة مسندان في الحقيقة لصاحب الناصية، كما أن الخشوع والعمل، والنصب مسندات إلى أصحاب الوجوه.
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الجنة، فيها كل مشتهى، وكل مستلذ، جاء مبسوطا موضحة أنواعه في آيات كثيرة، من كتاب الله، وجاء محمد أيضا إجمالا شاملا لكل شيء من النعيم.
أما إجمال ذلك ففي قوله تعالى: * (فلا تعلم نفس مآ أخفى لهم من قرة أعين جزآء بما كانوا يعملون) *.
وأما بسط ذلك وتفصيله، فقد بين القرآن، أن من ذلك النعيم المذكور في الآية، المشارب، والمآكل والمناكح، والفرش والسرر، والأواني، وأنواع الحلي والملابس والخدم إلى غير ذلك، وسنذكر بعض الآيات الدالة على كل شيء من ذلك.
أما المآكل فقد قال تعالى: * (لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون) *، وقال: * (ولحم طير مما يشتهون) * وقال تعالى: * (وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة) * وقال تعالى: * (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هاذا الذى رزقنا من قبل وأتوا به متشابها) *. إلى غير ذلك من الآيات.
أما المشارب، فقد قال تعالى: * (إن الا برار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا) *. وقال تعالى: * (ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا عينا فيها تسمى سلسبيلا) *، وقوله تعالى: * (يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون) *. وقال تعالى: * (يطاف عليهم بكأس من معين بيضآء لذة للشاربين لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون) *: وقال تعالى: * (فيهآ أنهار من مآء غير ءاسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات) * وقال تعالى * (كلوا واشربوا هنيئا بمآ أسلفتم فى الا يام الخالية) * إلى غير ذلك من الآيات.
144

وأما الملابس والأواني والحلي، فقد قدمنا الكلام عليها مستوفى في سورة النحل.
وأما المناكح فقد قدمنا بعض الآيات الدالة عليها قريبا.
وهي كثيرة كقوله تعالى: * (ولهم فيهآ أزواج مطهرة) *. ويكفي ما قدمنا من ذلك قريبا.
وأما ما يتكئون عليه من الفرش والسرر ونحو ذلك، ففي آيات كثيرة كقوله تعالى: * (متكئين على فرش بطآئنها من إستبرق) *. وقوله تعالى: * (هم وأزواجهم فى ظلال على الا رآئك متكئون) * وقوله تعالى: * (على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين) *.
والسرر الموضونة هي المنسوجة بقضبان الذهب.
وقوله تعالى * (إخوانا على سرر متقابلين) *. وقوله تعالى: * (فيها سرر مرفوعة) *. وقوله تعالى: * (متكئين على رفرف خضر وعبقرى حسان) * إلى غير ذلك من الآيات.
وأما خدمهم فقد قال تعالى في ذلك: * (يطوف عليهم ولدان مخلدون) *. وقال تعالى في سورة الإنسان في صفة هؤلاء الغلمان: * (إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا) *، وذكر نعيم أهل الجنة بأبلغ صيغة في قوله تعالى: * (وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا) *.
والآيات الدالة على أنواع نعيم الجنة وحسنها وكمالها كالظلال والعيون والأنهار وغير ذلك كثيرة جدا ولنكتف منها بما ذكرنا.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وأنتم فيها خالدون) *، قد قدمنا الآيات الموضحة، لأن خلودهم المذكور لا انقطاع له البتة كقوله تعالى: * (عطآء غير مجذوذ) * أي غير مقطوع، وقوله تعالى: * (إن هاذا لرزقنا ما له من نفاد) * وقوله تعالى: * (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) *. قوله تعالى: * (وتلك الجنة التى أورثتموها بما كنتم تعملون) *.
145

قد قدمنا الكلام على هذه الآية الكريمة، ونحوها من الآيات الدالة على أن العمل سبب لدخول الجنة كقوله تعالى: * (ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) * وقوله تعالى: * (تلك الجنة التى نورث من عبادنا من كان تقيا) * وقوله تعالى: * (فلا تعلم نفس مآ أخفى لهم من قرة أعين جزآء بما كانوا يعملون) *.
وبينا أقرب أوجه الجمع بين هذه الآيات الكريمة وما بمعناها، مع وقوله صلى الله عليه وسلم (لن يدخل أحدكم عمله الجنة قالوا: ولا أنت يا رسول الله قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل).
وذكرنا في ذلك أن العمل الذي بينت الآيات كونه سبب دخول الجنة هو العمل الذي تقبله الله برحمة منه وفضل.
وأن العمل الذي لا يدخل الجنة هو الذي لم يتقبله الله.
والله يقول: * (إنما يتقبل الله من المتقين) *. قوله تعالى: * (ونادوا يامالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون) *. اللام في قوله * (ليقض) * لام الدعاء.
والظاهر أن المعنى، أن مرادهم بذلك سؤال مالك خازن النار، أن يدعو الله لهم بالموت.
والدليل على ذلك أمران:
الأول: أنهم لو أرادوا دعاء الله بأنفسهم أن يميتهم لما نادوا يا مالك، ولما خاطبوه في قولهم: * (ربك) *.
والثاني: أن الله بين في سورة المؤمن أن أهل النار، يطلبون خزنة النار، أن يدعو الله لهم ليخفف عنهم العذاب، وذلك في قوله تعالى: * (وقال الذين فى النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب) *. وقوله * (ليقض علينا ربك) * أي ليمتنا فنستريح بالموت من العذاب.
ونظيره قوله تعالى: * (فوكزه موسى فقضى عليه) * أي أماته.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (قال إنكم ماكثون) * دليل على أنهم لا يجابون
146

إلى الموت بل يمكثون في النار معذبين إلى غير نهاية.
وقد دل القرآن العظيم على أنهم لا يموتون فيها فيستريحوا بالموت، ولا تغني هي عنهم، ولا يخفف عنهم عذابها، ولا يخرجون منها.
أما كونهم لا يموتون فيها الذي دل عليه قوله هنا * (قال إنكم ماكثون) * فقد دلت عليه آيات من كتاب الله كقوله تعالى: * (إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى) *، وقوله تعالى: * (ويتجنبها الا شقى الذى يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيا) *. وقوله تعالى: * (والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا) *. وقوله تعالى: * (ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت) *.
وأما كون النار لا تغني عنهم، فقد بينه تعالى بقوله: * (كلما خبت زدناهم سعيرا) *، فمن يدعي أن للنار خبوة نهائية وفناء رد عليه بهذه الآية الكريمة.
وأما كون العذاب لا يخفف عنه فقد دلت عليه آيات كثيرة جدا كقوله: * (ولا يخفف عنهم من عذابها) *. وقوله تعالى: * (فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون) *، وقوله تعالى: * (فلن نزيدكم إلا عذابا) *، وقوله تعالى: * (لا يفتر عنهم) *. وقوله: * (إن عذابها كان غراما) * وقوله تعالى: * (فسوف يكون لزاما) * على الأصح في الأخيرين.
وأما كونهم لا يخرجون منها فقد جاء موضحا في آيات من كتاب الله، كقوله تعالى في البقرة: * (كذالك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار) * وقوله تعالى في المائدة: * (يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم) *، وقوله تعالى في الحج: * (كلمآ أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها) *. وقوله تعالى في السجدة: * (كلمآ أرادوا أن يخرجوا منهآ أعيدوا فيها) *، وقوله تعالى في الجاثية: * (فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقد أوضحنا هذا المبحث إيضاحا شافيا في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات
147

الكتاب) في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى * (قال النار مثواكم خالدين فيهآ إلا ما شآء الله) * وفي سورة النبأ في الكلام على قوله تعالى: * (لابثين فيهآ أحقابا) * وسنوضحه أيضا إن شاء الله، في هذا الكتاب المبارك في الكلام على آية النبأ المذكورة، ونوضح هناك إن شاء الله إزالة إشكال يورده الملحدون على الآيات التي فيها إيضاح هذا المبحث. قوله تعالى: * (لقد جئناكم بالحق ولاكن أكثركم للحق كارهون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الشورى في الكلام على قوله تعالى: * (كبر على المشركين ما تدعوهم إليه) *. قوله تعالى: * (بلى ورسلنا لديهم يكتبون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في هذه السورة الكريمة، في الكلام على قوله تعالى: * (ستكتب شهادتهم ويسألون) *، وأكثرنا من الآيات الموضحة لذلك في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى: * (كلا سنكتب ما يقول) *.
* (قل إن كان للرحمان ولد فأنا أول العابدين * سبحان رب السماوات والا رض رب العرش عما يصفون * فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذى يوعدون * وهو الذى فى السمآء إلاه وفى الا رض إلاه وهو الحكيم العليم * وتبارك الذى له ملك السماوات والا رض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون * ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون * ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون * وقيله يارب إن هاؤلاء قوم لا يؤمنون * فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون) * قوله تعالى: * (قل إن كان للرحمان ولد فأنا أول العابدين) *. اختلف العلماء في معنى * (إن) * في هذه الآية.
فقالت جماعة من أهل العلم إنها شرطية، واختاره غير واحد، وممن اختاره ابن جرير الطبري، والذين قالوا إنها شرطية، اختلفوا في المراد بقوله: فأنا أول العابدين.
فقال بعضهم: فأنا أول العابدين لذلك الولد.
وقال بعضهم: فأنا أول العابدين لله على فرض أن له ولدا.
وقال بعضهم: فأنا أول العابدين لله جازمين بأنه لا يمكن أن يكون له ولد وقالت جماعة آخرون: إن لفظة * (إن) * في الآية نافية.
والمعنى ما كان لله ولد، وعلى القول بأنها نافية ففي معنى قوله: * (فأنا أول العابدين) * ثلاثة أوجه الأول وهو أقربها: أن المعنى ما كان لله ولد فأنا أول العابدين لله، المنزهين له
148

عن الولد، وعن كل ما لا يليق بكماله، وجلاله.
والثاني أن معنى قوله * (فأنا أول العابدين) *: أي الآنفين المستنكفين من ذلك يعني القول الباطل المفتري على ربنا الذي هو ادعاء الولد له.
والعرب تقول: عبد بكسر الباء يعبد بفتحها فهو عبد بفتح فكسر على القياس، وعابد أيضا سماعا، إذا اشتدت أنفته واستنكافه وغضبه، ومنه قول الفرزدق: والعرب تقول: عبد بكسر الباء يعبد بفتحها فهو عبد بفتح فكسر على القياس، وعابد أيضا سماعا، إذا اشتدت أنفته واستنكافه وغضبه، ومنه قول الفرزدق:
* أولئك قومي إن هجوني هجوتهم
* وأعقد أن أهجو كليبا بدارم
*
فقوله: وأعبد يعني آنف وأستنكف.
ومنه أيضا قول الآخر: ومنه أيضا قول الآخر:
* متى ما يشأ ذو الود يصرم خليله
* ويعبد عليه لا محالة ظالما
*
وفي قصة عثمان بن عفان رضي الله عنه المشهورة: أنه جيء بامرأة من جهينة تزوجت، فولدت لستة أشهر، فبعث بها عثمان لترجم، اعتقادا منه أنها كانت حاملا قبل العقد لولادتها قبل تسعة أشهر، فقال له علي رضي الله عنهما: إن الله يقول: * (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) *، ويقول جل وعلا: * (وفصاله فى عامين) * فلم يبق عن الفصال من المدة إلا ستة أشهر.
فما عبد عثمان رضي الله عنه، أن بعث إليها، لترد ولا ترجم.
ومحل الشاهد من القصة، فوالله: (ما عبد عثمان) أي ما أنف ولا استنكف من الرجوع إلى الحق.
الوجه الثالث: أن المعنى * (فأنا أول العابدين) * أي الجاحدين النافين أن يكون لله ولد سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له:
الذي يظهر لي في معنى هذه الآية الكريمة: أنه يتعين المصير إلى القول بأن إن نافية، وأن القول بكونها شرطية لا يمكن أن يصح له معنى بحسب وضع اللغة العربية التي نزل بها القرآن، وإن قال به جماعة من أجلاء العلماء.
149

وإنما اخترنا أن * (ءان) * هي النافية لا الشرطية، وقلنا إن المصير إلى ذلك متعين في نظرنا لأربعة أمور:
الأول: إن هذا القول جار على الأسلوب العربي، جريانا واضحا، لا إشكال فيه، فكون إن كان بمعنى ما كان كثير في القرآن، وفي كلام العرب كقوله تعالى: * (إن كانت إلا صيحة واحدة) * أي ما كانت إلا صيحة واحدة.
فقولك مثلا معنى الآية الكريمة: ما كان لله ولد فأنا أول العابدين، الخاضعين للعظيم الأعظم، المنزه عن الولد أو الآنفين المستنكفين، من أن يوصف ربنا بما لا يليق بكماله وجلاله، من نسبة الولد إليه، أو الجاحدين النافين، أن يكون لربنا ولد، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا لا إشكال فيه، لأنه جار على اللغة العربية، التي نزل بها القرآن، دال على تنزيه الله، تنزيها تاما عن الولد، من غير إيهام البتة لخلاف ذلك.
الأمر الثاني: أن تنزيه الله عن الولد، بالعبارات التي لا إيهام فيها، هو الذي جاءت به الآيات الكثيرة، في القرآن كما قدمنا إيضاحه، في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: * (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا) *. وفي سورة مريم في الكلام على قوله تعالى: * (وقالوا اتخذ الرحمان ولدا لقد جئتم شيئا إدا) * والآيات الكثيرة التي ذكرناها في ذلك تبين أن (إن) نافية.
فالنفي الصريح الذي لا نزاع فيه يبين أن المراد في محل النزاع النفي الصريح.
وخير ما يفسر به القرآن القرآن فكون المعبر في الآية: وما كان للرحمن ولد بصيغة النفي الصريح مطابق لقوله تعالى في سورة بني إسرائيل * (وقل الحمد لله الذى لم يتخذ ولدا) *. وقوله تعالى في أول الفرقان * (ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك) *. وقوله تعالى: * (ما اتخذ الله من ولد) *. وقوله تعالى: * (لم يلد ولم يولد) * وقوله تعالى * (ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون) * إلى غير ذلك من الآيات.
وأما على القول بأن إن شرطية وأن قوله تعالى: * (فأنا أول العابدين) * جزاء
150

لذلك الشرط فإن ذلك لا نظير له البتة في كتاب الله، ولا توجد فيه آية تدل على مثل هذا المعنى.
الأمر الثالث: هو أن القول بأن (إن) شرطية لا يمكن أن يصح له معنى في اللغة العربية، إلا معنى محذور، لا يجوز القول به بحال، وكتاب الله جل وعلا، يجب تنزيهه عن حمله على معان محذورة لا يجوز القول بها.
وإيضاح هذا أنه على القول بأن (إن) شرطية، وقوله: * (فأنا أول العابدين) * جزاء الشرط لا معنى لصدقه البتة إلا بصحة الربط بين الشرط والجزاء.
والتحقيق الذي لا شك فيه أن مدار الصدق والكذب في الشرطية المتصلة، منصب على صحة الربط بين مقدمها الذي هو الشرط وتاليها الذي هو الجزاء، والبرهان القاطع على صحة هذا، هو كون الشرطية المتصلة، تكون في غاية الصدق مع كذب طرفيها معا، أو أحدهما لو أزيلت أداة الربط بين طرفيها، فمثال كذبهما معا مع صدقها قوله تعالى: * (لو كان فيهمآ آلهة إلا الله لفسدتا) * فهذه قضية في غاية الصدق كما ترى، مع أنها لو أزيلت أداة الربط بين طرفيها كان كل واحد من طرفيها، قضية كاذبة بلا شك، ونعني بأداة الربط لفظة لو من الطرف الأول، واللام من الطرف الثاني، فإنهما لو أزيلا وحذفا صار الطرف الأول كان فيهما آلهة إلا الله، وهذه قضية في منتهى الكذب، وصار الطرف الثاني فسدتا أي السماوات والأرض، وهذه قضية في غاية الكذب كما ترى.
فاتضح بهذا أن مدار الصدق والكذب في الشرطيات على صحة الربط بين الطرفين وعدم صحته.
فإن كان الربط صحيحا فهي صادقة، ولو كذب طرفاها أو أحدهما عند إزالة الربط.
وإن كان الربط بينهما كاذبا كانت كاذبة كما لو قلت: لو كان هذا إنسانا لكان حجرا، فكذب الربط بينهما وكذب القضية بسببه كلاهما واضح.
وأمثلة صدق الشرطية مع كذب طرفيها كثيرة جدا كالآية التي ذكرنا، وكقولك لو كان الإنسان حجرا لكان جمادا، ولو كان الفرس ياقوتا لكان حجرا، فكل هذه القضايا ونحوها صادقة مع كذب طرفيها لو أزيلت أداة الربط.
ومثال صدقها مع كذب أحدهما، قولك لو كان زيد في السماء ما نجا من الموت
151

فإنها شرطية صادقة لصدق الربط بين طرفيها، مع أنها كاذبة أحد الطرفين دون الآخر، لأن عدم النجاة من الموت صدق، وكون زيد في السماء كذب، هكذا مثل بهذا المثال البناني، وفيه عندي أن هذه الشرطية التي مثل بها اتفاقية لا لزومية، ولا دخل للاتفاقيات في هذا المبحث.
والمثال الصحيح: لو كان الإنسان حجرا لكان جسما.
واعلم أن قوما زعموا أن مدار الصدق والكذب في الشرطيات منصب على خصوص التالي الذي هو الجزاء، وأن المقدم الذي هو الشرط قيد في ذلك.
وزعموا أن هذا المعنى هو المراد عند أهل اللسان العربي.
والتحقيق الأول.
ولم يقل أحد البتة بقول ثالث في مدار الصدق والكذب في الشرطيات.
فإذا حققت هذا، فاعلم أن الآية الكريمة، على القول بأنها جملة شرط وجزاء لا يصح الربط بين طرفيها البتة بحال على واحد من القولين اللذين لا ثالث لهما إلا على وجه محذور لا يصح القول به بحال.
وإيضاح ذلك أنه على القول الأخير، أن مصب الصدق والكذب، في الشرطيات إنما هو التالي الذي هو الجزاء، وأن المقدم الذي هو الشرط قيد في ذلك.
فمعنى الآية عليه باطل بل هو كفر.
لأن معناه أن كونه أول العابدين يشترط فيه أن يكون للرحمن ولد، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
لأن مفهوم الشرط أنه إن لم يكن له ولد، لم يكن أول العابدين، وفساد هذا المعنى كما ترى.
وأما على القول الأول الذي هو الصحيح أن مدار الصدق والكذب في الشرطيات على صحة الربط بين طرفي الشرطية.
فإنه على القول بأن الآية الكريمة جملة شرط وجزاء لا يصح الربط بين طرفيها البتة أيضا، إلا على وجه محذور لا يجوز المصير إليه بحال، لأن كون المعبود ذا ولد، واستحقاقه هو، أو ولده العبادة، لا يصح الربط بينهما البتة إلا على معنى هو كفر بالله، لأن المستحق للعبادة لا يعقل بحال أن يكون ولدا أو والدا.
152

وبه تعلم أن الشرط المزعوم في قوله * (إن كان للرحمان ولد) * إنما يعلق به محال لاستحالة كون الرحمن ذا ولد.
ومعلوم أن المحال لا يعلق عليه إلا المحال.
فتعليق عبادة الله التي هي أصل الدين على كونه ذا ولد ظهور فساده كما ترى، وإنما تصدق الشرطية في مثل هذا لو كان المعلق عليه مستحيلا، فادعاء أن (إن) في الآية شرطية مثل ما لو قيل: لو كان معه آلهة لكنت أول العابدين له، وهذا لا يصدق بحال، لأن واحدا من آلهة متعددة، لا يمكن أن يعبد، فالربط بين طرفيها مثل هذه القضية لا يصح بحال.
ويتضح لك ذلك بمعنى قوله: * (وما كان معه من إله إذا لذهب كل إلاه بما خلق ولعلا بعضهم على بعض) *.
فإن قوله إذا: أي لو كان معه غيره من الآلهة، لذهب كل واحد منهم بما خلق واستقل به، وغالب بعضهم بعضا ولم ينتظم للسماوات والأرض نظام ولفسد كل شيء.
كما قال تعالى: * (لو كان فيهمآ آلهة إلا الله لفسدتا) *، وقوله تعالى: * (قل لو كان معه ءالهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا) * على الصحيح الذي هو الحق من التفسيرين.
ومعنى ابتغائهم إليه تعالى سبيلا هو طلبهم طريقا إلى مغالبته كما يفعله بعض الملوك مع بعضهم.
والحاصل: أن الشرط إن علق به مستحيل فلا يمكن أن يصح الربط بينه وبين الجزاء، إلا إذا كان الجزاء مستحيلا أيضا لأن الشرط المستحيل لا يمكن أن يوجد به إلا الجزاء المستحيل.
أما كون الشرط مستحيلا والجزاء هو أساس الدين وعماد الأمر. فهذا مما لا يصح بحال.
ومن ذهب إليه من أهل العلم والدين لا شك في غلطه. ولا شك في أن كل شرطية صدقت مع بطلان مقدمها الذي هو الشرط وصحة تاليها
153

الذي هو الجزاء لا يصح التمثيل بها لهذه الآية بوجه من الوجوه، وأن ما ظنه الفخر الرازي من صحة التمثيل لها بذلك غلط فاحش منه بلا شك، وإيضاح ذلك أن كل شرطية كاذبة الشرط صادقة الجزاء عند إزالة الربط لا بد أن يكون موجب ذلك فيها أحد أمرين لا ثالث لهما البتة.
وكلاهما يكون الصدق به من أجل أمر خاص لا يمكن وجود مثله في الآية الكريمة التي نحن بصددها، بل هو مناقض لمعنى الآية.
والاستدلال بوجود أحد المتناقضين على وجود الآخر ضروري البطلان.
ونعني بأول الأمرين المذكورين كون الشرطية اتفاقية لا لزومية أصلا.
وبالثاني منهما كون الصدق المذكور، من أجل خصوص المادة.
ومعلوم أن الصدق من أجل خصوص المادة لا عبرة به في العقليات، وأنه في حكم الكذب لعدم اضطراده، لأنه يصدق في مادة ويكذب في أخرى.
والمعتبر إنما هو الصدق اللازم المضطرد، الذي لا يختلف باختلاف المادة بحال.
ولا شك أن كل قضية شرطها محال لا يضطرد صدقها إلا إذا كان جزاؤها محالا خاصة.
فإن وجدت قضية باطلة الشرط صحيحة الجزاء، فلا بد أن يكون ذلك، لكونها اتفاقية أو لأجل خصوص المادة فقط.
فمثال وقوع ذلك لكونها اتفاقية قولك: إن كان زيد في السماء لم ينج من الموت.
فالشرط الذي هو كونه في السماء باطل والجزاء الذي هو كونه لم ينج من الموت صحيح.
وإنما صح هذا لكون هذه الشرطية اتفاقية.
ومعلوم أن الاتفاقية لا علاقة بين طرفيها أصلا.
فلا يقتضي ثبوت أحدهما ولا نفيه ثبوت الآخر ولا نفيه، فلا ارتباط بين طرفيها في المعنى أصلا وإنما هو في اللفظ فقط.
فكون زيد في السماء لا علاقة له بعدم نجاته من الموت أصلا، ولا ارتباط بينهما إلا في اللفظ.
فهو كقولك: إن كان الإنسان ناطقا فالفرس صاهل.
وقد قدمنا إيضاح الفرق بين الشرطية اللزومية والشرطية الاتفاقية في سورة
154

الكهف في الكلام على قوله تعالى: * (وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا) * فراجعه.
ومعلوم أن قوله * (قل إن كان للرحمان ولد) * لم يقل أحد إنها شرطية اتفاقية ولم يدع أحد، أنها لا علاقة بين طرفيها أصلا.
ومثال وقوع ذلك لأجل خصوص المادة فقط، ما مثل به الفخر الرازي لهذه الآية الكريمة، مع عدم انتباهه لشدة المنافاة بين الآية الكريمة وبين ما مثل لها به، فإنه لما قال: إن الشرط الذي هو * (إن كان للرحمان ولد) * باطل، والجزاء الذي هو: * (فأنا أول العابدين) * صحيح.
مثل لذلك بقوله: إن كان الإنسان حجرا فهو جسم، يعني أن قوله: إن كان الإنسان حجرا شرط باطل فهو كقوله تعالى * (قل إن كان للرحمان ولد) * فكون الإنسان حجرا وكون الرحمن ذا ولد كلاهما شرط باطل.
فلما صح الجزاء المرتب على الشرط الباطل في قوله: إن كان الإنسان حجرا فهو جسم دل ذلك على أن الجزاء الصحيح في قوله: * (فأنا أول العابدين) * يصح ترتيبه على الشرط الباطل الذي هو * (إن كان للرحمان ولد) *.
وهذا غلط فاحش جدا، وتسوية بين المتنافيين غاية المنافاة، لأن الجزاء المرتب على الشرط الباطل في قوله: إن كان الإنسان حجرا فهو جسم إنما صدق لأجل خصوص المادة لا لمعنى اقتضاه الربط البتة.
وإيضاح ذلك أن النسبة بين الجسم والحجر، والنسبة بين الإنسان والجسم هي العموم والخصوص المطلق في كليهما.
فالجسم أعم مطلقا من الحجر، والحجر أخص مطلقا من الجسم، كما أن الجسم أعم من الإنسان أيضا عموما مطلقا، والإنسان أخص من الجسم أيضا خصوصا مطلقا: فالجسم جنس قريب للحجر، وجنس بعيد للإنسان، وإن شئت قلت: جنس متوسط له.
وإيضاح ذلك أن تقول في التقسيم الأول:
الجسم إما نام أي يكبر تدريجا أو غير نام، فغير النامي كالحجر مثلا، ثم تقسم النامي تقسيما ثانيا؟ فتقول:
155

النامي إما حساس أو غير حساس، فغير الحساس منه كالنبات.
ثم تقسم الحساس تقسيما ثالثا فتقول:
الحساس إما ناطق أو غير ناطق، والناطق منه هو الإنسان.
فاتضح أن كلا من الإنسان والحجر يدخل في عموم الجسم، والحكم بالأعم على الأخص صادق في الإيجاب بلا نزاع ولا تفصيل.
فقولك: الإنسان جسم صادق في كل تركيب، ولا يمكن أن يكذب بوجه، وذلك للملابسة الخاصة بينهما من كون الجسم جنسا للإنسان، وكون الإنسان فردا من أفراد أنواع الجسم، فلأجل خصوص هذه الملابسة بينهما، كان الحكم على الإنسان بأنه جسم صادقا، على كل حال، سواء كان الحكم بذلك، غير معلق على شيء أو كان معلقا على باطل أو حق.
فالاستدلال يصدق هذا المثال على صدق الربط بين الشرط والجزاء في قوله تعالى * (قل إن كان للرحمان ولد فأنا أول العابدين) * بطلانه كالشمس في رابعة النهار.
والعجب كل العجب من عاقل بقوله، لأن المثال المذكور إنما صدق لأن الإنسان يشمله مسمى الجسم.
أما من كان له ولد فالنسبة بينه وبين المعبود الحق هي تباين المقابلة، لأن المقابلة بين المعبود بحق وبين والد أو ولد هي المقابلة بين الشيء ومساوي نقيضه.
لأن من يولد أو يولد له لا يمكن أن يكون معبودا بحق بحال.
وإيضاح المنافاة بين الأمرين أنك لو قلت: الإنسان جسم لقلت الحق ولو قلت: المولود له معبود، أو المولود معبود. قلت الباطل الذي هو الكفر البواح.
ومما يوضح ما ذكرنا إجماع جميع النظار على أنه إن كانت إحدى مقدمتي الدليل باطلة، وكانت النتيجة صحيحة أن ذلك لا يكون إلا لأجل خصوص المادة فقط، وأن ذلك الصدق لا عبرة به، فحكمه حكم الكذب ولا يعتبر إلا الصدق اللازم المضطرد في جميع الأحوال.
فلو قلت مثلا: كل إنسان حجر، وكل حجر جسم، لأنتج من الشكل الأول كل
156

إنسان جسم، وهذه النتيجة في غاية الصدق كما ترى.
مع أن المقدمة الصغرى، من الدليل التي هي قولك: كل إنسان حجر في غاية الكذب كما ترى.
وإنما صدقت النتيجة لخصوص المادة كما أوضحنا، ولولا ذلك لكانت كاذبة لأن النتيجة لازم الدليل والحق لا يكون لازما للباطل فإن وقع شيء من ذلك فلخصوص المادة كما أوضحنا.
وبهذا التحقيق تعلم، أن الشرط الباطل لا يلزم وتطرد صحة ربطه إلا بجزاء باطل مثله.
وما يظنه بعض أهل العلم من أن قوله تعالى * (فإن كنت في شك ممآ أنزلنآ إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) * كقوله تعالى * (قل إن كان للرحمان ولد فأنا أول العابدين) * فهو غلط فاحش والفرق بين معنى الآيتين شاسع فظن استوائها في المعنى باطل.
وإيضاح ذلك أن قوله تعالى: * (فإن كنت في شك) * معناه المقصود منه جار على الأسلوب العربي، لا إبهام فيه، لأنا أوضحنا سابقا أن مدار صدق الشرطية على صحة الربط بين شرطها وجزئها، فهي صادقة ولو كذب طرفاها عند إزالة الربط كما تقدم إيضاحه قريبا.
فربط قوله: * (فإن كنت في شك) * بقوله * (فاسأل الذين يقرءون الكتاب) * ربط صحيح لا إشكال فيه، لأن الشاك في الأمر شأنه أن يسأل العالم به عنه كما لا يخفى، فهي قضية صادقة، مع أن شرطها وجزاءها كلاهما باطل بانفراده، فهي كقوله * (لو كان فيهمآ آلهة إلا الله لفسدتا) * فهي شرطية صادقة لصحة الربط بين طرفيها، وإن كان الطرفان باطلين عند إزالة الربط.
أما قوله تعالى * (قل إن كان للرحمان ولد فأنا أول العابدين) * على القول بأن إن شرطية لا تمكن صحة الربط بين شرطها وجزائها البتة، لأن الربط بين المعبود وبين كونه والدا أو ولدا لا يصح بحال.
ولذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا أشك ولا أسأل أهل الكتاب) فنفي الطرفين
157

مع أن الربط صحيح، ولا يمكن أن ينفي صلى الله عليه وسلم هو ولا غيره الطرفين في الآية الأخرى، فلا يقول هو ولا غيره: ليس له ولد ولا أعبده.
وعلى كل حال، فالربط بين الشك وسؤال الشاك للعالم أمر صحيح، بخلاف الربط بين العبادة وكون المعبود والدا أو ولدا فلا يصح.
فاتضح الفرق بين الآيتين وحديث: (لا أشك ولا أسأل أهل الكتاب) رواه قتادة بن دعامة مرسلا.
وبنحوه قال بعض الصحابة. فمن بعدهم، ومعناه صحيح بلا شك.
وما قاله الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة يستغربه كل من رآه لقبحه وشناعته، ولم أعلم أحدا من الكفار في ما قص الله في كتابه عنهم يتجرأ على مثله أو قريب منه.
وهذا مع عدم فهمه لما يقول وتناقض كلامه.
وسنذكر هنا كلامه القبيح للتنبيه على شناعة غلطه، الديني واللغوي.
قال في الكشاف ما نصه: * (قل إن كان للرحمان ولد) * وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها، فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له، كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه.
وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض، وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه، وألا يترك للناطق به شبهة إلا مضمحلة، مع الترجمة عن نفسه بإثبات القدم في باب التوحيد، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها، فكان المعلق بها محالا مثلها فهو في صورة إثبات الكينونة، والعبادة وفي معنى نفيهما على أبلغ الوجوه وأقواها.
ونظيره أن يقول العدلي للمجبر: إن كان الله تعالى خالقا للكفر في القلوب ومعذبا عليه عذابا سرمدا فأنا أول من يقول: هو شيطان وليس بإله.
فمعنى هذا الكلام وما وضع له أسلوبه ونظمه نفي أن يكون الله تعالى خالقا للكفر.
وتنزيهه عن ذلك وتقديسه ولكن على طريق المبالغة فيه من الوجه الذي ذكرنا، مع الدلالة على سماحة المذهب، وضلالة الذاهب إليه، والشهادة القاطعة بإحالته والإفصاح عن
158

نفسه بالبراءة منه وغاية النفار والاشمئزاز من ارتكابه.
ونحو هذه الطريقة قول سعيد بن جبير رحمه الله للحجاج حين قال له: (أما والله لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى، لو عرفت أن ذلك إليك ما عبدت إلها غيرك).
وقد تمحل الناس؟ أخرجوه به من هذا الأسلوب الشريف الملئ بالنكت والفوائد المستقل بإثبات التوحيد على أبلغ وجوهه، فقيل: إن كان للرحمن. ولد في زعمكم فأنا أول العابدين الموحدين لله المكذبين قولكم لإضافة الولد. إليه ا ه الغرض من كلام الزمخشري.
وفي كلام هذا من الجهل بالله وشدة الجراءة عليه، والتخبط والتناقض في المعاني اللغوية ما الله عالم به.
ولا أظن أن ذلك يخفى على عاقل تأمله.
وسنبين لك ما يتضح به ذلك فإنه أولا قال: إن كان للرحمن ولد وضح ذلك ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته، والانقياد له كما يعظم الرجل، ولد الملك لتعظيم أبيه.
فكلامه هذا لا يخفى بطلانه على عاقل، لأنه على فرض صحة نسبة الولد إليه، وقيام البرهان الصحيح والحجة الواضحة على أنه له ولد، فلا شك أن ذلك يقتضي، أن ذلك الولد لا يستحق العبادة، بحال، ولو كان في ذلك تعظيم لأبيه، لأن أباه مثله في عدم استحقاق العبادة والكفر بعبادة كل والد وكل مولود شرط في إيمان كل موحد، فمن أي وجه يكون هذا الكلام صحيحا.
أما في اللغة العربية فلا يكون صحيحا البتة.
وما أظنه يصح في لغة من لغات العجم فالربط بين هذا الشرط وهذا الجزاء لا يصح بوجه.
فمعنى الآية عليه لا يصح بوجه، لأن المعلق على المحال لا بد أن يكون محالا مثله.
159

والزمخشري في كلامه كلما أراد أن يأتي بمثال في الآية خارج عنها اضطر إلى أن لا يعلق على المحال في زعمه إلا محالا.
فضربه للآية المثل بقصة ابن جبير مع الحجاج، دليل واضح على ما ذكرنا وعلى تناقضه وتخبطه.
فإنه قال فيها إن الحجاج قال لسعيد بن جبير: لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى.
قال سعيد للحجاج: لو علمت إن ذلك إليك ما عبدت إلها غيرك.
فهو يدل على أنه علق المحال على المحال، ولو كان غير متناقض للمعنى الذي مثل له به الزمخشري لقال: لو علمت أن ذلك إليك لكنت أول العابدين لله.
فقوله: لو علمت أن ذلك إليك في معنى * (قل إن كان للرحمان ولد) *، فنسبة الولد والشريك إليه معناهما في الاستحالة وادعاء النقص واحد.
فلو كان سعيد يفهم الآية كفهمك الباطل لقال: لو علمت أن ذلك إليك لكنت أول العابدين لله.
ولكنه لم يقل هذا، لأنه ليس له معنى صحيح يجوز المصير إليه.
وكذلك تمثيل الزمخشري للآية الكريمة في كلامه القبيح البشع الشنيع الذي يتقاصر عن التلفظ به كل كافر.
فقد اضطر فيه أيضا إلى ألا يعلق على المحال في زعمه إلا محالا شنيعا فإنه قال فيه:
ونظيره أن يقول العدلي للمجبر: إن كان الله تعالى خالقا للكفر في القلوب ومعذبا عليه عذبا سرمدا فأنا أول من يقول هو شيطان وليس بإله.
فانظر قول هذا الضال في ضربه المثل في معنى هذه الآية الكريمة بقول الضال الذي يسميه العدلي: إن كان الله خالقا للكفر في القلوب إلخ.
فخلق الله للكفر في القلوب وتعذيبه الكفار على كفرهم، مستحيل عنده كاستحالة نسبة الولد لله، وهذا المستحيل في زعمه الباطل، إنما علق عليه أفظع أنواع المستحيل
160

وهو زعمه الخبيث أن الله إن كان خالقا للكفر في القلوب، ومعذبا عليه فهو شيطان لا إله، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
فانظر رحمك الله فظاعة جهل هذا الإنسان بالله، وشدة تناقضه في المعنى العربي للآية.
لأنه جعل قوله: إن كان الله خالقا للكفر ومعذبا عليه بمعنى (إن كان للرحمن ولد) في أن الشرط فيهما مستحيل، وجعل قوله في الله أنه شيطان لا إلاه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
كقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أول العابدين.
فاللازم لكلامه أن يقول: لو كان خالقا للكفر فأنا أول العابدين له، ولا يخفى أن الادعاء على الله أنه شيطان مناقض لقوله: فأنا أول العابدين.
وقد أعرضت عن الإطالة في بيان بطلان كلامه، وشدة ضلاله، وتناقضه لشناعته ووضوح بطلانه، فهي عبارات مزخرفة، وشقشقة لا طائل تحتها، وهي تحمل في طياتها الكفر والجهل بالمعنى العربي للآية، والتناقض الواضح وكم من كلام مليء بزخرف القول، وهو عقيم لا فائدة فيه، ولا طائل تحته كما قيل: وقد أعرضت عن
الإطالة في بيان بطلان كلامه، وشدة ضلاله، وتناقضه لشناعته ووضوح بطلانه، فهي عبارات مزخرفة، وشقشقة لا طائل تحتها، وهي تحمل في طياتها الكفر والجهل بالمعنى العربي للآية، والتناقض الواضح وكم من كلام مليء بزخرف القول، وهو عقيم لا فائدة فيه، ولا طائل تحته كما قيل:
* وإني وإني ثم إني وإنني
* إذا انقطعت نعلي جعلت لها شسعا
*
* فظل يعمل أياما رويته
* وشبه الماء بعد الجهد بالماء
*
واعلم أن الكلام على القدر، وخلق أفعال العباد، قدمنا منه جملا كافية في هذه السورة الكريمة، في الكلام على قوله تعالى: * (وقالوا لو شآء الرحمان ما عبدناهم) *، ولا يخفى تصريح القرآن بأن الله خالق كل شيء، كما قال تعالى: * (الله خالق كل شىء) *، وقال تعالى: * (وخلق كل شىء فقدره تقديرا) *. وقال: * (هل من خالق غير الله) *، وقال تعالى: * (إنا كل شىء خلقناه بقدر) *.
فالإيمان بالقدر خيره وشره الذي هو من عقائد المسلمين جعله الزمخشري يقتضي أن لله شيطان، سبحان الله وتعالى عما يقوله الزمخشري علوا كبيرا.
161

وجزى الزمخشري بما هو أهله.
الأمر الرابع: هو دلالة استقراء القرآن العظيم أن الله تعالى إذا أراد أن يفرض المستحيل ليبين الحق بفرضه علقه أولا بالأداة التي تدل على عدم وجوده وهي لفظة لو، ولم يعلق عليه البتة إلا محالا مثله، كقوله: * (لو كان فيهمآ آلهة إلا الله لفسدتا) *، وقوله تعالى: * (لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشآء) *، وقوله تعالى: * (لو أردنآ أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنآ) *.
وأما تعليق ذلك بأداة لا تقتضي عدم وجوده كلفظة إن مع كون الجزاء غير مستحيل فليس معهودا في القرآن.
ومما يوضح هذا المعنى الذي ذكرنا، المحاورة التي ذكرها جماعة من المفسرين، التي وقعت بين النضر بن الحارث، والوليد بن المغيرة، وهي وإن كانت أسانيدها غير قائمة، فإن معناها اللغوي صحيح.
وهي أن النضر بن الحارث كان يقول:
الملائكة بنات الله فأنزل الله قوله تعالى: * (قل إن كان للرحمان ولد) *.
فقال النضر للوليد بن المغيرة: ألا ترى أنه قد صدقني؟
فقال الوليد: لا ما صدقك ولكنه يقول:
ما كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين، أي الموحدين، من أهل مكة المنزهين له عن الولد. فمحاورة هذين الكافرين، العالمين بالعربية، مطابقة لما قررنا.
لأن النضر قال: إن معنى الآية على أن إن شرطية مطابق لما يعتقده الكفار من نسبة الولد إلى الله، وهو معنى محذور وأن الوليد قال: إن (إن) نافية، وأن معنى الآية على ذلك هو مخالفة الكفار وتنزيه الله عن الولد.
وبجميع ما ذكرنا يتضح أن إن في الآية الكريمة نافية.
وذلك مروي عن ابن عباس والحسن والسدي وقتادة وابن زيد وزهير بن محمد وغيرهم.
162

تنبيه
اعلم أن ما قاله ابن جرير وغير واحد من أن القول بأن إن نافية يلزمه إيهام المحذور الذي لا يجوز في حق الله.
قالوا: لأنه إن كان المعنى ما كان لله ولد فإنه لا يدل على نفي الولد، إلا في الماضي، فللكفار أن يقولوا إذا صدقت لم يكن له في الماضي ولد. ولكن الولد طرأ عليه، بعد ذلك لما صاهر الجن، وولدت له بناته التي هي الملائكة.
وإن هذا المحذور يمنع من الحمل على النفي لا شك في عدم صحته لدلالة الآيات القرآنية بكثرة على أن هذا الإيهام لا أثر له ولو كان له أثر لما كان الله يمدح نفسه بالثناء عليه بلفظة كان الدالة على خصوص الزمن الماضي في نحو قوله تعالى * (وكان الله عزيزا حكيما) *، * (وكان الله عليما حكيما) *، * (وكان الله غفورا رحيما) *، * (وكان الله على كل شىء قديرا) *، * (إن الله كان عليا كبيرا) * إلى غير ذلك من الآيات التي يصعب حصرها.
فإن معنى كل تلك الآيات أنه كان ولم يزل.
فلو كان الكفار يقولون ذلك الذي زعموه الذي هو قولهم: صدقت ما كان له ولد في الماضي ولكنه طرأ له لقالوا مثله في الآيات التي ذكرنا.
كأن يقولوا * (كان عليما حكيما) * في الماضي ولكنه طرأ عليه عدم ذلك وهكذا في جميع الآيات المذكورة ونحوها.
وأيضا فإن المحذور الذي زعموه لم يمنع من إطلاق نفي الكون الماضي في قوله تعالى * (وما كان ربك نسيا) *، وقوله * (وما كنت متخذ المضلين عضدا) *
وقوله * (وما كنا مهلكى القرى إلا وأهلها ظالمون) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة.
ومن أوضحها في محل النزاع قوله تعالى * (وما كان معه من إله) *.
ولم يمنع من نفي القرآن للولد في الزمن الماضي في قوله تعالى * (ما اتخذ الله من
163

ولد) * فإن الكفار لم يقولوا يوما ما: صدقت ما اتخذه في الماضي ولكنه طرأ عليه اتخاذه.
وكذلك في قوله * (ولم يتخذ ولدا) * وقوله * (لم يلد) *، لأن لم تنقل المضارع إلى معنى الماضي.
والكفار لم يقولوا يوما صدقت لم يتخذ ولدا في الماضي، ولكنه طرأ عليه اتخاذه ولم يقولوا لم يلد في الماضي، ولكنه ولد أخيرا.
والحاصل أن الكفار لم يقروا أن الله منزه عن الولد لا في الماضي ولا في الحال، ولا في الاستقبال.
ومعلوم أن الولادة المزعومة حدث متحدد. وبذلك تعلم أنما زعموه من إيهام المحذور في كون إن في الآية نافية لا أساس له ولا معول عليه، وأن ما ادعوه من كونها شرطية ليس لها معنى في اللغة العربية إلا المعنى المحذور الذي لا يجوز في حق الله بحال.
واعلم أن كلام الفخر الرازي في هذه الآية الكريمة الذي يقتضي إمكان صحة الربط بين طرفيها على أنها شرطية لا شك في غلطه فيه.
وأما إبطاله لقول من قال: إن المعنى إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول العابدين له والمكذبين لكم في ذلك، فهو إبطال صحيح، وكلامه فيه في غاية الحسن والدقة، وهو يقتضي إبطاله بنفسه، لجميع ما كان يقرره في الآية الكريمة.
والحاصل أن كون معنى إن في الآية الكريمة هو النفي لا إشكال فيه، ولا محذور ولا إيهام، وأن الآيات القرآنية تشهد له لكثرة الآيات المطابقة لهذا المعنى في القرآن.
وأما كون معنى الآية الشرط والجزاء فلا يصح له معنى، غير محذور في اللغة، وليس له في كتاب الله نظير، لإجماع أهل اللسان العربي على اختلاف المعنى في التعليق بأن، والتعليق بلو.
لأن التعليق بلو يدل على عدم الشرط، وعدم الشرط استلزم عدم المشروط بخلاف إن.
164

فالتعليق بها يدل على الشك في وجود الشرط بلا نزاع.
وما خرج عن ذلك من التعليق بها مع العلم بوجود الشرط أو العلم بنفيه، فلأسباب أخر، وأدلة خارجة، ولا يجوز حملها على أحد الأمرين المذكورين، إلا بدليل منفصل كما أوضحناه، في غير هذا الموضع.
تنبيه
اعلم أن ما ذكرنا من أن لو تقتضي عدم وجود الشرط، وأن إن تقتضي الشك فيه، لا يرد عليه قوله تعالى: * (فإن كنت في شك ممآ أنزلنآ إليك) *. كما أشرنا له قريبا.
لأن التحقيق أن الخطاب في قوله: (إن كنت في شك) خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به من يمكن أن يشك في ذلك من أمته.
وقد قدمنا في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: * (لا تجعل مع الله إلاها ءاخر) *. دلالة القرآن الصريحة على أنه صلى الله عليه وسلم يتوجه إليه الخطاب من الله، والمراد به التشريع لأمته، ولا يراد هو صلى الله عليه وسلم البتة بذلك الخطاب.
وقدمنا هناك أن من أصرح الآيات القرآنية في ذلك قوله تعالى * (وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف) *، فالتحقيق أن الخطاب له صلى الله عليه وسلم والمراد أمته لا هو نفسه، لأنه هو المشرع لهم بأمر الله.
وإيضاح ذلك أو معنى: * (إما يبلغن عندك الكبر) * أي إن يبلغ عندك الكبر يا نبي الله والداك أو أحدهما فلا تقل لهما أف.
ومعلوم أن أباه مات وهو حمل، وأمه ماتت وهو في صباه فلا يمكن أن يكون المراد: إن يبلغ الكبر عندك هما أو أحدهما والواقع أنهما قد ماتا قبل ذلك بأزمان.
وبذلك يتحقق أن المراد بالخطاب غيره من أمته الذي يمكن إدراك والديه أو أحدهما الكبر عنده.
وقد قدمنا أن مثل هذا أسلوب عربي معروف وأوردنا شاهدا لذلك رجز سهل بن مالك الفزاري في قوله:
165

وقد قدمنا أن مثل هذا أسلوب عربي معروف وأوردنا شاهدا لذلك رجز سهل بن مالك الفزاري في قوله:
* يا أخت خير البدو والحضارة
* كيف ترين في فتى فزاره
*
* أصبح يهوى حرة معطاره
* إياك أعني واسمعي يا جاره
*
وقد بسطنا القصة هناك، وبينا أن قول من قال: إن الخطاب في قوله تعالى: * (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما) *: لكل من يصح خطابه من أمته، صلى
الله عليه وسلم لا له هو نفسه، باطل بدليل قوله تعالى بعده في سياق الآيات: * (ذالك ممآ أوحى إليك ربك من الحكمة) *.
والحاصل أن آية: * (فإن كنت في شك ممآ أنزلنآ إليك) *. لا ينقص بها الضابط الذي ذكرنا لأنها كقوله: * (لا تجعل مع الله إلاها ءاخر) * * (لئن أشركت ليحبطن عملك) * * (فلا تكونن من الممترين) * * (ولا تطع الكافرين والمنافقين) * * (ولا تطع منهم ءاثما أو كفورا) * إلى غير ذلك من الآيات.
ومعلوم أنه هو صلى الله عليه وسلم، لا يفعل شيئا من ذلك البتة، ولكنه يؤمر وينهي ليشرع لأمته على لسانه.
وبذلك تعلم اطراد الضابط الذي ذكرنا في لفظة لو، ولفظة إن، وأنه لا ينتقض بهذه الآية.
هذا ما ظهر لنا في هذه الآية الكريمة، ولا شك أنه لا محذور فيه ولا غرر ولا إيهام، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (سبحان رب السماوات والا رض رب العرش عما يصفون) *. قد قدمنا معنى لفظة سبحان، وما تدل عليه من تنزيه الله عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله وإعراب لفظة سبحان مع بعض الشواهد العربية في أول سورة بني إسرائيل.
وقوله تعالى: * (قل إن كان للرحمان ولد) *. نزه نفسه تنزيها تاما عما يصفونه به من نسبة الولد إليه مبينا أن رب السماوات والأرض، ورب العرش، جدير بالتنزيه عن الولد، وعن كل ما لا يليق بكماله وجلاله.
166

وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من أنه لما ذكر وصف الكفار له، بما لا يليق به، نزه نفسه عن ذلك، معلما خلقه في كتابه، أن ينزهوه عن كل ما لا يليق به، جاء مثله موضحا في آيات كثيرة كقوله تعالى: * (ما اتخذ الله من ولد) * إلى قوله تعالى: * (سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون) * وقوله تعالى: * (قل لو كان معه ءالهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا) * وقوله تعالى: * (لو كان فيهمآ آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون) *. وقوله تعالى: * (سبحانه أن يكون له ولد له وما فى السماوات وما فى الا رض وكفى بالله وكيلا) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذى يوعدون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى: * (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الا مل) *. قوله تعالى: * (وهو الذى فى السمآء إلاه وفى الا رض إلاه) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: * (وهو الله فى السماوات وفى الا رض يعلم سركم وجهركم) *. قوله تعالى: * (وعنده علم الساعة) *. قد بينا الآيات الموضحة في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمهآ إلا هو) *.
وفي الأعراف في الكلام على قوله تعالى: * (قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتهآ إلا هو) * وفي غير ذلك من المواضع. قوله تعالى: * (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى: * (ولا يقبل منها شفاعة) *. وفي غير ذلك من المواضع.
167

قوله تعالى: * (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة، في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: * (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) *. قوله تعالى: * (وقيله يارب إن هاؤلاء قوم لا يؤمنون) *. قرأ هذا الحرف نافع، وابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، والكسائي (وقيله) بفتح اللام وضم الهاء، وقرأه عاصم وحمزة: (وقيله) بكسر اللام والهاء.
قال بعض العلماء إعرابه بأنه عطف محل على الساعة لأن قوله تعالى: * (وعنده علم الساعة) * مصدر مضاف إلى مفعوله.
فلفظ الساعة مجرور لفظا بالإضافة، منصوب محلا بالمفعولية، وما كان كذلك جاز في تابعه النصب نظرا إلى المحل، والخفض نظرا إلى اللفظ، كما قال في الخلاصة: فلفظ الساعة مجرور لفظا بالإضافة، منصوب محلا بالمفعولية، وما كان كذلك جاز في تابعه النصب نظرا إلى المحل، والخفض نظرا إلى اللفظ، كما قال في الخلاصة:
* وجر ما يتبع ما جر ومن
* راعى في الاتباع المحل فحسن
*
وقال في نظيره في الوصف: وقال في نظيره في الوصف:
* واخفض أو نصب تابع الذي انخفض
* كمبتغي جاه ومالا من نهض
*
وقال بعضهم: هو معطوف على * (سرهم) *.
وعليه فالمعنى: أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم، وقيله يا رب الآية.
وقال بعضهم: هو منصوب على أنه مفعول مطلق.
أي، وقال: قيله وهو بمعنى قوله إلا أن القاف لما كسرت، أبدلت الواو ياء لمجانسة الكسرة.
قالوا: ونظير هذا الإعراب قول كعب بن زهير: قالوا: ونظير هذا الإعراب قول كعب بن زهير:
* تمشي الوشاة جنابيها وقيلهم
* إنك يا بن أبي سلمى لمقتول
*
أي ويقولون: قيلهم.
168

وقال بعضهم: هو منصوب بيعلم محذوفة لأن العطف الذي ذكرنا على قوله: سرهم، والعطف على الساعة يقال فيه إنه يقتضي الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يصلح لكونه اعتراضا، وتقدير الناصب إذا دل المقام عليه لا إشكال فيه. كما قال في الخلاصة: وقال بعضهم: هو منصوب بيعلم محذوفة لأن العطف الذي ذكرنا على قوله: سرهم، والعطف على الساعة يقال فيه إنه يقتضي الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يصلح لكونه اعتراضا، وتقدير الناصب إذا دل المقام عليه لا إشكال فيه. كما قال في الخلاصة:
* ويحذف الناصبها إن علما
* وقد يكون حذفه ملتزما
*
وأما على قراءة الخفض، فهو معطوف على الساعة، أي وعنده علم الساعة، وعلم قيله يا رب.
واختار الزمخشري أنه مخفوض بالقسم، ولا يخفى بعده كما نبه عليه أبو حيان.
والتحقيق أن الضمير في قيله، للنبي صلى الله عليه وسلم.
والدليل على ذلك، أن قوله بعد: * (فاصفح عنهم وقل سلام) * خطاب له صلى الله عليه وسلم بلا نزاع، فادعاء أن الضمير في قيله لعيسى لا دليل عليه ولا وجه له.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من شكواه صلى الله عليه وسلم، إلى ربه عدم إيمان قومه، جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى: * (وقال الرسول يارب إن قومى اتخذوا هاذا القرءان مهجورا) *، وذكر مثله عن موسى في قوله تعالى في الدخان: * (فدعا ربه أن هاؤلاء قوم مجرمون) *، وعن نوح قوله تعالى: * (قال رب إنى دعوت قومى ليلا ونهارا فلم يزدهم دعآئى إلا فرارا) * إلى آخر الآيات. قوله تعالى: * (فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون) *. قرأ هذا الحرف ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: (فسوف يعلمون) بياء الغيبة، وقرأ نافع وابن عامر (فسوف تعلمون) بتاء الخطاب.
وهذه الآية الكريمة تضمنت، ثلاثة أمور:
الأول: أمره صلى الله عليه وسلم بالصفح عن الكفار.
والثاني: أن يقول لهم سلام.
169

والثالث: تهديد الكفار، بأنهم سيعلمون حقيقة الأمر وصحة ما يوعد به الكافر من عذاب النار.
وهذه الأمور الثلاثة جاءت موضحة في غير هذا الموضع:
كقوله تعالى في الأول * (وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل) *، وقوله تعالى * (ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم) *.
والصفح الإعراض عن المؤاخذة بالذنب.
قال بعضهم: وهو أبلغ من العفو.
قالوا: لأن الصفح أصله مشتق من صفحة العنق، فكأنه يولي المذنب بصفحة عنقه معرضا عن عتابه فما فوقه.
وأما الأمر الثاني، فقد بين تعالى أنه هو شأن عباده الطيبين.
ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم سيدهم كما قال تعالى * (وعباد الرحمان الذين يمشون على الا رض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) *، وقال تعالى: * (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنآ أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغى الجاهلين) *. وقال عن إبراهيم إنه قال له أبوه: * (لئن لم تنته لأرجمنك واهجرنى مليا) * قال له * (سلام عليك) *.
ومعنى السلام في الآيات المذكورة، إخبارهم بسلامة الكفار من أذاهم، ومن مجازاتهم لهم بالسوء، أي سلمتم منا لا نسافهكم، ولا نعاملكم بمثل ما تعاملوننا.
وأما الأمر الثالث الذي هو تهديد الكفار بأنهم سيعلمون الحقيقة قد جاء موضحا في آيات كتاب الله كقوله تعالى: * (ولتعلمن نبأه بعد حين) * وقوله تعالى: * (لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون) * وقوله: * (كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون) *. وقوله تعالى: * (كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون) *. وقوله تعالى: * (لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين) * إلى غير ذلك من الآيات.
170

وكثير من أهل العلم يقول: إن قوله تعالى: * (فاصفح عنهم) * وما في معناه منسوخ بآيات السيف، وجماعات من المحققين يقولون هو ليس بمنسوخ.
والقتال في المحل الذي يجب فيه القتال، والصفح عن الجهلة، والإعراض عنهم، وصف كريم، وأدب سماوي، لا يتعارض مع ذلك، والعلم عند الله تعالى.
171

((سورة الدخان))
* (حم * والكتاب المبين * إنآ أنزلناه فى ليلة مباركة إنا كنا منذرين * فيها يفرق كل أمر حكيم * أمرا من عندنآ إنا كنا مرسلين * رحمة من ربك إنه هو السميع العليم * رب السماوات والا رض وما بينهمآ إن كنتم موقنين * لا إلاه إلا هو يحى ويميت ربكم ورب ءابآئكم الا ولين * بل هم فى شك يلعبون * فارتقب يوم تأتى السمآء بدخان مبين * يغشى الناس هاذا عذاب أليم * ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون * أنى لهم الذكرى وقد جآءهم رسول مبين * ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون * إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عآئدون * يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون * ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجآءهم رسول كريم * أن أدوا إلى عباد الله إنى لكم رسول أمين * وأن لا تعلوا على الله إنىءاتيكم بسلطان مبين * وإنى عذت بربى وربكم أن ترجمون * وإن لم تؤمنوا لى فاعتزلون * فدعا ربه أن هاؤلاء قوم مجرمون * فأسر بعبادى ليلا إنكم متبعون * واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون * كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوما ءاخرين * فما بكت عليهم السمآء والا رض وما كانوا منظرين * ولقد نجينا بنى إسراءيل من العذاب المهين * من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين * ولقد اخترناهم على علم على العالمين * وءاتيناهم من الا يات ما فيه بلؤ ا مبين * إن هاؤلاء ليقولون * إن هى إلا موتتنا الا ولى وما نحن بمنشرين * فأتوا بأابآئنا إن كنتم صادقين * أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين * وما خلقنا السماوات والا رض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهمآ إلا بالحق ولاكن أكثرهم لا يعلمون * إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين * يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون * إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم * إن شجرة الزقوم * طعام الا ثيم * كالمهل يغلى فى البطون * كغلى الحميم * خذوه فاعتلوه إلى سوآء الجحيم) * قوله تعالى: * (إنآ أنزلناه فى ليلة مباركة) *. أبهم تعالى هذه الليلة المباركة هنا، ولكنه بين أنها هي ليلة القدر في قوله تعالى * (إنا أنزلناه فى ليلة القدر) * وبين كونها (مباركة) المذكورة هنا في قوله تعالى * (ليلة القدر خير من ألف شهر) * إلى آخر السورة.
فقوله * (فى ليلة مباركة) * أي كثيرة البركات والخيرات.
ولا شك أن ليلة هي خير من ألف شهر، إلى آخر الصفات التي وصفت بها، في سورة القدر كثيرة البركات، والخيرات جدا.
وقد بين تعالى أن هذه الليلة المباركة هي ليلة القدر، التي أنزل فيها القرآن من شهر رمضان، في قوله تعالى * (شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن) *.
فدعوى أنها ليلة النصف من شعبان كما روي عن عكرمة وغيره، لا شك في أنها دعوى باطلة لمخالفتها لنص القرآن الصريح.
ولا شك كل ما خالف الحق فهو باطل.
والأحاديث التي يوردها بعضهم في أنهم من شعبان المخالفة لصريح القرآن لا أساس لها، ولا يصح سند شيء منها، كما جزم به ابن العربي وغير واحد من المحققين.
فالعجب كل العجب من مسلم يخالف نص القرآن الصريح، بلا مستند كتاب ولا سنة صحيحة. قوله تعالى: * (فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنآ) *. معنى قوله: يفرق، أي يفصل ويبين، ويكتب في الليلة المباركة، التي هي ليلة القدر، كل أمر حكيم، أي ذي حكمة بالغة لأن كل ما يفعله الله، مشتمل على أنواع الحكم الباهرة:
وقال بعضهم: حكيم، أي محكم، ولا تغيير فيه، ولا تبديل.
172

وكلا الأمرين حق لأن ما سبق في علم الله، لا يتغير ولا يتبدل، ولأن جميع أفعاله في غاية الحكمة.
وهي في الاصطلاح وضع الأمور في مواضعها وإيقاعها في مواقعها.
وإيضاح معنى الآية أن الله تبارك وتعالى في كل ليلة قدر من السنة يبين للملائكة ويكتب لهم، بالتفصيل والإيضاح جميع ما يقع في تلك السنة، إلى ليلة القدر من السنة الجديدة.
فتبين في ذلك الآجال والأرزاق والفقر والغنى، والخصب والجدب والصحة والمرض، والحروب والزلازل، وجميع ما يقع في تلك السنة كائنا ما كان.
قال الزمخشري في الكشاف: ومعنى يفرق: يفصل ويكتب كل أمر حكيم من أرزاق العباد وآجالهم، وجميع أمورهم فيها، إلى الأخرى القابلة إلى أن قال: فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل، ونسخة الحروب إلى جبرائيل، وكذلك الزلازل، والصواعق والخسف، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم، ونسخة المصائب إلى ملك الموت ا ه محل الغرض منه بلفظه.
ومرادنا بيان معنى الآية، لا التزام صحة دفع النسخ المذكورة للملائكة المذكورين، لأنا لم نعلم له مستندا.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، يدل أيضا على أن الليلة المباركة هي ليلة القدر فهو بيان قرآني آخر.
وإيضاح ذلك أن معنى قوله * (إنا أنزلناه فى ليلة القدر) * أي في ليلة التقدير لجميع أمور السنة، من رزق وموت، وحياة وولادة ومرض، وصحة وخصب وجدب، وغير ذلك من جميع أمور السنة.
قال بعضهم: حتى إن الرجل لينكح ويتصرف في أموره ويولد له، وقد خرج اسمه في الموتى في تلك السنة.
وعلى هذا التفسير الصحيح لليلة القدر، فالتقدير المذكور هو بعينه المراد بقوله * (فيها يفرق كل أمر حكيم) *.
173

وقد قدمنا في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى: * (فظن أن لن نقدر عليه) * أن قدر بفتح الدال مخففا يقدر ويقدر بالكسر والضم كيضرب وينصر قدرا بمعنى قدر تقديرا، وأن ثعلبا أنشد لذلك قول الشاعر: فظن أن لن نقدر عليه) * أن قدر بفتح الدال مخففا يقدر ويقدر بالكسر والضم كيضرب وينصر قدرا بمعنى قدر تقديرا،
وأن ثعلبا أنشد لذلك قول الشاعر:
* فليست عشيات الحمى برواجع
* لنا أبدا ما أروق السلم النضر
*
* ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى
* تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر
*
وبينا هناك، أن ذلك هو معنى ليلة القدر، لأن الله يقدر فيها وقائع السنة.
وبينا أن ذلك هو معنى قوله تعالى: * (فيها يفرق كل أمر حكيم) * وأوضحنا هناك أن القدر بفتح الدال والقدر بسكونها هما ما يقدره الله من قضائه: ومنه قول هدبة بن الخشرم: فيها يفرق كل أمر حكيم) * وأوضحنا هناك أن القدر بفتح الدال والقدر بسكونها هما ما يقدره الله من قضائه: ومنه قول هدبة بن الخشرم:
* ألا يا لقومي للنوائب والقدر
* وللأمر يأتي المرء من حيث لا يدري
*
واعلم أن قول من قال: إنما سميت ليلة القدر لعظمها وشرفها على غيرها من الليالي من قولهم: فلان ذو قدر أي ذو شرف ومكانة رفيعة لا ينافي القول الأول لاتصافها بالأمرين معا، وصحة وصفها بكل منهما كما أوضحنا مثله مرارا.
واختلف العلماء في إعراب قوله * (أمرا من عندنآ) *، قال بعضهم: هو مصدر منكر في موضع الحال، أي أنزلناه في حال كوننا آمرين به.
وممن قال بهذا الأخفش.
وقال بعضهم: هو ما ناب عن المطلق من قوله (أنزلناه) وجعل (أمرا) بمعنى: إنزالا.
وممن قال به المبرد.
وقال بعضهم هو ما ناب عن المطلق من يفرق، فجعل (أمرا) بمعنى فرقا أو فرق بمعنى أمرا.
وممن قال بهذا الفراء والزجاج.
وقال بعضهم هو حال من (أمر) أي (يفرق فيها بين كل أمر حكيم).
في حال
174

كونه أمرا من عندنا، وهذا الوجه جيد ظاهر، وإنما ساغ إتيان الحال من النكرة وهي متأخرة عنها لأن النكرة التي هي (أمر) وصفت بقوله (حكيم) كما لا يخفى.
وقال بعضهم (أمرا) مفعول به لقوله (منذرين) وقيل غير ذلك.
واختار الزمخشري: أنه منصوب بالاختصاص، فقال: جعل كل أمر جزلا فخما بأن وصفه بالحكيم ثم زاده جزالة وأكسبه فخامة، بأن قال: أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا، كائنا من لدنا، وكما اقتضاه علمنا وتدبيرنا وهذا الوجه أيضا ممكن، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (إنا كنا مرسلين رحمة من ربك) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الكهف، في الكلام على قوله تعالى * (فوجدا عبدا من عبادنآ ءاتيناه رحمة من عندنا) *. وفي سورة فاطر في الكلام على قوله تعالى * (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها) *. قوله تعالى: * (ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون) *. هذا الذي ادعوه على النبي صلى الله عليه وسلم افتراء، من أنه معلم، يعنون أن هذا القرآن علمه إياه بشر، وأنه صلى الله عليه وسلم مجنون، قد بينا الآيات الموضحة لإبطاله.
أما دعواهم أنه معلم فقد قدمنا الآيات الدالة على تلك الدعوى في سورة النحل، في الكلام على قوله تعالى: * (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر) * وفي سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى: * (وقال الذين كفروا إن هاذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم ءاخرون) * إلى قوله * (فهى تملى عليه بكرة وأصيلا) *.
وبينا الآيات الموضحة لافترائهم وتعنتهم في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: * (لسان الذى يلحدون إليه أعجمى وهاذا لسان عربى مبين) *.
وفي الفرقان في الكلام على قوله تعالى: * (فقد جآءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الا ولين اكتتبها) *.
وأما دعواهم أنه مجنون، فقد قدمنا الآيات الموضحة لها. ولإبطالها في سورة قد
175

أفلح المؤمنون في الكلام على قوله تعالى: * (أم يقولون به جنة بل جآءهم بالحق) *. قوله تعالى: * (وجآءهم رسول كريم أن أدوا إلى عباد الله) *. الرسول الكريم هو موسى، والآيات الدالة على أن موسى هو الذي أرسل لفرعون وقومه كثيرة ومعروفة.
وقوله: * (أدوا إلى) * أي سلموا إلى عباد الله يعني بني إسرائيل، وأرسلوهم معي.
فقوله * (عباد الله) * مفعول به لقوله: * (أدوا) *. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن موسى طلب فرعون أن يسلم له بني إسرائيل ويرسلهم معه جاء موضحا
في آيات أخر، مصرح فيها بأن عباد الله هم بنو إسرائيل، كقوله تعالى في طه: * (فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بنى إسراءيل ولا تعذبهم) * وقوله تعالى في الشعراء * (فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بنى إسراءيل) *.
والتحقيق أن أن في قوله * (أن أدوا) * هي المفسرة، لأن مجيء الرسول يتضمن معنى القول لا المخففة من الثقيلة، وأن قوله: * (عباد الله) * مفعول به كما ذكرنا وكما أوضحته آية طه وآية الشعراء لا منادى مضاف. قوله تعالى: * (وإنى عذت بربى وربكم) *. قد قدمنا الكلام عليه في سورة المؤمن في الكلام على قوله تعالى: * (وقال موسى إنى عذت بربى وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب) *. قوله تعالى: * (كذلك وأورثناها قوما ءاخرين) *. لم يبين هنا من هؤلاء القوم الذين أورثهم ما ذكره هنا، ولكنه بين في سورة الشعراء أنهم بنو إسرائيل وذلك في قوله تعالى: * (كذلك وأورثناها بنى إسراءيل) *
176

كما تقدم في الترجمة، وفي الأعراف. قوله تعالى: * (ولقد نجينا بنى إسراءيل من العذاب المهين من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين) *. ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه نجى بني إسرائيل من العذاب المهين الذي كان يعذبهم به فرعون وقومه، جاء موضحا في آيات أخر، مصرح فيها بأنواع العذاب المذكور، كقوله تعالى في سورة البقرة * (وإذ نجيناكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبنآءكم ويستحيون نسآءكم وفى ذالكم بلاء من ربكم عظيم) * إلى قوله * (وأنتم تنظرون) *. وقوله في الأعراف * (وإذ أنجيناكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبنآءكم) *. وقوله تعالى في المؤمن * (فلما جآءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبنآء الذين ءامنوا معه) *. وقوله تعالى في إبراهيم: * (وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبنآءكم) *. وقوله في الشعراء: * (وتلك نعمة تمنها على أن عبدت بنى إسراءيل) *.
فتعبيده إياهم من أنواع عذابه لهم، إلى غير ذلك من الآيات.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة، من أن فرعون كان عاليا من المسرفين، أوضحه أيضا في غير هذا الموضع، كقوله تعالى في يونس: * (وإن فرعون لعال في الا رض وإنه لمن المسرفين) * وقوله تعالى في أول القصص * (إن فرعون علا فى الا رض وجعل أهلها شيعا يستضعف طآئفة منهم يذبح أبنآءهم ويستحى نساءهم إنه كان من المفسدين) * إلى غير ذلك من الآيات.
* (ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم * ذق إنك أنت العزيز الكريم * إن هاذا ما كنتم به تمترون * إن المتقين فى مقام أمين * فى جنات وعيون * يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين * كذلك وزوجناهم بحور عين * يدعون فيها بكل فاكهة ءامنين * لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الا ولى ووقاهم عذاب الجحيم * فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم * فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون * فارتقب إنهم مرتقبون) * قوله تعالى: * (ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم) *. قد قدمنا الآيات الموضحة في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى: * (يصب من فوق رءوسهم الحميم) *.
177

وقد تركنا إحالات متعددة بينا فيها بعض آيات سورة الدخان هذه خشية الإطالة بكثرة الإحالة. قوله تعالى: * (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة في سورة مريم في الكلام على قوله: * (فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين) *.
178

((سورة الجاثية))
* (حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم * إن فى السماوات والا رض لايات للمؤمنين * وفى خلقكم وما يبث من دآبة ءايات لقوم يوقنون * واختلاف اليل والنهار ومآ أنزل الله من السمآء من رزق فأحيا به الا رض بعد موتها وتصريف الرياح ءايات لقوم يعقلون * تلك ءايات الله نتلوها عليك بالحق فبأى حديث بعد الله وءاياته يؤمنون * ويل لكل أفاك أثيم * يسمع ءايات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم) * قوله تعالى: * (إن فى السماوات والا رض لايات للمؤمنين وفى خلقكم وما يبث من دآبة ءايات لقوم يوقنون واختلاف اليل والنهار ومآ أنزل الله من السمآء من رزق فأحيا به الا رض بعد موتها وتصريف الرياح ءايات لقوم يعقلون) *. ذكر جل وعلا، في هذه الآيات الكريمة، من أول سورة الجاثية ستة براهين، من براهين التوحيد الدالة على عظمته وجلاله، وكمال قدرته، وأنه المستحق للعبادة وحده تعالى.
الأول: منها خلقه السماوات والأرض.
الثاني: خلقه الناس.
الثالث: خلقه الدواب.
الرابع: اختلاف الليل والنهار.
الخامس: إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض به.
السادس: تصريف الرياح.
وذكر أن هذه الآيات والبراهين، إنما ينتفع بها المؤمنون، الموقنون الذين يعقلون عن الله حججه، وآياته.
فكأنهم هم المختصون بها دون غيرهم.
ولذا قال: * (لايات للمؤمنين) *، ثم قال: * (ءايات لقوم يوقنون) *، ثم قال: * (ءايات لقوم يعقلون) *.
وهذه البراهين الستة المذكورة في أول هذه السورة الكريمة، جاءت موضحة في آيات كثيرة جدا كما هو معلوم.
179

أما الأول منها وهو خلقه السماوات والأرض المذكور في قوله: * (إن فى السماوات والا رض لايات للمؤمنين) * فقد جاء في آيات كثيرة كقوله تعالى * (أفلم ينظروا إلى السمآء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج * والا رض مددناها وألقينا فيها رواسى وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج * تبصرة وذكرى لكل عبد منيب) * وقوله تعالى: * (أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السمآء والا رض) *. وقوله: * (قل انظروا ماذا فى السماوات والا رض وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) *. وقوله: * (أولم ينظروا فى ملكوت السماوات والا رض) *. وقوله: * (ومن ءاياته خلق السماوات والا رض) * في الروم وشورى. وقوله: * (الذى جعل لكم الا رض فراشا والسمآء بنآء) * وقوله تعالى: * (الله الذى جعل لكم الا رض قرارا والسمآء بنآء) *، وقوله تعالى: * (والسمآء بنيناها بأيد وإنا لموسعون * والا رض فرشناها فنعم الماهدون) *. وقوله تعالى: * (ألم نجعل الا رض مهادا) * إلى قوله * (وبنينا فوقكم سبعا شدادا) * والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا معروفة.
وأما الثاني منها: وهو خلقه الناس المذكور في قوله: * (وفى خلقكم) *، فقد جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله تعالى * (ومن ءاياته أن خلقكم من تراب ثم إذآ أنتم بشر تنتشرون) *. وقوله: * (ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم) *. وقوله تعالى عن نبيه نوح: * (ما لكم لا ترجون لله وقارا * وقد خلقكم أطوارا) *، وقوله تعالى: * (يخلقكم فى بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق فى ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إلاه إلا هو فأنى تصرفون) * وقوله * (وفى أنفسكم أفلا تبصرون) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة ومعلومة.
وأما الثالث منها: وهو خلقه الدواب المذكور في قوله: * (وما يبث من دآبة) * فقد جاء أيضا موضحا في آيات كثيرة أيضا من كتاب الله كقوله تعالى في سورة الشورى. * (ومن ءاياته خلق السماوات والا رض وما بث فيهما من دآبة وهو على جمعهم إذا يشآء قدير) *. وقوله تعالى في البقرة: * (ومآ أنزل الله من السمآء من مآء فأحيا به الا رض بعد موتها وبث فيها من كل دآبة) *. وقوله تعالى: * (والله خلق كل دآبة من
180

مآء فمنهم من يمشى على بطنه ومنهم من يمشى على رجلين ومنهم من يمشى على أربع يخلق الله ما يشآء إن الله على كل شىء قدير) *، وقوله تعالى * (وأنزل لكم من الا نعام ثمانية أزواج) * والآيات بمثل ذلك كثيرة ومعلومة.
وأما الرابع منها: وهو اختلاف الليل والنهار المذكور في قوله: واختلاف الليل والنهار. فقد جاء موضحا أيضا في آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى في البقرة: * (إن في خلق السماوات والا رض واختلاف الليل والنهار والفلك التى تجرى فى البحر بما ينفع الناس) * إلى قوله: * (لآيات لقوم يعقلون) *. وقوله تعالى في آل عمران: * (إن فى خلق السماوات والا رض واختلاف اليل والنهار لايات لا ولى الا لباب) *. وقوله تعالى في فصلت: * (ومن ءاياته اليل والنهار والشمس والقمر) *، وقوله تعالى: * (وءاية لهم اليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجرى لمستقر لها) *. وقوله تعالى: * (يقلب الله اليل والنهار إن فى ذالك لعبرة لأولى الا بصار) *، وقوله تعالى: * (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم اليل سرمدا إلى يوم القيامة من إلاه غير الله يأتيكم بضيآء أفلا تسمعون * قل أرءيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إلاه غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون * ومن رحمته جعل لكم اليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) *، وقوله تعالى: * (وهو الذى يحاى ويميت وله اختلاف اليل والنهار أفلا تعقلون) * والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وأما الخامس منها وهو: إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض به وإنبات الرزق فيها المذكور في قوله: * (ومآ أنزل الله من السمآء من رزق فأحيا به الا رض بعد موتها) * فقد جاء موضحا أيضا في آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى في البقرة: * (إن في خلق السماوات والا رض واختلاف الليل والنهار والفلك التى تجرى فى البحر بما ينفع الناس ومآ أنزل الله من السمآء من مآء فأحيا به الا رض بعد موتها) * إلى قوله * (لآيات لقوم يعقلون) *، وقوله تعالى: * (فلينظر الإنسان إلى طعامه) * * (ثم شققنا الا رض شقا * (فأنبتنا فيها حبا وعنبا) * إلى قوله * (متاعا لكم ولانعامكم) *.
181

وإيضاح هذا البرهان باختصار أن قوله تعالى: * (فلينظر الإنسان إلى طعامه) * أمر من الله تعالى لكل إنسان مكلف أن ينظر ويتأمل في طعامه كالخبز الذي يأكله، ويعيش به من خلق الماء الذي كان سببا لنباته.
هل يقدر أحد غير الله أن يخلقه؟
الجواب: لا.
ثم هب أن الماء قد خلق بالفعل، هل يقدر أحد غير الله أن ينزله إلى الأرض، على هذا الوجه الذي يحصل به النفع، من غير ضرر بإنزاله على الأرض رشا صغيرا، حتى تروى به الأرض تدريجا. من غير أن يحصل به هدم، ولا غرق كما قال تعالى: * (فترى الودق يخرج من خلاله) *.
الجواب: لا.
ثم هب أن الماء قد خلق فعلا، وأنزل في الأرض، على ذلك الوجه الأتم الأكمل، هل يقدر أحد غير الله أن يشق الأرض، ويخرج منها مسمار النبات؟
الجواب: لا.
ثم هب أن النبات خرج من الأرض، وانشقت عنه فهل يقدر أحد غير الله أن يخرج السنبل من ذلك النبات؟
الجواب: لا.
ثم هب أن السنبل خرج من النبات فهل يقدر أحد غير الله أن ينمي حبه وينقله من طور إلى طور حتى يدرك ويكون صالحا للغذاء والقوت؟
الجواب: لا.
وقد قال تعالى: * (انظروا إلى ثمره إذآ أثمر وينعه إن فى ذالكم لا يات لقوم يؤمنون) *، وكقوله تعالى: * (وأنزلنا من المعصرات مآء ثجاجا لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا) *. وقوله تعالى: * (وءاية لهم الا رض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
182

واعلم أن إطلاقه تعالى الرزق على الماء، في آية الجاثية هذه، قد أوضحنا وجهه في سورة المؤمن في الكلام على قوله تعالى: * (هو الذى يريكم ءاياته وينزل لكم من السمآء رزقا) *.
وأما السادس منها: وهو تصريف الرياح المذكور في قوله * (وتصريف الرياح) * فقد جاء موضحا أيضا في آيات من كتاب الله كقوله في البقرة: * (وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السمآء والأرض لآيات لقوم يعقلون) * وقوله تعالى: * (ومن ءاياته أن يرسل الرياح مبشرات) *، وقوله تعالى * (وأرسلنا الرياح لواقح) * إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه
اعلم أن هذه البراهين العظيمة المذكورة، في أول سورة الجاثية، هذه ثلاثة منها، من براهين البعث، التي يكثر في القرآن العظيم، الاستدلال بها على البعث، كثرة مستفيضة.
وقد أوضحناها في مواضع من هذا الكتاب المبارك في سورة البقرة وسورة النحل وغيرهما، وأحلنا عليها مرارا كثيرة في هذا الكتاب المبارك وسنعيد طرفا منها هنا لأهميتها إن شاء الله تعالى.
والأول من البراهين المذكورة هو خلق السماوات والأرض المذكور هنا في سورة الجاثية هذه * (إن فى السماوات والا رض لايات للمؤمنين) * لأن خلقه جل وعلا للسماوات والأرض، من أعظم البراهين على بعث الناس بعد الموت لأن من خلق الأعظم الأكبر، لا شك في قدرته على خلق الأضعف الأصغر.
والآيات الدالة على هذا كثيرة كقوله تعالى: * (لخلق السماوات والا رض أكبر من خلق الناس) * أي ومن قدر على خلق الأكبر فلا شك أنه قادر على خلق الأصغر، وقوله تعالى: * (أوليس الذى خلق السماوات والا رض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم) *. وقوله تعالى: * (أولم يروا أن الله الذى خلق السماوات والا رض ولم يعى بخلقهن بقادر على أن يحى الموتى بلى إنه على كل شىء قدير) * وقوله تعالى: * (أولم يروا أن الله الذى خلق السماوات والا رض قادر
183

على أن يخلق مثلهم) *. وقوله تعالى: * (أءنتم أشد خلقا أم السمآء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والا رض بعد ذلك دحاها أخرج منها مآءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولانعامكم) *.
ونظير آية النازعات هذه قوله تعالى في أول الصافات: * (فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنآ) * ة، لأن قوله: * (أم من خلقنآ) * يشير به إلى خلق السماوات والأرض، وما ذكر معهما المذكور في قوله تعالى: * (رب السماوات والا رض وما بينهما ورب المشارق) * إلى قوله * (فأتبعه شهاب ثاقب) *.
وأما الثاني من البراهين المذكورة: فهو خلقه تعالى للناس المرة الأولى، لأن من ابتدع خلقهم على غير مثال سابق، لا شك في قدرته على إعادة خلقهم، مرة أخرى كما لا يخفى.
والاستدلال بهذا البرهان على البعث كثير جدا في كتاب الله كقوله تعالى: * (ياأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب) * إلى آخر الآيات. وقوله تعالى: * (وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحى العظام وهى رميم قل يحييها الذى أنشأهآ أول مرة وهو بكل خلق عليم) * وقوله تعالى: * (ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر إلإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا فوربك لنحشرنهم والشياطين) *. وقوله تعالى: * (وهو الذى يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) *. وقوله تعالى: * (فسيقولون من يعيدنا قل الذى فطركم أول مرة) * وقوله تعالى: * (كما بدأنآ أول خلق نعيده وعدا علينآ إنا كنا فاعلين) * وقوله تعالى: * (أفعيينا بالخلق الا ول بل هم فى لبس من خلق جديد) * وقوله تعالى: * (ولقد علمتم النشأة الا ولى فلولا تذكرون) * وقوله تعالى: * (وأنه خلق الزوجين الذكر والا نثى من نطفة إذا تمنى وأن عليه النشأة الا خرى) * وقوله تعالى: * (أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من منى يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والا نثى أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى) *. وقوله تعالى: * (والتين والزيتون وطور سينين وهاذا البلد الا مين لقد خلقنا الإنسان فى أحسن
184

تقويم) * إلى قوله * (فما يكذبك بعد بالدين) * يعني أي شيء يحملك على التكذيب بالدين أي بالبعث والجزاء، وقد علمت أني خلقتك الخلق الأول في أحسن تقويم، وأنت تعلم أنه لا يخفى على عاقل أن من ابتدع الإيجاد الأول لا شك في قدرته، على إعادته مرة أخرى إلى غير ذلك من الآيات.
وأما البرهان الثالث منها: وهو إحياء الأرض بعد موتها المذكور في قوله تعالى في سورة الجاثية هذه: * (ومآ أنزل الله من السمآء من رزق فأحيا به الا رض بعد موتها) *، فإنه يكثر الاستدلال به أيضا على البعث في القرآن العظيم، لأن من أحيا الأرض بعد موتها قادر على أحياء الناس بعد موتهم، لأن الجميع أحياء بعد موت.
فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: * (ومن ءاياته أنك ترى الا رض خاشعة فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت إن الذى أحياها لمحى الموتى إنه على كل شىء قدير) * وقوله تعالى: * (وترى الا رض هامدة فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ذالك بأن الله هو الحق وأنه يحى الموتى وأنه على كل
شىء قدير وأن الساعة ءاتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من فى القبور) * وقوله تعالى: * (فانظر إلىءاثار رحمة الله كيف يحى الا رض بعد موتهآ إن ذلك لمحى الموتى وهو على كل شىء قدير) * وقوله تعالى * (وهو الذى يرسل الرياح بشرى بين يدى رحمته حتى إذآ أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به المآء فأخرجنا به من كل الثمرات كذالك نخرج الموتى لعلكم تذكرون) *.
فقوله تعالى: * (كذالك نخرج الموتى) * أي نبعثهم من قبورهم أحياء كما أخرجنا تلك الثمرات بعد عدمها، وأحيينا بإخراجها ذلك البلد الميت، وقوله تعالى: * (يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى ويحى الا رض بعد موتها وكذلك تخرجون) * يعني تخرجون من قبوركم أحياء بعد الموت. وقوله تعالى: * (وأحيينا به بلدة ميتا كذالك الخروج) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (تلك ءايات الله نتلوها عليك بالحق) *. أشار جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم إلى آيات هذا القرآن العظيم، وبين لنبيه أنه يتلوها عليه، متلبسة بالحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه.
185

وما ذكره جل وعلا في آية الجاثية هذه، ذكره في آيات أخر بلفظه كقوله تعالى في البقرة: * (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولاكن الله ذو فضل على العالمين تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين) * وقوله تعالى في آل عمران: * (وأما الذين ابيضت وجوههم ففى رحمة الله هم فيها خالدون تلك ءايات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين) * وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (تلك) * بمعنى هذه.
ومن أساليب اللغة العربية إطلاق الإشارة إلى البعيد على الإشارة إلى القريب كقوله: * (ذالك الكتاب) * بمعنى هذا الكتاب. كما حكاه البخاري عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، ومن شواهده قول خفاف بن ندبة السلمي: ذالك الكتاب) * بمعنى هذا الكتاب. كما حكاه البخاري عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، ومن شواهده قول خفاف بن ندبة السلمي:
* فإن تك خيلي قد أصيب صميمها
* فعمدا على عيني تيممت مالكا
*
* أقول له والرمح يأطر متنه
* تأمل خفافا إنني أنا ذالكا
*
يعني أنا هذا.
وقد أوضحنا هذا المبحث وذكرنا أوجهه في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب، عن آيات الكتاب) في أول سورة البقرة وقوله تعالى: * (نتلوها) * أي نقرؤها عليك.
وأسند جل وعلا تلاوتها إلى نفسه لأنها كلامه الذي أنزله على رسوله بواسطة الملك، وأمر الملك أن يتلوه عليه مبلغا عنه جل وعلا.
ونظير ذلك قوله تعالى: * (لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرءانه فإذا قرأناه فاتبع قرءانه ثم إن علينا بيانه) *.
فقوله: فإذا قرأناه أي قرأه عليك الملك المرسل به، من قبلنا مبلغا عنا، وسمعته منه، فاتبع قرآنه أي فاتبع قراءته واقرأه كما سمعته يقرؤه.
وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله: * (ولا تعجل بالقرءان من قبل إن يقضى إليك وحيه) *.
وسماعه صلى الله عليه وسلم القرآن من الملك المبلغ عن الله كلام الله وفهمه له هو معنى تنزيله إياه
186

على قلبه في قوله تعالى: * (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) * وقوله تعالى: * (وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الا مين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربى مبين) * وقوله تعالى في هذه الآية: * (تلك ءايات الله) * يعني آياته الشرعية الدينية.
واعلم أن لفظ الآية، يطلق في اللغة العربية إطلاقين، وفي القرآن العظيم إطلاقين أيضا.
أما إطلاقاه في اللغة العربية.
فالأول منهما وهو المشهور في كلام العرب، فهو إطلاق الآية بمعنى العلامة، وهذا مستفيض في كلام العرب، ومنه قول نابغة ذبيان: فالأول منهما وهو المشهور في كلام العرب، فهو إطلاق الآية بمعنى العلامة، وهذا مستفيض في كلام العرب، ومنه قول نابغة ذبيان:
* توهمت آيات لها فعرفتها
* لستة أعوام وذا العام سابع
*
ثم بين أن مراده بالآيات علامات الدار في قوله بعده: ثم بين أن مراده بالآيات علامات الدار في قوله بعده:
* رماد ككحل العين لأيا أبينه
* ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع
*
وأما الثاني منهما فهو إطلاق الآية بمعنى الجماعة، يقولون: جاء القوم بآيتهم أي بجماعتهم.
ومنه قول برج بن مسهر: ومنه قول برج بن مسهر:
* خرجنا من النقبين لا حي مثلنا
* بآيتنا نزجي اللقاح المطافلا
*
وقوله: بآياتنا يعني بجماعتنا.
وأما إطلاقاه في القرآن العظيم:
فالأول منهما إطلاق الآية على الشرعية الدينية كآيات هذا القرآن العظيم، ومنه قوله هنا: * (تلك ءايات الله نتلوها عليك بالحق) *.
وأما الثاني منهما: فهو إطلاق الآية على الآية الكونية القدرية كقوله تعالى: * (إن فى خلق السماوات والا رض واختلاف اليل والنهار لايات لا ولى الا لباب) *.
أما الآية الكونية القدرية فهي بمعنى الآية اللغوية التي هي العلامة، لأن الآيات الكونية علامات قاطعة، على أن خالقها هو الرب المعبود وحده.
187

وأما الآية الشرعية الدينية، فقال بعض العلماء: إنها أيضا من الآية التي هي العلامة، لأن آيات هذا القرآن العظيم، علامات على صدق من جاء بها، لما تضمنته من برهان الإعجاز، أو لأن فيها علامات يعرف بها مبدأ الآيات ومنتهاها.
وقال بعض العلماء إنها من الآية بمعنى الجماعة، لتضمنها جملة وجماعة من كلمات القرآن وحروفه.
واختار غير واحد أن أصل الآية أيية بفتح الهمزة وفتح الياءين بعدها، فاجتمع في الياءين موجبا إعلال، لأن كلا منهما متحركة حركة أصلية بعد فتح متصل، كما أشار له في الخلاصة بقوله: واختار غير واحد أن أصل الآية أيية بفتح الهمزة وفتح الياءين بعدها، فاجتمع في الياءين موجبا إعلال، لأن كلا منهما متحركة حركة أصلية بعد فتح متصل، كما أشار له في الخلاصة بقوله:
* من واو وياء بتحريك أصل
* ألفا أبدل بعد فتح متصل
*
إن حرك التالي... إلخ.
والمعروف في علم التصريف، أنه إن اجتمع موجبا إعلال في كلمة واحدة فالأكثر في اللغة العربية تصحيح الأول منهما، وإعلال الثاني بإبداله ألفا كالهوى والنوى والطوى والشوى، وربما صحح الثاني وأعل الأول كغاية، وراية، وآية على الأصح، من أقوال عديدة، ومعلوم أن إعلالهما لا يصح، ولهذا أشار في الخلاصة بقوله: والمعروف في علم التصريف، أنه إن اجتمع موجبا إعلال في كلمة واحدة فالأكثر في اللغة العربية تصحيح الأول منهما، وإعلال الثاني بإبداله ألفا كالهوى والنوى والطوى والشوى، وربما صحح الثاني وأعل الأول كغاية، وراية، وآية على الأصح، من أقوال عديدة، ومعلوم أن إعلالهما لا يصح، ولهذا أشار في الخلاصة بقوله:
* وإن لحرفين ذا الإعلال استحق
* صحح أول وعكس قد يحق
* فبأى حديث بعد الله وءاياته يؤمنون ويل لكل أفاك أثيم يسمع ءايات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم) *. ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن من كفر بالله وبآيات الله ولم يؤمن بذلك مع ظهور الأدلة والبراهين على لزوم الإيمان بالله، وآياته أنه يستبعد، أن يؤمن بشيء آخر، لأنه لو كان يؤمن بحديث لآمن بالله وبآياته لظهور الأدلة على ذلك، وأن من لم يؤمن بآيات الله متوعد بالويل، وأنه أفاك أثيم، والأفاك: كثير الإفك وهو أسوأ الكذب، والأثيم: هو مرتكب الإثم بقلبه وجوارحه، فهو مجرم بقلبه ولسانه وجوارحه، قد ذكره تعالى في غير هذا الموضع فتوعد المكذبين لهذا القرآن، بالويل يوم القيامة، وبين استبعاد إيمانهم، بأي حديث بعد أن لم يؤمنوا بهذا القرآن، وذلك بقوله في آخر المرسلات:
188

* (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ويل يومئذ للمكذبين فبأى حديث بعده يؤمنون) * فقوله تعالى: * (ويل يومئذ للمكذبين) * كقوله هنا * (ويل لكل أفاك أثيم) *.
وقد كرر تعالى وعيد المكذبين بالويل في سورة المرسلات كما هو معلوم وقوله في آخر المرسلات: * (فبأى حديث بعده يؤمنون) * كقوله هنا في الجاثية: * (فبأى حديث بعد الله وءاياته يؤمنون) *. ومعلوم أن الإيمان بالله على الوجه الصحيح، يستلزم الإيمان بآياته، وأن الإيمان بآياته كذلك يستلزم الإيمان به تعالى، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (يسمع ءايات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم) * يدل على أن من يسمع القرآن يتلى ثم يصر على الكفر والمعاصي في حالة كونه متكبرا عن الانقياد إلى الحق الذي تضمنته آيات القرآن كأنه لم يسمع آيات الله، له البشارة يوم القيامة بالعذاب الأليم وهو الخلود في النار، وما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى في لقمان: * (وإذا تتلى عليه ءاياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن فى أذنيه وقرا فبشره بعذاب) * وقوله تعالى في الحج: * (وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات تعرف فى وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم ءاياتنا قل أفأنبئكم بشر من
ذالكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير) * وقوله تعالى: * (ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال ءانفا أولائك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهوآءهم) *، فقوله تعالى عنهم: ماذا قال آنفا. يدل على أنهم ما كانوا يبالون بما يتلو عليهم النبي صلى الله عليه وسلم من الآيات والهدى.
وقد ذكرنا كثيرا من الآيات المتعلقة بهذا المبحث في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى: * (فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه وفىءاذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب) *.
وقوله تعالى في هذه الآية. * (كأن لم يسمعها) * خففت فيه لفظة كأن، ومعلوم أن كأن إذا خففت كان اسمها مقدرا وهو ضمير الشأن والجملة خبرها كما قال في الخلاصة: كأن لم يسمعها) * خففت فيه لفظة كأن، ومعلوم أن كأن إذا خففت كان اسمها مقدرا وهو ضمير الشأن والجملة خبرها كما قال في الخلاصة:
189

* وخففت كأن أيضا فنوى
* منصوبها وثابتا أيضا روى
*
وقد قدمنا في أول سورة الكهف: أن البشارة تطلق غالبا على الإخبار بما يسر، وأنها ربما أطلقت في القرآن وفي كلام العرب على الإخبار بما يسوء أيضا.
وأوضحنا ذلك بشواهده العربية، وقوله في هذه الآية الكريمة: * (ويل لكل أفاك أثيم) *.
قال بعض العلماء: * (ويل) * واد في جهنم.
والأظهر أن لفظة * (ويل) * كلمة عذاب وهلاك، وأنها مصدر لا لفظ له من فعله، وأن المسوغ للابتداء بها مع أنها نكرة كونها في معرض الدعاء عليهم بالهلاك.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (فبأى حديث بعد الله وءاياته يؤمنون) *.
قرأه نافع، وابن كثير، وأبو عمرو وحفص، عن عاصم: يؤمنون بياء الغيبة.
وقرأه ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وشعبة عن عاصم تؤمنون بتاء الخطاب.
وقرأه ورش عن نافع والسوسي عن أبي عمرو يؤمنون بإبدال الهمزة واوا وصلا ووقفا.
وقرأه حمزة بإبدال الهمزة واوا في الوقف دون الوصل.
والباقون بتحقيق الهمزة مطلقا.
* (وإذا علم من ءاياتنا شيئا اتخذها هزوا أولائك لهم عذاب مهين * من ورآئهم جهنم ولا يغنى عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أوليآء ولهم عذاب عظيم * هاذا هدى والذين كفروا بأايات ربهم لهم عذاب من رجز أليم * الله الذى سخر لكم البحر لتجرى الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون * وسخر لكم ما فى السماوات وما فى الا رض جميعا منه إن فى ذلك لايات لقوم يتفكرون * قل للذين ءامنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزى قوما بما كانوا يكسبون * من عمل صالحا فلنفسه ومن أسآء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون * ولقد ءاتينا بنى إسراءيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين * وءاتيناهم بينات من الا مر فما اختلفوا إلا من بعد ما جآءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) * قوله تعالى: * (وإذا علم من ءاياتنا شيئا اتخذها هزوا أولائك لهم عذاب مهين) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة توعد الأفاك الأثيم بالويل، والبشارة بالعذاب الأليم.
وقد قدمنا قريبا أن من صفاته، أنه إذا سمع آيات الله تتلى عليه أصر مستكبرا كأن لم يسمعها، وذكر في هذه الآية الكريمة أنه إذا علم من آيات الله شيئا اتخذها هزوا أي مهزوءا بها، مستخفا بها، ثم توعده على ذلك بالعذاب المهين.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الكفار يتخذون آيات الله هزوا، وأنهم سيعذبون على ذلك يوم القيامة، قد بينه تعالى في غير هذا الموضع كقوله تعالى في آخر
190

الكهف: * (ذلك جزآؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا ءاياتى ورسلى هزوا) * وقوله تعالى في الكهف أيضا: * (ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا ءاياتى وما أنذروا هزوا ومن أظلم ممن ذكر بأايات ربه فأعرض عنها ونسى ما قدمت يداه) *. وقوله تعالى في سورة الجاثية هذه: * (وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقآء يومكم هاذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ذلكم بأنكم اتخذتم ءايات الله هزوا) *.
وقرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير حمزة وحفص عن عاصم هزؤا بضم الزاي بعدها همزة محققة.
وقرأه حفص عن عاصم بضم الزاي وإبدال الهمزة واوا.
وقرأه حمزة هزءا بسكون الزاي بعدها همزة محققة في حالة الوصل.
وأما في حالة الوقف، فعن حمزة نقل حركة الهمزة إلى الزاي فتكون الزاي مفتوحة بعدها ألف، وعنه إبدالها واوا محركة بحركة الهمزة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (لهم عذاب مهين) * أي لأن عذاب الكفار الذين كانوا يستهزءون بآيات الله لا يراد به إلا إهانتهم وخزيهم وشدة إيلامهم بأنواع العذاب.
وليس فيه تطهير ولا تمحيص لهم بخلاف عصاة المسلمين فإنهم وإن عذبوا فسيصيرون إلى الجنة بعد ذلك العذاب.
فليس المقصود بعذابهم مجرد الإهانة بل ليؤلوا بعده إلى الرحمة ودار الكرامة. قوله تعالى: * (من ورآئهم جهنم ولا يغنى عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أوليآء ولهم عذاب عظيم) *. قوله تعالى: * (من ورآئهم جهنم) * قد قدمنا الآيات الموضحة له مع الشواهد العربية في سوة إبراهيم في الكلام على قوله تعالى: * (واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد من ورآئه جهنم) *. وبينا هناك أن أصح الوجهين أن وراء بمعنى أمام.
فمعنى من ورائه جهنم أي أمامه جهنم يصلاها يوم القيامة كما قال تعالى:
191

* (وكان ورآءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا) * أي أمامهم ملك.
وذكرنا هناك الشواهد العربية على إطلاق وراء بمعنى أمام، وبينا أن هذا هو التحقيق في معنى الآية وكذلك آية الجاثية هذه، فقوله تعالى * (من ورآئهم جهنم) * أي أمامهم جهنم يصلونها يوم القيامة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (ولا يغنى عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أوليآء) *.
أوضح فيه أن ما كسبه الكفار في دار الدنيا من الأموال والأولاد لا يغني عنهم شيئا يوم القيامة أي لا ينفعهم بشيء فلا يجلب لهم بسببه نفع ولا يدفع عنهم بسببه ضر، وإنما اتخذوه من الأولياء في دار الدنيا من دون الله، كالمعبودات التي كانوا يعبدونها، ويزعمون أنها شركاء لله لا ينفعهم يوم القيامة أيضا بشيء.
وهاتان المسألتان اللتان تضمنتهما هذه الآية الكريمة، قد أوضحهما الله في آيات كثيرة من كتابه.
أما الأولى منهما: وهي كونهم لا يغني عنهم ما كسبوا شيئا فقد أوضحها في آيات كثيرة كقوله تعالى: * (تبت يدآ أبى لهب وتب مآ أغنى عنه ماله وما كسب) * وقوله تعالى: * (وما يغنى عنه ماله إذا تردى) * وقوله تعالى: * (الذى جمع مالا وعدده يحسب أن ماله أخلده كلا لينبذن فى الحطمة) *. وقوله تعالى: * (قد قالها الذين من قبلهم فمآ أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) *. وقوله تعالى: * (ياليتها كانت القاضية مآ أغنى عنى ماليه) *. وقوله تعالى: * (قالوا مآ أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون) *. وقوله تعالى عن إبراهيم: * (ولا تخزنى يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون) *. وقوله تعالى: * (ومآ أموالكم ولا أولادكم بالتى تقربكم عندنا زلفى) *. وقوله تعالى: * (إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولائك هم وقود النار) *. وقوله تعالى: * (إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولائك أصحاب النار هم فيها خالدون) *. وقوله تعالى في المجادلة * (اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب
192

مهين لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا) *.
والآيات بمثل هذا كثيرة جدا، وقد قدمنا كثيرا منها في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك.
وأما الثانية منهما، وهي كونهم لا تنفعهم المعبودات، التي اتخذوها أولياء من دون الله، فقد أوضحها تعالى في آيات كثيرة، كقوله تعالى في هود: * (وما ظلمناهم ولاكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم ءالهتهم التى يدعون من دون الله من شىء لما جآء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب) *. وقوله تعالى * (فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا ءالهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون) *. وقوله تعالى: * (وقيل ادعوا شركآءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون) *: وقوله تعالى * (ويوم يقول نادوا شركآئى الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا) * وقوله تعالى: * (ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعآئهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعدآء) * وقوله تعالى: * (ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعآءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير) *. وقوله تعالى: * (واتخذوا من دون الله ءالهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا) *، وقوله تعالى: * (وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم فى الحيواة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين) *، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (ولا ما اتخذوا من دون الله أوليآء) *، الأولياء جمع ولي.
والمراد بالأولياء هنا، المعبودات التي يوالونها بالعبادة من دون الله، * (وما * كسبوا) * في قوله: * (وما) *؟ * (و ما اتخذوا) * موصولة وهي في محل رفع في الموضعين، لأن * (ما) * الأولى فاعل * (يغنى) *؟ * (وما) * الثانية معطوفة عليها وزيادة لا، قبل المعطوف على منفي معروفة. وقوله: * (ولا يغنى) * أي لا ينفع. والظاهر أن أصله من الغناء بالفتح والمد وهو النفع.
193

ومنه قول الشاعر: ومنه قول الشاعر:
* وقل غناء عنك مال جمعته
* إذا صار ميراثا وواراك لاحد
*
فقوله: قل غناء أي قل نفعا. وقول الآخر: فقوله: قل غناء أي قل نفعا. وقول الآخر:
* قل الغناء إذا لاقى الفتى تلفا
* قول الأحبة لا تبعد وقد بعدا
*
فقوله: الغناء أي النفع.
والبيت من شواهد إعمال المصدر المعرف بالألف واللام، لأن قوله: قول الأحبة، فاعل قوله الغناء. وأما الغناء بالكسر والمد فهو الألحان المطربة.
وأما الغنى بالكسر والقصر فهو ضد الفقر.
وأما الغنى بالفتح والقصر فهو الإقامة، من قولهم غنى بالمكان بكسر النون يغنى بفتحها غنى بفتحتين إذا أقام به.
ومنه قوله تعالى * (كأن لم تغن بالا مس) * وقوله تعالى * (كأن لم يغنوا فيها) * كأنهم لم يقيموا فيها.
وأما الغنى بالضم والقصر فهو جمع غنية وهي ما يستغنى به الإنسان.
وأما الغناء بالمد والضم فلا أعلمه في العربية.
وهذه اللغات التي ذكرنا في مادة غنى كنت تلقيتها في أول شبابي في درس من دروس الفقه لقننيها شيخي الكبير أحمد الأفرم بن محمد المختار الجكني، وذكر لي بيتي رجز في ذلك لبعض أفاضل علماء القطر وهما قوله: وهذه اللغات التي ذكرنا في مادة غنى كنت تلقيتها في أول شبابي في درس من دروس الفقه لقننيها شيخي الكبير أحمد الأفرم بن محمد المختار الجكني، وذكر لي بيتي رجز في ذلك لبعض أفاضل علماء القطر وهما قوله:
* وضد فقر كإلى وكسحاب
* النفع والمطرب أيضا ككتاب
*
* وكفتى إقامة وكهنا
* جمع لغنية لما به الغنى
* هاذا هدى والذين كفروا بأايات ربهم لهم عذاب من رجز أليم) *. الإشارة في قوله * (هاذا هدى) * راجعة للقرآن العظيم المعبر عنه بآيات الله في قوله * (تلك آيات الله) *. وقوله * (فبأى حديث بعد الله وءاياته) *.
194

وقوله: * (يسمع ءايات الله تتلى عليه) * وقوله: * (وإذا علم من ءاياتنا شيئا) *.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن هذا القرآن هدى، وأن من كفر بآياته له العذاب الأليم، جاء موضحا في غير هذا الموضع.
أما كون القرآن هدى، فقد ذكره تعالى، في آيات كثيرة كقوله تعالى * (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون) *. وقوله تعالى: * (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شىء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) * وقوله تعالى * (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) * وقوله تعالى * (شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) * وقوله * (ألم ذالك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) * وقوله تعالى: * (قل هو للذين ءامنوا هدى وشفآء) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وأما كون من كفر بالقرآن يحصل له بسبب ذلك العذاب الأليم، فقد جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله تعالى * (ومن يكفر به من الا حزاب فالنار موعده فلا تك فى مرية منه) *: وقوله تعالى * (وقد آتيناك من لدنا ذكرا من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا خالدين فيه وسآء لهم يوم القيامة حملا) * وقوله تعالى: * (ذلك جزآؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا ءاياتى ورسلى هزوا) * والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة.
وقد قدمنا في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى: * (وأما ثمود فهديناهم) *. وغير ذلك من المواضع، أن الهدى يطلق في القرآن إطلاقا عاما، بمعنى أن الهدى هو البيان والإرشاد وإيضاح الحق، كقوله * (وأما ثمود فهديناهم) * أي بينا لهم الحق وأوضحناه وأرشدناهم إليه وإن لم يتبعوه، وكقوله * (هدى للناس) * وقوله هنا * (هاذا هدى) * وأنه يطلق أيضا في القرآن بمعناه الخاص وهو التفضل بالتوفيق إلى طريق الحق والاصطفاء كقوله * (هدى للمتقين) * وقوله * (قل هو للذين ءامنوا هدى وشفآء) * وقوله * (والذين اهتدوا زادهم هدى) *
195

وقوله * (أولائك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقد أوضحنا في سورة فصلت أن معرفة إطلاق الهدى المذكورين، يزول بها الإشكال الواقع في آيات من كتاب الله.
والهدى مصدر هداه على غير قياس، وهو هنا من جنس النعت بالمصدر، وبينا فيما مضى مرارا أن تنزيل المصدر منزلة الوصف إما على حذف مضاف، وإما على المبالغة.
وعلى الأول فالمعنى هذا القرآن ذو هدى أي يحصل بسببه الهدى لمن اتبعه كقوله * (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) *.
وعلى الثاني فالمعنى أن المراد المبالغة في اتصاف القرآن بالهدى حتى أطلق عليه أنه هو نفس الهدى.
وقوله في هذه الآية الكريمة، لهم عذاب من رجز أليم، أصح القولين فيه أن المراد بالرجز العذاب، ولا تكرار في الآية لأن العذاب أنواع متفاوتة والمعنى لهم عذاب، من جنس العذاب الأليم، والأليم معناه المؤلم. أي الموصوف بشدة الألم وفظاعته.
والتحقيق إن شاء الله: أن العرب تطلق الفعيل وصفا بمعنى المفعل، فما يذكر عن الأصمعي من أنه أنكر ذلك إن صح عنه فهو غلط منه، لأن إطلاق الفعيل بمعنى المفعل معروف في القرآن العظيم وفي كلام العرب، ومن إطلاقه في القرآن العظيم قوله تعالى: * (عذاب أليم) * أي مؤلم وقوله تعالى: * (بديع السماوات والا رض) * أي مبدعهما وقوله تعالى: * (إن هو إلا نذير لكم) *. أي منذر لكم، ونظير ذلك من كلام العرب قول عمرو بن معد يكرب: إن هو إلا نذير لكم) *. أي منذر لكم، ونظير ذلك من كلام العرب قول عمرو بن معد يكرب:
* أمن ريحانة الداعي السميع
* يؤرقني وأصحابي هجوع
*
فقوله الداعي السميع يعني الداعي المسمع. وقوله أيضا: فقوله الداعي السميع يعني الداعي المسمع. وقوله أيضا:
* وخيل قد دلفت لها بخيل
* تحية بينهم ضرب وجيع
*
أي موجع. وقول غيلان بن عقبة:
196

أي موجع. وقول غيلان بن عقبة:
* ويرفع من صدور شمردلات
* يصك وجوهها وهج أليم
*
أي مؤلم. وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير ابن كثير وحفص عن عاصم من رجز أليم بخفض أليم على أنه نعت لرجز.
وقرأه ابن كثير وحفص عن عاصم من رجز أليم، برفع أليم على أنه نعت لعذاب. قوله تعالى: * (الله الذى سخر لكم البحر لتجرى الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: * (وهو الذى سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا) *، وفي سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى: * (والذى خلق الأزواج كلها) * إلى قوله: * (وما كنا له مقرنين) *. قوله تعالى: * (من عمل صالحا فلنفسه ومن أسآء فعليها) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: * (إن أحسنتم أحسنتم لانفسكم) *، وفي غير ذلك من المواضع. قوله تعالى: * (وفضلناهم على العالمين) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه فضل بني إسرائيل على العالمين.
وذكر هذا المعنى في موضع آخر من كتابه كقوله تعالى في سورة البقرة: * (يابنى إسراءيل اذكروا نعمتى التى أنعمت عليكم وأنى فضلتكم على العالمين) * في الموضعين. وقوله في الدخان: * (ولقد اخترناهم على علم على العالمين) *، وقوله في الأعراف: * (قال أغير الله أبغيكم إلاها وهو فضلكم على العالمين) *.
ولكن الله جل وعلا بين أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، خير من بني إسرائيل وأكرم على الله، كما صرح بذلك في قوله: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف) *.
197

فخير صيغة تفضيل والآية نص صريح في أنهم خير من جميع الأمم، بني إسرائيل وغيرهم.
ومما يزيد ذلك إيضاحا حديث معاوية بن حيدة القشيري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أمته: (أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله): وقد رواه عنه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم وهو حديث مشهور.
وقال ابن كثير: حسنه الترمذي، ويروى من حيث معاذ بن جبل وأبي سعيد نحوه ا ه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ولا شك في صحة معنى حديث معاوية بن حيدة المذكور رضي الله عنه. لأنه يشهد له النص المعصوم المتواتر في قوله تعالى: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) *، وقد قال تعالى: * (وكذالك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهدآء على الناس) *. وقوله: * (وسطا) * أي خيارا عدولا.
واعلم أن ما ذكرنا من كون أمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من بني إسرائيل كما دلت عليه الآية والحديث المذكوران وغيرهما من الأدلة لا يعارض الآيات المذكورات آنفا في تفضيل بني إسرائيل.
لأن ذلك التفضيل الوارد في بني إسرائيل ذكر فيهم حال عدم وجود أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
والمعدوم في حال عدمه ليس بشيء حتى يفضل أو يفضل عليه.
ولكنه تعالى بعد وجود أمة محمد صلى الله عليه وسلم صرح بأنها هي خير الأمم.
وهذا واضح لأن كل ما جاء في القرآن من تفضيل بني إسرائيل. إنما يراد به ذكر أحوال سابقة.
لأنهم في وقت نزول القرآن كفروا به وكذبوا كما قال تعالى: * (فلما جآءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين) *.
ومعلوم أن الله لم يذكر لهم في القرآن فضلا إلا ما يراد به أنه كان في زمنهم السابق لا في وقت نزول القرآن.
ومعلوم أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم تكن موجودة في ذلك الزمن السابق الذي هو ظرف
198

تفضيل بني إسرائيل، وأنها بعد وجودها، صرح الله بأنها هي خير الأمم، كما أوضحنا. والعلم عند الله تعالى.
* (ثم جعلناك على شريعة من الا مر فاتبعها ولا تتبع أهوآء الذين لا يعلمون * إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أوليآء بعض والله ولى المتقين * هاذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون * أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين ءامنوا وعملوا الصالحات سوآء محياهم ومماتهم سآء ما يحكمون * وخلق الله السماوات والا رض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون * أفرأيت من اتخذ إلاهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون * وقالوا ما هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنآ إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون * وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بأابآئنآ إن كنتم صادقين * قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولاكن أكثر الناس لا يعلمون * ولله ملك السماوات والا رض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون * وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون * هاذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إن كنا نستنسخ ما كنتم تعملون * فأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم فى رحمته ذلك هو الفوز المبين * وأما الذين كفروا أفلم تكن ءاياتى تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين * وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندرى ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين * وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون * وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقآء يومكم هاذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين * ذلكم بأنكم اتخذتم ءايات الله هزوا وغرتكم الحيواة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون * فلله الحمد رب السماوات ورب الا رض رب العالمين * وله الكبريآء فى السماوات والا رض وهو العزيز الحكيم) * قوله تعالى: * (ثم جعلناك على شريعة من الا مر فاتبعها) *. وقد قدمنا الآيات الموضحة في سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى: * (فاستمسك بالذى أوحى إليك إنك على صراط مستقيم) *. قوله تعالى: * (ولا تتبع أهوآء الذين لا يعلمون) *. نهى الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم، في هذه الآية الكريمة عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون.
وقد قدمنا في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: * (لا تجعل مع الله إلاها ءاخر فتقعد مذموما مخذولا) * أنه جل وعلا يأمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وينهاه، ليشرع بذلك الأمر والنهي، لأمته كقوله هنا: * (ولا تتبع أهوآء الذين لا يعلمون) *.
ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لا يتبع أهواء الذين لا يعلمون، ولكن النهي المذكور، فيه التشريع لأمته كقوله تعالى: * (ولا تطع منهم ءاثما أو كفورا) *. وقوله تعالى: * (فلا تطع المكذبين) *. وقوله: * (ولا تطع كل حلاف مهين) *. وقوله: * (ولا تجعل مع الله إلاها ءاخر) *. وقوله: * (لئن أشركت ليحبطن عملك) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقد بينا الأدلة القرآنية على أنه صلى الله عليه وسلم يخاطب، والمراد به التشريع لأمته، في آية بني إسرائيل المذكورة.
وما تضمنته آية الجاثية هذه، من النهي عن اتباع أهوائهم جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله تعالى في الشورى: * (ولا تتبع أهوآءهم وقل ءامنت بمآ أنزل الله من كتاب) * وقوله تعالى في الأنعام: * (فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهوآء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالا خرة وهم بربهم يعدلون) *. وقوله تعالى في القصص * (فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهوآءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدى القوم الظالمين) * والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
199

وقد بين تعالى في قد أفلح المؤمنون أن الحق لو اتبع أهواءهم لفسد العالم وذلك في قوله تعالى: * (ولو اتبع الحق أهوآءهم لفسدت السماوات والا رض ومن فيهن) *.
والأهواء: جمع هوى بفتحتين وأصله مصدر، والهمزة فيه مبدلة من ياء كما هو معلوم. قوله تعالى: * (وإن الظالمين بعضهم أوليآء بعض) *. قد قدمنا في هذا الكتاب المبارك مرارا أن الظلم في لغة العرب أصله وضع الشيء في غير موضعه.
وأن أعظم أنواعه الشرك بالله لأن وضع العبادة في غير من خلق ورزق هو أشنع أنواع وضع الشيء في غير موضعه. ولذا كثر في القرآن العظيم، إطلاق الظلم بمعنى الشرك. كقوله تعالى: * (والكافرون هم الظالمون) *. وقوله تعالى: * (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين) *. وقوله تعالى: * (ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتنى اتخذت مع الرسول سبيلا) *. وقوله تعالى في لقمان: * (يابنى لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) *. وقد ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر قوله تعالى: * (الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) * (بأن معناه ولم يلبسوا إيمانهم بشرك).
وما تضمنته آية الجاثية هذه من أن الظالمين بعضهم أولياء بعض جاء مذكورا في غير هذا الموضع كقوله تعالى في آخر الأنفال: * (والذين كفروا بعضهم أوليآء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة فى الا رض وفساد كبير) *. وقوله تعالى: * (وكذالك نولى بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون) *. وقوله تعالى: * (والذين كفروا أوليآؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات) *. وقوله تعالى: * (إنهم اتخذوا الشياطين أوليآء من دون الله) *. وقوله تعالى: * (فقاتلوا أولياء الشيطان) *. وقوله تعالى: * (إنما ذالكم الشيطان يخوف أولياءه) *، وقوله
200

* (إنما سلطانه على الذين يتولونه) *. إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (والله ولى المتقين) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه ولي المتقين، وهم الذين يمتثلون أمره ويجتنبون نهيه.
وذكر في موضع آخر أن المتقين أولياؤه فهو وليهم وهم أولياؤه لأنهم يوالونه بالطاعة والإيمان، وهو يواليهم بالرحمة والجزاء، وذلك في قوله تعالى: * (ألا إن أوليآء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *.
ثم بين المراد بأوليائه في قوله * (الذين ءامنوا وكانوا يتقون) *، فقوله تعالى: * (وكانوا يتقون) * كقوله في آية الجاثية هذه * (والله ولى المتقين) *.
وقد بين تعالى في آيات من كتابه أنه ولي المؤمنين، وأنهم أولياؤه كقوله تعالى: * (إنما وليكم الله ورسوله) *. وقوله تعالى: * (الله ولي الذين ءامنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) *. وقوله تعالى: * (ذلك بأن الله مولى الذين ءامنوا) *. وقوله تعالى * (إن وليى الله الذى نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين) * وقوله تعالى في الملائكة * (قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم) *. إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه بأبسط من هذا. قوله تعالى: * (هاذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون) *. الإشارة في قوله * (هاذا) * للقرآن العظيم.
والبصائر جمع بصيرة والمراد بها البرهان القاطع الذي لا يترك في الحق لبسا كقوله تعالى: * (قل هاذه سبيلى أدعو إلى الله على بصيرة) * أي على علم ودليل واضح.
والمعنى أن هذا القرآن براهين قاطعة، وأدلة ساطعة، على أن الله هو المعبود وحده، وأن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم حق.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن القرآن بصائر للناس جاء موضحا في مواضع أخر من كتاب الله كقوله تعالى في أخريات الأعراف * (قل إنمآ أتبع ما يوحى إلى من
201

ربى هاذا بصآئر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) *، وقوله تعالى في الأنعام * (قد جآءكم بصآئر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليها ومآ أنا عليكم بحفيظ) *.
وما تضمنته آية الجاثية من أن القرآن بصائر وهدى ورحمة، ذكر تعالى مثله في سورة القصص عن كتاب موسى الذي هو التوراة في قوله تعالى: * (ولقد ءاتينا موسى الكتاب من بعد مآ أهلكنا القرون الا ولى بصآئر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون) *.
وما تضمنته آية الجاثية هذه من كون القرآن هدى ورحمة جاء موضحا في غير هذا الموضع.
أما كونه هدى فقد ذكرنا الآيات الموضحة له قريبا.
وأما كونه رحمة فقد ذكرنا الآيات الموضحة له في الكهف في الكلام على قوله تعالى * (فوجدا عبدا من عبادنآ ءاتيناه رحمة من عندنا) *، وفي أولها في الكلام على قوله تعالى * (الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب) *. وفي فاطر في الكلام على قوله تعالى * (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها) *. وفي الزخرف في الكلام على قوله: * (أهم يقسمون رحمة ربك) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (لقوم يوقنون) *، أي لأنهم هم المنتفعون به.
وفي هذه الآية الكريمة سؤال عربي معروف.
وهو أن المبتدأ الذي هو قوله * (هاذا) * اسم إشارة إلى مذكر مفرد، والخبر الذي هو بصائر جمع مكسر مؤنث.
فيقال: كيف يسند الجمع المؤنث المكسر إلى المفرد المذكر؟
والجواب: أن مجموع القرآن كتاب واحد، تصح الإشارة إليه بهذا، وهذا الكتاب الواحد يشتمل على براهين كثيرة، فصح إسناد البصائر إليه لاشتماله عليها كما لا يخفى. قوله تعالى: * (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين ءامنوا وعملوا الصالحات) *. قد قدمنا الكلام عليه في سورة (ص) في الكلام على قوله تعالى: * (أم نجعل الذين
202

ءامنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين فى الا رض أم نجعل المتقين كالفجار) *. قوله تعالى: * (أفرأيت من اتخذ إلاهه هواه) *. قد أوضحنا معناه في سورة الفرقان، في الكلام على قوله تعالى: * (أرءيت من اتخذ إلاهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا) *. قوله تعالى: * (وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة) *. قد أوضحنا معناه في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى: * (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة) *. قوله تعالى: * (وقالوا ما هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا) *. وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من إنكار الكفار للبعث بعد الموت، جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله تعالى عنهم * (وما نحن بمنشرين) *. وقوله * (أيعدكم أنكم إذا مت م وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون إن هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين) * وقوله تعالى عنهم * (أءذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد) * وقوله تعالى عنهم * (أءنا لمردودون فى الحافرة أءذا كنا عظاما نخرة قالوا تلك إذا كرة خاسرة) *. وقوله تعالى: * (قال من يحى العظام وهى رميم) * والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وقد قدمنا البراهين القاطعة القرآنية، على تكذيبهم في إنكارهم البعث، وبينا دلالتها على أن البعث واقع لا محالة، في سورة البقرة، وسورة النحل، وسورة الحج، وأول سورة الجاثية هذه، وأحلنا على ذلك مرارا.
وبينا في سورة الفرقان الآيات الموضحة أن إنكار البعث كفر بالله، والآيات التي
203

فيها وعيد منكري البعث بالنار في الكلام على قوله تعالى: * (بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا) *. قوله تعالى: * (ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر
المبطلون) *. قد قدمنا الكلام عليه في سورة المؤمن في الكلام على قوله تعالى: * (فإذا جآء أمر الله قضى بالحق وخسر هنالك المبطلون) *. قوله تعالى: * (كل أمة تدعى إلى كتابها) *. قد قدمنا إيضاحه في سورة الكهف، في الكلام على قوله تعالى: * (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه) *. قوله تعالى: * (هاذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إن كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة مريم، في الكلام على قوله تعالى: * (كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا) *، وفي غير ذلك من المواضع. قوله تعالى: * (وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقآء يومكم هاذا) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة طه في الكلام على قوله تعالى: * (ولقد عهدنآ إلىءادم من قبل فنسى ولم نجد له عزما) *. قوله تعالى: * (فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون) *. قد أوضحنا معنى قوله: يستعتبون في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: * (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: فاليوم لا يخرجون منها، قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى: * (ونادوا يامالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون) *. قوله تعالى: * (فلله الحمد رب السماوات ورب الا رض رب العالمين) *. أتبع الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة، حمده جل وعلا بوصفه بأنه رب السماوات
204

والأرض ورب العالمين، وفي ذلك دلالة على أن رب السماوات والأرض، ورب العالمين مستحق لكل حمد ولكل ثناء جميل.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى في سورة الفاتحة * (الحمد لله رب العالمين) * وقوله تعالى في آخر الزمر * (وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين) * وقوله تعالى: * (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) * وقوله تعالى في أول الأنعام * (الحمد لله الذى خلق السماوات والا رض وجعل الظلمات والنور) * وقوله تعالى في أول سبأ * (الحمد لله الذى له ما فى السماوات وما فى الا رض وله الحمد فى الا خرة وهو الحكيم الخبير) *. وقوله في أول فاطر * (الحمد لله فاطر السماوات والا رض) *. قوله تعالى: * (وله الكبريآء فى السماوات والا رض وهو العزيز الحكيم) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن له الكبرياء في السماوات والأرض، يعني أنه المختص بالعظمة، والكمال والجلال والسلطان، في السماوات والأرض، لأنه هو معبود أهل السماوات والأرض، الذي يلزمهم تكبيره وتعظيمه، وتمجيده، والخضوع والذل له.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء مبينا في آيات أخر كقوله تعالى: * (وهو الذى فى السمآء إلاه وفى الا رض إلاه وهو الحكيم العليم وتبارك الذى له ملك السماوات والا رض وما بينهما) *.
فقوله * (وهو الذى فى السمآء إلاه وفى الا رض إلاه) * معناه أنه هو وحده الذي يعظم ويعبد في السماوات والأرض ويكبر ويخضع له ويذل.
وقوله تعالى: * (وله المثل الأعلى فى السماوات والا رض وهو العزيز الحكيم) *.
فقوله * (وله المثل الأعلى فى السماوات والا رض) * معناه أن له الوصف الأكمل، الذي هو أعظم الأوصاف، وأكملها وأجلها في السماوات والأرض.
وفي حديث أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن الله يقول: العظمة إزاري
205

والكبرياء، ردائي فمن نازعني في واحد منهما أسكنته ناري).
206

((سورة الأحقاف))
* (حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم * ما خلقنا السماوات والا رض وما بينهمآ إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عمآ أنذروا معرضون * قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أرونى ماذا خلقوا من الا رض أم لهم شرك فى السماوات ائتونى بكتاب من قبل هاذآ أو أثارة من علم إن كنتم صادقين * ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعآئهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعدآء وكانوا بعبادتهم كافرين * وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جآءهم هاذا سحر مبين * أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لى من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بينى وبينكم وهو الغفور الرحيم * قل ما كنت بدعا من الرسل ومآ أدرى ما يفعل بى ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلى ومآ أنا إلا نذير مبين) * قوله تعالى: * (حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم) *. قد قدمنا الكلام على الحروف المقطعة. في أول سورة هود، وقدمنا الكلام على قوله تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم في أول سورة الزمر. قوله تعالى: * (ما خلقنا السماوات والا رض وما بينهمآ إلا بالحق وأجل مسمى) *. صيغة الجمع في قوله: خلقنا للتعظيم.
وقوله: إلا بالحق أي خلقا متلبسا بالحق.
والحق ضد الباطل، ومعنى كون خلقه للسماوات والأرض متلبسا بالحق أنه خلقهما لحكم باهرة، ولم يخلقهما باطلا، ولا عبثا، ولا لعبا، فمن الحق الذي كان خلقهما متلبسا به، إقامة البرهان، على أنه هو الواحد المعبود وحده جل وعلا، كما أوضح ذلك في آيات كثيرة لا تكاد تحصيها في المصحف الكريم كقوله تعالى في البقرة * (وإلاهكم إلاه واحد لا إلاه إلا هو الرحمان الرحيم) * ثم أقام البرهان على أنه هو الإله الواحد بقوله بعده: * (إن في خلق السماوات والا رض واختلاف الليل والنهار والفلك التى تجرى فى البحر بما ينفع الناس ومآ أنزل الله من السمآء من مآء فأحيا به الا رض بعد موتها وبث فيها من كل دآبة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السمآء والأرض لآيات لقوم يعقلون) *.
فتلبس خلقه للسماوات والأرض بالحق واضح جدا، من قوله تعالى: * (إن في خلق السماوات والا رض) * إلى قوله * (لآيات لقوم يعقلون) * بعد قوله * (وإلاهكم إلاه واحد لا إلاه إلا هو) *، لأن إقامة البرهان القاطع على صحة معنى لا إله إلا الله هو أعظم الحق.
وكقوله تعالى * (ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم لعلكم
207

تتقون) * * (الذى جعل لكم الا رض فراشا والسمآء بنآء وأنزل من السمآء مآء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) *، لأن قوله: * (اعبدوا ربكم) * فيه معنى الإثبات من لا إله إلا الله.
وقوله * (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) * يتضمن معنى النفي منها على أكمل وجه وأتمه.
وقد أقام الله جل وعلا البرهان القاطع، على صحة معنى لا إله إلا الله، نفيا وإثباتا، بخلقه للسماوات والأرض، وما بينهما في قوله * (الذى خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذى جعل لكم الا رض فراشا والسمآء بنآء) *.
وبذلك تعلم أنه ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقا متلبسا بأعظم الحق، الذي هو إقامة البرهان القاطع، على توحيده جل وعلا، ومن كثرة الآيات القرآنية، الدالة على إقامة هذا البرهان، القاطع المذكور، على توحيده جل وعلا، علم من استقراء القرآن، أن العلامة الفارقة من يستحق العبادة، وبين من لا يستحقها، هي كونه خالقا لغيره، فمن كان خالقا لغيره، فهو المعبود بحق، ومن كان لا يقدر على خلق شيء، فهو مخلوق محتاج، لا يصح أن يعبد بحال.
فالآيات الدالة على ذلك كثيرة جدا كقوله تعالى في البقرة المذكورة آنفا: * (ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم) *.
فقوله: * (الذى خلقكم) * يدل على أن المعبود هو الخالق وحده، وقوله تعالى: * (أم جعلوا لله شركآء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شىء) *. يعني وخالق كل شيء هو المعبود وحده.
وقد أوضح تعالى هذا في سورة النحل، لأنه تعالى لما ذكر فيها البراهين القاطعة، على توحيده جل وعلا، في قوله * (خلق السماوات والا رض بالحق تعالى عما يشركون) * إلى قوله * (وعلامات وبالنجم هم يهتدون) * أتبع ذلك بقوله * (أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون) *.
وذلك واضح جدا في أن من يخلق غيره هو المعبود وأن من لا يخلق شيئا لا يصح أن يعبد.
208

ولهذا قال تعالى بعده قريبا منه * (والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون) *. وقال تعالى في الأعراف * (أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون) *. وقال تعالى في الحج * (ياأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له) * أي ومن لم يقدر أن يخلق شيئا لا يصح أن يكون معبودا بحال وقال تعالى: * (سبح اسم ربك الاعلى الذى خلق فسوى) *.
ولما بين تعالى في أول سورة الفرقان، صفات من يستحق أن يعبد، ومن لا يستحق ذلك.
قال في صفات من يستحق العبادة: * (الذى له ملك السماوات والا رض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك وخلق كل شىء فقدره تقديرا) *.
وقال في صفات من لا يصح أن يعبد * (واتخذوا من دونه ءالهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون) *.
والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا وكل تلك الآيات تدل دلالة واضحة على أنه تعالى ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقا متلبسا بالحق.
وقد بين جل وعلا أن من الحق الذي خلق السماوات والأرض وبينهما، خلقا متلبسا به، تعليمه خلقه أنه تعالى على كل شيء قدير، وأنه قد أحاط بكل شيء علما، وذلك في قوله تعالى: * (الله الذى خلق سبع سماوات ومن الا رض مثلهن يتنزل الا مر بينهن لتعلموا أن الله على كل شىء قدير وأن الله قد أحاط بكل شىء علما) *.
فلام التعليل في قوله: لتعلموا متعلقة بقوله * (خلق سبع سماوات) * وبه تعلم أنه ما خلق السماوات السبع، والأرضين السبع، وجعل الأمر يتنزل بينهن، إلا خلقا متلبسا بالحق.
ومن الحق الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما خلقا متلبسا به، هو تكليف الخلق، وابتلاؤهم أيهم أحسن عملا، ثم جزاؤهم على أعمالهم، كما قال تعالى في أول
209

سورة هود: * (وهو الذى خلق السماوات والا رض فى ستة أيام وكان عرشه على المآء ليبلوكم أيكم أحسن عملا) *.
فلام التعليل في قوله: ليبلوكم متعلقة بقوله * (خلق سبع سماوات) * وبه تعلم أنه ما خلقهما إلا خلقا متلبسا بالحق.
ونظير ذلك قوله تعالى في أول الكهف * (إنا جعلنا ما على الا رض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا) *. وقوله تعالى في أول الملك: * (الذى خلق الموت والحيواة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) *.
ومما يوضح أنه ما خلق السماوات والأرض إلا خلقا متلبسا بالحق، قوله تعالى في آخر الذاريات * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون مآ أريد منهم من رزق ومآ أريد أن يطعمون) *.
سواء قلنا: إن معنى إلا ليعبدون أي لآمرهم بعبادتي فيعبدني السعداء منهم، لأن عبادتهم يحصل بها تعظيم الله وطاعته، والخضوع له كما قال تعالى: * (فإن يكفر بها هاؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) *. وقال تعالى: * (فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون) *.
أو قلنا: إن معنى إلا ليعبدون أي إلا ليقروا لي بالعبودية، ويخضعوا ويذعنوا لعظمتي، لأن المؤمنين يفعلون ذلك طوعا، والكفار يذعنون لقهره وسلطانه تعالى كرها.
ومعلوم أن حكمة الابتلاء والتكليف لا تتم إلا بالجزاء على الأعمال.
وقد بين تعالى أن من الحق الذي خلق السماوات والأرض خلقا متلبسا به، جزاء الناس بأعمالهم، كقوله تعالى في النجم * (ولله ما فى السماوات وما فى الا رض ليجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى) *.
فقوله تعالى: * (ولله ما فى السماوات وما فى الا رض) * أي هو خالقها ومن فيهما * (ليجزى الذين أساءوا بما عملوا) *.
ويوضح ذلك قوله تعالى في يونس * (إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزى الذين ءامنوا
210

وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) *.
ولما ظن الكفار أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا، لا لحكمة تكليف وحساب وجزاء، هددهم بالويل من النار، بسبب ذلك الظن السئ، في قوله تعالى: * (وما خلقنا السمآء والا رض وما بينهما باطلا ذالك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) *.
وقد نزه تعالى نفسه عن كونه خلق الخلق عبثا، لا لتكليف وحساب وجزاء، وأنكر ذلك على من ظنه، في قوله تعالى * (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إلاه إلا هو رب العرش الكريم) *.
فقوله (فتعالى الله) أي تنزه وتعاظم، وتقدس، عن أن يكون خلقهم لا لحكمة تكليف وبعث، وحساب وجزاء.
وهذا الذي نزه تعالى عنه نفسه، نزهه عنه أولو الألباب، كما قال تعالى: * (إن فى خلق السماوات والا رض واختلاف اليل والنهار لايات لا ولى الا لباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم) * إلى قوله: * (ربنآ ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار) *، فقوله عنهم * (سبحانك) * أي تنزيها لك، عن أن تكون خلقت هذا الخلق، باطلا لا لحكمة تكليف، وبعث وحساب وجزاء.
وقوله جل وعلا في آية الأحقاف هذه: * (ما خلقنا السماوات والا رض وما بينهمآ إلا بالحق) *، يفهم منه أنه لم يخلق ذلك باطلا، ولا لعبا ولا عبثا.
وهذا المفهوم جاء موضحا في آيات من كتاب الله كقوله تعالى * (وما خلقنا السمآء والا رض وما بينهما باطلا) *، وقوله تعالى: * (ربنآ ما خلقت هذا باطلا) *، وقوله تعالى: * (وما خلقنا السماوات والا رض وما بينهما لاعبين ما خلقناهمآ إلا بالحق) *.
وقوله تعالى في آية الأحقاف هذه * (وأجل مسمى) * معطوف على قوله: * (بالحق) * أي ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقا متلبسا بالحق، وبتقدير
211

أجل مسعى، أي وقت معين محدد ينتهي إليه أمد السماوات والأرض، وهو يوم القيامة كما صرح الله بذلك في أخريات الحجر في قوله تعالى * (وما خلقنا السماوات والا رض وما بينهمآ إلا بالحق وإن الساعة لآتية) *.
فقوله في الحجر: * (وإن الساعة لآتية) * بعد قوله * (إلا بالحق) * يوضح معنى قوله في الأحقاف * (إلا بالحق وأجل مسمى) *.
وقد بين تعالى في آيات من كتابه أن للسماوات والأرض أمدا ينتهي إليه أمرهما. كما قال تعالى: * (والا رض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه) *. وقال تعالى: * (يوم نطوى السمآء كطى السجل للكتب) *. وقوله تعالى: * (يوم تبدل الا رض غير الا رض والسماوات) * وقوله: * (وإذا السمآء كشطت) * وقوله تعالى * (يوم ترجف الا رض والجبال) *. إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (والذين كفروا عمآ أنذروا معرضون) *. ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن الكفار معرضون عما أنذرتهم به الرسل جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله تعالى في البقرة: * (إن الذين كفروا سوآء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) * وقوله في يس * (وسوآء عليهم أءنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) *. وقوله تعالى: * (وما تأتيهم من ءاية من ءايات ربهم إلا كانوا عنها معرضين) *. والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
والإعراض عن الشيء الصدود عنه. وعدم الإقبال إليه.
قال بعض العلماء: وأصله من العرض بالضم. وهو الجانب. لأن المعرض عن الشئ يوليه بجانب عنقه. صادا عنه.
والإنذار: الإعلام المقترن بتهديد. فكل إنذار إعلام وليس كل إعلام إنذارا.
وقد أوضحنا معاني الإنذار في أول سورة الأعراف.
* (وما) * في قوله * (عمآ أنذروا) * قال بعض العلماء هي موصولة. والعائد محذوف، أي الذين كفروا معرضون عن الذي أنذروه. أي خوفوه من عذاب يوم
212

القيامة. وحذف العائد المنصوب بفعل أو وصف مضطرد كما هو معلوم.
وقال بعض العلماء: هي مصدرية. أي والذين كفروا معرضون عن الإنذار، ولكليهما وجه. قوله تعالى: * (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أرونى ماذا خلقوا من الا رض أم لهم شرك فى السماوات ائتونى بكتاب من قبل هاذآ أو أثارة من علم إن كنتم صادقين) *. قد ذكرنا قريبا أن قوله: * (ما خلقنا السماوات والا رض وما بينهمآ إلا بالحق) * يتضمن البرهان القاطع على صحة معنى لا إله إلا الله. وأن العلامة الفارقة بين المعبود بحق. وبين غيره هي كونه خالقا. وأول سورة الأحقاف هذه يزيد ذلك إيضاحا. لأنه ذكر من صفات المعبود بحق أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق. وذكر من المعبودات الأخرى التي عبادتها كفر. مخلد في النار أنها لا تخلق شيئا. فقوله تعالى: * (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله) * أي هذه المعبودات التي تعبدونها من دون الله. أروني ماذا خلقوا من الأرض.
فقوله: أروني. يراد بها التعجيز والمبالغة في عدم خلقهم شيئا. وعلى أن * (ما) * استفهامية. * (وذا) * موصولة.
فالمعنى أروني ما الذي خلقوه من الأرض. وعلى أن * (ما) * و * (ذا) * بمنزلة كلمة واحدة يراد بها الاستفهام.
فالمعنى: أروني أي شيء خلقوه من الأرض؟
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن من لم يخلق شيئا في الأرض ولم يكن له شرك في السماوات. لا يصح أن يكون معبودا بحال جاء موضحا في آيات كثيرة. كقوله
تعالى في فاطر * (قل أرءيتم شركآءكم الذين تدعون من دون الله أرونى ماذا خلقوا من الا رض أم لهم شرك فى السماوات أم ءاتيناهم كتابا) *. وقوله في لقمان: * (هاذا خلق الله فأرونى ماذا خلق الذين من دونه) * وقوله في سبأ * (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة فى السماوات ولا فى الا رض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير) * والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وقد قدمنا طرفا منها قريبا.
213

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (ائتونى بكتاب من قبل هاذآ) *، قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى: * (أم ءاتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون) *. قوله تعالى: * (ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعآئهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعدآء) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الجاثية في الكلام على قوله تعالى: * (ولا يغنى عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أوليآء) *. وفي سورة مريم في الكلام على قوله تعالى: * (واتخذوا من دون الله ءالهة ليكونوا لهم عزا) *. قوله تعالى: * (وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جآءهم هاذا سحر مبين) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار إذا قرئت عليهم آيات هذا القرآن العظيم الذي هو الحق ادعوا أنها سحر مبين واضح.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من افترائهم على القرآن أنه سحر وعلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه ساحر جاء موضحا في آيات كثيرة. كقوله تعالى في سبأ * (وقال الذين كفروا للحق لما جآءهم إن هاذآ إلا سحر مبين) *. وقوله تعالى في الزخرف * (ولما جآءهم الحق قالوا هاذا سحر وإنا به كافرون) *. وقوله تعالى: * (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم) * إلى قوله * (أفتأتون السحر وأنتم تبصرون) *. وقوله تعالى: * (ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هاذآ إلا سحر مبين) *.
والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة. قوله تعالى: * (أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لى من الله شيئا) *. أم هذه هي المنقطعة وقد قدمنا أنها تأتي بمعنى الإضراب.
وتأتي بمعنى همزة الإنكار.
وتأتي بمعناهما معا وهو الظاهر في هذه الآية الكريمة.
فأم فيها على ذلك تفيد معنى الإضراب والإنكار معا، فهو بمعنى دع هذا، واسمع قولهم المستنكر لظهور كذبهم فيه، أن محمدا افترى هذا القرآن، وقد كذبهم الله في
214

هذه الدعوى في آيات كثيرة كقوله تعالى * (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله) *. وقوله * (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) *: وقوله تعالى * (وما كان هاذا القرءان أن يفترى من دون الله ولاكن تصديق الذى بين يديه) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (قل إن افتريته فلا تملكون لى من الله شيئا) * أي إن كنت افتريت هذا القرآن على سبيل الفرض.
والتقدير: عاجلني الله بعقوبته الشديدة، وأنتم لا تملكون لي منه شيئا، أي لا تقدرون أن تدفعوا عني عذابه إن أراد أن يعذبني على الافتراء.
فكيف أفتريه لكم، وأنتم لا تقدرون على دفع عذاب الله عني؟
وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحا في غير هذا الموضع، كقوله تعالى: * (ولو تقول علينا بعض الا قاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين) *.
فقوله تعالى في آية الحاقة هذه: * (ولو تقول علينا بعض الا قاويل) * كقوله في آية الأحقاف * (قل إن افتريته) *.
وقوله في الحاقة: * (فما منكم من أحد عنه حاجزين) * يوضح معنى قوله: * (فلا تملكون لى من الله شيئا) *، لأن معنى قوله: * (فما منكم من أحد عنه حاجزين) *، أنهم لا يقدرون على أن يحجزوا عنه أي يدفعوا عنه عقاب الله له بالقتل، لو تقول عليه بعض الأقاويل.
وذلك هو معنى قوله: * (فلا تملكون لى من الله شيئا) * أي لا تقدرون على دفع عذابه عني.
ونظير ذلك في المعنى قوله تعالى: * (قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن فى الا رض جميعا) * وقوله تعالى: * (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا) *.
وما تضمنته آية الأحقاف هذه وآية الحاقة المبينة لها من أنه لو افترى على الله
215

أو تقول عليه عاجله بالعذاب، وأنه لا يقدر أحد على دفعه عنه. جاء معناه في بعض الآيات. كقوله تعالى في يونس: * (قال الذين لا يرجون لقآءنا ائت بقرءان غير هاذآ أو بدله قل ما يكون لى أن أبدله من تلقآء نفسى إن أتبع إلا ما يوحى إلى إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم) * أي إني أخاف إن عصيت ربي بالافتراء عليه بتبديل قرآنه أو الإتيان بقرآن غيره. عذاب يوم عظيم.
وذكر الله تعالى مثل هذا عن بعض الرسل في آيات أخر كقوله عن صالح * (قال ياقوم أرءيتم إن كنت على بينة من ربى وءاتانى منه رحمة فمن ينصرنى من الله إن عصيته) *. وقوله تعالى عن نوح: * (وياقوم من ينصرنى من الله إن طردتهم) *. قوله تعالى: * (قل ما كنت بدعا من الرسل) *. الأظهر في قوله * (بدعا) * أنه فعل بمعنى المفعول فهو بمعنى مبتدع، والمبتدع هو الذي أبدع على غير مثال سابق.
ومعنى الآية قل لهم يا نبي الله: ما كنت أول رسول أرسل إلي البشر، بل قد أرسل الله قبلي جميع الرسل إلى البشر، فلا وجه لاستبعادكم رسالتي، واستنكاركم إياها، لأن الله أرسل قبلي رسلا كثيرة.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، جاء موضحا في آيات كثيرة، كقوله تعالى: * (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية) * وقوله تعالى: * (ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجآءوهم بالبينات) *. وقوله تعالى: * (إنآ أوحينآ إليك كمآ أوحينآ إلى نوح والنبيين من بعده) *. وقوله تعالى * (حم عسق كذلك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم) * وقوله تعالى: * (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك) *. وقوله تعالى: * (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) *. وقوله تعالى: * (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة. قوله تعالى: * (ومآ أدرى ما يفعل بى ولا بكم) *.
216

التحقيق إن شاء الله، أن معنى الآية الكريمة، ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في دار الدنيا، فما أدري أأخرج من مسقط رأسي أو أقتل كما فعل ببعض الأنبياء.
وما أدري ما ينالني من الحوادث والأمور في تحمل أعباء الرسالة.
وما أدري ما يفعل بكم أيخسف بكم، أو تنزل عليكم حجارة من السماء، ونحو ذلك.
وهذا هو اختيار ابن جرير وغير واحد من المحققين.
وهذا المعنى في هذه الآية دلت عليه آيات من كتاب الله كقوله تعالى: * (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسنى السوء) *. وقوله تعالى آمرا له صلى الله عليه وسلم: * (قل لا أقول لكم عندى خزآئن الله ولا أعلم الغيب) *.
وبهذا تعلم أن ما يروى عن ابن عباس وأنس وغيرهما من أن المراد، * (ومآ أدرى ما يفعل بى ولا بكم) * أي في الآخرة فهو خلاف التحقيق، كما سترى إيضاحه إن شاء الله.
فقد روي عن ابن عباس وأنس وقتادة والضحاك وعكرمة والحسن في أحد قوليه أنه لما نزل قوله تعالى: * (ومآ أدرى ما يفعل بى ولا بكم) * فرح المشركون واليهود والمنافقون، وقالوا: كيف نتبع نبيا لا يدري ما يفعل به ولا بنا وأنه لا فضل له علينا، ولولا أنه ابتدع الذي يقوله، من عند نفسه، لأخبره الذي بعثه بما يفعل به.
فنزلت * (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) * فنسخت هذه الآية.
وقالت الصحابة: هنيئا لك يا رسول الله، لقد بين لك الله ما يفعل بك فليت شعرنا هو ما فاعل بنا.
فنزلت * (ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها الا نهار) *، ونزلت: * (وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا) *.
فالظاهر أن هذا كله خلاف التحقيق، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجهل مصيره يوم القيامة لعصمته صلوات الله وسلامه عليه: وقد قال له الله تعالى * (وللا خرة خير لك من الا ولى ولسوف يعطيك ربك فترضى) * وأن قوله: * (ومآ أدرى ما يفعل بى
217

ولا بكم) * في أمور الدنيا كما قدمنا. فإن قيل: قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أم العلاء الأنصارية ما يدل على أن قوله: * (ما يفعل بى) * أي في الآخرة فإن حديثها في قصة وفاة عثمان بن مظعون رضي الله عنه عندهم، ودخول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، أنها قالت: رحمة الله عليك، أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله عز وجل تعني عثمان بن مظعون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أن الله أكرمه؟) فقلت: لا أدري بأبي أنت وأمي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي) الحديث.
فالجواب هو ما ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله، فقد قال في تفسير هذه الآية الكريمة، بعد أن ساق حديث أم العلاء المذكور بالسند الذي رواه به أحمد رحمه الله انفرد به البخاري دون مسلم، وفي لفظ له (ما أدري وأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يفعل به)، وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ بدليل قولها فأحزنني ذلك ا ه. محل الغرض منه وهو الصواب إن شاء الله، والعلم عند الله تعالى.
* (قل أرءيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بنى إسراءيل على مثله فأامن واستكبرتم إن الله لا يهدى القوم الظالمين * وقال الذين كفروا للذين ءامنوا لو كان خيرا ما سبقونآ إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هاذآ إفك قديم * ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهاذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين * إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * أولائك أصحاب الجنة خالدين فيها جزآء بما كانوا يعملون * ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعنى أن أشكر نعمتك التى أنعمت على وعلى والدى وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لى فى ذريتى إنى تبت إليك وإنى من المسلمين * أولائك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم فى أصحاب الجنة وعد الصدق الذى كانوا يوعدون * والذى قال لوالديه أف لكمآ أتعداننى أن أخرج وقد خلت القرون من قبلى وهما يستغيثان الله ويلك ءامن إن وعد الله حق فيقول ما هاذآ إلا أساطير الا ولين * أولائك الذين حق عليهم القول فى أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين * ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون) * قوله تعالى: * (قل أرءيتم إن كان من عند الله وكفرتم به) *. جواب الشرط في هذه الآية محذوف.
وأظهر الأقوال في تقديره إن كان هذا القرآن من عند الله وكفرتم به، وجحدتموه فأنتم ضلال ظالمون. وكون جزاء الشرط في هذه الآية كونهم ضالين ظالمين بينه قوله تعالى في آخر فصلت: * (قل أرءيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو فى شقاق بعيد) *، وقوله في آية الأحقاف هذه * (فأامن واستكبرتم إن الله لا
يهدى القوم الظالمين) *.
وقال أبو حيان في البحر: مفعولا أرأيتم محذوفان لدلالة المعنى عليهما.
والتقدير: أرأيتم حالكم، إن كان كذا ألستم ظالمين.
فالأول حالكم، والثاني ألستم ظالمين، وجواب الشرط محذوف أي فقد ظلمتم.
ولذلك جاء فعل الشرط ماضيا.
218

وبعض العلماء يقول: إن * (أرءيتم) * بمعنى أخبروني. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (وشهد شاهد من بنى إسراءيل على مثله) *. التحقيق: إن شاء الله، أن هذه الآية الكريمة جارية على أسلوب عربي معروف، وهو إطلاق المثل، على الذات نفسها، كقولهم: مثلك، لا يفعل هذا، يعنون لا ينبغي لك أنت أن تفعله.
وعلى هذا فالمعنى، وشهد شاهد من بني إسرائيل على أن هذا القرآن، وحي منزل حقا من عند الله، لا أنه شهد على شيء آخر مماثل له.
ولذا قال تعالى * (فأامن واستكبرتم) *.
ومما يوضح هذا، تكرر إطلاق المثل في القرآن مرادا به الذات كقوله تعالى * (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به فى الناس كمن مثله في الظلمات ليس) *.
فقوله: كمن مثله في الظلمات، أي كمن هو نفسه في الظلمات، وقوله تعالى * (فإن ءامنوا بمثل مآ ءامنتم به فقد اهتدوا) * أي فإن آمنوا بما آمنتم به لا بشيء آخر مماثل له على التحقيق.
ويستأنس له بالقراءة المروية عن ابن عباس وابن مسعود * (فإن ءامنوا بما به ءآلن) * الآية.
القول بأن لفظة ما في الآية مصدرية، وأن المراد تشبيه الإيمان بالإيمان، أي فإن آمنوا بإيمان مثل إيمانكم فقد اهتدوا لا يخفى بعده.
والشاهد في الآية هو عبد الله بن سلام رضي الله عنه كما قال الجمهور، وعليه فهذه الآية مدنية في سورة مكية.
وقيل: إن الشاهد موسى بن عمران عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقيل غير ذلك. قوله تعالى: * (وقال الذين كفروا للذين ءامنوا لو كان خيرا ما سبقونآ إليه) *.
219

أظهر أقوال العلماء في هذه الآية الكريمة، أن الكافرين الذين قالوا للمؤمنين لو كان خيرا ما سبقونا إليه، أنهم كفار مكة، وأن مرادهم أن فقراء المسلمين، وضعفاءهم كبلال وعمار وصهيب وخباب ونحوهم، أحقر عند الله من أن يختار لهم الطريق التي فيها الخير.
وأنهم هم الذين لهم عند الله عظمة وجاه واستحقاق السبق لكل خير لزعمهم أن الله أكرمهم في الدنيا بالمال والجاه، وأن أولئك الفقراء لا مال لهم ولا جاه، وأن ذلك التفضيل في الدنيا يستلزم التفضيل في الآخرة.
وهذا المعنى الذي استظهرناه في هذه الآية الكريمة تدل له آيات كثيرة من كتاب الله، وخير ما يفسر به القرآن القرآن.
أما ادعاؤهم أن ما أعطوا من المال، والأولاد والجاه، في الدنيا دليل على أنهم سيعطون مثله في الآخرة، وتكذيب الله لهم في ذلك، فقد جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله تعالى * (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم فى الخيرات بل لا يشعرون) *، وقوله تعالى * (أفرأيت الذى كفر بأاياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمان عهدا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا) *. وقوله تعالى * (وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين) * مع قوله * (ومآ أموالكم ولا أولادكم بالتى تقربكم عندنا زلفى) *. وقوله تعالى: * (ولئن رجعت إلى ربى إن لى عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ) *.
وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: * (ولئن رددت إلى ربى لأجدن خيرا منها منقلبا) *.
وأما احتقار الكفار لضعفاء المؤمنين وفقرائهم، وزعمهم أنهم أحقر عند الله، من أن يصيبهم بخير، وإنما هم عليه لو كان خيرا لسبقهم إليه أصحاب الغنى، والجاه والولد، من الكفار فقد دلت عليه آيات أخر كقوله تعالى في الأنعام: * (وكذالك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهاؤلاء من الله عليهم من بيننآ) *.
فهمزة الإنكار في قوله: أهؤلاء من الله عليهم من بيننا، تدل على إنكارهم أن الله يمن على أولئك الضعفاء بخير.
220

وقد رد الله عليهم بقوله * (أليس الله بأعلم بالشاكرين وإذا جآءك الذين يؤمنون بأاياتنا فقل سلام عليكم) *. وقوله تعالى في الأعراف: * (ونادى أصحاب الا عراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا مآ أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون) * وقوله تعالى في ص * (وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الا شرار أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار) *.
فقد قال غير واحد: إن الرجال الذين كانوا يعدونهم من الأشرار هم ضعفاء المسلمين الذين كانوا يسخرون منهم في دار الدنيا ويزعمون أنهم أحقر من أن ينالهم الله بخير ويدل له قوله * (أتخذناهم سخريا) * وسيسخر ضعفاء المسلمين في الجنة من الكفار الذين كانوا يسخرون منهم في الدنيا وهم في النار، كما قال تعالى: * (إن الذين أجرموا كانوا من الذين ءامنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون) * إلى قوله تعالى * (فاليوم الذين ءامنوا من الكفار يضحكون على الا رآئك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون) *. وقوله تعالى * (زين للذين كفروا الحيواة الدنيا ويسخرون من الذين ءامنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة) *. قوله تعالى: * (وهاذا كتاب مصدق لسانا عربيا) *. قد قدمنا الآيات الموضحة في سورة الشعراء في الكلام على قوله تعالى * (لتكون من المنذرين بلسان عربى مبين) * وفي سورة الزمر في
الكلام على قوله تعالى: * (قرءانا عربيا غير ذى عوج) *. قوله تعالى: * (لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له مع بيان أنواع الإنذار في القرآن في أول سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى: * (فلا يكن فى صدرك حرج منه لتنذر به) *. وفي أول سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى * (لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين) *. قوله تعالى: * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *.
221

قد قدمنا الكلام عليه في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى: * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة) *. قوله تعالى: * (ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا) *. قرأ هذا الحرف، نافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو * (حسنا) * بضم الحاء وسكون السين، وكذلك هو في مصاحفهم.
وقرأه عاصم وحمزة والكسائي: إحسانا بهمزة مكسورة وإسكان الحاء وألف بعد السين.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذه الآية في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: * (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) * وقال أبو حيان في البحر:
قيل ضمن * (ووصينا) * معنى ألزمنا فيتعدى لاثنين فانتصب حسنا وإحسانا على المفعول الثاني لوصينا.
وقيل: التقدير إيصاء ذا حسن أو ذا إحسان ويجوز أن يكون حسنا بمعنى إحسان فيكون مفعولا له، أي ووصيناه بها لإحساننا إليهما فيكون الإحسان من الله تعالى.
وقيل: النصب على المصدر على تضمين معنى أحسنا بالوصية للإنسان بوالديه إحسانا ا ه منه، وكلها له وجه. قوله تعالى: * (حملته أمه كرها ووضعته كرها) *. قرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر: * (كرها) * بفتح الكاف في الموضعين.
وقرأه عاصم وحمزة والكسائي، وابن ذكوان، عن ابن عامر: * (كرها) * بضم الكاف في الموضعين.
وهما لغتان كالضعف والضعف.
ومعنى حملته * (كرها) * أنها في حال حملها به تلاقي مشقة شديدة.
222

ومن المعلوم ما تلاقيه الحامل، من المشقة والضعف، إذا أثقلت وكبر الجنين في بطنها.
ومعنى وضعته كرها: أنها في حالة وضع الولد، تلاقي من ألم الطلق، وكربه مشقة شديدة، كما هو معلوم.
وهذه المشاق العظيمة التي تلاقيها الأم في حمل الولد ووضعه، لا شك أنها يعظم حقها بها، ويتحتم برها، والإحسان إليها كما لا يخفى.
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من المشقة التي تعانيها الحامل، ودلت عليه آية أخرى، وهي قوله تعالى في لقمان: * (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن) * أي تهن به وهنا على وهن أي ضعفا على ضعف، لأن الحمل كلما تزايد وعظم في بطنها، ازدادت ضعفا على ضعف.
وقوله في آية الأحقاف هذه كرها في الموضعين مصدر منكر وهو حال أي حملته ذات كره ووضعته ذات كره، وإتيان المصدر المنكر حالا كثير كما أشار له في الخلاصة بقوله: وقوله في آية الأحقاف هذه كرها في الموضعين مصدر منكر وهو حال أي حملته ذات كره ووضعته ذات كره، وإتيان المصدر المنكر حالا كثير كما أشار له في الخلاصة بقوله:
* ومصدر منكر حالا يقع
* بكثرة كبغتة زيد طلع
*
وقال بعضهم: كرها في الموضعين نعت لمصدر، أي حملته حملا ذا كره، ووضعته وضعا ذا كره، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) *. هذه الآية الكريمة، ليس فيها بانفرادها تعرض لبيان أقل مدة الحمل، ولكنها بضميمة بعض الآيات الأخرى إليها يعلم أقل أمد الحمل، لأن هذه الآية الكريمة، من سورة الأحقاف، صرحت بأن أمد الحمل والفصال معا، ثلاثون شهرا.
وقوله تعالى في لقمان: * (وفصاله فى عامين) *. وقوله في البقرة * (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) * يبين أن أمد الفصال عامان وهما أربعة وعشرون شهرا، فإذا طرحتها من الثلاثين بقيت ستة أشهر، فتعين كونها أمدا للحمل، وهي أقله، ولا خلاف في ذلك بين العلماء.
223

ودلالة هذه الآيات على أن ستة أشهر أمد للحمل هي المعروفة عند علماء الأصول بدلالة الإشارة.
وقد أوضحنا الكلام عليها، في مباحث الحج، في سورة الحج، في مبحث أقوال أهل العلم، في حكم المبيت بمزدلفة، وأشرنا لهذا النوع، من البيان في ترجمة هذا الكتاب المبارك. قوله تعالى: * (حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة) *. قد قدمنا الكلام عليه في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: * (حتى يبلغ أشده) *، وفي ترجمة هذا الكتاب المبارك. قوله تعالى: * (والذى قال لوالديه أف لكمآ أتعداننى أن أخرج وقد خلت القرون من قبلى وهما يستغيثان الله ويلك ءامن إن وعد الله حق فيقول ما هاذآ إلا أساطير الا ولين أولائك الذين حق عليهم القول) *. التحقيق إن شاء الله أن، * (الذى) * في قوله: * (والذى قال لوالديه) * بمعنى الذين، وأن الآية عامة في كل عاق لوالديه مكذب بالبحث.
والدليل من القرآن على أن الذي، بمعنى الذين، وأن المراد به العموم، أن * (الذى) * في قوله: * (والذى قال لوالديه) * مبتدأ خبره قوله تعالى: * (أولائك الذين حق عليهم القول) *.
والإخبار عن لفظة الذي في قوله * (أولائك الذين حق عليهم) * القول بصيغة الجمع، صريح في أن المراد بالذي، العموم لا الإفراد. وخير ما يفسر به القرآن القرآن. وبهذا الدليل القرآني تعلم أن قول من قال في هذه الآية الكريمة أنها نازلة في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، ليس بصحيح، كما جزمت عائشة رضي الله عنها ببطلانه.
وفي نفس آية الأحقاف هذه دليل آخر واضح على بطلانه، وهو أن الله صرح بأن الذين قالوا تلك المقالة حق عليهم القول، وهو قوله * (ولاكن حق القول منى لاملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) *.
224

ومعلوم أن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أسلم وحسن إسلامه، وهو من خيار المسلمين وأفاضل الصحابة، رضي الله عنهم.
وغاية ما في هذه الآية الكريمة هو إطلاق الذي وإرادة الذين، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب، لأن لفظ الذي مفرد ومعناها عام لكل ما تشمله صلتها، وقد تقرر في علم الأصول أن الموصولات كالذي والتي وفروعهما من صيغ العموم، كما أشار له في مراقي السعود بقوله: وغاية ما في هذه الآية الكريمة هو إطلاق الذي وإرادة الذين، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب، لأن لفظ الذي مفرد ومعناها عام لكل ما تشمله صلتها، وقد تقرر في علم الأصول أن الموصولات كالذي والتي وفروعهما من صيغ العموم، كما أشار له في مراقي السعود بقوله:
* صيغة كل أو الجميع
* وقد تلا الذي التي الفروع
*
فمن إطلاق الذي وإرادة الذين في القرآن، هذه الآية الكريمة من سورة الأحقاف. وقوله تعالى في سورة البقرة: * (مثلهم كمثل الذى استوقد نارا) *. أي كمثل الذين استوقدوا بدليل قوله * (ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون) * بصيغة الجمع في الضمائر الثلاثة التي هي * (بنورهم) * * (وتركهم) *، والواو في * (لا يبصرون) * وقوله تعالى في البقرة أيضا: * (كالذى ينفق ماله رئآء الناس) * أي كالذين ينفقون بدليل قوله * (لا يقدرون على شىء مما كسبوا) *. وقوله في الزمر: * (والذى جآء بالصدق وصدق به أولائك هم المتقون) * وقوله في التوبة * (وخضتم كالذي خاضوا) * أي كالذين خاضوا بناء على أنها موصولة لا مصدرية، ونظير ذلك من كلام العرب قول أشهب بن رميلة: وخضتم كالذي خاضوا) * أي كالذين خاضوا بناء على أنها موصولة لا مصدرية، ونظير ذلك من كلام العرب قول أشهب بن رميلة:
* فإن الذي حانت بفلج دماؤهم
* هم القوم كل القوم يا أم خالد
*
وقول عديل بن الفرخ العجلي: وقول عديل بن الفرخ العجلي:
* وبت أساقي القوم إخوتي الذي
* غوايتهم غيي ورشدهم رشدي
*
وقول الراجز: وقول الراجز:
* يا رب عبس لا تبارك في أحد
* في قائم منهم ولا في من قعد
*
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (أف لكمآ) * كلمة تضجر. وقائل ذلك عاق
225

لوالديه غير مجتنب نهى الله في قوله: * (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف) *. وقوله * (أتعداننى) *: فعل مضارع وعد، وحذف واوه في المضارع مطرد، كما ذكره في الخلاصة بقوله: أتعداننى) *: فعل مضارع وعد، وحذف واوه في المضارع مطرد، كما ذكره في الخلاصة بقوله:
* فا أمر أو مضارع من كوعد
* احذف وفي كعدة ذاك اطرد
*
والنون الأولى نون الرفع، والثانية نون الوقاية كما لا يخفى.
وقرأ هذا الحرف أبو عمرو وابن عامر في رواية ابن ذكوان وعاصم وحمزة والكسائي: أتعدانني بنونين مكسورتين مخففتين وياء ساكنة.
وقرأه هشام عن ابن عامر بنون مشددة مكسورة وبياء ساكنة.
وقرأه نافع وابن كثير بنونين مكسورتين مخففتين وياء مفتوحة، والهمزة للإنكار.
وقوله * (أن أخرج) * أي أبعث من قبري حيا بعد الموت.
والمصدر المنسبك من أن وصلتها هو المفعول الثاني لتعدانني يعني أتعداني الخروج من قبري حيا بعد الموت، والحال قد مضت القرون أي هلكت الأمم الأولى، ولم يحيي منهم أحد، ولم يرجع بعد أن مات.
وهما أي والداه يستغيثان الله أي يطلبانه أن يغيثهما بأن يهدي ولدهما إلى الحق والإقرار بالبعث، ويقولان لولدهما: ويلك آمن. أي بالله وبالبعث بعد الموت.
والمراد بقولهما ويلك: حثة على الإيمان إن وعد الله حق، أي وعده بالبعث بعد الموت حق لا شك فيه، فيقول ذلك الولد العاق المنكر للبعث: * (ما هاذآ) * إن الذي تعدانني إياه من البعث بعد الموت، * (إلا أساطير الا ولين) *.
والأساطير جمع أسطورة. وقيل جمع إسطارة، ومراده بها ما سطره الأولون، أي كتبوه من الأشياء التي لا حقيقة لها.
وقوله * (أولائك) * ترجع الإشارة فيه، إلى العاقين المكذبين، بالبعث المذكورين في قوله: * (والذى قال لوالديه أف لكمآ) *.
226

وقوله: * (حق عليهم القول) * أي وجبت عليهم كلمة العذاب.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة يس في الكلام على قوله تعالى * (لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون) *.
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن منكري البعث يحق عليهم القول لكفرهم، قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى * (وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا) *.
* (ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم فى حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون فى الا رض بغير الحق وبما كنتم تفسقون * واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالا حقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم * قالوا أجئتنا لتأفكنا عن ءالهتنا فأتنا بما تعدنآ إن كنت من الصادقين * قال إنما العلم عند الله وأبلغكم مآ أرسلت به ولاكنى أراكم قوما تجهلون * فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هاذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم * تدمر كل شىء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزى القوم المجرمين * ولقد مكناهم فيمآ إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فمآ أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شىء إذ كانوا يجحدون بأايات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون * ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الا يات لعلهم يرجعون * فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا ءالهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون * وإذ صرفنآ إليك نفرا من الجن يستمعون القرءان فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين * قالوا ياقومنآ إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم * ياقومنآ أجيبوا داعى الله وءامنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم * ومن لا يجب داعى الله فليس بمعجز فى الا رض وليس له من دونه أوليآء أولائك فى ضلال مبين * أولم يروا أن الله الذى خلق السماوات والا رض ولم يعى بخلقهن بقادر على أن يحى الموتى بلى إنه على كل شىء قدير * ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هاذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون * فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) * قوله تعالى: * (ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم فى حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون فى الا رض بغير الحق وبما كنتم تفسقون) *. معنى الآية الكريمة أنه يقال للكفار يوم يعرضون على النار: * (أذهبتم طيباتكم) *.
فقوله يعرضون على النار: قال بعض العلماء: معناه يباشرون حرها كقول العرب: عرضهم على السيف إذا قتلهم به، وهو معنى معروف في كلام العرب.
وقد ذكر تعالى مثل ما ذكر هنا في قوله: * (ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هاذا بالحق) * وهذا يدل على أن المراد بالعرض مباشرة العذاب لقوله: * (قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) *. وقوله تعالى: * (وحاق بأال فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا) * لأنه عرض عذاب.
وقال بعض العلماء: معنى عرضهم على النار هو تقريبهم منها، والكشف لهم عنها، حتى يروها كما قال تعالى: * (ورأى المجرمون النار) *. وقال تعالى: * (وجىء يومئذ بجهنم) *.
وقال بعض العلماء: في الكلام قلب، وهو مروي عن ابن عباس وغيره.
قالوا: والمعنى ويوم تعرض النار على الذين كفروا قالوا وهو كقول العرب: عرضت الناقة على الحوض. يعنون عرضت الحوض على الناقة، ويدل لهذا قوله تعالى: * (وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا) *.
227

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له:
هذا النوع الذي ذكروه من القلب في الآية، كقلب الفاعل مفعولا، والمفعول فاعلا، ونحو ذلك اختلف فيه علماء العربية، فمنعه البلاغيون إلا في التشبيه، فأجازوا قلب المشبه مشبها به والمشبه به مشبها بشرط أن يتضمن ذلك نكتة وسرا لطيفا كما هو المعروف عندهم في مبحث التشبيه المقلوب.
وأجازه كثير من علماء العربية.
والذي يظهر لنا أنه أسلوب عربي نطقت به العرب في لغتها، إلا أنه يحفظ ما سمع منه، ولا يقاس عليه ومن أمثلته في التشبيه قول الراجز: والذي يظهر لنا أنه أسلوب
عربي نطقت به العرب في لغتها، إلا أنه يحفظ ما سمع منه، ولا يقاس عليه ومن أمثلته في التشبيه قول الراجز:
* ومنهل مغبرة أرجاؤه
* كأن لون أرضه سماؤه
*
أي كأن سماءه لون أرضه، وقول الآخر: أي كأن سماءه لون أرضه، وقول الآخر:
* وبدا الصباح كأن غرته
* وجه الخليفة حين يمتدح
*
لأن أصل المراد تشبيه وجه الخليفة بغرة الصباح فقلب التشبيه ليوهم أن الفرع أقوى من الأصل في وجه الشبه.
قالوا ومن أمثلته في القرآن * (وءاتيناه من الكنوز مآ إن مفاتحه لتنوأ بالعصبة أولى القوة) *، لأن العصبة من الرجال هي التي تنوء بالمفاتيح أي تنهض بها بمشقة وجهد لكثرتها وثقلها، وقوله تعالى: * (فعميت عليهم الا نبآء) * أي عموا عنها. ومن أمثلته في كلام العرب قول كعب بن زهير: فعميت عليهم الا نبآء) * أي عموا عنها. ومن أمثلته في كلام العرب قول كعب بن زهير:
* كأن أوب ذراعيها إذا عرقت
* وقد تلفع بالقور العساقيل
*
لأن معنى قوله: تلفع لبس اللفاع وهو اللحاف، والقور الحجارة العظام، والعساقيل: السراب.
والكلام مقلوب، لأن القور هي التي تلتحف بالعساقيل لا العكس كما أوضحه لبيد في معلقته بقوله: والكلام مقلوب، لأن القور هي التي تلتحف بالعساقيل لا العكس كما أوضحه لبيد في معلقته بقوله:
* فبتلك إذ رقص اللوامع بالضحى
* واجتاب أردية السراب إكامها
*
فصرح بأن الإكام التي هي الحجارة اجتابت أي لبست أردية السراب.
والأردية جمع رداء، وهذا النوع من القلب وإن أجازه بعضهم فلا ينبغي حمل الآية
228

عليه، لأنه خلاف الظاهر، ولا دليل عليه يجب الرجوع إليه.
وظاهر الآية جار على الأسلوب العربي الفصيح، كما أوضحه أبو حيان في البحر المحيط.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (أذهبتم طيباتكم فى حياتكم الدنيا واستمتعتم بها) * قرأه ابن كثير وابن عامر * (أأذهبتم) * بهمزتين وهما على أصولهما في ذلك.
فابن كثير يسهل الثانية بدون ألف إدخال بين الهمزتين.
وهشام يحققها ويسهلها مع ألف الإدخال. وابن ذكوان يحققها من غير إدخال.
وقرأه نافع وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي: * (أذهبتم طيباتكم) * بهمزة واحدة على الخبر من غير استفهام.
واعلم أن للعلماء كلاما كثيرا في هذه الآية قائلين إنها تدل على أنه ينبغي التقشف والإقلال من التمتع بالمآكل والمشارب والملابس ونحو ذلك.
وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يفعل ذلك خوفا منه، أن يدخل في عموم من يقال لهم يوم القيامة: * (أذهبتم طيباتكم فى حياتكم الدنيا) *. والمفسرون يذكرون هنا آثارا كثيرة في ذلك، وأحوال أهل الصفة وما لاقوه من شدة العيش.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له:
التحقيق: إن شاء الله في معنى هذه الآية هو أنها في الكفار وليست في المؤمنين الذين يتمتعون باللذات التي أباحها الله لهم، لأنه تعالى ما أباحها لهم ليذهب بها حسناتهم.
وإنما قلنا: إن هذا هو التحقيق، لأن الكتاب والسنة الصحيحة دالان عليه والله تعالى يقول: * (فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول) *.
أما كون الآية في الكفار فقد صرح الله تعالى به في قوله: * (ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم) *.
والقرآن والسنة الصحيحة، قد دلا على أن الكافر إن عمل عملا صالحا مطابقا للشرع، مخلصا فيه لله، كالكافر الذي يبر والديه، ويصل الرحم ويقري الضيف، وينفس عن المكروب، ويعين المظلوم يبتغي بذلك وجه الله يثاب بعمله في دار الدنيا خاصة بالرزق
229

والعافية، ونحو ذلك ولا نصيب له في الآخرة.
فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: * (من كان يريد الحيواة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولائك الذين ليس لهم فى الا خرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) * وقوله تعالى: * (ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له فى الا خرة من نصيب) *.
وقد قيد تعالى هذا الثواب الدنيوي المذكور في الآيات بمشيئته وإرادته، في قوله تعالى: * (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشآء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا) *.
وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطي بها في الدنيا ويجزي بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزي بها) هذا لفظ مسلم في صحيحه.
وفي لفظ له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة في الدنيا، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة ويعقبه رزقا في الدنيا على طاعته) ا ه.
فهذا الحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه التصريح، بأن الكافر ببخارى بحسناته في الدنيا فقط، وأن المؤمن يجازى بحسناته في الدنيا والآخرة معا، وبمقتضى ذلك. يتعين تعيينا لا محيص عنه، أن الذي أذهب طيباته في الدنيا واستمتع بها هو الكافر، لأنه لا يجزي بحسناته إلا في الدنيا خاصة.
وأما المؤمن الذي يجزي بحسناته في الدنيا والآخرة معا، فلم يذهب طيباته في الدنيا، لأن حسناته مدخرة له في الآخرة، مع أن الله تعالى يثيبه بها في الدنيا كما قال تعالى: * (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) * فجعل المخرج من الضيق له ورزقه من حيث لا يحتسب ثوبا في الدنيا وليس ينقص أجر تقواه في الآخرة.
والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة، وعلى كل حال فالله جل وعلا أباح لعباده على
230

لسان نبيه صلى الله عليه وسلم الطيبات في الحياة الدنيا، وأجاز لهم التمتع بها، ومع ذلك جعلها خاصة بهم في الآخرة، كما قال تعالى: * (قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هى للذين ءامنوا فى الحيواة الدنيا خالصة يوم القيامة) *.
فدل هذا النص القرآني أن تمتع المؤمنين بالزينة والطيبات من الرزق في الحياة الدنيا لم يمنعهم من اختصاصهم بالتنعم بذلك يوم القيامة، وهو صريح في أنهم لم يذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا.
ولا ينافي هذا أن من كان يعاني شدة الفقر في الدنيا كأصحاب الصفة، يكون لهم أجر زائد على ذلك، لأن المؤمنين يؤجرون، بما يصيبهم في الدنيا من المصائب والشدائد، كما هو معلوم.
والنصوص الدالة على أن الكافر هو الذي يذهب طيباته في الحياة الدنيا، لأنه يجزي في الدنيا فقط كالآيات المذكورة، وحديث أنس المذكور عند مسلم، قد قدمناها موضحة في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: * (ومن أراد الا خرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولائك كان سعيهم مشكورا) * وذكرنا هناك أسانيد الحديث المذكور وألفاظه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (فاليوم تجزون عذاب الهون) * أي عذاب الهوان وهو الذل والصغار.
وقوله تعالى: * (بما كنتم تستكبرون فى الا رض بغير الحق وبما كنتم تفسقون) *، الباء في قوله: بما كنتم سببية، وما مصدرية أي تجزون عذاب الهون بسبب كونكم مستكبرين في الأرض، وكونكم فاسقين.
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من كون الاستكبار في الأرض والفسق من أسباب عذاب الهون، وهو عذاب النار، جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى: * (أليس فى جهنم مثوى للمتكبرين) * وقوله تعالى: * (وأما الذين فسقوا فمأواهم النار) *.
وقد قدمنا النتائج الوخيمة الناشئة عن التكبر في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى: * (فما يكون لك أن تتكبر فيها) *.
231

وقوله تعالى: * (بغير الحق) * مع أنه من المعلوم أنهم لا يستكبرون في الأرض إلا استكبارا متلبسا بغير الحق كقوله تعالى: * (ولا طائر يطير بجناحيه) * ومعلوم أنه لا يطير إلا بجناحيه، وقوله: * (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) *، ومعلوم أنهم لا يكتبونه إلا بأيديهم، ونحو ذلك من الآيات، وهو أسلوب عربي نزل به القرآن. قوله تعالى: * (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالا حقاف) *. أبهم جل وعلا في هذه الآية الكريمة أخا عاد ولم يعينه ولكنه بين في آيات أخرى، أنه هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كقوله تعالى: * (وإلى عاد أخاهم هودا) * في سورة الأعراف وسورة هود وغير ذلك من المواضع. قوله تعالى: * (ألا تعبدوا إلا الله إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن النبي هودا نهى قومه أن يعبدوا غير الله، وأمرهم بعبادته تعالى وحده، وأنه خوفهم من عذاب الله، إن تمادوا في شركهم به.
وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية جاءا موضحين في آيات أخر.
أما الأول منهما ففي قوله تعالى: * (وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره) * في سورة الأعراف وسورة هود ونحو ذلك من الآيات.
وأما خوفه عليهم العذاب العظيم فقد ذكره في الشعراء في قوله تعالى: * (واتقوا الذى أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) * وهو يوم القيامة. قوله تعالى: * (قالوا أجئتنا لتأفكنا عن ءالهتنا فأتنا بما تعدنآ إن كنت من الصادقين) *. ومعنى قوله تعالى: * (عظيم قالوا أجئتنا لتأفكنا)
*، أي لتصرفنا عن عبادتها إلى عبادة الله وحده.
وقد تضمنت هذه الآية الكريمة أمرين:
232

أحدهما: إنكار عاد على هود أنه جاءهم، ليتركوا عبادة الأوثان، ويعبدوا الله وحده.
والثاني: أنهم قالوا له: ائتنا بما تعدنا من العذاب وعجله لنا إن كنت صادقا فيما تقول، عنادا منهم وعتوا.
وهذان الأمران جاءا موضحين في غير هذا الموضع، كقوله تعالى في الأعراف * (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد ءاباؤنا فأتنا بما تعدنآ إن كنت من الصادقين) *. قوله تعالى: * (وأبلغكم مآ أرسلت به) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن نبي الله هودا قال لقومه، إنه يبلغهم ما أرسل به إليهم، لأنه ليس عليه إلا البلاغ، وهذا المعنى جاء مذكورا في غير هذا الموضع، كقوله تعالى في الأعراف: * (قال ياقوم ليس بى سفاهة ولكنى رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربى وأنا لكم ناصح أمين) * وقوله تعالى في سورة هود: * (فإن تولوا فقد أبلغتكم مآ أرسلت به إليكم) *. قوله تعالى: * (بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى: * (فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا فى أيام نحسات) *. قوله تعالى: * (ولقد مكناهم فيمآ إن مكناكم فيه) *. لفظة * (ءان) * في هذه الآية الكريمة فيها للمفسرين ثلاثة أوجه، يدل استقراء القرآن، على أن واحدا منها هو الحق، دون الاثنين الآخرين.
قال بعض العلماء: إن شرطية وجزاء الشرط محذوف، والتقدير إن مكناكم فيه طغيتم وبغيتم.
وقال بعضهم: إن زائدة بعد ما الموصولة حملا لما الموصولة على ما النافية لأن ما النافية تزاد بعدها لفظة إن كما هو معلوم.
233

كقول قتيلة بنت الحرث والنضر العبدرية: كقول قتيلة بنت الحرث والنضر العبدرية:
* أبلغ بها ميتا بأن تحية
* ما إن نزل بها النجائب تخفقوا
*
وقول دريد بن الصمة في الخنساء: وقول دريد بن الصمة في الخنساء:
* ما إن رأيت ولا سمعت به
* كاليوم طالى أينق جرب
*
فإن زائدة بعد ما النافية في البيتين وهو كثير، وقد حملوا على ذلك ما الموصولة فقالوا: تزاد بعدها إن كآية الأحقاف هذه. وأنشد لذلك الأخفش: فإن زائدة بعد ما النافية في البيتين وهو كثير، وقد حملوا على ذلك ما الموصولة فقالوا: تزاد بعدها إن كآية الأحقاف هذه. وأنشد لذلك الأخفش:
* يرجى المرء ما إن لا يراه
* وتعرض دون أدناه الخطوب
*
أي يرجى المرء الشيء الذي لا يراه، وإن زائدة، وهذان هما الوجهان اللذان لا تظهر صحة واحد منهما.
لأن الأول منهما فيه حذف وتقدير.
والثاني منهما فيه زيادة كلمة.
وكل ذلك لا يصار إليه إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
أما الوجه الثالث الذي هو الصواب إن شاء الله، فهو أن لفظة إن نافية بعد ما الموصولة أي ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه من القوة في الأجسام، وكثرة الأموال والأولاد، والعدد.
وإنما قلنا: إن القرآن يشهد لهذا القول لكثرة الآيات الدالة عليه، فإن الله جل وعلا في آيات كثيرة من كتابه يهدد كفار مكة بأن الأمم الماضية كانت أشد منهم بطشا وقوة، وأكثر منهم عددا، وأموالا، وأولادا، فلما كذبوا الرسل، أهلكهم الله ليخافوا من تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم أن يهلكهم الله بسببه، كما أهلك الأمم التي هي أقوى منهم، كقوله تعالى في المؤمن * (أفلم يسيروا فى الا رض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وءاثارا فى الا رض فمآ أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) *.
وقوله فيها أيضا: * (أولم يسيروا فى الا رض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وءاثارا فى الا رض فأخذهم الله بذنوبهم) *.
234

وقوله تعالى في الروم: * (أولم يسيروا فى الا رض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الا رض وعمروهآ أكثر مما عمروها) *.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة الزخرف في السلام على قوله تعالى: * (فأهلكنآ أشد منهم بطشا ومضى مثل الا ولين) *. قوله تعالى: * (فلولا نصرهم
الذين اتخذوا من دون الله قربانا ءالهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الجاثية في الكلام على قوله تعالى: * (ولا يغنى عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أوليآء ولهم عذاب عظيم) *. قوله تعالى: * (وإذ صرفنآ إليك نفرا من الجن يستمعون القرءان فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين قالوا ياقومنآ إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم) *. ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة من سورة الأحقاف، أنه صرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم * (نفرا من الجن) * والنفر دون العشرة * (يستمعون القرءان) * وأنهم لما حضروه، قال بعضهم لبعض * (أنصتوا) * أي اسكتوا مستمعين، وأنه لما قضى. أي انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من قراءته * (ولوا) * أي رجعوا إلى قومهم من الجن في حال كونهم منذرين أي مخوفين لهم من عذاب الله إن لم يؤمنوا بالله، ويجيبوا داعيه محمدا صلى الله عليه وسلم. وأخبروا قومهم، أن هذا الكتاب الذي سمعوه يتلى، المنزل من بعد موسى يهدي إلى الحق، وهو ضد الباطل، وإلى طريق مستقيم، أي لا اعوجاج فيه. وقد دل القرآن العظيم أن استماع هؤلاء النفر من الجن، وقولهم ما قالوا عن القرآن كله وقع ولم يعلم به النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أوحى الله ذلك إليه، كما قال تعالى في القصة بعينها، مع بيانها وبسطها، بتفصيل الأقوال التي قالتها الجن، بعد استماعهم القرآن العظيم: * (قل أوحى إلى أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرءانا عجبا يهدى إلى الرشد فأامنا به ولن نشرك بربنآ أحدا) * إلى آخر الآيات.
235

قوله تعالى: * (ياقومنآ أجيبوا داعى الله وءامنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم) *. منطوق هذه الآية أن من أجاب داعي الله محمدا صلى الله عليه وسلم وآمن به، وبما جاء به، من الحق غفر الله له ذنوبه. وأجاره من العذاب الأليم، ومفهومها، أعني مفهوم مخالفتها، والمعروف بدليل الخطاب، أن من لم يجب داعي الله من الجن، ولم يؤمن به لم يغفر له، ولم يجره، من عذاب أليم، بل يعذبه ويدخله النار، وهذا المفهوم جاء مصرحا به مبينا في آيات أخر، كقوله تعالى: * (وتمت كلمة ربك لاملان جهنم من الجنة والناس أجمعين) *. وقوله تعالى: * (ولاكن حق القول منى لاملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) * وقوله تعالى * (قال ادخلوا فى أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس فى النار) *: وقوله تعالى * (فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون) * إلى غير ذلك من الآيات.
أما دخول المؤمنين، المجيبين داعي الله من الجن، الجنة فلم تتعرض له الآية الكريمة بإثبات ولا نفي، وقد دلت آية أخرى على أن المؤمنين من الجن يدخلون الجنة، وهي قوله تعالى في سورة الرحمن: * (ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأى ءالاء ربكما تكذبان) * وبه تعلم أن ما ذهب إليه بعض أهل العلم، قائلين إنه يفهم من هذه الآية، من أن المؤمنين من الجن لا يدخلون الجنة، وأن جزاء إيمانهم وإجابتهم داعي الله، هو الغفران وإجارتهم من العذاب الأليم فقط، كما هو نص الآية، كله خلاف التحقيق.
وقد أوضحنا ذلك في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب، عن آيات الكتاب) في الكلام على هذه الآية، من سورة الأحقاف فقلنا فيه ما نصه:
هذه الآية، يفهم من ظاهرها، أن جزاء المطيع من الجن غفران ذنوبه، وإجارته من عذاب أليم، لا دخوله الجنة.
وقد تمسك جماعة من العلماء منهم الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، بظاهر هذه الآية، فقالوا إن المؤمنين المطيعين من الجن لا يدخلون الجنة، مع أنه جاء في آية أخرى، ما يدل على أن مؤمنيهم في الجنة وهي قوله تعالى * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) *، لأنه تعالى بين شموله للجن والإنس، بقوله * (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *.
236

ويستأنس لهذا بقوله تعالى * (لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جآن) * فإنه يشير إلى أن في الجنة جنا يطمثون النساء كالإنس.
والجواب عن هذا، أن آية الأحقاف، نص فيها على الغفران، والإجارة من العذاب، ولم يتعرض فيها لدخول الجنة، بنفي ولا إثبات، وآية الرحمان نص فيها على دخولهم الجنة، لأنه تعالى قال فيها: * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) *.
وقد تقرر في الأصول أن الموصولات من صيغ العموم، فقوله: * (ولمن خاف) *، يعم كل خائف مقام ربه، ثم صرح بشمول ذلك الجن والإنس معا بقوله: * (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *.
فبين أن الوعد بالجنتين لمن خاف مقام ربه من آلائه، أي نعمه على الإنس والجن، فلا تعارض بين الآيتين، لأن إحداهما بينت ما لم تعرض له الأخرى.
ولو سلمنا أن قوله: * (يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم) *، يفهم منه عدم دخولهم الجنة، فإنه إنما يدل عليه بالمفهوم، وقوله: * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) * * (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) * يدل على دخولهم الجنة بعموم المنطوق.
والمنطوق مقدم على المفهوم كما تقرر في الأصول.
ولا يخفى أنا إذا أردنا تحقيق هذا المفهوم المدعي وجدناه معدوما من أصله للإجماع على أن قسمة المفهوم ثنائية، إما أن يكون مفهوم موافقة أو مخالفة ولا ثالث.
ولا يدخل هذا المفهوم المدعي في شيء من أقسام المفهومين.
أما عدم دخوله في مفهوم الموافقة بقسميه فواضح.
وأما عدم دخوله في شيء من أنواع مفهوم المخالفة، فلأن عدم دخوله في مفهوم الحصر أو الغاية أو العدد أو الصفة أو الظرف واضح.
فلم يبق من أنواع مفهوم المخالفة يتوهم دخوله فيه إلا مفهوم الشرط أو اللقب، وليس داخلا في واحد منهما.
فظهر عدم دخوله فيه أصلا.
أما وجه توهم دخوله في مفهوم الشرط، فلأن قوله: * (يغفر لكم من ذنوبكم) *
237

فعل مضارع مجزوم بكونه جزاء الطلب.
وجمهور علماء العربية على أن الفعل إذا كان كذلك فهو مجزوم بشرط مقدر، لا بالجملة قبله، كما قيل به.
وعلى الصحيح الذي هو مذهب الجمهور، فتقرير المعنى: * (أجيبوا داعى الله وءامنوا به) * إن تفعلوا ذلك يغفر لكم، فيتوهم في الآية مفهوم هذا الشرط المقدر.
والجواب عن هذا: أن مفهوم الشرط عند القائل به، إنما هو في فعل الشرط لا في جزائه، وهو معتبر هنا في فعل الشرط على عادته، فمفهوم أن تجيبوا داعي الله وتؤمنوا به يغفر لكم، أنهم إن لم يجيبوا داعي الله ولم يؤمنوا به لم يغفر لهم، وهو كذلك.
أما جزاء الشرط فلا مفهوم له لاحتمال أن تترتب على الشرط الواحد مشروطات كثيرة، فيذكر بعضها جزاء له فلا يدل على نفي غيره.
كما لو قلت لشخص مثلا: إن تسرق يجب عليك غرم ما سرقت.
فهذا الكلام حق ولا يدل على نفي غير الغرم كالقطع، لأن قطع اليد مرتب أيضا على السرقة كالغرم.
وكذلك الغفران، والإجارة من العذاب ودخول الجنة كلها مرتبة على إجابة داعي الله والإيمان به.
فذكر في الآية بعضها وسكت فيها عن بعض، ثم بين في موضع آخر، وهذا لا إشكال فيه.
وأما وجه توهم دخوله في مفهوم اللقب، فلأن اللقب في اصطلاح الأصوليين هو ما لم يمكن انتظام الكلام العربي دونه، أعني المسند إليه سواء كان لقبا أو كنية أو اسما أو اسم جنس أو غير ذلك.
وقد أوضحنا اللقب غاية في المائدة.
والجواب عن عدم دخوله في مفهوم اللقب، أن الغفران والإجارة من العذاب المدعي بالفرض أنهما لقبان لجنس مصدريهما، وأن تخصيصهما بالذكر يدل على نفي غيرهما في الآية سندان لا مسند إليهما بدليل أن المصدر فيهما كامن في الفعل ولا يستند
238

إلى الفعل إجماعا ما لم يرد مجرد لفظه على سبيل الحكاية.
ومفهوم اللقب عند القائل به إنما هو فيما إذا كان اللقب مسندا إليه، لأن تخصيصه بالذكر عند القائل به يدل على اختصاص الحكم به دون غيره، وإلا لما كان للتخصيص بالذكر فائدة كما عللوا به مفهوم الصفة.
وأجيب من جهة الجمهور: بأن اللقب ذكر ليمكن الحكم لا لتحصيصه بالحكم، إذ لا يمكن الإسناد بدون مسند إليه.
ومما يوضح ذلك أن مفهوم الصفة الذي حمل عليه اللقب عند القائل به إنما هو المسند إليه لا في المسند، لأن المسند إليه هو الذي تراعى أفراده وصفاتها، فيقصد بعضها بالذكر دون بعض فيختص الحكم بالذكور.
أما المسند فإنه لا يراعى فيه شيء من الأفراد والأوصاف أصلا، وإنما يراعى فيه مجرد الماهية التي هي الحقيقة الذهنية.
ولو حكمت مثلا على الإنسان بأنه حيوان، فإن المسند إليه الذي هو الإنسان في هذا المثال يقصد به جميع أفراده، لأن كل فرد منها حيوان بخلاف المسند الذي هو الحيوان في هذا المثال فلا يقصد به إلا مطلق ماهيته، وحقيقته الذهنية من غير مراعاة الأفراد، لأنه لو روعيت أفراده لاستلزم الحكم على الإنسان بأنه فرد آخر من أفراد الحيوان كالفرس مثلا.
والحكم بالمباين على المباين باطل، إذا كان إيجابيا باتفاق العقلاء.
وعامة النظار على أن موضوع القضية إذا كانت غير طبيعية يراعى فيه ما يصدق عليه عنوانها من الأفراد باعتبار الوجود الخارجي، إن كانت خارجية أو الذهني إن كانت حقيقية.
وأما المحمول من حيث هو فلا تراعى فيه الأفراد البتة.
وإنما يراعى فيه مطلق الماهية، ولو سلمنا تسليما جدليا أن مثل هذه الآية يدخل في مفهوم اللقب، فجماهير العلماء على أن مفهوم اللقب لا عبرة به، وربما كان اعتباره كفرا كما لو اعتبر معتبر مفهوم اللقب في قوله تعالى: * (محمد رسول الله) * فقال: يفهم من مفهوم لقبه أن غير محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن رسول الله، فهذا كفر بإجماع المسلمين.
فالتحقيق أن اعتبار مفهوم اللقب لا دليل عليه شرعا ولا لغة ولا عقلا، سواء كان
239

اسم جنس، أو اسم عين، أو اسم جمع أو غير ذلك.
فقولك جاء زيد لا يفهم منه عدم مجيء عمرو.
وقولك: رأيت أسدا، لا يفهم منه عدم رؤيتك لغير الأسد.
والقول بالفرق، بين اسم الجنس، فيعتبر، واسم العين فلا يعتبر، لا يظهر.
فلا عبرة بقول الصيرفي وأبي بكر الدقاق وغيرهما من الشافعية.
ولا يقول ابن خويز منداد وابن القصار من المالكية ولا يقول بعض الحنابلة باعتبار مفهوم اللقب، لأنه لا دليل على اعتباره عند القائل به، إلا أنه يقول:
لو لم يكن اللقب مختصا بالحكم لما كان لتخصيصه بالذكر فائدة، كما علل به مفهوم الصفة لأن الجمهور يقولون: ذكر اللقب ليسند إليه وهو واضح لا إشكال فيه.
وأشار صاحب مراقي السعود إلى تعريف اللقب بالاصطلاح الأصولي وأنه أضعف المفاهيم بقوله: وأشار صاحب مراقي السعود إلى تعريف اللقب بالاصطلاح الأصولي وأنه أضعف المفاهيم بقوله:
* أضعفها اللقب وهو ما أبى
* من دونه نظم الكلام العرب
*
وحاصل فقه هذه المسألة أن الجن مكلفون، على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم بدلالة الكتاب والسنة، وإجماع المسلمين وأن كافرهم في النار بإجماع المسلمين، وهو صريح قوله تعالى: * (لاملان جهنم من الجنة والناس أجمعين) * وقوله تعالى: * (فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون) *، وقوله تعالى: * (قال ادخلوا فى أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس فى النار) * إلى غير ذلك من الآيات.
وأن مؤمنيهم اختلف في دخولهم الجنة ومنشأ الخلاف الاختلاف في فهم الآيتين المذكورتين.
والظاهر دخولهم الجنة كما بينا، والعلم عند الله تعالى. ا ه. منه بلفظه. قوله تعالى: * (أولم يروا أن الله الذى خلق السماوات والا رض ولم يعى بخلقهن بقادر على أن يحى الموتى بلى إنه على كل شىء قدير) *. قد قدمنا الآيات الموضحة لهذه الآية، وأنها من الآيات الدالة على البعث في
240

البقرة والنحل والجاثية، وغير ذلك من المواضع وأحلنا على ذلك مرارا، والباء في قوله * (بقادر) * يسوغه أن النفي متناول لأن فما بعدها، فهو في معنى أليس الله بقادر؟
ويوضح ذلك قوله بعد: بلى. مقررا لقدرته على البعث وغيره. قوله تعالى: * (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل) *. اختلف العلماء في المراد بأولي العزم من الرسل في هذه الآية الكريمة اختلافا كثيرا.
وأشهر الأقوال في ذلك أنهم خمسة، وهم الذين قدمنا ذكرهم في الأحزاب والشورى، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام.
وعلى هذا القول فالرسل الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصبر كما صبروا أربعة فصار هو صلى الله عليه وسلم خامسهم.
واعلم أن القول بأن المراد بأولي العزم جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأن لفظة من، في قوله: من الرسل بيانية يظهر أنه خلاف التحقيق، كما دل على ذلك بعض الآيات القرآنية كقوله تعالى: * (فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت) *، فأمر الله جل وعلا نبيه في آية القلم هذه بالصبر، ونهاه عن أن يكون مثل يونس، لأنه هو صاحب الحوت وكقوله: * (ولقد عهدنآ إلىءادم من قبل فنسى ولم نجد له عزما) * فآية القلم، وآية طه المذكورتان كلتاهما تدل على أن أولي العزم من الرسل الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصبر كصبرهم ليسوا جميع الرسل والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ولا تستعجل لهم) *. نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة، أن يستعجل العذاب لقومه، أي يدعو الله عليهم بتعجيله لهم، فمفعول تستعجل محذوف تقديره العذاب، كما قاله القرطبي، وهو الظاهر.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي عن طلب تعجيل العذاب لهم جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى: * (وذرنى والمكذبين أولى النعمة ومهلهم قليلا) *. وقوله تعالى * (فمهل الكافرين أمهلهم رويدا) *.
241

فإن قوله * (ومهلهم قليلا) *، وقوله: * (فمهل الكافرين أمهلهم رويدا) * موضح لمعنى قوله * (ولا تستعجل لهم) *.
والمراد بالآيات، نهيه صلى الله عليه وسلم عن طلب تعجيل العذاب لهم، لأنهم معذبون، لا محالة عند انتهاء المدة المحدودة للإمهال، كما يوضحه قوله تعالى * (فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا) *. وقوله تعالى * (نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ) * وقوله تعالى * (قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار) *. وقوله تعالى: * (لا يغرنك تقلب الذين كفروا فى البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد) * وقوله تعالى: * (قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع فى الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يونس في الكلام على قوله تعالى * (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم) * وفي سورة قد أفلح المؤمنون في الكلام على قوله تعالى: * (قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العآدين) *.
وبينا في الكلام على آية قد أفلح المؤمنون وجه إزالة إشكال معروف في الآيات المذكورة. قوله تعالى: * (بلاغ) *. التحقيق إن شاء الله أن أصوب القولين في قوله: * (بلاغ) * أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره، هذا بلاغ، أي هذا القرآن بلاغ من الله إلى خلقه.
ويدل لهذا قوله تعالى في سورة إبراهيم * (هاذا بلاغ للناس ولينذروا به) *، وقوله في الأنبياء * (إن فى هاذا لبلاغا لقوم عابدين) *، وخير ما يفسر به القرآن القرآن.
والبلاغ اسم مصدر، بمعنى التبليغ، وقد علم باستقراء اللغة العربية، أن الفعال يأتي
242

كثيرا، بمعنى التفعيل، كبلغه بلاغا: أي تبليغا، وكلمه كلاما، أي تكليما، وطلقها طلاقا، وسرحها سراحا، وبينه بيانا.
كل ذلك بمعنى التفعيل، لأن فعل مضعفة العين، غير معتلة اللام ولا مهموزته قياس مصدرها التفعيل.
وما جاء منه على خلاف ذلك، يحفظ ولا يقاس عليه، كما هو معلوم في محله.
أما القول بأن المعنى وذلك اللبث بلاغ، فهو خلاف الظاهر كما ترى، والعلم عند الله تعالى.
243

((سورة محمد))
* (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم * والذين ءامنوا وعملوا الصالحات وءامنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم * ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين ءامنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم * فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذآ أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فدآء حتى تضع الحرب أوزارها ذالك ولو يشآء الله لانتصر منهم ولاكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا فى سبيل الله فلن يضل أعمالهم * سيهديهم ويصلح بالهم * ويدخلهم الجنة عرفها لهم * ياأيها الذين ءامنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم * والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم * ذلك بأنهم كرهوا مآ أنزل الله فأحبط أعمالهم * أفلم يسيروا فى الا رض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها * ذلك بأن الله مولى الذين ءامنوا وأن الكافرين لا مولى لهم * إن الله يدخل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الا نهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الا نعام والنار مثوى لهم * وكأين من قرية هى أشد قوة من قريتك التى أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم * أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم) * سورة القتال وهي سورة محمد صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: * (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم والذين ءامنوا وعملوا الصالحات وءامنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين ءامنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم) *. قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: وصدوا عن سبيل الله، قال بعضهم: هو من الصدود، لأن صد في الآية لازمة.
وقال بعضهم: هو من الصد لأن صد في الآية متعدية.
وعليه فالمفعول محذوف أي صدوا غيرهم عن سبيل الله، أي عن الدخول في الإسلام.
وهذا القول الأخير هو الصواب، لأنه على القول بأن صد لازمة، فإن ذلك يكون تكرارا مع قوله * (كفروا) * لأن الكفر هو أعظم أنواع الصدود عن سبيل الله.
وأما على القول: بأن صد متعدية فلا تكرار لأن المعنى أنهم ضالون في أنفسهم، مضلون لغيرهم بصدهم إياهم عن سبيل الله، وقد قدمنا في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: * (فلنحيينه حيواة طيبة ولنجزينهم أجرهم) *، أن اللفظ إذا دار بين التأكيد والتأسيس وجب حمله على التأسيس، إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (أضل أعمالهم) * أي أبطل ثوابها، فما عمله الكافر من حسن في الدنيا، كقري الضيف، وبر الوالدين، وحمي الجار، وصلة الرحم، والتنفيس عن المكروب، يبطل يوم القيامة، ويضمحل ويكون لا أثر له، كما قال تعالى:
244

* (وقدمنآ إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هبآء منثورا) *، وهذا هو الصواب في معنى الآية.
وقيل: أضل أعمالهم أي أبطل كيدهم، الذي أرادوا أن يكيدوا به النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (والذين ءامنوا وعملوا الصالحات وءامنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم) * أي غفر لهم ذنوبهم وتجاوز لهم عن أعمالهم السيئة * (وأصلح بالهم) * أي أصلح لهم شأنهم وحالهم إصلاحا لا فساد معه، وما ذكره جل وعلا هنا في أول هذه السورة الكريمة، من أن يبطل أعمال الكافرين، ويبقي أعمال المؤمنين جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله تعالى: * (من كان يريد الحيواة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولائك الذين ليس لهم فى الا خرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) *. وقوله تعالى: * (من كان يريد حرث الا خرة نزد له فى حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له فى الا خرة من نصيب) * وقوله تعالى: * (وقدمنآ إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هبآء منثورا أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) *.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا مع بعض الأحاديث الصحيحة فيه، مع زيادة إيضاح مهمة في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: * (ومن أراد الا خرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولائك كان سعيهم مشكورا) *. وفي سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: * (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن) *، وذكرنا طرفا منه في سورة الأحقاف في الكلام على قوله تعالى: * (أذهبتم طيباتكم فى حياتكم الدنيا واستمتعتم بها) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (أضل أعمالهم) * أصله من الضلال بمعنى الغيبة، والاضمحلال. لا من الضالة كما زعمه الزمخشري فهو كقوله: * (وضل عنهم ما كانوا يفترون) *.
وقد قدمنا معاني الضلال في القرآن واللغة، في سورة الشعراء في الكلام على قوله: * (قال فعلتهآ إذا وأنا من الضآلين) *، وفي آخر الكهف في الكلام
245

على قوله تعالى: * (الذين ضل سعيهم فى الحيواة الدنيا) *، وفي غير ذلك من المواضع.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (والذين ءامنوا وعملوا الصالحات) * قد قدمنا إيضاحه في أول سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى * (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات) *، وفي سورة النحل في الكلام على قوله تعالى * (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وءامنوا بما نزل على محمد) *.
قال فيه ابن كثير: هو عطف خاص على عام، وهو دليل على أنه شرط في صحة الإيمان، بعد بعثته صلى الله عليه وسلم. ا ه منه.
ويدل لذلك قوله تعالى: * (ومن يكفر به من الا حزاب فالنار موعده فلا تك فى مرية منه إنه الحق من ربك ولاكن أكثر الناس لا يؤمنون) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (وهو الحق) * جملة اعتراضية تتضمن شهادة الله بأن هذا القرآن المنزل على هذا النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم هو الحق من الله، كما قال تعالى: * (وكذب به قومك وهو الحق) *، قال تعالى: * (وإنه لحسرة على الكافرين وإنه لحق اليقين) *. وقال تعالى: * (قل ياأيها الناس قد جآءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه) * وقال تعالى: * (ياأيها الناس قد جآءكم الرسول بالحق من ربكم) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وقوله تعالى: * (ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين ءامنوا اتبعوا الحق من ربهم) * أي ذلك المذكور من إضلال أعمال الكفار أي إبطالها واضمحلالها، وبقاء ثواب أعمال المؤمنين، وتكفير سيئاتهم وإصلاح حالهم، كله واقع بسبب أن الكفار اتبعوا الباطل، ومن اتبع الباطل فعمله باطل.
والزائل المضمحل تسميه العرب باطلا وضده الحق.
وبسبب أن الذين آمنوا اتبعوا الحق، ومتبع الحق أعماله حق، فهي ثابتة باقية، لا زائلة مضمحلة.
246

وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من أن اختلاف الأعمال، يستلزم اختلاف الثواب، لا يتوهم استواءهما إلا الكافر الجاهل، الذي يستوجب الإنكار عليه، جاء موضحا في آيات أخر، كقوله تعالى: * (أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون) *. وقوله تعالى: * (أم نجعل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين فى الا رض أم نجعل المتقين كالفجار) *. وقوله تعالى: * (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين ءامنوا وعملوا الصالحات سوآء محياهم ومماتهم سآء ما يحكمون) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (كذلك يضرب الله للناس أمثالهم) *.
قال فيه الزمخشري: فإن قلت: أين ضرب الأمثال؟
قلت: في جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار.
واتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين. أو في أن جعل الإضلال مثلا لخيبة الكفار، وتكفير السيئات مثلا لفوز المؤمنين. ا ه. منه.
وأصل ضرب الأمثال يراد منه بيان الشيء بذكر نظيره الذي هو مثل له. قوله تعالى: * (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذآ أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فدآء حتى تضع الحرب أوزارها) *. قوله تعالى: فضرب الرقاب مصدر نائب عن فعله، وهو بمعنى فعل الأمر، ومعلوم أن صيغ الأمر في اللغة العربية أربع:
وهي فعل الأمر كقوله تعالى: * (أقم الصلواة لدلوك الشمس) *.
واسم فعل الأمر كقوله تعالى: * (عليكم أنفسكم) *.
والفعل المضارع المجزوم بلام الأمر كقوله تعالى: * (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم) *.
والمصدر النائب عن فعله كقوله تعالى: * (فضرب الرقاب) *، أي فاضربوا رقابهم، وقوله تعالى: * (حتى إذآ أثخنتموهم) * أي أوجعتم فيهم قتلا.
247

فالإثخان هو الإكثار من قتل العدو حتى يضعف ويثقل عن النهوض.
وقوله: فشدوا الوثاق، أي فأسروهم، والوثاق بالفتح والكسر اسم لما يؤسر به الأسير من قد ونحوه.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من الأمر بقتل الكفار حتى يثخنهم المسلمون، ثم بعد ذلك يأسرونهم جاء موضحا في غير هذا الموضع، كقوله تعالى: * (ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن في الا رض) *، وقد أمر تعالى بقتلهم في آيات أخر كقوله تعالى: * (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) *. وقوله: * (فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان) *، وقوله تعالى: * (وقاتلوا المشركين كآفة) *. وقوله: * (فإما تثقفنهم فى الحرب فشرد بهم من خلفهم) *، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (فإما منا بعد وإما فدآء) * أي فإما تمنون عليهم منا، أو تفادونهم فداء.
ومعلوم أن المصدر إذا سيق لتفصيل وجب حذف عامله، كما قال في الخلاصة: ومعلوم أن المصدر إذا سيق لتفصيل وجب حذف عامله، كما قال في الخلاصة:
* وما لتفصيل كإما منا
* عامله يحذف حيث عنا
*
ومنه قول الشاعر: ومنه قول الشاعر:
* لأجهدن فإما درء واقعة
* تخشى وإما بلوغ السؤل والأمل
*
وقال بعض العلماء: هذه الآية منسوخة بالآيات التي ذكرنا قبلها وممن يروى عنه هذا القول، ابن عباس والسدي وقتادة والضحاك وابن جريج.
وذكر ابن جرير عن أبي بكر رضي الله عنه ما يؤيده.
ونسخ هذه الآية هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله فإنه لا يجوز عنده المن ولا الفداء، لأن الآية المنسوخة عنده بل يخير عنده الإمام بين القتل والاسترقاق.
ومعلوم أن آيات السيف النازلة في براءة نزلت بعد سورة القتال هذه.
وأكثر أهل العلم يقولون: إن الآية ليست منسوخة، وإن جميع الآيات المذكورة،
248

محكمة، فالإمام مخير وله أن يفعل ما رآه مصلحة للمسلمين من من وفداء وقتل واسترقاق.
قالوا: قتل النبي صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث أسيرين يوم بدر، وأخذ فداء غيرهما من الأسارى.
ومن على ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة، وكان يسترق السبي من العرب وغيرهم.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار:
والحاصل أنه قد ثبت في جنس أسارى الكفار جواز القتل والمن والفداء والاسترقاق، فمن ادعى أن بعض هذه الأمور تختص ببعض الكفار دون بعض لم يقبل منه ذلك إلا بدليل ناهض يخصص العمومات، والمجوز قائم في مقام المنع، وقول علي وفعله عند بعض المانعين من استرقاق ذكور العرب حجة.
وقد استرق بني ناجية ذكورهم وإناثهم وباعهم كما هو مشهور في كتب السير والتواريخ ا ه. محل الغرض منه.
ومعلوم أن بني ناجية من العرب.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له:
لم يختلف المسلمون في جواز الملك بالرق.
ومعلوم أن سببه أسر المسلمين الكفار في الجهاد، والله تبارك وتعالى في كتابه يعبر عن الملك بالرق بعبارة هي أبلغ العبارات، في توكيد ثبوت ملك الرقيق، وهي ملك اليمين لأن ما ملكته يمين الإنسان، فهو مملوك له تماما، وتحت تصرفه تماما، كقوله تعالى: * (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) * وقوله: * (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) * في سورة * (قد أفلح المؤمنون) * و * (سأل سآئل) * وقوله: * (والمحصنات من النسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم) *. وقوله: * (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم) *. وقوله: * (والجار ذى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم) *. وقوله: * (لا يحل لك النسآء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك) *. وقوله: * (ياأيها النبى إنآ أحللنا لك أزواجك اللاتىءاتيت أجورهن وما ملكت يمينك ممآ أفآء الله عليك) *. وقوله: * (أو نسآئهن أو
249

ما ملكت أيمانهن) *. وقوله: * (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) *. وقوله: * (فما الذين فضلوا برآدى رزقهم على ما ملكت أيمانهم) *. وقوله * (هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركآء) *، فالمراد بملك اليمين في جميع هذه الآيات كلها الملك بالرق، والأحاديث والآيات بمثل ذلك يتعذر حصرها، وهي معلومة، فلا ينكر الرق في الإسلام، إلا مكابر أو ملحد أو من لا يؤمن بكتاب الله، ولا بسنة رسوله.
وقد قدمنا حكمة الملك بالرق وإزالة الإشكال في ملك الرقيق المسلم في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: * (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) *.
ومن المعلوم أن كثيرا من أجلاء علماء المسلمين ومحدثيهم الكبار كانوا أرقاء مملوكين، أو أبناء أرقاء مملوكين.
فهذا محمد بن سيرين كان أبوه سيرين عبدا لأنس بن مالك.
وهذا مكحول كان عبدا لامرأة من هذيل فأعتقته.
ومثل هذا أكثر من أن يحصى كما هو معلوم.
واعلم أن ما يدعيه بعض من المتعصبين، لنفي الرق في الإسلام من أن آية القتال هذه دلت على نفي الرق من أصله، لأنها أوجبت واحدا من أمرين لا ثالث لهما، وهما المن والفداء فقط فهو استدلال ساقط من وجهين:
أحدهما أن فيه استدلالا بالآية، على شيء لم يدخل فيها، ولم تتناوله أصلا، والاستدلال إن كان كذلك فسقوطه كما ترى.
وإيضاح ذلك أن هذه الآية التي فيها تقسيم حكم الأسارى، إلى من وفداء، لم تتناول قطعا إلا الرجال المقاتلين من الكفار لأن قوله * (فضرب الرقاب) *، وقوله: * (حتى إذآ أثخنتموهم) *. صريح في ذلك كما ترى.
وعلى إثخان هؤلاء المقاتلين رتب بالفاء قوله: * (فشدوا الوثاق) *.
فظهر أن الآية لم تتناول أنثى ولا صغيرا البتة.
ويزيد ذلك إيضاحا أن النهي عن قتل نساء الكفار وصبيانهم ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم،
250

وأكثر أهل الرق في أقطار الدنيا إنما هو من النساء والصبيان.
ولو كان الذي يدعي نفي الرق من أصله يعترف بأن الآية، لا يمكن أن يستدل بها على شيء غير الرجال المقاتلين، لقصر نفي الرق الذي زعمه على الرجال الذين
أسروا، في حال كونهم مقاتلين، ولو قصره على هؤلاء، لم يمكنه أن يقول بنفي الرق من أصله كما ترى.
الوجه الثاني: هو ما قدمنا من الأدلة على ثبوت الرق في الإسلام. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (حتى تضع الحرب أوزارها) * أي إذا لقيتم الكفار فاضربوا أعناقهم * (حتى إذآ أثخنتموهم) * قتلا فأسروهم * (حتى تضع الحرب أوزارها) * أي حتى تنتهي الحرب.
وأظهر الأقوال في معنى وضع الحرب أوزارها أنه وضع السلاح، والعرب تسمي السلاح وزرا، وتطلق العرب الأوزار على آلات الحرب وما يساعد فيها كالخيل، ومنه قول الأعشى: وأظهر الأقوال في معنى وضع الحرب أوزارها أنه وضع السلاح، والعرب تسمي السلاح وزرا، وتطلق العرب الأوزار على آلات الحرب وما يساعد فيها كالخيل، ومنه قول الأعشى:
* وأعددت للحرب أوزارها
* رماحا طوالا وخيلا ذكورا
*
وفي معنى أوزار الحرب، أقوال أخر معروفة تركناها، لأن هذا أظهرها عندنا. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) *. ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن المؤمنين، إن نصروا ربهم، نصرهم على أعدائهم، وثبت أقدامهم، أي عصمهم من الفرار والهزيمة.
وقد أوضح هذا المعنى في آيات كثيرة، وبين في بعضها صفات الذين وعدهم بهذا النصر كقوله تعالى * (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز) *، ثم بين صفات الموعودين بهذا النصر في قوله تعالى بعده * (الذين إن مكناهم فى الا رض أقاموا الصلواة وآتوا الزكواة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الا مور) *، وكقوله تعالى: * (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) *، وقوله تعالى: * (إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا فى الحيواة الدنيا) *. وقوله تعالى: * (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون) * إلى غير ذلك من الآيات.
251

وقوله تعالى في بيان صفات من وعدهم بالنصر في الآيات المذكورة: * (الذين إن مكناهم فى الا رض أقاموا الصلواة وآتوا الزكواة وأمروا بالمعروف) *. يدل على أن الذين لا يقيمون الصلاة ولا يؤتون الزكاة ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، ليس لهم وعد من الله بالنصر البتة.
فمثلهم كمثل الأجير الذي لم يعمل لمستأجره شيئا ثم جاءه يطلب منه الأجرة.
فالذين يرتكبون جميع المعاصي ممن يتسمون باسم المسلمين ثم يقولون: إن الله سينصرنا مغررون لأنهم ليسوا من حزب الله الموعودين بنصره كما لا يخفى.
ومعنى نصر المؤمنين لله، نصرهم لدينه ولكتابه، وسعيهم وجهادهم، في أن تكون كلمته هي العليا، وأن تقام حدوده في أرضه، وتتمثل أوامره وتجتنب نواهيه، ويحكم في عباده بما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: * (أفلم يسيروا فى الا رض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها) *. قد قدمنا إيضاحه في سورة هود في الكلام على قوله تعالى: * (وما هى من الظالمين ببعيد) *، وأحلنا على الآيات الموضحة لذلك في سورة الروم في الكلام على قوله تعالى: * (أولم يسيروا فى الا رض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الا رض) *. وأوضحناها في الزخرف في الكلام على قوله: * (فأهلكنآ أشد منهم بطشا) * وفي الأحقاف في الكلام على قوله تعالى: * (ولقد مكناهم فيمآ إن مكناكم فيه) *، وفي غير ذلك من المواضع. قوله تعالى: * (وكأين من قرية هى أشد قوة من قريتك التى أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم) *. التي توضح معنى هذه الآية، هي المشار إليها في نفس الآية، التي ذكرنا قبلها.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من إخراج كفار مكة للنبي صلى الله عليه وسلم منها بينه في غير هذا الموضع، كقوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أوليآء تلقون إليهم
252

بالمودة وقد كفروا بما جآءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم) *، وقوله تعالى * (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك) *.
وقد أخرجوه فعلا بمكرهم المذكور، وبين جل وعلا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين أخرجوا من ديارهم لا ذنب لهم يستوجبون به الإخراج إلا الإيمان بالله، كما قال تعالى * (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) * وقال تعالى * (يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم) * أي يخرجون الرسول وإياكم لأجل إيمانكم بربكم.
وقال تعالى في إخراجهم له * (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول) *. إلى غير ذلك من الآيات.
وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير ابن كثير بهمزة مفتوحة بعد الكاف وياء مشددة مكسورة ونون ساكنة.
وقرأه ابن كثير وكآئن، بألف بعد الكاف، وهمزة مكسورة.
وكلهم عند الوقف يقفون على النون الساكنة، كحال الصلة، إلا أبا عمرو فإنه يقف على الياء.
وقد قدمنا أوجه القراءة في كأين ومعناها، وما فيها من اللغات، مع بعض الشواهد العربية في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى * (فكأين من قرية أهلكناها وهى ظالمة) *.
* (مثل الجنة التى وعد المتقون فيهآ أنهار من مآء غير ءاسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد فى النار وسقوا مآء حميما فقطع أمعآءهم * ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال ءانفا أولائك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهوآءهم * والذين اهتدوا زادهم هدى وءاتاهم تقواهم * فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جآء أشراطها فأنى لهم إذا جآءتهم ذكراهم * فاعلم أنه لا إلاه إلأ الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم * ويقول الذين ءامنوا لولا نزلت سورة فإذآ أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين فى قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشى عليه من الموت فأولى لهم * طاعة وقول معروف فإذا عزم الا مر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم * فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا فى الا رض وتقطعوا أرحامكم * أولائك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم * أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوب أقفالهآ) * قوله تعالى: * (مثل الجنة التى وعد المتقون فيهآ أنهار من مآء غير ءاسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين) *. أنهار الماء، وأنهار الخمر التي ذكرها الله في هذه الآية بين بعض صفاتها، في آيات أخرى كقوله تعالى * (تجرى من تحتها الأنهار) * في آيات كثيرة، وقوله * (ومآء مسكوب) *. وقوله: * (إن المتقين فى ظلال وعيون) *، وقوله
253

* (فيها عين جارية) *، وقد بين تعالى من صفات خمر الجنة أنها لا تسكر شاربها، ولا تسبب له الصداع الذي هو وجع الرأس في آيات من كتابه كقوله تعالى: * (لا يصدعون عنها ولا ينزفون) *، وقوله * (لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون) *.
وقد قدمنا معنى هذه الآيات بإيضاح في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى * (إنما الخمر والميسر والا نصاب والا زلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) *. وقوله تعالى في الآية الكريمة * (غير ءاسن) * أي غير متغير اللون ولا الطعم. والآسن والآجن معناهما واحد، ومنه قول ذي الرمة: غير ءاسن) * أي غير متغير اللون ولا الطعم. والآسن والآجن معناهما واحد، ومنه قول ذي الرمة:
* ومنهل آجن قفر محاضره
* تذروا الرياح على جماته البعرا
*
وقول الراجز:
* ومنهل فيه الغراب ميت
* كأنه من الأجون زيت
*
وبما ذكرنا تعلم أن قوله: غير آسن كقوله: من لبن لم يتغير طعمه. قوله تعالى: * (ولهم فيها من كل الثمرات) *. قد بين تعالى في سورة البقرة أن الثمار التي يرزقها أهل الجنة يشبه بعضها بعضا في الجودة والحسن والكمال، ليس فيها شيء رديء، وذلك في قوله تعالى: * (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هاذا الذى رزقنا من قبل وأتوا به متشابها) *. قوله تعالى: * (وسقوا مآء حميما فقطع أمعآءهم) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الحج، في الكلام على قوله تعالى * (يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما فى بطونهم) *. قوله تعالى: * (فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة) *.
254

قد قدمنا الآيات الموضحة له، في سورة الزخرف، في الكلام على قوله تعالى * (هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون) *. قوله تعالى: * (فأنى لهم إذا جآءتهم ذكراهم) *. التحقيق إن شاء الله تعالى، في معنى هذه الآية الكريمة، أن الكفار يوم القيامة، إذا جاءتهم الساعة، يتذكرون ويؤمنون بالله ورسله، وأن الإيمان في ذلك الوقت لا ينفعهم لفوات وقته فقوله * (ذكراهم) * مبتدأ خبره * (فأنى لهم) * أي كيف تنفعهم ذكراهم وإيمانهم بالله، وقد فات الوقت الذي يقبل فيه الإيمان.
والضمير المرفوع في * (جآءتهم) * عائد إلى الساعة التي هي القيامة.
وهذا المعنى، الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، من أن الكفار يوم القيامة يؤمنون، ولا ينفعهم إيمانهم جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله تعالى * (وقالوا ءامنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد) *، وقوله تعالى: * (وجىء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى) *.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى * (هل ينظرون إلا تأويله) * إلى قوله * (أو نرد فنعمل غير الذى كنا نعمل) *.
فظهر أن قوله * (فأنى لهم إذا جآءتهم ذكراهم) * على حذف مضاف، أي أني لهم نفع ذكراهم.
والذكرى اسم مصدر بمعنى الاتعاظ الحامل على الإيمان. قوله تعالى: * (فإذآ أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين فى قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشى عليه من الموت) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه إذا أنزل سورة محكمة، أي متقنة الألفاظ والمعاني، واضحة الدلالة، لا نسخ فيها وذكر فيها وجوب قتال الكفار، تسبب عن ذلك، كون الذين في قلوبهم مرض أي شك ونفاق، ينظرون كنظر الإنسان الذي يغشى عليه لأنه في سياق الموت، لأن نظر من كان كذلك تدور فيه عينه ويزيغ بصره.
255

وهذا إنما وقع لهم من شدة الخوف من بأس الكفار المأمور بقتالهم.
وقد صرح جل وعلا بأن ذلك من الخوف المذكور في قوله: * (فإذا جآء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذى يغشى عليه من الموت) *.
وقد بين تعالى، أن الأغنياء من هؤلاء المنافقين، إذا أنزل الله سورة، فيها الأمر بالجهاد، استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في التخلف عن الجهاد، وذمهم الله على ذلك، وذلك في قوله تعالى: * (وإذآ أنزلت سورة أن ءامنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون) *. قوله تعالى: * (أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوب أقفالهآ) *. الهمزة في قوله: أفلا يتدبرون للإنكار، والفاء عاطفة على جملة محذوفة، على أصح القولين، والتقدير أيعرضون عن كتاب الله فلا يتدبرون القرآن كما أشار له في الخلاصة بقوله: * وحذف متبوع بدا هنا استبح
وقوله تعالى: * (أم على قلوب أقفالهآ) * فيه منقطعة بمعنى بل، فقد أنكر تعالى عليهم إعراضهم عن تدبر القرآن، بأداة الإنكار التي هي الهمزة، وبين أن قلوبهم عليها أقفال لا تنفتح لخير، ولا لفهم قرآن.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من التوبيخ والإنكار على من أعرض عن تدبر كتاب الله، جاء موضحا في آيات كثيرة، كقوله تعالى * (أفلا يتدبرون القرءان ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) *، وقوله تعالى * (أفلم يدبروا القول أم جآءهم ما لم يأت ءابآءهم الا ولين) *، وقوله تعالى * (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا ءاياته وليتذكر أولو الا لباب) *.
وقد ذم جل وعلا المعرض عن هذا القرآن العظيم في آيات كثيرة كقوله تعالى: * (ومن أظلم ممن ذكر بأايات ربه فأعرض عنها) *. وقوله تعالى: * (ومن أظلم ممن ذكر بأايات ربه ثم أعرض عنهآ) *.
256

ومعلوم أن كل من لم يشتغل بتدبر آيات هذا القرآن العظيم أي تصفحها وتفهمها، وإدراك معانيها والعمل بها، فإنه معرض عنها، غير متدبر لها، فيستحق الإنكار والتوبيخ المذكور في الآيات إن كان الله أعطاه فهما يقدر به على التدبر، وقد شكا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه من هجر قومه هذا القرآن، كما قال تعالى * (وقال الرسول يارب إن قومى اتخذوا هاذا القرءان مهجورا) *.
وهذه الآيات المذكورة تدل على أن تدبر القرآن وتفهمه وتعلمه والعمل به، أمر لا بد منه للمسلمين.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن المشتغلين بذلك هم خير الناس. كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) وقال تعالى: * (ولاكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون) *.
فإعراض كثير من الأقطار عن النظر في كتاب الله وتفهمه والعمل به وبالسنة الثابتة المبينة له. من أعظم المناكر وأشنعها، وإن ظن فاعلوه أنهم على هدى.
ولا يخفى على عاقل أن القول بمنع العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، اكتفاء عنهما بالمذاهب المدونة. وانتفاء الحاجة إلى تعلمهما، لوجود ما يكفي عنهما من مذاهب الأئمة من أعظم الباطل.
وهو مخالف لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة ومخالف لأقوال الأئمة الأربعة.
257

فمرتكبه مخالف لله ولرسوله ولأصحاب رسوله جميعا وللأئمة رحمهم الله، كما سترى إيضاحه إن شاء الله تعالى.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة المسألة الأولى:
اعلم أن قول بعض متأخري الأصوليين: إن تدبر هذا القرآن العظيم، وتفهمه والعمل به. لا يجوز إلا للمجتهدين خاصة، وأن كل من لم يبلغ درجة الاجتهاد المطلق بشروطه المقررة عندهم التي لم يستند اشتراط كثير منها إلى دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس جلي، ولا أثر عن الصحابة، قول لا مستند له من دليل شرعي أصلا.
بل الحق الذي لا شك فيه، أن كل من له قدرة من المسلمين، على التعلم والتفهم، وإدراك معاني الكتاب والسنة، يجب عليه تعلمهما، والعمل بما علم منهما.
أما العمل بهما مع الجهل بما يعمل به منهما فممنوع إجماعا.
وأما ما علمه منهما علما صحيحا ناشئا عن تعلم صحيح. فله أن يعمل به. ولو آية واحدة أو حديثا واحدا.
ومعلوم أن هذا الذم والإنكار على من يتدبر كتاب الله عام لجميع الناس.
ومما يوضح ذلك أن المخاطبين الأولين به الذين نزل فيهم هم المنافقون والكفار، ليس أحد منهم مستكملا لشروط الاجتهاد المقررة عند أهل الأصول، بل ليس عندهم شيء منها أصلا. فلو كان القرآن لا يجوز أن ينتفع بالعمل به، والاهتداء بهديه إلا المجتهدون بالإصلاح الأصولي لما وبخ الله الكفار وأنكر عليهم عدم الاهتداء بهداه، ولما أقام عليهم الحجة به حتى يحصلوا شروط الاجتهاد المقررة عند متأخري الأصوليين، كما ترى.
ومعلوم أن من المقرر في الأصول أن صورة سبب النزول قطعية الدخول، وإذا فدخول الكفار والمنافقين، في الآيات المذكورة قطعي، ولو كان لا يصح الانتفاع بهدي القرآن إلا لخصوص المجتهدين لما أنكر الله على الكفار عدم تدبرهم كتاب الله، وعدم عملهم به. وقد علمت أن الواقع خلاف ذلك قطعا، ولا يخفى أن شروط الاجتهاد لا تشترط إل
258

ا فيما فيه مجال للاجتهاد، والأمور المنصوصة في نصوص صحيحة، من الكتاب والسنة، لا يجوز الاجتهاد فيها لأحد، حتى تشترط فيها شروط الاجتهاد، بل ليس فيها إلا الاتباع، وبذلك تعلم أنما ذكره صاحب مراقي السعود تبعا للقرافي من قوله: ومعلوم أن من المقرر في الأصول أن صورة سبب النزول قطعية الدخول، وإذا
فدخول الكفار والمنافقين، في الآيات المذكورة قطعي، ولو كان لا يصح الانتفاع بهدي القرآن إلا لخصوص المجتهدين لما أنكر الله على الكفار عدم تدبرهم كتاب الله، وعدم عملهم به. وقد علمت أن الواقع خلاف ذلك قطعا، ولا يخفى أن شروط الاجتهاد لا تشترط إلا فيما فيه مجال للاجتهاد، والأمور المنصوصة في نصوص صحيحة، من الكتاب والسنة، لا يجوز الاجتهاد فيها لأحد، حتى تشترط فيها شروط الاجتهاد، بل ليس فيها إلا الاتباع، وبذلك تعلم أنما ذكره صاحب مراقي السعود تبعا للقرافي من قوله:
* من لم يكن مجتهدا فالعمل
* منه بمعنى النص مما يحظل
*
لا يصح على إطلاقه بحال لمعارضته لآيات وأحاديث كثيرة من غير استناد إلى دليل.
ومن المعلوم، أنه لا يصح تخصيص عمومات الكتاب والسنة، إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
ومن المعلوم أيضا، أن عمومات الآيات والأحاديث، الدالة على حث جميع الناس، على العمل بكتاب الله، وسنة رسوله، أكثر من أن تحصى، كقوله صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي) وقوله صلى الله عليه وسلم (عليكم بسنتي) الحديث. ونحو ذلك مما لا يحصى.
فتخصيص جميع تلك النصوص، بخصوص المجتهدين وتحريم الانتفاع بهدي الكتاب والسنة على غيرهم، تحريما باتا يحتاج إلى دليل من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يصح تخصيص تلك النصوص بآراء جماعات من المتأخرين المقرين على أنفسهم بأنهم من المقلدين.
ومعلوم أن المقلد الصرف، لا يجوز عده من العلماء ولا من ورثة الأنبياء، كما سترى إيضاحه إن شاء الله. وقال صاحب مراقي السعود، في نشر البنود، في شرحه لبيته المذكور
259

آنفا ما نصه: يعني أن غير المجتهد، يحظل له. أي يمنع أن يعمل بمعنى نص من كتاب أو سنة وإن صح سندها لاحتمال عوارضه، من نسخ وتقييد، وتخصيص وغير ذلك من العوارض التي لا يضبطها إلا المجتهد، فلا يخلصه من الله إلا تقليد مجتهد. قاله القرافي. ا ه. محل الغرض منه بلفظه.
وبه تعلم أنه لا مستند له، ولا للقرافي الذي تبعه، في منع جميع المسلمين، غير المجتهدين من العمل بكتاب الله، وسنة رسوله، إلا مطلق احتمال العوارض، التي تعرض لنصوص الكتاب والسنة، من نسخ أو تخصيص أو تقييد ونحو ذلك، وهو مردود من وجهين:
الأول: أن الأصل السلامة من النسخ حتى يثبت ورود الناسخ والعام ظاهر في العموم حتى يثبت ورود المخصص، والمطلق ظاهر في الإطلاق، حتى يثبت ورود المقيد والنص يجب العمل به، حتى يثبت النسخ بدليل شرعي، والظاهر يجب العمل به عموما كان أو إطلاقا أو غيرهما، حتى يرد دليل صارف عنه إلى المحتمل المرجوح. كما هو معروف في محله.
وأول من زعم أنه لا يجوز العمل بالعام، حتى يبحث عن المخصص فلا يوجد ونحو ذلك، أبو العباس بن سريج وتبعه جماعات من المتأخرين، حتى حكموا على ذلك الإجماع حكاية لا أساس لها.
وقد أوضح ابن القاسم العبادي، في الآيات البينات غلطهم في ذلك، في كلامه على شرح المحل لقول ابن السبكي في جمع الجوامع، ويتمسك بالعام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، قبل البحث عن المخصص، وكذا بعد الوفاة، خلافا لابن سريج ا ه.
وعلى كل حال فظواهر النصوص، من عموم وإطلاق، ونحو ذلك، لا يجوز تركها إلا لدليل يجب الرجوع إليه، من مخصص أو مقيد، لا لمجرد مطلق الاحتمال، كما هو معلوم في محله.
260

فادعاء كثير من المتأخرين، أنه يجب ترك العمل به، حتى يبحث عن المخصص، والمقيد مثلا خلاف التحقيق.
الوجه الثاني: أن غير المجتهد إذا تعلم آيات القرآن، أو بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ليعمل بها، تعلم ذلك النص العام، أو المطلق، وتعلم معه، مخصصه ومقيده إن كان مخصصا أو مقيدا، وتعلم ناسخه إن كان منسوخا وتعلم ذلك سهل جدا، بسؤال العلماء العارفين به، ومراجعة كتب التفسير والحديث المعتد بها في ذلك، والصحابة كانوا في العصر الأول يتعلم أحدهم آية فيعمل بها، وحديثا فيعمل به، ولا يمتنع من العمل بذلك حتى يحصل رتبة الاجتهاد المطلق، وربما عمل الإنسان بما علم فعلمه ما لم يكن يعلم، كما يشير له قوله تعالى: * (واتقوا الله ويعلمكم الله) * وقوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا) * على القول بأن الفرقان هو العلم النافع الذي يفرق به بين الحق والباطل.
وقوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وءامنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به) *.
وهذه التقوى، التي دلت الآيات، على أن الله يعلم صاحبها، بسببها ما لم يكن يعلم، لا تزيد على عمله بما علم، من أمر الله وعليه فهي عمل ببعض ما علم زاده الله به علم ما لم يكن يعلم.
فالقول بمنع العمل بما علم من الكتاب والسنة، حتى يحصل رتبة الاجتهاد المطلق، هو عين السعي في حرمان جميع المسلمين، من الانتفاع بنور القرآن، حتى يحصلوا شرطا مفقودا، في اعتقاد القائلين بذلك، وادعاء مثل هذا على الله وعلى كتابه وعلى سنة رسوله هو كما ترى.
261

تنبيه مهم
يجب على كل مسلم، يخاف العرض على ربه، يوم القيامة، أن يتأمل فيه ليرى لنفسه المخرج من هذه الورطة العظمى، والطاعة الكبرى، التي عمت جل بلاد المسلمين من المعمورة.
وهي ادعاء الاستغناء عن كتاب الله وسنة رسوله، استغناء تاما، في جميع الأحكام من عبادات ومعاملات، وحدود وغير ذلك، بالمذاهب المدونة.
وبناء هذا على مقدمتين:
إحداهما: أن العمل بالكتاب والسنة لا يجوز إلا للمجتهدين.
والثانية: أن المجتهدين معدومون عدما كليا، لا وجود لأحد منهم، في الدنيا، وأنه بناء على هاتين المقدمتين، يمنع العمل بكتاب الله وسنة رسوله منعا باتا على جميع أهل الأرض، ويستغنى عنهما بالمذاهب المدونة.
وزاد كثير منهم على هذا منع تقليد غير المذاهب الأربعة، وأن ذلك يلزم استمراره إلى آخر الزمان.
فتأمل يا أخي رحمك الله: كيف يسوغ لمسلم، أن يقول بمنع الاهتداء بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعدم وجوب تعلمهما والعمل بهما، استغناء عنهما بكلام رجال، غير معصومين ولا خلاف في أنهم يخطئون.
فإن كان قصدهم أن الكتاب والسنة، لا حاجة إلى تعلمهما، وأنهما يغني غيرهما، فهذا بهتان عظيم، ومنكر من القول وزور.
وإن كان قصدهم أن تعلمهما صعب لا يقدر عليه، فهو أيضا زعم باطل، لأن تعلم الكتاب والسنة، أيسر من تعلم مسائل الآراء والاجتهاد المنتشرة، مع كونها في غاية التعقيد،
262

والكثرة والله جل وعلا يقول في سورة القمر مرات متعددة: * (ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر) *. ويقول تعالى في الدخان: * (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون) *. ويقول في مريم: * (فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا) *.
فهو كتاب ميسر، بتيسير الله، لمن وفقه الله للعمل به، والله جل وعلا يقول بل هو ءايات بينات فى صدور الذين أوتوا العلم) *، ويقول * () *، ويقول * (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون) *.
فلا شك أن الذي يتباعد، عن هداه، يحاول التباعد، عن هدى الله ورحمته.
ولا شك أن هذا القرآن العظيم، هو النور الذي أنزله الله إلى أرضه، ليستضاء به فيعلم في ضوئه الحق من الباطل والحسن من القبيح والنافع من الضار، والرشد من الغي.
قال الله تعالى: * (ياأيها الناس قد جآءكم برهان من ربكم وأنزلنآ إليكم نورا مبينا) *.
وقال تعالى: * (قد جآءكم من الله نور وكتاب مبين يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) *. وقال تعالى: * (وكذلك أوحينآ إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولاكن جعلناه نورا نهدى به من نشآء من عبادنا) * وقال تعالى: * (فأامنوا بالله ورسوله والنور الذى أنزلنا) * وقال تعالى: * (فالذين ءامنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذى أنزل معه أولائك هم المفلحون) *.
فإذا علمت أيها المسلم أن هذا القرآن العظيم، هو النور الذي أنزله الله ليستضاء به، ويهتدى بهداه في أرضه، فكيف ترضى لبصيرتك أن تعمى عن النور.
فلا تكن خفاشي البصيرة، واحذر أن تكون ممن قيل فيهم: فلا تكن خفاشي البصيرة، واحذر أن تكون ممن قيل فيهم:
* خفافيش أعماها النهار بضوئه
* ووافقها قطع من الليل مظلم
*
* مثل النهار يزيد أبصار الورى
* نورا ويعمي أعين الخفاش
*
263

* (يكاد البرق يخطف أبصارهم) *. * (أفمن يعلم أنمآ أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب) *.
ولا شك أن من عميت بصيرته عن النور، تخبط في الظلام، ومن لم يجعل الله له نورا، فما له من نور.
وبهذا تعلم أيها المسلم المنصف، أنه يجب عليك الجد، والاجتهاد في تعلم كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبالوسائل النافعة المنتجة، والعمل بكل ما علمك الله منهما، علما صحيحا.
ولتعلم أن تعلم كتاب الله وسنة رسوله في هذا الزمان، أيسر منه بكثير في القرون الأولى، لسهولة معرفة جميع ما يتعلق بذلك، من ناسخ ومنسوخ وعام وخاص، ومطلق ومقيد، ومجمل ومبين وأحوال الرجال، من رواة الحديث، والتمييز بين الصحيح والضعيف، لأن الجميع ضبط وأتقن ودون، فالجميع سهل التناول اليوم.
فكل آية من كتاب الله قد علم ما جاء فيها من النبي صلى الله عليه وسلم ثم من الصحابة والتابعين وكبار المفسرين.
وجميع الأحاديث الواردة عنه صلى الله عليه وسلم حفظت ودونت، وعلمت أحوال متونها وأسانيدها وما يتطرق إليها من العلل والضعف.
فجميع الشروط التي اشترطوها في الاجتهاد يسهل تحصيلها جدا على كل من رزقه الله فهما وعلما.
والناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، والمطلق والمقيد، ونحو ذلك تسهل معرفته اليوم على كل ناظر في الكتاب والسنة ممن رزقه الله فهما ووفقه لتعلم كتاب الله وسنة رسوله.
واعلم أيها المسلم المنصف، أن من أشنع الباطل وأعظم القول بغير الحق، على الله وكتابه وعلى النبي وسنته المطهرة، ما قاله الشيخ أحمد الصاوي، في حاشيته على الجلالين، في سورة الكهف وآل عمران واغتر بقوله في ذلك، خلق لا يحصى من المتسمين، باسم طلبة العلم، لكونهم لا يميزون بين حق وباطل.
264

فقد قال الصاوي أحمد المذكور في الكلام على قوله تعالى: * (ولا تقولن لشىء إنى فاعل ذالك غدا) *، بعد أن ذكر الأقوال في انفصال الاستثناء عن المستثنى منه بزمان، ما نصه: وعامة المذاهب الأربعة على خلاف ذلك كله فإن شرط حل الأيمان بالمشيئة أن تتصل، وأن يقصد بها حل اليمين، ولا يضر الفصل بتنفس أو سعال أو عطاس، ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة، ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية، فالخارج عن المذاهب الأربعة، ضال مضل وربما أداة ذلك للكفر، لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر. ا ه. منه بلفظه.
فانظر يا أخي رحمك الله، ما أشنع هذا الكلام وما أبطله، وما أجرأ قائله على الله، وكتابه وعلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه * (سبحانك هاذا بهتان عظيم) *.
أما قوله بأنه لا يجوز الخروج عن المذاهب الأربعة، ولو كانت أقوالهم مخالفة للكتاب والسنة، وأقوال الصحابة فهو قول باطل بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضي الله عنهم وإجماع الأئمة الأربعة أنفسهم، كما سنرى إيضاحه إن شاء الله بما لا مزيد عليه في المسائل الآتية بعد هذه المسألة. فالذي ينصره هو الضال المضل.
وأما قوله: إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة، من أصول الكفر، فهذا أيضا من أشنع
265

الباطل وأعظمه، وقائله من أعظم الناس انتهاكا لحرمة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، * (سبحانك هاذا بهتان عظيم) *.
والتحقيق الذي لا شك فيه، وهو الذي كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعامة علماء المسلمين أنه لا يجوز العدول عن ظاهر كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال من الأحوال بوجه من الوجوه، حتى يقوم دليل صحيح شرعي صارف عن الظاهر إلى المحتمل المرجوح.
والقول بأن العمل بظاهر الكتاب والسنة من أصول الكفر لا يصدر البتة عن عالم بكتاب الله وسنة رسوله وإنما يصدر عمن لا علم له بالكتاب والسنة أصلا، لأنه لجهله بهما يعتقد ظاهرهما كفرا والواقع في نفس الأمر أن ظاهرهما بعيد مما ظنه أشد من بعد الشمس من اللمس.
ومما يوضح لك ذلك أن آية الكهف هذه، التي ظن الصاوي أن ظاهرها حل الأيمان بالتعليق بالمشيئة المتأخر وزمنها عن اليمين وأن ذلك مخالف للمذاهب الأربعة: وبنى على ذلك أن العمل بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر كله باطل لا أساس له.
وظاهر الآية بعيد مما ظن بل الظن الذي ظنه والزعم الذي زعمه لا تشير الآية إليه أصلا، ولا تدل عليه لا بدلالة المطابقة، ولا التضمن ولا الالتزام. فضلا على أن تكون ظاهرة فيه.
وسبب نزولها يزيد ذلك إيضاحا، لأن سبب نزول الآية أن الكفار سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين فقال لهم سأخبركم غدا، ولم يقل إن شاء الله فعاتبه ربه بعدم تفويض الأمر إليه، وعدم تعليقه بمشيئته جل وعلا فتأخر عنه الوحي.
ثم علمه الله في الآية والأدب معه في قوله: * (ولا تقولن لشىء إنى فاعل ذالك غدا إلا أن يشآء الله) *.
ثم قال لنبيه * (واذكر ربك إذا نسيت) * (الكهف: 42) يعني إن قلت سأفعل كذا غدا، ثم نسيت أن تقول إن شاء الله، ثم تذكرت بعد ذلك، فاذكر ربك، أي قل إن شاء الله، أي لتتدارك بذلك الأدب، مع الله الذي فاتك عند وقته، بسبب النسيان وتخرج من عهدة النهي في قوله تعالى * (ولا تقولن لشىء إنى فاعل ذالك غدا إلا أن يشآء الله) *.
266

والتعليق بهذه المشيئة المتأخرة لأجل المعنى المذكور، الذي هو ظاهر الآية الصحيح لا يخالف مذهبا من المذاهب الأربعة ولا غيرهم، وهو التحقيق في مراد ابن عباس بما ينقل عنه من جواز تأخير الاستثناء كما أوضحه كبير المفسرين. أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله.
وقد قدمنا إيضاحه في الكلام على آية الكهف هذه. فيا أتباع الصاوي المقلدين له تقليدا أعمى على جهالة عمياء، أين دل ظاهر آية الكهف هذه، على اليمين بالله، أو بالطلاق أو بالعتق أو بغير ذلك من الأيمان؟
هل النبي صلى الله عليه وسلم حلف لما قال للكفار: سأخبركم غدا؟
وهل قال الله: ولا تقولن لشيء إني حالف سأفعل ذلك غدا؟
ومن أين جئتم باليمين، حتى قلتم إن ظاهر القرآن، هو حل الأيمان بالمشيئة المتأخرة عنها، وبنيتم على ذلك أن ظاهر الآية مخالف لمذاهب الأئمة الأربعة، وأن العمل بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر؟
ومما يزيد ما ذكرنا إيضاحا ما قاله الصاوي أيضا في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى: * (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغآء الفتنة وابتغآء تأويله وما يعلم تأويله) * فإنه قال على كلام الجلال ما نصه: زيغ أي ميل عن الحق للباطل، قوله: بوقوعهم في الشبهات واللبس، أي كنصارى نجران، ومن حذا حذوهم ممن أخذ بظاهر القرآن، فإن العلماء ذكروا أن من أصول الكفر الأخذ بظواهر الكتاب والسنة ا ه.
فانظر رحمك الله، ما أشنع هذا الكلام وما أبطله وما أجرأ قائله على انتهاك حرمات الله، وكتابه ونبيه وسنته صلى الله عليه وسلم، وما أدله على أن صاحبه لا يدري ما يتكلم به. فإنه جعل ما قاله نصارى نجران، هو ظاهر كتاب الله، ولذا جعل مثلهم من حذا حذوهم فأخذ بظاهر القرآن.
وذكر أن العلماء قالوا إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر مع أنه لا يدري وجه ادعاء نصارى نجران على ظاهر القرآن أنه كفر، مع أنه مسلم أن ادعاءهم على ظاهر القرآن أنه كفرهم ومن حذا حذوهم ادعاء صحيح إلا أن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر.
267

وقد قال قبل هذا: قيل سبب نزولها أن وفد نجران قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ألست تقول: إن عيسى روح الله وكلمته؟ فقال نعم، فقالوا حسبنا، أي كفانا ذلك في كونه ابن الله. فنزلت الآية.
فاتضح أن الصاوي يعتقد أن ادعاء نصارى نجران أن ظاهر قوله تعالى: * (وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) * هو أن عيسى ابن الله ادعاء صحيح، وبنى على ذلك أن العلماء قالوا إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر.
وهذا كله من أشنع الباطل وأعظمه، فالآية لا يفهم من ظاهرها البتة، بوجه من الوجوه، ولا بدلالة من الدلالات، أن عيسى ابن الله، وادعاء نصارى نجران ذلك كذب بحت.
فقول الصاوي كنصارى نجران، ومن حذا حذوهم ممن أخذ بظواهر القرآن صريح في أنه يعتقد أن ما ادعاه وفد نجران من كون عيسى ابن الله هو ظاهر القرآن اعتقاد باطل باطل باطل، حاشا القرآن العظيم من أن يكون هذا الكفر البواح ظاهره، بل هو لا يدل عليه البتة فضلا عن أن يكون ظاهره وقوله: * (وروح منه) * كقوله تعالى: * (وسخر لكم ما فى السماوات وما فى الا رض جميعا منه) * أي كل ذلك من عيسى ومن تسخير السماوات والأرض مبدؤه ومنشؤه جل وعلا.
فلفظة من في الآيتين لابتداء الغاية، وذلك هو ظاهر القرآن وهو الحق خلافا لما زعمه الصاوي وحكاه عن نصارى نجران.
وقد اتضح بما ذكرنا أن الذين يقولون: إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر لا يعلمون ما هي الظواهر وأنهم يعتقدون شيئا ظاهر النص. والواقع أن النص لا يدل عليه بحال من الأحوال فضلا عن أن يكون ظاهره.
فبنوا باطلا على باطل، ولا شك أن الباطل لا يبنى عليه إلا الباطل.
ولو تصوروا معاني ظواهر الكتاب والسنة على حقيقتها لمنعهم ذلك، من أن يقولوا ما قالوا.
فتصور الصاوي، أن ظاهر الآية الكهف المتقدمة، هو حل الأيمان، بالتعليق بالمشيئة
268

المتأخر زمنها عن اليمين، وبناؤه على ذلك مخالفة ظاهر الآية لمذاهب الأئمة الأربعة، وأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر، مع أن الآية لا تشير أصلا إلى ما اعتقد أنه ظاهرها.
وكذلك اعتقاده أن ظاهر آية آل عمران المذكورة هو ما زعمه نصارى نجران، من أن عيسى ابن الله فإنه كله باطل وليس شيء مما زعم ظاهر القرآن مطلقا، كما لا يخفى على عاقل.
وقول الصاوي في كلامه المذكور في سورة آل عمران: إن العلماء قالوا: إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر. قول باطل لا يشك في بطلانه من عنده أدنى معرفة.
ومن هم العلماء الذين قالوا إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر؟
سموهم لنا، وبينوا لنا من هم؟
والحق الذي لا شك فيه أن هذا القول لا يقوله عالم، ولا متعلم، لأن ظواهر الكتاب والسنة هي نور الله الذي أنزله على رسوله ليستضاء به في أرضه وتقام به حدوده، وتنفذ به أوامره، وينصف به بين عباده في أرضه.
والنصوص القطعية التي لا احتمال فيها قليلة جدا لا يكاد يوجد منها إلا أمثلة قليلة جدا كقوله تعالى: * (فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة) *.
والغالب الذي هو الأكثر هو كون نصوص الكتاب والسنة ظواهر.
وقد أجمع جميع المسلمين على أن العمل بالظاهر واجب حتى يرد دليل شرعي صارف عنه، إلى المحتمل المرجوح، وعلى هذا كل من تكلم في الأصول.
فتنفير الناس وإبعادها عن كتاب الله، وسنة رسوله، بدعوى أن الأخذ بظواهرهما من
269

أصول الكفر هو من أشنع الباطل وأعظمه كما ترى.
وأصول الكفر يجب على كل مسلم أن يحذر منها كل الحذر، ويتباعد منها كل التباعد ويتجنب أسبابها كل الاجتناب، فيلزم على هذا القول المنكر الشنيع وجوب التباعد من
الأخذ بظواهر الوحي.
وهذا كما ترى، وبما ذكرنا يتبين أن من أعظم أسباب الضلال، ادعاء أن ظواهر الكتاب والسنة دالة على معان قبيحة، ليست بلائقة.
والواقع في نفس الأمر بعدها وبراءتها من ذلك.
وسبب تلك الدعوى الشنيعة على ظواهر كتاب الله، وسنة رسوله، هو عدم معرفة مدعيها.
ولأجل هذه البلية العظمى، والطامة الكبرى، زعم كثير من النظار الذين عندهم فهم، أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها، غير لائقة بالله، لأن ظواهرها المتبادرة منها هو تشبيه صفات الله بصفات خلقه، وعقد ذلك المقري في إضاءته في قوله: ولأجل هذه البلية العظمى، والطامة الكبرى، زعم كثير من النظار الذين عندهم فهم، أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها، غير لائقة بالله، لأن ظواهرها المتبادرة منها هو تشبيه صفات الله بصفات خلقه، وعقد ذلك المقري في إضاءته في قوله:
* والنص إن أوهم غير اللائق
* بالله كالتشبيه بالخلائق
*
* فاصرفه عن ظاهره إجماعا
* واقطع عن الممتنع الأطماعا
*
وهذه الدعوى الباطلة، من أعظم الافتراء على آيات الله تعالى، وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم.
والواقع في نفس الأمر أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها المتبادرة منها، لكل مسلم راجع عقله، هي مخالفة صفات الله لصفات خلقه. ولا بد أن نتساءل هنا فنقول:
أليس الظاهر المتبادر مخالفة الخالق للمخلوق، في الذات والصفات والأفعال؟
والجواب الذي لا جواب غيره: بلى.
وهل تشابهت صفات الله مع صفات خلقه حتى يقال إن اللفظ الدال على صفته
270

تعالى ظاهره المتبادر منه تشبيهه بصفة الخلق؟
والجواب الذي لا جواب غيره: لا.
فبأي وجه يتصور عاقل أن لفظا أنزله الله في كتابه، مثلا دالا على صفة من صفات الله أثنى بها تعالى على نفسه، يكون ظاهره المتبادر منه، مشابهته لصفة الخلق؟ * (سبحانك هاذا بهتان عظيم) *.
فالخالق والمخلوق متخالفان كل التخالف وصفاتهما متخالفة كل التخالف.
فبأي وجه يعقل دخول صفة المخلوق في اللفظ الدال على صفة الخالق؟ أو دخول صفة الخالق في اللفظ الدال على صفة المخلوق مع كمال المنافاة بين الخالق والمخلوق؟
فكل لفظ دل على صفة الخالق ظاهره المتبادر منه أن يكون لائقا بالخالق منزها عن مشابهة صفات المخلوق.
وكذلك اللفظ الدال على صفة المخلوق لا يعقل أن تدخل فيه صفة الخالق.
فالظاهر المتبادر من لفظ اليد بالنسبة للمخلوق، هو كونها جارحة هي عظم ولحم ودم، وهذا هو الذي يتبادر إلى الذهن في نحو قوله تعالى: * (فاقطعوا أيديهما) *.
والظاهر المتبادر من اليد بالنسبة للخالق في نحو قوله تعالى: * (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى) * أنها صفه كمال وجلال، لائقة بالله جل وعلا ثابتة له على الوجه اللائق بكماله وجلاله.
وقد بين جل وعلا عظم هذه الصفة وما هي عليه من الكمال والجلال، وبين أنها من صفات التأثير كالقدرة، قال تعالى في تعظيم شأنها * (وما قدروا الله حق قدره والا رض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون) *.
271

وبين أنها صفة تأثير كالقدرة، في قوله تعالى: * (قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى) *، فتصريحه تعالى بأنه خلق نبيه آدم بهذه الصفة العظيمة التي هي صفات كماله وجلاله يدل على أنها من صفات التأثير كما ترى.
ولا يصح هنا تأويل اليد بالقدرة البتة، لإجماع أهل الحق والباطل، كلهم على أنه لا يجوز تثنية القدرة.
ولا يخطر في ذهن المسلم المراجع عقله، دخول الجارحة التي هي عظم ولحم ودم في معنى هذا اللفظ، الدال على هذه الصفة العظيمة، من صفات خالق السماوات والأرض.
فاعلم أيها المدعي أن ظاهر لفظ اليد في الآية المذكورة وأمثالها، لا يليق بالله، لأن ظاهرها التشبيه بجارحة الإنسان، وأنها يجب صرفها، عن هذا الظاهر الخبيث، ولم تكتف بهذا حتى ادعيت الإجماع على صرفها عن ظاهرها. إن قولك هذا كله افتراء عظيم على الله تعالى، وعلى كتابه العظيم، وإنك بسبه كنت أعظم المشبهين
والمجسمين، وقد جرك شؤم هذا التشبيه، إلى ورطة التعطيل، فنفيت الوصف الذي أثبته الله في كتابه لنفسه بدعوى أنه لا يليق به، وأولته بمعنى آخر من تلقاء نفسك بلا مستند من كتاب ولا سنة ولا إجماع، ولا قول أحد من السلف.
وماذا عليك لو صدقت الله وآمنت بما مدح به نفسه على الوجه اللائق بكماله وجلاله من غير كيف ولا تشبيه ولا تعطيل؟
وبأي موجب سوغت لذهنك أن يخطر فيه صفة المخلوق عند ذكر صفة الخالق؟
هل تلتبس صفة الخالق بصفة المخلوق عن أحد؟ حتى يفهم صفة المخلوق من اللفظ الدال على صفة الخالق؟
فاخش الله يا إنسان، واحذر من التقول على الله بلا علم، وآمن بما جاء في كتاب الله مع تنزيه الله عن مشابهة خلقه.
واعلم أن الله الذي أحاط علمه بكل شيء لا يخفى عليه الفرق بين الوصف اللائق به والوصف غير اللائق به، حتى يأتي إنسان فيتحكم في ذلك فيقول: هذا الذي وصفت به
272

نفسك غير لائق بك، وأنا أنفيه عنك بلا مستند منك ولا من رسولك، وآتيك بدله بالوصف اللائق بك.
فاليد مثلا التي وصفت بها نفسك لا تليق بك لدلالتها على التشبيه بالجارحة، وأنا أنفيها عنك نفيا باتا، وأبدلها لك بوصف لائق بك وهو النعمة أو القدرة مثلا أو الجود.
* (سبحانك هاذا بهتان عظيم) *.
* (فاتقوا الله ياأولى الألباب الذين ءامنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم ءايات الله مبينات ليخرج الذين ءامنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور) *.
ومن الغريب أن بعض الجاحدين لصفات الله المؤولين لها بمعان لم ترد عن الله ولا عن رسوله يؤمنون فيها ببعض الكتاب دون بعض.
فيقرون بأن الصفات السبع التي تشتق منها أوصاف ثابتة لله مع التنزيه، ونعني بها القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام، لأنها يشتق منها قادر حي عليم إلخ. وكذلك في بعض الصفات الجامعة كالعظمة والكبرياء والملك والجلال مثلا، لأنها يشتق منها العظيم المتكبر والجليل والملك، وهكذا يجحدون كل صفة ثبتت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لم يشتق منها غيرها كصفة اليد والوجه ونحو ذلك، ولا شك أن هذا التفريق بين صفات الله التي أثبتها لنفسه أو أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم لا وجه له البتة بوجه من الوجوه.
ولم يرد عن الله ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم الإذن في الإيمان ببعض صفاته وجحد بعضها، وتأويله لأنها لا يشتق منها.
وهل يتصور عاقل أن يكون عدم الاشتقاق مسوغا لجحد ما وصف الله به نفسه؟
ولا شك عند كل مسلم راجع عقله، أن عدم الاشتقاق لا يرد به كلام الله، فيما أثنى به على نفسه، ولا كلام رسوله فيما وصف به ربه.
والسبب الموجب للإيمان إيجابا حتما كليا هو كونه من عند الله، وهذا السبب هو الذي علم الراسخون في العلم أنه الموجب للإيمان بكل ما جاء عن الله سواء استأثر الله
273

بعلمه كالمتشابه، أو كان مما يعلمه الراسخون في العلم كما قال الله عنهم: * (والراسخون في العلم يقولون ءامنا به كل من عند ربنا) *.
فلا شك أن قوله تعالى: * (لما خلقت بيدى) * من عند ربنا. وقوله تعالى: * (والله على كل شيء قدير) * من عند ربنا أيضا، فيجب علينا الإيمان بالجميع، لأنه كله من عند ربنا.
أما الذي يفرق بينه، وهو عالم بأن كله من عند ربه، بأن هذا يشتق منه، وهذا لا يشتق منه فقد آمن ببعض الكتاب دون بعض.
والمقصود أن كلما جاء من عند الله، يجب الإيمان به سواء كان من المتشابه، أو من غير المتشابه، وسواء كان يشتق منه أو لا.
ومعلوم أن مالكا رحمه الله سئل كيف استوى، فقال الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول، والإيمان به واجب.
وما يزعمه بعضهم من أن القدرة والإرادة مثلا ونحوهما ليست كاليد، والوجه، بدعوى أن القدرة والإرادة مثلا ظهرت آثارهما في العالم العلوي والسفلي بخلاف غيرهما كصفة اليد ونحوها فهو من أعظم الباطل.
ومما يوضح ذلك أن الذي يقوله هو وأبوه وجده من آثار صفة اليد التي خلق الله بها نبيه آدم.
ونحن نرجو أن يغفر الله تعالى للذين ماتوا على هذا الاعتقاد، لأنهم لا يقصدون تشبيه الله بخلقه، وإنما يحاولون تنزيهه عن مشابهة خلقه.
فقصدهم حسن ولكن طريقهم إلى ذلك القصد سيئة.
وإنما نشأ لهم ذلك السوء بسبب أنهم ظنوا لفظ الصفة التي مدح الله بها نفسه يدل ظاهره على مشابهة صفة الخلق فنفوا الصفة التي ظنوا أنها لا تليق قصدا منهم لتنزيه الله، وأولوها بمعنى آخر يقتضي التنزيه في ظنهم فهم كما قال الشافعي رحمه الله: وإنما نشأ لهم ذلك السوء بسبب أنهم ظنوا لفظ الصفة التي مدح الله بها نفسه يدل ظاهره على مشابهة صفة الخلق فنفوا الصفة التي ظنوا أنها لا تليق قصدا منهم لتنزيه الله، وأولوها بمعنى آخر يقتضي التنزيه في ظنهم فهم كما قال الشافعي رحمه الله:
* رام نفعا فضر من غير قصد
* ومن البر ما يكون عقوقا
*
ونحن نرجو أن يغفر الله لهم خطأهم، وأن يكونوا داخلين في قوله تعالى: * (وليس
274

عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولاكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما) *.
وخطؤهم المذكور لا شك فيه، ولو وفقهم الله لتطهير قلوبهم من التشبيه أولا، وجزموا بأن ظاهر صفة الخالق هو التنزيه عن مشابهة صفة المخلوق، لسلموا مما وقعوا فيه.
ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم، عالم كل العلم، بأن الظاهر المتبادر، مما مدح الله به نفسه، في آيات الصفات هو التنزيه التام عن صفات الخلق، ولو كان يخطر في ذهنه أن ظاهره لا يليق، لأنه تشبيه بصفات الخلق، لبادر كل المبادرة إلى بيان ذلك، لأنه لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، ولا سيما في العقائد، ولا سيما فيما ظاهره الكفر والتشبيه.
فسكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن بيان هذا يدل على أن ما زعمه المؤلون لا أساس له كما ترى.
فإن قيل: إن هذا القرآن العظيم، نزل بلسان عربي مبين، والعرب لا تعرف في لغتها، كيفية لليد مثلا، إلا كيفية المعاني المعروفة عندها كالجارحة، وغيرها من معاني اليد المعروفة في اللغة، فبينوا لنا كيفية لليد ملائمة لما ذكرتم.
فالجواب من وجهين:
الوجه الأول: أن العرب لا تدرك كيفيات صفات الله من لغتها، لشدة منافاة صفة الله لصفة الخلق.
والعرب لا تعرف عقولهم كيفيات إلا لصفات الخلق، فلا تعرف العرب كيفية للسمع والبصر، إلا هذه المشاهدة، في حاسة الأذن والعين، أما سمع لا يقوم بإذن وبصر لا يقوم بحدقة، فهذا لا يعرفون له كيفية البتة.
فلا فرق بين السمع والبصر، وبين اليد والاستواء، فالذي تعرف كيفيته العرب من لغتها من جميع ذلك، هو المشاهد في المخلوقات.
275

وأما الذي اتصف الله به من ذلك، فلا تعرف له العرب كيفية، ولا حدا لمخالفة صفاته لصفات الخلق، إلا أنهم يعرفون من لغتهم أصل المعنى، كما قال الإمام مالك رحمه الله: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
كما يعرفون من لغتهم، أن بين الخالق والمخلوق، والرزق والمرزوق، والمحيي والمحيا، والمميت والممات. فوارق عظية لا حد لها، تستلزم المخالفة، التامة، بين صفات الخالق والمخلوق.
الوجه الثاني: أن نقول لمن قال: بينوا لنا كيفية لليد ملائمة لما ذكرتم، من كونها صفة كمال، وجلال، منزهة عن مشابهة جارحة المخلوق.
هل عرفت كيفية الذات المقدسة المتصفة باليد، فلا بد أن يقول: لا. فإن قال ذلك.
قلنا: معرفة كيفية الصفات تتوقف على معرفة كيفية الذات.
فالذات والصفات من باب واحد.
فكما أن ذاته جل وعلا تخالف جميع الذوات، فإن صفاته تخالف جميع الصفات.
ومعلوم أن الصفات، تختلف وتتباين، باختلاف موصوفاتها.
ألا ترى مثلا أن لفظة رأس كلمة واحدة؟
إن أضفتها إلى الإنسان فقلت رأس الإنسان، وإلى الوادي فقلت رأس الوادي، وإلى المال فقلت رأس المال، وإلى الجبل فقلت رأس الجبل.
فإن كلمة الرأس اختلفت معانيها، وتباينت تباينا، شديدا بحسب اختلاف إضافتها مع أنها في مخلوقات حقيرة.
276

فما بالك بما أضيف من الصفات إلى الله وما أضيف منها إلى خلقه، فإنه يتباين كتباين الخالق والمخلوق، كما لا يخفى.
فاتضح بما ذكر أن الشرط في قول المقري في إضاءته: * والنص إن أوهم غير اللائق
شرط مفقود قطعا، لأن نصوص الوحي الواردة في صفات الله، لا تدل ظواهرها البتة، إلا على تنزيه الله، ومخالفته لخلقه في الذات والصفات والأفعال.
فكل المسلمين، الذين يراجعون عقولهم، لا يشك أحد منهم في أن الظاهر المتبادر السابق إلى ذهن المسلم، هو مخالفة الله لخلقه، كما نص عليه بقوله * (ليس كمثله شىء) * وقوله * (ولم يكن له كفوا أحد) * ونحو ذلك من الآيات، وبذلك تعلم أن الإجماع الذي بناه على ذلك في قوله: * فاصرفه عن ظاهره إجماعا
إجماع مفقود أصلا، ولا وجود له البتة، لأنه مبني على شرط مفقود لا وجود له البتة.
فالإجماع المعدوم المزعوم لم يرد في كتاب الله، ولا في سنة رسوله، ولم يقله أحد من أصحاب رسول الله، ولا من تابعيهم ولم يقله أحد من الأئمة الأربعة، ولا من فقهاء الأمصار المعروفين.
وإنما لم يقولوا بذلك لأنهم يعلمون أن ظواهر نصوص الوحي لا تدل إلا على تنزيه الله عن مشابهة خلقه، وهذا الظاهر الذي هو تنزيه الله لا داعي لصرفها عنه كما ترى.
ولأجل هذا كله قلنا في مقدمة هذا الكتاب المبارك، إن الله تبارك وتعالى موصوف
277

بتلك الصفات حقيقة لا مجازا، لأنا نعتقد اعتقادا جازما لا يتطرق إليه شك، أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها، لا تدل البتة إلا على التنزيه عن مشابهة الخلق واتصافه
تعالى بالكمال والجلال.
وإثبات التنزيه والكمال والجلال لله حقيقة لا مجازا لا ينكره مسلم.
ومما يدعو إلى التصريح بلفظ الحقيقة، ونفي المجاز، كثرة الجاهلين الزاعمين أن تلك الصفات لا حقائق لها، وأنها كلها مجازات.
وجعلوا ذلك طريقا إلى نفيها، لأن المجاز يجوز نفيه، والحقيقة لا يجوز نفيها.
فقالوا مثلا: اليد مجاز يراد به القدرة والنعمة أو الجود، فنفوا صفة اليد، لأنها مجاز.
وقالوا على العرش استوى: مجاز فنفوا الاستواء، لأنه مجاز.
وقالوا: معنى استوى: استولى، وشبهوا استيلاءه باستيلاء بشر بن مروان على العراق.
ولو تدبروا كتاب الله، لمنعهم ذلك من تبديل الاستواء بالاستيلاء، وتبديل اليد بالقدرة، أو النعمة، لأن الله جل وعلا يقول في محكم كتابه في سورة البقرة * (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السمآء بما كانوا يفسقون) *. ويقول في الأعراف * (فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذى قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السمآء بما كانوا يظلمون) * فالقول الذي قاله الله لهم، هو قوله حطة، وهي فعلة من الحط بمعنى الوضع خبر مبتدأ محذوف أي دعاؤنا ومسألتنا لك حطة لذنوبنا أي حط ووضع لها عنا فهي بمعنى طلب المغفرة، وفي بعض روايات الحديث في شأنهم أنهم بدلوا هذا القول بأن زادوا نونا فقط فقالوا حنطة وهي القمح.
وأهل التأويل قيل لهم على العرش استوى.
فزادوا لا ما فقالوا استولى.
278

وهذه اللام التي زادوها أشبه شيء بالنون التي زادها اليهود في قوله تعالى * (وقولوا حطة) *. ويقول الله جل وعلا في منع تبديل القرآن بغيره: * (قل ما يكون لى أن أبدله من تلقآء نفسى إن أتبع إلا ما يوحى إلى إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم) *.
ولا شك أن من بدل استوى باستولى مثلا لم يتبع ما أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فعليه أن يجتنب التبديل ويخاف العذاب العظيم، الذي خافه رسول الله صلى الله عليه وسلم لو عصا الله فبدل قرآنا بغيره المذكور في قوله * (إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم) *.
واليهود لم ينكروا أن اللفظ الذي قاله الله لهم: هو لفظ حطة ولكنهم حرفوه بالزيادة المذكورة.
وأهل هذه المقالة، لم ينكروا أن كلمة القرآن هي استوى، ولكن حرفوها وقالوا في معناها استولى وإنما أبدلوها بها، لأنها أصلح في زعمهم من لفظ كلمة القرآن، لأن كلمة القرآن توهم غير اللائق، وكلمة استولى في زعمهم هي المنزهة اللائقة بالله مع أنه لا يعقل تشبيه أشنع من تشبيه استيلاء الله على عرشه المزعوم، باستيلاء بشر على العراق.
وهل كان أحد يغالب الله على عرشه حتى غلبه على العرش، واستولى عليه؟
وهل يوجد شيء إلا والله مستول عليه، فالله مستول على كل شيء.
وهل يجوز أن يقال إنه تعالى استوى على كل شيء غير العرش؟
فافهم.
279

وعلى كل حال، فإن المؤول، زعم أن الاستواء يوهم غير اللائق بالله لاستلزامه مشابهة استواء الخلق، وجاء بدله بالاستيلاء، لأنه هو اللائق به في زعمه، ولم ينتبه.
لأن تشبيه استيلاء الله على عرشه باستيلاء بشر بن مروان على العراق هو أفظع أنواع التشبيه، وليس بلائق قطعا، إلا أنه يقول: إن الاستيلاء المزعوم منزه، عن مشابهة استيلاء الخلق، مع أنه ضرب له المثل باستيلاء بشر على العراق والله يقول * (فلا تضربوا لله الا مثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون) *.
ونحن نقول: أيها المؤول هذا التأويل، نحن نسألك إذا علمت أنه لا بد من تنزيه أحد اللفظين أعني لفظ * (استوى) * الذي أنزل الله به الملك على النبي صلى الله عليه وسلم قرآنا يتلى، كل حرف منه عشر حسنات ومن أنكر أنه من كتاب الله كفر.
ولفظة استولى التي جاء بها قوم من تلقاء أنفسهم من غير استناد إلى نص من كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قول أحد من السلف.
فأي الكلمتين أحق بالتنزيه في رأيك. الأحق بالتنزيه كلمة القرآن، المنزلة من الله على رسوله، أم كلمتكم التي جئتم بها، من تلقاء أنفسكم، من غير مستند أصلا؟
ونحن لا يخفى علينا الجواب الصحيح، عن هذا السؤال إن كنت لا تعرفه.
واعلم أنما ذكرنا من أن ما وصف الله به نفسه من الصفات، فهو موصوف به حقيقة لا مجازا، على الوجه اللائق بكماله وجلاله.
وأنه لا فرق البتة بين صفة يشتق منها وصف، كالسمع والبصر والحياة.
وبين صفة لا يشتق منها كالوجه واليد.
وأن تأويل الصفات كتأويل الاستواء بالاستيلاء لا يجوز ولا يصح.
هو معتقد أبي الحسن الأشعري رحمه الله.
وهو معتقد عامة السلف، وهو الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
فمن ادعى على أبي الحسن الأشعري، أنه يؤول صفة من الصفات، كالوجه واليد والاستواء، ونحو ذلك فقد افترى عليه افتراء عظيما.
280

بل الأشعري رحمه الله مصرح في كتبه العظيمة التي صنفها بعد رجوعه عن الاعتزال، (كالموجز)، (ومقالات الإسلاميين واختلاف المصلين)، (والإبانة عن أصول الديانة) أن معتقده الذي يدين الله به هو ما كان عليه السلف الصالح من الإيمان بكل ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وإثبات ذلك كله من غير كيف ولا تشبيه ولا تعطيل.
وأن ذلك لا يصح تأويله ولا القول بالمجاز فيه.
وأن تأويل الاستواء بالاستيلاء هو مذهب المعتزلة ومن ضاهاهم.
وهو أعلم الناس بأقوال المعتزلة لأنه كان أعظم إمام في مذهبهم، قبل أن يهديه الله إلى الحق، وسنذكر لك هنا بعض نصوص أبي الحسن الأشعري رحمه الله لتعلم صحة ما ذكرنا عنه.
قال رحمه الله (في كتاب الإبانة عن أصول الديانة)، الذي قال غير واحد أنه آخر كتاب صنفه، ما نصه:
فإن قال لنا قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة، والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون قيل له:
قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها، التمسك بكتاب ربنا عز وجل وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث.
ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل نصر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون.
لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان به الحق ورفع به الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين وشك الشاكين. فرحمة الله عليه من إمام مقدم وخليل معظم مفخم، وعلى جميع أئمة المسلمين.
وجملة قولنا: أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرد من ذلك شيئا.
وأن الله عز وجل إله واحد لا إله إلا هو فرد صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن
281

محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، وأن الجنة حق، وأن النار حق، والساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور.
وأن الله استوى على عرشه كما قال * (الرحمان على العرش استوى) * وأن له وجها كما قال: * (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) *. وأن له يدين بلا كيف كما قال * (خلقت بيدى) * وكما قال * (بل يداه مبسوطتان) *، وأن له عينان بلا كيف كما قال: * (تجرى بأعيننا) * ا ه. محل الغرض منه بلفظه.
وبه تعلم أن من يفتري على الأشعري أنه من المؤولين المدعين أن ظاهر آيات الصفات وأحاديثها لا يليق الله كاذب عليه كذبا شنيعا.
وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري في كتاب الإبانة أيضا في إثبات الاستواء لله تعالى ما نصه:
إن قال قائل ما تقولون في الاستواء؟ قيل له نقول: إن الله عز وجل مستو على عرشه كما قال: * (الرحمان على العرش استوى) *. وقد قال الله عز وجل: * (إليه يصعد الكلم الطيب) * وقد قال: * (بل رفعه الله إليه) *. قال عز وجل * (يدبر الا مر من السمآء إلى الا رض ثم يعرج إليه) *. وقال حكاية عن فرعون: * (ياهامان ابن لى صرحا لعلى أبلغ الا سباب أسباب السماوات فأطلع إلى إلاه موسى وإنى لاظنه كاذبا) *.
فكذب فرعون نبي الله موسى عليه السلام في قوله: (إن الله عز وجل فوق السماوات). وقال عز وجل: * (أءمنتم من فى السمآء أن يخسف بكم الا رض) *.
فالسماوات فوقها العرش، فلما كان العرش فوق السماوات: قال * (أءمنتم من فى السمآء) * لأنه مستو على العرش الذي فوق السماوات، وكل ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السماوات. هذا لفظ أبي الحسن الأشعري رحمه الله في كتاب الإبانة المذكور.
وقد أطال رحمه الله في الكلام بذكر الأدلة القرآنية، في إثبات صفة الاستواء، وصفة العلو لله جل وعلا.
ومن جملة كلامه المشار إليه ما نصه:
282

وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية: إن قول الله عز وجل * (الرحمان على العرش استوى) * أنه استولى وملك وقهر، وأن الله عز وجل في كل مكان. وجحدوا أن يكون الله عز وجل على عرشه كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة.
ولو كان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض، فالله سبحانه قادر عليها وعلى الحشوش، وعلى كل ما في العالم.
فلو كان الله مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء وهو عز وجل مستول على الأشياء كلها لكان مستويا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأفراد، لأنه قادر على الأشياء مستول عليها.
وإذا كان قادرا على الأشياء كلها ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول:
إن الله عز وجل مستو على الحشوش والأخلية، لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها.
ووجب أن يكون معناه استواء يختص العرش دون الأشياء كلها.
وزعمت المعتزلة والحرورية والجهمية أن الله عز وجل في كل مكان فلزمهم أنه في بطن مريم وفي الحشوش والأخلية.
وهذا خلاف الدين، تعالى الله عن قولهم. ا ه.
هذا لفظ أبي الحسن الأشعري رحمه الله في آخر مصنفاته. وهو كتاب الإبانة عن أصول الديانة.
وتراه صرح رحمه الله بأن تأويل الاستواء بالاستيلاء هو قول المعتزلة والجهمية والحرورية لا قول أحد من أهل السنة وأقام البراهين الواضحة على بطلان ذلك.
فليعلم مؤولو الاستواء بالاستيلاء أن سلفه في ذلك المعتزلة والجهمية والحرورية، لا أبو الحسن الأشعري رحمه الله ولا أحد من السلف.
وقد أوضحنا في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: * (وهو الله فى السماوات وفى الا رض يعلم سركم وجهركم) *. أن قول الجهمية ومن تبعهم: إن الله في كل مكان قول باطل.
283

لأن جميع الأمكنة الموجودة، أحقر وأقل وأصغر، من أن يسع شيء منها خالق السماوات والأرض، الذي هو أعظم وأكبر من كل شيء، وهو محيط بكل شيء، ولا يحيط به شيء.
فانظر إيضاح ذلك في الأنعام.
واعلم أن ما يزعمه كثير من الجهلة، من أن ما في القرآن العظيم، من صفة الاستواء والعلو والفوقية، يستلزم الجهة، وأن ذلك محال على الله، وأنه يجب نفي الاستواء والعلو والفوقية، وتأويلها بما لا دليل عليه من المعاني كله باطل.
وسببه سوء الظن بالله وبكتابه، وعلى كل حال فمدعي لزوم الجهة لظواهر نصوص القرآن العظيم. واستلزام ذلك للنقص الموجب للتأويل يقال له:
ما مرادك بالجهة؟
إن كنت تريد بالجهة مكانا موجودا، انحصر فيه الله، فهذا ليس بظاهر القرآن، ولم يقله أحد من المسلمين.
وإن كنت تريد بالجهة العدم المحض.
فالعدم عبارة عن لا شيء.
فميز أولا، بين الشيء الموجود وبين لا شيء.
وقد قال أيضا أبو الحسن الأشعري رحمه الله في كتاب الإبانة أيضا ما نصه:
فإن سئلنا أتقولون إن لله يدين؟ قيل نقول ذلك، وقد دل عليه قوله عز وجل: * (يد الله فوق أيديهم) *. وقوله عز وجل: * (لما خلقت بيدى) *.
وأطال رحمه الله، الكلام في ذكر الأدلة من الكتاب والسنة على إثبات صفة اليدين لله.
ومن جملة ما قال ما نصه:
ويقال لهم: لم أنكرتم أن يكون الله عز وجل عني بقوله: * (يدى) * يدين ليستا نعمتين.
فإن قالوا: لأن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة.
284

قيل لهم: ولم قضيتم أن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة؟
فإن رجوعنا إلى شاهدنا، وإلى ما نجده فيما بيننا من الخلق؟
فقالوا: اليد إذا لم تكن نعمة في الشاهد لم تكن إلا جارحة.
قيل لهم: إن عملتم على الشاهد وقضيتم به على الله عز وجل فكذلك لم نجد حيا من الخلق، إلا جسما لحما ودما، فاقضوا بذلك على الله عز وجل.
وإلا فأنتم لقولكم متأولون ولاعتلالكم ناقضون.
وإن أثبتم حيا لا كالأحياء منا.
فلم أنكرتم أن تكون اليدان اللتان أخبر الله عز وجل عنهما، يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين ولا كالأيدي؟
وكذلك يقال لهم:
لم تجدوا مدبرا حكيما إلا إنسانا، ثم أثبتم أن للدنيا مدبرا حكيما، ليس كالإنسان، وخالفتم الشاهد ونقضتم اعتلالكم.
فلا تمنعوا من إثبات يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين، من أجل أن ذلك خلاف الشاهد ا ه. محل الغرض منه بلفظه.
وبه تعلم أن الأشعري رحمه الله، يعتقد أن الصفات التي أنكرها المؤولون كصفة اليد، من جملة صفات المعاني كالحياة ونحوها، وأنه لا فرق البتة بين صفة اليد وصفة الحياة فما اتصف الله به من جميع ذلك فهو منزه عن مشابهة ما اتصف به الخلق منه.
واللازم لمن شبه في بعض الصفات ونزه في بعضها أن يشبه في جميعها أو ينزه في جميعها، كما قاله الأشعري.
أما ادعاء ظهور التشبيه في بعضها دون بعض، فلا وجه له بحال من الأحوال، لأن الموصوف بها واحد، وهو منزه عن مشابهة صفات خلقه.
ومن جملة كلام أبي الحسن الأشعري رحمه الله المشار إليها آنفا في إثبات الصفات ما نصه:
285

فإن قال قائل: لم أنكرتم أن يكون قوله: * (مما عملت أيدينآ) * وقوله * (لما خلقت بيدى) * على المجاز؟.
قيل له: حكم كلام الله عز وجل أن يكون على ظاهره وحقيقته ولا يخرج الشيء عن ظاهره إلى المجاز إلا لحجة.
ألا ترون أنه إذا كان ظاهر الكلام العموم فإذا ورد بلفظ العموم، والمراد به الخصوص، فليس هو على حقيقة الظاهر؟
وليس يجوز أن يعدل بما ظاهره العموم عن العموم بغير حجة؟
كذلك قول الله عز وجل * (لما خلقت بيدى) * على ظاهره وحقيقته من إثبات اليدين، ولا يجوز أن يعدل به عن ظاهر اليدين إلى ما ادعاه خصومنا إلا بحجة.
ولو جاز ذلك لمدع أن يدعي أن ما ظاهره العموم، فهو على الخصوص، وما ظاهره الخصوص فهو على العموم بغير حجة.
وإذا لم يجز هذا لمدعيه بغير برهان، لم يجز لكم ما ادعيتموه، أنه مجاز بغير حجة.
بل واجب أن يكون قوله * (لما خلقت بيدى) * إثبات يدين لله تعالى في الحقيقة غير نعمتين إذا كانت النعمتان لا يجوز عند أهل اللسان أن يقول قائلهم: فعلت بيدي وهو يعني النعمتين. ا ه محل الغرض منه بلفظه.
وفيه تصريح أبي الحسن الأشعري رحمه الله، بأن صفات الله كصفة اليد ثابتة له حقيقة لا مجازا، وأن المدعين أنها مجازهم خصومه وهو خصمهم كما ترى.
وإنما قال رحمه الله: إنه تعالى متصف بها حقيقة لا مجازا، لأنه لا يشك في أن ظاهر صفة الله هو مخالفة صفة الخلق، وتنزيهها عن مشابهتها كما هو شأن السلف الصالح كلهم.
فإثبات الحقيقة ونفي المجاز في صفات الله هو اعتقاد كل مسلم طاهر القلب من أقذار التشبيه، لأنه لا يسبق إلى ذهنه من اللفظ الدال على الصفة كصفة اليد والوجه إلا أنها صفة كمال منزهة عن مشابهة صفات الخلق.
286

فلا يخطر في ذهنه التشبيه الذي هو سبب نفي الصفة وتأويلها بمعنى لا أصل له.
تنبيه مهم
فإن قيل دل الكتاب والسنة وإجماع السلف على أن الله وصف نفسه بصفة اليدين كقوله تعالى: * (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى) *. وقوله تعالى: * (بل يداه مبسوطتان) * وقوله تعالى: * (وما قدروا الله حق قدره والا رض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه) *.
والأحاديث الدالة على مثل ما دلت عليه الآيات المذكورة كثيرة، كما هو معلوم، وأجمع المسلمون على أنه جل وعلا، لا يجوز أن يوصف بصفة الأيدي مع أنه تعالى قال * (أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينآ أنعاما فهم لها مالكون) * فلم أجمع المسلمون على تقديم آية لما خلقت بيدي على آية مما عملت أيدينا؟
فالجواب: أنه لا خلاف بين أهل اللسان العربي ولا بين المسلمين أن صيغ الجموع تأتي لمعنيين أحدهما إرادة التعظيم فقط، فلا يدخل في صيغة الجمع تعدد أصلا، لأن صيغة الجمع المراد بها التعظيم، إنما يراد بها واحد.
والثاني أن يراد بصيغة الجمع معنى الجمع المعروف، وإذا علمت ذلك، فاعلم أن القرآن العظيم. يكثر فيه جدا إطلاق الله جل وعلا، على نفسه صيغة الجمع، يريد بذلك تعظيم نفسه، ولا يريد بذلك تعددا ولا أن معه غيره، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، كقوله تعالى * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) *.
فصيغة الجمع في قوله: * (إنا) * وفي قوله: * (نحن) * وفي قوله: * (نزلنا) * وقوله: * (لحافظون) * لا يراد بها أن معه منزلا للذكر، وحافظا له غيره تعالى.
بل هو وحده المنزل له والحافظ له، وكذلك قوله تعالى: * (أفرءيتم ما تمنون أءنتم تخلقونه أم نحن الخالقون) * وقوله * (أءنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون) *. وقوله: * (أءنتم أنشأتم شجرتهآ أم نحن المنشئون) *، ونحو هذا كثير في القرآن جدا، وبه تعلم أن صيغة الجمع في قوله: * (إنا) *. وفي قوله: (خلقنا) وفي قوله: * (عملت أيدينآ) * إنما يراد بها التعظيم، ولا يراد بها التعدد أصلا.
287

وإذا كان يراد بها التعظيم، لا التعدد علم بذلك أنها لا تصح بها معارضة قوله: * (لما خلقت بيدى) *، لأنها دلت على صفة اليدين، والجمع في قوله: * (أيدينآ) * لمجرد التعظيم.
وما كان كذلك لا يدل على التعدد فيطلب الدليل من غيره، فإن دل على أن المراد بالتعظيم واحد حكم بذلك، كالآيات المتقدمة.
وإن دل على معنى آخر حكم به.
فقوله مثلا: * (وإنا له لحافظون) * قام فيه البرهان القطعي أنه حافظ واحد، وكذلك قوله: * (أم نحن الخالقون) *، * (أم نحن المنزلون) *، * (أم نحن المنشئون) * فإنه قد قام في كل ذلك البرهان القطعي على أنه خالق واحد، ومنزل واحد، ومنشىء واحد.
وأما قوله: * (مما عملت أيدينآ) * فقد دل البرهان القطعي، على أن الله موصوف بصفة اليدين كما صرح به في قوله: * (لما خلقت بيدى) * كما تقدم إيضاحه قريبا.
وقد علمت أن صيغة الجمع في قوله: * (لحافظون) *، وقوله: * (أم نحن الخالقون) * وقوله: * (أم نحن المنزلون) * وقوله: * (أم نحن المنشئون) * وقوله: * (خلقنا لهم مما عملت أيدينآ) * لا يراد بشيء منه معنى الجمع، وإنما يراد به التعظيم فقط.
وقد أجاب أبو الحسن الأشعري رحمه الله في كتاب الإبانة بما يقرب من هذا في المعنى.
واعلم أن لفظ اليدين، قد يستعمل في اللغة العربية استعمالا خاصا، بلفظ خاص لا تقصد به في ذلك النعمة ولا الجارحة ولا القدرة، وإنما يراد به معنى أمام.
واللفظ المختص بهذا المعنى هو لفظة اليدين التي أضيفت إليها لفظة بين خاصة، أعني لفظة بين يديه، فإن المراد بهذه اللفظة أمامه. وهو استعمال عربي معروف مشهور في لغة العرب لا يقصد فيه معنى الجارحة ولا النعمة ولا القدرة، ولا أي صفة كائنة ما كانت.
288

وإنما يراد به أمام فقط كقوله تعالى: * (وقال الذين كفروا لن نؤمن بهاذا القرءان ولا بالذى بين يديه) * أي ولا بالذي كان أمامه سابقا عليه من الكتب.
وكقوله: * (ومصدقا لما بين يديه من التوراة) * أي مصدقا لما كان أمامه متقدما عليه من التوراة.
وكقوله: * (فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم) *، فالمراد بلفظ ما بين أيديهم ما أمامهم.
وكقوله تعالى: * (وهو الذى يرسل الرياح بشرى بين يدى رحمته) *، أي يرسل الرياح مبشرات أمام رحمته التي هي المطر، إلى غير ذلك من الآيات.
ومما يوضح لك ذلك أنه لا يمكن تأويل اليدين في ذلك بنعمتين ولا قدرتين ولا جارحتين. ولا غير ذلك من الصفات، فهذا أسلوب خاص دال على معنى خاص. بلفظ خاص مشهور، في كلام العرب فلا صلة له باللفظ الدال على الجارحة، بالنسبة إلى الإنسان ولا باللفظ الدال على صفة الكمال والجلال الثابتة لله تعالى. فافهم.
وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله في كتابه: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، الذي ذكر فيه أقوال جميع أهل الأهواء والبدع والمؤولين والنافين لصفات الله أو بعضها ما نصه:
جملة ما عليه أهل الحديث والسنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يردون من ذلك شيئا.
وأن الله سبحانه إله واحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الجنة حق وأن النار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله سبحانه على عرشه كما قال * (الرحمان على العرش استوى) * وأن له يدين بلا كيف كما قال: * (خلقت بيدى) *. وكما قال: * (بل يداه مبسوطتان) * إلى أن قال في كلامه هذا، بعد أن سرد مذهب أهل السنة والجماعة. ما نصه:
فهذه جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه
289

نذهب، وما توفيقنا إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وبه نستعين، وعليه نتوكل وإليه المصير، هذا لفظ أبي الحسن الأشعري رحمه الله في كتاب المقالات المذكور.
وبه تعلم أنه يؤمن بكل ما جاء عن الله في كتابه وما ثبت عن رسوله صلى الله عليه وسلم لا يرد من ذلك شيئا ولا ينفيه بل يؤمن به ويثبته لله، بلا كيف ولا تشبيه، كما هو مذهب أهل السنة. وقال أبو الحسن الأشعري أيضا في كتاب المقالات المذكور ما نصه:
وقال أهل السنة وأصحاب الحديث: ليس بجسم ولا يشبه الأشياء وأنه على العرش كما قال عز وجل: * (الرحمان على العرش استوى) * ولا نقدم بين يدي الله في القول بل نقول: استوى بلا كيف، ثم أطال الكلام رحمه الله، في إثبات الصفات كما قدمنا عنه، ثم قال ما نصه وقالت المعتزلة: إن الله استوى على عرشه بمعنى استولى. ا ه. محل الغرض منه بلفظه.
فتراه صرح في كتاب المقالات المذكور، بأن تأويل الاستواء بالاستيلاء، هو قول المعتزلة لا قوله هو، ولا قول أحد من أهل السنة.
وزاد في كتاب الإبانة مع المعتزلة الجهمية والحرورية كما قدمنا.
وبكل ما ذكرنا تعلم أن الأشعري رجع عن الاعتزال إلى مذهب السلف في آيات الصفات وأحاديثها.
وقد قدمنا إيضاح الحق في آيات الصفات بالأدلة القرآنية بكثرة في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى: * (ثم استوى على العرش) *.
واعلم أن أئمة القائلين بالتأويل، رجعوا قبل موتهم عنه، لأنه مذهب غير مأمون العاقبة، لأن مبناه على ادعاء أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها، لا تليق بالله لظهورها وتبادرها في مشابهة صفات الخلق.
ثم نفي تلك الصفات الواردة في الآيات والأحاديث، لأجل تلك الدعوى الكاذبة المشؤومة، ثم تأويلها بأشياء أخر، دون مستند من كتاب أو سنة، أو قول صحابي أو أحد من السلف.
وكل مذهب هذه حاله، فإنه جدير بالعاقل المفكر أن يرجع عنه إلى مذهب السلف.
290

وقد أشار تعالى في سورة الفرقان أن وصف الله بالاستواء صادر عن خبير بالله، وبصفاته عالم بما يليق به، وبما لا يليق وذلك في قوله تعالى: * (الذى خلق السماوات والا رض وما بينهما فى ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمان فاسأل به خبيرا) *.
فتأمل قوله: * (فاسأل به خبيرا) *، بعد قوله: * (ثم استوى على العرش الرحمان) *، تعلم أن من وصف الرحمن بالاستواء على العرش خبير بالرحمن وبصفاته لا يخفى عليه اللائق من الصفات وغير اللائق.
فالذي نبأنا بأنه استوى على عرشه هو العليم الخبير الذي هو الرحمن.
وقد قال تعالى: * (ولا ينبئك مثل خبير) *.
وبذلك تعلم أن من يدعي أن الاستواء يستلزم التشبيه، وأنه غير لائق غير خبير، نعم والله هو غير خبير.
وسنذكر هنا إن شاء الله أن أئمة المتكلمين المشهورين رجعوا كلهم عن تأويل الصفات.
أما كبيرهم الذي هو أفضل المتكلمين المنتسبين إلى أبي الحسن الأشعري، وهو القاضي محمد بن الطيب المعروف بأبي بكر الباقلاني، فإنه كان يؤمن بالصفات على مذهب السلف ويمنع تأويلها منعا باتا، ويقول فيها بمثل ما قدمنا عن الأشعري.
وسنذكر لك هنا بعض كلامه.
قال الباقلاني المذكور في كتاب التمهيد ما نصه:
باب في أن لله وجها ويدين، فإن قال قائل. فما الحجة في أن لله عز وجل وجها ويدين؟ قيل له قوله:
* (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) *.
وقوله: * (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى) *، فأثبت لنفسه وجها ويدين.
فإن قالوا: فما أنكرتم أن يكون المعنى في قوله * (خلقت بيدى) * أنه خلقه بقدرته أو بنعمته، لأن اليد في اللغة قد تكون بمعنى النعمة، وبمعنى القدرة، كما يقال: لي عند فلان يد بيضاء. يراد به نعمة.
291

وكما يقال: هذا الشيء في يد فلان وتحت يد فلان، يراد به أنه تحت قدرته وفي ملكه.
ويقال: رجل أيد إذا كان قادرا.
وكما قال تعالى: * (خلقنا لهم مما عملت أيدينآ أنعاما) * يريد عملنا بقدرتنا. وقال الشاعر: خلقنا لهم مما عملت أيدينآ أنعاما) * يريد عملنا بقدرتنا. وقال الشاعر:
* إذا ما راية رفعت لمجد
* تلقاها عرابة باليمين
*
فكذلك قوله: * (خلقت بيدى) * يعني بقدرتي أو نعمتي.
يقال لهم هذا باطل لأن قوله: * (بيدى) * يقتضي إثبات يدين هما صفة له.
فلو كان المراد بهما القدرة لموجب أن يكون له قدرتان.
وأنتم لا تزعمون أن للباري سبحانه قدرة واحدة، فكيف يجوز أن تثبتوا له قدرتين؟
وقد أجمع المسلمون من مثبتي الصفات والنافين لها على أنه لا يجوز أن يكون له تعالى قدرتان فبطل ما قلتم.
وكذلك لا يجوز أن يكون الله تعالى خلق آدم بنعمتين، لأن نعم الله تعالى على آدم وعلى غيره لا تحصى.
ولأن القائل لا يجوز أن يقول: رفعت الشيء بيدي أو وضعته بيدي أو توليته بيدي وهو يعني نعمته.
وكذلك لا يجوز أن يقال: لي عند فلان يدان يعني نعمتين.
وإنما يقال لي عنده يدان بيضاوان، لأن القول: يد، لا يستعمل إلا في اليد التي هي صفة الذات.
ويدل على فساد تأويلهم أيضا أنه لو كان الأمر على ما قالوه لم يغفل عن ذلك إبليس، وعن أن يقول وأي فضل لآدم علي يقتضي أن أسجد له، وأنا أيضا بيدك خلقتني التي هي قدرتك وبنعمتك خلقتني؟
وفي العلم بأن الله تعالى فضل آدم عليه بخلقه بيديه، دليل على فساد ما قالوه.
292

فإن قال قائل: فما أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة؟ إذ كنتم لم تعقلوا يد صفة ووجه صفة لا جارحة. يقال له: لا يجب ذلك كما لا يجب إذا لم نعقل حيا عالما قادرا إلا جسما أن نقضي نحن وأنتم على الله تعالى بذلك.
وكما لا يجب متى كان قائما بذاته أن يكون جوهرا أو جسما، لأنا وإياكم لم نجد قائما بنفسه في شاهدنا إلا كذلك. ا ه. محل الغرض منه بلفظه.
وهو صريح في أنه يرى أن صفة الوجه وصفة اليد وصفة العلم والحياة والقدرة كلها من صفات المعاني ولا وجه للفرق بينها وجميع صفات الله مخالفة لجميع صفات خلقه.
وقال الباقلاني أيضا في كتاب التمهيد ما نصه:
فإن قالوا: فهل تقولون: إنه في كل مكان؟
قيل: معاذ الله بل هو مستو على العرش كما أخبر في كتابه، فقال: * (الرحمان على العرش استوى) * وقال تعالى: * (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) * وقال: * (أءمنتم من فى السمآء أن يخسف بكم الا رض) *.
ولو كان في كل مكان، لكان في جوف الإنسان، وفمه وفي الحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرها، تعالى عن ذلك، ولوجب أن يزيد بزيادة الأماكن إذ خلق منها ما لم يكن خلقه، وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان.
ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى وراء ظهورنا وعن أيماننا وشمائلنا.
وهذا ما قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله، إلى أن قال رحمه الله: ولا يجوز أن يكون معنى استوائه على العرش هو استيلاؤه عليه كما قال الشاعر: وهذا ما قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله، إلى أن قال رحمه الله: ولا يجوز أن يكون معنى استوائه على العرش هو استيلاؤه عليه كما قال الشاعر:
* قد استوى بشر على العراق
* من غير سيف ودم مهراق
*
لأن الاستيلاء هو القدرة والقهر، والله تعالى لم يزل قادرا قاهرا عزيزا مقتدرا.
وقوله: * (ثم استوى على العرش) * يقتضي استفتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن، فيبطل ما قالوه.
293

فإن قال قائل: ففصلوا لي صفات ذاته من صفات أفعاله، لأعرف ذلك.
قيل له: صفات ذاته هي التي لم يزل ولا يزال موصوفا بها.
وهي الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والبقاء والوجه والعينان واليدان. ا ه محل الغرض منه بلفظه.
وقد نقلناه من نسخة هي أجود نسخة موجودة لكتاب التمهيد للباقلاني المذكور.
وترى تصريحه فيها بأن صفة الوجه واليد من صفات المعاني كالحياة والعلم والقدرة والإرادة، كما هو قول أبي الحسن الأشعري الذي قدمنا إيضاحه.
واعلم أن إمام الحرمين، أبا المعالي الجويني، كان في زمانه من أعظم أئمة القائلين بالتأويل، وقد قرر التأويل وانتصر له في كتابه الإرشاد.
ولكنه رجع عن ذلك في رسالته العقيدة النظامية فإنه قال فيها:
اختلف مسالك العلماء، في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنة، وامتنع على أهل الحق فحواها وإجراؤها على موجب ما تبرزه أفهام أرباب اللسان منها.
فرأى بعضهم تأويلها، والتزام هذا المنهج في آي الكتاب وفيما صح من سنن النبي صلى الله عليه وسلم.
وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب سبحانه.
والذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقدا، اتباع سلف الأمة، فالأولى الاتباع وترك الابتداع والدليل السمعي القاطع في ذلك، أن إجماع الأمة حجة متبعة، وهو مستند معظم الشريعة.
وقد درج صحب الرسول صلى الله عليه وسلم على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها وهم صفوة الإسلام والمشتغلون بأعباء الشريعة.
وكانوا لا يألون جهدا في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها.
294

فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغا أو محتوما لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة.
فإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك قاطعا بأنه الوجه المتبع بحق.
فعلى ذي الدين أن يعتقد تنزه الرب تعالى عن صفات المحدثات ولا يخوض في تأويل المشكلات ويكل معناها إلى الرب.
ومما استحسن من إمام دار الهجرة مالك بن أنس أنه سئل عن قوله تعالى: * (الرحمان على العرش استوى) *، فقال: الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة.
فلتجر آية الاستواء والمجيء وقوله: * (لما خلقت بيدى) *، * (ويبقى وجه ربك) *، وقوله: * (تجرى بأعيننا) *، وما صح عن الرسول عليه السلام كخبر النزول وغيره على ما ذكرنا، فهذا بيان ما يجب لله تعالى. ا ه. كلامه بلفظه من الرسالة النظامية المذكورة مع أن رجوع الجويني فيها إلى أن الحق هو مذهب السلف أمر معلوم.
وكذلك أبو حامد الغزالي، كان في زمانه من أعظم القائلين بالتأويل ثم رجع عن ذلك، وبين أن الحق الذي لا شك فيه هو مذهب السلف.
وقال في كتابه: إلجام العوام عن علم الكلام:
اعلم أن الحق الصريح الذي لا مراء فيه عند أهل البصائر، هو مذهب السلف أعني الصحابة والتابعين، ثم قال: إن البرهان الكلي على أن الحق في مذهب السلف وحده ينكشف بتسليم أربعة أصول مسلمة عند كل عاقل.
ثم بين أن الأول من تلك الأصول المذكورة أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أعرف الخلق بصلاح أحوال العباد في دينهم ودنياهم.
الأصل الثاني: أنه بلغ كلما أوحى إليه من صلاح العباد في معادهم ومعاشهم، ولم يكتم منه شيئا.
295

الأصل الثالث: أن أعرف الناس بمعاني كلام الله وأحراهم بالوقوف على أسراره هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لازموه وحضروا التنزيل وعرفوا التأويل.
والأصل الرابع: أن الصحابة رضي الله عنهم في طول عصرهم إلى آخر أعمارهم ما دعوا الخلق إلى التأويل، ولو كان التأويل من الدين أو علم الدين لأقبلوا عليه ليلا
ونهارا ودعوا إليه أولادهم وأهلهم.
ثم قال الغزالي: وبهذه الأصول الأربعة المسلمة عند كل مسلم نعلم بالقطع أن الحق ما قالوه والصواب ما رأوه. ا ه. باختصار.
ولا شك أن الاستدلال الغزالي هذا لأن مذهب السلف هو الحق استدلال لا شك في صحته، ووضوح وجه الدليل فيه، وأن التأويل لو كان سائغا أو لازما لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولقال به أصحابه وتابعوهم كما لا يخفى.
وذكر غير واحد عن الغزالي: أنه رجع في آخر حياته إلى تلاوة كتاب الله وحفظ الأحاديث الصحيحة والاعتراف بأن الحق هو ما في كتاب الله وسنة رسوله.
وذكر بعضهم أنه مات وعلى صدره صحيح البخاري رحمه الله.
واعلم أيضا أن الفخر الرازي الذي كان في زمانه أعظم أئمة التأويل رجع عن ذلك المذهب إلى مذهب السلف معترفا بأن طريق الحق هي اتباع القرآن في صفات الله.
وقد قال في ذلك في كتابه: أقسام اللذات.
لقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فلم أجدها تروي غليلا، ولا تشفي عليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن أقرأ في الإثبات: * (الرحمان على العرش استوى) *، * (إليه يصعد الكلم الطيب) *، وفي النفي: * (ليس كمثله شىء) *، * (هل تعلم له سميا) *، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي. ا ه.
وقد بين هذا المعنى في أبياته المشهورة التي يقول فيها: وقد بين هذا المعنى في أبياته المشهورة التي يقول فيها:
* نهاية إقدام العقول عقال
* وغاية سعي العالمين ضلال
*
* وأرواحنا في وحشة من جسومنا
* وحاصل دنيانا أذى ووبال
*
* ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
* سوى أن جمعنا فيه قيل وقال
*
296

إلى آخر الأبيات.
وكذلك غالب أكابر الذين كانوا يخوضون في الفلسفة والكلام، فإنه ينتهي بهم أمرهم إلى الحيرة وعدم الثقة بما كانوا يقررون.
وقد ذكر عن الحفيد ابن رشد وهو من أعلم الناس بالفلسفة أنه قال:
ومن الذي قال في الإلهيات شيئا يعتد به؟
وذكروا عن الشهرستاني أنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم، وقد قال في ذلك: وذكروا عن الشهرستاني أنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم، وقد قال في ذلك:
* لعمري لقد طفت المعاهد كلها
* وسيرت طرفي بين تلك المعالم
*
* فلم أر إلا واضعا كف حائر
* على ذقن أو قارعا سن نادم
*
وأمثال هذا كثيرة.
فيا أيها المعاصرون المتعصبون لدعوى أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها خبيث لا يليق بالله لاستلزامه التشبيه بصفات الخلق، وأنها يجب نفيها وتأويلها بمعان ما أنزل الله بها من سلطان، ولم يقلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه ولا من التابعين.
فمن هو سلفكم في هذه الدعوى الباطلة المخالفة لإجماع السلف؟
إن كنتم تزعمون أن الأشعري يقول مثل قولكم، وأنه سلفكم في ذلك فهو بريء منكم ومن دعواكم.
وهو مصرح في كتبه التي صنفها بعد الرجوع عن الاعتزال أن القائلين بالتأويل هم المعتزلة، وهم خصومه وهو خصمهم، كما أوضحنا كلامه في الإباحة والمقالات.
وقد بينا أن أساطين القول بالتأويل قد اعترفوا بأن التأويل لا مستند له، وأن الحق هو اتباع مذهب السلف كما أوضحنا ذلك عن أبي بكر الباقلاني، وأبي المعالي الجويني، وأبي حامد الغزالي، وأبي عبد الله الفخر الرازي، وغيرهم ممن ذكرنا.
فنوصيكم وأنفسنا بتقوى الله وألا تجادلوا في آيات الله بغير سلطان أتاكم، والله جل وعلا يقول في كتابه: * (إن الذين يجادلون فىءايات الله بغير سلطان أتاهم إن فى صدورهم
297

إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير) *.
ويقول تعالى: * (ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير وإذا قيل لهم اتبعوا مآ أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه ءابآءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير) *.
المسألة الثانية في الكلام على الاجتهاد
اعلم أولا أنا قدمنا بطلان قول الظاهرية بمنع الاجتهاد مطلقا، وأن من الاجتهاد ما هو صحيح موافق للشرع الكريم، وبسطنا أدلة ذلك بإيضاح في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى * (وداوود وسليمان إذ يحكمان فى الحرث) *.
وبينا طرفا منه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) * فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وغرضنا في هذه المسألة هو أن نبين أن تدبر القرآن وانتفاع متدبره بالعمل بما علم منه الذي دل عليه قوله تعالى في هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها التي هي قوله تعالى: * (أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوب أقفالهآ) *، لا يتوقف على تحصيل الاجتهاد المطلق بشروطه المعروفة عند متأخري الأصوليين.
اعلم أولا: أن المتأخرين من أهل الأصول الذين يقولون بمنع العمل بالكتاب والسنة مطلقا إلا للمجتهدين، يقولون:
إن شروط الاجتهاد هي كون المجتهد بالغا، عاقلا شديد الفهم.
طبعا عارفا بالدليل العقلي، الذي هو استصحاب العدم الأصلي، حتى يرد نقل صارف عنه.
عارفا باللغة العربية، وبالنحو من صرف وبلاغة مع معرفة الحقائق الشرعية والعرفية.
وبعضهم يزيد المحتاج إليه من فن المنطق كشرائط الحدود، والرسوم، وشرائط البرهان.
عارفا بالأصول، عارفا بأدلة الأحكام من الكتاب والسنة.
298

ولا يشترط عندهم حفظ النصوص، بل يكفي عندهم علمه بمداركها في المصحف وكتب الحديث.
عارفا بمواقع الإجماع والخلاف.
عارفا بشروط المتواتر، والآحاد والصحيح والضعيف.
عارفا بالناسخ والمنسوخ.
عارفا بأسباب النزول.
عارفا بأحوال الصحابة وأحوال رواة الحديث، اختلفوا في شرط عدم إنكاره للقياس. ا ه.
ولا يخفى أن مستندهم في اشتراطهم لهذه الشروط ليس نصا من كتاب ولا سنة يصرح بأن هذه الشروط كلها لا يصح دونها عمل بكتاب ولا سنة، ولا إجماعا دالا على ذلك.
وإنما مستندهم في ذلك هو تحقيق المناط في ظنهم.
وإيضاح ذلك هو أن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين كلها دال على أن العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يشترط له إلا شرط واحد، وهو العلم بحكم ما يعمل به منهما.
ولا يشترط في العمل بالوحي شرط زائد على العلم بحكمه البتة.
وهذا مما لا يكاد ينازع فيه أحد.
ومراد متأخري الأصوليين بجميع الشروط التي اشترطوها هو تحقيق المناط.
لأن العلم بالوحي لما كان هو مناط العمل به أرادوا أن يحققوا هذا المناط، أي يبينوا الطرق التي يتحقق بها حصول العلم الذي هو مناط العمل.
فاشترطوا جميع الشروط المذكورة، ظنا منهم أنه لا يمكن تحقيق حصول العلم بالوحي دونها.
وهذا الظن فيه نظر.
لأن كل إنسان له فهم إذا أراد العمل بنص من كتاب أو سنة فلا
299

يمتنع عليه، ولا يستحيل أن يتعلم معناه ويبحث عنه هل هو منسوخ أو مخصص أو مقيد حتى يعلم ذلك فيعمل به.
وسؤال أهل العلم: هل لهذا النص ناسخ أو مخصص أو مقيد مثلا. وإخبارهم بذلك ليس من نوع التقليد، بل هو من نوع الاتباع.
وسنبين إن شاء الله الفرق بين التقليد والاتباع في مسألة التقليد الآتية.
والحاصل أن نصوص الكتاب والسنة التي لا تحصى واردة بإلزام جميع المكلفين بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وليس في شيء منها التخصيص بمن حصل شروط الاجتهاد المذكورة.
وسنذكر طرفا منها لنبين أنه لا يجوز تخصيصها بتحصيل الشروط المذكورة.
قال الله تعالى: * (اتبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أوليآء قليلا ما تذكرون) *، والمراد بما أنزل إليكم هو القرآن والسنة المبينة له لا آراء الرجال.
وقال تعالى: * (وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا) *.
فدلت هذه الآية الكريمة أن من دعي إلى العمل بالقرآن والسنة وصد عن ذلك، أنه من جملة المنافقين، لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.
وقال تعالى: * (فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الا خر) *، والرد إلى الله والرسول هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول بعد وفاته صلى الله عليه وسلم هو الرد إلى سنته.
وتعليقه الإيمان في قوله: * (إن كنتم تؤمنون بالله) * على رد التنازع إلى كتاب الله وسنة رسوله، يفهم منه أن من يرد التنازع إلى غيرهما لم يكن يؤمن بالله.
وقال تعالى: * (واتبعوا أحسن مآ أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون) *.
ولا شك أن القرآن أحسن ما أنزل إلينا من ربنا، والسنة
300

مبينة له، وقد هدد من لم يتبع أحسن ما أنزل إلينا من ربنا بقوله: * (من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون) *.
وقال تعالى: * (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولائك الذين هداهم الله وأولائك هم أولو الا لباب) *، ولا شك أن كتاب الله وسنة رسوله أحسن من آراء الرجال.
وقال تعالى: * (ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب) * وقوله: * (إن الله شديد العقاب) * فيه تهديد شديد لمن لم يعمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سيما إن كان يظن أن أقوال الرجال تكفي عنها.
وقال تعالى: * (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الا خر) *، والأسوة: الاقتداء.
فيلزم المسلم أن يجعل قدوته رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك باتباع سنته.
وقال تعالى: * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) *، وقد أقسم تعالى في هذه الآية الكريمة أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما اختلفوا فيه.
وقال تعالى: * (فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهوآءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدى القوم الظالمين) *.
والاستجابة له صلى الله عليه وسلم بعد وفاته هي الرجوع إلى سنته صلى الله عليه وسلم، وهي مبينة لكتاب الله.
وقد جاء في القرآن العظيم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يتبع شيئا إلا الوحي.
وأن من أطاعه صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله.
قال تعالى في سورة يونس: * (قل ما يكون لى أن أبدله من تلقآء نفسى إن أتبع إلا ما يوحى إلى إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم) *.
وقال تعالى في الأنعام * (قل لا أقول لكم عندى خزآئن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إنى ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلى) *.
وقال تعالى في الأحقاف: * (قل ما كنت بدعا من الرسل ومآ أدرى ما يفعل بى ولا
301

بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلى ومآ أنا إلا نذير مبين) *.
وقال تعالى في الأنبياء: * (قل إنمآ أنذركم بالوحى) *، فحصر الإنذار في الوحي دون غيره.
وقال تعالى: * (قل إن ضللت فإنمآ أضل على نفسى وإن اهتديت فبما يوحى إلى ربى) *، فبين أن الاهتداء إنما هو بالوحي والآيات بمثل هذا كثيرة.
وإذا علمت منها أن طريقه صلى الله عليه وسلم هي اتباع الوحي، فاعلم أن القرآن دل على أن من أطاعه صلى الله عليه وسلم فهو مطيع لله كما قال تعالى: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * وقال تعالى: * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله) *.
ولم يضمن الله لأحد ألا يكون ضالا في الدنيا ولا شقيا في الآخرة إلا لمتبعي الوحي وحده.
قال تعالى في طه * (فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى) *، وقد دلت آية طه هذه على انتفاء الضلال والشقاوة عن متبعي الوحي.
ودلت آية البقرة على انتفاء الخوف والحزن عنه، وذلك في قوله تعالى: * (فإما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *.
ولا شك أن انتفاء الضلال والشقاوة والخوف والحزن عن متبعي الوحي، المصرح به في القرآن، لا يتحقق فيمن يقلد عالما ليس بمعصوم، لا يدري أصواب ما قلده فيه أم خطأ. في حال كونه معرضا عن التدبر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولا سيما إن كان يظن أن آراء العالم الذي قلده، كافية مغنية، عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والآيات القرآنية الدالة على لزوم اتباع الوحي، والعمل به، لا تكاد تحصى، وكذلك الأحاديث النبوية الدالة على لزوم العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا تكاد تحصى، لأن طاعة الرسول طاعة الله.
وقد قال تعالى: * (ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله
302

شديد العقاب) *، وقال تعالى: * (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) *.
وقال تعالى: * (قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين) *.
وقال: * (ومن يطع الله والرسول فأولائك مع الذين أنعم الله عليهم) *.
وقال تعالى: * (ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما) *.
وقال تعالى: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فمآ أرسلناك عليهم حفيظا) *.
وقال تعالى: * (يأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الا مر منكم فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الا خر) *.
وقال تعالى: * (تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجرى من تحتها الا نهر خالدين فيها وذالك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين) *.
وقال تعالى: * (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين) *.
وقال تعالى: * (وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين) *.
وقال تعالى * (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين) *.
وقال: * (وأقيموا الصلواة وآتوا الزكواة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون) *.
وقال تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم) *.
وقال تعالى: * (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن
303

يقولوا سمعنا وأطعنا وأولائك هم المفلحون) *، * (ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولائك هم الفآئزون) *.
وقال تعالى: * (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة) *.
وقال تعالى: * (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أوليآء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلواة ويؤتون الزكواة ويطيعون الله ورسوله أولائك سيرحمهم الله) *.
ولا شك عند أحد من أهل العلم أن طاعة الله ورسوله المذكورة في هذه الآيات ونحوها من نصوص الوحي، محصورة في العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فمنصوص القرآن والسنة كلها دالة على لزوم تدبر الوحي، وتفهمه وتعلمه والعمل به.
فتخصيص تلك النصوص كلها، بدعوى أن تدبر الوحي وتفهمه والعمل به: لا يصح شيء منه إلا لخصوص المجتهدين، الجامعين لشروط الاجتهاد المعروفة عند متأخري الأصوليين، يحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه.
ولا دليل على ذلك البتة.
بل أدلة الكتاب والسنة، دالة على وجوب تدبر الوحي، وتفهمه وتعلمه والعمل بكل ما علم منه، علما صحيحا قليلا كان أو كثيرا.
وهذه المسألة الثانية يتداخل بعض الكلام فيها، مع بعض الكلام، في المسألة الأولى. فهما شبه المسألة الواحدة.
المسألة الثالثة في التقليد في بيان معناه لغة واصطلاحا وأقسامه وبيان ما يصح منها وما لا يصح
اعلم أن التقليد في اللغة: هو جعل القلادة في العنق.
وتقليد الولاة هو جعل الولايات قلائد في أعناقهم.
ومنه قول لقيط الأيادي: ومنه قول لقيط الأيادي:
* وقلدوا أمركم لله دركم
* رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
*
وأما التقليد في اصطلاح الفقهاء: فهو الأخذ بمذهب الغير من غير معرفة دليله.
والمراد بالمذاهب هو ما يصح فيه الاجتهاد خاصة.
304

ولا يصح الاجتهاد البتة في شيء يخالف نصا من كتابه أو سنة ثابتة، سالما من المعارض.
لأن الكتاب والسنة حجة على كل أحد كائنا من كان، لا تسوغ مخالفتهما البتة لأحد كائنا من كان فيجب التفطن، لأن المذهب الذي فيه التقليد يختص بالأمور الاجتهادية ولا يتناول ما جاء فيه نص صحيح من الوحي سالم من المعارض.
قال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره: مختصرا على مذهب الإمام مالك بن أنس ما نصه:
(والمذهب لغة الطريق ومكان الذهاب، ثم صار عند الفقهاء حقيقة عرفية فيما ذهب إليه إمام من الأئمة من الأحكام الاجتهادية) ا ه. محل الغرض منه بلفظه.
فقوله: من الأحكام الاجتهادية تدل على أن اسم المذهب لم يتناول مواقع النصوص الشرعية السالمة من المعارض.
وذلك أمر لا خلاف فيه لإجماع العلماء على أن المجتهد المطلق إذا أقام باجتهاده دليلا، مخالفا لنص من كتاب أو سنة أو إجماع، أن دليله ذلك باطل بلا خلاف.
وأنه يرد بالقادح المسمى في الأصول بفساد الاعتبار.
وفساد الاعتبار الذي هو مخالفة الدليل لنص أو إجماع من القوادح التي لا نزاع في إبطال الدليل بها. وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود في القوادح: وفساد الاعتبار الذي هو مخالفة الدليل لنص أو إجماع من القوادح التي لا نزاع في إبطال الدليل بها. وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود في القوادح:
* والخلف للنص أو إجماع دعا
* فسادا لاعتبار كل من وعى
*
وبما ذكرنا تعلم أنه لا اجتهاد أصلا ولا تقليد أصلا في شيء يخالف نصا من كتاب أو سنة أو إجماع.
وإذا عرفت ذلك فاعلم أن بعض الناس من المتأخرين أجاز التقليد، ولو كان فيه مخالفة نصوص الوحي، كما ذكرنا عن الصاوي وأضرابه.
وعليه أكثر المقلدين للمذاهب في هذا الزمان وأزمان قبله.
وبعض العلماء منع التقليد مطلقا، وممن ذهب إلى ذلك ابن خويز منداد من المالكية، والشوكاني في القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد.
305

والتحقيق: أن التقليد منه ما هو جائز، ومنه ما ليس بجائز.
ومنه ما خالف فيه المتأخرون المتقدمين من الصحابة وغيرهم من القرون الثلاثة المفضلة.
وسنذكر كل الأقسام هنا إن شاء الله مع بيان الأدلة.
أما التقليد الجائز الذي لا يكاد يخالف فيه أحد من المسلمين فهو تقليد العامي عالما أهلا للفتيا في نازلة نزلت به، وهذا النوع من التقليد كان شائعا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلاف فيه.
فقد كان العامي، يسأل من شاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن حكم النازلة تنزل به فيفتيه فيعمل بفتياه.
وإذا نزلت به نازلة أخرى لم يرتبط بالصحابي الذي أفتاه أولا بل يسأل عنها من شاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يعمل بفتياه.
قال صاحب نشر البنود في شرحه لقوله في مراقي السعود: قال صاحب نشر البنود في شرحه لقوله في مراقي السعود:
* رجوعه لغيره في آخر
* يجوز للإجماع عند الأكثر
*
ما نصه: يعني أن العامي يجوز له عند الأكثر، الرجوع إلى قول غير المجتهد الذي استفتاه أولا في حكم آخر لإجماع الصحابة رضي الله عنهم، على أنه يسوغ للعامي السؤال لكل عالم، ولأن كل مسألة لها حكم نفسها.
فكما لم يتعين الأول للاتباع في المسألة الأولى إلا بعد سؤاله، فكذلك في المسألة الأخرى. قاله الحطاب شارح مختصر خليل.
قال القرافي: انعقد الإجماع على أن من أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء من غير حجر.
وأجمع الصحابة على أن من استفتى أبا بكر وعمر وقلدهما فله أن يستفتي أبا هريرة ومعاذ بن جبل وغيرهما، ويعمل بقولهم بغير نكير.
فمن ادعى رفع هذين الإجماعين فعليه الدليل. ا ه. محل الغرض منه.
وما ذكره من انعقاد الإجماعين صحيح كما لا يخفى، فالأقوال المخالفة لهما من متأخري الأصوليين كلها مخالفة للإجماع.
306

وبعض العلماء يقول: إن تقليد العامي المذكور للعالم وعمله بفتياه من الاتباع لا من التقليد.
والصواب: أن ذلك تقليد مشروع مجمع على مشروعيته.
وأما ما ليس من التقليد بجائز لا خلاف؟ فهو تقليد المجتهد الذي ظهر له الحكم باجتهاده، مجتهدا آخر يرى خلاف ما ظهر له هو، للإجماع على أن المجتهد إذا ظهر له الحكم باجتهاده لا يجوز له أن يقلد غيره المخالف لرأيه.
وأما نوع التقليد الذي خالف فيه المتأخرون، الصحابة وغيرهم من القرون المشهود لهم بالخير، فهو تقليد رجل واحد معين دون غيره، من جميع العلماء.
فإن هذا النوع من التقليد، لم يرد به نص من كتاب ولا سنة، ولم يقل به أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من القرون الثلاثة المشهود لهم بالخير.
وهو مخالف لأقوال الأئمة الأربعة رحمهم الله، فلم يقل أحد منهم بالجمود على قول رجل واحد معين دون غيره، من جميع علماء المسلمين.
فتقليد العالم المعين من بدع القرن الرابع، ومن يدعي خلاف ذلك، فليعين لنا رجلا واحدا من القرون الثلاثة الأول، التزم مذهب رجل واحد معين ولن يستطيع ذلك أبدا، لأنه لم يقع البتة.
وسنذكر هنا إن شاء الله جملا من كلام أهل العلم في فساد هذا النوع من التقليد وحجج القائلين به، ومناقشتها. وبعد إيضاح ذلك كله نبين ما يظهر لنا بالدليل أنه هو الحق والصواب إن شاء الله.
قال الإمام أبو عمر بن عبد البر رحمه الله، في كتابه جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله، ما نصه:
باب فساد التقليد ونفيه والفرق بين التقليد والاتباع.
قد ذم الله تبارك وتعالى التقليد في غير موضع من كتابه، فقال: * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) *.
307

وروي عن حذيفة وغيره قالوا: (لم يعبدوهم من دون الله ولكنهم أحلوا لهم وحرموا عليهم فاتبعوهم).
وقال عدي بن حاتم: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي عنقي الصليب فقال لي: (يا عدي: ألق هذا الوثن من عنقك، فانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة حتى أتى على هذه الآية: * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) * قال قلت يا رسول الله: إنا لم نتخذهم أربابا. قال بلى أليس يحلون لكم ما حرم عليكم فتحلونه ويحرمون عليكم ما أحل الله لكم فتحرمونه؟ فقلت بلى فقال: تلك عبادتهم).
حدثنا عبد الوارث بن سفيان ثم ساق السند إلى أن قال عن أبي البختري في قوله عز وجل: * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) * أما إنهم لو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم ولكنهم أمروهم، فجعلوا حلال الله حرامه، وحرامه حلاله فأطاعوهم، فكانت تلك الربوبية.
قال وحدثنا ابن وضاح، ثم ساق السند إلى أن قال عن أبي البختري قال: قيل لحذيفة في قوله: * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) * أكانوا يعبدونهم؟ فقال لا، ولكن كانوا يحلون لهم الحرام فيحلونه ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه.
وقال جل وعز: * (وكذلك مآ أرسلنا من قبلك فى قرية من نذير إلا قال مترفوهآ إنا وجدنآ ءابآءنا على أمة وإنا علىءاثارهم مقتدون قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه ءابآءكم) *.
فمنعهم الاقتداء بآبائهم من قبول الاهتداء، فقالوا: * (إنا بمآ أرسلتم به كافرون) *.
وفي هؤلاء ومثلهم قال الله عز وجل: * (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) *.
وقال: * (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الا سباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذالك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم) *.
308

وقال عز وجل عائيا لأهل الكفر وذاما لهم: * (ما هاذه التماثيل التى أنتم لها عاكفون قالوا وجدنآ ءابآءنا لها عابدين) *.
وقال * (وقالوا ربنآ إنآ أطعنا سادتنا وكبرآءنا فأضلونا السبيلا) *.
ومثل هذا في القرآن كثير من ذم تقليد الآباء والرؤساء.
وقد احتج العلماء بهذه الآيات، في إبطال التقليد ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها، لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر.
وإنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجة للمقلد، كما لو قلد رجل فكفر وقلد آخر فأذنب، وقلد آخر في مسألة دنياه فأخطأ وجهها، كان كل واحد ملوما على التقليد بغير حجة.
لأن كل ذلك تقليد يشبه بعضه بعضا، وإن اختلفت الآثام فيه.
وقال الله عز وجل: * (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) *.
وقد ثبت الاحتجاج بما قدمنا في الباب هذا، وفي ثبوته إبطال التقليد أيضا.
فإذا بطل التقليد بكل ما ذكرنا وجب التسليم للأصول التي يجب التسليم لها، وهي الكتاب والسنة أو ما كان في معناهما بدليل جامع بين ذلك.
أخبرنا عبد الوارث ثم ساق السند إلى أن قال: حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة، قال وما هي يا رسول الله؟ قال: أخاف عليهم من زلة العالم، ومن حكم جائر، ومن هوى متبع).
وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله). هذا لفظ أبي عمر في جامعه.
وكثير بن عبد الله المذكور في الإسناد ضعيف، وأبوه عبد الله مقبول.
ولكن المتنين المرويين بالإسناد المذكور كلاهما له شواهد كثيرة تدل على أن أصله صحيح.
ثم ذكر أبو عمر بن عبد البر في جامعه بإسناده عن زياد بن حدير عن عمر بن
309

الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون.
ثم ذكر بالإسناد المذكور عن ابن مهدي عن جعفر بن حبان، عن الحسن قال: قال أبو الدرداء: إن فيما أخشى عليكم زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن، والقرآن حق وعلى القرآن منار كأعلام الطريق.
ثم أخرج بإسناده عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه كان يقول في مجلسه كل يوم، قلما يخطئه أن يقول ذلك (الله حكم قسط هلك المرتابون إن وراءكم فتنا يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن حتى يقرأه المؤمن والمنافق، والمرأة والصبي والأسود والأحمر فيوشك أحدهم أن يقول: قد قرأت القرآن، فما أظن أن يتبعوني حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع، فإن كل بدعة ضلالة، وإياكم وزيغة الحكيم) إلى آخر ما ذكره رحمه الله من الآثار الدالة على نحو ما تقدم من أن زلة العالم من أخوف المخاوف على هذه الأمة.
وإنما كانت كذلك لأن من يقلد العالم تقليدا أعمى يقلده فيما زل فيه فيتقول على الله أن تلك الزلة التي قلد فيها العالم من دين الله، وأنها مما أمر الله بها ورسوله، وهذا كما ترى والتنبيه عليه هو مراد ابن عبد البر.
ومرادنا أيضا بإيراد الآثار المذكورة.
ثم قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه ما نصه:
وشبه الحكماء زلة العالم بانكسار السفينة، لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير.
وإذا صح وثبت أن العالم يزل ويخطىء، لم يجز لأحد أن يفتي ويدين بقول لا يعرف وجهه.
حدثنا عبد الرحمن بن يحيى ثم ساق السند إلى أن قال: عن ابن مسعود أنه كان يقول: (اغد عالما أو متعلما ولا تغد إمعة) فيما بين ذلك.
ثم ساق الروايات في تفسيرهم الإمعة.
ومعنى الإمعة معروف.
قال الجوهري في صحاحه: يقال الإمع والإمعة أيضا للذي يكون لضعف رأيه مع كل أحد، ومنه قول ابن مسعود: لا يكونن أحدكم إمعة. ا ه. منه.
310

ولقد أصاب من قال: ولقد أصاب من قال:
* شمر وكن في أمور الدين مجتهدا
* ولا تكن مثل عير قيد فانقادا
*
وذكر ابن عبد البر بإسناده عن ابن مسعود في تفسير الإمعة أنه قال.
كنا ندعو الإمعة في الجاهلية الذي يدعى إلى الطعام فيذهب معه بغيره، وهو فيكم اليوم المحقب دينه الرجال.
ثم ذكر أبو عمر بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:
ويل للأتباع من عثرات العالم، قيل كيف ذلك؟ قال: يقول العالم شيئا برأيه ثم يجد من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منه فيترك قوله ذلك ثم تمضي الأتباع.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكميل بن زياد النخعي، وهو حديث مشهور عند أهل العلم، يستغنى عن الإسناد لشهرته عندهم:
يا كميل إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها للخير، والناس ثلاثة: فعالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، إلى آخر الحديث.
وفيه: أف لحامل حق لا يصيره له، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، لا يدري أين الحق، إن قال أخطأ وإن أخطأ لم يدر، مشغوف بما لا يدري حقيقته، فهو فتنة لمن افتتن به، وإن من الخير كله من عرفه الله دينه، وكفى بالمرء جهلا أن لا يعرف دينه.
ولا شك أن المقلد غيره تقليدا أعمى يدخل فيما ذكره علي رضي الله عنه في هذا الحديث، لأنه لا يدري عن دين الله شيئا إلا أن الإمام الفلاني عمل بهذا.
فعلمه محصور في أن من يقلده من الأئمة ذهب إلى كذا ولا يدري أمصيب هو فيه أم مخطىء.
ومثل هذا لم يستضىء بنور العلم ولم يلجأ إلى ركن وثيق لجواز الخطأ على متبوعه، وعدم ميزه هو بين الخطأ والصواب.
ثم ذكر أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه بإسناده عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:
ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر.
311

وقال في جامعه أيضا رحمه الله: وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم مما قد ذكرناه في كتابنا هذا أنه قال: (تذهب العلماء ثم تتخذ الناس رؤساء جهالا يسألون فيفتون بغير علم فيضلون ويضلون).
وهذا كله نفي للتقليد، وإبطال له لمن فهمه وهدي لرشده.
ثم ذكر رحمه الله آثارا نحو ما تقدم ثم قال:
وقال: عبيد الله بن المعتمر: لا فرق بين بهيمة تقاد وإنسان يقلد.
وهذا كله لغير العامة، فإن العامة لا بد لها من تقليد علمائها عند النازلة تنزل بها.
لأنها لا تتبين موقع الحجة ولا تصل لعدم الفهم إلى علم ذلك، لأن العلم درجات لا سبيل منها إلى أعلاها إلا بنيل أسفلها.
وهذا هو الحائل بين العامة وبين طلب الحجة. والله أعلم.
ولم تختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها، وأنهم المرادون بقول الله عز وجل: * (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) *.
وأجمعوا على أن الأعمى لا بد له من تقليد غيره ممن يثق بميزه في القبلة إذا أشكلت عليه.
فكذلك من لا علم له ولا بصر بمعنى ما يدين به لا بد من تقليد عالمه، وكذلك لم يختلف العلماء أن العامة لا يجوز لها الفتيا.
وذلك والله أعلم لجهلها بالمعاني التي منها يجوز التحريم والتحليل، والقول في العلم.
ثم ذكر أبو عمر بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار، ومن استشار أخاه فأشار عليه بغير رشده فقد خانه، ومن أفتى بفتيا من غير ثبت فإنما إثمها على من أفتاه).
ثم ذكر بسنده أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:
من أفتى بفتيا وهو يعمى عنها كان إثمها عليه اه.
ولا شك أن المقلد أعمى عما يفتي به لأن علمه به محصور في أن فلانا قاله مع
312

علمه بأن فلانا ليس بمعصوم من الخطأ والزلل.
ثم قال أبو عمر رحمه الله: وقال أهل العلم والنظر حد العلم التبيين وإدراك المعلوم على ما هو به، فمن بان له الشيء فقد علمه.
قالوا: والمقلد لا علم له. ولم يختلفوا في ذلك إلى أن قال رحمه الله، وقال أبو عبد الله بن خويز منداد البصري المالكي:
التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه.
وذلك ممنوع منه في الشريعة.
والاتباع ما ثبت عليه حجة.
وقال في موضع آخر من كتابه: كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قبوله لدليل يوجب عليك ذلك فأنت مقلده.
والتقليد في دين الله غير صحيح.
وكل من أوجب عليك الدليل اتباع قوله فأنت متبعه.
والاتباع في الدين مسوغ والتقليد ممنوع.
وقال أبو عمر في آخر كلامه في هذا الباب ما نصه:
ولا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد فأغنى ذلك عن الإكثار.
وقال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله، في كلامه عن التقليد ما نصه:
وقد احتج جماعة من الفقهاء وأهل النظر على من أجاز التقليد بحجج نظرية عقلية بعد ما تقدم.
فأحسن ما رأيت من ذلك قول المزني رحمه الله، وأنا أورده قال:
يقال لمن حكم بالتقليد هل لك من حجة فيما حكمت به؟
فإن قال: نعم، أبطل التقليد لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد.
وإن قال: حكمت به بغير حجة.
قيل له: فلم أرقت الدماء، وأبحت الفروج وأتلفت الأموال، وقد حرم الله ذلك إلا بحجة؟
قال الله عز وجل * (إن عندكم من سلطان بهاذآ) * أي من حجة بهذا؟
فإن قال: أنا أعلم أني قد أصبت وإن لم أعرف الحجة، لأني قلدت كبيرا من العلماء وهو لا يقول إلا بحجة خفيت علي.
قيل له: إذا جاز تقليد معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عليك، فتقليد معلم
313

معلمك أولى.
لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت على معلمك: كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عليك.
فإن قال: نعم ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه.
وكذلك من هو أعلا حتى ينتهي الأمر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإن أبى ذلك نقض قوله.
وقيل له: كيف تجوز تقليد من هو أصغر، وأقل علما؟
ولا تجوز تقليد من هو أكبر وأكثر علما، وهذا تناقض؟
فإن قال لأن معلمي وإن كان أصغر فقد جمع علم من هو فوقه إلى علمه، فهو أبصر بما أخذ وأعلم بما ترك.
قيل له: كذلك من تعلم من معلمك، فقد جمع علم معلمك وعلم من فوقه إلى علمه، فيلزمك تقليده وترك تقليد معلمك.
وكذلك أنت أولى أن تقلد نفسك من معلمك. لأنك جمعت علم معلمك وعلم من هو فوقه إلى علمك.
فإن أعاد قوله جعل الأصغر ومن يحدث من صغار العلماء، أولى بالتقليد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وكذلك الصاحب عنده يلزمه تقليد التابع والتابع من دونه في قياس قوله. والأعلى للأدنى أبدا.
وكفى بقول يؤول إلى هذا تناقضا وفسادا اه.
ثم قال أبو عمر رحمه الله بعد هذا ما نصه:
يقال لمن قال بالتقليد: لم قلت به، وخالفت السلف في ذلك فإنهم لم يقلدوا؟
فإن قال: قلدت لأن كتاب الله لا علم لي بتأويله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لم أحصها.
والذي قلدته قد علم ذلك فقلدت من هو أعلم مني.
قيل له: أما العلماء، إذا أجمعوا على شيء من تأويل الكتاب أو حكاية عن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحق لا شك فيه.
ولكن قد اختلفوا فيما قلدت فيه بعضهم دون بعض.
فما حجتك في تقليد بعضهم دون بعض.
314

وكلهم عالم، والعالم الذي رغبت عن قوله، أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه.
فإن قال: قلدته لأني أعلم أنه صواب.
قيل له: علمت ذلك بدليل من كتاب الله أو سنة أو إجماع؟
فإن قال نعم. أبطل التقليد وطولب بما ادعاه من الدليل.
وإن قال: قلدته لأنه أعلم مني.
قيل له: فقلد كل من هو أعلم منك.
فإنك تجد من ذلك خلقا كثيرا ولا تخص من قلدته إذ علتك فيه أنه أعلم منك.
فإن قال: قلدته لأنه أعلم الناس.
قيل له: فإنه إذا أعلم من الصحابة وكفى بقول مثل هذا قبحا.
فإن قال: أنا أقلد بعض الصحابة. قيل له: فما حجتك في ترك من لم تقلد منهم، ولعل من تركت قوله منهم أفضل ممن أخذت بقوله؟
على أن القول لا يصح لفضل قائله، وإنما يصح بدلالة الدليل عليه.
وقد ذكر ابن مزين عن عيسى بن دينار، عن ابن القاسم عن مالك، قال: ليس كل ما قال رجل قولا وإن كان له فضل يتبع عليه لقول الله عز وجل: * (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) *. فإن قال قصري وقلة علمي يحملني على التقليد.
قيل له: أما من قلد فيما ينزل. من أحكام شريعته عالما يتفق له على علمه، فيصدر في ذلك عما يخبره فمعذور، لأنه قد أدى ما عليه وأدى ما لزمه فيما نزل به لجهله ولا بدله من تقليد عالم، فيما جهله، لإجماع المسلمين أن المكفوف يقلد من يثق بخبره في القبلة لأنه لا يقدر على أكثر من ذلك.
ولكن من كانت هذه حاله هل تجوز له الفتيا في شرائع دين الله؟ فيحمل غيره على إباحة الفروج وإراقة الدماء واسترقاق الرقاب وإزالة الأملاك ويصيرها إلى غير من كانت في يديه بقول لا يعرف صحته ولا قام له الدليل عليه؟
315

وهو مقر أن قائله يخطئ ويصيب، وأن مخالفه في ذلك ربما كان المصيب، فيما خالفه فيه.
فإن أجاز الفتوى لمن جهل الأصل والمعنى لحفظه الفروع، لزمه أن يجيزه للعامة.
وكفى بهذا جهلا، وردا للقرآن قال الله تعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) *. وقال: * (أتقولون على الله ما لا تعلمون) *.
وقد أجمع العلماء على أن ما لم يتبين ويتيقن فليس بعلم، وإنما هو ظن، والظن لا يغني من الحق شيئا اه. كله من جامع ابن عبد البر رحمه الله.
واعلم أن حاصل جميع حجج المقلدين منحصر في قولهم: نحن معاشر المقلدين ممتثلون قول الله تعالى: * (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) *.
فأمر سبحانه من لا علم له أن يسأل من هو أعلم منه، وهذا نص قولنا.
وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم من لا يعلم إلى سؤال من يعلم، فقال في حديث صاحب الشجة: (ألا سألوا إذا لم يعلموا، إنما شفاء العيي السؤال).
وقال أبو العسيف: الذي زنى بامرأة مستأجرة:
(وإني سألت أهل العلم فأخبروني أن ما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم فلم ينكر عليه تقليد من هو أعلم منه):
وهذا عالم الأرض عمر قد قلد أبا بكر.
فروى شعبة عن عاصم الأحول، عن الشعبي أن أبا بكر قال في الكلالة: أقضي فيها فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله منه بريء: هو ما دون الولد والوالد، فقال عمر بن الخطاب إنني لأستحيي من الله أن أخالف أبا بكر.
وصح عنه أنه قال له:
رأينا لرأيك تبع، وصح عن ابن مسعود أنه كان يأخذ بقول عمر.
وقال الشعبي عن مسروق: كان ستة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتون الناس ابن مسعود وعمر بن الخطاب وعلي وزيد بن ثابت وأبي بن كعب وأبو موسى.
وكان ثلاثة منهم يدعون قولهم لقول ثلاثة.
316

كان عبد الله يدع قوله لقول عمر، وكان أبو موسى يدع قوله لقول علي، وكان زيد يدع قوله لقول أبي بن كعب.
وقال جندب: ما كنت أدع قول ابن مسعود لقول أحد من الناس.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن معاذا قد سن لكم سنة فكذلك فافعلوا) في شأن الصلاة حيث أخر فصلى ما فاته من الصلاة مع الإمام بعد الفراغ، وكانوا يصلون ما فاتهم أولا ثم يدخلون مع الإمام.
قال المقلدة:
وقد أمر الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر وهم العلماء أو العلماء والأمراء، وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به.
فإنه لولا التقليد لم يكن هناك طاعة تختص بهم.
وقال تعالى: * (والسابقون الا ولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه) *.
وتقليدهم اتباع لهم ففاعله ممن رضي الله عنهم، ويكفي ذلك الحديث المشهور. (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم).
وقال عبد الله بن مسعود: من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدي المستقيم.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي).
وقال: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر واهتدوا بهدي عمار وتمسكوا بعهد ابن أم عبد).
وقد كتب عمر إلى شريح: أن اقض بما في كتاب الله فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قضى به الصالحون.
317

وقد منع عمر عن بيع أمهات الأولاد وتبعه الصحابة.
وألزم بالطلاق الثلاث فتبعوه أيضا.
واحتلم مرة، فقال له عمرو بن العاص: خذ ثوبا غير ثوبك فقال لو فعلتها صارت سنة.
وقال أبي بن كعب وغيره من الصحابة: ما استبان لك فاعمل به، وما اشتبه عليك فكله إلى عالمه.
وقد كان الصحابة يفتون ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي بين أظهرهم.
وهذا تقليد لهم قطعا.
إذ قولهم لا يكون حجة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد قال تعالى: * (فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) * فأوجب عليهم قبول ما أنذروهم به إذا رجعوا إليهم.
وهذا تقليد منهم للعلماء.
وصح عن ابن الزبير، أنه سئل عن الجد والإخوة، فقال:
أما الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذته خليلا، فإنه أنزله أبا.
وهذا ظاهر في تقليده له.
وقد أمر الله سبحانه بقبول شهادة الشاهد، وذلك تقليد له.
وجاءت الشريعة، بقبول قول القائف، والخارص والقاسم والمقوم للمتلفات، وغيرها والحاكمين بالمثل، في جزاء الصيد وذلك تقليد محض.
وأجمعت الأمة على قبول قول المترجم والرسول والمعرف والمعدل، وإن اختلفوا في جواز الاكتفاء بواحد، وذلك تقليد محض لهؤلاء.
وأجمعوا على جواز شراء اللحمان، والثياب والأطعمة وغيرها، من غير سؤال عن أسباب حلها، وتحريمها اكتفاء بتقليد أربابها.
ولو كلف الناس كلهم الاجتهاد وأن يكونوا علماء فضلاء لضاعت مصالح العباد، وتعطلت الصنائع والمتاجر، وكان الناس كلهم علماء مجتهدين.
وهذا مما لا سبيل إليه شرعا، والقدر قد منع من وقوعه.
318

وقد أجمع الناس على تقليد الزوج، للنساء اللاتي يهدين إليه زوجته وجواز وطئها تقليدا لهن في كونها هي زوجته.
وأجمعوا على أن الأعمى يقلد في القبلة، وعلى تقليد الأئمة في الطهارة، وقراءة الفاتحة، وما يصح به الاقتداء، وعلى تقليد الزوجة مسلمة كانت أو ذمية أن حيضها قد انقطع فيباح للزوج وطؤها بالتقليد.
ويباح للولي تزويجها بالتقليد لها في انقضاء عدتها.
وعلى جواز تقليد الناس للمؤذنين في دخول أوقات الصلوات.
ولا يجب عليهم الاجتهاد ومعرفة ذلك بالدليل.
وقد قالت الأمة السوداء لعقبة بن الحرث: أرضعتك وأرضعت امرأتك، فأمره صلى الله عليه وسلم بفراقها، وتقليدها فيما أخبرته به من ذلك.
وقد صرح الأئمة بجواز التقليد، فقال حفص بن غياث: سمعت سفيان يقول: إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه وأنت ترى تحريمه فلا تنهه.
وقال محمد بن الحسن: يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه، ولا يجوز له تقليد من هو مثله.
وقد صرح الشافعي بالتقليد فقال: في الضبع بعير، قلته تقليدا لعمر.
وقال في مسألة بيع الحيوان بالبراءة من العيوب، قلته تقليدا لعثمان.
وقال في مسألة الجد مع الإخوة إنه يقاسمهم ثم قال: وإنما قلت بقول زيد. وعنه قبلنا أكثر الفرائض.
قال في موضع آخر من كتابه الجديد، قلته تقليدا العطاء.
وهذا أبو حنيفة رحمه الله في مسائل الآبار ليس معه فيها إلا تقليد من تقدمه من التابعين فيها وهذا مالك لا يخرج عن عمل أهل المدينة.
ويصرح في موطئه بأنه أدرك العمل على هذا، وهو الذي عليه أهل العلم ببلدنا.
319

ويقول في غير موضع: ما رأيت أحدا اقتدى به يفعله، ولو جمعنا ذلك من كلامه لطال.
وقد قال الشافعي في الصحابة: رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا، ونحن نقول ونصدق أن رأي الشافعي والأئمة معه لنا خير من رأينا لأنفسنا.
وقد جعل الله سبحانه في فطر العباد تقليد المتعلمين للأستاذين والمعلمين ولا تقوم مصالح الخلق إلا بهذا.
وذلك عام في كل علم وصناعة.
وقد فاوت الله سبحانه بين قوي الأذهان، كما فاوت بين الأبدان، فلا يحسن في حكمته وعدله ورحمته أن يفرض على جميع خلقه معرفة الحق بدليله، والجواب عن معارضه في جميع مسائل الدين دقيقها وجليلها.
ولو كان كذلك لتساوت أقدام الخلائق في كونهم علماء، بل جعل سبحانه تعالى هذا عالما، وهذا متعلما وهذا متبعا للعالم مؤتما به بمنزلة المأموم مع الإمام والتابع مع المتبوع، وأين حرم الله تعالى على الجاهل أن يكون متبعا للعالم مؤتما به مقلدا له يسير بسيره وينزل بنزوله.
وقد علم الله سبحانه أن الحوادث والنوازل كل وقت نازلة بالخلق، فهل فرض على كل منهم عين، أن يأخذ حكم نازلة من الأدلة الشرعية بشروطها ولوازمها؟
وهل ذلك في إمكان أحد فضلا عن كونه مشروعا؟
وهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحوا البلاد، وكان الحديث العهد بالإسلام يسألهم فيفتونه.
ولا يقولون له عليك أن تطلب معرفة الحق في هذه الفتوى بالدليل ولا يعرف ذلك عن أحد منهم البتة.
وهل التقليد إلا من لوازم التكليف ولوازم الوجود؟ فهو من لوازم الشرع والقدر.
والمنكرون له مضطرون إليه ولا بد. وذلك فيما تقدم بيانه من الأحكام وغيرها.
ونقول لمن احتج على إبطاله: كل حجة أثرية ذكرتها فأنت مقلد لحملتها ورواتها إذ لم يقم دليل قطعي على صدقهم، فليس بيدك إلا تقليد الراوي.
320

وليس بيد الحاكم إلا تقليد الشاهد، وكذلك ليس بيد العامي إلا تقليد العالم.
فما الذي سوغ لك تقليد الراوي والشاهد ومنعنا من تقليد العالم، وهذا سمع بأذنه ما رواه.
وهذا عقل بقلبه ما سمعه فأدى هذا مسموعه، وأدى هذا معقوله.
وفرض على هذا تأدية ما سمعه، وعلى هذا تأدية ما عقله، وعلى من لم يبلغ منزلتهما القبول منهما.
ثم يقال للمانعين من التقليد أنتم منعتموه خشية وقوع المقلد في الخطأ، بأن يكون مقلده مخطئا في فتواه، ثم أوجبتم عليه النظر والاستدلال في طلب الحق.
ولا ريب أن صوابه في تقليده للعالم أقرب من صوابه في اجتهاده هو لنفسه.
وهذا كمن أراد شراء سلعة لا خبرة له بها، فإنه إذا قلد عالما بتلك السلعة خبيرا بها أمينا ناصحا كان صوابه وحصول غرضه أقرب من اجتهاده لنفسه، وهذا متفق عليه بين العقلاء ا ه.
هذا هو غاية ما يحتج به المقلدون، وقد ذكره ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين، وبين بطلانه من واحد وثمانين وجها.
وسنذكر هنا إن شاء الله جملا مختصرة من كلامه الطويل تكفي المنصف.
وتزيد المسألة إن شاء الله إيضاحا وإقناعا.
قال في إعلام الموقعين بعد ذكره حجج المقلدين التي ذكرناها آنفا ما نصه:
قال أصحاب الحجة:
عجبا لكم معاشر المقلدين، الشاهدين على أنفسهم مع شهادة أهل العلم بأنهم ليسوا من أهله، ولا معدودين في زمرة أهله.
كيف أبطلتم مذهبكم، بنفس دليلكم، فما للمقلد وما للاستدلال؟
وأين منصب المقلد من منصب المستدل؟
وهل ما ذكرتم من الأدلة إلا ثيابا استعرتموها، من صاحب الحجة فتجملتم بها، بين الناس، وكنتم في ذلك متشبهين بما لم تعطوه، ناطقين من العلم بما شهدتم على أنفسكم أنكم لم تؤتوه، وذلك ثوب زور لبستموه، ومنصب لستم من أهله غصبتموه.
فأخبرونا، هل صرتم إلى التقليد لدليل قادكم إليه، وبرهان دلكم عليه، فنزلتم به من
321

الاستدلال أقرب منزل، وكنتم به عن التقليد بمعزل، أم سلكتم سبيله اتفاقا، وتخمينا من غير دليل.
وليس إلى خروجكم عن أحد هذين القسمين، سبيل، وأيهما كان فهو بفساد مذهب التقليد حاكم، والرجوع إلى مذهب الحجة منه لازم.
ونحن إن خاطبناكم بلسان الحجة، قلتم لسنا من أهل هذه السبيل، وإن خاطبناكم بحكم التقليد، فلا معنى لما أقمتموه من الدليل.
والعجب أن كل طائفة من الطوائف، وكل أمة من الأمم، تدعي أنها على حق، حاشا فرقة التقليد، فإنهم لا يدعون ذلك، ولو ادعوه لكانوا مبطلين، فإنهم شاهدون على أنفسهم بأنهم لم يعتقدوا تلك الأقوال لدليل قادهم إليها، وبرهان دلهم عليها، وإنما سبيلهم محض التقليد.
والمقلد لا يعرف الحق من الباطل، ولا الحالي من العاطل.
وأعجب من هذا أن أئمتهم نهوهم عن تقليدهم فعصوهم وخالفوهم، وقالوا نحن على مذاهبهم، وقد دانوا بخلافهم في أصل المذهب الذي بنوا عليه.
فإنهم بنوا على الحجة ونهوا عن التقليد وأوصوهم إذا ظهر الدليل أن يتركوا أقوالهم ويتبعوه، فخالفوهم في ذلك كله.
وقالوا نحن من أتباعهم، تلك أمانيهم، وما أتباعهم إلا من سلك سبيلهم، واقتفى آثارهم في أصولهم وفروعهم.
وأعجب من هذا أنهم مصرحون في كتبهم ببطلان التقليد، وتحريمه، وأنه لا يحل القول به في دين الله.
ولو اشترط الإمام على الحاكم أن يحكم بمذهب معين لم يصح شرطه ولا توليته.
ومنهم من صحح التولية وأبطل الشرط.
وكذلك المفتي عليه الإفتاء بما لا يعلم صحته باتفاق الناس.
والمقلد لا علم له بصحة القول وفساده إذ طريق ذلك مسدودة عليه.
ثم كل منهم يعرف من نفسه أنه مقلد لمتبوعه لا يفارق قوله، ويترك له كل ما خالفه
322

من كتاب أو سنة أو قول صاحب، أو قول من هو أعلم من متبوعه أو نظيره.
وهذا من أعجب العجب.
وأيضا فإنا نعلم بالضرورة، أنه لم يكن في عصر الصحابة، رجل واحد اتخذ رجلا منهم يقلده في جميع أقواله، فلم يسقط منها شيئا وأسقط أقوال غيره، فلم يأخذ منها شيئا.
ونعلم بالضرورة، أن هذا لم يكن في عصر التابعين، ولا تابعي التابعين.
فليكذبنا المقلدون برجل واحد، سلك سبيلهم الوخيمة، في القرون الفضيلة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإنما حدثت هذه البدعة في القرن الرابع المذموم على لسانه صلى الله عليه وسلم.
فالمقلدون لمتبوعهم في جميع ما قالوه، يبيحون به الفروج، والدماء والأموال، ويحرمونها ولا يدرون أذلك صواب أم خطأ على خطر عظيم، ولهم بين يدي الله موقف شديد يعلم فيه من قال على الله ما لا يعلم أنه لم يكن على شي اه محل الغرض منه بلفظه.
وعلى كل حال فأنتم أيها المقلدون: تقولون إنه لا يجوز العمل بالوحي إلا بخصوص المجتهدين فلم سوغتم لأنفسكم الاستدلال على التقليد بآية: * (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) *، وآية * (فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة) *.
هل رجعتم عن قولكم بأن الاستدلال بالوحي لا يجوز لغير المجتهد، أو ارتكبتم ما تعتقدون أنه حرم من استدلالكم بالقرآن مع شدة بعدكم عن رتبة الاجتهاد؟
وفي هذا رد إجمالي ما استدللتم به على التقليد الذي أنتم عليه.
ثم يقال: أليست هذه الآيات التي استدللتم بها في زعمكم، من ظواهر الكتاب، التي سن لكم الصاوي وأمثاله، أن العمل بها من أصول الكفر.
فإنه لم يستثن شيئا من ظواهر القرآن يكون العمل به ليس من أصول الكفر.
فلم تجرأتم على شيء هو من أصول الكفر وسوغتم لأنفسكم الاستدلال بالقرآن، مع أنه لا يجوز عندكم إلا للمجتهدين.
وسنذكر رد استدلال المقلدين تفصيلا، بإيجاز إن شاء الله تعالى.
323

أما استدلالهم بآية * (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) * فهو استدلال في غير محله.
فإن الآية لا تدل على هذا النوع من التقليد الأعمى الذي هو عليه من التزام جميع أقوال رجل واحد وترك جميع ما سواها.
ولا شك أن المراد بأهل الذكر أهل الوحي الذين يعلمون ما جاء من عند الله كعلماء الكتاب والسنة.
فقد أمروا أن يسألوا أهل الذكر ليفتوهم بمقتضى ذلك الذكر الذي هو الوحي.
ومن سأل عن الوحي وأعلم به، وبين له كان عمله به اتباعا للوحي لا تقليدا واتباع الوحي لا نزاع في صحته.
وإن كانت الآية تدل على نوع تقليد في الجملة، فهي لا تدل إلا على التقليد الذي قدمنا أنه لا خلاف فيه بين المسلمين، وهو تقليد العامي الذي تنزل به النازلة عالما من العلماء، وعمله بما أفتاه به من غير التزام منه لجميع ما يقوله ذلك العالم، ولا تركه لجميع ما يقوله غيره.
وأما استدلالهم بالحديث الوارد في الرجل الذي أصابته شجة في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه: هل يعلمون له رخصة في التيمم؟
فقالوا: ما نرى لك رخصة وأنت قادر على الماء، فاغتسل فمات.
فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال (قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العيي السؤال).
فهو استدلال أيضا في غير محله، وهو حجة أيضا على المقلدين لا لهم.
قال في إعلام الموقعين في بيان وجه ذلك ما نصه:
إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أرشد المستفتين، كصاحب الشجة بالسؤال عن حكمه، وسنته فقال:
قتلوه قتلهم الله، فدعا عليهم حين أفتوا بغير علم.
وفي هذا تحريم الإفتاء بالتقليد.
فإنه ليس علما باتفاق الناس.
فإنما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاعله، فهو حرام وذلك أحد أدلة التحريم.
فما احتج به المقلدون هو من أكبر الحجج عليهم.
وكذلك سؤال أبي العسيف الذي زنى بامرأة مستأجرة لأهل العلم.
فإنه لما أخبروه
324

بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في البكر الزاني أقره على ذلك، ولم ينكره، فلم يكن سؤالهم عن رأيهم ومذاهبهم.
وأما استدلالهم بأن عمر قال في الكلالة: إني لأستحيي من الله أن أخالف أبا بكر، وأن ذلك تقليد منه له. فلا حجة لهم فيه أيضا.
وخلاف عمر لأبي بكر رضي الله عنهما أشهر من أن يذكر.
كما خالفه في سبي أهل الردة فسباهم أبو بكر، وخالفه عمر.
وبلغ خلافه إلى أن ردهن حرائر إلى أهلهن إلا لمن ولدت لسيدها منهن.
ونقص حكمه، ومن جملتهن خولة الحنفية أم محمد بن علي.
وخالفه في أرض العنوة فقسمها أبو بكر ووقفها عمر.
وخالفه في المفاضلة في العطاء، فرأى أبو بكر التسوية، ورأى عمر المفاضلة.
وخالفه في الاستخلاف، فاستخلف أبو بكر عمر على المسلمين، ولم يستخلف عليهم عمر أحدا إيثارا لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على فعل أبي بكر رضي الله عنهم.
وخالفه في الجد والإخوة، مع أن خلاف أبي بكر الذي استحيي منه عمر هو خلافه في قوله: إن يكون صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله منه برئ، هو ما دون الولد والوالد فاستحيى عمر من مخالفة أبي بكر في اعترافه بجواز الخطأ عليه، وأنه ليس كلامه كله صوابا مأمونا عليه الخطأ.
ويدل على ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أقر عند موته أنه لم يقض في الكلالة بشيء.
وقد اعترف أنه لم يفهمها، قاله في إعلام الموقعين. ومن العجب استدلال المقلدين على تقليدهم، باستحياء عمر من مخالفة أبي بكر، مع أنهم لم يستحيوا من مخالفة أبي بكر وعمر، وجميع الصحابة، ومخالفة الكتاب والسنة إذا كان ذلك، لا يوافق مذهب إمامهم، كما هو معلوم من عادتهم.
وكما أوضحه الصاوي في الكلام الذي قدمنا على قوله تعالى: * (ولا تقولن لشىء إنى فاعل ذالك غدا إلا أن يشآء الله) *.
325

فقد قدمنا هناك أنه قال: إن من خرج عن المذاهب الأربعة فهو ضال مضل، ولو وافق الصحابة، والحديث الصحيح والآية.
وربما أداه ذلك إلى الكفر، لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفرا
فمن هذا مذهبه ودينه، وكيف يستدل باستحياء عمر من مخالفة أبي بكر؟
بل كيف يستدل بنص من نصوص الوحي، أو قول أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
مع أن أبا بكر خليفة راشد أمر النبي بالاقتداء به في قوله: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) الحديث.
فليس الاقتداء بالخلفاء كالاقتداء بغيرهم.
وأما استدلالهم على تقليدهم بقول عمر لأبي بكر رضي الله عنهما: رأينا لرأيك تبع.
فيكفي في رده ما قدمنا قريبا، من مخالفة عمر لأبي بكر، مع القصة التي قال له فيها: رأينا لرأيك تبع، رد فيها على أبي بكر بعض ما قاله.
وأيد الصحابة ما قال عمر في رده على أبي بكر رضي الله عنهما.
لأن الحديث المذكور في وفد بزاخة من أسد وغطفان حين قدموا على أبي بكر يسألونه الصلح، فخيرهم أبو بكر بين الحرب المجلية والسلم المخزية.
فقالوا هذه المجلية قد عرفناها. فما المخزية؟
قال: تنزع منكم الحلقة والكراع، ونغنم ما أصبنا لكم وتردون لنا ما أصبتم منا؟ وتدون لنا قتلانا إلى آخر كلامه.
وفيه: فقام عمر بن الخطاب فقال: قد رأيت رأيا سنشير عليك.
أما ما ذكرت من الحرب المجلية والسلم المخزية فنعم ما ذكرت.
وما ذكرت من أن نغنم ما أصبنا منكم، وتردون ما أصبتم منا، فنعم ما ذكرت.
وأما ما ذكرت من أن تدون قتلانا وتكون قتلاكم في النار.
فإن قتلانا قد قاتلت فقتلت على ما أمر الله أجورها على الله، ليس لها ديات.
فتتابع القوم على ما قال عمر رضي الله عنه.
فهذه القصة الثابتة: هي التي في بعض ألفاظها ورأينا لرأيك تبع.
326

وأنت ترى عمر رضي الله عنه لم يقلد فيها أبا بكر رضي الله عنه، إلا فيما يعتقد صوابه.
فإنما ظهر له أنه صواب قال له فيه: نعم ما ذكرت.
وما ظهر له أنه ليس بصواب رده على أبي بكر، وهو قول أبي بكر بدفع ديات الشهداء.
لأن عمر يعتقد أن الشهيد في سبيل الله لا دية له، لأن الله يقول: * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرءان ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به وذالك هو الفوز العظيم) *.
وذلك يوضح ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم لا يعدلون عن الكتاب والسنة إلى قول أحد.
وأما احتجاجهم بتقليد ابن مسعود لعمر فهو ظاهر السقوط، ولو وافق عمر في بعض المسائل فهو من قبيل موافقة بعض العلماء لبعض، لاتفاق رأيهم لا لتقليد بعضهم لبعض.
وقد خالف ابن مسعود عمر رضي الله عنهما في مسائل كثيرة جدا، كمخالفته له في أم الولد، لأن ابن مسعود يقول فيها إنها تعتق من نصيب ولدها، ومن ذلك أن ابن مسعود كان يطبق في ركوعه إلى أن مات، وعمر كان يضع يديه على ركبتيه.
وكان ابن مسعود يقول في الحرام هي يمين وعمر يقول: إنه طلقة واحدة.
وكان ابن مسعود يحزم النكاح بين الزانيين وعمر يتوبهما، وينكح أحدهما الآخر.
وكان ابن مسعود يرى بيع الأمة طلاقها، وعمر يرى عدم ذلك وأمثال هذا كثيرة معلومة.
مع أن ابن مسعود يقول: إنه أعلم الصحابة بكتاب الله وأنه لو كان أحدا أعلم منه به لرحل إليه.
ولم ينكر عليه أحد من الصحابة.
وقد قدمنا عنه قوله: كن عالما أو متعلما ولا تكن إمعة.
فليس ابن مسعود من أهل التقليد، مع أن المقلدين المحتجين بتقليد ابن مسعود
327

لعمر، لا يقلدون ابن مسعود، ولا عمر ولا غيرهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا يأخذون بقول الله ولا رسوله وإنما يفضلون على ذلك كله تقليد أحد الأئمة أصحاب المذاهب رحمهم الله.
وأما استدلالهم على التقليد بأن عبد الله كان يدع قوله لقول عمر.
وأبو موسى كان يدع قوله لقول علي.
وزيد يدع قوله لقول أبي بن كعب فهو ظاهر السقوط أيضا.
لأنه من المعلوم أن الصحابة المذكورين رضي الله عنهم لا يدعون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول أحد، وهذا لا شك فيه.
وكان ابن عمر يدع قول عمر، إذا ظهرت له السنة.
وكان ابن عباس يقول: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر.
وأما استدلالهم على التقليد بأن معاذا رضي الله عنه صلى مسبوقا فصلى ما أدرك مع الإمام أولا، ثم قضى ما فاته بعد سلام الإمام، وكانوا قبل ذلك يصلون ما فاتهم أولا ثم يدخلون مع الإمام في الباقي.
وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ذلك (إن معاذا قد سن لكم سنة، فكذلك فافعلوا) فهو ظاهر السقوط أيضا، لأن ذلك لم يكن سنة إلا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما لا يخفى.
فلا حجة قطعا في قول أحد كائنا من كان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم موجود.
وإنما العبرة بقوله صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره.
وهذا معلوم بالضرورة من الدين.
وأما استدلالهم على التقليد بقوله تعالى: * (يأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الا مر منكم) *.
قائلين إن المراد بأولي الأمر العلماء، وأن طاعتهم المأمور بها في الآية هي تقليدهم، فهو ظاهر السقوط أيضا.
لأنه لا يجوز طاعة أولي الأمر إجماعا فيما خالف كتابا أو سنة، ولا طاعة لهم إلا في المعروف كما جاءت به الأحاديث الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم.
328

ولا نزاع بين المسلمين في أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
والتحقيق في معنى الآية الكريمة أن المراد بأولي الأمر: ما يشمل الأمراء والعلماء.
لأن العلماء مبلغون عن الله وعن رسوله، والأمراء منفذون، ولا تجوز طاعة أحد منهم إلا فيما أذن الله فيه.
لأن ما أمر به أولو الأمر لا يخلو من أحد أمرين:
أحدهما: أن يكون طاعة لله ولرسوله من غير نزاع، وطاعة أولي الأمر في مثل هذا من طاعة الله ورسوله.
والثاني: أن يحصل فيه نزاع هل هو من طاعة الله ورسوله أو لا؟
وفي هذه الحالة لا تجوز الطاعة العمياء لأولي الأمر ولا التقليد الأعمى كما صرح الله تعالى بذلك في نفس الآية.
لأنه تعالى لما قال: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الا مر منكم) *، أتبع ذلك بقوله: * (فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الا خر ذالك خير وأحسن تأويلا) *.
فالآية صريحة في رد كل نزاع إلى الله ورسوله.
والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، هو الرد إليه في حياته، والرد إلى سنته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
وقد قدمنا في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى: * (إني جاعل فى الأرض خليفة) * بعض الأحاديث الصحيحة الدالة على أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، كحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة).
وحديث علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في السرية الذين أمرهم أميرهم أن يدخلوا في النار (لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا إنما الطاعة في المعروف).
وفي الكتاب العزيز: * (ولا يعصينك فى معروف) *.
ولا يخفى أن طاعة الله وطاعة رسوله المأمور بها في الآية لا يتحقق وجودها إلا بمعرفة أمر الله ورسوله ونهي الله ورسوله.
329

والمقلدون مقرون على أنفسهم بأنهم لا يعلمون أمر الله ولا نهيه، ولا أمر رسوله ولا نهيه.
وغاية ما يدعون علمه هو أن الإمام الذي قلدوه قال كذا، مع عجزهم عن التمييز بين ما هو خطأ وما هو صواب، بل أكثرهم لا يميزون بين قول الإمام وبين ما ألحقه أتباعه بعده مما قاسوه على أصول مذهبه.
ولا شك أن طاعة العلماء هي اقتفاء ما كانوا عليه من النظر في كتاب الله وسنة رسوله وتقديمها على كل قول وعلى كل رأي كائنا ما كان.
فمن قلدهم التقليد الأعمى وترك الكتاب والسنة لأقوالهم، فهو المخالف لهم المتباعد عن طاعتهم كما تقدم، وكما سيأتي إن شاء الله.
وأما استدلالهم على التقليد بقوله تعالى: * (والسابقون الا ولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه) *، قائلين: إن تقليدهم من جملة اتباعهم بإحسان، فمقلدهم ممن رضي الله عنه بنص الآية فهو ظاهر السقوط أيضا.
لأن الذين اتبعوهم بإحسان هم الذين ساروا على مثل ما كانوا عليه من العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فلم يكن أحد منهم يقلد رجلا ويترك الكتاب والسنة لقوله.
فالمقلدون التقليد الأعمى ليسوا ممن اتبعوهم البتة، بل هم أعظم الناس مخالفة لهم، وأبعدهم عن اتباعهم، فأتبع الناس لمالك مثلا ابن وهب ونظراؤه، ممن يعرضون أقواله على الكتاب والسنة، فيأخذون منها ما وافقهما دون غيره.
وأتبع الناس لأبي حنيفة أبو يوسف ومحمد مع كثرة مخالفتهما له، لأجل الدليل من كتاب أو سنة.
وأتبع أصحاب أحمد بن حنبل له البخاري ومسلم وأبو داود والأثرم لتقديمهم الدليل على قوله وقول غيره، وهكذا.
وأما استدلالهم على تقليدهم: بحديث (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) فهو ظاهر السقوط أيضا.
330

اعلم أولا أن الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به.
فجميع طرقه ليس فيها شيء قائم، قال في إعلام الموقعين:
روى هذا الحديث من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر، ومن حديث سعيد بن المسيب عن ابن عمر.
ومن طريق حمزة الجري عن نافع عن ابن عمر، ولا يثبت شيء منها.
قال ابن عبد البر حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد أن أبا عبد الله بن مضرح حدثهم ثنا محمد بن أيوب الصموت قال: قال لنا البزار.
وأما ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) فهذا الكلام لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. ا ه. منه.
وضعف الحديث المذكور معروف عن أهل العلم.
مع أن المقلدين المحتجين به يمنعون تقليد الصحابة، ويحرمون الاهتداء بتلك النجوم.
وهو تناقض عجيب لأنهم تركوا نفس ما دل عليه الحديث واستدلوا بالحديث على ما لم يتعرض له الحديث، وهو تقديمهم تقليد أئمتهم على تقليد الصحابة.
مع أن قياسهم على الصحابة لا يصح لعظم الفارق، وبما ذكرنا تعلم سقوط استدلالهم بما ذكروا عن ابن مسعود من قوله:
(من كان مستنا منكم فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب محمد).
والله جل وعلا يقول: * (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) *.
وأما استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي).
وقوله صلى الله عليه وسلم (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) فهو حجة عليهم لا لهم.
لأن سنة الخلفاء الراشدين التي حث عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرونة بسنته ليس فيها البتة تقليد أعمى، ولا التزام قول رجل بعينه.
331

بل سنتهم هي اتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتقديمهما على كل شيء.
لأنهم هم أتبع الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأشدهم حرصا على العمل بما جاء به.
فالذي يقدم آراء الرجال على كتاب الله وسنة رسوله ويستدل على ذلك بحديث (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) الحديث، هو كما ترى.
وأقوال الخلفاء رضي الله عنهم وأفعالهم كلها معروفة مدونة إلى الآن ليس فيها تقليد أعمى ولا جمود على قول رجل واحد.
وإنما هي عمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومشاورة لأصحابه فيما نزل من النوازل واستنباط ما لم يكن منصوصا من نصوص الكتاب والسنة على أحسن الوجوه وأتقنها، وأقربها لرضى الله والاحتياط في طاعته.
وكانوا إذا بلغهم شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجعوا إليه ولو كان مخالفا لرأيهم.
فقد رجع أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى قول المغيرة بن شعبة، ومحمد بن مسلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض للجدة السدس.
وكان أبو بكر يرى أنها لا ميراث لها، وقد قال لها لما جاءته (لا أرى لك شيئا في كتاب الله ولا أعلم لك شيئا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقد رجع عمر إلى قول المذكورين في دية الجنين أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فيها غرة عبد أو وليدة.
ورجع عمر أيضا إلى حديث عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر.
ورجع عمر أيضا إلى قول الضحاك بن سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها.
ورجع عثمان بن عفان إلى حديث فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بالسكنى في البيت الذي توفي عنها زوجها وهي فيه حتى تنقضي عدتها.
وكان عثمان بعد ذلك يفتي بوجوب السكنى للمتوفى عنها حتى تنقضي عدتها.
332

وأمثال هذا أكثر من أن تحصى، وفي ذلك بيان واضح، لأن سنة الخلفاء الراشدين هي المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتقديم سنته على كل شيء، فعلينا جميعا أن نعمل بمثل ما كانوا يعملون لنكون متبعين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنتهم.
أما المقلد المعرض عن سنتهم، وعن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مفضلا على ذلك تقليد أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد رحمهم الله، فما كان يحق له أن يستدل بحديث (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) الحديث لأنه مقر بمقتضى تقليده، بأنه أبعد الناس عن العمل بحديث (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) الحديث.
وأما استدلالهم، بأن عمر كتب إلى شريح:
أن اقض بما في كتاب الله فإن لم يكن في كتاب الله فبما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن في سنة رسول الله، فيما قضى به الصالحون فهو حجة عليهم أيضا لا لهم.
لأن فيه تقديم كتاب الله، ثم سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم العمل بما قضى به الصالحون، وخيرهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو كان المقلدون يمتثلون هذا، لما أنكر عليهم أهل العلم، ولكن المقلدين المحتجين بهذا يمنعون العمل بكتاب الله وسنة رسوله، والعمل بفتاوى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويوجبون الجمود على قول الإمام الذي قلدوه والتزموا بمذهبه.
ومن كانت هذه حاله، فلا يحق له أن يستدل بشيء من هذه الأدلة.
وأما استدلالهم بأن عمر رضي الله عنه منع بيع أمهات الأولاد فتبعه الصحابة.
وألزم الطلاق الثلاث بكلمة واحدة وتبعه الصحابة.
فهو ظاهر السقوط أيضا.
وقد قدمنا أن متابعة بعض الصحابة لبعض إنما هي لاتفاقهم فيما رأوه، لا لأن بعضهم مقلد بعضا تقليدا أعمى.
وقد قدمنا إيضاح ذلك بما يكفي.
مع أن المقلدين المحتجين بهذا يمنعون تقليد عمر، وسائر الصحابة، فمن عجائبهم أنهم يستدلون بما يعتقدون أن العمل به ممنوع.
333

وأما استدلالهم بأن عمرو بن العاص قال لعمر لما احتلم: خذ ثوبا غير ثوبك، فقال لو فعلت صارت سنة. فهو ظاهر السقوط أيضا.
لأن عمر بن الخطاب خاف أن يفعل شيئا فيعتقد من لا علم عنده أنه إنما فعله لكونه سنة، فامتنع من فعله لأجل هذا المحذور.
مع أن المقلد يرى منع تقليد عمر رضي الله عنه.
وأما استدلالهم بما ذكروه عن أبي وغيره أنه قال:
ما استبان لك فاعمل به، وما اشتبه عليك فكله إلى عالمه، فهو حجة عليهم أيضا لا لهم.
لأن قوله: ما استبان لك فاعمل به، صريح في أن ما استبان من كتاب الله وسنة رسوله، يجب العمل به ولا يجوز العدول عنه لقول أحد.
وهذا نقيض ما عليه المقلدون، فهم دائما يستدلون على مذهبهم بما يناقضه.
والأظهر أن مراد أبي بن كعب بقوله: فكله إلى عالمه، أي فكل علمه إلى الله.
فمراده بما اشتبه المتشابه، ومراده بعالمه الله.
فهو يشير إلى قوله تعالى: * (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغآء الفتنة وابتغآء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون ءامنا به كل من عند ربنا) *.
فالذين قالوا آمنا به كل من عند ربنا، فقد وكلوا ما اشتبه عليهم إلى عالمه وهو الله.
ويحتمل أن يكون مراد أبي بقوله: فكله إلى عالمه أي فكله إلى من هو أعلم به منك من العلماء.
وهذا هو الذي فهمه ابن القيم في إعلام الموقعين من كلام أبي.
وعلى هذا الاحتمال فلا حجة فيه أيضا للمقلدين لأن من خفي عليه شيء من العلم فوكله إلى من هو أعلم به منه، فقد أصاب.
ولا يلزم من ذلك الإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله بل هو عمل بالقرآن لقوله تعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) *.
334

وأما استدلالهم على تقليدهم بأن الصحابة كانوا يفتون ورسول الله صلى الله عليه وسلم موجود بين أظهرهم، وأن ذلك تقليد لهم فهو ظاهر السقوط أيضا.
لأنهم ما كانوا يفتونهم في حالة وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم إلا بما علمهم من الكتاب والسنة كما لا يخفى.
ومن أفتى منهم وغلط في فتواه أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم فتواه التي ليست مطابقة للحق، وردها عليه كإنكاره على أبي السنابل بن بعكك قوله لسبيعة الأسلمية لما مات زوجها ووضعت حملها بعد ذلك بأيام:
(إنها لا تنقضي عدتها إلا بعد أربعة أشهر وعشر ليال).
وقد استدل أبو السنابل على ما أفتى به بعموم قوله تعالى: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) *.
وقد رد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فتواه مبينا أن عموم قوله تعالى: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا) *، مخصص بقوله تعالى: * (وأولات الا حمال أجلهن أن يضعن حملهن) *.
وكإنكاره صلى الله عليه وسلم على الذين أفتوا صاحب الشجة بأنهم لم يجدوا له رخصة وهو يقدر على الماء.
وقد قدمنا قصته، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيهم: (قتلوه قتلهم الله) الحديث.
والظاهر أنهم استندوا في فتواهم لما فهموه من قوله تعالى * (فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا) * وغفلوا عن قوله: * (وإن كنتم مرضى) *، وأمثال هذا كثيرة.
وأما استدلالهم على التقليد بقوله تعالى * (فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) * قائلين إن الآية أوجبت قبول إنذارهم، وأن ذلك تقليد لهم، فهو ظاهر السقوط أيضا.
لأن الإنذار في قوله * (ولينذروا قومهم) * لا يكون برأي.
وإنما يكون بالوحي خاصة، وقد حصر تعالى الإنذار في الوحي بأداة الحصر التي هي إنما في قوله * (قل إنمآ أنذركم بالوحى) *.
وبه تعلم أن الإنذار لا يقوم إلا بالحجة فمن لم تقم عليه الحجة، لم يكن قد أنذر، كما
335

أن النذير من أقام الحجة، فمن لم يأت بحجة فليس بنذير.
فما لا شك فيه أن هذا الإنذار المذكور في قوله * (ولينذروا) *، والتحذير من مخالفته في قوله: * (لعلهم يحذرون) * ليس برأي ولا اجتهاد.
وإنما هو إنذار بالوحي ممن تفقه في الدين، وصار ينذر بما علمه من الدين، كما يدل عليه قوله تعالى قبله * (ليتفقهوا فى الدين) *، فهو يدل على أن قوله: * (ولينذروا قومهم) * أي بما تفقهوا فيه من الدين.
وليس التفقه في الدين إلا علم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فتبين أن الآية لا دليل فيها البتة لطائفة التقليد، الذين يوجبون تقليد إمام بعينه، من غير أن يرد من أقواله شيء، ولا يؤخذ من أقوال غيره شيء. ونجعل أقواله عيارا لكتاب الله وسنة رسوله فما وافق أقواله منهما قبل وما لم يوافقها منهما رد.
وهذا النوع من التقليد لا شك في بطلانه، وعدم جوازه.
فالآية الكريمة بعيدة كل البعد من الدلالة عليه، مع أن استدلال المقلدين بها على تقليدهم استدلال بشيء يعتقدون أن الاستدلال به ممنوع باتا، لأنه استدلال بقرآن.
وأما قبول إنذارهم فهو من الاتباع لا من التقليد، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله.
وأما استدلالهم بأن ابن الزبير، قال ما يدل على تقليده لأبي بكر الصديق رضي الله عنه في أن الجد يحجب الإخوة، فهو ظاهر السقوط أيضا.
وقد قدمنا مرارا في رد استدلالهم بتقليد الصحابة بعضهم بعضا ما يكفي، فأغنى عن إعادته هنا.
وأما استدلالهم بقبول شهادة الشاهد في الحقوق. قائلين: إن قبول شهادته فيما شهد به تقليد له، فهو ظاهر السقوط لظهور الفرق بينه وبين ما استدلوا عليه به. من تقليد رجل واحد بعينه، بحيث لا يترك من أقواله شيء ولا يؤخذ مما خالفها شيء، ولو كان كتابا أو سنة.
336

وذلك من وجهين.
أحدهما: أن العمل بشهادة الشاهد أخذ بكتاب الله وسنة رسوله، لأن الله يقول: * (وأشهدوا ذوى عدل منكم) * ويقول:
* (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهدآء) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم القضاء بالشاهد واليمين في الأموال.
وفي الحديث (شاهداك أو يمينه) وهو حديث صحيح.
فالأخذ بشهادة الشاهد إذا من العمل بكتاب الله وسنة رسوله لا من التقليد لرجل واحد بعينه تقليدا أعمى.
الوجه الثاني: أن الشاهد إنما يخبر عما أدركه بإحدى حواسه والمدرك بالحاسة يحصل به القطع لمن أدركه بخلاف الرأي، فإن صاحبه لا يقطع بصحة ما ظهر له من الرأي.
ولذا أجمع العلماء على الفرق بين خبر التواتر المستند إلى حس، وبين خبر التواتر المستند إلى عقل.
فأجمعوا على أن الأول يوجب العلم المفيد للقطع لاستناده إلى الحس.
وأن الثاني لا يوجبه، ولو كان خبر التواتر يفيد العلم في المعقولات لكان قدم العالم مقطوعا به.
لأنه تواتر عليه من الفلاسفة خلق لا يحصيهم إلا الله.
مع أن حدوث العالم أمر قطعي لا شك فيه.
فالذين تواتروا من الفلاسفة على قدم العالم الذي هو من المعقولات لا من المحسوسات لو تواتر عشرهم على أمر محسوس لأفاد العلم اليقيني فيه.
فالشاهد إن أخبر عن محسوس، وكان عدلا، فهو عدل مخبر عما قطع به قطعا لا يتطرق إليه الشك، بخلاف المجتهد، فإنه عدل أخبر عما ظنه، فوضوح الفرق بين الأمرين كما ترى.
337

وأما استدلالهم على تقليدهم بقبول قول القائف والخارص والمقوم والحاكمين بالمثل في جزاء الصيد.
وتقليد الأعمى في القبلة.
وتقليد المؤذنين في الوقب والمترجمين والمعرفين، والمعدلين، والمجرحين.
وتقليده المرأة في طهرها، فهو كله ظاهر السقوط أيضا.
لأن جميع ذلك لا يقبل منه إلا ما قام عليه دليل من كتاب أو سنة.
فالعمل به من العمل بالدليل الشرعي لا من التقليد الأعمى.
وذلك كله من قبيل الشهادة، والإخبار بما عرفه القائف والخارص إلى آخره، لا من قبيل الفتوى في الدين.
وقد استدل العلماء على قبول قول القائف بسرور النبي صلى الله عليه وسلم من قول مجزز بن الأعور المدلجي في أسامة وزيد (هذه الأقدام بعضها من بعض).
فلو كان قول القائف: لا يقبل لما أقره النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما برقت أسارير وجهه سرورا به.
فقبوله لذلك، فهو اتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد قدمنا الأحاديث النبوية الدالة على قبول قول الخارص، وبينا أن بعضها ثابت في الصحيح. ورد قول من منع ذلك في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: * (وءاتوا حقه يوم حصاده) *.
فهذا مثال ما ثبت بالسنة من قبول قول المذكورين.
ومثال ما دل عليه القرآن من ذلك قبول قول الحكمين في المثل في جزاء الصيد، لأن الله نص عليه في قوله تعالى * (فجزآء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم) *.
وهكذا كل من ذكروا، فإن قبول قولهم: إنما صح بدليل شرعي يدل على قبوله من كتاب أو سنة أو إجماع.
338

مع أن الإخبار عن جميع ما ذكر إخبار عن محسوس، والتقليد الذي استدلوا به عليه إخبار عن معقول مظنون.
والفرق بين الأمرين قدمناه قريبا، فليس شيء من ذلك تقليدا أعمى بدون حجة.
وأما استدلالهم على التقليد المذكور بجواز شراء اللحوم والثياب والأطعمة وغيرها من غير سؤال عن أسباب حلها اكتفاء بتقليد أربابها.
فهو ظاهر السقوط أيضا.
لأن الاكتفاء بقول الذابح والبائع ليس بتقليد أعمى في حكم ديني لهما.
وإنما هو عمل بالأدلة الشرعية، لأنها دلت على أن ما في أسواق المسلمين من اللحوم والسلع محمول على الجواز والصحة، حتى يظهر ما يخالف ذلك.
ومما يدل على ذلك، ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت (إن قوما قالوا يا رسول الله: إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: سموا عليه أنتم وكلوا، قال: وكانوا حديثي عهد بالكفر) قال المجد في المنتقى بعد أن ساق الحديث: رواه البخاري والنسائي وابن ماجة، وهو دليل على أن التصرفات والأفعال تحمل على حال الصحة والسلامة إلى أن يقوم دليل الفساد. اه منه.
وقد أجمع العلماء على هذا، فالعمل به عمل بالدليل الشرعي.
لأن الله لو كلف الناس ألا يشتري أحد منهم شيئا حتى يعلم حليته فوقعوا في حرج عظيم تتعطل به المعيشة ويختل به نظامها.
فأجاز الله تعالى ذلك برفع الحرج كما قال تعالى * (وما جعل عليكم فى الدين من حرج) * فالاستدلال به على التقليد الأعمى فاسد، لأنه أخذ بالحجة والدليل، وليس
من التقليد.
وأما استدلالهم على التقليد بأن الله لو كلف الناس كلهم الاجتهاد، وأن يكونوا علماء ضاعت مصالح العباد، وتعطلت الصنائع والمتاجر، وهذا مما لا سبيل إليه شرعا وقدرا.
فهو ظاهر السقوط أيضا.
ومن أوضح الأدلة على سقوطه أن القرون الثلاثة المشهود لهم بالخير، لم يكن فيهم تقليد رجل واحد بعينه هذا التقليد الأعمى.
339

ولم تتعطل متاجرهم ولا صنائعهم، ولم يرتكبوا ما يمنعه الشرع ولا القدر.
بل كانوا كلهم لا يقدمون شيئا على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وكان فيهم علماء مجتهدون يعلمون بالكتاب والسنة ويفتون بهما.
وكان فيهم قوم دون رتبتهم في العلم، يتعلمون من كتاب الله وسنة رسوله ما يحتاجون للعمل به في أنفسهم، وهم متبعون لا مقلدون.
وفيهم طائفة أخرى، هي العوام لا قدرة لها على التعلم.
وكانوا يستفتون فيما نزل من النوازل من شاءوا من العلماء وتارة يسألونه عن الدليل فيما أفتاهم به.
وتارة يكتفون بفتواه ولا يسألون ولم يتقيدوا بنفس ذلك العالم الذي استفتوه.
فإذا نزلت بهم نازلة أخرى، سألوا عنها غيره من العلماء إن شاءوا.
ولا إشكال في هذا الذي مضت عليه الصحابة والتابعون وتابعوهم، ولا يلزمه تعطيل صنائع ولا متاجر، ولا يمنعه شرع ولا قدر.
فكيف يستدل منصف للتقليد الأعمى، بأن الناس لو لم ترتكبه لوقعوا في المحذور المذكور.
وعلى كل حال فكل عاقل لم يعمه التعصب، يعلم أن تقليد إمام واحد بعينه، بحيث لا يترك من أقواله شيء، ولا يؤخذ من أقوال غيره شيء، وجعل أقواله عيارا لكتاب الله، وسنة رسوله فما وافق أقواله منهما جاز العمل به، وما خالفها منهما وجب اطراحه، وترك العمل به لا وجه له البتة.
وهو مخالف لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة والتابعين وتابعيهم وإجماع الأئمة الأربعة.
فالواجب على المسلمين تعلم كتاب الله وسنة رسوله، والعمل بما علموا منهما.
والواجب على العوام الذين لا قدرة لهم على التعلم سؤال أهل العلم، والعمل بما أفتوهم به.
وسيأتي لهذا زيادة إيضاح وإقناع للمنصف في التنبيهات الآتية إن شاء الله تعالى.
وقد بينا هنا بطلان جميع الحجج التي يحتج بها المقلدون التقليد المذكور، وما لم
340

نذكر من حججهم، قد أوضحنا رده وإبطاله فيما ذكرنا.
تنبيهات مهمة تتعلق بهذه المسألة التنبيه الأول
اعلم أن المقلدين، اغتروا بقضيتين ظنوهما صادقتين، وهما بعيدتان من الصدق. وظن صدقهما يدخل أوليا في عموم قوله تعالى * (إن الظن لا يغنى من الحق شيئا) *، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث).
أما الأولى منهما فهي ظنهم، أن الإمام الذي قلدوه لا بد أن يكون قد اطلع على جميع معاني كتاب الله، ولم يفته منها شيء.
ولذلك فإن كل آية وكل حديث قد خالفا قوله فلا شك عندهم أن ذلك الإمام اطلع على تلك الآية وعلم معناها، وعلى ذلك الحديث وعلم معناه.
وأنه ما ترك العمل بهما إلا لأنه اطلع على ما هو أقوى منهما وأرجح.
ولذلك يجب تقديم ذلك الأرجح الذي تخيلوه شيء من الوحي الموجود بين أيديهم.
وهذا الظن كذب باطل بلا شك.
والأئمة كلهم معترفون بأنهم ما أحاطوا بجميع نصوص الوحي، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله.
ومن أصرح ذلك أن الإمام مالكا رحمه الله، إمام دار الهجرة المجمع على علمه وفضله وجلالته، لما أراد أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس على العمل بما جمعه في موطئه لم يقبل ذلك من أبي جعفر ورده عليه.
وأخبره أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في أقطار الدنيا، كلهم عنده علم ليس عند الآخر.
ولم يجمع الحديث جمعا تاما بحيث أمكن جمع جميع السنة إلا بعد الأئمة الأربعة.
لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تفرقوا في أقطار الدنيا روي عنهم كثير من
341

الأحاديث لم يكن عند غيرهم، ولم يتيسر الاطلاع عليه إلا بعد أزمان.
وكثرة علم العالم لا تستلزم اطلاعه على جميع النصوص.
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو عجز عن أن يفهم معنى الكلالة حتى مات رضي الله عنه.
وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها كثيرا فبينها له ولم يفهم.
فقد ثبت عنه رضي الله عنه أنه قال: ما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة، حتى طعن بإصبعه في صدري، وقال لي (يكفيك آية الصيف في آخر سورة النساء).
فهذا من أوضح البيان، لأن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بآية الصيف * (يستفتونك قل الله يفتيكم فى الكلالة) * والآية تبين معنى الكلالة بيانا شافيا، لأنها أوضحت أنها: ما دون الولد والوالد.
فبينت نفي الولد بدلاله المطابقة في قوله تعالى: * (إن امرؤ هلك ليس له ولد) * وبينت نفي الوالد بدلالة الالتزام في قوله تعالى * (وله أخت فلها نصف ما ترك) *، لأن ميراث الأخت يستلزم نفي الولد.
ومع هذا البيان النبوي الواضح لهذه الآية الكريمة، فإن عمر رضي الله عنه لم يفهم.
وقد صح عنه أن الكلالة لم تزل مشكلة عليه.
وقد خفي معنى هذا أيضا على أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال في الكلالة: أقول فيها برأيي. فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، هو ما دون الولد والوالد.
فوافق رأيه معنى الآية.
والظاهر أنه لو كان فاهما للآية لكفته عن الرأي.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: (تكفيك آية الصيف).
وهو تصريح منه صلى الله عليه وسلم بأن في الآية كفاية عن كل ما سواها في الحكم المسؤول عنه.
ومما يوضح ذلك أن عمر طلب من النبي صلى الله عليه وسلم بيان الآية.
وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في حقه صلى الله عليه وسلم.
فما أحال عمر على الآية إلا لأن فيها من البيان ما يشفي ويكفي.
وقد خفي على أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (أعطى الجدة السدس
342

حتى أخبره المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس) فرجع إلى قولهما.
ولم يعلم عمر رضي الله عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم: قضى في دية الجنين بغرة عبد أو وليدة حتى أخبره المذكوران قبل.
ولم يعلم عمر رضي الله عنه بأن المرأة ترث من دية زوجها. حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه: أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها.
ولم يعلم أيضا بآخذ الجزية من المجوسي حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف. بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر.
ولم يعلم بحكم الاستئذان ثلاثا حتى أخبره أبو موسى الأشعري وأبو سعيد الخدري رضي الله عنه.
ولم يعلم عثمان رضي الله عنه بوجوب السكنى للمتوفى عنها حتى أخبرته قريعة بنت مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم: ألزمها بالسكنى في المحل الذي مات عنها زوجها فيه حتى تنقضي عدتها.
وأمثال هذا أكثر من أن تحصر.
فهؤلاء الخلفاء الراشدون وهم هم، خفي عليهم كثير من قضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحاديثه مع ملازمتهم له، وشدة حرصهم على الأخذ منه.
فتعلموه ممن هو دونهم في الفضل والعلم.
فما ظنك بغيرهم من الأئمة الذين نشأوا وتعلموا بعد تفرق الصحابة في أقطار الدنيا؟
وروي عنه الأحاديث عدول من الأقطار التي ذهبوا إليها؟
والحاصل أن ظن إحاطة الإمام بجميع نصوص الشرع ومعانيها ظن لا يغني من الحق شيئا، وليس بصحيح قطعا.
لأنه لا شك أنه يفوته بعض الأحاديث فلم يطلع عليها ويرويه بعض العدول عن الصحابة فيثبت عند غيره.
وهو معذور في ترك العمل به، بعدم اطلاعه عليه مع أنه بذل المجهود في البحث.
ولذا كان له أجر الاجتهاد والعذر في الخطأ.
343

وقد يكون الإمام اطلع على الحديث، ولكن السند الذي بلغه به ضعيف فيتركه لضعف السند.
ويكون غيره اطلع على رواية أخرى صحيحة يثبت بها الحديث فهو معذور في تركه، لأنه لم يطلع إلا على السند الضعيف ولم تبلغه الطريق الصحيحة الأخرى.
وقد يترك الحديث لشيء يظنه أرجح منه، ويكون الواقع أن الحديث أرجح من ذلك الشيء الذي ظنه لقيام أدلة أخرى على ذلك لم يطلع عليها. إلى أسباب أخر كثيرة، كترك الأئمة للعمل ببعض النصوص.
وبهذا كله تعلم أن ظن اطلاع الإمام على كل شيء من أحكام الشرع وإصابته في معانيها كلها ظن باطل.
وكل واحد من الأئمة يصرح ببطلان هذا الظن كما سترى إيضاحه إن شاء الله.
فاللازم هو ما قاله الأئمة أنفسهم رحمهم الله من أنهم قد يخطئون ونهوا عن اتباعهم في كل شيء يخالف نصا من كتاب أو سنة.
فالمتبع لهم حقيقة، هو من لا يقدم على كتاب الله وسنة رسوله شيئا.
أما الذي يقدم أقوال الرجال على الكتاب وصحيح السنة، فهو مخالف لهم لا متبع لهم.
ودعواه اتباعهم كذب محض.
وأما القضية الثانية:
فهي ظن المقلدين أن لهم مثل ما للإمام من العذر في الخطأ.
وإيضاحه: أنهم يظنون أن الإمام لو أخطأ في بعض الأحكام وقلدوه في ذلك الخطأ بكون لهم من العذر في الخطأ والأجر مثل ما لذلك الإمام الذي قلدوه.
لأنهم متبعون له فيجري عليهم ما جرى عليه.
وهذا ظن كاذب باطل بلا شك. لأن الإمام الذي قلدوه بذل جهده في تعلم كتاب الله وسنة رسوله وأقوال أصحابه وفتاويهم.
فقد شمر وما قصر فيما يلزم من تعلم الوحي والعمل به وطاعة الله على ضوء الوحي المنزل.
ومن كان هذا شأنه فهو جدير بالعذر في خطئه والأجر في اجتهاده.
وأما مقلدوه فقد تركوا النظر في كتاب الله وسنة رسوله وأعرضوا عن تعلمهما
344

إعراضا كليا مع يسره وسهولته ونزلوا أقوال الرجال الذين يخطئون ويصيبون منزلة الوحي المنزل من الله.
فأين هؤلاء من الأئمة الذين قلدوهم؟
وهذا الفرق العظيم بينهم، وبينهم، يدل دلالة واضحة، على أنهم ليسوا مأجورين في الخطأ في تقليد أعمى إذ لا اقتداء ولا أسوة في غير الحق.
وليسوا معذورين لأنهم تركوا ما يلزمهم تعلمه من أمر الله ونهيه على ضوء وحيه المنزل.
والذي يجب عليهم من تعلم ذلك، هو ما تدعوهم الحاجة للعمل به، كأحكام عباداتهم ومعاملاتهم.
وأغلب ذلك تدل عليه نصوص واضحة، سهلة التناول من الكتاب والسنة.
والحاصل أن المعرض عن كتاب الله، وسنة رسوله المفرط في تعلم دينه، مما أنزل الله، وما سنه رسوله، المقدم كلام الناس على كتاب الله، وسنة رسوله، لا يكون له البتة ما للإمام الذي لم يعرض عن كتاب الله وسنة رسوله، ولم يقدم عليهما شيئا ولم يفرط في تعلم الأمر والنهي من الكتاب والسنة.
فأين هذا من هذا؟ فأين هذا من هذا؟
* سارت مشرقة وسرت مغربا
* شتان بين مشرق ومغرب
*
التنبيه الثاني
اعلم أن الأئمة الأربعة رحمهم الله، متفقون على منع تقليدهم، التقليد الأعمى الذي يتعصب له من يدعون أنهم أتباعهم.
ولو كانوا أتباعهم حقا لما خالفوهم في تقليدهم الذي منعوا منه ونهوا عنه.
قال الإمام أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه:
أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن، قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد القاضي المالكي، قال حدثنا موسى بن إسحاق، قال حدثنا إبراهيم بن المنذر، قال حدثنا معن بن عيسى، قال
345

سمعت مالك بن أنس يقول: إنما أنا بشر أخطىء وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه. ا ه. محل الغرض منه بلفظه.
فمالك رحمه الله مع علمه وجلالته وفضله يعترف بالخطأ وينهى عن القول بما خالف الوحي من رأيه.
فمن كان مالكيا فليمتثل قول مالك ولا يخالفه بلا مستند.
وقال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه أيضا:
أخبرني أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي حدثني أبي حدثنا محمد بن عمر بن لبابة قال: حدثنا مالك بن علي القرشي، قال أنبأنا عبد الله بن مسلمة القعنبي قال:
دخلت على مالك فوجدته باكيا فسلمت عليه فرد علي ثم سكت عني يبكي، فقلت له:
يا أبا عبد الله ما الذي يبكيك؟ فقال لي يا ابن قعنب إنا لله على ما فرط مني، ليتني جلدت بكل كلمة تكلمت بها في هذا الأمر بسوط، ولم يكن فرط مني ما فرط من هذا الرأي، وهذه المسائل قد كانت لي سعة فيما سبقت إليه. ا ه محل الغرض منه بلفظه.
ومن المعلوم بالضرورة أن مالكا رحمه الله لا يسره ولا يرضيه تقديم رأيه هذا الذي يسترجع ويبكي ندما عليه، ويتمنى لو ضرب بالسياط ولم يكن صدر منه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فليتق الله وليستحي من الله من يقدم مثل هذا الرأي على الكتاب والسنة زاعما أنه متبع مالكا في ذلك.
وهو مخالف فيه لمالك، ومخالف فيه لله ورسوله، ولأصحابه ولكل من يعتد به من أهل العلم.
وقال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين:
وقد نهى الأئمة الأربعة عن تقليدهم وذموا من أخذ أقوالهم بغير حجة.
فقال الشافعي: مثل الذي يطلب العلم بلا حجة، كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه وهو لا يدري، ذكره البيهقي.
وقال إسماعيل بن عيسى المزني في أول مختصره: اختصرت هذا من علم الشافعي،
346

ومن معنى قوله لأقربه على من أراده مع إعلاميه نهيه عن تقليده وتقليد غيره لينظر فيه لدينه، ويحتاط فيه لنفسه إلى أن قال:
وقال أحمد بن حنبل: لا تقلدني، ولا تقلد مالكا، ولا الثوري ولا الأوزاعي، وخذ من حيث أخذوا. وقال: من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال.
وقال بشر بن الوليد: قال أبو يوسف: لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا.
وقد صرح مالك بأن من ترك قول عمر بن الخطاب لقول إبراهيم النخعي أنه يستتاب، فكيف بمن ترك قول الله ورسوله لقول من هو دون إبراهيم أو مثله ا ه محله الغرض منه.
ومما لا شك فيه أن الأئمة الأربعة رحمهم الله نهوا عن تقليدهم في كل ما خالف كتابا أو سنة كما نقله عنهم أصحابهم.
كما هو مقرر في كتب الحنفية عن أبي حنيفة.
وكتب الشافعية عن الشافعي القائل: إذا صح الحديث فهو مذهبي.
وكتب المالكية، والحنابلة عن مالك وأحمد رحمهم الله جميعا.
وكذلك كان غيرهم من أفاضل العلماء يمنعون من تقليدهم فيما لم يوافق الكتاب والسنة وقد يتحفظون منه ولا يرضون.
قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه:
وذكر محمد بن حارث في أخبار سحنون بن سعيد عن سحنون، قال كان مالك بن أنس وعبد العزيز بن أبي سلمة ومحمد بن إبراهيم بن دينار وغيرهم يختلفون إلى ابن هرمز، فكان إذا سأله مالك وعبد العزيز أجابهما.
وإذا سأله محمد بن إبراهيم بن دينار وذووه لم يجبهما.
فقال له:
يسألك مالك وعبد العزيز فتجيبهما، وأسألك أنا وذوي فلا تجيبنا؟
فقال:
أوقع ذلك يا ابن أخي في قلبك؟
قال: نعم: فقال له:
إني قد كبرت سني ورق عظمي، وأنا أخاف أن يكون خالطني في عقلي مثل الذي خالطني في بدني.
347

ومالك وعبد العزيز عالمان فقيهان، إذا سمعا مني حقا قبلاه، وإذا سمعا خطأ تركاه.
وأنت وذووك ما أجبتكم به قبلتموه.
قال محمد بن حارث: هذا والله هو الدين الكامل، والعقل الراجح.
لا كمن يأتي بالهذيان، ويريد أن ينزل من القلوب منزلة القرآن. ا ه منه.
التنبيه الثالث
اعلم أن المقلدين للأئمة هذا التقليد الأعمى قد دل كتاب الله، وسنة رسوله، وإجماع من يعتد به من أهل العلم، أنه لا يجوز لأحد منهم أن يقول: هذا حلال وهذا حرام.
لأن الحلال ما أحله الله، على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في كتابه أو سنة رسوله، والحرام ما حرمه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في كتابه، أو
سنة رسوله.
ولا يجوز البتة للمقلد أن يزيد على قوله: هذا الحكم قاله الإمام الذي قلدته أو أفتى به.
أما دلالة القرآن على منع ذلك فقد قال تعالى: * (قل أرأيتم مآ أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على الله تفترون) * وقال تعالى: * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هاذا حلال وهاذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) *. وقال تعالى: * (قل هلم شهدآءكم الذين يشهدون أن الله حرم هاذا) *.
ومعلوم أن العبرة بعموم الألفاظ، لا بخصوص الأسباب كما بيناه مرارا، وأوضحنا أدلته من السنة الصحيحة.
ومما يوضح هذا أن المقلد الذي يقول: هذا حلال وهذا حرام من غير علم بأن الله حرمه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، يقول على الله بغير علم قطعا.
فهو داخل بلا شك في عموم قوله تعالى: * (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغى بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) *.
فدخوله في قوله: * (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) * كما
348

ترى.
وهو داخل أيضا في عموم قوله تعالى: * (إنما يأمركم بالسوء والفحشآء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) *.
وأما السنة، فقد قال مسلم بن الحجاج في صحيحه:
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن سفيان.
ح وحدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا يحيى بن آدم حدثنا سفيان قال: أملاه علينا إملاء.
ح وحدثني عبد الله بن هاشم واللفظ له حدثني عبد الرحمن يعني ابن مهدي حدثنا سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال:
(اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله) الحديث.
وفيه (وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري، أتصيب حكم الله فيهم أم لا).
هذا لفظ مسلم في صحيحه.
وفيه النهي الصريح من النبي صلى الله عليه وسلم عن نسبة حكم إلى الله، حتى يعلم بأن هذا حكم الله الذي شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولأجل هذا كان أهل العلم لا يتجرؤون على القول بالتحريم والتحليل إلا بنص من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه:
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا ابن وضاح قال حدثنا يوسف بن عدي قال حدثنا عبيدة بن حميد عن عطاء بن السائب قال: قال الربيع بن خيثم:
إياكم أن يقول الرجل في شيء وإن الله حرم هذا أو نهى عنه فيقول الله: كذبت لم أحرمه ولم أنه عنه.
قال أو يقول:
إن الله أحل هذا وأمر به، فيقول: كذبت لم أحله ولم آمر به.
وذكر ابن وهب وعتيق بن يعقوب أنهما سمعا مالك بن أنس يقول: لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا ولا أدركت أحدا اقتدى به يقول في شيء: هذا حلال وهذا حرام.
ما كانوا يجترئون على ذلك.
وإنما كانوا يقولون: نكره هذا.
ونرى هذا حسنا.
ونتقي هذا، ولا نرى هذا.
349

وزاد عتيق بن يعقوب، ولا يقولون حلال وحرام.
أما سمعت قول الله عز وجل: * (قل أرأيتم مآ أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على الله تفترون) *.
الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله: قال أبو عمر: معنى قول مالك هذا إن ما أخذ من العلم رأيا واستحسانا لم نقل فيه حلال ولا حرام والله أعلم. ا ه. محل الغرض منه.
وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسيره، في الكلام على قوله تعالى: * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هاذا حلال وهاذا حرام) *، ما نصه:
أسند الدارمي أبو محمد في مسنده أخبرنا هارون عن حفص عن الأعمش قال: ما سمعت إبراهيم قط يقول: حلال ولا حرام ولكن كان يقول: كانوا يكرهون وكانوا يستحبون.
وقال ابن وهب:
قال مالك: لم يكن من فتيا الناس أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام.
ولكن يقولون: إياكم وكذا وكذا. ولم أكن لأصنع هذا.
ومعنى هذا أن التحليل والتحريم إنما هو لله عز وجل وليس لأحد أن يقول أو يصرح بهذا في عين من الأعيان، إلا أن يكون البارىء تعالى بذلك عنه.
وما يؤدي إليه الاجتهاد في أنه حرام يقول:
إني أكره كذا.
وكذلك كان مالك يفعل اقتداء بمن تقدم من أهل الفتوى. ا ه. محل الغرض منه.
وإذا كان مالك وإبراهيم النخعي وغيرهما من أكابر أهل العلم لا يتجرؤون أن يقولوا في شيء من مسائل الاجتهاد والرأي: هذا حلال أو حرام.
فما ظنك بغيرهم من المقلدين الذين لم يستضيئوا بشيء من نور الوحي؟
فتجرؤهم على التحريم والتحليل بلا مستند من الكتاب إنما نشأ لهم من الجهل بكتاب الله وسنة رسوله، وآثار السلف الصالح.
وآية يونس المتقدمة صريحة فيما ذكرنا صراحة تغني عن كل ما سواها.
لأنه تعالى لما قال: * (فجعلتم منه حراما وحلالا) * أتبع ذلك بقوله * (قل ءآلله أذن لكم أم على الله تفترون) *.
350

ولم يجعل واسطة بين إذنه في ذلك وبين الافتراء عليه.
فمن كان عنده إذن من الله بتحريم هذا أو تحليا فليعتمد على إذن الله في ذلك.
ومن لم يكن عنده إذن من الله في ذلك فليحذر من الافتراء على الله.
إذ لا واسطة بين الأمرين.
ومعلوم أن العبرة بعموم لفظ الآية لا بخصوص سببها.
فالذين يقولون من الجهلة المقلدين: هذا حلال وهذا حرام، وهذا حكم الله، ظنا منهم أن أقوال الإمام الذي قلدوه تقوم مقام الكتاب والسنة وتغني عنهما.
وإن ترك الكتاب والسنة والاكتفاء بأقوال من قلدوه أسلم لدينه أعمتهم ظلمات الجهل المتراكمة عن الحقائق حتى صاروا يقولون هذا.
فهم كما ترى، مع أن الإمام الذي قلدوه، ما كان يتجرأ على مثل الذي تجرؤوا عليه، لأن علمه يمنعه من ذلك.
والله جل وعلا يقول: * (قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الا لباب) *.
التنبيه الرابع
اعلم أن مما لا بد منه معرفة، الفرق بين الاتباع والتقليد، وأن محل الاتباع لا يجوز التقليد فيه بحال.
وإيضاح ذلك: أن كل حكم ظهر دليله من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع المسلمين، لا يجوز فيه التقليد بحال.
لأن كل اجتهاد يخالف النص، فهو اجتهاد باطل، ولا تقليد إلا في محل الاجتهاد.
لأن نصوص الكتاب والسنة، حاكمة على كل المجتهدين، فليس لأحد منهم مخالفتها كائنا من كان.
ولا يجوز التقليد فيما خالف كتابا أو سنة أو إجماعا إذ لا أسوة في غير الحق.
فليس فيما دلت عليه النصوص إلا الاتباع فقط.
ولا اجتهاد، ولا تقليد فيما دل عليه نص، من كتاب أو سنة، سالم من المعارض.
351

والفرق بين التقليد والاتباع أمر معروف عند أهل العلم، لا يكاد ينازع في صحة معناه أحد من أهل العلم.
وقد قدمنا كلام ابن خويز منداد الذي نقله عنه ابن عبد البر في جامعه.
وهو قوله: التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه، وذلك ممنوع منه في الشريعة، والاتباع ما ثبت عليه حجة.
وقال في موضع آخر من كتابه:
كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قوله لدليل يوجب ذلك فأنت مقلده، والتقليد في دين الله غير صحيح.
وكل من أوجب عليك الدليل اتباع قوله فأنت متبعه والاتباع في الدين مسوغ والتقليد ممنوع. ا ه.
وقال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين:
وقد فرق الإمام أحمد رحمه الله بين التقليد والاتباع.
فقال أبو داود:
سمعته يقول: الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، ثم هو من بعد في التابعين مخير. انتهى محل الغرض منه.
قال مقيده عفا الله عنه، وغفر له: أما كون العمل بالوحي اتباعا لا تقليدا فهو أمر قطعي.
والآيات الدالة على تسميته اتباعا كثيرة جدا:
كقوله تعالى: * (اتبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أوليآء قليلا ما تذكرون) *.
وقوله تعالى: * (واتبعوا أحسن مآ أنزل إليكم من ربكم) *.
وقوله تعالى: * (قل إنمآ أتبع ما يوحى إلى من ربى هاذا بصآئر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) *.
وقوله تعالى: * (قل ما يكون لى أن أبدله من تلقآء نفسى إن أتبع إلا ما يوحى إلى إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم) *.
وقوله تعالى: * (وهاذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون) *.
352

وقوله تعالى: * (اتبع مآ أوحى إليك من ربك لا إلاه إلا هو وأعرض عن المشركين) *.
وقوله تعالى: * (قل ما كنت بدعا من الرسل ومآ أدرى ما يفعل بى ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلى ومآ أنا إلا نذير مبين) *.
والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة.
فالعمل بالوحي، هو الاتباع كما دلت عليه الآيات.
ومن المعلوم الذي لا شك فيه، أن اتباع الوحي المأمور به في الآيات لا يصح اجتهاد يخالفه من الوجوه، ولا يجوز التقليد في شيء يخالفه.
فاتضح من هذا الفرق بين الاتباع والتقليد، وأن مواضع الاتباع ليست محلا أصلا للاجتهاد ولا للتقليد.
فنصوص الوحي الصحيحة الواضحة الدلالة السالمة من المعارض لا اجتهاد ولا تقليد معها البتة.
لأن اتباعها والإذعان لها فرض على كل أحد كائنا من كان كما لا يخفى.
وبهذا تعلم أن شروط المجتهد التي يشترطها الأصوليون إنما تشترط في الاجتهاد.
وموضع الاتباع ليس محل اجتهاد.
فجعل شروط المجتهد في المتبع مع تباين الاجتهاد والاتباع وتباين مواضعهما خلط وخبط، كما ترى.
والتحقيق أن اتباع الوحي لا يشترط فيه إلا علمه بما يعمل به من ذلك الوحي الذي يتبعه.
وأنه يصح علم حديث والعمل به، وعلم آية والعمل بها.
ولا يتوقف ذلك على تحصيل جميع شروط الاجتهاد.
فيلزم المكلف أن يتعلم ما يحتاج إليه من الكتاب والسنة، ويعمل بكل ما علم من ذلك، كما كان عليه أول هذه الأمة، من القرون المشهود لها بالخير.
التنبيه الخامس
اعلم أنه لا يخفى علينا أن المقلدين التقليد الأعمى المذكور، يقولون:
هذا الذي تدعوننا إليه وتأمروننا به من العمل بالكتاب والسنة، وتقديمهما على آراء
353

الرجال من التكليف بما لا يطاق.
لأنا لا قدرة لنا على معرفة الكتاب والسنة حتى نعمل بهما.
ولا يمكننا معرفة شيء من الشرع إلا عن طريق الإمام الذي نقلده.
لأنا لم نتعلم نحن ولا آباؤنا شيئا غير ذلك.
فإذا لم نقلد إمامنا بقينا في حيرة لا نعلم شيئا من أحكام عباداتنا ولا معاملاتنا، وتعطلت بيننا الأحكام إذ لا نعرف قضاء ولا فتوى ولا غير ذلك من الأحكام إلا عن طريق مذهب إمامنا.
لأن أحكامه مدونة عندنا وهي التي نتعلمها ونتدارسها دون غيرها من الكتاب أو السنة وأقوال الصحابة ومذاهب الأئمة الآخرين.
ونحن نقول:
والله لقد ضيقتم واسعا. وادعيتم العجز، وعدم القدرة في أمر سهل.
ولا شك أن الأحوال الراهنة للمقلدين الأعمى، للمذاهب المدونة تقتضي صعوبة شديدة جدا في طريق التحول من التقليد الأعمى إلى الاستضاءة بنور الوحي.
وذلك إنما نشأ من شدة التفريط في تعلم الكتاب والسنة والإعراض عنهما إعراضا كليا يتوارثه الأبناء عن الآباء، والآباء عن الأجداد.
فالداء المستحكم من مئات السنين لا بد لعلاجه من زمن طويل.
ونحن لا نقول: إن الجاهل بالكتاب والسنة يعمل بهما باجتهاده.
بل نعوذ بالله من أن نقول ذلك.
ولكنا نقول: إن الكتاب والسنة يجب تعلمهما، ولا يجوز الإعراض عنهما وأن كل ما علمه المكلف منهما علما صحيحا ناشئا عن تعلم صحيح وجب عليه العمل به.
فالبلية العظمى إنما نشأت من توارث الإعراض عنهما إعراضا كليا اكتفاء عنهما بغيرهما.
وهذا من أعظم المنكر وأشنع الباطل.
فالذي ندعو إليه هو المبادرة بالرجوع إليهما بتعلمهما أولا ثم العمل بهما والتوبة إلى الله من الإعراض عنهما.
ودعوى أن تعلمهما غير مقدور عليه، لا يشك في بطلانها عاقل، ونعيذ أنفسنا وإخواننا بالله أن يدعوا على أنفسهم أن على قلوبهم أكنة، وفي آذانهم وقرا يمنعهم من فهم كتاب الله.
لأن ذلك قول الكفار لا قول المسلمين قال الله تعالى * (حم تنزيل من
354

الرحمان الرحيم كتاب فصلت ءاياته قرءانا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه وفىءاذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون) *.
فاحذر يا أخي وارحم نفسك أن تقول مثل قول هؤلاء الكفرة وكنت تسمع ربك يقول: * (ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر) *، ويقول: * (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون) *.
ويقول * (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا ءاياته وليتذكر أولو الا لباب) *.
فلا تخرج نفسك من عموم أولي الألباب الذين هم أصحاب العقول، لأنك إن فعلت ذلك اعترفت على نفسك أنك لست من جملة العقلاء.
وعلى كل حال فلا يخلو المقلدون، التقليد الأعمى، من أحد أمرين:
أحدهما: ألا يلتفتوا إلى نصح ناصح.
بل يستمرون على تقليدهم الأعمى، والإعراض عن نور الوحي عمدا.
وتقديم رأي الرجال عليه.
وهذا القسم منهم لا نعلم له عذرا في كتاب الله ولا سنة رسوله.
ولا في قول أحد من الصحابة، ولا أحد من القرون المشهود لهم بالخير.
لأن حقيقة ما هم عليه، هو الإعراض عما أنزل الله عمدا مع سهولة تعلم القدر المحتاج إليه منه، والاستغناء عنه بأقوال الأئمة.
ومن كان هذا شأنه وهو تام العقل والفهم قادر على التعلم فعدم عذره كما ترى.
الأمر الثاني: هو أن يندم المقلدون على ما كانوا عليه من التفريط في تعلم الوحي، والإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ويبادروا إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة ويشرعوا في ذلك بجد. تائبين مما كانوا عليه من التفريط قبل ذلك، وهذا القسم على هدى من الله.
وهو الذي ندعو إخواننا إليه.
التنبيه السادس
لا خلاف بين أهل العلم، في أن الضرورة لها أحوال خاصة تستوجب أحكاما غير
355

أحكام الاختيار.
فكل مسلم ألجأته الضرورة إلى شيء إلجاء صحيحا حقيقيا، فهو في سعة من أمره فيه.
وقد استثنى الله جل وعلا، حالة الاضطرار في خمس آيات من كتابه، ذكر فيها المحرمات الأربع التي هي من أغلظ المحرمات، تحريما وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به.
فإن الله تعالى كلما ذكر تحريمها استثنى منها حالة الضرورة، فأخرجها من حكم التحريم.
قال تعالى في سورة الأنعام:
* (قل لا أجد فى مآ أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم) *.
وقال في الأنعام أيضا:
* (وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) *.
وقال تعالى في النحل:
* (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم) *.
وقال تعالى في البقرة:
* (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) *.
وقال تعالى في المائدة:
* (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل لغير الله به) * إلى قوله: * (فمن اضطر فى مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم) *.
وبهذا تعلم أن المضطر للتقليد الأعمى اضطرارا حقيقيا، بحيث يكون لا قدرة له البتة، على غيره مع عدم التفريط لكونه لا قدرة له أصلا على الفهم.
أو له قدرة على الفهم وقد عاقته عوائق قاهرة عن التعلم.
أو هو في أثناء التعلم ولكنه يتعلم تدريجا لأنه لا يقدر على تعلم كل ما يحتاجه في وقت واحد.
356

أو لم يجد كفئا يتعلم منه ونحو ذلك فهو معذور في التقليد المذكور للضرورة.
لأنه لا مندوحة له عنه.
أما القادر على التعلم المفرط فيه.
والمقدم آراء الرجال على ما علم من الوحي.
فهذا الذي ليس بمعذور.
التنبيه السابع
اعلم أن موقفنا من الأئمة رحمهم الله من الأربعة وغيرهم. هو موقف سائر المسلمين المنصفين منهم.
وهو موالاتهم، ومحبتهم، وتعظيمهم، وإجلالهم، والثناء عليهم، بما هم عليه من العلم والتقوى، واتباعهم في العمل بالكتاب والسنة وتقديمهما على رأيهم وتعلم أقوالهم للاستعانة بها على الحق، وترك ما خالف الكتاب والسنة منها.
وأما المسائل التي لا نص فيها فالصواب النظر في اجتهادهم فيها.
وقد يكون اتباع اجتهادهم أصوب من اجتهادنا لأنفسنا.
لأنهم أكثر علما وتقوى منا.
ولكن علينا أن ننظر ونحتاط لأنفسنا في أقرب الأقوال إلى رضى الله وأحوطها وأبعدها من الاشتباه.
كما قال صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك).
وقال: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه).
وحقيقة القول الفصل في الأئمة رحمهم الله أنهم من خيار علماء المسلمين، وأنهم ليسوا معصومين من الخطأ، فكل ما أصابوا فيه فلهم فيه أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وما أخطأوا فيه فهم مأجورون فيه باجتهادهم معذورون في خطئهم فهم مأجورون على كل حال، لا يلحقهم ذم ولا عيب ولا نقص في ذلك.
ولكن كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حاكمان عليهم وعلى أقوالهم كما لا يخفى. حاكمان عليهم وعلى أقوالهم كما لا يخفى.
* فلا تغل في شيء من الأمر واقتصد
* كلا طرفي قصد الأمور ذميم
*
فلا تك ممن يذمهم وينتقصهم ولا ممن يعتقد أقوالهم مغنية عن كتاب الله وسنة رسوله أو مقدمة عليهما.
357

التنبيه الثامن
اعلم أن كلا من الأئمة أخذت عليه مسائل. قال بعض العلماء: إنه خالف فيها السنة.
وسنذكر طرفا من ذلك هنا إن شاء الله.
أما الإمام أبو حنيفة رحمه الله فهو أكثر الأئمة في ذلك، لأنه أكثرهم رأيا.
ولكثرة المسائل التي حصل فيها القيل والقال من ذلك لا نحتاج إلى بسط تفصيلها.
وبعض المسائل التي قيل فيها ذلك يظهر أنه لم تبلغه السنة فيها، وبعضها قد بلغته السنة فيها، ولكنه تركها لشيء آخر ظنه أرجح منها.
كتركه العمل لحديث القضاء بالشاهد واليمين في الأموال.
وحديث (تغريب الزاني البكر) لأنه ترك العمل بذلك ونحوه احتراما للنصوص القرآنية في ظنه.
لأنه يعتقد أن الزيادة على النص نسخ وأن القضاء بالشاهد واليمين نسخ. لقوله تعالى: * (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن
ترضون من الشهدآء) *.
فاحترم النص القرآني المتواتر، فلم يرض نسخه بخبر آحاد سنده دون سنده.
لأن نسخ المتواتر بالآحاد عنده، رفع للأقوى بالأضعف، وذلك لا يصح.
وكذلك حديث تغريب الزاني البكر فهو عنده زيادة ناسخة لقوله تعالى: * (الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) * والمتواتر لا ينسخ بالآحاد.
فتركه العمل بهذا النوع من الأحاديث بناه على مقدمتين:
إحداهما: أن الزيادة على النص نسخ.
والثانية: أن المتواتر لا ينسخ بالآحاد.
وخالفه في المقدمة الأولى جمهور العلماء.
ووافقوه في الثانية.
والذي يظهر لنا ونعتقده اعتقادا جازما أن كلتا المقدمتين ليست بصحيحة.
أما الزيادة فيجب فيها التفصيل.
فإن كانت أثبتت حكما نفاه النص أو نفت حكما أثبته النص فهي نسخ.
358

وإن كانت لم تتعرض للنص بنفي ولا إثبات بل زادت شيئا سكت عنه النص فلا يمكن أن تكون نسخا لأنها إنما رفعت الإباحة العقلية التي هي البراءة الأصلية.
ورفعها ليس نسخا إجماعا.
وأما نسخ المتواتر بالآحاد.
فالتحقيق الذي لا شك فيه أنه لا مانع منه ولا محذور فيه، ولا وجه لمنعه البتة، وإن خالف في ذلك جمهور أهل الأصول.
لأن أخبار الآحاد الصحيحة الثابت تأخرها عن المتواتر لا وجه لردها، ولا تعارض البتة بينها وبين المتواتر إذ لا تناقض بين خبرين اختلف زمنهما، لجواز صدق كل منهما في وقته.
فلو أخبرك مثلا عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب، بأن أخاك الغائب لم يزل غائبا ولم يأت منزله.
لأنهم كانوا بمنزله وليس بموجود، ثم أخبرك بعد ذلك رجل واحد بأن أخاك موجود في منزله الآن.
فهل يسوغ لك أن نقول له كذبت، لأني أخبرني عدد كثير قبلك أنه لم يأت؟
ولو قلت له ذلك لقال لك هم في وقت إخبارهم لك صادقون، ولكن أخاك جاء بعد ذلك.
فالمتواتر في وقت نزوله صادق.
وخبر الآحاد الوارد بعده صادق أيضا.
لأنه أفاد تجدد شيء لم يكن.
فحصر المحرمات مثلا في الأربع المذكورة في قوله تعالى: * (قل لا أجد فى مآ أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة) *. صادق في ذلك الوقت.
لا يوجد محرم على طاعم بطعمه إلا تلك المحرمات الأربع.
فلا تحرم في ذلك الوقت الحمر الأهلية ولا ذو الناب من السباع ولا الخمر ولا غير ذلك.
فإذا جاء بعد آحاد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: حرم لحوم الحمر الأهلية بخيبر، فهل يسوغ لقائل أن يقول:
هذا الخبر الصحيح مردود لأنه يعارض حصر المحرمات في الأربع المذكورة في آية: * (قل لا أجد فى مآ أوحى إلى محرما) *؟
ولو قال ذلك لقيل له:
هذا الخبر الصحيح لا تناقضه الآية، لأنه إنما أفاد حكما
359

جديدا طارئا لم يكن مشروعا من قبل.
وأحكام الشريعة تتجدد شيئا فشيئا.
والآية لم تدل على استمرار الحصر المذكور فيها.
فتبين أن زيادة حكم طارىء لا تناقض بينها وبين ما كان قبلها.
وإيضاح هذا أن نسخ المتواتر بالآحاد إنما رفع استمرار حكم المتواتر ودلالة المتواتر على استمرار حكمه ليست قطعية حتى يمنع نسخها بأخبار الآحاد الصحيحة.
وقد قدمنا إيضاح هذا في سورة الأنعام.
وقصدنا مطلق المثال لما يقال: إن الإمام أبا حنيفة رحمه الله خالف فيه السنة برأيه.
وغرضنا أن نبين أنه رحمه الله لم يخالف شيئا من ذلك، إلا لشيء اعتقده مسوغا لذلك.
وأنه لا يترك السنة إلا لشيء يراه مستوجبا لذلك شرعا.
ومما يبين ذلك أنه كان يقدم ضعيف الحديث على الرأي.
قال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين ما نصه:
وأصحاب أبي حنيفة رحمه الله مجمعون على أن مذهب أبي حنيفة أن ضعيف الحديث عنده أولى من القياس والرأي.
وعلى ذلك بنى مذهبه كما قدم حديث القهقهة مع ضعفه على القياس والرأي.
وقدم حديث الوضوء بنبيذ التمر في السفر مع ضعفه على الرأي والقياس.
ومنع قطع يد السارق لسرقة أقل من عشرة دراهم، والحديث فيه ضعيف.
وجعل أكثر الحيض عشرة أيام والحديث فيه ضعيف.
وشرط في إقامة الجمعة المصر، والحديث فيه كذلك.
وترك القياس المحض في مسائل الآبار لآثار فيها غير مرفوعة.
فتقديم الحديث الضعيف وآثار الصحابة قوله، وقول الإمام أحمد:
وليس المراد بالحديث الضعيف في اصطلاح السلف هو الضعف في اصطلاح المتأخرين.
بل ما يسميه المتأخرون حسنا قد يسميه المتقدمون ضعيفا ا ه. محل الغرض منه.
ومن أمثلة ما ذكر أن أبا حنيفة رحمه الله خالف فيها السنة لزوم الطمأنينة في الصلاة وتعين تكبيرة الإحرام في الدخول فيها والسلام للخروج منها.
360

وقراءة الفاتحة فيها والنية في الوضوء والغسل إلى غير ذلك من مسائل كثيرة.
ولا يتسع المقام هنا لذكر ما استدل به أبو حنيفة لذلك ومناقشة الأدلة.
بل المقصود بيان أن الأئمة لا يخلو أحد منهم من أن يؤخذ عليه شيء خالف فيه سنة وأنهم لم يخالفوها إلا لشيء سوغ لهم ذلك.
وعند المناقشة الدقيقة قد يظهر أن الحق قد يكون معهم وقد يكون الأمر بخلاف ذلك.
وعلى كل حال فهم مأجورون ومعذورون كما تقدم إيضاحه.
وقد أخذ بعض العلماء على مالك رحمه الله أشياء قال:
إنه خالف فيها السنة قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه:
وقد ذكر يحيى بن سلام قال: سمعت عبد الله بن غانم في مجلس إبراهيم بن الأغلب يحدث عن الليث بن سعد أنه قال: أحصيت على مالك بن أنس سبعين مسألة كلها مخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم مما قال مالك فيها برأيه، قال: ولقد كتبت إليه في ذلك. انتهى محل الغرض منه.
ومعلوم أن مثل كلام الليث هذا عن مالك لا أثر له، لأنه لم يعين المسائل المذكورة ولا أدلتها.
فيجوز أن يكون الصواب فيها مع مالك لأدلة خفيت على الليث، فليس خفاؤها على مالك بأولى من خفائها على الليث.
ولا شك أن مذهب مالك المدون فيه فروع تخالف بعض نصوص الوحي. والظاهر أن بعضها لم يبلغه رحمه الله ولو بلغه لعمل به.
وأن بعضها بلغه وترك العمل به لشيء آخر يعتقده دليلا أقوى منه.
ومن أمثلة ما لم يبلغه النص فيه صيام ست من شوال بعد صوم رمضان.
قال رحمه الله في الموطأ ما نصه: إني لم أر أحدا من أهل العلم والفقه يصومها ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف.
وإن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته.
361

وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء، ولو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم، ورأوهم يعلمون ذلك. ا ه منه بلفظه.
وفيه تصريح مالك رحمه الله بأنه لم يبلغه صيام ستة من شوال عن أحد من السلف، وهو صريح في أنه لم يبلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أنه لو بلغه الترغيب فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم لكان يصومها ويأمر بصومها، فضلا عن أن يقول بكراهتها.
وهو لا يشك أن النبي صلى الله عليه وسلم أرأف وأرحم بالأمة منه.
لأن الله وصفه صلى الله عليه وسلم في القرآن بأنه رؤوف رحيم.
فلو كان صوم السنة يلزمه المحذور الذي كرهها مالك من أجله لما رغب فيها النبي صلى الله عليه وسلم ولراعى المحذور الذي راعاه مالك.
ولكنه صلى الله عليه وسلم، ألغى المحذور المذكور وأهدره، لعلمه بأن شهر رمضان أشهر من أن يلتبس بشيء من شوال.
كما أن النوافل المرغب فيها قبل الصلوات المكتوبة وبعدها لم يكرهها أحد من أهل العلم خشية أن يلحقها الجهلة بالمكتوبات لشهرة المكتوبات الخمس وعدم التباسها بغيرها
.
وعلى كل حال، فإنه ليس لإمام من الأئمة أن يقول هذا الأمر الذي شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكروه لخشية أن يظنه الجهال من جنس الواجب.
وصيام الستة المذكورة، وترغيب النبي صلى الله عليه وسلم فيه ثابت عنه.
قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه:
حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد وعلي بن حجر جميعا عن إسماعيل، قال ابن أيوب حدثنا إسماعيل بن جعفر أخبرني سعد بن سعيد بن قيس عن عمر بن ثابت بن الحارث الخزرجي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر) انتهى منه بلفظه.
وفيه التصريح من النبي صلى الله عليه وسلم بالترغيب في صوم الستة المذكورة فالقول بكراهتها من
362

غير مستند من أدلة الوحي خشية إلحاق الجهال لها برمضان، لا يليق بجلالة مالك وعلمه وورعه، لكن الحديث لم يبلغه كما هو صريح كلامه نفسه رحمه الله في قوله: لم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، ولو بلغه الحديث لعمل به.
لأنه رحمه الله من أكثر الناس اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحرصهم على العمل بسنته.
والحديث المذكور رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي، وصوم السنة المذكور رواه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحاب منهم ثوبان وجابر وابن عباس وأبو هريرة والبراء بن عازب كما بينه صاحب نيل الأوطار.
وعلى كل حال فالحديث صحيح ويكفي في ذلك إسناد مسلم المذكور.
ولا عبرة بكلام من تكلم في سعد بن سعيد لتوثيق بعض أهل العلم له واعتماد مسلم عليه في صحيحه.
ومن أمثلة ما لم تبلغ مالكا رحمه الله فيه السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إفراد صوم يوم الجمعة، فقد قال رحمه الله في الموطأ ما نصه:
لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه، ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن.
وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه.
وأراه كان يتحراه. انتهى منه بلفظه.
وفيه تصريحه رحمه الله بأنه لم يسمع أحدا من أهل العلم ينهى عن صوم الجمعة.
وأن ذلك حسن عنده، وأنه رأى بعض أهل العلم يتحرى يوم الجمعة ليصومه.
وهذا تصريح منه رحمه الله بأنه لم يبلغه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة وحده، وأمره من صامه أن يصوم معه يوما غيره وإلا أفطر إن ابتدأ صيامه ناويا إفراده.
ولو بلغته السنة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمل بها وترك العمل بغيرها.
لأن النهي عن صوم يوم الجمعة وحده ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه:
حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة عن محمد بن عباد، قال سألت جابرا رضي الله عنه. أنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم الجمعة؟ قال: نعم. زاد غير أبي عاصم يعني أن ينفرد بصومه.
حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا أبو صالح عن
363

أبي هريرة رضي الله عنه قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا يصوم أحدكم يوم الجمعة إلا يوما قبله أو بعده).
حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن شعبة ح وحدثني محمد حدثنا غندر حدثنا شعبة عن قتادة عن أبي عن جويرية بنت الحارث رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم، دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: أصمت أمس؟ قالت: لا، قال: تريدين أن تصومي غدا؟ قالت لا. قال: فأفطري).
وقال حماد بن الجعد سمع قتادة حدثني أبو أيوب أن جويرية حدثته فأمرها، فأفطرت. انتهى من صحيح البخاري بلفظه.
وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه:
حدثنا عمرو الناقد حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الحميد بن جبير عن محمد بن عباد بن جعفر (سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وهو يطوف بالبيت أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الجمعة؟ فقال: نعم، ورب هذا البيت).
وقال مسلم أيضا:
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا حفص وأبو معاوية عن الأعمش ح وحدثنا يحيى بن يحيى واللفظ له أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة
رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده).
وفي لفظ في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم) هذا لفظ مسلم في صحيحه.
ولا شك أن هذه الأحاديث لو بلغت مالكا ما خالفها، فهو معذور في كونها لم تبلغه.
وقال النووي في شرح مسلم: وأما قول مالك في الموطأ: لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن به يقتدى نهى عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن.
وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه وأراه كان يتحراه.
فهذا الذي قاله هو الذي رآه.
وقد رأى غيره خلاف ما رأى هو.
والسنة مقدمة على ما رآه هو وغيره.
364

وقد ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة، فيتعين القول به.
ومالك معذور، فإنه لم يبلغه.
قال الداودي من أصحاب مالك: لم يبلغ مالكا هذا الحديث ولو بلغه لم يخالفه. انتهى منه.
وهذا هو الحق الذي لا شك فيه.
لأن مالكا من أورع العلماء وأكثر الناس اتباعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يدعها وهو عالم بها.
وقوله في هذا الحديث: (إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم). أي كأن ينذر أحد صوم اليوم الذي يشفي الله فيه مريضه، فوافق ذلك يوم الجمعة.
لأن صومه له لأجل النذر، الذي لم يقصده بأصله تعيين يوم الجمعة.
وإنما النهي فيمن قصد بصومه نفس يوم الجمعة دون غيره.
والغرض عندنا إنما هو المثال لبعض الأحكام التي لم تبلغ مالكا فيها السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو بلغته لعمل بها.
ومعلوم أن هنالك بعضا من النصوص ترك مالك العمل به مع أنه بلغه، لأنه يعتقد أن ما ترك النص من أجله أرجح من النص.
وهذا يحتاج فيه إلى مناقشات دقيقة بين الأدلة، فقد يكون الحق في ذلك مع هذا الإمام تارة ومع غيره أخرى.
فقد ترك مالك العمل بحديث خيار المجلس مع أنه حديث متفق عليه، وقد بلغ مالكا.
وقد حلف عبد الحميد الصائغ من المالكية بالمشي إلى مكة على أنه لا يفتي بثلاث. قالها مالك.
ومراده بالثلاث المذكورة عدم القول بخيار المجلس هذا مع صحة الحديث فيه.
وجنسية القمح والشعير مع صحة الأحاديث الدالة على أنهما جنسان.
والتدمية البيضاء، ولا شك أن مالكا بلغه حديث خيار المجلس هذا.
365

فقد روي في الموطأ عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار).
قال مالك: وليس لهذا عندنا حد معروف، ولا أمر معمول به فيه. انتهى منه بلفظه.
مع أن مالكا لم يعمل بهذا الحديث الصحيح:
وأشار في الموطأ إلى بعض الأسباب التي منعته من العمل به في قوله:
وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه، لأن خيار المجلس لم يحدد بحد معروف.
فصار القول به مانعا من انعقاد البيع إلى حد غير معروف.
وقد يكون المتعاقدان في سفينة في البحر لا يمكنهم التفرق بالأبدان.
وقد يكونان مسجونين في محل لا يمكنهما التفرق فيه.
وقد حمل مالك التفرق المذكور في الحديث على التفرق في الكلام.
وصيغة العقد قال:
وقد أطلق التفرق على التفرق في الكلام دون الأبدان في قوله تعالى: * (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته) * فالتفرق في الآية إنما هو بالتكلم بصيغة الطلاق لا بالأبدان
.
وقوله تعالى: * (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جآءتهم البينة) * فالتفرق في الآية تفرق بالكلام والاعتقاد.
فلا يشترط أن يكون بالأبدان:
وحجج من احتج لمالك في عدم أخذه بحديث خيار المجلس، هذا كثيرة معروفة.
منها ما هو في آيات من كتاب الله كقوله تعالى: * (وأشهدوا إذا تبايعتم) *، وقوله: * (أوفوا بالعقود) *، وقوله: * (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) *.
ومنها ما هو بغير ذلك.
وليس غرضنا هنا بسط الحجج ومناقشتها، وإنما غرضنا المثال.
لأن الإمام قد يترك نصا بلغه لاعتقاد أن ما ترك من أجله النص أرجح من نفس النص، وأنه يجب على المسلم مراعاة المخرج والنجاة لنفسه فينظر في الأدلة، ويعمل بأقواها وأقربها إلى رضى الله.
كما حلف عبد الحميد الصائغ بالمشي إلى مكة، لا يفتي بقول مالك في هذا.
366

مع أنه عالم مالكي، لأنه رأى الأدلة واضحة وضوحا لا لبس فيه، في أن المراد بالتفرق التفرق بالأبدان.
وقد صرح بذلك جماعة من الصحابة منهم ابن عمر راوي الحديث، ولم يعلم لهم مخالف من الصحابة.
ولا شك أن المنصف إذا تأمل تأملا صادقا حاليا من التعصب عرف أن الحق هو ثبوت خيار المجلس.
وإن المراد بالتفرق التفرق في الأبدان لا بالكلام.
لأن معنى التفرق بالكلام هو حصول الإيجاب من البائع والقبول من المشتري.
وكل عاقل يعلم أن الخيار حاصل لكل من البائع والمشتري ضرورة قبل حصول الإيجاب والقبول.
فحمل كلام النبي صلى الله عليه وسلم على هذا، حمل له على تحصيل حاصل، وهو كما ترى.
مع أن حمل الكلام على هذا المعنى يستلزم أن المراد بالمتبايعين في الحديث المتساومان، لأنه لا يصدق عليهما اسم المتبايعين حقيقة إلا بعد حصول الإيجاب والقبول.
وحمل المتبايعين في كلام النبي صلى الله عليه وسلم على المتساومين اللذين لم ينعقد بينهما بيع خلاف الظاهر أيضا كما ترى.
وأما كون القمح والشعير جنسا واحدا، فقد استدل له مالك ببعض الآثار التي ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال في الموطأ: إنه بلغه أن سليمان بن يسار قال: فني علف حمار سعد بن أبي وقاص فقال لغلامه: خذ من حنطة أهلك فاتبع بها شعيرا، ولا تأخذ إلا مثله. ا ه منه بلفظه.
وفي الموطأ أيضا عن نافع عن سليمان بن يسار أنه أخبره أن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث فني علف دابته، فقال لغلامه: خذ من حنطة أهلك فابتع بها شعيرا ولا تأخذ إلا مثله. ا ه منه بلفظه.
وفي الموطأ أيضا: أن مالكا بلغه عن القاسم بن محمد عن بن معيقيب الدوسي مثل
367

ذلك. قال مالك: وهو الأمر عندنا ا ه. منه بلفظه.
فهذه الآثار هي عمدة مالك رحمه الله في كون القمح والشعير جنسا واحدا.
وعضد ذلك بتقارب منفعتهما، والتحقيق الذي لا شك فيه أن القمح والشعير جنسان، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا تصح معارضتها البتة بمثل هذه الآثار المروية عمن ذكر. وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(التمر بالتمر والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى إلا ما اختلفت ألوانه) انتهى منه بلفظه.
وهو صريح بأن القمح والشعير جنسان مختلفان، كاختلافهما مع التمر والملح.
وأن التفاضل جائز مع اختلاف الجنس إن كان يدا بيد، وروى مسلم في صحيحه والإمام أحمد عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد) ا ه منه بلفظه.
وللنسائي وابن ماجة وأبي داود نحوه، وفي آخره: وأمرنا أن نبيع البر بالشعير والشعير بالبر يدا بيد كيف شئنا.
قال المجد في المنتقى: لما ساق هذا الحديث ما نصه: وهو صريح في كون البر والشعير جنسين، وما قاله صحيح كما ترى.
والأحاديث بمثل هذا كثيرة، وقد قدمنا طرفا منها في سورة البقرة والمقصود هنا بيان صراحة الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن القمح والشعير جنسان لا جنس واحد، وأنهما لا يجوز ترك العمل بها مع صحتها ووضوحها، ولا أن يقدم عليها أثر موقوف على سعد بن أبي وقاص ولا أثر موقوف على عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، ولا أثر موقوف على ابن معيقيب.
واعلم أنه لا يصح الاستدلال لكون القمح والشعير جنسا واحدا بحديث معمر بن عبد الله الثابت في صحيح مسلم وغيره، قال: كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول
: (الطعام بالطعام مثلا بمثل) الحديث.
وذلك لأمرين:
368

أحدهما أن معمر المذكور قال في آخر الحديث، وكان طعامهم يومئذ الشعير.
فقد عين أن عرفهم المقارن للخطاب يخصص الطعام المذكور بالشعير.
والمقرر في أصول مالك: أن العرف المقارن للخطاب من المخصصات المنفصلة التي يخصص بها العام قال في مراقي السعود في ذلك: والمقرر في أصول مالك: أن العرف المقارن للخطاب من المخصصات المنفصلة التي يخصص بها العام قال في مراقي السعود في ذلك:
* والعرف حيث قارن الخطابا
* ودع ضمير البعض والأسبابا
*
الأمر الثاني: إن الاستدلال بالحديث المذكور على فرض اعتبار عمومه، وعدم تخصيصه بالعرف المذكور، يقتضي أن الطعام كله جنس واحد فيدخل التمر والملح لصدق الطعام عليهما.
وهذا لا قائل به كما ترى.
فالظاهر أن الإمام مالكا رحمه الله ومن وافقه من أهل العلم، لم تبلغهم هذه الأحاديث الصحيحة المصرحة، بأن القمح والشعير والتمر والملح أجناس.
وأن القمح يباع بالشعير كيف شاء المتبايعان إن كان يدا بيد.
وأما التدمية البيضاء فقول مالك فيها يظهر لنا قوته واتجاهه، وإن خالف في ذلك بعض أصحابه وأكثر أهل العلم.
وقد بين وجه قول مالك فيها ابن عبد البر وابن العربي وغيرهما.
والمسائل التي قال بعض أهل العلم إن مالكا خالف فيها السنة المعروفة منها ما ذكرنا.
ومنها مسألة سجود الشكر وسجدات التلاوة في المفصل.
وعدم الجهر بآمين، وعدم رفع اليدين عند الركوع والرفع منه، وعدم قول الإمام: ربنا ولك الحمد.
وعدم ضفر رأس المرأة الميتة ثلاث ضفائر.
وترك السجدة الثانية في الحج وغير ذلك من المسائل.
وقد قدمنا أن بعض ما ترك مالك من النصوص قد بلغته فيه السنة ولكنه رأى غيرها أرجح منها، وأن بعضها لم يبلغه، وأن الحق قد يكون معه في بعض المسائل التي أخذت عليه.
وقد يكون مع غيره، كما قال مالك نفسه رحمه الله:
كل كلام فيه مقبول ومردود، إلا كلام صاحب هذا القبر.
وهو تارة يقدم دليل القرآن المطلق أو العام على السنة التي هي أخبار آحاد.
لأن
369

القرآن أقوى سندا وإن كانت السنة أظهر دلالة، ولأجل هذا لم يبح ميتة الجراد بدون ذكاة لأنه يقدم عموم * (حرمت عليكم الميتة) *. حديث (أحلت لنا ميتتان ودمان) الحديث، وقدم عموم قوله تعالى * (ادعوا ربكم تضرعا وخفية) *. على الأحاديث الواردة بالجهر بآمين لأن التأمين دعاء، والدعاء مأمور بإخفائه في الآية المذكورة.
فالآية أقوى سندا وأحاديث الجهر بالتأمين أظهر دلالة في محل النزاع. ومن المعلوم أن أكثر أهل العلم يقدمون السنة في نحو هذا.
وقد قدم مالك رحمه الله دليل القرآن فيما ذكرنا كما قدمه أيضا في الثانية من سجدتي الحج لأن نص الآية الكريمة فيها كالصريح في أن المراد سجود الصلاة، لأن الله يقول فيها. * (ياأيها الذين ءامنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم) *.
فذكر الركوع مع السجود يدل على أن المراد سجود الصلاة.
والأمر بالصلاة في القرآن لا يستلزم سجود التلاوة كقوله: * (فصل لربك وانحر) *.
ولذلك لا يسجد عند قوله تعالى في آخر الحجر * (فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين) *.
قالوا لأن معنى قوله: * (فسبح بحمد ربك) * أي صل لربك متلبسا بحمده، وكن من الساجدين في صلاتك.
ولا شك أن قوله تعالى في ثانية الحج * (ياأيها الذين ءامنوا اركعوا) *. أصرح في إرادة سجود الصلاة من قوله تعالى: * (فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين) *.
ثم بعد هذا كله فإننا نكرر أن الأئمة رحمهم الله لا يلحقهم نقص ولا عيب فيما أخذ عليهم، لأنهم رحمهم الله بذلوا وسعهم في تعلم ما جاء عن الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ثم اجتهدوا بحسب طاقتهم، فالمصيب منهم له أجر اجتهاده وإصابته، والمخطىء منهم مأجور في اجتهاده معذور في خطئه، ولا يسعنا هنا مناقشة الأدلة فيما أخذ عليهم رحمهم الله، وإنما قصدنا مع الاعتراف بعظم منزلتهم أن نبين أن كتاب الله وسنة
370

رسوله صلى الله عليه وسلم يجب تقديمهما على أقوالهم، لأنهم غير معصومين من الخطأ، وأن مذاهبهم المدونة لا يصح ولا يجوز الاستغناء بها عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن على كل مسلم قادر على التعليم أن يتعلم الكتاب والسنة، ومعرفة مذاهب الأئمة تعينه على ذلك، والنظر فيما استدل به كل منهم يعينه على معرفة أرجح الأقوال وأقربها إلى رضى الله.
وكذلك الشافعي وأحمد رحمهما الله، فإن كل واحد منهما لا يخلو من شيء قد أخذ عليه، ومرادنا هنا التمثيل لذلك، وأن الوحي مقدم على أقوالهم جميعا، وليس قصدنا الإكثار من ذلك.
وهذه أمثلة بالمطلوب وكان الشيخ رحمه الله أرجأ إيرادها فنذكرها على ما هو ظاهر من المذهبين ونرجو أن تكون موافقة لما أراد. وبالله التوفيق.
فمما هو في مذهب أحمد رحمه الله صوم يوم الشك وهو يوم الثلاثين من الشعبان حينما يشك فيه هل هو تمام شعبان أو أول رمضان. وذلك حينما تكون السماء مغيمة خشية أن يظهر الهلال خلف الغيم أو القتر.
ولا يكون يوم شك إذا كانت السماء صحوا لأنه إذا رؤي الهلال فهو من رمضان وإلا فهو من شعبان.
فمذهب أحمد هو صوم هذا اليوم المشكوك فيه احتياطا لرمضان، وهو نص المعنى إلا أنه ذكر عن أحمد روايات أخر. ولكن صومه هو المقدم في المذهب. ولكنه مخالف لصريح بالنص في قوله صلى الله عليه وسلم في ذلك: (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم) صلى الله عليه وسلم.
قال في بلوغ المرام: ذكره البخاري تعليقا ووصله، قال في سبل السلام: واعلم أن يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال في ليلة بغيم ساتر، أو نحوه فيجوز كونه من رمضان وكونه من شعبان.
والحديث وما في معناه يدل على تحريم صومه. ا ه. يعني بما في معناه قوله صلى الله عليه وسلم (صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين). متفق عليه، ولمسلم (فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين) وللبخاري (فأكملوا العدة ثلاثين).
وشبهة أحمد في قوله صلى الله عليه وسلم (فاقدروا له) بمعنى فضيقوا عليه كما في قوله
371

تعالى: * (ومن قدر عليه رزقه فلينفق ممآ ءاتاه الله) * ولكن هذا معارض للنص الصريح في معنى (فاقدروا له ثلاثين) وقوله (فأكملوا العدة ثلاثين) أي سواء في شعبان أو في تمام رمضان عند الفطر.
ولم يقل بصومه من الأئمة إلا أحمد رحمه الله.
ومما هو عند الشافعي قوله بنقض الوضوء من مجرد لمس المرأة الأجنبية بدون حائل مع ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في أحاديث عائشة رضي الله عنها (كنت أنام معترضة في القبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي فإذا سجد غمزني رجلي فأقبضها فإذا قام مددتها).
وقد أجابوا عن ذلك باحتمال سترها بحائل فجاء قولها (افتقدت رسول الله ذات ليلة فقمت أطلبه والحجرات ليس فيه آنذاك السرج حتى وقعت كفي على بطن قدمه وهو ساجد يقول: سبوح قدوس رب الملائكة والروح فقلت: والله إنك لفي واد وأنا في واد).
فلما قام للركعة الثانية طنته ذهب عند بعض نسائه فاغتسل ثم جاء يصلي عندها فقامت وأدخلت يدها في شعر رأسه تتحسس هل اغتسل أم لا.. إلخ.
ولهم أجوبة على كل ذلك ولكنها لا تنهض مع هذه النصوص الصريحة.
وشبهة الشافعي في ذلك في معنى: لامستم النساء من قوله تعالى: * (أو جآء أحد منكم من الغآئط أو لامستم النسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا) *. ولم يقل بنقض الوضوء به من الأئمة إلا الشافعي رحمه الله.
ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام أنه لا يتأتى من أحد أئمة المسلمين أن يخالف نصا صريحا من كتاب أو سنة، بدون أن تكون لديه شبهة معارضة بنص آخر، أو عدم بلوغ النص إليه، أو عدم صحته عنده أو غير ذلك مما هو معروف في هذا المقام.
وإنما أوردنا هذين المثالين تتمة للبحث ولمجرد المثال.
التنبيه التاسع
اعلم أن كل من يرى أنه لا بد له من تقليد الإمام في كل شيء بدعوى أنه لا يقدر على الاستدلال بكتاب ولا سنة، ولا قول أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا أحد غير ذلك الإمام.
372

يجب عليه أن يتنبه تنبها تاما للفرق بين أقوال ذلك الإمام التي خالها حقا، وبين ما ألحق بعده على قواعد مذهبه، وما زاده المتأخرون وقتا بعد وقت من أنواع الاستحسان التي لا أساس لها في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولو علم الإمام بإلحاقهم بمذهبه، لتبرأ منها، وأنكر على ملحقها، فنسبة جميع ذلك للإمام من الباطل الواضح.
ويزيده بطلانا نسبته إلى الله ورسوله، بدعوى أنه شرع ذلك على لسان رسوله، ونحو هذا كثير في المختصرات في المذاهب وكتب المتأخرين منهم.
ومن أمثلته في مذهب مالك قول خليل المالكي في مختصره الذي قال فيه مبينا لما به الفتوى: كأقل الطهر يعني أن قل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوما.
والذين يعتقدون مذهب مالك يعتقدون أن مالكا يقول: بأن أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوما.
وهذا لم يقله مالك أبدا ولم يفت به ولم يروه عنه أحد من أصحابه.
والذي كان يقوله مالك: إن أقل الطهر ثمانية أيام أو عشرة أيام.
وهو الذي نقله عنه أجلاء أهل مذهبه كأبي محمد بن أبي زيد في رسالته رحمه الله.
والقول بأن أقل الطهر خمسة عشر هو قول ابن مسلمة واعتمده صاحب التلقين، وجعله ابن شاش المشهور أي مشهور مذهب مالك.
مع أن مالكا لم يقله ولم يعلم به، وأمثال هذا كثيرة جدا في مذهب مالك وغيره.
ومثال استحسان المتأخرين ما لم يقله الإمام مما لا شك أنه لو بلغ الإمام لم يقبله قول الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره في الصوم: وعاشوراء وتاسوعاء. ما نصه: قال الشيخ زروق في شرح القرطبية: صيام المولد كرهه بعض من قرب عصره ممن صلح علمه وورعه.
قال إنه من أعياد المسلمين فينبغي ألا يصام فيه، وكان شيخنا أبو عبد الله القوري يذكر ذلك كثيرا ويستحسنه. انتهى.
قلت: لعله يعني ابن عباد. فقد قال في رسائله الكبرى ما نصه: وأما المولد فالذي يظهر لي أنه عيد من أعياد المسلمين وموسم من مواسمهم، وكل ما يفعل فيه مما
373

يقتضيه وجود الفرح والسرور بذلك المولد المبارك من إيقاد الشمع وإمتاع البصر والسمع والتزين بلبس فاخر الثياب وركوب فاره الدواب، أمر مباح لا ينكر على أحد قياسا على غيره من أوقات الفرح.
والحكم بكون هذه الأشياء بدعة في هذا الوقت الذي ظهر فيه سر الوجود وارتفع فيه علم الشهود وانقشع فيه ظلام الكفر والجحود، وادعاء أن هذا الزمان ليس من المواسم المشروعة لأهل الإيمان ومقارنة ذلك بالنيروز والمهرجان أمر مستثقل تشمئز منه القلوب السليمة وتدفعه الآراء المستقيمة.
ولقد كنت فيما خلا من الزمان خرجت في يوم مولد إلى ساحل البحر، فاتفق أن وجدت هناك سيدي الحاج بن عاشر رحمه الله وجماعة من أصحابه وقد أخرج بعضهم طعاما مختلفا ليأكلوه هنالك.
فلما قدموه لذلك أرادوا مني مشاركتهم في الأكل، وكنت إذ ذاك صائما فقلت لهم: إني صائم.
فنظر إلى سيدي الحاج نظرة منكرة، وقال لي ما معناه: إن هذا اليوم يوم فرح وسرور يستقبح في مثله الصيام بمنزلة العيد.
فتأملت كلامه فوجدته حقا، وكأنني كنت نائما فأيقظني. انتهى بلفظه.
فهذا الكلام الذي يقتضي قبح صوم يوم المولد وجعله كيوم العيد من غير استناد إلى كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا قول أحد من أصحابه ولا من تابعيه.
ولم يقل به أحد من الأئمة الأربعة ولا من فقهاء الأمصار المعروفين الذي أدخله بعض المتأخرين في مذهب مالك، ومالك بريء منه براءة الشمس من اللمس، ولم يجر على أصول مذهبه، لأن علة تحريم صوم يوم العيد والفطر عنده أن الله تعالى يكلف عباده في كل سنة عبادتين عظيمتين والأمر بهما عام لكل من يستطيعهما، وإحداهما تجب في العمر مرة واحدة وهي الحج. والثانية تجب كل سنة في شهر رمضان منها، وهي الصوم، فإذا انتهت عبادة الحج أو عبادة الصوم ألزم الله الناس كلهم أن يكونوا في ضيافته يوم النحر ويوم عيد الفطر.
فمن صام في أحد اليومين أعرض عن ضيافة الله، والإعراض عن ضيافته تعالى لا يجوز.
374

فإلحاق يوم المولد بيوم العيد إلحاق لا أساس له، لأنه إلحاق ليس بجامع بينهما ولا نفي فارق ولا إلحاق البتة إلا بجامع أو نفي فارق.
وكل من لم يطمس الله بصيرته يعلم أن الحق الذي لا شك فيه هو اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ومعلوم أن جعل يوم المولد كيوم العيد في منع الصوم لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ولا أحد من الأئمة الأربعة.
فهو تشريع لاستقباح قربة الصوم ومنعها في يوم المولد من غير استناد إلى وحي ولا قياس صحيح ولا قول أحد ممن يقتدى به.
ومما لا نزاع فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله الله رحمة للعالمين كما قال تعالى: * (ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين) * ورسالته صلى الله عليه وسلم هي أعظم نعمة على الخلق كما بينه علماء التفسير في الكلام على قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا) *، والخير كل الخير في اتباعه صلوات الله وسلامه عليه، والشر كل الشر في تشريع ما لم يشرعه والتقول عليه بما لم يقله.
فالمقلدون لمالك مثل هذا التقليد الأعمى يعتقدون أن هذا الكلام الذي ذكره الحطاب عن زروق وابن عباد وابن عاشر، أنه هو مذهب مالك وأنه من شرع الله ودينه، وأنه ما دام من مذهب مالك، فاللازم تقديمه على الكتاب والسنة لأنهما لا يجوز العمل إلا للمجتهد المطلق.
وهذا مثال من بلايا التقليد الأعمى وعظائمه.
ولا يخفى أن ادعاء أن وجود نعم الله كمولد النبي صلى الله عليه وسلم يدل على استقباح طاعة الله بالصوم في أوقات وجود تلك النعم ظاهر الفساد، لأن المناسب لنعم الله
هو طاعته بأنواع الطاعات كالصوم.
ولذا تجد الناس ينذرون لله صوم اليوم الذي ينعم الله عليهم فيه بشفاء المريض أو إتيان الغائب، وهذا أمر معروف وهو المعقول لا عكسه.
ومما يوضح هذا أن إنزال القرآن العظيم هو أعظم نعمة على البشر.
ولأجل ذلك علمهم الله حمده تعالى على هذه النعمة العظمى في أول سورة الكهف في قوله تعالى
375

* (الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب) *.
وقد بين تعالى أنه أنزل هذه النعمة في شهر رمضان، فكان نزول هذه النعمة في شهر رمضان مقتضيا لصومه لا لجعل أيامه أعيادا يستقبح صومها، لأن الله تعالى قال * (شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) *.
وهذا هو أعظم النعم، وقد رتب على هذا بالفاء قوله بعده، * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * فافهم.
والمقصود بهذا المثال النصيحة للذين لم يقدروا على غير هذا التقليد الأعمى ليبحثوا في كتب المذهب وأمهاته عن أقوال الإمام وكبار أصحابه ليفرقوا بينها وبين أنواع الاستحسان التي لا مستند لها، التي يدخلها المتأخرون وقتا بعد وقت وهي ظاهرة الفساد عند من رزقه الله علما بكتاب الله وسنة رسوله.
ومما لا شك فيه أن أقوال مالك وكبراء أصحابه مثلا، أحرى بالصواب في الجملة من استحسان ابن عباد وابن عاشر وأمثالهما.
التنبيه العاشر
اعلم أن الدعوى التي اتفق عليها متأخرو الأصوليين التي تتضمن حكمهم على خالق السماوات والأرض جل وعلا لا يجوز لمسلم تريد الحق والإنصاف أن يعتقدها، ولا أن يصدقهم فيها لظهور عدم صحتها ومخالفتها للنص، والحكم فيها على الله بلا مستند، وهو جل وعلا الذي يحكم لا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب.
وهذه الدعوى المذكورة هي المتركبة مما يأتي، وهو أن الاجتهاد قد انقرض في الدنيا وانسد بابه.
وأن الله تعالى محكوم عليه بأن لا يخلق مجتهدا ولا يعلم أحدا من خلقه علما يمكن أن يكون به مجتهدا إلى ظهور المهدي المنتظر.
وأنه لا يجوز لأحد أن يعمل بكتاب ولا سنة ولا أن يقلد أحدا كائنا من كان غير الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المدونة، كما نص على هذه الدعوى حاكيا إجماعهم عليها صاحب مراقي السعود في قوله: وأنه لا يجوز لأحد أن يعمل بكتاب ولا سنة ولا أن يقلد أحدا كائنا من كان غير الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المدونة، كما نص على هذه الدعوى حاكيا إجماعهم عليها صاحب مراقي السعود في قوله:
* والمجمع اليوم عليه الأربعة
* وقفو غيرها الجميع منعه
*
376

* حتى يجيء الفاطم المجدد
* دين الهدى لأنه مجتهد
*
ومراده بالفاطمي المهدي المنتظر لأنه شريف.
وقوله: حتى يجيء. حرف غاية، والمغيابه، منع تقليد أحد غير الأربعة المذكور في قوله: وقفو غيرها الجميع منعه.
وهذا صريح في أنهم حاكمون على الله القدير العليم، بأنه لا يخلق مجتهدا قبل وجود المهدي المنتظر، وهذا الذي قاله صاحب مراقي السعود هو المقرر في كتب المتأخرين من الأصوليين من أهل المذاهب المدونة.
وهذا الحكم على الله الذي كل يوم هو في شأن بأنه لا يخلق مجتهدا قبل المهدي من مدة انقراض الاجتهاد المزعوم هو يا أخي كما ترى.
ولا شك أنك إن لم يعمك التعصب المذهبي تقطع أنه لا مستند له، وهذا الذي ذكره صاحب مراقي السعود قد صرح بما يناقضه في قوله قبله: ولا شك أنك إن لم يعمك التعصب المذهبي تقطع أنه لا مستند له، وهذا الذي ذكره صاحب مراقي السعود قد صرح بما يناقضه في قوله قبله:
* والأرض لم عن قائم مجتهد
* تخلو إلى تزلزل القواعد
*
وهذا النقيض الأخير هو الصحيح الموافق للحق.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه في الصحيحين وغيرهما أنه قال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله) الحديث. وهو حديث مشهور متفق عليه لا نزاع في صحته.
ولا شك في أن هذه الطائفة التي صرح النبي صلى الله عليه وسلم: بأنها لا تزال ظاهرة على الحق حتى يأتي أمر الله أنها طائفة على كتاب الله، وسنة رسوله، وليست
البتة من المقلدين التقليد الأعمى.
لأن الحق هو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة كما قال تعالى في سورة النساء * (ياأيها الناس قد جآءكم الرسول بالحق من ربكم) * وقال في الأنعام: * (وكذب به قومك وهو الحق) *. وقال في النمل * (فتوكل على الله إنك على الحق المبين) * وقال في يونس: * (ياأيها الناس قد جآءكم الحق من ربكم) * والآيات بمثل ذلك كثيرة. فدعوى أن الأرض لم يبق فيها مجتهد البتة، وأن ذلك مستمر إلى ظهور المهدي
377

المنتظر مناقضة لهذا الحديث الثابت ثبوتا لا مطعن فيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومما لا نزاع فيه أن كل ما يناقض الحق فهو ضلال، لأن الله جل وعلا يقول: * (فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون) *. والعلم عند الله تعالى.
التنبيه الحادي عشر
اعلم يا أخي أن هذا الإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واعتقاد الاستغناء عنهما بالمذاهب المدونة الذي عم جل من في المعمورة من المسلمين من أعظم المآسي والمصائب، والدواهي التي دهت المسلمين من مدة قرون عديدة.
ولا شك أن النتائج الوخيمة الناشئة عن الإعراض عن الكتاب والسنة من جملتها ما عليه المسلمون في واقعهم الآن من تحكيم القوانين الوضعية المنافي لأصل الإسلام.
لأن الكفار إنما احتاجوهم بفصلهم عن دينهم بالغزو الفكري عن طرق الثقافة وإدخال الشبه والشكوك في دين الإسلام.
ولو كان المسلمون يتعلمون كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويعملون بما فيهما لكان ذلك حصنا منيعا لهم من تأثير الغزو الفكري في عقائدهم ودينهم.
ولكن لما تركوا الوحي ونبذوه وراء ظهورهم واستبدلوا به أقوال الرجال لم تقم لهم أقوال الرجال ومذاهب الأئمة رحمهم الله مقام كلام الله والاعتصام بالقرآن، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم والتحصن بسنته.
ولذلك وجد الغزو الفكري طريقا إلى قلوب الناشئة من المسلمين. ولذلك وجد الغزو الفكري طريقا إلى قلوب الناشئة من المسلمين.
* ولو كان سلاحهم المضاد
* القرآن والسنة لم يجد إليهم سبيلا
*
ولا شك أن كل منصف يعلم أن كلام الناس، ولو بلغوا ما بلغوا من العلم والفضل، لا يمكن أن يقوم مقام كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
وبالجملة فمما لا شك فيه أن هذا الغزو الفكري الذي قضى على كيان المسلمين، ووحدتهم وفصلهم عن دينهم، لو صادفهم وهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله لرجع مدحورا في غاية الفشل لوضوح أدلة الكتاب والسنة، وكون الغزو الفكري المذكور لم يستند إلا على الباطل والتمويه كما هو معلوم.
378

* (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم * ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم فى بعض الا مر والله يعلم إسرارهم * فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم * ذلك بأنهم اتبعوا مآ أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم * أم حسب الذين فى قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم * ولو نشآء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم فى لحن القول والله يعلم أعمالكم * ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم * إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشآقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم * ياأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم * إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم * فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الا علون والله معكم ولن يتركم أعمالكم * إنما الحيواة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم * ؤإن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم * هآ أنتم هاؤلاء تدعون لتنفقوا فى سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغنى وأنتم الفقرآء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) * قوله تعالى: * (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم فى بعض الا مر والله يعلم إسرارهم فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا مآ أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم) *. الظاهر أن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى، قوم كفروا بعد إيمانهم.
وقال بعض العلماء: هم اليهود الذين كانوا يؤمنون بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فلما بعث وتحققوا أنه هو النبي الموصوف في كتبهم كفروا به.
وعلى هذا القول فارتدادهم على أدبارهم هو كفرهم به بعد أن عرفوه وتيقنوه، وعلى هذا فالهدى الذي تبين لهم هو صحة نبوته صلى الله عليه وسلم ومعرفته بالعلامات الموجودة في كتبهم.
وعلى هذا القول فهذه الآية يوضحها قوله تعالى في سورة البقرة: * (ولما جآءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جآءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين) * لأن قوله: * (فلما جآءهم ما عرفوا) * مبين معنى قوله: * (من بعد ما تبين لهم الهدى) *، وقوله * (كفروا به) * مبين معنى قوله: * (ارتدوا على أدبارهم) *.
وقال بعض العلماء: نزلت الآية المذكورة في المنافقين.
وقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن سبب ارتداد هؤلاء القوم من بعد ما تبين لهم الهدى، هو إغواء الشيطان لهم كما قال تعالى مشيرا إلى علة ذلك * (الشيطان
سول لهم) * أي زين لهم الكفر والارتداد عن الدين، وأملى لهم أي مد لهم في الأمل ووعدهم طول العمر.
قال الزمخشري: سول سهل لهم ركوب العظائم من السول، وهو الاسترخاء، وقد اشتقه من السؤل من لا علم له بالتصريف والاشتقاق جميعا.
وأملى لهم ومد لهم في الآمال والأماني. انتهى.
379

وإيضاح هذا أن هؤلاء المرتدين على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى وقع لهم ذلك بسبب أن الشيطان سول لهم ذلك أي سهله لهم وزينه لهم وحسنه لهم ومناهم فصول الأعمار.
لأن طول الأمل من أعظم أسباب ارتكاب الكفر والمعاصي.
وفي هذا الحرف قراءتان سبعيتان: قرأه عامة السبعة غير أبي عمرو، وأملى لهم بفتح الهمزة واللام بعدها ألف وهو فعل ماض مبني للفاعل، وفاعله ضمير يعود إلى الشيطان.
وأصل الإملاء الإمهال والمد في الأجل، ومنه قوله تعالى: * (وأملى لهم إن كيدى متين) *، وقوله تعالى: * (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملى لهم خير لانفسهم إنما نملى لهم ليزدادوا إثما) *.
ومعنى إملاء الشيطان لهم وعده إياهم بطول الأعمار، كما قال تعالى: * (يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) *.
وقال تعالى: * (واستفزز من استطعت منهم بصوتك) * إلى قولك * (وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) *.
وقال بعض العلماء: ضمير الفاعل في قوله * (وأملى لهم) * على قراءة الجمهور راجع إلى الله تعالى.
والمعنى: الشيطان * (سول لهم) * أي سهل لهم الكفر والمعاصي، وزين ذلك وحسنه لهم، والله جل وعلا أملى لهم: أي أمهلهم إمهال استدراج.
وكون التسويل من الشيطان والإمهال من الله، قد تشهد لهم آيات من كتاب الله كقوله تعالى في تزيين الشيطان لهم * (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) *. وقوله تعالى، * (تالله لقد أرسلنآ إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطن أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم) *، وقوله تعالى: * (وقال الشيطان لما قضى الا مر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم) *. إلى غير ذلك من الآيات.
وكقوله تعالى في إملاء الله لهم استدراجا: * (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملى لهم إن كيدى متين) *. وقوله تعالى: * (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملى
380

لهم خير لانفسهم إنما نملى لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين) * وقوله تعالى: * (قل من كان فى الضلالة فليمدد له الرحمان مدا) * وقوله تعالى: * (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شىء حتى إذا فرحوا بمآ أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) * وقوله تعالى: * (ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس ءاباءنا الضرآء والسرآء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون) *. وقوله تعالى * (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم فى الخيرات بل لا يشعرون) * والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وقرأ هذا الحرف أبو عمرو وجده من السبعة وأملي لهم بضم الهمزة وكسر اللام بعدها ياء مفتوحة بصيغة الماضي المبني للمفعول والفاعل المحذوف فيه الوجهان المذكوران آنفا في فاعل، وأملي لهم على قراءة الجمهور بالبناء للفاعل.
وقد ذكرنا قريبا ما يشهد لكل منهما من القرآن كقوله تعالى في إملاء الشيطان لهم * (يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) * وقوله في إملاء الله لهم: * (وأملى لهم إن كيدى متين) * كما تقدم قريبا، والإشارة في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم فى بعض الا مر) * راجعة إلى قوله تعالى، * (الشيطان سول لهم وأملى لهم) *.
أي ذلك التسويل والإملاء المفضي إلى الكفر بسبب أنهم * (قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم فى بعض الا مر) *.
وظاهر الآية يدل على أن بعض الأمر الذي قالوا لهم سنطيعكم فيه مما نزل الله وكرهه أولئك المطاعون.
والآية الكريمة تدل على أن كل من أطاع من كره ما نزل الله في معاونته له على كراهته ومؤازرته له على ذلك الباطل، أنه كافر بالله بدليل قوله تعالى فيمن كان كذلك * (فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا مآ أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم) *.
وقد قدمنا ما يوضح ذلك من القرآن في سورة شورى في الكلام على قوله
381

تعالى: * (وما اختلفتم فيه من شىء فحكمه إلى الله) * وفي مواضع عديدة من هذا الكتاب المبارك.
وبينا في سورة شورى أيضا شدة كراهة الكفار لما نزل الله، وبينا ذلك بالآيات القرآنية في الكلام على قوله تعالى * (كبر على المشركين ما تدعوهم إليه) *.
وقد قدمنا مرارا أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة والله يعلم * (إسرارهم) * قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشعبة عن عاصم أسرارهم بفتح الهمزة جمع سر.
وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم إسرارهم بكسر الهمزة مصدر أسر كقوله: * (وأسررت لهم إسرارا) *. وقد قالوا لهم ذلك سرا فأفشاه الله العالم بكل ما يسرون وما يعلنون.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم) * أي: فكيف يكون حال هؤلاء إذا توفتهم الملائكة؟
أي قبض ملك الموت وأعوانه أرواحهم في حال كونهم ضاربين وجوههم وأدبارهم.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الملائكة، يتوفون الكفار وهم يضربون وجوههم وأدبارهم جاء موضحا في مواضع أخر من كتاب الله كقوله تعالى في الأنفال: * (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم) * وقوله في الأنعام: * (ولو ترى إذ الظالمون فى غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون) *.
فقوله: * (باسطوا أيديهم) * أي بالضرب المذكور.
والإشارة في قوله * (ذلك بأنهم اتبعوا مآ أسخط الله) * راجعة إلى المصدر الكامن في الفعل الصناعي أعني قوله * (يضربون وجوههم) *.
أي ذلك بضرب وقت الموت واقع بسبب * (بأنهم اتبعوا مآ أسخط الله) * أي أغضبه من الكفر به، وطاعة الكفار الكارهين لما نزله.
والإسخاط استجلاب السخط، وهو الغضب هنا.
382

وقوله: وكرهوا رضوانه لأن من أطاع من كره ما نزل الله فقد كره رضوان الله.
لأن رضوانه تعالى ليس إلا في العمل بما نزل، فاستلزمت كراهة ما نزل، كراهة رضوانه لأن رضوانه فيما نزل، ومن أطاع كارهه، فهو ككارهه.
وقوله: فأحبط أعمالهم أي أبطلها، لأن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة. وقد أوضحنا المقام في ذلك إيضاحا تاما في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى * (ومن أراد الا خرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولائك كان سعيهم مشكورا) *.
وفي سورة النحل في الكلام على قوله تعالى * (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حيواة طيبة) *.
واعلم أن هذه الآية الكريمة، قد قال بعض العلماء: إنها نزلت في المنافقين.
وقال بعضهم: إنها نزلت في اليهود، وأن المنافقين أو اليهود قالوا للكفار الذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر، وهو عداوة النبي صلى الله عليه وسلم والتعويق عن الجهاد ونحو ذلك.
وبعضهم يقول: إن الذين اتبعوا ما أسخط الله، هم اليهود حين كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم لما عرفوه وكرهوا رضوانه، وهو الإيمان به صلى الله عليه وسلم.
والتحقيق الذي لا شك فيه أن هذه الآيات عامة في كل ما يتناوله لفظها، وأن كل ما فيها من الوعيد عام لمن أطاع من كره ما نزل الله.
مسألة
اعلم أن كل مسلم، يجب عليه في هذا الزمان، تأمل هذه الآيات، من سورة محمد وتدبرها، والحذر التام مما تضمنته من الوعيد الشديد.
لأن كثيرا ممن ينتسبون للمسلمين داخلون بلا شك فيما تضمنته من الوعيد الشديد.
لأن عامة الكفار من شرقيين وغربيين كارهون لما نزل الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وهو هذا القرآن وما يبينه به النبي صلى الله عليه وسلم من السنن.
383

فكل من قال لهؤلاء الكفار الكارهين لما نزله الله: سنطيعكم في بعض الأمر، فهو داخل في وعيد الآية.
وأحرى من ذلك من يقول لهم: سنطيعكم في الأمر كالذين يتبعون القوانين الوضعية مطيعين بذلك للذين كرهوا ما نزل الله، فإن هؤلاء لا شك أنهم ممن تتوفاهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم.
وأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه، وأنه محبط أعمالهم.
فاحذر كل الحذر من الدخول في الذين قالوا: سنطيعكم في بعض الأمر. قوله تعالى: * (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم) *. اللام في قوله: لنبلونكم موطئة لقسم محذوف.
وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير شعبة عن عاصم بالنون الدالة على العظمة في الأفعال الثلاثة أعني لنبلونكم، ونعلم، ونبلو.
وقرأه شعبة عن عاصم بالمثناة التحتية.
وضمير الفاعل يعود إلى الله وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الله جل وعلا يبلو الناس أي يختبرهم بالتكاليف، كبذل الأنفس والأموال في الجهاد ليتميز بذلك صادقهم من كاذبهم، ومؤمنهم من كافرهم. جاء موضحا في آيات أخر.
كقوله تعالى: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأسآء والضرآء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين ءامنوا معه متى نصر الله) *.
وقوله تعالى * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) *.
وقوله تعالى * (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون) *.
وقوله تعالى * (ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) *.
384

وقوله تعالى * (ما كان الله ليذر المؤمنين على مآ أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (حتى نعلم المجاهدين) *.
وقد قدمنا إزالة الإشكال في نحوه في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى: * (وما جعلنا القبلة التى كنت عليهآ إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) *.
فقلنا في ذلك ما نصه:
ظاهر هذه الآية قد يتوهم منه الجاهل أنه تعالى يستفيد بالاختبار علما لم يكن يعلمه سبحانه وتعالى، عن ذلك علوا كبيرا، بل هو تعالى عالم بكل ما سيكون قبل أن يكون.
وقد بين أنه لا يستفيد بالاختبار علما لم يكن يعلمه بقوله جل وعلا: * (وليبتلى الله ما فى صدوركم وليمحص ما فى قلوبكم والله عليم بذات الصدور) *.
فقوله: والله عليم بذات الصدور بعد قوله: ليبتلي، دليل قاطع على أنه لم يستفد بالاختبار شيئا لم يكن عالما به سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
لأن العليم بذات الصدور غني عن الاختبار.
وفي هذه الآية بيان عظيم لجميع الآيات التي يذكر الله فيها اختباره لخلقه.
ومعنى إلا لنعلم أي علما يترتب عليه الثواب والعقاب فلا ينافي أنه كان عالما به قبل ذلك، وفائدة الاختبار ظهور الأمر للناس، أما عالم السر والنجوى، فهو عالم بكل ما سيكون، كما لا يخفى. ا ه.
قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه: (وهذا العلم هو العلم الذي يقع عليه به الجزاء لأنه إنما يجازيهم بأعمالهم لا بعلمه القديم عليهم، فتأويله حتى نعلم المجاهدين علم شهادة، لأنهم إذا أمروا بالعمل يشهد منهم ما عملوا فالجزاء بالثواب والعقاب يقع على علم الشهادة، ونبلو أخباركم نختبرها ونظهرها) انتهى محل الغرض منه.
وقال أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه:
385

(ولنبونكم أيها المؤمنين بالقتل وجهاد أعداء الله حتى نعلم المجاهدين منكم يقول: حتى يعلم حزبي وأوليائي أهل الجهاد. في الله منكم وأهل الصبر على قتال أعدائه فيظهر ذلك لهم ويعرف ذوو البصائر منكم في دينه من ذوي الشك والحيرة فيه وأهل الإيمان من أهل النفاق ونبلو أخياركم فنعرف الصادق منكم من الكاذب). انتهى محل الغرض منه بلفظه.
وما ذكره من أن المراد بقوله: حتى نعلم المجاهدين الآية، حتى يعلم حزبنا.
وأولياؤنا المجاهدين منكم والصابرين له وجه، وقد يرشد له قوله تعالى: * (ونبلو أخباركم) * أي نظهرها ونبرزها للناس.
وقوله تعالى: * (ما كان الله ليذر المؤمنين على مآ أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب) * لأن المراد يميز الخبيث من الطيب ظهور ذلك الناس.
ولذا قال * (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) * فتعلموا ما ينطوي عليه الخبيث والطيب، ولكن الله عرفكم بذلك بالاختبار والابتلاء الذي تظهر بسببه طوايا الناس من خبث وطيب.
والقول الأول وجيه أيضا، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشآقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم) *. الظاهر أن صدوا في هذه الآية متعدية، والمفعول محذوف، أي كفروا وصدوا غيرهم عن سبيل الله فهم ضالون مضلون.
وقد قدمنا في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى * (فلنحيينه حيواة طيبة ولنجزينهم أجرهم) *. أن التأسيس مقدم على التوكيد كما هو مقرر في الأصول.
وصدوا هنا، إن قدرت لازمة فمعنى الصدود الكفر، فتكون كالتوكيد لقوله كفروا.
386

وإن قدرت متعدية كان ذلك تأسيسا.
لأن قوله: كفروا يدل على كفرهم في أنفسهم.
وقوله: وصدوا على أنه متعد يدل على أنهم حملوا غيرهم على الكفر وصدوه عن الحق، وهذا أرجح مما قبله.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وشآقوا الرسول) * أي خالفوا محمدا صلى الله عليه وسلم مخالفة شديدة.
وقد دلت هذه الآية الكريمة على أمرين أحدهما أن الذين كفروا وصدوا غيرهم عن الحق وخالفوه صلى الله عليه وسلم لن يضروا الله بكفرهم شيئا، لأنه غني لذاته الغنى المطلق.
والثاني أنهم إنما يضرون بذلك أنفسهم، لأن ذلك الكفر سبب لإحباط أعمالهم، كما قال تعالى: * (وسيحبط أعمالهم) *.
وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة جاءا موضحين في آيات من كتاب الله.
فمن الآيات الدالة على الأول الذي هو غنى الله عن خلقه، وعدم تضرره بمعصيتهم، قوله تعالى: * (ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين) *.
وقوله تعالى: * (إن تكفروا فإن الله غنى عنكم) *.
وقوله تعالى: * (وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن فى الا رض جميعا فإن الله لغنى حميد) *.
وقوله تعالى: * (قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما فى السماوات وما فى الا رض) *.
وقوله تعالى: * (فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غنى حميد) *.
وقوله تعالى: * (ياأيها الناس أنتم الفقرآء إلى الله والله هو الغنى الحميد) * إلى غير ذلك من الآيات.
ومن الآيات الدالة على الثاني وهو إحباط أعمالهم بالكفر أي إبطالها به قوله
387

تعالى: * (وقدمنآ إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هبآء منثورا) *.
وقوله تعالى: * (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف) *.
وقوله تعالى: * (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن مآء حتى إذا جآءه لم يجده شيئا) *.
وقوله تعالى: * (أولائك الذين ليس لهم فى الا خرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) *. قد قدمنا كثيرا جدا من الآيات المماثلة له قريبا في جملة كلامنا الطويل على قوله تعالى * (أفلا يتدبرون القرءان) *. قوله تعالى: * (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم) *. ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن من مات على الكفر لن يغفر الله له، لأن النار وجبت له بموته على الكفر، جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله.
كقوله تعالى * (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الا رض ذهبا ولو افتدى به أولائك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين) *.
وقوله تعالى * (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولائك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون) *.
وقوله تعالى: * (ولا الذين يموتون وهم كفار أولائك أعتدنا لهم عذابا أليما) *.
وقوله تعالى * (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولائك حبطت أعمالهم في الدنيا والا خرة وأولائك أصحاب النار هم فيها خالدون) *. قوله تعالى: * (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الا علون والله معكم ولن يتركم أعمالكم) *.
388

قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة وشعبة عن عاصم إلى السلم بفتح السين.
وقرأ حمزة وشعبة إلى السلم بكسر السين.
وقوله تعالى: * (فلا تهنوا) * أي لا تضعفوا وتذلوا، ومنه قوله تعالى: * (فما وهنوا لمآ أصابهم فى سبيل الله) *.
وقوله تعالى: * (ذالكم وأن الله موهن كيد الكافرين) * أي مضعف كيدهم، وقول زهير بن أبي سلمى: ذالكم وأن الله موهن كيد الكافرين) * أي مضعف كيدهم، وقول زهير بن أبي سلمى:
* وأخلفتك ابنة البكري ما وعدت
* فأصبح الحبل منها واهنا خلقا
*
وقوله تعالى: * (وأنتم الا علون) * جملة حالية فلا تضعفوا عن قتال الكفار وتدعوا إلى السلم، أي تبدؤوا بطلب السلم أي الصلح والمهادنة وأنتم الأعلون. أي والحال أنكم أنتم الأعلون أي الأقهرون والأغلبون لأعدائكم، ولأنكم ترجون من الله من النصر والثواب ما لا يرجون.
وهذا التفسير في قوله * (وأنتم الا علون) * هو الصواب.
وتدل عليه آيات من كتاب الله كقوله تعالى بعده * (والله معكم) * لأن من كان الله معه هو الأعلى وهو الغالب وهو القاهر المنصور الموعود بالثواب.
فهو جدير بأن لا يضعف عن مقاومة الكفار ولا يبدأهم بطلب الصلح والمهادنة.
وكقوله تعالى: * (وإن جندنا لهم الغالبون) *، وقوله تعالى: * (إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا فى الحيواة الدنيا) *، وقوله * (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) * وقوله تعالى * (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم) *. ومما يوضح معنى آية القتال هذه قوله تعالى: * (ولا تهنوا فى ابتغآء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون) *، لأن قوله تعالى * (وترجون من الله ما لا يرجون) * من النصر الذي وعدكم الله به والغلبة وجزيل الثواب.
389

وذلك كقوله هنا * (وأنتم الا علون) * وقوله: * (والله معكم) * أي بالنصر والإعانة والثواب.
واعلم أن آية القتال هذه لا تعارض بينها وبين آية الأنفال حتى يقال إن إحداهما ناسخة للأخرى، بل هما محكمتان وكل واحدة منهما منزلة على حال غير الحال التي نزلت عليه الأخرى.
فالنهي في آية القتال هذه في قوله تعالى: * (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم) * إنما هو عن الابتداء بطلب السلم.
والأمر بالجنوح إلى السلم في آية الأنفال محله فيما إذا ابتدأ الكفار بطلب السلم والجنوح لها، كما هو صريح قوله تعالى: * (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (والله معكم) * قد قدمنا الآيات الموضحة له في آخر سورة النحل في الكلام على قوله تعالى * (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) * وهذا الذي ذكرنا في معنى هذه الآية أولى وأصوب مما فسرها به ابن كثير رحمه الله.
وهو أن المعنى: لا تدعوا إلى الصلح والمهادنة وأنتم الأعلون أي في حال قوتكم وقدرتكم على الجهاد.
أي، وإما إن كنتم في ضعف وعدم قوة فلا مانع من أن تدعوا إلى السلم أي الصلح والمهادنة، ومنه قول العباس بن مرداس السلمي: ومنه قول العباس بن مرداس السلمي:
* السلم تأخذ منها ما رضيت به
* والحرب تكفيك من أنفاسها جرع
*
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (ولن يتركم أعمالكم) * أي لن ينقصكم شيئا من ثواب أعمالكم.
وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة من عدم نقصه تعالى شيئا من ثواب الأعمال جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى * (وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا) * أي لا ينقصكم من ثوابها شيئا.
وقوله تعالى: * (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان
390

مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) *.
والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة، وقد قدمناها مرارا.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (ولن يتركم) * أصله من الوتر، وهو الفرد.
فأصل قوله: لن يتركم لن يفردكم ويجردكم من أعمالكم بل يوفيكم إياها. قوله تعالى: * (وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم) *. هذه الأجور التي وعد الله بها من آمن واتقى جاءت مبينة في آيات كثيرة كقوله تعالى * (ياأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وءامنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (ولا يسألكم أموالكم) *. في هذه الآية الكريمة أوجه معلومة عند أهل التفسير منها أن المعنى: ولا يسألكم النبي صلى الله عليه وسلم أموالكم أجرا على ما بلغكم من الوحي المتضمن لخير الدنيا والآخرة.
وهذا الوجه تشهد له آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى: * (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجرى إلا على الله) *.
وقوله تعالى: * (قل مآ أسألكم عليه من أجر ومآ أنآ من المتكلفين) *.
وقوله تعالى: * (أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون) *.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة هود في الكلام على قوله تعالى * (وياقوم لا أسألكم عليه مالا إن أجرى إلا على الله) * وذكرنا بعض ذلك في سورة الشورى في الكلام على قوله تعالى * (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة فى القربى) *. قوله تعالى: * (نفسه والله الغنى وأنتم) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له قريبا في الكلام على قوله تعالى: * (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشآقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى) *.
391

قوله تعالى: * (الفقرآء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا) *. وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى * (إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت باخرين وكان الله على ذالك قديرا) *.
392

((سورة الفتح))
* (إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما * وينصرك الله نصرا عزيزا * هو الذى أنزل السكينة فى قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والا رض وكان الله عليما حكيما * ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها الا نهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما * ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظآنين بالله ظن السوء عليهم دآئرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وسآءت مصيرا * ولله جنود السماوات والا رض وكان الله عزيزا حكيما * إنآ أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا * إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما * سيقول لك المخلفون من الا عراب شغلتنآ أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا * بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك فى قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا * ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنآ أعتدنا للكافرين سعيرا * ولله ملك السماوات والا رض يغفر لمن يشآء ويعذب من يشآء وكان الله غفورا رحيما * سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا * قل للمخلفين من الا عراب ستدعون إلى قوم أولى بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما * ليس على الا عمى حرج ولا على الا عرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجرى من تحتها الا نهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما * لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما فى قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا * ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما * وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هاذه وكف أيدى الناس عنكم ولتكون ءاية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما * وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شىء قديرا * ولو قاتلكم
الذين كفروا لولوا الا دبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا * سنة الله التى قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا * وهو الذى كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا * هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدى معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونسآء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله فى رحمته من يشآء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما * إذ جعل الذين كفروا فى قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شىء عليما * لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شآء الله ءامنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا * هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا) * قوله تعالى: * (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) *. التحقيق الذي عليه الجمهور أن المراد بهذا الفتح صلح الحديبية، لأنه فتح عظيم.
وإيضاح ذلك أن الصلح المذكور هو السبب الذي تهيأ به للمسلمين أن يجتمعوا بالكفار فيدعوهم إلى الإسلام وبينوا لهم محاسنه.
فدخل كثير من قبائل العرب بسبب ذلك في الإسلام.
ومما يوضح ذلك أن الذين شهدوا صلح الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة عام ست كانوا ألفا وأربعمائة.
ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم غزو مكة حين نقض الكفار العهد، كان خروجه إلى مكة في رمضان عام ثمان.
وكان معه عشرة آلاف مقاتل، وذلك يوضح أن الصلح المذكور من أعظم الفتوح لكونه سببا لقوة المسلمين وكثرة عددهم.
وليس المراد بالفتح المذكور فتح مكة، وإن قال بذلك جماعة من أهل العلم.
وإنما قلنا ذلك لأن أكثر أهل العلم على ما قلنا.
ولأن ظاهر القرآن يدل عليه لأن سورة الفتح هذه نزلت بعد صلح الحديبية في طريقه صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة.
ولفظ الماضي في قوله: * (إنا فتحنا) * يدل على أن ذلك الفتح قد مضى، فدعوى أنه فتح مكة ولم يقع إلا بعد ذلك بقرب سنتين خلاف الظاهر.
والآية التي في فتح مكة دلت على الاستقبال لا على المضي، وهي قوله تعالى: * (إذا جآء نصر الله والفتح) *.
وقد أوضحنا في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب معنى اللام في قوله:
393

* (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك) *. قوله تعالى: * (ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم) *. ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الإيمان يزيد دلت عليه آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى: * (وإذا تليت عليهم ءاياته زادتهم إيمانا) *. وقوله تعالى: * (فأما الذين ءامنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون) *، وقوله تعالى: * (ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين ءامنوا إيمانا) * إلى غير ذلك من الآيات. وقد أوضحناه مرارا.
والحق الذي لا شك فيه. أن الإيمان يزيد وينقص، كما عليه أهل السنة والجماعة، وقد دل عليه الوحي من الكتاب والسنة كما تقدم. قوله تعالى: * (ولله جنود السماوات والا رض) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن له جنود السماوات والأرض وبين في المدثر أن جنوده هذه لا يعلمها إلا هو، وذلك في قوله: * (وما يعلم جنود ربك إلا هو) *. قوله تعالى: * (ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها الا نهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظآنين بالله ظن السوء) *. أظهر الأقوال وأصحها في الآية أن اللام في قوله: * (ليدخل) * متعلقة بقوله * (هو الذى أنزل السكينة فى قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم) *.
وإيضاح المعنى * (هو الذى أنزل السكينة) * أي السكون والطمأنينة إلى الحق، في قلوب المؤمنين، ليزدادوا بذلك إيمانا لأجل أن يدخلهم بالطمأنينة إلى الحق، وازدياد الإيمان جنات تجري من تحتها الأنهار.
ومفهوم المخالفة في قوله: * (فى قلوب المؤمنين) * أن قلوب غير المؤمنين ليست كذلك وهو كذلك ولذا كان جزاؤهم مخالفا لجزاء المؤمنين كما صرح تعالى بذلك في قوله: * (ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظآنين بالله ظن السوء) *.
394

وإيضاح المعنى أنه تعالى وفق المؤمنين بإنزال السكينة، وازدياد الإيمان وأشقى غيرهم من المشركين والمنافقين فلم يوفقهم بذلك ليجازي كلا بمقتضى عمله.
وهذه الآية شبيهة في المعنى بقوله تعالى في آخر الأحزاب: * (وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات) *. قوله تعالى: * (وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وسآءت مصيرا) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه يجازي المشركين والمشركات والمنافقين والمنافقات بثلاث عقوبات وهي غضبه، ولعنته، ونار جهنم.
وقد بين في بعض الآيات بعض نتائج هذه الأشياء الثلاثة، كقوله في الغضب: * (ومن يحلل عليه غضبى فقد هوى) *. وقوله في اللعنة، * (ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا) * وقوله في نار جهنم: * (ربنآ إنك من تدخل النار فقد أخزيته) *. قوله تعالى: * (إنآ أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه أرسل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم شاهدا ومبشرا ونذيرا.
وقد بين تعالى أنه يبعثه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة شاهدا على أمته، وأنه مبشر للمؤمنين ومنذر للكافرين. قال تعالى في شهادته صلى الله عليه وسلم يوم القيامة على أمته * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هاؤلاء شهيدا) * وقوله تعالى: * (ويوم نبعث فى كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على
هاؤلآء) *.
فآية النساء وآية النحل المذكورتان الدالتان على شهادته صلى الله عليه وسلم يوم القيامة على أمته تبينان آية الفتح هذه.
وما ذكرنا من أنه مبشر للمؤمنين ونذير للكافرين أوضحه في قوله تعالى: * (فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا) *.
395

وقد أوضحنا هذا في أول سورة الكهف، وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة، ذكره وزيادة في سورة الأحزاب في قوله تعالى: * (ياأيها النبى إنآ أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا) *.
وقوله هنا: * (إنآ أرسلناك شاهدا) * حال مقدرة. وقوله: مبشرا ونذيرا كلاهما حال معطوف على حال. قوله تعالى: * (قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا) *. أمر الله جل وعلا نبيه أن يقول للمنافقين الذين تخلفوا عنه واعتذروا بأعذار كاذبة: * (فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا) * أي لا أحد يملك دفع الضر الذي أراد الله إنزاله بكم ولا منع النفع الذي أراد نفعكم به فلا نافع إلا هو ولا ضار إلا هو تعالى، ولا يقدر أحد على دفع ضر أراده ولا منع نفع أراده.
وهذا الذي تضمنته هذه الآية الكريمة. ما جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى في الأحزاب * (قل من ذا الذى يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا) *.
وقوله تعالى في آخر يونس * (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا رآد لفضله) *.
وقوله في الأنعام: * (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شىء قدير) *.
وقوله تعالى في النساء * (قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن فى الا رض جميعا) *.
وقوله تعالى في فاطر: * (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له) *.
وقوله تعالى في الملك * (قل أرءيتم إن أهلكنى الله ومن معى أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم) *.
396

وقد ذكرنا بعض الآيات الدالة على هذا في أول سورة فاطر في الكلام على قوله تعالى * (ما يفتح الله للناس من رحمة) *. وفي سورة الأحقاف في الكلام على قوله تعالى: * (قل إن افتريته فلا تملكون لى من الله شيئا) *. قوله تعالى: * (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه أنزل السكينة على رسوله وعلى المؤمنين. والسكينة تشمل الطمأنينة والسكون إلى الحق والثبات والشجاعة عند البأس.
وقد ذكر جل وعلا إنزاله السكينة على رسوله وعلى المؤمنين في براءة في قوله تعالى: * (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) * وذكر إنزال سكينته على رسوله في قوله في براءة: * (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه) *.
وذكر إنزاله سكينته على المؤمنين في قوله * (فعلم ما فى قلوبهم فأنزل السكينة عليهم) *.
وهذه الآيات كلها لم يبين فيها موضع إنزال السكينة، وقد بين في هذه السورة الكريمة أن محل إنزال السكينة هو القلوب، وذلك في قوله: * (هو الذى أنزل السكينة فى قلوب المؤمنين) *. قوله تعالى: * (هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله) *. ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة ذكره في سورة التوبة وسورة الصف وزاد فيهما أنه فاعل ذلك، ولو كان المشركون يكرهونه، فقال في الموضعين * (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) *.
* (محمد رسول الله والذين معه أشدآء على الكفار رحمآء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم فى وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم فى التوراة ومثلهم فى الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين ءامنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) * قوله تعالى: * (محمد رسول الله والذين معه أشدآء على الكفار رحمآء بينهم) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى * (فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) *.
397

قوله تعالى: * (ومثلهم فى الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع) *. قرأ هذا الحرف ابن كثير وابن ذكوان وابن عامر شطأه بفتح الطاء، والباقون من السبعة بسكون الطاء.
وقرأ عامة السبعة غير ابن ذكوان: فآزره بألف بعد الهمزة.
وقرأه ابن ذكوان عن عامر فأزره بلا ألف بعد الهمزة مجردا.
وقرأ عامة السبعة غير قنبل على سوقه بواو ساكنة بعد السين.
وقرأه قنبل عن ابن كثير بهمزة ساكنة بدلا من الواو وعنه ضم الهمزة بعد السين بعدها واو ساكنة.
وهذه الآية الكريمة قد بين الله فيها أنه ضرب المثل في الإنجيل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأنهم كالزرع يظهر في أول نباته رقيقا ضعيفا متفرقا، ثم ينبت بعضه حول بعض، ويغلظ ويتكامل حتى يقوى ويشتد وتعجب جودته أصحاب الزراعة، العارفين بها، فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا في أول الإسلام في قلة وضعف ثم لم يزالوا يكثرون ويزدادون قوة حتى بلغوا ما بلغوا.
وقوله تعالى: * (كزرع أخرج شطأه) * أي فراخه فنبت في جوانبه. وقوله * (فآزره) * على قراءة الجمهور من المؤازرة، بمعنى المعاونة والتقوية، وقال بعض العلماء: * (فآزره) * أي ساواه في الطول، وبكل واحد من المعنيين فسر قول امرئ القيس: فآزره) * أي ساواه في الطول، وبكل واحد من المعنيين فسر قول امرئ القيس:
* بمحنية قد آزر الصال نبتها
* مجر جيوش غانمين وخيب
*
وأما على قراءة ابن ذكوان * (فآزره) * بلا ألف، فالمعنى شد أزره أي قواه.
ومنه قوله تعالى عن موسى * (واجعل لى وزيرا من أهلى هارون أخى اشدد به أزرى) *. وقوله، * (فاستغلظ) * أي صار ذلك الزرع غليظا بعد أن كان رقيقا، وقوله: * (فاستوى) * أي استتم وتكامل على سوقه أي على قصبه.
398

وما تضمنته الآية الكريمة من المثل المذكور في الإنجيل المضروب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأنهم يكونون في مبدأ أمرهم في قلة وضعف، ثم بعد ذلك يكثرون ويقوون. جاء موضحا في آيات من كتاب الله تعالى كقوله * (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون فى الا رض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره) *.
وقوله تعالى * (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة) * وقوله تعالى * (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون) *. إلى غير ذلك من الآيات.
399

((سورة الحجرات))
* (ياأيها الذين ءامنوا لا تقدموا بين يدى الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم * ياأيها الذين ءامنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبى ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون * إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولائك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم * إن الذين ينادونك من ورآء الحجرات أكثرهم لا يعقلون * ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم) * قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا لا تقدموا بين يدى الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم) *. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: لا تقدموا فيه لعلماء التفسير ثلاثة أوجه: الأول منها وهو أصحها وأظهرها أنه مضارع قدم اللازمة بمعنى تقدم.
ومنه مقدمة الجيش ومقدمة الكتاب بكسر الدال فيهما، وهو اسم فاعل قدم بمعنى تقدم.
ويدل لهذا الوجه قراءة يعقوب من الثلاثة الذين هم تمام العشرة لا تقدموا بفتح التاء والدال المشددة وأصله لا تتقدموا فحذفت إحدى التاءين.
الوجه الثاني: أنه مضارع قدم المتعدي، والمفعول محذوف لإرادة التعميم أي لا تقدموا قولا ولا فعلا بين يدي الله ورسوله بل أمسكوا عن ذلك حتى تصدروا فيه عن أمر الله ورسوله.
الوجه الثالث: أنه مضارع قدم المتعدية ولكنها أجريت مجرى اللازم، وقطع النظر عن وقوعها على مفعولها، لأن المراد هو أصل الفعل دون وقوعه على مفعوله.
ونظير ذلك قوله تعالى: * (وهو الذى يحاى ويميت) * أي هو المتصف بالإحياء والإماتة، ولا يراد في ذلك وقوعهما على مفعول.
وكقوله تعالى: * (قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون) * لأن المراد، أن المتصفين بالعلم لا يستوون مع غير المتصفين به.
ولا يراد هنا وقوع العلم على مفعول، وكذلك على هذا القول: لا تقدموا، لا تكونوا من المتصفين بالتقديم.
وقد قدمنا في كلامنا الطويل على آية: * (أفلا يتدبرون القرءان) * أن لفظة بين يديه معناها أمامه، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك.
400

والمعنى لا تتقدموا أمام الله ورسوله: فتقولوا في شيء بغير علم ولا إذن من الله، وهذه الآية الكريمة فيها التصريح بالنهي عن التقديم بين يدي الله ورسوله، ويدخل في ذلك دخولا أوليا تشريع ما لم يأذن به الله وتحريم ما لم يحرمه، وتحليل ما لم يحلله، لأنه لا حرام إلا ما حرمه الله ولا حلال إلا ما أحله الله، ولا دين إلا ما شرعه الله.
وقد أوضحنا هذه بالآيات القرآنية بكثرة في سورة شورى في الكلام على قوله تعالى: * (وما اختلفتم فيه من شىء فحكمه إلى الله) * وفي سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: * (ولا يشرك فى حكمه أحدا) * وفي سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: * (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) * وفي غير ذلك من المواضع.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (واتقوا الله) * أي بامتثال أمره واجتناب نهيه.
وقوله * (إن الله سميع عليم) * فهو سميع لكل ما تقولون من التقديم بين يديه وغيره، عليم بكل ما تفعلون من التقديم بين يديه وغيره. قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبى ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) *. سبب نزول هذه الآية الكريمة، أنه لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفد تميم، أشار عليه أبو بكر رضي الله عنه أن يؤمر عليهم القعقاع بن معبد بن زرارة بن عدس، وأشار عليه عمر أن يؤمر عليهم القعقاع بن معبد بن زرارة بن عدس، وأشار عليه عمر أن يؤمر عليهم الأقرع بن حابس بن عقال.
فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما فأنزل الله: * (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبى) * ذكره البخاري في صحيحه وغيره.
وهذه الآية الكريمة علم الله فيها المؤمنين أن يعظموا النبي صلى الله عليه وسلم ويحترموه ويوقروه، فنهاهم عن رفع أصواتهم فوق صوته، وعن أن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض، أي ينادونه باسمه: يا محمد، يا أحمد، كما ينادي بعضهم بعضا.
وإنما أمروا أن يخاطبوه خطابا يليق بمقامه ليس كخطاب بعضهم لبعض، كأن
401

يقولوا يا نبي الله أو يا رسول الله ونحو ذلك.
وقوله: * (أن تحبط أعمالكم) * أي لا تفعلوا ذلك لئلا تحبط أعمالكم، أو ينهاكم عن ذلك كراهة أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون أي لا تعلمون بذلك.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من لزوم توقير النبي صلى الله عليه وسلم، وتعظيمه واحترامه جاء مبينا في مواضع أخر كقوله تعالى: * (لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه) * على القول بأن الضمير في تعزروه وتوقروه للنبي صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى * (لا تجعلوا دعآء الرسول بينكم كدعآء بعضكم بعضا) * كما تقدم وقوله تعالى * (فالذين ءامنوا به وعزروه ونصروه) *. وقوله هنا: * (ولا تجهروا له بالقول) * أي لا تنادوه باسمه: كيا محمد.
وقد دلت آيات من كتاب الله على أن الله تعالى لا يخاطبه في كتابه باسمه، وإنما يخاطبة بما يدل على التعظيم والتوقير، كقوله: * (ياأيها النبى) *. * (ياأيها الرسول) *. * (ياأيها المزمل) *. * (ياأيها المدثر) * مع أنه ينادي غيره من الأنبياء بأسمائهم كقوله * (وقلنا ياءادم) *. وقوله: * (وناديناه أن ياإبراهيم) * وقوله: * (قال يانوح إنه ليس من أهلك) *. قيل * (يانوح اهبط بسلام منا) *. وقوله: * (قال ياموسى إنى اصطفيتك على الناس) * وقوله: * (إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك) * وقوله: * (ياداوود إنا جعلناك خليفة) *.
أما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يذكر اسمه في القرآن في خطاب، وإنما يذكر في غير ذلك كقوله: * (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) *. وقوله: * (وءامنوا بما نزل على محمد) *. وقوله: * (محمد رسول الله والذين معه) *.
وقد بين تعالى أن توقيره واحترامه صلى الله عليه وسلم بغض الصوت عنده لا يكون إلا من الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، أي أخلصها لها وأن لهم بذلك عند الله المغفرة والأجر العظيم، وذلك في قوله تعالى: * (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولائك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم) *.
402

وقال بعض العلماء في قوله: * (ولا تجهروا له بالقول) * أي لا ترفعوا عنده الصوت كرفع بعضكم صوته عند بعض. قال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية ما نصه: وفي هذا دليل على أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقا، حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بالهمس والمخافتة، وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفة، أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منهم فيما بينهم، وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوة، وجلالة مقدارها وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها. انتهى محل الغرض منه.
وظاهر هذه الآية الكريمة أن الإنسان قد يحبط عمله وهو لا يشعر، وقد قال القرطبي: إنه لا يحبط عمله بغير شعوره وظاهر الآية يرد عليه.
وقد قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية، ما نصه: وقوله عز وجل: * (أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) * أي إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده خشية أن يغضب من ذلك فيغضب الله تعالى لغضبه، فيحبط عمل من أغضبه وهو لا يدري، كما جاء في الصحيح (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقى لها بالا يكتب له بها الجنة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض) ا ه محل الغرض منه بلفظه.
ومعلوم أن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كحرمته في أيام حياته، وبه تعلم أن ما جرت به العادة اليوم من اجتماع الناس قرب قبره صلى الله عليه وسلم وهم في صخب ولغط. وأصواتهم مرتفعة ارتفاعا مزعجا كله لا يجوز، ولا يليق، وإقرارهم عليه من المنكر.
وقد شدد عمر رضي الله عنه النكير على رجلين رفعا أصواتهما في مسجده صلى الله عليه وسلم، وقال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربا.
مسألتان
الأولى: اعلم أن عدم احترام النبي صلى الله عليه وسلم المشعر بالغض منه أو تنقيصه صلى الله عليه وسلم والاستخفاف به أو الاستهزاء به ردة عن الإسلام وكفر بالله.
وقد قال تعالى في الذين استهزءوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وسخروا منه في غزوة تبوك لما ضلت
403

راحلته: * (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وءاياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) *.
المسألة الثانية
وهي من أهم المسائل، اعلم أنه يجب على كل إنسان أن يميز بين حقوق الله تعالى التي هي من خصائص ربوبيته، التي لا يجوز صرفها لغيره، وبين حقوق خلقه كحق النبي صلى الله عليه وسلم، ليضع كل شيء في موضعه، على ضوء ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا القرآن العظيم والسنة الصحيحة.
وإذا عرفت ذلك فاعلم: أن من الحقوق الخاصة بالله التي هي من خصائص ربوبيته التجاء عبده إليه إذا دهمته الكروب التي لا يقدر على كشفها إلا الله.
فالتجاء المضطر الذي أحاطت به الكروب ودهمته الدواهي لا يجوز إلا لله وحده، لأنه من خصائص الربوبية فصرف ذلك الحق لله وإخلاصه له هو عين طاعة الله ومرضاته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ومرضاته وهو عين التوقير والتعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم لأن أعظم أنواع توقيره وتعظيمه هو اتباعه والاقتداء به في
إخلاص التوحيد والعبادة له وحده جل وعلا.
وقد بين جل وعلا في آيات كثيرة من كتابه، أن التجاء المضطر من عباده إليه وحده، في أوقات الشدة والكرب من خصائص ربوبيته تعالى.
من أصرح ذلك الآيات التي في سورة النمل أعني قوله تعالى: * (قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى) * إلى قوله: * (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) *.
فإنه جل وعلا قال في هذه الآيات الكريمات العظيمات: * (قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفىءآلله خير أما يشركون) *.
ثم بين خصائص ربوبيته الدالة على أنه المعبود وحده فقال: * (أمن خلق السماوات والا رض وأنزل لكم من السمآء مآء فأنبتنا به حدآئق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإلاه مع الله بل هم قوم يعدلون) *.
فهذه المذكورات التي هي خلق السماوات والأرض، وإنزال الماء من السماء وإنبات الحدائق ذات البهجة، التي لا يقدر على إنبات شجرها إلا الله، من خصائص ربوبية الله،
404

ولذا قال تعالى بعدها * (أإلاه مع الله) * يقدر على خلق السماوات والأرض وإنزال الماء من السماء وإنبات الحدائق به، والجواب لا. لأنه لا إله إلا الله وحده.
ثم قال تعالى: * (أمن جعل الا رض قرارا وجعل خلالهآ أنهارا وجعل لها رواسى وجعل بين البحرين حاجزا أءلاه مع الله بل أكثرهم لا يعلمون) *.
فهذه المذكورات أيضا، التي هي جعل الأرض قرارا، وجعل الأنهار خلالها، وجعل الجبال الرواسي فيها، وجعل الحاجز بين البحرين من خصائص ربوبيته جل وعلا، ولذا قال بعد ذكرها أإله مع الله؟ والجواب لا.
فالاعتراف لله جل وعلا بأن خلق السماوات والأرض وإنزال الماء وإنبات النبات ونحو ذلك مما ذكر في الآيات من خصائص ربوبيته جل وعلا هو الحق، وهو من طاعة الله ورسوله، ومن تعظيم الله وتعظيم رسوله بالاقتداء به صلى الله عليه وسلم في تعظيم الله.
ثم قال تعالى وهو محل الشاهد * (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم حلفآء الا رض أءلاه مع الله قليلا ما تذكرون) *.
فهذه المذكورات التي هي إجابة المضطر إذا دعا، وكشف السوء وجعل الناس خلفاء في الأرض من خصائص ربوبيته جل وعلا، ولذا قال بعدها أإله مع الله قليلا ما تذكرون.
فتأمل قوله تعالى: * (أءلاه مع الله) * مع قوله: * (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) * تعلم أن إجابة المضطرين إذا التجؤوا ودعوا وكشف السوء عن المكروبين، لا فرق في كونه من خصائص الربوبية، بينه وبين خلق السماوات والأرض، وإنزال الماء وإنبات النبات، ونصب الجبال وإجراء الأنهار، لأنه جل وعلا ذكر الجميع بنسق واحد في سياق واحد، وأتبع جميعه بقوله: * (أءلاه مع الله) *.
فمن صرف شيئا من ذلك لغير الله توجه إليه الإنكار السماوي الذي هو في ضمن قوله: * (أءلاه مع الله) * فلا فرق البتة بين تلك المذكورات في كونها كلها من خصائص الربوبية.
ثم قال تعالى: * (أمن يهديكم فى ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرى بين يدى
405

رحمته أءلاه مع الله تعالى الله عما يشركون) *.
فهذه المذكورات التي هي هدي الناس في ظلمات البر والبحر، وإرسال الرياح بشرا، أي مبشرات، بين يدي رحمته التي هي المطر، من خصائص ربوبيته جل وعلا.
ولذا قال تعالى: * (أءلاه مع الله) *، ثم نزه جل وعلا نفسه عن أن يكون معه إله يستحق شيئا مما ذكر فقال جل وعلا: * (تعالى الله عما يشركون) *.
ثم قال تعالى: * (أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السمآء والا رض أءلاه مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) *.
فهذه المذكورات التي هي بدء خلق الناس وإعادته يوم البعث، ورزقه للناس من السماء بإنزال المطر، ومن الأرض بإنبات النبات، من خصائص ربوبيته جل وعلا ولذا قال بعدها * (أءلاه مع الله) *.
ثم عجز جل وعلا كل من يدعي شيئا من ذلك كله لغير الله، فقال آمرا نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يخاطبهم بصيغة التعجيز: * (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) *.
وقد اتضح من هذه الآيات القرآنية، أن إجابة المضطرين الداعين، وكشف السوء عن المكروبين، من خصائص الربوبية كخلق السماوات والأرض وإنزال الماء، وإنبات النبات، والحجز بين البحرين إلى آخر ما ذكر.
وكون إجابة المضطرين وكشف السوء عن المكروبين من خصائص الربوبية، كما أوضحه تعالى في هذه الآيات من سورة النمل جاء موضحا في آيات أخر، كقوله تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم: * (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا رآد لفضله يصيب به من يشآء من عباده) *.
وقوله تعالى: * (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شىء قدير) *.
وقوله تعالى: * (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له) *.
فعلينا معاشر المسلمين أن نتأمل هذه الآيات القرآنية ونعتقد ما تضمنته ونعمل به
406

لنكون بذلك مطيعين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم معظمين لله ولرسوله، لأن أعظم أنواع تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو اتباعه والاقتداء به، في إخلاص العبادة لله جل وعلا وحده.
فإخلاص العبادة له جل وعلا وحده، هو الذي كان يفعله صلى الله عليه وسلم ويأمر به وقد قال تعالى: * (ومآ أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) * وقال تعالى: * (قل إنى أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين) * إلى قوله: * (قل الله أعبد مخلصا له دينى فاعبدوا ما شئتم من دونه) *.
واعلم أن الكفار في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعلمون علما يقينا أن ما ذكر من إجابة المضطر وكشف السوء عن المكروب، من خصائص الربوبية وكانوا إذا دهمتهم الكروب، كإحاطة الأمواج بهم في البحر، في وقت العواصف يخلصون الدعاء لله وحده، لعلمهم أن كشف ذلك من خصائصه فإذا أنجاهم من الكرب رجعوا إلى الإشراك.
وقد بين الله جل وعلا هذا في آيات من كتابه كقوله تعالى: * (هو الذى يسيركم فى البر والبحر حتى إذا كنتم فى الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جآءتها ريح عاصف وجآءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هاذه لنكونن من الشاكرين فلمآ أنجاهم إذا هم يبغون فى الا رض بغير الحق) *.
وقوله تعالى: * (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هاذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون) * قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم) *.
وقوله تعالى: * () *.
وقوله تعالى: * (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شآء وتنسون ما تشركون) *.
وقوله تعالى: * (وإذا مسكم الضر فى البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا) *.
407

وقوله تعالى: * (فإذا ركبوا فى الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) *.
وقوله تعالى: * (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد) *.
وقد قدمنا في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: * (وإذا مسكم الضر فى البحر ضل من تدعون إلا إياه) * أن سبب إسلام عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه أنه لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة ذهب فارا منه إلى بلاد الحبشة فركب في البحر متوجها إلى الحبشة فجاءتهم ريح عاصف.
فقال القوم بعضهم لبعض إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعوا الله وحده. فقال عكرمة في نفسه: والله إن كان لا ينفع في البحر غيره، فإنه لا ينفع في البر غيره. اللهم لك علي عهد لئن أخرجتني منه لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد صلى الله عليه وسلم فلأجدنه رؤوفا رحيما، فخرجوا من البحر فخرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه. انتهى.
وقد قدمنا هناك أن بعض المتسمين باسم الإسلام أسوأ حالا من هؤلاء الكفار المذكورين لأنهم في وقت الشدائد يلجؤون لغير الله طالبين منه ما يطلب المؤمنون من الله، وبما ذكر تعلم أن ما انتشر في أقطار الدنيا من الالتجاء في أوقات الكروب والشدائد إلى غير الله جل وعلا كما يفعلون ذلك قرب قبر النبي صلى الله عليه وسلم وعند قبور من يعتقدون فيهم الصلاح زاعمين أن ذلك من دين الله ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمه ومحبة الصالحين كله من أعظم الباطل، وهو انتهاك لحرمات الله وحرمات رسوله.
لأن صرف الحقوق الخاصة بالخالق التي هي من خصائص ربوبيته إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره ممن يعتقد فيهم الصلاح مستوجب سخط الله وسخط النبي صلى الله عليه وسلم وسخط كل متبع له بالحق.
ومعلوم أنه صلوات الله وسلامه عليه لم يأمر بذلك هو ولا أحد من أصحابه، وهو ممنوع في شريعة كل نبي من الأنبياء، والله جل وعلا يقول: * (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لى من دون الله ولاكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا
408

أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) *.
بل الذي كان يأمر به صلى الله عليه وسلم هو ما يأمره الله بالأمر به في قوله تعالى * (قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سوآء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) *.
واعلم أن كل عاقل إذا رأى رجلا متدينا في زعمه مدعيا حب النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وهو يعظم النبي صلى الله عليه وسلم ويمدحه بأنه هو الذي خلق السماوات والأرض وأنزل الماء من السماء وأنبت به الحدائق ذات البهجة، وأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا إلى آخر ما تضمنته الآيات المتقدمة، فإن ذلك العاقل لا يشك في أن ذلك المادح المعظم في زعمه من أعداء الله ورسوله المتعدين لحدود الله.
وقد علمت من الآيات المحكمات أنه لا فرق بين ذلك وبين إجابة المضطرين وكشف السوء عن المكروبين.
فعلينا معاشر المسلمين أن ننتبه من نومة الجهل وأن نعظم ربنا بامتثال أمره واجتناب نهيه، وإخلاص العبادة له، وتعظيم نبينا صلى الله عليه وسلم باتباعه والاقتداء به في تعظيم الله والإخلاص له والاقتداء به في كل ما جاء به.
وألا نخالفه صلى الله عليه وسلم ولا نعصيه، وألا نفعل شيئا يشعر بعدم التعظيم والاحترام، كرفع الأصوات قرب قبره صلى الله عليه وسلم، وقصدنا النصيحة والشفقة لإخواننا المسلمين ليعملوا بكتاب الله، ويعظموا نبيه صلى الله عليه وسلم تعظيم الموافق لما جاء به صلى الله عليه وسلم ويتركوا ما يسميه الجهلة محبة وتعظيما وهو في الحقيقة احتقار وازدراء وانتهاك لحرمات الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم * (ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولائك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا) *.
واعلم أيضا رحمك الله: أنه لا فرق بين ما ذكرنا من إجابة المضطر وكشف السوء عن المكروب، وبين تحصيل المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله، كالحصول على الأولاد والأموال وسائر أنواع الخير.
409

فإن التجاء العبد إلى ربه في ذلك أيضا من خصائص ربوبيته جل وعلا كما قال تعالى: * (قل من يرزقكم من السمآء والا رض) * وقال تعالى: * (فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له) *. وقال تعالى: * (يهب لمن يشآء إناثا ويهب لمن يشآء الذكور) *. وقال تعالى: * (وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات) * وقال تعالى: * (واسألوا الله من فضله) * إلى غير ذلك من الآيات.
وفي الحديث (إذا سألت فاسأل الله).
وقد أثنى الله جل وعلا على نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالتجائهم إليه وقت الكرب يوم بدر في قوله: * (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم) *. فنبينا صلى الله عليه وسلم كان هو وأصحابه إذا أصابهم أمر أو كرب التجؤوا إلى الله وأخلصوا له الدعاء. فعلينا أن نتبع ولا نبتدع.
تنبيه
اعلم أنه يجب على كل مسلم أن يتأمل في معنى العبادة، وهي تشمل جميع ما أمر الله أن يتقرب إليه به من جميع القربات فيخلص تقربه بذلك إلى الله ولا يصرف شيئا منه لغير الله كائنا ما كان.
والظاهر أن ذلك يشمل هيئات العبادة فلا ينبغي للمسلم عليه صلى الله عليه وسلم أن يضع يده اليمنى على اليسرى كهيأة المصلي، لأن هيأة الصلاة داخلة في جملتها فينبغي أن تكون خالصة لله، كما كان صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه يخلصون العبادات وهيئاتها لله وحده.
* (ياأيها الذين ءامنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين * واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم فى كثير من الا مر لعنتم ولاكن الله حبب إليكم الايمان وزينه فى قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولائك هم الراشدون * فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم * وإن طآئفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفىء إلى أمر الله فإن فآءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون * ياأيها الذين ءامنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نسآء من نسآء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالا لقاب بئس الاسم الفسوق بعد الايمان ومن لم يتب فأولائك هم الظالمون * ياأيها الذين ءامنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم * ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبآئل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير * قالت الا عراب ءامنا قل لم تؤمنوا ولاكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان فى قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم * إنما المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله أولائك هم الصادقون * قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما فى السماوات وما فى الا رض والله بكل شىء عليم * يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان إن كنتم صادقين * إن الله يعلم غيب السماوات والا رض والله بصير بما تعملون) * قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) *. نزلت هذه الآية الكريمة في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وقد أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق من خزاعة ليأتيهم بصدقات أموالهم فلما سمعوا به تلقوه فرحا به، فخاف منهم وظن أنهم يريدون قتله، فرجع إلى نبي صلى الله عليه وسلم وزعم له أنهم منعوا الصدقة وأرادوا قتله، فقدم وفد منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بكذب الوليد فأنزل الله هذه الآية.
وهي تدل على عدم تصديق الفاسق في خبره.
410

وصرح تعالى في موضع آخر بالنهي عن قبول شهادة الفاسق، وذلك في قوله: * (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولائك هم الفاسقون) * ولا خلاف بين العلماء في رد شهادة الفاسق وعدم قبول خبره.
وقد دلت هذه الآية من سورة الحجرات على أمرين:
الأول منهما: أن الفاسق إن جاء بنبأ ممكن معرفة حقيقته، وهل ما قاله فيه الفاسق حق أو كذب فإنه يجب فيه التثبت.
والثاني: هو ما استدل عليه بها أهل الأصول من قبول خبر العدل لأن قوله تعالى: * (إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا) * بدل بدليل خطابه، أعني مفهوم مخالفته أن الجائي
بنبأ إن كان غير فاسق بل عدلا لا يلزم التبين في نبئه على قراءة: فتبينوا. ولا التثبت على قراءة: فتثبتوا، وهو كذلك.
وأما شهادة الفاسق فهي مردودة كما دلت عليه آية النور المذكورة آنفا.
وقد قدمنا معنى الفسق وأنواعه في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك.
وقوله * (أن تصيببوا قوما) * أي لئلا تصيبوا قوما، أو كراهة أن تصيبوا قوما بجهالة، أي لظنكم النبأ الذي جاء به الفاسق حقا فتصبحوا على ما فعلتم من إصابتكم للقوم المذكورين نادمين لظهور كذب الفاسق فيما أنبأ به عنهم، لأنهم لو لم يتبينوا في نبإ الوليد عن بني المصطلق لعاملوهم معاملة المرتدين؟ ولو فعلوا ذلك لندموا.
وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة والكسائي: فتبينوا بالباء التحتية الموحدة بعدها مثناة تحتية مشددة ثم نون. وقرأه حمزه والكسائي: فتثبتوا بالثاء المثلثة بعدها ياء تحتية موحدة مشددة ثم تاء مثناة فوقية.
والأول من التبين، والثاني من التثبت.
ومعنى القراءتين واحد، وهو الأمر بالتأني وعدم العجلة حتى تظهر الحقيقة فيما أنبأ به الفاسق.
411

قوله تعالى: * (ولاكن الله حبب إليكم الايمان وزينه فى قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) *. وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه هو الذي حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، جاء موضحا في آيات كثيرة مصرح فيها بأنه تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء، كقوله تعالى: * (من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) *.
وقوله تعالى: * (ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أوليآء من دونه) *.
وقوله تعالى: * (من يهد الله فهو المهتدى ومن يضلل فأولائك هم الخاسرون) *.
وقوله تعالى: * (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) * والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة، نرجو الله الرحيم الكريم أن يهدينا وألا يضلنا. قوله تعالى: * (إنما المؤمنون إخوة) *. هذه الأخوة التي أثبت الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة للمؤمنين بعضهم لبعض هي أخوة الدين لا النسب.
وقد بين تعالى أن الأخوة تكون في الدين في قوله تعالى * (فإن لم تعلموا ءاباءهم فإخوانكم فى الدين) *.
وقد قدمنا في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: * (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) *، أن الأخوة الدينية أعظم وأقوى من الأخوة النسبية، وبينا أدلة ذلك من الكتاب والسنة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نسآء من نسآء عسى أن يكن خيرا منهن) *. قوله: * (لا يسخر قوم من قوم) * أي لا يستخفوا ولا يستهزؤوا بهم، والعرب تقول: سخر منه بكسر الخاء، يسخر بفتح الخاء على القياس، إذا استهزأ به واستخف.
412

وقد نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن السخرية من الناس، مبينا أن المسخور منه قد يكون خيرا من الساخر.
ومن أقبح القبيح استخفاف الدنيء الأرذل بالأكرم الأفضل، واستهزاؤه به.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي عن السخرية جاء ذم فاعله وعقوبته عند الله في غير هذا الموضع، كقوله تعالى: * (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم) *.
وقد بين تعالى أن الكفار المترفين في الدنيا كانوا يسخرون من ضعاف المؤمنين في دار الدنيا، وأن أولئك يسخرون من الكفار يوم القيامة، كما قال تعالى: * (زين للذين كفروا الحيواة الدنيا ويسخرون من الذين ءامنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة) * وقال تعالى: * (إن الذين أجرموا كانوا من الذين ءامنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون) * إلى قوله تعالى: * (فاليوم الذين ءامنوا من الكفار يضحكون على الا رآئك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون) *.
فلا ينبغي لمن رأى مسلما في حالة رثة تظهر بها عليه آثار الفقر والضعف أن يسخر منه لهذه الآيات التي ذكرنا. قوله تعالى: * (ولا تلمزوا أنفسكم) *. أي لا يلمز أحدكم أخاه كما تقدم إيضاحه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: * (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) *.
وقد أوعد الله جل وعلا الذين يلمزون الناس في قوله تعالى: * (ويل لكل همزة لمزة) *، والهمزة كثير الهمز للناس، واللمزة كثير اللمز.
قال بعض العلماء: الهمز يكون بالفعل كالغمز بالعين احتقارا وازدراء، واللمز باللسان، وتدخل فيه الغيبة.
وقد صرح الله تعالى بالنهي عن ذلك في قوله: * (ولا يغتب بعضكم بعضا) * ونفر عنه غاية التنفير في قوله تعالى: * (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه) * فيجب على المسلم أن يتباعد كل التباعد من الوقوع في عرض أخيه.
413

قوله تعالى: * (ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه خلق الناس من ذكر وأنثى، ولم يبين هنا كيفية خلقه للذكر والأنثى المذكورين ولكنه بين ذلك في مواضع أخر من كتاب الله.
فبين أنه خلق ذلك الذكر الذي هو آدم من تراب، وقد بين الأطوار التي مر بها ذلك التراب، كصيرورته طينا لازبا وحمأ مسنونا وصلصالا كالفخار. وبين أنه خلق تلك الأنثى التي هي حواء من ذلك الذكر الذي هو آدم فقال في سورة النساء: * (ياأيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونسآء) * وقال تعالى في الأعراف * (هو الذى خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها) * وقال تعالى: في الزمر * (خلقكم من نفس واحدة ثم
جعل منها زوجها) *.
وقد قدمنا أنه خلق نوع الإنسان على أربعة أنواع مختلفة:
الأول منها: خلقه لا من أنثى ولا من ذكر وهو آدم عليه السلام.
والثاني: خلقه من ذكر بدون أنثى وهو حواء.
والثالث: خلقه من أنثى بدون ذكر وهو عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
الرابع: خلقه من ذكر وأنثى وهو سائر الآدميين، وهذا يدل على كمال قدرته جل وعلا.
مسألة
قد دلت هذه الآيات القرآنية المذكورة على أن المرأة الأولى كان وجودها الأول مستندا إلى وجود الرجل وفرعا عنه.
وهذا أمر كوني قدري من الله، أنشأ المرأة في إيجادها الأول عليه.
وقد جاء الشرع الكريم المنزل من الله ليعمل به في أرضه، بمراعاة هذا الأمر الكوني القدري في حياة المرأة في جميع النواحي.
فجعل الرجل قائما عليها وجعلها مستندة إليه في جميع شؤونها كما قال تعالى:
414

* (الرجال قوامون على النسآء) *.
فمحاولة استواء المرأة مع الرجل في جميع نواحي الحياة لا يمكن أن تتحقق لأن الفوارق بين النوعين كونا وقدرا أولا، وشرعا منزلا ثانيا، تمنع من ذلك منعا باتا.
ولقوة الفوارق الكونية والقدرية والشرعية بين الذكر والأنثى، صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن المتشبه من النوعين بالآخر.
ولا شك أن سبب هذا اللعن هو محاولة من أراد التشبه منهم بالآخر، لتحطيم هذه الفوارق التي لا يمكن أن تتحطم.
وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال).
وقد قدمنا هذا الحديث بسنده في سورة بني إسرائيل، وبينا هناك أن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ملعون في كتاب الله، فلو كانت الفوارق بين الذكر والأنثى يمكن تحطيمها وإزالتها لم يستوجب من أراد ذلك اللعن من الله ورسوله.
ولأجل تلك الفوارق العظيمة الكونية القدرية بين الذكر والأنثى، فرق الله جل وعلا بينهما في الطلاق، فجعله بيد الرجل دون المرأة، وفي الميراث، وفي نسبة الأولاد إليه.
وفي تعدد الزوجات دون الأزواج: صرح بأن شهادة امرأتين بمنزلة شهادة رجل واحد في قوله تعالى: * (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) *، فالله الذي خلقهما لا شك أنه أعلم بحقيقتهما، وقد صرح في كتابه بقيام الرجل مقام امرأتين في الشهادة.
وقد قال تعالى: * (ألكم الذكر وله الا نثى تلك إذا قسمة ضيزى) * أي غير عادلة لعدم استواء النصيبين لفضل الذكر على الأنثى.
ولذلك: وقعت امرأة عمران في مشكلة لما ولدت مريم، كما قال تعالى عنها: * (فلما وضعتها قالت رب إنى وضعتهآ أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالا نثى) *.
فامرأة عمران تقول: * (وليس الذكر كالا نثى) *، وهي صادقة في ذلك بلا شك.
415

والكفرة وأتباعهم يقولون: إن الذكر والأنثى سواء.
ولا شك عند كل عاقل في صدق هذه السالبة وكذب هذه الموجبة.
وقد أوضحنا في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: * (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) * وجه الحكمة في جعل الطلاق بيد الرجل وتفضيل الذكر على الأنثى في الميراث وتعدد الزوجات، وكون الولد ينسب إلى الرجل، وذكرنا طرفا من ذلك في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى * (وللرجال عليهن درجة) * وبينا أن الفوارق الطبيعية بينهما كون الذكورة شرفا وكمالا وقوة طبيعية خلقية، وكون الأنوثة بعكس ذلك.
وبينا أن العقلاء جميعا مطبقون على الاعتراف بذلك، وأن من أوضح الأدلة التي بينها القرآن على ذلك اتفاق العقلاء على أن الأنثى من حين نشأتها تجلى بأنواع الزينة من حلي وحلل، وذلك لجبر النقص الجبلي الخلقي الذي هو الأنوثة كما قال الشاعر: وبينا أن العقلاء جميعا مطبقون على الاعتراف بذلك، وأن من أوضح الأدلة التي بينها القرآن على ذلك اتفاق العقلاء على أن الأنثى من حين نشأتها تجلى بأنواع الزينة من حلي وحلل، وذلك لجبر النقص الجبلي الخلقي الذي هو الأنوثة كما قال الشاعر:
* وما الحلي إلا زينة من نقيصة
* يتمم من حسن إذا الحسن قصرا
*
وقد بينا أن الله تعالى أوضح هذا بقوله: * (أومن ينشأ فى الحلية وهو فى الخصام غير مبين) *، فأنكر على الكفار أنهم مع ادعاء الولد له تعالى جعلوا له أنقص
الولدين وأضعفهما خلقة وجبلة وهو الأنثى.
ولذلك نشأت في الحلية من صغرها، لتغطية النقص الذي هو الأنوثة وجبره بالزينة، فهو في الخصام غير مبين.
لأن الأنثى لضعفها الخلقي الطبيعي لا تقدر أن تبين في الخصام إبانة الفحول الذكور، إذا اهتضمت وظلمت لضعفها الطبيعي.
وإنكار الله تعالى على الكفار أنهم مع ادعائهم له الولد جعلوا له أنقص الولدين وأضعفهما كثير في القرآن كقوله تعالى: * (أصطفى البنات على البنين مالكم كيف تحكمون) * وقوله: * (أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما) * وقوله تعالى: * (لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشآء) * والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
416

وأما الذكر فإنه لا ينشأ في الحلية، لأن كمال ذكورته وشرفها وقوتها الطبيعية التي لا تحتاج معه إلى التزين بالحلية التي تحتاج إليه الأنثى، لكماله بذكورته ونقصها بأنوثتها.
ومما لا نزاع فيه بين العقلاء أن الذكر والأنثى إذا تعاشرا المعاشرة البشرية الطبيعية التي لا بقاء للبشر دونها، فإن المرأة تتأثر بذلك تأثرا طبعيا كونيا قدريا مانعا لها من مزاولة الأعمال كالحمل والنفاس وما ينشأ عن ذلك من الضعف والمرض والألم.
بخلاف الرجل فإنه لا يتأثر بشيء من ذلك، ومع هذه الفوارق لا يتجرأ على القول بمساواتهما في جميع الميادين إلا مكابر في المحسوس، فلا يدعو إلى المساواة بينهما إلا من أعمى الله بصيرته.
وقد قدمنا في الموضعين اللذين أشرنا لهما من هذا الكتاب المبارك ما يكفي المنصف، فأغنى عن إعادته هنا. قوله تعالى: * (وجعلناكم شعوبا وقبآئل لتعارفوا) *. لما كان قوله تعالى: * (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) * يدل على استواء الناس في الأصل، لأن أباهم واحد وأمهم واحدة وكان في ذلك أكبر زاجر عن التفاخر بالأنساب وتطاول بعض الناس على بعض، بين تعالى أنه جعلهم شعوبا وقبائل لأجل أن يتعارفوا أي يعرف بعضهم بعضا، ويتميز بعضهم عن بعض لا لأجل أن يفتخر بعضهم على بعض ويتطاول عليه.
وذلك يدل على أن كون بعضهم أفضل من بعض وأكرم منه إنما يكون بسبب آخر غير الأنساب.
وقد بين الله ذلك هنا بقوله: * (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) * فاتضح من هذا أن الفضل والكرم إنما هو بتقوى الله لا بغيره من الانتساب إلى القبائل، ولقد صدق من قال: إن أكرمكم عند الله أتقاكم) * فاتضح من هذا أن الفضل والكرم إنما هو بتقوى الله لا بغيره من الانتساب إلى القبائل، ولقد صدق من قال:
* فقد رفع الإسلام سلمان فارس
* وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب
*
وقد ذكروا أن سلمان رضي الله عنه كان يقول:
417

وقد ذكروا أن سلمان رضي الله عنه كان يقول:
* أبي الإسلام لا أب لي سواه
* إذا افتخروا بقيس أو تميم
*
وهذه الآيات القرآنية، تدل على أن دين الإسلام سماوي صحيح، لا نظر فيه إلى الألوان ولا إلى العناصر، ولا إلى الجهات، وإنما المعتبر فيه تقوى الله جل وعلا وطاعته، فأكرم الناس وأفضلهم أتقاهم لله، ولا كرم ولا فضل لغير المتقي، ولو كان رفيع النسب.
والشعوب جمع شعب، وهو الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب وهي: الشعب، والقبيلة، والعمارة، والبطن، والفخذ، والفصيلة.
فالشعب يجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة تجمع البطون، والبطن يجمع الأفخاذ والفخذ يجمع الفصائل.
خزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة.
وسميت الشعوب، لأن القبائل تتشعب منها. ا ه.
ولم يذكر من هذه الست في القرآن إلا ثلاث الشعوب، والقبائل كما في هذه الآية، والفصيلة في المعارج في قوله: * (وفصيلته التى تأويه) * وقد قدمنا ما دلت عليه هذه الآيات موضحا في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: * (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) *.
واعلم أن العرب قد تطلق بعض هذه الست على بعض كإطلاق البطن على القبيلة في قول الشاعر: واعلم أن العرب قد تطلق بعض هذه الست على بعض كإطلاق البطن على القبيلة في قول الشاعر:
* وإن كلابا هذه عشر أبطن
* وأنت بريء من قبائلها العشر
*
كما قدمناه في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى: * (ثلاثة قروء) *. قوله تعالى: * (قالت الا عراب ءامنا قل لم تؤمنوا ولاكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان فى قلوبكم) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن هؤلاء الأعراب وهم أهل البادية من العرب
418

قالوا آمنا، وأن الله جل وعلا أمر نبيه أن يقول لهم: * (لم تؤمنوا ولاكن قولوا أسلمنا) *، وهذا يدل على نفي الإيمان عنهم وثبوت الإسلام لهم.
وذلك يستلزم أن الإيمان أخص من الإسلام لأن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم.
وقد قدمنا مرارا أن مسمى الإيمان الشرعي الصحيح، والإسلام الشرعي الصحيح هو استسلام القلب بالاعتقاد واللسان بالإقرار، والجوارح بالعمل، فمؤداهما واحد كما يدل له قوله تعالى: * (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) *.
وإذا كان ذلك كذلك فإنه يحتاج إلى بيان وجه الفرق بين الإيمان والإسلام في هذه الآية الكريمة، لأن الله نفى عنهم الإيمان دون الإسلام، ولذلك وجهان معروفان عند العلماء أظهرهما عندي أن الإيمان المنفى عنهم في هذه الآية هو مسماه الشرعي الصحيح، والإسلام المثبت لهم فيها هو الإسلام اللغوي الذي هو الاستسلام والانقياد بالجوارح دون القلب.
وإنما ساغ إطلاق الحقيقة اللغوية هنا على الإسلام مع أن الحقيقة الشرعية مقدمة على اللغوية على الصحيح، لأن الشرع الكريم جاء باعتبار الظاهر. وأن تواكل كل السرائر إلى الله.
فانقياد الجوارح في الظاهر بالعمل واللسان بالإقرار يكتفي به شرعا، وإن كان القلب منطويا على الكفر.
ولهذا ساغ إرادة الحقيقة اللغوية في قوله: * (ولاكن قولوا أسلمنا) *، لأن انقياد اللسان والجوارح في الظاهر إسلام لغوي مكتفى به شرعا عن التنقيب عن القلب.
وكل انقياد واستسلام وإذعان يسمى إسلاما لغة. ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل العدوي مسلم الجاهلية: وكل انقياد واستسلام وإذعان يسمى إسلاما لغة. ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل العدوي مسلم الجاهلية:
* وأسلمت وجهي لمن أسلمت
* له الأرض تحمل صخرا ثقالا
*
* دحاها فلما استوت شدها
* جميعا وأرسى عليها الجبالا
*
* وأسلمت وجهي لمن أسلمت
* له المزن تحمل عذبا زلالا
*
* إذا هي سقيت إلى بلدة
* أطاعت فصبت عليها سجالا
*
419

* وأسلمت وجهي لمن أسلمت
* له الريح تصرف حالا فحالا
*
فالمراد بالإسلام في هذه الأبيات: الاستسلام والانقياد، وإذا حمل الإسلام في قوله: * (ولاكن قولوا أسلمنا) * أنقذنا واستسلمنا بالألسنة والجوارح. فلا إشكال في الآية.
وعلى هذا القول فالأعراب المذكورون منافقون، لأنهم مسلمون في الظاهر، وهم كفار في الباطن.
الوجه الثاني: أن المراد بنفي الإيمان في قوله: * (لم تؤمنوا) * نفي كمال الإيمان، لا نفيه من أصله.
وعليه فلا إشكال أيضا، لأنهم مسلمون مع أن إيمانهم غير تام، وهذا لا إشكال فيه عند أهل السنة والجماعة القائلين بأن الإيمان يزيد وينقص.
وإنما استظهرنا الوجه الأول، وهو أن المراد الإسلام معناه اللغوي دون الشرعي، وأن الأعراب المذكورين كفار في الباطن وإن أسلموا في الظاهر، لأن قوله جل وعلا: * (ولما يدخل الايمان فى قلوبكم) * يدل على ذلك دلالة كما ترى، لأن قوله: * (يدخل) * فعل في سياق النفي وهو من صيغ العموم كما أوضحناه مرارا، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود: يدخل) * فعل في سياق النفي وهو من صيغ العموم كما أوضحناه مرارا، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود:
* ونحو لا شربت أو إن شربا
* واتفقوا إن مصدر قد جلبا
*
فقوله: * (ولما يدخل الايمان فى قلوبكم) *: في معنى لا دخول للإيمان في قلوبكم.
والذين قالوا بالثاني. قالوا: إن المراد بنفي دخوله نفي كماله، والأول أظهر كما ترى.
وقوله تعالى: في هذه الآية الكريمة: * (قالت الا عراب) *: المراد به بعض الأعراب، وقد استظهرنا أنهم منافقون لدلالة القرآن على ذلك، وهم من جنس الأعراب الذين قال الله فيهم: * (ومن الا عراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر) *، وإنما قلنا إن المراد بعض الأعراب في هذه الآية، لأن الله بين في موضع آخر أن منهم من ليس كذلك، وذلك في قوله تعالى * (ومن الا عراب من يؤمن بالله واليوم الا خر
420

ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله فى رحمته إن الله غفور رحيم) *. قوله تعالى: * (قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما فى السماوات وما فى الا رض والله بكل شىء عليم) *. لما قال هؤلاء الأعراب: آمنا، وأمر الله نبيه أن يكذبهم في قوله: * (قل لم تؤمنوا) * وقوله: * (ولما يدخل الايمان فى قلوبكم) * أمر نبيهم أن يقول لهم بصيغة الإنكار: * (أتعلمون الله بدينكم) * وذلك بادعائكم أنكم مؤمنون والله لا يخفى عليه شيء من حالكم، وهو عالم بأنكم لم تؤمنوا وعالم بكل ما في السماوات والأرض وعالم بكل شيء.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تقبيح تزكية النفس بالكذب جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى: * (هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الا رض وإذ أنتم أجنة فى بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) * والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة. قوله تعالى: * (إن الله يعلم غيب السماوات والا رض والله بصير بما تعملون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة هود في الكلام على قوله تعالى: * (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور) *.
421

((سورة ق))
* (ق والقرءان المجيد * بل عجبوا أن جآءهم منذر منهم فقال الكافرون هاذا شىء عجيب * أءذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد * قد علمنا ما تنقص الا رض منهم وعندنا كتاب حفيظ * بل كذبوا بالحق لما جآءهم فهم فى أمر مريج * أفلم ينظروا إلى السمآء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج * والا رض مددناها وألقينا فيها رواسى وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج * تبصرة وذكرى لكل عبد منيب * ونزلنا من السمآء مآء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد * والنخل باسقات لها طلع نضيد * رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذالك الخروج * كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود * وعاد وفرعون وإخوان لوط * وأصحاب الا يكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد * أفعيينا بالخلق الا ول بل هم فى لبس من خلق جديد * ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) * وقوله تعالى: * (ق والقرءان المجيد) *. المقسم عليه في الآية محذوف، والظاهر أنه كالمقسم عليه المحذوف في سورة ص، وقد أوضحناه في الكلام عليها. وقوله تعالى هنا: * (بل عجبوا أن جآءهم منذر منهم فقال الكافرون هاذا شىء عجيب أءذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد) *. قد قدمنا في سورة ص أن من المقسم عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق وأن رسالته حق، كما دل عليه قوله في ص: * (وعجبوا أن جآءهم م نذر منهم) * وقد دل على ذلك قوله هنا: * (بل عجبوا أن جآءهم منذر منهم) *، وقد قدمنا في ص أنه يدخل في المقسم عليه تكذيب الكفار في إنكارهم البعث، ويدل عليه قوله هنا: * (فقال الكافرون هاذا شىء عجيب أءذا متنا وكنا ترابا) *، والحاصل أن المقسم عليه في ص، بقوله: * (والقرءان ذى الذكر) *، وفي ق بقوله: * (والقرءان المجيد) * محذوف وهو تكذيب الكفار في إنكارهم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وإنكارهم البعث، وإنكارهم كون المعبود واحدا، وقد بينا الآيات الدالة على ذلك في سورة ص، وذكرنا هناك أن كون المقسم عليه في سورة ق هذه المحذوف يدخل فيه إنكارهم لرسالة النبي صلى الله عليه وسلم بدليل قوله: * (بل عجبوا أن جآءهم منذر منهم) * وتكذيبهم في إنكارهم للبعث بدليل قوله: * (فقال الكافرون هاذا شىء عجيب) * وبينا وجه إيضاح ذلك بالآيات المذكورة هناك وغيرها، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. قوله تعالى: * (أفلم ينظروا إلى السمآء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج) *. الهمزة في قوله: * (أفلم) * تتعلق بمحذوف، والفاء عاطفة عليه، كما قدمنا مرارا أنه أظهر الوجهين، وأنه أشار إليه في الخلاصة بقوله
422

: * وحذف متبوع بدا هنا استبح
والتقدير: أأعرضوا عن آيات الله فلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج. أي ليس فيها من شقوق ولا تصدع ولا تفطر، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تعظيم شأن كيفية بنائه تعالى للسماء وتزيينه لها وكونها لا تصدع ولا شقوق فيها جاء كله موضحا في آيات أخر كقوله جل وعلا في بنائه للسماء: * (أءنتم أشد خلقا أم السمآء بناها رفع سمكها فسواها) *، وقوله تعالى: * (والسمآء بنيناها بأيد وإنا لموسعون) *، وقوله تعالى: * (وبنينا فوقكم سبعا شدادا) *، وقوله تعالى: * (الذى خلق سبع سماوات طباقا ما ترى فى خلق الرحمان من تفاوت) *، وقوله تعالى: * (ولقد خلقنا فوقكم سبع طرآئق وما كنا عن الخلق غافلين) *، وقوله تعالى في أول الرعد: * (الله الذى رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش) *، وقوله تعالى في لقمان: * (خلق السماوات بغير عمد ترونها) *. إلى غير ذلك من الآيات. وكقوله تعالى في تزيينه للسماء * (ولقد زينا السمآء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين) *، وقوله تعالى: * (وزينا
السمآء الدنيا بمصابيح وحفظا) *، وقوله تعالى: * (إنا زينا السمآء الدنيا بزينة الكواكب) *، وقوله تعالى: * (ولقد جعلنا فى السماء بروجا وزيناها للناظرين) *. وكقوله تعالى في حفظه للسماء من أن يكون فيها فروج أي شقوق: * (فارجع البصر هل ترى من فطور) *، والفطور والفروج بمعنى واحد، وهو الشقوق والصدوع. وقوله تعالى: * (وجعلنا السمآء سقفا محفوظا وهم عن ءاياتها معرضون) *، أما إذا كان يوم القيامة فإن السماء تتشقق وتتفطر، وتكون فيها الفروج كما قال تعالى: * (ويوم تشقق السمآء بالغمام) *. وقال تعالى: * (فإذا انشقت السمآء فكانت وردة) *. وقال تعالى: * (فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السمآء) *. وقال تعالى: * (إذا السمآء انشقت وأذنت لربها وحقت) *، وقال تعالى: * (إذا السمآء انفطرت) *، وقال تعالى: * (يوما يجعل الولدان شيبا السمآء منفطر به) *. وقال تعالى: * (فإذا النجوم طمست وإذا السمآء فرجت) *
423

. قوله تعالى: * (والا رض مددناها وألقينا فيها رواسى وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه مد الأرض وألقى فيها الجبال الرواسي وأنبت فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب، وهذا الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آيات كثيرة من كتاب الله، كقوله تعالى: * (وهو الذى مد الا رض وجعل فيها رواسى وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين) * إلى قوله: * (لقوم يتفكرون) *، وكقوله: * (خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى فى الا رض رواسى أن تميد بكم وبث فيها من كل دآبة وأنزلنا من السمآء مآء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم هاذا خلق الله فأرونى ماذا خلق الذين من دونه) * والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (كل زوج بهيج) * أي من كل صنف حسن من أصناف النبات، وقوله: * (تبصرة) * أي قدرنا الأرض وألقينا فيها الرواسي وأنبتنا فيها أصناف النبات الحسنة لأجل أن نبصر عبادنا كمال قدرتنا على البعث وعلى كل شيء وعلى استحقاقنا للعبادة دون غيرنا. قوله تعالى: * (وأحيينا به بلدة ميتا كذالك الخروج) *. قوله: كذلك الخروج، معناه أن الله تبارك وتعالى: يبين أن إحياء الأرض بعد موتها بإنبات النبات فيها بعد انعدامه واضمحلاله، دليل على بعث الناس بعد الموت بعد كونهم ترابا وعظاما. فقوله: كذلك الخروج يعني أن خروج الناس أحياء من قبورهم بعد الموت كخروج النبات من الأرض بعد عدمه، بجامع استواء الجميع في أنه جاء بعد عدم، وهذا أحد براهين البعث التي يكثر الاستدلال عليه بها في القرآن، وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في صدر سورة البقرة وأول النحل وأول الجاثية، وغير ذلك من المواضع. قوله تعالى: * (كل كذب الرسل فحق وعيد) *. هذه الآية الكريمة تدل على أن من كذب الرسل يحق عليه العذاب، أي يتحتم ويثبت في حقه ثبوتا لا يصح معه تخلفه عنه، وهو دليل واضح على أن ما قاله بعض أهل
424

العلم من أن الله يصح أن يخلف وعيده، لأنه قال: إنه لا يخلف وعده ولم يقل إنه لا يخلف وعيده، وأن إخلاف الوعيد حسن لا قبيح، وإنما القبيح هو إخلاف الوعد، وأن الشاعر قال: كل كذب الرسل فحق وعيد) *. هذه الآية الكريمة تدل على أن من كذب الرسل يحق عليه العذاب، أي يتحتم ويثبت في حقه ثبوتا لا يصح معه تخلفه عنه، وهو دليل واضح على أن ما قاله بعض أهل العلم من أن الله يصح أن يخلف وعيده، لأنه قال: إنه لا يخلف وعده ولم يقل إنه لا يخلف وعيده، وأن إخلاف الوعيد حسن لا قبيح، وإنما القبيح هو إخلاف الوعد، وأن الشاعر قال:
* وإني وإن أوعدته أو وعدته
* لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
*
لا يصح بحال، لأن وعيده تعالى للكفار حق ووجب عليهم بتكذيبهم للرسل كما دل عليه قوله هنا: * (كل كذب الرسل فحق وعيد) *. وقد تقرر في الأصول أن الفاء من حروف العلة كقوله: سها فسجد. أي لعلة سهوه وسرق فقطعت يده أي لعلة سرقته، ومنه قوله تعالى * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) *، فتكذيبهم الرسل علة صحيحة لكون الوعيد بالعذاب حق ووجب عليهم، فدعوى جواز تخلفه باطلة بلا شك، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آيات أخر، كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة: * (قال لا تختصموا لدى وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدى) *، والتحقيق: أن المراد بالقول الذي لا يبدل لديه هو الوعيد الذي قدم به إليهم.
وقوله تعالى في سورة ص * (إن كل إلا كذب الر سل فحق عقاب) *. وبهذا تعلم أن الوعيد الذي لا يمتنع إخلافه هو وعيد عصاة المسلمين بتعذيبهم على كبائر الذنوب، لأن الله تعالى أوضح ذلك في قوله: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء) * وهذا في الحقيقة تجاوز من الله عن ذنوب عباده المؤمنين العاصين، ولا إشكال في ذلك، وقد أوضحنا هذا في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: * (قال النار مثواكم خالدين فيهآ إلا ما شآء الله) *. قوله تعالى: * (أفعيينا بالخلق الا ول بل هم فى لبس من خلق جديد) *. هذه الآية الكريمة من براهين البعث، لأن من لم يعي بخلق الناس ولم يعجز عن إيجادهم الأول لا شك في قدرته على إعادتهم وخلقهم مرة أخرى، لأن الإعادة لا يمكن أن تكون أصعب من البدء. والآيات الدالة على هذا كثيرة جدا، كقوله تعالى: * (وهو الذى يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) *. وقوله تعالى: * (قل يحييها الذى أنشأهآ
425

أول مرة) * وقوله: * (فسيقولون من يعيدنا قل الذى فطركم أول مرة) * والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة، وقد أوضحنا الآيات الدالة على براهين البعث التي يكثر الاستدلال عليه بها في القرآن، كخلق الناس أولا، وخلق السماوات والأرض وما فيهما وإحياء الأرض بعد موتها، وغير ذلك في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك، في البقرة والنحل والحج والجاثية وغير ذلك، وأحلنا على ذلك مرارا كثيرة. قوله تعالى: * (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه) *. قد قدمنا الآيات
الموضحة له في أول سورة هود في الكلام على قوله تعالى: * (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور) *.
* (إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد * ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد * وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد * ونفخ فى الصور ذلك يوم الوعيد * وجآءت كل نفس معها سآئق وشهيد * لقد كنت فى غفلة من هاذا فكشفنا عنك غطآءك فبصرك اليوم حديد * وقال قرينه هاذا ما لدى عتيد * ألقيا فى جهنم كل كفار عنيد * مناع للخير معتد مريب * الذى جعل مع الله إلاها ءاخر فألقياه فى العذاب الشديد * قال قرينه ربنا مآ أطغيته ولاكن كان فى ضلل بعيد * قال لا تختصموا لدى وقد قدمت إليكم بالوعيد * ما يبدل القول لدى ومآ أنا بظلام للعبيد * يوم نقول لجهنم هل امتلات وتقول هل من مزيد * وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد * هاذا ما توعدون لكل أواب حفيظ * من خشى الرحمان بالغيب وجآء بقلب منيب * ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود * لهم ما يشآءون فيها ولدينا مزيد) * قوله تعالى: * (إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) *. قوله إذ: منصوب بقوله: أقرب، أي نحن أقرب إليه من حبل الوريد في الوقت الذي يتلقى فيه الملكان جميع ما يصدر منه، والمراد أن الذي خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه وهو أقرب إليه من حبل الوريد، في وقت كتابة الحفظة أعماله لا حاجة له لكتب الأعمال، لأنه عالم بها لا يخفى عليه منها شيء، وإنما أمر بكتابة الحفظة للأعمال لحكم أخرى كإقامة الحجة على العبد يوم القيامة، كما أوضحه بقوله: * (ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) *، ومفعول التلقي في الفعل الذي هو يتلقى، والوصف الذي هو المتلقيان محذوف تقديره، إذ يتلقى المتلقيان جميع ما يصدر عن الإنسان فيكتبانه عليه.
قال الزمخشري: والتلقي التلقن بالحفظ والكتبة ا ه منه، والمعنى واضح لأن الملك يتلقى عمل الإنسان عند صدوره منه فيكتبه عليه، والمتلقيان هما الملكان اللذان يكتبان أعمال الإنسان، وقد دلت الآية الكريمة على أن مقعد أحدهما عن يمينه ومقعد الآخر عن شماله.
426

والقعيد: قال بعضهم: معناه القاعد، والأظهر أن معناه المقاعد، وقد يكثر في العربية إطلاق الفعل وإرادة المفاعل، كالجليس بمعنى المجالس، والأكيل بمعنى المآكل، والنديم بمعنى المنادم، وقال بعضهم: القعيد هنا هو الملازم، وكل ملازم دائما أو غالبا يقال له قعيد، ومنه قول متمم بن نويرة التميمي: والقعيد: قال بعضهم: معناه القاعد، والأظهر أن معناه المقاعد، وقد يكثر في العربية إطلاق الفعل وإرادة المفاعل، كالجليس بمعنى المجالس، والأكيل بمعنى المآكل، والنديم بمعنى المنادم، وقال بعضهم: القعيد هنا هو الملازم، وكل ملازم دائما أو غالبا يقال له قعيد، ومنه قول متمم بن نويرة التميمي:
* قعيدك ألا تسمعيني ملامة
* ولا تنكئي قرح الفؤاد فيجعا
*
والمعنى عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، وهو أسلوب عربي معروف، وأنشد له سيبويه في كتابه قول عمرو بن أحمر الباهلي:
* رماني بأمر كنت منه ووالدي
* بريئا ومن أجل الطوى رمان
*
وقول قيس بن الخطيم الأنصاري: وقول قيس بن الخطيم الأنصاري:
* نحن بما عندنا وأنت بما
* عندك راض والرأي مختلف
*
وقول ضبائي بن الحارث البرجمي: وقول ضبائي بن الحارث البرجمي:
* فمن يك أمسى بالمدينة رحله
* فإني وقيار بها لغريب
*
فقول ابن أحمر: كنت منه ووالدي بريئا أي كنت بريئا منه وكان والدي بريئا منه.
وقول ابن الخطيم: نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض: أي نحن راضون وأنت راض.
وقول ضابىء بن الحارث: فإني وقيار بها لغريب: يعني إني لغريب وقيار غريب، وهذا أسلوب عربي معروف، ودعوى أن قوله في الآية: * (قعيد) * هي الأولى أخرت وحذفت الثانية لدلالتها عليها لا دليل عليه، ولا حاجة إليه كما ترى، لأن المحذوف إذا صحت الدلالة عليه بالأخير فلا حاجة إلى أن هذا الأخير أصله هو الأول، ولا دليل عليه. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ما يلفظ من قول) *. أي ما ينطق بنطق ولا يتكلم بكلام إلا لديه، أي إلا والحال أن عنده رقيبا. أي ملكا مراقبا لأعماله حافظا لها شاهدا عليها لا يفوته منها شيء. عتيد: أي حاضر ليس بغائب يكتب عليه ما يقول من خير وشر، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الإنسان
عليه حفظة من الملائكة
427

يكتبون أعماله، جاء موضحا في آيات كثيرة من كتاب الله. كقوله تعالى: * (وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون) *. وقوله تعالى: * (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون) *. وقوله تعالى: * (وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون هاذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إن كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) *.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى * (كلا سنكتب ما يقول) *.
وفي سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى: * (ستكتب شهادتهم ويسألون) *، وقد ذكر جماعة من أهل العلم أن القعيد الذي هو عن اليمين يكتب الحسنات، والذي عن الشمال يكتب السيئات، وأن صاحب الحسنات أمين على صاحب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: أمهله ولا تكتبها عليه لعله يتوب أو يستغفر؟ وبعضهم يقول: يمهله سبع ساعات. والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
اعلم أن العلماء اختلفوا في عمل العبد الجائز الذي لا ثواب ولا عقاب عليه، هل تكتبه الحفظة عليه أولا؟ فقال بعضهم: يكتب عليه كل شيء حتى الأنين في المرض، وهذا هو ظاهر قوله: * (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) *. لأن قوله: من قول نكرة في سياق النفي زيدت قبلها لفظة من، فهي نص صريح في العموم.
وقال بعض العلماء: لا يكتب من الأعمال إلا ما فيه ثواب أو عقاب، وكلهم مجمعون على أنه لا جزاء إلا فيما فيه ثواب أو عقاب فالذين يقولون: لا يكتب إلا ما فيه ثواب أو عقاب، والذين يقولون يكتب الجميع متفقون على إسقاط ما لا ثواب فيه ولا عقاب، إلا أن بعضهم يقولون لا يكتب أصلا، وبعضهم يقولون: يكتب أولا ثم يمحى. وزعم بعضهم أن محو ذلك، وإثبات ما فيه ثواب أو عقاب هو معنى قوله تعالى: * (يمحو
428

الله ما يشآء ويثبت) *.
والذين قالوا: لا يكتب ما لا جزاء فيه. قالوا: إن في الآية نعتا محذوفا سوغ حذفه العلم به، لأن كل الناس يعلمون أن الجائز لا ثواب فيه ولا عقاب، وتقدير النعت المحذوف، ما يلفظ من قول مستوجب للجزاء، وقد قدمنا أن حذف النعت إذا دل عليه أسلوب عربي معروف، وقدمنا أن منه قوله تعالى: * (وكان ورآءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا) * أي كل سفينة صحيحة لا عيب فيها بدليل قوله * (فأردت أن أعيبها) * وقوله تعالى: * (نحن مهلكوها قبل يوم القيامة) *: أي قرية ظالمة بدليل قوله تعالى: * (وما كنا مهلكى القرى إلا وأهلها ظالمون) *، وأن من شواهده قول المرقش الأكبر: وما كنا مهلكى القرى إلا وأهلها ظالمون) *، وأن من شواهده قول المرقش الأكبر:
* ورب أسيلة الخدين بكر
* مهفهفة لها فرع وجيد
*
أي لها فرع فاحم وجيد طويل. وقول عبيد بن الأبرص: أي لها فرع فاحم وجيد طويل. وقول عبيد بن الأبرص:
* من قوله قول ومن فعله
* فعل ومن نائله نائل
*
أي قول فصل، وفعل جميل، ونائل جزل. قوله تعالى: * (لقد كنت فى غفلة من هاذا فكشفنا عنك غطآءك فبصرك اليوم حديد) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النمل في الكلام على قوله تعالى: * (بل ادارك علمهم فى الا خرة بل هم فى شك منها بل هم منها عمون) *. قوله تعالى: * (يوم نقول لجهنم هل امتلات وتقول هل من مزيد) *. قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير نافع وشعبة عن عاصم * (يوم نقول) * بالنون الدالة على العظمة. وقرأه نافع وشعبة * (يوم يقول) * بالياء، وعلى قراءتهما فالفاعل ضمير يعود إلى الله، واعلم أن الاستفهام في قوله * (هل من مزيد) * فيه للعلماء قولان معروفان. الأول: أن الاستفهام إنكاري كقوله تعالى: * (هل يهلك إلا القوم الظالمون) * أي ما يهلك إلا القوم الظالمون، وعلى هذا، فمعنى * (هل من مزيد) * لا محل للزيادة لشدة امتلاء النار، واستدل بعضهم لهذا الوجه بآيات من كتاب الله كقوله تعالى: * (ولاكن حق القول منى) * وقوله تعالى:
429

* (وتمت كلمة ربك لاملان جهنم من الجنة والناس أجمعين) * قال: فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين، وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة يس في الكلام على قوله تعالى: * (لقد حق القول على أكثرهم) *، لأن إقسامه تعالى في هذه الآية المدلول عليه بلام التوطئة في لأملأن على أنه يملأ جهنم من الجنة والناس، دليل على أنها لا بد أن تمتلئ، ولذا قالوا: إن معنى هل من مزيد، لا مزيد، لأني قد امتلأت فليس في محل للمزيد، وأما القول الآخر، فهو أن المراد بالاستفهام في قول النار: هل من مزيد؟ هو طلبها للزيادة، وأنها لا تزال كذلك حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوى بعضها إلى بعض وتقول: قط قط أي كفاني قد امتلأت، وهذا الأخير هو الأصح، ولما ثبت في الصحيحين، وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن جهنم لا تزال تقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط)، لأن في هذا الحديث المتفق عليه التصريح بقولها قط قط، أي كفاني قد امتلأت، وأن قولها قبل ذلك هل من
مزيد لطلب الزيادة، وهذا الحديث الصحيح من أحاديث الصفات، وقد قدمنا الكلام عليها مستوفى في سورة الأعراف والقتال. واعلم أن قول النار في هذه الآية: هل من مزيد، قول حقيقي ينطقها الله به، فزعم بعض أهل العلم أنه كقول الحوض: (أن جهنم لا تزال تقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط)، لأن في هذا الحديث المتفق عليه التصريح بقولها قط قط، أي كفاني قد امتلأت، وأن قولها قبل ذلك هل من مزيد لطلب الزيادة، وهذا الحديث الصحيح من أحاديث الصفات، وقد قدمنا الكلام عليها مستوفى في سورة الأعراف والقتال. واعلم أن قول النار في هذه الآية: هل من مزيد، قول حقيقي ينطقها الله به، فزعم بعض أهل العلم أنه كقول الحوض:
* امتلأ الحوض فقال قطني
* مهلا رويدا قد ملأت بطني
*
وأن المراد بقولها ذلك هو ما يفهم من حالها خلاف التحقيق وقد أوضحنا ذلك بأدلته في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى: * (إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا) *. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد) *. قوله: أزلفت أي قربت. وقوله غير بعيد: فيه معنى التوكيد لقوله: أزلفت سواء أعربت غير بعيد بأنها حال أو ظرف، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من إزلاف الجنة للمتقين جاء في مواضع أخر من كتاب الله كقوله تعالى: * (وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت) *، وقوله تعالى: * (وأزلفت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين) *.
430

قال البغوي رحمه الله في تفسير هذه الآية: غير بعيد ينظرون إليها قبل أن يدخلوها. قوله تعالى: * (لهم ما يشآءون فيها ولدينا مزيد) *. قوله: * (لهم ما يشآءون فيها) * قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: * (لهم فيها ما يشآءون كذلك يجزى الله المتقين) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ولدينا مزيد) *. قال بعض العلماء: المزيد النظر إلى وجه الله الكريم، ويستأنس لذلك بقوله تعالى: * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) *، لأن الحسنى الجنة، والزيادة النظر، والعلم عند الله تعالى.
* (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا فى البلاد هل من محيص * إن فى ذالك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد * ولقد خلقنا السماوات والا رض وما بينهما فى ستة أيام وما مسنا من لغوب * فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب * ومن اليل فسبحه وأدبار السجود * واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب * يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج * إنا نحن نحى ونميت وإلينا المصير * يوم تشقق الا رض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير * نحن أعلم بما يقولون ومآ أنت عليهم بجبار فذكر بالقرءان من يخاف وعيد) * قوله تعالى: * (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى * (فأهلكنآ أشد منهم بطشا ومضى مثل الا ولين) *. قوله تعالى: * (ولقد خلقنا السماوات والا رض وما بينهما فى ستة أيام وما مسنا من لغوب) *. قد قدمنا الكلام عليه في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى * (إن ربكم الله الذى خلق السماوات والا رض في ستة أيام) * وبينا هناك أن الله أوضح ذلك في فصلت في قوله تعالى: * (قل أءنكم لتكفرون بالذى خلق الا رض فى يومين إلى قوله * (فقضاهن سبع سماوات فى يومين) *. وأوضحنا ذلك في سورة فصلت واللغوب: التعب والإعياء من العمل. قوله تعالى: * (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب) *. ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أمره تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يقوله الكفار والتسبيح بحمده جل وعلا أطراف النهار، قد ذكره الله في غير هذا الموضع كقوله تعالى
431

في أخريات طه: * (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن ءانآء اليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى) *، وأمره له بالتسبيح بعد أمره له بالصبر على أذى الكفار فيه دليل على أن التسبيح يعينه الله به على الصبر المأمور به، والصلاة داخلة في التسبيح المذكور كما قدمنا إيضاح ذلك، وذكرنا فيه حديث نعيم بن همار في آخر الحجر في الكلام على قوله تعالى: * (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين) *، وبينا هنالك أن الله أمر بالاستعانة بالصبر وبالصلاة كما قال تعالى: * (واستعينوا بالصبر والصلواة) *. قوله تعالى: * (يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة يس في الكلام على قوله تعالى: * (ونفخ فى الصور فإذا هم من الا جداث إلى ربهم ينسلون) *. قوله تعالى: * (يوم تشقق الا رض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير) *. قرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وابن عامر: تشقق بتشديد الشين بإدغام إحدى التاءين فيها، وقرأ الباقون بتخفيف الشين لحذف إحدى التاءين، وقوله تعالى: * (سراعا) *: جمع سريع، وهو حال من الضمير المجرور في قوله: * (عنهم) * أي تشقق الأرض عنهم في حال كونهم مسرعين إلى الداعي وهو الملك الذي ينفخ في الصور، ويدعو الناس إلى الحساب والجزاء، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الناس يوم البعث يخرجون من قبورهم مسرعين إلى المحشر قاصدين نحو الداعي، جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى: * (يوم يخرجون من الا جداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون) *، وقوله تعالى: * (ونفخ فى الصور فإذا هم من الا جداث إلى ربهم ينسلون) *. وقوله: * (ينسلون) * أي يسرعون، وقوله تعالى * (يخرجون من الا جداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداع) *، فقوله * (مهطعين) *: أي مسرعين مادي أعناقهم على الأصح، وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة يس في الكلام على قوله: * (فإذا هم من الا جداث إلى ربهم ينسلون) *.
432

قوله تعالى: * (ومآ أنت عليهم بجبار) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يونس في الكلام على قوله تعالى: * (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) *.
قوله تعالى: * (فذكر بالقرءان من يخاف وعيد) *. قد قدمنا الكلام عليه في سورة فاطر في الكلام على قوله تعالى: * (إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلواة) *.
433

((سورة الذاريات))
* (والذاريات ذروا * فالحاملات وقرا * فالجاريات يسرا * فالمقسمات أمرا * إنما توعدون لصادق * وإن الدين لواقع * والسمآء ذات الحبك * إنكم لفى قول مختلف * يؤفك عنه من أفك * قتل الخراصون * الذين هم فى غمرة ساهون * يسألون أيان يوم الدين * يوم هم على النار يفتنون * ذوقوا فتنتكم هاذا الذى كنتم به تستعجلون * إن المتقين فى جنات وعيون * ءاخذين مآ ءاتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين * كانوا قليلا من اليل ما يهجعون * وبالا سحار هم يستغفرون * وفى أموالهم حق للسآئل والمحروم) * قوله تعالى: * (والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع) *. أكثر أهل العلم، على أن المراد بالذاريات الرياح. وهو الحق إن شاء الله، ويدل عليه أن الذرو صفة مشهورة من صفات الرياح.
ومنه قوله تعالى * (فأصبح هشيما تذروه الرياح) *، ومعنى تذروه: ترفعه وتفرقه، فهي تذرو التراب والمطر وغيرهما، ومنه قول ذي الرمة: فأصبح هشيما تذروه الرياح) *، ومعنى تذروه: ترفعه وتفرقه، فهي تذرو التراب والمطر وغيرهما، ومنه قول ذي الرمة:
* ومنهل آجن قفر محاضره
* تذرو الرياح على جماته البعرا
*
ولا يخفى سقوط قول من قال: إن الذاريات النساء.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (فالحاملات وقرا) * أكثر أهل العلم على أن المراد بالحاملات وقرا: السحاب. أي المزن تحمل وقرا ثقلا من الماء.
ويدل لهذا القول تصريح الله جل وعلا بوصف السحاب بالثقال، وهو جمع ثقيلة، وذلك لثقل السحابة بوقر الماء الذي تحمله كقوله تعالى: * (وينشىء السحاب الثقال) *، وهو جمع سحابة ثقيلة، وقوله تعالى * (حتى إذآ أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت) *.
وقال بعضهم: المراد بالحاملات وقرا: السفن تحمل الأثقال من الناس وأمتعتهم، ولو قال قائل: إن الحاملات وقرا الرياح أيضا كان وجهه ظاهرا.
ودلالة بعض الآيات عليه واضحة، لأن الله تعالى صرح بأن الرياح تحمل السحاب الثقال بالماء، وإذا كانت الرياح هي التي تحمل السحاب إلى حيث شاء الله، فنسبة حمل ذلك الوقر إليها أظهر من نسبته إلى السحاب التي هي محمولة للرياح، وذلك في قوله
434

تعالى * (وهو الذى يرسل الرياح بشرى بين يدى رحمته حتى إذآ أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت) *.
فقوله تعالى: * (حتى إذآ أقلت سحابا ثقالا) *: أي حتى إذا حملت الرياح سحابا ثقالا، فالإقلال الحمل، وهو مسند إلى الريح. ودلالة هذا على أن الحاملات وقرا هي الرياح ظاهرة كما ترى، ويصح شمول الآية لجميع ذلك.
وقد قدمنا مرارا أنه هو الأجود في مثل ذلك، وبينا كلام أهل الأصول فيه، وكلامهم في حمل المشترك على معنييه أو معانيه، في أول سورة النور وغيرها.
والقول بأن الحاملات وقرا: هي حوامل الأجنة من الإناث، ظاهر السقوط، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (فالجاريات يسرا) * أكثر أهل العلم على أن المراد بالجاريات يسرا: السفن تجري في البحر يسرا أي جريا ذا يسر أي سهولة.
والأظهر أن هذا المصدر المنكر حال كما قدمنا نحوه مرارا: أي فالجاريات في حال كونها ميسرة مسخرا لها البحر، ويدل لهذا القول كثرة إطلاق الوصف بالجري على السفن كقوله تعالى: * (ومن ءاياته الجوار فى البحر) *، وقوله: * (إنا لما طغا المآء حملناكم فى الجارية) *، وقوله تعالى: * (والفلك تجرى فى البحر بأمره) * وقوله تعالى: * (الله الذى سخر لكم البحر لتجرى الفلك فيه بأمره) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقيل الجاريات الرياح. وقيل غير ذلك.
وقوله تعالى: * (فالمقسمات أمرا) *: هي الملائكة يرسلها الله في شؤون وأمور مختلفة، ولذا عبر عنها بالمقسمات، ويدل لهذا قوله تعالى: * (فالمدبرات أمرا) *، فمنهم من يرسل لتسخير المطر والريح، ومنهم من يرسل لكتابة الأعمال، ومنهم من يرسل لقبض الأرواح، ومنهم من يرسل لإهلاك الأمم، كما وقع لقوم صالح.
والتحقيق أن قوله: أمرا مفعول به للوصف الذي هو المقسمات، وهو مفرد أريد به الجمع.
وقد أوضحنا أمثلة ذلك في القرآن العظيم، وفي كلام العرب مع تنكير المفرد كما
435

هنا، وتعريفه وإضافته في أول سورة الحج في الكلام على قوله تعالى: * (ثم نخرجكم طفلا) *، والمقسم عليه بهذه الأقسام هو قوله: * (إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع) *، والموجب لهذا التوكيد هو شدة إنكار الكفار للبعث والجزاء.
وقوله: * (إنما توعدون) * ما، فيه موصولة والعائد إلى الصلة محذوف، والوصف بمعنى المصدر أي إن الذي توعدونه من الجزاء والحساب لصدق لا كذب فيه.
وقال بعض العلماء: ما، مصدرية، أي إن الوعد بالبعث والجزاء والحساب لصادق.
وقال بعضهم: إن صيغة اسم الفاعل في لصادق بمعنى اسم المفعول. أي إن الوعد أو الموعود به لمصدوق فيه لا مكذوب به، ونظير ذلك قوله تعالى: * (فى عيشة
راضية) * أي مرضية. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من صدق ما يوعدونه جاء في آيات كثيرة كقوله تعالى: * (إن الله لا يخلف الميعاد) *. وقوله: * (إن ما توعدون لأت) *. وقوله تعالى: * (ليس لوقعتها كاذبة) * والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
والمراد بالدين هنا الجزاء، أي وإن الجزاء يوم القيامة لواقع لا محالة كما قال تعالى * (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق) * أي جزاءهم بالعدل والإنصاف، وكقوله تعالى: * (وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزآء الأوفى) *.
وقد نزه الله نفسه عن كونه خلق الخلق لا لبعث وجزاء، وبين أن ذلك ظن الكفار، وهددهم على ذلك الظن السئ بالويل من النار، قال تعالى منكرا على من ظن عدم البعث والجزاء، ومنزها نفسه عن أنه خلقهم عبثا لا لبعث وجزاء: * (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إلاه إلا هو رب العرش الكريم) *. وقال تعالى: * (وما خلقنا السمآء والا رض وما بينهما باطلا ذالك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) *، في قوله في آية في ص هذه: باطلا أي عبثا لا لبعث وجزاء. قوله تعالى: * (والسمآء ذات الحبك إنكم لفى قول مختلف يؤفك عنه من أفك) *.
436

قوله تعالى: * (ذات الحبك) * فيه للعلماء أقوال متقاربة لا يكذب بعضها بعضا، فذهب بعض أهل العلم، إلى أن الحبك جمع حبيكة أو حباك، وعليه فالمعنى ذات الحبك أي ذات الطرائق، فما يبدو على سطح الماء الساكن أو الرمل من الطرائق إذا ضربته الريح هو الحبك، وهو جمع حبيكة أو حباك، قالوا: ولبعد السماء لا ترى طرائقها المعبر عنها بالحبك، ومن هذا المعنى قول زهير: ذات الحبك) * فيه للعلماء أقوال متقاربة لا يكذب بعضها بعضا، فذهب بعض أهل العلم، إلى أن الحبك جمع حبيكة أو حباك، وعليه فالمعنى ذات الحبك أي ذات الطرائق، فما يبدو على سطح الماء الساكن أو الرمل من الطرائق إذا ضربته الريح هو الحبك، وهو جمع حبيكة أو حباك، قالوا: ولبعد السماء لا ترى طرائقها المعبر عنها بالحبك، ومن هذا المعنى قول زهير:
* مكلل بأصول النجم تنسجه
* ريح خريق بضاحي مائة حبك
*
وقول الراجز: وقول الراجز:
* كأنما جللها الحواك
* طنفسة في وشيها حباك
*
وممن نقل عنه هذا القول الكلبي والضحاك.
وقال بعض أهل العلم: ذات الحبك أي ذات الخلق الحسن المحكم، وممن قال به ابن عباس وعكرمة وقتادة.
وهذا الوجه يدل عليه قوله تعالى: * (الذى خلق سبع سماوات طباقا ما ترى فى خلق الرحمان من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير) * إلى غير ذلك من الآيات.
وعلى هذا القول فالحبك مصدر، لأن كل عمل أتقنه عامله وأحسن صنعه، تقول فيه العرب: حبكه حبكا بالفتح على القياس. والحبك بضمتين بمعناه.
وقال بعض العلماء: ذات الحبك: أي الزينة.
وممن روي عنه هذا سعيد بن جبير والحسن، وعلى هذا القول، فالآية كقوله: * (ولقد زينا السمآء الدنيا بمصابيح) *، وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في ق في الكلام على قوله: * (أفلم ينظروا إلى السمآء فوقهم كيف بنيناها وزيناها) *.
وقال بعض العلماء: ذات الحبك أي ذات الشدة، وهذا القول يدل له قوله تعالى: * (وبنينا فوقكم سبعا شدادا) *.
437

والعرب تسمى شدة الخلق حبكا، ومنه قيل للفرس الشديد الخلق: محبوك.
ومنه قول امرئ القيس. ومنه قول امرئ القيس.
* قد غدا يحملني في أنفه
* لاحق الأطلين محبوك ممر
*
والآية تشمل الجميع، فكل الأقوال حق والمقسم عليه في هذه الآية هو قوله تعالى * (إنكم لفى قول مختلف) * أي إنكم أيها الكفار لفي قول مختلف في شأن النبي صلى الله عليه وسلم وشأن القرآن، لأن بعضهم يقول: هو شعر، وبعضهم يقول: سحر، وبعضهم يقول: كهانة، وبعضهم يقول: أساطير الأولين، وقول من قال في قول مختلف أي لأن بعضهم مصدق، وبعضهم مكذب خلاف التحقيق.
ويدل على أن الاختلاف إنما هو بين المكذبين دون المصدقين. قوله تعالى في ق * (بل كذبوا بالحق لما جآءهم فهم فى أمر مريج) * أي مختلط. وقال بعضهم: مختلف، والمعنى واحد.
وقوله تعالى: * (يؤفك عنه من أفك) * أظهر الأقوال فيه عندي ولا ينبغي العدول عنه في نظري، أن لفظة عن في الآية سببية كقوله تعالى: * (وما نحن بتاركى ءالهتنا عن قولك) * أي بسبب قولك، ومن أجله، والضمير المجرور بعن راجع إلى القول المختلف، والمعنى يؤفك أي يصرف عن الإيمان بالله ورسوله عنه، أي عن ذلك القول المختلف أي بسببه من أفك أي من سبقت له الشقاوة في الأزل، فحرم الهدى وأفك عنه، لأن هذا القول المختلف يكذب يعضه بعضا ويناقضه.
ومن أوضح الأدلة على كذب القول وبطلانه اختلافه وتناقضه كما لا يخفى، فهذا القول المختلف الذي يحاول كفار مكة أن يصدوا به الناس عن الإسلام، الذي يقول فيه بعضهم: إن الرسول ساحر، وبعضهم يقول شاعر، وبعضهم يقول: كذاب. ظاهر البطلان لتناقضه وتكذيب بعضه لبعض، فلا يصرف عن الإسلام بسببه إلا من صرف، أي صرفه الله عن الحق لشقاوته في الأزل فمن لم يكتب عليه في سابق علم الله الشقاوة والكفر لا يصرفه عن الحق قول ظاهر الكذب والبطلان لتناقضه.
وهذا المعنى جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى: * (فإنكم وما تعبدون مآ أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم) *.
438

ومعنى هذه الآية أن دين الكفار، الذي هو الشرك بالله وعبادة الأوثان، مع حرصهم على صد الناس عن دين الإسلام إليه ما هم بفاتنين، أي ليسوا بمضلين عليه أحدا لظهور فساده وبطلانه إلا من هو صال الجحيم، أي إلا من قدر الله عليه الشقاوة وأنه من أهل النار في سابق علمه، هذا هو الظاهر لنا في معنى هذه الآية الكريمة.
وأكثر المفسرين على أن الضمير في قوله: * (يؤفك عنه) * راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو القرآن، أي يصرف عن الإيمان بالنبي أو القرآن، من أفك أي صرف عن الحق، وحرم الهدي لشدة ظهور الحق في صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وأن القرآن منزل من الله، وهذا خلاف ظاهر السياق كما ترى.
وقول من قال: يؤفك عنه. أي يصرف عن القول المختلف الباطل من أفك، أي من صرف عن الباطل إلى الحق لا يخفى بعده وسقوطه.
والذين قالوا: هذا القول يزعمون أن الإفك يطلق على الصرف عن الحق إلى الباطل، وعن الباطل إلى الحق، ويبعد هذا أن القرآن لم يرد فيه الإفك مراد به إلا الصرف عن الخير إلى الشر دون عكسه. قوله تعالى: * (إن المتقين فى جنات وعيون) *. لا يخفى على من عنده علم بأصول الفقه أن هذه الآية الكريمة فيها الدلالة المعروفة عند أهل الأصول بدلالة الإيماء والتنبيه على أن سبب نيل هذه الجنات والعيون هو تقوى الله والسبب الشرعي هو العلة الشرعية على الأصح، وكون التقوى سبب دخول الجنات الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى: * (تلك الجنة التى نورث من عبادنا من كان تقيا) * وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: * (لهم فيها ما يشآءون كذلك يجزى الله المتقين) *.
* (وفى الا رض ءايات للموقنين * وفى أنفسكم أفلا تبصرون * وفى السمآء رزقكم وما توعدون * فورب السمآء والا رض إنه لحق مثل مآ أنكم تنطقون * هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين * إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون * فراغ إلى أهله فجآء بعجل سمين * فقربه إليهم قال ألا تأكلون * فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم * فأقبلت امرأته فى صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم * قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم * قال فما خطبكم أيها المرسلون * قالوا إنآ أرسلنآ إلى قوم مجرمين * لنرسل عليهم حجارة من طين * مسومة عند ربك للمسرفين * فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين * وتركنا فيهآ ءاية للذين يخافون العذاب الا ليم * وفى موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين * فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون * فأخذناه وجنوده فنبذناهم فى اليم وهو مليم * وفى عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم * ما تذر من شىء أتت عليه إلا جعلته كالرميم * وفى ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين * فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون * فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين * وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين * والسمآء بنيناها بأيد وإنا لموسعون * والا رض فرشناها فنعم الماهدون * ومن كل شىء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون * ففروا إلى الله إنى لكم منه نذير مبين * ولا تجعلوا مع الله إلاها ءاخر إنء لكم منه نذير مبين * كذلك مآ أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون * فتول عنهم فمآ أنت بملوم * وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين * وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * قوله تعالى: * (وفى الا رض ءايات للموقنين وفى أنفسكم أفلا تبصرون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة الجاثية. قوله تعالى: * (وفى السمآء رزقكم وما توعدون) *.
439

اختلف العلماء في المراد بكون رزق الناس في السماء، فذهبت جماعة من أهل العلم، أن المراد أن جميع أرزاقهم منشؤها من المطر وهو نازل من السماء، ويكثر في القرآن إطلاق اسم الرزق على المطر، لهذا المعنى كقوله تعالى: * (هو الذى يريكم ءاياته وينزل لكم من السمآء رزقا) *. وقوله تعالى: * (واختلاف اليل والنهار ومآ أنزل الله من السمآء من رزق) *.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة المؤمن.
وإنزاله تعالى الرزق من السماء بإنزال المطر من أعظم آياته الدالة على عظمته وأنه المعبود وحده، ومن أعظم نعمه على خلقه في الدنيا، ولذلك كثر الامتنان به في القرآن على الخلق.
وقال بعض أهل العلم: معنى قوله: * (وفى السمآء رزقكم) * أن أرزاقكم مقدرة مكتوبة، والله جل وعلا يدبر أمر الأرض من السماء، كما قال تعالى: * (يدبر الا مر من السمآء إلى الا رض ثم يعرج إليه) *: قوله تعالى: * (وما توعدون) *، ما، في محل رفع عطف على قوله: * (رزقكم) *، والمراد بما يوعدون، قال بعض أهل العلم: الجنة، لأن الجنة فوق السماوات، فإطلاق كونها في السماء إطلاق عربي صحيح، لأن العرب تطلق السماء على كل ما علاك كما قيل: رزقكم) *، والمراد بما يوعدون، قال بعض أهل العلم: الجنة، لأن الجنة فوق السماوات، فإطلاق كونها في السماء إطلاق عربي صحيح، لأن العرب تطلق السماء على كل ما علاك كما قيل:
* وقد يسمى سماء كل مرتفع
* وإنما الفضل حيث الشمس والقمر
*
ولما حكى النابغة الجعدي شعره المشهور، قال فيه: ولما حكى النابغة الجعدي شعره المشهور، قال فيه:
* بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا
* وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
*
قال له صلى الله عليه وسلم (إلى أين يا أبي ليلى: قال: إلى الجنة، قال: نعم إن شاء الله).
وقال بعض أهل العلم: وما توعدون من الخير والشر كله مقدر في السماء، كما بيناه في القول الثاني في المراد بالرزق في الآية، وهذا المعنى فيما يوعدون به أنسب لهذا القول الثاني في معنى الرزق.
وقد وردت قصص تدل على أنه هو الذي يتبادر إلى ذهن السامع، فمن ذلك ما ذكره غير واحد عن سفيان الثوري أنه قال: قرأ واصل الأحدب هذه الآية * (وفى السمآء رزقكم
440

وما توعدون) * فقال: ألا أرى رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض، فدخل خربة يمكث ثلاثا لا يصيب شيئا، فلما أن كان في اليوم الثالث إذا هو بدوخلة من رطب، وكان له أخ أحسن منه نية، فدخل معه فصارتا دوخلتين، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق بينهما الموت.
ومن ذلك أيضا: ما ذكره الزمخشري في تفسير هذه الآية قال: وعن الأصمعي قال: أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود له، فقال: ممن الرجل؟ قلت: من بني أصمع. قال: من أين قبلت؟ قلت من موضع يتلى فيه كلام الرحمان. فقال: أتل علي فتلوت: والذاريات فلما بلغت قوله تعالى: * (وفى السمآء رزقكم) * قال: حسبك فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى، فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق فالتفت، فإذا أنا بالأعرابي قد نحل أصغر فسلم علي واستقرأ السورة، فلما بلغت الآية صاح، وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، ثم قال: وهل غير هذا؟ فقرأت * (فورب السمآء والا رض إنه لحق مثل مآ أنكم تنطقون) * فصاح وقال: يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف لم يصدقوه بقوله حتى الجؤوه إلى اليمين، قائلا ثلاثا، وخرجت معها نفسه. انتهى. قوله تعالى: * (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما) *. إلى آخر القصة. قد قدمنا إيضاحه في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى * (ونبئهم عن ضيف إبراهيم) *. وفي سورة هود في القصة المذكورة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. قوله تعالى: * (وتركنا فيهآ ءاية للذين يخافون العذاب الا ليم) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى: * (وإنها لبسبيل مقيم) *، وفي غير ذلك من المواضع. قوله تعالى: * (وفى عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم) *. قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى * (فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا) *:
441

قوله تعالى: * (فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى * (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون) *. قوله تعالى: * (والسمآء بنيناها بأيد وإنا لموسعون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة ق في الكلام على قوله تعالى: * (أفلم ينظروا إلى السمآء فوقهم كيف بنيناها) *.
تنبيه
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (بنيناها بأيد) *، ليس من آيات الصفات المعروفة بهذا الاسم، لأن قوله * (بأيد) * ليس جمع يد: وإنما الأيد القوة، فوزن قوله هنا بأيد فعل، ووزن الأيدي أفعل، فالهمزة في قوله: * (بأيد) * في مكان الفاء والياء في مكان العين، والدال في مكان اللام. ولو كان قوله تعالى: * (بأيد) * جمع يد لكان وزنه أفعلا، فتكون الهمزة زائدة والياء في مكان الفاء، والدال في مكان العين والياء المحذوفة لكونه منقوصا هي اللام.
والأيد، والآد في لغة العرب بمعنى القوة، ورجل أيد قوي، ومنه قوله تعالى * (وأيدناه بروح القدس) * أي قويناه به، فمن ظن أنها جمع يد في هذه الآية فقد غلط فاحشا، والمعنى: والسماء بنيناها بقوة. قوله تعالى: * (كذلك مآ أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه ما أتى نبي قوما إلا قالوا ساحر أو مجنون، ثم قال: * (أتواصوا به) *، ثم أضرب عن تواصيهم بذلك إضراب إبطال، لأنهم لم يجمعوا في زمن حتى يتواصوا فقال: * (بل هم قوم طاغون) * أي الموجب الذي جمعهم على اتفاقهم جميعا على تكذيب الرسل ونسبتهم للسحر والجنون، واتحاد في الطغيان الذي هو مجاوزة الحد في الكفر.
442

وهذا يدل على أنهم إنما اتفقوا لأن قلوب بعضهم تشبه قلوب بعض في الكفر والطغيان، فتشابهت مقالاتهم للرسل لأجل تشابه قلوبهم.
وقد أوضح تعالى هذا المعنى في سورة البقرة: * (كذالك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم) *. قوله تعالى: * (فتول عنهم فمآ أنت بملوم) *. نفيه جل وعلا في هذه الآية الكريمة للوم عن نبيه صلى الله عليه وسلم، يدل على أنه أدى الأمانة ونصح للأمة.
وقد أوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع كقوله تعالى * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الأسلام دينا) *. وقوله تعالى: * (فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب) *، والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة معلومة. قوله تعالى: * (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) *. قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك، أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يجعل الله شيئا لحكم متعددة، فيذكر بعض حكمه في بعض المواضع، فإنا نذكر بقية حكمه، والآيات الدالة عليها، وقد قدمنا أمثلة ذلك.
ومن ذلك القبيل هذه الآية الكريمة، فإنها تضمنت واحدة من حكم التذكير وهي رجاء انتفاع المذكر به، لأن تعالى قال هنا: * (وذكر) *، ورتب عليه قوله: * (فإن الذكرى تنفع المؤمنين) *.
ومن حكم ذلك أيضا خروج المذكر من عهدة التكليف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد جمع الله هاتين الحكمتين في قوله * (قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون) *.
ومن حكم ذلك أيضا النيابة عن الرسل في إقامة حجة الله على خلقه في أرضه لأن الله تعالى يقول * (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) *.
443

وقد بين هذه الحجة في آخر طه في قوله * (ولو أنآ أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع ءاياتك) *.
وأشار لها في القصص في قوله * (ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع ءاياتك ونكون من المؤمنين) *.
وقد قدمنا هذه الحكم في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى * (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) *. قوله تعالى: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) *. اختلف العلماء في معنى قوله * (ليعبدون) *، فقال بعضهم المعنى ما خلقتهم إلا ليعبدني السعداء منهم ويعصيني الأشقياء، فالحكمة المقصودة من إيجاد الخلق التي هي عبادة الله حاصلة بفعل السعداء منهم كما يدل عليه قوله تعالى: * (فإن يكفر بها هاؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) *، وهذا القول نقله ابن جرير عن زيد بن أسلم وسفيان.
وغاية ما يلزم على هذا القول أنه أطلق فيها المجموع وأراد بعضهم.
وأمثال ذلك كثيرة في القرآن، ومن أوضحها قراءة حمزة والكسائي: فإن قتلوكم فاقتلوهم، من القتل لا من القتال، وقد بينا هذا في مواضع متعددة، وذكرنا أن من شواهده العربية قول الشاعر: وأمثال ذلك كثيرة في القرآن، ومن أوضحها قراءة حمزة والكسائي: فإن قتلوكم فاقتلوهم، من القتل لا من القتال، وقد بينا هذا في مواضع متعددة، وذكرنا أن من شواهده العربية قول الشاعر:
* فسيف بني عبس وقد ضربوا به
* نبا من يدي ورقاء عن رأس خالد
*
فتراه نسب الضرب لبني عبس مع تصريحه أن الضارب الذي نبا بيده السيف عن رأس خالد يعني ابن جعفر الكلابي، هو ورقاء يعني ابن زهير العبسي.
وقد قدمنا في الحجرات أن من ذلك قوله تعالى * (قالت الا عراب ءامنا قل لم تؤمنوا) * بدليل قوله: * (ومن الا عراب من يؤمن بالله واليوم الا خر) * إلى قوله * (سيدخلهم الله فى رحمته إن الله غفور رحيم) *.
وقال بعض العلماء: معنى قوله: * (إلا ليعبدون) *: أي (إلا ليقروا لي بالعبودية طوعا
444

أو كرها)، لأن المؤمن يطيع باختياره والكافر مذعن منقاد لقضاء ربه جبرا عليه، وهذا القول رواه ابن جرير عن ابن عباس واختاره، ويدل له قوله تعالى: * (ولله يسجد من فى السماوات والا رض طوعا وكرها) *، والسجود والعبادة كلاهما خضوع وتذلل لله جل وعلا، وقد دلت الآية على أن بعضهم يفعل ذلك طوعا وبعضهم يفعله كرها.
وعن مجاهد أنه قال: * (إلا ليعبدون) *: أي إلا ليعرفوني. واستدل بعضهم لهذا القول بقوله: * (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) * ونحو ذلك من الآيات. وهو كثير في القرآن، وقد أوضحنا كثرته فيه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى * (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) *.
وقال بعض أهل العلم: وهو مروي عن مجاهد أيضا معنى قوله: * (إلا ليعبدون) *: أي إلا لآمرهم بعبادتي فيعبدني من وفقته منهم لعبادتي دون غيره، وعلى هذا القول: فإرادة عبادتهم المدلول عليها باللام في قوله: * (ليعبدون) * إرادة دينية شرعية وهي الملازمة للأمر، وهي عامة لجميع من أمرتهم الرسل لطاعة الله لا إرادة كونية قدرية، لأنها لو كانت كذلك لعبده جميع الإنس والجن، والواقع خلاف ذلك بدليل قوله تعالى * (قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون مآ أعبد) * إلى آخر السورة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: التحقيق إن شاء الله في معنى هذه الآية الكريمة * (إلا ليعبدون) *، أي إلا لآمرهم بعبادتي وأبتليهم أي أختبرهم بالتكاليف ثم أجازيهم على أعمالهم، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وإنما قلنا إن هذا هو التحقيق في معنى الآية، لأنه تدل عليه آيات محكمات من كتاب الله، فقد صرح تعالى في آيات من كتابه أنه خلقهم ليبتليهم أيهم أحسن عملا، وأنه خلقهم ليجزيهم بأعمالهم.
قال تعالى في أول سورة هود: * (وهو الذى خلق السماوات والا رض فى ستة أيام وكان عرشه على المآء) *، ثم بين الحكمة في ذلك فقال: * (ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هاذآ إلا سحر مبين) *.
445

وقال تعالى في أول سورة الملك: * (الذى خلق الموت والحيواة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) *.
وقال تعالى في أول سورة الكهف: * (إنا جعلنا ما على الا رض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا) *.
فتصريحه جل وعلا في هذه الآيات المذكورة بأن حكمة خلقه للخلق، هي ابتلاؤهم أيهم أحسن عملا، يفسر قوله * (ليعبدون) *. وخير ما يفسر به القرآن القرآن.
ومعلوم أن نتيجة العمل المقصود منه لا تتم إلا بجزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ولذا صرح تعالى بأن حكمة خلقهم أولا وبعثهم ثانيا، هو جزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وذلك في قوله تعالى في أول يونس: * (إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزى الذين ءامنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) *، وقوله في النجم: * (ولله ما فى السماوات وما فى الا رض ليجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى) *.
وقد أنكر تعالى على الإنسان حسبانه وظنه أنه يترك سدى، أي مهملا، لم يؤمر ولم ينه، وبين أنه ما نقله من طور إلى طور حتى أوجده إلا ليبعثه بعد الموت أي ويجازيه على عمله، قال تعالى: * (أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من منى يمنى) * إلى قوله * (أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى) *.
والبراهين على البعث دالة على الجزاء، وقد نزه تعالى نفسه عن هذا الظن الذي ظنه الكفار به تعالى، وهو أنه لا يبعث الخلق ولا يجازيهم منكرا ذلك عليهم في قوله: * (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إلاه إلا هو رب العرش الكريم) *.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في أول سورة الأحقاف في الكلام على قوله تعالى: * (ما خلقنا السماوات والا رض وما بينهمآ إلا بالحق وأجل مسمى) *.
تنبيه
اعلم أن الآيات الدالة على حكمة خلق الله للسماوات والأرض وأهلهما وما بينهما
446

قد يظن غير المتأمل أن بينهما اختلافا، والواقع خلاف ذلك. لأن كلام الله لا يخالف بعضه بعضا، وإيضاح ذلك أن الله تبارك وتعالى ذكر في بعض الآيات أن حكمة خلقه للسماوات والأرض هي إعلام خلقه بأنه قادر على كل شيء، وأنه محيط بكل شيء علما، وذلك في قوله تعالى في آخر الطلاق: * (الله الذى خلق سبع سماوات ومن الا رض مثلهن يتنزل الا مر بينهن لتعلموا أن الله على كل شىء قدير وأن الله قد أحاط بكل شىء علما) *.
وذكر في مواضع كثيرة من كتابه أنه خلق الخلق ليبين للناس كونه هو المعبود وحده، كقوله تعالى: * (وإلاهكم إلاه واحد لا إلاه إلا هو الرحمان الرحيم) *، ثم أقام البرهان على أنه إله واحد بقوله بعده: * (إن في خلق السماوات والا رض واختلاف الليل والنهار) * إلى قوله * (لآيات لقوم يعقلون) *، ولما قال: * (ياأيها الناس اعبدوا ربكم) * بين أن خلقهم برهان على أنه المعبود وحده بقوله بعده: * (الذى خلقكم والذين من قبلكم) *.
والاستدلال على أن المعبود واحد بكونه هو الخالق كثير جدا في القرآن، وقد أوضحنا الآيات الدالة عليه في أول سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى: * (وخلق كل شىء فقدره تقديرا واتخذوا من دونه ءالهة لا يخلقون شيئا) *، وفي سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى * (أم جعلوا لله شركآء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شىء) *، وفي غير ذلك من المواضع.
وذكر في بعض الآيات أنه خلق السماوات والأرض ليبتلي الناس، وذلك في قوله: * (وهو الذى خلق السماوات والا رض فى ستة أيام وكان عرشه على المآء ليبلوكم أيكم أحسن عملا) *.
وذكر في بعض الآيات أنه خلقهم ليجزيهم بأعمالهم وذلك في قوله: * (إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزى الذين ءامنوا وعملوا الصالحات بالقسط) *، وذكر في آية الذاريات هذه أنه ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه، فقد يظن غير العالم أن بين هذه الآيات اختلافا مع أنها لا اختلاف بينها، لأن الحكم المذكور فيها كلها راجع إلى شيء واحد، وهو معرفة الله وطاعته ومعرفة وعده ووعيده، فقوله: * (لتعلموا أن الله على كل
447

شىء قدير) * وقوله: * (اعبدوا ربكم الذى خلقكم) * راجع إلى شيء واحد هو العلم بالله، لأن من عرف الله أطاعه ووحده.
وهذا العلم يعلمهم الله إياه ويرسل لهم الرسل بمقتضاه ليهلك من هلك عن بينة، ويحيي من حيي عن بينة، فالتكليف بعد العلم، والجزاء بعد التكليف، فظهر بهذا اتفاق الآيات لأن الجزاء لا بد له من تكليف، وهو الابتلاء المذكور في الآيات والتكليف لا بد له من علم، ولذا دل بعض الآيات على أن حكمة الخلق للمخلوقات هي العلم بالخالق، ودل بعضها على أنها الابتلاء، ودل بعضها على أنها الجزاء، وكل ذلك حق لا اختلاف فيه، وبعضه مرتب على بعض.
وقد بينا معنى * (إلا ليعبدون) * في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في سورة هود في الكلام على قوله تعالى: * (ولذالك خلقهم) * وبينا هناك أن الإرادة المدلول عليها باللام في قوله: * (ولذالك خلقهم) * أي ولأجل الاختلاف إلى شقي وسعيد خلقهم، وفي قوله: * (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس) * إرادة كونية قدرية، وأن الإرادة المدلول عليها باللام في قوله: * (إلا ليعبدون) *، إرادة دينية شرعية.
وبينا هناك أيضا الأحاديث الدالة على أن الله خلق الخلق منقسما إلى شقي وسعيد، وأنه كتب ذلك وقدره قبل أن يخلقهم. وقال تعالى: * (هو الذى خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) *: وقال: * (فريق فى الجنة وفريق فى السعير) *.
والحاصل: أن الله دعا جميع الناس على ألسنة رسله إلى الإيمان به وعبادته وحده وأمرهم بذلك، وأمره بذلك مستلزم للإرادة الدينية الشرعية، ثم إن الله جل وعلا يهدي من يشاء منهم ويضل من يشاء بإرادته الكونية القدرية، فيصيرون إلى ما سبق به العلم من شقاوة وسعادة، وبهذا تعلم وجه الجمع بين قوله: * (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس) *. وقوله: * (ولذالك خلقهم) *، وبين قوله: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) *، وإنما ذكرنا أن الإرادة قد تكون دينية شرعية، وهي ملازمة للأمر والرضا، وقد تكون كونية قدرية وليست ملازمة لهما، لأن الله يأمر الجميع بالأفعال المرادة منهم دينا، ويريد ذلك كونا وقدرا من بعضهم دون بعض، كما قال تعالى: * (ومآ أرسلنا من رسول إلا
448

ليطاع بإذن الله) *، فقوله: إلا ليطاع: أي فيما جاء به من عندنا، لأنه مطلوب مراد من المكلفين شرعا ودينا، وقوله: بإذن الله: يدل على أنه لا يقع من ذلك إلا ما أراده الله كونا وقدرا، والله جل وعلا يقول: * (والله يدعو إلى دار السلام ويهدى من يشآء إلى صراط مستقيم) *، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل ميسر لما خلق له). والعلم عند الله تعالى.
* (مآ أريد منهم من رزق ومآ أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين * فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون * فويل للذين كفروا من يومهم الذى يوعدون) * قوله تعالى: * (مآ أريد منهم من رزق ومآ أريد أن يطعمون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: * (وهو يطعم ولا يطعم) *. قوله تعالى: * (فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون) *. أصل الذنوب في لغة العرب الدلو، وعادة العرب أنهم يقتسمون ماء الآبار والقلب بالدلو، فيأخذ هذا منه ملء دلو، ويأخذ الآخر كذلك، ومن هنا أطلقوا اسم الذنوب، التي هي الدلو على النصيب. قال الراجز في اقتسامهم الماء بالدلو: فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون) *. أصل الذنوب في لغة العرب الدلو، وعادة العرب أنهم يقتسمون ماء الآبار والقلب بالدلو، فيأخذ هذا منه ملء دلو، ويأخذ الآخر كذلك، ومن هنا أطلقوا اسم الذنوب، التي هي الدلو على النصيب. قال الراجز في اقتسامهم الماء بالدلو:
* لنا ذنوب ولكم ذنوب
* فإن أبيتم فلنا القليب
*
ويروى: ويروى:
* إنا إذا شاربنا شريب
* له ذنوب ولنا ذنوب
*
ومن إطلاق الذنوب على مطلق النصيب قول علقمة بن عبدة التميمي.
وقيل عبيد: وقيل عبيد:
* وفي كل حي قد خبطت بنعمة
* فحق لشأس من نداك ذنوب
*
وقول أبي ذؤيب: وقول أبي ذؤيب:
* لعمرك والمنايا طارقات
* لكل بني أب منها ذنوب
*
فالذنوب في البيتين النصيب، ومعنى الآية الكريمة، فإن للذين ظلموا بتكذيب
449

النبي صلى الله عليه وسلم ذنوبا، أي نصيبا من عذاب الله مثل ذنوب أصحابهم من الأمم الماضية من العذاب لما كذبوا رسلهم.
وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى: * (قد قالها الذين من قبلهم فمآ أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هاؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (فلا يستعجلون) * قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى: * (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات) *. وفي سورة مريم في الكلام على قوله: * (فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا) * وغير ذلك من المواضع. قوله تعالى: * (فويل للذين كفروا من يومهم الذى يوعدون) *. ما تضمنته هذه الآية الكريمة من تهديد الكفار بالويل من يوم القيامة لما ينالهم فيه من عذاب النار، جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله تعالى في ص * (فويل للذين كفروا من النار) *. وقوله في إبراهيم * (وويل للكافرين من عذاب شديد) *. وقوله في المرسلات: * (ويل يومئذ للمكذبين) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وقد قدمنا أن كلمة * (وويل) *، قال فيها بعض أهل العلم: إنها مصدر لا فعل له من لفظه، ومعناه الهلاك الشديد، وقيل: هو واد في جهنم تستعيذ من حره، والذي سوغ الابتداء بهذه النكرة أن فيها معنى الدعاء.
450

((سورة الطور))
* (والطور * وكتاب مسطور * فى رق منشور * والبيت المعمور * والسقف المرفوع * والبحر المسجور * إن عذاب ربك لواقع * ما له من دافع * يوم تمور السمآء مورا * وتسير الجبال سيرا * فويل يومئذ للمكذبين * الذين هم فى خوض يلعبون * يوم يدعون إلى نار جهنم دعا * هاذه النار التى كنتم بها تكذبون * أفسحر هاذا أم أنتم لا تبصرون * اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سوآء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون * إن المتقين فى جنات ونعيم * فاكهين بمآ ءاتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم * كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون * متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين * والذين ءامنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ومآ ألتناهم من عملهم من شىء كل امرىء بما كسب رهين * وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون * يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم * ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون * وأقبل بعضهم على بعض يتسآءلون) * قوله تعالى: * (والطور وكتاب مسطور فى رق منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع) *. هذه الأقسام التي أقسم الله بها تعالى في أول هذه السورة الكريمة أقسم ببعضها بخصوصه، وأقسم بجميعها في آية عامة لها ولغيرها.
أما الذي أقسم منها إقساما خاصا فهو الطور، والكتاب المسطور، والسقف المرفوع، والأظهر أن الطور الجبل الذي كلم الله عليه موسى، وقد أقسم الله تعالى بالطور في قوله: * (والتين والزيتون وطور سينين) *.
والأظهر أن الكتاب المسطور هو القرآن العظيم، وقد أكثر الله من الإقسام به في كتابه كقوله تعالى: * (حم والكتاب المبين) *. وقوله تعالى * (يس والقرءان الحكيم) * وقيل هو كتاب الأعمال، وقيل غير ذلك، * (والسقف المرفوع) *: هو السماء، وقد أقسم بالله بها في كتابه في آيات متعددة كقوله: * (والسمآء ذات الحبك) * وقوله: * (والسمآء ذات البروج) * وقوله تعالى * (والسمآء وما بناها) *، والرق بفتح الراء كل ما يكتب فيه من صحيفة وغيرها، وقيل هو الجلد المرقق ليكتب فيه. وقوله: * (منشور) * أي مبسوط، ومنه قوله: * (كتابا يلقاه منشورا) *. وقوله: * (بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفا منشرة) *. * (والبيت المعمور) *: (هو البيت المعروف في السماء المسمى بالضراح بضم الضاد، وقيل فيه معمور، لكثرة ما يغشاه من الملائكة المتعبدين، فقد جاء الحديث أنه يزوره كل يوم سبعون ألف ملك، ولا يعودون إليه بعدها).
451

وقوله: * (والبحر المسجور) * فيه وجهان من التفسير للعلماء. أحدهما أن المسجور هو الموقد نارا، قالوا: وسيضطرم البحر يوم القيامة نارا، من هذا المعنى قوله تعالى: * (ثم فى النار يسجرون) *.
الوجه الثاني: هو أن المسجور بمعنى المملوء، لأنه مملوء ماء، ومن إطلاق المسجور على المملوء قول لبيد بن ربيعة في معلقته: الوجه الثاني: هو أن المسجور بمعنى المملوء، لأنه مملوء ماء، ومن إطلاق المسجور على المملوء قول لبيد بن ربيعة في معلقته:
* فتوسطا عرض السرى وصدعا
* مسجورة متجاورا قلامها
*
فقوله: مسجورة أي عينا مملوءة ماء، وقول النمر بن تولب العكلي: فقوله: مسجورة أي عينا مملوءة ماء، وقول النمر بن تولب العكلي:
* إذا شاء طالع مسجورة
* ترى حولها النبع والساسما
*
وهذان الوجهان المذكوران في معنى المسجور هما أيضا في قوله * (وإذا البحار سجرت) *، وأما الآية العامة التي أقسم فيها تعالى بما يشمل جميع هذه الأقسام وغيرها، فهي قوله تعالى: * (فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون) *، لأن الإقسام في هذه الآية عام في كل شيء.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (إن عذاب ربك لواقع) *، قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول الذاريات، وفي غير ذلك من المواضع. قوله تعالى: * (يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هاذه النار التى كنتم بها تكذبون) *. الدع في لغة العرب: الدفع بقوة وعنف، ومنه قوله تعالى * (فذلك الذى يدع اليتيم) * أي يدفعه عن حقه بقوة وعنف، وقد تضمنت هذه الآية الكريمة أمرين:
أحدهما: أن الكفار يدفعون إلى النار بقوة وعنف يوم القيامة.
والثاني: أنهم يقال لهم يوم القيامة توبيخا وتقريعا: * (هاذه النار التى كنتم بها تكذبون) *.
وهذان الأمران المذكوران في هذه الآية الكريمة جاءا موضحين في آيات أخر، أما
452

الأخير منهما، وهو كونهم يقال لهم * (هاذه النار التى كنتم بها تكذبون) *، وقد ذكره تعالى في آيات من كتابه كقوله في السجدة * (كلمآ أرادوا أن يخرجوا منهآ أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون) *: وقوله في سبأ * (فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار
التى كنتم بها تكذبون) * وقوله تعالى في المرسلات: * (انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون انطلقوا إلى ظل ذى ثلاث شعب لا ظليل ولا يغنى من اللهب إنها ترمى بشرر كالقصر) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وأما الأول منهما وهو كونهم يدفعون إلى النار بقوة فقد ذكره الله جل وعلا في آيات من كتابه كقوله تعالى: * (خذوه فاعتلوه إلى سوآء الجحيم) * أي جروه بقوة وعنف إلى وسط النار. والعتل في لغة العرب: الجر بعنف وقوة، ومنه قول الفرزدق: الجر بعنف وقوة، ومنه قول الفرزدق:
* ليس الكرام بناحليك أباهم
* حتى ترد إلى عطية تعتل
*
وقوله تعالى: * (يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصى والا قدام) * أي تجمع الزبانية بين ناصية الواحد منهم، أي مقدم شعر رأسه وقدمه، ثم تدفعه في النار بقوة وشدة.
وقد بين جل وعلا أنهم أيضا يسحبون في النار على وجوههم في آيات من كتابه كقوله تعالى: * (يوم يسحبون فى النار على وجوههم ذوقوا مس سقر) *، وقوله تعالى: * (الذين كذبوا بالكتاب وبمآ أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون إذ الا غلال فى أعناقهم والسلاسل يسحبون فى الحميم ثم فى النار يسجرون) *.
وقوله: في هذه الآية الكريمة: يوم يدعون، بدل من قوله: يومئذ، في قوله تعالى قبله * (فويل يومئذ للمكذبين) *. قوله تعالى: * (اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سوآء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار معذبون في النار لا محالة، سواء صبروا أو لم يصبروا، فلا ينفعهم في ذلك صبر ولا جزع، وقد أوضح هذا المعنى في قوله: * (قالوا لو هدانا الله لهديناكم سوآء علينآ أجزعنآ أم صبرنا ما لنا من محيص) *.
453

قوله تعالى: * (كل امرىء بما كسب رهين) *. ظاهر هذه الآية الكريمة العموم في جميع الناس، وقد بين تعالى في آيات أخر أن أصحاب اليمين خارجون من هذا العموم، وذلك في قوله تعالى: * (كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين فى جنات يتسآءلون عن المجرمين) *.
ومن المعلوم أن التخصيص بيان، كما تقرر في الأصول. قوله تعالى: * (وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون) *. لم يذكر هنا شيء من صفات هذه الفاكهة ولا هذا اللحم إلا أنه مما يشتهون. وقد بين صفات هذه الفاكهة في مواضع أخر كقوله تعالى: * (وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة) * وبين أنها أنواع في مواضع أخر كقوله: * (ولهم فيها من كل الثمرات) * وقوله تعالى * (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هاذا الذى رزقنا من قبل وأتوا به متشابها) *. وقوله تعالى * (أولائك لهم رزق معلوم فواكه وهم مكرمون) * إلى غير ذلك من الآيات.
ووصف اللحم المذكور بأنه من الطير، والفاكهة بأنها مما يتخيرونه على غيره، وذلك في قوله * (وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون) *. قوله تعالى: * (يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم) *. قرأه ابن كثير وأبو عمرو: * (لا لغو) * بالبناء على الفتح، * (ولا تأثيم) * كذلك لأنها، لا، التي لنفي الجنس فبنيت معها، وهي إن كانت كذلك نص في العموم، وقرأه الباقون من السبعة * (لا لغو فيها ولا تأثيم) * بالرفع والتنوين. لأن لا النافية للجنس إذا تكررت كما هنا جاز إعمالها وإهمالها، والقراءتان في الآية فيهما المثال للوجهين: وإعمالها كثير، ومن شواهد إهمالها قراءة الجمهور في هذه الآية، وقول الشاعر: لا لغو فيها ولا تأثيم) * بالرفع والتنوين. لأن لا النافية للجنس إذا تكررت كما هنا جاز إعمالها وإهمالها، والقراءتان في الآية فيهما المثال للوجهين: وإعمالها كثير، ومن شواهد إهمالها قراءة الجمهور في هذه الآية، وقول الشاعر:
* وما هجرتك حتى قلت معلنة
* لا ناقة لي في هذا ولا جمل
*
وقوله: * (يتنازعون فيها كأسا) *: أي يتعاطون، ويتناول بعضهم من بعض كأسا أي خمرا، فالتنازع يطلق لغة على كل تعاط وتناول، فكل قوم يعطي بعضهم بعضا شيئا
454

ويناوله إياه، فهم يتنازعونه كتنازع كؤوس الشراب والكلام، وهذا المعنى معروف في كلام العرب.
ومنه في الشراب قول الأخطل: ومنه في الشراب قول الأخطل:
* وشارب مربح بالكأس نادمني
* لا بالحصور ولا فيها بسوار
*
* نازعته طيب الراح الشمول وقد
* صاح الدجاج وحانت وقعة السار
*
فقوله: نازعته طيب الراح: أي ناولته كؤوس الخمر وناولنيها، ومنه في الكلام قول امرئ القيس: فقوله: نازعته طيب الراح: أي ناولته كؤوس الخمر وناولنيها، ومنه في الكلام قول امرئ القيس:
* ولما تنازعنا الحديث وأسمحت
* هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
*
والكأس تطلق على إناء الخمر، ولا تكاد العرب تطلق الكأس إلا على الإناء المملوء، وهي مؤنثة، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (لا لغو فيها ولا تأثيم) * يعني أن خمر الجنة التي يتعاطاها المؤمنون، فيها مخالفة في جميع الصفات لخمر الدنيا، فخمر الآخرة لا لغو فيها، واللغو كل كلام ساقط لا خير فيه، فخمر الآخرة لا تحمل شاربيها على الكلام الخبيث والهذيان، لأنها لا تؤثر في عقولهم بخلاف خمر الدنيا، فإنهم إن يشربوها سكروا وطاشت عقولهم، فتكلموا بالكلام الخبيث والهذيان، وكل ذلك من اللغو.
والتأثيم: هو ما ينسب به فاعله إلى الإثم، فخمر الآخرة لا يأثم شاربها بشربها، لأنها مباحة له، فنعم بلذتها كما قال تعالى: * (وأنهار من خمر لذة للشاربين) * ولا تحمل شاربها على أن يفعل إثما بخلاف خمر الدنيا، فشاربها يأثم بشربها ويحمله السكر على الوقوع في المحرمات كالقتل والزنا والقذف.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من مخالفة خمر الآخرة لخمر الدنيا، جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى * (يطاف عليهم بكأس من معين بيضآء لذة للشاربين لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون) * وقوله * (لا فيها غول) *: أي ليس فيها غول يغتال العقول، فيذهبها كخمر الدنيا. * (ولا هم عنها ينزفون) *: أي لا يسكرون، وكقوله تعالى: * (يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من
455

معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون) *: وقوله * (لا يصدعون) * أي لا يصيبهم الصداع الذي هو وجع الرأس بسببها.
وقد أوضحنا معنى هذه الآيات في صفة خمر الآخرة، وبينا أنها مخالفة في جميع الصفات لخمر الدنيا. وذكرنا الشواهد العربية في ذلك في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى * (يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر) *: قوله تعالى: * (ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن أهل الجنة يطوف عليهم غلمان جمع غلام، أي خدم لهم، وقد قدمنا إطلاقات الغلام وشواهدها العربية في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى * (قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم) *.
ولم يبين هنا ما يطوفون عليهم به، وذكر هنا حسنهم بقوله * (كأنهم لؤلؤ مكنون) * في أصدافه، لأن ذلك أبلغ في صفائه وحسنه، وقيل: مكنون أي مخزون لنفاسته، لأن النفيس هو الذي يحزن ويكن.
وبين تعالى في الواقعة بعض ما يطوفون عليهم به في قوله * (يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين) *. وزاد في هذه الآية كونهم مخلدين، وذكر بعض ما يطاف عليهم به في قوله: * (يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب) *، وقوله تعالى: * (ويطاف عليهم بأانية من فضة وأكواب كانت قواريرا قواريرا من فضة قدروها تقديرا) *.
والظاهر أن الفاعل المحذوف في قوله: * (ويطاف عليهم) * في آية الزخرف والإنسان المذكورتين هو الغلمان المذكورون في الطور والواقعة، وذكر بعض صفات هؤلاء الغلمان في الإنسان في قوله تعالى: * (ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا) *.
* (قالوا إنا كنا قبل فى أهلنا مشفقين * فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم * إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم * فذكر فمآ أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون * أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون * قل تربصوا فإنى معكم من المتربصين * أم تأمرهم أحلامهم بهاذآ أم هم قوم طاغون * أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون * فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين * أم خلقوا من غير شىء أم هم الخالقون * أم خلقوا السماوات والا رض بل لا يوقنون * أم عندهم خزآئن ربك أم هم المسيطرون * أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين * أم له البنات ولكم البنون * أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون * أم عندهم الغيب فهم يكتبون * أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون * أم لهم إلاه غير الله سبحان الله عما يشركون * وإن يروا كسفا من السمآء ساقطا يقولوا سحاب مركوم * فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذى فيه يصعقون * يوم لا يغنى عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون * وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولاكن أكثرهم لا يعلمون * واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم * ومن اليل فسبحه وإدبار النجوم) * قوله تعالى: * (قالوا إنا كنا قبل فى أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن أهل الجنة يسأل بعضهم بعضا، وأن
456

المسؤول عنهم يقول للسائل: * (إنا كنا قبل) *، أي في دار الدنيا * (فى أهلنا مشفقين) * أي خائفين من عذاب الله، ونحن بين أهلنا أحياء فمن الله علينا أي أكرمنا، وتفضل علينا بسبب الخوف منه في دار الدنيا فهدانا، ووفقنا في الدنيا ووقانا في الآخرة عذاب السموم، والسموم النار ولفحها ووهجها، وأصله الريح الحارة التي تدخل المسام، والجمع سمائم. ومنه قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي: فى أهلنا مشفقين) * أي خائفين من عذاب الله، ونحن بين أهلنا أحياء فمن الله علينا أي أكرمنا، وتفضل علينا بسبب الخوف منه في دار الدنيا فهدانا، ووفقنا في الدنيا ووقانا في الآخرة عذاب السموم، والسموم النار ولفحها ووهجها، وأصله الريح الحارة التي تدخل المسام، والجمع سمائم. ومنه قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
* أنامل لم تضرب على البهم بالضحى
* بهن ووجه لم تلحه السمائم
*
وقد يطلق السموم على الريح الشديدة البرد، ومنه قول الراجز: وقد يطلق السموم على الريح الشديدة البرد، ومنه قول الراجز:
* اليوم يوم بارد سمومه
* من جزع اليوم فلا ألومه
*
الفاء في قوله: * (فمن الله علينا) *، تدل على أن علة ذلك هي الخوف من الله في دار الدنيا، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الإشفاق الذي هو الخوف الشديد من عذاب الله في دار الدنيا، سبب للسلامة منه في الآخرة، يفهم من دليل خطابه، أعني مفهوم مخالفته أن من لم يخف من عذاب الله في الدنيا لم ينج منه في الآخرة. وما تضمنته هذه الآية الكريمة بمنطوقها ومفهومها جاء موضحا في غير هذا الموضوع. فذكر تعالى أن السرور في الدنيا وعدم الخوف من الله سبب العذاب يوم القيامة، وذلك في قوله * (وأما من أوتى كتابه ورآء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا إنه كان فى أهله مسرورا إنه ظن أن لن يحور) *.
وقد تقرر في مسلك الإيماء والتنبيه أن إن المكسورة المشددة من حروف التعليل، فقوله: * (إنه كان فى أهله مسرورا) *، علة لقوله: * (فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا) *.
والمسرور في أهله في دار الدنيا ليس بمشقق ولا خائف، ويؤيد ذلك قوله بعده: * (إنه ظن أن لن يحور) *، لأن معناه، ظن ألن يرجع إلى الله حيا يوم القيامة، ولا شك أن من ظن أنه لا يبعث بعد الموت لا يكون مشفقا في أهله خوفا من العذاب، لأنه لا يؤمن بالحساب والجزاء، وكون لن يحور، بمعنى لن يرجع معروف في كلام العرب، ومنه قول مهلهل بن ربيعة التغلبي
457

: إنه ظن أن لن يحور) *، لأن معناه، ظن ألن يرجع إلى الله حيا يوم القيامة، ولا شك أن من ظن أنه لا يبعث بعد الموت لا يكون مشفقا في أهله خوفا من العذاب، لأنه لا يؤمن بالحساب والجزاء، وكون لن يحور، بمعنى لن يرجع معروف في كلام العرب، ومنه قول مهلهل بن ربيعة التغلبي:
* أليلتنا بذي حسم أنيري
* إذا أنت انقضيت فلا تحوري
*
فقوله: فلا تحوري، أي فلا ترجعي.
وقول لبيد بن ربيعة العامري: وقول لبيد بن ربيعة العامري:
* وما المرء إلا كالشهاب وضوئه
* يحور رمادا بعد ما هو ساطع
*
أي يرجع رمادا، وقيل: يصير، والمعنى واحد. وقوله تعالى: * (وأصحاب الشمال مآ أصحاب الشمال فى سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وكانوا يصرون على الحنث العظيم وكانوا يقولون أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمبعوثون) *، لأن تنعمهم في الدنيا المذكور في قوله * (مترفين) *، وإنكارهم للبعث المذكور في قوله * (أءذا متنا وكنا ترابا) * الآية. دليل على عدم إشفاقهم في الدنيا، وهو علة كونهم في سموم وحميم.
وقد قدمنا قريبا أن إن المكسورة المشددة من حروف التعليل، فقوله تعالى: * (إنهم كانوا قبل ذلك مترفين) *. علة لقوله * (فى سموم وحميم) *.
وقد ذكر جل وعلا أن الإشفاق من عذاب الله من أسباب دخول الجنة والنجاة من العذاب يوم القيامة، كما دل عليه منطوق آية الطور هذه، قال تعالى في المعارج * (والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون) * إلى قوله * (أولائك فى جنات مكرمون) *، وذكر ذلك من صفات أهل الجنة في قوله تعالى * (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون) * إلى قوله * (أولائك يسارعون فى الخيرات وهم لها سابقون) *، وقد قال تعالى: * (والسابقون السابقون * أولائك المقربون * فى جنات النعيم) *.
وقوله في آية الواقعة المذكورة: * (وكانوا يصرون على الحنث العظيم) *، أي يديمون ويعزمون على الذنب الكبير، كالشرك وإنكار البعث، وقيل المراد بالحنث: حنثهم في اليمين الفاجرة كما في قوله تعالى: * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت) *
458

. قوله تعالى: * (فذكر فمآ أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون) *. نفى الله جل وعلا عن نبيه صلى الله عليه وسلم في هاتين الآيتين الكريمتين ثلاث صفات قبيحة عن نبيه صلى الله عليه وسلم رماه بها الكفار، وهي الكهانة والجنون والشعر، أما دعواهم أنه كاهن أو مجنون، فقد نفاها صريحا بحرف النفي الذي هو ما في قوله: * (فمآ أنت) * وأكد النفي بالباء في قوله: * (بكاهن) * وأما كونه شاعرا فقد نفاه ضمنا بأم المنقطعة في قوله: * (أم يقولون
شاعر) *، لأنها تدل على الإضراب والإنكار المتضمن معنى النفي.
وقد جاءت آيات أخر بنفي هذه الصفات عنه صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى في نفي الجنون عنه في أول القلم: * (مآ أنت بنعمة ربك بمجنون) * وقوله في التكوير * (وما صاحبكم بمجنون) * وكقوله في نفي الصفتين الأخيرتين أعني الكهانة والشعر: * (وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون) *، وقد قدمنا بعض الكلام على هذا في سورة الشعراء وغيرها.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (نتربص به ريب المنون) * أي ننتظر به حوادث الدهر، حتى يحدث له منها الموت، فالمنون: الدهر، وريبه: حوادثه التي يطرأ فيها الهلاك والتغيير، والتحقيق أن الدهر هو المراد في قول أبي ذؤيب الهذلي: نتربص به ريب المنون) * أي ننتظر به حوادث الدهر، حتى يحدث له منها الموت، فالمنون: الدهر، وريبه: حوادثه التي يطرأ فيها الهلاك والتغيير، والتحقيق أن الدهر هو المراد في قول أبي ذؤيب الهذلي:
* أمن المنون وريبه تتوجع
* والدهر ليس بمعتب من يجزع
*
لأن الضمير في قوله: وريبه يدل على أن المنون الدهر، ومن ذلك أيضا قول الآخر: لأن الضمير في قوله: وريبه يدل على أن المنون الدهر، ومن ذلك أيضا قول الآخر:
* تربص بها ريب المنون لعلها
* تطلق يوما أو يموت حليلها
*
وقال بعض العلماء: المنون في الآية الموت، وإطلاق المنون على الموت معروف في كلام العرب، ومنه قول أبي الغول الطهوي: وقال بعض العلماء: المنون في الآية الموت، وإطلاق المنون على الموت معروف في كلام العرب، ومنه قول أبي الغول الطهوي:
* هم منعوا حمى الوقبي بضرب
* يؤلف بين أشتات المنون
*
لأن الذين ماتوا عند ذلك الماء المسمى بالوقبا، جاءوا من جهات مختلفة، فجمع الموت بينهم في محل واحد، ولو ماتوا في بلادهم لكانت مناياهم في بلاد شتى.
459

قوله تعالى: * (فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين) *. قد قدمنا أن الله تحداهم بسورة واحدة من هذا القرآن في سورة البقرة في قوله: * (فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهدآءكم من دون الله) *. وفي سورة يونس في قوله تعالى * (قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله) *.
وتحداهم في سورة هود بعشر سور منه في قوله: * (قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله) *.
وتحداهم في سورة الطور هذه به كله في قوله * (فليأتوا بحديث مثله) *.
وبين في سورة بني إسرائيل أنهم لا يقدرون على شيء من ذلك في قوله * (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هاذا القرءان لا يأتون بمثله) *.
وقد أطلق جل وعلا اسم الحديث على القرآن في قوله هنا: * (فليأتوا بحديث مثله) * كما أطلق عليه ذلك في قوله * (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها) *، وقوله تعالى * (ما كان حديثا يفترى ولاكن تصديق الذى بين يديه) *. قوله تعالى: * (أم خلقوا من غير شىء أم هم الخالقون) *. قد قدمنا الكلام عليه وعلى الآيات المشابهة له في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى * (أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمان عهدا) *. قوله تعالى: * (أم لهم سلم يستمعون فيه) *. قد قدمنا الكلام عليه وعلى الآيات المشابهة له في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى * (ولقد جعلنا فى السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها) *. قوله تعالى: * (أم له البنات ولكم البنون) *.
460

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: * (ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون) *، وفي مواضع أخر متعددة. قوله تعالى: * (أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له وما يتعلق بها من الأحكام في سورة هود في الكلام على قوله تعالى * (وياقوم لا أسألكم عليه مالا) *. قوله تعالى: * (وإن يروا كسفا من السمآء ساقطا يقولوا سحاب مركوم) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى * (ولو نزلنا عليك كتابا فى قرطاس فلمسوه بأيديهم) *، وفي غير ذلك من المواضع. قوله تعالى: * (يوم لا يغنى عنهم كيدهم شيئا) *. بين جل وعلا في هذه الآية أن كيد الكفار لا يغني عنهم شيئا في الآخرة في غير هذا الموضع، كقوله تعالى * (هاذا يوم الفصل جمعناكم والا ولين فإن كان لكم كيد فكيدون) *.
وبين أنه لا ينفعهم في الدنيا أيضا كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة * (أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون) * وقوله * (إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا) *، وقوله * (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملى لهم إن كيدى متين) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولاكن أكثرهم لا يعلمون) *. الظاهر أن قوله * (عذابا دون ذلك) * هو ما عذبوا به في دار الدنيا من القتل وغيره، كما دل على ذلك قوله * (ولنذيقنهم من العذاب الا دنى دون
العذاب الا كبر) *. وقوله تعالى * (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) * إلى غير ذلك من الآيات، ولا مانع من دخول عذاب القبر في ذلك، لأنه قد يدخل في ظاهر الآية، وما قيل في معنى الآية غير هذا لا يتجه عندي. والعلم عند الله تعالى.
461

((سورة النجم))
* (والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى * علمه شديد القوى * ذو مرة فاستوى * وهو بالا فق الا على * ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده مآ أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى * ولقد رءاه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى * لقد رأى من ءايات ربه الكبرى * أفرءيتم اللات والعزى * ومنواة الثالثة الا خرى * ألكم الذكر وله الا نثى * تلك إذا قسمة ضيزى * إن هى إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وءابآؤكم مآ أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الا نفس ولقد جآءهم من ربهم الهدى * أم للإنسان ما تمنى * فلله الا خرة والا ولى * وكم من ملك فى السماوات لا تغنى شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشآء ويرضى * إن الذين لا يؤمنون بالا خرة ليسمون الملائكة تسمية الا نثى * وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغنى من الحق شيئا * فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحيواة الدنيا * ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى * ولله ما فى السماوات وما فى الا رض ليجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى) * قوله تعالى: * (والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى) *. اختلف العلماء في المراد بهذا النجم الذي أقسم الله به في هذه الآية الكريمة، فقال بعضهم: المراد به النجم إذا رجمت به الشياطين، وقال بعضهم: إن المراد به الثريا، وهو مروي عن ابن عباس وغيره، ولفظة النجم علم للثريا بالغلبة، فلا تكاد العرب تطلق لفظ النجم مجردا إلا عليها، ومنه قول نابغة ذبيان: إن هو إلا وحى يوحى) *. اختلف العلماء في المراد بهذا النجم الذي أقسم الله به في هذه الآية الكريمة، فقال بعضهم: المراد به النجم إذا رجمت به الشياطين، وقال بعضهم: إن المراد به الثريا، وهو مروي عن ابن عباس وغيره، ولفظة النجم علم للثريا بالغلبة، فلا تكاد العرب تطلق لفظ النجم مجردا إلا عليها، ومنه قول نابغة ذبيان:
* أقول والنجم قد مالت أواخره
* إلى المغيب تثبت نظرة حار
*
فقوله: * (والنجم) *: يعني الثريا. وقوله تعالى * (إذا هوى) *: أي أسقط مع الصبح، وهذا اختيار ابن جرير. وقيل النجم: الزهرة، وقيل المراد بالنجم نجوم السماء، وعليه فهو من إطلاق المفرد وإرادة الجمع كقوله: * (ويولون الدبر) * يعني الأدبار. وقوله: * (وجآء ربك والملك صفا صفا) * أي والملائكة. وقوله: * (أولائك يجزون الغرفة بما صبروا) * أي الغرف.
وقد قدمنا أمثلة كثيرة لهذا في القرآن، وفي كلام العرب في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى: * (ثم نخرجكم طفلا) *، وإطلاق النجم مرادا به النجوم معروف في اللغة، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة: ثم نخرجكم طفلا) *، وإطلاق النجم مرادا به النجوم معروف في اللغة، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
* ثم قالوا تحبها قلت بهرا
* عدد النجم والحصى والتراب
*
وقول الراعي: وقول الراعي:
* فباتت تعد النجم في مستحيرة
* سريع بأيدي الآكلين جمودها
*
462

وعلى هذا القول، فمعنى هوى النجوم سقوطها إذا غربت أو انتثارها يوم القيامة. وقيل: النجم النبات الذي لا ساق له. وقال بعض أهل العلم: المراد بالنجم الجملة النازلة من القرآن، فإنه نزل على النبي صلى الله عليه وسلم أنجما منجما في ثلاث وعشرين سنة، وكل جملة منه وقت نزولها يصدق عليها اسم النجم صدقا عربيا صحيحا كما يطلق على ما حان وقته من الدية المنجمة على العاقلة، والكتابة المنجمة على العبد المكاتب.
وعلى هذا فقوله: * (إذا هوى) *، أي نزل به الملك من السماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله * (هوى) * يهوي هويا إذا اخترق الهوى نازلا من أعلا إلى أسفل.
اعلم أولا أن القول بأنه الثريا وأن المراد بالنجم خصوصها، وإن اختاره ابن جرير وروي عن ابن عباس وغير واحد، ليس بوجيه عندي.
والأظهر أن النجم يراد به النجوم. وإن قال ابن جرير بأنه لا يصح، والدليل على ذلك جمعه تعالى للنجوم في القسم في قوله تعالى: * (فلا أقسم بمواقع النجوم) *، لأن الظاهر أن المراد بالنجم إذا هوى هنا، كالمراد بمواقع النجوم في الواقعة.
وقد اختلف العلماء أيضا في المراد بمواقع النجوم فقال بعضهم: هي مساقطها إذا غابت. وقال بعضهم: انتثارها يوم القيامة. وقال بعضهم: منازلها في السماء، لأن
النازل في محل واقع فيه. وقال بعضهم: هي مواقع نجوم القرآن النازل بها الملك إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر الأقوال عندي وأقربها للصواب في نظري، أن المراد بالنجم إذا هوى هنا في هذه السورة، وبمواقع النجوم في الواقعة هو نجوم القرآن التي نزل بها الملك نجما فنجما، وذلك لأمرين أحدهما أن هذا الذي أقسم الله عليه بالنجم إذا هوى الذي هو أن النبي صلى الله عليه وسلم على حق وأنه ما ضل وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى موافق في المعنى لما أقسم عليه بمواقع النجوم، وهو قوله: * (إنه لقرءان كريم فى كتاب مكنون) * إلى قوله * (تنزيل من رب العالمين) *.
463

والإقسام بالقرآن على صحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صدق القرآن العظيم وأنه منزل من الله جاء موضحا في آيات من كتاب الله كقوله تعالى: * (يس والقرءان الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم) *. وقوله تعالى: * (حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون وإنه فى أم الكتاب لدينا لعلى حكيم) * وخير ما يفسر به القرآن القرآن.
والثاني: أن كون المقسم به المعبر بالنجوم، هو القرآن العظيم أنسب لقوله بعده: * (وإنه لقسم لو تعلمون عظيم) *، لأن هذا التعظيم من الله يدل على أن هذا المقسم به في غاية العظمة.
ولا شك أن القرآن الذي هو كلام الله أنسب لذلك من نجوم السماء ونجم الأرض. والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ما ضل صاحبكم وما غوى) *، قال بعض العلماء: الضلال يقع من الجهل بالحق، والغيي هو العدول عن الحق مع معرفته، أي ما جهل الحق وما عدل عنه، بل هو عالم بالحق متبع له.
وقد قدمنا إطلاقات الضلال في القرآن بشواهدها العربية في سورة الشعراء في الكلام على قوله تعالى: * (قال فعلتهآ إذا وأنا من الضآلين) * وفي سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى * (قل هل ننبئكم بالا خسرين أعمالا الذين ضل سعيهم) *.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كونه صلى الله عليه وسلم على هدى مستقيم، جاء موضحا في آيات كثيرة، من كتاب الله كقوله تعالى: * (فتوكل على الله إنك على الحق المبين) * وقوله تعالى * (فلا ينازعنك فى الا مر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم) * وقوله تعالى: * (وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم) *.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى: * (فاستمسك بالذى أوحى إليك إنك على صراط مستقيم) *. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (إن هو إلا وحى يوحى) * استدل به علماء
464

الأصول على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجتهد، والذين قالوا إنه قد يقع منه الاجتهاد، استدلوا بقوله تعالى: * (عفا الله عنك لم أذنت لهم) *. وقوله تعالى: * (ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن في الا رض) *. وقوله تعالى: * (ما كان للنبى والذين ءامنوا أن يستغفروا للمشركين) *.
قالوا: فلو لم يكن هذا عن اجتهاد، لما قال * (عفا الله عنك لم أذنت لهم) *. ولما قال: * (ما كان لنبى أن يكون له أسرى) *، ولا منافاة بين الآيات، لأن قوله: * (إن هو إلا وحى يوحى) * معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يبلغ عن الله إلا شيئا أوحى الله إليه أن يبلغه، فمن يقول: إنه شعر أو سحر أو كهانة، أو أساطير الأولين هو أكذب خلق الله وأكفرهم، ولا ينافي ذلك أنه أذن للمتخلفين عن غزوة تبوك، وأسر الأسارى يوم بدر، واستغفر لعمه أبي طالب من غير أن ينزل عليه وحي خاص في ذلك، وقد أوضحنا هذا في غير هذا الموضع. قوله تعالى: * (علمه شديد القوى) *. المراد بشديد القوى في هذه الآية: هو جبريل عليه السلام، والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم علمه هذا الوحي. ملك شديد القوى هو جبريل.
وهذه الآية الكريمة قد تضمنت أمرين:
أحدهما: أن هذا الوحي الذي من أعظمه هذا القرآن العظيم، علمه جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بأمر من الله.
والثاني: أن جبريل شديد القوة.
وهذان الأمران جاءا موضحين في غير هذا الموضع.
أما الأول منهما وهو كون جبريل نزل عليه بهذا الوحي وعلمه إياه، فقد جاء موضحا في آيات من كتاب الله كقوله تعالى: * (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) *. وقوله تعالى: * (وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الا مين على قلبك لتكون من المنذرين) *. وقوله تعالى: * (ولا تعجل بالقرءان من قبل إن يقضى إليك وحيه) *. وقوله تعالى: * (لا تحرك به لسانك لتعجل
465

به إن علينا جمعه وقرءانه فإذا قرأناه فاتبع قرءانه) * أي إذا قرأه عليك الملك المرسل به إليك منا مبلغا له عنا فاتبع قرآنه، أي اقرأ كما سمعته يقرأ.
وأما الأمر الثاني، وهو شدة قوة جبريل النازل بهذا الوحي، فقد ذكره في قوله: * (إنه لقول رسول كريم ذى قوة عند ذى العرش مكين) *. وقوله في آية التكوير هذه: * (لقول رسول) * أي لقوله المبلغ له عن الله، فقرينة ذكر الرسول تدل على أنه إنما يبلغ شيئا أرسل به، فالكلام كلام الله بألفاظه ومعانيه، وجبريل مبلغ عن الله، وبهذا الاعتبار نسب القول له. لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما سمعه إلا منه، فهو القول الذي أرسله الله به. وأمره بتبليغه، كما تدل عليه قرينة ذكر الرسول، وسيأتي إيضاح هذه المسألة إن شاء الله في سورة التكوير. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ما زاغ البصر وما طغى) *. قد قدمنا بعض الكلام عليه في أول سورة الإسراء. قوله تعالى: * (ألكم الذكر وله الا نثى تلك إذا قسمة ضيزى) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: * (
ويجعلون لله البنات) *، وفي مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك. قوله تعالى: * (فلله الا خرة والا ولى) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن له الآخرة والأولى وهي الدنيا، وبين هذا في غير هذا الموضع كقوله * (إن علينا للهدى وإن لنا للا خرة والا ولى) * وبين في موضع آخر أن له كل شيء، وذلك في قوله: * (إنمآ أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذى حرمها وله كل شىء) *، وهذا من المعلوم من الدين بالضرورة. قوله تعالى: * (وكم من ملك فى السماوات لا تغنى شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشآء ويرضى) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى:
466

* (واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة) *، وفي غير ذلك من المواضع. قوله تعالى: * (إن الذين لا يؤمنون بالا خرة ليسمون الملائكة تسمية الا نثى) *. وقد قدمنا الآيات الموضحة في سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى: * (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان إناثا) *، وفي غير ذلك من المواضع. قوله تعالى: * (ولله ما فى السماوات وما فى الا رض ليجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الأحقاف في الكلام على قوله تعالى * (ما خلقنا السماوات والا رض وما بينهمآ إلا بالحق وأجل مسمى) *، وفي سورة الذاريات في الكلام على قوله تعالى: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) *.
* (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الا رض وإذ أنتم أجنة فى بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى * أفرأيت الذى تولى * وأعطى قليلا وأكدى * أعنده علم الغيب فهو يرى * أم لم ينبأ بما فى صحف موسى * وإبراهيم الذى وفى * ألا تزر وازرة وزر أخرى * وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزاه الجزآء الأوفى * وأن إلى ربك المنتهى * وأنه هو أضحك وأبكى * وأنه هو أمات وأحيا * وأنه خلق الزوجين الذكر والا نثى * من نطفة إذا تمنى * وأن عليه النشأة الا خرى * وأنه هو أغنى وأقنى * وأنه هو رب الشعرى * وأنه أهلك عادا الا ولى * وثمود فمآ أبقى * وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى * والمؤتفكة أهوى * فغشاها ما غشى * فبأى آلاء ربك تتمارى * هاذا نذير من النذر الا ولى * أزفت الا زفة * ليس لها من دون الله كاشفة * أفمن هاذا الحديث تعجبون * وتضحكون ولا تبكون * وأنتم سامدون * فاسجدوا لله واعبدوا) * قوله تعالى: * (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة شورى في الكلام على قوله تعالى: * (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون) *. قوله تعالى: * (إذ أنشأكم من الا رض وإذ أنتم أجنة فى بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكى من يشآء) *، وفي غير ذلك من المواضع. قوله تعالى: * (أفرأيت الذى تولى وأعطى قليلا وأكدى أعنده علم الغيب فهو يرى أم لم ينبأ بما فى صحف موسى وإبراهيم الذى وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزآء الأوفى) *. قوله * (تولى) *: أي رجع وأدبر عن الحق. وقوله: * (وأعطى قليلا) *، قال بعضهم قليلا من المال. وقال بعضهم: أعطى قليلا من الكلام الطيب. وقوله: * (وأكدى) * أي قطع ذلك العطاء ولم يتمه، وأصله من أكدى صاحب الحفر. إذا انتهى في حفره إلى
467

صخرة لا يقدر على الحفر فيها، وأصله من الكدية وهي الحجارة تعترض حافر البئر ونحوه فتمنعه الحفر، وهذا الذي أعطى قليلا وأكدى، اختلف فيه العلماء، فقيل هو الوليد بن المغيرة قارب أن يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم فعيره بعض المشركين، فقال: أتركت دين الأشياخ وضللتهم؟ قال: إني خشيت عذاب الله، فضمن له الذي عاتبه إن هو أعطاه كذا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله، فرجع الوليد إلى الشرك وأعطى الذي عيره بعض ذلك المال الذي ضمن ومنعه ثمامة. فأنزل الله عز وجل الآية. وعلى هذا فقوله: * (تولى) *: أي الوليد عن الإسلام بعد أن قارب، وأعطى قليلا من المال للذي ضمن له أن يتحمل عنه ذنوبه. * (وأكدى) *: أي بخل عليه بالباقي، وقيل أعطى قليلا من الكلام الطيب كمدحه للقرآن، واعترافه بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، وأكدى أي انقطع عن ذلك ورجع عنه. وقيل: هو العاص بن وائل السهمي، كان ربما وافق النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور، وذلك هو معنى إعطائه القليل ثم انقطع عن ذلك، وهو معنى إكدائه، وهذا قول السدي ولم ينسجم مع قوله بعده: * (أعنده علم الغيب) *.
وعن محمد بن كعب القرظي أنه أبو جهل، قال: والله ما يأمرنا محمد صلى الله عليه وسلم إلا بمكارم الأخلاق، وذلك معنى إعطائه قليلا، وقطعه لذلك معروف.
واقتصر الزمخشري على أنه عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال: روي أن عثمان بن عفان كان يعطي ماله في الخير فقال له عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وهو أخوه من الرضاعة: يوشك ألا يبقى لك شيء. فقال عثمان: إن لي ذنوبا وخطايا، وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى، وأرجو عفوه، فقال عبد الله: أعطني ناقتك برحلها، وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها، فأعطاه وأشهد عليه، وأمسك عن العطاء فنزلت الآية.
ومعنى تولى ترك المركز يوم أحد، فعاد عثمان إلى أحسن من ذلك وأجمل. انتهى منه.
ولا يخفى سقوط هذا القول وبطلانه، وأنه غير لائق بمنصب أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة سبعة أمور:
468

الأول: إنكار علم الغيب المدلول عليه بالهمزة في قوله: * (أعنده علم الغيب) * والمراد نفي علمه للغيب.
الثاني: أن لكل من إبراهيم وموسى صحفا لم ينبأ بما فيها هذا الكافر.
الثالث: أن إبراهيم وفى أي أتم القيام بالتكاليف التي كلفه ربه بها.
الرابع: أن في تلك الصحف، أنه لا تزر وازرة وزر أخرى.
الخامس: أن فيها أيضا أنه ليس للإنسان إلا ما سعى.
السادس: أن سعيه سوف يرى.
السابع: أنه يجزاه جزاء الأوفى، أي الأكمل الأتم.
وهذه الأمور السبعة قد جاءت كلها موضحة في غير هذا الموضع.
أما الأول منها، وهو عدم علمهم الغيب، فقد ذكره تعالى في مواضع كثيرة كقوله تعالى: * (أم عندهم الغيب فهم يكتبون) *. وقوله: * (أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمان عهدا) *. وقوله: * (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) * * (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول) * الآية. وقوله تعالى: * (قل لا يعلم من فى السماوات والا رض الغيب إلا الله) * والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة، وقد قدمناها مرارا.
والثاني: الذي هو أن لإبراهيم وموسى صحفا لم يكن هذا المتولي المعطي قليلا المكدي عالما بها، ذكره تعالى في قوله: * (إن هاذا لفى الصحف الا ولى صحف إبراهيم وموسى) *.
والثالث: منها وهو إبراهيم وفي تكاليفه، فقد ذكره تعالى في قوله: * (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) *، وقد قدمنا أن الأصح في الكلمات التي ابتلى بها أنها التكاليف.
وأما الرابع منها: وهو أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، فقد ذكره تعالى في آيات من كتابه كقوله تعالى: * (وقال الذين كفروا للذين ءامنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم
469

بحاملين من خطاياهم من شىء إنهم لكاذبون) * وقوله تعالى * (ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شىء ولو كان ذا قربى) *.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا، والجواب عما يرد عليها من الإشكال، في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * وذكرنا وجه الجمع بين الآيات الواردة في ذلك في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: * (ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا سآء ما يزرون) *.
وأما الخامس منها: وهو أنه ليس للإنسان إلا ما سعى، فقد جاء موضحا في آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: * (إن أحسنتم أحسنتم لانفسكم وإن أسأتم فلها) *. وقوله: * (من عمل صالحا فلنفسه ومن أسآء فعليها) * وقوله: * (ومن عمل صالحا فلانفسهم يمهدون) * والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) * يدل على أن الإنسان لا يستحق أجرا إلا على سعيه بنفسه، ولم تتعرض هذه الآية لانتفاعه بسعي غيره بنفي ولا إثبات، لأن قوله: * (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) * قد دلت اللام فيه على أنه لا يستحق ولا يملك شيئا إلا بسعيه، ولم تتعرض لنفي الانتفاع بما ليس ملكا له ولا مستحقا له.
وقد جاءت آية من كتاب الله تدل على أن الإنسان قد ينتفع بسعي غيره وهي قوله تعالى: * (والذين ءامنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ومآ ألتناهم من عملهم من شىء) *.
وقد أوضحنا وجه الجمع بين قوله تعالى: * (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) * وبين قوله: * (والذين ءامنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان) *. في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في سورة النجم، وقلنا فيه ما نصه: والجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أن الآية إنما دلت على نفي ملك الإنسان لغير سعيه. ولم تدل على نفي انتفاعه بسعي غيره، لأنه لم يقل: وأن لن ينتفع الإنسان إلا بما سعى، وإنما قال وأن
470

ليس للإنسان، وبين الأمرين فرق ظاهر، لأن سعي الغير ملك لساعيه إن شاء بذله لغيره فانتفع به ذلك الغير، وإن شاء أبقاه لنفسه.
وقد أجمع العلماء على انتفاع الميت بالصلاة عليه والدعاء له والحج عنه ونحو ذلك مما ثبت الانتفاع بعمل الغير فيه.
الثاني: أن إيمان الذرية هو السبب الأكبر في رفع درجاتهم، إذ لو كانوا كفارا لما حصل لهم ذلك. فإيمان العبد وطاعته سعي منه في انتفاعه بعمل غيره من المسلمين، كما وقع في الصلاة في الجماعة، فإن صلاة بعضهم مع بعض يتضاعف بها الأجر زيادة على صلاته منفردا، وتلك المضاعفة انتفاع بعمل الغير سعى فيه المصلي بإيمانه وصلاته في الجماعة، وهذا الوجه يشير إليه قوله تعالى: * (واتبعتهم ذريتهم بإيمان) *.
الثالث: أن السعي الذي حصل به رفع درجات الأولاد ليس للأولاد كما هو نص قوله تعالى: * (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) * ولكن من سعي الآباء فهو سعي للآباء أقر الله عيونهم بسببه، بأن رفع إليهم أولادهم ليتمتعوا في الجنة برؤيتهم.
فالآية تصدق الأخرى ولا تنافيها، لأن المقصود بالرفع إكرام الآباء لا الأولاد، فانتفاع الأولاد تبع فهو بالنسبة إليهم تفضل من الله عليهم بما ليس لهم، كما تفضل بذلك على الولدان والحور العين، والخلق الذين ينشؤهم للجنة. والعلم عند الله تعالى. ا ه منه.
والأمر السادس والسابع: وهما أن عمله سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى، فقد جاءا موضحين في آيات كثيرة كقوله تعالى: * (والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولائك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم) *.
وقوله تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) *.
وقوله تعالى: * (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) *.
471

وقوله تعالى: * (ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) * والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (فهو يرى) * أي يعلم ذلك الغيب، والآية تدل على أن سبب النزول لا يخلو من إعطاء شيء في مقابلة تحمل الذنوب عمن أعطى لأن فاعل ذلك ليس عنده علم الغيب، فيعلم به أن الذي ضمن له تحمل ذنوبه بفعل ذلك، ولم ينبأ بما في الصحف الأولى، من أنه لا تزر وازرة وزر أخرى أي لا تتحمل نفس ذنب نفس أخرى.
وقد قدمنا تفسيره موضحا في سورة بني إسرائيل، وأنه لا يملك الإنسان ولا يستحق إلا سعي نفسه، وقد اتضح بذلك أنه لا يمكن أن يتحمل إنسان ذنوب غيره، وقد دلت على ذلك آيات كثيرة معلومة.
وقال أبو حيان في البحر: أفرأيت بمعنى أخبرني، والمفعول الأول هو الموصول وصلته. والمفعول الثاني هو جملة * (أعنده علم الغيب فهو يرى) *. قوله تعالى: * (وأنه خلق الزوجين الذكر والا نثى من نطفة إذا تمنى) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه خلق الزوجين أي النوعين الذكر والأنثى من نطفة، وهي نطفة المني إذا تمنى أي تصب وتراق في الرحم، على أصح القولين.
ويدل قوله تعالى: * (أفرءيتم ما تمنون أءنتم تخلقونه أم نحن الخالقون) * وقوله تعالى: * (ألم يك نطفة من منى يمنى) *.
والعرب تقول: أمنى الرجل ومني إذا أراق المني وصبه.
وقال بعض العلماء: * (من نطفة إذا تمنى) * أي تقدر بأن يكون الله قدر أن ينشأ منها حمل، من قول العرب: منى الماني إذا قدر. ومن هذا المعنى قول أبي قلابة الهذلي، وقيل سويد بن عامر المصطلقي: من نطفة إذا تمنى) * أي تقدر بأن يكون الله قدر أن ينشأ منها حمل، من قول العرب: منى الماني إذا قدر. ومن هذا المعنى قول أبي قلابة الهذلي، وقيل سويد بن عامر المصطلقي:
* لا تأمن الموت في حل وفي حرم
* إن المنايا توافي كل إنسان
*
* واسلك سبيلك فيها غير محتشم
* حتى تلاقي ما يمني لك الماني
*
472

وقد قدمنا الكلام على النطفة مستوفى من جهات في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: * (خلق الإنسان من نطفة) *. وفي سورة الحج في الكلام على قوله تعالى: * (ياأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث) *، وفي كل من الموضعين زيادة ليست في الآخر.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من الاستدلال بخلق النوعين، أعني الذكر والأنثى من النطفة جاء موضحا في غير هذا الموضع، وأنه يستدل به على أمرين: هما قدرة الله على البعث، وأنه ما خلق الإنسان إلا ليكلفه ويجازيه، وقد جمع الأمرين قوله تعالى: * (أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من منى يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والا نثى أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى) * فذكر دلالة ذلك على البعث في قوله: * (أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى) *، وذكر أنه ما خلقه ليهمله من التكليف والجزاء، منكرا على من ظن ذلك بقوله: * (أيحسب الإنسان أن يترك سدى) * أي مهملا من التكليف والجزاء.
وقد قدمنا بعض الكلام على هذا في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى: * (وهو الذى خلق من المآء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا) *. قوله تعالى: * (وأن عليه النشأة الا خرى) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له، وأحلنا عليها مرارا كثيرة. قوله تعالى: * (وأنه أهلك عادا الا ولى وثمود فمآ أبقى) *. وقد قدمنا الآيات الموضحة لما أهلك به عادا، والآيات الموضحة لما أهلك به ثمود في سورة فصلت في قوله تعالى في الكلام في شأن عاد: * (فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا) *. وقوله في شأن ثمود: * (فأخذتهم صاعقة العذاب الهون) *: قوله تعالى: * (وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى) *. قوله: * (وقوم نوح) * معطوف على قوله: * (وأنه أهلك عادا الا ولى) * أي وأهلك قوم نوح ولم يبين هنا كيفية إهلاكهم، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر من
473

كتابه كقوله تعالى: * (وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم) *.
وقوله تعالى: * (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون) *.
وقوله تعالى: * (ونصرناه من القوم الذين كذبوا بأاياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين) *.
وقوله تعالى: * (مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا) *.
وقوله تعالى: * (ولا تخاطبنى فى الذين ظلموا إنهم مغرقون) * والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون قوم نوح أظلم وأطغى، أي أشد ظلما وطغيانا من غيرهم، قد بينه تعالى في آيات أخر كقوله تعالى: * (قال رب إنى دعوت قومى ليلا ونهارا فلم يزدهم دعآئى إلا فرارا وإنى كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم فىءاذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا) *.
وقوله تعالى: * (قال نوح رب إنهم عصونى واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ومكروا مكرا كبارا) * إلى قوله * (وقد أضلوا كثيرا) *.
وقوله تعالى: * (إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) *.
وقوله: * (ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه) *.
ومن أعظم الأدلة على ذلك قوله تعالى: * (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) * لأن قوما لم يتأثروا بدعوة نبي كريم ناصح في هذا الزمن الطويل، لا شك أنهم أظلم الناس وأطغاهم. قوله تعالى: * (والمؤتفكة أهوى) *. المؤتفكة، مفتعلة من الإفك، وهو القلب والصرف، والمراد بها قرى قوم لوط بدليل قوله في غير هذا الموضع: * (والمؤتفكات) * بالجمع. فهو من إطلاق المفرد وإرادة الجمع كما أوضحناه مرارا، وأكثرنا من أمثلته في القرآن وفي كلام العرب
474

وأحلنا عليه مرارا، وإنما قيل لها: مؤتفكة، لأن جبريل أفكها فأتفكت، ومعنى أفكها أنه رفعها نحو السماء ثم قلبها جاعلا أعلاها أسفلها، وجعل عاليها أسفلها، هو ائتفاكها وإفكها.
وقد أوضح تعالى هذا المعنى في سورة هود في قوله تعالى: * (فلما جآء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة) *.
وقوله تعالى في سورة الحجر: * (فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل) *.
وقد بينا قصة قوم لوط في هود والحجر، وقوله في هذه الآية الكريمة: * (أهوى) *. تقول العرب: هوى الشيء إذا انحدر من عال إلى أسفل. وأهواه: غيره إذا ألقاه من العلو إلى السفل، لأن الملك رفع قراهم ثم أهواها أي ألقاها تهوى إلى الأرض، منقلبة أعلاها أسفلها. قوله تعالى: * (أزفت الا زفة) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة النحل في الكلام على قوله تعالى * (أتى أمر الله) *، وفي سورة المؤمن في قوله تعالى: * (وأنذرهم يوم الا زفة) *. قوله تعالى: * (أفمن هاذا الحديث تعجبون) *. قد قدمنا الآيات التي فيها إطلاق اسم الحديث على القرآن في سورة الطور. في الكلام على قوله تعالى: * (فليأتوا بحديث مثله) *.
475

((سورة القمر))
* (اقتربت الساعة وانشق القمر * وإن يروا ءاية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر * وكذبوا واتبعوا أهوآءهم وكل أمر مستقر * ولقد جآءهم من الا نبآء ما فيه مزدجر * حكمة بالغة فما تغنى النذر * فتول عنهم يوم يدعو الداع إلى شىء نكر * خشعا أبصارهم يخرجون من الا جداث كأنهم جراد منتشر * مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هاذا يوم عسر * كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر * فدعا ربه أنى مغلوب فانتصر * ففتحنآ أبواب السمآء بماء منهمر * وفجرنا الا رض عيونا فالتقى المآء على أمر قد قدر * وحملناه على ذات ألواح ودسر * تجرى بأعيننا جزآء لمن كان كفر * ولقد تركناها ءاية فهل من مدكر * فكيف كان عذابى ونذر * ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر * كذبت عاد فكيف كان عذابى ونذر * إنآ أرسلنا عليهم ريحا صرصرا فى يوم نحس مستمر * تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر * فكيف كان عذابى ونذر * ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر * كذبت ثمود بالنذر * فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنآ إذا لفى ضلال وسعر * أءلقى الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر * سيعلمون غدا من الكذاب الا شر) * قوله تعالى: * (اقتربت الساعة) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة النحل في الكلام على قوله تعالى * (أتى أمر الله) * وفي غير ذلك من المواضع. قوله تعالى: * (وإن يروا ءاية يعرضوا) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الأنعام، في الكلام على قوله تعالى * (ولو نزلنا عليك كتابا فى قرطاس فلمسوه بأيديهم) *. قوله تعالى: * (يخرجون من الا جداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداع) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يس في الكلام على قوله تعالى * (فإذا هم من الا جداث إلى ربهم ينسلون) * وفي سورة ق في الكلام على قوله تعالى * (يوم تشقق الا رض عنهم سراعا) *. قوله تعالى: * (يقول الكافرون هاذا يوم عسر) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الفرقان، في الكلام على قوله تعالى * (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) * وفي سورة الحج في الكلام على قوله تعالى * (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) *. قوله تعالى: * (فدعا ربه أنى مغلوب فانتصر ففتحنآ أبواب السمآء بماء منهمر وفجرنا الا رض عيونا فالتقى المآء على أمر قد قدر) *. قرأ هذا الحرف هذا عامر، * (ففتحنآ) * بتشديد التاء للتكثير، وباقي السبعة بتخفيفها.
وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن نبيه نوحا دعاه قائلا: إن قومه غلبوه
476

سائلا ربه أن ينتصر له منهم، وأن الله انتصر له منهم، فأهلكهم بالغرق، لأنه تعالى فتح أبواب السماء بماء منهمر أي متدفق منصب بكثرة وأنه تعالى فجر الأرض عيونا.
وقوله: * (عيونا) *، تمييز محول عن المفعول، والأصل فجرنا عيون الأرض. والتفجير: إخراج الماء منها بكثرة، وأل، في قوله: * (فالتقى المآء) * للجنس، ومعناه التقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قدر، أي قدره الله وقضاه.
وقيل: إن معناه أن الماء النازل من السماء والمتفجر من الأرض جعلهما الله بمقدار ليس أحدهما أكثر من الآخر، والأول أظهر.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من دعاء نوح ربه جل وعلا، أن ينتصر له، من قومه فينتقم منهم، وأن الله أجابه فانتصر له منهم فأهلكهم جميعا بالغرق في هذا الماء المتلقى من السماء والأرض، جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى في الأنبياء: * (ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ونصرناه من القوم الذين كذبوا بأاياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين) *.
وقوله تعالى في الصافات * (ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ونجيناه وأهله من الكرب العظيم إلى قوله * (ثم أغرقنا الا خرين) *.
وقد بين جل وعلا أن دعاء نوح فيه سؤاله الله أن يهلكهم إهلاكا مستأصلا، وتلك الآيات فيها بيان لقوله هنا: فانتصر وذلك كقوله تعالى * (وقال نوح رب لا تذر على الا رض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) * وما دعا نوح على قومه إلا بعد أن أوحى الله إليه أنه لا يؤمن منهم أحد غير القليل الذي آمن، وذلك في قوله تعالى * (وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد ءامن) *، وقد قال تعالى * (ومآ ءامن معه إلا قليل) *.
وقوله تعالى * (عيونا) * قرأه ابن كثير وابن عامر في رواية ابن ذكوان وعاصم، في رواية شعبة وحمزة والكسائي: * (عيونا) * بكسر العين لمجانسة الياء
وقرأه نافع وأبو عمرو وابن عامر في رواية هشام وعاصم في رواية حفص عيونا بضم العين على الأصل.
477

قوله تعالى: * (وحملناه على ذات ألواح ودسر) *. لم يبين هنا ذات الألواح والدسر، ولكنه بين في مواضع أخر أن المراد وحملناه على سفينة ذات ألواح، أي من الخشب ودسر: أي مسامير تربط بعض الخشب ببعض، وواحد الدسر دسار ككتاب وكتب، وعلى هذا القول أكثر المفسرين.
وقال بعض العلماء وبعض أهل اللغة: الدسور الخيوط التي تشد بها ألواح السفينة.
وقال بعض العلماء: الدستور جؤجؤ السفينة أي صدرها ومقدمها الذي تدسر به الماء أي تدفعه وتمخره به، قالوا: هو من الدسر وهو الدفع.
فمن الآيات الدالة على أن ذات الألواح والدسر السفينة. قوله تعالى * (إنا لما طغا المآء حملناكم فى الجارية) * أي السفينة كما أوضحناه في سورة شورى في الكلام على قوله تعالى * (ومن ءاياته الجوار فى البحر كالا علام) *. وقوله تعالى: * (فأنجيناه وأصحاب السفينة) * وقوله تعالى * (وءاية لهم أنا حملنا ذريتهم فى الفلك المشحون) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (ولقد تركناها ءاية فهل من مدكر) *. الضمير في قوله تعالى: * (تركناها) *، قال بعض العلماء إنه عائد إلى هذه الفعلة العظيمة التي فعل بقوم نوح.
والمعنى، ولقد تركنا فعلتنا بقوم نوح وإهلاكنا لهم آية لمن بعدهم، لينزجروا ويكفوا عن تكذيب الرسل، لئلا نفعل بهم مثل ما فعلنا بقوم نوح. وكون هذه الفعلة آية نص عليه تعالى بقوله * (وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس ءاية) * وقوله تعالى * (فأنجيناه ومن معه فى الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين إن فى ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين) *.
وقال بعض العلماء: الضمير في تركناها عائد إلى السفينة، وكون سفينة نوح آية بينه الله تعالى في آيات من كتابه كقوله تعالى * (فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناهآ ءاية للعالمين) * وقوله تعالى * (وءاية لهم أنا حملنا ذريتهم فى الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) *.
478

قوله تعالى: * (ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر) *. قد قدمنا إيضاحه في سورة القتال في كلامنا الطويل على قوله تعالى: * (أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوب أقفالهآ) *. قوله تعالى: * (إنآ أرسلنا عليهم ريحا صرصرا فى يوم نحس مستمر) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له، وكلام أهل العلم في يوم النحس المستمر، في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى * (فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا فى أيام نحسات) *. قوله تعالى: * (فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه) *. قوله تعالى: * (أءلقى الذكر عليه من بيننا) *. وقد قدمنا الآيات الموضحة لهما في الكلام على قوله تعالى: * (وعجبوا أن جآءهم م نذر منهم) * (ص: 4)، وقوله تعالى: * (أءنزل عليه الذكر من بيننا بل هم فى شك من ذكرى) *.
* (إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر * ونبئهم أن المآء قسمة بينهم كل شرب محتضر * فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر * فكيف كان عذابى ونذر * إنآ أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر * ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر * كذبت قوم لوط بالنذر * إنآ أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر * نعمة من عندنا كذلك نجزى من شكر * ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر * ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنآ أعينهم فذوقوا عذابى ونذر * ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر * فذوقوا عذابى ونذر * ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر * ولقد جآء ءال فرعون النذر * كذبوا بأاياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر * أكفاركم خير من أولائكم أم لكم برآءة فى الزبر * أم يقولون نحن جميع منتصر * سيهزم الجمع ويولون الدبر * بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر * إن المجرمين فى ضلال وسعر) * قوله تعالى: * (إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم) *. قوله: * (مرسلوا الناقة) *: أي مخرجوها من الهضبة، * (فتنة لهم) * أي ابتلاء واختبارا، وهو مفعول من أجله، لأنهم اقترحوا على صالح إخراج ناقة من صخرة، وأنها إن خرجت لهم منها آمنوا به واتبعوه، فأخرج الله الناقة من تلك الصخرة معجزة لصالح، وفتنة لهم أي ابتلاء واختبارا، وذلك أن تلك الناقة معجزة عاينوها، وأن الله حذرهم على لسان نبيه صالح من أن يمسوها بسوء وأنهم إن تعرضوا لها بأذى أخذهم الله بعذابه.
والمفسرون يقولون: إنهم قالوا له: إن أخرجت لنا من هذه الصخرة ناقة وبراء عشراء اتبعناك.
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الله أرسل لهم هذه الناقة امتحانا واختبارا، وأنهم إن تعرضوا لآية الله هذه، التي هي الناقة بسوء أهلكهم، جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى في سورة الأعراف: * (قد جآءتكم بينة من ربكم هاذه ناقة الله
479

لكم ءاية فذروها تأكل فى أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم) *، وقوله تعالى في سورة هود عن صالح * (وياقوم هاذه ناقة الله لكم ءاية فذروها تأكل فى أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب فعقروها فقال تمتعوا فى داركم ثلاثة أيام ذالك وعد غير مكذوب) *، وقوله تعالى في الشعراء: * (قال هاذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم) *.
وقد بين تعالى: أنهم عقروا الناقة فجاءهم العذاب المستأصل في آيات من كتابه كقوله تعالى في الأعراف: * (فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم) * إلى قوله * (
فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين) *، وقوله تعالى: * (فعقروها فأصبحوا نادمين فأخذهم العذاب) *، وقوله * (فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم) *.
وقد أوضحنا هذا غاية الإيضاح في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى: * (فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون) *. قوله تعالى: * (ونبئهم أن المآء قسمة بينهم كل شرب محتضر) *. قوله تعالى * (ونبئهم أن المآء قسمة بينهم كل شرب محتضر) *. أي أخبر يا صالح ثمود أن الماء وهو ماء البئر التي كانت تشرب منها الناقة قسمة بينهم، فيوم للناقة ويوم لثمود، فقوله: * (بينهم) *: أي بين الناقة وثمود، وغلب العقلاء على الناقة * (كل شرب محتضر) * أي يحضره صاحبه، فتحضر الناقة شرب يومها وتحضر ثمود شرب يومها.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آية أخرى وهي قوله تعالى في الشعراء * (قال هاذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم) * وشرب الناقة هو الذي حذرهم منه صالح لئلا يتعرضوا له في قوله تعالى: * (فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها) *. قوله تعالى: * (فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر) *. قوله: * (فتعاطى) *، قال أبو حيان في البحر: فتعاطى هو مطاوع عاطا، وكأن
480

هذه الفعلة تدافعها الناس وعاطاها بعضهم بعضا، فتعاطاها قدار وتناول العقر بيده. انتهى محل الغرض منه.
والعرب تقول: تعاطى كذا إذا فعله أو تناوله، وعاطاه إذا تناوله، ومنه قول حسان رضي الله عنه: والعرب تقول: تعاطى كذا إذا فعله أو تناوله، وعاطاه إذا تناوله، ومنه قول حسان رضي الله عنه:
* كلتاهما حلب العصير فعاطني
* بزجاجة أرخاهما للمفصل
*
وقوله: * (فعقر) * أي تعاطى عقر الناقة فعقرها، فمفعولا الفعلين محذوفان تقديرهما كما ذكرنا، وعبر عن عاقر الناقة هنا بأنه صاحبهم، وعبر عنه في الشمس بأنه أشقاهم وذلك في قوله * (إذ انبعث أشقاها) *.
وهذه الآية الكريمة تشير إلى إزالة إشكال معروف في الآية، وإيضاح ذلك أن الله تعالى فيها نسب العقر لواحد لا لجماعة، لأنه نال: فتعاطى فعقر، بالإفراد مع أنه أسند عقر الناقة في آيات أخر إلى ثمود كلهم كقوله في سورة الأعراف: * (فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم) *، وقوله تعالى في هود * (فعقروها فقال تمتعوا فى داركم ثلاثة أيام) * وقوله في الشعراء: * (فعقروها فأصبحوا نادمين) *، وقوله في الشمس: * (فكذبوه فعقروها) *.
ووجه إشارة الآية إلى إزالة هذا الإشكال هو أن قوله تعالى * (فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر) * يدل على أن ثمود اتفقوا كلهم على عقر الناقة، فنادوا واحدا منهم لينفذ ما اتفقوا عليه، أصالة عن نفسه ونيابه عن غيره. ومعلوم أن المتمالئين على العقر كلهم عاقرون، وصحت نسبة العقر إلى المنفذ المباشر للعقر، وصحت نسبته أيضا إلى الجميع، لأنهم متمالئون كما دل عليه ترتيب تعاطي العقر بالفاء في قوله: فتعاطا فعقر على ندائهم صاحبهم لينوب عنهم في مباشرة العقر في قوله تعالى: * (فنادوا صاحبهم) * أي نادوه ليعقرها.
وجمع بعض العلماء بين هذه الآيات بوجه آخر، وهو أن إطلاق المجموع مرادا به بعضه أسلوب عربي مشهور، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب.
وقد قدمنا في سورة الحجرات أن منه قراءة حمزة في قوله تعالى: * (فإن قاتلوكم
481

فاقتلوهم) * بصيغة المجرد في الفعلين، لأن من قتل ومات لا يمكن أن يؤمر بقتل قاتله، بل المراد في إن قتلوا بعضكم فليقتلهم بعضكم الآخر، ونظيره قول ابن مطيع: فإن قاتلوكم فاقتلوهم) * بصيغة المجرد في الفعلين، لأن من قتل ومات لا يمكن أن يؤمر بقتل قاتله، بل المراد في إن قتلوا بعضكم فليقتلهم بعضكم الآخر، ونظيره قول ابن مطيع:
* فإن تقتلونا عند حرة وأقم
* فإنا على الإسلام أول من قتل
*
أي فإن تقتلوا بعضنا، وأن منه أيضا: * (قالت الا عراب ءامنا قل لم تؤمنوا) * لأن هذا في بعضهم دون بعض. بدليل قوله تعالى: * (ومن الا عراب من يؤمن بالله واليوم الا خر) * إلى قوله * (سيدخلهم الله فى رحمته إن الله غفور رحيم) *.
وقد قدمنا في الحجرات وغيرها، أن من أصرح الشواهد العربية في ذلك قول الشاعر: وقد قدمنا في الحجرات وغيرها، أن من أصرح الشواهد العربية في ذلك قول الشاعر:
* فسيف بني عبس وقد ضربوا به
* نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد
*
وقوله تعالى: * (فعقر) *: أي قتلها. والعرب تطلق العقر على القتل والنحر والجرح ومنه قول امرئ القيس: فعقر) *: أي قتلها. والعرب تطلق العقر على القتل والنحر والجرح ومنه قول امرئ القيس:
* تقول وقد مال الغبيط بنا معا
* عقرت بعيري يامرأ القيس فانزل
*
ومن إطلاق العقر على نحر الإبل لقري الضيف قول جرير: ومن إطلاق العقر على نحر الإبل لقري الضيف قول جرير:
* تعدون عقر الذيب أفضل مجدكم
* بني ضوطرا لولا الكمي المقنعا
* إنآ أرسلنا عليهم صيحة واحدة) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة فصلت، في الكلام على قوله تعالى * (فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون) *. قوله تعالى: * (إنآ أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر) *. قوله: * (إنآ أرسلنا عليهم حاصبا) *: قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى: * (ولقد أتوا على القرية التى أمطرت مطر السوء) *، وقوله: * (إلا آل لوط نجيناهم بسحر) * قد قدمنا الآيات الموضحة له إيضاحا شافيا بكثرة.
482

وقد تضمنت إيضاح قصة لوط وقومه في سورة هود وسورة الحجر في الكلام على القصة المذكورة في السورتين. قوله تعالى: * (ولقد جآء ءال فرعون النذر كذبوا بأاياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر) *. تضمنت هاتان الآيتان ثلاثة أمور:
الأول: أن آل فرعون جاءتهم النذر.
الثاني: أنهم كذبوا بآيات الله.
الثالث: أن الله أخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وهذه الأمور الثلاثة المذكورة هنا جاءت موضحة في آيات أخر من كتاب الله، أما الأول منها وهو أن آل فرعون وقومه جاءهم النذر، فقد أوضحه تعالى في آيات كثيرة من كتابه.
اعلم أولا أن قوله * (جآء ءال فرعون النذر) *، قيل: هو جمع نذير وهو الرسول. وقيل هو مصدر بمعنى الإنذار فعلي أنه مصدر.
فقد بينت الآيات القرآنية بكثرة أن الذي جاءهم بذلك الإنذار هو موسى وهارون، وعلى أنه جمع نذير أي منذر، فالمراد به موسى وهارون، وقد جاء في آيات كثيرة إرسال موسى وهارون لفرعون كقوله تعالى في طه * (فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بنى إسراءيل ولا تعذبهم قد جئناك بأاية من ربك) *.
ثم بين تعالى إنذارهما له في قوله * (إنا قد أوحى إلينآ أن العذاب على من كذب وتولى) * ونحوها من الآيات، وفي هذه الآية سؤال معروف، وهو أن الله تبارك وتعالى أرسل لفرعون نبيين هما موسى وهارون، كما قال تعالى: * (فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين) * وهنا جمع النذر في قوله * (ولقد جآء ءال فرعون النذر) *، وللعلماء عن هذا أجوبة. أحدها أن أقل الجمع اثنان كما هو المقرر في أصول مالك بن أنس رحمه الله، وعقده صاحب مراقي السعود بقوله: ولقد جآء ءال فرعون النذر) *، وللعلماء عن هذا أجوبة. أحدها أن أقل الجمع اثنان كما هو المقرر في أصول مالك بن أنس رحمه الله، وعقده صاحب مراقي السعود بقوله:
* أقل معنى الجمع في المشتهر
* لاثنان في رأي الإمام الحمير
*
483

قالوا، ومنه قوله تعالى: * (فقد صغت قلوبكما) * ولهما قلبان فقط وقوله: * (فإن كان له إخوة فلا مه السدس) * والمراد بالإخوة اثنان فصاعدا كما عليه الصحابة فمن بعدهم خلافا لابن عباس، وقوله * (وأطراف النهار) * وله طرفان. ومنها ما ذكره الزمخشري وغيره من أن المراد بالنذر موسى وهارون وغيرهما من الأنبياء، لأنهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون. ومنها أن النذر مصدر بمعنى الإنذار.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: التحقيق في الجواب، أن من كذب رسولا واحدا فقد كذب جميع المرسلين، ومن كذب نذيرا واحدا فقد كذب جميع النذر، لأن أصل دعوة جميع الرسل واحدة، وهي مضمون لا إله إلا الله كما أوضحه تعالى بقوله: * (ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) * وقوله تعالى: * (ومآ أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إلاه إلا أنا فاعبدون) *. وقوله تعالى: * (واسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنآ أجعلنا من دون الرحمان ءالهة يعبدون) *.
وأوضح تعالى أن من كذب بعضهم فقد كذب جميع في قوله تعالى: * (ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذالك سبيلا أولائك هم الكافرون حقا) *، وأشار إلى ذلك في قوله: * (لا نفرق بين أحد من رسله) *. وقوله * (لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) *. وقوله تعالى: * (والذين ءامنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولائك سوف يؤتيهم أجورهم) *.
وقد أوضح تعالى في سورة الشعراء أن تكذيب رسول واحد تكذيب لجميع الرسل، وذلك في قوله: * (كذبت قوم نوح المرسلين) * ثم بين أن تكذيبهم للمرسلين إنما وقع بتكذيبهم نوحا وحده، حيث فرد ذلك بقوله: * (إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون) * إلى قوله * (قال رب إن قومى كذبون) * وقوله تعالى: * (كذبت عاد المرسلين) *، ثم بين أن ذلك بتكذيب هود وحده، حيث فرده بقوله: * (إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون) * ونحو ذلك. في قوله تعالى في
484

قصة صالح وقومه، ولوط وقومه، وشعيب وأصحاب الأيكة، كما هو معلوم، وهو واضح لا خفاء فيه، ويزيده إيضاحا قوله صلى الله عليه وسلم (إنا معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد) يعني أنهم كلهم متفقون في الأصول وإن اختلفت شرائعهم في بعض الفروع.
وأما الأمر الثاني: وهو كون فرعون وقومه كذبوا بآيات الله، فقد جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى: * (وقالوا مهما تأتنا به من ءاية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين) *، وقوله تعالى: * (ولقد أريناه ءاياتنا كلها فكذب وأبى) *. وقوله تعالى: * (فأراه الا ية الكبرى فكذب وعصى) *. وقوله تعالى: * (وأدخل يدك فى جيبك تخرج بيضآء من غير سوء فى تسع ءايات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما جآءتهم ءاياتنا مبصرة قالوا هاذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتهآ أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) *.
وأما الأمر الثالث وهو قوله تعالى * (فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر) *، فقد جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى: * (وفى موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين) * إلى قوله * (فأخذناه وجنوده فنبذناهم فى اليم وهو مليم) * وقوله تعالى: * (فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم) * وقوله تعالى: * (وأغرقنا ءال فرعون وأنتم تنظرون) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله: * (أخذ عزيز مقتدر) * يوضحه قوله تعالى * (وكذالك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهى ظالمة إن أخذه أليم شديد) *.
وقد روى الشيخان في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. ثم تلى قوله تعالى * (وكذالك أخذ ربك إذا أخذ القرى) *)، والعزيز الغالب، والمقتدر: شديد القدرة عظيمها. قوله تعالى: * (أكفاركم خير من أولائكم) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الزخرف، في الكلام على قوله تعالى * (فأهلكنآ أشد منهم بطشا) *، وفي صدر سورة الروم، وغير ذلك من المواضع.
485

* (يوم يسحبون فى النار على وجوههم ذوقوا مس سقر * إنا كل شىء خلقناه بقدر * ومآ أمرنآ إلا واحدة كلمح بالبصر * ولقد أهلكنآ أشياعكم فهل من مدكر * وكل شىء فعلوه فى الزبر * وكل صغير وكبير مستطر * إن المتقين فى جنات ونهر * فى مقعد صدق عند مليك مقتدر) * قوله تعالى: * (يوم يسحبون فى النار على وجوههم ذوقوا مس سقر) *. قد قدمنا الكلام عليه في سورة الطور في الكلام على قوله تعالى * (يوم يدعون إلى نار جهنم دعا) *. قوله تعالى: * (إنا كل شىء خلقناه بقدر) *. قد قدمنا الكلام عليه في سورة الزخرف في بعض المناقشات التي ذكرناها في الكلام على قوله تعالى * (قل إن كان للرحمان ولد فأنا أول العابدين) *. قوله تعالى: * (وكل شىء فعلوه فى الزبر * وكل صغير وكبير مستطر) *. الصحيح في معنى الآية أن كل شيء فعله الناس مكتوب عليهم في الزبر، التي هي صحف الأعمال، * (وكل صغير وكبير مستطر) *، أي مكتوب عليهم لا يترك منه شيء.
وهذا المعنى جاء موضحا في آيات من كتاب الله كقوله تعالى: * (ويقولون ياويلتنا ما لهاذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا) * وقوله تعالى * (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا) *.
والزبر: جمع زبور، وهو الكتاب. والمستطر معناه المسطور، أي المكتوب، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة. قوله تعالى: * (إن المتقين فى جنات ونهر) *. أي في جنات وأنهار كما أوضح تعالى ذلك في قوله * (تجرى من تحتها الأنهار) *، وقوله تعالى * (فيهآ أنهار من مآء غير ءاسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى) *.
وقد ذكرنا كثيرا من أمثلة إطلاق المفرد، وإرادة الجمع كما هنا في القرآن العظيم، مع تنكير المفرد وتعريفه، وإضافته، وأكثرنا أيضا من الشواهد العربية على ذلك في سورة
486

الحج في الكلام على قوله تعالى * (ثم نخرجكم طفلا) *، وفي غير ذلك من المواضع. والعلم عند الله تعالى.
487

((سورة الرحمان))
* (الرحمان * علم القرءان * خلق الإنسان * علمه البيان * الشمس والقمر بحسبان * والنجم والشجر يسجدان * والسمآء رفعها ووضع الميزان * ألا تطغوا فى الميزان) * قوله تعالى: * (الرحمان علم القرءان) *. قال بعض أهل العلم: نزلت هذه الآية لما تجاهل الكفار الرحمن جل وعلا، كما ذكره الله عنهم في قوله تعالى * (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان) * كما تقدم في الفرقان.
وقد قدمنا معنى الرحمن وأدلته من الآيات في أول سورة الفاتحة. قوله تعالى: * (علم القرءان) *. أي علم نبيه صلى الله عليه وسلم القرآن فتلقته أمته عنه، وهذه الآية الكريمة تتضمن رد الله على الكفار في قولهم إنه تعلم هذا القرآن من بشر كما تقدم في قوله: * (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر) *، وقوله تعالى * (فقال إن هاذآ إلا سحر يؤثر) * أي يرويه محمد عن غيره.
وقوله تعالى * (وقال الذين كفروا إن هاذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم ءاخرون فقد جآءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الا ولين اكتتبها فهى تملى عليه بكرة وأصيلا) *.
فقوله تعالى هنا * (الرحمان علم القرءان) * أي ليس الأمر كما ذكرتم من أنه تعلم القرآن من بشر، بل الرحمان جل وعلا هو الذي علمه إياه، والآيات الدالة على هذا كثيرة جدا، كقوله تعالى * (قل أنزله الذى يعلم السر فى السماوات والا رض) *، وقوله تعالى * (الر كتاب أحكمت ءاياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) *، وقوله تعالى * (حم تنزيل من الرحمان الرحيم كتاب فصلت ءاياته قرءانا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا) * وقوله تعالى * (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على
488

علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون) * وقوله تعالى * (وكذالك أنزلناه قرءانا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا) *. وقوله تعالى: * (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا) * وقوله تعالى * (إن علينا جمعه وقرءانه فإذا قرأناه فاتبع قرءانه ثم إن علينا بيانه) * وقوله تعالى * (وكذلك أوحينآ إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولاكن جعلناه نورا نهدى به من نشآء من عبادنا) * وقوله تعالى * (نحن نقص عليك أحسن القصص بمآ أوحينآ إليك هاذا القرءان وإن كنت من قبله لمن الغافلين) *. وقوله تعالى * (وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) * ومن أعظم ذلك هذا القرآن العظيم.
وقوله تعالى * (شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) *.
وتعليمه جل وعلا هذا القرآن العظيم، قد بين في مواضع أخر أنه من أعظم نعمه كما قال تعالى * (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) * إلى قوله تعالى * (ذلك هو الفضل الكبير) *.
وقد علم الله تعالى الناس أن يحمدوه على هذه النعمة العظمى التي هي إنزال القرآن، وذلك في قوله تعالى * (الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا) *، وبين أن إنزاله رحمة منه لخلقه جل وعلا في آيات من كتابه كقوله تعالى * (وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك) * وقوله * (إنا كنا مرسلين رحمة من ربك) * وقد بينا الآيات الموضحة لذلك في الكهف والزخرف.
* (علم القرءان) * حذف في أحد المفعولين، والتحقيق أن المحذوف هو الأول لا الثاني، كما ظنه الفخر الرازي، وقد رده عليه أبو حيان، والصواب هو ما ذكره، من أن المحذوف الأول، وتقديره: علم النبي صلى الله عليه وسلم وقيل جبريل، وقيل الإنسان. قوله تعالى: * (خلق الإنسان علمه البيان) *. اعلم أولا أن خلق الإنسان وتعليمه البيان من أعظم آيات الله الباهرة، كما أشار تعالى لذلك بقوله، في أول النحل: * (خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين) *،
489

وقوله: في آخر يس * (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم م بين) *.
فالإنسان بالأمس نطفة واليوم هو في غاية البيان وشدة الخصام يجادل في ربه وينكر قدرته على البعث، فالمنافاة العظيمة التي بين النطفة وبين الإبانة في الخصام، مع أن خلقه من نطفة وجعله خصيما مبينا آية من آياته جل وعلا دالة على أن المعبود وحده، وأن البعث من القبور حق.
وقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة * (خلق الإنسان) * لم يبين هنا أطوار خلقه للإنسان، ولكنه بينها في آيات أخر كقوله تعالى في الفلاح * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا ءاخر فتبارك الله أحسن الخالقين) *.
والآيات المبينة أطوار خلق الإنسان كثيرة معلومة.
وقد بينا ما يتعلق بالإنسان من الأحكام في جميع أطواره قبل ولادته في أول سورة الحج في الكلام على قوله تعالى * (ياأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب) *، وبينا هناك معنى النطفة والعلقة والمضغة في اللغة.
وقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة * (علمه البيان) * التحقيق فيه أن المراد بالبيان الإفصاح عما في الضمير.
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أنه علم الإنسان البيان قد جاء موضحا في قوله تعالى * (فإذا هو خصيم مبين) * في سورة النحل ويس، وقوله * (مبين) * على أنه اسم فاعل أبان المتعدية، والمفعول محذوف للتعميم، أي مبين كل ما يريد بيانه، وإظهاره بلسانه مما في ضميره، وذلك لأنه ربه علمه البيان، وعلى أنه صفة مشبهة من أبان اللازمة، وأن المعنى فإذا هو خصيم مبين أي بين الخصومة ظاهرها، فكذلك أيضا، لأنه ما كان بين الخصومة إلا لأن الله علمه البيان.
وقد امتن الله جل وعلا على الإنسان بأنه جعل له آلة البيان التي هي اللسان والشفتان، وذلك في قوله تعالى * (ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين) *.
490

قوله تعالى: * (الشمس والقمر بحسبان) *. الحسبان: مصدر زيدت فيه الألف والنون، كما زيدت في الطغيان والرجحان والكفران، فمعنى بحسبان أي بحساب وتقدير من العزيز العليم وذلك من آيات الله ونعمه أيضا على بني آدم، لأنهم يعرفون به الشهور والسنين والأيام، ويعرفون شهر الصوم وأشهر الحج ويوم الجمعة وعدد النساء اللاتي تعتد بالشهور، كاليائسة والصغيرة والمتوفى عنها.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى * (هو الذى جعل الشمس ضيآء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذالك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون) *.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: * (فمحونآ ءاية اليل وجعلنآ ءاية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب) *. قوله تعالى: * (والنجم والشجر يسجدان) *. اختلف العلماء في المراد بالنجم في هذه الآية، فقال بعض العلماء: النجم هو ما لا ساق له من النبات كالبقول، والشجر هو ما له ساق، وقال بعض أهل العلم: المراد بالنجم نجوم السماء. قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي صوابه أن المراد بالنجم هو نجوم السماء، والدليل على ذلك أن الله جل وعلا في سورة الحج صرح بسجود نجوم السماء والشجر، ولم يذكر في آية من كتابه سجود ما ليس له ساق من النبات
بخصوصه. ونعني بآية الحج قوله تعالى * (ألم تر أن الله يسجد له من فى السماوات ومن فى الا رض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر) *.
فدلت هذه الآية أن الساجد من الشجر في آية الرحمن هو النجوم السماوية المذكورة مع الشمس والقمر في سورة الحج، وخير ما يفسر به القرآن القرآن، وعلى هذا الذي اخترناه، فالمراد بالنجم النجوم، وقد قدمنا الكلام عليه في أول سورة النجم
491

وأول سورة الحج، وذكرنا أن من الشواهد العربية لإطلاق النجم وإرادة النجم قول الراعي: فدلت هذه الآية أن الساجد من الشجر في آية الرحمن هو النجوم السماوية المذكورة مع الشمس والقمر في سورة الحج، وخير ما يفسر به القرآن القرآن، وعلى هذا الذي اخترناه، فالمراد بالنجم النجوم، وقد قدمنا الكلام عليه في أول سورة النجم وأول سورة الحج، وذكرنا أن من الشواهد العربية لإطلاق النجم وإرادة النجم قول الراعي:
* فباتت تعد النجم في مستحيرة
* سريع بأيدي الآكلين جمودها
*
وقول عمرو بن أبي ربيعة المخزومي: وقول عمرو بن أبي ربيعة المخزومي:
* أبرزها مثل المهاة تهادى
* بين خمس كواعب أتراب
*
* ثم قالوا تحبها قلت بهرا
* عدد النجم والحصا والتراب
*
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (يسجدان) * قد قدمنا الكلام عليه مستوفى في سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى: * (ولله يسجد من فى السماوات والا رض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والا صال) *. قوله تعالى: * (والسمآء رفعها ووضع الميزان) *. قوله: والسماء رفعها قد بينا الآيات الموضحة له في سورة ق في الكلام على قوله تعالى: * (أفلم ينظروا إلى السمآء فوقهم كيف بنيناها) *.
وقوله: * (ووضع الميزان) *، قد قدمنا الكلام عليه في سورة شورى في الكلام على قوله تعالى: * (الله الذى أنزل الكتاب بالحق والميزان) *.
* (وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان * والا رض وضعها للا نام * فيها فاكهة والنخل ذات الا كمام * والحب ذو العصف والريحان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * خلق الإنسان من صلصال كالفخار * وخلق الجآن من مارج من نار * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * رب المشرقين ورب المغربين * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * وله الجوار المنشئات فى البحر كالا علام * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * يسأله من فى السماوات والا رض كل يوم هو فى شأن * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * سنفرغ لكم أيها الثقلان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * يامعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والا رض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * فإذا انشقت السمآء فكانت وردة كالدهان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جآن * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصى والا قدام * فبأى ءالاء ربكما تكذبان) * قوله تعالى: * (وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: * (وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها) *، وذكرنا بعضه في سورة شورى. قوله تعالى: * (والا رض وضعها للا نام فيها فاكهة والنخل ذات الا كمام والحب ذو العصف والريحان) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية أنه وضع الأرض للأنام وهو الخلق، لأن وضع الأرض لهم على هذا الشكل العظيم، القابل لجميع أنواع الانتفاع من إجراء الأنهار وحفر الآبار وزرع الحبوب والثمار، ودفن الأموات وغير ذلك من أنواع المنافع. من أعظم الآيات
492

وأكبر الآلاء التي هي النعم، ولذا قال تعالى بعده: * (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من امتنانه جل وعلا على خلقه بوضع الأرض لهم بما فيها من المنافع، وجعلها آية لهم، دالة على كمال قدرة ربهم واستحقاقه للعبادة وحده، جاء موضحا في آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى: * (وهو الذى مد الا رض وجعل فيها رواسى وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين) *، وقوله تعالى: * (هو الذى جعل لكم الا رض ذلولا فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه) *.
وقوله تعالى * (والا رض بعد ذلك دحاها أخرج منها مآءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولانعامكم) * وقوله تعالى * (والا رض فرشناها فنعم الماهدون) * وقوله تعالى * (الذى جعل لكم الا رض فراشا) *.
وقوله تعالى * (والا رض مددناها وألقينا فيها رواسى وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ونزلنا من السمآء مآء مباركا) *.
وقوله تعالى * (هو الذى خلق لكم ما فى الا رض جميعا) * والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (فيها فاكهة) * أي فواكه كثيرة، وقد قدمنا أن هذا أسلوب عربي معروف، وأوضحنا ذلك بالآيات وكلام العرب.
وقوله: * (والنخل ذات الا كمام) * ذات أي صاحبة، والأكمام جمع كم بكسر الكاف، وهو ما يظهر من النخلة في ابتداء إثمارها، شبه اللسان ثم ينفخ عن النور، وقيل: هو ليفها، واختار ابن جرير شموله للأمرين.
وقوله: * (والحب) * كالقمح ونحوه.
وقوله: * (ذو العصف) *، قال أكثر العلماء: العصف ورق الزرع، ومنه قوله تعالى * (فجعلهم كعصف مأكول) * وقيل العصف: التبن.
وقوله: * (والريحان) *: اختلف العلماء في معناه، فقال بعض أهل العلم: هو كل
493

ما طاب ريحه من النبت وصار يشم للتمتع بريحه. وقال بعض العلماء الريحان: الرزق، ومنه قول النجم بن تولب العكلي: والريحان) *: اختلف العلماء في معناه، فقال بعض أهل العلم: هو كل ما طاب ريحه من النبت وصار يشم للتمتع بريحه. وقال بعض العلماء الريحان: الرزق، ومنه قول النجم بن تولب العكلي:
* فروح الإله وريحانه
* ورحمته وسماء درر
*
* غمام ينزل رزق العباد
* فأحيا البلاد وطاب الشجر
*
ويتعين كون الريحان بمعنى الرزق على قراءة حمزة والكسائي، وأما على قراءة غيرهما فهو محتمل للأمرين المذكورين.
وإيضاح ذلك أن هذه الآية قرأها نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم: * (والحب ذو العصف والريحان) * بضم الباء والذال والنون من الكلمات الثلاث، وهو عطف على فاكهة أي فيها فاكهة، وفيها الحب إلخ، وقرأه ابن عامر:
* (والحب ذو العصف والريحان) *، بفتح الباء والذال والنون من الكلمات الثلاث، وفي رسم المصحف الشامي ذا العصف بألف بعد الذال، مكان الواو، والمعنى على قراءته: وخلق الحب ذا العصف والريحان، وعلى هاتين القراءتين، فالريحان محتمل لكلا المعنيين المذكورين.
وقراءة حمزة والكسائي بضم الباء في الحب وضم الذال في ذو العصف وكسر نون الريحان عطفا على العصف، وعلى هذا فالريحان لا يحتمل المشموم لأن الحب الذي هو القمح ونحوه صاحب عصف وهو الورق أو التبن وليس صاحب مشموم طيب ريح.
فيتعين على هذه القراءة أن المراد بالعصف ما تأكله الأنعام من ورق وتبن، والمراد بالريحان ما يأكله الناس من نفس الحب، فالآية على هذا المعنى كقوله * (متاعا لكم ولانعامكم) * وقوله تعالى * (فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم) *. وقوله تعالى * (فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم) * وقوله تعالى * (لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (فيها فاكهة) * ما ذكره تعالى فيه من الامتنان بالفاكهة التي هي أنواع، جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى في سورة
494

الفلاح * (لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون) * وقوله تعالى: * (وفاكهة وأبا) * إلى غير ذلك من الآيات.
وما ذكره هنا من الامتنان بالحب جاء موضحا في آيات أخر، كقوله تعالى: * (فأنبتنا به جنات وحب الحصيد) *، وقوله تعالى * (فأنبتنا فيها حبا وعنبا) * وقوله تعالى: * (وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون) *، وقوله تعالى * (نخرج منه حبا متراكبا) *. وقوله تعالى: * (إن الله فالق الحب والنوى) * إلى غير ذلك من الآيات.
وما ذكره تعالى هنا من الامتنان بالنحل، جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله تعالى: * (والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد) *، وقوله تعالى * (فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وما ذكره هنا من الامتنان بالريحان، على أنه الرزق كما في قراءة حمزة والكسائي، جاء موضحا في آيات كثيرة أيضا كقوله تعالى: * (هو الذى يريكم ءاياته وينزل لكم من السمآء رزقا) * وقوله تعالى: * (قل من يرزقكم من السمآء والا رض) *، وقوله تعالى: * (أمن هاذا الذى يرزقكم إن أمسك رزقه) *. وقوله تعالى: * (وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
مسألة
أخذ بعض علماء الأصول من هذه الآية الكريمة وأمثالها من الآيات كقوله تعالى: * (هو الذى خلق لكم ما فى الا رض جميعا) * أن الأصل فيما على الأرض الإباحة، حتى يرد دليل خاص بالمنع، لأن الله امتن على الأنام بأنه وضع لهم الأرض، وجعل لهم فيها أرزاقهم من القوت والتفكه في آية الرحمن هذه، وامتن عليهم بأنه خلق لهم ما في الأرض جميعا في قوله * (هو الذى خلق لكم ما فى الا رض جميعا) *.
ومعلوم أنه جل وعلا لا يمتن بحرام إذ لا منة في شيء محرم، واستدلوا لذلك أيضا بحصر المحرمات في أشياء معينة في آيات من كتاب الله، كقوله تعالى * (قل لا أجد فى مآ
495

أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير) *، وقوله تعالى: * (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن) *. وقوله تعالى * (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) *.
وفي هذه المسألة قولان آخران.
أحدهما: أن الأصل فيما على الأرض التحريم حتى يدل دليل على الإباحة، واحتجوا لهذا بأن جميع الأشياء مملوكة لله جل وعلا، والأصل في ملك الغير منع التصرف فيه إلا بإذنه، وفي هذا مناقشات معروفة في الأصول، ليس هذا محل بسطها.
القول الثاني: هو الوقف وعدم الحكم فيها بمنع ولا إباحة حتى يقوم الدليل، فتحصل أن في المسألة ثلاثة مذاهب: المنع، والإباحة، والوقف.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي صوابه في هذه المسألة هو التفصيل، لأن الأعيان التي خلقها الله في الأرض للناس بها ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون فيها نفع لا يشوبه ضرر كأنواع الفواكه وغيرها.
الثانية: أن يكون فيها ضرر لا يشوبه نفع كأكل الأعشاب السامة القاتلة.
الثالثة: أن يكون فيها نفع من جهة وضرر من جهة أخرى، فإن كان فيها نفع لا يشوبه ضرر، فالتحقيق حملها على الإباحة حتى يقوم دليل على خلاف ذلك لعموم قوله: * (هو الذى خلق لكم ما فى الا رض جميعا) *. وقوله * (والا رض وضعها للا نام) *.
وإن كان فيها ضرر لا يشوبه نفع فهي على التحريم لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار).
وإن كان فيها نفع من جهة وضرر من جهة أخرى فلها ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون النفع أرجح من الضرر.
والثانية: عكس هذا.
والثالثة: أن يتساوى الأمران.
فإن كان الضرر أرجح من النفع أو مساويا له فالمنع لحديث (لا ضرر ولا
496

ضرار) ولأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وإن كان النفع أرجح، فالأظهر الجواز، لأن المقرر في الأصول أن المصلحة الراجحة تقدم على المفسدة المرجوحة، كما أشار له في مراقي السعود بقوله: * وألغ إن يك الفساد أبعدا * فإن كان الضرر أرجح من النفع أو مساويا له فالمنع لحديث (لا ضرر ولا ضرار) ولأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وإن كان النفع أرجح، فالأظهر الجواز، لأن المقرر في الأصول أن المصلحة الراجحة تقدم على المفسدة المرجوحة، كما أشار له في مراقي السعود بقوله: * وألغ إن يك الفساد أبعدا
* أو رجح الإصلاح كالأسارا
* تفدى بما ينفع للنصارا
*
* وانظر تدلي دولي العنب
* في كل مشرق وكل مغرب
*
ومراده: تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة، أو البعيدة ممثلا له بمثالين:
الأول منهما: أن تخليص أسارى المسلمين من أيدي العدو بالفداء مصلحة راجحة قدمت على المفسدة المرجوحة، التي هي انتفاع العدو بالمال المدفوع لهم فداء للأسارى.
الثاني: أن انتفاع الناس بالعنب والزبيب، مصلحة راجحة على مفسدة عصر الخمر من العنب، فلم يقل أحد بإزالة العنب من الدنيا لدفع ضرر عصر الخمر منه، لأن الانتفاع بالعنب والزبيب مصلحة راجحة على تلك المفسدة، وهذا التفصيل الذي اخترنا، قد أشار له صاحب مراقي السعود بقوله: الثاني: أن انتفاع الناس بالعنب والزبيب، مصلحة راجحة على مفسدة عصر الخمر من العنب، فلم يقل أحد بإزالة العنب من الدنيا لدفع ضرر عصر الخمر منه، لأن الانتفاع بالعنب والزبيب مصلحة راجحة على تلك المفسدة، وهذا التفصيل الذي اخترنا، قد أشار له صاحب مراقي السعود بقوله:
* والحكم ما به يجيء الشرع
* وأصل كل ما يضر المنع
*
تنبيه
اعلم أن علماء الأصول يقولون: إن الإنسان لا يحرم عليه فعل شيء إلا بدليل من الشرع، ويقولون إن الدليل على ذلك عقلي، وهو البراءة الأصلية المعروفة بالإباحة العقلية، وهي استصحاب العدم الأصلي حتى يرد دليل ناقل عنه.
ونحن نقول: إنه قد دلت آيات من كتاب الله على أن استصحاب العدم الأصلي قبل ورود الدليل الناقل عنه حجة في الإباحة، ومن ذلك أن الله لما أنزل تشديده في تحريم الربا في قوله تعالى * (فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله) *، وكانت وقت نزولها عندهم أموال مكتسبة من الربا، اكتسبوها قبل نزول التحريم، بين الله تعالى لهم أن ما فعلوه من الربا، على البراءة الأصلية قبل نزول التحريم لا حرج عليهم فيه، إذ
497

لا تحريم إلا ببيان، وذلك في قوله تعالى: * (فمن جآءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف) * وقوله: ما سلف أي ما مضى قبل نزول التحريم، ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: * (ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم من النسآء إلا ما قد سلف) * وقوله تعالى * (وأن تجمعوا بين الا ختين إلا ما قد سلف) * والأظهر أن الاستثناء فيهما في قوله: * (إلا ما قد سلف) *. منقطع أي لكن ما سلف من ذلك قبل نزول التحريم، فهو عفو، لأنه على البراءة الأصلية.
ومن أصرح الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى * (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) * لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما استغفر لعمه أبي طالب بعد موته على الشرك، واستغفر المسلمون لموتاهم المشركين عاتبهم الله في قوله * (ما كان للنبى والذين ءامنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى) *. ندموا على الاستغفار لهم، فبين الله لهم أن استغفارهم لهم لا مؤاخذة به، لأنه وقع قبل بيان منعه، وهذا صريح فيما ذكرنا.
وقد قدمنا أن الأخذ بالبراءة الأصلية يعذر به في الأصول أيضا في الكلام على قوله تعالى * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * وبينا هناك كلام أهل العلم في ذلك، وأوضحنا ما جاء في ذلك من الآيات القرآنية. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجآن من مارج من نار) *. الصلصال: الطين اليابس الذي تسمع له صلصلة، أي صوت إذا قرع بشيء، وقيل الصلصال المنتن، والفخار الطين المطبوخ، وهذه الآية بين الله فيها طورا من أطوار التراب الذي خلق منه آدم، فبين في آيات أنه خلقه من تراب كقوله تعالى * (إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب) * وقوله تعالى * (ياأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب) * وقوله تعالى * (ومن ءاياته أن خلقكم من تراب ثم إذآ أنتم بشر تنتشرون) * وقوله تعالى * (هو الذى خلقكم من تراب ثم من نطفة) * وقوله تعالى * (منها خلقناكم وفيها نعيدكم) *.
498

وقد بينا في قوله تعالى * (فإنا خلقناكم من تراب) * وقوله * (منها خلقناكم) * أن المراد بخلقهم منها هو خلق أبيهم آدم منها، لأنه أصلهم وهم فروعه، ثم إن الله تعالى عجن هذا التراب بالماء فصار طينا، ولذا قال * (أءسجد لمن خلقت طينا) * وقال * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) * وقال تعالى * (وبدأ خلق الإنسان من طين) *. وقال * (أم من خلقنآ إنا خلقناهم من طين لازب) * وقال تعالى: * (إنى خالق بشرا من طين) * ثم خمر هذا الطين فصار حما مسنونا، أي طينا أسود متغير الريح، كما قال تعالى * (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون) *. قال تعالى * (إنى خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون) * وقال عن إبليس * (قال لم أكن لاسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون) * والمسنون قيل المتغير وقيل المصور وقيل الأملس، ثم يبس هذا الطين فصار صلصالا. كما قال هنا: * (خلق الإنسان من صلصال كالفخار) * وقال * (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون) *.
فالآيات يصدق بعضها بعضا، ويتبين فيها أطوار ذلك التراب كما لا يخفى.
قوله * (و الجآن) * أي وخلق الجان وهو أبو الجن، وقيل هو إبليس. وقيل: هو الواحد من الجن.
وعليه فالألف واللام للجنس، والمارج: اللهب الذي لا دخان فيه، وقوله * (من نار) * بيان لمارج. أي من لهب صاف كائن من النار.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أنه تعالى خلق الجان من النار، جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى في الحجر * (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون والجآن خلقناه من قبل من نار السموم) * وقوله تعالى * (قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) *.
وقد أوضحنا الكلام على هذا في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى * (إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين) *. قوله تعالى: * (رب المشرقين ورب المغربين) *.
499

قد أوضحنا الكلام عليه في أول الصافات في الكلام على قوله تعالى * (رب السماوات والا رض وما بينهما ورب المشارق) *. قوله تعالى: * (مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى * (وهو الذى مرج البحرين هاذا عذب فرات وهاذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا) *. قوله تعالى: * (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) *. قرأ هذا الحرف نافع وأبو عمرو، * (يخرج) * بضم الياء وفتح الراء مبنيا للمفعول، وعليه فاللؤلؤ نائب فاعل يخرج وقرأه باقي السبعة: * (يخرج) * بفتح الياء وضم الراء مبنيا للفاعل، وعليه فاللؤلؤ فاعل يخرج.
اعلم أن جماعة من أهل العلم قالوا: إن المراد بقوله في هذه الآية يخرج منهما أي من مجموعها الصادق بالبحر الملح، وأن الآية من إطلاق المجموع وإرادة بعضه، وأن اللؤلؤ والمرجان لا يخرجان من البحر الملح وحده دون العذب.
وهذا القول الذي قالوه في هذه الآية مع كثرتهم وجلالتهم لا شك في بطلانه، لأن الله صرح بنقيضه في سورة فاطر، ولا شك أن كل ما ناقض القرآن فهو باطل، وذلك في قوله تعالى * (وما يستوى البحران هاذا عذب فرات سآئغ شرابه وهاذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها) * فالتنوين في قوله: * (
من كل) * تنوين عوض أي من كل واحد من العذب والملح تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها، وهي اللؤلؤ والمرجان، وهذا مما لا نزاع فيه.
وقد أوضحنا هذا في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى * (يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم) * واللؤلؤ الدر، والمرجان الخرز الأحمر. وقال بعضهم: المرجان صغار الدر واللؤلؤ كباره. قوله تعالى: * (وله الجوار المنشئات فى البحر كالا علام) *.
500

قد قدمنا الكلام عليه في سورة شورى في الكلام على قوله تعالى * (ومن ءاياته الجوار فى البحر كالا علام) *. قوله تعالى: * (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) *. ما تضمنته هذه الآية الكريمة من فناء كل من على الأرض وبقاء وجهه جل وعلا المتصف بالجلال والإكرام، جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى: * (كل شىء هالك إلا وجهه) *، وقوله تعالى: * (وتوكل على الحى الذى لا يموت) *. وقوله تعالى * (كل نفس ذآئقة الموت) * إلى غير ذلك من الآيات.
والوجه صفة من صفات الله العلي وصف بها نفسه، فعلينا أن نصدق ربنا ونؤمن بما وصف به نفسه مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق.
وقد أوضحنا هذا غاية الإيضاح بالآيات القرآنية في سورة الأعراف، وفي سورة القتال. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (يامعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والا رض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان) *. قد قدمنا الكلام عليه في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى: * (وحفظناها من كل شيطان رجيم) * وتكلمنا أيضا هناك على غيرها من الآيات التي يفسرها الجاهلون بكتاب الله بغير معانيها، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. قوله تعالى: * (فإذا انشقت السمآء فكانت وردة كالدهان) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن السماء ستنشق يوم القيامة، وأنها إذا انشقت صارت وردة كالدهان، وقوله: * (وردة) *: أي حمراء كلون الورد، وقوله * (كالدهان) *: فيه قولان معروفان للعلماء.
الأول منهما: أن الدهان هو الجلد الأحمر، وعليه فالمعنى أنها تصير وردة متصفة بلون الورد مشابهة للجلد الأحمر في لونه.
501

والثاني: أن الدهان هو ما يدهن به، وعليه، فالدهان، قيل: هو جمع دهن، وقيل: هو مفرد، لأن العرب تسمى ما يدهن به دهانا، وهو مفرد، ومنه قول امرئ القيس: والثاني: أن الدهان هو ما يدهن به، وعليه، فالدهان، قيل: هو جمع دهن، وقيل: هو مفرد، لأن العرب تسمى ما يدهن به دهانا، وهو مفرد، ومنه قول امرئ القيس:
* كأنهما مزادتا متعجل
* فريان لما تدهني بدهان
*
وحقيقة الفرق بين القولين أنه على القول بأن الدهان هو الجلد الأحمر، يكون الله وصف السماء عند انشقاقها يوم القيامة بوصف واحد وهو الحمرة فشبهها بحمرة الورد. وحمرة الأديم الأحمر. قال بعض أهل العلم: إنها يصل إليها حر النار فتحمر من شدة الحرارة. وقال بعض أهل العلم: أصل السماء حمراء إلا أنها لشدة بعدها وما دونها من الحواجز لم تصل العيون إلى إدراك لونها الأحمر على حقيقته، وأنها يوم القيامة ترى على حقيقة لونها.
وأما على القول بأن الدهان هو ما يدهن به، فإن الله وقد وصف السماء عند انشقاقها بوصفين أحدهما حمرة لونها، والثاني أنها تذوب وتصير مائعة كالدهن.
أما على القول الأول، فلم نعلم آية من كتاب الله تبين هذه الآية، بأن السماء ستحمر يوم القيامة حتى تكون كلون الجلد الأحمر.
وأما على القول الثاني الذي هو أنها تذوب وتصير مائعة، فقد أوضحه الله في غير هذا الموضع وذلك في قوله تعالى في المعارج * (إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا يوم تكون السمآء كالمهل) *، والمهل شيء ذائب على كلا القولين سواء قلنا: إنه دردي الزيت وهو عكره، أو قلنا إنه الذائب من حديد أو نحاس أو نحوهما.
وقد أوضح تعالى في الكهف أن المهل شيء ذائب يشبه الماء شديد الحرارة، وذلك في قوله تعالى: * (وإن يستغيثوا يغاثوا بمآء كالمهل يشوى الوجوه بئس الشراب وسآءت مرتفقا) *.
والقول بأن الوردة تشبيه الفرس الكميت وهو الأحمر لأن حمرته تتلون باختلاف الفصول، فتشتد حمرتها في فصل، وتميل إلى الصفرة في فصل، وإلى الغبرة في فصل.
وأن المراد بالتشبيه كون السماء عند انشقاقها تتلون بألوان مختلفة واضح البعد عن ظاهر الآية، وقول من قال: إنها تذهب وتجيء معناه له شاهد في كتاب الله، وذلك في
502

قوله تعالى: * (يوم تمور السمآء مورا) *، ولكنه لا يخلو عندي من بعد.
وما ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة من انشقاق السماء يوم القيامة، جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله تعالى: * (إذا السمآء انشقت) * وقوله تعالى * (فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السمآء) * وقوله: * (ويوم تشقق السمآء بالغمام) *. وقوله: * (إذا السمآء انفطرت) *، وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة ق في الكلام على قوله تعالى: * (وما لها من فروج) *. قوله تعالى: * (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جآن) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه يوم القيامة لا يسأل إنسا ولا جانا عن ذنبه، وبين هذا المعنى في قوله تعالى في القصص: * (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) *.
وقد ذكر جل وعلا في آيات أخر أنه يسأل جميع الناس يوم القيامة الرسل والمرسل إليهم، وذلك في قوله تعالى * (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين) *، وقوله * (فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون) *.
وقد جاءت آيات من كتاب الله مبينة لوجه الجمع بين هذه الآيات، التي قد يظن غير العالم أن بينها اختلافا، اعلم أولا أن للسؤال المنفي في قوله هنا * (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جآن) *، وقوله * (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) * أخص من السؤال المثبت في قوله * (فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون) *، لأن هذه فيها تعميم السؤال في كل عمل، والآيتان قبلها ليس فيهما نفي السؤال إلا عن الذنوب خاصة، وللجمع بين هذه الآيات أوجه معروفة عند العلماء.
الأول منها: وهو الذي دل عليه القرآن، وهو محل الشاهد عندنا من بيان القرآن بالقرآن هنا، هو أن السؤال نوعان: أحدهما سؤال التوبيخ والتقريع وهو من أنواع العذاب، والثاني هو سؤال الاستخبار والاستعلام.
فالسؤال المنفي في بعض الآيات هو سؤال الاستخبار والاستعلام، لأن الله أعلم
503

بأفعالهم منهم أنفسهم كما قال تعالى: * (أحصاه الله ونسوه) *.
وعليه فالمعنى لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان، سؤال استخبار واستعلام لأن الله أعلم بذنبه منه.
والسؤال المثبت في الآيات الأخرى هو سؤال التوبيخ والتقريع، سواء كان عن ذنب أو غير ذنب، ومثال سؤالهم عن الذنوب سؤال توبيخ وتقريع قوله تعالى: * (فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) *، ومثاله عن غير ذنب قوله تعالى: * (وقفوهم إنهم مسئولون ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون) * وقوله تعالى * (يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هاذه النار التى كنتم بها تكذبون أفسحر هاذا) *، وقوله * (ألم يأتكم رسل منكم) *.
أما سؤال الموءودة في قوله: * (وإذا الموءودة سئلت) * فلا يعارض الآيات النافية السؤال عن الندب، لأنها سئلت عن أي ذنب قتلت وهذا ليس من ذنبها، والمراد بسؤالها توبيخ قاتلها وتقريعه، لأنها هي تقول لا ذنب لي، فيرجع اللوم على من قتلها ظلما.
وكذلك سؤال الرسل، فإن المراد به توبيخ من كذبهم وتقريعه، مع إقامة الحجة عليه بأن الرسل قد بلغته، وباقي أوجه الجمع بين الآيات لا يدل عليه قرآن، وموضوع هذا الكتاب بيان القرآن بالقرآن، وقد بينا بقيتها في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في أول سورة الأعراف.
وقد قدمنا طرفا من هذا الكتاب المبارك في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى: * (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين) *. قوله تعالى: * (يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصى والا قدام) *. قوله: * (بسيماهم) *: أي بعلامتهم المميزة لهم، وقد دل القرآن على أنها هي سواد وجوههم وزرقة عيونهم، كما قال تعالى * (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم) *، وقال تعالى: * (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على
504

الله وجوههم مسودة) *، وقال تعالى: * (وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من اليل مظلما أولائك أصحاب النار هم فيها خالدون) *، وقال تعالى * (ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولائك هم الكفرة الفجرة) *، لأن معنى قوله * (ترهقها قترة) * أي يعلوها ويغشاها سواد كالدخان الأسود، وقال تعالى في زرقة عيونهم: * (ونحشر المجرمين يومئذ زرقا) * ولا شيء أقبح وأشوه من سواد الوجوه وزرقة العيون، ولذا لما أراد الشاعر أن يقبح علل البخيل بأسوإ الأوصاف وأقبحها، فوصفها بسواد الوجوه وزرقة العيون حيث قال: ونحشر المجرمين يومئذ زرقا) * ولا شيء أقبح وأشوه من سواد الوجوه وزرقة العيون، ولذا لما أراد الشاعر أن يقبح علل البخيل بأسوإ الأوصاف وأقبحها، فوصفها بسواد الوجوه وزرقة العيون حيث قال:
* وللبخيل على أمواله علل
* زرق العيون عليها أوجه سود
*
ولا سيما إذا اجتمع مع سواد الوجه اغبراره، كما في قوله: * (عليها غبرة ترهقها قترة) * فإن ذلك يزيده قبحا على قبح.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (فيؤخذ بالنواصى والا قدام) *، وقد قدمنا تفسيره والآيات الموضحة له في سورة الطور في الكلام على قوله تعالى: * (يوم يدعون إلى نار جهنم دعا) *.
* (هاذه جهنم التى يكذب بها المجرمون * يطوفون بينها وبين حميم ءان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * ولمن خاف مقام ربه جنتان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * ذواتآ أفنان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * فيهما عينان تجريان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * فيهما من كل فاكهة زوجان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * متكئين على فرش بطآئنها من إستبرق وجنى الجنتين دان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جآن * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * كأنهن الياقوت والمرجان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * هل جزآء الإحسان إلا الإحسان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * ومن دونهما جنتان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * مدهآمتان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * فيهما عينان نضاختان * فبأىءالاء ربكما تكذبان * فيهما فاكهة ونخل ورمان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * فيهن خيرات حسان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * حور مقصورات فى الخيام * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جآن * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * متكئين على رفرف خضر وعبقرى حسان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * تبارك اسم ربك ذى الجلال والإكرام) * قوله تعالى: * (هاذه جهنم التى يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم ءان) *. أما قوله: * (هاذه جهنم التى يكذب بها المجرمون) * فقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الطور أيضا في الكلام على قوله تعالى: * (هاذه النار التى كنتم بها تكذبون) *.
وأما قوله تعالى: * (يطوفون بينها وبين حميم ءان) * فقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الحج في الكلام على قوله: * (يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما فى بطونهم) *. قوله تعالى: * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) *. وقد بينا في ترجمة هذا الكتاب المبارك، أن الآية قد يكون فيها وجهان صحيحان كلاهما يشهد
له قرآن، فنذكر ذلك كله مبينين أنه كله حق، وذكرنا لذلك أمثلة متعددة في
505

هذا الكتاب المبارك، ومن ذلك هذه الآية الكريمة.
وإيضاح ذلك أن هذه الآية الكريمة فيها وجهان معروفان عند العلماء، كلاهما يشهد له قرآن:
أحدهما: أن المراد بقوله: * (مقام ربه) *: أي قيامه بين يدي ربه، فالمقام اسم مصدر بمعنى القيام، وفاعله على هذا الوجه هو العبد الخائف، وإنما أضيف إلى الرب لوقوعه بين يديه، وهذا الوجه يشهد له قوله تعالى: * (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى) *، فإن قوله: * (ونهى النفس عن الهوى) *: قرينة دالة على أنه خاف عاقبة الذنب حين يقوم بين يدي ربه، فنهى نفسه عن هواها.
والوجه الثاني: أن فاعل المصدر الميمي الذي هو المقام، هو الله تعالى: أي خاف هذا العبد قيام العبد قيام الله عليه ومراقبته لأعماله وإحصائها عليه، ويدل لهذا الوجه الآيات الدالة على قيام الله على جميع خلقه وإحصائه عليهم أعمالهم كقوله تعالى: * (الله لا إلاه إلا هو الحى القيوم) *، وقوله تعالى: * (أفمن هو قآئم على كل نفس بما كسبت) *، وقوله تعالى: * (ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه) *. إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا في سورة الأحقاف في الكلام على قوله تعالى في شأن الجن: * (ياقومنآ أجيبوا داعى الله وءامنوا به يغفر لكم من ذنوبكم) *، أن قوله: * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) *، وتصريحه بالامتنان بذلك على الإنس والجن في قوله * (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *، نص قرآني على أن المؤمنين الخائفين مقام ربهم من الجن يدخلون الجنة. قوله تعالى: * (متكئين على فرش بطآئنها من إستبرق) *. قد بينا في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: * (وتستخرجوا منه حلية تلبسونها) * جميع الآيات القرآنية الدالة على تنعم أهل الجنة بالسندس والإستبرق، والحلية بالذهب والفضة، وبينا أن جميع ذلك يحرم على ذكور هذه الأمة في دار الدنيا. قوله تعالى: * (فيهن قاصرات الطرف) *.
506

قد قدمنا الكلام عليه مستوفى في سورة الصافات في الكلام على قوله تعالى: * (وعندهم قاصرات الطرف عين) *. قوله تعالى: * (حور مقصورات فى الخيام) *. قد قدمنا معنى القصر في الخيام، وقصر الطرف على الأزواج في سورة الصافات في الكلام على قوله تعالى: * (وعندهم قاصرات الطرف عين) *، وقدمنا الآيات الدالة على صفات نساء أهل الجنة في مواضع كثيرة من هذا الكتاب في سورة البقرة والصافات. وغير ذلك.
507

((سورة الواقعة))
* (إذا وقعت الواقعة * ليس لوقعتها كاذبة * خافضة رافعة * إذا رجت الا رض رجا * وبست الجبال بسا * فكانت هبآء منبثا * وكنتم أزواجا ثلاثة * فأصحاب الميمنة مآ أصحاب الميمنة * وأصحاب المشأمة مآ أصحاب المشأمة * والسابقون السابقون * أولائك المقربون * فى جنات النعيم) * قوله تعالى: * (إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة) *. الذي يظهر لي صوابه أن إذا هنا هي الظرفية المضمنة معنى الشرط، وأن قوله الآتي: * (إذا رجت الا رض رجا) * بدل من قوله: * (إذا وقعت الواقعة) * وأن جواب إذا هو قوله: * (فأصحاب الميمنة) *، وهذا هو اختيار أبي حيان خلافا لمن زعم أنها مسلوبة معنى الشرط هنا، وأنها منصوبة بأذكر مقدرة أو أنها مبتدأ، وخلافا لمن زعم أنها منصوبة بليس المذكورة بعدها.
والمعروف عند جمهور النحويين أن إذا ظرف مضمن معنى الشرط منصوب بجزائه، وعليه فالمعنى: إذا قامت القيامة وحصلت هذه الأحوال العظيمة ظهرت منزلة أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (إذا وقعت الواقعة) * أي قامت القيامة، فالواقعة من أسماء القيامة كالطامة والصاخة والآزفة والقارعة.
وقد بين جل وعلا أن الواقعة هي القيامة في قوله: * (فإذا نفخ فى الصور نفخة واحدة وحملت الا رض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السمآء فهى يومئذ واهية) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ليس لوقعتها كاذبة) * فيه أوجه من التفسير معروفة عند العلماء كلها حق، وبعضها يشهد له قرآن.
الوجه الأول: أن قوله كاذبة مصدر جاء بصفة اسم الفاعل، فالكاذبة بمعنى الكذب كالعافية بمعنى المعافاة، والعاقبة بمعنى العقبى، ومنه قوله تعالى عند جماعات من العلماء * (لا تسمع فيها لاغية) * قالوا معناه لا تسمع فيها لغوا، وعلى هذا القول، فالمعنى ليس لقيام القيامة كذب ولا تخلف بل هو أمر واقع يقينا لا محالة.
508

ومن هذا المعنى، قولهم: حمل الفارس على قرنه فما كذب، أي ما تأخر ولا تخلف ولا جبن.
ومنه قول زهير: ومنه قول زهير:
* ليث يعثر يصطاد الرجال إذا
* ما كذب الليث عن أقرانه صدقا
*
وهذا المعنى قد دلت عليه آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى: * (الله لا إلاه إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه) *، وقوله تعالى: * (وأن الساعة ءاتية لا ريب فيها) *، وقوله تعالى: * (ربنآ إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه) *، وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة شورى في الكلام على قوله تعالى: * (وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه) *.
الوجه الثاني: أن اللام في قوله: * (لوقعتها) * ظرفية، و * (كاذبة) * اسم فاعل صفة لمحذوف أي ليس في وقعة الواقعة نفس كاذبة بل جميع الناس يوم القيامة صادقون بالاعتراف بالقيامة مصدقون بها ليس فيهم نفس كاذبة بإنكارها ولا مكذبة بها.
وهذا المعنى تشهد له في الجملة آيات من كتاب الله كقوله تعالى: * (لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الا ليم) *، وقوله تعالى: * (ولا يزال الذين كفروا فى مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم) *.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة النمل في الكلام على قوله تعالى: * (بل ادارك علمهم فى الا خرة بل هم فى شك منها بل هم منها عمون) *، وباقي الأوجه قد يدل على معناه قرآن ولكنه لا يخلو من بعد عندي، ولذا لم أذكره، وأقربها عندي الأول. قوله تعالى: * (خافضة رافعة) *. خبر مبتدأ محذوف أي هي خافضة رافعة، ومفعول كل من الوصفين محذوف.
قال بعض العلماء: تقديره هي خافضة أقواما في دركات النار، رافعة أقواما إلى الدرجات العلى إلى الجنة، وهذا المعنى قد دلت عليه آيات كثيرة كقوله: * (إن المنافقين فى الدرك الا سفل من النار) *، وقوله تعالى * (ومن يأته مؤمنا قد عمل
509

الصالحات فأولائك لهم الدرجات العلى جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار) * وقوله تعالى: * (وللا خرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا) * والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة.
وقال بعض العلماء: تقديره خافضة أقواما كانوا مرتفعين في الدنيا رافعة أقواما كانوا منخفضين في الدنيا، وهذا المعنى تشهد له آيات من كتاب الله تعالى، كقوله تعالى: * (إن الذين أجرموا كانوا من الذين ءامنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون) * إلى قوله * (فاليوم الذين ءامنوا من الكفار يضحكون على الا رآئك ينظرون) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقال بعض العلماء: تقديره، خافضة بعض الأجرام التي كانت مرتفعة كالنجوم التي تسقط وتتناثر يوم القيامة، وذلك خفض لها بعد أن كانت مرتفعة، كما قال تعالى: * (وإذا الكواكب انتثرت) * وقال تعالى: * (وإذا النجوم انكدرت) *.
رافعة: أي رافعة بعض الأجرام التي كانت منخفضة كالجبال التي ترفع من أماكنها وتسير بين السماء والأرض كما قال تعالى: * (ويوم نسير الجبال وترى الا رض بارزة) *، فقوله: * (وترى الا رض بارزة) *، لأنها لم يبق على ظهرها شيء من الجبال، وقال تعالى: * (وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب) *.
وقد قدمنا أن التحقيق الذي دل عليه القرآن، أن ذلك يوم القيامة، وأنها تسير بين السماء والأرض كسير السحاب الذي هو المزن.
وقد صرح بأن الجبال تحمل هي والأرض أيضا يوم القيامة. وذلك في قوله تعالى: * (فإذا نفخ فى الصور نفخة واحدة وحملت الا رض والجبال) *.
وعلى هذا القول، فالمراد تعظيم شأن يوم القيامة، وأنه يختل فيه نظام العالم، وعلى القولين الأولين، فالمراد الترغيب والترهيب، ليخاف الناس في الدنيا من أسباب الخفض في الآخرة فيطيعوا الله ويرغبوا في أسباب الرفع فيطيعوه أيضا، وقد قدمنا مرارا أن الصواب في مثل هذا حمل الآية على شمولها للجميع. قوله تعالى: * (إذا رجت الا رض رجا وبست الجبال بسا فكانت هبآء منبثا) *.
510

قد قدمنا أن الأظهر عندنا أن قوله * (إذا رجت) *. بدل من قوله * (إذا وقعت الواقعة) *، والرج: التحريك الشديد، وما دلت عليه هذه الآية من أن الأرض يوم القيامة تحرك تحريكا شديدا جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى: * (إذا زلزلت الا رض زلزالها) *، وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في أول سورة الحج في الكلام على قوله تعالى: * (إن زلزلة الساعة شىء عظيم) * وقوله تعالى: * (وبست الجبال بسا) * في معناه لأهل العلم أوجه متقاربة، لا يكذب بعضها بعضا وكلها حق، وكلها يشهد له قرآن.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية الكريمة قد يكون فيها أوجه كلها حق وكلها يشهد له قرآن، فنذكر جميع الأوجه وأدلتها القرآنية.
قال أكثر المفسرين * (وبست الجبال بسا) * أي فتت تفتيتا حتى صارت كالبسيسة، وهي دقيق ملتوت بسمن، ومنه قول لص من غطفان أراد أن يخبز دقيقا عنده فخاف أن يعجل عنه، فأمر صاحبيه أن يلتاه ليأكلوه دقيقا ملتوتا، وهو البسيسة. وبست الجبال بسا) * أي فتت تفتيتا حتى صارت كالبسيسة، وهي دقيق ملتوت بسمن، ومنه قول لص من غطفان أراد أن يخبز دقيقا عنده فخاف أن يعجل عنه، فأمر صاحبيه أن يلتاه ليأكلوه دقيقا ملتوتا، وهو البسيسة.
* لا تخبزا خبزا وبسابسا
* ولا تطيلا بمناخ حبسا
*
وهذا الوجه يشهد له قرآن كقوله تعالى: * (يوم ترجف الا رض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا) *، فقوله: * (كثيبا مهيلا) * أي رملا متهايلا، ومنه قول امرئ القيس: كثيبا مهيلا) * أي رملا متهايلا، ومنه قول امرئ القيس:
* ويوما على ظهر الكثيب تعذرت
* علي وآلت حلفة لم تحلل
*
ومشابهة الدقيق المبسوس بالرمل المتهايل واضحة، فقوله: * (وكانت الجبال كثيبا مهيلا) * مطابق في المعنى لتفسير * (وبست الجبال بسا) * بأن بسها هو تفتيتها وطحنها كما ترى.
وما دلت عليه هذه الآيات من أنها تسلب عنها قوة الحجرية وتتصف بعد الصلابة والقوة باللين الشديد الذي هو كلين الدقيق، والرمل المتهايل يشهد له في الجملة تشبيهها في بعض الآيات بالصوف المنفوش الذي هو العهن، كقوله تعالى * (وتكون الجبال كالعهن المنفوش) *، وقوله تعالى: * (يوم تكون السمآء كالمهل وتكون
511

الجبال كالعهن) * وأصل العهن أخص من مطلق الصوف لأنه الصوف المصبوغ خاصة. ومنه قول زهير بن أبي سلمى في معلقته: وتكون الجبال كالعهن) * وأصل العهن أخص من مطلق الصوف لأنه الصوف المصبوغ خاصة. ومنه قول زهير بن أبي سلمى في معلقته:
* كأن فتاة العهن في كل منزل
* نزلن به حب الفنا لم يحطم
*
وقال بعضهم: الجبال منها جدد بيض وحمر ومختلف ألوانها وغرابيب سود، فإذا بست وفتتت يوم القيامة وطيرت في الجو أشبهت العهن إذا طيرته الريح في الهوى، وهذا الوجه يدل عليه ترتيب كينونتها هباء منبثا بالفاء على قوله: * (وبست الجبال بسا) * لأن الهباء هو ما ينزل من الكوة من شعاع الشمس إذا قابلتها: * (منبثا) * أي متفرقا، ووصفها بالهباء المنبث أنسب لتكون البس بمعنى التفتيت والطحن.
الوجه الثاني: أن معنى قوله: * (وبست الجبال بسا) * أي سيرت بين السماء والأرض، وعلى هذا فالمراد ببسها سوقها وتسييرها من قول العرب: بسست الإبل أبسها، بضم الباء وأبستها أبسها بضم الهمزة وكسر الباء، لغتان بمعنى سقتها، ومنه حديث: (يخرج أقوام من المدينة إلى اليمن والشام، والعراق يبسون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون).
وهذا الوجه تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى: * (ويوم نسير الجبال) *، وقوله * (وتسير الجبال سيرا) *.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة النمل في الكلام على قوله: * (وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب) *.
الوجه الثالث: أن معنى قوله: * (وبست الجبال بسا) * نزعت من أماكنها وقلعت، وقد أوضحنا أن هذا الوجه راجع للوجه الأول مع الإيضاح التام لأحوال الجبال يوم القيامة، وأطوارها، بالآيات القرآنية، وفي سورة طه في الكلام على قوله تعالى: * (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربى نسفا) *، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (فكانت هبآء منبثا) * كقوله تعالى: * (وسيرت الجبال فكانت سرابا) *، والهباء إذا انبث، أي تفرق، واضمحل وصار لا شيء، والسراب قد قال الله تعالى فيه: * (حتى إذا جآءه لم يجده شيئا) *. قوله تعالى: * (وكنتم أزواجا ثلاثة) *.
512

أي صرتم أزواجا ثلاثة، والعرب تطلق كان بمعنى صار، ومنه * (ولا تقربا هاذه الشجرة فتكونا من الظالمين) * أي فتصيرا من الظالمين.
ومنه قول الشاعر: ومنه قول الشاعر:
* بتيهاء قفر والمطي كأنها
* قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها
*
وقوله: * (أزواجا) *: أي أصنافا ثلاثة، ثم بين هذه الأزواج الثلاثة بقوله: * (فأصحاب الميمنة مآ أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة مآ أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولائك المقربون فى جنات النعيم) * أما أصحاب الميمنة فهم أصحاب اليمين، كما أوضحه تعالى بقوله: * (وأصحاب اليمين مآ أصحاب اليمين فى سدر مخضود) *، وأصحاب المشأمة هم أصحاب الشمال كما أوضحه تعالى: بقوله * (وأصحاب الشمال مآ أصحاب الشمال فى سموم وحميم) *.
قال بعض العلماء: قيل لهم أصحاب اليمين لأنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم.
وقيل: لأنهم يذهب بهم ذات اليمين إلى الجنة.
وقيل: لأنهم عن يمين أبيهم آدم، كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم كذلك ليلة الإسراء.
وقيل سموا أصحاب اليمين، وأصحاب الميمنة لأنهم ميامين، أي مباركون على أنفسهم، لأنهم أطاعوا ربهم فدخلوا الجنة، واليمن البركة.
وسمي الآخرون أصحاب الشمال، وقيل: لأنهم يؤتون كتبهم بشمائلهم.
وقيل: لأنهم يذهب بهم ذات الشمال إلى النار، والعرب تسمي الشمال شؤما، كما تسمي اليمين يمينا، ومن هنا قيل لهم أصحاب المشأمة أو لأنهم مشائيم على أنفسهم: فعصوا الله فأدخلهم النار، والمشائيم ضد الميامين، ومنه قول الشاعر: والعرب تسمي الشمال شؤما، كما تسمي اليمين يمينا، ومن هنا قيل لهم أصحاب المشأمة أو لأنهم مشائيم على أنفسهم: فعصوا الله فأدخلهم النار، والمشائيم ضد الميامين، ومنه قول الشاعر:
* مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة
* ولا ناعب إلا بين غرابها
*
وبين جل وعلا أن السابقين هم المقربون، وذلك في قوله: * (والسابقون السابقون أولائك المقربون) *، وهذه الأزواج الثلاثة المذكورة هي
513

وجزاؤها في أول هذه السورة الكريمة جاءت هي وجزاؤها أيضا في آخرها، وذلك في قوله: * (فأمآ إن كان من المقربين فروح وريحان وجنات نعيم وأمآ إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأمآ إن كان من المكذبين الضآلين فنزل من حميم وتصلية جحيم) *.
والمكذبون هم أصحاب المشأمة وهم أصحاب الشمال.
وذكر تعالى بعض صفات أصحاب الميمنة والمشأمة في البلد في قوله تعالى: * (فك رقبة أو إطعام فى يوم ذى مسغبة يتيما ذا مقربة) * إلى قوله تعالى * (أولائك أصحاب الميمنة والذين كفروا بأاياتنا هم أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (مآ أصحاب الميمنة) *، وقوله: * (مآ أصحاب المشأمة) * استفهام أريد به التعجب من شأن هؤلاء في السعادة، وشأن هؤلاء في الشقاوة، والجملة فيهما مبتدأ وخبر، وهي خبر المبتدأ قبله، وهو أصحاب الميمنة في الأول وأصحاب المشأمة في الثاني.
وهذا الأسلوب يكثر في القرآن نحو * (الحاقة ما الحآقة) *، * (القارعة ما القارعة) *. والرابط في جملة الخبر في جميع الآيات المذكورة هو إعادة لفظ المبتدأ في جملة الخبر كما لا يخفى، وقوله: * (والسابقون) * لم يذكر فيه استفهام تعجب كما ذكره فيما قبله، ولكنه ذكر في مقابلة تكرير لفظ السابقين.
والأظهر في إعرابه أنه مبتدأ وخبر على عادة العرب في تكريرهم اللفظ وقصدهم الإخبار بالثاني عن الأول، يعنون أن اللفظ المخبر عنه هو المعروف خبره الذي لا يحتاج إلى تعريف ومنه قول أبي النجم: والأظهر في إعرابه أنه مبتدأ وخبر على عادة العرب في تكريرهم اللفظ وقصدهم الإخبار بالثاني عن الأول، يعنون أن اللفظ المخبر عنه هو المعروف خبره الذي لا يحتاج إلى تعريف ومنه قول أبي النجم:
* أنا أبو النجم وشعري شعري
* لله درى ما أجن صدري
*
فقوله: وشعري شعري يعني شعري هو الذي بلغك خبره، وانتهى إليك وصفه.
* (ثلة من الا ولين * وقليل من الا خرين * على سرر موضونة * متكئين عليها متقابلين * يطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكواب وأباريق وكأس من معين * لا يصدعون عنها ولا ينزفون * وفاكهة مما يتخيرون * ولحم طير مما يشتهون * وحور عين * كأمثال اللؤلؤ المكنون * جزآء بما كانوا يعملون * لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما * إلا قيلا سلاما سلاما * وأصحاب اليمين مآ أصحاب اليمين * فى سدر مخضود * وطلح منضود * وظل ممدود * ومآء مسكوب * وفاكهة كثيرة * لا مقطوعة ولا ممنوعة * وفرش مرفوعة * إنآ أنشأناهن إنشآء * فجعلناهن أبكارا * عربا أترابا * لاصحاب اليمين * ثلة من الا ولين * وثلة من الا خرين * وأصحاب الشمال مآ أصحاب الشمال * فى سموم وحميم * وظل من يحموم * لا بارد ولا كريم * إنهم كانوا قبل ذلك مترفين * وكانوا يصرون على الحنث العظيم * وكانوا يقولون أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمبعوثون * أو ءابآؤنا الا ولون * قل إن الا ولين والا خرين * لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم) * قوله تعالى: * (ثلة من الا ولين وقليل من الا خرين) *. وقوله: ثلة: خبر مبتدأ محذوف، والتقدير، هم ثلة، والثلة الجماعة من الناس،
514

وأصلها القطعة من الشيء وهي الثل، وهو الكسر.
وقال الزمخشري: والثلة من الثل، وهو الكسر، كما أن الأمة من الأم وهو الشبح، كأنها جماعة كسرت من الناس، وقطعت منهم. ا ه. منه.
واعلم أن الثلة تشمل الجماعة الكثيرة، ومنه قول الشاعر: واعلم أن الثلة تشمل الجماعة الكثيرة، ومنه قول الشاعر:
* فجاءت إليهم ثلة خندفية
* بجيش كتيار من السيل مزيد
*
لأن قوله: تيار من السيل: يدل على كثرة هذا الجيش المعبر عنه بالثلة.
وقد اختلف أهل العلم في المراد بهذه الثلة من الأولين، وهذا القليل من الآخرين المذكورين هنا، كما اختلفوا في الثلتين المذكورتين في قوله: * (ثلة من الا ولين وثلة من الا خرين) *. فقال بعض أهل العلم: كل هؤلاء المذكورين من هذه الأمة، وأن المراد بالأولين منهم الصحابة.
وبعض العلماء يذكر معهم القرون المشهود لهم بالخير في قوله صلى الله عليه وسلم (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم) الحديث. والذين قالوا: هم كلهم من هذه الأمة، قالوا: إنما المراد بالقليل، وثلة من الآخرين، وهم من بعد ذلك إلى قيام الساعة.
وقال بعض العلماء: المراد بالأولين في الموضعين الأمم الماضية قبل هذه الأمة، فالمراد بالآخرين فيهما هو هذه الأمة.
قال مقيده عفا الله عنه، وغفر له: ظاهر القرآن في هذا المقام: أن الأولين في الموضعين من الأمم الماضية، والآخرين فيهما من هذه الأمة، وأن قوله تعالى: * (ثلة
من الا ولين وقليل من الا خرين) * في السابقين خاصة، وأن قوله: * (ثلة من الا ولين وثلة من الا خرين) * في أصحاب اليمين خاصة.
وإنما قلنا: إن هذا هو ظاهر القرآن في الأمور الثلاثة، التي هي شمول الآيات لجميع الأمم، وكون قليل من الآخرين في خصوص السابقين، وكون ثلة من الآخرين في خصوص أصحاب اليمين لأنه واضح من سياق الآيات.
أما شمول الآيات لجميع الأمم فقد دل عليه أول السورة، لأن قوله: * (إذا وقعت الواقعة) * إلى قوله * (فكانت هبآء منبثا) * لا شك أنه لا يخص أمة دون أمة، وأن
515

الجميع مستوون في الأهوال والحساب والجزاء.
فدل ذلك على أن قوله: * (وكنتم أزواجا ثلاثة) * عام في جميع أهل المحشر، فظهر أن السابقين وأصحاب اليمين منهم من هو من الأمم السابقة، ومنهم من هو من هذه الأمة.
وعلى هذا، فظاهر القرآن، أن السابقين من الأمم الماضية أكثر من السابقين من هذه الأمة، وأن أصحاب اليمين من الأمم السابقة ليست أكثر من أصحاب اليمين من هذه الأمة، لأنه عبر في السابقين من هذه الأمة بقوله: * (وقليل من الا خرين) * وعبر عن أصحاب اليمين من هذه الأمة * (وثلة من الا خرين) *.
ولا غرابة في هذا، لأن الأمم الماضية أمم كثيرة. وفيها أنبياء كثيرة ورسل، فلا مانع من أن يجتمع من سابقيها من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من سابقي هذه الأمة وحدها.
أما أصحاب اليمين من هذه الأمة فيحتمل أن يكونوا أكثر من أصحاب اليمين من جميع الأمم، لأن الثلة تتناول العدد الكثير، وقد يكون أحد العددين الكثيرين أكثر من الآخر، مع أنهما كلاهما كثير.
ولهذا تعلم أن ما دل عليه ظاهر القرآن واختاره ابن جرير، لا ينافي ما جاء من أن نصف أهل الجنة من هذه الأمة.
فأما كون قوله * (وقليل من الا خرين) * دل ظاهر القرآن على أنه في خصوص السابقين، فلأن الله قال * (والسابقون السابقون أولائك المقربون فى جنات النعيم) * ثم قال تعالى مخبرا عن هؤلاء السابقين المقربين * (ثلة من الا ولين وقليل من الا خرين) *.
وأما كون قوله: * (وثلة من الا خرين) * في خصوص أصحاب اليمين، فلأن الله تعالى قال * (فجعلناهن أبكارا عربا أترابا لاصحاب اليمين ثلة من الا ولين وثلة من الا خرين) *، والمعنى هم أي أصحاب اليمين: ثلة من الأولين وثلة من الآخرين، وهذا واضح كما ترى. قوله تعالى: * (على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين) *.
516

السرر جمع سرير، وقد بين تعالى: أن سررهم مرفوعة في قوله: في الغاشية * (فيها سرر مرفوعة) * وقوله تعالى * (موضونة) * منسوجة بالذهب، وبعضهم يقول بقضبان الذهب مشبكة بالدر والياقوت، وكل نسج أحكم ودوخل بعضه في بعض، تسمية العرب وضنا، وتسمى المنسوج به موضونا ووضينا، ومنه الدرع الموضونة إذا أحكم نسجها ودوخل بعض حلقاتها في بعض.
ومنه قول الأعشى: ومنه قول الأعشى:
* ومن نسج داود موضونة
* تساق مع الحي عيرا فعيرا
*
وقوله أيضا:
* وبيضاء كالنهى موضونة
* لها قونس فوق جيب البدن
*
ومن هذا القبيل تسمية البطان الذي ينسج من السيور، مع إدخال بعضها في بعض وضينا.
ومنه قول الراجز: ومنه قول الراجز:
* ليك تعدو قلقا وضينها
* معترضا في بطنها جنينها
*
وهذه السرر المزينة، هي المعبر عنها بالأرائك في قوله * (متكئين فيها على الا رآئك) * وقوله: * (هم وأزواجهم فى ظلال على الا رآئك متكئون) * وقوله في هذه الآية الكريمة * (متكئين) * حال من الضمير في قوله * (على سرر) * والتقدير: استقروا على سرر في حال كونهم متكئين عليها.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من كونهم على سرر متقابلين، أي ينظر بعضهم إلى وجه بعض، كلهم يقابل الآخر بوجهه، جاء موضحا في آيات أخر كقوله
تعالى في الحجر * (ونزعنا ما فى صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين) * وقوله في الصافات * (أولائك لهم رزق معلوم فواكه وهم مكرمون فى جنات النعيم على سرر متقابلين) *.
517

قوله تعالى: * (يطوف عليهم ولدان مخلدون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الطور في الكلام على قوله تعالى * (ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون) *. قوله تعالى: * (وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الطور في الكلام على قوله تعالى * (يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم) * وفي المائدة في الكلام على قوله تعالى * (إنما الخمر والميسر) *. قوله تعالى: * (وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون) *. قد قدمنا الكلام عليه في سورة الطور، في الكلام على قوله تعالى * (وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون) *. قوله تعالى: * (وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى * (ولهم فيهآ أزواج مطهرة) *، وفي الصافات في الكلام على قوله تعالى * (وعندهم قاصرات الطرف عين) * وفي غير ذلك من المواضع. قوله تعالى: * (لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما) *. قد قدمنا الكلام عليه بإيضاح في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى * (لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) * وتكلمنا هناك على الاستثناء المنقطع وذكرنا شواهده من القرآن وكلام العرب، وبينا كلام أهل العلم في حكمه شرعا. قوله تعالى: * (وظل ممدود ومآء مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة) *. أما قوله * (وظل ممدود) * فقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى * (وندخلهم ظلا ظليلا) * وأما قوله * (ومآء مسكوب) *
518

فقد دلت عليه آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى * (فيهآ أنهار من مآء غير ءاسن) * وقوله * (إن المتقين فى جنات وعيون) * وقوله * (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من المآء) *. إلى غير ذلك من الآيات.
والمسكوب اسم مفعول سكب الماء ونحوه إذا صبه بكثرة، والمفسرون يقولون: إن أنهار الجنة تجري في غير أخدود، وأن الماء يصل إليهم أينما كانوا كيف شاءوا، كما قال تعالى * (عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا) * وأما قوله * (وفاكهة كثيرة) *: فقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الطور في الكلام على قوله تعالى * (وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون) *. قوله تعالى: * (إنآ أنشأناهن إنشآء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا لاصحاب اليمين) *. الضمير في أنشأناهن: قال بعض أهل العلم: هو راجع إلى مذكور، وقال بعض العلماء. هو راجع إلى غير مذكور، إلا أنه دل عليه المقام.
فمن قال إنه راجع إلى مذكور، قال هو راجع إلى قوله * (وفرش مرفوعة) * قال: لأن المراد بالفرش النساء، والعرب تسمي المرأة لباسا وإزارا وفراشا ونعلا، وعلى هذا فالمراد بالرفع في قوله * (مرفوعة) * رفع المنزلة والمكانة.
ومن قال: إنه راجع إلى غير مذكور، قال: إنه راجع إلى نساء لم يذكرن، ولكن ذكر الفرش دل عليهن. لأنهن يتكئن عليها مع أزواجهن.
وقال بعض العلماء: المراد بهن الحور العين، واستدل من قال ذلك بقوله * (إنآ أنشأناهن إنشآء) * لأن الإنشاء هو الاختراع والابتداع.
وقالت جماعة من أهل العلم: أن المراد بهن بنات آدم التي كن في الدنيا عجائز شمطا رمصا، وجاءت في ذلك آثار مرفوعة عنه صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا القول: فمعنى أنشأناهن إنشاء أي خلقناهن خلقا جديدا.
وقوله تعالى * (فجعلناهن) * أي فصيرناهن أبكارا، وهو جمع بكر، وهو ضد الثيب.
وقوله * (عربا) * قرأه عامة القراء السبعة غير حمزة وشعبة عن عاصم * (عربا) *
519

بضم العين والراء، وقرأ حمزة وشعبة * (عربا) * بسكون الراء، وهي لغة تميم، ومعنى القراءتين واحد، وهو جمع عروب، وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل، وهذا هو قول الجمهور. وهو الصواب إن شاء الله.
ومنه قول لبيد: ومنه قول لبيد:
* وفي الخباء عروب غير فاحشة
* ريا الروادف يعشى دونها البصر
*
وقوله تعالى: * (أترابا) * جمع ترب بكسر التاء، والترب اللذة. وإيضاحه أن ترب الإنسان ما ولد معه في وقت واحد، ومعناه في الآية: أن نساء أهل الجنة على سن واحدة ليس فيهن شابة وعجوز، ولكنهن كلهن على سن واحدة في غاية الشباب.
وبعض العلماء يقول: إنهن ينشأن مستويات في السن على قدر بنات ثلاثة وثلاثين سنة، وجاءت بذلك آثار مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكون الأتراب بمعنى المستويات في السن مشهور في كلام العرب.
ومنه قول عمر بن أبي ربيعة: ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
* أبرزوها مثل المهاة تهادى
* بين خمس كواعب أتراب
*
وهذه الأوصاف الثلاثة التي تضمنتها هذه الآية الكريمة من صفات نساء أهل الجنة، جاءت موضحة في آيات أخر.
أما كونهن يوم القيامة أبكارا، فقد أوضحه في سورة الرحمن في قوله تعالى: * (لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جآن) * في الموضعين لأن قوله: * (لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جآن) * نص في عدم زوال بكارتهن، وأما كونهن عربا أي متحببات إلى أزواجهن، فقد دل عليه قوله في الصافات: * (وعندهم قاصرات الطرف عين) * لأن معناه أنهن قاصرات العيون على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم لشدة محبتهن لهم واقتناعهن بهم، كما قدمنا إيضاحه، ولا شك أن المرأة التي لا ينظر إلى غير زوجها متحببة إليه حسنة التبعل معه.
وقوله في ص: * (وعندهم قاصرات الطرف أتراب) *، وقوله في الرحمان: * (فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جآن) *، وأما
520

كونهن أترابا فقد بينه تعالى في قوله في آية ص هذه، * (وعندهم قاصرات الطرف أتراب) *، وفي سورة النبأ في قوله تعالى: * (إن للمتقين مفازا حدآئق وأعنابا وكواعب أترابا) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (لاصحاب اليمين) * يتعلق بقوله: * (إنآ أنشأناهن) *، وقوله * (فجعلناهن) * أي: أنشأناهن وصيرناهن أبكارا لأصحاب اليمين. قوله تعالى: * (وأصحاب الشمال مآ أصحاب الشمال فى سموم وحميم وظل من يحموم) *. قد قدمنا معنى أصحاب الشمال في هذه السورة الكريمة، وأوضحنا معنى السموم في الآيات القرآنية التي يذكر فيها في سورة الطور، في الكلام على قوله تعالى * (فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم) *.
وقد قدمنا صفات ظل أهل النار وظل أهل الجنة في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى * (وندخلهم ظلا ظليلا) * وبينا هناك أن صفات ظل أهل النار هي المذكورة في قوله هنا * (وظل من يحموم لا بارد ولا كريم) * وقوله في المرسلات * (انطلقوا إلى ظل ذى ثلاث شعب لا ظليل ولا يغنى من اللهب) *.
وقوله: * (من يحموم) * أي من دخان أسود شديد السواد ووزن اليحموم يفعول، وأصله من الحمم وهو الفحم، وقيل: من الحم، وهو الشحم المسود لاحتراقه بالنار. قوله تعالى: * (إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وكانوا يصرون على الحنث العظيم) *. قد قدمنا الكلام عليه في سورة الطور في الكلام على قوله تعالى: * (قالوا إنا كنا قبل فى أهلنا مشفقين فمن الله علينا) *. قوله تعالى: * (وكانوا يقولون أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمبعوثون) *. لما ذكر جل وعلا ما أعد لأصحاب الشمال من العذاب، بين بعض أسبابه، فذكر منها أنهم كانوا قبل ذلك في دار الدنيا مترفين أي متنعمين، وقد قدمنا أن القرآن دل على أن الإتراف والتنعم والسرور في الدنيا من أسباب العذاب يوم القيامة، لأن صاحبه معرض عن الله لا يؤمن به ولا برسله، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة، وقوله تعالى:
521

* (فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا إنه كان فى أهله مسرورا) *، وقد أوضحنا هذا في الكلام على آية الطور المذكورة آنفا.
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من كون إنكار البعث سببا لدخول النار، لأن قوله تعالى لما ذكر أنهم في سموم وحميم وظل من يحموم، بين أن من أسباب ذلك أنهم قالوا * (أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما) * جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله تعالى * (وإن تعجب فعجب قولهم أءذا كنا ترابا أءنا لفى خلق جديد أولائك الذين كفروا بربهم وأولئك الا غلال فى أعناقهم وأولائك أصحاب النار هم فيها خالدون) *.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى: * (وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا) *، وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من إنكارهم بعث آبائهم الأولين في قوله * (أو ءابآؤنا الا ولون) * وأنه تعالى بين لهم أنه يبعث الأولين والآخرين في قوله، * (قل إن الا ولين والا خرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم) * جاء موضحا في غير هذا الموضع، فبينا فيه أن البعث الذي أنكروا، سيتحقق في حال كونهم أذلاء صاغرين، وذلك في قوله تعالى في الصافات * (وقالوا إن هاذآ إلا سحر مبين أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمبعوثون أو ءابآؤنا الا ولون قل نعم وأنتم داخرون فإنما هى زجرة واحدة فإذا هم ينظرون) *. وقوله: * (أو ءابآؤنا الا ولون) *، قرأه عامة القراء السبعة، غير ابن عامر وقالون عن نافع: * (أو ءابآؤنا) * بفتح الواو على الاستفهام والعطف، وقد قدمنا مرارا أن همزة الاستفهام إذا جاءت بعدها أداة عطف كالواو والفاء، وثم نحو * (أو ءابآؤنا) * أفأمن أهل القرى) * * () * * (أثم إذا ما وقع) *، أن في ذلك وجهين لعلماء العربية والمفسرين الأول، منهما أن أداة العطف عاطفة للجملة المصدرة بالاستفهام على ما قبلها، وهمزة الاستفهام متأخرة رتبة عن حرف العطف، ولكنها قدمت عليه لفظا لا معنى لأن الأصل في الاستفهام التصدير به كما هو معلوم في محله.
والمعنى على هذا واضح وهو أنهم أنكروا بعثهم أنفسهم بأداة الإنكار التي هي
522

الهمزة، وعطفوا على ذلك بالواو إنكارهم بعث آبائهم الأولين، بأداة الإنكار التي هي الهمزة المقدمة عن محلها لفظا لا رتبة، وهذا القول هو قول الأقدمين من علماء العربية، واختاره أبو حيان في البحر المحيط وابن هشام في مغني اللبيب، وهو الذي صرنا نميل إليه أخيرا بعد أن كنا نميل إلى غيره. الوجه الثاني: هو أن همزة الاستفهام في محلها الأصلي، وأنها متعلقة بجملة محذوفة، والجملة المصدرية بالاستفهام معطوفة على المحذوفة بحرف العطف الذي بعد الهمزة، وهذا الوجه يميل إليه الزمخشري في أكثر المواضع من كشافه، وربما مال إلى غيره.
وعلى هذا القول، فالتقدير: أمبعوثون نحن وآباؤنا الأولون؟ وما ذكره الزمخشري هنا من أن قوله: * (ءابآؤنا) * معطوف على واو الرفع في قوله: * (لمبعوثون) *، وأنه ساغ العطف على ضمير رفع متصل من غير توكيد بالضمير المنفصل لأجل الفصل بالهمزة لا يصح، وقد رده عليه أبو حيان وابن هشام وغيرهما.
وهذا الوجه الأخير مال إليه ابن مالك في الخلاصة في قوله: وهذا الوجه الأخير مال إليه ابن مالك في الخلاصة في قوله:
* وحذف متبوع بداهنا استبح
* وعطفك الفعل على الفعل يصح
*
وقرأ هذا الحرف قالون وابن عامر أو آباؤنا بسكون الواو، والذي يظهر لي على قراءتهما أو بمعنى الواو العاطفة، وأن قوله: * (ءابآؤنا) *، معطوف على محل المنصوب الذي هو اسم إن، لأن عطف المرفوع على منصوب إن بعد ذكر خبرها جائز بلا نزاع، لأن اسمها وإن كان منصوبا فأصله الرفع لأنه مبتدأ في الأصل، كما قال ابن مالك في الخلاصة: ءابآؤنا) *، معطوف على محل المنصوب الذي هو اسم إن، لأن عطف المرفوع على منصوب إن بعد ذكر خبرها جائز بلا نزاع، لأن اسمها وإن كان منصوبا فأصله الرفع لأنه مبتدأ في الأصل، كما قال ابن مالك في الخلاصة:
* وجائز رفعك معطوفا على
* منصوب إن بعد أن تستكملا
*
وإنما قلنا إن أو بمعنى الواو، لأن إتيانها بمعنى الواو معروف في القرآن وفي كلام العرب، فمنه في القرآن: * (فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا) * لأن الذكر الملقى للعذر، والنذر معا لا لأحدهما، لأن المعنى أنها أتت الذكر إعذارا وإنذارا، وقوله تعالى: * (ولا تطع منهم ءاثما أو كفورا) * أي ولا كفورا، وهو كثير في كلام العرب، ومنه قول عمرو بن معد يكرب: ولا تطع منهم ءاثما أو كفورا) * أي ولا كفورا، وهو كثير في كلام العرب، ومنه قول عمرو بن معد يكرب:
* قوم إذا سمعوا الصريخ رأيتهم
* ما بين ملجم مهرة أو سافع
*
523

فالمعنى ما بين الملجم مهره وسافع: أي آخذ بناصيته ليلجمه، وقول نابغة ذبيان: فالمعنى ما بين الملجم مهره وسافع: أي آخذ بناصيته ليلجمه، وقول نابغة ذبيان:
* قالت ألا ليت ما هذا الحمام لنا
* لي حمامتنا أو نصفه فقد
*
* فحسبوه فألفوه كما زعمت
* ستا وستين لم تنقص ولم تزد
*
فقوله: أو نصفه بمعنى ونصفه كما هو ظاهر من معنى البيتين المذكورين، لأن مرادها أنها تمنت أن يكون الحمام المار بها هو ونصفه معه لها مع حمامتها التي معها، ليكون الجميع مائة حمامة، فوجدوه ستا وستين ونصفها ثلاث وثلاثون، فيكون المجموع تسعا وتسعين، والمروي في ذلك عنها أنها قالت: فقوله: أو نصفه بمعنى ونصفه كما هو ظاهر من معنى البيتين المذكورين، لأن مرادها أنها تمنت أن يكون الحمام المار بها هو ونصفه معه لها مع حمامتها التي معها، ليكون الجميع مائة حمامة، فوجدوه ستا وستين ونصفها ثلاث وثلاثون، فيكون المجموع تسعا وتسعين، والمروي في ذلك عنها أنها قالت:
* ليت الحمام ليه
* إلى حمامتيه
*
* ونصفه قديه
* تم الحمام مايه
*
وقول توبة بن الحمير: وقول توبة بن الحمير:
* قد زعمت ليلى بأني فاجر
* لنفسي تقاها أو عليها فجورها
*
وقوله تعالى: * (أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمبعوثون) * جمع عامة القراء على ثبات همزة الاستفهام في قوله: * (أءذا متنا) * وأثبتها أيضا عامة السبعة غير نافع والكسائي في قوله: * (أءنا) * وقرأه نافع والكسائي * (أءنا لمبعوثون) *، بهمزة واحدة مكسورة على الخبر، كما عقده صاحب الدرر اللوامع في أصل مقرأ الإمام نافع بقوله: أءنا لمبعوثون) *، بهمزة واحدة مكسورة على الخبر، كما عقده صاحب الدرر اللوامع في أصل مقرأ الإمام نافع بقوله:
* فصل واستفهام إن تكررا
* فصير الثاني منه خبرا
*
* واعكسه في النمل وفوق الروم
* إلخ........
*
والقراءات في الهمزتين في * (أءذا) * و * (أءنا) * معروفة، فنافع يسهل الهمزة الثانية بين بين. ورواية قالون عنه هي إدخال ألف بين الهمزتين الأولى المحققة والثانية المسهلة.
ورواية قالون هذه عن نافع بالتسهيل والإدخال مطابقة لقراءة أبي عمرو، فأبو عمرو وقالون عن نافع يسهلان ويدخلان، ورواية ورش عن نافع هي تسهيل الأخيرة منهما بين بين من غير إدخال ألف. وهذه هي قراءة ابن كثير وورش فابن كثير وورش يسهلان ولا يدخلان.
524

وقرأ هشام عن ابن عامر بتحقيق الهمزتين، وبينهما ألف الإدخال.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر بتحقيق الهمزتين من غير ألف الإدخال، هذه هي القراءات الصحيحة، في مثل * (أءذا) * و * (أءنا) * ونحو ذلك في القرآن.
تنبيه
اعلم وفقني الله وإياك أن ما جرى في الأقطار الإفريقية من إبدال الأخيرة من هذه الهمزة المذكورة وأمثالها في القرآن هاء خالصة من أشنع المنكر وأعظم الباطل، وهو انتهاك لحرمة القرآن العظيم، وتعد لحدود الله، ولا يعذر فيه إلا الجاهل الذي لا يدري، الذي يظن أن القراءة بالهاء الخالصة صحيحة، وإنما قلنا هذا لأن إبدال الهمزة فيما ذكر هاء خالصة لم يروه أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينزل عليه به جبريل البتة، ولم يرو عن صحابي ولم يقرأ به أحد من القراء، ولا يجوز بحال من الأحوال، فالتجرؤ على الله بزيادة حرف في كتابه، وهو هذه الهاء التي لم ينزل بها الملك من السماء البتة، هو كما ترى، وكون اللغة العربية قد سمع فيها إبدال الهمزة هاء لا يسوغ التجرؤ على الله بإدخال حرف في كتابه. لم يأذن بإدخاله الله ولا رسوله.
ودعوى أن العمل جرى بالقراءة بالهاء لا يعول عليها، لأن جريان العمل بالباطل باطل، ولا أسوة في الباطل بإجماع المسلمين، وإنما الأسوة في الحق، والقراءة سنة متبعة مروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا لا خلاف فيه.
وقوله تعالى: * (متنا) *، وقرأه ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو وشعبة عن عاصم متنا بضم الميم وقرأه نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم * (متنا) * بكسر الميم، وقد قدمنا مسوغ كسر الميم لغة في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى: * (ياليتنى مت قبل هاذا) *. قوله تعالى: * (قل إن الا ولين والا خرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم) *. لما أنكر الكفار بعثهم وآباءهم الأولين في الآية المتقدمة، أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن
525

يخبرهم خبرا مؤكدا بأن الأولين والآخرين كلهم مجموعون يوم القيامة للحساب والجزاء بعد بعثهم.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من بعث الأولين والآخرين وجمعهم يوم القيامة جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله: * (يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن) *، وقوله تعالى: * (الله لا إلاه إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة) * وقوله تعالى: * (ربنآ إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه) *، وقوله تعالى: * (ذالك يوم مجموع له الناس) * وقوله تعالى: * (هاذا يوم الفصل جمعناكم والا ولين) *، وقوله تعالى: * (وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا) *.
وقد قدمنا هذا موضحا في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى: * (وحفظناها من كل شيطان رجيم) *.
* (ثم إنكم أيها الضآلون المكذبون * لاكلون من شجر من زقوم * فمالأون منها البطون * فشاربون عليه من الحميم * فشاربون شرب الهيم * هاذا نزلهم يوم الدين * نحن خلقناكم فلولا تصدقون * أفرءيتم ما تمنون * أءنتم تخلقونه أم نحن الخالقون * نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فى ما لا تعلمون * ولقد علمتم النشأة الا ولى فلولا تذكرون * أفرءيتم ما تحرثون * أءنتم تزرعونه أم نحن الزارعون * لو نشآء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون * إنا لمغرمون * بل نحن محرومون) * قوله تعالى: * (ثم إنكم أيها الضآلون المكذبون لاكلون من شجر من زقوم فمالأون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم) *. قد قدمنا إيضاح هذا وتفسير في سورة الصافات في الكلام على قوله تعالى: * (ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم) *. قوله تعالى: * (هاذا نزلهم يوم الدين) *. النزل بضمتين: هو رزق الضيف الذي يقدم له عند نزوله إكراما له، ومنه قوله تعالى: * (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا) *، وربما استعملت العرب النزول في ضد ذلك على سبيل التهكم والاحتقار، وجاء القرآن باستعمال النزول فيما يقدم لأهل النار من العذاب كقوله هنا: في عذابهم المذكور في قولهم: * (لاكلون من شجر من زقوم) * إلى قوله * (شرب الهيم هاذا نزلهم) * أي هذا العذاب المذكور هو ضيافتهم ورزقهم المقدم لهم عند نزولهم في دارهم التي هي النار، كقوله تعالى للكافر الحقير الذليل: * (ذق إنك أنت العزيز الكريم) *.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من إطلاق النزول على عذاب أهل النار، جاء موضحا
526

في غير هذا الموضع كقوله في آخر هذه السورة الكريمة: * (فنزل من حميم وتصلية جحيم) *، وقوله تعالى في آخر الكهف: * (إنآ أعتدنا جهنم للكافرين نزلا) *، ونظير ذلك من كلام العرب قول أبي السعد الضبي: إنآ أعتدنا جهنم للكافرين نزلا) *، ونظير ذلك من كلام العرب قول أبي السعد الضبي:
* وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا
* جعلنا القنا والمرهفات له نزلا
*
وقوله: * (يوم الدين) * أي يوم الجزاء كما تقدم مرارا. قوله تعالى: * (نحن خلقناكم فلولا تصدقون) *. لما أنكر الكفار بعثهم وآباءهم الأولين، وأمر الله رسوله أن يخبرهم أنه تعالى باعث جميع الأولين والآخرين، وذكر جزاء منكري البعث بأكل الزقوم وشرب الحميم، أتبع ذلك بالبراهين القاطعة الدالة على البعث فقال: نحن خلقناكم هذا الخلق الأول فلولا تصدقون. أي فهل لا تصدقون بالبعث الذي هو الخلق الثاني، لأن إعادة الخلق لا يمكن أن تكون أصعب من ابتدائه كما لا يخفى.
وهذا البرهان على البعث بدلالة الخلق الأول على الخلق الثاني، جاء موضحا في آيات كثيرة جدا كقوله تعالى * (وهو الذى يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) *، وقوله: * (كما بدأنآ أول خلق نعيده وعدا علينآ إنا كنا فاعلين) *، وقوله تعالى: * (ياأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب) * وقوله تعالى: * (قل يحييها الذى أنشأهآ أول مرة) *، وقوله تعالى: * (فسيقولون من يعيدنا قل الذى فطركم أول مرة) *، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة، وقد ذكرناها بإيضاح وكثرة في مواضع كثيرة من هذا الكتاب المبارك في سورة البقرة والنحل والحج والجاثية، وغير ذلك من المواضع وأحلنا عليها كثيرا.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (فلولا تصدقون) *، لولا حرف تحضيض، ومعناه الطلب بحث وشدة، فالآية تدل على شدة حث الله للكفار وحضه لهم على التصديق بالبعث لظهور برهانه القاطع الذي هو خلقه لهم أولا. قوله تعالى: * (أفرءيتم ما تمنون أءنتم تخلقونه أم نحن الخالقون) *. قد قدمنا قريبا كلام أهل العلم في همزة الاستفهام المتبوعة بأداة عطف، وذكرنا قبل
527

هذا مرارا، وقوله تعالى: * (أفرءيتم ما تمنون) * يعني أفرأيتم ما تصبونه من المني في أرحام النساء، فلفظة ما موصولة، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد إلى الصفة محذوف، لأنه منصوب بفعل، والتقدير: أفرأيتم ما تمنونه، والعرب تقول: أمنى النطفة بصيغة الرباعي، يمنيها بضم حرف المضارعة، إذا أراقها في رحم المرأة، ومنه قوله تعالى: * (من نطفة إذا تمنى) * ومنى يمنى بصيغة الثلاثي لغة صحيحة. إلا أن القراءة بها شاذة.
وممن قرأ تمنون بفتح التاء مضارع في الثلاثي المجرد، أبو السمال وابن السميقع، وقوله تعالى: * (أءنتم تخلقونه أم نحن الخالقون) * استفهام تقرير، فإنهم لا بد أن يقولوا: أنتم الخالقون، فيقال لهم: إذا كنا خلقنا هذا الإنسان الخصيم المبين من تلك النطفة التي تمنى في الرحم، فكيف تكذبون بقدرتنا على خلقه مرة أخرى، وأنتم تعلمون أن الإعادة لا يمكن أن تكون أصعب من الابتداء، والضمير المنصوب في تخلقونه عائد إلى الموصول أي تخلقون ما تمنونه من النطف علقا، ثم مضغا إلى آخر أطواره.
وهذا الذي تضمنته هذه الآية من البراهين القاطعة على كمال قدرة الله على البعث وغيره، وعلى أنه المعبود وحده، ببيان أطوار خلق الإنسان، جاء موضحا في آيات أخر، وقد قدمنا الكلام على ذلك مستوفى بالآيات القرآنية، وبينا ما يتعلق بكل طور من أطواره من الأحكام الشرعية في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى: * (ياأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب) *.
وذكرنا أطوار خلق الإنسان في سورة الرحمان أيضا في الكلام على قوله تعالى: * (خلق الإنسان علمه البيان) * وفي غير ذلك من المواضع.
وبينا الآيات الدالة على أطوار خلقه جملة وتفصيلا في الحج.
تنبيه
هذا البرهان الدال على البعث الذي هو خلق الإنسان من نطفة مني تمنى، يجب على كل إنسان النظر فيه، لأن الله جل وعلا وجه صفة الأمر بالنظر فيه إلى مني الإنسان، والأصل في صيغة الأمر على التحقيق الوجوب إلا لدليل صارف عنه، وذلك في قوله تعالى: * (فلينظر الإنسان مم خلق خلق من مآء دافق) *، وقد قدمنا
528

شرحها في أول سورة النحل، وقرأ هذا الحرف نافع، * (أفرءيتم) * بتسهيل الهمزة بعد الراء بين بين.
والرواية المشهورة التي بها الأداء عن ورش عنه إبدال الهمزة ألفا وإشباعها لسكون الياء بعدها.
وقرأ الكسائي: * (أفرءيتم) * بحذف الهمزة، وقرأه باقي السبعة بتحقيق الهمزة.
وقوله تعالى: * (أءنتم) * قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر في إحدى الروايتين بتسهيل الهمزة الثانية، والرواية المشهورة التي بها الأداء عن ورش عن نافع إبدال الثانية ألفا مشبعا مدها لسكون النون بعدها، وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وهشام عن ابن عامر في الرواية الأخرى بتحقيق الهمزتين، وقالون، وأبو عمرو وهشام بألف الإدخال بين الهمزتين والباقون بدونها. قوله تعالى: * (نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فى ما لا تعلمون) *. قرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير ابن كثير * (قدرنا) * بتشديد الدال، وقرأه ابن كثير بتخفيفها، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية الكريمة قد يكون فيها وجهان أو أكثر من التفسير، ويكون كل ذلك صحيحا، وكله يشهد له قرآن، فنذكر الجميع وأدلته من القرآن، ومن ذلك هذه الآية الكريمة.
وإيضاح ذلك أن قوله * (قدرنا) * وجهين من التفسير وفيما تتعلق به * (على أن نبدل) * وجهان أيضا، فقال بعض العلماء: وهو اختيار ابن جرير أن قوله * (
قدرنا بينكم الموت) * أي قدرنا لموتكم آجالا مختلفة وأعمارا متفاوتة فمنكم من يموت صغيرا ومنكم من يموت شابا، ومنكم من يموت شيخا.
وهذا المعنى دلت عليه آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى * (ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر) * وقوله تعالى * (ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون) * وقوله تعالى * (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا فى كتاب) * وقوله تعالى * (ولن يؤخر الله نفسا إذا جآء أجلهآ) * وقوله
529

* (وما نحن بمسبوقين) * أي ما نحن بمغلوبين، والعرب تقول: سبقه على كذا أي غلبه عليه وأعجزه عن إدراكه أي وما نحن بمغلوبين على ما قدرنا من آجالكم وحددناه من أعماركم فلا يقدر أحد أن يقدم أجلا أخرناه ولا يؤخر أجلا قدمناه.
وهذا المعنى دلت عليه آيات كثيرة كقوله تعالى * (فإذا جآء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) * وقوله تعالى * (إن أجل الله إذا جآء لا يؤخر) *، وقوله تعالى * (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا) * إلى غير ذلك من الآيات.
وعلى هذا القول، فقوله تعالى: * (على أن نبدل أمثالكم) * ليس متعلقا بمسبوقين بل بقوله تعالى: * (نحن قدرنا بينكم الموت) * والمعنى: نحن قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم، أي نبدل من الذين ماتوا أمثالا لهم نوجدهم.
وعلى هذا، فمعنى تبديل أمثالهم إيجاد آخرين من ذرية أولئك الذين ماتوا وهذا المعنى تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى: * (إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشآء كمآ أنشأكم من ذرية قوم ءاخرين) * إلى غير ذلك من الآيات.
وهذا التفسير هو اختيار ابن جرير، وقراءة قدرنا بالتشديد مناسبة لهذا الوجه، وكذلك لفظة بينكم.
الوجه الثاني: أن قدرنا بمعنى قضينا وكتبنا أي كتبنا الموت وقدرناه على جميع الخلق، وهذ الوجه تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى: * (كل شىء هالك إلا وجهه) *، وقوله تعالى: * (كل نفس ذآئقة الموت) *، وقوله تعالى: * (وتوكل على الحى الذى لا يموت) *، وعلى هذا القول فقوله: * (على أن نبدل) *: متعلق بمسبوقين أي ما نحن مغلوبين والمعنى وما نحن بمغلوبين على أن نبدل أمثالكم إن أهلكناكم لو شئنا فنحن قادرون على إهلاككم، ولا يوجد أحد يغلبنا ويمنعنا من خلق أمثالكم بدلا منكم.
وهذا المعنى تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى: * (إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت باخرين وكان الله على ذالك قديرا) * وقوله تعالى: * (إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشآء) *، وقوله تعالى: * (إن يشأ يذهبكم ويأت
530

بخلق جديد وما ذالك على الله بعزيز) *. وقوله تعالى: * (الفقرآء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا) *، وقد قدمنا هذا في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى: * (إن يشأ يذهبكم أيها الناس) *. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وننشئكم فى ما لا تعلمون) *، فيه للعلماء أقوال متقاربة.
قال بعضهم: ننشئكم بعد إهلاككم فيما لا تعلمونه من الصور والهيئات، كأن ننشئكم قردة وخنازير، كما فعلنا ببعض المجرمين قبلكم.
وقال بعضهم: ننشئكم فيما لا تعلمونه من الصفات، فنغير صفاتكم ونجمل المؤمنين ببياض الوجوه، ونقبح الكافرين بسواد الوجوه وزرقة العيون. إلى غير ذلك من الأقوال. قوله تعالى: * (أفرءيتم ما تحرثون أءنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشآء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون) *. تضمنت هذه الآية الكريمة برهانا قاطعا ثانيا على البعث وامتنانا عظيما على الخلق بخلق أرزاقهم لهم، فقوله تعالى: * (أفرءيتم ما تحرثون) *، يعني أفرأيتم البذر الذي تجعلونه في الأرض بعد حرثها أي تحريكها وتسويتها أأنتم تزرعونه، أي تجعلونه زرعا، ثم تنمونه إلى أن يصير مدركا صالحا للأكل أم نحن الزارعون له، ولا شك أن الجواب الذي لا جواب غيره هو أن يقال: أنت يا ربنا هو الزارع المنبت، ونحن لا قدرة لنا على ذلك، فيقال لهم: كل عاقل يعلم أن من أنبت هذا السنبل من هذا البذر الذي تعفن في باطن الأرض قادر على أن يبعثكم بعد موتكم، وكون إنبات النبات بعد عدمه من براهين البعث، جاء موضحا في آيات كقوله: * (ومن ءاياته أنك ترى الا رض خاشعة فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت إن الذى أحياها لمحى الموتى) * وقوله تعالى: * (فانظر إلىءاثار رحمة الله كيف يحى الا رض بعد موتهآ إن ذلك لمحى الموتى وهو على كل شىء قدير) *، وقوله تعالى: * (حتى إذآ أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به المآء فأخرجنا به من كل الثمرات كذالك نخرج الموتى لعلكم تذكرون) *.
والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة، وقد قدمناها مستوفاة مع سائر آيات براهين البعث في مواضع كثيرة في سورة البقرة والنحل والجاثية، وغير ذلك من المواضع،
531

وأحلنا عليها مرارا.
تنبيه
اعلم أنه يجب على كل إنسان أن ينظر في هذا البرهان الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، لأن الله جل وعلا وجه في كتابه صيغة أمر صريحة عامة في كل ما يصدق عليه مسمى الإنسان بالنظر في هذا البرهان العظيم المتضمن للامتنان، لأعظم النعم على الخلق، وللدلالة على عظم الله وقدرته على البعث وغيره، وشدة حاجة خلقه إليه مع غناه عنهم، وذلك قوله تعالى: * (فلينظر الإنسان إلى طعامه) * * (ثم شققنا الا رض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدآئق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولانعامكم) *. والمعنى: انظر أيها الإنسان الضعيف إلى طعامك كالخبز الذي تأكله ولا غنى لك عنه، من هو الذي خلق الماء الذي صار سببا لإنباته هل يقدر أحد غير الله على خلق الماء؟ أي إبرازه من أصل العدم إلى الوجود. ثم هب أن الماء خلق، هل يقدر أحد غير الله أن ينزله على هذا الأسلوب الهائل العظيم الذي يسقى به الأرض من غير هدم ولا غرق؟ ثم هب أن الماء نزل في الأرض من هو الذي يقدر على شق الأرض عن مسار الزرع؟ ثم هب أن الزرع طلع، فمن هو الذي
يقدر على إخراج السنبل منه؟ ثم هب أن السنبل خرج منه، فمن هو الذي يقدر على إنبات الحب فيه وتنميته حتى يدرك صالحا للأكل؟ * (انظروا إلى ثمره إذآ أثمر وينعه إن فى ذالكم لا يات لقوم يؤمنون) *، والمعنى: انظروا إلى الثمر وقت طلوعه ضعيفا لا يصلح للأكل، وانظروا إلى ينعه، أي انظروا إليه بعد أن صار يانعا مدركا صالحا للأكل، تعلموا أن الذي رباه ونماه حتى صار كما ترونه وقت ينعه قادر على كل شيء منعم عليكم عظيم الأنعام، ولذا قال: * (إن فى ذالكم لا يات لقوم يؤمنون) *، فاللازم أن يتأمل الإنسان وينظر في طعامه ويتدبر قوله تعالى: * (ثم شققنا الا رض) * أي عن النبات شقا إلى آخر ما بيناه. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (لو نشآء لجعلناه حطاما) * يعني لو نشاء تحطيم ذلك الزرع لجعلناه حطاما، أي فتاتا وهشيما، ولكنا لم نفعل ذلك رحمة بكم، ومفعول فعل المشيئة محذوف للاكتفاء عنه بجزاء الشرط، وتقديره كما ذكرنا، وقوله: * (فظلتم تفكهون) *.
532

قال بعض العلماء: المعنى فظلتم تعجبون من تحطيم زرعكم.
وقال بعض العلماء: تفكهون بمعنى تندمون على ما خسرتم من الإنفاق عليه كقوله تعالى: * (فأصبح يقلب كفيه على مآ أنفق فيها) *.
وقال بعض العلماء: تندمون على معصية الله التي كانت سببا لتحطيم زرعكم، والأول من الوجهين في سبب الندم هو الأظهر.
* (أفرءيتم المآء الذى تشربون * أءنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون * لو نشآء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون * أفرءيتم النار التى تورون * أءنتم أنشأتم شجرتهآ أم نحن المنشئون * نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين * فسبح باسم ربك العظيم) *
قوله تعالى: * (أفرءيتم المآء الذى تشربون أءنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشآء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون) *.
تضمنت هذه الآية الكريمة امتنانا عظيما على خلقه بالماء الذي يشربونه، وذلك أيضا آية من آياته الدالة على عظمته وكمال قدرته وشدة حاجة خلقه إليه، والمعنى: أفرأيتم الماء الذين تشربون الذي لا غنى لكم عنه لحظة ولو أعدمناه لهلكتم جميعا في أقرب وقت: * (أءنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون) *.
والجواب الذي لا جواب غيره هو أنت يا ربنا هو منزله من المزن، ونحن لا قدرة لنا على ذلك. فيقال لهم: إذا كنتم في هذا القدر من شدة الحاجة إليه تعالى فلم تكفرون به وتشربون ماءه وتأكلون رزقه وتعبدون غيره، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من الامتنان على الخلق بالماء وأنهم يلزمهم الإيمان بالله وطاعته شكرا لنعمة هذا الماء، كما أشار له هنا بقوله: * (فلولا تشكرون) * جاء في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى: * (فأنزلنا من السمآء ماء فأسقيناكموه ومآ أنتم له بخازنين) *، وقوله تعالى: * (هو الذى أنزل من السماء مآء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون) *، وقوله تعالى: * (وأنزلنا من السمآء مآء طهورا لنحيى به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنآ أنعاما وأناسى كثيرا) *. وقوله تعالى: * (وأسقيناكم مآء فراتا) * إلى غير ذلك من الآيات. وقوله هنا: * (لو نشآء جعلناه أجاجا) * أي لو نشاء جعله أجاجا لفعلنا، ولكن جعلناه عذبا فراتا سائغا شرابه، وقد قدمنا في سورة الفرقان أن الماء الأجاج هو الجامع بين الملوحة والمرارة الشديدتين.
533

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كونه تعالى. لو شاء لجعل الماء غير صالح للشراب، جاء معناه في آيات أخر كقوله تعالى * (قل أرءيتم إن أصبح مآؤكم غورا فمن يأتيكم بمآء معين) * وقوله تعالى * (وأنزلنا من السمآء مآء بقدر فأسكناه فى الا رض وإنا على ذهاب به لقادرون) * لأن الذهاب بالماء وجعله غورا لم يصل إليه وجعله أجاجا، كل ذلك في المعنى سواء بجامع عدم تأتي شرب الماء، وهذه الآيات المذكورة تدل على شدة حاجة الخلق إلى خالقهم كما ترى. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (أءنتم أنزلتموه من المزن) * يدل على أن جميع الماء الساكن في الأرض النابع من العيون والآبار ونحو ذلك، أن أصله كله نازل من المزن، وأن الله أسكنه في الأرض وخزنه فيها لخلقه.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى * (وأنزلنا من السمآء مآء بقدر فأسكناه فى الا رض) * وقوله تعالى * (ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء فسلكه ينابيع فى الا رض) * وقد قدمنا هذا في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى * (فأنزلنا من السمآء ماء فأسقيناكموه ومآ أنتم له بخازنين) * وفي سورة سبأ في الكلام على قوله تعالى * (يعلم ما يلج فى الا رض وما يخرج منها) * وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (فلولا تشكرون) * فلولا بمعنى هلا، وهي حرف تحضيض، وهو الطلب بحث وحض والمعنى أنهم يطلب منهم شكر هذا المنعم العظيم بحث وحض.
واعلم أن الشكر يطلق من العبد لربه ومن الرب لعبده.
فشكر العبد لربه، ينحصر معناه في استعماله جميع نعمه فيما يرضيه تعالى، فشكر نعمة العين ألا ينظر بها إلا ما يرضي من خلقها، وهكذا في جميع الجوارح، وشكر نعمة المال أن يقيم فيه أوامر ربه ويكون مع ذلك شاكر القلب واللسان، وشكر العبد لربه جاء في آيات كثيرة كقوله تعالى هنا: * (فلولا تشكرون) * وقوله تعالى * (واشكروا لي ولا تكفرون) * والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وأما شكر الرب لعبده فهو أن يثيبه الثواب الجزيل من عمله القليل، ومنه قوله تعالى * (ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم) * وقوله تعالى * (إن ربنا لغفور
534

شكور) * إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه لغوي
اعلم أن مادة الشكر تتعدى إلى النعمة تارة، وإلى المنعم أخرى، فإن عديت إلى النعمة تعدت إليها بنفسها دون حرف الجر كقوله تعالى * (رب أوزعنى أن أشكر نعمتك التى أنعمت على) *، وإن عديت إلى المنعم تعدت إليه بحرف الجر الذي هو اللام كقولك: نحمد الله ونشكر له، ولم تأت في القرآن معداة إلا باللام، كقوله * (واشكروا لي ولا تكفرون) * وقوله * (أن اشكر لى ولوالديك) * وقوله * (واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون) * وقوله * (فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا
له إليه ترجعون) * إلى غير ذلك من الآيات.
وهذه هي اللغة الفصحى، وتعديتها للمفعول بدون اللام لغة لا لحن، ومن ذلك قول أبي نخيلة: وهذه هي اللغة الفصحى، وتعديتها للمفعول بدون اللام لغة لا لحن، ومن ذلك قول أبي نخيلة:
* شكرتك إن الشكر حبل من اتقى
* وما كل من أوليته نعمة يقضى
*
وقول جميل بن معمر: وقول جميل بن معمر:
* خليلي عوجا اليوم حتى تسلما
* على عذبة الأنياب طيبة النشر
*
* فإنكما إن عجتما لي ساعة
* شكرتكما حتى أغيب في قبري
*
وهذه الآيات من سورة الواقعة قد دلت على أن اقتران جواب لو باللام، وعدم اقترانه بها كلاهما سائغ، لأنه تعالى قال * (لو نشآء لجعلناه حطاما) * باللام ثم قال * (لو نشآء جعلناه أجاجا) * بدونها. قوله تعالى: * (أفرءيتم النار التى تورون أءنتم أنشأتم شجرتهآ أم نحن المنشئون نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين) *. قوله تعالى: * (التى تورون) * أي توقدونها من قولهم: أورى النار إذا قدحها وأوقدها، والمعنى: أفرأيتم النار التي توقدونها من الشجر أأنتم أنشأتم شجرتها التي توقد منها، أي أوجدتموها من العدم؟
والجواب الذي لا جواب غيره: أنت يا ربنا هو الذي أنشأت شجرتها، ونحن
535

لا قدرة لنا بذلك فيقال: كيف تنكرون البعث وأنتم تعلمون أن من أنشأ شجرة النار وأخرجها منها قادر على كل شيء؟ وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون خلق النار من أدلة البعث، وجاء موضحا في يس في قوله تعالى * (قل يحييها الذى أنشأهآ أول مرة وهو بكل خلق عليم الذى جعل لكم من الشجر الا خضر نارا فإذآ أنتم منه توقدون) * فقوله في آخر يس * (توقدون) * هو معنى قوله في الواقعة: * (تورون) * وقوله في آية يس * (الذى جعل لكم من الشجر الا خضر نارا) * بعد قوله * (يحييها الذى أنشأهآ أول مرة) * دليل واضح على أن خلق النار من أدلة البعث. وقوله هنا * (أءنتم أنشأتم شجرتهآ) * أي الشجرة التي توقد منها كالمرخ والعفار، ومن أمثال العرب في كل شجر نار، واستنجد المرخ والعفار، لأن المرخ والعفار هما أكثر الشجر نصيبا في استخراج النار منهما، يأخذون قضيبا من المرخ ويحكمون به عودا من العفار فتخرج من بينهما النار. ويقال كل شجر فيه نار إلا العناب.
وقوله: * (نحن جعلناها تذكرة) * أي نذكر الناس بها في دار الدنيا إذا أحسوا شدة حرارتها. نار الآخرة التي هي أشد منها حرا لينزجروا عن الأعمال المقتضية لدخول النار، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: أن حرارة نار الآخرة مضاعفة على حرارة نار الدنيا سبعين مرة. فهي تفوقها بتسع وستين ضعفا كل واحد منها مثل حرارة نار الدنيا.
وقوله تعالى * (ومتاعا للمقوين) * أي منفعة للنازلين بالقواء من الأرض، وهو الخلاء والفلاة التي ليس بها أحد، وهم المسافرون، لأنهم ينتفعون بالنار انتفاعا عظيما في الاستدفاء بها والاستضاءة وإصلاح الزاد.
وقد تقرر في الأصول أن من موانع اعتبار مفهوم المخالفة كون اللفظ واردا للامتنان. وبه تعلم أنه لا يعتبر مفهوما للمقوين، لأنه جيء به للامتنان أي وهي متاع أيضا لغير المقوين من الحاضرين بالعمران، وكل شيء خلا من الناس يقال له أقوى، فالرجال إذا كان في الخلا قيل له: أقوى. والدار إذا خلت من أهلها قيل لها أقوت.
ومنه قول نابغة ذبيان: ومنه قول نابغة ذبيان:
* يا دار مية بالعلياء فالسند
* أقوت وطال عليها سالف الأبد
*
وقول عنترة:
536

وقول عنترة:
* حيت من طلل تقادم عهده
* أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
*
وقيل للمقوين: أي للجائعين، وقيل غير ذلك، والذي عليه الجمهور هو ما ذكرنا.
* (فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم * إنه لقرءان كريم * فى كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون * تنزيل من رب العالمين * أفبهاذا الحديث أنتم مدهنون * وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون * فلولا إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ولاكن لا تبصرون * فلولا إن كنتم غير مدينين * ترجعونهآ إن كنتم صادقين * فأمآ إن كان من المقربين * فروح وريحان وجنات نعيم * وأمآ إن كان من أصحاب اليمين * فسلام لك من أصحاب اليمين * وأمآ إن كان من المكذبين الضآلين * فنزل من حميم * وتصلية جحيم * إن هاذا لهو حق اليقين * فسبح باسم ربك العظيم) * قوله تعالى: * (فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم) *. قد قدمنا الكلام عليه في أول سورة النجم. قوله تعالى: * (إن هاذا لهو حق اليقين فسبح باسم ربك العظيم) *. أخبر الله تعالى في هذه الآية الكريمة، وأكد إخباره بأن هذا القرآن العظيم هو حق اليقين، وأمر نبيه بعد ذلك بأن يسبح باسم ربه العظيم.
وهذا الذي تضمنته هذه الآية ذكره الله جل وعلا في آخر سورة الحاقة في قوله في وصفه للقرآن * (وإنه لحسرة على الكافرين وإنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم) *، والحق هو اليقين.
وقد قدمنا أن إضافة الشيء إلى نفسه مع اختلاف اللفظين أسلوب عربي، وذكرنا كثرة وروده في القرآن وفي كلام العرب، ومنه في القرآن قوله تعالى * (ولدار الا خرة) * ولدار هي الآخرة وقوله * (ومكر السيىء) *، والمكر هو السئ بدليل قوله بعده: * (ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله) *.
وقوله: * (من حبل الوريد) * والحبل هو الوريد، وقوله: * (شهر رمضان) * والشهر هو رمضان.
ونظير ذلك من كلام العرب قول امرئ القيس. ونظير ذلك من كلام العرب قول امرئ القيس.
* كبكر المقانات البياض بصفرة
* غذاها نمير الماء غير المخلل
*
والبكر هي المقانات.
وقول عنترة: وقول عنترة:
* ومشك سابغة هتكت فروجها
* بالسيف عن حامي الحقيقة معلم
*
لأن مراده بالمشك هنا الدرع نفسها بدليل قوله: هتكت فروجها، يعني الدرع، وإن كان أصل المشك لغة السير الذي تشد به الدرع، لأن السير لا تمكن إرادته في بيت
537

عنترة هذا خلافا لما ظنه صاحب تاج العروس، بل مراد عنترة بالمشك الدرع، وأضافه إلى السابغة التي هي الدرع كما ذكرنا، وإلى هذا يشير ما ذكروه في باب العلم: وعقده في الخلاصة بقوله: لأن مراده بالمشك هنا الدرع نفسها بدليل قوله: هتكت فروجها، يعني الدرع، وإن كان أصل المشك لغة السير الذي تشد به الدرع، لأن السير لا تمكن إرادته في بيت عنترة هذا خلافا لما ظنه صاحب تاج العروس، بل مراد عنترة بالمشك الدرع، وأضافه إلى السابغة التي هي الدرع كما ذكرنا، وإلى هذا يشير ما ذكروه في باب العلم: وعقده في الخلاصة بقوله:
* وإن يكونا مفردين فأضف
* حتما وإلا أتبع الذي ردف
*
لأن الإضافة المذكورة من إضافة الشيء إلى نفسه مع اختلاف اللفظين، وقد بينا في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب أن قوله في الخلاصة: وقد بينا في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب أن قوله في الخلاصة:
* ولا يضاف اسم لما به اتحد
* معنى وأول موهما إذا ورد
*
أن الذي يظهر لنا من استقراء القرآن والعربية أن ذلك أسلوب عربي، وأن الاختلاف بين اللفظين كاف في المغايرة بين المضاف والمضاف إليه، وأنه لا حاجة إلى التأويل مع كثرة ورود ذلك في القرآن والعربية.
ويدل له تصريحهم بلزوم إضافة الاسم إلى اللقب إن كانا مفردين نحو سعيد كرز، لأن ما لا بد له من تأويل لا يمكن أن يكون هو اللازم كما ترى، فكونه أسلوبا أظهر.
وقوله * (فسبح باسم ربك العظيم) * التسبيح: أصله الإبعاد عن السوء، وتسبيح الله وتنزيهه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله، وذلك التنزيه واجب له في ذاته وأسمائه
وصفاته وأفعاله، والظاهر أن الباء في قوله * (باسم ربك) * داخلة على المفعول، وقد قدمنا في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى * (وهزى إليك بجذع النخلة) * أدلة كثيرة من القرآن وغيره على دخول الباء على المفعول الذي يتعدى إليه الفعل بنفسه، كقوله * (وهزى إليك بجذع النخلة) * والمعنى: وهزي جذع النخلة.
وقوله: * (ومن يرد فيه بإلحاد) * أي إلحادا إلى آخر ما قدمنا من الأدلة الكثيرة، وعليه، فالمعنى: سبح اسم ربك العظيم كما يوضحه قوله في الأعلى * (سبح اسم ربك الاعلى) *.
وقال القرطبي: الاسم هنا بمعنى المسمى، أي سبح ربك، وإطلاق الاسم بمعنى المسمى معروف في كلام العرب، ومنه قول لبيد:
538

وقال القرطبي: الاسم هنا بمعنى المسمى، أي سبح ربك، وإطلاق الاسم بمعنى المسمى معروف في كلام العرب، ومنه قول لبيد:
* إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
* ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
*
ولا يلزم في نظري أن الاسم بمعنى المسمى هنا لإمكان كون المراد نفس الاسم، لأن أسماء الله ألحد فيها قوم ونزهها آخرون عن كل ما لا يليق، ووصفها الله بأنها بالغة غاية الحسن، وفي ذلك أكمل تنزيه لها لأنها مشتملة على صفاته الكريمة، وذلك في قوله * (ولله الأسمآء الحسنى فادعوه بها) * وقوله تعالى: * (أيا ما تدعوا فله الا سمآء الحسنى) *.
ولسنا نريد أن نذكر كلام المتكلمين في الاسم والمسمى، هل الاسم هو المسمى أو لا؟ لأن مرادنا هنا بيان معنى الآية، والعلم عند الله تعالى.
539

((سورة الحديد))
* (سبح لله ما فى السماوات والا رض وهو العزيز الحكيم * له ملك السماوات والا رض يحى ويميت وهو على كل شىء قدير * هو الا ول والا خر والظاهر والباطن وهو بكل شىء عليم * هو الذى خلق السماوات والا رض فى ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج فى الا رض وما يخرج منها وما ينزل من السمآء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير * له ملك السماوات والا رض وإلى الله ترجع الا مور * يولج اليل فى النهار ويولج النهار فى اليل وهو عليم بذات الصدور * ءامنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين ءامنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير * وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين * هو الذى ينزل على عبده ءايات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرءوف رحيم * وما لكم ألا تنفقوا فى سبيل الله ولله ميراث السماوات والا رض لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولائك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير * من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم * يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجرى من تحتها الا نهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم * يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين ءامنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا ورآءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب * ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولاكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الا مانى حتى جآء أمر الله وغركم بالله الغرور * فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هى مولاكم وبئس المصير) * قوله تعالى: * (سبح لله ما فى السماوات والا رض وهو العزيز الحكيم) *. قد قدمنا مرارا أن التسبيح هو تنزيه الله عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله، وأصله في اللغة الإبعاد عن السوء، من قولهم سبح. إذا صار بعيدا، ومنه قيل للفرس: سابح، لأنه إذا جرى يبعد بسرعة، ومن ذلك قول عنترة في معلقته: سبح لله ما فى السماوات والا رض وهو العزيز الحكيم) *. قد قدمنا مرارا أن التسبيح هو تنزيه الله عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله، وأصله في اللغة الإبعاد عن السوء، من قولهم سبح. إذا صار بعيدا، ومنه قيل للفرس: سابح، لأنه إذا جرى يبعد بسرعة، ومن ذلك قول عنترة في معلقته:
* إذ لا أزال على رحالة سابح
* نهر تعاوره الكماة مكلم
*
وقول عباس بن مرداس السلمي:
* لا يغرسون فسيل النخل حولهم
* ولا تخاور في مشتاهم البقر
*
* إلا سوابح كالعقبان مقربة
* في دارة حولها الأخطار والفكر
*
وهذا الفعل الذي هو سبح قد يتعدى بنفسه بدون اللام كقوله تعالى: * (وتسبحوه بكرة وأصيلا) *، وقوله تعالى * (ومن اليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا) *، وقد
يتعدى باللام كقوله هنا: * (سبح لله) *، وعلى هذا فسبحه وسبح له لغتان كنصحه ونصح له. وشكره وشكر له، وذكر بعضهم في الآية وجها آخر، وهو أن المعنى: * (سبح لله ما فى السماوات والا رض) *، أي أحدث التسبيح لأجل الله أي ابتغاء وجهه تعالى. ذكره الزمخشري وأبو حيان، وقيل: * (سبح لله) * أي صلى له.
وقد قدمنا أن التسبيح يطلق على الصلاة، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أهل السماوات والأرض يسبحون لله، أي ينزهونه عما لا يليق، بينه الله جل وعلا في آيات أخر من كتابه كقوله تعالى في سورة الحشر * (سبح لله ما فى السماوات وما فى الا رض وهو العزيز الحكيم) * وقوله في الصف * (سبح لله ما فى السماوات وما فى الا رض وهو العزيز الحكيم) * وقوله في الجمعة * (يسبح لله ما فى السماوات وما فى الا رض الملك القدوس العزيز الحكيم) *، وقوله في التغابن * (يسبح لله ما فى السماوات وما فى الا رض له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير) *.
وزاد في سورة بني إسرائيل أن السماوات السبع والأرض يسبحن لله مع ما فيهما
540

من الخلق وأن تسبيح السماوات ونحوها من الجمادات يعلمه الله ونحن لا نفقهه أي لا نفهمه، وذلك في قوله تعالى: * (تسبح له السماوات السبع والا رض ومن فيهن وإن من شىء إلا يسبح بحمده ولاكن لا تفقهون تسبيحهم) * وهذه الآية الكريمة تدل دلالة واضحة على أن تسبيح الجمادات المذكور فيها وفي قوله تعالى: * (وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن) * ونحو ذلك تسبيح حقيقي يعلمه الله ونحن لا نعلمه.
والآية الكريمة فيها الرد الصريح، على من زعم من أهل العلم، أن تسبيح الجمادات هو دلالة إيجادها على قدرة خالقها، لأن دلالة الكائنات على عظمة خالقها، يفهمها كل العقلاء، كما صرح الله تعالى بذلك في قوله * (إن في خلق السماوات والا رض واختلاف الليل والنهار والفلك التى تجرى فى البحر بما ينفع الناس) * إلى قوله * (لآيات لقوم يعقلون) * وأمثال ذلك من الآيات كثيرة في القرآن.
وقد قدمنا إيضاح هذا في سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى: * (ولله يسجد من فى السماوات والا رض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والا صال) * وفي سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: * (فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض) *، وفي سورة الأحزاب في الكلام على قوله تعالى: * (إنا عرضنا الا مانة على السماوات والا رض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها) * وفي غير ذلك من المواضع.
وقد عبر تعالى هنا في أول الحديد بصيغة الماضي في قوله: * (سبح لله) *، وكذلك هو الحشر، والصف، وعبر في الجمعة والتغابن، وغيرهما بقوله: * (يسبح) * بصيغة المضارع.
قال بعض أهل العلم: إنما عبر بالماضي تارة وبالمضارع أخرى ليبين أن ذلك التسبيح لله، هو شأن أهل السماوات وأهل الأرض، ودأبهم في الماضي والمستقبل ذكر معناه الزمخشري وأبو حيان.
وقوله: * (وهو العزيز الحكيم) * قد قدمنا معناه مرارا وذكرنا أن العزيز، هو الغالب الذي لا يغلبه شيء، وأن العزة هي الغلبة، ومنه قوله: * (ولله العزة ولرسوله) * وقوله: وعزني في الخطاب: أي غلبني في الخصام، ومن أمثال العرب من عز بز، يعنون من غلب استلب، ومنه قول الخنساء
541

: ولله العزة ولرسوله) * وقوله: وعزني في الخطاب: أي غلبني في الخصام، ومن أمثال العرب من عز بز، يعنون من غلب استلب، ومنه قول الخنساء:
* كأن لم يكونوا حمى يختشى
* إذ الناس إذ ذاك من عز بزا
*
والحكيم، هو من يضع الأمور في مواضعها، ويوقعها في مواقعها.
وقوله: * (ما فى السماوات والا رض) *. غلب فيه غير العاقل وقد قدمنا في غير هذا الموضع، أنه تعالى تارة يغلب غير العاقل. في نحو ما في السماوات وما في الأرض لكثرته، وتارة يغلب العاقل لأهميته، وقد جمع المثال للأمرين قوله تعالى في البقرة: * (بل له ما في السماوات والا رض كل له قانتون) *. فغلب غير العاقل في قوله: * (ما في السماوات) *، وغلب العاقل في قوله: * (قانتون) *. قوله تعالى: * (هو الذى خلق السماوات والا رض فى ستة أيام ثم استوى على العرش) *. قوله: * (فى ستة أيام) *. قد قدمنا إيضاحه في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى: * (قل أءنكم لتكفرون بالذى خلق الا رض فى يومين) * إلى قوله تعالى * (فقضاهن سبع سماوات فى يومين) *، وفي سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى: * (إن ربكم الله الذى خلق السماوات والا رض في ستة أيام) *.
وقوله تعالى: * (ثم استوى على العرش) * قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى * (ثم استوى على العرش يغشى اليل النهار) *. وذكرنا طرفا صالحا من ذلك في سورة القتال في كلامنا الطويل على قوله تعالى: * (أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوب أقفالهآ) *. قوله تعالى: * (يعلم ما يلج فى الا رض وما يخرج منها وما ينزل من السمآء وما يعرج فيها) *. قد قدمنا إيضاحه في أول سورة سبأ في الكلام على قوله تعالى: * (يعلم ما يلج فى الا رض وما يخرج منها وما ينزل من السمآء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور) *. قوله تعالى: * (وهو معكم أين ما كنتم) *. قد قدمنا إيضاحه وبينا الآيات القرآنية الدالة على المعية العامة. والمعية الخاصة، مع بيان معنى المعية في آخر سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: * (إن الله مع
542

الذين اتقوا والذين هم محسنون) *. قوله تعالى: * (هو الذى ينزل على عبده ءايات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي ينزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم آيات بينات، أي واضحات، وهي هذا القرآن العظيم، ليخرج الناس بهذا القرآن العظيم المعبر عنه بالآيات البينات من الظلمات، أي من ظلمات الكفر والمعاصي إلى نور التوحيد والهدى، وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء مبينا في قوله تعالى في الطلاق: * (فاتقوا الله ياأولى الألباب الذين ءامنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم ءايات الله مبينات ليخرج الذين ءامنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور) * وآية الطلاق هذه بينت أن آية الحديد من العام المخصوص، وأنه لا يخرج بهذا القرآن العظيم من الظلمات إلى النور إلا من وفقهم الله للإيمان والعمل الصالح، فقوله في الحديد: * (ليخرجكم من الظلمات) * أي بشرط الإيمان والعمل الصالح بدليل قوله: * (ليخرج الذين ءامنوا وعملوا الصالحات من الظلمات) *،.
فالدعوة إلى الإيمان بالقرآن والخروج بنوره من ظلمات الكفر عامة، ولكن التوفيق إلى الخروج به من الظلمات إلى النور خاص بمن وفقهم الله، كما دلت عليه آيات الطلاق المذكورة والله جل وعلا يقول: * (والله يدعو إلى دار السلام ويهدى من يشآء إلى صراط مستقيم) *.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون القرآن نورا يخرج الله به المؤمنين من الظلمات إلى النور، جاء موضحا في آيات من كتاب الله كقوله تعالى: * (ياأيها الناس قد جآءكم برهان من ربكم وأنزلنآ إليكم نورا مبينا) * وقوله تعالى: * (قد جآءكم من الله نور وكتاب مبين يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) * وقوله تعالى: * (فأامنوا بالله ورسوله والنور الذى أنزلنا) * وقوله تعالى: * (فالذين ءامنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذى أنزل معه أولائك هم المفلحون) * وقوله تعالى: * (ولاكن جعلناه نورا نهدى به من نشآء من عبادنا) *.
543

قوله تعالى: * (ولله ميراث السماوات والا رض) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى: * (و إنا نحن نرث الا رض ومن عليها) *. قوله تعالى: * (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجرى من تحتها الا نهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن المؤمنين يوم القيامة، يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، وهو جمع يمين، وأنهم يقال لهم: * (بشراكم اليوم جنات تجرى من تحتها الا نهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم) *.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة مما ذكرنا، جاء موضحا في آيات أخر، أما سعي نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، فقد بينه تعالى في سورة التحريم، وزاد فيها بيان دعائهم الذين يدعون به في ذلك الوقت وذلك في قوله تعالى: * (يوم لا يخزى الله النبى والذين ءامنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنآ أتمم لنا نورنا) *.
وأما تبشيرهم بالجنات، فقد جاء موضحا في مواضع أخر، وبين الله فيها أن الملائكة تبشرهم وأن ربهم أيضا يبشرهم كقوله تعالى: * (يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيهآ أبدا إن الله عنده أجر عظيم) * وقوله تعالى: * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون) * إلى قوله * (نزلا من غفور رحيم) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولاكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الا مانى حتى جآء أمر الله وغركم بالله الغرور) *. الضمير المرفوع في ينادونهم راجع إلى المنافقين والمنافقات، والضمير المنصوب راجع إلى المؤمنين والمؤمنات، وقد ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المنافقين والمنافقات إذا رأوا نور المؤمنين يوم القيامة يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، قالوا لهم: انظروا نقتبس من نوركم، وقيل لهم جوابا لذلك: ارجعوا وراءكم فالتمسوا
544

نورا، وضرب بينهم بالسور المذكور أنهم ينادون المؤمنين: ألم نكن معكم، أي في دار الدنيا، كنا نشهد معكم الصلوات ونسير معكم في الغزوات وندين بدينكم؟ قالوا: بلى، أي كنتم معنا في دار الدنيا، ولكنكم فتنتم أنفسكم.
وقد قدمنا مرارا معاني الفتنة وإطلاقاتها في القرآن، وبينا أن من معاني إطلاقاتها في القرآن الضلال كالكفر والمعاصي، وهو المراد هنا أي فتنتم أنفسكم: أي أضللتموها بالنفاق الذي هو كفر باطن، ومن هذا المعنى قوله تعالى: * (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) * أي لا يبقى شرك كما تقدم إيضاحه، وقوله: * (وتربصتم) * التربص: الانتظار، والأظهر أن المراد به هنا تربص المنافقين بالمؤمنين الدوائر أي انتظارهم بهم نوائب الدهر أن تهلكهم، كقوله تعالى: في منافقي الأعراب المذكورين في قوله: * (وممن حولكم من الا عراب منافقون) *، * (ومن الا عراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دآئرة السوء) * وقوله تعالى: * (وارتبتم) * أي شككتم في دين الإسلام، وشكهم المذكور هنا وكفرهم بسببه بينه الله تعالى في قوله عنهم: * (إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الا خر وارتابت قلوبهم فهم فى ريبهم يترددون) *.
وقوله تعالى: * (وغرتكم الا مانى حتى جآء أمر الله) * الأماني جمع أمنية، وهي ما يمنون به أنفسهم من الباطل، كزعمهم أنهم مصلحون في نفاقهم، وأن المؤمنين حقا سفهاء في صدقهم، أي في إيمانهم، كما بين تعالى ذلك في قوله: * (وإذا قيل لهم لا تفسدوا فى الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون) *، وقوله تعالى: * (وإذا قيل لهم ءامنوا كمآ ءامن الناس قالوا أنؤمن كمآ آمن السفهآء ألا إنهم هم السفهآء) *، وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من كون الأماني المذكورة من الغرور الذي اغتروا به جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى * (ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به) * إلى قوله * (ولا يظلمون نقيرا) *.
وقوله: * (حتى جآء أمر الله) *، الأظهر أنه الموت لأنه ينقطع به العمل.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وغركم بالله الغرور) * هو
545

الشيطان وعبر عنه بصيغة المبالغة، التي هي المفعول لكثرة غروره لبني آدم، كما قال تعالى * (وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) *.
وما ذكره جل وعلا وفي هذه الآية الكريمة، من أن الشيطان الكثير بالغرور غرهم بالله، جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى في آخر لقمان: * (إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحيواة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور) *، وقوله في أول فاطر * (ياأيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحيواة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير) * وقوله تعالى في آية لقمان وآية فاطر المذكورتين * (إن وعد الله حق) *.
وترتيبه على ذلك النهي عن أن يغرهم بالله الغرور، دليل واضح على أن مما يغرهم به الشيطان أن وعد الله بالبعث ليس بحق، وأنه غير واقع، والغرور بالضم الخديعة. قوله تعالى: * (فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى: * (فلن يقبل من أحدهم ملء الا رض ذهبا ولو افتدى به) * وفي غير ذلك من المواضع.
* (ألم يأن للذين ءامنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الا مد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون * اعلموا أن الله يحى الا رض بعد موتها قد بينا لكم الا يات لعلكم تعقلون * إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم * والذين ءامنوا بالله ورسله أولائك هم الصديقون والشهدآء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بأاياتنآ أولائك أصحاب الجحيم * اعلموا أنما الحيواة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر فى الا موال والا ولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفى الا خرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحيواة الدنيآ إلا متاع الغرور * سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السمآء والا رض أعدت للذين ءامنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء والله ذو الفضل العظيم * مآ أصاب من مصيبة فى الا رض ولا فى أنفسكم إلا فى كتاب من قبل أن نبرأهآ إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بمآ ءاتاكم والله لا يحب كل مختال فخور * الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغنى الحميد * لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوى عزيز * ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا فى ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون * ثم قفينا علىءاثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وءاتيناه الإنجيل وجعلنا فى قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغآء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فأاتينا الذين ءامنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون * ياأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وءامنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم * لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شىء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشآء والله ذو الفضل العظيم) * قوله تعالى: * (ألم يأن للذين ءامنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الا مد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون) *. قد قدمنا مرارا أن كل فعل مضارع في القرآن مجزوم بلم، إذا تقدمتها همزة الاستفهام كما هنا فيه وجهان من التفسير معروفان.
الأول منهما: هو أن تقلب مضارعته ماضوية، ونفيه إثباتا، فيكون بمعنى الماضي المثبت، لأن لم حرف تقلب المضارع من معنى الاستقبال إلى معنى المضي، وهمزة الاستفهام إنكارية فيها معنى النفي، فيتسلط النفي الكامن فيها على النفي الصريح في لم فينفيه. ونفي النفي إثبات، فيرجع المعنى إلى الماضي المثبت. وعليه فالمعنى، * (ألم يأن للذين) *: أي آن للذين آمنوا.
والوجه الثاني: أن الاستفهام في جميع ذلك للتقرير، وهو حمل المخاطب على أن
546

يقر فيقول: بلى. وقوله: يأن: هو مضارع أنى يأنى إذا جاء إناه أي وقته، ومنه قول كعب بن مالك رضي الله عنه: والوجه الثاني: أن الاستفهام في جميع ذلك للتقرير، وهو حمل المخاطب على أن يقر فيقول: بلى. وقوله: يأن: هو مضارع أنى يأنى إذا جاء إناه أي وقته، ومنه قول كعب بن مالك رضي الله عنه:
* ولقد أنى لك أن تناهي طائعا
* أو تستفيق إذا نهاك المرشد
*
فقوله: أنى لك أن تناهي طائعا، أي جاء الإناه الذي هو الوقت الذي تتناهى فيه طائعا، أي حضر وقت تناهيك، ويقال في العربية: آن يئين كباع يبيع، وأنى يأني كرمى يرمي، وقد جمع اللغتين قول الشاعر: فقوله: أنى لك أن تناهي طائعا، أي جاء الإناه الذي هو الوقت الذي تتناهى فيه طائعا، أي حضر وقت تناهيك، ويقال في العربية: آن يئين كباع يبيع، وأنى يأني كرمى يرمي، وقد جمع اللغتين قول الشاعر:
* ألما يئن لي أن تجلى عمايتي
* وأقصر عن ليلى بلى قد أنى ليا
*
والمعنى على كلا القولين أنه حان للمؤمنين، وأنى لهم أن تخشع قلوبهم لذكر الله، أي جاء الحين والأوان لذلك، لكثرة ما تردد عليهم من زواجر القرآن ومواعظه.
وقوله تعالى: * (أن تخشع قلوبهم) * المصدر المنسبك من أن وصلتها من أن وصلتها في محل رفع فاعل بأن، والخشوع أصله في اللغة السكون والطمأنينة والانخفاض، ومنه قول نابغة ذبيان: أن تخشع قلوبهم) * المصدر المنسبك من أن وصلتها من أن وصلتها في محل رفع فاعل بأن، والخشوع أصله في اللغة السكون
والطمأنينة والانخفاض، ومنه قول نابغة ذبيان:
* رماد ككحل العين لأيا أبينه
* ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع
*
فقوله: خاشع أي منخفض مطمئن، والخشوع في الشرع خشية من الله تداخل القلوب، فتظهر آثارها على الجوارح بالانخفاض والسكون، كما هو شأن الخائف.
وقوله: * (لذكر الله) *، الأظهر منه أن المراد خشوع قلوبهم لأجل ذكر الله، وهذا المعنى دل عليه قوله تعالى: * (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) * أي خافت عند ذكر الله، فالوجل المذكور في آية الأنفال هذه، والخشية المذكورة هنا معناهما واحد.
وقال بعض العلماء: المراد بذكر الله القرآن، وعليه فقوله: * (وما نزل من الحق) * من عطف الشيء على نفسه مع اختلاف اللفظين، كقوله تعالى: * (سبح اسم ربك الاعلى الذى خلق فسوى والذى قدر فهدى) *، كما أوضحناه مرارا.
وعلى هذا القول، فالآية كقوله تعالى: * (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها
547

مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) *، فالاقشعرار المذكور، ولين الجلود والقلوب عند سماع هذا القرآن العظيم المعبر عنه بأحسن الحديث، يفسر معنى الخشوع لذكر الله، وما نزل من الحق هنا كما ذكر، وقوله تعالى: * (ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الا مد فقست قلوبهم) * قد قدمنا في سورة البقرة في الكلام على قوله: * (ثم قست قلوبكم) * بعض أسباب قسوة قلوبهم، فذكرنا منها طول الأمد المذكور هنا في آية الحديد هذه، وغير ذلك في بعض الآيات الأخر.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كثرة الفاسقين، من أهل الكتاب جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى: * (ولو ءامن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) * وقوله تعالى: * (فأاتينا الذين ءامنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما) *. قد قدمنا الكلام عليه في سورة الزمر في الكلام على قوله تعالى: * (ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما) *، وبينا هناك الآية الدالة على سبب اصفراره. قوله تعالى: * (مآ أصاب من مصيبة فى الا رض ولا فى أنفسكم إلا فى كتاب من قبل أن نبرأهآ إن ذلك على الله يسير) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن كل ما أصاب من المصائب في الأرض كالقحط والجدب والجوائح في الزراعة والثمار وفي الأنفس، من الأمراض والموت كله مكتوب في كتاب قبل خلق الناس، وقبل وجود المصائب، فقوله: * (من قبل أن نبرأهآ) *، الضمير فيه عائد على الخليقة المفهومة في ضمن قوله: * (و فى أنفسكم) * أو إلى المصيبة، واختار بعضهم رجوعه لذلك كله.
وقوله تعالى: * (إن ذلك على الله يسير) * أي سهل هين لإحاطة علمه وكمال قدرته.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أنه لا يصيب الناس شيء من المصائب إلا وهو
548

مكتوب عند الله قبل ذلك، أوضحه الله تعالى في غير هذا الموضع، كقوله تعالى: * (قل لن يصيبنآ إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * وقوله تعالى * (مآ أصاب من مصيبة إلا بإذن الله) * وقوله تعالى: * (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الا موال والا نفس والثمرات وبشر الصابرين) *، لأن قوله: * (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع) * قبل وقوع ذلك دليل على أن هذه المصائب معلومة له جل وعلا قبل وقوعها، ولذا أخبرهم تعالى بأنها ستقع، ليكونوا مستعدين لها وقت نزولها بهم، لأن ذلك يعينهم على الصبر عليها، ونقص الأموال والثمرات مما أصاب من مصيبة، ونقص الأنفس في قوله: والأنفس، مما أصاب من مصيبة في الأنفس، وقوله في آية الحديد هذه * (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بمآ ءاتاكم) * أي بينا لكم أن الأشياء مقدرة مكتوبة قبل وجود الخلق، وأن ما كتب واقع لا محالة لأجل ألا تحزنوا على شيء فاتكم، لأن فواته لكم مقدر، وما لا طمع فيه قل الأسى عليه، ولا تفرحوا بما آتاكم، لأنكم إذا علمتم أن ما كتب لكم من الرزق والخير لا بد أن يأتيكم قل فرحكم به، وقوله: تأسوا، مضارع أسى بكسر السين يأسى بفتحها أسى بفتحتين على القياس، بمعنى حزن ومنه قوله تعالى: * (فلا تأس على القوم الكافرين) * وقوله: من مصيبة مجرور في محل رفع لأنه فاعل أصاب جر بمن المزيدة لتوكيد النفي، وما نافية. قوله تعالى: * (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) *. قد قدمنا الكلام عليه في سورة شورى هذا الكلام على قوله: * (الله الذى أنزل الكتاب بالحق والميزان) *، وقدمنا هناك كلام أهل العلم في معناه. قوله تعالى: * (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد) *. بين الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة والتي قبلها، أن إقامة دين الإسلام تنبني على أمرين: أحدهما هو ما ذكره بقوله * (وأنزلنا معهم الكتاب والميزان) * لأن في ذلك إقامة البراهين على الحق وبين الحجة وإيضاح الأمر والنهي والثواب والعقاب، فإذا أصر الكفار على الكفر وتكذيب الرسل مع ذلك البيان والإيضاح، فإن الله تبارك
549

وتعالى أنزل الحديد أي خلقه لبني آدم ليردع به المؤمنون الكافرين المعاندين، وهو قتلهم إياهم بالسيوف والرماح والسهام، وعلى هذا فقوله هنا: * (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد) * توضحه آيات كثيرة، كقوله تعالى: * (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم) *، وقوله تعالى * (فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان) *، والآيات في مثل ذلك كثيرة معلومة، وقوله: * (ومنافع للناس) *، لا يخفى ما في الحديد من المنافع للناس، وقد أشار الله إلى ذلك في قوله: * (ومما يوقدون عليه فى النار ابتغآء حلية أو متاع) * لأن مما يوقد عليه في النار ابتغاء المتاع الحديد. قوله تعالى: * (فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون) *. قد قدمنا
الآيات الموضحة له في سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى: * (وجعلها كلمة باقية فى عقبه لعلهم يرجعون بل متعت هاؤلاء) *. قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وءامنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم) *. قد قدمنا أن التحقيق أن هذه الآية الكريمة من سورة الحديد في المؤمنين من هذه الأمة، وأن سياقها واضح في ذلك، وأن من زعم من أهل العلم أنها في أهل الكتاب فقد غلط، وأن ما وعد الله به المؤمنين من هذه الأمة أعظم مما وعد به مؤمني أهل الكتاب وإتيانهم أجرهم مرتين كما قال تعالى فيهم: * (الذين ءاتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا ءامنا به إنه الحق من ربنآ إنا كنا من قبله مسلمين أولائك يؤتون أجرهم مرتين) *.
وكون ما وعد به المؤمنين من هذه الأمة أعظم أن إيتاء أهل الكتاب أجرهم مرتين أعطى المؤمنين من هذه الأمة مثله كما بينه بقوله: * (يؤتكم كفلين من رحمته) *، وزادهم بقوله: * (ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم) *. قوله تعالى: * (وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشآء والله ذو الفضل العظيم) *. ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الفضل بيد الله وحده وأنه يؤتيه من يشاء جاء
550

موضحا في آيات كثيرة كقوله تعالى * (وإن يردك بخير فلا رآد لفضله) *.
وقد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة فاطر في الكلام على قوله تعالى: * (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده) *.
551

((سورة المجادلة))
* (قد سمع الله قول التى تجادلك فى زوجها وتشتكى إلى الله والله يسمع تحاوركمآ إن الله سميع بصير * الذين يظاهرون منكم من نسآئهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائى ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور * والذين يظاهرون من نسآئهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتمآسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير * فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتمآسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم * إن الذين يحآدون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنآ ءايات بينات وللكافرين عذاب مهين * يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شىء شهيد * ألم تر أن الله يعلم ما فى السماوات وما فى الا رض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شىء عليم * ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول وإذا جآءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون فى أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير * ياأيها الذين ءامنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذى إليه تحشرون * إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين ءامنوا وليس بضآرهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون * ياأيها الذين ءامنوا إذا قيل لكم تفسحوا فى المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير * ياأيها الذين ءامنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدى نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم * أءشفقتم أن تقدموا بين يدى نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلواة وءاتوا الزكواة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون * ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون * أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم سآء ما كانوا يعملون * اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين) * قوله تعالى: * (الذين يظاهرون منكم من نسآئهم ما هن أمهاتهم) * إلى قوله: * (فإطعام ستين مسكينا) *. قد قدمنا الكلام عليه موضحا في سورة الأحزاب في الكلام على قوله تعالى: * (وما جعل أزواجكم اللائى تظاهرون منهن أمهاتكم) * وبينا هناك كلام أهل العلم، وأدلتهم ومناقشتها في مسائل الظهار، ومسائل أحكام الكفارة بالعتق، والصيام، والإطعام، وأوجه القراءة في الآية. قوله تعالى: * (ألم تر أن الله يعلم ما فى السماوات وما فى الا رض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) * إلى قوله * (إن الله بكل شىء عليم) *. قد قدمنا الكلام عليه في آخر سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: * (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) *، وذكرنا هناك معنى المعية الخاصة، والمعية العامة، والآيات القرآنية الدالة على كل واحدة منهما. قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان) *. قد قدمنا الكلام عليه مع بيان الفرق بين النجوى بالخير، والنجوى بالإثم والعدوان في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى * (لا خير فى كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس) *. قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم) *. قال بعض أهل العلم: معنى * (ألم تر إلى الذين تولوا) *: ألم ينته علمك إلى الذين تولوا.
وقد قدمنا الرد على من قال: إن لفظة * (ألم تر) * لا تعدى إلا بحرف الجر الذي هو
552

إلى، ولا تتعدى بنفسها إلى المفعول، وبينا أن ذلك وإن كان هو الذي في القرآن في جميع المواضع فإن تعديتها إلى المفعول بنفسها صحيحة.
ومن شواهد ذلك قول امرئ القيس: ومن شواهد ذلك قول امرئ القيس:
* ألم ترياني كلما جئت طارقا
* وجدت بها طيبا وإن لم تطيب
*
والمراد إنكار الله على المنافقين توليهم القوم الذين غضب الله عليهم، وهم اليهود والكفار. وهذا الإنكار يدل على شدة منع ذلك التولي، وقد صرح الله بالنهي عن ذلك في قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم) *.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون المنافقين ليسوا من المؤمنين، ولا من القوم الذين تولوهم وهم الذين غضب الله عليهم من اليهود، جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى * (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم) * إلى قوله مذبذبين بين ذالك لا إلى هاؤلاء ولا إلى هاؤلاء) *. قوله تعالى: * () *. قوله تعالى: * (اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن المنافقين اتخذوا أيمانهم جنة والأيمان جمع يمين، وهي الحلف، والجنة هي الترس الذي يتقي به المقاتل وقع السلاح، والمعنى أنهم جعلوا الإيمان الكاذبة، وهي حلفهم للمسلمين أنهم معهم وأنهم مخلصون في باطن الأمر، ترسا لهم يتقون به الشر الذي ينزل بهم لو صرحوا بكفرهم، وقوله تعالى * (فصدوا عن سبيل الله) * الظاهر أنه من صد المتعدية، وأن المفعول محذوف أي فصدوا غيرهم ممن أطاعهم لأن صدودهم في أنفسهم دل عليه قوله * (اتخذوا أيمانهم جنة) * والحمل على التأسيس أولى من الحمل على التأكيد، كما أوضحناه مرارا.
وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة وهما كون المنافقين يحلفون الأيمان الكاذبة لتكون لهم جنة، وأنهم يصدون غيرهم عن سبيل الله جاءا موضحين في آيات أخر من كتاب الله، أما أيمانهم الكاذبة فقد بينها الله جل وعلا في آيات كثيرة، كقوله تعالى في هذه السورة * (ويحلفون على الكذب وهم يعلمون) *، وقوله تعالى * (يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه) *، وقوله تعالى: * (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس
553

ومأواهم جهنم) *. وقوله تعالى * (وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون) * وقوله تعالى * (اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم سآء ما كانوا يعملون) *.
وأما صدهم من أطاعهم عن سبيل الله فقد بينه الله في آيات من كتابه كقوله تعالى * (قد يعلم الله المعوقين منكم والقآئلين لإخوانهم هلم إلينا) *، وقوله تعالى * (ياأيها الذين ءامنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا فى الا رض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا) *، وقوله تعالى: * (الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا) *، وقوله تعالى: * (وإن منكم لمن ليبطئن) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (فلهم عذاب مهين) *، أي لأجل نفاقهم، كما قال تعالى * (إن المنافقين فى الدرك الا سفل من النار) *.
* (لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أولائك أصحاب النار هم فيها خالدون * يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شىء ألا إنهم هم الكاذبون * استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولائك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون * إن الذين يحآدون الله ورسوله أولائك فى الا ذلين * كتب الله لاغلبن أنا ورسلى إن الله قوى عزيز * لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الا خر يوآدون من حآد الله ورسوله ولو كانوا ءابآءهم أو أبنآءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولائك كتب فى قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الا نهار خالدين فيها رضى الله عنهم ورضوا عنه أولائك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون) * قوله تعالى: * (لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: * (ودخل جنته وهو ظالم لنفسه) * إلى قوله * (خيرا منها منقلبا) *. قوله تعالى: * (استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله) *. ما تضمنته هذه الآية الكريمة من إسناد إنساء ذكر الله إلى الشيطان، ذكره تعالى في غير هذا الموضع كقوله تعالى: * (وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) *، وقوله تعالى * (فأنساه الشيطان ذكر ربه) *، وفي معناه قول فتى موسى: * (ومآ أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره) *. قوله تعالى: * (إن الذين يحآدون الله ورسوله أولائك فى الا ذلين) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الذين يحادون الله ورسوله داخلون في جملة الأذلين، لا يوجد أحد أذل منهم وقوله: * (يحآدون الله ورسوله) * أي يعادون ويحالفون ويشاقون، وأصله مخالفة حدود الله التي حدها.
وقوله: * (فى الا ذلين) * أي الذين هم أعظم الناس ذلا. والذل: الصغار والهوان والحقارة.
554

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الذين يحادون الله ورسوله هم أذل خلق الله، بينه جل وعلا في غير هذا الموضع، وذلك بذكره أنواع عقوبتهم المفضية إلى الذل والخزي والهوان، كقوله تعالى: * (ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذالك الخزى العظيم) * وقوله تعالى: * (إن الذين يحآدون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم) *، وقوله تعالى * (ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم فى الدنيا ولهم فى الا خرة عذاب النار ذلك بأنهم شآقوا الله ورسوله ومن يشآق الله فإن الله شديد العقاب) * وقوله تعالى * (فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ذالك بأنهم شآقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ذالكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (كتب الله لاغلبن أنا ورسلى إن الله قوى عزيز) *. قد دلت هذه الآية الكريمة على أن رسل الله غالبون لكل من غالبهم، والغلبة نوعان: غلبة بالحجة والبيان، وهي ثابتة لجميع الرسل، وغلبة بالسيف والسنان، وهي ثابتة لمن أمر بالقتال منهم دون من لم يؤمر به.
وقد دلت هذه الآية الكريمة، وأمثالها من الآية كقوله تعالى: * (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون) * أنه لن يقتل نبي في جهاد قط، لأن المقتول ليس بغالب، لأن القتل قسم مقابل للغلبة، كما بينه تعالى في قوله: * (ومن يقاتل فى سبيل الله فيقتل أو يغلب) *. وقال تعالى: * (إنا لننصر رسلنا) *. وقد نفى عن المنصور كونه مغلوبا نفيا باتا في قوله تعالى: * (إن ينصركم الله فلا غالب لكم) *.
وبهذا تعلم أن الرسل الذين جاء في القرآن أنهم قتلوا كقوله تعالى: * (أفكلما جآءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون) * وقوله تعالى: * (قل قد جآءكم رسل من قبلى بالبينات وبالذى قلتم فلم قتلتموهم) * ليسوا مقتولين في جهاد، وأن نائب الفاعل في قوله تعالى: * (وكأين من نبى
555

قاتل معه ربيون) *، على قراءة قتل بالبناء للمفعول، هو ربيون لا ضمير النبي.
وقد أوضحنا هذا غاية الإيضاح بالآيات القرآنية في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى: * (وكأين من نبى قاتل معه ربيون كثير) * وذكرنا بعضه في الصافات في الكلام على قوله تعالى: * (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين) *. قوله تعالى: * (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الا خر يوآدون من حآد الله ورسوله ولو كانوا ءابآءهم أو أبنآءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) *. وردت هذه الآية الكريمة بلفظ الخبر، والمراد بها الإنشاء، وهذا النهي البليد، والزجر العظيم عن موالاة أعداء الله، وإيراد الإنشاء بلفظ الخبر أقوى وأوكد، من إيراده الإنشاء، كما هو معلوم في محله، ومعنى قوله: * (يوآدون من حآد الله ورسوله) *: أي يحبون ويوالون أعداء الله ورسوله.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي والزجر العظيم عن موالاة أعداء الله جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى: * (قد كانت لكم أسوة حسنة فى إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضآء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده) *. وقوله تعالى: * (محمد رسول الله والذين معه أشدآء على الكفار رحمآء بينهم) *، وقوله تعالى: * (فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) *. وقوله تعالى: * (وليجدوا فيكم غلظة) *. وقوله تعالى: * (ياأيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (ولو كانوا ءابآءهم) * زعم بعضهم أنها نزلت في أبي عبيدة بن الجراح قائلا: إنه قتل أباه كافرا يوم بدر أو يوم أحد، وقيل: نزلت في ابن عبد الله بن عبد الله بن أبي المنافق المشهور، وزعم من قال: إن عبد الله استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه عبد الله بن أبي فنهاه، وقيل: نزلت في أبي بكر، وزعم من قال إن أباه أبا قحافة سب النبي صلى الله عليه وسلم قبل إسلامه فضربه ابنه أبو بكر حتى سقط.
556

وقوله: * (أو أبناءهم) *، زعم بعضهم أنها نزلت في أبي بكر حين طلب مبارزة ابنه عبد الرحمان يوم بدر.
وقوله: * (أو إخوانهم) * زعم بعضهم أنها نزلت في مصعب بن عمير قالوا: قتل أخاه عبيد بن عمير. وقال بعضهم: مر بأخيه يوم بدر يأسره رجل من المسلمين، فقال: شدد عليه الأسر، علم أن أمه ملية وستفديه.
وقوله: * (أو عشيرتهم) * قال بعضهم: نزلت في عبيدة بن الحارث بن المطلب، وحمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم، لما قتلوا عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، في المبارزة يوم بدر، وهم بنو عمهم، لأنهم أولاد ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف. وعبد شمس أخو هاشم كما لا يخفى، وقوله تعالى: * (أولائك كتب فى قلوبهم الإيمان) * أي ثبته في قلوبهم بتوفيقه.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تثبيت الإيمان في قلوبهم جاء موضحا في قوله تعالى: * (ولاكن الله حبب إليكم الايمان وزينه فى قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولائك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة) *.
557