الكتاب: نهاية الأفكار
المؤلف: تقرير بحث آقا ضياء ، للبروجردي
الجزء: ١
الوفاة: ١٣٨٣
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة - إيران
ردمك:
ملاحظات:

نهاية الأفكار الجز الأول
في مباحث الألفاظ تقرير أبحاث العلامة المحقق آية الله العظمى
الشيخ آغا ضياء الدين العراقي قدس سره تأليف الفقيه المحقق
و الأصولي المدقق الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي طاب ثراه
الجز الأول مؤسسة النشر الاسلامي (التابعة) لجماعة
المدرسين بقم المشرفة (إيران)
1

بسم الله الرحمن الرحيم
2

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه أشرف بريته
محمد وآله الطاهرين واللعنة الأبدية على أعدائهم وغاصبي
حقوقهم أجمعين من الان إلى قيام يوم الدين آمين رب العالمين.
اما بعد فهذا تأليف منيف مشتمل لمهمات الأصول من إفادات شيخنا
العلامة الأستاذ الشيخ ضيأ الدين العراقي أدام الله ظله على روس
الأنام مما استفدتها في درسه الشريف حسب فهمي القاصر، والله
هو الموفق للصواب، وقد سميتها بنهاية الأفكار ورتبتها على
مقدمة ومقاصد وخاتمة
اما المقدمة فيذكر فيها أمور:
الأمر الأول في بيان تعريف العلم وموضوعه
(كما هو المتداول بين أرباب التصانيف) فنقول وعليه التكلان: اعلم: بان كل من قنن قانونا أو أسس فنا من الفنون لا بد وان يلاحظ
في نظره أولا في مقام تأسيس الفن غرضا ومقصدا خاصا، ثم يجمع شتاتا من القواعد والمسائل
3

الخاصة التي هي عبارة عن مجموع القضية من الموضوع والمحمول أو المحمولات المنتسبة إلى الموضوعات مما كانت وافية بذلك
الغرض والمقصد المخصوص، كما عليه أيضا قد جرى ديدن أرباب الفنون من الصدر الأول، حيث إنه قد جرى ديدنهم على تدوين
شتات من القواعد الخاصة مما كانت وافية بغرض مخصوص ومقصد خاص لهم وجعلهم إياها فنا خاصا وموسومة باسم مخصوص
كالصرف والنحو والهيئة والهندسة والفقه والأصول وغير ذلك.
ومن المعلوم أيضا - كما عرفت - انه لا يكاد يجمع من القضايا والقواعد في كل فن إلا ما كانت منها محصلة لذلك الغرض والمقصد
الخاص ومرتبطة به، دون غيرها من القضايا التي لا يكون لها دخل في ذلك الغرض ولا مرتبطة به، فمن كان غرضه مثلا هو صيانة
الكفر عن الخطأ كما في علم المنطق أو صيانة الكلام عن الغلط لا بد له من تدوين القضايا والقواعد التي لها دخل في الغرض المزبور
دون غيرها من القضايا الغير المرتبطة به، وعلى ذلك ربما أمكن اشتراك العلمين أو أزيد في بعض المسائل بان كان مسألة واحدة من
مسائل العلمين باعتبارين كما سنبينه (إن شاء الله تعالى).
وعلى كل حال فحقيقة كل فن وعلم عبارة عن نفس تلك القواعد الواقعية والكبريات النفس الامرية المحفوظة في مرتبة ذاتها و
المعروضة للعلم تارة وللجهل أخرى، لا صورها التصورية أو التصديقية، فكان لعلم النحو والصرف واقع محفوظ في نفس الامر وهي
القواعد الخاصة وان لم يكن لها محصل في العالم أصلا، وبهذا الاعتبار أيضا يقال بأن المسألة الكذائية من أجزأ فن دون فن آخر،
فكانت أسامي هذه الفنون كالنحو والصرف والفقه والكلام وغيرها حاكيات عن نفس تلك القواعد الواقعية بأجمعها مع قطع النظر
عن إدراكها محصلها، ومن ذلك إضافة العلم إليها تارة والجهل أخرى كما في قولك فلان عالم بالنحو والصرف وفلان جاهل بهما، فلو
انه كان العلم والفن عبارة عن العلم بتلك القواعد لما كان مجال لإضافة العلم إليها تارة والجهل أخرى، كما لا يخفى.
وعلى ذلك فما في بعض التعابير من التعبير عن تلك الفنون بالعلم بها - كقولهم في مقام التعريف: بأن النحو علم بكذا، وان الصرف
علم بكذا - لا يخلو عن مسامحة واضحة، إلا إذا كان ذلك منهم باعتبار وجوده الادراكي الذي هو في الحقيقة إحدى مراتب
4

وجود الشئ، كما أنه يمكن ان يكون التعبير بالصناعة أيضا باعتبار استنباط مسائل ذلك الفن، ولكن حق التعبير في مقام شرح
عناوين العلوم هو التعبير عنها بما عرفت بكونها عبارة عن القواعد الخاصة التي لها دخل في الغرض الذي دعى إلى تدوينه، كالاقتدار
على التكلم الصحيح مثلا في علم النحو.
ومن ذلك البيان ظهر أيضا حال إضافة الموضوع إلى العلم فإنه على ما ذكرنا لا بد وان يراد من العلم في إطلاقه على العناوين الخاصة
وإضافة الموضوع الخاص إليه نفس القواعد الواقعية والا فلا معنى لإضافة الموضوع إلى التصديق بها لان معروض التصديق هو النفس
ومتعلقه نفس القواعد فلا مجال بعد لإضافة الموضوع الخاص إليه.
كما أنه في إضافة الغاية إليه أيضا لا بد وان يراد من العلم هذا المعنى فيما لو أريد من الغرض والغاية ما يترتب على نفس القواعد
الواقعية لا الأغراض المترتبة على تحصيل العلم بها لان ذلك لا يكون تحت ضبط بل يختلف باختلاف الأغراض الداعية إلى تحصيلها، فقد
لا يكون غرض المحصل لعلم النحو مثلا حفظ كلامه عن الخطأ والغلط بل كان غرضه شيئا آخر.
تذكار فيه إرشاد:
اعلم بأن المراد من الغرض والغاية في كل شئ هو المقصد الأصلي الذي دعى إلى تحصيل مقدماته للتوصل بها إليه، ومن ذلك لا بد من
ترتبه عليها، وعليه فكما انه لا بد في كل فن من غرض وغاية في نظر الجاعل له كذلك لا بد وأن يكون ذلك الغرض والغاية مترتبا
على قواعد ذلك العلم والفن، وهذا بحسب أصل الكبرى مما لا إشكال فيه، نعم انما الكلام في صغرى الغرض الداعي إلى جعل العلم و
تمهيد قواعده وانه أي شئ؟ وفي مثله نقول بأنه لو جعلنا الغرض في كل علم عبارة عن تصحيح الأعمال القابلة للصدور من فاعلها قولا
أو فعلا أو استنباطا، وبعبارة أخرى، حيث اتصاف ذوات الأعمال القابلة للصدور من فاعلها بالصحة قولا أو فعلا أو استنباطا كاتصاف
الكلام هيئة بالصحة في النحو، ومادة في الصرف، وافعال المكلفين في الفقه، ونحو ذلك، فلازمه هو كون التصحيح المزبور مترتبا
على نفس القواعد الواقعية بلا دخل لشئ آخر
5

فيه أصلا، إذا القواعد المزبورة حينئذ من مبادئ اتصاف هذه الأمور بالصحة في قبال مبادئ إيجاد هذه الأمور الصحيحة خارجا فارغا
عن أصل اتصافها بها فتكون من قبيل المقدمة المنحصرة لتصحيح الأمور المزبورة من دون مدخلية لشئ آخر فيه، من جهة انه بمجرد
جعل القواعد يترتب عليها الاتصاف بالصحة الذي هو الغرض من العلم والفن وان لم يتحقق بعد في الخارج أصلا، فان مبادئ الوجود
غير مرتبط بمبادئ اتصاف الشئ بالصحة. هذا إذا جعلها الأغراض من العلوم المتداولة عبارة من تصحيح الأعمال القابلة للصدور من
فاعلها قولا أو فعلا أو استنباطا أو غيرها، ولقد عرفت في مثله ترتب العنوان المزبور بقول مطلق على نفس القواعد الواقعية بلا مدخلية
الشئ آخر فيه.
واما لو جعلنا الأغراض عبارة عن وجود الأعمال الصحيحة في الخارج كحفظ الكلام هيئة في النحو ومادة في الصرف وحفظ فعل
المكلف في الفقه وحفظ استنباط الاحكام في القواعد الأصولية بل وحفظ استنباط حقائق الأشياء ومعرفتها في مثل قواعد العلوم
الفلسفية والرياضية وهكذا، فلا جرم ما يترتب على القواعد حينئذ لما لا يكون إلا الحفظ من جهة، لا الحفظ على الاطلاق، من جهة وضوح
استحالة ترتبه حينئذ على نفس القواعد الواقعية، بل ولا على العلم بها أيضا لمكان مدخلية إرادة العالم والمحصل لها في ذلك أيضا، فلا
بد وأن يكون الغرض والمقصد الأصلي الذي هو مورد إرادته النفسية عبارة عما يترتب على هذه القواعد وليس هو إلا الحفظ من جهة
الراجع إلى سد باب عدمه من قبلها، لا الحفظ بقول مطلق، من جهة أن ذلك مما يستحيل تمشي الإرادة التوصلية بالنسبة إليه لأنها لا تكاد
تتعلق إلا بما يترتب على ذيها، بل ومثل هذا المعنى جار في كل أمر كان لإرادة الغير مدخل في تحققه كما في الملكية في البيع مثلا و
نحوها، فإنها من جهة إناطتها في التحقق على إيجاب البائع وقبول المشتري لا يكاد تمشي الإرادة والقصد الجدي من البائع في إيجابه
إلى حصول الملكية في الخارج بقول مطلق، بل ما هو المتمشي من قبله لا يكون إلا التوصل إلى وجود الملكية من ناحية إيجابه الراجع إلى
سد باب عدمها من قبل، لا السد بقول مطلق، كما كان ذلك هو الشأن أيضا في كلية الخطابات الشرعية والاحكام التكليفية المتعلقة
بأفعال المكلفين حيث إنه لا يكون الغرض والمقصود من الايجاب الخطاب أيضا فيها إلا حفظ وجود المرام من ناحية إيجابه وخطابه لا
الحفظ على الاطلاق، فان ذلك مما لا يكاد ترتبه على مجرد إيجابه وخطابه،
6

نظرا إلى مدخلية اختيار المكلف والمأمور وإرادته أيضا، كما هو ظاهر. وحينئذ ففي المقام أيضا بعد إن كان تحقق الكلام الصحيح و
الاستنباط الصحيح منوطا بإرادة المتكلم والمستنبط المحصل للقواعد فيستحيل كونه هو الغرض والمقصد الأصلي من العلم، فلا بد
حينئذ من جعل الغرض والمقصد الأصلي عبارة عما يترتب على الأمور المزبورة وهو لا يكون إلا الحفظ من جهة لا الحفظ على الاطلاق.
وعلى ذلك فلا مجال لما قد يتوهم من الاشكال في أصل الغرض والغاية للعلم وإنكاره ونفى كون تمايز العلوم بتمايز الأغراض من
جهة ما يرى من تخلفه كثيرا لأنه كثيرا يتعلم الشخص قواعد النحو والصرف ومع ذلك لا يتحقق عنوان الحفظ المزبور من جهة تكلمه
غلطا على غير القواعد ولو عن تعمد منه في ذلك، مع أن الغرض مما لا بد منه ومن ترتبه البتة، إذ فيه ان غاية ذلك انما هو نفى كون
عنوان الحفظ عن الخطأ في المقال مثلا غرضا لعلم النحو مثلا، لا نفى أصل الغرض والغاية للعلم كلية، كيف وقد عرفت بأنه مما لا بد منه
في كل فن ليكون هو الداعي والباعث على تمهيد قواعده، على أنه نقول بعدم إضرار ذلك أيضا في كون الحفظ المزبور هو الغرض
الداعي على جعل قواعد العلم، وذلك لما عرفت بأن الغرض في أمثال هذه النتائج التي فيها مدخلية لإرادة الغير ليس إلا الحفظ من جهة
الراجع إلى سد باب عدمه من ناحية تلك القواعد لا الحفظ على الاطلاق حتى من ناحية غيرها، ومثل ذلك أيضا كما عرفت مما لا يكاد
تخلفه على كل حال، حيث إنه بمجرد تمهيد القواعد يترتب عليها الحفظ من جهة، ولو لم يكن لها محصل في العالم أصلا أو كان لها
محصل ولكنه لم يتحقق في الخارج من جهة تعمد المحصل لها على التكلم غلطا على خلاف قواعد النحو والصرف، كما هو ظاهر،
خصوصا مع إمكان جعل الغرض والمقصد الأصلي من كل علم عبارة عن تصحيح الأعمال القابلة للصدور من فاعلها قولا أو فعلا أو
استنباطا الذي هو مترتب لا محالة بقول مطلق على نفس القواعد بلا دخل لشئ آخر فيه.
وعلى كل حال فسواء جعلنا الغرض في العلوم عبارة عن تصحيح الأعمال القابلة للصدور من فاعلها أو عنوان الحفظ على ما شرحناه، فلا
ينبغي الاشكال في عدم كون دخل القواعد فيه من باب دخل المؤثر في المتأثر بنحو كان بينهما المؤثرية والمتأثرية، بل وانما هو من
باب دخل طرف الإضافة وما تقوم بها لنفس الإضافة والمضاف بوصف كونه
7

مضافا، فان عنوان الحفظ المزبور والصحة المسطورة انما هو منتزع من تطبيق من يطبق القواعد المعهودة من كل علم على ما ينسب
إليه الحفظ المزبور والصحة المسطورة، فالقواعد الواقعية في الحقيقة منطبقة على مواردها ومن هذا الانطباق ينتزع العنوانان، وإلا
فالمؤثر في وجود الأعمال الصحيحة خارجا انما هو إرادة الفاعل لإيجاد الأعمال الصحيحة، وعلى ذلك فكانت القواعد الواقعية طرا
طرفا لهذه الإضافة، وكان للحفظ المزبور أيضا جهات عديدة تترتب كل جهة على قاعدة من تلك القواعد بلحاظ مطابقتها معها، كما في
صحة الصلاة مثلا وحفظها، حيث إن صحتها انما هي بلحاظ مطابقتها باجزائها وشرائطها لتلك القواعد المجعولة في باب الصلاة
الراجعة بعضها إلى اجزائها وبعضها إلى شرائطها وموانعها، فمن مطابقتها بجهاتها الراجعة إلى اجزائها وشرائطها لمجموع تلك
القواعد ينتزع عنها عنوان الصحة، كما أن من عدم مطابقتها لمجموعها ينتزع عنها عنوان الفساد، وهكذا الكلام في عنوان حفظ الكلام
عن الغلط الذي جعل غرضا لعلم النحو، حيث إنه كان لعنوان الحفظ المزبور جهات عديدة وإضافات متعددة إلى كل قاعدة من قواعد
الفن إضافة خاصة، وكان انتزاع عنوان الحفظ المسطور من مطابقة الكلام لمجموع تلك القواعد الواقعية، وحينئذ فإذا كانت القواعد
الواقعية على شتاتها طرفا للإضافة بالنسبة إلى الغرض فلا جرم لا يكاد يكون دخلها في الغرض إلا بنحو دخل طرف الإضافة في
المضاف بوصف كونه مضافا، لا دخلا تأثيريا، كما هو واضح.
نعم لو حصلت تلك القواعد وبلغت إلى مرحلة الوجود الادراكي ربما تصير في مثله سببا لحصول الغرض تارة وشرطا له أخرى، فإنه
لو كانت القواعد من القواعد الفكرية كقواعد المنطق فما يترتب عليها حينئذ من صحة الفكر وصونه عن الخطأ كان قهريا، بخلاف ما لو
كانت من غيرها كقواعد النحو والصرف فان ما يترتب عليها حينئذ انما كان مجرد الاقتدار على التكلم الصحيح والاستنباط الصحيح و
الا فنفس التكلم الصحيح وتحققه في الخارج منوط بإرادة المحصل لها.
ثم إن ذلك أيضا في مرحلة تحصل تلك القواعد ذهنا، ولا فمع قطع النظر عن ذلك فكما عرفت لا سببية ولا مسببية بينهما بل لا يكون
بينهما إلا مجرد الإضافة.
وعلى ذلك نقول بأنه إذا لم يكون دخل القواعد الواقعية في الغرض إلا من قبيل دخل طرف الإضافة كما شرحناه، لا من قبيل المؤثرية و
المتأثرية فلا يبقى مجال كشف جامع
8

وحداني بين الشتات المتفرقة بالبرهان المعروف بمحض وحدانية الغرض القائم بها، بخيال ان الغرض إذا كان واحدا فلا بد بمقتضى
برهان - امتناع تأثر الواحد بما هو واحد عن المتعدد بها هو كذلك - من كشف جامع وحداني بين تلك الشتات ليكون تأثيرها في ذاك
الغرض الوحداني باعتبار ذاك الجامع الساري المحفوظ في ضمنها، إذ نقول بان ما أفيد لو تم فإنما هو في فرض كون النسبة بين
الغرض والقواعد من قبيل المؤثرية، وإلا فعلى فرض كونها من قبيل طرف الإضافة فلا مجال لجريان البرهان المزبور، كي يلتجأ
بذلك إلى تخريج جامع وحداني بين قواعد العلم فيجعل ذلك الجامع المستخرج من بين الشتات المتفرقة عند عدم جامع صوري بينهما
هو الموضوع للعلم والفن.
وثانيا على فرض كون دخلها في الغرض بنحو المؤثرية نمنع أيضا اقتضاء البرهان المزبور في المقام لتخريج الجامع الوحداني بينها
بمحض وحدة الغرض القائم بها، وذلك لوضوح ان مجرد وحدة الغرض وجودا ولو مع اختلاف الجهات فيه غير موجب للزوم وحدة
سنخية بين الشتات المختلفة من جهة انه من الممكن حينئذ أن تكون تلك القواعد على شتاتها كل واحدة منها مؤثرة بخصوصيتها في جهة
خاصة من ذلك الغرض دون جهة أخرى ولا برهان يقتضى استحالة، مثل ذلك، نعم لو كان الغرض بسيطا محضا غير ذي جهات أمكن
بمقتضى البرهان المزبور المصير إلى تخريج جامع وحداني بين شتات القواعد، ولكن على ذلك لا يختص الجامع المزبور بين
موضوعات المسائل، بل لا بد حينئذ من انتزاع الجامع بين المحمولات بل وبين المحمولات والموضوعات أيضا.
ولكنه أنى ينتهى الامر في المثال المقام إلى ذلك كي يصار لأجله إلى كشف جهة جامعة بين الموضوعات المختلفة عند عدم جامع
صوري بينها من باب الاتفاق، وجعلها موضوعا للعلم، ويصار بذلك أيضا إلى كون تمييز العلوم بعضها عن الاخر بتمايز موضوعاتها،
كيف وان غالب المعلوم لا يكون فيها جامع صوري بل ولا معنوي بين موضوعات مسائلها كما في كثير من مسائل الفقه لمكان كون
النسبة بين بعضها والبعض الاخر من قبيل الوجود والعدم كما في الصلاة بالقياس إلى الصوم، فان من المعلوم انه لا جامع متصور
بينهما ولو معنويا بعد كون الصوم عبارة عن نفس الترك ومجرد ان لا يفعل بشهادة صحة الصوم فيما لو تبيت في الليل ونام إلى
الغروب بخلاف الصلاة التي هي من الأمور الوجودية فأي جامع متصور حينئذ بين الوجود والعدم. بل وكذلك الامر بالنسبة
9

إلى نفس الصلاة التي هي مركبة من مقولات متعددة متباينة كالفعل والإضافة ونحوها، وهكذا غيرها من مسائل الفقه المغايرة بعضها
مع البعض الاخر موضوعا ومحمولا مع معلومية عدم تصور جامع قريب بينها. وهكذا الكلام في الكلمة والكلام في علم النحو نظرا إلى
وضوح تقوم الثاني بنسبة معنوية خارجة عن سنخ القول واللفظ فلا يمكن حينئذ دعوى كون الجامع بينهما هو ما يتلفظ به من اللفظ و
القول، مع فرض تقوم الكلام بأمر معنوي خارج عن سنخ اللفظ. وهكذا التصور والتصديق والفصاحة والبلاغة.
وكذا الكلام في علم الأصول فان من البداهة انه لا جامع متصور فيها من جهة ان عمدة مسائلها انما هي حجية الامارات الملحوظ فيها جهة
الاراءة والكاشفية عن الواقع والأصول الملحوظ فيما جهة عدم الاراءة عن الواقع والسترة عنه، ولا جامع بين الاراءة واللا إراءة عن
الواقع في طرفي النقيض.
وحينئذ فأين الموضوع الوحداني في هذه العلوم يمتاز به بعضها عن البعض الاخر كي يبقى مجال القول بكون ميز العلوم بقول مطلق
بتمايز موضوعاتها، خصوصا بعد ما يرى من تعريفهم إياه بأنه ما يبحث في العلم عن عوارضه الذاتية، فإنه فيما ذكرنا من العلوم لا
يتصور موضوع وحداني فيها حتى يكون البحث عن عوارضه الذاتية، لأنه إذا نظرنا إلى موضوعات مسائلها المعروضة للعوارض
المبحوث عنها في العلم نرى بأنه لا تكون الا عبارة عن المتكثرات بلا جامع ذاتي بينها، واما الجامع العرضي فهو وإن كان متصورا فيها
ولكنه لا يكون مثل هذا الجامع العرضي الانتزاعي معروضا لعارض حتى يبحث في العلم عن عوارضه الذاتية، كما هو ظاهر.
نعم قد يكون لبعض العلوم موضوع وحداني سار في موضوعات مسائله بنحو تكون الخصوصيات المأخوذة في مسائله على فرضها من
قبيل الجهات التعليلية لطرو العرض على ذات الموضوع المزبور مستقلا، نظير الفاعلية والمفعولية بالإضافة إلى عروض الرفع و
النصب على ذات الكلمة، كما في كثير من العلوم العقلية ن الفلسفية والرياضية كعلم الحساب المبحوث فيه عن الاعراض الطارية على ذات
العدد ككون العدد منطقا أو أصم وكالجمع والتفريق والضرب وإعمال الكسور، وكعلم الهندسة المتعرض للوازم المقدار العارضة
عليه غالبا بنفسه كمبحث الاشكال والنظريات من الهندسة ونحو ذلك، فإنه في أمثال هذه العلوم أمكن دعوى وجود موضوع وحداني
للعلم مبحوث فيه عن عوارضه
10

الذاتية فأمكن من هذه الجهة دعوى كون امتيازها عن غيرها يميز موضوعاتها المتخالفة بنحو التباين أو العموم والخصوص خصوصا
بعد كن غاياتها غالبا من سنخ واحد بملاحظة كونها عبارة عن استنباط حقائق الأشياء بلوازمها.
ولكن مثل هذه الجهة لا توجب جرى جميع العلوم على منوال واحد حتى مثل العلوم الأدبية والنقلية التي هي في تمام المعاكسة مع العلوم
العقلية، لأنها كما عرفت علاوة عن عدم تصور الموضوع الوحداني لها كانت غاياتها أيضا في كمال الامتياز عن الاخر من حيث
الاختلاف بحسب السنخ كما في حفظ الكلام عن الغلط في علم النحو، حيث إنه سنخ غير مرتبط بحفظ الفكر عن الخطأ الذي هو الغرض في
علم المنطق، وهكذا حفظ فعل المكلف وحفظ الاستنباط وغير ذلك.
بل ولئن تدبرت ترى بان الامر كذلك في العلوم العقلية أيضا حيث إن غاياتها أيضا مختلفة بحسب السنخ وإن كان في بدو النظر يرى
كونها من سنخ واحد.
وعلى ذلك فكان الحري الحقيق ان يقال في وجه تمايز العلوم بان ميزها انما هو من جهة الأغراض الداعية على تدوينها، لا انه من جهة
تمايز موضوعاتها، وان وحدة العلم وتعدده انما هو بلحاظ وحدة الغرض وتعدده، وعليه فمتى كان الغرض والمهم واحدا كانت
القواعد الدخيلة في ترتب ذلك الغرض بأجمعها من مسائل علم واحد وكانت تفرد بالتدوين وإن كانت متعددة موضوعا ومحمولا، كما أنه
لو كان الغرض والمهم متعددا يكون تكثر العلوم حسب تكثر الأغراض وعليه فلو أراد من هو بصدد تدوين العلم والفن في علم
العربية وكان غرضه الاطلاع على جميع خصوصيات ألفاظ العرب مما يرجع إلى مادة اللفظ وهيئته، فعند ذلك لا بد بمقتضى ما ذكرنا
من جعل العلوم العربية كلها علما واحدا وان يفردها بالتدوين أيضا، وإن كان لغرضه ذلك جهات متعددة راجعة بعضها إلى مادة الكلمة
وبعضها إلى هيئتها وبعضها إلى هيئة الكلام، إذ حينئذ يكون البحث في كل جهة من تلك الجهات في الحقيقة بابا من ذلك العلم لا علما
مستقلا، كما أنه لو تعلق غرضه بالتكلم الصحيح من حيث خصوص الاعراب والبناء لا بد وان يجعل النحو علما برأسه في قبال الصرف و
نحوه ن العلوم العربية، وليس له جعل العلوم العربية كلها علما واحدا، وهكذا الكلام في غيره من العلوم فحينئذ لا بد من ملاحظة سعة
دائرة الغرض وضيقها في وحدة العلم وتعدده، وعليه أيضا ربما تكون المسألة الواحدة
11

مع وحدتها باعتبار دخلها في مهمين أو أزيد من مسائل علمين أو أكثر، فمن جهة وفائها بهذا الغرض تكون من مسائل هذا العلم، كما أنه
من جهة أخرى تكون من مسائل علم آخر، كما أنه ربما تكون المسائل المتعددة مع اختلافها وشتاتها بلحاظ دخلها في غرض واحد و
مهم فارد من مسائل علم واحد.
وحينئذ فصح لنا بعد البيان المزبور دعوى ان تمايز العلوم بقول مطلق بتمايز الأغراض الداعية على تدوينها لا بتمايز موضوعاتها. و
لئن أبيت من ذلك فلك ان تجعل العلوم صنفين صنف منها لا يكون امتيازها الا بأغراضها كما في العلوم الأدبية والنقلية، وصنف منها
يكون امتيازها بتمايز موضوعاتها كما في كثير من العلوم العقلية من الفلسفية والرياضية، بناء على ما تقدم من إمكان دعوى وجود
موضوع وحداني فيها سار في موضوعات مسائلها بنحو كانت الخصوصيات المأخوذة فيها على فرضها من قبيل الجهات التعليلية لطرو
العرض على ذات ذلك الموضوع الوحداني، لا جرى الجميع حتى الأدبية والنقلية على منوال واحد والقول بان ميز المعلوم كلية يميز
موضوعاتها.
وعليه أيضا لا بد من التفرقة والتفصيل في العلوم أيضا في وجه نسبة موضوع العلم إلى موضوعات مسائله بجعل النسبة بينها في مثل
العلوم الرياضية بنحو الاتحاد ومن قبيل نسبة الكلي إلى افراده والطبيعي ومصاديقه، وفي مثل العلوم الأدبية والنقلية بنحو العينية و
من قبيل نسبة الكل إلى اجزائه، لا جرى جميع العلوم في ذلك على منوال واحد والقول بان النسبة بين موضوع العلم وموضوعات
المسائل بقول مطلق على نحو الاتحاد كما في الكلي وافراده والطبيعي ومصاديقه، كما أفاده في الكفاية. كيف وقد عرفت بأنه في
كثير من العلوم كالعلوم الأدبية والنقلية وغيرها لا يكون الموضوع فيها إلا عبارة من نفس موضوعات المسائل على شتاتها و
اختلافها، بملاحظة عدم تصور موضوع وحداني فيها ولو معنويا بحيث يبحث في العلم عن عوارضه الذاتية. واما تلك الجهة من الوحدة
الاعتبارية الطارية عليها من قبل وحدة الغرض القائم بالمجموع فيه كما عرفت غير مجدية فيما هو المقصود والمهم، لان موضوع العلم
كما عرفوه عبارة: عما يبحث في العلم عن عوارضه الذاتية، ومثل هذه الجهة من الوحدة الاعتبارية الطارية لا تكاد تكون معروضة
لعرض ولا مبحوثا عنها في العلم عن عوارضها الذاتية، كما هو ظاهر.
12

في شرح العرض الذاتي
وحيث اتضح لك ما شرحناه في شرح موضوع العلم فلنعطف الكلام إلى بيان العوارض الذاتية الواقعة في كلماتهم في تعريفهم موضوع
العلوم بأنه: ما يبحث في العلم عن عوارضه الذاتية، حيث إنه قد اختلف كلماتهم في مقام شرح المراد من العرض الذاتي، فنقول وعليه
التكلان:
ان توضيح المرام في المقام يحتاج إلى تمهيد مقدمة، وهي ان الأوصاف المنسوبة إلى الشئ تارة يكون انتزاعها عن نفس ذات الشئ
بلا جهة خارجية في البين زائدة عن ذات الموصوف كما في الأبيضية والأسودية المنتزعتين عن البياض والسواد وكالموجودية
المنتزعة عن الوجود، وأخرى يكون انتزاعها عن جهة خارجة عن ذات الموصوف. وعلى الأخير فتارة يكون اتصاف الموصوف
بالوصف من جهة اقتضاء ذاته كما في توصيف العقل بالمدركية والانسان بقوة الضحك والتعجب، وأخرى يكون ذلك باقتضاء أمر
خارجي على نحو السببية والعلية المعبر عنه باصطلاح الأصول بالمقتضى أو على نحو الشرطية بلا اقتضاء لذلك في نفسه كما في حركة
اليد لحركة المفتاح وكالمجاورة في عروض الحرارة من النار للماء. وعلى الأخير فتارة لا يكون ذلك الأمر الخارجي بنفسه معروضا
لذلك العرض أصلا بل وانما كان شأنه مجرد السببية لعروض الوصف والعرض على الشئ كما في نحو المجاورة للنار الموجبة
لعروض الحرارة على الماء مستقلا، ومثله كلية الجهات التعليلية الموجبة لعروض الوصف على شئ واتصافه به كالفاعلية والمفعولية و
نحو هما في عروض الرفع والنصب على ذات الكلمة، وأخرى بعكس ذلك بان كان الأمر الخارجي - وهو الواسطة - بنفسه معروضا
للعرض. وعلى الأخير فتارة يكون ذو الواسطة أيضا معروضا للعرض المزبور ولو ضمنا كما في خواص النوع فإنه في مثل ذلك يكون
العرض المزبور عارضا للجنس أيضا غايته بنحو الضمنية لا الاستقلالية، ومن ذلك أيضا كلية الاعراض الثابتة للعناوين بخصوصيات
تقيدية نظير الوجوب العارض للصلاة بخصوصية عنوانها، وهكذا غيرها، فان مثل ذلك ملازم لعروض العرض وهو الوجوب لفعل
المكلف الذي هو بمنزلة الجنس ولو ضمنا لا استقلالا، وأخرى يكون تمام
13

المعروض للعرض والوصف حقيقة هو الواسطة بلا عروضة لذي الواسطة أصلا ولو بنحو الضمنية، كما في الخواص المترتبة العارضة
على الفصول بالنسبة إلى جنسها، كالمدركية للكليات وللأمور الغربية، حيث إن تمام المعروض لها حينئذ انما هي جهة الفصلية خاصة
دون جهة الجنسية ولو بنحو الضمنية. وذلك أيضا تارة على نحو يكون الوصف قابلا للحمل على ذي الواسطة ولو بتبع حمل الواسطة
عليه كما في المثال المتقدم في الخواص العارضة على الفصول بالنسبة إلى الجنس، حيث إن مثل المدركية وان لم تكن بالدقة حقيقة
عارضة على الجنس بل كان تمام المعروض لها هي جهة الفصلية التي هي أجنبية عن جهة الجنسية مع ما كان بينهما من الاتحاد في
الوجود وعدم تحصله الا بالفعل، ولكنه بملاحظة قابلية الفصل الذي هو الواسطة للحمل على الجنس صح بهذا الاعتبار حمل خواصه عليه
أيضا في مثل قولك: بعض الحيوان مدرك للكليات، ومن ذلك أيضا حمل الضحك والتعجب على الحيوان بناء على كونها من خواص
فصله، حيث إن صحة حملها على الحيوان في قولك: بعض الحيوان ضاحك أو متعجب، انما هو بتبع حمل فصله عليه، وإلا فلا يكون جهة
الجنسية والحيوانية معروضة لهما ولو على وجه الضمنية بوجه أصلا، وأخرى على نحو لا يكون قابلا للحمل على ذي الواسطة نظرا إلى
عدم قابلية الواسطة المعروضة للوصف للحمل على ذيها، وذلك كما في السرعة والبط العارضين على الحركة العارضة للجسم، و
كالاستقامة والانحناء العارضين للخط القائم بالجنس، فان الوصف في الأمثلة المزبورة علاوة عن عدم عروضها على ذي الواسطة لا
يكون قابلا للحمل عليه أيضا نظرا إلى عدم صحة حمل الواسطة عليه، حيث لا يقال الجسم حركة أو خط، فكما لا يصح القول حينئذ بان
الجسم حركة أو خط لا يصح القول أيضا بأنه سرعة أو بط.
وحيثما عرفت هذه فنقول: انه لا إشكال حسب ما يستفاد من كلماتهم في شرح الاعراض الذاتية في دخول ما عدا الثلاثة الأخيرة في
الاعراض الذاتية فان تخصيص العرض الذاتي بما كان المقتضى للعروض فيه هو نفس ذات الشئ بلا واسطة لا في الثبوت ولا في
العروض أو تعميمه بما يعم ذلك وما يحتاج إلى الواسطة في الثبوت بالمعنى الذي ذكرناه دون الواسطة في العروض، مع أنه بعيد
غايته، ينافي ما هو المصرح به في كلماتهم من عموم المراد من العرض الذاتي لما يحتاج إلى الواسطة في العروض أيضا بنحو الجهة
التعليلية الموجبة لعروض الوصف على نفس الذات مستقلا واتصافها به
14

حقيقة كالمجاورة للنار بالنسبة إلى عروض الحرارة للماء وكالفاعلية والمفعولية الموجبة لعروض الرفع على ذات الكلمة. وحينئذ فلا
إشكال في دخول ذلك أيضا في المراد من العرض الذاتي المبحوث عنه في العلم.
كما لا إشكال أيضا في خروج القسم الأخير من الأقسام الثلاثة الأخيرة عن العرض الذاتي ودخوله في الاعراض الغريبة وهو ما كان
تمام المعروض له مستقلا هو الواسطة دون ذيها مع عدم قابلية للحمل على ذي الواسطة أيضا، كما مثلنا به في مثال السرعة والبط
العارضين للحركة العارضة على الجسم، والانحناء والاستقامة العارضين على الخط القائم بالجنس، فان مثل هذه العوارض كما عرفت
مع عدم عروضها على ذي الواسطة لا تكون قابلة للحمل عليه أيضا.
نعم إنما الكلام والاشكال في القسمين الأولين من الأقسام الثلاثة الأخيرة في كونهما من الاعراض الذاتية أو الغربية، وهما صورة كون
العروض على الواسطة مستقلا وعلى ذيها ضمنا، كالاعراض الثابتة للعناوين بخصوصيات تقييدية وكالعوارض الثابتة للنوع بالقياس
إلى الجنس، وصورة كون العروض حقيقة وبالدقة على الواسطة دون ذيها ولو على نحو الضمنية مع قابلية حمل الوصف على ذي
الواسطة ولو بتبع حمل الواسطة عليه، كما مثلنا له بالخواص المترتبة العارضة على الفصول بالنسبة إلى الجنس كالمدركية للكليات.
ومبنى الاشكال فيهما انما هو من جهة عدم تنقيح المراد من العرض الذاتي وان المدار في كون شئ عرضا ذاتيا هل على مجرد اتحاد
معروض العارض مع ذي الواسطة وصحة حمل العرض عليه بالحمل الشائع الصناعي ولولا يكون ذو الواسطة الذي يحمل علي عليه
العرض معروضا له حقيقة بل كان تمام المعروض له هو الواسطة، أو انه لا بد من كون العرض ثابتا له حقيقة وبالدقة وعلى نحو
الاستقلال؟ فعلى الأول يدخل القسمان الأولان من الأقسام الثلاثة الأخيرة أيضا في العرض الذاتي، بخلافه على الثاني فإنه يدخلان حينئذ
في الاعراض الغريبة.
ولكن الذي يظهر من جماعة - كصاحب الاسفار وغيره - دخولهما في الاعراض الغريبة حيث قال فيما حكى عنه في مقام تميز الاعراض
الغريبة عن الذاتية ما مضمونه: ان كل عرض ثابت لنوع متخصص الاستعداد من غير ناحية هذا العرض فهو من الاعراض الغريبة
المبحوث عنها في علم آخر يكون هذا النوع موضوعه وكل عرض ثابت لشئ
15

بنحو يكون هذا العرض موجبا لتخصصه كالبحث عن استقامة الخط وانحنائه فهو من الاعراض الذاتية. ونحوه كلام غيره: بان الاعراض
الثابتة لعناوين خاصة بخصوصيات منوعة لا بد وان يبحث عنها في علم يكون هذا العنوان الخاص موضوعه ولا يبحث في علم آخر
يكون موضوعه عنوانا أعم من ذلك بنحو العموم والخصوص أو الاطلاق والتقييد ونحو ذلك. فان مقتضى كلامهم هو عدم الاكتفاء في
العرض الذاتي على مجرد عروض العارض على الشئ ولو ضمنا كما في الاعراض الثابتة للنوع العارضة على الجنس أيضا بنحو
الضمنية، ولازمه الاشكال في الاكتفاء بصرف صحة حمل العارض على الشئ بالحمل الحقيقي وصرف اتحاد معروض العرض وهي
الواسطة وجودا مع ذيها مع كون تمام المعروض للعرض مستقلا هي الواسطة بطريق أولى، فإنه إذا كان الاعراض الثابتة للنوع والمقيد
والخاص بالنسبة إلى جنسه ومطلقه وعامه من الاعراض الغريبة مع صدق العروض فيها على الجنس والمطلق والعام بنحو الضمنية
فكونها من الاعراض الغريبة في صورة عدم صدق العروض على ذي الواسطة ولو ضمنا انما كان بطريق أولى.
وعليه يمكن ان يقال بدخول مثل هذه العوارض الثابتة للعناوين بجهات تقييدية كالاعراض الثابتة للنوع والمقيد بالنسبة إلى جنسه و
مطلقه والاعراض الثابتة للفصل بالقياس إلى جنسه في الاعراض الغريبة، وان تمام المدار في العرض الذاتي للشئ هو كونه ثابتا له
دقة وعلى نحو الاستقلال ولو بجعل الخصوصيات المأخوذة فيه من الجهات التعليلية - كما عرفت في مثل الفاعلية لعروض الرفع على
ذات الكلمة - لا من الجهات التقييدية الموجبة لتخصص الموضوع بخصوصية منوعة، من غير فرق بين ان يكون ثبوت العرض والوصف
له بلا واسطة أمر خارجي أو معها، ولا بين كون الأمر الخارجي الذي هو الواسطة مساويا أو أعم أو أخص. كما أن المدار في العرض
الغريب انما هو على صحة سلب العارض حقيقة في مقام العروض وعلى نحو الاستقلال عن ذي الواسطة، كان تمام المعروض للعرض هو
خصوص الواسطة أم لا بل كان ذوها أيضا معروضا له على نحو الضمنية، كما في موارد كون الواسطة من الجهات التقييدية، من غير فرق
فيه أيضا بين كون الواسطة التي هي من الجهات التقييدية مساوية أو أعم أو أخص. فعلى جميع التقادير معها كان العرض قائما حقيقة
بالواسطة كان نسبته إلى ذي الواسطة من
16

الاعراض الغريبة.
وحينئذ فعلى كل تقدير لا مجال للقول بالتفصيل بين كون الواسطة مساوية وبين كونها أعم أو أخص بل لا بد من ملاحظة كون
الواسطة من الجهات التعليلية الموجبة لعروض الشئ على شئ أو من الجهات التقييدية الموجبة لصحة سلب العروض على نحو
الاستقلال عن الجامع بينها، فعلى الأول يكون العرض المنسوب إلى الشئ من الاعراض الذاتية وعلى الثاني يكون من الاعراض الغريبة
لذلك الشئ.
وبذلك ربما ظهر أيضا دفع ما ربما يتوهم من الاشكال: بان موضوع المسائل بالقياس إلى موضوع العلم انما كان من قبيل النوع و
الجنس والمقيد والمطلق فعلى القول بكون العرض الثابت للنوع بالنسبة إلى جنسه عرضا غريبا يلزم كونها من الاعراض الغريبة لا
الذاتية مع أنه ليس كذلك قطعا. إذ نقول: بأنه كذلك فيما لو كانت الخصوصيات المأخوذة في موضوعات المسائل من قبيل الجهات
التقييدية الدخيلة في المعروض كي تكون المسألة بذلك بالنسبة إلى موضوع العلم من قبيل النوع بالنسبة إلى جنسه، ولكنه ليس الامر
كذلك بل وانما كانت الخصوصيات المأخوذة فيها من قبل الجهات التعليلية نظير الفاعلية والمفعولية الموجبة لطرو الرفع والنصب على
ذات الكلمة، ومعه فيخرج موضوع المسائل عن النوعية. ثم إن ذلك أيضا في صورة تخريج موضوع وحداني للعلم وإلا فمع عدم تخريج
الموضوع الوحداني - كما في العلوم العربية والنقلية وغيرها كما عرفت - فلا يضر أيضا جهة كون الخصوصية المأخوذة في موضوع
المسألة من الجهات التقييدية في كون العرض عرضا ذاتيا، إذ حينئذ ليس هناك موضوع وحداني للعمل كي يجئ الاشكال المزبور، و
انما كان الموضوع فيه عبارة عن نفس موضوعات المسائل على شتاتها واختلافها، وفي مثله لا بد من ملاحظة شخص المحمول في كل
قضية قضية بالنسبة إلى شخص الموضوع في تلك القضية في ثبوته حقيقة وبالدقة على الاستقلال لشخص ذاك الموضوع أم لا، وعليه
فلا يشكل علينا في مثل الوجوب العارض للصورة التي هي فعل المكلف بخصوصية عنوانها، بل وانما الاشكال على القول بتخريج
الموضوع الوحداني بين موضوعات المسائل وجعل موضوع الفقه عبارة عن نفس فعل المكلف، فإنه عليه يكون نسبة الفعل إلى عنوان
الصلاة من قبيل نسبة الجنس إلى نوعه فيتوجه الاشكال حينئذ من جهة عدم كون الموضوع الذي هو فعل المكلف مستقلا في مقام
المعروضية للوجوب، من جهة ما هو المفروض من كون
17

معروض تلك الأحكام انما هو فعل المكلف بما هو متخصص بخصوصية عنوان الصلاتية والحجية والغصبية ونحوها، وان جهة الصلاتية
والحجية أيضا كانت تحت الحكم. ومن ذلك ظهر انه لا يجديه أيضا ضم حيثية الاقتضاء والتخيير، إذ نقول: بأنه ان أريد بذلك اقتضاء
الفعل مستقلا ففساده واضح من جهة بداهة مدخلية خصوصية عنوان الصلاتية والحجية والغصبية ونحوها لعروض الوجوب أو الحرمة،
وان أريد به اقتضائه ولو بنحو الضمنية فغير مثمر، إذ يعود حينئذ الاشكال المزبور من لزوم كون العرض بالنسبة إلى الجامع في
ضمن العناوين الخاصة وهو ذات فعل المكلف من العوارض الغربية. واما الالتزام بكفاية مجرد كون الشئ معروضا للعرض ولولا
بنحو الاستقلال بل بنحو الضمنية في كونه عرضا ذاتيا له، فمع انه مناف لما هو المصرح به في كلماتهم من كون مثله من العرض الغريب،
يلزمه إدخال مسائل العلوم السافلة في العلوم العالية التي يكون موضوعها من قبيل الجنس والمطلق بالنسبة إلى موضوع علم السافل،
كما في علم الهندسة الذي يكون الموضوع فيه وهو المقدار من قبيل الجنس للجسم التعليمي الذي هو موضوع علم المجسمات. فمن ذلك
لا بد من جعل العنوان المزبور من العناوين المشيرة إلى العناوين الخاصة التي هي موضوعات المسائل، ومعه فيخرج عن الوحدة و
ينطبق على ما ذكرناه.
في تعريف علم الأصول وبيان موضوعه
ثم إنه بعد ما اتضح ما ذكرناه نقول: بأن فن الأصول بعد إن كان عبارة عن جملة من القواعد الخاصة الوافية بغرض مخصوص كان من
جملة العلوم، وان موضوعه أيضا عبارة عن نفس موضوعات مسائله على اختلافها وشتاتها، من دون احتياج إلى إتعاب النفس في
تخريج الموضوع الوحداني له، خصوصا بعد ما يرى من عدم الطريق إلى كشف الجامع الوحداني المعنوي بينها بعد فرض كون الغرض
ذا جهات عديدة، بل وعدم إمكانه أيضا مع رجوع مسائل الأصول إلى صنفين: صنف لوحظ فيها الحكاية والكشف عن الواقع وهو
الامارات، وصنف لوحظ فيه عدم الاراءة وحيث السترة للواقع وهو الأصول، من جهة ما عرفت من عدم تصور جامع ذاتي بين هذين
الصنفين باعتبار رجوعه إلى الجامع بين النقيضين.
18

كعدم الاحتياج أيضا إلى إتعاب النفس بجعل الموضوع فيه عبارة عن عناوين متعددة:
تارة الأدلة الأربعة فارغا عن دليليتها كما عن القوانين، وأخرى ذوات الأدلة الأربعة كما عن الفصول (قدس سره) كي يورد على الأول
بلزوم خروج كثير من مهمات المسائل الأصولية كمبحث حجية الكتاب وحجية الخبر الواحد، وعلى الثاني بلزوم خروج مباحث الألفاظ
طرا كالبحث عن أن الامر للوجوب والبحث عن العموم والخصوص والمطلق والمقيد والمفهوم والمنطوق أيضا، بل وخروج مبحث
حجية خبر الواحد أيضا، نظرا إلى عدم كن البحث المزبور عن كون الامر حقيقة في الوجوب والنهي في الحرمة وعن العموم و
الخصوص عن الأوامر والعمومات الواردة في الكتاب والسنة، وعدم كون البحث عن حجية خبر الواحد بحثا عن حال السنة الواقعية
التي هي قول المعصوم وفعله وتقريره. وإرجاعه إلى البحث عن ثبوت السنة بخبر الواحد كثبوتها بالمتواتر غير مفيد، من جهة ان
البحث عن ثبوتها حقيقة ليس من عوارضها واما تعبدا فمن عوارض مشكوكها لا من عوارض السنة الواقعية.
كما أنه لا وجه أيضا لاتعاب النفس في تخريج الجامع الوحداني بين مسائله ببعض التكلفات. ولئن أبيت إلا من لزوم جامع في البين بين
المسائل ولو بنحو المشيرية لكان الأولى هو ان يقال: بأنه القواعد الخاصة الواقعة في طريق استكشاف الوظائف الكلية العملية شرعية
كانت أم عقلية، لان ذلك هو المناسب أيضا لما هو الغرض الباعث على تدوينها، وهو استنباط الاحكام والوظائف الفعلية.
ومن ذلك البيان ظهر الحال في تعريفه أيضا وانه لا وجه لما هو المعروف من تعريفه:
بأنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية، وذلك لما فيه من الخلل من جهات: تارة من جهة أخذ العلم في تعريفه مع أن العلم
والفن كما عرفت عبارة عن نفس القواعد الواقعية الوافية بغرض مخصوص دون العلم والتصديق بها، بشهادة صحة إضافة العلم إليها
تارة والجهل أخرى في قولك فلان عالم بالأصول وفلان جاهل به. وأخرى من جهة لفظ الاستنباط الظاهر في إرادة وقوع القواعد
واسطة لاثبات الواقع وسببا للعلم به، فإنه حينئذ يلزمه خروج الأصول العملية كالاستصحاب وأصالة البراءة ونحوها عن مسائل
الأصول مع أنها من أهم مسائله، من جهة ان مضمون هذه الأمور لا يكون إلا أحكاما ظاهرية منطبقة على مواردها، وقضية الاستنباط فيها
انما كان عبارة عن مقام تطبيقها
19

على مواردها بعد الفحص عن الدليل الاجتهادي واليأس عنه، وأين ذلك ومقام وقوعها طريقا وواسطة لاثبات الحكم الشرعي. نعم
نفس تلك القواعد تكون مضامينها أحكاما كلية ظاهرية مستنبطة من الامارات الحاكية عن الواقع كالاحكام الفرعية، ولكن ذلك غير
مرتبط بمقام تطبيقها على الموارد في مقام العمل، بل ويلزمه أيضا خروج الامارات كخبر الواحد ونحوه بناء على القول بكون مفاد
دليل الحجية فيها هو تنزيل المؤدى وجعل المماثل في الظاهر، فإنه على هذا القول أيضا يلزم خروج الامارات عن مسائل الأصول بلحاظ
عدم وقوعها في مقام تشكيل القياس وسطا لاثبات الحكم الشرعي، نعم بناء على القول بتتميم الكشف كما هو المختار يدخل مبحث
الامارات في التعريف المزبور لوقوعها حينئذ وسطا لاثبات الحكم الشرعي، حيث تقع وسطا في القياس، فيقال: ان هذا مما قام على
وجوبه خبر الواحد وكل ما هو كذلك فهو منكشف - بحكم الشارع بكونه كاشفا - فهذا منكشف، فتكون حينئذ من القواعد الممهدة
لاستنباط الأحكام الشرعية.
وثالثة من حيث التقييد بالشرعية، إذ يخرج حينئذ كثير من المسائل الأصولية أيضا كالبرأة والاشتغال العقليين ومسألة الظن في حال
الانسداد على تقرير الحكومة، كما هو ظاهر.
ومن ذلك البيان ظهر الحال في غيره من التعاريف الاخر التي أفادوها في المقام في ميزان كون المسألة أصولية، ككونها مما يتعلق
بالعمل مع الواسطة في قبال المسائل الفقهية التي تعلقها بالعمل كان بلا واسطة. وذلك لخروج المسائل العملية الأصولية أيضا على هذا
الميزان بلحاظ تعلقها بالعمل بلا واسطة بانطباقها على مواردها.
وبالجملة نقول: بان القواعد المبحوث عنها في الأصول حيثما كانت على صنفين:
صنف منها لو حظ فيها جهة الكشف والحكاية عن الواقع كشفا تاما أو ناقصا وكان شأنها الوقوع في طريق استنباط الاحكام
كالامارات، وصنف آخر منها لو حظ فيها حيث السترة وعدم الكشف والحكاية عن الواقع وكان مما ينتهى إليها الفقيه في مقام العمل
عند تحيره وجهله بالواقع كالقواعد العملية من نحو الاستصحاب وغيره، وكان الصنفان كل واحد منهما دخيلا في الغرض الخاص
الداعي على تدوين العلم وجمع قواعده، فلا جرم كان الحري الحقيق هو تعريفه بما ذكرنا: بأنه القواعد الخاصة التي تعمل في استخراج
الاحكام الكلية الإلهية أو الوظائف العملية الفعلية عقلية كانت أم شرعية،
20

ولو بجعل نتيجتها كبرى القياس في استنتاج الحكم الشرعي الواقعي (كما في قولك: هذا ما أخبر العادل بوجوبه واقعا وكلما كان
كذلك فهو واجب كذلك) أو الحكم الشرعي الظاهري (كقولك بعد إثبات حجية الاستصحاب: هذا مما علم بوجوبه أو حرمته سابقا وشك
لاحقا في وجوبه أو حرمته وكلما كان كذلك فهو واجب في الظاهر ولا ينقض اليقين به بالشك فيه) أو حكما عقليا (كقولك: هذا مما لم
يرد عليه نص ولا بيان وكلما كان كذلك فهو مما لا حرج في فعله وتركه عقلا أو يجب فيه الاحتياط أو يتخير بين الامرين) نعم على
هذا التعريف ينبغي التقييد بعدم اختصاصها بباب دون من أبواب الفقه ليخرج مثل قاعدة الطهارة عن التعريف المزبور وتدخل في
مسائل الفقه بلحاظ عدم سريانها في جميع أبواب الفقه.
ولعله إليه أيضا يرجع سائر التعاريف كتعريف الشيخ (قدس سره) المسألة الأصولية بما يكون أمر تطبيقه مخصوصا بالمجتهد ولا
يشترك فيه المقلد، قبال المسألة الفقهية التي يكون تطبيقها على الموارد مشتركا بين المجتهد والمقلد. فلا يرد عليه حينئذ بمثل قاعدة
الطهارة التي هي من المسائل الفقهية في الشبهات الحكمية ومسألة الشرط المخالف للكتاب والسنة التي هي أيضا من المسائل الفقهية،
بتقريب انهما مع كونهما من المسائل الفقهية لا شبهة في أن تطبيقها على مواردها لا يكون إلا من وظائف المجتهد خاصة، بملاحظة
اشتراط الأول بالفحص والثاني بمعرفة الكتاب والسنة لكي يتميز بها كون الشرط مخالفا للكتاب والسنة أو غير مخالف لهما، ولا
سبيل في ذلك للعامي الذي لا يعرف ظواهر الكتاب والسنة. وهكذا غيره من التعاريف الاخر كتعريفه: بأنه صناعة يقتدر بها على
استنباط الاحكام الفرعية ونحوه، فان هذه التعاريف جميعها راجعة إلى أمر واحد ولكل منها جهة مناسبة مع تلك القواعد (فلك إلى
ذاك الجمال يشير) وحينئذ فلا ينبغي النقض والابرام من جهة الطرد والعكس في مثل هذه التعاريف.
نعم بقي في المقام إشكال يرد على ما ذكرنا من التعريف بل وعلى غيره من التعاريف الاخر أيضا فينبغي التعرض له ولدفعه، و
محصل الاشكال: هو ان ميزان كون المسألة أصولية - على ما عرف من وقوع نتيجتها كبرى القياس - إن كان على وقوعها في طريق
الاستنباط المزبور بلا واسطة فيلزمه خروج مباحث الألفاظ طرا - كمبحث الأمر والنهي والعام والخاص والمطلق والمقيد والمفهوم
والمنطوق ونحوها مما شأنها إثبات
21

الوضع والظهور - من مسائل الأصول، من جهة وضوح ان نتيجة هذه المباحث لا تكون إلا تعيين الظهور إثبات كون الشئ ظاهرا في
كذا، كظهور هيئة الامر في الوجوب وظهور النهي في الحرمة مثلا والعام والخاص والمطلق والمقيد في كذا وكذا، ومن المعلوم حينئذ
ان مثل هذه لا يكاد يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي بتشكيل قياس واحد بل يحتاج في مقام إنتاج الحكم الشرعي إلى تشكيل
قياسين يكون نتيجة أحدهما صغرى لكبرى القياس الاخر، بان نقول في القياس الأول: هذا أمر وكل أمر ظاهر في الوجوب فهذا ظاهر
في الوجوب، ثم نجعل هذه النتيجة صغرى لكبرى في قياس آخر، ونقول في القياس الثاني: هذا ظاهر وكل ظاهر يجب التعبد به و
العمل على طبقه بمقتضى ما دل على وجوب الاخذ بكل ظاهر. وهذا بخلافه في مسألة حجية خبر الواحد ونحوها فإنه فيها لا يحتاج الا
إلى تشكيل قياس واحد بقولك: هذا مما أخبر العادل بوجوبه أو حرمته وكلما كان كذلك يجب الاخذ به والتعبد بمضمونه فهذا يجب
الاخذ به والتعبد بمضمونه. وإن كان ميزان كون المسألة أصولية على وقوعها في طريق الاستنباط ولو مع الواسطة، فعليه وان اندفع
الاشكال المتقدم إلا أنه يتوجه عليه بلزوم دخول مسائل كثيرة من العلوم الأدبية - كالصرف والنحو واللغة ومسائل علم الرجال - في
المسائل الأصولية، بملاحظة وقوع نتيجتها بالآخرة في طريق الاستنباط، وهذا كما ترى، مع أن ديدنهم على إخراج مسائل المشتق و
نحوها عن المسائل من حيث جعلهم أول المباحث مباحث الأمر والنهي، فيبقى حينئذ سؤال الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة الامر و
النهي والعام والخاص إلخ.
وحاصل الدفع هو انا نختار الشق الثاني ومع ذلك نلتزم بخروج الأمور المزبورة عن مسائل الأصول، وذلك اما أولا فلوضوح ان المهم
والمقصود في العلوم الأدبية كالنحو والصرف ليس هو إثبات الظهور للكلمة والكلام بل وانما المهم فيها انما هو إثبات كون الفاعل
مرفوعا والمفعول منصوبا في ظرف الفراغ عن فاعلية الفاعل ومفعولية المفعول، وأين ذلك ومثل مباحث الأمر والنهي والعام و
الخاص المتكفلة لاحراز الظهور في الكلمة والكلام؟ وثانيا على فرض ان المقصود في العلوم الأدبية أيضا إحراز الظهور في شئ
كظهر المرفوع في الفاعلية والمنصوب في المفعولية، نقول بأن غاية ما يقتضيه ذلك حينئذ انما هو وقوع نتيجتها في طريق استنباط
موضوعات الاحكام لانفسها، والمسائل الأصولية انما كانت عبارة عن القواعد الواقعة في طريق استنباط نفس الأحكام الشرعية العملية
22

فيخرج حينئذ أيضا مسائل العلوم الأدبية كالنحو والصرف بل اللغة أيضا. وتوهم استلزامه لخروج مثل مباحث العام والخاص أيضا
مدفوع بأنها وان لم تكن واقعة في طريق استنباط ذات الحكم الشرعي الا انها باعتبار تكفلها لاثبات كيفية تعلق الحكم بموضوعه كانت
داخلة في مسائل الأصول، كما هو الشأن أيضا في بحث المفهوم والمنطوق حيث إن دخوله باعتبار تكلفه لبيان إناطة سنخ الحكم بشي
الذي هو في الحقيقة من انحاء وجود الحكم وثبوته، وهذا بخلاف المسائل الأدبية فإنها ممحضة لاثبات موضوع الحكم بلا نظر فيها إلى
كيفية تعلق الحكم أصلا. ومن ذلك البيان ظهر وجه خروج المشتقات أيضا عن مسائل الأصول، حيث إن خروجها أيضا انما هو بلحاظ
عدم تكفلها إلا لاحراز موضوع الحكم وانه خصوص المتلبس الفعلي أو الأعم، لا نفسه لا بذاته ولا بكيفية تعلقه بموضوعه.
نعم يبقى الاشكال حينئذ في خروج مسائل علم الرجال عن مسائل الأصول مع أنها كمبحث دلالة الألفاظ واقعة في طريق استنباط الحكم
الشرعي ولو بالواسطة من كون السند موثوقا به في شمول دليل التعبد له، ويمكن الاعتذار عنه بأن عدم تدوينهم إياها في الأصول
حينئذ انما هو من جهة كثرة مسائلها الموجبة لافرادها بالتدوين وجعلها علما مخصوصا موسوما باسم مخصوص مستقلا عن الأصول،
فتدبر.
الأمر الثاني في الوضع
فنقول: انه بعد ما لم تكن العلاقة والارتباط التي بين الألفاظ ومعانيها ذاتية محضة بنحو يعفرها كل أحد، يبقى الكلام في أن لها أي
للألفاظ نحو مناسبة لمعانيها توجب وضعها لمعانيها بحسب الارتكاز وان لم يلتفت الواضع تفصيلا إلى تلك المناسبة، أم لا؟ بل تمام
العلقة والارتباط بينهما كانت حاصلة بالجعل وبوضع الواضع بعد ان لم تكن بينهما علاقة وارتباط أصلا حيث إن فيه وجهين: قد يقال
بالأول وان الواضع حيثما يجعل لفظا لمعنى فإنما هو من جهة إلهام الباري عز اسمه) إياه بل ومن ذلك أيضا أنكر استناد الجعل إلى
المخلوقين فقال: بان الجاعل والواضع في الألفاظ انما هو الباري عز اسمه) وانه سبحانه وتعالى يلهم كل طائفة ان يتلفظوا عند إبراز
مقاصدهم بألفاظ خاصة مناسبة
23

لمعانيها حسب جعله سبحانه، واستدل أيضا على مرامه من عدم كون تلك العلاقة والارتباط التي بين الألفاظ ومعانيها مستندة إلى
جعل المخلوق ووضعه بأمرين: أحدهما خلو التواريخ عن ذكره، فإنه لو كان الامر كذلك لكان اللازم بحسب العادة ذكره في التواريخ
بان الواضع للغة العرب كان هو شخص كذا كيعرب بن قحطان كما قيل، وان الواضع للغة الفرس كان شخص كذا وهكذا بقية اللغات،
لان ذلك من الأمور المهمة التي لا يمكن الغفلة عنها عادة، مع أنه لم يرد في تاريخ ان واضع لغة العرب هو شخص كذا وواضع لغة الفرس
كان شخص كذا، وحينئذ فخلو التواريخ عن ذكر هذه القضية دليل عدم استناد وضع الألفاظ إلى أحد من المخلوقين.
وثانيهما من جهة عدم تناهي المعاني والألفاظ حيث إن عدم تناهيها يقتضى بعد استناد وضعها إلى المخلوقين بل امتناعه، كما هو
ظاهر عند من أمعن النظر وأنصف.
أقول: وفيه ما لا يخفى، إذ نقول بأنه لو فرض من أول خلقة آدم (على نبينا وآله وعليه السلام) إلى زماننا هذا كل طائفة قد وضعوا
جملة من الألفاظ لجملة من المعاني المتداولة بينهم على قدر ابتلائهم بها في إظهار ما في ضمائرهم إلى أن انتهى الامر إلى زماننا الذي
قد كثر فيه اللغات وكثرت الألفاظ والمعاني، فأي محذور عادي أو عقلي يترتب عليه؟ فهل تقول في مثل ذلك بلزوم ضبطه في
التواريخ أو تقول بأنه من الممتنع العادي وضع الألفاظ الكثيرة الغير المتناهية لمعان كذلك بمرور الدهور والأزمنة الكثيرة من
طوائف كثيرة؟ نعم انما يتم ما ذكر فيما لو كان المدعى وضع شخص واحد أو شخصين في كل لغة وضع الألفاظ المستعملة فيها في
معانيها، ولكنه لم يدعه أحد كذلك حتى يرد عليه المحذور المزبور، بل وانما المقصود من ذلك انما هو استناد وضع الألفاظ في اللغات
إلى الواضعين ولو على نحو التدرج بحسب مرور الدهور والأزمنة بوضع كل طائفة من لدن زمان آدم إلى زماننا جملة من الألفاظ
لجملة من المعاني التي دار عليها ابتلائهم، كما نشاهد ذلك بالعيان والوجدان من وجود كثير من المعاني والألفاظ المستحدثة في
زماننا التي لا يكون لها في سالف الزمان عين ولا أثر، كما في كثير من الجوهريات والآلات، ومن المعلوم انه لو أدعاه القائل باستناد
الوضع إلى المخلوقين لا يتوجه عليه شئ من المحذورين.
ثم إنه نقول: على قولك (بان الباري عز اسمه هو الواضع وانه يلهم المستعملين في مقام إظهار ما في ضمائرهم) بأنه هل تجد من نفسك
عند تسميتك ولدك انه أوحى الله تعالى
24

إليك أو نزل إليك جبرئيل ان سمه بكذا أم لا بل أنت تضع له اسما من الأسامي وأنت الجاعل للعلقة والارتباط بجعلك اللفظة اسما له بعد
ان لم تكن بينهما علاقة وارتباط؟ لا يقال: بأنه كيف ذلك مع أنه لولا قضية المناسبة الذاتية بينهما الحاصلة من تخصيص إلهي يكون
تخصيص لفظ خاص من بين الألفاظ للمعنى الملحوظ ترجيحا بلا مرجح، فإنه يقال: يكفي في الترجيح انسباق اللفظ إلى الذهن من بين
الألفاظ عند إرادة الوضع ولو من جهة اقتضاء استعداده للوجود في عالم الذهن، حيث إنه موجب لتخصيصه بالمعنى الملحوظ من بين
الألفاظ، ففي الحقيقة ما هو الموجب لتخصيص لفظ من بين الألفاظ لمعنى من بين المعاني انما هو قضية تقارنهما للوجود في عالم الذهن،
ومن المعلوم انه في ذلك لا يحتاج في تخصيص أحدهما بالآخر إلى جهة مناسبة ذاتية بينهما، كما لا يخفى.
في تعريف الوضع:
ثم إنه مما ذكرنا ظهر حال حقيقة الوضع وانه عبارة عن نحو إضافة واختصاص خاص توجب قالبية اللفظ للمعنى وفناءه فيه المرآة في
المرئي بحيث يصير اللفظ مغفولا عنه وبإلقائه كان المعنى هو الملقى بلا توسيط أمر في البين، لا انه من قبيل اختصاص الامارة لذيها كما
في النصب الموضوعة في الطريق للدلالة على وجود الفرسخ، كيف ولازمه ان يكون انتقال الذهن إلى المعنى عند سماع اللفظ من شؤون
الانتقال إلى اللفظ ولازمه كون انتقال الذهن إلى اللفظ في عرض الانتقال إلى المعنى بحيث كان في الذهن انتقالان عرضيان: انتقال
إلى اللفظ وانتقال منه بواسطة الملازمة إلى المعنى نظير الانتقال من الدخان إلى وجود النار، مع أن ذلك كما ترى مما يحكم بفساده
بداهة الوجدان، ضرورة وضوح انه بإلقاء اللفظ لا يكاد في الذهن الا انتقال واحد إلى المعنى بلا التفات إلى شخص اللفظ الملقى بنحو
كان المعنى بنفسه قد ألقى بلا توسيط لفظ، كما هو الشأن في الكتابة أيضا فان الناظر فيها بمقتضى الارتكاز لا يرى الا نفس المعنى بلا
التفاته في هذا النظر إلى حيث نقوش الكتابة تفصيلا، ومن المعلوم انه لا يكون الوجه في ذلك الا جهة شدة العلاقة والارتباط بينهما التي
أوجبت قالبية اللفظ للمعنى وفناءه فيه. ومن جهة هذا الفناء أيضا ترى بأنه قد يسرى إلى المعنى ما للفظ من التعقيد مع أن المعنى لا
يكون
25

فيه تعقيد وانما التعقيد للفظ، كما أنه قد يكون بالعكس فيسري إلى اللفظ ما للمعنى من الحسن والقبح، فيرى اللفظ قبيحا وحسنا مع أن
اللفظ لا يكون فيه حسن ولا قبح وانما الحسن والقبح للمعنى، كما هو واضح.
كما أنه من التأمل فيما ذكرنا ظهر أيضا انه ليست تلك العلاقة والارتباط الخاص من سنخ الإضافات الخارجية التي توجب احداث هيئة
خارجية كهيئة السريرية الحاصلة من ضم الأخشاب بعضها ببعض على كيفية خاصة وكالفوقية والتحتية والتقابل ونحوها من
الإضافات والهيئات القائمة بالأمور الخارجية التي كان الخارج ظرفا لنفسها ولولا لوجودها، ولا من سنخ الاعتباريات التي لا يكون
صقعها إلا الذهن كما في النسب بين الاجزاء التحليلية في المركبات العقلية في مثل الانسان والحيوان الناطق، بل وانما هي متوسطة بين
هاتين، فكانت سنخها من قبيل الاعتباريات التي كان الخارج موطن منشأ اعتبارها، كما نظيره في الملكية والزوجية ونحو هما من
الاعتباريات مما لا يكون الخارج موطن نفسها بل موطن مصح اعتبارها من الانشاء القولي أو الفعلي، ولكن مع ذلك لها واقعية بمعنى
ان صقعها قبل وجود اللفظ في الخارج وان لا يكن الا الذهن الا انها بنحو ينال العقل خارجيتها عند وجود طرفيها تبعا لها بنحو القضية
الحقيقة بأنه لو وجد اللفظ وجد العلاقة والارتباط بينه وبين المعنى نظير الملازمات كالملازمة بين النار والحرارة، فكما ان صقع هذه
الملازمة تبعا لوجود طرفها خارجية، كذلك تلك العلاقة والارتباط الخاص بين اللفظ والمعنى، فان العلقة الحاصلة بينهما بالجعل لما
كانت بين الطبيعتين، يعنى طبيعة اللفظ وطبيعة المعنى، فقبل وجود طرفيها خارجا لا يكون صقعها الا الذهن ولكن بعد وجود طرفيها
تبعا لهما تصير الملازمة بينهما أيضا خارجية فكلما وجد اللفظ في الخارج يتحقق العلقة والارتباط بينه وبين المعنى، ويكفى في
خارجيتها كون الخارج ظرفا لمنشاء انتزاعها.
وبالجملة المقصود من هذا التطويل هو بيان ان هذا النحو من الإضافة والارتباط مما لها واقعية في نفسها وانها لا تكون من سنخ
الاعتباريات المحضة التي لا يكون صقعها الا الذهن ولا كان الخارج ظرفا لمنشأ اعتبارها، ولا من سنخ الإضافات الخارجية الموجبة
لاحداث هيئة في الخارج، بل وانما هي متوسطة بين هاتين فلها واقعية يعتبرها العقل عن منشأ صحيح خارجي، ولئن أبيت عن تسميتك
هذه إضافة وتقول بأن
26

المصطلح منها هي الإضافات المغيرة للهيئة في الخارج فسمها بالإضافة النحوية أو بغيرها مما شئت، إذ لا مشاحة في الاسم بعد وضوح
المعنى.
وكيف كان فبعد ما عرفت ذلك نقول: بأنه لا شبهة في أن مثل هذا النحو من الإضافات النحوية في غاية خفة المئونة حيث لا يحتاج
تحققها إلى كثير مئونة فيكفي في تحققها أدنى ملابسة فتحصل بمجرد الجعل كما في قولك: المال لزيد والغلام لعمرو والجل للفرس،
حيث إنه بنفس تخصيصك المال بزيد والجل بالفرس يتحقق بينهما تلك الإضافة والاختصاص، بل ربما تتحقق بمجرد نسبة شئ إلى
شئ من دون منشأ خارجي لذلك، كما في اعتبارك غولا ونسبة أنياب إليه، غايته انه من جهة عدم وجود منشأ صحيح خارجي له لا
يكون من الاعتباريات الصحيحة القابلة لاضافتها إلى الخارج، كما هو واضح.
ومن ذلك البيان ظهر فساد ما يظهر من بعض الاعلام: من الالتزام بالتعهد وإنكار استناد العلقة والارتباط التي بين اللفظ والمعنى
إلى جعل الجاعل ووضعه، والعمدة في ذلك انما هو تخيل قصر الإضافة بالإضافات الخارجية والملازمات الواقعية الذاتية، فإنه من هذه
الجهة أنكر استناد العلقة والارتباط المزبور إلى جعل الجاعل ووضعه بل ادعى استحالته وقال: بأنه من المستحيل جعل العلقة و
الارتباط بين الامرين اللذين لا علاقة بينهما بحيث تكون تلك العلقة مجعولا ابتدائيا للجاعل تكوينا بدون جعل طرفيها أو تغيير وضع
فيهما. ثم إنه بعد إنكاره لذلك التزم بالتعهد وقال: بان ما يمكن تعقله ويبنى عليه هو ان يلتزم الواضع ويتعهد تعهدا كليا بأنه من أراد
معنى وتعقله أراد افهام الغير تلفظ بلفظ كذا، لان ما هو الممكن انما هو جعل الارتباط بين إرادة المعنى التلفظ بلفظ كذائي لا جعل
الارتباط تكوينا بين اللفظ والمعنى، فإذا التفت المخاطب حينئذ إلى هذا الالتزام والتعهد المزبور الذي مرجعه إلى الاعلام بإرادة المعنى
الكذائي عند التكلم بلفظ كذا وعلم به، فلا جرم ينتقل ذهنه إلى ذلك المعنى عند سماع اللفظ منه، وحينئذ فكان مرجع الوضع إلى مثل
هذا الالتزام والتعهد الكلي وكانت العلقة المزبورة بين اللفظ والمعنى نتيجة لذلك التعهد، لا انها مجعولة تكوينا ابتدأ للواضع بوضعه و
جعله. ثم إنه من هذا الأساس أيضا أنكر الجعل في الوضعيات والتزم بأنه ليس في البين في ذلك المقام أيضا الا الأحكام التكليفية و
الإرادات الخاصة وانها انما كانت منتزعة عن الاحكام
27

التكليفية، فكان مثل الملكية منتزعة عن حكم الشارع بجواز تصرف شخص في عين وحرمة تصرف غير فيه بدون اذنه ورضاه، و
الزوجية منتزعة عن حكمه بجواز وطي شخص امرأة وعدم جواز وطيها على غيره بمثل قوله: من عقد على امرأة يجوز له وطيها ولا
يجوز لغيره ذلك، حيث كان العقل ينتزع في الأول من حكم الشارع نحو إضافة بين المال وبين الشخص نعبر عنها بالملكية، وفي
الثاني إضافة بين الشخصين يعبر عنها بالزوجية، وهكذا غير هما من الوضعيات، فكان الكل منتزعا عن الأحكام التكليفية بلا كونها
مجعولة بوجه أصلا، هذا.
وتوضيح الفساد يظهر مما قد من وجه الفرق بين نحوي الإضافة وعدم كون العلاقة والربط بين اللفظ والمعنى من سنخ الإضافات
الخارجية بين الامرين الخارجيين من نحو الفوقية والتحتية ونحو هما مما يتوقف تحققها على تغيير وضع في طرفيها، بل وانها من
سنخ الاعتباريات التي تحققها كان بالجعل كالملكية والزوجية، على أن إرجاع الوضع إلى تعهد الواضع بذكر اللفظ عند إرادة المعنى
أيضا غير مستقيم فإنه بعد إن كان مرجع التعهد المزبور إلى إرادة ذكر اللفظ عند إرادة المعنى نقول بأنه يسأل عنه بأن تلك الإرادة
المتعلقة بذكر اللفظ لا تخلو: اما أن تكون إرادة نفسية، واما أن تكون إرادة غيرية توصلية إلى إبراز المعنى باللفظ نظرا إلى قالبية
اللفظ له، وعلى الأول فاما ان يكون الغرض من تلك الإرادة إيجاد العلقة والارتباط بين اللفظ والمعنى بنفس تلك الإرادة، واما ان لا
يكون الغرض من توجيه الإرادة إلى ذكر اللفظ ذلك بل وانما الغرض من توجيه الإرادة إليه هو جهة مطلوبيته ذاتا في ظرف إرادة
تفهيم المعنى. فإن كان المقصود هو هذا الأخير فلا سبيل إلى دعواه فإنه - منافاته لما يقتضيه الوجدان والارتكاز في مقام إرادة التلفظ
باللفظ من كونها لأجل التوصل به إلى تفهيم المعنى المقصود لا من جهة مطلوبية التلفظ به نفسا - مناف أيضا لما يقتضيه الطبع و
الوجدان في مقام الانتقال إلى المعنى عند سماع اللفظ، لان لازم البيان المزبور هو ان يكون الانتقال إلى اللفظ في عرض الانتقال إلى
المعنى بحيث يكون في الذهن انتقالان: انتقال بدوا إلى اللفظ عند سماعه وانتقال منه بمقتضى الملازمة والإناطة إلى المعنى نظير
الانتقال من اللازم إلى ملزومه، مع أن ذلك كما ترى مما يأبى عنه الوجدان والارتكاز، فإنه يرى بالوجدان انتقال الذهن إلى المعنى عند
سماع اللفظ بدوا مع الغفلة عن جهة اللفظ بحيث كأنه كان المعنى هو الملقى إليه بلا
28

توسيط لفظ في البين أصلا، كما لا يخفى. وإن كان المقصود الأول فله وإن كان وجه إلا أنه يرجع إلى ما ذكرنا من القول بالوضع فان
القائل بالوضع لا يدعى أزيد من ذلك، ولقد تقدم ان هذا النحو من الإضافة والارتباط لا يحتاج تحققها إلى كثير مئونة فيكفي في
تحققها مجرد الجعل والإرادة. نعم على ذلك تكون الإرادات الاستعمالية المتحققة فيما بعد في طول تلك الإرادة الكلية مترتبة عليها
نظرا إلى تحقق العلقة والربط بين اللفظ والمعنى بنفس تلك الإرادة والقصد الكلي، فينافي حينئذ ما هو مسلك هذا القائل من كون
الإرادات الاستعمالية المتحققة فيما بعده من شؤون تلك الإرادة الكلية وفعليتها. اما إن كان المقصود هو الأخير الذي فرضناه من كون
الإرادة المتعلقة بذكر اللفظ إرادة غيرية توصلية لابراز المعنى المقصود باللفظ باعتبار ما للفظ من المبرزية عن المعنى، فعليه نقول:
بأن جهة مبرزية اللفظ عن المعنى بعد ان لم تكن مستندة إلى اقتضاء ذات اللفظ كما يدعيه القائل بذاتية دلالة الألفاظ على معانيها، فلا
جرم لا بد وأن يكون نشوؤها اما من قبل وضع الواضع وجعله أو من قبل تلك الإرادة الغيرية المتعلقة بذكر اللفظ أو من قبل إرادة
أخرى، ولا سبيل إلى الأخيرين لان الأول منهما بديهي الاستحالة وكذا الثاني، فإنه مع أنه لا سبيل إلى دعواه للقطع بعدم إرادة أخرى
في البين يجئ فيها ما ذكرناه من الاحتمالات من كونها إرادة غيرية أو نفسية، فيتعين حينئذ المعنى الأول وهو المطلوب.
لا يقال: انما يرد هذا المحذور لو أريد تحقق العلقة والارتباط من قبل الإرادة المتعلقة بذكر اللفظ في مقام الاستعمال وليس كذلك بل
المقصود كونها نتيجة لذلك التعهد الكلي.
فإنه يقال: كلا فان الإرادات الاستعمالية على مسلك هذا القائل عين تلك الإرادة الكلية المسماة عند بالتعهد الكلي، وهو تعهده كليا
التلفظ بلفظ كذا عند إرادة تفهيم معنى كذا، إذ حينئذ تكون الإرادات الاستعمالية المتعلقة بذكر اللفظ عبارة عن فعلية ذلك التعهد الكلي،
والا فقبل إرادة التفهيم لا يكون في البين الا مجرد البناء على إرادة اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى، وعليه يتوجه الاشكال المزبور بأنه
بعد غيرية الإرادة المتعلقة بذكر اللفظ لا بد من الالتزام جهة مبرزية اللفظ كانت مستندة إلى وضع الواضع وجعله كما هو واضح.
ثم إن من لوازم هذا المسلك انحصار الدلالة في الألفاظ بالدلالة التصديقية لأنه لا
29

ظهور للفظ حينئذ حتى يكون وراء الدلالة التصديقية دلالة أخرى تصورية، بخلافه على مسلك الوضع فإنه عليه يكون للفظ وراء الدلالة
التصديقية دلالة أخرى تصورية ناشئة من قبل الوضع والجعل، وربما ينتج هذا المعنى في بعض المباحث الآتية كما في مبحث العام و
الخاص.
وكيف كان فمن التأمل فيما ذكرنا ظهر أيضا بطلان ما أسسه على هذا الأساس من إنكار الجعل في مطلق الوضعيات والتزامه بان مثل
الملكية والزوجية انتزاعية صرفة من الأحكام التكليفية، إذ نقول: بان في مثل قوله: الناس مسلطون على أموالهم، وقوله: لا يجوز
التصرف في مال أحد بدون اذن صاحبه، لا يكاد يتم هذه المقالة لان جهة الملكية وإضافة المال إلى الغير حينئذ انما كانت مأخوذة في
موضوع هذا الحكم أعني حرمة التصرف، ولازمه كونه في رتبة سابقة عنه كنفس المال كما هو الشأن في كل موضوع بالقياس إلى
حكمه، وحينئذ نقول: بأن مثل هذه الإضافة بعد ما لا يمكن نشوؤها من قبل هذا الحكم التكليفي المتأخر عنها رتبة فلا بد وأن يكون
نشوؤها ان من قبل حكم تكليفي آخر في رتبة سابقة عنها واما من قبل الجعل، والأول بديهي الفساد فإنه - مضافا إلى القطع بأنه لا
حكم آخر في البين غير هذا الحكم المترتب عليها - يلزمه اجتماع الحكمين المتماثلين في نحو قوله: لا يجوز التصرف في مال الغير
بدون اذن صاحبه، أحدهما في رتبة سابقة عن الإضافة والاخر في رتبة لاحقة عنها، وحينئذ فبعد القطع أيضا بعدم نشوء إضافة الملكية
من مجرد جواز تصرف الانسان في شئ - بشهادة جواز تصرف كل شخص في المباحات الأصلية - يتعين الثاني من كون نشئها من
قبل الجعل.
وكيف كان فبعد ما ظهر بطلان القول بالتعهد نقول: بان العلاقة والربط بين اللفظ والمعنى في الأوضاع التخصيصية كما يتحقق
بالانشاء القولي من قول الواضع (جعلت هذا اللفظ لمعنى كذا) كذلك يتحقق أيضا بالانشاء الفعلي وبنفس الاستعمال قاصدا به تحقق
العلقة والربط بينهما، كقولك عند تسميتك ولدك: جئني بولدي محمد قاصدا به حصول العلقة الوضعية بهذا الاستعمال، كما نظيره في
المعاطاة التي هي انشاء فعلى لحصول الملكية لزيد، وعدم كون مثل هذا الاستعمال من الاستعمال في المعنى الحقيقي أو المجازي غير
ضائر فيما نحن بصدده من تحقق العلقة والربط بمثل هذا الاستعمال. واما ما قد يقال: من امتناع ذلك من جهة استلزامه لمحذور اجتماع
اللحاظين
30

في اللفظ: اللحاظ العبوري الآلي تارة، واللحاظ الاستقلالي إليه أخرى - نظرا إلى اقتضاء الوضع لان يكون النظر إليه نظرا استقلاليا -
فمدفوع بأن النظر إلى شخص هذا اللفظ لا يكون الا عبوريا إلى طبيعية اللفظ التي قصد تحقق العلاقة والربط بينها وبين المعنى، و
حينئذ فمتعلق اللحاظ الاستقلالي انما كان هو طبيعة اللفظ التي قصد تحقق العلقة بينها وبين المعنى، ومعلق اللحاظ الآلي كان هو شخص
هذا اللفظ، ومعه لم يجتمع اللحاظان في موضوع واحد كي يتوجه عليه محذور الاستحالة المزبورة، كما هو واضح. وحينئذ فلا ينبغي
الاشكال في صحة هذا القسم من الوضع وإمكانه.
بل قد يدعى كما عن المحقق الخراساني (قد سره) لزوم انتهاء الأوضاع التخصصية أيضا إلى مثل هذا النحو من الوضع التخصيصي وانه
لا بد في تحقق العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى من القصد إلى تحققها في أحد تلك الاستعمالات والا فبدونه لا يكاد يجري مجرد
الاستعمال في تحققها ولو بلغ الاستعمال في الكثرة ما بلغ، فلذلك أورد على تقسيم المشهور للوضع بالوضع التعيني تارة وبالتعييني
أخرى وقال: بأنه لا مجال لهذا التقسيم وان الحري هو حصره بخصوص التعييني بالجعل والانشاء غايته بالأعم من الانشاء القولي و
الفعلي. ولكن يرد عليه بأنه انما يتوجه هذا الاشكال فيما لو كان سنخ هذا النحو من العلاقة والربط بجميع افراده جعليا بحيث يحتاج في
تحققها إلى توسيط انشاء وجعل في البين، ولكنه ممنوع بل نقول بأنها كما تحقق بالانشاء القولي والفعلي كذلك تتحقق بواسطة كثرة
الاستعمال كما نشاهد بالوجدان والعيان في استعمالنا الألفاظ في المعاني المجازية حيث نرى بأنه بكثرة الاستعمال يحدث مرتبة من
العلاقة بينه وبين المعنى الثاني وبهذا المقدار يضعف علاقته عن المعنى الأول بحيث كلما كثرت الاستعمالات تضعف علاقته للمعنى
الأول ويشتد في قباله العلاقة بينه وبين المعنى الثاني إلى أن تبلغ بحد يصير المعنى الأول مهجورا بالمرة وتصير العلاقة التامة بينه و
بين المعنى الثاني بحيث لو أريد منه المعنى الأول لاحتاج إلى إقامة قرينة في البين، ومع هذا الوجدان لا مجال لانكار هذا القسم من
الوضع، كما هو واضح. نعم لهذا الاشكال مجال فيما لو أريد تحقق تلك العلقة والارتباط دفعة واحدة لا بنحو التدريج، لكنه لم يدع أحد
مثل ذلك بل وان كل من يدعى وجود هذا القسم من الوضع يدعى تحققها شيئا فشيئا بنحو التدريج، ومن المعلوم ان مثل هذا المعنى أمر
ممكن بل واقع كما ذكرنا.
31

في أقسام الوضع
وعلى كل حال يبقى الكلام في أقسام الوضع فنقول:
انهم قد قسموا الوضع باعتبار عموم الوضع والموضوع له وخصوصهما على أقسام. ولا بد في تنقيح الكلام في هذه الجهة من تمهيد
مقامات: الأول في بيان ما يمكن ان يقع عليه التقسيم باعتبار الحصر العقلي، الثاني في بيان ما يمكن من هذه الأقسام، الثالث في بيان ما
هو الواقع منها، فنقول:
اما المقام الأول: فلا شبهة في أن للوضع حسب الحصر العقلي أقساما أربعة: عام الوضع و الموضوع له، وخاصهما، وعام الوضع و
خاص الموضوع له، وعكسه، من جهة ان المعنى الملحوظ حال الوضع اما ان يكون كليا واما ان يكون جزئيا، وعلى الأول فاما ان يكون
وضع اللفظ لذلك المعنى الكلي الملحوظ واما ان يكون وضعه لمصاديقه المندرجة تحته، كما أنه على الثاني أيضا تارة يكون وضع اللفظ
بإزاء ذلك المعنى الجزئي وأخرى يكون وضعه بإزاء معنى كلي يكون متصوره من افراده ومصاديقه، فباعتبار الأول يكون من عام
الوضع والموضوع له، وباعتبار الثاني يكون من عام الوضع وخاص الموضوع له، وباعتبار الثالث يكون من خاص الوضع و
الموضوع له، وباعتبار الرابع يكون من خاص الوضع وعام الموضوع له، فهذه أقسام أربعة للوضع حسب اقتضاء الحصر العقلي.
فنقول: اما القسم الأول وهو عام الوضع والموضوع له فيتصور على نحوين: الأول ما هو المعروف المشهور من لحاظ معنى كلي عام
ووضع اللفظ الانسان بإزاء كما في الانسان والحيوان حيث يلاحظ مفهوم الانسان في ذهنه فيضع لفظ الانسان بإزاء ما تصوره من
المعنى الكلي العام. ولا يخفى انه على هذا يكون عمومية الوضع وكليته من قبيل كلية الأحكام التكليفية، من كونه باعتبار كلية متعلقه،
فكما ان كلية الإرادة والحكم كانت باعتبار كلية متعلقه من حيث انحلالها حسب تعدد افراد إلى إرادات وأحكام جزئية، كقوله: لا تشرب
الخمر - والا فنفس هذا الحكم وتلك الإرادة المتعلقة بهذا العنوان لا تكون الا شخصية وممتنعة الصدق على الكثيرين - كذلك أيضا
عمومية الوضع وكليته
32

انما كانت باعتبار كلية متعلقه، لا ان عموميته كانت باعتبار عمومية آلة الملاحظة كما قيل بان معنى عمومية الوضع وخصوصيته انما
كانت من جهة عمومية آلة الملاحظة وخصوصيتها، كيف وانه في الفرض لا يحتاج في مقام الوضع إلى توسيط آلة الملاحظة، فان
المفهوم الكلي كمفهوم الانسان أو الحيوان وكذا طبيعة اللفظ بنفسها متصورة في الذهن بلا توسيط آلة ملاحظة في البين، ومعه لا
يحتاج في مقام وضع اللفظ بإزائه واحداث العلقة والربط بينهما إلى توسيط شئ نسميه آلة الملاحظة، كي لأجل عموميتها وكليتها
يتصف الوضع بالكلية والعمومية، كما هو واضح.
الثاني: من قسمي عموم الوضع والموضوع له: هو ان يكون الموضوع له الجهة المشتركة بين الافراد المتصورة في الذهن التي بها تمتاز
افراد كل نوع عن افراد آخر بنحو لا يكاد تحققه في الذهن إلا مع الخصوصية وبالوجود الضمني لا المستقل، وذلك بان يلاحظ معنى
عام ويشار به إلى الجهة المشتركة والجامع المتحد مع الافراد الذهنية التي بها امتياز افراد كل نوع عن آخر فيجعل اللفظ بإزاء تلك
الجهة المشتركة بما هي مشتركة وموجودة في الذهن بعين وجود الفرد والخصوصية، وبعبارة أخرى يكون الموضوع له حينئذ عبارة
عما هو منشأ انتزاع هذا المفهوم العام المنتزع عن الافراد المتصورة في الذهن لا المفهوم المنتزع عن ذلك، فهذا أيضا قسم آخر من
عموم الوضع والموضوع له. ولا يخفى انه على هذا التصوير يحتاج في مقام الوضع إلى وجود آلة الملاحظة، لان المعنى الموضوع له بعد
ان لم يكن له وجود مستقل في عالم الذهن واللحاظ بل كان وجوده في ضمن وجود الفرد ومتحدا معه نظير الجامع بين الافراد
الخارجية من حيث عدم وجود له في الخارج مستقلا وكونه موجودا في ضمن الفرد والخصوصية، فلا جرم يحتاج في مقام الوضع إلى
توسيط معنى عام يجعله آلة لملاحظة تلك الجهة المحفوظة بين هذه الخصوصية وتلك الخصوصية، ولكن مورد الوضع ومحله كان
مختصا بتلك الجهة المحفوظة في ضمن الافراد فكانت الضمائم والخصوصيات كلها خارجة عن مصب الوضع. وليكن ذلك على ذكر منك
ينفعك فيما يأتي عند التعرض لبيان وضع الحروف وأسماء الإشارة.
وحينئذ فكم فرق بين هذا القسم من عام الوضع والموضوع له وبين سابقه الذي هو المعروف لدى المشهور، فإنه على الأول يكون
الموضوع له عبارة عن معنى عام منتزع له وجود مستقل في وعاء الذهن واللحاظ قبال الخصوصيات كمفهوم الانسان والحيوان
33

بخلافه على الثاني فان الموضوع له على ذلك عن الجامع المتحد مع الافراد الذي لا يكاد تحققه في الذهن وفي عالم اللحاظ إلا في ضمن
الفرد والخصوصية، ومن ذلك دائما يحتاج في مقام الاستعمال ومرحلة التفهيم إلى وجود دالين: أحدهما على نفس الجامع والاخر على
الخصوصية، كما أنه على ذلك يحتاج أيضا إلى توسيط آلة الملاحظة في مقام وضع اللفظ من جهة ما عرفت من عدم إمكان لحاظ مثل هذا
المعنى مستقلا في الذهن، كما هو واضح.
بل ولئن تأملت ودققت النظر ترى أيضا الاحتياج إلى توسيط آلة الملاحظة حتى على القسم الأول من عام الوضع والموضوع له، وذلك
فإنه على ما هو التحقيق من مسلك السلطان: من وضع أسامي الأجناس للماهية المهملة، لما كان لا يمكن لحاظ الماهية المهملة مستقلا في
الذهن معراة عن خصوصية الاطلاق والتقييد، لان كل ما يتصوره الانسان لا يخلو من كونه اما طبيعة مقيدة واما طبيعة مطلقة وعارية
عن القيد والخصوصية ولا صورة ثالثة في الذهن جامعة بين الواجد للقيد وفاقدة بحيث كان لها وجود مستقل في الذهن قبالا للفاقد و
الواجد نسميها بالماهية المهملة، فلا جرم في مقام وضع اللفظ لهذه الطبيعة التي هي الجامعة بين الطبيعة المطلقة والمقيدة لا بد من
توسيط آلة ملاحظة في البين مشيرا بها إلى ما هو الجامع بين الواجد للفيد والخصوصية وفاقده الذي لا يكون له وجود في الذهن الا في
ضمن الواجد للقيد أو فاقده، كما هو واضح. نعم بناء على مسلك المشهور من القدماء في وضع أسامي الأجناس: من كونها للطبيعة المطلقة
الصادقة على القليل والكثير، لا يحتاج إلى توسيط آلة ملاحظة في البين في مقام الوضع، من جهة ان نفس المعنى والمفهوم حينئذ مما
أمكن لحاظه وتصوره مستقلا بلا توسيط عنوان وآلة ملاحظة في البين. ولكن مثل هذا المشرب مرمي بالضعف عند المحققين، بل
الموضوع له في أسامي الأجناس - كما سنحققه إن شاء الله تعالى - عبارة عن الطبيعة المهملة التي هي جامعة بين الطبيعة المقيدة و
المطلقة التي هي مقالة المشهور من القدماء، ومن ذلك نقول بأنه يحتاج في إثبات الاطلاق إلى التشبث بمقدمات الحكمة، وعليه لا
محيص بعد عدم إمكان تصور مثل هذا الجامع ولحاظه مستقلا في الذهن من توسيط عنوان يكون آلة لملاحظة الجامع المزبور في مقام
الوضع. ولكن على كل تقدير تكون جهة عمومية آلة الملاحظة غير مرتبطة بعالم عمومية الوضع بل وانما عمومية الوضع وخصوصيته
من قبيل
34

عمومية الحكم والتكليف وخصوصيته من كونه باعتبار كلية المتعلق وجزئيته، فتدبر.
هذا كله في القسم الأول من الأقسام الأربعة المتصورة في الوضع.
واما القسم الثاني منها: وهو فرض عموم الوضع وخصوص الموضوع له، ففيه أيضا يتصور صور ثلاث:
الأولى: ان يكون الموضوع له الملحوظ بتوسيط العنوان العام الكلي عبارة عن الافراد المخصوصة والخصوصيات التفصيلية الجزئية،
كما لو لاحظ في مقام الوضع عنوان الانسان وعنوان الابتداء الكلي مشيرا بهذا العنوان إلى المصاديق الخاصة والصور التفصيلية
بخصوصيتها الخاصة من زيد وعمرو وبكر، كما نظيره في باب التكاليف من قوله: أكرم من في الصحن، مشيرا به إلى الافراد الخارجية
الموجودة في الصحن من زيد وعمرو وبكر.
الثانية: ان يكون المعنى الموضوع له عبارة عن الافراد والصور التفصيلية ولكن بما انها تعم الكلي والشخصي، كما في لحاظ عنوان
الشئ أو الذات مشيرا به في مقام وضع لفظ الانسان مثلا أو غيره إلى ما ينطبق عليه هذا العنوان العام من المصاديق والصور التفصيلية
التي منها الانسان والحيوان ومنها زيد وعمرو وبكر، واضعا للفظ الانسان بإزاء الصور التفصيلية المزبورة، كما قد يتوهم ان وضع
أسماء الإشارة من هذا القبيل وانها موضوعة للصور التفصيلية بما انها تعم الشخصي والكلي ولذلك يقال: هذا الانسان وهذا زيد. و
الفرق بينه وبين سابقه واضح، فإنه عيل الأول يكون الموضوع له دائما معنى جزئيا بخلافه في هذا القسم، فان الموضوع له عبارة عما
يعم الشخصي والكلي، ولذلك يلزمه عدم صحة استعمال اللفظ على الأول في الكلي وما له القابلية للصدق على الكثيرين وصحة
استعماله فيه على الثاني.
الثالثة: ان يكون الموضوع له الملحوظ بتوسيط العنوان الكلي عبارة عن معنى إجمالي مبهم كالشبه مثلا بنحو يكون نسبته إلى الصور
التفصيلية نسبة الاجمال والتفصيل بحيث لو انكشف الغطاء لكان ذلك المعنى الاجمالي عين المعنى التفصيلي، لا من قبيل نسبة الكلي و
الفرد، فيلاحظ الواضع حينئذ بتوسيط العنوان الكلي معنى مبهما ثم في مقام الوضع يضع لفظا بإزاء ذلك المعنى المبهم لكن لا بما هو
مبهم محض بل بما انه مشتمل على خصوصية زائدة كخصوصية كونه معروض الخطاب أو الغيبة أو الإشارة أو المعهودية. ولعله من هذا
القبيل باب الضمائر وأسماء الإشارة والموصولات كما سيجئ، إذ يمكن
35

ان يقال: بأن الموضوع له فيها عبارة عن معنى فيه إبهام متحد مع ما يماثل مفهوم مرجعها لكنه مع اشتمالها على خصوصية زائدة من
الغيبة والحضور كما في الضمائر، أو الإشارة والمعهودية كما في أسماء الإشارة والموصولات من نحو هذا والذي كما يشهد لذلك
التعبير عنها بالفارسية ب (أو) و (أين) ونحو ذلك، ومن ذلك جرى التعبير عنها بالمبهمات، فان ذلك لا يكون الا من جهة ان الموضوع
له فيها معنى إبهامي، ولذلك أيضا نحتاج دائما إلى عطف البيان بقولك: هذا الرجل هذا الانسان وهذا زيد. كيف وان دعوى كون
وضعها للمراجع الخاصة الصور التفصيلية بعيدة غايته، لان لازمه انسباق مفهوم الانسان في مثل هذا الانسان مرتين في الذهن: تارة من
لفظ هذا وأخرى من لفظ الانسان، وهو كما ترى كما أن مثله في العبد دعوى كون هذا موضوعا لنفس الإشارة التي هي معنى حرفي و
ان هذا تقوم مقام الإشارة باليد إلى الانسان وغيره، إذ لازم ذلك أيضا هو عدم أجزأ أحكام الاسم عليها من جعلها مسندا إليه ومسندا،
مع أنه أيضا كما ترى وذلك بخلافه عي المعنى الأول، فإنه عليه قد حفظ جهة اسمية المعنى فيها فلا يلزم من إجراء أحكام الاسم عليها
ارتكاب خلاف قواعد، كما هو واضح. وسيجئ زيادة بيان لذلك إن شاء الله تعالى في محله، فانتظر.
واما القسم الثالث منها: أعني خاص الوضع والموضوع له ففرضه واضح، كما في الاعلام الشخصية.
واما القسم الرابع منها: أعني خاص الوضع وعام الموضوع له، فتصويره انما هو بلحاظ عنوان خاص كزيد مثلا جاعلا له عبرة و
مرآة لعنوان كلي منطبق عليه وعلى غيره كعنوان الانسان ثم وضع اللفظ بإزاء ذاك العنوان الكلي الفوق أو بلحاظ الانسان المقيد
بخصوصية الزيدية جاعلا له مرآة لطبيعة الانسان المنطبق عليه وعلى غيره من الحصص الأخرى. هذا كله فيما يتعلق بالمقام الأول فيما
يمكن ان يقع عليه التقسيم بحسب الحصر العقلي.
واما المقام الثاني: فالكلام فيه كما عرف انما هو في بيان ما يمكن من الأقسام الأربعة المزبورة، فنقول:
اما القسم الأول: فلا إشكال في إمكانه بل وقوعه أيضا، كما في أسامي الأجناس.
ومثله في الامكان بل الوقوع أيضا القسم الثالث، كما في الاعلام الشخصية.
36

واما القسم الثاني: فالظاهر هو إمكانه أيضا ضرورة إمكان تصور الجزئيات والافراد بتوسيط عنوان كلي عام ينطبق عليها، إذا
معرفة العنوان الكلي العام معرفة للافراد المندرجة تحته ولو بنحو الاجمال، وبعد كفاية معرفة الموضوع له وتصوره ولو بوجه
إجمالي لا مجال للاشكال في إمكانه. نعم انما يتوجه الاشكال فيما لو احتاج الوضع إلى تصور المعنى الموضوع له بوجه تفصيلي، إذ
حينئذ يتوجه الاشكال بأن شيئا من العناوين التفصيلية كعنوان الانسان والحيوان ونحوهما وكذا العناوين العامة العرضية كعنوان
الذات والشي ونحوهما - لا يمكن ان يكون مرآة إلى الافراد الخاصة والعناوين التفصيلية، لان غاية ما يحكى عنه تلك العناوين انما
هي الجهة المشتركة بين الافراد التي بها امتياز كل فرد من هذا النوع عن افراد نوع آخر، واما حكايتها عن الافراد بما لها من
الخصوصيات التي بها امتياز كل فرد من هذا النوع عن الفرد الآخر ن ذلك النوع فلا، بل هو من المستحيل، من جهة ان الفرد و
الخصوصية مباين مفهوما مع مفهوم العام والكلي، والمباين لا يمكن ان يكون وجها للمباين. ولكنه بعد كفاية لحاظ الموضوع له ولو
بوجه إجمالي لا مجال لهذا الاشكال، ضرورة إمكان تصور الافراد والجزئيات الخاصة بنحو الاجمال بتوسيط عنوان إجمالي مشيرا به
إلى الافراد الخاصة في مقام الوضع المعبر عنها بما ينطبق عليه مفهوم الانسان أو مفهوم الذات أو الشئ. وحينئذ فلا ينبغي الاشكال في
إمكان هذا القسم أيضا.
واما القسم الرابع: أعني فرض خاص الوضع وعام الموضوع له، فقد يقال بإمكانه أيضا وانه كما يمكن جعل عنوان عام كلي وجها
للافراد والخصوصيات المندرجة تحته كذلك يمكن العكس بجعل الفرد وجها للكلي المنطبق عليه وعلى غيره. ولكن التحقيق هو عدم
إمكانه استحالته، وهذا فيما لو كان آلة الملاحظة هو الفرد والخصوصية كعنوان زيد مثلا واضح، ضرورة ان الفرد والخصوصية يباين
مفهوما مع مفهوم العام والكلي ومعه لا يمكن جعله وجها وعنوانا له. واما لو كان آلة اللحاظ هو الكلي المقيد كالانسان المتقيد
بالخصوصية الزيدية أو العمرية ولو بنحو دخول التقيد وخروج القيد فكذلك أيضا، فإنه مع حفظ جهة التقيد بالخصوصية فيه يباين لا
محالة مفهوما مع الانسان المطلق الجامع بين هذه الحصة وغيرها، ومع إلغاء جهة التقيد وتجريده عن الخصوصية ولحاظه بما انه قابل
للانطباق عليه وعلى غيره يرجع إلى عام الوضع والموضوع له، فتدبر.
37

واما المقام الثالث فنقول: انه بعد ما ظهر في المقام الثاني إمكان الأقسام الثلاثة أعني ما كان الوضع والموضوع له فيه عامين أو
خاصين وما كان الوضع فيه عاما والموضوع له خاصا، يبقى الكلام في بيان ما هو الواقع منها فنقول:
اما ما كان الوضع والموضوع له فيه عامين أو خاصين فلا إشكال في وقوعه، كما في الاعلام الشخصية وأسامي الأجناس. وانما الكلام
فيما كان الوضع فيه عاما والموضوع له خاصا، حيث إنه قيل بوقوع هذا القسم أيضا وان وضع الحروف وما شابهها من الهيئات و
الافعال والأسامي المتضمنة للمعنى الحرفي من هذا القبيل، لما يرى من عدم كون الاستعمال فيها الا في معان جزئية. وتنقيح المرام في
هذا المقام يحتاج إلى شرح حقيقة المعاني الحرفية وما ضاهاها ثم بيان انها كلية أو جزئية. في شرح المعاني الحرفية
فهنا جهات من الكلام:
الأولى في المعاني الحرفية
وفيها مقامان: الأول في شرح حقيقة المعنى الحرفي، الثاني في بيان انه كلي أم جزئي فنقول:
اما المقام الأول فاعلم أن المشارب في الحروف كثيرة ربما يبلغ إلى الأربعة بل الخمسة كما سنذكرها:
أحدها ما ينسب إلى الرضي في شرح الكافية وجماعة أخرى بان الحروف مما لا معنى لها أصلا، بل وانما هي مجرد علامات لتعرف
معنى الغير كالرفع الذي هو علامة للفاعلية، وانه كما أن الرفع في زيد في مثل جاءني زيد لا معنى له في نفسه بل وانما كان مجرد
علامة لتعرف حال زيد وانه فاعل في تركيب الحروف، فلفظ في مثلا في مثل زيد في الدار لا يكون له معنى أصلا وانما هي علامة
لتعرف مع الدار وانها معنى أيني من حيث كونها مكان زيد قبال كونها مع عينيا ومن الأعيان الخارجية وحينئذ فلفظة في في قولك
زيد في الدار، مما لا معنى لها أصلا في هذا التركيب وانما المعنى كان في الدار من حيث كونها مكان زيد ومعنى أينيا وقد جي بكلم
في لتعرف حال الدار وخصوصية معناها، وهكذا لفظ من وعلى ونحو هما من الحروف، وحينئذ فلا يكون للحروف معنى
38

أصلا وانما هي مجرد علامات لمعان تحت ألفاظ غيرها.
ولكن مثل هذا المشرب مرمي بالضعف عند المحققين لذهابهم طرا إلى أن الحروف معاني في نفسها كما يكشف عنه تعريفهم للحروف
بأنها ما دل على معنى غير مستقل بالمفهومية قبالا للاسم الذي دل على معنى مستقل بالمفهومية، وهكذا تعريفهم الاخر لها بان الحرف
هو ما دل على معنى في غيره قبال الاسم الذي دل على معنى في نفسه، فان من المعلوم ان الغرض من هذا التعريف هو بيان ان للحرف
معنى، غير أن معناه كان قائما بالغير نظير الاعراض لا ان معناه كان تحت لفظ الغير وان الحرف علامة لذلك كما هو واضح. كيف وان
مثل الدار في المثال وكذا السير والبصرة انما هي من أسامي الأجناس وهي حسب وضعها لا تدل الاعلى الماهية المهملة وذات المعنى
بما هي عارية عن الاطلاق والتقييد ولذا نحتاج في مقام إثبات ان مراد المتكلم هو المعنى الاطلاقي العاري عن الخصوصيات إلى
مقدمات الحكمة كي يحكم بان مراد المتكلم من اللفظ هو المعنى الاطلاقي. وحينئذ نقول بأنه على فرض أن تكون تلك الخصوصية تحت
لفظ الغير ومرادة منه يلزم استعمال لفظ الدار والسير والبصرة في مثل زيد في الدار وسرت من البصرة في معنى الخاص فيلزمه
المصير إلى المجاز حينئذ لأنه من باب استعمال اللفظ الموضوع للكلي في الفرد والخصوصية، وهو كما ترى فلا محيص حينئذ الا من
الالتزام بعدم استعمال لفظ الدار الا في معناها الكلي أعني الطبيعة المهملة وكونه من باب إطلاق الكلي على الفرد وإرادة الخصوصية
بدال اخر كما في قوله (جاء رجل من أقصى المدينة) وعليه نقول: بأنه بعد خروج القيد والخصوصية عن تحت لفظ الدار والسير و
البصرة فلا بد وأن يكون تحت دال اخر وهو في المقام لا يكون إلا لفظ في في زيد في الدار ولفظ من في سر من البصرة هذا. على أن
ما أفيد في طرف المشبه به وهو الرفع والنصب والجر من التسليم بأنها مما لا معنى لها وانها مجرد علامات لخصوصية وقوع زيد في
جاءني زيد فاعلا في التركيب غير وجيه أيضا، إذ نقول فيها أيضا بان الرفع وكذا النصب والجر انما هي من مقومات الهيئة الكلامية، و
حينئذ فبعد إن كان للهيئة وضع للدلالة على النسب الكلامية - كما سنحققه إن شاء الله تعالى - فلا جرم كان للأعراب أيضا معنى، حيث
كان لها الدلالة على خصوصية النسبة الكلامية من حيث الفاعلية والمفعولية والحالية ونحو ذلك من أنحاء النسب وخصوصياتها، من
غير أن تكون تلك الخصوصيات تحت لفظ
39

الغير ومستفادة من لفظ الاسم وهو زيد أو المجئ، لما عرفت من أن لفظ زيد لا يدل بحسب وضعه إلا على ذات زيد بما هي عارية عن
خصوصية وقوعه فاعلا أو مفعولا أو حالا في الكلام، فيحتاج حينئذ في إفادة خصوصية وقوعه فاعلا أو مفعولا في الكلام إلى أن يكون
بدال اخر وهذا الدال ان يكون الا الهيئة والرفع في قولك جاء زيد أو النصب في قولك: ضرب زيدا. وحينئذ فما أفيد من التسلم على عدم
المعنى للأعراب وانها علامة محضة لتعرف حال الاسم من حيث وقوعه فاعلا ومفعولا في التركيب الكلامي مشبها للحروف بها أيضا في
ذلك واضح البطلان في كل من المشبه والمشبه به كما هو واضح.
وحينئذ فبعد أن ظهر فساد هذا المشرب يبقى الكلام في غيره من المشارب الاخر وانه بعد إن كان للحروف معان في نفسها فهل هي
من سنخ المعاني الالية؟ أو انها من سنخ الاعراض الخارجية في قيامها بمعروضاتها؟ أو انها من سنخ النسب والارتباطات المتقومة
بالطرفين؟ حيث إن فيه وجوها وأقوالا منشأه ما هو المعروف المشهور من تعريفها: بأنها مفاهيم تكون في نفس حقيقتها غير مستقلة
بالمفهومية المعبر عنها: تارة بأنها ما دل على معنى في غيره، وأخرى بأنها ما دل على معنى غير مستقل بالمفهومية، قبالا للاسم الذي
عرفوه: بأنه ما دل على معنى في نفسه ومستقل بالمفهومية. ففي الحقيقة منشأ هذا النزاع انما هو في وجه عدم استقلال المعنى الحرفي و
كيفية احتياجه وقيامه بالغير، وانه من قبيل قيام المرآة بالمرئي في كونه ملحوظا باللحاظ الآلي ومنظورا بالنظر المرآتي، أو من قبيل
قيام الاعراض الخارجية بمعروضاتها، أو من قبيل الارتباطات القائمة بالطرفين بحيث كان عدم استقلال المعنى الحرفي باعتبار نفس
ذاته لا باعتبار اللحاظ كما هو قضية الوجه الأول، والا ففي أصل كون المعنى الحرفي معنى غير مستقل لا شبهة فيه عندهم.
وحينئذ نقول بان المشارب في هذا المقام ثلاثة:
أحدها: ما سلكه الفصول وتبعه المحقق الخراساني (قدس سره) وبعض آخر من كون معاني الحروف معاني آلية، وان الفرق بينها و
بين الاسم انما هو باعتبار اللحاظ الآلي والاستقلالي والا فلا فرق بين المعنى الحرفي وبين المعنى الاسمي، فإذا لوحظ المعنى في مقام
الاستعمال باللحاظ الآلي يصير معنى حرفيا وإذا لوحظ باللحاظ الاستقلالي يصير معنى اسميا فيكون المعنى والملحوظ في الحالتين
معنى واحدا لا تعدد فيه ولا تكثر، وانما
40

الفرق بينهما من جهة كيفية اللحاظ من حيث الاستقلالية والالية لمعنى آخر. ومن هذه الجهة أيضا التزموا بعموم الوضع والموضوع له
في الحروف نظرا إلى كون ذات المعنى والملحوظ حينئذ معنى كليا وعدم كون اللحاظ الآلي كاللحاظ الاستقلالي موجبا لجزئيته.
ولعل عمدة النكتة في مصيرهم إلى اختيار هذا المشرب انما هو ملاحظة انسباق الخصوصيات والارتباطات الخاصة في موارد استعمال
الحروف في قوله: زيد في الدار وسرت من البصرة أو من الكوفة، مع ملاحظة بعد كونها بحسب الارتكاز من قبيل المتكثر المعنى، فان
ملاحظة هذين الامرين أوجبت مصيرهم إلى أن للحروف أيضا معاني كلية هي بعينها معاني الأسماء وانها مفاهيم كلية كمفهوم الابتداء
الذي هو معنى لكلمة من ولفظ الابتداء، غايته انه جعل في الحروف بنحو يلاحظ مرآة لملاحظة المصاديق الخاصة من النسب الابتدائية
الذهنية الحاصلة بين السير والبصرة ونحو ذلك.
نعم على هذا القول لما كان يلزمه صيرورة لفظ من ولفظ الابتداء مثلا من المترادفين كما في الانسان والبشر فيلزمه صحة استعمال كل
منهما مكان الاخر مع أنه بديهي البطلان، إذ لا يصح ان يقال بدل الابتداء خير من الانتهاء (من خير من إلى) وبدل سرت من البصرة إلى
الكوفة (سرت ابتدأ البصرة انتهاء الكوفة) اعتذر عنه في الكفاية بان عدم صحة ذلك انما هو من جهة ما يقتضيه قانون الوضع حيث إنه
وضع الاسم لان يراد معناه بما هو وفي نفسه بخلاف الحرف فإنه وضع لان يراد معناه لا كذلك بل بما هو آلة لملاحظة خصوصية حال
المتعلق ففي الحقيقة منشأ عدم صحة الاستعمال المزبور انما هو حيث قصور الوضع وعدم إطلاقه لما إذا لم يستعمل كذلك لا من جهة
تقيد المعنى والموضوع له فيهما باللحاظ الاستقلالي والآلي لان ذلك من المستحيل لما فيه من التوالي الفاسدة التي:
منها لزوم عدم صدقه على الخارجيات لان الامر المقيد باللحاظ الذهني كلي عقلي لا موطن له الا الذهن فيلزمه امتناع امتثال مثل قوله:
سر من البصرة إلى الكوفة الا مع التجريد وإلغاء الخصوصية. ومنها لزوم اجتماع اللحاظين في مقام الاستعمال: أحدهما ما هو المأخوذ
في ناحية نفس المعنى والمستعمل فيه، وثانيهما ما به قوام الاستعمال، فيلزمه حينئذ تعلق اللحاظ بما هو ملحوظ بهذا اللحاظ. ومنها
اقتضائه لجزئية المعنى في الأسماء أيضا باعتبار ان اللحاظ الاستقلالي كاللحاظ الآلي مع أن ذلك كما ترى، ولا من جهة وجود المانع عن
الاستعمال المزبور مع إطلاق الوضع واقتضائه جواز استعمال كل من
41

الاسم والحرف في معناه ولولا على الكيفية المزبورة، كما هو واضح.
الثاني من المشارب: ما يظهر من بعض آخر من أن معاني الحروف معان قائمة بغيرها وانها من سنخ الاعراض القائمة بمعروضاتها
كالسواد والبياض، وهذا المشرب هو ظاهر كل من عبر عنها بأنها حالة لمعنى آخر.
والفرق بين هذا المشرب وسابقه واضح، فإنه على هذا المشرب يكون المعنى الحرفي بذاته وحقيقته مباينا مع المعنى الاسمي، حيث
كان المعنى الحرفي حينئذ من سنخ المحمولات بالضميمة ومن قبيل الاعراض الخارجية التي وجودها في نفسها عين وجودها لغيرها،
فيغاير ذاتا وحقيقة مع الاسم الذي لا يكون معناه كذلك، بخلافه على مشرب الكفاية فإنه عليه لا يكون اختلاف بين المعنى الاسمي و
المعنى الحرفي ذاتا وحقيقة وانما الاختلاف بينهما كان من جهة كيفية اللحاظ من حيث الالية والاستقلالية مع كون الملحوظ فيهما واحدا
ذاتا وحقيقة، ومن ذلك عند هؤلاء لو انقلب النظر ولوحظ المعنى استقلالا وبما هو شئ في نفسه ينقلب المعنى عن كونه معنى حرفيا
إلى المعنى الاسمي وبالعكس. وبذلك البيان ظهر الفرق بينهما من جهة الاستقلالية والتبعية أيضا حيث كان الاستقلالية والتبعية على
المسلك الأول من صفات اللحاظ من حيث توجه اللحاظ إلى المعنى تارة بنحو الاستقلال وأخرى بنحو الالية والمرآتية إلى الغير كما في
نظرك إلى المرآة تارة مرآة لملاحظة وجهك وأخرى استقلالا لملاحظة نفسها للحكم عليها بان هذه المرآة أحسن من تلك، بخلافه على
المسلك الثاني فان الاستقلالية والتبعية على هذا المسلك انما كانت من صفات نفس المعنى والملحوظ من حيث تحققه تارة في الذهن
محدودا بحد مستقل وغير متقوم بالغير وأخرى لا كذلك بل حالة لمعنى آخر وقائما به كقيام العرض بمعروضه مع كونه في مقام
اللحاظ في الصورتين ملحوظا استقلالا لا مرآة. وحينئذ فكم فرق بين المشربين في الاستقلالية والتبعية ونحوي القيام بالغير، فإنه
فإنه في الحقيقة على الأول لا يكون للمعنى الحرفي قيام بالغير أصلا ولو كان فإنما هو قيام زعمي تخيلي، بخلافه على الثاني، فان قيام
المعنى الحرفي بالغير عليه قيام حقيقي لا زعمي، كما هو واضح.
الثالث من المشارب في الحروف: ما سلكه جماعة من الأساطين من كون معاني الحروف عبارة عن الروابط الخاصة والنسب و
الإضافات المتحققة بين المفهومين التي هي من سنخ الإضافات المتقومة بالطرفين، فكان لفظ في في قولك: الماء في الكوز
42

موضوعا للربط الخاص الذي كان بين مفهوم الماء ومفهوم الكوز، وهكذا لفظ من في قولك: سرت من البصرة وإلى وعلى وحتى و
نحوها من الحروف بل الهيئات أيضا كما سيأتي إن شاء الله، فيكون الجميع موضوعا للروابط الخاصة الذهنية بين المفهومين لكن لا
مفهوم الربط الذي هو معنى اسمي بل ما هو واقع الربط الذهني ومصداقه بالحمل الشائع، فإنك إذا لاحظت السير الخاص المضاف بدوه
إلى البصرة وكذلك الماء والكوز تجد في نفسك أمورا ثلاثة: مفهوم السير ومفهوم البصرة والتعلق الخاص بينهما، وهكذا في مثال
الماء في الكوز، فكان لفظ في ولفظ من في المثالين موضوعا لذاك الربط والتعلق الخاص الذي بين مفهوم السير والبصرة ومفهوم
الماء والكوز لأنه كما يحتاج مفهوم السير والبصرة ومفهوم الماء والكوز إلى لفظ خاص يحكى عنه في مقام تفهيم المقصود وإظهار
ما في الضمير كذلك ذلك الربط والتعلق الخاص بينهما حيث لا يكاد يغنى عنه الألفاظ الموضوعة للمفاهيم الاسمية التي بها تقوم تلك
الروابط والإضافات الخاصة كما هو واضح.
ثم إن الفرق بين هذا المشرب وسابقه أيضا واضح فان المعنى الحرفي على المشرب السابق كان من قبيل المحمولات بالضميمة المرتبط
وجودها بالغير نظير الاعراض الخارجية كالسواد والبياض بخلافه على هذا المشرب الأخير فان المعنى الحرفي على ذلك كان من سنخ
الروابط والإضافات المتقومة بالطرفين. وبعبارة أخرى: المعنى الحرفي على المشرب المتقدم عبارة عن الشئ المرتبط وجوده بالغير
وعلى المشرب الأخير عبارة عن نفس الربط بين الطرفين فالفرق بينهما واضح.
وكيف كان فهذه مشارب أربعة في الحروف والمتعين منها هو المشروب الأخير. وذلك: اما المشرب الأول منها فلما عرفت فساده و
بطلانه بما لا مزيد عليه، واما المشرب الثاني منها الذي اختاره الفصول والكفاية (قدس سرهما) فلانه لا سبيل إلى دعواه أيضا، وذلك
مضافا إلى ما فيه من مخالفته لما عليه الوجدان الارتكاز من انسباق الروابط الخاصة في موارد استعمالها ربما يساعد البرهان على
خلافه أيضا، وذلك من جهة وضوح انه انما يمكن المصير إلى ذلك فيما لو أمكن جعل المفهوم الكلي كمفهوم الابتداء مثلا مرآة إلى
مصاديق النسب الابتدائية الذهنية بين المفهومين بخصوصياتها التفصيلية وهو من المستحيل جدا، بداهة ان مصاديق الروابط الخاصة
التفصيلية مما يباين مفهوم الابتداء الكلي أو النسبة الابتدائية ومعه كيف يمكن حكاية الكلي بما هو كلي عن الروابط
43

الجزئية الخاصة المفصلة؟ فلا محيص حينئذ اما من إلغاء الخصوصيات التفصيلية طرا والمصير إلى أن الموضوع له للفظ من مثلا عبارة
عن مفهوم الابتداء الكلي أو النسبة الابتدائية التي هي جهة مشتركة بين مصاديق النسب الابتدائية الذهنية، أو المصير إلى أن الموضوع له
فيها عبارة عن نفس الروابط الذهنية الخاصة، فعلى الثاني يلزمه الالتزام في وضع الحروف بكونها من باب عام الوضع وخاص
الموضوع له وهو مناف لما اختاره فيها من كونها من باب عام الوضع والموضوع له، وعلى الأول وإن كان لا يلزم عليه هذا المحذور
إلا أنه يلزمه عدم انسباق الروابط الخاصة في موارد استعمالاتها بعد عدم إمكان جعل المفهوم الكلي بما هو كلي مرآة لملاحظة الروابط
الذهنية الخاصة، وهو كما ترى خلاف الوجدان كما هو واضح.
نعم لو أغمض النظر عن ذلك لا يرد عليه ما ربما يتوهم وروده عليه من لزوم صحة استعمال كل من الاسم والحرف مكان الاخر فيقال
بدل سرت من البصرة إلى الكوفة سرت ابتدأ البصرة انتهاء الكوفة، إذا قد عرفت فيما تقدم الاعتذار عن ذلك بان عدم صحة استعمال
كل من الاسم و الحرف حينئذ مكان الاخر انما هو من جهة قصور الوضع وتضيق دائرته وعدم إطلاقه الناشئ ذلك الضيق من جهة تضيق
من جهة تضيق الغرض الداعي على الوضع وأخصيته، باعتبار ان الغرض من الوضع الحروف انما هو لان يراد معناه لا بما هو شئ في
حياله بل بما هو مرآة لملاحظة خصوصية حال المتعلق وفي وضع الأسماء لان يراد معناها لا كذلك بل بما هو وفي نفسه، فان قضية
أخصية دائرة الغرض توجب قهرا تضيقا في دائرة وضعه أيضا بنحو يخرجه عما له من سعة الاطلاق الشامل لحال عدم لحاظ الالية في
الحروف والاستقلالية في الأسماء، كما نظيره أيضا في الواجبات العبادية الموقوف صحتها على قصد القربة وإتيانها بدعوة الامر
المتعلق بها، فكما ان أخصية دائرة الغرض هناك أوجبت تضيقا في دائرة الامر والإرادة عن الشمول لغير ما هو المحصل لغرضه، وهو
العمل المأتي عن داع قربي، فلا يكون للمتعلق إطلاق يعم حال عدم الدعوة ولا كان مأخوذا فيه قيد دعوة الامر، كذلك في المقام أيضا،
فإذا كان الغرض من وضع الحروف مثلا تفهيم معناه حال كونه ملحوظا باللحاظ الآلي بنحو القضية الحينية وفي الأسماء تفهيم معناها
حال كونها ملحوظا باللحاظ الاستقلالي فلا حرم يتضيق من أجله دائرة موضوع وضعه أيضا بنحو يخرج عما له من سعة الاطلاق ويختص
بذات المعنى لكن في حال كونه
44

ملازما مع اللحاظ الآلي في الحروف والاستقلالي في الأسماء بنحو القضية الحينية لا بنحو التقيد، لان ذلك كما عرفت من المستحيل، من
جهة استحالة تقيد المعنى باللحاظ المتأخر عنه، ومن المعلوم ان قضية ذلك قهرا هو عدم صحة الاستعمال المزبور على النحو المزبور
من جهة عدم كونه من الاستعمال فيما وضع له بعد فرض قصور الوضع وعدم إطلاقه في الحروف والأسماء لحال عدم لحاظ المعنى
مرآة أو استقلالا كما هو واضح.
وإلى مثل هذا البيان أيضا نظر الكفاية (قدس سره) في جوابه عن الاشكال المزبور بأنه قضية قانون الوضع واشتراط الواضع لان
يراد في الحروف معناها بما هي حالة لمعنى اخر وفي الأسماء بما هو هو وإن كان في عبارته قصور في إفادة ذلك، لا ان المقصود من
ذلك بيان اشتراط الواضع بعد الوضع على المستعملين لان لا يستعملوا الحروف الا في حال لحاظ المعنى مرآة لحال المتعلق ولا الأسماء
إلا في حال لحاظ المعنى مستقلا ليكون من قبيل الشرط في ضمن العقد كما توهم، كي يورد عليه بأنه لا معنى محصل لذلك، ولا ملزم
لاتباع شرط الواضع بعد إطلاق المعنى والموضوع له وعدم تقيده بصورة وجود القيد والخصوصية، كيف وان بطلان مثل هذا
الاشتراط على المستعملين - لولا رجوعه إلى الارشاد إلى كيفية وضعه وعدم كونه مطلقا كما ذكرناه - غني عن البيان فلا ينبغي ان
ينسب ذلك إلى من له أدنى دراية فضلا عن القائل المزبور. وحينئذ فالعمدة في بطلان هذا المشرب هو ما أوردناه عليه من مخالفة لما
هو قضية الوجدان والارتكاز بل ومساعدة البرهان أيضا على امتناعه، نظرا إلى ما عرفت من امتناع كون الكلي مرآة للجزئيات و
المصاديق بخصوصياتها التفصيلية خصوصا مع ما فيه أيضا من اقتضائه لزوم صرف جميع التقيدات عن مدلول الهيئة وإرجاعها تماما
إلى المادة والمتعلق نظرا إلى فرض كونها حينئذ على هذا المشرب غير ملتفت إليها كما لا يخفى، مع أن ذلك كما ترى خلاف الوجدان.
وحينئذ بعد بطلان هذا المشرب أيضا يدور الامر بين المشرب الثالث والرابع وفي مثله لا ينبغي التأمل في أن الأخير هو المتعين، فان
الوجدان في نحو قولك الماء في الكوز أو سرت من البصرة ونحو ذلك لا يرى من لفظ في ومن الا الروابط الخاصة الذهنية بين مفهومي
الماء والكوز ومفهومي السير والبصرة، لا انه يرى من لفظ في الشئ المرتبط بالغير نظير السواد والبياض ولذلك لا يصح الاكتفاء
أيضا بذكر متعلق واحد بقولك
45

سرت من أو من البصرة بل لا بد من ذكر المتعلقين فان ذلك شاهد صدق على كون مدلول الحروف من سنخ النسب والارتباطات
المتقومة بالطرفين.
ثم إنه بعد ما ظهر من كون معاني الحروف عبارة عن الروابط الذهنية بين المفهومين، يبقى الكلام في أنها إيجادية توجد باستعمال
الأداة، أو انها غير إيجادية بل كانت منبئة تنبئ عنها الأداة والهيئات كما في الأسماء، حيث إن فيها وجهين:
وقد ذهب الأساطين إلى الأول والتزم بكونها إيجادية حيث أفاد في وجه إيجادية معاني الحروف بان الأسماء انما كانت موضوعة
للطبائع المجردة عن خصوصية الارتباط بالغير فكان مفهوم الماء ومفهوم الكوز مفهومين متغايرين في الذهن غير مربوط أحدهما
بالآخر عند لحاظهما، ولكنك بقولك: (الماء في الكوز) توجد بلفظ (في) ربطا بين مفهومي الماء والكوز فكان هذا الربط جائيا من لفظ
(في) وإلا فبدونه كان المفهومان أجنبيين لا ربط لأحدهما بالآخر، وهكذا في نحو السير والبصرة، فتكون الحروف كلها حينئذ آلات
لإيجاد معانيها، بل وهكذا في نحو السير والبصرة، فتكون الحروف كلها حينئذ آلات لإيجاد معانيها، بل وهكذا الهيئات أيضا إذ كان
مفهوم كلمة الماء معنى متعقلا في ذاته، استعمل فيه كلمة الماء أم لا، كان الاستعمال في ضمن الهيئة الكلامية أو على نحو الافراد فلا فرق
بين ان يقال الماء بارد مثلا أو الماء بلا تركيب كلامي، حيث كان لهذا اللفظ في الصورتين معنى مستعمل فيه، إلا أن الهيئة الكلامية توجد
ربطا بينه وبين البارد بعد ان لم يكن بينهما هذا الربط. وهذا بخلافه في المعاني الاسمية فإنها متحققة في حد ذاتها في عالم المفهوم و
يكون استعمالها لاخطارها في الذهن.
وحينئذ فكم فرق بين الأسماء وبين الحروف والهيئات، فان الأسماء كلها تكون حاكية ومنبئة عن معانيها التي هي المفاهيم المستقلة
في حد ذواتها بخلاف الحروف والهيئات فان هذه طرا تكون آلة لاحداث معانيها. ثم إنه استشهد لذلك أيضا بالخبر المروي في المعالم
عن أبي السلام عن ابن الأسود الدؤلي عن أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: (الاسم ما أنبأ عن المسمى والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى و
الحرف ما أوجد معنى في غيره)، بتقريب ان في العدول في الحروف عن النبأ كما في الأسماء والافعال إلى الايجاد دلالة على أنه لا معنى
للحروف تكشف عنها الأداة كما في الأسماء والافعال وان معانيها معان إيجادية تحدث باستعمال ألفاظها. نعم في نسخة أخرى هكذا
بدل (والحرف ما أوجد معنى غيره في) (والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل) ولكنه رجح الأول من جهة علو
46

مضمونه الموجب لاستبعاد ان يناله يد المجعولية، بخلاف ما في النسخة الأخرى فان فيها شواهد الجعل، باعتبار انه لا يكون مثل هذا
التفسير مختصا بالحرف فيجري في الاسم والفعل أيضا فان الاسم أيضا لا يكون بفعل ولا حرف، فكان من نفس هذا التعبير في
الحروف بأنها ما توجد معنى في غيره يحصل الاطمئنان بصدوره من قائله ولكنه باعتبار دقته وغموضه خفي على الرواة فصحفوا
الخبر الشريف وعبروا مكان هذا التعبير بأنها ما لا تكون اسما ولا فعلا. هذا محصل ما أفيد في وجه كون معاني الحروف معاني
إيجادية لا انبائية.
وقد يظهر من بعض آخر () التفصيل في الحروف بين مثل أداة النداء ولام الامر والحروف المشبهة بالفعل وبين غيرها من الحروف
فالتزم بالايجادية في نحو أداة النداء والاستفهام والحروف المشبهة بالفعل وقال بالانباء في غيرها هذا.
ولكن التحقيق خلافه وانه لا يكون مداليل الحروف الا كمداليل الأسماء في كونها إنبائية محضة لا إيجادية. وما أفيد في وجه كون
مداليل الحروف والهيئات إيجادية من التقريب المزبور لو تم فإنما هو على مبنى المشهور من القدماء في أسامي الأجناس من كون
مداليلها عبارة عن نفس الطبائع المجردة التي تقتضيها مقدمات الحكمة عند السلطان إذ حينئذ بعد عراء المعنى الاسمي دائما في الذهن
عن خصوصية الارتباط بالغير أمكن المجال لدعوى إيجادية خصوصية جهة ارتباط أحد المفهومين بالآخر، والا فعلى ما هو التحقيق من
مسلك السلطان - من وضع أسامي الأجناس للماهية المبهمة والجامع بين الفاقد للخصوصية وواجدها الذي لا يكاد تحققه في الذهن الا
مقرونا مع إحدى الخصوصيتين:
اما التجرد والاطلاق واما الواجد للقيد والخصوصية - فلا يكاد يتم هذه المقالة، حيث إنه بعد عدم إمكان تحقق ذلك الجامع في الذهن الا
مقرونا مع خصوصية التجرد والاطلاق الذي يقتضيه مقدمات الحكمة أو مع خصوصية التقيد، نقول: بأنه إذا لوحظ المعنى الاسمي مقرونا
مع خصوصية ارتباطه بالغير في مثل سر من البصرة، والماء في الكوز، والزيد على السطح ونحو ذلك، وأريد إلقاء ما تصوره من
الصورة المرتبطة إلى ذهن المخاطب فلا جرم يحتاج إلى وجود دال وكاشف في البين يحكى به عما تصوره من الصورة الخاصة،
47

ومن المعلوم حينئذ انه كما أن ذات المعنى الاسمي وهو الطبيعية المهملة تحتاج إلى كاشف في مقام الكشف عنها، كذلك أيضا جهة
خصوصية ارتباطه بالغير، فيحتاج تلك أيضا إلى كاشف يكشف عنها، ولا يكون الكاشف عنها الا الإرادة والهيئات كما هو الشأن أيضا
عند لحاظ المعنى مجردا عن القيد والخصوصية، حيث إن الاحتياج إلى مقدمات الحكمة حينئذ انما هو من جهة كشفها عن خصوصية
التجرد والاطلاق والا فاللفظ حسب وضعه لا يدل الا على ذات المعنى والطبيعة المهملة بما هي متحققة تارة في ضمن الفاقد للقيد و
الخصوصية وأخرى في ضمن الواجد لها. وحينئذ فكما ان حيث خصوصية العراء وتجرد المعنى تحتاج إلى كاشف يكشف عنها وكان
الكاشف عنها هو مقدمات الحكمة، كذلك بعين هذا المناط حيث خصوصية ارتباط المعنى بالغير، فهي أيضا مما تحتاج إلى كاشف
يكشف عنها وكان الكاشف عنها هو الإرادة والهيئات. وحينئذ فلا يكون مداليل الحروف والهيئات الا كمداليل الأسماء في كونها
منبئة تنبئ عنها الأداة لا انها كانت موجدة بالأداة، كما لا يخفى.
وبالجملة نقول: بان من راجع وجدانه يرى أنه كما أن في مرحلة الخارج هيئات ونسبا خارجية متحققة من مثل وضع الحجر على حجر
آخر وخشب فوق خشب وكون شئ في وعاء كالماء في الكوز، كذلك أيضا في عالم الذهن فان لنا ان نلاحظ ونتصور هيئات ونسبا
على النحو الذي كانت في الخارج بان نلاحظ ونتصور في الذهن أحجارا موضوعة بعضها فوق بعض بهذه الهيئة والنسبة الخاصة و
نلاحظ ماء في كوز كما أن لنا ان نلاحظ أحجارا بنحو لا يكون بينها ارتباط وذلك بملاحظة حجر ثم ملاحظة حجر آخر غير مرتبط
بالحجر الأول وملاحظة ماء وكوز غير مرتبط أحدهما بالآخر. وبعد ذلك نسأل عن هذا القائل ونقول: بأنه إذا تصور شخص ولاحظ
الحجر الموضوع على حجر آخر بهذا الارتباط الخاص فأراد إلقاء ما تصوره من الصورة المرتبطة في ذهن المخاطب لتفهيمه بان ما في
ذهنه هو تلك الصورة الخاصة فهل له محيص الا وان يكشف عنها بقوله الحجر على حجر بجعل (الحجر) حاكيا حسب وضعه عن الذات
المعروضة للهيئة و (على) عن حيث الارتباط الخاص الذي بين المفهومين، أو انه لا بد أيضا وان يوجد النسبة والارتباط بين مفهومي
الحجرين بالأداة؟ لا شبهة في أنه لا سبيل إلى الثاني لأن المفروض حينئذ هو تحقق تلك الإضافة والارتباط الخاص بين المفهومين قبل
هذا الاستعمال فيكون
48

إيجادها من قبيل تحصيل الحاصل الذي هو من المستحيل. وحينئذ فتعين الأول باعتبار ان ما هو المحتاج إليه حينئذ انما هو الكشف عما
في ذهنه من الصورة الخاصة، ومعه لا محيص الا من المصير إلى كون الأداة والهيئات كاشفة عن مداليلها كما في الأسماء، وان في قولك
الماء في الكوز أو سرت من البصرة أو صعدت على السطح ونحو ذلك كما كان لفظ الماء والكوز ولفظ السير والبصرة ولفظ الصعود
والسطح كاشفا عن مداليلها، كذلك لفظ في ومن وعلى أيضا كان كاشفا عن الارتباط الخاص بين مفهومي الماء والكوز، والارتباط
بين مفهومي السير والبصرة، ومفهومي الصعود والسطح.
كيف وانه لم نتعقل مفهوما محصلا لايجادية مداليل الحروف والهيئات، فإنه ان أريد بإيجاديتها حضورها في الذهن باعتبار ما يكون
للنفس من الخلاقية للصور في وعاء الذهن فهو مسلم لا يعتريه ريب، ولكنه نقول: بان هذا المعنى لا يكون مختصا بمداليل الحروف و
الهيئات فيجري في الأسماء أيضا، ففي مثل الماء في الكوز كان كل واحد من مفهوم الماء والكوز والنسبة الظرفية بينهما من موجدات
النفس حسب ما لها من الخلاقية للصور بلا خصيصة لذلك بالحروف، ولكن لا يكون الموضوع له حينئذ هو هذه المفاهيم بقيد وجودها
في الذهن بل الموضوع له حينئذ هو نفس المتصور الذي تعلق به اللحاظ والتصور، وذلك أيضا لا بما هو هو، بل بما هو يرى خارجيا و
في هذه المرحلة كما لا يكون مداليل الأسماء إيجادية كذلك الحروف أيضا. وان أريد بإيجاد معاني الحروف كون الحروف موجدة لها
في مقام الاستعمال فهو أيضا أمر لا نتعقله بعد فرض تحقق تلك النسب والارتباطات الخاصة بين المفهومين قبل استعمال أداتها إذ هو
حينئذ من تحصيل الحاصل وغير محتاج إليه، على أنه نقول حينئذ بان لازم كاشفية الأسماء عن مداليلها انما هو تحقق مضامينها في رتبة
سابقة عن كشف الألفاظ عنها كما هو شأن كل محكي بالنسبة إلى حاكيه، وحينئذ فلو كان شأن الأداة والهيئات هو الموجودية
لمداليلها التي هي الارتباطات الخاصة بين مفاهيم الأسماء يلزمه تأخر صقع الارتباط بين المفهومين عن صقع الألفاظ والأداة المتأخر
عن صقع مفهومي الاسمين بمرتبتين، نظرا إلى علية الأداة لوجود الارتباط بين المفهومين ولازمه حينئذ هو تقوم مثل هذا الربط الواقع
في الصقع المتأخر بما يكون صقعه متقدما عليه بمرتبتين وهو كما ترى، بل لازمه أيضا هو إخراج جميع مثل هذه التقيدات عن حيز
الطلب والإرادة في الطلب المنشأ بالهيئة كما في سر من البصرة إلى
49

الكوفة ونحو اضرب زيدا في الدار، من جهة ان لازم موجدية الأداة والهيئات حينئذ للتقييدات والارتباطات هو وقوع جهة تقيد السير
بالبصرة وتقيد زيد بالدار في المثال في الموطن المتأخر عن موطن مفهومي الاسمين، أعني ذات السير والبصرة، الملازم ذلك لكونه
في عرض الطلب المنشأ بالهيئة، من جهة انه كما أن لفظ من في المثال علة لتحقق التقيد والارتباط الخاص بين مفهومي السير والبصرة
كذلك الهيئة أيضا علة لإيجاد الطلب. ومن المعلوم حينئذ ان لازم وحدة الرتبة بين العلتين أي الهيئة ولفظ من انما هو عرضية معلوليهما
وهما الطلب والتقيد أيضا، ولازمه هو خروج جهة التقيد عن حيز الطلب وتجريد متعلقه عنه، من جهة استحالة أخذ ما هو في عرض
الطب في متعلقه وفي رتبة سابقة عليه، مع أن ذلك كما ترى، فان بنائهم طرا في نحو هذه القضايا على أخذ جهة التقيد أيضا في الذات في
مقام معروضيتها للطلب بجعل المتعلق عبارة عن الذات مع خصوصية التقيد بأمر كذا وكذا، ومن هنا يحكمون بوجوب تحصيل القيد
مقدمة لحيث التقيد، لا على تجريد المتعلق والذات عن جهة التقيد، ولذا يقولون بان الواجب في مثل قوله سر من البصرة انما هو السير
الخاص بما هو متخصص بخصوصية كونه مضافا بدؤه إلى البصرة، فهذا أيضا من المحاذير التي تترتب على القول بكون معاني
الحروف والهيئات إيجادية إحداثية. ولكن ذلك بخلافه على القول بالكاشفية فيها، فإنه لا يكاد يترتب عليه هذا المحذور من جهة
إمكان حفظ التقيد بالخصوصية على هذا القول في ناحية متعلق الطلب، نظرا إلى معلومية عدم اقتضاء مجرد العرضية بين الكاشفين
العرضية بين المنكشفين أيضا كما هو واضح.
فتلخص مما ذكرنا انه على ما هو التحقيق من مسلك السلطان في وضع أسامي الأجناس: من كونها موضوعة للماهية المهملة والجامع بين
الطبيعة المجردة والمقيدة لا محيص من الالتزام بكون الحروف أيضا كالأسماء منبئة عن مداليلها لا موجدة لها فعند ملاحظة مفهومي
الاسمين مرتبطا أحدهما بالآخر كالماء في الكوز والسير من البصرة لا بد في قام الحكاية وإلقاء ما في الذهن إلى المخاطب من جعل
الاسم حاكيا عن مدلوله والأداة عن الارتباط الخاص بين المفهومين ولا سبيل حينئذ إلى دعوى موجدية الأداة للربط الخاص بين
المفهومين بعد فرض تحقق الربط بينهما قبل ذكر الأداة كما هو واضح.
ثم إنه مما ذكرنا أيضا ظهر انه لا فرق في مداليل الحروف والهيئات بين كونها من
50

قبيل النسب الثابتة كما في المركبات التقيدية التوصيفية أو من قبيل النسب الايقاعية المتحققة في المركبات التامة فكما انه في النسب
الثابتة لا يكون الحروف والهيئات الا كاشفة عنها ككشف الأسماء عن مداليلها كذلك في النسب الايقاعية ففيها أيضا لا يكون شأن
الحروف والهيئات الا الكشف والأنباء عنها.
ومن هذا البيان ظهر أيضا ضعف ما أفيد من التفصيل المزبور في الحروف بين مثل أداة النداء وما شابهها كأداة التنبيه والندبة و
الاستفهام والتمني والترجي ونحوها مما يكون مداليلها عبارة عن إيقاع النسبة، وبين مثل الأداة الجارة ونحوها مما يكون مداليلها
عبارة عن النسبة الثابتة بجعل الطائفة الثانية حاكية ومنبئة عن مداليلها كالأسماء والطائفة الأولى موجدة لها، بخيال ان قولك: يا زيد
وأنت وهذا ونحوها انما هو موجد لمصاديق النداء والإشارة والاستفهام وانه كان بمنزلة تحريك اليد والعين في مقام النداء و
الإشارة والخطاب، فكما انك بتحريك اليد والعين توجه مصداق النداء حقيقة ومصداق الإشارة والخطاب والبعث نحو الشئ كذلك
أيضا بتلك الأداة فإنك بقولك يا زيد توجد مصداق النداء، وبقولك أنت توجد فردا للخطاب، وبقولك هذا توجد مصداق الإشارة، و
بقولك ليضرب مصداق إلى الضرب من دون ان يكون تحقق لتلك المصاديق قبل هذا الاستعمال. ولكن ذلك بخلافه في مثل الأداة
الجارة من نحو قولك: الماء في الكوز، وسرت من البصرة إلى الكوفة فإنه فيها قبل هذا الاستعمال كان لتلك النسبة واقع تطابقه تارة و
لا تطابقه أخرى.
إذ نقول: بان منشأ هذا التوهم انما هو توهم وضع هذه الأداة للنداء الخارجي والإشارة والخطاب والاستفهام الخارجية كما يظهر من
التنظير بتحريك اليد والرأس والعين للإشارة والنداء والخطاب، فإنه على الأس لا محيص من القول بكونها آلات لإيجاد معانيها وان
معانيها معان إحداثية. ولكنه توهم فاسد، كيف وان المعنى الحرفي ليس الا عبارة عن الربط الخاص بين المفهومين لا الربط بين
الخارجين فلو انه كان مثل هذه الأداة موضوعا لايقاع مصداق النداء الخارجي والاستفهام والبعث والتمني الخارجي يلزم كون معانيها
من سنخ الارتباطات المتقومة بالخارجيات، وهو كما ترى، حيث لا يلائم مع حرفية المعنى فيها من جهة ان المعنى الحرفي كما عرفت -
وعليه أيضا إطباقهم - انما هو عبارة عن الروابط الذهنية القائمة بالمفاهيم، كما يشهد لذلك أيضا
51

استعمال تلك الأداة أحيانا في معانيها لا بداعي النداء والاستفهام والبعث الحقيقي الخارجي بل بغيره من الدواعي الاخر من هزل أو
سخرية كما هو كذلك أيضا في أداة التمني والترجي ونحوها كقولك: يا ليتني كنت جمادا أو حمارا، مع كون الاستعمال المزبور أيضا
على نحو الحقيقة دون المجاز فان ذلك أيضا شاهد عدم كونها الا موضوعة لايقاع الربط والنسبة ذهنا بين المفهومين في موطن
الاستعمال المطابق تارة للربط الخارجي وأخرى لا، غايته انه لا بما هو ربط ذهني بحيث يلتفت إلى ذهنية، بل بما انه يرى خارجيا
تصورا وإن كان تصديقا يقطع بخلافه. وعليه لا محيص من الالتزام بما ذكرنا من الكاشفية فيها أيضا كما في الأسماء حيث كانت الأداة
المزبورة حينئذ كاشفة عن صورة إيقاع الربط بين المفهومين الموجودة في ذهنه في مرحلة تصوره قبالا للربط الثابت بين المفهومين
التي هي مفاد الأداة الجارة. نعم لما لا يكون مثل هذا الربط الايقاعي ملحوظا الا خارجيا ربما أوجب ذلك تخيل كون المعنى والموضوع
له فيها عبارة عن إيقاع الربط الخارجي ولكنك بعد ما تأملت ترى كونها من قبيل سراب بقيعة يحسبه الظم آن ماء.
واما الاستشهاد المزبور بالخبر المروي عن علي عليه السلام ففيه ما لا يخفى إذ مضافا إلى إجمال الخبر من جهة اختلاف النسخ فيه كما
عرفت وإلى كونه مرويا من طرق غيرنا كما ترى لا مجال للاستدلال بمثله في المسألة حيث إنه ليس مسألتنا تلك من المسائل التي
يستدل لها بالاخبار الآحاد كما لا يخفى. مع أنه يمكن توجيه الرواية أيضا بما لا ينافي ما ذكرناه من الكشف والأنباء في الحروف، بان
يقال: بان النكتة في العدول فيها في الحروف إلى الايجاد انما هي ملاحظة كون النسب التي هي المعنى الحرفي علة لتحقق الهيئة في
الذهن كما هو كذلك أيضا في النسب الخارجية، كالنسب بين ذوات الأخشاب بالنسبة إلى تحقق الهيئة السريرية في الخارج، وذلك أيضا
بضميمة ما كان بين الألفاظ ومعانيها من العلاقة والارتباط الخاص الموجب لفنائها فيها، فإنه باعتبار ان الأداة مرآة لمعانيها التي هي
النسب الخاصة بين المفهومين وموجدية تلك النسب للهيئة في الذهن أضيف صفة الموجودية في الرواية إلى الأداة فعبر عنها بهذه العناية
بأنه أوجدت معنى في غيره فتأمل.
وعلى كل حال فهذا كله فيما يتعلق بالمقام الأول في شرح حقيقة المعنى الحرفي، ولقد
52

عرفت ما هو الحق فيها من كونها عبارة عن الإضافات الخاصة والارتباطات الذهنية المتقومة بالمفهومين مع كونها أيضا كالأسماء
إنبائية لا إحداثية من دون فرق في ذلك بين كون النسب إيقاعية أو وقوعية كما هو واضح.
واما المقام الثاني: فالكلام فيه كما عرفت انما هو في عموم الموضوع له فيها وخصوصه، فان المشهور فيها على كونها من قبيل عام
الوضع وخاص الموضوع له حتى أنه يظهر من بعضهم كصاحب تشريح الأصول جعل ذلك من عيوب المعنى الحرفي فإنه على ما حكى
عنه الأستاذ قال: بان من عيوب المعنى الحرفي عدم تصور عموم الموضوع له فيها، ولعله من جهة ما يرى من كون المنسبق منها في
موارد استعمالاتها هي المصاديق الخاصة من الروابط التي لاختلافها لا يجمعها جامع واحد، حيث كان شخص الربط الحاصل من إضافة
السير بالبصرة في قولك سرت من البصرة غير شخص الربط الحاصل من إضافته إلى الكوفة في قولك: سرت من الكوفة، وهو أيضا
غير شخص الربط الحاصل من إضافته إلى مكان آخر، وهكذا، حيث إنه حينئذ يقال: بأنه بعد عدم جامع في البين بين تلك الروابط
الخاصة الا مفهوم الربط الذي هو معنى اسمي لا حرفي لا مناص إلا من القول بخصوص الموضوع له فيها هذا.
ولكن نقول: بأنه انما يكون الامر كذلك بناء على ما هو المعروف المشهور من عموم الوضع والموضوع له إذ بعد ما يرى من عدم
انسباق معنى عام في الذهن في موارد استعمالات الحروف بل كون المنسبق في الذهن منها هي اشخاص الروابط الخاصة المباينة بعضها
مع البعض الاخر لا مناص من القول بخصوص الموضوع له فيها، والا فبناء على القسم الاخر من عموم الوضع والموضوع له الذي نحن
تصورناه فلا قصور في دعوى عموم الوضع والموضوع له، إذ أمكن حينئذ دعوى ان الموضوع له فيها في كل صنف منها من الروابط
الابتدائية والروابط الانتهائية والظرفية وهكذا عبارة عن الجامع بين اشخاص تلك الروابط الذي به تمتاز الروابط الخاصة من كل
صنف عن اشخاص الروابط الخاصة من صنف آخر، كما نشاهد ذلك بالوجدان أيضا في الروابط الخاصة من كل صنف وطائفة
كالروابط الابتدائية بان فيها وحدة سنخية وجامعا محفوظا توجب امتياز هذه الطائفة من الروابط عن الطوائف الأخرى من الروابط
الانتهائية والظرفية والاستعلائية ونحوها، فان مثل هذا الجامع المحفوظ وان لم يكن له وجود مستقل في الذهن
53

بنحو أمكن لحاظه وتصوره مستقلا حيث كان وجوده دائما في ضمن الفرد والخصوصية ولكنه في مقام الوضع أمكن وضع اللفظ بإزائه
ليكون الخصوصيات طرا خارجة عن دائرة الموضوع له، إذ يكفي في الوضع لحاظ المعنى الموضوع له ولو بوجه إجمالي بالإشارة
الاجمالية إليه بما هو المحفوظ في ضمن الروابط الخاصة، وعليه فيكون الموضوع له في الحروف كالوضع عاما لا خاصا ويكون
استفادة الخصوصيات حينئذ من قبيل تعدد الدال والمدلول.
هذا كله بناء على ما سلكناه في معنى الحروف من كونها عبارة عن الارتباطات الذهنية المتقومة بالمفاهيم من دون فرق في ذلك بين
القول بالايجاد فيها أو القول بالكشف والأنباء، واما على بقية المسالك الاخر فعموم الوضع والموضوع له فيها أوضح كما لا يخفى.
هذا كله في الجهة الأولى.
في شرح معاني الهيئات
واما الجهة الثانية فيقع البحث فيها في شرح مفاد الهيئات الطارئة على المواد في الجمل التامة والناقصة وبيان الفارق بينهما:
فنقول اما مفاد الهيئات في المركبات والجمل التامة والناقصة كلية فهو على ما تقدم في شرح المعاني الحرفية عبارة عن النسب و
الروابط الذهنية القائمة بالمفاهيم كما في قولك زيد قائم، حيث إن مفاد الهيئة في تلك الجملة عبارة عن النسب الكلامية والربط القائم
بالمفهومين أعني مفهومي زيد والقيام. وفي كون تلك النسبة المدلول عليها بالهيئة في الجمل إيجادية أو إنبائية الخلاف المتقدم، وقد
تقدم تحقيق القول فيه وانه لا يكون الا من قبيل الكشف والأنباء لا الايجاد والاحداث. وهذا من غير فرق بين المركبات التامة أو
الناقصة من المركبات التقييدية التوصيفية، حيث كان مداليل الهيئات فيها طرا عبارة عن النسب والروابط الذهنية القائمة بالمفاهيم، مع
كونها أيضا حاكية وكاشفة عنها لا موجدة لها.
نعم بينهما فرق من جهة أخرى من حيث كون النسبة إيقاعية أو وقوعية حيث كان المحكي للهيئة في الجمل التامة مطلقا عبارة عن إيقاع
النسبة، بخلافه في الجمل الناقصة و
54

المركبات التقييدية حيث كان المحكي للهيئة فيها عبارة عن وقوع النسبة لا إيقاعها، إذ كما أنه في الإضافات الخارجية الحاصلة من مثل
وضع الحجر على حجر آخر يتصور حيثيتان، حيثية إيقاع النسبة أعني خروجها من العدم إلى الوجود المعبر عنها بالمعنى المصدري، و
حيثية وقوع النسبة وثبوتها المعبر عنها بالمعنى الاسم المصدري، كذلك يتصور هاتان الحيثيتان في النسب والروابط الذهنية بين
المفاهيم فيتصور النسبة تارة من حيث إيقاعها وصدورها، وأخرى من حيث وقوعها وثبوتها، فارغا عن إيقاعها، باعتبار تفرع
وقوع الشئ وثبوته دائما على إيقاعه. فكان المحكي للجمل التامة مطلقا اسمية كانت أم فعلية أم شرطية هي النسب الايقاعية، وللجمل
الناقصة في المركبات التقييدية التوصيفية كزيد القائم هي النسب الثابتة. ومن ذلك أيضا يختلف كيفية استعمالها حيث كان استعمال
الهيئة في الجمل التامة من باب ذكر الهيئة بعنوان الموقعية للنسب الذهنية بخلاف المركبات التقييدية حيث كان ذلك من باب ذكر اللفظ
ولحاظ معنى مفروغ التحقق في الذهن. وبهذه الجهة نقول أيضا بان مفاد الهيئة دائما في الجمل الناقصة والمركبات التقييدية في طول
مفاد الهيئة في الجمل التامة وفي رتبة متأخرة عنها باعتبار كونها نتيجة لمفاد القضايا الحملية والجمل التامة. ولعله إلى ذلك أيضا
يشير ما هو المشهور بينهم من أن الأوصاف قبل العلم بها اخبار والاخبار بعد العلم بها أوصاف، فكون القضية التوصيفية اخبارا قبل
العلم بها انما كان بلحاظ ان الملحوظ فيها حينئذ هو النسبة لكن لا من حيث ثبوتها بل من حيث إيقاعها، كما أن كون القضية الحملية
توصيفية بعد العلم بها انما هو بلحاظ ان الملحوظ فيها هو ثبوت النسبة فارغا عن إيقاعها.
ثم إنه ربما يفرق بينهما من جهة أخرى وهي عدم اقتضاء المحكي للمركبات التقييدية للوجود خارجا وكونه عبارة عن ذات الماهية بما
هي قابلة للوجود والعدم، ومن ذلك يحمل عليها الوجود تارة والعدم أخرى كما في قولك زيد الضارب موجود أو معدوم، إذ التقيد
المزبور لا يقتضى الا تضيق دائرة الذات وإخراجها عما لها من سعة الاطلاق، وهذا بخلافه في المركبات التامة فان للمحكي فيها اقتضاء
الوجود الخارجي، ولذلك لا يصح ان يقال زيد قائم موجود أو معدوم، بل وانما الصحيح فيها هو المطابقة واللا مطابقة للواقع، ومن
المعلوم انه لا يكون الوجه فيه الا ما ذكرناه من حكايتها تصورا عن النسبة الخارجية بين زيد والقيام في قولك زيد قائم واقتضاء
المحكي فيها للوجود في الخارج. و
55

من ذلك أيضا لا يكون وزان القيود الواقعة في حيز الجمل الناقصة والمركبات التقييدية على وزان القيود الواقعة في حيز الجمل التامة
حيث كان صقع التقييد في الأول هو صقع نفس ذات الماهية القابلة للوجود والعدم، بخلافه في الثاني فان صقع التقييد فيه عبارة عن
صقع موجودية ذات خارجا. وربما يثمر ذلك في جريان الأصول في الاعدام الأزلية بنحو السلب المحصل فإذا كان القيد واقعا في حيز
الجمل الناقصة كالقرشية للمرأة والكرية للماء والشرط المخالف للكتاب ونحو ذلك فعند الشك في تلك القيود أمكن استصحاب
إعدامها ولو بنحو السب المحصل، فإنه بعد إن كان معروض التقيد حينئذ هو الذات العارية عن حيث الوجود أو العدم لا هي بوصف
موجوديتها وكان الوجود من العوارض الطارية على الذات المتقيدة بالوصف والقيد فلا جرم لا مانع من جر عدم الوصف والقيد
الناشئ من عدم الموصوف إلى زمان وجوده من دون اقتضاء حيث عدم موجودية الذات في الخارج لسلب هذا التقيد كي يلزمه عدم صحة
جريان استصحاب عدم الوصف إلى زمان وجود الموصوف كما لا يخفى. وهذا بخلافه في القيود الواقعة في حيز الجمل التامة فإنه لما لا
يكون صقع التقيد فيها عبارة عن صقع ذات الماهية بل كان صقعه صقع موجودية الذات خارجا يلزمه لا محالة عدم صحة استصحاب عدم
الوصف المتحقق في ظرف عدم الموصوف. وتنقيح الكلام فيه موكول إلى محله فالمقصود في المقام هو مجرد الإشارة إلى ما يترتب
عليهما من الثمرة.
وكيف كان فبعد ان ظهر لك بيان الفارق بين الجمل التامة وبين الجمل الناقصة في القضايا التقييدية وان كون الجملة تامة مطلقا
اسمية كانت أم فعلية إنشائية كانت أم إخبارية انما هو باعتبار اشتمالها على النسبة الايقاعية قبالا للجمل الناقصة في القضايا التقييدية
المشتملة على النسب الثابتة، يبقى الكلام في بيان الفارق بين الجمل الاخبارية والانشائية وما به امتياز إحداهما عن الأخرى بعد
اشتراكهما في الاشتمال على النسب الايقاعية.
فنقول: اما ما كان منها متمحضا في الاخبارية والانشائية كقولك زيد قائم المتمحض في الاخبارية، وقولك: اضرب المتمحض في
الانشائية فالفرق بينهما واضح، باعتبار حكاية النسبة الايقاعية في الأول عن نسبة ثابتة خارجية تطابقها تارة ولا تطابقها أخرى
بخلافه في الثاني فإنه لا يكون فيه محكي تحكى عنه النسبة الايقاعية
56

الذهنية كي تطابقه تارة ولا تطابقه أخرى بل لا تكون الجملة فيه الا مشتملة على نسبة إيقاعية إرسالية بين المبدأ والفاعل من دون
مدخلية فيه لقصد الجدية والهزلية كما هو كذلك في الاخبار أيضا لأن هذه الأمور انما كانت من دواعي الاخبار والانشاء فإنه كما يخبر
أو ينشأ هزلا يخبر وينشأ جدا أيضا، فلا يكون حينئذ من مقوماتها كما هو واضح. ومن ذلك ظهر أيضا عدم دلالة الهيئة في مثل اضرب
في فرض الجد بالارسال على الطلب الحقيقي الذي هو عين الإرادة أو ما ينتزع عن مقام إظهارها كالايجاب والالزام والتحريك الا
على نحو الالتزام دون المطابقة، من جهة ان مفاد الهيئة كما عرفت عبارة عن النسبة الايقاعية الارسالية بين المبدأ والفاعل وحينئذ
فدلالتها على الطلب انما هو باعتبار كون هذه النسبة من شؤون الطلب ولازمه كما هو واضح. وسيجئ لذلك مزيد بيان في محله إن شاء الله
. وكيف كان فهذا كله في الجمل المتمحضة في الاخبارية والانشائية.
واما ما كان منها صالحا للامرين كقولك أطلب وبعت وزوجت مما تصلح لان تكون اخبارا تارة وانشاء أخرى، فقد يقال: بان الفرق
بينهما حينئذ انما هو من جهة قصد الحكاية وقصد الموجودية، وانه ان قصد المستعمل في مقام الاستعمال الحكاية بها عن نسبة ثابتة
خارجية تكون اخبارا، وان قصد بها موجديتها للمبدأ تكون انشاء فكان تمام الميز والفرق حينئذ بين كون الجملة إخبارية وبين
كونها إنشائية من جهة قصد الحكاية والموجدية. ولكن فيه ما لا يخفى، من أنه لا مدخل لقصد الموجدية في إنشائية الانشاء بوجه أصلا
بل هو من الطواري للانشاء الخارجة عما به قوام إنشائية الانشاء ومن ذلك ترى صدق الانشاء حقيقة في الانشاءات الهزلية من مثل قوله
ملكتك السماء ونحوه مع انتفاء قصد الموجودية فيها، فان صدق ذلك كاشف ان ما به تحقق الانشاء الكلامي غير القصد المزبور وان
قصد الموجدية كقصد الهزلية من الدواعي للانشاء الخارجة عما به قوام إنشائية الانشاء، كيف ولازم دخل القصد المزبور في الانشاء في
فرض الجد بإيجاد المبدأ في الخارج وفي الوعاء المناسب ان يكون المتحقق هناك قصدين طوليين أحدهما ما به قوام تحقق الانشاء و
ثانيهما قصد الجد بالايجاد بالانشاء الكلامي، مع أن ذلك ترى مخالف لما هو قضية الوجدان في الانشاءات الجدية الحقيقة كما هو واضح.
وبما يفرق بينهما أيضا من جهة قصد الحكاية وعدم قصدها بأنه، إن كان استعمل الجملة حاكيا بها عن نسبة ثابتة تكون اخبارا، وإن كان
المستعمل استعملها لا بقصد
57

الحكاية عن واقع ثابت تكون انشاء وحينئذ فيكون الاخبار والانشاء مشتركين في الاشتمال على النسبة الايقاعية الكلامية الا ان
للاخبار خصوصية زائدة لم تكن تلك الخصوصية في الانشاء، هذا. ولكن فيه ان هذا الفرق وإن كان وجيها في نفسه الا انه بعيد أيضا
باعتبار اقتضائه لاشتمال كل اخبار على الانشاء أيضا مع أن ذلك خلاف ما بنوا عليه من المقابلة بين الانشاء والاخبار كما هو واضح.
وحينئذ فالتحقيق في الفرق والميز بينهما هو ان يفرق بينهما من جهة المحكي من حيث كونه في الاخبار عبارة عن وقوع النسبة و
ثبوتها وفي الانشاء إيقاعها الذي هو خروجها من العدم إلى الوجود، وذلك انما هو من جهة ما هو قضية الارتكاز والوجدان من قولك
بعتك اخبارا حيث كان المتبادر منه هو الحكاية عن نسبة ثابتة محفوظة قبال كونه انشاء المتبادر منه الحكاية عن نسبة إيقاعية، و
حينئذ فإذا استعمل المستعمل الجملة في إيقاع نسبة كلامية حاكيا بها عن واقع ثابت تكون الجملة إخبارية وإذا استعملها فيها حاكيا بها
عن نسبة إيقاعية توقعها المستعمل في وعائها المناسب لها تكون جملة إنشائية فيكون كل من الاخبار والانشاء حينئذ مشتركا في جهة
الحكاية في نحو قوله بعت اخبارا أو انشاء الا ان الفرق بينهما كان من جهة المحكي فتأمل. ثم إن ذلك كله بحسب مقام الثبوت.
واما بحسب مقام الاثبات فحيث ان طبع مثل هذه الجمل كان على الحكاية عن واقع ثابت فيحتاج في إحراز كونها انشاء من قيام قرينة
في البين توجب صرفها عن الاخبارية والحكاية عن الواقع الثابت والا فطبعها كان على الاخبار. هذا كله في شرح ما هو مفاد الهيئات
في الجمل والافعال في المركبات التامة والناقصة وبيان الفارق بين الجمل الانشائية والاخبارية.
واما كون الموضوع له فيها عاما أو خاصا فقد ظهر مما قدمناه في المعاني الحرفية، ولقد عرفت ما هو التحقيق فيها من كون الموضوع
له بل المستعمل فيه كالوضع فيها عاما لا خاصا.
في المبهمات
الجهة الثالثة في المبهمات كأسماء الإشارة والضمائر والموصولات ونحوها من
58

الأسماء المتضمنة للمعنى الحرفي حيث إنه وقع فيها الخلاف من حيث عمومية الموضوع له فيها وخصوصيته. ولتنقيح المرام في المقام
أيضا لا بأس بالإشارة الاجمالية إلى شرح ما هو مفاد هذه الأسماء وما هو المعنى والموضوع له فيها.
فنقول: وإجمال القول فيها هو ان المعنى والموضوع له في هذه الأسامي - على ما هو المتبادر المنساق منها ويشهد عليه إطباقهم من
التعبير عنها بالمبهمات - عبارة عن معان إبهامية تكون نسبتها إلى الذوات التفصيلية من قبيل الاجمال والتفصيل لا من قبيل الكلي و
الفرد مع اشتمالها أيضا على خصوصية زائدة كخصوصية الإشارة والغيبة والخطاب والمعهودية ونحوها، ففي أسماء الإشارة كهذا
يكون المعنى والموضوع له عبارة عن معنى إبهامي إجمالي يكون نسبته إلى الخصوصيات والذوات المفصلة من زيد وعمرو نسبة
الجمل إلى المفصل المعبر عنه بالفارسية ب (أين)، نظير الشبح الذي تراه في العبيد في كونه مع إبهامه وإجماله عين الذوات التفصيلية من
زيد أو عمرو أو حيوان أو حجر بعد انكشاف الغطاء ولذلك تحتاج دائما إلى عطف بيان كما في قولك هذا الانسان وهذا الحمار وهذا
زيد. لا ان الموضوع له فيها عبارة عن اشخاص الذوات المخصوصة والعناوين التفصيلية كما توهم، والا يلزمه انسباق مفهوم زيد و
الانسان في مثل قولك هذا زيد وهذا الانسان في الذهن مرتين تارة من لفظ هذا وأخرى من لفظ زيد ولفظ الانسان، مع أنه كما ترى.
ولا ان الموضوع له فيها عبارة عن نفس الإشارة إلى الذوات التفصيلية التي هي معنى حرفي كما يوهمه ظاهر تعبير بعض من علماء
الأدب كابن مالك في منظومته (بذ المفرد مذكر أشر)، كيف وانه بعد ان لم يكن المقصود من الإشارة مفهومها الذي هو معنى اسمي بل
كان المقصود مصداق الإشارة يلزم خروجها عن الاسمية رأسا إلى الحرفية ولازمه هو عدم جواز إجراء أحكام الاسم عليها ن الاخبار
عنها تارة وبها أخرى وقوعها فاعلا ومفعولا كقولك ضربني هذا وضربت هذا، مع أن ذلك أيضا كما ترى.
وحينئذ فلا محيص من القول فيها بما ذكرناه من وضعها لجهة عرضية إبهامية منطبقة على الصور التفصيلية والذوات الخاصة بتمام
الانطباق مع اشتمالها أيضا على خصوصية زائدة وهي خصوصية الإشارة الذهنية لا الإشارة الخارجية كما توهم بخيال ان لفظ هذا انما
هو بمنزلة الإشارة باليد والعين، وانه كما أنه بتحريك اليد والعين مشيرا إلى زيد يوجد
59

ويتحقق مصداق الإشارة الخارجية كذلك لفظ هذا يتحقق مصداق الإشارة إلى الذوات المفصلة، فالتزم لذلك بكونها آلات لإيجاد
مصداق الإشارة والخطاب وإن معانيها معان إيجادية لا إخطارية. ولكنه توهم فاسد كما بيناه سابقا ونقول في المقام أيضا: بان لازم
ذلك هو ان يكون استعمال هذا في قولك هذا الانسان الكلي أحسن من الحمار مجرد لقلقة لسان حيث لم يكن هناك إشارة خارجية
أصلا، مع أنه كما ترى. وحينئذ فبعد أن لا يرى بالوجدان فرق بين هذا الانسان الكلي وهذا زيد من حيث كونهما على حد سوأ فلا
محيص من دعوى ان الموضوع له فيها هي الجهة الاجمالية المشتملة لخصوصية الإشارة الذهنية، ومعه يبطل القول بالايجادية أيضا حيث
كان معناها حينئذ معاني إخطارية قد استعمل فيها أسامي الإشارة كما في ساير الأسماء.
ومن ذلك البيان ظهر حال الضمائر أيضا، فإنها أيضا موضوعة لجهة عرضية إجمالية متحدة مع ما يماثل مفهوم مراجعها، مع اشتمالها
أيضا على خصوصية الغيبة والحضور.
وكذا الموصولات فإنها أيضا موضوعة لجهة عامة عرضية قبال خصوصيات الصور المعبر عنها بالفارسية ب (آن كس) قبال الموصوفات
المعبر عنها بالفارسية ب (كس) مع اشتمالها أيضا على خصوصية زائدة وهي المعهودية.
وبعد ما عرفت ذلك نقول بأنه حيثما كان المعنى في تلك الأسامي متخصصا بخصوصيات زائدة من الإشارة والغيبة والخطاب و
المعهودية لا بمفهومها بل بمصداقها ولو بنحو خروج القيد ودخول التقيد، فلا جرم باعتبار خصوصية التقيدات لا بد من المصير فيها
إلى كونها من باب عام الوضع وخاص الموضوع له، لولا ما تصورناه من القسم الاخر لعام الوضع والموضوع له، ولا فبناء على ما
تصورناه أمكن المصير فيها أيضا إلى عام الوضع والموضوع له بدعوى الوضع فيها للقدر الجامع بين الخصوصيات الذي لا يكاد تحققه
في الذهن إلا توأما مع الخصوصية. بل ولئن ألغيت جهة التقيد بتلك الخصوصيات من الإشارة والغيبة والخطاب والمعهودية عن المعنى
والموضوع له فيها وجعلت المعنى والموضوع له فيها عبارة عن ذات ذاك المعنى الابهامي بما انها ملازمة مع خصوصية الإشارة في
أسماء الإشارة وخصوصية الغيبة والخطاب في الضمائر وخصوصية المعهودية في الموصولات لا مقيدة بالخصوصيات المزبورة ولا
مطلقة أيضا، كان أمر عمومية الموضوع له فيها أوضح، حيث أمكن تصوير عمومية الموضوع له فيها بالوضع العام المشهوري بلا
60

احتياج إلى ما تصورناه من القسم الاخر لعام الوضع والموضوع له. فيقال حينئذ بان الموضوع له في كل أسماء الإشارة والضمائر و
الموصولات عبارة عن الذات المبهمة التي هي معنى كلي، لكنها بما هي ملازمة مع خصوصية الإشارة والغيبة والخطاب والمعهودية، و
عليه أيضا لا يكون دلالة تلك الأسامي على الإشارة والغيبة والخطاب الا بالملازمة، كما هو كذلك أيضا في لام الامر في قولك ليضرب
فان دلالته على الطلب انما كان بالملازمة لا بالمطابقة لأنه لا يدل الا على وقوع المبدأ وصدوره من الفاعل متعلقا للطلب فبهذه الجهة
دل على الطلب أيضا. وسيأتي لذلك مزيد بيان أيضا إن شاء الله تعالى في مبحث الأوامر.
الأمر الثالث
لا يخفى عليك ان حقيقة الاستعمال سوأ في المعنى الحقيقي أو فيما يناسبه من المعنى المجازي حسب ما يدركه الطبع والذوق من
المناسبات انما يتحقق بجعل اللفظ في مقام الاستعمال فانيا في المعنى فنأ المرآة في المرئي بحيث بإلقائه كان المعنى هو الملقى إلى
المخاطب ويكون اللفظ مما به ينظر إلى الغير لا مما فيه ينظر، وعليه يستحيل إطلاق اللفظ وإرادة شخصه منه بنحو كان اللفظ حاكيا
عن شخص نفسه كحكايته عن معناه عند استعماله فيه، ضرورة استلزامه حينئذ لاجتماع النظر فيه: أحدهما النظر العبوري الآلي والاخر
النظر الاستقلالي، حيث إنه باعتبار كونه حاكيا يكون منظورا فيه بالنظر الآلي وباعتبار كون شخصه أيضا محكيا يكون منظورا
بالنظر الاستقلالي وهو كما ترى كونه من المستحيل. وعليه يحتاج في إبطاله إلى ما عن الفصول (قدس سره) من لزوم تركب القضية
من جزين بل من جز واحد بملاحظة امتناع تحقق النسبة بدون المنتسبين. وما يرى من قوله زيد لفظ فهو غير مربوط بباب
الاستعمال بل هو من قبيل إلقاء الموضوع والحكم عليه كما في إعطائك زيدا درهما وقولك انه درهم فيكون لفظ زيد حينئذ هو
الموضوع الملقى إلى المخاطب فحكمت عليه بأنه لفظ وحينئذ فلا يرتبط ذلك بالاستعمال الذي حقيقته عبارة عن جعل اللفظ فانيا في
المعنى كما هو واضح.
ومن ذلك البيان ظهر حال ما إذا أطلق لفظ وأريد صنفه أو نوعه كقوله: ضرب
61

فعل ماض، مريدا به نوعه، أو زيد في ضرب زيد فاعل، مريدا به صنفه، فإنه لو كان ذلك من باب جعل شخص اللفظ الملقى خارجا أمارة
لنوعه أو صنفه لا من باب الاستعمال الذي مرجعه إلى جعل شخص اللفظ مرآة وفانيا فيما يستعمل فيه فلا مانع عن صحته، ضرورة
إمكان جعل الشخص والجزئي الخارجي أمارة لنوعه لكي ينتقل المخاطب من الشخص إلى نوعه وصنفه ثم الحكم على النوع من ذلك
المرئي والموجود الخارجي الجزئي من دون ان يترتب عليه محذور أصلا. بل ولئن تأملت ترى صحة الاطلاق على النحو المزبور بنحو
يعم الحكم شخص اللفظ المذكور أيضا، فإنه بعد ما لم يكن ذلك من باب الاستعمال بل من باب إلقاء الفرد وجعله أمارة لنوعه فأمكن
الحكم عليه أيضا بما انه فرد ومصداق للكلي، كما هو واضح.
واما لو كان الاطلاق المزبور من باب الاستعمال الذي مرجعه إلى جعل اللفظ فانيا في المعنى ففيه إشكال ينشأ من امتناع كون الفرد و
الجزئي مرآة للطبيعي والكلي من جهة ان الفرد والكلي وان كانا محتدين وجودا خارجا ولكنهما متغايران مفهوما وذهنا، ومع
تغايرهما وتباينها لا يمكن حكاية الفرد بما انه فرد وجزئي عن الطبيعي والكلي، كيف ولازمه هو إمكان القسم الرابع من الأقسام الأربعة
المتصورة في الوضع وهو الوضع الخاص والموضوع له العام لا امتناعه كما التزموا به، فان عمدة ما أوجب مصيرهم إلى امتناعه
انما هو هذه الجهة من عدم إمكان حكاية الفرد والجزئي بما هو فرد عن الكلي والطبيعي كي يصح جعله آلة لملاحظة المعنى العام الكلي.
وحينئذ فإذا امتنع ذلك هناك يلزمه القول في المقام بامتناع إطلاق اللفظ وإرادة جنسه أو نوعه أو صنفه أيضا إذا كان من باب
الاستعمال. هذا إذا لم يرد في الطبيعي والنوع ما يشمل شخص اللفظ المذكور، واما إذا أريد به ما يعم هذا الفرد أيضا فأمر الاستحالة
أوضح، لأنه مضافا إلى ما ذكر يترتب عليه محذور اجتماع اللحاظين في شخص اللفظ المذكور: اللحاظ الآلي، واللحاظ الاستقلالي، وهو
كما عرفت من المستحيل.
لا يقال: كيف ذلك مع أنه في الحقيقة من افراد الطبيعة المطلقة.
فإنه يقال: نعم ولكن النظر إلى شخص اللفظ في مقام الاستعمال بعد كونه آليا يلزمه لا محالة تضيق في دائرة المحكي والملحوظ بنحو
يخرج عنه شخص هذا اللفظ، إذ المحكي والملحوظ حينئذ لا يكون في لحاظه إلا الطبيعة المضيقة الغير القابلة للانطباق
62

على شخص هذا الفرد الحاكي.
فتلخص انه لا فرق بين إطلاق وإرادة شخصه وبين إطلاقه إرادة نوعه أو صنفه فإذا كان الاطلاق المزبور من باب الاستعمال فكما لا
يجوز ذلك في الصورة الأولى لا يجوز في الصورة الثانية أيضا. واما إذا لم يكن الاطلاق من باب الاستعمال بل من باب إلقاء الفرد و
جعله أمارة لنوعه وصنفه فكما يجوز ذلك في الصورة الثانية كذلك يجوز في الصورة الأولى أيضا حيث أمكن إلقاء شخص لفظ والحكم
عليه بأنه لفظ كما هو واضح.
الأمر الرابع
هل الألفاظ موضوعة للمعاني المرادة للافظها أو انها موضوعة لذات معانيها من حيث هي مع قطع النظر عن كونها مرادة أو غير مرادة؟
فيه وجهان بل قولان:
أولهما منسوب إلى العلمين الشيخ الرئيس والمحقق الطوسي الخواجة نصير الدين (قدس سرهما) بان الدلالة تتبع الإرادة، ولعل وجه
استفادة ذلك من كلامهما انما هو من جهة الملازمة بين تبعية الدلالة للإرادة وبين كون الموضوع له المعنى المقيد بكونه مرادا، بتقريب
ان طرف العلقة الخاصة بعد إن كان هو المعنى المراد فقهرا يلزمه ان يكون الدلالة الحاصلة من العلقة المزبورة أيضا تابعة للإرادة. وهذا
بخلاف ما لو كان المعنى والموضوع له ذات المعنى مجردا عن حيثية الإرادة فإنه عليه لا يبقى مجال للتبعية المزبورة الا إذا أريد التبعية
في مقام الاثبات والكشف عن الواقع وكان المراد من الدلالة هي الدلالة التصديقية.
ولكن التحقيق هو الثاني من وضع الألفاظ لذات المعاني من حيث هي بل وامتناع وضعها للمعاني المرادة، وذلك لوضوح ان الإرادة
سوأ أريد بها اللحاظ المقوم للاستعمال، أو إرادة تفهيم المعنى، أو إرادة الحكم في مقام الجد انما هي من الأمور المتأخرة رتبة عن
المعنى فيستحيل حينئذ أخذها قيدا في ناحية المعنى والموضوع له، فلا محيص حينئذ من تجريد المعنى والموضع له عن الإرادة مطلقا
سوأ بمعناها المقوم للاستعمال أعني اللحاظ أو بمعنى إرادة التفهيم أو الحكم والمصير إلى أن الموضوع له في لألفاظ عبارة عن ذات
المعنى بما هي هي عارية عن خصوصية كونها ملحوظة باللحاظ الاستعمالي أو مرادة بإرادة
63

التفهيم أو الحكم، ومعه يبطل القول بوضعها للمعنى المراد كما هو واضح.
نعم لهذا الكلام مجال فيما لو أريد وضعها للمعاني المقرونة بكونها مرادة على نحو القضية الحينية لا التقيدية حتى يتوجه الاشكال
المزبور، وذلك أيضا بالتقريب الذي ذكرناه سابقا في شرح مرام الكفاية في وجه عدم صحة استعمال الحروف مكان الأسماء، بان
يقال في المقام أيضا بان الداعي والغرض من الوضع بعد إن كان هو تفهيم المعنى والمقصود باللفظ وكان التفهيم أيضا ملازما مع
إرادة المعنى حين إلقاء اللفظ فلا جرم يقتضى هذا الضيق تضيقا في دائرة وضعه وبتبعه أيضا يتضيق موضوع وضعه بنحو يخرج عماله
من سعة الاطلاق الشامل لحال عدم الإرادة فيختص المعنى والموضوع له حينئذ بحال الإرادة المعنى أي لحاظه أو إرادة التفهيم أو الحكم
وان لم يكن مقيدا بها، إذ على هذا التقريب يسلم القول المزبور عن الاشكال المذكور حيث لا محذور يرد عليه ثبوتا.
ولكنه فرع إثبات ان الغرض من الوضع انما هو تفهيم المعنى، والا فبناء على المنع عن ذلك كما هو الأقوى من دعوى ان الغرض من
الوضع انما هو مجرد جعل العلقة بين اللفظ ومعناه بنحو ينتقل الذهن عند سماعه بانتقال تصوري إلى معناه ولو كان صدوره من خرق
الهوى أو من شئ آخر فلا يتم ذلك كما هو واضح. كيف وانه لولا ذلك لما كان وجه لاحتياجهم في الدلالة التصديقية في استفادة إرادة
المتكلم للمعنى إلى ضم مقدمات الحكم من مثل كون المتكلم في مقام الإفادة، إذ لو كان ذلك بمقتضى الوضع يكفيه نفس وضع الواضع
كما في الحكم على المعنى الحقيقي ولا يحتاج إلى ضم مقدمة خارجية، مع أنه خلاف ما تسالموا عليه من اشتراط كون المتكلم في مقام
الإفادة في استفادة إرادة المعنى.
ثم إنه مما يشهد لما ذكرنا أيضا انسباق ذات المعنى وتبادرها عند سماعنا اللفظ من النائم والساهي أو من خرق الهوى فإنه لولا كونها
أي الألفاظ موضوعة لذات المعاني لما كان وجه لانسباقها في الذهن عند صدوره من النائم والغافل والساهي. وتوهم ان ذلك انما كان
من جهة أنس الذهن لا انه من حاق اللفظ، يدفعه الألفاظ الغير المأنوسة الاستعمال فإنه يرى فيها أيضا انسباق ذات المعنى منها في الذهن
بمجرد العلم بالوضع، ولو كان صدوره من النائم الذي هو غير مريد قطعا أو من خرق الهواء، فيكون ذلك حينئذ أقوى شاهد لما ذكرنا
من وضعها لنفس المعاني من حيث هي لا للمعاني المرادة.
واما كلام العلمين (قدس سرهما) من التبعية المزبورة فغير ظاهر في إرادة الدلالة
64

التصورية التي هي محل البحث لولا دعوى ظهوره في إرادة الدلالة التصديقية وفيها نحن نقول أيضا بتبعية الدلالة للإرادة، ولذا لا
نحكم بان للكلام ظهورا في المعنى بالظهور التصديقي الا في مورد أحرز ولو من الخارج ان المتكلم كان في مقام بيان مرامه من لفظه
وفي مقام الإفادة كما هو واضح.
الأمر الخامس
لا يخفى انه لا وضع للمركبات من المواد والهيئات علاوة عن وضع المفردات ووضع الهيئات الخاصة وضعا نوعيا للدلالة على النسب
الايقاعية، ضرورة كفاية وضع المفردات ووضع الهيئات عن وضع آخر لها بجملتها من المادة والهيئة فارتكاب وضع آخر حينئذ
للمجموع يكون لغوا ومستدركا. ومن ذلك البيان ظهر أيضا فساد ما عسى يتوهم من أن للمركبات وضعين: وضع للمواد خاصة ووضع
آخر لمجموع المادة والهيئة. وجه الفساد هو انتفاء الحاجة حينئذ إلى الوضع للمجموع لان المحتاج إليه حينئذ بعد وضع المواد انما هو
الوضع لخصوص الهيئات لا لها وللمواد أيضا كما هو واضح.
الأمر السادس
هل الألفاظ كما كان لها وضع للمعنى الحقيقي كذلك لها وضع آخر نوعي لما يناسبه من المعنى المجازي حسب أنحاء العلائق و
المناسبات، أو لا يكون لها الا وضع واحد للمعنى الحقيقي وان صحة استعماله في المعنى المجازي لمناسبات خاصة يدركها الطبع و
الذوق في الموارد الخاصة غير مندرجة تحت ضابط كلي؟ فيه وجهان. أقواهما الثاني، فان كل ما يتصور من المناسبات والعلاقات
النوعية من نحو علاقة المجاورة وعلاقة الحال والمحل والسببية والمسببية ونحوها يرى بالوجدان بأنه لا يدور مدارها صحة
الاستعمال في المعنى المجازي، ولذا لا يجوز استعمال الحمار في زيد بعلاقة الحال والمحل فيها لو كان زيد دائما راكبا على الحمار،
مع أنه لو كان في البين وضع نوعي باعتبار تلك المناسبات والعلاقات النوعية يلزمه جواز الاستعمال المزبور. وحينئذ فنفس عدم
صحة الاستعمال المزبور مع وجود العلائق النوعية وصحته بدون وجود تلك العلائق كاشف قطعي عن أن
65

مناط صحة الاستعمال المجازي انما هو على مناسبات خاصة يدركها الطبع والذوق في مواردها لا على وجود العلائق النوعية كما هو
واضح.
الأمر السابع في الحقيقة والمجاز
وتعرف الحقيقة بأمور:
منها: تنصيص الواضع بقول: انى قد وضعت اللفظ الكذائي لمعنى كذائي ولا إشكال في ثبوت الوضع بذلك ولكن الكلام في فرض ثبوت
صغراه حيث لا يكاد حصول العلم بذلك خصوصا بالنسبة إلينا.
ومنها: تنصيص أهل اللغة حيث كانوا هم المرجع في تعيين الأوضاع ويقبل قولهم فيما قالوا اما من جهة كونهم من أهل الخبرة، أو من
جهة الشهادة، أو الانسداد. ولكن الاشكال فيه أيضا من جهة عدم ثبوته نظرا إلى عدم كونه بصدد تعيين الأوضاع حتى يثبت الوضع
بقولهم بل وانما هم بصدد تعيين ما يستعمل فيه اللفظ ومن الواضح انه بمثل ذلك لا يكاد يثبت الوضع نظرا إلى أعمية الاستعمال من
الحقيقة، كما هو واضح.
ومنها: التبادر وهو انسباق المعنى إلى الذهن من نفس اللفظ وحاقه عند سماعه بلا كونه لقرينة حالية أو مقالية، ولا إشكال أيضا في
ثبوت الوضع بذلك حيث إنه كان أمارة على كون المعنى المنساق في الذهن من اللفظ معناه الحقيقي الموضوع له. نعم قد يورد عليه
باستلزامه محذور الدور الباطل من جهة توقف التبادر والانسباق على العلم بالوضع - من جهة انه لولاه لا يكاد تبادر المعنى من نفس
اللفظ وحاقه - وتوقف العلم بالوضع وكون المعنى المنساق هو المعنى الحقيقي على التبادر فيدور. وبعين هذا التقريب أورد هذا
الاشكال على الشكل الأول بان العلم بالنتيجة يتوقف على العلم بكلية الكبرى وتوقف العمل بكلية الكبرى على العلم بالنتيجة. وقد أجيب
عنه المقامين بالاجمال والتفصيل بأن العلم الذي يتوقف التبادر عليه انما هو العلم الاجمالي الارتكازي، والعمل الذي يتوقف على
التبادر هو العلم التفصيلي، فان الانسان بحسب ماله من الارتكاز يتبادر المعنى في ذهنه من اللفظ وبالتبادر يلتفت تفصيلا بان المعنى
المنساق هو المعنى الحقيقي وحينئذ فيرتفع الدور المزبور باختلاف العلمين وكون الموقوف على التبادر غير الموقوف
66

عليه التبادر. هذا إذا أريد تبادر المعنى عند شخص المستعلم الذي هو جاعل بالأوضاع، واما لو أريد بالتبادر تبادر المعنى عند أهل
المحاورة فالامر أوضح، حيث لا يكاد مجال لتوهم الاشكال المزبور حتى يحتاج إلى الجواب عنه بالاجمال والتفصيل إذ عليه يكون ما
يتوقف على التبادر هو علم المستعلم الجاهل بالأوضاع وما يتوقف التبادر عليه هو علم أهل المحاورة فيكون الموقوف عليه غير
الموقوف عليه.
نعم قد يورد على التبادر إشكال آخر، وحاصله ان مجرد تبادر المعنى ولو من حاق اللفظ غير موجب لكونه كذلك في زمن صدور
الاخبار عن الأئمة عليهم السلام حتى يحمل عليه ما ورد عنهم في مقام الاستنباط فان من المحتمل حينئذ كون المعنى المتبادر من اللفظ
حين صدوره في ذلك الزمان شيئا آخر غير ما هو المتبادر عندنا الان، ومع هذا الاحتمال لا يكاد يجدى هذا التبادر في مقام الاستنباط
أصلا إلا إذا انضم إليه أمر آخر وهو أصالة عدم النقل المعبر عنها بأصالة تشابه الا زمان كي يثبت بها كون المعنى المتبادر في سابق
الزمان أيضا هو المعنى المتبادر عندنا. ولكن فيه انه وإن كان الامر كذلك ولكنه نقول بأنه لا مانع من إجراء الأصل المزبور بعد كونه
من الأصول العقلائية المتداولة بينهم في محاوراتهم كما في أصالة عدم القرينة وأصالة عدم التخصيص والتقييد، إذ لولا تلك الأصول
العقلائية لانهدم أساس الاستنباط في المسائل الشرعية، وحينئذ فبعد تبادر المعنى من اللفظ يحمل عليه اللفظ الصادر ويحكم بمعونة
الأصل المزبور بكونه كذلك في زمن صدوره أيضا.
ومنها عدم صحة السلب المعبر بصحة الحمل أيضا فإنه قيل بكونه مما يثبت به الوضع أيضا لكونه علامة ان المعنى هو المعنى الحقيقي. و
في قباله صحة سلب المعنى بقول مطلق فإنه أيضا من علائم المجاز، فهما علامتان حينئذ للحقيقة والمجاز. وقد أورد عليه بما أورد على
التبادر باستلزامه الدور المحال، ولكن الجواب عنه هو الجواب هناك حرفا بحرف وكلمة بكلمة.
نعم هنا إشكال آخر وحاصله هو منع كون مجرد صحة الحمل من علائم الحقيقة كما في استعمال اللفظ الموضوع للكل في الجز و
الملزوم في اللازم فإنه نرى صحة الحمل في تلك الموارد كقولك الانسان ناطق والانسان ضاحك وكاتب وهكذا مع أنه لا شبهة في
كونه مجازا حيث لا يصح استعمال اللفظ الموضوع لاحد المفهومين في المفهوم الاخر على
67

الحقيقة. بل ومن ذلك ظهر الحال في موارد الحال الذاتي كقولك الانسان حيوان ناطق حيث إنهما مع كونهما متحدين ذاتا ووجودا
خارجا، لا يصح استعمال أحدهما في الاخر نظرا إلى ما بين المفهومين من التغاير وكونه في أحدهما بسيطا وفي الاخر مركبا. و
بالجملة نقول بان المدار في الحقيقة وصحة الاستعمال انما هو على وحدة المفهوم منهما كما في الانسان والبشر، وصحة الحمل ولو
بالحمل الذاتي فضلا عن الشائع الصناعي الذي مداره الاتحاد في الوجود لا تقتضي وحدة المفهوم الموجبة لصحة استعمال أحد اللفظين
في الاخر بنحو الحقيقة لأنه يكفي في صحة الحمل مجرد الاتحاد وجودا أو ذاتا وان اختلفا في حدود المفهوم، وعليه فلا يكون مجرد
عدم صحة السلب وصحة الحمل من علائم الحقيقة بقول مطلق وكاشفا عن وحدة المفهوم كما هو واضح. نعم صحة السلب بقول مطلق من
علائم المجاز من جهة كشفه حينئذ عن اختلاف المفهومين وعدم اتحادهما كما هو واضح. ولذلك أيضا ترى خلو كلمات السابقين عن
ذلك حيث إنهم جعلوا صحة السلب بقول مطلق من أمارات المجاز وما تعرضوا لصحة الحمل وعدم السلب في جعله في عداد أمارات
الحقيقة.
ومنها الاطراد في الاستعمال بلا معونة قرينة في البين حالية أو مقالية، ولا إشكال ظاهرا أيضا في كونه من علائم الحقيقة كما كان عدم
الاطراد كذلك من علائم المجاز فإنه بعد ان يرى اطراد استعمال لفظ في مقامات متعددة في معنى وانه في جميع تلك الموارد ينسبق منه
معنى واحد يقطع عادة بان الانسباق المعهود في تلك الموارد كان من نفس اللفظ وحاقه لا انه كان من جهة قرينة مخفية في البين أو
مناسبة طبيعية، ففي الحقيقة يكون الاطراد من قبيل السراج على السراج حيث إنه كان طريقا إلى التبادر الحاقي الذي هو طريق إلى
الحقيقة، وعلى كل حال فلا إشكال في كونه علامة الحقيقة ومما يثبت به الوضع ولو باعتبار كونه طريقا على الطريق، غير أن الكلام
فيه في تشخيص موارد الاستعمالات بأنها كانت من جهة القرائن الخاصة والمناسبات الطبيعية أم لا. ثم إن إشكال الدور الوارد في
التبادر غير جار في الاطراد كي يحتاج إلى الجواب عنه بما عرفت من الاجمال والتفصيل بداهة عدم توقف الاطراد على العلم بالوضع و
لو إجمالا أصلا.
68

الأمر الثامن
قد اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدم ثبوتها على أقوال: ثالثها التفصيل بين الألفاظ المتداولة الكثيرة الدوران وبين غيرها،
بالثبوت في الأول دون الثاني. وليعلم بان مورد النزاع في هذا البحث بين الفريقين نفيا وإثباتا انما هو الماهيات المخترعة الشرعية
كالصلاة والصوم والحج ونحوها، وإلا ففي المفردات كالركوع والسجود والقيام والقعود ونحوها وكذا المخترعات العرفية لا
مجال لجريان هذا البحث والنزاع، إذ فيها لا يكون استعمال الشارع ألفاظها إلا في معانيها العرفية أو اللغوية كما في استعماله غيرها
من الألفاظ المتداولة كالماء والتراب والحجر ونحوها، ومجرد اعتبار الشارع فيها بعض القيود عند الامر بها والبعث نحوها
بالايجاد بدال آخر عليه غير موجب لجريان النزاع فيا أيضا، إذ عليه لا يكون استعمال الشارع تلك الألفاظ إلا في نفس معانيها العرفية
أو اللغوية غايته انه في مقام المطلوبية أفاد بعض القيود والخصوصيات فيا بدال اخر. ومن ذلك البيان ظهر خروج المعاملات طرا
كالبيع والصلح والإجارة ونحوها عن حريم هذا النزاع حيث كان حقائقها حقائق عرفية أمضاها الشارع، غايته انه اعتبر فيها بعض
القيود الوجودية أو العدمية بدال آخر ككونه مقترنا بأمر كذا وفي حال عدم كذا. وعليه فلا ينبغي عد ذلك تفصيلا في المسألة كما
يظهر عن بعض حيث فصل بين العبادات والمعاملات إذ التفصيل المزبور فرع عموم النزاع وجريانه حتى في المخترعات العرفية كما
هو واضح.
بل ومن هذا البيان ظهر ابتناء هذا النزاع وجريانه في العبادات أيضا على أن يكون حقائقها مستحدثة في شرعنا، وإلا فبناء على
ثبوتها في الشرائع السابقة وكون الاختلاف فيها بين الشريعتين في خصوصيات الافراد نظير اختلافها بحسب حالات المكلفين كما
ينبئ عنه واحد من الآيات من مثل قوله عز من قائل: أوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا () وقوله سبحانه لإبراهيم عليه السلام وأذن
في الناس بالحج () وقوله
69

سبحانه: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم () تخرج أيضا عن حريم النزاع، إذ عليه يكون ألفاظها حقائق لغوية قد
استعملها الشارع في معانيها المعهودة الثابتة في اللغة، غاية ما هناك انه صلى الله عليه وآله أفاد بعض الشرائع والموانع فيها بدوال
أخر.
واما ما قيل من أن مجرد ثبوت هذه المعاني قبل شرعنا ومعهوديتها عند العرف لا يقتضى معهوديتها عندهم بتلك الألفاظ الخاصة
المستعملة فيها في شرعنا فيمكن حينئذ كونها حقيقة شرعية بوضع الشارع تلك الألفاظ الخاصة لتلك المعاني والماهيات المخصوصة
وضعا تعيينا أو تعينيا فان العبرة والمدار في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدم ثبوتها انما هو على صيرورة تلك الألفاظ حقيقة في تلك
المعاني والماهيات بوضعه صلى الله عليه وآله، كانت تلك المعاني ثابتة قبل شرعنا ومعهودة عند العرف أو كانت حادثة في شرعنا، و
عليه فلا يوجب مجرد ثبوت تلك المعاني في الشرائع السابقة كون ألفاظها حقائق لغوية كي تخرج عن حريم النزاع ما لم يثبت ان تلك
ألفاظ المستعملة فيها في لسان الشارع بعينها هي الألفاظ المستعملة فيها في سابق الزمان، واما دعوى ان تلك الألفاظ بعينها هي
الألفاظ المستعملة فيها في سابق الزمان فخال عن البرهان، حيث لا برهان يساعده ولا شاهد له غير ما يرى في الكتاب العزيز من
إطلاق تلك الألفاظ فيه على تلك المعاني، وهو كما ترى مما لا شهادة فيه على ذلك، لان غاية ما يوجبه انما هي الدلالة على وجود سنخ
تلك الماهيات والمعاني في الشرائع السابقة واما انها مما يعبر عنها أيضا بتلك الألفاظ في ذلك الزمان فلا كما لا يخفى. فمدفوع بأنه
يكفي في الشهادة على ذلك ما في قوله سبحانه (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) فإنه لولا معهودية حقيقة الصوم
بمثل هذا اللفظ عند العرف لكان اللازم حينئذ إقامة البيان على ما هو المراد من الصوم إذ حينئذ كان المجال لسؤالهم من النبي صلى الله
عليه وآله بأنه أي شئ كان واجبا على الأمم السابقة فصار واجبا علينا، وحينئذ فنفس هذا الاطلاق بضم عدم التعرض لتفسيره
بالامساك المخصوص أقوى شاهد على معهودية الصوم الذي كان واجبا على الأمم السابقة بهذا اللفظ عند عرف اللغة. وعليه يتوجه
الاشكال المزبور بأنه
70

بعد ثبوت تلك المعاني في الشرائع السابقة يكون ألفاظها أيضا حقائق لغوية فيخرج عن حريم النزاع.
نعم لو أغمض عن هذه الجهة وقلنا بكون هذه الماهيات مستحدثة في شرعنا أو كونها ثابتة في الشرائع السابقة ولكنها بغير تلك
الألفاظ المستعملة فيها في لسان الشارع، لما كان مجال حينئذ لانكار الحقيقة الشرعية، تارة بدعوى ان استعمال الشارع تلك الألفاظ
فيها كان من باب المجاز ومعونة القرائن، وأخرى - عن الباقلاني - بدعوى ان استعمال الشارع تلك الألفاظ دائما كان في معناها
اللغوي لا غير ولكنه أفاد بعض الخصوصيات من الشرائط والموانع بدوال خارجية، فكان لفظ الصلاة مثلا في جميع الموارد في كلامه
صلى الله عليه وآله مستعملة في الدعاء وأفاد الخصوصيات من الترتيب والموالاة ونحوها من الشرائط والاجزاء والموانع بدوال أخر
خارجية، وثالثة بغير ذلك. إذ ذلك كله ينافيه ما عليه ديدن العقلا في اختراعهم الماهيات، فان كل مخترع لماهية من الصدر الأول إلى
الان بنائه وديدنه على وضع لفظ مخصوص أيضا بإزاء ما اخترعه من الماهية لا انه يستعمل فيه اللفظ مجازا بلا وضع اسم خاص لما
اخترعه، ومن المعلوم أيضا ان الشارع في مقام شارعية واختراعه لتلك الماهيات أو إمضائه لها بين رعيته ما جاوز هذه الطريقة
المألوفة، حيث إنه من المستبعد جدا ان يكون له في ذلك طريقة خاصة غير ما جرى عليه ديدن العقلا، وإلا يلزم عليه البيان بكونه غير
سالك لما هو طريقة العقلا لكي لا يحملوا اللفظ الصادر منه عند خلوه عن القرينة على المعنى الشرعي مع أنه صلى الله عليه وآله لم يقم
بيانا على ذلك فكان نفس عدم بيانه لذلك كاشف كون جريه على طبق ديدن العقلا فيثبت بذلك الوضع والحقيقة الشرعية.
واما الاشكال عليه بان صيرورة اللفظ حقيقة في معنى في لسانه صلى الله عليه وآله لا بد وأن يكون بأحد الامرين، اما وضعه صلى الله
عليه وآله ابتدأ أو كثرة استعماله، وهما ممنوعان، اما الأول فلبعده غايته لأنه لو كان لوصل إلينا مع أنه لم ينقل أحد من المؤرخين انه
صلى الله عليه وآله قام يوم كذا في مجلس كذا وقال انى وضعت لفظ الصلاة للاركان المخصوصة، خصوصا مع وفور الدواعي على نقل
ما يصدر منه صلى الله عليه وآله واما الثاني فمن جهة احتياجه إلى مضي زمان طويل بنحو يصير اللفظ إلى حد الحقيقة، فمندفع بأنه
كذلك مع انحصار الوضع بما ذكر وليس كذلك، بل له طريق ثالث
71

وهو ان يتحقق بنفس الاستعمال الذي هو من قبيل الانشاء الفعلي نظير المعاطاة في المعاملات كما في قولك في مقام تسميتك ولدك
جئني بولدي محمد، قاصدا تحقق العلقة الوضعية بنفس هذا الاستعمال، بل ومن ذلك أيضا ما للمصنفين في كتبهم من الاصطلاحات
الخاصة، كالحاكم والمحكوم والوارد والمورود ونحو ذلك. نعم لا بد في ذلك من إقامة قرينة على وضعه كي لا يحتاج بعد ذلك إلى
إقامة قرينة على المراد كما في المجاز. وعدم كون مثل هذا الاستعمال حقيقة ولا مجازا غير ضائر بالمقصود بعد عدم كونه أيضا من
المستنكرات. وحينئذ لو ادعى القائل بالثبوت مثل هذا المعنى كان دعواه في محله حيث لا يرد عليه محذور، كما هو واضح.
ثم إن الثمرة بين القولين انما هي في الألفاظ المستعملة في لسانه صلى الله عليه وآله من دون تعويل على القرينة، فإنه بناء على الثبوت
يحمل على المعنى الشرعي وبناء على عدم الثبوت يحمل على المعنى اللغوي، فتدبر.
الأمر التاسع
قد وقع التشاجر والخلاف بين الاعلام في أن الألفاظ أسام للمعاني الصحيحة أو لأعم منها والفاسدة،
ولتنقيح المرام نقدم أمورا فنقول
الأمر الأول:
ان مورد الخلاف كما عرفت في عنوان البحث انما هو الوضع لخصوص الصحيح أو لأعم منه والفاسد واما احتمال وضعها لخصوص
الفاسدة قبالا للقولين الأولين فلم يعهد من كلماتهم بل لم يتوهمه أحد منهم. كما أن الظاهر هو اختصاص هذا النزاع بخصوص الألفاظ
المستعملة في المعاني المخترعة الشرعية كألفاظ العبادات ونحوها لا مطلقا حتى الألفاظ الموضوعة للمعاني المفردة كالركوع و
السجود ونحوهما مما أخذ موضوعا للتكليف في لسان الشرع ولو مقيدا بأمور وجودية أم عدمية، لان مثل هذه مما لا يتصور فيها
اتصافها بالصحة تارة وبالفساد أخرى، حيث كان امرها دائما دائرا بين الوجود والعدم. نعم قد يتصور جريانه بالنسبة إلى المركبات
الخارجية أيضا مما كان لها القابلية للاتصاف بأحد الامرين تارة وبالاخر أخرى، ولكن مورد كلامهم انما كان في المخترعات الشرعية
من نحو الصلاة والحج ونحوهما.
72

الثاني من الأمور:
ان مثل هذا النزاع غير مبتن على القول بثبوت الحقيقة الشرعية كما توهمه بعض، بل يجري النزاع ولو على القول بعدم الثبوت حيث
كان مرجع النزاع على هذا القول إلى أن العلاقة النوعية التي اعتبرها الشارع ابتدأ في استعمال تلك الألفاظ مجازا هل هي بين المعنى
اللغوي وخصوص الصحيح منها بحيث يحتاج استعمالها في الأعم إلى رعاية علاقة أخرى بينه وبين الأعم، أو بين الأعم والصحيح من
باب سبك المجاز عن مجاز، أو ان تلك العلاقة النوعية ابتدأ كانت بين المعنى اللغوي وبين الأعم من الصحيح من تلك الماهيات؟ كما أنه
يجري النزاع أيضا على قول الباقلاني من استعمال الشارع تلك الألفاظ في خصوص معانيها اللغوية مع ضم قرينة عامة على اعتبار
بعض القيود، إذ مرجع النزاع على هذا القول أيضا إلى أن تلك القرينة العامة هل بنحو تدل على اعتبار جميع الأجزاء والشرائط والموانع
أو بنحو تدل على اعتبارها في الجملة؟ نعم لو كان اعتبار الاجزاء والشرائط على هذا القول بمعونة القرائن الشخصية الدالة كل واحدة
منها على اعتبار جز أو شرط أو مانع لاشكل جريان النزاع على هذا القول، ولكن الفرض بعيد جدا فإنه مضافا إلى ضعف هذا المسلك
في نفسه ولذا لم يذهب إليه إلا الباقلاني لا يظن التزامه بالقرائن الشخصية لكل واحد من الاجزاء والشرائط والموانع، وعليه فكان
المجال لجريان هذا النزاع على كلا القولين في مسألة السابقة.
الثالث من الأمور:
لا يخفى ان الصحة في المقام وكذا في غير المقام انما هي بمعناها اللغوي والعرفي أي التمامية بالإضافة إلى الأثر المهم، وفي قبالها
الفساد بمعنى النقصان الذي هو عبارة عن كون الشئ بحيث لم يترتب عليه الأثر المرغوب منه. وحينئذ فكانت الصحة في جميع الموارد
بمعنى واحد وهو التمامية بلا اختلاف في معناها حقيقتها أصلا. واما ما يرى من الاختلاف بين الفقيه والمتكلم في تفسيرها - تارة
بإسقاط الإعادة والقضاء كما عن الفقيه، وأخرى بموافقة الامر والشريعة كما عن المتكلم، وثالثة بغير ذلك - فإنما هو بلحاظ ما هو
المهم عند كل طائفة من الآثار والاغراض، لا ان الاختلاف بينهم كان في أصل مفهوم الصحة وحقيقتها، فغرض الفقيه لما تعلق بأثر خاص
منها وهو المسقطية للإعادة والقضاء فسرها بما يوافق غرضه، كما أن غرض المتكلم تعلق بأثر خاص آخر منها وهو تحقق الامتثال
الموجب عقلا لاستحقاق المثوبة عليه ففسرها بما وافق غرضه من موافقة الامر والشريعة، مع وفاقهم على وحدة معناها، فكان كل منهم
73

مشيرا إلى تلك الحقيقة بتوسيط ما هو المهم في نظره في إضافة تمامية الشئ بالقياس إليه بلا اختلاف بينهم في أصل مفهوم الصحة و
حقيقتها. ولئن شئت قلت بان اختلاف الفقيه والمتكلم انما هو فيما هو مصداق الصحة الذي يختلف باختلاف الانظار لا في مفهومها، وإلا
فالصحة حقيقتها من الأمور الاعتبارية الطارية على الشئ بلحاظ ما يترتب على الشئ من الآثار من دون اختلاف في حقيقتها أصلا.
ومن ذلك نقول أيضا بأن الصحة والفساد امران إضافيان يختلفان بحسب الانظار والآثار، فربما يكون الشئ صحيحا بنظر بلحاظ
ترتب الأثر المقصود عليه في هذا النظر، وفاسدا بنظر آخر لعدم ترتب الأثر المرغوب منه عليه في هذا النظر، كما في الاتيان بالمأمور
به الظاهري على القول بالاجزاء عند كشف الخلاف فإنه يكون صحيحا بنظر الفقيه وفاسدا بنظر المتكلم كما هو واضح.
ومن ذلك البيان انقدح أيضا جهة أخرى وهي عدم إمكان أخذ عنوان الصحة مفهوما أو مصداقا قيدا في ناحية المعنى والموضوع له، لأن هذه
الحيثية حينئذ انما هي كعنوان الموضوعية والكلية والجزئية من العناوين المنتزعة عن رتبة متأخرة عن الشئ فإنها بعد كونها
بمعنى تمامية الشئ التي هي عبارة أخرى عن مؤثريته ووفائه بالغرض فلا جرم كان انتزاع عنوانها عن رتبة متأخرة عن ترتب الأثر
عليه، نظير العلية والموضوعية، لان الشئ باعتبار انه واف بالغرض ويترتب عليه الأثر ينتزع عنه الصحة ويتصف بكونه صحيحا، و
معه يستحيل أخذ مثل ذلك مفهوما أو مصداقا في ناحية ذات المعنى والموضوع له الذي هو الموضوع للآثار، من دون فرق في ذلك بين
الصحة الفعلية أو الشأنية ففي الثاني أيضا تكون الصحة مفهوما ومصداقا من العناوين الطارية على الشئ المنتزعة عن رتبة متأخرة عن
قابلية الشئ بنحو يترتب عليه الأثر المهم، وهذا واضح بعد وضوح كون القابلية المزبورة من العوارض الطارية على الذات الزائدة
عليها.
نعم الذي يمكن أخذه فيه انما هو المعنى الملازم للصحة لا المقيد بها. وعليه فتحريرهم النزاع بالوضع لخصوص المعنى الصحيح أو الا عم
لا بد وأن يكون بضرب من العناية والمسامحة وإلا فقد عرفت كونه من المستحيل. وحينئذ فكان الأولى في مقام تحرير النزاع هو
تحريره بان اللفظ هل هو موضوع للمعنى الملازم للصحة خارجا أو المعنى الغير الملازم لها فتدبر.
74

وعلى كل حال فالظاهر أن المراد من الصحة في المقام عند القائل بالصحيح هو الصحة الاقتضائية على معنى كون الشئ تاما في مرحلة
اقتضائه في المؤثرية ويقابلها الفساد بمعنى عدم تماميته في مرحلة الاقتضاء في التأثير، لا ان المراد هو الصحة الفعلية الملازمة
للمؤثرية الفعلية، كيف وان مثل هذا المعنى في العبادات منوط بقصد القربة المعلوم بالبداهة خروجه عن المسمى جزما نظرا إلى
استحالة أخذه فيه كما هو واضح، ومعه لا محيص وأن يكون مورد البحث والكلام من الصحة والتمامية هو الصحة الاقتضائية لا الفعلية.
نعم يبقى الكلام حينئذ بالنسبة إلى غير قصد القربة من الشرائط الأخر - كالطهور والقبلة والتستر ونحوها - في عموم النزاع و
جريانه بالنسبة إليها أيضا أو اختصاصه بخصوص الاجزاء؟ فنقول: الذي يظهر من المشهور من القائلين بالصحيح من مثل استدلالهم
بمثل قوله: لا صلاة الا بطهور ولا صلاة إلا إلى القبلة، هو الأول من تعميم النزاع بالنسبة إلى الشرائط أيضا فان استدلالهم بما ذكر لنفي
الحقيقة بدون الطهور والقبلة ظاهر بل صريح في إرادة الصحة والتمامية حتى بحسب الشرائط أيضا. وعليه فلا يبقى مجال لتخصيص
هذا النزاع بخصوص الاجزاء وجعل المراد من الصحة والتمامية هو التمامية بحسب الاجزاء دون الشرائط كما لا يخفى.
نعم قد يشكل عليه بأن ذلك كذلك فيما لو كانت الشرائط راجعة إلى مقام الدخل في ناحية المؤثر والمقتضى ولو بنحو دخول التقيد و
خروج القيد الراجع إلى كون حقيقة الصلاة مثلا عبارة عن الأجزاء الخاصة من الركوع والسجود ونحوهما مع تقيدات خاصة بالطهارة
والقبلة والستر، وإلا فبناء على رجوعها إلى مقام الدخل في قابلية المحل للتأثر والانوجاد نظير الشرائط في العلل التكوينية الخارجية
كما في مثل يبوسة المحل والمحاذاة الخاصة في الاحراق، فلا جرم يلزمه خروج الشرائط طرا عن مركز هذا النزاع، من جهة ان ما فيه
اقتضاء الصحة حينئذ ليس إلا نفس الأجزاء وانما كان دخل الشرائط في مقام اتصافهما بالصحة والمؤثرية الفعلية، كما هو الشأن في
العلل التكوينية الخارجية أيضا كالنار مثلا فان ما ينشأ منه الاحراق ليس إلا النار بلا مدخل لحيث يبوسة المحل والمحاذاة الخاصة إلا في
مرحلة اتصافها بالمؤثرية الفعلية. وعليه فبعد ان لم يكن المراد من الصحة هو الصحة الفعلية بشهادة خروج مثل قصد القربة، بل كان
المراد منها هو الصحة
75

الاقتضائية على معنى كون الشئ تاما في عالم اقتضائه في التأثير، فلا جرم يلزمه تخصيص النزاع بخصوص الأجزاء في التمامية و
النقصان مع الالتزام بخروج الشرائط عن مقام الدخل في المسمى والتسمية لا تعميمه حتى بالنسبة إلى الشرائط، إلا على فرض إرادة
القائل بالصحيح الوضع للصحيح الفعلي، وعليه أيضا يتوجه إشكال قصد القربة كما هو واضح.
وعليه فلا بد من تنقيح ان الشرائط هل هي راجعة إلى مقام الدخل في ناحية المقتضى ولو بنحو دخول التقيد، أو هي راجعة إلى مرحلة
الدخل في قابلية المحل والمقتضى بالفتح للتأثر والانوجاد من قبل المقتضى بالكسر وما ينشأ منه الوجود، كي يلزمه انحصار ما فيه
اقتضاء الصحة في المقام بخصوص الأجزاء؟ وفي مثله ربما كان المتعين هو الثاني، نظرا إلى ما تقتضيه النصوص من استناد المقربية و
النهي عن الفحشاء إلى عنوان الصلاة بضميمة معلومية كون الصلاة من العناوين القصدية التي قوام تحققها بالقصد إلى عنوانها عند
الاتيان بها، بشهادة عدم صدق الزيادة الحقيقية عند الاتيان بشي من اجزائها قراءة أو ركوعا أو غير هما لا بقصد الصلاتية، حيث إنه
بعد عدم قصدية التقيدات الخاصة بالطهارة والستر والقبلة وتوصليتها، بشهادة إجماعهم على صحة صلاة من صلى مع الغفلة عن
الشروط مع اتفاق وجدان صلاة لجميع ما اعتبر فيها من الطهارة والستر والقبلة ونحوها واقعا، يستفاد من المقدمتين المزبورتين ان
الصلاة التي هي المؤثرة في النهي عن الفحشاء والمقربية عبارة عن خصوص الأجزاء وان الشرائط خارجة عن المسمى وعن مقام الدخل
في المقتضى، لأنه لولا خروجها عنه يلزمه تركيب الصلاة من الأمور القصدية وغيرها. وهو كما ترى مما لا يمكن الالتزام به، لمنافاته
لما بنوا عليه وما هو المرتكز من قصدية عنوان الصلاة كما هو واضح فتأمل. وعليه فلا يبقى مجال للقائل بالصحيح لادخال الشرائط في
المسمى بدعواه الوضع للصحيح حتى من جهة الشرائط بعد فرض عدم التزامه بالصحيح الفعلي، هذا.
اللهم إلا أن يقال حينئذ بأن الشرائط بمقتضى البيان المزبور وإن كانت خارجة عن المسمى وعن مقام الدخل في الاقتضاء بل كان
المسمى وما فيه الاقتضاء للتأثير هو خصوص الأجزاء، دونها مع التقيدات الخاصة، ولكنه مع ذلك أمكن دعوى دخلها في مقام التسمية،
حيث يمكن ان يقال بكونها بمقتضى قوله: لا صلاة إلا بطهور، وإلا إلى
76

القبلة، مما لها الدخل في أصل اتصاف الأجزاء بالصلاتية بحيث لولاها لما كاد اتصافها بكونها صلاة أصلا، وعليه فللقائل بالصحيح كمال
المجال لدعوى الوضع للصحيح حتى من جهة الشرائط مع التزامه أيضا بالصحيح الاقتضائي دون الفعلي والتزامه أيضا بأن ما هو
المقتضى للصحة وللنهي عن الفحشاء هو خصوص الأجزاء وانها هي المسماة بالصلاة دون غيرها كما لا يخفى.
بقي شئ - وان لم يكن له مساس بما نحن بصدده - وهو ان الصحة والفساد في المقام بل وكذا في غير المقام، هل هي مجعولة أو
انتزاعية صرفة من التكليف، أو انها من الأمور الواقعية؟ حيث إن فيها وجوها، ولكن التحقيق فيها هو التفصيل بين كونها بمعنى سقوط
الإعادة والقضاء كما عند الفقيه فجعلية كما في موارد القصر والاتمام والجهر والاخفات حيث كان سقوط الإعادة والقضاء بجعل من
الشارع وحكم منه بالسقوط، وبين كونها بمعنى موافقة الامر كما عند المتكلم فانتزاعية صرفة من التكليف والامر، وبين كونها بمعنى
المؤثرية في الملاك والمصلحة فأمر واقعي لا جعلي ولا انتزاعي من التكليف والامر فتدبر.
الرابع من الأمور:
لا يخفى ان هذا النزاع انما يختص جريانه بالمعاني القابلة للاتصاف بالصحة تارة وبالفساد أخرى، واما ما لا يكون كذلك مما يدور
امره دائما بين الوجود والعدم وكان وجوده مساوقا لصحته فلا يجري فيه هذا النزاع. وعلى هذا فيختص هذا النزاع بعناوين العبادات
كالصلاة والصوم والحج ونحوها ولا يجري في عناوين المعاملات كالبيع والصلح والنكاح ونحوها لان تلك العناوين مما يدور
امرها دائما بين الوجود والعدم، حيث كان صحتها وترتب الأثر عليها مساوق وجودها وتحققها كما أن عدم ترتب الأثر عليها مساوق
عدم وجودها فلا يتصور لها وجود حينئذ يترتب عليها الأثر تارة ولا يترتب عليها أخرى. وهذا بخلافه في العبادات فإنها باعتبار
تركبها كانت قابلة للاتصاف بالوصفين المزبورين بحيث يترتب عليها الأثر تارة ولا يترتب عليها أخرى ولذلك كان لجريان النزاع
فيها كمال مجال. نعم لو قلنا في المعاملات بأن تلك العناوين من البيع والصلح والإجارة و نحو أسام للأسباب وهي العقود دون
المسببات يدخل المعاملات أيضا في عموم النزاع، حيث إنها باعتبار تركبها حينئذ من أجزأ كالايجاب والقبول واشتمالها على شرائط
خاصة من نحو صدورها عن البالغ العاقل وممن له الأهلية
77

كانت قابلة للصحة تارة والفساد أخرى، فبذلك يجري فيها النزاع أيضا.
إشكال ودفع: قد يتوهم منافاة ما ذكرنا من خروج عناوين المسببات في المعاملات عن حريم هذا النزاع من جهة دوران امرها بين
الوجود والعدم وعدم قابليتها للاتصاف بالصحة تارة وبالفساد أخرى، مع ما بنوا عليه من جريان أصالة الصحة فيها عند الشك في
صحتها وفسادها من جهة الشك في بعض ما اعتبر فيها، حيث كان قضية بنائهم على جريان أصالة الصحة فيها هي قابليتها للوصفين
المزبورين فيلزمه حينئذ دخولها في حريم هذا النزاع. ولكنه مدفوع بمنع التنافي لان ما يرى من بنائهم على جريان أصالة الصحة في
البيع الصادر مثلا عند الشك في صحته وفساده فإنما هو باعتبار إجرائهم القاعدة المزبورة في سببه الذي هو العقد الصادر، باعتبار
كون ترتب المسبب شرعا من لوازم صحة العقد وتماميته في عالم مؤثريته لا ان ذلك من جهة إجرائهم القاعدة في نفس المسبب حتى
يرد إشكال التنافي وهذا واضح.
وهم ودفع آخر: اما الوهم فهو انه قد يشكل في العبادات أيضا بلزوم خروجها عن محل النزاع، نظرا إلى دعوى بساطتها وان الصلاة
مثلا عبارة عن العطف الخاص الذي هو أمر بسيط غاية البساطة وكان الافعال والاذكار الخاصة من قبيل المحققات لذلك العطف
الخاص، نظير الطهارة بالقياس إلى الغسلات والمسحات فيلزمها خروجها أيضا على هذا المبنى عن حريم النزاع لعين ما ذكر من
المناط في عناوين المسببات في المعاملات من العقود والايقاعات، بل ولازمها حينئذ هو تعين المصير فيها إلى الاشتغال عند الشك في
جزئية شئ أو شرطيته أو مانعيته دون البراءة، نظرا إلى كون مرجع الشك حينئذ إلى الشك في مرحلة الفراغ والخروج عن عهدة ما
ثبت الاشتغال به يقينا وهو الامر البسيط لا إلى الشك في أصل الاشتغال بالتكليف، كما هو واضح.
وتوضيح الدفع هو انه انما يتوجه هذا الاشكال بناء على كون الامر البسيط أمرا آنيا غير متدرج الحصول من قبل الأجزاء والشرائط
المعهودة وهو في محل المنع جدا، من جهة منافاته لما نطق به الأخبار الواردة في شرح الصلاة من نحو قوله عليه السلام تحريمها
التكبير وتحليلها التسليم، وما دل على قاطعية بعض الأمور لها كالحدث والاستدبار ونحوهما، بل الذي يمكن القول به على فرض
البساطة هو كونها أمرا ممتدا ذا مراتب من أول التكبيرة إلى آخر التسليم بنحو يكون كل جز مؤثرا في تحقق مرتبة منها، وعليه فلا
يقتضى مجرد
78

بساطتها خروجها عن محل النزاع بل لجريان النزاع المزبور فيها حينئذ كمال مجال، إذ كان مرجع النزاع المزبور إلى أن الصلاة هل
هي اسم لتلك المرتبة الخاصة الناشئة من قبل مجموع الأجزاء والشرائط والممتدة من أول التكبيرة إلى اخر التسليم التي هي منشأ
للآثار أو انها اسم للأعم منها ومن غيرها من المراتب الاخر الناشئة من قبل بعض الأجزاء الشرائط؟ ومن ذلك البيان ظهر الجواب عن
شبهة مرجعية الاشتغال أيضا عند الشك في جزئية شئ أو شرطيته للواجب، إذ نقول بأنه بعد فرض كون ذلك الامر البسيط أمرا ممتدا
ذا مراتب فلا جرم مرجع الشك في دخل المشكوك إلى الشك في تعلق التكليف بأزيد من تلك المرتبة المعلومة، وفي مثله كان لجريان
البراءة فيها كما مجال بناء على جريانها في كلية الأقل والأكثر الارتباطيين.
ثم إن هذا كله في فرض تسليم البساطة بالمعنى المزبور وإلا فبناء على المنع عن ذلك أيضا والقول بالبساطة فيها بمعنى آخر بجعل
الصلاة عبارة عن أمر معنوي منطبق خارجا على الافعال والاذكار المعهودة فلا موقع لهذا الاشكال، فضلا عما لو قلنا بأنها عبارة عن
نفس الافعال والاذكار المعهودة المتقيدة بقصد الصلاتية على نحو خروج القيد ودخول التقيد كما هو الظاهر المنساق من النصوص
الواردة في شرح حقيقة الصلاة، إذ عليها كان أمر جريان النزاع المزبور فيها بل والنزاع الاخر أيضا من جهة مرجعية البراءة أو
الاشتغال أوضح كما هو واضح.
الخامس من الأمور:
وهو العمدة في الباب، انه على كلا القولين في المسألة لا بد من تصور جامع في البين يكون هو المسمى بالصلاة مثلا، حيث لا اختصاص
لذلك على القول بالأعم، بل على القول بالصحيح أيضا لا بد من وجود الجامع أيضا عنده بين الافراد الصحيحة، نظرا إلى ما يرى من
الاختلاف الفاحش بين افراد الصحيح حسب اختلاف الموارد والاشخاص بحسب حالاتهم، كما في صلاة العالم القادر المختار وصلاة
العاجز غير القادر على اختلاف مراتب العجز المتصور فيه البالغ إلى صلاة الغريق المشرف على الهلاك، بل وكذلك بالنسبة إلى افراد
صلاة العالم القادر المختار حيث إن فيها أيضا اختلافا عظيما من حيث الكمية والكيفية كصلاة القصر والاتمام وصلاة الصبح والظهر و
المغرب وصلاة الكسوف والعيد والجنازة ونحوها، إذ حينئذ لا محيص على القول بالصحيح أيضا
79

من كشف جامع بين تلك الافراد المختلفة كمية وكيفية يكون هو المسمى بالصلاة عنده، فرارا عن محذور الاشتراك اللفظي فيها وجعل
الصلاة من قبيل متكثرا المعنى.
وحيث إن تصور الجامع بين افراد الصحيح في غاية الصعوبة والاشكال لعدم جامع صوري بينها يدور عليه مدار التسمية ولا جامع
معنوي أيضا بينها، التزم بعض كالشيخ (قدس سره) على ما في التقرير بالصحيح الشخصي فقال بان الصلاة اسم لخصوص صلاة العالم
القادر المختار التي هي تامة الأجزاء والشرائط، وان ما عداها من الصلوات الاخر أبدال لها لا انها صلاة حقيقة وان إطلاقها على مثل
صلاة الناسي لبعض الأجزاء والشرائط وصلاة المريض ونحو هما من باب التوسعة بمعنى ان المتشرعة توسعوا في تسميتها بالصلاة
من جهة حصول ما هو الأثر المقصود من الصلاة التامة الأجزاء والشرائط وهو المسقطية للإعادة والقضاء منها أيضا. ولكن فيه ما لا
يخفى إذ ذلك بعد عدم تماميته في نفسه لا يكاد يندفع به الاشكال المزبور أيضا، إذ نقول بأنه بعد وضوح كثرة الاختلاف بين الصلوات
الثابتة في حق العالم القادر المختار كمية وكيفية كما بين صلاة الكسوف والعيدين وصلاة الجنازة والقصر والاتمام والصبح والظهر
والمغرب ونحوها فيسأل عنه بأنه أي واحدة منها تجعل أصلا البقية بدلا؟.
فلا محيص حينئذ بعد بطلان القول بالأصلية والبدلية في مثل تلك الصلوات من القول بأحد الامرين، اما الالتزام بالاشتراك اللفظي فيها
واما الالتزام بكشف الجامع والقدر المشترك بينها. وبعد بطلان الاشتراك اللفظي فيها بشهادة صحة قولك هذه الجماعة يصلون، في
جماعة يصلي كل واجد منها صلاة غير ما يصلي الاخر، بلا محذور لزوم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، يتعين الوجه الثاني من
الالتزام بالجامع بين افراد صلاة المختار التامة الأجزاء والشرائط. وعليه نقول بأنه إذا أمكن تصور الجامع بين هذه فلا داعي إلى إتعاب
النفس وجعل مثل صلاة الناسي والعاجز أبدالا للصلاة، بل من الأول توسع دائرة ذلك الجامع بنحو يشمل الصلوات الاضطرارية وصلاة
الناسي للجز أو الشرط كي لا نحتاج إلى إتعاب النفس بجعل ما عدا الصلوات التامة الأجزاء والشرائط الثابتة في حق العالم القادر أبدالا
للصلاة.
نعم لو كان قضية الالتزام بالصحيح الشخصي من جهة الاستفادة من الأخبار الواردة في شرح حقيقة الصلاة لا من جهة عدم تصور الجامع
والقدر المشترك بينها فله وجه،
80

حيث يسلم عما أوردنا عليه من الاشكال، ولكن الكلام حينئذ في أصل استفادة هذا المطلب من النصوص إذ لا يكاد استفادة ذلك من
شئ من النصوص لولا دعوى استفادة خلافه منها إذ المستفاد من مثل النصوص الواردة في الناسي للقراءة والسجدة والتشهد وفي
الجاهل التارك للاجهار أو الاخفات بالقراءة وكذلك القصر والاتمام بمثل قوله عليه السلام (قد تمت صلاته ولا يعيد) وكذلك
النصوص الواردة في الصلوات الاضطرارية بالنسبة إلى العاجز، هو كون الصلوات المزبورة صلاة حقيقة الا انها أبدال للصلاة وان ما هو
المسمى بالصلاة هو خصوص الصلاة الثابتة في حق العالم القادر المختار كما هو واضح. وحينئذ فعلى كل حال لا مجال لما أفاده في
التقرير من الالتزام بالصحيح الشخصي بوجه أصلا كما لا يخفى.
وحينئذ فبعد بطلان احتمال الاشتراك اللفظي وتعدد الوضع بشهادة صحة قولك هذه الجماعة يصلون في جماعة يصلي كل واحد صلاة
تغاير صلاة الاخر كالصلاة اليومية وصلاة الخسوف والعيدين وصلاة الجنازة من دون رعاية عناية في البين من نحو التأويل بالمسمى،
وبطلان تخصيص الوضع ببعض الأنواع دون بعض بجعل البقية أبدالا كما عن التقرير فلا محيص من الكشف عن قدر مشترك بين تلك
المختلفات الكمية والكيفية يكون هو المسمى بالصلاة ويدور عليه مدار التسمية والصحة، مع كونه أيضا من التشكيكيات التي تنطبق
على الزائد والناقص بتمام الانطباق، فينطبق على الفرد المشتمل على ثلاثة أجزأ والفرد المشتمل على أربعة أجزأ وهكذا الفرد
المشتمل على تمام الأجزاء والشرائط الذي هو صلاة الكامل العالم المختار، نظير مفهوم الجمع الصادق على الثلاثة والأربعة والخمسة، و
نظير مفهوم الكلمة الصادق على كل حرفين من حروف التهجي وعلى الثلاثة وعلى الأربعة فصاعدا، ومفهوم الكلام الصادق على كل
كلمتين فصاعدا.
وطريق كشف الجامع حينئذ انما هو أحد الامرين على سبيل منع الخلو
الأول
استكشافه من جهة ما ذكرنا من صدق مفهوم الصلاة على الصلوات المختلفة بحسب الكمية والكيفية وانسباق وحدة المفهوم منها
الحاكية عن اتحاد الحقيقة، نظير تمسكهم بانسباق مفهوم واحد من الوجود على كونه مشتركا معنويا ومتحدا في الحقيقة، حيث إن
الانسباق المزبور وصدق الصلاة على الصلوات المختلفة في قولك هذه الجماعة يصلون في جماعة يصلي كل واحد منها صلاة تخالف
صلاة الاخر، من دون رعاية عناية و
81

تأويل بالمسمى يقتضى قهرا وجود جامع بين تلك المختلفات مع كونه من قبيل التشكيكيات الصادقة على القليل والكثير. وحينئذ نقول
بأنه بعد عدم جامع صوري محفوظ في البين بين تلك الافراد وعدم جامع مقولي ذاتي أيضا - لالتئام الصلاة خارجا من مقولات متعددة
كالكيف والوضع والفعل والإضافة ونحوها - فلا بد في تصويره من أن يجعل الجامع المزبور عبارة عن الجامع الوجودي.
وذلك انما هو بان يؤخذ من كل مقولة من تلك المقولات المتعددة جهة وجودها، بإلغاء الحدودات الخاصة المقومة لخصوصيات
المقولات، مع تحديد الوجود المزبور أيضا بان لا يخرج عن دائرة أفعال الصلاة واجزائها على اختلافها حسب اختلاف حالات المكلفين،
ثم جعله أيضا من التشكيكيات الصادقة على الزائد والناقص وعلى القليل والكثير، فيقال في مقام شرح حقيقة الصلاة بأنها عبارة عن
رتبة خاصة من الوجود المحدود بكونها من الدائرة المزبورة مع اشتمالها أيضا على الأركان ولولا بوصف مقوليتها بل بجهة وجودها
الساري فيها - نظير تحديد مفهوم الكلمة مثلا الملتئمة من حرفين فصاعدا بكونها مشتملة على الحرف أو حرفين من حروف التهجي - و
جعلها من طرف غير الأركان من الافعال والاذكار مبهما محضا وعلى نحو اللا بشرط كي تصدق على ذي أجزأ خمسة وذي أجزأ
سبعة فصاعدا بحيث يشار إليها في مقام الإشارة الاجمالية بما هو معراج المؤمن وما هو قربان كل تقي وما هو ناه عن الفحشاء و
المنكر، فإنه على هذا البيان يكون مفهوم الصلاة بعينه من قبيل مفهوم الكلمة المنطبق على كل حرفين من حروف التهجي فصاعدا، ومن
قبيل مفهوم الجمع الصادق على كل ثلاثة وأربعة فصاعدا على اختلاف مراتب الجمع قلة وكثرة فينطبق الصلاة أيضا على كل واحدة من
المصاديق المختلفة كيفية وكمية، نحو انطباق الكلي المتواطئ على افراده ومصاديقه، ومع ذلك أيضا باعتبار جعلها لا بشرط من طرق
غير الأركان يكون من قبيل الحقائق التشكيكية المتصورة في الكم الملتئم من أجزأ مختلفة بحسب المصداق من حيث الزيادة والنقصان.
واما ما قيل من استلزام هذا المعنى لجواز إتيان المكلف بأي نحو من الافراد والمصاديق في مقام الامتثال نظرا إلى تحقق الجامع
المزبور الذي هو مورد تعلق التكليف والامر بإتيان أي فرد من الافراد مع قضاء الضرورة من الدين ببطلانه، من جهة
82

ان لكل شخص حسب اختلاف الحالات والعوارض الطارية عليه من السفر والحضر والاختيار والاضطرار والصحة والسقم وظيفة
خاصة معينة بحيث لو أتى في مقام الامتثال بغير ما هو الوظيفة المقررة في حقه لما كان آتيا بالصلاة وما هو المأمور به في حقه،
فمدفوع بأن هذا المحذور انما يتوجه لولا مدخلية الحالات الخاصة في حصر مصداق الجامع في حقه بصدور فعل خاص من فاعله ولو
من جهة إناطة القرب في كل حالة مخصوصة بصدور فعل خاص منه، وإلا فمع مدخلية تلك الحالات الخاصة في ذلك فلا مجال لهذا
الاشكال فان عدم جواز إتيان المكلف العالم المختار مثلا بصلاة المضطر والغريق في مقام الامتثال انما هو من جهة مدخلية تلك الحالة
الخاصة في جزئية الشئ الفلاني وشرطيته بنحو يستحيل تحقق الجامع المزبور بدونه، كمدخلية كل حالة مخصوصة في انحصار
المرتبة الخاصة من مراتب الجامع المزبور بها، بملاحظة دوران التسمية مدار تأثيرها المختص كل مرتبة منها بطائفة خاصة، وعليه
يلزمه انحصار مصداق الجامع المزبور في حق كل طائفة بفرد خاص بنحو لا يكاد تحقق الجامع منه بدونه.
ولئن شئت فاستوضح ذلك بما لو تعلق الغرض مثلا بشرب الماء المشبع والرافع للعطش الجامع بين ماء الكوز وماء الجرة وماء الحب
وماء الشط مع فرض اختلاف الاشخاص حسب استعداد مزاجهم واختلاف حالاتهم الطارية عليهم في مقدار الرافع للعطش وفرض
وجود الماء المزبور أيضا في ضمن هيئات مخصوصة وإشكال متعددة، حيث إنه باعتبار اختلاف الاشخاص قد يختلف مصداق المشبع
من الماء أيضا في حقهم فيكون مصداق المشبع بالنسبة إلى شخص ماء الكوز على شكل خاص وهيئة مخصوصة ومصداق المشبع
بالنسبة إلى آخر ماء الجرة على هيئة خاصة وبالنسبة إلى ثالث يكون مصداق المشبع في حقه ماء الحب، وهكذا، فصار مصداق المشبع
من الماء الرافع للعطش في حق كل شخص غير ما هو المصداق في حق الاخر. وفي المقام أيضا كذلك حيث نقول بان الغرض الذي هو
تكميل العباد المعبر عنه بقربان كل تقي تعلق بالجامع المزبور وان لهذا الجامع مصاديق متعددة مختلفة بحسب الكيفية والكمية حسب
اختلاف حالات المكلفين فكان مصداق الجامع المزبور في حق كل طائفة مخصوصا بفرد خاص ولو بلحاظ إناطة القرب في كل حالة
مخصوصة بفعل خاص من فاعله بنحو لا يكاد بدونه تحقق الجامع منه في الخارج ولا تحقق الغرض الذي هو التكميل إلا به.
83

وعلى هذا فتلخص ان حقيقة الصلاة التي رتب عليها غرض التكميل لا تكون إلا عبارة عن معنى بسيط وحداني لا يكون بجوهر ولا
عرض بل مرتبة خاصة من الوجود من المقولات الخاصة بعد إلغاء خصوصيات الحدود والمقولات المحدودة بكونها من أول التكبيرة
إلى آخر التسليم مثلا، ولها جهة كلية بالنسبة إلى الافراد العرضية ينطبق عليها بنحو التواطي، وكلية بالقياس إلى الأجزاء والافراد
الطولية ينطبق عليها بنحو السريان والتشكيك، نظير مفهوم الجمع الصادق على الثلاثة والأربعة وغيرها من مراتب الجمع على
اختلافها قلة وكثرة، نعم في عالم تنزل تلك الحقيقة ومرحلة تحققها في الخارج، تحتاج إلى خصوصيات الحدود والمقولات، نظرا إلى
استحالة تحقق تلك الحقيقة في الخارج إلا محدودة بحدود خاصة وفي ضمن المقولات المخصوصة من الكيف والفعل والإضافة والوضع
ونحوها، وذلك أيضا على اختلاف حالات المكلفين في الدخل في لزوم صدور فعل خاص من فاعله الذي لا يكاد بدونه تحقق الجامع منه
في الخارج، ومرجع ذلك كله إلى كون دخل الحدود والمقولات الخاصة من باب كونها من المشخصات الفردية لحقيقة الصلاة بلا ان
يكون لها دخل في أصل حقيقة الصلاة بوجه أصلا كي يلزمها كونها أمرا مركبا من المقولات المتعددة كما هو واضح. وبذلك أيضا يجمع
بين ما ذكرنا من بساطة حقيقة الصلاة وبين ما ورد في شرح الصلاة بأنها ركوع وسجود وقرأة ونحوها، حيث يحمل تلك النصوص
على بيان المصداق الخارجي للصلاة.
الثاني:
من طرق كشف الجامع على الصحيح استكشافه من جهة وحدة الأثر المترتب عليها على ما يقتضيه النصوص الواردة في مقام إثبات بعض
الخواص والآثار للصلاة من نحو قوله عليه السلام الصلاة قربان كل تقي وانها معراج المؤمن وانها تنهى عن الفحشاء والمنكر، حيث إن
جهة القرب والتكميل بعد إن كان أثرا بسيطا غاية البساطة فلا بد بمقتضى وحدته وبساطته من كشف جامع وحداني بسيط بين تلك
المختلفات الكمية والكيفية يكون هو المؤثر في ذلك الأثر الوحداني البسيط نظرا إلى استحالة تأثير المتباينات بما هي كذلك في واحد
بسيط. واما احتمال ان يكون الأثر الوحداني في المقام أثرا ذا جهات متعددة مختلفة يؤثر كل أمر من تلك الأمور المتعددة في جهة من
ذلك الأثر، فمدفوع بأن جهة المقربية والمعراج ليست إلا عبارة عن تكميل العبد وبلوغ نفسه بمرتبة خاصة من الكمال بها يصير العبد
موردا للالطاف إلهية والعنايات الخاصة
84

الرحمانية، ومن المعلوم بداهة ان مثل ذلك لا يكون إلا أمرا بسيطا وحدانيا غير ذي جهات، وعليه فبعد امتناع تأثير المتباينات في أمر
وحداني بسيط فلا بد بمقتضى بساطة الأثر ووحدته من وجود جامع وحداني في البين تلك الافراد المتعددة المختلفة بحيث نشير إليه
بنحو الاجمال بما هو قربان كل تقي وما هو معراج المؤمن وان لم يمكننا تحديده تفصيلا، مع إمكان تحديده بوجه إجمالي أبسط أيضا
بالإشارة إلى تلك الحقيقة بالوجود المحفوظ بين تلك المراتب من مرتبة صلاة الغريق إلى مرتبة صلاة الكامل العالم المختار، بإلغاء
خصوصيات الحدود والمراتب الخاصة، فيقال بأن حقيقة الصلاة عبارة عن معنى وحداني بسيط غير ذي جهات لا تكون بجوهر ولا
عرض بل مرتبة خاصة من الوجود المحفوظ بين المراتب من الصلاة المختلفة المحدودة حدها من التكبيرة إلى آخر التسليم، بإلغاء
خصوصيات التكبيرة والقيام والركوع والسجود ونحوها، بجعل تلك الحدود والمقولات الخاصة من المشخصات الفردية للصلاة لا
من مقولات حقيقتها.
ثم لا يخفى عليك انه كما يستكشف الجامع الافرادي بمقتضى البيان المزبور بين افراد الصلوات المختلفة كذلك لا بد من الكشف عن
جامع أجزائي أيضا بين الأجزاء من افراد الصلوات يكون هو المؤثر في ذلك الأثر الوحداني البسيط مع كونه أيضا من قبيل الحقائق
التشكيكية الصادقة على الزائد والناقص، والفرق بينه وبين الجامع الافرادي هو الفرق بين الطبيعة الصرفة المتحققة بأول وجود
فردها والطبيعة السارية في ضمن جميع الافراد، فيكون الجامع الافرادي من قبيل الأول والجامع الاجزائي من قبيل الثاني، من حيث
عدم تحققه بمرتبة المؤثر الفعلي منه إلا في صورة تحقق مجموع الأجزاء، وان تحقق مرتبة أخرى غير مؤثرة فعلا بتحقق بعض الأجزاء،
مثلا لو فرضنا تركب فرد من أجزأ ثمانية أو عشرة يكون المؤثر الفعلي من الجامع المزبور الساري في الأجزاء الثمانية أو العشرة وما
دون تلك المرتبة يكون مؤثرا شأنيا لا فعليا فإذا تحقق في الخارج الأجزاء الثمانية أو العشرة يتحقق الجامع الافرادي أيضا لان تحققه
انما هو بأول وجود فرده. واما إذا لم يتحقق في الخارج الأجزاء الثمانية أو العشرة بل كان المتحقق في الخارج من ذي أجزأ ثمانية
سبعة أجزأ ومن ذي أجزأ عشرة ثمانية ففي مثله لم يتحقق المرتبة المؤثرة الفعلية من الجامع المزبور بل المتحقق في مثله هو المرتبة
المؤثرة الشأنية منه.
فإذا تمهد لك هذه الجهة نقول بأنه بعد إن كان للجامع المتصور المزبور بين الافراد
85

عرض عريض ومراتب متفاوتة وكان المؤثر الفعلي منه من كل فرد ومرتبة هو الساري في مجموع الأجزاء من ذي أجزأ خمسة وذي
أجزأ ستة وذي أجزأ ثمانية وهكذا والمؤثر الشأني منه من كل فرد ومرتبة هو الساري لا في ضمن مجموع الأجزاء، فلك ان تعتبر
الجامع أيضا بين الصحيح والأعم بعين ما اعتبرته بين افراد الصحيح من البرهان فتأخذ من كل فرد ومرتبة جزا أو جزين وتجعل
الجامع عبارة عن الأعم من واجد هذا الجز الذي يكون مؤثرا فعليا ومن فاقده الذي يكون مؤثرا شأنيا، حيث لا نعنى من الفاسد إلا ما
كان مؤثرا شأنيا وغير تام في نفسه في عالم المؤثرية الفعلية وتشير إليه في مقام الإشارة بالوجود المحفوظ بين المرتبة المؤثرة
الشأنية الفاقدة لبعض الأجزاء بين وبين المرتبة المؤثرة الفعلية الواجدة لتمام الأجزاء. وعليه ما مر من تصوير الجامع على الأعم ثبوتا
كتصويره على الصحيح واضح لا ينبغي الارتياب فيه، نعم لو كان كلام حينئذ فإنما هو في مرحلة الاثبات ومقام وضع اللفظ في أن الصلاة
هل هي موضوعة للجامع بين افراد الصحيح أو انها موضوعة للأعم من الفاسد والصحيح؟ وإلا فاصل إمكانه ثبوتا بعد الالتزام بالصحيح
النوعي بمقتضى ما ذكرنا مما لا يعتريه ريب كما هو واضح.
ثم إن في المقام وجوها اخر أفادوه في تصوير الجامع بين الصحيح والفاسد لا بأس بالإشارة إلى بعضها، فنقول:
ان منها ما عن المحقق القمي (قدس سره) بأن الصلاة اسم لجملة من الأجزاء كالأركان مثلا وان بقية الأجزاء خارجة عن المسمى وإن كانت
داخلة في المأمور به ومنها ان الصلاة عبارة عن معظم الأجزاء من غير مدخلية لخصوصية جز أو جز. ومنها تنظيره بباب الاعلام
الشخصية كزيد من حيث إنه زيد في جميع الحالات من دون ان يضر في التسمية تبادل الحالات من الصغر والكبر والصحة والقسم و
كذلك نقصان بعض اجزائه كاليد والرجل وغيرها.
ولكن يرد على الأول بأن ذلك مجرد فرض لا واقعية لا إذ نرى بأنه لا جامع صوري متصور بين تلك المختلفات يدور عليه المسمى
وجودا وعدما. ويرد على الثاني أيضا بعد عدم إرادة مفهوم معظم الأجزاء قطعا بل ما يصدق عليه هذا المفهوم، بأنه يلزمه كون شئ
واحد داخلا في المسمى تارة وخارجا عنه أخرى. وعلى الثالث بمنع المقايسة المزبورة للفرق الواضع بين المقامين فإنه في الاعلام
الشخصية يكون في البين شئ محفوظ في جميع
86

تلك الحالات المتبادلة المختلفة لا تغير فيه ولا تبدل وهو الموجود الشخصي والتشخص الخاص الذي به قوام شخصيته، وهذا بخلاف
المقام حيث إنه لا يكون في البين ما يجمع شتات تلك المختلفات مع تركبها من المقولات المتعددة المختلفة، إلا على النحو الذي تصورناه
من الجامع الوجودي. وعليه يرجع هذا التقريب إلى قربناه سابقا فلا يكون تقريبا آخر للجامع.
وعلى كل حال فبعد أن ظهر لك إمكان تصوير الجامع ثبوتا على كل واحد من القولين في المسألة ما ذكرناه من البيان، يبقى الكلام في
مقام إثبات ان الوضع هل هو لخصوص الصحيح أو للأعم منه والفاسد؟
فنقول انه يمكن ان يستدل للوضع للأعم بأمور:
منها: صلوح التقسيم إلى الصحيح والفاسد في قولك: الصلاة اما صحيحة أو فاسدة، فان في ذلك شهادة على الوضع للأعم، لأنه لولا ذلك
يلزم ان يكون الاستعمال المزبور استعمالا مجازيا محتاجا إلى رعاية عناية في البين، وهو كما ترى مما يشهد الوجدان بخلافه.
ومنها: صدق الصلاة وصحة إطلاقها على صلوات مختلفة في قولك: هذه الجماعة يصلون في جماعة يصلي كل واحد منها صلاة بعضها
فاسدة وبعضها صحيحة، فإنه لولا كونها مشتركا معنويا بينهما يلزم محذور استعمال اللفظ في أزيد من معنى واحد أو عدم صحة
الاطلاق المزبور، وحيث إن الاطلاق المزبور كان صحيحا بالوجدان فلا جرم بعد بطلان استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى واحد
واستحالته يثبت المطلوب من الوضع للأعم.
ومنها: ملاحظة ما استقر عليه ديدن العرف والعقلاء في مخترعاتهم من المركبات الخارجية وغيرها من الوضع للأعم من الصحيح منها
والفاسد لكي لا يحتاجوا في استعمالهم إياها في الفاسد إلى رعاية عناية وعلاقة، فإنه بعد القطع بأنه لم يكن للشارع في هذا الباب
ديدن خاص وطريقة مخصوصة على خلاف ديدن العرف والعقلاء وانه من هذه الجهة كأحد من أهل العرف يكشف به الوضع للأعم لا
لخصوص الصحيح.
ومنها: قوله عليه السلام (لا تعاد الصلاة من سجدة وتعاد من ركعة) وقوله عليه السلام: (لا تعاد الصلاة إلا من خمس) فإنه بناء على
الوضع للأعم يكون الصلاة في الفقرتين مستعملة في الجامع وأريد خصوصية الفرد الصحيح والفاسد بدالين ومدلولين
87

بلا لزوم محذور في البين من نحو استخدام ان غيره. وهذا بخلافه على القول بالوضع للصحيح فإنه عليه يلزم اما استعمال لفظ الصلاة
في أكثر من معنى واحد أي المعنى الحقيقي والمجازي بناء على رجوع الضمير في قوله (وتعاد) إلى تلك الصلاة المذكورة في الصدر،
أو المصير إلى نحو استخدام ورعاية عناية في البين، وهما كما ترى.
ومنها: ما دل على مبطلية الزيادة في الصلاة من نحو قوله عليه السلام: (من زاد في صلاته فعليه الإعادة) خصوصا على القول بتصوير
الزيادة في الصلاة كما حققناه في محله فان تصوير الزيادة الحقيقية لا يكاد يمكن إلا بجعل دائرة اختراع ماهية الصلاة أوسع من دائرة
المأمور به ومن المعلوم ان ذلك لا يكاد ينفك عن الوضع للأعم، كما هو واضح. وحينئذ فبمقتضى تلك البيانات لا بأس بالالتزام بالوضع
للأعم من الصحيح والفاسد. بقي الكلام فيما استدل به الفريقان لاثبات الوضع للصحيح أو الأعم، فنقول:
اما ما استدل به للوضع للصحيح فأمور:
ومنها: التبادر بمعنى انسباق الصحيح عند إطلاق الصلاة.
ومنها: صحة سلبها عن الفاسدة حقيقة وان صح إطلاقها عليها بالعناية والمشاكلة.
وفيه: اما التبادر فلو أريد تبادر خصوص الصحيح ولو بمعونة القرائن الخارجية كما هو الغالب ولو بمثل عدم اقدام المسلم على العمل
الفاسد في قولك: فلان يصلى، فهو مسلم ولكنه غير مفيد حيث لا يثبت ذلك كونها موضوعة للصحيح. وان أريد تبادر خصوص الصحيح
من حاق اللفظ مهما أطلق ففي المنع عنه كمال مجال بل لنا دعوى ان المتبادر منها عند إطلاقها هو الأعم.
واما صحة السلب ففيه انه ان أريد صحته عما هو المأمور به فهو صحيح ولكنه لا يثبت الوضع لخصوص الصحيح. وان أريد صحته ولولا
بما هي مأمور بها بل بما هي معنى اللفظ فهو ممنوع جدا لكونه أول الدعوى.
ومنها: الآيات والاخبار المثبتة لبعض الخواص الآثار للصلاة من نحو الصلاة معراج المؤمن، وانها قربان كل تقي، وانها تنهى عن
الفحشاء والمنكر، بتقريب ان فيها الدلالة بعكس النقيض على أن كل ما لا يكون معراج المؤمن وما لا يكون قربان كل تقي لا تكون
بصلاة، فيستفاد منها عدم كون الفاسدة صلاة حقيقة وان صح إطلاقها عليها
88

عناية.
ولكن فيه ما لا يخفى، فان الاستدلال المزبور انما هو من قبيل التمسك بعموم العام لاخراج ما يعلم بخروجه عن حكم العام عن
موضوعه، فرارا عن لزوم التخصيص على تقدير دخوله في موضوع العام، فهو نظير ما لو ورد بأنه يجب إكرام كل عالم وقد علم من
الخارج بعدم وجوب إكرام زيد ولكنه شك في أنه هل هو من افراد العالم المحكوم بوجوبه كي يكون عدم وجوب إكرامه من باب
التخصيص لو أنه خارج عن العام موضوعا كي يكون خروجه من باب التخصص والخروج الموضوعي، ففي المقام أيضا قد علم من
الخارج عدم كون الفاسدة مما يترتب عليها تلك الخواص والآثار وانما الشك في أنها صلاة حقيقة ليكون تخصيصا في الاطلاق أو عموم
ما دل على أن كل صلاة يترتب عليها تلك الخواص والآثار، أو انها لا تكون بصلاة حقيقة ليكون عدم ترتب تلك الخواص والآثار على
الفاسدة من باب التخصص والخروج الموضوعي فاستدل بتلك الأدلة على خروجها عن الموضوع. وعلى كل حال نقول تمامية
الاستدلال المزبور مبنى على حجية أصالة المعموم والاطلاق مطلقا حتى فيما كان الشك من جهة الشك في خروج ما هو خارج قطعا عن
حكم العام عن موضوعه، وإلا فبناء على اختصاص حجيته بما لو كان الشك ممحضا في خروج ما كان داخلا في موضوع العام عن حكمه
فلا مجال للتمسك بتلك الأخبار المزبورة لاثبات عدم كون الفاسدة بصلاة حقيقة، وسيجئ في محله إن شاء الله تعالى عدم حجية
أصالة العموم والاطلاق في نحو ذلك باعتبار ان عمدة الدليل على حجية أصالة العموم والاطلاق انما هو السيرة التي هي من الأدلة اللبية،
والقدر المتيقن منها انما هو مورد الشك في خروج فرد عن حكم العام فارغا عن أصل فرديته للعام موضوعا.
ومن العجب ان الكفاية مع بنائه على عدم حجية أصالة العموم والاطلاق إلا في مورد الشك في خروج ما هو داخل في العام موضوعا عن
حكمه، بنى في المقام على التمسك بالاخبار المزبورة المثبتة لبعض الخواص والآثار للصلاة لاثبات عدم كون الصلاة الفاسدة صلاة
حقيقة. نعم هو (قدس سره) رجع عن ذلك في حاشيته على الكفاية واستشكل على كلامه بما استشكلنا عليه من عدم حجية أصالة العموم
والاطلاق في نحو ذلك فراجع.
ومنها: قوله عليه السلام لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، ولا صلاة إلا بطهور. وتقريب
89

الدلالة انما هو من جهة ظهور النفي في نفى الحقيقة فيستفاد منها حينئذ ان الصلاة التي لا تكون فيها الفاتحة أو الطهور لا تكون بصلاة
حقيقة.
ولكن فيه انه وان سلم ظهور النفي في غير المقام في نفى الحقيقة ولكن ظهوره في المقام في ذلك ممنوع، إذ نقول بظهوره في المقام
في نفى الصحة ولو من جهة الانصراف أو نفى الحقيقة عما هو المأمور به بما هو كذلك، وعليه لا يكاد يفيد في إثبات عدم كون الفاسدة
بصلاة حقيقة كما هو واضح.
ومنها: دعوى القطع بأن طريقة كل واضع ومخترع للمركبات هو الوضع للمركبات التامة الأجزاء والشرائط والمؤثرة الفعلية، و
الشارع أيضا غير متخط عن تلك الطريقة المتداولة بين العرف والعقلاء فيثبت بذلك وضعها لخصوص الصحيح المؤثر في الغرض دون
الأعم منه والفاسد.
وفيه أيضا ما لا يخفى، إذ نمنع أولا كون طريقة الواضعين المخترعين للماهيات على الوضع لخصوص الصحيح المؤثر الفعلي بل نقول
باستقرار طريقتهم في مثل ذلك على الوضع للأعم، من جهة انه كثيرا ما تقضى الحاجة وتمس إلى الاستعمال في الفاسدة ومن المعلوم
ان قضية ذلك انما هو لزوم وضعها للأعم لكي لا يحتاجوا عند استعمالهم اللفظ في الفاسدة إلى القرينة وهو واضح. وعلى انه لو أغمض
عن ذلك وقلنا باستقرار طريقة العقلا في وضع اللفظ لمخترعاتهم من المركبات لخصوص الصحيح منها، نقول: بأنه من الممكن ان
يكون للشارع في المقام طريقة خاصة على خلاف ما عليها ديدن العقلا تقتضي الوضع للأعم ولو من جهة تعلق الغرض على تسهيل الامر
على المكلفين امتنانا عليهم في جواز تمسكهم بالاطلاقات في نفى ما شك في اعتباره شطرا أو شرطا وعدم رجوعهم إلى الأصول
العملية من البراءة أو الاشتغال، حيث إنه من الواضح انه لا يكاد الوصول إلى مثل هذا الغرض إلا بوضع اللفظ للأعم دون الصحيح فإنه على
تقدير الوضع لخصوص الصحيح لا يبقى مجال لرجوع المكلفين عند الشك إلى الاطلاقات من جهة عدم إحرازهم المسمى حينئذ وكونه
من باب التمسك بالعام مع الشك في أصل مصداقية المشكوك للعام كما هو واضح. هذا كله فيما استدل به للقول بالصحيح.
واما ما استدل به للقول بالأعم فأمور أيضا
منها: التبادر بمعنى انسباق الأعم من إطلاق لفظ الصلاة والصوم والحج.
90

ومنها: عدم صحة سلبها عن الفاسدة حيث يرى بالوجدان عدم صحة سلب الصلاة عن الصلاة التي نقص منها بعض اجزائها خصوصا إذا
كان الناقص من الأجزاء الركنية كما هو ذلك في المركبات العرفية، بل ولئن صح سلبها عنها فإنما هو باعتبار الصحة حيث يقال: بأنها
ليست بصلاة صحيحة لا انها لا تكون بصلاة حقيقة.
ومنها: قوله عليه السلام: (بنى الاسلام على خمس: الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية ولم يناد أحد بشي كما نودي بالولاية
فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه، يعنى الولاية، فلو ان أحدا صام نهاره وقام ليله ومات بغير الولاية لم يقبل منه صوم ولا صلاة) بتقريب
ان الاخذ بأربع أي الصلاة والصوم والحج والزكاة مع بطلان عبادة تاركي الولاية انما يتم بناء على كونها أسامي للأعم وإلا لما كانوا
آخذين بأربع فلا يصح القول بأنهم آخذين بأربع.
وفيه ما لا يخفى، فإنه لو تم البيان المزبور فغايته إثبات استعمال الأربع في قوله عليه السلام فأخذ الناس بأربع في الفاسدة وهو غير
مثبت للوضع للأعم الذي هو المدعى باعتبار أعمية الاستعمال من الحقيقة. مع أنه نقول: بأنه بعد إن كان المراد من الأربع التفصيلي في
صدر الرواية بقرينة بناء الاسلام عليها هو الصحيح بلا إشكال فلا بد وان يحمل الأربع الاجمالي أيضا على الصحيح، ولو باعتقادهم، من
جهة ما هو المعلوم من كون المراد من الأربع الاجمالي هو ذاك الأربع التفصيلي في صدر الرواية، وعليه فلا يكون الأربع الاجمالي أيضا
إلا مستعملا في الصحيح، غايته هو الصحيح باعتقادهم دون الصحيح الواقعي النفس الامري وهو أيضا لا يكون من المجاز كما لا يخفى.
مع أنه لو سلم استعمال الأربع الاجمالي في الفاسدة من جهة فقدانها للولاية نقول بأن مجرد ذلك غير مضر بدعوى القائل بالصحيح من
جهة ان مقصودهم من الصحيح على ما تقدم انما هو الصحيح من غير ناحية قصد التقرب كما يكشف عنه اتفاقهم على خروج مثل قصد
التقرب عن الصحة، وحينئذ فإذا كانت الولاية من شؤون القربة المصححة للعبادة فاللقائل بالصحيح دعوى خروجها أيضا كنفس قصد
القربة، وعليه فلا يكون استعمال الأربع الاجمالي إلا فيما هو الصحيح عند القائل به كما هو واضح.
ومنها: قوله عليه السلام (دعى الصلاة أيام أقرائك) بتقريب انه بعد عدم إمكان حمل الرواية على إرادة الصحيح منها من جهة معلومية
عدم قدرة الحائض في حال الحيض على
91

إيجاد الصحيح ومعلومية اعتبارها في صحة توجه النهي إليها، فلا بد من حملها على الأعم بإرادة الجامع مع إفادة خصوصية الفرد الفاسد
منها بدال اخر.
وفيه: أيضا انه اما ان يحمل النهي الوارد في الرواية على النهي المولوي الذاتي الناشئ عن مفسدة ذاتية في متعلقه في حال الحيض، واما
ان يحمل على مجرد التشريع باعتبار مزاحمة مصلحة الصلاة في حال الحيض مع مفسدة أقوى في البين، واما ان يحمل على الارشاد إلى
مانعية الحيض عن صحة الصلاة، فعلى الأول لا دلالة لها على المطلوب من الوضع للأعم بوجه أصلا من جهة ان كون الشئ عبادة ومنهيا
عنه بالنهي المولوي الذاتي حينئذ لا يتصور إلا بكون الشئ من الآلات الموضوعة للخضوع ومن أبزار العبودية نظير تقبيل اليد والرجل
ورفع القلنسوة في العرفيات الموضوعة عندهم من أبزار العبودية ومن آلات الخضوع، فان مثل هذا المعنى هو الذي يكون قابلا لتعلق
النهي المولوي به، كما أنه يكفي في مقربيته ووقوعه عبادة فعلا مجرد رضاء المولى به وعدم نهيه عن الاتيان به، وبهذه الجهة أيضا
صححنا النيابة في العبادات حيث قلنا بأنه يكفي في صحة العبادة ووقوعها عن الغير مجرد رضاء ذلك الغير بإتيان العبادة عن قبله كما
نظيره في الخضوعات العرفية من نحو تقبيل اليد والرجل عن قبل الغير حيث إنه مع أمر ذلك الغير بتقبيل يد الأمير مثلا عن قبله أو
رضائه به يقع ذلك التقبيل الصادر عن النائب خضوعا عن ذلك الغير ويكون ذلك مقربا له دون النائب المباشر للتقبيل، نعم عند عدم
رضائه بذلك أو نهيه عنه لا يقع ذلك خضوعا له ولا مقربا له. وعلى ذلك نقول: بأنه من الواضح حينئذ عدم دلالة الرواية على القول
بالأعم لولا دعوى دلالتها على القول بالصحيح كما هو الظاهر، حيث إنه للقائل بالصحيح حينئذ دعوى كونها مستعملة في الرواية في
خصوص الصحيح باعتبار ان الفساد حينئذ مستند إلى قضية نهى الشارع وعدم رضائه بإتيان الحائض الصلاة في حال الحيض، لا إلى
قصور في نفس العبادة في عالم اقتضائها للمقربية، ولقد عرفت بأن مثل قصد القربة خارج عن المسمى عند الصحيحي أيضا وان ما هو
المسمى عنده انما هو الصحيح من غير ناحية قصد القربة، والمفروض في المقام أيضا انه لولا نهى الشارع لا قصور في صلاة الحائض
في عالم مقربيتها. هذا كله بناء على حمل النهي في الرواية على النهى المولوي الذاتي.
واما بناء على الاحتمال الثاني من حمله على مجرد التشريع فكذلك أيضا، حيث
92

بكونها مستعملة في الرواية في خصوص الصحيح وان البطلان والفساد انما نشأ من جهة فقد الامر وخلوها عن قصد القربة الذي هو
خارج عن المسمى قطعا عند الصحيحي أيضا.
واما بناء على الاحتمال الثالث من حمل النهي فيها على الارشاد إلى مانعية الحدث وهو الحيض عن صحتها فعليه وإن كانت للرواية
دلالة على المطلوب، ولكنه أيضا مبنى على أن يكون الاطلاق المزبور في قوله صلى الله عليه وآله (دعى الصلاة) بلحاظ حال الحيض
بنحو يتحد ظرف الجري مع ظرف النسبة الحكمية وإلا فبناء على تغاير الظرفين وكون الاطلاق المزبور بلحاظ حال قبل الحيض وهو
حال الطهارة فلا تدل أيضا على مطلوب الأعمي من الاستعمال في الأعم، إذ المعنى حينئذ ان الصلاة التي يؤتى بها في حال الطهارة لا
تأتي بها في حال الحيض، ومن المعلوم حينئذ كونها مستعملة في خصوص الصحيح.
ومنها - أي من أدلة القول بالأعم - صحة تعلق النذر بترك الصلاة في مكان مكروه كالحمام مثلا مع حصول الحنث بفعلها فيه أيضا،
بتقريب ان صحة النذر وحصول الحنث لا يكون إلا بوضعها للأعم، وإلا فبناء على الصحيح يلزم عدم حصول الحنث بفعلها فيه بل عدم
صحة النذر رأسا، لان النذر الصحيح هو ما يجب الوفاء به بأمر الشارع بالوفاء به، واعتبار القدرة على المتعلق تركا وإيجادا مما لا بد
منه في صحة توجيه التكليف بالوفاء بالايجاد أو الترك، وحينئذ فمع فرض وضعها للصحيح يلزمه كونها منهيا عنها بمقتضى توجه
التكليف بالترك إليه، ولازم كونها منهيا عنها هو فسادها على ما برهن في محله من اقتضاء النهي عن العبادة لفسادها، ومع فسادها لا
يكون له القدرة على الحنث بإيجاد الصلاة الصحيحة، لان كل ما أوجده يقع فاسدا بمقتضى النهي المزبور، ومع عدم قدرته على الحنث لا
يكاد توجه التكليف بالوفاء به إليه، ولازمه هو عدم انعقاد نذره من أصله، مع أن ذلك خلاف البداهة من صحة النذر وحصول الحنث،
فيكون ذلك برهانا إجماليا تاما على أن المسمى والموضوع له هو الأعم دون الصحيح، لأنه على الأعم لا يلزم محذور في البين أصلا.
وفيه ما لا يخفى، إذ نقول: بأنه بعد معلومية اعتبارهم الرجحان الفعلي في متعلق النذر، اما ان يحمل الكراهة في المواضع المزبورة على
أقلية كما التزم به جماعة من
93

الأصحاب نظرا إلى اعتبارهم الرجحان الفعلي في العبادة، واما ان تحمل على معناها المصطلح لكن بجعل المكروه عبارة عن خصوصية
كينونة الصلاة مثلا في الحمام مع إبقاء ذات العبادة على ما هي عليها من الرجحان والمحبوبية الفعلية.
فعلى الثاني نقول: بأن النذر وإن كان صحيحا في فرض تعلقه بخصوصية كينونة الصلاة في الحمام لا بذات الصلاة ولكن لازمه أيضا هو
صحة الصلاة المزبورة عند حصول الحنث وإتيانه بالصلاة في الحمام، فلا يلزم حينئذ من مجرد حصول الحنث بفعلها فيه فسادها كي
ينفع القائل بالأعم. وتوهم عدم انفكاك الخصوصية عن الذات لمكان اتحادها معها فتسري الحرمة حينئذ إلى أصل الصلاة فتقع فاسدة،
مدفوع بمنع اقتضاء هذا المقدار من الاتحاد للسراية إلى ذات الصلاة وإلا لاقتضى السراية إليها ولو في غير مورد تعلق النذر بها،
فيلزمه حينئذ بطلان الصلاة في الحمام ونحوه باعتبار سراية المرجوحية من الخصوصية على الفرض إلى ذات العبادة ولو في غير
مورد تعلق النذر مع أن ذلك كما ترى لا يظن بأحد الالتزام به. هذا بناء على فرض تعلق النذر بخصوصية كينونة الصلاة في الحمام واما
لو فرض تعلق النذر في الفرض المزبور بنفس العبادة، ففي مثل الفرض نلتزم بعدم انعقاد النذر من رأسه وذلك لا من جهة عدم القدرة
على الحنث بل من جهة انتفاء الرجحان في المتعلق الذي هو ترك الصلاة كما هو واضح.
ومن ذلك البيان ظهر انه كذلك الامر أيضا في الفرض الأول وهو فرض حمل الكراهة على أقلية الثواب حيث إن لازمه بعد اعتبارهم
الرجحان الفعلي في متعلق النذر هو عدم صحة النذر المزبور من رأسه لا مجرد كونها أقل ثوابا لا يوجب مرجوحيتها حتى يكون تركها
راجحا فصح النذر على تركها.
وحينئذ فالأولى في المقام هو التمثيل بباب العهد واليمين بناء على عدم اعتبار الرجحان في متعلقهما فإنه حينئذ يسلم عن الاشكال
المزبور. وعليه نقول أيضا بأنه وإن كان صح العهد واليمين ويحصل أيضا الحنث بفعل الصلاة في المكان المكروه ولكن نقول: بان
مجرد صحة العهد واليمين وحصول الحنث لا ينافي تعلقهما بالصحيح إذ نقول بان ما تعلق به العهد واليمين حينئذ انما هو الصحيح لولا
هذا العهد لا الصحيح على الاطلاق حتى من جهة هذا العهد، وعليه كان العهد صحيحا ويقع الحنث أيضا بفعلها لان ما أوجده انما كان هو
الصحيح لولا العهد، واما الفساد من قبل العهد فهو غير
94

مناف لصحة متعلقه وصحة عهده لأنه نتيجة وجوده نعم لو كان متعلق النذر هو الصحيح الفعلي حتى بالنظر إلى هذا العهد لما كان
يتحقق الحنث بفعلها فيتوجه المحذور المزبور، ولكن ذلك من المستحيل لاستحالة تقيد المتعلق وهو المسمى بالصحيح حتى من قبل
هذا الحكم العهدي المتأخر، كما هو واضح. على أن غاية ذلك هو عدم صحة تعلق النذر والعهد بفعل الصحيح وأين هذا والقول بان
المسمى هو الأعم دون الصحيح؟ كما لا يخفى. وحينئذ فالأولى في إثبات الوضع للأعم دون الصحيح هو التشبث بما ذكرناه سابقا من
التبادر وصحة التقسيم ونحو هما.
بقي الكلام فيما قيل من الثمرة بين القولين،
فنقول: انه قيل بظهور الثمرة بين القولين في أمور:
منها: ظهورها من حيث مرجعية البراءة والاشتغال عند الشك في مدخلية شئ شطرا أو شرطا في المأمور به، بتقريب انه على الصحيح
كان المرجع هو الاشتغال باعتبار الشك في تحقق ما هو المسمى بالصلاة بدون المشكوك بخلافه على الأعم فإنه عليه يكون المرجع عند
الشك هو البراءة بناء على جريانها في الارتباطيات.
وفيه ما مر سابقا من عدم ابتناء الرجوع إلى البراءة بكونه من خواص القول بالأعم، بل هو كذلك أيضا حتى على القول بالصحيح، ولو
على القول ببساطة المأمور به، حيث إن التكليف المتعلق بالمأمور به بعد انحلاله إلى تكاليف ضمنية فبالنسبة إلى المشكوك يشك في
أصل توجه التكليف بالنسبة إليه، وحينئذ فعلى القول بجريان البراءة في الارتباطيات يجوز للصحيحي أيضا الرجوع إليها عند الشك في
شرطية شئ أو شطريته، كما هو واضح. ولذلك أيضا ترى بناء الأكثر على الرجوع إلى البراءة عند الشك في دخل شئ في المأمور به
جز أو شرطا مع مصيرهم في المقام إلى الصحيح.
وقد يفصل في مرجعية البراءة والاشتغال بين الصحيح الشخصي والنوعي، بتقريب انه على الصحيح الشخصي يكون مرجع الشك في
الشرطية أو الجزئية في البدل إلى الشك في كون الفاقد بدلا أم لا، فأصالة العدم تقضى بالاحتياط والاشتغال، بخلافه على الصحيح
النوعي فان للرجوع إلى البراءة عليه كمال مجال. ولكن يدفعه ان الشك في البدلية حيثما كان مسببا عن الشك في جزئية المشكوك أو
شرطيته فلا جرم تجري البراءة فيه ومعه لا يبقى مجال التفرقة بينهما، كما لا يخفى.
95

ومنها: ظهورها في مسألة النذر فيما لو نذر إعطاء درهم لمن يصلي، بتقريب انه على الأعم بتحقق البراءة بإعطائه لمن يصلى الفاسدة
من جهة صدق الصلاة عليها حقيقة بخلافه على الصحيح فإنه لا يحصل الوفاء بالنذر إلا في صورة إحراز كونها صحيحة ولو من جهة
أصالة الصحة في فعل المسلم.
وفيه أيضا ما لا يخفى، فإنه بعد تقيده بما لو كان المنذور هو المسمى بالصلاة نمنع كونها ثمرة للمسألة، حيث نقول بأنه حينئذ ثمرة
لمسألة فرعية، لان المسألة الأصولية على ما ذكرناها غير مرة هي التي يقع نتيجتها في طرق الاستنباط وتكون منتجة لحكم كلي فرعي،
كما في مسألة حجية خبر الواحد، والثمرة المفروضة في المقام لا تكون كذلك إذ لا تكون تلك إلا من باب تطبيق كبرى فرعية وهي
مسألة وجوب الوفاء بالنذر على المورد، وعليه فلا يكون جواز الاعطاء إلا ثمرة لمسألة فرعية دون الأصولية، كما هو واضح.
ومنها: صحة التمسك بالاطلاقات والأصول اللفظية عند الشك في دخل بعض الأمور في المأمور به جز أو شرطا على القول بالأعم و
عدم صحته على الصحيح، للشك في تحقق المسمى بدونه وعدم العلم بدخوله في موضوع الاطلاق، فلا بد على القول بالصحيح من
الرجوع إلى الأصول العملية برأة أو اشتغالا.
وفيه أيضا ان ذلك وإن كان ثمرة للمسألة، إلا أنه نقول بكونه مجرد فرض لا واقع له من جهة ابتنائها على أن يكون تلك المطلقات من
مثل أقيموا الصلاة واردة مورد البيان من جهة الأجزاء والشرائط لا في مقام الاهمال وهو أول شئ ينكر، حيث نقول: بأن ورودها انما
كان لمحض التشريع من غير أن تكون بصدد البيان من هذه الجهات، وعليه تكون الثمرة المزبورة بحكم العدم. هذا كله بالنسبة إلى
الطلاقات اللفظية، واما الاطلاقات المقامية ففي فرض تماميتها يصح على كلا القولين الرجوع إليها عند الشك في دخل شئ في المأمور
به، كما هو واضح. هذا كله في العبادات.
الكلام في ألفاظ المعاملات
واما المعاملات كالبيع والصلح والإجارة ونحوها فيبقى الكلام فيها في أنها كالعبادات داخلة في محل النزاع أو خارجة عن موضوع
النزاع، فنقول:
96

انه ان قلنا بأن تلك العناوين أسام للأسباب - كما هو المتراءي من ظاهر من عبر عنها في مقام شرحها بعقودها بقولهم البيع مثلا عقد
كذا - فلا إشكال في دخولها في محل النزاع فكان للنزاع فيها كونها أسامي للصحيح أو الأعم كمال مجال باعتبار كونها حينئذ من
الأمور القابلة للاتصاف بالصحة - بمعنى ترتب الأثر عليها - تارة وبالفساد - بمعنى عدم ترتب الأثر عليها - أخرى. نعم لما كان هذا
النزاع مخصوصا بالمخترعات الشرعية ولا يجري في الأمور العرفية أمكن دعوى خروج الأسباب عن مورد النزاع من هذه الجهة، نظرا
إلى أن العقد والإيقاع والايجاب والقبول أمور عرفية لا تكون من المخترعات الشرعية، فبهذه الجهة لا مجال للنزاع فيها في كونها
موضوعة للصحيح أو الأعم، كما هو واضح. هذا كله بناء على القول بكون عناوين المعاملات أسامي للأسباب.
واما على القول بكونها أسامي للمسببات - كما هو التحقيق وعليه المعظم - بأنها أمور بسيطة ناشئة من قبل أسبابها الخاصة وانها مما
يتوصل إلى وجودها بعقودها وان عقودها بمنزلة الأسباب الموجدة لها لا انها نفسها، فقد يقال: بأنه لا إشكال في خروجها عن محل
النزاع، تارة من جهة انها بنفسها آثار، ومحل الكلام انما هو في المؤثرات التي يترتب عليها الآثار تارة ولا يترتب عليها الآثار أخرى،
لما مر من أن معنى كون الشئ صحيحا عبارة عن كونه بحيث يترتب عليه الأثر المقصود كما أن معنى كونه فاسدا عبارة عن كونه
بحيث لا يترتب عليه الأثر المقصود، فعلى هذا يختص النزاع المزبور بالمؤثرات ولا يشمل الآثار نفسها، وأخرى من جهة انها أمور
بسيطة دائرة امرها بين الوجود والعدم غير متصور فيها التمامية والنقصان، لما تقدم من اختصاص هذا النزاع بما يكون قابلا للامرين
بحيث يتصف بالصحة والتمامية تارة وبالفساد والنقصان أخرى.
ولكنه يدفع ذلك، اما الأول فبأنها وإن كانت بنفسها آثارا ولكنها بالنسبة إلى الأحكام المترتبة عليها من مثل جواز التصرف وحرمة
تصرف الغير بل بالنسبة إلى مثل السلطنة التي هي من الأحكام الوضعية مؤثرات، وحينئذ فمن هذه الجهة لا مجال للاشكال فيها في
دخولها في محل النزاع. واما الاشكال الثاني من كونها أمورا بسيطة دائرة بين الوجود والعدم فله وجه، بناء على رجوع تخالف الشرع
والعرف إلى تخطئة الشارع للعرف في الموارد الخاصة كما في بيع المنابذة والبيع الربوي ما يرونه مصداقا للبيع مع اتحاد البيع
مفهوما ومصداقا عند العرف والشرع، وإلا فبناء على رجوع ذلك إلى تعدد
97

حقيقة البيع عند العرف والشرع لا مجال لهذا الاشكال، فإنه عليه أمكن قابلية البيع مع كونه بسيطا غاية البساطة للاتصاف بالصحة و
الفساد.
ولتوضيح المرام نذكر المحتملات المتصورة في موارد تخالف الشرع والعرف، فنقول:
ان المحتملات المتصورة لعدم إمضاء الشارع لكثير من المعاملات العرفية كبيع المنابذة والملامسة والبيع الربوي وغيرها ثلاثة:
الأول: ان يكون من باب تخطئة الشارع نظر العرف في عدهم غير البيع مصداقا حقيقيا للبيع، ومرجع ذلك إلى اتحاد حقيقة البيع
مفهوما ومصداقا عند العرف والشرع، ولكن العرف لما أخطئوا في نظرهم وتخيلوا بزعمهم غير البيع بيعا حقيقيا خطأهم الشارع بأنه
لا يكون مصداقا للبيع وانه سراب بقيعة يحسبه الظم آن ماء.
الثاني: ان يكون ذلك من باب التخصيص والاخراج الحكمي والتنبيه على أن جميع البيوع العرفية وإن كان بيعا حقيقة حتى في نظر
الشارع إلا أن الأثر الشرعي مرتب على بعض مصاديق البيع لا على جميع مصاديقه، ومرجع ذلك أيضا إلى اتحاد حقيقة البيع مفهوما و
مصداقا عند العرف والشرع ولكن الشارع لم يرتب الآثار إلا على بعض مصاديقه.
الثالث: ان يكون ذلك من باب ان الأثر الشرعي مرتب على ما هو مصداق للبيع عند الشارع لا على الجامع المنطبق على المصداق الشرعي
والعرفي، ومرجع هذا الوجه إلى أن للبيع حقيقة مصداقين: أحدهما منسوب إلى الشارع ومضاف إليه وهو الموضوع للآثار الشرعية، و
الاخر منسوب إلى العرف وهو الموضوع للآثار الخاصة عندهم. والفرق بين الوجهين الآخرين هو انه في الأول يكون جميع المصاديق
من البيوع العرفية بيعا حقيقة في نظر الشارع أيضا ولكنه مع ذلك يخص حكمه ببعض افراده ومصاديقه، بخلافه على الأخير فإنه عليه
يكون للبيع مصداقان: مصداق شرعي ومصداق عرفي، نظير مفهوم الايجاب الذي كان له مصداقان: مصداق شرعي ومصداق عرفي،
فكان الأثر الشرعي مرتبا على ما هو مصداق للبيع عند الشارع. فهذه وجوه ثلاثة متصورة للاختلاف.
وربما يختلف هذه الوجوه بعضها مع بعض بحسب اللوازم، فان لازم الوجه الأول هو عدم قابلية البيع للاتصاف بالصحة تارة وبالفساد
أخرى نظرا إلى دوران امره دائما بين الوجود والعدم، بخلافه على الآخرين فإنه عليهما قابل لان يوجد البيع ويكون مؤثرا شرعا
98

تارة وغير مؤثر أخرى. هذا كله في مقام التصور.
واما مقام التصديق: فأبعد الوجوه هو الوجه الأوسط لمخالفته لما عليه ارتكاز الأصحاب فان السلطنة على الملك من لوازم ملكية الشئ،
فالتصديق بتحقق مصداق البيع والملكية مع نفى السلطنة على الملك ربما يعد من التناقض، فمن هذه الجهة لا مجال للمصير إلى الوجه
الثاني بل لا مجال لتوهمه. وحينئذ فيدور الامر بين الوجه الأول والأخير وفي مثله نقول: بأنه ان بنينا على أن البيع أمر واقعي انتزاعي
عن منشأه غير منوط بالجعل يتعين المصير إلى الوجه الأول من إرجاع موارد عدم إمضاء الشارع للبيوع العرفية في الموارد الخاصة
إلى تخطئة الشارع الانظار العرفية فيما يرونه مصداقا للبيع وللنقل والانتقال، ولازمه هو خروج المسببات من عناوين المعاملات عن
مورد البحث، والنزاع. واما ان بنينا على كون تلك المسببات من الأمور الاعتبارية الجعلية يتعين المصير إلى الوجه الأخير حيث لا
يتصور حينئذ وجه لتخطئة الشارع للعرف، لان البيع المضاف إليهم والمصداق المختص بهم متحقق لا محالة في جميع الموارد حسب
اعتبارهم إياه. نعم البيع الشرعي والمصداق المضاف إليه يكون تحققه تابع اعتبار الشارع وجعله إياه فمع عدم اعتبار الشارع إياه في
مورد لا تحقق للبيع الشرعي وانما المتحقق هو البيع العرفي والمصداق المختص بهم.
فعلى ذلك فإطلاق القول بخروج عناوين المعاملات عن حريم النزاع بتقريب انها أمور بسيطة امرها دائر بين الوجود والعدم مما لا
وجه له، بل اللازم هو التفصيل بين المسلكين والقول بالخروج عن مورد النزاع على أحد المسلكين دون الاخر.
ثم إن المتعين من هذين الوجهين أيضا هو الوجه الأخير فان دعوى كون تلك المسببات من الأمور الواقعية بعيد جدا، بل هي من الأمور
الاعتبارية الجعلية التي قوام تحققها بالجعل، نعم بعد الجعل والاعتبار يصير من قبيل الأمور الواقعية نظير الارتباط المتحقق بين اللفظ
والمعنى الحاصل بالجعل والوضع أو من كثرة الاستعمال، فكما ان أصل تلك العلاقة والارتباط تكون تابعة للجعل في أصل تحققها و
بعد الجعل تصير من الأمور الواقعية كذلك تلك المسببات، وعليه فتدخل في حريم النزاع.
ثم إن الثمرة تظهر في مقام التمسك بالاطلاق من مثل (أحل الله البيع) عند الشك في مدخلية شئ في البيع، فإنه على الأعم لا بأس
بالتمسك بالاطلاق في نفى ما شك في اعتباره. ولا كذلك الامر على الصحيح، فإنه عليه مع الشك في مدخلية شئ في صحته عرفا يشك
في
99

تحقق المسمى بدونه ومعه لا يبقى مجال للتمسك بالاطلاق. نعم بعد إحراز البيع العرفي بما له من الشرائط لو شك في دخل شئ في
صحته شرعا يجوز التمسك بإطلاق مثل (أحل الله البيع) في نفى ما شك في اعتباره شرعا حتى على الصحيح. هذا بناء على المسلك
الأخير من جعلية البيع ونحوه، واما بناء على المسلك الأول ففي التمسك بالاطلاقات اللفظية في نفى ما شك في اعتباره شرعا في صحة
البيع إشكال ينشأ من احتمال خطأ العرف فيما يرونه مصداقا للبيع،، حيث إنه مع هذا الاحتمال يشك لا محالة في أصل تحقق البيع بدون
المشكوك، من جهة معلومية عدم اتباع فهم العرف إلا في مقام كشف المفاهيم لا في مقام تطبيق المفهوم على المصداق الخارجي فارغا
عن معلومية المفهوم. وحينئذ فمع احتمال الخطأ العرف في تطبيق مفهوم البيع على المورد لم يجز التمسك بالاطلاق، لكونه من التمسك
بالعام في الشبهة المصداقية لنفس العام، هذا.
ولكن الذي يسهل الخطب هو وجود الاطلاق المقامي في المقام، حيث إنه بعد ما يرون العرف الفرد الغير الواجد للمشكوك بحسب
ارتكازهم مصداقا حقيقيا للبيع ويرتبون عليه الآثار من النقل والانتقال ومع ذلك لم يردعهم الشارع يكشف ذلك عن أن ما يكون بيعا
عندهم بيع شرعي أيضا، وإلا لكان عليه التنبيه بذلك ببيان: ان غير الواجد لا يكون حقيقة مصداقا للبيع وانه مصداق زعمي تخيلي. و
حينئذ فبهذا الاطلاق الموصوف بالمقامي يستكشف ان جميع ما يراه العرف بيعا بيع حقيقة لدى الشارع إلا ما خرج قطعا بالردع كبيع
المنابذة والبيع الربوي ونحو هما، فيكون الاطلاق المقامي حينئذ مثمرا لثمرة الاطلاق اللفظي. ومن ذلك أيضا نتمسك به لنفي اعتبار
مثل قصد القربة مع عدم جريان الاطلاق اللفظي هناك أيضا، فتدبر. وبذلك أيضا يجمع بين كلامي الشيخ الأجل (ره) في الرسائل من
منعه عن التمسك بالاطلاق في مورد قائلا بأنه ليس ذلك تقييدا في دليل العبادة حتى يدفع بالاطلاق، وتجويزه التمسك به في مورد
آخر في ضمن تقريب دليل الانسداد، حيث نقول بأن نظره في المنع عن التمسك بالاطلاق إلى الاطلاق اللفظي وفي التجويز إلى الاطلاق
المقامي.
تنبيه
قد يكون الشئ مطلوبا في العبادة ومندوبا إليه فيها من جهة جزئيته ودخله
100

الشطري في الماهية المخترعة كالقراءة والركوع والسجود في الصلاة، وقد يكون من جهة دخله الشرطي على نحو يكون تقيده داخلا
في الماهية المطلوبة دون نفسه وهذا كالطهور والستر والقبلة، وقد يكون من جهة كونه من قبيل الواجب في الواجب فيكون مطلوبيته
في تلك العبادة من جهة انحصار ظرفه فيها وتوقف وجوبه على وجوبها ووجودها لا من باب دخالته في المطلوب بنحو الشطرية أو
الشرطية - وهذا القسم لم أجد له مثالا في الصلاة لكنه متصور في الحج - وقد يكون من جهة كونه مستحبا في الواجب بنحو يوجب
وجوده صيرورة الفرد من أفضل الافراد نظير القنوت وسائر الاذكار المندوبة في الصلاة، حيث إنها لا تكون مما لها الدخل في أصل
الواجب بنحو الشطرية أو الشرطية ولا يكون الاخلال بها ولو مع العمد أيضا منافيا للامتثال، لكنها عند وجودها توجب مزية للفرد
الواجد لها على الفاقد وتكون جز للفرد لا للطبيعة، لأنها من قبيل اللا بشرط بالنسبة إليها فتحقق معها وبدونها، غاية الأمر أن الفرد
المشتمل عليها يصير من أكمل الافراد وأفضلها. وهذا واضح، خصوصا على ما بيناه من أن الصلاة معنى تشكيكي مختلف المراتب ولها
حدود تبادلية كالنور والخط.
ثم لا يخفى ان تصوير الواجب في واجب ربما يستلزم ورود نقض على منكري معقولية الترتب المدعين لاستحالته، بتقريب ان تعدد
الامر يقتضى تعدد القدرة على الامتثال ومع عدم القدرة على الجمع بين الضدين يستحيل توجه التكليف بهما دفعة بالايجاد في زمان
واحد، توضيح الورود انه لو تم هذا المحذور لجرى نظيره في المقام أيضا فيلزمه الالتزام بعدم معقولية الواجب في واجب، من جهة ان
مقتضى القدرة على الشئ هو القدرة على تركه ونقيضه وإلا فمع فرض عدم القدرة على الترك والنقيض لا يكاد تحقق القدرة على
الفعل أيضا، وعيلة نقول: بأنه لو اعتبرت القدرة الفعلية على الامتثال في صحة توجه التكليف بالضدين يلزمه اعتبارها في المقام أيضا،
وحيث انه لا يكون للمكلف في المقام القدرة على عصيان كلا الامرين في زمان واحد يترتب عليه عدم تصور الواجب في الواجب، لان
ظرف أحد الواجبين حيثما كان هو ظرف إطاعة الواجب الآخر فلا جرم لم يتصور القدرة الفعلية على عصيان كلا الامرين فيتوجه حينئذ
النقض المزبور، ومن ذلك كنا نورد هذا الاشكال على من ادعى استحالة الامر بالضدين ولو بنحو الترتب.
101

واما حل الاشكال: فهو ان القدرة الفعلية على الامتثال والعصيان انما تعتبر فيما لو كان الامر ان عرضيين، واما لو كان الامر ان
طوليين فلا يعتبر فيهما إلا القدرة الطولية، وحينئذ نقول: بأن القدرة الطولية على عصيان الامرين كما كانت متحققة في المقام و
مصححة للامر بإيجاد شئ في واجب آخر كذلك متحققة في الامر بالضدين بنحو الترتب فتدبر.
الأمر العاشر
لا ينبغي الاشكال في إمكان الاشتراك بالنسبة إلى معنيين وأزيد بل وقوعه أيضا في لغة العرب بل وفي غيرها من اللغات كما في لفظ
(شير) بالفارسية الذي هو اسم للأسد الذي هو الحيوان المفترس واسم أيضا للبن كقول الشاعر:
(آن يكى شير است أندر باديه وان يكى شير است أندر باديه)
وحينئذ فدعوى امتناعه كما عن بعض - مدعيا لاستلزامه الاخلال بالتفهيم والتفهم المقصود من الوضع بلا نصب القرينة على المراد و
استلزامه التطويل بلا طائل معها - في غير محلها، لما عرفت من الوقوع الذي هو أدل دليل على إمكانه. وحينئذ فما ذكر من المحذور
على تقدير تماميته يكون من الشبهة في قبال البداهة، خصوصا مع عدم تماميته أيضا، حيث نقول: بأنه كثيرا ما يتعلق الغرض بالاجمال
المعلوم عدم حصوله غالبا إلا بذلك، فلا يكون حينئذ إخلال بالغرض. واما حديث لزوم التطويل بلا طائل مع نصب القرنية فهو أيضا
ممنوع إذا كان الاتكال على القرينة الحالية، مع لزوم الاحتياج على المجاز إلى قرينتين: إحداهما صارفة والاخرى معينة للمراد، بخلافه
على الاشتراك فإنه لا يحتاج إلا إلى قرينة واحدة معينة للمراد.
نعم هنا وجه آخر للقول بالامتناع، وهو ان قضية الوضع حيثما كان عبارة عن نحو اختصاص خاص بين اللفظ والمعنى وكونه على نحو
المرآتية والفناء لا مطلق الاختصاص ولو على نحو الامارية، فلا جرم يلزمه امتناع اختصاص لفظ واحد بذلك الاختصاص الخاص
بالمعنيين المتباينين أو أزيد بنحو كان اللفظ مرآة وفانيا فيهما.
ولكن يدفع هذا الوجه أيضا بأنه انما يتوجه هذا المحذور فيما لو كان قضية الوضع
102

جعل المرآتية الفعلية للفظ على الاطلاق بنحو يلزمه ظهور اللفظ في المعنى ظهورا فعليا بقول مطلق ولو مع وجود المانع أو المزاحم، إذا
حينئذ يتوجه المحذور المزبور من امتناع ان يكون للفظ واحد ظهور فعلى في المعنيين المتباينين، ولكن هذا المعنى ممنوع جدا بل
المقدار الذي يقتضيه قضية الوضع من العلقة والاختصاص بينه وبين المعنى انما هو صيرورة اللفظ ظاهرا في المعنى ظهورا فعليا لولا ما
يمنعه ويزاحمه، وبعبارة أخرى ان ما يقتضيه الوضع من العلاقة والاختصاص لا يكون إلا عبارة عن كون اللفظ بنحو فيه اقتضاء
المرآتية والظهور في المعنى الموضوع له بحيث لو أطلق ينسبق منه المعنى الفلاني لولا ما يزاحمه ويمنعه، لا ان مقتضاه هو الظهور
الفعلي والمرآتية الفعلية حتى مع وجود المانع أو المزاحم. وحينئذ نقول: بأنه على ذلك لا يكاد يتوجه المحذور المزبور فإنه من الممكن
حينئذ ان يكون اللفظ واحد اقتضاء المرآتية والظهور بالنسبة إلى أزيد من معنى واحد، غايته انه من جهة تصادم المقتضيين في مرحلة
الفعلية لا يكون له ظهور فعلى في واحد من المعنيين إلا إذا كان هناك ما يمنع عن فعلية أحدهما فيؤثر الاخر حينئذ في الفعلية ويصير
عند إطلاقه ظاهرا فعليا في المعنى الاخر، كما هو واضح.
ثم إن في قبال هذا القول قولا آخر بوجوب الاشتراك بملاحظة تناهي الألفاظ وعدم تناهي المعاني، ولكنه أيضا في محله لتناهي
المعاني الكلية ولو كان جزئياتها غير متناهية، على أن للمنع عن تناهي الألفاظ أيضا كمال مجال، لما يرى بالوجدان من بلوغها إلى غير
النهاية بتركيب الحروف بعضها مع بعض، ومع تسليم ذلك نمنع الاحتياج إلى المعاني بأزيد من الألفاظ المستعملة في ألسنة بتركيب
بعض الحروف مع بعضها، وعلى تقدير الاحتياج أحيانا بأزيد من ذلك مما لم يوضع له لفظ يمكن تفهيمه بمعونة القرائن، فيبطل حينئذ
ما ادعى من وجوب الاشتراك، كما لا يخفى.
الامر الحادي عشر
قد وقع الخلاف بين الاعلام في جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد على نحو الاستقلال بنحو كان كل واحد من المعنيين أو
المعاني كما إذا لم يستعمل اللفظ إلا فيه على أقوال:
ثالثها عدم الجواز بنحو الحقيقة والجواز على نحو المجاز، و - رابعها - التفصيل بين المفرد وبين
103

التثنية والجمع بعدم الجواز في الأول والجواز في الثاني. وقبل الخوض في المرام لا بأس من تمهيد مقدمة لبيان الأنحاء المتصورة من
الاستقلال في المقام لكي يعلم ما هو المراد من الاستقلال المأخوذ في عنوان البحث حتى لا يختلط عليك الامر فيما هو الحق الحقيق من
هذه الأقوال.
فنقول وعليه التكلان: ان المحتملات المتصورة من الاستقلال المبحوث عنه في المقام أمور:
الأول: إرادة استقلال ذات المعنى الملحوظ في الذهن في قبال عدم الاستقلال الذي هو بمعنى انضمامه مع الغير فيه سوأ كان مستقلا
بحسب اللحاظ أيضا كما لو تعلق بكل واحد من المعنيين لحاظ مستقل أو لم يكن مستقلا بحسب اللحاظ بان تعلق لحاظ واحد بالمجموع،
وذلك من جهة انه لا تلازم بين تعدد المعنى الملحوظ وبين تعدد اللحاظ، فيمكن ان يكون المعنى الملحوظ مع كونه متعددا متعلقا للحاظ
واحد، كما في لحاظك نقاطا متعددة بلحاظ واحد متعلق بالمجموع، كإمكان كون كل واحد منها متعلقا للحاظ واحد مستقل، كما أنه
يمكن في طرف العكس ان يكون الملحوظ مع كونه غير مستقل بذاته مورد تعلق لحاظات متعددة مستقلة كما في تصورك النقاط
المتعددة خطا طويلا بإلغاء حدوداتها الخاصة وجعلك كل جز منه مورد لحاظ مستقل، بحيث تحكم عليه بأن هذا الطرف من الخط
أحسن من الطرف الآخر. وتوهم ان لحاظ الشئ ليس إلا عبارة عن تصوره وإيجاده في الذهن فمع فرض وحدة المتصور وجودا في
الذهن لا معنى لصيرورته متعلقا للحاظات متعددة مستقلة، كما أنه في فرض تعدد المتصور لا معنى لصيرورته متعلقا للحاظ واحد،
مدفوع بأن تصور الشئ كما ذكرت انما هو عبارة عن إيجاد الشئ في الذهن، واما اللحاظ فهو عبارة عن توجه النفس إلى شئ
ملحوظ بعد تصوره وإيجاده في الذهن، ولذلك ترى في تصورك الخط الواحد بأنك إذا لاحظت أوله وآخره تحكم عليه بأن أوله أحسن
من آخره.
الثاني: إرادة استقلال المعنى في عالم اللحاظ بمعنى ان يكون المعنيان كل واحد منهما مورد لحاظ مستقل في قبال ما لو كان المجموع
مورد تعلق لحاظ واحد.
الثالث: إرادة استقلال المعنى بحسب إرادة التفهيم في قبال عدم استقلاله بحسبها، كان المعنى بحسب ذاته أو بوصف كونه ملحوظا
متعددا أم لا، حيث لا تلازم أيضا بين استقلال المعنى بحسب إرادة التفهيم وبين الاستقلال بالمعنيين فيمكن ان يكون
104

المعنى مع كونه مستقلا في ذاته أو بوصف كونه ملحوظا غير متعلق لإرادة التفهيم رأسا فضلا عن تبعيتها في الاستقلال والضمنية
لاستقلاله بحسب اللحاظ أو بحسب ذاته.
ورابعها: إرادة الاستقلال حسب مرحلة إرادة الوجود والحكم أو الاعراض الخارجية كما في العام الافرادي في قبال عدم استقلاله
بحسبه كما في العام المجموعي. فهذه محتملات أربعة متصورة فيما هو المراد من الاستقلال المبحوث عنه.
واما مقام التصديق: فينبغي القطع بعد إرادة الاستقلال بالمعنيين الأخيرين بل وخروجهما عن حريم النزاع، بداهة ان إرادة التفهيم
باللفظ وكذا إرادة الحكم، انما هي من دواعي الاستعمال، ومن هنا قد يتحقق الاستعمال ومع ذلك لا يكون في البين إرادة ولا إرادة
وجود أصلا، بل وخصوصا الأخير، حيث إنه قد يكون إرادة الوجود متحققة بلا ذكر لفظ أصلا، وعليه فلا ينبغي توهم إرادة القائل
بالامتناع مثل هذه الصورة خصوصا بعد اجتماع هذين المعنيين مع وحدة اللحاظ المتعلق بهما تفصيلا أم إجمالا عند تعلق إرادة الوجود
بكل واحد منهما. واما ما يتراءى من بعض التعابير من كون المعنيين كل واحد منهما بحيث يقع موردا للنفي والاثبات أو الحكم بهما،
فالمراد منه هو الاستقلال في مرحلة النسبة الحكمية الكلامية الملازم مع الاستقلال بحسب اللحاظ باعتبار تفرعها على لحاظ المنتسبين،
نظرا إلى أن استقلال المعنى بالإضافة إلى مثل هذه النسبة الكلامية فرع لحاظ كل من المنتسبين مستقلا في مقام إرجاع المحمول إليه،
خصوصا مع اختلاف المنتسبين من جهة الايجاب والسلب، فان إيقاع الايجاب والسلب حينئذ لكل واحد منهما لا محالة يحتاج إلى لحاظ
كل منهما بلحاظ مستقل بنحو يكون كل واحد منهما تمام الملحوظ في لحاظه، لا ان المراد هو استقلال المعنيين بحسب إرادة الوجود كما
هو واضح.
كيف وان لازمه هو خروج فرض استعمال اللفظ في المعنيين بنحو يكون كل واحد منهما متعلقا للحاظ مستقل - إذا اعتبر تعلق حكم
واحد بالمجموع كما في العام المجموعي - عن حريم النزاع، مع أنه كما ترى، إذ لا ينبغي الاشكال في دخول مثل هذا الفرض في مورد
النزاع بينهم.
وحينئذ يدور الامر في المراد من الاستقلال بين الاحتمالين الأولين، وهو استقلال ذات المعنى الملحوظ أو استقلاله بوصف الملحوظية
الملازم مع الاستقلال بحسب اللحاظ.
وحينئذ نقول: بأنه لو كان المراد من الاستقلال عبارة عن استقلال المعنى الملحوظ
105

بذاته لا بوصف كونه ملحوظا كان الحق مع القائل بالجواز عقلا لضرورة عدم محذور عقلي فيه بعد إمكان تعلق لحاظ واحد بأمور
متعددة مباين كل واحد مع الاخر واستعمال اللفظ فيها، كما في لحاظك النقاط المتعددة بلحاظ واحد متعلق بالمجموع، وحينئذ فلو
كان فيه كلام فلا بد وأن يكون في جوازه لغة كما سيجئ لا في جوازه عقلا. واما لو كان المراد من الاستقلال هو استقلال المعنى
بحسب اللحاظ وبوصف الملحوظية بنحو يقتضي تعدد النسبة في النسبة الكلامية لكان الحق مع من يدعى الامتناع عقلا، بداهة استحالة
إرادة المعنيين المتباينين من اللفظ الواحد بنحو يكون كل واحد منهما متعلقا للحاظ مستقل في آن واحد فلا بد حينئذ من تنقيح هذه
الجهة وان المراد من الاستقلال المبحوث عنه أي واحد من المعنيين.
وحينئذ نقول: بان الظاهر على ما يظهر من كلماتهم إرادة الاستقلال بالمعنى الثاني وهو الاستقلال بوصف الملحوظية بنحو كان
المعنيان كل واحد منهما تمام الملحوظ في مقام اللحاظ، لا ملحوظا تمامه باللحاظ ولو ضمنا، حيث إن ذلك ظاهر جماعة منهم كصاحب
الكفاية (قدس سره) وصاحب البدائع وصاحب الفصول وغير هم، قال في الكفاية في بيان المراد من الاستقلال المبحوث عنه: (هو ان
يراد كل واحد كما إذا لم يستعمل اللفظ إلا فيه) حيث إنه ظاهر بل صريح فيما ذكرناه من الاستقلال، نظرا إلى أن حقيقة الاستعمال بعد
إن كان عبارة عن ذكر اللفظ ولحاظ المعنى، فيكون قوله (قدس سره):
(كما إذا لم يستعمل اللفظ إلا فيه) معناه كون كل واحد منهما تمام الملحوظ في مقام اللحاظ كما لو لم يكن إلا ذاك، لا كون كل واحد
منهما ملحوظا تمامه ولو بلحاظ ضمني. ومثله عبارة البدائع حيث قال: (اعلم أن لإرادة المعنيين صورا أحدها ان يطلق المشترك ويراد
به المعنيان بنحو الاستقلال) ثم فسره بقوله: (على أن يكون كل منهما مناطا للحكم ومتعلقا للنفي والاثبات كما تقول: أقرأت الهندان
تريد حاضت هذه وطهرت تلك، على سبيل التوزيع حتى كأنك ذكرت اللفظ مرتين) ومن المعلوم صراحة هذا الكلام أيضا منه فيما
ذكرناه في المراد من الاستقلال المبحوث عنه باعتبار اقتضاء قوله: على أن يكون كل منها (إلخ) لتعدد النسبة واختلافها الملازم ذلك
مع تعدد اللحاظ أيضا. ونحوه ما عن الفصول قال فيما حكى عنه في تحرير محل النزاع: (الرابع ان يستعمل اللفظ في كل واحد من
المعنيين على أن يكون كل واحد منهما مرادا من اللفظ بانفراده كما إذا كرر اللفظ و
106

أريد ذلك) قال: وهذا محل النزاع. وظاهره إرادته من قوله: (على أن يكون كل واحد منهما مرادا من اللفظ بانفراده) الإرادة
الاستعمالية التي هي مقومة لحقيقة الاستعمال، لا إرادة التفهيم أو الوجود كما يشهد لذلك قوله بعد ذلك: (ولا فرق بين ان يكون كل
واحد منهما متعلقا للحكم ومناطا للنفي والاثبات أو يكون المجموع كذلك)، وعليه فينادي كلامه بأن ما هو محل النزاع انما هو صورة
استقلال المعنيين في مرحلة اللحاظ لا استقلالهما بحسب ذاتهما ولولا بوصف الملحوظية.
وربما يشهد لما ذكرنا أيضا الموارد الخاصة التي استشكلوا فيها من جهة محذور استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد:
منها: في مثل قوله عليه السلام: كل شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر وكل شئ حلال حتى تعلم أنه حرام، حيث إنهم استشكلوا على من يقول
بإمكان استفادة قاعدتي الاستصحاب والطهارة في الأول واستفادة قاعدتي الاستصحاب والحلية في الثاني، حيث قالوا بعدم إمكان
استفادة القاعدتين معا من الرواية واستحالتها، نظرا إلى احتياج القاعدة إلى أن يكون النظر فيها إلى أصل ثبوت المحمول وهو الحلية
والطهارة، واحتياج الاستصحاب إلى أن يكون النظر فيما إلى حيث استمرار المحمول فارغا عن أصل ثبوته فيلزم حينئذ من إرادة
القاعدتين اجتماع النظرين فيه في آن واحد وهو محال.
ومنها: في مبحث البراءة في قول له سبحانه: (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) حيث استشكلوا فيها أيضا بعدم إمكان إرادة الفعل و
التكليف معا من الموصول، بتقريب انه بناء على تقدير إرادة الحكم منه يكون نسبته إلى التكليف من قبيل نسبة الفعل إلى المفعول
المطلق، وعلى تقدير إرادة الفعل من الموصول يكون نسبته إليه من قبيل نسبة الفعل إلى المفعول به، فعلى فرض إرادة الحكم والفعل
منه يلزم اجتماع النظرين فيه باعتبار اقتضاء تعدد النسبة التعدد في ناحية النظر واللحاظ أيضا.
ومنها: في قوله: (لا تنقض اليقين بالشك) من حيث إمكان استفادة الاستصحاب وقاعدة اليقين منه فراجع.
ومنها: غير ذلك من الموارد الأخر، حيث إنه يعلم من ذلك كله بأن ما هو مورد البحث في الجواز والامتناع انما هو صورة استعمال اللفظ
في المعنيين بنحو يكون كل واحد منهما مستقلا في مرحلة النسبة الكلامية الملازم مع استقلالهما في الملحوظية أيضا، لا صورة
107

مطلق استعمال اللفظ في المتعدد ولو بنحو كان المجموع متعلقا للحاظ واحد.
وعليه نقول: بأنه لو بنينا في وضع الألفاظ على المرآتية - كما هو التحقيق أيضا - فلا ينبغي الاشكال في أن الحق مع من يدعى الامتناع
العقلي من جهة ما فيه من استلزامه لاجتماع اللحاظين في آن واحد في لفظ واحد للاحظ واحد وهو من المستحيل. واما لو بنينا فيها على
الامارية التي لازمها سببية اللفظ لانتقال الذهن بدوا إلى المعنى الموضوع له كما شرحناه سابقا - نظير الدخان الذي هو سبب لانتقال
الذهن إلى وجود النار بدوا وبلا توسيط شئ - فقد يقال فيه بالجواز واختاره الأستاذ دام ظله في درسه الشريف أيضا، بتقريب ان
مناط الاستحالة انما هو حيث اجتماع اللحاظين والنظرين في منظور واحد، وهو غير متحقق بناء على الامارية، لأنه عليها لا يكون اللفظ
واسطة للانتقال وموردا لتعلق اللحاظ بدوا كما على المرآتية بحيث يكون الانتقال إلى المعنى بتوسيط اللفظ ومن باب السراية منه إليه
حتى يلزمه اجتماع اللحاظين والنظرين في شئ واحد، بل وانما اللفظ على هذا المبنى يكون سببا لانتقال الذهن بدوا وبلا واسطة إلى
المعنى، نظير سببية الدخان للانتقال إلى وجود النار وسببية شئ كذائي للانتقال إلى ملزومه ولوازمه. وحينئذ فإذا كان المعنى
متعددا ذاتا وكان اللفظ سببا للانتقال إلى المعنى لا انه كان واسطة للانتقال وللسراية منه إلى المعنى، فلا بأس بان يتعلق بكل واحد
من المعنيين لحاظ مستقل لأنه ليس من باب اجتماع اللحاظين في شئ واحد حتى يقال بامتناعه واستحالته، ومجرد كون اللحاظين
مجتمعين في آن واحد حينئذ غير ضائر بعد فرض تعدد المتعلق فإنه ليس بأعظم من اجتماع الضدين كالحب والبغض وغير هما من
صفات النفس مع أن اجتماعهما في الان الواحد عند فرض تعدد المتعلق مما لا يكاد ينكر كما في محبة الانسان لولده وبغضه لعدوه. و
حينئذ فإذا أمكن اجتماع الضدين في الان الواحد عند فرض تعدد المتعلق فليكن كذلك في المثلين في مفروض المقام. وعليه فلا ينبغي
مجال الاشكال في إمكان استعمال اللفظ الواحد في المعنيين على الامارية بإرادة كلا المعنيين منه المعنى الحقيقي والمجازي كما هو
واضح.
أقول: ولكن الذي يقوى في النظر هو عدم الفرق في الاستحالة بين المسلكين وانه لا يجدى في رفع الاستحالة مجرد تعدد المتعلق كما
يجدى في مثل الحب والبغض والإرادة ولكراهة، إذ نقول بأن النفس بعد ما توجهت إلى شئ ولاحظته بتمام التوجه واللحاظ
108

يستحيل توجهها في ذاك الان إلى شئ آخر يغايره ويباينه على نحو توجهها بما توجهت إليه أولا. وهذا المعنى من الوجدانيات التي لا
تحتاج إلى إقامة البرهان عليه، ولذا ترى من نفسك عند توجهك إلى أمر من الأمور العلمية أو غيرها الغفلة في ذلك الان عن بقية الأمور
ومن المعلوم انه ليس ذلك إلا من جهة ما أشرنا إليه من الاستحالة. ومقايسته المقام بسائر صفات النفس من الحب والبغض ونحو هما
ممنوعة، بأن مثل الحب والبغض ونحو هما أمور قهرية عارضة على النفس بلحاظ مناشئها الخاصة، فمن ذلك أمكن اجتماعها عند فرض
تعدد المتعلق وأين ذلك واللحاظ الذي هو من الأمور الاختيارية للنفس فعلى ذلك لا فرق في الاستحالة بين القول بمرآتية اللفظ للمعنى
أو أماريته فان مناط الاستحالة انما هو حيث اجتماع اللحاظين في آن واحد للحاظ واحد، كان في العالم لفظ أم لا قلنا بمرآتية اللفظ أو
أماريته كما هو واضح.
اللهم إلا أن يدعى بأن ذلك انما يتم فيما لو كان المعنيان كل واحد منهما متعلقا لتمام اللحاظ على معنى ان تمام اللحاظ كما تعلق بهذا
المعنى كذلك تعلق بذلك المعنى الاخر، إذ حينئذ يتوجه المحذور المزبور ولو أمارية اللفظ باعتبار ان لازم تعلق تمام اللحاظ بشي هو
الغفلة عما عداه. ولكنه ليس كذلك، بل المدار في الاستقلال بحسب اللحاظ انما هو استقلال كل من المعنيين في عالم تعلق اللحاظ على
نحو كان كل منهما تمام الملحوظ لا تمام الملحوظ بتمام اللحاظ، والفرق بينهما واضح.
فعلى ذلك فلا بد من التفصيل بين القول بالمرآتية وبين القول بالأمارية في الجواز والامتناع، بالمصير إلى الجواز عقلا في الثاني و
الامتناع عقلا في الأول، ولكن حيث إن التحقيق في المسلكين هو مسلك المرآتية دون الامارية - كما تقدم بيانه في محله - فلا جرم
يتعين القول بالامتناع عقلا من دون فرق في الاستحالة بين الحقيقة والمجاز ولا بين المفرد وبين التثنية والجمع فان مناط الاستحالة
متحقق على جميع الصور والتقادير. واما الانتقاض ببابي العام الاستغراقي والوضع من حيث كون كل فرد من افراد العام محكوما
بحكم شخصي مستقل وهكذا في الوضع في عام الوضع وخاص الموضوع له، فمدفوع بما مر سابقا من خروج نحو ذلك عما هو مورد
الكلام، فان مورد الكلام كما عرفت انما هو صورة استعمال اللفظ في المتعدد بما هو متعدد بحسب اللحاظ بنحو يكون المعنيان كل
واحد منهما تمام الملحوظ باللحاظ لا بحسب إرادة الوجود خارجا، على أن الحكم في
109

مثل قوله أكرم العالم لا يكون إلا حكما واحدا متعلقا بأمر واحد وهو العنوان العام، غايته هو انحلاله بحسب التحليل إلى أحكام متعددة
حسب تعدد افراد العام وأين ذاك تعدده في مرحلة الانشاء الكلامي كما هو واضح كيف ولازمه انتهاء الأمر إلى إنشاءات أحكام غير
متناهية عند عدم تناهي افراد العام وهو كما ترى.
وكيف كان فهذا كله بناء على كون المراد من الاستقلال المبحوث عنه هو الاستقلال في مرحلة النسبة الكلامية الملازم مع الاستقلال
بحسب اللحاظ، وعليه قد عرفت بأن التحقيق فيه هو الامتناع عقلا مطلقا - بناء على ما هو التحقيق في وضع الألفاظ من المرآتية لا
الامارية - من دون فرق بين الحقيقة والمجاز ولا بين الفرد والتثنية والجمع.
واما بناء على إرادة استقلال ذات المعنى الملحوظ من الاستقلال المبحوث عنه فعليه قد عرفت جوازه عقلا مطلقا ولو على المرآتية في
الألفاظ نظرا إلى وضوح إمكان تعلق لحاظ واحد بأمور متعددة بما هي متعددة. وحينئذ فالاستعمال بهذا النحو مما لا مجال لدعوى
امتناعه عقلا بل ولا يظن من القائل بالامتناع إرادة هذه الصورة فان تمام همهم في المنع عقلا انما هو صورة الاستقلال المعنيين بوصف
الملحوظية.
نعم بعد ما أمكن هذا القسم من الاستعمال في نفسه ولم يقم برهان عقلي على امتناعه يبقى الكلام في جوازه لغة وانه هل يجوز ذلك
مطلقا أو لا يجوز كذلك أو يفصل بين المفرد وغيره؟ فنقول انهم ذكروا في المنع عن صحة الاستعمال على الوجه المزبور وجوها:
منها: ما أفاده بعض المحققين في بدائعه حيث قال ما حاصله: ان الاستعمال على الوجه المزبور أمر ممكن لم يقم على المنع عنه دليل عقلي،
ولكنه يمنع عن صحة استعماله عدم معهودية الاستعمال بهذا النحو في كلام العرب نظما ونثرا كما يظهر عند التتبع واستقرأ كلماتهم
ممن يعتد بشأنه من الخطباء وغيرهم، فإذا فرض عدم مساعدة أهل اللسان على مثل هذا النحو من الاستعمال وخروجه عما هو المأنوس
والمتعارف عندهم فلا جرم يكون الاستعمال غلطا غير صحيح من جهة عدم كونه من اللغة المتحاور فيها علاوة عما نرى بالوجدان من
إبائه عن التعبير عن المعاني المختلفة بلفظ واحد ولو في الموارد المطلوب فيها الايجاز والاختصار.
أقول: ولا يخفى عليك انه لو تم هذا الدليل لكان مقتضاه عدم الفرق في المنع بين المفرد وغيره ولا بين ان يكون الاستعمال بنحو
الحقيقة أو المجاز.
110

ومنها: ما أفاده صاحب المعالم (قدس سره) حيث منع عن الاستعمال المزبور في المفرد بنحو الحقيقة لاعتباره قيد الوحدة في الموضوع
له، والتزم بالجواز غيره حيث قال بعد اختيار الجواز: لنا على الجواز انتفاء المانع بما سنبينه من بطلان ما تمسك به المانعون، وعلى
كونه مجازا في المفرد تبادر المعنى منه مفردا عند إطلاق اللفظ فيفتقر إرادة الجميع إلى إلغاء قيد الوحدة فيصير اللفظ مستعملا في
خلاف موضوعه لكن وجود العلاقة المصححة للتجوز أعنى علاقة الكل والجز يجوزه فيكون مجازا. واستدل أيضا على كونه بنحو
الحقيقة في التثنية والجمع بأنهما في قوة تكرار المفرد بالعطف (انتهى كلامه قدس سره) أقول: الظاهر أن مراده (قدس سره) من
الوحدة التي اعتبرها في المعنى والموضوع له هي وحدة المعنى وانفراده عن الشريك في مرحلة الوضع لا الوحدة الذاتية التي يعتبرها
العقل من المعنى - كي يرد عليه: بأنه لا شبهة في بقاء المعنى على حاله حتى في حال استعمال اللفظ في المتعدد من دون انقلابه عما هو
عليه من الوحدة الذاتية بانضمام الغير معه فكان المعنى على وحدته ولو انضم إليه الف معنى في مقام الاستعمال حيث كان المستعمل في
حينئذ عبارة عن الف واحد - ولا وحدة المعنى وجودا على معنى كون المعنى منفردا دائما بحسب الوجود، كي يرد عليه: بأنه لا معنى
لدعوى وضع اللفظ للمعنى بشرط انفراده في عالم الوجود وعدم وجود معنى آخر، كيف وان مثل ذلك مما لا ينبغي ان يحتمل صدوره
عن عاقل فضلا عن مثله (قدس سره الشريف) وحينئذ فيتعين ان يحمل الوحدة المذكورة في كلامه ما ذكرناه من وحدة المعنى و
انفراده عن الشريك حال الوضع.
نعم على ذلك أيضا يتوجه عليه إشكال المحقق القمي (قدس سره) بعدم إمكان أخذ مثل هذه الوحدة الناشئة من قبل قصر الوضع قيدا في
ناحية المعنى والموضوع له لأنها باعتبار نشوها من قبل قصر الوضع تكون في رتبة متأخرة عن ذات المعنى والموضوع له، ومع
فرض تأخرها عنه رتبة يستحيل أخذها قيدا له وحينئذ فلا بد من تجريد المعنى عن مثل هذه الوحدة أيضا ومع التجريد لا يبقى إلا ذات
المعنى عارية عن حيث التقيد بالوحدة، وعليه فلا يكون استعمال اللفظ المفرد في المتعدد من الاستعمال المجازي، بل امره دائر بين
كونه غلطا من رأسه وبين كونه استعمالا حقيقيا. بل قد يقال بالمنع عن صحة الاستعمال المزبور مجازا أيضا ولو مع تسليم تقيد المعنى
بقيد الوحدة والانفراد، بتقريب ان المستعمل فيه اللفظ لما كان هو المعنى الملحوظ معه آخر فلا جرم يكون
111

الاستعمال المزبور من الاستعمال في المعنى المباين نظرا إلى مبانيه المعنى المقيد بالانفراد عن الشريك مع المعنى الملحوظ معه
الشريك وحينئذ فبعد ما لم يكن علاقة في البين تجوز الاستعمال المزبور فلا جرم يصير الاستعمال غلطا محضا.
ومنها: ما أفاده المحقق القمي (قدس سره) في وجه المنع عن صحة الاستعمال المزبور حيث قال ما حاصله: بأن الوضع انما كان في حال
وحدة المعنى وانفراده ولو لم يكن بشرط الوحدة وحينئذ يكون التعدي عن تلك الحالة إلى حالة أخرى يعنى حالة انضمام الغير مع
المعنى تعديا عما هو وظائف الوضع وخارجا عن قانونه، وكل استعمال لا يلاحظ فيه وظائف الوضع كان خارجا عن قانون اللغة و
كان من الأغلاط لعدم كونه من الحقيقة ولا المجاز. ولقد أورد عليه بأن حال الوحدة بعد ما لم تكن قيدا للوضع ولا للموضوع له لا مانع
عن جواز الاستعمال المزبور، ومن ذلك ترى انه لا مانع عنه في الاعلام مع أن الوضع فيها كان في حال بعض الأوصاف حيث يصح
استعمالها في مسمياتها عند زوال تلك الأوصاف بل وعند طرو ما يضادها أيضا. أقول: ولا يخفى عليك انه لا مجال لا يراد هذا الاشكال
عليه (قدس سره) إذ نقول: بأن الغرض من الوضع بمقتضى صرافة الطبع بعد إن كان هو مرآتية اللفظ للمعنى في حال انفراده عن
الشريك لا مطلقا حتى في حال عدم انفراده وانضمام معنى آخر إليه، فلا جرم بمقتضى تضيق دائرة الغرض وعدم سعته يطرأ نحو
ضيق أيضا على موضوع وضعه فيكون وضعه بهذا الاعتبار مقصورا في حال وحدة المعنى وانفراده عن الشريك ويكون الموضوع له
أيضا عبارة عن نفس ذات المعنى لكن لا الذات المطلقة ولو كان معها الشريك ولا المقيدة بقيد الانفراد، لما تقدم في جواب صاحب
المعالم من امتناع أخذ مثل القيد الناشئ من جهة قصر الوضع في ناحية المعنى والموضوع له. ومن المعلوم حينئذ انه بعد عدم إمكان أخذ
الوحدة والانفراد في ناحية الموضوع له وعدم إطلاقه أيضا حسب قصور دائرة الوضع فلا جرم لا يبقى في البين إلا ذات المعنى في حال
الوحدة بنحو القضية الحينية لا الوصفية المعبر عنه في كلامه (قدس سره) بأن الموضوع له هو المعنى في حال الوحدة لا بشرط الوحدة -
كي تكون قيدا للمعنى - ولا لا بشرط الوحدة. وحينئذ فعلى ذلك لا يبقى مورد للاشكال المزبور، إذ نقول: بأن عدم صحة الاستعمال
المزبور حينئذ انما هو من جهة عدم إطلاق المعنى الموضوع له وتضيقه الناشئ من قبل قصور الوضع إذ حينئذ يصير الاستعمال المزبور
خارجا عن
112

قانون الوضع واللغة ويكون من الأغلاط.
نعم لو أن أحدا منع عن ذلك لا بد له من المنع عن المقدمة الأولى بدعوى: ان الغرض من الوضع انما هو جعل مطلق المرآتية للفظ بالنسبة
إلى معناه ولو ضمنا لا جعل المرآتية المطلقة له كي يلزمه قصور وضعه عن الشمول إلا لحال انفراد المعنى عن الشريك فيترتب عليه
عدم صحة استعماله في حال انضمام الغير معه، وحينئذ فإذا لم يقتض الوضع إلا مطلق مرآتية اللفظ للمعنى ولو في ضمن الغير يترتب
عليه صحة الاستعمال في المعنيين فإذا كان اللفظ بحسب وضعه مشتركا بين المعنيين يكون استعماله فيهما استعمالا حقيقيا وإذا لم يكن
اللفظ مشتركا يكون الاستعمال المزبور بالنسبة إلى المعنى الحقيقي استعمالا حقيقيا لتحقق المرآتية بالنسبة إليه وبالنسبة إلى المعنى
الاخر يكون الاستعمال استعمالا مجازيا، هذا.
ولكن الانصاف هو بعد دعوى كون قضية الوضع هو جعل مطلق المرآتية للفظ بالنسبة إلى معناه ولو ضمنية كيف ولازمه في مثل قوله
أكرم العالم مثلا هو الحكم بالاجمال من جهة عدم إمكان استفادة ان العالم هو تمام الموضوع لهذا الحكم وذلك لاحتمال ان يكون
الاستعمال المزبور في قوله (العالم) استعمالا في المعنى الحقيقي والمجازي الملازم في المثال لكون عنوان العالم جز الموضوع لحكم
وجوب الاكرام وجزئه الاخر معنى آخر مجازي، ومن المعلوم انه مع هذا الاحتمال لا مجال للحكم بأن تمام الموضوع للحكم المزبور هو
عنوان العالم ما لم يكن هناك ما يدفع الاحتمال المزبور، وحيث انه لا يكون في البين ما يدفع به الاحتمال المزبور فلا جرم نفس
احتماله موجب للتوقف وعدم الحكم بأنه تمام الموضوع للحكم المزبور، مع أن ذلك ترى خلاف ما استقر عليه بناء أهل المحاورة، حيث
لا شبهة في حكمهم في نحو المثال المزبور بأن ما هو تمام الموضوع هو نفس عنوان العالم. وهذا بخلافه على المرآتية المطلقة فإنه عليه
يكون للفظ بمقتضى وضعه ظهور في معناه وبمقتضى أصالة الظهور يحكم في المثال بأن ما هو تمام الموضوع للحكم انما هو عنوان
العالم الذي كان اللفظ حاكيا عنه ويدفع به احتمال كونه جز الموضوع. بخلافه على مطلق المرآتية فإنه عليه لا يكون للفظ ظهور في أن
عنوان العالم هو تمام الموضوع للحكم بوجوب الاكرام كي يقتضى أصالة الظهور فيه دفع احتمال انضمام الغير معه في عالم الموضوعية
للحكم، بل أقصى ما يقتضيه الوضع حينئذ انما هو ظهور اللفظ في دخل
113

عنوان العالم في الموضوع، واما كونه تمام الموضوع فلا، وحينئذ فبعد احتمال إرادة المعنى الحقيقي والمعنى المجازي من لفظ العالم
فلا جرم لا بد من سد باب هذا الاحتمال، وحيث انه لا يكون في البين ما يدفع به الاحتمال المزبور فلا جرم لا بد من التوقف والحكم
بالاجمال. واما أصالة عدم القرينة فهي أيضا غير مثمرة، لان أقصى ما تقتضيه انما هو نفى وجود الامارة على إرادة المجاز لا نفى
احتمال إرادة المجاز واقعا، نعم هي مثمرة بناء على المرآتية المطلقة لأنه عليه يكون وجود الامارة على المجاز مانعا عن التمسك بأصالة
الحقيقة والظهور، فبعد جريان أصالة العدم تجري أصالة الظهور ويثبت بها ان ما هو تمام الموضوع هو نفس عنوان العالم. وحينئذ
فنفس بناء أهل المحاورة وارتكازهم على عدم الاعتناء باحتمال إرادة المعنى المجازي في نحو المثال المزبور واستفادتهم ان ما هو
تمام الموضوع هو نفس عنوان العالم ربما يساعد المرآتية المطلقة وعليه يتوجه الاشكال المتقدم حيث إنه في فرض الاستعمال في
المتعدد يدور أمر ذلك الاستعمال بين كونه غلطا رأسا باعتبار خروجه عما عليه قانون الوضع واللغة - ما أفاده المحقق القمي (قدس
سره) حتى بالنسبة إلى معناه الحقيقي - وبين مجازا بناء على فرض وجود العلائق المجوزة للاستعمال فعلى كل حال يخرج الاستعمال
المزبور عن كونه استعمالا حقيقيا كما هو واضح. وكيف كان فهذا كله في المفرد.
واما التثنية والجمع: فالمصرح به في كلام جماعة منهم صاحب المعالم جوازه بنحو الحقيقة، نظرا إلى دعوى كونهما في قوة تكرير
المفرد بالعطف. ولكن التحقيق خلافه، إذ نقول: بان ما يرى من التعدد في التثنية والجمع فإنما ذلك من جهة إفادة العلامة ذلك، حيث
كانت موضوعة بموضوعة بمقتضى وضعها لتقيد مدخولها بالتعدد، لا انه كان من جهة الاستعمال في المتعدد حتى يقال بجوازه في
التثنية والجمع، فالمدخول في مثل الرجلين والعينين لا يكون إلا مستعملا في معنى واحد وهو صرف الطبيعة إلا أن الهيئة فيهما دلت
بمقتضى وضعها على تقيد ما يراد من المدخول بالتعدد وكونه في ضمن الوجودين، وعليه فلا يرتبط ذلك بمسألة استعمال اللفظ في
المعنيين، كما هو واضح. هذا إذا أريد من المدخول صرف الطبيعة التي هي معنى كلي قابل للتعدد، ومن العلامة إفادة التعدد من
المدخول، أو تقيده بالتعدد - كما هو التحقيق في كلية أوضاع الهيئات - ولقد عرفت انه خروج عن كونه من الاستعمال في المتعدد. و
مثله ما لو أريد التعدد من مجموع المدخول و
114

العلامة، ولو بدعوى وضع المجموع مادة وهيئة للمتعدد نظير أوضاع الجوامد كما توهم، إذ على ذلك المسلك أيضا يخرج الاستعمال
المزبور عن كونه من الاستعمال في المتعدد، كما هو واضح. واما لو أريد من المدخول التعدد: فاما ان يراد من العلامة أيضا تعدد ما
يراد من المدخول على ما هو قضية وضعها، واما ان يجعل العلامة قرينة على إرادة التعدد من نفس المدخول، فإن كان الأول ففساده
واضح، من جهة استلزامه حينئذ لان يكون مفاد التثنية في قولك (رجلان وعينان) أربعة، وهو كما ترى، فإنه مع مخالفته للوجدان لا
يلتزم به أحد، وإن كان الثاني فلازمه صحة استعمال اللفظ في المتعدد ولو في المفرد، فيبطل القول بالتفصيل بين المفرد وبين التثنية
والجمع، كما هو واضح. ولكن التحقيق في التثنية والجمع هو ما عرفت من أن استفادة التعدد انما هو من مدلول الهيئة والعلامة باعتبار
وضعها لتقيد مدخولها بالتعدد وفي ضمن الوجودين، وعليه قد عرفت بخروجها رأسا عن باب استعمال اللفظ في المتعدد، فإنه بعد
انحلال الوضع فيهما إلى وضعين بحسب المدخول والعلامة، فلا جرم يكون المدخول دالا على صرف الطبيعة القابلة للتعدد والعلامة على
تقيده بالتعدد.
ثم إن هذا كله في مثل أسامي الأجناس مما كان قابلا للتعدد واما ما لا يكون قابلا للتعدد كالاعلام الشخصية وأسماء الإشارة فيشكل
فيها أمر التثنية والجمع إذ لا يجري فيها ما ذكرناه في تثنية أسامي الأجناس، فلا بد فيها اما من الالتزام بان الوضع انما كان من قبيل
وضع الجوامد وان مثل زيدان هذان مثلا وضع مادة وهيئة مجموعا لفردين على خلاف أوضاع التثنية والجمع في أسامي الأجناس، و
اما من الالتزام بكفاية مجرد الاتفاق في اللفظ فيها بلا حاجة إلى الاتفاق في المعنى أيضا، والالتزام بالتأويل بالمسمى ليصير كليا قابلا
للتعدد فيرد عليه العلامة. ولكن الجميع كما ترى، اما الأول فلبعده جدا لكونه على خلاف الارتكاز فإنه وضع تثنية الاعلام بحسب
الارتكاز انما هو كتثنية أسامي الأجناس وحينئذ فالتفرقة بينهما بجعل وضع التثنية والجمع في غير الاعلام الشخصية وضعا انحلاليا و
فيها من قبيل وضع الجوامد في غاية السخافة كما هو واضح. واما الثاني فبمنع كفاية مجرد الاتفاق في اللفظ في التثنية والجمع بل
يعتبر فيها علاوة عن الاتفاق في اللفظ الاتفاق بحسب المعنى أيضا. واما الثالث فبأن التأويل بالمسمى من المجاز المحتاج إلى رعاية
عناية فيه وهو يأبى عنه الطبع والذوق في مثل
115

زيدان وحسنان حيث لا يكاد انسباق الذهن منه إلى المسمى بزيد بوجه أصلا، نعم قد يفضي الحاجة إلى التأويل المزبور في بعض
الموارد كما في قولك جئني بمن هو مسمى بزيد، أو أعط الدرهم من هو مسمى بمحمد لكن ذلك أيضا مع إقامة القرينة الخاصة عليه وأين
ذلك والمقام الذي لا يرى فيه قرينة على ذلك، على أنه لو سلم ذلك في مثل الاعلام الشخصية لا يكاد يجري الكلام المزبور في مثل
أسماء الإشارة كهذين ونحوه مما له توغل محض في التعريف. ودعوى عدم كون مثل هذين من التثنية حقيقة بل هو من باب كونه
موضوعا للإشارة إلى فردين بعيد جدا، فان الظاهر أن مثل هذين تثنية لهذا، لا انه موضوع بمجموعه مادة وهيئة للإشارة إلى الفردين
من المذكر كما هو واضح، وحينئذ فبعد بطلان الوجوه المزبورة يتوجه الاشكال بأنه كيف المجال لتثنية الاعلام وأسماء الإشارة مع
عدم قابلية المدخول فيها للتعدد.
وحينئذ فالأولى في حل الاشكال هو ان يقال: بأن التثنية والجمع في باب الاعلام في نحو زيدان وزيدون انما هو باعتبار لفظ زيد
الذي هو كلي قابل لتعدد لا باعتبار مدلوله ومعناه، نظير باب استعمال اللفظ في نوعه، فأريد من المدخول حينئذ نفس طبيعة اللفظ و
من العلامة تقيده بالتعدد ولكنه لا بنحو يكون اللفظ بنفسه منظورا استقلاليا في قبال معناه بل بما انه مرآة إلى معناه بحيث كان النظر
إليه نظرا عبوريا وكان المنظور بالاستقلال، هو المعنى، كما في قولك: رأيت زيدين أي زيد بن عمرو وزيد بن بكر، في قبال ما لو
كان المنظور بالاستقلال هو اللفظ خاصة، كقولك: اكتب زيدين أو اقرأ زيدين، حيث كان النظر الاستقلالي فيهما بتمامه إلى خصوص
اللفظ بلا نظر إلى مدلوله ومعناه، وعليه فيدفع الاشكال المزبور حيث نقول: بأنه يراد من العلامة في مثل زيدين فردان من طبيعة لفظ
زيد على نحو يكون كل فرد حاكيا عن معنى خارجي. هذا بالنسبة إلى الاعلام الشخصية.
واما أسماء الإشارة فالامر فيها أسهل بناء على ما تقدم منا في المبهمات من دعوى كونها موضوعة للذوات المبهمة بما هي متخصصة
بخصوصية الإشارة أو المعهودية ونحو هما بنحو خروج القيد ودخول التقيد، حيث إنه على هذا المسلك يكون المدخول في مثل هذين و
الذين وهما، مفاده كليا قابلا للتعدد، كما في أسامي الأجناس، فمن هذه الجهة يكون حالها حال أسامي الأجناس بلا ورود إشكال فيها،
نعم على المسلك الاخر فيها من وضعها
116

لمصداق الإشارة إلى المفرد المذكر - كما ادعى - لا شكل أمر التثنية والجمع فيها، فمن ذلك لا بد من القول في مثل هذين بان الوضع
فيه انما هو كوضع الجوامد بدعوى ان هذين وضع مادة وهيئة وضعا واحدا للإشارة إلى الفردين من المذكر فلا يكون تثنية حقيقة، و
لكنه قد تقدم سخافة هذا المسلك، فان لازم جعلها موضوعة لنفس الإشارة انما هو صيرورة معناها معنى حرفيا ولازمه هو عدم جواز
إجراء أحكام الاسم عليها من الاخبار عنها تارة وبها أخرى مع أنه كما ترى، وحينئذ فكان صحة إجراء أحكام الأسماء عليها كاشفا عن
فساد المسلك المزبور. وهذا بخلافه على ما اخترناه من المسلك في أوضاع المبهمات من جعل الموضوع له فيها عبارة عن الذوات
المبهمة المتخصصة بخصوصية الإشارة أو المعهودية أو غير هما، حيث إنه باعتبار اسمية مداليلها كان المجال لاجراء أحكام الاسم عليها
كما أنه باعتبار كلية مداليلها يصح أيضا تثنيتها وجمعها كما في أسامي الأجناس من دون منافاة ذلك أيضا مع كونها معرفة لما تقدم في
محله بأن جهة تعرفها انما كانت بلحاظ تقيد مداليلها بالإشارة أو المعهودية الذهنية كما لا يخفى فتدبر.
تنبيه
قد يقال: بأنه كيف منعتم عن جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد مع أنه واقع في الكتاب العزيز على ما نطق به غير واحد من
الاخبار بان للقرآن بطونا سبعة أو سبعين، ولكنه يندفع ذلك بإمكان ان يكون المراد من البطون في الاخبار ما هو من اللوازم، للمعنى
المطابقي التي كان بعضها أخفى من بعض ولا يصل إليها عقولنا ولا يعلمها إلا من خوطب به، إذ عليه لا يكون ذلك مربوطا بمسألة
استعمال اللفظ في المتعدد كي ينتج للقائل بالجواز، ومع الغض عن ذلك نقول أيضا: بأنه يمكن ان يكون المراد من البطون هي
المصاديق العديدة لمعنى واحد كلي التي تتفاوت في الظهور والخفاء، وعليه أيضا لا يرتبط ذلك بباب استعمال اللفظ في المتعدد إذ
المستعمل فيه حينئذ لا يكون إلا معنى واحدا كليا، غايته انه لذلك المعنى الكلي مصاديق عديدة بعضها أخفى من بعض بحيث لا يصل إليها
عقولنا ولا يعلمها إلا النبي صلى الله عليه وآله والوصي والأئمة من ولده عليهم السلام لكونهم هم المخاطبين به فباعتبار خفاء تلك
المصاديق وعدم علمنا به
117

عبر عنها في الاخبار المروية عنهم عليهم السلام بالبطون، فتدبر.
الأمر الثاني عشر في المشتقات
قد وقع الخلاف بين الاعلام في أن المشتق حقيقة في المتلبس بالمبدأ في الحال، أو انه حقيقة في الأعم منه والمنقضى عنه المبدأ، وذلك
بعد وفاقهم على كونه مجازا في الاستقبال،
ولتنقيح المرام في المقام لا بد من ذكر أمور
الأول
في بيان الحال المتنازع فيه في المقام وانه عبارة عن حال تلبس الذات بالمبدأ وتلبسه بها؟ أو انها عبارة عن حال الجري والتطبيق
على المصداق الخارجي كما هو ظاهر بعضهم حسب اقتضائهم تحريرهم عنوان البحث، أو انه عبارة عن حال النسبة الكلامية، وتوضيح
المقال في ذلك يحتاج إلى بيان ما هو مورد النزاع وانه هل هو في مدلول الكلمة والمفرد أو في مدلول الهيئة؟ فنقول: لا ينبغي الاشكال
في أن ما هو مورد البحث والكلام بين الاعلام وما يرجع إليه لب النزاع انما هو مدلول الكلمة وان ما هو المدلول لكلمة الضارب و
العالم ونحو هما - مع قطع النظر عن مرحلة جريه تطبيقه على المصداق الخارجي أو ورود حكم عليه ووقوعه في حيز الهيئة الكلامية -
هل هو عبارة عن الذات المتلبسة بالمبدأ بقول مطلق أو المبدأ القائم بالذات مطلقا (على اختلاف المسلكين في المشتق من مأخوذية الذات
فيه أو عدم مأخوذية الذات فيه وكونه عبارة عن نفس المبدأ لا بشرط) أو انه عبارة عن الذات المتلبسة بالمبدأ في الجملة ولو بقطعة
منها متحققة في سابق الزمان؟ حيث كان القائل بالتلبس في الحال يدعى وضع المشتق للذات المتلبسة بالمبدأ على الاطلاق الملازم لعدم
انطباقه خارجا الا على المتلبس بالمبدأ في الحال، والقائل بالأعم يدعى الوضع للذات المتلبسة بالمبدأ في الجملة ولو بقطعة من الذات
مما مضى الملازم لصحة جريه وتطبيقه خارجا ولو على المتلبس بالمبدأ سابقا المنقضى عنه في الحال.
ولئن شئت فاستوضح ذلك بقولك زيد الضارب حيث ترى في ذلك نسبا طولية مترتبة بعضها على بعض:
الولي: نسبة تلبس الذات بالمبدأ واتصافها به مع قطع النظر عن مقام جريه وتطبيقه
118

على المصداق الخارجي كما لو كنا نحن ونفس مفهوم الضارب بما هو هذا المفهوم حيث يرى من ذلك لها نسبة إلى المبدأ أو مبدأ له
نسبة إلى الذات بنسبة قيامية مثلا، كان في العالم لهذا مصداق أو لم يكن.
الثانية: نسبة انطباق تلك المتلبس والمتصف بالمبدأ على المصداق الخارجي وهو زيد مثلا في مثل قولك: زيد الضارب والشجرة
المثمرة فان مثل هذه النسبة كان ظرفها متأخرا عن ظرف نسبة تلبس الذات بالمبدأ.
الثالثة: النسبة الحكمية في مثل قولك: أكرم زيدا الضارب حيث نسبت الاكرام إلى زيد المنطبق عليه الذات المتلبسة بالمبدأ فبهذه الجهة
كان ظرف هذه النسبة متأخرا عن الأوليين.
وبعد ذلك نقول: بأنه لا شبهة في أن ما هو مورد البحث والنزاع انما هو النسبة بالمعنى الأول وهي نسبة تلبس الذات بالمبدأ أو نسبة
قيام المبدأ بالذات، على اختلاف المسلكين، دون نسبة انطباق الذات المتلبسة على المصداق، كيف وانك في قولك: زيد الضارب و
الشجرة المثمرة ترى ان المشتق بما له من المدلول ينطبق على زيد ويجري عليه، وحينئذ فلا محيص مما ذكرنا من جعل مورد البحث و
النزاع في مدلول الكلمة، أعني كلمة الضارب والعالم، مع قطع النظر عن مقام جريه وانطباقه على المصداق أو ورود حكمه عليه، فينازع
بان مدلول هذه الكلمة عبارة عن الذات المتلبسة بالمبدأ على نحو الاطلاق بنحو يلازم عدم صحة جريه وتطبيقه الا على المتلبس بالمبدأ
في الحال، أو انه عبارة عن الذات المتلبسة بالمبدأ في الجملة ولو بقطعة منها مما مضى الملازم لصحة انطباقها خارجا ولو على المتلبس
بالمبدأ خارجا المنقضى عنه المبدأ في الحال، وعليه يكون النزاع في صحة إطلاق المشتق وجريه على الذات المنقضى عنها المبدأ في
الحال وعدم صحته من لوازم النزاع في مدلول الكلمة وتبعاته، لا انه بنفسه مورد البحث والنزاع كما هو واضح.
ومن ذلك البيان ظهر ان الحال المتنازع فيه في المقام لا بد وأن يكون عبارة عن حال تلبس الذات بالمبدأ، دون حال الجري و
التطبيق كما يقتضيه ظاهر بعضهم، ودون حال النسبة الكلامية، كيف وانه على الآخرين لا يرجع النزاع في الحقيقة والمجاز إلى المجاز
في الكلمة والحقيقة فيها، بل مرجعه حينئذ إلى المجاز في الاسناد والحقيقة فيه الذي هو خارج عن مدلول الكلمة، وهو المشتق، كما هو
واضح.
119

ومن ذلك نقول: بان حق تحرير عنوان المسألة في المقام هو تحريره بان المشتق، أي كلمة ضارب مثلا، هل موضوع للذات المتلبسة
بالمبدأ بقول مطلق، أو انه موضوع للذات المتلبسة بالمبدأ في الجملة ولو بقطعة منها مما مضى - بإلغاء عنوان الحال رأسا، كي لا يختلط
بحال الجري والتطبيق أو حال النسبة الكلامية - أو تحريره بان المشتق موضوع للذات المتلبسة بالمبدأ حال تلبسها به، أو انه موضوع
لما يعمه وغيره من حالات خلو الذات عن المبدأ لكي ينطبق على ما ذكرناه.
الأمر الثاني
قد عرفت بأنه على القول بالأعم كما يصح إطلاق المشتق على المتلبس بالمبدأ فعلا كذلك يصح إطلاقه وجريه على المنقضى عنه المبدأ
فعلا بمحض تلبس الذات به في سابق الزمان، ولو كان حال الجري متلبسا بما يضاد الوصف السابق. واما على القول بالتلبس الفعلي فلا
بد في صحة إطلاق المشتق وجريه من فعلية تلبس الذات بالمبدأ في الظرف الذي لوحظ فيه الجري، فإذا كان زيد غير متلبس بالقيام في
الحال وقد كان تلبسه به في سابق الزمان لا يصح إطلاق القائم عليه في الحال بقولك زيد قائم الان، نعم لو كان جرى المشتق لا بلحاظ
الحال بل بلحاظ ظرف تلبسه به ماضيا أو مضارعا صح الجري المزبور أيضا وكان بنحو الحقيقة، ففي مثل زيد كان قائما بالأمس أو
زيد يكون قائما في الغد يكون بنحو الحقيقة إذا كان التلبس بالقيام أيضا في الأمس في الأول وفي الغد في الثاني، وإذا كان التلبس
في أمس الأمس يكون مجازا على هذا القول، كما أنه في الثاني إذا كان التلبس في غد الغد يكون مجازا على القولين، وحينئذ فلا بد على
القول باعتبار التلبس الفعلي من ملاحظة فعلية التلبس في الزمان الذي لو حظ فيه الجري ماضيا أو مضارعا أو حالا.
بل ولئن دققت النظر ترى ان العبرة كلها على زمان المجرى عليه لا على زمان الجري والتطبيق فإذا كان المجرى عليه بالجري الفعلي
هو القطعة المتلبسة بالمبدأ من الذات سابقا، أو كان هو القطعة المتلبسة به لاحقا صح الجري وكان بنحو الحقيقة ولو كان الجري فعليا
وحينئذ فلا يحتاج على القول بالتلبس الفعلي في صحة الجري حقيقة إلى اتحاد ظرف الجري مع ظرف المجرى عليه كما في الأمثلة
المتقدمة كي يحتاج إلى جعل الجري أيضا بلحاظ حال التلبس ماضيا أو مضارعا فنقول: زيد كان قائما بالأمس أو يكون قائما في الغد
أو الان، وعمدة النكتة في ذلك انما هو تساوى تلك القطعات الثلاث
120

في المصداقية لهذا المفهوم الكلي الذي هو مدلول كلمة القائم وهو الذات المتلبسة بالمبدأ بقول مطلق فإنه كما أن القطعة المتلبسة
بالقيام فعلا مصداق حقيقي للقائم فيصدق عليه هذا المفهوم كذلك أيضا القطعة المتلبسة به سابقا فإنها بمجرد تلبسها بالقيام يصير تلك
القطعة فردا ومصداقا حقيقيا للقائم ويصدق عليه هذا المفهوم كصدقه على المتلبس الحالي بالمبدأ من دون ان يخرج تلك القطعة عن
الفردية بوجه أصلا، وهكذا الكلام بالنسبة إلى القطعة المتلبسة بالقيام لاحقا فإنه بعد ما يرى العقل تلبسها بالقيام في الغد يرى كونها
مما ينطبق عليها مفهوم القائم فيحكم فعلا بكونها فردا ومصداقا له وان لم يكن لها وجود في الخارج فعلا، لان مصداقية شئ وفرديته
لعنوان كلي غير منوط بوجوده فعلا في الخارج لان الخارج دائما ظرف وجود الفرد فارغا عن مصداقيته وفرديته، ومن ذلك لو وقع
مثل هذا العنوان موضوعا لحكم شرعي في لسان الدليل كقوله أكرم العالم مع كون المطلوب هو صرف وجود الاكرام المضاف إلى
طبيعة العالم المنطبق على أول وجود منه ترى حكم العقل في مثله بالتخيير بين إكرام الفرد الفعلي الموجود حال الخطاب وبين إكرام
غيره من الافراد التدريجية التي توجد بعد ذلك، نظير حكمه بالتخيير بين الافراد التدريجية من الصلاة من أول الظهر إلى الغروب في
الفرائض اليومية فلو لا مصداقية الموجود المتأخر للعام فعلا لما كان وجه لحكمه بالتخيير بين الاتيان بالفرد الفعلي وبين الاتيان
بالفرد الاستقبالي في موطنه كما هو واضح فتدبر. وحينئذ نقول: بأنه إذا كانت تلك القطعات الثلاث من الذات - أي القطعة المتلبسة
بالمبدأ سابقا والقطعة المتلبسة به حالا والمتلبسة به لاحقا - كل واحدة منها مصداقا لمفهوم القائم وينطبق عليها هذا المفهوم الكلي
بنحو الحقيقة فلا جرم يلزمه صحة جرى مفهوم القائم فعلا على القطعة السابقة واللاحقة كصحة جريه على القطعة المتلبسة بالقيام فعلا
فيصح حينئذ ان يجري المشتق فعلا ويطبقه على تلك القطعة من الذات التي تلبست سابقا بالقيام أو التي تتلبس به في المستقبل كما هو
واضح.
ومن ذلك البيان ظهر نكتة أخرى وهي عدم كفاية مجرد هذا النزاع في مدلول كلمة المشتق بأنه حقيقة في المتلبس الفعلي أو الأعم منه
والمنقضى عنه المبدأ في استنتاج النتيجة المعروفة من وجوب الاكرام وعدم وجوبه في مثل قوله: يجب إكرام العالم، وكراهة البول
تحت الشجرة المثمرة في قوله: يكره البول تحت الشجرة المثمرة ما لم ينضم إليه
121

دعوى ظهور الهيئة الكلامية في اتحاد ظرف الاكرام خارجا مع ظرف وجود المصداق الذي هو ظرف التلبس، ولو للانصراف، إذ لولا
دعوى مثل هذا الظهور للهيئة الكلامية في اتحاد الظرفين أمكن في أمثال تلك الموارد دعوى ان الجري الفعلي فيها كان على المجرى
عليه السابق لا على المصداق الفعلي، ولقد عرفت كون الجري المزبور حينئذ على نحو الحقيقة ولو على القول بالتلبس الفعلي ولازمه
حينئذ هو وجوب الاكرام وكراهة البول على كلا القولين ولو مع عدم تلبس الذات بالمبدأ فعلا بان كان تلبسها به في سابق الزمان، و
عليه فتنتفى الثمرة المزبورة التي جعلوها ثمرة البحث بين القولين في المسألة. نعم لو ورد في لسان الدليل: بأنه أكرم من كان عالما
بالأمس أو أكرم العالم الفعلي بنحو يستفاد منه كون ظرف الجري فيه بعينه هو ظرف المجرى عليه لكان المجال لاستنتاج النتيجة
المزبورة فإنه على القول بالأعم يجب الاكرام في المثالين المزبورين ولو لم يكن التلبس بالمبدأ متحققا بالأمس في المثال الأول و
بالفعل في الثاني، بخلافه على القول بالتلبس الفعلي فإنه عليه لا يجب الاكرام في المثالين إلا إذا كان التلبس بالمبدأ متحققا في ظرف
الجري الذي هو الأمس أو الان كما هو واضح، ولكن مثل هذا اللسان لعدم وجوده في الأدلة أو لندرته يلحق بالعدم ومعه يتوجه
الاشكال المزبور في استنتاجهم الثمرة المزبورة بين القولين في المسألة بقول مطلق. وحينئذ فلا محيص في استنتاج النتيجة المزبورة
على الاطلاق من نزاع آخر في مدلول الهيئة الكلامية من نحو قوله: أكرم العالم وأهن الفاسق ويكره البول تحت الشجرة المثمرة علاوة
عن النزاع في مدلول كلمة المشتق وهي العالم والفاسق ونحو هما، من دعوى ظهور الهيئة في الكلام في اتحاد ظرف الاكرام المضاف
إلى العالم مع ظرف وجود المصداق الذي هو ظرف التلبس كما هو الظاهر أيضا، كي بعد إثبات هذا الظهور للهيئة في نحو تلك القضايا
في اتحاد الظرفين ولو من جهة الانصراف يترتب النتيجة المزبورة فتدبر.
الأمر الثالث
لا يخفى عليك خروج المصادر والافعال عن حريم هذا النزاع لان المشتق المبحوث عنه في المقام انما هو المفاهيم الجارية على الذوات
المنتزعة عنها بلحاظ اتصافها بالمبدأ واتحادها معه وجودا، وعليه فيخرج قهرا المصادر المجردة والمزيدة، وكذا الافعال ماضيها و
مضارعها وأمرها ونهيها، نظرا إلى انها غير جارية على الذوات، من جهة ان المصادر وكذا الافعال لا دلالة فيها بمقتضى وضعها إلا
على مجرد المبدأ ونسبة له إلى ذات
122

ما بنسبة تصورية كما في المصدر، أو نسبة تصديقية كما في الافعال، وحينئذ فلا يكون فيها ما يكون وجهة وعنوانا للذات وجاريا
عليها، ومجرد الاسناد بين الفعل والفاعل في قولك:
زيد ضرب غير الحمل والاتحاد كما لا يخفى. ومن ذلك البيان ظهر أيضا نكتة الفرق بين المشتق ومبدئه من حيث إباء الثاني عن
الجري عن الذات والحمل عليها دون الأول، حيث كان السر في امتناع الأول عن الجري على الذات من جهة أخذه بنحو يرى كونه في
قبال الذات فمن هذه الجهة يأبى ويعصى عن الجري عليها، بخلاف المشتق فإنه باعتبار أخذه وجهة وعنوانا للذات وطورا من أطوارها
لا يأبى عن الجري عن الذات والحمل عليها، وسيجئ مزيد بيان لذلك في تنبيهات المسألة إن شاء الله تعالى، فالمهم والمقصود في هذا
المقام انما هو إخراج المصادر والافعال عن حريم النزاع وتخصيص مورد النزاع بما يكون جاريا على الذات.
على أن هذا النزاع انما يختص بمورد يتصور فيه الانقضاء والبقاء وهذا المعنى غير متصور في المصادر والافعال فان المصادر وكذا
الفعل الماضي لا يتصور فيهما الذات القابلة للتلبس بالمبدأ تارة والخلو عنه أخرى وكذا فعل المضارع فإنه لا يتصور فيه أيضا الانقضاء
كما لا يخفى.
ثم إنه لما انجر الكلام إلى هنا ينبغي عطف البيان إلى ذكر شطر من المباحث الراجعة إلى المشتقات وكيفية أوضاعها من المصادر و
الافعال والأسماء وبيان الفارق بين الافعال والأسماء وإن كان الأنسب هو ذكر هذه الجهة في التنبيهات عند التعرض لبيان مفهوم
المشتق من حيث التركيب والبساطة فنقول:
ان هنا جهتين من الكلام
الجهة الأولى:
اعلم أن كل باب من أبواب المشتقات من مصادرها وأفعالها مثل الضرب (بالسكون) وضرب (بالفتح) وضارب ومضروب ونحوها
كان كل واحد منها مشتملا على هيئة مخصوصة ومادة مشتركة بينه وبين غيره من الصيغ سارية في جميعها بحيث لا يكاد يمكن التلفظ
بها باعتبار اندكاكها إلا في ضمن هيئة مخصوصة ولو كانت تلك الهيئة هيئة ضاد وراء وباء، ولهذه المادة السارية المحفوظة في جميع
تلك الصيغ أيضا معنى هو مثلها في التجرد بنحو لا يمكن تصوره وإخطاره في الذهن إلا بتعين خاص كان ذلك التعين هو المعنى الاسم
المصدري أو المعنى المصدري أو غير هما، وحينئذ فكانت تلك المادة المحفوظة في جميع تلك الصيغ من المصادر والافعال والأسماء
بما لها من المعنى
123

الساري فيها هو الأصل المحفوظ في المشتقات، دون غيرها كالمصدر أو الفعل، كما اشتهر ان الأصل في المشتقات هو المصدر كما عن
جماعة من علماء الصرف أو هو الفعل كما عن جماعة أخرى منهم، إذ من الواضح انه لا أصل لهذا الأصل بعد وضوح المباينة التامة بين
المعنى المصدري بما له من الحدود مع غيره من المشتقات كوضوح البينونة بين بعضها وبعضها الاخر، ومعه كيف يمكن ان يكون
المصدر أو الفعل هو الأصل المحفوظ في المشتقات ومادة سارية فيها، كيف وان المصدر أيضا كغيره من الصيغ من الماضي والمضارع
وأسماء الفاعلين والمفعولين، فكان له أيضا هيئة خاصة ومادة مشتركة بينه وبين غيره، تدل المادة فيه على معنى حدثي والهيئة على
إضافة هذا المبدأ إلى ذات ما ونسبته إليها بنسبة تصورية، وحينئذ فما هو الأصل المحفوظ والساري في جميع المشتقات لا يكون الا
ذاك المعنى الحدثي المجرد عن جميع التعينات وان لم يمكن تصوره وإخطاره في الذهن إلا في ضمن تعين خاص، نعم لما كان الأقرب
إلى ذلك المعنى المجرد هو المصدر من بين سائر المشتقات باعتبار دلالته على مجرد المبدأ وهو الحدث المضاف إلى ذات ما وعرائه
عن خصوصية الزمان، وبعده كان الأقرب إليه الفعلي الماضي والمضارع بالنسبة إلى أسماء الفاعلين والمفعولين نظرا إلى تقدمهما
الرتبي عليها من جهة اشتمالهما على النسب التامة - كما هو الشأن في كلية المركبات التامة بالقياس إلى القضايا التقييدية والمركبات
الناقصة - فبهذا الاعتبار أمكن دعوى ان ما هو أقرب إلى ذلك المعنى المجرد، من جهة قلة وجدانه للخصوصيات بحسب اللفظ والمعنى،
يكون أصلا بالنسبة إلى ما كثر فيه الخصوصية بحسب المعنى أو اللفظ، فنجعل مدار الأصلية والفرعية على مثل هذه الأقربية الاعتبارية،
وندعي ان المصدر أصل بالنسبة إلى الفعل الماضي والمضارع وغير هما من المشتقات، وان فعلى الماضي أصل بالنسبة إلى المضارع
لمكان اشتمال فعل المضارع على خصوصية زائدة ولو بحسب اللفظ، وان فعل المضارع أصل بالنسبة إلى أسماء الفاعلين والمفعولين
باعتبار تقدمه الرتبي عليها.
وعلى ذلك أيضا أمكن توجيه كلامهم في أصلية المصدر بالنسبة إلى سائر المشتقات بجعل مدار الأصلية على الأقربية إلى ذلك المعنى
المجرد الساري في جميع المشتقات بتقريب ان المصدر حيثما كان أقرب إلى ذلك المعنى المجرد من سائر المشتقات أوجب ذلك كونه
أصلا لسائر المشتقات ومادة سارية فيها بالنظر العرفي المسامحي فأطلقوا عليه بأنه هو
124

الأصل في المشتقات. لا يقال: على ذلك لم لا يجعل الأصل فيها المعنى الاسم المصدري مع أنه من جهة تجرده عن خصوصية النسبة أيضا
يكون أقرب من المعنى المصدري، فإنه يقال: نعم، ولكنه باعتبار تجرده عن النسبة بل وعدم كون الوضع فيه وضعا انحلاليا وكونه من
قبيل وضع الجوامد عد كونه مباينا مع سائر المشتقات وخارجا عنها فلذلك لم يعتنوا بجهة أقربيته فجعل الأصل فيها ما كان من سنخ
المشتقات مما يكون واجدا للنسبة ويكون وضعه انحلاليا، ومن المعلوم ان الأقرب منها حينئذ لا يكون الا المصدر كما هو واضح.
واما ما يظهر من بعضهم: من أن الأصل فيها هو الفعل الماضي أو المضارع فلعل الوجه فيه هو جهة تقدم الفعل رتبة باعتبار اشتماله على
النسب التامة على المصدر واسم الفاعل والمفعول لأنهما إلى المصدر والوصف لاشتمالهما على النسب الناقصة يكونان من القضايا
التقيدية المتأخرة رتبة عن القضايا التامة كما عرفت بيانه في مبحث الحروف، هذا، ولكن لا يخفى عليك ان ذلك كله انما هو لمحض
المماشاة مع القائلين بان المصدر أو الفعل هو الأصل في المشتقات والا فقد عرفت ان حديث الأصلية والفرعية مما لا أصل له وان كلا
من المصدر والفعل أصل برأسه في قبال البقية كما هو واضح.
وكيف كان فمما ذكرنا ظهر لك حال الوضع في المشتقات من كونه وضعا انحلاليا باعتبار المادة والهيئة لا وضعا جامديا كي يكون
مجموع المادة والهيئة في كل واحد من الصيغ موضوعا لمعنى خاص، فكانت المادة السارية في كل واحد من المصدر وغيره من كل باب
موضوعة بوضع نوعي للدلالة على نفس الحدث وهو المعنى المجرد المحفوظ فيها، وكانت الهيئة أيضا في كل واحد من الصيغ موضوعة
بوضع شخصي للدلالة على نسبة الحدث إلى الذات فوضع من الهيئة مثلا ما كان على زنة فعل (بالسكون) للدلالة على نسبة الحدث إلى
الذات وهكذا ما كانت على زنة فعل (بالتحريك) ويفعل وفاعل ومفعول وفعيل ومفعل ومفعال ونحو ذلك كل ذلك للدلالة على
النسبة على اختلاف أنحائها من الصدور والايجاد والوقوع والحلول والظرفية وغيرها كما هو واضح.
الجهة الثانية:
قد اشتهر في كلماتهم دلالة الفعل على زمان حتى أنهم أخذوا الاقتران بالزمان في تعريفه وجعلوه فارقا بينه وبين الأسماء، فعرفوا
الاسم بأنه كلمة تدل على معنى في نفسه غير مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة، والفعل بأنه كلمة تدل على معنى في نفسه
125

مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة، قال شارح الجامي: (الفعل ما كان دالا على معنى في نفسه مقترن بأحد الأزمنة باعتبار معناه التضمني أعني
الحدث) ونحوه كلام ابن مالك في منظومته قال:
المصدر اسم ما سوى الزمان من مدلولي الفعل كأمن من أمن
وظاهر كلامهما هو كون الزمان مدلولا تضمنيا للفعل. وأصرح من ذلك عبارة نجم الأئمة حيث قال فيما حكى عنه، في شرح قول ابن
الحاجب: الاسم ما دل على معنى غير مقترن بأحد الأزمنة، ما لفظه المحكي عنه: (قوله غير مقترن صفة بعد الصفة لقوله معنى، ويبين
معنى قوله غير مقترن ببيان قوله في حد الفعل: بأنه ما دل على معنى في نفسه مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة، أي على معنى واقع في أحد
الأزمنة الثلاثة معينا بحيث يكون ذلك الزمان المعين أيضا مدلول ذلك اللفظ الدال على ذلك المعنى بوضعه له أولا، فيكون الظرف و
المظروف مدلولي لفظ واحد بالوضع الأصلي) انتهى، ومثله أو ما يقرب منه عبائر غيره من النحويين فراجع حيث ترى إطباقهم ظاهرا
على دلالة الفعل على الزمان بمقتضى وضعه هذا.
ولكن الذي يقتضيه التحقيق هو خلافه كما يظهر وجهه بالتأمل فيما ذكرنا من انحلال الوضع في المشتقات إلى وضع نوعي للمادة فيها
ووضع شخصي للهيئة في كل واحد من الصيغ، إذ نقول: بان الدلالة المزبورة لو كانت فاما أن تكون من طرف المادة أو من طرف الهيئة
مع أنه لا يكون في شئ منهما الدلالة بمقتضى وضعه على ذلك، وذلك اما المادة فلما تقدم بان وضعها انما هو للدلالة على نفس المعنى
الحدثي خاصة ولذلك لا ينسبق في الذهن جهة خصوصية الزمان في مثل المصدر والوصف، واما الهيئة فكذلك أيضا لأنها انما وضعت
للدلالة على مجرد النسبة بين المبدأ والفاعل وحينئذ فأين الزمان الذي ادعى كونه جز من مدلولي الفعل؟ وأين الدال عليه بعد عدم
دلالة شئ من المادة والهيئة عليه؟ نعم لو قيل: بان الوضع في المشتقات أو في خصوص الافعال كان من قبيل الوضع في الجوامد كان
لما ذكروه كمال مجال حيث أمكن حينئذ دعوى وضع مجموع المادة والهيئة للمعنى المقيد بالزمان، ولكنه خلاف التحقيق وخلاف ما
عليه المحققون من انحلال الوضع في المشتقات طرا إلى وضعين: وضع للمادة نوعيا ووضع للهيئة شخصيا، بل وخلاف ما هو المنساق
المتبادر في الذهن أيضا من مثل قوله: ضرب زيد من جهة وضوح انه لا يجي ولا ينسبق في الذهن منه الا الحدث المرتبط بالذات لا
المعنى التركيبي من
126

الحدث والزمان. هذا كله مضافا إلى ما أورد عليه أيضا بلزوم الالتزام بالمجاز أو تعدد الوضع في الافعال المنسوبة إلى المجردات مثل
(كان الله ولم يكن معه شئ) و (كان الله على كل شئ قدير) وفي الافعال المنتسبة إلى نفس الزمان كقولك: مضى الزمان وانقضى
الدهر، فإنه بعد وضوح عدم مأخوذية الزمان في نحو هذه الأفعال في الأمثلة المزبورة، فلا بد على تقدير أخذ الزمان جز لمدلول الفعل
اما من التجريد عن خصوصية الزمان والالتزام بالمجاز واما الالتزام بتعدد الوضع وكلا هما فاسدان كما هو واضح.
نعم: حيثما ان في الافعال في مثل الفعل الماضي والمضارع خصوصية زائدة عن المعنى الحدثي الذي هو مبدأ الاشتقاق بنحو ينسبق منها
في الذهن جهة السبق في الماضي واللحوق في المضارع أمكن دعوى الدلالة عليه بنحو الالتزام، بتقريب انه كما أن للمبدأ نحو خصوصية
وربط خاص بالنسبة إلى ما يقوم به وهو الفاعل كذلك له نحو خصوصية وربط بالنسبة إلى الظرف الذي يقع فيه بنحو ينتزع عنه
مفهوم السبق في الماضي واللحوق في المضارع وذلك أيضا لا بمعنى خصوص السبق واللحوق الزمانيين بل الأعم منه ومن غيره،
فيكون السبق زمانيا فيما لو انتسب إلى الزمانيات، وذاتيا فيما لو انتسب إلى نفس الزمان، و رتبيا فيما لو انتسب إلى المجردات
كقولك وجد العلة فوجد المعلول مع وضوح عدم تأخر المعلول عن علته بحسب الزمان. وحينئذ فيقال: بأن المادة في الافعال موضوعة
للدلالة على نفس الحدث والهيئة فيها لتلك الخصوصية والربط الخاص القائم به بنحو ينحل ذلك الربط بالتحليل إلى نحوين من الربط:
ربط له بالنسبة إلى ما يقوم به وهو الفاعل والذات وربط له بالنسبة إلى الظرف الذي يقع فيه من حيث السبق واللحوق، وحينئذ
فبهذا الاعتبار تكون الهيئة في الافعال دالة على الزمان ولكنه لا بالمطابقة ولا بالتضمن بل بنحو الالتزام نظير دلالتها على الفاعل و
الذات حيث كانت تلك أيضا بنحو الالتزام كما لا يخفى. ولعله إلى ذلك أيضا نظر صاحب الكفاية (قدس سره) من قوله: نعم لا يبعد ان
يكون لكل من الماضي والمضارع خصوصية موجبة للدلالة على وقوع النسبة في الزمان الماضي وفي الحال أو الاستقبال في المضارع.
ثم إنه بمثل هذا البيان أيضا أمكن ان يوجه كلامهم بدلالة الفعل على الزمان وذلك بحمل الدلالة في كلامهم على الدلالة بنحو الالتزام
بالبيان الذي ذكرنا ودخول الزمان فيه على الدخول بنحو خروج القيد ودخول التقيد وإن كان يساعد لهذا الحمل كلام بعضهم فتدبر.
127

الأمر الرابع:
لا يخفى عليك اختصاص هذا النزاع بخصوص الأوصاف التي تنتزع من أمر خارج عن الذات بنحو أمكن تخلف الذات عنها ويتصور فيها
الانقضاء فيخرج حينئذ الأوصاف المنتزعة عن حاق ذات الشئ التي لا يكاد يتصور تخلف الذات عنها كالمحمولات بالضميمة كالحيوانية
والانسانية والناطقية والصاهلية، فإنها بملاحظة عدم تخلف الذات عنها لا يكاد يتصور فيها الانقضاء حتى تكون مطرحا للنزاع كما لا
يخفى.
نعم قد يشكل الامر حينئذ بالنسبة إلى بعض المفاهيم كأسماء الزمان ونحوها من الأمور التدريجية الغير القارة فإنه لما لم يكن فيها
ذات ممتدة قارة قابلة للتلبس بالمبدأ تارة والخلو عنه أخرى أشكل عليهم بلزوم خروجها عن مورد النزاع فمن ذلك وقعوا في حيص و
بيص وصاروا بصدد دفع الاشكال بوجوه:
منها: ما أفاده صاحب الكفاية (قدس سره) حيث أجاب عن الاشكال بان انحصار مصداق مفهوم عام كلي بفرد كما في المقام لا يكون
موجبا لوضع اللفظ بإزاء الفرد دون المفهوم العام فلا غرو في مثل أسماء الزمان بالمصير فيها إلى الوضع للأعم غايته انحصار مصداق
هذا المفهوم في الخارج في فرد خاص كانحصار فرد واجب الوجود بالذات فيه تعالى مع كونه كليا قابلا للانطباق على الكثير بمعنى انه
لو فرض محالا مصداق آخر له لكان ينطبق عليه هذا المفهوم بلا كلام.
أقول: ولا يخفى عليك انه لما كان الاشكال في المقام بعينه هو الاشكال المعروف في استصحابات الأمور التدريجية الغير القارة من
حيث عدم بقاء الموضوع وعدم اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة كان الحري عليه (قدس سره) ان يجيب عنه في المقام بما أجاب عنه
في ذلك المقام فإنه (قدس سره) فصل في ذلك المقام بين الحركة القطعية والحركة التوسطية فقال: بان الانصرام والتدرج انما هو في
الحركة القطعية وهي كون الشئ في كل آن في حد أو مكان لا التوسطية وهي كونه بين المبدأ والمنتهى لأنه بهذا المعنى يكون قارا
مستمرا، إذ لا يخفى عليك انه لو تم ذلك هناك أمكنه أيضا في هذا المقام تصوير الامر القار بين حالتي التلبس والانقضاء فلا وجه حينئذ
لالتزامه في المقام بأصل الاشكال ثم الجواب بمثل البيان المزبور بان انحصار مفهوم عام بفرد (إلخ).
ولكن أصل هذا الجواب أيضا غير مجد لدفع الاشكال المزبور هناك أيضا، إذ قلنا في ذلك البحث بان مثل هذه الوحدة المنتزعة عما بين
المبدأ والمنتهى انما هي وحدة اعتبارية
128

عرضية منتزعة عن تعاقب الافراد وتلاحقها والا ففي الخارج لا يكون إلا اشخاص تلك الحصص المتبادلة المتعاقبة لا انه كان في
الخارج جهة وحدة شخصية ذاتية حقيقية. وحينئذ فإذا لا يكون في الخارج الا الافراد المتعددة المتعاقبة فلا جرم يبقى الاشكال على حاله
ولا يكاد يجري في دفعه مجرد اعتبار مثل تلك الوحدة العرفية وانتزاعها عن تعاقب تلك الحصص والافراد بعد ان لا قرار لنفس تلك
الحصص في الخارج.
وحينئذ فالعمدة في الجواب عن الاشكال هو ما ذكرناه هناك بأن الأزمنة والانات وإن كانت وجودات متعددة متعاقبة متحدة بالنسخ
ولكنه حيثما لا يتخلل بينها سكون يكون المجموع يعد عند العرف موجودا واحدا مستمرا نظير الخط الطويل من نقطة إلى نقطة كذائية
فبهذا الاعتبار يكون أمرا واحدا شخصيا مستمرا من أوله إلى آخره، فيصدق عليه كلما شك فيه (انه شك في بقاء ما علم بحدوثه) فيشمله
دليل حرمة النقض. وحينئذ فبعين هذا الجواب نجيب عن إشكال المقام أيضا حيث أمكن لنا تصور أمر قار وحداني يتصور فيه الانقضاء
بمثل البيان المزبور وان بلغ تلك الافراد المتعاقبة ما بلغ إلى انقضاء الدهر فان مناط الوحدانية حينئذ انما هو بعدم تخلل سكون في
البين فيما بين تلك الافراد فما لم يتخلل عدم بينها يكون المجموع موجودا واحدا شخصيا مستمرا. نعم ذلك انما هو فيما لم يكن تلك
القطعات المتعاقبة من الزمان مأخوذة موضوعا للأثر في لسان الدليل معنونة بعنوان خاص كالسنة والشهر واليوم والساعة ونحوها
وإلا فلا بد من لحاظ جهة الوحدانية في خصوص ما عنون بعنوان خاص من القطعات فيلاحظ جهة المقتلية مثلا في السنة أو الشهر أو
اليوم أو الساعة بجعل مجموع الانات التي فيما بين طلوع الشمس مثلا وغروبها أمرا واحدا مستمرا فيضاف المقتلية إلى اليوم والشهر و
السنة فتدبر.
الأمر الخامس
الظاهر أنه لا اختصاص لهذا النزاع بخصوص اسمي الفاعل والمفعول وما بمعناهما من الصفات المشبهة بالفعل وما يلحق بها بل يعم
كل ما كان جاريا على الذات وإن كان من الجوامد كالرقية والزوجية ونحوهما، كما يشهد له ما عن فخر المحققين في الايضاح في باب
الرضاع فيمن كان له زوجتان كبيرتان أرضعتا زوجة صغيرة له، حيث قال فيما حكى عنه: انه تحرم المرضعة الأولى والصغيرة مع
الدخول بالكبيرة الأولى واما المرضعة الأخرى ففي تحريمها خلاف فاختار الوالد المصنف (رحمه الله) وابن إدريس تحريمها لأن هذه
يصدق عليها أم زوجته لأنه لا يشترط في المشتق
129

بقاء المشتق منه (انتهى) ومن الواضح صراحة كلامه (قدس سره) في دخول مثل هذا النحو من الجوامد أيضا في محل النزاع ومن ذلك
بنى الحرمة في المرضعة الثانية على عدم اشتراط التلبس الفعلي في المشتق، وربما يشهد لذلك أيضا بل يدل عليه ما رواه في الوسائل
عن علي بن مهزيار عن أبي جعفر عليه السلام ففيه قيل له عليه السلام: ان رجلا تزوج بجارية صغيرة فأرضعتها امرأته ثم أرضعتها امرأة
له أخرى فقال ابن شبرمة: حرمت عليه الجارية وامرأتاه فقال أبو جعفر عليه السلام: أخطأ ابن شبرمة تحرم عليه الجارية وامرأته التي
أرضعتها أولا فاما الأخيرة فلم تحرم عليه كأنها أرضعت ابنته (الخبر) () فان تعليله عليه السلام لعدم حرمة الكبيرة الثانية بقوله: لأنها
أرضعت ابنته ظاهر في أنه لا يكون الحكم المزبور تعبديا وانه على طبق القواعد، وفيه أيضا تخطئة لابن شبرمة لما تخيله من كون
المشتق حقيقة في الأعم ودلالة على أن المشتق حقيقة في المتلبس الفعلي هذا.
نعم قد يشكل تحريم المرضعة الأولى أيضا بمقتضى القواعد بتقريب ان السبب الموجب لنشر الحرمة وهو عشر رضعات أو خمس عشرة
رضعة كما كان موجبا لاتصاف المرضعة بالأمومة فتحرم كذلك موجب أيضا لخروج الصغيرة عن الزوجية واتصافها بالبنتية فيكون
العنوانان أي الأمومة والبنتية كلا هما معلولين عرضيين للرضاع يترتب فأ واحد بينه وبينهما من دون تقدم لاحد هما على الاخر ولو
بحسب المرتبة، وحينئذ فيشكل بأنه كيف الحكم بتحريم المرضعة بعنوان الأمومة مع أنه لا يكون في البين زمان بصدق فيه عليها انها أم
الزوجة لأنه قبل كمال الرضعة الأخيرة وإن كان يصدق الزوجة على الصغيرة إلا أن الكبيرة في ذلك الان لم تكن بأم لها وبعد إكمال
الرضعة الأخيرة وان تحققت الأمومة لها ولكنه في رتبة تحقق هذا العنوان خرجت الصغيرة عن الزوجية وتعنونت بالبنتية، فلا بد حينئذ
وأن يكون حرمة الكبيرة الأولى أيضا مبنية على عدم اعتبار بقاء المشتق منه في صدق المشتق، مع أن ظاهر الايضاح بل ظاهر الرواية
هو كون الحكم بالتحريم بالنسبة إلى المرضعة بمقتضى القواعد.
واما توهم ان التحريم حينئذ في الرواية انما هو بلحاظ جرى الزوجية للصغيرة بحال تلبسها هو آن قبل تحقق عشر رضعات لا بلحاظ
الحال الفعلي الذي هو ظرف تلبس
130

المرضعة بالأمومة، فمدفوع بأنه مناف للحكم بعدم تحريم المرضعة الثانية معللا بأنها أرضعت ابنته وإلا فبهذا الاعتبار يصدق على
الثانية أيضا انها أم زوجته فلا وجه حينئذ للتفكيك بينهما كما لا يخفى.
كما أن توهم عدم تكفل الرواية إلا لبيان عدم تحريم الثانية التي أفتى بحرمتها ابن شبرمة وسكوتها عن حكم المرضعة الأولى ولو من
جهة كونه مطابقا للواقع وان لم يكن بمقتضى القواعد بل من جهة التعبد المحض، يدفعه ظهور الرواية في كون الحكم في الفقرتين على
طبق مقتضى القواعد هذا.
وحينئذ فالتفصي عن الاشكال المزبور لا يكون إلا بالتشبث بفهم العرف بدعوى ان المعيار في اتحاد الظرفين انما هو على الانظار
العرفية لا على النظر الدقي العقلي وان العرف في مثل الفرض يرى ظرف الأمومة متحدا مع ظرف الزوجية بملاحظة شدة اتصال أحد
الظرفين بالآخر فيرون المرضعة الأولى من هذه الجهة أما لزوجته الفعلية وان لم يكن كذلك بحسب الدقة العقلية، بل ولئن تدبرت ترى
كونه كذلك بحسب الدقة أيضا نظرا إلى أن الأمومة وإن كانت في رتبة متأخرة عن علتها التي هي الرضعة الأخيرة لكنها متقارنة معها
زمانا كما هو شأن كل معلول مع علته. وحينئذ فإذا كانت الأمومة متحدة ظرفها زمانا مع ظرف علتها وكانت الزوجية أيضا متحققة
للصغيرة في ذلك الظرف فلا جرم يلزمه اتحاد ظرفي الأمومة والزوجية أيضا بحسب الزمان على نحو الدقة العقلية، وحينئذ فإذا لم يكن
المعيار في اتحاد الظرفين على الاتحاد بحسب المرتبة بل على الاتحاد بحسب الزمان وكان الظرفان أيضا متحدين بحسب الزمان
فقهرا يندفع الاشكال المزبور من رأسه بلا حاجة أيضا إلى التشبث بفهم العرف والمصير إلى تسامحهم في مدلول الكلام كما هو واضح
فتدبر.
الأمر السادس
قال في الكفاية: (ان اختلاف المشتقات حسب اختلاف مباديها من كون المبدأ حرفة في بعضها أو صنعة وبعضها القوة أو الملكة أو
الاعداد لا يوجب تفاوتا واختلافا في الهيئة التي هي الجهة المبحوث عنها في المقام إذ لا يتفاوت حالها باختلاف ما يراد من مباديها من
الأمور المذكورة) ومقصوده (قدس سره) من إيراد هذا التنبيه انما هو منع القائل بالأعم عن التشبث بمثل التاجر والقاضي والكاسب و
المجتهد ونحوها مما يصح إطلاقها على غير المتلبس الفعلي بالمبدأ وانه ليس للقائل بالأعم
131

الاستدلال بالأمثلة المزبورة لاثبات الوضع للأعم باعتبار انه في الأمثلة المزبورة أريد من المبدأ فيها الحرفة أو الصناعة أو الملكة أو
الاعداد، فلا يضر حينئذ تلك الأمثلة بالقائل بالوضع لخصوص المتلبس الفعلي بوجه أصلا هذا محصل مرامه (قدس سره).
أقول: ولا يخفى ان ما أفاده (قدس سره) بحسب الكبرى وإن كان تاما الا ان تمام الاشكال في تحقق صغرياتها، إذ نمنع كون الأمثلة
المزبورة مما أريد من المبدأ فيها الحرفة أو الصناعة أو الملكة والا يلزم كونه كذلك في غير الأسماء من المصادر والافعال أيضا لأنه
بعد انحلال الوضع في المشتقات إلى وضعين: وضع المادة ووضع الهيئة لا يكاد يفرق بين الأسماء والمصادر والافعال، مع أنه كما ترى
حيث لا يكاد ينسق الذهن من إطلاق لفظ أتجر يتجر واتجار والتجارة وكذا لفظ قضى يقضى قضاء واقض (بصيغة الامر) واجتهد
يجتهد اجتهادا ونحو ذلك إلا المبدأ الفعلي المنسوب إلى الذات دون الحرفة أو الصناعة أو الملكة، وحينئذ فعلى ما سلكه (قدس سره) لا
بد اما من الالتزام بتعدد الوضع في المواد بدعوى وضع المادة في غير الأوصاف للمبدأ الفعلي أعني الحدث الخاص وفي الأوصاف
للحرفة أو الصناعة أو الملكة، أو الالتزام بالمجاز في خصوص الأوصاف، وهما كما ترى، ضرورة بعد ان يكون للمواد وضعان في
الأمثلة المزبورة - وضع في خصوص الأوصاف ووضع في غير الأوصاف من المصادر والافعال - كبعد المجازية أيضا في خصوص
الأوصاف، لعدم مساعدة العرف والوجدان عليه كما لا يخفى.
وحينئذ فالذي يقتضيه التحقيق هو ان يقال: بان ما يرى من صحة إطلاق التاجر والقاضي والمجتهد والبقال والنجار ونحوها حتى في
حال عدم الاشتغال الفعلي بالتجارة والقضاوة والاستنباط بل وفي حال الاشتغال بما يضادها كالاكل و الشرب والنوم انما هو من
جهة ان في الذات اقتضاء وجود المبدأ وفعليته الناشئ ذلك الاقتضاء من جهة تكرر المبدأ منه في الخارج وجعله حرفة أو صنعة له كما
في الكاسب والتاجر والبقال ونحوها، أو من جهة جعل جاعل كالحاكم والقاضي ونحوها، أو من جهة تحقق الملكة له كما في المجتهد
والمستنبط والمهندس ونحوها أو من جهة أخرى غير ذلك، ففي الحقيقة لما كان قضية الحرفة والصناعة والملكة ونحوها تحقق
المبدأ في الخارج أوجب ذلك اعتبار العرف بل العقلا وجود المقتضى (بالفتح) أيضا عند تحقق مقتضية (بالكسر) فمن هذه الجهة
يحكمون بوجوده فيطلقون عليه الكاسب والتاجر والقاضي والمجتهد ولو في حال
132

الاشتغال بما يضاد التجارة والقضاوة كما هو الشأن أيضا في غير المقام حيث كان بنائهم على الحكم بوجود المقتضى (بالفتح) و
ترتيب آثار الوجود عليه عند تحقق مقتضية (بالكسر) ومن ذلك مسألة اشتراط سقوط الخيار في حين العقد مع أنه لا وجود له بعد و
إسقاطه من قبل إسقاط ما لم يجب، ومسألة إجارة الدار والدكاكين تمليك منافعها فعلا بعد السنة والسنتين مع أنه لا وجود للمنفعة فلا
حال الانشاء والتمليك. وحينئذ فعلى ذلك يكفي هذا المقدار في صحة إطلاق التاجر والقاضي والمجتهد على الذات حتى في حال
الاشتغال بما يضاد التجارة والقضاوة بلا إضراره بالقائل بالوضع لخصوص المتلبس الفعلي، بلا احتياج أيضا إلى رفع اليد عما يقتضيه
قضية وضع المادة من الفعلية في الأوصاف على خلاف المصادر والافعال بالحمل على إرادة الملكة أو الحرفة والصنعة فيها في
الأوصاف بل تبقى المادة حينئذ على حالها كما في المصادر والافعال ويصار إلى صحة الاطلاق بما ذكرناه من البيان كما لا يخفى.
الأمر السابع
قد عرفت في بعض الأمور المتقدمة ان مجرد هذا النزاع في مدلول كلمة المشتق بأنه للأعم أو المتلبس الفعلي لا يثمر في استنتاج النتيجة
المعروفة إلا بانضمام دعوى ظهور الهيئة الكلامية في القضايا في اتحاد ظرف النسبة مع ظرف التلبس الذي هو ظرف وجود المصداق،
ولقد عرفت ظهور الهيئة الكلامية في القضايا طرا في ذلك ولو من جهة الانصراف، ولكن نقول: بان هذا الظهور انما يكون ويتبع فيما
لم يكن في البين قرينة حالية أو مقالية أو عقلية على الخلاف والا فلا مجال لهذا الظهور ولا لاتباعه على فرض الظهور أيضا مثل ما لو
فرض كون المبدأ أو اتصاف الذات به آنيا غير قابل للدوام والاستمرار كالضرب والقتل ونحو هما، فإنه في تلك الموارد من جهة عدم
قابلية المبدأ للدوام والاستمرار لا يكون للقضايا ذلك الظهور بل ربما يكون فيها الظهور على الخلاف من مغايرة الظرفين، وكذا الامر
في الموارد التي كان للمبدأ قرار واستمرار ولكنه قامت في البين قرينة حالية أو مقالية على اختلاف الظرفين كما لو كان الحكم
المترتب في البين استقباليا بالنسبة إلى عنوان المبدأ فإنه في تلك الموارد يستفاد ان تلبس الذات بالمبدأ واتصافها به في آن علة
لترتب الحكم عليه إلى الأبد بلا حاجة في إبقاء الحكم عليه إلى بقاء تلبسه بالمبدأ كما في مثل (السارق والسارقة فاقطعوا إلخ) وعلى
ذلك نقول: بأنه ليس للقائل بالأعم التمسك ببعض الأمثلة لاثبات مطلوبه من نحو قوله: اقتل القاتل أو
133

الضارب، وقوله سبحانه (السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) و (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما إلخ) إذ نقول: بان هذه كلها
من الموارد التي قامت القرينة العقلية أو غيرها على مغايرة ظرف الحكم مع ظرف وجود المصداق وان الجري والتطبيق فيها كان على
المجرى عليه السابق أي القطعة المتلبسة بالمبدأ في السابق لا على القطعة الفعلية كي يلزمه اتحاد الظرفين فيكون تلبس الذات في تلك
الموارد علة لترتب حكم الجلد أو القطع عليه إلى الأبد ولو بعد انقضاء المبدأ عنه، كما يشهد لذلك قضية التفريع أيضا في قوله سبحانه:
السارق والسارقة فاقطعوا، والزانية والزاني فاجلدوا، وحينئذ فلا ينافي قضية وجوب الجلد وقطع اليد عدم صحة إطلاق السارق و
الزاني الفعلي عليه كي يشكل بأنه كيف ذلك مع فرض عدم صدق السارق الفعلي عليه فتدبر.
الثامن من الأمور:
لا يخفى عليك انه لا أصل في المسألة يحرز به أحد الاحتمالين من الوضع للأعم أو المتلبس الفعلي، وأصالة عدم ملاحظة عدم ملاحظة
الخصوصية معارضة بأصالة عدم ملاحظة العمومية، ومع تسليم عدم احتياج الثانية إلى ملاحظة العمومية وانها يكفيها عدم ملاحظة
الخصوصية، نقول بأنه لا يكاد يثبت بها الوضع للأعم، من جهة عدم الدليل على اعتبار مثل هذا الأصل في مقام تعيين الأوضاع، ولا سيرة
من العقلا أيضا على ذلك كي بمعونة عدم الردع يستكشف الامضاء، وانما القدر الذي عليه سيرة العقلا انما هو في الشكوك المرادية و
أين ذلك ومقام تعيين الأوضاع كما لا يخفى. وحينئذ فلو ورد دليل على وجوب إكرام العالم أو إهانة الفاسق فينتهى الامر إلى الأصول
العملية من استصحاب وجوب أو حرمة إذا كان في البين حالة سابقة، كما لو ورد دليل على وجوب إكرام زيد العادل حال تلبسه بالعدالة
فانقضى عنه العدالة بعد ذلك واتصف بما هو ضدها فإنه حينئذ يشك في وجوب إكرامه فيستصحب حكمه السابق وهو وجوب الاكرام،
واما إذا لم يكن في البين حالة سابقة فيرجع إلى البراءة للشك في أصل التكليف بالاكرام بالنسبة إليه، يفرض ذلك فيما لو كان ورود
الدليل على وجوب إكرام العادل بعد انقضاء العدالة عن زيد. وبالجملة فبعد انتهاء الأمر إلى الأصول العملية يختلف مجاريها بحسب
اختلاف الموارد استصحابا أو برأة واشتغالا فلا بد من لحاظ خصوصيات الموارد بإعطاء كل حكمه. وإذا عرفت هذه الأمور فلنشرع
فيما هو المهم والمقصود من الوضع للأعم أو
134

لخصوص المتلبس الفعلي، فنقول: ان الأقوال في المسألة وان كثرت من القول بالوضع لخصوص المتلبس الفعلي، والقول بالوضع للأعم،
والتفصيل بين المحكوم والمحكوم عليه، وغيره من التفاصيل المذكورة في المطولات الا انا نكتفي بذكر القولين الأولين لكونهما هما
العمدة في الباب.
فنقول: ان المختار من القولين المزبورين هو الأول من الوضع لخصوص المتلبس الفعلي.
لنا على ذلك أولا: التبادر حيث كان المتبادر من إطلاق قولك زيد قائم أو عادل هو خصوص المتلبس الفعلي بالمبدأ دون الأعم منه وما
انقضى عنه المبدأ، بل وصحة سلب القائم والعادل عن المنقضى عنه القيام والعدالة حقيقة، فإنه يصح ان يقال: إنه ليس بقائم أو عادل
فعلا حقيقة بل هو قاعد وفاسق فعلا، فان من الواضح انه لو كان المشتق حقيقة في الأعم لما صح السلب المزبور عمن كان سابقا متلبسا
بالقيام والعدالة، مع أن صحة سلب القائم والعادل عنه في الوضوح كالنار على المنار والشمس في رابعة النهار، كيف وقد عرفت بأنه
يصدق عليه فعلا ما يضاده بحسب الارتكاز لضرورة صدق القاعد الفعلي عليه بعد انقضاء القيام عنه وصدق الجاهل والفقير عليه فعلا
بعد انقضاء العلم والغنى عنه، وهكذا في مثل الاكل والفارغ عن الاكل والمشتغل به فإنه بعد فراغه عن الاكل لا يكاد يصدق عليه عنوان
المشتغل بالاكل بل يصدق عليه بالضرورة عنوان الفارغ، والمشتغل والفارغ أيضا من المشتقات.
بل ولئن تدبرت ترى كون هذا الوجه برهانا تاما مستقلا على عدم كون المشتق حقيقة الا في خصوص المتلبس الفعلي كما قرب أيضا
بتقريب انه لا ريب في مضادة الأوصاف المتقابلة المأخوذة من المبادي المتضادة بحسب الارتكاز كالأبيض والأسود والعالم والجاهل
ونحوها بنحو يأبى الارتكاز عن صدقها على موضوع واحد في زمان واحد، ومن المعلوم ان مثل هذه المضادة الارتكازية انما يتم على
مسلك من اعتبر التلبس الفعلي لان لازمه حينئذ كون شخص واحد في زمان واحد مصداقا فعليا للأبيض والأسود والعالم والجاهل و
القائم والقاعد والمشتغل والفارغ ونحوها وهو مما يكذبه الوجدان السليم بحسب ما له من الارتكاز بالمضادة بين تلك الأوصاف. و
اما بناء على القول بالأعم فلا يتم ذلك لان لازمه ان لا يكون مضادة بين الأوصاف المزبورة بل كان بينها المخالفة التي لازمها عدم
الاباء عن الاجتماع في موضوع واحد، كما هو الشأن في كلية المتخالفين
135

كالسواد والحلاوة، مع أنه ليس كذلك قطعا لقضاء الوجدان حسب ما له من الارتكاز بالمضادة التامة بين القائم والقاعد ويبن العالم و
الجاهل والصحيح والمريض والأبيض والأسود، كالمضادة بين مبدأيها. وحينئذ فكان نفس تلك المضادة الارتكازية بين الأوصاف
المزبورة أقوى شاهد وأعظم برهان على بطلان القول بالأعم.
ولا يخفى عليك بأنه على هذا التقريب لا يبقى موقع للاشكال عليه بما أفيد من منع المضادة بين نفس الأوصاف لكون التلبس بالوجود
المطلق أعم من التلبس الفعلي، فيمكن ان يكون جسم واحد مثلا يصدق عليه مفهوم الأبيض بمعنى اتصافه بالبياض الذي وجد فيه فانقضى
عنه حال النسبة ويصدق عليه مفهوم الأسود أيضا على معنى اتصافه بالسواد المتلبس به في الحال فهذان العنوانان مما لا تضاد بينهما
أصلا وانما التضاد بين مبدأيهما ولا يلزم من ذلك اجتماعهما في موضوع واحد بوجه أصلا. إذ فيه ما لا يخفى فإنه بعد إن كان مراد
القائل بالأعم هو صدق المشتق حقيقة فعلا على المنقضى عنه المبدأ في الحال كصدقه على المتلبس الفعلي نظرا إلى دعوى كونه من
المصاديق الحقيقية لمفهوم الأبيض والأسود بحيث يصح إطلاقه عليه فعلا بقولك هذا الجسم أبيض فعلا بمحض تلبسه بالبياض سابقا،
فلا جرم لا موقع لهذا الاشكال لأنه بعد تحقق المضادة الارتكازية بينهما كما فيما بين مبدأيهما وإباء الوجدان عن صدق القائم و
المشتغل عليه فعلا في حال تلبسه بالقعود وفراغه عن المبدأ يتم المطلوب ويبطل به دعوى القائل بالأعم، واما المنع عن أصل تلك
المضادة حتى بحسب الارتكاز فليس الا المكابرة مع الوجدان.
ثم إنه من هذا البيان ظهر أيضا اندفاع ما أورد من الاشكال على صحة السلب المزبور كما عن الفصول (قدس سره) فيما حكى عنه: من
تقريب انه ان أريد من صحة السلب صحته مطلقا فغير سديد إذ لا يصدق على من انقضى عنه القيام انه ليس بقائم مطلقا لا في الحال ولا
في الماضي بل يصدق عليه انه قائم في الجملة ولو في الماضي، وان أريد به صحته مقيدا فغير مفيد لان علامة المجاز انما هو صحة السلب
مطلقا وفيما انقضى عنه المبدأ انما يصح السلب مقيدا بالحال لا مطلقا ومثل ذلك لا يكون من علائم المجاز كما لا يخفى. وجه الاندفاع
هو ما عرفت من أن هم القائل بالأعم إنما هو صدق المشتق حقيقة فعلا على المنقضى عنه المبدأ كصدقه على المتلبس الفعلي، نظرا إلى
كونه من الافراد الحقيقة لهذا العنوان بمحض التلبس السابق، ومن المعلوم انه يكفي في إبطاله صحة سلب
136

القائم الفعلي عنه إذ عدم صدق القائم الفعلي على المنقضى عنه القيام يكفي في عدم كونه من المصاديق الحقيقية للعنوان كما هو واضح.
نعم لو اعتبر التقيد المزبور في طرف المادة لا في طرف الاتصاف بالعنوان كما في قولك في زيد الذي انقضى عنه القيام فعلا: انه ليس
بقائم بالقيام الفعلي بل هو قاعد بالقعود الفعلي لاتجه الاشكال المزبور بان سلب القائم بالقيام الفعلي عن زيد لا يقتضى سلبه عنه
بمطلق القيام ولو في الماضي. ولكن نقول أيضا: بان سلب القائم بالقيام الحالي عن زيد لما كان يلازم صحة سلب الاتصاف بالقائم
الفعلي فبهذا لاعتبار يتم السلب المزبور في إبطال قول مدعى الوضع للأعم، وذلك لما تقدم من أن هم القائل بالأعم انما هو صدق
المشتق بما له من المعنى فعلا وفي الحال على المنقضى عنه المبدأ كصدقه على المتلبس الفعلي بالمبدأ. وحينئذ فيكون صحة السلب
المزبور كاشفا عن عدم كون المنقضى عنه القيام حالا من المصاديق الحقيقية لعنوان القائم وإلا لما كاد يصح السلب المزبور كما في
الملتبس الفعلي من جهة منافاة هذا المعنى بالضرورة مع صحة سلب العنوان الحالي عنه كما هو واضح.
ثم إن هذا كله بناء على جعل التقيد بالحال معتبرا في ناحية المسلوب الذي هو المحمول أي الوصف أو المبدأ ولقد عرفت بأنه على
التقديرين يتم السلب المزبور لا ثبات المطلوب بلا ورود إشكال عليه. واما بناء على اعتباره في ناحية السلب أو الموضوع فالامر
أوضح، فإنه على الأول قد سلب معنى القائم بقول مطلق عن الموضوع المطلق غايته بالسلب المقيد كونه بلحاظ الحال الفعلي وهو حال
الانقضاء، وعلى الثاني قد سلب معنى القائم أيضا بقول مطلق بالسلب المطلق عن الذات المقيدة بكونها في حال انقضاء المبدأ عنها وعلى
التقديرين يكون صحة السلب المزبور وافيا لاثبات المطلوب فلا يفرق حينئذ بين سلب المقيد (بالإضافة) والسلب المقيد (بالتوصيف) و
السلب عن المقيد فتدبر. ولكن الأستاذ (دام ظله) لم يتعرض لفرض صورة إرجاع القيد إلى السلب أو إلى الموضوع وانما تعرضه كان
لصورة إرجاعه إلى المسلوب الذي هو المحمول.
ثم إنه من التأمل فيما ذكرنا ظهر لك أيضا اندفاع ما أورد أيضا على التبادر المدعى: من دعوى ان مثل هذا التبادر لا يكون مستندا إلى
حاق اللفظ وانما هو من جهة قضية الاطلاق الناشئ من جهة غلبة الاطلاق على المتلبس الفعلي، ولا أقل من احتمال ذلك فلا يكون دليلا
على المدعى لان التبادر الذي يثبت به الوضع انما هو التبادر المستند إلى
137

حاق اللفظ لا مطلقا ولو المستند إلى قضية الاطلاق. توضيح الدفع: انه لو كان الامر كما ذكر من استناد التبادر إلى قضية الاطلاق الناشئ
من جهة الغلبة يلزمه لا محالة صحة إطلاقه أيضا على المنقضى عنه المبدأ بلا رعاية عناية في البين كما في إطلاقه على المتلبس الفعلي، من
جهة بداهة انه لا يمنع مجرد الغلبة وكثرة الاطلاق عن صحة الاطلاق على الفرد النادر، ومن ذلك ترى صحة إطلاق الانسان على من له
رأسان وأياد أربع مع أنه من الندرة ما لا يخفى، مع أنه بشهادة الارتكاز نرى عدم صحة إطلاق المشتق على من انقضى عنه المبدأ فعلا بل
وصحة سلبه عنه كما عرفت وحينئذ فيتم دعوى القائل بالوضع لخصوص المتلبس الفعلي بالمبدأ.
ثم لا يخفى عليك انه على ما ذكرناه من التقريب لاثبات الحقيقة في خصوص المتلبس الفعلي لا يكاد يفرق في أنحاء المشتقات بين كونه
محكوما أو محكوما عليه وبين اسم الفاعل والمفعول وبين المأخوذ من المبادي اللازمة أو المتعدية إلى غير ذلك من التفاصيل، فلا بد
من المصير إلى كونه حقيقة في خصوص المتلبس الفعلي بقول مطلق كما هو واضح.
بقي الكلام في ذكر أدلة القول بالأعم، فنقول:
انه استدل للأعم أيضا بوجوه:
منها: التبادر الذي قد عرفت خلافه وان المتبادر لا يكون الا خصوص المتلبس الفعلي بالمبدأ.
ومنها: صحة الاطلاق وعدم صحة السلب كما في نحو مظلوم و مقتول وشهيد ونحو ذلك وفيه ان يرى من صحة الاطلاق فإنما هو
بلحاظ حال التلبس لا بلحاظ حال النسبة وحال الجري والتعليق، ولقد عرفت كونه بنحو الحقيقة حتى عند القائل بالتلبس الفعلي نظرا
إلى أن المجرى عليه بهذا الجري انما كان عبارة عن قطعة خاصة من الذات التي تلبست سابقا بالمبدأ ولكنه لا يجدى ذلك للخصم. نعم
انما يجدى ذلك له فيما لو كان المجرى عليه أيضا عبارة عن القطعة الفعلية من الذات ولكن نحن نمنع حينئذ عن صحة الاطلاق المزبور
بل نقول بصحة سلبه عنه وانه لا يصح ان يقال لزيد المضروب سابقا انه مضروب فعلا كما يصح ذلك في المضروب الفعلي، واما إطلاق
مقتل الحسين عليه السلام على اليوم العاشر من المحرم فهو من باب التشبيه لا من باب انه حقيقة في الأعم.
138

ومنها: صحة الاطلاق في مثل التاجر والقاضي والمجتهد حتى في حال النوم ونحوه. والجواب عنه قد تقدم في الأمر السادس فراجع.
ومنها: استدلال الإمام عليه السلام بقوله سبحانه (لا ينال عهدي الظالمين) لاثبات عدم لياقة عابد الصنم والوثن لمنصب الخلافة و
الإمامة بتقريب: انه لولا الوضع للأعم لما تم الاستدلال بالآية المباركة لعدم اللياقة لمنصب الإمامة. وفيه ما تقدم بان الجري فيه انما هو
بلحاظ حال التلبس السابق لا بلحاظ الحال الفعلي فيكون مبنى استدلاله عليه السلام على أن التلبس بعبادة الصنم (التي هي أعظم أنحاء
الظلم ولو في زمان) علة لعدم النيل بمنصب الخلافة والإمامة إلى الأبد وعليه لا يكاد يفيد ذلك للقول بالأعم كما هو واضح. نعم غاية ما
هناك انما هو لزوم رفع اليد عما يقتضيه ظاهر الهيئة الكلامية من اتحاد ظرف النسبة والحكم مع ظرف وجود المصداق الذي هو ظرف
التلبس فإنه على ذلك يختلف الظرفان حيث كان ظرف الحكم بعدم النيل بالخلافة فعليا وظرف وجود المصداق فيما مضى من الزمان
المتقدم، ولكنه نقول، بأنه لا ضير في ذلك بعد قيام القرينة الخارجية أو الداخلية على المغايرة بين الظرفين وكون الشرك بالله عز و
جل علة لحدوث الحكم بعدم النيل بمنصب الخلافة وبقائه إلى الأبد خصوصا بعد عدم كون الظهور المزبور ظهورا وضعيا بل ظهورا
إطلاقيا، مع أنه لو فرض كونه ظهورا وضعيا لا إطلاقيا وقلنا بجريان أصالة الظهور فيه حتى مع وجود القرينة على الخلاف نقول بأنه لا
يقتضى ذلك أيضا إثبات الوضع في مدلول الكلمة وهي المشتق، كما هو واضح.
ومنها: آيتا حد السارق والزاني من قوله سبحانه (السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) () و (الزانية والزاني فاجلدوا إلخ) () والجواب
عن ذلك أيضا هو ما تقدم في الأمر السادس ومحصله في جميع ذلك كله: هو ان تلك الموارد كلها من الموارد التي يكون الاتصاف
بالعنوان ولو في آن علة لحدوث الحكم وبقائه إلى الأبد ن دون احتياج في بقاء الحكم إلى بقاء الاتصاف بالعنوان أصلا، كما هو واضح.
هذا كله فيما استدل به للقول بالأعم، ولقد عرفت عدم تمامية شئ من الوجوه
139

المزبورة لا ثبات كون المشتق حقيقة في الأعم وان التحقيق هو كونه حقيقة في خصوص المتلبس الفعلي، لما ذكرنا من التبادر وصحة
السلب عن المنقضى عنه المبدأ وارتكاز المضادة، من غير فرق بين وقوعه محكوما أو محكوما عليه وبين كونه مأخوذا من المبادي
المتعدية أو اللازمة وبين اسم الفاعل والمفعول كما مرت الإشارة إليه.
نعم في المقام قول آخر بالتفصيل بين القول بتركيب المشتق من المبدأ والذات وبساطته وجعله عبارة عن نفس المبدأ لا بشرط: من
دعوى كونه حقيقة في الأعم على الأول وفي خصوص المتلبس الفعلي عل الثاني، نظرا إلى عدم تصور الانقضاء عليه، وسيجئ الكلام
فيه وفي عدم صحته أيضا في تنبيهات المسألة عند التعرض لبيان بساطة المشتق وتركبه إن شاء الله تعالى.
وينبغي التنبيه على أمور
الأمر الأول:
انه قد وقع الكلام بين الاعلام في أن المشتق بسيط أم مركب من المبدأ والذات. ولتنقيح المرام لا بد من بيان المحتملات المتصورة في
التركب والبساطة في المقام.
اما تركبه فله صورتان: الأولى تركب المشتق بحسب المفهوم على معنى ان يكون مفهوم المشتق عبارة عن معنى تركيبي، وهو الذات
التي ثبت لها المبدأ وفي قباله بساطة مفهومه وعدم تركبه. الثانية تركبه بحقيقته وبمنشأ انتزاعه مع بساطة أصل مفهومه كما نظيره
في مثل الانسان، حيث إنه مع بساطة مفهومه وعدم تركبه يكون حقيقته مركبة من الامرين عند التحليل: الحيوان والناطق فيقال فيه: انه
حيوان ناطق، من دون ان يكون مثل هذا التركيب التحليلي العقلي في منشأه موجبا لتركب مفهومه وفي قبال ذلك بساطته حتى بحقيقته
ومنشأ انتزاعه علاوة عن بساطة مفهومه هذا. ولكن الظاهر هو عدم إرادة القائل بالتركب التركب بالمعنى الأول، كيف وانه من البعيد
كله دعواهم كون المفهوم من المشتق هو المعنى التركبي أي الذات الثابت لها المبدأ بل الظاهر هو إرادتهم من التركب تركبه بحقيقته و
ما هو منشأ انتزاع هذا المفهوم مع بساطة أصل مفهومه وتسليم انه لا يكاد ينسبق في الذهن من مثل القائم والقاعد إلا الشكل الخاص
على النحو الذي كان في الخارج. وعليه فيكون مركز النزاع في المشتق من جهة التركب والبساطة في أصل
140

حقيقته لا في مفهومه، فحيث ان المنسبق من مثل القائم والقاعد ونحو هما في الذهن كان هو الشكل الخاص على النحو الذي كان في
الخارج من الهيئة الخاصة وكان ذلك الشكل والصورة الخاصة منحلا بحسب التحليل إلى ذات ومبدأ قائم بها، وقع الخلاف بينهم في أن
كلمة المشتق، وهو القائم مثلا، موضوع لمجموع هذه الأمور الثلاثة بحيث كان جهة الذات أيضا جز للمدلول؟ أم لا بل تكون جهة الذات
خارجة عن المدلول رأسا؟ ثم على فرض خروج الذات عن المدلول فهل المشتق عبارة عن المبدأ وجهة قيامة بالذات؟ أم لا بل يكون
المشتق عبارة عن نفس المبدأ محضا بحيث كان جهة قيامه بالذات كنفس الذات خارجة عن المدلول؟ وعلى هذا ربما تكون المحتملات
المتصورة على البساطة أيضا ثلاثة: الأول كونه أي المشتق عبارة عن المبدأ وجهة قيامه بالذات التي هي معنى حرفي مع خروج الذات
عن مدلوله، فبساطته على هذا المعنى انما هي بالإضافة إلى الذات وإلا ففي الحقيقة يكون أيضا مركبا من الامرين، الثاني كونه عبارة
عن أمر وحداني وهو المبدأ محضا مع خروج جهة قيامه بالذات أيضا كنفس الذات عن المدلول. وهذا أيضا يتصور على وجهين: الأول
كونه عبارة عن المبدأ محضا لكن لا مطلقا بل في حال قيامه بالذات واتحاده معها بنحو القضية الحينية لا التقييدية، الثاني كونه عبارة
عن نفس المبدأ محضا قبالا للذات لكن بما هو مأخوذ بعنوان اللابشرطي فيكون الفرق بينه وبين المصدر - كما أفادوه - كالفرق بين
الجنس والفصل والهيولي والصورة من جهة اللا بشرطية والبشرط لائية.
فهذه الصور المتصورة من التركب والبساطة في المقام. وربما يختلف بعضها مع بعض آخر منها بحسب اللوازم، فان من لوازم المعنى
الأول وكذلك المعنى الثاني من البساطة عدم جواز حمل المشتق على الذات من جهة انتفاء شرط الحمل الذي هو الاثنينية بحسب المفهوم
في الذهن، فان المبدأ عي المعنيين بعد ما لا يرى في الذهن منفكا عن الذات بل يرى متحدا معها فلا جرم لا يكون مثل هذا الصقع من
صقع الحمل على الذات كي يصح فيه الحمل، نعم في مقام الحمل على المصداق كما في قولك: زيد عالم أو ضارب صح الحمل لتحقق أركانه
التي هي اثنينية الموضوع المحمول في الذهن واتحادهما بنحو من الاتحاد في الخارج، ولكنه أجنبي عن مقام حمل المبدأ على الذات في
مدلول الكلمة. وهذا بخلافه على البساطة بالمعنى الأخير، فإنه عليه باعتبار أخذ المشتق عبارة عن مجرد
141

المبدأ المقابل للذات كان لصحة الحمل على الذات كمال مجال وذلك من جهة تحقق ركنية وهما اثنينية الموضوع والمحمول في الذهن و
اتحاد هما في الخارج.
ومن جملة اللوازم أيضا انه على المعنيين الأولين من البساطة ربما صح جعل العناوين الاشتقاقية كالعالم والعادل ونحو هما موضوعا
للأحكام من نحو الاطعام والاكرام كما في قولك: أطعم العالم وأكرم العادل وقبل يد العالم ورجله، فإنه بعد ما كان المشتق أخذ وجهة
وعنوانا للذات بنحو كان النظر إلى الذات استقلاليا وإلى العنوان تبعيا كما في النظر إلى زيد الذي يتبعه النظر إلى لباسه كما سيجئ،
فلا جرم من هذه الجهة صح جعلها موضوعا للأحكام المزبورة، ولا يتوجه الاشكال عليه بأنه كيف يصح إضافة الاكرام والاطعام و
تقبيل اليد والرجل إلى عنوان العالم مع أنه لا يد للمبدأ ولا بطن له حتى يصح تعلق التكليف بإطعامه وتقبيل يده، فإنه على ما ذكرنا
يكون ما أضيف إليه الاكرام والاطعام هو نفس الذات خاصة غايته لا مطلقا بل بما هي متجلية بجلوة العلم والعدالة. وذلك بخلافه على
المعنى الأخير من الباسطة من جعله عبارة عن نفس المبدأ قبالا للذات، إذ عليه لا مجال لإضافة الاحكام المزبورة إلى العناوين المزبورة
ولو اعتبر كونها لا بشرط الف مرة، فان لازمها كونها منظورة بالنظر الاستقلالي من دون نظر إلى الذات في عالم من العوالم الا تبعا
للعنوان، ولازمه هو توقف الحكم في مقام إضافة الاكرام والاطعام على نفس العنوان وهو المبدأ فيتوجه حينئذ الاشكال المزبور.
ومن ذلك البيان ظهر الحال بناء على القول بالتركيب أيضا، حيث إن الاشكال يتوجه بالنسبة إلى جزئه الذي هو المبدأ.
كما أنه من البيان المزبور ظهر أيضا نكتة الفرق بين البساطة بالمعنى الثاني وبين البساطة بالمعنى الأخير، فإنهما وان اشتركا في
بساطة العنوان وكونه عبارة عن نفس المبدأ خاصة الا انهما يفترقان من تلك الجهة، فان المبدأ على البساطة بالمعنى الثاني لما أخذ
كونه متحدا مع الذات بنحو القضية الحينية لا التقييدية فلا جرم بهذا الاعتبار يكون ملحوظا وجهة وعنوانا للذات وبهذا الاعتبار يكون
النظر إلى الذات استقلاليا وإلى العنوان المتحد معها تبعيا، فيصح حينئذ إضافة الاكرام والاطعام إليه في قولك: أكرم العالم وأطعم
العادل ولكن مثل هذا الاعتبار لا يتأتى على البساطة بالمعنى الأخير كما شرحناه فتدبر.
142

وكيف كان فبعد ان ظهر لك هذه الجهة فلنذكر ما يقتضيه التحقيق في المقام من المحتملات المزبورة للتركب والبساطة.
فنقول: اما احتمال تركب المشتق من المبدأ والذات فلا شبهة في كونه بمعزل عن التحقيق ويظهر وجه مما قدمناه سابقا في كيفية
أوضاع المشتقات وانحلال الوضع في كل واحد منها إلى وضعين: وضع المادة ووضع الهيئة، إذ نقول: بأنه لو كان الذات مأخوذة في
الأوصاف فلا جرم الدال عليها اما ان يكون هي المادة أو الهيئة، مع أنه ليس في شئ منهما الدلالة عليها أصلا، إذا لمادة لا تدل حسب
وضعها النوعي الساري في جميع الصيغ إلا على نفس الحدث، واما الهيئة الخاصة فيها فهي أيضا لا تدل الا على قيام هذا المبدأ بالذات
الذي هو معنى حرفي وحينئذ فأين الدال على الذات؟ نعم لو قيل بان الوضع في خصوص الأوصاف من بين المشتقات من قبيل الوضع في
الجوامد من دعوى وضع المادة والهيئة فيها مجموعا للذات المتلبسة بالمبدأ لكان لدعوى تركب المشتق من المبدأ والنسبة والذات كما
مجال، ولكنه كما عرفت خلاف التحقيق وخلاف ما عليه المحققون في كلية المشتقات التي منها الأوصاف من انحلال الوضع فيها كما هو
واضح.
وحينئذ فبعد بطلان القول بالتركيب من المبدأ والذات يدور الامر بين المحتملات الثلاثة المتصورة على البساطة من الوضع لامرين:
المبدأ وإضافة قيامه بالذات كي يكون دلالته على الذات من جهة الملازمة، أو الوضع لأمر واحد وهو المبدأ خاص لكنه في حال كونه
متحدا مع الذات بنحو القضية الحينية لا التقييدية فتكون الإضافة أيضا كنفس الذات خارجة عن المدلول، أو الوضع للمبدأ قبالا للذات لكنه
بما هو ملحوظ بعنوان اللابشرطي كما تقدم بيانه، وفي مثله لا ينبغي الاشكال في أن المتعين منها هو المعنى الأول من البساطة: من جعله
عبارة عن المبدأ القائم بالذات غايته بما انه ملحوظ وجها وعنوانا للذات وطورا من أطوارها، فان هذا المعنى هو الذي تقتضيه قاعدة
انحلال أوضاع المشتقات بحسب المادة والهيئة، حيث نقول: بان المادة في الأوصاف وضعت للدلالة على نفس الحدث، والهيئة فيها
وضعت للدلالة على إضافة قيام المبدأ بالذات، وهذا بخلافه على المعنى الثاني والثالث فإنه عليهما لا بد من إخراج الأوصاف عما
يقتضيه قاعدة انحلال الوضع في المشتقات والمصير إلى دعوى كون الوضع في خصوص الأوصاف من قبيل الوضع في الجوامد من
وضع مجموع المادة والهيئة فيها بوضع وحداني لمعنى حدثي خال عن
143

الإضافة والنسبة على خلاف بقية الصيغ من المصادر والافعال وهو كما ترى، وخصوصا مع ما في المعنى الثالث من استلزامه لبعض
التوالي الفاسدة التي منها ما ذكر، ومنها عدم صحة جعل تلك الأوصاف موضوعات للأحكام الخاصة من مثل الاكرام والاطعام وتقبيل
اليد والرجل كما مرت الإشارة إليه، فان لحاظ المبدأ بالعنوان اللابشرطي لو كان يجدى فإنما هو بالنسبة إلى مقام الحمل لا في مقام
إضافة الاحكام المزبورة إليه من نحو قولك: أكرم العالم وأطعم العالم والنظر إلى وجه العالم عبادة وإلى باب داره عبادة، وذلك من
جهة وضوح ان ما هو الموضوع للأحكام المزبورة في مقام النسبة الحكمية ليس إلا نفس الذات دون المبدأ وان لوحظ كونه بالعنوان
اللابشرطي الف مرة كما هو واضح، ومنها عدم تصور جريان النزاع المعروف في المشتق في أنه للأعم أو المتلبس الفعلي على هذا
القول من جهة عدم تصور الانقضاء فيه كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، ومنها غير ذلك من التوالي الفاسدة.
ومن ذلك نقول: بان أردأ المباني والمسالك في المقام هو المسلك الأخير بملاحظة ما فيه من التوالي الفاسدة التي لا يمكن الالتزام
بواحد منها، بخلافه على المسلك الأول من البساطة الذي اخترناه وسلكناه فإنه عليه لا يتوجه شئ من التوالي الفاسدة بل عليه يجمع بين
ما يقتضيه ظواهر القضايا من مثل قوله (أكرم العالم) من إناطة الاكرام إلى نفس العنوان وبين كون المتعلق وما أضيف إليه الاكرام هو
نفس الذات دون المبدأ ودونها والمبدأ معا، مع الالتزام أيضا ببساطة المشتق وعدم تركبه من المبدأ والذات كما هو قضية القول
بالتركيب وعدم الخروج أيضا عن قاعدة انحلالية الأوضاع في المشتقات في خصوص الأوصاف، فان الجمع بين الأمور المزبورة لا
يكاد يمكن الا بالمصير إلى ما ذكرنا من جعل مفاد الأوصاف عبارة عن المبدأ القائم بالذات غايته لا بما ان المبدأ يكون ملحوظا
استقلالا في قبال الذات بل بما انه وجه وعنوان للذات بنحو لا يرى من مثل العالم والقائم والقاعد الا الذات المتجلية بجلوة العلم والقيام
والقعود. وربما يؤيد ذلك بل يشهد عليه أيضا ما وقع منهم من الصدر الأول إلى الان من التعبير عن المشتق - في مقام تحرير أصل
عنوان المسألة وغيره - بالذات المتلبسة بالمبدأ فان في تعبيرهم بالتلبس بالمبدأ شهادة على أن المبدأ في الأوصاف لا يكون الا
مأخوذا كونه لباسا للذات ووجها لها بنحو كان النظر إلى الذات في مقام الحكم على العنوان استقلاليا وإلى نفس المبدأ تبعيا
144

نظير النظر إلى زيد الذي يتبعه النظر إلى لباسه أيضا كما هو ذلك أيضا في مقام الخارج.
وكيف كان فمن التأمل فيما ذكرنا ظهر لك أيضا وجه صحة جعل الأوصاف محمولات في القضايا في مثل قولك: زيد قائم أو عالم، إذ
نقول: بان لحاظ المبدأ بالعنوان اللابشرطي أعني لحاظه لا في قبال الغير وإن كان مصححا للحمل - كما أفادوه في مقام الفرق بين
الأوصاف والمصادر من حيث إباء الثاني وعصيانه عن الحمل دون الأول وكذا في أجزأ المركب في المركبات الخارجية والتحليلية
في نحو الجنس والفصل والهيولي والصورة - لكن ما هو المصحح للحمل في الحقيقة بعينه هو المصحح في صورة وقوع الأوصاف
موضوعا للأحكام، وذلك لما يرى بالوجدان من عدم الفرق بين صورة جعل تلك الأوصاف موضوعا للأحكام في القضايا وبين صورة
جعلها محمولا فيها، وان ما هو المحمول في مثل زيد ضارب بعينه هو الموضوع للحكم في مثل قوله: أطعم الضارب، من دون رعاية
عناية في البين أصلا، فيكون يكشف ذلك عما ذكرناه من المناط وانه انما هو باعتبار أخذ المبدأ ولحاظه وجها وعنوانا للذات وطورا
من أطوارها لا من جهة اعتباره بعنوان اللا بشرطية وإلا يلزمه الاحتياج إلى رعاية عناية في البين في صورة جعل الأوصاف موضوعا في
القضايا. وحينئذ ففي ذلك أيضا شهادة على بطلان المسلك الثالث في البساطة، لأنه على ذلك المسلك لا يكون المشتق الا عبارة عن
صرف المبدأ المقابل للذات فليس هناك ذات حينئذ كي يصح ان يجعل المبدأ وجها وعنوانا لها كما لا يخفى.
لا يقال: بأنه على المعنيين الأولين من البساطة كما يمكن ان يكون المبدأ ملحوظا تبعا للذات ووجها لها كذلك يمكن ان يكون ملحوظا
استقلالا لا تبعا للذات وعليه فلا يختص الاشكال بالمسك الأخير.
فإنه يقال: نعم انه وان أمكن ذلك أيضا إلا أن المعين لتبعية للذات في مقام اللحاظ انما هو وقوعها موضوعا لبعض الأحكام الخاصة من
نحو وجوب الاكرام والاطعام وتقبيل اليد والرجل ونحوها مما لا يصح تعلقها الا بنفس الذات فكان مثل هذا المعنى قابلا للسريان في
جميع الموارد بخلافه على المعنى الاخر كما هو واضح.
إخطار: قد تقدم في أصل المسألة قول لبعض الاعلام بالتفصيل - في كون المشتق حقيقة في الأعم أو المتلبس الفعلي - بين كون المشتق
مركبا أو بسيطا وانه على الأول يتعين القول بكونه حقيقة في الأعم وعلى الثاني يكون حقيقة في خصوص المتلبس الفعلي
145

نظرا إلى أن الحمل لا يكون الا بملاك الاتحاد في الوجود والاتحاد لا يكون إلا في ظرف الوجود. ولكن التحقيق يقتضى خلافه، إذ نقول:
بأنه اما على القول بالتركيب سوأ كان ثلاثيا أو ثنائيا فلا شبهة في أنه قابل في نفسه للاختصاص بالمتلبس الفعلي أيضا ولا يتعين
القول به للقول بالحقيقة في الأعم، كما عرفت شرحه مفصلا، بل قد عرفت فيما سبق بمقتضى الأدلة المتقدمة تعين القول بالمتلبس
الفعلي، واما على القول بالبساطة فعلى البساطة بالمعنى الثاني أيضا يكون قابلا للامرين إذ مرجع النزاع حينئذ إلى أن المشتق حقيقة
في المبدأ بمقدار اتحاده مع الذات وتطابقه معها كي يختص بالمتلبس الفعلي، أو انه حقيقة فيه لا بهذا النحو بل مع تجويز كون الذات
أوسع منه كي يعم حال التلبس وغيره. نعم على المعنى الثالث في البساطة لما كان لم يؤخذ فيه ذات ولم تلحظ إلا نفس المبدأ في قبال
الذات يتعين عليه القول بخصوص المتلبس الفعلي لكن ذلك أيضا لا من جهة انه هو المختار في المسألة بل من جهة عدم تصور جريان هذا
النزاع فيه لعدم تصور الانقضاء فيه. وهذا بخلافه على المعاني الاخر فإنه فيها تكون الذات ملحوظة إجمالا اما ضمنا أو استقلالا بلحاظ
المبدأ تبعا لها فتكون قابلة بهذه الجهة لجريان النزاع فيها في كونه للأعم أو المتلبس الفعلي. وعليه فالتفصيل المزبور بين القول
بالتركب وبين القول بالبساطة خال عن التحصيل كما لا يخفى.
بقي الكلام فيما استدل به الشريف
على بساطة المشتق وعدم تركبه من الوجوه العقلية.
فنقول: انه استدل على البساطة - فيما حكى عنه - بما مفاده انه لو كان المشتق مركبا من الذات والمبدأ فلا يخلو: اما ان يكون المأخوذ
هو مفهوم الذات والشيئية المطلقة أو مصداقها والشيئية الخاصة، وعلى التقديرين لا يمكن دعوى أخذ الذات في مفهومه ومعناه لعدم
خلوه عن المحذور، وذلك اما على الأول (من فرض أخذ مفهوم الذات فيه) فمن جهة لزومه دخول العرض العام في الفصل فيما لو كان
المشتق من الذاتيات كالناطق وبطلان هذا المحذور انما هو من جهة استلزامه لعدم كون الناطق ذاتيا للانسان وفصلا له، لأنه على هذا
التقدير اما ان يكون جزئه الاخر ذاتيا أو لا وعلى التقديرين يصير
146

الناطق خارجا لان المركب من الخارجين كما يكون خارجا ولا يكون فصلا ومقوما للانسان كذلك المركب من الخارج والداخل، فهو
أيضا يكون خارجا ولا يكون فصلا ومقوما للانسان، مع لزومه أيضا دخول العرض في النوع بنفس دخوله في الفصل وهو الناطق، و
هو واضح. واما على الثاني (وهو ان يكون المأخوذ فيه مصداق الذات والشيئية الخاصة) فمن جهة لزومه محذور انقلاب القضايا الممكنة
في مثل الانسان ضاحك ضرورية، لان مصداق الذات حينئذ لا يكون الا الانسان وثبوته لنفسه ضروري، بل ولزومه أيضا دخول النوع
في الفصل في مثل الناطق. هذا ملخص ما أفيد من البرهان على بساطة المشتق وعدم تركبه.
ولكن لا يخفى عليك ان هذا البرهان لو تم فإنما هو على احتمال تركب المشتق من حيث المفهوم فإنه على هذا الاحتمال ربما يرد عليه
هذا المحاذير: من لزوم دخول العرض في الفصل والنوع تارة ولزوم انقلاب القضايا الممكنة ضرورية أخرى، ولكنك قد عرفت
مفروغية بساطة مفهوم المشتق وحقيقته باصطلاح أهل المعاني والبيان عند الجميع وانه لا يكون مفهوم العالم والضارب ونحوهما الا
معنى بسيطا، وان ما هو محل البحث والنزاع بينهم من حيث التركب والبساطة انما هو حقيقة المشتق بما هو مصطلح أهل المعقول بأنه
علاوة عن بساطة أصل المفهوم هل هو بسيط أيضا بحسب الحقيقة عند الحكيم ومنشأ انتزاع هذا المفهوم؟ أم لا؟ بل هو بحسب الحقيقة
مركب بحيث في مقام الانحلال ينحل إلى جهة مبدأ وذات، كما في الانسان فإنه مع بساطة أصل مفهومه مركب بحسب الحقيقة عند
التحليل، ومن المعلوم بداهة انه على ذلك لو قلنا فيه بالتركيب من المبدأ والذات والنسبة لا يترتب عليه شئ من المحاذير من جهة ان
القول بذلك لا يقتضى دخول مفهوم الذات ولا مصداقه في طرف المفهوم. ثم على فرض الإغماض عن ذلك والبناء على جريان هذا
الترديد في حقيقة المشتق وما هو منشأ انتزاع مفهومه نقول: بان ما أفيد من الاشكال من محذور دخول العرض العام في الفصل في
فرض كون المأخوذ هو مفهوم الذات انما يرد بناء على إرادة القائل بالتركب دخول مفهوم الذات بما هي هذا المفهوم من دون كونها
عبرة ومرآة إلى ما هو المعروض الحقيقي وإلا فبناء على إرادة دخولها بما هي مرآة إجمالية لما هو المعروض الحقيقي الذي وتارة
يكون جوهرا وأخرى عرضا وثالثة جسما في قولك النامي ورابعة حيوانا كما في الماشي وخامسة إنسانا وسادسة غير ذلك
147

على حسب اختلاف المبادي وما يناسبها من المعروضات، فلا يتوجه هذا المحذور إذ يمكن ان يقال حينئذ: بان ما هو المحمول و
المعروض الحقيقي في مثل الناطق الذي يحكى عنه الذات انما هو النفس الناطقة ونحو الوجود الخاص وعليه فلا يلزم محذور دخول
العرض العام في الذاتي والفصل بوجه أصلا كما لا يخفى. ومن ذلك البيان أيضا نقول: بأن ما أفاده الشريف من الترديد بين الشقين بناء
على التركب - من كون المأخوذ تارة مفهوم الذات وأخرى مصداقها - ليس على ما ينبغي، وانما الحري حينئذ هو الترديد بين الشقوق
الثلاثة: من كون المأخوذ تارة مفهوم الذات بما هي هذا المفهوم، وأخرى هذا المفهوم بما هي مرآة إجمالية لما هو المعروض الحقيقي
الذي يختلف باختلاف المبادي حسب ما يناسبها، وثالثة مصداق الذات، ولقد عرفت انه على القول بالتركب كان المتعين هو الشق
الأوسط من الشقوق الثلاثة.
وعليه قد عرفت اندفاع الاشكالات بأسرها - كما هو واضح - من دون احتياج إلى التفصي عن الاشكال المزبور بما في الفصول (بان
كون الناطق فصلا مبنى على عرف المنطقيين حيث اعتبروه مجردا عن الذات فلا ينافي حينئذ مع وضعه لغة لذلك) كي يتوجه عليه
إشكال الكفاية (قدس سره) بأنه من المقطوع ان الناطق قد اعتبر فصلا بما له من المعنى من دون تصرف فيه، ولا إلى سلب الفصلية عن
الناطق حقيقة والمصير إلى كونه من أظهر الخواص وانه مشهوري - كما في الكفاية - ولا إلى التفصي عنه بوجه ثالث من دعوى ان
المراد من النطق في الناطق انما هو النطق الجوهري كما أفاده بعض الاعلام، كيف وانه على الأخير يعود المحذور المزبور أيضا بأنه
بناء على التركب فهل المأخوذ هو مفهوم الذات أو مصداقها؟ وعلى مقالة الكفاية من سلب الفصلية عن الناطق وجعله فصلا مشهوريا و
من أظهر الخواص يتوجه عليه محذور لزوم دخول الخارج المحمول في الخاصة التي هي من المحمولات بالضميمة من جهة ان مفهوم
الذات لا يكون إلا أمرا الخاصة التي هي من المحمولات بالضميمة من جهة ان مفهوم الذات لا يكون إلا أمرا اعتباريا منتزعا عن منشئه من
دون ان يكون له ما بإزاء في الخارج أصلا ومعلوم أيضا ان محذور دخول الخارج المحمول في الخاصة لا يكون بأقل من محذور دخول
العرض في الذاتي. وهذا بخلافه على ما ذكرنا إذ عليه أمكن لنا ان نقول: بان الناطق فصل حقيقي للانسان ومع ذلك لا يتوجه إشكال
لزوم دخول العرض في الذاتي وذلك بجعل المأخوذ هو منشأ انتزاع مفهوم الذات والشي الذي تارة يكون جوهرا وأخرى عرضا و
ثالثة جسما و
148

رابعة حيوانا وخامسة غير ذلك حسب ما شرحناه آنفا فتدبر. هذا كله فيما أفاده من الاشكال الأول من لزوم دخول العرض في الذاتي
في مثل الناطق.
واما ما أفاده من الاشكال الثاني من لزوم محذور انقلاب القضايا الممكنة ضرورية في مثل الضاحك بناء على كون المأخوذ هو مصداق
الذات والشيئية الخاصة، فيمكن دفعه على هذا الفرض أيضا بما في الفصول: من أن المحمول إذا كان هو الذات المقيدة بالوصف دون
الذات المطلقة فلا يلزم الانقلاب لأنه إذا لم يكن ثبوت القيد ضروريا فكذلك المقيد أيضا فلا يكون ثبوته أيضا للموضوع ضروريا، و
عليه فقضية زيد كاتب أو ضاحك قضية ممكنة لا ضرورية.
ولا يرد عليه ما في الكفاية: من عدم إضرار ذلك بدعوى الانقلاب من تقريب ان المحمول حينئذ اما ان يكون هو الذات المقيدة بنحو
خروج القيد ودخول التقيد بما هو معنى حرفي فالقضية تكون ضرورية لضرورة ضرورية ثبوت الانسان المقيد بالضحك للانسان، و
اما ان يكون هو المقيد بنحو دخول القيد أيضا فكذلك أيضا لان قضية الانسان ضاحك تنحل بحسب عقد الوضع والحمل إلى قضيتين:
قضية الانسان إنسان وهي ضرورية وقضية الانسان له الضحك وهي ممكنة، وذلك من جهة ان الأوصاف قبل العلم بها اخبار والاخبار
بعد العلم بها أوصاف. وتوضيح هذه الجملة التي أفادها هو ان النسبة كما تقدم سابقا على صنفين: إيقاعية ووقوعية والمراد من الأول
هو حصول النسبة وتحققها خارجا من العدم إلى الوجود ومن الثاني هو وقوع النسبة وثبوتها فارغا عن أصل ثبوتها و تحققها، فكانت
النسبة الوقوعية دائما في رتبة متأخرة عن النسبة الايقاعية التي هي مفاد القضايا التامة بملاحظة ترتب الوقوع دائما على الايقاع، و
كانت القضايا المشتملة على النسبة الايقاعية مسماة بالقضايا التامة كزيد قائم وضرب زيد والقضايا المشتملة على النسب الثانية مسماة
بالقضايا الناقصة والمركبات التقييدية كزيد القائم، فعلى ذلك لو قيل (الانسان ضاحك أو كاتب) يتولد من هذه القضية الايقاعية قضية
تقييدية وهي الانسان الذي له الضحك فإذا جعل ما هو الموضوع في هذه القضية محمولا في القضية الأولى يصير الحاصل الانسان إنسان
له الضحك فيعود محذور الانقلاب من جهة ضرورية ثبوت الانسان لنفسه ولو كان بلحاظ الاتصاف بالضحك فلا يجدى حينئذ تقيد
المحمول بوصف إمكاني في رفع غائلة الانقلاب هذا.
149

أقول: ولا يخفى عليك انه لا مجال لا يراد هذا الاشكال على الفصول لان المحمول بعد إن كان عبارة عن المقيد بالوصف بما هو مقيد
يلزمه لا محالة كونه أخص وأضيق من الموضوع ومعه لا يكون ثبوت الخاص للعام ضروريا بل انما هو يكون بالامكان، هذا بناء على
فرض دخول التقيد. واما على فرض دخول القيد فكذلك أيضا من جهة ان دائرة المحمول لا محالة تكون أخص وأضيق من الموضوع و
معه يكون ثبوته له بالامكان لا بالضرورة. واما قضية الانحلال فأجنبية عن المقام إذ لا يكاد يجدى تلك في المقام بعد عدم اقتضائه
لجملتين مستقلتين في الحمل كما هو واضح، بل ولئن تدبرت ترى كونه كذلك ولو بناء على خروج القيد والتقيد جميعا من جهة وضوح
ان ما هو المحمول حينئذ انما يكون أيضا عبارة عن الانسان التوأم مع القيد الامكاني دون الانسان المطلق وثبوت هذا المعنى التوأم
للانسان أيضا يكون بالامكان بالضرورة. وحينئذ فما أفاده في الفصول في إثبات عدم الانقلاب في غاية المتانة والصواب وإن كان
قد شطر هو (قدس سره) فيه ويا ليته لم يشطر في كلام نفسه.
تذييل (وفيه إشارة إلى ما سبق)
وهو انه قد عرفت فيما تقدم اختيار المعنى الثاني من المعاني الأربعة المتصورة في المشتق وهو الانحلال إلى المبدأ ونسبة ناقصة مع
وحدة أصل المفهوم وبساطته. وحينئذ نقول: بأنه كما على القائل بالتركب من المبدأ والنسبة والذات تعين ان المأخوذ هو مفهوم الذات
أو مصداقها، كذلك علينا أيضا تعين ذلك وان الذات التي هي طرف هذه الإضافة والنسبة هل هو مفهوم الذات والشي أو مصداقها؟ بل
ولا بد أيضا ذلك على المعنى الثالث.
نعم القائل بالمعنى الرابع في فسحة عن ذلك فإنه على ذلك المسلك لم يؤخذ الذات في المشتق ولم تلحظ أصلا إذ المشتق عليه عبارة عن
صرف المبدأ المقابل للذات ولذا التجأ في مقام الفرق بين المشتق والصدر بالتفرقة بينهما باعتبار اللا بشرطية والبشرط لائية.
وحينئذ نقول مقدمة: بان العناوين المأخوذة في لسان الدليل موضوعا للحكم تارة تكون مأخوذة في نفسها وبنحو الاستقلال بلا كونها
مرآة لشئ آخر وأخرى تكون مأخوذة مرآة إلى الغير كما في قولك: أكرم من في الصحن - مشيرا به إلى الاشخاص الخاصة
150

من زيد وعمرو وبكر - وعلى الثاني فتارة يجعل مرآة إلى الاشخاص والمصاديق الخاصة على كثرتها وأخرى لا بل يجعل ذلك مرآة
إلى الأنواع والانصاف. والفرق بينهما واضح كوضوح الفرق بينهما وبين الأول حيث تظهر الثمرة في عالم قصد الامتثال بالخصوصية
من حيث التشريع وعدمه كما في صورة إكرام زيد العالم بقصد الخصوصية الزيدية لا بعنوان انه فرد من افراد العالم في مثل خطاب
أكرم العالم فإنه على بعض التقادير فعل تشريعا محرما وعلى بعضها الاخر تحقق منه الامتثال بذلك.
وبعد ما عرفت ذلك نقول: بان تلك المحتملات الثلاثة وإن كانت جارية في الذات ولكن المتعين منها هو الاحتمال الأخير من كونها
مرآة إلى الأنواع والانصاف، فان الاحتمال الأول مما لا يمكن الالتزام به من جهة عدم خلوه عن المحاذير التي منها لزوم دخول العرض
في الفصل في مثل الناطق، ومنها عدم المناسبة لإضافة بعض الأحكام إليه كما في قوله: أكرم العالم، ومنها غير ذلك. وكذا الاحتمال
الثاني فإنه أيضا بعيد في نفسه غاية العبد لما يلزمه من محذور دخول جميع المصاديق بخصوصياتها في المشتق الواحد كالعالم و
الضاحك، مع أنه ليس كذلك قطعا. وحينئذ فبعد بطلان الوجهين الأولين يتعين الوجه الثالث من كونه مأخوذا مرآة إلى الأنواع و
الانصاف بما يناسب في كل مشتق حسب اختلاف المبادي المأخوذة فيها وما يناسبها، وبذلك يجمع بين اتحاد المشتقات من وجه و
اختلافها من وجه فنقول: بأنها في عين اتحاد وضعها تنسبق من كل مشتق خصوصية دون الأخرى. وحينئذ فما هو الموضوع للأحكام من
نحو وجوب الاكرام والاطعام في كل مشتق - كالعالم والقائم والضارب ونحوها - عبارة عن نفس المرئي بهذا العنوان غايته بما هو
موجه بوجه المبدأ المأخوذ فيه، كما أنه هو المحمول أيضا في كلية القضايا، ولذلك أيضا دفعنا ما أورده المحقق الشريف من الاشكال في
مثل الناطق فقلنا: بان ما هو الفصل الحقيقي في مثل الناطق عبارة عن النفس الناطقة الانسانية لكونها هي الموجهة والمتصفة بوجه
المبدأ دون نفس المبدأ كي نحتاج إلى جعله عبارة عن النطق الجوهري فتدبر.
الأمر الثاني
لا يخفى عليك انه لا فرق فيما ذكرنا في المشتقات بين الأوصاف الجارية على الممكنات
151

وبين الأوصاف الجارية على الواجب سبحانه، فكما انه في الأوصاف الجارية على غيره سبحانه تجري المحتملات المتصورة الأربعة في
التركب الانحلالي والبساطة، كذلك تجري في الأوصاف الجارية عليه سبحانه كالعالم والقادر والحي، إذ لا وجه لتخصيص النزاع
المزبور بالأوصاف الجارية على الممكن إلا ملاحظة عدم تصور المغايرة في الواجب بين الذات والوصف نظرا إلى رجوع جميع
الصفات الثبوتية الكمالية إلى ذاته تعالى وكون علمه سبحانه عين ذاته وذاته المقدسة عين قدرته إرادته وهكذا بلا ان يكون فيه
سبحانه حيث وحيث، فإنه من أجل ملاحظة هذه الجهة ربما يتوهم تعين القول الرابع بالنسبة إلى الأوصاف الجارية عليه سبحانه، بل و
لعل مثل هذه الجهة أيضا ألجأ أهل المعقول في مصيرهم إلى بساطة المشتق مطلقا وجعلهم إياه عبارة عن صرف المبدأ المقابل للذات. و
لكنه توهم فاسد إذ نقول بأنه في الواجب سبحانه وان لم يكن حيثية دون حيثية ولا مغايرة بين علمه وقدرته وإرادته وذاته فكان هو
سبحانه بحتا بسيطا من جميع الجهات وكان علمه عين ذاته وذاته عين قدرته وإرادته لرجوع جميع الكمالات إلى ذاته ووجوده، و
لكن نقول بان عقول الممكنات طرا لما كانت قاصرة عن الإحاطة بذلك الواحد الاحد ولم تدرك منه سبحانه الا بقدر قابليتها و
استعدادها فلا جرم إذا كان هم عقول الممكن جهة دون جهة وقصر النظر على علمه أو قدرته أو حياته أو إرادته سبحانه يصير مدركه
لا محالة محدودا في نظره بحيث ينتزع من حد ما أدركه حيثية الذات تارة، والعلم أخرى، وحيثية الإرادة والقدرة ثالثة، وهكذا، من
دون ان يكون تلك الحيثيات الانتزاعية الناشئة من جهة قصور النظر راجعة إليه سبحانه. وحينئذ فإذا كانت تلك المغايرة والحيثيات
ناشئة من جهة قصور درك عقول الممكن لذلك الواحد الاحد، فلا جرم المحتملات الأربعة المزبورة تجري في الأوصاف الجارية عليه
سبحانه من كونه موضوعا للمبدأ مع الذات والتلبس بأجمعها كما هو قضية القول بالتركب الانحلالي أو موضوعا للمبدأ والنسبة، أو
لنفس المبدأ فقط. كما أن المصحح للحمل فيها أيضا هو المغايرة المزبورة ذهنا الناشئة من جهة قصور درك العقل إذ لا يحتاج في صحة
الحمل إلى أزيد من المغايرة بين المفهومين من وجه واتحادهما خارجا. نعم غاية ما هناك هو كون الاتحاد بالنسبة إلى الأوصاف
الجارية عليه سبحانه عينيا وبالنسبة إلى الأوصاف الجارية على غيره سبحانه أينيا فتدبر.
152

الأمر الثالث
قد علم مما سبق ان الهيئة في المشتق تدل على قيام المبدأ بالذات على اختلاف أنحاء القيام حسب اختلاف المبادي صدورا أو حلولا أو
وقوعا، ففي المبادي اللازمة تدل الهيئة على قيام المبدأ بالذات بنحو الحلول كالميت والقائم والذاهب ونحوها وفي المبادي المتعدية
كالضارب ونحوه تدل الهيئة على قيام المبدأ بالذات بنحو الصدور وفي مثل المقتول والمضروب والمقتل تدل الهيئة على قيام المبدأ
بالذات بنحو الوقوع عليه أو فيه، وفي مثل العالم الجاري على الممكن تدل على القيام بنحو الحلول، وفي الجاري عليه سبحانه تدل على
القيام بنحو الاتحاد العيني لكونه منتزعا عن بعض الجهات المدركة من الذات، والجامع في الكل هو القيام بذات المجرى عليه بنحو من
أنحائه.
نعم في مثل المؤلم والمقيم ربما يقع الاشكال بلحاظ ان المبدأ وهو الألم والقيام فيهما لا يكون له قيام بذات المجرى عليه بل قيامهما
انما كان بالغير وجهة إيجادهما وإصدارهما كان قائما بذات المجرى عليه، نعم هذا الاشكال لا يتوجه في مثل الضارب فان الايجاد فيه
مستفاد من نفس المبدأ وقيام الايجاد والإصدار كاف فيه، بخلاف في مثل المؤلم والمقيم إذ المبدأ فيهما كان لازما ولا يكون
بإصداري وحينئذ فجعل مثل الضارب في عداد المؤلم والمقيم في الاشكال - كما في الكفاية - مما لا وجه له. وعلى كل حال فلا بد
حينئذ في التفصي عن الاشكال من الالتزام بأحد الامرين اما رفع اليد عما ذكرناه من لزوم قيام المبدأ في المشتقات بنفس ذات المجرى
عليه والاكتفاء بمطلق القيام ولو بالغير، أو الالتزام باختلاف الهيئات وان الهيئة في بعضها تدل على صرف قيام المبدأ بالذات وبعضها
على قيام إيجاد المبدأ كما في المؤلم والمقيم.
واما توهم ان المبدأ في المؤلم والمقيم انما كان هو الايلام والإقامة وهما دالان على الايجاد فالهيئة فيهما تدل على قيام هذا الايجاد
بالذات من دون احتياج إلى دلالة الهيئة عليه كي يلتزم باختلاف الهيئات، فمدفوع بما تقدم بان المبدأ في المشتقات لا يكون هو المصدر
بل وانما في الجميع هو المعنى الساري في جميع الصيغ من الافعال والمصادر والأسماء والمزيد وغيره، وإرجاع علماء الأدب صيغ
كل باب من المزيد وغيره إلى
153

مصدره وجعلهم المصدر من كل باب أصلا ومبدأ لسائر الصيغ استحساني محض، وإلا ففي الحقيقة ما هو المبدأ والأصل في جميع
الهيئات من كل باب لا يكون لا المعنى المحفوظ الساري في ضمن الجميع، وعليه فألف إكرام مثلا لا يكون جز للمادة بل وانما هي
مقوم للهيئة نظير الف ضارب وميم مقتول ومضروب.
كلما ان توهم ان الهيئة الطارية على المادة في نحو المؤلم والمقيم هيئتان طوليتان دالة إحداهما على الايجاد والاخرى على القيام
بالذات، مدفوع بأنه من المستحيل، لكونه أشبه شئ بطرو الصورتين على مادة واحدة في زمان واحد، وبطلان هذا المعنى واضح لا
يحتاج إلى البيان.
وحينئذ فلا محيص الا من الالتزام بأحد الامرين المزبورين اما الالتزام باختلاف الهيئات أو رفع اليد عما ذكرناه من دلالة الهيئة على
قيام المبدأ بالذات والاكتفاء في هيئات المشتقات بمطلق القيام بالذات ولولا بذات المجرى عليه، وفي مثله ربما كان المتعين هو الأول
فنلتزم باختلاف الهيئات في المشتقات باختلاف الأبواب الثلاثي والمزيد ولكنه لا بنحو التباين بل بنحو القلة والكثرة فكان هيئة اسم
الفاعل في أبواب الثلاثي المجرد مثلا تدل على قيام المبدأ وتزداد في مثل باب الافعال فتدل هيئة اسم الفاعل فيها على قيام إيجاد
المبدأ بالذات المجرى عليها، وكذا في باب الانفعال والافتعال فتدل الهيئة على قيام القبول والتطوع بالذات، وقد تزيد أيضا فتدل
على قيام المضاعفة كما في باب التفعيل، وهكذا فتدبر.
دفع وهم:
قد يقال بعدم دلالة المشتق على النسبة التي هي معنى حرفي نظرا إلى اقتضائه حينئذ تضمن المعنى الحرفي فيلزمه لا محالة كونه مبنيا لا
معربا، بل ومن هذه الجهة أنكر دلالة سائر الصيغ على النسبة الناقصة حتى المصدر أيضا. ولكنه مدفوع حيث نقول بان ما دل على
النسبة الناقصة انما هي الهيئة القائمة بالمادة العارية عن النسبة وانه لا يكاد يقتضى مجرد ذلك بناء الاسم إذ الأسماء المبنية هي التي
وضعت بوضع واحد لما اشتمل على النسبة وأين ذلك والمقام الذي كان الدال على النسبة نفس الهيئة كيف وان لازم هذا المعنى هو
إلغاء الهيئة عن الوضع المستقل رأسا والمصير إلى كون وضع المشتقات من قبيل وضع الجوامد وهو كما ترى.
الأمر الرابع:
لا يخفى عليك انه لا يعتبر في صدق المشتق وجريه على الذات تلبس
154

الذات بالمبدأ حقيقة، بل يكفي فيه مطلق تلبسها به ولو عناية أو ادعاء كما في (الميزاب جار) بأي نحو فرض من العنايات، اما بتصرف
في مدلول كلمة واستعمالها في غير معناها الحقيقي، واما بتصرف في الاسناد مع إبقاء الكلمة على معناها الحقيقي بان كان الاسناد أي
اسناد الجريان إلى غير ما هو له، واما بتصرف في الامر العقلي بمعنى التصرف في موضوع الجريان بادعاء كون الميزاب من مصاديق
ما هو موضوع الجريان ثم اسناد الجريان إليه مع إبقاء الكلمة والاسناد على حالهما نظير قولك رأيت أسدا مريدا به الرجل الشجاع بعد
ادعائك كونه هو الأسد، فإنه على كل تقدير يصح جرى المشتق على الذات، وإن كان المتعين من بين المحتملات المزبورة هو الأخير
لكونه أقل عناية من غيره وأقرب إلى الاعتبار وما يقتضيه الوجدان، فعلى ذلك لا وجه لما في الكفاية من المصير إلى المجاز في الاسناد
في مقام الرد على الفصول، وإن كان لا مجال أيضا لما أفاده الفصول من الالتزام باعتبار الاسناد الحقيقي في صدق المشتق حقيقة كما لا
يخفى. هذا تمام الكلام في المشتقات.
155

الكلام في المقاصد فنقول:
المقصد الأول في الأوامر
وفيه مباحث
: المبحث الأول
فيما يتعلق بمادة الامر، ويقع الكلام فيه في جهات:
الجهة الأولى في معنى الامر
فنقول وبه نستعين ان الامر يطلق على معان: منها الطلب كما يقال امره بكذا أي طلب منه كذا. ومنها الشأن ومنه شغلني أمر كذا أي شأن
كذا. ومنها الفعل ومنه وما أمر فرعون برشيد أي فعله. ومنها الشئ كقولك رأيت اليوم أمرا عجبا. ومنها الحادثة والغرض كقولك
وقع اليوم أمر كذا وجئتك لأمر كذا. ومنها غير ذلك. ولكن التحقيق كونه حقيقة في خصوص (الشئ) الذي هو من الأمور العامة
العرضية لجميع الأشياء الشامل للفعل والشأن والحادثة والشغل ونحو ذلك فكان إطلاقه في تلك الموارد المختلفة بمعناه غايته من
باب الدالين والمدلولين حيث أريد تلك الخصوصيات بدوال أخر من غير أن يكون الامر مستعملا في تلك الموارد في مفهوم الغرض و
التعجب والفعل ولا في مصداقها بوجه أصلا. نعم ذلك كله بالنسبة إلى غير المعنى الأول وهو الطلب واما بالنسبة إليه فهو وإن كان
أيضا أمرا من الأمور وشيئا من الأشياء فكان من مصاديق ذلك العنوان العام العرضي، ولكن الظاهر كونه موضوعا بإزائه بالخصوص
أيضا قبالا لوضعه لذلك المعنى العام العرضي، كما أن الظاهر هو كونه من باب الاشتراك اللفظي دون الاشتراك المعنوي بملاحظة عدم
جامع قريب بينهما، كما يشهد لذلك قضية اختلافهما من حيث الاشتقاق وعدمه فإنه بمعنى الطلب يكون معناه اشتقاقيا فيشتق منه صيغ
كثيرة من المصدر والفعل الماضي والمضارع واسمي الفاعل و
156

المفعول كما يقال: أمر يأمر آمر مأمور بخلافه على كونه بمعنى الشئ فإنه عليه يكون من الجوامد. وربما يشهد لذلك أيضا قضية الجمع
فيهما، من مجيئه على الأول على الأوامر وإن كان على غير القياس، وعلى الثاني على الأمور، والجمع يرد الأشياء إلى أصولها وحينئذ
فلا ينبغي الاشكال في كونه موضوعا بالخصوص للطلب أيضا.
ثم إن محل الكلام في المقام انما هو في الامر بمعنى الطلب دونه بمعنى الشئ فلا بد حينئذ من بيان انه هل هو موضوع للطلب الحقيقي و
الإرادة القائمة بالنفس بحيث كان القول أو الإشارة مبرزا لها وكاشفا عنها؟ أو انه موضوع للطلب المبرز بالقول أي مفهومه المبرز
بالقول أو بالأعم منه ومن الإشارة ونحوها؟ أو انه موضوع لنفس إبراز الطلب بالقول أو الإشارة؟ حيث إن فيه وجوها، أبعدها الأول،
لما يرى من عدم صدق الامر على مجرد الإرادة النفسانية الغير البالغة إلى مرحلة الابراز حيث لا يصدق على من كان طالبا لشئ من
عبده ومريدا له منه بلا إبراز إرادته بالقول أو نحوه أنه آمر به، بل الصادق عليه انه طالب ومريد غير آمر، على أن لازم ذلك هو ان
يكون استعماله دائما في غير معناه الموضوع له لان ما يجي في الذهن عند الاستعمال لا يكون إلا صورة الإرادة ومفهومها لا حقيقتها
وعليه فلا يكون استعماله في معناه الحقيقي الذي هو الإرادة القائمة بالنفس.
وحينئذ فبعد بطلان هذا المعنى يدور الامر بين كونه حقيقة في الطلب المبرز بما هو مبرز بالقول أو الإشارة بنحو خروج القيد و
دخول التقيد أو كونه حقيقة في إبراز الطلب وهو القول الحاكي عنه، ولكل منهما وجه وجيه، وإن كان قد يقال بتعين الأخير نظرا إلى
ظهور العنوان وهو الامر في الاختيارية وكونه عيل الأخير اختياريا بتمامه من الابراز والتقيد بالطلب، بخلافه على الأول، فإنه من جهة
جزئه الركني وهو الطلب غير اختياري. ولكنه توهم فاسد، فان ما ذكر مجرد استحسان لا يثبت به الوضع خصوصا مع استلزام الأخير
لعدم صحة الاشتقاقات منه باعتبار عدم كون معناه حينئذ معنى حدثيا قابلا للاشتقاق، لان ما هو المبرز حينئذ انما كان هو الهيئة و
معناه لا يكون الا معنى جامديا غير حدثي بخلافه على الأول فان المعنى عليه بنفسه يكون معنا حدثيا قابلا للاشتقاق منه. وما قيل من أنه
على الأول أيضا يلزمه خروج الصيغ كلها عن المصداقية للامر من جهة عدم كونها عبارة عن نفس الطلب وانما هي مبرزات عنه، مدفوع
بأنه لو سلم ذلك فإنما يرد هذا المحذور لولا كونها وجوها للطلب ولو من جهة شدة حكايتها عنه و
157

إلا فبهذا الاعتبار تكون عين الطلب ويحمل عليها الطلب بالحمل الشائع.
وبالجملة نقول: بأنه بعد لم يقم دليل معتد به على تعين أحد الاحتمالين بالخصوص حتى يؤخذ به، وما ذكر من الوجوه تقريبات
استحسانية محضة خصوصا مع عدم ترتب ثمرة في البين على كونه حقيقة في الطلب المبرز أو في إبراز الطلب، من جهة ان القائل بكونه
حقيقة في إبراز الطلب انما يدعى كونه حقيقة فيه بما انه حاك عن الطلب وبما هو وجه له لا بما انه نفس الابراز ولو مع عدم الحكاية عن
الطلب، وحينئذ فالأولى هو صرف الكلام عن تلك الجهة.
نعم ينبغي ان يعلم بأنه على كلا التقديرين لا خصوصية لخصوص الابراز بالقول في صدق الامر بل الابراز بما انه يعم القول والإشارة و
نحوها، واما يرى في بعض الكلمات من التعبير عنه بالطلب بالقول فإنما هو لمكان الغلبة لا من جهة خصوصية في الابراز القولي، كما
هو واضح.
نعم يبقى الكلام في جهة أخرى وهي ان الامر هل هو عبارة عن نفس الطلب أي المفهوم المنتزع عن حقيقته غايته بما انه يرى عين
الخارج لا بما انه مفهوم ذهني ولا بما هو هو كما في كلية مداليل الألفاظ كي يكون لازمه عدم انطباقه على مجرد الطلب الانشائي؟ أو
انه عبارة عن هذا المفهوم لكنه بما هو موقع باستعمال اللفظ فيه بقصد الايقاع المعبر عنه بالطلب الانشائي؟ حيث إن فيه وجهين اختار
ثانيهما في الكفاية حيث قال: بأن لفظ الامر حقيقة في الطلب الانشائي الذي لا يكون طلبا بالحمل الشائع بل طلب إنشائي سوأ أنشأ
بمادة الامر أو بمادة الطلب، مثل آمرك وأطلب منك كذا، أو بصيغة افعل. ولكن التحقيق يقتضى خلافه وانه لا يكون الامر حقيقة الا في
نفس المفهوم بما هو حاك عن الطلب الحقيقي الخارجي، فما هو المستعمل فيه في مثل أطلب منك بداعي الانشاء لا يكون إلا نفس المعنى
وصرف المفهوم، غايته ان استعماله فيه مكيف باستعمال إنشائي بمعنى كونه بداعي موقعية المفهوم وموجديته، فكان حيث الانشائية
من شؤون نحو الاستعمال وكيفياته القائمة به لا انه مأخوذ في ناحية المستعمل فيه ولو بنحو خروج القيد ودخول التقيد، لأنه من
المستحيل أخذ مثل هذه الجهة ولو تقيدا في ناحية المستعمل فيه، وهذا واضح بعد وضوح تأخر الاستعمال عن المستعمل فيه تأخر الحكم
عن موضوعه. وحينئذ فلا محيص من دعوى ان المعنى انما كان عبارة عن صرف المفهوم بما انه حاك عن الطلب
158

الحقيقي الخارجي الذي بوجه عينه دون الطلب، الانشائي، على أن لازم هذا القول هو صدق الامر والطلب ولو لم يكن في البين في الواقع
طلب ولا إرادة كما في الأوامر الامتحانية والأوامر المنشأة بداعي السخرية، مع أنه كما ترى، إذ المتبادر من قوله: أمر بكذا، انما هو
البعث نحو الشئ عن إرادة جدية دون البعث بغيرها من الدواعي. واما احتمال ان المراد من الطلب المذكور في عبارته هو الطلب
الموقع بالاستعمال بما هو موصوف بوصف الموجدية ولو باعتبار كاشفية المستعمل فيه اللفظ عن الإرادة الجدية دون الطلب الانشائي
بما هو طلب إنشائي، فمدفوع بأنه وان أمكن هذا الحمل فيرتفع به المحاذير ويصدق عليه أيضا الطلب الانشائي باعتبار كونه موقعا
باستعمال اللفظ في مفهومه بعنوان مرآتية المفهوم عن الطلب الحقيقي ويصدق عليه أيضا بهذا الاعتبار الطلب الحقيقي بنحو الحمل
الشائع، ولكنه يبعده ما صرح به (قدس سره) بان مدلول الامر ليس هو الطلب الذي يصدق عليه الطلب بالحمل الشائع، وعليه فيتجه
الاشكال المزبور من لزوم صدق الامر عند الخلو عن الإرادة. فتلخص ان الامر على مسلك الكفاية (قدس سره) عبارة عن الطلب بما هو
منشأ وموقع، فكان الانشاء الذي هو من شؤون نحو الاستعمال ومن كيفياته مقوما لتحقق الامر، ومن هذه الجهة يكون الامر على مسلكه
منتزعا عن الرتبة التي بعد الانشاء المتأخر عن الاستعمال، فيكون تأخره عن نفس مفهوم الطلب المستعمل فيه اللفظ بمرتبتين من دون
دخل للإرادة الجدية أيضا في صدق الامر وتحققه. واما على ما سلكناه فيكون الامر عبارة عن نفس الطلب أي مفهومه بما هو حاك عن
الطلب الحقيقي القائم بالنفس، فبهذا الاعتبار يصدق عليه الطلب الحقيقي ويحمل عليه بالحمل الشائع.
الجهة الثانية:
بعد ما عرفت من أن الامر حقيقة في الطلب المبرز أو في إبراز الطلب، فهل يعتبر فيه أيضا العلو؟ أو انه لا يعتبر فيه ذلك فيصدق الامر
على مطلق الطلب الصادر ولو كان صدوره من المساوي أو السافل؟ فيه وجهان: أقواهما الأول لصحة سلبه عن الطلب الصادر عن
السافل والمساوي حيث يصح ان يقال: إنه ليس بأمر حقيقة بل هو سؤال والتماس،
159

كيف وان الامر انما هو مساوق ل (فرمان) بالفارسية، وهو يختص بما لو كان الطالب هو العالي دون السافل أو المساوي إذ لا يصدق
(فرمان) على الطلب الصادر عن غير العالي. واما ما يرى من تقبيح السافل المستعلى فيما لو أمر سيده بأنك لم أمرت سيدك ومولاك
فإنما هو على استعلائه وتنزيل نفسه عاليا الموجب لصدور الامر منه، لا ان التقبيح على امره، لصدق الامر عليه حقيقة بعد استعلاله. ومن
ذلك البيان ظهر أيضا بطلان توهم كفاية أحد الامرين في تحقق حقيقة الامر: اما العلو أو الاستعلا، وذلك فان غير العالي لا يكاد يصدق
على طلبه الامر الذي هو مساوق (فرمان) ولو استعلى غاية الاستعلا، كما أن العالي بمحض صدور الامر منه يصدق على طلبه وأمره،
الامر و (فرمان) وان لم يكن مستعليا في امره بل كان مستخفضا لجناحه. وعليه فما هو المعتبر الامر في حقيقة الامر انما كان هو العلو
خاصة، واما الاستعلا زائدا عن جهة العلو فلا يعتبر فيه بوجه من الوجوه كما هو واضح.
الجهة الثالثة:
في أن الامر هل هو حقيقة في خصوص الطلب الوجوبي؟ أو انه حقيقة في مطلق الطلب الجامع بين الوجوبي والاستحبابي؟ فيه وجهان:
أظهرهما الثاني، لصدق الامر حقيقة على الطلب الصادر من العالي إذا كان طلبه استحبابيا حيث يقال له: انه أمر وبالفارسية (فرمان)
من دون احتياج في صحة إطلاق الامر عليه إلى رعاية عناية في البين، حيث إن ذلك كاشف عن كونه حقيقة في مطلق الطلب وإلا لكان
يحتاج في صدق الامر وصحة إطلاقه على الطلب الاستحبابي إلى رعاية عناية في البين، كما هو واضح. ومما يشهد لذلك بل يدل عليه
أيضا صحة التقسيم إلى الوجوب والاستحباب في قولك: الامر اما وجوبي واما استحبابي، وهو أيضا علامة كونه حقيقة في الجامع
بينهما.
نعم لا إشكال في ظهوره عند إطلاقه في خصوص الطلب الوجوبي بحيث لو أطلق وأريد منه الاستحباب لاحتاج إلى نصب قرينة على
الرخصة في الترك، ومن ذلك أيضا ترى ديدن الأصحاب (رضوان الله تعالى عليهم) في الفقه في الأوامر الواردة عن النبي صلى الله عليه
وآله أو الأئمة عليهم السلام، حيث كانوا يحملون الأوامر الواردة عنهم على
160

الوجوب عند خلو المورد عن القرينة على الاستحباب والرخصة في الترك حتى أنه لو ورد في رواية واحدة أوامر متعددة بعدة أشياء
كقوله: اغتسل للجمعة والجنابة ومس الميت، ونحوه، فقامت القرينة المنفصلة على إرادة الاستحباب في الجميع إلا واحدا منها تريهم
يأخذون بالوجوب فيما لم تقم عليه قرينة على الاستحباب، بل وتريهم كذلك أيضا في أمر واحد كقوله: امسح ناصيتك، حيث إنهم أخذوا
بالوجوب بالنسبة إلى أصل المسح وحملوه على الاستحباب بالنسبة إلى الناصية مع أنه أمر واحد، وهكذا غير ذلك من الموارد التي يطلع
عليها الفقيه، ومن المعلوم أنه لا يكون الوجه في ذلك إلا حيث ظهور الامر في نفسه في الوجوب عند إطلاقه، وحينئذ فلا إشكال في أصل
هذا الظهور.
نعم انما الكلام والاشكال في منشأ هذا الظهور وانه هل هو الوضع أو هو غلبة الاطلاق أو هو قضية الاطلاق ومقدمات الحكمة؟ فنقول:
اما توهم كون المنشأ فيه هو الوضع فقد عرفت فساده وأنه يكون حقيقة في مطلق الطلب الجامع بين الالزامي وغيره بشهادة صحة
التقسيم وصحة الاطلاق على الطلب الغير الالزامي. واما ما استدل به من الآيات والأخبار الكثيرة لاثبات الوضع للوجوب، من نحو قوله:
سبحانه (فليحذر الذين يخالفون عن امره) وقوله عز من قائل مخاطبا لإبليس: (ما منعك ان تسجد إذ أمرتك) وقوله صلى الله عليه و
آله: (لولا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك) وقوله صلى الله عليه وآله أيضا لبريرة حين قال له أ تأمرني يا رسول الله (لا بل أنا
شافع) من تقريب انه جعل المخالفة للامر في الأول ملزوما لوجوب الحذر، وفي الثاني للتوبيخ، وفي الثالث للمشقة، وحيث لا يجب
الحذر من مخالفة الامر الاستحبابي ولا يصح التوبيخ عليه ولا كان مشقة يترتب على الامر الاستحبابي بعد جواز الترك شرعا، فلا جرم
يستفاد من ذلك كونه حقيقة في خصوص الطلب الوجوبي، فان التقيد بالوجوب في تلك الأوامر خلاف ظاهر تلك الأدلة من جهة قوة
ظهورها في ترتب هذه اللوازم على طبيعة الامر لا على خصوص فرد منه، وحينئذ فتدل تلك الأدلة بعكس النقيض على عدم كون الامر
الاستحبابي أمرا حقيقة بلحاظ عدم ترتب تلك اللوازم عليه. فنقول: بأنه يرد على الجميع بابتناء صحة الاستدلال المزبور على جواز
التمسك بعموم العالم للحكم بخروج ما هو خارج عن حكم العالم عن موضوعه، إذ بعد إن كان من المقطوع عدم ترتب تلك اللوازم من
وجوب الحذر
161

والتوبيخ والمشقة على الامر الاستحبابي أريد التمسك به لاثبات عدم كون الامر الاستحبابي من المصاديق الحقيقية للامر ليكون عدم
ترتب اللوازم المزبورة عليه من باب التخصص والخروج الموضوعي لا من باب التخصيص، نظير ما لو ورد خطاب على وجوب إكرام
كل عالم وقد علم من الخارج بعدم وجوب إكرام زيد لكنه يشك في أنه مصداق للعالم حقيقة كي يكون خروجه عن الحكم من باب
التخصيص أو انه لا يكون مصداقا للعالم كي يكون خروجه من باب التخصص، ولكنه نقول بقصور أصالة العموم والاطلاق عن إفادة
إثبات ذلك فان عمدة الدليل على حجيته انما كان هو السيرة وبناء العرف والعقلاء، والقدر المسلم منه إنما هو في خصوص الشكوك
المرادية وهو لا يكون الا في موارد كان الشك في خروج ما هو المعلوم الفردية للعام عن حكمه، وحينئذ فلا يمكننا التمسك بالأدلة
المزبورة لاثبات الوضع لخصوص الطلب الالزامي خصوصا بعد ما يرى من صدقه أيضا على الطلب الاستحبابي، كما هو واضح. هذا كله
بالنسبة إلى الوضع.
واما الغلبة فدعواها أيضا ساقطة بعد وضوح كثرة استعماله في الاستحباب. ومن ذلك ترى صاحب المعالم (قدس سره) فإنه بعد ان
اختار كون الامر حقيقة في خصوص الوجوب قال: بأنه يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المروية عن الأئمة عليهم السلام ان استعمال الامر
في الندب كان شايعا في عرفهم بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجح
الخارجي، فمن ذلك استشكل أيضا وقال: بأنه يشكل التعلق في إثبات وجوب أمر بمجرد ورود الامر به منهم عليهم السلام. وحينئذ فلا
يبقى مجال لدعوى استناد الظهور المزبور إلى غلبة الاستعمال في خصوص الوجوب، كما هو واضح.
وحينئذ فلا بد وأن يكون الوجه في ذلك هو قضية الاطلاق ومقدمات الحكمة وتقريبه من وجهين:
أحدهما: ان الطلب الوجوبي لما كان أكمل بالنسبة إلى الطلب الاستحبابي لما في الثاني من جهة نقص لا يقتضى المنع عن الترك، فلا
جرم عند الدوران مقتضى الاطلاق هو الحمل على الطلب الوجوبي، إذ الطلب الاستحبابي باعتبار ما فيه من النقص يحتاج إلى نحو
تحديد وتقييد، بخلاف الطلب الوجوبي فإنه لا تحديد فيه حتى يحتاج إلى التقييد، وحينئذ فكان مقتضى الاطلاق بعد كون الامر بصدد
البيان هو كون طلبه طلبا وجوبيا لا
162

استحبابيا.
وثانيهما: - ولعله أدق من الأول - تقريب الاطلاق من جهة الأتمية في مرحلة التحريك للامتثال، بتقريب أن الامر بعد إن كان فيه اقتضاء
وجود متعلقه في مرحلة الخارج ولو باعتبار منشئيته لحكم العقل بلزوم الإطاعة والامتثال، فتارة يكون اقتضائه بنحو يوجب خروج
العمل عن اللا قتضائية للوجود بنظر العقل بحيث كان حكم العقل بالايجاد من جهة الرغبة لما يترتب عليه من الأجر والثواب، وأخرى
يكون اقتضائه لتحريك العبد بالايجاد بنحو أتم بحيث يوجب سد باب عدمه حتى من طرف العقوبة على المخالفة علاوة عما يترتب على
إيجاده من المثوبة الموعودة، وفي مثل ذلك نقول. بأن قضية إطلاق الامر يقتضى كونه على النحو الثاني من كونه بالنحو الأتم في عالم
الاقتضاء للوجود بحيث يقتضى سد باب عدم العمل حتى من ناحية ترتب العقوبة على المخالفة، لان غير ذلك فيه جهة نقص فيحتاج
إرادته إلى مئونة بيان من وقوف اقتضائه على الدرجة الأولى الموجب لعدم ترتب العقوبة على المخالفة. وبالجملة نقول: بأن الامر بعد
إن كان فيه اقتضاء التحريك للايجاد وكان لاقتضائه مراتب، فعند الشك في وقوف اقتضائه على المرتبة النازلة أو عبوره إلى مرتبة
السببية لحكم العقل بالايجاد كان مقتضى الاطلاق كونه على النحو الأتم والأكمل الموجب لحكم العقل بلزوم الايجاد فرارا عن تبعة ما
يترتب على مخالفته من العقاب علاوة عما يترتب على موافقته من الأجر والثواب، فتدبر.
الجهة الرابعة:
في أنه هل الطلب عين الإرادة أو غيرها؟ حيث إنه وقع فيه الخلاف بين المعتزلة والعدلية وبين الأشاعرة، فذهبت الأشاعرة إلى
المغايرة بينهما، والباقون إلى اتحادهما مستدلين لذلك: بأنا لا نجد في أنفسنا عند الامر بشي وطلبه غير العلم بالمصلحة والإرادة و
الحب والبغض صفة أخرى قائمة بالنفس نسميها بالطلب، فمن ذلك صاروا بصدد توجيه القول بالمغايرة وحملوه على وجوه يرتفع بها
النزاع في البين.
منها: ما أفاده في الكفاية، حيث إنه لما بنى على اتحاد الطلب والإرادة مصداقا ومفهوما وجه كلام القائلين بالمغايرة، حيث قال ما
ملخصه: الحق كما عليه أهله اتحاد الطلب و
163

الإرادة مفهوما وانشاء وخارجا بمعنى ان ما يسمى بالطلب بالحمل الشائع هو عين الإرادة بهذا الحمل وما ينتزع عنه هذا المفهوم - أي
مفهوم الطلب عين ما ينتزع عنه مفهوم الإرادة، وانشاء الطلب الذي هو عبارة عن استعمال اللفظ في المفهوم بقصد الايقاع هو عين
انشاء الإرادة، فكان الطلب والإرادة متحدين في جميع تلك المراحل الثلاث، ولكنه لما كان المنصرف إليه الطلب عند إطلاقه هو الطلب
الانشائي وكان في الإرادة بعكس ذلك - حيث كان المنصرف إليه عند إطلاقها هو الإرادة الحقيقية الخارجية دون الانشائي منها - كان
مثل هذا الانصراف أوجب القول بالمغايرة بينهما فتوهم أن الطلب غير الإرادة، ولكنه ليس كذلك من جهة ان ذلك انما كان من جهة ما
يستفاد من قضية إطلاقهما حسب الانصراف ومثل ذلك مما لا ينكره القائل بالاتحاد، بل عليه يرتفع النزاع من البين رأسا لرجوع
النزاع حينئذ إلى ما هو المستفاد من قضية إطلاق لفظ الطلب بأن المستفاد منه هل هو عين ما يستفاد من لفظ الإرادة عند إطلاقها أو ان
المستفاد منه هو غيره؟.
ومنها: أي من التوجيهات جعل المراد من الطلب عبارة عن الاشتياق التام الحاصل عقيب تصور الشئ والتصديق بفائدته، والإرادة
عبارة عن حملة النفس وهيجانها نحو المطلوب والمراد الذي يستتبع الفعل والعمل، أو العكس بجعل الطلب عبارة عن حملة النفس و
الإرادة عن الاشتياق التام.
ومنها: جعل الطلب عبارة عما ينتزع عن مقام إبراز الإرادة من البعث والايجاب والوجوب واللزوم، فيغاير حينئذ الإرادة حيث كانت
الإرادة من الأمور الحقيقية القائمة بالنفس بخلاف الطلب حيث إنه كان من الأمور الاعتبارية الانتزاعية عن مقام إبراز الإرادة بالامر
نحو الشئ بالايجاد.
ومنها: غير ذلك من التوجيهات المذكورة في كلماتهم.
أقول: ولا يخفى عليك ما في هذه المحامل والتوجيهات، إذ نقول وإن كان يتضح بها المغايرة بينهما بل ويرتفع معها النزاع من البين،
ولكن لا يساعد شئ منها كلام القائلين بالمغايرة حيث نقول: بأن الطلب وما يحكى عنه الامر عندهم عبارة عن معنى قابل للتعلق
بالمحال وللتخلف عن المراد وللموضوعية الحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال، كما يشهد عليه قضية استدلالهم بالأوامر الامتحانية
الخالية عن الإرادة في مواردها، كما في أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده إسماعيل عليه السلام، واستدلالهم أيضا بتكليف الله
164

سبحانه الكفار بالايمان وأهل الفسوق والعصيان بالعمل بالأركان فان الله سبحانه أمر الكفار بالايمان ولم يرد منهم الايمان لامتناع
صدور الايمان منهم بعد علمه سبحانه بذلك، إذ حينئذ يستحيل تعلق إرادته سبحانه بالايمان المستحيل منهم. وأيضا لازم تعلق إرادته
سبحانه بذلك هو قهرية صدور الايمان منهم لأنه سبحانه إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون فيستحيل تخلف إرادته سبحانه عن المراد،
وحينئذ فمن جهة عدم صدور الايمان منهم لا بد وان يستكشف عن عدم تعلق إرادته الأزلية بصدور الايمان منهم ومعه يثبت المطلوب
من المغايرة بين الطلب والإرادة. وأيضا استدلالهم على كون العباد مجبورين في أفعالهم - على ما هو مقتضى مذهبهم وإنكارهم
التحسين والتقبيح العقليين - بأنه من الممكن أمر الله سبحانه العباد بأمور ليس فيها مصلحة أصلا، حيث إنه يستفاد من أدلتهم ان ما
يحكى عنه الامر وهو الطلب عندهم عبارة عن معنى كان ممكن التعلق بالمحال وقابلا للتخلف عن المراد ولان يكون تابعا لمصلحة في
نفسه لا في متعلقه مع كونه موضوعا أيضا لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال ويقابله الإرادة عندهم فإنها معنى لا يجوز تخلفها عن
المراد ولا كانت قابلة للتعلق بالمحال ولا للتبعية لمصلحة في نفسها لكونها تابعة لمقدماتها التي منها التصديق بفائدة الشئ والميل و
المحبة له.
وكان عمدة ما دعاهم إلى المصير إلى المغايرة تلك الاشكالات الفاسدة الواردة بنظرهم بناء على القول باتحاد الطلب مع الإرادة: منها
لزوم عدم تحقق العصيان من العباد لعدم جواز تخلف إرادته سبحانه عن المراد، ومنها لزوم تعلق الإرادة بالمحال بناء على الاتحاد كما
في موارد الامر بما انتفى شرط تحققه، ومنها ما بنوا عليه من المبنى الفاسد من إنكار التحسين والتقبيح العقليين وتجويزهم الامر
بالشئ مع خلوه عن المصلحة كما في الأوامر الامتحانية، ومنها غير ذلك من المباني الفاسدة، حيث إنه من جهة الفرار عن تلك
الاشكالات التزموا بالمغايرة بين الطلب والإرادة فقالوا بأن الطلب وما يحكى عنه الامر عبارة عن معنى قابل لتلك اللوازم.
ومما يشهد لذلك أيضا إنكار القائلين بالاتحاد عليهم بأنا لا نجد في أنفسنا عند طلب شئ والامر به غير العلم بالمصلحة والإرادة و
الحب والبغض صفة أخرى قائمة بالنفس نسميها بالطلب، وهذا هو العلامة (قدس سره) حيث أنكر عليهم بأنا لم نجد عند الامر بشي
أمرا مغايرا لإرادة الفعل حيث لا يكون المفهوم من الامر إلا إرادة الفعل من المأمور
165

به ولو كان هناك شئ آخر لا ندركه فلا شك في كونه أمرا خفيا غاية الخفاء بحيث لا يتعقله إلا الأوحدي من الناس، ومع ذلك كيف
يجوز وضع لفظ الامر المتعارف في الاستعمال بإزائه، إذ من الواضح حينئذ انه لولا إرادتهم من الطلب والامر ما ذكرنا لما كان وجه
لانكار القائل بالاتحاد عليهم، كما هو واضح.
وعليه نقول أيضا بأنه لا يكاد يلائم شئ من التوجيهات المزبورة كلامهم بوجه أصلا، حيث إن الطلب بمعنى الانشائي منه - كما هو
توجيه الكفاية - وان يساعد عليه اللازم الأول من قابلية تعلقه بالمحال لعدم استلزامه لإرادة الايجاد من المكلف، ولكنه لا يساعد عليه
جهة موضوعيته لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال. واما كونه بمعنى حملة النفس وهيجانها بنحو المطلوب فهو أيضا غير قابل
للتعلق بالمحال ولا يصحح أيضا كونه لصلاح في نفسه فبقي بعد الاشكالات بحالها. وأما كونه بمعنى الاشتياق فهو وان يصحح جواز
تعلقه بالمحال - كما في اشتياق المريض إلى شفاء مرضه والمحبوس إلى الفرار من السجن والتخلص منه واشتياق الانسان إلى عود
شبابه - ويمكن أيضا وقوعه موضوعا لحكم العقل بوجوب الامتثال فيما لو أحرز العبد اشتياق مولاه إلى شئ ولكنه أيضا لا يصحح
كونه لصلاح في نفسه. وحينئذ فبقرينة استدلالهم بمثل الأوامر الامتحانية يعلم بعدم إرادتهم من الطلب الاشتياق نحو الشئ ولا من
الإرادة حملة النفس وهيجانها نحو المطلوب. واما كونه بمعنى البعث والتحريك والوجوب واللزوم ونحوها فهو أيضا غير محكي
بالامر لما عرفت من كونها أمورا انتزاعية متأخرة عن الامر يعتبرها العقل عن مقام إبراز الإرادة فلا يمكن ان يكون محكيا للامر، كما
هو واضح.
نعم هنا معنى آخر غير المذكورات وغير العلم والإرادة والحب والبغض يمكن بعيدا ان يوجه به كلام القائل بالمغايرة، وهو البناء و
القصد، المعبر عنه بعقد القلب في باب الاعتقادات، حيث أنه كان من جملة أفعال النفس، ولذا قد يكون يؤمر به كما في البناء على وجود
الشئ كالبناء بالاستصحاب وفي الشكوك المعتبرة في الصلاة، وقد يكون ينهى عنه كما في التشريع المحرم ويسمى بأسام
مختلفة حسب اختلاف متعلقه، ويكون كالإرادة في كونه ذا إضافة وان خالفها في أنها من مقولة الكيف وهذا من مقولة الفعل للنفس،
فكما ان الحب قد يتعلق بأمر موجود مفروغ التحقق فيقال له العشق والشعف، وقد يتعلق بإيجاد الشئ أو إيجاد الغير إياه فيقال له
الإرادة، كذلك هذا البناء
166

فإنه قد يتعلق بالأول وقد يتعلق بالثاني، فيسمى بالاعتبار الأول تنزيلا كالبناء على كون الشك يقينا أو العدم وجودا وكالبناء على
كون الأكثر موجودا أو الموجود هو الأكثر، وبالاعتبار الثاني قصدا، وعند تعلقه بما ليس في الشرع تشريعا ونحو ذلك ويشهد لما
ذكرنا ملاحظة كلماتهم في باب التصديق المعتبر في الايمان بأنه ليس مجرد العلم والمعرفة بل هو فعل جناني معبر عنه بالفارسية ب
(گردن دادن) و (گرويدن) و (باور كردن) فراجع كلماتهم.
وحينئذ نقول بان مثل هذا البناء والقصد لما كان قابلا للتعلق كما في بناء الغاصب على ملكية مال المغصوب في مقام البيع وكالبناء
على ربوبية بعض المخلوقين كالبناء على جزئية شئ للواجب في باب التشريع، ومن جهة اختياريته كان قابلا لان يكون لصلاح في
نفسه، وأمكن أيضا ان يكون محكيا للامر موضوعا لحكم العقل بوجوب الامتثال، فلا محالة أمكن توجيه كلماتهم الفاسدة بحمل الطلب
في كلماتهم على مثل هذا البناء والقصد، والإرادة على تلك الكيفية النفسانية بل عليه لا مجال للانكار عليهم أيضا بأنا لا نجد في أنفسنا
عند طلب شئ غير العلم بالمصلحة والإرادة والحب والبغض لما عرفت من وجود أمر آخر في النفس يكون هو البناء والقصد. وحينئذ
فلو ادعى القائل بالمغايرة بأن ما هو المسمى بالطلب عبارة عن مثل هذا القصد الذي هو بالضرورة غير الإرادة لا يمكننا المسارعة في
الرد عليهم بعدم وجدان أمر وراء الإرادة والعلم والحب والبغض بل ولئن سلم مبانيهم الفاسدة لا مفر عن الالتزام بمقالتهم من
المغايرة بين الطلب والإرادة. وحينئذ فاللازم هو إبطال أصل تلك المباني الفاسدة التي هي عبارة عن إنكار التحسين والتقبيح
العقليين، وعدم جواز انفكاك الإرادة عن المراد، وعن شبهة الأوامر الامتحانية التي أوجب مصيرهم إلى كون الامر لصلاح في نفسه لا
متعلقة، وشبهة كون العباد مجبورين في أفعالهم الموجب لعدم إمكان تعلق الإرادة بفعلهم.
فنقول: اما الأول
فإبطاله لا يحتاج إلى البرهان بعد ثبوته بالوجدان وإن كان إيكال من لا وجدان له إلى الوجدان غير خال عن المصادرة لكن تفصيله
موكول إلى محله، ونتيجة إبطال هذه المقدمة انما هو نفى الامر حاكيا عن البناء والقصد كما وجهنا به كلامهم، وذلك انما هو لوضوح
انه لا يرى العقل حسن العقوبة على المخالفة بمحض كون المحكي بالامر هو البناء والقصد الخالي عن الإرادة، بل في مثل عند فرض
الخلو عن
167

الإرادة ترى حكم العقل بقبح العقوبة. وبالجملة فالمقصود من هذا البيان انما هو حصر موضوع حكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال و
حسن العقوبة على المخالفة بنفس الإرادة الواقعية بما انها مبرزة بالامر، فعند خلو المورد حينئذ عن الإرادة لا حكم للعقل بوجوب
الإطاعة ولا يرى حسن العقوبة على المخالفة. واما دعواهم بانعزال العقل عن التحسين والتقبيح فغير مسموعة منهم، كما هو واضح.
واما الثاني:
فبطلانه أيضا واضح حيث إنه قد خلط بين الإرادة التشريعية والتكوينية، فان ما يستحيل تخلفه انما هو الإرادة التكوينية دون الإرادة
التشريعية، وما في الكتاب العزيز من قوله سبحانه (انما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) انما هو الأول دون الثاني، على أن
لنا أيضا المنع عن لزوم تخلف إرادته سبحانه عن المراد حتى في الإرادة التشريعية، وبيانه يحتاج إلى مقدمة بها أيضا يتضح الجهة
الفارقة بين الإرادة التكوينية والتشريعية، وهي ان كل آمر ومريد لفعل من الغير تارة يتعلق إرادته بحفظ وجود العمل على الاطلاق
بنحو تقتضي سد جميع أبواب عدمه حتى من ناحية شهوة العبد والمأمور ولو بإيجاد الإرادة له تكوينا، وأخرى تتعلق بحفظ وجوده لا
على نحو الاطلاق بل في الجملة ومن ناحية ما هو مبادئ حكم عقله بوجوب الإطاعة والامتثال وهو طلبه وأمره. وحينئذ فإذا كانت
الإرادة المتعلقة بفعل العبد من قبيل الأول فلا جرم لا بد له من سد جميع أبواب عدمه المتصورة حتى من جهة شهوة العبد، واما إذا كانت
من قبيل الثاني فالمقدار اللازم انما هو حفظ وجوده بمقدار تقتضيه الإرادة، فإذا فرض ان المقدار الذي تعلق الإرادة والغرض بالحفظ
انما هو حفظ المرام من ناحية مبادئ حكم عقل المأمور بالإطاعة والامتثال وما يرجع إلى نفس المولى من إبراز إرادته والبعث،
فالمقدار اللازم في الحفظ حينئذ انما هو إيجاد ما هو من مبادئ حكم العقل بالامتثال لا إيجاد مطلق ما كان له الدخل في الحفظ حتى مثل
شهوة العبد والمأمور، كما هو واضح.
وبعد ما عرفت هذه الجهة نقول بان ما كانت منها من قبيل الأول فيه المسماة بالإرادة التكوينية وهي كما ذكر يستحيل تخلفها عن
المراد إذ هي بعد تعلقها بحفظ الوجود بقول مطلق حتى من ناحية الأضداد والمزاحمات فلا جرم يكون ترتب وجود المراد عليها قهريا
فيستحيل تخلفها عنه وإلا لزم الخلف، واما ما كانت من قبيل الثاني فهي المسماة بالإرادة التشريعية، ولكن نقول بأن تلك أيضا غير
متخلفة عن المراد فان
168

المفروض ان المقدار الذي تعلق الإرادة بحفظه انما هو حفظ المرام في الجملة بسد باب عدمه من ناحية مبادئ حكم عقل المأمور
بالإطاعة والامتثال لا حفظه بقول مطلق وهو يتحقق بإبراز إرادته وإظهارها بأمره وطلبه وبعثه بقوله افعل كذا، ومن المعلوم بداهة
انه على هذا أيضا لا تخلف لها عن المراد من جهة انه بإبراز إرادته تحقق ما هو موضوع حكم العقل بوجوب الإطاعة وانسد المقدار الذي
كان المولى بصدد حفظه من جهته، وحينئذ فلا يكاد يضر مخالفة الكفار وأهل العصيان في الواجبات والمحرمات، إذ لا يستلزم
مخالفتهم تخلف إرادته سبحانه عن مراده، كما هو واضح.
وحينئذ فتمام الخلط والاشتباه نشأ عن الخلط بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية ومقايسة إحداهما بالأخرى، فحيث ان الإرادة
التكوينية يكون ترتب المراد عليها قهريا نظرا إلى تعلقها بحفظ وجوده بقول مطلق حتى من ناحية الأضداد والمزاحمات، تخيل ان
الإرادة التشريعية أيضا مثلها في عدم الانفكاك عن المراد، وحينئذ فمن جهد مخالفة الكفار وأهل العصيان استشكل عليه الامر فالتزم
فرارا عن الاشكال بالمغايرة بين الطلب والإرادة وان الله سبحانه وان أمر الكفار بالايمان وطلبه منهم ولكنه لم يرد منهم الايمان. و
لكنك قد عرفت وضوح الفرق بينهما وانه لا مجال لمقايسة إحداهما بالأخرى، فتأمل تعرف حقيقة الحال في أردتك صدور حمل من
عبدك من حيث كونك تارة بصدد حفظ مرامك وسد جميع أبواب عدمه حتى من ناحية شهوة عبدك ولو بضربك إياه وجبره على
الايجاد ولو بأخذ يده ونحو ذلك، وأخرى في مقام حفظه من ناحية أمرك إياه وإبراز إرادتك باعتبار قيام المصلحة بالوجود في
ظرف صدوره عن العبد عن إرادته واختياره لا مطلقا مع صحة مؤاخذتك إياه لو أمرته فخالف ولم يطع، وهذا واضح لا سترة عليه.
واما صحة طلبه سبحانه الايمان والعمل بالأركان منهم حينئذ مع علمه الفعلي بعدم صدور الايمان منهم لعدم اختيارهم الايمان و
إرادتهم العلم بالأركان، فلأجل إعلامهم بما في الفعل من الصلاح الراجع إلى أنفسهم ولكي يهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن
بينة، ولئلا يكون للناس على الله حجة بل كان له سبحانه عليهم حجة بالغة وانه سبحانه لم يكن ليظلمهم بل هم باختيارهم عدم الإطاعة
يظلمون، وفي الحديث (ان أظلم الناس من يظلم على نفسه).
169

واما الجواب عن شبهة الجبر
فلم يتعرض الأستاذ له تفصيلا خوفا على بعض الطلاب من دخول بعض الشبهات في أذهانهم القاصرة بل وانما أحال الجواب إلى وقت
آخر يقتضيه المقام، نعم أفاد في دفع الشبهة وفسادها بنحو الاجمال محيلا ذلك إلى قضاء الوجدان بالفرق الواضح بين حركة يد
المرتعش وحركة يد المختار، وهو كما أفاد (دام ظله) حيث نرى ونشاهد بالوجدان والعيان كوننا مختارين فيما يصدر عنا من
الافعال وفي مقام الإطاعة والعصيان وان مجرد علمه سبحانه بالنظام الأكمل غير موجب لسلب قدرتنا واختيارنا فيما يصدر عنا من
الافعال والأعمال كما يقول به الجبرية (خذلهم الله سبحانه) بل كنا بعد مختارين فيما يصدر عنا من الافعال وان عدم صدور العمل منا
في مقام الإطاعة انما هو باختيارنا وعدم إرادتنا الايجاد لترجيحنا ما نتخيل من بعض الفوائد العاجلة على ما في الإطاعة من المنافع
المحققة الأجلة الأخروية من غير أن نكون مجبورين في إيجاد الفعل المأمور به أو تركه بوجه أصلا، كما لا يخفى.
وإلى ذلك أيضا يشير بعض ما ورد من النصوص عن الأئمة المهديين صلوات الله عليهم أجمعين بأن مولود يولد على الفطرة إلا أن أبويه
يهودانه وينصرانه ويمجسانه
] 1 [
وان كل إنسان في قبله حين ولادته نقطة بيضاء ونقطة سوداء
] 2 [
وكان لقلبه أذنان ينفث في
أحدهما الملك وفي الاخر الشيطان () وان لكل نفس مكانا في الجنة هو له إذا سلك سبل الخير ومكانا في النار إذا سلك سبل الشر.
حيث إن افراد الانسان بأجمعها خلقت من نطفة أمشاج ومن رقائق العوالم العلوية والسفلية وخمرت طينته منهما، فبعضهم باختيارهم
لما لاحظ المنافع الأخروية ورجحها على ما يتراءى في نظره من اللذائذ الدنيوية الفانية فسلك من هذه الجهة سبيل التوحيد كان سلوكه
لسبيل التوحيد منشأ
] 1 [
الحديث منقول بالمعنى ولفظه على ما في صحيح فضل بن عثمان الأعور عن أبي عبد الله عليه السلام هكذا: (ما من مولود يولد إلا
على الفطرة فأبواه اللذان يهودانه وينصرانه ويمجسانه (الحديث). رواه في الوسائل، الباب 48 من أبواب الجهاد، الحديث 3.
] 2 [
في خبر زرارة، قال أبو جعفر عليه السلام: ما من عبد إلا وفي قلبه نكتة بيضاء فإذا أذنب ذنبا خرج في النكتة نكتة سوداء (الحديث)
أصول الكافي، ج 2، ص 273 - الوسائل، الباب 40 من جهاد النفس، الحديث 14
170

لغلبة تلك النقطة البيضاء التي كانت في قبله إلى أن بلغت حدا أحاطت بتمامه وانعدمت النقطة السوداء، وبعضهم بالعكس فسلك سبيل
الشر ترجيحا لما يتراءى في نظره من اللذائذ والمشتهيات النفسانية على المنافع الجليلة الأخروية باختيار منه فصار سلوكه مسلك الشر
منشأ لغلبة تلك النقطة السوداء التي كانت في قلبه إلى أن بلغت حدا أحاطت بتمامه، فصار الأول من أهل التوحيد والايمان والثاني من
أهل الفسوق والعصيان من غير أن يكون واحد منهم مجبورا في الإطاعة والمعصية بوجه أصلا، كما لا يخفى.
وإلى ما ذكرنا أيضا لا بد وان يحمل الخبر المعروف بأن السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه
] 1 [
حيث إنه على فرض
صدوره عن الإمام عليه السلام وعدم كونه من الموضوعات، محمول على تقدم علمه سبحانه قبل ولادة افراد الانسان بما يصيرون إليه
في عاقبة أمرهم بسبب سعيهم الاختياري في ترجيحات بعضهم المنافع الأخروية على الفوائد الدنيوية واللذائذ الشهوانية وترجيحات
بعضهم الاخر اللذائذ الدنيوية على الفوائد الجليلة الأخروية، والا فلا بد من طرحه لمخالفة لما يحكم به بداهة العقل والوجدان ولما نطق
به الكتاب والسنة المتواترة.
وحينئذ فإذا ظهر لك عدم مجبورية العباد فيما يصدر منهم عن الافعال في مقام الإطاعة والعصيان، ظهر أيضا صحة تعلق الإرادة
التشريعية بالايمان من الكفار وبالعمل بالأركان من أهل الفسوق والعصيان من دون ان يكون ذلك من الامر بالمحال وبما لا يقدر
عليه العباد، من جهة ما عرفت من كون العبد بعد على إرادته واختياره في إيجاد الفعل المأمور به وان عدم صدوره منه انما هو لأجل
عدم تحقق علته التي هي إرادته للايجاد بسوء اختياره وترجيحه جانب المشتهيات النفسانية على المنافع الأخروية. واما صحة طلبه
سبحانه منه حينئذ مع علمه صدور الفعل منه من جهة عدم إرادته، فهو كما تقدم لأجل الاعلام بما في الفعل من الصلاح الراجع إلى أنفسهم
ولكي يهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ولئلا يكون لهم على الله سبحانه الحجة بل كان له سبحانه عليهم حجة بالغة من
جهة إعلامهم بما فيه الصلاح والفساد، فتدبر.
] 1 [
توحيد الصدوق، الباب 58 (باب السعادة والشقاء) الحديث 3 وفيه عنه صلى الله عليه وآله: (الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من
سعد في بطن أمه).
171

واما شبهة الأوامر الامتحانية
فنقول في الجواب عنها: بان الأوامر الامتحانية على قسمين: الأول ما لا يكون في متعلقه مصلحة بوجه من الوجوه لا بعنوانه الأولى ولا
بعنوانه الثانوي وهذا نظير ما لو كان الامر بالايجاد لمحض امتحان العبد وفهم انه هل كان بصدد الإطاعة والامتثال أم لا، الثاني ما
يكون مصلحة في متعلقه بالعنوان الثانوي وان لم يكن فيه مصلحة بالعنوان الأولي وهذا نظير ما لو كان الغرض هو امتحان العبد فيما
يصدر منه من العمل كما في أمر العبد بصنع الغليان والشاي مثلا لاختباره في أنه ماهر في ذلك لكي ينتفع به عند ورود الضيف عليه أو
انه لا يكون له المهارة فيه فإنه في هذا الفرض وان لم يكن في متعلق امره وهو الغليان مصلحة بعنوانه الأولي بل ولعله كان فيه مفسدة
لما كان للمولى من وجع الصدر بنحو يضر به شرب الغليان والشاي ولكنه بالعنوان الثانوي كان فيه المصلحة وبذلك صار متعلقا
لغرضه.
وبعد ذلك نقول: بان الأوامر الامتحانية ما كان منها من قبيل الثاني فنلتزم فيها بعدم انفكاكها عن إرادة العمل حيث نقول في مثلها
بتعلق الإرادة الحقيقة من المولى بإيجاد العمل من المأمور وانه أي المأمور يستحق العقوبة على المخالفة فيما لو خالف. واما ما كان منها
من قبيل الأول الذي فرضنا خلو المتعلق عن المصلحة بقول مطلق حتى بالعنوان الثانوي فمثلها وإن كان خاليا عن الإرادة الحقيقية و
لكنه نحن نمنع كونها طلبا وامرا حقيقيا أيضا حيث نقول بكونها حينئذ طلبا وامرا صوريا لا حقيقيا، ومن ذلك أيضا نمنع موضوعية
مثل هذه الأوامر لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال وانه لا يكاد يحكم العقل فيها بوجوب الإطاعة، ولذلك أيضا ترى ان المولى
كان في كمال الجهد بان لا يطلع العبد بواقع قصده وكون امره لمحض امتحانه، واما نفس الامتحان الذي هو الغرض من هذا البعث فهو
أيضا غير متوقف على الامر الحقيقي بل هو يترتب بمحض تخيل العبد كونه أمرا حقيقيا ناشئا عن إرادة جدية متعلقة بالعمل وان لم يكن
كذلك بحسب الواقع ونفس الامر بل كان أمرا صوريا، كما هو واضح. وعلى هذا فما تخلف الطلب عن الإرادة في شئ من الأوامر
الامتحانية كما توهمه الأشعري، فإنه في مورد كان الطلب طلبا حقيقيا قد عرفت عدم انفكاكه أيضا عن الإرادة الحقيقية المتعلقة بإيجاد
العمل، وفي مورد لا يكون فيه إرادة حقيقية متعلقة بالعمل فلا يكون الطلب أيضا طلبا حقيقيا بل طلبا صوريا، فيبطل حينئذ دعوى
الأشعري من مغايرة الطلب مع الإرادة وكان التحقيق
172

هو الذي عليه الجمهور من اتحاد الطلب والإرادة.
بقي شئ:
وهو ان الطلب والإرادة بناء على اتحادهما كما هو التحقيق هل يمكن في مقام تعلقه بشي ان يكون لمصلحة في نفسه أم لا بل لا بد وأن يكون
تعلقه بالشئ لمصلحة في ذلك الشئ؟ حيث إن فيه وجهين، وربما يترتب عليه ثمرات مهمة، منها في مسألة الملازمة المعروفة بين
حكم العقل والشرع، حيث إنه بناء على إمكان ان يكون الإرادة لمصلحة في نفسها يسقط النزاع المزبور إذ حينئذ بمجرد درك العقل
حسن شئ أو قبحه لا يمكننا كشف حكم الشارع فيه بالوجوب أو الحرمة، كما أنه كذلك أيضا في طرف العكس فإذا حكم الشارع
بوجوب شئ أو حرمته لا يمكن الكشف به عن حسن ذلك الشئ الذي أمر به الشارع أو قبحه، من جهة احتمال ان يكون حكم الشارع فيه
بالوجوب أو الحرمة لمصلحة في نفس حكمه وطلبه. وهذا بخلافه على الثاني من كونه لمصلحة في متعلقة، فإنه حينئذ يكون كمال
المجال لدعوى الملازمة خصوصا من طرف حكم الشرع، فيتم ما بنوا عليه من أن الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية، إذ
حينئذ بمجرد حكم الشارع في شئ بالوجوب أو الحرمة يستكشف منه لا محالة كشفا قطعيا عن حسن ذلك الشئ أو قبحه. نعم في
تمامية تلك الملازمة من طرف حكم العقل فيما لو أدرك حسن شئ أو قبحه إشكال - كما سيأتي - ينشأ من عدم كون مجرد الصلاح في
شئ علة لحكم الشارع فيه بالوجوب بل وانما غايته كونه مقتضيا لذلك فيمكن حينئذ ان يمنع عن تأثيره مانع أو مزاحم.
وعلى كل حال: فالذي يقتضيه التحقيق في أصل المسألة هو الوجه الثاني وهو لزوم كون الإرادة في مقام تعلقه بشي لمصلحة في ذلك
الشئ لا لمصلحة في نفسها، والعمدة في ذلك انما هي الوجدان حيث يرى الانسان بالوجدان وماله من الجبلة والارتكاز في تعلق حبه
أو بغضه بشي انه انما يكون لما يجد في ذلك الشئ من الخصوصية الموجبة لملامة النفس وانبساطها أو الخصوصية الموجبة لمنافرة
النفس واشمئزازها، وانه بدون تلك الخصوصية المستتبعة للانبساط أو الاشمئزاز لا يكاد يوجد للنفس ميل ولا محبة إلى ذلك الشئ
بوجه أصلا، كيف وانه لولا ذلك لاتجه عليه إشكال الترجيح بلا مرجح في الامرين المتساويين في جميع الخصوصيات بل في أمر واحد
بأنه لم صار ذلك الشئ محبوبا لا مبغوضا؟ إذ حينئذ لا محيص الا من دعوى ان تعلق الحب والبغض بشي انما هو
173

لخصوصية في ذلك الشئ أوجبت تلك الخصوصية انبساط النفس فتعلق به الميل والمحبة أو اشمئزازها فتعلق به المبغوضية. وعلى ذلك
نقول بأنه إذا كان ذلك شأن الحب والبغض فلا جرم يتبعهما الإرادة والكراهة أيضا فإنهما تابعتان لمقدماتهما التي منها التصديق
بفائدة الشئ والميل والمحبة له فلا تكون الإرادة أيضا في تعلقها بشي الا لصلاح في نفس ذلك الشئ لا لصلاح في نفسها. وحينئذ
ففي مثل هذا الوجدان والارتكاز غنى وكفاية في إثبات لزوم كون الإرادة لمصلحة في خصوص متعلقها وبطلان توهم كونها لصلاح
في نفسها بلا احتياج إلى إتعاب النفس في إقامة البرهان عليه أيضا كما هو واضح.
ثم إن الظاهر أن عمدة المنشأ لتوهم إمكان كون الإرادة لمصلحة في نفسها انما هو ملاحظة موارد الإقامة فيما لو كان قصد الإقامة لأجل
ترتب حكم وجوب الصوم والتمام، حيث إنه بعد ان يرى عدم ترتب حكم وجوب التمام على إقامة عشرة أيام خارجا ولا عليها مع القصد
المزبور - بشهادة ترتب حكم وجوب التمام بمحض تحقق قصد إقامة عشرة أيام منه في مكان مع إتيان صلاة أربع ركعات وان لم
يتحقق منه في الخارج إقامة عشرة أيام بل زال قصده ونوى الخروج من محل الإقامة فخرج منه إلى مكان آخر - تخيل من هذه الجهة ان
ترتب حكم وجوب التمام ووجوب الصوم انما كان على مجرد قصد إقامة عشرة أيام وإرادته ذلك لا على نفس الإقامة الخارجية ولا
عليها والقصد المزبور، فمن تلك الجهة استظهر حينئذ انه إذا أمكن في مورد تعلق الإرادة والقصد لا لصلاح في ذلك الشئ بل لصلاح
مترتب على نفس القصد والإرادة - كما في ناوي الإقامة عشرة أيام لأجل وجوب التمام - فليكن كذلك في غير ذلك المورد أيضا، لان
الأمثال سوأ فيما يجوز وفيما لا يجوز، فإذا جاز وأمكن في مورد يجوز ويمكن في جميع الموارد، هذا.
ولكن نقول في دفع تلك الشبهة: بأن ترتب وجوب التمام انما كان على نفس الإقامة الخارجية غايته لا على وجودها المنحفظ بقول
مطلق حتى من غير ناحية القصد والإرادة بل على وجودها المنحفظ من ناحية القصد المزبور فهو الذي كان موضوعا لحكم الشرع
بوجوب الصوم والتمام، فإذا انحفظ وجودها من الجهة المزبورة يترتب عليها الحكم بالتمام لتحقق ما هو الموضوع للحكم المزبور، و
على ذلك فلا يرتبط ذلك بمقام ترتب وجوب التمام على صرف القصد المزبور بوجه أصلا بل هو كما عرفت مترتب على نفس الإقامة
174

الخارجية، وحينئذ فتعلق القصد بها من ناوي الإقامة انما هو من جهة ما يرى بنظره من ترتب وجوب التمام على الإقامة، فإنه بعد ان
يرى ذلك يتعلق بها قصده وتتمشى منه الإرادة إلى وجودها وبمجرد تعلق قصده بها يتحقق ما هو موضوع حكم الشارع بوجوب
التمام. نعم غاية ما هناك انه لا بد حينئذ من جزم المكلف بانحفاظ وجود الإقامة عشرة أيام خارجا من سائر الجهات لكي يتحقق منه
القصد إليها ويتمشى منه الإرادة إلى وجودها، وإلا فبدون الجزم المزبور فضلا عن الجزم بالخلاف وخروجه في الأثناء عن محل
الإقامة يستحيل تمشي القصد والإرادة منه إليها بوجه أصلا كما لا يخفى، وحينئذ فصح لنا ان نقول بقول مطلق: بان الإرادة لا تكاد
تكون الا لمصلحة في متعلقها.
بقي شئ لا يخفى عليك ان ما ذكرنا من لزوم تبعية الإرادة لمصلحة في متعلقها وامتناع كونها لصلاح في نفسها ليس المقصود منه هو
علية مجرد الصلاح في الشئ لتعلق الإرادة به كي يلزمه انه مهما وجد صلاح في فعل أو شئ لا بد وأن يكون هناك إرادة أيضا متعلقة
بذلك الشئ كما لعله مبنى القائل بالملازمة، بل المقصود من ذلك هو كون الصلاح في الشئ مقتضيا لتعلق الإرادة بذلك الشئ عي معنى
مؤثرية ذلك الصلاح الكائن في الفعل في توجه الإرادة الفعلية بذلك الفعل لولا وجود المانع أو المزاحم في البين.
فحينئذ فإذا كان الصلاح المزبور يتوقف تأثيره الفعلي في الإرادة بعدم وجود المانع أو المزاحم، نقول: بان مانعية الشئ قد تكون في
أصل تأثير المصلحة في الإرادة الفعلية بل وفي مباديها من الرجحان والمحبوبية أيضا وقد تكون في تأثيرها في مقام إبراز الإرادة
بالامر والبعث نحو المراد لا في أصل الإرادة الفعلية، ويفرض الثاني فيما لو كان القصور من طرف المولى في عدم تمكنه من إبراز
مقصده إلى المكلف والمأمور خوفا منه على نفسه أو على غيره، كما يفرض ذلك فيما لو كان عنده عدو بحيث لو أبرز إرادته لعرض
عليه الحسد وقتله في الحال، ونحو ذلك من الأمور المانعة عن إبراز المقاصد، كما أنه من هذا القبيل مسألة الدلالة على ولى الله على ما
ورد من الأخبار الكثيرة بأن النبي صلى الله عليه وآله كان مأمورا من قبل على نصب ولى الله بالخلافة من بعده لكنه صلى الله عليه وآله
خوفا عن خروج الناس عن دينهم لم يظهر ذلك إلى أن نزلت قوله سبحانه يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إلخ. وعلى كل حال نقول: بأنه في
مثل هذا الفرض لما كانت الإرادة الفعلية متحققة يجب على المكلف والمأمور عند علمه بإرادة المولى وفعليتها المبادرة بإتيان ما هو
مطلوب
175

المولى من جهة استقلال العقل حينئذ بلزوم الاتيان والاطاعة وعدم جواز المخالفة بمحض عدم إبراز المولى إرادته وعدم امره وبعثه
نحو المراد، كما هو واضح. فتمام المقصود من هذا الاطناب انما هو لزوم عدم الاعتناء بمثل هذا المانع وان وجوده كعدمه بنظر العقل
فيما هو همه من لزوم الإطاعة وحرمة المخالفة.
نعم ما كان منها أي من الموانع من قبيل الأول الذي كان مانعا عن تأثير المصلحة في أصل الإرادة خاصة أو فيها وفي ما هو من مباديها
من الرجحان والمحبوبية، كما في مسألة الضد المبتلى بالأهم ومسألة الاجتماع بناء على الامتناع وتغليب جانب النهي، حيث إنه في الأول
يؤثر المانع في عدم تعلق الإرادة بالمهم وفي الثاني في عدم الرجحان والمحبوبية الفعلية، ففيها لا مجال لوجوب الاتيان وحرمة
المخالفة، من دون فرق بين ان يكون المانع راجعا إلى المكلف والمأمور كما في المثال حيث كان المانع عن توجه الإرادة الفعلية نحو
الضدين هو عدم قدرة المأمور على الامتثال، أو كان المانع راجعا إلى المولى. كما لو لاحظ المولى في عدم إرادة الفعل الذي فيه صلاح
مصلحة أهم كانت في نظره من مثل مصلحة التسهيل على العباد على ما ينبئ عنه مثل قوله صلى الله عليه وآله (لولا أن أشق على أمتي
لامرتهم بالسواك) حيث إنه يستفاد منه ان المصلحة الكائنة في السواك مصلحة ملزمة ولكنها لمزاحمتها لمصلحة التسهيل رخص الشارع
في تركه وما أوجبه على المكلفين.
وعلى ذلك ربما يترتب أيضا مبنى إنكار قاعدة الملازمة المدعاة بين حكم العقل والشرع، إذ على هذا البيان يتوجه على القاعدة
المزبورة ان مجرد درك العقل حسن الشئ أو قبحه لا يوجب كشف حكم شرعي على طبقه بالوجوب أو الحرمة من جهة احتمال مزاحمة
تلك المصلحة بمصلحة أخرى في نظر الشارع أهم ولو كانت هي مصلحة التسهيل أوجبت تلك المصلحة الترخيص على خلاف ما يقتضيه
مصلحة الفعل. وحينئذ فمع هذا الاحتمال كيف يمكن كشف الحكم الشرعي من الوجوب أو الحرمة على طبق ما أدركه العقل والحكم
بوجوبه وحرمته، كما هو واضح. نعم في مقام العمل أمكن لنا دعوى وجوبه عملا من جهة قاعدة المقتضى والمزاحم على ما تقرر في
محله: بأن العقلا بعد إحرازهم وجود المقتضى للشئ في مقام يجرون عملا على طبق ذلك المقتضى من دون اعتنائهم باحتمال وجود
المانع أو المزاحم في البين ولو في مورد لم يكن هناك أصل يقتضى التعبد بعدمه كما هو واضح، فتدبر.
176

لمبحث الثاني
فيما يتعلق بصيغة الامر وفيه أيضا جهات من البحث.
الجهة الأولى: في بيان مدلول صيغة الامر
فنقول: انهم ذكروا لصيغة الامر معاني متعددة: منها الطلب. ومنها الترجي والتمني كما في قولكن الشاعر:
الا يا أيها الليل الطويل الا انجل بصبح وما الاصباح منك بأمثل
ومنها التهديد كقوله سبحانه: اعملوا ما شئتم (). ومنها الانذار ومنه قوله تعالى: قل تمتع بكفرك قليلا ()، وتمتعوا في داركم ثلاثة
أيام (). ومنها التسخير والإهانة والتسوية كقوله سبحانه: كونوا قردة خاسئين ()، وقوله تعالى: اخسئوا فيها ولا تكلمون ()، وقوله عز
من قائل: فاصبروا أو لا تصبروا (). ومنها غير ذلك من المعاني الاخر كالاستعانة والتكذيب والمشورة والتعجب ونحوها مما هو
مذكور في المطولات.
ولكن التحقيق خلافه وأنه لا يكون دلالة للصيغة بنفسها على شئ من المعاني المزبورة ما عدا المعنى الأول وهو الطلب، بل ولا كانت
الصيغة مستعملة في شئ منها بوجه أصلا، بل ما هو مدلول الصيغة لا يكون إلا معنى وحدانيا وهو الطلب الانشائي أو
177

النسبة الارسالية - كما سنحققه - وان استفادة تلك المعاني في الموارد المزبورة انما هي من جهة القرائن الخارجية المقتضية لها لا من
جهة ان الصيغة قد استعملت فيها، كما هو واضح. ولقد أجاد في الكفاية وجاء بما فوق المراد في تحقيق وحدة المعنى وتفرده بلا مدخلية
لتلك المعاني فيما يستعمل فيه اللفظ، فان تلك على ما أفاده هو (قدس سره) من الدواعي من حيث كون الداعي على الاستعمال تارة هو
التهديد وأخرى الانذار وثالثة التمني ورابعة التعجيز وخامسة غير ذلك، ومن البداهة ان ذلك غير الاستعمال فيها ولو مجازا، كما
هو واضح.
نعم انما الكلام حينئذ في كيفية دلالتها على الطلب وانها هل هي موضوعة للطلب أي الانشائي الايقاعي منه كما عليه الكفاية؟ أو انها
موضوعة للنسبة الارسالية الايقاعية وان دلالتها على الطلب انما هي من جهة الملازمة؟ كما سنبينها إن شاء الله.
ولكن الذي يقتضيه التحقيق هو الثاني، ووجه يظهر مما تقدم في مبحث المشتق من انحلال الوضع في المشتقات بأسرها من المصادر و
الافعال وأسماء الفاعلين والمفعولين ونحوها إلى وضعين: وضع المادة ووضع الهيئة، إذ عليه نقول: بأن صيغة اضرب مثلا لما كانت
مشتملة على مادة وهيئة خاصة فمادتها تدل حسب الوضع النوعي على نفس الحدث واما هيئتها الخاصة فهي أيضا لا تدل الا على النسبة
الارسالية والمحركية بين المبدأ والفاعل، لكن لا مفهوم هذه النسبة لأنه معنى اسمي، بل مصداقه وصورة ذلك الربط الخاص الحاصل
من تحريك المأمور نحو العمل على طبق الارسال الخارجي، وحينئذ فلا يكون المستعمل فيه في الصيغة الا النسبة الارسالية لا مفهوم
الطلب كما عليه الكفاية (قدس سره) وعليه فلا بد وأن يكون دلالتها على الطلب من جهة الملازمة خاصة الناشئ هذا التلازم من جهة
كون المتكلم في مقام الجد بالارسال، إذ حينئذ ينتقل الذهن من تلك النسبة الارسالية إلى مفهوم الطلب بانتقال تصوري، ففي الحقيقة
منشأ هذا التلازم انما هو التلازم الخارجي بين منشأيهما وهما البعث والارسال الخارجي والإرادة الخارجية وعدم انفكاك أحد
الامرين عن الاخر، وحينئذ فحيث ان اللفظ كان وجها للمفهوم وكان المفهوم وجها لمنشئه وكان بين المنشأين وهما البعث والارسال
الخارجي والإرادة الحقيقية ملازمة - في مرحلة الخارج - فينتقل الذهن عند تصور أحد المفهومين من جهة كونه وجها لمنشئه إلى مفهوم
الاخر كذلك (يعنى من حيث كونها أيضا وجها لمنشئه) بانتقال
178

تصوري ولو لم يكن للمنشأ وجود في الخارج أصلا بل كان المنشأ مما يقطع بعدم وجوده خارجا. نعم في مقام التصديق لا بد من إحراز
كون المتكلم في مقام الجد بالارسال ولو بالأصل ليحرز به وجود الإرادة وتحققها فيصدق عليه الطلب والامر حقيقة. فعلى ذلك فدلالة
الصيغة على الطلب انما هي باعتبار كونه من لوازم ما هو المدلول لا انها من جهة كونه بنفسه هو المدلول للصيغة، وبين الامرين بون
بعيد.
نعم جعل الطلب مدلولا بنفسه للصيغة يتم على مسلك الكفاية (قدس سره) في المعاني الحرفية من وحدة المعنى والموضوع له في
الحروف والأسماء وجعل الفارق بينهما بلحاظ الالية والاستقلالية، والا فبناء على تغاير المعنى والموضوع له فيهما - كما سلكناه
بجعل معاني الحروف والهيئات النسب والإضافات الخاصة المتقومة بالطرفين - لا محيص من دعوى ان المدلول في الصيغة هو النسبة
الارسالية الايقاعية، وعليه فكان دلالتها على الطلب باعتبار كونه من لوازم المدلول - كما شرحناه - لا من جهة كونه هو المدلول لها
كما لا يخفى. نعم في مقام التصديق كما ذكرناه يحتاج في صدق الامر الحقيقي إلى إحراز كون المتكلم في مقام الجد بالارسال ولو
بالأصل: وهو أصالة كون المتكلم في مقام الجد بالارسال وكون الداعي عليه هو الإرادة الحقيقية للفعل دون غيرها من الدواعي، كما
هو واضح.
الجهة الثانية
انه بعد الفراغ عن دلالة الصيغة على الطلب إما بدوا أو بالملازمة، فهل هي حقيقة في خصوص الطلب الالزامي؟ أو انها حقيقة في مطلق
الطلب الجامع بين الالزامي والاستحبابي؟ أو انها حقيقة في خصوص الطلب الاستحبابي ومجاز في غيره؟ فيه وجوه: أضعفها الأخير.
فيدور الامر حينئذ بين كونها حقيقة في مطلق الطلب أو في خصوص الطلب الالزامي. وقد استدل على كونها حقيقة في الطلب الوجوبي
بما تقدم سابقا في مادة الامر من نحو آيتي الحذر والنبوي المعروف من قوله صلى الله عليه وآله لولا أن أشق على أمتي لامرتهم
بالسواك ونحوهما. ولكن الجواب عنها هو الجواب هناك فلا نعيده. نعم ظهورها في خصوص الوجوب عند إطلاقها لا ينكر ظاهرا حيث
لا تأمل لاحد من
179

الأصحاب في حملها على الوجوب عند إطلاقها وحينئذ فبعد ثبوت هذا الظهور للصيغة وتسلمه عندهم لا يهمنا البحث عن منشئه وانه هو
الوضع أو قضية الاطلاق بأحد التقريبين المتقدمين أو غيرهما من الغلبة وغيرها، إذ لا يترتب عليه فائدة مهمة بوجه أصلا، وان لم يبعد
دعوى استناد الظهور المزبور إلى قضية الاطلاق بما تقدم تقريبه سابقا وذلك من جهة ان دعوى الاستناد إلى قضية الوضع بعيدة جدا
خصوصا بعد ما يرى من صحة استعمالها في موارد الاستحباب بلا رعاية عناية تقتضيه.
واما التشبث بأصالة عدم القرينة لاثبات الوضع في خصوص الوجوب فقد عرفت الجواب عنها بأنها انما تكون حجة ومتبعة عند العقلا
في كشف المرادات لا في تعيين الأوضاع، حيث إن لا دليل لفظي على حجيتها حتى يؤخذ بإطلاقها حتى في تعيين الأوضاع.
لكن مع ذلك كله ربما يميل النفس إلى كونها حقيقة في خصوص الوجوب نظرا إلى ما هو المتبادر منها مؤيدا ذلك بأصالة تشابه الأزمان
المقتضى لكون وضعها لخصوص الطلب الالزامي، فتدبر.
الجهة الثالثة
إذا وردت جملة خبرية في مقام بيان الحكم الشرعي من نحو قوله: تغتسل، وتعيد الصلاة، ويتوضأ، وقوله عليه السلام: إذا حال الحول
اخرج زكاته، ونحو ذلك فلا إشكال في أنه ليس المراد منها هو الاخبار عن وقوع الفعل من المكلف كما في غيره من موارد الاخبار، بل
وان المراد منها انما هو الطلب والبعث نحو الفعل والعمل، وانما الكلام والاشكال في أنها له كانت مستعملة في الطلب أو الارسال بما
هو مفاد الصيغة مجازا؟ أو انها مستعملة في معناها الذي تستعمل فيه في مقام الاخبار وهو النسبة الايقاعية لكنه بداعي إفادة ملزومة و
هو الطلب والبعث؟ نظير باب الكنايات كما في قولك: زيد كثير الرماد، مريدا به إفادة ملزومه الذي هو جوده وسخاؤه، حيث إن
استعمالك ذلك كان في معناه الحقيقي لكن الداعي على هذا الاستعمال هو الاعلام بملزومه الذي هو جوده وسخاؤه ففي المقام أيضا
كانت الجملة الخبرية مستعملة في معناها الذي تستعمل
180

في مقام الاخبار ولكن الداعي على الاستعمال المزبور هو إفادة ملزومه الذي هو البعث والطلب، أو لا هذا ولا ذاك؟ بل كان استعمالها
في معناها الحقيقي الاخباري وكان الغرض والداعي من الاستعمال أيضا هو الاعلام والاخبار دون الطلب والبعث والارسال كما هو
قضية الوجه الثاني، ولكن إعلامه بتحقق الفعل من المكلف انما كان بلحاظ تحقق مقتضية وعلته وهو الإرادة والطلب كما هو الشأن في
غير المقام من موارد الاخبار بوجود المقتضى (بالفتح) عند تحقق مقتضية، ومنها باب اخبار علماء النجوم بمجئ المطر وبرودة الهواء
أو حرارته فيما بعد حسب ما عندهم من الامارات الخاصة من نحو تقابل الكوكبين وتقارنهما الذي يرونه سببا لتلك الانقلابات. ففي
المقام أيضا نقول: بان المولى لما كان مريدا للفعل من المكلف والمأمور وكان طلبه وإرادته للفعل علة لصدوره من المكلف ولو
بمعونة حكم عقله بوجوب الإطاعة والامتثال، فلا جرم فيما يرى طلبه متحققا يرى كأنه وجود المقتضى (بالفتح) وهو العمل في الخارج،
فمن هذه الجهة يخبر بوقوعه من المكلف بمثل قوله: تعيد الصلاة وتغتسل. فهذه وجوه ثلاثة:
لكن أضعفها أولها من جهة بعد انسلاخها عن معناها الاخباري واستعمالها في الطلب والنسبة الارسالية بل وعدم مساعدته أيضا لما
يقتضيه الطبع والوجدان في استعمالاتنا الجمل الاخبارية في مقام الطلب والبعث والارسال، كما هو واضح.
وحينئذ فيدور الامر بعد بطلان الوجه الأول بين الوجهين الأخيرين.
وعند ذلك نقول: إنه وإن كان لكل منهما وجه وجيه ولكن الأوجه هو الوجه الأخير بملاحظة أقربيته إلى الاعتبارية والوجدان و
شيوعه أيضا عند العرف والعقلاء من ترتيبهم الآثار على الأشياء التي منها الاخبار بوقوعها بمحض العلم بوجود عللها ومقتضياتها، كما
كان من ذلك أيضا اخبار أهل النجوم بتحقق أمورات فيما بعد لعلمهم بتحقق عللها، كما هو واضح. وعلى هذا البيان أيضا ربما كان
دلالتها على الوجوب آكد من الصيغة نظرا إلى اقتضاء الاخبار بوجود الشئ وتحققه وجوبه أيضا، بلحاظ ان الشئ ما لم يجب لم يوجد.
فمن هذه الجهة كان الوجوب هو المناسب مع الاخبار دون الاستحباب فإنه لم يكن بتلك المثابة من الناسبة مع الاخبار، وهذا بخلافه في
الصيغة فإنها ليست بتلك المثابة من الأكدية في الوجوب من جهة ملائمتها مع الاستحباب أيضا.
نعم ربما يورد على هذا الوجه بعدم مصحية مجرد وجود الإرادة وتحققها للاخبار
181

بوجود الفعل من المأمور والمكلف، وذلك بتقريب ان الإرادة الواقعية لا تكون مما لها الدخل ولو بنحو الاقتضاء لحكم العقل بوجوب
الإطاعة والامتثال كي بهذه العناية كانت مصححة للاخبار بوجود العمل والمقتضى وتحققه من المكلف، بل وانما تمام العلة لحكم العقل
بوجوب الإطاعة والامتثال انما هو علم المأمور بالإرادة حيث إنه بمحض علمه بإرادة المولى يتبعه حكم العقل بالإطاعة ولو لم يكن في
الواقع إرادة للمولى أصلا بان فرض تخلف علمه عن الواقع وكونه جهلا مركبا، وبدون علمه بإرادة المولى لا يكاد حكم عقله بالإطاعة
بوجه أصلا ولو فرض ان إرادة المولى كانت متحققة في الواقع ونفس الامر. وعلى هذا فإذا كان تمام العلة لحكم العقل بالإطاعة هو
الإرادة بوجودها العلمي لا الواقعي يتوجه عليه: بأنه حين الاخبار حيثما لا يكون للمكلف علم بالإرادة كما هو المفروض فأين المصحح
لاخباره بعد فرض عدم مدخلية للإرادة الواقعية ولو بنحو الاقتضاء في حكم العقل بالإطاعة؟ هكذا أورد عليه الأستاذ.
ولكن نقول: بأن إرادة الفعل من المكلف واقعا لما كانت سببا لاعلام المكلف والمأمور به، وكان الاعلام سببا لحكم عقله بالإطاعة، و
حكم عقله بالإطاعة سببا لتحقق العمل منه في الخارج، فقهرا بهذا السلسلة الطولية تكون الإرادة سببا ومقتضيا لوجود العلم وتحققه، و
معه بأنه يكفي هذا المقدار من الدخل في مصححية الاخبار، كما هو واضح.
وعلى كل حال ففي المقام وجه رابع لاستفادة الطلب من الجمل الخبرية ولعله أوجه من الوجوه المتقدمة، وهو ان يقال: بأن استفادة
الطلب من مثل هذه الجمل الواردة في مقام بيان الحكم الشرعي انما هو من جهة كونه من لوازم قضية الجد بإيقاع النسبة التي هي مدلول
الجمل، وذلك أيضا بمقتضى التلازم الثابت بين الايقاع الخارجي والإرادة، بتقريب: انه كما أن إخراج المبدأ من كمون الفاعل خارجا و
إيقاع النسبة بينه وبين الفاعل في الخارج ملازم مع إرادة الوجود ولا يمكن انفكاكه عنها كذلك هذه النسبة الايقاعية الذهنية، فإذا كان
المتكلم في مقام الجد بهذا الايقاع فقضية جده بذلك تقتضي ملازمته مع إرادة الوجود من المكلف، فعليه فكان ما هو المستعمل فيه في
تلك الجمل هو النسبة الايقاعية التي تستعمل فيها في مقام الاخبار الا انه لم يقصد بإيقاع تلك النسبة الايقاعية في مقام استعمال الجملة
الحكاية عن الواقع الثابت كما في سائر الجمل
182

الاخبارية، نعم لازمه هو عدم انفكاك قضية الجد بإيقاع النسبة أيضا عن قصد الانشاء بعد عدم قصد الحكاية بها عن واقع ثابت، كما لا
يخفى. ولقد مر منا توضيح هذه الجهة في مبحث الحروف عند الفرق بين الجمل الاخبارية والانشائية فراجع.
الجهة الرابعة
هل إطلاق الصيغة يقتضى التوصلية بمعنى كفاية مجرد وجود الواجب كيف ما اتفق في سقوط الغرض الداعي على الامر به؟ أم يقتضى
التعبدية بمعنى عدم كفاية مجرد وجوده في سقوط الغرض الداعي على الامر به الا إذا أتى عن داع قربي؟ وعلى فرض عدم اقتضائه
لشئ من الامرين فهل الأصل العملي يقتضى التعبدية بمعنى عدم سقوط الامر به الا بإتيانه عن داع قربي أم لا؟ فهنا مقامان:
المقام الأول:
فيما يقتضيه الاطلاقات والأصول اللفظية، وتوضيح المرام في هذا المقام يقتضى رسم أمور.
الأول:
فنقول: انه قد ظهر من عنوان البحث معنى الواجب التعبدي والتوصلي وان الواجب التعبدي هو الذي لا يكاد حصول الغرض الداعي على
الامر به الا بإتيانه على وجه قربي، والواجب التوصلي بخلافه وهو الذي يحصل الغرض الداعي على الامر به بمجرد وجوده وتحققه
كيف ما اتفق ولولا يكون الاتيان به عن داع قربي بل ولو كان حصوله من غير إرادة المكلف واختياره، كما في مثل غسل الثوب من
الخبث حيث إنه بمحض تحققه يحصل الغرض الداعي على الامر به ويسقط الامر به أيضا ولو كان ذلك بمثل إطارة الريح إياه في الماء.
نعم في مقام ترتب المثوبة ولو في التوصليات لا بد من إتيان العمل عن داعي أمره سبحانه، بلحاظ ان المثوبة انما كان ترتبها على
عنوان الإطاعة وهذا العنوان مما لا يكاد تحققه إلا إذا كان الاتيان بالواجب بداعي أمر المولى، لكن مجرد ذلك لا يقتضى تعبديته، حيث إن
المدار في التعبدية والتوصلية على أمر آخر قد ذكرناه.
ثم إن ما ذكرناه من التعريف للتعبدي والتوصلي هو أجود التعاريف وأحسنها، لا ما قيل في تعريفهما: بأن الواجب التعبدي هو ما لا
يعلم انحصار المصلحة فيه في شئ والتوصلي بخلافه، وذلك لما يرد على هذا التعريف بما يرى كثيرا من التوصليات التي
183

لا يعلم انحصار الغرض والمصلحة فيها في شئ، على أن التعبدي بهذا المعنى غير مجد فيما هو المهم في مثل المقام، حيث إن المهم و
المقصود من التعبدي في المقام هو الذي لا يحصل الغرض الداعي على الامر به ولا يسقط امره إلا بإتيانه على وجه قربي، ويقابله
التوصلي الذي يحصل الغرض ويسقط الامر بمجرد وجوده كيف ما اتفق، كما هو واضح.
الأمر الثاني:
لا يخفى عليك ان المهم في المقام على ما ستعرف من إمكان أخذ القربة قيدا للمأمور به أو عدم إمكانه انما هو مجرد إثبات إمكان
التمسك بالاطلاقات، لا فعلية التمسك به كي يستلزم ذلك تسليم ورود الاطلاقات في مقام البيان فينافي ذلك مع ما ذكرناه سابقا في
مسألة الصحيح والأعم من نفى الثمرة بين القولين من جهة عدم صحة التمسك بالاطلاقات نظرا إلى المنع عن ورود تلك المطلقات في
مقام البيان بل في مقام أصل تشريع المركب، ففي الحقيقة الجهة المبحوث عنها في المقام من صحة التمسك بالمطلقات انما كانت مبنية
بفرض ثبوت ورود المطلقات في مقام البيان، فتدبر.
الأمر الثالث:
وهو العمدة في الباب ان عبادية الشئ وما به قوام كون الشئ عبادة عبارة عن كون الشئ من وظائف العبودية ومما يتقرب به إلى
المولى، ومرجعه إلى كون الشئ بنحو يظهر العبد والمأمور به خضوعه وعبوديته لمولاه. وحينئذ نقول: بأن مثل هذا المعنى تارة
يكون جعليا وأخرى ذاتيا، ومن قبيل الأول الأمور الموضوعة أبزارا للعبودية ومنها بعض الحركات المجعولة عند العقلا لان تكون
آلات للتعظيم وللخضوع والعبودية كالركوع والسجود وتقبيل اليد والرجل وكرفع القلنسوة من الرأس عند بعض الطوائف ورفع
اليد إلى الاذن عند طائفة أخرى والقيام بنحو الاستقامة وتحريك اليد عند طائفة ثالثة وهكذا غير ذلك من الأمور المجعولة عند
العرف والعقلاء آلات للتعظيم وللخضوع والعبودية، ومن المعلوم انه يكفي في عبادية مثل هذه الأمور وكونها آلات للعبودية مجرد
إتيانها بقصد كونها خضوعا و تعظيما، أو قصد عنوان آخر بجعل ذلك العنوان تعظيما وخضوعا، نظير الصلاة مثلا، حيث إنه بمجرد
إتيانها بقصد الخضوع والتعظيم يعد كونها تعظيما، كما في المقام للغير بقصد التعظيم، أو السجود له بقصد التذلل والخضوع، كما أنه
يكفي أيضا في مقربية مثل هذه الأمور مجرد إتيانها للمولى وتخصيصها له بلام الصلة بجعل خضوعه له دون غيره، من دون احتياج
مقربيتها إلى توجه الامر بها ولا إلى إتيانها بداعي امرها وجعل الله سبحانه غاية عمله، من جهة ان فيها حينئذ اقتضاء المقربية
184

بنفس إتيانها لمولاه من دون اعتبار قصد كونها بداعي امره، كما هو واضح. نعم يحتاج في مقربية هذه الأمور فعلا ان لا يكون مخلا
بغرض المولى من جهة أخرى ومبغوضا فعليا للمولى وإلا فلا يكاد يصلح مثلها للمقربية بوجه أصلا وان لم تخرج بعد أيضا من جهة
عباديتها، إذ كان مثل هذه الأمور يجتمع حيث عباديتها مع مبغوضيتها عند المولى، ومن ذلك أيضا نقول بإمكان حرمة العبادة ذاتا من
غير أن تكون جهة حرمتها ومبغوضيتها منافية مع عباديتها وإن كانت مانعة عن مقربيتها باعتبار انه لا بد في مقربيتها ان لا تكون
مبغوضة للمولى. نعم كما عرفت لا يحتاج جهة مقربيتها إلى توجه الامر بها من المولى، من جهة ان مقربية مثل هذه الأعمال كانت مستندة
إلى اقتضاء ذاتها بحيث لولا منع المولى ونهيه عن إيجادها لكانت من جهة كونها خضوعا للمولى مقربة للعبد وان لم يأمر المولى
بإتيانها، كما هو واضح.
ثم إن قبال هذه الوظائف الجعلية للعبودية وظائف أخرى ذاتية غير جعلية وهي مطلق ما أمر به بداعي امره فان كون مثل هذه الأعمال
من وظائف العبودية انما هو ذاتي لا جعلي كما في القسم الأول وكان مقربيتها أيضا ذاتية غير قابلة للمبعدية ولا المبغوضية بوجه أصلا،
لأنه من المستحيل حينئذ توجه النهي إلى مثل هذا العنوان الذي أخذ في حقيقة تعلق الامر بذاته وحينئذ فلا يمكن انفكاك عباديتها عن
جهة مقربيتها. بخلاف الوظائف الجعلية، فان انفكاك جهة المقربية عن جهة العبادية فيها بمكان من الامكان، ولذلك قلنا بإمكان
الالتزام بحرمة العبادة ذاتا - كما في صلاة الحائض - بلا احتياج إلى إرجاع النهى الوارد فيها إلى حيث التشريع.
ثم إنه من الجهات الفارقة بين هاتين الوظيفتين هو انه في الوظائف الجعلية يكفي في مقربيتها مجرد إتيانها لله بلام الصلة، واما في
الوظائف الغير الجعلية فلا يكفي المقدار في مقربيتها بل لا بد في مقربيتها من إتيانها بداعي أمرها وجعل الله سبحانه غاية عمله الراجع
إلى كون عمله راجحا ومحبوبا عند المولى، وحينئذ فكم فرق بين هذين النحوين من القرب من حيث كفاية مجرد الاتيان بالعمل بلام
الصلة للمولى في أحدهما وعدم كفايته في الاخر ولزوم الاتيان به بداعي امره.
ومن الجهات الفارقة أيضا بينهما انه على الأول يختص بخصوص بعض الأعمال المجعولة آلات للخضوع وللعبودية ولا يجري في جميع
الأعمال، بخلافه على الثاني، فإنه عليه
185

لا اختصاص له بعمل دون عمل بل يجري في جميع الأعمال التي أمر المولى بها، فكل عمل أو فعل أمر المولى به إذا أتى به بداعي أمره
كان مقربا - ولو كان من الافعال العادية من نحو الأكل والشرب وغيرها - ويحكم العقل أيضا باستحقاق المثوبة عليه كما هو واضح.
ومن الجهات الفارقة بين الخضوعين أيضا تصحيح باب النيابة في العبادات بمثل الخضوعات الجعلية نظرا إلى كونها قابلة للنيابة و
التسبيب فإنه حينئذ بنفس نسبتها إلى الغير يقع الخضوع لذلك الغير لا له ويكون الغير هو المتقرب بهذا العمل كما هو المشاهد
بالوجدان في الخضوعات الجعلية العرفية من تقبيل اليد ونحوه فيما إذا أمر الغير بتقبيل يد زيد عن قبله أو بخضوعه عنه بنحو آخر،
فإنه لا شبهة حينئذ في أنه إذا خضع المأمور لزيد أو قبل يده عن قبل الامر يقع خضوعه ذلك لذلك الغير الذي امره به لا لنفسه وكان
ذلك الغير أيضا هو المتقرب بعمله، بل ربما لا يحتاج إلى الامر أيضا فيتقرب بعمل غيره عنه بمحض رضائه بذلك وان لم يكن بتسبيب
منه كما لو خضع أحد لزيد وقبل يده عن قبل الغير فإنه بمحض رضاء ذلك الغير بهذا الخضوع عن قبله يقع ذلك خضوعا له لا للفاعل
فكان الفاعل بمنزلة الآلة لإيجاد ما هو خضوع الغير من دون استناد لهذا الخضوع إلى شخص الفاعل بوجه أصلا.
وحينئذ نقول: بأنه إذا كان ذلك حال الخضوعات العرفية، فليكن كذلك في العبادات أيضا، فكان النائب إذا أتى بما هو آلة الخضوع ولو
بجعل الشارع كالصلاة والصوم والحج والزيارة والطواف بالبيت لوجهه سبحانه عن قبل الغير يقع هذه الخضوعات حقيقة لذلك
الغير وكان هو المتقرب بعلم النائب لكن مع تسبيبه إياه في إيجاد تلك الخضوعات عن قبله ولا أقل من رضائه بذلك، ففي الحقيقة
مقربية هذه الخضوعات للغير منوطة بأمرين: أحدهما خضوع الغير لله سبحانه عن قبله، وثانيهما رضاء ذلك الغير وطيب خاطره به
بحيث لو كان مكرها فيه لما كان العمل عبادة له ولما كان متقربا به، فإذا تحقق الأمران المزبوران يقع القرب لا محالة لذلك الغير، و
عليه فلا يرد إشكال في باب النيابة في العبادات وهذا بخلافه في العبادة بداعي الامر إذ عليه كان أمر تصحيح النيابة في العبادات في
غاية الاشكال، نظرا إلى استحالة صدور مثل هذا المعنى عن النائب، إذا الامر المتعلق بالعبادة على الفرض انما هو متوجه إلى المنوب
عنه دون النائب، ومعه كيف يمكن صدورها عن النائب بداعي
186

امرها؟ وهل يصلح الامر للداعوية بالنسبة إلى غير من يتوجه إليه؟.
لا يقال: هذا كذلك لولا دليل التنزيل وإلا فبملاحظة دليل التنزيل لا إشكال في البين لأنه بتنزيل نفسه منزلة المنوب عنه يتوجه امره
إليه من جهة صيرورته هو إياه بهذا لاعتبار، وحينئذ فيأتي بالعبادة بدعوة هذا الامر المتوجه إليه ويكون عمله مقربا للمنوب عنه.
فإنه يقال: كلا، وان مجرد التنزيل لا يوجب توجه امره إليه حقيقة وان نزل نفسه منزلته الف مرة بل وانما غايته هو توجه مماثل الامر
المتوجه إلى المنوب عنه إليه، وفي مثل ذلك نقول: بان إتيانه بداعي هذا الامر لا محالة لو أثر لكان مؤثرا في مقربية نفس النائب دون
المنوب عنه: لأنه في الحقيقة يكون هو المكلف بالعبادة، وفي مثله يستحيل مقربية عمله للمنوب عنه حقيقة، كما هو واضح. وتنقيح المرام
بأزيد من ذلك موكول إلى محله، والمقصود في المقام انما هو بيان الجهات الفارقة بين نحوي العبادة من الخضوعات الجعلية و
الخضوعات الغير الجعلية والإشارة إلى إمكان تصحيح النيابة في العبادة في الأمور المجعولة لان تكون آلات للخضوع دونه في
الخضوعات الغير الجعلية وهي العبادة بداعي الامر.
ثم هنا شئ، وهو ان العبادات الشرعية يحتاج في كفاية مجرد الاتيان بها لله بلام الصلة لا الغاية إلى إحراز كونها من قبيل القسم الأول،
وإلا فمع الشك فيها في أنها من قبيل القسم الأول الذي فيه اقتضاء المقربية بنفس إتيانها لمولاه من دون قصد كونها بداعي أمره أو من
قبيل القسم الثاني الذي قوام عباديته بتعلق الامر بذاته، يشكل جواز الاكتفاء بها بإتيانها لمولاه من دون قصد كونها بداعي أمر مولاه،
نعم غاية ما هناك حينئذ في إحراز من قبيل الأول انما هو التشبث بمثل أدلة النيابة في موارد ثبوت مشروعيتها في أبواب العبادات و
ذلك بالكشف منها بنحو الان عن كونها من الوظائف المجعولة ولو بجعل الشارع آلات الخضوع والعبودية، فتأمل.
ثم إن هنا جهات أخر من القرب أيضا، وهو الاتيان بالعمل بداعي حسنه ورجحانه الذاتي الذي هو ملاك الامر به، فان الظاهر كما سيأتي
في مبحث الضد هو كفاية مجرد الاتيان بالعبادة بداعي رجحانها الذاتي ومحبوبيتها في تحقق القرب المعتبر في صحتها بلا احتياج إلى
الامر الفعلي بها.
187

وبعد ما عرفت ذلك نقول: إنه لا إشكال في جواز أخذ القرب بغير معنى دعوة الامر في المأمور به وهو القرب بمعنى الاتيان بما هو
آلة الخضوع لله سبحانه بلام الصلة أو القرب بمعنى الاتيان بالعمل بداعي ملاكه ورجحانه الذاتي، إذ لا بأس بأمر الشارع بالصلاة
القربية الناشئ قربها من جهة دعوة الملاك أو الحسن أو من جهة إتيانها لوجهه الاعلى. وانما الكلام والاشكال في إمكان أخذ القرب
الناشئ عن دعوة الامر في المأمور به بنحو القيدية أو الجزئية. ومن التعرض في جواز أخذ مثل القرب الناشئ عن داعي الامر في المأمور
به وعدم جوازه يظهر أيضا حال أخذ الجامع بين هذا القرب والقرب والناشئ عن إتيان العمل لوجهه الاعلى أو القرب الناشئ من دعوة
الملاك والمصلحة، من حيث جواز أخذه بنحو الشرطية أو الشطرية في المأمور به وفي متعلق الأمر، لأنه إذا لا يجوز أخذ القرب الناشئ
من دعوة الامر في المأمور به لا يجوز أيضا أخذ جامع القرب الناشئ من دعوة الامر ومن دعوة الرجحان والمصلحة، كما هو واضح.
وبعد ذلك نقول: بان التحقيق - كما عليه أهله - هو عدم جواز أخذ القرب الناشئ من دعوة الامر في المأمور به بنحو الشرطية أو
الشطرية وامتناعه. ووجه الامتناع ظاهر، لان القرب الناشئ من دعوة هذا الامر انما هو معلول شخص هذا الامر ومترتب عليه، ولازمه
هو كونه في رتبة متأخرة عن الامر، بحيث يصح ان يقال في شخص هذا اللحاظ ويحكم عليه: بأنه عقيب هذا الامر ومترتب عليه ترتب
المعلول على علته، وحينئذ فمع كونه مرئيا في هذا اللحاظ عقيب الامر وفي رتبة متأخرة عنه فكيف يمكن ان يؤخذ مثله في موضوع هذا
الامر في هذا اللحاظ وفي رتبة متقدمة عليه؟ وهل هو الا من المستحيل؟.
ولا مجال أيضا لتنظير المقام بمثل معلوم الخمرية أو البولية المأخوذة جهة المعلومية أيضا جز للموضوع مع معلومية تأخر العلم عن
الذات نحو تأخر الحكم عن موضوعه فيقال بأنه حيث يجوز ذلك بلا إشكال يجوز أيضا في المقام بلا كلام. وذلك لما هو المعلوم من
وضوح الفرق بين البابين، من جهة ان أخذ العلم جز للموضوع انما هو بلحاظ أمر آخر وهو حكم وجوب الاجتناب أو حرمة الارتكاب، و
أين ذلك والمقام المفروض فيه أخذ الدعوة الناشئة عن قبل الامر في موضوع شخص هذا الامر فان ذلك هو الذي قلنا بامتناعه و
استحالته.
واما ما يتوهم من إمكان تصحيح ذلك بنحو أخذ الطبيعي في متعلقه القابل
188

للانطباق عليه خارجا من تقريب انه يمكن للمولى ان يتصور مثلا الصلاة المقيدة بطبيعة الدعوة كما أنه يمكن له أيضا ان يأمر بما
تصوره من الصلاة المقيدة بطبيعة الامر، وحينئذ فإذا أمر بما هو متصورة يتحقق مصداق الامر خارجا فينطبق عليه الطبيعي المزبور
لأنه من افراده ومصاديقه، وحينئذ فلا يرد محذور في البين لا من طرف المأمور ولا من طرف الامر، اما عدم محذور فيه من طرف
المأمور فواضح من جهة تمكنه حينئذ بعد الامر من الاتيان بالمأمور بداعي شخص الامر المتعلق به، واما من طرف الامر فكذلك لما
ذكرنا من إمكان لحاظه الصلاة المتقيدة بطبيعة القرب والدعوة وإمكان الامر أيضا بما تصوره من الموضوع المقيد، واما شبهة
محذور كون الشئ في رتبتين فيدفعه أيضا اختلاف الظرفين والوجودين، فان ما هو معلول الامر ومترتب عليه انما هي الدعوة
بحسب الوجود الخارجي وما هو مأخوذ في متعلق الأمر وفي رتبة سابقة بنحو الجزئية أو القيدية انما هو الدعوة بوجودها ذهنا و
لحاظا، وحينئذ فمع اختلاف الوجودين يرتفع المحذور المزبور أيضا.
فمدفوع بما عرفت فان الدعوة الناشئة عن شخص هذا الامر بعد إن كانت مرئية بحقيقتها في هذا اللحاظ في رتبة متأخرة عن شخص
هذا الامر المتعلق بالمقيد، فلا جرم يرى كونها في هذا اللحاظ خارجة عن دائرة الطبيعي المزبور المأخوذ في رتبة سابقة عن الامر
المزبور، ومع خروجها عن دائرة الطبيعي في هذا اللحاظ يستحيل شمول الطبيعي لهذا المصداق وانطباقه عليه خارجا، إذ ذلك حينئذ
بمنزلة ما لو قيد الامر وحدد دائرة الطبيعي بحد خاص غير شامل لمثل هذا الفرد الناشئ عن الامر به، كما في قوله: يجب الصلاة
المتقيدة بدعوة طبيعة الامر غير الدعوة الناشئة عن شخص هذا الوجوب، فكما انه بالتحديد المزبور تضيق دائرة الطبيعي بحد لا يعقل
شموله لمثل هذا الفرد وانطباقه عليه خارجا كذلك أيضا بتحديد العقل إياه ولو من جهة اقتضاء اختلاف الرتبة المزبورة، فان قضية
ذلك أيضا توجب ضيفا قهريا في دائرة الطبيعي المزبور على وجه يستحيل شموله لمثل هذا الفرد وانطباقه عليه خارجا. ولعل عمدة
المنشأ لتوهم الجواز في المقام انما هو بلحاظ مقايسة المقام بباب الأغراض والغايات الداعية على الأعمال من حيث كونها متقدمة على
الإرادة لحاظا وتصورا ومترتبة عليها خارجا، ولكن الغفلة عن وضوح الفرق بين المقامين، فإنه في باب الأغراض والغايات انما يكون
ترتبها على موضوع الإرادة لا على نفسها، كما هو الحال بالنسبة إلى المقدمة وذيلها من حيث ترتبه على المقدمة خارجا وترشح
الإرادة من
189

تعلقها به إلى المقدمة. وهذا بخلاف المقام المفروض فيه ترتب الدعوة ولو بحسب هذا اللحاظ على شخص الامر، وهذا هو الذي قلنا
باستحالة أخذ مثله قيدا في موضوع شخص الامر المزبور بلحاظ اقتضاء الامر بالمقيد لان يكون الامر بحقيقته قائما بالمقيد بنحو
يكون المقيد بقيده في رتبة سابقة عن الامر المزبور، فإنه في مثله يستحيل شمول القيد المزبور ولو بلحاظ بنحو الطبيعي لمثل هذا
الفرد الناشئ عن قبل الامر المزبور، كما هو واضح. وعلى ذلك نقول: بأنه إذا لم يشمل الطبيعي المزبور لمثل هذا الفرد يتوجه عليه
محذور عدم قدرة المأمور على الامتثال نظرا إلى أنه لا أمر آخر في البين كي يتمكن المأمور من الاتيان بالمأمور به بدعوة الامر، واما
شخص دعوة هذا الامر المتعلق به فهو على الفرض غير قابل لانطباق الطبيعي المزبور عليه. وعليه فلا محيص بناء على أخذ الدعوة في
المأمور به في تصحيحه من الالتزام بأمرين طوليين: يكون أحدهما متعلقا بذات المأمور به والاخر في طول الأمر الأول بإتيانه بداعي
أمره، والا ففي فرض وحدة الأمر يستحيل أخذ دعوة الامر في المأمور به بنحو القيدية أو الجزئية، كما هو واضح.
نعم لو أغمض عما ذكرناه من الاشكال لا يرد عليه محذور لزوم داعوية الامر إلى شخص نفسه، كما قيل، بتقريب: ان المأمور به بعد إن كان
عبارة عن الذات المتقيدة بدعوة الامر فلا محالة الامر المتعلق بهذا المقيد كما يدعو إلى ذات المقيد وهي الصلاة مثلا كذلك يدعو
إلى قيدها الذي هي دعوة شخص نفسه ومعه يلزم داعوية الامر إلى دعوة شخصه وهو كما ترى من المستحيل. إذ نقول: بأنه يمكن دفع
هذا المحذور من جهة انحلال الامر إلى أمرين وتقطيعه في الذهن بقطعة فقطعة: متعلقة إحداهما بذات المقيد والاخرى بقيد الدعوة،
حيث نقول حينئذ: بان الامر الضمني المتعلق بالدعوة انما يكون داعيا إلى دعوة تلك القطعة الأخرى من الامر الضمني المتعلق بذات
المقيد لا إلى دعوة شخص نفسه حتى يتوجه المحذور المزبور. نعم انما يرد هذا الاشكال بناء على عدم انحلال الامر بالمقيد إلى أمرين
ضمنيين والا فبناء على انحلاله ذهنا يكون حاله حال الامرين المستقلين، فكما انه لا يرد هذا المحذور في صورة الالتزام بتعدد الامر
فأمكن تعلق أحد الامرين بذات المقيد والاخر بقيد الدعوة الراجع إلى داعويته لاتيان المقيد عن دعوة الامر المتعلق به بلا كلام، كذلك
بناء على الانحلال، لان لازم انحلال الامر بالمقيد انما هو تعلق أمر ضمني بذات المقيد وتعلق أمر ضمني آخر إلى قيد الدعوة كما صورة
استقلال الامرين، فكان
190

الامر المتعلق بالدعوة داعيا إلى إيجاد ذات المقيد عن داعي الامر الضمني المتعلق به، ومعه لا يلزم محذور داعوية الامر إلى دعوة
شخصه، كما هو واضح.
وحينئذ فإذا لم تكن الدعوة المأخوذة قيدا أو جز كذات المقيد تعبدية محتاجة إلى قصد الامتثال بل كانت توصلية صرفة فبإتيان ذات
الصلاة عن دعوة الامر الضمني المتعلق بها يتحقق المقيد والمأمور به أيضا، فيرتفع به محذور عدم تمكن المكلف من الامتثال أيضا -
كما ادعى من عدم قدرة المكلف على الاتيان بالذات المقيدة بالدعوة بداعي الامر لان المقدور منه انما هو الاتيان بذات المقيد بداعي
امرها - إذ نقول: بان مثل هذا المحذور انما يرد إذا كان القيد وهو الدعوة كذات المقيد تعبديا محتاجا في سقوط الامر عنه إلى إلى
قصد الامتثال، والا فبناء على كونه توصليا فلا جرم يكفي تحققه كيف ما اتفق، وفي مثله نقول: بان الاتيان بالذات المقيدة بالدعوة
بمكان من المقدورية للمكلف بلحاظ ان الآتي بذات المقيد بداعي أمرها كان آتيا بالدعوة أيضا نظرا إلى توصليتها وتحققها بنفس
الاتيان بذات المقيد بداعي امرها. نعم غاية ما يلزم حينئذ انما هو كون الامر المتعلق بالمقيد ببعض منه تعبديا وببعضه الاخر توصليا و
لكن نقول: بأنه لا ضير في الالتزام بمثله، فتأمل. وحينئذ فالعمدة في الاشكال عليه هو ما ذكرناه من عدم إمكان أخذ دعوة الامر قيدا في
موضوع هذا الامر.
ثم إن ما ذكرناه من الاشكال جار في الإرادة أيضا حرفا بحرف، ففي لب الإرادة أيضا لا يمكن أخذ دعوة الإرادة في موضوعها بنحو
القيدية أو الجزئية، كما هو الحال بالنسبة إلى مرحلة الرجحان والمصلحة أيضا حرفا بحرف.
ثم لا يخفى عليك انه على ما ذكرنا من عدم إمكان أخذ الدعوة قيدا في المأمور به لا يلزم منه تعلق الامر والإرادة بنفس ذات العمل مطلقا
ولو منفردة عن الدعوة كما توهم بخيال انه إذا لم يكن المأمور به هو المقيد فلا جرم يكون هو الذات المطلقة ولازمه هو سقوط الامر
بالاتيان بنفس ذات العمل الا انه في صورة انفرادها عن الدعوة لما كان الغرض بعد على حاله يحدث امره آخر متعلقا بالعمل وهكذا
إلى أن يؤتى بداعي امره فيحصل الغرض ويسقط الامر، إذ نقول: بأنه بعد فرض عدم قيام الغرض والمصلحة في العبادات بنفس الذات
ولو مجردة عن الدعوة، بل قيامه بالذات مع الدعوة، فلا جرم في مثله يستحيل أوسعية دائرة الإرادة والامر عن دائرة قيام الغرض و
المصلحة، بل في مثل
191

بمقتضى تبعية الإرادة لقيام المصلحة يتضيق دائرة الإرادة والامر أيضا حسب تضيق دائرة الغرض والمصلحة بنحو لا يكاد تعلقها الا
بالذات التوأمة مع الدعوة، وعلى ذلك فموضوع الإرادة والامر وان لم يكن مقيدا بالدعوة ولكنه لا يكون مطلقا أيضا بل هو انما يكون
عبارة عن حصة من ذات العمل تكون توأما وملازمة مع الدعوة، ومنشأ هذا الضيق كما عرفت انما هو جهة تضيق دائرة الغرض و
المصلحة وعدم سعته للشمول لحال خلو المتعلق عن الدعوة، حيث إنه لأجل تضيق دائرة الغرض يقع ضيق أيضا في ناحية الإرادة والامر
بنحو يقصر عن الشمول لحال خلو الذات عن الدعوة من دون ان يكون ذلك الضيق منشأ لتقيد الموضوع، كما هو واضح. وحينئذ فاذن لا
يكون موضوع الامر والإرادة مطلقا، فلا جرم بإتيان ذات العمل مجردة عن الدعوة لا يسقط أيضا أمره، إذ سقوطه حينئذ انما هو بإتيان
العمل مقرونا بالدعوة فما دام عدم الاتيان به كذلك كان الامر والإرادة على حاله، لا انه يسقط هذا الامر ومن جهة بقاء الغرض يحدث
أمر جديد، كما هو واضح.
نعم هنا تقريب آخر لعدم إطلاق دائرة المأمور به، لكنه يختص بخصوص الامر ولا يتأتى بالنسبة إلى الإرادة ومباديها من الرجحان و
المحبوبية، وبيان ذلك انما هو بدعوى ان الغرض من الأمر المولوي والبعث الذي هو إبراز للإرادة حيثما كان هو داعوية امره و
محركيته للمكلف نحو المطلوب بنحو يكون المحرك له على الاتيان هو دعوة امره دون غيرها من الدواعي فلا جرم بمقتضى تضيق
دائرة هذا الغرض يتضيق دائرة معلوله الذي هو الامر أيضا فلا يكون له سعة إطلاق أزيد من دائرة الغرض، ولازمه قصوره عن الشمول
للعمل المأتي عن غير دعوة الامر، وحينئذ فمع قصور الامر قهرا يصير موضوعه أيضا عبارة عن الحصة المقرونة بالدعوة، فلا يكون
مطلقا ولا مقيدا بالدعوة أيضا.
بل ولئن تدبرت ترى كونه كذلك في التوصليات أيضا، حيث إنه بالتقريب المزبور نثبت عدم انفكاك الامر فيها أيضا عن الدعوة كما
في العبادات ونقول بعدم انطباق عنوان الواجب والمأمور به على العمل المأتي به عن غير دعوة الامر، ولذا لا يستحق المثوبة على
الاتيان به عن مثل دعوة الشهوة ونحوها ولا يكاد يصدق عليه عنوان الإطاعة، ومجرد حصول الغرض الأصلي وسقوط الامر بمجرد
تحقق العمل في الخارج كيف ما اتفق ولو في فرض وجوده باختياره الناشئ عن دعوة شهوة لا يقتضى تعلق امره بوجوده المطلق و
192

لذا يسقط الامر ويحصل الغرض ولو في فرض وجوده لا باختيار المكلف، كما هو واضح.
نعم مثل هذا التقريب لا يجري بالنسبة إلى لب الإرادة وكذا مباديها من الشوق والمحبة، ووجهه ظاهر من جهة ان الإرادة وكذا
مباديها أمر قهري ناش عن قيام الغرض والمصلحة في المتعلق، فإذا كان الغرض والصلاح قائما بمطلق وجود العمل ولو فرض وجوده
لا باختيار المكلف وباختياره الناشئ عن دعوة شهوته يتبعه الإرادة أيضا قهرا كما في الواجبات التوصلية، فان الغرض والصلاح فيها
لما كان قائما بمطلق وجود المتعلق كانت الإرادة أيضا بتبعه قائمة بمطلق وجوده. وهذا بخلاف الامر فإنه لما كان فعلا اختياريا لا
يكون تابعا للغرض القائم بالمتعلق كالإرادة ومباديها، بل تبعيته انما كانت للغرض المترتب على نفسه وهو الداعوية والمحركية، و
من هذه الجهة قلنا باستلزامه في مطلق الواجبات حتى التوصليات، لتضيق دائرة المأمور به بالحصة المقرونة مع الداعي ولولا مقيدا بها،
كما عرفت.
وحينئذ فتمام الفرق بين العباديات والتوصليات بعد اشتراكهما في كون المأمور به بالامر الفعلي هو الحصة الملازمة لداعوية الامر
انما هو بالنسبة إلى مرحلة لب الإرادة ومباديها، فان ما هو الوافي بالمصلحة في العبادات لما كان هو الحصة المقرونة مع الداعي لا
مطلقا كانت الإرادة وكذا مباديها أيضا غير متعدية عن تلك الحصة الوافية لا مطلقها، بخلاف التوصليات فان الوافي بالمصلحة فيها كان
مطلق وجود العمل فمن هذه الجهة كانت الإرادة وكذا مباديها حسب تبعيتها للمصلحة أيضا متعلقة بمطلق وجوده، لكن بالنسبة إلى مقام
فعلية الإرادة ومرحلة الامر كانت العبادات والتوصليات مشتركتين في عدم تعلق الامر إلا بالصحة الملازمة لداعوية الامر حسب ما بيناه
من أن غرض الامر من الامر انما هو التوصل بأمره إلى وجود مرامه واقتضاء هذا الغرض قهرا التضيق في دائرة متعلق الأمر وتخصيصه
بالحصة الناشئة عن قبل داعوية امره لا مطلقا ولو الناشئ عن شهوته، من جهة عدم كون ذلك مقصودا للامر في مقام أمره، فتدبر.
فكيف كان فهذا كله بناء على وحدة الأمر وشخصيته، ولقد عرفت في مثله لزوم تجريد متعلق الأوامر كلية عن عنوان نشوه عن داعي
الامر شخصيا أم طبيعيا، من جهة امتناع أخذ ما هو ناش عن قبل الامر في متعلقه بنحو القيدية أو الجزئية.
واما بناء على تعدد الامر والإرادة فلا مانع من أخذ عنوان الدعوة شطرا أو شرطا في
193

المأمور به بأن يكون أحد الامرين متعلقا بذات العمل والامر الاخر في طول الأمر الأول بإتيانها بداعي امرها، حيث إنه لا يرد عليه حينئذ
ما ذكرناه من الاشكال في صورة وحدة الأمر، فإذا يرى المولى بأن الحصة من الذات الملازمة مع داعي الامر فيها الغرض والمصلحة،
يترشح نحوها الإرادة قهرا من قبله، ثم بعد ما يرى أن لداعويته أيضا دخلا في الغرض يترشح إرادة أخرى في طول الإرادة الأولى نحو
هذا الداعي، بل مثل هذا المعنى مما لا محيص عن الالتزام به في فرض البناء على كون الدعوة قيدا حيث إنه لا يمكن تصحيحه الا بالالتزام
بتعدد الإرادة في مقام اللب.
نعم هنا إشكال آخر بالنسبة إلى مقام الامر من جهة لغوية الأمر الثاني، ببيان ان الأمر الأول اما ان يسقط بمجرد الاتيان بذات العبادة و
لو مع عدم قصد امتثاله - كما هو قضية الأمر الثاني من فرض توصليته - واما ان لا يسقط بمجرد الموافقة والاتيان بذات العبادة بدون
قصد امتثاله، وعلى التقديرين لا مجال لأعمال المولوية في الأمر الثاني، وذلك اما على الأول فواضح من جهة انه بعد سقوط الأمر الأول
لا يبقى مجال لموافقة الأمر الثاني نظرا إلى عدم إمكان الاتيان بالدعوة حينئذ مستقلا لكونها من الكيفيات القائمة بنفس العمل وحينئذ
فيلزم من تعلق الامر بها لغوية الامر المزبور، واما على الثاني فكذلك أيضا وذلك لأن عدم سقوط امره حينئذ ليس إلا من جهة عدم
حصول غرضه الداعي على الامر به، والا ففي ظرف سقوط غرضه يستحيل بقاء امره وعدم سقوطه. وحينئذ نقول: بأنه إذا كان الوجه
في عدم سقوط الأمر الأول هو عدم سقوط غرضه فلا جرم في مثله يستقل العقل في مقام حكمه بلزوم تحصيل الفراغ بلزوم الاتيان به
عن قصد الامتثال بنحو يحصل معه غرضه، ومع فرض استقلال العقل بذلك في مقام حكمه بالفراغ لا حاجة للمولى إلى وسيلة تعدد الامر
في الوصلة إلى تحصيل غرضه باعمال جهات المولوية في امره، لان الأمر المولوي انما يتعلق بشي لا يكون في البين داع عقلي على
تحصيله والا فمع وجود داع عقلي في البين لا يبقى مجال لأعمال المولوية، كما هو واضح.
أقول: ولا يخفى عليك ما في هذا الاشكال، إذ نقول، بأنه لو تم هذا الاشكال فإنما هو على مبنى مرجعية قاعدة الاشتغال في نحو هذه
القيود عند الشك في اعتبارها، وإلا فبناء على مبنى البراءة - كما هو التحقيق على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى - فلا موقع لهذا
الاشكال، وذلك لأنه في فرض استقلال العقل بمرجعية البراءة عند الشك لا محيص للمولى
194

من بيان مدخلية قصد الامتثال في غرضه على فرض دخله فيه واقعا، وبيانه انما هو بأمره به مستقلا لكي لا يذهب المكلف ويستريح في
بيته وينام متكلا على حكم عقله بالبرأة وقبح العقاب بلا بيان، والا فمع عدم أمره بذلك لكان قد أخل بما هو مرامه وغرضه، ومن
المعلوم بداهة ان كمال المجال حينئذ لأعمال المولوية بأمره، إذ لا نعني من الأمر المولوي الا ما كان رافعا لموضوع حكم العقل بقبح
العقاب بلا بيان لقلب عدم البيان بالبيان، كما هو الشأن أيضا في الأمر الأول المتعلق بذات العبادة، فكما ان الأمر الأول أمر مولوي و
رافع لموضوع حكم العقل بالبرأة بلا كلام، كذلك الأمر الثاني المتعلق بقصد الامتثال فهو أيضا أمر مولوي قد أعمل فيه جهة المولوية
لرفع موضوع حكم العقل بالبرأة.
نعم بناء على مبنى مرجعية الاشتغال عند الشك في اعتبار هذه القيود ربما يتوجه الاشكال المزبور، إذ يمكن أن يقال حينئذ بأنه بعد
حكم العقل واستقلاله بالاشتغال لا يلزم على المولى بيان دخل قصد الامتثال في تحقق غرضه، من جهة إمكان اتكاله حينئذ على قضية
حكم العقل بالاشتغال، ومعه لا يلزم من عدم بيانه إخلال منه بغرضه كي يجب عليه البيان، هذا.
ولكن يمكن دفع الاشكال المزبور على هذا المسلك أيضا، إذ نقول حينئذ: بأنه على هذا البيان وان لم يجب على المولى الأمر المولوي
بداعي الامر، من جهة جواز اتكاله على حكم العقل بالاشتغال، الا انه لو أمر بها حينئذ لا يلزم منه اللغوية، كيف وان للمولى حينئذ بيان كل
ما له الدخل في تحقق غرضه بالامر به، ويكفى في فائدته ارتفاع موضوع حكم العقل بالاشتغال، من جهة ان حكم العقل بالاشتغال
كحكمه بالبرأة انما هو في ظرف الشك بالواقع وبعد بيان المولى ما له المدخلية في تحقق غرضه واقعا يرتفع موضوع حكم عقله
بالاشتغال كارتفاع موضوع حكمه بالبرأة. نعم لو انحصر فائدة الأمر المولوي بإحداث الداعي للمكلف نحو المطلوب لأمكن دعوى
لغوية امره مولويا مع حكم العقل الجزمي بالاحتياط ولكنه ليس كذلك، بل نقول: بأن من الفوائد أيضا إعلام المكلف بما له المدخلية في
حصول غرضه واقعا لكي يرتفع به موضوع حكم عقله بالاحتياط كما هو واضح. وحينئذ فعلى كل حال يكون الامر المتعلق بداعي الامر
أمرا مولويا لا إرشاديا.
نعم انما يتوجه هذا المحذور في مورد علم من الخارج بعبادية المأمور به، فإنه في هذا الفرض يصير أمره الثاني لغوا محضا، ولكن
الشأن كله في حصول هذا العلم من الخارج خصوصا
195

في الصدر الأول وغفلتهم عن دخل مثل دعوة الامر في عبادية الشئ، فإنه في مثله يكون طريق العلم بدخل داعي الامر هو أمر الشارع
دون غيره، كما هو واضح، فعلى هذا فلا بأس بدعوى تقيد المأمور به بداعي الامر بالالتزام بأمرين طوليين: أحدهما متعلق بذات العبادة
والاخر في طول الأمر الأول بإتيانها بداعي الامر المتعلق بها، كما هو واضح.
ثم إن لنا تقريبا آخر لتصحيح إمكان تقيد المأمور به بالقرب الناشئ عن دعوة الامر ولو مع وحدة الانشاء والامر، لا مع تعدد هما كي
يرد عليه إشكال الكفاية أخيرا: بأنه من المقطوع بأنه ليس في العبادات إلا أمر واحد، وبيانه انما هو بدعوى انه في مقام الامر يكون ما
هو المنشأ بهذا الانشاء الشخصي في قوله: صل أو يجب الصلاة، عبارة عن طبيعة الوجوب والطلب بنحو قابل للسريان في ضمن فردين
من الطلب: أحدهما متعلق بذات العبادة والاخر في طول الأمر الأول بعنوان داعي الامر، كما نظيره في مثل قوله عليه السلام (إذا دخل
الوقت وجب الطهور والصلاة) فان من المعلوم بداهة ان المستعمل فيه في قوله (وجب) ليس هو شخص الوجوب والطلب بل وانما هو
عبارة عن طبيعة الوجوب الساري في ضمن فردين من الوجوب متعلقين بموضوعين طوليين: أحدهما الوجوب النفسي المتعلق بالصلاة و
الاخر الوجوب الغيري المقدمي المتعلق بالطهور.
ونظيره أيضا في مسألة حجية الاخبار مع الواسطة، حيث نقول فيها أيضا: بان الأثر الذي هو مأخوذ في موضوع وجوب التصديق انما هو
عبارة عن طبيعة الأثر بنحو قابل للسريان في ضمن أفراد متعددة طولية لا انه عبارة عن شخص الأثر، كيف وانه على هذا المعنى يبقى
الاشكال المعروف في شمول دليل الحجية للاخبار مع الواسطة على حاله إلى أبد الدهر إذ يقال حينئذ في تقريب ذلك الاشكال: بان
شمول الحجية لمثل خبر زرارة الذي ينقل عن محمد بن مسلم عن الصفار عن الإمام عليه السلام انما يكون في ظرف يكون مؤداه الذي
هو خبر ابن مسلم ذا أثر شرعي، لان معنى حجيته انما هو عبارة عن وجوب ترتيب أثر المؤدى، وصيرورة مؤداه ذا أثر شرعي انما
تكون في فرض شمول دليل التعبد لخبر ابن مسلم والا فمع عدم شمول دليل التعبد بالأثر لخبر ابن مسلم لا يصير مؤدى خبر زرارة ذا
أثر شرعي. وعليه فإذا كان الأثر المفروض عبارة عن نفس وجوب التصديق مثلا وكان ذلك وجوبا واحدا شخصيا يتوجه الاشكال:
بأنه كيف يمكن شمول دليل وجوب التصديق لمثل خبر زرارة الذي منشأ صيرورته ذا أثر شرعي من قبل
196

شمول هذا الوجوب لخبر ابن مسلم؟ ومن المعلوم حينئذ انه لا يجدى في دفع الاشكال حينئذ مجرد اعتبار الموضوع بنحو القضية
الطبيعية، إذ نقول: بأنه بعد ما كان مثل هذا الفرد من الموضوع مترتبا على هذا الأثر وفي رتبة متأخرة عنه فقهرا في هذا اللحاظ يرى
ضيق في دائرة الطبيعي المزبور بحد موجب لخروج هذا الفرد عنها بنحو يستحيل انطباقه عليه، ومن ذلك تريهم ملجئين في التفصي
عن هذا الاشكال بمصيرهم إلى دعوى تنقيح المناط. وهذا بخلافه على ما ذكرنا من أخذ الأثر عبارة عن طبيعة الأثر وطبيعة الوجوب
بنحو السريان في ضمن افراد متعددة، إذ عليه لا محالة ينحل ذلك بحسب تعدد الموضوعات إلى آثار متعددة ووجوبات عديدة متعلقة
بموضوعات متعددة طولية بعضها في رتبة متأخرة عن شمول الأثر لموضوع آخر، حيث إنه من شمول الأثر لموضوع يتولد موضوع
آخر لاثر آخر وهكذا، وعليه يرتفع أصل الاشكال المزبور من رأسه.
وعلى ذلك نقول: بأنه بعد إن كان مناط الاشكال في المقام بعينه هو مناط الاشكال في ذلك المقام، فبعين ذلك التقريب أيضا نجيب في
المقام ونقول: بأنه بعد إمكان تعدد الإرادة بحسب اللب ففي مقام الامر أيضا يمكن ان نجعل ما هو المنشأ بالانشاء طبيعة الطلب و
الوجوب بنحو قابل للسريان في ضمن فردين من الطلب: متعلق أحدهما بنفس ذات العبادة والاخر في طول الأول بإتيانها بداعي امرها.
واما توهم عدم تحمل انشاء واحد شخصي إلا لوجوب واحد شخصي فيدفعه مثل قوله عليه السلام: اغتسل للجمعة و الجنابة ومس الميت،
وقوله عليه السلام: إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة، من جهة وضوح ان ما هو المنشأ في قوله وجب الطهور والصلاة ليس هو
شخص الوجوب بل هو طبيعة الوجوب بنحو السريان في ضمن فردين: أحدهما الوجوب النفسي المتعلق بالصلاة والاخر الوجوب
الغيري المتعلق بالطهور. وحينئذ فبعد ما أمكن ان يكون المنشأ هو طبيعة الوجوب بنحو قابل للانحلال إلى وجوبين، كما في قوله:
وجب الطهور والصلاة فلا جرم يترتب عليه ارتفاع المحذور المزبور وصحة تقيد المأمور به بالقرب الناشئ عن دعوة الامر في أمر
واحد وانشاء فارد. وعليه أيضا يسلم عما أورده المحقق الخراساني (قدس سره) في كفايته من دعوى القطع بأنه لا يكون في العبادات
الا أمر واحد، إذ ذلك انما يرد بناء، على القول بالاحتياج إلى تعدد الامر في الخارج، والا فبناء على ما ذكرنا من التعدد بحسب الانحلال
فلا يرد هذا المحذور، إذ ما في الخارج حينئذ لا يكون الا انشاء
197

واحدا وامرا واحدا، فتدبر.
وكيف كان فبعد ان ظهر لك إمكان أخذ القربة قيدا في المأمور به بالبيان الذي ذكرناه، فلنرجع إلى أصل المسألة من أن ظواهر الأوامر
هل تقتضي تعين التعبدية أو التوصلية أم لا تقتضي شيئا منهما وانه على الأخير فمقتضى الأصول العملية أي شئ منهما.
فنقول: بعد البناء على إمكان تقيد المأمور به ولو بالقرب الناشئ عن دعوة امره فضلا عن التقيد بمطلق القرب كما تقدم بيانه بما لا
مزيد عليه اما بالالتزام بتعدد الامر والطلب خارجا أو بتعدده انحلالا، ففي فرض كون الخطاب مسوفا في مقام البيان لا في مقام
الاهمال والاجمال لا مانع من التمسك بإطلاق الخطاب والامر ولو من جهة كشفه عن الإرادة لاثبات توصلية الواجب واستكشاف قيام
المصلحة والغرض بذات العمل المجرد عن حيث دعوة الامر. وحينئذ فإذا ورد خطاب من الشارع تعلق بعنوان مثل عنوان الخمس أو
الجماعة في الصلاة وشك في توصليته أو تعبديته فيؤخذ بإطلاق الخطاب في فرض كونه في مقام البيان ويثبت به إطلاق متعلق الإرادة
وقيام المصلحة بوجوده بقول مطلق ولو مع خلوه عن نشوء كونه عن داعي الامر والإرادة والا لكان الواجب على المولى إقامة البيان
على التقيد.
نعم مثل هذا التقريب لا يجري بالنسبة إلى عنوان المأمور به بما هو كذلك نظرا إلى ما تقدم منا من عدم إطلاق فيه حتى في التوصليات
يشمل غير صورة داعوية الامر إذ عليه نقطع بعدم إطلاق دائرة المأمور به حتى في التوصليات وتخصيصه بالذات المقرونة بداعي
الامر، كما هو واضح. ومن ذلك نقول أيضا: بأن التمسك بإطلاق الامر وإطلاق الخطاب في الجهة الأولى انما هو باعتبار جهة كشف
الخطاب عن الإرادة، والا فباعتبار نفسه وجهة عليته لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال وانتزاع عناوين الوجوب واللزوم لا
يكاد يكون له إطلاق كي يمكن التمسك به، كما هو واضح، ولكن الذي يسهل الخطب هو كفاية إطلاق الامر من الجهة الأولى أي جهة
كشفه عن الإرادة لاثبات التوصلية وكشف قيام المصلحة والغرض بمطلق وجود المتعلق لعدم استلزام تضيق دائرة المأمور به وعدم
شموله لغير صورة داعوية الامر لتضيق دائرة المراد والمصلحة كما في التوصليات حيث كان دائرة المصلحة ودائرة المراد فيها أوسع
من دائرة المأمور به، وحينئذ فلا بأس بالتمسك بإطلاق الخطاب من تلك الجهة لاثبات التوصلية من دون احتياج إلى قضية
198

الاطلاق المقامي كي يحتاج إلى كلفة إثبات كون القيد من القيود المغفول عنها عند عامة الناس، وإن كان ذلك أيضا تاما في نفسه من
جهة إمكان إثبات كون مثل الدعوة مما يغفل عنها عامة الناس، كما هو الشأن أيضا في مثل قصد الوجه والتميز، إذ مجرد ارتكازية
داعوية الامر ومحركيته للاتيان بالمأمور به لا يقتضى ارتكازية دخلها في مقام المصلحة ومرحلة لب الإرادة حتى لا يلزم من عدم بيانه
إخلال بغرضه كما هو واضح.
ثم إن ذلك كله بناء على ما اخترناه من إمكان أخذ داعي الامر والإرادة قيدا في المأمور به بالالتزام بتعدد لب الإرادة، واما بناء على
القول بعدم إمكانه واستحالته ولو من جهة عدم تصور الطبيعي الساري في الامر لتوهم عدم تكفل الانشاء الشخصي الا لأمر واحد
شخصي، فقد يقال حينئذ بعدم اقتضاء إطلاق الخطابات ولو بموادها شيئا لأنه فرع إمكان التقيد، فمع امتناعه كما هو المفروض لا
مجال للتشبث بها لاثبات التوصلية كما هو واضح. لكن فيه ان مجرد عدم التمكن من أخذه قيدا في المأمور به لا يمنع عن إطلاقه حتى في
فرض تمكنه من الاتيان بأمر مستقل متصل بالكلام، كيف وان للمولى حينئذ بيان مثل هذه القيود التي لها الدخل في تحقق غرضه و
مرامه خصوصا على مبنى مرجعية البراءة العقلية في مثلها إذ في مثله يجب على المولى - لو فرض دخل القرب في تحقق غرضه واقعا -
بيانه ولولا بنحو التقيد بل بأمر آخر متصل بالكلام، وإلا لتحقق الاخلال منه بغرضه. وحينئذ فإذا لم يكن إشكال في جهة كون
الخطابات في مقام البيان لا بأس بالتمسك بإطلاقها لكشف قيام الغرض والمصلحة بمطلق وجود المتعلق ولو لم يكن نشوه عن داع
قربي من جهة ما تقدم من تمكن المولى حينئذ من بيان ما له الدخل في غرضه ومرامه حينئذ ولو بأمر آخر بالقيد المزبور متصلا
بكلامه. واما توهم لغوية الأمر الثاني حينئذ، فمدفوع بما تقدم بأنه كذلك في فرض العلم بعبادية المأمور به من الخارج لا مع الغفلة و
الشك في عباديته ودخل مثله في تحقق غرضه ومرامه، مع أنه لو أغمض عن ذلك يكفينا حينئذ الاطلاقات المقامية بناء على كون مثل
تلك القيود من القيود المغفول عنها عند عامة الناس، إذ يستكشف بها أيضا عن عدم دخل داعي القرب في ما هو مرامه وغرضه، نعم
العمدة على ذلك حينئذ هو إثبات هذه الجهة وأن هذا القيد من القيود المغفول عنها عند عامة الناس، وإلا فبعد الفراغ عن إثبات هذه
الجهة لا إشكال في اقتضاء إطلاق المقام لعدم دخله في تحقق غرضه ومرامه، فتدبر. هذا كله في المقام الأول.
199

واما المقام الثاني:
فالكلام فيه انما هو فيما اقتضته الأصول العملية من البراءة أو الاحتياط فنقول:
اما العقلية منها فقد يقال كما في الكفاية بالاشتغال ولو مع القول بالبرأة في الأقل والأكثر الارتباطيين، نظرا إلى رجوع الشك في
المقام إلى الشك في الخروج عن عهدة امتثال الامر المتعلق بذات العمل، فإنه بعد احتمال عبادية المأمور به فلا محالة يشك في مدخلية
قصد امتثال أمره في حصول الغرض وسقوط الامر المتعلق به ومعه يشك في الخروج عن العهدة بمجرد الاتيان بذات العمل الغير
المقرون بقصد امتثال امره، وحينئذ فلا بد بحكم العقل الجزمي باقتضاء الاشتغال اليقيني بالشئ للفراغ اليقيني عنه من الاحتياط و
تحصيل الجزم بالفراغ، ولا يكون ذلك إلا بإتيان العمل عن قصد امتثال امره، دون البراءة لأنها انما تكون في مورد كان الشك في
أصل التكليف لا في سقوطه فارغا عن أصل ثبوته وتنجزه على المكلف، والمقام انما كان من قبيل الثاني حيث كان الشك في سقوط
التكليف المتعلق بالعمل والخروج عن عهدة امتثاله بإتيانه بدون قصد امتثال امره، وفي مثله كان المرجع هو الاشتغال دون البراءة
كما هو واضح.
أقول: ولا يخفى عليك ان هذا الاشكال بعينه هو الاشكال المعروف في الأقل والأكثر الارتباطيين، حيث إنه أورد هذا الاشكال بعينه
هناك على القائل بالبرأة وانحلال العلم الاجمالي بتقريب: ان العلم الاجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر وان انحل إلى العلم التفصيلي
بوجوب الأقل والشك البدوي في الأكثر وكان الأكثر من تلك الجهة تحت البراءة إلا أن لازم اليقين بوجوب الأقل بحكم العقل هو
الخروج عن عهدته بتحصيل الجزم بالفراغ عنه وتحصيل هذا الجزم بعد احتمال وجوب الأكثر مع فرض ارتباطية الواجب لا يكون الا
بالاتيان بالأكثر من جهة انه مع الاقتصار بالأقل حينئذ لا يعلم بالخروج عن عهدته نظرا إلى احتمال وجوب الأكثر في الواقع وحينئذ
فلا بد من الاحتياط بإتيان الأكثر مقدمة لتحصيل الجزم بالفراغ عن عهدة التكليف الثابت المعلوم تعلقه بالأقل، وعلى ذلك فكان هذا
الاشكال مشترك الورود بين المقام وبين تلك المسألة ولا خصيصة له بالمقام حتى يقال باقتضاء الأصل في المقام الاشتغال ولو مع
القول بالبرأة في الأقل والأكثر الارتباطيين فلو بنينا حينئذ بان هم العقل بالنسبة إلى ما تم عليه البيان هو الجزم بسقوط التكليف و
الامر عنه فلا بد من الاحتياط في المقامين، كما أنه لو بنينا
200

على أن المهم عند العقل هو تحصيل الفراغ عن تبعات الامر المعلوم المحقق من العقوبة على المخالفة كما هو التحقيق فلازمه هو البراءة
العقلية في المقامين.
وبعد ذلك نقول: بأنه وإن كان قد مر منا ما يوضح البراءة في مبحث الأقل والأكثر الا ان الحوالة عليه لما كانت غير خالية عن
المحذور، فلا بأس بالتعرض لدفع الاشكال وإيضاح جريان البراءة في المقامين بنحو الاجمال والاختصار، فنقول: انه بعد الجزم بعدم
كون مجرد التكليف بشي واقعا وفي نفس الامر مع قطع النظر عن تمامية البيان عليه منشأ لاعتبار اشتغال العهدة بثقل التكليف عند
العقل بشهادة موارد الشبهات البدوية الوجوبية والتحريمية، وان تمام المنشأ لاعتبار ثقل التكليف في العهدة الذي هو عبارة عن حكم
العقل بالاشتغال انما هو تمامية البيان على التكليف ووصوله إلى المكلف، نقول بأنه لا شبهة في أن هم العقل في حكمه بالفراغ في
فرض ثبوت الاشتغال بالتكليف انما هو تحصيل الجزم بالخروج عن تبعات التكليف المعلوم من العقوبة على المخالفة، وحينئذ فإذا كان
المفروض هو عدم تمامية البيان على التكليف الا بمقدار الأقل نظرا إلى فرض انحلال العلم الاجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر بالعلم
التفصيلي بوجوب الأقل فلا جرم هذا المقدار من الاشتغال لا يقتضى الا الاتيان بذات الأقل ولولا في ضمن الأكثر لأنه بإتيانه يحصل
الجزم بالخروج عن تبعة ما يترتب على مخالفته من العقوبة، واما عدم اتصاف المأتي به وهو الأقل حينئذ بكونه مأمورا به وعدم
سقوط أمره في فرض وجوب الأكثر واقعا نظرا إلى ارتباطية التكليف فهو لا يقتضى أيضا إتيانه في ضمن الأكثر إذ ذلك انما يكون
كذلك فيما لو كان قضية عدم سقوط أمره وعدم وقوعه مأمورا به من جهة القصور في المأتي به وهو الأقل، وهو ممنوع جدا، بل نقول
بان عدم سقوط امره وعدم اتصافه بكونه مأمورا به انما هو من جهة القصور في نفس الامر والتكليف الضمني المتعلق بالأقل عن
الشمول لحال وجوده لا في ضمن الأكثر لا من جهة قصور في طرف الأقل المأتي به، كما هو واضح. وحينئذ فإذا كان الأكثر في نفسه
تحت البراءة العقلية لقاعدة قبح العقاب بلا بيان نقول: بأنه لا يقتضى قضية الاشتغال بالأقل أيضا بحكم العقل الا الاتيان بما هو متعلقه
فرارا عن تبعات ما يترتب من العقوبة على مخالفته وبالاتيان بالأقل يحصل الجزم بالخروج عن العهدة من طرف العقوبة على مخالفة
الامر المعلوم وان لم يقطع بوقوعه على صفة الوجوب ولا سقوط الامر عنه واقعا من جهة احتمال وجوب الأكثر
201

واقعا، وذلك لما تقدم من أن هم العقل في نحو ذلك انما هو رفع الشك عن جهة وجود ما هو متصف بالوجوب لا رفع الشك عن جهة
الاتصاف أيضا، فتدبر.
وعلى ذلك فبعين هذا التقريب نجيب عن الاشكال المزبور في المقام أيضا ونقول بجريان البراءة عن قيد دعوة الامر عند الشك في
التعبدية والتوصلية وجواز الاكتفاء في الخروج عن عهدة التكليف بمجرد الاتيان بذات المأمور به ولو منفكا عن قصد دعوة الامر، و
حينئذ فلا فرق في جريان البراءة بين مثل المقام وبين الأقل والأكثر الارتباطيين.
بل ولئن تأملت ترى أمر جريان البراءة في المقام أوضح من جريانها في الأقل والأكثر، إذ دوران الامر في المقام بعد إن كان بين
التكليف الواحد أو التكليفين المستقلين المتلازمين ثبوتا وسقوطا فمن الأول يقطع تفصيلا بتعلق تكليف مستقل بذات المأمور به وانما
الشك في تعلق تكليف وإرادة أخرى بعنوان دعوة الامر، فمن هذه الجهة تجري البراءة بالنسبة إلى التكليف المشكوك من دون علم
إجمالي في البين. وهذا بخلافه في الأقل والأكثر الارتباطيين، إذ فيه لا دوران بين التكليف الواحد أو التكليفين المستقلين ولو
متلازمين في مقام الثبوت والسقوط، فمن هذه الجهة لم يعلم باستقلالية التكليف المعلوم المتعلق بالأقل بل يحتمل فيه الضمنية أيضا، و
في مثله ربما كان المجال للخدشة في جريان البراءة عن الأكثر من جهة توهم عدم انحلال العلم الاجمالي، وإن كان مثل هذه الدعوى
ضعيفة أيضا في نفسها، كما أوضحنا فسادها في محله بما لا مزيد عليه.
وكيف كان فهذا كله حال البراءة العقلية ولقد عرفت جريانها في المقام بلا إشكال فيها.
واما البراءة النقلية - كحديث الرفع ونحوه - فان بنينا على جريان البراءة عقلا فلا إشكال في جريان البراءة النقلية أيضا، واما لو بنينا
على الاشتغال والاحتياط عقلا نظرا إلى الشبهة المزبورة من لزوم تحصيل القطع بالامتثال والخروج عن عهدة التكليف المعلوم ففي
جريان البراءة النقلية حينئذ نحو خفاء، ولكن الظاهر هو جريان البراءة النقلية في هذا الفرض أيضا نظرا إلى عدم كون حكم العقل
بالاحتياط حينئذ حكما تنجيزيا كما في موارد العلم الاجمالي حتى ينافيه الترخيص الشرعي، بل نقول بان حكمه ذلك
202

كان حكما تعليقيا بعدم ورود الرخص الشرعي على خلافه، وحينئذ فبجريان مثل حديث الرفع يرتفع حكمه بالاحتياط، فتأمل. هذا بناء
على أن يكون مفاده رفع مطلق الآثار التي منها المؤاخذة أو خصوص المؤاخذة على الترك، إذ نقول بأن رفعها حينئذ انما هو برفع
منشئها الذي هو إيجاب الاحتياط في ظرف الشك أو بجعل الترخيص على خلاف ما يقتضيه حكم العقل بالاحتياط، إذ لا مانع عنه بعد
فرض تعليقية حكم العقل بذلك، كما هو واضح.
نعم لو قيل بكون مفاده هو رفع خصوص الآثار الشرعية ففيه إشكال ينشأ من عدم كون دخل مثل دعوة الامر في الغرض من الآثار
الشرعية المجعولة كالشرطية والجزئية والمانعية حتى يرفع به، فيكون اللازم حينئذ التفصيل بين مثل المقام وبين الأقل والأكثر
بدعوى عدم جريانها في المقام وجريانها في تلك المسألة، نعم بناء على ما ذكرنا سابقا من إمكان أخذ دعوة الامر قيدا في المأمور به
ولو بالالتزام بتعدد لب الإرادة ربما لا يفرق في جريانها بين المقام وبين الأقل والأكثر، فتدبر. لكن لا يخفى عليك ان الأستاذ لم
يتعرض لحال جريان البراءة النقلية في المقام وانما تعرضته لتعرضه دام ظله لها في الدورة السابقة
.] 1 [
] 1 [
قالوا إن التعبدي قد يطلق على ما يعتبر فيه مباشرة المكلف أو صدوره عن إرادته أو إتيانه في مصداق غير محرم ومقابله التوصلي
الذي لا يعتبر فيه شئ من ذلك. وحيث إن المؤلف المقرر لم يتعرض لما أفاده أستاذه المحقق (قدس سرهما) هاهنا وتعرض له العلامة
آية الله الآملي دامت بركاته في تقريره لبحث الأستاذ فلذا نأتي بما أفاده تتميما للفائدة.
(المصحح) قال هنا ما لفظه:
تتميم هل إطلاق الخطاب يقتضي صدور الفعل من المأمور مباشرة أو يقتضي الأعم من المباشرة والتسبيب أو لا يقتضي شيئا من
ذلك وأيضا هل يقتضي إطلاقه صدور الفعل عن اختيار أو لا يقتضي ذلك وأيضا هل يقتضي إطلاقه كون الفعل المأمور به غير محرم
حين صدوره من الفاعل أو لا يقتضي ذلك وتوضيح جميع ذلك يتم في ثلاثة مواضع:
203

...........
الموضع الأول فالتحقيق يقتضي ان إطلاق الخطاب يقتضي صدور الفعل من المكلف مباشرة وعليه لا يكفي صدور الفعل بالتسبيب أو
الاستنابة به فضلا عن صدوره من غيره بلا تسبيب أو استنابة وبيان ذلك يتوقف على تمهيد (مقدمة) وهي ان التخيير مطلقا بين فعلين
أو أفعال لا بد ان يكون بلحاظ الجامع بين الفعلين أو الافعال الذي يحصل به غرض المكلف فلا محالة تكون خصوصيات الافعال المخير
بينها خارجة عن حيز الإرادة ومباديها من المصلحة والحب ونحوهما وعليه يكون كل فعل من الفعلين أو الافعال المخير بينها مخاطبا
ومأمورا به حين عدم الاخر لا مقيدا أو مشروطا بعدمه ليلزم الدور ولا مطلقا ليلزم كون الوجوب في كل منهما تعيينيا وان شئت فعبر
عن الوجوب المزبور بالإرادة الناقصة أعني بها إرادة الفعل في جميع أحوال الامكان إلا في حال الاتيان بالفعل المعادل له. هذا كله فيما
لو كان كل من الفعلين أو الافعال مقدورا للمكلف، واما إذا خرج أحدهما عن قدرته وبقي أحدهما مقدورا له أو كان كذلك حين جعل
الحكم فالمشهور انه يصير المقدور منهما واجبا تعيينيا لانحصار الخطاب فيه (ولكن التحقيق) يقتضي ببقاء ذلك الفعل المقدور على
وجوبه التخييري كما كان عليه قبل امتناع عدله - فيما لو كان كل منهما مقدورا حين الخطاب - أو كما لو كان كل منهما مقدورا حين
الخطاب - فيما لو كان أحدهما ممتنعا حين جعل الحكم - وذلك لان الوجوب عبارة عن الإرادة التشريعية التي أظهرها الشارع بما يدل
عليها للمكلف ولا ريب في أن الإرادة تتبع في مقام تعلقها بالمراد المصلحة القائمة فيه ولا شبهة أيضا في أن المصلحة الداعية إلى إيجابه
تخييرا حين القدرة على كلا الفعلين لا تتغير عما هي عليه حين امتناع أحدهما وإذا كانت لم تتغير عما هي عليه من الخصوصية المقتضية
للوجوب التخييري لا يعقل ان يكون مقتضاها حين امتناع أحد الفعلين هو الوجوب التعييني إذ هو سنخ آخر من الوجوب لا ينشأ إلا عن
مصلحة أخرى تسانخه.
ومما ذكرنا في بيان ملاك الوجوب التخييري يتضح لك السر في بعض الواجبات التوصلية بل التعبدية التي يسقط وجوبها عن المكلف
بفعل غيره كتطهير ثوب المكلف بالصلاة والقضاء عن الميت على القول بصحة عمل المتبرع فإنه عليه يسقط وجوب القضاء عن الولي
كما يسقط وجوب تطهير الثوب عن المكلف بالصلاة وذلك لان ملاك هذا النحو من الوجوب هو حصول الغرض بوجود الفعل في
الخارج بلا دخل لخصوصية فاعله فيه غاية الأمر ان المورد اقتضى توجيه الخطاب إلى مكلف خاص كما يظهر ذلك
204

...........
من المثالين المزبورين وعليه يكون فعل غير المكلف كفعله في تحصيل الغرض الداعي إلى وجوب ذلك الفعل الفعل على المكلف به
فكما ان ملاك الوجوب التخييري هو حصول الغرض بكل من فعلي المكلف أو أفعاله المقتضى ذلك لتخييره شرعا أو عقلا بينهما كذلك
يكون ملاك الوجوب الذي يسقط عن المكلف بفعل غيره توصليا كان أم تعبديا كما أشرنا إليه وبما ان فعل غير المكلف خارج عن
قدرة المكلف واختياره لا يصح ان يخاطب به بنحو التخيير بين فعله وفعل غيره ولكن لما كان المكلف يعلم أن هذا التكليف يسقط عنه
بفعل غيره يخيره العقل بين ان يفعله هو بنفسه وبين ان يتسبب إلى فعل غيره فان فعله سقط عن المكلف التكليف وإلا بقي مخاطبا به
لان الخطاب بمثل هذا الفعل متوجه إلى المكلف في حين عدم فعل غيره إياه كما هو الشأن في الواجب التخييري حيث علمت أن الخطاب
بكل من الفعلين أو الافعال متوجه إلى المكلف حين عدم الاخر، ومن هذا البيان ظهر ان خطاب المكلف بالفعل الذي يسقط وجوبه عنه
بفعل غيره لا يكون مشروطا بعدم فعل الغير كما توهم بل هو خطاب توجه إليه في حين عدم فعل الغير كما هو شأن الواجب التخييري
كما أشرنا إليه، كما ظهر ان الخطاب في مثل هذا الواجب لم يتعلق بالجامع بين فعل المكلف وفعل غيره كما يتعلق به في الواجب
التخييري وذلك لخروج فعل الغير عن قدرته واختياره، كما ظهر أيضا ان الخطاب لم يتعلق به بنحو التخيير بينه وبين التسبيب، إلى
فعل غيره لان الجامع الذي يحصل به الغرض ليس مشتركا بين فعل المكلف وبين التسبيب إلى فعل غيره بل بين فعل المكلف وبين
نفس فعل الغير كما لا يخفى وانما العقل يرشد المكلف إلى ما يسقط به التكليف عنه وهو فعل الغير فيتسبب إليه بما يراه سببا لصدور
الفعل من الغير ومما ذكرنا اتضح لك ما في كلام بعض الأعاظم (قده) في المقام من الوهن كما هو محرر في تقريراته.
(إذا عرفت هذه المقدمة) تعرف ان إطلاق الخطاب يقتضي كون الوجوب مطلقا في جميع الأحوال وأزمان الامكان لا انه قضية حينية أي
انه ثابت في حين دون وحال دون حال ونتيجة ذلك هو عدم سقوط الوجوب عن المكلف وعدم حصول الغرض بفعل غيره (ان قلت)
ان مقتضى إطلاق المادة قيام المصلحة والغرض بها وان صدرت من الغير (ولا يتوهم) تقييده بتقيد إطلاق الهيئة بخصوص الصادر من
المأمور لخروج فعل الغير عن قدرته (لان ذلك) بسبب حكم العقل الغير الموجب لانقلاب إطلاقها إلا من جهة الحجية لا في أصل الظهور
حتى يسرى إلى المادة (قلت) الامر كما ذكر ان فرضنا التمسك بحكم العقل في اختصاص الهيئة ولكن نحن نعتمد على ظاهر توجيه
الخطاب والطلب المقتضى لحصره في فعل المأمور فيمنع عن تمامية إطلاق المادة بحيث يستكشف قيام المصلحة حتى في
205

...........
ما صدر عن الغير لكي يزاحم مع إطلاق الهيئة في مطلوبية فعل المأمور وان صدر من الغير.
هذا مقتضى الاطلاق، ومع عدمه فمقتضى الأصل العملي هي البراءة عن التكليف بالفعل المزبور حين صدوره من الغير ولو قلنا
بالاحتياط في مقام دوران الامر بين التعيين والتخيير وذلك لان منشأ القول بالاحتياط في مقام الدوران المزبور هو وجود العلم
الاجمالي باشتغال ذمة المكلف اما بوجوب صلاة الظهر يوم الجمعة مثلا مطلقا أي ولو مع صلاة الجمعة واما بوجوب الجمعة في حال
ترك الظهر ونتيجة هذا العلم هو الاحتياط بفعل ما يحصل به اليقين بفراغ الذمة من التكليف المعلوم وهي صلاة الظهر وهذا العلم
الاجمالي غير موجود في محل الكلام لأنه يعلم تفصيلا بأنه مخاطب بهذا الفعل لخروج فعل غيره عن قدرته واختياره فلا يكون عدلا
لفعله في مقام التكليف ليحتمل كونه مكلفا تخييرا بأحد الامرين وبما ان المكلف يعلم أنه مخاطب بالفعل المزبور في حال ترك غيره له
ويشك بوجوبه عليه في حال إتيان الغير به يصح له الرجوع إلى البراءة في مقام الشك المذكور ولا مجال لجريان أصالة الاشتغال
بتوهم ان اشتغال الذمة بالتكليف متيقن وانما يشك بسقوطه بفعل الغير والأصل يقتضي عدم كونه مسقطا وذلك لأنه يكون هو بنفسه
مجرى لأصالة البراءة فيكون هذا الأصل حاكما على أصل عدم كون فعل الغير مسقطا.
(ومن هنا) يظهر لك الجواب عن توهم بعض الأعاظم (قده) في المقام لصحة جريان أصالة الاشتغال في محل الكلام بتقريب ان المكلف
يعلم باشتغال ذمته بالتكليف في حال ترك غيره لمتعلق ذلك التكليف وبعد فعل الغير له يشك بسقوط التكليف عنه وحينئذ يصح
جريان أصالة الاشتغال أو استصحاب بقاء التكليف بذلك الفعل (وذلك) لما قد بينا ان الشك في المقام يكون في طور التكليف هل هو
تام أو ناقص ومعه لا مجال للاستصحاب إذ ما هو مقطوع من الأول هو وجوب الاتيان في ظرف عدم صدور الفعل من غيره واما لزوم
الاتيان في ظرف صدوره من الغير فيكون مشكوكا من الأول فلا تتم فيه أركان الاستصحاب وحينئذ يصح ان يرجع فيه إلى البراءة ولا
مجال للاشتغال ومن هنا يتضح انه لا مجال لتوهم جريان الاستصحاب في القدر الجامع بين الوجوب التام والناقص لحكومة البراءة
عليه كما هو الشأن في جميع موارد الشك في الأقل والأكثر.
الموضع الثاني في أن إطلاق الخطاب هل يقتضي صدور الفعل عن اختيار أو لا يقتضي ذلك وغاية
206

...........
ما يمكن ان يقال هو ان التكليف لما كان مشروطا بالقدرة والاختيار عقلا امتنع الاطلاق في كل من الهيئة والمادة اما الهيئة فلان
مفادها على الفرض مشروطا بالاختيار عقلا واما المادة فلسراية تقييد الهيئة إليها ومعه لم يبق مجال لتوهم الاطلاق فضلا عن صحة
التمسك به إلا أنه يمكن النظر في ذلك بما أشرنا إليه فيما سبق من أنه قد تكون للكلام دلالات وظهورات متعددة فإذا سقط بعضها عن
الحجية فلا موجب لسقوط الاخر بل القاعدة تقضي ببقائه على الحجية وما نحن فيه من هذا القبيل فان إطلاق الهيئة ببعض ظهوره وإن كان
مقيدا عقلا بالاختيار فظهورها في الاطلاق وان سقط عن الحجية للقرينة العقلية إلا أن ظهورها في كون المادة ذات مصلحة ملزمة لا
موجب لسقوط عن الحجية وعليه يكشف إطلاقها عن إطلاق المصلحة القائمة فيها.
(ولكن قد يستشكل) في ذلك بان إطلاق المادة وإن كان يقتضي بحصول الغرض من الامر وان صدرت من المكلف بلا اختيار ولازم
ذلك سقوط التكليف حين صدورها من المكلف بلا اختيار لحصول الغرض الداعي إليه ولكن ذلك ينافي مقتضى إطلاق الهيئة إذ بعد
تقييد الهيئة بالقدرة ولو بحكم العقل يكون مفادها لزوم الاتيان بالمادة في حال الاختيار ومقتضى إطلاقها لزوم الاتيان بالمادة في
حال الاختيار وان صدرت من المكلف في حال بلا اختيار وعليه يقع التهافت بين إطلاقي الكلام الواحد (ويمكن الجواب) عن ذلك بان
الخطاب مع قطع النظر عن تقييده عقلا بحال الاختيار مطلق بالإضافة إلى حالتي الاختيار والاضطرار وبعد تقيده عقلا بحال الاختيار
يسقط ظهوره في الاطلاق المزبور عن الحجية ولكن لا ينعقد للمقيد ظهور في الاطلاق الأحوالي بالإضافة إلى الاتيان ببعض افراد غير
المقيد كما هو الشأن في التقييد بالمنفصل فان التقييد بالمنفصل لا يوجب إلا سقوط ظهور المطلق في الاطلاق عن الحجية ولا ينعقد معه
ظهور للمقيد في التقييد بخلاف التقييد بالمتصل فإنه ينعقد معه للمقيد ظهور في الاطلاق الأحوالي بالإضافة إلى الاتيان بغير افراده و
عدمه وبما ان التقييد بحال الاختيار في المقام انما حصل بدليل منفصل وهو دليل العقل لم ينعقد للمقيد المزبور ظهور في الاطلاق إلى
الاتيان بالفرد الاضطراري.
ومن هنا يظهر الجواب عن إشكال آخر وهو ان مدلول الهيئة محصور بصورة الاختيار لان الداعي إليه هو البعث واحداث الداعي في
نفس المأمور وذلك يختص بصورة صدور الفعل عن اختيار المأمور فيزاحم حينئذ مقتضى إطلاق المادة بل يمنع عن استفادة الاطلاق
في ناحية المادة، وملخص الجواب ان اختصاص الهيئة بما ذكر بحكم العقل العقل الذي هو من التقييد المنفصل فلا ينافي ظهور الهيئة في
تحقق مبادئ الطلب من الإرادة والمصلحة مطلقا وان قيدت
207

...........
حجية الهيئة في فعلية الإرادة بصورة صدور الفعل عن اختيار وعليه يبقى ظهور المادة في الاطلاق بلا معارض فيصح الاخذ به ويكون
دليلا على سقوط التكليف حين الاتيان بالفرد الاضطراري.
وبهذا يتضح لك عدم تمامية ما ذهب إليه بعض الأعاظم في المقام حيث أفاد ان التكليف لا بد ان يتعلق بالفعل الاختياري فلو كان الفعل
غير الاختياري مسقطا له لكان التكليف مشروطا بقاء بعدم وجود الفعل غير الاختياري وحيث يشك بكونه مسقطا يشك بكون
التكليف مطلقا أو مشروطا ومقتضى أصالة الاطلاق هو عدم الاشتراط ومع عدم الاطلاق يكون المرجع استصحاب بقاء التكليف هذا
حاصل تحقيقه في محل الكلام ولا يخفى ما فيه، لما عرفت آنفا من أن الخطاب مطلق بالإضافة إلى الفعل الاختياري والاضطراري و
تقييده بالدليل المنفصل العقلي لا يوجب الا سقوط ظهوره في الاطلاق عن الحجية ولا ينعقد معه للمقيد المزبور ظهور في الاطلاق
الأحوالي بالإضافة إلى الاتيان بالفرد الاضطراري وعدمه ليجعل دليلا على وجوب الاتيان بالفعل الاختياري بعد الاتيان بالفرد
الاضطراري، هذا كله فيما لو كان هناك إطلاق، واما إذا لم يكن في المقام إطلاق فالمرجع عند الشك في بقاء التكليف بعد الاتيان
بالفرد الاضطراري هي البراءة لرجوع الشك حينئذ إلى الشك في الأقل والأكثر الاستقلاليين ولا شبهة في أن المرجع في الشك
المزبور هي البراءة ومعه لا مجال للرجوع إلى استصحاب التكليف لحكومة أصالة البراءة عليه.
الموضع الثالث في أن إطلاق الخطاب هل يقتضي كفاية الامتثال بالفرد المحرم أو لا يقتضي ذلك والتحقيق يقضي بالأول مطلقا سوأ
كان بين متعلق الأمر ومتعلق النهي عموم من وجه أم عموم مطلق وسواء قلنا بجواز الاجتماع أم بامتناعه وذلك لان إطلاق الخطاب
يكشف عن وجود المصلحة الملزمة في متعلقة مطلقا ولو كان بعض افراده محرما غاية الأمر ان ملاك النهي لغلبته على ملاك الامر
يوجب فعلية النهي عن الفرد الذي اجتمعا فيه وتنتفي فعلية الامر وذلك لا يستلزم انتفاء ملاك الامر ومعه يحصل بالفرد المحرم
الغرض الداعي إلى أصل الخطاب فيسقط بانتفاء الموضوع لا بالامتثال، وعند عدم الاطلاق يكون المرجع حين الشك البراءة كما تقدم
في الموضع الثاني، ومما ذكرنا في هذا الموضوع يظهر لك ما في كلام بعض الأعاظم من النظر وقد أشرنا إليه فيما سبق فراجع.
208

الجهة الخامسة
لا يخفى عليك ان إطلاق الصيغة يقتضى كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا، من جهة احتياج غيره من الغيري والتخييري والكفائي إلى
مئونة زائدة غير مناسبة مع قضية الاطلاق، إذ يحتاج الغيري إلى تقيد وجوبه بتقدير دون تقدير وهو تقدير وجوب أمر آخر، و
التخييري إلى بيان انه واجب على تقدير عدم الاتيان ببدله فيحتاج إلى بيان لفظ (أو) مثلا بقوله: يجب هذا أو ذاك، والكفائي إلى التقيد
بصورة عدم اقدام الغير. وهذا بخلافه في النفسي التعييني العيني، فإنه واجب على كل تقدير، فكان هذه القيود كلها يدفعها قضية إطلاق
الصيغة.
الجهة السادسة
إذا ورد أمر عقيب الحظر أو توهمه، فهل هو ظاهر في الوجوب؟ كما لو لم يكن في البين حظر ولا توهمه، أو لا؟ وعلى الثاني فهل هو
ظاهر في الاستصحاب؟ أو في الإباحة؟ كما ينسب إلى المشهور، أو انه تابع لما قبل النهي لو علق الامر على زوال علة النهي؟ أو مطلقا؟
وجوه بل أقوال. والظاهر أن مورد النزاع ومحل الكلام بينهم انما هو في مورد كان متعلق الأمر بعينه هو المتعلق للنهي من حيث العموم
والخصوص كما في قوله: لا تكرم النحويين، أو لا تكرم زيدا، وقوله بعد ذلك: أكرم النحويين، أو أكرم زيدا، وإلا فمع اختلاف متعلق الأمر
والنهي من جهة العموم والخصوص كان خارجا عن موضوع هذا النزاع نظير قوله: لا تكرم النحويين، وقوله: أكرم الكوفيين
منهم، فإنه في مثله لا بد من التخصيص أو التقيد الكاشف عن عدم تعلق النهي بالخاص من أول الأمر، كما يشهد لذلك بناء العرف في
نحو ذلك بحمل العام والمطلق فيها على الخاص والمقيد.
وحينئذ فبعد أن اتضح مورد النزاع بينهم، نقول: بأنه ان بنينا على حجية أصالة الحقيقة من باب التعبد العقلائي فلا شبهة في أن لازمه هو
الحمل على الوجوب ما لم يكن
209

في البين قرينة قطعية على الخلاف، حيث إن مجرد وقوعه عقيب الحظر أو توهمه لا يمنع عن الحمل على الحقيقة، وأما لو بنينا على
حجيتها من باب الظهور التصديقي كما هو التحقيق ففي ذلك لا مجال للحمل على الوجوب، لأنه بمحض اقترانه بما تصلح للقرينية ينتفي
ظهوره فيما كان ظاهرا فيه، فلا يبقى له ظهور في الوجوب بل ولا في الاستحباب أيضا بحيث لو قام بعد ذلك دليل على الخلاف يحكم
بالمعارضة بينهما، ضرورة انه بعد ارتفاع ظهوره في الوجوب لا مقتضى في تعين ظهوره في غيره من الاستحباب أو الإباحة بالمعنى
الأخص بل هو يصير حينئذ مجملا من تلك الجهة غير ظاهر في شئ مما ذكر إلا مع قيام القرينة في البين على إرادة الندب أو الإباحة أو
على حكم ما قبل النهي، وإلا فمع خلو المقام عن القرينة لا يكون فيه ظهور لا في الوجوب ولا في الندب ولا في الإباحة بالمعنى الأخص،
نعم يستفاد من هذا الامر عدم الحرج في الفعل وإباحته بالمعنى الأعم الذي هو جامع بين الوجوب والندب والإباحة بالمعنى الأخص، و
من ذلك يحتاج في تعيين إحدى الخصوصيات إلى ملاحظة خصوصيات الموارد وقيام القرينة على التعيين. نعم يمكن ان يقال باستفادة
الاستحباب في خصوص العبادات نظرا إلى اقتضاء الامر فيها لمحبوبية المتعلق ورجحانه، إذ حينئذ بعد ارتفاع ظهوره في الوجوب من
جهة وقوعه عقيب الحظر أو توهمه يمكن الحكم باستحبابه نظرا إلى قضية ظهوره في محبوبية المتعلق ورجحانه، ففي الحقيقة استفادة
الاستحباب حينئذ في العبادات انما هو لمناسبة خصوصية المورد لا من جهة ظهور الامر في الاستحباب بعد ارتفاع ظهوره في الوجوب،
كما هو واضح.
ثم إنه مما ذكرنا ظهر لك حال النهي الواقع عقيب الوجوب أو توهمه، حيث نقول فيه أيضا بعدم ظهوره لا في الحرمة ولا في الكراهة.
الجهة السابعة:
هل الصيغة تقتضي المرة والتكرار أو لا تقتضي إلا صرف وجود الطبيعي الذي يتحقق بأول وجوده؟ فيه وجوه وأقوال: أقواها الأخير
كما ستعرف.
وقبل الخوض في المرام ينبغي تعيين المراد من القول بالمرة والتكرار، حيث إن فيها وجوها ثلاثة:
210

الأول: ان يكون المراد من المرة هو الفرد فيقابلها التكرار بمعنى الافراد.
الثاني: ان يكون المراد منها الوجود الواحد وفي قبالها التكرار بمعنى الوجودات، والفرق بينهما هو انه على الأول يكون الفرد
بخصوصية الفردية تحت الطلب والامر بخلافه على الثاني فإنه عليه يكون مطلوبية الفرد بما أنه وجود للطبيعي فتكون خصوصية
الفردية خارجة عن دائرة الطلب، وربما يثمر ذلك في مقام الامتثال عند الاتيان بالفرد بقصد الخصوصية لا بما انه وجود الطبيعي،
حيث إنه على الأول يقع الامتثال بالخصوصية بخلافه على الثاني، فإنه علاوة عن عدم تحقق الامتثال بالخصوصية ربما صدق التشريع
المحرم أيضا في قصده الخصوصية نظرا إلى ما هو المفروض من خروج الخصوصية عن دائرة الطلب والامر، كما هو واضح.
الثالث: ان يكون المراد من المرة الدفعة ومن التكرار ما يقابلها وهو الدفعات والفرق بين ذلك والوجهين المتقدمين واضح، إذ على
هذا المعنى ربما يتحقق الامتثال بالمتعدد فيما لو أوجد دفعة افرادا متعددة فإنه حينئذ يتحقق الامتثال بالمجموع، بخلافه على المرة
بمعنى الفرد أو الوجود الواحد فإنه عليهما يقع الامتثال بواحد منها. وحينئذ فهذه محتملات ثلاثة في المراد من المرة والتكرار.
ولكن الاحتمال الأول بعيد غايته عن مصب كلماتهم بقرينة النزاع الآتي في تعلق الامر بالطبيعة أو الفرد، فإنه لو كان المراد من المرة
في المقام هو الفرد لكان اللازم هو ذكرهم ذلك في طي المقام الآتي: في أنه بعدد فرض تعلق الامر بالفرد لا بالطبيعة فهل الامر يدل
على فرد واحد أو على افراد متعددة؟ لا جعلهم ذلك بحثا مستقلا في قبال البحث الآتي، وحينئذ فنفس تعرضهم لهذا البحث مستقلا في
قبال البحث الآتي قرينة قطعية على عدم إراداتهم من المرة في المقام الفرد والافراد، كما هو واضح. وحينئذ فيدور الامر بين الوجهين
الآخرين، وعند ذلك ربما كان المتعين منهما هو الأخير نظرا إلى كونه هو المنساق منها في الذهن عند العرف، ومن ذلك لو أتى بالماء
مثلا في ظروف متعددة دفعة واحدة لا يقال: بأنه أتى بالماء مرات أو أتى به متكررا، بل يقال: إنه أتى بالماء مرة واحدة. هكذا أفاد
الأستاذ. ولكن أقول: بأن عدم صدق التكرار والمرات في المثال انما هو باعتبار إضافته إلى الاتيان لا بلحاظ إضافته إلى المأتي به و
هو الماء، فحيث ان الاتيان لم يكن الا إتيانا واحدا أضيف إليه المرة فقيل: بأنه أتى بالماء مرة واحدة، وإلا
211

فباعتبار إضافتها إلى نفس المأتي به وهو الماء ربما يصدق عليه التكرار في المثال المزبور، كما هو واضح.
وكيف كان فهل المراد من المرة على كلا المعنيين بمعنى الدفعة أو الوجود هو المرة بنحو بشرط لا عن الزيادة في مرحلة الوجود
الخارجي؟ أو المرة بنحو لا بشرط - على معنى وقوع الامتثال بواحد من الوجودات وبأول وجود على المرة بمعنى الدفعة وصيرورة
الزائد لغوا - فيه وجهان: أظهرهما الثاني على ما يستفاد من كلماتهم، فان ظاهرهم انما هو على صيرورة الزائد على المرة (بأي معنى
فرضناها) لغوا محضا، في قبال القائل بالتكرار الذي يقول بتحقق الامتثال بالزائد أيضا لا انه كان مخلا أيضا بالامتثال بالنسبة إلى أول
وجود، كما هو واضح، هذا بالنسبة إلى القول بالمرة. واما القول بالتكرار فيحتمل فيه أيضا وجهان، فإنه على المعنيين من الوجودات أو
الدفعات تارة يراد تكرر الوجود بنحو الارتباط كما في العام المجموعي، وأخرى يراد تكرره بنحو الاستقلال والسريان على نحو كان
كل فرد ووجود موردا لتكليف مستقل كما نظيره في العام الاستغراقي، والفرق بينهما واضح مثل الفرق بينهما والطبيعة الصرفة، فإنه
على الثاني يكون كل فرد وكل وجود موردا لتكليف مستقل حسب انحلال التكليف المتعلق بالطبيعة ويكون لكل واحد منها امتثال
مستقل غير مرتبط بامتثال الاخر، بخلافه على الأول فإنه عليه وان لوحظ الطبيعي بنحو السريان في ضمن الافراد الا انه بنحو كان
المجموع موضوعا وحدانيا في مقام تعلق الطلب والامر، فمن هذه الجهة لا يكاد تحقق الامتثال إلا بإتيان الطبيعي خارجا متكررا ولا
يكاد يكون لاتيان المجموع إلا امتثال واحد ولا على مخالفتها الأعقاب واحد، كما هو واضح.
وبعد ما عرفت ذلك فلنرجع إلى ما كنا بصدده من المختار في المسألة، فنقول: قد عرفت في صدر البحث ان المختار من الوجوه الثلاثة
هو الوجه الأخير من عدم دلالة الصيغة الا على صرف الطبيعي المتحقق بأول وجود بلا اقتضائها للمرة أو التكرار بوجه أصلا، كيف وان
المادة فيها حسب وضعها النوعي - على ما تقدم من انحلال أوضاع المشتقات مادة وهيئة - لا تدل الا على صرف الطبيعي، كما هو ذلك
أيضا في ساير الصيغ من المصدر وغيره، إذ حينئذ من انتفاء دلالة المادة فيها على المرة أو التكرار يستكشف
212

انتفائها أيضا في الصيغة. ولعله إلى ذلك أيضا نظر الفصول في إنكاره دلالة الصيغة على المرة والتكرار بانتفائها في ناحية المصدر
عن اللام والتنوين بإجماع من علماء الأدب، فكان تمام نظره في النقص بمثل المصدر المجرد عن اللام والتنوين إلى تلك المادة
المأخوذة فيه التي هي جهة مشتركة سارية فيه وفي سائر الصيغ من الماضي والمضارع وغيرهما، لا ان نظره إلى أن المصدر هو
الأصل والمادة لسائر المشتقات كي يتوجه عليه إشكال الكفاية: بان المصدر ليس أصلا ومادة لسائر المشتقات بل يكون صيغة مثلها و
في قبالها، فلا يلزم حينئذ من عدم دلالة المصدر المجرد عليهما عدم دلالة الصيغة أيضا عليهما.
نعم لو قيل بعدم انحلال الوضع في المشتقات إلى وضعين: وضع المادة المشتركة في الجميع وضعا نوعيا ووضع الهيئة في كل واحدة من
الصيغ وضعا شخصيا وان الوضع في كل واحدة من الصيغ من قبيل الوضع في الجوامد في كون كل واحد منها مادة وهيئة موضوعا
لمعنى خاص، لأمكن المجال لما في الكفاية من المناقشة بان عدم دلالة المصدر على المرة والتكرار لا يقتضى عدم دلالة الصيغة عليهما،
ولكن الكلام حينئذ في أصل هذا المبنى فإنه خلاف ما عليه المحققون في أوضاع المشتقات، إذ بنائهم فيها على انحلال الوضع فيها إلى
وضعين: وضع نوعي للمادة السارية فيها ووضع شخصي لكل واحدة من الهيئات الخاصة، وعلى ذلك فيتجه الاستدلال لعدم دلالة المبدأ
في الصيغة على المرة والتكرار بانتفائها في طرف المصدر المجرد عن اللام والتنوين، كما هو واضح.
وحينئذ فبعد ما ظهر من عدم دلالة المادة على أحد الامرين في الصيغة فلا جرم يبقى الكلام فيها في الهيئة وهي أيضا كما عرفت غير
مرة لا تدل الا على طلب إيجاد الطبيعة أو النسبة الارسالية الملازمة لطلب الطبيعة فلا يكون فيها أيضا اقتضاء المرة أو التكرار بوجه
أصلا، كما لا يخفى. واما ما يرى من الاكتفاء بالمرة والفرد الواحد فإنما هو من جهة تحقق صرف الوجود بأول وجوده وتحقق الامتثال
بذلك لا من جهة ان الامر يقتضى المرة كما هو واضح. كما أن تحقق الامتثال بإتيان أفراد عرضية دفعة انما هو من جهة انطباق الطبيعي
المأمور به على الجميع كانطباقه في الأول على وجود واحد لا من جهة اقتضاء الامر للتكرار كما توهم.
ومن ذلك البيان ربما أمكن إرجاع القول بالمرة أيضا إلى القول بالطبيعة الذي هو المشهور نظرا إلى سقوط الامر عن الطبيعة وتحقق
الامتثال بإيجاد المأمور به دفعة ولو في
213

ضمن فرد واحد وعدم المقتضى بعد للامتثال بإتيان ثاني الوجود وثالثة، كما هو واضح فتدبر.
بقي الكلام فيما استدل به للقول بالتكرار وهي أمور:
منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم (إذا أمرتكم بشي فأتوا منه ما استطعتم) وفيه ما لا يخفى، إذ بعد الغض عما يرد عليه من لزوم
تخصيص الأكثر في مثل الصلاة اليومية وصوم شهر رمضان وسائر الواجبات من الصلوات وغيرها، نقول بأنه ينافي ذلك ما في ذيل
تلك الرواية من الظهور بل الصراحة في عدم لزوم التكرار وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم والله
لو قلت نعم لوجب) إلخ
] 1 [
فان ما هو المستفاد من هذا الذيل انما هو خلاف ما يقوله القائل بالتكرار كما هو واضح.
ومنها استدلالهم بمثل الصوم والصلوات اليومية المتكررة في كل سنة ويوم. وفيه ما لا يخفى حيث إن تكرر الصلاة في كل يوم و
الصوم في كل سنة انما هو من جهة اقتضاء قضية الشرط لتعدد الوجود عند تكرره حسب إناطة وجوب الصوم بدخول شهر رمضان و
إناطة وجوب الصلاة بدخول الوقت وأين ذلك واقتضاء الامر للتكرار كما لا يخفى.
ومنها ولعله هو العمدة مقايسة باب الأوامر بباب النواهي التي من المعلوم انها للدوام والاستمرار، بتقريب: انه كما أن قضية إطلاق
الهيئة في النواهي هو الدوام والاستمرار بملاحظة اقتضاء إطلاقها لسعة دائرة الطلب وشموله للوجودات العرضية والطولية ومبغوضية
الطبيعة بوجودها الساري في جميع الافراد. وتحكيمه على قضية إطلاق المادة فيها في اقتضائه لكون تمام المبغوض هو صرف وجود
الطبيعي المتحقق بأول وجود ولو من
] 1 [
لم أجد الحديث في مجاميع أخبارنا وألفاظه على ما أخرجه في التاج هكذا: (عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه و
آله وسلم فقال: أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل: أ كل عام يا رسول الله فسكت، حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، ثم قال:
ذروني ما تركتكم فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشي فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم
عن شئ فدعوه) رواه مسلم والنسائي والترمذي (انتهى) التاج، ج 2 ص 108، الباب 2 من كتاب الحج (المصحح).
214

جهة علية الهيئة لتحقق المادة خارجا، كذلك في الأوامر أيضا، حيث إنه بعين هذا التقريب - أي تقريب إطلاق الهيئة وتحكيمه على إطلاق
المادة - يستكشف في الأوامر أيضا عن أن المطلوب فيها هو الطبيعة بوجودها الساري في ضمن جميع الافراد لا صرف وجودها
المتحقق بأول وجودها كما هو واضح، وبذلك يثبت المطلوب الذي هو اقتضاء الامر للتكرار هذا.
ولكن فيه أيضا ما لا يخفى، إذ نقول: بان ما أفيد وان تم لاثبات الدوام والاستمرار في باب النواهي الا انه يمنع عن جريان التقريب
المزبور في باب الأوامر من جهة وضوح الفرق بين المقامين، وحاصل الفرق بين المقامين - في جريان إطلاق الهيئة وصحة تحكيمه على
إطلاق المادة في باب النواهي وعدم جريانها في باب الأوامر - هو ان صحة تحكيم إطلاق الهيئة في باب النواهي واستفادة الدوام و
الاستمرار منه انما هو من جهة عدم ترتب محذور العسر والحرج في الترك على الدوام والاستمرار، بخلافه في الأوامر فإنه فيها يلزم
من تحكيم قضية إطلاق الهيئة على إطلاق المادة محذور العسر والحرج الشديد، فمن هذه الجهة ربما يمنع مثل هذا المحذور في باب
الأوامر عن جريان إطلاق الهيئة فيها والاخذ بها، ومع عدم جريان الاطلاق فيها لا جرم يبقى إطلاق المادة فيها على حاله سليما عن
المزاحم، ومقتضاه كما عرفت هو كون تمام المطلوب عبارة عن صرف الطبيعي المتحقق بأول وجوده دون الطبيعة السارية، وعليه فلا
مجال للتشبث بمثل هذا البيان أيضا لاثبات التكرار في الأوامر وان صح ذلك في باب النواهي، كما هو واضح
.] 1 [
ثم إنه يبقى الكلام حينئذ في بيان الثمرة بين الأقوال المزبورة فنقول: أما الثمرة بين القول بالطبيعة وبين القول بالمرة بمعنى الفرد أو
الوجود الواحد فظاهرة فيما لو أتى دفعة
] 1 [
أقول ولا يخفى عليك انه لا يتم هذا التقريب في باب النواهي أيضا ويظهر وجهه من جهة تبعية الهيئة ثبوتا إطلاقا وتقييدا للمادة
حسب تقدمها عليها وكيفية قيام المصلحة بها بصرف وجودها أو بوجودها الساري، إذ حينئذ تكون الهيئة تابعة للمادة ومن شؤونها، و
حينئذ فمع جريان الاطلاق في المادة لا يبقى مجال لجريان الاطلاق في طرف الهيئة حتى يقع بينهما التزاحم باعتبار كون قضية إطلاقها
حاكما على إطلاقها، ومعه كيف المجال لدعوى تقديم إطلاق الهيئة على إطلاقها وتحكيمها عليها وان الأستاذ دام ظله مصرا بذلك في
مقام إبدأ الفرق بين الأوامر والنواهي فتأمل.
(المؤلف، قدس سره)
215

واحدة بأفراد متعددة، فإنه على القول بالطبيعة يقع الامتثال بالمجموع ويكون المجموع امتثالا واحدا، ولكنه لا بمناط الترجيح بلا
مرجح بل بمناط انطباق الطبيعي المأمور به على الجميع باعتبار كونها وجودا لها، وأما على القول بالمرة فلا يقع الامتثال الا بواحد منها
لا بعينه، هذا إذا لم يؤخذ الفرد مقيدا بعدم الزيادة، والا فلا يقع الامتثال بواحد منها أصلا، ولكن الذي يسهل الخطب هو عدم إرادة
القائل بالمرة مثل هذا المعنى لما تقدم بان المراد منها إنما هو المرة على نحو اللا بشرطية وعليه فيقع الامتثال بواحد منها ويصير
الزائد لغوا محضا لا مخلا بأصل الامتثال، هذا إذا أتى المكلف بأفراد متعددة دفعة واحدة.
وأما لو أتى بها دفعات فالثمرة أيضا تظهر من جهة قصد الامتثال بالخصوصية وعدم قصدها فإنه على القول بالطبيعة يقع قصده ذلك
تشريعا محرما بخلافه على المرة بمعنى الفرد فإنه حينئذ لا بد من قصد الخصوصية ويقع الامتثال به أيضا. نعم على تفسير المرة
بالوجود الواحد من الطبيعة لا ثمرة في هذا الفرض بينها وبين الطبيعة بل تختص الثمرة بينهما بالفرض الأول وهو صورة الاتيان
بأفراد متعددة دفعة واحدة. هذا كله بناء على تفسير المرة بالفرد أو الوجود الواحد، واما بناء على تفسيرها بالدفعة كما استظهرناه فلا
ثمرة بينها وبين القول بالطبيعة، ومن ذلك أرجعنا القول بالمرة أيضا إلى القول بالطبيعة هذا كله في الثمرة بين القول بالمرة وبين
القول بالطبيعة.
وأما الثمرة بين الطبيعة وبين القول بالتكرار فعلى تفسيره بالافراد والوجودات فتظهر أيضا في صورة الاتيان بالطبيعة في ضمن
فرد واحد فإنه على القول بالطبيعة يتحقق الامتثال ويسقط الامر والتكليف من جهة انطباق الطبيعي على المأتي به بخلافه على القول
بالتكرار إذ عليه كان التكليف بعد على حاله فيجب الاتيان ثانيا وثالثا وهكذا، بل وتظهر الثمرة أيضا عند الاتيان بأفراد متعددة
دفعة، إذ على القول بالطبيعة من جهة انطباق الطبيعي على الجميع يكون المجموع امتثالا واحدا دونه على القول بالتكرار فإنه عليه
يكون تلك امتثالات متعددة كما في صورة إيجاد الطبيعة ثانيا وثالثا ورابعا. هذا على التكرار بمعنى الوجودات، وأما على التكرار
بمعنى الدفعات فتظهر عند الايجاد ثانيا وثالثا حيث إنه على التكرار يقع الامتثال بثاني الوجود وثالث الوجود أيضا بخلافه على
الطبيعة فإنه عليه يكون ثاني الوجود من الامتثال عقيب الامتثال، كما يأتي الكلام فيه في مبحث الأجزاء إن شاء الله تعالى.
216

واما الثمرة بين القول بالمرة وبين القول بالتكرار فواضحة غير محتاجة إلى البيان.
بقي شئ وهو انه على التكرار هل يعتبر تعدد الوجود مطلقا حتى في الأمور القابلة للدوام والاستمرار كالقيام والقعود ونحوهما
فيجب في تكرر القيام انهدامه ثم قيام آخر كي يتحقق التعدد؟ أو ان اعتبار تعدد الوجود انما هو في الأمور الآنية غير القابلة للدوام و
الاستمرار كالضرب مثلا والا ففي الأمور القابلة للاستمرار يكفي في تكرارها استمرارها بنحو لا يتخلل فصل في البين بان يقصد بها
في كل آن امتثال الامر المتعلق بالطبيعة بلا احتياج إلى تخلل فصل في البين؟ فيه وجهان: مقتضى ظاهر العنوان هو الأول من لزوم
تكرر الوجود في صدق التكرار وتحققه حتى في مثل القيام والقعود الذي يتصور فيه القرار والاستمرار، لكن مقتضى استدلالهم بباب
النواهي هو الثاني وهو عدم اعتبار تكرر الوجود، كما هو ذلك في باب النواهي حيث كان المطلوب فيها هو الدوام والاستمرار. وعليه
ربما تظهر الثمرة أيضا بين القول بالتكرار وبين القول بالطبيعة في صورة استمرار القيام من جهة وحدة الامتثال على القول بالطبيعة
وتعدده على القول بالتكرار فيما لو قصد كون القيام في كل آن امتثالا للامر به كما هو الشأن أيضا في باب النواهي فيما لو ترك شرب
الخمر قاصدا كونه في كل آن امتثالا لقوله: لا تشرب الخمر فيكون هذا القيام الشخصي المستمر حينئذ امتثالات متعددة للامر بالقيام، و
هكذا الأمور التدريجية كالحركة والتكلم والقرأة فان حالها حال الأمور القابلة للدوام والاستمرار، فبناء على القول بالطبيعة يكون
مجموع الحركة والتكلم والقرأة من أولها إلى آخرها وجودا واحد للطبيعة ما لم يتخلل فصل في البين فيحتاج في كونه ثاني الوجود
إلى طرو فصل في البين بان يتحرك ثم يسكن ثم يتحرك، وهكذا في التكلم والقرأة فما دام كان مشغولا بالتكلم والقرأة كان ذلك
يعد وجودا واحدا للقراءة ولا يتحقق ثاني الوجود الا بتخلل سكون في البين بنحو يعد الكلام الثاني وجودا آخر. واما على التكرار على
النحو المزبور يتحقق التكرار وتعدد الامتثال بقصده القراءة في كل آن امتثالا للامر بها. نعم لو كان الامر متعلقا لا بعنوان القراءة بقول
مطلق بل بعنوان قراءة الحمد مثلا ففي ذلك يكون تحقق الطبيعة بمجرد الفراغ عن الحمد ولو لم يقطع قرأته بل اتصل قرأته بقرأة
حمد آخر وحينئذ فيكون الحمد الثاني الذي اشتغل به بدون تخلل فصل وسكون من ثاني الوجود للطبيعة ويكون من باب الامتثال
عقيب الامتثال كما هو واضح.
217

الجهة الثامنة:
هل الصيغة تقتضي الفور أو التراخي أو لا تقتضي شيئا منهما الا طلب إيجاد الطبيعة الجامعة بين الفور والتراخي؟ فيه وجوه وأقوال:
أقواها الأخير، نظرا إلى عدم اقتضاء وضع المادة وكذا الهيئة لشئ من ذلك، اما المادة فلما عرفت من عدم دلالتها الا على صرف
الطبيعي، واما الهيئة فلعدم دلالتها أيضا الا على طلب الطبيعة الجامع مع الفور والتراخي، بل ومع الشك أيضا ربما كان قضية إطلاق
المادة هو سقوط الغرض وتحقق الامتثال بالاستعجال الملازم لزمان الحال والتأخير الملازم لزمان الاستقبال بل كان أمر التمسك
بقضية إطلاق المادة في المقام أهون من المقام السابق نظرا إلى سلامته عن المزاحمة مع إطلاق الهيئة كما هناك وذلك لعدم اقتضاء
لاطلاق الهيئة للاستعجال والفورية في المقام كي يقع بينهما المزاحمة كما هو واضح، وحينئذ فمقتضى إطلاق المادة هو تحقق الامتثال
بإتيان الطبيعة وإيجادها بنحو الاستعجال أو التراخي.
نعم لو أغمض عما ذكرنا لا يتوجه على القول بالفور بعد مأخوذية الزمان في المشتقات، وذلك من جهة وضوح ان نظر القائل بمطلوبية
الفور انما هو إلى مجرد الاستعجال والمسارعة في إيجاد المأمور به المنطبق في الزمانيات على أول الأزمنة بعد الامر بلا مدخلية
للزمان فيه بنحو القيدية أصلا، كما أن نظر القائل بالتراخي انما هو إلى ما يقابل ذلك، ومعه لا يتوجه على الاشكال المزبور كما هو
واضح.
وكيف كان فاستدل للفور بأمور:
منها: ما قيل في وجه إبطال الواجب المعلق من استحالة انفكاك الإرادة عن المراد وذلك بتقريب: ان الإرادة التشريعية انما هي كالإرادة
التكوينية بلا فرق بينهما الا من جهة الاقتضاء والعلية حيث كانت الإرادة التكوينية علة لتحقق المراد في الخارج وكانت الإرادة
التشريعية مقتضية له، وحينئذ فكما ان الإرادة التكوينية لا يمكن تخلفها عن المراد في الخارج ولو آنا ما كذلك الإرادة التشريعية حيث إن
مقتضاها أيضا لزوم اتصال حركة العبد بأمر المولى وطلبه من جهة ان حركة العبد في الإرادات التشريعية بمنزلة حركة المريد في
الإرادة التكوينية ولا نعنى من الفور الا قضية اتصال حركة المأمور نحو
218

المأمور به متصلا بطلب الامر. وفيه قضية الامر بشي ليست الا البعث نحوه بالايجاد فإذا كان المتعلق هو الطبيعي الجامع بين الفرد
الحالي والفرد الاستقبالي فلا جرم لا يقتضى الامر به أيضا الا إيجاد تلك الطبيعة بما انها جامعة بين الفرد الحالي والاستقبالي، وما
ذكر من امتناع تخلف الإرادة ولو التشريعية عن المراد متصلا بها كلام شعري وسيأتي بطلانه أيضا في مبحث المعلق والمشروط بما
لا مزيد عليه إن شاء الله تعالى.
ومنها: قوله سبحانه (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) بتقريب الدلالة فيه على وجوب الاستباق والمسارعة نحو المأمور به بالايجاد
على ما هو قضية ظهور الامر في الوجوب. وفيه أيضا انه بعد الغض عما يرد عليه من لزوم تخصيص الأكثر لخروج المندوبات طرا و
خروج كثير من الواجبات أيضا كالصلاة اليومية ونحوها، نقول: بأنه انما يتم ذلك لولا قضية الارتكاز العقلي بحسن المسارعة و
الاستباق إلى إيجاد المأمور به والا فمع هذا الارتكاز لا جرم يكون الامر بالمسارعة إرشادا محضا ومعه لا مجال لجعله دليلا على
وجوب الفور والمسارعة، كما لا يخفى.
بقي الكلام في أنه على هذا القول من وجوب المبادرة والاستعجال، هل الواجب هو الاتيان بالمأمور به فورا ففورا بحيث لو لم يأت
المكلف بالمأمور به في الان الأول بعد الامر يجب عليه الاتيان به في الان الثاني ولا يجوز التراخي؟ أم لا بل يجوز له التراخي في الان
الثاني كما لو لم يجب عليه الفور في الان الأول؟ أو ان قضية ذلك هو سقوط التكليف عن المأمور به في الان الثاني رأسا عند الاخلال
بالفور في الان الأول ولو من جهة كونه من قبيل وحدة المطلوب؟ فيه وجوه: أظهرها أولها، كما هو قضية استدلالهم ب آية المسارعة و
الاستباق حيث إن من المعلوم ان الآية انما هو في مقام بيان المسارعة إلى الخيرات فورا ففورا، بل ذلك أيضا مما تقتضيه قضية
استدلالهم بذلك البرهان العقلي المزبور إذ مقتضاه أيضا هو لزوم الاتيان بالمأمور به فورا ففورا، كما هو واضح.
وأما الاحتمال الأخير وهو احتمال سقوط التكليف في ثاني الحال عن المأمور به لو لم يأت المكلف به في الان الأول فهو أبعد الوجوه و
لا يساعد عليه استدلالهم بل ولا كلماتهم أيضا، إذ لا يستفاد من كلماتهم تقيد المأمور به بالفور والاستعجال كي يلزمه سقوط التكليف
في ثاني الحال، وحينئذ فيكون هذا الاحتمال مما يقطع بعدم إرادته القائل بالفور، ومعه يدور الامر بين الوجهين الأولين وعند ذلك
قد عرفت تعين الوجه
219

الأول منهما دون الثاني، كما هو واضح.
وأما القول بالتراخي
فاستدل عليه أيضا بتحقق الامتثال مع التراخي الملازم لزمان الاستقبال. ولكنه كما ترى بأنه لا يقتضى مجرد ذلك كون الصيغة والامر
للتراخي، وذلك لامكان ان يكون ذلك من جهة ان المأمور به هو الطبيعة الجامعة بين الفرد الحالي والفرد الاستقبالي، ولذلك أيضا
ترى تحقق الامتثال بإتيانه في الان الأول بعد الامر والطلب، نعم لو فرض عدم تحقق الامتثال الا بإيجاد المأمور به في الان الثاني و
الثالث كان للاستدلال المزبور كمال مجال ولكنه لا يكون كذلك قطعا بل ولا يدعيه أيضا القائل بالتراخي، لان أقصى ما يدعيه انما هو
جواز التراخي وعدم وجوب الفور فيقابل القائل بالفور، واما وجوبه فلا.
وأما ما يظهر من السيد (قدس سره) في استدلاله بان الصيغة قد استعملت تارة في الفور وأخرى في التراخي والأصل في الاستعمال
الحقيقة، فإنما هو على حسب ما هو ديدنه من إرجاع المشتركات المعنوية إلى الاشتراك اللفظي بالأصل الذي كان عنده من كون
الاستعمال علامة الحقيقة وإن كان قد شاع الجواب عنه أيضا بأعمية الاستعمال من الحقيقة، مع أن كلامه (قدس سره) انما هو في بيان
رد القائل بالفور بأنه كما استعمل الصيغة في الفور استعملت أيضا في التراخي فلا تكون الصيغة حينئذ لخصوص الفور. وعليه فلا ثمرة
بين القول بالطبيعة وبين القول بالتراخي، إذ بعد عدم التزامهم بوجوب التراخي ينطبق هذا القول على القول بالطبيعة بل هو هو بعينه،
ومن ذلك أيضا يمكن المنع عن تثليث الأقوال في هذه المسألة وانه لا يكون فيها الا قولان: قول بالفور وقول بالطبيعة فتدبر، هذا.
ولكن أقول: بأن ما ذكرنا من عدم وجوب الفور انما هو بالنسبة إلى دلالة الصيغة وإلا فقد يجب الفور مع قيام القرينة عليه، ومن ذلك
ما لو قام قرينة قطعية على عدم تمكنه من الاتيان بالواجب في ثاني الحال وثالثة ان لم يأت به في الان الأول بعد الامر فإنه حينئذ يجب
بحكم العقل المبادرة إلى الاتيان بالواجب في الان الأول بحيث لو لم يأت به ففات منه الواجب لعدم تمكنه منه فيما بعد يستحق عليه
العقوبة، بل ولعل الامر كذلك مع الظن بالفوت إذا كان اطمئنانيا، كما في الأزمنة التي كثر فيها الأمراض من نحو الطاعون والوباء و
نحوهما أعاذنا الله منها إن شاء الله تعالى، فإنه في نحو ذلك أيضا ربما
220

كان يحكم العقل أيضا بوجوب المبادرة والاستعجال بإتيان الواجب في أول وقته وأول أزمنة تمكنه منه. واما مع الظن غير الاطمئناني
أو الشك فالظاهر هو جواز التأخير للاستصحاب فتدبر. هذا كله فيما يتعلق بمسألة الفور والتراخي، ولكن الأستاذ دام ظله لم يتعرض
لهذا الفرع الأخير فافهم.
221

المبحث الثالث: في الأجزاء
قد وقع الخلاف والكلام بين الأصحاب في اقتضاء الاتيان بالمأمور به على وجهه للاجزاء وعدمه. وقبل الخوض في المرام، ينبغي تمهيد
مقدمة لبيان عناوين الألفاظ الواقعة في حيز البحث.
فنقول: ان من العناوين الواقعة في حيز موضوع البحث كلمة (على وجهه) والظاهر أن المراد منها - كما قربه في الكفاية - هو النهج الذي
ينبغي ان يؤتى المأمور به على ذلك النهج شرعا وعقلا كقصد الامتثال مثلا، لا الاتيان بالمأمور به على وجه وجوبه أو استحبابه وكونه
متميزا عن غيره كما يدعيه القائل بوجوب قصد الوجه والتميز - كما يشهد لذلك تعرضهم طرا لهذا البحث بهذه العناوين المزبورة مع
ذهاب كثير منهم بل أكثرهم على عدم اعتبار قصد الوجه والتميز في المأمور به لا شرعا ولا عقلا - ولا الكيفية الخاصة التي بها صار
المأمور به متعلقا للامر والطلب، كيف وانه مضافا إلى بعد ذلك في نفسه يلزمه لغوية القيد المزبور إذ عليه كان في ذكر المأمور به
غنى وكفاية عن ذكر كلمة (على وجهه) نظرا إلى عدم خلو المأمور به عن مثل هذا الكيفيات فيكون القيد المزبور حينئذ توضيحيا
محضا. وحينئذ فيتعين ما ذكرناه من كون المراد منها النهج الذي ينبغي ان يؤتى المأمور به على ذلك النهج شرعا وعقلا كقصد التقرب
والامتثال، وعليه يكون القيد المزبور احترازيا توضيحيا، لكن ذلك أيضا بناء على تجريد متعلق الأمر في العبادات عن قصد التقرب و
جعله من الكيفيات المعتبرة في المأمور به عقلا لا شرعا كما هو
222

الكفاية، وإلا فبناء على باعتباره في المأمور به شرعا يكون توضيحيا محضا، كما أنه كذلك أيضا بناء على جعل المأمور به عبارة عن
الحصة الملازمة مع قصد التقرب الناشئ عن دعوة الامر بنحو القضية الحينية لا التقييدية بالتقريب الذي ذكرناه في مبحث التعبدي و
التوصلي من عدم انفكاك المأمور به بما هو مأمور به عن قصد دعوة الامر حتى في التوصليات، إذ عليه أيضا يكون كلمة (على وجهه)
لمحض التوضيح، لأنه بعد عدم اتصاف الذات غير المقرونة بقصد التقريب بكونها مأمورا بها يكون في ذكر كلمة المأمور به غنى و
كفاية عن ذكر كلمة (على وجهه) كما هو واضح.
ومن العناوين كلمة (الأجزاء) والظاهر أن المراد منه انما هو معناه اللغوي أعني الكفاية - كما في الكفاية - وان اختلف ما يكفي عنه من
حيث سقوط التعبد به ثانيا تارة، وسقوط القضاء أخرى فالمراد منه انما هو كفاية الاتيان بالمأمور به على وجهه في عدم التعبد بإتيانه
ثانيا في الوقت أو في خارجه، كان قضية عدم التعبد به بنحو العزيمة أو بنحو الرخصة.
ومن العناوين كلمة (الاقتضاء) والظاهر أن المراد منها أيضا هو الاقتضاء بنحو العلية والتأثير بحسب مقام الثبوت لا الاقتضاء بنحو
الكشف والدلالة بحسب مقام الاثبات، ومن ذلك أيضا نسب الأجزاء في عنوان البحث إلى الاتيان دون مدلول الصيغة. نعم في الأجزاء
بالنسبة إلى المأمور به بالامر الاضطراري والظاهري يمكن ان يقال: بان الاقتضاء فيهما هو الاقتضاء بنحو الكشف والدلالة، نظرا إلى
رجوع جهة البحث حينئذ إلى مدلول الصيغة من جهة الدلالة على وفاء المأتي به الاضطراري بمصلحة المأمور به الاختياري.
وعلى كل حال فلا يرتبط هذا البحث بالبحث المتقدم من دلالة الصيغة على المرة أو التكرار - كما توهم - بخيال ان القول بعدم الأجزاء
هو عين القول بالتكرار في المسألة السابقة كعينية القول بالاجزاء مع القول بالمرة، إذ نقول: بأن البحث في المسألة المتقدمة انما هو في
تعيين ما هو المأمور به بأنه هل هو مجرد الطبيعة؟ أو المرة بمعنى الفرد أو الدفعة؟ أو التكرار بمعنى الوجودات أو الدفعات؟ بخلافه في
المقام فان البحث فيه انما هو في ذاك المأمور به المتعين هناك بان الاتيان به على وجهه يجزى عن التعبد به ثانيا أم لا ومعه لا يرتبط
إحدى المسألتين بالأخرى كما هو واضح، خصوصا إذا جعلنا الاقتضاء في المقام بمعنى العلية والتأثير لسقوط الامر ثبوتا إذ عليه يكون
الفرق بين المقامين أوضح، نظرا إلى رجوع
223

البحث في تلك المسألة إلى دلالة الصيغة على المرة أو التكرار، ورجوعه في المقام إلى اقتضاء الاتيان بالمأمور به ثبوتا لسقوط الامر.
ومما ذكرنا ظهر أيضا جهة الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة تبعية القضاء للأداء وعدم ارتباط إحداهما بالأخرى، كما توهم أيضا
بخيال أن التبعية بعينها عبارة عن القول بعدم الأجزاء كعينية القول بالاجزاء مع القول بكونه بأمر جديد، وتوضيح الفرق هو ان البحث
في تلك المسألة انما هو في مورد عدم الاتيان بالمأمور به على وجهه اما لعدم الاتيان به رأسا أو الاتيان به على غير وجهه المعتبر فيه
شرعا، بخلاف المقام فان البحث فيه انما هو في مورد الاتيان بالمأمور به على وجهه، فهما متقابلان حينئذ كما هو واضح.
وإذ تمهدت هذه الجهة فلنرجع إلى ما هو المهم والمقصود فنقول: ان الكلام في الأجزاء وعدمه يقع تارة في أجزأ الاتيان بالمأمور به
الواقعي الاختياري عن الاتيان به ثانيا وكذا الاتيان بالمأمور به الاضطراري والمأمور به بالامر الظاهري عن مثله، وأخرى في أجزأ
الاتيان بالمأمور به الاضطراري عن المأمور به الاختياري في عدم التعبد به بعد رفع الاضطرار، وثالثة في أجزأ الاتيان بالمأمور به
بالامر الظاهري عن المأمور به بالامر الواقعي في سقوط التعبد به بعد انكشاف الخلاف، فهنا مقامات ثلاثة وينبغي إشباع الكلام في
كل واحد من المقامات المزبورة، فنقول:
اما المقام الأول
فيقع الكلام فيه في أجزأ الاتيان بالمأمور به الواقعي الاختياري عن التعبد به ثانيا، فنقول لا ينبغي الاشكال في أن الاتيان بالمأمور به
الواقعي بجميع ما اعتبر فيه شرعا وعقلا كان موجبا لسقوط الامر عن الطبيعة المأمور بها ومجزيا عن التعبد به ثانيا من جهة انه
بمجرد الاتيان بالطبيعي في الخارج في فرض مطلوبية صرف الوجود لا الوجود الساري يتحقق الامتثال وينطبق عليه عنوان الإطاعة و
معه يسقط الامر والتكليف عنه لا محالة ولا يبقى مقتض للاتيان به ثانيا بوجه أصلا، كما لا يخفى. هذا إذا كان قضية الاتيان بالمأمور به
في الخارج علة تامة لحصول الغرض الداعي على الامر به ولقد عرفت ان الأجزاء في مثله عقلي محض لاستقلال العقل حينئذ بسقوط
الغرض وسقوط الامر بسقوطه بمجرد الموافقة وإيجاد المأمور به، واما لو لم يكن مجرد الاتيان بالمأمور به علة تامة لحصول الغرض
وتحققه بل كان لاختيار المولى أيضا دخل في حصول غرضه كما نظيره في العرفيات في مثل أمر المولى عبده بإتيان الماء وإحضاره
عنده لأجل الغرض
224

الذي هو رفع عطشه بشربه إياه حيث إنه في مثل هذا الفرق لا يكون مجرد الاتيان بالماء وإحضاره عند المولى علة لحصول غرضه الذي
هو رفع عطشه بل كان لاختيار المولى وإرادته إياه للشرب أيضا دخل في تحققه لكونه هو الجز الأخير من العلة لحصول غرضه الذي
هو رفع عطشه، ففي مثله حيثما كان الإرادة المتعلقة بإيجاد الماء بحسب اللب إرادة غيرية وتكون الإرادة النفسية لبا هي المتعلقة بحيث
رفع العطش، فلا جرم يبتنى جواز الاتيان بالمأمور به ثانيا وعدم جوازه على القولين في باب مقدمة الواجب: بان الواجب هل هو مطلق
المقدمة ولو لم توصل أو ان الواجب هو خصوص الموصلة منها؟ فعلى القول بوجوب مطلق المقدمة يكون حال هذا الفرض حال الفرض
السابق من علية الاتيان بالمأمور به لسقوط الامر وحصول الغرض، فكما انه في ذلك الفرض بإتيان المأمور به يسقط الامر والتكليف و
لا يجب على المكلف بل لا يجوز عليه الاتيان به ثانيا بعنوان امتثال الامر بالطبيعة، كذلك في هذا الفرض فبإتيان المأمور به في هذا
الفرض أيضا يسقط الامر به فلا يجوز له الاتيان به ثانيا بعنوان امتثال الأمر الأول فضلا عن وجوبه. واما على القول بوجوب خصوص
المقدمة الموصلة لا مطلقها فلازمه هو جواز الاتيان بالمأمور به ثانيا بعنوان امتثال الامر بالطبيعة مع عدم اختيار المولى إياه، إذ ما دام
عدم اختيار المولى للمأتي به الأول حيثما كان الغرض الداعي على الامر بعد بحاله كان الامر بالايجاد والاتيان أيضا على حاله من
الفعلية، غايته ان ليس له الفاعلية والمحركية بعد الاتيان بالمأمور به أولا بملاحظة صلاحية المأتي به للوفاء بالغرض لا انه يسقط رأسا
بمجرد الاتيان بالمأمور به، ونتيجة ذلك التفكيك بين فعلية الامر وفاعليته هو جواز الاتيان بالمأمور به ثانيا ما دام بقاء المأتي به
الأول على صلاحيته للوفاء بغرض المولى ووجوب الاتيان به في فرض خروجه عن القابلية المسطورة - كما في المثال من فرض إراقة
الماء المأتي به لغرض الشرب قبل اختيار المولى إياه - إذ حينئذ ربما يجب على العبد والمأمور مع علمه بذلك الاتيان بفرد آخر من
الطبيعي المأمور به كما لا يخفى، ونتيجة ذلك في فرض تعدد الاتيان بالمأمور به هو وقوع الامتثال بخصوص ما اختاره المولى منهما لا
بهما معا وصيرورة الفرد الآخر غير المختار لغوا محضا لا انه يتحقق به الامتثال أيضا كي يكون قضية الاتيان بالمأمور به متعددا من
باب الامتثال عقيب الامتثال، فعلى ذلك فما وقع في كلماتهم من التعبير عن المأتي به ثانيا بكونه من الامتثال بعد الامتثال لا يخلو عن
تسامح واضح كما هو واضح، لأنه على كل
225

تقدير لا يكاد يكون قضية الاتيان بثاني الوجود حقيقة من باب الامتثال بعد الامتثال.
ثم إن ما ذكرناه من التشقيق بين كون الاتيان بالمأمور به تارة علة لحصول الغرض وأخرى مقتضيا لذلك على معنى مدخلية اختيار
المولى إياه في تحقق غرضه انما هو بحسب مقام الثبوت. واما بحسب مقام الاثبات فربما أمكن دعوى ظهور الأدلة في علية الاتيان
بالمأمور به لحصول الغرض وسقوط الامر نظرا إلى تحقق الامتثال بمحض إيجاد المأمور به في الخارج، وعليه فلا مجال للاتيان
بالمأمور به ثانيا بعنوان إطاعة الأمر الأول الا إذا قام دليل بالخصوص على جوازه ومشروعيته، كما في باب إعادة من صلى فرادى
جماعة حيث ورد الامر فيه بالخصوص على إعادة الصلاة جماعة معللا فيه (بان الله يختار أحبهما) فيستكشف منه حينئذ عدم كون
مجرد الاتيان بالمأمور به علة لحصول الغرض بل وان لاختيار المولى أيضا دخلا في حصول غرضه، كما نظيره في مثال الامر بالماء
لأجل غرض رفع العطش، اللهم الا ان يقال: بان الامر بإعادة من صلى منفردا جماعة انما هو لأجل تحصيل المصلحة القائمة بخصوصية
الجماعة حيث إنه لما كان لا يمكن استيفاء تلك المصلحة الا بإعادة الصلاة أمر جديدا استحبابا بإعادة أصل الصلاة على الكيفية الخاصة، و
عليه فلا مجال لاستكشاف عدم علية مجرد الاتيان بالمأمور به لحصول الغرض الداعي على الامر به ومدخلية اختيار المولى أيضا في
ذلك، ولكن مثل هذا المعنى ينافيه قضية التعليل الوارد في الخبر (بان الله سبحانه يختار أحبهما إليه) فان مقتضى التعليل المزبور هو
مدخلية اختيار المولى أيضا في حصول غرضه ومرامه ولازمه وقوع الامتثال بخصوص ما اختاره المولى وأحبه منهما وصيرورة الاخر
لغوا محضا فتدبر.
وعلى ذلك أيضا يمكن ان يحمل عليه كلام الجبائي من مصيره إلى عدم الأجزاء، وذلك بإرجاع كلامه إلى عدم الأجزاء بالمعنى الذي
ذكرناه إمكانا، نظرا إلى احتمال عدم كون المأتي به علة تامة لحصول الغرض وسقوط الامر بشهادة التعليل الوارد في الامر بإعادة من
صلى فرادى جماعة، وعلى كل حال فهذا كله فيما يتعلق بالمقام الأول.
وأما المقام الثاني
فيقع البحث فيه في أجزأ المأتي به الاضطراري عن المأمور به الواقعي الاختياري، على معنى عدم وجوب الإعادة بعد طرو الاختيار في
الوقت وعدم وجوب القضاء في خارج الوقت، في قبال عدم اجزائه ولزوم الاتيان بالمأمور به الاختياري بعد طرو الاختيار إعادة في
الوقت وقضاء في خارجه، فنقول:
226

ان الكلام في هذا المقام تارة يكون بالنسبة إلى الإعادة في الوقت فيما لو طر الاختيار قبل انقضاء الوقت وأخرى بالنسبة إلى القضاء
في خارج الوقت.
اما الأول
فتنقيح الكلام فيه يحتاج إلى بيان ما يمكن أن يقع عليه الفعل الاضطراري ثبوتا أولا ثم في تعيين ما وقع عليه إثباتا، فنقول: اما الأول
فالامر فيه كما أفاده في الكفاية: من أن الفعل الاضطراري تارة يكون وافيا بتمام مراتب المصلحة التي تكون في الفعل الاختياري و
أخرى لا يكون كذلك بل يبقى مقدار من المصلحة والغرض، وعلى الثاني فتارة يكون المقدار الباقي مما يمكن استيفاؤه وأخرى لا
يمكن استيفائه مع استيفاء مرتبة منها بالفعل الاضطراري، وعلى الأول من فرض قابلية المقدار الباقي للاستيفاء فتارة يكون مما يجب
استيفائه باعتبار كونه لازم التحصيل في نفسه وأخرى لا يجب استيفاء بل يستحب. فهذه الشقوق المتصورة فيما يمكن ان يقع عليه
الفعل الاضطراري.
وربما يختلف هذه الشقوق بحسب اللوازم من حيث الأجزاء وعدمه، فان من لوازم الشق الأول الأجزاء وعدم وجوب الإعادة نظرا إلى
سقوط الامر حينئذ بسقوط الغرض الداعي عليه ولو مع كون الاضطرار ناشئا عن سوء اختيار المكلف فان لازم وفائه بتمام الغرض و
المصلحة هو قيام الغرض بالجامع بين الفعل الاختياري والاضطراري كما في الواجب المخير غايته ان ظرف أحد الفردين هو ظرف
عدم التمكن من الفرد الآخر، ولازم ذلك هو الأجزاء وعدم وجوب الإعادة عقلا بملاحظة سقوط الامر بسقوط أصل الغرض والمصلحة:
واما جواز البدار في هذا الفرض ولو مع القطع بطرو الاختيار بعد ساعة فيبنى على أن الاضطرار الموضوع لهذا الحكم هو مطلق
الاضطرار أو هو الاضطرار الباقي إلى آخر الوقت فعلى الأول يجوز له البدار وبإتيانه للفعل الاضطراري يسقط الامر والتكليف ولا
يجب عليه الاتيان بالفعل الاختياري بعد رفع الاضطرار وعلى الثاني لا يجوز له البدار لعدم الموضوع للفعل الاضطراري.
كما أن من لوازم الشق الثالث أيضا الأجزاء وعدم وجوب الإعادة بلحاظ عدم التمكن حينئذ من استيفاء المقدار الباقي من المصلحة مع
استيفاء مرتبة منها بالفعل الاضطراري، نعم في هذا الفرض ربما يلزم عدم جواز البدار مع العلم بطرو الاختيار فيما بعد، من جهة ما
يلزمه حينئذ من تفويت مقدار من المصلحة الملزمة بلا وجه يقتضيه، نعم
227

مع العلم ببقاء الاضطرار أو الاطمئنان بذلك يجوز له البدار بإتيان الفعل الاضطراري بل وكذلك أيضا مع الشك في ذلك للاستصحاب
أي استصحاب اضطراره إلى آخر الوقت فإذا انكشف الخلاف وارتفع اضطراره قبل خروج الوقت يجزيه ما أتى به من الفعل
الاضطراري، لكن ذلك أيضا مبنى على أن يكون موضوع الحكم هو مطلق الاضطرار لا الاضطرار الباقي إلى آخر الوقت وإلا فلا مجال
للاجزاء، كما هو واضح.
واما الشق الثاني فمن لوازمه هو عدم الأجزاء وجواز البدار بلا كلام والوجه فيه واضح بعد ملاحظة بقاء مقدار من المصلحة الملزمة
الممكنة الاستيفاء.
واما على الشق الرابع فمن لوازمه أيضا هو الأجزاء وعدم وجوب الإعادة كما في الشق الأول والثالث، نعم يستحب حينئذ الإعادة
تحصيلا لذلك المقدار الباقي من المصلحة غير الملزمة الممكنة الاستيفاء، واما جواز البدار في هذا القسم وعدم جوازه فيبتني على
التفصيل: من أن الموضوع هو مطلق الاضطرار أو هو الاضطرار الباقي إلى آخر الوقت.
واما تنقيح هذه الجهة فيحتاج إلى المراجعة إلى كيفية السنة أدلة الاضطرار من عمومات نفى الحرج وأدلة الاضطرار وقاعدة الميسور و
نحوها، وفي مثله أمكن دعوى ان المستفاد من نحو تلك العمومات التي مصبها الاضطرار إلى الطبيعة هو خصوص الاضطرار الباقي إلى
آخر الوقت نظرا إلى قضية ظهورها في الاضطرار إلى الطبيعة على الاطلاق، إذ حينئذ لا يكاد تحقق الاضطرار إلى الطبيعة كذلك إلا
بعدم التمكن من شئ من الافراد التدريجية للمأمور به الاختياري، وهذا لا يكون الا في صورة بقاء الاضطرار إلى آخر الوقت والا ففي
فرض طرأ عليه الاختيار قبل خروج الوقت بمقدار يمكنه الاتيان بالمأمور به الاختياري لا يكاد يصدق الاضطرار إلى الطبيعة على
الاطلاق كما هو واضح. وعلى ذلك ربما يسقط النزاع المزبور في الأجزاء وعدمه بالنسبة إلى الإعادة كما لا يخفى.
نعم بالنسبة إلى مثل أدلة التيمم كقوله سبحانه (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) إلى قوله سبحانه: (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا
طيبا) () أمكن استفادة ان الموضوع هو مطلق الاضطرار لا الاضطرار إلى الطبيعة إلى آخر الوقت نظرا إلى دعوى
228

ظهورها بقرينة صدر الآية وهو قوله: (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا إلخ) في كفاية مجرد عدم القدرة على الطهارة المائية في أول
الوقت وعند القيام إلى الصلاة في مشروعية الطهارة الترابية وجواز الدخول معها في الصلاة، كما ربما يؤيد ذلك أيضا ملاحظة الصدر
الأول في زمن النبي صلى الله عليه وآله من تفكيكهم بين الصلوات وإتيان كل صلاة في وقت فضيلتها وعدم تأخيرها إلى ما بعد وقت
فضلها، حيث إن يستفاد من ذلك حينئذ ان الاضطرار المسوغ للطهارة الترابية هو مطلق الاضطرار لا الاضطرار الباقي إلى آخر الوقت.
ومثل ذلك أيضا الأدلة الامرة بالتقية بإيجاد العبادات على وفق مذهبهم بالحضور في جماعاتهم والصلاة معهم والوضوء على كيفية
وضوئهم، حيث إنه يستفاد من تلك الأدلة أيضا كفاية مجرد الابتلاء بهم ولو في جز من الوقت في جواز الاتيان بالمأمور به تقية وعلى
وفق مذهبهم من دون احتياج إلى بقاء الابتلاء بهم إلى آخر الوقت خصوصا بعد ملاحظة ما هو الغالب من عدم ابتلا الانسان بهؤلاء
الفسقة الفجرة (خذلهم الله تعالى) في تمام أوقات الصلوات من أول وقتها إلى آخره، إذ حينئذ من الامر بإيجاد العبادة تقية يستفاد ان
الاضطرار الموضوع لهذا الحكم هو مطلق الاضطرار. وعليه ففي مثله ربما كان كمال المجال للبحث في أجزأ المأتي به الاضطراري عن
الإعادة بالنسبة إلى المأمور به الاختياري.
وحينئذ فلا بد الأجزاء بالنسبة إلى الإعادة من لحاظ الموارد ودليل الاضطرار الجاري فيها بأنه من قبيل أدلة التيمم وأدلة التقية؟ أو من
قبيل عمومات نفى الحرج وعمومات الاضطرار من نحو حديث الرفع وغيره؟ ففي الأول يكون المجال للبحث عن أجزأ المأتي به
الاضطراري عن الإعادة في الوقت، بخلافه في الثاني فإنه عليه لا مجال للبحث عن أجزأ الفعل الاضطراري الا بالنسبة إلى القضاء في
خارج الوقت كما هو واضح.
وعلى كل حال فهذا كله فيما يمكن ان يقع عليه الفعل الاضطراري ثبوتا: من الوفاء بتمام مصلحة الفعل الاختياري، أو الوفاء ببعضها مع
كون البعض الباقي ممكن التحصيل في نفسه ولو بفعل آخر في الوقت أو في خارجه وذلك أيضا بنحو اللزوم أو الاستحباب، أو غير
ممكن التحصيل.
واما تعيين ما وقع عليه الفعل الاضطراري من الوجوه المزبورة فيحتاج إلى المراجعة
229

إلى أدلة الاضطرار وملاحظة كيفية ألسنتها.
وقبل الخوض في هذه الجهة ينبغي بيان ما يقتضيه الأصل في المسألة عند الشك في وفاء الفعل الاضطراري بتمام مصلحة الفعل
الاختياري وعدم وفائه بتمامه وعند الشك في مفوتية المأتي به الاضطراري لمصلحة الفعل الاختياري وعدم مفوتيته في فرض إحراز
عدم وفائه الا ببعض مراتب مصلحة الفعل الاختياري فنقول:
اما لو كان الشك من الجهة الثانية فلا ينبغي الاشكال في أن المرجع فيه هو حكم العقل بعدم الأجزاء ووجوب الاحتياط كما هو الشأن في
جميع الموارد الراجعة إلى الشك في القدرة على الامتثال وتحصيل الغرض، حيث إنه بالفرض قد علم ببقاء مقدار من المصلحة الملزمة من
جهة عدم وفاء الفعل الاضطراري بتمام مراتب مصلحة الفعل الاختياري، وانما الشك في القدرة على استيفاء تلك المرتبة من المصلحة
باعتبار الشك في مفوتية المأتي به الاضطراري لتلك المرتبة الباقية ولو من جهة مضادته معها وفي مثله يكون المرجع هو الاحتياط
عقلا لا غير، كما هو واضح.
واما لو كان الشك من الجهة الأولى بان كان الشك في وفاء المأتي به الاضطراري بتمام مصلحة الفعل الاختياري أو عدم وفائه الا ببعض
مراتب مصلحته، فالمرجع فيه أيضا هو الاحتياط، لاندراجه حينئذ في باب التعيين والتخيير باعتبار رجوع الشك حينئذ إلى قيام تلك
المرتبة من المصلحة المحتملة للبقاء بخصوص الفعل الاختياري أو بالجامع بين الفعل الاختياري والاضطراري، كي يكون لازمه عدم
وفاء الفعل الاضطراري بتمام مصلحة الفعل الاختياري على الأول ووفائه به على الثاني، فيندرج حينئذ في تلك المسألة ويكون من
صغريات ذلك الباب وفي مثله لا بد من الاحتياط بناء على ما هو التحقيق في تلك المسألة من مرجعية الاحتياط فيها دون البراءة.
نعم لو أغمض عن ذلك لا بد من البراءة في مثل هذا الفرض ولا ينتهى المجال إلى إثبات عدم الأجزاء ووجوب الإعادة ببعض
الاستصحابات كاستصحاب بقاء المصلحة واستصحاب بقاء التكليف بالفعل الاختياري واستصحاب عدم مسقطية المأتي به الاضطراري
للتكليف بالفعل الاختياري ونحوها، إذ نقول:
اما الأول - وهو أصالة بقاء المصلحة - فلما فيه من عدم اقتضائه لاثبات التكليف بالفعل الاختياري بعد ارتفاع الاضطرار الا على المثبت
باعتبار عدم كون ترتب الوجوب
230

والتكليف على بقاء المصلحة الا عقليا محضا لا شرعيا من جهة انه من لوازم بقاء المصلحة والغرض على حاله وحينئذ فالاستصحاب
المزبور لا يكاد يجدى شيئا حيث لا يكون المستصحب بنفسه أثرا شرعيا بل ولا موضوعا أيضا لاثر شرعي، واما نفس هذا الوجوب
فهو وإن كان أثرا شرعيا الا انه لا يكون ترتبه على بقاء المصلحة شرعيا كما هو واضح.
واما أصالة بقاء الاشتغال بالتكليف الاختياري فهو أيضا غير جارية من جهة القطع بانتقاض الحالة السابقة حال طرو الاضطرار والقطع
بارتفاع التكليف الاختياري عند الاضطرار، وحينئذ فبعد ارتفاع الاضطرار كان الشك في أصل التكليف بالفعل الاختياري.
ومن ذلك البيان ظهر أيضا حال أصالة عدم مسقطية الفعل الاضطراري إذ ذلك أيضا مما لا مجال لتوهمه بعد فرض القطع بارتفاع
التكليف الاختياري حال الاضطرار، ومن ذلك البيان ظهر فساد مقايسة المقام بباب الماليات فيما يثبت اشتغال الذمة بعين مخصوص و
لم يتمكن من أدائها فدفع ما هو بدل عنها ثم تمكن من أداء تلك العين حيث تجري فيها أصالة عدم المسقطية ويحكم بوجوب أداء تلك
العين، إذ نقول: بان جريان أصالة عدم المسقطية في المثال انما هو باعتبار ثبوت الاشتغال بالمبدل حين أداء البدل وهذا المعنى لا
يتحقق في مثل المقام المفروض ارتفاع التكليف الاختياري حال طرو الاضطرار فتدبر.
واما الاستصحاب التعليقي وهو أصالة وجوب الفعل الاختياري على فرض طرو الاختيار - بتقريب: انه قبل الاتيان بالصلاة مع الطهارة
الترابية مثلا يقطع بأنه لو طرأ الاختيار لوجب عليه الاتيان بالصلاة مع الطهارة المائية وبعد الاتيان بها مع الطهارة الترابية يشك في
ذلك والأصل يقتضى بقائه، وحينئذ فبعد زوال الاضطرار يحكم بمقتضى الاستصحاب المزبور بوجوب الإعادة - ففيه أيضا ما لا يخفى،
إذ نقول: بأنه من المعلوم إجمالا حينئذ عدم جريان هذا الاستصحاب اما من جهة عدم الموضوع له واما لعدم كون البقاء مستندا إلى حيث
الاختيار، فإنه على تقدير وفاء الفعل الاضطراري بتمام مصلحة الفعل الاختياري يقطع بسقوط الوجوب والتكليف فلا موضوع حينئذ
للاستصحاب المزبور، وعلى تقدير عدم وفائه بتمام مصلحته لا يكون الوجوب المزبور
231

بقائه مستندا إلى حيث الاختيار بل وانما هو مستند إلى ذاته باعتبار اقتضاء تلك المرتبة من المصلحة الملزمة الباقية، وفي مثله حيثما
شك في بقائه من جهة الشك في وفاء الفعل الاضطراري بتمام المصلحة أو ببعضها لا مجال لاثبات الوجوب بمقتضى الاستصحاب
المزبور.
وحينئذ فلو أغمض عما ذكرناه من اندراج المسألة عند الشك في صغريات مسألة التعيين والتخيير الجاري فيها الاحتياط لا محيص في
المسألة الا من البراءة باعتبار رجوع الشك حينئذ بعد الاتيان بالفعل الاضطراري في أصل فوت مصلحة الفعل الاختياري وفي أصل
التكليف به، وحينئذ فكان العمدة في تقريب عدم الأجزاء بمقتضى الأصول عند الشك هو ما ذكرنا من الاندراج في مسألة التعيين و
التخيير بالتقريب الذي قربناه فتدبر.
هذا كله بالنسبة إلى الإعادة في الوقت ولقد عرفت بان مقتضى الأصل في ذلك عند الشك في كلا الفرضين هو عدم الأجزاء ووجوب
الإعادة.
واما بالنسبة إلى القضاء في خارج الوقت
في فرض بقاء الاضطرار إلى آخر الوقت فإن كان الشك في أصل وفاء الفعل الاضطراري بتمام مصلحة الفعل الاختياري وعدم وفائه الا
ببعض مراتب مصلحته فمقتضى الأصل فيه أيضا كما تقدم بالنسبة إلى الإعادة من جهة رجوع الشك حينئذ أيضا إلى قيام تلك المرتبة من
المصلحة الملزمة المشكوك وفاء الفعل الاضطراري بها بالجامع بين الفعل الاختياري والاضطراري في الوقت أو بخصوص الفرد
الاختياري ولو في خارج الوقت فيندرج في مسألة التعيين والتخيير والمختار فيها هو الاحتياط، كما عرفت.
واما إن كان الشك في قابلية المقدار الباقي من المصلحة للاستيفاء في خارج الوقت مع القطع بعدم وفاء الفعل الاضطراري الا ببعض
مراتب مصلحة الفعل الاختياري، فان احتمل ان يكون تلك المرتبة من المصلحة الباقية لخصوصية وقوع الفرد الاختياري في الوقت ولو
لخصوصية في نفس الوقت تقتضيه، فلا إشكال في أن مقتضى الأصل حينئذ هو البراءة عن القضاء باعتبار رجوع الشك حينئذ في أصل
وجود المصلحة في خارج الوقت كي يترتب عليه وجوب التدارك بالقضاء، من غير فوق في ذلك بين القول: بان القضاء بالامر الأول و
انه من باب تعدد المطلوب، أو القول: بكونه بأمر جديد اما بمناط الجبران أو
232

بمناط آخر غير ذلك أو بمناط اقتضاء فوت المصلحة في الوقت لحدوث مصلحة ملزمة في خارج الوقت أو غير ذلك، واما ان لم يحتمل
ذلك بل أحرز ولو من جهة قضية الاطلاق ان تلك المرتبة من المصلحة غير المستوفاة مترتبة على الجامع بين الفعل الاختياري في الوقت
وخارجه بحيث كان الشك ممحضا في القدرة على استيفائها من جهة الشك في مفوتية الفعل الاضطراري لها، ففي هذا الفرض لا بد من
الاحتياط بمناط قاعدة الشك في القدرة من دون فرق أيضا بين القول بتبعية القضاء للأداء أو القول بكونه بأمر جديد.
ثم إن ذلك أيضا مع قطع النظر عن أدلة القضاء بان يمنع شمولها لصورة فوت بعض المصلحة في الوقت اما لانصرافها إلى صورة فوت
التمام من رأس كما لعله هو التحقيق أيضا أو لا أقل من كون فرض فوت التمام هو القدر المتيقن منها في مقام التخاطب والا فمع فرض
إطلاق تلك الأدلة حتى لصورة فوت بعض المصلحة أيضا فلا ينتهى الامر إلى تلك الأصول من جهة وجود دليل اجتهادي حينئذ على عدم
الأجزاء ووجوب القضاء بمحض فوت المصلحة في الوقت ولو ببعض مراتبها. واما توهم عدم تكفل أدلة القضاء لاثبات قابلية المحل
للوجود فمع الشك في القابلية المزبورة حينئذ لا مجال للتمسك بأدلة القضاء لاثبات الوجوب الفعلي، فمدفوع بان شأن أدلة القضاء دائما
انما هو رفع الشك عن هذه الجهة وإثبات قابلية المحل للوجود ففي كل مورد أمر فيه بالقضاء لا محالة من نفس الامر به يستكشف
قابلية المحل للتحقق كما هو واضح. وحينئذ فالعمدة في الاشكال عليها انما هو الاشكال عليها من الجهة الأولى: من منع إطلاقها لصورة
فوت بعض المصلحة وانصرافها إلى صورة فوت التمام أو مانعية ذلك عن الاخذ بإطلاقها باعتبار كون فرض فوت التمام هو القدر
المتيقن منها في مقام التخاطب، وعليه فينتهى الامر عند الشك إلى الأصول العلمية العقلية ولقد عرفت بان مقتضاها عند القطع بفوت
بعض المصلحة والشك في القدرة على استيفائه هو البراءة في فرض والاحتياط في فرض آخر فتدبر.
وكيف كان فهذا كله فيما يمكن أن يقع عليه الفعل الاضطراري ثبوتا من الوفاء بتمام الغرض أو بعضه وكون البعض الباقي ممكن
الاستيفاء أو غير ممكن الاستيفاء.
وأما تعيين ما وقع عليه الفعل الاضطراري إثباتا
فيحتاج استفادته إلى ملاحظة كيفية الأدلة المتكفلة للفعل الاضطراري، من نحو قوله: التراب أحد الطهورين يكفيك عشر سنين، وقوله
عليه السلام: رب الصعيد رب الماء. ونحو أوامر التقية المتكفلة لاثبات
233

الاتيان بالمأمور به على وفق مذهبهم تقية، ونحو قاعدة الميسور، وعمومات أدلة الحرج والاضطرار من نحو قوله سبحانه: ما جعل الله
عليكم في الدين من حرج، وقول صلى الله عليه وآله وسلم: كل شئ اضطر إليه ابن آدم فقد أحله الله، وحديث الرفع من قوله صلى الله
عليه وآله (وما اضطروا إليه) ونحو ذلك من الأدلة والعمومات فنقول:
أما الأدلة الواردة في التيمم
عند عدم التمكن من استعمال الماء في الوضوء والغسل، من نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: التراب أحد الطهورين فلا شبهة في
ظهوره في نفسه في قيام المصلحة بالجامع بين الطهارة المائية والترابية نظرا إلى ظهوره في فردية التيمم حقيقة أو جعلا وتنزيلا لما
هو الطهور المأمور به في مثل قوله: لا صلاة الا بطهور فان لازم فرديته للطهور حينئذ هو وفائه بجميع ما يفي به الطهارة المائية من
المصلحة، ولازمه هو الأجزاء عقلا وعدم وجوب الإعادة في الوقت ولا القضاء في خارج الوقت، كما أن لازمه أيضا هو جواز البدار و
جواز تفويت الفرد الاختياري بإراقة الماء عمدا ولو بعد دخول الوقت وجعل نفسه غير واجد للماء كما نظيره في مثل الحاضر و
المسافر.
نعم ربما يعارض هذا الظهور ظهور قوله سبحانه: (إذ قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم إلخ) فان ظاهره هو كون الطهارة المائية
بخصوصيتها دخيلا في المطلوب لا بما انها مصداق لجامع الطهور وان ما هو الشرط هو الجامع بين الطهارة المائية والطهارة الترابية
كي يكون الامر بالخصوصية في حال وجدان الماء إرشادا إلى حصر مصداق الجامع في هذا الحال بهذا المصداق، ضرورة ان ذلك كله
خلاف ما يقتضيه ظاهر الامر بالخصوصية، وحينئذ فإذا كان كذلك يلزمه لا محالة أيضا قيام المصلحة بالخصوصية لا بالجامع بين
الفردين، وإلا فيستحيل تعلق الإرادة والطلب بالخصوصية مع فرض قيام المصلحة بالجامع. وعلى هذا فيتحقق التنافي بين هذا الظهور
وبين ظهور مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: التراب أحد الطهورين، بناء على ما قربناه ن ظهوره ولو بالاطلاق في فردية التيمم
لما هو الطهور المأمور به في الصلاة ووفائه بجميع ما يفي به الطهارة المائية من المصلحة، وفي مثله لا بد من تقديم ظهور قوله سبحانه
من الامر بالغسل على ظهور دليل التيمم لمكان أقوائية ظهوره من ظهوره لكونه ظهورا وضعيا وهذا ظهور إطلاقي ناش من مقدمات
الحكمة، وحينئذ فيرفع اليد عن حجية ظهور دليل التيمم في حيث وفائه بتمام المصلحة بدليل الامر بالغسل، لا عن أصل ظهوره كما قد
يتوهم بان
234

الظهور الاطلاقي منوط ومتعلق بعدم ورود البيان على خلافه والظهور الوضعي صالح للبيانية وللقرينية عليه وبمجرد تحقق الظهور
الوضعي يرتفع أصل ظهوره الاطلاقي، إذ قد مر منا مكررا بطلان هذا التوهم بتقريب: ان عدم البيان الذي هو من جملة مقدمات الاطلاق
انما هو عدم البيان متصلا بالكلام الذي يقع به التخاطب لا عدم البيان على الاطلاق ولو إلى آخر الدهر، وحينئذ فإذا لم يقم المتكلم في
كلامه الذي أوقع به التخاطب قرينة متصلة به - كما في المقام - فلا جرم يستقر الظهور الاطلاقي لكلامه ومع استقرار هذا الظهور
يتحقق التنافي والتعارض لا محالة بينه وبين ما ينافيه في كلام آخر منفصل عنه ومعه لا بد في تقديم أحدهما على الاخر من لحاظ
أقوائية أحد الظهورين على الاخر ونتيجة ذلك هو الاخذ بما هو الأقوى منهما في مقام الحجية ورفع اليد عن حجية ظهور الاخر لا عن
أصل ظهوره - كما في المقام - حسب ما قررناه من لزوم رفع اليد عن حجية ظهور قوله: (التراب أحد الطهورين) في قيام المصلحة
بالجامع ووفاء التيمم بجميع ما يفي به الطهارة المائية من المصلحة.
ثم إن هذا كله بالنسبة إلى حيث ظهور دليل التيمم بمدلوله المطابقي في قيام المصلحة بالجامع، واما بالنسبة إلى حيث ظهوره بمدلوله
الالتزامي في الأجزاء وعدم وجوب الإعادة والقضاء بعد ارتفاع الاضطرار والتمكن من استعمال الماء فيؤخذ بظهوره ذلك نظرا إلى
عدم ظهور لدليل وجوب الوضوء على خلاف ظهوره يقتضى عدم الأجزاء ووجوب الإعادة، وذلك من جهة سكوته من جهة قابلية المقدار
الباقي من المصلحة للاستيفاء وعدمه، وحينئذ فيكون ظهور دليل التيمم في الأجزاء ونفى الإعادة بمدلوله الالتزامي على حاله سليما من
المعارض فيجب الاخذ حينئذ بظهوره ذلك ونتيجة ذلك حينئذ بعد هذا الجمع هو الحكم بالاجزاء وعدم وجوب الإعادة والقضاء ولكن
بمناط المفوتية للمصلحة القائمة بالخصوصية، لا بمناط الوفاء بجميع ما يفي به الطهارة المائية من المصلحة.
ومن ذلك أيضا يترتب عليه حرمة التفويت بمقتضى قضية الامر بالخصوصية، فلا يجوز عليه حينئذ إراقة الماء عند دخول الوقت وجعل
نفسه غير واجد للماء بإراقته وإن كان لو فعل ذلك يجزى ما أتى به من التيمم عن الطهارة المائية ولا يجب عليه إعادة الصلاة بعد
ارتفاع الاضطرار ووجدان الماء، كما يشهد عليه أيضا إجماعهم على عدم جواز إتلاف الماء وإراقته بعد دخول الوقت خصوصا في
فرض استمرار الاضطرار إلى آخر
235

الوقت، إذ لولا ما ذكرنا: من قيام المصلحة بالخصوصية لا بالجامع ومفوتية المأتي به الاضطراري لمصلحة الخصوصية لما كان وجه
لاجماعهم على عدم جواز التفويت كما هو واضح.
وأما توهم عدم إمكان الجمع بين قيام المصلحة بالخصوصية وحرمة التفويت وبين الأجزاء بمناط الوفاء ببعض الغرض فلا بد اما من
القول بعدم الأجزاء رأسا بناء على فرض قيام المصلحة بالخصوصية أو القول بالاجزاء بمناط الوفاء بتمام الغرض ولازمه هو عدم حرمة
التفويت أيضا فالجمع بين الامرين مما لا وجه له، فمدفوع بأنه كذلك إذا كانت المصلحة المزبورة مرتبة واحدة تدور أمرها بين قيامها
بالجامع أو الخصوصية وليس كذلك بل نقول: بأن لها مراتب مرتبة منها كانت قائمة بالجامع بين الفعل الاختياري والاضطراري و
مرتبة أخرى ملزمة منها كانت قائمة بالخصوصية، وحينئذ فبإتيان الفعل الاضطراري تحقق تلك المرتبة من المصلحة القائمة بالجامع و
تبقى تلك المرتبة الأخرى القائمة بالخصوصية فحيث انها بعد استيفاء المرتبة القائمة بالجامع غير قابلة للتحصيل يحكم بالاجزاء مع
حرمة التفويت فتدبر.
ومن ذلك البيان ظهر أيضا حال الأدلة المتكفلة للتقية مما كان مصبها الوضع - مثل الأدلة الدالة على إتيان العبادة على وفق مذهبهم
كالصلاة مع التكتف والافطار حين غروب الشمس - لا ما كان منها مصبها التكليف خاصة كالافطار في سلخ شهر رمضان المبارك، إذ
نقول فيها أيضا: بأن المستفاد من أدلتها بقرينة ما في بعض تلك الأخبار من أمر الإمام عليه السلام بإتيان الصلاة أولا في الدار ثم
الحضور في جماعتهم انما هو أجزأ الفعل الاضطراري تقية عن الفعل الاختياري بنحو لا يجب مع إتيانه الإعادة في الوقت فضلا عن
القضاء في خارجه، لكن الأجزاء المزبور لا بمناط الوفاء بجميع ما يفي به الفعل الاختياري من المصلحة بل بمناط الوفاء ببعض مراتب
المصلحة ومفوتيته للمراتب الاخر.
وعمدة النكتة في استفادة هذين الامرين منها انما هي من جهة قضية الامر بإتيان الصلاة في الدار أولا والحضور بعد ذلك في جماعتهم،
وذلك لما فيه من الدلالة ولو بالالتزام على نقصان الفرد الاضطراري بحسب الغرض والمصلحة عن الفرد الاختياري، كدلالته أيضا على
عدم إمكان تحصيل المقدار الباقي من المصلحة بعد الاتيان بالفرد الاضطراري، وإلا فمع فرض وفائه بجميع مراتب المصلحة المترتبة
على الفعل الاختياري الذي لازمه
236

قيامها بالجامع بينهما لا مجال للامر بالاتيان بالصلاة أولا في الدار. كما أنه في فرض عدم اجزائه وعدم مفوتيته للمقدار الباقي من
المصلحة الملزمة لا مجال أيضا للامر بالاتيان بها أولا في الدار نظرا إلى تمكن المكلف حينئذ من إعادتها بعد ارتفاع التقية خصوصا بعد
ملاحظة ما هو الغالب من عدم كون الابتلاء بالتقية في تمام الوقت فيكون نفس الامر بالاتيان بها في الدار كاشفا قطعيا عن أن الفرد
المأتي به تقية غير وأف بتمام ما في الفرد الاختياري من الغرض والمصلحة وانه يبقى بعد مرتبة منها ملزمة في نفسها غير قابلة
للاستيفاء بعد استيفائها ببعض مراتبها بالفرد الاضطراري، من غير فرق في هذه الجهة بين القول ببدلية الفعل الاضطراري أو فرديته
للطبيعة، إذ على الفردية أيضا يمكن القول بالاجزاء بمناط المفوتية من جهة كون الطبيعي من التشكيكيات وكون الفرد الاضطراري
مرتبة ضعيفة منها والفرد الاختياري مرتبة شديدة منها، كما في مثل النور والبياض والحمرة ونحوها، فمن هذه الجهة كان التكليف
أولا متعلقا بمرتبة شديدة من الطبيعة وهو الفرد الاختياري ثم بعد تعذر ذلك كان التكليف متعلقا بالمرتبة الضعيفة منها التي هي
الفرد الاضطراري لما فيه أيضا من الوفاء ببعض مراتب الغرض والمصلحة.
ومن ذلك أيضا نقول: بأنه لا مجال لاستفادة الأجزاء بمجرد إحراز فردية الفعل الاضطراري للطبيعة المأمور بها إلا بإحراز أحد
الامرين: اما إحراز قيام تمام المصلحة الملزمة بما لها من المراتب بالجامع بينهما كي يلزمه وفائه بتمام المصلحة الملزمة، أو إحراز
مفوتية الفعل الاضطراري للمقدار الباقي من المصلحة الملزمة القائمة بالخصوصية، كما استفدناها من قضية الجمع بين الامر بالخصوصية
والامر بالفعل الاضطراري في باب التيمم وباب التقية.
هذا كله بالنسبة إلى أدلة التقية ولقد عرفت ان المستفاد منها جمعا بينها وبين الأدلة المثبتة للتكليف بالخصوصية هو الأجزاء مطلقا
حتى بالنسبة إلى الإعادة فضلا عن القضاء لكن لا بمناط الوفاء بتمام الغرض والمصلحة بل بمناط الوفاء ببعض مراتبها مع مفوتيته
لبعض المراتب الباقية.
واما مثل قاعدة الميسور وعمومات الاضطرار
كحديث الرفع وقوله: كل شئ اضطر إليه ابن آدم فقد أحله الله، فمحل الكلام في البحث عن الأجزاء وعدمه فيها كما عرفت يختص
بالاجزاء بالنسبة إلى خصوص القضاء دون الإعادة، من جهة ما تقدم من
237

ان المستفاد منها هو كون مصبها مورد الاضطرار إلى الطبيعة على الاطلاق، إذ عليه لا يكاد يتحقق موضوع لهذا البحث بالنسبة إلى
الإعادة باعتبار اقتضاء الاضطرار إلى الطبيعة بقول مطلق للاضطرار إليها في تمام الوقت، وعلى ذلك نقول:
اما مثل قاعدة الميسور فلا شبهة في أن فيها اقتضاء عدم وفاء المأتي به الاضطراري بتمام الغرض والمصلحة، لوضوح ان الميسور من
الشئ الذي هو نصفه أو ربعه لا يكون تمام الشئ حتى في مرحلة الوفاء بالمصلحة، وحينئذ فباب احتمال الأجزاء عن القضاء فيها بمناط
الوفاء بتمام الغرض والمصلحة مسدود قطعا، وحينئذ فلو كان هناك إجزاء لا بد وأن يكون بمناط المفوتية لمصلحة الخصوصية وفي
مثله أمكن دعوى عدم استفادة الأجزاء من مثلها نظرا إلى عدم اقتضاء مجرد الامر الميسور من الطبيعة في الوقت لعدم وجوب القضاء
في خارج الوقت ولو من جهة عدم قابلية المقدار الفائت من المصلحة للاستيفاء. وحينئذ فإذا شك في قابليته للاستيفاء وعدم قابليته
لذلك يرجع إلى الأصول على التفصيل المتقدم، وذلك أيضا بعد الفراغ عن عدم شمول دليل القضاء لصورة فوت بعض المصلحة و
اختصاصه صرفا أو انصرافا بفرض فوت تمام المصلحة كما هو التحقيق أيضا، وإلا فلا تنتهي النوبة إلى مقام الأصول بل يحكم بعدم
الأجزاء ووجوب القضاء بنفس أدلة القضاء، كما هو واضح. هذا إذا كان مصب القاعدة هو الطبيعة كما في الاضطرار الطاري قبل
الاشتغال بالعمل.
واما لو كان مصبها هو الفرد كما في الاضطرار الطاري في حال الاشتغال بالعمل فيمكن استفادة الأجزاء من القاعدة المزبورة حتى
بالنسبة إلى الإعادة بناء على جريانها حينئذ حتى مع القطع بطرو الاختيار فيما بعد بتقريب: ان قضية قاعدة الميسور حينئذ انما هو
لزوم الاتيان بالميسور من هذا الفرد الذي اقتضى وجوب إتمامه دليل الامر بالطبيعة وقضية لزوم إتيانه بالميسور منه انما هو إتيانه
بعنوان الفردية للطبيعة كما لو لم يطرأ في البين اضطرار، وقضية ذلك هو الأجزاء لا محالة وعدم وجوب الإعادة والقضاء. ولكن
الأستاذ دام ظله لم يفرق بين الاضطرار الطاري قبل الاشتغال بالعمل وبين الاضطرار الطاري بعد الاشتغال بالعمل، ولكن عمدة نظره
إلى إنكار تعلق الامر بالاتمام بالنسبة إلى مثل هذا الفرد الذي طرأ الاضطرار بترك بعض اجزائه وشرائطه ولو مع العلم بالتمكن من
الاتيان بالطبيعة في ضمن فرد آخر.
238

واما عمومات الاضطرار
كحديث الرفع وقول (كل شئ اضطر إليه ابن آدم فقد أحله الله) بناء على كونها جملة مستقلة كما أدعاه بعض الاعلام بان الموجود في
بعض النسخ الصحيحة هكذا (التقية في كل شئ وكل شئ اضطر إليه ابن آدم فقد أحله الله) لا مربوطا بقضية الصدر كما في أكثر النسخ
بأن (التقية في كل شئ اضطر إليه ابن آدم) إلخ () إذ عليه لا يرتبط بمطلق الاضطرار بل تختص بالاضطرار في التقية الذي عرفت الحال
فيه مفصلا، فتطبيقها تارة يكون على نفس الجز أو الشرط أو المانع المضطر إليه، وأخرى على نفس المركب والمقيد باعتبار ان
الاضطرار إلى الجز أو الشرط أو المانع يوجب الاضطرار إلى نفس المركب والمقيد، فعلى الثاني لا إشكال انما في أنه لا مقتضى
للاجزاء، لان مفاد دليل الاضطرار بعد تطبيقه على المركب والمشروط انما هو جواز ترك المركب والمشروط تكليفا عند تعذر جزئه
وشرطه وحينئذ فبعد طرو الاختيار يجب القضاء بلا كلام، واما على الأول من فرض تطبيقه على نفس الجز أو الشرط المتعذر
فمقتضاه هو الأجزاء لا محالة من جهة اقتضاء تطبيقه حينئذ على الجز أو الشرط المتعذر لرفع جزئية ما كان جز وشرطية ما كان
شرطا في حال الاختيار وقضية ذلك لا محالة كانت هو الأجزاء.
وهكذا الحال في عمومات الحرج من نحو قوله سبحانه (ما جعل الله عليكم في الدين من حرج) حيث إنه بتطبيقها على الجز أو الشرط
الحرجي يستفاد الأجزاء بلحاظ اقتضائها لتحديد دائرة الشرطية والجزئية والمانعية بغير صورة الحرج كما يشهد له أيضا ما في خبر
عبد الاعلى مولى آل سام من تطبيقه عليه السلام تلك القاعدة على شرطية المباشرة في المسح بقوله عليه السلام: (يعرف هذا وأشباهه
من كتاب الله عز وجل قال الله تعالى ما جعل عليكم في الدين من حرج امسح على المرارة)، حيث إنه عليه السلام أخذ بأصل المسح وألقى
قيد مباشرة البشرة بنفس تلك القاعدة فأمر بإيجاد المسح على المرارة هذا.
ولكن الأستاذ دام ظله منع عن تطبيق تلك العمومات على الجز والشرط والمانع ببيان ان مفاد تلك العمومات انما كان أحكاما
امتنانية ولا بد في تطبيقها على مورد ان لا
239

يلزم منها خلاف امتنان على المكلف من جهة أخرى فمن هذه الجهة لا مجال لتطبيقها على الجز أو الشرط المتعذر باعتبار ما يلزمها
حينئذ من إثبات التكليف بما عدا الجز أو الشرط المتعذر وهو بنفسه خلاف الارفاق على المكلف لأنه لولاها لكان المكلف في الراحة
عن مشقة التكليف بالفاقد للجز أو الشرط المتعذر نظرا إلى قضية انتفاء المركب والمقيد بانتفاء اجزائه وقيده فينحصر حينئذ
تطبيقها على نفس المركب والمقيد كي لازمه سقوط التكليف بالمرة عن المكلف بالنسبة إلى الفاقد للجز أو الشرط المتعذر. ثم إنه لما
كان يرد عليه إشكال تطبيق الإمام عليه السلام قاعدة نفى الحرج على الشرط المتعذر - كما في رواية عبد الاعلى المتقدمة - أجاب عنه
بان قضية التطبيق على الشرط المتعذر في تلك الرواية انما هي باعتبار وقوع المكلف على كل تقدير في مشتقة التكليف: اما التكليف
بالتيمم في فرض سقوط التكليف بالوضوء من جهة تعذر المسح على البشرة واما التكليف بالوضوء بإلغاء شرطية المباشرة على ما هو
قضية التطبيق على شرطية مباشرة الماسح للبشرة فمن هذه الجهة لم يلزم من التطبيق على الشرط المتعذر خلاف امتنان على المكلف،
بخلافه في غير ذلك المقام مما كان المكلف في الراحة عن مشقة التكليف بالفاقد للجز أو الشرط المتعذر فإنه في أمثال تلك المقامات
لو طبق تلك العمومات على الجز أو الشرط المتعذر يلزم منها إثبات التكليف بالفاقد فيلزم من تطبيقها خلاف الامتنان على المكلف
هذا.
ولكن أقول: بأنه يتوجه عليه انه في غير ذلك المورد أيضا لا يخلو المكلف عن مشقة التكليف: اما التكليف بالقضاء بناء على فرض
تطبيقها على نفس المركب والمقيد واما التكليف بالفاقد للجز أو الشرط المتعذر على فرض تطبيقها على الجز أو الشرط المتعذر و
حينئذ فإذا كان المكلف في كلفة التكليف على كل تقدير لا بأس بتطبيقها على الجز أو الشرط المتعذر في سائر المقامات أيضا. ولئن
قيل: بان ثبوت التكليف بالقضاء في خارج الوقت انما هو من لوازم عدم الاتيان بالمأمور به خارجا في الوقت لا من لوازم تطبيق دليل
الحرج أو الاضطرار على المركب والمقيد، نقول: بأنه يكفي لنا حينئذ في إثبات التكليف بالبقية كما في باب الصلاة ما دل على انها لا
تترك بحال، من دون احتياج إلى إثبات وجوب البقية بأدلة الحرج والاضطرار حتى يرد عليه إشكال خلاف الارفاق في فرض تطبيقها
على الجز والشرط المتعذر فتدبر.
240

وكيف كان فقد تلخص من جميع ما ذكرنا في الفعل الاضطراري ان مقتضى القاعدة الأولية المستفادة من الأدلة المثبتة للاجزاء و
الشرائط هو عدم الأجزاء ووجوب الإعادة في القوت بعد ارتفاع الاضطرار أو القضاء في خارج الوقت، ولكن مقتضى القاعدة الثانوية
المستفادة من أدلة الاضطرار في باب التقية وباب التيمم حسب الجمع بين أدلتها وبين الامر بخصوصية الفرد الاختياري هو الأجزاء و
عدم وجوب الإعادة فضلا عن القضاء في خارج الوقت، مع حرمة التفويت أيضا بالاختيار بلحاظ مفوتية المأتي به الاضطراري لمصلحة
الخصوصية، ولذلك قلنا بان الأجزاء فيها كان بمناط التفويت للمقدار الباقي من المصلحة لا بمناط الوفاء بتمام الغرض والمصلحة واما
في مطلق الاضطرار في غير باب التقية والتيمم مما كان دليله قاعدة الميسور وعمومات الاضطرار والحرج فعدم الأجزاء بالنسبة إلى
الإعادة قطعا لعدم الموضوع له في فرض طرو الاختيار في الوقت، وعلى إشكال أيضا في الأجزاء بالنسبة إلى القضاء ينشأ مما عرفت
من عدم استفادة المفوتية لمصلحة الخصوصية من العمومات المزبورة فلا بد حينئذ من الرجوع إلى ما يقتضيه الأصل العملي، ولقد تقدم
ان مقتضى الأصل مع احتمال قيام المصلحة الباقية الفائتة بالفرد الاختياري الواقع في الوقت - ولو لخصوصية في نفس الوقت موجبة
لكون الفرد الاختياري الواقع فيه ذا مزية زائدة على الفرد الاضطراري الواقع فيها والفرد الاختياري الواقع في خارج الوقت - هو
البراءة عن وجوب القضاء في خارج الوقت، لعدم إحراز بقاء مصلحة ملزمة حينئذ في خارج الوقت كي يكون الشك في القدرة على
استيفائها. واما مع إحراز قيام المصلحة الفائتة بالجامع بين الفرد الاختياري في الوقت والفرد الاختياري في خارجه وتمحض الشك
في القدرة على استيفائها فمقتضى الأصل هو الاحتياط لا غير فتدبر.
ثم إنه من التأمل فيما ذكرنا ظهر لك الحال في الحكم بجواز بدار أولى الاعذار وعدم جوازه، فإنه فيما كان موضوعه مطلق الاضطرار
إلى الطبيعة كما في باب التقية بل وباب التيمم أيضا - على استفدناه من الآية الشريفة - كان الحكم فيه هو جواز البدار ولو مع القطع
بزوال الاضطرار وطرو الاختيار عليه في الوقت فضلا عن فرض الشك في زوال اضطراره فيه، وذلك انما هو من جهة اقتضاء قضية
الامر بإتيان الفعل الاضطراري عند تحقق موضوعه الذي هو مطلق الاضطرار، فإنه من ذلك ربما يستفاد الترخيص فيما يستتبعه
241

الفعل الاضطراري من تفويت مصلحة الخصوصية. ولا ينافي ذلك ما ذكرناه آنفا من حرمة التفويت، لان ذلك انما هو بلحاظ قبل حال
طرو الاضطرار لا بلحاظ حال طرو الاضطرار الذي هو مورد البحث في هذا المقام. فلا تنافي حينئذ بين حرمة إتلاف الماء مثلا في الوقت
وإدخال نفسه في موضوع (من لم يجد) وبين جوازه بداره بإتيان الصلاة مع التيمم في فرض تحقق الاضطرار وان استلزم ذلك تفويت
مقدار من المصلحة الملزمة من جهة إمكان ابتلائها في هذا الحال بمصلحة أخرى أهم وهي مصلحة التسهيل مثلا. نعم لو لم يكن في البين
حينئذ أمر من الشارع بإتيان الفعل به الاضطراري عند تحقق موضوعه أمكن لنا دعوى عدم الجواز بلحاظ مقدمية المأتي به الاضطراري
لتفويت مصلحة الخصوصية بناء أعلى القول بها لكن لازمه أيضا هو عدم الأجزاء بلحاظ وقوعه حينئذ حراما ومنهيا عنه وإلا فبناء على
القول بمنع المقدمية وبكونه مجرد التلازم الخارجي كما هو التحقيق - على ما يأتي بيانه في مبحث الضد إن شاء الله تعالى - لا مقتضى
لعدم الجواز أيضا فيجوز له البدار وان عصى بتفويته لمصلحة الخصوصية. هذا كله فيها إذا كان موضوع التكليف هو مطلق الاضطرار
بالطبيعة.
وأما ما كان موضوعه هو الاضطرار إلى الطبيعة على الاطلاق كما استفدناه من نحو قاعدة الميسور وعمومات الحرج والاضطرار
ففيها لا مقتضى لعدم جواز البدار إلا من جهة التشريع، من جهة وضوح عدم استلزام البدار بإتيان الفعل الاضطراري حينئذ لتفويت
مصلحة الفعل الاختياري وحينئذ فلا بد من ملاحظة شقوق المسألة، فمع العلم بطرو الاختيار في الوقت لا يجوز له البدار بإتيان الفعل
الاضطراري بعنوان الامر به من جهة كونه حينئذ تشريعا محرما. واما مع عدم العلم بطرو الاختيار في الوقت واحتمال بقاء الاضطرار
إلى آخر الوقت، فان بنينا على كفاية احتمال الامر في صحة العبادة مع الامكان، فلا إشكال في أن لازمه هو جواز بداره فيجوز له حينئذ
البدار بإتيان الفعل الاضطراري بداعي احتمال الامر، فإذا بقي اضطراره من باب الاتفاق إلى آخر الوقت يجزيه عن القضاء في خارج
الوقت على التفصيل المتقدم وإذا لم يبق اضطراره إلى آخر الوقت يجب عليه الإعادة في الوقت، من جهة كشف اختياره في الوقت عن
عدم الامر بالفعل الاضطراري وعدم رجحانه حين الاتيان به. وأما ان بنينا على اعتبار الجزم بالامر في صحة العبادة ومشروعية
الدخول فيها، فلازمه هو عدم جواز البدار ووجوب تأخيره
242

وقت يقطع قطعا عاديا بعدم زوال اضطراره. نعم لو انتهى الامر إلى هذه المرحلة أمكن دعوى جواز البدار بمقتضى أصالة بقاء
الاضطرار، حيث إنه علي يقين منه فعلا وقد شك في زواله في الانات المتأخرة قبل خروج الوقت فيستصحب بقائه ويترتب على
استصحابه جواز بداره كما في صورة القطع ببقاء اضطراره إلى آخر الوقت. واما توهم عدم اليقين الفعلي بالاضطرار إلى الطبيعة على
الاطلاق حتى بالنسبة إلى افرادها التدريجية، فمدفوع بأنه حين تحقق الاضطرار كما يصدق الاضطرار إلى الطبيعة بالنسبة إلى فردها
الفعلي كذلك يصدق الاضطرار أيضا في ذلك الان بالنسبة إلى بقية افرادها التدريجية في الانات المتأخرة من جهة وضوح عدم تمكنه
فعلا من الاتيان بأفرادها التدريجية، فيصدق حينئذ انه كان مضطرا إلى ترك الطبيعة بقول مطلق فعلا، وحيث انه يشك في بقائه إلى
آخر الوقت يستصحب بقائه ويترتب على استصحابه جواز بداره فعلا حتى مع الظن بزوال اضطراره فيما بعد بل ومع الاطمئنان به
أيضا.
وحينئذ فعلى كل تقدير التفصيل في جواز بدار أولى الاعذار وعدم جوازه بين صورة رجأ زوال العذر في الوقت والظن ببقاء العذر
إلى آخر الوقت أو الشك به مما لا يقتضيه القواعد، بل فيما كان موضوعه مطلق الاضطرار كباب التقية بل التيمم على إشكال في الأخير
يجوز البدار ولو مع القطع بزوال الاضطرار في الوقت فضلا عن الظن أو الشك في بقاء اضطراره إلى آخر الوقت. وفيما كان موضوعه
الاضطرار إلى الطبيعة بقول مطلق لا يجوز البدار مع القطع بزوال العذر لمكان التشريع، ومع عدم القطع بذلك يجوز البدار
للاستصحاب المزبور، فتدبر.
هذا كله في المقام الثاني.
واما المقام الثالث
فمحل الكلام فيه في أجزأ الاتيان بالمأمور به الظاهري من الواقع عند كشف الخلاف إعادة وقضاء فنقول:
ان الكلام في هذا المقام يقع تارة في الامارات وأخرى في الأصول.
اما الأولى (وهي الامارات)،
فان بنينا فيها على الطريقية كما هو التحقيق فلا ينبغي الاشكال في عدم اقتضائها للاجزاء وانه يجب الإعادة في الوقت عند انكشاف
الخلاف أو القضاء في خارج الوقت، ووجه عدم الأجزاء فيها على هذا القول واضح، لأنه لم يحدث
243

حينئذ بسبب قيام الامارة مصلحة في المتعلق كي أمكن القول فيها بالاجزاء اما بمناط الوفاء بتمام المصلحة الواقعية أو بمناط المفوتية
لها، بل ولو كان هناك مصلحة فإنما هي في أصل الجعل والترخيص على خلاف الواقع وهي غير مرتبطة بالمتعلق كي يجي فيه احتمال
المفوتية أو الوفاء بالتمام. ولا مجال أيضا لتوهم كفاية المصلحة في الجعل عن المصلحة القائمة بالمتعلق، والا يلزمه الأجزاء ولو مع عدم
إتيان المكلف بما هو مؤدى الامارة نظرا إلى تحقق الغرض الذي هو التسهيل على العباد وعدم وقوعهم في كلفة تحصيل الواقعيات
بنفس جعل الامارة حجة ولو لم يأت المكلف بما هو مؤدى الامارة، مع أن ذلك كما ترى لا يتوهمه ذو مسكة.
وحينئذ فإذا لم يحدث بسبب قيام الامارة مصلحة في المتعلق كما على الموضوعية ولا يكون قضية الامر بسلوك الامارة في ظرف
المخالفة الا أمرا صوريا منتجا للمعذورية عن تبعة مخالفة الواقع فلا جرم يلزم عدم الأجزاء ووجوب الإعادة أو القضاء عند انكشاف
الخلاف من غير فرق في ذلك بين ان يكون دليل حجية الامارة بلسان تنزيل المؤدى منزلة الواقع أو بلسان إيجاب العمل على طبق
مؤدى الامارة أو بلسان تتميم الكشف وإلغاء احتمال الخلاف، فان تلك الألسنة كما تجري على الموضوعية تجري أيضا على الطريقة من
جهة ان المناط في الموضوعية والطريقية انما هو كون الامر بالعمل على طبق المؤدى أمرا حقيقيا ناشئا عن مصلحة مستقلة في المتعلق
في صورة المخالفة أو كونه أمرا صوريا في فرض المخالفة، من دون إثمار لتلك الألسنة في الطريقية والموضوعية بوجه أصلا. نعم كون
دليل الامارة بلسان تتميم الكشف أو بلسان تنزيل المؤدى انما يثمر في جهة أخرى أجنبية عن تلك الجهة وهي مقام تحكيم الامارة على
الأصول وعدم تحكيمها، لا بالنسبة إلى مقام الطريقية والموضوعية. فالمقصود من هذا البيان انما هو بيان عدم إثمار اختلاف تلك
الألسنة في الطريقية والموضوعية كما توهم كي يقال: بأنه إذا كان بلسان تتميم الكشف لا بد من القول بالطريقية وإذا كان بلسان
تنزيل المؤدى لا بد من الموضوعية، فتدبر. وكيف كان فهذا كله على القول بالطريقية كما هو المختار، ولقد عرفت بأنه على هذا المبنى
لا محيص من عدم الأجزاء بمقتضى القواعد كان دليل الامارة بلسان تتميم الكشف أو بلسان تنزيل المؤدى أو بلسان آخر غير هذين.
واما على الموضوعية والسببية على معنى صيرورة المؤدى إذا مصلحة مستقلة بسبب
244

قيام الامارة اقتضت تلك المصلحة إيجاب العمل على طبقه وان خالفت الواقع لا على معناها المستحيل الذي يوجب انقلاب الواقع عما عليه
إلى التكليف بمؤدى الامارة كما يقوله القائل بالتصويب ففيها تفصيل من جهة اختلاف الحال حينئذ في الحكم بالاجزاء حسب اختلاف
كيفية السنة دليل الامارة من كونه بلسان تتميم الكشف وإثبات العلم بالواقع تعبدا تنزيل المؤدى أو بلسان ثالث غير هذين، فنقول:
اما إذا كان دليل الحجية بلسان تتميم الكشف وإثبات العلم بالواقع تعبدا فلازمه قهرا هو عدم الأجزاء ووجوب الإعادة أو القضاء عند
انكشاف الخلاف، ضرورة ان المصلحة الواقعية حينئذ على ما هي عليها وهي تقتضي لزوم تحصيلها بإتيان المأمور به إعادة في الوقت و
قضاء في خارجه وحينئذ لا وجه لتوهم الأجزاء في مثل هذا الفرض الا من جهة دعوى المضادة بين المصلحتين وعدم التمكن من استيفاء
المصلحة الواقعية مع استيفاء هذه المصلحة فلا بد في الحكم بالاجزاء حينئذ من إثبات هذه المضادة، والا فمع عدم إثبات هذه الجهة لا
محيص من وجوب الإعادة ولو من جهة الشك في القدرة، كأمر تفصيله سابقا.
ومن ذلك يظهر الكلام أيضا فيما لو كان مفاد دليل الحجية مجرد إيجاب العمل على طبق المؤدى كما لو كان في لسان الدليل: انه إذا
أخبر العادل بوجوب شئ أو حرمته يجب ذلك الشئ أو يحرم، إذ نقول في هذا الفرض أيضا بعدم اقتضاء مثل هذا اللسان للاجزاء و
عدم وجوب الإعادة الا بمناط المضادة والمفوتية فمع عدم إحراز هذه الجهة لا بد من الإعادة أو القضاء ولو بمناط الشك في القدرة.
واما إذا كان بلسان تنزيل المؤدى منزلة الواقع فمقتضى القاعدة فيه أيضا هو عدم الأجزاء فيما لو كان بلسان التعبد بترتب آثار الواقع
على المؤدى، إذ حينئذ من حين كشف الخلاف يرتفع التعبد المزبور أيضا فيجب من حين كشف الخلاف ترتيب آثار الواقع التي منها
وجوب الإعادة والقضاء: نعم في هذا الفرض لو كان بلسان إثبات التوسعة الحقيقية في الأثر الواقعي بما يعم الواقع والظاهر كما لو
كان بلسان: أن ما هو الشرط في لباس المصلي مثلا أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية، فمقتضى القاعدة فيه قهرا هو الأجزاء وعدم
وجوب الإعادة بل على هذا الفرض لا مجال لكشف الخلاف نظرا إلى وقوع المأمور به حينئذ في ظرف إيقاعه واجدا لما هو مشروطه
حقيقة.
245

وحينئذ فصار متحصل الكلام في الامارات هو عدم الأجزاء ووجوب الإعادة والقضاء على الطريقية مطلقا وعلى الموضوعية أيضا
كذلك الا في صورة واحدة وهي صورة كون مفاد دليل الامارة بلسان تنزيل المؤدى مع اقتضائه أيضا لتوسعة الأثر الذي هو موضوع
التكليف الواقعي حقيقة لا عناية وتعبدا. هذا كله على الطريقية والموضوعية بمعناها الممكن منه، وأما على الموضوعية بمعناها
المستحيل كما يدعيه القائل بالتصويب فالاجزاء فيها واضح نظرا إلى عدم تصور كشف الخلاف حينئذ.
واما الأصول العملية
فهي على أنحاء حسب اختلاف ألسنتها من كونها تارة بلسان التنزيل كالاستصحاب وأخرى بلسان رفع المشكوك فيه كما في حديث
الرفع ودليل الحجب ونحوهما وثالثة بلسان إثبات الصغرى لما هي الكبرى الكلية المستفادة من الأدلة الواقعية كما في قاعدتي الحلية
والطهارة فلا بد من إفراز كل واحد منها بالبحث مستقلا في استفادة الأجزاء وعدمه فنقول:
اما الاستصحاب
فإن بنينا على رجوع التنزيل فيه في لا تنقض اليقين إلى نفس اليقين، على معنى أخذ اليقين فيه استقلالا لا مرآة إلى المتيقن - كما هو
التحقيق أيضا على ما حقق في محله - فلا ينبغي الاشكال في عدم اقتضائه للاجزاء بل لا مجال لتوهمه من جهة ان قضية النهي عن نقض
اليقين حينئذ ليست الا المعاملة مع اليقين الزائل معاملة الباقي في لزوم الحركة على طبقه من دون اقتضائه لمصلحة حينئذ في نفس العمل
كي أمكن تصور الأجزاء فيه بأحد المناطين المزبورين سابقا وحينئذ فعند انكشاف الخلاف لما كانت المصلحة الواقعية على حالها بلا
استيفاء تماما أو بعضا فلا جرم تقتضي وجوب الإعادة في الوقت أو القضاء في خارج الوقت وهو واضح.
واما ان بنينا على رجوع التنزيل فيه إلى المتيقن وان اليقين في دليله لوحظ مرآة إلى المتيقن لا استقلالا كما هو مختار الكفاية (قدس
سره) فان قلنا: بان مفاد لا تنقض عبارة عن جعل مماثل لاثر المشكوك في ظرف الشك كما اختاره في الكفاية في مبحث الاستصحاب
فلا أجزأ أيضا فإنه إذا كان الشرط في الصلاة مثلا بحسب ظواهر الأدلة هو الطهارة الواقعية الثابتة للشئ بعنوانه الأولى فلا جرم لا
يكاد يفيد مثل هذه الطهارة الظاهرية الاستصحابية في الحكم بالاجزاء بل لا يكاد يجدى أيضا في أصل جواز الاتيان بالصلاة مع مثل
هذه الطهارة الا إذا فرض ان ما هو الشرط في دليل الكبرى هو الأعم
246

من الطهارة الواقعية والظاهرية الاستصحابية فيجوز له الدخول معها حينئذ في الصلاة ويجزى المأتي به معها أيضا عن الإعادة و
القضاء باعتبار إتيانه حينئذ بما هو المأمور به واجدا لما هو شرطه وهو الطهارة.
واما ان قلنا: بأنه ليس مفاد لا تنقض عبارة عن جعل المماثل وانه ليس مفاده إلا مجرد التعبد بالطهارة في ظرف الشك بمحض اليقين
بالطهارة سابقا فحينئذ القول بالاجزاء وعدمه مبني على إفادة مثل هذا التنزيل لاثبات التوسعة الحقيقية لدائرة الشرطية في كبرى
الدليل بما يعم الطهارة الحقيقية الواقعية والطهارة التعبدية التنزيلية فبناء على استفادة هذه الجهة كما اختاره في الكفاية في مبحث
الأجزاء لا جرم يلزمه الأجزاء قهرا وعدم وجوب الإعادة، بل على هذا المسلك لا معنى لانكشاف الخلاف أيضا لأنه بعد استفادة التوسعة
لدائرة الشرطية من دليل حرمة النقص يكون المأتي به مع الطهارة التعبدية الاستصحابية واجدا لما هو شرطه بحسب الواقع ومعه لا
معنى لانكشاف الخلاف كما لا يخفى، والا فبناء على عدم إفادة مثل هذا التنزيل الا مجرد التعبد بوجود ما هو الشرط الواقعي في المورد
بلا نظر له إلى إثبات التوسعة الحقيقية في الأثر فلا مجال أيضا للاجزاء بوجه أصلا كما لا يخفى، إذ حينئذ بعد انكشاف الخلاف تقتضي
الشرطية والجزئية الواقعية لوجوب الإعادة أو القضاء.
وحينئذ فاستفادة الأجزاء في المأتي به بالامر الاستصحابي الجاري في تنقيح ما هو موضوع التكليف بلسان تحقق ما هو شرطه أو
شطره منوط بأحد الامرين: اما استفادة إفادة مثل هذا التنزيل للتوسعة الحقيقية في دائرة ما هو شرط المأمور به في كبرى الدليل بما
يعم الطهارة الواقعية الحقيقية والتعبدية التنزيلية، واما استفادة إفادته لجعل مماثل الأثر حقيقة للمشكوك مع الالتزام أيضا بان ما هو
الشرط في كبرى الدليل أعم من الواقع والظاهر ليكون دليل حرمة النقض من باب الورود دون الحكومة كما على الأول، ولكن مسلك
الكفاية في باب الاستصحاب حيث كان على استفادة، جعل مماثل الأثر كان الحري عليه في المقام تقريب الأجزاء بمناط الأخير وهو
الورود دون الحكومة.
ولكن الذي يسهل الخطب في المقام هو كون مثل هذا المسلك بل وسابقة خلاف التحقيق، فان التحقيق على ما حققناه في محله هو رجوع
التنزيل في حرمة النقض إلى نفس اليقين ملحوظا كونه استقلالا لا مرآة إلى المتيقن كما هو مسلك الكفاية، ومن ذلك
247

أيضا نلتزم بقيام الاستصحاب مقام الامارات والقطع الطريقي كما في باب الشهادة، ونلتزم أيضا بتقديم مثل الاستصحاب على قاعدة
الحلية والطهارة بمناط الحكومة دون الورود ودون التخصيص، وعليه كما عرفت لا بد من القول بعد الأجزاء ووجوب الإعادة و
القضاء عند انكشاف الخلاف. بل وعلى فرض تسليم أخذ اليقين في دليل حرمة النقض مرآة إلى المتيقن وعبور التنزيل من اليقين إليه
نقول: بان غاية ما يقتضيه التنزيل المزبور حينئذ انما هو مجرد التعبد بوجود الأثر وتحققه عند الشك لا التوسعة الحقيقية لدائرة الأثر
والشرطية الواقعية ولا اقتضاء جعل مماثل الأثر للمشكوك حقيقة كي يحتاج إلى التصرف في ظاهر دليل كبرى الأثر بجعله عبارة عن
الأعم من الطهارة الواقعية والظاهرية حتى يترتب عليه الأجزاء وعدم وجوب الإعادة والقضاء بعد انكشاف الخلاف، وعليه لا محيص
من القول بعدم الأجزاء، من جهة انه بانكشاف الخلاف وحصول العلم بالنجاسة يرتفع التعبد المزبور ومع ارتفاعه لا بد بمقتضى
شرطية الطهارة الواقعية والحلية الواقعية من الإعادة والقضاء الا إذا كان هناك دليل بالخصوص على عدم وجوب الإعادة والقضاء كما
في الطهارة الخبثية.
كيف وان نفس الالتزام بجعل مماثل الأثر حقيقة أو التوسعة الحقيقية في دائرة كبرى الأثر لا يخلو عن محذور شديد بلحاظ ما يترتب
عليهما من التوالي الفاسدة: فإنه مما يترتب على الأول لزوم عدم جريان استصحاب الطهارة في ماء تألف فعلا قد غسل به ثوب نجس
أو توضأ به سابقا باعتقاد الطهارة، من جهة انه في ظرف الشك الذي هو ظرف جريان الاستصحاب لا وجود للماء المغسول به الثوب
النجس حتى أمكن جعل الطهارة الحقيقية ولو ظاهرية له، فلا بد حينئذ اما من القول بجواز جعل الطهارة الحقيقية حينئذ للماء التالف أو
الالتزام بعدم جريان الاستصحاب في مثل الفرض عند الشك في طهارة الماء التالف الذي غسل به الثوب النجس سابقا، مع أنهما كما
ترى، فان الأول منهما مستحيل في نفسه والثاني منهما خلاف الاجماع فإنه بإجماع منهم يجري استصحاب الطهارة بالنسبة إلى الماء
التالف ويحكم بطهارة الثوب المغسول به وبصحة الوضوء السابق وصحة الصلاة المأتي بها مع ذلك الوضوء بلا كلام. ومما يترتب عليه
بل وعلى الأخير أيضا من التوالي الفاسدة في نحو قوله: كل ثوب نجس غسل بماء طاهر يطهر، فإنه بناء على أعمية الطهارة في الماء في
كبرى الأثر من الطهارة الحقيقية الواقعية والطهارة الظاهرية
248

الاستصحابية يلزمه الحكم بطهارة الثوب المغسول بالماء المستصحب الطهارة حتى بعد انكشاف الخلاف، فيلزمه الحكم أيضا بطهارة
ملاقية وجواز الدخول معه في الصلاة بمحض انغساله سابقا بماء محكوم بالطهارة شرعا بمقتضى الاستصحاب، لكونه مما صدق عليه
انه ثوب نجس وقد غسل في زمان غسله بماء طاهر مع أنه كما ترى لا يكاد التزام أحد به.
فلا محيص حينئذ من أجل هذه المحاذير والتوالي الفاسدة من المصير إلى أن الطهارة المعتبرة في ناحية الماء في دليل كبرى الأثر
عبارة عن خصوص الطهارة الواقعية، وان ما هو مفاد دليل حرمة النقض في فرض رجوع التنزيل فيه إلى المتيقن عبارة عن مجرد
التعبد بوجود الأثر وتحقق الطهارة في المورد الراجع إلى الامر بالمعاملة مع المشكوك معاملة الطهارة الواقعية ما دام الشك بلا نظر له
إلى إثبات التوسعة الحقيقية في دائرة كبرى الأثر ولا اقتضاء لجعل مماثل الأثر حقيقة للمشكوك، وعليه فلا محيص من القول بعدم
الأجزاء ووجوب الإعادة والقضاء عند انكشاف الخلاف، كما هو واضح.
واما ما كان منها بلسان رفع المشكوك فيه
- كحديث الرفع والحجب فتوهم الأجزاء فيها انما هو من جهة خيال اقتضاء مثل هذا اللسان لرفع الجزئية والشرطية الواقعية واقتضائها
بالملازمة لتحديد دائرة المأمور به بما عدا الجز أو الشرط المشكوك الجزئية والشرطية، ولكنه من الغفلة عن استحالة اقتضاء اللسان
المزبور لرفع الجزئية الواقعية نظرا إلى أن العلة للرفع حينئذ انما كان هو الجهل والشك بالجزئية وهو من جهة تأخره الرتبي عن
الجزئية الواقعية لا يكاد يقتضى رفع ما هو الرتبة السابقة بوجه أصلا بل ما هو المرفوع حينئذ لا يكون الا ما هو نقيض هذا الرفع
المتأخرة عن الشك وهو لا يكون الا الوجود في تلك المرتبة المتأخرة عن الشك لا الوجود في الرتبة السابقة عن الشك وهو الجزئية
الواقعية لأنه لا يكون نقيضا لهذا الرفع المتأخرة، فيستحيل حينئذ تعلق الرفع في المرتبة المتأخرة حقيقة بالوجود في المرتبة السابقة
على الشك أعني الجزئية الواقعية. وحينئذ فبعد عدم اقتضاء اللسان المزبور لرفع الجزئية الواقعية حقيقة فلا بد وأن يكون الرفع رفعا
تعبديا تنزيليا بلحاظ عدم وجوب الاحتياط في مقام العمل وعليه نقول: بأنه بعد انكشاف الخلاف لا بد من الإعادة، لاقتضاء الجزئية
الواقعية حينئذ وجوب الإعادة والقضاء عند انكشاف الخلاف، هذا.
249

على أن مثل هذا اللسان باعتبار سوقه في مقام الامتنان لا يكاد يرفع الا ما يكون في وجوده ضيق على المكلف وهو لا يكون الا إيجاب
الاحتياط لأنه هو الذي يكون المكلف في ضيق من جهته وهو الذي في رفعه امتنان على المكلف دون التكليف الواقعي أو الجزئية
الواقعية، لعدم كونهما بوجودهما الواقعي ضيقا على المكلف حال الجهل حتى يقتضى الامتنان رفعه، كما هو واضح. ومعلوم حينئذ في
مثله انه لا مجال لتوهم الأجزاء بعد انكشاف الخلاف كما لا يخفى، هذا. ولكن الأستاذ دام ظله اقتصر في بحثه على الاشكال الأول ولم
يتعرض لهذا الاشكال ولعله من جهة عدم جريان هذا الاشكال في مثل حديث الحجب لعدم كونه كحديث الرفع مسوقا في مقام الامتنان.
وكيف كان قد يورد عليه إشكال آخر في أصل اقتضاء اللسان المزبور لاثبات التكليف بالبقية، بتقريب: ان ثبوت التكليف بما عدا
الجز المشكوك الجزئية انما هو من لوازم عدم كونه جز واقعيا، وبعد عدم اقتضاء مثل هذا اللسان لرفع الجزئية الواقعية حقيقة لا
مجال أيضا لاثبات التكليف بالبقية بمحض جريان دليل الرفع واقتضائه لنفي الجزئية ظاهرا الا على القول بالمثبت، وذلك أيضا بعد
الفراغ عن عدم اقتضاء أدلة نفس الأجزاء والشرائط المعلومة أيضا لاثبات وجوب الاتيان بها مطلقا حتى في فرض عدم انضمام بقية
الأجزاء لعدم إطلاق لها يقتضى التكليف بها حتى في حال عدم انضمام بقية الأجزاء الاخر، كما يكشف عنه عدم تمسكهم بإطلاق أدلة
الأجزاء المعلومة لاثبات التكليف بها في مبحث الأقل والأكثر، هذا. ولكنه يمكن التفصي عن هذا الاشكال بان ثبوت التكليف بما عدا
المشكوك الجزئية حينئذ وإن كان مبنيا على المثبت ولكنه من جهة جلا الواسطة فيه لا يضر به جهة المثبتية، إذ هو حينئذ نظير الأبوة
والبنوة من حيث فهم العرف من جهة شدة الملازمة بينهما عدم انفكاك تنزيل أحدهما عن تنزيل الاخر، فتأمل.
واما قاعدة الحلية
المستفادة من قوله عليه السلام: (كل شئ لك حلال حتى تعلم أنه حرام) فيتصور فيها وجوه: فإنه تارة يكون المراد من تلك الحلية
خصوص الحلية الاقتضائية الناشئة من مثل مصلحة التسهيل أو غيرها، وأخرى يكون المراد ما يعمها والحلية اللااقتضائية الناشئة من
جهة عدم اقتضاء الحرمة فيه.
فإن كان الأول فلازمه عدم صحة تطبيقها على شرط المأمور به في كبرى الأثر من
250

نحو قوله: يجوز الصلاة فيما يحل أكله، لان موضوع الأثر في هذا الدليل عبارة عن خصوص الحلية اللا قتضائية فمع الشك في كون الوبر
من حلال الاكل بالحلية اللا قتضائية لا يفيد تلك القاعدة في تطبيق كبرى الأثر على المورد حتى يترتب عليه جواز الدخول في الصلاة
كما هو واضح.
وإن كان الثاني فتارة نقول بان القاعدة من الأصول التنزيلية المحرزة للواقع كما هو الشأن في قاعدة الطهارة أيضا وان مفادها
عبارة عن إثبات الحلية الواقعية في المورد تعبدا وتنزيلا لا إثبات الحلية الحقيقية الظاهرية للشئ بعنوان كونه مجهول الحكم، وأخرى
نقول بأنها من القواعد المتكفلة لاثبات الحلية الظاهرية للشئ حقيقة بعنوان كونه مجهول الحكم في طول الحلية الواقعية، وعلى الأول
فمفاد القاعدة تارة يكون هو التوسعة الحقيقية في دائرة كبرى الأثر وهو الشرطية نظير الاستصحاب بناء على القول باقتضاء دليل
حرمة النقض لجعل المماثل للأثر حقيقة، وأخرى يكون مفادها مجرد التعبد بوجود الشرط والبناء على كون المشكوك حلالا واقعيا بلا
اقتضائها للتوسعة الحقيقية في دائرة كبرى الأثر وهي الشرطية فضلا عن اقتضائها للتوسعة الحقيقية في دائرة نفس الشرط وهي
الحلية. فهذه وجوه متصورة في تلك القاعدة.
وربما يختلف هذه الوجوه بعضها مع بعض بحسب اللوازم، فإنه بناء على اقتضائها لجعل الحلية الظاهرية الحقيقية في المورد لا إشكال
في أنه لا يكاد يثمر في تطبيق كبرى الأثر على المورد، لان الأثر في كبرى الدليل في نحو قوله: يجوز الصلاة في ما يحل أكله، انما هو
مترتب على محلل الاكل الواقعي لا على ما يعمه والحلية الظاهرية، وحينئذ فمع الشك في كون الوبر من محلل الاكل الواقعي لا يثمر في
التطبيق مجرد كون المورد محللا ظاهريا ومعه لا يكاد يترتب عليه جواز الدخول في الصلاة حتى ينتهى الامر بعد ذلك إلى البحث عن
الأجزاء وعدمه، كما هو واضح. نعم إنما يثمر ذلك في مقام التطبيق فيما إذا استفيد من دليل كبرى الأثر تعميم الحلية بما يعم الواقع و
الظاهر، إذ حينئذ بجريان القاعدة المزبورة يصير المورد من المصاديق الحقيقية لما هو شرط المأمور به ولازمه قهرا حينئذ هو الأجزاء
وعدم وجوب الإعادة باعتبار وقوع العمل حينئذ واجدا حقيقة لما هو شرطه وعدم تصور انكشاف الخلاف معه.
ومن ذلك البيان يظهر انه كذلك الامر أيضا في فرض اقتضائها للتوسعة الحقيقية في
251

دائرة كبرى الأثر وهو الشرطية، إذ لازم هذا المعنى أيضا قهرا يكون هو الأجزاء. واما توهم امتناع الحكومة بهذا المعنى من التوسعة
الحقيقية باعتبار عدم كون الدليل الحاكم حينئذ في رتبة المحكوم وامتناع ان يكون للحلية الواقعية سعة إطلاق يشمل المرتبة المتأخرة
عن نفسها، فمدفوع بان ذلك كذلك بالنسبة إلى نفس الشرط وهو الحلية الواقعية، فإنه بعد امتناع سعة الدائرة فيها بنحو تشمل
المرتبة المتأخرة عن الشك بها يستحيل اقتضاء القاعدة المزبورة للتوسعة الحقيقية فيها حتى بالنسبة إلى مرتبة الشك المتأخر عنها، و
اما بالنسبة إلى أثرها الذي هو الإناطة والشرطية فلا وجه لدعوى استحالته بل هو أمر ممكن في نفسه فإنه من الممكن جدا التوسعة
الحقيقية في دائرة الشرطية على معنى قيامها بما يعم الحلية الواقعية الحقيقية والحلية التعبدية التنزيلية، لأنها مما أمرها بيد الشارع و
الجاعل فكما ان للشارع جعل الإناطة لخصوص الحلية الواقعية كذلك له جعلها لما يعمها والحلية التعبدية التنزيلية. وحينئذ فإذا عبدنا
الشارع في مورد بأنه حلال الاكل واقعا وكان لسان دليل التعبد بلسان التوسعة الحقيقية لدائرة كبرى الأثر، فلا جرم يلزمه جواز
الدخول معه في الصلاة، كما أن لازمه القهري هو الأجزاء وعدم وجوب الإعادة عند انكشاف الخلاف وتبين كونه من محرم الاكل. هذا
بناء على اقتضاء القاعدة للتوسعة الحقيقية في دائرة كبرى الأثر.
واما بناء على عدم اقتضائها الا مجرد التعبد بالبناء على الحلية الواقعية فعليه وإن كان يثمر أيضا في تطبيق كبرى الأثر على المورد
فيجوز الدخول معه في الصلاة ولكن لا يلزمه حينئذ نفى وجوب الإعادة والاجزاء عند انكشاف الخلاف بل مقتضى دليل شرطية الحلية
الواقعية انما هو عدم الأجزاء وجوب الإعادة والقضاء عند تبين الخلاف وانكشاف كونه غير حلال الاكل، من جهة انه من حين انكشاف
الخلاف يرتفع التعبد المزبور فيقتضى قضية الشرطية الواقعية من ذاك الحين وجوب الإعادة، كما هو واضح.
هذا كله حسب مقام التصور.
وأما بحسب مقام التصديق فلا ينبغي الارتياب في أن المتعين من الوجوه المزبورة هو الوجه الأخير، فان دعوى كون القاعدة مسوقة
لاثبات الحلية الحقيقية الظاهرية للشئ المشكوك الحكم بعيدة غايته لاستلزامه عدم جواز تطبيق كبرى الأثر على الموارد المشكوكة الا
بالالتزام بترتب كبرى الأثر في الخطاب الواقعي في نحو قوله: يجوز الصلاة فيما
252

يحل أكله، على الأعم من الحلال الواقعي والظاهري، وهو كما ترى خلاف ظاهر الخطاب، من جهة وضوح ظهورها في خصوص الحلال
الواقعي دون الأعم، كما هو واضح.
كما أن مثلها في البعد أيضا دعوى كونها مسوقة للتوسعة الحقيقية في دليل كبرى الأثر، إذ نقول حينئذ: بأنه على ذلك وإن لم يلزم رفع
اليد عن ظهور الأدلة المتكفلة لكبرى الأثر، ولكنه أيضا خلاف الظاهر جدا، فان القدر الذي يقتضيه هذا اللسان في القاعدة من التنزيل
المزبور انما هو مجرد التعبد بالبناء على وجود الشرط وتحققه وكون المشكوك حلالا واقعيا، واما اقتضائه للتوسعة الحقيقية في
دائرة كبرى الأثر فلا، وعليه كما عرفت كان مقتضى القاعدة هو وجوب الإعادة وعدم الأجزاء، من جهة اقتضاء دليل الشرطية الواقعية
حينئذ بعد تبين الخلاف وارتفاع التعبد المزبور وجوب الإعادة. هذا كله في تطبيق دليل الحلية على شرط المأمور به.
واما تطبيقها على نفس ترك الجز أو الشرط المشكوك الجزئية أو الشرطية فتقريبه انما هو باعتبار تأدية ترك المشكوك على تقدير
اعتباره إلى ترك المركب، حيث إنه حينئذ يشك في حرمة ترك المركب من جهة ترك مشكوك الجزئية والشرطية، فيقال بمقتضى
القاعدة بحليته ويستفاد منها بنحو الان أيضا كون المأمور به عبارة عن ما عدا الجز المشكوك الجزئية فيترتب عليها جواز الاقتصار
على ما عدا الجز أو الشرط المشكوك الجزئية والشرطية، هذا. ولكن فيه أيضا ان مجرد تكفل القاعدة لحلية ترك الكل والمركب من
جهة ترك مشكوك الجزئية والشرطية ظاهرا لا يقتضى نفى الجزئية الواقعية حتى يترتب عليه تحديد المأمور به بالبقية، وعلى فرض
اقتضائها لذلك لا يكاد يترتب عليه تحديد دائرة الوجوب بما عدا المشكوك الجزئية، إذ تعلق الوجوب حينئذ بالبقية ليس من الآثار
الشرعية لعدم جزئية المشكوك فيه بل هو اللوازم العقلية لعدم مدخلية الجز المشكوك في المركب، فان من لازمه العقلي حينئذ
محدودية دائرة الوجوب بحد أقل، فحينئذ إثبات الوجوب للبقية بمقتضى القاعدة المزبورة لا يخلو عن مثبت واضح. هذا كله في قاعدة
الحلية.
واما قاعدة الطهارة
فيأتي فيها أيضا المحتملات الثلاثة المتصورة في قاعدة الحلية وتقريب الأجزاء فيها أيضا بأحد الامرين: اما بدعوى ترتب الأثر في
كبرى الخطاب الواقعي على مطلق الطهارة أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية مع الالتزام بأن مفاد
253

قاعدة الطهارة إثبات الطهارة الظاهرية الحقيقية، أو بدعوى كون مفاد القاعدة مع كونها بلسان التنزيل لا بلسان جعل الطهارة
الظاهرية هو إثبات التوسعة الحقيقية في دائرة كبرى الأثر بما يعم الطهارة التعبدية التنزيلية أيضا مع الالتزام بظهور الأدلة في
خصوص الطهارة الواقعية، فإنه على هذين التقريبين لا محالة يلزمها الأجزاء وعدم وجوب الإعادة من جهة واجدية المأمور به حينئذ لما
هو مصداق الشرط حقيقة، وإلا فبناء على فرض اختصاص دليل كبرى الأثر بخصوص الطهارة الواقعية وعدم تكفل القاعدة أيضا أزيد
من التعبد بثبوت الطهارة الواقعية في المورد والمعاملة مع المشكوك معاملة الطهارة الواقعية فلا مجال لتوهم الأجزاء فيها بوجه من
الوجوه، من جهة انه بانكشاف الخلاف يرتفع التعبد المزبور من حينه فبقي دليل اشتراط الطهارة الواقعية حينئذ على حاله فيقتضى
وجوب الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه.
ولقد عرقت ان التحقيق حينئذ من الوجوه المزبورة هو الوجه الأخير من كون القاعدة ممحضة لمحض إثبات الطهارة الواقعية تعبدا و
تنزيلا بلحاظ المعاملة مع المشكوك معاملة الواقع بلا اقتضائها لاثبات التوسعة الحقيقية في دائرة كبرى الأثر ولا لاثبات جعل الطهارة
الظاهرية للمشكوك كي يحتاج في صحة التطبيق على شرط المأمور به إلى التصرف في دليل كبرى الأثر بارتكاب خلاف الظاهر فيه،
وذلك لما عرفت آنفا من بعد هذين غاية البعد خصوصا مع استلزامهما لبعض التوالي الفاسدة التي لا يمكن الالتزام به من نحو لزوم
القول بطهارة الثوب المغسول بماء مشكوك الطهارة والنجاسة حتى بعد انكشاف الخلاف وتبين نجاسته الماء، وذلك انما هو من جهة
انغسال الثوب حينئذ بماء طاهر حقيقي بمقتضى القاعدة وعدم ورود نجاسة على الماء بعد ذلك فكان انكشاف الخلاف على هذين
المسلكين من قبيل ما لو ورد نجاسة على الماء بعد غسل الثوب به، فكما ان ورود النجاسة على الماء لا يوجب نجاسة الثوب المغسول به
في الزمان السابق كذلك انكشاف الخلاف: فإذا كان الماء بمقتضى القاعدة محكوما بالطهارة الحقيقية وغسل به الثوب المزبور في حال
محكوميته بالطهارة يلزمه لا محالة طهارة الثوب بمقتضى ما دل على: ان الثوب النجس إذا غسل بماء طاهر يطهر، ولازمه عدم مؤثرية
انكشاف الخلاف البعدي في زوال الحكم بالطهارة في طرف الثوب، فيلزمه حينئذ جواز لبسه في الصلاة بعد ذلك على هذين المسلكين
وكذا الكلام فيما لو توضأ من الماء المزبور في زمان محكوميته بالطهارة، فإنه
254

على المسلكين المزبورين يلزم القول بجواز الدخول في الصلاة مع ذلك الوضوء حتى بعد انكشاف نجاسة الماء، وكذا نظائر ذلك، مع أن
ذلك كما ترى لا يمكن الالتزام به لاستلزامه تأسيس فقه جديد. وحينئذ كان مثل هذه التوالي الفاسدة مما يكشف بها كشفا قطعيا عن
بطلان الوجهين الأولين ومعه يتعين الوجه الأخير، فإنه على هذا المسلك لا يكاد يتوجه شئ من تلك المحاذير، لأن الماء المزبور على
هذا المسلك انما كان محكوما بالطهارة تعبدا وتنزيلا، وحينئذ فبانكشاف الخلاف يرتفع التعبد بالطهارة من حينه وبعد ارتفاعه
يبقى دليل شرطية الطهارة الواقعية على حاله، فيقتضى هذا الدليل بطلان الوضوء المزبور وعدم طهارة الثوب المزبور، كما يقتضى
أيضا وجوب إعادة الصلاة المأتية بذلك الوضوء وفي ذلك الثوب.
هذا كله مضافا إلى ما يرد على الوجه الأول أيضا إذ نقول فيه مضافا إلى ما فيه من مخالفته لظاهر الأدلة من الاختصاص بالطهارة
الواقعية انه من المستحيل أيضا إرادة الطهارة الواقعية والظاهرية من لفظ واحد في نحو قوله: كل ثوب غسل بماء طاهر فقد طهر و
وجهه يظهر بعد ملاحظة طولية المحكيين وهما الحكمان في كون أحدهما في رتبة متأخرة عن الشك بالآخر الموجب لعدم إمكان
اجتماعهما في لحاظ واحد وامتناع حكاية قوله (طاهر) عنهما، إذ حينئذ في حكايته عن الطهارة الواقعية لم يلحظ إلا نفس الحكم
الواقعي بخلافه في حكايته عن الطهارة الظاهرية فإنها باعتبار كونها في رتبة متأخرة عن الشك بالواقع يحتاج إلى لحاظ الواقع و
لحاظ الشك به أيضا وهو كما ترى ولعل هو السر أيضا في عدم ذهابهم إلى استفادة التعميم من الأدلة المتكفلة لكبرى الأثر كما لا
يخفى.
بقي أمور لم يتعرض لها الأستاذ دام ظله
الأول:
لا إشكال في عدم جريان هذا النزاع في موارد القطع بالامر مع انكشاف الخلاف بعده، ووجهه واضح، من جهة أنه حينئذ لا أمر شرعي
في البين حتى يجري فيه النزاع المزبور، بل وانما هو أمر زعمي تخيلي من المكلف ومعه كان الامر الواقعي باقيا على حاله بلا موافقة
فيجب الإعادة حينئذ إطاعة للامر الواقعي. نعم لو كان القطع مأخوذا شرعا بنحو الموضوعية كما في ذوي الأعذار بناء على جواز البدار
لهم بمجرد القطع ببقاء العذر إلى آخر الوقت يدخل في محل البحث فيجري فيه النزاع المزبور من حيث الأجزاء وعدمه بعد انكشاف
الخلاف.
255

الثاني:
ان انكشاف الخلاف قد يكون بالقطع وأخرى بأمارة ظنية معتبرة وعلى التقديرين: تارة يقطع أو يظن بالخطإ في اجتهاده الأول و
أخرى يقطع أو يظن بخطأ الامارة عن الواقع لا في اجتهاده، والأول كما لو قام عنده أمارة على عدم وجوب السورة مثلا فبأن بعد ذلك
عدم جامعية الامارة المزبورة لشرائط الحجية، والثاني كما لو قطع بخطأ الامارة عن الواقع أو ظن بذلك مع القطع في الحال بكونها
واجدة لشرائط الحجية وبعد ذلك نقول:
اما في فرض كشف الخطأ في اجتهاده فسواء كان ذلك بالقطع أو بالظن المعتبر فلا ينبغي الاشكال في أن لازمه هو عدم الأجزاء بل لا
مجال لتوهمه خصوصا في فرض كشف الخلاف بالقطع، من جهة كشفه حينئذ عن عدم أمر ظاهري في البين، لان الامارة الغير الجامعة
لشرائط الحجية وجودها كعدمها، فلا بد حينئذ من الإعادة، وهو واضح.
واما في الصورة الثانية من فرض الكشف عن خطأ الامارة عن الواقع، فإن كان كشف الخلاف قطعيا فالاجزاء أو عدمه مبنى على ما
تقدم من حجية الامارة على الكشف والطريقية أو على نحو السببية والموضوعية، واما إن كان كشف الخلاف أيضا ظنيا من جهة قيام
أمارة ظنية أخرى على خلاف الامارة الأولى ففي هذا الفرض تارة يكون في البين ما يوجب ترجيح الامارة الثانية بحسب السند أو
الدلالة من نحو موافقة الكتاب ومخالفة العامة ونحوهما من المرجحات، وأخرى لا يكون في البين ما يوجب ترجيحها عليها لا بحسب
السند ولا بحسب الدلالة بل كانتا متساويتين من تمام الجهات، فعلى الأول حكمه حكم صورة انكشاف الخلاف بالقطع فيبتني على ما
تقدم من الموضوعية أو الطريقية في الامارات، وعلى الثاني ينتهى الامر إلى التخيير في الاخذ بين الخبرين، فان أخذ بالامارة الأولى
فلا إشكال، وان أخذ بالامارة الثانية فلا بد من إعادة الأعمال الواقعة على طبق الامارة الأولى على الطريقية كما هو المختار، من جهة
انه بالأخذ بالامارة الثانية يصير مدلولها حجة عليه وحيث إن مفادها عبارة عن وجوب السورة مثلا يجب عليه إعادة ما صلى من
الصلوات بدونها، وهذا واضح. نعم على الموضوعية لا يجب عليه الإعادة على التفصيل المتقدم سابقا.
الثالث:
قد تبين مما قدمناه في الأجزاء في الامارات أنه لا تلزم بين القول بالاجزاء وبين القول بالتصويب الباطل وانه يمكن القول بالاجزاء فيها
ولو على الموضوعية و
256

السببية من دون استلزامه للقول بالتصويب كما في الأجزاء بمناط المفوتية أو الوفاء بتمام الغرض: ضرورة ان الأجزاء بأحد المناطين
المزبورين غير ملازم للقول بالتصويب المحال، فان التصويب الباطل انما هو الذي يدور التكليف معه مدار قيام الامارة أو الذي يوجب
قيام الامارة انقلاب الواقع عما هو عليه حتى بمرتبة اقتضائه إلى التكليف بالمؤدى، ومثل هذا المعنى كما عرفت غير ملازم مع القول
بالاجزاء، كما لا يخفى.
هذا تمام الكلام في الأجزاء في الأصول والامارات.
257