الكتاب: نهاية الدراية في شرح الكفاية
المؤلف: الشيخ محمد حسين الغروي الأصفهانى
الجزء: ٢
الوفاة: ١٣٦١
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق: رمضان قلى زاده المازندراني
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٣٧٤ ش
المطبعة: امير - قم
الناشر: انتشارات سيد الشهداء (ع) - قم - ايران
ردمك:
ملاحظات:

نهاية الدراية
في شرح الكفاية
للحكيم الإلهي والفقيه الأصولي
الشيخ حسين الغروي الأصفهاني
تحقيق
الشيخ رمضان قلي زاده المازندراني
انتشارات سيد الشهداء
المجلد الثاني
1

هوية الكتاب
اسم الكتاب: نهاية الدراية في شرح الكفاية ج 2
المؤلف: الشيخ محمد حسين الغروي الأصفهاني - قدس سره -
المحقق: الشيخ رمضان قلي زاده المازندراني
الناشر: انتشارات سيد الشهداء
الطبع: الأولى 1375 ه‍ ش
المطبعة: أمير - قم
حق چاپ محفوظ ومخصوص ناشر است
2

(كلمة المحقق)
أحمد الله تعالى استتماما لنعمته واستسلاما لعزته واستعصاما من معصيته وأستعينه
فاقة لكفايته.
وأصلي وأسلم على نبيه ورسوله محمد (صلى الله عليه وآله) الذي أتعب نفسه
الشريفة في إبلاغ رسالة الملك العلام وعلى أهل بيته المعصومين أئمة الإسلام وحفظة
الشرع الكرام، الأعزة العظام، واللعن على أعدائهم الذين ضلوا عن السلام والإسلام.
" تاريخ الأصول وتطوره "
لقد تلقى المسلمون أحكامهم الإلهية في صدر الإسلام من النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)
ورجعوا إليه في حل مشاكلهم ومسائلهم المستحدثة.
وبعد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) انقسم المسلمون وانتحلوا لأنفسهم طرقا شتى، أما الشيعة
فقد واجهوا بصورة تدعو للفخر مرحلتين من التاريخ واجتازوها.
التأريخ بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
بعد ارتحال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) واجهت الأمة الإسلامية قضايا وحوادث جديدة
عجز دعاة الخلافة من الاستدلال عليها عن طريق الكتاب والسنة، ولذا توسلوا
بالاجتهاد والرأي وقالوا بالاستحسان والقياس والمصالح المرسلة والاستصلاح،
واعتبروا هذه الأمور بمثابة الدليل المستنبط من الكتاب والسنة.
أما الشيعة فقد رفضوا اتجاه المخالفين هذا وفكرهم لاستلزامه إيجاد فجوة في
3

الأحكام فضلا على مخالفته للنص الصريح (1) واتبعوا أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مخاطبي
الوحي المباشرين (2) وعرضوا مشاكلهم ومسائلهم المستحدثة عليهم (عليه السلام) مباشرة أو
بصورة غير مباشرة عن طريق الوسائط، وقاموا بوضع الحلول لها، خصوصا في النصف
الأول من القرن الثاني للهجرة ورواج الأحاديث الكاذبة، وجهل حال ناقلي الأخبار
عنهم، ومعرفة موارد العموم والخصوص، المنطوق والمفهوم، الناسخ والمنسوخ
والمطلق والمقيد. والكتاب والسنة ومباحث التعادل والتراجيح، وتعارض الأخبار
والبحث عن القياس والاستحسان وهل يجوزها الشارع أو يرفضها؟ أما الشيعة طلاب
الحقيقة فلأجل معرفة المقصد النهائي للشارع المقدس التفوا حول مشعل وضاء
كالإمام الباقر (عليه السلام) ونالوا من رحيق مشكاة علم النبوة الذي كان أعلم أهل
زمانه. واستفاد الإمام الباقر (عليه السلام) من تلك الفرصة أتم استفادة لأجل تربية تلاميذ
وحواريين كمحمد بن مسلم وزرارة بن أعين وفضيل بن يسار وغيرهم، وقد أسس
الإمام (عليه السلام) علم أصول الفقه ورسخ قواعده (3) وبصدد هذا المورد قال العلامة السيد
حسن الصدر في (تقدم الشيعة في علم أصول الفقه) أول من أسس أصول الفقه وفتح
بابه وفتق مسائله، الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام)، ثم بعده ابنه الإمام أبو عبد الله
الصادق (عليه السلام) وقد أمليا على أصحابهما قواعده، وجمعوا من ذلك مسائل رتبها المتأخرون
على ترتيب المصنفين فيه بروايات مسندة إليهما. وأول من صنف في مسائل علم
أصول الفقه هشام بن الحكم شيخ المتكلمين في الأصوليين الإمامية ثم يونس بن
عبد الرحمن مولى آل يقطين والإمام الشافعي متأخر عنهما (4)، لأنه ولد سنة
150 هق وفات سنة 204 ه‍ ق في القاهرة. إليك بكتاب بعض أصحاب الصادقين (عليهما السلام):

(1) النمل: 89، " ونزلنا عليك الكتاب... ".
- بحار الأنوار: ج 2، ص 171، ج 67 و 17 ص 96 و 126، (ط، بيروت)، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ما من شئ يقربكم إلى الجنة ويبعدكم عن النار إلا وقد أمرتكم به...)
- الكافي: ج 1، ص 56، ح 7.
(2) جامع أحاديث الشيعة: ج 1، حديث الثقلين
- مفاتيح الجنان: زيارة الجامعة - أشهد أنكم أبواب الله - ومفاتيح رحمته... وحفظة سره ومهبط
وحيه...
(3) وحيد البهبهاني، علي الدواني: ص 36.
(4) تأسيس الشيعة: ص 310.
4

1 - الألفاظ ومباحثها: لهشام بن الحكم (1) (.... - 199) ه‍ ق، المدفون في الكوفة.
2 - اختلاف الحديث ومسائله: ليونس بن عبد الرحمن (2) مولى آل يقطين من
أصحاب الكاظم والرضا (عليهما السلام) وهو الشخصية التي قال الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)
في حقه: " يونس في زمانه كسلمان الفارسي في زمانه " (3).
تأريخ ما بعد الغيبة الكبرى
في الغيبة الكبرى التي انقطع فيها الاتصال المباشر للشيعة بأهل بيت النبوة
والرسالة (عليهم السلام) ظهرت حاجة علماء الدين إلى الأصول والقواعد لاستخراج الأحكام
من منابعها الأصلية (الكتاب والسنة) واستنباطها. وهذه المسائل المستحدثة التي
تعترضهم على مر الزمن، بالرغم من أن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) (4) كانوا قد وضعوا
اللبنة الأولى لهذه القواعد والأصول على امتداد قرنين ونصف، لذا قام بعض العلماء
الأخباريين - في الوقت الذي أبدوا مخالفتهم للاجتهاد الأصولي وصرحوا بذلك في
كتبهم - باستخراج وجمع بعض القواعد الأصولية في روايات الأئمة (عليهم السلام) وتدوينها
مثل:
1 - بحار الأنوار: ج 2.

(1) معجم رجال الحديث: ج 19، ص 271 - 272
- رجال النجاشي: 433، (ط، جماعة المدرسين)
- كشف الظنون: ج 6، ص 507.
(2) معجم رجال الحديث: ج 20، ص 199
- كشف الظنون: ج 6، ص 572
- تأسيس الشيعة: 310.
(3) مجمع الرجال للعلامة القهبائي: ج 5، ص 287.
(4) الدليل على أسس وقواعد الأصول قد أرسيت من قبل الأئمة المعصومين (عليه السلام) في الروايتين
الآتيتين.
ألف - ما ورد في أصل البراءة: عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " ما حجب الله عن العباد فهو موضوع عنهم ".
الكافي: ج 1، ص 126
ب - ما ورد في الاستصحاب: عن عبد الله بن بكير عن أبيه قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): " إذا استيقنت
أنك قد أحدثت فتوضأ، وإياك أن تحدث وضوء أبدا حتى تستيقن أنك قد أحدثت ".
الكافي: ج 3، ص 33، ح 1
5

الأصول الأصلية لمحمد بن مرتضى (1) المدعو بالملا محسن الفيض الكاشاني
(1007 - 1091) ه‍.
3 - الفصول المهمة في أصول الأئمة للشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي (... - 1104).
4 - الدرر النجفية من الملتقطات اليوسفية للشيخ يوسف البحراني صاحب
الحدائق (... - 1186).
5 - الأصول الأصلية للسيد عبد الله شبر (1188 - 1242).
6 - أصول آل الرسول (عليهم السلام) للعلامة السيد الشريف ميرزا (2) محمد هاشم
الخونساري (... - 1318) ه‍.
هذه الكتب وإن كانت تحكي عن أن أسس علم الأصول قد أرسيت من قبل
الأئمة (عليهم السلام) إلا أنه في نفس الوقت فقد أدرك فقهاء الشيعة حاجتهم الماسة إلى
الأصول لحل المسائل بعد غيبة الحجة (عليه السلام)، ولغرض إعداد أصول مدونة فقد خطوا
خطوات إيجابية بإلهام من مدرسة الإمامة والولاية أدى بالفقه الشيعي أن يتمتع اليوم
بأصول كاملة تعبر بدورها عن السعي الحثيث الذي بذله العلماء والفقهاء الأجلاء
نشير إلى بعضها:
1 - الخصوص والعموم (3): لشيخ المتكلمين أبي سهل النوبختي من علماء القرن
الثالث الهجري، وقال النجاشي (4) إنه لقي الإمام العسكري (عليه السلام) وروى عنه وحضر
وفاته سنة 260 ه‍ وهو الذي أظهر كذب الحسين بن منصور الحلاج ومحمد بن علي
الشلمغاني كما ذكره شيخ الطائفة في كتاب الغيبة ص 247.
2 - إبطال القياس (5): = =
3 - نقض اجتهاد الرأي علي بن الراوندي (6): = =

(1) الذريعة: ج 2، ص 178.
(2) الذريعة: ج 2، ص 177.
(3) رجال النجاشي: 31، (ط، جماعة المدرسين).
تأسيس الشيعة: 311.
(4) رجال النجاشي: 63، (ط، جماعة المدرسين).
تأسيس الشيعة: 311.
- معجم رجال الحديث: ج 5، ص 142.
(5) الفهرست لابن النديم: 265.
(6) الفهرست لابن النديم: 265.
6

4 - خبر الواحد والعمل به: لشيخ المتكلمين أبي محمد الحسن بن موسى
النوبختي من علماء القرن الثالث الهجري وابن أخت أبي سهل النوبختي.
5 - الخصوص والعموم: = =.
6 - كشف التمويه والالتباس في إبطال القياس: لشيخ الفقيه أبي علي محمد بن
أحمد بن الجنيد الإسكافي من علماء القرن الثالث الهجري (1).
7 - إبطال القياس: للمتكلم المشهور أبي منصور الصرام النيشابوري من علماء
القرن الثالث الهجري (2).
8 - مسائل الحديثين المختلفين: للشيخ الفقيه محمد بن أحمد بن داود بن علي
بن الحسن المعروف بابن داود (... - 368 ه‍) (3) المدفون في مقابر قريش في العراق.
9 - التذكرة بأصول الفقه، للشيخ المفيد: (336 - 413) (4) المدفون في الكاظمية.
10 - الذريعة إلى أصول الشريعة، للسيد المرتضى - ره -: (355 - 436).
11 - عدة الأصول: للشيخ الطوسي - ره -: (385 - 460) المدفون في النجف
الأشرف في داره (5) بوصية منه.
12 - الغنية للسيد أبو المكارم حمزة بن علي بن زهرة الحسيني (511 - 585)
المدفون في جبل الجوشن عند مشهد الحسين (6) في لبنان.
13 - معارج الأصول: للمحقق الحلي - ره - (602 - 676) المدفون في مشهد

(1) رجال النجاشي: ص 385.
- وفي هامش أمل الآمل: ج 2، ص 236، ورد في شخصيته، " وجدت في بعض الرسائل أنه كان معه
أمانة القائم (عج) وسيفه " له تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة عشرون جزء يشتمل على عدد كتب الفقه.
- الكنى والألقاب: ج 2، ص 22.
- الفهرست: ص 134.
- أمل الآمل: ج 1، ص 237.
(2) الذريعة: ج 1، ص 69، م 342.
(3) رجال النجاشي: 384.
- أنوار الهداية: ج 1، للفقيه الأكبر والسيد الأعظم قائد الأمة مؤسس النظام الجمهورية الإسلامية
الإمام الخميني - قده -.
فوائد الرضوية: ص 388.
(4) مصنفات الشيخ المفيد - ره -: ج 9، ص 25 - 45.
- رجال النجاشي: 399.
(5) أعيان الشيعة: ج 9، ص 166.
(6) أعيان الشيعة: ج 6 ص 249، (لؤلؤة البحرين: ص 228).
7

الشمس بالحلة (1).
14 - المعتبر: = =
15 - نهج الوصول إلى علم الأصول (2): = =
16 - مبادي الوصول إلى علم الأصول: للعلامة الحلي: (642 - 726) المدفون في
النجف الأشرف.
17 - تهذيب الوصول إلى علم الأصول (3): = =
18 - شرح غاية الوصول في علم الأصول (4): = =
19 - نهاية الوصول إلى علم الأصول (5): = =
20 - منهج الوصول إلى علم الأصول (6): = =
21 - القواعد والفوائد: للشهيد الأول محمد بن مكي العاملي الجزيني (734 -
المستشهد سنة 786) ثم أحرق بدمشق.
22 - شرح تهذيب الجمالي في أصول الفقه (7): = =
23 - الأقطاب الفقيه لابن أبي جمهور الإحسائي: (... - 901).
24 - تمهيد القواعد: للشهيد الثاني زين الدين الجبعي العاملي الشامي (911 -
المستشهد سنة 965).
25 - معالم الدين: لجمال الدين الحسن بن زين الدين (959 - 1011).
26 - زبدة الأصول: للعلامة الشيخ بهاء الدين محمد بن الحسين العاملي المعروف
بالبهائي (953 - 1031) المدفون في داره بجانب الحضرة المقدسة الرضوية (8).
27 - الوافية: للفاضل التوني (... - 1059).
28 - حاشية معالم الأصول: للمولى محمد صالح المازندراني (... - 1081).
29 - الأصول الأصلية: لمحمد محسن الفيض الكاشاني (1007 - 1091) (9).

(1) لؤلؤة البحرين: ص 228.
(2) تأسيس الشيعة: ص 270 و 314.
(3) تأسيس الشيعة: 314 و 398.
(4) تأسيس الشيعة: 314 و 398.
(5) لؤلؤة البحرين: ص 214 - 218.
(6) لؤلؤة البحرين: ص 214 - 218.
(7) القواعد والفوائد: ج 1، ص 22.
(8) أعيان الشيعة: ج 9، ص 234 و 244.
(9) لؤلؤة البحرين: ص 121 و 126.
8

30 - الفصول المهمة: لمحمد بن الحسن الحر العاملي (1033 - 1104) المدفون
في المشهد المقدس الرضوي (1).
31 - الدرر النجفية: للشيخ يوسف البحراني (1107 - 1186 المدفون في المشهد
الحسيني (عليه السلام)
32 - فوائد الحائرية: للشيخ وحيد البهبهاني (1118 - 1206) المدفون في مشهد
الحسين بكربلاء.
33 - قوانين الأصول: للميرزا أبو القاسم القمي (1151 - 1232) المدفون في قم
المقدسة (2).
34 - كشف القناع: للشيخ أسد الله التستري المعروف بالمحقق الكاظمي
(... - 1234) المدفون في النجف الأشرف (3).
35 - رسالة في أصول الفقه: للسيد محمد علي الطباطبائي الزوارئي - (فرغ منها
16 محرم 1236) (4).
36 - نظم زبدة الأصول: = =
37 - المنهاج في الأصول: = =
38 - تنقيح المقاصد الأصولية: لمحمد بن محمد معصوم القزويني (... - 1240) (5).
39 - مفاتيح الأصول: للسيد محمد الطباطبائي (.... - 1242) المدفون في
كربلا (6) مشهد الحسين (عليه السلام).
40 - الأصول الأصلية والقواعد الشرعية: للسيد عبد الله شبر (1192 - 1242)
المدفون في مشهد الكاظمين (7).
41 - عوائد الأيام: للمولى أحمد النراقي - ره -: (... - 1248) المدفون في
النجف الأشرف (8).
42 - هداية المسترشدين: للشيخ محمد تقي الأصفهاني (1178 - 1248)،

(1) أعيان الشيعة: ج 9، ص 167.
(2) أعيان الشيعة: ج 2، ص 411.
(3) أعيان الشيعة: ج 10، ص 16.
(4) أعيان الشيعة: ج 3، ص 283.
(5) الأعلام للزركلي: ج 6، ص 92.
(6) أعيان الشيعة: ج 9، ص 185.
(7) أعيان الشيعة: ج 9، ص 233.
(8) فوائد الرضوية: ص 41.
9

المدفون بأصفهان في مقبرة (تخت فولاذ).
43 - الفصول: للشيخ محمد حسين الأصفهاني - ره - (... - 1261) المدفون
في النجف الأشرف (1).
44 - مطارح الأنظار وفرائد الأصول: للشيخ الأعظم الأنصاري - ره - (1214 -
1281) ه‍ ق المدفون في المشهد الغروي على يمين الخارج من الباب (2).
45 - بدائع الأفكار: للميرزا حبيب الله الرشتي (... - 1312) ه‍ ق المدفون في
المشهد الغروي (3).
46 - غاية المسؤول في علم الأصول: للسيد محمد حسين الشهرستاني (1256 -
1315) ه‍ ق المدفون في مقبرتهم المعروفة في المشهد الحسين (عليه السلام).
47 - أصول الفقه: للشيخ محمد بن فضل الشربياني (1248 - 1322) (4).
48 - كفاية الأصول: للمحقق المدقق محمد كاظم الخراساني (1255 - 1329)
المدفون في النجف الأشرف (5).
هذا الكتاب القيم يعد من الكتب الرئيسية في الحوزات العلمية الإسلامية منذ زمن
تأليفه إلى اليوم، وهو كتاب يحتوي على المسائل الأصولية المعمقة التي علق عليها
الأصوليون تعليقات قيمة من جملتها تعلقية الشيخ محمد حسين الأصفهاني - رض -
تلميذه الأكبر المسماة ب‍ " نهاية الدراية في شرح الكفاية " وهي تحتوي إضافة إلى
شرح الكفاية وتوضيح عبارتها الصعبة على تحقيقات وآراء قيمة في علم الأصول
وما يتعلق به.
حياة المؤلف:
ولد المرحوم الشيخ محمد حسين بن الحاج محمد حسن معين التجار بن علي

(1) أعيان الشيعة: ج 9، ص 232.
- معارف الرجال: ج 2، ص 232.
- تراجم الرجال: ج 2، ص 675.
(2) أعيان الشيعة: ج 10، ص 117.
(3) أعيان الشيعة: ج 4، ص 559.
(4) الأعلام للزركلي: ج 6، ص 331.
(5) أحسن الوديعة: ج 1، ص 176 - 179.
10

أكبر بن آغا بابا بن آغا كوچك بن الحاج محمد إسماعيل بن الحاج محمد حاتم
نخجواني الأصفهاني (الكمباني) في اليوم الثاني من شهر محرم الحرام سنة 1296 ه‍
في الكاظمية من عائلة متدينة عريقة، كان المرحوم الشيخ محمد حسين الأصفهاني
المشهور بالكمباني الابن الوحيد لأسرته. وقد ظهرت عليه بوادر الرغبة الشديدة في
تعلم العلوم الدينية منذ نعومة أظفاره، لكنها واجهت مخالفة من قبل الأب الذي كان
يزاول مهنة التجارة وكان يرتضي له العمل في التجارة أيضا ليكون عونا له في أعماله.
ونقل أنه اتفق للأب والابن أن يتشرفا بزيارة حرم الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)
وهناك دعا الابن ربه ملتجأ الإمام الكاظم (عليه السلام) حتى يلين قلب أبيه ويكسب رضاه
للذهاب لطلب العلم فاستجيب لدعائه وحصل على موافقة الأب في نفس الحرم
الشريف (1)، فأخذ بتعلم العلوم الدينية بجد ومثابرة حتى أحكم أسس مقدمات العلوم
وتهيأ للدخول إلى حوزة النجف الأشرف الكبيرة.
أمضى هناك فترة طفولته وكذا ريحان شبابه، ودرس المقدمات وهيأ نفسه
للالتحاق بحوزة النجف الأشرف الكبيرة.
شخصيته العلمية وأساتذته:
وفي النجف الأشرف درس مراحل الأصول والفقه والفلسفة والعرفان على يد
أساتذة كبار مثل:
السيد محمد الفشاركي الأصفهاني، (1253 - 1316) ه‍ ق المدفون في النجف
الأشرف في الصحن الشريف الشرقية (2).
الشيخ آغا رضا الهمذاني، (1241 - 1322) ه‍ ق.
الشيخ محمد كاظم الخرساني، (1255 - 1329) ه‍ ق.
الحكيم ميرزا محمد باقر الاصطهباناتي الشيرازي، (... - 1326) بعد أن غادر
النجف متوجها إلى شيراز صادف فتنة المشروطة وطغيانها وقتل بها شهيدا في شيراز

(1) الناقل الأستاذ السيد عبد العزيز الطباطبائي.
(2) الذريعة: ج 2، ص 115.
11

ودفن هناك (1).
والعالم العارف الواصل الميرزا جواد آقا ملكي التبريزي (... - 1343) ه‍ ق
المدفون في مزار الشيخان بقم المقدسة وغيرهم.
وخلال فترة قصيرة عاد كالعين الهادرة يقصدها الظمآن نتيجة حبه المفرط بطلب
العلم ومساعيه المستمرة في طريق كسب الكمالات العلمية، حتى نقل أنه حضر لمدة
13 سنة درس الأصولي الكبير والمحقق المدقق المرحوم آخوند الخراساني بصورة
متواصلة ومستمرة ولم ينقطع فيها إلا يومين فقط، يوم عندما سافر إلى كربلاء وعند
العودة تعطلت به الوسيلة النقلية (السيارة) التي كانت تقله فلم يستطع فيه حضور
الدرس، ويوم آخر هطل فيه مطر غزير حتى امتلأت الأزقة بالمياه فأصبح على علم
بتعطيل الدرس ولكن الطلبة قصدوا أستاذهم وحملوه على الأكتاف فانعقد مجلس
الدرس (2). وهذا درس كبير لجميع محبي العلم وبالأخص طلاب العلوم الدينية
بحيث أثنى عليه جملة من العلماء:
أقوال العلماء في حقه:
1 - قال العلامة محمد رضا المظفر في شخصيته: هو من زمرة النوابغ القلائل الذين
لا يضن الزمان بهم إلا في فترات متباعدة وهو أحد الشخصيات اللامعة في تأريخ
علمي الفقه والأصول واعتزم في الدورة الأخيرة على تهذيب علم الأصول
واختصاره وتنظيم أبوابه (3).
2 - وقال الآغا بزرگ الطهراني - رض - في شخصيته العلمية: " ولما توفى شيخنا
الخراساني برز بشكل خاص فحف به جمع من الطلاب واستقل بالتدريس في الفقه
والأصول وكان جامعا متفننا شارك - بالإضافة إلى ما ذكر - في الكلام والتفسير
والحكمة والتأريخ والعرفان والأدب إلى ما هنالك من العلوم وكان متضلعا فيها وله
في الأدب العربي أشواط بعيدة، وكان له القدح المعلى في النظم والنثر، امتاز ببراعة

(1) معارف الرجال: ج 1، ص 131.
(2) الناقل الأستاذ السيد عبد العزيز الطباطبائي (دام ظله).
(3) حاشية المكاسب للمحقق الأصفهاني: ج 1.
12

وسلاسة ودقة وانسجام وأكثر نظمه أراجيز، بالجملة فهو من نوابغ الدهر الذين امتازوا
بالعبقرية وبالملكات والمؤهلات وغرقوا في المواهب، كان محترم الجانب موقرا من
قبل علماء عصره مرقوما في الجامعة النجفية اشتغل بالتدريس في الفقه والأصول
والعلوم العقلية زمنا طويلا، كانت له قدم راسخة في الفقه وباع طويل في الأصول
وآثار في ذلك تدل على أنظاره العميقة وآرائه الناضجة...، وكان مدرسه مجمع أهل
الفضل والكمال وقد تخرج عليه جمع من أفاضل الطلاب (1).
3 - وعرفه الأميني بفقيه الفلاسفة (2).
4 - قال العلامة الطباطبائي - ره -: أن الشيخ الأصفهاني كان عالما جامعا للعلم
والعمل والتقوى والذوق وكان يتملك طبعا رصينا وكلاما جميلا.
المراسلات العرفانية:
المرحوم الأصفهاني كان من جملة الشخصيات النادرة في امتلاكه لأبعاد علمية
وروحية مختلفة، لكن البعد الفقهي والأصولي هو الذي كان معروفا فقط في
شخصيته، أما مهارته وتسلطه على الحكمة خصوصا العرفان الذي كان المنبع لجميع
فضائله فقد ظل مجهولا.
ونستطيع العثور على لمحة من شعاع وجوده في أرجوزته العربية المسمات
(بالأنوار القدسية) وفي ديوان شعره باللغة الفارسية. والبعد العرفاني لشخصيته يمكن
استخلاصها من رسائله التي دارت بينه وبين عرفاء أهل زمانه أو التي دارت بينه وبين
تلامذته المقربين. وذكر المرحوم العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي في وصف
حال أستاذه الشيخ الأصفهاني: (إنه درس الحكمة عند الحكيم المتأله المرحوم الشيخ
محمد باقر الاصطهباناتي - ره - وأما في الأصول والفقه فقد حضر حلقة درس
المرحوم الآخوند الملا كاظم الخراساني - قده - وأما مرحلة التهذيب وتصفية الباطن
فكانت له مراسلات على المرحوم فخر المجتهدين وسند العارفين الحاج الميرزا
جواد آغا الملكي التبريزي نزيل قم الذي كان من أكابر تلامذته الآخوند الملا حسين

(1) نقباء البشر: ج 2، ص 560.
(2) الأعلام للزركلي: ج 6، ص 106.
13

قلي الهمداني وفي تلك المراسلات إرشادات عملية في السلوك وقد اطلعت عليها أنا
والشيخ علي محمد البروجردي - ره - واستنسخنا منها لكل واحد نسخة. وهنا نشير
إلى نبذة من تلك الإرشادات العملية في السلوك للسالك الرباني الحاج الميرزا جواد
التي وجهها إلى آية الله الحاج محمد حسين الكمباني رضوان الله تعالى عليهما.
بسم الله الرحمن الرحيم
أشرت في رسالتك حول الأعراض عن الجد والجهد في الظاهريات
وعدم الوصول إلى الواقعيات وطلبت استعلام مقدمة موصلة من
هذا الحقير. فالحقيقة التي أدركت لطي هذه العوالم وبعض النتائج
التي ذكرتها بالتفصيل وما استأنست به من شدة الشوق يمثل
أساس متطلبات هذا المسير. وكل ما أعلم عن لوازم هذا السير
والسلوك فقد طرحته لك ولم أبخل فيها والآن أعيد ما علمته بصورة
إجمالية: إن الطريق المطلوب لأجل معرفة النفس قد بين وبما أن
النفس الإنسانية ما لم تمر بعالم المثال لا تستطيع بلوغ عالم العقل
وما لم تبلغ عالم العقل لا تستطيع الوصول إلى حقيقة المعرفة
ونوره، وبالتالي لا تصل إلى المطلوب ولذا من أجل إتمام الفائدة
أنقل كلاما عن المرحوم الآخوند الملا حسين قلي الهمداني جزاه الله
عنا خير جزاء المعلمين إذ قال:
يجب على السالك أن يقلل من غذائه ويفكر طويلا حتى يشتد
عنده البعد الروحاني ويضمحل بعده الحيواني إلخ (1).
كذلك هناك رسالة أرسلها آية الله الأصفهاني إلى تلميذه السيد محمود الموسوي
الزنجاني تكشف النقاب عن المقام الشامخ الذي وصل إليه في العرفان حيث يقول في
نهايتها: (إذا كنت في الاجتماعات العامة فكن مثلهم وإذا أصبحت في خلوة فاسع في
التفكر والتوجه إليه سبحانه حتى تحصد الطاقات من الورود) ونحن نستعرض هنا
مقاطع من إرشاداته العملية لآية الله الموسوي الزنجاني:

(1) كيهان الفكر: ص 72، الرقم 8، سنة 65.
14

بسم الله الرحمن الرحيم
سيدي وسندي ومولاي ومعتمدي أطال الله بقاك ومن كل سوء
وقاك ورزقني لقاك... الحقير حسب الوظيفة اللازمة لم أنسك
بالدعاء، ومنذ فترة كنت قد ابتليت بنوبة خفيفة أثناء تحريري لهذه
الأسطر، وقد تناولت الدواء الملين وتركت الدرس أحيانا، ليلا أو
نهارا.
والحمد لله على كل حال وقد سئلتني عن الذكر فرأيت من
المناسب للحال والمقال أن أستشهد بالقرآن وكلمات المعصومين
المأثورة منها ذكر يونس حينما قال: (لا إله إلا أنت سبحانك إني
كنت من الظالمين) والقرآن بين عاقبته أيضا بقوله (فنجيناه من
الغم وكذلك ننحي المؤمنين) وبما أن غم السالك هو التخلص من
سجن الطبيعة فيجب أن يكون هذا المقصد العالي هو الأساس لسير
العارف والارتقاء إلى عالم القدس. ومن البديهي أن هذه النتائج
ليست مجرد لقلقة لسان بل تستوجب الانقطاع إليه والفناء فيه. نعم
الذكر الدائم للمذكور والتوجه إليه ضروري حتى تحصل له الملكة
في ذلك وتنفتح أمامه نافذة على عالم الملكوت ليصل إلى مرتبة
شهود النفس المجردة " من عرف نفسه فقد عرف الله ".
وفي مقطع آخر من الرسالة المذكورة يقول فيها (كل من هو طالب
لله يجب أن يكون الله حاضرا عنده دائما ولسانه مشغول بالذكر وأن
يجعل قلبه حرما لله) (1).
حرره الجاني محمد حسين الغروي الأصفهاني الكمباني
التوسل بالأئمة (عليهم السلام):
ينقل الأستاذ السيد عبد العزيز الطباطبائي دام ظله أنه كان لدى آية الله الأصفهاني
شوق وافر وحب مفرط بأهل البيت (عليهم السلام) وكلما تحين الفرص المناسبة تراه يذهب إلى
زيارة الأئمة (عليهم السلام) وحين فراغه من الزيارة يصلي صلاة جعفر الطيار بدل ركعتي صلاة

(1) نشرية الحوزة الرقم 8: ص 136
15

الزيارة ويهدي ثوابها للأرواح المطهرة للأئمة (عليهم السلام) وقد حافظ على هذه السنة طيلة
حياته.
ونقل أيضا أنه كان لديه حب خاص للإمام موسى الكاظم (عليه السلام) ويهتم اهتماما كبيرا
بزيارته فزاره يوما وحسب عادته المتداولة صلى صلاة جعفر الطيار وفي أثناء
الصلاة وبسبب مرض سلس البول وقعت قطرة من البول على ثيابه وتنجست، فخرج من الحرم
لأجل التطهير وتبديل ثوبه وفي الأثناء دعا الإمام (عليه السلام) أن يشفيه من هذا
الداء المزمن وحين قدومه إلى المنزل علم بمجئ العارف المشهور الميرزا جواد
الملكي التبريزي إلى الكاظمية ضيفا حالا في بيت أحد رفقائه الذي كان يعمل في
الطبابة فقصد أستاذه العارف وحدثه بما حدث وبمرضه المزمن فقال له الطبيب أن
دوائه هو (الأستركني)، فالتفت إليه العارف وقال له: إن هذا الدواء عندي فأعطاه
قرصا فتناولها ورجعت إليه سلامته كاملة وتخلص منه إلى الأبد.
قال العلامة السيد عباس الكاشاني دام ظله: إحدى خصوصيات المرحوم
الأصفهاني هو التزامه الدائم بزيارة الحرم المطهر لأمير المؤمنين (عليه السلام) وقراءته الزيارة
الجامعة حفظا وفي العشرة الأولى من شهر محرم الحرام كان يشارك في مجالس
العزاء للإمام الحسين (عليه السلام) وكان كثير البكاء عليه حتى تحمر عيونه من كثرة البكاء.
نعم فإنه رحمه الله كان فقيها أصوليا وحكيما إلهيا ومتكلما بارعا وشاعرا ولائيا
وعارفا تفانى في ذات الله سبحانه وتعالى حتى وصل إلى درجات عالية من العرفان
والكشف وجامعا للمعقول والمنقول ومصداقا بارزا لقوله (عليه السلام): " حافظا لدينه " (1). تلاميذه:
وقد حضر وتتلمذ على يديه العديد من فطاحل العلماء من المهاجرين والنجفيين
بحيث غدى كل واحد منهم مشعلا وضاء ورافعا لراية هداية الأمة في فترات متباينة
من التأريخ مثل:
1 - آية الله السيد الميرزا محمود الموسوي الزنجاني (1309 - 1374) ه‍ ق.
2 - آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي (1317 - 1413) ه‍ ق المدفون في

(1) الاحتجاج: ج 2، ص 263.
- بحار الأنوار: ج 2، ص 88، ح 12.
16

النجف الأشرف (1).
3 - آية الله السيد محمد هادي الميلاني النجفي (1313 - 1395) ه‍ ق، المدفون
في المشهد الرضوي المقدس.
4 - العلامة الشيخ محمد رضا المظفر النجفي (1904 - 1964 / 1385) ه‍ ق المدفون في
النجف الأشرف في مقبرة آل المظفر الخاصة (2).
5 - العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (1281 - 1360) المدفون في قم
المقدسة في الحرم المطهر للسيدة معصومة (س).
6 - آية الله حاج شيخ علي محمد بروجردي (1312 - 1395) ه‍ ق.
7 - آية الله حاج شيخ عباس قوچاني (... - 1411) ه‍ ق.
8 - آية الله الشيخ محمد حسين الدهقاني الأصفهاني (1328 - 1403) ه‍ ق
المدفون في جوار حرم السيد معصومة بقم المقدسة.
9 - آية الله الشيخ ذبيح الله قوچاني (... -...) ه‍ ق.
10 - العبد الزاهد الشيخ أمان الله كريمي بابلي (1315 - 1397) ه‍ ق المدفون في
قم المقدسة.
11 - آية الله الشيخ محمد تقي الآملي (1304 -...) ه‍ ق (3).
12 - آية الله حاج شيخ محمد تقي بهجت أدام الله عمره الشريف (1334 -...) ه‍ ق
المقيم في جوار حرم السيدة معصومة عليها السلام بقم المقدسة.
13 - آية الله علي بهشتي بابلي دام ظله العالم المقيم في النجف الأشرف.
14 - آية الله السيد هادي الخسرو شاهي (دام ظله) وأجازه أستاذه المحقق
الأصفهاني بإجازة اجتهاد بتاريخ 19 / ع 1 / سنة 1357.
15 - الحجة محمد علي الغروي الأردوبادي (4).
16 - آية الله السيد عبد الأعلى السبزواري (... - 1414) ه‍ ق المدفون في النجف

(1) معجم رجال الحديث: ج 22، ص 18.
(2) معارف الرجال: ج 2، ص 247.
- شعراء الغري: ج 8، ص 451.
- ماضي النجف وحاضرها: ج 2، ص 374.
(3) أعيان الشيعة (المستدركات): ج 1، ص 169، المتخذ من السيد محمد مجتهدي النجفي (ح)
(4) نقباء البشر: ج 2، ص 562.
17

الأشرف.
17 - آية الله الشيخ محمد حسن قوجاني (... -...).
18 - الشيخ محمد طه ابن العالم المقدس الشيخ نصر الله الحويزي (1317 -...) ه‍ ق (1).
19 - الشيخ محمد طاهر حفيد فقيه العراق الشيخ راضي النجفي (2).
20 - الشيخ عبد الله ابن الشيخ راضي النجفي - وأجازه أستاذه الشيخ محمد حسين
الأصفهاني بإجازة اجتهاد ورواية بتاريخ 9 - ج 2 - سنة 1358 ه‍ ق (3).
21 - آية الله الشيخ محمد حجت (... -...).
22 - آية الله السيد صدر الدين جزائري (... - 1385) ه‍ ق.
23 - آية الله السيد محمد حسيني همداني النجفي دام ظله المقيم في الهمدان.
24 - آية الله الشيخ أبو الفضل خونساري دام ظله (1296 -...) ه‍ ش المقيم في قم
المقدسة.
25 - الشيخ محمد علي العراقي صهر المرحوم الأصفهاني.
26 - العلامة الأميني صاحب الغدير.
27 - آية الله الأنوري الهمداني.
28 - آية الله الشيخ محمد حسين المظفر (1312 -...) ه‍ ق (4).
29 - المرحوم الشيخ محمد رضا الغراوي (1303 -...) ه‍ ق (5).
30 - الشيخ عبد المهدي مطر بن الشيخ عبد الحسين مطر (1318 -...) ه‍ ق (6).
31 - الشيخ محمد رضا بن قاسم ابن الشيخ محمد (1304 -...) ه‍ ق (7).
32 - السيد أسد الله بن الحسين النبوي الدزفولي (1313 - 1403) ه‍ ق المدفون في
دزفول (8).

(1) معارف الرجال: ج 2، ص 265.
(2) معارف الرجال: ج 3، ص 205.
- ماضي النجف وحاضرها: ج 2، ص 187.
(3) معارف الرجال: ج 1، ص 314.
(4) شعراء الغري: ج 8، ص 191 و 398. - شعراء النجف: 250.
(5) شعراء الغري: ج 8، ص 191 و 398. - شعراء النجف: 250.
(6) ماضي النجف وحاضرها: ج 2، ص 357.
(7) ماضي النجف وحاضرها: ج 2، ص 38.
(8) أعيان الشيعة (المستدركات): ج 3، ص 32، المأخوذ من السيد محمد مجتهدي النجفي
حفظه الله.
18

33 - السيد باقر بن السيد علي الإحسائي المعروف بالشخص (1316 - 1381) ه‍ ق
المدفون في النجف (1).
34 - الحاج السيد محمد باقر الطباطبائي سلطاني بروجردي دام ظله (1294 -...)
ه‍ ق، المقيم في قم المقدسة.
تأليفاته:
في الأصول
ولقد خلف ذلك الرجل العظيم كتبا قيمة يصدق عليها " الباقيات الصالحات " (2)
بتمام معنى الكلمة.
1 - كتاب في أصول الفقه حاول فيه تهذيب هذا العلم واختصاره وتنظيم أبوابه
تنظيما فنيا لم يسبق إليه فوضع في المبادي ما كان يظن أنه من المسائل ووضع في
المسائل ما كان يحرر في المبادي كمسألة المشتق، وقسم الأصول إلى أربعة مباحث:
أ - اللفظية.
ب - الملازمات العقلية.
ج - والحجة.
د - والأصول العملية. غير أن من المأسوف عليه قد حالت المنية دون إكماله.
2 - بحوث في الأصول يحتوي على الأصول على النهج الحديث والطلب
والإرادة والاجتهاد والتقليد والعدالة (ط، جماعة المدرسين).
3 - رسالة في الصحيح والأعم.
4 - رسالتان في المشتق.
5 - رسالة في علائم الحقيقة والمجاز.
6 - رسالة في الشرط المتأخر.
7 - رسالة في الحقيقة الشرعية.
8 - رسالة في تقسيم الوضع إلى الشخصي والنوعي.

(1) نقباء البشر: ج 1، ص 213، المأخوذ من السيد محمد مجتهدي النجفي.
(2) سورة الكهف: الآية 46.
- سورة مريم: الآية 76.
19

9 - رسالة في أن الألفاظ موضوعة للمعاني بما هي...
10 - تعليقة على رسالة القطع للشيخ الأعظم الأنصاري - ره -.
11 - رسالة في اشتراك الألفاظ.
12 - رسالة في موضوع العلم.
13 - رسالة في أقسام الوضع والبحث عن المعنى الحرفي.
14 - رسالة في أن إطلاق الأمر هل يقيني التعبدية أو التوصلية أولا؟
15 - رسالة في إطلاق اللفظ وإرادة نوعه وصنفه وشخصه (1).
16 - رسالة في الحروف.
في الفقه:
1 - رسالة في تحقيق الحق وما يتعلق به - وقد أدرجت في أول البيع في تعليقة
المكاسب المجلد الأول.
2 - حاشية كتاب المكاسب.
3 - حاشية كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري - ره -.
4 - رسالة في أخذ الأجرة على الواجبات.
5 - رسالة في أربع قواعد فقهية، قاعدة التجاوز، قاعدة الفراغ، وقاعدة اليد،
وأصالة الصحة.
6 - رسالة قاعدة لا ضرر (2).
7 - رسالة في الإجارة مطولة.
8 - رسالة في صلاة المسافر.
9 - رسالة في الطهارة.
10 - منظومة في الاعتكاف.
11 - منظومة في الصوم.

(1) الأنوار القدسية: 9.
- مقدمة حاشية المكاسب.
- معارف الرجال: ج 2، ص 264.
- معجم المؤلفين العراقيين: ج 3، ص 149.
(2) معارف الرجال: ج 2، ص 265.
20

12 - منظومة في صلاة الجماعة.
13 - رسالة في الجمعة (1).
14 - الوسيلة في أهم أبواب الفقه باللغة العربية.
15 - ذخيرة المعاد في الفقه باللغة الفارسية.
في الفلسفة:
تحفة الحكيم - منظومة في الفلسفة العالية.
في أصول العقائد:
رسالة في المعاد.
أدبه وشعره:
أ - ديوان شعر باللغة الفارسية في بيان مراثي آل بيت الوحي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ب - ديوان شعر باللغة العربية المسمى بالأنوار القدسية.
ج - ديوان شعر في الغزل باللغة الفارسية.
وضع معشيته:
لقد ترعرع آية الله الشيخ الأصفهاني - ره - في أسرة دينية وثرية تزاول التجارة.
واستطاع بمساعدة والده المادية أن يطوي مراحل المقدمات الدراسية وأن يشارك
في دروس الأساتذة الكبار في النجف الأشرف خصوصا درس الشيخ الآخوند
الخراساني والجلوس على كرسي التدريس بعد مدة قصيرة من وفات الآخوند
الخراساني أرفد الأمة بالعلماء الأعلام من تلامذته ومنذ ذلك الزمان أخذ وضعه
المعاشي نحو التدهور والضعف حتى نقل أنه كان شديد الجوع يوما فأخذ يبحث عن
فتات من الخبز في منزله وبعد البحث الطويل والمعاناة حصل على قطعة خبز يابسة
فنفظ منها الغبار وأكلها (2)، وهذا ما يدل على طبعه المنيع.
وفاته:
التحق بالرفيق الأعلى في غروب يوم الأحد الخامس من ذي الحجة سنة

(1) معارف الرجال: ج 2، ص 265.
(2) الناقل الأستاذ السيد عبد العزيز الطباطبائي.
21

1361 ه‍ (1) وبرحيله رحمة الله صدع العلم وفقدت حوزة النجف الأشرف ركنها
الركين وثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شئ، تغمده الله بواسع رحمته وحشره مع
الأئمة المعصومين (عليهم السلام). ودفن في حجرة صغيرة في إيوان الذهب بينها وبين مقبرة
العلامة الحلي المأذنة الشمالية.
وقد قمت في تحقيق هذا الكتاب واعتمدت فيه على نسخ قديمة وحديثة وقد
شمل عملي في التحقيق - إضافة إلى ضبط النص - ما يلي:
1 - تخريج الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة المروية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل
بيته الأطهار (عليهم السلام).
2 - إرجاع أكثر ما ذكره المصنف من الأقوال إلى أصحابها حدود ما توفر لدي من
مصادر ومسانيد.
3 - تصحيح الأخطاء اللغوية والإملائية للنساخ.
4 - تغيير رسم بعض الكلمات التي جرت عادة القدامى على كتابتها على خلاف
لغة العصر كتحويل الهمزة إلى ياء وبالعكس في مثل (تضايف) و (الاستئذان) -
و (الدائرة) وما شاكل ذلك.
5 - الإشارة إلى الزيادات وحذفها وجبر نواقصها وما حدث فيها من سقط (2)
وحل عقدها وتبيين عباراتها واستفدنا في حل بعض العبارات من أخ الصديق الشيخ
حسين القائمي دام ظله.
وفي الختام: نرجو من الله لعلمائنا الماضين الرحمة، ولعلمائنا الموجودين
التوفيق لإحياء تراثهم القيمة ولنظام الجمهورية الإسلامية الفتح والنصر والثبات ولنا
الغفران والرحمة والقبول - ونسأل من الأحبة والمراجعين لهذا الكتاب القيم وتعليقاته
أن ينظروها بنظر اللطف والمرحمة وغمض العين من النواقص والاشتباهات التي
صدرت مني و " العذر عند كرام الناس مقبول ".
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حرر في 13 رجب المرجب 1415 ه‍ ق الموافق 26 من آذر 1373 ش في اليوم
المبارك لميلاد مولى الكونين علي بن أبي طالب (عليه السلام) مولود الكعبة.
الشيخ رمضان قلي زاده المازندراني

(1) نقباء البشر: ج 2، ص 561.
(2) نهاية الدراية المخطوطة: ج 2، ص 52، 113، 123، 146، 164، 166، 242، 260، 312 و...
22

المبحث
الأول
في القطع
23

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه
وسيد رسله محمد وعترته الطيبين الطاهرين
" في أحكام القطع "
1 - قوله دام ظله: وإن كان خارجا عن مسائل الفن (1) إلخ:
حتى بناء على تعميم الغرض الباعث على تدوين فن الأصول لما ينتهى إليه
أمر الفقيه في مقام العمل، فإن هذه المباحث ليست مما ينتهي إليه أمر الفقيه في
مقام العمل كمباحث الأصول العملية (2) التي ينتهي إليها أمر الفقيه في مقام
العمل بعد الفحص والبحث عن الأدلة والإمارات، وهو واضح، فإن حجية القطع
بأقسامه غير منوطة بالفحص والبحث عن الدليل، كما أن منجزيته بأقسامه لا
تكون واسطة في انبساط حكم شرعي، ومنه تبين أن الوجه في خروج مباحث
القطع عن الأصول ذلك لا عدم إمكان أخذ القطع بالحكم في موضوع نفسه، فإن
اللازم وساطة نتيجة البحث لا وساطة نفس القطع ليتوهم عدم إمكانها.
لا يقال: إنما يصح ما ذكر من الوجه في خروج مباحث القطع عن مسائل علم
الأصول بناء على أن الغرض من العلم المزبور ذلك، وأما لو قلنا بأن الغرض منه
أعم من ذلك، هو البحث عما يفيد في مقام إقامة الحجة على حكم العمل

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 4 وكفاية الأصول: 257، (ت، آل البيت).
(2) (خ ل) العقلية.
25

شرعا في علم الفقه، كما بيناه في أوائل الجزء الأول من التعليقة (1) لإدراج البحث
عن حجية الأمارات دلالة وسندا في علم الأصول فيمكن إدراج البحث هنا أيضا
في المسائل، لأن البحث عن منجزية القطع بأقسامه كالبحث عن منجرية
الأمارات، وكلاهما يفيد في مقام إقامة الحجة على حكم العمل في الفقه.
لأنا نقول: القطع بالحكم عين وصوله حقيقة إلى المكلف ولا يتوقف العلم
بفعل المكلف من حيث الاقتضاء والتنجيز وهو علم الفقه على منجزية القطع،
ليكون نتيجة البحث مفيدة في الفقه، بخلاف ما عدا القطع من أقسام الحجة، فإنه
ليس وصولا حقيقيا للحكم، فلا بد من كونه وصولا تنزليا أو وصولا من حيث
الأثر وهو المنجزية، فيتوقف وصول الحكم إلى المكلف على ثبوت وصوله
تنزيلا أو من حيث الأثر، وهو المبحوث عنه في علم الأصول، وكذا البحث عن
منجزية العلم الإجمالي واستحقاق العقوبة على التجري، فإنه خارج عن مسائل
الفن على جميع التقادير.
نعم، إذا كان البحث في التجري بحثا عن تعنون الفعل المتجرى به، بعنوان
قبيح ملازم بقاعدة الملازمة للحرمة شرعا، دخل في مسائل الفن، لكنه لم يحرر
بهذا العنوان في الكتاب وغيره.
وأما مسألة القطع الطريقي والموضوعي وقيام الأمارة مثلا مقامه تارة، وعدمه
أخرى، فهي خارجة عن مباحث القطع، لأن إمكان قيام الإمارة مقام القطع
بقسميه في تنزيل واحد من لواحق الأمارة، لا من لواحق القطع، إذ النتيجة
بالآخرة ترتب حكم الواقع على ذات المؤدى وترتب حكم الواقع المقطوع به
على المؤدى بما هو مؤدى، من دون لحوق أثر للقطع فتدبر جيدا.
2 - قوله: وكان أشبه بمسائل الكلام (2) إلخ:
حيث إن المسائل الكلامية ليست مطلق المسائل العقلية بل ماله مساس

(1) نهاية الدراية: ج 1، ص 18.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 4 وكفاية الأصول: 257، (ت، آل البيت).
26

بالدينيات والعقائد (1)، فلذا لم يجعلها من مسائل الكلام، لكنه حيث إن مرجع
البحث إلى حسن معاقبة الشارع على مخالفة المقطوع به، صحت دعوى أنها
أشبه بمسائل الكلام فتدبر.
3 - قوله: متعلق به أو بمقلديه إلخ:
وجه تخصيص المكلف بالمجتهد، وتعميم الحكم إلى حكمه، وحكم مقلده،
هو أن عناوين موضوعات الأحكام الظاهرية لا يطبق إلا على المجتهد (2)، فإنه
الذي جاءه النبأ أو جاءه الحديثان المتعارضان وهو الذي أيقن بالحكم الكلي
وشك في بقائه وهكذا.
إلا أن محذوره عدم ارتباط حكم المقلد به، فلا يتصور في حقه تصديق عملي
وجري عملي ولا نقض عملي وإبقاء عملي، فمن يتعنون بعنوان الموضوع ليس
له تصديق عملي ليخاطب به، ومن له تصديق عملي لا ينطبق عليه العنوان
ليتوجه إليه التكليف.
ومنه يعرف أن المحذور ليس مجرد عدم تمكن المقلد من الفحص عن
المعارض، ومن الترجيح ومن البحث عن الأدلة، ليدفع بقيام المجتهد مقام
المقلد فيما ذكر، بل المحذور ما ذكرنا، ويندفع بما ذكرناه في مباحث الاجتهاد
والتقليد (3) من أن أدلة الإفتاء والاستفتاء يوجب تنزيل المجتهد منزلة المقلد،
فيكون مجيئ الخبر إليه بمنزلة مجيئ الخبر إلى مقلده، ويقينه وشكه بمنزلة
ويقين مقلده وشكه، فالمجتهد هو المخاطب عنوانا، والمقلد هو المخاطب لبا
وإلا لكان تجويز الإفتاء والاستفتاء لغوا.
ومع هذا كله فتعميم المكلف إلى المجتهد والمقلد، وتعميم الحكم أيضا
أولى، لأن جملة من أحكام القطع والأصول العملية (4) تعم المقلد أيضا، فلا وجه
للتخصيص بالمجتهد.

(1) شوارق الإلهام: ص 9.
(2) نهاية الأفكار: ج 3، ص 3.
(3) نهاية الدراية: ج 3، ص 430 وبحوث في الأصول في الاجتهاد والتقليد: ص 8، (ط، جماعة
المدرسين) وكفاية الأصول: ج 2، ص 424.
(4) (خ ل): العقلية.
27

" في صحة العدول عن تقسيم الشيخ - ره - وعدمه "
4 - قوله: ولذلك عدلنا عما في رسالة (1) إلخ:
ظاهره أن لزوم التعميم من حيث الواقع والظاهر ولزوم التخصيص من حيث
الفعلية، هو السبب للعدول لا خصوص الأول.
والوجه في سببيتهما لذلك عدم إمكان إرادة الأعم من الواقع والظاهر
وخصوص الفعلي من الحكم الواقع في الرسالة.
أما الأول: فللزوم التكرار المستهجن، لأن مفاد الأمارات والأصول الشرعية
داخل في الحكم الظاهري المقطوع به، فلا مقابلة حقيقة.
وأما الثاني: فللزوم اجتماع الحكمين الفعليين في موارد الأمارات والأصول
الشرعية، فلا يعقل ترتيب الحكم الفعلي على الظن بالحكم الفعلي أو الشك فيه،
فإن الظن بالفعليين والشك فيهما كالقطع بهما محال، إذ الملتفت إلى تقابل
الحكمين الفعليين، كما يستحيل منه القطع بهما، كذلك يستحيل منه الظن بهما أو
احتمالهما مها، بخلاف ما إذا عممنا الحكم من حيث الواقع والظاهر، وخصصناه
من حيث الفعلية، فإنه يقتضي تحرير الأقسام كما حرر في المقام، والمراد بعدم
تثليث الأقسام جعل الظن والشك مطلقا في قبال القطع، وإلا فالقسمة ثلاثية
أيضا، فإن الأقسام المختلفة في الأحكام ثلاثة، القطع بالحكم والظن الانسدادي
على الحكومة وعدمهما، سواء كان ظن ولم يتم دليل الانسداد على الحكومة أو
لم يكن.
والتحقيق إمكان إصلاح (2) ما في الرسالة مع حفظ التعميم والتخصيص، أما
محذور التكرار مع تثليث الأقسام فإنما يصح مع عدم اختلاف الأقسام في
الجهات والأحكام.
ومن الواضح خلافه، بيانه أن محمول الحكم المقطوع به - واقعيا كان أو

(1) والمقصود منها رسائل الشيخ الأعظم - قده -: ج 1، ص 2 و 308.
(2) توجيه تقسيم الشيخ بنظر العلمين: نهاية الأفكار: ج 3، ص 4 وأجواد التقريرات: ج 2، ص 3.
28

ظاهريا - هي الحجة العقلية مثلا، ومحمول الحكم المظنون مطلقا، تارة وجوب
ترتيب الأثر شرعا، وأخرى عدمه.
ومحمول الحكم المشكوك فيه، تارة حرمة نقضه، وأخرى البراءة عنه،
فالحكم مطلقا بما هو مقطوع به له حكم غير ما هو مرتب عليه بما هو مظنون أو
مشكوك فيه، فمفاد الأمارات الشرعية بما هو مظنون له حكم وبما هو مقطوع به
بلحاظ دليل اعتباره له حكم آخر.
وبالجملة: الجهات المبحوث عنها مختلفة، فتختلف باختلافها المحمولات
لعدم تعقل اختلاف المحمولات مع وحدة الموضوع، وملاك تمايز المسائل
تمايز الجهات المبحوث عنها، وأما محذور احتمال الحكمين الفعليين فهو لازم
على أي حال مع قطع النظر عن تحرير البحث هنا، فإن القائل بالبراءة الشرعية
مثلا يقول بالرخصة والإباحة الشرعية في مورد احتمال الحكم الفعلي، سواء
حرر المقام على نحو ما في الرسالة (1) أو لا، وسيأتي الجواب عنه إنشاء الله تعالى
هذا.
مع أن فائدة التقسيم أن يكون كالفهرست لما يبحث عنه في الكتاب، فاللازم
البحث عن أحكام القطع بالحكم والظن الانسدادي وعدمهما، وعليه فالبحث
عن حجية الأمارات ومقتضيات الأصول الشرعية ليس بحثا عن عوارض القطع
بالحكم الأعم من الواقعي والظاهري، بل يكون بحثا عن أسباب القطع تارة، وعن
ثبوت المقطوع أخرى، مع أن مسائل هذا المقصد حسب الفرض منحصرة في
بيان الأمارات المعتبرة شرعا أو عقلا، والبحث فيها عن اعتبارها وهي إنما يصح
جعلها من المسائل إذا كان الموضوع على النهج المرقوم في الرسالة، كما هو
واضح.
لا يقال: البحث عن أسباب القطع بحث عن عوارضه، فإن البحث عن كون
الشئ ذا مبدء بحث عما يلحقه ويحمل عليه كما أن الوجود والموجود موضوع

(1) الرسائل: ج 1، ص 308، في المقدمة على رسالة البراءة.
29

للعلم الإلهي والبحث عن المبدء فيه من أهم مقاصده وأعظم مسائله.
لأنا نقول: هذا إنما يصح إذا كان عنوان البحث كون الأمارة بحسب دليل
اعتبارها سببا للقطع، لا ما إذا كان البحث عن اعتبار الأمارة كما هو المفروض
حتى في هذا الكتاب.
5 - قوله: لئلا يتداخل الأقسام (1) إلخ:
توضيحه: أن المانع من إجراء الأصول هو الحجة، كما أن مورد إجرائها ما لم
يكن هناك حجة فلا مقابلة بين الظن والشك بحسب الغرض المهم، إلا أن
هذا المعنى ليس من التداخل في شئ (2)، بل الإشكال أن ما جعل ملاكا لإجراء
الأصول جوازا ومنعا ليس هو الظن والشك، بل الحجة وعدمها، وإلا فالظن بما
هو ظن لا يلحقه حكم الشك بل بما هو غير حجة، كما أن ما يفيد الشك ليس بما
هو مفيد له حجة، بل بما هو ناظر إلى الواقع، فلا تداخل حقيقة، والأمر سهل،
لكن التحقيق أن التقسيم لبيان فهرست موضوعات المباحث لا لبيان المانع من
إجراء الأصول.
ومن الواضح أن موضوع البحث عن الاعتبار هو الطريق اللا بشرط من حيث
الاعتبار وعدمه، لا الطريق المعتبر، فإنه لا يعقل عروض الاعتبار وعدمه على
الطريق المعتبر، فحق التقسيم أن يقال إن الملتفت إلى حكمه الشرعي، إما أن
يكون له طريق تام إليه أو لا، وعلى الثاني إما أن يكون له طريق ناقص لوحظ لا
بشرط أو لا، وعلى الثاني إما أن لا يكون طريق أصلا أو يكون له طريق بشرط
عدم الاعتبار، وعلى أي تقدير ليس له طريق لا بشرط.
فالأول هو القطع وهو موضوع التنجز.
والثاني هو الطريق المبحوث عن اعتباره وعدمه.
والثالث موضوع الأصول، فتدبر.
ثم لا يخفى أن الغرض من التقسيم إن كان بيان فهرست أصول الأبواب فما

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 5 وكفاية الأصول: 258، (ت، آل البيت).
(2) نهاية الأفكار: ج 3، ص 5.
30

أفاده في المتن وحررناه هنا واف بالمقصود. وإن كان الغرض بيان فهرست
أصناف موضوعات المسائل فلا وجه للاقتصار على بيان مجاري الأصول بل
ينبغي بيان أصناف الأمارات أيضا.
[ويقع الكلام فيه من أمور]
الأمر الأول: في وجوب اتباع القطع
6 - قوله (1): لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلا إلخ:
لا يذهب عليك أن المراد بوجوب العمل عقلا ليس إلا إذعان العقل
باستحقاق العقاب على مخالفة ما تعلق به القطع، لا أن هناك بعثا وتحريكا من
العقل أو العقلاء نحو ما تعلق به، وإن كان هو ظاهر تعليقة أستادنا (2) العلامة - أدام
الله أيامه - على الرسالة، ضرورة أنه لا بعث من القوة العاقلة وشأنها إدراك الأشياء
كما أنه لا بعث ولا تحريك اعتباري من العقلاء، والأحكام العقلائية كما
سيجيئ (3) إنشاء الله تعالى عبارة عن القضايا المشهورة التي تطابقت عليها آراء
العقلاء حفظا للنظام وإبقاء للنوع ك‍ " حسن العدل وقبح الظلم والعدوان ". ولا
ينبغي الارتياب من أحد من أولي الألباب أنه ليس في هذا الباب حكم جديد من
العقل، بل الغرض تطبيق الكبرى العقلية الحاكمة باستحقاق العقوبة على
المعصية الحقيقية لأمر المولى ونهيه على المورد بمجرد تعلق القطع به، وحيث
إن الكبرى العقلية مسلمة وانطباقها على موضوعها قهري، فلذا لا مجال للبحث
إلا عن طريقية القطع وكونه موجبا لانطباق الكبرى على الصغرى. ولأجله علله
- مد ظله - في الرسالة بطريقية الذاتية، وعلى هذا نقول حيث إن القطع حقيقة
نورية محضة بل حقيقته (4) حقيقة الطريقية والمرآتية لا أنه شئ لازمه العقلي

(1) الكفاية: ج 2، ص 8 س 4 وكفاية الأصول: 258، (ت، آل البيت).
(2) حاشية الرسائل للمولى محمد كاظم الطوسي - ره - ص 4، وجملة من عبارته: فنقول إن وجوب
اتباع القطع عقلا... والرسائل: ج 1، ص 4.
(3) التعليقة: 7، ص 35 والتعليقة: 10، ص 41.
(4) (خ ل): حقيقة.
31

الطريقية والانكشاف.
بداهة أن كل وصف اشتقاقي ينتزع عن مرتبة ذات شئ، فمبدئه ينتزع عنه
قهرا وإلا لزم خلف (1)، بل ذاته نفس الانكشاف، وانتزاع الكاشف عنه باعتبار
وجدانه لنفسه ولا معنى للطريقية إلا وصول الشئ بعين حضوره للنفس،
فالطريقية عين ذاته لا من ذاتياته، فلذا لا حالة منتظرة في الإذعان بانطباق الكبرى
العقلية على المورد، فيتحقق بسببه ما هو السبب التام لاستحقاق العقاب بلا
كلام، وحيث إن طريقيته (2) ذاتية فجعل الطريقية له من الشارع غير معقول، لا بما
هو جاعل الممكنات ولا بما هو شارع الشرائع والأحكام.
أما عدم قابليته (3) للجعل بما هو جاعل الممكنات، فلأن المعقول من الجعل
نحوان، بسيط ومركب، والقطع بما هو قطع في مرحلة ذاته وماهيته غير قابلة
للجعل بنحويه على ما هو التحقيق من تعلق الجعل بالوجود، فالماهية ليست
مجعولة ولا لا مجعولة بالجعل البسيط، كما أن الجعل التركيبي بين الشئ ونفسه
غير معقول، لأن وجدان الشئ لذاته وذاتياته ضروري، وقد فرضنا (4) أن القطع
حقيقته عين الانكشاف والنورية، بل لو فرضنا أنه أمر لازمه (5) النورية والمرآتية،
فهو من لوازم الغير المفارقة، والجعل بين الشئ ولوازمه الغير المفارقة أيضا
محال (6)، وأما في مرحلة وجوده فالجعل البسيط له عبارة عن إبداعه وتكوينه
وإيجاده، وهو أمر معقول، ولا دخل له بمورد البحث، إذ إيجاد القطع إيجاد
الطريق وكل قطع وجد في الخارج فهو بعلله مستند إلى جاعل هويات
الممكنات، فجعل القطع جعل الطريق لا جعل ما ليس بطريق بذاته طريقا، كما
هو محل البحث، وأما جعله طريقا بمعنى تعلق الجعل بوجوده الرابطي فهو
محال بعد ما عرفت (7) أن حقيقة القطع حقيقة الطريقية المرآتية، فوجود الطريقية

(1) (خ ل)، والالتزام الخلف.
(2) (خ ل) طريقية.
(3) (خ ل): قابلية.
(4) التعليقة: 6، ص 31.
(5) (خ ل) لازمة.
(6) (خ ل): محالي.
(7) التعليقة: 6، ص 31، (حيث إن القطع حقيقة نورية محضة).
32

له وجود نفسي له لا رابطي فتدبر جيدا فإنه حقيق به.
وأما عدم القابلية للجعل منه تعالى بما هو شارع، فالجعل المعقول منه من
حيث هو شارع هو التصرف في الحكم، حيث إن حيثية الشارعية غير حيثية
الجاعلية. وحينئذ نقول إن الحكم المجعول ثانيا - سواء كان موافقا لما تعلق به
القطع أو مخالفا له - يوجب اجتماع المثلين في الأول واجتماع الضدين أو
المتناقضين في الثاني في نظر القاطع وإن لم يوجبهما في الواقع، وكفى به مانعا،
لعدم تمكن المكلف من تصديقه بعد تصديقه بمثله أو ضده أو نقيضه.
فلا يعقل من المولى حينئذ البعث والزجر، لأنهما لجعل الداعي والمفروض
استحالته في نظر المكلف، مضافا إلى أنه إذن في التجري في صورة المخالفة وهو
كالإذن في المعصية الواقعية قبيح عقلا، بل التحقيق: أن حديث التضاد والتماثل
أجنبي عمن نحن فيه، لما فصلناه في مسألة اجتماع الأمر والنهي (1) أن الحكم
- سواء كان بمعنى الإرادة والكراهة أو البعث والزجر الاعتباريين - ليس فيه تضاد
وتماثل، فإنهما من صفات الأحوال الخارجية للموجودات الخارجية، فراجع،
بل المانع من اجتماع البعثين إما صدور الكثير عن الواحد لو انبعث البعثان
المستقلان عن داع واحد، أو صدور الواحد عن الكثير لو انبعثا عن داعيين، فإن
الفعل الواحد عند انقياد المكلف لمولاه لو صدر عن بعثين مستقلين لزم صدور
الواحد عن الكثير كما أن صدور المقتضي للبعث (2) والزجر لازمه اجتماع
المتناقضين فيلغو البعث بداعي إيجاد الفعل والزجر بداعي تركه.
وأما النقض بالمنع عن الظن القياسي فغير وارد فإن الإشكال فيه، تارة من
حيث إن الظن بالحكم الفعلي مع الترخيص في خلافه فعلا يوجب الظن باجتماع
النقيضين أو الضدين، والظن بغيره وإن صح المنع عنه إلا أن القطع به أيضا
كذلك، وأخرى من حيث إن العقل مستقل بعد الانسداد بمنجزية الظن بما هو
ظن فإذا صح الترخيص في مخالفته شرعا صح في القطع الذي يستقل العقل

(1) نهاية الدراية: ج 1، ص 531 ذيل قول الماتن - ره -: الأحكام الخمسة متضادة في مقام فعليتها
(إلخ).
(2) (خ ل): البعث - لازمة.
33

بمنجزيته، لوحدة الملاك منعا وجوازا.
ويندفع الأول: بأن المراد من الحكم الفعلي هو الإنشاء بداعي جعل الداعي
وهو عقلا متقيد بالوصول بنحو من الأنحاء والقطع به حيث إنه وصوله حقيقة
يكون الواصل مصداقا للبعث حقيقة فلا يعقل بعثا حقيقيا آخر ولا زجرا حقيقيا
عنه، وحيث إن الظن ليس وصولا حقيقيا فلا مانع من البعث الحقيقي على وفاقه
أو الزجر على خلافه.
ويندفع الثاني: بما سيأتي إنشاء الله تعالى في محله (1) من أن الحكم العقلي
في الظن تعليقي دون القطع، كما أن الإشكال على اجتماع المثلين في البعثين،
بأن البعث الثاني يوجب التأكد فلا يلزم اجتماع المثلين، ولا محذور اللغوية،
مدفوع بأن الغرض، إن كان الإنشاء بداعي التأكيد فهو خلف، فإن المفروض كون
الإنشاء الثاني كالأول بداعي جعل الداعي مستقلا، وإن كان خروج البعث الأول
من حد الضعف إلى حد الشدة، ففيه أنه معقول في مثل الإرادة القابلة للاشتداد،
لكن خروجها عن الضعف إلى الشدة بوجود ملاك آخر في المراد لا بحدوث
إرادة أخرى فإنه غير معقول حتى يؤثر في الاشتداد، وأما البعث الاعتباري فلا
يجري فيه الحركة والاشتداد لاختصاصه بالمقولات لا بالاعتباريات مع أن
المفروض حدوث بعث آخر في الموضوع فلا يعقل حدوثه حتى يؤثر في التأكد.
ثم إن هذا كله في الإنشاء بداعي جعل الداعي، وأما إذا كان بداعي تنجيز الواقع
بالقطع، فليس فيه شئ من المحاذير كما سيأتي (2) إنشاء الله تعالى.
7 - قوله: وتأثيره في ذلك لازم وصريح الوجدان به (3) إلخ:
أي تأثير القطع في تنجز التكليف واستحقاق العقوبة على مخالفته، وذلك ما
سيجيئ إنشاء الله تعالى (4) أن استحقاق العقاب مترتب على مخالفة المولى،
حيث إنها هتك لحرمته، فالسبب للاستحقاق هي مخالفة التكليف إلا أن مخالفة

(1).......
(2) التعليقة: 7، ص 35.
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 8 وكفاية الأصول: 258، (ت، آل البيت).
(4) التعليقة: 10، ص 41.
34

التكليف المجهول لما لم تكن موجبة لاستحقاق العقاب فالقطع به وانكشافه له
دخل بنحو الشرطية في تأثير المخالفة في استحقاق العقاب، ولكن ليعلم أن
استحقاق العقاب ليس من الآثار القهرية واللوازم الذاتية لمخالفة التكليف
المعلوم قطعا، بل من اللوازم الجعلية من العقلاء.
لما سيأتي (1) عما قريب إنشاء الله تعالى أن حكم العقل باستحقاق العقاب
ليس مما اقتضاه البرهان، وقضيته غير داخلة في القضايا الضرورية البرهانية بل
داخلة في القضايا المشهورة التي تطابقت عليها آراء العقلاء لعموم مصالحها،
ومخالفة أمر المولى هتك لحرمته وهو ظلم عليه والظلم قبيح أي مما يوجب
الذم والعقاب عند العقلاء، فدخل القطع في استحقاق العقوبة على المخالفة
الداخلة تحت عنوان الظلم بنحو الشرطية، جعلي عقلائي، لا ذاتي قهري كسائر
الأسباب الواقعية والآثار القهرية.
ومنه ينقدح ما في البرهان الآتي من أن الجعل التأليفي لا يكون بين الشئ
ولوازمه، فإنه في المتلازمين واقعا لا جعلا ولو عقلائيا (2)، ولا يرد كل ذلك على
ما سلكناه في الحاشية المتقدمة من البحث عن الطريقية (3) وأنها في القطع حيث
كانت ذاتية فلذا لا يعقل الجعل كما تقدم تفصيله (4). وحيث عرفت أن الحجية
بمعنى المنجزية من اللوازم الجعلية العقلائية، فبناء على أن جعل العقاب من
الشارع يصح القول بجعل المنجزية للقطع شرعا من دون لزوم محذور.
وتوهم لزوم التسلسل نظرا إلى أن الأمر بمتابعة القطع لا يوجب التنجز
بوجوده الواقعي، بل لا بد فيه من العلم وهو أيضا كالسابق يحتاج في تنجزه إلى
الأمر باتباعه.
مدفوع: بأن الأمر الثاني أمر بداعي تنجز الواقع المقطوع به، فهو لا تنجز له،
فوصوله وإن كان مما لا بد منه في صيرورة الأمر الواقعي المعلوم منجزا، لكنه

(1) التعليقة: 10، ص 41.
(2) (خ ل): ولو عقلا.
(3) التعليقة: 6، ص 31: وعلى هذا نقول حيث إن القطع حقيقة نورية محضة.
(4) التعليقة: 6، ص 32.
35

مفروض الحصول وليس لهذا الواصل تنجز في نفسه حتى يحتاج إلى الأمر
بداعي تنجزه بالعلم به.
مضافا إلى أنه لو فرضت القضية طبيعية لعمت نفسها أيضا من دون لزوم
التسلسل.
ومما ذكرناه من دخل القطع جعلا في التنجز يظهر إطلاق صحة الحجة عليه
بالمعنى المتعارف في عرف أهل الميزان، لكونه واسطة في التنجز في القياس
المطلوب منه تنجز الحكم بالقطع، كما يظهر صحة إطلاق الحجة عليه في باب
الأدلة إن أريد منها ما ينجز الواقع.
نعم، إن أريد منها ما يثبت الحكم الفعلي بعنوان أنه الواقع فلا يطلق عليه
الحجة إذ القطع بالحكم عين ثبوت الواقع لدى القاطع، فلا يكون علة لثبوت
الواقع وللتصديق به. ومنه يظهر أن القطع ليس حجة في باب الأدلة أيضا بهذا
المعنى، إذ لا حكم على طبق الواقع فعلا أصلا فضلا من أن يكون بعنوان أنه
الواقع، بخلاف الأمارة المعتبرة فإنها بضميمة دليل اعتبارها مفيدة للحكم
المماثل بعنوان أنه الواقع، فيقع وسطا في القياس المطلوب منه ثبوت الحكم
الفعلي، وفي القياس المطلوب منه ثبوت الواقع عنوانا، وأما القطع الموضوعي
فلا يطلق عليه الحجة إلا بالمعنى المتداول في الميزان (1) لا في باب الأدلة فتدبر
جيدا.

(1) الجوهر النضيد: ص 164.
36

" في مراتب الحكم "
8 - قوله: إن التكليف ما لم يبلغ مرتبة البعث والزجر لم يصر
فعليا (1) إلخ:
لا بأس بتوضيح ما للحكم من المراتب عنده - دام ظله -.
فنقول مراتب الحكم عنده - دام ظله - أربع.
إحديها: مرتبة الاقتضاء، وربما يعبر عنها بمرتبة الشأنية، وجعل هذه المرتبة
من مراتب ثبوت الحكم لعله بملاحظة أن المقتضي له ثبوت في مرتبة ذات
المقتضى ثبوتا مناسبا لمقام العلة، لا لدرجة المعلول، أو لأن المقبول له ثبوت في
مرحلة ذات القابل بما هو قابل ثبوتا مناسبا لمرتبة القابل لا المقبول، إلا أن هذا
المعنى من شؤون المقتضي بمعنى العلة الفاعلية، لا المقتضي بمعنى الغاية
الداعية إلى الحكم، كما أن القابل الذي يوصف بأنه نحو من وجود المقبول ما كان
كالنطفة إلى الإنسان (2)، حيث إنها في صراط المادية والتلبس بالصورة الإنسانية لا
المصلحة ولا الطبيعة القابلة للوجوب، فإن الفعل كالمصلحة ليسا في سبيل
المادية والترقي إلى الصورة الحكمية، كما لا يخفى كل ذلك على العارف بمواقع
الكلام.
نعم، استعداد الطبيعة - بملاحظة اقتضاء ما يترتب عليها من الفائدة للوجوب
مثلا، وصيرورتها واجبا فعليا - لا ينبغي إنكاره، والاستعدادات الماهوية لا دخل
لها بالاستعدادات المادية والطبيعة في مرتبة نفسها، حيث إنها ذات مصلحة
مستعدة باستعداد ماهوي للوجوب، وحيث إن المانع موجود فهو واجب شأني

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 8 - 10 وكفاية الأصول: 258، (ت، آل البيت) وأجود التقريرات:
ج 1، ص 127.
(2) (خ ل): كالنطفة بالإضافة إلى الإنسان.
37

وواجب اقتضائي، وليس هذا معنى ثبوت الحكم في هذه المرتبة، إذ لا ثبوت
بالذات للمصلحة حتى يكون للحكم ثبوت بالعرض بل له شأنية الثبوت وعبارته
" دام ظله " في مبحث الظن من تعليقته الأنيقة (1) أنسب، حيث عبر عن هذه
المرتبة بشأنية الثبوت، بخلاف عبارته - دام ظله - في مبحث العلم الإجمالي من
فوائده (2) حيث عبر عنها بثبوته بثبوت مقتضيه، ولعله يراد به ما ذكره في
التعليقة، والأمر سهل بعد وضوح (3) المقصود، فافهم جيدا.
ثانيتها: مرتبة إنشائه وقد بينا حقيقة الإنشاء في حواشينا على الطلب
والإرادة (4)، وملخصه أن الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ إيجادا لفظيا بحيث ينسب
الوجود الواحد، إلى اللفظ بالذات وإلى المعنى بالعرض، لا إليهما بالذات، فإنه
غير معقول، كما أن وجود المعنى حقيقة منفصلا عن اللفظ بآليته غير معقول، كما
حقق في محله، وعليه ينبغي تنزيل ما قيل من أن الإنشاء قول قصد به ثبوت
المعنى في نفس الأمر، وإنما قيد بنفس الأمر مع أن وجود اللفظ خارجي وهو
المنسوب إلى المعنى بالعرض، لأن المعنى بعد الوضع كأنه ثابت في مرتبة ذات
اللفظ فيوجد بوجوده في جميع المراحل، وبقية الكلام تطلب من غير المقام.
ثالثتها: مرتبة الفعلية، وفي هذه المرحلة يبلغ الحكم درجة حقيقة الحكمية
ويكون حكما حقيقيا وبعثا وزجرا جديا بالحمل الشائع الصناعي، وإلا فمجرد
الخطاب من دون تحريم وإيجاب إنشاء محض، وبين الوجود الإنشائي الذي هو
نحو استعمال اللفظ في المعنى وبين الوجود الحقيقي مبائنة تباين الشئ
بالحمل الأولي وبالحمل الشائع. ومن الواضح أن الوجود لا يكون فردا ومصداقا
لطبيعة من الطبائع إلا إذا حملت عليه حملا شايعا صناعيا، وإذا بلغ الإنشاء بهذه

(1) حاشية الرسائل: ص 36 و 172.
(2) فوائد الأصول: الفائدة: 8، في الشبهة المحصورة، ص 81 س 3 ما هذا لفظه: الأولى ثبوته
بمجرد ثبوت مقتضيه، (ط، وزارة الإرشاد الإسلامية).
(3) هكذا في النسخة - [بعد وضوع...]
(4) نهاية الدراية: ج 1، ص 196، ذيل قوله: أما الصيغ الإنشائية فهي على ما حققناه.
38

المرتبة تم الأمر من قبل المولى فيبقى الحكم وما يقتضيه عقلا من استحقاق
العقاب على مخالفته تارة، وعدمه أخرى، وما لم يبلغ هذه المرتبة لم يعقل
تنجزه واستحقاق العقاب على مخالفته وإن قطع به، لا لقصور في القطع وفيما
يترتب عليه عقلا، بل لقصور في المقطوع، حيث لا إنشاء بداعي البعث وجعل
الداعي حتى يكون القطع به مصححا لاستحقاق العقاب على مخالفته.
رابعتها: مرتبة التنجز وبلوغه إلى حيث يستحق على مخالفته العقوبة،
وجعلها من درجات الحكم ومراتبه، مع أن الحكم على ما هو عليه من درجة
التحصل ومرتبة التحقق بلا ترق إلى درجة أخرى من الوجود، إنما هو بملاحظة
أن ما تم أمره من قبل المولى واستوفى حظه الوجودي منه لم يكن بحيث ينتزع
عنه أنه منجز، ولم يكن من حقيقة التكليف الموجب لوقوع المكلف في كلفة
البعث والزجر، وبلوغه إلى حيث ينتزع عنه هذا العنوان نشأة من نشئات ثبوته،
وإلا فربما يتم الأمر فيه من قبل المولى قبل بلوغه مرتبة البعث الجدي، كما إذا
أنشأ بداعي البعث الجدي وكان فعلية البعث موقوفة على شرط، فإن الإنشاء
الصادر من قبل المولى قد تم أمره من قبله، واستكمل نصيبه من الوجود، لكنه
ليس حينئذ بحيث ينتزع عنه عنوان البعث الحقيقي.
فكما أن بلوغه بهذه المرتبة مع عدم الانقلاب عما هو عليه نحو من الترقي،
فكذلك بلوغه لمرتبة التنجز، هذا على مختاره - دام ظله - في مراتب الحكم.
وسيجيئ إنشاء الله تعالى ما عندنا (1) من أن المراد بالفعلي ما هو الفعلي من قبل
المولى، لا الفعلي بقول مطلق، فمثله ينفك عن المرتبة الرابعة، لكنه عين مرتبة
الإنشاء حيث إن الإنشاء بلا داع محال وبداع آخر غير جعل الداعي ليس من
مراتب الحكم الحقيقي، وبداعي جعل الداعي عين الفعلي من قبل المولى، وإن
أريد من الفعلي ما هو فعلي بقول مطلق فهو متقوم بالوصول وهو مساوق للتنجز
فالمراتب على أي حال ثلاث.

(1) التعليقة: 246، ص 575.
39

9 - قوله: وإن كان ربما يوجب موافقته استحقاق الثواب
[المثوبة] (1) إلخ:
إن كان الفرق بين الثواب والعقاب بلحاظ خصوص الحكم الفعلي فقط،
فالثواب كالعقاب، إذ كما لا بعث ولا زجر فليست المخالفة عصيانا، كذلك لا
جعل للداعي من المولى بالفعل، كي يدعو العبد بالفعل ليستحق الثواب على
الفعل من حيث صدوره عن أمر المولى، فكما لا يستحق العقاب على مخالفة
الحكم الفعلي حيث لا حكم فعلي، كذلك لا يستحق الثواب على موافقة الحكم
الفعلي لعدمه فعلا، وإن كان الفرق لا بلحاظ الحكم الفعلي بل كلية بمعنى أنه
يمكن التفكيك بين العقاب والثواب، فلا يترتب العقاب إلا على مخالفة الحكم
الفعلي دون الثواب، فإنه يمكن ترتبه على الفعل ولو لم يكن هناك حكم فعلي،
كما إذا أتى به بداعي المصلحة التامة الموافقة لغرض المولى، أو بداعي حب
المولى ونحوه.
ففيه: أن العقاب كالثواب فلا يدور مدار خصوص مخالفة الحكم الفعلي بل
يترتب على ترك تحصيل المصلحة التامة الملزمة مع عدم البعث، لمانع عنه
بالخصوص، كغفلة المولى أو اعتقاد عجز العبد عن امتثاله، وتفصيله أن المصلحة
قد تكون قاصرة عن اقتضاء اللزوم والبعث، فالعلم بها لا يوجب تحصيلها في نظر
العقلاء، وقد تكون تامة الاقتضاء ولكن لها مانع عن التأثير في البعث، وهو على
قسمين.
فقد يكون المانع اشتمال البعث على مفسدة فمثل هذه المصلحة غير ملزمة،
لأنها على الفرض مغلوبة، لأن كون العبد ملزما بتحصيل المصلحة ذا مفسدة
غالبة فكيف يعقل أن يكون مثل هذه المصلحة ملزمة في نظر العقلاء.
وقد يكون المانع نظير غفلة المولى أو اعتقاد عجز العبد عن الامتثال، فمثل
هذه المصلحة ملزمة على حد ذاتها، لا مغلوبة غير ملزمة، فالعلم بها يوجب

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 10 وكفاية الأصول: 258، (ت، آل البيت).
40

استحقاق العقوبة على ترك تحصيلها.
" الأمر الثاني: في التجري "
10 - قوله: " الحق أنه يوجبه لشهادة الوجدان بصحة مؤاخذته " (1)
إلخ:
تفصيل ذلك أن استحقاق العقاب على معصية حكم المولى، إما بجعل
الشارع أو بحكم العقل.
فإن كان بجعل الشارع، كما هو أحد طرقه في محله على ما أفاده الشيخ
الرئيس في الإشارات (2)، وغيره في غيرها، فحينئذ لا مقتضي لاستحقاق العقاب
حيث إن الشارع لم يجعل العقاب إلا على المعصية الحقيقية لحكمه، وحيث لا
حكم في المورد فلا عقاب، ولم يرد من الشارع جعل العقاب على مجرد
التجري، وببيان أوفى جعل العقاب - على فعل طائفة من الأفعال وترك جملة
منها من جهة ردع النفوس عن فعل ما فيه المفسدة وترك ما فيه المصلحة - واجب
بقاعدة اللطف، وما فيه المفسدة ذات شرب الخمر لا هو بعنوان كونه مخالفة
لنهي المولى، فإذا وصل هذا الجعل الواقعي صار فعليا وإلا فلا، إذ كما أن
مقتضى قاعدة اللطف جعل العقاب، كذلك مقتضاها إيصاله وتبيينه للمكلف،
والمفروض أن ما فعله المتجري لم يشتمل بذاته على مفسدة واقعا، فلا عقاب
عليه من الشارع وإن اعتقده من جهة اعتقاد الحرمة.
وإن كان الاستحقاق بحكم العقل كما هو ظاهر المشهور فحينئذ لا ينبغي
الشبهة في استحقاق العقاب على التجري لاتحاد الملاك فيه مع المعصية
الواقعية، بيانه: أن العقاب على المعصية الواقعية ليس لأجل ذات المخالفة مع

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 9 وكفاية الأصول: 259، (ت، آل البيت).
(2) الإشارات والتنبيهات: ج 3، ص 371 والأسفار: ج 9، ص 21 - 22.
41

الأمر والنهي، ولا لأجل تفويت غرض المولى بما هو مخالفة وتفويت، ولا لكونه
ارتكابا لمبغوض المولى بما هو، لوجود الكل في صورة الجهل (1) بل لكونه هتكا
لحرمة المولى وجرئة عليه، إذ مقتضى رسوم العبودية إعظام المولى وعدم
الخروج معه عن زي الرقية، فالإقدام على ما أحرز أنه مبغوض المولى خلاف
مقتضى العبودية ومناف لزي الرقية، وهو هتك لحرمته، وظلم عليه، وهذا الحكم
العقلي من الأحكام العقلية الداخلية في القضايا المشهورة المسطورة في علم
الميزان في باب الصناعات الخمس (2)، وأمثال هذه القضايا مما تطابقت عليه
آراء العقلاء لعموم مصالحها وحفظ النظام وبقاء النوع به، وأما عدم كون قضية (3)
حسن العدل وقبح الظلم - بمعنى كونه بحيث يستحق عليه المدح أو الذم - من
القضايا البرهانية.
فالوجه (4) فيه أن مواد البرهانيات، منحصرة في الضروريات الست (5)، فإنها:
[1] - إما أوليات ك‍ " كون الكل أعظم من الجزء " و " كون النفي والإثبات لا
يجتمعان ".
[2] - أو حسيات سواء كانت بالحواس الظاهرة المسماة بالمشاهدات ك‍ " كون
هذا الجسم أبيض " أو " هذا الشئ حلوا أو مرا " أو بالحواس الباطنة المسماة
بالوجدانيات وهي الأمور الحاضرة بنفسها للنفس ك‍ " حكمنا بأن لنا علما وشوقا
وشجاعة ".
[3] - أو فطريات وهي القضايا التي قياساتها معها ك‍ " كون الأربعة زوجا " لأنها
منقسمة بالمتساويين، وكل منقسم بالمتساويين زوج.

(1) لا يقال: يمكن أن يكون المخالفة مقتضية لاستحقاق العقاب والعلم شرطا نظير الكذب فإنه
مقتض للقبح، لأنا نقول لا اقتضاء للعناوين بالإضافة إلى أحكامها، إذ لا معنى للتأثير والتأثر فيها ومعنى
كون الكذب مقتضيا أنه لو خلي ونفسه يندرج تحت عنوان قبيح بالذات وليست المخالفة كذلك بل لا بد من
العلم إلى اندراجها تحت عنوان قبيح بالذات (منه عفي عنه).
(2) شرح المنظومة: ج 1، ص 338. بتصحيح الأستاذ آية الله حسن زاده آملي.
(3) (خ ل): قضيته.
(4) وسيجيئ إنشاء الله تعالى في دليل الانسداد تفصيل ذلك بوجه برهاني أيضا، (منه عفي عنه) -
التعليقة: 134.
(5) الجوهر النضيد: ص 169.
42

[4] - أو تجربيات وهي الحاصلة بتكرر المشاهدة ك‍ " حكمنا بأن سقمونيا
مسهل.
[5] - أو متواترات ك‍ " حكمنا بوجود مكة " لإخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على
الكذب عادة.
[6] - أو حدسيات موجبة لليقين، ك‍ " حكمنا بأن نور القمر مستفاد من
الشمس " لتشكلات البدرية والهلالية وأشباه ذلك.
ومن الواضح أن استحقاق المدح والذم بالإضافة إلى العدل والظلم ليس من
الأوليات بحيث يكفي تصور الطرفين في الحكم بثبوت النسبة، كيف، وقد وقع
النزاع فيه من العقلاء؟.
وكذا ليس من الحسيات بمعنييها كما هو واضح، لعدم كون الاستحقاق
مشاهدا، ولا بنفسه من الكيفيات النفسانية الحاضرة بنفسها للنفس.
وكذا ليس من الفطريات، إذ ليس لازمها قياس يدل على ثبوت النسبة.
وأما عدم كونه من التجربيات والمتواترات والحدسيات ففي غاية الوضوح،
فثبت أن أمثال هذه القضايا غير داخلة في القضايا البرهانية بل من القضايا
المشهورة.
" ما ذا يراد من ذاتية حسن العدل وقبح الظلم "
وأما حديث كون حسن العدل وقبح الظلم ذاتيا، فليس المراد من الذاتي ما
هو المصطلح عليه في كتاب الكليات، لوضوح أن استحقاق المدح والذم ليس
جنسا ولا فصلا للعدل والظلم.
وليس المراد منه ما هو المصطلح عليه في كتاب البرهان، لأن الذاتي هناك ما
يكفي وضع نفس الشئ في صحة انتزاعه منه، كالإمكان بالإضافة إلى الإنسان
مثلا، وإلا لكان الإنسان في حد ذاته، إما واجبا أو ممتنعا، ومن الواضح بالتأمل أن
الاستحقاق المزبور ليس كذلك، لأن سلب مال الغير مثلا، مقولة خاصة بحسب
43

أنحاء التصرف، وبالإضافة إلى كراهة المالك الخارجة عن مقام ذات التصرف
ينتزع منه أنه غصب، وبالإضافة إلى ترتب اختلال النظام عليه بنوعه، وهو أيضا
خارج عن مقام ذاته ينتزع منه أنه مخل بالنظام وذو مفسدة عامة فكيف ينتزع
الاستحقاق المتفرع على كونه غصبا وكونه مخلا بالنظام عن مقام ذات التصرف
في مال الغير؟.
بل المراد بذاتية الحسن والقبح كون الحكمين عرضا ذاتيا، بمعنى أن العدل
بعنوانه والظلم بعنوانه يحكم عليهما باستحقاق المدح والذم من دون لحاظ
اندراجه تحت عنوان آخر، بخلاف سائر العناوين فإنها ربما تكون مع حفظها
معروضا لغير ما يترتب عليه لو خلي ونفسه ك‍ " الصدق والكذب " فإنها مع حفظ
عنوانهما في الصدق المهلك للمؤمن والكذب المنجي للمؤمن، يترتب
استحقاق الذم على الأول بلحاظ اندراجه تحت الظلم على المؤمن، يترتب
استحقاق المدح على الثاني لاندراجه تحت عنوان الإحسان إلى المؤمن.
وإن كان لو خلي الصدق والكذب ونفسهما يندرج الأول تحت عنوان العدل
في القول والثاني تحت عنوان الجور [في القول] فضلا عن سائر الأفعال التي في
نفسها لا تندرج تحت عنوان ممدوح أو مذموم.
ثم إن استحقاق العقوبة هل هو على الفعل، أو على مقدماته كالعزم والإرادة
وهذا الترديد جار في المعصية الواقعية، لوحدة الملاك على الفرض.
والتحقيق هو الأول، لأن العزم على الظلم من دون تحقق الظلم ليس بظلم، إذ
ليس مخلا بالنظام ولا ذا مفسدة نوعية يوجب تطابق آراء العقلاء على قبحه،
وبالجملة العبد بفعل ما أحرز أنه مبغوض المولى يخرج عن رسم العبودية وزي
الرقية، لا بمجرد عزمه على الفعل.
ويؤيده أن الهتك أمر قصدي، وإلا لم يستحق عليه العقاب، ولم يتصف
بالقبح، لأنه من صفات الأفعال الاختيارية فلو انطبق الهتك على مجرد العزم
والقصد، لزم إما عدم كون الهتك قصديا، أو كون القصد قصديا، وإمكان كونه
44

كذلك وكفايته في ذلك كما نبهنا على ذلك في أوائل الكتاب (1)، لا يوجب الوقوع
دائما، مع أنه يستحق العقاب على هتكه في جميع موارد التجري وأما الإشكال
على المصنف بأن عنوان الهتك والجرئة على المولى، كما يصدق على القصد
والعزم، كذلك على الفعل، فغير وجيه، إذ بعد فرض صدقه على القصد يستلزم
ترتب عقابين، لتحقق الملاك في كل من القصد والفعل، وهما مقولتان متباينتان
ليس بينهما اتصال على حد اتصال الأمور التدريجية، ليكون الكل هتكا واحدا،
بل هناك على الفرض معنونان بهذا العنوان، وكل من الفعلين فيهما ملاك
استحقاق العقوبة، فالصحيح مع انطباق العنوان الموجب للاستحقاق إلا على
الفعل الاختياري.
فإن قلت: ما ذكرت من انطباق عنوان الهتك على الفعل المتجرى به إنما
يستتبع استحقاق العقوبة إذا صدر عن اختيار، حيث إن الحسن والقبح العقليين
من صفات الأفعال الاختيارية، مع أن المتجري إنما قصد هتك مولاه بشرب
الخمر الواقعي والمفروض عدم حصوله، فلم يصدر منه هتك اختياري بل سيأتي
إنشاء الله من الأستاد العلامة - أدام الله أيامه - (2) موافقا لما في تعليقته المباركة (3)
أنه لم يصدر منه فعل اختياري أصلا، إذ ما تصوره وهاجت رغبته إليه واشتاقه
وهو " شرب الخمر " لم يصدر منه، وما صدر منه وهو " شرب الماء " فلم يتصوره،
ولم يمل إليه، ولم يقصده، فكيف يكون اختياريا مع عدم مبادي الاختيار.
قلت: الحركة لا تخلو عن كونها إما بقسر القاسر، أو بالطبع، أو بالإرادة،
وشرب هذا المايع الشخصي المشار إليه بالإشارة الحسية ليس معلولا لقسر
القاسر ولا للطبع قطعا بل معلول للإرادة، غاية الأمر أن تعلق الإرادة الشخصية
بهذا المايع الحسي بواسطة اعتقاد أنه الخمر وتخلفه، لا يوجب كون هذا الشراب
الشخصي بلا إرادة، وبالجملة الشوق الكلي إلى شرب الخمر يتخصص بشرب

(1) التعليقة: 7، ص 34 ونهاية الدراية: ج 1، وص.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 13، كفاية الأصول: ص 260 (ت، آل البيت)، مع أن الفعل المتجرى
به أو المنقاد به... لا يكون اختياريا.
(3) حاشية الرسائل: ص 13، قال في ذيل التنبيه الأول، مع أن الفعل المتجرى به أو المنقاد به...
لا يكون اختياريا...
45

هذا المايع الخاص بواسطة اعتقاد أنه الخمر، والخطأ في التطبيق لا يخرج هذا
الشرب عن كونه إراديا، فهذا هو الوجه في كون هذه الحركة إرادية، لا بواسطة أن
العام بتبع إرادة الخاص إرادي حتى يشكل بأن الحصة التي كانت في ضمن
الخاص وإن كانت إرادية، لكنها لم توجد والحصة الأخرى في ضمن غير ذلك
الخاص لا وجه لإراديتها، فإن ما بالتبع لا بد من أن ينتهي إلى ما بالأصالة، ولا
إرادة في الخاص الآخر حتى يكون الحصة المتحققة في ضمنه إرادية تبعا، كما أن
العام بما هو لم يتعلق به إرادة بالأصالة.
وأما توهم (1) أن الجامع اختياري، لمجرد كونه ملتفتا إليه، والقدرة على فعله
وتركه وإن لم يكن محط الإرادة الأصلية، نظير ما إذا شرب (2) الخمر لأجل كونه مايعا
باردا لا لأجل كونه خمرا، فإنه يستحق عقاب شرب الخمر مع أن شرب الخمر
ليس محط الإرادة الأصلية، فكذا فيما نحن فيه فإن الجامع وإن لم يكن محط
الإرادة الأصلية لكنه يكفي في اختياريته الالتفات إليه والقدرة على تركه.
فموضوع: بأنه كلام مجمل، فإنه إن أريد كفاية الالتفات والقدرة في
اختيارية (3) الفعل، ففيه: أن الفعل الاختياري ما صدر عن شعور وقدرة وإرادة، لا
مجرد الشعور والقدرة فقط. وإن أريد أن الجامع مراد بالعرض أو بالتبع قياسا
للجامع هنا بالخصوصية في المثال المزبور، ففيه، أن الإرادة التبعية لا توجد إلا
في فعلين مترتبين كالمقدمة وذيها، لا كالجامع وخصوصيته.
والإرادة العرضية وإن كانت توجد في الجامع وخصوصيته، إلا أن ما بالعرض
لا بد من أن ينتهي إلى ما بالذات، والمفروض أن الخصوصية التي أريدت فنسبت (4)
إلى الحصة المتحققة بها تلك الإرادة بالعرض، لم توجد من رأس، والخصوصية
الأخرى لم يتعلق بها الإرادة، حتى تنسب إلى الحصة الموجودة في ضمنها،
والمفروض أيضا عدم إرادة الجامع بما هو.
وأما الوجه في اختيارية (5) المثال المذكور هو أن الشوق المتعلق بالتبريد
بالمايع قد انبعث عنه شوق إلى مقدمة التبريد فشرب الخمر مراد بتبع إرادة

(1) درر الفوائد: 336.
(2) (خ ل): شربت.
(3) (خ ل): اختيارته.
(4) (خ ل): فنسب.
(5) (خ ل): اختيارته.
46

التبريد، والحرام لا يتفاوت اختياريته بتفاوت الأغراض الداعية، لا أن شرب
المايع البارد متعلق الإرادة، ومجرد الالتفات إلى خمريته والقدرة على تركه
مصحح اختيارية شرب الخمر، ولا أن الإرادة المتعلقة بالجامع منسوبة إلى
الخصوصية الغير المختلفة عنه بالعرض، فإن الإرادة العرضية لا تصحح
التكليف، فإنها في الحقيقة ليست إرادة مستقلة في جنب إرادة الجامع بل إرادة
متعلقة بالجامع، ومنسوبة بالعرض والمجاز إلى الخصوصية، نظير العرض الذاتي
والغريب بل هو هو بالدقة، بل النسبة بين التبريد بالمايع وشرب الخمر نسبة
المسبب إلى سببه والفعل التوليدي بالإضافة إلى ما يتولد منه، فالتبريد مشتاق
إليه بالأصالة وشرب الخمر المبرد بالتبع.
فإن قلت: إذا شرب الخمر ملتفتا إلى خمريته مشتاقا إلى ميعانه، فهو مريد
للجامع وهو المايع، والخمرية غير مرادة، وإنما هي ملتفت إليها، ولا إرادة تبعية
لمكان الاتحاد، وإن كان الخاص والفرد مجرى الفيض بالإضافة إلى العام والكلي،
والإرادة العرضية غير مصححة للتكليف.
قلت: تخصص الشوق إلى المائع بما هو مائع بخصوص الحصة المتخصصة
بالخمرية لا يكون إلا عن شوق بهذه الحصة بما هي حصة، ولا نعني بالخمر إلا
هذه الحصة من المايع، وقد عرفت أن اختلاف الأغراض لا يوجب التفاوت في
إرادية ما يترتب عليه الغرض.
هذا كله في إرادية أصل الفعل، وأما الهتك فلا واقع له إلا الفعل الذي أحرز
أنه مبغوض المولى، فيتوجه القصد إليه بتوسط الإحراز المخالف للواقع، ولا
واقع للعنوان القصدي إلا ما يتقوم بالقصد. ومن الواضح أن هتك حرمة المولى
بشرب ما اعتقده خمرا أمر معقول وهو واقع الهتك الاختياري.
وتوهم (1): أن عنوان هتك حرمة المولى والظلم عليه لا يتحقق إلا في فرض
وصول التكليف، فمخالفة التكليف الواصل مصداق الهتك والظلم، ولا علم هنا
بالتكليف بل هو جهل مركب، ولا موجب لتسرية حكم العلم إلى الجهل. مدفوع:
بأن التكليف بوجوده الواقعي كما لا يمكن أن يكون مناط الهتك والظلم - إذ ليس

(1) أجود التقريرات: ج 2، ص 30.
47

من رسوم العبودية أن لا يخالف التكليف الواقعي - كذلك لا يمكن أن يكون
بوجوده الواقعي دخيلا في تحقق الهتك والظلم، بل الموضوع لحكم العقل ما هو
الحاضر عنده في وعاء وجدانه، فنفس الحركة على خلاف ما أحرز أنه مبغوض
مولاه بما هو محرز في موطن الوجدان هو الموضوع لحكم العقل، فتدبر جيدا.
11 - قوله: مع بقاء الفعل المتجرى به (1) إلخ:
قد عرفت حال الفعل من حيث عنوان هتك الحرمة ونحوه.
وأما من حيث وقوع التزاحم بين الجهة الواقعية والجهة الطارئة كما عليه في
الفصول (2) فتحقيق القول فيه أن التزاحم بين الجهتين، تارة من حيث إنهما
ملاكان لحكمين مولويين، وأخرى من حيث إنهما ملاكان للحسن والقبح العقليين
بمعنى استحقاق المدح والذم.
وأما إذا كان إحديهما ملاكا للحكم المولوي والأخرى للمدح والذم فلا تزاحم
بينهما، حيث لا منافاة بين الوجوب الواقعي واستحقاق الذم على فعله، لدخوله
تحت عنوان قبيح بالذات، ولا بين الحرمة الواقعية واستحقاق المدح على فعله،
لدخوله تحت عنوان حسن بالذات، ولا تكون ملاكات الحسن والقبح بهذا
المعنى مناطات للأحكام المولوية حتى يتحقق التزاحم بالواسطة، وذلك لأن
الحكم المولوي لا يصلح للدعوة إلا باعتبار ما يترتب على موافقته ومخالفته من
المثوبة والعقوبة عقلا، ومع حكم العقل باستحقاق المدح والثواب أو الذم
والعقاب، لا يبقى مجال لإعمال المولوية بالبعث والزجر، ومنه تعرف عدم
المزاحمة بين جهة التجري التي هي ملاك استحقاق العقاب، والجهة التي هي
مناط الوجود المولوي، وأما إذا فرض الملاكان من سنخ واحد.
فإن كانا ملاكين للمدح والذم، فمن البين أن ملاك التجري والانقياد إنما يؤثر،
لعدم صلاحية الجهة الواقعية للتأثير في خلافه، لأن الحسن والقبح من صفات
الأفعال الاختيارية، فما لم يصدر بعنوانه المؤثر في حسنه أو قبحه بالاختيار لا

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 11 وكفاية الأصول: 259، (ت، آل البيت).
(2) الفصول: ص 431، في الفصل الأخير من الاجتهاد والتقليد.
48

يتصف بالحسن والقبح فعلا.
وإن كانا ملاكين للحكم المولوي، فهو لا يتصور في مثل عنوان التجري
ونحوه، كما عرفت بل في مثل عنوان مقطوع الوجوب والحرمة، إما بنفسهما أو
من حيث ملازمتهما (1) لعنوانين واقعيين هما ملاكان للحكم المولوي، فإن كان
نفس عنواني مقطوع الوجوب أو مقطوع الحرمة ملاكا فهو كما سيأتي إنشاء الله
تعالى حيث إنه عنوان محض لا أنه غرض من المأمور به أو المنهي عنه، فلا
محالة يجب أن يصدر بعنوانه بالاختيار حتى يتحقق الإطاعة والعصيان
وسيجيئ إنشاء الله تعالى أنه ليس كذلك دائما بل أحيانا.
وإن كان العنوان الملازم ملاكا، فإن كان أيضا عنوانا محضا فهو أيضا غير قابل
للتأثير فضلا عن المزاحمة، للجهل به فضلا عن صدوره بالاختيار، وإن كان غرضا
فهو قابل للتأثير، إذ لا يشترط في الأغراض الواقعية التي هي ملاكات الأحكام
المولوية، أن تكون معلومة وأن تصدر بالاختيار، بل يكفي في اختيارية الفعل
المتعلق للحكم، صدوره بنفسه بالاختيار، لكن حيث إن العنوان الطارئ الملازم
لعنوان المقطوع كالعنوان الواقعي المؤثر بذاته في الحكم المولوي مجهول،
فلا يمكن إحراز الغالب والمغلوب منهما، فتصور العنوان الواقعي المجهول (2)
لا يكاد يجدي شيئا إلا في إمكان الحكم المولوي، لا في مقام تحقق التزاحم
والحكم بغلبة أحدهما على الآخر.
ومن جميع ما ذكرنا تبين أن ما أفاده - شيخنا العلامة الأنصار - قده - في هذا
المقام (3) أن قبح التجري ذاتي بمعنى العلة التامة أو بمعنى الاقتضاء من دون
مانع عن تأثيره - لعدم صلاحية العنوان الواقعي المجهول للتأثير، حيث لم يصدر
بعنوانه بالاختيار - إنما يصح فيما إذا كان التزاحم بين ملاكين للحسن والقبح
العقلين وأما في غيره فالصحيح ما ذكرنا.

(1) (خ ل): ملازمتها.
(2) (خ ل): عنوان واقعي مجهول.
(3) الرسائل: ص 6. والرسائل: ج 1، ص 11، س 5: (ط، جماعة المدرسين)، وجملة من
كلامه: أقول يرد عليه أولا من منع ما ذكره.
49

وأما توهم (1) أن جهة التجري غير منتزعة عن مقام ذات الفعل بل من حيث
المخالفة للأمر والنهي، وهي في طول الجهة الواقعية المنتزعة عن ذات الفعل،
فتؤثر كل واحدة منهما أثرها لتعدد منشأ الانتزاع، فموضوع: بأن الغرض إن كان
عدم التضاد بين الأثرين لتعدد الموضوع، ففيه: أن بناء الامتناع على أن وحدة
الهوية المعنونة بعنوانين يوجب التضاد، سواء كان العنوانان طوليين أو عرضيين،
وإن كان عدم التزاحم، لأن الجهة السابقة لا مزاحم في مرتبتها فتؤثر أثرها ولا
تصل النوبة إلى تأثير الجهة اللاحقة، ففيه: ما مر مرارا في مباحث (2) الألفاظ
وسيأتي إنشاء الله تعالى أن ملاك التمانع في التأثير هي المعية الوجودية، والمانع
هو التقدم والتأخر في الوجود وأما التقدم والتأخر بالطبع والذات فلا يعقل أن
يجدي شيئا بعد كون المتقدم والمتأخر بالطبع لهما المعية في الوجود الحقيقي.
12 - قوله: ضرورة أن القطع بالحسن أو القبح لا يكون من الوجوه
والاعتبارات (3) إلخ:
أما عدم كونه من الوجوه المحسنة أو المقبحة عقلا فواقع، إذ لا واقع للحسن
والقبح عقلا ولا لكون شئ وجها موجبا لهما إلا في ظرف وجدان العقل، وعدم
كون عنوان مقطوع الوجوب والحرمة من العناوين الحسنة والقبيحة بالذات
ك‍ " العدل والظلم " مما لا شبهة فيه، وكذا عدم كونهما من العناوين العرضية
المنتهية إلى العناوين الذاتية ك‍ " الصدق والكذب " لعدم كونهما ذا مصلحة
ومفسدة في نظر العقل، لا بنحو العلية التامة كما في الأولى ولا بنحو الاقتضاء كما
في الثانية، لكنك قد عرفت آنفا (4) أن عنوان هتك الحرمة من عناوين الفعل
ووجوهه، فلا حاجة إلى إحراز عنوانية مقطوع الحرمة مثلا للفعل لإثبات
استحقاق العقاب على الفعل المتجرى به.
وأما عدم كونه ملاكا للمحبوبية والمبغوضية الشرعية -

(1) نهاية الأفكار: ج 3، ص 33.
(2) نهاية الدراية: ج 1، ص 234، في التعبدي والتوصلي.
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 11 وكفاية الأصول: 260، (ت، آل البيت).
(4) التعليقة: 10، ص 41، وأما الهتك فلا واقع له إلا الفعل.
50

فإن أريد كونه ملاكا في نظر العقل فيكون ملاكا في نظر الشارع، لأن الحكم
الشرعي تابع للمصالح والمفاسد الواقعية، لا للأغراض النفسانية والاقتراحات
الغير العقلائية، ففيه: أنه قد تبين عدم كونه من العناوين ذوات المصلحة
والمفسدة بقسميها في نظر العقل، فلا ملاك من هذه الجهة في نظر الشارع كي
يحكم على طبقه.
وإن أريد كونه ملاكا في نظر الشارع وإن لم يدركه العقل، لقصوره عن الإحاطة
بجميع الخصوصيات ففيه: أن الفعل إذا كان ملاكه معلوما وكان الملاك مثل
عنوان المقطوع عنوانا محضا لا غرضا خارجيا قائما بذات الفعل، كما هو
المفروض، فلا بد أن يصدر بما له من الملاك المعنون به الفعل عن اختيار، والقطع
حيث إنه في مرحلة الامتثال ملحوظ آلي لا استقلالي فلا يكاد يصدر الفعل بما
هو مقطوع الوجوب والحرمة بالاختيار فلا يتصف بالحسن والقبح عقلا، كما
لا يتصف بالوجوب والحرمة شرعا.
ودعوى: أن القطع صفة حاضرة بنفسها، فلا حاجة في حضورها إلى
الالتفات إليها استقلالا وإلا لزم سد باب القطع الموضوعي.
مدفوعة: بأن عنوان مقطوع الوجوب والحرمة إذا كان عنوانا للفعل وموردا
للتكليف، فلا بد من أن يصدر بعنوانه بالاختيار، ولا يجدي مجرد وجوده،
ولا يقاس بالقطع الموضوعي، فإنه عنوان الموضوع لا لمتعلق التكليف فلا يلزم
منه سد باب القطع الموضوعي.
نعم، احتمال ملازمة هذا العنوان لملاك واقعي قائم وصدوره بما له من
العنوان عن قصد غير لازم، كيف والأحكام الشرعية الغير المستندة إلى الأحكام
العلقية لها ملاكات واقعية، وهي غالبا مجهولة، وموضوعاتها اختيارية بنفسها،
لا بعناوينها المنتزعة عن ملاكاتها؟ ولا دافع لهذا الاحتمال إلا عدم معقولية
البعث بعد البعث، إذ الغرض من البعث جعل الداعي للعبد، وبعد القطع به ولو
كان مخالفا للواقع لا مجال لجعل الداعي، فإنه تحصيل للحاصل، مضافا إلى لزوم
اجتماع المثلين في نظر القاطع، وإن لم يلزم في الواقع، فيلزم لغوية الحكم حيث
51

لا يتمكن من تصديقه إلا على وجه الخلف بانعدام الحكم المقطوع به، إلا أنه
يجدي بالإضافة إلى البعث والزجر، لا بالنسبة إلى الإرادة والكراهة بناء على
أصالة الوجود وبقاء حقيقة الأعراض ك‍ " السواد والبياض " عند الحركة والاشتداد،
فذات الإرادة المقطوع بها إذا حدث فيها مصلحة موجبة لإرادتها تأكدت الإرادة،
فلا يلزم اجتماع المثلين أو الخلف.
13 - قوله: قلت العقاب إنما يكون على قصد العصيان والعزم على
الطغيان إلخ:
قد عرفت أن الفعل المتجرى به معنون بعنوان هتك الحرمة، وقد صدر عن
اختيار بواسطة إحراز الحكم ولو كان مخالفا للواقع، فراجع (1)، وإلا قصد العصيان
ليس معنونا بأحد العناوين القبيحة بالذات، ك‍ " الظلم " لما عرفت أن العزم على
الظلم ليس بظلم، لعدم كونه ذا مفسدة مخلة بالنظام، حتى يكون موردا لتطابق
الآراء على قبحه.
ولا يخفى عليك أن الكلام هنا في ما يوجب استحقاق الذم والعقاب عند
العقلاء من دون فرق بين أوامر الشارع والموالي، وليس الكلام في ما يقتضي
إجراء العقاب كي يورد عليه باستحالة التشفي في حقه تعالى، وسيجيئ ما
ينفعك إنشاء الله في دفعه.
14 - قوله: إن قلت إن القصد والعزم إنما يكون من مبادي
الاختيار (2) إلخ:
قد عرفت ما يغنيك عن ذلك، لعدم ترتب العقاب على القصد بل على الهتك
الاختياري، نعم إشكال انتهاء كل فعل اختياري إلى ما لا بالاختيار بل انتهاء كل
ذلك إلى الإرادة الأزلية والمشية الإلهية أمر آخر لا اختصاص له بالمقام، وقد
أشبعنا الكلام فيه في مبحث الطلب والإرادة (3).

(1) التعليقة: 10، ص 42.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 14 وكفاية الأصول: 260، (ت، آل البيت).
(3) نهاية الدراية: ج 1، ص 204، في ذيل كلام الماتن: قلت إنما يخرج بذلك عن الاختيار إلخ.
52

15 - قوله - مد ظله -: قلت مضافا إلى أن الاختيار وإن لم يكن
بالاختيار إلخ:
إذ الإرادة لا توجد عن إرادة متعلقة بنفسها، لكن ليس ذلك مناط الإرادية
والاختيارية، بل الموجود يتصف بالاختيارية إما بواسطة تعلق القصد به، أو بما
يتوقف عليه الإرادة من قبيل الثاني، فإن المقدمات المؤدية إلى إرادة الفعل إنما
تكون علة تامة لها إذا لم يحدث مانع عنها، والتأمل فيما يترتب على متابعة
الهوى ومخالفة المولى مانع اختياري عن تأدية المقدمات إلى إرادة الفعل،
وعدمه - أيضا - اختياري موجب لاختيارية إرادة الفعل.
ومثل المقام يكفي فيه سبق الإرادة بالإرادة، ولا يجب عدم انتهائها إلى ما لا
بالإرادة، ولا يجب عدم انتهائها إلى ما لا بالاختيار، إذ المفروض أن استحقاق
العقاب مترتب على قصد الحرام وإرادة الطغيان على المولى بفعل ما أحرز أنه
مبغوض له وهذه الخصوصية لا توجد في الإرادة السابقة كي تكون مثل اللاحقة
في إيجاب العقاب، فيجري ما جرى في لاحقها، مع أن الكلام في التسوية بين
المعصية الحقيقية والتجري، فكما كان يكفي في الاختيارية مجرد صدور الفعل
عن إرادة، كذلك يكفي فيها حدوث الإرادة عن إرادة وإن لم يوجب كون كل إرادة
عن إرادة، لكنه قد أشرنا سابقا (1) إلى أن مجرد إمكان حدوث القصد عن قصد لا
يجدي في المقام، إذ الكلام في موارد التجري بفعل ما اعتقد حرمته عن قصد،
وإن لم يكن القصد عن مقدمات قصدية مما أفاده (2) في استحقاق العقاب على
القصد، لا يفيد إلا في موارد مخصوصة.
نعم، إذا كان الإشكال في اختيارية القصد من حيث عدم كونه مقدورا لترتبه
على مباديه الغير الاختيارية قهرا، فالجواب عنه بالتمكن من التأمل - إلى آخر
ما أفاده - وجيه، إلا أن الاختيارية لا تتوقف على مجرد القدرة بل الشعور والقصد
- أيضا - فتدبر. مع أن إشكال التسلسل (3) يناسب عدم الاختيارية من حيث

(1) التعليقة: 10، ص 44.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 14.
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 14، س 7، وكفاية الأصول: 261، (ت، آل البيت)، وإلا لتسلسل.
53

القصد لا من حيث القدرة.
16 - قوله: أن حسن المؤاخذة والعقوبة إنما يكون من تبعة بعده
عن سيده إلخ:
قد أشرنا (1) آنفا إلى أن الكلام، تارة في ما يوجب استحقاق العقاب عند
العقلاء، وأخرى فيما يقتضي إجراء العقاب ممن خولف أمره ونهيه، وأحد
الأمرين لا دخل له بالآخر، والكلام هنا في مرحلة الاستحقاق عقلا كما هو
المقتضى تحرير البحث منه - دام ظله - (2) وموضوعه كما عرفت بالبرهان ليس
إلا الهتك الاختياري المنطبق على فعل ما أحرز أنه مبغوض المولى، وانتهائه إلى
الإرادة الأزلية غير ضائر، إذ انتهاء سلسلة الاختيار إليه " تعالى "، كما يصح عند
العقلاء الذم والعقاب لمولى عرفي بالنسبة إلى عبده، كذلك له " تعالى " بالإضافة
إلى عبيده، وإلا لما صحت المؤاخذة للموالي العرفية بالإضافة إلى مماليكهم،
كما هو واضح.
وأما فعلية التعذيب وإجراء العقاب من رب الأرباب مع استحالة التشفي منه
" تعالى " فقد تعرضنا لها في حواشينا على الطلب والإرادة (3) بما لا مزيد عليه، فلا
حاجة إلى الإعادة، فما أفاده - دامت إفاداته - (4) في المقام من أن العقوبة من تبعة
التجري ولو كان غير اختياري.
إن أراد ما هو الجواب في باب إجراء العقاب من أنه من تبعات الأقوال ولوازم
الأعمال، كما يساعده البرهان وظواهر القرآن، فهو وإن كان أحد الأجوبة
الصحيحة إلا أن الكلام هنا في استحقاق العقاب عقلا وهو مشترك بين الواجب
[الوجود] وسائر الموالي العرفية، فلا معنى لتعليل الاستحقاق بذلك.
وإن أراد - مد ظله - أن الاستحقاق يترتب على ما ينتهي إلى الذات والذاتيات
وإن كان بلا اختيار، كيف وينتهي بالآخرة إلى ما لا بالاختيار؟ ففيه: أن الاستحقاق
العقلي لا بد من أن يترتب على أمر اختياري وإن انتهى بالآخرة إلى ما لا بالاختيار،

(1) التعليقة: 12، ص 50.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 18.
(3) نهاية الدراية: ج 1، ص 216.
(4) كفاية الأصول: ج 2، ص 14.
54

فيترتب على الفعل الإرادي دون نفس الإرادة، مع أن الانتهاء إلى الذات
والذاتيات وانقطاع السؤال يناسب ترتب نفس العقاب لا استحقاقه العقلائي، مع
أن إشكال استحالة التشفي منه " تعالى " وعدم داع في نشأة الآخرة لإجراء العقاب
لا ربط له بالانتهاء إلى ما لا بالاختيار بل لو لم يكن في العالم فعل غير اختياري،
لجرى الإشكال، بل الإشكال من حيث الاختيارية يناسب الاستحقاق عقلا.
وأما وجه فعلية العقاب في الآخرة وسر إفاضة الوجود على المواد القابلة،
فهو استعداد النفوس بملكاتها الرذيلة الحاصلة من الأعمال المتكررة للصورة
التي يظهر بها في الآخرة، وإفاضة تلك الصور من واهب الصور بتوسط ملائكة
الرحمة والعذاب عدل منه تعالى وصواب، وبقية الكلام تطلب من حواشينا على
الطلب والإرادة (1) ومن الهوامش (2) التي علقناها عليها والله الهادي.
17 - قوله: " وعدم تحققه فيه لعدم مخالفته أصلا ":
إذ عدم المعلول بعدم علته من غير دخل فيه للاختيار والاضطرار بعد فرض
كون العلة علة والمعلول معلولا.
18 - قوله: بل عدم صدور فعل منه في بعض أفراده بالاختيار إلخ:
قد عرفت وجهه ودفعه، إذ الحركة إما بقسر القاسر أو بالطبع أو بالإرادة
وانتفاء الأولين واضح فلا محيص عن الأخير، فراجع (3)
19 - قوله: فلا وجه لاستحقاق عقابين متداخلين كما توهم (4) إلخ:
المتوهم صاحب الفصول - ره - (5) وهذه عبارته، " فإن التحقيق أن التجري
على المعصية أيضا معصية، لكنه إن صادفها تداخلا وعدا معصية واحدة ". انتهى.
ويمكن توجيه كلامه " زيد في علو مقامه "، بدعوى أنه لم يظهر منه - ره - سببية كل
من التجري والمعصية الواقعية للعقاب، ليورد عليه بأن المراد من التداخل إن كان
وحدة العقاب فهو مناف لسببية كل منهما، وإلا فلا معنى للتداخل، بل لم لا

(1) نهاية الدراية: ج 2، ص 216.
(2) نهاية الدراية: ج 2، ص 216.
(3) التعليقة: 10، ص 45.
(4) كفاية الأصول: ج 2، ص 18 وكفاية الأصول: 262، (ت، آل البيت) والرسائل: ص 7، س 6.
(5) الفصول: ص 87، في التنبيه الرابع من تنبيهات مقدمة الواجب.
55

يكون مراده أن المصحح للعقاب هتك حرمة المولى سواء تحقق بالمعصية
الواقعية أم لا، فليس في مورد المصادفة إلا سبب واحد، ومراده من التداخل هو
التداخل بحسب الأثر كما هو ظاهر كلامه.
وظاهر قوله " عدا معصية واحدة " أي بحسب الأثر، فإن شرب الخمر الذي
علم به مبغوض للمولى وهتك الحرمة أيضا مبغوض، لكن هذين المبغوضين في
حكم مبغوض واحد من حيث السببية والتأثير في الاستحقاق فتأمل.
" الأمر الثالث: في أقسام القطع "
20 - قوله: بما هو صفة خاصة وحالة مخصوصة بإلغاء جهة
كشفه (1) إلخ:
ملخصه أن إحدى الجهتين فيه وإن لم تنفك عن الأخرى لكن للحاكم لحاظ
إحدى الجهتين واعتبارها في حكمه دون الأخرى، فالتفكيك في مقام الاعتبار
لا دخل له بالتفكيك في حقيقته.
قلت: لا ريب أن للقطع جهات عديدة.
منها: أنه غرض، فلو اعتبر في موضوع الحكم بهذا الاعتبار كان سائر
الأعراض حالها حاله.
ومنها: أنه من مقولة الكيف وحينئذ يشاركه جميع أنواع مقولة الكيف إذا
اعتبر في الحكم بهذه الحيثية.
ومنها: أنه من نوع الكيف المختص بذوات الأنفس، فتشاركه سائر الكيفيات
القائمة بالأنفس.
ومنها: أنه كيف نفساني له إضافة إلى طرفه إضافة إشراقية فحينئذ يشاركه الظن
والاحتمال بالتصور المحض أيضا.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 20، س 3 وكفاية الأصول: 263، (ت، آل البيت).
56

ومنها: أنه كاشف وطريق كشفا تصديقيا فحينئذ يشاركه خصوص الظن.
ومنها: أنه كاشف تام بحيث لا يبقى بينه وبين المطلوب حجاب، وهذا هو
الذي يكون به القطع قطعا، ولا شبهة في أن القطع المأخوذ من حيث الكاشفية
والطريقية يراد به هذه المرتبة الأخيرة من الكشف، دون مطلق الكاشف، وإلا لعم
الدليل للظن من دون حاجة إلى التنزيل.
وأما ملاحظة القطع من حيث إنه طريق معتبر فيكون موضوعيا على وجه
الكاشفية، ومن حيث كشفه الخاص فيكون على وجه الصفتية كما عن بعض
الأجلة - قده - (1).
فمدفوعة: بأن الظاهر تقسيم العلم بنفسه ولو بلحاظ حيثياته الذاتية كالأمور
المتقدمة، وهذا تقسيم بلحاظ حكمه، وهو اعتباره عقلا، مع أن لازمه ورود
الأمارات على الأصول، ومسلك الشيخ - قده - (2) حكومتها عليها، فلا يصح
حمل كلامه - قده - عليه، وعليه فلا يبقى لأخذ القطع - من حيث خصوصية كونه
صفة (3) من الصفات القائمة بالشخص - معنى معقول، إلا أخذه من إحدى
الجهات المزبورة ولا يقول به أحد، وأما حفظ القطع بمرتبته (4) الأخيرة التي بها
يكون القطع قطعا ومع ذلك لا تلاحظ جهة كشفه التام فغير معقول، لأن حفظ
الشئ مع قطع النظر عما به هو هو محال ك‍ " حفظ الإنسان بما هو إنسان " مع قطع
النظر عن إنسانيته.
وقد عرفت (5) سابقا أن حقيقة القطع عين الانكشاف لا أنه شئ لازمه
الانكشاف، فملاحظة القطع بنفسه - مع قطع النظر عن حيثية كشفه - قطع النظر
عن حقيقته، كما أن ملاحظة الانكشاف بنفسه من دون ملاحظة انكشاف الشئ
غير معقولة، لأن حقيقة الانكشاف مقولة لا يعقل إلا متعلقة بشئ، ولا ينافي
ذلك كون العلم نورا لنفسه ونورا لغيره، كما في المتن (6)، فإن معنى كونه نورا

(1) فوائد الأصول: ج 3، ص 11. وأجود التقريرات: ج 2، ص 5 ودرر الفوائد: ص 330.
(2) الرسائل: ج 1، ص 30.
(3) (خ ل): صفات.
(4) (خ ل): بمرتبية.
(5) التعليقة: 6، ص 32.
(6) كفاية الأصول: ج 2، س 20.
57

لنفسه أنه عين النور فلا يحتاج في حضوره للنفس إلى حضور آخر لكن هذا النور
عين حضور الغير كما لا يخفى ذلك على الخبير.
ومنه يعلم أن إرجاع القطع على وجه الصفتية إلى ملاحظته من حيث إنه نور
لنفسه وعلى وجه الكاشفية إلى ملاحظته من حيث كونه نورا لغيره لا وجه له، فإن
معنى كونه نورا لنفسه أن حقيقته عين النور وهذا النور عين ظهور الغير، إذ حقيقة
الانكشاف حقيقة تعلقية بذاتها، نظير قولهم " واجب الوجود لذاته " أي وجوب
الوجود عين ذاته، وبهذا الوجه يقال: إن الوجود موجود بنفسه أي نفسه هو
الوجود، وإلا فلو فرض ملاحظة الحضور والوجود الذهني بما هو من دون لحاظ
تعلقه بأمر خاص، لزم كفاية كل حضور ووجود ذهني في ترتب الحكم، مع أنه
ليس كذلك قطعا إلا أن يلاحظ (1) نفس الحصة الملازمة للماهية الخاصة لا الحضور
بما هو كلي، فيكون الحكم مقصودا ذاتا على خصوص الحضور والملازم لحاضر
خاص وهو الخمر مثلا، لكنه بعيد جدا عن مساق كلام الشيخ الأعظم - قده (2) -
فإن " اعتبار القطع من حيث إنه صفة خاصة قائمة بالشخص " كما في عبارته، هو
اعتبار العلم المتقوم بالمعلوم بالذات، لا خصوص الوجود الذهني.
مضافا إلى أن اعتبار القطع كذلك كإلغاء جهة كشفه أصلا عديم المورد في
الشرعيات، والأمثلة المذكورة في كلام شيخنا العلامة الأنصاري - قده - غير
منطبقة عليه، فإن اعتبار اليقين في الأوليين من الرباعية وفي الثلاثية والثنائية ليس
قطعا على القول به إلا من جهة اعتبار حد خاص من الكاشف، وهو الكاشف التام
الذي لا يبقى معه تزلزل واحتمال الخلاف في نفس المصلي، وأين هذا من إلغاء
جهة كشفه عن الغير أو مطلقا.
وكذلك اعتبار العلم بخصوصه (3) في مقام الشهادة، فإنه من جهة اعتبار أعلى
مراتب الكشف، لا إلغاء جهة كشفه عن الغير أو مطلقا، وكذلك ما جعله ثمرة في

(1) (خ ل): ملاحظة.
(2) الرسائل: ج 1، ص 6 والرسائل: ص 4، مخطوط.
(3) (خ ل): مخصوصة.
58

آخر كلامه (1) من نذر التصدق إذا كان ولده حيا أو تيقن بحيوته، فإن ظاهره أن
اعتبار اليقين بما هو يقين هو الفارق لا إلغاء ما به اليقين يقين أو بالغير.
وربما يقال (2): في الفرق بأن المراد من العلم على وجه الصفتية نفس
الصورة المتقومة بالمعلوم بالذات، والمراد من العلم على وجه الكاشفية تلك
الصفة باعتبار كشفها عن المعلوم بالعرض، ويندفع: بأن ملاحظة تلك الصورة
المتقومة بالمعلوم بالذات عين ملاحظة كشفها الذاتي.
وأما ما في الخارج فهو مكشوف بالعرض باعتبار مطابقتها لما في الخارج،
فملاحظة الكشف الذاتي فقط محققة للعلم المأخوذ على وجه يكون تمام
الموضوع، وملاحظة الكشف العرضي معه محققة للعلم المأخوذ على وجه
الجزئية للموضوع.
ومنه يندفع أيضا توهم أن العلم المأخوذ على وجه الكاشفية لا يتصور فيه
التمامية ويتمحض في الجزئية، ومنشأ هذه الأوهام تخيل أن العلم له إضافة إلى
ما في الخارج فملاحظته بما له من الإضافة مصححة لاعتبار كاشفيته عن الغير
وعدم ملاحظة إضافته معنى إلغاء جهة كشفه، مع أن الإضافة المقولية إلى ما في
الخارج ليست من لوازم العلم، لإمكان العلم ولا معلوم في الخارج، والإضافة
الإشراقية مقومة له، وطرفها ماهية المعلوم في أفق النفس فقط، بل الأولى أن
يقال إن مراد الشيخ الأجل - قده - من التقسيم أن المأخوذ في القضية اللفظية،
تارة طريق محض لبا، وأخرى جزء الموضوع حقيقة، فليس للعلم الموضوعي
حقيقة إلا قسم واحد (3)، ويؤيده ما حكي عن بعض نسخ الكتاب بعد الفراغ عن
حكم الشق الأول من القطع الموضوعي، " ما لفظه " ويظهر ذلك إما بحكم العقل
بكون العلم طريقا محضا، وإما بوجود الأدلة الأخر على كون هذا الحكم المنوط
بالعلم ظاهرا معلقا على نفس المعلوم، كما في غالب الموارد انتهى.

(1) نفس المصدر السابقة.
(2) فوائد الأصول: ج 3، ص 10 وأجود التقريرات: ج 2، ص 5.
(3) (خ ل): واحدة.
59

" في تنزيل الأمارة منزلة القطع "
21 - قوله: ولحاظهما في أحدهما آلي وفي الآخر استقلالي إلخ (1):
لا يذهب عليك أن القطع والظن حين تعلقهما بشئ طريق صرف، وليس
الملحوظ في تلك الحال على وجه الأصالة والاستقلال، إلا ذلك الشئ والقطع
مثلا - نحو " حضور المعنى عند النفس " وهو معنى لحاظه، وليس للقطع لحاظ - لا
آليا استقلاليا - بل هو عين لحاظ الغير، فليس كالمرآت حتى يعقل أن ينظر فيها
إلى شئ فتكون منظورة بالتبع، بل القطع عين لحاظ الذهى ونظره إلى المعلوم،
بل القطع كما لا يكون ملحوظا آليا كذلك ليس آلة، لعدم تعقل كون لحاظ الشئ
آلة للحاظ، كما لا يعقل أن يكون آلة لذات الشئ، أو لوجوده الخارجي (2).
إذا عرفت ذلك فاعلم أن القطع إنما يتصف بالطريقية المرآتية عند تعلقه
حقيقة بالشئ، وفي غير تلك الحال لا يعقل أن يلاحظ إلا استقلالا، وليس
القطع بما هو من وجوه متعلقه وعناوينه حتى يعقل لحاظه تارة، بنحو الفناء في
المعنون وذي الوجه وأخرى، بنفسه، بمعنى أن يكون تارة ما به ينظر، وأخرى ما
فيه ينظر، وكيف يعقل لحاظ صفة القطع على الوجه الذي هو عليه حال تعلقه
بشئ حقيقة في مقام تنزيل شئ منزلته، إذ الآلة لا يعقل أن يكون طرفا.
نعم، يمكن تقريب الإشكال بوجه آخر، وهو أن القطع والظن حيث إنهما
متقومان بذات المقطوع والمظنون فثبوت (3) أحدهما يستلزم ثبوت الآخر، فالأمر
بترتيب الأثر على الظن، يمكن أن يكون على وجه الكناية أمرا بترتيب الأثر على
لازمه، وهو ذات المظنون، كما يمكن أن يكون على وجه الأصالة والحقيقة أمرا
بترتيب الأثر على نفسه، ولا يعقل ملاحظة الظن قنطرة (4) للانتقال إلى لازمه وهو
ذات المظنون، وملاحظته لا على هذا الوجه بل على وجه الحقيقة والأصالة، فلا
يعقل أن يكون القضية الواحدة كنائية وحقيقية، فيكون نظير الجمع بين اللحاظ

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 21، س 8 وكفاية الأصولي: 264، (ت، آل البيت).
(2) (خ ل): الجاري.
(3) (خ ل): فبثبوت.
(4) (خ ل): فنظرة.
60

الآلي واللحاظ الاستقلالي في الاستحالة.
فإن قلت: بعد فرض التلازم بين الظن والمظنون لا حاجة إلى الكناية، بل
تدل القضية بالمطابقة على ترتيب الأثر على الظن، وتدل بالالتزام على ترتيب
الأثر على لازمه، وهو ذات المظنون، كما أخبر جدا في قوله " زيد كثير الرماد " عن
كثرة رماده بالمطابقة، وعن جوده بالالتزام، فهناك قضيتان حقيقيتان (1).
إحديهما بالمطابقة والأخرى بالالتزام.
قلت: حيث إن ثبوت أحد المتلازمين يستلزم ثبوت الآخر، فلا محالة يكون
الدال على ثبوت أحدهما بالمطابقة، دالا على ثبوت الآخر بالالتزام، سواء كانت
الدلالة تصورية أو تصديقية، بخلاف موضوعية أحدهما لحكم، فإنه لا يستلزم
موضوعية الآخر لذلك الحكم ولحكم آخر بوجه من الوجوه، بل لا بد من فرض
الاستلزام بين التنزيلين والتعبديين كما في التقريب الآتي في كلامه من دون دخل
للتلازم بين الظن والمظنون، كما هو مبنى هذا التقريب، ويمكن أن يقال إن ما هو
لازم نفس صفتي القطع والظن هي الماهية في مرحلة تقوم (2) الصفتين بها، وهي
في مرحلة الذهن (3)، وهذه لا حكم لها، وما لها حكم وهي الماهية المقطوعة أو
المظنونة بالعرض لا لزوم لها مع القطع أو الظن إلا بلحاظ متعلقهما اللازم لهما في
الحقيقة فانيا في مطابقه، فالأمر بالملزوم أمر بلازمه الفاني في مطابقه بنحو الكناية
فتدبر جيدا.
ويمكن أيضا توجيه الإشكال المزبور حقيقة فيما إذا كان المظنون منزلا منزلة
المقطوع، دون الظن منزلة القطع، فإن المظنون والمقطوع حيث إنهما عنوانان
ووجهان لمتعلق الظن والقطع، فيمكن ملاحظتهما فانيا في ذات المظنون
والمقطوع، كما يمكن ملاحظتهما بنفسهما، فلحاظ العنوانين على الأول آلي
وعلى الثاني استقلالي، إلا أن الآلية والاستقلالية في اللحاظ إنما يصح إذا كان
الحكم على الثاني مرتبا على عنواني المظنون والمقطوع مع أن موضوع الحكم

(1) (خ ل): حقيقتان.
(2) (خ ل): تقويم.
(3) (خ ل): وفي مرحلة الظن.
61

جزما ما هو مظنون ومقطوع بالحمل الشائع، لا ما هو كذلك بالحمل الأولي،
فموضوع الحكم - سواء كان ذات المظنون والمقطوع أو بما هو مظنون - ملحوظ
بالاستقلال.
كما أن العنوانين بلحاظ فنائهما في ذات المعنون، أو في المعنون بما هو
معنون، ملحوظان باللحاظ الآلي، فلا جمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي على
أي حال ليقال بأنه محال، كما أنه لا ينبغي الإشكال من حيث وقوع الظن والقطع
موضوعا في الأدلة لا المظنون والمقطوع، وذلك لأن الصورة الحاصلة باعتبار
اتحاد الماهية والوجود كما أنها مطابق للظن أو القطع كذلك مطابق تلك الماهية،
فيمكن ملاحظة تلك الماهية الحاضرة فانية فيما هو كذلك بالحمل الشائع وترتيب
الأثر عليها، فتدبر.
بل الإشكال أن العنوان إذا لوحظ فانيا في ذات المعنون بملاحظته معرفا
محضا له، فلا تنزيل إلا بالإضافة إلى ذات المؤدى، وإطلاقه لصورة انضمامه إلى
مبدء العنوان وانفراده عنه بنحو الجمع بين المراتب غير معقول، وبنحو إلغاء
الانضمام عن القيدية وكذا الانفراد غير مفيد لتنزيل المؤدى بانضمام المبدء إليه
منزلة الواقع بانضمام القطع إليه.
وإذا لوحظ العنوان فانيا في المعنون بما هو معنون - أي الذات القائم بها
المبدء بنحو العنوانية المحضة - فهو لا يفيد إلا تنزيل المؤدى بما هو مؤدى منزلة
المقطوع بما هو مقطوع، من دون تنزيل لذاته منزلة الواقع، ولا يعقل الإطلاق
حينئذ من حيث الانفراد والانضمام، إذ الإطلاق في شؤون الماهية ولواحقها لا
فيما يتقوم به، كما هو واضح، والجمع بين المعرفية المحضة والعنوانية المحضة
محال، لا لكونه جمعا بين اللحاظ الآلي والاستقلالي بل لكونه جمعا بين
المتناقضين وهو ملاحظة المبدء مع الذات وعدم ملاحظته معها أو ملاحظة
عدمه معها.
وتوهم: أن الخاص إذا لوحظ فقد لوحظت الذات والخصوصية معا ولو
62

لانحلاله إليهما، فهما ملحوظان بالاستقلال، وينحل التنزيل الوحداني (1) إلى
التنزيلين، فيكون أمرا بالبناء على الذات وعلى الخصوصية معا: مدفوع: بأن
لحاظ الخاص بما هو لحاظ أمر واحد، وقبوله للانحلال إلى شيئين غير انحلاله
فعلا إليهما وما لم يلحظ الذات والخصوصية كل منهما بالفعل بلحاظ محضه، لا
معنى لاختصاص كل منهما بحكم فعلا.
بداهة أن تعدد الحكم بالفعل يستدعي تعدد الموضوع بالفعل، ومعنى قبول
الحكم الوحداني للتعدد بالتحليل، تعدد انتسابه إلى أجزاء موضوعه عند
ملاحظة كل جزء بنفسه، لا أن الحكم الواحد في الحقيقة أحكام متعددة
لموضوعات متعددة، وليس التنزيل أمرا قهريا ليتوهم انحلاله قهرا إلى تنزيلين
حقيقيين مع لحاظ الوحدة في طرف الموضوع حقيقة وملاحظة الخاص بما هو
غير ملاحظة الذات والخصوصية بنحو الجمع في العبارة حتى لا ينافي مصداقية
الإنشاء الواحد لأحكام حقيقية متعددة عقلا، كما في الحكم المتعلق بالعام
الاستغراقي بنحو الكل الأفرادي.
ولا يقاس ما نحن فيه أيضا بالمطلق الشمولي مثل " أكرم العالم " بلحاظ طبيعي
العالم بحده وترتيب طبيعي الحكم عليه، ولازمه عقلا تعلق كل فرد من طبيعي
الحكم بفرد من طبيعي الموضوع، لأن الفارق وجود الجهة الجامعة بين تلك
الأفراد دون ما نحن فيه، حيث لا جامع بين الذات والخصوصية بحيث تنطبق
عليهما، فتدبر جيدا.
ومن جميع ما ذكرنا تبين عدم إمكان تكفل الدليل لتنزيلين بالإضافة إلى
الواقع والقطع الموضوعي. وليعلم أن الإشكال إنما يتوجه بناء على أن حجية
الأمارة ترتيب الأثر على مؤديها، وأما لو كانت الحجية بمعنى جعلها منجزة
للواقع فالأثر المجعول أثر الخبر - مثلا - لا ذات المخبر به، فلا مانع من تنزيل الظن
مثلا - منزلة القطع في جميع الآثار، فيكون تنجيزا للظن، كما أن القطع منجز

(1) (خ ل): الواحداني.
63

وتوسعة للموضوع بجعل الظن مكان القطع في كونه تمام الموضوع تارة، وجزئه
أخرى.
فقوله الظن كالقطع مطلقا كناية عن جعل الحجية للظن، كما للقطع حقيقة وعن
دخله في موضوع الحكم بترتيب ما للقطع المتعلق بشئ من الوجوب والحرمة،
فالمكنى عنه حكم طريقي وحكم نفسي حقيقي ولا بأس به بعد عدم لزوم
محذور الجمع بين اللحاظين، حيث إن موضوع الأثر على أي حال هما القطع
والظن لا الواقع حتى يجب لحاظهما بنحو الفناء في المظنون والمقطوع بالحمل
الشائع، ولا يخفى عليك أن الظن والقطع ملحوظان على أي تقدير من حيث
الطريقية، لأن الكلام في القطع المأخوذ على وجه الكاشفية.
وربما يقال (1): في مقام إشكال الجمع بين اللحاظين بأنه مبني على كون
الحجية بمعنى التنزيل وجعل الحكم حقيقة مع أنه ليس كذلك، بتقريب أن العلم
وإن اختلفوا فيه من حيث كونه من مقولة الانفعال أو الفعل أو الكيف أو الإضافة،
إلا أن الحق أنه فيه جهات كل منها، إذ أول مراتبه استعداد النفس وتأثره (2) من
المعدات لإيجاد صورة في صقعها (3)، وهذا هو جهة الانفعال، ثم توجد فيها تلك
الصورة وهي جهة الفعل ثم تتصف النفس بكونها واجدة لتلك الصورة وهي جهة
الكيف.
ثم إن تلك الصورة المعلومة بالذات للنفس لها إضافة إلى المعلوم بالعرض
وهو ما في الخارج وهذه جهة الإضافة، وما عدا هذه المرتبة الأخيرة أمور
تكوينية غير قابلة للجعل التشريعي. وأما هذه المرتبة فهي في صفة القطع أيضا
ذاتية غير قابلة للجعل التشريعي، وفي غيرها كالأمارات قابلة للجعل التشريعي،
ومعنى جعلها التشريعي إعطاء صفة الطريقية والكاشفية لها، واعتبارها إحرازا
شرعا، فإذا كان الواقع محرزا باعتبار الشارع ترتب عليه جميع آثاره من دون لزوم
جعل الحكم ولا توسعة الموضوع للحكم الواقعي، كما في الحكومة الواقعية في

(1) أجود التقريرات: ج 2، ص 9، س 3.
(2) (خ ل): تأثرها.
(3) (خ ل): صفتها.
64

مواردها.
والجواب مبني على مقدمة، هي (1) أن اعتبارات الشارع ومجعولاته التشريعية
على ثلاثة أقسام:
أحدها: اعتبار البعث والزجر ونحوهما، فإن الإنشاء بداعي جعل الداعي
يصحح اعتبار الدعوة، ويصحح انتزاع الباعثية عنه، وهو حقيقة (2) إيجاد الداعي
اقتضاء بحيث يكون داعيا فعليا عند انقياد العبد، فهو في الحقيقة جعل تكويني
للداعي الاقتضائي، لكنه حيث صدر من الشارع بما هو ناظر إلى المصلحة
الواقعية، فهو جعل تشريعي منه.
ثانيها: اعتبار الملكية والزوجية وشبهها من الأمور الوضعية وحقيقتها اعتبار
معنى مقولي بحيث لو وجد بوجوده الحقيقي، كانت مقولة من المقولات كما
حققناه في محله، ومثل هذا الاعتبار محقق للموضوع الذي يترتب عليه الآثار
وليس بابه باب التنزيل، إذ ليس للملك المقولي أثر عذفي أو شرعي حتى يكون
من باب تنزيل المعتبر منزلة المقولة في الأثر، بل تمام ما هو موضوع حقيقي للأثر
نفس هذا المعنى المعتبر.
ثالثها: اعتبار المؤدى واقعا، واعتبار الأمارة علما بإنشاء الحكم المماثل للواقع
أو للأثر المترتب على العلم بعنوان أنه الواقع أو بعنوان أنه علم، وبابه باب تنزيل
المؤدى منزلة الواقع في الأثر أو تنزيل الأمارة منزلة العلم في أثره.
ولا يخفى أن المتمحض في كونه اعتباريا هو القسم الثاني دون الأول
والأخير، فإن الأول إنشاء بداعي البعث لا أنه اعتبار البعث ابتداء كما أن الأخير
جعل الحكم بلسان أنه الواقع لا اعتبار المؤدى واقعا، فالاعتباري المحض هو
القسم الثاني الذي هو وجود اعتباري لمعنى مقولي.
إذا عرفت هذه المقدمة: فنقول إن اعتبار الإحراز في مورد الأمارة من القسم
الثاني دون الأول وهو واضح ودون الأخير فإنه خلف، إذ المفروض أنه في قبال

(1) وهي - الحقيقة.
(2) وهي - الحقيقة.
65

التنزيل.
ومن الواضح: أن اعتبار أي معنى كان في نفسه خفيف المؤنة، ولا يصح إلا
بلحاظ أثر يترتب عليه، وإلا فجميع الاعتبارات متعلقة بمعان لو تحققت في
الخارج لكانت من الأمور التكوينية، فلا اختصاص للاعتبار بخصوص الإحراز
وإضافة العلم إلى الخارج، هذا مع قطع النظر عن فساد جميع ما ذكر من الجهات
المزبورة في صفة العلم كما أشرنا إلى بعضها فيما تقدم (1)، وتفصيل القول موكول
إلى فنه. ثم إن الاعتبار الذي هو من القسم الثاني لا يصح إلا إذا كان هناك أثر
بحيث يكون نفس الاعتبار موضوعا له، فيكون تحقيقا لموضوع الأثر، لا من باب
اعتبار موضوع ذي أثر.
ومن الواضح: أن الإحراز الحقيقي له آثار عقلية وآثار شرعية، فاعتبار ذلك
الموضوع حيث إنه لا أثر مجعول له بما هو اعتبار لا يوجب ترتب تلك الآثار
العقلية أو الشرعية إلا بالخلف بجعل الأثر لشئ بعنوان أنه موضوعها الحقيقي.
وتوضيح ذلك: أن الأثر المترتب على العلم بما هو إحراز حقيقي بذاته، إما
عقلي أو شرعي، فالأول كالمنجز واستحقاق العقوبة على مخالفة التكليف
الواصل، والثاني كالحرمة والنجاسة مثلا - المترتبتين على ذات الخمر أو على
الخمر المعلوم.
فإن كان من قبيل الأول، وإن كان موضوع استحقاق العقوبة مخالفة التكليف
المعلوم حقيقة، فاعتبار الإحراز في الأمارة إذا لم يستتبع جعل المنجز شرعا لا
يجدي شيئا، حيث لا يترتب على مخالفة التكليف المحرز بالاعتبار شئ، فلا
يكون الاعتبار محققا لموضوع ذي الأثر ولا كاشفا عن موضوع ذي أثر، وفرض
كلام هذا القائل (2) أن اعتبار الإحراز لا يوسع دائرة الموضوع في مقام الثبوت
والواقع ولو كشفا، بل يوسعها في مقام الإثبات، ولا معنى للتوسعة في مقام
الإثبات إلا اعتبار الأمارة بعنوان الإحراز الذي هو موضوع الأثر، فهو جعل الأثر

(1) التعليقة: 20، ص 56.
(2) وهو المحقق النائيني - ره -.
66

بعنوان إثبات موضوعه، وإن كان موضوع الاستحقاق عقلا مخالفة التكليف
المجرد بالمعنى الأعم من الحقيقي والاعتباري، فبابه باب تحقيق الموضوع
بنفس اعتبار الإحراز لا باب التنزيل، لكنه مع اختصاصه بمثل هذا الأثر العقلي
هو خلاف مفروضه من عدم التوسعة في الواقع، وأن الحكومة ظاهرية لا واقعية.
وإن كان من قبيل الثاني، سواء كان العلم طريقا أو مأخوذا على وجه الطريقية
والكاشفية، فالأثر المترتب على ذات المعلوم أو على المعلوم بما هو معلوم
جعل شرعي، وفرض الحكومة الظاهرية دون الواقعية فرض عدم كون الموضوع
الواقعي وسيعا بل مضيقا، فكيف يجدي فرض الإحراز واعتباره في الأمارة في
ترتب الأثر الشرعي على مؤدى الأمارة قهرا، بل هو اعتبار بلا أثر على الفرض،
فلا معنى لكون الاعتبار محققا للموضوع أو كاشفا عن سعته حتى لا تحتاج إلى
جعل الأثر وإن فرض بالخلف أن الموضوع الحقيقي هو أعم مما أحرز حقيقة أو
اعتبارا فهو محقق للموضوع، لكنه خلاف مفروضه من الحكومة الظاهرية (1)، بل
ورود تحقيقي.
فالتحقيق: أن اعتبار المؤدى واقعا أو اعتبار الأمارة إحرازا لا يصحح إلا على
الوجه الثالث (2) من دون كون الحكومة واقعية، فإن التوسعة أو التضييق عنواني
لا حقيقي، فهو جعل الحكم المماثل على طبق المؤدى بذاته أو بما هو مؤدى
بعنوان أنه الواقع أو الواقع المعلوم في ظرف الجهل بالواقع من دون لزوم توسعة
أو تضييق في الموضوع للحكم الواقعي تحقيقا أصلا، فهي حكومة لا ورود،
وظاهرية لا واقعية، فتدبره فإنه حقيق به.
وأما ما ذكرناه من الترديد في التنجز العقلي من أن موضوعه مخالفة التكليف
المحرز حقيقة أو أعم مما إذا كان محرزا اعتبارا.
فتوضيح القول فيه: أن استحقاق العقوبة إن كان من اللوازم الواقعية القهرية
للمخالفة لا الجعلية وكان عقلية باعتبار إدراك العقل النظري لهذا اللازم الواقعي،

(1) (خ ل): الظاهرة.
(2) التعليقة: ص 65.
67

فهو مما لا يختلف حاله باختلاف الاعتبارات، حيث لا يتقوم بالاعتبار كسائر
الواقعيات، فلا معنى لدخل الاعتبار فيه وإن كان من اللوازم الجعلية العقلائية،
وعقلية من حيث إدراك العقل العملي لهذا اللازم الجعلي الذي بنى عليه العقلاء
عملا، كما مر منا سابقا فلا يمكن ترتبه على مخالفة التكليف الغير المحرز حقيقة
إلا بجعل الاستحقاق شرعا.
فإن جعل الاستحقاق من العقلاء ليس بنحو الإنشاء القضايا الحقيقية ليتصور
أنها ذات موضوع كلي له أفراد محققة الوجود وأفراد مقدرة الوجود، فباعتبار
الوصول والإحراز فقط من الشارع يتحقق عنوان مخالفة التكليف المحرز على
الوجه الكلي، بل قد عرفت (1) سابقا أن مسألة استحقاق المدح والثواب
واستحقاق الذم والعقاب داخلة في القضايا المشهورة المسطورة في باب
الصناعات الخمس من علم الميزان (2) وهي القضايا التي بنى عليها العقلاء عملا
من مدح فاعل طائفة من الأفعال، وذم فاعل طائفة أخرى، حفظا للنظام وإبقاء
للنوع، ومقدار سعة هذا الموضوع وضيقه يتقدر بالبناء العملي من العقلاء، فإن
فرض أن عملهم في ذم المخالف للتكليف المحرز بالعلم وبخبر الثقة مثلا، فلا
عمل لهم في مورد الأمارة التي يعتبرها الشارع حتى يكون استحقاق الذم
والعقاب على مخالفتها عقلائيا حتى يكتفى من الشارع بمجرد اعتبار الأمارة
إحرازا، بل لا بد من الإنشاء بداعي تنجيز الواقع بجعل الشارع، فتدبر جيدا.
22 - قوله: فإن ظهوره في أنه بحسب اللحاظ (3) إلخ:
فمثل قوله (ع) " نعم " بعد السؤال عن أن يونس بن عبد الرحمن (4) ثقة آخذ
عنه معالم ديني؟ يفيد تنزيل المأخوذ منه منزلة معالم الدين، وهو تنزيل منزلة
الواقع، لا الواقع المعلوم وتوهم: أنه يفيد تنزيل المأخوذ من الراوي بما هو
مأخوذ منه منزلة الواقع الواصل نظرا إلى أن الأخذ لازمه الوصول، فيكون كناية

(1) التعليقة: 10 - ص 41.
(2) شرح المنظومة: ج 1، ص 338. (بتصحيح العلامة حسن زاده الآملي - دام ظله -).
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 22 وكفاية الأصول: 264، (ت، آل البيت).
(4) بحار الأنوار: ج 2، ص 251، حديث 67 والوسائل: ج 18، ب 11، ص 107، ح 33.
68

عن الوصول: مدفوع: بأن الدليل إن كان متكفلا لتنزيل الأخذ من الراوي منزلة
أخذ الواقع صح، أن يتوهم ترتب الأثر على الوصول، وكذا لو دل على ترتيب
الأثر على الأخذ بأن يقول رتب أخذ الواقع على الأخذ من الراوي مثلا أمكن
أن يكون كناية عن ترتيب أثر وصول الواقع.
وأما إن كان الدليل متكفلا للأمر بالأخذ، فلا، لأن الوصول الذي هو لازمه غير
قابل للأمر به حتى يكون الأمر بالأخذ كناية عن الأمر بلازمه، والمفروض أن
قوله (ع) " نعم " بعد السؤال المذكور في قوة قوله " خذ معالم دينك من يونس " بل
الأمر بالأخذ كناية عن الأمر بالعمل، حيث إن العمل لا يكون بلا أخذ والأخذ
للعمل فيكون الأخذ العملي كالتصديق العملي وكالنقض عملا أو الإبقاء عملا،
مع أن اعتبار الأخذ في المنزل عليه بلا وجه، بل غايته تنزيل المأخوذ بما هو
مأخوذ منزلة معالم الدين، لا منزلة معالم الدين المأخوذة، ليكون تنزيلا للواصل
منزلة الواصل، والعمدة في الفرق بين تنزيل المؤدى منزلة الواقع أو منزلة الواقع
الواصل، ملاحظة حال المنزل عليه، وإلا فيمكن أن يكون التنزيل بلحاظ الواقع
فقط، ومع ذلك كان لقيام الأمارة دخل في جعل الحكم المماثل، كما هو كذلك
بناء على سببية الأمارات في قبال طريقيتها، وكذا في دلالة التنزيل منزلة الواقع
قوله (1) (ع) " فما أديا عني فعني يؤديان " فإن نفس التأدية من الإمام (ع) واضحة
لا يحتاج إلى التنزيل، فقول القائل ما يخبر به عني ليس إلا
لبيان واقعية المخبر به لا واقعية الإخبار به فتصديقه (ع) لكونه عنه فيكون
تصديقا منه (ع) لهذه النسبة لا لتلك النسبة فتدبر جيدا.
لا يقال: فحينئذ لا أثر لكونه عنه (ع) فما فائدة هذا التنزيل. لأنا نقول: كونه
عنه (ع) ليس بلحاظ أثر وصوله عنه (ع) بل لبيان واقعية المخبر به حيث
لا يقول (ع) إلا صدقا.
وأما الآيات: فآية النبأ (2): أيضا تدل على التنزيل منزلة الواقع وتوهم التنزيل

(1) الوسائل: ج 18، ب 11، ص 100، ح 4، أبواب صفات القاضي.
(2) حجرات: الآية 6.
69

منزلة الواقع الواصل - بدعوى أن خبر العادل حيث إن مؤداه كان مبينا شرعا
تنزيل لم يجب فيه التبين (1)، وخبر الفاسق حيث إنه لم يكن كذلك وجب فيه
التبين، فالمدار على الواقع المبين - فاسدا: فإن التبين ليس لتتميم موضوع الحكم،
ولا لتنجيز الواقع بالعلم بصدقه، بل لظهور الواقعية وعدمها، وعدم كونه لتتميم
الموضوع واضح، وكذا عدم كونه للتنجيز، فإن الردع على الاعتماد على نبأ
الفاسق ليس لأجل رعاية حال المكلف من حيث عدم تنجز الواقع بنبأ الفاسق،
بل من حيث إنه يوجب وقوعه في خلاف الواقع وإصابة القوم بجهالة.
وأما آية النفر (2): فوجوب التحذر وإن كان بدل على ترتب العقاب على ما
أنذروا، لكنه كما يحتمل أن يكون لتنجز الواقع بالخبر عنه، كذلك يحتمل أن
يكون لجعل الحكم المماثل على طبق ما أنذروا، وعلى أي حال ليست الآية في
مقام تتميم موضوع الحكم، بل إما في مقام جعل الحكم المماثل على طبق
المخبر به أو تنجيز المخبر به بالخبر، وكذا غيرهما من الآيات.
وأما بناء العقلاء: فقد مر مرارا (3) أن بناء العقلاء عملا على مؤاخذة العبد
إذا خالف ما أخبر الثقة به عن مولاه مثلا، لا على جعل الحكم المماثل، ولكن
على أي تقدير ليس الخبر عندهم متمما لموضوع الحكم، فاحتمال تكفل أدلة
حجية الخبر مثلا لتنزيل المخبر به منزلة القطع الموضوعي، أو تكفلها لتنزيله
منزلة القطع الموضوعي والطريقي معا باطل. نعم: الأدلة تختلف من حيث
دلالتها على تنزيل المخبر به منزلة الواقع بجعل الحكم المماثل، أو تنزيله منزلة
وصول الواقع من حيث التنجز فقط، لا من حيث الجزئية للموضوع أيضا.
" في قيام الأصول مقام القطع "
23 - قوله: لوضوح أن المراد من قيام (4) إلخ:
بل المراد من قيام شئ مقام القطع إما هو القيام من حيث المتعلق بمعنى قيام

(1) (خ ل): التبيين.
(2) توبة: الآية 122.
(3) التعليقة: ص 21، ص 68.
(4) كفاية الأصول: ج 2، ص 22، وكفاية الأصول: 265، (ت، آل البيت).
70

مؤدى الأمارة مقام الواقع، أو قيام نفس الأمارة مقام القطع في التنجيز وتوهم قيام
الأصول مطلقا مقام القطع لأنها المرجع بعد فقد العلم لا وجه له، إذ حقيقة قيام
شئ مقام القطع هو القيام بما له من الآثار والأحكام لا مجرد الرجوع إليه بعد
فقده.
24 - قوله: إما بلحاظ المتيقن أو بلحاظ اليقين (1) إلخ:
فالأول للقطع الطريقي والثاني للموضوعي، لكنك قد عرفت آنفا أن طريقية
اليقين وصيرورته مرآتا للمتيقن وملحوظيته آليا إنما هي في مقام تعلقه بالمتيقن.
وأما اليقين الواقع طرفا لحرمة النقض، فلا يعقل إلا لحاظه استقلاليا.
نعم بناء على أنه كناية عن إبقاء الحكم المتيقن يجري الإشكال في أن المكنى
عنه هل هو المتيقن بما هو متيقن أو ذوات المتيقن والجمع بينهما في لحاظ
واحد محال.
وأما إذا كان بعنوان إبقاء اليقين في جميع آثاره من المنجزية للحكم ومن كونه
جزء الموضوع، فلا بأس بالجمع، كما تقدم نظيره، فيكون جعلا للمنجزية لاحقا
وجعلا للحكم المماثل المرتب على اليقين ومتعلقه، فتدبر. وتوهم الفرق بين
دليل الأمارة ودليل الاستصحاب من حيث إن الأول في مقام تتميم كشفها دون
الثاني، مدفوع بأنه أيضا في مقام إبقاء الكاشف فتدبر.
25 - قوله: وما ذكرنا في الحاشية (2) في وجه تصحيح لحاظ
واحد (3) إلخ:
توضيحه: أن وفاء خطاب واحد وإنشاء واحد بتنزيلين وإن كان مستحيلا كما
عرفت، إلا أن تنزيلين بإنشائين في عرض واحد يدل دليل الاعتبار على أحدهما
بالمطابقة وعلى الآخر بالالتزام ليس محالا، وهنا كذلك، لدلالة دليل الأمارة مثلا
على ترتيب آثار الواقع مطلقا.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 22 وكفاية الأصول: 266، (ت، آل البيت).
(2) حاشية الرسائل: ص 8.
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 22، وكفاية الأصول: 266، (ت، آل البيت).
71

ومنها، الأثر المترتب على الواقع عند تعلق القطع به حتى يكون في صورة كون
القطع تمام الموضوع، إذ لمتعلقه دخل شرعا ولو بنحو العنوانية المحفوظة في
جميع المراتب، وهذا التنزيل وإن كان يقتضي عقلا تنزيلا آخر حيث إن الواقع
لم يكن له في المقام أثر بنفسه حتى يعقل التعبد به هنا، وتنزيل المؤدى منزلة
الواقع بلحاظه، لكنه لا يقتضي عقلا أن يكون المنزل منزلة الجزء الآخر هو القطع
بالواقع الجعلي، لإمكان جعل شئ آخر مكانه إلا أنه لا يبعد عرفا أن يكون هو
القطع بالواقع الجعلي، فصون الكلام عن اللغوية بضم الملازمة العرفية يدل على
تنزيل آخر في عرض هذا التنزيل للجزء الآخر.
وإنما قلنا بأن اللازم أن يكون التنزيل الآخر مقارنا لهذا التنزيل لا سابقا ولا
لاحقا، لأن الأثر الذي كان بلحاظه التنزيلان واحد، فلا يعقل التعبد بذلك الواحد
إلا إذا كان أحد الجزئين محرزا حقيقة، بحيث لا حالة منتظرة للتعبد بذلك الأثر
وترتيبه على الواقع، أو كان التنزيلان متقارنين ليكون مرجعها إلى التعبد
بالوجوب أو الحرمة، وأما مع سبق أحد التنزيلين ولحوق الآخر فلا يصح التنزيل
في كل منهما، إذ الأثر واحد والموضوع واحد، مركبا كان أو مقيدا، وليس للجزء
أو ذات المقيد أو القيد حكم شرعي حتى يصح التعبد به بعنوان التعبد بجزء
موضوعه، فظهر من جميع ما مر أن تنزيل مركب منزلة مركب آخر لا يكاد يصح
إلا بأحد وجهين، إما بالمطابقة أو بالالتزام ولكن بنحو المقارنة.
وقد عرفت أن التنزيل بالمطابقة غير معقول هنا لمكان الجمع بين اللحاظين
كما تقدم، فلم يبق مجال إلا بالالتزام.
26 - قوله: فإنه لا يكاد يصح تنزيل جزء الموضوع (1) إلخ:
بعد ما عرفت أن تنزيل الجزء الآخر وهو القطع بالواقع التنزيلي الذي قلنا به
بدلالة الاقتضاء والملازمة العرفية لا بد من أن تكون في عرض تنزيل المؤدى
منزلة الواقع، تعرف استحالة تحقق تنزيلين كذلك، إذ القطع بالواقع التنزيلي

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 24. وكفاية الأصول: 266، (ت، آل البيت). وفوائد الأصول: ج 3،
ص 28. ونهاية الأفكار: ج 3، ص 26.
72

متأخر طبعا عن الواقع التنزيلي، والمفروض أن دلالة الدليل على تنزيل المؤدى
يتوقف على دلالته بالملازمة على تنزيل القطع بالواقع التنزيلي، مع أنه لا واقع
تنزيلي إلا بهذا الدليل، فكيف يعقل أن يكون أحد التنزيلين المتأخر رتبته عن
موضوعه المتأخر رتبته عن التنزيل الآخر في عرض التنزيل الآخر.
وتمام السر فيه أن مرجع التنزيلين إلى تنزيل واحد وإثبات حكم مركب
لمركب آخر، فلا بد من أن يكون الموضوع بجميع أجزائه وقيوده متقدما في
مرحلة موضوعيته على الحكم، مع أن بعض هذا المركب لا ثبوت له في حد
موضوعيته إلا بلحاظ هذا الحكم. وبعبارة أوضح: معنى تنزيل المايع الذي أخبر
البينة بخمريته منزلة الخمر تحريمه، ومعنى القطع بالواقع التنزيلي بما هو كذلك
هو القطع بخمريته شرعا أي القطع بحرمته ومن البديهي أن القطع بالحرمة لا
يعقل أن يؤخذ في موضوع تلك الحرمة، وليعلم أن تقدم الموضوع على حكمه
ليس تقدما خارجيا حتى يدفع بكفاية المتقدم اللحاظي، بل تقدم طبعي
سيأتي (1) إنشاء الله تعالى ما هو الملاك فيه.
والتحقيق: أن الحكم المرتب على المنزل المماثل لحكم المنزل عليه، إن كان
قابلا للتحليل أمكن تعدد التنزيل، ومعه لا يلزم من أخذ القطع بالواقع التنزيلي
دور ولا محال آخر، فإن الأثر على الفرض متعدد والقطع بأثر يمكن أن يؤخذ في
موضوع أثر آخر ولا يجب أن يكون موضوع الحكم جميع أجزائه عرضية بحيث
لا يكون بينها تأخر وتقدم طبعي، وإن لم يكن الحكم قابلا للتحليل فلا معنى
لتعدد التنزيل، حيث لا معنى للتنزيل إلا جعل الحكم، والمفروض وحدته،
وليست الجزئية للموضوع قابلة للجعل الاستقلالي، وعليه فنفس الوحدة مانعة
عن أخذ القطع بالواقع التنزيلي جزء للموضوع بتنزيل آخر طولا كان أو عرضا لا
أن لزوم الدور مانع.
كما أن التحقيق عدم قبول الحكم هنا للانحلال إلى المتعدد إذ القابل له ما إذا

(1) التعليقة: 27، ص 75.
73

كان متعلقه المطلوب به مركبا ذا أجزاء، أو مقيدا ذا تقيد، فيمكن الأمر بأجزاء
الصلاة بدلا عن الأمر بنفس الصلاة، كما يمكن الأمر بالصلاة وبجعلها عن طهارة
بدلا عن الأمر بالصلاة عن طهارة، بخلاف ما نحن فيه فإن القطع بالخمرية
التعبدية جزء الموضوع لا جزء المتعلق حتى يكون مطلوبا بطلبه، فتدبر.
كما أن دفع (1) الإشكال بكفاية الأثر التعليقي في تنزيل المؤدى منزلة الواقع
وتوقف فعلية الأثر على تحقق المعلق عليه فالموقوف غير الموقوف عليه
مدفوع: بأن المعلق عليه هو القطع بالواقع التنزيلي ومثله لا يعقل أن يكون قيدا
لأول الأمر إلى تعليق الحرمة للمائع مثلا على القطع بالحرمة، والتعليقية والفعلية
من شؤون شخص الحرمة المنشئة لا أن الأثر متعدد، إذ ليس الكلام في أخذ
القطع بمرتبة من الحكم في موضوع مرتبة أخرى منه حتى يكون معقولا واقعا
وظاهرا، بل في كون القطع بالواقع التنزيلي جزء لموضوع الواقع التنزيلي على
حد جزئية القطع بالخمرية لموضوع الحكم في جميع مراتبه.
ومنه يعلم أن أخذ القطع الموضوعي من حيث كونه طريقا معتبرا مشترك
الحال من حيث الإشكال مع مسلكه - قده -، لأن دليل التنزيل بالإضافة إلى
المؤدى فقط وإن كان محققا لحيثية اعتبار الطريق من دون حاجة إلى تنزيل آخر
إلا أن المؤدى لا بد من أن يكون ذا أثر، والأثر التعليقي أيضا لا يدفع المحذور،
لأن حيثية طريقيته إلى الواقع وإن لم يتوقف على تنزيل المؤدى منزلة الواقع إلا
أن حيثية اعتباره يتوقف على هذا التنزيل، إذ لا معنى لاعتبار الأمارة إلا الحكم
على مؤداها بمثل الحكم على الواقع، فعليا كان أو تعليقيا.
نعم، لو كان للمؤدى أثر آخر غير ما هو أثر المجموع من المؤدى وحيثية قيام
الطريق المعتبر عليه، اندفع المحذور وكان دليل التنزيل تنزيلا ومحققا للطريق
المعتبر فتدبر جيدا.

(1) درر الفوائد: ص 322 (ط، جماعة المدرسين).
74

" الأمر الرابع: في عدم أخذ القطع بحكم في موضوع نفسه "
27 - قوله - قده - (1): لا يكاد يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في
موضوع نفس هذا الحكم (2) إلخ:
بداهة أن الموضوع لا بد منه في مرتبة موضوعيته وتعلق الحكم به
والمفروض أن الموضوع سنخ موضوع لا ثبوت له مع قطع النظر عن حكمه، ولولا
شخص هذا الحكم لا يعقل تعلق القطع به بشخصه، وتعلقه بصورة مثله عند
الخطاء خلف، ولولا تعلق القطع به لم يتحقق ما هو مقطوع الوجوب مثلا بشخص
هذا الوجوب بالحمل الشائع، حتى يكون موضوعا لشخصه، فيلزم توقف الشئ
على نفسه.
والتحقيق: أن العلم الموقوف عليه شخص الحكم إذا لوحظ بالإضافة إلى
متعلقه المتقوم به العلم في مرتبة وجوده في النفس، فمتعلقه (3) ماهية الحكم
دون وجوده لاستحالة تقوم العلم بأمر خارج عن أفق النفس، وليس العلم إلا
وجود الماهية في النفس، إذ الوجود لا يقبل وجودا آخر لا من سنخه ولا من غير
سنخه.
ومن الواضح: أن العلم وإن كان متوقفا على المعلوم بالذات ومتأخرا عنه،
لكنه لا توقف لماهية الحكم عليه، بل لوجوده، فلا دور، لعدم التوقف من
الطرفين مضافا إلى عدم التعدد في الوجود المبني عليه الدور المصطلح عليه،
وإذا لوحظ العلم بالإضافة إلى المعلوم بالعرض وهو المطابق للمعلوم بالذات أي
الحكم بوجوده الحقيقي والحكم وإن كان متوقفا بالفرض على العلم توقف
المشروط على شرطه، إلا أن شرطه وهو حقيقة العلم كما عرفت لا يتوقف على وجود الحكم، بل على ماهيته، ومنه تعرف أنه كما لا دور كذلك لا خلف ولا

(1) ذكر كلمة - قدس سره - هنا إشارة من الأستاذ الكمباني على رحيل أستاذه الآخوند الخراساني
من دار الغرور والفناء إلى دار الخلود والبقاء.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 25. وكفاية الأصول: 266، (ت، آل البيت). وفوائد الأصول ج 1،
ص 148.
(3) (خ ل): فمتعلق.
75

اجتماع المتنافيين من حيث التقدم والتأخر الطبعيين: فإن العلم له التأخر الطبعي
عن ذات متعلقه تأخر العارض عن معروضه، ولا تأخر لمعروضه عنه، وحقيقة
الحكم لها التأخر الطبعي عن حقيقة العلم تأخر المشروط عن شرطه، لكنه لا
تأخر للعلم عن حقيقة الحكم بل عن ماهية المقومة له (1) في أفق النفس، فلم يلزم
خلف ولا اجتماع المتنافيين.
ولا يخفى عليك أن الشرط وإن كان حقيقة العلم المطابق للواقع بحيث يكون
المعلوم صورة شخص الحكم لا صورة مثله، إلا أنه لا توقف للمعلوم بالذات
على المعلوم بالعرض، فلا دور بالواسطة، والمفروض هنا تحقق الحكم حال
تحقق العلم، لأن الشرطية لا تقتضي إلا تحقق العلم المطابق، سواء كان مطابقه
مقارنا له زمانا أو سابقا عليه أو لاحقا.
ومما مر يندفع الدور بتقريب آخر هو أن العلم موضوع الحكم لا متعلقه
المطلوب به والموضوع لا بد من أن يكون مفروض الثبوت، فيلزم فرض ثبوت
الشئ قبل ثبوته، وهو ملاك الدور المحال، ويندفع: بأن مقتضاه فرض ثبوت
العلم لا فرض ثبوت المعلوم، وثبوت العلم لا يقتضي ثبوت المعلوم بالعرض كما
عرفت، مع أن ثبوت الشئ فرضا غير ثبوته التحقيقي، فلا يلزم من فرض ثبوت
الشئ هنا ثبوت الشئ قبل ثبوت نفسه، فلا مانع من توقف ثبوته التحقيقي على
ثبوته الفرضي.
نعم، يمكن فرض الخلف من وجه آخر، وهو أن فرض تعليق الوجوب على
العلم به هو فرض عدم الوجوب لطبيعي للصلاة مثلا، وفرض نفس القيد وهو
العلم بوجود الصلاة هو فرض تعلق الوجوب بطبيعي الصلاة.
لا يقال: هذا إذا كان العلم قيدا للواجب وأما إذا كان الواجب ذات الحصة
الملازمة للعلم، فالوجوب متعلق بذات الصلاة بحيث لا يتعدى إلى ما لا يلازم
العلم.
لأنا نقول: طبيعي الصلاة لا يتخصص بالعلم بالوجوب والجهل به، بل
الواجب بها هو واجب يتخصص بالمعلوم والمجهول، وفرض العلم بوجوب

(1) (خ ل): له صح في أفق النفس.
76

الصلاة فرض تعلق الوجوب بطبيعي الصلاة لا بحصة منه، ولازمه الخلف.
والتحقيق: أن جعل الإيجاب واقعا على طبق ما اعتقده القاطع من الوجوب
بحيث لا يكون وجوب واقعا قبل حصول القطع به من باب الاتفاق ليس فيه
محذور الخلف، بخلاف جعل الوجوب على المعلوم الوجوب بنحو القضية
الحقيقية حتى يصير الحكم فعليا بفعلية موضوعه، فإن فيه محذور الخلف، إذ
يستحيل حصول العلم بالوجوب بوصول هذه القضية مع ترتب الوجوب على
العلم بالوجوب، وكون فعلية الحكم بفعلية موضوعه والمبني على أمر محال
محال فجعل الحكم هكذا محال، بل القسم الأول محال من وجه آخر فإن جعل
الحكم بعثا وزجرا لجعل الداعي، ومع فرض العلم بالوجوب من المكلف يلغو
جعل الباعث له فتدبر.
28 - قوله: ولا مثله للزوم اجتماع المثلين (1) إلخ:
قد أشرنا سابقا إلى أن اجتماع المثلين مبني على أن يكون الحكم هو البعث
والتحريك الخارجي بخارجية منشأ انتزاعه، وأما لو كان الحكم عبارة عن نفس
الإرادة والكراهة فلا يلزم منه اجتماع المثلين، بناء على أصالة الوجود وبقاء
حقيقة العرض عند الحركة والاشتداد، فإن ذات الإرادة المقطوع بها باقية عند
تأكدها، فلا يلزم الخلف بانعدامها ولا اجتماع المثلين بقائها وتأكدها، والإرادة
الموجودة من الأول إلى الآخر موجود واحد مستمر ينتزع عنها مرتبة ضعيفة في
أول أمرها ومرتبة شديدة في آخر أمرها.
ولا يخفى عليك أن التحريك التنزيلي المنتزع عن الإنشاء بداعي جعل
الداعي وإن كان يصح اعتبار الشدة والضعف فيهما كما في التحريك الحقيقي
الخارجي لكن لا بنحو الحركة والاشتداد، بداهة أن الإنشائين الصادرين لجعل
الداعي ليس بينهما اتصال في الوجود الوحداني كي يجري فيهما الحركة
والاشتداد، وإن كان يختلف قول الطبيعة على أفراد التحريك التنزيلي بالشدة
والضعف.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 24 وكفاية الأصول: 267، (ت، آل البيت).
77

فيقال إن وجوب الصلاة أشد وأقوى من وجوب غيرها، ولو فرض فيما نحن
فيه تأكد الداعي وتأكد الإرادة وصدور التحريك المنزل منزلة التحريك الشديد
وسقوط الإنشاء السابق عن كونه محركا كان خلفا، وإلا لكان من اجتماع المثلين،
وأما انتزاع البعث الأكيد عقلا من مجموع الإنشائين فلا يلزم الخلف، ولا اجتماع
المثلين غير صحيح، لأن خارجية الأمر الانتزاعي بخارجية منشأ (1) انتزاعه
ومجموع الإنشائين واحد بالاعتبار، لا بالحقيقة، فلا منشأ لانتزاع البعث الأكيد
حقيقة حتى يتحقق البعث الأكيد انتزاعا وانتزاع معنى من منشائه ليس جزافا (2)
بل لاقتضاء المنشأ فكان المعنى الانتزاعي موجودا (3) بالقوة، ومنشائه موجودا
بالفعل ونحو وجود الأمر الانتزاعي نحو وجود المقبول بوجود القابل خارجا
وفعلية بحيث يكون له نحو وجود يختص به بفعلية الاعتبار والانتزاع، وبهذه
الملاحظة يكون من الاعتباريات لا من الواقعيات، والمفروض أن المنشأ ليس إلا
الإنشاء بداعي جعل الداعي فقط، وحيث لا منشأ حقيقة لانتزاع البعث الأكيد فلا
هو موجود بوجوده ولا يعقل انتزاع ما لا منشأ له فتدبر جيدا.
" في صحة أخذ القطع من حيث مراتب الحكم "
29 - قوله: في مرتبة أخرى منه أو مثله (4) إلخ:
فإذا كان القطع بالإنشاء الواقعي من متممات السبب السابق، كان الحكم
الفعلي فعلية ذلك الحكم المنشئ، وإن كان بنفسه سببا من غير دخل للمصلحة
الداعية إلى الحكم الواقعي كان هذا الحكم مماثلا للحكم الفعلي الذي كان
المورد في سبيل الترقي والبلوغ إليه، لكنه يشكل بأن الإنشاء الذي قطع به السبب
لحكم فعلي مماثل، إن كان إنشاء بلا داع فهو محال، لأنه من الأفعال الاختيارية
فيستحيل صدوره بلا داع، وإن كان إنشاء بداعي جعل الداعي فلا محالة إذا قطع

(1) (خ ل): منشائه.
(2) (خ ل): جزاقا بل - موجود.
(3) (خ ل): جزاقا بل - موجود.
(4) كفاية الأصول: ج 2، ص 25 وكفاية الأصول: 267، (ت، آل البيت).
78

به يبلغ مرتبة الفعلية، فيلزم اجتماع الحكمين الفعليين، وإن كان إنشاء لغير داعي
جعل الداعي من سائر الدواعي فهو مصداق لذلك الداعي، فالإنشاء بداعي
الإرشاد إرشاد وبداعي الامتحان امتحان، ويستحيل أن ينقلب عما هو عليه،
فيصير بعثا حقيقيا وحكما فعليا، فالإنشاء المزبور ليس من مراتب الحكم
الحقيقي حتى يندرج تحت عنوان أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أخرى
منه، أو في مرتبة أخرى من مثله أو من ضده.
فإن قلت: هذا إذا أريد من المرتبة مرتبة الإنشاء، وأما إذا أريد مرتبة الاقتضاء
فلا محذور فيها، لأن القطع بالمقتضي لا يستدعي فعلية مقتضاه، بل يمكن أن
يكون المقتضي المقطوع به فاقد الشرط أو واجد المانع، بخلاف المقتضي
للحكم المماثل، لإمكان فقدانه للمانع ووجدانه للشرط.
قلت: المقتضي بمعنى السبب الفاعلي كذلك لثبوت مقتضاه في مرتبة ذاته
فيتعدد المقتضى بتعدد المقتضي، ولكل تعين في مرتبة مقتضيه بتعين المقتضي،
بخلاف المقتضي بمعنى الغاية الداعية فإن المدعو إليه لا ثبوت له في مرتبة ذات
غايته، بل الغاية أثر لذيها لا العكس، وإذ لا ثبوت له في مرتبة الغاية فلا تعين له
بتعين الغاية كي يتعدد ذو الغاية بتعدد الغاية، فلا معنى لأن يقال إن الحكم
الفعلي المعلول لعلة غائية مماثل لما لا تعين له في مرتبة الغاية الغير الداعية
بالفعل، بل لا مدفع للإشكال.
إلا أن يقال إن الإنشاء بداعي جعل الداعي المقطوع به يمكن أن يكون منوطا
شرعا بأمر غير حاصل، فلا يبلغه إلى مرتبة الفعلية، بخلاف الحكم الفعلي
المماثل فإن مجرد القطع بالإنشاء المزبور سبب تام له، فلا يلزم اجتماع المثلين
فتدبر.
30 - قوله: يمكن أن يكون الحكم فعليا بمعنى أنه لو تعلق به القطع
على ما هو عليه (1) إلخ:
تحقيق المقام أن حقيقة الحكم إن كانت عبارة عن الإرادة والكراهة فلا يكاد

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 27 وكفاية الأصول: 267، (ت، آل البيت).
79

يعقل تصور فردين من الإرادة أو الإرادة والكراهة في موضوع واحد.
وإن كانت عبارة عن البعث والتحريك ونحوهما.
فإن كانت لحقيقة الحكم الفعلي مرتبة واحدة ذات جهات موجبة لبلوغها إلى
درجة الفعلية ومرتبة التمامية، فمن البين حينئذ أن ما يستحق أن يكون مصداقا
للحكم الحقيقي هو ما اجتمعت فيه جميع جهات الفعلية. بداهة: أن الفاقد
لبعضها باق على الشأنية (1) ولم يبلغ درجة الفعلية، والفعلية تنسب إلى نفس تلك
الجهة لا إلى الحكم، ولا بد حينئذ من جعل العلم مثلا مبلغا إلى درجة الفعلية،
فيكون مرتبة الفعلية والتنجز فيه واحدة، وهو مما لا يقول به المصنف العلامة -
رفع الله مقامه (2) - إلا في الأحكام الطريقية دون النفسية الحقيقية.
وإن كانت لحقيقته الحكم الفعلي مراتب ودرجات مع وجدان جميعها لما هو
ملاك الفعلية ومناط حقيقة الحكمية، فمن الواضح أن فردين من طبيعة واحدة
مثلان، ومن طبيعتين ضدان، سواء كانا متفاوتين في القوة والضعف أم لا
فيستحيل اجتماعهما.
نعم، إنما يمكن إبداء الفرق فيما لو كان استحالة اجتماع الحكمين الفعليين
بأمر خارج من حقيقة الحكم الفعلي، وذلك بدعوى أن الحكم إن كان الغرض
الباعث إليه بحد يوجب على الحاكم القيام على رفع موانع تنجزه على المكلف
بنصب طريق موافق أو بجعل احتياط ملزم، فلا محالة يستحيل منه نصب طريق
لا يوافق، أو أصل مخالف، لمنافاته للغرض، وإن كان الغرض الداعي إلى جعل
الداعي لا بذلك الحد، فكما لا يجب عليه رفع موانع تنجزه على المكلف - كما
هو كذلك قطعا في الغالب - كذلك يجوز له إبداء المانع عن تنجزه بنصب طريق
غير موافق أو أصل مخالف.
إذ المفروض كون الغرض بحيث لا يوجب رفع المانع فلا يمنع عن إبدائه، إذ
لا فرق بينهما في نظر العق، حيث إن عدم رفعه إبقاء منه والإبقاء والإبداء على

(1) (خ ل): الثانية.
(2) لأن الآخوند - قده - قائل بالفرق بين الفعلية والتنجز.
80

حد سواء، لكن لا يخفى عليك أن الغرض إنما يتفاوت فيما إذا كان غرضا من
المأمور به لا غرضا من الأمر وإلا فالغرض الباعث على الأمر واحد لا يختلف،
فإن الغرض من التكليف الحقيقي جعل الداعي حقيقة، وهو مناف لجعل داع
آخر، مماثل أو مضاد من حيث الغرضية.
كما إن نفس جعل حكمين كذلك أيضا محال، ضرورة أن معنى إمكان الدعوة
هنا تمامية الداعي من قبل الأمر، فيبقى المأمور ومقتضى عقله وهواه، فإذا خلي
العبد عما ينافر رسوم العبودية يخرج الداعي من حد الإمكان إلى الوجوب ولا
يعقل اجتماع حكمين كذلك، بداهة عدم إمكان انقداح داعيين متماثلين أو
متضادين في نفس المأمور به بالإضافة إلى فعل واحد.
وأما إذا أريد من الحكم الفعلي الإنشاء بداعي إظهار الشوق إلى الفعل فهو
فعلي من قبل هذه المقدمة وإن لم يكن فعليا من قبل غيرها، فلو قطع به أو قامت
الحجة عليه من باب الاتفاق لتنجز، ففيه: أن الشوق ما لم يصل إلى حد بحيث لو
كان فعلا مباشريا للمشتاق لتحركت عضلاته نحوه لا يكون مصداقا للإرادة
التكوينية في المثال وللإرادة التشريعية فيما نحن فيه.
ومن الواضح: أن بلوغ الشوق إلى هذا الحد علة تامة للبعث الجدي والتحريك
الحقيقي، مضافا إلى منافاة نفس الإرادة التشريعية للإرادة الأخرى في طرف
ضدها، وإذا لم يصل الشوق إلى هذا الحد فمثله لو قطع به لا يكون مؤثرا في
تحريك العبد فكيف يتنجز.
نعم، يمكن تقريب ما أفاده - قده - بأن الحكم الواقعي هو الإنشاء بداعي
جعل الداعي لا بغيره من الدواعي، فإنه لا يعقل أن ينطبق عليه عنوان البعث
والزجر، وهذا الحكم وإن لم يكن قبل الوصول بنحو من الأنحاء مصداقا للبعث
والزجر الفعليين، لكنه فعلي بمعنى آخر، أي هو تمام ما بيد المولى وتمام ما يتحقق
من قبله، ومثله لو قطع به أو قامت عليه الحجة كما يصير بعثا فعليا كذلك يتنجز،
بخلاف ما إذا أظن به فإنه لا يصير مصداقا للبعث الفعلي، كما لا يصير منجزا،
فلذا يعقل جعل بعث فعلي أو زجر فعلي في مورده، إذ المماثلة بين البعثين
81

الفعليين، والمضادة بين بعث فعلي وزجر فعلي لا بين ما لا يكون مصداقا للبعث
بالفعل وما يكون كذلك بالفعل وسيجيئ إنشاء الله تعالى تفصيل القول فيه (1).
" الأمر الخامس: في الموافقة الالتزامية "
31 - قوله: يقتضي موافقته التزاما والتسليم له إلخ (2):
لا يخفى عليك أن تحقيق حقيقة الالتزام الباطني لا يخلو عن خفاء
وغموض، لأنه خارج عن المقولات التي هي أجناس عالية للماهيات، ولا شئ
من موجودات عالم الإمكان كذلك، ووجه الخروج أن المقولة المناسبة له مقولة
الكيف النفساني أو مقولة الفعل وهو خارج عن كلتيهما.
أما عن الأولى، فلأن المفروض أن نسبة النفس إليه بالتأثير والإيجاد لا
بالتكيف والقبول والانفعال مع أن الكيفيات النفسانية مضبوطة محصورة ليس
بشئ منها كما لا يخفى على الخبير بها.
وأما عن الثانية: فلأنها عبارة عن الحالة الحاصلة للشئ عند تأثيره التدريجي
في غيره كالتسخين للنار في قبال مقولة الانفعال، ومن البين أنه ليس هنا شيئان
لأحدهما حالة التأثير التدريجي وللآخر حالة التأثر التدريجي كالنار والماء.
لكنا قد ذكرنا في مبحث الطلب والإرادة (3) مفصلا أن الفعل القلبي ضرب من
الوجود النوري، والوجود في قبال المقولات، وهذا الفعل قائم بالنفس قياما
صدوريا فهو من المعلوم الفعلية دون الانفعالية، ونسبة النفس إليه بالتأثير
والإيجاد وبالجملة الأفعال القلبية أمور يساعدها الوجودان، فإن الإنسان كثيرا ما
يعلم بأهلية المنصوب من قبل له النصب، لكنه لا ينقاد له قلبا ولا يقر به باطنا
لخباثة نفسه أو لجهة أخرى وإن كان في مقام العمل يتحرك بحركته خوفا من
سوطه وسطوته، وهكذا كان حال كثير من الكفار بالنسبة إلى نبينا (ص)، حيث

(1) التعليقة: 55 و 71، ص 123 و 157.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 27، س 14 وكفاية الأصول: 268، (ت، آل البيت).
(3) نهاية الدراية: ج 1، ص 188.
82

إنهم كانوا عالمين بحقيته، كما نطق به القرآن، ومع ذلك لم يكونوا منقادين له قلبا
ولا مقرين به باطنا، ولو كان ملاك الإيمان الحقيقي نفس العلم التصديقي، لزم أن
يكونوا مؤمنين به حقيقة، أو جعل الإيمان الذي هو أكمل كمالات النفس، مجرد
الإقرار اللساني، وكلاهما مما لا يمكن الالتزام به فافهم جيدا.
32 - قوله: الحق هو الثاني لشهادة الوجدان إلخ (1):
قد عرفت في مبحث التجري (2) أن ملاك استحقاق العقوبة انطباق عنوان
هتك الحرمة والظلم على المخالفة للتكليف، ومن الواضح: أن عدم الالتزام قلبا
مع كمال الالتزام عملا لا يكون هتكا ولا ظلما، إذ الغرض من التكليف انقداح
الداعي إلى فعل ما هو موافق لغرض المولى، وعدم المبالاة بأمر المولى إنما
يكون هتكا وظلما إذا انجر (3) إلى ترك ما يوافق غرض المولى أو فعل ما ينافيه.
نعم، إذا كان الالتزام قلبا واجبا شرعا كان تركه هتكا وظلما، والحاصل أن
الغرض عدم اقتضاء التكليف بفعل للالتزام به قلبا، عقلا، لا عدم وجوبه شرعا
ولا عدم وجوب الالتزام بما ورد منه تعالى أو من رسوله شرعا، أو عقلا، فالكلام
في مقتضيات التكليف المعلوم عقلا، وإلا فلزوم الالتزام بما جاء به النبي (ص)
غير مختص بالثابت في حق المكلف، بل ولو كان في حق الغير، مع أن لزوم
تصديق النبي (ص) فيما أتى به معناه أن ما أوجبه (ص) واجب من قبله تعالى،
وهو يجتمع مع عدم الالتزام بما أوجبه تعالى - فتدبر جيدا.
ثم إن هذا كله لو كان الغرض من هذا البحث بيان شؤون التكليف المعلوم من
حيث الإطاعة والمعصية عقلا، وأما إن كان الغرض بيان المانع من إجراء (4)
الأصل وعدمه كما هو المناسب لمباحث الأصول العملية، فلا فرق بين أن يكون
وجوب الموافقة الالتزامية وحرمة المخالفة الالتزامية من مقتضيات التكليف
المعلوم عقلا، وأن يكون بدليل آخر عقلا ونقلا، فإنه يمنع عن جريان الأصل

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 28، س 5 وكفاية الأصول: 268، (ت، آل البيت).
(2) التعليقة: 10، ص 41.
(3) (خ ل): اتجر.
(4) (خ ل): أجزاء.
83

على القول به، ولو ثبت بدليل آخر كما هو واضح.
ومنه يظهر الفرق بين البحث من حيث كونهما من شؤون التكليف، والبحث
من حيث المانعية عن إجراء (1) الأصول من وجه آخر، وهو عدم اختصاص الأول
بالتوصليات بل يعم التعبديات أيضا، غاية الأمر أن المخالفة الالتزامية فيها لا
تنفك عن المخالفة العملية وتنفك المخالفة العملية عن المخالفة الالتزامية، لأن
الالتزام بالحكم لا يلازم العمل، والعمل العبادي يلازم الالتزام بالحكم، ويختص
الثاني أعني البحث من حيث المانعية بالتوصليات حتى يتمحض المانع في
المخالفة الالتزامية مستلزمة للمخالفة العملية التي لا كلام في مانعيتها.
33 - قوله: للتمكن من الالتزام بما هو ثابت واقعا إلخ:
بل يتمكن من أزيد من ذلك بناء على ما سيجيئ (2) إنشاء الله تعالى من أن
طرف العلم دائما مبين تفصيلا، وإنما الإجمال والتردد في طرف الطرف
ومتعلقه، بداهة أن طرف العلم يتشخص به العلم في مرحلة النفس، وهو أمر
جزئي غير مردد، وهنا كذلك، لأن المعلوم هو الإلزام من الشارع أما أن متعلقه (3)
الفعل أو الترك فهو مجهول أي غير معلوم والإلزام المعلوم يستتبع على الفرض
الالتزام به باطنا والانقياد له قلبا.
34 - قوله: وإن أبيت إلا عن لزوم الالتزام به بخصوص (4) إلخ:
إذ كل تكليف كما يقتضي إطاعته عملا - لا إطاعة الأعم منه ومن غيره - كذلك
يقتضي الالتزام به بحده لا الالتزام بعنوان أعم أو بالجهة الجامعة بينه وبين ضده،
فافهم.
35 - قوله: لما كانت موافقته القطعية الالتزامية إلخ:
لعدم تبينه تفصيلا حتى يلتزم به بعنوانه.

(1) (خ ل): أجزاء.
(2) التعليقة: 41، ص 93، بل التحقيق أن طرف العلم.
(3) (خ ل): أن متعلقة الفعل.
(4) كفاية الأصول: ج 2، ص 30 وكفاية الأصول: 268، (ت، آل البيت).
84

وأما الالتزام بهذا بعينه وبذاك بعينه حتى يتحقق الالتزام بالواقع بعنوانه فهو
محال، إلا على وجه باطل، لأن الالتزام الجدي بشيئين من قبله (تعالى) مع القطع
بأن أحد الشيئين لم يرد منه (تعالى) مما لا ينقدح في نفس العاقل، إلا بنحو
التشريع المحرم عقلا ونقلا.
ومنه يظهر أن الالتزام بأحدهما بخصوصه مع عدم العلم بوروده بخصوصه
غير ممكن إلا تشريعا، مضافا إلى عدم إحراز الالتزام اللازم حينئذ، وهكذا الأمر
في الالتزام بهما تخييرا، فإن الغرض إن كان على نحو الالتزام بالواجب التخييري
فهو غير معقول، للقطع بأن الثابت إلزام تعييني لا تخييري، فيكون تشريعا غير
مفيد، وإن كان بنحو التخيير في نفس التزامه بمعنى أن العقل يخيره بين الالتزام
بالوجوب أو الالتزام بالحرمة، فهو جزاف لا يعقل حكم العقل به، لأن الإلزام
الواقعي كما يقتضي إطاعة نفسه عملا، كذلك يقتضي إطاعة نفسه التزاما،
فالتخيير بين الالتزام بالثابت والالتزام بغير الثابت لا يعقل أن يكون من مقتضيات
التكليف الثابت، فلا يحكم به العقل.
فإن قلت: هذا إذا أريد من التخيير ما هو كالتخيير بين الواجبين المتزاحمين،
حيث إن اقتضاء كل منهما للجري على وفق مقتضاه محقق، والجري على وفق
كلا الاقتضائين غير ممكن، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر، فيحكم العقل
بالتخيير بينهما.
وأما إذا أريد من التخيير ما هو كالتخيير بين محتملات تكليف واحد، فإنه لا
مانع منه، ولا يجب أن يكون باقتضاء ذلك التكليف الواحد عقلا ليقال بأنه غير
معقول.
قلت: وجه التخيير بين محتملات تكليف واحد كالصلاة إلى إحدى الجهات
مع عدم التمكن إلا من صلاة واحدة هو أن التكليف بعد تنجزه يكون كل من
محتملاته محتمل العقاب، ومع عدم التمكن من رعاية تمام المحتملات وعدم
المرجح لبعضها على بعض يحكم العقل بالتخيير، وهذا غير جار فيما نحن فيه
85

حيث لا يعقل تنجز التكليف لا من حيث العلم ولا من حيث الالتزام.
أما من حيث العمل، فلعدم التمكن من رعاية التكليف عملا وعدم خلوه من
الفعل والترك موافقة احتمالية قهرية لا عقلية. وأما من حيث الالتزام، فلأن
الالتزام الجدي بكل منهما غير معقول مع عدم العلم به إلا بنحو التشريع المحرم
عقلا ونقلا، وحيث لا موافقة التزامية فلا معنى لتخيير العقل بين أنحاء محتملاته
من حيث الالتزام، ومنه يعلم أن الأمر كذلك بناء على وجوب الالتزام شرعا فتدبر.
36 - قوله: ومن هنا قد انقدح أنه لا يكون من قبل لزوم الالتزام
إلخ (1):
إذ على فرض لزوم الالتزام بالحكم بعنوانه لا لزوم في مفروض البحث على
أي تقدير حتى يكون مانعا، بخلاف ما لو قلنا بلزوم الالزام بالحكم ولو بنحو
الإجمال، فإنه مانع عن جريان الأصول، لا لما أفاده شيخنا العلامة الأنصاري
- قده - في الرسالة (2)، من أن لازمه الإذن في المخالفة العملية للتكليف بالالتزام،
فإنه مختص بما إذا كان هناك تكليف مولوي بالالتزام، بل لأن المخالفة الالتزامية
معصية التزامية للتكليف كالمخالفة العملية، والإذن في المعصية كائنة ما كانت
قبيح.
والتحقيق: أنا إن قلنا بعدم المنافاة بين الحكم الواقعي والظاهري فلا منافاة
بين الالتزام بالواقعي والالتزام بالظاهري، فلا يلزم من إجراء الأصول الإذن في
المخالفة الالتزامية فتدبر جيدا.
فإن قلت: لا يدور لزوم المخالفة الالتزامية مدار تنافي الحكمين، وإلا لكان
نفس تضاد الحكمين أولى بالاستناد إليه في استحالة التعبد بالإباحة مثلا، وكذا
استحالة الالتزام الجدي بالمتنافيين فإنها أولى بالاستناد إليها في المقام، بل
المخالفة الالتزامية لازمة ولو قلنا بعدم تصاد الحكمين، وعدم استحالة

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 30.
(2) فرائد الأصول: ص 19 س 23. والرسائل: ج 1، ص 31، (ط، جماعة المدرسين)، ما هذا
لفظه: فالحق - مع فرض عدم الدليل على وجوب الالتزام بما جاء به الشارع على ما جاء به - أن...
86

الالتزاميين، فإن نفس الالتزام بالإباحة التزام بخلاف ما يجب الالتزام به، من
الحكم المعلوم بالإجمال ولو لم يكونا متضادين.
قلت: الفرض عدم لزوم المخالفة الالتزامية بناء على عدم تنافي الحكمين، إذ
المخالف للوجوب الواقعي عدم الوجوب واقعا، أو الإباحة واقعا، فالالتزام
بالإباحة الظاهرية ليس التزاما بالحكم المخالف، حتى يندرج تحت المخالفة
الالتزامية ممن يرى المانع منحصرا في المخالفة العملية، أو الالتزامية، كالعلامة
الأنصاري - قده - في غالب كلماته.
37 - قوله: كما لا يدفع بها محذور عدم الالتزام إلخ:
هذا ناظر إلى ما أفاده شيخنا العلامة الأنصاري - قده - في دفع محذور عدم
الالتزام (1) ب‍ " أن الأصول تحكم في مجاريها بانتفاء الحكم الواقعي "، فلا موضوع
للزوم الالتزام، وأورد عليه في المتن بلزوم الدور (2)، وتقريبه أن جريان الأصل
موقوف على عدم المانع من جريانه والإذن في المخالفة الالتزامية الذي هو لازم
التعبد بعدم الحكم المعلوم بالإجمال، حيث إنه قبيح فهو مانع، وعدم لزوم هذا
المانع موقوف على نفي الحكم المعلوم بالإجمال، لئلا يكون له المخالفة
الالتزامية، وعدم الحكم المعلوم بالإجمال موقوف على جريان الأصل، فصحة
جريان الأصل يتوقف على نفسها كما أن عدم الحكم كذلك، ويندفع الدور بأن
مفاد الأصل بنفسه رفع الحكم من الوجوب أو الحرمة لا أنه يتوقف على رفعه،
وليس لازم رفع الحكم الإذن في المخالفة الالتزامية المحرمة، فإنها لا تحرم بل لا
يتحقق إلا مع ثبوت الحكم ولا مانعية لحرمة المخالفة الالتزامية أو قبح الإذن فيها
إلا على تقدير ثبوت موضوعها وما لا مانعية (3) له إلا على تقدير ثبوت موضوعه
كيف يمنع عن رفع موضوعه.
فإن قلت: هذا بالإضافة إلى الحكم الفعلي فإنه مرفوع بالأصل، وأما الحكم

(1) فرائد الأصول: ص 19، س 23، مخطوط والرسائل: ج 1، ص 31، (ط، جماعة المدرسين).
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 30، س 14 وكفاية الأصول: 269، (ت، آل البيت).
(2) (خ ل): مانعته.
87

الواقعي فلو وجب الالتزام بالحكم الواقعي المعلوم بالإجمال مع ثبوته حتى مع
جريان الأصل يلزم من جريانه الإذن في المخالفة الالتزامية.
قلت: أولا، لا نسلم حرمة المخالفة الالتزامية للواقعي المحكوم بعدمه
تنزيلا، ومفاد الأصل رفعه تنزيلا، فلا يمنع إلا حرمة المخالفة الالتزامية لما له
ثبوت ولم يكن منفيا ولو تنزيلا.
وثانيا، حيث إن مفاد الأصل رفع الوجود الفعلي أو الحرمة الفعلية فلازمه
عدم الالتزام بالوجوب الفعلي أو الحرمة الفعلية لا عدم الالتزام بالوجوب
الواقعي أو الحرمة الواقعية حتى يكون بلحاظ هذا اللازم قبيحا، لكنه يناسب ما
سلكناه (1) في عدم المانعية لا ما سلكه - قده - في عدمها بلحاظ عدم الموضوع،
لوجوب الموافقة الالتزامية، وبناء على هذا الوجوب لا حاجة إلى قصر وجوب
الموافقة الالتزامية على الحكم الفعلي الذي لم يرفع تنزيلا، بل يجتمع مع
وجوب الالتزام بكل ما ثبت من الشارع على حسب مرتبته من الثبوت فتدبر.
فإن قلت: الأصل لا يرفع إلا الوجوب الفعلي أو الحرمة الفعلية، لأن كل
واحد منهما في نفسه مشكوك، وأما الإلزام المعلوم بالتفصيل فلا يعقل أن يرفعه
الأصل المتقوم موضوعه بالشك، فيجب الالتزام بهذا الإلزام ويلزم من التعبد
بالإباحة الإذن في عدم الالتزام بالإلزام.
قلت: أصالة عدم الوجوب وعدم الحرمة تنفي الوجوب والحرمة الفعليين
بالذات والإلزام الفعلي بالتبع، إذ يستحيل الإلزام الجدي إلا متقوما بالبعث
والزجر الجديين فلا موضوع لوجوب الالتزام أيضا، والعلم بالإلزام الواقعي لا
يقتضي إلا الالتزام به وهو كما عرفت لا يمنع من عدم الالتزام بالإلزام الفعلي، كما
لا يمنع من عدم الالتزام بالوجوب أو الحرمة الفعليين فتدبر.
38 - قوله: إلا أن يقال إن استقلال إلخ:
سيجيئ إنشاء الله تعالى أن حكم العقل لو فرض ثبوته تنجيزي لا تعليقي (2).

(1) التعليقة: 37، ويندفع الدور بأن مفاد الأصل بنفسه...
(2) التعليقة: 41، ص 95.
88

" جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي "
39 - قوله: إلا أن الشأن في جواز جريان إلخ (1):
المراد من الأصل الجاري في أطراف المعلوم بالإجمال إما أصالة عدم
الوجوب وأصالة عدم الحرمة وإما أصالة الإباحة وأصالة الحل المستفادة من
قوله (ع) " كل شئ لك حلال " وأشباهه (2).
فإن أريد أصالة عدم الوجوب وعدم الحرمة، فوجه الإشكال: أنه لا يترتب
عليها فائدة بحيث لم تكن لولا جريان الأصلين المزبورين، لمكان استقلال العقل
بعدم الحرج في الفعل والترك فهو المستند للفعل المحتمل حرمته، وللترك
المحتمل وجوب نقيضه.
وفيه: أولا: أن جريان الاستصحاب منوط بوجود أركانه من اليقين والشك (3)
الموجودين هنا، وكون المتعبد به حكما عمليا مجعولا أو موضوعا ذا حكم
عملي، والمفروض أن للوجوب (4) والحرمة حكمان عمليان مجعولان إثباتا
ونفيا، وعدم حصول الغاية العقلية، لأن مثل هذا العلم الإجمالي على الفرض غير
منجز، لا للوجوب والحرمة بعنوانهما، ولا للإلزام الجامع بينهما كما عرفت.
وثانيا، بأن حكم العقل إنما يكون مستندا للفعل والترك ما لم يكن التكليف
فعليا إثباتا أو نفيا، فكما أنه لا مجرى له إذا صار الحكم فعليا كذلك إذا صار عدمه
فعليا ومع فعلية عدم الحكم بلسان الأصل لا مجرى لحكم العقل، فهو المستند
للفعل والترك دون حكم العقل، كما سيأتي نظيره إنشاء الله تعالى في أوائل
البحث عن تأسيس الأصل في الظن (5).

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 31، س 4 وكفاية الأصول: 269، (ت، آل البيت).
(2) الوسائل: ج 12، ح 4، باب 4، من أبواب ما يكتسب به، ص 60، م 22050.
(3) (خ ل): أو الشك.
(4) (خ ل): أن الوجوب.
(5) التعليقة: 71، ص 157.
89

وإن أريد أصالة الحل والإباحة المستفادة من أدلة البراءة، فوجه الإشكال.
إن كان مجرد الاضطرار إلى أحد الأمرين من الفعل والترك فه موجود في
تمام موارد الإباحات، لعدم خلو الإنسان من الفعل والترك وهو غير الاضطرار
المانع عن مطلق التكليف، لصدور كل من طرفي الفعل والترك بالاختيار مع أنه
إنما يمنع عن الإباحة إذا كانت الإباحة عبارة عن الترخيص في الفعل والترك
معا، بل الإباحة كالوجوب والحرمة يتعلق بطرف الفعل، وترك المباح كترك
والواجب وترك الحرام ليست محكومة بالأحكام، بل معنى ترك الواجب أنه ترك
ما يجب فعله فيستحق به العقوبة، وترك المباح معناه ترك ما لا منع من فعله، لا
أنه محكوم شرعا بحكم مثل حكم فعله، كما في الواجب والحرام فتفطن.
وإن كان عدم التمكن من مراعاة الواقع على أي تقدير فهو مضطر إلى عدم
مراعاة الواقع فمن البين أنه يمنع عن إيجاب الاحتياط لا عن الإباحة
والترخيص، ليقال إن الإباحة ضروري الثبوت.
وإن كان استقلال العقل بالتخيير وعدم الحرج في فعله وتركه فلا يكون
الحكم مولويا حينئذ فيندفع: أن مجرد ذلك لا يمنع عن الحكم المولوي فإنه لا
شبهة في استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان، ومع ذلك لا إشكال في صحة
الحكم بالإباحة الشرعية في مورده، وكما أن إعمال المولوية هناك من جهة إمكان
الأمر بالاحتياط، فكذلك هنا من جهة إمكان التعبد بأحد الطرفين شرعا لحكمة
نوعية، فليست الإباحة الشرعية ضروري الثبوت، وإنما يحكم العقل بالرخصة
من جهة عدم وجدان المرجح في نظره لأحد الطرفين وإن كان قصور أدلة الإباحة
الظاهرية للمورد، حيث إنه لا شك في عدم إباحته واقعا فكيف يعمه قوله (ع)
" كل شئ لك حلال " فهو له وجه، لكنه مختص بصورة دوران الأمر بين الوجوب
والحرمة، ولا يعم كل الصور فإنه لا بأس بشموله لما إذا دار الأمر بين حرمة شئ
وحرمة ضده، فإن كلا منهما مشكوك الحلية والحرمة.
90

ويمكن أن يقال: بعد شمول قوله (ع) " كل شئ لك حلال " (1) للشبهة
الوجوبية نظرا إلى أنه مما يحرم تركه، فيعمه الغاية، وبعد شمول الخبر لصورة
دوران الأمر بين المحذورين، لعدم دخولها في الغاية نظرا إلى أنها غاية عقلية لا
تعبدية، ومثل هذا العلم لا ينجز الحكم عقلا، وبعد شموله للشبهات الحكمية
كالموضوعية بالإغماض عن كونه جزء رواية مسعدة (2) بن صدقة الواردة في
الشبهات الموضوعية أنه على هذا لا مانع عقلا ونقلا من شموله لما لا يحتمل
فيه الحلية واقعا.
أما عقلا: فواضح، إذ لا يشترط في جعل الحكم الظاهري موافقته للواقع،
فللشارع أن يقول إذا شككت في وجوب شئ فهو محرم عليك وبالعكس نعم
فيما كان فيه نظر إلى الواقع وكان دليل الاعتبار بعنوان تصديقه في نظره أو إبقاء
الواقع، فلا محالة يعتبر فيه أن يكون الحكم المماثل مماثلا للمحتمل.
وأما لفظا: فمن الواضح عدم تقييده باحتمال حلية المقابلة لسائر الأحكام،
والحلية بمعنى عدم الوجوب الذي هو موجود في الشبهة الوجوبية موجودة هنا
أيضا، فتدبر وسيأتي إنشاء الله تعالى تحقيق القول في جميع ما ذكرنا في البحث
عن دوران الأمر بين الوجوب والحرمة من مباحث البراءة (3).
" الأمر السادس: في قطع القطاع "
40 - قوله: نعم ربما يتفاوت الحال في القطع المأخوذ في
الموضوع (4) إلخ:
لكن لا يخفى عليك أن تقييد القطع الموضوعي بما إذا حصل من سبب
ينبغي حصوله منه بهذا العنوان لا يكاد يجدي في الردع عن ترتيب أثر القطع

(1) الوسائل: ج 12، ح 4، باب 4، ص 60، م 22050 - من أبواب ما يكتسب به...
(2) الوسائل: ج 12، ح 4، باب 4، ص 60، م 22050 - من أبواب ما يكتسب به...
(3) التعليقة: 233، ص 558.
(4) كفاية الأصول: ج 2، ص 32 وكفاية الأصول: 269، (ت، آل البيت).
91

حال حصوله ولو مع التفاوت القاطع بأنه كثيرا ما يقطع من سبب لا ينبغي حصوله
منه، إذ حال حصوله يقطع بأن هذا السبب ينبغي حصوله منه، وإلا يؤل الأمر إلى
حدوث المعلول بلا علة في نظره إلا إذا اعتقد القاطع مزية لنفسه في الالتفات
إلى مزايا السبب بحيث يوجب احتفافه بها القطع لكل من التفت إليها، فهو عالم
بأنه سبب غير متعارف، لكنه يعتقد جهل متعارف الناس بمزاياه الموجبة
لحصول القطع، نعم تقييد القطع بذوات الأسباب المتعارفة خال عن الإشكال،
لأنه غير مناف لحصول القطع من غيرها والردع عنه، كما لا يخفى.
" الأمر السابع: في منجزية العلم الإجمالي "
41 - قوله: فهل القطع الإجمالي كذلك؟ فيه إشكال (1) إلخ:
تحقيق المقام برسم أمور.
منها: أن حقيقة الحكم الحقيقي الذي عليه مدار الإطاعة والعصيان هو الإنشاء
بداعي البعث والتحريك وجعل الداعي، ولا يتصف الإنشاء بشئ من الأوصاف
المزبورة، وهي كونه باعثا ومحركا وداعيا حتى يصل إلى من أريد انبعاثه وتحركه
وانقداح الداعي في نفسه، لا لتلازم البعث والانبعاث والتحريك والتحرك كتلازم
الإيجاد والوجود.
بداهة: دخالة اختيار العبد وإرادته في ذلك، مع أن البعث الحقيقي موجود
أراد العبد امتثاله أم لا، بل لكون المراد من البعث الحقيقي الذي أمره بيد المولي
جعل ما يمكن أن يكون باعثا ومحركا وداعيا للعبد بحيث إذا خلا عما ينافي
رسوم العبودية وينافر مقتضيات الرقية، لخرج من حد الإمكان إلى حد الوجوب
وتحقق البعث والانبعاث خارجا، ولا يتصف الإنشاء بهذه الأوصاف موجها بجهة
الإمكان إلا بعد وصوله إلى العبد. وسيجيئ إنشاء الله تعالى توضيحه في مبحث

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 32 وكفاية الأصول: 272، (ت، آل البيت). وقد أخذ المحققان
[العراقي والأصفهاني] في محل البحث كون الواقع فعليا مفروغا عنه - نهاية الأفكار: ج 3، ص 298.
والتعليقة: 41، ص 578.
92

الاشتغال (1)، وإلا فلا يمكن أن يكون الإنشاء الواقعي باعثا ومحركا وداعيا وزاجرا
وناهيا بما هو أمر واقعي، بل ولا بما هو ملتفت إليه من دون قيام الحجة عليه، إذ
لا يكون الإنشاء المزبور بعثا على أي تقدير إلا بلحاظ باعثيته في أفق النفس، فما
في أفق النفس هو الباعث بالذات، وما في الخارج باعث بالعرض، كالمعلوم
بالذات والمعلوم بالعرض، ولا يعقل أن يكون ما في أفق النفس باعثا على أي
تقدير إلا بوجوده العلمي التصديقي، ففرض جعل الإنشاء الخارجي داعيا على
أي تقدير بوجوده النفساني هو فرض جعل وجوده العلمي التصديقي داعيا فإنه
الداعي على أي تقدير، مضافا إلى أن الإنشاء المزبور لا يكون باعثا لزوميا في
نفوس العامة إلا إذا كان بحيث يستحق عليه العقاب فكونه كذلك محقق لدعوته
بنحو اللزوم.
ومنه علم أن مرتبة الفعلية والتنجز في مطلق الأحكام الحقيقية من النفسية
والطريقية، واحدة.
ومنها: أن حقيقية العلم الإجمالي المصطلح عليه في هذا الفن لا تفارق العلم
التفصيلي في حد العلمية، وليسا هما طوران من العلم، نظرا إلى تعلق العلم
الإجمالي بالمردد أعني أحد الأمرين، بل ربما يبنى عليه إمكان تعلق الصفات
الحقيقية بالمردد فضلا عن الاعتبارية، كما في كلمات أستادنا العلامة (2) - رفع الله
مقامه - بل التحقيق أن طرف العلم ينكشف به تفصيلا لا مجال للتردد فيه بما هو
طرف للعلم، إذ القائم بالنفس الذي به تشخص مقولة العلم أمر جزئي شخصي
بحسب هذا الوجود، والمردد بما هو مردد لا ثبوت له ماهية ولا هوية، إذ كل
ماهية لها نحو من التعين الماهوي الذي به يمتاز عن سائر الماهيات، وكل هوية
بنفسها ممتازة عن سائر الهويات، كيف والوجود نفس التشخص والوحدة رفيق
الوجود، تدور معه حيثما دار.
نعم، متعلق طرف العلم مجهول، أي غير معلوم، فلم يلزم تعلق صفة حقيقية
ولا اعتبارية بالمردد، بل ضم الجهل إلى العلم صار سببا لهذا الاسم وإلا فالعلم

(1) التعليقة: 246، ص 578.
(2) كفاية الأصول: 141، (ت، آل البيت) وحقائق الأصول: ج 1، ص 334.
93

علم دائما ومتعلقه بحده منكشف به تفصيلا من غير ترديد في نفس ما هو طرف
العلم، ومما ذكرنا تبين أن الوجه في عدم إمكان تعلق صفة بالمردد، هو عدم
ثبوت وشيئية للمردد بالحمل الشائع حتى يمكن تعلق صفة به، لا أن العرض
يحتاج إلى موضوع يقوم به حتى يقال بأنه مختص بالأعراض المتأصلة دون مثل
الملكية التي هي من الأمور الاعتبارية كما عن العلامة الأنصاري - قده - " في بيع
صاع من الصبرة (1) " ولا ما يقال من أن الصفة إذا كانت موجبة لتشخص شئ في
الخارج فحيث إن ما في الخارج معين لا مردد فلا يمكن تعلقها بالمردد دون
غيرها، ولذا يفرق بين الإرادة التكوينية والتشريعية فإن الأولى جزء أخير من العلة
التامة لوجود شئ في الخارج دون الثانية، كما عن غير واحد فتدبر.
ومنها: قد عرفت في مبحث اتجري (2) أن ملاك استحقاق العقاب هتك حرمة
المولى والظلم على بالخروج عن رسوم الرقية ومقتضيات العبودية لا المخالفة
وتفويت الغرض وارتكاب المبغوض لوجود الكل في صورة الجهل مع عدم
الاستحقاق عقلا، بداهة أن زي الرقية ورسم المملوكية ليس يقتضي موافقة أمر
المولى ونهيه مع الجهل بهما، وليس عدمهما ظلما عليه وهتكا لحرمته، بخلاف
ما إذا انكشف المطلوبية وتبين المحبوبية.
ومنها: أن هتك حرمة المولى والظلم عليه من العناوين القبيحة بالذات
وتخلف الذاتي عن ذي الذاتي محال، بداهة: أن كل عنوان محكوم عليه بالقبح،
إما أن يكون بنفسه وبعنوانه موجبا للذم والعقاب، أو بما هو منته (3) إلى
عنوان كذلك، للزوم انتهاء كل ما بالعرض إلى ما بالذات، وعنوان الظلم من
العناوين التي بنفسها وبعنوانها من غير انتهائها إلى عنوان آخر يحكم عليه بالقبح،
فلو فرض حفظ عنوانه دون حكمه لزم التخلف وهو خلف.
بخلاف عنوان الكذب فإنه لو خلي وطبعه يقتضي القبح، ولكن إذا عرض

(1) كتاب المكاسب: ص 195.
(2) التعليقة: 10، ص 42 - قد اختلف الأعلام في تأثير العلم الإجمالي، فمنهم من ذهب إلى القول
بالعلية التامة كالمحقق العراقي والمحقق الأصفهاني، ومنهم من ذهب إلى القول بالاقتضاء كالمحقق النائيني.
ونهاية الأفكار ج 3، ص 307. والتعليقة: 41. وأجود التقريرات ج 2، ص 247.
(3) (خ ل): منه.
94

عليه عنوان الإصلاح كان حسنا مع أن عنوانه محفوظ عند طرو العنوان الحسن،
ومنه تبين أن مخالفة المولى ما لم تتصف بعنوان الهتك والظلم لا يوجب الذم
والعقاب ولو اقتضاء، لما عرفت في معنى الاقتضاء حيث إنها لو خليت ونفسها لا
تندرج تحت عنوان الظلم، بل إذا قامت الحجة على التكليف ولا معنى للاقتضاء
المساوق للسببية حتى لا ينافي الاشتراط بشئ كالوصول هنا، لأن نسبة هذه
العناوين الحسنة أو القبيحة إلى حكم العقلاء بحسنها أو قبحها ليست نسبة
الأسباب إلى مسبباتها بل نسبة الغاية إلى ذي الغاية، ففي الموصوفة بالقبح
مفسدة نوعية مخل بالنظام.
فلذا دعت العقلاء إلى البناء على ذم فاعلها، فقولهم الموضوع مقتض لحكمه
يراد به هذا المعنى من الاقتضاء، لا السببية، وعلى ما ذكرنا فما لم يتصف
المخالفة بعنوان الظلم لا موضوعية لها للحكم بالقبح أصلا، ومع اتصافه بعنوان
هتك الحرمة والظلم يستحيل التخلف، فلا يكون هذا الحكم العقلي على نحو
الاقتضاء بل على نحو العلية بنحو التنجيز لا بنحو التعليق.
إذا عرفت هذه الأمور فاعلم أن الحكم الذي ينبغي أن يكون محل الكلام ما
عرفت في الأمر الأول (1) وهو ما بلغ درجة حقيقة الحكمية كي يتمخض البحث
في تفاوت نفس العلم التفصيلي والإجمالي في التنجيز وعدمه، وحيث إن العلم
الإجمالي لا يفارق التفصيلي في حقيقة انكشاف أمر المولى ونهيه فلا محالة
يتمحض البحث في أن الجهل التفصيلي بمتعلق طرف العلم يعقل أن يجعل
عذرا شرعا أو عقلا أم لا؟
وحيث إن ملاك استحقاق العقاب كما في الأمر الثالث (2) هتك حرمة المولى
وهو منطبق على المخالفة للحكم المعلوم في البين ولو لم يعلم طرف المعلوم
تفصيلا، فلا فرق بين العلمين في التنجيز، وحيث إن هذا الحكم العقلي على نحو
العلية التامة كما عرفت في الأمر الرابع (3)، تعرف أنه لا يعقل جعل الجهل
التفصيلي عذرا عقلا ولا شرعا إلا مع التصرف في المعلوم وهو خلف.

(1) التعليقة: 41، ص 92، ذيل قوله: فهل القطع الإجمالي كذلك فيه إشكال.
(2) التعليقة: 41، ص 92 و 94.
(3) التعليقة: 41، ص 92 و 94.
95

ومرجعه إلى جعل العلم التفصيلي شرطا في بلوغ الإنشاء الواقعي إلى درجة
الحكم الفعلي الحقيقي، أو جعل الجهل التفصيلي مانعا عن بلوغه كذلك، وهو
في حد ذاته أمر معقول لا يخص العلم الإجمالي، بل يمكن إجرائه في العلم
التفصيلي أيضا، بأن يكون العلم التفصيلي الخاص شرطا في بلوغ الحكم إلى
درجة الفعلية، وإلا فالوصول الذي عند التحقيق شرط البعث الحقيقي هو
الأعم من التفصيلي والإجمالي، كما عرفت، وعلى أي حال لا ربط لهذا المعنى
بتعليقية الحكم العقلي واقتضائيته.
فإن قلت: مقتضى عدم تعلق العلم الإجمالي بالمردد بما هو مردد وعدم
تعلقه بالواقع بخصوصه، إذ لا وعاء لتعلقه به إلا في أفق النفس، والمفروض عدم
العلم بالخصوصية عدم تنجز الحكم إلا بمقدار تعلق العلم به، فإنه المنجز دون
الاحتمال، وتنجز الوجوب المتعلق في وجدان العقل بما لا يخرج عن الطرفين
يستدعي حرمة المخالفة القطعية فقط، دون الاحتمالية أيضا، فإن مخالفة
التكليف الواقعي بما هو لا أثر لها وليست مصداقا للظلم، لأنه بخصوصه غير
واصل ليكون مخالفته ظلما في وجدان العقل، وليس الظلم من العناوين التي
تنطبق على الواقع، لا في وجدان العقل، لأن ما يقتضيه رسوم العبودية هو ترك ما
أحرز أنه مبغوض المولى في وجدان العقل، لا ترك ما هو مبغوض المولى واقعا
وحيث إنه لم يحرز أن هذا بخصوصه مبغوض المولى فلا يكون خروجا عن
زي الرقية، فلا يكون ظلما فلا يستحق عليه الذم عقلا ولا العقاب شرعا.
بخلاف ما إذا أتى بالفعلين معا، فإنه بهما خارج عن زي الرقية، لعدم انزجاره
بالزجر المعلوم المتعلق بما لا يخرج عما فعله، ولا يمكن دعوى أن فعل ما
يحتمل أنه مبغوض المولى إذا اقترن باحتمال آخر، ظلم بنفسه، فإن مقتضاها
استحقاق العقاب على كليهما معا، ولا يقولون به.
والموافقة القطعية بترك كلا الفعلين المعلوم حرمة أحدهما أو بفعل كلا
الأمرين المعلوم وجوب أحدهما وإن كانت عدلا حسنا، لكنه ليس ترك الحسن
قبيحا بل القبيح ما يندرج تحت عنوان الظلم كما عرفت.
96

قلت: لا ينحصر الظلم في مخالفة التكليف المعلوم بالإجمال، ليقال بعدم
إحراز المخالفة وعدم الأثر لمخالفة التكليف الواقعي، بل نفس عدم المبالاة
بالتكليف اللزومي وعدم الانبعاث ببعثه وعدم الانزجار بزجره في وجدان العقل،
ظلم على المولى، لخروجه عن زي الرقية ورسم العبودية، وهذا جامع بين
المخالفة القطعية للتكليف وترك الموافقة القطعية، إذ كما أن مخالفته في وجدان
العقل ظلم، كذلك ترك موافقته في وجدان العقل إذا كان لزوميا ظلم، فإن كليهما
من عدم المبالاة عملا بالتكليف المعلوم، ومن المعلوم أن المبالاة بالوجوب
المتعلق بما لا يخرج عن الطرفين في وجدان العقل، ليست إلا بالانبعاث عنه
والانبعاث عن المعلوم لا عن الواقع لا يكون إلا بفعلهما معا.
فإن الانبعاث عن المعلوم المحكوم بالحسن عقلا ليس إلا الانبعاث في
وجدان العقل، وفعل أحدهما وإن كان يحتمل أن يكون انبعاثا، لكنه انبعاث عن
الواقع المحتمل، لا انبعاث عن المعلوم، ففعل أحدهما وعدمه في عدم
الانبعاث عن المعلوم في وجدان العقل على حد سواء، فهو تارك للمبالاة بأمر
المولى في وجدان العقل، فيكون ظالما مستحقا للذم والعقاب، وليس ترك كل
محتمل مصداقا لعدم المبالاة، أو محققا له، ليستحق عقابين، بل الذي يضاف
إليه المبالاة وعدمها نفس التكليف الواحد المعلوم، وليس للأمر أو نهي واحد
إلا شأن واحد فليس له انبعاث واحد وانزجار واحد (1).
نعم: لازم هذا المبنى استحقاق العقاب على عدم المبالاة بالبعث المعلوم
ولو مع فعل أحدهما المصادف مع الواجب الواقعي، ولا بأس به بعد الالتزام بأن
ملاك استحقاق العقاب تحقق الظلم القبيح عقلا سواء صادف الواقع أم لا، كما
عرفت في مبحث التجري (2) مفصلا هذا كله إن كان استحقاق العقاب بحكم
العقل.
وأما إن كان بحكم الشارع وجعله كما هو أحد الطريقين في باب الاستحقاق

(1) (خ ل): فليس له الانبعاث واحدا.
(2) التعليقة: 10، ص 41.
97

فلازمه استحقاق العقاب على مخالفة التكليف الواقعي بعد قيام الحجة عليه
توضيحه: أن قاعدة اللطف كما تقتضي بعث الشارع نحو ما فيه صلاح العباد
وزجره عما فيه الفساد، كذلك تقتضي جعل العقاب على ترك ما فيه الصلاح
وفعل ما فيه الفساد، تحقيقا للباعثية والزاجرية، ومن الواضح: أن جعل العقاب
ما لم يصل ولو بوصول ملزومه وهو التكليف لا يكون محققا للدعوة بعثا أو زجرا،
وعليه فالعلم بالتكليف علم بلازمه، وهو العقاب المجعول على مخالفته من
حيث إنه مخالفة (1)، لا من حيث الاندراج تحت عنوان الظلم حتى ترد المحاذير
المتقدمة، كما أنه بملاحظة العلم المزبور يحتمل العقاب على فعل كل واحد
لاحتمال حرمته واقعا، وعليه فإذا ارتكب أحدهما وصادف الواقع فقد وقع في
عقابه، وإلا فلا، وهذا الاحتمال هو الحامل للعبد على الفرار من العقاب من دون
حاجة فيه إلى حكم من العقلاء أو الشارع، ومما ذكرنا تعرف الخلط في كثير من
الكلمات بين المسلكين، فتارة يرتبون آثار المسلك الأول، وأخرى آثار المسلك
الثاني، وعلى أي حال فالعلم الإجمالي منجز للتكليف مطلقا.
42 - قوله: وكانت مرتبة الحكم الظاهري محفوظة (2) إلخ،
لا يخفى عليك أن انحفاظ المرتبة إن كان بلحاظ تعليقية حكم العقل
بالاستحقاق على عدم المؤمن من الشارع مطلقا أو في بعض الأطراف كما توهم.
ففيه: أولا: أن هذا المعنى لا ربط له بانحفاظ المرتبة، لأنه إنما يلتزم به دفعا
للتنافي بين نفس الحكمين الواقعي والظاهري، لا دفعا للتنافي بين آثارهما،
وحكم العقل وورود المؤمن شرعا مربوط بالثاني دون الأول، نعم، من لا يرى
منافاة بين نفس الحكمين مطلقا بل يرى المنافاة بينهما من قبل آثارهما فله أن يقول
بانحفاظ المرتبة بهذا المعنى، إلا أنه أجنبي عن مسلك شيخنا الأستاد - قده - (3).
وثانيا: قد عرفت أن مخالفة التكليف المعلوم بل عدم المبالاة به بالانبعاث

(1) (خ ل): لا مخالفة.
(2) كفاية الأصول: 272، (ت، آل البيت).
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 35.
98

عنه والانزجار به ظلم عليه، وهو قبيح بالذات، وتخلف الذاتي عن ذي الذاتي
محال، فلا حكم من العقل هنا بنحو الاقتضاء والتعليق بل بنحو العلية والتنجيز،
كما فصلناه آنفا (1)، وإن كان انحفاظ المرتبة بلحاظ إناطة الإنشاء الواقعي بوصوله
تفصيلا في صيرورتها بعثا وزجرا شرعا، ففيه: أن الكلام في العلم الطريقي
المحض لا في العلم المأخوذ في الموضوع، وإلا فالعلم التفصيلي أيضا يمكن أن
لا يكون منجزا، لإناطة الإنشاء في الباعثية والزاجرية بعلم تفصيلي حاصل من
سبب خاص أو في مورد مخصوص.
وقد عرفت أن الكلام هنا متمحض في الفرق بين العلم التفصيلي والإجمالي
وإن كان انحفاظ المرتبة بلحاظ فعلية الحكم الواقعي من وجه، وفعلية الحكم
الظاهري من جميع الوجوه، ولا منافاة بين الفعلية المطلقة ومطلق الفعلية بل بين
الفعليين من كل وجه وهو الفعلي بقول مطلق، وهذا هو المراد هنا كما نص عليه
في مبحث الاشتغال (2).
ففيه أن الفعلي من وجه لا معنى له إلا ما ذكرناه سابقا في شرح كلامه
وتصحيح مرامه (3) (زيد في علو مقامه)، من أنه الإنشاء بداعي جعل الداعي دون
غيره من الدواعي، لاستحالة صيرورته بعثا وزجرا، للزوم الانقلاب، ومثل هذا
الإنشاء هو تمام ما بيد المولى وتمام ما يتحقق منه بالفعل، وقيام الحجة عليه
يجعله مصداقا للبعث والزجر فعلا، فيكون فعليا من جميع الوجوه إلا أن الفعلي
من وجه بهذا المعنى إنما يمكن جعل حكم فعلي مطلق على خلافه أو على
وفاقه إذا كان محتملا أو مظنونا.
فإنه ما لم تقم الحجة عليه لا يكون فعليا مطلقا كي يلزم اجتماع الضدين
والمثلين، وأما إذا قامت الحجة عليه فلا، وقد بينا (4) أن العلم الإجمالي في حد
العلمية كالعلم التفصيلي ولا فرق في الوصول المقوم للباعثية الفعلية والزاجرية

(1) قد مر في صفحة 97، تحت عنوان: لا ينحصر الظلم.
(2) كفاية الأصول: 358 (ت، آل البيت).
(3) التعليقة: 30 ص 80 وكفاية الأصول: 267 (ت، آل البيت).
(4) التعليقة: 41 ص 93، ومنها أن حقيقة العلم الإجمالي المصطلح عليه...
99

الفعلية بين الوصول التفصيلي والإجمالي، ومع كفاية هذا المقدار من الوصول
عقلا في تحقق البعث والزجر فلا يعقل بعث آخر أو زجر آخر وترخيص على
خلاف الحكم الواصل.
وأما ما أفاده شيخنا العلامة - قده - في البحث (1) وأشار إليه في أوائل هذه
المباحث في تقريب الفعلي من وجه والفعلي بقول مطلق، بأن الغرض من
التكليف تارة، يكون بحد يوجب قيام للمولى مقام البعث وإيصاله إلى المكلف
ولو بنصب طريق موافق أو إيجاب الاحتياط، فمثله لا يجوز الترخيص في خلافه،
فإنه نقض للغرض وأخرى، لا يكون بذلك الحد بل بحيث إذا وصل من باب
الاتفاق لتنجز وكان سببا لتحصيل الغرض من المكلف، فمثله يجوز الترخيص في
خلافه وسد باب وصوله، وأدلة الأصول الشاملة لموارد العلم الإجمالي كاشفة
عن أن الغرض من سنخ الثاني وليس مثلها في مورد العلم التفصيلي فمندفع:
أما أولا: فبأن هذا التفصيل إنما يجدي في دفع شبهة نقض الغرض من
التعبد بالظن وغيره على خلاف الواقع، كما سيجيئ إنشاء الله تعالى في محله،
لا في مقام دفع المنافاة بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري من حيث نفسهما
والكلام في الثاني.
وأما ثانيا: فإنه يجدي في الحكم على خلاف الحكم الواقعي لا على خلاف
الحكم الواصل من باب الاتفاق مع حكم العقل بعدم الفرق بين أنحاء الوصول.
وأما ثالثا: فبأنه يجدي في عدم لزوم نقض الغرض من المكلف به، لا في
عدم لزوم نقض الغرض من نفس التكليف، فإن الغرض من نفس التكليف في
جميع الموارد سنخ واحد، ومن البين أن الغرض من نفس التكليف جعل الداعي
والباعث فعلا. والترخيص الفعلي نقض لهذا الغرض، ومن جميع ما ذكرنا تبين
عدم انحفاظ المرتبة رأسا بين الغرض من الحكمين وبين نفس الحكمين وبين آثارهما، فهما متنافيان نفسا ومن حيث المبدء والمنتهى.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 35 و 8.
100

43 - قوله: ضرورة عدم تفاوت في المناقضة بين التكليف
الواقعي (1) إلخ:
يمكن إبداء الفرق بين ما نحن فيه وبين موارد النقض، أما في الشبهة البدوية
فيما عرفت في تحقيق حقيقة الحكم الحقيقي وأنه جعل ما يمكن أن يكون داعيا
والخطاب الواقعي بما هو واقعي لا يمكن أن يكون داعيا بحيث لو مكن العبد
نفسه عن امتثاله أمكن أن يكون ذلك الخطاب داعيا، فالخطابات الواقعية ما لم
تصل إلى المكلف بنحو من الوصول ولو بالحجة الشرعية أو الأمر الاحتياطي لا
يعقل أن يتصف بكونها باعثا وداعيا أو زاجرا وناهيا، وبهذا ترتفع المناقضة
والمضادة بين الأحكام الواقعية ومفاد الأصول الشرعية، ومنه علم أن عدم فعلية
الحكم الواقعي المجهول ليس من جهة الاستكشاف من أدلة الأصول بل مطابق
للقاعدة الحاكمة بدوران الفعلية مدار الوصول، وأما الشبهة الغير المحصورة فلما
سيجيئ إنشاء الله تعالى أن القدر المتيقن من موردها ما إذا لزم من الاحتياط فيها
عسر مخل بالنظام أو كان بعض أطرافها خارجا من مورد الابتلاء كما هو كذلك
غالبا، وعدم فعلية الحكم فيهما عقلي، بداهة عدم موقع للبعث والزجر
الحقيقيين مع لزوم اختلاف النظام أو خروج بعض الأطراف عن مورد الابتلاء،
فلا علم إجمالي بالحكم الفعلي حتى يحكم العقل بامتثاله ويكون الإذن هناك
إذنا على خلاف الحكم العقلي.
44 - قوله: ضرورة أن احتمال ثبوت المتناقضين (2) إلخ:
هذا إذا كان الوجه في التنجز مضادة الحكم الواقعي مع الحكم الظاهري، كما
نص عليه في مبحث الاشتغال (3) إلا أنه من القطع بثبوت المتنافيين لا احتماله،
وذلك لأن الترخيص في كل واحد بدلا، ترخيص تخييري ينافي الحرمة التعيينية
قطعا.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 35 وكفاية الأصول: 272، (ت، آل البيت).
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 36، س 8 وكفاية الأصول: 273، (ت، آل البيت).
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 214.
101

نعم، إذا كان الترخيص بالإضافة إلى أحدهما المعين كان ثبوت الحكمين
المتنافيين محتملا مقطوعا، مضافا إلى أن التنافي إنما يكون إذا كان الترخيص
شرعيا، وأما إذا كان عقليا فلا حكم مجعول من العقل أو العقلاء بحيث يضاد
حكما مجعولا آخر، بل غايته إذعان العقل بعدم الاستحقاق على ارتكاب كل
واحد من المشتبهين بدلا عن الآخر.
وأما إذا كان الوجه في التنجز من حيث المخالفة القطعية هو كونها ظلما
فيستحق عليه العقاب، بخلاف الموافقة القطعية فإن إلزام العقل بها من باب
حكمه بدفع الضرر المحتمل، ومع تأمين الشارع بترخيصه في أحد الطرفين لا
يحتمل الضرر كي يجب دفعه عقلا.
ففيه: إن كان ترك الموافقة القطعية لعدم الانبعاث بالبعث المعلوم وعدم
الانزجار بالزجر المعلوم في وجدان العقل ظلما كما قربناه، فالإذن فيه إذن في
الظلم وهو قبيح، كالإذن في المخالفة القطعية، وإن لم يكن كذلك بل كان مخالفة
التكليف المعلوم واقعا ظلما فالإذن في ترك كل واحد من الأطراف أيضا، حيث
إنه إذن في المخالفة الواقعية للتكليف المعلوم فهو أيضا إذن في الظلم وهو قبيح.
وإن قلنا بأن العقاب بجعل الشارع على مخالفة التكليف الواقعي فالإذن في
كل طرف مساوق لرفع العقاب عن مخالفة التكليف الواقعي المعلوم، وهو مناف
لثبوت العقاب على الواقع، وهو المصحح لاستحقاق العقاب على مخالفة
التكليف المعلوم واقعا، وإلا فضم غير الواقع إلى الواقع لا يحدث عقابا بل
بالعرض مناف لفعلية التكليف المعلوم، لما عرفت من أنه يتقوم الباعثية
والزاجرية بكونه يستحق العقاب على مخالفته.
ومما ذكرنا تبين أن التأمين الواقع لموضوع قاعدة دفع الضرر المحتمل، دافع
للتكليف الفعلي بأثره، فيسوغ المخالفة القطعية أيضا، ومع بقاء التكليف الفعلي
بأثره على حاله يكون موضوع القاعدة محفوظا، وتخلف الحكم عن موضوعه
التام خلف.
وبالجملة فمحصل الكلام أن الترخيص إن كان شرعيا وكان استحقاق العقاب
102

بحكم العقل، فالمحذور زيادة على المنافاة بين الحكم المعلوم بالإجمال
والترخيص الشرعي، لزوم الإذن في الظلم، وهو قبيح، وقد عرفت وجه كون ترك
الموافقة القطعية ظلما.
وإن كان الترخيص شرعيا والعقاب بجعل الشارع فالمحذور الزائد على
المنافاة بين نفس الحكمين، هو التنافي بين جعل العقاب ورفعه وإثباته ونفيه،
كما بيناه، حيث إن ضم غير الواقع إلى الواقع لا يحدث عقابا للواقع، ولا مورد
للمحذور المتقدم وهو الإذن في الظلم، إذ العقاب كما عرفت ليس بملاك كونه
ظلما، وإن كان الترخيص عقليا والعقاب بحكم العقل، فليس فيه محذور
المنافاة بين الحكمين، إذ ليس الترخيص العقلي من مقولة الحكم بل مجرد
الإذعان بالمعذورية، وكونه معذورا عند العقلاء وعدم كونه معذورا لكونه
مذموما عليه بملاك الظلم، متنافيان، وإن كان الترخيص عقليا وجعل العقاب
شرعيا فليس فيه محذور المنافاة بين الحكمين ولا الإذن في الظلم، إذ ليس
هناك مقولة الإذن ولا العقاب بملاك الظلم، بل المعذورية عند العقل، مع فرض
كونه معاقبا عليه شرعا ولازمه عدم المعذورية لا يجتمعان.
45 - قوله: أن المناسب للمقام هو البحث عن ذلك إلخ (1):
لا يخفى عليك أن كل ما كان من شؤون العلم ومقتضياته فهو المناسب
للمقام، وكل ما كان من شؤون الجهل فهو من مقاصد المقصد الآتي في البراءة
والاشتغال، وهذا ينطبق على ما أفاده - قده - إذ الاقتضاء لاستحقاق العقاب من
شؤون العلم، والمانعية من شؤون الجهل، وعلى ذكرنا سابقا (2) من عدم
التفاوت بين العلمين التفصيلي والإجمالي في حد العلمية، وأنهما ليسا طورين
من العلم يتمحض البحث في إمكان جعل الجهل التفصيلي عذرا عقلا وشرعا،
فلا مجال للبحث عنه إلا في المبحث الآتي، لكنك قد عرفت سابقا أن الاقتضاء
بمعنى السببية لقابل لمنع المانع غير معقول (3) هنا لأن نسبة الموضوع إلى

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 36، س 12 وكفاية الأصول: 273، (ت، آل البيت).
(2) التعليقة: 41 ص 93.
(3) (خ ل): مقول.
103

حكمه العقلائي أو حكمه الشرعي ليست نسبة السبب إلى مسببه حتى يتصور
المانعية والاشتراط.
وقد عرفت أيضا أن مخالفة الحكم المعلوم بالإجمال من دون انحلاله،
موضوع تام للقبح عقلا أو لجعل العقاب شرعا، وأنها ليست لو خليت ونفسها
كذلك حتى يمكن عدم لحوق حكمها لها بعروض عارض، بل القابل لارتفاع
الحكم المزبور عنه موضوع آخر وهي مخالفة المعلوم بالإجمال المنحل ولو
حكما، وحينئذ فالبحث هنا ليس راجعا إلى البحث عن الاقتضاء بوجه أصلا، بل
المبحوث عنه استحقاق العقوبة على مخالفة الحكم المعلوم، إما عقلا أو شرعا،
والمبحوث عنه في باب البراءة والاشتغال هو أن المجهول تفصيلا غير محكوم
بالجواز فعلا أو تبقى المؤاخذة عنه، لرجوعه إلى رفع العقاب المجعول على
مخالفة المعلوم وهو ينافي بقاء التكليف الفعلي على حاله، وقد حقق في محله
أن مجرد ترتب المسألة لا يوجب وحدة المسألة بل تعدد المسائل بتعدد
القضايا موضوعا أو محمولا أو هما معا وتعددهما هنا واضح بالبيان المزبور.
ومن جميع ما ذكرنا يظهر أن تخصيص المقام بالبحث عن حرمة المخالفة
القطعية وتخصيص المبحث الآتي بوجوب الموافقة القطعية كما عن شيخنا
العلامة الأنصاري - قده - (1) لا وجه له، وتوجيهه بأن البحث عن حرمة المخالفة
القطعية بحث عن أصل اقتضاء العلم، والبحث عن وجوب الموافقة القطعية
بحث عن مقدار الاقتضاء وكيفيته لا عن أصله، غير وجيه، إذ مقدار الاقتضاء
وكيفيته، لو لم يكونا من مقتضيات الشك والجهل لا وجه للبحث عنهما في ما
أعد للبحث عن مقتضيات الجهل وأحكامه.
وتوهم أن وجوب الموافقة القطعية من مقتضيات احتمال العقاب ووجوب
دفع الضرر المحتمل عقلا لا من آثار العلم بالتكليف حيث لا علم بالإضافة إلى
كل واحد من الأطراف، فله مساس بالاحتمال لا بالعلم.

(1) الرسائل: ج 1، ص 27، في ذيل المقام الأول.
104

مدفوع: بأن معنى منجزية العلم ترتب استحقاق العقاب عقلا على مخالفة
التكليف الفعلي المعلوم، بملاحظة انطباق عنوان قبيح عليه كعنوان هتك حرمة
المولى ونحوه، أو من جهة جعل العقاب شرعا على مخالفة التكليف الواقعي
المعلوم، وهذا منشأ ترتب استحقاق العقاب على مخالفة التكليف بارتكاب
بعض الأطراف عند المصادفة لا أن استحقاق العقاب من آثار احتماله ولا من آثار
قاعدة دفع الضرر المحتمل.
إذ مع عدم استحقاق العقاب على المخالفة الواقعية للتكليف المعلوم في
البين لا موضوع لقاعدة دفع الضرر، ومع ثبوته لا حاجة إليها، إذ الوقوع في
العقاب على تقدير المصادفة من آثار كونه على الفرض مخالفة موجبة للعقاب (1)
لا من آثار مخالفة قاعدة دفع الضرر المحتمل، فالاحتمال لا ضرر عليه ولا أثر له
لا عقلا ولا شرعا، فتدبر. ولا نعني بحرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة
القطعية إلا اقتضاء المخالفة مطلقا لاستحقاق العقاب عقلا، فتدبر فإنه حقيق به.
وليعلم أن هذه المسألة على جميع التقادير مسألة عقلية وإدراجها في الكلام
باعتبار حسن المعاقبة من الشارع، وإلا فليس كل مسألة عقلية كلامية.
وأما دعوى أن في المسألة جهتين: بإحديهما، تكون كلامية وهي حيثية
اقتضاء العلم الإجمالي لاستحقاق العقوبة، وبالأخرى، أصولية وهي حيثية
انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري، باعتبار التوصل بها إلى الترخيص شرعا في
ارتكاب بعض الأطراف أو جميعها وأن الجهة الأولى من مبادي الجهة الثانية،
فمندفعة: بأن انحفاظ المرتبة من شؤون المجهول تفصيلا لا من شؤون المعلوم
إجمالا بمعنى أنه مع الجهل التفصيلي هل يمكن جعل حكم ظاهري كما في
سائر موارد الجهل أم لا؟ وليس من مقتضيات العلم بما هو علم، فهو من مسائل
مباحث الشك والجهل لا من مباحث القطع، مع أن الجهة الأولى لا مبدئية لها إلا
لانحفاظ المرتبة من حيث أثر الحكم الظاهري لا من حيث انحفاظها من حيث

(1) (خ ل): العقاب.
105

نفس الحكم، فإن حيثية الاقتضاء لاستحقاق العقاب أجنبية عن مضادة الترخيص
للوجوب والحرمة فافهم جيدا.
" في الامتثال الإجمالي "
46 - قوله: مما لا يمكن أن يؤخذ فيها (1) إلخ:
قد ذكرنا في مباحث الألفاظ أن وجه الاستحالة ليس توقف الحكم على ثبوت
موضوعه، فإن ثبوت الموضوع خارجا يسقط الحكم لا أنه مصحح لعروضه عليه،
وثبوته الذهني غير مقوم لمطلوبيته بل يستحيل ذلك، لأن صفة العلم التي هي
مناط الثبوت الذهني لا يعقل أن يكون مقومة لصفة الشوق النفساني المتقومة
بمتعلقه، وإلا لزم اتحاد الفعليين في التحصل، وهو محال.
فكما أن مقوم صفة العلم نفس الماهية كذلك مقوم صفة الشوق نفس الماهية،
غاية الأمر بنحو فناء العنوان في المعنون كما حققناه في مبحث اجتماع الأمر
والنهي (2) وغيره، بل المانع ما ذكرناه غير مرة (3) أن الحكم متأخر عن موضوعه
طبعا، فلو أخذ في موضوعه لزم تقدم المتأخر بالطبع وهو خلف، نعم، التحقيق
الذي يقتضيه النظر الدقيق فعلا عدم المانع من هذه الجهة أيضا، لأن الأمر ليس
بوجوده الخارجي داعيا، لأن الشوق المحرك للعضلات لا بد من أن يكون علته
واقعة في أفق النفس وليس إلا الأمر بوجوده العلمي، فالأمر بوجوده الخارجي
موقوف على موضوعه ومتأخر عنه وبوجوده العلمي مأخوذ في الموضوع
المتقدم عليه، ووجوده العلمي غير متقوم بوجوده الخارجي بل بماهيته
الشخصية كما شرحناه في مبحث أخذ القطع بشخص الحكم في موضوعه (4)،
فراجع وتدبر.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 39، س 6 وكفاية الأصول: 274، (ت، آل البيت).
(2) نهاية الدراية: ج 1، ص 535.
(3) التعليقة: 27، ص 75.
(4) المصدر الفوق.
106

وأما شبهة لزوم الخلف من وجه آخر وهو أن فرض نفس إتيان الشئ بداعي
أمره وبعنوان أنه واجب، فرض عدم تعلق الأمر بالمجموع من الشئ وقصد
الامتثال وقصد الوجه، وفرض تعلق الأمر بالمجموع فرض عدم تعلقه بذات
الشئ وهو المراد بأنه يلزم من أخذه في المتعلق عدم أخذه فيه، وما يلزم من
وجوده عدمه فهو محال.
فهي مدفوعة: بما أشرنا إليه في مبحث أخذ القطع (1) بشخص الحكم في
موضوع نفسه من أن المأمور به ليس هو المأتي به بداعي أمره بما هو كذلك حتى
يلزم منه الخلف، بل الصلاة مثلا نوع له أصناف وطبيعي له حصص، فالصلاة
المأتي بها بداع الأمر حصة وصنف، والصلاة المأتي بها بغيره من الدواعي حصة
وصنف آخر، فيمكن تعلق الأمر بذات تلك الحصة وذلك الصنف الملازم لذلك
الداعي الخاص فلم يلزم من الأمر بذات هذه الحصة عدم الأمر بها.
ومنه يعلم أيضا أن المقيد بما هو ليس مأمورا به، حتى لا يكون لذات المقيد
أمر، وليس قصد القربة وقصد الوجه مأخوذا في عرض الصلاة حتى يلزم دعوة
الأمر إلى جعل نفسه داعيا، ليلزم علية الشئ لعلية نفسه، بل قصد القربة والوجه
غير مأخوذ في المتعلق بأي وجه كان مع قصر الأمر على ما لا ينفك عنهما فتدبر.
47 - قوله: ولا يكون إخلال حينئذ إلخ:
قد صرح - قده - في مبحث الأقل والأكثر (2) من مباحث البراءة والاشتغال
بإمكان قصد الوجه غاية وتوصيفا إجمالا تارة، وتفصيلا أخرى، فإن كان الجزء
الزائد زيادة لم يؤخذ عدمها في المركب، فقصد الوجه إجمالا معقول، ولا إخلال
إلا بالتميز، وإن كان الجزء الزائد جزء مستحبيا ومن أجزاء الفرد كانت طبيعة
الواجب منطبقة على الأكثر بتمامه وكماله، لصدق الطبيعة على الفرد
بمشخصاته، فيقصد بإتيان الأكثر إتيان الواجب بما هو مفصلا لا الواجب المردد
بين الأقل والأكثر.

(1) التعليقة: 27.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 234 وكفاية الأصول: 365 (ت، آل البيت) - بقوله وإتيان الواجب مقترنا...
107

أقول: أما قصد الوجه بنحو الغاية الداعية فلا ريب فيه، لإمكان دعوة الأمر
النفسي بما هو وجوب نفسي إلى إتيان متعلقه الذي هو إما تمام الأكثر أو في ضمنه.
وأما قصد الوجه توصيفا فليس معناه إتيان الموصوف بأنه واجب خارجا
بإتيان الأكثر كما هو صريح كلامه - قده - حيث قال: وإتيان الواجب مقترنا
بوجهه غايتا ووصفا بإتيان الأكثر بمكان من الإمكان (1) إلخ: لما مر مرارا
أن الوجوب لا يعرض المأتي به حتى يوصف بعنوان الواجب ليؤتى به مقترنا
بوجهه، بل معروض صفة الوجوب هي الطبيعة الفانية في مطابقها قبل وجودها
في الخارج، وأما بعده فيسقط الوجوب فكيف يعرضه؟ بل المراد من قصد الوجه
بنحو التوصيف أنه يتمكن من قصد الصلاة الواجبة بما هي واجبة فيأتي بمطابقها
في الخارج بإتيان الأكثر.
وأما قصد الوجه في الأكثر تفصيلا إذا كان الزائد جزء الفرد نظرا إلى صدق
الطبيعة على الفرد بمشخصاته فقد بينا في محله أن مشخص الطبيعة في الصلاة
وغيرها على حد سواء، والمشخص الاعتباري لا معنى له إلا أن فضيلة الطبيعة
وكمالها لا يعد أمرا في قبالها، فيكون كالمشخص الحقيقي الذي لا يزيد على
وجود الطبيعة، وعليه فنقول إن صدق الطبيعة على الفرد بمشخصاته مع وضوح
أن " زيدا إنسان " بنفسه وبدنه لا بكمه وكيفه ووضعه وأشباهها، بملاحظة أن
صحة حمل الإنسان على زيد بما هو زيد ليس إلا بلحاظ الاتحاد في الوجود
الساري من الشخص إلى الطبيعة النوعية فإنه مجرى فيض الوجود بمعنى أن
هوية زيد الممتازة بنفسها عن هوية عمرو حيث إن الوجود عين التعين
والتشخص مطابق الإنسان من حيث تفرد حصة الطبيعة النوعية في مرتبة
ذات هذه الهوية، فالوجود الواحد وجود هذه الحصة بالذات ووجود طبيعي
الإنسان بالعرض، وإلا فكمه وكيفه ووضعه فرد طبيعي الكم والكيف والوضع،
ولا يعقل أن يكون فردية فرد لطبيعة مناطا لفردية شئ آخر لطبيعة أخرى.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 234، س 1 وكفاية الأصول: 365 (ت، آل البيت).
108

فصدق الطبيعي على الفرد بمشخصه الحقيقي - وهو الوجود الذي هو التعين
والتشخص - صحيح، وصدقه على الفرد بلوازمه - من كمه وكيفه ووضعه - غير
صحيح، والعناية المصححة في الأول اتحاد الطبيعي وحصته في الوجود وهذه
العناية مخصوصة بما كان كذلك من الاتحاد في الوجود الساري لا في مثل
الصلاة وأجزائها المستحبة المكملة لها المغاير لها وجودا، فتدبر جيدا.
بل لو قلنا باتحاد الأعراض وموضوعاتها في الوجود كما هو المحقق عند
جملة من أهل التحقيق، فصدق الطبيعي على الفرد بعوارضه صحيح أيضا، إلا أن
الأجزاء المستحبة ليست كالأعراض بالنسبة إلى المركب الاعتباري من الأجزاء
الواجبة، ليكون لها اتحاد في الوجود الساري، فتأمل جيدا.
48 - قوله: ضعيف في الغاية وسخيف إلى النهاية (1) إلخ:
وجه الضعف أن من يقول باعتبار قصد الوجه إنما يعنى الوجه النفسي
دون الغيري أو العرضي، إذ منشؤه أن الأعراض القائمة بموضوعات الأحكام
واقعا عناوين لها في نظر العقل، حيث لا يذعن العقل بحسن إلا بما له من
الوجه الحسن المنطبق عليه بلحاظ قيام حجة المحسنة به قيام العرض
بموضوعه، وهذا الفعل بما له من الوجه العقلي موضوع للحكم الشرعي واقعا
لتنزه ساحة الشارع عن الأغراض النفسانية والاقتراحات (2) الغير العقلائية، ومع
معلومية الوجه العقلي يجب إتيان الفعل بذلك الوجه حتى يصدر عنه بما هو
فعل حسن بالاختيار، ومع عدم معلوميته (3) يجب إتيانه بالوجه الشرعي
المحاذي للوجه العقلي حتى يصدر الحسن بما هو حسن عن هذا الوجه
بالاختيار، ومن الواضح أن الوجه الشرعي المحاذي للوجه العقلي ليس إلا
وجوب النفسي دون الغيري والعرضي، أو الجزئية المنتزعة عن كل واحد بلحاظ

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 39، س 10 وكفاية الأصول: 274، (ت، آل البيت).
(2) (خ ل): والاحتراجات.
(3) (خ ل): معلومية.
109

الوجوب النفسي المتعلق بالكل، وربما يتوهم أن جزء العبادة عبادة، ولا فرق بين
عبادة وعبادة في نظر من يرى وجوب قصد الوجه في العبادة، ولا يخفى فساده.
أما أولا: فلما ذكرنا في مسألة النهي عن العبادة (1) أن جزء العبادة من حيث
الجزئية للعبادة ليس بعبادة بأي معنى كان، لأن العبادة إما يراد بها العبادة الذاتية
أي ما هو حسن بنفسه وذاته، أو يراد بها ما لا يسقط أمره إلا إذا أتى به
بداعي أمره، ولا يجب أن يكون جزء العبادة معنونا بعنوان حسن، بل اللازم
تعنون الواجب النفسي الشرعي بالعنوان الحسن العقلي، والجزء المقوم المعنون
بالعنوان الحسن لا أنه معنون به وإلا لكانت الأجزاء واجبات نفسية، كما أن الأمر
النفسي الواحد حيث تعلق بالمجموع فالمجموع بحيث لو لم يأت به بداعي أمره
لم يسقط أمره لا كل واحد من الأجزاء، وفساد العبادة مع عدم إتيان بعض أجزائها
بداع الأمر النفسي ليس من حيث نفس ذلك الجزء بل من حيث عدم إتيان
المجموع الذي هو متعلق الأمر النفسي بداع الأمر.
وأما ثانيا: فلأنا فرضنا أن الجزء عبادة بالمعنى الثاني إلا أن قصد الوجه ليس
من حيث كونه عبادة بأن معنى كان، بل من حيث لزوم قصد العنوان الحسن
العقلي بقصد ما يحاذيه من العنوان الشرعي، وليس ذلك إلا المركب المعنون
بالعنوان الحسن العقلي الذي تعلق به وجوب نفسي واحد.
نعم: إن كان احتمال اعتبار قصد الوجه لا لذلك بل لمجرد دخله في
الغرض فمقتضى الأصل لزومه حتى في الجزء سواء كان جزء العبادة عبادة أم لا.
49 - قوله: إنما يضر إذا كان لعبا بأمر المولى (2) إلخ:
وذلك إذا فعل استهزاء وسخرية بأمر المولى فلا يصدر العمل عن داع إلهي بل
داع شيطاني، بخلاف ما إذا كان داعيه أمر المولى وكان اللعب والعبث في نحو

(1) نهاية الدراية: ج 1، ص 601.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 40، س 4 وكفاية الأصول: 274، (ت، آل البيت).
110

امتثال أمر المولى وكيفية إطاعته، فإن الفعل على أي حال ينشأ عن داع إلهي،
وتحقيق المقام أن المانع، إما عدم صدور العمل عن داع إلهي بل من غيره، أو
التشريك في الداعي بحيث لا يكون الأمر مستقلا في الدعوة، أو تعنون الفعل
بنفسه بعنوان اللعب، أن تعنون الفعل المأتي بداعي الأمر بعنوان اللعب والكل
مفقود.
أما الأول، فلأن المفروض بأن المحرك لفعل كل من المحتملات هو الأمر
المحتمل تعلقه به.
وأما الثاني: فلأن المفروض عدم محرك إلى ذات كل واحد من
المحتملات سوى الأمر المحتمل فلا تشريك في الداعي وإلا فلو فرض التشريك
لم يكن فرق بين الداعي العقلائي وغيره في المفسدية وعدم صدور العمل عن
داع إلهي مستقل في الدعوة.
وأما الثالث: فلأن المفروض أن ذات العمل صلاة واتصافها باللعب والعبث
باعتبار صدورها عن داع نفساني شهواني، ومع فرض صدورها عن داع الأمر
المستقل في الدعوة لا معنى لتعنون ذات الصلاة باللعب والعبث.
وأما الرابع: فبأن اتصاف المأتي به بداع الأمر بوصف اللعب والعبث بأن
يكون الداعي إلى جعل الأمر داعيا غرضا نفسانيا غير عقلائي، والمفروض أن
داعيه إلى امتثال أمر المولى ما هو الداعي في غيره من توقع الثواب أو تحصيل
مرضات المولى أو غيرهما.
وتوهم: أن اتصاف مثله بعنوان اللعب غير ضائر لغرض صدور العمل عن داع
الأمر وهو حسن بذاته. مدفوع: بأن المأتي به بداع الأمر أو بقصد التعظيم إنما
يكون حسنا بذاته بمعنى أنه لو خلي ونفسه يندرج تحت عنوان الانقياد للمولى
وعنوان الإحسان إليه لا أنه حسنه كحسن العدل، والإحسان ذاتي لا يتخلف عنه،
بل التعظيم في مورد يعرف به المولى فيقتل إسائة إليه ولو مع حفظ عنوانه
111

كانحفاظ عنوان الصدق في المهلك للمؤمن مع أن الصدق حسن بذاته بذلك
المعنى، فلو فرض اتصاف المأتي به بداع الأمر بعنوان اللعب من حيث كون
داعي الداعي غرضا شهوانيا نفسانيا لا يصدر ممدوحا عليه بل مذموما عليه.
ومن جميع ما ذكرنا يتضح أيضا أن الداعي إلى تحصيل اليقين بإطاعة الأمر
أيضا هو الداعي في غير هذا المورد، وهو إسقاط العقاب في وجدان العقل مثلا،
بل لو كان هناك لعب ولغو لكان في كيفية تحصيل اليقين بإطاعة الأمر وهو أجنبي
عن اتصاف الإطاعة بعنوان اللعب، بل هو عنوان تحصيل اليقين لا عنوان الفعل
المتولد منه اليقين بإطاعة الأمر، وتوضيحه أن لتحصيل اليقين بإطاعة الأمر
طريقان: أحدهما: معرفة الواجب وإتيان الواجب بعينه فيحصل له اليقين بإطاعة
الأمر وإسقاطه.
ثانيهما: إتيان محتملات الواجب الواقعي، فإنه يوجب حصول اليقين
بإطاعة الأمر الواقعي وسقوطه، فاختيار الطريق الثاني على الأول لأحد أمور
ثلاثة:
فتارة: يختاره لداع محبوب وهو الاشتغال بالانقياد المحبوب عقلا في مدة
مديدة.
وأخرى: يختاره لداع عقلائي وهو فيما إذا كان تحصيل معرفة الواجب أكثر
مؤنة من إتيان المحتملات فسهولة الطريق تدعوه إلى اختياره.
وثالثة: لا لذا ولا لذاك بل لمجرد غرض نفساني فتحصيل اليقين من أصله
وإن كان كما في سائر الموارد إلا أن تحصيل اليقين من هذا الطريق الخاص،
لغرض نفساني، فيصدق اللعب على تحصيل اليقين من هذا الوجه لا على نفس
الفعل الذي هو سبب لحصول اليقين بالإطاعة.
ومنه تعرف أنه كما لا لعب ولا عبث في الأمر، كذلك في كيفية إطاعته، وإنما
112

اللعب في تحصيل اليقين حيث لا مرجح عقلائي لتحصيل اليقين من هذا الوجه
الخاص، فتدبره جيدا فإنه دقيق جدا.
وربما يقال (1): بلزوم تقديم الامتثال التفصيلي على الإجمالي لا من حيث
اعتبار قصد الوجه بل من أجل عدم استقلال العقل بحسن الامتثال الإجمالي إلا
مع عدم التمكن من الامتثال التفصيلي، نظرا إلى أنه يجب الانبعاث عن شخص
أمر المولى وإرادته مع إمكانه، وأن الانبعاث فيما نحن فيه انبعاث عن احتمال
البعث ومرتبة الأثر متأخرة عن مرتبة العين، وأنه مع الشك في ذلك لا مجال إلا
للاشتغال لا البراءة وإن قلنا بها في مثل قصد الوجه، إذ الشك هنا في كيفية
الإطاعة الموكولة إلى حكم العقل لا فيما يمكن اعتباره شرعا ولو بأمر آخر فليس
هنا مجعول شرعي مجهول حتى يحكم برفعه.
وفيه أما أولا: فبأن عنوان الانقياد المنطبق على كل فعل من المحتملين من
العناوين الحسنة بالذات، أي لو خلي وطبعه كالصدق الحسن بهذا المعنى، ومن
المعلوم أن ما كان حسنا بذاته يكون حسنا بالفعل إلا إذا انطبق عليه عنوان قبيح
كانطباق عنوان المهلك للمؤمن، على الصدق.
ومن الواضح أن مجرد التمكن من الامتثال التفصيلي لا يوجب تعنون الامتثال
الإجمالي بعنوان قبيح، ولا عدم التمكن مقوم حسنه، فلا معنى لعدم استقلال
العقل بحسنه.
وأما ثانيا: فبأن الداعي الموجب لانقداح الإرادة هو البعث بوجوده في أفق
النفس، لاستحالة دعوة البعث بوجوده الخارجي فصورة (2) البعث الحاضر في
النفس - سواء كانت مقرونة بالتصديق العلمي أو بالتصديق الظني أو بالتصديق
الاحتمالي - هي الداعية بالذات، ومطابقته (3) في الخارج داع بالعرض، فإن كانت
الصورة مطابقة لما في الخارج كان الانبعاث عن شخص الأمر بالعرض، وإن لم

(1) أجود التقريرات: ج 2، ص 44.
(2) (خ ل): مطابقة - قصوره.
(3) (خ ل): مطابقة - قصوره.
113

يكن مطابقة كان الانبعاث عن مجرد الصورة، والأول إطاعة حقيقة، والثاني انقياد
محض، فالإتيان بالمحتملين متضمن للانبعاث عن شخص البعث قطعا.
وأما ثالثا: فلأن الانبعاث التفصيلي إما أن يحتمل دخله في الغرض أم لا،
فإن احتمل دخله كان حاله حال قصد القربة والوجه من حيث إمكان اعتبراه
شرعا بأمر آخر فيكون مرفوعا عند الجهل، وإن لم يحتمل دخله فيه، نقطع
بسقوط الغرض بمجرد الموافقة الإجمالية فيقطع بسقوط الأمر فلا موجب
للاشتغال.
114

المبحث
الثاني
في الظن
115

" في الأمارات الغير العلمية "
50 - قوله: بيان ما قيل باعتباره من الأمارات (1) إلخ:
لكن هذا العنوان لا يعم مباحث الظن بما هو ظن كما هو الموضوع للمسألة
حقيقة.
وتوهم: أن جعل الظن عنوانا لهذا المقصد كي يعم الجميع غير صحيح،
لظهور الظن في الفعلي مع أن المبحوث عنه في غير مباحث الظن الانسدادي
ظنون نوعية: مدفوع: بأن معنى ظهور الظن في الفعلي ظهوره في معنى ثبوتي،
والمعنى الثبوتي مطابقه حيثية ذاته حيثية طرد العدم، وهو لا ينافي كون الأسباب
مفيدة له بطبعها وبنوعها لولا الموانع، فالشخصية والنوعية من أوصاف أسبابه لا
من أوصافه، وظهوره في ما له مطابق فعلي لا يكون إلا بالقرينة، كما لا يخفى. نعم
الحجية والاعتبار في الأمارات وصف لها بحال نفسها، فلو جعل الظن عنوانا لهذا
المقصد كان الوصف بحال متعلقه أعني سببه، فتدبر جيدا.
ومما ذكرنا تبين أنه لا جامع بين الأمارات والظن بما هو، فلا بد جعل الأمارات
بابا وجعل الظن بما هو بابا آخر.
وليعلم أيضا أن ما ذكره - قده - هنا عنوانا لموضوع هذا المقصد لا ينطبق عليه
شئ من التقسيمين الذين ذكرهما في أول (2) القطع، إذ بناء على تقسيمه الأول
ينبغي البحث عن لواحق القطع بالحكم الظاهري الفعلي ولو بالبحث عن سببه
وأنه يتولد من الأمارة شرعا أم لا؟ وبناء على تقسيمه الثاني (3) فالموضوع هناك
هو الطريق المعتبر فالبحث عن اعتباره هنا بحث عن ثبوته لا عن ثبوت شئ له.
ولذا قلنا هناك (4) إن اللازم جعل الطريق الناقص موضوعا حتى يصح البحث
عن اعتباره شرعا هنا، فراجع.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 42، س 4 وكفاية الأصول: 275، (ت، آل البيت).
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 5 وكفاية الأصول: 257، (ت، آل البيت).
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 5 وكفاية الأصول: 257، (ت، آل البيت).
(4) التعليقة: 5، ص 30.
117

[فيه أمور]
الأمر الأول: في عدم كون الحجية من لوازم الأمارة "
51 - قوله: لا ريب في أن الأمارة الغير العلمية ليست (1) كالقطع (2)
إلخ:
قد عرفت في أوائل (3) مبحث القطع معنى حجية القطع بنحو العلمية،
ومجمله أن انكشاف التكليف الفعلي حقيقة له دخل بنحو الشرطية في استحقاق
العقاب المترتب على مخالفة التكليف المعلوم المنطبق عليه عنوان هتك حرمة
المولى وغيره من العناوين القبيحة بالذات أي الموجبة لاستحقاق الذم والعقاب،
فدخل القطع في استحقاق العقوبة بنحو الشرطية جعلي عقلائي، بداهة أن
استحقاق الذم والعقاب عقلا ليس مما اقتضاه البرهان بل هو داخل في القضايا
المشهورة الميزانية التي تطابقت عليها آراء العقلاء، حفظا للنظام وإبقاء للنوع، بل
التعبير بالشرطية أيضا مسامحة فإن حقيقة الشرطية هي الدخالة في فعلية التأثير
فالشرط إما مصحح لفاعلية الفاعل أو متمم لقابلية القابل، وحيث لا تأثير ولا تأثر
فلا معنى لحقيقة الشرطية.
نعم، العلم من علل قوام الموضوع المحكوم بالتقبيح العقلائي فإن الموضوع
مؤتلف من المخالفة والتكليف والعلم وفعلية وصفه بفعلية الموصوف.
لا يقال: حيث إن المترتب عليه الغاية الداعية إلى التقبيح العقلائي هي

(1) (خ ل): ليس.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 42 وكفاية الأصول: 275، (ت، آل البيت).
(3) التعليقة: 6، ص 31.
118

المخالفة للتكليف المعلوم، فللعلم دخل في تحقق العلة الغائية، فصح أن ينسب
العلية إلى العلم لكونه علة للعلة الغائية.
لأنا نقول: للعلم دخل في تحقق نفس الغاية المترتبة على المخالفة، والغاية
علة بوجودها العلمي لا بوجودها العيني المتأخر عن ذيها، هذا بالنسبة إلى
الموضوع للحكم العقلائي. وأما فعلية الذم والعقاب فعن حكمة داعية إليهما لا
أنهما مترشحان من مقام ذات المخالفة الخاصة، مع أن الكلام في الحكم
بالاستحقاق لا في فعلية الذم والعقاب.
ومنه تعرف أن حجية القطع ليست حكما آخر من العقلاء في خصوص القطع
بل الظلم قبيح عند العقلاء، ولا ينطبق إلا على مخالفة التكليف المنكشف تمام
الانكشاف، وحيث إن القطع حقيقة نورية محضة يتحقق به موضوع الحكم
العقلي قهرا فينطبق عليه حكمه وحيث إن الظن ليس حقيقة نورية محضة فلذا لا
يتحقق به موضوع الحكم الفعلي بنفسه، إلا بعناية زائدة من الشرع أو العقل، وبما
ذكرنا يظهر ما في عبارات المتن (1) من أنحاء المسامحات كما لا يخفى.
52 - قوله: ولا سقوطا وإن كان ربما يظهر إلخ:
ظاهره وجود القول بسقوط الواقع بالظن بسقوطه وحجية هذا الظن، والظاهر
أن مراده - قده - ما أفاده المحقق الخونساري - قده - في باب الاستصحاب (2)،
حيث قال " إذا كان أمر أو نهي بفعل إلى غاية معينة مثلا فعند الشك في حدوث
تلك الغاية لو لم يمتثل التكليف المذكور لم يحصل الظن بالامتثال والخروج من
العهدة، وما لم يحصل الظن لم يحصل الامتثال " إلخ فإن ظاهره كفاية الظن بسقوط
الواقع بعد العلم بثبوته وإلا لقال لو لم يمتثل التكليف المذكور لم يحصل القطع
بالخروج عن العهدة، والله العالم.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 42.
(2) مشارق الشموس: ص 76، س 14، للمحقق المدقق المرحوم آغا حسين الخونساري ره.
119

" الأمر الثاني: في إمكان التعبد بالأمارة وقوعا "
53 - قوله: في بيان إمكان التعبد بالأمارة (1) إلخ:
ظاهره كما يدل عليه تتمة العبارة أن الإمكان المبحوث عنه هنا هو الإمكان
الوقوعي أي ما لا يلزم من فرض وقوعه ولا في وقوعه محال في قبال الإمكان
الذاتي، أي ما كان بالنظر إلى نفس ذاته لا اقتضاء بالنسبة إلى الوجود والعدم، أي
ما ليس بذاته ضروري الوجود ولا ضروري العدم، ويقابلهما الوجوب والامتناع
الذاتيان والوقوعيان، فرب ممكن بالذات واجب الوقوع كالمعلول الأول للعلة
الأولى الواجبة بالذات، فإن وجوبه الذاتي من حيث العلية يقتضي ضرورة وجود
معلوله دون ساير المعاليل لسائر العلل، فإنها واجبة الوقوع،
حيث يلزم من فرض لا وقوعها محال.
ومنه علم أن الوجوب بالغير والامتناع بالغير غير الوجوب الوقوعي والامتناع
الوقوعي، ورب ممكن بالذات ممتنع الوقوع، كصدور معلولين من العلة الأولى
البسيطة بذاتها فإنهما في حد ذاتهما ممكنان إلا أن لازم وقوعهما تركب العلة
الأولى من خصوصيتين ذاتيتين، والمفروض بساطتهما في ذاتها.
وعن بعض أجلة العصر (2) " أن المراد عن المحذور العقلي الذي فرض عدم
لزومه في الإمكان الوقوعي إنما هو (3) الموانع العقلية لا عدم المقتضي، لأنه لو
كان المراد أعم من المقتضي وعدم المانع، لكان العلم بالإمكان في شئ مساوقا

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 42. وكفاية الأصول: 275، (ت، آل البيت). والرسائل: ص 24
مخطوط.
(2) درر الفوائد: ج 2 - 1، ص 349، (ط، جماعة المدرسين).
(3) (خ ل): هي الموانع.
120

للعلم بوجوده ".
أقول: هذا خلط بين الامتناع الوقوعي والوجوب الوقوعي، والامتناع بالغير
والوجوب بالغير، وعدم العلة التامة - سواء كان بعدم المقتضي أو بوجود المانع -
يوجب امتناع المعلول امتناعا بالغير، كما أن وجوب وجود المعلول بوجود علته
التامة وجوب بالغير.
نعم، إذا فرض امتناع المقتضي أو وجود المانع كان امتناع المعلول امتناعا
وقوعيا.
ومنه تعرف أنه مع فرض وجود العلة التامة يجب وجود المعلول، كما أنه مع
عدمها يمتنع وجوبا وامتناعا بالغير، وليس في قبال الوجوب بالغير والامتناع
بالغير إمكان بالغير، كما يتصور في قبال الوقوعين منهما إمكان وقوعي، إذ ما كان
إمكانه بالغير فهو في حد ذاته واجب أو ممتنع، ويستحيل انقلابه عما هو عليه
بذاته بسبب الغير.
إذا عرفت ما ذكرناه، فاعلم أن المعروف أن الإمكان المتنازع فيه هنا هو
الإمكان الوقوعي، نظرا إلى أنه لا يتوهم أحد من العقلاء أن التعبد بالظن بذاته
يأبى عن الوجود كاجتماع النقيضين إلا أنه ليس بذلك الوضوح، فإن التعبد بالظن
إذا كان معناه جعل الحكم المماثل فجعل المثل في مورد وجود المثل أو الضد
واقعا عين الجمع بين المثلين أو الضدين في موضوع واحد لا أنه يلزم من إيجاد
المثل في مورد الابتلاء بالمثل جمع بين المثلين غير إيجاد المثل في موضوع
مبتلى بمثله، نعم إن كان التعبد بالظن معنى لازمه جعل حكم مماثل لا عينه
فحينئذ لازمه الجمع بين المثلين كما سيجئ في تحقيق حقيقة دليل التعبد (1).
54 - قوله: وليس الإمكان بهذا المعنى بل مطلقا (2) إلخ:
الإطلاق بلحاظ الإمكان الذاتي، وتحقيق القول في المقام أن الشئ تارة،

(1) التعليقة: 55، ص 122.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 43 وكفاية الأصول: 276، (ت، آل البيت).
121

يطلب فيه الجزم به كما في أصول العقائد والمعارف اليقينية بناء على اعتبار
اليقين فيها دون مجرد عقد القلب والبناء على ثبوتها، فمثله لا يعقل الجزم بثبوته
إلا مع الجزم بإمكانه، فلا يجامع احتمال الاستحالة.
وأخرى، يطلب منه الجري على وفقه والعمل على طبقه دون الجزم بتحققه
كالحكم العملي. ومنه التعبد بالظن فإنه لا يعتبر فيه الجزم بثبوته لئلا يجامع
احتمال استحالته، فمثله يكفي فيه مجرد وجود الحجة على ثبوته، فالدليل
المتكفل لحجية الخبر مثلا - سواء كان ظاهر الكتاب أو الأخبار المتواترة معنى، أو
سيرة العقلاء مع عدم ردع الشارع عنها - يكون حجة على حجية الخبر من دون
منافاة لاحتمال الاستحالة.
إذ الحجة لا يزاحمها إلا الحجة، واحتمال الاستحالة ليس بحجة فاتضح أن
مستند الكفاية (1) ليست القاعدة الموروثة عن الشيخ الرئيس (2) حتى يقال إن
الغرض مجرد عدم الإنكار دون الاعتقاد، كما أنه اتضح أن وجه الكفاية ليس
حكما جديدا من العقلاء في الحكم بالإمكان ما لم يقم في الوجدان على
استحالته برهان، كما هو ظاهر شيخنا العلامة الأنصاري (3) - قده - وبعض أجلة
المعاصرين (4) - ره - لما يرد عليه ما أفاده المصنف - قده - في المتن، بل الوجه ما مر
من كفاية وجود الحجة على حجية الخبر مثلا.
حيث لا يطلب من الحجية اليقين بها، بل الجري على وفقها، كما أنه ظهر مما
ذكرنا أن هذا الوجه مختص بما إذا كان المورد من العمليات دون الاعتقاديات،
فتصحيح ما صدر عن بعض المتكلمين من التمسك بأصالة الإمكان لتصديق
ما ورد في المعاد الجسماني وأشباهه بمثل ما ذكرنا، غير صحيح، إذ المطلوب
فيه الاعتقاد واليقين دون العمل كي يكون ظهور حجة فيه وكي لا يمنع عن حجية

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 43، س 12.
(2) الإشارات والتنبيهات: ج 3، ص 418.
(3) الرسائل: ج 1، ص 40 - ما هذا لفظه: فالأولى أن يقرر هكذا...
(4) هو المحقق الهمداني - ره - في تعليقته على الفرائد المنضمة إلى الفرائد المحشى: ص 17.
122

احتمال الاستحالة مع أن ما ذكرنا مرجعه إلى أصالة الظهور ونحوه، والمرجع في
كلامهم ومرمهم إلى أصالة الإمكان استنادا إلى القاعدة الموروثة من الحكماء.
55 - قوله: والجواب أن ما ادعى لزومه إما غير لازم (1) إلخ:
تحقيق الجواب أن حقيقة الحكم خصوصا في الأحكام الشرعية عبارة عن
البعث والزجر أعني الإنشاء بداعي جعل الداعي من دون لزوم إرادة أو كراهة
بالنسبة إلى فعل المكلف في المبدء الأعلى، ولا في سائر المبادي العالية، بل في
مطلق من كان بعثه أو زجره لأجل صلاح الغير.
بداهة أن الشوق النفساني لا يكون إلا لأجل فائدة عائدة إلى جوهر ذات
الفاعل أو إلى قوة من قواه، وإلا فحصول الشوق الأكيد بالإضافة إلى الفعل على
حد المعلول بلا علة وإنما يتصور الشوق الأكيد إلى فعل الغير إذا كان ذا فائدة
عائدة إلى المريد إياه، وحيث إن أفعال المكلفين لا يعود صلاحها وفسادها إلا
إليهم فلذا لا معنى لانقداح الإرادة في النفس النبوية والولوية فضلا عن المبدء
الأعلى، مع اختصاصه تعالى بعدم الإرادة التشريعية من جهة أخرى تعرضنا لها
في مبحث الطلب والإرادة مستوفى (2)، ولعلنا نشير (3) إليها عما قريب إنشاء الله
تعالى.
وأما الإرادة المتعلقة بنفس البعث والزجر فهي إرادة تكوينية لتعلقها بفعل
المريد لا بفعل المراد منه ولا ترد على ما ورد عليه البعث كما لا يخفى، وعليه
فليس بالنسبة إلى فعل المكلف إرادة أصلا، فضلا عن الإرادتين، بل لو فرضنا
انبعاث الإرادة التشريعية عن فائدة عائدة إلى المراد منه لم يلزم ثبوت إرادتين
تشريعيتين، لما مر مرارا (4) من أن الشوق ما لم يصل إلى حد ينبعث عنه
العضلات أو ينبعث منه البعث الحقيقي لا يكاد يكون مصداقا للإرادة التكوينية

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 44، س 11 وكفاية الأصول: 277، (ت، آل البيت).
(2) نهاية الدراية: ج 1، ص 197.
(3) (خ ل): نشر.
(4) التعليقة 30، ص 81.
123

أو التشريعية، وسيأتي إنشاء الله تعالى عدم مصداقية الإنشاء الواقعي للبعث
الحقيقي، فكما لا بعث حقيقي واقعا لا إرادة تشريعية واقعا.
وأما الكلام في اجتماع المثلين أو الضدين من حيث الحكم المجعول واقعا
وظاهرا.
فاعلم أن البعث والزجر ليسا جعل ما يدعو إلى الفعل أو الترك بالضرورة،
بداهة دخالة إرادة العبد واختياره في حصول أحدهما، بل المعقول كما نبهنا
عليه سابقا (1) جعل ما يدعو بالإمكان.
وقد عرفت أن الإنشاء بداعي جعل الداعي الذي هو تمام ما بيد المولى لا
يعقل أن يتصف بصفة الدعوة إمكانا إلا بعد وصوله إلى العبد بنحو من أنحاء
الوصول. ضرورة أن الأمر الواقعي وإن بلغ ما بلغ من الشدة والقوة لا يعقل أن
يتصف بصفة الدعوة ويوجب انقداح الداعي في نفس العبد وإن كان في مقام
الانقياد ما لم يصل إليه فلا يعقل أن يكون الإنشاء بالداعي المزبور داعيا بالإمكان
إلا يعد وصوله حتى يكون بحيث يترتب على مخالفته العقاب ليكون محققا
للدعوة على أي تقدير، فمجرد الالتفات والاحتمال لا يصحح الدعوة على أي
تقدير، ويخرج من الإمكان إلى الوجوب إذ خلي العبد عن منافيات العبودية.
ومن الواضح أن التضاد والتماثل بين البعثين والزجرين، والبعث والزجر، فإن
استحالة داعيين متماثلين أو متضادين إنما هي مع وجود الموجب لهما،
والمفروض أن الأمر الواقعي الغير الواصل لا يوجب الدعوة فلا منافي للبعث
والزجر الحقيقيين على طبق الأمارة المتضمنة للتكليف والترخيص على خلاف
الحكم الواقعي، فالأمر في الأحكام الظاهرية من قبيل المقتضي، وفي الواقعية
من قبيل الاقتضاء، وينطبق هذا التوجيه على ما هو المشهور من كون الأحكام
الظاهرية مطلقا أحكاما حقيقية بخلاف بعض التوجيهات الآتية، والفرق بينه
وبين حمل الحكم الظاهري على الفعلي والواقعي على الإنشائي المحض لا

(1) التعليقة: 41، ص 92.
124

يكاد يخفى، كما سنوضحه إنشاء الله تعالى (1).
56 - قوله: والحجية المجعولة غير مستتبعة لإنشاء (2) إلخ:
توضيح المقام أن الحجية بمعنى الوساطة في الإثبات، تارة تلاحظ بالإضافة
إلى الواقع، وأخرى بالإضافة إلى أثر الواقع، وحيث إن إثبات الواقع حقيقة غير
معقول فلا محالة يراد إثبات الواقع عنوانا، والوساطة بكل من الوجهين، إما
مجعولة بالاستقلال فتكون وساطة اعتبارية، وإما مجعولة بتبع (3) جعل حكم
طلبي فتكون وساطة انتزاعية، فقوله " الخبر حجة " مثلا إظهار لاعتبار وساطته،
وقوله " صدق العادل " مثلا جعل للحكم على طبق المؤدى بعنوان أنه الواقع،
فالخبر واسطة في إثبات الواقع العنواني، ومصحح انتزاع هذه الوساطة ذلك
الحكم المزبور بالعنوان المذكور، كما أن الحجية بمعنى الوساطة في تنجز الواقع،
تارة تثبت اعتبارا بقوله " الخبر حجة "، وأخرى تثبت انتزاعا بقوله " صدق " إذا
أنشأ بداعي تنجيز الواقع.
فنقول: أما الحجية المجعولة بالاستقلال اعتبارا فهي:
إما اعتبار المنجزية للواقع كما لا يأبى عنه عبارة الكتاب (4).
وإما اعتبار وصول الواقع بالخبر ومحرزية الخبر.
وإما اعتبار نفس مفهوم الحجية وهو كون الشئ بحيث يصح الاحتجاج به.
أما الأول: فإن أريد جعل الخبر موجبا للعقوبة على مخالفة الواقع المخبر
به، فهو كجعل العقاب ابتداء على مخالفة ما قام عليه الخبر، فإنه أيضا يصحح
انتزاع الحجية بمعنى المنجزية والموجبية للعقاب، وكلاهما غير معقول، إذ لا
عقاب على مخالفة الواقع مع عدم الحجة عليه عقلا أو شرعا، فجعل الحجية
بنفس جعل العقاب المتوقف على وجود الحجية دوري، وإن أريد من المنجزية
جعل حيثية يترتب عليها الواقع فالكلام في تلك الحيثية إلا أن التعبير

(1) التعليقة: 66 - 67.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 44 وكفاية الأصول: 277، (ت، آل البيت).
(3) (خ ل): يتبع.
(4) أي كتاب الكفاية.
125

بالمنجزية لا يأبى عن جعل حيثية يترتب عليها الوقوع في تبعية المخالفة، فإن
التنجيز ليس إلا إتمام العمل وجعل الواقع على حد يترتب على مخالفته العقوبة.
وأما الثاني: وهو اعتبار الوصول والإحراز ونحوهما فقد مر بعض الكلام فيه
في بحث القطع الموضوعي والطريقي (1)، وملخص القول فيه أن اعتبار الوصول.
إما بعنوان تنزيل الوصول الظني منزلة الوصول القطعي.
وإما بعنوان تحقيق الموضوع لأثر الوصول.
فإن كان المراد هو التنزيل، فمقتضاه جعل أثر المنزل عليه للمنزل هو إما
جعل الحكم المماثل أو جعل التنجيز الذي لا يقول بشئ منهما من يقول باعتبار
الوصول كما مر سابقا.
وإن كان المراد (2) هو تحقيق الموضوع فمقتضاه أن يكون الأثر العقلي مرتبا
على الأعم من الوصول الحقيقي والاعتباري، مع أنه ليس ترتب الأثر على
الوصول من باب ترتب الحكم الكلي على الموضوع الكلي بنحو القضايا
الحقيقية حتى يكون القطع من أفرادها المحققة الوجود، والظن مثلا من أفرادها
المقدرة الوجود التي يحققها الشارع باعتباره وصولا، بل هذا الأثر إنما استفيد من
بناء العقلاء عملا على المؤاخذة على التكليف الواصل قطعا أو الواصل بخبر
الثقة، ففي ما لا بناء عملي لهم على اتباعه لا معنى لتحقيق الموضوع، وفيما كان
لهم بناء عملي كخبر الثقة لا حاجة إلى اعتباره لترتيب ذلك الأثر إلا بعنوان
الإمضاء ولا معنى لإمضاء الاعتبارات إلا باعتبار يماثل ذلك الاعتبار، وترتب أثر
يوافق ذلك الأثر، وإلا فترتب الأثر العقلائي لا يتوقف إلا على بنائهم واعتبارهم
لا على اعتبار الشارع فتدبره جيدا وسيجيئ إنشاء الله تعالى تتمة الكلام.
وأما الثالث: وهو اعتبار نفس معنى الحجية، فتوضيح القول فيه أن الحجية
مفهوما ليست إلا كون الشئ بحيث يصح الاحتجاج به وهذه الحيثية، تارة تكون
ذاتية غير جعلية كما في القطع، فإنه نفسه بحيث يصح به الاحتجاج للمولى

(1) التعليقة: 21 و 26، ص 60 و 72.
(2) أجود التقريرات: ج 2، ص 76.
126

على عبده، وأخرى تكون جعلية، إما انتزاعية ك‍ " حجية الظاهر " عند العرف
" وحجية خبر الثقة " عند العقلاء، فإنه بملاحظة بنائهم العملي على اتباع الظاهر
وخبر الثقة، والاحتجاج بهما يصح انتزاع هذه الحيثية من الظاهر والخبر.
وإما اعتبارية (1) كقوله (ع) " حجتي عليكم وأنا حجة الله " فإنه جعل الحجية
بالاعتبار، والوجه في تقديم هذا الوجه على سائر الوجوه - مع موافقته لمفهوم
الحجبة فلا داعي إلى اعتبار أمر اخر غير هذا المفهوم - هو أن المولى إذا كانت له
اغراض واقعية وعلى طبقها أحكام مولوية وكان ايكال الأمر إلى علوم العبيد
موجبا لفوات أغراضه الواقعية، إما لقلة علومهم أو لكثرة خطائهم وكان ايجاب
الاحتياط تصعيبا للأمر منافيا للحكمة وكان خبر الثقة غالب المطابقة، فلا محالة
يعتبر الخبر بحيث يصح الاحتجاج به، وكل تكليف قام عليه ما يصح الاحتجاج
به اعتبارا من المولى كان مخالفته خروجا عن زي الرقية ورسم العبودية، وهو
ظلم على المولى، والظلم مما يذم عليه فاعله ولا حاجة بعد تلك المقدمات إلى إعتبار
الخبر وصولا وإحرازا، إذ لو لم تكن تلك المقدمات لم يجد إعتبار
الوصول، إذ كل اعتبار لابد من أن ينتهى إلى حقيقة تقتضي ذلك الاعتبار، وإذا
كانت هذه المقدمات كفى إعتبار الخبر بحيث يحتج به من دون لزوم توسط
إعتبار اخر، وكفى بهذا شاهدا ملاحظة حجية الظاهر وخبر الثقة عند العرف
والعقلاء، فإن تلك المقدمات تبعثهم على العمل بالظاهر والخبر، لا أنها تقتضي
اعتبار الوصول والإحراز منهم جزافا للعمل بالظاهر والخبر، هذا كله في الحجية
المعجولة بالاستقلال.
وأما المجعولة بالتبع، فتارة يراد بها الوساطة في اثبات الواقع عنوانا، وأخرى
الوساطة في إثبات الواقع بعنوان اخر، وثالثة الوساطة في تنجز الواقع.
فنقول: أما الوساطة في إثبات الواقع عنوانا فهي بجعل الحكم على طبق
المؤدى بعنوان أنه الواقع كما هو مقتضى ظاهر التصديق وأنه الواقع فهو حكم

(1) الوسائل: ج 18، ب 11، ح 9، ص 101، أبواب صفات القاضي.
127

مماثل للواقع الذي قام عليه الخبر لكنه لا بما هو هو بل هو الواقع فوصوله
بالذات وصول الواقع عنوانا وعرضا.
وأما الوساطة في إثبات الواقع بعنوان اخر فهي بجعل الحكم المماثل بداعي
ايصال الواقع بعنوان اخر، بمعنى أن وجوب صلاة الجمعة وان لم يصل بعنوانه
لكنه وصل بعنوان كونه مما قام عليه الخبر، نظير ما إذا قيل " أكرم زيدا " وحيث لم
يعرفه يقال له أيضا بداعي جعل الداعي " أكرم جارك "، فالغرض من جعل الداعي
ايصال الجعل الأول بعنوان اخر.
وأما الوساطة في تنجز الواقع فهي كما إذا قال " صدق العادل " بداعي تنجيز
الواقع بالخبر، فالأولان إنشاء بداعي جعل الداعي والثالث إنشاء بداعي تنجيز
الواقع، وسيأتي انشاء الله تعالى الاشكال في الثالث (1).
وأما الأولان: فربما يشكل بأن الحجية إذا كانت منتزعة من جعل الحكم
التكليفي نظير الجزئية والشرطية المنتزعة من تعلق الحكم بالمركب والمقيد لزم
دوران الحجية مدار بقاء الحكم التكليفي، كما هو شأن الأمر الانتزاعي ومنشأ
انتزاعه، مع أن الحكم التكليفي يسقط بالعصيان والخبر لا يسقط عن الحجية كما
أن الجزئية بمعنى كون الشئ بعض المطلوب يدور مدار بقاء المطلوبية فإذا
سقط الطلب ليس ذات الجزء موصوفا بالجزئية للمطلوب فعلا.
ويندفع: بأنه إن لوحظ الدليل المتكفل للحكم الكلى المرتب على الموضوع
الكلى فهو باق ما لم ينسخ كما هو شأن القضايا الحقيقية فالحجية المنتزعة من
هذا الجعل الكلى الذي لا يزول بالعصيان كذلك، وان لوحظ الحكم الفعلي
بفعلية موضوعه فهو وإن كان يسقط بالعصيان إلا أن الاشكال لا يختص بالحجية
المنتزعة من الحكم التكليفي بل الحجية الفعلية بمعنى الوصول الاعتباري
كذلك، إذ مع سقوط الحكم على أي حال لا معنى لفعلية إعتبار وصول الواقع
كمالا معنى لاعتبار منجزية الخبر فعلا.

(1) التعليقة: 58، ص 137.
128

نعم، ما لا يسقط أصلا - سواء لوحظ الحكم الكلى أو الفعلي - هي الحجية،
بمعنى كونه مما يحتج به المولى، فان مورد الاحتجاج فعلا هو في وعاء العصيان،
فالخبر من أول قيامه على الحكم مما يصح الإحتجاج به عند المخالفة، ولا
يسقط عن هذا الشأن، وهذا من الشواهد على أن الحجية بهذا المعنى الصالح
للبقاء فتدبر جيدا.
إذا عرفت ما ذكرناه في معنى الحجية الإعتبارية والانتزاعية فاعلم، أن
الحجية المجعولة بالاعتبار حيث إنها أمر وضعي ليس بينه وبين الحكم الواقعي
تماثل ولا تضاد، وأما الحجية المجعولة بجعل الإنشاء الطلبي فالإنشاء بداعي
تنجيز الواقع على فرض معقوليته أيضا ليس مماثلا ولا مضادا للحكم الحقيقي
أي البعث والزجر بالحمل الشائع وإن اشتركا في مفهوم البعث النسبي الانشائي،
إلا أن أحدهما بعث بالحمل الشائع والاخر تنجيز بالحمل الشائع.
وأما الانشاء بداعي جعل الداعي سواء كان على طبق المؤدى بعنوان انه
الواقع أو على طبق المؤدى بداعي ايصال الواقع بعنوان اخر فنفى المماثلة
والمضادة مبنى على ما قدمناه في الحاشية المتقدمة (1) من عدم اتصاف الحكم
الواقعي بكونه بعثا وزجرا بالحمل الشائع، إلا بعد وصوله، ولا تماثل ولا تضاد الا
بين البعثين بالحمل الشائع أو بين بعث وزجر بالحمل الشائع لا بينهما بالوجود
الانشائي، وسيأتي انشاء الله تعالى بقية الكلام (1).
57 - قوله (3): وأما تفويت مصلحة الواقع أو الالقاء (4) الخ:
وذلك لأنهما ليسا من العناوين القبيحة بالذات بل من العناوين المقتضية فإذا
وجد فيهما جهة أقوى كان الحسن أو القبح تابعا لتلك الجهة، ولزوم التدارك من
الخارج غير مجد في ارتفاع صفة القبح، إذ التدارك من الخارج لا يكون من

(1) التعليقة: 55، ص 122.
(2) التعليقة: 59، ص 141.
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 49 وكفاية الأصول: 277، (ت، آل البيت).
(4) (خ ل): القاء.
129

جهات التعبد بالأمارة كي ينقلب عما هو عليه من صفة القبح، واشتمال المؤدى
على مصلحة يتدارك بها خلف على فرض الطريقية، مع أنه غير لازم إلا لاتصاف
التعبد بصفة الحسن، وهو غير موقوف على وجود ما يتدارك به، لإمكان جهة
أخرى في نفس التعبد كما إذا كان في التعبد به صرف العبد عن تحصيل العلم
الذي فيه كلفة ومفسدة غالبة على ما يفوته من المصلحة أو ما يقع فيه من
المفسدة، فجهة الحسن في التعبد الصارف عن تحصيل العلم أقوى من جهة
القبح لتفويت مصلحة الواقع أو للإلقاء في المفسدة، ومما ذكرنا تقدر على دفع
شبهة لزوم نقض الغرض من التعبد بالظن، توضيحه: أن المراد بالغرض إن كان
الغرض من الواجب والحرام أي المصلحة والمفسدة، فمرجع الإشكال إلى لزوم
تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة. وقد عرفت الجواب.
وإن كان المراد الغرض من الايجاب والتحريم أي البعث والزجر أي جعل
الداعي إلى الفعل أو الترك فهي شبهة قوية.
والجواب عنها أن مفاد دليل التعبد إن كان حكما طريقيا، فمن الواضح أن
تنجيز الواقع يؤكد جعل الداعي، والتعذير عن مخالفة الواقع ليس منافيا لجعل ما
يمكن أن يكون داعيا بالفعل، لأن جعل المكلف معذورا في المخالفة لا يسقط ما
يمكن أن يكون داعيا عن إمكان دعوته حقيقة، ولذا لو حصل له العلم به من باب
الاتفاق لم يكن مانع عن فعلية دعوته.
وبالجملة كون المكلف معذورا وإن كان يوجب عدم قيامه مقام تحصيل العلم
حتى يتحقق فعلية ما يمكن دعوته، لكنه يمنع عن فعلية الدعوة لا عن امكان
الدعوة، وما هو شأن البعث جعل ما يمكن أن يكون داعيا لا جعل ما هو داع
بالفعل، وإن كان مفاد الدليل حكما حقيقيا كالحكم الواقعي فالاشكال إنما يرد إذا
كان الغرض من الواجب بحد يوجب قيام المولى مقام جعل الداعي وايصاله
ليتحقق الدعوة بالفعل، ولو بالأمر بالاحتياط، أو بنصب طريق موافق، أو إذا كان
الغرض بحد بحيث إذا وصل عادة يكون الأمر محركا، فان جعل الداعي الواصل
إلى خلافه سد باب وصول العادي، ففي هاتين الصورتين يلزم نقض الغرض.
130

نعم إذا كان جعل الداعي المخالف في فرض عدم وصول العادي للحكم
الواقعي، فلا يلزم نقض الغرض في هذه الصورة.
وأما إذا لم يكن الغرض بذلك الحد بل بحد يوجب قيام المولى مقام جعل
الداعي بحيث لو اتفق العلم به لكان محركا فحينئذ لا يمنع مثل هذا الغرض عن
جعل الداعي إلى خلافه، فان جعل الداعي إلى الخلاف لا يمنع من اتفاق
حصول العلم به حتى يكون نقضا للغرض، وكون الغرض بهذا الحد كما يكون
تارة لضعف اقتضائه في ذاته كذلك قد يكون لابتلائه بمزاحم أقوى، فإنه إذا كان
في تحصيل العلم مفسدة غالبة على مصلحة الواقع الذي أخطاء عنه الطريق فلا
محالة لا يكون البعث المنبعث عن مثل هذه المصلحة المزاحمة لغرض جعل
الداعي بنحو يجب على المولى ايصاله ولا بنحو مرهون بوصوله العادي، بل
بنحو مخصوص بوصوله من باب الاتفاق فإنه الذي لا كلفة فيه ولا مفسدة فيه
فتدبر جيدا.
هذا كله بناء على الطريقية المحضة.
وأما على الموضوعية والسببية فلا يلزم تفويت المصلحة، إلا أن الكلام في
الإلتزام بالمصلحة على نحو لا يلزم منه التصويب، والشيخ الأعظم - قده - في
فرائده (1) جعل السببية على وجوه ثلاثة وحكم بأن لازم وجهين منها هو
التصويب الباطل، ولا يلزم في الوجه الثالث تصويب.
وقبل الشروع فيما أفاده - قده - ينبغي التنبيه، على مقدمة، وهي أن
الواجب الواقعي إن كان هي الظهر مثلا وقامت الأمارة على وجوب الجمعة
والتزمنا بسببية الأمارة والمصلحة في مؤداها، فالمصلحتان إما متغايرتان وجودا
فقط، وإما متضادتان وجودا، وإما متسانختان.
فإن كانتا متغايرتين فقط من دون مضادة، فحيث إن المفروض وحدة
الفريضة في الوقت وانه لا يجب فعلا فريضتان في وقت واحد، فلا محالة يقع

(1) الرسائل: ج 1، ص 43.
131

التزاحم بين الملاكين، وحيث إن المفروض فعلية وجوب الجمعة بقيام الأمارة
عليه فيعلم منه أن مصلحتها أقوى تأثيرا من مصلحة الواقع، فيزول الحكم
الواقعي وهو التصويب، لأن لازمه دوران بقاء الحكم الواقعي وتأثير مصلحة فيه
مدار عدم قيام الأمارة المخالفة على حد التصويب اللازم من دوران الحكم
الواقعي مدار قيام الأمارة عليه.
غاية الأمر أن الحكم لا ثبوت له حتى بثبوت المقتضى في هذا الشق دون
الشق المتقدم، فان مجرد المزاحمة في التأثير لا يقتضى سقوط الملاك بنفسه، بل
سقوطه عن التأثير فقط، إلا أن التحقيق أن فرض التزاحم فرض أمر غير معقول،
لان تزاحم الملاكين المقتضيين لجعل الحكم فرع تنافى مقتضاهما، ومقتضاهما
غير متنافيين إلا بملاحظة انتهاء الجعلين إلى حكمين فعليين، مع أن أحد
الحكمين بنفسه وبملاكه مرتب على عدم وصول الحكم الواقعي، فلنا دعويان.
إحديهما: ترتب الحكم وملاكه على عدم وصول الحكم الاخر.
ثانيهما: عدم فعلية الحكم الواقعي إلا بفعلية موضوعه وبوصوله لا بفعلية
موضوعه كما قيل.
أما الأولى: فمن البين أن حجية الأمارة - سواء قلنا بالطريقية أو بالموضوعية -
منوطة بكون المورد مورد التعبد بها، وليس مورد التعبد إلا في صورة الجهل
بالواقع وعدم وصوله ولا محالة يكون هذا الحكم عن ملاك يقتضي مثل هذا
التعبد، فمصلحة الجمعة متقيدة قهرا بعدم وصول وجوب الظهر.
وأما الثانية: فقد مر منا مرارا (1) أن فعلية الموضوع دخيلة في فعلية حكمه
المجعول عليه بنحو القضية الحقيقية، لا أن فعليتها تمام العلة في فعلية الحكم،
إذ يستحيل أن يكون الانشاء الواقعي المتعلق بالمكلف الذي هو تمام الموضوع
لهذا الحكم المجعول مصداقا لجعل الداعي وموصوفا بالباعثية حقيقة، وما لم
يصل الانشاء إلى حد الباعثية لا يضاد الزجر ولا يماثل بعثا اخر ليلزم اجتماع

(1) التعليقة: 27، ص 77.
132

الضدين أو اجتماع المثلين.
ومجرد تعلق الحكم المجعول برقبة (1) المكلف بفعلية موضوعه لا يضاد
حكما حقيقيا اخر متعلقا برقبته بعد عدم مصداقيته للباعثية فعلا، ولا يلغو هذا
الانشاء الذي هو بداعي جعل الداعي بسبب عدم فعليته بعدم وصوله لامكان
وصوله، وتفاوت أفراد المكلفين في الوصول وعدمه وإناطة الفعلية بالوصول
عقلية لا شرعية ليكون تمامية الموضوع وفعليته منافيا لعدم فعلية الحكم، بل
فعلية الموضوع يخرج الحكم المجعول على كلي المكلف عن حد القضية
الحقيقية ويكون كالقضية الخارجية، إلا أن مجرد تعلق ذلك الحكم الكلى بهذا
الموضوع لا يجعله مصداقا للباعث، وما لم يكن كذلك لا يجرى حديث التنافي
بالتضاد والتماثل مثلا، هذا كله إن كانت المصلحتان متغايرتين فقط.
وإن كانتا متضادتين وجودا بحيث لا يمكن قيام المصلحة خارجا بالظهر
الواجب واقعا مع قيام المصلحة بالجمعة التي أدى الخبر إلى وجوبها فمع فرض
أقوائية مصلحة الجمعة تؤثر في وجوبها ولا يعقل ترتب المصلحة على الظهر
حتى تقتضي وجوبها واقعا فيلزم منه التصويب أيضا وإن كان يستلزم الإجزاء
بمعنى عدم وجوب الإعادة بعد كشف الخلاف، حيث إن الأمر بها لتحصيل
ملاكها - وهو الغرض - ممتنع الحصول إلا أن التحقيق عدم لزوم التصويب، لأن
جعل الحكمين مع تضاد المصلحتين إنما يكون مستحيلا إذا لزم منه التسبيب إلى
ايجاد المتضادتين ولا تسبيب جدا إلا بلحاظ انتهاء الانشائين إلى الفعلية معا،
وحيث عرفت أن أحد البعثين في طول الاخر بحيث لا ينتهى الأمر دائما إلا إلى
فعلية بعث واحد تعرف أنه لا يستلزم إيجاد المتضادين تسبيبا، فالانشاء الواقعي
بنحو القضايا الحقيقية موجود في الطرفين، وأما عدم فعلية الحكم الواقعي حتى
مع وصوله بعد موافقة الأمارة فهو لا يستلزم التصويب، لأن سقوط الحكم بعد
ثبوته إلى حال حصول ملاكه أو إلى حال امتناع ملاكه بوجود ضده أجنبي عن

(1) (خ ل): برقية.
133

التصويب بمعنى عدم الحكم المشترك بين العالم والجاهل، وليس جعل الحكم
لغوا لاحتمال وصوله قبل موافقة الحكم الظاهري ولو بالإضافة إلى بعض افراد
المكلفين.
وإن كانتا متسانختين فلا محالة تقوم مصلحة موافقة الأمارة مقام مصلحة
الواقع من دون تصويب، لأنه من باب سقوط الأمر بحصول ملاكه، ولا يجب
التخيير لما مر من ترتب أحد البعثين على الاخر وعدم انتهاء الأمر إلى فعليتهما
في غرض واحد حتى يجب التخيير بينهما.
إذا عرفت هذه المقدمة: فنقول إن للشيخ الأعظم العلامة الأنصاري - قده -
في فرائده (1) طورا اخر من الكلام يناسب ذكره للمقام، قال - قده - في مسألة
التعبد بالأمارة على الموضوعية واشتمال المؤدى على مصلحة وراء مصلحة
الواقع أنه يتصور على وجوه:
أحدها: أن الحكم الواقعي مطلقا تابع لقيام الأمارة بحيث لا يكون مع قطع
النظر عن قيام الامارة حكم أصلا حتى يشترك فيه العالم والجاهل، وذكر أن هذا
القسم هو التصويب الباطل الذي قام الاجماع على بطلانه وتواترت الأخبار به.
ثانيها: أن يكون الحكم الفعلي تابعا لقيام الامارة الموافقة بمعنى ثبوت
الحكم المشترك بين العالم والجاهل لولا قيام امارة على الخلاف بتقريب أن
مصلحة العمل بالامارة غالبة على مصلحة الواقع، والحكم الواقعي فعلى في حق
غير الظان بخلافه وشأني في حقه بمعنى المقتضى لذلك الحكم، ومقتضى
تصريحه هنا ان ثبوت الحكم المشترك بمعنى ثبوت المقتضى بثبوت مقتضيه لا
الثبوت المضاف إلى نفسه ولو إنشاء، وعليه فالفرق بين هذين الوجهين أن الأول،
لا ثبوت للحكم فيه حتى بثبوت المقتضى بخلاف الثاني، فإنه له هذا النحو من
الثبوت العرضي، فهو بملاحظة عدم ثبوت الحكم المجعول يشارك الأول وهو

(1) الرسائل: ص 27، س 6. والرسائل: ج 1، ص 43، (ط، جماعة المدرسين). وجملة من
كلامه: واما القسم الثاني فهو على وجوه، مخطوط.
134

التصويب الباطل.
وربما يتخيل أنه تصويب بقاء لا حدوثا بمعنى أن قيام الأمارة المخالفة
موجب لسقوط الحكم المجعول، لمزاحمته لملاكه من حيث البقاء ويندفع: بأن
جعل الاحكام، إن كان بنحو القضايا الخارجية أمكن دعوى أنه لا مانع عن تأثير
ملاك الحكم الواقعي إلا عند قيام الامارة المخالفة الموجب لصيرورة العمل على
طبقها ذا مصلحة غالبة، وأما إن كان بنحو القضايا الحقيقية فمن حين جعل
الحكم الواقعي لا يعقل تأثير ملاكه إلا في الحكم في غير صورة قيام الأمارة
المخالفة، وظاهر كلام الشيخ أيضا ذلك حيث قال - ره - " إن الصفة المزاحمة
بصفة لا تصير منشأ الحكم (1) " الخ.
إلا انك قد عرفت في المقدمة (2) أن المصلحتين بأي وجه كانت لا تزاحم
بينهما في التأثير حتى يخلو الواقع عن الحكم، وفرض تقييد مصلحة الواقع في
نفسها بعدم قيام الأمارة المخالفة خلف وخلاف ظاهر كلامه - قده.
ثالثها: أن تكون المصلحة في سلوك الأمارة وتطبيق العمل عليها لا أن قيامها
تحدث مصلحة في الفعل، بيانه: أن التدبر التام فيما أفاده (3) - قده - في هذا المقام
بملاحظة صدر كلامه وختامه يقضى بأن الفارق بين الوجه الثاني والثالث هو أن
الأمارة على الثاني سبب لحدوث مصلحة في ذات الفعل فلا محالة يقع الكسر و
الانكسار بين الملاكين القائمين بذات الفعل من حيث التأثير.
وأما على الثالث فالفعل على ما هو عليه واقعا من الملاك القائم به، وانما
الملاك الاخر في أمر اخر وهو سلوك الأمارة وتطبيق العمل عليها، ولعل نظره
الشريف - قده - اللطيف إلى أن المصلحة الأخرى على الثاني، حيث إنها في نفس
الفعل فالحكم المنبعث عنها حكم واقعي لذات الفعل وهو مختص بمن قامت

(1) الرسائل: ص 27، س 14، (مخطوط) والرسائل: ج 1، ص 44، (ط، جماعة المدرسين).
(2) التعليقة: 57، ص 130.
(3) وهو الشيخ الأنصاري - قده -.
135

عنده الامارة، فلا حكم واقعي مشترك بين الكل.
بخلاف الوجه الثالث فان المصلحة في سلوك الأمارة الحاكية عن الحكم
الواقعي وفى تطبيق العمل عليها من حيث إن مدلولها حكم واقعي فعنوانها
مقتض لثبوت (1) الحكم الواقعي لا مناف له، ولذا قال - ره - في أواخر كلامه من أن
" هذا من وجوه الرد على المصوبة " (2) لا أنه تصويب.
والتحقيق: أن الفارق إن كان مجرد ثبوت الحكم الواقعي عنوانا على الوجه
الثالث حيث إن الأمر بتطبيق العمل على الأمارة بملاحظة كون مدلولها حكم الله
دون الوجه الثاني الذي لا شأن للأمارة إلا الوساطة في ثبوت مصلحة في ذات
الفعل كسائر الأسباب. ففيه: أن ثبوت الحكم عنوانا مع عدم ثبوته الواقعي إنشاء
وفعلا غير مجد، لخلو الواقع حقيقة عن الحكم بمرتبة إنشائه وفعليته، وإن كان
الفارق قيام المصلحة على الوجه الثاني بذات الفعل وعلى الثالث بعنوان اخر
فلا تزاحم.
ففيه: أن ذلك العنوان إن كان منطبقا على الفعل فلا فرق في باب التزاحم بين
الملاكين بين ما إذا كانا قائمين بذات الفعل أو بذات الفعل وبعنوانه المتحد معه
وجودا، وأما تخيل أن المصلحة في الاستناد إلى الأمارة وهو ليس من عناوين
الفعل. فمدفوع: بأن المراد، إن كان قيام المصلحة بالعمل المستند إلى الأمارة فهو
غير مجد، إذ الفعل بذاته له ملاك وبما هو متحيث بحيثيته له ملاك اخر، لكنه
لا يجوز اجتماع الحكمين أيضا، فان الحكمين في المتحيث بذاته وبعنوانه، وإن
كان المراد قيام الملاك بنفس الاستناد فهو فعل قلبي لا يجب في غير التعبديات
المحقق لدعوة الأمر فيها مع أن قيام المصلحة بشئ يدعو إلى البعث نحوه
لا إلى غيره وإن كان ملزوما له فمن أين وجوب فعل الجمعة ظاهرا مثلا، ومنه
تبين أن ما في بعض نسخ فرائد الشيخ الأجل - قده - من فرض المصلحة في الأمر
غير صحيح.

(1) (خ ل): بثبوت.
(2) الرسائل: ص 29، س 25، مخطوط والرسائل: ج 1، ص 47 (ط، جماعة المدرسين).
136

أما أولا: فلأن مصلحة الأمر غير استيفائية للمكلف حتى يدعو إلى البعث
ويكون موجبة لتدارك ما فات من مصلحة الواقع.
وأما ثانيا: فلان متعلق الأمر إذا لم يكن فيه بنفسه مصلحة يستحيل أن يتعلق
به بعث، فان البعث ايجاد تسبيبي من المولى إلى الفعل المكلف المحصل
للملاك الموافق لغرض الامر، والغرض متعلق بحيثية صدوره عن المكلف لا
بحيثية صدوره من المولى وبقية الكلام في محله.
58 - قوله: نعم لو قيل باستتباع جعل الحجية للأحكام التكليفية (1)
الخ:
لا يخفى عليك أن استتباع الحجية للحكم التكليفي إما بنحو استتباع
الموضوع لحكمه وإما بنحو استتباع منشأ الانتزاع للأمر الانتزاعي، وكلاهما محل
الإشكال.
أما الأول: فلان الحجية ليست كالملكية ذات اثار شرعية ولم يرتب على
الحجية شرعا وجوب العمل على طبقها حقيقة، بل لا يعقل ترتبه عليها سواء كان
الحكم المرتب حقيقيا أو طريقيا، إذ بعد جعل الحجية اعتبارا بأحد الوجوه
المتصورة لا يبقى مجال لجعل الداعي ولا للانشاء بداعي تنجيز الواقع، إذ كفى
بالحجة الشرعية حاملا للمكلف على ما قامت عليه وكفى بها منجزا للواقع، وبعد
حصول الغرض من الحكم بأي معنى كان يكون الحكم بلا ملاك وهو على حد
المعلول بلا علة.
وأما الثاني: فلأن الحكم الموضعي وإن كان يصح انتزاعه بلحاظ حكم تكليفي
كالجزئية والشرطية بلحاظ التكليف بالمركب والمقيد، لكونه في نفسه أمرا
انتزاعيا إلا أن الحكم التكليفي لا يصح جعله إلا بالإنشاء بداعي جعل الداعي،
واعتبار أمر وضعي لا يعقل أن ينشأ منه بداعي جعل الداعي حتى يستتبع الأمر
الوضعي حكما تكليفيا، وترتب الدعوة والباعثية عليه غير استتباعه لمقولة

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 49 وكفاية الأصول: 277، (ت. آل البيت).
137

الحكم التكليفي، وأما الاستتباع في مقام الاثبات بطور استتباع المعنى الكنائي
للمعنى المكنى عنه، فهو مع أنه غير مناسب لجعل الحجية حقيقة واستتباعها
للحكم التكليفي، يرد عليه أن الاستتباع في مقام الاثبات يتوقف على اللزوم في
مقام الثبوت وقد عرفت عدم اللزوم ثبوتا.
نعم جعل الحجية عنوانا للانتقال من اللازم إلى ملزومه وهو الحكم الطلبي
المصحح لانتزاع الحجية معقول.
فنقول الخبر حجة، للانتقال إلى ملزوم الحجية وهو الحكم التكليفي المصحح
للحجية الحقيقية لا من باب الانتقال من الملزوم إلى لازمه، وهو ومع منافاته
للمقام مخالف لظاهر الاستتباع، فإنه أخص من الاستلزام.
ثم إن الجواب الذي أجاب به شيخنا الأستاذ - قده - (1) فيما يأتي مبنى على
أن مجرد كون الإنشاء بعثا مفهوميا إنشائيا لا يلازم اجتماع المثلين والضدين بل
فيما إذا كان كالحكم الواقعي بداعي جعل الداعي، وأما إذا كان بداع اخر من
الدواعي فهو ليس مصداقا لجعل الداعي حقيقة، ولا تماثل إلا بين فردين من
طبيعة واحدة لا بين فرد من الافراد (2) مثلا وفرد من جعل الداعي، وكذلك التضاد
فإنه ليس بين كل طبيعتين متغايرتين بل من بين طبيعتين لا يمكن اجتماعهما في
وجود واحد، لبعد الخلاف بينهما، وما تصوره - قده - هنا هو الحكم الطريقي أي
الانشاء بداعي تنجيز الواقع لا بداعي البعث الجدي، وفى تصور هذا السنخ في
الانشاء بهذا الداعي اشكال محصله أن الانشاء كما مر مرارا بأي داع كان هو
مصداق لذلك الداعي، مثلا الانشاء بداعي جعل الداعي مصداق لجعل
الداعي، وبداعي الإرشاد ارشاد وبداع الاختيار اختيار وهكذا.
ومن الواضح أن مفاد الهيئة وهو البعث النسبي المتحقق بوجود إنشائي يتعلق
بمادة مخصوصة فهو تعجيز بالإضافة إلى تلك المادة أو إرشاد بالإضافة إليها أو

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 49 - نعم لو قيل باستتباع جعل الحجية...
(2) (خ ل): الارشاد.
138

تحريك النسبة إليها، فالانشاء بداعي التنجيز مصداق لتنجيز الواقع وجعله بحيث
يستحق العقوبة على مخالفته، والبعث الانشائي الذي هو مصداق التنجيز لا
يعقل وروده إلى على مادة قابلة للتنجيز والتنجز، والقابل للتنجيز مثلا هو الخبر
وللتنجز هو الحكم الواقعي المخبر به، وهما لا يعقل تعلق البعث الانشائي بهما،
وما تعلق به البعث الانشائي كالصلاة، أو كتصديق العادل الذي هو منطبق عليها،
أو لازمها، وشئ منهما غير قابل للتنجز ولا للتنجيز، إذ القابل للتنجز حكم
الصلاة لا نفسها والقابل للتنجيز الحاكي عن حكمها لأنفسها ولا لازم نفسها، إذ لا
معنى لتنجز اظهار الصدق ولا لتنجيزه. وبهذا البرهان تعرف أن الانشاء بداع
التنجيز بحيث يكون مصداقا له غير معقول.
نعم، استفادة تنجز الواقع من مثل " صدق العادل " معقولة بوجه اخر وهو أن
المراد من التصديق هو التصديق الجناني كما هو ظاهره لا التصديق العملي،
وحيث إن اعتقاد الصدق الخبري ملازم لاعتقاد الواقع فالأمر بالتصديق الجناني
يمكن أن يكون كناية عن الامر بلازمه وهو الاعتقاد بالحكم، وهذا الامر كما
يمكن أن يكون حقيقة لجعل الداعي إلى تحصيل العلم بالفحص عن الخبر
ويمكن أن يكون أمرا بترتب الأثر المرتب على الإعتقاد فيما إذا كان له أثر عملي
كذلك يمكن أن يكون هذا الأمر بداعي إظهار معلومية الواقع في المؤدى ليترتب
عليه أثره وهو التنجز.
ضرورة أن الإعتقاد بواقعية المؤدى يلازم معلومية المؤدى، فهذا تنجيز للواقع
إثباتا لا ثبوتا فإنه متكفل لإظهار تنجز الواقع، وأما تنجيز الواقع ثبوتا فيما يمكن
جعله متنجزا من جعل الحجية أو جعل العقاب أو جعل الحكم المماثل الذي لا
يلزم منه محذور، كما سلكناه سابقا في مقام دفع الإشكال (1)، ولا يخفى أن هذا
البيان لا يجرى في التصديق العملي فإن إظهار الصدق وظهور الصدق بالعمل
ناش من العمل وليس من ظهور الحكم الذي يترتب عليه تنجز الحكم الموجب
للحركة نحو العمل، فلا تغفل.
وقد عرفت مما تقدم (2) أن الأمر الطريقي بوجه اخر وهو جعل الحكم

(1) التعليقة: 56، ص 127.
(2) التعليقة: 57، ص 128.
139

المماثل بداعي ايصال الواقع بعنوان آخر معقول لكنه غير مراد من العبارة، لأن
ظاهرها أن الحكم الطريقي حيث إنه ليس جعلا للداعي لا يكون فردا مماثلا
للحكم الواقعي فلا يراد منه إلا الانشاء بداعي تنجيز الواقع.
ثم إن هنا تقريبا اخر في رفع التماثل والتضاد بحمل الأمر الظاهري على
الارشاد حكاه بعض أجلة العصر (1) عن أستاذه - قده - وهو أن الأمر بالعمل
بالطريق في صورة انفتاح باب العلم الموافق للواقع إنما يعقل فيما إذا كان في
تحصيل العلم بالواقعيات مفسدة غالبة على مصلحة ما لا يؤدى إليه الطريق
فيجب على الحكيم مراعاة ما هو أقوى وصرف المكلف عن تحصيل العلم
بالأمر بالعمل بالطريق، وحيث إن بعض الطرق أقرب إلى الواقع عن غيره
فللمولى إرشاد العبد إلى كون الخبر أقرب إلى الواقع من غيره، فالأمر بتصديق
العادل ليس حكما مولويا وجعلا للحكم المماثل حقيقة بل إرشاد إلى أن قول
العادل أقرب إلى الواقع.
وفيه: أولا: أن البعث الإنشائي إلى شئ لا بد من أن يكون إرشادا إلى ما في
متعلقه من الأثر المترقب منه المرشد إليه، فالأقربية صفة في الخير لا في تصديق
العادل، والمفروض تعلى الامر الإرشادي بتصديق العادل لا بنفس قول العادل
وإخباره.
وثانيا سلمنا أن معنى الارشاد هنا هو أن العمل بالخبر عمل بالأقرب وهو
عنوان للعمل يرشد إليه، لكنه ليس كل بعث إنشائي إرشادا إلى أي شئ مثلا إذا
قيل اعمل بالخبر دون غيره أمكن أن يكون إرشادا إلى أقربية الخبر من غيره، وأما
مجرد الأمر بالعمل بالخبر ابتداء فلا يكون إرشادا بمدلوله إلى كون الخبر أقرب
من غيره، وتخصص الأمر بالعمل بخصوصي الخبر - وإن كان يدل بدلالة الاقتضاء
وأن التخصيص بلا مخصص محال - على أنه أقرب إلى الواقع من غيره، لكنه لا
دخل له بالارشاد الأقربية بنفس البعث.

(1) درر الفوائد: ج 2 - 1، ص 354، (ط، جماعة المدرسين).
140

وثالثا: سلمنا كونه إرشادا إلى الأقربية لكنه غير متكفل لحجية الخبر لا جعلا
ولا كشفا، إذ المفروض عدم كونه بصدد جعل الحجية ولا بداعي إظهار تنجز
الواقع بل بداعي الإرشاد إلى الأقربية، وكون الخبر واقعا أقرب من غيره لا يقتضى
عدم تحصيل العلم واستحقاق العقاب على عدم العمل بالخبر إلا بدلالة
الاقتضاء، وهو أنه إن لم يكن للخبر الأقرب إلى الواقع شأن وأثر لم يكن معنى
لقيامه مقام الإرشاد إلى الأقربية، لكونه لغوا، لكنه غير مفيد، لأن الكلام في
الدليل المتكفل لحجية الظن ورفع التماثل والتضاد عنه مع كونه كذلك والأولى
بعد فرض الإرشاد جعل الانشاء بداعي الإرشاد إلى ما في تصديق العادل
والأخذ به واستماع قوله من الخروج من تبعه رده وعدم العمل على طبقه
فيكشف بدلالة الاقتضاء عن حجيته، إلا أن الكلام بعد في أن الحجية في مقام
الثبوت بأي معنى حتى لا يلزم منه اجتماع المثلين أو الضدين، فمجرد حمل
الإنشاءات على الارشادية لا يجدى شيئا، فتدبر جيدا.
59 - قوله: لأن أحدهما طريقي عن مصلحة في نفسه (1) الخ:
في قبال المصلحة في المؤدى، ولا يخفى عليك أن الطريقية متقومة بعدم
مصلحة ما وراء مصلحة الواقع في متعلقه لا بكون نفسه ذا مصلحة وإلا فالانشاء
مطلقا يكون الغرض منه قائما به، وهو تارة، جعل الداعي وأخرى، جعل المنجز
مثلا - وهو غير الغرض من الواجب وهي المصلحة القائمة بذات الواجب،
وحيث إنه ليس في مورد الأمر الطريقي مصلحة زائدة على مصلحة الواقع فلا
يعقل أن يكون في مورده إرادة تشريعية أخرى، فلا يعقل أن يكون في مورده
بعث أخرى، فلا محالة يكون الإنشاء بداعي تنجيز الواقع لا بداعي البعث مثلا.
وحيث إن البعث الطريقي بداعي تنجيز الواقع وإيقاع المكلف في كلفة الواقع
فلا دعوة لنفسه بما هو، ولذا ليس لهذا الأمر الطريقي بما هو مخالفة أو موافقة،
لأن الغرض منه جعل الخبر منجزا للواقع لا جعل الداعي إلى العمل. نعم، هو
موجب لدعوة الأمر الواقعي وكونه منجزا له بلحاظ أن مخالفة التكليف الذي قام

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 49 وكفاية الأصول: 277، (ت، آل البيت).
141

عليه طريق منصوب من قبل المولى بحيث جعله الشارع محققا لدعوة تكليفه
الواقعي كمخالفة التكليف الواصل بالحقيقة خروج عن زي الرقية ورسم العبودية
فيكون ظلما على المولى وموجبا لاستحقاق الذم والعقاب.
نعم: يمكن تصور الأمر الطريقي كما تقدم بوجه اخر وهو الانشاء بداعي جعل
الداعي لكنه بداعي ايصال الواقع بعنوان اخر، فلا مصلحة إلا مصلحة الواقع ولا
إرادة تشريعية إلا الإرادة الواقعية ولا بعث حقيقي في قبال البعث الواقعي
ويترتب عليه تنجز الواقع بهذا العنوان الواصل، لكن خروجه عن المماثلة
المستحيلة مع الانشاء الواقعي مبنى على دخل الوصول في فعلية الباعثية كما
قدمناه (1) في أول البحث، فمجرد عدم تعدد المصلحة وعدم تعدد الإرادة لا
يجدى، بل لا بد من فرض عدم تعدد البعث بالحمل الشائع أيضا، وحيث إن
المصنف العلامة - قده - بصدد إثبات أمر غير مماثل للبعث فلا محالة لا ينطبق
على ما أفاده هذا التقريب بل التقريب المتقدم.
60 - قوله: وان لم يحدث بسببها إرادة أو كراهة في المبدء الخ:
ظاهر العبارة وإن كان عدم ثبوت الإرادة والكراهة مطلقا حتى في الحكم
الحقيقي في المبدء الأعلى إلا أن غرضه - قده - كما يكشف عنه آخر كلامه (2)، وما
تقدم منه في مبحث الطلب والإرادة (3) وصرح به في مباحث أخر أن حقيقة
الإرادة والكراهة ليست إلا العلم بالمصلحة والمفسدة، فإن كانتا بلحاظ نظام الكل
كانت الإرادة والكراهة تكوينيتين، وان كانتا بلحاظ خصوص أفعال المكلفين
كانت الإرادة والكراهة تشريعيتين، فليس للإرادة والكراهة مطلقا مصداق فيه
" تعالى " إلا العلم بالمصلحة والمفسدة، وقد نبهنا على ما فيه في مبحث الطلب
والإرادة (4) مفصلا ومجمله أن المفاهيم متخالفة لا مترادفة والرجوع الواجب في
صفات الواجب هو الرجوع من حيث المصداق، ومرجع جميع الصفات ذاته

(1) التعليقة: 55، ص 124.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 50.
(3) كفاية الأصول: ج 1، ص 101.
(4) نهاية الدراية: ج 1، ص 193: في ذيل كلام الماتن: وأما الدفع فهو إن استحالة التخلف...
142

الأقدس " تعالى وتقدس "، وكما أن حقيقة العلم نحو من الحضور وهو " تعالى "
حاضر ذاته لذاته وبتبع حضور ذاته لذاته يعلم مصنوعاته كذلك هو عز اسمه
وجود صرف، والوجود المحض محض الخير والخير المحض، محض الرضا
والابتهاج والمحبة، ومن أحب شيئا أحب أثاره (1).
ومنه يعرف الخبير أنه لا أثر للإرادة التشريعية في صفاته تعالى، ثم إنزال
الكتب وإرسال الرسل والبعث والزجر من جملة النظام التام الذي لا أتم منه نظام،
فتكون مرادة بالإرادة التكوينية كما في غيره تعالى على ما عرفت سابقا. فافهم أو
ذره في سنبله فكل موفق لما خلق له.
61 - قوله: فلا محاله ينقدح في نفسه الشريفة (2) الخ:
قد عرفت سابقا أن الإرادة التشريعية تمتاز عن التكوينية بتعلقها بفعل الغير،
وذلك إنما يعقل إذا كان للفعل المراد فائدة عائدة إلى المريد، بداهة أن الشوق
النفساني إلى شئ بنفسه لا يعقل إلا عن فائدة عائدة إلى ذات الفاعل أو قوة من
قواه، وهو غير ثابت في الأحكام الشرعية فإن مصالح متعلقاتها تعود إلى
المكلفين دون الشارع.
نعم، إرادة البعث والزجر معقولة حتى في المبدء الأعلى وهي إرادة تكوينية
كما عرفت، وأما ما أفاده (3) - قده - من أن الحكم الموحى به حكم شأني فلا معنى
لظاهره إلا الحكم الثابت بثبوت المصلحة بنحو ثبوت المقتضى بثبوت المقتضى
فيرجع الأمر إلى أن الموحى به نفس المصلحة الباعثة على الحكم، وليس الحكم

(1) فان المراد بالذات في مرتبة الذات نفس الذات، ولا يعقل أن يكون شئ مرادا بالعرض إلا ما
يوجد في دار الوجود بتبع الذات، فما يكون مأمورا به إنما يكون مرادا بالإرادة الذاتية إذا كان مما يوجد
في الخارج لدخله في النظام التام، وهو حينئذ مراد بالإرادة التكوينية، وأما ما لا يوجد في الخارج وإن
كان مأمورا به فهو لا يعقل أن يكون مرادا بتبع مرادية الذات، إذ ليس من آثاره ومعاليله ومجعولاته حتى
ينبعث من الذات وابتهاجه الذاتي إرادة وابتهاج بما له التخصص في مرتبة الذات كي يعقل أن يكون
الابتهاج الذاتي ابتهاجا به بالعرض وبالتبع فافهم جيدا فإنه دقيق منه عفى عنه.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 49 وكفاية الأصول: 277، (ت، آل البيت).
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 49، س 14، إلا أنه إذا أوحى بالحكم الشأني.
143

الموحى به كلية كذلك، ولا خصوصية في المقام تقتضي ذلك وإن أمكن ذلك
أحيانا بتفويض الأمر إلى النبي (ص) وفى نعوته (ص) المفوض إليه دين الله، وإلا
فالكتاب الإلهي مملو من الأحكام الانشائية الموحى بها نعم يمكن أن يراد
بالحكم الشأني ما يقابل الفعلي وهو الحكم الإنشائي وحينئذ يراد من قوله
" الموجبة لإنشائه بعثا وزجرا " البعث منه (ص) فعلا على طبق الإنشاء الموحى
به، والأمر سهل.
62 - قوله: ولا مضادة بين الانشائين فيما إذا اختلفا الخ:
إذ لم يجتمع فردان مما هو تحريك وبعث بالحمل الشائع أو بعث وزجر
كذلك بالإضافة إلى فعل المكلف وإن اتفقا فيما هو بعث أو زجر بالحمل الأولى،
ولا تماثل ولا تضاد إلا بين الشيئين بنحو وجودهما الحقيقي الذي يترتب عليه أثر
المرغوب منه.
63 - قوله: إلا بالنسبة إلى متعلق الحكم الواقعي الخ:
لا يقال: حمل المكلف على خلاف ما هو المراد منه جدا محال، ولا شبهة أن
البعث وإن كان طريقيا يوجب اتصال الخبر بصفة موجبة لحمل المكلف على
الفعل، فمع المخالفة للحكم الواقعي يوجب حمل المكلف ولو بالواسطة على
خلاف ما هو المراد منه جدا.
لأنا نقول: الداعي إلى الفعل والحامل عليه نفس التكليف الواقعي الواصل
بتوسط الحجة الشرعية، ومع مخالفة الأمارة للواقع لا تكليف في موردها كي
يكون داعيا، واحتمال ثبوت التكليف بواسطة قيام ما تنجزه على تقدير ثبوته وإن
كان حاملا له على الفعل، إلا أنه لا حامل ولو بالواسطة من الشارع للعبد على
خلاف ما هو المراد منه جدا ولعله - قده - أشار إلى ذلك بقوله فافهم (1).
64 - قوله: فلا محيص في مثله إلا الخ:
الإباحة إنما تنافى الإرادة والكراهة النفسانيتين بالعرض لا بالذات، إذ لا

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 50، س 11 وكفاية الأصول: 278، (ت، آل البيت).
144

مقابلة بينهما، بل الإرادة حيث إنها ملزومة للبعث وهو مناف بالذات للترخيص
فينافي ملزومه بالعرض، وكذا تنافيها من حيث المبدء، فان الإرادة، منبعثة عن
كمال الملائمة للطبع والكراهة عن كمال المنافرة للطبع، والإباحة تنبعث غالبا
عن عدم كون المباح ملائما ومنافرا، وبين الملائمة وعدمها والمنافرة وعدمها
منافاة بالذات وبين لازمهما بالعرض.
نعم، حيث إن الإباحة هنا منبعثة عن مصلحة موجبة لها لا عن عدم المصلحة
والمفسدة في الفعل وإلا لم يعقل مزاحمة بين الاقتضاء والمقتضى.
فلذا ينحصر وجه المنافاة في الجهة الأولى، فلو أمكن انفكاك الإرادة عن
البعث الفعلي لم يكن الإباحة هنا منافية للإرادة أو الكراهة الواقعية يوجه - لا ذاتا
ولا عرضا - بمعنى انه لو لم يكن هناك تكليف فعلى من جميع الجهات
والمفروض انه المنافى للإباحة فلا منافاة للإباحة مع الإرادة حتى لا تنقدح
بسببها، فتدبر جيدا.
ثم إنه - قده - لم يتعرض لسائر الأصول كالاستصحاب مثلا فإنه لا يتعين فيه
جعل الحكم التكليفي حتى يرد فيه محذور المماثلة والمضادة، بل يمكن ان
يكون بعنوان إعتبار بقاء الكاشف التام أو جعل المنجز في السابق منجزا في
اللاحق فيكون كالحكم الطريقي في الأمارات.
وربما يقال: يكون مثل الاستصحاب برزخا بين الأمارات ومثل أصل البراءة
بتقريب أن المرتبة التي يكون بها تلك الصفة النفسانية علما لها حيثيتان.
إحديهما: حيثية الإضافة إلى ما في الخارج وبهذا الاعتبار يكون وصولا
وانكشافا لما في الخارج.
وثانيتهما: حيثية الجري العملي على وفق اليقين بمقتضى الطبع والعادة،
والمجعول اعتبارا في باب الأمارات هي الحيثية الأولى من العلم، والمجعول
اعتبارا في باب الاستصحاب مثلا هي الحيثية الثانية منه من دون جعل حكم
تكليفي في البابين فلا يلزم اجتماع المثلين أو الضدين وأنت خبير بأن مرجع
اعتبار العلم بماله من الحيثية اعتبار تلك الحيثية للأمارة أو لمورد الأصل، كما هو
145

واضح بملاحظة إعتبار العلم من حيث الانكشاف والوصول، فان مرجعه إلى
اعتبار الانكشاف والوصول التام، فان الوصول والانكشاف الأعم من الحقيقي
والاعتباري هو الموضوع الذي يترتب عليه حكم العقل بتنجز الواقع، مع أن
إعتبار العلم بالحيثية الثانية لا معنى له.
إذا الجري العملي عنوان العمل وليس موضوعا لأثر عقله ولا شرعا حتى
يكون إعتبار الجري العملي تحقيقا لموضوع ذلك الأثر، بل قابل لتعلق التكليف
به كالتصديق العملي في باب الخبر وإن أريد اعتبار المتحيث بما هو متحيث
ومرجعه إلى إعتبار الكاشفية والموصلية في باب الامارات واعتبار المحركية
والسببية للجري عملا في الاستصحاب.
ففيه: أن إعتبار الكاشفية تحقيق لما به يتنجز الواقع فيكون تحقيقا لموضوع
الحكم العقلي، بخلاف اعتبار المحركية والاقتضاء للجري عملا، فإنه ليس
تحقيقا لموضوع ذي أثر عقلا ولا شرعا، أما شرعا، فواضح.
وأما عقلا، فلأن تنجز الواقع أثر الوصول والانكشاف لا أثر وجود المحرك بما
هو حتى يكون اعتباره تحقيقا للموضوع، بل هو في الحقيقة تحقيق للتحريك
الاعتباري نحو العمل، وفيه نتيجة محذور اجتماع المثلين مثلا، فان اجتماع
بعثين وتحريكين نحو فعل واحد إذا كان محالا لم يكن فرق بين أنحاء التحريك
الاعتباري.
ومنه يعلم أيضا أن تخصيص كل من الأمارة والاستصحاب بحيثية من
الحيثيتين يوجب عدم تنجز الواقع بالاستصحاب، حيث لم يعتبر فيه الانكشاف
، واعتباره مع اعتبار المحركية فيه يوجب أن يكون الاستصحاب أقوى من الأمارة
لمكان اشتماله على ما في الأمارة وزيادة.
65 - قوله: بمعنى كونه على صفة ونحو لو علم به المكلف (1)
الخ:

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 52.
146

قد عرفت سابقا (1) أنه لو أريد من ذلك الفعلية من جهة لا من جميع الجهات،
ففيه: أن الفاقد لبعض جهات الفعلية باق على الشأنية، والشئ ما لم ينسد جميع
أبواب عدمه لم يوجد فهو حكم غير فعلى.
ولو أريد من ذلك كون الفعلية ذات مراتب فالفعلي من مرتبة لا ينافي الفعلي
من مرتبة أخرى.
ففيه: أن الشدة والضعف في الطبيعة لا يرفع تماثل فردين من طبيعة واحدة
ولا تضاد فردين (2) من طبيعتين متقابلتين، كما يظهر لمن أمعن النظر في اجتماع
سواد ضعيف مع سواد قوى أو سواد ضعيف مع بياض قوى في موضوع واحد.
وأما إذا أريد من الحكم الفعلي من جهة الحكم بداعي إظهار الشوق المطلق
لابداع البعث والتحريك فهو فعلى من قبل هذه المقدمة: ففيه: ما تقدم سابقا أن
الشوق إذا بلغ حدا ينبعث منه جعل الداعي كانت إرادة تشريعية، وهي منافية
لإرادة أخرى على خلافها أو الإذن في خلافها، وإذا لم يبلغ هذا الحد فلا يكون
القطع به موجبا للامتثال ولا مثل الإنشاء بداعي إظهار الشوق المطلق جعلا
للداعي، إذا لا ينقلب الشئ عما هو عليه كما مر مرارا.
نعم، ما أفاده - قده - يتجه على ما اخترناه في حقيقة الحكم الفعلي من أنه
الإنشاء بداعي جعل الداعي في قبال سائر الدواعي، وما يكون أمره بيد المولى
هو هذا المعنى إلا أن هذا الانشاء لا يعقل أن يكون باعثا وداعيا أو زاجرا وناهيا
إلا إذا وصل إلى العبد كما مر غير مرة (3)، فإن أريد من الفعلية تمام ما بيد المولى
في مقام تحريك العبد كان ما أفاده - قده - وجيها، والفعلية الحقيقية الموجبة
لاتصاف الشئ بالباعثية موجها بجهة الإمكان إنما تكون بالوصول إلى العبد،
وعليه فمرتبة الفعلية والتنجز في جميع الأحكام واحدة، وحينئذ فالحكم على
خلاف الحكم الواقعي على طبق القاعدة لا من جهة اللابدية والجمع بين الحكم
الواقعي والظاهري.

(1) التعليقة: 64 ص 144.
(2) (خ ل): فرد.
(3) التعليقة: 55، ص 122.
147

66 - قوله: ضرورة عدم لزوم امتثال الأحكام الإنشائية الخ:
هذا بناء على كون الحكم الواقعي إنشائيا محضا لا بداعي البعث والتحريك
كما بنى - قده - عليه في غير مورد من تعليقته الأنيقة (1) على رسائل شيخه
العلامة الأنصاري - قده - في غاية الوضوح، إلا أن الانشاء المحض بلا داع هو في
نفسه محال لاستحالة صدور الفعل الاختياري بلا إرادة والإرادة بلا داع والإنشاء
بداع غير داعي جعل الداعي لا يترقب منه فعلية البعث والزجر، فلا يكون فعليته
إلا فعلية الإرشاد أو الامتحان أو جعل القانون ونحوها، فلا تصل النوبة على أي
تقدير إلى هذا المحذور.
وأما الإنشاء بداعي البعث أو الزجر مع عدم كونهما بعثا وزجرا بالحمل
الشائع الا بعد الوصول بنحو من أنحائه إلى العبد فلا يرد عليه هذا المحذور، إذ
عدم الفعلية لعدم الوصول، ومعه فهو حكم بعثي أو زجري، وحيث إن الفرض
فرض الوصول فلا محالة يستحق على مخالفته العقوبة، وكما أن الوصول بالعلم
الذي هو الوصول بلا عناية يوجب إمكان الدعوة كذلك الوصول بالخبر الذي
اعتبر له وصف الحجية بنحو من الأنحاء المتقدمة يوجب إمكان الدعوة ويستحق
بمخالفته العقوبة.
نعم، بناء على المشهور من إنشاء احكام مماثلة على طبق ما تضمنه الخبر
يكون الداعي نفس هذا الحكم المماثل، وهو على الفرض واصل، وكونه هو
الحكم الواقعي تعبدا لا يقتضى عدم الفعلية، لما عرفت من أن عدم الفعلية ليس
لأجل خلل فيما يكون أمره بيد الآمر بل لاعتبار الوصول عقلا في إمكان الدعوة
ووصول الحكم الظاهري ليس بالتعبد بل بالحقيقة.
67 - قوله: فإنه يقال لا يكاد يحرز الخ:
بيانه أن الأمارة إذا كانت مبلغة للحكم الانشائي إلى مرتبة الفعلية ودلت
الأمارة على حكم أدت الامارة إليه بهذا العنوان، فلا محالة يكون عنوان الامارة

(1) حاشية الفرائد، للمحقق الخراساني: ص 36.
148

الحاكية (1) عن حكم فعلى بحسب العنوان ومقتضى الحجية جعل الحكم
المماثل على طبق المحكى بها، والمماثل لحكم فعلى عنوانا حكم فعلى تعبدا،
فيترتب عليه اثار وصول الحكم الفعلي تعبدا، وأما إذا اختلت إحدى المقدمتين
فلا موجب للالتزام بجعل الحكم الفعلي تعبدا، ومن البين أن المقدمة الأولى
محل المنع حيث لا دليل على كون الأمارة مبلغة للحكم الانشائي إلى مرتبة
الفعلية ومجرد الاحتمال والامكان غير مجد، والمقدمة الثانية باطلة وجدانا، إذ
الأمارة لا تحكي إلا عن الواقع لا الواقع الذي أدت إليه الأمارة بل يستحيل إذا كان
المراد تأدية شخص تلك الأمارة الحاكية.
لا يقال: لم لا تكون من قبيل الموضوعات المركبة التي أحرز أحد جزئيها
بالوجدان والاخر بالتعبد وقيام الأمارة وجداني والحكم الانشائي تعبدي فيكون
مصداقا للبعث الفعلي بحسب الفرض لا بالتعبد بحكم فعلى.
لأنا نقول: لا مساس للأمارة بالحكم التعبدي بل يحكى عن حكم واقعي
محض ولا تعبد بكون الواقع مؤدى هذه الأمارة، بل مجرد ثبوت الواقع تعبدا
بسبب قيام الأمارة على نفس الواقع.
68 - قوله: وأخرى بأنه كيف يمكن التوفيق (2) الخ:
توضيحه: أن حمل الاحكام الواقعية على الإنشاءات الغير الفعلية للفرار عن
إشكال القطع بثبوت المتنافيين في صورة الموافقة والمخالفة معا، وهذا انما
يجدى مع عدم احتمال احكام بعثية أو زجرية في موارد الأصول والأمارات،
وإلا فلا يجدى، ضرورة أن احتمال ثبوت المتنافيين كالقطع بثبوت المتنافيين في
الاستحالة، فلا مناص لمن يوفق بين الواقعي والظاهري إلا انكار هذا الاحتمال
رأسا، ولا مجال لانكاره في نفسه إلا ممن لا يمكنه التوفيق إلا بذلك.
وأما مع حمل الحكم الواقعي على الفعلي من وجه والظاهري على الفعلي

(1) (خ ل): الحكاية.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 53 وكفاية الأصول: 279، (ت، آل البيت).
149

بقول مطلق فلا يضره هذا الاحتمال، كما أنه لا يرد عليه اشكال عدم لزوم الامتثال.
69 - قوله: بأن الحكمين ليسا في مرتبة واحدة (1) الخ:
بداهة تقدم الحكم الواقعي كالمصلحة المتقضية له طبعا على الجهل به،
والجهل به مأخوذ في موضوع الحكم الظاهري المتقدم عليه طبعا، فهو متأخر
عن الحكم الواقعي طبعا بمرتبتين، إنما الكلام في ارتفاع المنافاة بالتقدم
والتأخر الطبعيين، وربما يوجه ذلك بأن اشتمال الفعل المجهول حكمه الواقعي
على مصلحة مقتضية (2) للحكم على خلافه أمر ممكن، وحيث إن هذا المقتضى
مرتب على الجهل بالحكم الواقعي الثابت بحيث لولاه لم يكن اقتضاء، فلا محالة
لا يعقل أن يكون مانعا عن تأثير المقتضى للحكم الواقعي.
إذ المرتب على شئ، إما أن يوجد مترتبا فقد أثر المقتضى في كليهما أثره،
وإما أن لا يوجد فلا مانعية، إذ المانعية بعد الوجود وأما المقتضى للحكم الواقعي
فهو أيضا لا يمنع عن تأثير المصلحة المقتضية للحكم الظاهري، لأن المصلحة
المزبورة لا يقتضى في مرتبة الجهل شيئا ينافي مقتضى المصلحة المقتضية
للحكم الظاهري، والمانعية تنشأ من التنافي، إذ المفروض ترتب اقتضاء
المصلحة للحكم الظاهري على الحكم الواقعي، فلم يكن من قبل الحكم
الظاهري مانعية حتى يقتضى المصلحة الواقعية خلاف مقتضى المصلحة
الظاهرية فيتنافيان ويتمانعان.
ولا تقتضي المصلحة الواقعية في مرتبة الجهل بالحكم الواقعي شيئا حتى
تكون المانعية مختصة بها، إذ كما أن موضوع الحكم الواقعي لا يعقل أن يتقيد
بالجهل بالحكم ولا بالعلم به ولا بالأهم منهما، إذ كل ذلك من عوارض عارض
الموضوع، فيلزم عروض الشئ لنفسه، كذلك المصلحة المقتضية للحكم

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 53، س 13، وكفاية الأصول: 279، (ت، آل البيت)، ولعله إشارة
إلى كلام الشيخ - ره -. وفي الرسائل: ص 191، س 3، في أول البراءة. ونفس المصدر:
ص 431، س 19، في التعادل والتراجيح. مخطوط.
(2) (خ ل): مقتضة.
150

الواقعي لا يعقل أن تتقيد بشئ من عوارض مقتضاها، للزوم توقف اقتضاء
الشئ على اقتضائه، فالمصلحة الواقعية لا تقتضي في مرتبة الجهل بالحكم
الواقعي شيئا ابدا حتى يعقل التنافي والمانعية لا يخفى عليك أن المصلحة
المقتضية للحكم الظاهري كما أفيد لا يعقل أن يكون مانعة، إذ المانعية بعد
الوجود وفرض وجود مقتضاها وتماميتها في الاقتضاء إلتزام باجتماعهما لكنها لا
يعقل تمامية اقتضائها، لمكان مانعية المصلحة المقتضية للحكم الواقعي عنها
لعدم توقف مانعيتها على اقتضائها شيئا في مرتبة الجهل بالحكم الواقعي.
بيانه: أن معنى التقدم والتأخر في المرتبة هو التقدم والتأخر بالطبع وملاك
التقدم بالطبع كما أشرنا إليه في بعضي الحواشي السابقة أن للمسمى بالمتقدم
امكان الوجود ولا وجود للمتأخر بخلاف المتأخر فإنه ليس يمكن أن يوجد إلا
والمتقدم موجود ك‍ " الواحد " فإنه متقدم على الاثنين بالطبع حيث لا يوجد
الاثنان إلا والواحد موجود بخلاف الواحد فان له امكان الوجود ولا وجود
للاثنين، وهكذا كل علة ناقصة بالإضافة إلى معلولها فإنها متقدمة عليه بهذا النحو
من التقدم.
ومن البديهي أن هذا المعنى من التقدم والتأخر لا ينافي المعية في الوجود
الخارجي فقولهم المصلحة المقتضية للحكم الواقعي لا تقتضي في مرتبة الجهل
شيئا غايته عدم اقتضائها حكما له المعية بالطبع مع الحكم الظاهري، لاستحالته
كما تقدم، وذلك لا ينافي اقتضائها حكما له المعية في الوجود الخارجي مع
الحكم الظاهري كما هو كذلك قطعا، فحينئذ يتمحض البحث في أن الاجتماع
المستحيل في المتضادين يكفي فيه المعية في الوجود الخارجي أو لا بد فيه من
المعية بالطبع، أو عدم كون أحدهما متقدما على الاخر تقدما طبعيا، ومن راجع
فطرته السليمة يقطع بأن المعية الوجودية الزمانية كافية في الاجتماع المستحيل،
إذ المعاندة والمطاردة بين الضدين وغيرهما من أنحاء المتقابلين انما يكون
بحسب الوجود وليس مرتبة الطبع من المراتب الوجودية الخارجية كي يقال إنه
لا مزاحم للموجود في هذه المرتبة كيف وربما يكون المتقدم والمتأخر بالطبع
151

متساويين في نيل الوجود الخارجي الزماني.
ويمكن تقريب هذا الوجه بنحو اخر لا يتوقف على لزوم المعية بالطبع في
التضاد، وملخصه أن كل مقتضيين لم يكن بينهما تمانع في التأثير، فلا محالة يؤثر
كل منهما، وهنا كذلك، لأن مقتضى الحكم الظاهري لإناطته بثبوت الحكم
الواقعي والجهل به لا يعقل أن يمنع عما يتوقف عليه، ومقتضى الحكم الواقعي
إنما يمنع عما يزاحمه في التأثير وحيث فرض عدم مزاحمته في التأثير فكيف
يعقل أن يمنع عما لا يزاحمه. ويندفع: بأن إناطة مقتضى الحكم الظاهري بما
ذكرنا، تارة يكون بنحو الشرط المتقدم، وأخرى يكون بنحو الشرط المقارن:
اما على الأول: فالفرض المذكور يقتضى عدم المزاحمة في التأثير، لكنه
يقتضى تأثير مقتضى الحكم الواقعي، حيث إنه بلا مانع، وبعد تأثيره أثره لا يعقل
تأثير مقتضى الحكم الظاهري لا لوجود المزاحم في التأثير، إذ لا يترقب من
مقتضى الحكم الواقعي تأثيرا آخرا بعد تأثيره، بل لعدم قابلية المحل للحكم
الظاهري لاشتغاله بضده والمانع من الاجتماع غير منحصر في تزاحم السببين.
واما على الثاني: فمقتضاه المقارنة الزمانية بين الشرط والمشروط فيكون تأثير
كل منهما مقارنا لتأثير الاخر فيقع المزاحمة بين المؤثرين، إذ كما أن التقدم
الطبعي لا يرفع التضاد بين الحكمين كذلك لا يرفع التزاحم بين السببين، وعليه
فأصل الإناطة محال، فتدبره فإنه حقيق به.
وهنا تقريب اخر لا من حيث ترتب الحكمين ولا من حيث ترتب السببين بل
من حيث تعدد موضوع الحكم الواقعي والحكم الظاهري حكى عن بعض (1)
الأجلة، ملخصه أن الأحكام لا تتعلق بالموجودات الخارجية حتى يتوهم ان
الشرب الخارجي المجهول حكم مجمع لموضوع الحكم الواقعي وموضوع
الحكم الظاهري فيلزم اجتماع المتضادين مثلا - في موضوع واحد، بل تتعلق
بالموجودات الذهنية من حيث إنها حاكية عن الخارج، والعنوان المتعلق للحكم

(1) درر الفوائد: ص 351، للعلامة الشيخ عبد الكريم الحائري - ره -، (ط، جماعة المدرسين).
152

الواقعي مع العنوان المتعلق للحكم الظاهري لا يجتمعان في الوجود الذهني
حتى يكون هناك مجمع عنواني لموضوعي الحكمين، وذلك لأن موضوع الحكم
الواقعي نفس الفعل المجرد عن لحاظ العلم بحكمه والشك فيه، وموضوع
الحكم الظاهري هو الفعل بوصف كونه مشكوك الحكم، فكيف يجتمع لحاظ
التجرد ولحاظ الإنصاف.
وبعبارة أخرى موضوع الحكم الواقعي الفعل من حيث نفسه، وموضوع
الحكم الظاهري الفعل بملاحظة ثبوت الحكم له، ولحاظه من حيث نفسه ولحاظه
من حيث ثبوت الحكم له متنافيان، وهذا بخلاف الصلاة والغصب فان مجمعهما
عنوان الصلاة في الغصب وليس أحدهما ملحوظا بنحو لا يجتمع مع الاخر.
والجواب عنه يتوقف على تمهيد مقدمة: وهي أن الماهية، تارة
تلاحظ (1) بنفسها بحيث يكون النظر مقصورا ذاتا على ذاتها وذاتياتها من دون
اضافتها وقياسها إلى الخارج عن ذاتها، وهي في هذه الملاحظة ليست إلى هي
غير واجدة بوجدان ما هوى إلا لذاتها وذاتياتها، وفى هذه الملاحظة لا تصلح إلا
للحكم عليها بذاتها وذاتياتها لا بالخارج عنها فإنها خلف، إذ المفروض عدم
مقايستها وإضافتها إلى الخارج عن ذاتها، وأخرى تلاحظ مقيسة ومضافة إلى
الخارج عن ذاتها وهي في هذه الملاحظة لها اعتبارات ثلاثة:
أحدها: ملاحظتها واعتبارها مع ذلك الشئ ومقترنة به كالكتابة مثلا ويسمى
بالماهية بشرط الشئ.
ثانيها: اعتبارها مع عدم الكتابة، وتسمى بالماهية بشرط لا.
ثالثها: اعتبارها بحيث لا يكون مقترنة بالكتابة لا مقترنة بعدمها، وتسمى
بالماهية اللا بشرط القسمي، فاللا بشرط المقسمي انما يكون لا بشرط بالإضافة
إلى هذه الاعتبارات الثلاثة دون غيرها، ولا تعين للماهية إلا أحد هذه التعينات
الثلاثة والا لم يكن مقسما، إذ المقسم لا يكون منحازا عن أقسامه وإلا لزم

(1) (خ ل): يلاحظ.
153

الخلف، واللا بشرط القسمي هو اللا بشرط من حيث القيد الذي تكون الماهية
باعتباره بشرط شئ تارة، وبشرط لا أخرى، فاتضح أن الماهية من حيث هي
والماهية المهملة غير اللا بشرط المقسمي، وأن اللا بشرط المقسمي غير اللا
بشرط القسمي، وأن اللا بشرط من حيث قيد الكتابة والضحك وأشباههما وجودا
وعدما هو اللا بشرط القسمي، دون المقسمي.
وعليه فموضوع كل محمول خارج عن مقام ذات الماهية وإن كان لازم ذاتها
لابد من أن يكون له أحد التعينات الثلاثة، فشرب التتن مثلا لا يعقل أن يتقيد
بالعلم بحرمته عند الحكم عليه بتلك الحرمة، للزوم الخلف على التحقيق، وكذا
لا يعقل أن يتقيد بعدم العلم بحرمته، للزوم الخلف، مضافا إلى أنه لا يعقل أن
يعلم بها مع الالتفات إليها لكون العلم بها طاردا لموضوع الحرمة، فكيف يعقل
العلم بحكمه.
ومنه يعلم أن تجرد الموضوع عن العلم بمعنى كونه بشرط لا من حيث العلم
غير معقول، ولا يعقل أيضا أن يكون شرب التتن مهملا من حيث العلم وعدمه،
لما عرفت أن الماهية المهملة من حيث هي لا اعتبار لها إذا قيست إلى الخارج
من ذاتها، كما في المقام، فإنه مقام الحكم عليها بالحرمة مثلا، ولا يعقل أيضا أن
يكون اعتباره اعتبارا للا بشرط المقسمي، لما عرفت أن اللا بشرط المقسمي لا
تعين له الا أحد التعينات الثلاثة، فلا محالة يكون تعينه تعين اللا بشرط القسمي
أي ملاحظة شرب التتن بحيث لا يكون مقترنا بالعلم بحكمه ولا بعدمه، وحيث
إنه كذلك يكون الموضوع محفوظا عند العلم بحكمه وعند عدمه.
فان قلت: المعروف أن ما يستحيل التقييد يكون الإطلاق مستحيلا من جهته،
لتقابل الاطلاق مع التقييد تقابل العدم بالإضافة إلى الملكة، فالاطلاق عدم التقييد
بما من شأنه التقييد به ومع استحالة التقييد به يستحيل عدم ما من شأنه التقييد.
قلت: القيد إذا كان مما يمكن التقييد به كالايمان في الرقبة كان عدمه عدم
الملكة، وإذا لم يمكن التقييد به كان عدمه من باب السلب المقابل للايجاب، فان
ما يمتنع التقييد به يجب عدمه لا أنه يستحيل عدمه، ولا موجب لكون الإطلاق
154

دائما بالإضافة إلى التقييد من باب العدم بالنسبة إلى الملكة حتى إذا امتنع التقييد
امتنع الاطلاق.
فان قلت: إذا كانت الرقبة مطلقة من حيث الايمان والكفر، فالرقبة المؤمنة
والرقبة الكافرة كلتا هما محكومة بالحكم، وليس الأمر كذلك في الشرب المطلق
من حيث العلم بحكمه وعدمه، فإنه يستحيل عروض الحكم على معلوم الحكم
وعدمه.
قلت: ليس الاطلاق جمعا بين القيود، بل لدفع قيدية الايمان والكفر فذات
الرقبة هي المحكومة بالحكم، والايمان والكفر لازم الموضوع لا مقوم الموضوع
وإلا لزم الخلف، فكذا شرب التتن محكوم بالحرمة، ولازم الموضوع، تارة العلم
بحكمه، وأخرى عدمه لا أنهما مقومان للموضوع حتى يمتنع عروض الحكم.
ولا يخفى عليك أنه لا فرق في الاطلاق بنحو اللا بشرط القسمي بين ما إذا كان
الاطلاق بلحاظ لوازم الموضوع وعوارضه أو بالإضافة إلى نفس محموله، فكما
أن الرقبة مطلقة من حيث الايمان والكفر في ترتب وجوب العتق عليه، كذلك
مطلق من حيث وجوب العتق وعدمه.
فان ما يجب عتقه لا يجب عتقه وما لا يجب عتقه يستحيل بأن يحكم عليه
بعدم وجوب عتقه نظير الماهية بالإضافة إلى حمل الوجود أو العدم عليها، فان
الماهية المحمول عليها الوجود أو العدم لا بشرط من حيث الوجود والعدم، غاية
الأمر أن الإطلاق إن كان من حيث لوازم الموضوع (1) فالغرض دفع القيدية
لعروض الحكم على الموضوع، وإن كان من حيث نفس المحمول فالغرض إثبات
الصلاحية لعروض المحمول عليه نفيا واثباتا، فليحفظ كل ذلك فإنه حقيق به.
إذا عرفت هذه الجملة.
فاعلم أن الحكم على شرب التتن المجهول حكمه بحكمين أحدهما، على
ذات الشرب وأخرى، عليه بما هو مجهول الحكم - محال، فان الشئ في لحاظ
واحد لا يعقل أن يلاحظ بما هو وبنحو اللا بشرط القسمي وأن يلاحظ بما هو

(1) (خ ل): للموضوع.
155

مجهول الحكم وبنحو اللا بشرط شئ أو بشرط لا فإنهما تعينان متقابلان
واجتماعهما في واحد محال.
ولذا قلنا خلافا لشيخنا الأستاذ العلامة - أعلى الله مقامه - أن قوله (ع) " كل
شئ طاهر " لا يعقل أن يكون دليلا على الطهارة الواقعية للأشياء بعناوينها الأولية
وعلى الطهارة الظاهرية لما بما هي مشكوكة الطهارة، وأما إذا كان انشاء الحرمة
لشرب التتن من حيث نفسه غير انشاء الحلية له بما هو مشكوك الحرمة فلا يلزم
منه اجتماع لحاظين متبائنين، وليس اللحاظ اللا بشرطي دخيلا في موضوعيته
للحكم، بل لتسرية (1) الحكم إلى جميع أفراد الموضوع، وحصصه، بلحاظ
عوارضه المتأخرة عن الحكم، فذات المحكوم بالحرمة محفوظة في ضمن
المجهول على الفرض، فيلزم اجتماع الحكمين في شرب التتن المجهول حكمه،
فافهم واستقم.
70 - قوله: إلا أنه يكون في مرتبته أيضا (2) الخ:
ينبغي حمله على المعية الوجودية لا المرتبة الاصطلاحية، إذ لا يعقل
اجتماع المتقدم والمتأخر فيما هو ملاك التقدم والتأخر. بداهة: أن المتقدم
والمتأخر متضايفان وملاك التقدم بالطبع والتأخر بالطبع ما عرفت فكيف يعقل
اجتماع المتأخر مع التقدم في المرتبة التي بها يكون متقدما طبعا فلا محيض عن
حمل اجتماع الظاهري في بعض مراتب الواقعي معه على الاجتماع في مرتبة
الوجود الخارجي الزماني وهو ملاك الاستحالة.

(1) (خ ل): لتسريه.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 55 وكفاية الأصول: 279، (ت، آل البيت).
156

الأمر الثالث: في مقتضى الأصل فيما شك في إعتبار الامارة
71 - قوله: أن الأصل فيما لا يعلم اعتباره بالخصوص (1) الخ:
ما أفاده - قده - بناء على ما اختاره في معنى الحجية في غاية الوضوح، وكذا
على ما ينسب إلى المشهور من التعبد بالمماثل للحكم الواقعي بعد التأمل وذلك
لأن التعبد بالمماثل للواقع ليس أجنبيا عن الواقع بل بلسان أنه الواقع وبداعي
التحفظ على الواقع بالتعبد به (2) بعنوان اخر، فالحكم المماثل وإن لم يكن طريقيا
حيث إنه لا ينجز الواقع على تقدير الإصابة لكنه ايصال للواقع بعنوان اخر لا انه
في عرض الواقع.
ومن الواضح أن هذه الآثار أيضا لا يترتب على التعبد الواقعي بل على التعبد
الواصل حتى يكون ايصالا للواقع بالعناية وموجبا لحفظ الأغراض الواقعية،
فيترتب العقوبة على مخالفته لا على مخالفة الواقع، لأنه الواصل في الحقيقة دون
الواقع.
فان قلت: إذا لم يكن مجال لأصالة عدم الحجية وكفاية الشك فيها في الحكم
الجزمي بعدمها لم يكن مجال أيضا لاستصحابها، ضرورة أن ما لم يكن بيد الشارع
نفيه لم يكن بيده إثباته، مع أنه لا شبهة في استصحاب حجية ما ثبت حجيته
وشك في بقائها.
قلت: ما بيد الشارع جعل الحجية واعتبارها بأحد المعاني والوجوه المتقدمة
غير مرة، وترتب الآثار على هذا الجعل الشرعي موقوف على إحرازه ولو

(1) كفاية الأصول: ج 2 ص 55، س 3. وكفاية الأصول: 279، (ت، آل البيت). والرسائل:
ص 31، مخطوط.
(2) (خ ل): بالتعبدية.
157

بالأصل، فما يكون أمره بيد الشارع إثباتا ونفيا نفس الجعل الواقعي، وما هو
الجعل الفعلي بالحمل الشائع هو الواقعي المحرز ومن أنحاء إحرازه التعبد ببقائه
فيترتب عليه أثره، وأما عدم الأثر فيكفي فيه عدم الاحراز لانتفاء الموضوع
المقيد حقيقة بانتفاء قيده.
ومنه ظهر الفرق بين استصحابها واستصحاب عدمها.
لا يقال: غاية الأمر عدم الحاجة إلى استصحاب عدمها لا عدم الصحة.
لأنا نقول: إثبات عدمها الواقعي ظاهرا لإثبات عدم الفعلية ظاهرا، إذا لا أثر
للواقع بما هو وإن كان مقتضيا له، ومع القطع بعدم الفعلية واقعا لا مجال لإثبات
عدم الفعلية ظاهرا، فتدبر جيدا.
والتحقيق: أن عدم الصحة لعدم الأثر إنما يتم إذا لم يكن المستصحب أثرا
مجعولا، والمفروض أن الحجية المجعولة - سواء كان معناها أمرا وضعيا أو بعثا
بداعي تنجيز الواقع وكلاهما في الحقيقة منشأ للعقوبة على المخالفة - قابل
للشك فأركان الاستصحاب تامة.
واما مع عدم الحاجة إليه بعد حكم العقل فيلغو التعبد بعدم الحجية.
فمدفوع: بأنه لا بقاء لحكم العقل مع مثله، لأن العقل إنما يحكم بالفعلية
للوصول وبعدمها بعدم الوصول، فكما أنه لو وصل الجعل من الشارع يكون واردا
على حكم العقل كذلك لو وصل عدمه ولو ظاهرا، وحكم العقل حينئذ بعدم
الفعلية من باب السالبة بانتفاء الموضوع، إذ لا حكم حينئذ حتى يقال بأنه فعلى
أو غير فعلى.
وقد عرفت في بعض الحواشي السابقة (1) أن حكم الشارع بالإباحة في مورد
حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان حكم مولوي لحكمة داعية إليه، وليست
الإباحة ضروري الثبوت لامكان الحكم بالاحتياط مولويا، فكذلك هنا إذ عدم
الحجية فعلا ليس ضروري الثبوت بل ما لم يصل ولو بعنوان الأمر بالاحتياط،
فتدبر جيدا.

(1) التعليقة: 39، ص 89.
158

72 - قوله: وأما صحة الالتزام بما أدى إليه من الاحكام (1) الخ:
توضيحه، أن تحريم العمل بالظن من حيث الاستناد قلبا والاسناد قولا إما
بملاحظة إن جواز الاستناد والإسناد من مقتضيات الحجية واثارها فيستكشف
بطريق الآن عدم الحجية بعدم اثارها، وإما بملاحظة أن وجوب العمل بالظن ليس
إلا وجوب الإلتزام بمؤدى الظن ومع عدم الدليل عليه يحرم الإلتزام بالحكم
بالأدلة الأربعة.
فإن كان بملاحظة الأول، ففيه: أن الحجية إن كانت بمعنى تنجيز الواقع على
تقدير ثبوته فليس هنا حكم شرعي محرز حتى يكون القطع بالحجية موجبا
لترتب جواز الإسناد والاستناد كي يستكشف عدمها بعدمهما عند الشك فيها.
وإن كانت بمعنى انشاء الحكم المماثل، فمن البين أن الواصل نفس الحكم
المماثل دون الواقع فإنه بالحقيقة غير واصل، فلا يترتب جواز الإسناد والاستناد
بالنسبة إلى الواقع على القطع بالتعبد به حتى يستكشف عدمه من عدمهما في
صورة الشك، مع أن جواز الإسناد والاستناد ليسا من اثار الواقع المعلوم
ومقتضياته.
بل الاسناد في صورة القطع بالواقع صدق وهو جائز، وفى صورة القطع بعدمه
كذب وهو حرام، وفي صورة الشك فيه افتراء وهو حرام أيضا، فكون القطع به
محققا للصدق وبعدمه محققا للكذب، وعدمه مط محققا للافتراء أمر، وترتب
أحكام هذه الأمور على الواقع بلحاظ حالاته المزبورة أمر اخر، وكذا الاستناد في
صورة القطع به نحو من الانقياد وفي صورة عدمه مطلقا تشريع، لا أن جوازه تارة،
وحرمته أخرى، من مقتضيات الواقع وآثاره بلحاظ شؤونه وأطواره.
وإن كان بملاحظة الثاني، ففيه: أن الحجة ليست بمعنى وجوب الإلتزام

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 55. وكفاية الأصول: 280، (ت، آل البيت). هذا تعريض للشيخ في
الرسائل: ص 30، س آخر، مخطوط، حيث قال: " ويكفي من الكتاب قوله تعالى: (الله اذن لكم أم على
الله، تفترون)... والرسائل: ج 1، ص 49.
159

بمؤدى الخبر مثلا، بل إما بمعنى تنجيز الواقعيات بالخبر أو جعل الحكم المماثل
على طبق مؤداه ايصالا له بعنوان اخر، إذ ليست الحجية إلا لأجل التحفظ على
الواقعيات بأحد وجهين، ومن الواضح أن تنجيز الواقع على تقدير ثبوته لا ربط له
بالأمر بالالتزام بمؤدى الخبر.
وجعل الحكم المماثل ليس إلا كنفس الحكم الواقعي حكما عمليا يطلب منه
العمل وإن وجب الإلتزام به كسائر الأحكام عقلا أو نقلا إلا أنه لا دخل له باقتضاء
حكم العمل حتى يكون الحكم المماثل المجعول أمرا بالالتزام أو بالعمل بعنوان
الإلتزام بحكمه، فلو فرض دلالة دليل الحجية على الأمر بالالتزام لكان أمرا
بالعمل بنحو الكناية، فان البناء على ثبوت الحكم كناية عن ثبوته، مضافا إلى أن
الالتزام بمؤدى الخبر جدا محال، لفرض عدم إحرازه وعدم جعل حكم مماثل
ليكون الالتزام الجدي متعلقا به، لأن المفروض أن معنى الحجية هو الأمر
بالالتزام جدا لا جعل الحكم المماثل، والأمر بالالتزام بمؤدى الخبر - بناء لا جدا -
أمر بالتشريع، والأمر به لا يخرج المورد عن كونه تشريعا، لأن المفروض عدم
جعل الحكم المماثل ولا يعقل أن يعم الأمر بالالتزام بمؤدى الخبر نفسه ليكون
أمرا بالالتزام بنفس هذا الأمر، فصح أن يقال حينئذ أن الالتزام بمؤدى الخبر واقعا
باق على حرمته وإن وجب الإتيان بما تعلق به الحكم المماثل المجعول.
وأما وجوب الالتزام بالحكم المماثل وإن كان مفاد دليل الحجية
وجوب الالتزام بالمؤدى من باب دلالة الاقتضاء، لما مر من استحالة الالتزام
الجدي بالواقع وعدم صحة الأمر بالالتزام بناء لكونه أمرا بالتشريع وعدم ثبوت
حكم ظاهري قابل للالتزام به، فصونا للكلام عن اللغوية يقال بجعل الحكم
المماثل على طبق المؤدى، فيكون الأمر بالالتزام متوجها إليه حيث إنه الواقع
تنزيلا وجعلا فهو على فرض صحته لا ينافي حرمة الالتزام بمؤدى الخبر أي
بالحكم الواقعي الذي هو المطلوب من تأسيس الأصل، مضافا إلى أن مناط
ثبوت الواقع تنزيلا الذي هو مقتضى الحجية جعل الحكم المماثل، لا ايجاب
الالتزام به، فتفسير الحجية به وكشف جعل الحكم المماثل به بدلالة الاقتضاء
160

كالأكل من القفا.
وأما ما أورد عليه شيخنا الأستاذ في تعليقته (1) الأنيقة من أن الفعل بواسطة
الالتزام بحكم الله والبناء عليه لا يتغير عما هو عليه بل هو إثم قلبي، لأنه بهذا
البناء والالتزام تصرف في ما هو سلطان المولى من تشريع الاحكام.
فتقريبه وتوضيحه، أن ما هو شأن المولى وتحت سلطانه تشريع الاحكام
بالبعث والزجر لا فعل المبعوث إليه أو ترك المزجور عنه، فالتشريع إنما يتصور
من العبد إذ بعث وزجر غيره بعنوان أنه شارع وبعنوان أنه بعثه وزجره منه،
فحينئذ قد تزيا بزي المولى وتشأن وتصرف في سلطانه. وأما الفعل بل
وكذا مجرد البناء على صدور أمر من المولى فليس شئ منهما من شؤون المولى
ليكون هتكا لحرمته بالتلبس به، وعليه فكما لا إثم بحسب فعل الجوارح كذلك
لا إثم بحسب فعل القلب أيضا، لما عرفت من أن فعل المولى المختص به هو
البعث والزجر لا الفعل ولا فرض صدورهما.
ويمكن دفعه بما مر منا في مسألة النهى في العبادات (2)، محصله أن بعثه
وزجره تعالى ايجاد تسبيبي منه لفعل العبد واعدام تسبيبي منه لفعله بحيث لو
تمت الدعوة وأثرت العلة وانتهت إلى معلولها كان الفعل الخارجي فعلا مباشريا
من العبد وفعلا تسبيبا من المولى، فإذا فعل بعنوان أنه موجود تسبيبي منه تعالى
فقد شرع في جعله تسبيبا منه تعالى، حيث إن الايجاد التسبيبي شأنه وداخل
تحت سلطانه، فبهذا الاعتبار يصح جعل الفعل الخارجي معنونا بعنوان التشريع
المحرم عقلا هذا.
وأما اتصافه بالافتراء والكذب عليه (تعالى) فهو إنما يكون إذا كان في مقام
الحكاية عن ايجاب فعله المأتى به بعنوان أنه واجب، فان الحاكي يتصف
بالصدق والكذب والافتراء قولا كان أو فعلا، وباعتبار قيامه بالقائل والفاعل

(1) حاشية الرسائل: ص 41، س 22 والرسائل: ج 1، ص 50، (ط، جماعة المدرسين).
(2) نهاية الدراية، ج 1، ص 606: فان قلت... قلت: تشريعه تعالى هو بعثه وزجره.
161

يوصف الشخص بأنه صادق أو كاذب.
73 - قوله: فلو فرض صحتهما شرعا الخ:
لا يعقل فرض صحتهما إلا بالتوسعة في دائرة الصدق الجائز شرعا بإلحاق
الشبهة الموضوعية من حيث الصدق والكذب بالصدق حكما، وبالتضييق في
دائرة التشريع المحرم بتخصيصه بما علم أنه ليس من الدين، وإلا فمع عدم
التوسعة والتضييق لا يعقل الترخيص في النسبة والالتزام إلا مع جعل الحكم
المماثل للمؤدى، ليكون ترخيصا في نسبة المؤدى التنزيلي، والالتزام به، حيث
لا يعقل تعلقهما بالواقع الحقيقي على أي حال، وبالجملة لا يقاس عدم صحتهما
الغير الملازم لعدم الحجية بصحتهما التي لا يمكن فرضهما على وجه صحيح إلا
مع الكشف عن الحجية بمعنى جعل الحكم المماثل، والا فالحجية بمعنى تنجيز
الواقع أيضا غير نافع.
162

" في حجية الظواهر "
74 - قوله: ولا بعدم الظن كذلك على خلافها (1) الخ:
إذ عدم الظن بالخلاف انما يعتبر إما من حيث إنه جزء المقتضى أو من حيث
إن الظن بالخلاف مانع.
لا مجال للأول: إذ الظاهر إنما يكون حجة من حيث الكاشفية عن المراد،
والمعتبر من الكشف إما هو الكشف الفعلي أو الكشف الذاتي ولا يعتبر عدم
الظن بالخلاف في الكشف الذاتي قطعا، لتحققه معه، وكذا في الكشف النوعي،
واعتباره في الكشف الفعلي الشخصي راجع إلى اعتبار الظن الفعلي بالوفاق
والكلام في عدم الظن بالخلاف لا في الظن بالوفاق، ويمكن تقريب المنع بوجه
اخر وهو أن عدم الظن بالخلاف إما هو بنفسه جزء المقتضى أو لازم الجزء،
والأول محال، إذ المقتضى لا يعقل أن يكون عدميا فلا يعقل أن يتقوم بالعدمي،
والثاني خلف، إذ عدم الظن بالخلاف إنما يكون لازما لأمر ثبوتي وهو الظن
بالوفاق حيث يستحيل اجتماع الظنين مع أن الكلام في اعتبار عدم الظن
بالخلاف لا في اعتبار الظن بالوفاق.
ولا مجال للثاني، إذ الظن بالخلاف إنما يعقل أن يكون مانعا إذا كان حجة،
حيث لا يعقل مزاحمة ما ليس بحجة للحجة، ومع فرض الحجية فالظن بالخلاف
إنما يعتبر عدمه، حيث إنه حجة على خلاف الظاهر، وسقوط الظاهر عن الحجية
مع قيام الحجة على خلافه أمر مسلم بين الطرفين، غاية الأمر أن الظن على
الفرض حجة مطلقا عند العقلاء، فيسقط معه الظاهر عن الحجية، وحيث إنه ليس

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 59، س 3، وكفاية الأصول: 281، (ت، آل البيت)، والرسائل:
ص 34 مخطوط.
163

شرعا كذلك فلا يسقط معه عن الحجية، وفيه: أنه خلط بين المقتضى في مقام
الثبوت والمقتضى في مقام الإثبات، وكذا بين المانع في مقام الثبوت والمانع في
مقام الاثبات، فعدم الظن بالخلاف لا يصح أن يكون جزء المقتضى في مقام
الثبوت لا في مقام الإثبات، كما أنه لا يصح أن يكون مانعا في مقام الاثبات لا في
مقام الثبوت.
بيانه: أن المقتضى لحجية الظهور إثباتا بناء العقلاء عملا، ويمكن أن يكون
بناء العقلاء على العمل بالظاهر الذي لا ظن على خلافه، فيكون البناء العملي
على اتباع الظهور متقيدا بعدم الظن على الخلاف، وإن كان المقتضى لبنائهم كون
اللفظ كاشفا نوعيا عن المراد من دون اعتبار شئ اخر فيما يدعوهم إلى العمل
بالظاهر فان الجهة الجامعة (1) بين جميع موارد اتباع الظهور هو الكشف النوعي
وأما المانع عن حجية الظهور اثباتا فإنما يتصور إذا كان المقتضى للحجية للاثبات
تاما وهو إنما يصح إذا كان للعقلاء بناء ان بنحو العموم والخصوص، بأن يكون
بنائهم على اتباع الظهور مطلقا وبنائهم الاخر على اتباع الظن بالخلاف، فيقدم
الخاص على العام من باب تقديم أقوى الحجتين على أضعفهما، كما في حجية
الخبر بالدليل اللفظي مطلقا وحجية خبر الأعدل في مقام التعارض بالخصوص،
فمع تمامية المقتضى في مقام الإثبات في كلا الطرفين يتصور المانعية لأحد
الطرفين عن الاخر.
وأما إذا لم يعقل العموم والخصوص في البناء العملي بل العمل، إما على
طبق الظاهر الذي لا ظن على خلافه، أو وإن كان ظن على خلافه، فالمقتضى في
مقام الاثبات، إما متقيد فلا اقتضاء لما كان ظن على خلافه أصلا، وإما مطلق، فما
كان ظن على خلافه مع ما لم يكن على خلافه ظن على حد سواء فلا مانعية في
مقام الإثبات أصلا حتى يقال إن رفع اليد عن الحجة بقيام الحجة على خلافه أمر
مسلم بين الطرفين.

(1) (خ ل): الجامعية.
164

وأما المانعية في مقام الثبوت فمعقولة، لإمكان أن يكون الظن بالخلاف
خصوصية مانعة عن تأثير الكشف النوعي وصيرورته داعيا للعقلاء على
العمل بالظاهر - سواء كان المانع في مقام الثبوت حجة في نفسه أو لم يكن حجة -
ولكن كان فيه خصوصية مانعة عن تأثير مقتضى البناء العملي من العقلاء، فعدم
الظن بالخلاف يمكن أن يكون جزء المقتضى في مقام الإثبات كما يمكن أن
يكون مانعا عن المقتضى في مقام الثبوت، وما لا يعقل كون جزء المقتضى في
مقام الثبوت كما أن ما لا يضر بحجية الظاهر مانعيته في مقام الإثبات فإنه يؤكد
تمامية المقتضى في مقام الإثبات.
وعليه فلو فرض كون الامارة المفيدة للظن بالخلاف حجة عند العقلاء
فلا محالة بنائهم العملي على عدم اتباع الظاهر الذي قامت الحجة عندهم على
خلافه، وعدم الحجية الامارة المزبورة شرعا لا يجدى، لان عدم المانع انما يفيد
مع وجود المقتضي، وحيث لا بناء من العقلاء على اتباع مثل هذا الظاهر
فلا مقتضى لحجيته، لما عرفت من عدم معقولية بنائين منهم بنحو العموم
والخصوص.
والمتيقن من عدم اعتناء العقلاء بالظن بالخلاف إنما هو فيما إذا لم يكن هناك
أمارة معتبرة عندهم، ففي مثل هذه الصورة يشكل الأمر إلا أن يجعل المنع عن
اتباع مثل ذلك الظن شرعا منعا عن ترتيب كل أثر عليه حتى رفع اليد به عن
الظهور فإنه أمر بالملازمة باتباع الظهور، فمثل هذا الظاهر حجة شرعا لا ببناء
العقلاء، وإطلاق دليل المنع لمثل هذا الأثر مشكل فتدبر.
165

" تفصيل المحقق القمي - ره - في حجية الظواهر "
75 - قوله: كما أن الظاهر عدم اختصاص (1) الخ:
يمكن تقريب الاختصاص بان المتكلم إذا اعتمد في إرادة خلاف الظاهر من
كلامه على قرينة حالية بينه وبين المخاطب الذي قصد افهامه لم يكن مخلا
بمرامه، بخلاف ما إذا لم يكن قرينة أصلا فإنه يكون ناقضا لغرضه وهو إفهامه
بكلامه، وأما غير المخاطب الذي لم يقصد إفهامه فإنه لم يلزم منه نقض للغرض
إذا لم يكن بينه وبين من لم يقصد إفهامه قرينة معهودة، إذ المفروض انه
لم يتعلق الغرض بافهامه حتى يلزم نقض الغرض من عدم ايصال القرينة إليه.
والجواب يبتنى على مقدمة، هي أن الإرادة استعمالية وتفهيمية وجدية
فمجرد ايجاد المعنى باللفظ بنحو الوجود العرضي متقوم بالإرادة الاستعمالية
سواء قصد بهذا الايجاد إحضار المعنى في ذهن أحد أم لا، فإذا قصد بهذا
المعنى كانت الإرادة تفهيمية وهذا المعنى الموجود المقصود به الاحضار ربما
يكون مرادا جديا وربما يكون لانتقال المخاطب - مثلا - إلى لازمه المراد جدا أو
ملزومه كما في باب الكناية.
والملاك في كل واحدة غير الملاك في الأخرى، والكاشف عن كل واحدة
غير الكاشف عن الأخرى، فالجري على قانون الوضع يقتضى ايجاد المعنى
بلفظه وهو وجه بناء العرف عملا على حمل اللفظ على الاستعمال في معناه،

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 59 وكفاية الأصول: 281، (ت، آل البيت) والرسائل: ج 1، ص 67
والقوانين: ج 1، ص 403 - 398 و 239.
166

ولزوم نقض الغرض لو لم يكن الكلام الصادر وافيا بالمرام يقتضى عدم قصد
الإفهام إلا بما يكون وافيا بالمرام، وكون جد الشئ كأنه لا يزيد على نفس الشئ
يقتضى حمل كلية الأقوال والافعال على الجد حتى يظهر خلافه.
وعليه نقول بناء العقلاء عملا على حمل الكلام على ما يوافق قانون الوضع
بعد كشفه النوعي عن المعنى هو معنى حجية الظهور، وحكم العقل بقبح نقض
الغرض الذي هو غير مربوط ببناء أهل المحاورة هو الدليل على أن المعنى
المختص باللفظ هو الذي قصد افهامه، وبناء العقلاء العام لجميع الأقوال
والافعال هو الدليل على حمل كلية الافعال والأقوال على الجد.
فالفرق المعلوم بين الظاهر الملقى إلى من قصد إفهامه ومن لم يقصد إفهامه
لوجه مخصوص لا يقتضى الفرق في المقام الأول، وحجية الظاهر بحمله على
مقتضاه من كشفه النوعي من معناه الوضعي والخلط بين المقامين أو هم الفرق
بين من قصد إفهامه ومن لم يقصد إفهامه، هذا كله مع أن قصر الخطاب على
شخص لا يقتضى قصد إفهامه، بل ربما يقصد إفهام غيره كما في " إياك أعني
واسمعي يا جارة " فضلا عن اقتضاء قصر قصد الافهام على المخاطب.
مضافا إلى أن الكلام إذا كان متضمنا لتكليف عمومي فمقام عموم التكليف
بهذا الكلام يقتضى وصول التلكيف العمومي نفسا ومتعلقا وموضوعا بشخص
هذا الكلام، فلا يمكن التعويل على ما يختص بالمخاطب من القرينة الحالية
وعلى فرض كون المخاطب واسطة في التبليغ فاللازم عليه في ايصال التكليف
العمومي بحده التنبيه على ما يقتضى توسعته وتضييقه فعدم التنبيه منه دليل
على عدمه.
بل الكلام المقصور على المخاطب إذا كان متكفلا لتكليف خصوصي وكان
عمومه لغيره بقاعدة الاشتراك أيضا كذلك، إذ الطريق إليه نقله رواية أو كتابة،
ومقتضى عدم الخيانة في نقله بأحد الطريقين هو التنبيه على القرينة الحالية
الموسعة لدائرة التكليف والمضيقة لها ومع عدم نصب الدال عليها يحكم
167

بعدمها، فتدبر جيدا.
1 - " التحقيق في حجية ظواهر الكتاب "
76 - قوله: فللمنع عن كون الظاهر من المتشابه (1) الخ:
لا يخفى عليك أنه لا يمكن إثبات المانعية بظهور لفظ المتشابه فيما يعم
الظاهر فضلا عن احتمال شموله إلا بنحو الجدل، وإلا لزم من إثباته نفيه، لأن لفظ
المتشابه من جملة الظواهر القرآنية فتدخل تحت المتشابه الذي لا يجوز
التمسك به، وأما مع مجرد احتمال شمول المتشابه للظاهر فلا يجوز المنع من
باب الجدل، بل لابد من الأخذ بالمتيقن منه وهو المجمل.
نعم، لو كانت الدعوى كون لفظ المتشابه محكما في معناه الشامل للظاهر
والمجمل لصح الاستدلال حقيقة لا من باب الجدل ولا منافاة بين كون الشئ
متشابها بالحمل الأولى ومحكما بالحمل الشائع.
فان قلت: انما لا يصح الاستدلال بدليل المنع عن العمل بالمتشابه بناء على
ظهوره فيما يعم الظاهر إلا جدلا إذا اعتقد المستدل عدم حجية ظواهر الكتاب
حتى هذا الظاهر.
وأما إذا قال بعدم حجية سائر الظواهر بهذا الدليل الذي لا يعقل شموله لنفسه
فلا يكون الاستدلال حينئذ من باب الجدل ولا يلزم من نفى حجية الظواهر
بخصوص هذا الظاهر ثبوتها ليكون محالا.
قلت: أما الخصم فلا فرق عنده بين ظواهر الكتاب وانما لا يمكنه القول بعدم
حجية هذا الظاهر لمكان الاستدلال به، فالقول بعدم حجية هذا الظاهر بنفسه
يلزم من عدمه وجوده، فلا محالة يستدل به جدلا وإلزاما علينا بما نعتقد حجيته
ببناء العقلاء.
بل التحقيق أنه لا يصح الاستدلال به حتى من باب الجدل، إذ الغرض، إن
كان نفى حجية جميع الظواهر حتى نفس هذا الظاهر فيلزم من وجوده عدمه،

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 61 وكفاية الأصول: 283، (ت، آل البيت).
168

فإنه مقتضى شموله لنفسه، وإن كان الغرض نفى حجية سائر الظواهر بهذا الظاهر
الذي بنى العقلاء على حجيته (1) فهو وإن لم يلزم منه المحال من حيث شموله
لنفسه بمدلوله اللفظي إلا أنه لما كان نفى حجية سائر الظواهر بملاك التشابه
الشامل للظاهر فيلزم من نفى حجية الغير بهذا الملاك نفى حجية نفسه، وحيث
لا يعقل نفى حجية الغير إلا بنفي حجية نفسه لاتحاد الملاك فيسقط هو عن
الحجية، لعدم معقولية حجيته في مدلوله بالملاك المأخوذ في مدلوله، وبغير هذا
الملاك لا دلالة له أيضا فيبقى سائر الظواهر بلا مانع، ولا بد من التصرف في هذا
الظاهر، لأنه وإن كان لا يعم نفسه بمدلوله لكنه يعمه بملاكه المأخوذ في مدلوله،
فيلزم من حجيته في مدلوله عدم حجيته في مدلوله فلا مناص إلا عن دعوى
كونه محكما في مدلوله كما أشرنا إليه.
77 - قوله: فيما إذا لم ينحل بالظفر في الروايات (2) الخ:
سيجيئ انشاء الله تعالى في محله أن الانحلال تارة، بصيرورة المجمل
مفصلا حقيقة كما إذا علم الواجب أو الحرام بعينه، وأخرى، بصيرورته كذلك
حكما كما إذا علمنا بنجاسة إناء زيد واشتبه بين إنائين فان البينة إذا قامت على
تعين اناء زيد فلازمه نفي النجاسة عن غيرها.
ومن الواضح أن مجرد جعل الحكم المماثل أو تنجيز الواقع لا ينفى الواقع
عن غير موردهما.
وأما دعوى احتمال الانطباق قهرا بتقريب أن الواقع المعلوم اجمالا لا تعين له
من ناحية العلم فلا مانع من انطباق مؤدى الطريق على الواقع المعلوم، ومع
احتمال الانطباق لا علم اجمالا بتكاليف أخر في موارد الأمارات أو غيرها بل
مجرد احتمال فهي فاسدة: فان احتمال الانطباق، إن كان بلحاظ مدلول الامارة
فهو موجود بمجرد قيامها - سواء كانت الامارة حجة أم لا - وهذا لا يوجب زوال
العلم ولا زوال أثره، وإن كان بلحاظ حكمها وهو جعل الحكم المماثل فلا انطباق
قطعا فان حكم المماثل مغاير للحكم الواقعي وجودا وإن كان مماثلا له ماهية.

(1) (خ ل): حجية.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 62، س 1، وكفاية الأصول: 283، (ت، آل البيت).
169

بل التحقيق في الانحلال كما سيجئ انشاء الله تعالى في محله (1) أن الحجية
إن كانت بمعنى جعل الحكم المماثل فالحكم الفعلي المماثل على طبق مؤدى
الامارة موجود قطعا، ويستحيل أن يكون في موردها حكم فعلى اخر واقعا
لاستحالة اجتماع الحكمين الفعليين فلا علم اجمالي بحكم فعلى على أي تقدير
بل مجرد احتمال الحكم في غير مورد الامارة، والأصل حينئذ سليم عن
المعارض، وإن كانت بمعنى تنجيز الواقع بالامارة فلا اثر للعلم حينئذ فان المنجز
لا يقبل التنجز فيستحيل أن يؤثر العلم الاجمالي في تنجيز الواقع على أي تقدير،
ولا فرق بناء على الوجهين من الحجية بين سبق العلم الاجمالي على الظفر
بالحجة وعدمه، فان الحجة الواقعية إذا كانت بحيث لو تفحص عنها لظفر بها
كانت موجبة لفعلية التكليف وتنجزه، وانما السبق واللحوق في الظفر بها، فالعلم
الاجمالي قد تعلق بما في أحد طرفيه تكليف فعلى بالامارة أو الواقع المنجز بها
وتمام الكلام في محله.
78 - قوله: إما باسقاط أو بتصحيف (2) الخ:
لا يخفى عليك وضوح الفرق بينهما إذ التصحيف - سواء كان بتغير في هيئة
الكلام أو مادته - يوجب خروجه عن الكلام المنزل، وليس في صورة احتماله
كلام صادر من المولى حتى يتبع ظهوره الفعلي أو الذاتي، بخلاف الاسقاط فان
الساقط - سواء كان منفصلا عن الظاهر أو متصلا به - لا يخل بظهوره الفعلي على
الأول وبظهوره الذاتي على الثاني كالقرينة المنفصلة أو المتصلة كما سيجيئ
انشاء الله تعالى.
79 - قوله: لعدم حجية ظاهر سائر الآيات الخ:
لخروجها عن محل ابتلاء المكلف كما في تعليقته المباركة على الرسائل (3)
ولعل المراد منه أن الكلام الغير المتضمن للتكليف لا معنى لحجية ظاهره على
المكلف حيث لا معنى للحجية إلا كون الشئ بحيث يحتج به في مورد

(1) التعليقة: 35.
(2) كفاية الأصول: ج 2 ص 63، س 9 وكفاية الأصول: 284 - 285، (ت، آل البيت).
(3) حاشية الرسائل: ص 52، في ذيل الثاني...
170

المؤاخذة بالذم والعقاب، ولا معنى لذلك إلا فيما يشتمل على التكليف
والآيات المتضمنة للقصص وشبهها لا حجية لظهورها بل الآيات المتضمنة
للعقايد والمعارف لا حجية لظهورها أيضا وإن كانت متضمنة للتكليف بالأصول،
إذ المطلوب فيها الاعتقاد لا التعبد والعمل كي يتصور فيه حجية الظاهر فتأمل (1).
80 - قوله: فافهم الخ:
لعله، إشارة إلى أن مجرد ضم ظاهر إلى سائر الظواهر ليس ملاك الطرفية
للعلم الاجمالي بمخالفة بعض الظواهر ليقاس بظواهر الكتاب بل بحيث يتقوم به
العلم فينعدم بخروجه، وليس كل ظاهر كذلك، أو إشارة إلى أن الاشكال هنا
بملاك اجمال بعض أطراف العلم وخروجه عن محل الابتلاء لا يجدى في رفع
الاجمال وإن كان مجديا في عدم تنجز التكليف على خلاف الظاهر.
ويندفع بأن الظهور الذاتي محفوظ في الجميع وإنما المعلوم بالاجمال ان
بعضها غير حجة لا لارتفاع ظهوره حيث لا يرتفع الظهور بعد انعقاده، إذ الواقع
لا ينقلب عما هو عليه ولا يرتفع كشفه عن المراد الجدي الذي هو ملاك الحجية
أيضا، بل حجيته لحجة أقوى. وإذا كان بعض الأطراف بنفسه غير حجة فلا جرم
لا علم اجمالي بورود الحجة على خلاف الحجة هذا في القرينة المنفصلة.
واما في المتصلة فربما يتوهم الفرق بين المجمل وغيره نظرا إلى سراية اجماله
إلى الظاهر فلا ظهور كي يكون حجة بخلاف غيره. وفيه: أن الظهور الذاتي محفوظ
حتى في المجمل، والظهور الفعلي مرتفع حتى في المبين والفرق بينهما بانعقاد
الظهور الفعلي في غير الموضوع له إذا كان المتصل مبينا دون ما إذا كان مجملا.
والميزان في اتباع الظهور هو الفعلي وهو مشكوك في كليهما، فلا بد من
دعوى بناء العقلاء على المعاملة مع هذا العلم الاجمالي معاملة الشك البدوي
نظرا إلى خروج أحد الظاهرين عن محل الابتلاء فالقرينة المحتملة هنا يبنى على
عدمها فيتم الظهور الفعلي كما في غير ما نحن فيه، فتدبر.

(1) إشارة إلى أن المطلوب في الاعتقادات إن كان المعرفة واليقين أو عقد القلب على ما جزم به
النفس فلا محالة لا معنى لحجية الظاهر لعدم إفادته اليقين. وإن كان مجرد عقد القلب على ما وصل إليه
ولو تنزيلا فلا بأس لحجية الظاهر فيها. (منه عفى عنه).
171

81 - قوله: فلا وجه لملاحظة الترجيح الخ:
إلا أن يفصل بين حكاية نفس الآية وحكاية قرائة المعصوم لها، فإنها على
الثاني حكاية فعل المعصوم فتدخل في السنة المحكية، فتدبر.
" في احتمال وجود القرينة واحتمال قرينية الموجود "
82 - قوله: فان أحرز بالقطع (1) الخ:
إن أريد من الظهور المقطوع به ظهوره الذاتي الوضعي فلا يقابله إلا الصورة
الثالثة من الشق الثاني، وان أريد ما هو أعم من الظهور الذاتي الوضعي ومن الظهور
الاستعمالي الفعلي فالتقابل صحيح فان بعض تلك الصور الثلاث ظهورها الذاتي
معلوم، وبعضها غير معلوم إلا أن مقتضاه عدم احراز الظهور الفعلي في الشق
الثاني فيخرج احتمال القرينة المنفصلة لمعلومية ظهوره النوعي الفعلي، مع أن
احتمال القرينة المنفصلة كالمتصلة في الحاجة إلى أصالة عدم القرينة، مضافا إلى
أن احتمال القرينة منفى فما إذا قطع بعدمها ومع ذلك أراد خلاف الظاهر مع
عدم نصب قرينة لحكمة أو لغفلة فيخرج مثل هذه الصورة عن كلا الشقين فتدبر.
83 - قوله: لا انه يبنى عليه بعد البناء على عدمها الخ:
بل هذا هو الظاهر، إذ الحجة لا بد من أن تكون مناسبة لمورد المحاجة
والمخاصمة، فإذا ادعى المولى إرادة خلاف الظاهر مع الاعتراف بعدم نصب
قرينة لحكمة أو لغفلة، كانت الحجة عليه ظهور كلامه، وإذا ادعى إرادة خلاف
ظاهر ما وصل من الكلام لمكان نصب القرينة وإن لم تصل كانت الحجة عليه
أصالة عدم القرينة والمراد بناء العقلاء على العدم عند الشك في الوجود، وأما
ظهور الكلام فلا مساس له بالمقام.
إذ المولى لا يحتج عليه بإرادته الواقعية كي يحتج العبد عليه بظهور كلامه في
خلاف مرامه، بل يحتج بنصب ما يوافق مرامه من كلامه، فلابد من دفعه ببناء

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 65، س 1 وكفاية الأصول: 286، (ت، آل البيت).
172

العقلاء في مثله على عدمه. ولعله أشار إليه بقوله (1) فافهم. فليس الأمر كما أفاده
شيخنا العلامة الأنصاري (2) - قده - من رجوع الأصول الوجودية إلى الأصول
العدمية ولا كما أفاد شيخنا العلامة الأستاذ - قده - في تعليقته (3) الأنيقة، وأشار
إليه هنا من رجوع الأصول العدمية إلى أصالة الظهور.
والتحقيق أن مدرك حجية الظواهر بمالها من الخصوصيات كما مر مرارا بناء
العرف والعقلاء عملا، فهو المتبع في أصل الحجية وخصوصياتها ومن البين كما
مر انه ليس من العقلاء بناءان، أحدهما على اتباع الظاهر مطلقا، والاخر على أمر
اخر بحيث يكون أحد البنائين مقيدا للاخر، بل العمل على الظاهر الذي ليس
على خلافه ما هو أقوى منه كشفا فمع عدم الكاشف الأقوى يكون العمل على
طبق الظاهر، ومع وجوده يكون العمل على طبق الأقوى كشفا.
ومن الواضح أن الكاشف المتقيد بعدمه البناء العملي على اتباع الظاهر ليس
الكاشف بوجوده الواقعي حتى يجدى عدمه الواقعي من باب عدم المانع
ويكون إحتماله احتمال المانع، ليقال بأن بناء العقلاء عند احتمال وجوده على
عدمه، بل حيث إن الاقتضاء من الطرفين في مرحلة التأثير في نفوس العقلاء من
حيث البناء العملي على اتباع الظاهر وعدمه فلا محالة لا تأثير من الطرفين ثبوتا
إلا بلحاظ وجودهما الواصل لا وجودهما الواقعي، فتأثير وجوده، الواقعي في
قبال تأثير الظاهر الواصل مستحيل جدا.
وأما تأثير احتمال وجوده في قبال الظاهر الواصل فهو خلف، إذ المفروض أن
الظاهر حجة مع احتمال وجود كاشف أقوى فلا يعقل إعتبار مانعيته مع بناء
العقلاء على اتباع الظاهر حتى مع احتمال كاشف أقوى ولو ببنائين، لكونهما
متنافيين، وليس كمانعية وجوده الواقعي القابل للبناء على عدمه عند إحتماله،
مع أن تأثير وجود الكاشف احتمالا في قبال وجود كاشف اخر قطعا بعيد جدا،
مع أن مقتضى مانعية وجوده الاحتمالي هو بناء العقلاء على عدم مانعية وجوده
الاحتمالي لا البناء على عدم المحتمل، لأن وجوده الواقعي لا أثر له حتى يبنى

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 65، س 6، فافهم.
(2) الرسائل: ج 1، ص 54.
(3) حاشية الرسائل للآخوند - ره -: ص 45.
173

على عدمه، بل وجوده الاحتمالي له الأثر، فلا بد من البناء على عدم مانعيته
لا على عدمه.
فاتضح من جميع ما ذكرنا أن المانع عن اتباع الظهور ثبوتا عند العقلاء هو
الكاشف الأقوى الواصل، فمع عدم وصوله الوجداني لا مانع قطعا، فلا مقتضى
في مقام الاثبات لحجية الكاشف الأقوى جزما حيث لأبناء عملي منهم إلا على
اتباع الكاشف الواصل على خلاف الظاهر، فمع احتمال القرينة إنما لا يعتنى به
لا لبناء من العقلاء على عدمها كما هو معنى أصل عدم القرينة، بل لعدم البناء
منهم على اتباعها حيث إن مورد بنائهم وجودها الواصل، فلا يعقل مانعية
وجودها الواقعي عن اتباع الظاهر ليحتاج دفعها إلى البناء على عدمها.
وعليه فالظاهر الذي يحتمل وجود قرينة على خلافه إنما يتبع لوجود الحجة
على اتباع الظاهر وعدم الحجة على القرينة لا للحجة على عدمها، لكنك قد
عرفت أن عدم الحجة على إتباعها من باب السلب المقابل للايجاب لا العدم في
قبال الملكة، لما مر (1) من عدم معقولية مانعية وجودها الواقعي ثبوتا حتى يعقل
بناء من العقلاء على إتباعها في قبال الظاهر إثباتا.
نعم، قد أشرنا إلى أن الحجة حيث إنها لا بد من أن تكون مناسبة لمورد
المحاجة فتارة يحتج بالظاهر وأخرى بغيره، فمع القطع بعدم نصب القرينة
واحتمال استناد عدم نصبها إلى حكمة أو إلى غفلة فالحجة ليست إلا ظهور كلام
المولى، إذ ليست غفلة المولى حجة على عبده ليصح الاحتجاج بها من المولى
على عبده حتى يستند العبد إلى أصالة عدم الغفلة، وكذا ليست الحكمة الداعية
حجة للمولى على عبده حتى يستند العبد إلى أصالة عدمها، بل يحتج المولى
بإرادته الواقعية ويحتج العبد بظهور كلامه على خلاف مرامه.
وأما مع احتمال نصب القرينة فتارة، يعترض المولى على عبده في إتيانه
للحيوان المفترس، فحجة العبد ظهور لفظ الأسد فيه. وأخرى، يعترض عليه في

(1) التعليقة: س 8.
174

عدم اتيانه للرجل الشجاع مع نصب القرينة عليه واقعا، فالمناسب حينئذ
الاحتجاج عليه بعدم الحجة على القرينة لا بالحجة على عدمها، لما مر،
ولا بظهور كلامه في خلاف مرامه، حيث إنه لا يحتج عليه بمرامه الواقعي بل
بنصب القرينة على ما يوافق مرامه.
ثم اعلم أنه لا فرق فيما ذكرنا بين احتمال القرينة المنفصلة والمتصلة فان
الكلام وإن استقر ظهوره في الأول دون الثاني لكنه حيث إن بناء العقلاء في كلا
الاحتمالين على العمل بالمقدار الواصل من الكلام يعلم منه أن مدار العمل ليس
على الظهور الفعلي، إذ ليس أيضا بناءان من العقلاء، أحدهما على اتباع الظهور
الفعلي، والاخر على اتباع الظهور الوضعي، بل بناء واحد على الأعم من الظهور
الفعلي بحيث يكون فعليته وعدمها على حد سواء.
إذ من الواضح أن بنائهم على عدم القرينة لا يوجب فعلية الظهور، والبناء على
عدم المانع إنما يجدى مع وجوده المقتضى، فلو كان المقتضي هو الظهور الفعلي
فمع عدمه لا فرق بين وجود المانع وعدمه، فإنه لا يعقل الحكم بثبوت مقتضاه،
بل موضوع بناء العرف والعقلاء هو الظهور الوضعي الذاتي بضميمة هذه المقدمة
وهي أن مقتضى الجري على قانون الوضع عدم التفهيم بنفس اللفظ إلا نفس
معناه الموضوع له بحيث لو أراد تفهيم غيره به لكان بمعونة غيره.
وهذا غير دعوى أن مقتضى طبع اللفظ استعماله فيما وضع له ليورد عليها
مخالفة هذا الطبع كثيرا، بل ربما يكون استعمال اللفظ في معناه المجازى أكثر من
معناه الحقيقي، فانا لا ندعي أن تفهيم المقاصد لا بد من أن يكون بالحقايق بل
ندعي أن الجري على قانون الوضع يقتضى أن لا يفهم بنفس اللفظ إلا نفس معناه
فلا ينافي كثرة تفهيم غيره به بمعونة غيره، ولم تظفر إلى الان بمخالفة هذه
الطريقة ممن يجرى على قانون الوضع.
وعلى هذا فالكلام الواصل وإن لم يعلم قالبيته لما وضع له لاحتمال قرينة
تساعد على تفهيم غيره به إلا أن الكلام الواصل يمكن أن يكون آلة لتفيهم نفس
معناه، ووجود القرينة واقعا لا يكون صالحا لتفيهم غيره به، فهذا المقتضى
175

الواصل يؤثر في نفوس العقلاء من حيث بنائهم على استكشاف المراد به و
وجود القرينة واقعا لا يصلح للصارفية، ونفس الاحتمال ليس صارفا حيث إنه
ليس مفهما لغيره، وأما مع احتفاف الكلام بما يحتمل قرينيته فالموجود وإن
لم يكن مفهما لغيره الا أن الكلام المحفوف به أيضا لا يصلح بالفعل لتفيهم نفس
معناه وإن كان ظهوره الوضعي محفوظا، لأن الذي يصلح لتفيهم معناه به هو اللفظ
المجرد من غيره لا المحفوف بغيره، وهذا معنى كون المجمل العرضي
كالمجمل الذاتي.
نعم، إن كان مدار عمل العقلاء على اتباع الظهور الذاتي لا لما ذكرنا بل لوجه
اخر لا طريق لنا إليه أمكن حجية هذا الظاهر المحفوف، وهذا معنى التعبد حيث إنه
لم يعلم وجه العمل كما في التعبد الحقيقي.
84 - قوله: بناء على حجية أصالة الحقيقة (1) الخ:
غرضه - قده - انه بناء على حجية الظاهر من باب الكشف النوعي لا شبهة في
عدم حجيته، إذ مع هذا الاحتفاف لا كشف أصلا وكذا بناء على اتباع الظاهر من
باب أصالة عدم القرينة، إذ لا شك في وجودها هنا بل في قرينية الموجود، وأما
بناء على حجيته تعبدا من العقلاء، ففيه الاشكال لامكان تعبدهم في مثله أيضا
على اتباع الظهور الذاتي وجعل الموجود كالمعدوم، إلا أن الظاهر أن العقلاء
يعاملون معه معاملة المجمل فيعلم أن بنائهم على اتباع الظاهر وإن لم يكن
لحيثية ظهوره إلا أن موضوع حكمهم الظاهر المحض الذي لم يعرضه الاجمال
وهذا الظاهر عندهم بمنزلة المجمل ذاتا.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 65، س 7 وكفاية الأصول: 286، (ت، آل البيت).
176

2 - " في الاجماع المنقول "
* في مدارك حجية الاجماع
85 - قوله: كما هو طريقة المتأخرين في دعوى الاجماع الخ:
لا يخفى عليك أن مدارك الحكم الشرعي منحصرة - في غير الضروريات وما
أشبهها من المسلمات - في أربعة، وهي الكتاب والسنة والاجماع والدليل العقلي
الذي يتوصل به إلى الحكم الشرعي، وحيث إن الكلام في نفس الاجماع فما
يستند إليه المجعول لا محالة غيره من المدارك الثلاثة الأخر.
ومن الواضح أن المدارك لهم ليس هو الكتاب وعلى فرض استظهارهم من اية
خفيت علينا جهة الدلالة لم يكن فهمهم حجة علينا، وكذا ليس مدركهم الدليل
العقلي، إذ لا يتصور قضية عقلية يتوصل بها إلى الحكم الشرعي كانت مستورة
عنا فينحصر المدرك في السنة وحيث لا يقطع بل ولا يظن بسماعهم لقول
الإمام (ع) أو برؤيتهم لفعله (ع) أو لتقريره (ع) بل ربما لا يحتمل ذلك في زمان
الغيبة إلا من الأوحدي، فلا محالة ينحصر المدرك في الخبر الحاكي لقوله (ع) أو
فعله (ع) أو تقريره، وفيه المحذور من حيث السند والدلالة.
أما من حيث السند فبأن المجمعين، لو كانوا مختلفي المشرب من حيث
حجية الخبر الصحيح عند بعضهم والخبر الموثق عند بعضهم الاخر والخبر
الحسن عند آخرين، لدل اتفاقهم على الحكم على أن المستند في غاية الصحة،
وأما لو كانوا متفقي المسلك بأن كانوا يعتقدون حجية الخبر الموثق، فمن لا يعتقد
إلا بالخبر الصحيح لا مجال له في الاستناد إلى هذا الاجماع فضلا عما إذا كانوا
يعتقدون حجية الخبر الحسن، فان الغالب لا يمكن استنادهم إليه.
177

واما من حيث الدلالة فان الخبر المفروض، إن كان نصا في مدلوله صح
الاستناد إليه منا أيضا إلا أنه نادر واحتماله غير مانع، لأنه لا يتعين أن يكون نصا
في مدلوله لحجية الظاهر أيضا، وإن كان ظاهرا في مدلوله فلا يجدى أيضا، إذ
ظهور دليل عند طائفة لا يستلزم الظهور عند آخرين وفهمهم ليس حجة علينا بل
قد وجدنا المشهور من المتقدمين على استفادة النجاسة من أخبار البئر مع أن
الأمر عند المتأخرين بالعكس، فلعل الخبر إذا نقل إلينا لم يكن ظاهرا عندنا مع أنهم
لو عثروا على هذه الأخبار الصحاح الظاهرة الدلالة في موارد إجماعهم فلم
يتعرضوا لها لا في مجاميع الاخبار ولا في الكتب الاستدلالية.
178

* في بيان اقسام الحجة من الاجماع المنقول
86 - قوله: وأما إذا كان نقله للمسبب لا عن حسن (1) الخ: الفارق بين ما
إذا كان السبب تاما في نظر المنقول إليه وما لم يكن كذلك مع الاشتراك في
الاخبار عن المسيب بالالتزام وعن السبب بالمطابقة وجوه.
أحدها: ما عن شيخنا العلامة الأنصاري - قده - في الرسائل (2) أن مقتضى
الفرق بين العادل والفاسق في آية النبأ التي هي عمدة الآيات من حيث الدلالة
على حجية الخبر، ومقتضى التعليل بقيام احتمال الندم مع عدم التبين عن خبر
الفاسق، هو عدم الاعتناء باحتمال تعمد كذبه لا وجوب البناء على إصابته في
حدسه، فإنه ليس غرضه - قده - اختصاص احتمال تعمد الكذب بالخبر الحسى
دون الحدسي.
ضرورة أن الانسان كما يمكن أن يخبر عما لم يحس كذلك يمكن أن يخبر عما
لم يحدس، بل غرضه أن واقعية المخبر به بعدم تعمد الكذب وعدم الخطاء،
والآية متكفلة لنفى احتمال تعمد الكذب وأصالة عدم الخطاء لنفى احتمال
الخطاء، وحيث إن بناء العقلاء على عدم الاعتناء باحتمال الخطاء في الحس
دون الخطاء في الحدس، فالآية بضميمة أصالة عدم الخطاء في الحس دليل
الحجية في الخبر الحسى، وحيث إن هذه الضميمة غير متحققة في الخبر
الحدسي فالآية وإن كانت نافية لاحتمال تعمد الكذب لكنه لا أثر بالفعل لنفى
احتمال تعمد الكذب إلا مع نفى احتمال الخطاء، فلا تعم الآية التي هي دليل
الحجية بالفعل لما لا أثر له بالفعل وهو الخبر الحدسي، فهي (3) وإن كانت بحسب

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 70، س 15 وكفاية الأصول: 289، (ت، آل البيت).
(2) الرسائل: ص 47، مخطوط والرسائل: ج 1، ص 78.
(3) (خ ل): فهو.
179

الاقتضاء قابلة لشموله لكنها لا تعمه بالفعل.
ثانيها: أن كون المخبر صادقا في خبره غير كونه صائبا في نظره، والدليل
متكفل لتصديق الخبر لا لتصويب النظر.
بيانه: أن دليل التصديق وإن لم يكن ناظرا إلى خصوص التصديق المخبري
كما أفاده الشيخ الأعظم - ره - بل كان ناظرا إلى التصديق الخبري، والحكم بواقعية
المخبر به لا إلى مجرد نفى احتمال تعمد كذبه الا أن تصديقه في حسه واقعا
تصديقه فيما أحس به وليس تصديقه في حدسه واقعا تصديقه فيما حدس به،
فان القطع بسماعه لقول الإمام (ع) أنه يجب صلاة الجمعة يستلزم القطع بصدور
هذا القول من الإمام (ع) ولكن لا يستلزم القطع بحدسه لرأى الإمام (ع) القطع
برأيه، فتصديقه في سماعه وأنه أخبر عما له واقعية يستلزم تصديقه في واقعية
المسموع ولكن ليس تصديقه في خبره عن حدسه مستلزما لتصديقه فيما حدس
به، بل يترتب على تصويبه في حدسه.
وبالجملة: فواقعية السماع يستلزم واقعية المسموع بخلاف واقعية الحدس
فإنه لا يستلزم واقعية ما حدس به، فتأمل جيدا.
ثالثها: أن بناء العقلاء على حجية الخبر لكونه كاشفا نوعيا فعلا إذا صدر ممن
يوثق بقوله ولم يكن فيه آفة في حاسته فهذه الكاشفية النوعية الفعلية عن الواقع
هو المقتضي ثبوتا لبناء العقلاء على اتباع الخبر، ومن الواضح أن خطائه الواقعي
في إحساسه لخروجه عن الطبع أحيانا لا يعقل أن يكون مانعا عن تأثير المقتضي،
ومر إجماله، لما عرفت في مسألة حجية الظاهر، فاحتماله ليس من احتمال
المانع حتى يتوقف الحكم بالمقتضى على بناء العقلاء على دفع المانع ونفس
الاحتمال غير مانع على الفرض بل المستبعد جدا أن يزاحم الاحتمال الكاشف
النوعي الفعلي.
ومنه تبين عدم الحاجة إلى أصالة عدم الخطاء بل عدم الاعتناء باحتماله
لعدم البناء على وجوده لا للبناء على عدمه، هذا في الخبر الحسى أو ما هو
كالحسي.
وأما الخبر عن حدس محض فمجرد كون الشخص ممن يوثق بقوله وعدم
180

كونه ذا آفة في حاسته لا يوجب الكاشفية الفعلية لخبره، بل يتوقف على تصويب
حدسه ونظره، فإذا كان الخبر حجة ببناء العقلاء فالمقتضى لبنائهم هو الكشف
النوعي الفعلي المختص بالخبر الحسى، أو ما هو كالحسي، ولعله لذلك حكم
في آية النبأ على أن العمل بخبر الفاسق من دون تبين عنه إصابة للقوم بجهالة،
حيث لا كاشفية فعلا نوعا مع كون المخبر ممن لا يوثق به.
ومنه يظهر أن خبر العادل عن حدس إذا كان عما لا سببية له عادة كان مستندا
إلى مالا طريقية له عادة إلى الواقع، فالعادل والفاسق حينئذ على حد سواء من
كون الاعتقاد على خبرهما اعتمادا على الجهل المحض، وهذا وجه انصراف اية
النبأ إلى الخبر عن حس أو ما هو كالحس لا من حيث إن البناء عن حدس غير
معمول به عند العقلاء، فلا يكون رافعا للجهالة كما توهم بل من حيث استناده
إلى ما هو في نفسه لا سببية له للوصول إلى الواقع فكيف يكون الخبر المستند
إليه كاشفا فعلا عن الواقع حتى يبنى عليه العقلاء أو يتعبد به الشارع، فافهم جيدا.
87 - قوله: وهم كما يعملون بخبر الثقة إذا علم الخ:
قد عرفت أن مقتضى بناء العقلاء هو الكشف النوعي الفعلي عن الواقع فمع
كونه ممن يوثق بقوله ولم يكن آفة بحاسته وعدم استناد العاقل بحسب المتعارف
إلا إلى سبب عادى متعارف لا ريب في كاشفية خبره نوعا عن الواقع، وأما إذا
اختل هذا الظهور الأخير وهو ظهور حال العاقل في دعوى الجزم بشئ أنه
مستند إلى سبب عادى متعارف بحيث وجدنا غالب المدعين للاجماع
مستندين إلى سبب غير عادى أو وجدنا خصوص هذا المدعى يستند إلى سبب
غير متعارف فلا كاشفية نوعية لخبره وان احتمل استناده في خصوص هذه
الدعوى إلى سبب متعارف كما إذا احتملنا أنه مع فرض غلبة كذبه يكون صادفا
في خبره الشخصي أو مع وجود الآفة بحاسته ما أخطاء في خصوص هذا المورد،
فكما لا يفيد هذا الاحتمال في تحقق الكشف النوعي كذلك ذلك الاحتمال.
88 - قوله: وأما من جهة نقل السبب فهو في الاعتبار (1) الخ:
يمكن أن يناقش فيه بأن تنزيل شئ منزلة شئ لا يعقل إلا بلحاظ ما لذلك

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 73 وكفاية الأصول: 290، (ت، آل البيت).
181

الشئ من الأثر شرعا لا بلحاظ ما لغيره من الأثر وإن كان ملزومه أو ملازمه.
بداهة أن وجه الشبه لا بد من أن يلاحظ بين المشبه به والمشبه دون ما هو
أجنبي عنهما، وهو من القضايا التي قياساتها معها، وهذا لا ربط له بحجية الامارة
في الشئ بأطرافه من لازمه وملزومه وملازمه، بداهة أن مرجعه إلى حجيتها في
مداليلها المطابقية والتضمنية والالتزامية، ومصحح التعبد بكل واحد نفس أثرها
الشرعي لا أن الخبر حجة في مدلوله المطابقي بلحاظ ملزومه أو ملازمه، وعليه
فلا وجه لحجية الخبر في مضمونه الذي هو فتوى جماعة بكذا بلحاظ ملازمه وهو
رأى الإمام (ع) في نظر المنقول إليه لما عرفت، ولا أثر شرعي لفتوى الجماعة
بكذا واقعا كي ينزل الاخبار عنها منزلتها فيه، وكونه سببا للقطع برأي الامام
وملازما له واقعا في نظر المنقول إليه ليس بشرعي حتى يصح التعبد بلحاظه.
ومنه يظهر الفرق بينه وبين ما تتضمنه الاخبار من الأسئلة التي تعرف منها
أجوبتها والأقوال والافعال التي تعرف منها تقرير الإمام (ع) لها، فإنها مشتملة
على موضوعات الاحكام ومتعلقاتها وخصوصياتها الموجبة لضيقها وسعتها،
والتعبد بها بلحاظ مالها من الاحكام مما لا ينبغي الريب فيها، وكذا كون السائل
مدنيا مثلا فالرطل المذكور في كلامه مدني أيضا فان له دخلا في الموضوع سعة
وضيقا، إذ لولا كونه مدنيا لم يرتب حكمه (ع) على الرطل المدني فهو أيضا بهذا
الاعتبار دخيل في الحكم الشرعي بخلاف فتوى الجماعة فإنها لا دخل لها في
رأى الإمام عليه السلام حكما وموضوعا سعة وضيقا، فليس الاشكال في
الفتاوى المنقولة أنه أمر غير معلوم عن غير معصوم حتى ينتقض بما ذكره الشيخ
المحقق التستري (1) - قده - وأشرنا إليه انفا، بل المحذور عدم كونها موضوعا
لحكم ولا جزء الموضوع ولا قيده، بخلاف المذكورات انفا، وهذا المحذور وإن
لم يكن له اثر عملي في صورة نقل السبب التام، لأنه يلازم الخبر عن رأى
الإمام (ع) لكنه له الأثر في نقل جزء السبب، فإنه لا حكاية عن رأى الإمام (ع)

(1) كشف القناع: ص 401 - 400 وجملة من عبارته: وفصل الخطاب في الباب هو أن الاجماع
المنقول في كتب الأصحاب والرسائل: ص 60، س 19، مخطوط.
182

بالالتزام حتى يتعبد به وينضم إليه البقية.
نعم، يمكن دفع المحذور عن حجية نقل السبب بان اللازم كون المنزل ذا أثر
شرعي دون المنزل عليه، وحيث إن الفتاوى المحصلة سبب عادى للقطع
المنجز لرأى الإمام (ع) عقلا والتنجز قابل للجعل عن الشارع بجعل نقل الفتاوى
منجزا اعتبارا للفتاوى المنتهية إلى رأى الإمام (ع) فيكون كالخبر القائم على خبر
متعلق بحكم من الاحكام، فكما أن الخبر منجز للخبر المنجز للحكم والكل في
حكم منجز واحد للحكم كذلك نقل الفتاوى منجز للفتاوى المنجزة لرأى الامام
لكونها سببا للقطع المنجز وهي منجزة أيضا بالعرض، ولا يضر هذا المقدار من
الفرق من حيث كون الحجية في المنزل عليه بالعرض وفى المنزل بالذات
بالتنزيل نظير ما إذا نزل الخبر الواحد منزلة الخبر المتواتر في الحجية، فان الحجة
بالذات في المتواتر هو القطع الحاصل منه، ويتصف المتواتر بالحجية بالعرض
ومع ذلك يصح بلحاظ أصل الأثر تنزيل الخبر الواحد منزلة المتواتر.
وفيه: أنه انما لا يضر إذا كان الواسطة في الثبوت لا فيما إذا كان واسطة
في العروض فإنه لا أثر لذي الواسطة حقيقة بل بالعناية والمجاز بل بالحقيقة ولو
تبعا، ومن الواضح أن اتصاف الفتاوى الواقعية بالمنجزية من جهة اتصاف معلولها
وهو القطع برأي الإمام (ع) بالمنجزية، فالقطع هو المنجز حقيقة والسبب له منجز
بالعناية لا بالتبع فلا أثر لها حقيقة حتى يكون المنقول كالمحصل فيما له من الأثر،
فافهم جيدا.
89 - قوله: فلا يكون التعارض إلا بحسب المسبب (1) الخ:
لأنهما خبران بالالتزام من حكمين متباينين من الإمام (ع) لكنه مبنى على
حصر وجه الحجية في الاستلزام العادي لرأى الإمام (ع)، وأما إذا كان أحد
وجهي الحجية الكشف عن وجود حجة معتبرة فلا تعارض في النقل لإمكان
صدق النقلين لامكان استناد كل طائفة إلى حجة معتبرة، والتعارض إنما بين

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 75 وكفاية الأصول: 291، (ت، آل البيت).
183

الحجتين بحسب مدلولهما لا بين النقلين لحجتين ذاتيتين إلا أن هذا المقدار من
الفرق غير فارق، لاشتراك النقلين في عدم تعمد الكذب، كما أنهما مشتركان في
عدم إمكان واقعية الحكمين الواقعيين في الأول وعدم إمكان واقعية الحكمين
المماثلين الفعليين في الثاني، وتمامية المقتضى في مقام الاثبات بالإضافة إلى
الحجتين لا تنافى التعارض كما في الخبرين الذين يعمهما دليل الحجية في نفسه،
فتدبر جيدا.
90 - قوله: لكن نقل الفتاوى على الاجمال الخ:
ليس الوجه في عدم الصلاحية لكونهما سببا أو جزء سبب كونهما متعارضين
بالعرض فلا أثر لهما فإنه غير مختص بما إذا نقلت الفتاوى على الاجمال، بل إذا
نقلت على التفصيل لا يعقل ذلك، كما إذا نقلت فتاوى جماعة يستلزم عادة
القطع برأي الإمام (ع)، ونقلت فتاوى جماعة آخرين كذلك، فإنهما متنافيان من
حيث السببية للقطع برأي الإمام (ع)، بل الظاهر أن نقلي الفتاوى على الاجمال
على طرفي النقيض في نفسهما متنافيان، فان الظاهر من الاجماع اتفاق الكل
على الحكمين خلاف الواقع، فأحدهما كاذب بحسب الواقع فلا يصلح لأن
يكون كاشفا عن رأى الإمام (ع) أو عن حجة معتبرة ولا يمكن أن يكون الكاذب
جزء السبب أيضا.
نعم، إذا كان الاتفاق المنقول مفصلا أمكن أن يكون ذا خصوصية في نظر
المنقول إليه لجلالة المفتين وعلو قدرهم علما وعملا بالإضافة إلى الآخرين
المنقولة فتاوهم مفصلة في نقل اخر، وأما مع الاجمال وعدم تعين الاشخاص
فلا سبيل إلى إحراز هذه المزية.
ويمكن أن يقال إن موارد اطلاق الاجماع مختلفة، فإذا كان في مقام تحرير
الوفاق والخلاف في المسألة فدعوى الاجماع ظاهرة في الاتفاق التام الذي
لا خلاف فيه فيكون النقلان متعارضين، وإذا كان في مقام الاستدلال فلا يراد من
الاجماع إلا المقدار الكاشف عن حجة معتبرة، وصدقهما من حيث وجود
الكاشف في الطرفين بمكان من الامكان.
184

3 - " في حجية خبر الواحد "
91 - قوله أن الملاك في الأصولية صحة وقوع (1) الخ:
لكن لا يخفى عليك أنا وإن جعلنا الموضوع أعم من الأدلة الأربعة إلا أنه
يجدى في صيرورة المسألة أصولية بهذا المعنى، إذ الثابت بأدلة الاعتبار إما
حكم مستنبط أو لا ينتهى إلى حكم مستنبط أصلا، فان معنى حجية الخبر إما
إنشاء حكم مماثل على طبق المخبر به كما هو المشهور، أو جعل الخبر بحيث
ينجز الواقع على تقدير المصادفة كما هو التحقيق، فلا بد من جعل الفرض أعم
مما يقع في طريق الاستنباط أو ينتهى إليه أمر الفقيه في مقام العمل، وقد
أسمعناك في تعليقتنا على أوائل الجزء الأول من الكتاب (2) انه لا مناص من
التعميم والا لزم كون جل المباحث الأصولية استطراديا.
أما المباحث المتعلقة بالأدلة الغير العلمية فلما سمعت انفا لوحدة الملاك،
وأما المباحث اللفظية فلأنها وإن لم تكن مربوطة في بدو الأمر بهذا المحذور إلا
أنها لا تقع في طريق الاستنباط الا بضميمة حجية الظواهر فيجئ المحذور
المزبور مع وضوح أن حجية الظاهر على الوجه الثاني وهو ظاهر.
وربما يتوهم عدم لزوم التعميم بالنسبة إلى ما يكون حجة شرعا بمعنى
المنجزة للواقع نظرا إلى الالزام العقلي على طبقة فيكون مجعولا بجعل الحجية
شرعا، وحاله حينئذ حال الجزئية المجعولة بجعل منشأ انتزاعها، فيكون الحجية

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 78، س 8 وكفاية الأصول: 293، (ت، آل البيت) وكفاية الأصول:
ج 1، ص 9، في تعريف الأصول ونهاية الدراية: ج 1، ص 17، في تعريف الأصول.
(2) نهاية الدراية: ج 1، ص 19.
185

واقعة في طريق استنباط المجعول التبعي وهو الالزام العقلي، بل هكذا الأمر فيما
تكون حجة ببناء العقلاء كالظواهر أو كالخبر بناء على حجيته ببناء العقلاء فإنه
لابد من إمضائها شرعا وليس إمضاء الاعتبارات العقلائية إلا باعتبار الشارع لها
على حد إعتبار العقلاء إياها، فيكون الالزام العقلي مجعولا بتبع جعل الحجية
ابتداء أو إمضاء، لكنه توهم فاسد.
أما أولا: فبأن الالزام العقلي لا يعقل، إذ لا بعث ولا زجر من القوة العاقلة بل
شأنها التعقل وليس الحكم العقلي العملي إلا إدراك ما ينبغي أن يؤتى به أو
لا ينبغي أن يؤتى به، والأحكام العقلائية في باب التحسين والتقبيح ليست الا
بناء العقلاء وعلى مدح فاعل بعض الأفعال وذم فاعل بعضها الاخر.
واما ثانيا: فبأن الحكم العقلائي المزبور نسبته إلى الحجية نسبة الحكم إلى
موضوعه لا نسبة الأمر الانتزاعي إلى منشأ انتزاعه حتى يكون مجعولا بجعله
تبعا، كيف وهو مجعول من العقلاء، غاية الأمر أنه مرتب على موضوعه المجعول
شرعا.
وأما ثالثا: فبأن الوجوب المتعلق بالكل حيث إنه مستنبط من الدليل
المتكفل له فكذلك الجزئية مستنبطة منه بتبع استنباط منشأ انتزاعها، بخلاف
الالزام العقلي أو الحكم العقلائي فإنه وإن كان لازما للحجية المستنبطة من دليلها
إلا أنه غير مستنبط من هذا الدليل بالتبع، وليس مجرد ملازمة شئ لشئ ملاك
الاستنباط ولا ينتقض بما سيجيئ من استلزام وجوب تصديق العادل لوجوب
صلاة الجمعة حيث نكتفي به في مرحة الاستنباط.
لأن الخبر القائم على وجوب صلاة الجمعة لا يستنبط منه الوجوب إلا
بواسطة حجية الخبر الملازمة لجعل الحكم المماثل بلسان أن المؤدى هو الواقع،
فحيث انه يجعل المؤدى واقعا يقال باستنباط الحكم الواقعي من الخبر بضميمة
دليل الحجية وأين هذا من مجرد الملازمة بين حكم العقلاء والحجية الشرعية.
ويمكن الاشكال على التعميم من حيث الوقوع في طريق الاستنباط ومن
حيث انتهاء أمر الفقيه إليه في مقام العمل بوجهين:
186

أحدهما: لزوم فرض غرض جامع بين الغرضين لئلا يكون فن الأصول علمين
لأن المفروض ترتب كل غرض على طائفة من المسائل والمفروض أيضا على
مسلكه (1) - قده - أن ملاك وحدة العلم وتعدده وحدة الغرض وتعدده.
وثانيهما: أن القواعد التي ينتهى إليها أمر الفقيه بعد الفحص واليأس عن
الدليل هي الأصول العملية في الشبهات الحكمية، فإنها المرجع بعد الفحص
واليأس عن العلم والعلمي دون الأمارات التي تكون حجة شرعا ابتداء أو امضاء
فإنها الأدلة على حكم العمل من دون تقييدها باليأس عن العلم، وأجبنا عنه في
أوائل الحاشية (2) على الجزء الأول من الكتاب بوجهين:
الأول: أن دليل الحجية بمعنى جعل الحكم المماثل كوجوب تصديق العادل
ليس عين وجوب صلاة الجمعة بل ايجاب صلاة الجمعة بلسان تصديق ايجاب
العادل فان لازم فعل صلاة الجمعة تصديق العادل بمعنى إظهار صدقه بعمله
على طبقه، فايجاب تصديق العادل لازم ايجاب صلاة الجمعة بعنوان الكناية
فالمبحوث عنه في علم الأصول هو الايجاب الكنائي لإثبات ملزومه في الفقه
وهو حكم العمل حقيقة، وحيث إن ايجاب التصديق بلسان أن المؤدى هو الواقع
فلا محالة الخبر المتكفل لوجوب صلاة الجمعة واقعا يستنبط منه الحكم حقيقة
بضميمة دليل الحجية كما مر انفا، وهذا المقدار من التوسيط كاف في وقوع نتيجة
البحث في طريق استنباط الحكم.
وعليه ينبغي تنزيل ما أفاده شيخنا الأستاذ - قده - في أول الاستصحاب (3) من
أن البحث عن الحجية بحث أصولي حيث لا تعلق لها بحكم العقل بلا واسطة
فان الغرض منه انه حكم كنائي للانتقال إلى حكم حقيقي للعمل، والا فلو أريد
منه الحكم الحقيقي للعمل، بواسطة انطباق عنوان فهو مع أنه يوجب التطبيق

(1) كفاية الأصول: ج 1، ص 5، - وقد انقدح بما ذكرنا ان تمايز العلوم إنما هو باختلاف الاغراض.
(2) نهاية الدراية: ج 1، ص 19.
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 274 وكفاية الأصول: 385 (ت، آل البيت).
187

المحض دون الاستنباط إن لم يكن لذات المعنون حكم يبحث عنه في الفقه،
واجتماع الحكمين إن كان لذات المعنون حكم يبعث عنه في الفقه لا يخرج مع
ذلك عن كون البحث فقهيا، إذ لا فرق في الحكم المبحوث عنه في الفقه بين أن
يترتب على العمل بلا واسطة كوجوب الصلاة، أو بواسطة عنوان كعنوان الوفاء
بالنذر ونحوه وعنوان تصديق العادل كذلك، هذا بناء على انطباق عنوان
التصديق على العمل.
وأما بناء على كونه متولدا من العمل فهو حكم شرعي لفعل توليدي ولا فرق
في الحكم المبحوث عنه في الفعل بين أن يتعلق بفعل توليدي أو غير توليدي
فالغرض منه ما ذكرناه.
وأحسن من هذا التقريب أن الحجية ليست بمعنى جعل الحكم المماثل
ولا بمعنى جعل المنجزية بل بمعنى الوساطة في الاثبات أو التنجز، فالحكم
المماثل مصحح الحكم على المؤدى بأنه الواقع، فوساطة الخبر لإثبات الواقع
عنوانا هو معنى حجيته، فالمبحوث عنه في الأصول وساطة الخبر في الاثبات
والمبحوث عنه في الفقه ثبوت الحكم عنوانا أو اعتبارا، وهذا الوجه يجدى فيما
كان حجيته بمعنى جعل الحكم المماثل بلسان وجوب تصديق العادل أو حرمة
نقض اليقين بالشك. وأما ما كان بمعنى تنجيز الواقع كحجية الظواهر فلا.
الثاني: أن الاستنباط لا يختص بتحصيل العلم الحقيقي بالحكم الشرعي
ليحتاج إلى جعل الحكم المماثل، بل الاستنباط والاجتهاد تحصيل الحجة على
الحكم، فالبحث عن منجزية الأمارات يفيد في تحصيل الحجة على الحكم في
علم الفقه، وعليه فعلم الأصول هو العلم بالقواعد الممهدة لتحصيل الحجة على
الحكم الشرعي، بل قد ذكرنا في أول مبحث الاجتهاد والتقليد (1) شيوع إطلاق
العلم على مجرد الحجة القاطعة للعذر، وعليه فجميع مباحث الامارات سواء
كانت حجيتها بمعنى جعل الحكم المماثل أو تنجيز الواقع داخل في علم

(1) نهاية الدراية: ج 3، ص 425، في ذيل قول الماتن، ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم...
188

الأصول، وهكذا الاستصحاب - سواء كان مفاد دليل حجيته جعل الحكم
المماثل أو تنجيز الواقع - يدخل البحث عنه في علم الأصول.
نعم، ما كان مفاده ابتداء هو الحكم الشرعي كقاعدة الحل وشبهها من دون
جعل الملزوم بجعل اللازم ولا اثبات المعذر عن الواقع فهو بحث فقهي ولا بأس
بالاستطراد في مثله.
92 - قوله: بل عن حجية الخبر الحاكي عنها (1) الخ:
هذا إذا كانت الحجية بمعنى تنجيز الواقع، وأما إذا كانت بمعنى التعبد بالواقع
وإنشاء الحكم على طبقه فيمكن أن يجعل الموضوع نفس السنة بوجودها الأعم
من الحقيقي والحكائي فان وجودها في الحكاية وجودها بالعناية فيرجع البحث
إلى أن السنة المحكية هل وقع التعبد بها أم لا؟
93 - قوله: فان التعبد بثبوتها مع الشك فيها (2) الخ:
لم يتعرض - قده - للثبوت الواقعي كما تعرض له في أول الكتاب (3)، لوضوح
عدم إرادة المجيب له، مضافا إلى وضوح بطلانه لا لما أفاده - قده - في غير مقام
من رجوعه إلى البحث عن ثبوت الموضوع وهو لا بد من الفراغ عنه في كل علم،
لما مر في أول التعليقة (4) من أن البحث عن ثبوت شئ بشئ غير البحث عن
ثبوت الشئ، فالبحث في الحقيقة عن وساطة الخبر، ووساطته ثبوتا أو إثباتا
لا يوجب رجوع البحث إلى ثبوت الموضوع.
اما وساطة الخبر ثبوتا، فلوضوح أن البحث عن كون الشئ ذا مبدء بحث
عن عوارضه ألا ترى أن الموضوع في فن الحكمة هو الوجود أو الموجود
والبحث عن كونه ذا مبدء من أعظم مسائله وأهم مطالبه.
واما وساطة الخبر إثباتا، فلان التصديق بثبوت السنة بالخبر مرجعه إلى

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 78 والرسائل: ص 67، في ذيل المقدمة الأولى.
(2) كفاية الأصول: 293، (ت، آل البيت).
(3) كفاية الأصول: ج 1، ص 6 - س 13 - فان البحث عن ثبوت الموضوع.
(4) نهاية الدراية: ج 1، ص 14 - في ذيل كلام الماتن: ان كان البحث عن ثبوت الموضوع...
189

التصديق بانكشافها به كانكشافها بالتواتر وبالقرينة وانكشاف الشئ من
عوارضه، بل الوجه في بطلانه أن وساطة الخبر بما هو خبر ثبوتا وإثباتا محال،
بداهة أن الخبر ليس واقعا في سلسلة علل السنة بل يستحيل وقوعها لتأخر رتبة
الحكاية عن المحكى كما أن الخبر بما هو محتمل للصدق والكذب فلا يعقل
كونه بما هو سببا لانكشافها واقعا، فتدبر جيدا.
94 - قوله: ليس من عوارضها بل من عوارض مشكوكها (1) الخ:
يمكن أن يقال إن السنة المشكوكة أو المحكية ثبوتها بما هي مشكوكة أو
محكية واقعي حقيقي لا تعبدي تنزيلي، وكذا الحكم المماثل فإنه أيضا له ثبوت
حقيقي كنفس السنة الواقعية، وكونه عين التعبد لا يقتضى كون ثبوته تعبديا، إذ
التعبد ثبوته حقيقي لا تعبدي تنزيلي بل هو مصحح لتنزيل المؤدى منزلة السنة
الواقعية، وإنما الثابت تعبدا وتنزيلا نفس السنة الحقيقية فإنها التي تنسب إليه
الثبوت تارة تحقيقا وأخرى تعبدا وتنزيلا.
توضيحه: أن ايجاب تصديق العادل حيث إنه بعنوان أن المؤدى هو الواقع
كما هو مقتضى عنوان التصديق فلا محالة يكون المؤدى وجودا عنوانيا للواقع
والواقع موجود عنوانا به، فإذا كان موضوع المسألة هي السنة صح البحث عن
عارضها وهو ثبوتها العنواني بالخبر، كما أن الموضوع للمسألة إذا كان هو الخبر
صح البحث عن عارضه وهو كونه ثبوتا عنوانيا للسنة، فان الثبوت العنواني له
نسبة إلى الطرفين إلا أن ما ذكرنا يصحح إمكان جعل المسألة باحثة عما ينطبق
على عوارض السنة وإلا فالبحث المتداول في الأصول هو البحث عن عارض
الخبر فإنه الموضوع للمسألة، فتدبره فإنه حقيق به.
ونظير الثبوت التعبدي اشكالا وجوابا تنجز السنة بالخبر.
أما اشكالا، فمن حيث إن المنجزية صفة جعلية للخبر فهي من عوارض الخبر.
وأما جوابا، فمن حيث إن المنجزية والمتنجزية متضايفتان، فكما أن الخبر

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 79 وكفاية الأصول: 293، (ت، آل البيت).
190

منجز كذلك السنة الواقعية متنجزة، فإذا كان موضوع العلم بحيث ينطبق على
الخبر صح البحث عن كون الخبر منجزا، وإذا لم ينطبق إلا على السنة الواقعية لزم
البحث عن تنجز السنة بالخبر.
نعم، جعل البحث في ثبوت السنة تعبدا أولى من تنجزها بالخبر، لأن الثبوت
التعبدي بالإضافة إلى السنة كالوجود إلى الماهية والتنجز بالنسبة إليها كالعرض
بالنسبة إلى الموضوع، فالثبوت التعبدي أشد مساسا بالنسبة من التنجز بل التنجز
أكثر مساسا بالخبر حيث إنه وصف مجعول ابتداء للخبر فتدبر.
95 - قوله: مع أنه لازم لما يبحث عنه في المسألة (1) الخ:
هذا لا يجرى بناء على الحجية بمعنى كون الخبر بحيث تنجز الواقع، إذ
لا ثبوت تعبدي هنا وانما الثابت هي السنة بوجودها الحقيقي عند مصادفة الخبر
لها، وانما يجرى بناء على انشاء الحكم المماثل كما هو مبنى الدعوى، وذلك إنما
هو بلحاظ لسان الدليل، حيث إن تصديق العادل وسماع قوله ليس عين وجوب
صلاة الجمعة بل لازمه وجوب ما أخبر بوجود العادل، فالحكم المماثل لازم ما
هو لسان الدليل وهو المبحوث عنه لا وجوب صلاة الجمعة، ولذا تكون المسألة
أصولية لا فقهية حيث لا تعلق للحجية بحكم العمل بلا واسطة، بل هي وحكم
العمل متلازمان وإن كان التلازم بنحو الكناية لا بنحو الجد.
وهذا المقدار من التوسيط كاف في مقام الاستنباط ويخرج به عن تطبيق
الحكم الكلى على مورده، والتحقيق: أن هذه المعنى وان أمكن الالتزام به في
جعل المسألة أصولية لا فقهية لكنه لا يجدى في دعوى انه لازم الحجية، لما
عرفت من أن الحكم المماثل له ثبوت تحقيقي لا تعبدي تنزيلي بل ماله ثبوت
تعبدي نفس السنة لا لازمها.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 79 وكفاية الأصول: 293، (ت، آل البيت).
191

" في الآيات التي استدل بها على حجية خبر الواحد "
* آية النباء
96 - قوله: من وجوه أظهرها (1) الخ:
منها ما حكاه المحقق الأنصاري - قده - في رسائله (2) وهو تعليق الحكم على
أمر عرضي متأخر عن الذاتي، وتوضيحه بحيث يكون دليلا للمطلوب هو أن
العلة لوجوب التبين، إما مجرد الخبرية أو هي مع الفسق بنحو الاشتراك، أو كل
منهما مستقلا أو مجرد فسق المخبر، وبعد ظهور الآية في دخل الفسق في
وجوب التبين كما هو مفروض الرسائل ينفى الاحتمال الأول كما أن الثاني يثبت
المطلوب لانتفاء المعلول بانتفاء أحد جزئي العلة.
وأما احتمال قيام خصوصية العدالة أو خصوصية أخرى في مقام الفسق
فالعلة غير منحصرة.
فمدفوع: بمنافاته للبرهان إن كان كل منهما بخصوصه علة لوجوب التبين،
إذ المتباينان لا يؤثران أثرا واحدا، وبمنافاته للظاهر إن كانا مؤثرين بجامع
يجمعهما، إذ الظاهر من الآية علية خبر الفاسق من حيث عنوانه الخاص،
والاحتمال الثالث مناف للظاهر، لأن بيان الخبرية مغن عن الفسق، إذ لا يلزم من
الاقتضاء على تعليل الحكم بالخبرية إخلال بثبوت الحكم في مورد من الموارد،
فتقييد الخبر بكون الجائي به فاسقا ليس لبيان العلية.
لا يقال: إذا كان كل منهما علة فعند اجتماعهما (3) يكونان معا علة واحدة
فالحكم الواحد حيث كان منبعثا عنهما رتبه عليهما.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 83 وكفاية الأصول: 296، (ت، آل البيت).
(2) الرسائل: ج 1، ص 116، (ط، جماعة المدرسين) ونفس المصدر: ص 71 (مخطوط).
(3) (خ ل): اجتماعها.
192

لأنا نقول: هذا بالنسبة إلى شخص الحكم، وأما إذا كان المرتب عليهما كلي
الحكم كما هو مقتضى القول بالمفهوم فلا محالة يلزم من ترتيبه عليهما الاخلال
لعلية الخبرية في غير هذا المورد، ففرض علية الخبرية يستلزم عدم التقييد
بالفسق وإلا لزم اللغوية، وحمله على نكنة أخرى مناف لتسليم ظهور الآية في
عليه الفسق، فلم يبق من المحتملات إلا علية الفسق اشتراكا أو استقلالا بنحو
الانحصار.
نعم، كل ذلك مبنى على تسليم ظهور الآية بمناسبة الحكم والموضوع في
علية الفسق للحكم لا للتنبيه على فسق المخبر وهو الوليد في خصوص المورد،
وأما ما أفاده المحقق المقدم - ره - من أن التعليل بالذاتي أولى لحصوله قبل
حصول العرضي، فإنما ينفى العلية بالاستقلال للخبرية لا الاشتراك مع الفسق في
التأثير، مضافا إلى أن قبلية الذاتي على العرضي قبلية ذاتية طبعية لا قبلية زمانية
وجودية حتى لا ينتهى النوبة في التأثير إلى العرضي المتأخر، فتدبر جيدا. ثم إن
تقريب الاستدلال على المشهور بالمفهوم مبنى كما أفاده المحقق الأنصاري
- قده - على كون وجوب التبين نفسيا لا على كونه شرطيا.
إذ لا يتوقف الوجوب الشرطي على المقدمة الخارجية القاضية بأنه لولا
وجوب قبول خبر العادل لكان أسوء حالا من الفاسق، وجه عدم التوقف أن
وجوب العمل بخبر الفاسق مشروط بالتبين فينتفى في غيره، والوجوب الشرطي
عبارة عن لا بدية المشروط في تحققه من الشرط لا الوجوب المقدمي حتى يقال
إن عدم وجوب التبين مقدمة للعمل، كما يمكن أن يكون لعدم المقدمية كذلك
يمكن أن يكون لعدم وجوب ذيها وهو العمل بالخبر، فإنه لا مقدمية للتبين
للعمل حتى يتوهم وجوبه المقدمي.
وكذا الوجوب الشرطي بمعنى وجوب العمل بخبر الفاسق مقيدا بالتبين
فيجب التبين لأخذه في الواجب وإن لم يكن بنفسه مقدمة وجودية للعمل
بالخبر، فإنه بناء عليه يجب التبين مطلقا تحصيلا للعمل الواجب مع أنه لا ريب
في عدم وجوب التبين ولو لم يرد ترتيب الأثر على الخبر كما أن ما أفاده الشيخ
193

الأعظم في رسائله (1) من وجوب التبين عند إرادة العمل لا مطلقا.
فإنه إن أريد من وجوب التبين نفسيا غاية الأمر مشروطا بإرادة العمل على
طبق الخبر فهو التزام بالوجوب النفسي المشروط لا بالوجوب الشرطي المقابل
للوجوب النفسي.
وإن أريد منه اشتراط وجوبه الغيري بإرادة العمل على طبق الخبر فهو محال،
لأن وجوب المقدمة تابع لوجوب ذيها إطلاقا واشتراطا ولا يعقل اشتراط
وجوب العمل على طبق الخبر بإرادة العمل، للزوم تعليق الحكم على مشية
المكلف، بل المراد من الوجوب الشرطي ما ذكرناه من أن حرمة العمل بخبر
الفاسق مقيدة بعدم التبين وجوازه بالتبين، فأصل الجواز منوط بالتبين فلا بد في
جواز العمل من التبين لا أن التبين واجب شرعي بنحو من الوجوب الحقيقي،
هذه غاية تقريب الوجوب الشرطي للتبين.
والتحقيق أن التبين ليس كالفحص المشروط به العمل بالعام أو اجراء الأصول
بل معناه طلب العلم بالواقع ويكون مدار العلم عليه لا على خبر الفاسق بعد
التبين، ومن البين أن وجوب طلب العلم بالواقع لا يكون بوجه مرتبا ومعلقا على
مجيئ الفاسق بالخبر حتى ينتفى بانتفائه، بل المراد والله أعلم لزوم الاعراض
عن خبر الفاسق وصرف المكلف إلى تحصيل العلم بالواقع لترتيب آثار الواقع،
فبناء على ثبوت مفهوم الشرط للآية يكون المعلق على مجيئ الفاسق هو عدم
حجية الخبر بمعنى عدم جعل الحكم المماثل أو عدم المنجزية للواقع ببيان
لازمه وهو تحصيل العلم.
إذ لا يطلب تحصيل العلم بالواقع إلا مع عدم الحجة على الواقع بعدم ثبوته
تنزيلا أو عدم تنجزه بمنجز، فالمنتفي بانتفاء مجئ الفاسق عن النبأ هو ملزوم
التبين أي عدم الحجية وانتفائه عن النبأ الذي جاء به العادل هو حجية خبر
العادل، لاستحالة ارتفاع النقيضين، فتبين أن المعلق حقيقة على مجيئ الفاسق
بناء على المفهوم هو ملزوم وجوب التبين لا نفسه، فوجوب التبين لم يكن منوطا

(1) الرسائل: ج 1، ص 117 (ط، جماعة المدرسين)، ونفس المصدر: ص 71 (مخطوط)، لكنك
خبير بان الامر بالتبيين هنا مسوق لبيان الوجوب الشرطي.
194

به شئ ولا منوطا بشئ، بل المعلق هو عدم جعل حكم المماثل أو عدم
المنجزية للواقع فهو المنتفى عند انتفاء مجيئ الفاسق من دون حاجة إلى ضم
مقدمة خارجية.
97 - قوله: على كون الجائي به الفاسق (1) الخ:
لا يخفى عليك أن ظاهر الآية من حيث وقوع مجيئ الفاسق بوجوده الرابط
في تلو الشرطية أن المعلق عليه مجيئ الفاسق بنحو وجوده الرابط، فينتفى
الحكم بانتفائه لا فسق الجائي به بوجوده الرابط كي ينتفى الحكم بانتفاء كونه
فاسقا مع حفظ مجيئ الخبر، فان الواقع موقع الفرض والتقدير هو مجيئ
الفاسق لا فسق الجائي فكيف يكون المجيئ مفروغا عنه.
وبالجملة: فرق بين ما لو قيل إن كان الجائي بالخبر فاسقا وما لو قيل إن كان
الفاسق جائيا بالخبر ومفاد الآية تحليلا هو الثاني وما يجدى في المقام هو الأول.
لا يقال: إذا كان النبأ بعنوانه لا بما هو مضاف إلى الفاسق موضوعا للحكم فلا
فرق في إفادة المفهوم على النحو المطلوب بين كون المعلق عليه مجيئ الفاسق
أو كون الجائي به فاسقا فان النبأ الذي جاء به العادل نبأ لم يجيئ به فاسق فلا
يجب التبين عنه من حيث إنه لم يجيئ به فاسق.
لأنا نقول: معنى (إن جاءكم فاسق بنبأ) (2) في الحقيقة (إن نبأكم
فاسق) لا أن المجيئ أمر اخر حتى يكون أحدهما موضوعا والاخر معلقا عليه
ويمكن أن يقال بالفرق بين مورد الآية والموارد التي يكون الشرط فيها محققا
للموضوع فان " الولد لا يكون إلا مرزوقا " و " لا الدرس إلا مقروا " و " لا الركاب إلا
عند الركوب "، بخلاف النبأ فإنه ربما يكون ولا انتساب له إلى الفاسق فلو كانت
العبارة (إن نبأكم فاسق) لأمكن أيضا القول بدلالتها على المطلوب حيث إن الهيئة
وإن كانت مقيدة من حيث الفاعل بالفاسق إلا أن مادة النبأ مطلقة.
فلنا التمسك باطلاق مادته وجعله موضوعا وجعل انتسابه إلى الفاسق معلقا

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 83 وكفاية الأصول: 296، (ت، آل البيت).
(2) حجرات، الآية 6.
195

عليه فينتفى وجوب التبين بانتفائه.
فان قلت: لا يعقل أن يكون الإضافة والنسبة إلى الفاسق معلقا عليها والنبأ
موضوعا للحكم، لأن المعلق عليه كالمعلق لابد من أن يكون ملحوظا بلحاظ
استقلالي ليعقل تعليق شئ على شئ، وكذا وقوع مدخول الأداة موقع الفرض
والتقدير أو موقع العلية أو العلية المنحصرة، فان هذه المعاني حيث إنها معان
حرفية فلا بد من أن يكون الملحوظ بالأصالة معنى إسميا ولا يعقل أن تكون
النسبة بما هي نسبة ملحوظ استقلالا لتلاحظ العلية وأشباهها فيها بالتبع.
قلت: ليس الاشكال بحسب مقام الثبوت لإمكان دخل الإضافة إلى الفاسق
في وجوب التبين عن النبأ، وإنما الاشكال بحسب مقام الاثبات فإن كان ايجاب
التبين بمثل ما عبرنا به وهو " إن نبأكم فاسق فتبينوا " فمفاد الهيئة وهي النسبة
الحقيقية معنى حرفي لا يعقل أن يكون معلقا عليها وموصوفة بالأوصاف
المذكورة.
وأما مثل قوله تعالى: (إن جائكم فاسق بنبأ) فمجئ الفاسق معنى
اسمي له قبول التعليق والعلية والوقوع موقع الفرض والتقدير، كما أن النبأ الوارد
عليه النسبة في مثل المثال أيضا قابل لذلك لكنه يتحد المعلق عليه والموضوع.
نعم، التحقيق أن تجريد النبأ عن الإضافة إلى الفاسق لا يخرج المعلق عليه عن
كونه محققا للموضوع، إذ لا حقيقة للنبأ إلا بصدوره من مخبر، وكون المعلق عليه
ذا بدل لا يخرجه عن كونه محققا للموضوع، فان المناط انتفاء للموضوع بانتفاء
المعلق عليه، ومن الواضح انتفاء النبأ بانتفاء مجيئ الفاسق والعادل، بخلاف
مثل " إن جائك زيد فأكرمه " فان زيدا محفوظ ولو مع انتفاء المجئ وانتفاء كل
ما يفرض بدلا للمجئ.
وربما يورد (1): على جعل النبأ بنفسه موضوعا وجعل مجيئ الفاسق به معلقا
عليه بان الموضوع إما هو طبيعي النبأ المقسم بين نبأ الفاسق ونبأ العادل أو النبأ

(1) درر الفوائد: ج 2 - 1، ص 384، (ط، جماعة المدرسين) وجملة من عبارته: لأنا نقول: إن
كان المراد كون الموضوع هو طبيعة النبأ...
196

الموجود الخارجي.
فإن كان الأول كان اللازم على تقدير تحقق الشرط وجوب التبين عن نبأ
العادل أيضا لفرض كون الموضوع طبيعة النبأ المتحققة في ضمن نبأ العادل
أيضا.
وإن كان الثاني فيجب أن يكون التعبير بأداة الشرط باعتبار الترديد، لأن النبأ
الخارجي ليس قابلا لأمرين، فعلى هذا ينبغي أن يعبر بم يدل على المضي
لا الاستقبال.
أقول: أما على تقدير جعل الموضوع طبيعي النبأ فليس المراد من الطبيعة
المطلقة بنحو الجمع بين القيود بحيث يكون المراد منه الطبيعة المتحققة في
ضمن نبأ العادل والفاسق معا، بل المراد هو اللا بشرط القسمي أي طبيعي النبأ
الغير الملحوظ معه نسبة إلى الفاسق ولا عدمها، وإن كان هذا الطبيعي يتحصص
من قبل المعلق عليه وجودا وعدما فيتحقق هناك حصتان.
إحديهما: موضوع وجوب التبين، والأخرى: موضوع عدم وجوب التبين،
ولا منافاة بين أن يكون الموضوع الحقيقي لكل حكم حصدة مخصوصة وأن يكون
الموضوع في الكلام رعاية للتعليق المفيد لحكمين منطوقا ومفهوما نفس
الطبيعي الغير الملحوظ معه ما يوجب تحصصه بحصتين وجودا وعدما.
وأما على تقدير إرادة النبأ الخارجي،
ففيه: أولا: أن شاء الأداة ليس جعل موضوع الحكم قابلا لأمرين ومنقسما
إلى قسمين ومتحصصا بحصتين، ضرورة أنه شأن ما كان الموضوع فيه كليا لا مثل
" إن جائك زيد فأكرمه " بل شأن الأداة جعل مدخولها واقعا موقع الفرض والتقدير
وهو كما يجتمع مع كلية الموضوع كذلك مع جزئية الموضوع، وإن كان وجود
بعض افراد الموضوع الجزئي ملازما لأحد طرفي المعلق عليه كما فيما نحن فيه،
حيث إن النبأ الموجود بالفعل إما مضاف إلى الفاسق أو إلى العادل، إلا أن وقوع
الشئ موقع الفرض والتقدير يجتمع مع كون المحقق عدمه، فضلا عن موافقة
الفرض للواقع كما في حرف (لو) الشرطية، فان دلالتها على امتناع الجزاء
197

بملاحظة أن فرض وجود شئ في الماضي لكون المحقق عدمه ففرضه فرض
أمر محال وما يترتب عليه أيضا محال.
وثانيا، لا وجه لاختصاص الترديد بالماضي إلا توهم أن الموجود بالفعل في
الخارج، حيث إنه جزئي متشخص فلذا لا يكون قابلا لأمرين بل واقع لا محالة
على أحد الوجهين، بخلاف ما لم يوجد بعد فإنه غير متشخص وغير واقع على
وجه حتى لا يكون هناك مجال إلا للترديد.
ويندفع: بأن المفروض في المستقبل إذا كان واحدا شخصيا لا نوعيا فهو أيضا
بحسب الفرض جزئي لا يقع إلا على وجه واحد، فهو غير قابل لأمرين بل أمره
مردد بين أمرين بلحاظ جهل الشخص بحاله، فالجزئية المانعة عن قبول الأمرين
لا يختص بما وقع بل يعم ما سيقع أيضا، فتدبر جيدا.
98 - قوله: إلا أنها ظاهرة في انحصار موضوع الخ:
توضيحه أن أداة الشرط ظاهرة في انحصار ما يقع تلوا لها فيما له من الشأن
بالإضافة إلى سنخ الحكم المنشئ، لأن انتفاء شخص الحكم بانتفاء شخص
موضوعه أو شخص علته لا يحتاج إلى دلالة على الحصر، فالحصر بالإضافة إلى
سنخ الحكم فإن كان الواقع عقيبها معلقا عليه حقيقة الحكم كانت السببية
منحصرة ومقتضى انحصار العلة انتفاء المعلول بانتفائها، وإن كان محققا
للموضوع كان الموضوع الحقيقي منحصرا فيما وقع عقيب الأداة. ومقتضى
انحصار موضوع سنخ الحكم في شئ انتفاؤه بانتفائه وإن كان هناك موضوع اخر.
بل يمكن تقويته بدعوى أن أداة الشرط شأنها التعليق دائما غاية الأمر أن
المعلق عليه ربما لا يعقل له بدل يمكن أن ينوب عنه سواء كان علة كما في مثل
" إن سأل زيد فأجبه " أو محققا للموضوع كما في مثل " أن رزقت ولدا فاختنه " و
أشباهه، فالانتفاء عند الانتفاء عقلي.
وربما يعقل له بدل لكنه يؤخذ في القضية على نحو المحقق للموضوع
بالعدول عن جعل الفسق معلقا عليه كما في التقريب الأول من المتن (1) إلى

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 83، س 4.
198

جعل المجئ معلقا عليه مع كونه ذا بدل، فيكون النكتة فيه إظهار حصر
الموضوع في ما أخذ الشرط فيه محققا له بدعوى انه كالمحقق الذي ينتفى
الحكم بانتفائه عقلا، فيكون اكد في الدلالة على انتفاء الحكم عند انتفائه من
سائر القضايا الشرطية التي يدعى دلالتها على المفهوم.
99 - قوله: لأن التعليل بإصابة القوم بالجهالة (1) الخ:
حيث إن إصابة القوم بجهالة علة وهي متقدمة على معلولها وهو وجوب
التبين وعدم جواز العمل بخبر الفاسق، فالعمل بخبر الفاسق من حيث نفسه
جهالة لا بما هو غير حجة بل حيث إنه جهالة لم يكن حجة فالعلة مشتركة بين
خبر الفاسق وخبر العادل، لعدم العلم في كليهما، ويمكن أن يقال إن ظاهر
التعليل هنا وفى غير مورده من الموارد عدم كونه تعبديا بل يذكر العلة غالبا
لتقريب الحكم إلى افهام عموم الناس.
ومن الواضح أن العمل بخبر من يوثق به ليس عند العقلاء من شأن أرباب
الجهل، كما أن العمل بخبر من لا يبالي بالكذب من زي أرباب الجهل، وبعيد عن
طريقة أرباب المعرفة والبصيرة، وإنما اغتر أصحاب النبي صلى الله عليه وآله
بظهور اسلام الوليد المقتضى للتجنب عن الكذب غفلة منهم عن عداوته لبني
المصطلق الداعية إلى الافتراء عليهم بارتدادهم فنبههم الله تعالى على فسقه
المقتضى لعدم المبالاة بالكذب، فيقتضى التبين عن خبره، لأن الاعتماد على
خبر من لا يبالي بالكذب من شأن أرباب الجهل وعليه فليس العمل بكل خبر من
شأن أرباب الجهل.
لا يقال: ظاهر التعليل بإصابة القوم كون الحكم لخصوص الواقعة، لعدم
سريان هذه العلة في جميع موارد العمل بخبر الفاسق.
لأنا نقول: لو كان الحكم لخصوص الواقعة لكان اللازم تكذيب الوليد، لعلمه
(تعالى) بكذبه مع قيامه مقام إظهار فسقه لا ايجاب التبين والتعليل بخوف إصابة
القوم فيعلم منه أن الغرض إعطاء الكلية، لأن الكاذب قد يصدق وحيث كان

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 86 وكفاية الأصول: 297، (ت، آل البيت).
199

المقصود تطبيق الكلية على المورد أيضا فلذا طبق كلي المفسدة على خصوص
مفسدة المورد وهي إصابة القوم بجهالة، والله أعلم.
ومرجع هذا الجواب إلى أن المراد هي الجهالة العملية دون الحقيقية النفسانية
كما في قوله تعالى: (أعظك أن تكون من الجاهلين) (1) وقوله تعالى
(يعملون السوء بجهالة) (2) إلى غير ذلك إلا أن كون العمل بخبر العادل
من زي أرباب البصيرة والعمل بخبر الفاسق من زي أرباب الجهالة ليس بمجرد
كون الفاسق لا يبالي بالكذب دون العادل، فان الاعتماد على ما ليس بحجة ليس
من زي أرباب البصيرة وإنما يكون العمل بخبر العادل مع قطع النظر عن هذه الآية
من شأن أرباب البصيرة، لبناء العقلاء على العمل بخبر من يوثق به، فالآية حينئذ
مبنية على حجية خبر العادل وكاشفة عنها لا أنها مبنية للحجية وجاعلة لها كما
هو المقصود هنا.
وربما يجاب (3) بان العلة ليس مطلق الجهالة بل جهالة خاصة توجب الندامة
وهي مخصوصة بخبر الفاسق، وأما العمل بخبر العادل فعلى فرض المخالفة
للواقع يوجب المعذورية لا الندامة، وجوابه ما مر انفا، من أنه مع قطع النظر
عن الحجية كلاهما يوجب الندم فالآية مبنية على الحجية الموجبة للمعذورية
لا متكفلة لها، وأما الجواب عن التعليل بحكومة المفهوم الموجب لحجية خبر
العادل وانه محرز للواقع اعتبارا فالجهالة وإن كانت بمعنى عدم العلم إلا أنها
منزلة منزلة العدم بمقتضى المفهوم، فمندفع بان حكومة سائر الأدلة على هذا
التعليل المشترك وجيهة.
وأما حكومة المفهوم المعلل منطوقه بنحو يمنع عن اقتضاء المفهوم المثبت
لحجية خبر العادل حتى يرتفع به الجهالة تنزيلا فهو دور واضح، فتدبر جيدا.

(1) هود 11: الآية 46.
(2) نساء 4: الآية 17.
(3) هو المحقق الحائري - ره - في درره: ج 2 - 1، ص 385 والجواب عن الاشكال.
200

في إشكال الخبر مع الواسطة
100 - قوله: فإنه كيف يمكن العلم بوجوب التصديق (1) الخ:
وببيان آخر لا ريب في أن حجية الخبر إما بمعنى إنشاء الحكم المماثل على
طبقه، أو بمعنى جعله بحيث ينجز الواقع.
فإن كان الأول، فمن البين أن ايجاب ما أخبر بوجوبه العادل وتحريم ما أخبر
بتحريمه لا يكاد يعم بلفظه ما إذا أخبر عن موضوع محكوم بهذا الحكم الايجابي
أو التحريمي المماثل، وإلا لزم كون الحكم موضوعا لنفسه، حيث إن الحكم
متأخر طبعا عن موضوعه فلا ثبوت له في مرتبة موضوعه بما هو موضوعه،
ومعنى شمول الإخبار عن الوجوب والتحريم للاخبار عن الوجوب والتحريم
التنزيلين الثابتين بنفس اية النبأ وشبهها شمول الموضوع لحكمه وثبوت الحكم
في مرتبة موضوعه.
وإن كان الثاني، فان اقتصرنا في التنجيز على كون الخبر موجبا لاستحقاق
العقوبة على المخالفة عند المصادفة فلا مجال للتعدي عن الخبر المتكفل للحكم
الشرعي النفسي بنفسه (2)، وهو خلاف المطلوب وإن عمها التنجيز ولو بلحاظ
انتهائه إلى ذلك، ومجرد إيقاع المكلف في كلفة التكليف طريقيا كان أو حقيقيا
فلا محالة يرد المحذور المزبور على الوجه المسطور، فان جعل الخبر منجزا
لا يكاد يعم تنجيز نفسه مع أن قيام الخبر على الخبر لا أثر له إلا تنجيز الخبر فتدبر.
ومما ذكرنا تبين أن ملاك الاشكال اتحاد الحكم مع موضوعه في مرتبة

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 86، س 7.
(2) (خ ل): لحكم الشرعي نفسي - (وصحيح أيضا: المتكفل لحكم شرعي نفسي بنفسه).
201

موضوعيته له لا عدم فردية الحكم لطبيعة الأثر حال تعلقه بها، فكيف يعم نفسه،
فإنه يندفع بجعل القضية حقيقية لشمول القضية الحقيقية لافرادها المحققة
والمقدرة، فالحكم بنفسه من الافراد المقدرة الوجود المحققة بعد تعلقه
بموضوعه، كما أنه ليس ملاك الاشكال لحاظ الحكم في موضوعه بشخصه تفصيلا
حتى يتوهم أن مفاد دليل الحجية إذا كان عاما أصوليا لا مانع من شموله لحكمه،
لعدم لحاظه تفصيلا في موضوعه بل اجمالا في ضمن العموم فيصح أن يقال
رتب كل أثر أو كل ما هو فرد لعنوان الأثر فيعم نفس الحكم المتعلق بالعام قياسا
بالقضية الطبيعية التي يجاب بها الاشكال بتخيل أن الحكم فيها، حيث إنه ملحوظ
بالاجمال يندفع به الاشكال وسيجيئ انشاء الله تعالى فساد هذا التخيل. وأن
الجواب بالقضية الطبيعية غير منوط بالفرق بين اللحاظ الاجمالي والتفصيلي،
لضرورة أن اتحاد الحكم مع موضوعه في مرتبة موضوعية إذا كان مستحيلا
لم يكن فرق فيه بين أن يكون هذا المحال ملحوظا بنحو التفصيل أو الاجمال.
وربما يتوهم أن الاشكال مبنى على تعلق الحكم بالموضوعات الخارجية
والهويات العينية فإنه يقتضى سراية الحكم إلى موضوعه المتقوم بشخص
الحكم، فيلزم سراية الحكم إلى نفسه، وأما إذا قلنا بان الحكم لا يتعلق
بالخارجيات بل يتعلق بالطبايع والعناوين فموضوع الحكم حينئذ ليس متقوما
بحقيقة الحكم بل بعنوانه فلا يلزم سراية الحكم إلى نفسه بل بين الحكم ومقوم
موضوعه التفاوت بالحقيقة والعنوان وكفى به مغائرة بين الحكم وموضوعه،
فلا يلزم عروض الشئ لنفسه ولا اتحاده بنفسه وسرايته إلى نفسه.
ويندفع هذا التوهم، أولا: بان المبنى وإن كان صحيحا عندنا للبراهين القاطعة
المذكورة في مسألة اجتماع الأمر والنهى (1) إلا أن جميع تلك البراهين غير جار
هنا، لأنها، إما كون الفعل الخارجي مسقطا للحكم فلا يعقل أن يكون معروضا له،
وإما كونه معلولا للحكم والمعلول متأخر طبعا عن علته فلا يعقل أن يكون

(1) نهاية الدراية: ج 1، ص 525.
202

معروضا له فان المعروض متقدم طبعا على عارضه، وإما كون البعث موجودا مع
أن الفعل معدوم والموجود لا يتعلق بالمعدوم ولا يتقوم به. وأما كون الحكم، إما
بمعنى الإرادة وهي كيفية نفسانية وهي الشوق الأكيد والشوق المطلق لا يوجد
بل يوجد متعلقا بشئ ومتعلقه المشخص له لا يعقل أن يكون أمرا خارجا عن
أفق النفس بل أمر واقع في أفق النفس فكيف يمكن أن تكون الحركات العضلاتية
مقومة لصفة الشوق النفساني، وإما بمعنى البعث الاعتباري الانتزاعي عن
الانشاء بداعي جعل الداعي، ومن الواضح أن البعث المطلق لا يوجد بنحو وجوده
الاعتباري العقلائي بل يوجد متعلقا بمتعلقه، ويستحيل أن يكون الأمر الخارجي
المتأصل المغائر لأفق الاعتبار مقوما ومشخصا لأمر الاعتباري، فالمناسب للأمر
الاعتباري ليس إلا الطبيعة والعنوان لا الشخص الخارجي والمعنون.
وهذه البراهين برمتها أجنبية عما نحن فيه، لأن الطبيعة التي تعلق بها الوجوب
الحقيقي الذي يصح انتزاع عنوان الواجب منها انما هي قبل وجودها الحقيقي
خارجا فهذه، الطبيعة الواجبة مع فرض كونها واجبة إذا تعلق بها شخص الوجوب
المأخوذ فيها الملحوظ معها لا يلزم منه شئ من المحاذير المتقدمة، لأنها
لا تسقط الحكم في مرتبة طبيعتها ولا هي معلولة له في هذه المرتبة ولا معدومة
في هذه المرتبة ولا منافية لأفق النفس ولا لأفق الاعتبار لعدم خارجيتها.
بل انما لا يعقل أخذ شخص هذا الوجوب في متعلق نفسه للزوم عروض
الشئ لنفسه، فلا موجب لأخذ العنوان مقوما للموضوع إلا نفس هذا المحذور
لا محذور تعلق الحكم بالخارجيات حتى يتوهم أن الموضوع لا محالة هو
العنوان فلا يبقى مجال للاشكال.
فان قالت: لا ينحصر المانع عن تعلق الحكم بالموضوع الخارجي في ما ذكر
بل الحكم حيث إنه بالإضافة إلى موضوعه من قبيل عوارض الماهية لا من قبيل
عوارض الوجود فلا بد من أن يكون فعلية موضوعه بفعلية نفسه لا بفعلية أخرى،
لان كل فعلية تأبى عن فعلية أخرى فيجب انسلاخ الموضوع عن الفعلية في نفسه
وفى قيده، فلا يعقل أخذ حقيقة الوجوب في طرف الموضوع مطلقا.
قلت: هذا أيضا غير جار هنا، لأن الفعلية المتصورة في طرف الموضوعة هنا
203

من طرف شخص الحكم المتعلق به فليس الاشكال هنا اتحاد فعلية مع فعلية
أخرى بل عروض فعلية واحدة لنفسها، فتدبره فإنه حقيق به، هذا كله في بيان
عدم المانع من تعلق الحكم الشخصي بما أخذ فيه نفسه إلا من حيث الاشكال
المبحوث عنه هنا.
وثانيا: أن المقتضى لتعلق الحكم هنا بالمعنون موجود، وذلك لأن وجوب
تصديق العادل، إما بعنوان جعل الحكم المماثل أو بعنوان تنجيز الواقع بالخبر
ومقتضى كليهما أن يكون الدليل ناظرا إلى حقيقة الأثر لا إلى عنوانه.
أما إذا كان من باب جعل الحكم المماثل فلان المماثلة إما أن يلاحظ
بين الحكم المماثل الظاهري والحكم الواقعي، أو بين الحكم الظاهري ومؤدى
الخبر.
فإن كان الأول كما هو التحقيق - لأن جعل الحكم المماثل بعنوان ايصال
الواقع بعنوان اخر - فلا محالة يجب لحاظ المماثلة بين الحكم المماثل الواصل
بالحقيقة والحكم الواقعي بالعرض، والمفروض هنا وحدة الحكم ومع
فرض الوحدة لا يعقل المماثلة لشئ مع شئ اخر.
وإن كان الثاني فمؤدى الخبر - وهو عنوان الحكم المأخوذ في طرف
الموضوع - وان كان غير حقيقة الحكم فالاثنينية المصححة لاعتبار المماثلة
حاصلة إلا أن جعل الحكم المماثل حيث إنه بعنوان تنزيل المؤدى منزلة الواقع
ومصححة جعل الحكم على طبق المؤدى بعنوان انه الواقع فيحتاج إلى منزل
ومنزل عليه ومصحح التنزيل، وحيث إن المنزل هنا عنوان شخص الحكم
والمنزل عليه حقيقة شخص الحكم وهو بعينه مصحح التنزيل فلا يعقل التنزيل،
لأن المنزل عليه محقق لا يحتاج إلى التنزيل كما أن الحكم الواقعي لو كان فعليا
واصلا لا معنى لتنزيل شئ منزلته.
وأما إذا كان من باب جعل المنجز للواقع فالامر أوضح، لأن المتنجز
بالخبر حقيقة الأثر لا عنوانه فيتحد المنجز والمتنجز وهو محال، لرجوعه إلى
علية الشئ لنفسه.
204

101 - قوله: نعم لو أنشأ هذا الحكم ثانيا فلا بأس (1) الخ:
لكن ليعلم أن جعلا اخر لا يعقل أن يتكفل إلا لمرتبة من الخبر وهو الخبر عن
الخبر المتكفل للحكم الواقعي دون المراتب الأخر، للزوم المحذور المزبور في
شمول الجعل الاخر لجميع مراتب الخبر حتى المتكفل (2) لموضوع محكوم بهذا
الجعل، وعليه فلا تكاد ينضبط الجعل المصحح لجميع مراتب الخبر تحت
ضابط ولعله أشار - قده - إليه بقوله " فتدبر " (3).
102 - قوله: إذا لم تكن القضية طبيعية والحكم فيها (4) الخ:
في جعل القضية هنا طبيعية مسامحة بحسب العبارة، لوضوح أن الموضوع
في القضية الطبيعية نفس الطبيعة (5) الكلية من حيث هي كلية، وهي وإن كانت
في قبال الشخصية فيناسب عدم لحاظ الشخص هنا إلا أن الآثار الشرعية غير
مترتبة على الطبيعة بما هي كلية لا موطن لها إلا الذهن، بل مراده - قده - (6)
ما أوضحه بعد ذلك وهو مجرد كون الموضوع نفس الطبيعة والقضية حينئذ إذا
كانت مسورة بأدوات العموم محصورة كلية على مذاق.
والتحقيق والفرق بين الطبيعية والمحصورة بعد اشتراكهما في كون
الموضوع نفس الطبيعة أن الطبيعة في الطبيعة ما فيه ينظروا المرئي بالذات،
وفى المحصورة ما بها ينظروا في حكم المرات، ولذا لا تسرى في الأولى إلى
الافراد بخلاف الثانية، وحيث إن المحصورة مختلف فيها من حيث كون الحكم
فيها على الافراد أو على الطبيعة السارية إلى الافراد فلذا تعارف الحكم على
أمثال ما نحن فيه بأنها على نحو القضية الطبيعة، والمراد بكون الطبيعة آلة
ملاحظة الافراد ليس كون لحاظها واسطة في ثبوت لحاظ الافراد، فان الافراد

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 86 وكفاية الأصول: 297، (ت آل البيت).
(2) (خ ل): المتكفل الموضوع.
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 86، س 5.
(4) كفاية الأصول: ج 2، ص 89 وكفاية الأصول: 297، (ت، آل البيت).
(5) (خ ل) الطبعية.
(6) هو المحقق الخراساني - ره - في كفاية الأصول: ج 2، ص 89.
205

حيث إنها غير متناهية فهي غير قابلة للحاظ لا بلا واسطة، ولا مع الواسطة.
بل المراد لحاظ الأفراد بلحاظ جامعها المنطبق عليها قهرا، لكن حيث إن
الحكم غير مترتب على الجامع بما هو جامع ذهني بل بما هو منطبق على
الافراد، فإذا لوحظ فانيا في معنونه المتحد مع الافراد بنحو الوحدة في الكثرة كان
الحكم مترتبا على المعنون بواسطة العنوان، هذا في مثل القضايا الحقيقية
الشاملة للأفراد المحققة والمقدرة فإنها غير متناهية فيجب الحكم على الطبيعة
السارية. وأما في مثل القضية الخارجية المخصوصة بالافراد المحققة كقولنا " قتل
كل من في العسكر "، فالأفراد لا محالة متناهية فلا بأس بالحكم على الافراد،
فالمحصورة لا يتعين فيها الحكم على الطبيعة دائما بل في قضايا العلوم والعام
الأصولي إذا أطلق في قبال العام المنطقي فهو يعم المحصورة بأقسامها.
وإذا أطلق في قبال القضية الطبيعية المذكورة في الأصول فيختص
بالمحصورة التي كان الحكم فيها على الافراد كما في القضايا الخارجية، وأدات
العموم على أي حال للتوسعة فتارة للدلالة على ملاحظة الطبيعة وسعية بحيث
لا يشذ عنها فرد، وأخرى للدلالة على جميع الكثرات والمميزات للطبيعة كما
سيجيئ انشاء الله تعالى بيانه (1) فافهم ولا تخلط.
وأما وجه اندفاع الاشكال بجعل القضية طبيعية، فهو أن المفروض لحاظ
نفس الطبيعة لا بمشخصاتها ومفرداتها فأشخاص الآثار غير مجعولة موضوعا
للحكم لا تفصيلا ولا اجمالا فلا يلزم في هذه المرحلة تعلق شخص الحكم بما
هو متقوم بشخصه ليلزم عروض الشئ لنفسه، وصيرورة شخص الحكم المرتب
على الطبيعة فردا لها بعد تعلقه بها أمر وجداني.
بداهة أن شخص هذا الأثر فرد من افراد (2) طبيعة الأثر، ومن الواضح أنه
لا تعلق للحكم بشخصه بعد صيرورته فردا لذات موضوعه، إذ لا تعلق للحكم إلا

(1) التعليقة: ص 207.
(2) (خ ل): افرادات.
206

في مرتبة ترتيبه جعلا على موضوعه ولا تأخر للحكم عن موضوعه طبعا
ولا تقدم لموضوعه عليه طبعا إلا في مرتبة كونه حكما وذاك موضوعا، والحكم
بترتيبه على ما صار فردا من طبيعة الأثر من العقل فإنه بعد تعلق الحكم بالطبيعة،
والمفروض انه بلا اشكال فرد للطبيعة فلا محالة يحكم العقل بترتيب الحكم على
كل ما هو فرد للطبيعة.
ومما ذكرنا تبين الفرق بين القضية الطبيعية والعام الأصولي المقابل لها فإنه
ليس الوجه فيه ما توهم من عدم كون الحكم في الطبيعية ملحوظا تفصيلا وانه
ملحوظ اجمالا ليقال بأن العام الأصولي كذلك، بل الوجه عدم لحاظ أشخاص
الآثار مطلقا لا اجمالا ولا تفصيلا في القضية الطبيعية بخلاف العام الأصولي فان
أشخاص الآثار ملحوظ بنحو الجمع والاجمال، بداهة أن الحكم على العام
الملحوظ بنحو الكل الافرادي مترتب على كل واحد من الكثرات المجموعة في
اللحاظ فان الحكم وإن كان بحسب الانشاء واحدا لكن الموضوع حيث إنه لبا
متعدد فلا محالة يكون الحكم لبا متعددا بتقريب أن البعث الانشائي المضاف
إلى كل واحد واحد من الكثرات المجموعة في اللحاظ مصداق للبعث الحقيقي
فهو بعث حقيقي بالإضافة إلى كل واحد من افراد العام.
وقد بينا في محله كيفية إفادة المتكثر بالذات بمثل كل عالم الذي هو مفهوم
وحداني الموجب لتوهم وحدة الموضوع وحكمه حقيقة، وهو أن العالم له
مفهوم واحد ومطابقه من حيث إنه مطابقة واحد، وأداة العموم مثل لفظة (كل)
لا يوجب تغيير مفهوم العالم عما هو عليه من الوحدة ولا جعله فانيا في مطابقه
وفى غير ما هو مطابقه من المفردات والمميزات بل شأن أداة العموم التوسعة في
ذات المطابق فالمتكلم يفيد المطابق بما هو مطابق للمفهوم بجعل العالم
بمفهومه فانيا فيه ويفيد تعدده وتكثره الحاصل له بسبب المميزات
والخصوصيات بأداة العموم، فتدبره فإنه حقيق به.
ولا يخفى أن دفع الاشكال بجعل القضية طبيعية وأن الحكم وصف لازم
207

للموضوع وإن كان مما أفاده شيخنا العلامة الأنصاري (1) - قده - والأستاذ
العلامة (2) - قده - هنا بل اشتهر الجواب به في أمثال المقام لكنه لا يخلو عن ثبوت
الاشكال والابهام.
بيانه: أن حكم العقل بترتيب شخص هذا الحكم على موضوعه من حيث
كونه فردا لطبيعة الأثر المحكوم بترتيبه على الخبر لا يكون إلا باقتضاء من نفس
هذا الحكم المرتب على طبيعة الأثر لا من حيث عدم الفرق في نظر العقل بين
هذا الأثر وسائر الآثار، أو هذا الخبر وسائر الاخبار، فإنه راجع إلى تنقيح المناط
وهو جواب اخر في هذا الباب واقتضاء هذا الحكم المرتب على الطبيعة لترتيب
نفسه الذي هو فرد من الطبيعة غير معقول، للزوم الخلف من عدم لحاظ
الاشخاص لا تفصيلا ولا اجمالا.
بل لا محالة بتحليل من العقل للحكم وموضوعه، إذ الحكم المرتب على
الطبيعة لا بد من أن يكون موافقا لها سعة وضيقا، فالحكم المرتب على الوجود
السعي من الطبيعة وجود سعى من الحكم فكما يعقل ايجاد شخص البعث
الحقيقي بالانشاء بداعي جعل الداعي بأن يلاحظ ايجاد شخص من الداعي
بايجاد منشأ انتزاعه كذلك يعقل ايجاد سنخ البعث المسانخ لسنخ الموضوع
بالانشاء بداعي جعلي الداعي سنخا ونوعا ليتوافق الحكم مع موضوعه، فعند
التحليل يكون كل فرد من سنخ الحكم بإزاء فرد من سنخ الموضوع.
فإذا فرض أن من افراد طبيعة الموضوع هذا الحكم فيستحيل أن ينحل هذا
الحكم إلى فرد يكون من أفراد الموضوع تحليلا، لأن هذا الفرد التحليلي من
الحكم بعينه الفرد التحليلي من الموضوع فإنه وإن لم يلزم بحسب الفرض اتحاد
الحكم مع موضوعه ولا عروض الشئ لنفسه، لكنه يلزم منه بحسب التحليل
اقتضاء الشئ لنفسه وعلية الشئ لنفسه، حيث إن الحكم البعثي علة لايجاد

(1) الرسائل: ج 1، ص 123، س 1: وثانيا بان عدم قابلية اللفظ العام...
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 86، س 15: ويمكن الذب على الاشكال...
208

موضوعه في الخارج ويستحيل أن يكون الامر بترتيب الأثر أمرا بترتيب نفسه.
والتحقيق: أن الأمر بتصديق نفس الأمر به من حيث إنه أمر بماله تعلق بنفسه
لا محذور فيه، لا من حيث الدور لما مر مرارا من اتحاد الحكم وموضوعه في
الوجود ولا تعدد في الوجود ليلزم الدور، ولا من حيث الخلف لما مر أيضا من
أن الحكم إذا لوحظ في الموضوع بوجوده العنواني لم يكن المتقدم عين المتأخر
لأن المتأخر هو الحكم بنحو وجوده الحقيقي دون المتقدم، ولا من حيث علية
الشئ لعلية نفسه كما في باب قصد القربة فان أخذ الاتيان بداع الأمر في موضوع
الأمر وإن لم يلزم منه دور ولا خلف لكون الأمر بوجوده العلمي داعيا وبوجوده
الحقيقي مرتب على موضوعه، لكن الأمر انما هو لجعل الداعي إلى متعلقه، فإذا
أخذ جعله داعيا في متعلقه كان الأمر به جعلا للداعي إلى جعل نفسه داعيا، وهو
معنى علية الشئ لعلية نفسه أي بحسب مقام الدعوة، وهذا المحذور أيضا غير
وارد هنا، إذ الأمر تعلق بتصديق نفسه لا يجعل الأمر بالتصديق داعيا إلى الأمر
بتصديق نفسه بل داعيا إلى تصديق نفسه نظير ما إذا قال المولى لعبده أخبر
الناس عن أمري هذا بالاخبار فان الأمر متعلق بالإخبار عن نفسه وليس فيه شئ
من المحاذير.
نعم، الأمر بتصديق نفى هذا الأمر لا يعقل لوجه اخر وهو أن التصديق
الجناني وهو اعتقاد صدقه وتحققه حاصل بنفس وصوله المفروض فالبعث نحو
تصديقه طلب الحاصل.
وأما التصديق العملي وهو اظهار صدق العادل بعمله فلا يعقل إلا بالإضافة
إلى أمر اخر حتى يكون هناك عمل بالأمر الاخر بعنوان إظهار صدق المخبر عنه
وأما نفس الامر بالتصديق العملي فلا تصديق عملي له.
لا يقال: مع تعدد التنزيل في الخبر مع الواسطة كيف يعقل الأمر بالتصديق
متعددا.
لأنا نقول: حيث إن الأمر بالتصديق أمر لبا بصلاة الجمعة فيكون حكم الخبر
بلا واسطة ايجاب الصلاة الجمعة تنزيلا فيتحقق له تصديق عملي في الخبر مع
209

الواسطة وهو أيضا بالإضافة إلى ما بعده ايجاب تنزيلي لصلاة الجمعة، وهكذا
إلى اخر السلسلة وحيث إنه هنا لا أمر اخر فلا معنى للتصديق العملي
ولا للايجاب التنزيلي، إذ لا يعقل أن يكون مصحح التنزيل نفس المنزل عليه،
حيث إن وجود الأمر بالتصديق تحقيقي لا انه محتمل ليقبل التعبدية والتنزيل هنا
بحسب الحقيقة، وأما بحسب العناية فحيث إن الأمر بالتصديق ايجاب للفعل
بهذا العنوان فيكون وصوله وصول الواقع وفعليته فعلية الواقع وباعثيته باعثية
الواقع فإذا فرض وحدة المنزل عليه والمصحح للتنزيل كان وصوله وصولا
بالعرض لنفسه وباعثيته باعثية بالعرض لنفسه فيرجع الأمر إلى كون الأمر
بالتصديق بالعناية باعثا لباعثية نفسه وداعيا لدعوة نفسه، فيكون بالعناية علة (1)
لعلية نفسه، هذا كله في بيان الجواب بالقضية الطبيعية والاشكال عليه.
وعن بعض أجلة العصر (2) دفع الاشكال بما محصله انه بين الخبر من حيث إنه
مفيد للظن نوعا والمخبر به ملازمة نوعية واقعية، والطريق إلى أحد المتلازمين
طريق إلى الاخر، فالخبر مع الواسطة كما أنه طريق إلى الخبر بلا واسطة كذلك
طريق إلى لازمه وهو الأثر الشرعي أو الموضوع المرتب عليه الأثر، فيكون حال
الخبر مع الواسطة من حيث الكشف عن الحكم الشرعي الذي هو لازم واقعي
نوعي للخبر بلا واسطة كالخبر بلا واسطة من حيث الكشف المزبور، والشارع
جعل هذه الملازمة النوعية بمنزلة الملازمة القطعية لا انه جعل أصل الملازمة
ليكون دليل التعبد مثبتا لهذه الملازمة بل حال هذه الملازمة النوعية حال
الملازمة العقلية والعادية من حيث عدم النظر لدليل التعبد إليها، وإنما شأن دليل
التعبد تنزيل هذه الملازمة النوعية منزلة القطعية وجعل الطريق الظني إلى الأثر
الشرعي بمنزلة الطريق القطعي، هذا ملخص ما افاده بتوضيح منى.
والجواب: ان التلازم بين شيئين لا يكون إلا بعلية ومعلولية أو المعلولية
لثالث.

(1) (خ ل): علية.
(2) هو المحقق الحائري - ره - في درره: ص 388، والجواب أن... (ط، جماعة المدرسين).
210

ومن البديهي أن الخبر ليس من مبادئ وجود المخبر به ولا المخبر به من
مبادئ وجود الخبر ولا هما معلولان لعلة واحدة، بل لكل منهما علة مبائنة لعلة
الاخر، فلا ملازمة واقعية بين الخبر والمخبر به، وقد اعترف أيضا في أثناء كلامه
بعدم الملازمة العقلية والعادية بينهما، وانما ادعى الملازمة النوعية الواقعية
بينهما وليست هذه الملازمة إلا باعتبار إفادة الخبر للظن نوعا بثبوت المخبر به
فيكون المخبر به ثابتا عند ثبوت الخبر نوعا ظنا مع أنه لا ملازمة في مرتبة
الكاشف إلا مع الملازمة في المنكشف، ولا يقاس ذلك بكشف اللفظ عن
المعنى لمكان الملازمة الجعلية الوضعية بين اللفظ والمعنى فلذا يكون حضور
اللفظ في الذهن ملازما لحضور المعنى فيه، وأما ثبوت الحكم في مرتبة ثبوت
الظن فهو قطعي لتقوم الظن به، فلا حاجة إلى التعبد والتنزيل، وتنزيله منزلة ثبوته
في مرتبة القطع لا أثر له، إذ أثر لثبوته العنواني قطعا بل لثبوته واقعا، فتدبره
جيدا.
والملازمة الجعلية هنا بين الخبر وثبوت المخبر به ليس إلا التعبد بالمخبر به
إما بمعنى جعل الحكم المماثل على طبقه أو جعله منجزا للواقع، والمفروض
دعوى التلازم مع قطع النظر عن دليل التعبد حتى يكون الطريق إلى الطريق طريقا
حقيقة إلى ذي الطريق حتى يجدى تعبد واحد.
والتحقيق: أن الخبر بما هو خبر لا يكون له كشف تصديقي قطعي ولا ظني عن
ثبوت المخبر به بالذات. ولذا اشتهر أن الخبر يحتمل الصدق والكذب فالكشف
التصديقي له بالعرض وما بالعرض ينتهى إلى ما بالذات ولا يعقل كشف شئ
عن شئ اخر بالذات إلا مع التلازم بينهما نحو كشف العلة عن المعلول
وبالعكس وشبههما، فلا محالة إذا كان للخبر في مورد كشف تصديقي قطعي أو
ظني فمن أجل ثبوت الملازمة العقلية أو العادية هناك فنقول إذا فرض في المخبر
عصمة أو ملكة رادعة فعلية تكون تلك العصمة أو الملكة علة لعدم التعمد
بالكذب.
211

وربما تكون فيه حالة مقتضية لعدم تعمد الكذب مع قبول المانع، فإذا فرض
عدم المانع وجد المعلول حقيقة وإلا فاقتضاء، فالملازمة الفعلية بين تلك الحالة
مع فرض عدم المانع وبين عدم تعمد الكذب موجودة وإلا فالملازمة الاقتضائية
ثابتة بينهما، وعليه فالخبر الصادق الموجود بوجود علته وهي الإرادة لأصل
الخبر وتلك الصفة المانعة عن الكذب لجهة صدقه يكشف من باب تضائف
المضمون المطابق مع ما في اعتقاد المخبر عن ثبوت المخبر به في اعتقاد المخبر
وهذا هو الصدق المخبري، وبضميمة عدم الخطاء الموجود بوجود علته
ينكشف مطابقة معتقد المخبر لما في المتن الواقع وهو الصدق المخبري.
ومنه تعرف أن الملازمة في مرتبة الكشف لأجل الملازمة الواقعية الحقيقية
في مرتبة المنكشف وأن الخبر بأية ملاحظة يتصف بالكشف عن ثبوت المخبر به
في اعتقاد المخبر، فإذا قطع بالخبر الصادق للقطع بوجود علته فلا محالة يقطع
من باب التضايف بثبوت المخبر به في اعتقاد المخبر، وإذا ظن بوجود العلة
للخبر الصادق - سواء كانت العلة بجميع اجزائها مظنونة أو ببعضها - فلا محالة
يظن بالمعلول فيظن بثبوت الحكم في اعتقاد المخبر، وعليه فإذا ظن من خبر
محقق بصدور خبر متكفل للحكم مع إحراز الحالة المقتضية لعدم الكذب وظن
بعدم المانع فلا محالة يظن بثبوت الحكم في اعتقاد المخبر فهذا الخبر المحقق،
حيث إنه مفيد للظن بثبوت الحكم لمكان الظن بعلته يعمه دليل التعبد من دون
حاجة إلى شموله للواسطة فإنه كنفس الواسطة مفيد للظن بالحكم، غاية الأمر أن
الحكم هناك مطابق المدلول المطابقي وهنا مدلول التزامي، هذه غاية التقريب
للجواب المزبور.
والجواب أن لزوم قول الإمام (ع) لخبر زرارة عنه (ع) غير مفروض في خبر
محمد بن مسلم عن أخبار زرارة بقول الإمام (ع)، إذ خبر زرارة غير محقق وجدانا
وهو واضح، ولا تعبدا، إذ المفروض عدم ترتب وجوب التصديق إلا على الخبر
بالالتزام عن قول الإمام (ع) وأصالة عدم الخطأ في خبر زرارة فرع تحققه، ففي
الحقيقة ليس خبر محمد بن مسلم خبرا عن قول الإمام (ع) إلا على تقدير، فإنه
212

خبر عن لازم أمر غير مفروض الثبوت لا وجدانا ولا تعبدا، ولا معنى لوجوب
تصديق الخبر تحقيقا عن لازم على تقدير.
ثم إن التحقيق في الجواب عن الاشكال إنه مبنى على وحدة وجوب
التصديق وحدة شخصية فإنه المستلزم لوحدة الحكم والموضوع أو المحاذير
الأخر المتقدمة، وأما إذا قلنا بأنه وإن كان واحدا انشاء ودليلا لكنه متعدد لبا
وحقيقة كما لا مناص عن تعدده لبا بالإضافة إلى الآثار الشرعية العرضية، فلا يلزم
محذور لإمكان الالتزام بجعل ايجابات للتصديق طولا كما كانت كذلك عرضا،
فيكون الخبر عن الإمام (ع) محكوما بوجوب التصديق والخبر عن الخبر
المحكوم بذلك الحكم محكوما بوجوب تصديق اخر إلى أن ينتهى إلى الخبر
بلا واسطة في مبدء السلسلة المتصلة بالمكلف، فبعدد الاخبار الواقعية ايجابات
تنزيلية بجعل واحد.
والمحذور المتصور فيه أمور:
منها: أن ايجاب التصديق ليس إلا بلحاظ أثر شرعي ما عدا نفسه كما في
الآثار العرضية، واما وجوب التصديق فهو - سواء كان واحدا أو متعددا بهذا
الجعل المتكفل له دليل واحد، فمع قطع النظر عنه لا أثر له أصلا فكيف يكون
ناظرا إلى نفسها ولو بعضها إلى بعض.
والجواب: أن موضوع الحكم وهو الخبر عن الحكم سواء كان وجوب صلاة
الجمعة أو وجوب التصديق موضوعا للحكم بوجوده العنواني لا بوجوده
الحقيقي حتى يقال انه لا حكم حقيقي مع قطع النظر عن هذا الجعل.
ولذا قلنا بأن جعل الحكم الظاهري قبل الواقعي معقول، لأن مشكوك الحرمة
لم يؤخذ بوجوده الحقيقي موضوعا للحكم الظاهري.
بداهة أن العلم والظن والشك في الحكم قائم بالمكلف والحكم قائم بالحاكم،
فكيف يعقل أن يكون مقوما للحكم في مرتبة نفس الحاكم، مضافا إلى البراهين
القاطعة المذكورة في محلها، وقد أشرنا إليها فيما تقدم، فالمولى يتصور الخبر
المحتمل كونه واجب التصديق ويجعل له حكما فلا حاجة إلى جعل وجوب
التصديق قبل هذا الجعل بل نفس هذا الجعل متكفل لأحكام طولية تنزيلية
لما تصوره من الاخبار.
213

ومنها: أن الواحد وإن انحل إلى المتعدد إلا أنه دفعي الوجود فكيف يعقل أن
ينحل إلى أمور مرتبة في الوجود.
والجواب، أن ترتب هذه الأحكام التنزيلية في أصل جعلها طبعية (1)
لا خارجية وقد مر مرارا (2) أن المتقدم والمتأخر بالطبع يمكن أن يكون لهما
المعية في الوجود الخارجي بل لا يأبى عن الاتحاد في الوجود كالعلم والمعلوم
بالذات والإرادة والمراد بالذات وأشباهها فالآثار المترتبة طبعا من حيث
الموضوعية والحكمية متقارنات في الوجود لا ترتب لبعضها على بعض في
الوجود فهي من حيث كون الحكم للخبر المتصل بالامام (ع) موضوعا للحكم في
الخبر الثاني متقدم عليه طبعا لكنه من حيث الفعلية بالعكس، فان الخبر الأخير
يكون حكمه من حيث كون موضوعه محتمل الحكم فعليا وبتبعه يكون الحكم
المحتمل فعليا إلى أن ينتهى إلى حكم الخبر المتصل بالامام (ع)، والحكم
المنقول عنه عليه السلام على النحو الذي بيناه في مسألة جعل الطريق (3).
ومنها: أن التعبد حيث إنه بلسان ايجاب التصديق، فإن كان التصديق جنانيا
أمكن تعدده بعدد الاخبار، وأما إن كان عمليا فليس القابل للتصديق العملي الا
الخبر المتصل بالامام (ع) فان وجوب صلاة الجمعة إذا أخبر عنه له تصديق
عملي بفعل صلاة الجمعة بخلاف نفس وجوب التصديق فإنه سنخ حكم ليس له
تصديق عملي بل تصديق جناني فقط.
ولذا ربما يتوهم: أن الخبر الأخير المتصل بالمكلف ليس له من حيث مدلوله
المطابقي تصديق عملي بل من حيث مدلوله الالتزامي فقط وهو الخبر عن حكم
الإمام (ع) كما أشرنا إليه فيما تقدم.
والجواب عنه: أن ايجاب التصديق لسانا ايجاب فعل صلاة الجمعة لبا فخبر
زرارة محكوم لبا بوجوب صلاة الجمعة تنزيلا، فالخبر الحاكي عن هذا الخبر
يحكى عن وجوب صلاة الجمعة تنزيلا فله تصديق عملي إلى اخر السلسلة،
فكلها ايجابات تنزيلية لفعل صلاة الجمعة والفعلي منها هو الايجاب الواصل

(1) (خ ل): طبيعة.
(2) التعليقة: 69، ص 151. ونهاية الدراية: ج 1، ص 234.
(3) التعليقة: 69، ص 151. ونهاية الدراية: ج 1، ص 234.
214

بالذات والباقي فعلى بالعرض لوصولها بالعرض، لاستحالة فعليات حقيقية كما
في الخبر بلا واسطة أيضا.
103 - قوله بلا محذور لزوم اتحاد الحكم (1) الخ:
لا يقال: الطبيعي متحد مع فرده فيلزم اتحاد الموضوع مع حكمه.
لأنا نقول: الممنوع اتحاد الحكم مع موضوعه في مرتبة موضوعية فإنه
المنافى لتأخر الحكم عن موضوعه طبعا وأما صيرورة الحكم بعد تعلقه
بموضوعه فردا لموضوعه فلا محذور فيه.
104 - قوله: ما هو المناط في سائر الآثار في هذا الأثر (2) الخ:
حيث إن المفروض قصور العبارة عن شمول الخبر مع الواسطة، حيث لا أثر له
إلا ما لا يمكن لحاظه في هذا الجعل فلا محالة يجب تنقيح المناط من جهة الخبر
كما يجب تنقيحه من جهة الأثر، والا فالتوسعة من جهة الأثر لا ربط له بالتوسعة
من جهة الخبر، وأما بناء على جعل الأثر طبيعة الأثر فلا حاجة إلى جعل الخبر
طبيعة الخبر إلا إذا كان كل شخص من أشخاص طبيعة الأثر بإزاء شخص من
أشخاص طبيعة الخبر، فان لحاظ الطبيعة في الأثر تنافي لحاظ الشخص في الخبر
لكنه من باب لزوم ما لا يلزم، فتدبر جيدا.
105 - قوله: بأنه لا يكاد يكون خبرا تعبدا الخ:
لا يخفى عليك أن الموضوع لكل حكم تنزيلي هو الواقع المحتمل
لا الموضوع التعبدي التنزيلي، فان المايع الذي قامت البينة على خمريته إنما
يكون خمرا تعبديا بلحاظ حكم البينة لا بلحاظ نفسه، وانما هو مايع محتمل
الخمرية فكذلك ما قام الخبر على خبريته انما يجب أن يكون محتمل الخبرية
فيكون خبرا تعبديا بقيام الخبر على خبريته بلحاظ أنه موضوع واقعي له حكم
واقعي، وكون الحكم الواقعي والتنزيلي ثابتين بجعل واحد هو الاشكال السابق
وقد عرفت جوابه (3).

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 89، س 3.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 89 وكفاية الأصول: 297، (ت، آل البيت).
(3) التعليقة: ص 214.
215

" في الاستدلال بآية (1) النفر "
* آية النفر
106 - قوله: وهو الترجي الايقاعي الانشائي (2) الخ:
قد أسمعناك في الجزء الأول من (3) التعليقة أن الاغراض المترتبة على إنشاء
الترجي والاستفهام ونحوهما باعتبار كشف إنشاءاتها عن ثبوتها، لا بلحاظ نفس
وجوداتها الانشائية التي ليست الا نحوا من استعمال اللفظ في المعنى، والمحال
في حقه تعالى ثبوت الترجي والاستفهام واقعا لا إظهار ثبوتهما، وما هو شأن
الانشاء إظهار المعنى باللفظ لا اظهار الحقيقة باللفظ المستعمل في معناه ولا يلزم
الكذب، فان إظهار الثبوت ليس بداع الاعلام بالثبوت بل بداع التلطف أو
الترغيب أو غيرهما، فلا تغفل.
كما أنه يمكن أن يقال إن كلمة (لعل) لجعل مدخولها واقعا موقع الرجاء
وموردا لتوقع الخير مثلا وهو بالإضافة إليه (تعالى) لا يقتضى انبعاثه عن ترجيه
(تعالى) ليقال باستحالته بل جعله تعالى معرضا لتوقع الخبر ترغيبا وتحريصا
على فعله.
ويمكن أن يقال بأن ثبوت الترجي في مقام ذاته تعالى غير معقول، لأنه
لا يكون إلا مع الجهل بالحصول المستحيل في حقه (تعالى) إلا أنه بالإضافة إلى
المرتبة الأخيرة من مراتب فعله (تعالى) أمر معقول كالعلم المنطبق على
الموجود الخارجي فإنه من مراتب علمه الفعلي، فكذا كون الفعل مرجو الحصول

(1) التوبة: الآية 122.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 92، س 8 وكفاية الأصول: 298، (ت، آل البيت) والرسائل: ج 1، ص 126.
(3) نهاية الدراية: ج 1، ص 223 - في ذيل قول الماتن: لا لاظهار ثبوتها حقيقة بل لأمر اخر.
216

بلحاظ تأدية الأسباب المنتهية إلى مسبب الأسباب له نحو من الانتساب إليه
تعالى كما في البداء والتردد المنسوبين إليه تعالى في الآيات والروايات. فافهم
ذلك إن كنت اهلا لذلك، ثم إن الظاهر - وإن كان مخالفا للجمهور - عدم كون كلمة
(لعل) للترجي لوضوح استعمالها كثيرا فيما لا يلائم الترجي كقوله تعالى
(فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك) (1) (فلعلك باخع نفسك) (2)
كقوله (ع) (3) " لعلك وجدتني في مقام الكذابين وفى مجالس البطالين "، أو لعل زيدا
يموت بهذا المرض وغيرها من الموارد الكثيرة التي لا شك في عدم التجوز فيها
وعدم ملائمة إظهار الرجاء في مثل هذه الأمور المنافرة للنفس في غاية الظهور.
وربما يتفصى من ذلك بدعوى أن الرجاء ليس بمعنى يساوق الامل وتوقع
المحبوب فقط بل يكون للاشفاق وتوقع المخوف أيضا كما نقل عن بعض أئمة
اللغة، وعليه حمل قوله تعالى (لا يرجون لقائنا) (4) أي لا يخافون وقوله
تعالى (لا يرجون أيام الله (5)) أي لا يخافون.
والعجب أن الفراء (6) مع مكانته في اللغة والأدب ينكر هذه الكلية ويقول
لا يقال رجوتك أي خفتك، وانما يكون بمعنى الخوف في مورد النفي كما فيما
سمعت من الآيات مع أنه لا معنى لتغير مادة اللفظ معنى بتفاوت الاثبات
والنفي، وأظن أن ذلك من عدم التمكن من تطبيق موارد الاستعمالات على معنى
جامع، ربما يجامع توقع المحبوب وربما يجامع توقع المخوف والمكروه من
دون دخل للمحبوبية والمخوفية والعلية التي قال بها بعضهم في المعنى
الموضوع له، والظاهر أن هذه الكلمة إنما يقال فيما كان الشئ في معرض
احتمال الوقوع - سواء كان مرجوا أم لا - كما لا (7) يخفى على المنصف.

(1) هود 11: الآية 12، فلعلك...
(2) الكهف 18: الآية 6، فلعلك... والشعراء 26: الآية 3، لعلك...
(3) بحار الأنوار: ج 98، ص 87، ح 2، ب 6: (في مقام الكاذبين).
(4) يونس 10: الآية 7 - 11 - 15 وفرقان 25: الآية 21.
(5) الجاثية 45: الآية 14، (قل للذين امنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله...)
6 - معاني القرآن: ج 2، ص 265، في ذيل الآية 21، من سورة الفرقان.
(7) (خ ل): كما يخفى.
217

وفى صحاح الجوهري (1)، (لعل) كلمة الشك فيوافق ما استظهرناه ويؤكده ان
مرادف هذه الكلمة في الفارسية كلمة (شايد) لا كلمة (اميد) فتدبر وحينئذ يسقط
الوجه الأول عن الدلالة على المقصود.
107 - قوله: بان التحذر لرجاء ادراك الواقع الخ:
تقريبه أن التحذر وإن كان مستندا إلى الإنذار والإنذار وإن كان بما تفقه فيه، إلا
إنهما انما يناسبان الواجب والحرام بملاحظة ما يترتب عليهما من الأمور التي يخاف
ترتبهما على الفعل والترك، وهي كما يمكن أن تكون العقوبة على المخالفة كذلك
يمكن أن يكون فوت المصلحة والوقوع في المفسدة، فكما يصح الانذار بملاحظة
العقوبة فيدل على وجوب التحذر كذلك يصح الانذار بملاحظة فوت المصلحة
والوقوع في المفسدة، فيحسن التحذر، إلا أن الانصاف أن الانذار والتحذر
بملاحظة ترتب العقوبة انسب، إذ المتعارف من الانذار من المبلغين للأحكام في
مقام الحث على العمل بها بيان ما يترتب على الفعل أو الترك من العقوبات
الأخروية دون المصالح والمفاسد فيكون التحذر المنبعث عنه تحذرا من العقوبة.
وأما توهم: أن جعل التحذر باعتبار فوت المصلحة والوقوع في المفسدة
يوجب الاختلال في تمام أنحاء الاستدلال ولا يختص بالوجه الأول كما هو ظاهر
المتن (2) لان التحذر بهذا المعنى على أي حال مستحسن عقلا لا معنى للكشف
عن الحجية بسببه مطلقا.
فمدفوع: بأن الوجه الأول حيث كان مبنيا على دلالة كلمة " لعل " على
محبوبية التحذر من دون النظر إلى صدر الآية فلذا اختص بهذا الايراد بخلاف
الوجهين الأخيرين فإنهما يتمان ولو لم تدل كلمة " لعل " على المحبوبية، بل ولو
لم يكن في الآية عنوان التحذر أيضا، فان الوجه الثاني بملاحظة وجوب الانذار
فيكون التحذر به بدلالة الاقتضاء واجبا وإلا لزم اللغوية، والوجه الثالث أيضا مع
الفراغ من وجوب الانذار فغايته واجبة، لان غاية الواجب واجبة فيكون وجوب
الانذار على كلا الوجهين كاشفا عن وجوب التحذر فيكون المراد منه التحذر عن

(1) الصحاح: ج 5، ص 1815، فصل اللام.
(2) كفاية الأصول: ج 2 ص 93، س 1 وكفاية الأصول: 298، (ت، آل البيت).
218

العقوبة دون غيرها.
ولا يخفى أنه بناء على ما استظهرناه (1) من عدم كون كلمة " لعل " للترجي
وانها كلمة الشك كما في الصحاح فشأنها جعل مدخولها واقعا موقع الاحتمال
فيكون نفس جعل التحذر واقعا موقع الاحتمال كاشفا عن حجية الانذار، إذ
يستحيل مع وجود قاعدة قبح العقاب بلا بيان أن يكون مجرد الاخبار بالتكليف
أو بلازمه وهو العقاب المجعول، موجبا للحدوث الخوف، فجعله موجبا لحدوث
الخوف بنحو الاقتضاء دليل على فعلية العقاب المجعول بمجرد الاخبار عنه
فيكون الخبر منجزا للعقاب المجعول وسيأتي انشاء الله تعالى بقية الكلام.
108 - قوله لعدم اطلاق يقتضى وجوبه على الاطلاق (2) الخ:
التحذر وإن لم يكن له في نفسه إطلاق نظرا إلى أن الآية غير مسوقة لبيان
غايتية الحذر ليستدل باطلاقه بل لايجاب النفر للتفقه، إلا أن إطلاقه يستكشف
باطلاق وجوب الانذار، ضرورة أن الانذار واجب مطلقا من كل متفقة - سواء أفاد
العلم للمنذر أم لا - فلو كانت الفائدة منحصرة في التحذر كان التحذر واجبا مطلقا
وإلا لزم اللغوية أحيانا، كما أن التحذر إذا كان هي الغاية للانذار فوجوب الانذار
مقدميا إذا كان مطلقا يكشف عن اطلاق وجوب ذي المقدمة، لاستحالة إطلاق
أحدهما واشتراط الاخر، وتبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها أصلا وإطلاقا
وتقييدا بحسب مقام الثبوت لا ينافي تبعية وجوب ذي المقدمة لوجوب المقدمة
بحسب مقام الاثبات كما في كل علة ومعلول ثبوتا واثباتا.
نعم، هنا وجهان لمنع إطلاق وجود الانذار حقيقة ولبا:
أحدهما: ما عن بعض أجلة العصر (3) من أن الانذار الواجب من باب المقدمة
هو الانذار المفيد للعلم فيكون الوجوب في المقدمة وذيها مقيدا إلا أن ذلك
الانذار الخاص حيث لا تميز له من بين سائر الانذارات أوجب المولى كل انذار
مطلقا للتوصل إلى مقصوده الأصلي وهو الانذار الخاص الذي هو المقدمة

(1) التعليقة: 106، ص 216.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 93.
(3) هو المحقق الحائري - ره - في درره: ج 2، ص 390، واما الرابع - (ط، جماعة المدرسين).
219

للتحذر الخاص، ففي الحقيقة لا إطلاق لما هو الواجب المقدمي تبعا لذي
المقدمة وإن كان انذار المطلق واجبا لغرض التوصل إلى ما هو المقدمة واقعا.
والجواب: أن ما عدا الانذار الخاص ليس فيه ملاك المقدمية ولا ملاك نفسي
على الفرض فعدم التميز - سواء كان بالإضافة إلى المكلف بالانذار أو إلى
المكلف بالتحذر - لا يمنع إلا عن العلم بتلك المقدمة الخاصة، فايجاب
الانذارات من مكلف واحد راجع إلى ايجاب المقدمة العلمية وهو وجوب عقلي
إرشادي لا ايجاب مولوي شرعي.
كما أن ايجاب الانذارات على المكلفين لحصول العلم للمكلف بالتحذر بما
هو مكلف به من التحذر العلمي نظرا إلى عدم تمييز للانذار المقيد للعلم عن غيره
من الانذارات، بل بعد تحققها جميعا يعلم بحصول التحذر العلمي من أحدها يرجع
إلى ايجاب المقدمة العلمية بالتكليف النفسي وهو التحذر عن علم وكلاهما
خلاف ظاهر وجوب الانذار شرعا مولويا، وأما ايجاب الانذارات من المكلفين
لعدم تمييز المولى ما فيه الملاك المقدمية عن غيره فخطأ في حق الشارع.
ثانيهما: ما عن شيخنا الأستاذ - ره - هنا (1) وفى تعليقته الأنيقة على الرسائل (2)
من منع الاطلاق تارة، بان النفر الواجب حيث كان لأجل التفقه والعلم بمعالم
الدين واحكام الله الواقعية وقضية ذلك التحذر بالانذار بما أحرز أنه من معالم
الدين فالقرينة على التقييد موجودة في الطرفين.
وأخرى، بأن الفائدة غير منحصرة في التحذر بل لإفشاء الحق وظهوره بكثرة
انذار المنذرين فالغاية قهرا يلازم العلم بما أنذروا به فالتحذر بما علم غاية لقصور
الحق وافشائه وهو غاية لانذار المنذرين بحيث يكون إنذار جملة من المكلفين
علة لحصولها وانذار كل واحد مقدمة لحصول العلة التامة لظهور الحق، فلا ينافي
وجوب كل واحد من باب المقدمية هذا مع توضيح منى.
والجواب عن الأول: أن كون الانذار بما علم لا يقتضى أن يكون الانذار مفيدا
للعمل ليتقيد به الانذار فيتقيد به التحذر، وعدم احراز كون الانذار انذارا بما علم

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 93، س 9.
(2) حاشية الرسائل: ص 68، ورابعها... والرسائل: ج 1، ص 129.
220

ليجب قبوله، مدفوع باطلاق وجوب الانذار من حيث إفادة العلم، فيكشف عن
كون الموضوع لوجوب التحذر مجرد حكاية العقاب المجعول بالمطابقة أو
الالتزام، ومطابقته للواقع تعبدا يعلم من وجوب القبول فالذي يجب إحرازه في
مرحلة فعلية وجوب القبول نفس ذلك الوجوب الحكائي.
ولا يخفى عليك انه لا بد في صحة هذا الجواب من الالتزام باطلاق وجوب
الانذار لإفادة العلم وعدمها، وإلا فللخصم أن يدعى أن الآية ليست في مقام
جعل الحجة وايجاب التحذر مولويا حتى يكتفى في موضوعه لوجود الحكائي
بل في مقام ايجاب الانذار العلمي ليترتب عليه التحذر قهرا، فتدبره فإنه حقيق به.
وعن الثاني: بأن ظاهر الآية أن الغاية المترتبة على الانذار والفائدة المترقبة منه
هو التحذر لا افشاء الحق وظهوره، فالمراد " والله أعلم "، لعلهم يحذرون بالانذار
لا بافشاء الحق بالانذار كما أن ظاهرها التحذر بما أنذروا لا بالعلم بما أنذروا به،
بل نقول إن نفس وجوب الانذار كاشف عن أن الإخبار بالعقاب المجعول إنذار
ولا يكون ذلك إلا إذا كان حجة، وإلا فالإخبار المحض لا يحدث الخوف
ولو اقتضاء حتى يكون مصداقا للانذار حتى يجب شرعا.
ومنه ظهر أن التحذر لو كان نتيجة إفشاء الحق بكثرة إخبار المخبرين عن
العقاب المجعول كان المجموع إنذارا واحدا، لان المجموع هو المقتضى للعلم
المقتضى للخوف مع أن كل واحد مكلف بالانذار الذي لا يصدق على إخباره
بالعقوبة إلا مع فرض حجيته، ومن غريب الكلام ما عن بعضهم من قصر التفقه
في الدين على العلم بدقائق الدين مما يتعلق بأسرار المبدء والمعاد وتبليغ
الدعوة والنبوة وأشباه ذلك مما يطلب فيه العلم دون الأحكام الشرعية العملية،
وفى أخبار الأئمة (1) (عليهم السلام) شواهد كثيرة على صدق التفقه على تعلم
الحلال والحرام، فليراجع، مع أن صريح الآية إنذار النافرين للمتخلفين أو
بالعكس لا تبليغ الدعوة إلى عامة الناس ونشر اعلام الهداية في البلاد النائية كما

(1) تفسير نور الثقلين: ج 2، ص 285 و 282 والبرهان: ج 2، ص 171 ومجمع البيان: ج 6 - 5،
ص 126 - 125، التوبة: 122.
221

توهمه هذا المتوهم، فافهم واستقم، بقى هنا أمران.
أحدهما: قد تكرر في كلماتهم أن وجوب الانذار مقدمي ولذا جعل في
الاطلاق والاشتراط تابعا لوجوب التحذر، لكنا قد ذكرنا في البحث عن مقدمة
الواجب (1) ان الواجب النفسي ما وجب لا لواجب (2) اخر وأن الواجب الغيري ما
وجب لواجب اخر، فما كان وجوبه منبعثا عن وجوب غيره كان واجبا غيريا
مقدميا والا فهو واجب نفسي، وبه أجبنا عن شبهة كون الواجبات النفسية
واجبات غيرية لانبعاث وجوبها عن غرض فهو الواجب ومحصله واجب مقدمي
فينحصر الواجب في مثل المعرفة الواجبة بذاتها، فان ملاك الواجب النفسي ليس
عدم انبعاثها عن غرض زائد على ذاته بل عدم انبعاث وجوبه عن وجوب اخر.
وعليه فالانذار من مكلف والتحذر من مكلف اخر ليس وجوب أحدهما
منبعثا عن وجوب اخر فالانذار مراد من المتفقة لا لمراد اخر منه حتى يكون
واجبا مقدميا وإن كان الغرض منه راجعا إلى الاخر، فافهم وتدبر.
نعم، مسألة التبعية في الاطلاق والتقييد جارية بلحاظ مقام الغرض فان
الغرض لو كان قائما بالتحذر من علم لا يعقل أن يكون الانذار بقول مطلق واجبا
لغرض التحذر الخاص.
ثانيهما (3): أن الآية هل هي متكفلة لجعل الحجية أو مبنية على الحجية فإن
كان التحذر غاية شرعية كان الدليل متكفلا للحجية، وإن كان غاية عادية واقعية
كان الدليل مبنيا على الحجية.
والتحقيق: أن كلمة (لعل) إن كانت للترجي المراد منه فيه تعالى مجرد
المحبوبية فالغاية تعبدية، إذ حاصل المعنى حينئذ إنه يجب الانذار على
المتفقهين إرادة أن يحذروا وحيث إن الإرادة ليست تكوينية وإلا لما تخلف عنها
التحذر فيه تعالى فلا محالة تكون تشريعية فيفيد وجوب التحذر وهو كناية عن
وجوب لازمه وهو العمل.

(1) نهاية الدراية: ج 1، ص 375.
(2) (خ ل): لا الواجب آخر.
(3) (خ ل): ثانيها.
222

وإن كانت كلمة (لعل) لجعل مدخولها واقعا موقع الاحتمال كما هو الأظهر
على ما مر فالغاية عادية واقعية فالحاصل من الآية حينئذ ايجاب الانذار لاحتمال
تأثيره في التحذر فان الانذار مقتض عادة للتحذر فالآية حينئذ مبنية على حجية
الخبر، إذ لولاها يقطع بعدم العقاب كما تقدم.
109 - قوله: على الوجهين في تفسير الآية (1) الخ:
توضيح المقام أن ظاهر سياق الآية من حيث ورودها في ضمن آيات الجهاد
وظاهر صدرها وهو قوله تعالى (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) (2) وظاهر
بعض التفاسير أن المراد النفر إلى الجهاد وأن التفقه وظيفة المتخلفين عند النبي (ص)
فمرجع الضمير حينئذ في قوله تعالى (ليتفقهوا) هي الفرقة دون الطائفة.
وظاهر جملة من الاخبار (3) أن المراد النفر للتفقه كما يساعده ظاهر نفس الآية
حيث إن مقتضى (لولا) التحضيضية للحث على النفر للتفقه لا الحث على التخلف
للتفقه وإن كان نفر طائفة ملازما لتخلف الباقين، والاستدلال لوجوب الانذار
بوجوب النفر الواقع في تلو (لولا) التحضيضية يتوقف على إثبات هذا المعنى.
والتحقيق كما يساعده بعض الاخبار ويشهد له الاعتبار أن الآية ليست في
مقام المنع عن النفر إلى الجهاد كافة في قبال تخلف جماعة بل في مقام المنع عن
قصر النفر على الجهاد نظرا إلى أنه كما أن الجهاد مهم كذلك التفقه فليكن نفر
جماعة إلى النبي (ص) للتفقه ونفر الباقين إلى الجهاد وهو المستفاد من رواية
العلل (4) عن الصادق (ع) قيل له " إن قوما يروون أن رسول الله (ص) قال اختلاف
أمتي رحمة فقال صدقوا، فقلت إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب قال
ليس حيث تذهب وذهبوا إنما أراد قول الله (عز وجل) (فلو لا نفر من كل
فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين) إلى اخر الآية، فأمرهم أن ينفروا إلى رسول

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 93 وكفاية الأصول: 299، (ت، آل البيت).
(2) التوبة 9: الآية 122.
(3) فراجع إلى الرسائل: ج 1، ص 128، (ط، جماعة المدرسين). والرسائل: ص 79، (مخطوط).
(4) علل الشرايع للشيخ الصدوق - ره - ص 85، ب 79، ح 4.
223

الله ليتعلموا ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلموهم إنما أراد اختلافهم من البلدان "،
الحديث، ويوافقه الاعتبار أيضا فان النافرين إلى الجهاد من المدينة كان رجوعهم
إلى رسول الله فيتعلمون منه (ص) كما كان كذلك في زمان حضوره من دون
حاجة إلى تخلف جماعة لهذه الغاية بخلاف النافرين من الأطراف فإنهم
محتاجون إلى تعلم الاحكام إذا رجعوا إلى بلادهم، والله أعلم.
110 - قوله: ولا شبهة في أنه يصح منهم التخويف (1) الخ.
إن كان الغرض صحة التخويف بنفس ما سمعوه من الامام أو المجتهد فيؤول
الأمر إلى صدق الانذار على حكاية.
وإن كان الغرض صحة التخويف استنادا إلى ما سمعوه فلا مجال له إلا بناء
على حجية رأيهم وإلا فلا وجه لصحة إنذارهم بما رأوه استنادا إلى ما رووه، كما
لا وجه لقبول الانذار بما هو إنذار، وظاهر الآية وجوب الانذار، لأجل التحذر بما
هما انذار وتحذر لا بما هما إخبار وتصديق، لكن الظاهر أن الشيخ الأجل - قده -
لا ينكر صدق الانذار على حكاية العقاب المجعول كيف (2) وصريح كلامه - قده -
في رسائله (3) أن الخبر فيه حيثيتان حيثية إنشاء التخويف بنقل ما سمعه من
الإمام (ع) وحيثية حكايته لما سمعه منه (ع)، وانما نظره الشريف - قده - اللطيف
إلى أن حيثية إنشائه التخويف راجعة إلى فهمه واستفادته من كلام الإمام (ع)،
والآية ظاهرة في حجية هذه الحيثية لما مر من أن ظاهرها وجوب الانذار والتحذر
بما هما انذار وتحذر لا بما هما إخبار وتصديق.
وأما الانذار بحكاية العقاب المجعول فهو أمر معقول ولا يستلزم حجية الانذار
بنقل ما سمعه حجية نقله، إذ لا فرق بين أنحاء إظهار الفتوى في الحجية - سواء
كان ابتداء أو بنقل خبر أو بطريق اخر، وليس هذا مقام عدم القول بالفصل كما في

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 94 وكفاية الأصول: 299، (ت، آل البيت).
(2) (خ ل): وكيف (والظاهر: زيادة الواو).
(3) الرسائل للشيخ الأعظم الأنصاري - ره -: ص 80، س 25 - فله جهتان - أحديهما جهة تخويف
وابعاد والثانية جهة حكاية... (مخطوط) والرسائل: ج 1، ص 130، س آخر.
224

المتن (1) إذ الذي لا فصل فيه جزما هو حجية الخبر من حيث كون الناقل مجتهدا
أو مقلدا لا حجية الخبر عن الرأي أو في مقام إظهار الرأي، فالخبر حينئذ حجة لا
من حيث إنه كاشف عن قول المعصوم (ع) بل من حيث إنه مظهرا لفتوى
المفتى، فالتحقيق أن في آية النفر لا بد من التعميم من وجهين:
أحدهما: تعميم التفقه لما إذا علم بالحكم من دون إعمال نظر ورأى، كما إذا
سمع الحكم من المعصوم (ع) بكلام صريح فصيح لا يتوقف استفادة الحكم
على اعمال رأى ونظر، وإلا فلو قلنا إن التفقه هو العلم الحاصل للفقيه باعمال
النظر والرأي فالآية تكون متكفلة لحجية خبر الفقيه من حيث إنه خبر عما تفقه
فيه باعمال رأيه ونظره، وإن كان بنفس نقل ما سمعه من المعصوم (ع)، وقد
عرفت حال عدم القول بالفصل.
ثانيهما: التعميم من حيث الانذار بأن يكون الاخبار عن العقاب المجعول
المسموع من الإمام (ع) بكلام صريح فصيح انذار حقيقة من دون اختصاص
للانذار بما إذا كان لرأيه ونظره دخل في تحقق الانذار منه، فان حجية انذاره
حينئذ ليس إلا حجية خبره عن جعل العقاب لا حجية خبره عما استفاده برأيه
ونظره، فإنه على الفرض لا رأى له ولا نظر، وليس المراد من الانذار بحكاية
العقاب المجعول إنشاء التخويف المقابل للاخبار الذين هما من وجوه استعمال
اللفظ في المعنى، فإنه تستحيل كون قضية واحدة خبرية وإنشائية معا، بل بمعنى
أن المراد من حكاية العقاب والداعي إليها تخويف المنقول إليه، فهذه الحكاية
بالعنوان الثانوي انذار وتخويف فتدبر.
ومنه علم أن دفع ما أورده (2) الشيخ الأجل (3) - قده - ليس بدعوى صحة
التخويف من الراوي ولو مع عدم حجية رأيه ونظره بل بدعوى تحقق الانذار منه
بلا اعمال نظر ورأى، فتدبر جيدا.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 94، س 9 وكفاية الأصول: 298 - 299، (ت، آل البيت).
(2) ايراد الشيخ في الرسائل: ص 80، الثالث... (مخطوط) والرسائل: ج 1، ص 130.
(3) دفعه الآخوند في كفاية الأصول: ج 2، ص 93، ثم انه أشكل...
225

" في الاستدلال بآية الكتمان "
* آية الكتمان
111 - قوله (1): وتقريب الاستدلال بها أن حرمة الكتمان (2) الخ:
لا يخفى عليك ان الآية أجنبية عما نحن فيه، لان موردها ما كان فيه مقتضى
القبول لولا الكتمان لقوله تعالى (من بعد ما بيناه للناس في الكتاب) (3)
فالكتمان حرام في قبال ابقاء الواضح والظاهر على حاله لا في مقابلة الايضاح
والإظهار، وما هو نظير ما نحن فيه اية كتمان النساء (ما خلق الله في
أرحامهن) (4) فالملازمة انما تجدي في مثلها لا فيما نحن فيه.
112 - قوله: فإنها تنافيهما الخ:
للزوم اللغوية في الجملة على تقدير حرمة الكتمان مطلقا ووجوب القبول
مشروطا ولا يخفى أن وجوب الانذار والحذر كذلك بناء على الملازمة ولزوم
اللغوية مع عدمها، فان الاطلاق في أحد المتلازمين ينافي الاشتراط في الاخر إلا
أن يكون نظره - قده - (5) إلى انحصار جهة الاستدلال في الملازمة هنا دون آية
النفر فالايراد بالاهمال أو الاختصاص له وجه هناك دون المقام كما هو واضح.
113 - قوله: لأجل وضوح الحق بسبب كثرة الخ.
لا يقال: مثل هذه الفايدة لا يعقل أن تكون غاية للتكليف بالاظهار هنا

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 94 وكفاية الأصول: 299، (ت، آل البيت).
(2) البقرة 2: الآية 228 - (ولا يحل لهن ان يكتمن ما خلق الله في أرحامهن).
(3) البقرة 2: الآية 159.
(4) البقرة: الآية 228 -: (ولا يحل لهن ان يكتمن ما خلق الله في أرحامهن).
(5) هو المحقق الخراساني - ره -.
226

وبالانذار هناك بالنسبة إلى كل واحد من المكلفين مع أن مقتضى اطلاق التكليف
ثبوته على كل مكلف وان عصى الاخر.
لأنا نقول: هذا هو الغرض الأصيل وما يقوم باظهار كل مكلف أو بانذار
غرض مقدمي ولا يجب الايصال إلى ذي المقدمة فيما هو ملاك الايجاب
المقدمي فتدبر جيدا.
227

" في الاستدلال بآية السؤال " (1)
* آية السؤال
114 - قوله: وقد أورد عليها بأنه (2) الخ:
قد مر الايراد عليها وعلى أمثالها بان الظاهر منها التعبد بقول من لعلمه وفقهه
دخل في التعبد بقوله ولذا قيده به، والجواب عنه بعد تسليمه بان الغاية في
الصدر الأول هو الافتاء أو الانذار بعنوان الرواية وإذا وجب التعبد برواية المفتى
وجب التعبد برواية غيره، لعدم الفصل، مخدوش بما عرفت مفصلا.
وقد عرفت (3) امكان تعميم العلم والتفقه ونحوهما لصورة معرفة الحلال
والحرام من دون إعمال نظر ورأى فلا يكون لقوله إلا حيثية الخبر عن الحكم
وأما دعوى أن ظاهر الآية هو السؤال لكي يعلموا فلا يعم ما إذا لم يعلموا
فمدفوعة: بأن الظاهر هو السؤال لكي يعلموا بالجواب لا بأمر زائد على الجواب
فيكشف عن حجية الجواب، فإنه على فرض الحجية يكون حجة قاطعة للعذر
مصححة لإطلاق العلم عليه والا فلا.
نعم، بين هذه الآية والآيتين المتقدمتين (4) فرق حيث إنه لا أمر بالجواب هنا
حتى يتمسك باطلاقه لصورة عدم إفادة العلم كما في ايجاب الانذار وحرمة
الكتمان، فيمكن ايجاب السؤال إلى أن يحصل العلم بالجواب ولو بجواب
جماعة، هذا كله بالنظر إلى ظاهر هذه الآية مع قطع النظر عن تفسير أهل الذكر

(1) النحل: الآية 43 والأنبياء: الآية 7.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 95، س 7 وكفاية الأصول: 300، (ت، آل البيت).
(3) التعليقة: 110 ص 225.
(4) والمقصود: آية النفر والكتمان.
228

بالأئمة عليهم السلام في غير واحد من الاخبار.
مع أن قصر مورد الآية على خصوص الأئمة (ع) لا يلائم مورد الآية كما
لا يخفى على من راجعها.
وظني (والله أعلم) أن أهل الذكر في كل زمان بالنسبة إلى ما يطلب السؤال
عنه مختلف، فالسؤال عن كون النبي (ص) لا يجب أن يكون ملكا أو ملكا وانه
لا يمتنع عليه الطعام والشراب لا بد من أن يكون من غير النبي (ص) وعترته
عليهم السلام لأنهم محل الكلام بل عن العلماء العارفين بأحوال الأنبياء السابقين
والسؤال عن مسائل الحلال والحرام في هذه الشريعة المقدسة لابد من أن ينتهى
إلى الأئمة (ع) فإنهم عيبة علم النبي (ص) وحملة احكامه فالمصداق حيث إنه
في هذا الزمان منحصر فيهم من حيث لزوم انتهاء الأمر إليهم فلذا فسر أهل الذكر
بهم (ع) والله أعلم.
229

" في الاستدلال بآية الأذن "
* آية الأذن
115 - قوله: المراد بتصديقه المؤمنين هو ترتيب خصوص (1) الخ:
بملاحظة سياق الآية (2) من حيث كونه (ص) أذن خير لهم فيصدقهم فيما هو
خير لهم.
وعن الصادق (ع): " يصدق المؤمنين، لأنه (ص) كان رؤفا رحيما بالمؤمنين (3) "،
لا بملاحظة تعدية الفعل باللام المشعر بأن المراد تصديقه لهم فيما ينفعهم
ويكون لهم لا عليهم، وذلك، لان الايمان يتعدى بالإضافة إلى متعلقه دائما بالباء
والى من يدعو إليه باللام قال تعالى (لن نؤمن لك) (4) (وما أنت
بمؤمن لنا) (5) و (أنؤمن لبشرين مثلنا) (6) (فامن له لوط) (7)
و (قال امنتم له) (8) و (لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) (9) فكون
الايمان متعديا باللام هنا بالإضافة إلى المؤمنين على طبق طبعه ومقتضاه فهو يقر

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 96 وكفاية الأصول: 301، (ت، آل البيت).
(2) البراءة: الآية 61 - (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو اذن...).
(3) تفسير نور الثقلين: ج 2، ص 237، ح 220.
(4) الاسراء: الآية 90 - (قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا).
(5) يوسف: الآية 17 - (وما أنت لمؤمن لنا ولو كنا صادقين).
(6) مؤمنون: الآية 47 - (فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا).
(7) العنكبوت: الآية 26، (فأمن له لوط).
(8) طه: الآية 71 والشعراء: الآية 49 - (قال امنتم له).
(9) آل عمران: الآية 73.
230

لهم ويذعن لهم ويصدق لهم واللام في الجميع لام الصلة لا لام الغاية، ولو ذكر ما
وقع عليه الايمان لعدى بالباء، انما الكلام في تعديته بالباء في الفقرة الأولى مع
أن الواقعة على ما ورد (1) في سبب نزول الآية واحدة، فإنه تعالى أخبره (ع) بان
فلانا ينم عليك فقبله ثم أخبره النمام وحلف له بأنه لم ينمه فقبله أيضا، فعيب
على ذلك وقيل هو أذن، ومقتضى القاعدة أن يتعدى بالإضافة إلى المخبر باللام
وإلى المخبر به بالباء ولعل الوجه فيه، مضافا إلى لحاظ التعميم وعدم خصوصية
المورد، أن مرجع الايمان بما أنزله الله وأخبر به إلى الإيمان به كالايمان بصفاته
واقعا له (تعالى) فلا مغايرة بالحقيقة، فالايمان دائما يتعلق به (تعالى) من حيث
ذاته أو صفاته أو أفعاله أو إخباره وإن كان (تعالى) هو الداعي إليه، وحيث كان
المناسب لمقام النبوة عند تعرض ايمانه بالإضافة إليه (تعالى) عدم تخصيصه
بخصوص شئ مما يتعلق بجنابه (تعالى)، فلذا أضاف ايمانه (تعالى) مطلقا
كسائر الموارد. فتدبره فإنه حقيق به.

(1) تفسير نور الثقلين: ج 2، ص 236 والبرهان: ج 2، ص 139.
231

" في الاستدلال بسيرة العقلاء "
116 - قوله: انما يكفي في حجيته بها عدم ثبوت الخ.
لعل غرضه - قده - (1) ان اثبات عدم رادعية الآيات بسبب مخصصية السيرة
لها وإن كان دوريا كإثبات رادعية الآيات بسبب عدم مخصصية السيرة لها فإنه
دوري أيضا، لكن اثبات الرادعية يتوقف على احراز الردع بالآيات.
وأما عدم رادعيتها فلا يحتاج إلى الثبوت لعدم تقوم حجية السيرة بثبوت عدم
الردع، بل متقومة بعدم ثبوت الردع فتزاحم الآيات في الرادعية والسيرة في
المخصصية وإن كأن يوجب سقوطهما عن التأثير إلا أنه لا يضر بعدم ثبوت الردع
فعلا، فإنه محقق لمكان استحالة الرادعية والمخصصية وإن كان بعد عدم ثبوت
الردع لا مانع من حجية السيرة فلا مانع من مخصصيتها للآيات فيثبت بها عدم
الردع أيضا، إلا أن الحجية لم تثبت من ناحية مخصصية السيرة ليلزم الدور، بل
من ناحية عدم ثبوت الردع الذي لا مساس له بالمخصصية، ومنشأ عدم ثبوت
الردع تزاحم الآيات والسيرة في الرادعية والمخصصية فلا رادع كما لا مخصص
من قبل نفس الآيات والسيرة.
والجواب: أن الرادعية وإن كانت موقوفة على الاحراز المستلزم للدور، لكنه
كما أن حجية السيرة متقومة في نفسها بعدم ثبوت الردع، كذلك حجية العام
منوطة بعدم ثبوت المخصص، لا بثبوت عدمه ليستلزم الدور، فكما أنه بعد
التزاحم والسقوط يقال لم يثبت الردع فالسيرة حجة، كذلك يقال لم يثبت
المخصص فالعام حجة في مدلوله العمومي، وفعلية المتنافيين محال.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 100، س 2: فإنه يقال... وكفاية الأصول: 303، (ت، آل البيت).
والرسائل: ج 1، ص 163.
232

وربما يورد كما عن بعض أجلة العصر (1) عليه - قده - بان حجية السيرة منوطة
بالعلم برضاء الشارع وامضائه، فعدم العلم به الحاصل من قبل كاف في عدم
حجية السيرة وإن كان ثبوت الردع بالآيات مستلزما للدور.
ومبناه على أنه لا ملازمة بين حجية شئ عند العقلاء وحجيته عند الشارع
فلا بد من امضاء الشارع، فالمقتضي للحجية امضاء الشارع، وثبوت عدم الردع
أحد الطرق الكاشفة عن امضائه.
ومبنى شيخنا الأستاذ - قده - (2) في الاكتفاء بنفس عدم ثبوت الردع هو أن
الشارع أحد العقلاء بل رئيسهم، فهو بما هو عاقل متحد المسلك مع العقلاء فهذا
مقتض لاتحاد المسلك وردعه الفعلي كاشف عن اختلافه في المسلك وانه
بما هو شارع له مسلك اخر.
ومن الواضح أن ردعه الواقعي لا يكون كاشفا عن اختلاف المسلك ليختل به
الكاشف الطبعي عن اتحاد مسلكه مع العقلاء من حيث إنه منهم، فعدم وصول
الردع كاف في الحكم باتحاد المسلك، لعدم المانع عن الحكم بالاتحاد، وهذا هو
الصحيح.
ويمكن أن يقال في دفع الدور عن رادعية الآيات بأن مزاحمة العمومات مع
السيرة الدالة على حجية خبر الثقة من باب مزاحمة تام الاقتضاء وغير تام
الاقتضاء، لان العام حجة بالذات في مدلوله العمومي، لظهوره فيه، وتقديم
الخاص عليه من باب تقديم أقوى الحجتين على أضعفهما، بخلاف السيرة فان
أصل حجيتها الذاتية متقوم بعدم الردع الفعلي في مقام الاثبات، فمقتضى
الحجية في السيرة في مقام الإثبات متقوم بعدم الردع الفعلي، فعدم الرادع جزء
مقتضى الحجية إثباتا لا انه مانع عن الحجة المفروغ عن حجيتها، وعليه فمقتضى
الحجية في العام تام ولا مانع من تأثيره إلا السيرة التي يتوقف مانعيتها على
تمامية اقتضائها، ويتوقف تمامية اقتضائها على عدم رادعية العمومات عنها،

(1) درر الفوائد للعلامة الحائري - ره -: ج 2 - 1، ص 395: وثانيا.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 100 ونهاية الأفكار: ج 3، ص 137 وفوائد الأصول: ج 3 وص 195.
233

ويتوقف عدم رادعيتها مع وجود مقتضيها على مانعية شئ عن تأثيرها ولا مانع
إلا السيرة التي عرفت حالها فمانعية السيرة تتوقف على مانعيتها.
وبالجملة إثبات الرادعية الفعلية يتوقف على اثبات المقتضى وعدم المانع
والمقتضى على الفرض موجود والمانع مستحيلة المانعية فيقطع بالردع الفعلي
وعدم تمامية المقتضى في السيرة.
نعم: يمكن ابداء الفرق بين العام المقارن مع السيرة والمتأخر عنها، فان
المقارن يتقوم بعدمه المقتضى بخلاف المتأخر عنها فإنه يستحيل أن يكون
المتأخر رادعا فعليا عن المتقدم، فعدم الرادع في موطن انعقاد السيرة هو المقوم
لحجيتها والمفروض عدم الرادع هناك، فيتم اقتضائها فيكون حجة، ويدور الأمر
في العام المتأخر والسيرة المتقدمة بين أن يكون السيرة المتقدمة مخصصة له أو
العام المتأخر ناسخا للحكم الامضائي ورافعا لحجيتها، ومع عدم الترجيح يكفي
استصحاب حجية السيرة الثابتة قبل نزول الآيات الناهية.
ومما ذكرنا يظهر: أن مساق الآيات وإن كان عدم اعتناء الشارع بالظن ولو من
أول الامر.
ولذا يتوهم: أنه مع تأخرها كاشفة عن عدم امضاء الشارع لها وانه لا يقين
حينئذ بالحجية سابقا حتى تستصحب.
لكنه توهم باطل، لما عرفت من أن عدم الرضا الواقعي بل الردع الواقعي لا يمنع
عن الحجية وانما يمنع عن الحجية الردع الواصل حين انعقاد السيرة وثبوت الحجية
هذا، إلا أن يقال إن عدم الردع في زمان يمكن فيه الردع هو المناط في حجية
السيرة، وحيث كان بناء التبليغ على التدريج فلعل زمان نزول الآيات أول أوقات
إمكان الردع خصوصا عن مثل ما استقرت عليه سيرة العقلاء في كل ملة ونحلة.
والتحقيق: انه لا فرق بين العام المقارن والمتأخر إلا من حيث جريان
الاستصحاب في صورة تأخر العام بناء على لزوم الدور من الطرفين لا بناء على
تقديم الآيات للوجه المزبور، والا فلا مجال للأصل مع وجود الدليل، وأما من
حيث المزاحمة فلا، لان أصل حجية السيرة متقومة بعدم الردع حدوثا وبقاء فهي
وإن كانت حدوثا تام الاقتضاء لكنها بقاء غير تام الاقتضاء فتكون المزاحمة بين
234

تام الاقتضاء وغير تام الاقتضاء من حيث البقاء، ولذا لم يفرق (1) - قده - في
اشكال الدور من هذه الجهة كما لم يفرق غيره (2) أيضا، مع وضوح أن العام دائما
متأخر عما بنى العقلاء بما هم عقلاء، على العمل بشئ، فإنه لا يختص بزمان
دون زمان ولا بملة ونحلة خاصة.
وربما يتوهم تقديم الآيات الرادعة بوجه آخر وهو أن حجية السيرة بحكم
العقل التعليقي فلا محالة يرتفع بوجود التنجيزية نظرا إلى أن حجية السيرة:
إما من باب حكم العقل بقبح المؤاخذة على أزيد مما استقرت عليه سيرة
العقلاء من دون استكشاف رضاء الشارع وامضائه فيكون كحكم العقل من باب
الحكومة في صورة الانسداد.
وإما من باب حكم العقل بقبح نقض الغرض، حيث إن بناء العقلاء بمرئى من
الشارع فلو لم يكن راضيا به وأمكنه الردع ولم يردع لكان ناقضا لغرضه وهو قبيح
عقلا. وأنت خيبر بما في الوجهين:
أما في الأول: فلان حكم العقل استقلالا بقبح المؤاخذة على أزيد مما بنى
عليه العقلاء لا بد من أن يكون بمقدمات توجب الانتهاء إلى هذا الحكم العقلي
كمقدمات الانسداد الموجبة له هناك وعدم هذه المقدمات من الوضوح بمكان
ولا جزاف في الاحكام العقلية.
وأما في الثاني: فلأن الكبريات الشرعية التي بلحاظها يكون الحكم شرعيا
دائما منتهية إلى الكبريات العقلية، ومع ذلك لم يكن تلك الكبريات الشرعية
داخلة تحت الكبريات العقلية فلو فرض أن الشارع قال صريحا بان السيرة حجة
لأمكن إدراجه تحت كبرى عقلية بأن يقال لو لم يكن الشارع في كلامه هذا راضيا
بالعمل بالسيرة لكان ذلك منه اغراء بالجهل، وهو قبيح عقلا.
ولا يتوهم متوهم أن حجية السيرة حينئذ من باب قبح الاغراء، بالجهل،
وبالجملة تقرير الشارع بعدم ردعه كفعله أو قوله دليل الحجية شرعا وإن كانت
حجية قوله وفعله وتقريره عقلية فلا تغفل. هذا كله في تقريب رادعية الآيات

(1) هو المحقق الخراساني - قده -.
(2) وفى النسختين عندي (غير).
235

الناهية، والتحقيق حجية الخبر بالسيرة وعدم رادعية الآيات فان ما ذكرنا (1) من كون
المعارضة والمزاحمة من قبيل مزاحمة تام الاقتضاء وغير تام الاقتضاء غير تام
من حيث البناء والمبنى.
أما من حيث البناء فلأن ما ذكر انما يسلم إذا لم يكن عدم تمامية الاقتضاء
مستندا إلى تأثير تام الاقتضاء ولم يكن تمامية الاقتضاء مساوقة لفعلية التأثير.
واما السيرة فعدم تمامية الاقتضاء فيها مستندا إلى رادعية العام فعلا لا إلى غير
تأثير العام حتى لا تكون صالحة للمزاحمة، سواء كان هناك عام أولا، كما أن
تمامية اقتضائها بعدم تأثير العام مساوق لحجيتها، إذ لا مانع على الفرض،
والرادع مفروض العدم وإذا كان كذلك فتأثير العام منوط بعدم تأثير السيرة إناطة
المشروط بشرطه، وتأثير السيرة منوط بعدم تأثير العام من باب إناطة المقتضى
بمقومه، فكلاهما في المنع عن فعلية التأثير على حد سواء.
وأما من حيث المبنى فلما تقدم في مبحث حجية الظواهر (2) ولو مع الظن
بالخلاف من وقوع الخلط بين المقتضى في مقام الثبوت والمقتضى في مقام
الاثبات وما هو المفروغ عنه في العام هو المقتضى ثبوتا وهو ظهوره العمومي
وكشفه النوعي.
وأما المقتضى اثباتا فهو بناء العقلاء فلو كان للعقلاء بناءان بنحو العموم
والخصوص بفرض بناء على العمل بالعام مطلقا وبناء آخر على العمل بخبر الثقة
في قبال العموم لأمكن أن يقال بأن الشارع أمضى البناء العمومي ولم يمض البناء
الخصوصي، وأما إذا كان البناء العملي إما على اتباع الظهور العمومي مطلقا ولو
كان في قباله خير، أو على اتباعه ما لم يكن في قباله خبركما هو الواقع، فلا محالة
لا مقتضى لحجية الظهور العمومي فيما يتعلق بخبر الثقة، وإذا لم يكن منهم بناء
عملي فلا موقع للامضاء فهذا الظهور العمومي لا مقتضى لحجية في بعض
مدلوله فلا رادع من البناء العملي على اتباع خبر الثقة.
وما ذكرناه في مبحث حجية الظواهر (3) أن نهى الشارع عما بنى العقلاء على

(1) التعليقة: ص 233.
(2) التعليقة: 74، ص 163.
(3) المصدر الفوق.
236

اتباعه يمكن أن يكون باطلاقه نهيا عن رفع اليد به عن الظهور الذي في قباله،
فيكون بالملازمة أمرا باتباع الظهور، فيكون اثباتا لحجية هذا الظاهر الخاص ابتداء
لا إمضاء، غير جار هنا، فان النهى الذي يكون أمرا بالملازمة هو هذا الظهور الذي
لا مقتضى له فكيف يكون هو أمرا باتباع نفسه. فتدبره فإنه حقيق به.
ولكنه سيجيئ انشاء الله تعالى في مبحث الاستصحاب (1) أن عدم بناء
العقلاء على العمل بالعمومات الرادعة ليس بملاك العام والخاص، ولا بملاك
الظاهر والظن بالخلاف كما قدمناه، بل بملاك بنائهم على اتباع الخبر، ولا يعقل
بنائهم عملا على طرحه، ولذا لو ورد ظاهر بالخصوص على المنع عن الخبر لم
يكن متبعا عندهم أيضا ومع ذلك إذا سئل العقلاء من لزوم اتباع الظهور العمومي
أو الخصوصي المانع عن العمل بالخبر على المكلف الملقى إليه ذلك الظهور من
قبل مولاه مع عدم حجة أخرى أقوى من قبله يحكمون بلزومه عليه وأن مخالفته
ظلم على المولى، وقد أجبنا عن الآيات من حيث قصورها في نفسها أو من
حيث الحكومة في مبحث الاستصحاب، فراجع.
ثم اعلم أن تقريب الدور في المقام وأشباهه ليس بملاحظة مقام الثبوت فان
الوجوب والحرمة أو الوجوب وعدمه، أو الحرمة وعدمها أو المنجزية وعدمها
والمبرئية والمعذرية وعدمها جميعا إما متناقضان أو متضادان ولا توقف للنقيض
على نقيضه ولا للضد على عدم ضده، ولا لعدم الضد على وجود ضده بل
بملاحظة مقام الاثبات، ولكنه لا من حيث سببية الظهور أو الخبر للكشف
التصديقي ولو ظنيا، إذ لا يعتبر في شئ منهما فعلية الكشف التصديقي ولو ظنيا
والكشف النوعي محفوظ في الدليلين المتعارضين، ولا يختل الكشف النوعي
بورود كاشف نوعي اخر ولو كان أقوى بل بلحاظ أن الظهور أو الخبر باعتبار دليل
اعتبارها سبب للكشف القطعي إما عن الحكم المماثل أو عن المنجزية للواقع،
وسببية كل منهما للكشف التصديقي عن أحد الأمرين وتأثيره فيه مشروط بعدم
تأثير الاخر، فافهم وتدبر.

(1) نهاية الدراية: ج 3، ص 29: ذيل قول الماتن: وثانيا: سلمنا ذلك لكنه لم يعلم أن الشارع...
237

الاستدلال بحكم العقل على حجية خبر الواحد
117 - قوله: أحدها انه يعلم اجمالا بصدور كثير (1) الخ:
تقريبه على وجه لا يرد عليه ما أورده شيخنا العلامة الأنصاري (2) - قده - هو
أن العلم الإجمالي وإن كان حاصلا بثبوت تكاليف واقعية في مجموع الروايات
وسائر الأمارات من الاجماعات المنقولة والشهرات وأشباهها: ضرورة أن دعوى
عدم العلم بمطابقة بعض الاجماعات المنقولة والشهرات للواقع خلاف
الانصاف جدا، إلا أن مجرد تضمن بعض الاجماعات المنقولة وبعض الشهرات
لتكاليف واقعية لا يجدى لاحتمال توافقها مع ما تضمنه الاخبار الصادرة واقعا
بحيث لو عزلت الاجماعات المنقولة والشهرات المتوافقة مع جملة من الأخبار
لم يكن منع العلم الاجمالي بثبوت تكاليف واقعية فيما عداها بعيدا.
فالالتزام بالعلم الاجمالي في مجموع الروايات وسائر الأمارات لا يقتضى
الاحتياط في تمام الأطراف لمكان احتمال الانطباق على ما تضمنه الاخبار فلا
علم اجمالي بتكاليف اخر زيادة على ما في الاخبار.
ومما ذكرنا يظهر أن ما أفاده شيخنا الأستاذ - قده - (3) هنا وفى تعليقته (4)
الأنيقة على الرسائل ليس مبنيا على انكار العلم الاجمالي في الروايات

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 100 وكفاية الأصول: 304، (ت، آل البيت).
(2) فرائد الأصول: ص 103، 104 (مخطوط). والرسائل: ج 1، ص 170 (ط، جماعة
المدرسين). والجواب عنه أولا ان وجوب العمل بالاخبار الصادرة...
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 104.
(4) حاشية الرسائل: ص 73، قوله - قده - والجواب أولا ان وجوب العمل بالاخبار...
238

وغيرها (1) بل مبنى على عدم تأثيره، لمكان احتمال الانطباق الراجع إلى قصور
العلم الاجمالي عن التأثير في التنجز لا مانعية العلم الاجمالي في خصوص
الروايات عن اقتضاء العلم الاجمالي الكبير للتنجز كما هو كذلك فيما إذا قامت
الحجة المعتبرة على بعض الأطراف، فان حجيتها إن كانت بمعنى تنجيز الواقع
فالعلم الاجمالي لا يعقل أن يكون منجزا للمعلوم على أي تقدير إذ أحد التقادير
كون الحاكم في مورد الحجة المعتبرة.
والمنجز لا يتنجز وإن كانت بمعنى جعل الحكم المماثل، فالعلم الاجمالي لا
أثر له إلا إذا تعلق بحكم فعلى على أي تقدير، ولا يعقل أن يكون الواقع في مورد
الحجة فعليا لاستحالة اجتماع حكمين بعثيين فعليين في مورد واحد، بخلاف
ما نحن فيه فان نسبة العلمين إلى ما تضمنه الاخبار من التكاليف على حد سواء
من حيث الفعلية والتنجز، بل احتمال انطباق مورد العلم الاجمالي الكبير على
مورد العلم الاجمالي الصغير يوجب قصور العلم الاجمالي الكبير عن تعلقه
بتكاليف فعلية زيادة على ما في مؤديات الروايات.
فهو من قبيل ما إذا علم بوجود غنم موطوء في قطيع الغنم وبوجود غنم
مغصوب في ذلك القطيع مع احتمال أن يكون المغصوب هو الموطوء، فلو علم
تفصيلا ذلك الموطوء لم يبق إلا الاحتمال المغصوب في ما عداه.
ومما ذكرنا تبين أن ما أفاده - قده - في تعليقته المباركة (2) في ذيل مانعية
احتمال الانطباق عن تأثير العلم الاجمالي الكبير من حجية الاخبار الصادرة
وتنجز التكاليف بها مستدرك.
قال - قده: " إلا أن احتمال انطباقها على الموارد التي نهض على التكليف
فيها خصوص الاخبار الصادرة - مع بداهة حجيتها وتنجز التكاليف المدلول عليها
وفعليتها ظاهرا مطلقا، أصابت الواقع أو أخطأت عنها - يكون مانعا عن تنجزها

(1) وفى النسختين عندي (وخبرها وغيرها).
(2) حاشية الرسائل: ص 73، س 17 والرسائل: ج 1، ص 170 والرسائل: ص 103، مخطوط.
239

فيما صادفت غير تلك الموارد من الأطراف " الخ: ومن البين أن الموجب
للانحلال مجرد احتمال الانطباق الذي معه لا علم إجمالا بتكاليف فعلية أخرى
حتى يتنجز بالعلم بها لا تعلق العلم الاجمالي بالحجة المنجزة للتكاليف فان
حجية الاخبار الواقعية أول الكلام.
والمفروض أن المستدل بصدد إثبات كونها بحيث يعامل معها معاملة الحجة
والمنجز بالحقيقة لتلك التكاليف هو العلم الاجمالي، مضافا إلى أن العلم بصدور
كثير من الاخبار ليس علما بالحجة، إذ الخبر المفروض صدوره عن الإمام (ع)
ليس حجة تعبدية حتى يكون العلم به تفصيلا أو اجمالا علما بالحجة، ومع ذلك
كله فهو مستدرك كما أشرنا إليه (1)، لما عرفت من أن الموجب للانحلال احتمال
الانطباق لا غير، فتدبر جيدا.
والتحقيق في حسم مادة النزاع انه لا بد من مراجعة الفقه وملاحظة الاخبار
المدونة والاجماعات المنقولة والشهرات وإن كان بعد عزل كثير من الاخبار أو
أكثرها الذي ادعى الشيخ الأعظم - قده - في رسائله (2) العلم بصدوره، وملاحظة
الاجماعات المنقولة والشهرات المطابق مضمونها لتلك الأخبار وإن كان بعد
عزل مقدار المعلوم بالاجمال من الاخبار وعزل ما يطابقه من الاجماعات
المنقولة والشهرات كان ضم البقية القليلة من الاخبار إلى بقية الاجماعات
والشهرات موجبا لحدوث علم الاجمالي في هذه الطوائف المنضمة فهو شاهد
على أن العلم الاجمالي الكبير يشتمل على تكليف زائد على ما يتضمنه العلم
الاجمالي الصغير، فلا مانع من تنجيزه لتلك التكاليف في أطرافه، وإن لم يكن
الضم بعد العزل موجبا لعلم اجمالي بالتكليف صح ما ادعاه شيخنا الأستاذ (3)
- قده - ولا أظن بعد وفاء المعلوم بالاجمال من الاخبار بمعظم الفقه وقلة الباقي

(1) التعليقة: 239.
(2) فرائد الأصول: ج 1، ص 171، س 1، ولذا لو فرضنا عزل طائفة...
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 100.
240

أن يوجب الضم علما اجماليا كما يدعيه الشيخ الأجل - قده - والله أعلم.
ثم انه بعد ما فرضنا من انحصار الاحتياط في موارد الروايات بخصوصها.
نقول: انها تارة تكون في قبال الأصول العملية، فأخرى في قبال الأصول
اللفظية.
فإن كانت في قبال الأصول العملية، فاما أن تكونا (1) متوافقتين في الاثبات أو
النفي، واما أن تكونا متخالفتين.
فإن كانت الاخبار مثبتة للتكاليف والأصول أيضا كذلك، سواء كانت مثبتة لما
يماثلها أو لما يضادها موضوعا أو حكما، فلا ينجز العلم الإجمالي بالإضافة إلى
تلك الأخبار المثبتة، لما أشرنا إليه انفا (2) أن مفاد الأصل سواء كان حكما فعليا أو
تنجز الحكم الواقعي، لا يعقل تأثير العلم في مورده، لامتناع فعلية الواقع مع فعلية
الحكم المجعول على طبق الأصل، ولامتناع تنجز المتنجز وبه يندفع توهم
تأثيرهما في الحكمين المتماثلين لموضوعين أو المتضادين لموضوع واحد
بالاحتياط في الأول والتخيير في الثاني.
إذ مع فعلية وجوب الجمعة مثلا باستصحابه لا علم اجمالي بتكليف فعلى
لظهر أو بالحرمة للجمعة حتى يجب الاحتياط في الأول ويتخير في الثاني.
إن كانت الاخبار مثبتة والأصول نافية فإن كانت الأصول نافية بحد يعلم
اجمالا بمخالفتها للواقع للعلم الاجمالي بصدور جملة من الاخبار المثبتة النافية
لها، فلا مجال للعمل على طبق الأصول، للزوم المخالفة القطعية العملية، واجراء
بعضها دون بعض ترجيح بلا مرجح، وان لم يكن بهذا الحد فالمسألة مبنية على
جريان الأصول في بعض أطراف العلم الاجمالي وعدمه نظرا إلى انها مغياة بعدم
العلم ولو اجمالا بخلاف الحالة السابقة، وسيأتي انشاء الله تعالى تحقيق القول
فيه في دليل الانسداد (3) وفى اخر الاستصحاب (4).

(1) (خ ل): أن تكون.
(2) التعليقة: 117.
(3) التعليقة: 132، ص 262.
(4) نهاية الدراية: ج 3، ص 304، ذيل قول الماتن: فالأظهر جريانهما.
241

وإن كانت الاخبار نافية والأصول نافية فحالها حال المثبتين غاية الأمر أن
المحذور هناك امتناع الحكمين الفعليين وتنجز المنجز، وهنا لغوية جعل عدم
الوجوب فعلا مرتين، ولغوية جعل العذر حقيقة مرتين فلا اثر للعلم الاجمالي
حينئذ.
وإن كانت الاخبار نافية والأصول مثبتة - سواء كانت بحد يعلم اجمالا
بمخالفتها للواقع أولا بذلك الحد يبتنى جريانها على شمول أدلة الأصول لصورة
العلم الاجمالي بالخلاف. نعم، مثل قاعدة الاشتغال الغير المغياة بذلك تكون منجزة للحكم ولا أثر
حينئذ للعلم الاجمالي، إذ بعد تنجز الواقع في طرف بالقاعدة يستحيل تعلق
العلم الاجمالي بعدم فعلية ليترتب عليه المعذورية، بقى الكلام في أثر الخبر
النافي حتى يكون العلم به اجمالا مؤثرا فان ظاهر الشيخ الأجل - قده - في
الرسائل (1) اختصاص تأثير العلم الاجمالي بصورة قيام الخبر على ثبوت
التكليف لا نفيه، وظاهر شيخنا الأستاذ (2) - قده - انه كالخبر المعلوم تفصيلا فيما
له من الأثر فاثر العلم به تفصيلا أو اجمالا جواز العمل على طبقه.
وتحقيق القول فيه: أن وصول التكليف اللزومي تفصيلا أو اجمالا يوجب
التنجز بمعنى انه يحقق عنوان مخالفة التكليف الواصل المندرجة تحت عنوان
الظلم المحكوم عقلا باستحقاق الذم والعقاب، وعدم استحقاق العقاب بعدم
علة التامة وعدمها، تارة بعدم المخالفة، وأخرى بعدم التكليف حقيقة وثالثة،
بعدم وصوله وهذا الأخير هو المراد بقاعدة قبح العقاب بلا بيان. ومن الواضح ان
وصول عدم التكليف تفصيلا محقق لنقيض ما هو جزء العلة التامة لاستحقاق
العقاب ووصوله بالحجة الشرعية محقق للنقيض تنزيلا بخلاف وصوله إجمالا
فإنه يجتمع مع احتمال التكليف فلا يكون محققا للنقيض ويجتمع مع الحجة

(1) فرائد الأصول: ج 1، ص 171، وثالثا... (ط، جماعة المدرسين).
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 104، س 1.
242

على التكليف فلا يكون معذرا عن مخالفة التكليف فلا بد في دفع احتمال
التكليف من حيث التأثير في العقوبة بالتشبث بعدم وصوله لا بوصول عدمه الغير
المنافى لاحتماله بل للحجة على ثبوته فالعلم الاجمالي بعدم التكليف لا أثر له
عقلا ولا شرعا.
وقد عرفا انفا (1) أن العلم الاجمالي بصدور كثير من الاخبار ليس علما
بوجود الحجة بل علم بصدور المخبر به وبهذا العلم يراد أن يعامل مع الخبر
معاملة الحجة فليس العلم الاجمالي بالخبر النافي علما بالمعذر الشرعي، فتدبر
جيدا.
ومما ذكرنا تبين: أن ما أفاده الشيخ (2) الاجل - قده - من أن مقتضى هذا
الدليل وجوب العمل بالخبر، والخبر النافي لا يجب العمل به.
مدفوع: بأن أثر العلم ليس الوجوب عقلا ولا شرعا حتى لا يعقل في الخبر
النافي بل أثره التنجز وعدمه ليس مستندا إلى العلم الاجمالي بالنفي بل إلى عدم
العلم بالتكليف، كما أن المعذرية أثر الحجة الشرعية المجامعة مع احتمال
التكليف، كما أن ما أفاده شيخنا العلامة الأستاذ (3) - ره - من جواز العمل على
طبق الخبر النافي لا يرجع إلى محصل، فان الجواز التكليفي من العقل بما هو غير
معقول كسائر الأحكام التكليفية عنه، وبمعنى المعذرية كذلك لأنه أثر الحجة
الشرعية كما عرفت وبمعنى عدم التنجز مستند إلى عدم وصول التكليف حقيقة
وتنزيلا لا إلى وصول عدمه اجمالا كما عرفت مفصلا هنا.
هذا كله إذا كانت الاخبار المعلومة الصدور اجمالا في قبال الأصول العملية.
وإن كانت في قبال الأصول اللفظية من عموم أو اطلاق أو نحوهما فلا اثر
للعلم الاجمالي بالإضافة إلى الخبر النافي، لان الظهور حجة إلى أن تقوم حجة

(1) التعليقة: 117، ص 239.
(2) فرائد الأصول: ج 1، ص 171، وثالثا (ط، جماعة المدرسين).
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 104، س 1، وجواز العمل على طبق النافي منها.
243

أقوى على خلافه ومن البين أن أطراف العلم الاجمالي يؤخذ بها من باب
الاحتياط لا من حيث الحجية حتى يكون من قبيل قيام أقوى الحجتين على
أضعفهما.
244

" في الأدلة العقلية على حجية مطلق الظن "
الأول: في حكم العقل بلزوم دفع الضرر المظنون
118 - قوله: وأما الكبرى فلاستقلال العقل (1) الخ:
لا يذهب عليك أن ترتب الأثر المهم من الحجية إما أن لا يحتاج إلى كبرى
عقلية أصلا وإما أن يحتاج إلى كبرى عقلية بملاك الحسن والقبح.
وذلك لأنه إن أريد بالضرر العقوبة فمن الواضح أن تسليم الصغرى وهو الظن
بالعقوبة للظن بالحكم كاف في المقصود من دون إضافة كون الضرر المظنون مما
يفر عنه كل ذي شعور أو مما التزم بدفعه العقلاء عملا، ضرورة أن المراد من
الحجية تنجز الواقع عند إصابة الطريق والظن بالحكم لو سلم كونه ملازما للظن
بالعقوبة كان كذلك والا لم يكن طنا بالعقوبة فلا حاجة في ترتبها عند إصابة الظن
إلى حكم من العقلاء أصلا.
وإن أريد بالضرر المفسدة فمن البين أن مجرد كون الضرر مما يفر عنه كل ذي
شعورا أو مما التزم بدفعه العقلاء عملا من حيث إنهم ذو وشعور لا يجدى في ترتب
العقوبة على مخالفة المظنون إلا إذا اندرج في القضايا العقلية بملاك الحسن
والقبح حتى يكون فعله مما يذم عليه عند العقلاء فيكون مما يعاقب عليه شرعا.
119 - قوله: إلا أن يقال إن العقل وإن لم يستقل (2) الخ:
قد مر غير مرة (3) أن استحقاق الذم والعقاب عقلا مترتب على هتك حرمة

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 108، س 3 وكفاية الأصول: 308، (ت، آل البيت) والرسائل: ج 1،
ص 175.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 108، س 15 وكفاية الأصول: 309، (ت، آل البيت).
(3) التعليقة: 10 و 32، ص 41 و 83.
247

المولى وهو ظلم عليه.
ومن الواضح أن عنوان الظلم والخروج عن زي الرقية ورسم العبودية
لا يصدق الا إذا كانت مخالفة التكليف مخالفة لما قامت عليه الحجة عقلا أو
شرعا، والظن بمجرده ليس كذلك، إذ المفروض انه في نفسه ليس حجة
عقلائية، والغرض معاملة الحجة معه بكبرى دفع الضرر المظنون المتوقف على
حجيته في نفسه حتى يتحقق موضوع القاعدة هو الظن بالعقوبة.
واما كونه حجة شرعا واقعا فلا يحقق موضوع القاعدة، لان الحجة (1) الشرعية
سواء كانت بمعنى جعل الحكم المماثل أو بمعنى تنجيز الواقع يتقوم بالوصول
عقلا.
أما على الأول: فواضح، لأن الحكم المماثل كنفس الحكم الواقعي من حيث
عدم الأثر إلا بعد الوصول والا لكفى نفس وجود الحكم الواقعي في استحقاق
العقوبة على مخالفته من دون حاجة إلى جعل الحكم المماثل على طبقه.
وأما على الثاني: فلان وجود الحكم المجعول لو كان كافيا في تنجزه بمجرد
الظن به أو احتماله لما كانت حاجة إلى جعل التنجز من الشارع، فجعل التنجز
واقعا كجعل الحكم واقعا لا أثر له عقلا، هذا إذا كانت العقوبة بحكم العقل.
وأما إذا كانت بجعل الشارع فكما أن مقتضى قاعدة اللطف البعث إلى ما فيه
المصلحة والزجر عما فيه المفسدة لإيصاح العباد إلى مصالحهم ودفع وقوعهم
في المفاسد كذلك مقتضى قاعدة اللطف إيصال البعث والزجر تحصيلا لذلك
الغرض، وكما أن جعل العقاب لغرض تمامية اقتضاء البعث والزجر للدعوة في
نفوس العامة كذلك عين هذا الغرض يقتضى ايصال جعل العقاب تحقيقا
للدعوة، والا فوجوده الواقعي لا يحقق الدعوة.
وعليه ففعلية استحقاق العقوبة عقلا وشرعا بفعلية الحجة الشرعية المحققة
لعنوان الظلم المحكوم باستحقاق الذم والعقوبة عليه في الأول وبفعلية جعل
العقاب بوصوله في الثاني فلا معنى لعدم استقلال العقل باستحقاق العقوبة
وعدم استقلاله بعدم استحقاقها بل إما يحكم بالاستحقاق أو بعدمه، بل

(1) (خ ل): الحجية.
248

الاستحقاق حيث إنه على فرضه (1) - قده - بحكم العقل كما هو المعروف أيضا
فلا معنى لعدم الجزم بأحد الطرفين، لان هذا الحكم من العقلاء ليس مترتبا على
عنوان يعلم صدقه تارة ويشك فيه أخرى، بل هو عبارة عن بناء العقلاء عملا على
المدح والذم وبنائهم في مخالفة التكليف المظنون إما على الذم أو لا فلا تغفل.
120 - قوله: ودعوى استقلاله بدفع الضرر المشكوك (2) الخ:
قد عرفت أن مجرد فرار العقلاء عملا عن الضرر المقطوع أو المظنون أو
المشكوك إما مستدرك إذا كان المراد به العقوبة، إذ المفروض ترتبها لو كانت
ثابتة واقعا سواء كان حكم من العقلاء على دفعه أم لا - وإما لا يجدى مجرد فرارهم
عنه إذا كان المراد به غير العقوبة من المضار الدنيوية، إذ لا يتم أمر الحجة إلا
بعد ترتب استحقاق العقوبة على عدم دفعه وهو بمجرد بناء العقلاء على دفعه
عملا غير ثابت كما لا يخفى، بل التحقيق انه ليس من موارد قاعدة التحسين
والتقبيح.
أما إذا أريد به العقوبة فلأن الاقدام على ما يترتب عليه العقوبة بحكم العقل
أعني المعصية ليس موردا لذم اخر أو لعقوبة أخرى من العقل والشارع مع
خروجه عما فيه ملاك الحسن والقبح من جهة أخرى، إذ استحقاق الذم والعقاب
ليس مما اقتضاه البرهان بل داخل في القضايا المشهورة الميزانية التي تطابقت
عليها آراء العقلاء حفظا للنظام وإبقاء للنوع.
ومن البين أن الاقدام على ما يستحق العقاب عليه إذا قطع النظر عن الجهة
المقتضية لاستحقاق العقاب لا يؤدى بنوعه إلى اختلال النظام وفساد النوع، إذ
الأمر المترتب على هذا الاقدام غير مربوط بهذا النظام بل لو ترتب العقاب لكان
في الآخرة فتدبره فإنه دقيق:
وأما إذا أريد به الضرر الدنيوي فلان تحمل المضار لا يؤدى إلى اختلال النظام
وفساد النوع بخلاف الاضرار بالغير.
ولذا لا شبهة في عدم القبح في تحمل المضار لجلب منفعة، بخلاف إضرار

(1) هو المحقق الخراساني - ره - في كفاية الأصول: ج 2، ص 108، س 3.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 111 وكفاية الأصول: 309، (ت، آل البيت).
249

الغير لإيصال نفع إليه فليس الوجه في عدم قبح إضرار الشخص بنفسه جبره
بمنفعة عائدة إليه، وإلا جاز مثله بالنسبة إلى الغير، نعم: ادخال الضرر بلا نفع
يعود إلى الشخص لغو لا يقدم عليه العقلاء لا انهم يذمون المقدم عليه بملاك
إخلال ذلك الاقدام بالنظام، ومنه تعرف أن دفع الضرر المقطوع فضلا عن غيره
غير واجب بملاك الحسن والقبح.
121 - قوله: إلا أنها ليست بضرر على كل حال إلخ:
بل يكفي كونها ضررا في بعض الأحوال بناء على ما تقدم منه - قده - من (1)
استقلال العقل بدفع الضرر المشكوك كالمظنون فان الظن بالمفسدة يجامع (2)
احتمال كونها مضرة فيجب دفعها من حيث لزوم دفع الضرر المحتمل.
122 - قوله: مع منع كون الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد (3) الخ:
هذا انما يجدى لو قيل بكفاية مجرد المصلحة وعدم المفسدة في التكليف
فإنه حينئذ لا يلازم الظن به الظن بهما في متعلقه، بخلاف ما إذا قيل بلزومهما في
التكليف زيادة على المصلحة والمفسدة في المأمور به والمنهى عنه فان الظن
بالتكليف الفعلي يلازم الظن بوجود كل ماله دخل في فعلية التكليف نفسا
ومتعلقا وليس الظن متعلقا بدوا (4) بالمصلحة أو المفسدة في الفعل حتى
لا يجدى في وجوب الاستيفاء أو الاحتراز شرعا، لإمكان عدم تمامية مصلحة
التكليف بنفسه أو وجوده (5) مفسدة فيه بل المفروض الظن بهما من جهة الظن
بالتكليف الفعلي ولا يخفى عليك أن مسلكه - قده - هو الثاني.
123 - قوله: ولا استقلال للعقل بقبح ما فيه احتمال المفسدة (6) الخ:
نعم، عن الشيخ - قده - في العدة (7) الحاق ما لا يؤمن مفسدته بما علم

(1) هو المحقق الخراساني - ره - في كفاية الأصول: ج 2، ص 111، س 2، ودعوى استقلاله...
(2) (خ ل): بجامع.
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 111 وكفاية الأصول: 309، (ت، آل البيت).
(4) (خ ل): بذوا - وجوده.
(5) (خ ل): بذوا - وجوده.
(6) كفاية الأصول: ج 2، ص 112، س 4 وكفاية الأصول: 310، (ت، آل البيت).
(7) عدة الأصول للشيخ الطائفة: ج 2، ص 118، والذي يدل على ذلك أنه قد ثبت في العقول أن
الاقدام على ما يأمن المكلف كونه قبيحا مثل اقدامه على ما لم قبحه... (والصحيح ان الاقدام على ما
لا يأمن مثل اقدامه على ما يعلم قبحه) وعدة الأصول: ج 2، ص 85، متى أقدم عليه مقدما على ما
لا يأمن من كونه قبيحا... وأشار إليه صاحب الكفاية: ج 2، ص 180، س 12.
250

مفسدته في قبح الاقدام عليه مستشهدا بقبح الاخبار بما لا يعلم كقبح الإخبار
بما علم عدمه والقياس بلا وجه، لان القبيح عقلا في باب الكذب هو الكذب
المخبري دون الخبري لاستحالة إناطة استحقاق الذم عند العقلاء بالخارج عن
الاختيار.
ومن الواضح أن القول بغير علم كالقول بما علم عدمه من حيث مناط القبح
وهو عدم العلم الوجداني بالمخبر به فالقول بغير علم بحسب اعتقاد المخبر قول
بغير الواقع بحسب اعتقاده، إذ لا واقع للموجود في اعتقاد المخبر إلا ظرف
وجدانه وهو معدوم فيه قطعا. واما حكم العقل بدفع المفسدة المحتملة فقد
عرفت سابقا انه إن كان الحكم العقلي بملاك التحسين والتقبيح الفعليين فهو
مجد في ترتب الأثر المترقب من الحجية والا فلا.
ومن المعلوم أن المفسدة ليست ضررا كما عرفت وعلى فرضه ليست داخلة
تحت الكبرى العقلية بملاك التحسين والتقبيح.
وأما وجوب دفع المفسدة بملاحظة وجوب تحصيل الغرض وحرمة تفويت
الغرض ونقضه، ففيه: أن الغرض الواقعي لا يجب تحصيله عقلا ولا يحرم نقضه
فحال الغرض الواقعي حال البعث والزجر المنبعثين عنه واقعا فكما أن مخالفة
العبث الذي لا حجة عليه ليست ظلما يستحق عليه الذم والعقاب كذلك عدم
تحصيل الغرض الواقعي ونقضه فإنه ما لم يقم حجة عليه لا يكن ظلما مذموما.
بل التحقيق: أن القطع بالمفسدة والمصلحة الواقعيتين كذلك، لما مر أنهما من
قبيل المقتضى للبعث والزجر لا العلة التامة لهما، ومع احتمال المفسدة الغالبة
في البعث والزجر لا تكون المصلحة والمفسدة غرضا ملزما حتى يكون القطع
بهما قطعا بالغرض الملزم ليجب تحصيله ويحرم نقضه، وقد مر تحقيقه في أوائل
مباحث القطع (1) فراجع.

(1) التعليقة: 8 و 9 ص 37 و 40.
251

" الثاني: في حكم العقل بقبح ترجيح المرجوح "
124 - قوله: لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح (1) الخ:
لا يخفى عليك أن المراد من الراجح والمرجوح ما هو كذلك بحسب
الاغراض المولوية لا الاغراض الشخصية، فإنه محال لا قبيح، لاستحالة تأثير
الأضعف دون الأقوى، فالترديد هنا بين إرادة الراجح بحسب غرض الفاعل
والراجح بحسب الغرض المولوي، بلا وجه، كما أن موافقة المرجوح بحسب
الغرض المولوي للغرض العقلائي لا تخرجه عن المرجوحية بتوهم انه راجح
عقلا، فلا معنى لحكم العقلاء بقبحه.
وذلك لأن الغرض العقلائي يوجب الرجحان في حد ذاته لا الرجحان بالفعل،
إذ مقام العبودية والمولوية محفوظ عند العقلاء أيضا، فليس للعبد ترجيح ما
يوافق الغرض العقلائي على الغرض المولوي فحينئذ نقول إن الظن بوجوب
شئ وإن كان يقتضى رجحان الوجوب على غيره، لكنه بالاقتضاء لا بالفعل،
وانما يصير الراجح بالذات راجحا بالفعل ما لم تكن أمارة معتبرة مقتضية لغيره أو
أصل معتبر مقتض لغيره، والا لكان الراجح بالفعل غيره فتمامية هذا الدليل يبتنى
على مقدمات الانسداد حتى يتمحض المسألة في الظن والوهم مثلا ليقال إن
الامتثال الظني أرجح من الامتثال الوهمي، ومرجع الجواب حينئذ إلى منع
الصغرى وانه لم يعلم قبل تمامية مقدمات الانسداد أن موافقة الظن راجحة
بالفعل لتدخل تحت عنوان ترجيح المرجوح على الراجح.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 112 وكفاية الأصول: 310، (ت، آل البيت).
252

مضافا إلى ما مر من الأثر المهم من الحجية استحقاق العقوبة على المخالفة،
فالكبرى العقلية لا بد من أن يكون بملاك التحسين والتقبيح العقليين بملاحظة
اندراج الموضوع المحكوم بالقبح تحت عنوان يكون بنوعه مخلا بالنظام وليس
كل راجح بحسب الغرض المولوي كذلك، إذ ليست المصالح والمفاسد الباعثة
على الايجاب والتحريم من المصالح العامة التي ينحفظ بها النظام أو المفاسد
العامة التي يختل بها النظام، وليس مجرد عدم إقدام العقلاء على ما لا يوافق
الاغراض العقلائية موجبا لاتصافه بالقبح بملاك الإخلال بالنظام كما عرفت في
قاعدة دفع الضرر (1) وسيجيئ انشاء الله تعالى بقية الكلام في البحث عن دليل
الانسداد (2).

(1) التعليقة: 120 و 134 ص 249 و 272.
(2) التعليقة: 120 و 134 ص 249 و 272.
253

" التحقيق في مقدمات دليل الانسداد "
125 - قوله: الرابع دليل الانسداد وهو مؤلف (1) الخ:
ربما يقال: إن وجه عقلية الدليل هنا كون الكبرى عقلية، لكون المقدمة
الأخيرة بمنزلة الكبرى للقياس المركب من الصغرى المتوقف على المقدمات
السابقة، فان تلك المقدمات تحقق الدوران بين العمل بالظن أو الشك أو الوهم،
والعقل يحكم حكما كليا بأنه كلما دار الأمر بين الظن ومقابليه (2) يجب تقديم
الظن عليهما، لقبح ترجيح المرجوح على الراجح.
وفيه: أن الاحتياط وسائر الأصول من أطراف الدوران فأبطأ لها وحصر
الدوران في الظن ومقابليه (3) بلا وجه.
ومنه تعرف أنه لا وجه لجعل المقدمة الرابعة محققة للصغرى وجعل
الخامسة كبرى.
نعم، المقدمات الثلاثة الأول محققة للدوران بين الظن وغيره من مقابلية
والأصول الشرعية والعقلية.
ومن المعلوم أن كبرى ابطال بعضها شرعية وبعضها عقلية، والعقلية أيضا
لا تختص بكبرى قبح ترجيح المرجوح على الراجح، مع أن المقدمات السابقة
مبادئ تحقق الدوران الذي هو كالصغرى للمقدمة الأخيرة، والذي هو صغرى
القياس نفس الدوران لا مبادئ تحققه، فلا وجه لجعلها جزء القياس، كما هو

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 114، الرابع... وكفاية الأصول: 311، (ت، آل البيت).
(2) أي الشك والوهم.
(3) أي الشك والوهم.
254

واضح وجعل أستاذنا العلامة رفع الله مقامه في الحاشية (1) عقلية الدليل بلحاظ
عقلية النتيجة، حيث إنها حكم عقلي استقلالي بعد تحقق المقدمات الخمسة.
ويمكن أن يقال: إن النتيجة من افراد الكبرى الكلية فيتبعها في العقلية
والشرعية، ولا معنى لكون النتيجة بما هي عقلية مع قطع النظر عن الكبرى
الكلية، وليس لمجموع المقدمات الخمسة الكبرى كلية، بل لكل واحدة كبرى
تخصها كما لا يخفى.
مع أن العبرة في العقلية لو كانت بكون النتيجة وهي حجية الظن عقلية لكان
الدليل عقليا بناء على الحكومة لا مطلقا ولو على الكشف: إذ على الكشف
ليست النتيجة إلا وجوب العمل بالظن شرعا، بخلاف ما إذا كان مناط العقلية كما
سيجيئ انشاء الله تعالى فإنه لا فرق فيه بين القولين.
والتحقيق في تأليف القياس في هذا المورد أن يقال إن المقدمات الخمسة
بنحو القياس الاستثنائي مقدم القضية وتعين العمل بالظن من باب التالي لها
والعقلية حينئذ بلحاظ استلزام المقدم للتالي لا بلحاظ استلزام المقدمتين للنتيجة
حتى يقال إن استلزام القياس للنتيجة عقلي دائما.
نعم، حيث إن أطراف الدوران غير منحصرة عقلا في الأصول الأربعة والظن
ومقابليه لإمكان أصل اخر عقلا، فلا محالة لا يكون استلزام المقدم للتالي عقليا،
ولكن بعد ضم عدم مرجعية أصل اخر غير الأصول المعمولة إجماعا يكون
الاستلزام عقليا قطعيا، إذ بعد فرض المقدم لو لم يتعين الظن يلزم الخلف أو
التكليف بما لا يطاق، واللازم أن يكون التلازم عقليا لا ذات اللازم والملزوم.
ومن البين انه بعد انسداد باب العلم والعلمي (2) لا يبقى إلا الظن والشك
والوهم والأصول المطابقة لأحدها، بمعنى أن الأمر دائر بين العمل بأحد هذه
الأمور من حيث هي أو بأصل يطابق أحدها كائنا ما كان وحيث إن التنزل من الظن

(1) حاشية الرسائل: ص 77، ذيل قول الماتن: الرابع هو الدليل المعروف بدليل الانسداد...
والرسائل: ج 1، ص 183.
(2) (خ ل): والعملي.
255

إلى مقابلية قبيح والى ما يطابق أحد هذه الأمور باطل اجماعا قطعيا كغير هذه
الأصول الأربعة أو لأدلة خاصة كنفس هذه الأربعة، فلا محالة يتعين العمل بالظن
عقلا فتدبر جيدا.
ثم إن هذا الدليل على ما أفاده - قده - مؤلف من مقدمات خمسة (1).
واما ما عن شيخنا العلامة الأنصاري - قده - من (2) جعلها أربعة باسقاط
المقدمة الأولى، فإن كان لأجل عدم المقدمية، فمن الواضح انه لولاها لم يكن
مجال للمقدمات الأخر إلا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.
وإن كان لوضوح هذه المقدمة لدلالة سائر المقدمات عليها، فمن الواضح أن
وضوحها لا يوجب عدم مقدميتها ولا الاستغناء بذكر الباقي عن ذكرها والا كان
بعضها الاخر كذلك بل بعضها أوضح.
وأما ما عن بعض أجلة العصر (3) " دام بقاه " من جعلها أربعة بإدراج المقدمة
الثانية في الرابعة المذكورة هنا بتقريب انه لا يجب الامتثال العلمي مطلقا أما
التفصيلي فلعدم التمكن لانسداد باب العلم والعلمي وأما الاجمالي فللزوم
الاختلال أو العسر والحرج.
ففيه: أن تعدد مصاديق المقدمة وان لم يوجب تعدد المقدمة إلا أن انتزاع
جامع من المقدمات أيضا لا يوجب وحدتها إذا لم يكن الجهة الجامعة من حيث
نفسها لها المقدمية، بل لا بد من ملاحظة الجهة التي بها تكون مقدمة، فإذا
تعددت الجهات تعددت المقدمات، وإلا فلا.
ومن الواضح: أن عدم وجوب الامتثال العلمي التفصيلي من باب السالبة
بانتفاء الموضوع دون عدم لزوم الامتثال العلمي الاجمالي ففي الحقيقة ما له
دخل في النتيجة عدم التمكن من الامتثال العلمي التفصيلي لا عدم وجوبه

(1) هو المحقق الخراساني - ره - في كفاية الأصول: ص 115 - 114.
(2) الرسائل: ص 111، س 22 والرسائل: ج 1، ص 183.
(3) درر الفوائد: ج 2 - 1، ص 400.
256

بخلاف المقدمة الرابعة فان الدخيل في النتيجة حقيقة عدم لزوم الامتثال
الاجمالي فالجهة التي لها دخل في النتيجة بحسب المقدمة الثانية غير الجهة التي
لها دخل فيها بحسب المقدمة الرابعة وان أمكن انتزاع جامع عن الجهتين، فافهم
وتدبر.
126 - قوله: خامسها انه كان ترجيح الخ:
هذا دليل المقدمة الخامسة لأنفسها بل اللازم ان يقال انه لا يجوز التنزيل إلى
الشك أو الوهم بقبح ترجيح المرجوح على الراجح كما في المقدمات السابقة
فإنها على هذا النسق.
127 - قوله: هذا انما يلزم لو لم يعلم بايجاب الاحتياط (1) الخ:
يمكن أن يقال إذا كان العلم بالاهتمام صالحا للكشف عن وجوب الاحتياط
شرعا وكان منجزا له حيث إنه حكم طريقي لا يكون فعليا منجزا للواقع إلا بعد
وصوله إلى المكلف كان صالحا لتنجيز الواقع من دون حاجة إلى جعل الاحتياط
شرعا، إذ لا نعنى بالبيان الرافع لقبح العقوبة بدونه إلا ما يصلح لتنجيز الواقع،
ونفس العلم بالاهتمام صالح للاحتجاج به في المؤاخذة على الواقع المجهول
ويندفع به نقض الغرض اللازم من عدم تنجيز ماله الاهتمام به، مضافا إلى أن
ايجاب الاحتياط في هذه المقدمة إما عقلا بسبب العلم الاجمالي بالأحكام كما
قيل، أو شرعا بكاشفية العلم بالاهتمام كما أفيد فيه أحد محذورين:
إما المناقضة مع المقدمة الرابعة إذا أريد الاحتياط من حيث المخالفة القطعية
والموافقة القطعية معا.
وإما التفكيك بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية وهو
مناف لمسلكه - قده - (2).
لا يقال: هذا إذا كان القول بحرمة المخالفة القطعية في هذه المقدمة من باب

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 118، س 3 وكفاية الأصول: 312، (ت، آل البيت).
(2) هو المحقق الخراساني - ره -.
257

منجزية العلم الاجمالي. وأما إذا كان من باب وجوب هذا المقدار من الاحتياط
شرعا فلا محذور في التفكيك.
لأنا نقول (1): نعم إذا كان وجوب الاحتياط شرعا وجوبا نفسيا.
وأما إذا كان طريقيا بداعي تنجيز الواقع فمحذور التفكيك على حاله،
لاستحالة رفع عقاب الواقع على تقدير المصادفة في أي طرف كان مع ثبوت
عقاب الواقع، فالتحقيق أن عدم جواز إهمال الامتثال ليس من ناحية منجزية
العلم الاجمالي من حيث حرمة المخالفة القطعية ولا من حيث وجوب الاحتياط
شرعا من تلك الحيثية بل عدم جواز إهمال الامتثال المعلوم بالضرورة هو الجامع
بين الأمور المحتملة هنا، وهي إما الاحتياط، وإما الأصل المثبت للتكليف، وإما
العمل بالمشكوك والموهوم، وإما العمل بالظن، والمقدمة الرابعة متكفلة لابطال
الأول والثاني، والمقدمة الخامسة متكفلة لإبطال الثالث فتعين الرابع، فتدبر.

(1) (خ ل): يقول.
258

التحقيق حول المقدمة الرابعة
128 - قوله: فيما يوجب عسره اختلال النظام (1) الخ:
إذ الحاكم بالاحتياط هو العقل ومع الالتفات إلى أن مثله مخل بالنظام
ويوجب تفويت غرض أقوى فلا محالة لا يحكم بلزومه بل ذكرنا في محله أن
مثله يوجب سقوط التكليف عن فعلية الباعثية والزاجرية لان الغرض من البعث
والزجر انقداح الداعي في نفس المكلف ومع عدم حكم العقل بامتثاله لا يعقل
بقاؤه على حاله، حيث لا يترقب منه حصول هذا الغرض.
129 - قوله: إذا كان بحكم العقل (2) الخ:
فان الموضوع الذي له حكم شرعي قابل للرفع لا عسر فيه، والا لزم رفعه
لو كان معلوما بالتفصيل، وأما إذا وجب الاحتياط شرعا ولو طريقيا كما فيما ذكرنا
انفا إذا كان عسرا، فلا ريب في تقديم دليل نفى الحرج عليه، لأن نفس الاحتياط
المتعلق به الوجوب الشرعي عسر فيرفع.
وربما يورد (3) عليه - قده - (4) بان العسر والحرج كالاضطرار إلى أحدهما لا
بعينه فكما أن دفع الاضطرار بما يختاره مع مصادفة مختاره للتكليف يمنع عن
تنجزه في المصادف مع أنه غير مضطر إليه بعينه، كذلك رفع الحرج بما يختاره
من الترك مع مصادفته للتكليف يمنع عن فعليته (5) وان لم يكن حرجيا بعينه.
ويندفع: بان القدرة على اتيان المحتملات لازمة عقلا في تنجز التكليف

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 118.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 120 وكفاية الأصول: 313، (ت، آل البيت).
(3) أورده المحقق النائيني - ره - في فوائده: ج 3، ص 257.
(4) على المحقق الخراساني - ره - في كفايته: ج 2، ص 120.
(5) (خ ل): فعلية.
259

على أي تقدير ومع عدمها لمكان الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه الراجع إلى عدم
القدرة على إتيان المحتملات رعاية للتكليف المنجز يرخصه العقل في كل من
الأطراف، ولا يعقل الرخصة فيما اختاره مع تنجز التكليف فيه واستحقاق العقوبة
عليه، بخلاف حرجية المحتملات فإنها ليست مانعة شرعا حتى يستتبع الرخصة
في ترك كل واحد حتى يمنع عن فعلية التكليف فيما يختاره في مقام دفع الحرج
عن نفسه فالقياس باطل والفارق واضح.
وأما ما أفاده - قده - (1) من منع حكومة دليل العسر والحرج على حكم العقل
بالاحتياط فالمراد عدم حكومته على حد حكومته على الأدلة المتكفلة للأحكام
المجعولة بقصرها على غير مورد الحرج، فان حكم العقل ليس من المجعولات
شرعا.
وأما جريان دليل الحرج في رفع حكم شرعي يكون رعاية موجبة لحكم
العقل بالاحتياط، فرفع موضوع حكم العقل، فيصح دعوى الحكومة لدليل نفى
الحرج على قاعدة الاحتياط فهو أجنبي عن نفى الحكومة بالوجه الذي ذكرنا،
وقد تبين من عدم حرجية نفس موضوع التكليف الواقعي عدم جريان الحكومة
على الوجه الاخر، فتدبر.
130 - قوله: لان العسر حينئذ يكون من قبل التكاليف المجهولة الخ:
التكليف وإن كان مقتضيا لامتثاله إلا أن العسر ليس في امتثاله بل في تحصيل
العلم بامتثاله بالجمع بين محتملاته، وهو ليس من مقتضيات التكليف ولو
بواسطة أو وسائط، والتكليف المجهول ليس بما هو تكليف مجهول حكما
شرعيا وتكليفا إلهيا حتى يقال إن لزوم العلم بامتثاله من مقتضياته، وليس هنا
اطلاق يفيد الإرادة الأعم من اقتضاء العسر أو الموضوعية لأمر عقلي لازمه
العسر، بل الظاهر من قوله (ع) " لا ضرر " (2) أو قوله تعالى: (ما جعل عليكم
في الدين من حرج (3)) بناء على إرادة الحكم الموصوف بالضرر أو العسر

(1) هو المحقق الخراساني - ره - في كفايته: ج 2، ص 120 و 118.
(2) وسائل الشيعة: ج 17، ص 376، ب 1، ح 10، والكافي: ج 5، ص 292.
(3) الحج: الآية 78.
260

هو كونه موصوفا بهما ولو بالواسطة والاقتضاء لا أن يكون من باب الوصف بحال
المتعلق وهو لازمه العقلي أعني لزوم تحصيل العلم بامتثاله عند الجهل به،
فتدبر.
بل يمكن أن يقال بناء على تعميم الاقتضاء أن كل تكليف من التكاليف
الواقعية لا عسر ولا حرج في الجمع بين محتملاته في مقام تحصيل العلم بامتثاله
وانما العسر والحرج في الجمع بين محتملات مجموع التكاليف وليس مجموعها
تكليفا وحدانيا يكون العسر في الجمع بين محتملاته.
بل حاله حال مجموع تكاليف يكون العسر حقيقة في امتثال المجموع، فإنه
لا يرتفع الجميع بل يجب الامتثال لكل واحد واحد منها إلى أن يتحقق العسر
فيسقط الباقي، وكذا الأمر إذا كان الاحتياط واجبا شرعا فإنه في الحقيقة أحكام
متعددة للاحتياطات المنطبقة على الجمع بين محتملات كل تكليف، فلا يرتفع
الوجوب كلية بتوهم انه حكم واحد حرجي لموضوع واحد بل يجب امتثال كل
تكليف إلى أن يتحقق الحرج الواقع لوجوب الاحتياط بالإضافة إلى بقية
التكاليف فتأمل.
131 - قوله: لا وجه لدعوى استقلال العقل (1) الخ:
لما مر (2) من لزوم التفكيك بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة
القطعية، بخلاف ما إذا وجب الاحتياط شرعا فان الواجب شرعا هذا المقدار من
الاحتياط، لكنك عرفت (3) انفا انه يصح إذا كان الاحتياط واجبا نفسيا لا إذا كان
طريقيا لتنجيز الواقع فان محذور التفكيك على حاله حينئذ فراجع.
132 - قوله: ولو قيل بعدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم
الاجمالي (4) الخ:
ينبغي التكلم أولا في جريان الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي كلية

(1) (خ ل): العقلاء.
(2) التعليقة: 127، ص 257.
(3) التعليقة: 127، ص 257.
(4) كفاية الأصول: ج 2، ص 120 وكفاية الأصول: 313، (ت، آل البيت).
261

وعدمه، وثانيا في جريانه وعدمه في خصوص المقام.
فنقول: المانع من الجريان تارة، بلحاظ مقام الثبوت وأخرى، بلحاظ مقام
الاثبات.
أما بحسب مقام الثبوت: فالمانع عند شيخنا الأستاذ - قده - (1) تبعا لشيخنا
العلامة الأنصاري - قده - (2) منحصر في لزوم المخالفة العملية، فإذا علم اجمالا
بنجاسة أحدهما وكانا مسبوقي اليقين بالطهارة فاستصحاب الطهارة فيهما يوجب
الاذن في ارتكابهما مع فرض تنجز العلم بوجوب الاجتناب الذي هو لازم العلم
بالنجاسة والاذن في المخالفة العملية قبيح عقلا، لكنا ذكرنا في محله أن تنجيز
العلم وإن كان مقصورا على صورة تعلق العلم بتكليف الزامي مما لا مخالفة
عملية له لا تنجيز له إلا أن المانع عقلا عن جريان الاستصحاب في الأطراف غير
منحصر في المخالفة العملية، فان نفس تنافى الحكمين أعني وجوب الاجتناب
عنهما معا وعدم وجوب الاجتناب عن أحدهما محذور عقلي.
ومنه يعلم أن هذا المحذور العقلي فيما إذا كان الأصل على طبق العلم
الاجمالي كما في الأصول المثبتة للتكليف المعلوم بالاجمال جار أيضا إذا
اجتماع المثلين كاجتماع الضدين والمتناقضين في الاستحالة. وبالجملة عدم
وجوب الاجتناب فعلا مناقض لوجوب الاجتناب فعلا، وان لم يكن اثر لعدم
الوجوب المعلوم بالاجمال: فالمانع العقلي عن جريان الأصول غير منحصر في
لزوم المخالفة العملية لا
وأما بحسب مقام الاثبات: فالمانع لزوم المناقضة بين صدر (3) الرواية
وذيلها من شمولها للأصول الجارية في أطراف العلم الاجمالي بناء على شمول

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 115، وثالثها: انه لا يجوز لنا اهمالها...
(2) الرسائل: ص 112، مخطوط، والمصدر: ج 1، ص 185. وأما المقدمة الثانية... إلى أن قال: ان
الرجوع في جميع تلك الوقائع إلى نفى الحكم مستلزم للمخالفة القطعية...
(3) وفى النسختين عندي: صدور الرواية.
262

اليقين في قوله (ع) (1) ولكن تنقضه بيقين مثله لليقين الاجمالي، فان مقتضى
صدرها بملاحظة نفس اليقين والشك حرمة نقض اليقين بالشك في كل من
الطرفين، ومقتضى ذيلها بملاحظة اطلاق اليقين المحدد للشك بصورة عدم
الاقتران بالعلم الاجمالي عدم حرمة نقض اليقين بالشك في هذه الصورة.
وهذا البيان أولى من دعوى أن مقتضى الصدر لزوم الأخذ بالحالة السابقة في
كلا الطرفين، ومقتضى الذيل لزوم الأخذ بخلاف تلك الحالة في أحدهما كما عن
شيخنا الأستاذ - قده - في التعليقة (2).
وجه الأولوية انه مع العلم بالتكليف تفصيلا أو إجمالا لا يعقل جعل حكم
مماثل على طبقه فليس هناك وجوب النقض حقيقة بل حيث إن اليقين دافع
للموضوع حقيقة أو اعتبارا فلا محالة يرتفع به حرمة النقض، مضافا إلى أن
تخصيص الذيل بالأخذ بخلاف الحالة السابقة، يوجب عدم جريان الأصول
المخالفة للعلم، لا الأعم منها ومن الموافقة، وهو بلا موجب.
بل إذا كان الذيل محددا للموضوع فلا محالة يكون الشك المقرون بالعلم
الاجمالي مغايرا لموضوع حرمة النقض سواء كان الحكم المجعول مخالفا
للمعلوم بالاجمال أو موافقا له، وعنوان النقض لا يستدعى مغايرة الناقض
والمنقوض من حيث المتعلق بعد إرادة جعل الحكم المماثل في موضوع الشك
الغير المقرون بالعلم الاجمالي من حرمة النقض وإرادة عدم جعله عند تحقق
اليقين بالحكم بالفعل مع أن حرمة نقض اليقين ليست إلا بمعنى حرمة رفع اليد
عن اليقين والتمسك بالشك، ومن المعلوم انه بعد اليقين بالحكم بالفعل لا معنى
للتمسك بيقينه السابق بل يتمسك بيقينه الفعلي.
ولا يخفى عليك انه بعد عدم تكفل الذيل لحكم شرعي لعدم معنى للتعبد
مع العلم - سواء كان مماثلا للمتيقن السابق أو منافيا له - يدور أمر الذيل بالمآل

(1) الوسائل: ج 1 - ب 1، ص 174، ح 1، مع اختلاف يسير والمصدر: ج 2، ب 44، ص 594، ح 2.
(2) حاشية الرسائل: ص 81، والرسائل: ج 1، ص 203.
263

إلى تأكيد الصدر أو تحديده بما إذا لم يكن الشك من أطراف العلم الاجمالي.
ومن الواضح انه بناء على التأكيد لا مقابلة بين الصدر والذيل ليكون للذيل
اطلاق في قبال الصدر بل المؤكد تابع للمتأكد اطلاقا وتقييدا كما أنه بناء على
التحديد لا اطلاق ولا تقييد للمحدود إلا بتبع ما يتحدد به فالمعدة تحقيق ان
الذيل من باب التأكيد أو من باب التحديد.
ومنه تعرف: انه لو كان الذيل محددا فلا يجدى خلو بعض الاخبار عن قضية
الذيل، لأنه لا يكون مقيدا لاطلاقه، كما أنه بناء على التأكيد لا معارضة بين ما
يشتمل على الذيل وما لا يشتمل عليه.
نعم، بناء على الاجمال وعدم تشخيص التأكيد والتحديد تجدي الاخبار
الخالية عن الذيل، لانفصال المجمل فلا يسرى إجماله إلى غيره.
فان قلت: ارتفاع المتيقن واقعا لا يكون ناقضا لفرض حصر الناقض في اليقين
وجعل الحكم المماثل في موضوع اليقين والشك والعلم الاجمالي لا يكون
ناقضا لكلا اليقينين لأنه خلاف مقتضاه، إذ لا يقين بكل منهما نفيا أو إثباتا وليس
ناقضا لأحدهما بخصوصه، إذ الخصوصية مشكوكة فيؤل إلى نقض اليقين
بالشك لا باليقين، وليس ناقضا لأحدهما المردد.
إذ العلم الاجمالي غير متعلق بالمردد، لما مر منا مرارا (1) أن مقوم صفة العلم
أمر جزئي معين، والمردد بما هو لا ثبوت له ماهية ولا هوية وما لا ثبوت له
لا يعقل أن يكون مقوما لصفة العلم، كما أن اليقين المنقوض لا يعقل أن يكون
مرددا لعين البرهان المذكور، فلا الناقض متعلق بالمردد ولا المنقوض مردد،
فالناقض ينحصر في اليقين التفصيلي برهانا.
قلت: العلم الاجمالي وإن كان عندنا لا يغاير العلم التفصيلي في حد العلمية
وان طرف العلم دائما مفصل ومنكشف به إلا أن متعلق الطرف مجهول وضم
الجهل إلى العلم صار سببا لهذا الاسم، إلا أن العلم الاجمالي بالنجاسة مثلا بضم

(1) التعليقة: 41، ص 93 وص 579.
264

العلم بعدم خروج متعلقها من الطرفين يوجب العلم بنجاسة ما لا يخرج عن
الطرفين لا بنجاسة أحدهما المردد، فهو وان لم يكن مناقضا لكل واحد من
اليقينين في الطرفين لكنه مناقض لمجموع اليقينين.
ونسبته إلى كل منهما على السوية فالتعبد الاستصحابي بكليهما مع وجود
الناقض للمجموع لا معنى له، والتعبد بأحدهما بخصوصه بلا موجب، والتعبد
بأحدهما بلا عنوان نظرا إلى أن نسبة المانع إلى المقتضيين على السوية فيسقط
أحدهما بلا عنوان ويبقى أحدهما بلا عنوان أيضا محال.
لأن جعل الحكم على طبق المردد وما لا تعين له يوجب إما تعين المردد أو
تردد المعين وكلاهما محال، فالتعبد الاستصحابي بأنحائه غير ممكن، وهذا
معنى سقوط الأصول في أطراف العلم، ولا يخفى أن هذا البيان ليس بيانا للمانع
العقلي في مقام الثبوت ليخرج عن محل الكلام، بل بيان المانع في مقام الاثبات
عن جريان الأصل في الطرفين بعد تعميم اليقين إلى الاجمالي، إذ لو كان متعلق
العلم الاجمالي أحدهما المردد فأحدهما مشكوك والاخر معلوم فيسقط عن
طرف ويبقى في طرف، وأما إذا كان متعلق العلم مفصلا دائما وطرفه مشكوكا في
العلم الاجمالي فلكل منهما مشكوك من حيث كونه متعلق طرف العلم واقعا فلو
كان مثل هذا الشك بمقتضى اطلاق الذيل خارجا فلا محالة لا يجرى الأصل في
طرف أصلا.
والتحقيق، أن مجموع اليقينين أمر اعتباري لا وجود له خارجا وليس محكوما
يحكم حتى يكون اليقين الاجمالي ناقضا له.
وأما انتزاع الجامع من اليقينين ومن المتيقنين ومقابلة اليقين الاجمالي
المتعلق بالجامع لليقين الجامع فهو أيضا بلا وجه، إذ الجامع الانتزاعي لا أثر له
مع أن اليقين بالطهارة بنحو الجامع مع اليقين الاجمالي بالنجاسة يجتمعان،
للقطع بهما في اللاحق.
ومما ذكرنا تبين: انه ليس لليقين الاجمالي اعتبار الناقضية بشئ من اليقينين
المرتب عليهما حرمة النقض حتى يكون اليقين الاجمالي محددا للشك كما
265

سيجيئ تحقيقه انشاء الله تعالى في مبحث الاستصحاب (1)، هذا كله في جريان
الأصل في أطراف العلم الاجمالي وعدمه عموما.
واما الكلام فيه خصوصا، وظاهر شيخنا الأستاذ - قده - في المتن (2) عدم
المانع خصوصا وان منع عنه عموما (3)، نظرا إلى أن الموضوع هو الشك الفعلي،
والمجتهد لمكان تدريجية الاستنباط لا شك فعلى له الا فيما ابتلى باستنباطه،
والوقايع الاخر ربما تكون مغفولا عنها فلا يقين ولا شك فلا موضوع كي يجرى
فيه الأصل ليعارض الأصل الجاري حتى لا يعمه دليل التعبد، للزوم التناقض في
مدلوله من شموله لهما.
بل يمكن أن يقال مضافا إلى ما أفاد أن الوجه في الجريان تدريجية فعلية
الاحكام بتدريجية الابتلاء بالوقايع التي لها حكم، فان علم المجتهد بالأحكام
المستنبطة ويقينه وشكه في الاحكام من قبيل العلم بالقضايا الحقيقية التي تناط
فعلية محمولاتها بفعلية موضوعاتها، فلا اثر لعلمه الاجمالي بمثل هذه
المحمولات بالفعل، بل يكون له الأثر عند تعلقه بمحمولات فعلية (4) بفعلية
موضوعاتها (5) وكذا يقينه بحكم كلي سابقا وشكه في بقائه لاحقا، فان نتيجة
ذلك العلم بالتعبد الاستصحابي عند ترتب فعلية الحكم الاستصحابي، وفى
موقع الابتلاء والعمل حيث إنه ليس جميع الأحكام أو التعبديات الاستصحابية
مورد الابتلاء، فلا علم بأحكام فعلية على الاجمال ولا تعبدات استصحابية
فعلية منافية للعلم الاجمالي بالحكم الفعلي.
ومنه ظهر انه لا مانع من جريان الأصل في موقع الابتلاء من وجهين:

(1) نهاية الدراية: ج 3 - ص 304: في ذيل عبارة الكفاية: ج 2، ص 356، فالأظهر جريانهما فيما
لم يلزم منه... الخ.
(2) كفاية الأصول: ج 2 ص 120 و 122: واما الرجوع إلى الأصول فبالنسبة إلى الأصول المثبتة...
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 31: ان الشأن ح في جواز جريان الأصول...
(4) (خ ل): عند تعلقه المحمولات فعليه.
(5) وصحيح أيضا: عند تعلقه بالمحمولات الفعلية بفعلية...
266

أحدهما: عدم العلم الاجمالي المانع.
وثانيهما: عدم جريان أصلين متمانعين، ولو كان الوجه خصوص ما أفاده
- قده - (1) من تدريجية الاستنباط لما كانت التدريجية مجدية (2)، إذ بعد استنباط
جملة من الاحكام باجراء الأصول شيئا فشيئا يصحل له العلم بمخالفة بعض هذه
الأصول لعلمه الاجمالي فلا يمكنه العمل بفتاويه المطابقة للأصول التي اعتقد
جريانها حال الاستنباط، كما لا يمكنه الفتوى على طبقها جميعا لمقلديه، بخلاف
ما إذا كان الوجه ما ذكرنا من تدريجية فعلية الاحكام فإنه في كل واقعة عملية وان
كان يعلم إجمالا بحكم على خلاف الأصل لكنه لا أثر له، لأنه يعلم اجمالا بحكم
على خلاف ما ابتلى به، وما هو خارج عن مورد ابتلائه إما لعدم موقع للابتلاء به
أو للابتلاء به سابقا.
ومما ذكرنا: يعلم أنه كما لا مانع إثباتا كذلك لا مانع ثبوتا، إذ لا علم اجمالي
بحكم (3) فعلى مضاد أو مماثل أو مناقض كما لا يخفى.
والتحقيق: أن الشكوك وان لم تكن فعلية والاحكام وان لم تكن فعلية دفعية
الا انه ليس من شرائط اعتبار ناقضية اليقين لليقين فعليتهما ودفعيتهما بل علم
المجتهد بأن في مواقع ابتلائه بالاستنباط تعبدات استصحابية بلحاظ موارد
فعليتها بفعلية موضوعاتها كاف في العلم، بان الاستصحابات في مواقعها مخالفة
للواقع الذي علمه اجمالا، ومن الواضح أن هذا العلم الاجمالي الموجود من أول
الأمر هو عين اليقين الاجمالي الناقض في موقع فعلية الاستصحاب بفعلية
موضوعه، لا أنه يحدث له عند اجراء الاستصحابات أو بعده علم اجمالي
ناقض،، وانما الفرق بين ما قبل الاستنباط وما بعده بكون أطراف العلم الاجمالي
ملحوظا بنحو الكلية والجمع قبلا، وصيرورة الأطراف بنحو الجزئية والفرق
والتفصيل عند التعرض لاستنباط تلك الأحكام المعلومة بالإجمال بنحو الجمع

(1) هو المحقق الخراساني في الكفاية ج 1 ص 122 س 3: وأما إذا لم يكن كذلك...
(2) (خ ل): مجد به.
(3) (خ ل): يحكم.
267

والكلية، فاليقين الناقض موجود قبل الاستنباط، فيمنع عن جريان الأصل في
أول مرحلة الاستنباط، لعلمه بمخالفته أو مخالفة الأصل المبتلى به في واقعة
أخرى، وتدريجية الفعلية لا يمنع عن ترتيب الأثر فعلا كما سيأتي إنشاء الله تعالى
في بحث الاشتغال (1).
133 - قوله: كان خصوص موارد الأصول النافية مطلقا ولو من
مظنونات الخ:
توضيحه: ان نتيجة هذه المقدمات ليس عنده - قده - (2) حجية الظن
المطلق كما عليه أهله ولا تبعيض الاحتياط في محتملات التكليف برفع اليد عنه
في موهومات (3) التكليف وابقائه في مظنوناته ومشكوكاته كما عليه شيخنا
العلامة الأنصاري - قده - (4)، بل عدمهما على وجه، والتبعيض في موارد الأصول
النافية من مظنونات التكليف على وجه اخر، وذلك لان التنزل إلى الظن أو
التبعيض على الوجه الأول يتوقف على ابطال إجراء الأصول المثبتة والنافية
حتى يتمحض الأمر في حجية الظن ومقابليه (5) ولا محذور في إجراء الأصول
بعد تمامية مقتضيها في مقام الاثبات كما في المتن وشيدناه في الحاشية
السابقة (6) إلا لزوم الحرج من العمل بالأصول المثبتة للتكليف والمخالفة
للاحتياط اللازم عقلا أو شرعا من العمل بالأصول النافية، كما عن شيخنا العلامة
الأنصاري - قده - (7).
ومن الواضح: أن شيئا منهما على فرض الصحة لا يقتضى سقوط الأصول من

(1) التعليقة: 248، ص 590.
(2) هو المحقق الخراساني في الكفاية: ج 2، ص 123 وكفاية الأصول: 314، (ت، آل البيت).
(3) وفى النسختين عندي: في ما موهومات...
(4) الرسائل 126 - 125: واما الرجوع في كل واقعة إلى ما يقتضيه الأصل...
(5) أي الشك والوهم.
(6) التعليقة: 132، ص 266.
(7) الرسائل: ص 126: والرسائل: ج 1، ص 207. وبالجملة، فالعمل بالأصول النافية للتكليف
في مواردها مستلزم...
268

الاعتبار مطلقا بل يجب دفع الحرج بضم مقدار من موارد الأصول المثبتة إلى
موارد الأصول النافية بترك العمل بمحتملات التكليف فيهما، كما يجب دفع
محذور مخالفة الاحتياط اللازم بضم مقدار من موارد الأصول النافية من
محتملات التكليف إلى موارد الأصول المثبتة للتكليف، ثم العمل على طبق
الأصول المثبتة في الأول وعلى طبق النافية في الثاني في غير ذلك المقدار
الخارج لدفع محذور الحرج أو لدفع محذور مخالفة الاحتياط الواجب، لا إبطال
الأصول بالكلية ومراعاة التبعيض بالإضافة إلى محتملات التكاليف، مع أن شيئا
من المحذورين غير وارد.
أما لزوم الحرج فلبداهة كثرة موارد الأصول النافية وقلة موارد الأصول المثبتة.
وأما لزوم مخالفة الاحتياط فلضرورة وفاء العلم والعلمي وموارد الأصول
المثبتة بالمعلوم بالاجمال بحيث لا يبقى مجال للزوم الاحتياط عقلا
ولاستكشاف ايجابه شرعا، مضافا إلى ما في الجمع بين المحذورين، إذ مقتضى
كثرة موارد الأصول المثبتة حتى لزم منها الحرج، عدم بقاء ما يلزم من اجراء
الأصول النافية فيه كثرة المخالفة القطعية كما لا يخفى.
ويمكن أن يقال في وجه الجمع بعدم وفاء المطابق من الأصول المثبتة للواقع
بالمعلوم بالإجمال بضم العلم والعلمي، فتكون بقية المعلوم بالاجمال في موارد
الأصول النافية، وهذه الدعوى بلحاظ وجود أمارات كثيرة على خلاف الأصول
المثبتة بحيث يعلم اجمالا بصدور جملة منها واقعا، فلا تكون الدعوى جزافا،
وعليه فحيث إن الموافق من الأصول المثبتة قليل فلا يكون وافيا (1) بالمعلوم
بالاجمال، والأخذ بجملتها مستلزم للحرج، وحيث إن الأصول المثبتة الموافقة
للواقع لا تفي بالمعلوم بالإجمال فالواقع المعلوم في موارد الأصول النافية،
فالعمل بها مستلزم للمخالفة القطعية العملية.

(1) وفى النسختين عندي: واقعا.
269

" الكلام حول المقدمة الخامسة "
134 - قوله: واما المقدمة الخامسة فلاستقلال العقل (1) الخ:
تحقيق المقام أن قبح ترجيح العمل بالمشكوك أو الموهوم على العمل
بالمظنون، إما أن يكون متفرعا على حجية الظن فيقبح التنزل عنه، حيث إنه
حجة، وإما أن يكون مقدمة لها بمعنى انه حيث يقبح الترجيح فالظن حجة.
أما الأول: ففيه أولا: أنه خلف، إذ المفروض أن المقدمة الخامسة من
مقدمات حجية الظن لا من متفرعاتها.
وثانيا: أن الغاية المقصورة من هذه المقدمات هي حجية الظن فمع حصولها
بدون هذه المقدمة فكون ترجيح المشكوك والموهوم قبيحا أو غير قبيح
مستدرك، إذ ليس الكلام في تعداد القبايح العقلية.
وثالثا: إن مخالفة الحجة حيث إنه خروج عن زي الرقية فهو ظلم وهو قبيح
يستحق عليه الذم والعقاب وليس الاقدام على القبيح المذموم المعاقب عليه
قبيحا اخر بملاك التحسين والتقبيح العقليين، لوجهين قدمنا ذكرهما عند
التعرض لقاعدة دفع الضرر المظنون (2).
ورابعا: ان حجية الظن المفروغ عنها هنا إما شرعية أو عقلية.
لا مجال للأولى، إذ المفروض عدم الدليل على الحجية من قبل الشارع،
وبلحاظ ما عدا هذه المقدمة يكون المقدمات بضميمة قبح نقض الغرض كاشفة
عن الحجية شرعا، لا من باب استقلال العقل، والمفروض ترتيب المقدمات على
نحو تنتج حكومة العقل بحجية الظن.
ولا مجال للثانية، إذ المراد بالحجية عقلا ليس كما يتوهم من كونها مفاد حكم

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 123، س 12 وكفاية الأصول: 315، (ت، آل البيت).
(2) التعليقة: 118، ص 247.
270

العقل (1) العملي في قبال حكم العقل النظري، إذ ليس شأن العاقلة الا التعقل كما
في سائر القوى ولا بعث ولا زجر من العاقلة، وليس تفاوت العقل النظري مع
العقل العملي من حيث ما هو وظيفة القوة العاقلة، بل التفاوت بالمدرك،
فالمدرك إذا كان له مساس بالعمل وكان ينبغي أن يؤتى به أولا يؤتى به سمى
حكما عقليا عمليا، وإذا كان مما ينبغي أن يعلم سمى نظريا، وكونه كذلك من غير
ناحية الادراك والقوة المدركة بل لا بد من أن يكون من تلقاء الشارع أو العقلاء،
فما تطابقت عليه آراء العقلاء حفظا للنظام وابقاء للنوع كحسن العدل وقبح الظلم
إذا أدركه العقل دخل في حكم العقل العملي.
واما نفس كون العدل حسنا يمدح على فاعله وكون الظلم قبيحا يذم على
فاعله فمأخوذ من العقلاء، وعليه فليس المراد بكونه حجة عقلا إلا كونه حجة
عند العقلاء.
وقد بينا في مبحث حجية الظواهر (2): ان المراد بحجية شئ عند العقلاء
ليس جعل الحكم المماثل منهم على طبقه ولا الانشاء بداعي تنجيز الواقع، بل
بنائهم عملا على اتباع خبر الثقة أو ظاهر الكلام والاحتجاج بهما هو مدرك
الحجية، فما لا عمل على طبقه منهم لا معنى لحجيته عندهم.
ومن الواضح: أنه لا عمل منهم على طبق الظن مطلقا وهو واضح، ولا عمل
على طبقه في مرض المقدمات المزبورة، حيث لهم يقع هذه المقدمات في
أمورهم العادية وأوامرهم المولوية ليكون لهم عمل على طبقه، فيكون إمضاء
الشارع على وفقه والبناء الفرضي، مع أنه في نفسه غير مفيد لا يحقق امضاء من
الشارع، حيث لا عمل ليتحقق التقرير والامضاء، فاتضح أن تفرع قبح العمل بغير
الظن على حجيته، فاسد من جميع الوجوه.
واما الثاني وهو كون قبح ترجيح المرجوح على الراجح من مقدمات حجية
الظن.
فنقول: إن المراد من الراجح والمرجوح.

(1) (خ ل): العقلي.
(2) التعليقة: 74، ص 163.
271

تارة، ما يوافق الغرض المولوي وما لا يوافقه أو ما يوافق الغرض العقلائي
وما لا يوافقه.
وأخرى، مجرد المظنون والمشكوك والموهوم.
فالأول: راجح من حيث الغرض.
والثاني: راجح من حيث وقوعه في أفق النفس.
فان أريد الأول: ففيه: أن قبحه انما يسلم إذا كان الموافق للغرض بنحو يكون
تركه مخلا بالنظام حتى يكون قبيحا بحيث يذم عليه عند العقلاء ويكون ذم
الشارع عقابه.
والحال أن الاغراض المولوية أي مصالح الافعال ومفاسدها لا دخل لها
بالمصلحة العامة التي ينحفظ بها النظام أو المفسدة العامة التي يختل بها النظام
كما مر مرارا (1)، وكذلك الاغراض العقلائية ليست دائما من المصالح العامة التي
ينحفظ بها النظام أو المفاسد العامة التي يختل بها النظام، ضرورة أن الغرض
الداعي لهم إلى اتباع خبر الثقة أو ظاهر الكلام ليس بحيث يكون تركه مخلا
بالنظام كالظلم، مع أن هذا فيما إذا تمحض أحد الأمرين في كونه موافقا للغرض
المولوي أو العقلائي في قبال الاخر لا في مثل ما نحن فيه الذي يحتمل موافقة
كل منهما للغرض.
وإن أريد الثاني: فالأمر في عدم الملاك للقبح أوضح: إذ المظنون بما هو
مظنون لا ملاك للقبح في تركه بنفسه إذا لم ينطبق عليه عنوان قبيح، وانطباق
عنوان الظلم موقوف على حجية الظن حتى يكون خلاف ما قامت عليه الحجة
ظلما قبيحا، والمفروض أن ما عدا المقدمة الخامسة لا يقتضى حجية الظن حتى
ينطبق عليه عنوان قبيح وإلا لرجع الامر إن الشق الأول الذي فصلنا القول فيه.
فان قلت: هذه المقدمات محققة لصغرى الظن بالعقاب ومن الواضح أن طبع
كل ذي شعور وجبلته يقتضى تقديم مظنون العقاب على محتمل العقاب إذا دار
الأمر بينهما فيفر من المظنون دون غيره ولا يفر من المشكوك ويقدم على
المظنون بل يستحيل أن يؤثر الاحتمال المساوي أو المرجوح في قرارهم

(1) التعليقة: 205، ص 467 وص 312.
272

ولا يؤثر الاحتمال الراجح، والمفروض عدم خصوصية في طرفهما، فهذه
المقدمة الخامسة لبيان هذا المعنى الجبلي الطبيعي، فالتعبير بالقبح هنا كالتعبير
باللزوم في قولهم بلزوم دفع الضرر المظنون عقلا.
قلت: أولا أن هذا عين القول بالتبعيض في الاحتياط دون حجية الظن على
الحكومة إذ الأثر المترقب من الحجية وهو تنجز الواقع على تقدير وجوده في
ضمن المظنونات مفروض الحصول، فلا معنى لحجية الظن عقلا بل خصوصية
الظن بالعقاب عند الدوران توجب تعين المظنونات للاحتياط. وتوهم الحكومة
بتقريب أنه بعد تحقيق المقدمات المفروض فيها تنجز الواقع يستقل العقل بلزوم
الإطاعة الظنية وتقدمها على الإطاعة الاحتمالية والوهمية بعد عدم التمكن من
الإطاعة العملية.
مدفوع: بأنه بعد تنجز الواقع بوصول التكليف تفصيلا أو إجمالا بحكم العقل
باستحقاق العقاب على مخالفة التكليف الواصل لا حكم اخر من العقل في باب
الإطاعة والامتثال، بل بعد تحقق العقاب في مخالفة التكليف يفر كل عاقل ذي
شعور عن العقاب المقطوع أو المظنون أو المحتمل، وبعد عدم امكان الفرار من
العقاب على أي تقدير والتردد بين المظنون وغيره فلا محالة يفر من المظنون
دون غيره.
وثانيا: إن قلنا بتنجز الاحكام المعلومة بالعلم الاجمالي أو بايجاب الاحتياط
شرعا طريقيا وكانت المقدمات مضيقة لدائرة التنجز إلى أن دار الأمر فيه بين
المظنونات والمشكوكات والموهومات، صح دعوى ان المظنونات يظن
بالعقاب فيها والمشكوكات يحتمل العقاب فيها والموهومات يحتمل العقاب
فيها احتمالا مرجوحا، فالمقدمات الأربعة تحقق صغرى مظنون العقاب
ومحتمله، فيصح الإتكال إلى مقتضى الجبلة والطبع.
وإما إذا قلنا بعدم منجزية العلم الاجمالي وعدم ايجاب الاحتياط الطريقي
شرعا لما ذكرنا من المحاذير، وأن مقتضى المقدمة الثالثة العلم بعدم رفع اليد عن
الاحكام بجعلها فعلية على أحد الوجوه، إما فعلية على أي تقدير يقتضى
الاحتياط التام أو فعلية على طبق الأصول الموردية أو فعلية على طبق المظنون.
273

أو على طبق المشكوك والموهوم، وقد أبطلنا الأولين بمقتضى المقدمة الرابعة،
فيدور الأمر بين جعلها فعلية على طبق المظنونات بخصوصها أو على طبق
المشكوكات والموهومات بخصوصهما، فتعين فعلية الحكم على طبق المظنون
دون المشكوك والموهوم يحتاج إلى معين حتى يكون الظن بالحكم ظنا بالحكم
الفعلي ليتنجز بالظن، فالظن بالحكم الفعلي نتيجة تعين الحكم الفعلي في طرف
المظنون، ولا يتعين إلا بالقطع بصلاحية الظن للاحتجاج به على الحكم على
تقدير ثبوته حتى يظن بثبوته فعليا بقول مطلق.
وقد عرفت عدم الدليل على صلاحية الظن للاحتجاج به المبلغ للحكم إلى
مرتبة الفعلية والتنجز لا شرعا ولا عقلا، فلا يتحقق بالمقدمات ظن بالعقاب
واحتمال العقاب حتى يصح الايكال إلى ما هو مقتضى الجبلة والطبع بالمقدمة
الخامسة إلا بتقريب ينتج حجية الظن على وجه الكشف، وهو أن الشارع حيث
لا طريق له في ايصال أحكامه التي لا يمكنه رفع اليد عنها إلا الظن والاحتمال فان
الخصوصية الواقعية المحتملة في طرف المشكوك أو الموهوم بوجودها الواقعي
غير صالحة لجعل الحكم في طرف المشكوك أو الموهوم بالغا مرتبة الفعلية
فلا بد من بيانها.
فلو كان الغرض فعلية الحكم في طرفهما مع عدم بيان تلك الخصوصية كان
الشارع ناقضا لغرضه، فيستكشف قطعيا عدم خصوصية مبلغة للحكم مرتبة
الفعلية في خصوص المشكوك والموهوم، فينحصر أمر المبلغ في الظن وما
يقابله، وإذا فرض أن مقتضى البلوغ إلى مرتبة الفعلية إما الاحتمال الراجح أو
غيره، فلا محالة يؤثر الاحتمال الراجح في فعلية الحكم، لاستحالة تأثير الأضعف
دون الأقوى (1)، ويقبح من الحكيم جعل حكمه فعليا على طبق المرجوح دون
الراجح، فالمقدمة الخامسة كاشفة عن أن الشارع لا يجعل الاحتمال الغير الراجح
مبلغا لحكمه دون الراجح لغرض انحصار المبلغ في الاحتمال بما هو، ونتيجة
هذه المقدمات بضميمة قبح نقض الغرض جعل الشارع للظن مبلغا للحكم في
طرفه إلى مرتبة الفعلية والتنجز وسيجيئ بعض الكلام في محله انشاء الله تعالى.

(1) (خ ل): تأثير الأقوى دون الأضعف.
274

" في الظن بالطريق والظن بالواقع "
135 - قوله: لعدم التفاوت في نظر العقل (1) الخ:
لأن المهم عنده بعد ما كان تحصيل الظن بالفراغ كان هو المعتبر تحصيله
لا الظن بالواقع الذي اقتضت المقدمات تحصيل خصوصه، لقصورها بنفسها عن
الأعم منه.
والتحقيق: أن مورد الظن بالطريق الذي نقول بحجيته من حيث الظن بالفراغ
محتملات التكليف من مشكوكاتها وموهوماتها وإلا لو كان الطريق مفيدا للظن
بالتكليف لكان الظن بالتكليف حجة سواء كان الطريق مظنون الحجية أم لا،
ومحتمل التكليف من حيث نفسه لا يوجب إلا احتمال الفراغ وهو غير لازم
التحصيل، فسببية الظن بالطريق للظن بالفراغ ليست إلا بلحاظ أن الظن بالحجية
إما ظن بالبدلية بناء على جعل الحكم المماثل عن مصلحة يتدارك بها مصلحة
الواقع، وإما ظن بالمعذرية بناء على كون الحجية بمعنى الانشاء بداعي تنجيز
الواقع عند المصادفة والعذر عند المخالفة، وإما ظن بأنه هو الواقع اعتبارا بناء
على أن الحجية بمعنى اعتبار وصول الواقع وانه هو الواقع، فيكون العمل
بالطريق المظنون الحجية موجبا للظن بالفراغ عن عهدة الواقع إما باتيان بدله أو
بما يعذر معه على تقدير المخالفة أو بما هو الواقع بنظر الشارع، وعليه فيرد عليه:
أولا: أن البدلية والمعذرية انما تعقل في مثل دوران الأمر بين وجوب أحد
الفعلين من الظهر والجمعة مثلا، وأما في غيره فلا واقع كي يتخلف عنه ويكون
بدلا عنه تارة ومعذرا عنه أخرى، مثلا إذا ظن بحجية طريق أدى إلى وجوب

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 126 وكفاية الأصول: 316، (ت، آل البيت). والرسائل: ج 1،
ص 212 ونفس المصدر: ص 128 (مخطوط).
275

الدعاء عند رؤية الهلال، فإنه إذا لم يكن واجبا واقعا فليس هناك عمل اخر يكون
واجبا واقعا ليكون الدعاء بدلا عنه والطريق معذرا عنه، فليس الظن بالطريق
مفيدا للظن بالبدلية أو بالمعذرية ليستلزم الظن بالفراغ دائما حيث لا يعقل البدلية
والمعذرية دائما بل أحيانا.
وثانيا: أنه لا دليل على البدلية واشتمال المؤدى بما هو مؤدى على مصلحة
يتدارك بها مصلحة الواقع حتى يكون الظن بالطريق ظنا بالفراغ لمكان الظن ببدلية
المؤدى عن الواقع، وذلك لأن غاية ما يقتضيه دليل الحجية ظهور الإنشاء في
جعل الحكم المماثل وانبعاثه عن مصلحة زائدة على مصلحة الواقع وإلا كان
جعل الحكم المماثل مقصورا على مطابقة الواقع.
وأما كون تلك المصلحة مسانخة لمصلحة الواقع يتدارك بها مصلحة الواقع
فلا دليل عليه إلا توهم قبح تفويت مصلحة الواقع بجعل الطريق المخالف له من
دون تدارك، وهو مدفوع، بما تفردنا في محله من أنه ربما يكون إيكال العبد إلى
طرقه العلمية موجبا لفوات الواقعيات أكثر من العلم بالأمارات وموجبا لوقوعه
في مفسدة أعظم من فوات مصلحة الواقع أحيانا، مع أن تفويت مصلحة الواقع
بايصال مصلحة أخرى مساوية أو أقوى لا قبح فيه وإن لم تك تلك (1) المصلحة
مسانخة للفائتة.
ولذا ذكرنا في محله من أن القول بحجية الامارة من باب السببية والموضوعية
دون الطريقية لا يستلزم الإجزاء وتمام الكلام في محله (2).
وثالثا: ان فرض البدلية لا يستلزم الظن بها الظن بالفراغ عن عهدة الواقع
المنجز على وجه يكتفى به العقل، بيانه أن البدلية بمعنى اشتمال المؤدى على
مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع لا تتقوم إلا بقيام ذات الطريق عليه لا بقيام
معلوم الطريقية ومقطوع الحجية لأن الحجية منبعثة عن البدلية لا أن البدلية
منبعثة عن الحجية، والا لزم جعل الحجية بلا سبب وعلة فما عن ظاهر بعض

(1) (خ ل): وإن لم تلك المصلحة.
(2) نهاية الدراية: ج 1، ص 285.
276

أجلة العصر (1) من أن بدلية مفاد الطريق تابعة للعلم بحجيته لا وجه له بظاهره إلا
أن يراد خلاف ما هو ظاهر البدلية بأن يراد المعذرية عن الواقع، كما سيأتي الكلام
فيه انشاء الله تعالى، لكنه مع أن البدلية بالمعنى المزبور غير متقومة بالحجية ولا
بالعلم بالحجية فرق بين الظن بالفراغ المنبعث عن الظن بالواقع والظن بالفراغ
المنبعث عن الظن بالطريق.
لأن المفروض في الظن بالواقع سقوط الواقعيات في غير المظنونات عن
التنجز، وتضييق (2) دائرة الواقعيات المنجزة وانحصارها في مظنونات التكليف،
فإذا أتى المكلف بمظنونات التكليف يقطع بخروجه عن عهدة الواقعيات
المنجزة، للقطع بسقوط ما عدا المظنونات بمقتضى المقدمات السابقة عن
التنجز وإتيان ما تنجز عليه في المظنونات، وإنما عبر هنا بالظن بالفراغ عن الواقع
المنجز للظن بثبوت التكليف والا فيقطع بالفراغ على تقدير ثبوت المظنون في
الواقع.
وهذا بخلاف الظن بالطريق، لان مورده إن كان محتمل التكليف بحيث يدور
الأمر بين وجوده وعدمه فهو خارج عن دائرة المعلومات الاجمالية المنجزة على
الفرض، والمفروض أيضا عدم اندراج التكاليف الغير الواقعية تحت العلم
الاجمالي، وعدم جريان المقدمات فيها، فلا منجز لها حتى يجب عقلا تحصيل
الظن بالفراغ عنها، وإن كان محتمل التكليف يدور أمره بين فعلين يعلم بوجوب
أحدهما كالظهر والجمعة، سواء كان أحدهما مظنون الوجوب واقعا في نفسه
أولا - ولكن كان الجمعة مثلا ما قام على وجوبها طريق مظنون الحجية فهناك واقع
منجز إما بالخصوص كما إذ ظن بوجوب الظهر أو بالاجمال.
والآتيان بالجمعة لا يوجب الخروج عن عهدة الواقع المنجز، إذ على فرض
عدم حجية الطريق واقعا لا بدل عن الواقع المنجز بالتفصيل أو بالاجمال، كما كان

(1) درر الفوائد: ج 2 - 1، ص 408، في ذيل الأمر الثاني.
(2) (خ ل): تضيق.
277

في الظن بالواقع فلا ظن بالفراغ عن الواقع المنجز بسبب العلم الاجمالي أو
بسبب الظن بالواقع بحيث يكتفى به عند العقل عن الواقع المنجز، فان العقل
انما يكتفى به إذا كان الواقع في ضمن غيره ساقطا عن التنجز وهنا ليس كذلك إلا
إذا فرض جريان المقدمات في الطريق أيضا فيكون مؤدياتها في ضمن مظنوناتها
منجزة بحيث يكتفى بها عن الواقع، هذا كله بناء على أن الحجية بمعنى جعل
الحكم المماثل المنبعث عن مصلحة بدلية، وأما إذا كانت بمعنى الانشاء بداعي
تنجيز الواقع عند المصادفة والعذر عند المخالفة فالأمر أوضح.
لان الأحكام الطريقية مرتبة فعليتها وتنجزها واحدة، فما لم يصل الحكم
الطريقي لا يكون منجزا ولا معذرا فالظن به في الحقيقة ظن بالانشاء بداعي تنجيز
الواقع لا ظن بالمنجز والمعذر بالحمل الشائع حتى يفيد فائدة الظن بالواقع، بل
قد ذكرنا في مسألة جعل الطريق أن جعل الحكم المماثل ان كان بداعي ايصال
الواقع بعنوان اخر فهو أيضا كذلك من حيث وحدة مرتبة فعليته وتنجزه، إذ لو
كفى وجود الحكم واقعا في الباعثية والزاجرية لما كانت حاجة إلى جعل الحكم
المماثل بهذا العنوان.
ومما ذكرنا تبين حال الحجية بمعنى اعتبار وصول الواقع وأنه هو، فان
الاعتبار المزبور لا يجدى مع عدم وصوله علما أو علميا، إذ ما لا وصول له بنفسه
لا يعقل أن يكون موصلا لغيره.
ورابعا: انما يكون المهم الظن بالفراغ، لأن المفروض عنده - قده - (1) وعند
الشيخ الأعظم - قده - في (2) الرسائل إجراء مقدمات الانسداد في كيفية إطاعة
الاحكام المنجزة، فإنه يصح أن يقال حينئذ أن الغرض ليس امتثال الاحكام باتيان
متعلقاتها بل المهم الفراغ عنها والخروج عن عهدتها.
واما بناء على ما سلكناه من إجراء المقدمات في جعل الاحكام الواقعية

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 125: فصل.
(2) الرسائل: ص 129.
278

فعلية منجزة بالظن، فالظن بالفراغ أجنبي عن هذا المهم بل يحتاج منجزية الظن
بالطريق إلى مقدمات تقتضي منجزيته، كما اقتضت منجزية الظن بالواقع.
136 - قوله: قال فيها: " انا كما نقطع بانا مكلفون " (1) الخ:
لا يخفى عليك ان كلام صاحب الفصول - قده - (2) مبنى على مقدمتين:
إحديهما: انحلال العلم الاجمالي الكبير بتكاليف كثيرة في المحتملات
بمظنوناتها ومشكوكاتها وموهوماتها بالعلم الاجمالي الصغير بمؤديات طرق
مخصوصة.
ثانيتهما: دوران فعلية التكاليف ووصولها إلى حد حقيقة الحكم من الباعثية
والزاجرية مدار وصولها بعد تعذر العلم بتلك الطرق المنصوبة، ومن البين أنه بعد
هاتين المقدمتين لأظن بالحكم الفعلي البعثي والزجري الذي هو مدار الإطاعة
والعصيان إلا في دائرة تلك الطرق المعلومة بالاجمال، وأما في غيرها فلا ظن إلا
بالحكم الواقعي فقط، ومثله لا أثر له كما سيجيئ انشاء الله تعالى تحقيقه عند
تعرض شيخنا الأستاذ - قده - للاشكال على دليله، وسنبين انشاء الله تعالى أن
الدوران المزبور مما لا بد منه إلا أنه محال أو مجمع على بطلانه إلى غير ذلك من
المحاذير كما سنبين انشاء الله تعالى انحلال العلم الاجمالي الكبير بهذا العلم
الاجمالي الصغير.
137 - قوله: لا الاحتياط في خصوص ما بأيدينا الخ:
ويشهد لعدم لزوم المحذور من الاحتياط في هذه الطرق أن بناء الفقهاء على
العمل بكل خبر موثوق به ولو كان ضعيفا استند إليه المشهور بالاجماعات
المنقولة بل بالشهرات أيضا، وعليها يدور رحى الفقه، ولم يلزم من العمل بها
اختلال النظام ولا عسر ولا حرج، فلا معنى لأن يكون الاحتياط فيها موجبا
لأحدهما، إذ لا يعقل التفاوت بسبب وجه العمل من كونه بعنوان الاحتياط أو
بعنوان قيام الحجة الشرعية، فلا مقايسة للعمل بمؤديات هذه الطرق المتداولة
بالعمل بتمام المحتملات.

(1) هذه العبارة من الفصول.
(2) الفصول الغروية: ص 279 مخطوط.
279

138 - قوله: فان قضية هذه الاحتياط هو جواز رفع اليد الخ:
غرضه - قده - (1) بيان الموارد التي لا يقتضى العلم الاجمالي بالطرق الاحتياط
فيها في المسألة الفرعية، ولا اقتضاء المورد من حيث الأصل الجاري فيه للعمل
ليوجب انضمامه إلى الاحتياط في الطرق عسرا مخلا بالنظام أو حرجا مرفوعا
في الاسلام.
فمنها (2): الموارد التي لا طريق عليها ولو اجمالا سواء كان عليها طريق غير
معتبر شرعا أم لا، وحيث إنها خارجة عن أطراف العلم بالطريق فلا احتياط فيها
من قبل العلم الاجمالي، وحيث لا حجة عليها ولو إجمالا فلا مانع من جريان
الأصل، مثبتا كان أو نافيا.
نعم، إذا كان فيها استصحاب مثبت للتكليف فربما يتوهم لزوم الحرج منه
بانضمامه إلى الاحتياط في الطريق لكنه حيث إن هذه الموارد في نفسها قليلة،
لأنها بحيث يقطع بعدم طريق عليها واقعا، وهو قليل الوقوع جدا ولو فرض
فكونها مسبوقة بالتكليف قليل دون سبقها بعدم التكليف، فلذا يندفع توهم لزوم
الحرج منه إلا أنه لو كان المهم عدم منافاة العلم الاجمالي للأصل لصح أن يقال
كما في المتن ولو كان الأصل نافيا، لأنه الذي يتوهم منافاته للعلم الاجمالي، لكنه
حيث إن المهم عدم الاحتياط في المسألة الفرعية بحيث يلزم منه الحرج لم يكن
هذا التعبير وجيها بل الأنسب أن يقال ولو كان الأصل مثبتا.
ومنها (3): ما إذا نهض الكل على نفيه أي قامت جملة من الأمارات التي
يعلم اجمالا بحجية إحداها على نفى تكليف شخصي فإنه لا احتياط من قبل
الأخذ بالامارات، لأنها نافية لا عمل لها ليلزم من انضمامها إلى غيرها عسر،
وحيث يعلم بقيام الحجة على نفى التكليف لا مجال لاستصحاب مثبت له، لعدم
الشكك في الحكم الفعلي، لاستحالة اجتماع المتناقضين بل ولا شك في بقاء

(1) هو المحقق البارع الخراساني في الكفاية: ج 2، ص 127، س 13، وكفاية الأصول: 317،
(ت، آل البيت).
(2) (1) كفاية الأصول: ج 2، ص 127، س 13.
(3) (2) كفاية الأصول: ج 2، ص 127، س 15.
280

الحكم الفعلي السابق أيضا، لاستحالة بقائه على فعلية مع فعلية نقيضه، وبهذا
البيان تعرف عدم جريان الأصل الموافق أيضا، لتقومه بالشك واستحالة اجتماع
المثلين كالنقيضين، وعطف هذا المورد على سابقه بلحاظ عدم لزوم الاحتياط
فقط لا بجميع شؤونه حتى من حيث جريان الأصل، وأما حمل العبارة على
توافق الامارات على نفى التكليف نوعا ليكون مجرى للأصول المثبتة للتكليف
أو النافية له، فلا مجال له، لتعرضه - ره - له في الموارد الأخيرة - كما سيأتي انشاء
الله تعالى.
ومنها (1): ما إذا تعارض فردان من بعض الأطراف كفردين من الخبر أو
كفردين من الاجماع المنقول مثلا وكانا متعارضين بالنفي والاثبات، فلا احتياط
من ناحية الامارة المثبتة التي هي من أطراف العلم، لسقوطها بالمعارضة بمثلها
في غير الخبرين.
والتخيير في الخبرين المتعادلين على وجه دون وجه وعدم محذور الاحتياط
فيما إذا كان الخبر الراجح نافيا، لعدم العمل له، فلم يبق من صورة الاحتياط إلا ما
إذا كان الخبر المثبت راجحا، وإلا ففي غيرها إما لا عمل أو لا يتعين العمل ليلزم
منه العسر، وأما من حيث جريان الأصل - موافقا كان أو مخالفا - فظاهر المتن (2)
عدم المانع من الجريان، لعدم الحجة على التكليف اثباتا أو نفيا لمكان المعارضة
بالمثل.
والتحقيق: أن المانع من جريان الأصل ثبوتا أمران:
أحدهما، لزوم المناقضة أو المضادة أو المماثلة بين مفادي الأصل والامارة.
ثانيهما: لزوم الإذن في المخالفة العملية واثباتا لزوم المناقضة بين صدر
الرواية وذيلها، فإذا كان المتعارضان فردين من غير الخبر فهما متساقطان،
فلا تكليف فعلى أصلا غير ما هو على طبق الأصل مثبتا كان أو نافيا فلا مضادة
ولا مماثلة ولا مناقضة.

(1) (3) الكفاية: ج 2، ص 127، س 15: وكذا فيما إذا تعارض.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 127.
281

وحيث إن الحجة معارضة بمثلها فلا مخالفة عملية ولو احتمالية حتى يلزم
من جريان الأصل النافي الاذن في المخالفة العملية فلا مانع ثبوتا أصلا في غير
الخبرين، وأما إثباتا، فلان الناقض لليقين هو اليقين أو الحجة القاطعة للعذر
تفصيلا كان أو اجمالا، والمتعارضان وان كانا من أطراف ما علم اعتباره إلا أن
ملاك المناقضة كون المجرى مما قامت الحجة على خلافه أو على وفاقه ولو
اجمالا بحيث يكون أصل قيامه مقطوعا به، وهنا لا قطع بقيام الحجة على خلاف
مجرى الأصل أو على طبقه بل يحتمل عدم حجية أصل الامارة التي تعارض
فردان منها بل على الفرض يقطع بعدم حجيتهما فعلا، فلا حجة على خلاف
الأصل الجاري في المورد ولا على طبقه، هذا كله إن كان المتعارضان من غير
سنخ الخبر.
وأما إذا كانا فردين من الخبر وكان الخبر النافي راجحا فجريان الأصل المثبت
أو النافي وان لم يلزم منه الاذن في المخالفة العملية حيث لا عمل للخبر إلا أن
محذور مناقضة الحكمين أو مماثلهما (1) مانع عقلي كما قدمناه سابقا، والحجة
الفعلية وإن كانت محتملة إلا أن احتمال المتناقضين والمتماثلين كالقطع بهما في
الاستحالة، نعم، حيث لا حجة على خلاف المجرى ولا على وفقه ولو اجمالا
لاتحاد المجرى لا يلزم منه المناقضة بين الصدر والذيل.
لا يقال: حيث إنه لا معارض للأصل فينحل العلم الاجمالي إما بحجية الخبر
النافي أو حجية غيره للعلم بالحكم الفعلي الاستصحابي كما في غير ما نحن فيه.
لأنا نقول: نعم إذا جرى أصل غير معارض في بعض الأطراف ينحل العلم
لكنه هنا ليس كذلك، إذ لا أصل غير معارض في بعض الخبر كلية، وبالإضافة إلى هذا
الخبر الخاص لا يوجب الانحلال للقطع بالملازمة في الحجية بين هذا الخبر
وسائر الاخبار، فالحق أنه كما أفاده (2) - قده - لا مانع من جريان الأصل ثبوتا
واثباتا إلا بلحاظ المناقضة في مقام الثبوت وهو - قده - كالشيخ الأعظم - قده - لا
يرى المانع ثبوتا إلا الاذن في المخالفة العملية، وحيث إن الخبر ناف لا يلزم من

(1) (خ ل): مماثلتهما.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 127.
282

إجراء الأصل الغير المعارض لوحدة المجرى إذن في المخالفة العملية، سواء كان
الأصل مثبتا أو نافيا.
نعم، إذا كان الخبر الراجح مثبتا فلا مجرى للأصل النافي حيث يلزم منه الاذن
في المخالفة العملية ولو احتمالية لا من جهة النقض في أركان الاستصحاب أو
من جهة الناقض لليقين، وعليه تعلم أن المتعارضين إذا كانا فردان من طرفين
وكان تعارضهما بالنفي والاثبات أيضا لا يقتضيان عملا لتساقطهما وإن كان
أحدهما خبرا، لأن الترجيح للخبر على الخبر والتخيير بين الخبرين ومع
سقوطهما بالمعارضة لا حجة على خلاف الأصل حتى يلزم منه الاذن في
المخالفة العملية.
إلا أن يقال إن وجه اعتبار كون المتعارضين فردين من بعض الأطراف
سقوطهما على تقدير حجيتهما الذاتية، بخلاف ما إذا كانا من طرفين يعلم بحجية
أحدهما بالذات فان المقام ليس من تعارض الحجتين ليساقطا بالمعارضة بل من
اشتباه الحجة باللا حجة، وفى مثله ربما يقال بالاحتياط ولازمه الأخذ بالأمارة
المثبتة المانعة من جريان الأصل، للزوم الإذن في المخالفة العملية، بل حيث إن
أحدهما حجة واقعا فالأصل غير جار، لاحتمال التناقض وهي الحجة، فالتمسك
بعموم لا تنقض في المورد تمسك بالعموم في الشبهة المصداقية، والوجه الأول
وهو لزوم الاحتياط وإن كان غير صحيح إلا فيما إذا كانت الأمارتان متعلقتين
بتكليفين متضادين كوجوب الجمعة والظهر لكن الوجه الثاني لا بأس به.
وأما إذا كان الخبران متعادلين:
فإن قلنا بأن معنى حجية الخبر لزوم الإلتزام بمؤداه، فيمكن التخيير بين الخبر
المثبت والنافي من حيث التخيير بين اللزومين.
وإن قلنا بأن معنى الحجية جعل الحكم المماثل على طبق المؤدى فإذا كان
مؤدى أحد الخبرين وجوب الظهر ومؤدى الاخر وجوب الجمعة صح التخيير
بمعنى جعل حكمين مماثلين للمؤدى بنحو التخيير، فيجب كل منهما فعلا إلى
بدل، وإذا كان مؤدى أحدهما وجوب شئ ومؤدى الآخر عدم وجوبه كما هو
المفروض في المقام فلا يعقل التخيير حيث لا بدل للواجب حتى يعقل الوجوب
283

التخييري فيؤول إلى الخلف فان التخيير بين فعل شئ لزوما وتركه لا إلى بدل
مناف لجعل طبيعة الوجوب فما عن بعض أجلة العصر (1) من التخيير بين
الخبرين المتعادلين في فرض التعارض بين النفي والاثبات لابد من أن يحمل
على الوجه الأول إلا ان الوجه الأول في نفسه غير صحيح، إذ أدلة الحجية
للتحفظ على الاحكام العملية المطلوب منها العمل إما بتنجيزها أو بجعل (2)
أحكام مماثلة لها ليكون ايصالا لها بعنوان آخر وإن وجب الالتزام بها من الخارج
عقلا أو نقلا، وإلا لو فرض أن معنى الحجية هو الأمر بالالتزام فهو التكليف
المجعول، وليس هناك تكليف اخر إلا الواقع، والالتزام الجدي بالواقع الذي
لم يحرز - لا حقيقة ولا تعبدا - غير معقول والواقع غير محرز حقيقة وهو واضح،
ولا تعبدا، إذ المفروض عدم جعل الحكم المماثل فالأمر بالالتزام الجدي غير
معقول، والمراد من الالتزام لو فرض الأمر به صريحا البناء على ثبوته كناية عن
أصل ثبوته فهو أمر بالالتزام كناية، وجعل للحكم المماثل حقيقة، وبقية الكلام
في محله.
ومنها (3): ما إذا تعارض فردان من نوعين يعلم بحجية أحدهما ذاتا وكان
أحدهما متكفلا للوجوب والاخر للحرمة، فان الامارة وإن كانت من حيث نفسها
قابلة لاقتضاء الاحتياط لفرض وجود الحجة الذاتية بينهما، لكن المورد غير قابل
للاحتياط بوجه، لا من حيث الموافقة القطعية ولا من حيث الموافقة الاحتمالية.
أما من الحيثية الأولى: فواضح: لاستحالة خلو المكلف عن الفعل والترك.
وأما من الحيثية الثانية: فالموافقة الاحتمالية في كل واقعة حاصلة قهرا،
فلا معنى لالزام العقل بها بالإضافة إلى وقايع متعددة وان كان يتصور المخالفة
القطعية تدريجا لكنه ليس للوقايع المتعددة تكليف واحد ليتصور تنجزه من
حيث المخالفة القطعية، بل تكاليف متعددة لا يعقل تنجزها لا من حيث وجوب
الموافقة القطعية ولا من حيث حرمة المخالفة القطعية وبقية الكلام في محله.

(1) درر الفوائد: ج 2 - 1، ص 652.
(2) (خ ل): يجعل.
(3) (4) الكفاية: ج 2، ص 130، س 4: وكذا لو تعارض أمثال منهما...
284

ومما ذكرنا: تعرف عدم المانع من جريان الأصول النافية حيث لا علم إجمالي
بتكليف فعلى فلا مانع ثبوتا ولا إثباتا.
ومنها (1): ما إذا كانت أمارات نافية لتكاليف متعددة وكانت في موردها
استصحابات مثبتة فان الامارات حيث كانت نافية فلا عمل حتى يلزم من جريان
الأصول المثبتة الاذن في المخالفة العملية، وأما من حيث المانع في مقام الاثبات
فظاهر شيخنا - قده - هنا عدم جريانها بناء على شمول اليقين في قوله (ع) " ولكن
تنقضه بيقين اخر " لليقين الاجمالي، أو للحجة المعتبرة إجمالا [1 -] إما لأولها
إلى الأول نظرا إلى أن مفاد الحجية جعل الحكم المماثل فيقطع بسبب قيام
الحجة بالحكم على خلاف الحالة السابقة إما تفصيلا أو اجمالا، [2 -] أو لأن
المراد من اليقين مطلق ما ينجز الواقع ويكون قاطع للعذر فيعم الحجة القاطعة
للعذر، وفى تعليقة شيخنا (2) - قده - تفصيل بين العلم بانتقاض الحالة السابقة
إجمالا والعلم بقيام الامارة المعتبرة إجمالا، بعدم جريان الأصول في الأول
وجريانها في الثاني تارة وعدمه أخرى.
توضيحه: أنه مع العلم بانتقاض الحالة السابقة إجمالا وشمول اليقين في
الذيل للاجمالي لا يصح التعبد الاستصحابي بوجه، لان التبعد بالجميع مناقض
لاعتبارنا قضية اليقين الاجمالي، والتعبد بأحدهما المعين تخصيص بلا مخصص
فإنه لا ناقض له بالخصوص، لعدم العلم التفصيلي بخلافه، والتعبد بأحدهما
المردد مفهوما ليس من افراد العام، والمردد مصداقا مستلزم لاستعمال اللفظ في
المعنيين وهو كون لزوم النقض في اليقين التفصيلي تعيينيا وفى الاجمالي
تخييريا واستعماله في الجامع مع أنه خلاف الظاهر مستلزم لعدم دلالة الاخبار
على حرمة النقض تعيينا ولا تخييرا، فيحتاج إلى دليل اخر على التعيين، هذا كله
في صورة العلم بانتقاض الحالة السابقة.
وأما في صورة العلم بوجود الحجة المعتبرة إجمالا فاعتباره إعتبار العلم

(1) (5) الكفاية: ج 2، ص 130، س 7، وكذا كل مورد لم يجر فيه الأصل المثبت...
(2) حاشية الرسائل: ص 87.
285

بوجود الناقض لا اعتبار العلم الناقض كما في الأول، فحينئذ إن علم اجمالا
بوجود الحجة المعتبرة اجمالا مع العلم بعدم حجية الباقي فللناقض (1) تعين
واقعي، فيسقط الأصل في مورده فقط دون الباقي، وحيث إنه مردد بين الامارات
التي هي أطراف العلم، فالتمسك بعموم " لا تنقض " تمسك بالعام في الشبهة
المصداقية، حيث لا يعلم أن رفع اليد عن اليقين السابق من باب نقض اليقين
بالحجة أو بالشك.
وحيث إن هناك في الواقع تكاليف لزومية استصحابية فيجب الاحتياط وإن
علم اجمالا بوجود الحجة المعتبرة إجمالا مع احتمال حجية الجميع فحيث انه
على فرض حجية الجميع لا تعين لواحد منها لينطبق عليه المعلوم بالاجمال
ليكون هو الناقض دون غيره، فلا محالة يسقط الاستصحاب في الجميع.
إذ فرض اعتبار الناقض الإجمالي يمنع عن ثبوت الاستصحاب في الجميع،
وفرض عدم التمييز الواقعي المانع من انطباق المعلوم بالاجمال يمنع عن سقوط
الأصل في واحد معين واقعا، فلا يمكن التعبد الاستصحابي بوجه، وارتفاع
الحالة السابقة في بعضها المعين واقعا مناف لحصر الناقض في اليقين بل مناف
لأصل التعبد الاستصحابي المتقوم باليقين والشك، فالفرق بين هذين الوجهين
جريان الاستصحاب في ما عدا المعلوم في الأول واقعا وعدم جريانه في الجميع
في الثاني واقعا، هذه غاية توضيح ما أفاده - قده - في تعليقته الأنيقة (2).
أقول: أما ما أفاده - قده - في صورة العلم الاجمالي بالانتقاض.
[ج 1 -] ففيه: ان قوله (ع) " ولكن تنقضه بيقين آخر "، إن كان محددا للموضوع
لا حكما شرعيا مولويا، لما مر من البرهان على استحالة جعل الحكم المماثل
على طبق اليقين بحكم، فلا محالة يرتفع الموضوع بفرض العلم الاجمالي، لأن
الموضوع هو الشك المحض لا المقرون بالعلم الاجمالي، فليس إعتبار اليقين
إعتبار الناقض، بل اعتباره اعتبار تحديد الموضوع بعدم (3) التعبد الاستصحابي

(1) (خ ل): فلناقض.
(2) هو المحقق الخراساني في تعليقته على الرسائل: ص 88 - 81 قلت...
(3) (خ ل): فعدم.
286

لا بالبرهان المتقدم بل بعدم موضوعه، وهذا هو الصحيح كما مر مفصلا، وإن لم
يكن محددا للموضوع بل كان الموضوع نفس اليقين السابق والشك اللاحق بما
هما يقين وشك، وكان اعتبار اليقين بالخلاف من باب إعتبار الناقض، فمعناه
إعتبار شئ شرعا يمنع عن فعلية التعبد الاستصحابي مع تمامية موضوعه في
حد ذاته، فحرمة النقض في كل واحد تعينه ذاتا ولزوم النقض باليقين التفصيلي
تعييني بتعين موضوعه للناقضية لأمر معين، وباليقين الاجمالي لزوم غير تعييني،
لتردد موضوعه لفرض تعلقه عنده - قده - بالمردد المصداقي والأمر لنفس
طبيعي الالزام، والتعينية وعدمها تستفاد بالبرهان من تعلقه بنحوين من
الموضوع، وإذا كان المقتضى لحرمة النقض ذاتا في كل واحد موجودا والمانع
لم يكن مانعا عن الجميع إذ لا يقين على خلاف كل واحد ولا على خلاف
واحد معين في الواقع، إذ بخصوصه ليس طرف العلم بل المانع متساوي النسبة
إلى المقتضيات، فمقتضاه ثبوت أحدهما بلا عنوان وسقوط أحدهما بلا عنوان،
كما هو مسلكه - قده - في أمثال المقام لا سقوط الجميع، نعم، تعلق صفة حقيقية
أو اعتبارية عندنا بأحدهما المردد مصداقا غير معقول، فثبوت أحدهما بلا عنوان
وسقوط أحدهما بلا عنوان غير معقول، كما أن سقوط الجميع مع تعلق العلم
الاجمالي بأحدهما المردد غير صحيح، فاعتبار ناقضية اليقين الاجمالي غير
معقول، واعتبار تحديده للموضوع معقول، بل بناء على التعميم يجب جعله
محددا للموضوع بالبرهان المتقدم سابقا.
[ج 2 -] وأما ما أفاده من الفرق بين صورتي العلم بوجود الحجة المعتبرة،
ففيه: ان الحجة بوجودها الواقعي غير ناقض بل بوجودها الواصل، فالعلم بها
مقوم لناقضيتها، فحجية الامارات واقعا - بعضا أو كلا - لا أثر لها بل للعلم بها،
ويحسب الوجود العلمي الاجمالي دائما لا تميز لها، وتميزها الواقعي لا يوجب
تميزها من حيث وجودها العلمي، حتى يتفاوت الحال من حيث حجيتها - كلا أو
بعضا - بحسب الواقع، بل العلم الاجمالي بالحجة والعلم الاجمالي بارتفاع الحالة
السابقة على حد سواء، خصوصا إذا كانت الحجية بمعنى جعل الحكم المماثل،
فان العلم بالحجة ليس إلا العلم بخلاف المتيقن سابقا.
287

139 - قوله: ولا ما هو من أطراف العلم به على خلافه فافهم الخ:
نعم، هو كذلك إلا في الخبر النافي الراجح، فإنه من أطراف العلم بالطريق
على خلاف الاستصحاب المثبت، لكنه حيث لا يلزم من إجراء الأصل إذن في
المخالفة العملية فلا مانع ثبوتا، وحيث لا حجة ولو إجمالا على خلاف المجرى
كما قدمنا بيانه فلا مانع منه اثباتا ولعله أشار - ره - إليه بقوله فافهم (1).
140 - قوله: بسبب العلم به الخ:
فيه مسامحة، إذ العلم بالانتقاض لا يكون سببا للعلم به، والصحيح أن يقال
للعلم بالانتقاض أو بقيام أمارة معتبرة عليه في بعض أطرافه.
141 - قوله: وثانيا: انه لو سلم أن قضيته لزوم التنزل (2) الخ:
ينبغي تقديم مقدمة نافعة للمقام وهي ان الوجوه (3) المتصورة في مقام جعل
الاحكام على أقسام.
أحدها: أن لا يكون قبل العلم أو الظن بالحكم حكم مجعول، وانما يحدث
بالعلم به أو بالظن به بجعل الحكم على طبق العلم به أو الظن به، والمعروف فيه
انه محال، لاستلزامه الدور نظرا (4) إلى توقف العلم أو الظن بالحكم على الحكم
وتوقف الحكم على العلم به أو الظن به، وقد مر في مباحث القطع (5) انه لا دور
أصلا بل يستلزم الخلف من تأخر المتقدم بالطبع تقدم المتأخر بالطبع، وقد ذكرنا
هناك عدم لزوم هذا المحذور أيضا ببيان برهاني في الجميع، فراجع.
ثانيها: أن لا يكون لكل واقعة حكم مجعول خاص، بل جعل أحكاما كثيرة (6)
قبلا بعدد الظنون والآراء لا مترتبة عليها، فكلها أحكام واقعية، وان كان لو لم تكن
تلك الآراء لم يجعل للواقعة حكم، لكنها لما كانت محفوظة في علمه " تعالى "
جعلت على طبق مؤدياتها أحكام في الواقع، لا أنها أحكام أخر زيادة على

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 130، س 7.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 130، س 10 وكفاية الأصول: 318، (ت، آل البيت) والرسائل:
ص 132، وخامسا سلمنا العلم الاجمالي بوجود الطريق المجعول.
(3) (خ ل): الوجود.
(4) وفى النسختين عندي: كثرة - نظره.
(5) التعليقة: 27، ص 72.
(6) وفى النسختين عندي: كثرة - نظره.
288

الاحكام الواقعية، وهذا هو الذي يقال بالاجماع وتواتر الاخبار على خلافه،
والدور المتقدم لو كان صحيحا لجرى في هذا القسم أيضا، لان تلك الأحكام وإن
كانت قبل الآراء قبلية بالزمان لكنها بعدها بالطبع وبالعلية، إذ المفروض انه لولا
تلك الآراء والظنون لم يجعل تلك الأحكام، فلتلك الآراء نحو من الشرطية،
لثبوتها قبلا مع أنها لمكان تعليقيتها متأخرة عن تلك الأحكام خصوصا إذا كانت
تلك الأحكام المجعولة مترتبة على ظن المجتهد بها نحو القضية الحقيقة، فان
محذور توقف الحكم على موضوعه وتوقف الموضوع على حكمه جار فيه أيضا
بل لا يبقى حينئذ فرق بينه وبين القسم الأول إلا بكون الجعل هنا بنحو القضية
الحقيقية والجعل هناك بنحو القضية الخارجية، وهو كذلك لفرض عدم الحكم
هناك رأسا وحدوثه بالعلم والظن به، فتوقف الحكم هناك على العلم به توقف
المشروط على شرطه وتوقفه هنا توقف العارض على معروضه فتدبر جيدا.
ثالثها: أن يكون لتلك الأحكام ثبوت واقعي للوقايع من دون توقف لأصلها
على العلم والظن بوجه أصلا، إلا أن فعليتها منوطة بقيام الطريق عليها وهو على
قسمين:
أحدهما: أن يكون تلك الأحكام مصروفة إلى مؤديات الطرق بحيث لو قام
طريق على خلافه لسقط الحكم الفعلي من أصله، فالفرق بينه وبين القسم الثاني
أن الحكم من الأول لم يجعل على خلاف طريق من الطرق في الأول وهنا جعل
حكم مخالف لما أدى إليه الطريق، لكنه سقط من أصله بقيام الطريق على خلافه،
بدعوى أن ما قام عليه الطريق ذو مصلحة غالبة مضادة للمصلحة المقتضية
للحكم الواقعي، وإذا سقطت المصلحة المغلوبة عن التأثير سقط مقتضاها وهو
الحكم، فالأول تصويب حدوثا، وهذا تصويب بقاء لكنه ليس فيه توهم الدور.
وهذا أيضا إذا كان جعل الحكم المخالف بنحو القضية الخارجية، وإلا إذا كان
بنحو القضية الحقيقية، فلا محالة يتقيد الحكم الواقعي بما إذا لم يقم على خلافه
طريق، فليس لمن قام عنده طريق مخالف حكم من الأول، فهو تصويب حدوثا لا
بقاء فقط لفرض عدم المشترك في حقه ليكون مستحيلا.
ثانيهما: الصرف بنحو التقييد بأن يكون الحكم الواقعي الذي أدى إليه الطريق
289

فعليا بعثيا أو زجريا أو منجزا بناء على انفكاك مرتبة البعث والزجر عن التنجز،
بحيث إذا لم يقم عليه طريق لا يسقط من أصله، بل لا أثر له عقلا وشرعا من
حيث الإطاعة والعصيان، فلا تصويب حيث لم يسقط الحكم الواقعي لكن
موضوع الأثر هو الواقع المقيد بقيام الطريق عليه بما هو كذلك، لا بما هو واقع،
وعليه فالصرف المطلق غير الصرف المقيد، وجامعه مطلق الصرف.
والأول تصويب ولا استحالة فيه.
والثاني يرد عليه ما يرد على الأول من حيث إن إتيان ما تعلق به القطع يجزى
بما هو واقع لا بما هو مؤدى القطع.
فقوله: إذ الصرف لو لم يكن تصويبا محالا فلا أقل (1) الخ:
يراد به الصرف المطلق لا مطلق الصرف كما يشهد له مقابلته بالتقييد بقوله (2)
- ره - " ومن هنا انقدح أن التقييد أيضا غير سديد " الخ: نعم لا استحالة في الصرف
المطلق كما عرفت لوضوح أن الصرف في مرتبة الفعلية بعد جعل الحكم
لا بلحاظ أداء الطريق إليه.
ومنه يعلم ما في عبارة المتن من المسامحة حيث قال: إذا الصرف لو لم
يكن تصويبا محالا فلا أقل من كونه مجمعا على بطلانه الخ: فان ظاهره
أن الصرف المطلق تصويب محال، ومع قطع النظر عنه يكفي في بطلانه
الاجماع، مع أنه كما عرفت ليس بمحال حتى يقطع النظر عنه، ويكتفى في
بطلانه بالاجماع على خلافه، وما هو محال ليس من مقولة الصرف فإنه لا واقع
حتى يصرف إلى الطريق. نعم، لو كان التعبير هكذا إذ الصرف ولو لم يكن محالا
لكنه تصويب مجمع على بطلانه لسلم عن هذه الخدشة.
كما أن قوله: ضرورة أن القطع بالواقع (3) الخ: وجه اخر لبطلان الصرف
بل لمطلق الصرف، فلابد في مقام التعليل به من العاطف لسبق تعليل بطلان

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 131، س 2 و 5.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 131، س 2 و 5.
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 131، س 3 وكفاية الأصول: 318، (ت، آل البيت).
290

الصرف بقوله " إذ الصرف " إلى اخره (1)، وليس علة للاجماع كما هو واضح حتى
يكون علة للعلة والأمر سهل، ثم انه تبين مما ذكرنا أن فعلية الواقع بقيام الطريق
على قسمين:
أحدهما: أن يكون قيام الطريق عليه موجبا لفعلية الحكم من قبل الشارع
بحيث يكون تمامية اقتضائه من تلقاء الشارع منوطة بقيام الطريق كالواجبات
المشروطة بغير قيام الطريق من سائر القيود المعلقة عليها التكاليف ومثل هذا
القيد لا يعقل أن يقوم مقامه شئ والواقع بما هو غير فعلى من قبل المولى حتى
يكون الظن به ذا أثر عقلا.
ثانيهما: أن يكون الحكم تام الاقتضاء من قبل الشارع وفعليا من قبله، لكن
فعليته البعثية والزجرية منوطة عقلا بنحو من أنحاء الوصول إما عقلا كالقطع، أو
شرعا كالطرق المنصوبة لبلوغ الحكم إلى مرتبة البعث والزجر.
وهو أيضا على قسمين:
أحدهما: الفعلية ذاتا، بأن يكون إعتبار الحجية بمعنى الاحتجاج به على
التكليف، كما إذا أمر بداعي تنجيز الواقع فالواقع على تقدير ثبوته يكون بالغا
مرتبة البعث والزجر المساوقة لمرتبة التنجز كما مر مرارا.
ثانيهما: الفعلية بالعرض، بأن يكون إعتبار الحجية بمعنى جعل الحكم
المماثل على طبق الطريق الموافق، فالحكم المماثل حيث إنه بنفسه واصل
يكون فعليا حقيقة، وحيث إنه بلسان انه الواقع فينسب الوصول والفعلية إلى
الواقع فيقال بفعلية الواقع عرضا.
إذا عرفت ما ذكرنا: فاعلم أن غرض القائل بالظن بالطريق كصاحب
الفصول (2) - ره - من كون المكلف به هو العمل على طبق الطريق وتقييد الواقع به
ليس بمعنى الصرف المطلق المستلزم للتصويب، ولا الفعلية من تلقاء الشارع
بحيث يتم اقتضائه من قبل الشارع بقيام الطريق، كيف وقد فرض في صدر

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 131، س 2.
(2) الفصول: ص 279 مخطوط.
291

كلامه (1)، " القطع بانا مكلفون بأحكام فعلية "، بل المراد دخل الطريق في فعلية
التكليف بعثا وزجرا بحيث يكون له إطاعة وعصيان بأحد الوجهين من الفعلية
الذاتية أو العرضية، حيث إن التكليف بالطريق، إما بمعنى جعل الحكم المماثل
أو الانشاء بداعي تنجيز الواقع، ودوران فعلية الواقع مدار الثاني واضح، وكذا
مدار الأول إذا كان الحكم المماثل بعنوان ايصال الواقع بالعرض بحيث لا يكون
منبعثا إلا عن مصلحة الواقع، وعلى هذا التقديرين فوجه دعوى اختصاص
حجية الظن بالظن بالطريق هو أن الواقع الذي لم يبلغ مرتبة البعث والزجر لا أثر
له، فالظن به ظن بما لا أثر له، بخلاف الظن بالفعلي منه وهو الظن بما قام عليه
الطريق المنصوب.
ومنه يتضح الفرق بين قيام الظن بالطريق مقام القطع به، وعدم قيام الظن
بالواقع مقام القطع به، إذ الظن والقطع على الأول تعلقا بالحكم الفعلي، فيقوم
الظن به مقام القطع به، بخلاف الظن والقطع على الثاني، فان القطع هو بنفسه
موجب لفعلية الواقع ومحقق لموضوع الأثر والظن بالواقع المقطوع به غير معقول
وبنفس الواقع ظن بما لا أثر له. والتحقيق: أن تقيد فعلية الواقع وبلوغه مرتبة
البعث والزجر بالحمل الشائع بقيام الطريق عليه وإن كان مما لا بد منه عندنا،
خلافا لمن يجعل الفعلية موضوعه فقط، إلا أن استنتاج هذه النتيجة
المهمة متوقف على أمرين.
أحدهما: انحلال العلم الاجمالي الكبير، وإلا لكانت التكاليف الواقعية فعلية
بوصولها بالعلم الاجمالي، لما مر مرارا أنه لا فرق في الوصول المبلغ للحكم إلى
درجة الفعلية بين العلم التفصيلي والاجمالي، وحينئذ فالظن بالواقع ظن (2)
بالحكم الفعلي كما أن الظن بمؤدى الطريق المنصوب ظن بالحكم الفعلي.
ثانيهما: عدم انحلال العلم الاجمالي الصغير برفع اليد عن الموافقة القطعية
كما هو المفروض من عدم وجوب الاحتياط في الطرق، وإلا لو قلنا بانحلاله كما

(1) صاحب الفصول - ره - تقدم في المصدر السابق.
(2) (خ ل): فالظن بالواقع بالحكم.
292

هو مقتضى التحقيق، لاستحالة الانفكاك بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب
الموافقة القطعية، كان الظن بمؤدى الطريق ظنا بحكم غير فعلى، فيكون كالظن
بالواقع، لوضوح أن الحكم الطريقي كالحكم الحقيقي لا بد في فعليته وترتب الأثر
المترقب منه من وصوله علما أو علميا، ومع فرض انحلال العلم يكون التكليف
الطريقي بلا وصول علمي، فكيف يكون موصلا للواقع ومبلغا له إلى مرتبة
الفعلية.
أما الأمر الأول: فهو صحيح لأن قيام الحجة على بعض أطراف العلم
الاجمالي بمقدار المعلوم إجمالا يوجب الانحلال، كما حقق في محله، ولا فرق
في وصول الحجة بين العلم التفصيلي بقيامها على بعض الأطراف، والعلم
الاجمالي بقيامها، كما لا فرق في وصول التكليف الواقعي بين العلمين، وهذا هو
الفارق بين ما نحن فيه وبين ما تقدم في الدليل العقلي على حجية الخبر، حيث
إن العلم الاجمالي بصدور أخبار كثيرة ليس علما إجماليا بوجود الحجة الشرعية،
بل علم إجمالي بصدور تكاليف واقعية من الإمام (ع)، ونسبة العلم الإجمالي
بكلية التكاليف ونسبة العلم الإجمالي بخصوص هذه التكاليف على حد سواء
فلا معنى لكون هذا العلم الاجمالي منجزا لها دون العلم الاجمالي الكبير،
فلا يكون العلم الاجمالي الصغير موجبا لانحلال العلم الاجمالي الكبير.
وأما الأمر الثاني: فهو غير صحيح، لما مر من استحالة الانفكاك بين وجوب
الموافقة وحرمة المخالفة، فمع عدم وجوب الاحتياط ينحل هذا العلم الاجمالي
الصغير، ولا محالة ينحل العلم الاجمالي الكبير من ناحية العلم الاجمالي الصغير
وإن كان ينحل بالوجه المشترك بينهما، وهو عدم الانفكاك بين وجوب الموافقة
وحرمة المخالفة.
وقد عرفت سابقا انتهاء الأمر إلى حجية الظن من باب الكشف وسيجيئ
انشاء الله تعالى أنه لا فرق حينئذ بين الظن بالواقع والظن بالطريق من حيث كون
كل منهما موجبا لفعلية الحكم الواقعي والحكم الطريقي، فتدبر جيدا.
وأما ما أفاده شيخنا الأستاذ العلامة - رفع الله مقامه - من وجوه الايراد
293

فلا يخلو من نوع من الانتقاد.
فمنها: ان الصرف ولو بنحو التقييد غير سديد (1)، ضرورة أن القطع بالواقع
يجدى في الإجزاء بما هو واقع، لا بما هو مؤدى طريق القطع، لما ذكره - قده -
سابقا أن القطع لا تناله يد الجعل من الشارع إثباتا ونفيا حتى يكون على طبق
المقطوع حكم شرعي ليكون مدار الامتثال والإجزاء على إتيانه بما هو مقطوع به.
والجواب: أن مدار الامتثال على البعث والزجر، والقطع والطريق المنصوب
حيثية تقييدية للحكم الواقعي وحيثية تعليلية للبعث والزجر، ولا منافاة بينهما،
فالتقييد في مرتبة لا ينافي إجزاء المأتى به عن المبعوث إليه بما هو مبعوث إليه
من دون قيد، والقطع والطريق المنصوب في هذه المرحلة على حد سواء، فكل
منهما مبلغ للحكم الواقعي إلى مرتبة الباعثية والزاجرية، فالحكم الواقعي الواصل
بما هو مصداق للبعث (2)، لا أن البعث الواصل بما هو بعث واصل مدار الامتثال
والاجزاء، وما هو ضروري هو الثاني دون الأول يقتضى البرهان تقيد الواقع
به في صيرورته (3) بعثا حقيقيا وزجرا جديا.
ومنها: أن الإلتزام بالتقييد غير مفيد (4) فان الظن بالواقع في التكاليف العامة
البلوى لا يكاد ينفك عن الظن بأنه مؤدى طريق معتبر، وجه التلازم أن التكاليف
العامة البلوى عادة مما قام عليها طريق معتبر من قبل الشارع، كما أن الطرق
المتداولة غالبا تؤدى إلى الواقع، وحيث إن الظن بالواقع في أمثال هذه المسائل
يستلزم الظن بأنه مؤدى الطريق المعتبر، فلا وجه لقصر حجية الظن على الظن
بالطريق.
والجواب: أن منشأ التلازم هي الغلبة المزبورة وهي مفيدة للظن نوعا لا فعلا،

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 131، س 5: ومن هنا انقدح...
(2) (خ ل): مصداق البعث.
(3) (خ ل): صيرورية.
(4) كفاية الأصول: ج 2 - ص 131، س 5: مع أن الالتزام بذلك غير مفيد... وكفاية الأصول: 318،
(ت، آل البيت).
294

ونتيجة دليل الانسداد حجية الظن الفعلي لا الظن النوعي، مضافا إلى أن الظن
بالطريق أو بكون الواقع مؤدى الطريق، إنما يكون حجة في دائرة العلم الاجمالي،
إذ الطريق المنصوب لو لم يصل حكما وموضوعا ولو بالعلم الاجمالي لا أثر له في
جعل الحكم الواقعي فعليا.
وعليه فكما إذا ظننا بحجية طريق حكما فقط من دون الظن بقيامه على شئ
لا أثر له كذلك إذا ظننا بأن هذا الحكم الواقعي مؤدى طريق معتبر غير واصل، إذ
مع فرض وصوله موضوعا بقيام خبر أو إجماع منقول أو شهرة مثلا على هذا
الحكم المظنون لكان هناك يقين بأنه مؤدى أحد أطراف الطرق المعلومة
بالاجمال فلا يتصور الظن بأنه مؤدى طريق من الطرق المعتبرة إلا بفرض عدم
وصوله خارجا في ضمن ما بأيدينا من الطرق، ومعه فلا أثر للظن به حيث لا أثر
للطريق الغير الواصل موضوعا كغير الواصل حكما، فتدبر جيدا.
ومنها: أن مقتضى التقييد حجية الظن بأنه مؤدى الطريق المعتبر (1) وإن
لم يظن تفصيلا بحجية طريق من الطرق، وأما الظن بحجية الطريق فلا يجدى في
الظن بالمقيد فان ذات المقيد إذا لم يكن مظنونا لا فائدة في الظن بالقيد فقط إلا
إذا ظن من الطريق المظنون الحجية بالواقع، ليكون القيد والمقيد مظنونين
فمجرد الظن بحجية الطريق لا يجدى بناء على التقييد دون الظن بأنه مؤدى
الطريق المعتبر، والظن بالطريق المتداول وان كان عادة تؤدى إلى الواقع إلا أن
صاحب الفصول لا يفرق بين الظن بالطريق المتداول وغيره.
والجواب: أن مقتضى القطع بحجية الطريق الدخيل في فعلية الواقع بعثا أو
زجرا ليس القطع بالواقع ولا الظن به بل الطريق المنجز ينجز الواقع على تقدير
ثبوته، فالقطع بالحجية يوجب القطع بفعلية الواقع على تقدير ثبوته، والظن بها
يوجب الظن بفعليته على تقدير ثبوته.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 131، ص 7: لا يكاد ينفك عن الظن بأنه مؤدى طريق معتبر.
295

ومنه تبين: أن التقييد على الوجه الذي ذكرناه وهو الوجه المعقول في حمل
كلام صاحب الفصول - قده - لا يقتضى الظن بالواقع في صورة القطع بالحجية
فضلا عن صورة الظن به، بل الأمر كذلك بناء على الحجية بمعنى جعل الحكم
المماثل، فان الحكم المماثل إذا كان مجعولا على أي تقديركما هو الحال بناء
على السببية والموضوعية، فلا محالة يكون القطع بها قطعا بالحكم المماثل
والظن بها ظنا بالحكم المماثل.
وأما بناء على الطريقية المحضة فلازمه قصر الحكم المماثل على صورة
موافقة الطريق للواقع، فلا محالة يكون حاله حال الانشاء بداعي تنجيز الواقع
لا قطع ولا ظن بفعلية الواقع عرضا إلا على تقدير ثبوته في الواقع على طبق مؤدى
الطريق.
ومنها (1): ان نصب الطريق وجعل التكليف الفعلي دائر مدار قيام الطريق
لا يوجب إلا رجوع العلمين إلى علم واحد، وانحلال العلم الاجمالي بالتكاليف
الواقعية، وهذا التقريب أولى مما في المتن من أن نصب الطريق لا يساعد على
الصرف والتقييد، لما مر من أن الوجه الوجيه في التقييد ما ذكرنا من دوران
وصول التكليف الفعلي من قبل المولى مرتبة البعث والزجر اللذين عليهما مدار
الإطاعة والعصيان مدار قيام الطريق المنصوب، لكنه لا يجدى إلا في الانحلال،
وهو انما يوجب الاختصاص للظن بالطريق إذا كانت حجية الظن من ناحية
منجزية العلم الاجمالي بعد عدم اقتضائه للاحتياط مطلقا، كما هو مسلك القوم،
وأما على ما سلكه شيخنا - قده - من سقوط العلم الاجمالي عن التأثير، وأن
الموجب لرعاية أطراف العلم هو ايجاب الاحتياط شرعا المستكشف بسبب
العلم بالاهتمام فلا محالة ينتج حجية الظن بقول مطلق، إذ الاختصاص للعلم
بالاهتمام بهذه الطائفة من الاحكام بل لاهتمام الشارع بأحكامه نصب الطريق
إليها لا أن مؤديات الطرق من أحكامه موارد اهتمامه، لكنك قد عرفت منا أن

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 131، س 9.
296

ايجاب الاحتياط إذا كان طريقيا بداعي تنجيز الواقع كان حاله حال العلم
الاجمالي في محذور التفكيك بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة
القطعية.
وأن مقتضى المقدمة الثالثة - وهو عدم جواز إهمال الاحكام - هي الجهة
الجامعة لوجوب الاحتياط والعمل بالأصول والعمل بالظن أو الشك أو الوهم،
ولا محالة يكون مورد عدم جواز الإهمال ما تعلق به العلم الاجمالي، فمع فرض
تضييق دائرته بمؤديات الطرق لابد من الاحتياط فيها أو العمل بالظن أو بغيره
فيها.
والتحقيق: أن تقييد التكاليف الواقعية بما قام عليه الطريق لأجل وصولها به
ليبلغ درجة الفعلية ليمتاز الظن بالطريق عن الظن بالواقع، من حيث كون الأول
ظنا بالحكم الفعلي دون الثاني، مع أن الحكم الطريقي كالحكم النفسي لا فعلية له
إلا بوصوله، وما هو غير واصل فعلا لا يكون موصلا فعلا، وبعد فرض سقوط العلم
الاجمالي الصغير عن التأثير لم يصل الطريق وصولا صالحا لفعلية التكاليف
الواقعية، والظن به كالظن بالواقع، وكما يصلح الظن بالحكم الطريقي لفعلية الواقع
باعتباره شرعا من باب الكشف كذلك الظن بالحكم النفسي، فلا موجب للاختصاص
بالأول بعد عدم الموجب لتضييق دائرة المعلوم بالاجمال، فتدبر جيدا.
ثم انه في قبال ما أفاده شيخنا - قده - من التعميم بلحاظ الانحلال (1)، تقريب
اخر للتعميم مبنيا (2) على عدم الانحلال عن بعض أجلة العصر (3).
محصله أن العلم الاجمالي إذا قام على بعض أطرافه طريق معتبر شرعا فأثر
الاجمال باق في النفس، وانما الشارع نزل مؤدى الطريق منزلة الواقع فهو بدل عن
الواقع شرعا، فيكون امتثاله بدلا عن امتثال الواقع عقلا، فلا يسقط عقاب الواقع
المنجز بسبب العلم إلا باتيان الواقع أو بدله، وإلا لو سقط العلم عن التأثير وكان

(1) كفاية الأصول ج 2 ص 131 س 10.
(2) (خ ل): مبينا.
(3) درر الفوائد: ج 2، ص 411، (ط، جماعة المدرسين).
297

الطريق مخالفا للواقع لم يستحق عقابا أصلا إذا خالف الطريق، إذ الواقع سقط
عقابه ومؤدى الطريق لا واقع في ضمنه، وعليه فحيث إن نصب الطريق ليس إلا
جعل البدل للواقع، فالمكلف مخير عقلا بين الاتيان بالواقع أو ببدله علما أو ظنا
عند تعذر العلم.
وقد مر في تضاعيف ما قدمناه أن الحجية - سواء كانت بمعنى جعل الحكم
المماثل أو بمعنى تنجيز الواقع - لا يعقل أن يكون العلم الاجمالي متعلقا بتكليف
فعلى على أي تقدير، للزوم اجتماع الحكمين الفعليين في مورد الطريق،
ولا يعقل أن يكون منجزا للحكم على أي تقدير، لأنه إذا كان في طرف الطريق
كان منجزا به والمنجز لا يتنجز، فلا محالة ينحل العلم الاجمالي إما حقيقة أو
بحسب الأثر.
وأما حديث جعل البدل فلا يصح إلا على الموضوعية، وأما على الطريقية
فلا، إذ بناء على جعل الحكم المماثل لا حكم حقيقة إلا على تقدير موافقة
الطريق وبناء على التنجيز لا تنجيز إلا في صورة الموافقة فلا معنى لجعل البدل
ولا لتنجز الواقع أصلا أو بدلا، ومجرد كون لسان الدليل بعنوان أنه الواقع
لا يستدعى البدلية كما شرحناه مرارا، وأما سقوط عقاب الواقع مطلقا أو بشرط
الاتيان بمؤدى الطريق، فنقول يمكن القول بعدم السقوط إلا بموافقة الطريق،
لكنه لا لأجل البدلية، بل لأن الحجية متقومة بالمنجزية على تقدير الموافقة،
والمعذرية على تقدير المخالفة للواقع، فان الحجة بالاعتبار الأول حجة للمولى
على عبده وبالاعتبار الثاني حجة للعبد على مولاه.
ومن الواضح: أن المنجزية والمعذرية وإن كانتا صفتين للطريق إلا ان المنجزية
بلحاظ استحقاق العقوبة على المخالفة، والمعذرية بلحاظ موافقة الامارة،
فالمولى يحتج على عبده بالطريق في مقام معاقبته على مخالفة ما قام عليه
الطريق، والعبد يحتج على مولاه بالطريق في مقام موافقته له وتخلفه عن الواقع،
وإلا فلا معنى لاستناد العبد في دفع العقوبة عن نفسه بتخلف الأمارة، لأنه غير
معلوم له كي يكون مستندا له في عدم اتيان الواقع، بل يمكنه الاعتذار بموافقة
298

ما قام عليه الطريق وان كان في الواقع مخالفا للواقع، وتمام الكلام في محله.
142 - قوله: ثانيهما ما اختص به بعض المحققين (1) الخ:
تقريب ما أفاده - قده - ببيان أمرين.
أحدهما: أن الذي لا بد منه ولا محيص عنه في مقام امتثال التكاليف الواقعية
هو تحصيل الفراغ عنها في حكم الشارع دون تحصيل الواقع، فتحصيل العلم
بالواقع وإن كان موجبا لسقوط عقاب الواقع إلا أنه ليس بحيث لا يكون لابد منه
بل الذي لابد منه تحصيل الفراغ عنه في الحكم الشارع.
وتوضيحه: أن المهم عند العقل أولا إذا كان تحصيل اليقين بفراغ الذمة في
نظر المولى فلا تعين ح لتحصيل العلم بأداء الواقع بالخصوص، كما لا تعين
لسلوك الطريق المقرر من الشارع بالخصوص، بل هما فردان للواجب عقلا، وهو
تحصيل اليقين بالفراغ في نظر الشارع.
فالأول مفرغ في نظره العمومي المشترك مع غيره.
والثاني مفرغ في نظره الخصوصي، ويمكن ان يريد - قده - (2) تعين سلوك
الطريق المقرر بالخصوص كما هو ظاهر تفريغ الذمة في حكمه، والوجه فيه
ما أفاده - قده - (3) من أن تحصيل العلم بالواقع بحيث لا يتطرق إليه بجميع
خصوصياته، احتمال مدفوع بالأصل نادر الوقوع جدا، كما إذا سمع التكليف من
المعصوم (ع) شفاها بنص صريح لا يحتاج في الاستفادة منه إلى إعمال أصالة
الظهور ولا إلى إعمال أصل في جهة صدوره، ومثله لا يوصف إلا بالإمكان، ولعله
لم يتفق لأحد، فمثله لا يكون مناطا للوظيفة العقلية في مرحلة الامتثال، بل باب
العلم الذي يدعى انفتاحه في أزمنة حضور النبي (ص) والأئمة عليهما السلام
باب العلم بهذه التكاليف الفعلية التي هي مؤديات الطريق، وإلا فباب العلم

(1) وهو الشيخ محمد تقي أخو الفصول صاحب هداية المسترشدين: ص 391، وفي الكفاية: ج 2،
ص 132، س 10. وفي الرسائل: ج 1، ص 221: (ط، جماعة المدرسين).
(2) والمقصود منه صاحب هداية المسترشدين في شرح المعالم.
(3) والمقصود منه صاحب هداية المسترشدين في شرح المعالم.
299

بالواقع بجميع خصوصياته منسد على العموم بل على الخصوص من أول الأمر،
وعليه فالانسداد الذي هو محل الكلام ما هو بديل ذلك الانفتاح.
ثانيهما: أن قوله - قده - (1) في حكم المكلف أي الشارع إما متعلق بتفريغ الذمة
وإما متعلق بقوله الواجب أولا، فعلى الأول يراد أن الوظيفة الفعلية من أول الأمر
تحصيل الفراغ بما هو مفرغ في نظر الشارع عموما أو خصوصا أو الأخير فقط
على التقريبين المتقدمين، أو تحصيل الفراغ بما هو مفرغ غير جعلي وبما هو
مفرغ جعلي، إذ الحجية بمعنى المعذرية ليست إلا أن موافقتها مفرغة للذمة
ومبرئة لها، فجعل الحجية جعل المفرغية والمبرئية، والفرق بين هذين الوجهين
انه على الأول ليس من الشارع جعل المفرغية واعتبارها، بل حيث إن الطريق
المنصوب غالب الإصابة عنده فهو مفرغ للذمة في نظره بالخصوص، كما أن
العلم طريق في جميع الأنظار ومنها نظر الشارع، بخلاف الثاني فان المفرغية
جعلية شرعية، هذا إذا كان قوله (2) في حكمه، متعلقا بتفريغ الذمة، وعلى الثاني
وهو تعلقه بالواجب، فالمراد منه أن الواجب تفريغ الذمة بسلوك الطريق شرعا
أي الواجب بحكم الشارع هو تفريغ الذمة بسلوك الطريق فليس بعد نصب
الطريق باعتبار وصول الواقع به حكم مولوي من الشارع إلا الأمر بتفريغ الذمة عن
الواقع بسلوكه، فقوله مثلا " إعمل بالطريق " يستلزم فراغ ذمتك عن الواقع، وهذا
المعنى وان لم يكن مراد المحقق - قده - (3) بل مراده - قده - أحد الوجهين الذين
يجمعهما (4) تعلق قوله (ع) في حكمه بتفريغ الذمة والوجوب المتعلق بتفريغ
الذمة حينئذ هو الوجوب الفعلي إلا أن الغرض من إبداء هذا الاحتمال أنه لا يرد
عليه بناء على إرادته ما أورد عليه من أن الأمر بالتفريغ عقلي إرشادي،
كما سيجيئ انشاء الله تعالى (5).
إذا عرفت ما ذكرناه: فاعلم أن الوظيفة الأولية سواء كان تحصيل العلم بالفراغ

(1) والمقصود منه صاحب هداية المسترشدين.
(2) والمقصود منه صاحب هداية المسترشدين.
(3) والمقصود منه صاحب هداية المسترشدين.
(4) وفى النسختين عندي (يجمعها).
(5) التعليقة: ص 301.
300

بالمفرغ الأعم من الواقعي والجعلي أو خصوص المفرغ الجعلي - لا تصل النوبة
بعد انسداد باب العلم بالفراغ إلا إلى خصوص الظن بالمفرغ الجعلي دون الظن
بالواقع أو الأعم من الواقع والطريق.
أما على الأول: فلأن أداء الواقع بما هو واقع لا أثر له عند العقل بل الأثر لأدائه
في ظرف وجدان العقل، فالمفرغ هو أداء الواقع المعلوم حتى يكون مفرغا في
وجدان العقل، فليس الظن بأداء الواقع ظنا بما هو مفرغ في جميع الأنظار، ولا
ظنا بما هو مفرغ في نظر الشارع أو باعتبار الشارع بخلاف الظن بالطريق فإنه
يوجب الظن بالفراغ بما هو نظر الشارع أو بحسب اعتباره.
وأما على الثاني: فالأمر أوضح لأن الوظيفة الأولية كانت تحصيل العلم بالفراغ
في نظر الشارع أو في اعتباره بالخصوص، فلا يتنزل إلا إلى الظن بما كان العلم به
علما بالفراغ منه وهذا ما يمكن أن يوجه به كلامه (1) رفع مقامه.
ومما ذكرنا يظهر: اندفاع ما أورده شيخنا الأستاذ - قده - (2) من عدم كون تفريغ
الذمة بحكم الشارع مولويا بل بحكم (3) العقل إرشادا، وجه الاندفاع: أن هذا
المعنى راجع إلى جعل الحجية بمعنى المنجزية تارة، والمعذرية أخرى، وهو
جعلي مولوي لا عقلي ارشادي، وأوضح اندفاعا منه ما أورده (4) ثانيا من تسليم
الحكم المولوي والتسوية بين الظن بالواقع والظن بالطريق في حصول الظن
بالفراغ بحكم الشارع بدعوى أن الاستلزام المزبور بملاحظة أن النصب يستلزم
الحكم بالفراغ، والتكليف بالواقع أيضا يستلزمه، ضرورة أن الاتيان بما كلف به
واقعا يلزمه حكم المولى بالفراغ، وإلا لزم عدم اجزاء الأمر الواقعي، وهو واضح

(1) الشيخ محمد تقي - ره - صاحب الحاشية.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 133، س 7.
(3) وفى النسختين عندي: (يحكم العقل).
(4) كفاية الأصول: ج 2، ص 133، س 15.
301

البطلان، كما أوضحه في تعليقته على الكتاب (1).
وأنت خبير بان جعل الحجية جعل المبرئية والمعذرية مولويا، بخلاف جعل
التكليف بالصلاة فإنه ليس إلا ايجاب الصلاة مولويا ولا يعقل أن يكون هذا
الجعل جعل المعذرية والمفرغية، ولا جعل تبعي لهذا الجعل، إذ جعل المعذر
والمفرغ عن الواقع فرع ثبوت الواقع، فلا معنى لجعله بجعل الواقع، بخلاف
جعل المفرغ بلسان صدق العادل بعد ثبوت التكليف الواقعي.
نعم، الحكم بالفراغ بالمعنى الاخر بأن يكون الاتيان بالواقع مجزيا في نظر
الشارع وغيره مما لا ريب فيه، لكنه ليس من مقولة الحكم لا ارشاديا ولا مولويا،
هذا بناء على ما هو التحقيق في تقريب ما أفاده شيخ المحققين (2) - ره - من كون
الحكم بالمفرغية عبارة عن جعل المفرغية بموافقة الطريق لا عبارة عن الحكم
بالتفريغ والأمر بتحصيله كما يساعده عباراته، وهو الذي فهمه من كلامه - ره -
شيخنا العلامة - رفع الله مقامه -.
ولذا حكم بان الحكم بتفريغ الذمة عقلي ارشادي، وهو كما أفاده، إلا أنه بعد
تسليم المولوية أيضا لا مجال للتسوية بين الظنين بدعوى أن هذا الحكم لازم
التكليف الحقيقي والطريقي بتقريب انه لا فرق في نظر الشارع من حيث إطاعة
أمره الواقعي وأمره الظاهري فإذا كان له حكم مولوي بالتفريغ كان له في
المقامين، وإلا فلا، والوجه في عدم التسوية انه ليس الحكم بالتفريغ اللازم للأمر
بالطريق الحكم بامتثال هذا الأمر الظاهري، لئلا يكون فرق بين الأمرين، بل هو
الحكم بتفريغ الذمة عن الواقع بموافقة الطريق، فالأمر بالعمل بالطريق بالمطالبة
أمر بالالتزام بتفريغ الذمة عن الواقع بسلوك الطريق، وهذا غير الأمر بامتثال

(1) حقائق الأصول: ج 2، ص 183، وذلك لضرورة الملازمة بين الاتيان بما كلف به واقعا وحكمه
بالفراغ ويشهد به عدم جواز الحكم بعدمه لو سئل عن أن الاتيان بالمأمور به على وجهه هل هو مفرغ؟
ولزوم حكمه بأنه مفرغ، والا لزم عدم اجزاء الأمر الواقعي وهو واضح البطلان (منه قدس سره). وكفاية
الأصول: 320، (ت، آل البيت).
(2) وهو الشيخ محمد تقي صاحب هداية المسترشدين - قده -.
302

التكاليف ليكون إرشاديا أو لازما لكل أمر واقعيا كان أو ظاهريا.
والتحقيق: أن الظن بالطريق وإن كان يختص بالظن بالفراغ في حكم الشارع
بكل واحد من محتملات الحكم بالفراغ فهو من حيث جعل الحجية ظن
بالمعذرية والخروج عن عهدة الواقع بموافقة الطريق، ومن حيث انطباق عنوان
التفريغ المأمور به شرعا يكون العمل به مفرغا شرعا، ومن حيث كون الطريق
المنصوب مؤديا إلى الواقع في نظر الشارع يكون سلوكه مفرغا للذمة في نظر
الشارع، إلا أن هذا الفرق غير فارق، وهذا الاختصاص غير مخصص للحجية
الفعلية بالظن بالطريق دون الظن بالواقع.
أما بناء على الوجه الأول: وهو كون الظن بالحجية ظنا بالمعذرية والمبرئية
فقد مر في الحاشية السابقة (1) أن الطريق بوجوده الواقعي لا يكون منجزا
ولا معذرا والحجة الواقعية ما لم تكن واصلة لا تتصف بفعلية المنجزية والمعذرية
فالظن بالحجية ليس ظنا بالمنجزية والمعذرية فعلا حتى يكون ظنا بالمفرغية
شرعا، فمجرد كون متعلق أحد الظنين مفرغا جعليا مع عدم كونه فعليا لا يجدى.
إذ الحكم الطريقي كالحكم الواقعي غير فعلى مع عدم الوصول ومع العلم
الاجمالي بوجود طرق وافية واصلة بأطرافها، كما ادعاه صاحب الفصول وان كان
الظن بها ظنا بالمفرغ بالحمل الشائع إلا أن الكلام في بقائه على حاله بعدم
انحلاله وإلا لعاد المحذور، كما أنه إنما يمتاز عن الظن بالحكم الواقعي إذا انحل
العلم الاجمالي الكبير، وإلا لكان الظن بالتكاليف الواقعية ظنا بالتكاليف الفعلية
المنجزة، وبالجملة مع عدم فرض العلم الاجمالي بالطرق الوافية بأيدينا لا أثر
للمفرغية الجعلية، ومع فرضه يكون حاله حال ما أفاده صاحب الفصول نقضا
وابراما فراجع.
وأما بناء على الوجه الثاني: وهو كون الظن بالطريق ظنا بالأمر بتفريغ الذمة
عن الواقع بموافقة الطريق، فهو لا يوجب إلا كون العمل بالطريق معنونا بعنوان
التفريغ المأمور به شرعا، دون العمل بالظن بالواقع، فإنه غير معنون بعنوان

(1) التعليقة: 142، ص 299.
303

التفريغ المأمور به شرعا.
ومن الواضح: أن هذا العنوان إذا لم يكن متمما لاقتضاء الحكم الواقعي من
قبل الشارع لا يجدى شيئا، إذ لو كان متمما لاقتضاء الحكم لكان الظن به ظنا
بالحكم الفعلي دون الظن بالواقع، لفرض توقف تمامية اقتضائه على قيام الطريق
الموجب لتمامية اقتضائه، لكنه خلف، لفرض فعلية الحكم من قبل الشارع وبعد
فرض فعلية الحكم وعدم دخل هذا العنوان فيها فوجود هذا العنوان وعدمه على
حد سواء، لأنه إنما يتوهم الفرق بين وجوده وعدمه فيما لو كان العمل بالطريق
معنونا حقيقة بالتفريغ لا عنوانا.
وقد عرفت: أن تحقق التفريغ موقوف على وصول المفرغ حقيقة، وأن وجوده
الواقعي الغير الواصل - سواء لوحظ عنوانا للعمل أم لا - غير مفيد (1) أصلا،
مضافا إلى أن وجوده العنواني إذا كان مجديا فوجوده العنواني غير متقوم بأمره
لأن المفروض الأمر بالتفريغ لا الأمر بالتفريغ المأمور به، والعمل بالطريق واسطة
في التفريغ لا حيثية تقييدية له، لأن الغاية المقصورة تفريغ الذمة عن الواقع الذي
قد اشتغلت به الذمة، وعنوان التفريغ منطبق على إتيان الواقع أيضا، وإن لم يكن
على الفرض مأمورا به بهذا الأمر الذي هو لازم الأمر بالطريق.
ومنه تبين الجواب: بناء على الوجه الثالث وهو كون العمل بالطريق تفريغا
للذمة عن الواقع في نظر الشارع فان العمل بالظن بالواقع وإن لم يكن تفريغا للذمة
في نظر الشارع بالخصوص لعدم العلم بطريقيته، ولا الظن بها في نظر الشارع إلا
أن الواقع متساوي النسبة إلى الشارع وغيره، فاتيانه يوجب الظن بالفراغ في نظر
الشارع وغيره، دون العمل بما ظن طريقيته، فإنه يوجب الظن بالفراغ في نظر
الشارع فقط وهذا لا يوجب الاختصاص.
تنبيه: ذكر بعض الأجلة - ره - في شرح كلام والده المحقق (2) - قده - أن

(1) وفى النسختين عندي (غير مفيدا).
(2) هو العلامة الشيخ محمد باقر - ره - ابن الشيخ محمد تقي صاحب هداية المسترشدين، له رسالة
في حجية المظنة في شرح كلام والده المحقق (مخطوطة). وهداية المسترشدين: ص 391: أحدها انه
لا ريب في كوننا مكلفين... سواء حصل منه العلم بأداء الواقع أولا... وقال أيضا في ص 381 وثالثها -
وفى ص 384 س آخر. وقال الشيخ محمد باقر في شرح كلام والده: والأعز أن يقال بحجية الظن
بالطريق الفعلي... فان نظرهم في ذلك إلى الحكم الظاهري دون الواقعي وهذا هو الذي اختاره المصنف
وتفرد به. (راجع رسالته في حجية المظنة المنضمة بهداية المسترشدين).
304

غرضه حجية الظن بالطريق الفعلي، دون الطريق الواقعي، وأن الحجة هو الظن
بالبراءة الظاهرية دون الواقعية، بتقريب أن الظن بالبراءة الفعلية الظاهرية لا يكون
إلا إذا كانت جميع مقدماته ظنية أو بعضها قطعية، دون ما إذا كان بعضها غير ظنية
أو مقطوعة العدم، فان النتيجة تابعة لأخس المقدمات، فالظن بالواقع أو بالطريق
الواقعي الذي لا دليل ظني على اعتبارهما أو كان الدليل على عدم اعتبارهما
كالحاصل من القياس خارجان موضوعا، وإن حصل منهما الظن بالبراءة الواقعية
أو بالطريقية والحجية الواقعية. بخلاف الطريق الذي قام دليل ظني على اعتباره،
فإنه يوجب الظن بالبراءة الفعلية الظاهرية، ولا يعقل أن يجامع الشك في الحجية
الظاهرية فضلا عن القطع بعدمها.
وفيه: أن الغرض إن كان حجية الظن المظنون الاعتبار وتقديمه مع وفائه
بمعظم الفقه على الظن المشكوك الاعتبار فهو صحيح، إلا أنه تفصيل بين أنحاء
الظن بالواقع وبالطريق، لا تفصيل بين نوعين من الظن وهما الظن بالواقع والظن
بالطريق، مع أنه خلاف ظاهر كلام والده العلامة - قده - في جملة من الموارد،
حيث ذكر أن الظن بالطريق حجة سواء أفاد الظن بالواقع أم لا.
وإن كان الغرض حجية الطريق المظنون الاعتبار في قبال الظن بالواقع الذي
هو تارة مشكوك الاعتبار وأخرى مقطوع العدم.
ففيه: أن نتيجة دليل الانسداد حجية الظن الفعلي دون المفيد له نوعا فالطريق
المظنون الاعتبار بلحاظ نفسه غير داخل في نتيجة دليل الانسداد، فلا دوران بين
الطريق المظنون الاعتبار والظن بالواقع ليقدم الأول على الثاني، فتدبر.
وإن كان الغرض حجية الظن بالاعتبار في قبال الظن بالواقع فهو عين ما فهمه
الجماعة من كلام المحقق - قده - وبسطنا القول فيه، وليس الظن بالاعتبار بنفسه
305

مظنون الاعتبار ليقدم على الظن بالواقع، وما أفاده من أن الظن بالاعتبار الفعلي
لا يجامع الشك في الاعتبار، بل لابد من أن ينتهى إلى مقدمات ظنية أو بعضها
قطعية صحيح، إلا أن المناط لو كان ذلك لما تحقق له موضوع أصلا، لاستحالة
انتهائه إلى الظن بالاعتبار، بل لا بد من أن ينتهى إلى القطع بالاعتبار أو الشك فيه،
إذ ليس على كل أمارة أمارة أخرى مظنونة الاعتبار بل الغرض من الدليل المفيد
للظن بالاعتبار في قبال الشك فيه ما كان بلحاظ نفسه مفيدا للظن باعتباره واقعا،
وإن كان بنفسه مشكوك الاعتبار.
143 - قوله: قلت الظن بالواقع أيضا يستلزم الظن بحكمه بالتفريغ (1)
الخ:
هكذا في النسخة المصححة بخطه الشريف - قده - اللطيف، بيانه أن الظن
الفعلي بالفراغ لا يجامع القطع الفعلي بعده، ولكنه يجامع القطع بعدمه على
تقدير التخلف، وليس معنى عدم الحجية عدم الإصابة واقعا بل عدم المعذرية
عند الخطاء.
نعم، هذا الجواب بناء على مسلك المحقق (2) غير وجيه، فان الظن القياسي
بالفراغ واقعا لا بالفراغ في حكمه بجميع محتملاته.
بل الوجه في رده انه لا يجب تحصيل الظن بالفراغ في حكمه، وإلا فمن
الواضح أن الظن بالواقع من القياس ليس ظنا بالمعذر الجعلي ولا بالمعذر في نظر
الشارع بما هو، وإن كان ظنا بالفراغ عن الواقع الذي يتساوى نسبته إلى الشارع
وغيره كما عرفت مفصلا، وأما كون موافقة الظن القياسي تجريا فبملاحظة أن
مخالفة النهى الطريقي كمخالفة الأمر الطريقي معنونة بعنوان التجري وإن أصاب
الظن في الأول وأخطاء في الثاني.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 134، س 7. وكفاية الأصول: 320، (ت، آل البيت).
(2) هو المحقق القمي - قده -.
306

التحقيق في الكشف والحكومة
144 - قوله: لا يخفى عدم مساعدة مقدمات الانسداد (1) الخ:
قد ذكرنا في ذيل المقدمة الخامسة (2) بعض ما يتعلق بالمقام، ونزيدك هنا أن
العلم الاجمالي بالأحكام إن كان منجزا لها أو كان ايجاب الاحتياط الطريقي الذي
هو بداعي تنجيز الواقعيات بمقدار لا يتحقق معه مخالفة قطعية منجزا لها بذلك
المقدار، فبقية المقدمات يوجب تضييق دائرة الاحكام المنجزة إلى أن تنحصر
في المظنونات فحينئذ لا يبقى مجال للتصرف المولوي من قبل الشارع فإنه إما
يتصرف بجعل الداعي بعثا أو زجرا أو بالانشاء بداعي تنجيز واقعياته،
والمفروض بلوغ واقعياته بسبب العلم الاجمالي أو بايجاب الاحتياط الطريقي
مرتبة الباعثية والزاجرية والتنجز، فجعل الداعي وجعل المنجز مع فرض حصول
الداعي والتنجز تحصيل الحاصل، وجعل داعيين لموضوع واحد أو منجزين
لموضوع واحد من قبيل اجتماع المثلين، وهو مستحيل على المشهور.
وحينئذ لم يبق إلا حكم العقل بلزوم الإطاعة الظنية ومرجعه كما في الإطاعة
العلمية إلى الإذعان باستحقاق العقاب على مخالفة التكليف المنجز، وليس
للشارع تصرف مولوي هنا لا من حيث الأمر والنهى ولا من حيث جعل العقاب.
اما الأول: فواضح، إذ المؤاخذة واستحقاق العقاب في نفسهما غير قابلين
لتعلق الأمر والنهى، فان الثاني ليس من الافعال، والأول فعل الشارع، وكلاهما مما
لا يعقل تعلق التكليف.
وأما الثاني: فلما تسالموا عليه من أن الحكم باستحقاق العقاب من العقل

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 134. وكفاية الأصول: 321، (ت، آل البيت).
(2) التعليقة: 134، ص 270.
307

كما مر الكلام فيه، وسيجيئ انشاء الله تعالى، وعلى فرض كون استحقاق
العقاب بجعل الشارع فهو غير مختص بالمقام ليكون فارقا بين الكشف
والحكومة، بل مخالفة التكليف الذي قامت عليه حجة شرعية أو عقلية توجب
استحقاق العقاب شرعا، هذا كله:
إن قلنا بمنجزية العلم الاجمالي أو ايجاب الاحتياط الطريقي وتضييق دائرة
الواقعيات المنجزة وحصرها في المظنونات، وحينئذ فالفرق بين تبعيض
الاحتياط في خصوص المظنونات وحجية الظن على الحكومة، بالاعتبار، فان
القائل بالتبعيض يعمل بالظن رعاية للاحتياط اللازم بهذا المقدار، والقائل بحجية
الظن يعمل به من باب كفاية الامتثال الظني بعد التنزل عن الامتثال العلمي
للواقعيات المنجزة وإن كان لازم كلا القولين سقوط الواقعيات عن التنجز في غير
دائرة المظنونات.
وأما إن قلنا بسقوط العلم الاجمالي عن التأثير كلية بعد عدم رعاية الموافقة
القطعية لما مر مرارا من عدم إمكان التفكيك بين حرمة المخالفة القطعية بسبب
العلم الاجمالي المؤثر ووجوب الموافقة القطعية، وقلنا، بعدم إمكان ايجاب
الاحتياط الطريقي بداعي تنجيز الواقع لعين ذلك المحذور كما قدمناه، فلا محالة
لا منجز للواقعيات المعلومة بالإجمال بالعلم الغير المنجز لها على الفرض،
والعلم بعدم جواز ترك امتثال الاحكام بالمرة المعلوم بالاجماع والضرورة غير
صالح لنفسه بتنجيزها فان هذا العلم كالعلم الاجمالي وايجاب الاحتياط الطريقي
من حيث لزوم المحذور من تنجيزه للواقعيات مطلقا أو بمقدار المخالفة القطعية،
وليس متعلقا بأحكام أخر غير تلك الأحكام على الفرض، ولا معنى للعلم بعدم
جواز ترك الامتثال بمعنى استحقاق العقاب على مخالفتها من دون مبلغ لها إلى
مرتبة البعث والزجر والتنجز.
نعم، هو صالح للكشف عن تنجزها بمنجز شرعي أو عقلي في مقدار منها.
ولذا ذكرنا سابقا أن معنى المقدمة الثالثة المتكفلة لعدم جواز ترك الامتثال
بالمرة، هو العلم بالجهة الجامعة المنتزعة من وجوب الاحتياط كلية، ومن العمل
على طبق الأصول الموردية ومن العمل على طبق المشكوكات والموهومات
308

ومن العمل على طبق المظنونات بمعنى أن الشارع جعل احكامه فعلية منجزة
بأحد الوجوه فأبطلنا الأول والثاني بمقتضى المقدمة الرابعة، وأبطلنا الثالث
بمقتضى المقدمة الخامسة. فبقى الرابع فهو الحجة شرعا فيعلم أن الشارع جعل
الاحتمال الراجح مبلغا لأحكام الواقعية إلى مرتبة الباعثية والزاجرية والتنجز، لما
عرفت في ذيل المقدمة الخامسة أن الظن حيث لا يعقل أن يكون منجزا عقلا، إذ
لا شأن للعقل إلا التعقل، ولا يكون منجزا عند العقلاء ليكون بناء عملي على
اتباعه حتى يكون تقرير من الشارع ليدل على إمضائه.
وقد مر أن العقلاء ليس لهم حكم كبروي بنحو القضايا الحقيقية (1) حتى
يتحقق منهم حكم، مع أنه على فرضه غير مفيد، إذ لا تقرير إلا للعمل لا للإنشاء
الكلى الصادر من العقلاء، فلا محالة يكون الاحتمال الراجح منجزا شرعا، فتكون
مقدمات الانسداد على هذا المبنى كاشفة عن كون الظن منجزا للواقعيات التي
يتعلق بها شرعا. ومما ذكرنا تبين: أنه ليس هنا أمر واحد يقبل الكشف
والحكومة، إذ القابل لهما كون الظن منجزا عقلا أو شرعا، والمفروض على
الحكومة ليس كون الظن منجزا عقلا ليقال بجواز اجتزاء الشارع في مقام تنجيز
واقعياته بالظن بحكم العقل بمنجزيته.
لما عرفت: أن الواقعيات منجزة بسبب العلم الاجمالي أو ايجاب الاحتياط
الطريقي، وأنه لم يبق إلا حكم العقل بلزوم الامتثال أي استحقاق العقاب على
مخالفة الواقع المنجز في المظنونات، ومثله غير قابل للتصرف الشرعي حتى
يستكشف بالمقدمات، فالحجية بمعنى المنجزية ليست بحكم العقل وأثر
الحجية وهو استحقاق العقاب على مخالفة التكليف المنجز لا مدخل للشارع
فيه.

(1) وفى النسختين عندي (الحقيقة).
309

ومنه يظهر ما في تعبيره - قده - (1) " لجواز اجتزائه بما استقل به العقل " فتدبر.
145 - قوله: لقاعدة الملازمة ضرورة انها الخ:
قد عرفت الوجه فيه، وأما ما اشتهر من أن الأمر بالإطاعة لو كان مولويا للزم
التسلسل أو التخصيص من غير مخصص فإنه مندفع بأن الأمر بالإطاعة لو كان
بنحو القضية الطبيعية لأمكن أن يعم نفسه مع أنه لا محذور هنا من وجود أوامر
غير متناهية، لأن محذور التسلسل حقيقة لا يتحقق إلا إذا كان بين الأمور الغير
المتناهية ترتب على ومعلولي، وليس كذلك لا بين الأوامر ولا بين الإطاعات
والموافقات الغير المتناهية.
أما الثانية: فلان عنوان الموافقة وإن كان ينتزع من الصلاة الخارجية بالنسبة إلى
الصلاة العنوانية التي تعلق بها الأمر بلحاظ موافقة العنوان والمعنون. فكذلك من
الموافق بالحمل الشايع ينتزع عنوان الموافقة لعنوانه، لموافقة أي عنوان كان
لمعنونه وهكذا إلى ما لا يتناهى، لكنه تسلسل في الأمور الإعتبارية وينقطع
بانقطاع الاعتبار.
وأما الأولى، فلان الأوامر وإن كانت خارجية، لكنه ليس شئ منها معلولا
للاخر بنحو من أنحاء العلية وإن كان بين عنوان الأمر ومعنون أمر اخر ترتب
طبعي، لكون عنوان موافقة الأمر موضوعا للحكم، لكنه ليس بين الخارجيات
منها ترتب على ومعلولي، وذهاب الأوامر إلى غير النهاية مع صدورها ممن هو
غير متناه في القوة والقدرة غير ضائر، وليست مقتضية لامتثالات غير متناهية،
لأن الاطاعات والموافقات كلها منتزعة من فعل واحد وهي الصلاة الخارجية،
فالاستناد إلى التسلسل أو إلى ذهاب الأمر إلى غير النهاية لا وجه له.

(1) هو المحقق الخراساني في الكفاية: ج 2، ص 137.
310

حقيقة الأحكام العقلية
ثم انه لا بأس بعطف عنان القلم إلى بيان حقيقة الأحكام العقلية المتداولة
في الكتب الكلامية والأصولية.
فنقول: ومن الله التوفيق أن القوة العاقلة كما مر مرارا (1) شأنها التعقل، وفعليتها
فعلية العاقلية، كما في سائر القوى الظاهرة والباطنة، وليس لها ولا لشئ من
القوى إلا فعلية ما كانت القوة واجدة له بالقوة، وأنه ليس للعاقلة بعث وزجر
وإثبات شئ لشئ بل شأنها تعقل ما هو ثابت من ناحية غير الجوهر العاقل وأن
تفاوت العقل النظري مع العقل العملي بتفاوت المدركات من حيث إن المدرك
مما ينبغي أن يعلم أو مما ينبغي أن يؤتى به، أو لا يؤتى به فمن المدركات العقلية
الداخلة في الأحكام العقلية العملية المأخوذة من بادي الرأي المشترك بين
العقلاء المسماة تارة بالقضايا المشهورة وأخرى بالآراء المحمودة، قضية حسن
العدل والإحسان وقبح الظلم والعدوان.
وقد بينا في مبحث التجري (2) من مباحث القطع في كلام مبسوط برهاني أن
أمثال هذه القضايا ليست من القضايا البرهانية في نفسها، وأنها في قبالها، ونزيدك
هنا أن المعتبر عند أهل الميزان في المواد الأولية للقضايا البرهانية المنحصرة
تلك المواد في الضروريات الست مطابقتها للواقع ونفس الأمر، والمعتبر في
القضايا المشهورة والآراء المحمودة مطابقتها لما عليه آراء العقلاء، حيث لا واقع
لها غير توافق الآراء عليها.
قال الشيخ الرئيس في الإشارات (3): ومنها، الآراء المسماة بالمحمودة وربما

(1) التعليقة: 6 و 90، ص 31 و 185.
(2) التعليقة: 10، ص 42.
(3) الإشارات: ج 1، ص 219.
311

خصصناها باسم المشهورة، إذ لا عمدة لها إلا الشهرة وهي آراء لو خلى الانسان
وعقله المجرد ووهمه وحسه ولم يؤدب بقبول قضاياها والاعتراف بها ولم يمل
الاستقراء بظنه القوى إلى حكم، لكثرة الجزئيات ولم يستدع إليها ما في طبيعة
الانسان من الرحمة والخجل والأنفة والحمية وغير ذلك لم يقض بها الانسان
طاعة لعقله أو وهمه أو حسه، مثل حكمنا " أن سلب مال الإنسان " قبيح، " وأن
الكذب قبيح " لا ينبغي أن يقدم عليه إلى اخر كلامه "، وعبر (1) عنها أخير بأنها من
التأديبات الصلاحية، وجعل منها ما تطابق عليه الشرائع الإلهية ومنها الناشئة عن
الخلقيات والانفعالات.
وقال العلامة الطوسي (2) - قده - في شرح كلامه: ومنها أي المشهورات كونه
مشتملا على مصلحة شاملة للعموم كقولنا " العدل حسن " وقد يسمى بعضها
بالشرايع الغير المكتوبة، فان المكتوبة منها ربما لا يعم (3) الاعتراف بها، وإلى
ذلك أشار الشيخ بقوله وما تطابق عليه الشرايع الإلهية.
ومنها: كون بعض الأخلاق والانفعالات مقتضية بها، كقولنا " الذب عن الحرم
واجب " و " ايذاء الحيوان لا لغرض قبيح " إلى أن قال - ره - " والآراء المحمودة هي
ما يقتضيه المصلحة العامة أو الأخلاق الفاضلة "، الخ (4) وسلك هذا المسلك
العلامة قطب الدين صاحب المحاكمات (5) فذكر أيضا أن هذا القسم من
المشهورات من التأديبات التي يكون الصلاح فيها كقولنا " العدل حسن والظلم
قبيح " وما يتطابق عليها الشرايع (6)، كقولنا " الطاعة واجبة " وإما خلقيات
وانفعالات (7)، كقولنا " كشف العورة قبيح " و " مراعاة الضعفاء محمودة " الخ.
وتوضيح ذلك بحيث يكون كالبرهان على صحة ما ذكروه، هو أن كون العدل
والإحسان مشتملة على مصلحة عامة ينحفظ بها النظام، وكون الظلم والعدوان

(1) الإشارات: ج 1، ص 220.
(2) الإشارات: ج 1، ص 221.
(3) وفي النسختين عندي: ربما يعم.
(4) الإشارات: ج 1، ص 221، في ذيل كلامه.
(5) الإشارات: ج 1، ص 219 و 220 في هامشه.
(6) وفى النسختين عندي: ويا بتطابق عليه الشرائع.
(7) (خ ل): انفعاليات.
312

مشتملا على مفسدة عامة يختل بها النظام، ولذا عم الاعتراف بهما من الجميع
أمر مدرك بحسب تفاوت أفراد الاحسان والإسائة من حيث تعلقهما بما يناسب
قوة من القوى.
وكذا كون كل عاقل محبا لنفسه ولما يرجع إليه وجداني يجده كل انسان من
نفسه، وكذا كون كل مصلحة ملائمة للشخص وكل مفسدة منافرة له أيضا
وجداني يجده كل إنسان عند مساس المصلحة والمفسدة به، فلا محالة يحب
الإحسان ويكره الإسائة، وهذا كله من الواقعيات ولا نزاع لأحد فيها، انما النزاع
في حسن العدل وقبح الظلم بمعنى صحة المدح على الأول وصحة الذم على
الثاني، والمدعى ثبوتهما بتوافق آراء العقلاء لا ثبوتهما في الفعل على حد
اشتماله على المصلحة والمفسدة.
ومن الواضح: أن اقتضاء الفعل المحبوب والفعل المكروه للمدح والذم على
أحد نحوين:
إما بنحو اقتضاء السبب لمسببه والمقتضى لمقتضاه، أو بنحو اقتضاء الغاية
لذي الغاية.
فالأول: فيما إذا أساء إنسان إلى غيره، فإنه بمقتضى ورود ما ينافره عليه
وتألمه منه ينقدح في نفسه الداعي إلى الانتقام منه والتشفي من الغيظ الحاصل
بسببه بذمه وعقوبته، فالسببية للذم هنا واقعية وسلسلة العلل والمعلولات مترتبة
واقعا.
والثاني: فيما إذا كان الغرض من الحكم بالمدح والذم حفظ النظام وبقاء النوع
بلحاظ اشتمال العدل والاحسان على المصلحة العامة والظلم والعدوان على
المفسدة العامة فتلك المصلحة العامة تدعو إلى الحكم بمدح فاعل ما يشتمل
عليها وتلك المفسدة تدعو إلى الحكم بذم فاعل ما يشتمل عليها، فيكون هذا
التحسين والتقبيح من العقلاء موجبا لانحفاظ النظام ورادعا عن الاخلال به،
وما يناسب الحكم العقلائي الذي يصح نسبته إلى الشارع بما هو رئيس العقلاء
هو القسم الثاني، دون الأول الذي لا يناسب الشارع بل لا يناسب العقلاء بما هم
313

عقلاء، وهو الذي يصح التعبير عنه بالتأديبات الصلاحية.
فان الحكم بالمدح والذم على العدل والظلم موجب لما فيه صلاح العامة،
دون المدح والذم المترتب عليهما لداع حيواني، فإنهما لا يترتب عليهما مصلحة
عامة، ولا يندفع بهما مفسدة عامة، فالاقتضاء لهذا المعنى ليس محل الكلام
وثبوته وجداني.
والاقتضاء بالمعنى الثاني هو محل الكلام بين الأشاعرة وغيرهم، وثبوته
منحصر في الوجه المشار إليه مرارا من أن حفظ النظام وبقاء النوع المشترك بين
الجميع محبوب للجميع وخلافه مكروه للجميع، وهو يدعو العقلاء إلى الحكم
بمدح فاعل ما فيه المصلحة العامة وذم فاعل ما فيه المفسدة العامة، وعلى
ما ذكرنا فالمراد بأن العدل يستحق عليه المدح والظلم يستحق عليه الذم هو
أنهما كذلك عند العقلاء وبحسب تطابق آرائهم لا في نفس الأمر كما صرح به
المحقق الطوسي - قده - (1) حيث.
قال: إن المعتبر في الضروريات مطابقتها لما عليه الوجود، والمعتبر في هذا
القسم من المشهورات كون الآراء عليها مطابقة.
وقال: في مورد اخر (2)، وذلك لان الحكم إما أن يعتبر فيه المطابقة للخارج أولا،
فإن اعتبر وكان مطابقا فهو الواجب قبولها والا فهو الوهميات وان لا يعتبر
فهو المشهورات: الخ وعليه فمن الغريب ما عن المحقق الحكيم السبزواري في
شرح الأسماء (3) من دخول هذه القضايا في الضروريات وانها بديهية و " أن
الحكم ببداهتها أيضا بديهي، وأن جعل الحكماء إياها من المقبولات العامة التي
هي مادة الجدل لا ينافي ذلك، لأن الغرض منه التمثيل للمصلحة أو المفسدة
العامتين المعتبر فيه قبول عموم الناس لا طائفة مخصوصين، وهذا غير مناف
لبداهتها، إذ القضية الواحدة يمكن دخولها في اليقينيات والمقبولات من
جهتين، فيمكن اعتبارها في البرهان والجدل باعتبارين بهذه الأحكام من العقل

(1) الإشارات: ج 1، ص 221.
(2) الإشارات: ج 1، ص 213.
(3) شرح الأسماء للحكيم السبزواري - قده -: ص 322 - 321، بتحقيق الدكتور نجفقلي حبيبي.
314

النظري بإعانة من العقل العملي، كما لا يضر إعانة الحس في حكم العقل النظري
ببداهة المحسوسات هذا ".
وقد سبقه إلى كل ذلك بعينه المحقق اللاهيجي في بعض رسائله الفارسية (1)،
لكنك قد عرفت صراحة كلام الشيخ الرئيس والمحقق الطوسي والعلامة قطب
الدين صاحب المحاكمات في خلاف ما ذكره، وأنه ليس الغرض مجرد التمثيل،
وأما دخول القضية الواحدة في الضروريات والمشهورات فهو صحيح لكنه لافى
مثل ما نحن فيه، بل مثاله كالأوليات التي يحكم بها العقل النظري ويعترف بها
الجميع، فمن حيث الأولية يقينية برهانية، ومن حيث عموم الاعتراف بها
مشهورة بالمعنى الأعم.
قال الشيخ الرئيس في الإشارات (2): فاما المشهورات: فمنها أيضا هذه
الأوليات ونحوها مما يجب قبولها (3) لا من حيث إنه يجب قبولها بل من حيث
عموم الاعتراف بها.
ثم ذكر بعده المشهورات بالمعنى الأخص، وقد ذكرنا عين عبارته سابقا (4).
واما تنظير إعانة حكم العقل العملي لحكم العقل النظري بإعانة الحس له،
فالجواب عنه: إن أريد بالعقل العملي نفس القوة المدركة، فليس شأنها إلا
الإدراك، وثبوت المدرك ليس من ناحية الجوهر العاقل.
وقد عرفت نحو ثبوت الحسن والقبح، فلا يقاس بثبوت المحسوس في
الخارج، وإن أريد بالعقل العملي نفس المعقولات أي الآراء المحمودة
والمقدمات المقبولة فاطلاق العقل عليها في كتب الكلام شائع، حيث يقولون
هذا ما يوجبه العقل أو يرده العقل، أي تلك الآراء والمقدمات، فحينئذ لا شهادة
له على شئ لما عرفت من نحو ثبوت هذه الأمور المعقولة، وأنها ليست من
الضروريات بل من غيرها.
ولا يخفى عليك: أن عدم كون هذا القسم من المشهورات من الضروريات

(1) سرمايه ايمان: ص 35.
(2) الإشارات: ج 1، ص 219.
(3) (خ ل): قبوله.
(4) التعليقة: 312.
315

لا يوجب دخولها في المظنونات، كيف والمظنونات يقابلها في التقسيم، بل
الفرق بين هذه المشهورات المتوافقة عليها آراء العقلاء والبرهانيات الضرورية
انها أي الضروريات تفيد تصديقا جازما مع المطابقة لما في الواقع وهو المعبر
عنه بالحق واليقين، بخلاف هذا القسم من المشهورات فإنها تفيد تصديقا جازما
ولا يعتبره مطابقتها لما في الواقع بل يعبر مطابقتها لتوافق آراء العقلاء، فافهم ولا
تغفل. ومما ذكرنا في تحرير محل النزاع تعرف أن ثبوت العلاقة اللزومية بين
الافعال الحسنة والأعمال القبيحة والصور الملائمة والمنافرة في الآخرة كما
يكشف عنها الكشف الصحيح والنص الصريح خارج عن محل النزاع، فان الكلام
في التحسين والتقبيح بمعنى استحقاق المدح والذم عند العقلاء المشترك بين
مولى الموالى وسائر الموالى، فالايراد على الأشاعرة بثبوت العلاقة اللزومية على
النهج المزبور عن المحقق المذكور (1) خارج عن محل الكلام ومورد النقض
والابرام، وإن كان صحيحا في باب اجراء الثواب والعقاب بل في باب الاستحقاق
والاقتضاء بالتأمل أيضا، لكنه بمعنى آخر من الاستحقاق.
وأما ما عن شيخنا العلامة - رفع الله مقامه - في فوائده (2) في تقريب عقلية
الحسن والقبح من أن الافعال بذواتها أو بخصوصياتها متفاوتة سعة وضيقا كمالا
ونقصانا بالإضافة إلى القوى.
ومنها القوة العاقلة فإنه يلائمها بعض الأفعال فيعجبها أو منافرة لها فيغربها،
وأن انبساطها وانقباضها أمر وجداني وهما بالضرورة يوجبان صحة المدح
والقدح في الفاعل إذا كان مختارا على تفصيل ذكره - قده - فمورد المناقشة من
وجهين:
أحدهما: ما أفاده - قده - من الالتذاذ والتألم والاستعجاب والاستغراب للقوة
العاقلة على حد سائر القوى كيف وهي رئيسها، وذلك لما مر منا من أن القوة
العاقلة لا شأن لها إلا إدراك المعاني الكلية، والتذاذ كل قوة وتألمها إنما يكون
بادراك ما يناسب المدرك أو يضاده، مثلا التذاذ الحواس الظاهرة بتكيف الحاسة

(1) شرح الأسماء الحسنى: 320.
(2) فوائد الأصول: ص 123.
316

بالكيفية الملموسة الشهية أو الحلاوة أو الرائحة الطيبة أو النغمة المطربة وتألمها
بعكس ذلك، كما أن التذاذ القوة المتخيلة بتخيل اللذات الحاصلة أو المرجوة
الحصول وتألمها بتخيل التذاذها والتذاذ القوة المتوهمة بادراك الآمال المطلوبة
والأماني المرغوبة وتألمها بادراك أضدادها.
وأما لذة العاقلة بما هي عاقلة فبأن يتمثل (1) لها ما يجب تحصيله من
الكمالات من أنواع المعارف والمطالب الكلية النافعة في نظام أمور دينه ودنياه
وآخرته وتألمها بفقدها مع القدرة على تحصيلها وإهمالها، فان فقد ما هو كمال
للقوة العاقلة يؤلمها دون ما هو أجنبي عنها، وادراك الظلم الكلى والعدل الكلى
بتجريدهما عن الخصوصيات ودخولهما في المعقولات المرسلة إن لم يكن
كمالا للقوة العاقلة لم يكن نقصا لها حتى يؤلمها.
وبالجملة افراد الاحسان أو الإسائة خارجا كل منهما له مساس بقوة من
القوى، وعند نيله خارجا تحصيل ذلك القوة انبساط من نيل الاحسان خارجا أو
انقباض من نيل الإسائة سواء كان مستحقا لذلك الاحسان أو لتلك الإسائة أم لا،
وهذا أمر واقعي ولا دخل له بادراك القوة العاقلة لكي الاحسان وكلي الإسائة
فهو نظير نيل القوة الذوقية للحلو أو المر ادراك القوة العاقلة لكي الحلو والمر،
فان الأول هو الموجب للانبساط والانقباض مما هو حلو أو مر دون الثاني، وأما
إدراك الاحسان الجزئي أو الإسائة الجزئية بقوة الخيال أو الوهم، فمع كونه أجنبيا
عن القوة العاقلة بما هي قوة عاقلة ليس تأثيره في الانقباض والانبساط من جهة
اشتمالها على مصلحة عامة أو مفسدة عامة بل يؤثر تصور الاحسان إليه اعجابا
وانبساطا وإن لم يستحق احسانا، وكذا تصور الضرب والشتم يؤثر في انقباضه
وتألمه وإن كان مستحقا لهما، وتصور ورودهما على الغير وان كان يؤلمه لكنه
بسبب الرقة وشبهها لا من جهة كونه ذا مفسدة عامة.
ومنه يظهر أن حمل كلامه - قده - (2) على مطلق الادراك لتصحيح التأثير في

(1) (خ ل): فبان بتمثل.
(2) هو المحقق الخراساني - ره - في نفس المصدر المتقدم.
317

الإلتذاذ والتألم لا يجدى شيئا ولا يوجب كون الاستعجاب والاستغراب بالملاك
الذي هو محل الكلام.
ثانيهما: ما أفاده - قده - (1) من أن الملائمة والمنافرة للعقل توجبان بالضرورة
صحة المدح والذم، وذلك لما عرفت من أن دعوى الضرورة لا تصح إلا بالإضافة
إلى ما هو خارج عن محل الكلام وهو تأثيرهما أحيانا في انقداح الداعي إلى
مجازات الاحسان بجزاء الخير ومجازاة الإسائة بجزاء الشر كما مر تفصيله.
واما دعوى الضرورة بالنسبة إلى حكم العقلاء بصحة المدح والذم فهي
صحيحة لكنها تؤكد ما ذكرناه من أنه لا واقعية لهما إلا بتوافق آراء العقلاء عليهما
وحيث عرفت حقيقة التحسين والتقبيح العقليين فاعلم أن المراد بكونهما ذاتيين
أو عرضيين ليس كونهما ذاتيين بالمعنى المذكور في باب الكليات الخمس
ولا كونهما ذاتيين بالمعنى المسطور في كتاب البرهان (2) كما بينا وجهها في
مبحث التجري (3) مفصلا بل بمعنى عدم الحاجة إلى الواسطة في العروض
والحاجة إليها فمثل العدل والاحسان والظلم والعدوان بنفسهما لا من حيث
اندراجهما تحت عنوان آخر محكومان بالحسن والقبح، بخلاف الصدق
والكذب فإنهما مع حفظ عنوانهما يوصفان بخلافهما.
نعم كونهما ذاتيين لهما بمعنى آخر، وهو انهما لو خليا وطبعهما يوصفان بهما
لاندراج الصدق تحت العدل في القول واندراج الكذب تحت الجور في القول
دون غيرهما مما لا يتصف بشئ لو خلى ونفسه، فراجع مبحث التجري (4)،
وهذا بناء على كون الحسن والقبح من قبيل الحكم بالإضافة إلى موضوعه واضح
فكيف يعقل أن يكون الحكم المجعول منتزعا عن مرتبة ذات موضوعه، واما
بناء على أنهما من الأمور الواقعية فهما من قبيل العرض (5) الغير المفارق والعرض

(1) هو المحقق الخراساني في نفس المصدر المتقدم: ص 123.
(2) أي ما ينتزع من نفس ذات الشئ فيكفي ذاته في انتزاعه، والذاتي في باب ايساغوجى جنس
وفصل ونوع، في تعليقة شرح المنظومة ج 2 / 2 ص 518 س 8 لآية الله حسن زاده - دام ظله -.
(3) التعليقة: 10، ص 41.
(4) التعليقة: 10، ص 43.
(5) (خ ل): العوض.
318

المفارق، والعرض مطلقا لا يكون ذاتيا لموضوعه كما هو واضح.
كما انا ذكرنا غير مرة (1) أن المراد من العلية والاقتضاء هو اقتضاء الموضوع
لحكمه بنحو اقتضاء الغاية لذي الغاية لا بنحو اقتضاء السبب لمسببه، بداهة ان
الحكم لا يترشح من موضوعه بل السبب الفاعلي له هو الحاكم.
وانما الموضوع لمكان الفائدة المترتبة على وجوده يدعو الحاكم إلى الحكم
عليه، فبعض الموضوعات حيث إنه يترتب عليها بنفسها مصلحة عامة أو مفسدة
عامة تدعو العقلاء إلى الحكم بحسنها أو قبحها، ولا محالة لا تتخلف الحكم عن
موضوعه التام فيعبر عنه بالعلية التامة.
وبعضها حيث إنه يترتب عليها المصلحة العامة أو المفسدة العامة لو خليت
ونفسها لاندراجها كذلك تحت عنوان محكوم بنفسه بالحسن والقبح فيعبر عنه
بالاقتضاء لمكان اندراجه بلحاظ العوارض تحت عنوان اخر محكوم بضد حكم
عنوانه لو خلى ونفسه، والا ففي الحقيقة لا علية (2) ولا اقتضاء، وحيث إن
المصلحة العامة قائمة بالعدل والمفسدة العامة قائمة بالظلم فالصدق بما هو
عدل ذو مصلحة عامة والكذب بما هو جور ذو مفسدة عامة.
لا أن الصدق مقتض للمصلحة واندراجه تحت عنوان العدل شرط لتأثيره
فيها، وأن إهلاك المؤمن مانع عن تأثيره في المصلحة العامة، وليست المعنونات
بالإضافة إلى عناوينها مقتضيات بالنسبة إلى مقتضياتها، حيث لا جعل ولا تأثير
ولا تأثر بينها، فاتضح انه لا علية ولا اقتضاء حقيقة في شئ من المراتب لا من
حيث العناوين ومعنوناتها، ولا من حيث المصالح والمفاسد العامة بالنسبة إلى
الصدق والكذب، ولا من حيث العناوين الذاتية والعرضية بالإضافة إلى الحسن
والقبح العقليين، فتدبر جيدا.
وبعد ما عرفت حقيقة التحسين والتقبيح العقليين ومعنى كونهما ذاتيين أو
عرضيين فلا بأس بالإشارة إلى الملازمة بين حكمي العقل والشرع وبيان المورد
القابل للحكم المولوي وعدمه.

(1) التعليقة: ص 313.
(2) وفى النسختين عندي " لا عليه ".
319

في الملازمة بين حكم العقل والشرع
فنقول: الكلام في الملازمة تارة في أن ما حكم به العقل هل يمكن أن يحكم
الشارع على خلافه أم لا؟
وعلى الثاني هل يحكم على طبقه مولويا أولا؟ وأخرى، في أن ما حكم به
الشارع هل يحكم العقل على وفقه أو لا حكم له؟
أما الأول: فحيث عرفت أن التحسين والتقبيح العقليين مما توافقت عليه آراء
العقلاء للمصلحة العامة أو للمفسدة العامة فلا محالة لا يعقل الحكم على خلافه
من الشارع، إذ المفروض انه مما لا يختص به عاقل دون عاقل وانه بادي رأى
الجميع لعموم مصلحته، والشارع من العقلاء بل رئيس العقلاء، فهو بما هو عاقل
كسائر العقلاء وإلا لزم الخلف من كونه بادي رأى الجميع، فالعدل بما هو عدل
حسن عند جميع العقلاء ومنهم الشارع، والظلم بما هو ظلم قبيح عندهم ومنهم
الشارع.
نعم، تفاوت الأنظار في كون الفعل الكذائي عدلا أو ظلما أمر معقول
لا يوجب انتقاض هذه الكلية، ففي موضوعي العدل والظلم لا يعقل الحكم من
الشارع بما هو شارع على خلافه، لتنزه ساحته من الاقتراحات الغير العقلائية،
فلا يعقل مع انحفاظ الحيثية العاقلية أن لا يكون حاكما بما يحكم به العقلاء،
وأولى بذلك ما إذا قيل بثبوت استحقاق المدح والذم في الواقع ونفس الامر فان
ثبوت شئ في نفس الأمر متساوي النسبة إلى العقلاء وإلى الشارع، ففرض
استحقاق الذم والمدح واقعا وعدم ثبوته عند الشارع متنافيان.
320

واما ما عن المحقق الحكيم السبزواري - ره - (1) من أن " كل ما هو ممدوح أو
مذموم في نفس الأمر فهو ممدوح أو مذموم عند الله والا لزم جهله بما في نفس
الأمر "، فهو انما يتوجه إذا كان المراد من ثبوتهما عند الشارع كثبوتهما
عقلا بنحو الثبوت العلمي فإنه الذي يلزم من عدمه جهله تعالى بما في نفس الأمر.
وأما إذا كان الغرض من هذا النزاع استحقاق الثواب والعقاب من الشارع بعد
حكم العقل باستحقاقهما واقعا فاللازم الفاسد من عدمه هو الخلف، لان
الاستحقاق المزبور متساوي النسبة إلى الشارع وإلى سائر العقلاء، هذا كله في
عدم معقولية الحكم من الشارع على خلاف ما تطابقت عليه آراء العقلاء ومنهم
الشارع.
وأما إمكان الحكم المولوي على طبقه فقد مر مرارا أن التكليف المولوي هو
الانشاء بداعي جعل الداعي، وقد مر أيضا أن التكليف لا يمكن أن يكون داعيا
على أي تقدير ولكل مكلف عموما إلا بلحاظ ما يترتب على موافقته من الثواب
وعلى مخالفته من العقاب، وحيث إن المفروض أن العدل يوجب استحقاق
المدح، والظلم يوجب استحقاق الذم عند العقلاء ومنهم الشارع فهو كاف في
الدعوة من قبل الشارع بما هو عاقل، ولا مجال لجعل الداعي بعد ثبوت الداعي
من قبله.
فان اختلاف حيثية العاقلة وحيثية الشارعية لا يرفع محذور ثبوت داعيين
متماثلين مستقلين في الدعوة بالإضافة إلى فعل واحد، لان الواحد لا يعقل
صدوره عن علتين مستقلتين في الدعوة وإن لم يلزم هنا اشكال تعدد البعث من
حيث اجتماع المثلين، لعدم البعث الجعلي في الاحكام العقلائية، مع انا ذكرنا
في محله أن منشأ الاستحالة أيضا هناك ما ذكرناه هنا، لعدم التماثل والتضاد في
الأحكام التكليفية لوجه تفردنا به في محله فراجع.
نعم، إذا قلنا بأن ما تطابقت عليه آراء العقلاء نفس استحقاق المدح والذم

(1) شرح الأسماء للحكيم السبزواري - قده -: ص 321، بتحقيق الدكتور نجفقلي حبيبي.
321

دون استحقاق الثواب والعقاب أمكن أن يقال بأنه لا يدعو على أي تقدير ولكل
مكلف، لامكان عدم المبالاة بالمدح والذم فلا بد من البعث والزجر المترتب
عليهما الثواب والعقاب فحينئذ للمولوية مجال إلا أن المدح والذم الذين يترتب
عليهما حفظ النظام عند العقلاء ما يعم الثواب والعقاب أعني المجازات بالخير
والمجازات بالشر.
ولذا جزم غير واحد من أرباب النزاع في المسألة بان مدح الشارع ثوابه وذمه
عقابه، مع وضوح أن ترتب الثواب والعقاب عند الجمهور من الأصوليين بل
المتكلمين على موافقة البعث والزجر، ومخالفتهما بحكم العقلاء لا بنصب
الشارع وليس الوجه فيه إلا أن موافقة التكليف الواصل عدل في العبودية
فيستحق المدح والثواب ومخالفته خروج عن زي الرقية فيكون ظلما على
المولى فيستحق الذم والعقاب والا فلا حكم آخر من العقل في باب الثواب
والعقاب بالخصوص.
فيعلم منه أن استحقاق المدح عندهم يعم الثواب واستحقاق الذم عندهم
يعم العقاب.
فان قلت: غاية ما ذكرت من المحذور المانع عن التكليف المولوي لزوم
ثبوت داعيين مستقلين مع أنه متحقق فيما إذا كان للمكلف داع من قبل نفسه إلى
ما يوافق التكليف أو إلى ما ينافيه، والحال أنه لا شبهة في صحة التكليف
التوصلي إلى من كان له داع في نفسه إلى ما يوافق التكليف كما لا شبهة في صحة
التكليف إلى العاصي الذي له الداعي إلى خلاف التكليف.
قلت: ليس المراد من جعل الداعي جعل ما يدعو بالفعل حتى يستحيل
اجتماع داعيين فعليين، لعدم معقولية انبعاث واحد عن باعثين فعليين بل المراد
جعل الداعي بالامكان أي جعل ما يمكن أن يكون داعيا بحيث لو انقاد العبد
ومكن المولى من نفسه خرج البعث الامكاني من حد الامكان إلى الوجوب
فيتحقق الانبعاث الفعلي وهذا المعنى محفوظ مع وجود الداعي من تلقاء
المكلف إلى ما يوافق التكليف أو إلى ما ينافيه، بخلاف ما إذا كان الداعي من قبل
322

المولى موجودا - سواء كان بما هو مولى أو سيدا وبما هو عاقل ومرشد - فإنه مع
وجود الداعي من قبله يستحيل جعل داع آخر فإنه يستحيل مع انقياده لمولاه أن
يؤثر البعث مع وجود الداعي من قبل مولاه ولو منه بما هو عاقل، ولا يعقل
التفكيك بين انقياده لمولاه بما هو مولى وبما هو عاقل حتى يبقى مجال لتأثير
البعث المولوي وإلا لأمكن أن يتصور في جعل بعثين حقيقيين بامكان انقياده
لأحدهما بخصوصه دون الاخر.
مع أن عدم انقياده لبعث خاص لا يصحح بعثا اخر، لان ملاك صحة البعث
إمكان الداعي بامكان الانقياد وهو محفوظ مع عدم فعلية الانقياد وحينئذ
لا يعقل جعل داع بالامكان بعد وجود داع اخر من قبله بالامكان، حيث لا يمكن
خروجهما من الامكان إلى الفعلية الحقيقية، لاستحالة انبعاث واحد من باعثين
حقيقيين فتدبر.
فاتضح من جميع ما ذكرنا أن ما يستقل العقل بحسنه أو قبحه وإن لم يمكن
جعل الحكم من الشارع على خلافه لكنه لا يعقل أن يحكم مولويا على وفائه
أيضا بل يحكم بحسنه أو قبحه على حد سائر العقلاء وهذا فيما كان كالظلم
والعدل بذاتهما محكوما بالحسن والقبح واضح، وأما فيما كان كالصدق والكذب
حسنا أو قبيحا بالعرض فالحكم المولوي بالإضافة إلى الصدق والكذب بذاتهما
أي لو خليا وطبعهما أو بعنوان معلوم الحسن والقبح عند العقلاء فكذلك، لأن
الصدق والكذب من حيث نفسهما عدل في القول وجور في القول.
وقد عرفت حال العدد والجور وكذا الصدق المعنون بعنوان اهلاك المؤمن
ظلم عليه والكذب المنجى له إحسان إليه، فحالهما حال العدل والظلم.
نعم، إذا كان الصدق في مورد معنونا بما فيه غرض مولوي للشارع يدعوه إلى
تحريمه أو الكذب معنونا بعنوان فيه غرض مولوي للشارع يدعوه إلى تجويزه،
فحيث إنه بذلك العنوان غير معلوم للمكلف بما هو عاقل أمكن للشارع التكليف
المولوي على خلاف الحكم العقلي الطبيعي، لعدم المنافاة بين الحكم
الطبعي والحكم العقلي كمالا مانع من المولوية، لأنه بسبب العنوان الطارئ
323

الواقعي لم يتحقق داع من قبل العقل حتى لا يبقى مجال لمولوية الشارع.
بقى هنا أمران:
أحدهما: أن القضايا المشهورة المتمحضة في الشهرة على أقسام.
منها: ما فيه مصلحة عامة كالعدل حسن والجور قبيح. وعبر عنها بالتأديبات
الصلاحية.
ومنها: ما ينبعث عن الأخلاق الفاضلة كالحكم بقبح كشف العورة لانبعاثه عن
الحيا وهو خلق فاضل.
ومنها: ما ينبعث عن رقة أو حمية أو أنفة أو غير ذلك واستلزام الحسن والقبح
عقلا للحكم الشرعي بالمعنى المتقدم فيما كان منشأه المصالح العمومية واضح،
لان الشارع يرى المصالح العمومية، وكذا ما ينبعث عن الأخلاق الفاضلة،
لأن المفروض انها ملكات فاضلة، والمفروض انبعاث الحكم بالحسن والقبح
عنها.
وأما ما ينبعث عن إنفعالات طبيعية من رقة أو حمية أو أنفة أو غير ذلك فلا
موجب لاشتراك الشارع مع العقلاء، ولذا ترى أن الشارع ربما يحكم لحكمة
ومصلحة خاصة بما لا يلائم الرقة البشرية كالحكم بجلد الزاني والزانية غير ذات
البعل مع كمال التراضي وكالحكم بجلد شارب الخمر بمقدار لا يوجب السكر
فعلا أو الحكم بقتل الكافر وسبى ذراريه وأشباه ذلك.
ثانيهما: أن ما ذكرناه إلى هنا انما هو لعدم استتباع حكم العقل العملي للحكم
الشرعي المولوي.
وأما استتباع حكم العقل النظري للحكم الشرعي المولوي فمجمل (1) القول
فيه أن مصالح الأحكام الشرعية المولوية التي هي ملاكات تلك الأحكام
ومناطاتها لا تندرج تحت ضابط ولا تجب أن تكون هي بعينها المصالح العمومية
المبنى عليها حفظ النظام وابقاء النوع وعليه فلا سبيل للعقل بما هو إليها.

(1) (خ ل): فبحمل القول.
324

نعم، إن اتفق ادراك مصلحة خاصة لبعض الاحكام بحيث كانت في نظر
العقل تامة الاقتضاء فهل يحكم العقل بحكم الشارع على طبقها أم لا؟ والتحقيق
أن المصلحة وإن كانت تامة الاقتضاء إلا أن الغرض من الواجب غير الفرض من
الايجاب، فربما يكون الواجب تام الاقتضاء بحيث لا يتوقف ترتب الغرض منه
عليه على أمر آخر أن الايجاب فيه مفسدة فلا يكاد يصدر من الحكيم،
والايجاب إنما يتحقق بتحقق علته التامة من المقتضى الموجود في الواجب
الباعث على ايجابه ومن عدم المانع من ايجابه، فمجرد إحراز المقتضى لا يكفي
في احراز مقتضاه فعلا، بل اقتضاء أي بنحو ثبوت المقتضى بثبوت مقتضيه وهو
المعبر عنه بالحكم الاقتضائي (1) في لسان شيخنا العلامة الأستاذ - قده - (2).
لا يقال: هذا في البعث الفعلي بنحو القضية الخارجية وأما في البعث الكلى
بنحو القضية الحقيقية فليس في تلك المرحلة مفسدة تتصور في جعل الحكم
على موضوعه.
لأنا نقول: حيث إن جعل الحكم كلي أيضا بداعي جعل الداعي بحيث
يكون فعليا بوصوله وبفعلية موضوعه فلا محالة إذا كان فعلية البعث مستتبعة
للمفسدة لا يعقل الانشاء بهذا الداعي إلا متقيدا بما يستتبع مفسدة عند فعليته
فتدبر.
وأما إن اتفق إحراز المصلحة وإحراز عدم المفسدة المانعة من البعث فربما
يتوهم الحكم بثبوت البعث والزجر المولويين نظرا إلى أن إحراز العلة التامة
يستلزم إحراز المعلول إلا أنه بناء على ما قدمناه من أن حقيقة البعث والزجر
المولويين هو الإنشاء بداعي جعل الداعي فمع العلم بالمصلحة الغير المزاحمة
بشئ يجب عقلا تحصيلها فان ترك تحصيل الغرض اللزومي الذي لا مانع من

(1) (خ ل): الاقتضاء.
(2) صرح المحقق الخراساني - ره - في بعض تأليفاته بان للحكم مراتب أربع: حاشية الرسائل:
ص 172 و 36... فاعلم أن الحكم بعد ما لم يكن... وفوائد الأصول: ص 81 وكفاية الأصول: ج 2،
ص 8، ثم لا يذهب عليك...
325

الالتزام به خروج عن زي الرقية وهو ظلم على المولى، وليس نتيجة البعث
وصلاحيته للدعوة إلا باعتبار أن مخالفة البعث الواصل خروج عن زي الرقية وهو
ظلم فجعل الداعي مع تحقق الداعي عقلا لغو ولا يلزم منه انفكاك المعلول عن
علته التامة، إذ كما أن المفسدة المترتبة على البعث مانعة شرعا عن فعلية البعث
كذلك وجود الداعي مانع عقلا عن فعليته وإن لم يمنع عن جعل الحكم الكلى
البالغ درجة الفعلية عند من لا مانع من فعلية البعث بالنسبة إليه.
فان قلت: فعليه يستحيل البعث والزجر دائما، لأنهما يكشفان عن المصلحة
الملزمة والمفسدة الملزمة ومع انكشافهما بنحو العلية التامة لا يعقل صيرورة
الانشاء الكاشف داعيا. وتوهم الفرق بأن وصول العلة فرع وصول المعلول
فما يتوقف ثبوته على ثبوت شئ لا يعقل أن يكون مانعا عن ثبوته مدفوع:
بما حررناه في محله من أن العلم بالعلة ليس علة للعلم بالمعلول ولا العلم
بالمعلول علة للعلم بالعلة بل بينهما التلازم والعلم بالملازمة هو العلة للعلم
بأحدهما عند ثبوت الاخر، فهو من قبيل وجود المانع مقارنا لوجود الممنوع
لا مترتبا عليه ليستحيل مانعيته.
قلت: أولا: أن المفروض كون الانشاء الكاشف بعثا فعليا ولذا كشف عن العلة
التامة ففرض مانعية العلة المنكشفة خلف ففرض مانعيتها فرض عدم صلاحيتها
للدعوة فيلزم من وجوده عدمه.
وثانيا: أنه ليس المانع حقيقة عن البعث بعد البعث أو جعل بعثين دفعة أو
جعل البعث بعد وجود ما يمكن أن يكون داعيا عقلا عدم إمكان العقلية في الخارج
امتناعا بالغير، والامتناع الغيري لا ينافي الامكان الذاتي والوقوعي كما لا يخفى
على الخبير، بل المانع هو انه مع وجود الداعي مولويا أو عقليا يستحيل جعل
الداعي، لحصول الغرض من جعل الداعي، وتحصيل الحاصل محال، وأما إذا لم
يكن هناك داع مولوي ولا عقلي فلا مانع من جعل الداعي وان حصل به ما يمكن
أن يكون داعيا أيضا وهو الغرض المنكشف بالبعث قهرا، لان إمكانه غير مانع.
لا يقال: فجعل داعيين متماثلين دفعة لا مانع له.
326

لأنا نقول: فرق بين جعل الداعي وتحقق الداعي قهرا، فان الانشاء بداعي
جعل الداعي يترقب منه الفعلية عند انقياد العبد وفعليتهما معا عند انقياده غير
معقول، بخلاف الانشاء الواحد الملازم لتحقق داع اخر قهرا، فان الداعي الاخر
وإن كان يمكن دعوته لكنه غير مجعول ليترقب منه الدعوة حتى يكون لغوا أو
محالا، فاتضح الفرق بين صورة إحراز المصلحة الملزمة من طريق البعث وصورة
احرازها من غير طريق الأمر، فان الثاني يمنع عن جعل الداعي مولويا دون الأول.
فافهم جيدا هذا تمام الكلام في الشق الأول من شقي الملازمة.
وأما الثاني: وهو أن ما حكم به الشارع هل يحكم على طبقه العقل أم لا؟
ومختصر القول فيه أن الحكم الشرعي لا يكشف عن المصلحة والمفسدة
لا إجمالا فلا يعقل الحكم من العقل بحسنه أو قبحه تفصيلا، وأما الحكم بحسنه
أو قبحه إجمالا بأن يندرج تحت القضايا المشهورة بقسميها فلا دليل عليه، لان
المصالح والمفاسد التي هي ملاكات الأحكام الشرعية المولوية لا يجب أن يكون
من المصالح العمومية التي ينحفظ بها النظام ويبقى بها النوع، كما أن الأحكام الشرعية
غير منبعثة عن انفعالات طبيعية من رقة أو حمية أو أنفة أو غيرها،
ولا ملاك للحسن والقبح العقليين إلا أحد الأمرين.
نعم، العقل يحكم بأن الأحكام الشرعية لم تنبعث إلا عن حكم ومصالح
خاصة راجعة إلى المكلفين بها، فالحكم بالعلة لمكان إحراز المعلول أمر والحكم
بالحسن والقبح العقلائيين أمر اخر، هذا هو الحق الذي لا محيص عنه بناء على
ما عرفت من حقيقة الحسن والقبح العقليين وأن قضيتهما داخلة في القضايا
المشهورة لا القضايا البرهانية وأن حقيقتها بلحاظ توافق الآراء ولا واقعية لهما غير
ذلك، فتدبره جيدا وإن كان خلاف ظاهر كلمات الأصوليين بل غير واحد من أهل
المعقول إلا أن المتبع هو البرهان.
فان قلت: قد اشتهر بين العدلية أن الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات
العقلية وأن المندوبات الشرعية ألطاف في المندوبات العقلية فيعلم منه أن
موارد التكاليف الشرعية واجبات عقلية أو مندوبات عقلية ولا نعنى بالملازمة إلا
327

ذلك.
قلت: وجوبها العقلي واقعا ليس إلا بمعنى حكم العقل بوجوبه على تقدير
إحراز ما فيه من المصلحة الملزمة، وعليه فالحكم بوجوب تحصيلها، تارة من
حيث اشتمال الفعل على المصلحة الموافقة لغرض المولى سواء كانت راجعة
إلى المولى أو إلى العبد، وأخرى من حيث اشتماله على نفس المصلحة من دون
نظر إلى الموافقة للغرض المولوي.
فان أريد الأول: فهو أجنبي عما نحن فيه، فان وجوب تحصيلها بملاحظة أن
ترك المصلحة الموافقة للغرض اللزومي المولوي خروج عن زي الرقية كنفس
مخالفة التكليف المولوي فهو بعنوان الظلم قبيح عقلا لا من حيث كونه ذا
مصلحة ملزمة أو ذا مفسدة كذلك، ويناسب اللطف بمعنى القرب إلى الطاعة،
فان البعث ح مقرب إلى موافقة الغرض المولوي.
وإن أريد الثاني: فقد عرفت أن المصالح الواقعية وإن صحت عليتها للأحكام
المولوية لكنها لا تجب أن تكون من المصالح العمومية الباعثة على تطابق آراء
العقلاء على مدح فاعلها وذم تاركها.
نعم، هنا وجوب عقلي بمعنى اخر غير التحسين والتقبيح العقلائيين فان
بعض الأعمال حيث إنه يؤثر في كمال النفس وصقالة جوهرها لتجلى المعارف
الإلهية التي هي غاية الغايات من خلق الخلق فلا محالة لا يرى العقل بدا منه،
فالمراد باللزوم العقلي ليس هو البعث ولا التحسين والتقبيح العقلائيين بل
الضرورة العقلية واللا بدية الفعلية، وهذا أيضا أجنبي عما نحن فيه، ولعله إليه
يرجع ما أفاده السيد العلامة الداماد - قده - (1) في شرح هذه القضية المعروفة من
" أن الواجبات السمعية ألطاف في الواجبات العقلية " بملاحظة أن الأعمال
البدنية والمناسب الجسدية توجب استعداد النفس لإشراق المعارف الربوبية
والعلوم الحقيقية التي هي واجبات عقلية، فالواجبات السمعية تقرب النفس إلى

(1) القبسات: ص 412، في القبس العاشر.
328

الواجبات العقلية وأن المندوبات السمعية تقربها إلى المندوبات العقلية،
مستشهدا في ذلك بقوله تعالى في الحديث القدسي " لا يزال العبد يتقرب إلي
بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي
يبصر به " (1) هذا ما يقتضيه النظر القاصر في استتباع الحكم الشرعي للحكم
العقلي اثباتا ونفيا.
وأما ما قيل في نفى الاستلزام من أنه مبنى على تبعية الأحكام الشرعية
للمصالح والمفاسد في متعلقاتها وهي غير مسلمة بل يكفي في حسنها كونها
بنفسها ذوات مصالح فلا كاشفية لها عن مصالح في متعلقاتها لتكون واجبات
عقلية، مستشهدا لذلك " بالأوامر الامتحانية " حيث إنه لا مصلحة في متعلقاتها بل
ربما يكون ذوات مفسدة، و " بأوامر التقية " حيث إنه لا مصلحة فيما يوافق
المخالفين، وبالأوامر التعبدية حيث إن المصلحة مترتبة على إتيان متعلقاتها
بداعي الأمر فلا مصلحة في ذوات المتعلقات.
فالجواب عنه أما عن أصل المبنى فبأن حقيقة الحكم هو الانشاء المنبعث عن
إرادة حتمية أو غير حتمية بداع البعث والتحريك مثلا فإنه الذي يدور عليه
الإطاعة والعصيان الموجب لاستحقاق الثواب والعقاب دون الانشاء بداع اخر
كالتعجيز والتسخير والارشاد وأشباه ذلك.
فتقول: أما الإرادة التشريعية وهو الشرق الأكيد المتعلق بفعل الغير الموجب
لجعل الداعي نحوه، حيث إن فعل الغير تحت اختياره ولا يمكن تحصيله منه إلا
بجعل الداعي المنبعث عنه الشوق المحرك للعضلات نحو الفعل، فلا يعقل
تعلقهما بما لا يرجع منه فائدة إلى جوهر ذلك الفاعل أو إلى قوة من قواه، فان
طبيعة الشوق سنخ طبيعة لا تتعلق إلا بما يلائم المشتاق وليس الشوق من
الافعال ذوات المصالح حتى يمكن ايجاده لمصلحة في نفسه، وعليه فتعلق
الإرادة بفعل من دون جهة موجبة لها ترجيح بلا مرجح، لا ترجيح بلا ترجح،

(1) الجواهر السنية في الأحاديث القدسية: ص 99، ح 13 - 11 والأصول الكافي: ج 2، ص 352،
ح 8 - 7 كتاب الايمان والكفر.
329

والمفروض انه لا جهة مرجحة للإرادة فيه (تعالى شأنه) إلا الحكمة والمصلحة.
وأما الإنشاء بداعي البعث والتحريك فحيث انه من الافعال دون المصالح
والمفاسد فيمكن أن يوجد لمصلحة في نفسه، ودخل الفعل الخاص المقوم له
في مصلحته غير كون الفعل ذا مصلحة باعثة على الانشاء بداع البعث فلا يجرى
فيه البرهان الجاري في الإرادة، لكنه أيضا لا يعقل انبعاثه عن مصلحة في نفسه
من دون مصلحة في الفعل المبعوث إليه لوجه آخر وهو أن الغرض الباعث على
الانشاء ربما يكون مقصودا بالذات وبالأصالة بحيث لا يكون له ما وراء هذا
الغرض الحاصل بالإنشاء غرض اخر كالإنشاء بداع الارشاد فإنه بنفس الانشاء
المزبور يحصل إظهار الرشد والخير العائد إلى المخاطب من دون أن يكون هناك
حالة منتظرة، وكالانشاء بداع التعجيز فإنه بانشائه الخاص يظهر عجزه من متعلقه،
وكالانشاء بداع التسخير فإنه يسخر بنفس انشائه بخلاف الانشاء بداعي جعل
الداعي.
فان امكان الدعوة وإن كان غرضا قائما بالانشاء المزبور إلا أنه سنخ غرض
تبعي يراد منه التسبيب إلى ايجاد فعل الاخر ومع عدم الغرض في فعل الغير
يستحيل التسبيب إلى ايجاده وتحصيله منه، فالبعث الحقيقي والتحريك الجدي
إلى فعل لا يعقل إلا بلحاظ ما في الفعل من الغرض الموجب لقيام المولى مقام
ايجاده التسبيبي، وبهذا يظهر تبعية الأحكام الشرعية للأغراض المولوية
المنحصرة في المصالح والمفاسد القائمة بمتعلقاتها وإن قلنا بخلو التكاليف
الشرعية عن الإرادة التشريعية كما بيناه مفصلا في بحث الطلب والإرادة (1)
وأشرنا إليه في مسألة جعل الطريق (2).
وأما الجواب عن الأمثلة المستشهد بها في المقام.
فنقول: أما عن الأمر الامتحاني: فتحقيق القول في الامتحان والاختبار منه
(تعالى) مع عدم جهله بشئ هو انه ليس المراد من ظهور انقياد العبد لأوامره

(1) نهاية الدراية: ج 1، ص 203، ذيل قوله: واما الدفع فهو أن استحالة استخلف...
(2) التعليقة: 55، ص 123.
330

(تعالى) وهو الغرض من الأمر الامتحاني هو الظهور العلمي في مقام ذاته
المساوق للعلم في مرتبة الذات، بل الظهور المساوق للفعلية والتحقق المساوي
للعلم الفعلي وهو العلم حال الايجاد، فان وجود كل شئ في نظام الوجود من
مراتب علمه الفعلي فان وجود كل شئ بلحاظ ارتباطه بالعرض بالمبدء الاعلى
هو نحو حضوره له (تعالى) فكل موجود علم ومعلوم باعتبارين ومثل هذا العلم
الفعلي الذي هو عين الحضور والربط والوجود مسبوق بالعدم ويساوق التحقق
والثبوت ويتصف بالسبق واللحوق الزمانيين كما أسمعناك في مبحث المشتق (1)
فيمكن أن يكون حصوله غرضا من الأمر وظهور الانقياد والتمكين خارجا
لا يمكن أن يؤمر به بعنوانه لوجهين:
أحدهما: عدم حصول الغرض من الأمر الامتحاني، لأنه إذا التفت إلى أن
الفعل غير مطلوب منه جدا وأن الغرض استعلام حاله ولو بالاشتغال بالمقدمات
لم يكن ايجاد المقدمات مهما عنده، فلم يحصل الغرض من كونه جدا منقادا
لايجاد الفعل الذي يمتحن به لمكان صعوبته عليه.
وثانيهما: أن الانقياد للأمر لا يعقل إلا مع احراز الأمر في نظره فإذا قطع بأنه لا
غرض له في ايجاد الفعل وانه لا أمر بذات الفعل حقيقة لا معنى لانقياده له،
فلا محالة لا يعقل الأمر الامتحاني إلا بالنسبة إلى الانشاء الظاهر في نفسه في
البعث الحقيقي إلى الفعل، فبمثل هذا الانشاء يمتحن عبده ويختبره، فهذا
الانشاء الخاص وإن لم يكن كالانشاء بداع الارشاد من حيث حصول الغرض
بنفس الانشاء بل الغرض لا يحصل إلا بقيام العبد مقام امتثال ما اعتقده بعثا،
لكنه ليس كالبعث الحقيقي بحيث يكون الغرض منه حصول ما تعلق البعث به،
بل الغرض قيامه مقام الامتثال وفعلية ما فيه بالقوة من الانقياد والتمكين للمولى
ولو بفعل بعض المقدمات القريبة، فبالإضافة إلى ذات الفعل الذي لا غرض فيه
لا بعث حقيقي أيضا لفرض كون الأمر واقعا للامتحان لا للتحريك الجدي،

(1) نهاية الدراية: ج 1، ص 125.
331

وبالإضافة إلى ما فيه الغرض وهو قيام العبد مقام الانقياد للمولى وفعلية ما فيه
بالقوة من السعادة والشقاوة لا بأس بالأمر به، حيث لم يلزم منه عدم تبعية الحكم
لمصلحة في متعلقه لكنه لا بعث بالنسبة إليه واقعا أيضا لوجهين.
أحدهما: انه بعد ظهور الانشاء في البعث الحقيقي كفى به داعيا في نظر
المكلف فيحكم العقل بلزوم الامتثال فيحصل به الغرض المولوي، وهو قيامه
مقام الامتثال، ومع حصول الغرض من البعث في نظر المكلف لا موجب للبعث
الواقعي نحو تحصيل الانقياد.
وثانيهما: أن الانشاء بداعي جعل الداعي واقعا إلى الانقياد بعنوانه غير
معقول، فان انقداح الداعي إلى المجهول عنوانه المبعوث إليه محال فجعل
الداعي محال، وقد عرفت أن ايصال البعث نحو الانقياد بعنوان يلزم منه
المحذوران المزبوران، فراجع.
وأما عن الأمر الصادر على نحو التقية
فنقول إن التقية، تارة في الأمر، وأخرى في الفعل المأمور به، وبعبارة أخرى
تارة يكون الأمر من باب التقية وأخرى يكون الأمر بالتقية، فعلى الأول لا أمر
حقيقة بذات الوضوء الخاص مثلا بل إما أمر حقيقة بغيره بنحو التورية أولا أمر
حقيقة بشئ أصلا بل يقصد مجرد التلفظ أو مع معناه الانشائي المفهومي بداعي
حفظ نفسه المقدسة عن شر المخالف.
وعلى الثاني فالأمر حقيقي منبعث عن مصلحة في الفعل لا بذاته، بل من
حيث إنه ينحفظ به نفس المكلف أو عرضه أو ماله فلم يلزم عدم تبعية الأمر
الحقيقي للمصلحة في متعلقه في شئ من الفرضين.
وأما عن الأوامر التعبدية فتحقيق القول فيها أن ذوات الافعال التعبدية لها
مصالح خاصة قائمة بنفسها من باب قيام المقتضى بالمقتضي، وإن الشرائط
ومنها قصد القربة إما من مصححات فاعلية الفاعل أو من متممات قابلية القابل،
فهي ليست دخيلة في مرحلة الاقتضاء، ومن علل قوام المقتضي، والا لكان جزء
لا شرطا، بل دخيلة في فعلية المقتضى من المقتضي والشوق إلى الفعل باعتبار
332

ما يترشح منه من الفائدة القائمة به.
فكذا البعث المنبعث من الشوق المزبور وينبعث من الشوق إلى ما فيه
الغرض شوق تبعي إلى ماله دخل في فعلية الغرض. وكذا ينبعث بعث مقدمي
من البعث الأصيل إلى ماله دخل في فعلية المبعوث إليه بماله من الفائدة المترقبة
منه، فتوقف فعلية المصلحة على قصد القربة لا يوجب عدم تعلق الأمر بما فيه
المصلحة وعدم انبعاثه عن مصلحة في متعلقه، وأما ما أجاب به شيخنا العلامة
- رفع الله مقامه - في فوائده (1) من أن الأمر في التعبديات قد تعلق بالراجحات
بأنفسها فلم يتعلق الأمر بغير ما هو حسن عقلا فلا يخلو عن شئ.
أما أولا: فلان كل التعبديات ليست راجحات بذاتها عقلا وإن كان بعضها من
العبادات الذاتية التي لو لم يؤمر بها لأمكن اثباتها عبادة كالصلاة المركبة من اجزاء
كلها راجحات عقلا.
وأما ثانيا: فلأن الأمر بالصلاة لم ينبعث عن رجحانها الذاتي بل عن المصلحة
المترتبة عليها، فالركوع مثلا وإن كان تعظيما للمولى وهو حسن، لأنه عدل في
العبودية واحسان إلى المولى، إلا أنه لم يؤمر به من حيث كونه إحسانا إلى المولى
بل من حيث كونه استكمالا للعبد وموجبا للانتهاء من المنكر والفحشاء مثلا،
والمفروض ترتب هذه المصلحة على الركوع المأتى به بداع الأمر مثلا، فمجرد
حسن الركوع ذاتا لا دخل له بتبعية الأمر به لمصلحة فيه.
وأما ثالثا: فلان الراجح بالذات لو لم يقصد بعنوانه لم يقع حسنا ولا راجحا
فالركوع إذا لم يؤت به بعنوان التعظيم مثلا لا يقع حسنا واتيانه بداعي أمره
لا يوجب وقوعه تعظيما فإن قصد عنوانه الواقعي لا يوجب وقوعه معنونا
بعنوانه، ولذا لو أمر بركوع مردد بين كونه مقصودا به التعظيم أو السخرية لا يقع
الركوع تعظيما ولا سخرية إذا أتى به بداعي أمره على ما هو عليه واقعا، مع أنه لا
شبهة في ترتب الأثر عليه إذا أتى به بداعي الأمر فيعلم منه أن الركوع المأمور به

(1) فوائد الأصول: ص 135...
333

ليس من حيث عنوانه التعظيمي مأمور به كما علم أن قصد عنوان التعظيم من
طريق الأمر اجمالا غير معقول، فليس اعتبار قصد الأمر للتوصل إلى تحقق ذلك
العنوان الحسن فالصحيح في دفع الاشكال ما ذكرناه وبقية الكلام تطلب من غير
المقام ولقد خرجنا بهذا المقدار عن وضع التعليقة إلا أن المسألة لما كانت مهمة
معضلة ولم يتعرض لها أستاذنا العلامة - رفع الله مقامه - في هذا الكتاب (1) أحببنا
التكلم فيها بأدنى مناسبة.
146 - قوله: وصحة نصب الطريق وجعله في كل حال (2) الخ:
حاصله أن نصب الشارع للظن، تارة بملاك حكم العقل بحجيته فهذا هو الذي
يكون بلا موجب لحصوله بحكم العقل، وأخرى بملاك اخر فهذا لا مانع منه،
لعدم حصول موجبه بحكم العقل بل لا يعقل مانعية حكم العقل عنه، لأنه مبنى
على عدم نصب الشارع له فمع نصبه لملاك اخر غير مقدمات الانسداد لا يعقل
تمامية مقدمات الانسداد الموجبة لاستقلال العقل.
ولا يخفى عليك أن هذا البيان صحيح على تقدير إرادة المنجزية والمعذرية
من الحجية، وأما إذا أريد جعل الإطاعة الظنية بدلا عن الإطاعة العلمية فلا، إذ
الإطاعة بحكم العقل دائما ولا مجال لتصرف الشارع فيها بوجه كما مر مفصلا،
وقد مر سابقا (3) أن الكشف عن الحجية بالمعنى الأول هو الصحيح ولا استقلال
للعقل بالحجية بالمعنى الأول. والكشف بالمعنى الثاني في نفسه غير صحيح
حيث إن أمر الإطاعة والعصيان واستحقاق الثواب والعقاب بحكم العقل العملي
كما مر وجهه فالحجية بهذا المعنى شرعا غير صحيحة لا بملاك حكم العقل
ولا بغيره.

(1) كفاية الأصول.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 138 وكفاية الأصول: 321، (ت، آل البيت).
(3) التعليقة: 144.
334

في نتيجة دليل الانسداد من حيث الاهمال والتعيين
147 - قوله: وعليها فلا اهمال في النتيجة أصلا (1) الخ:
تقرير الحكومة، تارة من باب حكومة العقل في مرحلة التبعيض في الاحتياط،
وأخرى في مرحلة حجية الظن والتنزل عن الإطاعة العلمية إلى الإطاعة الظنية.
أما الأولى: فمورد التعميم والتخصيص هي الظنون النافية للتكليف فإنها التي
يرفع اليد فيها عن الاحتياط اللازم بحكم العقل دون الظنون المثبتة الموافقة
للاحتياط، وإذا فرض أن العسر يرتفع برفع اليد فيها عن الاحتياط اللازم بحكم
العقل دون الظنون المثبتة الموافقة للاحتياط، وإذا فرض أن العسر يرتفع برفع
اليد عن الاحتياط في طائفة من الظنون المقابلة للاحتياط، فإن كانت متساوية غير
متفاوتة موردا ومرتبة وسببا فتعين بعضها دون بعض ترجيح بلا مرجح، وإن كانت
متفاوتة من إحدى الجهات فلا محالة يتعين تلك الطائفة الراجحة من حيث
المرتبة والمورد والسبب لرفع اليد عن الاحتياط في موردها بنفس قاعدة قبح
ترجيح المرجوح على الراجح التي هي من جملة المقدمات المؤدية إلى
التبعيض في الاحتياط.
فنقول: أما الترجيح من حيث المرتبة: فلأن احتمال الواقع في ضمن الظنون
القوية لعدم التكليف، حيث إنه أضعف من احتماله في غيرها، فهو أولى برفع
اليد عن الاحتياط في غيره والا لزم ترجيح المرجوح على الراجح.
وأما الترجيح من حيث المورد: فلأن موارد الدماء والفروج وشبهها حيث إنه
علم اهتمام الشارع بها أزيد من غيرها فرفع اليد عن الاحتياط في غيرها أولى وإلا

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 134 وكفاية الأصول: 321، (ت، آل البيت).
335

لزم ترجيح المرجوح.
وأما الترجيح من حيث الأسباب: فلان الظن بالاعتبار وإن لم يستلزم قوة في
مقام الاثبات كما في الأول ولا قوة في مقام الثبوت كما في الثاني لكنه يمكن
الترجيح به نظرا إلى أن الظن بحجية الظن بعدم التكليف مقتضاه الظن بعدم فعلية
التكليف وإن كان ثابتا (1) في الواقع، بخلاف الظن بعدم التكليف فقط فإنه لا ظن
بعدم فعليته على تقدير ثبوته واقعا فما يظن بعدمه وبعدم فعليته على تقدير
ثبوته أولى برفع اليد عن الاحتياط فيه مما ليس كذلك، هذا ما يقتضيه حكومة
العقل في مرحلة التبعيض والاحتياط.
وأما الثانية: وهي حكومة العقل في مرحلة حجية الظن بمعنى لزوم التنزل من
الإطاعة العلمية إلى الإطاعة الظنية دون الشكية والوهمية، فنقول إن مورد
التعميم والتخصيص هنا هي الظنون المثبتة للتكليف لا غير، فان ماله إطاعة
علمية تارة وإطاعة ظنية أخرى، هي الواجبات والمحرمات المتنجزة بالعلم
الاجمالي أو بايجاب الاحتياط الطريقي دون غيرهما (2) الذي لا تنجز له ولا إطاعة
له أصلا.
ولا يخفى عليك أن وجه لزوم الترجيح مع وجود الرجحان لبعض الظنون
على بعض، إما وفاء الظنون الراجحة بالمعلوم بالاجمال فلا مانع من جريان
الأصول الموردية في غيرها، وإما وفاء الظنون الراجحة بمعظم الفقه فلا تتم
المقدمة القائلة بعدم جواز اجراء الأصل في معظم الفقه، لكونه خلاف الضرورة
وخروجا عن الدين وكلاهما غير صحيح.
أما الأول: فلانه مبنى على إمكان زيادة الظنون المثبتة التي هي طرق إلى
التكاليف المعلومة بالاجمال المتنجزة بسبب العلم الاجمالي عليها مع أنه محال،
لان العلم الاجمالي بمأة تكليف لا يجامع الظن التفصيلي بان تلك التكاليف مأة
وخمسون، وإذا فرض عدم زيادة الظنون المثبتة على مقدار المعلوم بالاجمال

(1) (خ ل): ثانيا.
(2) (خ ل): عدمها.
336

فلا موقع للترجيح وإن كان بعض الظنون أرجح من بعض.
سلمنا: امكان زيادة المظنونات على مقدار المعلوم لكنه تجب الإطاعة الظنية
بدلا عن الإطاعة العلمية في أطراف العلم لا بمقدار المعلوم كذلك يجب التنزل
إلى الإطاعة الظنية في أطراف الظن لا بمقدار المعلوم بالاجمال والا لم يحصل
منه إطاعة ظنية للمعلوم بالاجمال، وما لم يرتفع أثر العلم الاجمالي باتيان
ما يستقل العقل به لا مجال لاجراء الأصول الموردية.
والتحقيق: انه إذا فرض تعلق العلم الاجمالي بمأة تكليف والعلم بعدم الزيادة
واقعا فلا محالة يستحيل الظن التفصيلي بأزيد من مأة تكليف وحيث
لا يزيد المظنون تفصيلا على المعلوم بالاجمال فلا مجال للترجيح، وإذا فرض
تعلق العلم الاجمالي بمأة تكليف مع احتمال مأة أخرى فحينئذ لا تعين للمعلوم
بالاجمال في نظر المكلف كما لا تعين له واقعا إذا كان التكاليف الواقعية مأتين،
فهو من المبهم لا من المجهول، ولا أثر لهذا العلم إلا وقوع المكلف في مأة عقاب
إذا ترك المحتملات ولا يقطع بسقوط مأة عقاب إلا باتيان تمام المحتملات، من
حيث إن مأة تكليف منجز لا على التعيين فيها.
وحينئذ يعقل فرض زيادة الظنون على مقدار المعلوم بالاجمال لكنه لا يعقل
الظن بمأة وخمسين تكليف منجز لا على التعيين، وليس المورد من موارد الجهل
والاشتباه حتى يجب رعاية جميع الظنون لاشتباه المنجز بغيره لفرض الابهام
وعدم التعيين واقعا، وحينئذ لا يقتضى التنزل من الإطاعة العلمية إلى الإطاعة
الظنية رعاية جميع المظنونات بل اللازم رعاية مأة منها فيظن معه بسقوط عقاب
مأة تكليف على تقدير المصادفة، وعليه فيمكن فرض الترجيح موضوعا كما
يجب عقلا، فتدبر جيدا.
وأما الثاني: فلان حديث الوفاء بمعظم الفقه أجنبي عن مسألة التنزل من
الإطاعة العلمية إلى الإطاعة الظنية، وانما هو على الكشف بالمعنى الذي نقول به
كما سيجيئ انشاء الله تعالى وشأن المقدمة المزبورة ليس إلا بيان أن عدم
337

الإطاعة العلمية لا يقتضى عدم الإطاعة رأسا بل لا بد من رعاية العلم الاجمالي
عقلا بنحو من أنحاء الإطاعة إما ظنية أو شكية أو وهمية، وقد عرفت أن التنزل
إلى الإطاعة الظنية عقلا يقتضى قاعدة المعلوم بالاجمال ظنا من دون اختصاص
بمعظم الفقه فقد تحقق بما ذكرنا انه بناء على حجية الظن من باب حكومة العقل
لا مجال إلا للتعميم سواء كانت الظنون متفاوتة أولا.
ومما ذكرنا في تقريب الحكومة بناء على التبعيض وبناء على حجية الظن
تعرف أن ما أفاده أستاذنا العلامة - رفع الله مقامه - في المتن (1) من الترجيح من
حيث المورد والمرتبة يناسب الحكومة في مرحلة التبعيض لا في مرحلة الظن،
كما أن بعض كلمات الشيخ الأعظم - قده - في الرسائل (2) كذلك، فراجع. ثم انه
على فرض التنزل ودوران الأمر عقلا بين العمل ببعض الظنون فالترجيح من
حيث المرتبة والمورد وجيه.
أما من حيث المرتبة: فإنه بعد انتهاء الأمر إلى العمل بالظن من حيث رجحان
الاحتمال فيه وقبح ترجيح المرجوح على الراجح، فكذا أرجح الظنين، لاستحالة
تأثير الأضعف دون الأقوى فيتعين الظن الأرجح بنفس الملاك الذي يتعين به
عقلا أصل الظن في قبال غيره.
وأما من حيث المورد: فلاشتراك المهم وغيره في المظنونية وزيادة الأول
على الثاني بالأهمية فيختص الأول بالإطاعة الظنية ويعمل في الثاني بالأصول
الموردية.
وأما الترجيح بالأسباب: فظاهر شيخنا - قده - (3) عدم الترجيح كما صرح به
الشيخ الأعظم - قده - (4) مرارا إلا أن صريح شيخنا - قده - في تعليقته (5) المباركة
على الرسائل إمكان الترجيح بخصوص التفاوت بالظن بالاعتبار وما يمكن أن

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 138.
(2) فرائد الأصول: ج 1، ص 226، طبعة جماعة المدرسين.
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 138.
(4) الرسائل: ج 1، ص 228.
(5) حاشية الرسائل: ص 93.
338

يقال في وجه الترجيح به بناء على الموضوعية والطريقية في ما ظن اعتباره شرعا
أنه على الأولى يظن بمصلحة بدلية فيه زيادة على مصلحة الواقع المظنونة في
كل ظن بالواقع وعلى الثاني يظن بمبرئيته ومعذريته شرعا دون ما لم يظن
باعتباره فالعبرة إن كانت بالغرض المظنون (المولوي) فلمظنون الاعتبار رجحان
على غيره في الأولى، وإن كانت بتفريغ الذمة وسقوط تبعة الواقع فلمظنون
الاعتبار رجحان على غيره في الثاني فالمرجح ثابت على أي تقدير.
ولا يخفى عليك أن الأمر على الموضوعية على ما مر إلا أن المبنى غير مسلم
واما على الطريقية المحضة فقد مر مرارا أن المبرئية والمعذرية الواقعية الجعلية
بوجودها الواقعية الجعلية بوجودها الواقعي لا أثر لها فالظن بها ظن بما لا أثر له
فوجوده كعدمه.
نعم، إذا فرض القطع بنصب الطريق المبرء والمعذر وظن تفصيلا بالتطبيق
فهو ظن باستحقاق العقاب على مخالفته فإذا دار الأمر بين ترك مظنون العقاب
ومحتمله كان اتباع مظنون العقاب أولى إلا أن التحقيق انه غير مفيد أيضا، فإنه
انما يفيد إذا كانت الحجية بحكم العقل بمعنى استقلال العقل بمنجزية الظن
فحينئذ يصح أن يقال إن مظنون الاعتبار في مثل القرض المتقدم مظنون العقاب
في نفسه فيقدم على محتمله.
وأما إذا كانت الحجية بمعنى لزوم الإطاعة الظنية بدلا عن الإطاعة العلمية
وأن الاحكام الواقعية متنجزة بالعلم الاجمالي وانه بعد ابطال احتياط كلية يدور
الأمر بين حصر الاحكام المنجزة في دائرة المظنونات أو غيرها من المشكوكات
والموهومات بالتنزل إلى الإطاعة الظنية أو إلى إطاعة الشكية والوهمية،
فاستحقاق العقاب في دائرة المظنونات بسبب تنجز الأحكام في نفسها بالعلم
الاجمالي مفروض فلا يوجب الظن باعتبار الظن شرعا تبعة أخرى للواقع حتى
يوجب رجحان مظنون الاعتبار على غيره، فتدبر جيدا.
339

148 - قوله: وأما على تقرير الكشف فلو قيل (1) الخ:
إعلم أن الكشف يقرر على وجهين:
أحدهما: على الوجه الذي سلكناه وشيدنا أركانه وهو جعل المقدمات كاشفة
عن نصب الشارع للظن بمعنى جعله منجزا لواقعياته التي فرض عدم رفع اليد
عنها لئلا يلزم نقض الغرض من عدم نصب الطريق، وحيث إن الطريق بوجوده
الواقعي لا يعقل أن يكون منجزا، فلا بد من وصول ما يعتبر منجزا للواقع، وليس
الواصل بذاته المتعين في نفسه في وجدان العقل إلا الاحتمال الراجح أو
المساوي أو المرجوح، وحيث لا يعقل تأثير الأضعف أو المساوي دون الأقوى
فلا محالة يؤثر الاحتمال الراجح في تنجيز الواقع، فبهذا البيان ذكرنا أن أصل الظن
هو المتعين للمنجزية شرعا في نظر العقل، وهذا البيان بعينه جار في
خصوصياته، فما كانت متعينة في نظر العقل أمكن دخلها في المنجزية شرعا في
نظر العقل لوصولها بنفسها، وما لم تكن متعينة في نظر العقل وإن احتمل دخلها
بملاك آخر غير هذه المقدمات في منجزية الظن لا يصح اعتبارها في المنجزية
لعدم الوصول المعتبر في المنجز بخصوصياته.
فان قلت: المعتبر مطلق الوصول سواء كان بهذه المقدمات لحجية أصل الظن
أو بمقدمات انسداد أخرى، فيكفي في الوصول وصولها ولو بطريقها لا بنفسها.
قلت: حيث إن أصل الخصوصية بملاك اخر غير هذه المقدمات غير معلوم،
فلا يجرى فيها دليل الانسداد، ومن مقدماته العلم بأصل الخصوصية حتى يجب
تعيينها تفصيلا بالظن ووجودها الواقعي لا أثر له حتى يكون احتماله مؤثرا فلزوم
التعيين باجراء مقدمات أخرى فرع التعيين.
ومما ذكر يظهر أن الكشف بهذا المعنى يساوق الحكومة في الغاء
الخصوصيات التي لا تعين لها في وجدان العقل وأن مقتضاه التعميم من هذه
الجهة، نعم يفترق الكشف عن الحكومة في الخصوصيات المتعينة في نظر العقل

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 139 وكفاية الأصول: 322، (ت، آل البيت).
340

بحيث تكون موجبة لرجحان بعض الظنون على بعض في مقام الدوران، لما مر
من عدم الدوران على الحكومة للزوم التنزل إلى الإطاعة الظنية بقول مطلق،
بخلاف تقرير الكشف على هذا الوجه فان مقتضاه ليس لزوم التنزل إلى الإطاعة
الظنية شرعا بعد فرض تنجز الاحكام الواقعية بل مقتضاه جعل الظن شرعا منجزا
للواقعيات فلا موجب للنصب إلا بمقدار لا يلزم من إجراء الأصول الموردية فيما
عداه خلاف الضرورة من الدين، فإذا فرض وفاء الظنون القوية بمعظم الفقه
لم يكن موجب بمقتضى هذه المقدمات لجعل ما عداها منجزا للباقي، ومنه
تعرف أن حديث جعل الظن حجة بمقدار يفي بمعظم الفقه انما يناسب الكشف
بهذا التقرير لا الكشف بتقرير آخر فضلا عن الحكومة كما أشرنا إليه.
ثانيهما: الكشف على الوجه الذي سلكه القوم وهو الكشف عن جعل الشارع
للإطاعة الظنية بدلا عن الإطاعة العلمية للواجبات والمحرمات المنجزة بسبب
العلم الاجمالي أو بايجاب الاحتياط الطريقي، فإن كان الكشف بملاك هذه
المقدمات فقط فلا محالة يساوق الكشف للحكومة تعميما وتخصيصا، لان
الكشف بهذا الوجه من باب الكشف اللمي وهو كشف العلة عن المعلول
لاستحالة التلازم في مرحلة الكشف من دون تلازم بين المنكشفين.
ومن الواضح أن سعة المعلول وضيقه وعمومه وخصوصه تابعة للعلة سعة
وضيقا عموما وخصوصا، وقد مر إن الصحيح هو التعميم على الحكومة فكذا
على الكشف وحيث إن التعميم بحكم العقل النظري باقتضاء نفس هذه
المقدمات فلا يكون مؤكدا للاهمال.
نعم، لو كان بحكم العقل العملي المأخوذ من مقدمات أخرى غير مقدمات
الانسداد لكان مؤكدا للاهمال والوجه واضح وإن كان الكشف بملاك أعم من هذا
الملاك نظرا إلى أنه لا ملزم بالالتزام بنصب الظن بهذا الملاك بل اللازم تأثير هذه
المقدمات بضميمة قبح نقض الغرض في نصب طبيعة الظن، ولا ينافي اقتضاء
ملاك اخر لأخذ خصوصية معه سببا وموردا ومرتبة فنقول حيث إن الخصوصية
بملاك اخر غير هذه المقدمات فاللازم حجية الظن الواصل ولو بطريقه، لاستحالة
341

وصوله بنفسه مع عدم اقتضاء هذه المقدمات لوصول الظن بخصوصية الغير
المتيقنة بحكم العقل النظري، وحيث عرفت سابقا أن مبنى الكشف على مسلك
القوم على جعل الشارع للإطاعة الظنية بدلا عن الإطاعة العلمية للأحكام
الواقعية المتنجزة، فالمقتضي لجعل مطلق الإطاعة الظنية بدلا عن الإطاعة
العلمية ثابت، والاقتصار على نوع خاص من الإطاعة الظنية كاشف عن رفع اليد
عن الاحكام الواقعية في ضمن غير ذلك النوع فما لم يقم دليل على رفع اليد
عنها في غير ذلك النوع يتعين الإطاعة الظنية لنصبها مطلقا بدلا عن الإطاعة
العلمية واجراء مقدمات دليل انسداد أخرى في تعيين الخصوصية وإن كان
كاشفا عن رفع اليد عن غير ذلك النوع الخاص من الإطاعة إلا أنه لا ملزم بإجرائها
إلا بعد العلم باعتبار خصوصية غير متعينة في نظر العقل، والمفروض عدم العلم
بأصل اعتبارها، واحتمال رفع اليد مع وجود المقتضى للإطاعة الظنية لا يجدى
شيئا.
ومنه يتضح أن مقتضى الكشف على هذا الوجه أيضا هو التعميم دون
التخصيص ولو باجراء مقدمات انسداد أخرى.
وقد عرفت أن حديث الوفاء بمعظم الفقه واقتضائه الاقتصار على حجية
الظنون الخاصة الوافية (1) أجنبي عن الكشف المساوق للحكومة فراجع
وسيأتي (2) إنشاء الله تعالى موارد الاختلاف بين ما سلكناه وما سلكه شيخنا
العلامة - قده - (3).

(1) (خ ل): الواقعة.
(2) التعليقة: 149، ص 350.
(3) هو المحقق الخراساني - ره -.
342

إهمال النتيجة من حيث الطريق الواصل بنفسه أو بطريقه
149 - قوله: هو نصب الطريق الواصل بنفسه الخ:
لا بد أولا من بيان مبنى اعتبار الوصول وعدمه واعتبار الوصول بنفسه وكفاية
الوصول ولو بطريقه.
ثم بيان ملاك الوصول بنفسه والوصول ولو بطريقه ثم بيان ملاك الاهمال
وعدمه حتى يتضح ما أفاده - قده - (1) من احكام الوجوه الثلاثة.
فنقول: اما من يقول بعدم اعتبار الوصول أصلا وكفاية نصب الطريق واقعا
فنظره إلى أن ايجاب العمل بالظن كسائر الاحكام الواقعية له مراتب من الانشائية
والفعلية والتنجز فكما أن ايجاب الصلاة فعلى في حد وجوده الواقعي وبالعلم
يتنجز.
كذلك ايجاب العمل بالظن، ووجه إعتبار الوصول على مسلك القوم ان
الاحكام الطريقية وظائف مجعول لرفع تحير المكلف في امتثال الواقعيات
المجعولة فلا معنى لجعل حكم طريقي واقعي مثلها في بقاء التحير على حاله،
وعلى ما بيناه مرارا أن جعل الطريق سواء كان بمعنى جعله منجزا للواقعيات عند
الإصابة ومعذرا عنها عند عدم الإصابة أو كان بمعنى جعل الحكم المماثل
بداعي التحفظ على الاغراض الواقعية بايصالها بعنوان آخر كالعمل بالخبر ونحوه
فلا محالة يتقوم بالوصول، إذ لا منجزية ولا معذرية إلا بالوصول، كما أنه لا تصل
الواقعيات بعنوان آخر إلا بوصول الحكم المماثل ليكون وصوله بالحقيقة وصول

(1) هو المحقق الخراساني في الكفاية: ج 2، ص 139 وكفاية الأصول: 322 (ت، آل البيت).
343

الواقع بالعرض، والا فلو كان الحكم الطريقي بوجوده الواقعي قابلا للمنجزية
والمعذرية أو قابلا لأن تنحفظ به الاغراض الواقعية لكان نفس الحكم الواقعي
قابلا له فيلغو (1) الجعل الاخر.
وهكذا الأمر إذا كانت حجية الظن شرعا بمعنى جعل الإطاعة الظنية بدلا عن
الإطاعة العلمية اجمالا، فان مرجعه إلى تضييق دائرة الاحكام المنجزة (2) بسبب
العلم الاجمالي وحصرها في دائرة المظنونات، فان الغرض إذا كان حصرها في
طائفة خاصة من المظنونات فلا بد من وصول تلك الطائفة ليتضيق به دائرة
الاحكام المنجزة فيها والا لما حصل هذا الغرض وكان اللازم عليه عقلا الاحتياط
في أوسع من تلك الدائرة نعم: إذا كان الغرض دفع كلفة الاحتياط اللازم من
الإطاعة العلمية بتعيين مرتبة من الإطاعة التي لا يلزم من الاحتياط في أطرافها
عسر لم يكن مانع من عدم وصوله.
وأما من يقول بكفاية الوصول (3) ولو بطريقه: فلعل نظره إلى أن رفع التحير
وتنجيز الواقع وتضييق دائرة الاحكام المنجزة لا يدور مدار الوصول بنفسه
بحيث لا يحتاج إلى اعمال طريق اخر بل له تنجيز الواقع بطريقين إلى ذات الظن
بالمقدمات المزبورة والى خصوصيته بمقدمة أخرى، فالالتزام بخصوص
الواصل بنفسه بلا ملزم وتخصيص بلا مخصص.
وأما من يقول باعتبار الوصول بنفسه: فلعله لا ينكر امكان نصب طريق خاص
بطريقين إلى ذاته وخصوصيته بنحو الكلية بل ينكره في خصوص المقام من
حيث إن لزوم التعيين باجراء مقدمات انسداد أخرى فرع التعين، وإذا فرض
عدم التعين لعدم العلم بأصل الخصوصية فلا يجب التعيين، بخلاف المتعين في
نظر العقل أو بالاجماع على الملازمة، فإنه لا بأس به، ومجرد احتمال خصوصية
لا يوجب جريان مقدمات الانسداد الصغير في مرحلة التعيين إلا بتوهم أن

(1) (خ ل): فبلغوا.
(2) وفى النسختين عندي: " الاحكام المنجزة ".
(3) وفى النسختين عندي: " بكفاية الأصول ".
344

احتمال الحجة الواقعية بحيث لو تفحص عنها لظفر بها وهنا ليس كذلك.
إذ ليس هناك طرق واقعية قائمة على حجية الظن الخاص واعتبار الخصوصية
في الظن على تقدير حجيته بدليل الانسداد حتى إذا تفحص عنها ظفر بها،
فاحتمال الخصوصية التي لا طريق إليها لا يكون (1) منجزا حتى يمكن تشكيل
مقدمات الانسداد بلحاظ تنجز الخصوصيات الواقعية ليجب تعيينها بالظن،
فالصحيح من هذه الشقوق الثلاثة في خصوص المقام هو حجية الظن الواصل
بنفسه.
وأما ميزان الوصول بنفسه والوصول ولو بطريقه على ما يستفاد من مجموع
كلماته في الكتاب (2) وفى تعليقته الأنيقة على الرسائل (3) فهو أن نفس طبيعة
الظن واصلة بنفسها انما الكلام في خصوصياته بنظر الشارع فما لا يحتاج في
تعيينه إلى اجراء مقدمات انسداد أخرى سواء كان متعينا في نظر العقل كقوة
الظن وكونه مظنون الاعتبار أو كان قدرا متيقنا من نتيجة دليل الانسداد كالخبر
الصحيح الاعلائي بسبب الاجماع على التلازم بين حجيته شرعا وحجية الظن
في الجملة بدليل الانسداد، فهو داخل في الواصل بنفسه.
فالخصوصية المتعينة بأحد أنحاء التعين واصلة بنفسها، والخصوصية التي
يجب تعيينها باجراء مقدمات انسداد أخرى فهي واصلة بطريقها، والسر في ذلك
بحيث لا يؤل الأمر إلى مجرد التسمية والاصطلاح أن دليل الانسداد بلحاظ
الاستلزام العقلي بين مقدماته وحجية الظن شرعا دليل عقلي يتوصل به إلى
حكم شرعي، فكل خصوصية يكن دليل الانسداد بالآخرة دليلا على حجية
المتخصص بها، إما لمكان ما هو كالقرينة الحافة بالكلام بحيث يصح للمولى
الاتكال على كالمتعين في نظر العقل الحاكم باستلزام المقدمات لحجية الظن
شرعا كقوة الظن.
فدليل الانسداد بلحاظ ما هو كالقرينة التي يصح الاتكال عليها دليل على

(1) وفى النسختين عندي (ولا يكون).
(2) كفاية الأصول.
(3) حاشية الفرائد: ص 92.
345

حجية الظن المتخصص بتلك الخصوصية المتعينة في نظر العقل، وإما لمكان
التلازم المستفاد من الاجماع خارجا فإنه وإن لم يكن كالقرينة الحافة بالكلام لكنه
حيث إن دليل الملزوم عنده - قده - كما سيجيئ إنشاء الله تعالى دليل على
التلازم فدليل الانسداد دليل بالآخرة على حجية هذا الظن المتخصص
بالخصوصية المتيقنة من نتيجة دليل الانسداد، وأما ما كان غير متعين في نظر
العقل الحاكم بالاستلزام ولا لازما لحجية الظن في الجملة الثابت بدليل الانسداد
فلا محالة يكون الدليل عليه غير هذا الدليل العقلي، فلا يكون واصلا بنفسه بل
بطريق اخر، هذا ما يقتضيه التدبر في مجموع كلماته - قده - (1) وسيجيئ انشاء
الله تعالى عندنا.
واما ميزان الاهمال وعدمه عنده - قده - (2).
فنقول: الاهمال بمعنى عدم التعيين، تارة يلاحظ من حيث الخصوص،
وأخرى من حيث فالنتيجة تارة متعينة من حيث كونها عامة وأخرى من
حيث كونها خاصة وفى قبالهما الغير المتعينة من إحدى الجهتين، وملاك التعين
من حيث الخصوص عدم لزوم نقض الغرض من ارادته، وملاك التعين من حيث
العموم لزوم الخلف من عدم ارادته، توضيحه:
ان قلنا بان الحجة واقعا هو الظن الواصل بنفسه بماله من الخصوصية فكل
خصوصية كانت متعينة في نظر العقل أو كالمتعين من حيث الملازمة التي مر
ذكرها، حيث إنها واصلة فيمكن دخلها واقعا وللشارع الاتكال على وصولها عقلا
في دخلها شرعا وإن لم يكن الخصوصية المتعينة متعينة عقلا فلا محالة يكون
النتيجة عامة عقلا والا لزم الخلف من ارادتها، إذ المفروض تعلق الغرض بنصب
الواصل بنفسه.
وإن قلنا بان الحجة هو الظن الواصل ولو بطريقه فيزيد هذا الشق على الشق
السابق بصحة دخل الظن بالاعتبار الممكن إثباته باجراء دليل انسداد صغير في

(1) هو المحقق الخراساني - ره -.
(2) هو المحقق الخراساني - ره - في الكفاية: ج 2، ص 139.
346

تعيين الخصوصية المحتملة التي لا تعين لها بنفسها عقلا، حيث لم يلزم من
إرادتها نقض الغرض، لتعلق الغرض بوصولها الأعم من وصولها بنفسها أو
بطريقها والمفروض وصولها بطريقها.
نعم، إذا كان الخصوصية المحتملة لا تتعين حتى بدليل انسداد اخر كانت
النتيجة عامة والا لزم الخلف، هذا كله في العموم والخصوص من حيث الأسباب
والموارد على الوجهين.
وأما من حيث المرتبة فالنتيجة خاصة دائما، إذ فرض المرتبة فرض التفاوت
بالقوة والضعف دون فرض الأسباب والموارد فإنه يجامع التعين من حيث
العموم والخصوص معا فهذا معنى الإهمال أي عدم التعين من حيث العموم،
وأما ما أفاده - قده - (1) هنا من اتحاد الحكم في المراتب بين الواصل بنفسه
والواصل ولو بطريقه فهو بحسب الظاهر مناف لما سيجيئ انشاء الله تعالى منه
- قده - (2) من ابتناء الترجيح بالقوة على حجية الواصل بنفسه وابتناء المنع على
حجية الواصل ولو بطريقه ولو لم يصل أصلا.
ويمكن دفع المنافاة بأن ما ذكره - قده - هنا حكم طبعي للظن القوى بالنسبة
إلى الضعيف أي الظن القوى بما هو قوى يتعين في قبال الضعيف، وما سيأتي
انشاء الله تعالى منه - قده - مبنى على الترجيح بملاحظة جميع العوارض فإنه
ربما يكون الظن الضعيف مظنون الاعتبار مثلا فعلى القول بحجية الواصل ولو
بطريقه يمكن اجراء دليل انسداد اخر لتعيينه وتعين القوى من حيث صحة اتكال
الشارع عليه بعدم نصب الدال على خلافه، فمع نصب الدال على خلافه لوصوله
بطريقه لا مجال للتعين الفعلي، فإنه دليل حيث لا دليل على خلافه، فتدبر جيدا.
نعم، إذا كان الظن الضعيف مظنون الاعتبار شرعا، وقلنا بان مظنون الاعتبار
أيضا متعين في نظر العقل في قبال مشكوك الاعتبار فلكل من القوى والضعيف
جهة تعين في نظر العقل ولا ترجيح لأحدهما على الاخر عقلا، فلا يتعين شئ

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 139.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 141 - ومن هنا ظهر حال القوة ولعل نظر من رجح بها.
347

منهما شرعا، ومقتضى حجية الواصل بنفسه حجية الكل، لعدم التعين وللزوم
الخلف من عدم الحجية، وما ذكره - ره - في حكم الظن القوى وما سيذكره في
حكم مظنون الاعتبار حكم طبعي بلحاظ نفسهما لا بلحاظ تعارض الجهتين أيضا،
هذا كله في حكم النتيجة بناء على اعتبار الوصول بأحد الوجهين (1)، واما بناء
على القول بحجية الظن ولو لم تصل خصوصيته فقد عرفت (2) اهمالها خصوصا
وعموما، فلا بد من الاحتياط في أطراف ما يحتمل اعتباره بعد العلم الاجمالي
بنصب ما لا طريق إلى إثباته ولا إلى نفيه ومع لزوم العسر يجب التنزل إلى حكومة
العقل بالاستقلال.
وليحمل كلامه - قده - على إرادة حكومة العقل في باب تعيين المنصوب
شرعا لا حكومته في باب الحجية رأسا لئلا يورد (3) عليه كما عن بعض أجلة
العصر بان القائل بالكشف لا يرى الحكومة للعقل والا لما التزم بلزوم نصب الظن
شرعا بل غرضه - ره - حكومة العقل في باب التعين بالآخرة كما أفاد نظيره في
الواصل بنفسه في تعليقته الأنيقة (4) حيث ذكر أن العقل هو الحاكم بالتعيين.
واما ما ذكره المورد (5) من لزوم اجراء مقدمات الانسداد أيضا في تعيين
الطريق المنصوب الواقعي فلعله غفلة عن مبنى القول بحجية الطريق ولو
لم يصل، فإنه عليه لم يتعلق غرض بوصوله ولذا لا مانع من بقائه على إهماله
وإجماله، فمجرد انسداد باب العلم وابطال الاحتياط لا ينتج حجية الظن في
مرحلة التعيين ما لم ينضم إليه قبح نقض الغرض من عدم حجية الظن في مرحلة
التعيين والا لا موجب لنصبه وحيث أن المفروض عدم تعلق الغرض بوصوله
والا لكان داخلا في نصب الواصل ولو بطريقه وهو خلف، فلا مجال حينئذ
لاجراء مقدمات انسداد أخرى لحجية الظن من باب الكشف، هذا ما ينبغي بيانه

(1) والمقصود منه (الواصل بنفسه - والواصل بطريقه).
(2) التعليقة: 346، فتقول الاهمال بمعنى.
(3) درر الفوائد: ج 2 - 1، ص 418، في ذيل الأمر الرابع.
(4) حاشية على الفرائد: ص 90.
(5) هو المحقق الحائري - ره - صاحب الدرر: ص 417.
348

في توضيح مرامه زيد في علو مقامه. وفيه مواقع للنظر:
منها: أن كاشفية المقدمات عن نصب الظن شرعا من باب الكشف اللمي وهو
كشف العلة عن المعلول، لاستحالة كشف شئ عن شئ حقيقة إلا بسبب
الملازمة بينهما بالعلية والمعلولية أو المعلولية لثالث، وليس هنا إلا لاقتضاء، هذه
المقدمات لنصب الشارع على القول بصحة التقرير على وجه الكشف كما هو
المفروض هنا.
ومن الواضح انه لا إهمال في العلة فلا إهمال في المعلول لعدم تعلق الإهمال
في الواقعيات فيتبع المعلول سعة وضيقا لعلته، فإذا كانت المقدمات علة لحكم
العقل بحجية الظن، فحيث انه لا مجال لاحتمال ملاك اخر لإضافة خصوصية من
الخصوصيات التي لا تقتضيها طبع تلك المقدمات وإلا لانضم إلى المقدمات،
فلا محالة يستقل العقل بحجية الظن عموما أو خصوصا، وإذا كانت المقدمات
علة لنصب الشارع للظن، فنفس تعين الظن للنصب دون غيره من الشك والوهم
هي نتيجة المقدمات.
واما إضافة خصوصية إليه بملاك اخر في نظر الشارع فهو أمر يعقل إحتماله
لكنه أجنبية عن المقدمات وعن مقتضاها، فالمقدمات بالإضافة إلى نتيجتها
ومقتضاها غير قابلة للإهمال، بل هي تقتضي تعين كل ظن بالإضافة إلى كل شك
ووهم بما هما شك ووهم للنصب شرعا، وبالإضافة إلى خصوصية أخرى بملاك
اخر أجنبي عن المقدمات لا اقتضاء، لاستحالة كشفها عن تعين الظن بخصوصية
واقعية مجهولة، لعدم الملازمة بينها وبين الظن المتخصص بخصوصية مجهولة
لاستحالة العلية لأمر مهمل.
بل قد عرفت تعين العلة للعلية والمعلول للمعلولية في نظر الحاكم بالعلية
والمعلولية، لأن النتيجة وإن كانت شرعية إلا أن الحاكم باستلزام هذه المقدمات
لحجية الظن شرعا هو العقل، ولا فرق في عقلية الدليل بعقلية استلزام المقدم
349

للتالي بين الحكومة والكشف، كما تقدم في أول دليل الانسداد (1)، فلا كاشفية
للمقدمات عن حجية الظن المتخصص بخصوصية واقعية حتى يتصور الإهمال
بل بالإضافة إلى مقتضاها متعين عموما أو خصوصا وبالإضافة إلى غيره
لا مقدمية ولا كاشفية حتى يتصور الاهمال.
ومنه يظهر أن حجية الطريق وإن كانت تنقسم إلى الأقسام الثلاثة في نفسها إلا
أن نتيجة دليل الانسداد لا تجرى فيها الشقوق المتقدمة، لأن الوصول بنفسه
وبطريقه وعدمه مطلقا انما يتصور هنا في الخصوصيات المنضمة إلى الظن
بملاك اخر.
وقد عرفت أن المقدمات أجنبية عن خصوصيات الظن بملاك اخر ونتيجتها
بنفسها تعين نفس الظن في قبال الشك والوهم للنصب شرعا، وهو أمر مفروض
الوصول، ولا طريق إلى سعة الغرض من النصب وضيقه إلا هذه المقدمات، وهي
كما مر كاشفة لما من نصب الظن بما هو ظن في قبال الشك والوهم بما هما شك
ووهم من دون إهمال لا (2) في طرف العلة ولا في طرف المعلول، فتدبره فإنه
حقيق به.
ومنها: سلمنا أن معنى الاهمال لا اقتضائية المقدمات عن اعتبار
الخصوصيات إلا انها مهملة بهذا المعنى عن اقتضاء الخصوصية وعن اقتضاء
عدمها، فكما ان إثبات الخصوصية اما بما هو كالقرينة الحافة بالكلام أو
بالاجماع على الملازمة أو باجراء دليل الانسداد ثانيا وثالثا، فكذلك نفى تلك
الخصوصية واثبات التعميم بعدم خصوصية محتملة أو بعدم وصولها بنفسها أو
بعدم وصولها بطريقها، فان كان ذلك بضميمة البرهان وهو لزوم الخلف عن
اعتبارها فيحكم بالتعميم لا باقتضاء نفس المقدمات للتعميم.
ومنها: أن لزوم الاقتصار على الظن الاطميناني الوافي بمعظم الفقه لامكان

(1) التعليقة: 125، ص 254.
(2) وفي النسختين عندي: من دون اهمال إلا في طرف العلة...
350

اتكال الشارع على تعينه في نظر العقل انما يصح على الكشف بالوجه الذي
ذكرناه وهو جعل الظن منجزا للواقعيات التي لم يرفع الشارع يده عنها، لكونه
مخالفا للضرورة من الدين كما قدمنا بيانه (1)، وأما على الكشف بمعنى جعل
الإطاعة الظنية للأحكام المنجزة بدلا عن الإطاعة العلمية فلا يصح وذلك لان
المتعين في نظر العقل الإطاعة الظنية بعد التنزل عن الإطاعة العلمية، فكما
لا يجدى في الإطاعة العلمية كونها بمقدار يفي بمعظم الفقه كذلك في الإطاعة الظنية.
ومجرد كون الملاك في الظن القوى أقوى من الظن الضعيف لا يوجب
الاقتصار في مقام الإطاعة عليه، بل أقوائية الملاك إنما تجدي في مقام الدوران
ولا دوران في نظر العقل في مقام الإطاعة حتى يتعين في نظر العقل لكي يتكل
عليه الشارع، فتدبره جيدا.
150 - قوله: ولا بحسب الموارد الخ:
لا يقال: ما الفرق بين الحكومة والكشف حيث حكم - قده - (2) بتفاوت
الموارد في نظر العقل على الأول دون الثاني مع أن تعينه في نظر العقل يكفي في
وصوله بنفسه كما في الظن القوى.
لأنا نقول: مورد التفاوت هناك الظنون النافية في قبال رفع اليد عن الاحتياط
في الموارد الغير المهمة والكلام هنا في الظنون المثبتة للتكليف، ولا موجب
لتعين مورد دون مورد، للتنزل إلى الإطاعة الظنية في قبال الإطاعة الشكية
والوهمية فلا تغفل.
151 - قوله: لكنك غفلت عن أن المراد ما إذا كان اليقين الخ:
لا يخفى عليك أن الاشكال في المتيقن من وجهين.
أحدهما: أن كونه متيقنا بسبب الاجماع على الملازمة بين حجية الظن في
الجملة وحجية الخبر الصحيح الاعلائي يوجب دعوى الاجماع بالآخرة على
حجية الخبر المزبور فالدليل على حجية الظن الخبري شرعي لا عقلي.

(1) التعليقة: 148، ص 340.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 139 - 137.
351

ثانيهما: أن فرض كون المتيقن الاعتبار موجودا ينافي فرض انسداد باب العلم
والعلمي وهو الاشكال الذي تعرض له شيخنا - قده - هنا (1) تبعا للشيخ العلامة
الأنصاري - ره - (2) والأول أيضا اشكال تعرض له الشيخ الأعظم - ره - في طي
ما أورده على تقرير الكشف، وما أجاب به شيخنا الأستاذ - قده - يفي بدفع
الاشكالين فان التيقن حيث إنه بلحاظ دليل الانسداد، فلا يعقل أن يكون الدليل
مبنيا عليه ومانعا عن جريانه، وحيث إن دليل التلازم وهو الاجماع ليس دليلا
على اللازم، لبداهة أن صدق الشرطية يجامع كذب طرفيها، فكيف يكون دليلا
على أحدهما بل دليل الملزوم دليل اللازم، فدليل الانسداد دليل المتيقن
فلا يلزم أن يكون الدليل شرعيا بل عقلي.
والتحقيق أن الأمر كما أفيد بالنسبة إلى دفع الإشكال الثاني، لان حجية الخبر
معلقة على حجية الظن بدليل الانسداد، فلا يعقل أن يكون مما يتوقف على
عدمه الدليل إلا أن ما قيل في عقلية الدليل من أن دليل الملزوم دليل اللازم غير
وجيه، لأن مناط عقلية الدليل كما مر في أول دليل الانسداد كون الدليل على
الكبرى الكلية أو ما بمنزلتها عقليا.
والنتيجة من افراد الكبرى الكلية فتتبعها (3) في العقلية والشرعية.
فالمناط في كون الاستلزام عقليا أو شرعيا بالدليل على الملازمة، ولذا قلنا بأن
المقدمات وإن كانت لكل منها كبرى عقلية أو شرعية إلا أن المقدمات.
حيث إنها بنحو القياس الاستثنائي مقدم القضية وحجية الظن عقلا أو شرعا
بمنزلة التالي، فمناط عقلية الدليل عقلية استلزام المقدم للتالي.
وهذا لا ربط لا باستلزام المقدمتين للنتيجة حتى يقال إنه دائما عقلي بل

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 140: وهم ودفع.
(2) فرائد الأصول: ص 140 والرسائل: ج 1، ص 231 - 230.
(3) (خ ل): فتتبعها.
352

استلزام المقدم للتالي بمنزلة الكبرى الكلية، فإذا كان استلزام المقدم للتالي عقليا
كان ما هو بمنزلة الكبرى الكلية عقليا، ومن الواضح أن وضع المقدم، ربما يستند
إلى شئ ووضع التالي إلى شئ اخر مثلا انخساف القمر مستند إلى الحس
وحيلولة الأرض بينه وبين الشمس مستند إلى الحدس، لدخول هذا الحكم في
الحدسيات اليقينية وكذا تغير العالم مستند إلى الحس، والحدوث مستند إلى
البرهان، فدليل ذات الملزوم ليس دليلا على ذات اللازم بل دليل الملازمة عند
وجود أحد المتلازمين دليل على الاخر.
فان معنى الملازمة ثبوت أحد الأمرين عند ثبوت الاخر، فبسبب الملازمة
يحكم بثبوت أحدهما عند ثبوت الاخر، وما يرى من التلازم بين العلمين فهو من
جهة ثبوت الملازمة بين المعلومين، لا أن العلم بأحدهما علة للعلم بالآخر ليكون
سبب العلم بأحدهما سببا للعلم بالآخر.
لا يقال: ليس بابه باب التلازم ليرد عليه ما ذكر بل بابه باب تعيين ما هو الحجة
بدليل الانسداد بالاجماع مثلا، فيكون تعيينا لما هو مدلول الدليل.
لأنا نقول: قد عرفت سابقا أن المقدمات عن اعتبار الخصوصيات لا
اقتضائه (1)، فلا يعقل الدلالة عليه واقعا حتى يكون الاجماع مثلا معينا لما هو
مقتضى المقدمات، فتدبر جيدا.
152 - قوله: لا يخفى أن الظن باعتبار ظن بالخصوص الخ:
قد عرفت سابقا في بيان مقتضى الدليل على الحكومة عدم تعين مظنون
الاعتبار، لعدم كون الملاك فيه أقوى ليكون كالظن القوى حتى يكون له تعين
عقلي ليصح الاشكال عليه شرعا إلى الكشف، ومنه ظهر ما في دعوى القطع
بكونه حجة على أي حال فراجع ما تقدم.

(1) (خ ل): اقتضاء.
353

153 - قوله: وكان منع شيخنا العلامة (1) الخ:
قد مر مفصلا منافاته لدعوى مساواة القول بحجية الواصل بنفسه والواصل
ولو بطريقه في الترجيح بالقوة وقد مر دفع المنافاة بينهما فراجع (2).
154 - قوله: إلا فيما إذا كان هناك ناف من جميع (3) الخ:
فإنه مزيل للشك في المسألة الفرعية فلا يجب الاحتياط فيها، بخلاف ما إذا
لم يكن كذلك فإنه لا يجوز رفع اليد عن الاحتياط في المسألة الفرعية بالاحتياط
في الأخذ بالظنون النافية، مع أن الاحتياط فيها لأجل التحفظ على الواقعيات
المنجزة بالعلم الاجمالي الموجب لجعل الظن حجة فيها حتى تمتثل امتثالا ظنيا
فتدبر.

(1) أي العلامة الأنصاري في الفرائد.
(2) التعليقة: 148، ص 344 و 347.
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 142 وكفاية الأصول: 324 (ت، آل البيت).
354

تحقيق في إشكال خروج القياس عن عموم النتيجة
155 - قوله (1): وتقريره على ما في الرسائل (2) الخ:
تعميم الاشكال لصورة الاحتمال بملاحظة انه لا ثمرة عملية لتوجيهه في
خصوص الظن القياسي مع القطع بالمنع، بخلاف ما إذا عممناه لصورة احتمال
المنع، فإنه مناف لاستقلال العقل بحجية الظن مطلقا، وتقريب الاشكال أن
استلزام المقدمات لحجية الظن بنحو القياس الاستثنائي من باب استلزام المقدم
للتالي عقلي، كما مر (3) فلولا علية المقدم للتالي بنحو التمامية لا يتحقق
الاستلزام العقلي، وحيث إن التالي قبح ترك الإطاعة الظنية فمنع الشارع عن الإطاعة الظنية بالظن القياسي يلزم منه أحد محاذير ثلاثة:
إما عدم تمامية الملاك في الظن بما هو ظن وهو خلف لفرض الاستلزام
العقلي ووصول النوبة إلى حجية الظن بما هو.
وإما انفكاك المعلول عن علته التامة وهو محال.
وإما ارتكاب الشارع للقبيح بترجيح غير الإطاعة الظنية على الإطاعة الظنية،
مع أن المفروض أن الظن بما هو ظن مقدم على الشك والوهم لرجحانه عليها،
فتقديمها عليه ترجيح المرجوح على الراجح وحيث يستحيل صدور القبيح
من الحكيم (تعالى) ويستحيل انفكاك المعلول عن علته التامة فلا محالة يكون
الاختلال في الملاك فيكشف عن عدم تمامية الملاك، ومع عدم تمامية الملاك
كيف يعقل الاستلزام العقلي بين المقدم والتالي.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 142 وكفاية الأصول: 325 (ت، آل البيت).
(2) الرسائل: ص 156.
(3) التعليقة: 149، ص 347.
355

ولا يخفى أن فرض التخصيص في الدليل العقلي بملاحظة المحذور الثاني
دون الأول والثالث، ففرض عدم قبحه من الشارع تخصيص في الدليل لا فرض
عدم تمامية الملاك ولا فرض صدور القبيح، بل الأول خلف والثاني محال اخر،
لمنافاته لفرض الحكمة المانعة عن اختيار القبيح، ومنه تعرف أن مجرد الالتزام
بوجود ملاك الحجية لا يستلزم التخصيص في الدليل العقلي لإمكان فرض
الإلتزام بقبحه حتى على الشارع مع الإلتزام بصدور القبيح منه، فعدم الالتزام
بقبحه عليه تخصيص، لا الالتزام بصدور القبيح منه فإنه محال اخر لا ربط له
بالتخصيص في الدليل العقلي، فتدبر جيدا.
156 - قوله: بداهة أن مقدمات حكمه عدم وجود علم أو علمي (1) الخ:
فمع المنع عن الظن القياسي ينفتح فيه باب العلم أو العلمي، ومن الواضح أن
ما كان ثبوته معلقا على عدم شئ لا يعقل أن يكون مانعا عن ثبوته، إذ لا مانعية
له إلا في فرض ثبوته ولا ثبوت له إلا في فرض عدم الشئ المعلق عليه، فكيف
يعقل ثبوته في فرض ثبوت ذلك الشئ حتى يمنع عن ثبوته، فمانعية حكم
العقل عن المنع عن الظن القياسي ممتنعة، كما أن مانعية المنع عن الظن القياسي
عن استقلال العقل بحجية الظن مطلقا حتى الظن القياسي ممتنعة، إذ لا ثبوت
لحكم العقل مطلقا مع فرض ثبوت المنع حتى يمنع عن ثبوته.
والجواب عنه: أن فرض التعليق على عدم المنع وان كان مقتضاه ذلك، لا أن
الكلام في صحة التعليق.
توضيحه: أن ما هو مقدمات (2) دليل الانسداد هو الانسداد الكلى في معظم
الاحكام الغير المنافى للانفتاح الجزئي، والظنون إذا كانت متساوية في نظر العقل
يكون كلها حجة وان زادت على ما يفي بمعظم الاحكام، للزوم الترجيح
بلا مرجح والتعيين بلا معين من فرض العمل بما يفي بمعظم الاحكام في ضمن

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 144، س 10 وكفاية الأصول: 325 (ت، آل البيت) - بداهة ان من
مقدمات حكمه عدم وجود علم ولا علمي.
(2) (خ ل): أن ما هو من من مقدمات الانسداد.
356

طائفة خاصة من الظنون، فالمنع عن الظن القياسي وإن كان يوجب الانفتاح
الجزئي الموجب لخروجه عن المعظم الذي فرض انسداد باب العلم فيه، إلا أن
الكلام في صحة المنع الموجب لذلك لا من حيث لزوم تفويت المصالح الواقعية
في صورة الإصابة أو اجتماع الحكمين المتنافين وأشباه ذلك مما يتصور في
الأمر بالعمل ببعض الظنون في صورة انفتاح باب العلم حتى يقال بأنه اشكال
برأسه يجرى نظيره في الأمر بالعمل بالظن شرعا أيضا.
بل من حيث إن تساوى نسبة الظنون في نظر العقل مع فرض اللا نسداد الوافي
بحجية الظن عقلا يمنع عن خصوص ظن واخراجه عن دائرة الظنون
المتساوي النسبة، فابداء التفاوت بنفس المنع يستلزم الدور، حيث لا يصح المنع
الا مع التفاوت فكيف يحصل التفاوت بالمنع حتى يصح تعليق حجية الظن على
عدم المنع، فلا محيص عن ابداء التفاوت الموجبة (1) لصحة المنع ولاختصاص
الملاك العقلي بغيره.
فنقول: إن في كل ظن من المظنون حيثيتين شخصية ونوعية.
الأولى: غلبة احتمال ثبوت الواقع على احتمال عدمه وهذه الحيثية ذاتية
للظن لا يعقل تفاوت ظن دون ظن فيها وإن كان يقوى الاحتمال الغالب ويضعف
إلا أن أصل الغلبة على احتمال العدم محفوظ في الجميع.
الثانية: غلبة صنف من الظنون من حيث المصادفة للواقع ولا في نظر الظان
على صنف اخر من الظنون فيكون صنف من الظن غالب المصادفة مع الواقع
واقعا، وصنف اخر منه غالب المخالفة للواقع واقعا.
وما يستحيل خلافه في نظر الظان هو الأول دون الثاني فان من يظن من
القياس بثبوت شئ واقعا يظن بإصابته شخصا للواقع.
لا أنه يظن بإصابة نوعه للواقع بل يقطع بمخالفة نوعه في الواقع وإن كان هذا
الشخص في نظره مظنون المصادفة لكنه لا عبرة بظن إصابته المتقوم به الظن
بالثبوت فإنه شخصي لا نوعي.

(1) (خ ل): الموجب.
357

ومن المعلوم أن حكم العقل بالتنزل من الإطاعة العلمية إلى الظنية لا من
حيث مطلوبية صفة الظن بالإطاعة في نفسه لكيلا تتفاوت فيه افراد الظنون بل
لأجل مراعاة الاحكام الواقعية المعلومة بالاجمال.
وانما يكتفى بالإطاعة الظنية لأجل غلبة إتيان الواقعيات في ضمن
المظنونات لغلبة مصادفتها واقعا.
فإذا فرض أن صنفا مخصوصا من الظن غالب المخالفة مع الواقع واقعا في
نظر العقل فلا محالة لا يرى موافقته للأحكام الواقعية غالبا حتى يستقل بالتنزل
إلى مثل هذه الإطاعة الظنية، بل يستقل بالإطاعة الظنية بالظنون الأخر التي
بمقتضى طبعها غالب المصادفة مع الواقع، وكما أن هذه الخصوصية إذا استقل
بادراكها العقل يستقل بالتنزل إلى الإطاعة الظنية بغير الصنف المتخصص بتلك
الخصوصية كذلك إذا كشف عنها الشارع، فما به التفاوت تلك الخصوصية
المنكشفة بمنع الشارع لا نفس منعه، فتمام ملاك الحجية في نظر العقل غلبة
الإصابة شخصا ونوعا، لا خصوص الأولى المقومة لكل ظن.
لا يقال: إذا كان هم العقل الاتيان بالواقع فحيث يظن بالواقع فهو مع قطعه
بان صنف هذا الظن غالب المخالفة للواقع يظن بأن هذا الظن شخصا من الافراد
النادرة الموافقة للواقع فكيف يرفع اليد عنه.
لأنا نقول: ليس ترك موافقة الواقع في شخص ظن تحفظا من الوقوع في
خلاف الواقع لعدم تميز الافراد الغالبة من النادرة أمرا مستنكرا.
بل يرى العقل أنه من اللازم عدم موافقة هذا الصنف من الظن، فإنه وإن كان
بحسب الصورة إطاعة للأحكام ظنا لكنه بحسب الواقع إضاعة للأحكام نوعا.
هذا كله فيما إذا كان النهى عن الظن القياسي نهيا طريقيا لم يلحظ فيه إلا غلبة
مخالفته للواقع.
وأما إذا كان نهيا نفسيا حقيقيا منبعثا عن مفسدة في العمل بالظن القياسي
كالأمر بالعمل بالخبر بناء على الموضوعية والسببية، حيث يكشف عن مصلحة
في العمل به بعنوان عرضي وان لم يكن مؤداه ذا مصلحة في حد ذاته.
358

فالوجه في خروج الظن القياسي عند العقل كشف النهى عن مفسدة عرضية
في جميع أفراده، وحيث إن حكم العقل بالإطاعة الظنية لتحصيل الواقعيات
المتضمنة للأغراض المولوية فإذا فرض إدراك العقل ولو بواسطة الشارع تضمن
موارد الظنون القياسية لأغراض مولوية أخر غالبة على الاغراض المولوية الذاتية
فلا محالة لا يستقل بموافقة الظنون القياسية المتضمنة لأغراض مغلوبة لأغراض
مولوية أخر.
بل يحكم بترك موافقتها لزوما، فما به التفاوت هذه الخصوصية المستكشفة
بمنع الشارع لا نفسية، فالإطاعة الظنية المتضمنة نوعا للأحكام الواقعية
المتضمنة لأغراض مولوية غير مغلوبة لأغراض مولوية أخر هي التي يستقل بها
العقل عند التنزل من الإطاعة العلمية، لاكل إطاعة ظنية وإن كانت نوعا غير
متضمنة للأحكام الواقعية أو كانت متضمنة لضد تلك الاغراض المولوية، هذا
ما هو التحقيق في صحة المنع وعدم منافاته لحكم العقل بحجية الظن.
وأما ما يقال: في وجه عدم المنافاة من أن وجه الزام العقل بالعمل بما يظن
كونه حكما واقعيا تنجز الاحكام الواقعية بسبب العلم الاجمالي فما يظن كونه
حكما منجزا مظنون العقاب، فالعقاب يلزم بدفعه ومع منع الشارع يقطع بعدم
العقاب فلا موضوع لحكم العقل.
فيندفع: بأن منع الشارع لا يكشف عن عدم كونه مظنون العقاب ليكون
كاشفا عن تفاوت الظن القياسي مع غيره في ذاتهما بل بنفس المنع يزول الحكم،
فلا يبقى ما يظن بثبوته فعلا ليكون منجزا معاقبا على مخالفته.
والكلام في صحة المنع المزيل للحكم المظنون فلا يقاس الظن بالعقاب
بالخصوصية المستكشفة من النهى الطريقي أو النهى الحقيقي.
157 - قوله: فيما كان هناك منصوب ولو كان أصلا (1) الخ:
لا يقال: كيف ويجوز العمل بالظن ولا تجرى الأصول الموردية كما هو مبنى

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 144 وكفاية الأصول: 325 (ت، آل البيت).
359

حجية الظن.
لأنا نقول: عدم جريانها مستند إلى حجية الظن بل إلى العلم الاجمالي
المانع عن جريان الأصول في أطرافه فحجية الظن معلقة على عدم جريانها لا انها
مانعة عن جريانها.
158 - قوله: بل هو يستلزمه فيما كان في مورده (1) الخ:
أي يستلزم فعلية جريان الأصل المنصوب في مورد الظن المنهى عنه لفرض
رفع الإطاعة العلمية والظنية فلا مانع من جريان الأصل.
لا يقال: فعلية جريانه مستندة إلى رفع مانعه وهو تنجيز العلم الاجمالي فرفع
الإطاعة العلمية يصحح جريان الأصل.
لأنا نقول: قد مر في مقدمات دليل الانسداد (2) أن نتيجة المقدمات تضييق
دائرة الاحكام المنجزة في المظنونات لا رفع التنجز الحاصل بسبب العلم
الاجمالي، والا لم يكن مقتض للتنزل إلى الإطاعة الظنية، فإذا فرض المنع عن
الظن في مورده كان معناه تضييق دائرة المنجزات في غير ذلك المورد، فهو
الموجب لفعلية جريان الأصول الموردية فيه.
159 - قوله: إلا كالأمر بما لا يفيده الخ:
فان المانع ليس إلا استقلال (3) العقل بلزوم الإطاعة الظنية بعد التنزل عن
الإطاعة العلمية، فكما أن ترك الإطاعة الظنية مناف لحكم العقل كذلك لزوم
الإطاعة الوهمية والشكية بالعمل على طبق ما لا يفيد الظن مناف لحكم العقل
بالتنزل إلى الإطاعة الظنية دون غيرها، وكما يجاب عن الثاني بأنه لا حكم للعقل
مع نصب الشارع كذلك يجاب عن الأول بأنه لا حكم للعقل مع منع الشارع.
ويمكن أن يقال: بالفرق بين المقامين، فان مورد استقلال العقل بالإطاعة
الظنية دون الوهمية والشكية صورة دوران الأمر في باب إطاعة الواجبات
والمحرمات المعلومة اجمالا بعد التنزل عن الإطاعة العلمية بالاحتياط في

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 144، س 12 وكفاية الأصول: 325 (ت، آل البيت).
(2) التعليقة: 135، ص 277.
(3) (خ ل): إلا الاستقلال.
360

جميع الأطراف بين إطاعة تلك التكاليف في دائرة مظنونات التكليف وإطاعة
تلك التكاليف في دائرتي الموهومات والمشكوكات من التكاليف فيرجح الأولى
على الثانية لقبح ترجيح المرجوح على الراجح.
وأما الإطاعة الوهمية أو الشكية زيادة على العمل بمظنونات التكليف بسبب
نصب ما لا يفيد الظن فلا ربط له بمورد الدوران الذي يحكم العقل بترجيح
الإطاعة الظنية على غيرها، بخلاف ترك إطاعة الظن بالتكليف في مورد، فإنه
مناف لاستقلال العقل بلزومها.
نعم، إذا فرض دوران الأمر في مورد بين وجوب القصر ووجوب الاتمام مثلا
وكان وجوب القصر مظنونا وكان على وجوب الإتمام أمارة لا تفيد الظن
فلا محالة يكون وجوب الاتمام موهوما، فالأمر بالإطاعة الوهمية دون الظنية
كالمنع عن الإطاعة الظنية مناف لاستقلال العقل بلزوم الإطاعة الظنية دون غيرها
في مورد الدوران.
لكن هذا الاشكال إنما يتوجه في مثل هذا المورد بناء على أن معنى حكومة
العقل بحجية الظن جعله منجزا في هذه الحال، كالعلم مطلقا فان منجزية الامارة
التي لا تفيد الظن في قبال المفيدة للظن عن ترجيح المرجوح، بخلاف ما إذا قلنا
بأن تنجز التكاليف الواقعية بالعلم الاجمالي، وأن معنى حكومة العقل حكمه
بلزوم التنزل إلى الإطاعة الظنية في قبال الشكية والوهمية، فباب المنجزية شرعا
غير باب إطاعة التكاليف المعلومة ظنا، إذ مع الحجية الشرعية على طرف يخرج
الطرف عن دائرة المعلوم بالاجمال، فمنجزية الامارة في غير دائرة لزوم التنزل
من الإطاعة العلمية إلى الإطاعة الظنية، فافهم وتدبر.
160 - قوله: واستلزام امكان المنع لاحتمال المنع (1) الخ:
قد مر مرارا (2) ان الظنون إن لم تكن متفاوتة في نظر العقل يكون الكل حجة
وإن كان زائدا على ما يفي بمعظم الفقه.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 145 وكفاية الأصول: 326 (ت، آل البيت).
(2) التعليقة: 156، ص 356.
361

فان تعيين ما يفي بالمعظم من بين الكل بلا معين فمن باب الترجيح بلا مرجح
يحكم العقل بحجية الكل فلا بد حينئذ من الالتزام بمانعية احتمال المنع عقلا
حتى يتعين ما لا يحتمل فيه المنع للاقتصار عليه مع وفائه بالمعظم.
ومن الواضح انه بناء على مبناه - قده - من توجيه خروج الظن القياسي بانتفاء
مقدمة من مقدمات الدليل بالنسبة إليه وهو انسداد باب العلم والعلمي، فمع
المنع عنه شرعا قد انفتح باب العلم والعلمي فيه فيخرج عن مورد الاستلزام
العقلي لا يصح إلحاق احتمال المنع بالقطع به.
بداهة عدم انفتاح باب العلم والعلمي إلا بوصول المنع إلا باحتماله، فالمانع
عن تمامية المقدمات هو المنع الواصل دون غير الواصل، فلا يندرج تحت عنوان
عدم الحكم بالمقتضى عند وجود مقتضيه إلا مع إحراز عدم المانع، فمع احتماله
لا يحكم بوجود المقتضى، حيث عرفت أن المانع هو المنع الواصل وهو جزما
غير حاصل.
وهكذا بناء على ما ذكره - قدس سره - في تعليقته الأنيقة (1) من أن هم العقل
تحصيل الأمن من تبعة الواقعيات المنجزة، ومع منع الشارع لا يحصل الأمن
من تبعة الواقع عند الاقتصار على موافقة الظن القياسي.
فلا يمكن إلحاق الظن بالمنع واحتماله بالقطع به أيضا، لان الإطاعة الظنية في
حد ذاتها موجبة للظن بالفراغ عن تبعة الواقع.
فإذا قطع بالمنع شرعا كشف عن عدم كفاية الشارع بها في امتثال واقعياته
المنجزة فلا يستقل العقل بالاقتصار عليها بخلاف ما إذا لم يكن كاشف عن عدم
كفاية الشارع فان الإطاعة الظنية في محتمل المنع وغيره على حد سواء في نظر
العقل.
لأن الملاك في نظر العقل تحصيل الظن بالفراغ عن الواقع، وكل ظن بالواقع
يستلزم الظن بالفراغ عنه، واحتمال المنع لا يوجب إلا احتمال عدم الفراغ في

(1) تعليقته على الفرائد: ص 100 - وهما لا يكون مؤمنا وهم العقل في جميع مراتب الامتثال على
تحصيله...
362

حكم الشارع، لاحتمال المنع عنه شرعا لا انه يستلزم عدم الظن بالفراغ عن الواقع
الذي يتساوى نسبته إلى الشارع وغيره كما بيناه مفصلا في مسألة الظن
بالطريق (1).
والتحقيق ما قدمناه (2) من أن المنع إذا كان طريقيا يكشف عن غلبة مخالفة
الطريق الممنوع عنه شرعا للواقع.
وإذا كان حقيقيا يكشف عن اشتماله على غرض مناف للغرض الأولى الذاتي
فبواسطة وصول المنع الطريقي أو الحقيقي ينكشف ما يتفاوت به الظن الممنوع
عن غيره.
وما لم يصل سواء ظن بمنعه أو احتمل منعه لا ينكشف ما يتفاوت به ظن عن
ظن في نظر العقل ليجب الاقتصار على ما لم يتطرق إليه احتمال المنع مع وفائه
بمعظم الفقه، للزوم الترجيح بلا مرجح في نظر العقل الحاكم بحجية الظن
وسيجيئ انشاء الله تعالى تتمة الكلام في المسألة الآتية فانتظر (3).
161 - قوله: لم خصصوا الاشكال الخ:
قد تقدم ما يمكن أن يكون فارقا بين المقامين إلا أحيانا فراجع مع جوابه (4).
162 - قوله: ولا يكاد يجدى صحة كذلك (5) الخ:
صحة الشئ في نفسه وان لم تكن مقتضية لصحته من جهة عارضه، لكنك قد
عرفت أن ملاك صحته واف بدفع الاشكال في صحته بلحاظ حكم العقل، وقد
مر تفصيله فراجع (6).

(1) التعليقة: 142، ص 302.
(2) التعليقة: 156، ص 358.
(3) التعليقة: 163، ص 364.
(4) التعليقة: 160، ص 362.
(5) كفاية الأصول: ج 2، ص 147، س 2 وكفاية الأصول: 327 (ت، آل البيت).
(6) التعليقة: 156.
363

في الظن المانع والممنوع
163 - قوله: إذا قام ظن على عدم حجية ظن بالخصوص الخ:
الاشكال تارة: بلحاظ أن الحكم بحجية كلا الظنين محال والحكم بحجية
أحدهما بلا مرجح قبيح.
فإما أن يبين المرجح لأحد الظنين أو يحكم بتساقطهما لاستحالة حجية
المتنافيين.
وأخرى: بلحاظ أن حجية الظن مع احتمال المنع عنه فضلا عن الظن
لا يجتمعان، بداهة منافاة القطع بالحجية مع احتمال عدمها.
ومن الواضح: أن الاستقلال في العنوان وتحرير البحث عنه بعد البحث عن
المسألة السابقة يقتضى أن يكون محط النظر هي الجهة الأولى كما عن شيخنا
العلامة الأنصاري - قده - (1) وعليه يبتنى على حجية الظن بالطريق وإلا فلا تمانع
من تلك الحيثية حيث لا يترقب دخول الظن المانع.
واما بناء على تحرير شيخنا العلامة الأستاذ - قده - (2) بما توافق الجهة الثانية
فهو وإن كان خلاف الظاهر ممن تعرض له بعد التعرض للبحث السابق لكنه
لا يبتنى على حجية الظن بالطريق بل لا يبتنى على حجية الظن بالواقع أيضا
لإمكان قيام الظن المانع على عدم حجية الظن الممنوع القائم على حجية شئ،
وعلى أي حال فنحن نحرر (3) البحث بكلتا الجهتين.
فنقول: اما الاشكال من الجهة الأولى: فيمكن أن يقال في تقريب حجية

(1) الرسائل: ص 162.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 147، س 2 - فالتحقيق... وكفاية الأصول: 327 (ت، آل البيت).
(3) (خ ل): نحرز.
364

مبحث الظن: الظن المانع والممنوع
الظن المانع دون الظن الممنوع أن حجية الظن كلية مقيدة بعدم المنع الواصل
بحيث لا ملاك ولا مقتضى تام الاقتضاء مع وجود المنع الشرعي الواصل فالظن
المانع بفرض شمول دليل الحجية له يوجب انتفاء الملاك والمقتضى التام في
طرف الظن الممنوع، بخلاف الظن الممنوع فإنه بفرض شمول دليل الحجية له
يوجب انتفاء الملاك في الظن المانع.
بل غاية الامر ان حجيته مناف لحجية المانع ولا يجتمع معه لا انه يوجب
انتفاء الملاك فيه لان وصوله ليس وصول المانع بل وصول المنافى بعين الملاك
الذي هو موجود في الظن المانع.
وإذا دار الامر بين مقتضيين:
أحدهما يكون تأثيره رافعا لوجود الاخر ومسقطا (1) له عن تمامية الاقتضاء
والاخر يكون تأثيره منافيا لتأثير الاخر لا لتمامية اقتضائه في نفسه فالتأثير
للأول إذ لا يقبل المزاحمة من الثاني الا بعد تمامية اقتضائه في نفسه ولا يكون
تام الاقتضاء إلا بفرض عدم تأثير الأول.
ولا مانع من تأثير الأول الا ما هو تام الاقتضاء فيتوقف مزاحمة الثاني لتأثير
الأول على عدم تأثير الأول فكيف يكون مانعا عن تأثيره ولعل هذا مراد من
جعل المسألة نظير دوران الامر في المعلومات بين التخصيص والتخصص لا ان
غرضه انه عينه ليقال باختصاصه بالعمومات اللفظية لا بالأحكام العقلية
وبتقريب أوضح واخف مؤنة ما ذكر ان لكل من الظن المانع والظن الممنوع
دلالة التزامية عقلية على عدم حجية الاخر عقلا.
إذ حجية كل منهما يستلزم عقلا عدم حجية الاخر بهذا الدليل العقلي لفرض
تنافيهما في الحجية بدليل الانسداد وهذه الدلالة الالتزامية العقلية مشتركة بين
الظنين من دون تفاضل من هذه الجهة بينهما.
ولكل من الظنين مدلول مطابقي بالمدلول المطابقي للظن المانع هو المنع
شرعا عن الظن الممنوع، والمدلول المطابقي للظن الممنوع هو وجوب الصلاة

(1) (خ ل): مستطالة.
365

مثلا ولازم هذا المدلول المطابقي عدم حرمة الصلاة لا المنع عن العمل بالظن
المانع شرعا.
وعليه فإذا فرض ان حجية الظن عقلا مقيدة بعدم قيام الحجية على المنع
شرعا عنه ففرض شمول دليل الانسداد للظن المانع فرض قيام الحجة عقلا على
المنع عن الظن الممنوع شرعا فلا ملاك تام الملاكية لاستقلال العقل بحجيته،
وفرض شمول دليل الانسداد للظن الممنوع على ما مر ليس فرض قيام الحجة
عقلا على المنع عنه شرعا فالملاك في الظن المانع على تمامية وكماله فحكم
العقل بحجية الظن الممنوع يوجب انفكاك المعلول عن علته التامة وهو محال،
وحكم العقل بحجية الظن المانع لا يبقى مع تمامية ملاك الظن الممنوع فلا يلزم
انفكاك المعلول عن علته التامة فلا محالة يحكم العقل بحجية ما لا يلزم منه
محال ويستحيل أن يحكم بحجية ما لا يلزم منه محال من دون توقف على
ضميمة الدور أو أمر آخر.
هذا بناء على تقيد الحجة بعدم المنع شرعا.
وكذا بناء على ما ذكرنا من أن ملاك الحجية غلبة الإصابة شخصا وعدم غلبة
المخالفة نوعا فان الظن المانع يكون كاشفا ظنا عن غلبة مخالفة الظن الممنوع
للواقع نوعا فبضميمة دليل الحجية يكون حجة على غلبة مخالفة الظن الممنوع
شرعا بخلاف الظن فإنه بضميمة دليل الحجية لا يكشف عن ذلك بل
ينافي حجية المانع مع فرض تمامية الملاك فيه، فيجرى فيه ما ذكرنا من
المعارضة بين تام الاقتضاء في فرض تأثير الممنوع وغير تام الاقتضاء في فرض
تأثير الظن المانع إلا ان الاستناد إلى الكشف من هذه الجهة مختص بالظن
القياسي الذي دلت الاخبار والآثار على غلبة خطابه دون غيره، خصوصا إذا كان
الظن المانع والممنوع من نوع واحد من الامارات بل الأولى الاستناد إلى
الكشف عن غلبة المفسدة في العمل به على المصلحة في صورة إصابة الواقع
من دون حاجة ملاحظة أقوى الظنين بعد فرض غلبة المفسدة كما لا يخفى،
وبما ذكرنا تقدر على دفع جميع ما يورد على تقديم الظن المانع.
وأما الاشكال من الجهة الثانية فهو عين الاشكال المتقدم في المسألة
366

المتقدمة إذ المناط عدم استقلال العقل بوجود المقتضى مع عدم إحراز عدم
مانعه سواء الظن بوجوده أو احتمل وجوده، وقد عرفت أن احتمال المانع غير
مانع وان المنع الواصل يوجب عدم تمامية المقدمات بانتفاخ باب العلم
والعلمي أو يوجب عدم تمامية الملاك لفرض انكشاف غلبة الخطاء في الظن
الممنوع أو اشتماله على ما ينافي الغرض المولوي كما قربناه وكل ذلك منتف
في فرض عدم وصول المنع.
وقد عرفت أن الوفاء بمعظم الفقه ليس بنفسه موجبا لاقتصار على الوافي
ليقال إنه لا موجب لحجية الظن الممنوع حتى يتكلم في أن الظن بالمنع يمنع عن
حجيته أم لا.
وذلك لأنه مع عدم تفاوت الظنون في نظر العقل لا يتعين طائفة منها للحجية
دون غيرها ولو كانت وافية لأنه ترجيح بلا مرجح وتعيين بلا معين فيكون الكل
حجة بل قد عرفت سابقا أن الظن القوى مع كون الملاك فيه أقوى لا يقتصر عليه
إلا في مقام الدوران لان اللازم بحكم (1) العقل التنزل إلى الإطاعة الظنية من
الإطاعة العلمية فكما تجب الإطاعة العلمية مطلقا لا بمقدار الوفاء بمعظم
الفقه كذلك تجب الإطاعة الظنية مطلقا لا بمقدار الوفاء بالمعظم وقد أوضحنا
كل ذلك مرارا.
نعم من يجعل الحكومة بمعنى حكم العقل بمنجزية العقل بمنجزية الظن في حال الانسداد
كمنجزية القطع على أي حال له أن يقتصر على ما يفي بالمعظم إذ شبهة الخروج
عن الدين باعمال الأصول الموردية تندفع بكون الظن منجزا بهذا المقدار ولعل
شيخنا (2) - قده - يميل إلى هذا المبنى كما صرح بهذا المعنى في غير مورد إلا أن
المبنى ضعيف كما بيناه مرارا (3).
وأما ما عن شيخنا الأستاذ - قده - في تعليقته المباركة (4) في هذا المقام
والمقام السابق من عدم استقلال العقل بالأمن من العقوبة مع ظن المنع أو

(1) (خ ل) يحكم العقل.
(2) كفاية الأصول ج 2، ص 140 و 139.
(3) التعليقة: 147، ص 336.
(4) حاشية الرسائل: ص 100.
367

إحتماله وهم العقل تحصيل الأمن من العقوبة فلذا يقتصر على مالا يحتمل المنع
عنه شرعا إذا كان وافيا بمعظم الفقه.
فيوضح الجواب عنه أن مقتضى العلم الاجمالي بالأحكام عدم الأمن من
عقوبتها إلا بموافقتها القطعية في ضمن المظنونات والمشكوكات والموهومات
ومقتضى بطلان الاحتياط كلية عدم لزوم الموافقة القطعية فيما ذكر من الطوائف
الثلاث ومقتضى بطلان ترجيح المرجوح على الراجح عدم موافقة المشكوكات
والموهومات وطرح المظنونات فيتضيق دائرة الاحكام المنجزة في خصوص
المظنونات وعليه فيقطع بالأمن من عقوبة الواقعيات المنجزة بموافقة
المظنونات.
فإن كان المراد من عدم الأمن من العقوبة بموافقة الظن بمانع عنه
أو يحتمل المنع عنه موافقة ما يوازيها من المشكوكات والموهومات فالواقع
فيهما غير منجز على الفرض حتى يحتاج إلى تحصيل المؤمن.
وإن كان المراد لزوم الاقتصار على المظنونات التي لا يظن ولا يحتمل المنع
عنها إذا كانت وافية بمعظم الفقه.
ففيه أولا ما عرفت مرارا من أن مجرد الوفاء بمعظم الفقه لا يحقق الدوران
الموجب للاقتصار على ماله تعين في نظر العقل بل تجب الإطاعة الظنية بدلا عن
الإطاعة العلمية وان كانت أزيد مما يفي بمعظم الفقه.
وثانيا أن الظن بالمنع أو احتماله لا يوجب انتفاء الملاك الموجب لاستقلال
العقل بلزوم الإطاعة الظنية فان الإطاعة الظنية توجب الظن بالفراغ عن الواقع
المنجز مطلقا وانما يختلف ما يظن المنع عنه وما لا يظن المنع عنه بالفراغ في نظر
الشارع واعتبار الظن بالفراغ في نظر الشارع راجع إلى حجية الظن المظنون
الاعتبار ويلزمه عدم حجية ما لا يظن اعتباره وإن لم يحتمل المنع عنه وقد
عرفت سابقا عدم تعين الظن بالاعتبار في نظر العقل أيضا فالتحقيق ما ذكرناه في
تحرير البحث بكلا وجهيه (1) فتفطن.
.

(1) التعليقة: 147، ص 235.
368

خاتمة في الامرين الاستطراديين
" الأول: هل الظن حجة في الأمور الاعتقادية أم لا؟ "
164 - قوله هل الظن كما يتبع عند الانسداد عقلا (1) الخ:
توضيحه أن الواجب في باب الأمور الاعتقادية إما تحصيل العلم والمعرفة أو
عقد القلب على المعلوم بما هو معلوم بنحو الواجب المطلق أو المشروط أو
عقد القلب على الواقع.
فإن كان الواجب تحصيل العلم أو عقد القلب على المعلوم بما هو فلا مجال
لاجراء مقدمات الانسداد بل باب الامتثال منسد رأسا فان الواجب إما هو نفس
تحصيل العلم الذي لا سبيل إليه أو متقوم بالعلم الذي لا سبيل إليه لا أن باب
الامتثال العلمي التفصيلي منسد فيتنزل إلى الامتثال العلم الاجمالي أو الظني
التفصيلي ومنه يعلم أنه لا مجال لحجية الظن بالخصوص فيه أيضا إذ لا أثر للواقع حتى يترتب على المؤدى تنزيلا له منزلة الواقع.
وأما إن كان الواجب عقد القلب على الواقع فالعلم منجز للتكليف وطريق
الامتثال عقلا فعند انسداد باب العلم وتمامية سائر المقدمات تصل النوبة إلى
حجية الظن ولزوم عقد القلب عقلا على الواقع المظنون من باب التنزل عن
الإطاعة العلمية إلى الإطاعة الظنية وعدم وصول النوبة إلى الظن لا محالة
لاختلال في إحدى المقدمات ومن المعلوم انسداد باب العلم وعدم جواز
إهمال الامتثال رأسا وعدم التمكن من الاحتياط التام لأن الاحتياط التام بعقد
القلب على كلا الطرفين في نفسه غير معقول لعدم إمكان الالتزام الجدي
بالشئ ونقيضه أو بضده بما يقطع بعدمه واقعا والواجب في الواقع أحد

(1) كفاية الأصول ج 2 ص 152 وكفاية الأصول: 329 (ت، آل البيت).
369

الأمرين معينا فلا معنى للالتزام بنحو التخيير الشرعي لفرض تعيينية الواجب
شرعا ولا للالتزام بنحو التخيير العقلي كما في المتزاحمين لأن المفروض
وجوب أحدهما معينا لا كليهما ليتوهم انه مع عدم القدرة على امتثالهما معا
يتخير عقلا بين امتثال هذا أو ذاك.
واما عقد القلب على الواقع اجمالا فلا معنى له إلا عقد القلب على الجهة
الجامعة والغاء الخصوصية واستحالة تعلق عقد القلب بالواقع بخصوصه لما مر
مرارا (1) أن العلم والشوق وكذا عقد القلب لا توجد مطلقا غير متعلق بشئ في
النفس ولا يعقل تعلقها بما هو غير حاضر في أفق النفس كما لا يعقل تعلقها بأحد
الأمرين بخصوصه مرددا إذ المردد لا ثبوت له ذاتا ووجودا ماهية وهوية فلم يبق
الا تعلقها بالجهة الجامعة القابلة للانطباق على الحصة المتقررة في كل واحد من
الأمرين فالمعقود عليه بالذات نفس الجهة الجامعة عنوانا والمعقود عليه
بالعرض ما يطابقها بما هي لا بما لها من الخصوصية.
لاستحالة الاختلاف بين المعلوم بالذات والمعلوم بالعرض والمعقود عليه
بالذات والمعقود عليه بالعرض بالزيادة والنقصان أو بسائر جهات الاختلاف
فيدور الأمر حينئذ بين عقد القلب على الجهة الجامعة وهو الاحتياط الناقص
وعقد القلب على المظنون بخصوصه فان الجهة الجامعة وإن كانت منطبقة على
المظنون أيضا إلا أن الالتزام بالمظنون بخصوصه لا يقتضى الالتزام بالجهة
الجامعة حتى يرتفع الدوران بل يقتضى الالتزام بالحصة المتخصصة بالخصوصية
المظنونة فقط.
بخلاف الالتزام بالجهة الجامعة ابتداء فإنها قابلة للانطباق على الحصة
الأخرى في ضمن غير المظنون ففي الالتزام بالجهة الجامعة موافقة قطعية
بمقدار بخلاف الالتزام بالمظنون فإنه يحتمل معه ترك الالتزام بأصل الواقع
فيدور الأمر بين رعاية الخصوصية ظنا ورعاية الجامع قطعا، والثاني يتعين عقلا،
فهذا هو الوجه في عدم التنزل إلى الامتثال الظني دون ما يتراءى (2) من العبارة من

(1) التعليقة 100 ص 202 و 579.
(2) (خ ل): تاثيرائى.
370

عدم انسداد باب العلم بامتثال الواقع (1) بما هو إجمالا لما عرفت من المحاذير
بل لرجحان الالتزام بالجهة الجامعة المعلومة على الالتزام بالخصوصية المظنونة
ومما ذكرنا تعرف أن الواجب لو كان تحصيل العلم أو العقد على المعلوم
لأمكن القول بالاكتفاء بتحصيل العلم بهذا المقدار، أو عقد القلب على المعلوم
بهذا المقدار من دون الخصوصية في هذه المرحلة لوجوب عقد القلب على
الواقع فإنه القدر الميسور على جميع التقادير فإذا وجب رعايته مع امكانه
وجبت على أي تقدير.
165 - قوله من الاعتقاد به وعقد القلب عليه وتحمله والانقياد له (2)
الخ:
ظاهره - قده - كصريح تعليقته المباركة على الرسائل (3) انه لا بد من عقد القلب
زيادة على العلم والمعرفة في مورد وجودهما وانه مناط الايمان دون مجرد
العلم واليقين والا لزم ايمان الكفر الموقنين باطنا المعاندين ظاهرا أو القول بان
ملاك الايمان والكفر مجرد الاقرار والانكار لسانا من دون اعتبار الاقرار والانكار
جنانا وتوضيح المرام: أن الكلام تارة في بيان حقيقة عقد القلب والاقرار
النفساني وما يقابلهما في قبال العلم وما يقابله.
وأخرى في أن ملاك الايمان الحقيقي الموجب للنعيم الدائم والكفر الحقيقي
الموجب للعذاب الدائم ماذا؟
اما المقام الأول فقد بينا في مبحث الطلب والإرادة من مباحث الجزء الأول
من حاشية الكتاب (4) وفى مبحث الموافقة الالتزامية من أوائل حاشية الجزء
الثاني (5) ان عقد القلب والالتزام النفساني والاقرار والانكار الباطني وما يشبهها
من أفعال القلب.
ولها قيام بها قياما صدوريا بنحو قيام الفعل بالفاعل لا بنحو قيام العرض

(1) (خ ل): الرافع.
(2) كفاية الأصول ج 2، 152 س وكفاية الأصول: 329 (ت آل البيت)
3 - تعليقة على الفرائد: ص 101 س آخر.
(4) نهاية الدراية ج 1 ص 191.
(5) التعليقة: 31 و 32 ص 83.
371

بموضوعه بنحو القيام الحلولي والوجود الناعتي.
فليست هي داخلة في المقولات العرضية ليقال إن المقولة المناسبة لها مقولة
الكيف النفساني أو مقولة الفعل مع أن نسبة النفس إليها بالتأثير والايجاد
لا بالتكيف بها فكيف تكون كيفا لها.
وانه ليس هنا أمران لهما حالتان تدريجيتان بالتأثير والتأثر ك‍ " النار والماء " من
حيث حالتي التسخين والتسخن التدريجيتين فلا معنى لأن يكون من مقولة الفعل
المقابلة لمقولة الانفعال.
بل هي ايجادات نفسانية وهي موجودات نورية من موجودات عالم النفس
والوجود خارج عن المقولات فان مقسمها الماهية.
فراجع ما قدمناه في المبحثين المزبورين وعليه فعقد القلب وإن كان ربط
الشئ بالقلب بربط وجود نوري زيادة على الربط العلمي الذي بلحاظه يطلق
الاعتقاد على العلم الانفعالي بل هذا علم فعلى من منشآت النفس ووجوده
الواقعي عين وجوده العلمي دون المعلوم بالعلم الانفعالي. فان وجوده الواقعي
غير وجوده العلمي إلا أن الاشكال فيه من حيث هذا المعنى من الاقرار
النفساني، والعقد القلبي لازم دائمي للعلم التصديقي المقابل للتصور، فكل علم
تصديقي ملزوم لهذا الفعل القلبي، فما معنى اعتباره زيادة على العلم التصديقي.
وقد بينا ملازمته في مبحث الطلب والإرادة (1).
وتقريبه اجمالا: أن العلم المطلق ليس إلا حضور ذات المعلوم عند القوة
الادراكية سواء كان ادراكا تصوريا أو تصديقيا، والتفاوت بينهما ليس بتعلق الأول
بالمفردات وتعلق الثاني بالنسبة، لأن فرض ثبوت القيام لزيد خارجا في أفق
النفس معقول. وليس الفرض إلا إحضار النفس بالنسبة بالحمل الشائع حاضرة
عند النفس مع أن الحضور ليس إلا مجرد التصور ولا تصديق فيه أصلا كما أن كون
النسبة الحاضرة ذات مطابق في الخارج أو لا لا يوجب تفاوتا في ناحية الصورة
العلمية الادراكية حتى يكون هناك سنخان من العلم بما هو علم ليكون أحدهما

(1) نهاية الدراية: ج 1، ص 193.
372

تصورا والاخر تصديقا.
بل التحقيق: كما عليه أهله ان الحضور السازج المحض تصور والحضور
المتخصص بإقرار النفس تصديق.
فان صورة هذا ذاك فقط تصور محض، ونفس هذا ذاك عند النفس اقرار من
النفس وتصديق منها يوجب كون تلك الصورة الاداركية الملزومة له علما
تصديقيا، وعليه فما من علم التصديقي إلا ومعه إقرار النفس بأن هذا ذاك،
فالالتزام بعقد القلب والالتزام النفساني زيادة على العلم واليقين في باب الايمان
لئلا يلزم محذور الالتزام بايمان الكفار الموقنين الجاحدين بما استيقنت به
أنفسهم كما نطق به القران الكريم لا يجدى شيئا، والالتزام بان عقد القلب - بناء
وفرضا على خلاف اليقين الملزوم لاقرار النفس حقيقة ملاك الايمان والكفر -
بعيد جدا.
فان عدم تأثير ذلك الاقرار الحقيقي اللازم لليقين وتأثير هذا الاقرار بالخلاف
المبنى على الفرض والبناء من باب ترجيح المرجوح على الراجح، لكون الأول
كالذاتي والثاني كالعرضي وسيجيئ انشاء الله تعالى حل هذه العقدة.
واما المقام الثاني: فتحقيق الحال فيه يقتضى بسطا وافيا في المقال ربما يخرج
عن وضع التعليقة والذي لا بد منه على الاجمال هو أن جوهر النفس ما لم
يتجوهر بصورة نورانية أو هيئة ظلمانية باقية في دار البقاء ليسعد بها أو يشقى
لا يكون مستحقا للنعيم الدائم والعذاب كذلك، فالايمان الموجب للخلود في
النعيم والكفر الموجب للخلود في الجحيم هيئة راسخة في النفس إما نورانية أو
ظلمانية.
وقد ورد التعبير عنهما بالنور والظلمة في الآيات والروايات كما ورد التصريح
بأن الايمان أمر قلبي في الآيات والروايات، فكذا ما يقابله وهو الكفر والا فلا
تقابل بين فعل القلب وفعل اللسان.
والمحقق عند أهل التحقيق أن هذا الأمر القلبي هو المعبر عنه بالعلم
والمعرفة والاعتقاد والتصديق لما مر من أن الارتباط بالربط العلمي يصح صدق
عقد القلب عليه ولذا شاع التعبير عن العلم بالاعتقاد.
373

وكذا قد عرفت أن مقوم العلم الحقيقي هو التصديق الجدي القلبي.
وما ورد من أن أول الدين معرفة الله وكمال معرفته التصديق به (1) لا يراد منه
الكمال في قبال النقص.
بل الكمال الأول الذي ينتفى ذو الكمال بانتفائه وهو مقوم الشئ وما به الشئ
يكون شيئا، وما ورد في بعض الاخبار (2) في تفسير الايمان الذي هو فرض القلب
من عطف الرضا والتسليم على اليقين والتصديق فهو بملاحظة أن الايمان ينقسم
إلى علم وحال وعمل، والأولان من فرائض القلب والأخير من فرائض الجوارح.
فالعلم والمعرفة واليقين من معارف القلب والرضا والتسليم وشبههما
المنبعث عن رسوخ العلم والمعرفة من أحوال القلب وملكاته، لا أن الايمان
بلحاظ المقام الأول متقوم بالرضا والتسليم وأشباه ذلك.
وبالجملة حقيقة الايمان الذي هو هيئة نورانية يتجوهر بها جوهر النفس هو
العلم والمعرفة واليقين ولهذه الصفة مراتب:
أحديها: العلم التصديقي الحاصل للمقلد لمكان علمه بصدق مقلده فهو ما لم
يشك عليه قاطع غير محتمل للخلاف إلا أنه غير منشرح الصدر بنور المعرفة
حقيقة، لعدم حصول العلم له من طريق البرهان ولا من طريق الشهود والعيان
المقلد بما هو مقلد غير عارف.
وليس على حد التقليد في الفروع ليكون له قياس برهاني يدل على ثبوت
الحكم الفعلي في حقه ليقال بأنه عالم بهذا الحكم الفعلي حقيقة.
إذ ليس في باب المبدء والمعاد ثبوت تعبدي بل للمعارف ثبوت واقعي
تعرف تارة وتجهل أخرى، وحال المقلد فيها حال من يعتمد على طبيب حاذق
فإنه من باب القطع بحذاقته وإن كان يعتقد أن ما وصفه له هو دواء دائه، لكنه غير
عارف بمرضه ولا عارف بحقيقة الدواء وانما يعرف ذلك الطبيب من الطرق
العلمية النظرية إلا أن المقلد حيث إنه تابع لمقلده فله سعادة بتبعه ويكون
محشورا معه وتحت رأيته وفيه نكتة شفاعة العلماء للمتعلمين.

(1) نهج البلاغة خ 1 ص 40.
(2) الخصال: ص 146، ح 175 وص 178، ح 239، (ط، جماعة المدرسين).
374

ثانيتها (1): المعرفة الحاصلة بالبرهان فصاحبها منشرح القلب بنور المعرفة
حقيقة وله السعادة بالأصالة والاستقلال، وربما يقال انها مستحيلة الزوال
لانبعاثها عن البرهان الذي لا يعقل له زوال.
ثالثتها: المعرفة الشهودية المعبر عنها بعين اليقين المنبعثة عن مكاشفات
روحية بإمداد إلهي وتعريف رباني.
وفوق هذه المرتبة مرتبة حق اليقين وهي مرتبة الاستغراق في شهود نور
العظمة والكبرياء ومقام الفناء في الله والبقاء به، إذا عرفت معنى الايمان فالكفر
يقابله، تارة بتقابل العدم والملكة وهو الجهل بالله تعالى وبما يجب معرفته -
وأخرى يتقابل التضاد وهو اعتقاد خلاف الحق والواقع المعبر عنه بالجهل
المركب، ففي كليهما الاحتجاب عن نور الايمان بالله وبرسوله، إما بنفس عدم
النور أو بما يضاد ذلك النور، والكفر في أصل معناه الستر والاحتجاب.
وأما الشبهة المتقدمة الباعثة على الالتزام بأمر قلبي اخر في قبال المعرفة
الذي قد عرفت أن حقيقته لا يتجاوز الفرض والبناء القلبي باحضار صوره أمر حق
أو باطل، فتحقيق دفعها أن النفس في بدء فطرتها جوهر قابل لأن يتجلى فيه صور
حقايق الأشياء فهو في حد ذاته عقل هيولائي، وبالتعقل يصير عقلا بالفعل لكنها
إما بالذات أو بالعرض متفاوتة في غلبة سلطان العقل فيه على سلطان الوهم
وبالعكس، فإذا غلب سلطان العقل فيه كان باكتسابه المعقولات الدائمة الفاضلة
من العلم بالله وبصفاته وأفعاله وبرسله وبكتبه وباليوم الاخر جوهرا عقلانيا
نورانيا خارجا عن أفق الانسان الطبيعي البشرى إلى أفق الملأ الأعلى والملائكة
المقربين، وإذا غلب عليه سلطان الوهم الذي فعله الشيطنة والتموية والتلبيس
والأغاليط والأكاذيب ودفع الحق بالتشكيكات الوهمية.
فلا محالة يكون بتراكم الوهميات ورسوخ الشبهات شيطانا من جملة
الشياطين، ومن البين عند كل ذي وجدان أن غلبة الوهم ربما يزيل أثر اليقين،
كما في تخلية صاحب الوهم الغالب بالميت فإنه مع علمه بأنه لا يعود حيا عادة
ولو فرض لا يكون أقوى منه ولو فرض من جملة أحبائه وأخلائه، ومع هذا كله

(1) (خ ل): ثانيتهما.
375

يخاف منه ولا ينام عنده وحده، وليس ذلك إلا لغلبة سلطان الوهم، فكذا من
حصل له العلم بأمر حق من مبدء أو معاد فإنه إذا غلبت عليه قوته الوهمية
لرسوخ الملكات الرذيلة وأعانها حب الجاه والرئاسة فإنه تحدث في نفسه
شبهات وتمويهات تروجها قوة الشيطنة إلى أن يزيل أثر اليقين بل إلى أن يضعف
اليقين بل يزيله فان نور اليقين كنور الباصرة فإنه بسبب تراكم الدخان يزول أثره بل
يضعف إلى أن يزول فكذا بسبب تراكم الشبهات والتمويهات تزول تلك الهيئة
النورانية وتقوم مقامها هيئة ظلمانية شديدة راسخة.
فان العلم الحاصل من غير البرهان قابل للزوال بالتشكيكات سواء كانت من
الغير أو من القوة الوهمية المعودة على دفع الحق بالأباطيل، فان عدم احتمال
الخلاف في مثل هذا العلم بعدم الالتفات إلى موجبه ومقتضيه لا بالالتفات إليه
وعدم الاحتمال لقوة مقتضى العلم فهو علم في حد ذاته وبأدنى التفات إلى
مقتضيات التشكيك الحاصلة من الغير أو من القوة الوهمية يتشكك، فلا منافاة
بين كونه عالما طبعا ومحتملا للخلاف أو معتقدا له بأدنى تصرف من القوة
الوهمية أو من الغير، وهذا البيان في دفع الشبهة أولى من حمل اليقين على اليقين
بالاقتضاء، لتمامية الحجة عليهم وإن لم ينظروا فيها ليحصل لهم اليقين الوجداني
فعلا فإنه خلاف الظاهر بل خلاف الواقع أيضا، ويمكن أن يقال في دفع الشبهة
أيضا بأن المراد من الجحود هو الجحود لسانا لكنه باعتبار انبعاثه إلى رذيلة
باطنية وهي معاندته للحق ومعاداته للرسول (ص) تحفظا على الجاه واستكبارا
على الله وعلى الرسول.
ومن الواضح أن المعاند للحق باطنا والمعادي للرسول قلبا محتجب عن الحق
وعن نور الايمان فان الايمان بالبعض والكفر ببعض كالكفر المطلق، فكفر الجاحد
غير مستند إلى عدم تصديقه جنانا، لما مر من ملازمته للعلم واليقين ولا لعدم
عقد القلب فرضا وبناء لعدم الاهتمام بشأنه بعد عقد القلب حقيقة وربطه واقعا
بما اعتقد به، بل لمعاندته قلبا مع الحق ومعاداته باطنا مع الرسول وهما موجبان
للكفر والاحتجاب عن الحق وعن الرسول هذا قليل من كثير مما ينبغي بيانه،
والله المستعان.
376

التحقيق في علة وجوب معرفة الله وأنبيائه و...
166 - قوله: من باب وجوب المعرفة لنفسها كمعرفة الواجب
تعالى (1) الخ:
يمكن أن يشكل وجوب المعرفة لنفسها من باب وجوب الشكر بان الشكر إذا
كان صرف النعمة في ما خلقت لأجله فوجوبها مقدمي لا نفسي، نظير وجوب
معرفة الأمر مقدمة لامتثال أمره، والتحقيق كما عليه أهله أن الشكر وسائر مقامات
الدين لها مراتب ثلاثة، علم وحال وعمل.
فمعرفة المنعم من الأول والتخضع له قلبا من الثاني وصرف النعمة فيما
خلقت لأجله بأداء ما هو وظيفة السمع والبصر واللسان من الثالث، فمعرفة
المنعم من أفضل مراتب شكر (2) النعمة، ولكنه لا يخفى عليك أن هذه المعرفة
ليس مصداقا لهذه المرتبة من الشكر بل ما هو مصداقه معرفة المنعم بما هو منعم
لا بذاته، لان الحيثية التعليلية - وهي المنعية لوجوب الشكر - حيثية تقييدية له
كما في جميع الأحكام العقلية، فلا تجب معرفة الذات لانعامه نفسا بل مرجعه
إلى معرفة وجوب معرفة الذات مقدمة لمعرفته بالمنعمية مع أن المقصود اثبات
وجوب المعرفة لنفسها.
ثم إن أصل وجوب الشكر عقلا بحيث يستحق العقاب على تركه لا يثبت الا
بإدخاله تحت قاعدة التحسين والتقبيح العقليين، ومن البين عند التأمل أن شكر
المنعم علما وحالا وعملا وإن كان تعظيما للمنعم وإحسانا إليه إلا أنه لا يثبت به

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 154، س 5.
(2) (خ ل): الشكر النعمة (الشكر للنعمة).
377

الا مجرد الحسن واستحقاق المدح على فعله بمراتبه، وليس ترك كل تعظيم
واحسان قبيحا إلا إذا كان ظلما من حيث كونه كفرانا، وليس ترك كل إحسان
ولا ترك الاحسان إلى المحسن علما عليه نعم: الإسائة خصوصا إلى المحسن
ظلم فيشتد قبحه بالإضافة إلى المحسن إليه فالجهل بالمنعم أو عدم التخضع له
قلبا أو عدم القيام خارجا بوظائف المجازاة بالاحسان ليس الا ترك ما هو حسن
بذاته إذ ليس من هذه الحيثية عقلا فرق بين منعم ومنعم، والأمر في غيره
(تعالى) كذلك ففيه تعالى أيضا من هذه الحيثية على ما مر، مضافا إلى أن الاستناد
في تحصيل المعرفة إلى وجوب شكر المنعم عقلا إنما يجدى بعد الفراغ عن
انتهاء النعمة إلى مبدء موجود ليتحقق موضوع شكر المنعم ليجب عقلا، فهو إنما
في معرفته من حيث كيفية وجوده وصفاته لا في التصديق بوجوده.
وربما يستند في وجوب شكر المنعم الذي هو الأصل في وجوب المعرفة
إلى قاعدة عقلية أخرى وهي قاعدة دفع الضرر المحتمل لاحتمال الضرر في ترك
الشكر، إما لكمال عقل المنعم عليه، أو لبلوغ دعوة نبي زمانه المقيد به وجوب
الشكر عقلا في كلماتهم، فإذا احتمل وجوب شكر مخصوص معين من قبل
المنعم بالإضافة إلى كل نعمة بما يناسبها حتى نعمة القلب بتحليتها بالمعرفة
نظرا إلى أن الشكر صرف النعمة فيما خلقت لأجله.
فلا محالة يحتمل العقاب على ترك تلك الوظيفة المعينة من قبل المنعم
فيجب دفعه عقلا، وأما مجرد زوال النعمة فليس مما يتعقله عقاب ولا مما
يستقل العقل بدفعه إلا أن نتيجة هذا الاستدلال ليس وجوب الشكر بما هو شكر
عقلا بل بما هو ترك واجب شرعي كسائر الواجبات المولوية فلا يحتاج الالتزام
بتحصيل المعرفة إلى الالتزام بوجوب الشكر لاحتمال وجوبه مولويا.
فان نفس الاحتمال كما سيجيئ (انشاء الله تعالى) متحقق في نفس وجوب
تحصيل المعرفة بعنوانها، مضافا إلى ما مر وسيجيئ أيضا أن دفع الضرر
المحتمل بل المقطوع به لا إلزام به عقلا ولا يندرج تحت قاعدة التحسين
والتقبيح العقليين، لما مر مرارا من عدم كون الاقدام على محتمل العقاب أو
378

مقطوع العقاب موردا لذم اخر أو لعقاب آخر بل العقاب مقطوعا كان أو محتملا
مما يفر عنه طبعا كل ذي شعور، وسيجيئ انشاء الله تعالى بقية الكلام.
167 - قوله: فإنهم وسائط نعمه وآلائه (1) الخ:
إن أريد لزوم معرفة وسائط النعم في تحقق شكر المنعم الحقيقي فهو مما
لا برهان عليه لعدم التوقف عقلا.
وإن أريد لزوم معرفتهم لوجوب شكرهم لمكان وساطتهم للفيض فهو مناف
بظاهره للتوحيد في الفعل، ورؤية وسائط النعمة بمنزلة الآلات وانه لا منعم
بالحقيقة سواه (تعالى) فيكون رؤية النعمة منهم وشكرهم على حد شكر المنعم
الحقيقي شركا بالمنعم بما هو منعم.
قلت: المراد هو الشق الثاني والشبهة سارية في شكر كل انسان أنعم على
غيره، فمن احتجب بالحق عن الخلق لا يرى النعمة إلا من الحق فلا يشكر غير
الحق، ومن احتجب بالخلق عن الحق فلا يرى النعمة إلا من الخلق فلا يشكر الا
الخلق، ومن لم يحتجب عن أحدهما بالآخر فيرى الحق والخلق معا فيشكرهما
معا، غاية الأمر أن الحق هو منتهى سلسلة النعم ونسبتها إليه بالوجوب وإلى غيره
بالامكان فهو المشكور أولا وغيره مشكور ثانيا، فالنعمة أثر الوجود الذي هو عين
ايجاده (تعالى) فكما أن وجوده حقيقة ومع ذلك ايجاده تعالى حقيقة كذلك
انعامه انعامه حقيقة ومع ذلك فهو أنعامه تعالى حقيقة لانطواء فعله في فعله
(تعالى) بل بهذا النظر شكر الخلق شكر الحق أيضا، هذا هو القول الكلى في شكر
كل منعم غيره تعالى.
وأما وساطة الأنبياء والأوصياء عليهم أفضل التحية والثناء للنعم والآلاء سواء
كانت بمعنى فاعل ما به الوجود بأن يكونوا مجاري فيض الوجود أولا وبالذات أو
بمعنى العلة الغائية بان يكونوا الغاية المقصودة من الوجود والايجاد فليست
كعلية الواجب فطرية حتى تكون باعثة على شكرهم المقتضى لتحصيل معرفتهم

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 154 وكفاية الأصول: 330 (ت، آل البيت).
379

وإن كان بالنظر الدقيق البرهاني كذلك، فيمكن أن يقال بلزوم تحصيل معرفتهم
من وجه اخر وهو أن شكر المنعم على الوجه المعين من قبله لا يعلم إلا من
قبلهم، لكونهم على الفرض وسائط التشريع لبعد النفوس البشرية بما هي عن
تلقى الوحي الإلهي المقتضى لوجود طائفة من الذوات النورية والنفوس القدسية
لذلك. فلا بد من معرفتهم لتحصيل وظائف الشكر بأنحائه على النعم باقسامه
منهم، ولعله إليه يرجع الشق الأول فان التصديق بوجوده أو بجملة من صفاته وإن
كان لا يتوقف على معرفتهم، الا أن معرفته تعالى بصفاته العليا حق المعرفة
المقدورة للقوة البشرية ومعرفة فعله وظائف النعم لا يتحقق إلا بهم ولذا قالوا
عليهم السلام (1) " بنا عرف الله وبنا عبد الله ولولانا ما عرف الله ولا عبد الله " إلا أنه
غير مراد من عبارته قده - (2) فان صريحها أن وساطتهم للنعم هي المقتضية
لمعرفتهم لا وساطتهم لأداء الشكر لمكان انحصار المبلغ للوظائف التي هي
مصاديق الشكر بهم سلام الله عليهم.
168 - قوله: ولاحتمال الضرر في تركه الخ:
إما عطف على قوله - ره - " لذلك (3) فيكون تعليلا لخصوص معرفة النبي
والوصي عليهما السلام كما هو أقرب الوجهين أو عطف على قوله - ره - " أداء
لشكر بعض نعمائه " (4) الخ فيكون تعليلا لتحصيل المعرفة مطلقا كما هو أبعد
الوجهين وإن كان صريح تعليقته الأنيقة على الرسائل (5) هو الثاني.
والمراد بالضرر إن كان زوال النعمة وشبهه كما علل به وجوب الشكر في
كلماتهم فهو في حد ذاته لا يستلزم العقاب بل غاية الضرر المترقب منه زوال
النعمة وشبهه.

(1) أصول الكافي: ج 1، ص 145 و 144، ح 5 و 10.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 154: ومعرفة أنبيائه فإنهم وسائط نعمه وآلائه.
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 154، س 9: فالعقل يستقل بوجوب معرفة النبي ووصيه لذلك.
(4) كفاية الأصول: ج 2 ص 154، س 6: ويجب تحصيل العلم... كمعرفة الواجب تعالى وصفاته
أداء لشكر بعض نعمائه.
(5) تعليقة الرسائل: ص 103.
380

وإن كان المراد من الضرر المحتمل في ترك تحصيل المعرفة هو العقاب
فالعقل يستقل بدفعه، لكنك عرفت في هذا المبحث وفى المباحث المتقدمة إذ
لا بعث من العقل نحو تركه ودفعه ولا يندرج مثله تحت قاعدة التحسين والتقبيح
العقليين، نعم: كل ذي شعور بالجبلة والطبع لا يقدم على العقاب مقطوعا كان أو
محتملا، ومثله يكفي في دعوته نحو تحصيل المعرفة إلا أنه حيث لا يتم ذلك الا
بعدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان فربما يفترق تحصيل معرفة الله (تعالى)
عن تحصيل معرفة النبي (ص) أو الوصي (ع).
فان عدم جريان القاعدة بلحاظ انها لا تجرى إلا بعد الفحص الموجب
لحصول المعرفة لوجود أسبابها خارجا المقتضية لحصولها.
وانما لا تجرى قبل الفحص عقلا لما مر وسيجيئ انشاء الله تعالى في محله
من أن الاقتحام في الفعل والترك مع عدم البحث والفحص عن أمر المولى ونهيه
اللذين لم يعلما عادة إلا بالفحص والبحث عنهما مع علمه بأنه غير مهمل،
خروج عن زي الرقية ورسم العبودية وهو ظلم على المولى فيستحق به العقاب
وهذا في معرفة النبي (ص) والوصي لا غبار عليه.
واما في معرفته (تعالى) فمشكل إذ بعد لم يثبت مولوية لأحد عليه حتى
يقال إنه بعدم الفحص عن معرفته ظالم عليه إلا أن يقال إن احتمال وجود المولى
وأعمال المولوية منه يصح احتمال العقاب نظرا إلى أن الحجة الواقعية على
ثبوت المولوية وأعمالها إذا كانت بحيث لو تفحص عنها لظفر بها، يكفي في
تنجيز الواقع واستحقاق العقاب، كما هو أحد الطريقين في لزوم الفحص.
نعم، فيه محذور آخر وهو ان المفروض انه لا دليل عقلي على وجوب
تحصيل المعرفة إلا قاعدة دفع الضرر المحتمل وهذه القاعدة متفرعة على وجود
تكليف واقعا يتنجز بمجرد احتماله قبل الفحص، ولا ايجاب في هذا الفرض
إلا من (1) الشارع مع أنه لا يعقل الايجاب المولوي الباعث نحو الفعل إذ قبل

(1) (خ ل): الأمر.
381

الوصول المتفرع على معرفة المولى بالمولوية لا باعثية له ولا محركية، وبعد
ثبوت المولى والمولوية أيضا لا باعثية له ولا محركية، لأنه (1) تحصيل الحاصل
فليس إحتماله احتمال تكليف صالح للدعوة بوصوله حتى يتنجز باحتماله.
والتحقيق: أن منشئية الايمان والمعرفة بالله (تعالى) للسعادة الأبدية والنعيم
الدائم ليست من حيث كونه امتثالا للأمر بتحصيل المعرفة كما في الواجبات
العملية، ومنشائية الكفر للشقاوة السرمدية والعذاب المخلد ليست من جهة
مخالفته للنهي عن الكفر كما في المحرمات العملية، بل الايمان والكفر في قبال
الإطاعة والمعصية من حيث اقتضاء النعيم والجحيم، وعليه فالضرر مترتب على
ترك الايمان بما هو، فاحتمال ترتب الضرر على ترك تحصيل المعرفة هو الحامل
للعبد على تحصيلها لدفع مثل هذا الضرر لا يوازيه ضرر أبدا من دون توسط
ايجاب مولوي شرعي، وهكذا الأمر في معرفة النبي وكذا في ترك النظر في
المعجزة، فلزوم تحصيل المعرفة عقلا مرجعه إلى ضرورة العقلية واللا بدية من
تحصيل المعرفة للوصول إلى السعادة الأبدية والبعد عن الشقاوة الدائمية
ولا يخفى أن احتمال العقاب المحرك بالجبلة والطبع إلى تحصيل ما يحتمل
الضرر في تركه وإن كان كافيا في الدعوة في غالب النفوس الغير البالغة درجة
تحصيل الحقايق بالبرهان الا انه لنا طريق برهاني إلى وجوب تحصيل معرفته
(تعالى)، وهو أن كل عاقل بالفطرة السليمة يعلم بأنه ممكن حادث معلول لمن لم
يكن مثله في الامكان والحدوث.
والشرايع الإلهية ما جاءت للتصديق بوجود المبدء والعلة بل لنفى الشرك في
المعبود، ولذا كان أول كلمة أمر بها النبي (ص) شهادة أن لا اله إلا الله وهي انه لا
معبود إلا الله، مع اعتراف المشركين بأنه (تعالى) خالق السماوات والأرضين كما
نطق به الكتاب المبين حيث قال (عز اسمه) (ولئن سئلتهم من خلق

(1) (خ ل): لا به.
382

السماوات والأرض ليقولن الله) (1) إلى غير ذلك من الآيات (2)، ومن البين
بعد التصديق بوجود المبدء أن النفس في حد ذاتها قوة محضة على إدراك
المعقولات التي هي كمالها.
وأشرف الكمالات النفسانية معرفة المبدء بذاته وصفاته وأفعاله بالمقدار
الممكن، فإن شرف كل علم وعقل بشرف معلومه ومعقولة وأفضل موجود
وأكمله وجود المبدء، فمعرفة المبدء أشرف كمال وفضيلة للنفس، وبها نورانيتها
وبها حيوتها كما أنه بعدم المعرفة أو بما يضادها ظلمانيتها وموتها.
والقرب الحاصل للجوهر النفساني من المبدء صيرورته وجودا إضافيا نوريا
للمبدء خصوصا إذا كان بنحو الشهود الروحي، وبالأخص إذا فنى في مقام
الاستغراق في الله الموجب لبقائه بالله (تعالى) فهذه المرتبة عين السعادة
والابتهاج بشهود المبدء، كما أن عدمه عين البعد عن معدن النور والتخلد في
عالم الطبيعة والحرمان عن ينبوع الحياة، وبقية الكلام في محله.

(1) عنكبوت: الآية: 61.
(2) لقمان: الآية: 25 والزمر: الآية 38 والزخرف: الآية 9.
383

التحقيق في الإمامة ووجوب معرفتها
169 - قوله: كمعرفة الامام على وجه اخر (1) الخ:
فالإمامة على هذا هي الرئاسة العامة في أمور الدنيا والدين بحيث يجب على
الأمة تعيين شخص لها فتكون من الأمور المتعلقة بأفعال المكلفين وبهذا يدخل
أمر الإمامة في الفروع العملية.
وأما على الوجه المتقدم فهو منصب إلهي بتعين من قبله تعالى والتحقيق ان
الحاجة إلى الإمام عليه السلام:
إما إلى مجرد تبليغ الاحكام العملية والوظائف الشرعية وإما إلى ذلك
بإضافة تعريف المعارف الإلهية وأما إلى ذلك بإضافة الوساطة في الفيض بأن
يكون وجوده لازما في نظام التكوين والتشريع معا.
فإن كان الأول فتارة يراد مجرد تبليغ الأحكام الشرعية ولو كانت تعبدية
ظاهرية وأخرى يراد تبليغ الاحكام الواقعية النفس الأمرية.
فالأولى يكفيها مجرد وجود ثقة بخبر عن الأحكام التعبدية من دون ملكة
عصمة أو غيرها، حتى أنه لو عرفه بالصدق حقيقة لم يكن دالا على إمامته
بخلاف ما إذا بلغ عن الله فان معرفته بالصدق معرفته بالنبوة إذ لا يبلغ عن الله
(تعالى) الا من كان له نفس قدسية يتلقى الوحي بلا توسط معلم بشرى، بخلاف
المبلغ عن النبي (ص) فإنه لا يجب أن يكون إماما لعدم مثل تلك الخصوصية
لعدم انحصار التبليغ عنه (ع) في شخص خاص.
والثانية: لا يكفيها مجرد الوثاقة بل لا يكون المبلغ للأحكام الواقعية بحيث
يكون الواصل بسببه حكما واقعيا إلا إذا عرف صدقه وعصمته من الخطاء
ولا يجب أن يكون المبلغ صادقا ومعصوما عن الخطاء إلا النبي والإمام (ع)

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 154، س 11 وكفاية الأصول: 330 (ت، آل البيت).
384

فالالتزام بوجود من لا بد من عصمته تبليغا للأحكام الواقعية الحقيقية التزام
بوجود الإمام (ع) دون الالتزام بوجود مجرد مبلغ للأحكام وإن كانت تعبدية.
ومن البين أن اللازم قيامه مقام النبي (ص) من كان شأنه شأن النبي في تبليغ
الاحكام الواقعية لأن ايصال المصالح الواقعية الباعثة على جعل الاحكام على
طبقها يستدعى إرسال الرسول لتبليغها كذلك يقتضى نصب من يبلغها بعد
الرسول (ص).
ومن الواضح: أن من كان له ملكة العصمة بحيث لابد من أن يكون كذلك ليس
الا من كان مؤيدا من عند الله ولا يعرف مثله المتعارف من الناس بل لا بد من
تعريفه بتنصيص من الله (تعالى) أو من الرسول أو من إمام مثله
وإن كان الثاني: فالأمر أوضح إذ العارف بالمعارف الإلهية لا يكون إلا ذا نفس
قدسية متصلة بالمبادئ العالية ولا يعرف مثله إلا بالنص عليه من الله تعالى) أو
من الرسول أو إمام مثله فيجب نصبه على الله (تعالى) على لسان نبيه (ص).
ومن الواضح أن الغاية المقصودة من خلق الخلق بل من تشريع الشرايع على
معرفة المعارف الربوبية والتخلق بالأخلاق الإلهية فلا محالة يجب وجود مثل
هذا العارف الإلهي المتخلق بأخلاق الله (تعالى) بل الأعمال أيضا مقدمة
للأحوال وهي مقدمة للمعارف، ولذا ورد عنهم (ع) (1) لو لأنا ما عرف الله
ولو لأنا ما عبد الله.
وإن كان الثالث: فالأمر فيه أوضح من السابقين.
إذ ليس مثله إلا من كانت قوتاه العلامة والعمالة في غاية القوة والكمال
ولا يكون ذلك إلا بعنايات إلهية وتأييدات ربانية وعلوم لدنية ومثله خليفة الله
في ارضه على عباده.
واما لزوم وجود مثله في كل زمان:
فلما تقرر في محله من أن نزول فيض الوجود بحسب قاعدة الامكان الأشرف
إلى عالم الجبروت ومنه إلى عالم الملكوت ومنه إلى عالم الناسوت إلى أن
ينتهى إلى قوة القوى والهيولي الأولى لا بد من أن يكون لأجل الصعود، لاستحالة

(1) أصول الكافي: ج 1، ص 144 و 145، ح 5 و 10:
385

طلب العالي للسافل والحركة من الكمال إلى النقص، وكما أن النزول من الأعلى
إلى الأدنى فالصعود من الأدنى إلى الأعلى، فكل نوع دان لأجل نوع عال.
فمن الهيولى إلى الصورة الامتدادية الجوهرية الجسمية ومنها إلى النبات ومنه
إلى الحيوان ومنه إلى الانسان فكذا افراد النوع الانسان بسبب تفاوت نفوسه في
الاستكمال العقلاني كالأنواع المختلفة فإفاضة الوجود على هذه المختلفات
لأجل وجود النوع الكامل منه، فالانسان الكامل في كل ساعة وان هي الغاية
القصوى من إفاضة الوجود على جميع الأكوان، ومقتضى قاعدة العلية
والمعلومية عدم بقاء سائر الأكوان بفرض عدم بقاء الغاية المقصودة من وجودها،
ولذا ورد في غير واحد من الأخبار (1) أن الأرض لو بقيت بلا إمام لساخت أي
لانخسفت هذا من حيث الوساطة بنحو العلة الغائية.
واما بنحو العلة الفاعلية: أي فاعل ما به الوجود لا ما منه الوجود، فلما تقرر في
محله من وساطة العلوم الطولية من الفواعل الجبروتية والملكوتية لعالم الملك
والطبيعة بمقتضى قاعدة الإمكان الأشرف، ومن انتهاء كل فاعل عقلي ونفسي
إلى ما يحاذيه في سلسلة الصعود، فكل فاعل في البدايات له غاية في النهايات
ويتحد ذو الغاية بالغاية عند انتهاء الدائرة واتصال قوس الصعود بقوس النزول
فالانسان الكامل المحمدي (ص) في هذه الدايرة العظيمة، وغيره من النفوس
القدسية في سائر الدوائر بلحاظ اتحاده بالفواعل العالية واسطة في الإفاضة
بروحانيتها ونورانيتها، فالالتزام بعدم ما ينتهى إليه الدائرة التزام بعدم ما تبتدء به،
والالتزام بعدم التزام بعدم فاعل ما به الوجود فيوجب الالتزام بعدم سائر العوالم
التي هي في طول هذا العالم، وبقية الكلام في محله.
ومنه يظهر أن العمدة في وجوب وجود الحجة " عجل الله فرجه " انتظام نظام
التكوين بوجوده المقدس وإن لم ينتفع بعلومه ومعارفه وأخلاقه، ولعله المراد
مما ورد عنه (2) " عجل الله فرجه " من أن الانتفاع به في غيبته كالانتفاع بالشمس
مع استتارها بالسحاب عن الحس، فكما أن السحاب لا يمنع إلا عن رؤية جرمها

(1) أصول الكافي: ج 1، ص 179، ح 10.
بحار الأنوار ج 520 ص 92 ح 7. والاحتجاج للطبري ج 2 ص 284.
386

مع ثبوت تأثيرها في السفليات كذلك شمس فلك الوجود وإن غاب عن الحس
لكنه له التأثير في نظام التكوين، والا فعدم انتفاع العموم بعلومه بشخصه مما
لا ينبغي إنكاره، ثم انه لو لم نقل لهذه المرتبة وقلنا بأن نصب الإمام لمجرد تبليغ
الاحكام فغيبة الإمام عليه السلام لا تنافى وجوب نصبه على الله (تعالى) أيضا.
بيانه: أن جعل التكاليف وإرسال الرسل ونصب الحجج (عليهم السلام)
لإخراج المواد المستعدة للسعادة الدائمية والشقاوة الأبدية إلى مرحلة الفعلية،
وحقيقة السعادة بالإقبال على الله (تعالى) بالقيام بوظايف العبودية، وحقيقة
الشقاوة بالاعراض عن الله (تعالى) بعدم القيام بوظايف العبودية وهما معنيان
متقومان بالاختيار وانبعاث الفعل والترك عن مقام القلب، فاللازم في هذا الباب
جعل ما يمكن أن يكون داعيا وباعثا أو زاجرا وناهيا بالإمكان الذاتي والوقوعي
وان لم يحصل الانبعاث أو الانزجار في الخارج بسوء الاختيار، وكذا بعث
الرسول ونصب الامام أيضا، حيث إنه مقدمة لمثل هذا التكليف فهو أيضا بهذه
المثابة، فاللازم بعث من يمكن تعلم التكاليف منه وكذا نصب من يكون كذلك،
فسد باب التعلم ووصول الحكم عادة بسوء الاختيار كما لا يبطل حقيقة التكليف
إذا كان بمثابة بحيث لو تفحص عنه لوصل، كذلك لا يبطل نبوة النبي وإمامة
الإمام (ع)، ومجرد علمه تعالى بعدم امتثال المكلف للتكليف أو عدم الانقياد
للنبي (ص) أو للإمام (ع) لا يوجب لغوية الجعل أو البعث أو النصب، وذلك لأن
آثار السعادة والشقاوة ولوازمها تابعة لفعلية السعادة والشقاوة وفعليتهما تابعة
لفعلية التكليف وفعلية بعث الرسول ونصب الإمام (ع)، فالعلم بأن المادة قابلة
للسعادة أو الشقاوة لا توجب الاستغناء عن التكليف المبلغ له إلى السعادة الفعلية
أو الشقاوة الفعلية.
نعم سد باب الانتفاع بالنبي (ص) أو بالامام (ع) لا يوجب الاثم إلا على من
استند إليه ولا إثم على من لم يستند إليه، والكلام ليس في ترتب الإثم على
العموم بطغيان الخصوص بل في عدم لغوية نصبه وبعثه مع القطع بحسبه مثلا،
وسد باب الانتفاع به كما في التكليف اما بسد باب وصوله أو بعدم امتثاله، وبقية
الكلام في علم الكلام.
387

" تحقيق في معرفة المعاد "
170 - قوله: ولا يجب عقلا معرفة غير ما ذكر (1) الخ:
صريح عبارته هنا عدم لزوم تحصيل المعرفة إلا بالإضافة إلى معرفة الله
وأنبيائه والأئمة (عليهم السلام)، وان ما عدا هذه الثلاثة لا يجب إلا شرعا إذا دل
عليه الدليل، وظاهر عبارته في تعليقته على الرسائل (2)، أن " ما يجب معرفته
على أقسام:
أحدها: ما يجب معرفته عقلا بما هو هو.
ثانيها: ما يجب معرفته كذلك لكونه مما جاء به النبي (ص) وأخبر به والا
لم يعرف له خصوصية موجبة للزوم معرفته من بين ساير الأشياء.
ثالثها: ما يجب معرفته شرعا " انتهى كلامه - ره - وجعل من الأول معرفة الله
ومعرفة أنبيائه وأوصيائهم (سلام الله عليهم).
وجعل من الثاني المعاد لكونه من ضروريات الدين ومما أخبر به سيد
المرسلين (ص).
أقول: إذا كان اللازم في الأمور الاعتقادية مجرد التدين والالتزام به قلبا وأن
تحصيل العلم والمعرفة امر به في بعض الأمور الاعتقادية كما هو صريح كلامه
وصحيح مرامه (3) " زيد في علو مقامه " فالقسم الثاني مما لا محصل له، لأنه
لا دليل عقلا ولا نقلا على وجوب تحصيل العلم بما أخبر به النبي (ص).
ولو فرض فاللازم تحصيل العلم بكل ما أتى به النبي (ص) وأخبر به سواء كان
من الأمور الاعتقادية أو الاحكام العملية فتخصيص بعض ما أخبر به بذلك بلا
مخصص. نعم: الالتزام بما أخبر به وعدم انكاره حيث إنه يرجع إلى عدم الاقرار

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 154 وكفاية الأصول: 330 (ت، آل البيت).
(2) تعليقة الرسائل: ص 103، س 2.
(3) المصدر: ص 103.
388

بأنه رسول فيما أرسل به لازم، وليس الكلام فيه على الفرض، بل الكلام في
تحصيل العلم بما أخبر به وهو على الفرض غير الالتزام به على الاجمال إذا
لم يعلم به تفصيلا وعلى التفصيل فيما إذا اتفق العلم به تفصيلا.
وتحقيق المقام: أن وجوب العلم بالمعاد واليوم الآخر يتصور على وجوه
ثلاثة:
أحدها: العلم به على حد معرفة الله (تعالى) بحيث يكون وجوبه نفسيا
بما هو هو.
ثانيها: العلم به بعنوان عارض كعنوان أنه من ضروريات الدين ومما أتى به
الكتاب المبين وأرسل به سيد المرسلين (ص).
وثالثها: العلم به من حيث إنه مقدمة للاتيان بالواجبات والتجنب عن
المحرمات.
اما الأول: فمعرفة اليوم الآخر بخصوصياته ليس كمعرفة الله (تعالى) بحيث
يكون كمالا نفسانيا تكون صورة نورانية للنفس ويكون وجودا نوريا إضافيا للمبدء
بصفاته وحياة للنفس وموجبا للابتهاج بشهوده (تعالى) أبدا في النشأة الآخرة
ولا كمعرفة النبي والأئمة (عليهم السلام) حيث إنهم مشاكي نوره (تعالى)
ومجالي ظهوره (تعالى) ولذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) " معرفتي
بالنورانية معرفة الله " (1).
وعن خاتم النبيين (ص) من رآني فقد رأى الحق (2).
ومن الواضح أن العلم وإن كان نورا وكمالا للجوهر العاقل لكن شرف العلم
بشرف معلومه فليس كل معلوم موجبا للسعادة الأبدية بحيث يكون شهوده
موجبا للابتهاج به، لكونه أفضل موجود وأشرفه وأبهاه، ومما يشهد لذلك ان
الدنيا مزرعة الآخرة (3) وان المعرفة هنا بذر المشاهدة هناك وهذا انما يكون في

(1) بحار: ج 26، ص 1، ح 1، ب 14، وكذلك ص 2، ح 1.
(2) بحار: ج 61، ص 235، ح 1، ب 45، (ط، إيران) وبحار: ج 58 ص 235، ح 1، ب 45 (ط، بيروت).
(3) بحار: ج 70، ص 353، ح 1، ب 59، (ط، بيروت) وبحار: ج 67، ص 353، ح 1، ب 59،
وص 225، (ط، إيران).
389

ما إذا لم يعرف هنا لم يكن مشاهدا هناك كذاته وصفاته ومجاليها التامة وأسمائه
الحسنى وأمثاله العليا.
واما الآخرة بمالها من الخصوصيات فسواء عرفها هنا أو جهلها تكون مشهودة
لأهل النشأة الآخرة عيانا قال (تعالى) (ثم لترونها عين اليقين) (1) فافهم
جيدا.
واما الثاني، فلا دليل عليه عقلا ولا نقلا بل الدليل على الالتزام به اجمالا إذا
لم يعرف تفصيلا وأما الالتزام به تفصيلا إذا علم به كذلك، وأما تحصيل معرفته
تفصيلا فلا، والكلام فيه لا في الأول.
وأما أن عدم الالتزام فيما ذكر سبب مستقل للكفر أو راجع إلى عدم الالتزام
بالرسالة ففيه كلام بين الاعلام، وربما يستظهر الأول نظرا إلى حكم المشهور
بكفر النواصب مع أن مودة ذي القربى ليس عند النواصب ضرورية، بل يتقربون
ببغض أمير المؤمنين (ع) فكيف يرجع إلى تكذيب الرسول (ص) في رسالته،
لكنك قد عرفت فيما تقدم (2) أن ايجاب بعض الأمور للخلود في الجحيم ليس من
باب انكاره تعالى أو انكار رسوله (ص) بل معاداة الحق عند تمامية الحجة وان
لم ينظر فيها موجبة للاحتجاب عن الحق.
فالمعادي والمعاند للحق بنفس معاداته ومعاندته للحق محجوب عن الحق
ومحروم عن ينبوع الحياة الأبدية وتمام الكلام في محله.
واما الثالث، فنقول المعرفة والعلم بالنشأة الآخرة وأحوالها وأهوالها واسرار
الطاعات وكيفية تأثيرها وكذا المعاصي والملكات الفاضلة والرذيلة وكيفية تأثير
التوبة وتطهيرها للنفس وسر الشفاعة وانها تختص باهلها كل ذلك لها دخل عظيم
في فعل الطاعة والمواظبة عليها والتجنب عن المعاصي والرغبة التامة في تخلية
النفس عن الرذائل وتحليتها بالفضائل واكتساب المعارف الإلهية، بل مر منا مرارا
ان دعوة التكاليف متقومة باستحقاق العقاب على الفعل أو الترك في غالب
النفوس إلا أن الالتزام الجدي بالواقع ولو لم يعلم به تفصيلا يكفي في دعوة
النفس إلى فعل كل واجب عملي أو غيره، وكذا إلى ترك كل حرام، كيف

(1) التكاثر: الآية 7.
(2) التعليقة: 165، ص 371.
390

واحتمال الاستحقاق يكفي في ذلك سواء كان منشأ الاحتمال الجهل بالتكليف
أو بما يترتب عليه مع الترتب عليه جزما لو كان ثابتا واقعا فلا يجب عقلا تحصيل
المعرفة هذا كله إن كان المراد بالايمان المطلوب في باب العقايد مجرد الالتزام
القلبي وعقد القلب ولو على الواقع
وأما إن كان المراد به العلم التصديقي بشئ مع الثبات عليه بعدم الميل إلى
الشكوك والشبهات المزيلة لأثر العلم بل لنفسه أحيانا.
فالدليل على وجوب الايمان باليوم الاخر والعقاب على عدمه من الآيات
القرآنية في غاية الكثرة بل ظاهر جملة منها عده في عداد الايمان بالله وبرسله
وكتبه.
ولا منافاة بين اعتباره في الايمان الموجب للخلود في النعيم وعدم اعتباره
في الاسلام الموجب لحقن الدم وأشباه ذلك من الطهارة والتناكح والمواريث
فلا يضر به الجهل به ما لم ينكره بلسانه نعم العلم بالخصوصيات غير لازم وإن
كان التدين بها بعد العلم بها لازما ومن المعلوم أن الآيات المتكفلة للايمان
باليوم الآخر تدل على وجوب الايمان به من حيث نفسه لا من حيث إن ثبوت
اليوم الآخر مما أخبر به القرآن أو النبي أو كونه ضروريا فهذه العناوين انما يحتاج
إليها فيما لم يكن نص على وجوب الايمان به بنفسه لا كالايمان باليوم الاخر
المنصوص بنفسه.
وأما أن وجوبه نفسي أو انه لما فيه من البعث على الطاعة والتجنب عن
المعصية فقد مر الكلام فيه لكنه يمكن ان يقال إن الايمان باليوم الآخر راجع إلى
الايمان برجوع الكل إلى الله وكونه (تعالى) غاية الغايات ككونه مبدء المبادئ
من الكمالات النفسانية التي بها حياة النفس ابدا.
فوجوب معرفته عقلي على حد وجوب معرفته بكونه الفاعل الذي ينتهى
إليه فعل كل فاعل وكذا كونه غاية ينتهى إليها كل غاية وأما وجوبه عقلا
بالمقدار الذي قالوا بوجوب معرفة الله تعالى ومعرفة رسله وأوصيائهم (ع) من
باب احتمال الضرر في تركه فهو ثابت هنا أيضا بعد ما ذكرنا من دلالة الآيات على
وجوب الايمان به بل هو أولى بذلك لعدم جريان الاشكال المتقدم في لزوم
391

تحصيل معرفته (تعالى) فيما نحن فيه.
بيانه أن احتمال الضرر في ترك معرفة الله (تعالى) مثلا من باب الاحتمال
وجوبها شرعا لا عقلا إذ المفروض عندهم انه لا دليل على وجوبه العقلي إلا
قاعدة دفع الضرر المحتمل وهي لا تحقق موضوعها فلا بد من فرض وجوبها
شرعا مع أنه لا معنى لايجاب معرفة الله (تعالى) شرعا إذ قيل ثبوت المبدء
وثبوت المولوية وثبوت النبوة النبي المبلغ لهذا الحكم لا باعثية لهذا الحكم
ولا محركية له وبعد ثبوت المبدء والنبوة يكون ايجاب المعرفة تحصيلا للحاصل
بخلاف ايجاب العلم باليوم الاخر فإنه بعد فرض المبدء والنبوة لا مانع منه.
171 - قوله: ضرورة أن المراد من ليعبدون (1) هو خصوص عبادة الله
(تعالى) (2) الخ:
إذ ليس النون في (ليعبدون) المفسر ب‍ (ليعرفون) نون الجمع حتى ليقال
باطلاقه وعمومه من حيث حذف المتعلق بل نون الجمع ساقط بنصب الجمع
بتقدير أن، والنون الثابت نون الوقاية فمعناه ليعبدوني أي ليعرفوني فيكون
صريحا في معرفته (تعالى) ثم إن في كيفية دلالة الآية على وجوب المعرفة
عموما أو خصوصا كلاما لا بأس بذكره هو أن العبادة والمعرفة التي جعلت غاية
لخلق الجن والإنس ليست العبادة الذاتية لكل موجود امكاني لانقياد كل معلول
لعلته وتخضعه لها ولا المعرفة الذاتية سواء أريدت المعرفة الفطرية أو التجلي
الافعالي له (تعالى) في مظاهر الأعيان كما هو محتمل قوله تعالى * (كنت
كنزا مخفيا فأحببت أن اعرف فخلقت الخلق لكي اعرف) * (3) حيث إن
له (تعالى) التجلي الذاتي بذاته لذاته في مقام ذاته والتجلي الأسمائي في مقام
صفاته فأراد التجلي الأفعالي في مقام فعله بل المراد في خصوص الآية هي
.

(1) الذاريات: الآية 56.
(2) كفاية الأصول ج 2 ص 156 وكفاية الأصول: 330 (ت آل البيت).
(3) بحار الأنوار ج 84 ص 344، ح 19، ب 13 (ط، بيروت) وبحار الأنوار: وص 199 ج 6.
ب 12 (ط بيروت) وبحار ج 87 بالرقم الفوق - (ط، إيران).
392

العبادة التشريعية والمعرفة الاكتسابية ولذا خصها بالإنس والجن والا فتلك
العبادة الذاتية والتجلي الأفعالي لا يختص بموجود دون موجود فظاهرها ما
يختص بمورد التكليف من ذوي العقول وعليه فالمعرفة التي هي غاية الخلق
أما المعرفة الحاصلة من العبادة بان يراد من الآية (ليعبدون) حتى يعرفون
كقوله تعالى * (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) * (1).
واما المعرفة السابقة على العبادة بأن يكون المراد من قوله (تعالى) (ليعبدون)
ليعرفون بتعلق الإرادة الجدية بالمعرفة إما بالتجوز أو بنحو الكناية أما على الأول
فحيث إن غاية الواجب واجبة فالمعرفة واجبة لكون العبادة واجبة.
وأما على الثاني فضرورية خلق الجن والإنس تدل على ضرورة الغاية وهي
المعرفة فتدل على وجوبها بهذه الملاحظة وفى كلا التقريبين لإفادة وجوب
المعرفة خصوصا أو عموما نظر.
أما التقريب الأول ففيه أن الكلام في معرفة الله بمقدار الذي ينوط به الايمان
وهي المصححة للعبادة وهي مفروغ عنها هنا، والمعرفة المنبعثة عن العبادة
سواء كانت واجبة أولا أجنبية عن المعرفة التي توجب حصولها الخلود في النعيم
وعدمه الخلود في الجحيم ثم إن المعرفة المنبعثة عن العبادة أيضا لها مرتبتان
فمرتبة منها وهي المقصودة من العبادة الواجبة مرتبة لزومية توجب فقدها
العقاب لا الخلود لكفاية ذلك المقدار من المعرفة السابقة في النورانية والحياة
الأبدية ومرتبة منها وهي الحاصلة من العبادة المستحبة مرتبة تورث درجة من
القرب ولا يكون في ترك تحصيلها إلا عدم تلك الدرجة لأدركه من العقاب
وتشريع الواجبات والمستحبات العبادية لهذه الغاية لا يقتضى إلا وجوب مرتبة
من المعرفة بالعبادة تارة واستحباب مرتبة أخرى منها بمرتبة من العبادة أخرى
لا وجوب المعرفة بقول مطلق فضلا عن وجوب المعرفة السابقة على العبادة
بنص هذه الآية ومنه يعلم أن المعرفة إذا كانت مطلقة فالمراد منها المعرفة
الحاصلة من العبادة لا المعرفة في نفسها ولو مع قطع النظر عن العبادة، وهذه
أيضا غير واجبة بقول مطلق وأما كيفية تصور المعرفة المطلقة من عبادته (تعالى)

(1) الحجر: الآية 99.
393

فلأن العبادات كما مر سابقا توجب صقالة مرآة النفس بتكررها فيتجلى المعارف
وصور حقايق الأشياء كلها فيها بمقدار صفاء المادة وقبولها لإفاضة الصور العلمية
من واهب الصور.
واما التقريب الثاني: فلان المعرفة وإن كانت بنفسها غاية للخلق لا انها من
حيث كونها غاية للعبادة إلا أن من البديهي أن غاية خلق الخلق ليست المعرفة
بذلك المقدار اللازم في باب الخلود وجودا وعدما، كيف والا لزم في تشريع
الشرايع والاحكام الاقتصار على الالزام بذلك المقدار، بل المعارف بمراتبها
- سواء حصلت بمقدمات برهانية أو بغيرها أو بالمواظبة على الطاعات كلها -
غاية مقصودة ومتعلقة للغرض على التفصيل المتقدم، فالآية بناء على هذا
التقريب مسوقة لبيان أن المهم في نظره (تعالى) من خلق العباد حصول المعرفة
منهم بمراتبها كما قيل أن الأعمال مقدمة للأحوال وان الأحوال مقدمة للمعارف،
لان الباقي في النشأة الآخرة هي نفس بمالها من الهيئات النورانية أو الظلمانية
والحركات الأينية والوضعية والألفاظ الغير القارة لاقرار لها في هذه الدار فضلا
عن تلك الدار، وعليه فلا دلالة للآية على وجوب خصوص معرفة كما لا دلالة
على وجوب عمومها.
ثم اعلم أن لازم كون العبادة بنفسها أو المعرفة كذلك غاية لخلق الجن والإنس
أن تكون الغاية ضرورية الحصول لا ضرورية التحصيل.
والكلام في الثانية مع أن الأولى غير مترتبة أيضا إلا بالرجوع إلى العبادة
الذاتية والمعرفة بمعنى التجلي الافعالي وهو خلف، ويندفع الاشكال بان المراد
حصول المعرفة والعبادة تسبيبا وتشريعا لا تكوينا كما دلت عليه الروايات
الواردة من أهل بيت الوحي والتنزيل (سلام الله عليهم)، فعن الصادق عليه
السلام انه سئل عن هذه الآية، فقال (ع) خلقهم ليأمرهم بالعبادة قيل قوله تعالى
(ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم (1) قال
خلقهم ليفعلوا ما يستوجبون به رحمته فيرحمهم (2)، وفى تفسير على بن إبراهيم

(1) هود: الآية 118.
(2) البرهان في تفسير القرآن: ج 4، ص 238، ح 1.
394

القمي - ره - (1) قال خلقهم للأمر والنهى والتكليف وليست خلقة جبر أن يعبدوه
ولكن خلقة اختيار ليختبرهم بالأمر والنهى ومن يطع الله ومن يعصى، وعليه
فالغاية بهذا المعنى ضرورية الحصول، صرورة وقوع التشريع والتسبيب إلى
ايجاد العبادة بالاختيار ولا منافاة بين تشريع المستحبات وضرورية وقوعه ممن
شأنه الارشاد إلى ما يوجب استكمال نفوس العباد بالكمالات اللازمة أو
المندوبة، وليعلم أن ما اشتهر من تفسير العبادة بالمعرفة إما بإرادتها منها أو
بكونها غاية لها، مأخوذ من تفاسير العامة والا فما في تفاسير الخاصة عن أهل
بيت الوحي وحملة علم الكتاب هو ما نقلناه هنا وإن كانت المعرفة غاية للعبادة
عقلا بل نقلا إلا أنه لا دخل له بتفسير الآية، فافهم ولا تغفل.
172 - قوله: ومثل اية النفر (2) انما هو بصدد بيان الطريق الخ:
لا يخفى عليك أن اية النفر في نفسها لها الدلالة على أصل وجوب التفقه في
الدين، غاية الأمر أن الدين حيث إنه يحتمل أن يراد منه خصوص الاحكام
العملية فلذا استشهد شيخنا العلامة الأنصاري - ره - (3) بما ورد في تفسيرها من
شمول التفقه في الدين للتفقه في الأمور الاعتقادية كمعرفة الإمام عليه السلام
وما ورد في هذا الباب مختلف فبعضه كما أفاده شيخنا الأستاذ - قده - (4) في مقام
بيان الطريق إلى المعرفة. كما في صحيحة يعقوب بن شعيب (5).
قال قلت: لأبي عبد الله (ع) إذا حدث على الامام كيف يصنع الناس قال (ع)
أين قول الله (عز وجل) فلولا نفر الخ، وبعضه يدل على وجوب المعرفة وعدم
العذر في تركها كما في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (ع) (6) وفيها،
قلت: أفيسع الناس إذا مات العالم ان لا يعرفوا الذي بعده فقال (ع) اما أهل هذه
البلدة فلا، يعنى أهل المدينة واما غيرها من البلدان فبقدر مسيرهم، ان الله

(1) تفسير القمي: ج 2، ص 331 والبرهان: ج 4، ص 239، ح 5.
(2) التوبة: الآية 122.
(3) الرسائل، ج 1، ص 276: طبعة جماعة المدرسين.
(4) كفاية الأصول: ج 2، ص 156.
(5) الكافي: ج 1، ص 378، ج 1.
(6) الكافي: ج 1، ص 380، ح 3...
395

عز وجل يقول فلولا نفر الخ: فظاهر صدرها السؤال عن وجوب معرفته
والمعذورية في تركها ومن المظنون قويا أن الاستشهاد بالآية لبيان المعذورية
بمقدار المسير الذي هو لازم النفر في حال الجهل لا لبيان وجوب التفقه بالنفر
نعم، بمناسبة الحكم والموضوع يعلم من الآية أن ما كان من الدين يجب التفقه
فيه فان ظاهرها لزوم التفقه في الدين حيث إنه من الدين والله أعلم.
173 - قوله: ومع العجز عنه كان معذورا إن كان عن قصور الخ:
تحقيق المقام يستدعى بسطا في الكلام لا يسعه المجال وربما يخرج عن
وضع التعليقة والذي لا بد منه هو ان الجهل تارة يكون بسيطا وأخرى مركبا،
وعلى أي تقدير تارة يكون عن قصور، وأخرى عن تقصير، والكلام، تارة فيما
يترتب عليه من الآثار في هذه النشأة، وأخرى فيما يترتب عليه في نشأة أخرى،
فنقول: الايمان مرتبة منه غيب، ومرتبة منه شهادة، ولهما آثار في عالمي الغيب
والشهادة، فالاقرار بالشهادتين الذي هو وظيفة اللسان وهو مرتبة من الايمان
بحسب عالم الشهادة توجب ترتب آثار كثيرة في هذه النشأة مما يناسبها من
طهارة بدنه وحقن دمه والمناكحة معه والتوارث وأشباه ذلك، ومع عدم الاقرار
لا يترتب عليه شئ من تلك الآثار سواء كان جاهلا بسيطا أو مركبا قاصرا أو
مقصرا إذ هذه الآثار لمرتبة من الايمان لا من اثار مرتبة أخرى منه، وليس الكلام
فيه هنا بل الكلام في مرتبة غيب الايمان المنوط بالمعرفة ومقابلها الجهل، واثار
الايمان بهذه المرتبة استحقاق الخلود في النعيم وعدم الخلود في الجحيم
بخلاف الكفر، وهذه آثار عالم الغيب ومن لوازم مرتبة غيب الايمان.
ولتحقيق المقام من هذه الحيثية ينبغي تقديم مقدمات:
منها: أن الايمان بمعنى المعرفة يقابله الكفر بمعنى الجهل تارة بتقابل العدم
والملكة وأخرى بتقابل التضاد، فالجهل البسيط ممن شأنه أن يعلم ويعرف مقابل
للعلم بتقابل العدم والملكة، والجهل المركب المتقوم باعتقاد غير الحق يقابل الاعتقاد
بالحق بتقابل التضاد، فما عدا الانسان من الحيوان وغيره ليس من شان نوعه ان
يعلم فليس له جهل يقابل العلم بتقابل العدم والملكة، ونوع الانسان على أصناف:
فصنف منه: أيضا ليس من شأنه بما هو صنف أن يعلم ويعرف كالمجانين
396

والأطفال. فليس لهم جهل يقابل العلم بتقابل العدم والملكة.
وصنف اخر منه: أيضا ليس من شأنه أن يعلم وإن كان كبيرا غير مجنون
كالمستضعفين من الرجال والنسوان الذين عقولهم عقول الصبيان لقلة
استعدادهم فهؤلاء أيضا بحسب هذا الصنف ليس من شأنهم أن يعلموا ويعرفوا.
وصنف اخر منه: لبعده عن محيط المعرفة بهذا الأمر وعدم التفاتهم حتى
يتمكنوا من العلم به أيضا ليس من شأنهم أن يعلموا فليس لهم جهل يقابل العلم
بتقابل العدم والملكة.
منها: أن التذاذ كل قوة بنيل ما يلائمها وتألمها بنيل ما يضادها وينافرها أو
بفقد ما يلائمها مع الالتفات إليه وإلى ملائمته والا فمع عدم الالتفات لا يتألم
بفقده كغير الملتفت إلى ملائمة الحلاوة للذائقة فإنه لا يتألم بفقدها، وكذلك
الجوهر العاقل فان التذاذه بنيل المعقولات النافعة في نظام أمور دينه ودنياه
وتألمه بفقده مع الالتفات إلى كونه كمالا للجوهر العاقل.
منها: ان للانسان (1) بحسب ذاته وفطرته جهتين: جهة نورانية وجهة ظلمانية
فمن حيث نفسه الناطقة التي هي من عالم الملكوت وهو عالم النور الذي لا تعلق
له بالمادة الظلمانية جوهر مجرد نوراني، ومن حيث نفسه الحيوانية التي هي
معدن القوى البهيمية والسبعية والشيطنة التي فعليتها فعلية الشهوة والغضب
والمكر والتدليس والتلبيس ظلماني محض، وله جهتان اكتسابيتان عرضيتان
وهي جهة نورانية المعارف الإلهية والملكات الفاضلة - وجهة ظلمانية
الاعتقادات الردية والجهالات الراسخة المنبعثة عن معادات الحق والملكات
الرذيلة وبهذين الاعتبارين والله أعلم يقول (تعالى) (الله ولى الذين امنوا
يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياءهم الطاغوت
يخرجونهم من النور إلى الظلمات) (2) فان المراد بالأول اخراجهم من
ظلمات الطبيعة إلى أنوار المعارف والملكات الفاضلة.
والمراد بالثاني إخراجهم من نور الفطرة ومقام جوهر نفسه الناطقة إلى
ظلمات الاعتقادات الباطلة والملكات الرذيلة والا فهو في الأصل إما نوراني أو

(1) (خ ل): الانسان.
(2) البقرة: الآية 257.
397

ظلماني فان كان نورانيا فما معنى اخراج المؤمن من الظلمات، وإن كان ظلمانيا
فما معنى اخراجه من النور.
إذا عرفت هذه المقدمات، فاعلم: أن الجاهل القاصر بالجهل البسيط: وإن
صدق عليه انه غير عارف ولا عالم حيث إن الشئ لا يخرج عن طرفي السلب
والايجاب إلا أنه حيث ليس من شأنه العلم كما عرفت فليس هو جاهلا في
الحقيقة وعدم العلم بهذا المعنى ليس مما يتألم به.
لما عرفت من أن غير الملتفت إلى كمالية الشئ بوجه لا يتألم بفقده وحيث
إن جهله بهذا المعنى ليس اكتسابيا فليس فيه جهة ظلمانية بل ليس فيه إلا الظلمة
الذاتية من حيثية، والنورانية الذاتية من حيثية أخرى، فلا جهله بالمعنى المزبور
مما يتألم به في النشاء الآخرة ولا الظلمة الطبيعية أمر ما وراء ذاته، ولا هو مناط
العقوبة الأخروية، ففي الحقيقة ليس في الجاهل القاصر الا عدم مالا يتألم بفقده.
وأما الجاهل القاصر بالجهل المركب: فمن حيث عدم الاعتقادات الحقة قد
عرفت حاله، ومن حيث الاعتقادات الباطلة الناشئة من عدم الالتفات إلى حق
سواه يرجع امره إلى أنه معتقد للحق ومخطئ في التطبيق حيث إنه لا يرى حقا
سواه (1) لعدم التفاته أو لقصوره عن تصور حق سواه فهو غير معاند للحق، فالحق
صورة اعتقاده ذاتا وما أخطأ في تطبيقه عليه مطابقة بالعرض، والعرضي يزول
والذاتي لا يزول، فلا ظلمة اكتسابية ذاتية له حتى يحترق بها، هذه خلاصة الكلام
فيما يقتضيه القواعد البرهانية الموافقة لما ورد في الشريعة الحقة الإلهية الناطقة
بان المستضعف ليس بمؤمن ولا بكافر، وفسر المستضعف في رواية الكافي (2) عن
الباقر (ع) هو الذي لا يستطيع حيلة يدفع بها الكفر ولا يهتدى بها إلى سبيل الايمان.
وفى الكافي (3) عن الكاظم (ع) قال سئلته عن الضعفاء فكتب إلى: الضعيف
من لم ترفع إليه حجة ولم يعرف اختلاف الناس فإذا عرف الاختلاف فليس
بمستضعف، هذا فتدبر.

(1) (خ ل): سواء.
(2) الكافي: ج 2، ص 404، ح 3.
(3) الكافي: ج 2، ص 406، ح 11 - والصحيح هكذا... ولم يعرف الاختلاف فإذا عرف الاختلاف
فليس لمستضعف.
398

الثاني: الجبر والوهن بالظن
174 - قوله: و مجمل القول في ذلك أن العبرة (1) الخ:
اما الكلام من حيث المرجحية فتفصيل القول فيها موكول إلى مباحث التعادل
والترجيح.
واما الكلام من حيث الجابرية والظن الموهنية فمجمل القول.
اما في الجابرية فبان دليل حجية الخبر حيث دل على حجية الخبر الموثوق
بصدوره فإذا حصل الوثوق بصدور الخبر ولو من طريق غير معتبر فقد تحقق
موضوع الحكم وجدانا قهرا فيعمه دليل الحجية. ولا فرق بين الخبر المعلوم
تحقق أصله تفصيلا أو اجمالا كما سيجيئ (انشاء الله تعالى).
واما الوثوق بأصل الخبر أو الوثوق بصدور الحكم من المعصوم ولو لم يخبر
عنه مخبر أصلا أو الوثوق بنفس الحكم ولو لم يصدر من الإمام (ع) نظير الحدس
القطعي برأي الإمام (ع) في الاجماع فكل ذلك ما لا يعمه دليل حجية الخبر
الموثوق بصدوره. إذ هو بعد فرض تحقق أصل الخبر، وانما يصح ذلك بناء على
اعتبار أصل الوثوق والاطمينان نظرا إلى أنه علم عادى عند العقلاء، هذا كله في
الكبرى.
وأما الصغرى فربما يجعل منها استناد المشهور إلى الخبر الضعيف وتحقيق
القول فيه أن ضعف الخبر تارة، يكون للجهل بحال الراوي وأخرى، لاتصافه
بما يمنع عن قبول خبره، فالاستناد إلى الخبر على الأول يمكن أن يكون لتبين
حال عندهم من حيث الوثاقة دون الثاني فإنه على الفرض معلوم الحال فينحصر
في احتفافه بقرينة يوجب الوثوق بصدقه، فان الكذوب قد يصدق، وأما الكشف

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 161، س 1 وكفاية الأصول: 332، (ت، آل البيت).
399

عن صدور خبر اخر معتبر، أو عن العلم بصدقه فخلاف الظاهر من الاستناد إلى
الضعيف كما هو المفروض إذ على الأول المستند خبر اخر لا ما استندوا إليه
وعلى الثاني يكون المستند علمهم بالحكم لا الخبر.
ولا يخفى أن غاية ما يفيده الاستناد إلى الخبر الضعيف هو الكشف إما عن
كون الراوي موثوقا عندهم أو عن قرينة موجبة لوثوقهم بصدقه، مع أن الاعتبار
بتحقق الخبر الموثوق به عندنا فكون الراوي ثقة عندهم غير مفيد ولذا قالوا بان
رواية من لا يروى إلا عن ثقة لا توجب التوثيق بحيث يكون الرواية عن الثقة
عندنا بل عن ثقة بنظره، كما أن الكشف عن وجود قرينة توجب الوثوق بالصدور
بنظرهم لا يوجب الوثوق بنظرنا وبالجملة لا بد من تحقق الوثاقة أو الوثوق
بالصدور بنظر العامل بالخبر لامكان عدم الوثاقة إذا عرف الراوي أو عدم إفادة
القرينة للوثوق إذا علم بها، ولا يقاس استنادهم إليه من حيث الوثاقة ان من حيث
الوثوق بالشهادة العلمية بوثاقة شخص أو بنقل القرينة الموجبة للوثوق نوعا
حيث إن الأول شهادة من المشهور التي هي أولى بالقبول من شهادة البينة.
والثاني إخبار جماعة من العدول الاعلام بجزء موضوع الحكم عن حس
فلا ينافي عدم حجية خبرهم عن الحكم الواقعي لكونه عن حدس، وجه عدم
القياس.
اما الأول: فحيث إن الرجل مجهول الحال فان كان الجهل بوصفه من حيث
الوثاقة فشهادتهم مفيدة وأما إذا كان مجهول الحال لكونه مجهول الاسم فلا يعتبر
شهادتهم إذ لعله إذا عرفناه باسمه لكان ممن شهد آخرون بفسقه، مضافا إلى إن
الاستناد إلى مجهول الحال لا يتعين في وثاقته عندهم فلعله من اجل الوثوق
بخبره لقرينة.
وأما الثاني: فمن حيث إن نقل القرينة الموجبة للوثوق نوعا يوجب التعبد
بوجود جزء موضوع الحكم، وأما استنادهم لوثوقهم فلعله لوثوقهم شخصا
بقرينة لا توجب الوثوق نوعا، فمجرد العمل لا يكشف عن قرينة نوعية موجبة
للوثوق بل عن وثوقهم شخصا فعلا وهو غير حجة إلا للشخص، فتدبر، نعم،
الانصاف أن استناد المشهور إذا كشف عن ظفر الكل بموجب الوثوق كان ذلك
400

مفيدا للوثوق نوعا لكنه غالبا ليس كذلك، بل الغالب في تحقق الشهوة تبعية
المتأخر للمتقدم في الاستناد إلى ما استند إليه لحسن ظنه به، والله أعلم، هذا كله
في الجابرية للسند كبرى وصغرى.
وأما الجابرية للدلالة فاما من حيث الكبرى فالحجة ببناء العقلاء هو الظهور
والوثوق بظهور ما لا ظهور له بنفسه لا يحقق الظهور الذي هو موضوع الحكم.
وأما من حيث الصغرى فعمل المشهور مستندا إلى دلالة الرواية تارة، يكون
في مقام يختلف الاستظهار بحسب الأنظار فاستظهارهم لا يجدى شيئا.
وأخرى، في مقام لا يختلف أحد في عدم ظهور نفس الكلام الواصل
فاستظهارهم منه كاشف عن قرينة حافة بالكلام موجبة لظهوره في المرام، فان
كان كاشفا قطعيا عن قرينة موجبة للظهور نوعا فلا شبهة في تحقق الظهور حينئذ
وان كان كاشفا ظنيا فلا شبهة في عدم الاعتبار به لعدم الدليل على حجية الظن
بالظهور أو المراد الجدي.
وأما إذا قلنا ان عملهم لا يكشف الا عما يوجب الظهور بنظرهم لا عما يوجب
الظهور نوعا فلا يجدى في القطع بالقرينة الموجبة للظهور النوعي الا على ما ذكرنا
من أن كون القرينة موجبة للظهور في نظر المشهور لا يصح الا فيما كانت موجبة له
نوعا، لبعد اتفاقهم مع اختلاف انظارهم على ظهور ما ليس له شأنية إفادة الظهور
نوعا مع ما قدمنا فيه، فراجع هذا كله في الجابرية للسند والدلالة (1).
واما الكلام في الموهنية.
فنقول: اما الظن بعدم الصدور فلا يكون موهنا لعدم تقيد حجية خبر الثقة
بعدم الظن بعدم الصدور كما لم يتقيد بالظن الفعلي بصدوره وهو بالنظر إلى
حجية خبر الثقة من باب الاخبار واضح.
واما من باب بناء العقلاء على العمل بخبر الثقة للوثوق بصدوره فنحن وان
قلنا بان المعتبر كونه موثوقا به نوعا لا فعلا لكنه إذا لم يكن عدم صدوره موثوقا به
فعلا إذ من البعيد جدا من عادة العقلاء اعتبار شئ من باب إفادته بطبعه للوثوق

(1) التعليقة: 174، ص 399.
401

وتقديمه على الوثوق الفعلي بعدمه، خصوصا إذا كان الظن بعدم الصدور حجة
عند العقلاء، لانبعاثه عن ما (1) بنوا على حجيته وان لمن يكن حجة شرعا، فإنه وان
لم يكن له المانعية شرعا الا ان عدم المانع شرعا انما يفيد مع وجود المقتضى
لحجيته عند العقلاء.
وقد مر مرارا ان بناء العقلاء على العمل بخبر الثقة مفيد بعدم ما يكون حجة
عندهم على خلافه، وليس للعمل اطلاق حتى يتوهم انه لهم بنائان، أحدهما
مطلق والاخر مقيد حتى يرفع اليد عن أحدهما شرعا ويبقى الثاني. واما الظن
بعدم الظهور فهو أيضا على المشهور غير مانع عن حجية الظهور لعدم تقيدها
بالظن الفعلي على وفاقه ولا بعدم الظن على خلافه.
وقد ذكرنا في مبحث حجية الظاهر (2) انه يمكن التقييد بالثاني وان الظن
بالخلاف ان كان حجة عند العقلاء يوجب انتفاء المقتضى اثباتا بالبيان المذكور
انفا، فلا بد من التكلف بان يجعل المنع عن اتباع الظن شرعا أمرا بالملازمة باتباع
الظاهر الذي قام الظن المنهى عنه على خلافه، فيكون الدليل الشرعي بالملازمة
دليل على حجية الظاهر شرعا ومثله أيضا جار في المنع عن الظن بعدم صدور
الخبر، فافهم وتدبر هذا هو الكلام في الكبرى.
واما الصغرى: فمنها اعراض المشهور عن الرواية سندا أو عدم الاعتناء
بظهورها فان كان كاشفا قطعيا عن خلل في سندها لا من حيث عدم وثاقة المخبر
فإنه خلف لفرض تمامية اقتضائها للاستناد إليها بل من حيث احتفافها بقرينة
موجبة للقطع بخطاء المخبر، أو عن خلل في الدلالة من حيث احتفافها
بما لا يكون معه ظاهرا في ما هو ظاهر فيه بنفسها فلا كلام، واما ان كان كاشفا ظنيا
عن ذلك لاحتمال الاستناد إلى ما هو الأرجح دلالة منه بنظرهم لا من حيث خلل
في السند أو الدلالة فلا يكون الاعراض موهنا، وهذا اخر ما أردنا ايراده في
مباحث القطع والظن والحمد لله أولا واخرا والصلاة على محمد وآله باطنا
وظاهرا.

(1) (خ ل): عما.
(2) التعليقة: 74، ص 163.
402

المبحث
الثالث
في الشك
403

(فصل: في الشك في التكليف)
التحقيق في تعريف الأصول العملية
175 - قوله: وهي التي (1) ينتهى إليها المجتهد بعد الفحص الخ (2):
توصيف القواعد المزبورة بما افاده (3) - قده - لادراجها في المسائل الأصولية
ولاخراج القواعد العامة الفقهية.
اما ادراجها في المسائل الأصولية: فلان مضامينها وان كانت بنفسها أحكاما
مستنبطة كاثبات الإباحة الشرعية أو رفع الحكم الشرعي أو جعل الحكم المماثل
لما أيقن به أو كانت اعتبارات شرعية أو عقلية غير منتهية إلى حكم تكليفي
شرعي كالبراءة العقلية أو رفع المؤاخذة شرعا أو المنجزية العقلية أو الشرعية ولو
بجعل اليقين السابق منجزا للحكم في اللاحق.
الا انها على أي تقدير لا تقع (4) في طريق الاستنباط، فلا بد من تعميم القواعد
الأصولية إلى ما يقع في طريق الاستنباط وما ينتهى إليه المجتهد بعد الفحص عن
الدليل على حكم العمل.
واما اخراج القواعد الفقهية كقاعدة " ما يضمن بصحيح يضمن بفاسده " (5) أو
سائر قواعد أبواب المعاملات أو العبادات، فلأنها قواعد لا ينتهى إليها امر

(1) (خ ل): الذي.
(2) كفاية الأصول: ص 337، (ت، آل البيت).
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 165، وأشار إليه في تعريف علم الأصول في الكفاية: ج 1، ص 9.
(4) (خ ل): لا نفع.
(5) القواعد الفقهية لآية الله ناصر مكارم الشيرازي مد ظله: ج 4، ص 213.
والقواعد الفقهية السيد ميرزا حسن الموسوي البجنوردي - ره -: ج 20، ص 84.
405

الفقيه (1) بعد الفحص عن الدليل على حكم العمل بل هي احكام كلية ابتدائية
للعمل، لعدم ترتبها على الشئ بعنوان كونه مجهول الحكم، وحيث إن الأصول
العملية مما ينتهى إليه امر المجتهد بعد الفحص عن الدليل فلا محالة تختص
بالمجتهد إذ ليس من شانه الفحص عن الدليل الا المجتهد. فبهذه الخصوصية
تمتاز هذه القواعد عن سائر القواعد وتختص بالمجتهد دون غيرها هذا.
والتحقيق ما مر في أوائل الجزء الأول من التعليقة (2) وفى أول حجية خبر
الواحد (3) ان تعميم القواعد إلى الممهدة للاستنباط والى ما ينتهى إليه امر
المجتهد يقتضى فرض غرض جامع بين الغرضين (4) لئلا يكون علم الأصول
علمين لتعدد العلم بتعدد الغرض في المورد القابل، مضافا إلى أن هذا التعميم
وان كان يجدى في ادراج الأصول العلمية الشرعية الا انه لا يجدى في دخول
مباحث حجية الامارات سندا ودلالة في علم الأصول.
لأنها ليست مما ينتهى إليه امر المجتهد بعد الفحص عن الدليل بل هي الأدلة
على حكم العمل وليس العمل بمقتضياتها منوطا بعدم التمكن من تحصيل
العلم.
والتحقيق: ان الحجية (5) اما بمعنى الوساطة في اثبات الواقع عنوانا أو اعتبارا
واما بمعنى الوساطة في اثبات الواقع اثرا وتنجزا، والمبحوث عنه في علم
الأصول وساطة الخبر ونحوه بأحد الوجوه، والمبحوث عنه في علم الفقه قيام
الواسطة على اثبات الحكم لأوساطها، وعليه فالعلم المأخوذ في حد الفقه حيث
قيل إنه علم بأفعال المكلفين من حيث الاقتضاء والتخيير أعم من العلم
الوجداني والعلم التنزيلي بل أعم من العلم بالحكم وقيام المنجز على الحكم.
نعم، فيما ليس له جهة الكاشفية والمراتية (6) ليس له عنوان الوساطة للاثبات
فلابد من تعميم الحجية إلى مطلق المنجزية والمعذرية فيدخل البحث عن

(1) (خ ل): الفقه.
(2) نهاية الدراية: ج 1، ص 17...
(3) التعليقة: 91، ص 185.
(4) (خ ل): الفرضين.
(5) التعليقة: 56، ص 125.
(6) (خ ل): المرائية.
406

منجزية الاحتمال وعن معذرية الجهل أيضا في المسائل الأصولية الا ان يبقى
خصوص البراءة الشرعية بمعنى رفع الحكم أو ثبوت الإباحة على حاله إذ
لا وساطة في الاثبات أصلا ولا معذرية شرعا حتى يندرج تحت قيام الحجة على
حكم العمل ولا بأس بالاستطراد فيمثله.
واما حديث اختصاص مفاد الأصول العملية بالمجتهد (1) لكونه ممن يتفحص
عن الحجة على الحكم العمل دون سائر القواعد الفقهية العامة فإنها تعم المجتهد
والمقلد.
فتحقيق الحال فيه ان عناوين موضوعات هذه الأحكام الكلية ووجوب
تصديق العادل ووجوب الاخذ بالراجح من الخبرين أو التخيير بينهما وان كانت
مختصة بالمجتهد فإنه الشاك في الحكم وهو المتيقن بحكم في السابق والشاك
فيه في اللاحق وهو من اتاه النبأ ومن جاءه الحديثان المتعارضان دون المقلد في
كل ذلك فيتوهم اختصاص تلك الأحكام دون ساير القواعد الفقهية العامة الا ان
مفاد تلك الأحكام الكلية اما جعل الحكم المماثل أو جعل المنجزية والمعذرية
وربما لا يكون للواقع مساس به حتى يتعلق به حكم فعلى مماثل أو يتنجز الواقع
عليه على تقدير الإصابة ويعذر عنه على تقدير الخطاء فما معنى اختصاصه به
ودعوى: " ان فتوى المجتهد المستندة إلى حجة شرعية بمنزلة الخبر مع الواسطة
تكون حجة على ثبوت الحجة في حق المكلف " مدفوعة بأنها تجدي في ما إذا
كانت مستندة إلى الخبر ونحوه لا في مثل الاستصحاب المتقومة باليقين والشك
مع أن المكلف لا يقين له ولا شك والمجتهد لا تكليف له وان أيقن وشك.
فالتحقيق ان ما تضمنه الامارات أو الأصول العملية من التكاليف الثابتة
لذات الفعل أو له بوصف كونه مجهول الحكم حكم عملي للمكلف الذي له
مساس به لكن المقلد حيث إنه لا يتمكن من استنباطه من دليله أو لا يتمكن من
تطبيقه على مصداقه إذ لا يعلم كونه لا حجة عليه الا بعد الفحص عنها ينوب
عنه المجتهد بأدلة وجوب التقليد وجواز الافتاء في اعمال رأيه ونظره في

(1) فوائد الأصول ج 3، ص 4.
407

استنباط الحكم من دليله أو في تطبيقه على مصداقه، فالمجتهد هو الموضوع
عنوانا والمقلد هو الموضوع لبا.
ومجيئ الخبر إلى المجتهد منزل منزلة مجيئه إلى المقلد، ويقينه وشكه
بمنزلة يقين المقلد وشكه، والا لكان ايجاب اتباع رأيه لغوا مع عدم تحقق
موضوع الحكم، فالحكم المستنبط أو الحكم الكلى الذي يراد تطبيقه على مورده
لا يختص بالمجتهد بل المقدمات المؤدية إلى استنباطه أو إلى تطبيقه هي
المختصة بالمجتهد، فكما ان اختصاص مقدمات الاجتهاد والاستنباط لا يوجب
اختصاص الحكم المستنبط بالمجتهد كذلك اختصاص الفحص عن الحجة
المحقق لموضوع الحكم فعلا به لا يوجب اختصاص ذلك الحكم الكلى الذي
لا ينطبق على مصداقه الا بالفحص المحقق للمصداق بالمجتهد.
ومما ذكرنا تبين: انه لا امتياز للأصول العلمية عن القواعد الفقهية، فان
اختصاص تطبيقها على مصاديقها بالفحص المحقق لمطابق موضوعها الكلى
بالمجتهد من حيث كونه أهل الخبرة بالتطبيق لا يوجب ادراج هذه المسائل في
علم الأصول دون غيرها، لان خبرة تطبيق القواعد العامة الفقهية أيضا تحتاج إلى
مقدمات نظرية تختص بالمجتهد.
وقد عرفت ان هذه الخصوصية لا يوجب كون هذا الحكم الكلى العملي
حكما أصوليا لا حكما فقهيا بل الكل بناء عليه قواعد فقهية، غاية الامر ان هذه
القواعد قواعد عامة ولا تختص بباب دون باب بخلاف تلك القواعد فإنها ربما
تختص بباب الطهارة أو بباب الصلاة أو بخصوص باب البيع أو غيره أو بأبواب
العبادات مطلقا أو بأبواب المعاملات، وهذا التعميم والتخصيص لا يوجب
خروج المسألة عن كونها فقهية ولا دخولها في المسائل الأصولية.
نعم، بناء على ما ذكرنا فالكل من القواعد الممهدة لاستنباط الحكم الشرعي
الا مالا باس بالاستطراد فيه كالبراءة الشرعية بمعنى الإباحة ورفع الحكم،
لا بمعنى المعذرية شرعا.
408

176 - قوله: مع جريانها في كل أبواب الخ (1):
شان مسائل العلم وان كان كلية المبحوث عنه حيث لا يبحث عن الجزئي في
العلوم، الا ان عمومه لجميع الأبواب غير لازم، وتخصيص القواعد الأصولية
بالعامة لجميع الأبواب بلا مخصص بل بعض مسائلها لا يجرى الا في العبادات
مثلا، وتقدم رتبة العلم الاعلى على الأدنى لا يستدعى الا تقدم كل جزء من الأعلى
على ما يناسبه من الأدنى لا على جميع اجزاء العلم الأدنى حتى يجب
عمومه لجميع أبوابه، فتدبر. وفى هامش الكتاب لشيخنا العلامة رفع الله
مقامه (2) في بيان توهم خروج قاعدة الطهارة مط عن المسائل الأصولية وجه
اخر مع جوابه منه - قده -
قال - قده -: " لا يقال: ان قاعدة الطهارة مطلقا تكون قاعدة في الشبهة
الموضوعية فان الطهارة والنجاسة من الموضوعات الخارجية التي يكشف عنها
الشرع.
فإنه يقال: أولا: نمنع ذلك بل إنهما من الأحكام الوضعية الشرعية ولذا اختلفنا
في الشرايع بحسب المصالح الموجبة لشرعهما كما لا يخفى.
وثانيا: انهما لو كانا كذلك فالشبهة فيهما فيما كان الاشتباه لعدم الدليل على
أحدهما كانت حكمية، فإنه لا مرجع لرفعهما الا الشارع وما كانت كذلك ليست
الا حكمية " انتهت عباراته - قده -.
قلت: اما الجواب الأول، فتقريبه، ان ما يقابل الطهارة من النجاسة والحدث
لو كان أمرا واقعيا خارجيا لكان من جملة المقولات الواقعية، وما يحتمل منها
ليس الا مقولة الكيف القائم بالجسم في النجاسة والكيف القائم بالنفس في
الحدث، لما هو المعروف بينهم من أنه حالة معنوية، وليس بعد الجسم محل
يقوم به الحدث الا النفس، وكلاهما مشكل.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 167 وكفاية الأصول: (ت، آل البيت).
(2) حقائق الأصول: ج 2، ص 222 وكفاية الأصول: 337، (ت، آل البيت).
409

اما الكيف القائم بالجسم فمن الواضح ان المتنجس ينجس بالذات على ما هو
عليه من جواهره واعراضه من دون عروض كيف حقيقي عليه ليكون مطابق
ماهية النجاسة، وليس من شرط الملاقاة ان يستصحب اجزاء من النجس بالذات
أو عرضه القائم به، ولو فرض لحوق شئ منه فزواله محسوس بغير الماء أيضا
فلا معنى لبقاء امر عيني في المحل.
واما النجس بالذات من الأعيان المعروفة من البول والغائط والميتة والكافر
وغيرها فهي مع ما يشاكلها من الأعيان الطاهرة في الصورة النوعية والشخصية
والاغراض القائمة بهما على حد سواء، فالدم مما له نفس سائلة وما ليس له نفس
سائلة والميتة منهما والبول والغايط من مأكول اللحم وغيره وبدن الكافر والمسلم
كلها في جواهرها واعراضها حسا وعيانا على حد سواء، فما ذلك الكيف القائم
بالجسم المختص بالنجس أو المتنجس.
واما الكيف النفساني القائم بالنفس في الحدث فالأمور القائمة بالنفس.
تارة، من الصور العلمية من الاعتقادات الصحيحة التي هي كمال النفس أو
الاعتقادات الفاسدة التي هي نقصها، أو غيرهما مما ليس كمالا ونقصا بهذا
المعنى وان كان فعلية التعقل بمعنى اخر كمال الجوهر العاقل.
وأخرى، من الملكات الفاضلة والأخلاق الرذيلة.
وثالثة، من مبادئ صدور الفعل الاختياري، والحدث ليس شئ منها جزما إذ
المحتمل هو كونه حالة رذيلة توجب البعد مع أن الجنابة حالة تحصل للنبي
والوصي والمؤمن وحاشاهم من نفوسهم الكاملة بصفة نقص أو خلق
رذيل مع أن خروج المنى أو مس الميت أو النوم لا يوجب حدوث خلق رذيل
في النفس بل ربما تقع هذه الأمور على وجه العبادية المكملة للنفس، مع أن
الملكة الرذيلة النفسانية لا تزول بالغسل والوضوء بل بضد تلك الحالة ولعله لذا
ورد عنهم " ان المؤمن لا ينجس " (1) و " ان الوضوء والغسل حد من حدود الله

(1) الوسائل: ج 4، ص 879، ب 41، ح 7833. ورد بهذه العبارة: ان المؤمن ليس ينجس.
410

تعالى (1) وعليه فيدور الامر في الطهارة وما يقابلها بين ان يكونا حكمين
تكليفيين أو أمرين انتزاعيين من الحكم التكليفي أو من غيره أو اعتبارين وضعيين
شرعيين على ما نراه من إعتبار معنى مقولي أو غير مقولي كما في إعتبار الملكية
أو إعتبار الوضع والارتباط بين اللفظ والمعنى.
وقد ذكرنا في غير مقام ان مفاهيم هذه الألفاظ غير مفاهيم وجوب شئ (2)
وإباحة شئ فلا يصح حمل إحديهما على الأخرى بالحمل الذاتي ولا بالحمل
الشائع فلا وجه لجعلهما عين الحكم التكليفي وان قيام الامر الانتزاعي بمنشائه
يصحح حمل العنوان المأخوذ منه عليه على حد قيام شئ بشئ انضماما مع أنه
لا يصح حمل العنوان المأخوذ من الطهارة وما يقابلها على الحكم بل على
متعلق الحكم كما لا يصح انتزاعهما من الأسباب للوجه المزبور.
واما انتزاعهما عن الأعيان أو عن البدن أو النفس فقد عرفت ما فيه آنفا (3) فلم
يبق الا اعتبار الطهارة والنجاسة والحدث في عين أو شخص على حد إعتبار
المالكية والمملوكية لمصلحة تدعو إلى اعتبارها.
ويمكن ان يقال ان النجس وما يساوقه مفهوما كالرجس والدنس والقذر
ما يوجب تنفر الطبع في قبال الطاهر الذي ليس فيه ما يوجب تنفر الطبع، وتنفر
الطبع ليس الا بلحاظ عدم الملائمة لقوة من القوى، فما فيه رائحة منتنة غير ملائم
للشامة وما كان كريه المنظر غير ملائم للباصرة وما كان مرا للذائقة وما كان خشنا
لللامسة وهكذا بالإضافة إلى القوى الباطنة واقتضاء شئ لتنفر الطبع السليم امر
واقعي لا يزيد في الوجود على المقتضى بل هو ذاتي المقتضى إذا قلنا بان
خصوصية الفاعلية والاقتضاء في الفاعل والمقتضى ليست من الكيفيات
الاستعدادية بل ذاتي العلة كما عليه بعض الأكابر (4) والا كانت داخلة في

(1) ورد بهذه العبارة في الوضوء فقط بلا غسل والكافي ج 3، ص 21، ح 2 والتهذيب ج 1
ص 138 ح 78، ب 6 والفقيه: ج 1 ص 38، ح 78.
(2) (خ ل) وجوب شئ وجوبه شئ.
(3) التعليقة 176، ص 409.
(4) الاسفار ج 2 ص 226.
411

الكيفيات الاستعدادية.
ومن الواضح ان اقتضاءات الأعيان الخارجية المحسوسة لاثار موجبة لتنفر
الطبع تختلف بالإضافة إلى الاشخاص علما وجهلا فالجاهل وان لم يتنفر طبعه
لتقومه وجدانا بالادراك لكن عدم فعلية تنفر الطبع لا ينافي وجود الاقتضاء
واقها وحيث إن الطهارة وما يقابلها بهذا المعنى فهما من المعاني العامة التي
لا تختص بالأعيان الخاصة بل القلب المشحون بالعقايد الباطلة نجس خبيث
فيوجب تنفر الطبع السليم والعقل المستقيم فإنها نقص للنفس وهو مما يتنفر
منه الطبع وازالتها بضدها تطهيرا وكذلك اتصاف النفس بالملكات الرذيلة
وكذا اتصاف الشخص بالاعمال القبيحة ولعله إلى كل ذلك يشير قوله (تعالى)
* (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم
تطهيرا) * (1).
فان الغرض أرجاس الجهالات والملكات الرذيلة والأعمال القبيحة وكذا
ما في الزيارة " لم تنجسك الجاهلية بأنجاسها " (2) وكذا ما في الخبر (3) " بئس العبد
القاذورة " أي الذي موصوف بأنجاس الأعمال القبيحة وهكذا وبهذا الاعتبار
تكون التوبة مطهرة للعاصي وإجراء الحد مطهرا للزاني مثلا كما أطلق عليهما
التطهير وعليه فلا استبعاد في اقتضاء الأعيان المعروفة بالنجاسة لاثار توجب
تنفر الطبع عند الالتفات إليها.
وحيث انها توجب مباشرتها بأعيانها تأثرا نوعا بما يوجب تنفر الطبع فطريق
تطهيرها ازالتها بالماء ونحوه فلذا اختصت من بين سائر الموجبات للتنفر بعنوان
النجاسة وتعرضوا لها في الفقه.
نعم لا نضائق من كونها اعتبارية في بعض الموارد كما في ملاقاة بدن الكافر

(1) الأحزاب 33: الآية 33.
(2) مفاتيح الجنان في زيارة رسول الله (ص) ص 585 ومصباح المتهجد ص 664.
(3) الكافي ج 6 ص 439 ح 6 والوسائل ج 3، ص 341 ب 1 ح 5744.
412

حيث يدعى القطع بعدم اقتضاء نوعي لبدنه اثرا خاصا ا لا ان معاشرته حيث
توجب اكتسابات توجب تنفر الطبع فتأكيد للزجر عن معاشرته اعتبرت النجاسة
في مباشرته لحكمه نوعية لا لتأثير من بدنه في بدن الغير هذا كله في الطهارة
والنجاسة.
واما الطهارة والحدث فالكلام فيهما من حيث كونهما وجوديين أو أحدهما
وجوديا والاخر عدميا ومعنى كون الطهارة نورا والحدث ظلمة يحتاج إلى مجال
واسع ربما يخرج تفصيل القول فيه عن وضع التعليقة.
واما الجواب الثاني فهو تام ربما نتكلم فيه في موضع مناسب له.
177 - قوله: لو شك في وجوب شئ أو حرمته ولم تنهض (1) الخ:
ذكر - قده - في هامش الكتاب (2) في وجه الجمع بين هذه المسائل في مسألة
واحدة ما محصله انه لا حاجة إلى عقد مسائل متعددة بعد الاتحاد في ما هو
الملاك وما هو العمدة من الدليل على المهم إلى اخر ما أفاد - قده - وليعلم ان
المسائل (3) عبارة عن القضايا المشتركة في غرض واحد دون لأجله العلم وتعدد
القضايا بما هي بتعددها موضوعا أو محمولا أو هما معا والواسطة في الثبوت
والواسطة في الاثبات لا دخل لهما بالقضية فلا يكون وحدتهما وتعددهما موجبا
لوحدة القضايا وتعددها وغرضه - قده - ليس وحدة الواسطة ثبوتا واثباتا بل

(1) كفاية الأصول ج 2 ص 167 س 3 وكفاية الأصول 338 (ت، آل البيت).
(2) قال المحقق الخراساني في حاشيته على الكفاية لا يخفى ان جمع الوجوب والحرمة في فصل
وعدم عقد فصل لكل منهما على حدة وكذا جمع فقد النص واجماله في عنوان عدم الحجة انما هو لأجل
عدم الحاجة إلى ذلك بعد الاتحاد فيما هو الملاك وما هو العمدة من الدليل على المهم واختصاص بعض
شقوق المسألة بدليل أو بقول لا يوجب تخصيصه بعنوان على حدة واما ما تعارض فيه النصان فهو خارج
عن موارد الأصول العملية المقررة للشاك على التحقيق فيه من الترجيح أو التخيير كما أنه داخل فيما لا
حجة فيه - بناء على سقوط التعين عن الحجية - واما للشبهة الموضوعية فلا مساس لها بالمسائل
الأصولية بل فقهية فلا وجه لبيان حكمها في الأصول الا استطرادا فلا تغفل منه - قده - وحقائق
الأصول ج 2 ص 223 وكفاية الأصول 338 (ت، آل البيت).
(3) كفاية الأصول: ج 1 ص 5 س 1.
413

وحدة الجهة التقييدية المقومية لموضوعية الموضوع بحسب الدليل المتكفل
لهذا الحكم المجعول.
بيانه ان كل محمول ثابت لموضوع اما يكون من الأمور الواقعية الغير
المتوقفة على جعل جاعل كالمحمولات المبحوث عنها في علم المعقول من
امكان شئ أو امتناعه أو وجوبه ومن جوهرية شئ أو عرضيته وأشباه ذلك
فالموضوع لتلك المحمولات واقعي لا بجعل جاعل.
واما يكون من الأمور الجعلية كوضع مادة كذائية لمعنى خاص أو هيئة كذائية
لمعنى خاص فان الموضوع هي المادة الشخصية أو الهيئة النوعية بحسب
ما جعله الواضع وكالأحكام الكلية المترتبة على الموضوعات الخاصة بحسب
جعل الشارع فان المحمول حيث إنه شرعي فالاعتبار بما جعله موضوعا
لحكمه بحسب لسان الدليل مثلا الموضوع للحكم الاستصحابي مع اختلاف
السنة أدلته حيث إن التعبير عنه وقع تارة بقوله لا تنقض اليقين بالشك (1)،
وأخرى لا يدخل الشك في اليقين (2).
وثالثة يمضى على يقينه (3) وهكذا ليس الا ما أيقن به سابقا وحكم الحكم
المماثل لما أيقن به أو لحكم ما أيقن به وهكذا بالإضافة إلى حجية الخبر مع
اختلاف الأدلة عنوانا ليس موضوعها الا ما أخبر به العادل أو الثقة ومحمولها
الحكم المماثل لما أخبر به وتعدد المتيقن في الأول وتعدد المخبر به في الثاني
لا يوجب تعدد الجهة التقييدية العنوانية المأخوذة من الأدلة فلا يوجب تعدد
المسألة فكذا فيما نحن فيه فان أدلة البراءة الشرعية وان اختلفت من حيث رفع
ما لا يعلمون تارة ووضع المحجوب أخرى وكون الناس في سعة مما لا يعلمون
ثالثة وهكذا الا ان الموضوع الجامع بين الكل لبا ليس الا ما لم يعلم حكمه
ومحموله رفع ذلك الحكم وتعدد مصاديق ما لم يعلم حكمه من حيث الوجوب

(1) الكافي ج 3 ص 352 ح 3.
(2) المصدر
3 - الوسائل ج 1 ص 175. ح 6 (فلميض على يقينه).
414

أو الحرمة أو الالزام المطلق فضلا عن تعدد أسباب الجهل بالحكم لا يوجب تعدد
الجهة التقييدية العنوانية لموضوع الحكم الشرعي المأخوذ من الشارع بحسب
لسان دليله الا ان عذر الشيخ الأعظم - قدس سره - (1) في عقد مسائل متعددة انه
لم يقع نزاع في رفع الحكم مطلقا وعدمه مطلقا بل النزاع وقع في خصوصيات
ربما يكون المخالف في إحديهما موافقا في الأخرى كما عن الأخباريين في الشبهة
التحريمية فإنهم يقولون بالاحتياط فيها دون الشبهة الوجوبية بل ربما يوجد
التفصيل في كل منهما بين ما لا نص فيه أو ما أجمل فيه النص.
والا فلو بنينا على ملاحظة الميزان المزبور الموافق لتدوين مسائل العلم لزم
جعل البراءة الشرعية مطلقا مسألة مستقلة من دون فرق بين الشبهات البدوية أو
المعروفة بالعلم الاجمالي سواء كان الترديد بين المتبائنين أو الأقل والأكثر.
بان يقال هل الحكم المجهول مرفوع مط سواء كان وجوبا أو تحريما نفسيا
أو غيريا أو منتزعا من الوجوب النفسي كالجزئية والشرطية في باب الأقل والأكثر،
وسواء كان الجهل مقرونا بالعلم الاجمالي أم لا فمن يختار البراءة في الجميع
يقول برفع الحكم مطلقا ومن لا يقول بها في الجميع يقول بعدم رفع الحكم
مطلقا ومن يختار البراءة في بعض دون بعض لأي وجه - سواء كان من جهة
قصور الدليل عن الشمول أو لورود الدليل على خلافه - يكون مفصلا في المسألة
فتوجد حينئذ تفاصيل كثيرة كما في مسألة الاستصحاب والله أعلم بالصواب.

(1) الرسائل ج 1، ص 395 (ط، جماعة المدرسين)
415

في الاستدلال باية التعذيب على البراءة
178 - قوله: وفيه ان نفى التعذيب (1) قبل اتمام الخ (2):
يمكن ان يقال: ان الآيات والروايات الدالة على الثواب والعقاب ظاهرة في
الاقتضاء لا الفعلية، فكذلك ما دل على النفي ظاهر في الاقتضاء بقرينة المقابلة
كما أن الامر كذلك في جميع القضايا الواردة في بيان الخواص والآثار، فقولهم
" السم قاتل " و " السنا مسهل " (3) و " النار محرقة " وأشباه ذلك كلها في مقام إفادة
الاقتضاء والحكم بثبوت محمولاتها لموضوعاتها اقتضاء لا فعلا، فيكون دليلا
على الاستحقاق وعلى عدم الاستحقاق في مثل ما نحن فيه.
لا يقال: لا منة في رفع العذاب مع عدم الاستحقاق.
لأنا نقول: أولا، لم يعلم أن الآية في مقام اظهار المنة بل لعلها في مقام اظهار
العدل وانه تعالى لا يظلم أحدا مثقال ذرة.
وثانيا، ان جعل العقاب إذا كان من الشارع فعدم جعله بعدم جعل الاحتمال
منجزا فيه كمال المنة، والتحقيق ان ظاهر القضية الحكم بثبوت المحمول
للموضوع فعلا. وانما نقول بكون القضايا المثبتة للخواص والآثار اقتضائية
لا فعلية إذ قلما يوجد في العالم ما يكون علة تامة لثبوت شئ بل لا محالة له
شرط أو مانع ولو من حيث قبول القابل وان فرض ان الفاعل تام الفاعلية.
بخلاف طرف النفي فان العدم فعلى على أي حال سواء كان بعدم مقتضيه أو

(1) الاسراء: الآية 15، وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 167 وكفاية الأصول: 339، (ت، آل البيت).
(3) المعجم الوجيز: ص 325.
416

بعدم شرطه أو بوجود مانعه، فلا موجب للحمل على الاقتضاء دون الفعلية كما
في طرف الاثبات، وليس العدم بالاقتضاء حتى يتوهم كونه نظير ثبوت المقتضى
بثبوت المقتضى، فظهر انه لا موجب لحمل القضايا النافية على غير الفعلية
لا ثبوتا ولا اثباتا، وعليه فعلم شئ إذا كان مترتبا على عدم شئ اخر
فلا محالة ذلك الاخر اما عدم مقتضيه أو عدم شرطه، وإذا كان مترتبا على وجود
شئ فلا محالة ذلك الشئ مانعه، وحيث إن الوجود لا يقتضى العدم فعدمه من
باب الشرط فترتب العدم عليه من باب ترتب عدم المشروط على عدم شرطه،
وعلى أي تقدير فترتب عدم شئ على وجود شئ أو عدم شئ لا يكشف عن
ثبوت المقتضى ولا عن عدمه.
نعم، إذا كان المترتب عليه عدم شرطه أو وجود مانعه فربما يكون كاشفا عن
وجود المقتضى له والا لكان استناده إلى عدم المقتضى أولى من الاستناد إلى
عدم شرطه أو وجود مانعه.
179 - قوله: لما صح الاستدلال بها الا جدلا الخ (1):
وعن بعض الأجلة (2) - قده - دعوى امكان جعله برهانا نظرا إلى الاجماع على
عدم الاستحقاق على تقدير عدم الفعلية في هذه المسألة وهو على فرض صحته
أجنبي عن الاجماع المصطلح لان الاستحقاق ان كان عقليا، فملازمته للعقاب
في الآخرة وعدمها واقعيان لا جعليان تشريعيان، فان أحد الطرفين مجعول
عقلائي والاخر مجعول تكويني والملازمة وعدمها ليسا بتشريعيين حتى يكون
الاجماع على امر تعبدي ومجعول تشريعي، وان كان الاستحقاق شرعيا، فهو
وان كان قابلا شرعا للإناطة بشئ فتكون الملازمة جعلية شرعية الا ان اناطته
بفعلية نفس العقاب في الآخرة غير معقولة حتى بنحو الشرط المتأخر لان فعلية
العقاب مترتبة على استحقاقه، فترتب استحقاقه على فعليته دوري، للزوم كون

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 168 وكفاية الأصول: 339، (ت، آل البيت).
417

الشئ شرطا لنفسه، نعم، إناطة الاستحقاق بعدم ما يمنع عن فعلية العقاب
معقولة، فيرجع الامر إلى إناطة الاستحقاق بالبيان بالاجماع، فهو استدلال على
عدم الاستحقاق مع الجهل بالاجماع من دون حاجة إلى الآية حتى يصح
الاستدلال المفيد للقطع بالمركب من الآية والاجماع كما هو المقصود في محل
النزاع، فتدبر جيدا.
180 - قوله: مع وضوح منعه ضرورة ان ما شك الخ (1):
ملخصه منع اعتراف الخصم بالملازمة بين عدم الفعلية وعدم الاستحقاق فان
مجهول الحكم ليس بأعظم من معلومه وأدلة الاحتياط ليست بأقوى من أدلة
الواجبات والمحرمات الواقعية بعناوينها، مع أن عدم فعلية العقاب هناك لا يلزم
عنده عدم الاستحقاق فكيف يقول بها هنا، وصرح - قده - في تعليقته الأنيقة على
رسالة البراءة (2) بوجهه، وهو " ان الاخبار بالعقوبة من باب الاخبار بالشئ لقيام
ما يقتضيه " وعلى ما افاده - قده - لا يلازم وجود المقتضى وجود مقتضاه لامكان
وجود المانع من توبة أو فعل حسنة مذهبة للسيئة أو شفاعة، مع أن المانع ليس
شانه الا مزاحمة المقتضى في تأثيره فعلا لا في وجوده ولا في اقتضائه.
لا يقال: لعل هم القائل بالبراءة هو الامن من فعلية العقاب فتكفيه الآية الدالة
على نفى فعلية العقاب ولو لم تدل على عدم الاستحقاق.
لأنا نقول: القواعد الأصولية التي هي مقدمة قريبة لعلم الفقه هي القواعد
المنتهية إلى حكم عملي اثباتا أو نفيا أو منجزيته أو المعذورية عنه شرعا واما ان
العقاب يتحقق في الآخرة أولا لوجود مانع فهو أجنبي عن العلمين (3).
ولا معنى لان يكون هم المجتهد المدون للقواعد الأصولية ذلك، مع أن
المجتهد انما يذهب إلى البراءة نظرا إلى أنه غير عامل للحرام الفعلي وغير فاعل
لما يستحق عليه الذم والعقاب لا ولو كان فاعلا للحرام الفعلي وما هو موجب

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 168 وكفاية الأصول: 339، (ت، آل البيت).
(2) حاشية الرسائل: ص 114، س 4 والرسائل: ج 1، ص 317.
(3) أي: الأصول والفقه.
418

للذم والعقاب.
والتحقيق: في أصل الملازمة اثباتا ونفيا ان استحقاق العقاب على المعصية
اما لعلاقة لزومية بينهما، أو بمجرد جعل العقلاء، أو جعل الشارع مع عدم علاقة
لزومية بينهما.
فان قلنا بالأول: وان العقاب من لوازم الأعمال وتوابع الملكات الرذيلة
الحاصلة من القبايح المتكررة فالعمل مادة مستعدة لان يتصور بصورة العذاب
في النشأة الآخرة، ومعنى الاستحقاق قبول المادة الدنيوية لإفاضة الصورة
الأخروية عليها، والمانع حينئذ ما يكون عدمه شرطا لان يتصور تلك المادة بتلك
الصورة، والشرط اما مصحح فاعلية الفاعل أو متمم قابلية القابل والمبدء
المفيض للصور على المواد القابلة تام الفاعلية لا نقص في فاعليته حتى يخرج
من القوة إلى الفعل بما يصحح فاعليته فلا محالة يكون الشرط بمعنى متمم قابلية
القابل.
فالمانع إذا كان مقارنا لذات المادة فلا توجد المادة قابلة مستعدة لإفاضة
الصورة عليها كعدم البيان المقارن للعمل. وإذا كان لاحقا لها فهو مسقط لها عن
القابلية والاستعداد لإفاضة الصورة عليها كالتوبة والحسنة المكفرة للسيئة
ولا نعنى بالاستحقاق وعدمه الا استعداد المادة لإفاضة صورة العذاب عليها
وعدمه، وعليه فعدم الفعلية ملازم لعدم الاستحقاق، وتمامية القبول والاستعداد
اما حدوثا كما فيما نحن فيه.
واما بقاء كما في الموانع المتأخرة عن العمل.
وان قلنا بالثاني: فان كان استحقاق العقاب بحكم العقلاء فمعناه على ما مر (1)
في بيان الاحكام العقلية المبنية على التحسين والتقبيح العقلائيين كون الفعل
بحيث يصح ذم فاعله عليه وذم الشارع عقابه ومعنى استحقاق الثواب كونه
بحيث يحسن مدح فاعله عليه ومدح الشارع ثوابه، فمع وجود المانع عن الذم
والعقاب لا يصح الذم، فليس كون الفعل فعلا بحيث يحسن ذم فاعله عليه اما

(1) التعليقة: ص 314.
419

حدوثا كما فيما نحن في.
وإما بقاء كما في الموانع المتأخرة عن الفعل.
فان قلت: إذا كان عدم البيان مانعا عن فعلية الذم كان مساوقا لعدم
الاستحقاق وعدم صحة الذم والعقوبة واما ان كان عدم فعلية الذم منة منه
(تعالى) على الفاعل فلا ينافي صحة الذم وانما لا يذمه فضلا منه تعالى وامتنانا
على العبد.
قلت: الإرادة الجزافية التي يقول بها الأشاعرة مستحيلة عندنا لرجوعها إلى
جواز الترجيح بلا مرجح وهو مساوق لوجود المعلول بلا علة فلا محالة تكون
الإرادة منبعثة عن خصوصية موجبة للامتنان على العبد ولو كانت تلك
الخصوصية موجبة للجواد الكريم والرؤوف الرحيم دون غيره فلا يحسن الذم منه
تعالى وان حسن من غيره والعبرة في باب استحقاق الذم والعقاب باستحقاقهما
من الشارع فان التمسك بالاستحقاق عند العقلاء لأجل ان الشارع رئيس العقلاء
وواهب العقل والا فالاعتبار بتحسن الذم والعقاب منه (تعالى) ولا منافاة بين
حسن الذم منه بما هو عاقل وعدم حسن الذم منه (تعالى) بما هو جواد كريم،
فافهم وتدبر.
هذا كله ان كان الاستحقاق بحكم العقلاء.
وان كان بجعل الشارع فمعناه الوعد على العقل بالثواب والتوعيد عليه
بالعقاب وفعليتهما عبارة عن ايفائه بوعده وتصديقه لتوعيده وإذا وجد هناك
مانع عن تصديقه لوعيده من توبة أو حسنة مكفرة للسيئة فلا محالة يمنع من بقاء
توعيده ويكون محددا لا يعاده بالعقاب بما إذا لم يحصل منه توبة مطهرة أو
حسنة مكفرة، وكذا الامر في المانع البدوي عن تصديقه لوعيده فإنه مخصص
لتوعيده بما إذا قام عليه البيان بلغه الرسول مثلا فليس الفعل هنا موعدا عليه
بالعقاب حدوثا وفى غيره بقاء فتدبر جيدا.
ثم انه ربما يورد على أصل الاستدلال بالآية بان سياقها يقتضى إرادة العذاب
الدنيوي دون الأخروي ونفى أحدهما قبل اتمام الحجة لا يلازم نفى الاخر.
420

وفيه: ان أريد أصل العذاب الدنيوي فالعذاب الأخروي منفى بالأولوية فإنه
أعظم وأدوم وتوقف الأخف على اتمام الحجة يقتضى توقف الأشد بالأولوية.
وان أريد المعاجلة بالعقوبات الدنيوية فلا مجرى لها في العقوبة الأخروية.
حيث لا يتصور فيها المعالجة، لكونها في حد ذاتها مؤجلة الا ان الآية بناء
على تسليم إرادة العذاب الدنيوي ناظرة إلى أصله لا إلى المعاجلة به، فتدبر.
كما أنه ربما يورد: على الاستدلال بها بان ظاهرها عدم وقوع التعذيب منه
سابقا قبل البعث فيختص بالعذاب الدنيوي الواقع في الأمم السالفة (1).
وفيه: ان مساقها ظاهر في أنه سنة الله (تعالى) في عباده، وهذه الأمة
المرحومة أولى بالعناية والرعاية، ومن حيث العقوبة الدنيوية قد عرفت ما فيها
من الأولوية، واما ما عن شيخنا العلامة - قده - (2) في الجواب من " ان الافعال
المنسوبة إليه تعالى منسلخة غالبا عن الزمان ".
فقد حققنا في مبحث المشتق، من أن الفعل الزماني لا يكون الا لفاعل زماني
ومع ذلك فالافعال المنسوبة إليه (تعالى) كالأفعال المنسوبة إلى غيره من حيث
الدلالة على الزمان اما بمعية القيومية مع الزمان، فمع السابق سابق ومع
اللاحق (3) لاحق، واما بلحاظ سبقه بملاك السبق الزماني وهو عدم مجامعة
المتأخر مع المتقدم في الوجود، واما بوجه اخر، فراجع مبحث المشتق (4)،
وتدبر.

(1) الرسائل: ج 1، ص 317، وفيه:...
(2) حاشية الرسائل: ص 113: قوله - قده -: وفيه ان ظاهره الاخبار الخ.
(3) (خ ل): ومع اللاحق.
(4) نهاية الدراية: ج 1، ص 125.
421

في تقريب الاستدلال بحديث الرفع على البراءة
181 - قوله: فالألزم (1) المجهول مما لا يعلمون (2) الخ:
لا يخفى عليك ان المناسب للرفع عن الأمة تعلقه بأمر ثقيل عليهم،
فالموصول إذا كان كناية عن الموضوع أعني الفعل أو الترك فاتصافه بكونه ثقيلا
اما بلحاظ ترتب المؤخذة عليه واما بلحاظ كون المكلف مقهورا عليه فعلا أو
تركا.
فان كان بلحاظ المؤخذة فالموصوف به في الحقيقة نفس مخالفة التكليف
الايجابي أو التحريمي دون الايجاب والتحريم.
ودخلهما في ترتب المؤاخذة على المخالفة على حد دخل الشرط في تحقق
عنوان محكوم عليه باستحقاق العقوبة، وشرط اتصاف الشئ بكونه ثقيلا
لا يوصف بكونه ثقيلا حتى يناسبه تعلق الرفع به، لما حقق في محله ان السبب
لا يوصف بمسببه فضلا عن الشرط بمشروطه، لان القيام به يصحح صدق
الوصف المأخوذ من المبدء الذي له القيام لا القيام عنه، فسبب بياض الجسم
مثلا لا يوصف بالبياض بل الأبيض عنوان ما يقوم به البياض لا ما يصدر عنه

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 168 وكفاية الأصول: 339، (ت، آل البيت).
(2) في مصادر حديث الرفع: الكافي: ج 2 ص 463 ح 2 - كتاب الايمان والكفر.
: الوسائل: ج 11 ص 295 ح 3 - 1 - ب 56: أبواب جهاد النفس.
: الوسائل: ج 4 ص 1284 ح 37 ب 2 - م 9383.
: الوسائل: ج 16 ص 345 ح 2 ب 30 - م 10562.
: الوسائل: ج 16 ص 173 ب 16 ح 5 - 4 - 3 - م 29467
: الفقيه: ج 1 ص 59 ح 132.
422

البياض فضلا عما هو شرط لتحققه.
وان كان بلحاظ المقهورية في الفعل والترك:
فتارة يراد من المقهورية كون المكلف بسبب التكليف اللزومي بالفعل
مسلوب القدرة عن الترك من قبل المولى بعد إن كانت قدرته بالإضافة إلى الفعل
والترك متساوية فكونه مكلفا بالفعل الموجب لتخصص قدرته بالفعل، لأنه جعل
للداعي نحو الفعل فيجب اعمال قدرته في تحصيل الفعل غير كونه مسلوب
القدرة عن الترك بل ملازم له فالفعل هو الواجب ومورد التكليف والترك هو مورد
انسلاب القدرة عنه فيكون مقهورا في الفعل لانسلاب قدرته من ناحية التكليف
عن الترك، وقد مر ان السبب لا يوصف بمسببه فلا يوصف التكليف بأنه ثقيل بل
سبب لثقل الفعل بتلك الملاحظة.
وأخرى يراد من المقهورية نفس كون الفعل مما لا بد منه شرعا فاللا بدية
عين التكليف اللزومي بالفعل مثلا، فاللا بدية نفس ثقل الفعل لا انها مقهورة
بكونها ثقيلة، والظاهر من مالا يعلمون حينئذ انهم لا يعلمون الثقيل لا انهم
لا يعلمون ثقله، وبالجملة المحمول على المكلف هو الثقيل عليه والفعل هو
المحمول والتكليف تحميله عليه، فالفعل هو الثقيل والتكليف تثقيله وجعله
ثقيلا، فالايجاب تثقيل والوجوب ثقل فالفعل ثقيل، فما يتعلق به الرفع إذا كان هو
الثقيل فالفعل هو المرفوع، بل يمكن ان يقال ان ايجاب الفعل هو حمله على
المكلف ووضعه على عاتقه والرفع بديل الوضع فيرد على ما يرد عليه الوضع
لا انه يرد على الوضع، والتحقيق ان الرفع من المكلف وان كان يستدعى الثقل في
المرفوع، الا ان غاية ما يقتضيه تعلقه بماله مساس بالثقل، سواء كان ثقيلا أو ثقلا
أو موجبا للثقل، فلا حاجة إلى اتصاف التكليف بكونه ثقيلا، ويشهد له
قوله (ع) (1) " رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم " فإنه اما قلم التكليف أو قلم

(1) ورد بعبارة أخرى في المسانيد: الوسائل: ج 1 ص 32 ح 10 - ب 4 والوسائل: ج 19 ص 66
ح 2 ب 36 م 35200 والمستدرك: ج 1 - ص 84 ب 3 ح 39 تحقيق آل البيت والمستدرك: ج 18 -
ص 13 ب 6 ح 21860.
423

المؤاخذة فهو موجب للثقل بواسطة أو أكثر، مع أن الفعل بلحاظ ترتب المؤاخذة
عليه أيضا لا قيام للمؤاخذة به ذلك النحو من القيام المصحح لصدق وصف
الثقيل، بل المؤاخذة هي الثقيلة على المكلف.
نعم، العقاب بمعنى ظهور العمل بصورة العذاب في الآخرة يوجب كون
العمل ثقيلا بنفسه معنى كمالا يخفى، مضافا إلى كثرة اتصاف الشئ بكونه ثقيلا
بسبب الاشتمال والتضمن لما هو ثقيل كما في قوله تعالى (ويذرون ورائهم
يوما ثقيلا) (1) لوقوع الأهوال الثقال فيه وقوله تعالى (سنلقي عليك قولا
ثقيلا) (2) بناء على إرادة القرآن المتضمن للتكاليف أو إرادة التكليف بقيام
الليل كما تشهد له الآية المتصلة به (3)، واما بناء على إرادة الوحي المغير
لحاله (ص) فهو الثقيل بالحقيقة، والغرض ان الاتصاف بالثقيل بتلك الملاحظة
ليس فيه كثير عناية حتى تكون توصيفه من باب التوصيف بحال المتعلق بالنظر
العرفي وإن كان كذلك بالنظر الدقيق العقلي.
واما حديث تبادل الرفع والوضع وتعلقهما بالفعل فتوضيح الحال فيه ان كون
شئ على شئ وان كان من اعراض ذلك الشئ وحيثيته الاستعلاء مقومة
لذلك الكون العارض ومنوعة له فيكون نوعا من مقولة الأين له نسبة خاصة إلى
المكان وليس لهذا النوع من العرض كون استعلائي على ذلك المستعلى عليه بل
هو عين الكون الاستعلائي للغير فثبوت الفعل على المكلف الذي هو عين
وجوبه عليه وان كان حينئذ متقوما اعتبارا بما ينوعه ويجعله نوعا خاصا من
العرض الاعتباري لكنه ليس له كون استعلائي بالاعتبار بل هو عين الكون
الاستعلائي للفعل بالاعتبار الا ان الفعل الذي يتعلق به التكليف حيث إنه في
مرتبة تعلق التكليف مقوم للتكليف وثابت بنحو ثبوته فالفعل في مرتبة الإرادة
وهي الشوق الأكيد النفساني مقوم للإرادة حيث إن الشوق المطلق لا يوجد و
.

(1) الانسان آية 27 س 76.
(2) المزمل الآية 5 س 73.
(3) المزمل الآية 6.
424

يستحيل ان يكون موجود فعلى مقوما لفعلي آخر ومشخصا له لاستحالة اتحاد
الفعليين.
فلا محالة يكون ثبوت الفعل في مرتبة الشوق بثبوت شوقي وفى مرتبة البعث
الاعتباري كذلك ثابتا بنحو ثبوت البعث، فالثابت بالحقيقة هو الشوق أو البعث
فهو المجعول والموضوع على المكلف والفعل مجعول بجعله وموضوع بوضعه
فهو مرفوع برفعه ولذا لا ريب في صحة نسبة الوضع إلى نفس التكليف كما فيما
سيجيئ انشاء الله تعالى من حديث الحجب (1) فان المحجوب علمه الموضوع
عن المكلف ليس الا التكليف فهو الموضوع عليه إذا كان غير محجوب فتدبره
فإنه حقيق به ومما ذكرنا تبين انه لا مانع من تعلق الرفع بنفس الحكم لا من حيث
تعلقه بالامر الثقيل ولا من حيث كونه بديلا للوضع بل قد عرفت انه لا بد ان يتعلق
في الحقيقة وبلا عناية بنفس الحكم وسيجيئ إنشاء الله تعالى بقية الكلام (2).
182 - قوله: فهو مرفوع فعلا وان كان ثابتا واقعا الخ (3).
هذا بناء على ما سلكه - قده - في تعليقته المباركة (4) من مراتب الحكم وان
الحكم الواقعي حكم انشائي لا فعلي.
واما على ما سلكه - قده - في مبحث جعل الطريق (5) من كون الحكم الواقعي
فعليا من وجه فلا حاجة إلى رفع الحكم الفعلي فان رفعه اما بلحاظ اثره وهي
المؤاخذة أو بلحاظ المضادة بين الحكم الواقعي والظاهري مع أن المؤاخذة اثر
التكليف المنجز عقلا لا اثر التكليف الفعلي ولو لم ينجز حتى بايجاب الاحتياط
كما أن الحكم الفعلي من وجه لا ينافي الفعلي من جميع الوجوه عنده - ره -
فلا موجب لرفع الحكم الفعلي.
واما حمله على إرادة رفع الفعلية المطلقة وثبوت مطلق الفعلية فهو مناف

(1) التعليقة: 192 ص 444.
(2) التعليقة 186، ص 435.
(3) كفاية الأصول ج 2 ص 186 وكفاية الأصول: 339، (ت، آل البيت)
4 - حاشية الرسائل: ص 36 و 172.
(5) كفاية الأصول ج 2، ص 53. المصدر 278 (ت، آل البيت) والتعليقة 68 ص 149.
425

لظاهر العبارة فان ظاهرها المقابلة بين الفعلية والثبوت الواقعي فتدبر.
والتحقيق على ما مر (1) مرارا ان الانشاء بلا داع محال والإنشاء بداع من الدواعي
ليست فعلية الا فعلية ذلك الداعي ففعلية الإنشاء بداع الارشاد فعلى
وبداع البعث بعث فعلى ويستحيل ان يكون الانشاء بداع في صراط الفعلية بداع
آخر وقياسه معه فلا محالة ليس الانساء الواقعي المترتب منه فعلية البعث
والزجر الا الانشاء بداعي جعل الداعي فعلا أو تركا.
وقد مر منا مرارا (2) ان فعلية كل داع متقومة بالوصول فالانشاء بداع الارشاد
قبل وصوله لا يكون ارشادا فعلا إلى ما هو خير العبد ورشده والانشاء بداع
البعث والتحريك قبل وصوله ليس قابلا فعلا للتحريك وانقداح الداعي على أي
تقدير في نفس المكلف.
وعليه فعدم فعلية البعثية بعدم الوصول عقلي لا جعلي كما ن ما هو امره بيد
المولى وهو تمام ما هو الفعلي من قبله هو نفس الانشاء بداع البعث وبوصوله
يكون مصداقا للبعث الحقيقي فكان ما هو بعث بالقوة يخرج من حد القوة إلى
الفعل وليكن المراد من الفعلي من وجه نفس ما هو فعلى من قبل المولى
والفعلي بقول مطلق ما هو بحيث يكون مصداقا للبعث فعلا ثم إن الوصول
التعبدي:
تارة بجعل الحكم المماثل على طبقه بعنوان تصديق العادل بلسان انه الواقع
فثبوت الحكم المماثل ثبوت الواقع تنزيلا ووصوله وصول الواقع عرضا وتنجزه
تنجز الواقع اعتبارا والا فالواقع على ما هو عليه لم يخرج من حد إلى حد حقيقة
وأخرى بايصال الواقع بأثره بجعل الخبر مثلا منجزا له إذ ليس اثر الواقع
الواصل الا فعليته المساوقة لتنجزه فجعل الخبر منجزا له شرعا يخرج الانشاء
الواقعي من حد القوة إلى حد الفعلية عند مصادفة الخبر للواقع وكذا الامر فيما
نحن فيه فإنه كما سيأتي منه - قده - (3) يكون ايجاب الاحتياط بداعي تنجيز

(1) التعليقة 28 و 66 ص 77 و 148.
(2) التعليقة 41 و 66، ص 92 و 148.
(3) التعليقة: 184 ص 432.
426

الواقع فإنه ايصال للواقع المحتمل بأثره فيرجع إلى جعل احتماله منجزا له على
تقدير ثبوته فيصير فعليا منجزا على تقدير المصادفة كما في الامارة المعتبرة بهذا
الوجه.
وقد عرفت ان عدم فعلية الواقع بعدم ايصاله بجميع أنحائه وعدم الفعلية
بعدم جعل الحكم المماثل أو بعدم جعل الخبر أو الاحتمال منجزا ليس مجعولا
حتى يكون معنى رفع الفعلية رفعها بعدم جعل الاحتياط بل العدم المجعول
المعدود من الاحكام المجعولة ما كان كالوجود مجعولا فعدم الوجوب بعدم
المقتضى ليس مجعولا شرعيا بل قوله لا يجب انشاء جعل للعدم تسبيبا.
فإذا كان قوله (ع) رفع على حد قوله (ع) " كل شئ لك حلال " (1) جعلا لعدم
التكليف كالجعل للإباحة فلا محالة يكون ايصالا لعدم التكليف في موارد الجهل
بعبارة جامعة لها فيكون مفاده فعلية عدم التكليف ظاهرا لا عدم فعلية التكليف
لما عرفت ان عدم فعلية التكليف بعدم الوصول عقلي لا جعلي.
نعم لازم ايصال عدم التكليف فعلا عدم فعلية التكليف لاستحالة ثبوت
المتنافيين من حيث الفعلية وحينئذ ففائدة ايصال عدم التكليف وجعل عدمه
فعليا بايصاله دلالته على عدم وجوب الاحتياط المبلغ للحكم الواقعي إلى مرتبة
الفعلية والتنجز بل حيث إن لسانه عدم التكليف فهو وارد على دليل الاحتياط
فإنه في مورد ثبوت الواقع احتمالا وهذا مناف لموضوعه لان لسانه فعلية العدم
لا مجرد عدم فعلية التكليف ومنه تبين ان مثل ايصال عدم التكليف بقوله رفع
الذي مفاده انه لا يجب ولا يحرم جعلا وانشاء رافع لموضوع حكم العقل بقبح
العقاب بلا بيان فان موضوعه عدم وصول التكليف وكما أنه مع وصوله
لا موضوع للقاعدة كذلك مع وصول عدمه فان عدم الوصول حينئذ بنحو السالبة

(1) ورد بهذه العبارة كل شئ هو لك حلال... والكافي ج 5 ص 313 ح 40 والتهذيب ج 7
ص 226 ح 9 ب 21 والوسائل ج 12 ص 60 ح 4 ب 4 م 22050 والوسائل ج 17 ص 91 - ح 2 ب 61
م 31359.
427

بانتفاء الموضوع ونكتة ايصال العدم مع كفاية عدم الوصول في رفع الفعلية
واثرها التنبيه على عدم وجوب الاحتياط بحيث يكون دليلا على عدمه بعدم
موضوعه لا مجرد كشف عدم الفعلية عن عدم وجوب الاحتياط ومن جميع
ما ذكرنا تبين ان حديث الرفع إذا كان متكفلا لأمر مجعول تشريعي فهو عدم
التكليف بحيث يكون العدم فعليا جعليا لا عدم فعلية التكليف الواقعي فان مثله
غير مجعول.
وان عدم فعلية التكليف مستند إلى عدم وجوب الاحتياط فيكشف عنه
كشف المعلول عن العلة بخلاف فعلية عدم التكليف فإنه يستند إليه عدم
وجوب الاحتياط فيكشف عنه كشف العلة إلى المعلول فتدبره فإنه حقيق به.
ثم إن مفاد حديث الرفع - سواء كان رفع فعلية التكليف بدوا أو جعل عدم
التكليف فعلا - فهو بحسب لسانه رفع وفى اللب دفع فإنه بحسب لسانه حيث إنه
رفع الالزام المجهول المفروض ثبوته فهو رافع له وقاطع لاستمراره وبحسب
اللب حيث إن اعدام الحكم الواقعي المجهول غير معقول فهو دافع لفعليته مع
وجود المقتضى لجعله فعليا بايصاله بجعل الاحتياط
ولا يخفى عليك ان مانعية شئ عن تأثير شئ وان لم تكن متقومة بسبق
وجود اثر ذلك الشئ ولا بعدمه الا ان صدق عنوان الرافع والدافع منوط بوجود
الامر في الأول وعدمه في الثاني كما في عنوان الحدوث والبقاء فان وجود
شئ في زمان غير منوط بوجوده في السابق ولا بعدمه فيه الا ان عنوان الحدوث
والبقاء منوط بسبق العدم في الأول وسبق الوجود في الثاني فتوهم عدم الفرق
بين الرافع والدافع وصحة استعمال كل منهما مكان الاخر لعدم تفاوت المانعية
فاسد لما عرفت ولعل نسبة الرفع دون الدفع بلحاظ تعلقه في مرحلة الاسناد
الكلامي بما هو مفروض الثبوت واللازم في باب مراعاة اسناد مفهوم إلى
ما يناسبه ملاحظة مقام الاسناد الكلام فان طرف الاسناد في ظرف اسناد
المفهوم مناسب له قطعا.
ويمكن ان يقال ان الظاهر من الخبر ثبوت هذه الأحكام في الشريعة الإلهية
428

سابقا فنسبة الرفع وهو العدم بعد الوجود بلحاظ أصل ثبوته حقيقية في الشريعة
الإلهية فرفع عن هذه الأمة لا بملاحظة وجود المقتضى لفعليته في هذه الأمة
حتى يكون متمحضا في الدفع والله العالم.
183 - قوله لا يقال ليست المؤاخذة من الآثار الشرعية (1) الخ:
الاشكال في المؤاخذة من وجهين.
أحدهما: ما تعرض - قده - له صريحا وهو ان المؤاخذة ليست من الآثار
الشرعية بل استحقاقها عقلي لا جعلي شرعي، ونفس المؤاخذة وإن كانت جعلية
لكنها تكوينية لا تشريعية فلا معنى للتعبد بها نفيا واثباتا لا بلا واسطة كمن يقول
بتعلق الرفع بالمؤاخذة ولا مع الوساطة كمن يقول بالتعبد برفعها برفع الحكم
الفعلي ولو برفع ايجاب الاحتياط
ثانيهما: ان المؤاخذة من اثار التكليف الفعلي المنجز ولا عقاب عقلا على
ما لم يتنجز فليس للواقع المجهول هذا الأثر كي يرفع برفعه.
ويندفع الأول بما افاده - قده - في المتن وفى الهامش (2) وجامعهما ان رفع
المؤاخذة ليس بعنوان التعبد برفعها حتى لا يعقل التعبد بها نفيا أو اثباتا بل
بعنوان تحقيق موضوعها فان الاستحقاق مترتب على التكليف الفعلي الواقعي
أو الظاهري فعدمه مترتب على عدمهما سواء كان بعدم التكليف ظاهرا كما هو
مفاد جواب الهامش أو بعدم فعلية التكليف بجعل الاحتياط كما هو مفاد جواب
المتن.
وبالجملة مخالفة التكليف الواصل واقعيا كان أو ظاهرا موضوع استحقاق
العقاب وعدم الاستحقاق تارة بعدم مخالفة التكليف الواصل وأخرى بعدم

(1) كفاية الأصول ج 2 ص 168 س 7 وكفاية الأصول 339 (ت آل البيت)
2 - في حاشيته على الكفاية مع أن ارتفاعها وعدم استحقاقها بمخالفة التكليف المجهول هو المهم
في المقام والتحقيق في الجواب ان يقال مضافا إلى ما قلنا - ان الاستحقاق وان كان اثرا عقليا الا ان
عدم الاستحقاق عقلا مترتب على عدم التكليف شرعا ولو ظاهرا تأمل تعرف منه - قده - (حقائق
الأصول: ج 2 ص 226) وكفاية الأصول 339 (ت آل البيت).
429

التكليف وثالثة بعدم وصوله فعدم التكليف ظاهرا محق لموضوع عدم
الاستحقاق حقيقة كما أن عدم فعلية التكليف بعدم جعل الاحتياط المبلغ له إلى
مرتبة الفعلية المطلقة أيضا محقق لموضوع عدم الاستحقاق فلا تعبد حقيقة الا
بعدم التكليف أو بعدم فعليته بعد ايجاب الاحتياط.
ويندفع الاشكال الثاني بما بظهر من جوابه - قده - في المتن (1) " من أن رفع
المؤاخذة ليس برفع التكليف المجهول بما هو " حتى يقال انها ليست من آثار
الواقع بل من آثار التكليف المنجز وانما هي من آثار الواقع بالواسطة فان
التكليف الواقعي يقتضى جعله فعليا بايجاب الاحتياط المصحح للمؤاخذة فهي
اثر الأثر فالتعبد برفع الواقع تعبد بأثره ومقتضاه وهو عدم ايجاب الاحتياط وهو
موضوع الاستحقاق هذا.
لكنك قد عرفت في مباحث القطع (2) والظن ان استحقاق العقاب بحكم
العقل موضوعه مخالفة التكليف الواصل المنطبق عليها الظلم لكونها خروجا
عن زي الرقية ورسم العبودية وليست نفس المخالفة مقتضية للاستحقاق
ووصول التكليف شرطا إذ الحكم بالاستحقاق بالإضافة إلى مخالفة التكليف
الواصل المنطبق عليها الظلم حكم بالإضافة إلى موضوعه وقد مر مرارا (3) ان
الحكم لا يترشح من مقام ذات موضوعه بل سببه الفاعلي هو الحاكم ومعنى كون
الحكم باقتضاء موضوعه ان الفائدة المترقبة من موضوعه غاية داعية للحاكم
لا بمعنى المقتضى الذي يترشح منه مقتضاه حتى يعقل اشتراط تأثيره بشئ.
ومن الواضح ان الغاية الداعية للعقلاء إلى البناء على مدح فاعل بعض الأفعال
وذم فاعل بعضها الاخر كون العدل مثلا بعنوانه مما ينحفظ به النظام
وكون الظلم بعنوانه مما يختل به النظام وانحفاظ النظام هي الفائدة المترقبة من
العدل واختلال النظام هي المفسدة المترتبة على الظلم.
ثم إن وصول التكليف الواقعي الذي يوجب كون مخالفته هتكا لحرمة المولى

(1) كفاية الأصول ج 2 ص 174.
(2) التعليقة 10 و 119 ص 41 و 247.
(3) التعليقة: 41 و 45 و 145 ص 92 و 103 و 309.
430

وظلما عليه ليس بمجرد الانشاء بداعي تنجيز الواقع فان هذا الانشاء الطريقي
كنفس التكليف الحقيقي ليس وجوده الواقعي موجبا للفعلية والتنجيز إذ لو كفى
وجوده الواقعي لكفى نفس التكليف الواقعي في فعلية نفسه وتنجزه بل لا بد من
وصوله حتى يكون وصولا للواقع بأثره فايجاب الاحتياط واقعا لا ينجز الواقع بل
الايجاب الواصل.
إذا عرفت هذه المقدمة تعرف ان كون التكليف الواقعي مقتضيا لايجاب
الاحتياط وايجاب الاحتياط مقتضيا لاستحقاق المؤاخذة غير صحيح إذ
موضوع استحقاق العقاب مخالفة التكليف الواصل بايجاب الاحتياط الواصل
ومع عدم وصول ايجاب الاحتياط أو عدم ايجابه وان لم يتحقق موضوع
الاستحقاق إلا ان استحقاق المؤاخذة لا مرفوع ولا مدفوع.
اما الأول فواضح إذ لا يثبت الاستحقاق حتى يكون عدمه بعد ثبوته رفعا له
واما الثاني فلانه لم يثبت مقتضى الاستحقاق حتى يكون عدمه مع مقتضى
الثبوت دفعا له لما عرفت من أن مقتضى الاستحقاق بالمعنى المعروف من
المقتضى لا يعقل وبمعنى الغاية الداعية لا يثبت الا مع وصول التكليف
ولو بوصول ما ينجزه فمع عدمهما وان لم يكن استحقاق لكنه غير مدفوع أيضا
إذ ليس كل عدم دفعا كما لا يكون كل عدم رفعا.
نعم هذا الاشكال شديد الورود على من يرفع المؤاخذة بدوا فإنه لا رفع
ولا دفع واما من يرفع التكليف فهو في سعة من هذا الاشكال إذ لا يجب عليه
رفع المؤاخذة أو دفعها بل يكفيه عدمها المرتب على عدم مقتضيها بعدم
التكليف الفعلي ولو بعدم ايجاب الاحتياط الواصل من دون حاجة إلى عنوان
رفع المؤاخذة أو دفعها اللهم الا ان يكتفى في نسبة الدفع إلى ثبوت مقتضى
المقتضى فان ثبوت التكليف الواقعي أو الغرض الباعث إليه مقتض لإيصاله
بايجاب الاحتياط الواصل فتدبر جيدا.
431

184 - قوله لا يقال لا يكاد يكون ايجابه مستتبعا الخ (1)
توضيحه ان ايجاب الاحتياط اما مقدمي واما ارشادي واما نفسي والكل
غير صحيح.
اما الأول فلان الوجوب المقدمي وجوب معلولي لوجوب ذي المقدمية
فيتبعه ثبوتا وفعلية وتنجزا فكيف يعقل ان يكون تنجز وجوب ذي المقدمة من
قبله مع أن الاحتياط عنوان ما تعلق به التكليف المجهول ولا اثنينية بينهما وجودا
ليكون مقدمة وجودية له حتى تجب بوجوبه.
واما الثاني فلأن الارشاد إلى ترتب العقاب على الواقع فرع تنجز الواقع
والمفروض انه لام منجز له الا الامر الارشادي بالاحتياط واما الارشاد إلى غير
العقاب فلا يجدى في ما هو المهم في هذا الباب وهو واضح.
واما الثالث فلان مقتضى النفسية تنجز نفسه بوصوله دون الواقع وهو خلف
مع أن الاحتياط في محتمل الوجوب مثلا بفعل الواجب ولا يعقل عروض
وجوبين نفسيين على واحد خصوصا إذا كان متعلق أحدهما معنون متعلق
الآخر.
مضافا إلى ما يقال من أن ايجاب الاحتياط لا يوجب تنجز الواقع لبقاء الجهل
على حاله فملاك عدم تنجز الخطاب الواقعي وهو الجهل به حيث إنه لم يرتفع
فكيف يتنجز وأجاب عنه شيخنا العلامة رفع الله مقامه (2) بان ايجاب الاحتياط
سنخ اخر من الايجاب وهو الانشاء بداعي تنجيز الواقع وملاك عدم التنجيز ليس
الجهل بما هو بل عدم قيام الحجة ومع الانشاء بداعي تنجيز الواقع يصح له
الاحتجاج به على العبد ولا يكون معذورا من قبل مولاه مع أنه جعله غير معذور
عن قبل ما أقام عليه الحجة من قبله ولكنك قد عرفت في مبحث جعل

(1) كفاية الأصول ج 2 ص 168 وكفاية الأصول 339 (ت، آل البيت)
2 - حاشية الرسائل ص 119 - 116 قلت.. وكفاية الأصول ج 2 - ص 168 - 174.
432

الطريق (1) ان الانشاء بهذا الداعي لا يخلوا عن اشكال هو ان الانشاء بأي داع كان
هو مصداق ذلك الداعي بالإضافة إلى ما يرد عليه مفاد الهيئة فالانشاء بداع
البعث إلى الصلاة مصداق حقيقة للبعث نحو الصلاة وبداع الامتحان مصداق
للامتحان بالمادة التي تعلقت به الهيئة وهكذا.
ومن الواضح ان القابل للتنجيز هو التكليف وللتنجيز هو الخبر أو امارة أخرى
أو اليقين السابق في الاستصحاب أو احتمال التكليف في باب الاحتياط وما
تعلق به مفاد الهيئة الموصوف بأنه تنجيز نفس مادة الاحتياط فما هو قابل لتعلق
البعث الانشائي به غير قابل للتنجيز ولا للتنجيز وما هو قابل للمنجزية والمتنجزية
وهو الاحتمال والتكليف غير قابل لتعلق البعث الانشائي به فالايجاب بداعي
تنجيز التكليف الواقعي في جميع الموارد غير معقول لا ان تنجز الواقع بالخبر
ونحوه غير معقول وقد تقدم بعض الكلام في مبحث جعل الطريق (2).
ويمكن ان يقال ان ايجاب تصديق العادل أو ايجاب الاحتياط ايجاب
حقيقي بداعي جعل الداعي ومنبعث عن المصلحة الواقعية على حد التكليف
الواقعي لكن التكليف الواقعي متعلق بالفعل بذاته وايجاب التصديق وايجاب
الاحتياط متعلق به بعنوانه ايصالا للواقع في الأول وتحفظا عليه في الثاني
وايجاب الشئ بمعرف أو معرفات إذا كان منبعثا عن غرض واحد بداعي جعل
الداعي لا يوجب تعدد الايجاب الحقيقي.
لما عرفت في محله (3) ان التماثل والتضاد بين الحكمين الفعليين لا بين
الفعلي والانشائي بداعي جعل الداعي الذي لم يتصف بفعلية الدعوة لعدم
وصوله فايجاب الاحتياط ايجاب حقيقي نفسي بعنوان آخر غير نفس عنوان
الفعل وحيث انه منبعث عن الغرض الواقعي فلذا يكون مقصورا على صورة
الموافقة مع الواقع فلا يستحق الا عقوبة واحدة وحيث انه بعنوان التحفظ على

(1) التعليقة 58 ص 137.
(2) نفس المصدر
3 - التعليقة 55 ص 123.
433

الواقع فوصوله وصول الواقع وتنجزه تنجز الواقع وجميع تعاريف الواجب
النفسي منطبقة عليه فإنه منبعث عن غرض في نفسه أي ما هو بالحمل الشائع
احتياط لفرض كونه معرفا لنفس الواجب الواقعي وهو واجب لا لواجب آخر،
حيث إن وجوبه غير منبعث عن وجوب آخر كالواجب المقدمي فافهم جيدا.
185 - قوله بما هو قضيته من ايجاب فرفعه (1) الخ:
ظاهره هنا كصريحه - ره - في العبارة السابقة (2) ان وجوب الاحتياط من
مقتضيات التكليف الواقعي وآثاره فلذا حكم - قده - بان التعبد برفع التكليف
الواقعي تعبد برفع اثره ومقتضاه وهو ايجاب الاحتياط ولكن لا يخفى عليك ان
ايجاب الاحتياط ليس من مقتضيات التكليف بوجه من الوجوه لا المقتضى
بمعنى المسبب بالإضافة إلى سببه لما مر مرارا (3) ان المقتضى لكن حكم
بمعنى سببه الفاعلي هو الحاكم ولا المقتضى بمعنى ذي الغاية بالإضافة إلى
الغاية الداعية إليه لان التكليف الواقعي ليس من الفوائد القائمة بوجوب
الاحتياط حتى يكون اقتضائه له بهذا النحو من الاقتضاء ولا المقتضى بمعنى
مطلق الأثر الشامل للحكم بالإضافة إلى موضوعه لان ايجاب الاحتياط ليس
حكما متعلقا بالتكليف الواقعي بل لا يعقل ان يكون كذلك ومجرد تأخر رتبة
وجوب الاحتياط عن التكليف الواقعي لكونه حكما في مرتبة الجهل بالتكليف
الواقعي لا يقتضى ان يكون من مقتضياته ومعلولاته بل المعروف استحالة
اقتضاء التكليف شيئا في مرتبة الجهل به ثبوتا واثباتا للزوم اخذ الشئ في
مرتبة نفسه وكون الشئ مقتضيا لنفسه بل المعقول ما أشرنا إليه في مطاوي
كلماتنا من أن الغرض الباعث على التكليف كما يدعو إلى جعل التكليف كذلك
يدعو إلى ايصاله بايجاب الاحتياط الواصل المبلغ له إلى مرتبة الفعلية والتنجز

(1) كفاية الأصول ج 2 ص 174، س 7 وكفاية الأصول 340 (ت آل البيت).
(2) كفاية الأصول ج 2 ص 168 فإنه يقال....
(3) التعليقة 41 و 45 ص 92 و 103.
434

حتى يكون المكلف مقهورا في ايجاده وغير معذور في تركه فكلا الايجابين
من مقتضيات الموضوع لا ان أحدهما من مقتضيات الآخر حتى يكون من باب
التعبد بالأثر عند التعبد بما يترتب عليه.
بل هما بحسب الغرض الداعي متلازمان ولا يصحح التعبد بأحدهما التعبد
بالآخر نعم لو أريد الموضوع من الموصول لصح ان يكون التعبد به تعبدا بكلا
الاثرين وهذا أحد الوجوه المصححة لإرادة الموضوع من الموصول.
186 - قوله فان ما لم يعلم من التكليف مطلقا (1) الخ:
تعميم ما لا يعلمون للشبهة الحكمية والموضوعية بوجوه.
منها: ما في المتن وهو إرادة التكليف المجهول مطلقا سواء كان سبب الجهل
به فقد النص أو اجماله أو تعارض النصين أو الأمور الخارجية فالمراد من
الموصول خصوص التكليف مع التعميم من حيث أسباب الجهل به ويمكن ان
يقال ان الظاهر من التكليف الذي لا يعلمونه انه بنفسه غير معلوم لا ان انطباقه
على المورد غير معلوم بسبب الجهل بانطباق موضوعه الكلى فان من لم يعلم
بخمرية مايع لا يقال انه غير عالم بحرمة الخمر والمايع بما هو لا حكم له واقعا
ليقال ان حرمة هذا المايع غير معلومة بل المايع بما هو خمر حرام وحرمة
الخمر معلومة وكون المايع خمرا غير معلوم فالانطباق غير معلوم ولا منافاة بين
ظهور التكليف الذي لا يعلمونه في كونه بنفسه غير معلوم والقول بانحلال النهى
لدوران فعليته مدار فعلية موضوعه عقلا والتحقيق ان فعلية التكليف في المورد
مساوقة لتحققه بحقيقته التي لها الإطاعة والعصيان لا امر زائد على حقيقته
والحرام ليس الا شرب ما هو خمر بالحمل الشائع فحرمة هذا المايع بما هو خمر
غير معلومة وليس هذا من باب الوصف بحال المتعلق فان الجهل بخمريته
سبب حقيقة للجهل بحرمته حقيقة بما هو خمر.
منها: إرادة الفعل من الموصول لكنه بما هو واجب وحرا م لأنه بهذا العنوان

(1) كفاية الأصول ج 2 ص 174، س 9 وكفاية الأصول 340 (ت آل البيت) وفوائد
الأصول ج 3 ص 334 ونهاية الأفكار ج 3 ص 216.
435

ثقيل على المكلف اما بنفسه أو بلحاظ ترتب المؤخذة عليه بما هو فعل حرام،
أو ترك واجب مع التعميم من حيث أسباب الجهل بالواجب والحرام.
وفيه انه مناف لظاهر سائر الفقرات، فان الموصول فيها عبارة عن الافعال
بعناوينها لا بعنوان الواجب والحرام، فالمراد مما أكرهوا عليه ذات الفعل الذي
أكره عليه لا الحرام الذي أكره عليه، فان الاكراه على الفعل بما هو شرب الخمر
لا عليه بما هو حرام، وكذا فيما اضطروا إليه وهكذا.
والتحقيق: ان المشتقات غير موجودة بالذات ولذا لا تدخل تحت المقولات
بل الموجود بالذات نفس ذات الموضوع ومبدء المحمول، فالمجهول بالذات
اما نفس ذات الموضوع كالجهل بالخمر، واما مبدء المحمول كالجهل بالحرمة،
واما الجهل بالفعل والمعنون الحرام فليس أمرا ما وراء أحد النحوين
من الجهل بالذات، بل العنوان كما أنه كوجود بالعرض كذلك مجهول بالعرض
بنحو وساطة أحد النحوين من الجهل لعروضه، لا وساطتها لثبوته كوساطة
الجهل بالموضوع لثبوت الجهل بالحكم.
ومن الواضح ان المراد م‍ " ما لا يعلمون " الشئ الذي لا يعلمونه حقيقة لا ما
لا يعلمونه (1) عرضا من حيث نسبة الجهل بشئ حقيقة إليه عرضا.
منها: إرادة الفعل بما هو من الموصول لكنه مع تعميم الجهل به من حيث
الجهل به بنفسه أو بوصفه وهو حكمه. وفيه انه مناف لظاهر الوصف، فان إرادة
الجهل به بوصفه من باب الوصف بحال المتعلق، فان الظاهر م‍ " ما لا يعلمون "
الشئ الذي لا يعلمونه لا الشئ الذي لا يعلمون حكمه.
فان قلت: عدم العلم التصديقي كنفس العلم التصديقي يتعلق بثبوت (2)
شئ لشئ ولا فرق حينئذ بين ثبوت الخمرية للمايع أو ثبوت الحرمة لشرب
التتن من حيث كون العنوان مجهولا، غاية الامر ان عنوان الخمرية للمايع ذاتي
وعنوان الحرمة للشرب عرضي، فالمجهول دائما عنوان ذات الفعل، والا فالفعل
بذاته لا جهل به، لعدم تعلق الجهل المقابل للعلم التصديقي بتقابل العدم

(1) (خ ل): لا ما يعلمونه.
(2) (خ ل): ثبوت.
436

والملكة بالمفردات.
قلت: إذا كان المراد من الموصول هو الفعل، فلا محالة ليس الا موضوع
الحكم فإنه الذي يكون رفع الحكم برفعه دون الفعل الذي ليس موضوعا للحكم،
فشرب المايع ليس موضوعا للحكم حتى يقال ان شرب المايع حيث لم يعلم
عنوانه وهو كونه خمرا فهو مرفوع، بل هو شرب الخمر هو الموضوع وهو
المرفوع إذا كان مجهولا وحينئذ، فالمراد من الجهل به هو الجهل بتحققه.
فالموضوع تارة يكون معلوم الوجود فيترتب عليه حكمه، وأخرى مجهول
الوجود فحكمه مرفوع ولم يلزم حينئذ تعلق الجهل بالمفرد بل بكونه موجودا.
منها: إرادة الحكم والموضوع معا من الموصول بلحاظ عموم الموصول من
حيث انطباقه عليها، فالمراد رفع كل ما كان مجهولا حكما كان أو موضوعا، وأورد
عليه شيخنا العلامة " رفع الله مقامه " في تعليقته (1)، بعدم امكانه، لان اسناد الرفع
إلى الحكم اسناد ما هو له، واسناده إلى الموضوع اسناد إلى غير ما هو له والجامع
بين الاسنادين غير معقول، والجواب ان الحاجة إلى الاسناد الجامع بين
الاسنادين انما تثبت إذا كان اتصاف الاسناد الواحد بكونه إلى ما هو له والى غير
ما هو له من باب اتصاف الواحد بوصفين متقابلين، وهو محال، فلا بد من تعقل
اسناد جامع، وهو أيضا محال، لعدم خروج الطرف عن كونه ما هو له أو غير ما هو
له، والا فلا اسناد مع أن اتصاف الاسناد الواحد بوصفين متقابلين إذا كانا
اعتباريين معقول، لتعقل (2) اعتبارين في واحد بلحاظ كل منهما له اعتبار مغاير
لاعتبار اخر، نظير ما ذكرنا (3) في باب استعمال اللفظ في معنييه الحقيقي والمجازي
في دفع شبهة استلزام اجتماع المتقابلين ولو كان الاستعمال في أكثر من معنى
ممكنا، وحاصل الدفع ان اللفظ من حيث استعماله فيما وضع له موصوف
بالحقيقة ومن حيث استعماله في غير ما وضع له موصوف بالمجازية، فهناك

(1) حاشية الرسائل: ص 114: قوله: مع أن تقدير المؤاخذة الخ... والرسائل: ج 1، ص 320.
(2) (خ ل): لتعلق.
(3) نهاية الدراية: ج 1، ص 113.
437

وصفان بلحاظ حيثيتين واقعيتين فكذلك هنا.
نقول: ان الشئ بشيئيته لا مرفوع ولا غير مرفوع، بل بلحاظ انطباقه على
الحكم والموضوع فهذا الاسناد الواحد إلى الشئ من حيث انطباقه على الحكم
اسناد إلى ما هو له ومن حيث انطباقه على الموضوع اسناد إلى غير ما هو له، فلهذا
الاسناد الجدي وصفان اعتباريان بلحاظ حيثيتين حقيقيتين وهي حيثية الانطباق
على الحكم وحيثية الانطباق على الموضوع، ثم اعلم أنه لا بد من هذا التصحيح
لمن يريد شمول الخبر للشبهة الحكمية لا بلحاظ التفكيك بين السياق إذا حمل
الموصول في " ما لا يعلمون " على الحكم وفى غيره على الموضوع، بل لان صدر
الخبر نسب فيه الرفع إلى التسعة (1) بقوله (ع) " رفع عن أمتي تسعة أشياء " فان هذا
الاسناد الواحد الذي طرفه التسعة بالإضافة إلى بعضها اسناد إلى ما هو عليه،
وبالإضافة إلى بعضها الاخر اسناد إلى غير ما هو له، وليس كالاسناد إلى الموصول
المتعدد ليكون الاسناد الكلامي متعددا حقيقة، ولكن لا يخفى عليك ان اتصاف
الاسناد الواحد بوصفين وان كان معقولا الا ان مخالفته للظاهر لعدم تمحضه في
الاسناد إلى ما هو له باقية على حالها، وسيأتي انشاء الله تعالى دفعها.
ومنها: إرادة الموضوع من الموصول فيما لا يعلمون كما في ساير الفقرات
الا ان الموضوع ليس هو المايع المردد خارجا إذ متعلق الحكم وموضوعه
ما يتقوم به الحكم في أفق الاعتبار لا الشئ الخارجي، كما بيناه في اجتماع
الأمر والنهي (2) بل الموضوع الكلى المقوم للحكم وجعل الموضوع بهذا
المعنى بعين جعل الحكم، فان البعث المطلق لا يوجد بنحو وجوده الاعتباري
الا متعلقا بمتعلقه وموضوعه، فالموضوع الكلى المقوم للحكم موجود
بعين الوجود الاعتباري المحقق للحكم، ووساطة الحكم لعروض الوجود
للموضوع وساطة دقيقة برهانية كوساطة الوجود لموجودية الماهية مع أن

(1) قد مرت المصادر في أول الاستدلال بحديث الرفع، فراجع -
2 - نهاية الدراية: ج 1 ص 533.
438

صدق الموجود على الماهية المتحدة مع الوجود عرفا مما لا شك فيه بلا عناية
ولا مسامحة، ومنه يظهر ان رفع الموضوع الكلى تشريعا مساوق لرفع الحكم،
كما أن وضعه بعين وضعه فالاسناد إلى الجميع اسناد إلى ما هو له عرفا مع انحفاظ
وحدة السياق في الجميع وعليه فرفع الموضوع الكلى فيما لا يعلمون أعم من
رفع الموضوع المجهول نفسا ومن المجهول تطبيقا، فشرب التتن المجهول كونه
موضوعا مرفوع وشرب الخمر المجهول كونه موضوعا تطبيقا أيضا مرفوع.
188 - قوله: بعد وضوح ان المقدر في غير واحد غيرها (1) الخ:
ما يتعين ان يكون المقدر فيه غير المؤاخذة ليس الا الثلاثة الأخيرة، وهي
الحسد والطيرة والوسوسة فإنها غير محرمة لا انها محرمة معفو عنها.
الا ان عدم حرمتها لا يوجب عدم تقدير المؤاخذة فيها، بل يقدر المؤاخذة
في الكل بجامع عدم التكليف المصحح للمؤاخذة مع وجود المقتضى لما
يصحح المؤاخذة حتى يصح نسبة الرفع ولو بمعنى الدفع إلى الكل، ويصحح
اختصاص رفعها بهذه الأمة دون ساير الأمم، وان امتاز بعض التسعة عن بعضها
الاخر بثبوت التكليف الواقعي وعدمه.
ثم إن ظاهر شيخنا العلامة الأنصاري - قده - في المقام (2) ان تقدير المؤاخذة
يوجب إرادة الفعل من الموصول حتى في " ما لا يعلمون " إذ لا مؤاخذة على
التكليف بل على الفعل أو الترك، بخلاف تقدير الآثار فإنه لا يأبى عن إرادة
التكليف مما لا يعلمون حتى مع شمول الآثار للمؤاخذة، وتوجيهه ان عنوان
المؤاخذة لا تضاف إلى التكليف فتقديرها بعنوانها يأبى عن إرادة التكليف من
الموصول، بخلاف عنوان الآثار فإنها بمعنى مقتضيات الموضوع والحكم
والمؤاخذة من مقتضيات التكليف وان لم تكن على التكليف، وحينئذ فإرادة
خصوص المؤاخذة في الجميع مع إرادة التكليف مما لا يعلمون معقولة، لكنه

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 175، س 1 وكفاية الأصول: 340، (ت، آل البيت)
2 - الرسائل: ج 1، ص 320، (ط، جماعة المدرسين) ويمكن ان يورد...
439

لا بعنوانها بل بعنوان مقتضى التكليف كما هو واضح، ثم إن لزوم التقدير اما
لخصوص المؤاخذة لتيقنها أو لمطلق الآثار لكونه أقرب إلى نفى الحقيقة، أو الأثر
الظاهر في كل مورد بحسبه، لكونه المتيقن في مقام المخاطب انما يتوجه بناء
على عدم توجه الرفع إلى نفس التكليف، وأما إذا أريد مما لا يعلمون نفس
التكليف فمقتضى عموم الموصول ارتفاع كل تكليف مجهول، نعم، لزوم التقدير
انما يكون في غير مالا يعلمون مما يتعين فيه إرادة الفعل من الموصول.
189 - قوله (1): كما استشهد الإمام عليه السلام بمثل هذا الخبر (2) الخ:
لا يخفى عليك ان الظاهر السؤال والجواب عن لزوم الحلف على المذكورات
لا عن الأحكام التكليفية المترتبة على الطلاق والعتق والصدقة أو المؤاخذة فما
عن غير واحد منهم شيخنا الأستاذ - قده - في تعليقته (3) من أن إرادة الرفع
المؤاخذة معقولة، غاية الامر ان المؤاخذة، تارة على ذات الفعل، وأخرى على
مخالفة التكليف المنبعث عن الوضع، فلا دلالة على رفع الوضع فيما لا يترتب
عليه حكم تكليفي مصحح للمؤاخذة، أجنبي (4) عن مورد الرواية سؤالا وجوابا،
ثم إن الحلف على المذكورات وإن كان باطلا حتى مع الاختيار أيضا، الا ان
استدلال الإمام (ع) في مقام الالتزام لا يصح الا مع دلالة رفع الاكراه على رفع اثره
الوضعي.
نعم، إذا احتمل انه من باب الالتزام بما يراه المخالف ظاهرا في رفع الوضع
وان لم يكن كذلك لصح الالزام بما تسالم عليه الخصم، وحيث انه (ع) في مقام
الالزام والافحام على الخصم لا في مقام بيان الحكم الحقيقي من قبل الاكراه،
لم يكن الاحتمال المزبور بعيدا، وله نظائر في كلماتهم (ع).

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 175 وكفاية الأصول: 341 - 340، (ت، آل البيت).
(2) المحاسن: ج 2، ص 339، ح 124 - كتاب العلل والوسائل: ج 16، ص 164 - ح 12، ب 12:
كتاب الايمان.
(3) حاشية الرسائل: ص 116 - 117.
(4) الرسائل: ج 1، ص 321.
440

190 - قوله: ان المرفوع في ما اضطروا إليه وغيره (1) الخ:
توضيحه انه قد أورد على حديث الرفع كما في الرسائل (2) بأنه موهون إذا
أريد منه رفع جميع الآثار للزوم التخصيص الكثير فيه، لان اثار الخطاء والنسيان
غير مرتفعة، وأجاب عنه الشيخ الأعظم - قدس سره - (3) بان الخبر لا يرفع اثار
الخطاء والنسيان بما هما، بل الآثار المترتبة على ذات الفعل لا بشرط العمد
والخطاء مرفوعة بالخبر إذا صدر عن الخطاء، قائلا بأنه لا يعقل رفع الآثار
الشرعية المترتبة على الخطاء والسهو من حيث هذين العنوانين ولعله بملاحظة
ان رفع ما فرض ثبوته في هذه الشريعة تناقض فان معناه حينئذ ان الآثار الثابتة
لهذه العناوين في هذه الشريعة غير ثابتة في هذه الشريعة وهو تناقض واضح.
مع أن الرفع إذا كان بمعناه الحقيقي كانت هذه المناقضة ثابتة فيما إذا رفعت
اثار الفعل لذاته في حال الخطاء، فان الرفع الحقيقي يقتضى ثبوتها في هذه
الشريعة للفعل في حال الخطاء، فرفعها في حال الخطاء مناقضة، ورفع الآثار
الثابتة في الشرايع السابقة صحيح في كلا المقامين.
وأما إذا أريد الرفع بمعنى الدفع فمعقول في كلا المقامين، فكما يكفي ثبوت
المقتضى للأثر حتى في حال الخطاء كذلك يكتفى بثبوت المقتضى له في نفس
الخطاء فلا يكون رفعه بما هو أقوى اقتضاء منه مناقضة.
نعم، يكون معارضا للأدلة المتكفلة لاثار الخطاء والنسيان بما هما وهذا غير
عدم المعقولية، وبالجملة الاشكال في الخبر من حيث إن ظاهر اخذ عنوان في
الموضوع كونه عنوانا ومقتضيا له حقيقة، فمعنى رفع حكم الخطاء رفع حكمه
بما هو خطأ لا رفع حكم ذات ما أخطأ عنه فيكون معارضا للدليل المتكفل
لحكم الخطاء بما هو فيلزم التخصيص الكثير في الحديث إذا كان المراد منه رفع
مطلق الآثار، ويمكن الجواب عنه بوجهين:

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 175، س 7 وكفاية الأصول: 341، (ت، آل البيت)
2 - الرسائل: ج 1، ص 322.
(3) في نفس المصدر.
441

أحدهما (1): ان ورود الخبر مورد الامتنان يقتضى ان الجهات الموجبة للمنة
برفع الاحكام والآثار هي هذه العناوين المأخوذة في الخبر من الجهل والخطاء
والنسيان والاكراه والاضطرار، فإذا كانت هذه الجهات مقتضية لرفع تلك الأحكام
فلا محالة ليست بما هي مقتضية لثبوتها إذ لا يعقل ان يكون العنوان الواحد
مقتضيا لطرفي النقيض، فموضوعات تلك الأحكام المستدعية لها ذات
المجهول وذات ما أكره عليه وهكذا، وعليه فلا يكون الخبر رافعا لاثار الخطاء
والنسيان بما هما حتى يلزم ورود التخصيص الكثير عليه.
ثانيهما: ان هذه العناوين الظاهرة في العنوانية على حد سائر العناوين
المأخوذة في موضوعات القضايا، الا انها موضوعات لنفى الحكم لا للحكم
المنفى، فقوله " رفع الاكراه " ينحل إلى قضية موضوعها الفعل المكره عليه بما هو
كذلك، ومحمولها نفى الحكم عنه بما هو كذلك، ومفاده لا يحرم الفعل المكره
عليه وحيث إن العنوان موضوع لنفى الحكم فلا محالة موضوع الحكم المنفى
غيره، لاستحالة اقتضاء الشئ للمتنافيين، فالتحفظ على ظاهر القضية وظهور
العنوان في العنوانية بضميمة البرهان يدل على أن موضوع نفى الحكم شئ
وموضوع الحكم المنفى شئ اخر، ولو لم يكن الخبر واردا مورد الامتنان ولا
معنى لجعل حكم الخطاء موضوعا وجعل رفعه محمولا حتى يكون مفاد القضية
ان حكم الخطاء مرفوع، فان المحمول لكل موضوع باقتضاء موضوعه بنحو من
الاقتضاء، ويستحيل اقتضاء الشئ لعدم نفسه، فلا محالة الخطاء موضوع مقتض
لرفع الحكم عن نفسه. والتحقيق ان الامر وان كان كذلك في العنوان المقتضى
لثبوت الحكم والمقتضى لنفيه لكنه حيث إن رفع المذكورات في الخبر بعنوان
رفع الحكم برفع موضوعه فلا بد ان يكون الموضوع المرفوع موضوع الحكم
المرفوع لا موضوع رفع الحكم، والا فلو كان الموضوع موضوع رفع الحكم لكان
رفعه مفيدا لضد المقصود إذ رفع موضوع الرفع يقتضى رفع الرفع وثبوت الحكم
لا نفيه، وحينئذ فيتوجه الاشكال المتقدم من ظهور الخبر في رفع حكم الخطاء

(1) فوائد الأصول: ج 3، ص 348.
442

بما هو خطأ لا حكم ذات ما أخطاء عنه.
وما ذكر من البرهان انما يتم في ما إذا كان نفى الحكم باقتضاء الموضوع
المجعول في القضية النافية موضوعا، وأما إذا كان عدم الحكم بعدم موضوعه من
باب عدم المقتضى بعدم المقتضى ولو لاختلاف الأزمنة لإناطة اقتضائه بزمان
كما في النسخ أحيانا فلا موقع للبرهان المزبور فلا كاشف عن أن موضوع الحكم
المنفى غيره، بل الامر في الثلاثة الأخيرة من التسعة وهي الحسد والطيرة
والوسوسة كذلك، فان موضوع الحكم المنفى ليس الا نفس هذه الثلاثة، فالأولى
الاقتصار على الجواب الأول باستظهار رافعية هذه العناوين الطارية من نفس
ورود رفعها مورد الامتنان.
واما الثلاثة الأخيرة فالمقتضي للرفع غلبة وقوعها حتى ورد انه لا يخلو منها
أحد فغلبة وقوعها مانعة عن تأثير اقتضائها للحكم امتنانا على الأمة المرحومة.
191 - قوله: لا يقال كيف وايجاب الاحتياط فيما لا يعلم (1) الخ:
بيانه ان ايجاب الاحتياط حال العلم بالتكليف لا معنى له وكذا ايجاب التحفظ
حال التذكر لا معنى له، فلا محالة لا يكون ايجاب الاحتياط الا بلحاظ حال
الجهل بالتكليف، ولا يكون ايجاب التحفظ الا بلحاظ الخطاء والنسيان، فيكون
الخبر دليلا على رفع آثار هذه العناوين بما هي لا رفع اثار ذوات المعنونات.
والجواب ما مر منا (2) مفصلا ان كون ايجاب الاحتياط مثلا من مقتضيات
التكليف أو من مقتضيات التكليف المجهول سواء كان بنحو اقتضاء السبب
لمسببه أو بنحو اقتضاء الغاية لذي الغاية غير معقول، فليس وجوب الاحتياط من
اثار التكليف واحكامه، ولا من احكام التكليف المجهول وآثاره، بل من مقتضيات
نفس الغرض الباعث على التكليف الواقعي فان الغرض الواقعي كما يدعو
المولى إلى جعل البعث نحو ما يحصله، كذلك يدعوه إلى ايصاله بما يبلغه إلى
مرتبة الفعلية والتنجز، اما بنصب الطريق، أو بجعل الاحتياط بأحد النحوين

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 175، س 11 وكفاية الأصول: 341، (ت، آل البيت).
(2) التعليقة: 185، ص 434.
443

المتقدمين بل يستحيل ان يكون ايجاب التحفظ من آثار الخطاء والنسيان كيف
وايجاب التحفظ لئلا يقع في الخطاء والنسيان فكيف يكون من آثار الفعل الصادر
خطأ أو نسيانا.
لا يقال مرجع كون وجوب الاحتياط اثرا للتكليف المجهول أو الحكم على
الخطاء والنسيان إلى تحريم مخالفة التكليف المجهول بما هو فالتكليف
المجهول ليس متعلقا للتكليف حتى يقال باستحالته بل موضوع لتعلق التكليف.
لأنا نقول مخالفة التكليف المجهول بما إذا كانت ذات مفسدة مقتضية
للتحريم فهي خارجة عن محل الكلام لأنها أجنبية عن عنوان الاحتياط
والتحفظ على الواقع المجهول والامر في التكليف المنبعث عن الغرض الواقعي
ما مر وكذا ايجاب التحفظ لئلا يقع في الخطاء والنسيان مرجعه إلى حفظ الغرض
الذي يفوت بالخطأ والنسيان لا إلى الفرار عن المفسدة التي تترتب على الخطاء
بما هو خطأ وعلى النسيان بما هو نسيان فتدبر جيدا.
" التحقيق في الاستدلال بحديث الحجب "
192 - قوله الا انه ربما يشكل بمنع ظهوره في وضع (1) الخ:
لا ريب في ظهور الحجب (2) في ثبوت الحكم الموحى إلى النبي (ص) أو
الملهم به الوصي (ع) إذ مع قطع النظر عنه لا ثبوت الا للمقتضى فلا مقتضى
حينئذ حتى يكون محجوبا أو غير محجوب ونسبة الحجب إلى العلم لعلها
مبالغة في حجب المعلوم والا فحيث لا يعقل ثبوت العلم وكونه محجوبا عن
العالم فلا محالة يراد من ظهوره ثبوته فان الوجود عين الظهور ويراد من
احتجابه عدمه لكونه في ظلمة العدم وثبوت العلم والجهل المقابل له بتقابل

(1) كفاية الأصول ج 2 ص 176 ص 2 س 2 وكفاية الأصول 341 (ت، آل البيت)
2 - التوحيد ص 431 ح 9 والوسائل ج 18 ص 119 ب 12 ح 28 والكافي ج 1 ص 164 - ح 3.
444

العدم والملكة وإن كان لا يستدعى الا ثبوت المعلوم والمجهول بثبوته الماهوي
لا بثبوته الخارجي لعدم توقف العلم الا على المعلوم بالذات لا على المعلوم
بالعرض كما مر مرارا فلا دلالة حينئذ على ثبوت التكليف خارجا وحيا أو الهاما
لكنه مع ذلك لا يصدق في شأنه انه مما لم يوقف الله عباده عليه ولم يعلمهم
به فإنه ظاهر في ثبوت حكم ما أوقفهم الله عليه ولم يطلعهم عليه لا بنحو
السالبة بانتفاء الموضوع فاتضح ان الحجب على أي حال يستدعى ثبوت
التكليف وحيا أو الهاما وحجبه حينئذ بأحد وجهين:
اما بعدم امره حججه (ع) بتبليغه وتعريفه للعباد أو باختفائه بعد تبليغ
الحجج وتعريفهم إياه باخفاء الظالمين أو غيره من العوارض الموجبة لاختفائه
ونسبة الحجب إليه تعالى على الأول ظاهرة حيث إن الحكم صار محجوبا
من قبله (تعالى) بعدم امره حججه (ع) بتعريفه وتبليغه.
واما على الثاني فلا اما لأنه لا يصدق في حقه انه مما حجبه الله عن العباد
بل عرفهم إياه على لسان حججه (ع) وان لم يصل إلى بعضهم لعارض واما لان
حجبه مستند إلى الظالمين وغيرهم لا إليه تعالى.
فان قلت نسبة الحجب إليه (تعالى) بلحاظ انتهاء سلسلة الأسباب إلى رب
الأرباب فيكون كقوله (ع) (1) " كل ما غلب الله عليه فهو أولى بالعذر " مع أن
المقهورية في الأسباب العذرية مستندة ابتداء إلى أسباب طبيعية من نوم أو
اغماء أو جنون ونحوها بل ليس في العالم شئ الا وله سبب أو أسباب ومرجع
الكل إلى مسبب الأسباب.
قلت: قد ذكرنا في مبحث الطلب والإرادة (2) ان المسببات بما هي موجودات
محدودة لا تنسب الا إلى أسباب هي كذلك وبما هي موجودات بقصر النظر على
طبيعة الوجود المطلق ينسب إلى الموجود المطلق لان الفاعل الذي منه الوجود

(1) الكافي ج 3 ص 412 ح 1 والفقيه ج 1 ص 363 ح 1042 - وص 364 ح 1044.
(2) نهاية الدراية ج 1 ص 210.
445

منحصر في واجب الوجود دون فاعل ما به الوجود فإنه غير منحصر في شئ
نعم ربما يكون الفعل المحدود بلحاظ تأثيره اثرا خارقا للعادة بغلبة العنصر
الربوبي فيه مما ينسب إليه (تعالى) كقوله تعالى * (وما رميت إذ رميت ولكن
الله رمى) * (1) بل ربما يكون بلحاظ غلبة العنصر الربوبي على الجهة التي تلي
الماهية لخلوصه ووقوعه قريبا ينسب إليه (تعالى) كما في قوله تعالى * (ويأخذ
الصدقات) * (2) وقوله تعالى * (ما أصابك من حسنة فمن الله) * (3) كما أنه
إذا غلبت الجهة التي تلي الماهية ينسب إلى الشخص كما في قوله تعالى * (وما
أصابك من سيئة فمن نفسك) * (4) مع أنه بلحاظ الاطلاق والنظر إلى طبيعة
الوجود قال تعالى * (قل كل من عند الله) * (5) فالمسببات الصادرة عن
الأسباب الطبيعية بلحاظ الاطلاق ينسب إليه (تعالى) فهو المحيى والمميت
والضار والنافع بخلاف ما إذا صدرت عن اشخاص غلبت الجهة التي تلي الماهية
فيهم فإنها تنفى عنه (تعالى) بهذا النظر كما عرفت وما اختفى باخفاء الظالمين
من هذا القبيل فلذا ورد في كلامه تعالى * (ان الذي يكتمون ما أنزلنا من
البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم
الله) * (6) الخ فنسب الكتمان إليهم لغلبة الجهة التي تلي الماهية فكذا فيما نحن
فيه فان الحكم الذي امر حججه (ع) بتبليغه للعباد فقد عرفه لهم وانما حجبه
غيره والتحقيق ان الامر في عدم الاسناد إليه (تعالى) لتلك النكتة إذا كان
الحجب بعد البيان باخفاء الظالمين ولا موجب لحصره فيه مع كون المبحوث
عنه أعم مما فقد فيه نص وما أجمل فيه النص وما يعارض فيه النصان بل لا يكاد
يشك في أن عدم بيان حكم شرب التتن وأمثاله لعدم الابتلاء به في أزمنة
الحضور (7) فلم تكن موقع للسؤال والجواب الا ان يراد من اخفاء الظالمين سد

(1) الأنفال: الآية 17.
(2) التوبة: الآية 104
3 - النساء: الآية 79.
(4) النساء: الآية 79.
(5) النساء الآية 78.
(6) البقرة الآية: 159.
(7) (أي، حضور الامام المعصوم عليه السلام).
446

باب الإمامة والولاية، والا لوصل إلينا جميع الأحكام.
فان قلت: ظهور الوضع المساوق للرفع في رفع ما كان ثابتا عليهم قرينة على أن
المراد حجب ما امر الحجة بتبليغه فإنه الثابت عليهم فالثبوت في نفسه لا
يناسب الرفع بل الثبوت عليهم، ولا يكون ثابتا عليهم الا بعد التبليغ والتعريف.
قلت: ليس الوضع بمعنى الرفع بل الوضع بمعنى الجعل والاثبات، فان
تعدى بحرف الاستعلاء كان المراد منه جعل شئ على شئ واثباته عليه، وان
تعدى بحرف المجاوزة كان المراد صرفه عنه إلى جانب، فقد يكون ثابتا حقيقة
فصرفه عنه يكون مساوقا للرفع، وقد لا يكون ثابتا بل مقتضيه ثابت فيتمحض في
الصرف والجعل عنه إلى جانب، فإذا كان مقتضى جعل الحكم مقتضيا لاثباته
على العباد ولكن مصلحة التسهيل أو مصلحة أخرى منعت من امره بتبليغه
وتعريفه فقد صرف عنهم وجعل عنهم إلى جانب فحينئذ لا معارض لظهور
الحجب المستند إليه (تعالى) حتى يلزم بالحجب بالمعنى الثاني، فتدبر.
وعن شيخنا الحر العاملي - ره - في المسائل في الجواب عن هذه الرواية (1)،
انها مختصة بالشبهة الوجوبية مدعيا ان قوله (ع) (2) " موضوع عنهم " قرينة ظاهرة
في إرادة الشك في وجوب فعل وجودي، ولعل نظره - ره - إلى أن الواجب هو
الفعل الثابت على المكلف فيناسب رفعه، بخلاف الحرام فان المكلف مزجور
عنه لا انه ثابت عليه، وليس ترك الحرام واجبا شرعيا حتى يقال بثبوته على
المكلف، بل ترك الحرام ترك ما يستحق العقوبة على فعله، والجواب ما مر منا
سابقا (3) ان التكليف اللزومي بملاحظة ثقله على المكلف بالجهات المتقدمة
يكون على المكلف ولذا كما يتعدى الوجوب بحرف الاستعلاء بالإضافة إلى
المكلف. فيقال يجب عليه كذلك الحرمة تتعدى بحرف الاستعلاء فيقال يحرم
عليه، كما تشهد له الاستعمالات القرآنية حتى في المحرمات التكوينية، كما في

(1) الوسائل: ج 18، ص 119، ح 28، ب 12: أقول.
(2) المصدر الفوق: ص 120.
(3) التعليقة: 181، ص 423.
447

قوله تعالى (وحرمنا عليه المراضع) (1) وقوله تعالى (ان الله
حرمهما على الكافرين) (2) إلى غير ذلك.
" في الاستدلال بحديث الحل "
193 - قوله: ومنها قوله (ع) كل شئ لك حلال حتى تعرف (3) الخ:
ما ورد بهذا المضمون روايات منها: ما رواه شيخ الطائفة عن عبد الله بن سنان
قال.
قال أبو عبد الله (ع) كل شئ يكون فيه حرام وحلال فهو لك حلال ابدا حتى
تعرف الحرام منه بعينه فتدعه (4).
ومنها: ما رواه في الكافي عن عبد الله بن سليمان عن أبي جعفر (ع) بعد
السؤال عن الجبن فقال سأخبرك عن الجبن وغيره كل ما كان فيه حلال وحرام فهو
لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه (5).
ومنها: ما رواه البرقي بسنده عن معوية بن عمار عن رجل من أصحابنا قال:
كنت عند أبي جعفر فسئله رجل عن الجبن فقال أبو جعفر (ع) انه لطعام تعجبني
وسأخبرك عن الجبن وغيره، " كل شئ فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتى
تعرف الحرام فتدعه بعينه (6).
ومنها: ما رواه الكافي (7) بسنده عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله قال

(1) القصص: الآية 12.
(2) الأعراف: الآية 50.
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 176، وكفاية الأصول: 341، (ت، آل البيت).
(4) التهذيب: ج 9، ص 79، ب 4، ح 72.
(5) الكافي: ج 6 ص 339، ح 1.
(6) الوسائل: ج 12، ص 60 - ح 4 ب 4: أبواب ما يكتسب.
(7) الكافي: ج 5، ص 314 - 313، ح 40، كتاب المعيشة.
448

سمعته يقول (ع) " كل شئ هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من
قبل نفسك وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة أو المملوك
عندك لعله حر قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهرا، أو امرأة تحتك وهي أختك أو
رضيعتك، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البينة "،
هذا جميع ما وقفنا عليه في جوامع الاخبار، وما ورد في مورد الجبن ونحوه مع أنه
كلية في مورد الشبهة الموضوعية فيه التقييد بوجود الحلال والحرام فيه، وفيه
المحاذير المانعة عن الاستدلال، فلا يجدى الخبر الأول المطلق أيضا، وما ليس
فيه هذا التقييد منحصر في خبر مسعدة بن صدقة وظهورها صدرا وذيلا في
الشبهة الموضوعية في غاية الوضوح وليس من باب تخصيص الكلية بالمورد،
بل الإمام (ع) طبقها على الشبهة الموضوعية بقوله (ع) " وذلك مثل " الخ ثم أكدها
أخيرا بما يختص بالشبهة الموضوعية بقوله (ع) " أو تقوم به البينة " وما يظهر من
شيخنا الأستاذ - قده - هنا (1) تبعا للشيخ الأعظم - قده - في الوسائل (2): من ورود
خبر اخر بهذا المضمون من دون تطبيق على الشبهة الموضوعية كما في طي
كلماته في المقام وفى صريح كلامه في أول الشبهة الموضوعية التحريمية لا اثر
منه في جوامع الاخبار والآثار، ويشهد لما ذكرنا انه لو كان مثل هذه الكلية المطلقة
لم يتكلف القوم بالاستدلال بقوله (ع) " كل شئ فيه حلال وحرام " الخ مع ما فيه
من المحذور، والله العالم.
194 - قوله: فهو حلال تأمل (3) الخ:
وجهه ان كل حكم ايجابي أو تحريمي لا ينحل إلى حكمين ايجابي
وتحريمي فعلا وتر كابل ترك الواجب حيث إنه ترك الواجب يستحق عليه
العقاب لا انه حرام وكذلك في طرف الحرام.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 176، ومنها قوله (ع) كل شئ لك...
(2) الرسائل: ج 2، ص 404، (ط، جماعة المدرسين) والرسائل: ج 1، ص 368.
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 176 وكفاية الأصول: 341، (ت، آل البيت).
449

" في الاستدلال بحديث السعة (1) "
195 - قوله: فإنه يقال لم يعلم الوجوب أو الحرمة (2) الخ:
بيانه ان ايجاب الاحتياط ان كان نفسيا بان كان فعل محتمل الوجوب بما هو
محتمل الوجوب واجبا حقيقة لمصلحة فيه بهذا العنوان أو كان فعل محتمل
الحرمة بما هو حراما حقيقة لمفسدة فيه بهذا العنوان فالتكليف الواقعي وان كان
مما لم يعلم الا ان التكليف الفعلي بعنوان آخر معلوم فإذا علم ولو بعنوان من
العناوين الطارية خرج عن كونه مما لا يعلمون فيكون دليل الاحتياط الموجب
للعلم بالتكليف بعنوان آخر رافعا لموضوع دليل البراءة حقيقة وان كان ايجاب
الاحتياط طريقيا أي انشاء بداعي تنجيز الواقع باحتماله فالواقع على حاله مما لم
يعلم وكما أن دليل الاحتياط منجز للواقع المحتمل كذلك دليل البراءة معذر عن
الواقع المحتمل فيتعارضان ويمكن ان يقال:
اما ان كان الاحتياط واجبا نفسيا فوروده مبنى على ظهور ما لا يعلمون في
دليل البراءة في الأعم على ما تقدم مع أن ظاهره انهم في سعة من التكليف
الذي لا يعلمونه لا في سعة مما لا يعلمونه ولا يعلمون حكم ما لا يعلمونه.
وبالجملة فرق بين التعميم من حيث العناوين الذاتية والعرفية وبين العناوين
المترتبة على التكليف بالعناوين الأولية فان ظاهر الخبر تعيين وظيفة من لا يعلم
تكليفه لا تعيين وظيفة من لا يعلم تكليفه ولا يعلم وظيفة عدم علمه بتكليفه،

(1) الوسائل ج 2 ص 1073 أبواب النجاسات ب 50 ح 11 والوسائل ج 17 ص 372،
أبواب اللقطة ب 23 ح 1 والكافي ج 6 ص 297 كتاب الأطعمة ح 2.
(2) كفاية الأصول ج 2 ص 176 وكفاية الأصول: 342، (ت آل البيت).
450

مضافا إلى أن دليل الاحتياط إذا كان عاما كان دليل البراءة لغوا، فان مثل هذا
الدليل ظاهر في الشبهة الحكمية، ومع قيام الدليل على الاحتياط في كل محتمل
التكليف لا مجال للتوسعة حينئذ.
نعم، إذا قلنا باختصاصه بالشبهة التحريمية كان مورد التوسعة على الشبهة
الوجوبية، مع أن معنى الخبر إذا كان التوسعة ما دام لا يعلمون، فظاهره كون
المورد مما يقبل تبدل جهل بالعلم، وهذا انما يكون في التكاليف الواقعية التي
يمكن قيام الطريق عليها بعد الجهل بها، بخلاف التكليف الظاهري اللزومي، فان
دليل الاحتياط متحقق من الأول فلا مجال لان يقال " هم في سعة ما دام لا
يعلمون " فتدبر. ويندفع الايراد على التعميم بان غرضه - قده - (1) من الوجوب
النفسي هو الوجوب المنبعث عن مصلحة أخرى ما وراء مصلحة الواقع ومثله
ليس وظيفة عملية للجاهل بحكمه حتى لا يعمه مالا يعلمون، بل هو كالحكم
الواقعي، غاية الامر ان عنوانه عرضي للعنوان الواقعي.
نعم، وجوب الاحتياط نفسيا بالمعنى الذي بيناه سابقا (2) المساوق للامر
الطريقي وظيفة عملية للجاهل بالواقع، فيرد عليه ما أوردناه لكنه غير مراد من
أدلته (3) - قده -.
واما ان كان الاحتياط واجبا طريقيا فيمكن ان يقال بورود دليل الاحتياط أيضا
بناء على إرادة مطلق الحجة القاطعة للعذر من العلم، فمفاد دليل البراءة حينئذ
هي التوسعة فيما لم تعم حجة على الواقع وبعد ان كان احتمال التكليف منجزا
بدليل الاحتياط كان كما وردت امارة وقلنا بان معنى حجيتها منجزيتها للواقع
فكما لا شبهة في ورودها على دليل البراءة كذلك ينبغي ان لا يرتاب في ورود
دليله على دليل البراءة.
فان قلت: كما أن دليل البراءة موضوعه ما لم يعلم بمعنى عدم الحجة

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 176.
(2) التعليقة: ص 432، ذيل قوله - قده - لا يقال...
(3) (خ ل): أدلة، (غير مراد له - قده -).
451

المنجزة للواقع، كذلك موضوع دليل الاحتياط المشتبه بمعنى ما لم تعم حجة
معذرة عن الواقع، فيتعارضان، لان أحدهما يوجب المنجزية والاخر يوجب
المعذرية ولا وجه للتوسعة في الأول دون الثاني.
قلت: حيث إن ايجاب الاحتياط بعنوان التحفظ على العرض الواقعي
المنبعث عنه التكليف الواقعي اما بايصاله عرضا بايصال الحكم المماثل أو
بايصاله بأثره بجعل الواقع منجزا به، فلا محالة ليس موضوعه الا احتمال
التكليف اللزومي المنبعث عن الغرض الواقعي لا احتمال عدمه ولا عدم قيام
المعذر عنه، بخلاف دليل البراءة فإنه في مقام التوسعة مما لم يتنجز بمنجز
واقعي أو جعلي، فموضوعه ما لم يقم عليه منجز، والكلام في ورود دليل
الاحتياط بلحاظ لسان دليله وعنوان موضوعه، والا فتعارض المنجز والمعذر
بديهي.
لا يقال: إذا لم يكن دليل الاحتياط كما ذكر من حيث عموم موضوعه لعدم
المعذر لم يكن وجه لتقديم الامارة النافية عليه بناء على كون الامارة منجزة أو
معذرة.
لأنا نقول: حيث إن لسان الامارة النافية عدم التكليف فالمعذورية من حيث إن
لسانها نفى التكليف فلا مجال لما يكون لسانه منجزية احتمال ثبوت التكليف،
ولأجل هذه الخصوصية يكون دليل الامارة واردا أيضا إذا كانت مثبتة منجزة
للتكليف فان لسانها ثبوت التكليف فلا مجال لما يكون لسانه منجزية احتمال
ثبوته. فتدبر وسيجيئ انشاء الله تعالى تتمة الكلام عند التعرض للجمع بين
اخبار الاحتياط والبراءة (1).

(1) التعليقة: 209، ص 479.
452

" في الاستدلال بحديث كل شئ مطلق (1) "
196 - قوله: ودلالته تتوقف على عدم صدق الورود (2) الخ:
تحقيق المقام ان المراد بقوله (ع) " حتى يرد فيه نهى " تارة هو الورود في نفسه
المساوق للصدور واقعا، وأخرى هو الورود على المكلف المساوق للوصول إليه،
والنافع في المقام هي إباحة ما لم يصل حرمته إلى المكلف لا إباحة ما لم يصدر
فيه نهى واقعا فإنه دليل إباحة الأشياء قبل الشرع لا الإباحة (3) فيما لم يصل وان
صدر فيه نهى واقعا، توضيحه: ان الإباحة على قسمين:
إحديهما، بمعنى اللا حرج من قبل المولى في قبال الحظر العقلي، لكونه
عبدا مملوكا ينبغي ان يكون وروده وصدوره عن رأى مالكه.
ثانيتهما، الإباحة الشرعية في قبال الحرمة الشرعية الناشئة عن المفسدة
الباعثة للمولى على زجره عما فيه المفسدة، وهي تارة إباحة واقعية ثابتة لذات
الموضوع ناشئة عن لا اقتضائية (4) الموضوع لخلوه عن المصلحة والمفسدة
وأخرى إباحة ظاهرية ثابتة للموضوع بما هو محتمل الحرمة والحلية ناشئة عما
يقتضى التسهيل على المكلف بجعله مرخصا فيه والإباحة القابلة لان يغنى بعدم
صدور النهى واقعا هي الإباحة بمعنى اللا حرج لا الإباحة (5) الشرعية سواء كانت
واقعية أو ظاهرية، اما الإباحة الواقعية فالمفروض انها ناشئة عن لا اقتضائية
الموضوع فلا يعقل ورود حرمة في موضوعها للزوم الخلف من فرض اقتضائية

(1) الوسائل: ج 18، ص 127، ب 12، ح 60، أبواب صفات القاضي.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 177 وكفاية الأصول: 342، (ت، آل البيت) والرسائل: 199 مخطوط.
(3) (خ ل): لا إباحة.
(5) (خ ل): لا إباحة.
(4) (خ ل): عن الاقتضائية ثابتة الموضوع.
453

الموضوع المفروض انه لا اقتضاء، لا يقال: لا اقتضائيته من حيث ذاته لا تنافى
عروض عنوان عليه يقتضى الحرمة لأنا نقول نعم الا ان الذي يرد فيه نهى ذلك
العنوان الذي له اقتضاء الحرمة لا ان النهى يرد في مورد الإباحة وفرق بين ورود
نهى في مورد الإباحة كما هو ظاهر الخبر وبين انطباق عنوان ورد فيه النهى على
مورد الإباحة فالماء مثلا مباح والغصب حرام وانطباق عنوان الغصب على الماء
لا يقتضى صدق ورود النهى في الماء المغصوب بل من انطباق العنوان الوارد فيه
النهى على مورد الإباحة، هذا إذا أريد ما هو ظاهر الخبر من كون الإباحة مغياة
بورود النهى في موردها.
وأما إذا أريد بورود النهى تحديد الموضوع وتقييده بان يكون المراد ان ما لم
يرد فيه نهى مباح وان ما ورد فيه نهى ليس بمباح فهو ان كان بنحو المعرفية فلا
محالة يكون حمل الخبر عليه حملا على ما هو كالبديهي الذي لا يناسب شان
الإمام (ع)، وان كان بمعنى تقييد موضوع أحد الضدين بعدم الضد حدوثا أو بقاء
فهو غير معقول، لان عدم الضد ليس شرطا لوجود ضده لا حدوثا ولا بقاء، ولا
معنى لتقييد موضوع الإباحة بعدم ورود النهى حقيقة الا شرطيته واما الإباحة
الظاهرية فجعلها مغياة أو محددة ومقيدة بعدم صدور النهى في موضوعها واقعا
غير صحيح من وجوه.
منها: ان الإباحة الظاهرية التي موضوعها المشكوك لا يعقل ان تكون مغياة
الا بالعلم ولا محددة الا بعدمه لا بأمر واقعي يجامع الشك والا لزم تخلف الحكم
عن موضوعه التام فإنه مع فرض كون الموضوع وهو المشكوك موجودا يرتفع
حكمه بصدور النهى المجامع مع الشك واقعا فلا يعقل ان تتقيد الا بورود النهى
على المكلف ليكون مساوقا للعلم المرتفع به الشك.
ومنها: ان الإباحة حيث إنها مغياة بصدور النهى واقعا أو محددة بعدم
صدوره واقعا، والغاية أو القيد مشكوك الحصول فلا محالة يحتاج إلى أصالة عدم
صدوره الفعلية الإباحة، وسيجيئ انشاء الله تعالى ان الأصل اما ان يكون كافيا
وان لم يكن هذا الخبر، أولا يكون كافيا ان أردنا ترتيب مضمون الخبر عليه تعبدا،
454

فعلى الأول، لا استدلال بالخبر، وعلى الثاني، لا يصح الاستدلال به.
ومنها: ان ظاهر الخبر جعل ورود النهى غاية رافعة للإباحة الظاهرية
المفروضة ومقتضى فرض عدم الحرمة الا بقاء هو فرض عدم الحرمة حدوثا،
ومقتضاه عدم الشك في الحلية والحرمة من أول الامر، فما معنى جعل الإباحة
الظاهرية المتقومة (1) بالشك في الحلية والحرمة في فرض عدم الحرمة الا بقاء،
وليست الغاية غاية للإباحة الانشائية حتى يقال انه يحتمل في فرض فعلية الشك
صدور النهى واقعا، بل غاية لحقيقة الإباحة الفعلية موضوعها وهو
المشكوك، وحيث إن المفروض صدور النهى بقاء في مورد هذه الإباحة الفعلية
فلذا يرد المحذور المزبور.
فان قلت: هذا إذا كان المراد صدور النهى منه تعالى شانه، وأما إذا أريد
صدوره من النبي (ص) أو الوصي على طبق ما أوحى به أو ما الهم به فيندفع هذا
المحذور لتقوم الشك باحتمال صدوره منه تعالى. والغاية صدوره من النبي (ص)
أو الوصي (ع) فيساوق رواية " ما حجب الله علمه عن العباد " فيفيد ان الحرمة
الواقعية الموحى بها أو الملهم بها لا تؤاخذ لها الا بعد صدور النهى على طبقها
من النبي (ص) أو الوصي (ع) وهذا الاحتمال غير بعيد إذ الظاهر من الصدور
التدريجي بعد جعل الإباحة الظاهرية هو الصدور من النبي (ص) أو الوصي (ع)
في مقام تبليغ احكامه (تعالى) تدريجا، يكون اعطاء لقاعدة كلية حتى يقوم
النبي (ص) أو الوصي (ع) في مقام التبليغ.
قلت: مضافا إلى بقاء المحذورين الأولين على حالهما، ان الحكم الذي لم
يعم النبي (ص) أو الوصي (ع) بصدد تبليغه لا اثر لمقطوعه في مقام حتى يحتاج
إلى جعل الإباحة الظاهرية في مشكوكه، وعدم الأثر واضح حتى من حيث
وجوب الاحتياط، فإنه لايصال ما ثبت على المكلف وتنجيزه عليه فلا يعقل في
موضوع عدم التبليغ كما هو واضح، وحيث علم من جميع ما ذكرنا عدم الامكان

(1) (خ ل): المبعوثة.
455

إرادة الإباحة الشرعية واقعية كانت أو ظاهرية، بناء على إرادة الصدور من الورود
فلا مناص من حمل الإباحة على إباحة الأشياء قبل الشرع بمعنى اللا حرج
الفعلي، فإنها محدودة ومغياة بعدم صدور الحرمة الشرعية، فيكون الخبر دليلا
على هذه الإباحة لا الإباحة (1) الشرعية الظاهرية المبحوث عنها هنا، إلا أن حمل
الإباحة على الإباحة المالكية قبل الشرع التي يحكم بها عقل كل عاقل بعيد غير
مناسب للإمام عليه السلام المعد لتبليغ الاحكام، خصوصا بملاحظة ان الخبر
مروى عن الصادق عليه السلام بعد ثبوت الشرع واكمال الشريعة خصوصا في
المسائل العامة البلوى التي يقطع بصدور حكمها عن الشارع، فلا فائدة في
الإباحة مع قطع النظر عن الشرع، وعليه فالمراد من الورود هو الورود على
المكلف المساوق لوصوله إليه والمراد بالاطلاق هو الترخيص الشرعي الظاهري
وعدم تقيد المكلف ظاهرا بطرف الترك أو بطرف الفعل فيكون دليلا على
المسألة، والتعبير عن الوصول بالورود تعبير شائع لا ينسبق إلى أذهان أهل العرف
وغيره، بل الظاهر كما يساعده تتبع موارد الاستعمالات ان الورود ليس بمعنى
الصدور أو ما يساوقه، بل هو معنى متعد بنفسه، فهناك بلحاظه وارد ومورود
فيقال " ورد الماء " و " ورد البلد " و " وردني كتاب من فلان " وان كان بلحاظ اشراف
الوارد على المورود وبما يتعدى بحرف الاستعلاء.
نعم، ربما يكون الوارد أمرا له محل في نفسه كالحكم فيقال ورد فيه نهى مثلا
فالموضوع محل الوارد لا مضايف الوارد، بل مضايفه من ورده هذا التكليف
الخاص ولذا لا يصح ان يقال بالإضافة إلى الموضوع " ورده نهى " بل " ورد فيه "
بخلاف المكلف فإنه الذي ورده التكليف أو ورد عليه بلحاظ اشرافه عليه
وبالجملة: نفس معنى الورود متعد بنفسه إلى المورود ولمكان التضايف لا يعقل
الوارد الا بلحاظ المورود وليس المورود هنا الا المكلف دون محل الوارد، ولذا
لو لم يكن الوارد محتاجا إلى المحل لا يتعدى الا بنفسه أو بحرف الاستعلاء

(1) (خ ل): لا إباحة.
456

بلحاظ الاشراف، فتحقق ان الورود ليس بمعنى الصدور وما يساوقه مفهوما حتى
لا يحتاج في ذاته إلى مكلف يتعلق به بل بمعنى يساوق الوصول إليه لتضايف
الوارد والمورود، فتدبر جيدا.
وعن شيخنا الأستاذ - قده - تقربان آخران في الجواب.
أحدهما: ما في تعليقته الأنيقة (1) من أن الورود بمعنى الصدور والإباحة
الشرعية قبل صدور الحرمة منه (تعالى) أو قبل صدورها من النبي (ص)، لعدم
الامر بتبليغها، خارجة عن مورد النزاع وداخلة فيما حجب الله علمه عن العباد،
وحيث إن هذه الإباحة مغياة بصدور النهى واقعا فلا يمكن اثباتها بالخبر فقط بل
بضم أصالة عدم صدور النهى الا انه مع ذلك لا يجدى، لان التعبد بعدم الغاية
لا يقتضى الا التعبد بالمغيى والمفروض ان المغيى أجنبي عما نحن فيه، هذا
ملخصه بتوضيح منى.
وثانيهما: ما في متن الكفاية (2) من أن الإباحة وان كانت مجدية الا انها مغياة
بصدور النهى فلا بد من الأصل، فبضميمة الأصل تثبت إباحة واقعية للشئ
بعنوانه الواقعي كما هو ظاهر " الشئ " من دون قرينة صارفة إلى الشئ بما هو
مجهول الحلية والحرمة كما فيما إذا كان الورود بمعنى الوصول فإنه يحدد
الموضوع و إباحة الشئ بعنوان انه مجهول الحكم محل الكلام، ثم أجاب بان
المهم دفع تبعة شرب التتن مثلا سواء كان بالحكم بإباحته بما هو أو بما هو
مجهول الحكم، فاورد عليه بأنه يجدى في غير صورة العلم بصدور النهى
والإباحة وشك في تقدمهما وتأخرهما، حيث إن الاستدلال انما يتم بالأصل
ولا أصل، أو لان الخبر بنفسه لا يعم مثله، ثم أجاب بالالحاق بعدم الفصل فاورد
عليه بأنه يتم فيما إذا كان اثبات أحد المتلازمين بالدليل لا بالأصل وسيجيئ
انشاء الله تعالى التعرض لما يتعلق بما افاده - قده -.

(1) حاشية الرسائل: ص 119: قوله - قده -: ودلالته على المطلب الخ.. والرسائل: ج 1، ص 327.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 177.
457

197 - قوله: ولكن بضميمة أصالة العدم (1) الخ:
لا يخفى عليك ان اجراء الأصل تارة: لمجرد نفى الحرمة ودفع تبعتها ظاهرا،
فلا مانع منه، الا انه ليس من الاستدلال بالخبر بل الأصل عدم الحرمة، كان هناك
" قوله كل شئ مطلق " أو لم يكن، وأخرى: للتعبد بالإباحة المغياة أو المقيدة
بعدم صدور الحرمة، أو لتحقيق موضوع تلك الإباحة فحينئذ يرتبط الأصل
بالاستدلال بالخبر الا انه لا يكاد يجدى اجراء الأصل لهذا الغرض، فان المراد
بالإباحة المتعبد بها اما لأجل التعبد بعدم تحقق غايتها أو التعبد بقيدها، اما هي
الإباحة الشرعية واقعية كانت أو ظاهرية، واما الإباحة المالكية بمعنى اللا حرج.
والتعبد بالأولى فرض معقوليتها في نفسه وقد عرفت عدم معقوليتها واقعية
كانت أو ظاهرية، فلا معنى للتعبد بها لا بلا واسطة ولا معها.
والتعبد بالثانية لا معنى له لأن المفروض ان الإباحة قبل الشرع بمعنى
اللا حرج العقلي ليست من مقولة الحكم وإلا لزم الخلف وليست موضوعا ذات
حكم شرعي أيضا واما كون الأصل محققا لموضوعها فإنما يصح إذا كانت من
لوازم الأعم من الواقع والظاهر كوجوب الإطاعة وحرمة المعصية ووجوب
المقدمة وحرمة الضد.
ومن الواضح ان الإباحة قبل الشرع هي اللا حرج عقلا قبل الشرع حقيقة،
لا قبله ولو ظاهرا مع ثبوته واقعا. نعم اللا حرج قبل وصول التكليف من لوازم
الأعم من عدم وصوله واقعا أو ظاهرا لكنه بمعنى يساوق قبح العقاب بلا بيان
ومثله أجنبي عن اللا حرج المغيى بعدم صدور النهى على الفرض فحمل
الإباحة على هذا المعنى خلف لأن المفروض ان الغاية صدور النهى لا وصوله
مضافا إلى أنه لو ترتبت الإباحة بوجه على الأصل لا يجدى في هذه المسألة إلا
إذا كانت الإباحة المترتبة عليه بمعنى الإباحة الظاهرية المترتبة على مجهول
الحكم بحيث لو علم لوجوب امتثاله واما الإباحة المالكية فهي غير شرعية

(1) كفاية الأصول ج 2 ص 177 وكفاية الأصول 342 (ت آل البيت).
458

فلا دخل لها بالبراءة مع النظر إلى ما هو تكليف المكلف
المترتبة على الجهل بالحكم الذي ما قام النبي (ص) أو الوصي (ع) بصدد تبليغه
لا تجدي في الحكم بالإباحة في مورد الجهل بالحكم الصادر الذي لو علم به
لوجب امتثاله كما هو المفروض في مسألة البراءة ولذا قلنا بان رواية الحجب
لا تجدي في محل البحث.
198 - قوله: ولا يكاد يعم ما إذا ورد النهى عنه في زمان (1) الخ:
اما لعدم جريان الأصل فيهما في نفسه لعدم احراز اتصال زمان الشك بزمان
اليقين أو لجريانهما وتساقطهما للمعارضة ولكنه لا يخفى عليك ان الإباحة
الواقعية المستفادة من قوله (ع) " كل شئ مطلق " اما ان يكون مغياة حقيقة بعدم
صدور النهى واقعا أو محددة بعدم صدوره [1] - فان أريد الأولى بحيث كانت
هناك إباحة مستمرة تزول بالنهي فحينئذ لا يعقل فرض الشك في التقدم والتأخير
لان هذه الإباحة متقدمة على النهى لفرض ثبوتها واستمرارها إلى أن يرد النهى
والإباحة الأخرى لا يعقل ورودها على موضوع محكوم بالإباحة فلا محالة
لو فرضت إباحة أخرى غير الأولى فهي متأخرة عن صدور النهى، [2] وان أريد
الثانية بحيث كان المراد ان ما لم يصدر فيه نهى مباح وما صدر فيه نهى ليس
بمباح ففرض الشك في التقدم والتأخر معقول لاحتمال ان يكون المورد كان
مما لم يصدر نهى فيه فكان مباحا ثم ورد فيه نهى أو كان المورد مما صدر فيه
نهى فلم يكن مباحا من الأول ثم زال النهى وصار مباحا الا ان مثل هذا الفرض لا
يكون في نفسه مشمولا للخبر لا انه لا يصح الاستدلال بالخبر عليه لعدم جريان
الأصل المتمم للاستدلال به كما هو ظاهر سياق العبارة والسر في عدم شمول
الخبر لهذا الفرض في نفسه ان الظاهر بعد جعل عدم صدور النهى محددا
للموضوع أن ما لم يصدر فيه نهى مباح وأن ما صدر فيه نهى ليس بمباح لا ما صدر
فيه نهى وزال مباح، أو ما لم يصدر فيه نهى ثم صدر ليس بمباح، والله العالم وإن

(1) كفاية الأصول ج 2 ص 177 وكفاية الأصول 343 (ت آل البيت).
459

كانت العبارة غير آبية عن إرادة عدم شمول الخبر في نفسه لهذا الفرض.
199 - قوله - إلا أنه انما يجدى فيما كان المثبت للحكم بالإباحة (1)
الخ:
توضيحه: انه لو ثبت الملازمة بين حكمين واقعيين أو ظاهريين فالدليل
على ثبوت أحد المتلازمين دليل على ثبوت الآخر كما يراه شيخنا الأستاذ - قدس
سره - (2) أو دليل الملازمة عند وضع أحد المتلازمين دليل على ثبوت الآخر كما
اخترناه سابقا (3) وهذا في الاحكام الواقعية ظاهر وفى الاحكام الظاهرية ما
تقدم منه (4) في قول " كل شئ لك حلال " حيث إن مورده الشبهة التحريمية
وبعدم القول بالفصل حكم - قده - (5) بالبراءة في الشبهة الوجوبية نظرا إلى ثبوت
الاتفاق على اتحاد حكم الشبهة فيهما نفيا واثباتا، فإذا ثبتت البراءة بقوله (ع) " كل
شئ لك حلال " في الشبهة التحريمية ثبتت البراءة في الشبهة الوجوبية لاحد
الوجهين المتقدمين واما فيما نحن فيه فلا ملازمة بين جريان الاستصحاب في
مورد وجريان البراءة في مورد آخر بحيث إذا جرى الاستصحاب في بعض افراد
الشبهة التحريمية تجرى البراءة في بعض افرادها الآخر بل الملازمة بين جريان
البراءة في تمام افراد الشبهة التحريمية ولا دليل على أحد المتلازمين من هذه
الحيثية في بعضها كي يقال بثبوت الآخر وعليه ينبغي حمل العبارة لا ما يتراءى
منها من الفرق بين الدليل والأصل الموهم لكون المانع عدم ثبوت اللوازم
بالأصل فإنه جار في مفاد " كل شئ لك حلال " أيضا بل ما ثبت بالأصل هنا
ليس طرف الملازمة إذ الطرفان البراءة في هذا والبراءة في ذاك لا الإباحة
التعبدية بعنوان حرمة نقض اليقين بالشك في طرف والإباحة الظاهرية بعنوان
المجهول الحلية والحرمة في طرف آخر، فافهم وتدبر.

(1) كفاية الأصول ج 2 ص 179 وكفاية الأصول 343 (ت آل البيت).
(2) كفاية الأصول ج 2 ص 179.
(3) نهاية الدراية ج 1 ص 301.
(4) كفاية الأصول ج 2 ص 176 والمصدر ص 341 (ت آل البيت).
(5) المصدر الرابع س 8.
460

في الاستدلال بالعقل لأصالة البراءة
200 - قوله اما العقل فإنه فقد استقل بقبح العقوبة (1) الخ:
نحن وان ذكرنا مرارا (2) ان مدار الإطاعة والعصيان على الحكم الحقيقي وان
الحكم الحقيقي متقوم بنحو من أنحاء الوصول لعدم معقولية تأثير الانشاء
الواقعي في انقداح الداعي وحينئذ فلا تكليف حقيقي مع عدم الوصول فلا
مخالفة للتكليف الحقيقي فلا عقاب فإنه على مخالفة التكليف الحقيقي إلا ان
عدم العقاب لعدم التكليف امر وعدم العقاب لعدم وصوله امر آخر وما هو مفاد
قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو الثاني دون الأول مضافا إلى أن قاعدة قبح العقاب
بلا بيان مما اتفق عليه الكل وتقوم التكليف بالوصول مختلف فيه بل صريح
شيخنا الأستاذ - قده - في تعليقته الأنيقة (3) انفكاك مرتبة الفعلية البعثية والزجرية
عن مرتبة التنجز فالأولى تقريب القاعدة بوجه عام مناسب للمقام.
فنقول توضيح المقام ان هذا الحكم العقلي حكم عقلي عملي بملاك
التحسين والتقبيح العقليين وقد بينا في مباحث القطع والظن (4) مرارا ان مثله
مأخوذ من الاحكام العقلائية التي حقيقتها ما تطابقت عليه آراء العقلاء حفظا
للنظام وابقاء للنوع وهي المسماة بالقضايا المشهورة المعدودة في الصناعات
الخمس من علم الميزان ومن الواضح ان حكم العقل بقبح البيان بلا بيان ليس
حكما عقليا عمليا منفردا عن سائر الأحكام العقلية العملية بل هو من افراد حكم

(1) كفاية الأصول ج 2 ص 179 وكفاية الأصول 343 (ت آل البيت) وفوائد الأصول ج 3،
ص 366 وأجود التقريرات ج 2 ص 176.
(2) التعليقة 8 و 41 ص 37 و 93.
(3) حاشية الرسائل ص 36 والتعليقة 8 ص 37.
(4) التعليقة 7، 10، 21 و 51 ص 34 41 68 و 117.
461

العقل بقبح الظلم عند العقلاء نظرا إلى أن مخالفة ما قامت عليه الحجة خروج
عن زي الرقية ورسم العبودية وهو الظلم من العبد إلى مولاه فيستحق منه الذم
والعقاب كما أن مخالفة ما لم تقم الحجة ليست من افراد الظلم إذ ليس من
زي الرقية ان لا يخالف العبد مولاه في الواقع في نفس الامر فليس مخالفة ما لم
تقم عليه الحجة خروجا عن زي الرقية حتى يكون ظلما وحينئذ فالعقوبة عليه
ظلم من المولى إلى عبده إذ الذم على ما لم يذم عليه والعقوبة على ما لا يوجب
العقوبة عدوان محض وايذاء بحت بلا موجب عقلائي فهو ظلم والظلم بنوعه
يودى إلى فساد النوع واختلال النظام وهو قبيح من كل أحد بالإضافة إلى كل أحد
ولو من المولى إلى عبده لكن لا يخفى ان المهم هو دفع استحقاق العقاب على
فعل محتمل الحرمة مثلا ما لم تقم عليه حجة منجزة لها وحيث إن موضوع
الاستحقاق بالآخرة هو الظلم على المولى فمع عدمه لا استحقاق قطعا وضم
قبح العقاب من المولى أجنبي عن المقدار المهم هنا وان كان صحيحا في نفسه.
201 - قوله مع استقلاله بذلك لا احتمال لضرر العقوبة (1) الخ:
لان مقتضى ما تقدم انه لا ملازمة بين مخالفة التكليف الواقعي واستحقاق
الذم والعقاب بل الملازمة بين مخالفة التكليف الذي قامت عليه الحجة
واستحقاق الذم والعقوبة فإذا لم يكن تلازم بين مخالفة التكليف الواقعي
واستحقاق العقاب فلا يلازم احتمال التكليف احتمال استحقاق العقوبة على
مخالفته إذ الملازمة بين القطعين أو الظنين أو الاحتمالين للتلازم بين
المقطوعين والمظنونين والمحتملين فبعد فرض انتفاء الملازمة بين المحتملين
لا يعقل التلازم بين الاحتمالين ولا يخفى عليك ان حصر الملازمة في ما ذكرنا لا
يبتنى على كون استحقاق العقاب بحكم العقل من باب قبح الظلم بل إذا كان
بجعل الشارع كان الامر كذلك لما مر في غير مقام (2) ان بناء جعل العقاب شرعا
على أن قاعدة اللطف تقتضي ايصال العباد إلى مصالحهم بالبعث نحو ما فيه

(1) كفاية الأصول ج 2 ص 179 وكفاية الأصول 343 (ت آل البيت).
(2) التعليقة 119 و 10 ص 248 و 41.
462

المصلحة وحفظهم عن الوقوع في المفاسد بزجرهم عما فيه المفسدة وحيث إن
البعث والزجر ما لم يكن على مخالفتهما عقوبة لا يكون باعثا فعليا ولا زاجرا
كذلك في نفوس العامة فقاعدة اللطف تقتضي جعل العقاب على مخالفتهما
وحيث إن جعل العقاب واقعا ما لم يصل إلى العبد لا يكون بوجوده الواقعي
محققا للباعثية الفعلية والزاجرية الفعلية فقاعدة اللطف تقتضي ايصاله تتميما
لمرحلة البعث والزجر فلا تكون فعلية استحقاق المجهول شرعا الا
بوصوله إلى العبد فلا يكون احتمال التكليف ملازما لاستعماله فعلية
الاستحقاق شرعا نعم العلم بالتكليف علم بلازمه المجعول وبهذا العلم يصير
الاستحقاق المجعول فعليا مؤثرا كما أنه به يصير التكليف فعليا قابلا للباعثية
والزاجرية فعلا.
202 - قوله فلا يكون مجال ههنا لقاعدة وجوب دفع الضرر (1) الخ:
توضيحه ان موضوع قاعدة دفع الضرر المحتمل ان كان احتمال العقوبة لا
على تقدير فاحتمال العقوبة قبل المراجعة إلى القاعدتين في نفسه غير ملازم
لاحتمال التكليف لما مر (2) من أن الملازمة بين الاحتمالين فرع الملازمة بين
المحتملين والملازمة بين العقوبة ومخالفة التلكيف غير ثابتة قبل المراجعة حتى
تورث التلازم بين احتمال العقوبة واحتمال التكليف فلا احتمال العقوبة بل
للتكليف فقط وبعد المراجعة إلى القواعد العقلية فقاعدة قبح العقاب تنفى
الملازمة بين التكليف واستحقاق العقوبة على مخالفته بما هو، بل تفيد ان
الملازمة انما تكون بين التكليف الذي قامت عليه الحجة واستحقاق العقوبة
فالاستدلال بقاعدة قبح العقاب بلا بيان للجزم بعد العقوبة لا للفراغ عن حكم
العقاب المحتمل لا على تقدير إذ المفروض عدم احتمال العقاب لا على تقدير
بمجرد احتمال التكليف لأنه فرع احراز الملازمة بين المحتملين وان كان
موضوع قاعدة دفع الضرر المحتمل أعم من الاحتمال على تقدير ولا على تقدير

(1) كفاية الأصول ج 2 ص 179 وكفاية الأصول 343 (ت آل البيت).
(2) التعليقة 201 ص 462.
463

لان ملاكه أعم كما هو واضح فاحتمال التكليف ملازم لاحتمال العقوبة لاحتمال
الملازمة واقعا بين مخالفة التكليف واستحقاق العقوبة فالموضوع محرز قبل
المراجعة إلى القاعدتين وحينئذ فتقديم قاعدة قبح العقاب بلا بيان على قاعدة
دفع الضرر المحتمل لأجل ان قاعدة دفع الضرر المحتمل حكم في فرض
الاحتمال وقاعدة قبح العقاب بلا بيان حيث تنفى الملازمة بين مخالفة التكليف
الواقعي واستحقاق العقوبة فهي رافعة للاحتمال بتا بحيث لا يحتمل العقوبة على
تقدير لابطال التقدير بقاعدة قبح العقاب فهي واردة على قاعدة الضرر
المحتمل.
203 - قوله كي يتوهم انها يكون بيانا (1) الخ:
ظاهر العبارة صلاحية قاعدة دفع الضرر المحتمل في نفسها لان تكون (2) بيانا
غاية الامر ان قاعدة قبح العقاب بلا بيان حيث إنها رافعة لموضوعها فتسقط عن
البيانية نظرا إلى ما في تعليقته الأنيقة (3) وعن غيره - قده - أيضا ان بيانية قاعدة
دفع الضرر المحتمل تستلزم الدور لان بيانيتها فرع تحقق موضوعها وتحقق
موضوعها فرع جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان الرافعة لموضوعها وعدم
جريانها فرع بيانية قاعدة رفع الضرر المحتمل فبيانيتها دورية فيستحيل كونها
بيانا الا انه يمكن اجراء الدور في طرف قاعدة قبح العقاب بلا بيان أيضا بعد
فرض صلاحية قاعدة دفع الضرر المحتمل للبيانية في نفسها كما هو مفروض
العبارة بتقريب ان جريان قاعدة قبح العقاب فرع موضوعها وهو عدم البيان وهو
موقوف على عدم بيانية قاعدة دفع الضرر وعدم بيانيتها موقوف على عدم
موضوعها وعدم موضوعها موقوف على جريان قاعدة قبح العقاب الموقوفة
على عدم بيانية قاعدة رفع الضرر فعدم بيانيتها أيضا موقوفة على عدم بيانيتها
فكما ان بيانيتها دورية كذلك عدمها.

(1) كفاية الأصول ج 2 ص 179 س 14 وكفاية الأصول 343 (ت آل البيت).
(2) (خ ل) نكون.
(3) حاشية الرسائل: ص 123 قوله - قده - لأنها فرع اقبال الضرر والرسائل ج 1 ص 335.
464

فالتحقيق: ان يقال ان قاعدة رفع الضرر في نفسها لا تصلح للبيانية حتى
يرتفع بها موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان لان المراد بالبيان المأخوذ عدمه
في موضوعها ما يصحح المؤاخذة على مخالفة التكليف كالعلم التفصيلي
والاجمالي والخبر المجعول منجزا للواقع وأشباه ذلك وهذا المعنى غير متحقق
بقاعدة دفع الضرر المحتمل لأنها اما حكم ارشادي من العقل (1) بدفع العقاب
المحتمل ترتبه على التكليف الواقعي المحتمل كما هو ظاهر العلماء.
أو قاعدة كلية ظاهرية متكفلة لعقوبة على مخالفة التكليف المحتمل بما هي
كذلك وان لم يكن في مورده تكليف في الواقع كما هو صريح شيخنا العلامة
الأنصاري - قده - في خصوص هذا المبحث من الرسائل (2) وعلى أي حال فهي
ليست مصححه للمؤاخذة على مخالفة التكليف الواقعي المحتمل.
اما على الأول فلأن استحقاق المؤاخذة مفروض في موضوعها لا انه ناش
من حكمها فهذا الاستحقاق المفروض الثبوت لا بد من أن يكون بسبب مصحح
للمؤاخذة غيرها فلذا ينحصر موردها في صورة العلم الاجمالي بالإضافة إلى كل
من الطرفين أو بالإضافة إلى الخبر المنجز للواقع على تقدير مصادفته وأشباه
ذلك واما في ما نحن فيه فحيث لم يفرض فيه وجود المصحح فالقاعدة غير
صالحة في نفسها للبيانية.
اما على الثاني فلأنها على الفرض مصحح للمؤاخذة على مخالفة التكليف
المحتمل بما هي مخالفة له مع قطع النظر عن الواقع فكيف يعقل ان تكون بيانا
مصححا للمؤاخذة على مخالفة الواقع وحيث إن عنوان القاعدة دفع الضرر
المحتمل فموضوع هذا الحكم مما فرض فيه الوقوع في العقاب على تقدير ثبوته
فلا يعقل ان يكون هذا الحكم طريقيا لان المنجز لا يتنجز فيستحيل ان يكون
هذا الحكم العقلي طريقيا بل إذا فرض هناك حكم فهو حكم نفسي حقيقي يترتب
على مخالفته العقاب وهو أجنبي عن تنجيز الحكم الواقعي المجهول وحيث

(1) (خ ل) الفعل.
(2) الرسائل ج 1 ص 335 - (ط، جماعة المدرسين) والرسائل ص 203 مخطوط.
465

عرفت انها لا تصلح ان يكون بيانا في نفسها فلا يعقل ان يكون في نفسها رافعة
لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان بل رافعة لحكمها على تقدير سلامة
موضوع نفسها فتدبره فإنه حقيق به.
204 - قوله كما أنه مع احتماله لا حاجة إلى القاعدة (1) الخ:
بيانه ان كون قاعدة دفع الضرر قاعدة عقلية لا معنى لها الا مفاد الحكم العقلي
العملي أو بناء العقلاء عملا كبنائهم على العمل بخبر الثقة وبالظاهر وأشباه ذلك
واما كونها حكما عقليا عمليا فحيث ان العاقلة لا بعث لها ولا زجر لها بل شانها
محض التعقل كما مر تفصيله في مبحث الظن (2) وغيره، ومنه تعرف انه لا معنى
لحكم العقل الارشادي فان الارشادية في قبال المولوية من شؤون الامر، وإذ
لا بعث ولا زجر ولا معنى لارشادية الحكم العقلي فلا محالة ليس معنى الحكم
العقلي الا اذعان العقل بقبح الاقدام على الضرر بملاك التحسين والتقبيح
العقلائيين، وقد مر مرارا (3) ان الحسن والقبح العقليين في أمثال المقام كون الفعل
ممدوحا عليه أو مذموما عليه عند العقلاء، ومدح الشارع ثوابه وذمه عقابه، كما
مر تفصيله سابقا.
ومن الواضح ان الاقدام على الممدوح أو المذموم ليس موردا لمدح اخر أو
ذم اخر، والاقدام على الثواب أو العقاب ليس موردا لثواب اخر أو عقاب اخر،
بل لا بترتب على العدل الممدوح عليه الا ذلك المدح، ولا يترتب على الظلم
المذموم الا ذلك الذم، وكذا في الثواب والعقاب، فالاقدام على المقطوع العقاب
فضلا عن محتمله خارج عن مورد التحسين والتقبيح العقليين.
مضافا إلى خروجه عنه لوجه اخر وهو ان ملاك البناء العقلائي على مدح
فاعل بعض الأفعال وذم فاعل بعضها الاخر، كون الأول ذا مصلحة عامة موجبة

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 179 وكفاية الأصول: 343، (ت، آل البيت).
(2) التعليقة: 134 و 91 و 144 و 6: ص 270 و 186 و 308 و 31.
(3) التعليقة: 180، ص 419. 323.
466

لانحفاظ النظام، وكون الثاني ذا مفسدة مخلة بالنظام فلذا توافقت آراء العقلاء
الذين على عهدتهم حفظ النظام بايجاد موجباته واعدام موانعه على مدح فاعل
ما ينحفظ به النظام وذم فاعل ما يخل به، والاقدام على العقاب اقدام على مالا
يترتب الا في نشاة أخرى أجنبية عن انحفاظ النظام واختلاله.
نعم، نفس الفعل المذموم المعاقب عليه ذا مفسدة نوعية مخلة بالنظام، واما
كونها داخلة في سلك البناءات العقلائية الغير المربوطة بالتحسين والتقبيح
العقليين كالبناء على العمل بالخبر أو بالظاهر مثلا، ففيه ان تلك البناءات منبعثة
عن حكمة نوعية (1) في نظر العقلاء تدعوهم إلى العمل بالخبر الثقة أو الظاهر أو
نحوهما، ومن البين ان الاقدام على العقاب المقطوع أو المحتمل لا يترتب عليه
الا ذلك الامر المقطوع أو المحتمل لا ان هناك مصلحة مترتبة على ترك الاقدام أو
مفسدة مترتبة على نفس الاقدام زيادة على الامر المقطوع أو المحتمل حتى
تبعث العقلاء على البناء على دفعه ليكون امضاء الشارع لهذا البناء مقتضيا
لايجاب دفعه بحيث يترتب عليه عقاب اخر على الاقدام، والا فنفس ذلك الامر
المقطوع أو المحتمل غير منوط ترتبة ببناء العقلاء على دفعه.
ومما ذكرنا تبين: ان قاعدة دفع الضرر ليست قاعدة عقلية ولا عقلائية بوجه
من الوجوه، نعم، كل ذي شعور بالجبلة والطبع حيث إنه يحب نفسه يفر عما
يؤذيه وهذا الفرار الجبلي أيضا ليس ملاكا لمسألة الاحتياط إذ الذي يحتاج إليه
القائل بالاحتياط مجرد ترتب استحقاق العقاب لا التزام العقلاء بالفرار عنه مع
فرض ثبوته في الواقع بل مجرد الوقوع في العقاب المترتب على مخالفة التكليف
الواقعي كاف في مرامه هنا، فتدبر جيدا.
205 - قوله: واما ضرر غير العقوبة فهو وان كان محتملا (2) الخ:
تحقيق المقام ان الحكم العقلي المدعى في خصوص هذا الشق لا بد من أن
يكون بملاك التحسين والتقبيح العقليين والا فمجرد الفرار عن المضرة الدنيوية

(1) (خ ل): حكمه نوعيه.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 180 وكفاية الأصول: 343، (ت، آل البيت).
467

المحتملة لئلا يقعوا فيها لا يقتضى الا الوقوع فيها مع عدم الفرار، مع أن الكلام هنا
الوقوع في العقاب باقدامه على الضرر المحتمل ليكون بيانا واردا على قاعدة قبح
العقاب بلا بيان فهذا الشق والشق الأول متعاكسان، فهناك يكفي نفس احتمال
العقاب سواء التزم بدفعه العقلاء أم لا، وهنا لا يكفي التزامهم بدفعه بل لا بد من
اثبات الذم عليه عقلا حتى يستحق العقاب عليه شرعا، وحينئذ نقول ان حكم
العقل بدفع المفسدة، اما من حيث عنوان المفسدة لان المذموم عندهم ليس الا
باعتبار كونه ذا مفسدة واما من حيث عنوان الضرر كما هو مفروض المقام وظاهر
قاعدة دفع الضرر المحتمل.
اما من حيث عنوان المفسدة فقد بينا في مبحث الظن (1) عند التعرض
للتحسين والتقبيح العقليين، ان المصلحة والمفسدة الملحوظتين في التحسين
والتقبيح العقليين هي المصالح العامة والمفاسد العامة بمعنى ان العدل حيث إنه
بنوعه ينحفظ به النظام كان حسنا وان الظلم حيث إنه بنوعه يختل به النظام كان
قبيحا، فمصلحة انحفاظ النظام ومفسدة اختلاله من حيث نوعي العدل والظلم
هي الموجبة للبناء على مدح فاعل العدل وذم فاعل الظلم، ومن الواضح ان
مصالح الأحكام الشرعية ومفاسدها لا تجب ان تكون انحفاظ النظام واختلاله بل
مصالح خاصة أو مفاسد خاصة ربما تختلف من حيث الاشخاص والأحوال
والأزمان، فالصلاة مثلا، وان كانت من حيث كونها تعظيما للمولى حسنة لأنها
احسان إلى المولى الا ان وجوبها الشرعي ليس من حيث كون الاحسان إلى
المولى والانقياد له مما ينحفظ به النظام بل من حيث إنها حركات خاصة توجب
استكمال نفس العبد مثلا، وهكذا سائر الواجبات، وكذا الامر في مفاسد
المحرمات فإنها لا توجب بنوعها اختلال النظام وقد بينا في مسالة الملازمة بين
حكمي العقل والشرع في البحث عن حجية الظن من باب الحكومة أو الكشف
تفصيل ذلك ومعنى الملازمة فراجع (2)، واما من حيث عنوان الضرر نظرا إلى أن
المفاسد مضار واقعية والعقل يحكم بدفعها بل لعل المضار الدنيوية هي

(1) التعليقة: ص 312.
(2): ص 320.
468

الملحوظة في نظر العقلاء الذين توافقت آرائهم على دفعها حفظا للنظام وابقاء
للنوع فالكلام فيه من وجهين:
أحدهما: من حيث الصغرى وان المفسدة ضرر أم لا. وثانيهما: من حيث
الكبرى وان العقل بملاك التحسين والتقبيح العقليين هل يحكم بدفع كل مضرة
أم لا.
اما الأول: فقد منع - قده - (1) من كون المفسدة أو ترك استيفاء المصلحة
الملزمة ضررا بل ربما يكون في استيفاء المصلحة ضررا كما في استيفاء مصلحة
الزكاة فان فيها ضررا ماليا، وربما يكون في التحرز عن المفسدة ذهاب المنفعة
كما في التحرز عن مفسدة البيع الربوي وشبهه، فليست المصالح منافع ولا
المفاسد مضارا دائما وان اتفق أحيانا، ولا يخفى انه لو عممنا الضرر إلى كل نقص
ينبعث من الفعل اما في نفسه أو بدنه أو ماله أو أحد تلك الأمور بالإضافة إلى
غيره ولو إلى النوع فلا محالة لا يخلو الحرام عن أحد تلك الأمور والا لم يكن
هناك تأثير واقعي للفعل، كما أن المصلحة إذا كانت أعم من اثر كمالي راجع إلى
نفسه أو بدنه أو ماله أو بالإضافة إلى غيره ولو إلى نوعه فلا محالة لا يخلو
الواجب عن أحد تلك الأمور، والله العالم.
وأما الثاني: فالوجه في منع الكبرى أمران.
أحدهما: ما عنه - قده - هنا (2) وفيما بعد وفى تعليقته المباركة في مبحث
حجية الظن (3) من أن الاقدام على الضرر ببعض الدواعي لا قبح فيه عقلا وان
الضرر المقدم عليه ربما يترتب على التحرز عنه ضرر أقوى أو بفوته منفعة أهم
من التحرز عنه، وانه ليس كل منفعة عايدة إلى المكلف جابرة للضرر الذي يترتب
على الفعل، بل إذا كانت في خصوص الفعل أو فيما يلازمه فيكشف كل ذلك عن أن
الاقدام على الضرر بما هو غير قبيح عقلا، أو شرعا، بل ربما يكون جائزا أو

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 111.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 185، س 2 - وص 182 س 1.
(3) حاشية الرسائل: ص 75 والرسائل: ج 1، ص 175.
469

واجبا عقلا أو شرعا، ولا يخفى عليك ان الضرر بما هو كالكذب بحيث لو خلى
ونفسه يكون قبيحا لاندراجه تحت عنوان الظلم فإنه بذاته من دون اندراجه
تحت عنوان اخر قبيح فلا يتخلف عنه قبحه، وعليه فالكذب المنجى للمؤمن
حيث إنه يندرج تحت عنوان العدل والاحسان إلى المؤمن يتصف بالحسن، وكذا
الاقدام على الضرر فإنه لا منافاة بين ان يكون بنفسه من دون ملاحظة شئ اخر
مندرجا تحت عنوان الظلم القبيح، وبلحاظ ترتب التحرز عن أقوى الضررين عليه
أو ترتب منفعة عليه مندرجا تحت عنوان حسن فاتصافه بالحسن العقلي
والشرعي أحيانا لا يكشف عن عدم قبحه لو خلى ونفسه، فإذا كان الاقدام على
الضرر الدنيوي المحتمل كالاقدام على الضرر المقطوع، كان التكليف المحتمل
كاشفا عن المفسدة التي هي على الفرض ضرر دنيوي، وليس هناك في نفسه ما
يتدارك به الشرر حتى لا يكون قبيحا بالفعل، فيجب الحكم بقبحه عقلا هذا إذا
كان المراد الاقدام على الضرر ببعض الدواعي العقلائية بما هي دواع عقلائية
مبنية على ملاحظة الحسن والقبح، واما الدواعي العقلائية بما هي دواع حيوانية
موافقة لقوتي الشهوية والغضبية فاقدام العقلاء حينئذ لا يكشف عن عدم القبح
كيف وافراد العقلاء بما هم ذو وطباع بشرية يقدمون على ما هو مذموم عقلا
ومعاقب عليه شرعا.
وثانيهما: ان المشاهد من العقلاء ليس الا الفرار عن الضرر الدنيوي لئلا يقعوا
فيه لا لعلا يقعوا في ذمه فليس هذا الفرار منهم بما هم عقلاء بملاك رعاية المدح
والذم العقلائي حتى يجدى هنا، بل بما هم ذو وشعور يحبون أنفسهم، ويبغضون
ما يؤذيهم على حد، فرار سائر أنواع الحيوانات من المؤذيات، وليس ذمهم على
من لا يفر من الضرر البحث الا من باب الذم على عدم شعوره لا الذم على الفعل
بما هو.
والتحقيق: ان بناء المدح والذم - الذي هو ملاك التحسين والتقبيح العقلائيين
470

كما مر مرارا (1) - على كون الفعل ذا مصلحة عامة وذا مفسدة عامة (2) بحيث لولا
هذا المدح والذم الذي هو أول موجبات انحفاظ النظام وأول موانع اختلاله،
لكانت الطباع البشرية مقتضية للاقدام عليه، كما في الاضرار بالغير بالاقدام على
قتاله أو التعرض لعياله أو سلب ماله لا الاضرار بالنفس بلا فائدة عائدة إليه، فان
الزاجر الطبيعي وهو كونه منافرا له في حد ذاته كاف في الزجر عنه فان ما يلحقه
منه أعظم ما يلحقه من ذم العقلاء فالبناء العقلائي على المدح والذم انما هو فيما
لم يكن هناك باعث طبيعي أو زاجر طبيعي، وهو في الاحسان بالغير والإسائة
إليه لا في الاحسان إلى نفسه بجلب منفعة أو الإساءة إليه بالاقدام على مضرة
ويشهد لما ذكرنا من عدم قبح الاضرار بالنفس انه لو كان كالأضرار بالغير ظلما
قبيحا لو خلى ونفسه، لما ارتفع قبحه بمجرد عود منفعة إليه، كما لا يرتفع قبح
الكذب بمجرد جلب منفعة إلى نفسه أو إلى غيره، مع أن تحمل المضار لجلب
المنافع التي لا يتضرر بعدم تحصيلها مما عليه مدار عمل العقلاء من دون شبهة
في عدم قبحه، وليس كذلك الاضرار بالغير فإنه قبيح ولو مع عود نفع إليه، فيعلم
ان عدم الاقدام على الضرر المحض لكونه سفهائيا لا لكونه قبيحا بملاك قبح
الظلم، وعليك بارجاع ما افاده شيخنا العلامة - ره - إليه (3).
ثم انه لو سلمنا كون الاقدام على الضرر ظلما على النفس لكنه لا يجدى
لما نحن فيه، فان الحسن والقبح بمعنى كون الفعل ممدوحا عليه وكونه مذموما
عليه من صفات الأفعال الاختيارية الصادرة عن علم وعمد، فلا يصدر ضرب
اليتيم حسنا الا إذا صدر بعنوان التأديب اختيارا، ولا يكفي صيرورته مصداقا
للتأديب واقعا، كما أن الصدق لا يصدر قبيحا الا إذا صدر بعنوان كونه مهلكا
للمؤمن عن علم وعمد، ولا يكفي كونه واقعا كذلك، وعليه فقبح الفعل بما هو

(1) التعليقة: 10 و 205، ص 41 و 468 و 312 و 320.
(2) (خ ل): ان بناء المدح والذم.. على كون الفعل ذا مصلحة عامة وذا مفسدة عامة عامة.
(3) كفاية الأصول: ج 2 ص 180.
471

اضرار لا يجدى الا إذا صدر بعنوانه عن علم وعمد، فوجوب دفع الضرر
المحتمل يحتاج إلى بناء اخر من العقلاء دون ذلك البناء وحيث إن المحتمل
ليس فيه الا المفسدة الواقعية على فرض ثبوتها.
بداهة ان محتمل المفسدة ليس بأعظم من مقطوعها فليس في المحتمل بناء
بملاك التحسين والتقبيح العقليين، نعم يعقل منهم بناء آخر بنحو البناء على
حجية الظاهر أو حجية خبر الثقة بحيث تتنجز المفسدة الواقعية المحتملة
باحتمالها على تقدير ثبوتها الا انه لا طريق إليه الا فرار العقلاء من الضرر
المحتمل لئلا يقعوا فيه، لا ان فرارهم هذا لحكمة نوعية تدعوهم إلى الفرار
كما في البناء على العمل بالظاهر أو بخبر الثقة حتى يكون هذا البناء بضميمة
امضاء الشارع أو عدم ردعه عنه موجبا لمنجزية الاحتمال شرعا، ومن جميع
ما ذكرنا تبين انه لا صحة لوجوب دفع الضرر المحتمل لا بملاك التحسين والتقبيح
العقليين ولا بملاك اخر يجدى في المقام.
206 - قوله: حيث إنهم لا يحترزون مما لا تؤمن مفسدته (1) الخ:
الأولى تسليم احترازهم وعدم الدلالة على أنه بملاك التحسين والتقبيح، والا
فاحترازهم عن المفسدة المحتملة إذا كانت ضررا دنيويا مما لا يكاد ينكر كما أن
اذن الشارع لا يكشف عن انه لو خلى ونفسه لا يكون قبيحا بل عن انه ليس
موضوعا تاما للقبح " كالظلم " على ما عرفت تفصيله (2) ويجدي القبح في نفسه
للخصم عند ملاحظة القاعدتين العقليتين كما عرفت، واما ما حكى عن شيخ
الطائفة (3) - قده - من استشهاده بقبح الاخبار عما لا يعلم، فهو مدفوع بأنه ليس
من اجل كونه محتملا للكذب بل من اجل كونه اغراء بالجهل على حد الاخبار
عما يعلم عدمه والوجه في قبحه اشتراكه مع الكذب في العنوان القبيح.

(1) كفاية الأصول ج 2، ص 182 وكفاية الأصول: 344، (ت، آل البيت).
(2) التعليقة: 205، ص 468.
(3) عدة الأصول: ج 2، ص 85 و 118 - وقد تقدم رأى الشيخ بهذه العبارة في الصفحة المتقدمة 250.
472

التحقيق في أدلة المحدثين على وجوب الاحتياط
(1 - الاستدلال بالكتاب)
207 - قوله: وعن الالقاء في التهلكة (1) الخ:
توضيح الجواب عن هذه الآية (2) ان المراد من التهلكة اما هي التهلكة
الأخروية أو الدنيوية.
فان أريد الأولى: فالنافع للخصم كون النهى نفسيا أو طريقيا بداعي تنجيز
الواقع، وحيث إن العقاب مفروض الثبوت فلا مجال للنفسية إذ ليس في
الاقدام على العقاب عقاب اخر بواسطة مخالفة هذا النهى، ولا للطريقية لان
النهى الطريقي كالأمر الطريقي هو المصحح للعقوبة على الواقع المحتمل،
والعقوبة هنا مفروضة، فلا يعقل كون النهى موجبا، فلا مجال الا لكونه ارشادا
إلى التحرز عن موارد العقوبة، والحكم لا ينقح موضوعه مع ما بينا من الدليل
العقلي والنقلي على عدم العقوبة على التكليف المجهول.
وان أريد الثانية: ففيه، أولا انه خلاف الظاهر، مع أن كل مفسدة ليست
تهلكة جزما، وثانيا ان النهى ان كان نفسيا فهو معقول الا ان فعلية الحكم بفعلية
الموضوع فلا يجدى الا في صورة احراز المفسدة بالمعنى المزبور لا في صورة
احتمالها، وان كان طريقيا فهو بنفسه غير معقول إذ التنجز لا يعقل ان يكون الا
بمنجز كتنجيز الواقع بالخبر وباليقين السابق أو باحتماله، أو لظاهر من التهلكة

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 182، س 6 وكفاية الأصول: 344، (ت، آل البيت).
(2) البقرة: الآية 195.
473

نفس المفسدة أو العقوبة لا احتمالها، فلا يعقل تنجيز المفسدة بنفس ثبوتها
واقعا، ولا وجه لدعوى صدق التهلكة عرفا على الأعم من التهلكة المتيقنة
والمحتملة فإنها كسائر الألفاظ الموضوعة لذوات المعاني، وكذلك الحكم
مرتب على واقعها وفعليته بفعليتها وليست التهلكة بمعنى مظنة الهلاكة فإنها
مصدر المزيد كالتوسعة والتوصية وأشباههما، واسم المكان هي المهلكة
فلا موجب للتعميم بوجه من الوجوه.
(2 - الاستدلال بالاخبار)
208 - قوله: فبما دل على وجوب التوقف عند الشبهة الخ (1):
توضيح الاستدلال بهذه الطائفة ان الامر بالتوقف اما نفسي أو طريقي أو
ارشادي، لا مجال للنفسية والا لترتب العقاب على مخالفته من حيث هو زيادة
على العقاب على مخالفة التكليف الواقعي المفروض ثبوته من حيث ظهور
الهلكة في العقوبة فيلزم ان يكون ارتكاب الشبهة أسوء من ارتكاب الحرام
المعلوم، مع أن التوقف والاحتياط عنوانهما التحرز عن مخالفة التكليف الواقعي
والتحفظ على موافقته من دون نفسية للتوقف والاحتياط، فيدور الامر بين كون
الامر بالتوقف طريقيا لتنجيز الواقع المشتبه أو ارشاديا بداعي اظهار ما في
الاقتحام في الشبهة من الهلكة الأخروية.
فان كان قوله (ع) " فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة " (2)
تفريعا على الامر بالتوقف كشف عن كون الامر طريقيا بداعي تنجيز الواقع
بتفريع لازمه وهو ثبوت العقاب على الواقع المنجز بهذا الامر، وحينئذ لا يمكن
ان يكون الهلكة بمعنى مفسدة الواقع إذ المفسدة الواقعية (3) ليست من لوازم

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 182 وكفاية الأصول: 345، (ت، آل البيت) والرسائل: 206 مخطوط.
(2) الوسائل: ج 18، ص 116، ب 12، ح 15، م 33462 والوسائل: ج 14، ب 157، ص 193،
ح 2، من أبواب مقدمات النكاح.
(3) (خ ل): الواقعة، في النسخ.
474

مخالفة الامر حتى يفرع على الامر بالتوقف فنفس التفريع شاهد على إرادة
العقوبة من الهلكة، وحيث إن الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي منجزة بغير هذا
الامر فلا معنى لإرادة مثلها من الشبهة هنا، فيعلم ان المراد هي الشبهة البدوية
التي يتنجز بهذا الامر لفرض تفريع تنجزها على الامر بالتوقف عندها.
واما ان كان قوله (ع) " فان الوقوف " (1) الخ: تعليلا للامر بالتوقف فيكون
الامر منبعثا عنه فيستحيل ان يكون هذا الامر طريقيا بل ارشادي لا محالة، لأن المفروض
انبعاث الامر عن كون الاقدام في المشتبه اقتحاما في الهلكة، فالهلكة
مفروضة بغير هذا الامر، فكيف يكون الامر طريقيا مصححا للمؤاخذة والعقوبة،
وإذا كان الامر متمحضا في الارشادية فلا بد من احراز كون الشبهة ذات عقوبة من
طريق اخر، فلا يجدى الامر الارشادي بالتوقف عن الشبهة التي فيها العقوبة،
لاثبات ان الشبهة البدوية فيها العقوبة على تقدير مصادفة الحرام الواقعي
ويستحيل تنجز الحرام الواقعي، بلا منجز عقلي أو شرعي. نعم، يمكن اصلاح
الاستدلال بهذه الطائفة بناء على كون الفقرة المزبورة تعليلا باثبات أمرين:
أحدهما: كون الشبهة مطلقة شاملة للشبهة البدوية، لعدم تقيد الشبهة
بما يأبى عن الشمول البدوية.
ثانيهما: ظهور الهلكة في العقوبة لا فيما يعم المفسدة، فيدل التعليل على أن
الاقدام في كل شبهة اقتحام في العقوبة، فصونا للكلام عن العقوبة يستكشف امر
طريقي بالاحتياط في الشبهة البدوية من باب استكشاف العلة عن معلولها،
ولا يخفى عليك ان ايجاب الاحتياط الواقعي وإن كان غير قابل للمنجزية، بل
القابل هو الايجاب الواصل، لكنه لا فرق في وصوله بين أنحاء وصوله، فوصوله
بوصول معلوله كوصوله بنفسه.
نعم الامر الارشادي بالتوقف المعلل بهذه العلة كما لا يمكن ان يكون بنفسه
مصححا للعقوبة لفرض انبعاثه عن عقوبة مفروضة، كذلك لا يعقل ان يكون
وصوله وصول الامر الطريقي المصحح للمؤاخذة، لان صحة المؤاخذة بنفس

(1) في نفس المصدر السابق.
475

وصول الموصل للامر الطريقي فكيف ينبعث عن مؤاخذة مفروضة مستدعية
لفرض الوصول بغير هذا الامر المعلل، وعليه ينبغي حمل ما افاده شيخنا العلامة
- قده - (1) في اخر العبارة، فهذا الامر المعلل لا بد من أن يكون كاشفا عن امر
طريقي واصل مع أنه لم يصل الا هذا الامر في الشبهة البدوية، لان الكلام في
الاستدلال به لوجوب التوقف المنجز للواقع لا بغيره الا بدعوى ان امر
المخاطب بالتوقف المعلل بهذه العلة كاشف عن وصول الامر بالاحتياط إليه،
واحتماله في حق المخاطب بلا مانع، وبضميمة قاعدة الاشتراك يكون واصلا
إلينا لا بهذا الامر الارشادي ليكون مستحيلا وحينئذ يكون الامر بالتوقف
بضميمة قاعدة الاشتراك مع المخاطب كاشفا عن ايجاب الاحتياط طريقيا في
الشبهة البدوية، فتلخص مما ذكرنا صحة الاستدلال على تنجز الواقع المشتبه بناء
على التفريع والتعليل معا.
والجواب انه بناء على التفريع وإن كان نفسه شاهدا على طريقية الامر
بالتوقف وكونه منجزا لكل مشتبه الا انه لا معين للتفريع لاحتمال التعليل بل لعله
الظاهر، ولذا لم يتحمله شيخنا - قده - ولا من قبله، واما على التعليل فيتوقف
على اطلاق الشبهة وظهور الهلكة في العقوبة، والأول وان كان قابلا للمنع لكنه
يكفي في المقام ما في ذيل مقبولة عمر بن حنظلة (2) حيث قال (ع) " فان الوقوف
عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات "، والجمع المحلى يفيد العموم،
فالأولى المنع من ظهور الهلكة في خصوص العقوبة، لان هذا الكلام ذكر في
موردين لا مانع من إرادة العقوبة في أحدهما ولا يمكن ارادتها في الاخر.
اما الأول: ففي ذيل مقبولة عمر بن حنظلة بعد ذكر المرجحات وفرض
التساوي من جميع الجهات، حيث قال (ع) " إذا كان كذلك فارجه حتى تلقى
امامك فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات " فإنه لا مانع من
إرادة العقوبة لان المورد من الشبهات التي يمكن ازالتها بملاقاة الإمام (ع)، مع أنه

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 184.
(2) الكافي: ج 1، ص 67 ح 10 - كتاب فضل العلم وعوالي اللئالي: ج 4، ص 133.
476

يمكن ان يقال ان المراد هو التوقف من حيث الفتوى على طبق أحد الروايتين
في مقام فصل الخصومة، كما هو مورد المقبولة، ولذا لا تعارض الأخبار الدالة
على التخيير بعد فرض المساواة فإنه لا مجال للتخيير في مقام فصل الخصومة
فان كلا من المتخاصمين يختار ما يوافق مدعاه فتبقى الخصومة على حالها،
وعليه فلزوم التوقف في الشبهة القابلة للإزالة أو التوقف في الفتوى لا ربط له
بما نحن فيه، فكون الهلكة بمعنى العقوبة في مثلهما لخصوصية المورد.
واما الثاني: ففي موثقة مسعدة بن زياد عن الصادق (ع) عن أبيه (ع) عن
ابائه (ع) عن النبي (ص) (1).
قال (ص): " لا تجامعوا النكاح على الشبهة وقفوا عند الشبهة يقول إذا بلغك
انك قد رضعت من لبنها أو انها لك محرمة وما أشبه ذلك، فان الوقوف عند
الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة " فإنه لا شبهة في أن الهلكة لا يراد منها
العقوبة بل المفاسد الذاتية الواقعية، كيف وقد نص في موثقة مسعدة بن
صدقة (2)، بان الاقدام حلال ممثلا له بذلك وبأشباهه، وعليه فما في رواية أخرى
أيضا لا ظهور للهلكة فيها في العقوبة بل في الجميع ارشاد إلى ما يعم به العقوبة
والمفسدة، كل بحسب ما يقتضيه المورد من وجود المنجز وعدمه.
209 - قوله (3): وبما دل على وجوب الاحتياط من الأخبار الواردة (4)
الخ:
توضيح الاستدلال بها ان هذه الطائفة بملاحظة عدم فرض ثبوت العقوبة في
موضوعها تمتاز عن اخبار التوقف بامكان جعل الامر فيها نفسيا أو طريقيا أو
ارشاديا لكن الامر بالاحتياط ليس نفسيا بحيث يستحق على مخالفته بما هي

(1) الوسائل: ج 14 - ص 193 ب 157 ح 2 والوسائل: ج 18 ص 116 - ب 12 ح 15 م 33462.
(2) الكافي: ج 5، ص 313 - ح 40 كتاب النكاح وبحار الأنوار: ج 2، ص 273.
(3) كفاية الأصول: ج 2 7 ص 182 وكفاية الأصول: 345، (ت، آل البيت)
4 - الوسائل: ج 18، ب 12، أبواب صفات القاضي: ص 111، 122، 123 و 127. ح 1، 37،
41 و 54.
477

للعقوبة، لان الاحتياط بعنوانه ليس الا لأجل التحفظ على الواقع، وعلى الغرض
المترقب منه، فاحتمال النفسية بالمعنى المعروف بلا وجه كما أنه ليس الامر به
مقدميا إذ ليس فعل محتمل الوجوب ولا ترك محتمل الحرمة مقدمة لوجود
الواجب الواقعي، أو ترك الحرام الواقعي، بل عينه خارجا على تقدير المصادفة
ولغو على تقدير عدمها، فلا اثنينية على أي تقدير فيدور الامر بين كونه طريقيا
بداعي تنجيز الوقع أو ارشاديا بداعي اظهار رشد المكلف وخيره في الفعل أو
الترك، فلا يتنجز به الواقع المجهول بل لا بد في تنجيزه من التماس منجز آخر،
فينحصر تنجيز الواقع المجهول بالامر بالاحتياط في جعله طريقيا بالمعنى
المذكور، وبعد رفع اليد عن ظهور الامر في الحقيقي المنحصر في النفسي
والمقدمي، لا تعين للامر بسائر الدواعي ولا شاهد يعين كونه طريقيا لو لم يكن
فيما ورد في المقام شاهد على الارشادية.
وهذا البيان في منع امكان الاستدلال أولى مما في المتن (1) نقلا عن الشيخ
الأعظم - قدس سره - في رسالة البراءة (2) من أن الامر بالاحتياط ليس نفسيا إذ
صريح الاخبار إرادة الهلكة المترتبة على الحرام الواقعي لا المترتبة على مخالفة
الامر بالاحتياط، وليس مقدمة للتحرز عن العقاب على الواقع المجهول، لأنه
مستلزم لترتب العقاب على الواقع المجهول وهو قبيح.
وفيه: ان المانع المذكور عن النفسية انما هو في اخبار التوقف دون اخبار
الاحتياط بل المانع ما قدمناه، واما ايجاب الاحتياط مقدمة لا مقدميا فهو انما
يقبح إذا لم يكن الامر المزبور بداعي تنجيز الواقع، فإنه مستلزم لترتب العقاب
على الواقع المنجز بهذا الامر لا على الواقع المجهول بما هو مجهول، مع أن
جعل ايجاب الاحتياط مقدما للتحرز عن عقاب الواقع المجهول لا بد من أن
يكون بداع من الدواعي، والا لكان محالا في نفسه، فإذا لم يفرض كونه نفسيا

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 184.
(2) الرسائل: ج 1 ص 344: قلت ايجاب الاحتياط ان كان مقدمة للتحرز...
478

ولا مقدميا ولا ارشاديا فلا معنى لأصل ايجابه حتى يكون قبيحا، لاستلزامه
القبيح وهو العقاب على الواقع المجهول، هذا ولكنك قد عرفت في حديث
الرفع وغيره ان الأشياء بداعي تنجيز الواقع المتكرر في كلام شيخنا العلامة
الأستاذ - قده - (1) أيضا لا يخلو عن محذور، لان ما يعقل ان يكون منجزا أو
متنجزا غير قابل لتعلق الامر به، وما يقبل تعلق الامر به غير قابل للمنجزية
ولا للمتنجزية فراجع. فلا مناص من جعل الامر بالاحتياط هنا وجعل الامر
بتصديق العادل في الاخبار لمن يريد تنجيز الواقع بهما، من جعلهما نفسيين
لا بمعنى كون الاحتياط بما هو أو التصديق بما هو مطلوبا في حد ذاته، بل بنحو
المعرفية للواجب الواقعي، فالغرض بالمترقب من فعل صلاة الجمعة يدعو إلى
ايجاب صلاة الجمعة بعنوانها، ومع عدم وصوله بعنوانها، ومع عدم وصوله بعنوانها إلى المكلف يدعو ذلك
الغرض إلى ايجابها بعنوان آخر كعنوان تصديق العادل وعنوان الاحتياط،
فلا ايجاب حقيقي الا الايجاب بالعنوان الواصل بلسان انه الواقع، فوصوله حقيقة
وصول الواقع عرضا، وتنجزه حقيقة تنجز الواقع عرضا وهو انشاء بداعي جعل
الداعي منبعثا عن ذلك الغرض الواقعي الباعث على ايجاب الواقعي، ولذا
يكون مقصودا على صورة موافقة الخبر ومصادفة الاحتمال.
وعليه فظهور الامر بالاحتياط في معناه الحقيقي وهو الانشاء بداعي جعل
الداعي محفوظ، ولا تصل النوبة إلى الارشاد الا مع القرينة ولا قرينة عليه في
خصوص اخبار الاحتياط، بل في اخبار التوقف، لاستحالة حملها على النفسية
والطريقية لفرض ثبوت العقوبة فيها مع قطع النظر عن الامر بالتوقف، فنفسيتها
يستلزم تعدد العقاب، وطريقيتها يستلزم الخلف كما مر مفصلا، هذه غاية تقريب
دلالة أدلة الاحتياط على تنجز الواقع المجهول، والجواب عنها يظهر بملاحظة
نسبتها مع أدلة البراءة: فنقول: اما بالنسبة إلى حديث الرفع فمجمل القول فيها ان
المراد من الرفع ان كان عدم فعلية التكليف فقط، فأدلة الاحتياط المثبتة لفعلية

(1) كفاية الأصول ج 2 ص 44 و 49 والتعليقة: 184، ص 432. المصدر الفوق: ج 1، ص 102.
479

التكليف الواقعي حقيقة أو عرضا على الوجهين المتقدمين معارضة للدليل النافي
لفعليته وإن كان المراد جعل عدم التكليف الواقعي فعليا ظاهرا كما اخترناه
وحققناه نظرا إلى أن عدم فعلية التكليف بعدم المقتضى أو لوجود المانع غير
مجعول بل المجعول الذي له رفع ووضع شرعا هو الايجاب انشاء وعدمه
انشاء فقوله (ع) " رفع ما لا يعلمون " بمنزلة لا يجب ما لا يعلم وجوبه ولا يحرم
ما لا يعلم حرمته بنحو الجعل والانشاء فهو وارد على اخبار الاحتياط لان
موضوع اخبار الاحتياط هو التكليف المجهول ودليل الرفع دليل على عدمه
الواقعي فعلا فلا موضوع كي يصير فعليا بالذات أو بالعرض فلا يبقى مجال
لملاحظة النسبة بين الدليلين من حيث العموم والخصوص.
فان قلت إن أدلة الاحتياط لها الورود على حديث الرفع من وجه اخر لا
يبقى مجال لجعل عدم التكليف فعليا لان ايجاب الاحتياط ان كان نفسيا على
الوجه المختار فالواقع مما علم وجوبه بعنوان آخر، والظاهر من " ما لا يعلمون "
ما لا يعلم وجوبه من جميع الوجوه وإلا كان معلوم الوجوب حقيقة، ولا يشترط
كون الشئ معلوم الوجوب بجميع عناوينه في جريان البراءة عنه جزما وان كان
طريقيا فهو وان كان غير معلوم الوجوب حقيقة لان الانشاء ليس بداعي جعل
الداعي بل بداعي تنجيز الواقع على تقدير ثبوته الا ان المراد من العلم مطلق
الحجة القاطعة للعذر (1) فحديث الرفع يكون متكفلا لجعل عدم التكليف الذي
لا منجز له فعلا والاحتمال بدليل الاحتياط منجز له شرعا فيكون رافعا لموضوع
حديث الرفع.
قلت الظاهر من " ما لا يعلمون " التكليف الذي لا يعلمونه فحديث الرفع
كحديث الاحتياط يتضمن جعل الوظيفة لمن لا يعلم التكليف لا جعل الوظيفة
لمن لا يعلم تكليفه ولمن لا يعلم وظيفة عدم العلم بتكليفه وقد مر الكلام فيه في

(1) (خ ل) القاطعة العذر.
480

حديث الرفع مفصلا فراجع (1) واما عموم العلم لكل منجز ففيه ان العلم يمكن
ان يجعل بنفسه أو بدليل التنزيل أعم من كل طريق ينجز الواقع بجهة جامعة وهو
الوصول المؤثر واما توسعته إلى كل منجز فلا، الا ترى ان قوله (ع) " حتى يرد فيه
نهى " قابل للنهي الوارد بخبر معتبر فإنه وارد شرعا حقيقة.
واما مجرد منجز النهى الواقعي بالاحتمال فلا يصحح صدق الورود
والوصول فكذا العلم فإنه يقبل التوسعة من حيث الطريق التام والناقص الذي
نزل منزلة التام شرعا ولا يقبل التوسعة للاحتمال المنجز شرعا هذا. واما بالنسبة
إلى قوله (ع) " كل شئ لا حلال " الخبر فدليل الاحتياط وان لم يكن واردا عليه
بلحاظ كونه مغيى بالعلم بالحرام لما عرفت آنفا الا انه معارض له لكنه خبر " كل
شئ لك حلال " نص في الحلية ودليل الاحتياط ظاهر في الوجود فيقدم النص
الذي لا يقبل التصرف فيه على الظاهر القابل للتصرف بحمله على رجحان
الاحتياط أو الامر الارشادي، الا انك قد عرفت سابقا اختصاص هذه الكلية
بالشبهة الموضوعية لتطبيقها من الإمام (ع) على مواردها وتعقيبها بما يختص بها
فراجع (2) واما بالنسبة إلى قوله (ع) " الناس في سعة ما لم يعلموا " فالكلام فيه كما
في سابقه من كونه نصا في التوسعة ودليل الاحتياط ظاهر في التضييق ولا ورود
لدليل الاحتياط عليه لما مر (3) خصوصا بناء على كون كلمة (ما) زمانية أي في
سعة ما دام لم يعلموا فان ظاهره حينئذ البراءة إلى أن يتحقق العلم بالتكليف و
ليس ما يتبدل جهله بالعلم الا التكليف الواقعي والا فالاحتياط والبراءة متساوية
الاقدام بالإضافة إلى الشبهة فالوظيفة فيها من أول الامر اما البراءة واما
الاحتياط فلا معنى لجعل البراءة واستمرارها إلى أن يعلم بوجوب الاحتياط أو
يتنجز الواقع بالامر به وليس في اخبار الاحتياط بعنوانه ما يكون أخص منه

(1) التعليقة 186، ص 435.
(2) التعليقة: 193 ص 448.
(3) التعليقة: 195 و 193 ص 450 و 448.
481

ليكون من هذه الجهة أظهر.
نعم بعض أدلة التوقف كقوله (ع) " قف عند الشبهة فان الوقوف " الخبر
أضيق دائرة منه لاختصاصه بالشبهة التحريمية وخبر التوسعة أعم الا ان اخبار
التوقف كما عرفت بنفسها قاصرة الدلالة عن تنجيز الواقع مع أنها أعم من وجه
لشمولها للشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي دون خبر التوسعة فتدبر واما بالنسبة
إلى قوله " كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهى " (1) فهما وإن كانا متعارضين الا ان خبر
" كل شئ " نص من حيث الاطلاق وعدم التقيد بطرف الفعل كما في الواجب
وبطرف الترك كما في الحرام ومن حيث المورد لاختصاصه بالشبهة التحريمية
الحكمية دون اخبار الاحتياط بل اخبار التوقف ولا ورود لدليل الاحتياط بتوهم
النهى عن الفعل بلسان ايجاب التوقف لما مر خصوصا بلحاظ كون الاطلاق
مستمرا إلى أن يرد فيه نهى.
لا يقال بناء على رواية الشيخ - ره - على ما حكى الخبر (2) هكذا " كل شئ
مطلق حتى يرد فيه نهى أو امر " فتكون النسبة بينه وبين اخبار التوقف بالعموم من
وجه لشمول الخبر للشبهة الحكمية التحريمية والوجوبية وشمول دليل التوقف
للشبهة التحريمية الحكمية والموضوعية والمقرونة بالعلم الاجمالي ومورد
الاجتماع هي التحريمية الحكمية لأنا نقول لا يعامل مع مثله معاملة العامين من
وجه لان شمول " كل شئ له " ليس بالعموم حتى يخصص بالوجوبية ويخرج
التحريمية من تحته للتصريح بالغاية في كل من التحريمية والوجوبية فلا يمكن
حمل الكلية على خصوص الشبهة الوجوبية فيكون كما إذا قيل " أكرم زيدا العالم
وعمرو العالم " وورد " لا تكرم الفساق " وكان عمرو العالم فاسقا فان شموله لعمرو
حيث إنه بالخصوص فلا يعامل معهما معاملة العامين من وجه فكذا فيما نحن
فيه فان التصريح بالغاية في كل منهما كالتصريح بهما جيدا.

(1) الوسائل ج 6 ب 19 ص 289 ح 7997 والمصدر ج 27 ص 174 ح 3353 (ط،
مؤسسة آل البيت).
(2) هو الشيخ في الرسائل ج 1 ص 327.
482

" 3 - الاستدلال بالعقل "
* في انحلال العلم الاجمالي
210 - قوله الا انه إذا (1) لم ينحل العلم الاجمالي إلى علم
تفصيلي (2) الخ:
ملاك هذا الجواب ليس دعوى انحصار المعلوم بالاجمال في موارد الامارات
المعتبرة والأصول المثبتة كما هو مفاد الجواب الآتي في آخر البحث وكذا ليس
الملاك دعوى صيرورة المجمل مفصلا حقيقة إذ ليس مفاد الامارات القطع
بالأحكام الواقعية ضرورة ولا صيرورة المجمل مفصلا حكما إذ ليس مقتضى
أدلة الامارات تعيين الواقعيات المعلومة بها بل غايتها جعل الحكم المماثل
على طبق مؤدياتها لا انه لا واقع في غيرها بل ملاك الجواب كما يظهر من
كلامه - قده - احتمال انطباق المعلوم بالاجمال من الأول على الاحكام الثابتة
بالامارات والأصول المثبتة حيث لا تعين للواقعيات المعلومة بنحو لا يفي لها
الطرق ومع احتمال الانطباق من الأول لا علم بتكاليف فعلية أخرى في موارد
الامارات والأصول وغيرها بل مجرد الاحتمال في غيرها فيندفع بالأصل
السليم عن المعارض بل ربما يدعى انطباق المعلوم بالاجمال على المعلوم
بالتفصيل قهرا إذ لم يتنجز بالعلم الاجمالي الا عدد خاص مثلا بلا عنوان
والمفروض تنجز واقعيات قامت عليها الامارات بذلك المقدار فلو لم ينطبق
عليها الواقعيات المعلومة بالاجمال قهرا لكان اما من جهة زيادة الواقعيات
المعلومة بالاجمال على الواقعيات المنجزة بالامارات أو من جهة تعين

(1) عبارة التعليقة هكذا الا إذا...
(2) كفاية الأصول ج 2 ص 185 وكفاية الأصول: 346 (ت آل البيت).
(3) كفاية الأصول ج 2 ص 187 س 1.
483

الواقعيات المعلومة بالاجمال بنحو يأبى (1) عن الانطباق الواقعيات المنجزة
بالامارات أو تنجز غير الواقعيات بالامارات والكل خلف وخلاف الواقع.
والتحقيق ان الانطباق المدعى اما احتمالا أو قهرا اما انطباق المعلوم
بالاجمال على نفس مؤديات الامارات واما انطباقه عليها بلحاظ حكمها.
اما الأول فحيث ان الامارات طريق إلى الواقع وكاشف عنه ظنا فلا محالة
يورث الظن بمطابقة المعلوم بالاجمال على ما أدت إليه الامارات إذ لا تعدد في
الواقع في كل موضوع الا ان هذا الاحتمال لازم طريقية الامارة في نفسها سواء
كانت حجة شرعا أم لا وماله حقيقة إلى أن وجوب المظهر محتمل لوجهين من
حيث كونه أحد طرفي العلم ومن حيث كونه مؤدى الامارة دون الجهة فإنه
محتمل من وجه واحد وهو كونه طرف العلم الاجمالي ومجرد هذا الاحتمال
لا يزيل اثر العلم الاجمالي جزما ومنه علم أن انطباق المعلوم بالاجمال على
مورد الامارة بنفسه قهرا مع كون الامارة ظنية يمكن خطائها عن الواقع غير
معقول بل المعلوم بالاجمال لعدم تعينه في مرتبة العلم قابل الانطباق على كل
واحد من مورد الامارة وغيرها.
واما الثاني وهو انطباقه عليها بلحاظ حكمها المستفاد من أدلة اعتبارها
فنقول إن حجية الامارة سواء كانت بمعنى الوساطة في إثبات الواقع عنوان
بجعل الحكم المماثل للواقع أو بمعنى الوساطة في إثبات الواقع اعتبارا
ومرجعه إلى اعتبار كون المؤدى واقعا أو بمعنى الوساطة في اثبات الواقع اثرا
ومرجعه إلى جعل حرمة الواقع بالامارة أو بمعنى الوساطة في إثبات الواقع علما
أي اعتبار الامارة علما ووصوله للواقع، فعلى أي تقدير يكون الثابت بدليل
اعتبار الامارة غير الحكم الواقعي المعلوم بالاجمال قطعا فلا يحتمل انطباقه
عليه جزما اما الحكم الحقيقي المماثل فهو حكم انشائي مجعول كنفس
الحكم الواقعي وان كان بلسان انه هو فهو الواقع عنوانا لا حقيقة واما

(1) (خ ل) بابي.
484

اعتبار (1) واقعية المؤدى فالمغايرة بينه وبين الواقع هي المغايرة بين الشئ
بوجوده الحقيقي والشئ بوجوده الاعتباري، واما اعتبار المنجزية واعتبار
الوصول العلمية فمغايرتهما مع حقيقة الحكم أوضح من أن يخفى. فالتحقيق في
الجواب بناء على إرادة جعل الحكم المماثل على طبق مؤدى الامارة في مقام
انحلال العلم الاجمالي ان العلم الاجمالي لا يؤثر الا إذا تعلق بحكم فعلى على
أي تقدير ومع الحكم المماثل الفعلي في مورد الامارة من أول (2) الامر يستحيل
حكم فعلى اخر واقعا على أي تقدير، لاستحالة اجتماع الحكمين الفعليين،
فلا يبقى الا احتمال الحكم في غير مورد الامارة والأصل فيه سليم عن
المعارض، وهذا الجواب يتوقف على أمرين.
أحدهما: كاشفية الامارة عن ثبوت التكليف الفعلي من أول الامر.
ثانيهما: جعل الحكم المماثل الفعلي على طبقه من أول الامر حتى يكون
وجود الحكم الفعلي من الأول مانعا عن تحقق العلم الاجمالي بتكليف فعلى،
على أي تقدير، لاستحالة اجتماع الفعليين. والامر الأول: مما لا ريب فيه، لان
الامارات الشرعية كاشفة عن أن الحكم في الشريعة هو ذلك من دون اختصاصه
بحال قيام الامارة عند المكلف.
واما الامر الثاني: فمبني على أن الحجة بوجودها الواقعي الذي هو في
معرض الوصول بحيث إذا تفحص عنه ظفر به، كافية في تمامية الحجة على
التكليف المستتبعة لجعل حكم مماثل فعلى على طبق مؤديها واقعا، فالظفر
بالحجة متأخر عن العلم الاجمالي دون نفس الحجة الحقيقية وبنائهم (3) على
عدم جريان قبح العقاب بلا بيان قبل الفحص كاشف عن أن وجوده الواقعي
صالح للبنائية عقلا والا لكان عدم البيان قبل وصوله مقطوعا به، وسيأتي تحقيق
الحال فيه في محله (4).

(1) (خ ل): واما اعتباره واقعية.
(2) (خ ل): من الأول الامر.
(3) (خ ل): بنالهم.
(4) التعليقة: 301، ص 722.
485

هذا كله بناء على جعل الحكم المماثل وكذا بناء على اعتبار المؤدى واقعا
فقط من دون جعل الحكم، فان القائل به يرى هذا الواقع المعتبر شرعا باعثا فعليا
من قبله وامتناع بعثين فعليين لا ينحصر فيما كان البعث بالانشاء بداعي البعث.
واما جعل نفس اعتبار الواقع موجبا للانحلال نظرا إلى صيرورة المجمل مفصلا
شرعا فغير تام، لان جعل الحكم المماثل أو اعتبار واقعية المؤدى تابع لمقدار
دلالة الامارة وليس مدلولها الا وجوب الظهر واقعا لا وجوب ما علم وجوبه أو
اعتبار وجوب ما علم وجوبه اجمالا، كما انها لا تدل بالمطابقة ولا بالالتزام على
نفى وجوب غيرها حتى يكون دليل اعتبار الامارة حجة على نفى الواقع في
الطرف الآخر، مع أنه لو كان الانحلال لهذه الجهة فلا محالة ينحصر الانحلال في
قيام الامارة وما يشبهها من الوصول لا مطلقا، مع أن الامارة إذا كانت حجة على
نفى الواقع في غيرها، فلا حاجة إلى اجراء الأصل في الطرف الآخر لنفى الواقع،
لكفاية الامارة في الاثبات والنفي معا.
211 - قوله: واما بناء على أن قضية حجيته واعتباره (1) الخ:
نظرا إلى أن مؤدى الطريق ليس على طبقه تكليف شرعي لينطبق عليه
التكليف المعلوم بالاجمال، لكنك قد عرفت انه لا يحتمل الانطباق على الأول
لتغاير الحكمين المزبورين وجودا، دون الثاني لوحدة المنجز بالامارة والمعلوم
بالاجمال، فلا مجال لدعوى الانطباق الحقيقي الا على هذا الوجه لا انها مناف له.
212 - قوله: الا ان نهوض الحجة على ما ينطبق عليه (2) الخ:
يمكن ان يقال ان ملاك الجواب بناء على هذا الشق هو ان المنجز لا يتنجز،
ومع وجود الحجة المنجزة شرعا في طرف لا اثر للعلم الاجمالي على أي تقدير
إذ أحد التقديرين كون الواقع في ضمن المؤدى وهو متنجز بالحجة، فلا يبقى (3)

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 187 وكفاية الأصول: 347، (ت، آل البيت).
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 188 وكفاية الأصول: 347، (ت، آل البيت).
(3) (خ ل): فلا يبقى الاحتمال.
486

الا احتمال الحكم في الطرف الآخر وهو غير منجز للحكم عقلا، وهذا أيضا مبنى
على صالحية الحجة الواقعية القائمة على التكليف بوجودها الواقعي الذي هو
في معرض الوصول لتنجيز التكليف عقلا كما مر (1).
فالعلم الاجمالي قد تعلق بماله تنجز واقعا فلا يؤثر في تنجيزه، فالمتأخر عن
العلم الاجمالي هو الظفر بالمنجز لا نفس المنجز، بل لو فرض مقارنة الحجة
الصالحة لتنجيز التكليف للعلم الاجمالي به كما إذا كان هذا العلم الاجمالي أول
زمان البلوغ فان الحجة لا يعقل ان تكون منجزة الا فعلا، فهما سببان صالحان
للتنجيز فعلا من دون تقدم وتأخر، لأمكن ان يجاب بان الحجة الشرعية غير
متقيدة بعدم كون موردها من أطراف العلم الاجمالي فتأثيرها شرعا غير مقيد
بعدم العلم الاجمالي.
بخلاف العلم الاجمالي فان تأثيره عقلا متقيد بعدم ما يصلح للتنجيز فيختص
التأثير في التنجيز بالحجة الشرعية، فالحجة الشرعية مانعة عن تأثير العلم
الاجمالي مطلقا، سواء تقدمت عليه أو تأخرت عنه أو قارنته، فتدبر. واما ما في
المتن (2) من ابتناء الجواب على صرف تنجز الواقع إلى مورد الحجة لان معنى
الحجية تنجيز الواقع عند المصادفة للواقع والا عذار عنه عدمها، فان كان مع
الالتزام بكفاية الحجة الواقعية التي لو تفحص عنها لظفر بها في تنجيز الواقع
فلا حاجة إلى دعوى الصرف إذ لا يعقل تأثير العلم الاجمالي حتى يحتاج إلى
صرف تنجز الواقع إلى مورد الحجة، وان لم يكن مبنيا على الالتزام المزبور
فلا وجه للصرف، لان الواقع ان لم يكن له منجز كما إذا لم يكن علم اجمالي
فلا معنى للصرف، بل هو سالبة بانتفاء الموضوع. وان كان له منجز سابقا، فان كان
الواقع في مورد الحجة فلا معنى لمجزية الحجة عند وصولها لان المنجز

(1) التعليقة ص 485.
(2) كفاية الأصول ج 2 ص 188: قلت..
487

بالسبب السابق لا يتنجز ثانيا وان لم يكن والواقع في موردها فهو منجز بالعلم
الاجمالي الغير المزاحم بشئ في هذا الطرف ولا معنى للاعذار من الواقع
المنجز
نعم ما اخترنا من الوجه على هذا الشق مع ابتنائه على صلاحية الحجة
الواقعية للتنجيز حتى يكون أسبق تأثيرا من العلم الاجمالي لا يجرى في
الامارات المتعلقة بالموضوعات فان البينة لا توجب التنجز الا عند قيامها
وليست كالحجة على التكليف ولذا لا يجوز اجراء البراءة قبل الفحص في
الشبهة الحكمية دون الشبهة الموضوعية بل هكذا الامر بناء على جعل الحكم
المماثل الموجب لفعلية الواقع عرضا فإنه لا تكليف فعلى على طبق حكم
الموضوع الذي قامت عليه البينة الا عند قيامها ويمكن الجواب بوجهين.
أحدهما ان الحجة مطلقا وان لم تنجز الواقع بوجودها الواقعي الذي هو في
معرض الوصول لكنها توجب تنجزه عند قيامها بترتيب الآثار السابقة فعلا ولذا
يحكم بنجاسة ملاقي ما قامت البينة على نجاسته مع فرض الملاقاة قبل قيام
البينة فإنه من حين قيامها يجب الحكم بنجاسة الملاقى من قبل وكذا إذا قامت
الحجة على جزئية السورة للصلاة فإنه وان لم تنجزها قبل قيامها لكن بعد قيامها
يحكم ببطلان الصلوات السابقة الخالية عن السورة فالمنجز وان كان متأخرا الا
انه يقتضى ترتيب الآثار من قبل، فالعلم الاجمالي وان لم يكن له مزاحم في
تنجيزه حال تحققه لكنه تعلق بما يقتضى الحجة المتأخرة ترتيب الآثار السابقة أو
خلافها من قبل فلا تأثير له واقعا وإن كان بزعم العالم اجمالا أنه ينجز الآثار.
ثانيهما ان العلم الاجمالي يتعلق بوجوب ما لا يخرج عن الطرفين
لا بأحدهما المردد فلا ينجز الا بمقداره وتنجز الخصوصية المرددة كتنجز كلتا
الخصوصيتين به محال لكن حيث إن كلا من الطرفين يحتمل أن يكون واقعا
طرف ذلك الوجوب المنجز بالعلم فيحتمل فيه العقاب وهو الحامل
488

بالجبلة والطبع على فعل كل من المحتملين ففي كل طرف يحتمل الحكم
المنجز لا انه منجز واما الحجة القائمة على وجوب الظهر بخصوصها فهي منجزة
للخاص بما هو خاص فليس لها في تنجيز الخاص مزاحم في تأثيرها فلا محالة
تستقل (1) الحجة بالتأثير في تنجيز الخاص بما هو خاص سواء كان مقارنا للعلم
الاجمالي أو متقدما أو متأخرا كما لا فرق بين ان تكون هذه الحجة شرعية أو
عقلية كقاعدة الاشتغال.
ولا ريب في أن تنجيز الخاص بما هو خاص الذي لا مزاحم له يمنع عن تنجيز
الوجوب الواحد المتعلق بما لا يخرج عن الطرفين إذ ليس للواحد الا تنجيز
واحد فلا يعقل بقاء العلم الاجمالي على تنجيزه الذي فرض انه عند تعلقه به
لا مانع عن تنجزه فيتبع ذات الخاص للخاص بما هو خاص في التنجيز لا مزاحم له
وإذا دار الامر بين منجزين أحدهما يزاحم الاخر في تنجيزه ولو بقاء. والاخر
لا مزاحمة في تنجيزه ولو بقاء. لعدم تعلقه بالخاص حتى ينجزه فلا محالة يكون
التأثير للأول الذي لا مزاحم له بقاء ومنه يعلم أنه لا حاجة إلى دعوى عدم تقيد
الحجة شرعا بعدم كونها في طرف العلم الاجمالي فإنها لا تجدي الا في المنجز
الشرعي الذي يتصور فيه اطلاق وتقييد بل الوجه ما ذكرنا في الحجة القائمة
على الحكم والموضوع شرعية كانت أو عقلية مقارنة كانت أو سابقة أو لاحقة.
نعم إذا كان مؤدى الامارة كمتعلق العلم الاجمالي لا اثر لها الا عند تقدمها عليه
كما إذا قامت البينة على نجاسة (2) أحد الانائين فان تنجيزها على مقدار تنجيز
العلم فلا تزاحمه.
وعن بعض أجلة العصر (3) وجه آخر في مقام الانحلال لا باس بذكره وبيان
ما يتعلق به من وجوه الاشكال قال " دام بقاه " ان العلم يعتبر في موضوع حكم

(1) (خ ل) نستقل.
(2) (خ ل) على نجاسته.
(3) درر الفوائد: ج 2 ص 439 الوجه الثالث.. (ط، جماعة المدرسين).
489

العقل من حيث إنه طريق للعذر لا من حيث إنه صفة خاصة ولذا تقوم
الامارات مقامه وقد بينا الفرق بينهما في مبحث حجية القطع (1) وعلى هذا
لو قامت امارة معتبرة على بعض الأطراف مفصلا فالمعلوم بصفة انه معلوم وان
كان بعد مرددا ولكن ما قام عليه الطريق المعتبر القاطع للعذر ليس مرددا فما
يكون ملاك حكم العقل بوجوب الامتثال مفصل وما بقي على اجماله ليس ملاكا
لحكم العقل ".
ويرد عليه أولا ان قاطعية العلم للعذر ليس الا بلحاظ كشفه التام لا بلحاظ
حيثية أخرى وحيثية كشفه التام هي التي لها يكون العلم علما والا فسائر
حيثياته من كونه عرضا وكيفا وكونه نفسانيا وكونه كيفا أو ادراكيا وكونه ادراكيا
غير جزمي أجنبية عن العلم المأخوذ في الموضوع فلا يعقل الغاء جهة كشفه
التام ولحاظ حيثية قاطعية للعذر كما فصلنا القول فيه في أوائل مباحث القطع
فراجع (2).
وثانيا هذا العلم الجزئي التعلق بالمردد على ما يراه لا يتفاوت حاله من
حيث لحاظه بما هو صفة خاصة بوما هو طريق للعذر فان المتعلق لا ينقلب
عما هو عليه بلحاظ بعض حيثيات ما تعلق به فالمتعلق بلحاظ طريقيته أيضا
مردد.
وثالثا ان الطريق القاطع للعذر على الفرض متعدد أحدهما العلم من حيث
طريقية القاطعة للعذر والآخر الامارة المعتبرة فكلي القاطع للعذر موجود
بوجودين فما وجه تقديم الامارة في التأثير مع تقدم العلم في الوجود.
213 - قوله ولولا ذلك لما كان يجدى القول (3) الخ:

(1) نفس الصدر الفوق ج 2 ص 330 (ط، جماعة المدرسين).
(2) التعليقة: 20، ص 56.
(3) كفاية الأصول ج 2 ص 188 وكفاية الأصول 347 (ت آل البيت).
490

بيانه انه لا بد من الالتزام بصرف تنجز الواقع إلى مورد الحجة والا فالالتزام
بالانطباق بناء على جعل الحكم المماثل غير وجيه لان الحكم المماثل حكم
مجعول بسبب حادث حقيقة وان كان مدلول الامارة ثبوت الواقع من الأول لكنه
لا فعلية له الا عند قيام الامارة فالحكم الفعلي الحادث بقيام الامارة لا يمكن
احتمال كونه الحكم الفعلي المعلوم بالاجمال من السابق فمناط عدم الانطباق
تأخر التكليف الفعلي الثابت بقيام الامارة وتقدم التكليف الفعلي المعلوم
بالاجمال ومناط عدم الانطباق عندنا كما عرفت (1) مجرد التعدد في الوجود وان
كان التكليف الثابت بالامارة من الأول ولا يخفى ان دعوى تأخر التكليف الفعلي
لا محالة لاحد أمرين اما عدم كفاية وجود الحجة الواقعية في فعلية الحكم على
طبق مدلولها من الأول مع كونها بحيث لو تفحص عنها لظفر بها واما كون الامارة
ملحوظة بنحو السببية والموضوعية حيث إن التكليف المرتب عليها على حد
سائر التكاليف وموضوعاتها تكون فعليتها بفعلية موضوعاتها والأول خلاف
مبناه - قده - كما تقدم منه في قاعدة قبح العقاب بلا بيان (2).
والثاني خلف في المقام إذ الكلام في قيام الحجة على الحكم وإلا فالامارة
أجنبية عن الثابت الواقع المعلوم وتحقيق المقام ان جعل الحكم المماثل
اما بعنوان الموضوعية وان ما قامت عليه الامارة ذا مصلحة مقتضية لجعل
الحكم على طبق مؤديها فهو حكم آخر غير الحكم الواقعي ومنبعث عن غرض
آخر غير الغرض المنبعث عنه الحكم فلا يجرى فيه صرف فعلية الواقع
ولا صرف تنجزه إلى موردها لفرض تعدد الحكم حقيقة بتعدد الغرض وحيث إن
العلم أسبق منها وجودا فلا مجال لتأثير الحجة في فعلية الحكم ولا في تنجزه
فامتناع اجتماع الفعليين واستحالة تنجز المنجز لا يجدى في اسقاط المعلوم عن
الفعلية وسقوط العلم عن التنجيز.

(1) التعليقة 210 ص 483.
(2) كفاية الأصول ج 2 ص 179... واما العقل...
491

واما بعنوان الطريقية وايصال الواقع بعنوان آخر بحيث ينبعث هذا الحكم
المماثل عن ذلك الغرض الذي انبعث عنه الحكم الواقعي ولذا يكون مقصورا
على صورة مصادفة الواقع فهناك انشائان بداعي جعل الداعي أحدهما المتعلق
بالواقع بعنوانه والاخر بعنوان تصديق العادل مثلا والفعلي بالحقيقة هو الواصل
بالحقيقة وهو الانشاء الثاني، وتنسب الفعلية إلى الواقع بالعرض من حيث إنه
بعنوان ايصال الواقع بايصال مماثله فربما يتوهم صرف فعلية الواقع وتنجزه
بهذه الملاحظة لكنه صرف بالعناية لا بالحقيقة فلو كان معلوما بالاجمال فهو
بالغ مرتبة الفعلية والتنجز بسبب العلم فلا بد من ابداء المانع عن فعليته وتنجزه
بقيام ما يوجب فعلية الحكم المماثل وتنجزه وما ذكرناه (1) في صرف تنجز الواقع
من حيث تعلق الامارة بالواقع الخاص الموجبة لتنجز الخاص انما يجدى إذا
كانت موجبة لفعلية الخاص وتنجزه لا لفعلية (2) حكم آخر وتنجزه.
214 - قوله والا فالانحلال إلى العلم بما في الموارد (3) الخ:
والكاشف عنه ان اخراج ما يساوى مقدار المعلوم بالاجمال عن المحتملات
التي لا طريق عليها لا يوجب زوال العلم الاجمالي فهو كاشف عن خروجها عن
أطراف الشبهة كما أن اخراج ذلك المقدار عن مؤديات الطرق والأصول العملية
المثبتة للتكاليف يوجب زوال العلم الاجمالي في الباقي.
فان قلت الطرق الغير المعتبرة ان كانت داخلة في أطراف العلم حقيقة لزم
من الاحتياط فيها الالتزام به فيما لا نص فيه لعدم القول بالفصل بين ما لا نص فيه
وما فيه نص غير معتبر من حيث البراءة والاحتياط وان كانت خارجة عن أطراف
العلم فالخصم حينئذ مستظهر للقطع بثبوت الواقعيات (4) اجمالا في جميع

(1) التعليقة 212 ص 486.
(2) (خ ل) في فعلية.
(3) كفاية الأصول ج 2 ص 188 وكفاية الأصول 347 (ت آل البيت).
(4) (خ ل) واقعات.
492

الروايات الضعيفة والشهرات والاجماعات المنقولة وسائر الامارات الغير
المعتبرة وباقي المشتبهات التي لا طريق عليها أصلا.
قلت لنا الالتزام بالشق الأول ولا يلزم من الاحتياط في بعض المشتبهات
بسبب العلم الاجمالي الاحتياط في غيرها الذي لا يكون من أطراف العلم فان
عدم القول بالفصل انما هو في المشبهات بما هي مشتبهات لا بين ما فيه ملاك
الاحتياط وما ليس فيه ذلك الملاك ولنا الالتزام بالشق الثاني لكنا نقول بعد
اخراج الامارات الغير المعتبرة الموافقة للامارات المعتبرة والأصول العملية
واخراج الامارات المعارضة بالامارات المعتبرة لا باس بدعوى عدم العلم
الاجمالي في سائر الامارات الغير المعتبرة والمشتبهات خصوصا بعد اخراج
بعض الشهرات الجابرة للاخبار الضعيفة فان مثل هذا الخبر الضعيف والشهرة
التي لا دليل على اعتبارها خارج أيضا وكذا بعض الاجماعات المنقولة المعتضد
بعضها ببعض الموجب للقطع أو الاطمينان بالتكليف أو بوجود مدرك صحيح
له فإنه بعد اخراج هذه الجملة ليست دعوى عدم العلم الاجمالي مجازفة، هذا
بعض الكلام في ما يناسب المقام من انحلال العلم الاجمالي والتحقيق ان مثل
هذا العلم الاجمالي بالأحكام هو في نفسه قاصر عن تنجيز الواقعيات لما مر في
مباحث الانسداد (1) من عدم تعلقه بأحكام فعلية بعثية أو زجرية بل بأحكام كلية
بنحو القضايا الحقيقية (2) المنوطة فعليتها بفعلية موضوعاتها عند الابتلاء بها
لوضوح تدريجية الابتلاء فالمناط عندنا تدريجية الفعلية بتدريجية الابتلاء بها
لا تدريجية الاستنباط كما يراه شيخنا الأستاذ - قدس سره - (3) فراجع ما حررناه
في أوائل مقدمات الانسداد (4) والله أعلم بالسداد

(1) التعليقة 132 ص 266.
(2) (خ ل) الحقيقة.
(3) كفاية الأصول ج 2 ص 122 وكفاية الأصول 314، (ت، آل البيت).
(4) المصدر الأول: 132، ص 266.
493

" التحقيق في الحظر والإباحة "
215 - قوله وفيه أولا انه لا وجه للاستدلال (1) الخ:
تحقيق المقام ان مسالة الحظر والإباحة ومسألة البراءة والاحتياط مختلفتان
موضوعا وملاكا واثرا لا محمولا فلا وجه للاستدلال بأحديهما على الأخرى.
اما اختلافهما موضوعا فلان الموضوع في الأولى هو الفعل في حد ذاته مع
قطع النظر عن ورود الحكم الشرعي فيه والموضوع في الثانية هو الفعل
المشكوك حليته وحرمته شرعا مع ثبوت أصل الحكم فيه.
واما اختلافهما ملاكا فلان الملاك في المسألة الثانية قبح العقاب بلا بيان
للبراءة ولزوم دفع الضرر المحتمل للاحتياط فملاك البراءة عدم تنجز التكليف
بعدم وصوله، وملاك الاحتياط تنجز التكليف باحتماله، بخلاف المسألة الأولى
فان التكليف فيه مفروض العدم لا موقع لتنجزه باحتماله ولا لعدمه بعدم وصوله
بل ملاك الحظر عقلا ان العبد من حيث إنه مملوك لا بد من أن يكون صدوره
ووروده عن اذن مالكه ففعل ما لم يأذن به مالكه اذنا مالكيا خروج عن ذي
الرقية فيكون قبيحا مذموما عليه عقلا وملاك الإباحة ان الفعل حيث لم يمنع
عنه المولى لا من حيث الشارعية ولا من حيث المالكية فلا يكون خروجا عن زي
العبودية لا من حيث إن التكليف غير واصل بل من حيث عدم التلكيف وعدم
المنع المالكي على الفرض.
واما اختلافهما اثرا فلان الحظر في المسألة الأولى من حيث كونه خروجا عن
زي الرقية لعدم الاذن المالكي فهو معاقب عليه على أي حال بخلاف الاحتياط
في المسألة الثانية فإنه من حيث تنجز الواقع باحتماله فيدور مدار مصادفة

(1) كفاية الأصول ج 2 ص 189 وكفاية الأصول 348 (ت آل البيت).
494

الاحتمال للواقع.
واما عدم اختلافهما محمولا فان المحمول في المسألة الأولى وان عبر عنه
بعنوان الحظر والإباحة الا ان المراد منهما عدم التبعة والحرج عقلا أو التبعة
والحرج عقلا لان الإباحة التكليفية والحظر التكليفي من العقل (1) بما هي قوة
عاقلة شانها التعقل غير معقولة ومن الشرع مفروض العدم لان الموضوع هو
الفعل في حد ذاته مع قطع النظر عن ورود الشرع فيه ففرض استقلال العقل
بإباحته شرعا أو بحرمته شرعا خلف بين والمحمول في المسألة الثانية
استحقاق العقوبة على مخالفة التكليف المحتمل وعدمه فلا فرق بينهما
محمولا بالإضافة إلى البراءة والاحتياط العقليين ومنه تبين ان دعوى اختلافهما
محمولا تارة من حيث إن الإباحة في المسألة الأولى واقعية وفى الثانية ظاهرية
وأخرى من حيث إن المحمول في الأولى هو الحكم إباحة أو حظرا وفى الثانية
نفي المؤاخذة حتى في الأدلة النقلية.
مدفوعة: بان فرض سنخ مقولة الحكم في المسألة الأولى خلف تارة
وخلاف الواقع أخرى، كما عرفت، مع أن ارجاع المحمول في الثانية إلى نفى
المؤاخذة في الأدلة النقلية جميعا خلاف التحقيق، بل التحقيق في الفرق
ما عرفت، وبعد افتراق المسئلتين موضوعا وملاكا وثمرة فكيف يصح الاستدلال
بأحديهما على الأخرى.
نعم، يمكن ان يقال في تعريف الاستدلال ان الحرمة الواقعية المحتملة هنا
وان لم يتنجز لعدم وصولها والعقاب على التكليف الغير الواصل قبيح عقلا، لكنه
حيث إنه فعل لم يأذن به المولى ولا بد من كون صدور العبد وورده عن اذن
سيده فهو خروج عن زي الرقية ورسم العبودية، فيعاقب عليه من هذه الحيثية
وهي حيثية ملازمة عقلا لهذه المسألة دائما، ومنه يظهر انه يمكن الاستدلال
بالحظر في تلك المسألة على الاحتياط في هذه المسألة لتلازم الحيثيتين دون
الاستدلال بالإباحة هناك على البراءة هنا، فان عدم الحرج على الفعل الذي

(1) (خ ل): الفعل.
495

فرض فيه عدم المنع شرعا ومالكيا لا يلازم عدم الحرج في الفعل المحتمل،
لورود المنع عنه شرعا، كما أنه يظهر ان جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان هنا
وعدم جريانها في تلك المسألة لا يوجب عدم الاحتياط هنا، فان القاعدة ان
جرت هنا ولم تجر هناك لفرض عدم التكليف فلا موقع للبيان وعدمه الا ان ملاك
الحظر وهو عدم الإذن موجود هنا، فالعقاب وان كان لا يصح على الواقع
المحتمل لكنه يصح على الفعل من حيث إنه لم يأذن به المالك، فالجواب الأول
والأخير المذكوران في المتن (1) مورد المناقشة.
والتحقيق في الجواب: يتوقف على بيان مقدمة وهي بيان الفرق بين المنع
والإباحة الشرعيين والإباحة والمنع المالكين، وهو ان المنع تارة ينشأ عن
مفسدة في الفعل تبعث الشارع بما هو مراع لمصالح عباده وحفظهم عن الوقوع
في المفاسد على الزجر والردع عما فيه المفسدة، وهذا هو المنع الشرعي
لصدوره من الشارع بما هو شارع، وفى قباله الإباحة الشرعية الناشئة عن
لا اقتضائية الموضوع وخلوه عن المفسدة والمصلحة، فان سنة الله ورحمته
مقتضية للترخيص في مثله لئلا يكون العبد في ضيق منه وأخرى لا ينشأ عن
مفسدة اما لفرض خلوه عنها أو لفرض عدم تأثيرها فعلا في الزجر كما في ما قبل
تشريع الشرايع والاحكام وفى بدو الاسلام، بل من حيث إنه مالك للعبد
وناصيته بيده يمنعه عن كل فعل إلى أن يقع موقع حكم من الاحكام حتى يكون
صدوره ووروده عن رأى مولاه، فهذا منع مالكي لا شرعي، وفى قباله الإباحة
المالكية وهو الترخيص من قبل المالك لئلا يكون في ضيق منه إلى أن يقع الفعل
موقع حكم من الاحكام.
فنقول: حيث إن الشارع كل تكاليفه منبعثة عن المصالح والمفاسد لانحصار
أغراضه المولوية فيها فليس له الا زجر تشريعي أو ترخيص كذلك فمنعه
وترخيصه لا ينبعثان الا عما ذكر، ولا محالة إذا فرض خلو الفعل عن الحكم بقول
مطلق أعني الحكم الذي قام بصدد تبليغه وان كان لا يخلو موضوع من

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 189.
496

الموضوعات من حكم واقعي وحيا أو الهاما، فليس الفعل منافيا لغرض المولى
بما هو شارع، فليس فعله خروجا عن زي الرقية، ومنه تبين ان الأصل فيه هو
الإباحة لا الحظر فان عدم الإذن المفروض في الموضوع لا يؤثر عقلا في المنع
العقلي الا باعتبار كون الفعل معه خروجا عن زي الرقية، وحيث انه فرض فيه
عدم المنع شرعا فلا يكون خروجا عن زي الرقية إذ فعل ما لا ينافي غرض
المولى بوجه من الوجوه بل كان وجوده وعدمه على حد سواء لا يكون خروجا
عن زي الرقية، بل منه يظهر ان الامر بالإضافة إلى سائر الموالى كذلك، فان العبد
انما يجب ان يكون صدوره ووروده عن رأى المولى لئلا يقع فيما ينافي غرض
المولى، فإذا فرض عدم الغرض المولوي بفرض عدم التكليف فلا محالة لا يكون
الفعل خروجا عن زي الرقية، هذا كله مضافا إلى أن الحاجة إلى الترخيص
المالكي أو كفاية عدم المنع المالكي انما هو في مورد عدم اعمال حيثية
الشارعية منعا وترخيصا، فان ترقب الترخيص المالكي والمنع المالكي انما هو
في ذلك المورد، وعليه فالحظر عقلا في مالا ترخيص مالكي فيه انما هو في
الفعل المفروض عدم اعمال حيثية الشارعية فيه، كما في تلك المسألة لامع
فرض أعمالها منعا أو ترخيصا فالحيثيتان متقابلتان لا متلازمتان، وبقية الكلام في
محله.
216 - قوله (1): وما قيل من أن الاقدام على مالا يؤمن المفسدة فيه
الخ (2):
تارة يستدل به للاحتياط فيما نحن فيه كما هو الظاهر من العبارة، وقد تقدم
أيضا في ذيل قاعدة قبح العقاب بلا بيان (3)، فالاستدلال به وجيه، وجوابه ما في
الكتاب (4) وقد قدمنا ما عندنا.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 189 وكفاية الأصول: 348، (ت، آل البيت).
(2) والقائل به هو شيخ الطائفة - ره - في العدة: ج 2، ص 85 و 118.
(3) التعليقة: 205 و 206، ص 467 و 472.
(4) كفاية الأصول: ج 2 ص 189 س 10 - وص 180 و 112، س 4.
497

وأخرى يستدل به للقول بالحظر في مسالة الحظر والإباحة كما نسب إلى
الشيخين (1) وهما وغيرهما على ما في رسائل شيخنا العلامة الأنصاري
- قده - (2) فهو غير صحيح، لان المفسدة ان كانت بالغة مرتبة التأثير في الحرمة
ففرضها في تلك المالة خلف، لان الكلام في إباحة الشئ وحظره عقلا مع
فرض خلوه عن الحكم الشرعي وان لم تكن بالغة حد التأثير فهي غير بالغة حد
الغرض المولوي حتى يكون الاقدام عليه من هذه الحيثية منافيا لغرض المولى
ليكون خروجا عن زي الرقية واما ان أصل الاقدام بلا اذن من المولى خروج عن
زي الرقية فهو وجه آخر، وقد قدمنا جوابه، ومما ذكرنا تبين انه لا وجه للترديد
في المفسدة بين العقوبة الأخروية وغيرها في مقام الاستدلال لمسألة الحظر
والإباحة إذ لا حكم من الشارع على الفرض ليكون هناك عقوبة على مخالفته،
بل العقوبة على الحظر مما يحكم به العقل من باب ترتبها على فعل ما يحتمل
فيه المفسدة.

(1) الشيخ المفيد - والشيخ الطوسي - قدهما -
2 - الرسائل: ج 1، ص 355 (ط، جماعة المدرسين) والرسائل: ص 214، مخطوط.
498

- تنبيهات البراءة -
الأول: في اشتراط جريان البراءة بعدم وجود أصل موضوعي
(أصالة عدم التذكية)
217 - قوله: فأصالة عدم التذكية تدرجها فيما لم يذك (1) الخ:
واما أصالة عدم كونه ميتة (2) فمدفوعة:
اما بما في المتن (3) من أن ما عدا المذكى وان لم تكن ميتة لكونها عبارة عما
مات حتف أنفه الا انها مثلها حكما شرعا، فمجرد عدم كونه ميتة لا ينفى الحرمة
والنجاسة ليعارض ما يوجب الحرمة والنجاسة.
واما بما عن غير واحد من أن المراد بالميتة شرعا كل ما لم يذك شرعا سواء
مات حتف أنفه أو زهق روحه بغير الذبح الخاص ولا أصل في مثلها، وظاهر
بعض الاخبار المتضمنة للمقابلة بين المذكى والميتة وان كان ذلك الا ان ظاهر
قوله تعالى (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير
الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية) إلى قوله تعالى (الا ما
ذكيتم) (4) هو إرادة الميتة بموت حتف الأنف لا مطلق غير المذكى، والا لما
صح افرادها بالذكر عن سائر افرادها، ثم إن تحقيق القول في جريان أصالة عدم
التذكية في نفسها يقتضى بسطا في الكلام، ومختصر القول فيها ان المذكى وما
قابله شرعا اما متقابلان بتقابل التضاد أو بتقابل العدم والملكة أو بتقابل السلب

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 190 وكفاية الأصول: 349، (ت، آل البيت) والرسائل: 218 مخطوط.
(2) (خ ل): مبنية، كونها.
(3) نفس المصدر الأول.
(4) المائدة: الآية 3.
499

والإيجاب، إما بنحو العدم المحمولي أو بنحو عدم الرابط.
فان كانا متقابلين بتقابل التضاد نظرا إلى أن التذكية زهاق الروح بوجه
خاص ومقابلها زهاق الروح بوجه آخر، فالأصل فيهما على حد سواء، وربما
يتوهم لزوم التضاد نظرا إلى أن الحرمة لا تنبعث إلا عن مفسدة وجودية قائمة
بخصوصية وجودية، وكذا النجاسة ليست إلا لوجود ما يوجب تنفر الطبع فأصالة
عدم التذكية معارضة بأصالة عدم ثبوت تلك الخصوصية المقتضية للحرمة
والنجاسة، إلا أن الوجه المزبور المقتضى لتقابل التضاد مدفوع بأنه من الممكن
أن يكون زهاق الروح في حد ذاته موجبا للحرمة والنجاسة، والخصوصيات
الثبوتية من فرى الأوداج والتسمية والاستقبال مانعة عن تأثيره في الحرمة
والنجاسة فلا موجب لفرض خصوصية ثبوتية مقتضية للحرمة والنجاسة ما عدا
إزهاق الروح المحرز بالوجدان.
وإن كانا متقابلين بتقابل العدم والملكة، بأن كان موضوع الحلية
والطهارة ما كان مذكى وموضوع الحرمة والنجاسة ما كان غير مذكى، فلا محالة
لا مجرى لأصالة عدم التذكية بهذا المعنى إذ الموضوع للمذكى وغير مذكى
ما زهق روحه، وإلا فالحي من الحيوان لا مذكى ولا غير مذكى ولم يعلم أن ما زهق
روحه كان غير مذكى كما لم يعلم أنه كان مذكى وعدم كونه مذكى بنحو السلب
المقابل للايجاب وإن كان يصدق في حال الحياة، بداهة عدم خلو كل شئ عن
أحد طرفي السلب والإيجاب بل يصدق بنحو السالبة بانتفاء الموضوع قبل
حياته أيضا إلا أنه على الفرض ليس موضوعا للحكم وان لزم من عدم كونه
مذكى إلى أن زهق روحه كونه غير مذكى إلا أنه لازم غير شرعي فلا يثبت
بالأصل.
وإن كانا متقابلين بتقابل السلب والايجاب بمعنى ان عدم التذكية وإن
كان عدم ما شأنه أن يكون مذكى وهو ما زهق روحه لكنه لم يؤخذ العدم هكذا
موضوعا للحكم بل أخذ ما يصدق حال الحياة وهو ما ليس بمذكى، وذلك كما
أن عدم البصر، تارة يؤخذ بنحو عدم ما من شأنه أن يكون بصيرا فيساوق العمى
500

فلا يصدق إلا على الحيوان، وأخرى يؤخذ بنحو السلب المقابل للايجاب فيقال
الجدار ليس ببصير كما أنه ليس بأعمى، فإذا سلب المذكى عن الحيوان في حال
حياته فقد صدق السلب المقابل للايجاب وإن لم يصدق العدم المضاف إلى
ما من شأنه أن يكون مذكى، فإذا أخذ العدم بنحو السلب المقابل للايجاب فتارة
يأخذ بنحو العدم المحمولي، وأخرى بنحو عدم الرابط.
فالأول على أنحاء، إما بنحو عدم العنوان ولو بعدم معنونه، أو بنحو عدم
المبدء ولو بعدم موضوعه، أو بنحو عدم الإضافة والانتساب ولو بعدم طرفيهما،
فيكون حينئذ موضوع الحكم مركبا من أمر وجودي وهو زهاق الروح وأمر عدمي
كعدم العنوان أو عدم المبدء أو عدم الانتساب، فيصح إحراز العدم على أحد
الوجوه الثلاثة بالأصل، ومع إحراز زهاق الروح وجدانا يحكم بالحرمة والنجاسة.
والثاني بأن يكون الموضوع ما إذا لم يكن ما زهق روحه مذكى، والفرق بينه
وبين العدم والملكة أن الموضوع هناك ما كان غير مذكى بنحو ربط السلب،
والموضوع هنا ما لم يكن ما زهق روحه مذكى بنحو سلب الربط عن موضوع
مفروض الثبوت، فمرجع العدم والملكة إلى موجبة معدولة المحمول، ومرجع
سلب الربط إلى السالبة المحصلة، ولكن بانتفاء المحمول، لا ولو كانت بانتفاء
الموضوع، وحيث إن السلب حينئذ بعنوان سلب الربط عما زهق روحه فلا
مجرى لأصالة عدم التذكية إذ لا علم بعدم كون ما زهق روحه في فرض ثبوته
مذكى، ولا يخفي عليك أن عدم التذكية وسلبها عما زهق روحه ليس مساوقا
للعدم الناعتي في قبال الوجود الرابطي، لا بمعناه المقابل للوجود النفسي
ولا بمعناه المقابل للوجود المحمول، بيانه أن الوجود الرابطي له إطلاقان.
أحدهما: في مقابل الوجود النفسي (1) كالعرض في قبال الجوهر، فان كليهما
موجود في نفسه إلا أن وجود العرض لكونه سنخ وجود حلولي في الموضوع
فوجوده في نفسه وجوده لموضوعه، ووجود الجوهر حيث إنه وجود غير حال

(1) (خ ل): النعتي.
501

في الموضوع فهو موجود في نفسه لنفسه أي لا لغيره، ومنه يعلم أن التعبير (1) عن
هذا المعنى - بأن وجود العرض في نفسه ولنفسه وجوده في موضوعه
ولموضوعه ليس على ما ينبغي، فان معنى وجوده في نفسه في قبال لا في نفسه
وهو الكون الرابطي الموجود في الهليات (2) المركبة الايجابية، وأما وجوده لنفسه
فهو مناف للمقابلة مع الجوهر فان المفروض أنه موجود حلولي في الموضوع
فكون العرض في الموضوع وكونه لموضوعه بمعنى واحد، فكونه في نفسه مع
كونه لنفسه غير متلائمين إذ ليس معنى نفسيته إلا أن الوجود مضاف إلى ماهية
هو كونها في قبال ثبوت شئ لشئ.
وبالجملة: الناعتية والرابطية لهذا الوجود باعتبار أن سنخ وجوده حلولي في
الموضوع والعدم لا شئ حتى يكون له حلول في شئ كي يصح توصيفه حقيقة
بالناعتية والرابطية، وتوصيف عدم البياض بالناعتية من باب التشبيه للعدم
بالوجود، كما يقال عدم العلة علة لعدم المعلول مع أنه لا تأثير ولا تأثر في
الأعدام، فماهية البياض حيث إنها ماهية إذا وجدت خارجا وجدت في
الموضوع صح أن يقال إن عدمه عدم أمر ناعتي، كما أن الجوهرية والعرضية
للماهية بلحاظ انها إذا وجدت خارجا وجدت في الموضوع أو لا في الموضوع.
ثانيهما: في مقابل الوجود المحمولي وهو الوجود لا في نفسه في قبال
الوجود المضاف إلى ما يصح حمله عليه، وهو مفاد ثبوت شئ لشئ، فإنه
ثبوت متوسط شأنه محض الربط، ولذا اصطلح المتأخرون من المحققين (3) على
تسميته بالوجود لا رابط ليمتاز عن الوجود الرابطي المتقدم ذكره (4)، ومورد
الوجود الرابط خصوص مفاد الهلية المركبة الايجابية دون الهلية البسيطة والسالبة
المركبة إذ في الهلية البسيطة إما يكون القضية ثبوت الشئ أو عدمه، حيث
لا ثبوت ولا ثبوت للعدم ولا عدم للثبوت إذ المماثل لا يقبل المماثل

(1) فوائد الأصول: ج 1 و 4 ص 532 و 504.
(2) (خ ل): الهيئات.
(3) شرح المنظومة: ص 61 - الفريدة الثانية.
(4) التعليقة: ص 484 - 10.
502

والمقابل لا يقبل المقابل، فمفاد قولنا " زيد موجود و " زيد معدوم " و " زيد ليس
بموجود " ليس إلا الحكاية عن الوجود في الأول وعن العدم في الأخيرين،
والوجود الرابط بالمعنى المزبور غير النسبة الحكمية الموجودة في جميع العقود
والقضايا، فان مفاد الوجود الرابط ثبوت شئ لشئ ومفاد النسبة الايجادية
الحكمية كون هذا ذاك فيتصادقان أحيانا في الهلية المركبة الايجابية.
وأما في الهلية البسيطة الايجابية فالهوية الخارجية وإن كان مطابق مفهوم
الموضوع ومفهوم المحمول فيصح أن يقال هذا ذاك في الوجود كما هو شأن
الحمل الشائع، إلا أنه ليس هناك في الواقع ثبوت شئ لشئ بل ما في الواقع
نفس ثبوت الشئ، وحيث إن ثبوت شئ لشئ فرع ثبوت المثبت له دون
الثابت فيكون الوجود الرابط متحققا في " زيد بصير " و " زيد أعمى " مع أن العمى
عدم البصر فيما من شأنه أن يكون بصيرا فيوجد الوجود الرابط في مورد الوجود
الرابطي بالمعنى الأول وفى غيره، وحيث إن المحمول في مثل " زيد أعمى " أو
الانسان ممكن " عدمي كان من الموجبة المعدولة المحمول، ويكون مفاد النسبة
ربط السلب فان السلب في مثله جزء المحمول، وأما في السالبة المحصلة
المركبة ك‍ " زيد ليس بقائم " فكما لا وجود رابط كذلك لا عدم رابط، بل عدم
الرابط. فان التحقيق على ما عليه قدماء الفلاسفة والمحققون من المتأخرين (1) أنه
ليس العدم رابطا وليست النسبة على قسمين ثبوتية وسلبية، فان حقيقة النسبة
المتحققة في جميع القضايا ليست إلا كون هذا ذاك، ومطابقها هوية واحدة هي
وجود الموضوع والمحمول وما به اتحادهما، لا بما هو وجود كل منهما في
نفسه، فهذا الاتحاد الجزئي المتصور تارة يذعن العقل بثبوته فالقضية موجبة
وأخرى يذعن العقل بانتفائه فتكون القضية سالبة لا أنه بحسب الواقع شئ رابط
هو عين الانتفاء والليسية (2)، فان العدم على أي حال لا شئ فلا معنى صيرورته
ما به اتحاد الموضوع والمحمول وما به ارتباطهما بل الاتحاد المتصور والربط

(1) الاسفار: ج 1، ص 365.
(2) (خ ل): والليسيته.
503

المعقول بينهما يحكم بسلبه وبانتفائه، فلذا قلنا بأن مرجع السالبة المحصلة
المركبة إلى سلب ربط شئ بشئ لا إلى عدم رابط بين شيئين.
فظهر مما ذكرنا الفرق بين الوجود الرابطي والوجود الرابط وبين الوجود الرابط
والنسبة الحكمية، كما تبين أنه لا عدم ناعتي رابطي ولا عدم رابط ولا نسبة
سلبية، بل ليس إلا الربط وانتفاء النسبة وقد ذكرنا في مبحث المشتق من الجزء
الأول من الحاشية (1) أن ورود السلب على الربط والنسبة لا يوجب انقلاب
المعنى الحرفي إسميا إذ كما أن ملاحظة الموضوع مطابقا لمفهوم المحمول
ليس ملاحظة مطابقة الموضوع للمحمول كذلك ليس ملاحظة عدم كون
الموضوع مطابقا لمفهوم المحمول ملاحظة عدم مطابقته حتى تكون المطابقة
المضاف إليها العدم معنى اسميا. فراجع.
ومما ذكرنا يندفع التفصيل الذي بنى عليه بعض أعلام العصر في أمثال
المقام (2) ومختصر هذا التفصيل: أن موضوع الحكم، تارة، يكون مركبا من
العرض ومحله، وأخرى من عرضين لمحل واحد أو المحلين، والعرض وجوده
وعدمه ناعتي لمحله، ولا يعقل أن يكون وجوده أو عدمه ناعتيا لعرض آخر، فان
الناعتية شأن العرض بالنسبة إلى موضوعه دون غيره سواء كان عرضا أو جوهرا،
فان كان الموضوع من قبيل الأول فلا يجدى في ترتب الأثر لا الوجود الرابطي
الناعتي أو العدم الرابطي الناعتي فلا يجدى استصحاب العدم الأزلي فإنه عدم
محمولي ولا يثبت بجره إلى حال وجود الموضوع عدمه الناعتي، إلا بناء على
الأصل المثبت، وإن كان من قبيل الثاني فليس له إلا وجود محمولي أو عدم
محمولي فيجدي استصحاب عدمه الأزلي المحمولي إلى حال وجود محله
المحرز بالوجدان في ترتيب الأثر، وعليه فمثل القرشية بالنسبة إلى محلها وهي
المرأة كالعرض بالنسبة إلى موضوعه وجودها وجود رابطي ناعتي، وعدمها
المحكوم بما يقابل حكم القرشية عدم ناعتي، فلا يمكن إثبات هذا العدم

(1) نهاية الدراية: ج 1، ص 140.
(2) فوائد الأصول: ج 1، ص 97 وأجود التقريرات: ج 2، ص 424.
504

الناعتي باستصحاب عدم الانتساب الأزلي الذي هو عدم محمولي، وأما التذكية
فهي وإن كانت بالنسبة إلى محلها وهو الحيوان أيضا ناعتيا إلا إنه بالإضافة إلى
الجزء الاخر وهو زهاق الروح ليس ناعتيا لغرض اخر، فيمكن استصحاب عدم
التذكية المحقق حالي حياة الحيوان إلى حال زهاق الروح المحرز بالوجدان،
ولا يلزم إثبات كونه غير مذكى في حال زهاق الروح بنحو الناعتية والرابطية
لزهاق الروح، فإنه بلا موجب، هذا ملخص التفصيل المزبور. وفيه مواقع للنظر:
أما أولا، فإن العرض وإن كان وجوده ناعتيا لكنه يساوق الرابطي المقابل
للنفسي لا الرابط المقابل للوجود المحمول، بل العرض والجوهر كلاهما من
أقسام الوجود المحمولي المقابل للرابط، فالرابطي ليس مفاد كان الناقصة بل
قابل لأن يلاحظ بنفسه وأن يرد عليه الرابط وما هو مفاد كان الناقصة هو الوجود
الرابط، وما هو مفاد كان التامة هو الوجود المحمولي.
وأما ثانيا، فلأن الناعتية للموضوع من شؤون حلول العرض في الموضوع
حلوله من لوازم وجوده لا من لوازم ماهيته، فعدم العرض ليس ناعتيا لموضوعه
إذ لا حلول للعدم في شئ، فإنه لا شئ وهو من واضحات الفن كسابقه.
وأما ثالثا، فلأن فرض العدم المحمولي لشئ يستدعى فرض الوجود
المحمولي له، فان العدم بديل الوجود، ففرض العدم المحمولي للعرض فرض
الوجود المحمولي له.
وأما رابعا، فلأن عدم كون العرض نعتا لعرض اخر لا يوجب حصر وجوده
في المحمولي، وإنما يوجب عدم قيام العرض بالعرض وعدم قيام الجوهرية
بالجوهر (1) لما عرفت من أن الناعتية ليست في قبال المحمولي حتى إذا
استحالت الناعتية وجبت المحمولية بل في قبال الوجود الرابط، ومن الواضح
عند أهله أن مفاد القضية الهلية المركبة الايجابية هو الوجود الرابط سواء كان
طرفاه جوهرين أو عرضين أو جوهر وعرض، والآثار المرتبة على مفاد كان

(1) (خ ل): عدم قيام الجوهرية وبالجوهر.
505

الناقصة وكان التامة تدور مدار الوجود الرابط والمحمولي لا مدار الوجود الناعتي
والنفسي.
وأما خامسا، فلأن العرض وإن أخذ وجوده بنحو الناعتية المقابلة للمحمولي
عند هذا المفصل إلا أن العدم الذي هو نقيض الوجود الرابط أو الرابطي رفعه
وليس العدم لا رابطيا ولا رابطا، فغاية ما يحتاج إليه في نفي القرشية الملحوظة
بنحو الرابط هو نفيها ورفعها ولو برفع موضوعها
وأما ما في بعض كلمات المفصل (1) من أن العرض وإن كان قابلا للحاظه بنحو
الوجود المحمولي إلا أنه إذا تركب الموضوع منه ومن محله فلا بد من ملاحظته
بنحو الناعتية لموضوعه ومحله، لأن المحل،
إما أن يلاحظ مطلقا بالإضافة إلى العرض الذي هو جزء الموضوع، أو مقيدا به
أو بضده حيث لا يعقل الاهمال في الواقعيات. والأول والأخير محال للزوم
الخلف والتناقض، فلا بد من الوسط وهو أخذه مقيدا به وهو معنى الناعية ومفاد
كان الناقصة، فمندفع بأن التقييد به لازم الجزئية وتركب الموضوع منهما وترتب
أثر واحد على المركب، وهذا أعم مما أفيد إذ من الممكن تركب الموضوع للأثر
من المحل وهو الجسم ومن بياضه، ومجرد إضافة وجود البياض إلى الجسم لا
يخرجه عن المحمولية ولا يدرجه في الرابط الذي هو مفاد كان الناقصة، مثلا
تركب الموضوع من المرأة ومن انتسابها إلى قريش يلزمه عدم اطلاق المرأة
لكنه لا يلزمه لحاظ القرشية بنحو الوجود الرابط، فالمتبع في أمثال المقام
ملاحظة لسان الدليل ومقام الاثبات لا ان مقام الثبوت مقتض للحاظ العرض
بالإضافة إلى محله بنحو الرابط وبالإضافة إلى غيره بنحو المحمولية. وعليه
فنقول فيما نحن فيه: أن الذبح الخاص وزهاق الروح مع أنها كعرضين وليس
أحدهما ناعتيا للاخر لكنه يمكن ملاحظتهما بنحو الرابط بان يقال " ما زهق روحه
عن ذبح خاص " مثلا، وسيجيئ انشاء الله تعالى بقية الكلام (2).

(1) أجود التقريرات: ج 2، ص 424.
(2) التعليقة: ص 508.
506

إذا عرفت ما ذكرنا في مقام الثبوت من أنحاء ما يمكن ان يقع موضوعا للحلية
والطهارة وللحرمة والنجاسة فاعلم أن الأدلة في مقام الاثبات مختلفة، فبعضها
يتضمن المقابلة بين الميتة والمذكى (1)، وبعضها يتضمن المقابلة بين المذكى
وغير مذكى (2) وبعضها يتضمن المقابلة بين المذكى وعدم كونه مذكى (3)،
وبعضها يتضمن دوران الحكم مدار العلم بكونه ميتة (4)، وبعضها يتضمن دوران
الحكم مدار العلم بكونه مذكى (5)، والذي يهون الخطب هو أنه لو لم يعلم أن
الموضوع أخذ على أي نحو ولو من حيث أخذ العلم محموليا وجزء من المركب
أو بنحو الرابط وقيدا لما زهق روحه، فلا يقين بما يمكن التعبد به في مقام الحرمة
والنجاسة.
فان قلت: وإن لم يمكن إثبات الحرمة والنجاسة باحراز موضوعهما المقابل
للمذكى بأحد أنحاء التقابل إلا أنه لا شبهة في أن الحلية والطهارة مترتبة على
المذكى، وارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه مما لا كلام فيه، ورفع الموضوع نقيضه
وإن لم يكن عدما رابطيا أو رابطا، لأن نقيض الوجود الرابط عدمه لا العدم الرابط
فضلا عن العدم الرابطي.
قلت: لا بد من ملاحظة موضوع الحلية والطهارة على نحو يرتفع الحلية
والطهارة: بارتفاعه، والتصور بجميع أنحائه، إما لا يكون مرفوع الحلية والطهارة
فيعلم منه أنه ليس بنقيض له، وإما لا يكون له حالة سابقة.

(1) الوسائل: ج 2، ص 1050، ب 34، ح 4 والوسائل: ج 2، ص 1070، ب 49، ح 1 و
الكافي: ج 3، ص 407، ح 16، كتاب الصلاة والتهذيب: ج 2، ص 368، ح 62، م 1530
2 - الوسائل: ج 2، ص 1071، ب 50، ح 3 والوسائل: ج 3، ص 332، ب 55، ح 1 و
الفقيه: ج 1، ص 167، ب 38، ح 38، م 787.
(3) الوسائل ج 2، ص 1072، ب 50، ح 6، والتهذيب: ج 2، ص 371، ب 17، ح 77، م 1545.
(4) الوسائل: ج 2، ص 1072، ب 50، ح 4 والتهذيب ج 2، ص 368، ب 17، ح 62، م 1530.
(5) الوسائل: ج 2، ص 1010، ب 9، ح 6 والوسائل: ج 3، ص 250، ب 2، ح 1 والكافي: ج 3،
ص 397، ح 1، كتاب الصلاة.
507

فمنها: جعل المؤثر في الحلية والطهارة زهاق الروح عن ذبح خاص ونقيضه
عدم زهاق الروح عن ذبح خاص، ومن المعلوم أن عدم زهاق الروح عن ذبح
خاص يجامع حياة الحيوان مع أن الحي من الحيوان غير مرفوع الحلية والطهارة،
ولو فرض حرمة ابتلاع الحيوان حيا فهو من غير ناحية عدم تذكيته.
ومنها: جعل المؤثر في الحلية والطهارة مجموع زهاق الروح والذبح
والتسمية والاستقبال وأشباهها، ونقيضهما (1) عدم المجموع مع أنه يجامع حياة
الحيوان وهو غير مرفوع الحلية والطهارة عنه كما تقدم.
ومنها: جعل المؤثر في الحلية والطهارة هو الذبح الخاص في حال زهاق
الروح ونقيضه عدم الذبح الخاص في حال زهاق الروح وهو مرفوع الحلية
والطهارة لكن لا يقين إلا بسبق نفس العدم لا بعدمه في حال زهاق الروح،
واستصحابه إلى حال زهاق الروح لا يثبت كون العدم في حال زهاق الروح إذ
المتعبد به (2) ذات القيد لا بما هو قيد مع أنه لا اثر الا للمتقيد (3) به، ومن المعلوم
أن نقيض ما لوحظ في محل خاص عدمه في ذاك المحل، لأن وحدته من شرائط
التناقض.
ومما ذكرنا تبين أن أمر نقيض المذكى أشكل من أمر موضوع الحرمة
والنجاسة، فإنه يمكن فرض موضوع الحرمة والنجاسة مركبا من زهاق الروح
وعدم الذبح الخاص بنحو العدم المحمولي ولا يمكن فرضه في النقيض
المحكوم بديله بالحلية والطهارة كما عرفت.
ثم انه لو كان هناك في الأدلة عموم وإطلاق استثنى منه المذكى ولم يكن العام
أو المطلق معنونا بعنوان وجودي أو عدمي لا من حيث نفسه ولا من حيث
التنويع من قبل المخصص كما حققناه في محله (4) لا يكن إثبات حكم العام
بإحراز عنوان مبائن لعنوان الخاص ونفى حكم الخاص بالمضادة لا نفى حكم

(1) (خ ل): ونقيضها.
(2) (خ ل): إذ المتعبدية - للمتقيدية.
(3) (خ ل): إذ المتعبدية - للمتقيدية.
(4) نهاية الدراية: ج 1، ص 651.
508

الخاص بنفي موضوعه حتى يقال إن موضوع الخاص أخذ بوجوده الرابطي
ولا يمكن إحراز عدمه الرابطي بالأصل، ونفى عدمه الرابطي بعدمه المحمولي
لا يمكن إلا بالأصل المثبت، فكما يقال في مثل قوله (ع) (1) " المرأة ترى الحمرة
إلى خمسين سنة إلا أن تكون امرأة من قريش " أن نفي كونها قرشية غير ممكن،
وبأصالة عدم الانتساب إلى قريش لا يثبت أنها ليست بقرشية أو غير قرشية إلا أن
المستثنى منه حيث لم يؤخذ معنوانا بعنوان وجودي ولا عدمي فهو محكوم
بحكمه بأي عنوان كان.
ومن العناوين الداخلة في العام المبائنة لعنوان كون المرأة من قريش هي
المرأة التي لا انتساب لها إلى قريش وكونها مرأة وجودانية وعدم انتسابها بالعدم
الأزلي فيستصحب إلى حال وجود المرأة فيثبت لها حكم العام ولمضادة حكم
العام لحكم الخاص بنفي حكم الخاص، فكذا هنا من الأدلة قوله (ع) " لا تصل في
الفراء إلا ما كان منه ذكيا " (2) فان ظاهر المستثنى منه هو الفراء (3) بأي عنوان كان.
ومن تلك العناوين الباقية يجب المستثنى منه ما زهق روحه ولم يكن مذبوحا
بذبح خاص بنحو العدم المحمولي فإنه يباين ما كان ذكيا ولا يجامعه وحكمه
حرمة الصلاة المضادة للجواز المرتب على ما كان ذكيا، وكذلك قوله تعالى
(حرمت عليكم الميتة) إلى قوله تعالى (إلا ما ذكيتم) (4) المفسر في
عدة روايات بادراك ذكاة المذكورات في الآية، فتنقسم المذكورات في الآية
باعتبار إمكان إدراك ذكوتها بذبحها إلى المذكى وغيره، لكن لا بعنوان وجودي أو
عدمي بل جامعها ما زهق روحه، وبيان خصوص المنخنقة والموقوذة والمتردية
وأشباهها من حيث تداول اكلها في الجاهلية، وحينئذ إذا أحرز زهاق الروح
معنونا بعنوان عدمي ولو بنحو العدم المحمولي المبائن لعنوان المذكى يثبت له

(1) الوسائل: ج 2، ص 580، ب 31، ح 1 - أبواب الحيض.
(2) الكافي: ج 3 ص 397 - ح 3 - الوسائل: ج 4 ص 346 ح 5345 - ب 2 والتهذيب: ج 2 ص
204 - ح 5 - الوسائل: ج 4 ص 348 ح 5354 - ب 3.
(3) (خ ل): الغراء.
(4) المائدة: الآية 3.
509

حكم المستثنى منه وينفى عنه حكم الخاص بالمضادة لا بنفي حكمه بنفي
عنوانه، هذا ما بنى شيخنا العلامة الأستاذ - قدس سره - في فقهه وأصوله (1) وقد
بينا في مبحث العام والخاص من مباحث الجزء الأول من الكتاب (2) بأنه لا يخلو
عن محذور، لان تلك العناوين الباقية تحت العام ليست مأخوذة في موضوع
الحكم حتى يكون التعبد بها تعبدا بحكمها لينفى حكم الخاص بالمضادة
ومعنى ثبوت الحكم لافراد العام بأي عنوان كانت هو عدم دخل عنوان من تلك
العناوين وجودا ولا عدما في موضوعيتها للحكم لا دخلها بأجمعها في موضوع
الحكم، ولذا التجئنا إلى إصلاحه بتقريب آخر ذكرناه هناك وهو أن دليل العام
يدل بالمطابقة على ثبوت الحكم لجميع أفراد موضوعه بعنوان نفسه، ويدل
بالالتزام على عدم منافاة عنوان من العناوين الطارئة لحكمه، حيث إنه حكم
فعلى تام الحكمية لا حكم لذات الموضوع من حيث عنوانه بحيث لا يأبى عن
لحوق حكم اخر له بعنوان اخر يطرأ عليه، وشأن دليل المخصص إثبات منافاة
عنوان خاص لحكم العام، ولأخصيته وأقوائيته في الكشف يقدم على العام
ويخصصه ومن جملة العناوين التي هي باقية تحت المدلول الالتزامي العنوان
المبائن لعنوان الخاص، بداهة عدم مجامعة العدم المحمولي والوجود الرابطي،
فحيث إن العام يدل بالالتزام على أنه لا حكم له ولا لغيره من العناوين إلا حكم
العام فهو ينفى حكم الخاص عن هذا العنوان بالمناقضة لا بالمضادة، بالالتزام
لا بالمطابقة (3) هذا بعض الكلام فيما يناسب المقام.

(1) 2 - نهاية الدراية: ج 1، ص 653.
(3) (خ ل): ما في النسخ هكذا، بالمناقضة لا بالمضادة لا بالمطابقة بالالتزام.
510

(التحقيق في أصالة عدم التذكية في المشكوك)
218 قوله: ومع الشك في تلك الخصوصية فالأصل عدم تحقق (1)
الخ:
ينبغي أولا بيان ما يتصور من الخصوصية التي لها يكون الحيوان قابلا للتذكية
من حيث الحلية والطهارة، فنقول لا شبهة في اختلاف الحيوانات من حيث
الحكم على بعضها بالحل والطهارة بذبحها بشرائطه، والحكم على بعضها الاخر
بالطهارة فقط، والحكم على بعضها الاخر بالحرمة والنجاسة. وليس هذا
الاختلاف عن جزاف فلا محالة هناك خصوصية في الحيوان بحيث يقتضى
الحلية والطهارة أو الطهارة فقط أو الحرمة والنجاسة فيكون الحيوان بتلك
الخصوصية.
تارة قابلا للتذكية المفيدة للحل والطهارة.
وأخرى قابلا للتذكية المفيدة للطهارة فقط.
وثالثة غير قابل للتذكية بوجه، فسواء كانت تلك الخصوصية مأخوذة في
عرض سائر الأمور الدخيلة في الحل والطهارة أو من اعتبارات الذبح الخاص
المفيد لهما مثلا يمكن التعبد بعدمها المحمولي أو بعدم الذبح الخاص
المحمولي.
ويمكن أن يقال إن الخصوصية التي يقتضيها البرهان لا تجب أن تكون أزيد
من المصالح المقتضية للحل والطهارة أو المفاسد المقتضية للحرمة والنجاسة كما

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 190، س 14 وكفاية الأصول: 349، (ت، آل البيت) و (خ ل): في
تلك الخصوصية عدم تحقق.
511

يشهد لها ما ورد في بيان الحكم المقتضية لحرمة مالا يؤكل لحمه من الميتة
والسباع والمسوخ، بل في المسوخ عللت حرمتها بأنها حيث كانت في الأصل
مسوخا فاستحلالها استخفاف بعقوبة الله تعالى حيث مسخها، ومن الواضح أن
المصالح والمفاسد وعلل الاحكام ليست بنفسها تعبدية ولا مما رتب عليها
حكم شرعي بترتب شرعي بل سبب واقعي لأمر شرعي، فلا معنى للتعبد بها
تعبدا بحكمها. ثم إنه لو فرض أن الخصوصية الموجبة للقابلية غير المصالح
والمفاسد من المحتمل أن تكون تلك الخصوصية ذاتية ككونه غنما أو بقرا أو إبلا
مثلا، لا خصوصية قائمة بالغنم والبقر والإبل حتى إذا شك وجودها في حيوان
اخر يقال إنها مسبوقة بالعدم بعدم ذلك الحيوان ومع وجود الحيوان قطعا يشك
في وجود تلك الخصوصية بوجود الحيوان، بل حيث إن الخصوصية ذاتية فلا
ينحل إلى ما هو مقطوع الوجود وما هو مشكوك الوجود، بل هذا المقطوع وجوده
إما قابل بذاته للحلية والطهارة أو غير قابل بذاته لهما، وتعيين الحادث بالأصل
غير صحيح.
ثم اعلم أنه على تقدير أن تكون تلك الخصوصية خصوصية وجودية قائمة
بالحيوان مقتضية للحل والطهارة بذبحه بشرائطه فهي إنما تكون قابلة للتعبد
وجودا وعدما إذا رتب عليها ولو بنحو القيدية الحلية والطهارة ليكون دخلها
شرعيا وترتبهما عليها ترتبا شرعيا، مع أنه لا موقع للدخل شرعا ولا للترتب شرعا
إلا إذا اخذ الشئ في موضوع المرتب عليه الحكم الشرعي إما بنحو الجزئية أو
بنحو القيدية ليقال يدخله في السبب الشرعي للحل والطهارة.
نعم، إن كان عنوان التذكية عنوانا ثبوتيا متحقق بالذبح مثلا بشرائطه شرعا
وكان هذا العنوان الثبوتي الاعتباري الشرعي موضوعا للحل والطهارة تارة
وللطهارة أخرى، فدخل الخصوصية في الحيوان وإن كان واقعيا شرعيا يجدى
في مقام الحكم بعدم ثبوت التذكية لمكان الشك في محصلها، ولا حاجة إلى
التعبد بتلك الخصوصية أو بالذبح المتخصص بتلك الخصوصية حتى يقال لا
حكم لتلك الخصوصية شرعا لا بنحو الجزئية ولا بنحو القيدية بل التعبد بذلك
512

العنوان الاعتباري الشرعي وجودا أو عدما كان في المقام وإن كان منشأ الشك في
ثبوته أمرا له دخل في تحققه واقعا لا شرعا.
وربما يقال (1) أن التذكية عرفا بمعنى الذبح وما اعتبر فيها من التسمية
والاستقبال شرائط تأثير الذبح في الحلية والطهارة إلا ان ظاهر الاستعمالات
العرفية والشرعية انها بمعنى الطهارة والنزاهة وما أشبههما وإطلاقهما على الذبح
أو على إرسال الكلب المعلم أو على أخذ الجراد والحيتان وأشباه ذلك، لأنها
أسباب طيب اللحم للأكل وسائر الاستعمالات أو لما عدا الأكل من
الاستعمالات، وذلك لأن التذكية والزكاة بمعنى الطيب والنزاهة مفهوم مبائن
لمفهوم الذبح المطلوب والذبح الخاص، وقيام الطيب بالذبح لا يعقل إلا ان
يكون إما بقيام حلولي ناعتي ولو انتزاعا، وإما بقيام صدوري. والأول من قبيل
قيام العرض بموضوعه، والثاني من قبيل قيام المسبب بسببه.
فان كان من قبيل الثاني ثبت المطلوب وهو أن التذكية مسبب عن الذبح
وإن كان من قبيل الأول فلابد أن يصدق عنوان الوصف الاشتقاقي من التذكية
والزكاة على الذبح مع أنه يصدق الطيب وصفا إلا على اللحم فإنه الموصوف بأنه
ذكى أو مذكى فيعلم منه أنه لا قيام للذكاة بالذبح، أو بنحو قيام المعلول بعلته.
ومنه تبين أن التذكية والذكاة ليسا من عناوين الحكم من الحلية والطهارة، أما
عدم قيامهما بهما بنحو قيام المسبب بسببه فواضح، فان الحكم ليس سببا لهما
بل ظاهر الأدلة ترتبهما عليه.
وأما عدم قيامهما بقيام ناعتي حلولي انتزاعا، فلأن الحلية لا يوصف بأنها طيبة
بل الموصوف به اللحم دون الحكم. فاتضح أن الأقوى من التذكية من
الاعتبارات الشرعية الوضعية (2) المتحققة بأسباب خاصة، لأن الذبح تذكية وأن
تأثير التذكية في الحلية والطهارة مشروطة إما جعلا أو واقعا بأمور اخر، لوضوح أن
الحلية والطهارة غير منوطة إلا بالتذكية فلا معنى لأن يكون الحيوان مذكى ومع

(1) أجود التقريرات: ج 2، ص 194.
(2) (خ ل): الوصفية.
513

ذلك لا حلال ولا طاهر.
219 - قوله: نعم لو علم بقبوله للتذكية وشك (1) الخ:
لا يخفى عليك ان التذكية الشرعية ربما تؤثر في الحلية والطهارة كما في تذكية
مأكول اللحم، وربما تؤثر في الطهارة فقط كما في تذكية غير المسوخ مما لا يؤكل
لحمه، وربما تؤثر في الحلية فقط كما في الجراد والحيتان، حيث إنه لا اثر
لصيدها الا حليتها لبقاء أمثالها على الطهارة حيا وميتا، وعليه يحمل ما ورد (2) من
الجراد حيه وميته ذكى أي طاهر لا انه لا يحتاج إلى الذكاة من حيث الحلية، بل
ورد (3) ان صيد الجراد ذكوته، وان السمك (4) اخراجه من الماء ذكوته، فيعلم من
هذه القسمة (5) بلحاظ ما ورد في هذا الباب شرعا ان للتذكية في كل مورد بحسبه
تأثيرا من حيث الحلية وتأثيرا من حيث الطهارة، وان الحيوان له جهتان من
القابلية للحلية والطهارة، وان التذكية لها اثر ان يجتمعان ويفترقان شرعا وان
كانت التذكية العرفية خصوص الذبح مثلا أو من حيث خصوص الطهارة فرضا،
بل ظاهر الآية المتكفلة لتحريم الميتة واستثناء ما ذكى دخل التذكية في رفع
الحرمة، وان حرمة غير المذكى ليست من حيث نجاسته كما في السمك الذي
يموت في الماء، وعليه فلا مجال لقاعدة الحل مع أصالة عدم التذكية المؤثرة في
الحلية كما لا مجال لأصالة الطهارة مع أصالة عدم التذكية المؤثرة في الطهارة.
واما توهم ان قبول التذكية امر بسيط لا تركب فيه فهو اما متحقق أولا؟ فإذا
فرض ان الذبح مؤثر شرعا في طهارته وفى جواز حمله من الانتفاعات فهو قابل
للتذكية شرعا فلا مجال لأصالة عدم القبول أو عدم التذكية، وحينئذ لا يبقى شك

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 193، س 1 وكفاية الأصول: 349، (ت، آل البيت).
(2) المحاسن: ج 2، ص 480، ح 503، كتاب المآكل.
(3) هذا مضمون الرواية المذكورة في الوسائل: ج 16، ب 31، ص 297، ح 6 و 7 و 8.
(4) الوسائل: ج 16، ب 31، ص 297 - 296، ح 8 والوسائل: ج 24، ب 30، ص 72، تحقيق
مؤسسة آل البيت ومستدرك الوسائل: ج 16، ب 27، ص 153، م 3 - 19441: تحقيق آل البيت.
(5) (خ ل): النسبة.
514

الا من حيث الحلية فتجري قاعدة الحل فهو مدفوع، بان بساطة القابلية وعدم
تركبها معنى، وتعدد جهة القابلية وتكثرها معنى اخر، فكما ان العلم بسيط
والقدرة بسيطة، مع أن العلم بشئ ليس علما بكل شئ والقدرة على شئ
ليست قدرة على كل شئ قابلية شئ لشئ ليست قابلية لكل شئ.
نعم، في اجراء أصالة عدم التذكية بناء على ما قدمنا اشكال من حيث إن
القابلية وان كانت متعددة لكنها للمحاذير المتقدمة (1) ليست بنفسها مجرى
الأصل. ونفس عنوان التذكية بناء على كونها من الاعتبارات الشرعية القابلة
للتعبد بها وجودا أو عدما لا تكون مجرى الأصل هنا، لان المذكى من حيث
الحلية والطهارة وان تعددت الجهات الدخيلة في اعتباره وتعددت الآثار المترتبة
على اعتباره لكنه اعتبار واحد لا متعدد بمعنى ان الحيوان الذي له قابلية
التذكية من حيث الحلية وقابلية التذكية من حيث الطهارة له جهتان من القابلية
وله اثر ان من الطهارة والحلية، لكنه لا يعنون بعنوان المذكى مرتين وليس له من
اعتبار العنوان فردان.
ويمكن ان يقال ان التذكية وان لم يكن كالقابلية والعلم والقدرة من المعاني
التعليقية حتى تتعدد بتعدد متعلقها، فان الطيب ليس له الا موضوع يقوم به وليس
له متعلق، الا ان تعددها بتعدد جهاتها وحيثياتها، فكما ان الطهارة معنى واحد
والطهارة من الحدث الأكبر غير الطهارة من الحدث الأصغر، ولذا يرتفع حدث
الحيض بالغسل ولا يرتفع الأصغر الا بالوضوء، فكذا التذكية فان طيب الاكل غير
طيب الاستعمال فالحيوان طيب الاستعمال وليس بطيب الاكل، وقد عرفت
سابقا (2) ان الحلية والطهارة من اثار التذكية لا انها عين الحكم ومن عناوينه،
وحينئذ فلا مانع مع اليقين بكونه مذكى من حيث الاستعمال عدم كونه مذكى
من حيث الاكل.

(1) التعليقة: 217، ص 499.
(2) التعليقة: ص 508.
515

220 - قوله: في أن الجلل في الحيوان هل توجب (1) الخ:
هذا بالإضافة إلى الحلية لمجرد الفرض، والا فالمشهور على حرمة اكل لحم
الجلال، ولا معنى لحرمته الا حرمة اكله بعد الذبح، والا فحرمته حيا على فرض
ثبوتها لا (2) اختصاص لها بالجلال كما أن حرمتها من دون ذبح كذلك، ومع فرض
حرمته بالذبح لا معنى للشك في الحلية بالذبح نعم بالإضافة إلى الطهارة صحيح،
لان المشهور على طهارته وان كان عرقه أو لعابه نجسا، فيمكن فرض الشك في
بقاء طهارته بالذبح الثابتة لها قبل الجلل، واما استصحاب بقاء طهارة الفعلية حال
الحياة فالشك فيه مسبب عن الشك في بقاء طهارته بالذبح فلا مجال له مع
استصحاب تلك الطهارة. نعم، لو قيل بنجاسة بدنه بالجلل وشك في طهارته
بالذبح لم يكن مجال لاستصحاب طهارته بالذبح الثابتة له قبل الجلل، لان
التذكية تؤثر في حدوث الحلية وفى بقاء الطهارة الفعلية والشك في بقاء الحكم
وهو حدوث الحلية بالذبح مع اليقين بسببه يصحح جريان الاستصحاب، بخلاف
الشك في الطهارة، لان اليقين ببقاء الطهارة الفعلية بالذبح قد زال بعروض الجلل
على الفرض ولم يكن هناك يقين بحدوث الطهارة بالذبح فليس الا الشك في
حدوث الطهارة ولا معنى لقطع النظر عن الحدوث والبقاء إذ الحصة المسقطة
من الطهارة هي الحصة الموجودة في ضمن اليقين بالبقاء، وهذه الحصة مقطوع
الارتفاع فلا يمكن اثبات الحصة الموجودة في ضمن الحدوث الا انه لا قائل
بنجاسة بدن الحيوان بالجلل كما عرفت.
221 - قوله: وان أصالة عدم التذكية محكمة فيما شك فيها (3) الخ:
قد عرفت الكلام فيه مفصلا (4) وانه لا مجال لها الا إذا اخذ عدمها بنحو العدم

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 193 وكفاية الأصول: 349، (ت، آل البيت).
(2) (خ ل): ثبوتها الا...
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 193 وكفاية الأصول: 349، (ت، آل البيت).
(4) التعليقة: 217، ص 500.
516

المحمولي، واما ما ورد في اخبار الباب (1) من الحكم بحرمة الصيد الذي رماه ولم
يعلم أن سهمه هو الذي قتله فليس من حيث التعبد بعدم كونه مذكى من باب
أصالة عدم التذكية بل صريح اخبار الباب إناطة الحلية بالعلم بان سهمه هو الذي
قتله، وانه مع عدم العلم محكوم بالحرمة من حيث اشتراط الحلية بالعلم من دون
حاجة إلى التعبد في صورة عدم العلم.
نعم، حيث إن موضوع الحلية الواقعية بحسب لسان أدلتها هو المذكى لا
المعلوم انه مذكى، فارتفاع الحلية الواقعية وان كان ملازما (2) للحرمة الواقعية ليس
الا بارتفاع التذكية واقعا، ففرض عدم الذبح الخاص في حال زهاق الروح فرض
نقيض الذبح الخاص في تلك الحال، وعدم الذبح الخاص في تلك الحال وان لم
يكن مجرى الاستصحاب كما مر لكنه قابل للتعبد به عند الشك فيه فيكون التعبد
بعدمه في هذه الحال كالتعبد بالحلية في قاعدة الحل في غير الحيوان، فمفاد
الاخبار على أي حال حكم تعبدي لكنه لا بعنوان الاستصحاب بل بعنوان التعبد
بأحد طرفي الشك في هذه الحال، فلا ينطبق على أصالة عدم التذكية على أي
حال.

(1) الوسائل: ج 16، ب 18 ص 277 - أبواب الصيد.
(2) (خ ل): يلازما.
517

(الثاني: في حسن الاحتياط شرعا وعقلا)
222 - قوله: بداهية توقفه على ثبوته توقف العارض على معروضه (1)
الخ:
أي توقف الامر بالاحتياط على امكان موضوعه وثبوته في مرتبة موضوعيته
مع أنه ليس له امكان وثبوت الا من ناحية ما يتوقف عليه توقف العارض على
معروضه، والتحقيق ان العارض على قسمين:
أحدهما، عارض الوجود، وهو ما يحتاج إلى موضوع موجود كالبياض
المحتاج في وجوده إلى موضوع موجود بل العوارض الذهنية من النوعية
والجنسية وأشباهها كذلك، لتوقفها على وجود معروضها في الذهن فالأول من
العوارض العينية. والثاني من العوارض الذهنية.
ثانيهما، عارض الماهية، وهو مالا يحتاج إلى موضوع موجود خارجا أو
ذهنا، بل ثبوت المعروض بثبوت عارضه، والعروض تحليلي كالفصل فإنه عرض
خاص للجنس مع أن الجنس في حد ذاته ماهية مبهمة، وتعينها وتحصلها بتعين
طبيعة الفصل وتحصلها، ولا يعقل ان يكون للمبهم ثبوت الا في ضمن المتعين
وكالتشخص الماهوي بالإضافة إلى النوع، فان طبيعة النوع لا ثبوت لها خارجا الا
بعين ثبوت الماهية الشخصية، فالماهية الشخصية وان انحلت بالتحليل العقلي
إلى طبيعة نوعية والتشخص الماهوي ك‍ " ماهية زيد " و " ماهية عمرو " بالإضافة
إلى " ماهية الانسان " الا ان ثبوت الطبيعي بثبوت حصة المفررة في مرتبة ذات

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 194 وكفاية الأصول: 350، (ت، آل البيت).
518

زيد، وكالوجود مطلقا بالإضافة إلى الماهية فإنه من قبيل عارض الماهية والا
لاحتاج عروض الوجود عليها إلى وجود الماهية فاما ان يدور أو يتسلسل،
فعروض الوجود عليها تحليلي، وثبوت الماهية بنفس الوجود فالوجود بنفسه
موجود بالذات والماهية بالعرض. إذا عرفت ذلك فاعلم أن الحكم بالإضافة إلى
موضوعه دائما من قبيل عوارض الماهية لا من قبيل عوارض الوجود إذ المراد
بالحكم، اما الإرادة والكراهة التشريعيتان، واما البعث والزجر الاعتباريان.
فان أريد منه الإرادة والكراهة، فمن الواضح ان الشوق المطلق في النفس
لا يعقل وجوده، لان طبعه تعلقي فلا يوجد الا متعلقا بشئ وذلك الشئ
لا يعقل ان يكون بوجوده الخارجي متعلقا له ولا بوجوده الذهني.
اما الأول فلان الحركات العينية والوضعية وأشباههما من الاعراض
الخارجية القائمة بالمكلف فكيف يعقل ان يتعلق بها الشوق القائم بنفس
المولى إذ يستحيل ان تكون الصفة النفسانية في النفس ومقومها ومشخصها في
خارج النفس، والا لزم اما خارجية الامر النفساني أو نفسانية الامر الخارجي، وهو
خلف، كما يستحيل ان يكون الصفة قائمة بشخص ومشخصها ومقومها قائما
بشخص اخر، لان المشخصية والمقومية لازمهما وحدة المشخص والمتشخص
فكيف يعقل تباينهما في الوجود بتبائن محلهما وموضوعهما.
واما الثاني فلان اتحاد الفعليين محال، وكل فعلية تأبى عن فعلية أخرى،
ولذا لا مناص من الخلع واللبس في توار (د) الصور على المادة. فمقوم الشوق
النفساني لا يمكن ان يكون له فعلية أخرى في النفس بل هو ذات المتصور،
فماهية واحدة تارة توجد بوجود علمي (1) وتصديقي وأخرى بوجود شوقي، بل إن
كانت هذه الصفات من العلم والإرادة اشراقات النفس ووجودات نورية
فلا محالة لا يعقل عروض سنخ من الوجود على الموجود بذلك السنخ من

(1) (خ ل): تصوري.
519

الوجود أو بسنخ اخر، فان المماثل لا يقبل المماثل كما أن المقابل لا يقبل
المقابل، هذا كله ان أريد من الحكم الإرادة والكراهة.
وان أريد منه البعث والزجر الاعتباريان المنتزعان من الانشاء بداعي
جعل الداعي فعلا أو تركا فمن الواضح عند التأمل أيضا ان البعث الاعتباري
بنحو وجوده لا يوجد مطلقا، فان البعث أيضا امر تعلقي فلا محالة لا يوجد الا
متعلقا بالمبعوث إليه، وحيث إن سنخ البعث اعتباري فلا يعقل ان يكون مقومه
ومشخصه الا ما يكون موجودا بوجوده في أفق الاعتبار، والموجود الخارجي
المتأصل لا يعقل ان يكون مشخصا للاعتباري والا لزم اما اعتبارية المتأصل أو
تأصل الاعتباري، فتعين ان تكون الماهية والمعنى متعلق البعث دون الموجود
بما هو، غاية الامر ان المعنى المشتاق إليه والمبعوث إليه مأخوذ بنحو فناء
العنوان في المعنون لترتب الغرض الداعي على المعنون، وفناء العنوان في
المعنون لا يوجب انقلاب المحال وامكان المستحيل كما بيناه مبسوطا في
مسالة اجتماع الأمر والنهي (1).
وفيما ذكرناه هنا كفاية لاثبات ان الحكم مطلقا بالإضافة إلى موضوعه من
قبيل عوارض الماهية فلا يتوقف ثبوته على ثبوت موضوعه، بل ثبوت موضوعه
بثبوته والعروض تحليلي، ومنه تعرف انه لا دور إذ ليس هناك تعدد الوجود
حتى يلزم الدور، أو يجاب بان الدور معي، أو ان الحكم يتوقف على ثبوت
الموضوع لحاظا لا خارجا. وقد أشرنا إلى كل ذلك مرارا.
نعم، لازم اخذ الحكم في موضوع نفسه أو اخذ ما ينشأ من قبل شخص
الحكم في موضوع نفسه هو الخلف، أو اجتماع المتقابلين، فان الحكم حيث إنه
عارض لموضوعه ولو تحليلا فهو متأخر عنه فلو اخذ هو أو ما ينشأ من قبله فيما
هو متقدم عليه طبعا لزم من فرض اخذه تقدم المتأخر وتأخر المتقدم، فالموضوع

(1) نهاية الدراية: ج 1، ص 535.
520

متقدم ومتأخر والحكم متأخر ومتقدم وهو اجتماع المتقابلين، وان التزم بأحد
الامرين لزم الخلف، وملاك التقدم والتأخر الطبعيين (1) موجود في الحكم
وموضوعه، لان ملاكهما امكان الوجود للمتقدم ولا وجود للمتأخر وعدم امكان
الوجود للمتأخر الا والمتقدم موجود، فان الواحد والكثير كذلك حيث يمكن
وجود الواحد، ولا وجود للكثير ولا يمكن وجود الكثير الا والواحد موجود، وكذا
العلة الناقصة ومعلولها فإنه يمكن وجود العلة الناقصة ولا وجود للمعلول، ولكن
لا يمكن وجود المعلول الا والعلة موجودة، وكذا الشرط أو المشروط والشوق
مثلا، والبعث كذلك، فان الفعل له تقرر ما هوى وثبوت ذهني وخارجي،
ولا شوق ولا بعث نحوه، ولكن لا يمكن ثبوت الشوق ولا البعث الا والفعل في
مرتبتهما موجود، ولا يخفى ان اخذ الحكم بشخصه في موضوع نفسه وان كان
كذلك من حيث لزوم هذا المحذور الا ان هذا المحذور لا يلزم من اخذ العلم به
في موضوعه، ولا من اخذ قصد القربة في موضوعه.
اما الأول، فلما مر في أوائل مباحث القطع (2) من أن الحكم قائم بشخص
الحاكم والعلم قائم بنفس العالم، فلا يعقل ان يكون مشخص الحكم مقوما لصفة
العلم، فالموقوف هو الحكم بوجوده الحقيقي وهو المتأخر بالطبع، والمقوم
لصفة العلم المأخوذ في الموضوع ماهية الحكم الشخصي دون وجوده، لان
مقوم العلم هو المعلوم بالذات لا المعلوم بالعرض، فالموقوف عليه والمتقدم
بالطبع غير المعلوم بالعرض المتأخر بالطبع (3) وبقية الكلام فيما تقدم.
واما الثاني، فبما مر مرارا (4) ان الامر بوجوده الخارجي لا يعقل ان يكون
داعيا بل بوجوده العلمي الحاضر في النفس، وقد عرفت ان المعلوم بالذات غير
المعلوم بالعرض، فالمتأخر طبعا هو الحكم بوجوده الخارجي، والمتقدم بالطبع

(1) (خ ل): الطبيعين.
(2) التعليقة: 27، ص 75.
(3) (خ ل): فالطبع.
(4) التعليقة: 46 و 69، ص 106 و 150.
521

هو الحكم بوجوده العلمي. فراجع مباحث القطع (1)، ومبحث التعبدي
والتوصلي من مباحث الجزء الأول (2). ثم إن هذا كله بالإضافة إلى المحذور
المذكور في المتن (3) من حيث توقف العارض على المعروض القابل للانطباق
على محذور الدور وعلى محذور الخلف، واما ساير المحاذير الاخر المذكورة في
باب قصد القربة وشبهه من لزوم عدم الشئ من وجوده أو علية الشئ لعلية
نفسه فقد تعرضنا لها ولدفعه في باب التعبدي والتوصلي، وفى أواخر مباحث
القطع (4) عند التعرض لقصد الوجه ونحوه فراجع (5).
نعم، خصوص الامر بالاحتياط فيه محذور اخر وهو ان الامر الاحتياطي ان
تعلق بذات الفعل بعنوانه لا بعنوان التحفظ على الواقع فإنه وان أمكن اخذ قصد
الامر في موضوع نفسه الا ان لازمه خروج الشئ عن كونه احتياطا، لان
موضوعه محتمل الوجوب حتى ينحفظ عليه وبعد فرض تعلق الامر بذات الفعل
بقصد هذا الامر كان تحقيقا للعبادة الواقعية المعلومة المنافية لعنوان الاحتياط،
وهو خلف، وان تعلق الامر بالاحتياط بعنوانه المأخوذ فيه قصد شخص الامر فهو
خلف من وجه اخر لان معناه جعل الاحتياط عبادة لا جعل الاحتياط في العبادة
والكلام في الثاني دون الأول، وسيجيئ (6) انشاء الله تعالى ما يتعلق بالمقام.
223 - قوله: مع أن حسن الاحتياط لا يكون بكاشف (7) الخ:
لكن ليعلم ان أوامر الاحتياط ليست كالأوامر الإطاعة بحيث يتمحض في
الارشاد حتى لا يكون حسنه علة للامر به مولويا على الملازمة وذلك لما عرفت
في مبحث دليل الانسداد (8) ان المانع عن تعلق الامر المولوي بالفعل ليس مجرد

(1) التعليقة: 27، ص 75.
(2) نهاية الدراية: ج 1، ص 234.
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 194، بداهية...
(4) التعليقة: 46، ص 106.
(5) فراجع المصدر الثاني والرابع.
(6) التعليقة: 227، ص 527.
(7) كفاية الأصول: ج 2، ص 194 وكفاية الأصول: 350، (ت، آل البيت).
(8) التعليقة: 145، ص 309.
522

استقلال العقل بحسنه كي يتخيل ان الانقياد الحقيقي من
حيث الحسن العقلي، ولا المانع ان حسن الإطاعة والانقياد في رتبة متأخرة عن
الامر فلا يعقل ان يكون موجبا للامر، فإنه انما يكون كذلك بالإضافة إلى الامر
بذات الفعل المتقدم على الإطاعة لا بالنسبة إلى الامر المعلق بنفس الإطاعة،
فان مثل هذا الحسن واقع في مرتبة العلة للامر، بل المانع عدم قابلية المورد
للحكم المولوي، لكونه محكوما عليه بالحكم المولوي، كما في موارد الإطاعة
الحقيقية، واما في موارد الاحتياط فليس فيها الا احتمال الامر ولا مانع من البعث
المولوي نحو المحتمل، لعدم كفاية الاحتمال للدعوة كمالا مانع من تنجيز
المحتمل بالامر الاحتياطي طريقيا، فان أريد عدم الكاشفية لامتناع المنكشف
فهو غير وجيه، وان أريد عدم تعينه لاحتمال الارشادية والمولوية فهو وجيه،
فتدبر.
224 - قوله: مضافا (1) إلى عدم مساعدة دليل حينئذ على حسنه
الخ (2):
فان المفروض في كلام هذا القائل - وهو الشيخ الأعظم - قده - في رسالة
البراءة (3) - تعلق الامر بذات الفعل لا باتيانه بداعي كونه محتمل الوجوب مثلا،
ومن الواضح ان الحسن عقلا ليس ذات الفعل بما هو بل بما هو احتياط، فاتيانه
بما هو محتمل الوجوب هو الذي يحكم العقل بحسنه، فان اكتفينا في العبادية
باتيان الفعل بداعي احتمال وجوبه، أو بداعي حسنه بعنوانه عقلا فهو كما
سيجيئ أشاء الله تعالى، والا لم يكن مجال للاحتياط في العبادة وان كان يقع
الفعل بهذا الداعي حسنا عقلا، وسيجيئ انشاء الله تعالى بقية الكلام (4).

(1) عبارة التعليقة هكذا: معناه إلى عدم...
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 195 وكفاية الأصول: 350، (ت، آل البيت).
(3) الرسائل: ج 1، ص 382 (ط، جماعة المدرسين)، والرسائل: ص 229، مخطوط.
(4) التعليقة: 227، ص 526.
523

225 - قوله: قلت لا يخفى ان منشأ الاشكال هو تخيل (1) الخ:
لا يخفى عليك ان قصد القربة المنوط به عبادية العبادة ان كان لخصوص
الاتيان بداع الامر المحقق تفصيلا أو اجمالا، فالعبادة لا يعقل تحققها، لأن المفروض
ان الشبهة وجوبية، ولا امر محقق لا تفصيلا ولا اجمالا سواء كان قصد
القربة مأخوذا في موضوع الامر الأول أو كان بأمر اخر، أو كان مأخوذا في
الغرض، فان قصد القربة لا يختلف معناه الدخيل في مصلحة الفعل الباعث على
الامر به باختلاف طرق اثباته، فبناء على هذا وان كان مأخوذا في الغرض لكنه
حيث لا ثبوت لما اخذ في الغرض على الفرض فلا يعقل اتيان الفعل على نحو
يترتب عليه الغرض وان كان قصد القربة هو اتيان الشئ بداع الامر - سواء كان
محققا أو محتملا - فالاحتياط بمكان من الامكان سواء اخذ قصد القربة بهذا
المعنى الأعم في متعلق الامر الأول أو كان بأمر اخر، أو مأخوذا في الغرض.
فاتضح ان مبنى الاشكال في امكان الاحتياط وامتناعه أجنبي عن اشكال
قصد القربة في العبادات من حيث امكان اخذه في متعلق أوامرها بها أو عدم
امكان اخذه الا في الغرض وان كان محذور تصحيح مورد عبادية مورد الاحتياط
بالامر الاحتياطي - تحقيقا للامر المنوط به العبادة مشتركا مع محذور تصحيح
عبادية العبادات بأوامرها، مع انك قد عرفت انه على فرض دفع المحذور هناك
لا يندفع هنا، واما ان عبادية العبادة يحتاج إلى امر محقق أو يكفيها احتماله
فسيجئ انشاء الله تعالى بيانه (2).
226 - قوله: على تقدير الامر به امتثالا الخ (3).
فان قلت: المعلول الفعلي يتوقف على علة فعلية ولا يكفيه العلة التقديرية،

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 195 وكفاية الأصول: 351، (ت، آل البيت).
(2) التعليقة: 226.
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 196 وكفاية الأصول: 351، (ت، آل البيت).
524

فالحركة نحو الفعل لا يعقل استنادها إلى الامر على تقدير ثبوته بل لا بد من
استناده (1) إلى شئ محقق، وليس في البين الا احتمال الامر فإنه شئ فعلى،
فلو صار الفعل قربيا فإنما يصير به لا بالامر على تقدير ثبوته، وهل هو الا
الانقياد؟ لا انه إطاعة تارة وانقياد أخرى.
قلت: الامر بوجوده الواقعي لا يكون محركا ابدا، ضرورة ان مبدء الحركة
الاختيارية هو الشوق النفساني، فلا بد له من علة واقعة في أفق الشوق النفساني
فلا بد من كون الامر بوجوده الحاضر للنفس داعيا (2) ومحركا دائما، وكما أن الامر
الحاضر للنفس المقترن للتصديق الجزمي قابل للتأثير في حدوث الشوق كذلك
الامر الحاضر المقترن بالتصديق الظني أو الاحتمالي، فإذا كان التصديق القطعي
موافقا للواقع كانت الصورة الحاضرة من الامر صورة شخصه، فينسب الدعوة
بالذات إلى الصورة، وبالعرض إلى مطابقها الخارجي، وإذا لم يكن التصديق
القطعي موافقا للواقع كانت الصورة الحاضرة صورة مثله المفروض، فلا شئ في
الخارج حتى تنسب إليه الدعوة بالعرض فيكون انقيادا محضا لا امتثالا وإطاعة
للامر وانبعاثا عنه، فكذا الامر المظنون أو المحتمل، فالامر المظنون أو المحتمل
هو الداعي وهو بهذه الصفة فعلى في هذه المرتبة، فان وافق الواقع نسب إليه
الدعوة وكان انبعاثا عنه وامتثالا له بالعرض، والا فلا، بل كان محض الانقياد كما
في صورة القطع طابق النعل بالنعل. ومنه علم الوجه في اختيار الشق الثاني من
الشقين المتقدمين في عبادية العبادة، ولا حقيقة للامتثال المقرب عقلا الا
الانبعاث ببعث المولى وقد عرفت كيفيت الانبعاث.

(1) والصحيح: استنادها.
(2) (خ ل) للنفس وداعيا.
525

(التحقيق في متعلق الامر بالاحتياط)
227 - قوله: بل لو فرض تعلقه بها لما كان من الاحتياط (1) الخ:
توضيح الكلام إلى اخر ما افاده في مقام هو ان الامر بالاحتياط إذا كان
مولويا بداعي جعل الداعي، فاما ان يكون متعلقا بذات محتمل الوجوب، أو
متعلقا به بما هو محتمل الوجوب.
فان كان متعلقا بذاته فهو محقق لعبادية نفس الفعل بحيث يمكن ان يؤتى به
بداعي هذه الامر المحقق كسائر الأوامر المتعلقة بذوات الافعال بعناوينها
الواقعية، فان الامر حيث إنه مولوي أنشأ بداعي جعل الداعي يمكن اتيان متعلقه
بداعي امره الا انه خارج عن محل الكلام إذ الكلام في الامر بالاحتياط لا في
الامر بغيره، فالالتزام بالامر بهذا الوجه مع أنه مخالف لظاهر الامر بالاحتياط
مخرج لمورده عن كونه احتياطا.
وان كان متعلقا بالفعل بما هو محتمل الوجوب ليكون عنوان التحفظ على
المحتمل محفوظا فهو امر مولوي بالاحتياط بعنوانه الا ان الغرض من خصوص
هذا الامر المولوي.
تارة، يتحقق باتيان متعلقه بما هو محتمل الوجوب وهو الذي يكون حسنا
عقلا سواء انبعث عن هذا الامر أولا، فلا محالة يكون الامر بالاحتياط توصليا
محضا، وحينئذ ان اكتفينا في عبادية محتمل الوجوب بكونه بداعي احتمال
وجوبه فهو عبادة في نفسه - تعلق به امر مولوي بعنوان الاحتياط أو لا - فلا حاجة

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 196 وكفاية الأصول: 352، (ت، آل البيت).
526

إلى فرض تعلق امر مولوي به لهذه الغاية، وان لم نكتف في العبادية باحتمال
الامر فهذا الامر الاحتياطي حيث إنه يسقط ولو لم يؤت بمتعلقه بداع الامر
الاحتياطي امر توصلي غير موجب لعبادية مورده، فلا حاجة إليه بلحاظ الغاية
المقصودة من فرضه هنا.
وأخرى، يكون الغرض منه سنخ غرض لا يترتب على فعل محتمل
الوجوب الا إذا اتى به بداع الامر الاحتياطي المحقق فهو امر مولوي تعبدي، الا
انه يصحح العبادية للاحتياط لا انه يصحح جريان الاحتياط في العبادة، بل نقول
إذا كان (1) الغرض مترتبا على الاحتياط العبادي في مورد العبادة فلا محالة لا
يتحقق هذا الغرض أيضا الا إذا تحقق الغرض من فعل مورد الاحتياط، ولا يتحقق
الا إذا اتى بمورده عباديا، فان كفى احتمال الامر صار مورده عباديا بذاته لا من
ناحية الامر التعبدي المولوي بالاحتياط، فلا حاجة إلى فرض الامر المولوي
التعبدي إذ ليس الكلام في تعداد العبادات بل في جريان الاحتياط، وان لم
يكف الاحتمال لعبادية المورد كان فرض الامر المولوي التعبدي بالاحتياط في
العبادة لغوا بل مستحيلا، فتبين ان فرض تعلق الامر المولوي بالاحتياط، اما لغو
لا حاجة إليه فيما نحن بصدده، أو مستحيل في نفسه، هذه غاية توضيح ما أفيد
في المقام.
والتحقيق ان الامر بمحتمل الوجوب مثلا يتصور على اقسام ثلاثة.
أحدها الامر بمحتمل الوجوب بما هو بحيث يصدر في الخارج معنونا به،
وهو مع أنه خلاف الواقع إذ لا خصوصية لهذا العنوان حتى يجئ صدور الفعل
معنونا به - يرد عليه ان الوجوب مقطوعا كان أو مظنونا أو محتملا لا عروض له
على الفعل المأتي به حتى يتصف بعنوان مقطوع الوجوب أو مظنونة أو محتمله،
بل لا بقاء للوجوب (2) بعد وجود متعلقه في الخارج فالموصوف به هو الفعل

(1) (خ ل): فار.
(2) (خ ل): لالغاء للوجوب.
527

في حد ذاته بعد تعلق الوجوب به وقبل وجوده في الخارج فليس العنوان
المزبور كعنوان التعظيم والتأديب مما يتصف به الفعل الماتى به.
ثانيها الامر بمحتمل الوجوب بنحو الحيثية التعليلية لا الحيثية التقييدية،
لاستحالتها كما عرفت فمرجع الامر باتيان الشئ بداعي امره
المحتمل وحيث انه يستحيل جعل الداعي إلى الفعل في عرض داع اخر إليه
حسب الفرض فلا محالة يكون الامر الاحتياطي داعيا للداعي فيكون الامر
الواقعي المحتمل جعلا للداعي بالإضافة إلى نفس الفعل والامر الاحتياطي
جعلا للداعي إلى جعل الامر المحتمل داعيا فمتعلق الأول من الافعال الأركانية
والثاني من الأعمال الجنانية. وعليه فالامر المولوي حيث لا تعلق له بذات العلم
لا يعقل ان يكون موجبا لعباديته بل متعلق بجعل الامر المحتمل داعيا وحينئذ
فان اكتفيا في العبادية بدعوة الامر المحتمل فالامر المولوي لأجل هذه الغاية
لغو والا يستحيل كما تقدم.
ثالثها الامر بمحتمل الوجوب بنحو المعرفية كالأمر بتصديق العادل عملا
حيث إنه امر بملزومه وهو الفعل الذي أخبر العادل بوجوبه مثلا، لأنما هو معنون
بعنوان تصديق العادل بحيث يقصد اتصاف الفعل، به ولا بداعي تصديق العادل
بحيث يكون الامر المخبر به داعيا بل الامر بتصديق العادل بعنوان ايصال الواقع
بجعل حكم مماثل له فهو انشاء بداعي جعل الداعي إلى ما أخبر بوجوبه العادل
حقيقة بالامر بلازمه وهو تصديق العادل كناية لكنه لا بعنوان انه حكم في عرض
الواقع بل بعنوان انه الواقع فيكون وصوله بالذات وصول الواقع بالعرض وكذا
فعليته وتنجزه بالذات فعلية الواقع وتنجزه بالعرض وهكذا الامر في الامر
الاحتياطي بأنه منبعث عن الغرض الواقعي المنبعث عنه الامر الواقعي لكنه
تحفظا على ذلك الغرض لعدم وصول الامر المنبعث عنه المحصل له خارجا امر
الشارع بما يقوم به ذلك الغرض لكنه لا بعنوان بذاته ليقال انه كسائر ما علم
528

وجوبه واستحبابه بل لعنوان الاحتياط والتحفظ على الواجب الواقعي بعنوان
الكناية فان لازم اتيان محتمل الوجوب التحفظ على الواقع على تقدير ثبوته
وحيث إن هذا الامر لجعل الداعي إلى الفعل لبا حقيقة فهو توصلي في
التوصليات وتعبدي في التعبديات فيمكن اتيان الفعل بداعي هذا الامر فيقع
عبادة وقربيا وان أمكن ان يقع قربيا بداع الامر المحتمل أيضا غاية الامر انه إذا
صدر بداع الامر المحتمل كان احتياطا حقيقيا وحسنا عقلا من حيث إنه انقياد
للامر المحتمل وإذا وقع بداعي هذا الامر الاحتياطي المقطوع كان إطاعة
حقيقية (1) لهذا الامر واحتياطا عنوانا بلحاظ انه الامر الواقعي المحتمل بل
حيث إن هذا الامر منبعث عن الغرض الواقعي وبعنوان التحفظ عليه فلا محالة
يكون هذا الحكم مقصورا على صورة مصادفة الاحتمال الواقع كالأمر بتصديق
العادل بناء على جعل الحكم المماثل بعنوان الطريقية لا الموضوعية فإنه أيضا
مقصور على صورة مصادفة الخبر مثلا للواقع فيكون إطاعة حقيقية (2) على
تقدير الموافقة وانقيادا على تقدير المخالفة كما في صورة الاتيان بداع الامر
المحتمل.

(1) (خ ل): حقيقة.
(2) (خ ل): حقيقة.
529

(التحقيق في مفاد اخبار من بلغ والاستدلال بها)
288 - قوله: لا يبعد دلالة بعض تلك (1) الاخبار على الخ: (2).
ربما يورد عليه بأنها اخبار آحاد (3) ولا يجوز التمسك بها في المسائل
الأصولية وأجيب:
تارة بأنها إما متواترة معنى، أو محفوفة بالقرينة.
وأخرى بان المسائل الأصولية التي لا يصح التمسك بالآحاد فيها هي
المسائل الأصولية الاعتقادية المطلوب فيها العلم والمعرفة لا الأصولية العملية.
وثالثة بان المطلوب ليس اثبات حجية الخبر الضعيف في السنن ليقال بعدم
ثبوتها بالآحاد بل المطلوب اثبات استحباب ما ورد فيه خبر ضعيف باستحبابه
فالمسألة فقهية لا أصولية والخبر الضعيف محقق للموضوع المحكوم عليه
بالاستحباب لا انه دليل على استحبابه نظير الشهرة الموجبة بنفس وجوده للظن
بصدور الخبر المدرجة له في الخبر الموثوق بصدوره.
وأورد على الأخير شيخنا العلامة الأنصاري قده - في رسالته المعمولة (4) في
هذه المسألة بوجوه والمهم منها وجهان.
أحدهما انه لا فرق بين التعبيرين " إذ استحباب كل فعل دل الخبر الضعيف
على استحبابه عبارة أخرى (5) عن حجية الخبر الضعيف في المستحبات ويجوز مثل
هذا التعبير في حجية الخبر الصحيح بان يقال الكلام فيه في وجوب كل فعل دل

(1) عبارة التعليقة هكذا: دلالة بعض الاخبار.
(2) كفاية الأصول ج 2 ص 197 وكفاية الأصول 352 (ت آل البيت).
(3) وهي اخبار من بلغ المذكورة في الوسائل ج 1 - ص 59 - ب 18 - أبواب مقدمة العبادات
4 - التسامح في أدلة السنن للشيخ المرتضى الأنصاري ص 4 و 5 ومجموعة رسائل ص 16.
(5) (خ ل) أقوى.
530

الخبر الصحيح على وجوبه و " لا محصل لجعل الخبر حجة ومتبعا الا انشاء
احكام ظاهرية مطابقة لمدلول الخبر لموضوعاتها ".
ثانيهما سلمنا ان البحث ليس في حجية الخبر الضعيف في المستحبات،
الا ان عدم البحث عن الحجية لا يجعل المسألة فقهية لعدم انحصار المسائل
الأصولية في البحث عن الحجية لوجود ملاك المسألة الأصولية ومناطها فيما
نحن فيه فان المسألة الأصولية كل قاعدة يبتنى عليها الفقه أعني معرفة الأحكام الكلية
الصادرة من الشارع بحيث تكون بعد اتقانها عموما أو خصوصا مرجعا
للفقيه في الأحكام الكلية الفرعية سواء بحث فيها عن حجية شئ أو لا ومن
الواضح ان هذه المسألة ومسألة الاستصحاب وكذا الاحتياط وان كانت مضامينها
استحباب ما دل الخبر الضعيف على استحبابه أو ثبوت الحكم السابق لكل
موضوع احتمل بقاء ذلك الحكم فيه أو ثبوت الوجوب المحتمل مثلا لكنها
احكام كلية لا تنفع المقلد لان العمل بها موقوف على اعمال ملكة الاجتهاد في
فهم المراد والفحص عن المعارض وأشباه ذلك، فهذه احكام شرعية أصولية
تختص بمن ينتفع بها وهو المجتهد في قبال الاحكام الفرعية المشتركة بين
المجتهد والمقلد المبحوث عنها في علم الفقه هذا ملخص ما أفيد (1).
أقول يرد على الوجه الأول ان الحجية وان كانت بمعنى جعل الحكم
المماثل لكنه ليس كل حكم مماثل مجعول مساوقا للحجية بل جعل خاص
بعنوان تتميم الكشف أو بعنوان ابقاء الكاشف والأول اما بعنوان جعل الظن
كالقطع بالقاء احتمال الخلاف أو بعنوان جعل المجمل كالمفصل كما في
الاحتياط الشرعي ومن الواضح قصور أدلة التسامح عن اثبات هذه الخصوصية
بل على العكس من ذلك فان لسانها اثبات الاستحباب باثبات الثواب وان كان
رسول الله - صلى الله عليه وآله - لم يقله فكم فرق بين هذا اللسان ولسان تصديق

(1) مجموعة رسائل ص 18 - 17.
531

العادل، و " انه لا عذر لاحد من موالينا التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا " (1) و " ان ما
يؤدى الراوي فعنى يؤدى " (2)، أو لسان ابقاء اليقين وعدم نقضه، فتدبره فإنه
حقيق به، وكذا الامر إذا كانت الحجية بمعنى تنجيز الواقع عقابا، كما في الواجب
والحرام، أو ثوابا، كما في المستحب، أو تعذيرا كما في المباح، فان مقتضى
الحجية بهذا المعنى ثبوت العقاب أو الثواب على تقدير المصادفة، ومقتضى
هذه الأخبار ثبوت الثواب مطلقا وان لم يكن كما بلغه.
ويرد على الوجه الثاني ان المسألة الأصولية هي القاعدة التي تبتنى عليها
معرفة الاحكام العملية الكلية، وهذا انما تكون فيما لم تكن نفس القاعدة متكفلة
للحكم العملي الكلى، بل فيما إذا كانت واسطة لاستنباط حكم عملي،
واستحباب ما دل الخبر الضعيف على استحبابه حكم عملي كلي جامع تنطبق
على موارد الاخبار الضعيفة المتكفلة لاستحباب اعمال خاصة، لا ان هذا
الاستحباب الجامع واسطة في استنباط استحبابات خاصة ليكون مما يبتنى عليه
تلك الاستحبابات المبحوث عنها في علم الفقه، وليست المسألة الفقهية الا
ما كانت نتيجتها حكما عمليا - سواء كان حكما عمليا كليا يندرج تحته احكام
عملي خاصة أم لا، ولأجله استشكلنا (3) مرارا في جعل حجية الخبر الصحيح أو
حجية الاستصحاب بناء على أن الحجية بمعنى جعل الحكم المماثل من
المسائل الأصولية، بل حكم عملي جامع من دون توسيط في استنباط حكم
عملي اخر بل تطبيق محض، وما ذكرناه من التفصي هناك - بجعل التوسيط
بلحاظ اثبات اللازم في الفقه باثبات ملزومه في الأصول أو باثبات الحجية بمعنى
المنجزية في الأصول وإقامة الحجة في الفقه - غير جار هنا، إذا المفروض عدم
الحجية بكلا المعنيين هنا على التحقيق أو على التقدير، كما في كلامه - ره -. واما
ما ذكره - قده - (4) من الاختصاص بالمجتهد وانه لاحظ منه للمقلد ولذا جعل

(1) الوسائل، ج 18، ب 11، ص 108، ح 40، م 33439.
(2) الوسائل: ج 27، ب 11، ص 138، ح 33419، ط. مؤسسة آل البيت.
(3) نهاية الدراية: ج 1، ص 17. والتعليقة: 91، ص 185.
(4) وهو الشيخ الأنصاري - ره - في تتمة كلامه.
532

مثل هذا الحكم حكما أصوليا في قبال الحكم الفرعي الفقهي، فمدفوع بان
التصديق العملي أو الابقاء العملي عمل المقلد بالخصوص، أو عنوان عمل
المجتهد والمقلد معا، لا عنوان عمل المجتهد فقط، نظير الافتاء والقضاء
وما شابهما ما يختص بالمجتهد، وانما يختص بالمجتهد عنوانا من حيث نيابته
عن المقلد العاجز عن الاستنباط أو التطبيق، فالمقلد هو المكلف به لبا وحقيقة،
والمجتهد هو المخاطب به عنوانا لتنزيله منزلة المقلد بأدلة جواز الافتاء
والاستفتاء فنظر المجتهد واستنباطه وتطبيقه ويقينه وشكه، كلها بمنزلة نظر
المقلد واستنباطه وتطبيقه ويقينه وشكه، فتدبره فإنه حقيق به.
229 - قوله: ظاهرة في أن الاجر كان مترتبا على (1) الخ:
مبنى الكلام في دلالة اخبار من بلغ على الاستحباب أو على الارشاد إلى
حسن الانقياد وترتب الثواب عليه عقلا - على أن موضوع الثواب الذي تكفله
هذه الروايات هل هو فعل محتمل الثواب بالبلوغ لا بداعي الثواب المحتمل، أو
فعله بداعي الثواب المحتمل؟ فإنه على الثاني انقياد حسن عقلا فلا يكشف
ترتب الثواب عن رجحان اخر مقتض للثواب دون الأول، فإنه لا ثواب على ذات
العمل فترتبه عليه كاشف عن مقتض لترتبه عليه، وليس الا إطاعة الامر المحقق
أو الامر المحتمل، وحيث فرض عدم الثاني تعين الأول فيكون جعلا للملزوم
بجعل لازمه، والمعين للوجه الأول هو ان الظاهر من الثواب البالغ هو الثواب
على العمل لا بداع الثواب المحتمل أو الامر المحتمل، فان مضمون الخبر،
الضعيف كمضمون الخبر الصحيح من حيث تكفله للثواب على العمل لا بداعي
احتماله الناشئ من جعله أو جعل ملزومه، وهذا الظهور مما لا ريب فيه، وانما
اللازم دعوى ظهور اخر وهو ظهور اخبار من بلغ - من حيث كونها في مقام تقرير
الثواب البالغ وتثبيته وتحقيقه - في أن الثواب الموعود بهذه الاخبار في موضوع
ذلك الثواب البالغ، والا لكان ثوابا اخر لموضوع اخر، والمنافي لهذا الظهور ليس
الا ما يتوهم من اقتضاء التفريع في جميع الاخبار والتقييد في بعضها لترتب

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 197 وكفاية الأصول: 352، (ت، آل البيت).
533

الثواب على الفعل بداعي احتمال الثواب، وهو الانقياد المحض المقتضى في
نفسه لترتب الثواب فلا كاشف عن مقتض اخر.
فنقول: اما التفريع، فهو على قسمين أحدهما تفريع المعلول على علته
الغائية ومعناه هنا انبعاث العمل عن الثواب البالغ المحتمل ثانيهما مجرد
الترتيب الناشئ من ترتب الثواب على فعل ما بلغ فيه الثواب، فالعمل المترتب
عليه الثواب حيث كان متقوما ببلوغ الثواب عليه فلذا رتبه على بلوغ الثواب،
فيكون نظير من سمع الاذان فبادر إلى المسجد فان الداعي إلى المبادرة فضيلة
المبادرة لاسماع الاذان وان كان لا يدعوه فضيلة المبادرة الا في موقع دخول
الوقت المكشوف بالاذان، فلا يتعين التفريع في الأول حتى ينافي الظهور
المدعى سابقا. واما ما ذكره شيخنا العلامة الأنصاري - قدس سره - في رسالة
التسامح (1) من منع دلالة الفاء على السببية والتأثير بل هي عاطفة، فخلاف
الاصطلاح، لعدم التقابل بين السببية والعطف، بل العاطفة تارة، للسببية وأخرى،
للترتيب وثالثة، للتعقيب، والامر سهل، وقد التزم شيخنا الأستاذ - قده - في
المتن (2) بعدم منافاة كون الفاء للسببية وتفرع العمل على الثواب المحتمل بكونه
داعيا إليه، لما مر من الظهور بتقريب ان العمل المنبعث عن الثواب المحتمل
على ما هو عليه من عنوانه ولا يتعنون من قبيل دعوة الثواب المحتمل يوتى به
بحيث يدعوا الثواب المحتمل إلى العمل المعنون من قبل نفس دعوته.
وإذا كان العمل المدعو إليه على حاله من عنوان نفسه من دون تقيده بعنوان
من قبل الداعي حتى عنوان الانقياد، فإنه عنوان الماتى به بذاك الداعي لا عنوان
المدعو إليه حتى يدعو إليه ذلك الداعي، فلا ينافي ظهور الاخبار في ترتب
الثواب على العمل الغير المتقيد بداعي الثواب المحتمل، كما هو الحال في
الاخبار المقيدة حيث إن موضوعها العمل الملحوظ في نفس الموضوع التماس

(1) التسامح في أدلة السنن: ص 10. ومجموعة رسائل: ص 25. اللهم الا ان يمنع من دلالة القاء
على ما ذكرين السببية والتأثير بل على عاطفة على نحو قوله من سمع الاذان فبادر إلى المسجد.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 197.
534

الثواب فحاصل الاخبار ترتب الثواب على نفس العمل وان كان منبعثا عن الثواب
المحتمل، فهو وان كان على الفرض منبعثا عن الثواب المحتمل الا ان انبعاثه عنه
غير دخيل في ترتب الثواب المجعول بهذه الاخبار عليه، وهذا هو الفارق بين
التفريع على الوجه المزبور والتقييد بالتماس الثواب البالغ في الاخبار المقيدة.
لا يقال: مع فرض انبعاثه عن الامر المحتمل لا يعقل جعل الداعي بجعل
الاستحباب المنكشف (1) بلازمه وهو الثواب المحقق بهذا الاخبار، لان الفعل
ما لم ينبعث عن الاستحباب الثابت بهذه الاخبار لا ترتب عليه ثواب إطاعة
الاستحباب المحقق، وانبعاث عمل واحد عن داعيين متماثلين مستقلين في
الدعوة محال، فجعل الداعي مع فرض وجود الداعي المؤثر بالفعل محال،
وجعل الاستحباب المحقق داعيا في طول دعوة الثواب المحتمل أو الامر
المحتمل وان لم يكن مستحيلا في نفسه، لكنه خلف، لان الكلام في استحباب
نفس محتمل الثواب لا استحباب الماتى به بداعي احتمال الثواب، والمشهور
أيضا يقولون بترتب الثواب على إذا اتى به بداعي استحبابه لا إذا اتى المتقيد
بالداعي المزبور بداعي استحبابه، مع أن الاستحباب إذا كان داعيا للداعي
فالمستحب الحقيقي جعل الامر المحتمل أو الثواب داعيا إلى العمل لا انه داع
لأمر خاص وعمل مخصوص، فهناك مستحب جنابي وعمل حسن أركاني، مع أنه
مناف لكلامه - قده - حيث إنه في مقام ترتيب الثواب المجعول على نفس
العمل لا على العمل الماتى به بداع الثواب المحتمل بما هو كذلك.
لأنا نقول: فرض انبعاث العمل عن الثواب المحتمل ليس فرض عمل
شخصي منبعث عنه ليستحيل جعل الداعي مع فرض تأثير داع محض، بل فرض
انبعاث العمل كليا عن الداعي الطبعي فإنه من بلغه الثواب يدعوه بطبعه الثواب
البالغ، الا ان هذا الداعي الطبعي لم يؤخذ قيدا في موضوع الثواب المجعول
حتى يكون جعلا للداعي في فرض تقيد العمل بداع آخر، بل الغرض جعل
الداعي نحو ذات العمل الذي بطبعه يدعوه الثواب البالغ، فيكون تحريكا إلى

(1) (خ ل): المكشف.
535

العمل بذاته، بل جعل الداعي في الواجبات كك فإنه جعل داع عمومي وان
فرض ان العامة يفعلون بداع الثواب والخاصة بداع اخر أعلى منه، والوجه في
صحة الكل عدمه القيدية، واما التقييد كما هو ظاهر قوله (ع) في خبر محمد بن
مروان " ففعله التماس ذلك الثواب ". وفى خبر اخر له " ففعل ذلك طلب قول
النبي (ص) " (1) الخ.
فقد أجاب - قده - في المتن (2) بعدم المنافاة بين المقيد من هذه الأخبار مع
مطلقها إذ لا منافاة بين الثواب على نفس العمل لا بداعي الثواب المحتمل
بما هو والثواب على العمل بداع الثواب المحتمل بما هو، فالمطلق متكفل
للثواب المجعول الكاشف عن جعل لازمه والمقيد متكفل للارشاد إلى الثواب
الذي يحكم به العقل على الانقياد والاحتياط وهذا التقريب لا يرد عليه محذور
عدا وحدة سياق الاخبار، وانها في مقام ترتيب سنخ واحد من الثواب على
موضوع واحد، وحينئذ فالنكتة لعدم التقييد في بعضها وضوح ان الداعي
الطبعي لمن بلغه ثواب هو ذلك الثواب البالغ، لا الثواب المجعول بهذه الاخبار
على فرض جعله لكنك قد عرفت مما ذكرنا (3) في التفريع بناء على السببية ان
السببية طبعية عادية لا انها قيد جعلي اخذ في الموضوع، واما ما في كلمات
بعض الاعلام (4) من أن المطلق لا يحمل على المقيد في المندوبات فلا موجب
لحمل المطلق هنا على المقيد وان سلم التقييد، ففيه: ان الوجه في عدم الحمل
في المندوبات امكان حمل المطلق والمقيد منها، على مراتب المحبوبية،
فالمستحب الفعلي هو المقيد، وما عداه مستحب ملاكي، بخلاف الواجبات فان
حملها على مراتب الوجوب يلازم الحمل على المقيد، فان الملاك الوجوبي لازم
التحصيل وهذا الوجه غير جار هنا، فان المقيد بداع الثواب المحتمل ليس
مستحبا شرعيا لا فعليا ولا ملاكا بل المقيد بهذا الداعي راجح عقلي.
والمطلق الذي حقيقته اتيان الفعل لا بهذا الداعي بل بسائر الدواعي مستحب

(1) الوسائل: ج 1، ص 60 - ب 18، ح 4 - 7.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 197، ص 15.
(3) التعليقة: 434.
(4) أجود التقريرات: ج 2، ص 210، س 1.
536

شرعي، فليس المقيد من مراتب المستحب الشرعي في قباله، مع أن وحدة
السياق في الاخبار يقتضى ان يكون الكل بصدد ترتيب سنخ واحد من الثواب
على سنخ واحد من الموضوع، وقد عرفت ان مقتضاه ارجاع المطلق إلى المقيد
لمكان ينافيهما في ترتيب ثواب مخصوص على المطلق تارة وعلى المقيد
أخرى، بأنه كاشف عن وحدة المرتبة وان كانت المحبوبية على أي حال شرعية،
ويمكن ان يقال ان التقييد إذا كان بداع الامر المحتمل الذي ربما يكون له مطابق
في الواقع فيكون إطاعة حقيقة، وربما لا يكون له مطابق فيكون انقيادا، فالاخبار
ارشاد إلى ما هو الراجح والممدوح عليه عقلا وهو الاحتياط والانقياد للامر
المحتمل.
وأما إذا كان التقييد بداع الثواب المحتمل فحيث ان الثواب واحد وان كان
الوعد عليه متعددا فهذا الواحد محقق لا تخلف له، والعمل الماتى به بالداعي
المحقق فعلا يخرج من عنوان الانقياد، فيكون العمل بحسب الواقع كالإطاعة
الحقيقية لانبعاثه عن داع له مطابق في الواقع، اما بمقتضى الوعد (1) الواقعي
البالغ أو بمقتضى الوعد الثابت بهذه الاخبار، ولا يقاس الثواب على إطاعة الامر
المحتمل مع قطع النظر عن هذه الأخبار بما نحن فيه بتوهم ان الثواب المحتمل
محقق قطعا، اما على الإطاعة الحقيقية ان كان في الواقع امر من الشارع، واما على
الإطاعة الحكمية لحكم العقل برجحانه، وذلك لان الثواب على أحد التقديرين
من ناحية الانقياد فلا ينافي الانقياد بخلاف ما نحن فيه فان الثواب مجعول لازم
لاستحباب شرعي، اما واقعي واما ظاهري بمقتضى مطلقات هذه الأخبار، فمثل
هذا التقييد غير مناف للمطلقات، لعدم ترتب الثواب فيه على الانقياد بل على
داع محقق يخرجه عن عنوان الانقياد، ومن الواضح ان التقييد الثابت هنا هو
التقييد بالتماس ذلك الثواب، أو التقييد بطلب قول النبي (ص) وهو الثواب الذي
أخبر (ص) عنه لا امره الاستحبابي، فإنه لا يطلب كما لا يخفى:
ويرد عليه أولا ان دعوة الثواب ليس بالذات وبالأصالة، لان الثواب ليس

(1) (خ ل): الواعد.
537

من غايات ذات الفعل وخواصه بل من اللوازم المترتبة على الفعل الماتى به بداع
الامر المحقق أو المحتمل، فلا بد من توسط دعوة الامر بينه وبين العمل، ومن
الواضح ان الثواب البالغ المحتمل بحسب نظر العامل من لوازم الاتيان بداع الامر
المحتمل فالتقييد بالثواب البالغ بمنزلة التقييد بدعوة الامر المحتمل، وهو عين
الانقياد.
وثانيا، ان العمل بداع الثواب المحتمل خارجا بعد صدور هذه المطلقات
وان كان في الواقع خارجا على عنوان الانقياد، لان الداعي مطابق في الخارج
على أي حال، الا ان الكلام في أن موضوع الثواب الموعود عليه بهذه الاخبار
ماذا؟ ويستحيل ان يكون الموضوع لهذا الثواب الموعود المحقق بهذه الاخبار
الذي هو بمنزلة الحكم لذلك الموضوع متقيدا به في مرتبة موضوعيته حتى يؤل
الامر إلى ترتيب الثواب على العمل الماتى به بداع محقق مع قطع النظر عن هذه الأخبار
ومقتضاها فتدبره فإنه حقيق به.
والتحقيق: ان حمل هذه الأخبار على الارشاد إليه لا بد من ثبوته لا من ناحية
الارشاد بل بحكم العقل والعقلاء، وليس هو الا أصل (1) الثواب، بناء على أن
الحسن العقلي والقبح العقلي ليس الا كون الفعل ممدوحا عليه عند العقلاء
وكونه مذموما عليه عندهم، ومدح الشارح ثوابه وذمه عقابه، واما الوعد بالثواب
الخاص فليس من الشارع بما هو عاقل والا لحكم به سائر العقلاء بل بما هو شارع
ترغيبا في فعل تعلق به غرض مولوي فيكشف عن محبوبية مولوية ومطلوبية
شرعية، غاية الامر ان محبوبية ما وعد عليه بالثواب الخاص، تارة مفروض
الثبوت كالوعد بالمثوبات الخاصة على الواجبات والمستحبات المعلومة.
وأخرى غير مفروض الثبوت فيستكشف ثبوتها بجعل الثواب الخاص فيكون من
باب جعل الملزوم بجعل لازمه والترغيب فيه. واما ما عن شيخنا العلامة
الأنصاري - قده - في رسالة البراءة (2) " من أن مدلول هذه الأخبار عن تفضل الله

(1) (خ ل): الأصل.
(2) الرسائل: ص 230، س 21 والرسائل: ج 1، ص 384.
538

سبحانه على العامل بالثواب المسموع فهو نظير قوله تعالى (من جاء
بالحسنة فله عشر أمثالها) (1) فهو ملزوم لأمر ارشادي يستقل به العقل
بتحصيل ذلك الثواب المضاعف ".
ففيه: ان التفضل بالمثوبات الخاصة غير مناف لانبعاثها عن غرض مولوي
يستدعى مطلوبية شرعية إذ كل احسانه تفضل وكل نعمه ابتداء واستقلال
العقل بتحصيلها بعد وعد الشارع بها امر ووعد الشارع بها بعنوان الارشاد إلى
الثواب العقلي امر اخر، ومقتضى الاخبار هو الوعد على العمل بثواب خاص
لا يحكم به العقل فكيف يكون ارشادا، وحيث إن الثواب الخاص ليس مقتضى
حسنه عقلا فلا بد من أن يكون من حيث رجحانه شرعا.
إذ المفروض ترتيبه على العمل، فهو باقتضائه لا محالة ولو بعنوان ثانوي بل
مقتضى التأمل في الاخبار أيضا في مقام الترغيب في العمل لا في تحصيل
الثواب فقط، ولا معنى للترغيب في العمل الا لكونه راجحا شرعا. نعم، الكلام
في أن موضوع هذا الثواب الموعود وهذا الاستحباب المفروض هل هو فعل
ما بلغ فيه الثواب كما هو مقتضى المطلقات، أو فعل ما بلغ فيه الثواب البالغ
كما هو مقتضى المقيدات، والا فاصل الاستحباب لا ينبغي الكلام فيه، ومن
الواضح ان وحدة سياق الاخبار من حيث كونها في مقام الوعد بسنخ ثواب
واحد على موضوع واحد تأبى عن ابقاء المطلقات والمقيدات على حالها،
والمشهور يقولون بترتب الثواب على فعل ما بلغ فيه الثواب وان لم ينبعث من
الثواب البالغ، والذي يمكن ان يقال في تقريب الوجه الأول الذي عليه المشهور
ان مفاد اخبار من بلغ ليست خبرية محضة عن ما يفعله من بلغه بالثواب بخبر
ضعيف حيث إنه بطبعه يدعوه الثواب البالغ المحتمل بدعوة الامر المحتمل،
لوضوح ان هذا الثواب الخاص لا يترتب على ما يفعله بعنوان الانقياد، بل مفادها
ترغيب في فعل ما بلغ فيه الثواب جعل هذا الامر المولوي المحقق داعيا بجعل
الثواب الخاص، وانما اخذ عنوان التماس ذلك الثواب في الموضوع لا من اجل

(1) الانعام: الآية 160.
539

هذا الموضوع الخاص بما هو متعلق الامر المحقق، لاستحالة كون محتمل
المحبوبية وجها للعمل، كما تقدم. ولاستحالة استحباب العمل المفروض فيه
الداعي بنحو القيدية الحقيقية سواء كان الاستحباب تعبديا أو توصليا لأنه على
أي حال لجعل الداعي وتعلقه بنفس دعوة الثواب والامر المحتمل خلف في
المقام، لفرض استحباب العمل على أي حال، بل جعل الثواب بعنوان تقرير
الثواب البالغ وترغيب في اتيانه بداع الثواب البالغ، عنوانا تحقيقا لدعوة هذا
الثواب المجعول، كما في جعل الحكم المماثل بعنوان تصديق العادل فيما اخبره
من الوجوب الواقعي، فكما انه في مقام جعل الوجوب الواقعي باعثا عنوانا
وجعل الوجوب المماثل داعيا حقيقة فكذلك هنا، والله أعلم.
ثم انه يتفرع على ما مر من النزاع (1)، في أن الاخبار ارشاد إلى الانقياد ورجحانه
عقلا أو جعل للثواب والاستحباب، أمور.
منها ان الآثار الوضعية المترتبة على المطلوبات الشرعية يترتب على فعل
ما بلغ فيه الثواب على الثاني دون الأول، والا لزم الخلف. وهذه الكلية من
القضايا التي قياساتها معها. وانما الكلام في تطبيقها على ما ذكره شيخنا العلامة
الأنصاري - قده - (2) من عدم ارتفاع الحدث بالوضوء الذي فيه الثواب بخبر
ضعيف بناء على الارشاد إلى رجحان الانقياد وارتفاعه به بناء على الاستحباب.
والاشكال في التطبيق من وجهين:
أحدهما: انه لا دليل على أن كل وضوء مطلوب شرعا رافع للحدث حتى
يمتاز عما وقع انقيادا فان وضوء الحائض في أوقات الصلاة ووضوء الجنب عند
النوم - مثلا - مستحب شرعا ومع ذلك غير رافع للحدث.
ثانيهما (3): ان مناط عبادية الوضوء - وقربيته الدخيلة في تأثيره في الطهارة -
ليس وجوبه لغاية واجبة أو استحبابه لغاية مستحبة، حتى يدور الامر بين كونه
مستحبا شرعيا ببلوغ الثواب أو لا، بل المناط كما حقق في محله رجحانه الذاتي

(1) التعليقة: ص 538.
(2) الرسائل: ج 1، ص 385 - ثم إن الثمرة...
(3) (خ ل): ثانيها.
540

واستحبابه النفسي شرعا، فعدم ثبوت استحبابه العرضي بالخبر الضعيف لا
ينافي استحبابه النفسي المحقق لعباديته، وتأثيره في الطهارة، فالوضوء البالغ فيه
الثواب في وقت خاص وحالة مخصوصة وان كان يقع من هذه الحيثية انقيادا لا
مستحبا لكنه من حيث نفسه يقع مستحبا مؤثرا في الطهارة. ويندفع الاشكال
الأول: بان الحدث القابل للارتفاع بالوضوء هو الحدث الأصغر دون الأكبر
فلا مانع بمقتضى المطلقات الدالة على استحبابه النفسي ما يقبل الارتفاع به.
بل يمكن ان يقال: ان الوضوء حيث إنه في نفسه نور وظهور، فله تأثير
النورانية والطهارة حتى في الحائض والجنب الا ان الظلمة حيث إنها شديدة لقوة
مقتضيها فلذا لا ترتفع بالكلية بل يحصل به تخفيف ونور يناسب مقام العبودية
بالأذكار في وقت الصلاة أو النوم في حالة مناسبة. وبقية الكلام في الفقه.
ومن جملة موارد تطبيق الكلية مسالة المسح ببلل المسترسل من اللحية بناء
على ورود الخبر الضعيف بغسله، فإنه على الارشاد لا يجوز الاخذ من بلله ليس
من نداوة الوضوء شرعا بل هو راجح عقلا، بخلاف ما إذا استحب شرعا غسله
فإنه من الماء المستعمل في الوضوء، بل عن شيخنا العلامة الأنصاري - قده -
عدم الجواز وان قيل باستحبابه شرعا فلا ثمرة في هذا المورد والوجه في عدم
الجواز ما افاده - قده - في كتاب الطهارة (1) من عدم الدليل على جواز المسح بكل
بلل من الماء المستعمل في الوضوء وجوبا وندبا، بل المتيقن بلل المغسول
بالأصالة كاللحية الداخلة في حد الوجه، واما ما عن شيخنا العلامة - قده - في
تعليقته المباركة (2) على هذا الموضع من رسالة البراءة من " ان المسح لا بد من أن
يكون ببلل الوضوء ولا يصح ببلل ما ليس منه، وان كان مستحبا فيه " فلا يخلو
عن شئ، لان استحباب غسل المسترسل من اللحية لا يحتمل عادة ان يكون
مستحبا نفسيا في ضمن الوضوء بحيث يكون الوضوء ظرفا له بل لو كان مستحبا

(1) كتاب الطهارة: ص 117: الركن الثاني، في مسح الرأس بل يحتمل ان يجوز المسح بالماء
المستعمل... ويحتمل... (ثم قال) لكن في جميع ذلك نظر قوله - قده - وان قلنا بصيرورته مستحبا.
(2) حاشية الرسائل للمحقق الخراساني - ره -: ص 136 والرسائل: ج 1، ص 384.
541

لكان جزء الفرد وكمالا للوضوء واسباغا للوضوء، فالوجه في الاشكال ما ذكره
هو - ره - في كتاب الطهارة (1). ثم اعلم أن ترتيب الآثار الوضعية والتكليفية
المترتبة على المطلوبات الشرعية على المورد بناء على استحبابه وعدمه بناء
على عدمه انما هو إذا لم تكن تلك الآثار اثار المستحب بعنوانه الذاتي، دون
المستحب بعنوان عرضي، والا لم يكن مجال لترتيبها على المورد بمجرد
استحبابه بعنوان انه مما بلغ فيه الثواب.
ويمكن ان يقال: بان عنوان بلوغ الثواب كعنوان تصديق العادل ليس من قبيل
الواسطة في العروض بل من قبيل الواسطة في الثبوت، ولا ينافي ذلك عدم كون
الاخبار دليل الحجية كما اخترناه كما لا ينافي ذلك ثبوت الحكم على أي تقدير.
تذنيب: يتعلق ببعض الفروع المهمة المتعلقة بمسألة التسامح في أدلة السنن
وهي أمور.
الأول: في أن الفتوى كالرواية الضعيفة في باب التسامح أو لا؟ ربما يقال
بالثبوت نظرا إلى صدق بلوغ الثواب على العمل اللازم للاستحباب اما بالنظر
إلى قوله (ع) (2) " من بلغه عن النبي - صلى الله عليه وآله - شئ من الثواب
فعمله "، الخبر. فبملاحظة ان المراد من الثواب بقرينة قوله " فعمله " هو نفس
ما يثاب عليه باطلاق المسبب على سببه. واما بالنظر إلى قوله (ع) (3) " من بلغه
شئ من الثواب على شئ من الخير فعمل به " الخبر فبملاحظة ان الفقيه وان
كان فتواه متعلقا بالاستحباب لا بالثواب، لكنه لمكان التلازم بين الاستحباب
والثواب يكون بلوغ الاستحباب بالمطابقة بلوغ الثواب بالالتزام، عليه فمقام
الاثبات غير قاصر عن الشمول للبلوغ بالفتوى الا ان البلوغ في زمان صدور هذه
الروايات حيث إنه كان بنقل الرواية عن المعصوم (ع) فاطلاقه منصرف إلى الخبر
عن حس لا الخبر عن حدس، خصوصا إذا قلنا بان الاخبار تتكفل حجية الخبر

(1) كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري - ره -: ص 121.
(2) الوسائل: ج 1، ص 60، ب 18، ح 3، أبواب مقدمة العبادات والمحاسن: ج 1، ص 25، ح 1 و 2.
(3) الوسائل: ج 18 - ص 59، ب 18، ح 1.
542

الضعيف في السنن، فإنه يبعد كل البعد جعل فتوى مجتهد حجة على مجتهد
اخر.
نعم، إذا علمنا من مسلك الفقيه انه لا يفتى الا عن ورود الرواية في المسألة
ففتواه بالالتزام يكشف عن ورود رواية بالاستحباب ولكنه مع ذلك يحتاج إلى
التسامح في الأدلة إذ غاية ما يقتضيه مسلكه هو الاستناد إلى الرواية، واما
استفادة الاستحباب فموكولة إلى نظره، ولعلها إذا وصلت إلينا لم نستظهر منها
الاستحباب.
الثاني: في أن الكراهة ملحقة بالاستحباب في التسامح في دليلها أم لا؟ قيل
المشهور على الالحاق وذلك بعد دعوى شمول العمل للفعل والترك يتوقف
الالتحاق على أحد أمور، اما تنقيح المناط بدعوى ان الغرض ان الاحكام الغير
الالزامية ليست كالالزامية المتوقفة على ورود رواية صحيحة واثباته مشكل، واما
دعوى ان ترك المكروه مستحب فقد بلغ استحباب الترك بالالتزام، وان كان البالغ
بالمطابقة كراهة الفعل وهو خلاف التحقيق المحقق في محله من أن كل حكم
تكليفي لا ينحل إلى حكمين فعلا وتركا.
واما دعوى ان ترك المكروه إطاعة للنهي التنزيهي مما يثاب عليه قطعا فقد
بلغ الثواب على الترك على حد بلوغ الثواب على الفعل في المستحب الذي
لا ريب في إناطة ترتب الثواب عليه بإطاعة الامر الاستحبابي وبلوغ الثواب على
الترك لازم كراهة الفعل.
وتقرير هذا الثواب البالغ واثباته على أي تقدير جعل ملزومه وهي الكراهة،
فيكون مقتضى اخبار من بلغ جعل الاستحباب تارة، وجعل الكراهة أخرى،
ومثله متعارف كما في أدلة حجية الخبر، وحرمة نقض اليقين بالشك المتكفلة
لجعل احكام مماثلة لمواردها ايجابا وتحريما وهكذا.
وهذا الوجه وجيه لولا ظهور الروايات في الافعال والوجوديات لا التروك
والعدميات.
نعم، يمكن تنقيح المناط بوجه اخر وهو ان مورد الاخبار وان اختص بالفعل
543

الا ان ظاهر الاخبار انها في مقام الترغيب في تحصيل الثواب البالغ من حيث إنه
ثواب بالغ لا لخصوصية فيما يقاس عليه حتى يقتصر على ثواب الفعل، فالحق ح
مع المشهور في الحاق الكراهة بالاستحباب.
الثالث: فيما إذا وردت رواية بالاستحباب وأخرى بالكراهة، فعلى القول
بعدم الالحاق يكون الرواية الدالة على الكراهة كالعدم، فلا تنافى لاستحباب
الفعل.
واما على القول بالالحاق فعلى جميع الوجوه المتقدمة يقع التنافي بين
الروايتين فلا يعمهما الدليل العام، الا ان الوجه في المنافاة يختلف باختلاف
المباني المتقدمة. فعلى مبنى استحباب ترك المكروه لازم الروايتين استحباب
والترك معا، ولا يعقل جعل الداعي نحو الفعل والترك معا، فإنه لا فرق هنا بين
الإلزامي وغيره، فان ملاك صحة جعل الداعي مط امكان انقداح بسببه عند
الانقياد للامر، ويستحيل الجمع بين النقيضين فيستحيل الانبعاث فيستحيل
البعث.
وعلى مبنى اثبات الكراهة بنفسها اما لتنقيح المناط واما بالاستظهار من جعل
الثواب على الترك فلازم الروايتين اجتماع حكمين متضادين في الفعل، الا ان
هذا بناء على ما هو التحقيق من كون التقابل بين الوجوب والحرمة وبين
الاستحباب والكراهة تقابل الوجودين بان يكون مفاد الامر البعث نحو الفعل
ومفاد النهى الزجر عن الفعل، واما بناء على ما هو المعروف من أن مفاد النهى
طلب الترك فلازم اجتماع الأمر والنهي في شئ تعلق الطلب بفعله وبتركه فيكون
أجنبيا عن التقابل بالتضاد، لان أحد الطلبين قائم بطرف الفعل والاخر بطرف
الترك، ومحذوره ذلك المعنى المتقدم (1) في استحباب ترك المكروه، فتفطن.
الرابع: إذا وردت رواية ضعيفة بالوجوب فالمشهور على حملها على
الاستحباب نظرا إلى قصور الاخبار الا عن اثبات حيثية الثواب على الفعل،
فلا يثبت بها العقاب على الترك، بل هو منفى بأصالة البراءة عن الوجوب.

(1) التعليقة: ص 543.
544

ويمكن ان يقال ان حقيقة الوجوب ان كانت مركبة من طلب الفعل والمنع من
الترك أمكن ان يقال انه بلغه أمران أحدهما، قابل للثبوت دون الاخر. وان كانت
من المعاني البسيطة فالبالغ معنى بسيط غير قابل للثبوت بحده والقابل للثبوت
بحده أي الاستحباب لم يبلغه وحيث إن البلاغ هو الوجوب بحده فالثواب اللازم
له هو الثواب اللازم للمحدود بحد خاص لا مطلق الثواب. والمعنى البسيط البالغ
وان كان قابلا للتحليل إلى مطلق الطلب الجامع وحده الا ان ذلك المعنى الجامع
التحليلي لا يستقل بالجعل حتى يكون الجامع مجعولا، الا ان هذا الاشكال
لا اختصاص له بالمقام. وسيجيئ انشاء الله تعالى التعرض له ولجوابه في
استصحاب الحكم الكلى (1) فتدبر.
الخامس: نسب الشهيد الثاني - قده - (2) إلى الأكثر التسامح في أدلة السنن
والأدب والفضائل والمواعظ وأشباهها، وذهب إليه الشيخ الأعظم - قده - في
رسالة التسامح (3) نظرا إلى أن العمل بكل شئ على حسب ذلك الشئ،
والعمل بالخبر الوارد في الفضائل نشرها، والوارد في المصائب ذكرها للابكاء
مثلا قائلا ان العقل يحكم بحسن العمل مع الامن من مضرة الكذب، وان عموم
النقل كما في النبوي ورواية الاقبال (4) يقتضى استحبابه.
ولا بد من تقديم مقدمة وهي ان الخبر عن الموضوع بما هو لا يراد منه الا
العمل المتعلق به، الا ان العمل.
تارة: يكون من غير مقولة القول كما فيما إذا قام الخبر على أن هذا الموضوع
الخاص مدفن نبي من الأنبياء (ع) أو مسجد، فان الثابت به استحباب الحضور
عنده وزيارته واستحباب الصلاة فيه، وهذا في نفسه لا محذور فيه.
وأخرى: من مقولة القول المتصف بالصدق والكذب ولا بد حينئذ من تنقيح ان

(1) نهاية الدراية: ج 3، ص 160 في القسم الأول من استصحاب الكلى.
(2) الدراية للشهيد الثاني: ص 29، وجوز الأكثر العمل به في نحو القصص والمواعظ وفضائل الأعمال.
(3) التسامح في أدلة السنن: ص 12، أقول... ومجموعة رسائل: ص 28 وبحر الفوائد: ج 2، ص 71.
(4) الوسائل: ج 1، ص 60، ب 18، ح 6 - 5 والاقبال: ص 627.
545

الكذب القبيح عقلا والمحرم شرعا ماذا لا ينبغي الريب في أن الصدق الخبري
والكذب الخبري لا حكم لهما عقلا ولا شرعا، وانما المناط في الحسن والقبح
والجواز والحرمة بالصدق والكذب المخبريين ولا ريب في أن الصدق المخبري
هو القول الموافق للواقع بحسب اعتقاد الخبر الا ان الكلام في الكذب المخبري
المقابل للصدق المخبري هل بينهما التقابل بالتضاد أو بنحو العدم والملكة
بمعنى ان الكذب المخبري هو القول الذي يعتقد انه خلاف الواقع أو القول الذي
لا يعتقد انه ليس كك في الواقع؟
والتحقيق: ان التقابل بينهما بنحو العدم والملكة وهو المعبر عنه في لسان
المشرع بالقول بغير العلم، فمالا علم به ولا حجة عليه يندرج الحكاية عنه في
الكذب القبيح عقلا والمحرم شرعا، ولا يختص قبح الكذب بصورة الاضرار عقلا
كما لا اختصاص له شرعا. وعليه فنشر الفضيلة التي لا حجة عليها وذكر المصيبة
التي لا حجة عليها قبيح عقلا ومحرم شرعا فكيف يعمها اخبار من بلغ سواء كان
مفادها الارشاد إلى حسن الانقياد أو اثبات الاستحباب.
نعم، إذا قلنا بان الاخبار المزبورة تثبت حجية الخبر الضعيف فلازمه اندراج
الفضيلة والمصيبة فيما قامت الحجة عليه شرعا فيخرج عن تحت الكذب
المخبري القبيح عقلا ومحرم شرعا، وحينئذ ان كان اجماع فهو كاشف عن هذا
المعنى لا انه تخصيص في حكم العقل والشرع، فتدبر جيدا.
السادس: إذا وردت رواية ضعيفة بالاستحباب ورواية صحيحة بعدم
الاستحباب فهل يتسامح ويثبت الاستحباب أم لا؟ وتنقيح المسألة بان التنافي (1)
تارة يتصور بين مدلول الخبر الضعيف ومدلول الخبر الصحيح بما هما خبران
ولا شبهة في تنافيهما ذاتا، لكن لا اثر لتنافيهما مع قطع النظر عن اعتبارهما.
وأخرى: يلاحظ التنافي بين مدلول الخبر الصحيح بما هو مدلول دليل معتبر
ومدلول اخبار من بلغ ولا ريب أيضا في عدم التعارض لان موضوع عدم
الاستحباب فعلا نفس الفعل بعنوانه وموضوع اخبار من بلغ المفيدة للاستحباب

(1) (خ ل): الثاني.
546

هو الفعل بما هو مما قد بلغ فيه الثواب.
وثالثة يلاحظ التنافي بين أدلة حجية الخبر الصحيح ونفس اخبار من بلغ،
وظاهر الشيخ الأعظم - قده - في رسالة التسامح (1) انهما متعارضان والأصل فيه
تساقطهما، وهذا بناء على أن مفاد اخبار من بلغ اثبات حجية الخبر الضعيف
كأدلة حجية الخبر الصحيح، وكل منهما يقتضى الغاء احتمال خلاف مورده.
ويندفع بان دليل حجية الخبر الصحيح، على الطريقية يقتضى تنزيل مؤداه
منزلة الواقع فالغاء الاحتمال فيه راجع إلى الغاء خلاف المحتمل وانه غير
مستحب، والغاء الاستحباب لا الغاء اثر الاحتمال بما هو، فان اخبار من بلغ تثبت
استحباب الفعل لا بما هو بل بما هو مما بلغ فيه الثواب، وبلوغ الثواب لا تخلف
له، فهي على فرض اثبات الحجة تثبت الحجية على وجه الموضوعية لا على
وجه الطريقية كدليل حجية الخبر الصحيح المفيد للحجية على وجه الطريقية،
فتنزيل أدلة حجية الخبر الصحيح على فرض التنزيل منزلة القطع يراد منه التنزيل
منزلة القطع الطريقي دون الموضوعي، والعجب من الشيخ - قده - (2) مع التفاته
إلى هذا المعنى كيف حكم بالتعارض والتساقط.
ومما ذكرنا تبين انه لا حاجة إلى استحباب الفعل بملاك بلوغ الثواب باخبار
من بلغ نظرا إلى أن اخبار من بلغ تثبت الثواب على أي تقدير، فسقوطها عن
الحجية في موارد التعارض يوجب كونها كالخبر الضعيف البالغ به الثواب
فعمومها وان كان لا يمكن ان يعم نفسها الا ان ملاكها التام الموجود في كل خبر
ضعيف، موجود فيه، ومقتضى عليه بلوغ الثواب للاستحباب هو الحكم
باستحباب الفعل في مورد التعارض.

(1) التسامح في أدلة السنن: ص 16 ومجموعة رسائل: ص 35.
(2) وهو الشيخ في رسالة التسامح، ص 16 ومجموعة رسائل: ص 35.
547

" الثالث: في أنحاء تعلق الأمر والنهي بالطبيعة "
230 - قوله: ان النهى عن شئ إذا كان بمعنى طلب تركه (1) الخ:
تحقيق المقام وبيان ما يجرى فيه البراءة من الأقسام يستدعى بسطا في الكلام
فنقول ان طلب فعل شئ أو تركه يتصور على وجوه.
منها: تعلق الطلب بصرف وجود الشئ، وفى قباله تعلق الطلب بصرف
العدم وقد يعبر من الأول بالوجود اللا بشرط ويناقض العدم الكلى، وعن الثاني
بالعدم المطلق والعدم الكلى، ويقال ان لازم الأول تحقق الطبيعة بأول وجود
منها، وان لازم الثاني عدم انتفاء الطبيعة الا بانتفاء جميع افراده. والتحقيق ما بيناه
في غير مقام ان وجود كل طبيعة ليس نقيضه الا عدمه البديل له، وليس كل
وجود الا طاردا وناقضا لعدم ما يضاف إليه الوجود بحده، ولا يعقل ان يكون
ناقضا للعدم الكلى والعدم المطلق.
فوجود كل طبيعة متخصصة بما اخذ فيها بديله عدم تلك الطبيعة الخاصة
بحدها فما اشتهر من أن وجود الطبيعة بوجود فرد ما وانتفائها بانتفاء جميع
الافراد لا أصل له، بل بديل ذلك المحقق لتلك الطبيعة هو عدمه المطرود به
لا عدم مطرود بغيره، واما انتقاض العدم بأول وجود من الطبيعة وبقائه على
العدم بعدمه فليس من حيث إن العدم المطلق بديله ونقيضه، بل بديله في
الحقيقة هو عدم أول وجود من الطبيعة، لكن عدم الوجود الأول يلازم عدم سائر
الوجودات، كما أن التعبير بالوجود اللا بشرط لا يخلو عن محذور إذ لو أريد منه

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 200 وكفاية الأصول: 353، (ت، آل البيت).
548

الوجود بنحو الاهمال فهو غير قابل لتعلق الحكم الجدي به للزوم تعين الموضوع
بنحو من أنحاء التعين.
وان أريد اللا بشرط المقسمي بناء على ما هو التحقيق من الفرق بين الماهية
المهملة والماهية اللا بشرط لقصر النظر في الأول على ذاتها وذاتياتها وتوجه
النظر في الثاني إلى الخارج عن ذاتها، فلذا تكون مقسما للاعتبارات الواردة
عليها، فالوجود اللا بشرط حينئذ هو اللا بشرط من حيث اعتبار الشرط بشئ
والبشرط لا واللا بشرط القسمي لا من كل حيثية، وعليه فالوجود اللا بشرط بهذا
المعنى لا يكون موضوعا لحكم فعلى من الاحكام الا بأخذ اعتباراته الثلاثة
حيث لا تعين له الا أحد التعينات الثلاثة، فلا مح الوجود اللا بشرط الذي يعقل
تعلق الحكم به هو اللا بشرط القسمي المتعين بتعين اللا بشرط من حيث القيود
الخارجة عن ذات الماهية الواردة عليها كلا بشرطية الانسان من حيث الضحك
وعدمه ومن حيث الكتابة وعدمها وغير ذلك، وهذا غير صرف الوجود وغير أول
الوجود ولا هو في قبال العدم الكلى والعدم المطلق والعدم الأزلي وأشباه هذه
التعبيرات.
بل الحقيق بالتعبير عنه بصرف الوجود وصرف العدم ما إذا لوحظ الوجود
الجامع بين وجودات طبيعة خاصة بنهج الوحدة في الكثرة، فيلاحظ طبيعي
الوجود بحده، مضافا إلى طبيعة خاصة بحدها فيكون المضاف مسانخا
في وحدته لوحدة الطبيعة المضاف إليها من حيث الماهية وحدة نوعية أو صنفية
مثلا، فصرف الوجود بالإضافة إلى هذه الطبيعة الخاصة هو طبيعي الوجود الذي
لا يشذ عنه وجود. ونظير هذا الاعتبار يجرى في طرف العدم المضاف إلى طبيعة
خاصة فيلاحظ طبيعي العدم بحده الجامع بين اعدام طبيعة خاصة بحدها،
فيكون مرددة العدم الذي لا يشذ عنه عدم من اعدام تلك الطبيعة الخاصة.
ثم إن هذا الوجود أو العدم الملحوظ كذلك، قد يكون كل فرد من طبيعية ذا
549

مصلحة أو ذا مفسدة فيناسبه تعلق سنخ الطلب به، ولازمه تعلق كل فرد من افراد
طبيعي الطلب بفرد من افراد طبيعي الوجود أو طبيعي العدم المضافين إلى
الماهية فلا فرق في الإطاعة والمعصية بين ملاحظة وجود الطبيعة وعدمها هكذا
وبين ملاحظتهما بنحو الكثرة وترتيب الحكم عليها مستقلا. وقد يكون الوجود
الملحوظ كذلك ذا مصلحة واحدة أو طبيعي العدم ذا مصلحة واحدة فيه أو ذا
مفسدة واحدة في طبيعي فعله، فلا محالة يكون الطلب المتعلق به شخصا من
الطلب ليس له الا إطاعة واحدة أو معصية (1) واحدة.
ومنها: تعلق الطلب بمجموع الوجودات من طبيعة خاصة بحيث ينبعث عن
مصلحة خاصة قائمة بمجموعها لا بجميعها، فالطلب واحد شخصا له إطاعة
واحدة ومعصية واحدة، وفى طرف طلب الترك يتصور وجهان
أحدهما: قيام مفسدة واحدة بمجموع الافعال لا بجميعها فينبعث منها
طلب ترك المجموع فلا ينافي اتيان بعض الأفعال بل عصيانه باتيان الجميع.
ثانيهما: (2) قيام مصلحة واحدة بمجموع التروك فينبعث منها مجموع التروك
لا ترك المجموع، فأطاعته بمجموع التروك كما في مجموع الافعال وعصيانه
يتحقق ولو بفعل واحد، وحينئذ لا فرق بين طلب طبيعي الترك بحده وطلب
مجموع التروك الا بالاعتبار، مع كون الطلب فيهما شخصيا.
ومنها: تعلق الطلب بكل فرد من افراد طبيعي الفعل، أو بكل فرد من افراد
طبيعي الترك، لقيام المصلحة بوجود الطبيعة متى تحققت في طرف البعث أو
لقيام المفسدة كذلك في طرف الزجر، كما يمكن انبعاث طلب كل فرد من افراد
الترك عن مصلحة في نفس ترك الطبيعة الخاصة على خلاف ظاهر النهى. فهناك
اشخاص من طلب الفعل أو من طلب الترك فيتعدد اطاعته وعصيانه، لا طلب
سنخي نوعي ينحل عقلا إلى اشخاص منه كما في أحد القسمين من الاعتبار

(1) (خ ل): معصيته.
(2) (خ ل): ثانيها.
550

الأول.
نعم، فرق بين الأمر والنهي، حيث إن العموم في الامر يمكن ان يكون شموليا
وبدليا دون النهى فان فيه تفصيلا. توضيحه ان طلب الفعل منبعث عن مصلحة
قائمة بالفعل، فربما لا يكون تمانع بين اشخاص تلك المصلحة القائمة بتلك
الطبيعة والمفروض انها مصلحة لزومية فلا محالة يطلب محصلات تلك المصالح
الشخصية اللزومية بنحو العموم الشمولي.
وربما يكون بينها تمانع مع قيام المصلحة بطبيعة الفعل بحيث يفي كل
شخص فرض من طبيعة الفعل بشخص من طبيعي المصلحة فلا محالة يطلب
محصلاتها بنحو العموم البدلي، مثلا - إذا كان الغرض حصول الشبع بالاكل وكان
اكل خبز واحد وافيا بتلك الفائدة بحيث لا يبقى مجال لاستيفاء هذه الغرض مما
يفي به بذاته، فيطلب منه اكل خبز واحد من آحاد الخبز بدليا لا شموليا، بخلاف
طلب الترك فإنه ربما ينبعث عن مفسدة في الفعل وربما ينبعث عن مصلحة في
نفس الترك، فان كان عن مفسدة في الفعل فبنفس المفسدة وان كانت أيضا على
قسمين: فتارة، لا يكون تمانع بين وجوداتها وأخرى، يكون بينها التمانع كما إذا
كان كل فعل من طبيعي واحد تأثيره العمى وشبه ذلك، الا ان الغرض حيث إنه لم
يتعلق بفعل المفسدة بل بتركها فلا محالة تكون المفسدة بجميع أشخاصها
مطلوب الترك مط شموليا وان كان لا يبقى مجال للامتثال بعد عصيان أحد افراد
الطلب لزوال الموضوع حينئذ. وان كان طلب الترك منبعثا عن مصلحة في نفس
طبيعي الترك فالمصلحة حيث إنها وجودية يطلب نفسها فيمكن ان يفرض (1)،
تارة متمانعة، وأخرى غير متمانعة فيكون طلب الترك تارة بنحو العموم
الشمولي وأخرى بنحو العموم البدلي، فتدبره فإنه حقيق به.
ثم انك بعد ما عرفت الوجوه المتصورة والاعتبارات الواردة على متعلق الامر

(1) (خ ل): بفرض.
551

والنهى تعرف ان ما افاده شيخنا العلامة - رفع الله مقامه - في أول الوجهين هنا (1)
من " تعلق الطلب بترك شئ في زمان أو مكان بحيث لو وجد في ذلك الزمان
والمكان ولو دفعة لما امتثل أصلا " إلى اخر ما أفاد، ينبغي ان يحمل على ما إذا
انبعث طلب الترك عن مصلحة واحدة في طبيعي الترك بحده أو في مجموع
التروك. وأما إذا كان منبعثا عن مفسدة في مجموع الافعال أو في طبيعي الفعل
بحده فلا محالة يكون المطلوب ترك المجموع، فلا يسقط الطلب بفعل بعض
المجموع عصيانا. وأوضح من ذلك ما إذا كان المفسدة متعددة قائمة بالجميع
فان الطلب متعددة حقيقة ولبا وان كان بحسب الاعتبار واحدا سنخا ونوعا.
واما فرض كون المفسدة القائمة بالجميع متعددة متمانعة كما فرضناها
فيسقط الطلب بفعل البعض كلية فلا يوجب وحدة الحكم حقيقة بل هذا فرض
معقول حتى فيما إذا اعتبر كل ترك موضوعا مستقلا، فإنه لا يبقى مجال لامتثال
سائر افراد الطلب فلا يختص هذا الحكم بصورة لحاظ الوحدة في الموضوع
والحكم.
ثم اعلم أن ملاك جريان البراءة عقلا عنده - قده - بحسب الظاهر من تقسيمه
- قده - (2) تعدد الحكم وملاك عدمه وحدته، ففي صورة التعدد لا يكون تنجز
الحكم لمكان احراز موضوعه موجبا تنجز حكم اخر ليس له هذا الشأن، بخلاف
صورة الوحدة فان الحكم الواحد بعد تنجزه في الجملة يجب الفراغ عن عهدته
لان الواحد لا يتبعض من حيث التنجز وعدمه، وأنت خبير بان الحجة على
الكبرى ان كان حجة على الصغرى فلا فرق بين كبرى طلب الترك المطلق
وكبرى طلب كل ترك، وان لم يكن حجة على الصغرى فلا فرق بين الشك في
انطباق مدخول أداة العموم على المايع المردد والشك في انطباق طبيعي الترك
المطلق على ما يسع هذا الفرد المردد. وليس الشك في هذا الفرد شكا في

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 200 س 6.
(2) راجع نفس المصدر.
552

محصل الترك المطلق، بل هذا الفرد المردد على تقدير كونه خمرا مثلا يكون ترك
شربه يقوم طبيعي ترك شرب الخمر بحده لا محصلا له، فشرب هذا المايع
بالإضافة إلى طبيعي الترك وان لك يكن كالفرد بالإضافة إلى الكل بل مطابق
طبيعي الترك بحده واحد، وهو ما بالحمل الشائع ترك شرب الخمر بنهج الوحدة
في الكثرة الا ان المطلوب بالحمل الشائع بنحو فناء العنوان في المعنون هو الترك
الجامع بين التروك الخارجية بنهج الوحدة في الكثرة، وكون ترك شرب هذا
المايع من جملة تلك الكثرات التي يكون جامعها بالحمل الشائع متعلقا لطلب
مشكوك، فما بالحمل الشائع مطلوب بشك في سعته لهذا المايع المردد والحجة
على الكبرى ليست حجة على الصغرى الا بمقدار يعلم بسعة المطلوب بالحمل
الشائع له.
واما ما أفيد (1) من استصحاب الترك المطلق إذا كان مسبوقا به فهو غير مفيد،
لان الغرض الفراغ عن عهدة التكليف المنجز ببقاء الترك المطلق على حاله وعدم
انقلابه باتيان الفرد المشكوك ومثل هذا الأثر العقلي غير مترتب على بقاء طبيعي
الترك بحده على حاله وليس المستصحب أمرا جعليا في نفسه كي يكون
بالإضافة إلى الأثر العقلي كالمحقق لموضوعه، والتعبد ببقاء الموضوع يجدى في
التعبد ببقاء حكمه لا في الفراغ والاشتغال، كما أن ما أفيد (2) أخيرا من " ان أصالة
البراءة وان كان يقتضى جواز الاقتحام في المشكوك الا ان قضية لزوم احراز الترك
اللازم وجوب التحرز عنه، ولا يكاد يحرز الا بترك المشتبه أيضا " لا يخلو عن
محذور إذ لا شك في طلب هذا الفرد من الترك بالخصوص ليجري البراءة عنه،
وانما الشك في سعة الترك المطلوب لمثل هذا الترك فعلا، فلو فرض جريان
البراءة فيه لم يكن الحكم الفعلي المنجز الا مالا يسع هذا المشكوك، فإما لا براءة

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 200 وكفاية الأصول: 353، (ت، آل البيت).
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 202 وكفاية الأصول: 354، (ت، آل البيت).
553

واما لا اشتغال، فتدبر جيدا.
والتحقيق ان حقيقة البعث مثلا هو الانشاء بداعي جعل الداعي ولا يكون هذا
الانشاء الخاص داعيا الا بوجوده العلمي الذي لا يعقل الدعوة منه الا في موطن
النفس، لا بوجوده الواقعي الغير الواصل، وكمالا يعقل دعوة الامر لوجوده
الواقعي كذلك لا يعقل دعوته إلى امر غير حاضر في أفق النفس حتى يتحقق منه
الدعوة إليه في موطن الدعوة وفى محل انبعاث الشوق إليه، وهكذا بالإضافة إلى
متعلق فعل المكلف كالماء والخمر والنجس.
فان حضور هذه المتعلقات أيضا في البعث إلى الشرب أو الزجر عنه في فعلية
الباعثية والزاجرية لازم عقلا، وهكذا الامر بالإضافة إلى حركة العضلات بالقبض
والبسط نحو موضوع خارجي فإنه لا يتحرك العضلات نحو هذا الموضوع دون
غيره جزافا بل بسبب انطباق ذلك المتعلق الكلى على الجزئي في وجدان العقل
لا في الخارج.
فانتهاء امر دعوة البعث والزجر إلى ما تحرك نحوه العضلات قبضا وبسطا
خارجا يقتضى حضور نفس البعث والزجر ومتعلقهما وما يضاف إليه المتعلق
عنوانا ومعنونا في وجدان العقل بحيث لو اختلت إحدى هذه المقدمات لم
يعقل الدعوة، فلا يعقل جعل الداعي بالفعل، وهذا هو السر في اشتراط التكليف
بالقدرة أيضا فان نسبة القدرة إلى الإرادة نسبة النقص إلى الكمال والقوة إلى
الفعل والامكان إلى الوجوب، فإذا لم يكن الشئ مقدورا لم يخرج الفعل من حد
القوة إلى الفعل بالإرادة حتى يعقل جعل الداعي المحصل للإرادة.
ولا يخفى عليك ان الغرض من الانشاء بداعي جعل الداعي حيث إنه جعله
بنفسه داعيا على أي تقدير فلا محالة يكون بوجوده الواصل حقيقة داعيا،
لما مر (1) سابقا من أن المعلول الفعلي لا ينبعث عن علة تقديرية بل عن علة

(1) التعليقة: 226، ص 524.
554

فعلية، فالامر المحتمل بصورت الحاضرة في النفس داع بالذات على أي تقدير،
والامر الخارجي الداعي بالعرض داعيا على أي تقدير بل على تقدير تحققه
ومطابقته للصورة الحاضرة للنفس، فإذا كان الانشاء الواقعي المفروض تحققه
بداعي جعل الداعي حقيقة فهو بعنوان جعل الداعي بالعرض على أي تقدير،
ولا يعقل ان يكون كذلك الا بنحو وجوده الواصل في وجدان العقل والا ففي
صورة احتماله لا يكون داعيا بالعرض على أي تقدير، وكذا الامر بالإضافة إلى
عنوان متعلقه، فان جعله داعيا إلى الشرب بعنوانه يستدعى احداث الشوق إليه
بعنوانه لا إلى احتماله، وكذا بالإضافة إلى ما أضيف إليه المتعلق عنوانا ومعنونا.
نعم، إذا قام الدليل على تنجيز المحتمل كان ذلك راجعا إلى جعل وجوده
المحتمل داعيا أو إذا كان من باب جعل الحكم المماثل كان في الحقيقة جعل
الحكم المماثل الواصل داعيا حقيقة بعنوان انه الواقع فهو الداعي بالحقيقة،
والحكم الواقعي داع عنوانا وبالعرض.
ومن جميع ما ذكرنا تبين ان ملاك البراءة عدم فعلية الحكم بعدم الوصول
كبرى وصغرى من دون فرق بين كون القضية حقيقية أو خارجية، فاخذ القضية
حقيقية مقدمة للبراءة، وان فعلية الحكم بفعلية موضوعه بخروجه عن حد
الفرض والتقدير مقدمة مستدركة، ولذا إذا كانت القضية خارجية كانت فعلية
الحكم بالوصول أيضا، كما إذا قال لا تشرب هذه الخمور الموجودة في الدار
وتردد امر مايع بين كونه منها وعدمه، فإنه قطعا مجرى البراءة مع أن القضية
خارجية، فتدبره فإنه حقيق به.
ومما ذكرنا تبين انه لا شك في (عدم) فعلية الحكم الواقعي المحتمل بل
ذكرنا برهان على عدم فعليته من دون وصول النوبة إلى قاعدة قبح العقاب
بلا بيان، واما مع قطع النظر عن ذلك وملاحظة قاعدة قبح العقاب بلا بيان
ومقتضاها في الشبهة الموضوعية فنقول ليس المراد بالبيان ما هو وظيفة الشارع
555

وهو بيان الكبرى حكما وموضوعا حتى يتوهم حصوله وان بيان الموضوع
الجزئي ليس وظيفة الشارع، بل المراد قبح العقاب بلا مصحح للعقوبة
والمؤاخذة عقلا وشرعا وان يكن مصداقه وظيفة الشارع، وقد بينا مرارا ان
مخالفة التكليف الواقعي بما هي ليست مصححة للعقوبة عقلا بل بما هي ظلم
على المولى وخروج عن زي الرقية ورسم العبودية، وكما أن مخالفة التكليف
الذي لا حجة على أصله ولا على متعلقه كلية ليست ظلما إذ ليس من زي الرقية
اتيان مالا حجة عليه من قبل المولى أو التجنب عما لا حجة عليه من قبله كك
مخالفة التكليف المعلوم الذي صادف الفرد المشكوك في الواقع، فان فعل هذا
المشكوك أو تركه ليس خروجا عن زي الرقية، فان الحجة على الكبرى بما هي
لا يعقل ان تكون حجة على الصغرى حتى يندرج في موضوع مخالفة ما قامت
عليه الحجة ليكون مصداقا للظلم المحكوم عليه بأنه مذموم عليه.
لا يقال: اتيان المشكوك وان لم يكن ظلما مذموما عليه الا ان مخالفة
التكليف المعلوم وعدم الخروج عن عهدته ظلم موجب للذم والعقاب، فلزوم
ترك المشكوك ليس من حيث نفسه بل من حيث لزوم الخروج عن عهدة
التكليف المنجز.
لأنا نقول: بعد تسليم ان اتيان هذا المشكوك من حيث كونه مخالفة ذلك
التكليف المعلوم ليس ظلما فلا محالة لا يتنجز ذلك التكليف المعلوم الا بمقدار
يكون مخالفته ظلما وخروجا عن زي الرقية، ولا يجب الفراغ عن عهدة مالا
يتنجز بالإضافة إلى شئ بل يجب الفراغ عن عهدة ما كان منجزا له، لكن قد بينا
في محله ان عدم استحقاق العقاب بعدم مخالفة التكليف الواصل لا بقبح
العقاب من المولى بل قبح معاقبته متفرع على عدم استحقاقه. فراجع (1).

(1) التعليقة: 10 و 119 و 134، ص 47 و 248 و 273 و 322 و 325.
556

الرابع: التبعيض في الاحتياط المخل بالنظام
231 - قوله: قد عرفت (1) حسن الاحتياط عقلا ونقلا (2) الخ:
لا يخفى عليك ان معنى حسنه عقلا كونه انقيادا للمولى وهو عنوان ممدوح
عليه، ومعنى حسنه شرعا لا بد من أن يكون رجحانه شرعا بقيام غرض مولوي
به، والا فكونه ممدوحا عليه عند الشارع بما هو من العقلاء فهو راجع إلى رجحانه
العقلي، وليس بناء على كونه راجحا عند الشارع بما هو شارع الا كون الامر به
منبعثا عن نفس مصلحة الواقع بجعل الحكم المماثل تحصيلا للواجب الواقعي
والغرض منه، أو كون الامر به بداعي تنجيز الواقع المحتمل لأجل الوصول إلى
الغرض منه، واما الامر به ارشادا فهو امر منه بما هو عاقل لا بما هو شارع ذو
غرض مولوي، ومنه يعلم أنه يعد الحكم برجحانه شرعا في الرسائل (3) لا مورد
للترديد في أن الامر به للاستحباب أو للارشاد والامر سهل.
232 - قوله: ما لم يخل بالنظام فعلا فالاحتياط (4) قبل ذلك (5) الخ:
اما بالإضافة إلى حسنه عقلا، فلان ما يخل بالنظام قبيح عندهم بل قد مر
مرارا (6) ان ملاك الحسن والقبح العقليين كون الشئ ذا مصلحة ينحفظ بها النظام
أو ذا مفسدة يختل بها النظام. واما بالإضافة إلى وجوبه أو استحبابه الشرعي

(1) التعليقة: 222، ص 518 وكفاية الأصول: ج 2، ص 193.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 202 وكفاية الأصول: 354، (ت، آل البيت).
(3) الرسائل: ج 1، ص 359 والرسائل: ص 216، مخطوط.
(4) وعبارة التعليقة هكذا: بالنظام بالاحتياط.
(5) كفاية الأصول: ج 2، ص 202 وكفاية الأصول: 354، (ت، آل البيت).
(6) التعليقة: 10 و 134، ص 41 و 272 و 312.
557

فلأنها بداعي جعل الداعي، ومع قبح الاحتياط المخل بالنظام في نظر العقل
لا يعقل تصديق الجعل منه فيلغو البعث قهرا، بل نقول ان نفس التكليف
الواقعي الذي يقتضى الجمع بين محتملاته الاخلال بالنظام لا يبقى عليه فعلية
الباعثية والزاجرية لا من حيث إنه يقتضى ما يخل بالنظام لان مقتضاه نفس
متعلقه وهو قطعا لا يخل بالنظام، بل الاخلال في تحصيل العلم بامتثاله، وليس
ذلك من مقتضيات نفس التكليف ولو بالواسطة كما قدمنا شرحه في أوائل دليل
الانسداد (1) بل من حيث إن العقل بعد ما لم يحكم بتحصيل العلم بامتثاله لا
معنى لبقائه على صفة الدعوة الفعلية، كما قدمناه هناك (2)، واما ما في المتن (3)
من أن الاحتياط قبل الاخلال يقع حسنا وبعد لزوم الاختلال منه لا يكون حسنا
فهو بالإضافة إلى الجمع بين الاحتياطات بالنسبة إلى تكاليف متعددة لا بالإضافة
إلى الجمع بين محتملات تكليف واحد، فإنه مبنى على امكان الانفكاك بين
الموافقة القطعية وترك المخالفة القطعية، فتدبر.
" التحقيق في التخيير "
233 - قوله: وشمول مثل (كل شئ لك حلال) (4) الخ:
قد تقدم في مباحث القطع ان شمول كل شئ (5) الخ يتوقف على أمور.
منها: شموله للشبهة الحكمية والموضوعية معا مع أنه قد بينا في أدلة البراءة
اختصاصه بالشبهة الموضوعية.
ومنها: شموله للشبهة الوجوبية والتحريمية بتقريب ان الحرام يراد به ما حرم
فعله أو تركه فعموم الغاية يدل على عموم المغيى، مع أن كل حكم من الاحكام

(1) التعليقة: 127، ص 257.
(2) نفس المصدر.
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 202، الرابع...
(4) كفاية الأصول: ج 2، ص 203 وكفاية الأصول: ص 355، (ت، آل البيت) والرسائل: 233 مخطوط.
(5) التعليقة: 39، ص 89.
558

الخمسة أمر بسيط لا ينحل إلى حكمين فعلا وتركا مع ظهور أن الايجاب ينبعث
عن مصلحة في متعلقه، وليس في تركه مفسدة حتى ينبعث منها تحريم، كما أن
التحريم ينبعث عن مفسدة في متعلقه لا أن في تركه مصلحة كي ينبعث منها
ايجاب. وكذا ليس في المراد التشريعي اللزومي في موطن النفس إلا إرادة متعلقة
بفعله لا كراهة متعلقة بتركه، إذا لا فرق بين الإرادة التشريعية والتكوينية إلا من
حيث تعلق الأولى بفعل الغير وتعلق الثانية بفعل نفس المريد. وكذا لا يستحق
عقوبتين على كل معصية، لأن المفروض أن فعل الحرام ينطبق عليه ترك الواجب
وبالعكس في ترك الواجب، فتبين عدم التعدد من حيث المبادئ والنتايج
والغايات.
ومنها: أن تكون الغاية عقلية لا شرعية جعلية، إذ لو كانت شرعية فهي
حاصلة لفرض العلم الاجمالي بالوجوب أو الحرمة بخلاف ما لو كانت عقلية فان
المراد من العلم هو المنجز، ومع فرض عدم منجزية هذا العلم، من حيث الموافقة
القطعية وترك المخالفة القطعية فالغاية غير حاصلة بمجرد العلم، وسيأتي انشاء
الله تعالى الاشكال في الغاية حتى بناء على كونها غاية عقلية (1)، فاتضح أن
الاستدلال به مبنى على مقدمات كلها غير مسلمة، فتدبر.
234 - قوله: ولا مانع منه عقلا ونقلا (2) الخ:
قد تقدم في مباحث القطع بيان الموانع ودفعها، فراجع (3).
235 - قوله: وقد عرفت انه لا يجب موافقة الأحكام التزاما (4) الخ:
في البحث عن وجوب الموافقة الالتزامية جهتان:
إحديهما: تناسب مباحث القطع وهي انه هل للتكليف المعلوم مرحلتان من

(1) التعليقة: ص 237، 565.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 203 وكفاية الأصول: ص 355، (ت، آل البيت).
(3) التعليقة: 36، ص 86 وكفاية الأصول: ج 2، ص 30.
(4) كفاية الأصول: ج 2، ص 203 وكفاية الأصول: ص 355، (ت، آل البيت).
559

الإطاعة والمعصية عملا والتزاما أو الأولى فقط وقد أشبعنا الكلام فيها هناك (1).
وثانيتهما: هل وجوب الموافقة الالتزامية وحرمة مخالفتها ولو بدليل من
الخارج يمنع عن اجراء الإباحة والبراءة شرعا أو لا؟ وهذه الجهة تناسب مباحث
الشك ومجاري الأصل، وقد قدمنا الكلام فيها أيضا بتبع تعرض شيخنا العلامة
- رفع الله مقامه - لها هناك (2) وبينا هناك أن الامر دائر بين ما يستحيل لزومه ومالا
يمنع لزومه عن إجراء الإباحة والبراءة فراجع. وحيث عرفت أن الغرض هنا ليس
مجرد لزوم الموافقة الالتزامية كما هو المناسب لمبحث القطع حتى يقال بعدم
اللزوم كلية أو أن الالتزام بالواقع اجمالا ممكن بل الغرض عدم مانعية الالتزام
حيث لا منافاة بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري فلا مانع من الالتزام بهما
معا.
لا يقال: هذا إذا تعلق الالتزام بنفس الواقع الذي هو إما الوجوب أو الحرمة،
وكل منهما حيث إنه مجهول فلا يكون فعليا حتى يقال بأنه غير معقول كعدم
معقولية نفس اجتماع الفعليين. وأما إذا كان الالتزام بالمردد محالا لعدم تعين
الطرف المقوم للالتزام الجدي الجزئي وإلا لزم إما تردد المعين أو تعين المردد
وكلاهما خلف، فلا محالة يجب الالتزام بنفس طبيعي الالزام، وحيث إنه معلوم
تفصيلا فيكون فعليا، فيمنع عن الإباحة الفعلية، كما أن الالتزام به لا يجتمع مع
الالتزام بما ينافيه.
لأنا نقول: لا فعلية لطبيعي الالتزام إلا بفعلية نوعه، فإذا لم يكن نوعه فعليا
لم يكن الجنس فعليا، فلا ينافي الإباحة الفعلية، فلا يكون الالتزامان متنافيين،
هذا وبقية الكلام مما يتعلق بالمقام قد تقدمت مفصلة في مباحث القطع،
فراجع (3).

(1) التعليقة: 32، ص 83، وكفاية الأصول: ج 2، ص 28.
(2) نفس المصدر الفوق.
(3) نفس المصدر الفوق.
560

236 - قوله: وقياسه بتعارضين الخبرين (1) الخ:
لا يخفي عليك أن القياس بالخبرين المتعارضين وإبطاله، تارة، لاثبات التخيير
الذي هو أحد الوجوه في المسألة ونفيه، وأخرى، لتتميم البحث عن عدم
وجوب الالتزام بأحد الحكمين بنحو التخيير حتى يمنع عن إجراء البراءة شرعا
والحكم بالإباحة، وإن كان لازمه بطلان القول بالتخيير، وظاهر العبارة هو
الثاني (2) كما هو مقتضى كلمات شيخنا العلامة الأنصاري - قده - في الرسائل (3)
في هذه المسألة، وتقريب وجوب الالتزام بأحد الحكمين بنحو التخيير بوجهين.
أحدهما: إنه يجب الالتزام شرعا بالحكم الواقعي بعنوانه، فإذا كان الواقع هو
الوجوب فالالتزام واقعا هو الالتزام بالوجوب وإذا كان هي الحرمة
فالالتزام الواجب هو الالتزام بالحرمة، وحيث لا يتمكن من الموافقة القطعية
للالتزام الواجب وجبت موافقته الاحتمالية وهي الالتزام (4) بالوجوب أو الالتزام
بالحرمة.
والجواب أن أصل الالتزام الجدي بالواقع بعنوانه الخاص المجهول غير
معقول حتى يجب واقعا على طبق الواقع حتى يجب موافقته الاحتمالية بل
مقولة الالتزام الجدي بشئ سنخ مقولة لا تتعلق إلا بما علم، وهو انه ليس إلا
نفس طبيعي الالزام وهذا معنى ما أفيد في الرسائل (5) وهو قوله - ره - " وليس
حكما شرعيا ثابتا في الواقع حتى تجب مراعاته ولو مع الجهل التفصيلي " الخ
ومنه تبين أنه لا جامع بين التخيير هنا والتخيير بين الخبرين حتى يقاس أحدهما
بالآخر، إذ ملاك التخيير هنا مراعا وجوب الالتزام الواحد بالاحتياط المقتضى
للموافقة الاحتمالية، وملاك التخيير هناك عدم امكان الجمع بين التزامين

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 203 وكفاية الأصول: ص 355، (ت، آل البيت).
(2) كفاية الأصول: ج 2: ص 206 - 203.
(3) الرسائل: ج 1، ص 396، في ذيل المطلب الثالث. والمصدر: ص 235، س 25 مخطوط.
(4) (خ ل): بالالتزام.
(5) نفس المصدر الفوق.
561

واجبين فيتخير بين الالتزامين الواجبين ولذا قال - قده - بعد العبارة المتقدمة (1)
" ومن هنا يبطل قياس ما نحن فيه " الخ.
ثانيهما: قياس المورد بالخبرين المتعارضين بتنقيح المناط وبيان الملاك
بينهما، توضيحه أن نفس التكليف الواقعي وإن كان لا يقتضى عقلا الالتزام به أو
بضده ودليل الالتزام بالأحكام من الخارج وإن كانت غير مقتضية للالتزام بها
بعناوينها الواقعية، إلا أن الدليل على التخيير بين الخبرين دليل على التخيير بين
الحكمين هنا، لان الملاك هناك إما رعاية الحكم الظاهري الأصولي وهي الحجية
ورعاية الحكم الواقعي أولى، وإما لان الخبرين مع ما نحن فيه مشتركان في نفي
الثالث، ففيما نحن فيه علما، وفي الخبرين علميا، وإما لان الخبرين لا خصوصية
لهما إلا إحداث احتمال الحكمين واقعا وهو موجود فيما نحن فيه، إذ لا شأن
للخبرين بناء على الطريقية المحضة إلا إحداث الاحتمال. والجواب، أن الحجية
إما بمعنى لزوم الالتزام بمؤدى الخبر مقدمة للعمل لا تطبيق العمل على مقتضى
الخبر كما يظهر من بعض كلمات الشيخ الأجل - قده - وإما بمعنى جعل الحكم
المماثل لمؤدى الخبر بعنوان ينطبق على ذات الواجب مثلا، كعنوان تصديق
العادل عملا، وإما بمعنى تنجيز الواقع بالخبر وعلى أي حال فالقياس مع الفارق.
أما الحجية بالمعنى الأول: فايجاب الالتزام بمؤدى الخبر منبعث عن
مصلحة في نفس الالتزام إذا كان ايجاب الالتزام حقيقيا لا كنائيا، فهناك مصلحتان
مقتضيتان لإيجابين متعلقين بالالتزام، وحيث لا قدرة على امتثال هذين
الواجبين المنبعثين عن مقتضيين فلا محالة يحكم العقل بالتخيير بينهما كسائر
الواجبات المتزاحمة، وليس فيما نحن فيه إلا مصلحة مقتضية للوجوب الواقعي
أو مفسدة مقتضية للتحريم الواقعي، ولا موجب إلا لالتزام واحد بالمقدار
الواصل وهو طبيعي الالزام.
نعم، أصل الحجية بهذا المعنى محل الاشكال، إذ الالتزام بمؤدى الخبر من

(1) قال الشيخ في المصدر المتقدمة.
562

حيث إنه مؤداه لا معنى للزومه حيث أنه ليس من الاحكام حتى يجب الالتزام به،
والالتزام الجدي بالحكم الواقعي الغير الواصل حقيقة ولا تعبدا غير معقول، إما
انه غير واصل حقيقة فهو واضح، وإما أنه غير واصل تعبدا فلان المفروض عدم
جعل الحكم المماثل بل ايجاب الالتزام فقط، وحيث إنه غير معقول فليحمل
على ايجاب الالتزام كناية عن تطبيق العمل، لان العمل لا يكون إلا عن التزام فهو
أمر بالالتزام كناية وبالعمل حقيقة، فيندرج تحت الشق الثاني. وكذا لو جعلنا
ايجاب الالتزام حقيقيا كاشفا بدلالة الاقتضاء عن جعل الحكم المماثل بجعل
لازمه أو متلازمه (1) فيندرج تحت الشق الثاني.
وأما الحجية بالمعنى الثاني: وهو جعل الحكم المماثل، فهو على قسمين
فتارة، ينبعث هذا الجعل المماثل عن مصلحة قائمة بالعنوان الطارئ فالحكم
المماثل لا يدور ثبوته الحقيقي مدار الواقع لانبعاثه عن ملاك آخر غير ملاك
الواقع، وهذا معنى الحجية على الموضوعية والسببية. فهناك على الفرض في
الخبرين بحسب دليل الحجة مقتضيان لحكمين مماثلين لمؤدى الخبرين
فالتخيير بينهما من باب التخيير بين الواجبين المتزاحمين فلا يقاس به ما ليس فيه
إلا مقتضي واحد، ومقتضى واحد.
وأخرى، ينبعث الجعل المماثل عن نفس مصلحة الواقع بحيث لا غرض فيه
إلا ايصال الواقع بعنوان آخر، فلا محالة يكون مقصورا على مصادفة الخبر للواقع،
ولا تخيير هنا بحسب القاعدة، إذ لا مقتضى هناك إلا نفس مقتضى الحكم
الوقعي وهو واحد والحكم المماثل الحقيقي أيضا واحد، فليس هناك واجبان
متزاحمان، والتخيير إذا كان ثابتا شرعا فهو لوجه اخر مختص بالخبرين وهو
الاخذ بأحد الخبرين بعنوان التسليم لما ورد عنهم (ع). فدليل التخيير بناء على
هذا كدليل حجية الخبر عموما على الموضوعية فان عنوان التسليم حيث إنه ذو
مصلحة وكلاهما وارد فينطبق على كليهما هذا العنوان، وحيث لا قدرة على

(1) (خ ل): قبلا.
563

التسليم لكليهما وجب التسليم لأحدهما مخيرا، وليس مثل هذا العنوان فيما
نحن فيه حتى يكون دليل التخيير هناك دليلا على التخيير هنا، فعلم أن التخيير
بين الخبرين ليس لأجل ما توهم من الملاك بل لما ذكرناه في هذا الشقوق.
وأما الحجية بالمعنى الثالث: فحالها حال جعل الحكم المماثل على
الطريقية المحضة، إذ لا غرض في هذا الانشاء - على الفرض - الايصال الواقع
بأثره لا بمماثله، فذاك الغرض هو الداعي إلى التنجيز الواقع بالخبر، وهذا شأن
الخبر الموافق دون كليهما فلا تخيير على القاعدة بل بدليل خاص بعنوان التسليم
لما يرد عنهم (ع) بتوسط الثقات.
وأما ما عن شيخنا العلامة - قدس سره - في المتن (1) من الجواب بناء على
الطريقية من وجود ملاك الطريقية في كلا الخبرين هو احتمال الإصابة شخصا
وغلبة الإصابة نوعا، فالعلم الاجمالي بالكذب الواقعي غير مانع، إذ ليس الكذب
الوقعي مانعا ومع وجود الملاك في كليهما فلا محالة يكون التخيير على القاعدة
ولا يقاس به ما نحن فيه، حيث إنه ليس فيه الا مجرد احتمال الحكمين لا ملاكان
لاعتبار الحجية في كلا الخبرين، فقد بينا في محله أنه لا يخلو عن محذور، إذ بناء
على الطريقية المحضة لم ينبعث الانشاء بداعي جعل الحكم المماثل أو بداعي
تنجيز الواقع إلا عن نفس مصلحة الواقع، فالحكم المماثل واحد والمنجز
بالحقيقة واحد عن مقتض واحد، غاية الامر انه لم يجعل الحكم المماثل على
طبق مؤدى كل أمارة ولم يجعل الواقع منجزا بأية أمارة كانت بل على طبق ماله
احتمال الإصابة شخصا وغلبة الإصابة نوعا، ودخل هذه الخصوصية في الجعل
المزبور عن المقتضى الواقعي أمر وكونه مقتضيا للجعل المزبور أمر آخر، ومجرد
وجود الشرط مع عدم المقتضى لا يفيد شيئا ولا يكون التخيير على القاعدة
كالمتزاحمين، فتدبر جيدا.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 206، س 2.
564

237 - قوله: ولا مجال ههنا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان (1) الخ:
ليس الغرض فقد التمكن المعتبر في تعلق التكليف، فإنه حاصل قطعا، بل
الغرض فقد التمكن من الامتثال من حيث الموافقة القطعية وترك المخالفة
القطعية وهو معتبر في موضوع حكم العقل باستحقاق العقاب على المخالفة
القطعية وترك الموافقة القطعية، وهو أثر تنجز التكليف، فلا نقص في منجزية
العلم من حيث نفسه بل من حيث اعتبار التمكن من الامتثال في تنجز التكليف
واستحقاق العقاب.
فكما أن فعلية التكليف منوطة بأمرين، أحدهما: وصوله، والاخر: القدرة
على متعلقه ولا ربط لأحدهما بالآخر كذلك تنجز التكليف واستحقاق العقاب
على مخالفته القطعية وترك موافقته القطعية منوط بأمرين:
أحدهما: الوصول الأعم من التفصيلي والاجمالي.
والاخر: التمكن من الموافقة القطعية وترك المخالفة القطعية ولا ربط
لأحدهما بالآخر، فلاوجه لاحتساب التمكن المزبور من بيانية العليم. وأما أن
العلم لا يصلح للبيانية بتوهم تعلقه بجنس التكليف، ففيه، أنه إذا علم بوجوب
فعل في اليوم أو حرمته في غد لا علم له إلا بجنس التكليف ومع ذلك يؤثر
للتمكن من الامتثال كما، أنه إذا علم بوجوب الجلوس في مكان في اليوم
والجلوس في مكان آخر في اليوم لا يؤثر في التنجز مع أنه متعلق بنوع التكليف
لعدم التمكن من الامتثال فيعلم أن العلم مطلقا قابل للتأثير، وإنما المانع عدم
التمكن من الامتثال المعتبر عقلا في استحقاق العقاب على تركه.
ومما ذكرنا يظهر الاشكال في أدلة البراءة الشرعية، لان ظاهرها كونها في مقام
معذورية الجهل وارتفاعها بالعلم، فما كان تنجزه وعدمه من ناحية العلم والجهل
كان مشمولا للغاية والمغيى، وما كان من ناحية التمكن من الامتثال وعدمه فلا
ربط له بأدلة البراءة. ومنه تبين أن الغاية في " كل شئ لك حلال " وإن كانت عقلية

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 206. وكفاية الأصول: ص 356، (ت، آل البيت). وبحث أيضا في
أجود التقريرات: ج 2 ص، 231.
565

لا يجدى لشمول المغيى لما نحن فيه إذ ليست المعذورية هنا لأجل عدم
حصول الغاية وهذا ما وعدناك به سابقا (1) فتدبره فإنه حقيق به.
238 - قوله: لعدم التمكن من الموافقة القطعية كمخالفتها (2) الخ:
ظاهره عدم تنجز التكليف من حيث ترك المخالفة القطعية مطلقا سواء كانت
في واقعة أو في واقعتين، مع أنه بالإضافة إلى الواقعتين يتمكن من المخالفة
القطعية العملية التدريجية، فإنه إذا فعل في واقعة وترك في واقعة أخرى يقطع
بمخالفة التكليف. فإنه إذا كان حراما فقد فعله، وإن كان واجبا فقد تركه.
ويقال: إن العقل لا يفرق في قبح المخالفة القطعية بين الدفعية والتدريجية
بل ظاهر الشيخ الأعظم - قده - في الرسائل (3) في مباحث القطع - الحكم بقوة
قبح المخالفة القطعية العملية في واقعتين وعدم الحكم بتنجز التكليف في واقعة
لعدم التمكن من المخالفة القطعية لا ينافي الحكم بتنجزه في واقعتين لمكان
التمكن منها. وقد عرفت أنه لا قصور في منجزية العلم وإنما المانع عدم التمكن
من الامتثال والمفروض حصوله من حيث ترك الخالفة القطعية بالإضافة إلى
واقعتين، فالمقتضى موجود والمانع مفقود، وهذه غاية ما يمكن أن يقال في
توجيه حكم العقل بقبح المخالفة القطعية التدريجية في واقعتين.
والتحقيق: أن العلم لا ينجز إلا طرفه مع القدرة على امتثال طرفه، ومن البين
أن هناك تكاليف متعددة في الوقايع المتعددة فهناك علوم متعددة بتكاليف
متعددة في الوقايع المتعددة لا ينجز كل علم إلا ما هو طرفه في تلك الواقعة،
والمفروض عدم قبول طرفه للتنجز ولا توجب هذه العلوم المتعددة علما إجماليا
أو تفصيليا بتكليف اخر يتمكن من ترك مخالفته القطعية (4).
نعم، انتزاع طبيعي العلم من العلوم المتعددة وطبيعي التكليف من التكاليف

(1) التعليقة: 233، ص 559.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 206 وكفاية الأصول: ص 356، (ت، آل البيت).
(3) الرسائل: ج 1، ص 33، والانصاف: أنه لا يخلو عن قوة..
(4) ولعل نظيره ما أفاده المحقق العراقي: نهاية الأفكار ج 3، ص 296.
566

المتعددة ونسبة المخالفة القطعية إلى ذلك التكليف الواحد المعلوم بعلم واحد
هو الموجب لهذه المغالطة، ومن الواضح أن ضم المخالفة في واقعة إلى
المخالفة في واقعة أخرى وإن كان يوجب القطع بالمخالفة لكنه قطع بمخالفة غير
مؤثرة، لفرض عدم الأثر لكل مخالفة التكليف المعلوم في كل واقعة. ومما ذكرنا
تبين أن التمكن من ترك المخالفة القطعية في واقعتين غير مفيد، لأنه ليس امتثالا
للتكليف المعلوم الذي يترقب امتثاله، فان كل تكليف في كل واقعة يستدعى
امتثال نفسه بحكم العقل، لا امتثاله أو امتثال تكليف اخر في واقعة أخرى.
ولا يخفي عليك أن عدم الفرق بين المخالفة القطعية الدفعية والتدريجية
صحيح إذا كان التدريجي طرف العلم لافى مثل ما نحن فيه من كون كل واقعة
أجنبية عن واقعة أخرى من حيث العلم والمعلوم، فكذا من حيث الامتثال،
فليس الاشكال فيما نحن فيه من حيث تدريجية المخالفة كي يجاب:
تارة: بأن التكليف بالمتأخر بنحو المعلق أو بنحو المشروط بالشرط المتأخر
فهو فعلى حال تعلق العلم.
وأخرى: بان الواجب المشروط إذا علم بتحقق شرطه في ظرفه كفى في
تنجزه في ظرفه.
ثم إنه ربما ينتقض قبح الاذن في المخالفة التدريجية بالتخيير الاستمراري بين
الخبرين الدال أحدهما على الوجوب والاخر على الحرمة، وبالتخيير
الاستمراري في الرجوع المجتهدين المتساويين في مثل الفرض المذكور،
وبجواز العدول من مجتهد إلى آخر مط، أو ببعض مسوغات العدول في مثل
الفرض المزبور.
وأجاب عنه الشيخ الأجل - قده - (1) بعدم البأس به إذا كان للمكلف في كل
واقعة بدل ظاهري وتعبد بحكم ظاهري.
وربما يورد عليه بأنه أي فرق بين الإباحة الظاهرية في كل واقعة وسائر

(1) الرسائل: ج 2، ص 406 والرسائل: ج 1، ص 33.
567

الاحكام الظاهرية، ولا يخفى عليك أن غرضه - قده - ليس كغاية الحكم الظاهري
في المخالفة العملية التدريجية، بل وجود البدل الظاهري الذي به يتدارك
مصلحة الواقع أو مفسدته، ففي مثل الخبرين المتعارضين يكون في الالتزام بكل
منهما مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع أو مفسدته، أو نفس جعل الحكم على
طبق الخبرين بنحو التخيير منبعث عن مصلحة في الفعل أو الترك بعنوان عارض،
إما مط كما على موضوعية الخبر مط، أو في خصوص مورد التعارض كما على
القول بالتخيير شرعا بعنوان التسليم الراجع أيضا إلى الموضوعية في مثل هذا
الحال. وعلى أي حال فهناك مصلحة يتدارك بها الواقع عند الخطاء عن الواقع
ولابد من الالتزام بمثله في التخيير بين المجتهدين أو جواز العدول. وأما في مثل
الحكم على معلوم الوجوب أو الحرمة بالإباحة مط فليس هناك بدل ظاهري،
حيث إن الفعل والترك على حالهما من دون تعنونهما بعنوان ذي مصلحة حتى
يكون الفعل المعنون بذلك العنوان بدلا ظاهريا عن الواقع، كمالا معنى لتعنونهما
من قبل نفس الإباحة بشئ ولو بالالتزام بالإباحة، فان الإباحة تتعلق بنفس الفعل
لا بالالتزام بها فإنه غير معقول فيتمحض في الاذن في المخالفة العملية
التدريجية، وهو قبيح.
239 - قوله: ثم إن مورد هذه الوجوه وان كان الخ (1):
لا يخفي عليك أن تخصيص المورد بالتوصليين وتقييده بعدم كونهما أو
أحدهما تعبديا، تارة لجهة تناسب مباحث القطع، وأخرى لجهة تناسب هذا
المبحث. ففي مباحث القطع لأجل تمحض المورد للمخالفة الالتزامية، إذ لو كانا
تعبديين أو كان أحدهما كذلك وفعل لا بداعي القربة كانت المخالفة عملية، إذ
لو كان حراما لفعله ولو كان واجبا لتركه حيث لم يأت به على وجهه، كما أنه إذا
فعله بداع الامر وكان محتملا للتعبدية كان متضمنا للموافقة الالتزامية، إذ
لا يمكن الفعل بنحو التعبدية إلا مع الالتزام بالحكم فلا يتمحض المورد للمخالفة

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 206 وكفاية الأصول: ص 356 (ت، آل البيت).
568

الالتزامية إلا في التوصلي، وأما هذا البحث فوجه التقييد فيه بالتوصليين أن
جريان جميع الوجوه منوط بذلك وإن كان بعضها يناسب التعبدية أيضا، مثلا
الاخذ بأحدهما مخيرا أو التخيير العملي بين الفعل والترك مع التوقف عن
الحكم ظاهرا وواقعا يلائم التعبدي والتوصلي، لان التخيير إنما يكون بين
المحتملين بحسب حالهما، ففي التعبديين يتخير عملا أو لزوما بين إتيان الفعل
قربيا أو الترك قربيا، ولا يعقل مع دوران الامر بين التعبديين أن يكون مقتضى
الامر بالأخذ تخييرا أو مقتضى حكم العقل بعدم الحرج بفعل أحد المحتملين إلا
بنحو يحتمله. وأما إجراء البراءة والحكم (1) بالإباحة فلا يلائم إلا التوصليين.
أما إجراء البراءة، فمقتضاه نفي الوجوب فعلا ونفي الحرمة والاذن في
الفعل والترك، والاذن في الفعل بمجرده والترك بمجرده من دون معاملة الواجب
أو الحرام معه إذن في اتيانه لابداع القربة، وفي الترك كك، وهو إذن في المخالفة
العملية القطعية لان إجراء البراءة يستلزم المخالفة العملية، إذ هو غير مانع عن
إتيان المحتمل بداع الوجوب المحتمل.
وأما الحكم بالإباحة، فهو مع المحذور المزبور يستلزم محذورا آخر وهو
منافاة الإباحة المقابلة لسائر الاحكام مع التعبدية المتقومة بالطلب اللزومي أو
الغير اللزومي، فلا يعقل الحكم على التعبدي بالإباحة الحقيقية. ومنه تبين أن
القائل بالإباحة كشيخنا الأستاذ - قده - (2) لابد له من التخصيص بالتوصليين فإن
تخييره عملا وإن لم يكن منافيا للتعبدية إلا أن حكمه بالإباحة ينافي التعبدية.
نعم، مثل الشيخ الأجل - قده - (3) حيث يختار التوقف وعدم الالتزام إلا بالواقع
على ما هو عليه مع التخيير عملا بين الفعل والترك لا موجب للتخصيص عنده،
لا من حيث التخيير ولا من حيث التوقف، وإنما تخصيصه بالتوصليين لا بناء

(1) (خ ل): أو الحكم بالإباحة.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 203، س 7، أوجههما الأخير.
(3) الرسائل: ج 1، ص 397، س 15: فالأقوى.. المصدر: 297 مخطوط.
569

على مختاره - قده - (1) بل بالنظر إلى جريان جميع الوجوه.
240 - قوله: ومع احتماله لا يبعد دعوى استقلال العقل بتعينه (2)
الخ (3):
ربما يشكل بأن الحكم الشرعي الواقعي تعييني، وهو إما الوجوب معينا أو
التحريم معينا، وليس كموارد التخيير التعيين الشرعيين مما يحتمل كون الحكم
الشرعي تعيينيا (4) أو تخييريا، بل لا يعقل كون الحكم الشرعي تخييريا بين
الوجوب والحرمة في واقعة واحدة، فان الايجاب التخييري إنما يعقل بين فعلين
حتى يكون ايجابا له وترخيصا في تركه إلى بدل. وأما ايجاب الفعل مع تجويز
تركه لا إلى بدل فينافي حقيقة الايجاب، فضلا عن ايجاب تركه تخييرا أيضا فكذا
الامر في جعل الحكم المماثل على طبق الوجوب والحرمة تخييرا فيه في
المحذور كالتخيير بين الحكمين الواقعيين.
وأما التخيير بين الخبرين الدال أحدهما على الوجوب والاخر على الحرمة
بناء على السببية، فلا يرجع إلى ايجاب وتحريم تخييريين بل إلى حكمين
تعينيين ظاهريين، والتخيير بحكم العقل لمكان عدمه القدرة على امتثالهما،
وحيث إن المقصود رجوعه إلى التخيير والتعيين العقليين فيشكل بأن الحاكم هو
العقل ولا معنى لتردد الحاكم حتى يقال بدور ان الامر بين التعيين والتخيير،
ومقتضى الاحتياط هو التعيين بل العقل (5) في مورد احتمال الأهمية في أحد
الطرفين إما أن يستقل بالتعيين أو بالتخيير، وحيث إن مناط الأهمية في حكمه
بالتخيير لأجل التساوي هي الأهمية في نظره ولا أهمية في نظره فلذا لا دوران
في نظره بل يستقل بالتخيير.
والجواب: أن حكم الشارع وإن كان تعيينيا (6) إلا أن تعيينية الحكم الشرعي

(1) وهو الشيخ الأجل - قده -.
(2) (خ ل)، بتبعيته.
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 207 وكفاية الأصول: ص 356.
(4) (خ ل): تعينيا.
(5) (خ ل): الفعل.
(6) (خ ل): تعيينا.
570

لا يمنع عن اندراج المسألة تحت مسألة التعيين والتخيير، فان الحكم في
الواجبين الشرعيين المتزاحمين تعييني لا تخييري، ومع ذلك إذا علم بأقوائية
ملاك أحدهما المعين يحكم بفعليته المطلقة وبقاء الاخر على فعليته الذاتية،
وإذا احتمل أقوائيته يدور الامر بين بقاء كليهما على فعليتهما الذاتية المقتضى
للتخيير في مقام الامتثال عقلا أو بلوغ محتمل الأهمية لمرتبة الفعلية بقول مط
وتعينه في مرحلة الامتثال، وأما حديث عدم تردد الحاكم فالجواب عنه أن
العقل يحكم كليا بقبح التسوية بين الراجح والمرجوح، وبقبح ترجيح أحد
المتساويين على الاخر، ولا تردد له في هذه الكبرى العقلية في الطرفين ولا في
ملاك هذه الكبرى، وإنما يتردد في انطباق الكبرى على مورد للتردد في إقوائية
ملاك الحكم الشرعي في طرف من ملاكه في طرف آخر، وهذا تردد منه لا بما هو
حاكم لتلك الكبريات ولا في ملاك تلك الكبريات، بل منه بما هو مدرك للحكم
الشرعي ولملاكه واستقلال العقل بملاكات الأحكام الشرعية مما لا يذهب إليه
ذو مسكة.
نعم، التحقيق أن مسئلتنا هذه غير مندرجة في مسألة التخيير والتعيين
العقليين مع القطع بالأهمية فضلا عن احتمالها. فان حكم العقل بالتخيير هنا ليس
بملاك التخيير بين الواجبين المتزاحمين من حيث تساويهما في المقتضى
ومقتضاه والقدرة على امتثاله في نفسه حتى يكون القطع بأقوائية الملاك أو
احتمالها مانعا عن حكمه بالتخيير، بل التخيير هنا عقلا بمعنى استقلال العقل
بعدم الحرج في الفعل والترك بملاك عدم المنجز للوجوب وللحرمة، والقطع
بأهمية ملاك الحرمة على تقدير ثبوتها واقعا أجنبي عن هذا الملاك فضلا عن
احتمالها، لان احتمال ثبوت الحكم الأهم كاحتمال ثبوت غير الأهم في عدم
التنجز، لعدم التمكن من الموافقة القطعية ومن ترك المخالفة القطعية على حد
سواء. والموافقة الاحتمالية للتكليف المعلوم كالمخالفة الاحتمالية قهرية لا أنها
لازم المراعاة بحكم العقل حتى يتوهم أنه مع القطع بالأهمية أو احتمالها في
طرف يحكم العقل بمراعاة موافقته الاحتمالية بالخصوص.
571

نعم، لو قلنا بوجوب الاخذ بأحد المحتملين من باب دلالة الدليل على
التخيير بين الخبرين على التخيير بين المحتملين فلازمه كون احتمال الوجوب ذا
مصلحة مقتضية لجعل الوجوب على طبقه، واحتمال الحرمة ذا مفسدة مقتضية
لجعل الحرمة على طبقه، وحيث لا يتمكن من امتثال الحكمين يحكم العقل
بالتخيير من باب التخيير بين المتزاحمين، فلا محالة يتوقف عن الحكم بالتخيير
مع القطع بالأهمية أو احتمالها، فتدبر جيدا.
241 - قوله: لشدة الطلب في أحدهما وزيادته (1) الخ:
غرضه فلا قوة المناط والملاك لتحقق الطلب تارة وزيادة ملاك اخر للطلب
أخرى، فان قوة الملاك وزيادة ملاك اخر يوجب تأكد الطلب دائما وإلا فلا يعقل
عروض طلب آخر على معروض الطلب. وفي التعبير بشدة الطلب وزيادته عن
شدة الملاك وزيادته مسامحة.
242 - قوله بما لا يجوز الاخلال بها الخ:
بأن يكون موجب قوة الطلب بحيث لو كان وحده لكان لازم الاستيفاء وإلا
لكان مقتضاه أولى لا متعينا.
243 - قوله: وكذا وجب ترجيح احتمال الخ:
فكما تكون قوة الملاك وزيادته موجبة لتعين أحد المتزاحمين في باب
التزاحم كك موجبة لتعين أحد المحتملين هنا في باب الدوران المحض حيث لا
تعدد.
244 - قوله: ضرورة انه رب واجب الخ:
إلا أن تكون الغلبة والنوعية لطرف الحرام فإنها مجدية هنا، فان احتمال القوة
في الحرمة على تقدير ثبوتها أقوى من احتمال القوة في الوجوب، فيكون احتمال
الحرمة أولى بالمراعاة، فتدبر.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 207 وكفاية الأصول: ص 357، (ت، آل البيت).
572

[فصل: في شك في المكلف به] " أصالة الاشتغال "
المقام الأول: في دوران الامر بين المتباينين
245 - قوله: في دوران الامر بين المتباينين (1) الخ:
قد مر في مبحث العلم الاجمالي من مباحث القطع (2) أن البحث عن العلم
الاجمالي، تارة، من حيث شؤون العلم ومقتضياته وهو كونه مقتضيا للتنجز من
حيث المخالفة القطعية والموافقة القطعية وحيثيته الاقتضاء محفوظة ولو مع
عدم فعلية مقتضاه، لفقد شرط أو وجود مانع، وأخرى، من حيث شؤون الشك
والجهل وهو أن الجهل التفصيلي هل هو مانع عقلا أو شرعا عن فعلية مقتضى
العلم الاجمالي وهو المناسب للمقام. ومنه تبين أن تخصيص البحث المتقدم
بحرمة المخالفة القطعية وتخصيص البحث هنا بوجوب الموافقة القطعية بلا
وجه، لان فعلية حرمة المخالفة القطعية متوقفة على عدم مانعية الجهل
التفصيلي وهو من شؤون هذا البحث كما أن اقتضاء وجوب الموافقة القطعية من
شؤون ذلك المبحث. وتوهم (3) أن البحث عن حرمة المخالفة القطعية راجع إلى
البحث عن أصل الاقتضاء والبحث عن وجوب الموافقة القطعية هنا راجع إلى
مقدار الاقتضاء وكيفيته، فاسد، لان مبنى الأول على أنه لا اقتضاء لو لم نقل
بحرمة المخالفة القطعية مع انك قد عرفت أن الاقتضاء محفوظ مع عدم فعلية

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 208 وكفاية الأصول: ص 358، (ت، آل البيت).
(2) التعليقة: 45، ص 103.
(3) المتوهم هو الشيخ الأعظم في الرسائل: ج 1، ص 27 وتوجيهه في التعليقة: 45، ص 104.
573

مقتضاه. ومبنى الثاني على أن وجوب الموافقة القطعية من باب دفع احتمال
العقاب وهو من شؤون الاحتمال، وفيه، أولا، أنه ليس البحث من حيث مقدار
الاقتضاء وإلا لكان من شؤون المقتضى وهو العلم. وثانيا ما تقدم في مبحث
العلم الاجمالي (1) أن وجوب الموافقة القطعية ليس من ناحية احتمال العقاب
ولا من ناحية قاعدة دفع الضرر المحتمل، فراجع وتدبر، وسيجيئ انشاء الله
تعالى فرق اخر بين المبحثين.
246 - قوله: إن كان فعليا من جميع الجهات بأن يكون الخ:
توضيح المقام أن مسلكه - قدس سره - سابقا (2) كما في تعليقته الأنيقة على
الرسائل (3)، دفع التنافي بين الاحكام الواقعية والظاهرية في موارد الامارات
والأصول والعلم الاجمالي، مع القول بالترخيص على خلافه بحمل الاحكام
الواقعية على الانشائية والاحكام الظاهرية على الفعلية بالالتزام بتعدد المراتب
الأربع لطبيعي الحكم. بيانه أن الحكم له مراتب أربع.
إحديها: ثبوته اقتضاء لا بنحو ثبوت المقتضي بثبوت المقتضى بثبوت
عرضي، فإنه شأن المقتضى بمعنى السبب الفاعلي حيث إن المعلول يترشح من
مرتبة ذات العلة الفاعلية دون المقتضى بمعنى الغاية الداعية إلى ذيها، فان ذا
الغاية ليس في مرتبة ذات الغاية لا بوجودها الخارجي، ولا بوجودها العلمي، ولا
بنحو ثبوت القبول بثبوت القابل، ك " الانسان في النطفة القابلة ". بداهة أن
المصلحة الداعية ليست في صراط المادية، ولا يتصور بصورة الحكمية، بل
المراد ثبوت الحكم شأنا، حيث إن طبيعي الفعل مستعد باستعداد ماهوي
لا باستعداد مادي لان يترتب عليه المصلحة إذا وجد في الخارج، وهي صالحة
للتأثير في الانشاء بداع البعث والتحريك في مرتبة ذاتها وماهويتها. فالوجوب

(1) التعليقة: 45، ص 104.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 50 - 44 وكفاية الأصول: ص 358، (ت، آل البيت).
(3) حاشية الرسائل: ص 36 و 174 وفوائد الأصول للمحقق الخراساني - ره -: ص 81.
574

بهذه الملاحظة له شأنية الوجود. ومنه يعلم أنه ليس هنا ثبوت خارجي عرضي
كما في المقتضى والمقبول، بل ثبوت ما هوى وثبوت تقديري شأني.
ثانيتها: ثبوته إنشاء وهو وجود طبيعي البعث المفهومي بتبع اللفظ الذي
ينشأ به، فاللفظ موجود بالذات والبعث النسبي المفهومي بالعرض، كما حققناه
في مباحث الألفاظ (1).
ثالثتها: ثبوته فعلا وحقيقة وهو ما بالحمل الشائع بعث أو زجر عند العقلاء
بحيث يكون قابلا للباعثية والزاجرية فعلا.
رابعتها:
ثبوته بحيث يستحق على مخالفته العقوبة وهي مرتبة تنجزه، وهذا
شأن من شؤونه ونشأة من نشئات تحققه كما فصلناه في أوائل مباحث القطع (2).
ومن الواضح: أن التضاد والتماثل بين الفعليين من البعث أو الزجر لابين
الانشائيين منهما ولا بين الفعلي والانشائي، وحيث إن البعث المفهومي الانشائي
لا أثر له فلا يترتب على القطع به شئ، ولا التعبد به ذو أثر، فلذا عدل - قده - عن
هذا المسلك في هذا الكتاب (3) والتزم بفعلية الواقع من وجه بحيث يكون له أثر
عند تعلق العلم به. والكلام في تحقيق حال الفعلي من وجه والفعلي من جميع
الجهات فإنه بظاهره لا يخلو عن شئ، إذ لو كان كل منهما واجد لملاك الفعلية
وكان التفاوت بالمرتبة فتعدد المراتب لا يرفع التضاد والتماثل بعد كونهما واجدا
للحقيقة التي بين أفرادها التماثل أو الحقيقتين اللتين بين أفرادهما التضاد. ولو
كان الفعلي من جهة فعليا من قبل بعض مباديه فالفعلي بالحقيقة تلك المقدمة لا
ذوها (4)، بل هو باق على الشأنية كما مر تفصيله في مباحث القطع (5) وما أفاده
- قدس سره - في البحث في مقام بيان الفعلي من جهة ومن جميع الجهات - كما
ربما يساعده بعض عباراته في أوائل مباحث القطع - هو أن الغرض الباعث على

(1) نهاية الدراية: ج 1، ص 196.
(2) التعليقة: 8، ص 37.
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص.
(4) (خ ل): ذوهما.
(5) التعليقة: 30، ص 79.
575

التكليف ربما يكون بحد يبعث المولى إلى جعله فعليا منجزا بايصاله ولو بنصب
طريق موافق أو بجعل احتياط لازم دفع موانع تنجزه بأي نحو كان، ومثله يستحيل
الترخيص في خلافه، لأنه نقض للغرض. وربما لا يكون الغرض بذلك الحد بل
يدعوه إلى التكليف بحيث إذا وصل إلى المكلف من باب الاتفاق للتنجز عليه
فهو فعلى من حيث نفسه، لا من حيث ايصاله إلى المكلف فلا يجب حينئذ دفع
موانع تنجزه، ولا ينافيه إبداء المانع عن تنجزه، فان إبقاء المانع وإبداء المانع في
نظر العقل على حد سواء، وليس الترخيص نقضا للغرض لان (1) سد باب تنجزه
لا ينافي تنجزه لو وصل من باب الاتفاق.
والفرق بين العلم الاجمالي والعلم التفصيلي: أن الأول حيث إنه
مقرون بالجهل فمع تمامية مقام الاثبات في الأدلة المرخصة في أطرافه
يستكشف عن أن سنخ الغرض غير مناف للترخيص في خلافه، وحيث إن الثاني
غير مقرون بالجهل فلا تعمه الأدلة المرخصة، فلا كاشف عن أن سنخ الغرض
بحد لا ينافي الترخيص، فلا محالة يكون الحكم فعليا بقول مطلق.
والجواب أولا، أن سنخ الغرض من المكلف به وإن كان يختلف قوة وضعفا
إلا أن سنخ الغرض من التكليف الحقيقي واحد وهو جعل الداعي إلى الفعل أو
الترك، فالترخيص وإن فرض أنه ليس نقضا للغرض من المكلف به لكنه نقض
للغرض من التكليف، لما بين جعل الداعي حقيقة والترخيص من المنافاة.
وثانيا، بأن المفروض أن سنخ الغرض من المكلف به تام الاقتضاء، وقد
انبعث منه حقيقة البعث والزجر غاية الامر أنه لا يجب على المولى ايصاله لكنه
بوصوله الاتفاقي ترتب عليه حكم العقل من وجوب الإطاعة وحرمة المعصية،
فلا محالة يكون منجزا بالعلم الاجمالي إذا لم يكن قصور في كونه وصولا، وفرض
قصوره شرعا خلف، فان العلم حينئذ أخذ على وجه الموضعية دون الطريقية

(1) (خ ل): لا من.
576

فيكون له دخل في تمامية اقضاء المقتضى الباعث على البعث ومثله يتصور في
العلم التفصيلي المأخوذ على وجه الموضوعية، فتدبر جيدا.
وربما يتوهم: أن المراد من الحكم الفعلي من جميع الجهات هو الحكم
البعثي والزجري والتحريك الجدي، ومن الحكم الفعلي من وجه هو الانشاء
بداعي إظهار الشوق إلى الفعل، فالحكم البعثي والزجري فعلى من قبل هذه
المقدمة وهو كون ذات الفعل مشتاقا إليه ولا منافاة بين الشوق إلى ذات الفعل
والترخيص في تركه، بل المنافاة بين التحريك والترخيص.
وفيه أولا: أن الإرادة التشريعية بإزاء الإرادة التكوينية، فإذا بلغ الشوق مبلغا
بحيث لو كان المشتاق إليه من أفعال المشتاق لتحرك عضلاته نحوه، كذلك إذا
كان من أفعال الغير تسبب إلى ايجاده بالبعث، فلا ينفك مثل هذا الشوق عن
البعث، وإذا لم يكن الشوق بهذا الحد فكما لا يوجب حركة العضلات في
التكوينيات كذلك ليس علة في التشريعيات ومثله لو علم به تفصيلا أيضا
لا أثر له.
وثانيا: ما مر مرارا (1) من أن الانشاء بأي داع كان ليس وصوله موجبا إلا
لفعلية ذلك الداعي، ففعلية مثل هذا الانشاء فعلية إظهار الشوق، فلا يعقل أن
يكون مثله واقعا في صراط فعلية البعث كما لا يخفى. وسنحقق (2) انشاء الله
تعالى ما ينبغي أن يراد من الحكم الفعلي من وجه كما مر مرارا أيضا.

(1) التعليقة: 30، ص 79.
(2) التعليقة: ص 578.
577

" التحقيق في منجزية العلم الاجمالي "
وتحقيق حال العلم الاجمالي من حيث التنجيز برسم أمور.
منها: أن الانشاء بلا داع محال، والانشاء بأي داع كان فعليته فعيلة ذلك
الداعي، فالانشاء بداع الإرشاد يكون وصوله موجبا لفعلية الارشاد والانشاء
بداعي جعل القانون وصوله يوجب فعلية جعل القانون، وهذا الانشاء بداعي
جعل الداعي يكون مصداقا حقيقة لجعل الداعي بوصوله، فما يمكن أن يقع في
صراط فعلية جعل الداعي والبعث ليس إلا الانشاء بهذا الداعي دون غيره فإنه إما
محال في نفسه، أو يستحيل انقلابه عما هو عليه، أو يستحيل صيرورة غير
ما بالقوة ما بالفعل. ومثل هذا الانشاء الواقع في صراط البعث الحقيقي هو الفعلي
من قبل المولى وتمام ما يصدر منه، وبلوغه مرتبة الفعلية المطلقة، وصيرورته
مصداقا للبعث الحقيقي العقلائي بوصوله إلى المكلف اما بالعلم، أو بالعلمي،
فالفعلية المطلقة يساوق التنجز، فان كان مراده - قدس سره - (1) من الفعلية
المنفكة عن مرتبة التنجز هذا المعنى من الفعلية فقد عرفت وستعرف برهانا
أنهما متلازمان لا تنفك أحدهما عن الأخرى، لان ما به الفعلية - وهو الوصول -
ما به التنجز. وإن كان مراده (2) قده - من الفعلية ما هو الفعلي من قبل المولى فهو
لا ينفك عن مرتبة الانشاء، لان الانشاء الذي هو من مراتب الحكم ويقع في
صراط الفعلية ليس هو الانشاء المحض، لأنه محال بنفسه، ولا الانشاء بغير داعي

(1) تقدم مراد المحقق الخراساني - ره - عند بيان مراتب الحكم وفي التعليقة: 8 و 246، ص 38
و 574. وكفاية الأصول: ج 2، ص 8 وحاشية الفرائد: ص 36 و 172 وفوائد الأصول: ص 81.
(2) (خ ل): مراد.
578

جعل الداعي فإنه يستحيل أن يصير مصداقا لجعل الداعي، فاما أن يتحد الانشاء
والفعلية، أو يتحد الفعلية والتنجز، فتدبر.
وأما الانشاء بداعي جعل الداعي لا يكون مصداقا لجعل الداعي حقيقة
وفردا للبعث الجدي فلوجهين.
أحدهما: أن موطن الدعوة أفق النفس فلا تعقل دعوة الانشاء المزبور إلا
بوجوده العلمي الواقع في موطن الدعوة لا بوجوده الأقعى الخارج عن أفق
النفس ومجرد الالتفات إليه من دون وصوله الحقيقي بالعلم التصديقي لا يحقق
دعوته على أي تقدير، لما مر سابقا (1) أن صورة الامر الحاضرة في النفس لها
الدعوة بالذات ومطابقها الخارجي له الدعوة بالعرض كالمعلوم بالذات والمعلوم
بالعرض، والمراد بالذات والمراد بالعرض. فإذا أريد دعوة الانشاء الخارجي
بالعرض على أي تقدير فلا بد من حضوره العلمي دون الاحتمالي، فان الامر
الخارجي حينئذ لا يكون داعيا بالعرض إلا على تقدير المطابقة، والمفروض
جعل الانشاء داعيا لاجعل الانشاء الاحتمالي، بل يستحيل جعل الانشاء
المحتمل داعيا لزوميا، إذ مع وصوله فبوصوله يتنجز وإلا (2) فبمجرد احتماله
لا يتنجز فيلغوا الانشاء بهذا الداعي، ولا يقاس بباب الاحتياط فان وصول الامر
الاحتياطي ينجز الامر الواقعي المحتمل فما هو الواصل غير ما هو المحتمل.
ثانيهما: أن الانشاء بداعي جعل الداعي لا يدعو في نفوس العامة إلا باعتبار
ما يترتب على مخالفته من العقوبة، فما لم يصل بنحو يستحق على مخالفته
العقاب لا يمكن أن يكون داعيا فلا بد من وصوله تحقيقا لدعوته.
ومنها: أن العلم الاجمالي المصطلح عليه في هذا الفن لا يفارق العلم
التفصيلي في حد العلمية، وليسا سنخين من العلم نظرا إلا تعلق الاجمالي
بالمردد، لما مر مرارا (3) أن المردد بما هو مردد لا ثبوت له ذاتا ووجودا، ماهية

(1) التعليقة: 41 و 230، ص 92 و 554.
(2) (خ ل): يتنجز إلا فمجرد.
(3) التعليقة: 41 و 132، ص 93 و 264، ونهاية الدراية: ج 3، ص 137، في ذيل تعارض
الاستصحابين.
579

وهوية، فلا يعقل تقوم العلم الاجمالي به.
مع بداهة أن العلم المطلق لا يوجد كما أن وجوده في أفق النفس وتعلقه
بالخارج عن أفق النفس غير معقول، بل المقوم لهذه الصفة الجزئية لا بد من أن
يكون في أفقها فهو المعلوم بالذات، وما في الخارج معلوم بالعرض، وعليه
فمتعلق العلم حاضر بنفس هذا الحضور في النفس غاية الامر أن طرف متعلقه
مجهول أي غير معلوم بخصوصيته، فلم يلزم تعلق صفة حقيقة بالمردد حتى
يكون أصلا يبتنى عليه إمكان تعلق ساير الصفات الحقيقة وجملة الصفات
الاعتبارية بالمردد. وحيث عرفت أن تعلق [العلم] الاجمالي بالمردد غير
معقول وبالواقع بخصوصه غير معقول، إذ لا معنى لتعلقه به إلا كونه معلوما به
وهو خلف، فلا محالة ليس المعلوم إلا الجامع بين الخاصين المحتملين فهو
مركب من علم واحتمالين، بل من علم تفصيلي بالوجوب ومن علم آخر بان
طرفه مالا يخرج عن الطرفين.
فالوجوب الواقعي وإن كان في الواقع متعينا بتعلقه بالظهر مثلا إلا أنه بما هو
معلوم متعين علما بمالا يخرج عن الظهر والجمعة، وإلا فلا يعقل تعلق العلم أيضا
بأن طرف الوجوب أحد الامرين لرجوعه إلى العلم بطرفية أحد الامرين وهو من
تعلق العلم بالمردد. وقد نبهنا على هذا المطلب مشروحا عند التكلم في الدليل
العقلي للاخباريين (1).
ومنها: قد مر في مبحث التجري (2) أن ملاك استحقاق العقاب ليست مخالفة
التكليف بما هو ولا ارتكاب المبغوض بما هو ولا تفويت الغرض ونقضه بما هو،
لوجود الكل في صورة الجهل، وليس من زي الرقية ورسم العبودية عدم مخالفة
التكليف واقعا أو عدم ارتكاب مبغوض المولى ونقض منه واقعا، بل ما قامت
عليه الحجة فإنه هتك لحرمته وظلم عليه فيكون ح مذموما عليه عقلا ومعاقبا
عليه شرعا.

(1) التعليقة: 210، ص 483.
(2) التعليقة: 10، ص 41.
580

ومنها: أن الافعال بحسب اتصافها بالحسن والقبح بمعنى استحقاق المدح
والذم على ثلاثة أقسام:
أحدها: أنها في حد ذاتها ولو خليت ونفسها لا تكون محكومة بالحسن
والقبح كجملة من الافعال ك‍ " المشئ والأكل والشرب الغير الضروريين "، فإنها
ليست ك‍ " العدل والظلم " حتى تكون بعنوانها محكومة بالحسن والقبح
ولا ك‍ " الصدق والكذب " حتى تكون لو خليت ونفسها مندرجة تحت عنوان
محكوم بذاته بالحسن أو القبح بل اندراجها تحت عنوان حسن أو قبيح دائما
بواسطة عروض عارض.
ثانيها: أنها (1) وإن لم تكن بعنوانها محكومة بالحسن أو القبح لكنها لو خليت
ونفسها تندرج تحت أحد عنوانين محكومين بذاتهما بأحد الوصفين ك‍ " الصدق
والكذب " فإنهما (2) لو خليا ونفسهما لاندرج الأول تحت عنوان العدل في القول
والثاني تحت عنوان الجور في القول لكنه إذا عرض الأول عنوان اهلاك المؤمن
اندرج تحت عنوان الظلم وإذا عرض الثاني عنوان انجاء المؤمن اندرج تحت
عنوان العدل والاحسان.
ثالثها: أنها تكون بعنوانها من دون اندراجها تحت عنوان اخر محكومة بأحد
الوصفين ك‍ " العدل والاحسان والظلم والعدوان " فإنه مع حفظ عنوان العدل
لا يكون إلا محكوما بالحسن ومع حفظ عنوان الظلم لا يكون إلا محكوما بالقبح،
دون الصدق، فإنه مع حفظ عنوانه يعرضه عنوان قبيح، والكذب مع حفظ عنوانه
يعرضه عنوان حسن. وقد عرفت انفا (3) أن مخالفة التكليف ما لم تقم عليه الحجة
ليست خروجا عن زي الرقية ليكون ظلما حتى تكون قبيحة مذموما عليها، ومنه
تعرف أن مخالفة التكليف بما هي ليست بحيث لو خليت ونفسها لاندرجت
تحت عنوان الظلم ك‍ " الكذب "، بل اندراجها تحته منوط بعروض عارض وهو
قيام الحجة على التكليف فمخالفة التكليف الواصل ظلم قبيح بذاته وبعنوانه،

(1) (خ ل): ثانيهما - انهما.
(2) (خ ل): فإنها.
(3) التعليقة: ص 580.
581

وتخلف الحكم عن موضوعه التام خلف محال.
ومخالفة التكليف بما هي ليست بذاتها مندرجة تحت عنوان الظلم فوصول
التكليف الذي لا فرق في حد ذات بين التفصيلي والاجمالي موجب لاندراج
المخالفة تحت عنوان يستحيل تخلف القبح عنه، فالأحكم باستحقاق الذم
والعقاب على مخالفة التكليف المعلوم بالاجمال تنجيزي لا تعليقي.
لا يقال: لم تكون المخالفة مقتضية لاستحقاق الذم والعقاب ووصول
التكليف شرطا.
لأنا نقول: الاقتضاء هنا ليس بمعنى السببية حتى يكون قابلا للاشتراط
الذي معناه دخل شئ في فعلية تأثيره، لما عرفت من أن نسبة المدح والذم إلى
هذه العناوين نسبة الحكم إلى موضوعه، وليس الموضوع سببا فاعليا لحكمه بل
اقتضائه له كما هو المعروف في الألسنة بنحو اقتضاء الغاية لذيها لا السبب
لمسببه. وقد عرفت أن الاقتضاء بمعنى كونه لو خلى ونفسه ممدوحا عليه
ومذموما عليه غير متحقق في موافقة التكليف واقعا ومخالفته واقعا. ومنه علم أنه
ما لم يصل التكليف لا اقتضاء للذم على مخالفته بالمعنيين، ومع وصوله
يستحيل تخلف القبح عنها، كما علم أن التعبير هنا بالعلية والاقتضاء للتنجيز فيه
مسامحة واضحة.
فان قلت مقتضى عدم تعلق العلم الاجمالي بالواقع على ما هو عليه وعدم
تعلقه بأحد هما المصداقي المردد - بل تعلق بما لا يخرج عن الطرفين - هو تنجيز
العلم الاجمالي من حيث حرمة المخالفة القطعية فقط، دون وجوب الموافقة
القطعية أيضا، لان المخالفة الواقعية للتكليف الواقعي ليست ظلما حتى يكون
احتمالها احتمال الظلم القبيح، والمخالفة الاحتمالية بما هي مخالفة احتمالية
للتكليف الواقعي ليست بظلم أيضا، والمخالفة الاحتمالية للتكليف الواصل
بنفسه أيضا ليست ظلما وإلا لاستحق ذمين وعقابين في صورة المخالفة القطعية
لتحقق مخالفتين محتملتين، كما أن المخالفة الواقعية للتكليف الواصل ليست
ظلما واقعا حتى يكون احتمالها الظلم المذموم عليه، بداهة لو صدر بعد
العلم بالتكليف فعل اختياري مخالف واقعا للتكليف الواصل لما كان ظلما، إذ
582

ليس من زي الرقية ورسم العبودية أن لا يخالف مولاه واقعا لا لامره الواقعي
ولا لامره الواصل، فلا يكون احتماله احتمال الظلم، كما أنه ليس بنفسه ظلما،
فالمخالفة التي هي مصداق الظلم هي المخالفة في وجدان العقل للتكليف
الواصل، فينحصر مصداق الظلم في المخالفة القطعية للتكليف المعلوم.
والموافقة الاحتمالية أو القعية وإن كانت حسنة لكنه ليس ترك كل حسن قبيحا
إلا إذا اندرج تحت عنوان قبيح، وقد عرفت عدم اندراجها بجميع الوجوه تحت
عنوان الظلم القبيح لا قطعا لا احتمالا. وأما حرمة المخالفة القطعية فتحقيق الحال
فيها أن طبع المخالفة للتكليف المعلوم على طبع التكليف المعلوم، فان التكليف
إذا كان معلوما بالتفصيل فمخالفة المعلوم بالتفصيل تفصيلية يتصف بها فعل
معين في وجدان العقل، وإذا كان معلوما بالاجمال كانت المخالفة إجمالية،
وحيث إن معلومية التكليف بالاجمال راجعة إلى علم بأصل التكليف وإلى علم
بأن طرفه الواقعي لا يخرج عن الطرفين، لا أحدهما بعينه ولا أحدهما المردد،
فكذلك مخالفته فإنه مع اتيانهما معا في الحرام يقطع بأصل مخالفة التكليف وأن
طرف هذه المخالفة مالا يخرج عن الطرفين لا أنه يقطع بمخالفة أحد الفعلين وإلا
لزم القطع بأحدهما المردد فلا مخالفة في وجدان العقل للتكليف الواصل إلا
باتيانهما معا أو بتركهما معا، لا أن المجموع مخالفة، كيف والتكليف لم يتعلق
بالمجموع ليكون مخالفته بفعل المجموع أو بترك المجموع، بل تعلق بشئ
يعلم بعدم خروجه عن الطرفين فكذلك يعلم بأن هذه المخالفة المتحققة طرفها
لا يخرج عن الطرفين والمخالفة الكذائية في وجدان العقل حتى يكون ظلما
لا تكون إلا إذا بالطرفين فعلا أو تركا حتى يحصل له علمان على حد العلم
بالتكليف والعلم بطرفه.
قلت: هذه غاية تقريب الاشكال في عدم اقتضاء العلم الاجمالي لوجوب
الموافقة القطعية. ويندفع بأن الظلم لا ينحصر في مخالفة التكليف الواصل في
وجدان العقل، بل عدم المبالاة بأمر المولى ونهيه بعدم الانبعاث ببعثه وبعدم
الانزجار بزجره في وجدان العقل أيضا خروج عن زي الرقية ورسم العبودية وقد
583

عرفت مرارا (1) أن الانبعاث الواقعي بالبعث الواقعي وعدمه الواقعي ليسا مناطين
للحسن والقبح، فاتضح أن الانبعاث به بفعل أحد المحتملين وعدمه في عدم
الانبعاث في وجدان العقل بالبعث المعلوم على حد سواء، وبقية الكلام في
مباحث القطع.
هذا كله ان كان استحقاق العقاب بحكم العقل وإن كان بجعل الشارع فلازمه
استحقاق العقاب على مخالفة الواقع بعد قيام الحجة عليه، إذ كما أن قاعدة
اللطف يقتضى جعل التكليف لايصال العباد إلى مصالحهم وصدهم عن
مفاسدهم كذلك يقتضى جعل العقاب على مخالفته تحقيقا للدعوة المؤدية إلى
المصالح وعدم الوقوع في المفاسد، وحيث إن وجوده الواقعي لا يترتب عليه
الأثر فلا بد من ايصاله ليترتب عليه الأثر إما عموما أو خصوصا، والعلم بالتكليف
علم بلازمه وهو العقاب المجعول على مخالفته لا من حيث الاندراج تحت
عنوان الظلم حتى ترد المحاذير المتقدمة. وبملاحظة العلم المزبور يحتمل
العقاب على فعل كل من المحتملين وهو الحامل للعبد إلى الفرار عنه من دون
حاجة إلى حكم اخر من الشرع أو من العقل. ومنه تعرف أن المنع من المخالفة
القطعية والاذن فيها شرعا لكونه إذنا في الظلم لا ينطبق إلا على المسلك الأول،
وإلا فلا بد من التعليل بان جعل العقاب ورفعه متنافيان، كما أن المنع من ترك
الموافقة القطعية لاحتمال العقاب الذي لا بد من دفعه لا ينطبق إلا على المسلك
الثاني وإلا فلا عقاب على المخالفة الواقعية حتى يحتمل بل العقاب على عدم
المبالاة بأمر المولى في وجدان العقل وهو بنفسه ظلم وبه يظهر الخلط في
الكلمات بين المسلكين والله العاصم.

(1) التعليقة: 10 و 41، ص 41 و 92.
(2) التعليقة: 10 و 41، ص 41 و 92.
584

" الترخيص في أطراف العلم الاجمالي ثبوتا واثباتا "
247 - قوله: وقد انقدح انه لا وجه لاحتمال (1) الخ:
توضيح المقام أن الترخيص في ارتكاب كل منهما بدلا، إما أن يكون شرعيا
وإما أن يكون عقليا لمسوغ. واستحقاق العقاب على المخالفة إما بحكم العقل
وإما بجعل الشارع.
فان كان الترخيص شرعيا لزم اجتماع المتنافيين قطعا، للقطع بثبوت الإباحة
تخييرا والحرمة تعيينا. وما أفاده - قده - (2) في مبحث القطع من " أن احتمال ثبوت
المتنافيين كالقطع بثبوتهما " انما يصح مع الترخيص شرعا في أحدهما المعين،
لا في كل منهما تخييرا، وإلا فالمنافاة قطعية لا احتمالية، كما أن مورده الترخيص
الشرعي لا الأعم منه ومن العقلي، ويختص الترخيص الشرعي بهذا المحذور
ويشارك غيره في ساير المحاذير.
وإن كان الترخيص عقليا وكان استحقاق العقاب بحكم العقل فان كانت
مخالفة التكليف الواصل واقعا ظلما فهو إذن في الظلم قطعا، لان الاذن بدلا في
كل منهما موجود مع أن أحدهما ظلم واقعا بمعنى أن المعذورية في كل منهما
بدلا لا تجامع تنجز الواقع وعدم المعذورية عقلا في مخالفة الواقع وإن كان عدم
المبالاة في وجدان العقل بالتكليف الواصل ظلما، فالاذن في عدم الانبعاث
بارتكاب كل منهما لا يجامع كون عدم الانبعاث بالبعث المعلوم ظلما.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 215 وكفاية الأصول: ص 359، (ت، آل البيت).
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 36، وكفاية الأصول: ص 273، (ت، آل البيت). - وقد ذهبا
المحققين [العراقي والأصفهاني] في تأثير العلم الاجمالي في الموافقة القطعية إلى القول بالعلية التامة:
نهاية الأفكار: ج 3 ص 307، والتعليقة: 41، ص 94.
585

وإن كان الترخيص عقليا والاستحقاق بجعل الشارع فمن الواضح أن جعل
العقاب على مخالفة التكليف الواصل واقعا ورفع عقاب الواقع على تقدير
المصادفة متنافيان، لان ضم الواقع إلى غير الواقع لا يحدث عقابا على مخالفة
الواقع بل بقاء الواقع على فعليته المتقومة باستحقاق العقاب عقلا أو جعلا غير
معقول، فلا محالة إما لا فعلية ولا تنجز للواقع، وإما لا ترخيص في كل منهما بدلا،
كما لا ترخيص في كليهما. وأما حديث نصب الطريق أو جعل البدل ولو كان
بعنوان القناعة بالامتثال الاحتمالي عن الامتثال القطعي فهو أجنبي عن انفكاك
وجوب الموافقة القطعية عن حرمة المخالفة القطعية، أو لا يجدى في الانفكاك.
أما نصب الطريق فقد أوضحنا حاله في الجواب عن الدليل العقلي
للأخباريين (1) وبينا هناك أن الحجية إما بمعنى جعل الحكم المماثل أو بمعنى
تنجيز الواقع ومن البين امتناع اجتماع حكمين فعليين في مورد واحد وامتناع
تنجز المنجز، فلا علم اجمالي بحكم فعلى على أي تقدير، أو لا يؤثر على أي
تقدير فينحل العلم حكما ووجوب ما قام عليه الطريق أو ما اقتضاه الأصل السليم
عن المعارض ليس من ناحية رعاية العلم الاجمالي وبقاء أثره من حيث حرمة
المخالفة القطعية بل من ناحية الحجة فراجع. وأما جعل البدل، فتارة، بمعنى
اشتمال غير الواجب الواقعي في حال الجهل على مصلحة يتدارك بها مصلحة
الواجب الواقعي، فالمأتي به، إما هو الواقع أو ما يتدارك به مصلحة الواقع
ولاشتمال غير الواجب الواقعي على مصلحة يتدارك مصلحة الواقع يخير العقل
بين إتيانه وإتيان الواقع، وليس ترك الواقع مع فعل ما يستوفى به الغرض منه
قبيحا عقلا، ولا منافاة بين العلم الاجمالي بوجوب تعييني واحد واقعا والعلم
بوجوبين تخييريين شرعا وعقلا بنحو الواجبين المتزاحمين ظاهرا، فلم يسقط
الوجوب الواقعي عن الفعلية ليكون خلفا، أو يكون الترخيص التخييري منافيا بل
يسقط بحكم العقل عن التعينية لثبوت البدل له ومثله لا ينافيه الترخيص إلى

(1) التعليقة: 21، ص 483. - وقد ذهبا العلمان [العراقي والأصفهاني] إلى امتناع الترخيص في
بعض الأطراف: نهاية الأفكار: ج 3، ص 310، والتعليقة: 42 و 247، ص 98 و 585.
586

بدل. وأخرى، بمعنى قناعة الشارع في مقام إطاعة أحكامه واقتصاره على
الموافقة الاحتمالية لما في تحصيل الموافقة القطعية من المفسدة المنافية
لما تعلق به غرض الشارع من التسهيل على المكلف. لكنك قد عرفت أن حرمة
المخالفة القطعية لبقاء عقاب الواقع، ولولاه لم يكن وجه لحرمة المخالفة
القطعية، مع أن بقاء عقاب الواقع على حاله وارتفاعه على تقدير المصادفة
متنافيان، بداهة أن ضم غير الواقع إلى الواقع لا يوجب ترتب العقاب على
مخالفة الواقع، وقد مر نظيره مرارا في مسألة دليل الانسداد (1)، وليس ايجاب
الموافقة القطعية مولويا لمصلحة حتى إذا كان تحصيلها ذا مفسدة غالبة يسقط
خصوص وجوب الموافقة القطعية، بل ليس هناك على أي حال غرض مولوي
ولا لزوم شرعي، بل ولا عقلي.
فلا محالة لابد من وقوع المزاحمة بين مفسدة الموافقة القطعية والمصلحة
المنبعث منها الحكم الواقعي، ومع مغلوبية المصلحة وسقوطها عن التأثير
لا تكليف فعلى حتى يحرم مخالفته القطعية.
ومنه تعرف أن الاذن في ترك الموافقة القطعية لا يفيد اشتمال غير الواقع على
مصلحة بدلية إلا إذا رجع إلى الامر بإتيان الفرد الاخر وإلا فمجرد الترخيص
يكشف عن مغلوبية المصلحة الداعية إلى الايجاب الواقعي فيزول العلم
الاجمالي بالوجوب الفعلي.
ثم إنه بعد ما عرفت حال الترخيص في أطراف العلم الاجمالي في مقام
الثبوت فهل الدليل في مقام الاثبات واف في نفسه بالترخيص في تمام الأطراف
أو في بعضها ولد بنحو الجمع بينه وبين حكم العقل بقبح الاذن في المخالفة
القطعية أم لا؟ فنقول قوله (ع): " كل شئ فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى
تعرف انه حرام " (2) وشبه مغيى بالعلم، وكذلك قوله (ع): " كل شئ لك حلال

(1) التعليقة: 127، ص 257.
(2) المحاسن: ج 2، ص 496 - كتاب المآكل، ح 601.
587

حتى تعرف انه حرام " (1) وليس المغيى معنونا بعنوان المشكوك والمشتبه ليقال
بأن الشك والاشتباه أعم من المجامع للعلم الاجمالي وغيره حتى يتوهم
التعارض بين الغاية والمغيى، بل غاية ما يستفاد من الغاية كون المغيى ما لم يعلم
حكمه، وحيث إن العلم أعم فكذا ما لم يعلم فلا يقتضى مقام الاتيان جريان
قاعدة الحل في تمام الأطراف. وأوضح منه قوله: " رفع مالا يعملون " وقوله (ع):
" الناس في سعة ما لا يعلمون " (2) وأشباه ذلك. وأما الاستصحاب فمقتضى
الاخبار المذيلة بقوله - ع -: " ولكنه تنقضه بيقين اخر " (3) ونحوه وقوع المعارضة
والمناقضة بين الصدر والذيل بلحاظ إطلاق الشك في الصدر (4) وإطلاق اليقين
في الذيل، وقد قدمنا في بعض مباحث دليل الانسداد (5) وسيجيئ انشاء الله
تعالى في اخر مبحث الاستصحاب (6) ارتفاع المناقضة، سواء قلنا بأن الذيل
مؤكد للصدر فهو تابع سعة وضيقا للصدر أو قلنا بأنه محدد له، فيكون الصدر
تابعا للذيل في السعة والضيق، وقد برهنا في المقامين بعدم معقولية التحديد
وعدم قابلية اليقين الاجمالي لاعتبار الناقضية لليقين التفصيلي بجميع وجوهه
المتصورة، كما أنه قد بينا في محله أن استفادة تمحض الشك في غير المقرون
باليقين الاجمالي من وقوع وقوله - ع -: " ولكنه تنقضه بيقين آخر " موقع الارشاد
إلى حكم العقل بالجري على وفق اليقين الذي لا فرق فيه بين التفصيلي
والاجمالي مخدوشة، فان الارشاد بلسان " تنقضه بيقين اخر " غير الارشاد إلى

(1) الكافي: ج 5، ص 313، ح 40 والوسائل: ج 12، ص 60، ح 4، ب 4 - م 22050 وبحار الأنوار
، ج 2، ص 273.
(2) الوسائل: ج 2، ب 50 ح 11، ص 1073 - أبواب الطهارة - المستدرك: ج 18 - ب 12،
ص 20 ح 21886، (ط، مؤسسة آل البيت).
(3) التهذيب: ج 1، ح 11، ب 1 ص 8 ووسائل: ج 1 ب 1، ص 175، ح 1.
(4) (خ ل): الصدور.
(5) التعليقة: 132، ص 262.
(6) نهاية الدراية: ج 3، ص 305.
588

الجري على وفق اليقين، فراجع. وعن بعض أجلة العصر (1) الجمع بينه وبين
حكم العقل بحيث ينتج جواز الاذن في ترك الموافقة القطعية فقط. وتقريبه على
ما أفاده أن اطلاق الاذن في ارتكاب كل منهما لحال ارتكاب الاخر وعدمه يقيد
عقلا بحال عدم الاخر، فلا يفيد حينئذ إلا جواز ارتكاب كل منهما حال ترك
الاخر، ثم أورد على نفسه بأنه إذا لم يرتكبهما معا فقد حصل شرط كل من
الحكمين فيلزم ثبوتهما ولازمه الاذن في المخالفة القطعية. فأجاب بأن الاطلاق
لا يعم حال وجود متعلقه ولا حال عدمه، إذ بعد فرض وجوده أو عدمه يخرج
عن تحت القدرة فلا يمكن تعلق التكليف به. وبمثله أفاد في باب تعارض
الاستصحابين (2).
والتحقيق: أن عدم أحدهما حال وجود الاخر، إما أن يكون قيد للمباح، أو
يكون قيدا للإباحة، فان كان قيدا للمباح بمعنى أن الفعل المقرون بترك الاخر هو
المباح فإن رجع الاذن بهذا النحو إلى تحريم الجمع بين الفعلين ليكون تركه إما
بترك كليهما أو بترك أحدهما فيباح إباحة عرضية كترك الحرام في غير المقام فلا
بأس به، إلا أنه مناف غاية المنافاة لظاهر دليل قاعدة الحل، لان ظاهره اثبات
الحلية الشرعية الحقيقية لكل منهما لا إثبات الحرمة الظاهرية للجمع الذي لازمه
الإباحة العرضية لنقيضه وان لم يرجع الاذن بذلك النحو إلى تحريم الجمع، فلازم
إباحة الفعل المتقيد بعدم الاخر كون تركه ترك المباح، وترك الفعل الخاص إما
بترك ذات الخاص أو بترك الخصوصية أو بتركهما معا، فينتج جواز فعلهما معا
عرضا، لان ترك المباح فعله مباح بالعرض. وإن كان قيدا للإباحة بمعنى
الترخيص في فعل كل منهما على تقدير ترك الاخر فحيث إن الترك المجعول
قيدا هو الترك في موقع التكليف البديل للفعل الصالح لتعلق التكليف به،
فلا محالة إما أن يكون العدم البديل بما هو عدم مقارن شرطا مقارنا للإباحة، وإما

(1) درر الفوائد: ج 2 - 1، ص 115 (ط، قديم) ودرر الفوائد: ج 2 - 1، ص 457، (ط، جماعة
المدرسين).
(2) درر الفوائد: ج 2 - 1 ص 4 - 633، (ط، جماعة المدرسين).
589

يكون العدم البديل بذاته لا بوصف المقارنة قيدا، فإن كان الأول فلا إباحة أصلا
مع ترك كليهما لفقد العدم المقارن في كليهما، وإذ لا شرط فلا مشروط مع أنه لا
شبهة في أن المباح مباح، سواء ارتكبه أو تركه، وإن كان الثاني فلازمه إباحة
الفعلين مع تركهما معا لتحقق شرط كليهم مع أن المقصود إباحة أحدهما لا
كليهما، والظاهر إرادة هذا الشق من جميع الشقوق المتقدمة. ويندفع الاشكال
بأن الواجب المشروط لا يخرج عن الاشتراط إلى الاطلاق بفعلية شرطه، ولا
يلزم من جوازين مشروطين الاذن في المخالفة القطعية، كيف وفعل كل منهما
هادم لتقدير جواز الاخر. وأما الجواب المذكور في طي التقريب فلا محصل له،
فان الاشكال لم ينشأ عن إطلاق إباحة لمتعلقها حتى يمنع بل عن خروجها عن
الاشتراط إلى الاطلاق بفعلية شرطها (1)، فتدبر.
248 - قوله: وانه لو علم فعليته ولو كان بين أطراف تدريجية (2) الخ:
ليس المراد من التدريجي الفعل الزماني المنطبق على قطعة من الزمان في
قبال الدفعي الذي هو انى الحصول كالوصولات إلى حدود المسافة، كما أنه ليس
المراد منهما ما يمكن اجتماعهما في زمان واحد وما لا يمكن فان وطئ
الامرأتين (3) كذلك بل شرب الانائين غالبا كذلك بل المراد أن الفعلين، تارة يكونان
حاليين بحيث يمكن أن يقع كل منهما في حد ذاته في الحال، وأخرى بحيث لا
يمكن أن يقع أحدهما إلا في الاستقبال. ثم إن عدم فعلية التكليف، تارة لعدم
فعلية موضوعه كعدم فعلية حرمة الوطي بعدم فعلية كون المرأة حائضا، وأخرى
لعدم حصول قيد الواجب أو الوجوب مثلا، كالأوقات الخاصة في الصلوات
اليومية، وكالأيام المخصوصة لمناسك الحج، وكشهر رمضان للصيام، وثالثة،
لعدم حصول ظرف الواجب كعدم الليلة المستقبلة في الوطئ المحلوف على
تركه في الليلة المستقبلة فان الليلة المستقبلة ليست دخيلة في مصلحة وجوب

(1) (خ ل): شرطه.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 215 وكفاية الأصول: ص 360، (ت، آل البيت).
(3) (خ ل): الامرتين.
590

الوفاء بالحلف ولا دخيلة في مصلحة الوفاء، بل حيث إن الحلف تعلق بتركه في
الليلة المستقبلة فلذا لا ينطبق الوفاء الواجب إلا على ترك الوطئ في الليلة
المستقبلة، وكذا في المعاملة الربوية الواقعة غدا فان وقوعها غدا ليس دخيلا في
مصلحة تحريمها ولا في مفسدة فعلها، بل ظرف محض للمعاملة الربوية. فنقول:
أما وطئ الحائض فعدم فعلية حرمته ليس من ناحية تأخر زمان الحيض بل من
ناحية عدم فعلية الموضوع فهو حرام مشروط بتحقق موضوعه، وأما عدم فعلية
وجوب الصلاة مع عدم دخول الوقت فبملاحظة عدم تحقق شرط الوجوب أو
الواجب. وأما عدم فعلية حرمة وطئ المرأة المحلوفة مع تحقق الحلف الذي
هو موضوع لوجوب الوفاء فبملاحظة أن التكليف متعلق بأمر استقبالي من باب
الاتفاق، وكذا الامر في المعاملة الربوية في المستقبل.
فمن ينكر الواجب المعلق كشيخنا العلامة الأنصاري - قده - (1) بملاحظة أن
المصلحة الباعثة على إرادة الفعل، إما قائمة به لا على تقدير فالإرادة فعلية
متعلقة بأمر لا على تقدير، فلها الباعثية على ايجاد الفعل فعلا. وإما قائمة به على
تقدير فالإرادة المنبعثة عنها إرادة فعلية متعلقة بأمر على تقدير، فلا باعثية لها إلا
مع فرض حصول ذلك التقدير، ولا ثالث للإرادتين حتى يسمى وجوبا معلقا
فعليه يكون مثال الحيض عنده من التكليف المشروط بخلاف مثالي الحلف
والمعاملة الربوية فإنه ليس الزمان شرطا لا للتكليف ولا للمكلف به فالإرادة
فيهما فعلية لا على تقدير، فيصح على هذا المبنى دعوى الشيخ الأجل - قده - (2)
جريان البراءة في مثال الحيض لدوران الامر بين المطلق والمشروط الذي
لا باعثية له بالفعل، وجريان الاحتياط في مثالي الحلف والمعاملة الربوية، لان
التكليف في كل من الطرفين لا قيد له وجوبا وواجبا، فالحكم فعلى لا على

(1) مطارح الأنظار: ص 53 - 50 فلاحظه بدقة.
(2) الرسائل: ج 2، ص 427، في ذيل التنبيه السادس.
591

تقدير، وله الباعثية بالفعل، وأما بناء على ما ذكرناه في مبحث الواجب المعلق (1)
من أن البعث متلازمان متضايفان وهما متكافئان في الضرورة والامتناع والامكان
وفي القوة والفعلية. ومن الواضح أن البعث الفعلي فعليته بمعنى أنه يمكن أن
يكون داعيا بالفعل ولا يعقل ذلك إلا مع امكان الانبعاث بالفعل، ويستحيل
الانبعاث نحو الفعل المتأخر.
فعليه: لا فرق بين الأمثلة في عدم فعلية التكليف، غاية الامر أن عدم الفعلية،
تارة بعدم فعلية الشرط الشرعي، سواء كان زمانا أو غيره وأخرى بعدم إمكان
الانبعاث لتقيده بالزمان المتأخر من باب الاتفاق، فلا يمكن البعث بالفعل عقلا،
لتضايفه مع إمكان الانبعاث. ومما ذكرنا يظهر أن الالتزام باشتراط التكليف
بالزمان المتأخر بنحو الشرط المتأخر لا يجدى شيئا، فان فيه محذور استحالة
الوجوب المعلق، لانفكاك زمان الواجب عن زمان الوجوب ومحذور استحالة
الشرط المتأخر.
نعم، ربما يقال (2): بمنجزية العلم الاجمالي في جميع الأمثلة نظرا إلى أن
الواجب المشروط مع العلم بتحقق شرطه في ظرفه كالواجب المطلق في وجوب
مقدماته الوجودية والعلمية وإن كان الوجوب المشروط باقيا على عدم فعليته
بالفعل.
وفيه، إن أريد وجوب المقدمة شرعا بحكم العقل في المقدمات التي لا
يمكن تحصيلها في وقت ذيها فهو غير معقول، لان وجوب المقدمة شرعا
وجوب معلولي منبعث عن وجوب ذيها، فيتبعه في الفعلية، ومع الالتزام بعدم
فعلية وجوب ذيها كيف يعقل فعلية وجوبها؟ والعلم بتحقق الشرط في ظرفه لا
يؤثر في المعلوم بإخراجه إلى الفعلية والعقل يستحيل أن يحكم بمثل هذا
الوجوب المعلولي. وإن أريد حكم العقل بمجرد اللزوم واللا بدية نظرا إلى

(1) نهاية الدراية: ج 1، ص 359
(2) أجود التقريرات: ج 2، ص 272، في الامر السادس.
592

حكمه باستحقاق العقاب على ترك الواجب في وقته، بترك هذه المقدمة التي لا
يمكن تحصيلها في وقته فعلى فرض تسليمه لا يجدى في وجوب الغسل شرعا
قبل الفجر حتى يؤتى به بقصد الامر. والتحقيق إمكان الفرق بين المقدمات
الوجودية والمقدمة العلمية بعدم وجوب المقدمة الوجودية لترشحه من وجوب
ذيها ولا وجوب لذيها فعلا ولزوم المقدمة العلمية عقلا لأنه أثر العلم بالتكليف لا
أثر التلكيف بنفسه.
بيانه: أن مقتضى علمه الاجمالي بالتكليف - إما في الحال أو في الاستقبال مع
بقائه على شرائط الفعلية والتنجز في ظرفه - هو وصول كل من التكليفين
المحتملين وصولا اجماليا وهو كاف في فعلية الواصل في موطنه. فيعلم اجمالا
أن مخالفة هذا التكليف الحالي في الحال (1) أو مخالفة ذلك التكليف الاستقبالي
في الاستقبال موجبة لاستحقاق العقاب إما على هذه المخالفة في الحال أو على
تلك المخالفة في الاستقبال، فكل من المخالفتين في موطنها مما يحتمل ترتب
العقاب عليها وهو الحامل على دفع العقاب المحتمل بترك المخالفة في موطنها،
ولا يتوقف فعلية التكليف في موطنه على أزيد من الوصول كمالا يتوقف
استحقاق العقاب على أزيد من مخالفة التكليف في موطن المخالفة وفى ظرف
ترتب استحقاق العقاب، كمالا يتوقف لزوم المقدمة العلمية ودفع العقاب
المحتمل على أزيد من احتمال العقاب بالإضافة إلى المخالفة الواقعية للتكليف
الحقيقي في ظرفه.
فان قلت: لا عبرة بوصول التكليف الاستقبالي في الحال، فان وجوده وعدمه
على حد سواء، وإنما العبرة بالوصول في موطن يترقب فيه البعث والانبعاث
وهو الوصول في الاستقبال، فهذا الوصول الاجمالي لا أثر له بالإضافة إلى أحد
الطرفين.
قلت: أولا: أن هذا الوصول الحالي يكفي في فعلية التكليف الاستقبالي في

(1) (خ ل): الحالي.
593

ظرفه بنفس هذا الوصول، فإنه لا منافاة بين فعليته من قبل هذا الوصول فعلا
وعدم فعليته من قبل تضايف البعث والانبعاث، فإنه لا يكون البعث فعليا إلا
حيث يمكن الانبعاث الفعلي.
وثانيا: أن مفروض الكلام بقاء التكليف الاستقبالي على شرائط الفعلية
والتنجز، فمع العلم باستمرار الوصول وعدم التبدل بانقلاب العلم جهلا يقطع
بفعلية التكليف الاستقبالي بالوصول بقاء وإن لم يكن فعليا بالوصول حدوثا.
فان قلت: العلم الاجمالي لا يزيد على العلم التفصيلي مع أنه لو كان التكليف
الاستقبالي معلوما بالتفصيل لم يكن له اثر لا من حيث نفسه ولا من حيث
مقدماته الوجودية والعلمية، بل اللازم تعلق العلم الاجمالي بتكليف فعلى
بحيث إذا انقلب علمه الاجمالي إلى التفصيلي لكان ذا أثر فعلا.
قلت: اللازم أن يكون المعلوم بالاجمال ذا أثر في موطن فعليته لا ذا أثر في
الحال على أي حال، إلا أن العلم التفصيلي طرفه مفصل ولا أثر له فعلا من جميع
الجهات بخلاف العلم الاجمالي فإن أحد طرفيه حالي ومراعاته عقلا أثر احتمال
العقاب عليه فعلا.
فان قلت: العلم الاجمالي لا يؤثر في التنجز إلا إذا تعلق بحكم فعلى، وحيث
انه لا يتعلق بالمردد بل بالجامع بين الحكمين، والجامع بين الفعلي وغيره غير
فعلى، فلا أثر له في التنجز.
قلت: الفعلية عندنا بنفس الوصول والواصل هو الانشاء بداعي جعل الداعي
سواء كان متعلقا بأمر حالي أو استقبالي، فبالوصول يكون الانشاء المتعلق بأمر
حالي أو استقبالي فعليا إما في الحال أو في الاستقبال.
594

[تنبيهات المسألة]
- التنبيه الأول -
الاضطرار إلى بعض أطراف العلم الاجمالي
249 - قوله: أن الاضطرار كما يكون مانعا عن العلم (1) الخ:
توضيح المقام وتفصيل الكلام: أن الاضطرار إذا كان إلى أحد الامرين بلا
تعيين فالوجه في عدم منعه عن تنجيز العلم الاجمالي أن الاضطرار ليس إلى
شرب النجس ولو على سبيل الاحتمال، إذ احتمال الانطباق عند فعلية الارتكاب
لا عند فعلية الاضطرار فهو غير مضطر إلى الحرام قطعا، ومتعلق التكليف بما هو
مقدور فعلا وتركا، لا أن أحدهما المردد حرام وأحدهما المردد مضطر إليه ليقال
- أن نسبة الاضطرار إلى الحرام وغيره على حد سواء، بل معنى الاضطرار إلى
حدهما أنه لا يقدر على تركهما معا مع القدرة على فعل كل منهما وتركه في
نفسه، وعليه فشرائط تنجز الخطاب الواقعي من العلم به والقدرة على متعلقه
موجودة فيؤثر العلم أثره وانما المكلف يعجز عن الموافقة القطعية دون الامتثال
الكلية فيكون معذورا عقلا فيما هو عاجز عنه لا في غيره مع ثبوت مقتضيه. وما
ممكن أن يقال في وجه مانعية الاضطرار أمران.
أحدهما: ما في الكتاب عن شيخنا الأستاذ - قده - (2) كما في فوائده (3) أيضا
هو منافاة الترخيص التخييري مع حرمة التعيينية (4) ومقتضى الأهمية المفروضة

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 216 وكفاية الأصول: ص 360، (ت، آل البيت).
(2) المصدر الفوق.
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 216 وفوائد الأصول: ص 96.
(4) (خ ل): التعينية.
595

سقوط الحرمة التعيينية بالمضادة فلا علم بتكليف فعلى حتى يقال بأن سقوط
لزوم الموافقة القطعية لا يقتضى سقوط حرمة المخالفة القطعية، إلا أن هذا البيان
إنما يجدى فيما إذا كان الترخيص شرعيا لا فيما إذا كان عقليا أيضا، إذ الترخيص
العقلي ليس من مقولة الحكم العقلي حتى يضاد الحرمة التعيينية الفعلية بل معناه
حكم العقل بمعذورية المضطر في ارتكاب ما اضطر إليه إذا صادف الحرام
الواقعي، فلا بد من ملاحظة منافاة هذا المعذورية العقلية مع الحرمة الفعلية من
حيث الأثر، وأي منافاة بين المعذورية في ترك الموافقة القطعية وعدم المعذورية
في المخالفة القطعية هذا، مضافا إلى أنه لو كان هناك تكليف شرعي بحفظ النفس
عن الهلاك مثلا فهو تكليف تعييني لا ينافي بنفسه لحرمة شرب النجس تعيينا،
إذ (1) المفروض عدم الاضطرار إلى شرب النجس بما هو، بل العقل لمكان عدم
تميز الحرام عن الحلال يعذره في تطبيق الحفظ الواجب على كل من الفعلين
فليس هناك أيضا إلا المعذورية العقلية. وقد مر عدم منافاتها للحرمة (2) الواقعية
من حيث اثرها.
ثانيهما: ما مر منا مرارا (3) من أن المعذورية في ارتكاب أحدهما ورفع عقاب
الواقع عند المصادفة ينافي بقاء عقاب الواقع على حاله حتى يحرم المخالفة
القطعية، فان ضم غير الواقع إلى الواقع لا يحدث عقابا على الواقع، والمانع من
تنجز التكليف هو الاضطرار لا اختيار ما يرتكبه في مقام الاضطرار حتى يعقل
التكليف المتوسط المصطلح عليه عند بعضهم (4) تبعا للشيخ الأعظم - قده -
بداهة أنه مأذون في الارتكاب سواء ارتكب أم لا.
فان قلت: هذا إذا كان الاضطرار سابقا على العلم الاجمالي، وأما مع منجزية
العلم الاجمالي ولحوق الاضطرار فلا، وذلك لاحتمال بقاء التكليف المنجز
بالنسبة إلى ما يرتكبه فيجب مراعاته عقلا.

(1) (خ ل): إذا.
(2) (خ ل): للحرام.
(3) التعليقة: 127 و 247 ص 257 و 587.
(4) أجود التقريرات: ج 2، ص 270، وبنى على كون التوسط في التكليف نفسه.
596

قلت: مجرد عروض الاضطرار يوجب حكم العقل بعدم العقاب على
ارتكاب أي واحد كان، ولا يدور حكم العقل مدار الارتكاب، فمن الأول لا
يحتمل بقاء التكليف الفعلي المنجز لتقومه باستحقاق العقاب على مخالفته عند
مصادفته، وحيث لا عقاب عليه وإن صادفه فلا يحتمل بقاء التكليف من الأول
سواء ارتكب أحدهما أم لا. ولذا ذكرنا سابقا أن ايجاب الموافقة القطعية لازم
حرمة المخالفة القطعية، وأن الاذن في ترك الموافقة القطعية يستلزم الاذن في
المخالفة القطعية.
ومما ذكرنا تبين أنه لا وجه للالتزام بالتوسط في التكليف بحيث يكون باقيا
على ارتكاب غير الحرام وساقطا على تقدير ارتكاب الحرام، فان لزوم الالتزام به
فيما إذا قام الدليل على ارتفاع الحرمة بارتكاب متعلقها، فح يعلم منه بانضمامه
إلى دليل الحرمة اختصاصها بمن لم يرتكب متعلقها مع أنه ليس كك، بل
الترخيص شرعا أو عقلا يدور مدار الاضطرار المشفوع بالجهل بالحرام تطبيقا
فمن أول الامر يجوز له ارتكاب أي واحد كان سواء ارتكب أم لا يرتكب، ونفس
جواز الارتكاب وان صادف الواقع مناف عقلا لفعلية الحرمة واستحقاق العقاب
على المخالفة عند المصادفة. فتدبر جيدا. وقد مضى فيما تقدم شطر مما يتعلق
بالمقام فراجع (1).
وأما إذا كان الاضطرار إلى أحدهما المعين، فان كان الاضطرار سابقا على العلم
فلا شبهة في عدم منجزية العلم فان المعين حلال قطعا وإن كان حراما واقعا،
وليس إلا مجرد احتمال التكليف في الطرف الآخر وهذا هو الفارق بين سبق
الاضطرار إلى المعين وسبقه إلى الغير المعين، لاحتمال تعلق الاضطرار بالحرام
الواقعي في الأول دون الثاني كما عرفت. وإن كان الاضطرار بعد حصول العلم
وتأثيره أثره، فالشيخ الأعظم - قدس سره - في رسالة البراءة (2) على الاحتياط وبقاء
العلم بأثره، لان وجوب الاجتناب عن كل واحد من الطرفين بملاحظة احتمال

(1) التعليقة: 247 و 249، ص 585 و 595.
(2) الرسائل: ج 2، ص 425 والرسائل: ص 254، مخلوط: في التنبيه الخامس.
597

التكليف المنجز بالعلم في ذلك الطرف وهو بعينه موجود هنا، لاحتمال بقاء
التكليف المنجز في غير المضطر إلى كاحتمال ثبوته فيه قبل الاضطرار. وعن
شيخنا العلامة - رفع الله مقامه - في متن الكتاب (1) وفى فوائده (2) عدم منجزية
العلم الاجمالي بقاء، وفى هامش الكتاب (3) على منجزيته (4) بقاء وموافقة الشيخ
الأعظم - قده - في ذلك. واستند - قدس سره - في عدم البقاء على صفة التنجز
إلى أن القدرة شرط للتكليف حدوثا وبقاء فكما أنه إذا علم اجمالا بثبوت خطاب
مردد بين فعل مقدور وفعل غير مقدور فلا أثر له لعدم التكليف الفعلي على أي
تقدير، كذلك إذا علم اجمالا بمثله بقاء لا حدوثا فإنه لا علم له بتكليف فعلى
على أي تقدير بقاء من أول الامر بل له العلم به إلى حد الاضطرار. واستند - قدس
سره - في البقاء على صفة التنجز إلى دوران الامر مقرونا باحتمال التكليف
المحدود فله الأثر من أول الامر.
بيانه: أنه ليس التكليف المعلوم مرددا بين أن يكون محدودا أو مطلقا حتى
ينحل إلى معلوم ومشكوك، نظرا إلى أن ثبوت أصله إلى هذا الحد متيقن وفيما
بعده مشكوك بل اشتراط أصل التكليف بالقدرة وتحديده بالاضطرار معلوم، إنما
الشك في أن التكليف بترك شرب النجس المعلوم هل هو منطبق على ترك شرب
هذا الاناء إلى حد الاضطرار إلى شربه أو على ترك شرب ذلك الاناء الذي لا
اضطرار إليه على الفرض. وليس التكليف في أحد الطرفين من حيث الانطباق

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 216.
(2) فوائد الأصول: ص 95.
(3) حقايق الأصول: ج 2، ص 298: لا يخفى إن ذلك انما يتم فيما كان الاضطرار إلى أحدهما لا
بعينه، واما لو كان إلى أحدهما المعين فلا يكوين بمانع عن تأثير العلم للتنجز لعدم منعه عن العلم بفعلية
التكليف المعلوم إجمالا المردد بين أن يكون التكليف المحدود في ذلك الطرف أو المطلق في الطرف الآخر
، ضرورة عدم ما يوجب عدم فعلية مثل هذا المعلوم أصلا، وعروض الاضطرار انما يمنع عن فعلية
التكليف لو كان في طرف معروضه بعد عروضه، لا عن فعلية المعلوم بالاجمال المردد بين التكليف
المحدود في طرف المعروض، والمطلق في الاخر بعد العروض وهذا بخلاف ما إذا عرض الاضطرار إلى
أحدهما لا بعينه، فإنه يمنع عن فعلية التكليف في البين مطلقا، فافهم وتأمل (منه قدس سره).
وكفاية الأصول: 360، (ت، آل البيت).
(4) (خ ل) منجزية.
598

متيقنا بالإضافة إلى الاخر نظير ما إذا علم بأنه مأمور بالجلوس إما في هذا
المسجد ساعة أو في ذلك المسجد الاخر ساعتين، فكونه مأمورا بجلوس ساعة
وإن معلوما على أي تقدير لكنه لا بنحو التطبيق فلا يجدى في الانحلال.
فان قلت: هذا إذا كان هناك تكليف واحد، وأما إذا كان كل ترك من تروك
شرب النجس بملاحظة قطعات الأزمنة مطلوبا مستقلا فهناك تكاليف متعدده
بتعدد التروك، وكل ترك في كل زمان - سواء كان في طرف هذا الاناء أو في طرف
ذلك الاناء الاخر - مطلوب إلى حد الاضطرار، فاحتمال مطلوبية ترك شرب هذا
الاناء في هذه الساعة مقرون باحتمال مطلوبية ترك شرب الاخر في هذه الساعة
وهكذا - إلى حد الاضطرار، وأما بعد الاضطرار فليس ترك شرب ما لم يضطر إليه
ذا طرف فعلا ليدور الامر بين مطلوبيته ومطلوبية طرفه، ولا ذا طرف قبلا، لان كل
ترك في كل زمان كان له طرف يختص به دوران الامر بين مطلوبيته أو مطلوبية
طرفه، فليس للترك بعد الاضطرار طرف لا فعلا ولا قبلا فهو احتمال بدوي غير
مقرون باحتمال اخر ولو من أول الامر.
قلت: أولا، إن مطلوبية كل ترك في كل زمان ملازمة لمطلوبية ترك اخر في
زمان اخر، لان كل ترك مطلوب من حيث إنه [ترك] شرب (1) النجس مثلا، فكل
التروك في جميع الأزمنة في الطرفين على حد واحد، وحينئذ نقول إن التكليف
بترك الشرب في كل زمان إن كان محققا من أول الامر بنحو الواجب المعلق فلا
إشكال من حيث دوران الامر بين ثبوت تكاليف متعددة من الأول، إما في طرف
المضطر إليه إلى حد الاضطرار، وإما في الطرف الآخر إلى الاخر، وكذا إن كان
بنحو الواجب المشروط، وقلنا بأن العلم به بلحاظ فعليته في ظرفه للعلم بتحقق
شرائط تنجزه في ظرفه له الأثر، فان العلم بالتكاليف الحالية والاستقبالية له الأثر
من أول الامر فينتجز التكليف فيما بعد الاضطرار للعلم به إجمالا من الأول.
وإن قلنا بأن العلم بالواجب المشروط لا أثر له قبل تحقق شرطه، فيكون العلم
بالتكليف في كل زمان منجزا له في ذلك الزمان إلى أن ينتهى إلى الاضطرار فلا

(1) (خ ل): انه شرب النجس.
599

علم في ما بعده تكليف فعلى في هذا الزمان، إما في هذا الطرف أو في ذلك
الطرف. والمفروض أن العلم به اجمالا من أول الامر لا أثر له فيجب الاحتياط
على الأولين دون الأخير.
وثانيا، أن الانحلال إلى تكاليف متعددة متعلقة بتروك شرب النجس إنما
يصح إذا كان كل ترك ذا مصلحة باعثة على طلبه، بل حيث إن النجس واحد
وفعل الشرب واحد والمفسدة القائمة به واحد فليس في الحقيقة إلا زجر واحد
عن الفعل الواحد، وتعدده بحسب الفرض بالقياس إلى قطعات الأزمنة، وطلب
كل ترك يتبع الزجر عما فيه المفسدة فليس في الحقيقة الا تكليف واحد مستمر
إلى أن يتحقق الا طاعة أو العصيان، وهذا الواحد من حيث استمراره مردد بين
المطلق والمحدود من حيث التطبيق على شرب هذا الاناء أو ذلك الاناء.
250 - قوله: حيث إن فقد المكلف به ليس من حدود التكليف (1) الخ:
لا يخفى عليك أن عدم القدرة على فعل المكلف به وتركه، تارة بعدم القوة
المنبثة في العضلات، وأخرى بوجود المانع من إعمال القدرة وثالثة، بعدم
المحل لأعمال القدرة وفقد موضوع التكليف، كالنجس فيما نحن فيه من قبيل
الثالث، ولذا يكون التكليف بالإضافة إلى مثل هذا الموضوع مشروطا عقلا
لرجوعه إلى شرطية القدرة وفعلية التكليف بفعلية موضوعة.
نعم، ربما لا يكون الموضوع ملحوظا هكذا كما إذا أمر بشرب الماء أو
الدواء (2) فإنه يجب تحصيلها، ولا يتوقف فعلية التكليف على حصولهما إلا أن
طلب ترك شرب الخمر والنجس ليس كك ولذا لا يجب تحصيل الخمر والنجس
مقدمة لامتثال التكليف بترك شربهما، فتدبر.

(1) كفاية الأصول: ج 2 ص 218 وكفاية الأصول: ص 361، (ت، آل البيت).
(2) (خ ل): الداواء.
600

- التنبيه الثاني -
" في خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء "
251 - قوله: الثاني انه لما كان النهى عن الشئ انما هو (1) الخ:
حيث إن النهى الحقيقي هو جعل الداعي إلى الترك فما كان متروكا بعدم
الابتلاء لا معنى لطلب تركه كما عن شيخنا العلامة الأنصاري - قده - (2) أو هو من
قبيل طلب الحاصل كما عن شيخنا الأستاذ - قده - في المتن (3)، أو من حيث إن
تعلق التكليف بالمكلف فعليا وارتباطه به بارتباط موضوعه به فعلا مما لا شغل
له به وما كان داعيه مصروفا عنه لا معنى لتعلق التكليف الفعلي به كما عن
آخرين. والكل لا يخلو عن شئ، لان الخروج عن محل الابتلاء إذا كان بحيث
يمتنع عادة فعله وتركه فليس هناك شرط زايد على القدرة المعتبرة في التكاليف
البعثية والزجرية عقلا، وإذا كان بحيث لا يمتنع عادة بل يمكن تحصيله بأسبابه
فيمكن توجه الداعي إليه فهو محل الكلام، إذ لو اعتبر الابتلاء به فعلا كان ذلك
شرطا زائدا على القدرة.
وصريح كلام الشيخ الأعظم - قده - في رسائله (4) أن ميزان الابتلاء وعدمه
تعارف مساس المكلف به في قبال اتفاق المساس به، مع عدم استحالة الابتلاء
عقلا وعادة.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 218 وكفاية الأصول: ص 361، (ت، آل البيت).
(2) الرسائل: ج 2 ص 420: في ذيل التنبيه. والمصدر: 251 مخطوط.
(3) كفاية الأصول، ج 2 ص 218، س 14 وبل يكون من قبيل طلب الحاصل
(4) الرسائل: ج 2، ص 422 - 421.
601

وأما توهم الفرق بين القدرة العقلية والقدرة العادية وان ما هو المعتبر في أصل
التكليف هي القدرة العقلية المجامعة مع الخروج عن الابتلاء وان القدرة العادية
هي المساوقة للدخول في محل الابتلاء.
فمندفع: بأن القدرة العقلية والعادية ليست إلا في قبال الممتنع عقلا والممتنع
عادة، والامتناع بكلا قسميه مناف (1) للقدرة المعتبرة عقلا في التكليف الايجابي
والتحريمي، مع أن صريح كلام الشيخ (2) - قده - خروج المستحيل عادة
كالمستحيل عقلا عن محل البحث، وأنه بعد الامكان عقلا وعادة يعتبر الابتلاء به
عادة في قبال اتفاق الابتلاء به.
فحينئذ نقول إن كان التكليف الحقيقي البعثي والزجري جعل ما يدعو إلى
الفعل أو الترك بالفعل فمع وجود الداعي إلى الفعل أو الترك أو عدم الداعي في
نفسه إلى الترك يكون مستحيلا.
وإما إذا كان التكليف الحقيقي جعل ما يمكن أن يكون داعيا بحيث لو انقاد
العبد له لانقدح الداعي في نفسه بدعوة البعث أو الزجر فيفعل أو يترك بسبب
جعل الداعي، فهذه الصفة محفوظة سواء كان للمكلف داع إلى الفعل كما في
التوصلي الذي يأتي به بداعي هواه، أو داع إلى تركه كما في العاصي، أو لم يكن
له داع إلى الفعل من قبل نفسه، كما فيما نحن فيه. وعليه فمجرد كونه متروكا بعدم
الابتلاء أو كونه مما لا شغل له به لا يرجع إلى محصل إلا إذا أريد منه عدم الداعي
له إلى فعله ومجرد عدم الداعي لا يمنع من جعل من يمكن أن يكون داعيا، لأنه
يمنع عن جعل الداعي إلى الترك بالفعل لا بالامكان، فإنه يكفيه إمكان حصول
الداعي له إلى الفعل ليمنع عنه الداعي إلى الترك من قبل المولى، ولذا يصح
جعل الداعي بالنسبة إلى العاصي مع كونه بحيث لا داعي له إلى الفعل بل كان له
الداعي إلى الخلاف، بل إذا كان عدم الداعي فعلا مانعا عن توجه النهى الحقيقي
فلازمه عدم صحة النهى مع الدخول في محل الابتلاء إذا لم يكن له داع إلى شربه

(1) (خ ل): منافية.
(2) الرسائل: ج 2، ص 422.
602

مثلا - مع أنه ليس كذلك جزما. بل التحقيق أن حقيقة التكليف الصادر من المولى
المتعلق بالفعل الاختياري لا يعقل أن يكون إلا جعل الداعي بالامكان لا بمعنى
البعث الخارجي الموجب لصدور الفعل منه قهرا، فإنه خلف. إذ المفروض تعلق
التكليف بالفعل الاختياري فلا شأن له إلا الدعوة الموجبة لانقداح الإرادة في
نفس المكلف، لكنه لا بحيث يوجب اضطراره إلى إرادة الفعل أيضا، لأنه وإن لم
يكن منافيا لتعلق التكليف بالفعل الاختياري لفرض توسط الإرادة بين التكليف
وفعل المكلف إلا أنه خلاف المعهود من التكاليف الشرعية، حيث إنه ليس فيها
الاضطرار حتى بهذا المعنى، بل تمام حقيقته جعل ما يمكن أن يكون داعيا
ويصلح أن يكون باعثا، ولا معنى للامكان إلا الذاتي والوقوعي، فيجتمع مع
الامتناع بالغير، أي بسبب حصول العلة فعلا أو تركا من قبل نفس المكلف، فان
الامتناع بسبب العلة مع عدم امتناع عدم العلة يجامع الامكان الذاتي والوقوعي،
ولا يعقل الامكان بالغير حتى ينافي الامتناع بالغير.
ومن جميع ما ذكرنا تبين أن الدخول في محل الابتلاء مع فرض تحقق القدرة
بدونه لا دليل عليه ولا معنى لاستهجان العرفي، لعدم ارتباط حقيقة التكليف
بالعرف بما هم أهل العرف، وليس الكلام في الخطاب بما هو خطاب حتى يتوهم
ارتباطه بنظر العرف. وعن بعض أجلة العصر - قده - (1) أيضا الالتزام بعدم شرطية
الابتلاء في حقيقة التكليف، لكنه بدعوى أن حقيقة التكليف ليست بمعنى
البعث والزجر وجعل الداعي ليتوهم الاستهجان العقلائي، بل حقيقة التكليف
هو الالزام بالفعل والترك. وربما يكون نفس هذا الالزام موجبا لتحصيل الابتلاء
فكيف يكون مشروطا بالابتلاء به، لكنا قد بينا مرارا (2) أن حقيقة التكليف - الذي
يتوسط بين إرادة (3) المولى لفعل العبد وإرادة العبد إياه - هو جعل الداعي له
بحيث يكون ايجادا تسبيبيا تنزيليا من المولى وإن كان لهذا الايجاد التسبيبي

(1) درر الفوائد: ج 2 - 1، ص 464، (ط، جماعة المدرسين).
(2) التعليقة: 30 و 41 و 85، ص 81 و 92 و 137.
(3) عبارة التعليقة هكذا: بين الإرادة المولى..
603

عناوين مختلفة باعتبارات متعددة: فمن حيث الايقاع في كلفة الفعل أو الترك
تكليف ومن حيث جعله قرينا للمكلف بحيث لا ينفك عنه إلا بالإطاعة، أو
العصيان الزام، فكأنه جعله لازما له، ومن حيث إنه موجب لحركته نحو الفعل
تحريك، ومن حيث اثباته على رقبته ايجاب، وهكذا.
وأما لزوم تحصيل الابتلاء المنافى لشرطية الابتلاء فإنما يرد إذا أريد شرطية
الابتلاء للامر والنهى معا، مع أنه لخصوص النهى، فإنه الذي لا يحسن مع حصول
متعلقه وهو الترك بنفس عدم الابتلاء، وغاية ما يمكن أن يقال في وجه اعتبار
الابتلاء في خصوص التكليف التحريمي مع تساوى الفعل والترك في القدرة
المعتبرة في البعث والزجر هو أن البعث حيث إنه لجعل الداعي نحو الفعل فلابد
من أن يكون الفعل بحيث يمكن الانبعاث إليه، فإذا كانت مقدماته موجودة فلا
محالة يكون انقياد المكلف مساوقا للانبعاث بالبعث نحو الفعل. وإن لم يكن
مقدماته موجودة فحيث كان الانبعاث إلى ذيها ممكنا بالانبعاث إليها فلا محالة
يصح البعث نحو الفعل ونحو مقدماته، وأما الزجر فهو أيضا (1) لا يصح إلا إذا
أمكن الانزجار عن الفعل، فإذا كانت مقدمات الفعل موجودة ما عدا المقدمة
الأخيرة فلا محالة يصح الانزجار عن الفعل بالانزجار عن مقدمته، فيصح الزجر
عنه وعن مقدمته المترتب عليهما ترك الفعل.
وأما إذا كان ما عدا المقدمة الأخيرة متروكا أيضا فلا يترقب من الزجر عن
الفعل ترتب الانزجار عليه عند انقياد المكلف، إما بنفسه فواضح، وإما من حيث
الانزجار عن مقدماته، فلفرض كونها متروكة، وتبدلها إلى النقيض لا أثر له حتى
يكون إمكان الزجر والانزجار محفوظا، لان وجود ما عدا المقدمة الأخيرة وعدمه
في بقاء الترك على حد سواء، ولذا لا يحرم ما عدا المقدمة الأخيرة على ما هو
التحقيق في محله، وعليه فشرطية الابتلاء لاقتضاء الزجر عن الفعل بالخصوص
لا لاقتضاء مطلق التكليف بعثا أو زجرا ولا لفقد القدرة ولو بمرتبة منها.

(1) عبارة التعليقة هكذا: فهو ايصالا يصح...
604

252 - بل يكون من قبيل طلب الحاصل (1) الخ:
وحينئذ فان أريد من الطلب نفس الشوق الأكيد النفساني فطبيعة الشوق كما
مر مرارا (2) يتعلق بالحاصل من وجه المفقود من وجه آخر، فلا يعقل تعلقها
بالحاصل من كل وجه والشوق إلى حصول الحاصل ثانيا لا يعقل، لان الوجود لا
يعرض الموجود لان المماثل لا يقبل المماثل فطلبه محال من العاقل، وإن أريد
منه البعث فحيث إنه ايجاد تسبيبي من الباعث يرجع إلى ايجاد الموجود وهو
محال.
قلت: قد يتعلق الطلب بما هو مفروض الحصول بعلته، فالامر فيه كما مر.
وقد يتعلق بالشئ في عرض علته المفروضة فليس لازمه طلب الحاصل، لان
طلب الحاصل بنفس الطلب ليس فيه محذور بل فيه اجتماع علتين مستقلتين
على معلول واحد، وصدور الواحد عن الكثير محال، هذا إذا فرض الترك
بالداعي، وأما إذا فرض الترك بعدم الداعي فمحذوره أمر آخر، وهو أن ابقاء
العدم على حاله بالزجر والردع بملاحظة صيرورته مانعة عن حصول الداعي إلى
الفعل، ومع عدمه لا يعقل المانعية والزاجرية فان الشئ لا يتصف بفعلية
المانعية إلا مع فعلية المقتضى. والجواب عن الكل ما مر (3) من أن العلية
والمانعية في النهى الحقيقي بالامكان لا بالفعلية كي يلزم منه المحاذير
المتقدمة.
253 - قوله: كان المرجع هو البراءة (4) الخ:
للشك في التكليف الفعلي وهو مرفوع بأدلة البراءة وعدم البيان والحجة على
التكليف الفعلي فالعقاب عليه قبيح.
وربما يقال (5) توجه التكليف الفعلي للشك في حسن (6) التكليف وإن كان

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 218 وكفاية الأصول: ص 361، (ت، آل البيت).
(2) التعليقة: 46، ص 106.
(3) التعليقة: 251، ص 602.
(4) كفاية الأصول: ج 2، ص 223 وكفاية الأصول: ص 361، (ت، آل البيت).
(5) درر الفوائد: ج 2 - 1، ص 465.
(6) (خ ل): حس.
605

مشكوكا إلا أنه لا شك في وجود مبغوض المولى في الأطراف، والعلم به كفى به
بيانا، ولكنك قد عرفت غير مرة (1) أن المبغوضية التي هي مصداق الكراهة
التشريعية كالمحبوبية التي هي مصداق الإرادة التشريعية ما يساوق الإرادة
والكراهة التكوينيتين، فإذا وصلت الإرادة مثلا حدا يبعث العضلات نحو الفعل
كانت إرادة تكوينية والا فلا، فكذلك إذا وصلت حدا يبعث المولى على قيامه
بصدد تحصيل مراده بالبعث الفعلي نحوه كانت إرادة تشريعية، فلا تنفك الإرادة
التشريعية عن البعث الفعلي كما لا تنفك التكوينية عن حركة العضلات، وما لم
تبلغ الإرادة هذا الحد لا أثر لها، كيف ولو كان متعلقها فعلا تكوينيا للمولى لم
تحركه بالمباشرة نحو الفعل فكيف تحركه نحوه بالتسبيب، فكذا الامر في
الكراهة التشريعية فالشك في البعث الفعلي والزجر الفعلي شك في بلوغ الإرادة
والكراهة حدا له الأثر، ومطلق المحبوبية والمبغوضية التي لا توجب قيام المولى
مقام تحصيل محبوبه أو اعدام مبغوضه لا أثر له نعم، دعوى قصور أدلة البراءة
الشرعية لصورة العلم بالحرمة والشك في فعليتها أمر آخر، حيث إن ظاهرها ما
كان التكليف الواقعي مشكوكا فترتفع فعليته لا مطلق الشك في الفعلية، وفي
البراءة العقلية كفاية.
قوله: لا إطلاق الخطاب ضرورة انه لا مجال (2) الخ:
منع - قده - (3) عن التمسك باطلاق الخطاب، تارة: بأن الابتلاء من شرائط
تنجز الخطاب كما في تعليقته على الرسائل (4)، فلا يكون الاطلاق المتكفل
لحكم الواقعة بمرتبته الانشائية ناظرا إلى المرتبة المتأخرة.
وأخرى: بأنه من شرائط فعلية البعث والزجر كما في فوائده - قده - (5) وهي

(1) التعليقة:
(2) الرسائل: ج 2، ص 404 وكفاية الأصول: ج 2، ص 223 وكفاية الأصول: ص 361، (ت، آل البيت).
(3) في نفس المصدر.
(4) تعليقة الرسائل: ص 148، (ط، مكتبة بصيرتي).
(5) فوائد الأصول: ص 91 - (ط، وزارة الارشاد الاسلامي).
606

أيضا مرتبة متأخرة عن مرتبة الانشاء.
وثالثة: كما في المتن (1) بان التمسك بالاطلاق واستكشاف المراد الجدي من
الخطاب فرع صحته وامكانه في نفسه مع أن صحته وامكانه بدون ابتلاء أو
بدون هذا المقدار من الابتلاء مشكوك فلا تصل النوبة إلى استكشاف المراد
الجدي المترتب على معقوليته في نفسه من إطلاق الخطاب.
أقول: أما عدم التمسك بالاطلاق بناء على الوجه الأول فصحيح حتى فيما
إذا كان جعل العقاب من الشارع، فان النافع عليه اطلاق الدليل المتكفل لجعل
العقاب على مخالفة التكليف لصورة خروج مورده عن الابتلاء دون الدليل
المتكفل لأصل التكليف، إلا أن قيدية الابتلاء للتنجز غير معقولة في حد ذاتها إذ
فرض استحقاق العقاب على المخالفة فرض الابتلاء فكيف يعقل اطلاقه
وتقييده. وأما عدم التمسك على الوجه الثاني فمختصر القول فيه أن مرتبة البعث
والزجر الفعليين وإن كانت غير مرتبة الانشاء إلا أن القيود المأخوذة في مقام
الانشاء بداعي جعل الداعي قيد في الحقيقة لصيرورته مصداقا لجعل الداعي
دائما، وإلا فالانشاء حاصل وكيف يعقل إناطته بأمر غير حاصل، فكون الانشاء
بداعي جعل الداعي تام الاقتضاء وفعليا من قبل المولى انما يستكشف بتجرده
عن القيد في مقام الانشاء بداعي جعل الداعي.
وأما الانشاء بلا داع فهو محال في نفسه، كما أن الانشاء بداع اخر غير جعل
الداعي ليس من مراتب الحكم الحقيقي، ولا يترقب منه فعلية البعث والزجر بل
فعليته فعلية ما انشاء لأجله فلا محالة ينحصر الانشاء المترقب منه فعلية البعث
والزجر في الانشاء بداعي جعل الداعي، واطلاقه وتجرده عن القيد يكشف عن
كونه مصداق البعث والزجر فعلا، لا معلقا على شئ، إلا أن هذا الاطلاق إنما
يجدى في نفي القيود الدخيلة في فعلية الحكم شرعا لا القيود الدخيلة في
فعليته البعثية والزجرية عقلا، كالقدرة والوصول والابتلاء على القول بدخله
بحكم العقل، ولا معنى لدفع قيدية ما لا دخل له بالشارع بتجرد خطابه عنه كما

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 223.
607

هو واضح.
وربما يقال (1): بدخل الابتلاء الذي هو من شؤون القدرة بدخله في ملاك
النهى نظرا إلى أنه وإن لم يكن دخيلا في مفسدة الفعل إلا أنه دخيل في مبغوضية
الصدور من المكلف، وهي الملاك الأخير لصدور النهى، وكما يستكشف الملاك
الأول من النهى فإذا احتمل عدم المفسدة أو عدمها إلا على تقدير مخصوص
يكون اطلاق النهى كاشفا عن أصلها وعن إطلاقها كك الملاك الأخير، وكذا حسن
التكليف أو قبحه كحسن الفعل أو قبحه يستكشف بالامر أو النهى.
والجواب: أن المبغوضية منبعثة عن المفسدة كالمحبوبية عن المصلحة
وعدم صيرورة المحبوبية إرادة تشريعية مساوقة للتكوينية أو عدم صيرورة
المبغوضية كراهة تشريعية مساوقة للتكوينية ليس لأجل دخل القدرة وما هو من
شؤونها في كونها ملاكا للنهي بل لدخلها ابتداء في الزجر، فيستحيل تحقق الجزء
الأخير من العلة التامة للزجر لاستحالة معلولها، فحيث لا يمكن التكليف لا يريده
لا انه حيث لا يمكن الإرادة لا يكلفه.
وأما حديث استكشاف حسن التكليف وقبحه فنقول إن الحسن أو القبح ربما
يكون لأجل مصلحة في التكليف أو مفسدة فيه فحاله حال حسن الفعل وقبحه،
وربما يكون لأجل اللغوية ونحوها فهو أمر عقلي أجنبي عن المصالح والمفاسد
المستكشفة بالخطاب فتدبر جيدا.
وأما عدم التمسك على الوجه الثالث كما هو ظاهر المتن (2) فمجمل الكلام فيه
إنا بينا في محله أن ظهور الدليل على التعبد بشئ أو ايجاب شئ أو تحريمه
دليل على امكانه وحسنه، لظهوره في وقوعه منه وهو أخص من امكانه وحسنه،
والظاهر حجة إلى أن تقوم حجة على خلافه، واحتمال استحالته أو قبحه ليس
بحجة كي يمنع عن التمسك بالظاهر، فالاطلاق دليل بالالتزام على امكانه
وحسنه، لكنه لا يجدى فيما نحن فيه لان دلالة الظاهر انما يتبع فيما هو ظاهر فيه
ولو بالملازمة، فيدل على أن الانشاء بداعي جعل الداعي مجردا عن قيد من قبل

(1) فوائد الأصول: 4، ص 50. والرسائل: 251، مخطوط.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 223. والتعليقة: 607.
608

المتكلم ممكن وحسن منه. وأما أنه لا قيد له بحكم العقل فهو أجنبي عن
مقتضيات المدلول الذي يكون الكلام ظاهرا فيه.
نعم، ربما - يتفق كما في هامش الكتاب (1) - احراز كون المولى بصدد
التحريك الجدي والبعث الحقيقي فيكشف عن تمامية علته من باب كشف
المعلول عن وجود علته التامة لا من باب كشف الخطاب عن المراد الجدي.
وعن بعض أجلة العصر (2) وجه آخر في منع الاطلاق، وهو " انه لا يمكن القطع
بحكم ظاهري بواسطة الاطلاق والعموم، لأن المفروض الشك في أن خطاب
الشرع في هذا المورد حسن أم لا؟ ولا تفاوت بين الخطاب الظاهري والواقعي ".
وأنت خبير بأن حجية الامارات الغير العلمية سندا وإن أمكن أن يكون بمعنى
جعل الحكم المماثل ومطلق التكليف مشكوك الثبوت مع الشك في الابتلاء
وقيديته إلا أن حجية الامارات الغير العلمية دلالة كالظهور العمومي أو الاطلاقي
ليست بمعنى جعل الحكم المماثل من العقلاء على طبق مؤديات الظواهر، بل
بمعنى بناء العقلاء عملا على اتباعها والحكم باستحقاق المؤاخذة على
مخالفتها، فليس هناك حكم تكليفي ظاهري ليكون حاله حال الحكم الواقعي في
التقييد بالابتلاء وعدمه.
ثم اعلم أنه مع الاغماض عما ذكرنا من محذور التمسك بالاطلاق لا فرق بين
أن يكون الشبهة مفهومية أو مصداقية. أما الأولى فواضح، لدوران الامر بين
الاطلاق والتقييد من رأس إذا كان أصل قيدية الابتلاء مشكوكا، ولدوران الامر بين
الأقل والأكثر والشك في زيادة التقييد إذا كان الشك في مقدار الابتلاء المعتبر.
وأما الثانية فلان المقيد (3) حيث إنه لبى يجوز التمسك فيه بالاطلاق ولو في
الشبهة من حيث المصداق لما ذكرناه في محله (4).

(1) حقائق الأصول: ج 2، ص 305، نعم، لو كان الاطلاق في مقام يقتضى بيان التقييد بالابتلاء - لو
لم يكن هناك ابتلاء مصحح للتكليف - كان الاطلاق وعدم بيان التقييد دالا على فعليته ووجود الابتلاء
المصحح لها كما لا يخفى فافهم - منه قدس سره - وكفاية الأصول: 361، (ت، آل البيت).
(2) درر الفوائد: ج 2 - 1، ص 465 (ط، جماعة المدرسين).
(3) (خ ل): المفيد.
(4) نهاية الدراية: ج 1، ص 653.
609

- التنبيه الثالث -
" في الشبهة غير المحصورة "
254 - قوله: الثالث أنه قد عرفت أنه مع فعلية التكليف (1) الخ:
وربما يتوهم أن الوجه في منجزية العلم الاجمالي انه مركب من علم
واحتمال، وأن الاحتمال الموجب للخوف هو المنجز للتكليف، وأن قبح العقاب
بلا بيان رافع له، فمع العلم المقرون بالاحتمال يزول المؤمن فيؤثر المقتضى وهو
الاحتمال المحدث للخوف أثره، وعليه ففي غير المحصور نفس الاحتمال
المحدث للخوف لكثرة أطرافه ضعيف لا أثر له، فلا مقتضى حتى يجدى في
تأثيره العلم الذي هو بمنزلة رفع المانع عن التأثير وهو عجيب، لان احتمال
التكليف لا يساوق احتمال المحدث للخوف حتى يكون بمنزلة المقتضى، بل
المقتضى لاستحقاق المؤاخذة على مخالفة التكليف نفس العلم بالتكليف، ولا
فرق فيه بين تعلقه بتكليف يتردد بين أمور محصورة أو غير محصورة والاحتمال
المحدث للخوف في كل طرف نشاء من قبل تنجز الواقع بالعلم به.
وربما يقال (2): بأن ملاك غير المحصور ما يمتنع عادة ارتكاب جميع
أطرافه، وحيث لا يمكن ارتكاب جميع الأطراف لا تحرم المخالفة القطعية،
ومتى لم تحرم المخالفة القطعية لم يجب الموافقة القطعية فان وجوبها من لوازم
الحرمة المخالفة القطعية، ويندفع بعد تسليم الضابط أن المخالفة القطعية لو
كانت موضوعا للحرمة شرعا لكان الامر كما قيل من عدم حرمة مالا يقدر عليه،

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 223 وكفاية الأصول: ص 362، (ت، آل البيت) والرسائل: 261
مخطوط.
(2) أجود التقريرات: ج 2، ص 276 - 275.
610

وأما إذا لم يكن حرمة شرعية وكان الحرمة الفعلية متعلقة بما يقدر عليه بذاته
لفرض القدرة على ارتكاب كل واحد من الأطراف لفرض دخول الكل في محل
الابتلاء كما هو مفروض كلام هذا القائل فلا محالة يكون العلم بالحرمة المتعلقة
بالامر المقدور موجبا لاستحقاق العقوبة على مخالفتها، وليس ضم غير الحرام
إلى الحرام دخيلا في القدرة على متعلق الحرمة ولا دخيلا في ترتب العقوبة على
مخالفتها بعد فرض تنجزها لاستجماع شرائطه، فليس ارتكاب الجميع إلا سببا
للقطع بترتب (1) استحقاق العقوبة على فعل الحرام الفعلي، كما أن ارتكاب بعض
الأطراف سبب لاحتمال ترتب الاستحقاق المزبور وعدم التمكن من تحصيل
العلم باستحقاق العقاب معنى، وعدم التمكن مما يستحق عليه العقاب معنى
اخر، والمضر هو الثاني دون الأول.
255 - قوله: نعم ربما تكون كثرة الأطراف في مورد (2) الخ:
قد مر في أوائل البحث عن دليل الانسداد (3) أن العسر والحرج أو الضرر ليس
في متعلق التكليف قطعا بل في تحصيل العلم بامتثاله بالجمع بين محتملاته (4)،
وليس تحصيل العلم بالامتثال من مقتضيات التكليف ولو بالواسطة، بل التكليف
لا يقتضى إلا ايجاد متعلقه أو إعدامه، وتحصيل العلم بامتثاله بحكم العقل الذي
نسبته إلى الحكم الشرعي نسبة الحكم إلى موضوعه، وليس التكليف المجهول
بما هو تكليفا إلهيا ليقال إن مقتضاه تحصيل العلم بالامتثال، فالمرفوع بأدلة نفى
الحرج والعسر والضرر نفس الحكم الضرري أو الحرجي أو الموضوع الموصوف
بهما، وليس إطلاق يعم ما إذا كان بنفسه حرجيا أو ضرريا، وما إذا كان موضوعا
لحكم عقلي حرجي أو ضرري بحيث يعم الوصف بحال نفسه والوصف بحال
متعلقه.

(1) (خ ل): ترتب.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 223 وكفاية الأصول: ص 362، (ت، آل البيت).
(3) التعليقة: ص 231.
(4) وهذه العبارة للمحقق الخراساني في الكفاية ذيل البحث حول المقدمة الرابعة للانسداد: ص 120.
611

نعم، إذا كان وجوب الاحتياط في مورد شرعيا وكان حرجيا صح نفيه بأدلة
نفى الحرج في الدين، كما أنه إذا كان العسر بنحو يخل بالنظام فهو مانع عن التنجز
عقلا، بل عن فعلية التكليف شرعا. أما الأول فواضح، إذ مع حكم العقل بقبح
الاخلال بالنظام كيف يعقل منه الحكم بقبح ترك تحصيل العلم بالامتثال، وأما
الثاني، فلان التكليف لجعل الداعي ومع التفات الجاعل إلى أن عقل المكلف
يمنعه عن تصديق ما يلزم من بقائه ليجب تحصيل العلم بامتثاله عسر مخل
بالنظام فلا محالة يستحيل منه التكليف لهذا الغرض وإن لم يكن في نفس متعلقه
عسر مخل بالنظام، وقد مر مرارا (1) أن عدم وجوب الموافقة القطعية المستلزمة
للعسر المخل بالنظام يستلزم عدم حرمة المخالفة القطعية.
256 - قوله: ولو شك في عروض الموجب فالمتبع هو اطلاق (2) الخ:
حيث عرفت أنه لا عسر ولا ضرر في متعلق التكليف بل في تحصيل العلم
بامتثاله وليس تحصيله من مقتضيات التكليف، فلا معنى للتمسك باطلاق دليل
التكليف، إذ ليس تحصيل العلم بامتثاله من شؤونه وأطواره الواقعة في مورد
التكليف حتى يرفع الضرري منه أو يدفع مشكوكه باطلاقه فحاله حال الابتلاء من
حيث عدم امكان دفع قيديته بالاطلاق، بل مع قطع النظر عما ذكرنا هناك من
كون التقييد عقليا يمكن رفع قيديته لمرتبة الفعلية هناك، ولا يصح هنا، لأنه ليس
قيدا لمتعلق التكليف بل لتحصيل العلم بامتثاله المتأخر عن مرتبة فعلية التكليف
أيضا بل لا مجال له هنا في الشبهة المصداقية المختص بها المقام، لان التقييد
بعنوان لفظي هنا وباللبي هناك.
نعم، يصح في العسر المخل بالنظام حيث إن التقييد عقلي فيه. ومما ذكرنا
يتضح حال الشك في عروض ساير الموجبات لرفع التكليف الفعلي، 1 - إما
الشك في بلوغ الكثرة إلى حد يخرج بعض أطرافه عن محل الابتلاء فقد علم مما

(1) التعليقة: 259 و 557.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 224 وكفاية الأصول: ص 362، (ت، آل البيت).
612

ذكرنا في الشك فيه سابقا من أنه لا مجال للتمسك بالاطلاق مطلقا، 2 - وإما
الشك في بلوغ الكثرة إلى حد يمتنع معه ارتكاب الجميع بناء على كونه ملاكا
لغير المحصور، فالامر فيه كالعسر والحرج الذي لا دخل له بمتعلق التكليف، بل
في العلم بامتثاله، فكذا هنا، فإنه لا دخل له إلا في العلم بمخالفته المتأخر عن
مرتبة التكليف بل لو فرض الشك في القدرة على متعلق التكليف أيضا لا مجال
فيه للتمسك بالاطلاق، لما مر سابقا من أنه لا دخل لها في الملاك ولا في حسن
التكليف وقبحه المنبعثين عن المصلحة والمفسدة.
نعم، إذا كانت قضية التكليف قضية خارجية فالتكليف الجدي ح كاشف عن
تمامية علته من باب كشف المعلول عن علته لامن باب كشف الاطلاق عن
المراد الجدي. ومنه تعرف أن مرجع الشك هنا ولو فرض أنه إلى الشك في القدرة
إلا أنه لا فرق بينها وبين غيرها من حيث الحكم فيه بالبراءة دون الاحتياط.
613

- التنبيه الرابع -
في حكم الملاقى لبعض أطراف العلم الاجمالي
257 - قوله: انه انما يجب عقلا رعاية الاحتياط في خصوص (1) الخ:
توضيحه يتوقف على بيان مقدمة هي أن للملاقي بالإضافة إلى ملاقيه أنحاء
من الوساطة ثبوتا واثباتا وعرضا.
أما الوساطة (2) في الثبوت، فالمراد منها تأثير النجس في نجاسة ملاقيه بأن
يترشح النجاسة منه إلى ملاقيه، أو بنحو الاعداد وما أشبه ذلك سواء كانت
النجاسة من الأمور الواقعية، أو من الاعتبارات الشرعية الوضعية والأولى واضحة
والثانية أيضا كذلك بعد التأمل إذ كما أن ذات النجس لها خصوصية ذاتية بسببها
اعتبر الشارع لها هذه الصفة كذلك الملاقى يكون بسبب الملاقاة ذات
خصوصية مستدعية لاعتبار تلك الصفة له، وهذا المعنى غير السراية الحقيقية،
فان السراية الحقيقية بسريان ذات النجس وانفصال أجزاء منها إلى الملاقى، وما
نحن فيه بمعنى العلية والتأثير وهما لا يقتضيان سريان العلة في المعلول كما في
كل علة ومعلول.
وأما الوساطة في الاثبات، فالمراد منها أن الدليل الدال على وجوب
الاجتناب عن النجس دليل على وجوب الاجتناب عن ملاقيه فهو متكفل لحكم
النجس ثبوتا ومقتضى الثانية تبعيته له إثباتا.
وأما الوساطة في العروض، فالمراد منها أن الملاقي من شؤون الملاقى ومن

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 224 وكفاية الأصول: ص 362، (ت، آل البيت).
(2) (خ ل): اما لوساطة.
614

فروعه، بحيث يكون الاجتناب عن ملاقاته بالاجتناب عنه لا بالاجتناب عن عين
النجس فقط، نظير " إكرام العالم " فان إكرام ولده وخادمه من شؤون اكرامه بحيث
لو لم يكرمهما لم يكرم العالم كما هو حقه، فليس للملاقي اجتناب بحياله
واستقلاله، كما ليس لخادم العالم إكرام بحياله وبلحاظ نفسه، بل من حيث إن
اكرامه اكرام العالم وهذا هو المراد من ثبوت الحكم له عرضا.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن مجرد تبعية الملاقي لملاقاه ثبوتا واثباتا لا يجدى
شيئا، لأنه مع هذه التبعية يكون الملاقي كملاقاة فردا من النجس حقيقة، وله
حكم بنفسه وبحياله كالملاقاة، فان وحدة الدليل أجنبية عن وحدة الحكم،
وعليه فما لم يكن الملاقى كملاقاة طرفا للعلم لا يجب عقلا الاجتناب عنه، لان
وجوب الاجتناب العقلي من ناحية طرفية الشئ للعلم المنجز للحكم، وليس
كوجوب الاجتناب الشرعي تابعا لوجوب الاجتناب عن شئ شرعا ثبوتا واثباتا،
بخلاف ما إذا قلنا بالوساطة في العروض فان الملاقى وإن لم يكن من أطراف
العلم المنجز للتكليف، إلا أن تنجز التكليف في ملاقاة وطرفه يقتضى الاجتناب
عنه، حيث إن ذاك الاجتناب الواقعي اللازم شرعا مشكوك الحصول بالاجتناب
عن ملاقاة وطرفه بالخصوص، إذ لو كان الملاقى بالفتح (1) هو النجس الواجب
اجتنابه واقعا - والمفروض أن اجتنابه بالاجتناب عنه وعن ملاقيه - للزم في مقام
الخروج عن عهدة ذلك الاجتناب الواجب واقعا المعلوم اجمالا الاجتناب عنه
بنحو يقطع بتحقق ذلك الاجتناب والملازم واقعا، ولا يقطع إلا بالاجتناب عن
الطرفين والملاقى معا، وعليه ينبغي حمل ما احتمله الشيخ الأعظم - قده - في
رسالة البراءة (2) لا على مجرد التبعية في مقام الاثبات أو الثبوت فضلا عن السراية
الحقيقية التي يكذبها الحس والعيان غالبا. ولا يخفى عليك أن هذا المعنى لا
يستدعى التمحض في الوساطة في العروض حتى يقال بأنه لا شبهة في وجوب
الاجتناب عن ملاقي النجس المعلوم ولو مع فقد عين النجس، فإنه له بما هو

(1) (خ ل): بالقبح.
(2) الرسائل: ج 2، ص 424.
615

نجس بالتبع حكم، وله بما هو من شؤون عين النجس أيضا حكم، كما إذا فرض
أن ولد العالم عالم أيضا، فإنه من حيث إنه عالم يجب اكرامه، ومن حيث إنه ولد
العالم فاكرامه اكرام أبيه العالم، وتظهر الثمرة في صورة الشك فإنه مع الشك في
علمه يجري البراءة عن وجوب اكرامه، لكنه مع الشك في أن من مع العالم هل
هو ابنه أم لا؟ فإنه ينبغي الاحتياط، حيث لا يقطع بتحقق إكرام العالم إلا باكرامه،
فكذلك فيما نحن فيه.
نعم التحقيق عدم ثبوت الوساطة في العروض لا لما ذكر من وجوب
الاجتناب عن الملاقى مع عدم وجوب الاجتناب عن ملاقاة، لعدم المنافاة كما
مر من إمكان اجتماع الحيثيتين في الملاقى، بل لأنه إذا اجتنب عن النجس ولم
يجتنب عن ملاقيه فقد اجتنب حقيقة عن فرد من نجس ولم يجتنب عن فرد اخر
منه لا انه لم يجتنب أصلا كما لا يخفى.
258 - قوله: وانه تارة يجب الاجتناب عن الملاقى دون ملاقيه (1)
الخ:
حاصل الوجه في عدم وجوب الاجتناب عن ملاقي المشتبه بالنجس عقلا
عدم العلم بفرد اخر من النجس غير ما علم به أولا بين الانائين، وحيث لا علم فلا
يجب الاحتياط إلا أن مجرد عدم العلم بفرد اخر من النجس ليس مناطا لعدم
وجوب الاحتياط، كيف ومع سبق الملاقاة على العلم الاجمالي كما في الصورة
الثانية الآتية في كلامه - قده - (2) أيضا ليس هناك علم بفرد آخر من النجس (3)
ومع ذلك أوجب الاحتياط فيها بل لا يجب العلم بأصل وجود النجس في
وجوب الاحتياط، ويكفي مجرد كونه من أطراف العلم كما إذا علم بنجاسة هذا
الاناء أو بغصبية ذلك الاناء الاخر، فإنه لا شبهة في منجزية هذا العلم فلا يجب

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 224، س 11.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 227، س 3.
(3) وعبارة النسخ هكذا: ليس هناك علم بفرد آخر من النجس علم بفرد آخر من النجس.
616

في الاحتياط إلا الطرفية للعلم.
ومن الواضح أن الملاقى بعد الملاقاة طرف للعلم وجدانا، بداهة أن الشخص
بعد الملاقاة يقطع بأن هذا الاناء نجس أو ذاك الاخر وملاقيه معا، للقطع
بالملازمة بينهما، بل غرضه - قده - من عدم العلم بفرد آخر من النجس عدم كون
الملاقى في هذه الصورة طرفا للعلم المنجز لا عدم كونه طرفا فقط، وذلك لان
العلم الاجمالي بعد تعلقه بالنجس المعلوم بين الانائين أوجب تنجز التكليف
المعلوم، وبعد حدوث الملاقاة وصيرورة أطراف العلم ثلاثة وجدانا لا يعقل
تأثير العلم الثاني، إذ المنجز لا يتنجز فهذا العلم الثاني لم يتعلق بتكليف لم يتنجز
حتى يعقل تنجزه بالعلم الحادث ثانيا لاحتمال أن يكون التكليف في طرف
الملاقى - بالفتح - وبعد تنجزه لاعلم بتكليف اخر لم يتنجز حتى يتنجز بالعلم
الثاني، بل مجرد احتمال التكليف في الملاقى - بالكسر - تبعا للملاقي - بالفتح -
بخلاف الصورة الثالثة فان العلم حدث بعد الملاقاة فقد تعلق بتكليف لم يتنجز
بعد وإنما يتنجز بهذا العلم، ولا يقاس انقلاب العلم الأول إلى ما صار أطرافه
ثلاثة بصورة انقسام أحد الانائين إلى قسمين، فكما أن مقتضى الملازمة بين
الاجزاء في العلم هو الاحتياط كذلك الملازمة بين الملاقى وملاقيه في الحكم.
وجه فساد القياس أن وجوب الاحتياط في صورة الانقسام ليس لمجرد الملازمة
بل لأنه تفريق لما تنجز حكمه، بخلاف ما نحن فيه فإنه لا معنى للملازمة بين ما
تنجز وما لم يتنجز.
فان قلت: بناء على أن الحجية الشرعية بمعنى تنجيز الواقع إذا قامت البينة
على نجاسة شئ فلاقاه شئ آخر، فان مجرد قيام الحجة على نجاسة ذلك
الشئ يوجب الحكم بوجوب الاجتناب عن ملاقيه، ولا فرق بين التنجز الشرعي
والعقلي فإنه لا تفاوت بينهما إلا أن الأول بحكم الشارع والثاني بحكم العقل، وإلا
فأثر كل منهما استحقاق العقوبة على تقدير المصادفة وبعد تنجز الحكم في
الملاقى - بالفتح - على تقدير ثبوته فيه واقعا يجب الاجتناب عن ملاقيه أيضا وإن
617

لم يكن عليه منجز عقلي، كما في ملاقي ما قام عليه المنجز الشرعي فإنه لا منجز
شرعي على الملاقي ومع ذلك يجب الاجتناب عنه بتبع تنجز الحكم في ملاقاة.
قلت: أولا، أن دليل المنجز الشرعي كما يدل بالمطابقة على تنجز وجوب
الاجتناب عن ما قامت البينة على نجاسة كك يدل بالالتزام على وجوب
الاجتناب عن ملاقيه وليس هذه الدلالة في طرف المنجز العقلي الذي هو بحكم
العقل.
وثانيا، إذا كان احتمال التكليف المقرون باحتمال آخر هو المنجز للتكليف
المحتمل عقلا صح قياس المنجز العقلي بالمنجز الشرعي، وأما إذا كان المنجز
هو العلم وكان احتمال التكليف المنجز بالعلم هو المقتضى لوجوب الموافقة
القطعية فلا مجال للقياس، فان ملاقي ما قامت عليه البينة ملاق لما تنجز حكمه
بالمنجز الشرعي قطعا، بخلاف ما نحن فيه، فان المنجز هو العلم والمعلوم هو
المنجز، ولا ملاقي للمعلوم لا اجمالا ولا تفصيلا بل احتمالا فقط.
ومن جميع ما ذكرنا تبين عدم صلاحية العلم الاجمالي في هذه الصورة
لوجوب الاجتناب عقلا عن الملاقى، ومع عدم المقتضى عقلا بوجوب
الاجتناب لا وجه للاستناد إلى المانع كما هو ظاهر الشيخ الأعظم - قدس سره -
في رسالة البراءة (1) وفى كتاب الطهارة (2) حيث استند في عدم وجوب الاجتناب
عقلا عن الملاقى إلى سلامة أصالة الطهارة فيه عن المعارض، فإن انحلال العلم
بجريان الأصل الغير المعارض انما يحتاج إليه إذا كان مع عدم الانحلال مقتضيا
لوجوب الاجتناب، وليس باب العلم لاجمالي باب ترتيب اثار الطاهر والنجس -
بما هما طاهر ونجس - ليتوهم الحاجة فيه إلى إجراء الأصل، بل بابه باب تأثير
العلم في وجوب الاجتناب عقلا وعدمه، فافهم جيدا.

(1) الرسائل: ج 2، ص 424، ذيل التنبيه الرابع.
(2) كتاب الطهارة للشيخ الأعظم - ره -: ص 42.
618

259 - قوله: وأخرى يجب الاجتناب عما لاقاه دونه (1) الخ:
ذكر - قدس سره - في هذه الصورة الثانية مثالين لوجوب الاجتناب عن
الملاقى - بالكسر - دون الملاقى - بالفتح - بعكس الصورة المتقدمة.
أحدهما: ما إذا علم اجمالا بنجاسة هذا الاناء أو الاناء الاخر ثم علم بملاقاة
ذلك الاناء الاخر لإناء ثالث من قبل مع علمه اجمالا بنجاسة ذلك الثالث أو
طرف الملاقى - بالكسر - فحيث إن العلم الأول أثر أثره فلا يبقى مجال للعلم
الثاني في تنجيز نجاسة الثالث وهو الملاقى - بالفتح -، وحيث إنه علم بملاقاة
ذلك الاناء الاخر للثالث دخل في أفراد الملاقى - بالكسر - المبحوث عن وجوب
اجتنابه وعدمه. ومنه يعلم أن الملاقى وإن كان طرفا للعلم بالنجاسة من الأول
لكنه لا بعنوان الملاقى، وبعد العلم بملاقاته سابقا يحتمل نجاسته من قبل
ملاقاته، ومثله داخل في محل البحث، لا ما إذا احتمل نجاسته لوجه آخر فإنه
أجنبي عن مسألة الملاقى، وكون نجاسة الملاقى فرعا لنجاسة ملاقاه لا يقتضى
أصالة ملاقاه في التنجز كما لم يقتض فرعية الملاقى لتنجز ملاقاه في الصورة
السابقة، فان باب الملازمة بين النجاسة في الأصل والفرع غير باب الأصالة
والفرعية في التنجز والوجوب العقلي.
ثانيهما: ما إذا كانت الملاقاة قبل العلم الاجمالي وخرج الملاقى - بالفتح -
عن مورد الابتلاء حال حدوث العلم أو قبله فان طرف العلم المؤثر منحصر في
الملاقى - بالكسر - وطرف الملاقى - بالفتح - فيؤثر العلم الاجمالي بالإضافة إلى
التكليف المعلوم بينهما ودخول الملاقى - بالفتح - بعد ذلك في مورد الابتلاء وإن
كان يوجب حصول شرائط التنجز من حيث الابتلاء، لكنه لم يبق تكليف على أي
تقدير غير منجز كي يتنجز بهذا العلم.
وربما يتوهم: أن الملاقى - بالكسر - ليس طرفا للشبهة بل طرفا الشبهة هما
الملاقى - بالفتح - وما هو في عرضه، غاية الامر انه لم يكن العلم منجزا للخروج

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 227، س 3 وكفاية الأصول:: ص 363، (ت، آل البيت).
619

عن مورد الابتلاء، وبعد دخول الملاقى - بالفتح - يؤثر العلم بالتكليف أثره وكان
منشأ التوهم ان البول المعلوم أو الخمر المعلوم أو ما أشبه ذلك مردد بين الانائين
وليس الملاقى طرفا لهذا العلم.
ويندفع: بأن الغرض من الطرفية ليس انطباق عنوان البول أو الخمر أو جامع
آخر على كل من الطرفين بل مجرد الطرفية للتكليف الصالح للتنجز، ومن البين
حصول العلم الوجداني بأن هذا نجس أو ذاك متنجس فيجب الاجتناب على أي
تقدير شرعا فيتنجز بالعلم به عقلا.
وربما يقال: بأن العلم حيث إنه طريقي لم يؤخذ على وجه الصفتية فالعبرة
حينئذ بسبق المعلوم وإن كان العلم به متأخرا في الوجود، وحيث إن الملاقى -
بالفتح - سابق بالرتبة على الملاقى - بالكسر - فهو يتنجز قبل تنجز الملاقي -
بالكسر - بسبب (1) العلم الثاني وإن كان متأخرا.
ويندفع: بأن الطريقية لا يقتضى إلا أن المعلوم السابق إذا كان له أثر يترتب
عليه فعلا لترتبه على وجوده لا على العلم به، فإذا لاقاه شئ قبل العلم به
يترتب عليه فعلا أثر ملاقاة النجس ولا مجال لتوهم لزوم الملاقاة بعد العلم
بالنجس، وأما عدم تأثير العلم الاجمالي فلا معنى له، لان مجرد وجود شئ
واقعا سابق في الرتبة لا يعقل أن يكون بوجوده مانعا عن تأثير العلم الوجداني
ووجوده العلمي المتأخر يستحيل أن يمنع فعلا عن تأثير العلم الاجمالي، لان
المعدوم حال وجود المقتضى وترقب تأثيره لا يعقل أن يكون مانعا عن تأثيره،
ومانعيته عن تأثير العلم الأول بقاء توجب الدور، لان مانعيته فرع كونه علما
بحكم فعلى على أي تقدير وغير منجز بمنجز سابق وكونه كك فرع سقوط العلم
الأول عن التأثير بقاء، فافهم جيدا.
وربما يتوهم (2): أن مقتضى عدم منجزية العلم للملاقى - بالفتح - بعد دخوله
في مورد الابتلاء جريان أصالة الطهارة فيه لسلامتها عن المعارض على الفرض،

(1) (خ ل): يسبب.
(2) فوائد الأصول: ج 4، ص 78 - 84.
620

لتساقط الأصلين في طرفي العلم الاجمالي الأولى، ومقتضى جريان أصالة
الطهارة في الملاقى - بالفتح - التعبد بطهارة ملاقيه وإلا لزم انفكاك المسبب عن
سببه، ومقتضى طهارة الملاقى - بالكسر - وعدم جريان حكم المقدمة العلمية
عليه عدم جريان أصالة الطهارة في الملاقى - بالفتح - لدوران النجس المعلوم
اجمالا بينه وبين ما هو في عرضه فيتساقط الأصلان فيهما، فلازم طرفية الملاقى
- بالكسر - للعلم الاجمالي هذا المحذور المحال، بخلاف ما إذا انحصر الطرف
في الملاقى - بالفتح - وما هو في عرضه فإنه قبل تمامية شرائط التنجز لا يجب
الاجتناب عن شئ منهما، وبعد التمامية يجب.
ويندفع: بانا نلتزم بانفكاك المسبب عن سببه بلحاظ بعض الآثار لمكان
الموجب له، فان التعبد بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقى - بالكسر - انما يصح
بتبع التعبد بعدمه في الملاقى - بالفتح - لذا لم يكن هناك تابع عقلي أو شرعي.
توضيحه: أن شرائط تنجز التكليف بين الملاقى - بالكسر - وطرفه مع خروج
الملاقى - بالفتح - عن مورد الابتلاء كانت تامة من حيث وجود العلم وانحصار
التكليف الفعلي وعدم أصل حاكم على الأصل في الملاقى - بالكسر - لان
الخروج عن مورد الابتلاء كما يمنع عن فعلية التكليف بالاجتناب عن الخارج
كذلك عن جريان الأصل العملي المطلوب منه ترتيب أثر عملي عليه، وبعد
دخوله في محل الابتلاء يجرى فيه الأصل الذي لا معارض له، لسقوطه سابقا
بالمعارضة مع الأصل في الملاقى - بالكسر - ولم يوجد موضوع جديد ليكون له
تعبد جديد، ومقتضى التعبد بطهارة الملاقى بالفتح بعد تنجز التكليف في
الملاقى - بالكسر - وطرفه ليس إلا ترتيب أثر الطاهر بما هو طاهر على الملاقى -
بالكسر - لأرفع وجوب الاجتناب الفعلي التابع للعلم الاجمالي الذي لا مانع منه
عند تأثيره فيجب الاجتناب عقلا عن الملاقى - بالكسر - وعن طرفه وإن كان لا
يعامل معه معاملة النجس من حيث ملاقاة شئ معه، فضلا عن طرفه، فان
خروج الملاقى - بالكسر - عن وجوب الاجتناب لا يمنع بقاء احتمال التكليف
المنجز في الاخر على حاله، فتدبر جيدا فإنه حقيق به.
621

260 - قوله: وثالثة يجب الاجتناب عنهما فيما لو حصل (1) الخ:
وعن بعض الأجلة - قده - (2) تسليم طرفية الملاقى - بالكسر - للعلم الاجمالي
في الصورة الثانية المتقدمة بناء على تعميم تنجيز العلم لما إذا تعلق بخطاب
مفصل أو بخطاب مردد لتردده بين وجوب الاجتناب عن النجس أو المتنجس
هناك دون هذه الصورة حيث لا علم بخطاب مردد، بل يعلم بخطاب مفصل وهو
وجوب الاجتناب عن النجس بين الانائين، ويحتمل خطابا اخر في الملاقى
- بالكسر -.
وفيه: أن تنجيز العلم الاجمالي لا يدور أمره بين الامرين من حيث تعلقه إما
بخطاب مفصل أو بخطاب مردد ليتوهم انه لم يتعلق بالمردد فمتعلقه مفصل
والملاقى محتمل، بل من أنحاء تعلقه أن يتعلق بتكليف في طرف وتكليفين في
طرف اخر - متوافقين أو متخالفين - كما إذا علم بنجاسة هذا الاناء أو بنجاسة ذاك
الاناء وغصبية الثالث، فإنه لا ريب في تنجيز التكليف الواقعي بالعلم، وليس أحد
التكليفين بالإضافة إلى الاخر قدرا متيقنا حتى يتوهم انحلاله إلى خطاب مفصل
معلوم وخطاب آخر مشكوك.
نعم، ما أفاده شيخنا العلامة - رفع الله مقامه - هنا (3) من وجوب الاجتناب من
جميع الأطراف انما هو بالنظر إلى مقتضيات العلم الاجمالي، حيث إنه تعلق
بتكليف غير منجز، فيصلح لان يتنجز بالعلم بخلاف الصورتين السابقتين والا
فالأصل في الملاقى - بالكسر - ليس في عرض الأصل في الملاقى - بالفتح -
ليكونا معا معارضين للأصل في الطرف الآخر فيتساقط الجميع بل الأصل في
الملاقى - بالفتح - في عرض الأصل في الطرف الآخر فقط، فيبقى الأصل في
الملاقى - بالكسر - سليما عن الأصل الحاكم وعن الأصل المعارض فينحل العلم
بالإضافة إليه، فتدبر جيدا.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 227، س 11.
(2) بحر الفوائد: ج 2، ص 110، ذيل قوله - قده -: ولو كان ملأت شئ لاحد المشتبهين.
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 227 وثالثة...
622

المقام الثاني: في دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطيين
1 - التحقيق في وجوب الاحتياط عقلا
261 - قوله: وتوهم انحلاله إلى العلم بوجوب الأقل الخ (1): توضيح
الانحلال على ما هو المعروف في تقريبه أن الأقل معلوم الوجوب على أي حال،
لأنه إما واجب لنفسه وإما واجب لغيره وهو الأكثر، دون الأكثر فإنه يحتمل
وجوبه لنفسه فقط ولا يلزم من وجوب الأقل لغيره المبنى على وجوب الأكثر
لنفسه مع جريان البراءة عن وجوب الأكثر محذور، لان البراءة عن الأكثر ليست
إلا رافعة لتنجز الامر بالأكثر لا انها رافعة لأصل الامر، والوجوب المقدمي للأقل لا
يتوقف إلا على وجوب الأكثر واقعا لا على تنجزه، ومع العلم التفصيلي بوجوب
الأقل واقعا لا يعقل إجراء البراءة عنه، للقطع بمخالفته للواقع.
ويورد عليه: بأن الوجوب المعلوم تفصيلا إذا كان له أثر على أي تقدير صح
الانحلال بالإضافة إلى المعلوم بالاجمال الذي له الأثر على أي تقدير ومن
المعلوم أن وجوب الأقل لغيره لا أثر له، لما حقق في محله من أن الوجوب
المقدمي لا يترتب على موافقته ثواب ولا على مخالفته عقاب.
وأجيب عنه: بأن الواجب المقدمي وإن لم يترتب على تركه عقاب من
حيث نفسه لكنه من حيث إن تركه سبب لترك ما يترتب عليه العقاب له الأثر
فالأقل مما يقطع بأنه إما يترتب على تركه العقاب أو يترتب العقاب على ترك ما
هو مسبب عن تركه، فكما يصح دعوى الانحلال من حيث الوجوب بكونه
معلوما بالتفصيل في الأقل فكذا يصح دعواه من حيث التنجز وترتب العقاب

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 228 وكفاية الأصول: ص 364، (ت، آل البيت) والرسائل: ج 2، ص 460.
623

على ترك الأقل.
وأورد عليه كما في المتن (1) بان الانحلال من حيث التنجز في الأقل يستلزم
المحال، لان ترتب العقاب ولو بالواسطة على الأقل لا يعقل إلا مع تنجز الامر
بالأكثر، لان الامر المقدمي كما يتبع الامر بذى المقدمة وجودا كك فعلية وتنجزا.
فالالتزام بتنجز الامر بالأقل على أي تقدير التزام بتنجز الامر بالأكثر، على تقدير
ثبوته واقعا، وهو مع فرض إجراء البراءة عن الامر بالأكثر وعدم تنجزه خلف
محال. وأيضا مانعية تنجز الامر بالأقل عن تنجز الامر بالأكثر كما هو المراد من
الانحلال مستحيلة، لان وجوده بصفة المانعية موقوف على وجود الممنوع وما
يتوقف وجوده على شئ يستحيل أن يكون مانعا عنه، وأيضا تنجز الأقل حيث
إنه تابع لتنجز الأكثر فتنجزه يستلزم تنجز الأكثر، وتنجز الأكثر يستلزم بقاء العلم
الاجمالي على حاله وعدم انحلاله، فيستلزم عدم تنجز الأقل الموجب لانحلال
العلم وعدم تنجز الأكثر فيلزم من تنجز الأقل بهذه الواسطة عدم تنجز الأقل، وما
يلزم من وجوده عدمه فهو محال.
وان شئت قلت: يلزم من الانحلال بدعوى تنجز الأقل عدم الانحلال، لأنه
مستلزم لتنجز الأكثر ولا موجب له إلا بقاء العلم الاجمالي على حاله وبالجملة
تارة، نقول إن فرض تنجز الأقل التابع لتنجز الأكثر فرض المقتضى لعدم الانحلال.
وأخرى، نقول إن فرض تنجز الأقل التابع لتنجز الأكثر المستلزم لبقاء العلم
الاجمالي وعدم تنجز الأقل فرض عدم المقتضى للانحلال، إذ المقتضى له تنجز
الأقل وقد فرض بقاء العلم على حاله وعدم ثبوت المقتضى لانحلاله.
وربما يوجه محذور الانحلال بوجه اخر وهو أن فرض عدم تنجز الامر بالأكثر
باجراء البراءة فيه فرض عدم تنجز الامر بالأقل من حيث وجوبه الغيري فلم يبق
إلا احتمال وجوبه النفسي وهو غير منجز فيجوز ترك الأقل أيضا فالانحلال
يستلزم تجويز المخالفة القطعية وترك الصلاة مثلا رأسا وهو باطل جزما، وقد ذكر
في التفصي عن هذه العويصة وجوه:

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 228. وتوهم انحلاله... فاسد قطعا لاستلزم الانحلال المحال.
624

منها: ما عن بعض الاعلام (1) وملخصه أن المراد بعدم تنجز الأكثر هي
المعذورية من قبل تركه إذا استند إلى ترك خصوص الجزء المشكوك فإنه الذي
يكون به الأكثر مقابلا للأقل لا إذا استند تركه إلى ترك سائر الأجزاء بالاستقلال أو
بالانضمام إلى الجزء المشكوك ولا منافاة بين المعذورية وعدم العقاب على ترك
الأكثر بناء على الأول وعدم المعذورية وثبوت العقاب على تركه بناء على الثاني
وفيه انه بعد نفي العقاب على ترك الأكثر بترك الجزء المشكوك المقوم للأكثر
الموجب لمقابلته مع الأقل بحده لا واجب نفسي يترتب العقاب على تركه إلا
الأقل بحده وهو محتمل لا مقطوع به وليس هناك واجب نفسي اخر يكون الأقل
مقدمة له حتى يكون تركه سببا لترك ذاك الواجب النفسي المعاقب على مخالفته
فلا معنى للمعذورية من قبل ترك الأكثر من وجه وعدم المعذورية من قبل تركه
من وجه الاخر إلا على الوجه الذي سنحققه ولا يبعد رجوع هذا الوجه إليه
فانتظر.
ومنها: ما عن بعض السادة الاعلام - قده - (2) هذه عبارته " احتمال ترتب
العقاب على ترك الأقل مع عدم ما يوجب الامن منه كاف في الزام العقل بوجوب
الاتيان به مع أنه على تقدير وجوب الأكثر يكون ترك الأقل تجريا ومستلزما
للعقاب ان قلنا فيه بالعقاب " وفيه أن مجرد احتمال وجوب الأقل لنفسه لا يلازم
احتمال العقاب حتى يجب دفعه عقلا وليس منشأ حكم العقل بمراعاة هذا
الاحتمال إلا اقترانه باحتمال وجوب الأكثر لنفسه فيعلم بترتب العقاب على
الواجب النفسي المعلوم في البين وإلا فمع عدم مراعاة احتمال وجوب الأكثر
لنفسه وتمحض الاحتمال في وجوب الأقل لنفسه فعلا كان حاله حال سائر
الواجبات النفسية المحتملة من دون مزية لهذا الواجب حتى يكون احتماله

(1) هو الشيخ محمد الشيرازي - ره - في رسالة احكام الخلل في الصلاة المطبوعة في ضمن تعليقته
على المكاسب ص 175، س 1.
(2) الرسائل الفشاركية: ص 127، (ط، جامعة المدرسين).
625

ملازما لاحتمال العقاب. ومنه علم حال التجري فإنه إنما يصح إذا كان على فرض
مصادفة للواقع منجزا له حتى يكون تركه على فرض مخالفته للواقع تجريا.
ومنها: ما عن بعض أجلة العصر (1) وهو قياس العلم بوجوب الأقل لنفسه أو
لغيره بقيام الحجة الشرعية على الطريقية المحضة وتنجيز الواقع على تقدير
المصادفة، قائلا ب‍ " أن العلم بالتكليف المتعلق بالأقل لما لم يعلم كونه مقدميا أو
نفسيا يجب عند العقل موافقته، لأنه لو كان نفسيا لم يكن له عذر في تركه كما في
التكاليف الطريقية، حيث إن وجوب امتثالها عند العقل من جهة احتمال
مصادفتها للواقع وأن المكلف على هذا التقدير لم يكن معذورا " هذا. وحاصله أن
ملاك الانحلال قيام الحجة الشرعية أو العقلية في بعض الأطراف لاشتراكهما في
العلم باستحقاق العقاب على تقدير لا على جميع التقادير.
وفيه: ان ضم الوجوب الغيري إلى الوجوب النفسي هنا أجنبي عن العلم
باستحقاق العقاب على تقدير النفسية، بل العلم به على تقدير إن كان لأجل العلم
الاجمالي بوجوب الأقل نفسيا أو بوجوب الأكثر نفسيا فدعواه صحيحة إلا أنه
لا يعقل أن يكون تأثير العلم في طرف مانعا عن تأثيره في طرف اخر مع تساوى
نسبته إليهما، وإن كان لأجل احتمال وجوب الأقل نفسيا فقط، فدعوى العلم
بالعقاب على تقدير المصادفة غير صحيحة، إذ لا دليل على منجزية الاحتمال،
وهذا هو الفارق بين الاحتمال الناشئ من الحجة الشرعية القائمة على بعض
الأطراف والاحتمال هنا، لان الطريق الموجب للاحتمال مقطوع الحجية
والمنجزية على تقدير المصادفة، دون الاحتمال هنا. وقد عرفت أن ضم احتمال
الوجوب الغيري لا يجدى في العلم بالعقاب على تقدير. ومنه تعرف الفرق بين
المقيس والمقيس عليه من وجهين:
أحدهما: من حيث المقتضى فان المقتضى للمنجزية في الحجة الشرعية
موجود وفي الاحتمال هنا غير موجود، وضم احتمال الوجوب الغيري لا يوجب

(1) درر الفوائد: ج 2 - 1، ص 474، (ط، جماعة المدرسين).
626

منجزية احتمال الوجوب النفسي.
وثانيهما: من حيث المانع فان اختصاص الحجة الشرعية ببعض الأطراف
يمنع عن تأثير العلم الاجمالي في كل طرف لما مر سابقا من أن المنجز لا يتنجز،
فلابد من تعلق العلم بتكليف غير منجز حتى يتنجز بالعلم، بخلاف ما نحن فيه
فان نسبة العلم الاجمالي ونسبة الاحتمال إلى كل من الطرفين على حد سواء.
وقد عرفت أن اختصاص الأقل بالعلم بالأعم من الوجوب النفسي والغيري
لا يجدي، إذ ملاك العقاب احتمال وجوبه النفسي لا احتماله واحتمال وجوبه
الغير معا، فتشكيل العلم وجعله حجة عقلية وقياسها بالحجة الشرعية على
الطريقية بجامع احتمال العقاب على تقدير مغالطة واضحة.
والتحقيق في تقريب الانحلال: أنا لا نقول بوجوب الأقل - إما لنفسه أو لغيره -
حتى يقال بأن تنجزه على أي تقدير فرع تنجز الأكثر فيلزم المحاذير المتقدمة بل
الاجزاء كما حقق في مبحث مقدمة الواجب (1) وإن كانت مقدمات داخلية لكنها
غير واجبة بوجوب غيري مقدمي، لما ذكر من المحذور في محله، بل هناك
وجوب نفسي واحد منبعث عن إرادة نفسية واحدة منبعثة عن غرض واحد قائم
بالاجزاء بالأسر التي عين الكل، فوزان الوجوب النفسي الواحد القائم بالاجزاء
بالأسر وزان الوجود العلمي المتعلق بمعنى تأليفي تركيبي كالدار المؤلفة من عدة
معان كالسقف والقباب والجدران وغيرها، وانبساطه على تلك الأجزاء بالأسر
ليس كانبساط البياض على الجسم بحيث يكون لكل قطعة منه حظ من البياض
بنفسه، بل كانبساط الوجود الذهني على الماهية التركيبية، فإن المجموع ملحوظ
بلحاظ واحد لاكل جزء بلحاظ يخصه فنقول لا ريب في أن هذا الوجوب النفسي
الشخصي المعلوم أصله منبسط على تسعة أجزاء بتعلق واحد وانبساطه بغير
ذلك التعلق على الجزء العاشر المشكوك مشكوك، فهذا الوجوب النفسي
الشخصي المعلوم بمقدار العلم بانبساطه يكون فعليا منجزا وبالمقدار الاخر

(1) نهاية الدراية: ج 1، ص 314.
627

المجهول لا مقتضى لفعليته وتنجزه، وحيث إن المنبسط على ذات الأقل هو
الوجوب النفسي الذي لموافقته ومخالفته ثواب وعقاب، فلا يتوقف فعليته
وتنجزه على تكليف آخر غير معلوم الحال.
نعم، لا يعلم أن المنبسط عليه بحسب الفعلية تمام المنبسط عليه واقعا أو
بعضه، ولا يخرج هذا التكليف النفسي المعلوم عن كونه نفسيا أو عن كونه بالعلم
فعليا بعدم العلم بان المنبسط عليه علما تمام ما هو المنبسط عليه واقعا أم لا.
فان قلت: كون الأقل معلوم الوجوب بالوجوب النفسي المتعلق به على أي
حال انما هو باعتبار انه إما تمام متعلق الوجوب النفسي وكله أو بعضه. وكونه
بعضه لا ينفك عن كون الأكثر كل المتعلق وتمامه لا كالوجوب المقدمي التابع
لوجوب ذي المقدمة، إذ لا تعدد لحقيقة الوجوب ولا علية بين المتضايفين،
فليست بعضية الأقل معلولة لكلية الأكثر بل لان البعضية والكلية متضايفتان
والمتضايفان متكافئان في القوة والفعلية، ففعلية بعضية الأقل ملازمة لفعلية كلية
الأكثر فكون الأقل متعلقا فعلا للوجوب النفسي يستدعى أن يكون على تقدير
كليته فعليا وعلى تقدير بعضيته فعليا، وفعلية البعضية على تقدير يستدعى فعلية
كلية الأكثر على ذلك التقدير، مع أن الفرض فرض عدم فعلية الوجوب النفسي
بالإضافة إلى الأكثر فيكف يكون بعضية الأقل فعلية.
قلت: بعضية الأقل واقعا ملازمة لكلية الأكثر واقعا، واحتمال بعضية الأقل
الملازم لاحتمال كلية الأكثر واقعا، حيث إنه مقرون باحتمال كلية الأقل واقعا،
فلذا يكون تعلق الوجوب المعلوم أصله بذات الأقل معلوما، والعلم بالوجوب
النفسي المتعلق بهذا المقدار يوجب فعليته وتنجزه بهذا المقدار، وأما بعضية
الأقل فعلا فلا ندعيها حتى يلازم فعلية كلية الأكثر بل ندعي فعلية الامر بذات
الأقل للعلم به. والذي ينتزع عن ذات الأقل فعلا هي كلية ذات الأقل للامر
النفسي بالمقدار المعلوم الذي صار فعليا، فذات الأقل حقيقة هي كل ما صار
الأمر بالإضافة إليه فعليا. وكل جزء منه هو بعض ما صار الأمر بالنسبة إليه فعليا
وهذا معنى ما ذكرنا من أن عدم العلم بأن ذات الأقل تمام ما انبسط عليه الامر أو
628

بعضه واقعا لا يخرج الامر المتعلق به عن النفسية وعن الفعلية، فتدبر فإنه حقيق
به. ومنه يتضح اندفاع دعوى (1) أن المعلوم تفصيلا هو الجامع بين الماهية
اللا بشرط القسمي بالإضافة إلى الجزء المشكوك والماهية بشرط شئ وهي
مهملة في قوة الجزئية ولو كان العلم بالجامع كافيا في الانحلال لزم انحلال العلم
الاجمالي بنفسه، لكونه دائما علما بالجامع بين شيئين، وجه وضوح الاندفاع أن
الاعتبار اللا بشرطي والاعتبار البشرط شئ وإن كانا متقابلين إلا أن تقابل
الاعتبارات لا يقتضى تقابل ماله الاعتبار، ولذا اشتهر أن الماهية اللا بشرط شئ
يجتمع مع الف شرط، ومن المعلوم أن ذات الماهية اللا بشرط هي الواجبة
بالحمل الشائع لا بمالها من الاعتبار وهذه الذات معلومة الوجوب تفصيلا.
وأما المغالطة من حيث انحلال العلم بنفسه فمندفعة بأن الجامع في سائر
الموارد قابلة للانطباق على كل من المحتملين فلا يعقل تعين أحدهما بنفس هذا
العلم، بخلاف ما نحن فيه فان تشكيل العلم الاجمالي وفرض الاحتمالين
والجامع بملاحظة فرض اللا بشرطية في الأقل، وقد عرفت أنها غير دخيلة لا في
الوجوب ولا في النفسية فافهم واستقم.
فان قلت: مقتضى كون الواجب ارتباطيا عدم الفراغ عن عهدة الأقل المعلوم
وجوبه إلا باتيان الأكثر، إذ كما يحتمل أن يكون الأقل مطلوبا وحده كذلك
يحتمل أن يكون مطلوبا في ضمن الكل. وعلى التقدير الثاني لا يتحقق الواجب
إلا باتيان الأكثر حتى يتحقق المطلوب في ضمن الكل.
قلت: ليس إتيان كل جزء شرطا لوجوب كل جزء، ولا قيدا لنفس الجزء، بل
نسبة الاجزاء إلى الوجوب النفسي الواحد المتعلق بها بتعلق واحد على حد
واحد لا يكون بعضها بالنسبة إلى بعضها الاخر شرطا لطلبه ولا لنفسه، لاستحالة
شرطية الشئ لوجوب نفسه، وللزوم الخلف (2) من فرض القيدية لتمحض

(1) أجود التقريرات: ج 2، ص 288، في ذيل ولكن التحقيق.
(2) (خ ل): الحلف.
629

البحث في الجزئية. وانما الارتباطية بلحاظ تعلق طلب واحد بالاجزاء بالأسر
لقيام غرض واحد بها، فمطلوبية كل جزء بعين الطلب الوحداني ملازمة لمطلوبية
الجزء الاخر بعين ذلك الطلب الواحد، وفعلية مطلوبية ذات بعض الاجزاء لمكان
العلم بها لا يستدعى فعلية ما هو مطلوب واقعا بعين ذلك الطلب مع عدم العلم
الذي هو ملاك فعلية البعث وتنجزه. ولا يجب الفراغ عقلا إلا عن عهدة ما كان
الطلب بالإضافة إليه فعليا لاعن عهدة ما هو مطلوب واقعا.
فان قلت: القطع بانبساط الوجوب على الأقل لا يجدي في مقام القطع
بالامتثال، إذ كما يقطع بالانبساط مع القطع بوجوب الأكثر ويقطع بعدم الامتثال
مع الاقتصار على الأقل، كذلك يشك في الامتثال مع الشك في الانبساط على
الأكثر مع أن القطع بالانبساط على الأقل موجود في كليهما.
قلت: القطع بعدم الامتثال عند الاقتصار على الأقل في صورة القطع
بالانبساط على الأكثر ليس من حيث القطع بالانبساط على الأكثر واقعا حتى
يشك في الامتثال هنا لمكان الشك في الانبساط واقعا، بل من حيث فعلية الامر
المنبسط على الأكثر لمكان العلم بالانبساط. وعليه فلا شك في الامتثال إلا
بالإضافة إلى الانبساط من حيث الواقع، ولا يضر ذلك بالامتثال لما يجب امتثاله
عقلا وهو الامر الفعلي، فما هو فعلى وهو المعلوم تعلقه وانبساطه لاشك في
الخروج عن عهدته ومقتضاه، وما هو غير معلوم فلا عهدة له عقلا حتى يجب
امتثاله قطعا فتدبر.
262 - قوله: مع أن الغرض الداعي إلى الامر لا يكاد يحرز الخ:
توضيح المقام أن تحصيل الغرض.
تارة يجب عقلا لنفسه من دون نظر إلى الامر وموافقته أو اسقاطه
وأخرى، يجب عقلا مقدمة لاسقاط الامر المنبعث عنه حيث لا يسقط
المعلول إلا بسقوط علته.
وثالثة، يجب شرعا لبا نظرا إلى أن ما يجب لفائدة، ففي الحقيقة تلك الفائدة
هي المطلوبة أولا وبالأصالة، ومحصلها مطلوب ثانيا وبالتبع. ولا يخفي عليك أن
630

لزوم تحصيل الغرض لنفسه، تارة يراد به الغرض بما هو غرض أي المصلحة
الباعثة الداعية، فسبيله سبيل موافقة الامر بما هو أمر المولى أو تحصيل مراد
المولى بما هو مراده، فكذا تحصيل غرضه بما هو غرض له داع إلى ارادته وبعثه.
وأخرى تحصيل ذات الغرض أعني نفس المصلحة اللزومية بذاتها ولذا لا ريب
في أنه إذا علم بأن ولد المولى غريق ولم يلتفت إليه المولى حتى يدعوه إلى إرادة
انقاذه والبعث نحوه يجب عليه عقلا انقاذه، لكونه ذا مصلحة لزومية بحيث لو
التفت إليها المولى لانقدح في نفسه الداعي إلى البعث إليه والجواب عنه:
أما على الوجه الأول: بقسميه: فبأن تحصيل الغرض إنما يجب إذا
انكشف بحجة شرعية أو عقلية لا الغرض الواقعي الذي لا حجة عليه عقلا
ولا شرعا، فإنه كالأمر الواقعي والإرادة الواقعية التي لا حجة عليهما فإنه ليس من
زي الرقية وعدم الخروج عن رسم العبودية تحصيل اغراض مولاه الواقعية التي
لا حجة عليها. وأيضا الأمر بشئ يصلح للكشف عن سنخ غرض يفي المأمور به
ولا يصلح للكشف عن سنخ غرض لا يفي به.
إذ المفروض اللم بالغرض من طريق العلم بمعلوله، والعلة والمعلول
متوافقان سعة وضيقا، وعلى هذا فإن لم نقل بانحلال العلم الاجمالي بالأمر فالعلم
حجة على الأمر المردد والامر المردد حجة على الغرض المردد، فيجب
تحصيله، وأما إذا قلنا بالانحلال فلا حجة على الامر المردد بل على الامر بذات
الأقل فقط، فالغرض الواقعي إن كان مما يفي به الأقل فقد تمت عليه الحجة، وإن
كان مما لا يفي به إلا الأكثر فلا حجة عليه فلا يجب تحصيله فهذا البرهان يتوقف
على تمامية البرهان الأول على استحالة الانحلال وإلا فلا، مع أن المفروض انه
برهان آخر ولو لم يتم الأول.
وأما على الوجه الثاني: فبأن الغرض القائم بشئ يستحيل أن ينبعث عنه
الشوق إلا إلى ذلك الشئ دون غيره، سواء كان مبائنا أو أعم أو أخص، والشوق
إلى فعل يستحيل أن يحرك العضلات إلا إلى المشتاق إليه في الإرادة التكوينية
ويستحيل أن ينبعث منه بعث إلا إلى المشتاق إليه في الإرادة التشريعية، وحيث
631

إن الأمر الواقعي لم يكن فعليا إلا بالنسبة إلى ذات الأقل فيكشف بمقتضى العلية
والمعلولية عن فعلية الغرض بمقدار فعلية الامر. ولو كان الغرض الواقعي قائما
بالأكثر وكان فعليا للزم على المولى جعل الاحتياط بجعل احتمال الأكثر تنجزا، و
إلا لكان ناقضا لغرضه ولا ينافي ذلك وحدة الغرض وبساطته، لما فهمنا من
الشرع أنه يمكن أن يكون ذا مراتب بحيث يصير فعليا بمرتبة دون مرتبة أخرى
كما فيما إذا نسى بعض الاجزاء فإنه يصح الصلاة ولا تجب الإعادة ولا يعقل ذلك
إلا إذا كان لما عدا (1) المنسى غرض فعلى بسببه تعلق به أمر فعلى، لاستحالة
المعلول بلا علة، كما أن مقتضى عدم ايجاد الإعادة عدم فعلية الغرض القائم
بالمجموع.
وبالجملة بعد امكان كون الغرض ذا مراتب غير منافية لوحدة الغرض
وبساطته يكون الامر الفعلي من باب الكشف الإني حجة على غرض فعلى في
متعلقه، فلا محالة يسقط بسقوطه. ومنه تبين صحة الانحلال من حيث الوجوب
ومن حيث الفعلية والتنجز ومن حيث الغرض. وأما ما عن بعض أجلة العصر (2)
في مقام الجواب عن هذا الوجه من أنه " لا يعقل بقاء الأمر مع اتيان متعلقه، لأنه
يرجع إلى طلب الحاصل ". ففيه المحذور من وجهين.
أحدهما: أن الأمر على تقدير بقائه لا يقتضى ايجاد الموجود حتى يكون من
باب طلب الحاصل بل مقتضاه ايجاد الطبيعة غاية الامر حيث علم أن مقتضاه
ايجاد الطبيعة مرة واحدة كان بقائه على حاله بعد الجري على وفق مقتضاه خلفا،
فان بقائه مقتض لايجاد الطبيعة مرة أخرى وهو خلف.
ثانيهما: أن استحالة شئ لا تسوغ وقوع محال اخر وهو انفكاك المعلول عن
علته فان مقتضى بقاء الامر هو الخلف المحال، ومقتضى القطع بسقوطه مع
الشك في سقوط الغرض الباعث عليه انفكاك المعلول عن علته، فلابد من
إصلاح أمر الغرض بحيث لا يرد هذا المحذور ولا يندفع إلا بما ذكرنا.

(1) (خ ل): عد المنسى.
(2) درر الفوائد: ج 2 - 1، ص 475.
632

وأما على الوجه الثالث: فبأن الأحكام الشرعية تارة، تكون مستندة إلى
أحكام عقلية وأخرى، لا تكون مستندة إليها.
فالأولى: حيث إنها بعين الملاك الذي يستقل العقل بحسنه فحالها حال
الحكم العقلي، وقد بينا مرارا أن الحيثيات التعليلية في الاحكام العقلية حيثيات
تقييدية لها وأن الاغراض في الاحكام العقلية عناوين لموضوعاتها، فالضرب مثلا
بما هو تأديب حسن لا انه حسن للأدب المرتب عليه وانه الباعث على استقلال
العقل بحسنه، بل التأديب بعنوانه المندرج تحت عنوان الاحسان حسن، سواء
انطبق على الضرب أو على غيره. وبالجملة: فمثل هذا الحكم الشرعي حيث إنه
بملاك الحسن العقلي فلا محالة حاله حاله في تحصيل الفعل بما هو معنون
بالعنوان الحسن.
والثانية: حيث إنها بملاك مولوي في نظر الشارع وقد مر وسيأتي إنشاء الله
تعالى أن الملاكات المولوية الشرعية لا تجب أن تكون عين الملاكات الموجبة
لاتصاف الافعال بالتحسين والتقبيح العقلائيين، فلا محالة تكون الاغراض
متمحضة في كونها حيثيات تعليلية ولا موجب لكونها حيثيات تقييدية، إذ
لا يتصف الفعل بأنه واجب شرعي إلا إذا وقع في حيز البعث والتحريك،
ولا موقع للاتصاف به واقعا وظاهرا إلا من حيث تعلق البعث به. والمفروض تعلق
البعث بنفس الفعل، وكذا حال الإرادة التشريعية فان البعث منبعث عنها فلا
يتسبب المولى إلى ايجاد فعل إلا إذا كان مرادا من المكلف فليس الغرض مرادا
ولا واجبا شرعا لا بالذات ولا بالعرض.
263 - قوله (1): بناء على ما ذهب إليه المشهور من العدلية من تبعية
الأوامر الخ:
وعن بعض أجلة العصر (2) " ليس هذا الكلام مبنيا على قواعد العدلية القائلين

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 232، س 3 وكفاية الأصول: ص 364، (ت، آل البيت).
(2) درر الفوائد: ج 2 - 1، ص 475، (ط، لجماعة المدرسين).
633

بوجود المصلحة والمفسدة، لوضوح أن لكل أمر غرضا في إتيان المأمور به وإن
كان جزافا ويلزم على العبد اتيان المأمور به على نحو يحصل غرض المولى "، انتهى.
أقول: مبنى الأشاعرة على نفي الغايات الذاتية والعرضية في أفعاله تعالى
نظرا إلى إمكان إرادة الجزافية تمسكا منهم ببعض الأمثلة الجزئية المذكورة في
الكتب الكلامية بل الأصولية أيضا. غاية الامر أن غاية فعله تعالى - على القول بها
حيث إنه تعالى حكيم - هي المصالح والمفاسد، فالأشاعرة يدعون أن الإرادة
علة للفعل ومخصصة له فلا يلزم الترجح بلا مرجح إلا أن الإرادة الجزافية - أي بلا
جهة أخرى - موجبة لها ممكنة لا أن الإرادة بغرض غير عقلائي أو غير المصلحة
محل الكلام. ومنه تعرف أن الغرض لا يوصف بالجزاف بل بكونه غير عقلائي،
بل الموصوف به هي الإرادة، أي الإرادة بلا جهة موجبة لها. وأما تحقيق امتناع
الإرادة الجزافية وحصر الجهة الموجبة لها من الشارع في المصالح والمفاسد
وامتناع الإرادة بلا فائدة في المراد، وامتناع التكليف الحقيقي بالإضافة (1) ما
لا غرض فيه فيحتاج إلى بسط في الكلام ربما لا يناسب المقام، ومجمله: أن
الفعل وإن تخصص بالإرادة وكان معلولا لها فلا يلزم الترجح بلا مرجح في الفعل،
إلا أن تخصص إرادة هذا الفعل دون إرادة الفعل الاخر المساوي له بالوقوع
يحتاج إلى جهة مخصصة، وإلا لزم التخصص بلا مخصص المساوق للمعلول
بلا علة في نفس الإرادة. كما أن نسبة (2) الفاعل وفاعليته إلى كل من الإرادتين -
بناء على أنها من أفعاله لا من كيفياته - على السوية، فاختصاص فاعليته بإحديهما
دون الأخرى بلا مخصص، فأما بإرادة أخرى وهكذا فيتسلسل أو بهذه الإرادة
فيدور. وحيث إن الإرادة لا بدلها من جهة موجبة فهي منحصرة بالإضافة إليه
تعالى بما هو حكيم في المصالح والمفاسد فمن حيث عدم الحجة المرجحة
يستحيل تحقق الإرادة ومن حيث عدم موافقة الجهة للحكمة تكون قبيحة
فيستحيل صدورها منه تعالى بالتبع. ومنه تعرف مورد الاستحالة ومورد القبح،

(1) (خ ل): بالإضافة إلى ما لا غرض.
(2) (خ ل): نسبته.
634

وحيث إنه تعالى غنى بالذات وتام وفوق التمام فلا محالة يستحيل عود المصالح
والفوائد إليه تعالى بل إلى عبيده. وأما انبعاث الإرادة التشريعية عن غرض في
المراد وانبعاث التكليف الحقيقي عن غرض في المكلف به فقد تعرضنا لهما
متفصلا في مبحث دليل الانسداد فراجع (1).
264 - قوله: لا يجدي من ذهب إلى ما عليه المشهور من العدلية (2)
الخ:
ولا يخفي عليك أن النزاع من حيث دوران الامر بين الأقل والأكثر وإن كان
لا يتفاوت فيه العدلي والأشعري لكنه من حيث حصول المصلحة التي هي إما
عنوان للواجب أو غرض منه يتفاوت فيه العدلي والأشعري، فمثل الشيخ
الأعظم (3) - ره - المجيب بهذا الجواب لا يتمكن من اختيار البراءة مع كونه على
ما عليه المشهور من العدلية، وإن كان لغيره ذلك.
وتوهم أنه على فرض كون الصلاة مقدمة لواجب عقلي ننقل الكلام إليه فإذا
كان عنوانه مبينا تفصيلا وجب الاحتياط فيه، وإذا كان دائرا بين المتبائنين وجب
فيه الاحتياط، وإن كان دائرا بين الأقل والأكثر كان حاله حال ما نحن فيه مدفوع:
بان العنوان أو الغرض أمر بسيط لا يدور أمره بين المتباينين أو الأقل والأكثر، بل
يدور أمر محصله بين المتبائنين أو الأقل والأكثر والشك في المحصل مورد
الاحتياط مط، والعجب أنه جعل هذا المعنى تفسيرا لجواب الشيخ الأعظم - قده
- مع أن صريح كلامه (4) - ره - نفي الاحتياط على مسلك الأشاعرة وبعض العدلية
لا نفيه مطلقا حتى على مسلك المشهور من العدلية.
265 - قوله: لاحتمال أن يكون الداعي إلى الامر الخ:
ومرجعه أيضا إلى الشك في حصول الغرض الباعث على الامر. وفيه أن الامر

(1) التعليقة: ص 329.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 233، س 5 وكفاية الأصول: ص 365، (ت، آل البيت).
(3) الرسائل: ج 2، ص 461، في التفصي الأول عن إن قلت...
(4) وهو الشيخ الأعظم في نفس المصدر.
635

على هذا المبنى حيث إنه معلول عن غرض في نفسه فالحجة على الغرض في
نفس الامر تامة إلا أنه من هذه الحيثية مفروض الحصول، لأنه قائم بنفس الامر ولا
حجة على غرضية هذا الغرض من الواجب حتى يجب تحصيله، فما تمت عليه
الحجة مفروض الحصول، وما يمكن تحصيله غير لازم التحصيل، لعدم الحجة
عليه على الفرض. مضافا إلى أن اتحاد الغرض من التكليف ومن المكلف به
معقول على وجه وغير معقول على وجه آخر.
فإن أريد: أن مصلحة المكلف به كافية في صحة التكليف من دون حاجة إلى
مصلحة في نفس التكليف فهو معقول، إلا أنه خلاف هذا المبنى.
وإن أريد: أن المصلحة القائمة بالامر قائمة بالمأمور به فهو غير معقول، إذ
يستحيل أن يكون عين ما يقوم بفعل المولى قائما بفعل العبد. نعم، قيام فرد آخر
من سنخ ذلك الغرض بفعل العبد معقول إلا أنه مشكوك من أصله لا أن غرضيته
من الواجب فقط مشكوكة كما في الايراد الأول، ولعله - قده - أشار إلى بعض
ما ذكرنا بقوله - ره - فافهم (1).
266 - قوله: كيف ولا اشكال في امكان الاحتياط الخ:
توضيحه أنه لا شبهة في امكان الاحتياط هنا وفى المتبائنين، إذ الكلام بين
الاعلام في لزومه لافى امكانه، ولا شبهة أيضا في أن قصد الوجه تفصيلا غير
ممكن لا هنا ولا في المتبائنين، فيدل على حصول اللطف والمصلحة بالاحتياط
بفعل الأكثر هنا وبفعل المتبائنين هناك، وإلا كان معناه عدم امكان الاحتياط
حقيقة في العبادة، وعليه فيجب الاحتياط تحصيلا للغرض، ولا يكفي مجرد
التخلص عن عقاب مخالفة الامر، فإن كفايته كانت مبنية على عدم حصول
اللطف والمصلحة بالاحتياط الفاقد لقصد الوجه تفصيلا.
ويندفع: بأن عدم التمكن من قصد الوجه تفصيلا كما يجتمع مع عدم دخله
في الغرض كذلك يجتمع مع عدم لزومه، فلا يكشف عن عدم دخله. وأما التسالم

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 233، س 8.
636

على إمكان الاحتياط.
فإن أريد امكان الاحتياط بمعنى موافقة المأمور به الواقعي فهو مسلم لكنه
لا يجدى الخصم.
وإن أريد امكانه بمعنى اتيان الفعل على وجه يترتب عليه المصلحة فهو محل
الكلام من حيث دخل قصد الوجه في الغرض وعدمه، وقد مر أن عدم التمكن
من قصد الوجه تفصيلا يجامع عدم دخله وعدم لزومه، ولا منافاة بين عدم
امكان الاحتياط بمعنى يترتب عليه الغرض وامكانه بمعنى موافقة الامر بحيث
يتخلص عن عقوبة مخالفة الامر، ففي المتبائنين لا يمكن التخلص عن عقاب
مخالفة الامر المعلوم إلا باتيانهما معا، وفى الأقل والأكثر - بناء على عدم
الانحلال - كذلك واما بناء على الانحلال فلا عقاب إلى على المخالفة للامر
المعلوم تعلقه بالأقل فقط، فلا موجب للاحتياط بفعل الأكثر لا من حيث تحصيل
الغرض لعدم امكانه ولا من حيث التخلص عن عقاب المخالفة، لأنه يتحقق
بفعل الأقل.
267 - قوله: مع وضوح بطلان احتمال اعتبار قصد الوجه كذلك (1)
الخ:
أي بنحو يعرف وجه أجزاء المأتى به تفصيلا ولم يبين (2) - قده - وجه وضوح
البطلان بل أفاد - قده - أن المراد من الوجه هو الوجه النفسي دون الوجه الغيري
من الوجوب الغيري أو الوجوب العرضي أو عنوان الجزئية وتوضيحه ما مر منا
في مباحث القطع (3) أن المراد بالوجه الشرعي ما يحاذي الوجه العقلي، لما مر
من تنزه ساحة الشارع من الاغراض النفسانية والاقتراحات الغير العقلائية،
فلا يوجب إلا ما هو حسن واقعا عقلا ولا يحرم إلا ما هو قبيح واقعا عقلا، ومن

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 233، س 12.
(2) وهو المحقق الخراساني في نفس المصدر.
(3) التعليقة: 48، ص 109.
637

الواضح أن الفعل بلحاظ قيام المصلحة المحسنة له موجه بوجه واحد حسن
لا أن كل جزء له مصلحة خاصة به، فليس لكل جزء وجه حسن، وإلا لكان هناك
واجبات نفسية حيث إنها في الواقع واجبات عقلية. ومن البين أيضا أن الفعل
المعنون بعنوان حسن لا يصدر موصوفا بالحسن وممدوحا على فاعله إلا إذا
صدر بعنوانه بالاختيار، فإذا علم عنوانه وجب قصده وإلا وجب قصد وجهه
النفسي الشرعي حتى يكون قصدا اجماليا لوجهه الحسن العقلي الواقعي حتى
يصدر منه حسنا وممدوحا عليه. وأما دعوى أن جزء العبادة عبادة وكل عبادة
يعتبر فيها قصد الوجه إذ لا فرق بين عبادة وعبادة فهو قياس مغالطي.
لأنه: إن أريد من العبادة ما يكون حسنا بذاته وهو المراد من العبادة الذاتية
فالصغرى غير صادقة، إذ لا يجب أن يكون جزء ما هو معنون بعنوان حسن حسنا
بنفسه بل هو مقوم للمعنون بعنوان حسن، فإنه مقتضى الجزئية.
وإن أريد من العبادة ما لا يحصل الغرض منه إلا إذا أتى به بداع قربى فالكبرى
غير صادقة، إذ ليس الوجه في اعتبار قصد الوجه عقلا إلا ما سمعت من أنه لقصد
العنوان الحسن الواقعي اجمالا فلا يجب قصد الوجه في كل عبادة بهذا المعنى
بل في كل عبادة بالمعنى الأول.
268 - قوله: واتيان الواجب مقترنا بوجهه غاية ووصفا الخ:
أما بنحو الداعي فيدعوه الامر الوجوبي بما هو وجوبي إلى الواجب الواقعي
فيأتي بالأكثر أو بالمتبائنين معا تحصيلا للواجب الواقعي. وأما بنحو التوصيف
فليس المراد اتيان الموصوف بأنه واجب كما هو ظاهر العبارة، لما حقق في محله
من أن عنوان الواجب ليس - كعنوان التأديب أو التعظيم - من عناوين المأتى به
في الخارج، لوضوح أن العنوان لا ينتزع إلا بلحاظ قيام مبدئه بذات المعنون،
والوجوب الحقيقي لا قيام له بالفعل الخارجي للبراهين المسطورة في مبحث
اجتماع الأمر والنهي (1) بل المبدء يقوم بطبيعي الصلاة الملحوظة فانية في

(1) نهاية الدراية: ج 1، ص 539.
638

مطابقها فطبيعي الصلاة بعد تعلق الوجوب به هو الموصوف بأنه واجب، وأما
المأتى به في الخارج فهو مطابق ذات الواجب لا معروض الوجوب ومعنون
عنوان الواجب، فالمراد بقصد الوجه توصيفا أن يتصور طبيعي الصلاة
الموصوف بأنه واجب فيقصده ويريده بما هو كذلك، فغرضه (1) - قده - اقتران
الماتى به بوجه الوجوب قصدا لا خارجا، ضرورة أن متعلق القصد والإرادة هي
الطبيعة المقومة للإرادة في أفق النفس لا الصلاة الخارجية لاستحالة تقوم القصد
والإرادة بالخارج عن أفق النفس.
269 - قوله: " لا سيما إذا دار الزائد بين كونه جزء لماهيته وجزء
لفرده " الخ:
مقتضى دعوى انطباق الواجب على المأتى به بتمامه وكماله لصدق الطبيعي
على الفرد بمشخصاته امكان قصد الوجه تفصيلا. وتحقيق المقام: أن صدق
الطبيعي على الفرد بمشخصاته ليس بمعنى صدق الانسان على زيد بعوارضه
من كمه وكيفه ووضعه وأشباه ذلك.
بداهة أن فردية شئ لمقولة ليس مناطا لفردية شئ آخر لمقولة أخرى، فان
المقولات متبائنات بالذات، ووجود كل مقولة كون تلك المقولة لا غيرها،
لاستحالة أن تكون هوية واحدة مقولتين بالذات، وإلا لزم الخلف، مضافا
إلى أن الانسان ينتزع من زيد وعمرو وبكر مع تخالفها في العوارض ولا ينتزع
معنى واحد عن مطابقات متخالفة بما هي متخالفة، وإلا لزم وحدة الكثير فلا
محالة ينتزع منها بجهة توافقها وهي كونها ذات نفس وبدن، بل المراد من صدق
الطبيعي على فرده أن هوية زيد مثلا بما هو فرد لطبيعة الانسان ليست إلا وجود
حصة من هذه الطبيعة كما أن هوية عمرو وجود حصة أخرى من هذه الطبيعة،
فوجود زيد وجود بالذات لحصة متقررة في مرتبة ذاته ووجود بالعرض للطبيعة
النوعية التي يشترك فيها جميع الحصص، وليست الماهية الشخصية إلا هذه

(1) هو المحقق الخراساني في الكفاية: ج 2، ص 234.
639

الحصة المتحصصة بنفس وجودها الذي هو الشخص الحقيقي وما يحتف به من
العوارض لوازم التشخص.
نعم، إذا لم نقل بأن المركب من الجوهر والعرض مركب اعتباري لا وحدة له
حقيقة، بل قلنا باتحاد الاعراض مع موضوعاتها في الوجود نظير اتحاد المادة
والصورة في الوجود الساري من الصورة إلى المادة فيكون الموضوع مجرى فيض
الوجود فيسري الوجود منه إلى عرضه، فتارة، يلاحظ كل منهما بماله من الدرجة
الخاصة من الوجود، فأحدهما جوهر والاخر عرض ولكل حكمة، وأخرى،
يلاحظ كلاهما متحدين في الوجود الساري يحكم على أحدهما بأنه الاخر في
الوجود الساري فح يصح دعوى صدق الطبيعي على فرده بمشخصاته
المشهورية التي هي في الحقيقة لوازم التشخص. هذا كله في صدق الطبيعي على
فرده بمشخصاته الحقيقية.
وأما صدقه على فرده بمشخصاته المشهورية الاعتبارية كما في صدق طبيعي
الصلاة على المشتمل على الاجزاء المستحبة، فتوضيح القول فيه أن الصلاة من
المركبات الاعتبارية لاشتمالها على طبائع متعددة هي مقولات متبائنة كمقولة
الكيف المسموع ومقولة الوضع وشبههما. ومن الواضح أن كل جزء منها كما أنه
حقيقة من الحقايق كذلك له وجود خاص محفوف بعوارض مخصوصة وليس
جزء منها مقوما لحقيقة جزء آخر منها، ولا مشخصا ومعينا لجزء آخر منها ولا من
لوازم مشخصه، بل إذا وجدت الاجزاء المزبور في الخارج فقد وجدت حصص
خارجية مطابقة لطبايع مأخوذة وملحوظة على نهج الوحدة أريدت بإرادة واحدة
ووجبت بوجوب واحد. ومنه تعرف حال الجزء المستحبي كالقنوت فإنه حصة
من الطبيعة النوعية للكيف المسموع له وجود خاص ولوازم مخصوصة كسائر
الاجزاء، غاية الامر أنه جزء الطبيعة المؤتلفة من ذوات اجزاء واجبة وذوات
أجزاء مندوبة. ونسبة الاجزاء كلها إلى هذه الطبيعة المؤتلفة نسبة جزء الطبيعة
إليها لا نسبة جزء الفرد بمعنى المشخص إلى الطبيعة. ولا يخفى عليك أن كون
طبيعة الصلاة الواجبة بالإضافة إلى الاجزاء المستحبة لا بشرط لا يوجب اعتبار
640

المشخصية لتلك الأجزاء.
إذ الواجب بالإضافة إلى كل خارج غير مناف له لا بشرط، ومع ذلك ليس كل
خارج عن الطبيعة من مشخصاتها، مع أن التعين المصحح لكون الشئ بشرط
شئ لا يمنع عن صدق اللا بشرط لا أنه مطابق اللا بشرط، فالصحيح في اعتبار
المشخصية للاجزاء المندوبة هو أن المأتى به في ضمن الصلاة الواجبة مما
يندب إليه:
تارة، يكون مستحبا في نفسه مط سواء كان في الصلاة أو غيرها.
وأخرى، يكون مستحبا في الصلاة بحث تكون الصلاة ظرفا له فقط.
وثالثة، يكون مستحبا فيها بحث يعد من مكملاتها وفضائلها. واعتبار
المشخصية في الثالث دون الأولين بلحاظ أن مشخص الشئ كما لا يعد أمرا في
قبال الشئ، بل نحو وجوده فكذا فضيلة الشئ وكماله ليست أمرا في قباله، بل
من شؤونه وأطواره، فالاجزاء المستحبة تعد كالمشخص بهذا الاعتبار. ومن
الواضح أن صدق الطبيعي على فرده بمشخصه حقيقة لملاك هو مفقود فيما
سمى بالمشخص بنحو من العناية، نظرا إلى اشتراكهما في بعض اللوازم، بل لو
قلنا بصدقه على لوازم مشخصه للاتحاد في الوجود الساري لما كان مجال
للصدق هنا، إذ كما أن الاجزاء المستحبة ليست من مشخصات طبيعة الواجب
كذلك ليست بالإضافة إليها بمنزلة الاعراض بالنسبة إلى موضوعاتها كما هو
واضح جدا، فتدبره فإنه حقيق به.
270 - قوله: " مضافا إلى أن إعتبار قصد " (1) الخ:
هذا إذ كان لزوم اتيانه عقلا من حيث احتمال دخله في الغرض المولوي
المنبعث عنه الامر، لما مر في محله من اقتضاء مقدمات الحكمة للقطع بعدم
دخله فيه. وأما بناء على إرادة الملاك العقلي المنبعث عنه الأمر فلا قطع بخلافه
بل لا يعقل صدور الفعل حسنا إلا إذا قصد عنوانه تفصيلا أو اجمالا. ومبنى

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 234 وكفاية الأصول: ص 366، (ت، آل البيت).
641

الاشكال هذا الوجه دون الوجه الأول. وعليه فلا مناص إلا ابطال المبنى وهو أنه
لا يجب انبعاث الامر عن ملاك عقلي من باب التحسين والتقبيح العقليين، وما
يقال من أن الشارع لا يأمر (1) إلا بالحسن ولا ينهى إلا عن القبيح فلا يراد منه
الحسن والقبح بهذا المعنى الذي ملاكه المصالح العامة الموجبة لبقاء النوع
والمفاسد العامة الموجبة لاختلال النظام بل المراد أن الشارع لا يأمر إلا بما فيه
مصلحة ولا ينهى إلا عما فيه مفسدة ولو لم تكونا عمومية بحيث لو التفت العقل
إلى تلك المصلحة أو تلك المفسدة لحكم بصلاحيتهما للعلية للبعث والزجر.
وهذا مفاد الحكم العقلي النظري كما أن الأول مفاد الحكم العقلي (2) العملي
فتدبر جيدا.
271 - قوله: " مع أن الكلام في هذه المسألة لا يختص " الخ:
قد عرفت سابقا أن اعتبار قصد الوجه تارة، لوجه عقلي وجهنا به كلام
المتكلم. وأخرى، لمجرد احتمال دخله في الغرض وحكم العقل باتيانه، فإن كان
الوجه في اعتبار قصد الوجه هو الأول فملاكه كون الواجب معنونا بعنوان حسن
لا يصدر حسنا إلا إذا قصد عنوانه تفصيلا أو إجمالا من طريق الأمر بقصد وجهه
الشرعي المحاذي لوجهه العقلي، سواء كان الغرض الباعث على الامر به يترتب
على نفس الفعل الحسن بما هو حسن أو كان الغرض بحيث لا يترتب عليه إلا إذا
صدر بداع الامر به.
فيكون الواجب المنطبق عليه عنوان حسن عقلي، تارة تعبديا، وأخرى
توصليا من دون ملازمة بين اعتبار قصد الوجه والتعبدية، هذا في الحكم الشرعي
المستند إلى الحكم العقلي بملاك التحسين والتقبيح العليين، وأما إذا لم يكن
كذلك بل كان لمجرد مصلحة في المتعلق فلا موجب لقصد الوجه أصلا كما
لا ملازمة بين الانبعاث عن المصلحة وكون المورد محكوما بالحسن عقلا، لما مر

(1) (خ ل): لا يالامر.
2 (خ ل): العقل العملي.
642

غير مرة (1) أن المصالح والاغراض المولوية لا يجب أن يكون هي المصالح العامة
التي ينحفظ بها النظام ويبقى بها النوع.
فتلخص: أن الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي يجب فيه عقلا
قصد الوجه تعبديا كان أو توصليا. والحكم الشرعي الغير المستند إلى الحكم
العقلي وإن كان منبعثا عن المصلحة لا يجب فيه قصد الوجه تعبديا كان أو
توصليا فلا ملازمة بين التعبدية وقصد الوجه على أي حال.
وإن كان الوجه في اعتبار قصد الوجه هو الوجه الثاني فلا بأس بدعوى
اختصاص احتمال اعتباره بالتعبدي، إذ الغرض من التوصلي إن كان مترتبا عليه
ولو صدر لا عن قصد فكيف يحتمل اعتبار اتيانه بوجه وجوبه، فإنه إنما يحتمل
إذا كان للاختيارية وقصد الامر في نفسه دخلا في ترتب الغرض منه عليه.
272 - قوله: " مع أنه لو قيل قصد الوجه في الامتثال " (2) الخ:
محصله أن دخل قصد الوجه في الغرض وعدم التمكن منه بفعل الأكثر لو كان
مانعا عن ايجاب الاحتياط بفعل الأكثر لكان مانعا عن وجوب الأقل أيضا،
لدخل قصد الوجه التفصيلي في غرضه، مع أنه لم يعلم وجوب النفسي تفصيلا
كما لم يعلم وجوب الأكثر نفسيا تفصيلا. ولازمه تجويز المخالفة القطعية ولا
يقول به أحد.
والجواب أن غرض الشيخ الأعظم (3) - قده - ليس المنع من وجوب الأكثر
لعدم التمكن من قصد الوجه ليعارض بالأقل ليلزم منه المحذور المذكور، بل
غرضه عدم ايجابه بعدم وجوب تحصيل الغرض من اللطف والمصلحة ودعوى
حصر الإطاعة اللازمة عقلا في الاتيان بعنوان التخلص عن عقاب المخالفة،
وعليه فبناء على الانحلال يكون الأقل مقطوع العقاب فيجب عقلا التخلص عن

(1) التعليقة: 205، ص 468.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 234، س 13.
(3) الرسائل: ج 2، ص 461، في ذيل القسم الثاني وهو الشك في الجزء الخارجي.
643

عقابه دون الأكثر، فالأقل والأكثر وإن تساويا في عدم الوجوب بعدم وجوب
تحصيل الغرض لكنهما يفترقان في لزوم التخلص عن عقاب المخالفة وهو
مختص بالأقل دون الأكثر، ولعل قوله - قده - فافهم (1) إشارة إلى ما ذكرنا فتدبر.
(2) التحقيق في عدم وجوب الاحتياط نقلا
273 - قوله: " وأما النقل فالظاهر أن عموم مثل حديث الرفع قاض " (2)
الخ:
تحقيق المقام أنه ربما يقال بناء على الانحلال العقلي إن وجوب الأقل نفسيا
أو غيريا معلوم على التفصيل ووجوب الأكثر نفسيا مشكوك فيرفع بحديث الرفع
مثلا، بل بناء على عدم الانحلال تتساقط القاعدة في طرف الأقل والأكثر من
حيث وجوبهما النفسي فيبقى وجوب الزائد غيريا بلا [معارض (3)] فيرفع
بحديث الرفع.
والجواب ما عرفت من أنه لا وجوب غيري للجزء فلا علم تفصيلي بوجوب
الأقل كمالا مجرى للقاعدة في وجوب الزائد غيريا بل الحق ما عرفت من أن
تعلق الوجوب النفسي الشخصي المنبسط على المركب بالأقل معلوم وبالجزء
الزائد مشكوك فيرفع الوجوب النفسي من حيث تعلقه بالجزء المشكوك.
ونتيجته عدم فعلية الامر النفسي بالجزء الزائد وإن كان متعلقا به واقعا ويستتبع
رفع المؤاخذة على ترك الواجب بترك الجزء المشكوك، وعليه فبناء على
الانحلال يكون رفعه شرعا مؤكدا لنفي فعليته عقلا بل بناء على ما ذكرنا في
البحث عن مفاد حديث الرفع (4) من أن مفاده هو الجعل دون الاخبار فمعنى رفع

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 235، س 3.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 235 وكفاية الأصول: ص 366، (ت، آل البيت).
(3) (خ ل): والظاهر: غيريا بلا فيرفع.
(4) التعليقة: 182، ص 452.
644

الحكم جعل عدمه فعليا فيكون واردا على حكم العقل، فان العقل يحكم بعدم
فعلية الحكم الواقعي من باب عدم وصوله ومفاد الحديث جعل عدمه فعليا واصلا
فراجع. وأما بناء على عدم الانحلال عقلا فسيجيئ انشاء الله تعالى الكلام فيه.
وأما ما عن المصنف العلامة - قدس سره - (1) من إجراء حديث الرفع في
الجزئية المشكوكة بناء على أن جريانه في الوجوب النفسي يوجب محذور
المعارضة والمناقضة.
فتحقيق الحال في أن الامر إذا تعلق بمركب من عدة أمور يوجب اتصاف
المجموع بالكلية واتصاف كل واحد من تلك الأمور بالجزئية والبعضية، فان تمام
المركب كل المطلوب وكل واحد بعض المطلوب، وهذه الجزئية مجعولة بسبب
جعل الطلب المتعلق بالمركب دون الجزئية بلحاظ الوفاء بالغرض أو بلحاظ
الجمع في اللحاظ، فإنها واقعية لا جعلية، وحيث إن الجزئية بلحاظ مقام الطلب
مجعولة بتبع جعل الطلب المتعلق بالمجموع فلها وضع شرعا بالتبع فكذلك لها
رفع شرعا، وحيث إنه بين منشأ الانتزاع والمنتزع الاثنينية بواسطة السببية
والمسببية فلكل منهما حكم، فربما لا يكون المنشأ موردا للشك فلا يعمه دليل
الرفع، فلا يرتفع بسببه الامر الانتزاعي المجعول تبعا. وربما يكون نفس الامر
الانتزاعي بنفسه موردا للشك بلا معارضة فيعمه بنفسه دليل الرفع كما فيما نحن
فيه، فان جزئية الزائد ليست معارضة بجزئية غيره بخلاف الامر النفسي بالأكثر
فإنه معارض في طرف الأقل، ولا منافاة بين عدم رفع الامر النفسي بالأكثر
بحديث الرفع ابتداء وارتفاعه بالملازمة بينه وبين ارتفاع الجزئية فتدبر.
والتحقيق: أن جزئية الشئ في مقام الطلب ليست بالإضافة إلى الطلب
المجعول من قبيل عوارض الوجود بالنسبة إلى معروضها بل من قبيل عوارض
الماهية بمعنى انهما مجعولان بجعل واحد بلا تخلل جعل بينهما لا أنهما
كعوارض الوجود بحيث يكونان مجعولين بجعلين لما مر مرارا أن متعلق الطلب

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 235.
645

ثابت بثبوته وأن الحكم بالنسبة إلى موضوعه من قبيل عوارض الماهية الغير
الموقوفة من حيث الوجود عليها، بل وجودها بوجود العارض، فالمراد له ثبوت
في مرتبة الإرادة بنحو ثبوت الإرادة فإن قوامها في التحقق به، إذ الشوق المطلق لا
يوجد.
وكذلك متعلق البعث الاعتباري ثابت في أفق الاعتبار بنحو ثبوت البعث
واتحاد الفعليين بأي نحو فرض من الفعلية محال، فلا محالة لهما وجود واحد
والمجعول بالذات إذا كان واحدا فله جعل واحد حيث لا تفاوت بين الجعل
والمجعول بالذات بل بالاعتبار. وإذا عرفت أن المتعلق ثبوته بعين ثبوت الطلب
فما هو من شؤون المتعلق من حيث إنه كله أو بعضه أولى بأن لا يكون له جعل
بالاستقلال، فمفهوم الطلب وإن كان مغايرا لمفهوم متعلقة ولمفهوم الكلية
والجزئية لكنها مجعولة بجعل واحد وموجودة بوجود واحد، وليس بينها السببية
والمسببية المقتضية للاثنينية.
وعلم مما ذكرنا أن معنى التبعية كون الجزئية مجعولة بالعرض لا [بالتبع]
كمجعولية (1) وجوب المقدمة بتبع وجوب ذيها فالأصالة والتبعية معنى والذاتية
والعرضية معنى اخر. والأول أعم من الثاني. وعليه فكما لا يكون وضع الجزئية
إلا بوضع الامر بالمركب كذلك لا رفع لها إلا بعين رفعه والمفروض عدم امكان
رفعه بحديث الرفع. ومنه يتضح أن مجرد اختلاف الرتبة بين الامر النفسي
وجزئية الزائد من حيث اللزوم الموجب لتأخر رتبة اللازم عن ملزومه ولو كان
لازم الماهية لا يجدي في رفع الجزئية بملاحظة تساقط القاعدة في المرتبة
المتقدمة. وذلك لأنه إنما يجدى مع تعدد الوجود كالوجوب الغيري التابع
للوجوب النفسي لامع وحدة الوجود.
هذا كله مضافا إلى أن الكلية والجزئية متضايفان متكافئان فالجزئية وإن لم
تكن معارضة لجزئية سائر الأجزاء لكنها معارضة بكلية الأقل بتبع كلية الأكثر،

(1) (خ ل): لا كمجعولية...
646

فكما أن كلية الأكثر في نفسها مشكوكة لكنها معلومة بالاجمال كذلك جزئية
الزائد مشكوكة في نفسها ومعلومة بالاجمال بتبع معلومية كلية الأكثر بالاجمال،
والمفروض عدم شمول الحديث للمعلوم بالاجمال، والجزئية والكلية لازمان
للوجوب النفسي في عرض واحد لوحدة المنشأ والمصحح للانتزاع. وليست
الجزئية مسببة عن كلية الأكثر ليتوهم تساقط القاعدة في طرف كلية الأكثر وكلية
الأقل فيبقى القاعدة في نفي جزئية الزائد بلا معارض والمفروض أيضا أن
المجعول بالتبع قابل للوضع والرفع، والكلية كالجزئية في المجعولية بالتبع
وسيجيئ انشاء الله تعالى بعض الكلام فيه، هذا. مضافا إلى ما سيأتي انشاء الله
تعالى في مبحث الأحكام الوضعية (1) أن الجزئية ليست من الاحكام المجعولة
ولو تبعا بل هي من اللوازم التكوينية للمجعول التشريعي لامن لوازمه التشريعية،
لان كل مجعول تشريعي مجعول تكويني ولا عكس، فإنه من حيث إنه من
الموجودات الخارجية بما يناسبه من الوجود في نظام الوجود مجعول تكويني
ومن حيث صدوره من الشارع بما هو شارع شريعة وجاعل طريقة لا بما هو
جاعل هويات الممكنات مجعول تشريعي. وملاك تشريعية كونه ذا مصلحة
موجبة لجعله شرعا ومن الواضح ان وجوب المركب من حيث انبعاثه عن
مصلحة فيه تشريعي.
وأما اتصاف الشارع الموجب بكونه حاكما واتصاف المكلف بكونه محكوما
عليه، أو اتصاف الحكم بكونه محمولا واتصاف متعلقه بالموضوعية، فكلها من
اللوازم التكوينية للمجعول التشريعي من حيث كونه تكوينيا. فكذلك الجزئية
والكلية بلحاظ تعليق شئ واحد بالمركب لا أن هذا المجعول التبعي منبعث عن
مصلحة تبعية لمصلحة المركب كالوجوب المقدمي المعلول لمصلحة مقدمية
تابعة لمصلحة ذيها، وسيجيئ انشاء الله تعالى تمام الكلام فيه في محله. ثم إن

(1) نهاية الدراية: ج 3، ص 121 وبحوث في الأصول: ص 49، للمحقق الشيخ محمد حسين
الأصفهاني، (ط، جماعة المدرسين) وكفاية الأصول: ج 2، ص 302 وكفاية الأصول: 366، (ت، آل البيت).
647

هذا كله بناء على الانحلال من وجوه الاشكال.
واما بناء على عدم الانحلال ففيه وجوه أخر من الاشكال
أحدها، ما عن شيخنا العلامة - رفع الله مقامه - في هامش الكتاب (1) وهو
منافاة رفع الجزئية مع العلم الاجمالي بالحكم الفعلي المحكوم عقلا بالاحتياط،
ولذا خص جريان حديث الرفع بما إذا علم اجمالا بمجرد الخطاب بالايجاب
دون ما إذا علم بالحكم الفعلي لكنه بنفسه قابل للدفع، فان محذور المناقضة أو
الاذن في المخالفة إنما يكون مع جريان الأصل أو القاعدة في تمام الأطراف،
وأما إذا اختص أحد الأطراف بامارة أو أصل أو قاعدة وكانت سابقة على العلم
الاجمالي أو مقارنة له فلا علم اجمالي بحكم فعلى على أي تقدير حتى يكون له
أثر، والمفروض اختصاص الحديث بأحد الطرفين وسبقه على العلم
الاجمالي.
بيانه، أن المراد من الحكم الفعلي الذي تعلق به العلم إن كان الفعلي من قبل
المولى كما هو مدلول الأدلة والعلم به يبلغه إلى درجة الفعلية البعثية والزجرية
وهو الفعلي بقول مطلق، فمع قيام الحجة على طرف من العلم بخصوصه لا
يصلح العلم لجعله بالغا إلى درجة الفعلية المطلقة، لما مر سابقا من امتناع اجتماع
الفعليين في طرف وإن كان الفعلي المتعلق به العلم هو الفعلي بقول (2) مطلق،
فمع انه غير معقول كما مر مرارا، يرد عليه أنه مع قيام الحجة لا يعقل انعقاد العلم
الاجمالي بحكم بعثي فعلى على أي تقدير فإما لاعلم وإما لا تأثير له في الفعلية
فلا مناقضة ولا منافاة.

(1) حقائق الأصول: ج 2، ص 326. لكنه لا يخفى أنه لا مجال للنقل فيما هو مورد حكم العقل
بالاحتياط، وهو ما إذا علم اجمالا بالتكليف الفعلي [الامر الواقعي وهو واضح البطلان] ضرورة انه ينافيه
دفع الجزئية المجهولة وانما يكون مورده ما إذا لم يعلم به كذلك، بل علم مجرد ثبوته واقعا، وبالجملة
الشك في الجزئية والشرطية وان كان جامعا بين الموردين، إلا أن مورد حكم العقل مع القطع بالفعلية،
ومورد النقل هو مجرد الخطاب بالايجاب، فافهم (منه قدس سره).
(2) (خ ل): يقول.
648

ثانيها: أنه إذا انحل العلم الاجمالي بالقاعدة فلا أثر له في الطرف الآخر فما
الملزم بفعل الأقل، ولازمه تجويز المخالفة القطعية. والجواب أنا لا نقول بلزوم
سائر الأجزاء من ناحية العلم الاجمالي حتى يرد المحذور بل بلزومها بالأدلة
الدالة على جزئية تلك الأجزاء، وأدلة الاجزاء لا تثبت إلا جزئيتها للواجب
النفسي لا انه تثبت تعلق الامر النفسي بالأقل ليكون العلم الاجمالي منحلا
بسببها، ويلزم الخلف من انحلاله مع قطع النظر عن حديث الرفع، ويكفي ثبوت
جزئيتها للواجب النفسي في الالزام عقلا باتيانها ثبوت المؤاخذة على ترك
الواجب النفسي بتركها.
ثالثها: أن رفع الجزئية لا يوجب انحلال العلم الاجمالي إلا بناء على الأصل
المثبت، لان الجزئية ليست من أطراف العلم بل بلزومها من أطرافه، وإجراء
القاعدة في نفس ما هو من أطراف العلم غير ممكن للتساقط بالمعارضة فلا يرتفع
الامر النفسي عن الأكثر إلا بالملازمة العقلية.
والجواب عنه أولا، أن المورد ليس من موارد الأصل المثبت، إذ لا نريد
التعبد بعدم الملزوم بالتعبد بلازمه، بل هما متلازمان في جميع مراتب
وجودهما، فالجزئية الواقعية ملازمة عقلا لتعلق الامر النفسي واقعا بما يعم هذا
الجزء والجزئية الفعلية ملازمة للامر النفسي الفعلي بما يعم الجزء. وكذا رفع
الجزئية واقعا وفعلا فيكون حال ما نحن فيه حالا للازمه الأعم الواقعي والظاهري
بحيث يكون التعبد محققا لموضوعه لا موجبا للتعبد به كوجوب المقدمة فإنه
لازم عقلي لكل واجب واقعي أو ظاهري، وكما أن التعبد بجزئية شئ ظاهرا
مستلزم عقلا لتعلق الامر فعلا بما يعمه كذلك التعبد بعدمها مستلزم لعدم تعلق
الامر الفعلي بما يعمه عقلا. وبالجملة عدم الانفكاك عقلا ليس مخصوصا
بواقعهما حتى يكون الاستلزام في مقام التعبد مبنيا على الأصل المثبت بل سار
في جميع مراتب الواقع والفعلية.
وثانيا، أن رفع الجزئية وإن لم يستلزم رفع الامر النفسي عن الأكثر إلا أنه يرفع
المؤاخذة على الواجب النفسي من قبل تركه بترك الجزء المشكوك، ولا أثر للعلم
649

الاجمالي بالامر النفسي الذي لا اثر له على تقدير تعلقه بالأكثر وإن لم ينحل برفع
أحد طرفيه، وأما عدم ثبوت وجوب الأقل نفسيا برفع جزئية المشكوك فلا يضرنا
بعد العلم باستحقاق العقاب على ترك الواجب النفسي بسبب ترك كل واحد من
الاجزاء ما عدا المشكوك، مع أنك قد عرفت سابقا البرهان على قيام (1) غرض
نفسي بالأقل الكاشف بنحو كشف العلة عن معلولها عن ايجاب نفسي متعلق
بالأقل في هذه الحال، فراجع.
ومما ذكرنا يندفع الاشكال الأصل المثبت بتقريب آخر وهو أن الماهية المتعلقة
بها الامر النفسي إما ملحوظة بنحو اللا بشرط القسمي أو بنحو البشرط شئ.
ونفي الثاني لا يثبت كونها متعينة بالتعين اللا بشرطي. وأما دفعه بان الاطلاق
مقابل للتقييد بتقابل العدم والملكة لا بتقابل (2) التضاد، فاطلاق الماهية عين
عدم تقيدها الثابت بحديث الرفع فمخدوش بأن الاطلاق بمعنى اللا بشرطية
معنى وعدم تقيد الماهية بخصوصية معنى آخر. فان اللا بشرطية ملاحظة
الماهية بحيث لا تكون مقترنة بخصوصية ولا مقترنة بعدمها، فعدم الاقتران
بالخصوصية لازم أعم للماهية اللا بشرط والماهية بشرط لا لا انه عين لحاظ
الماهية لا بشرط.
نعم، بعد الفراغ عن عدم اقتران الماهية بعدم الخصوصية ينحصر الامر قهرا
في الماهية اللا بشرط وهذا غير العينية، كما أنه تبين مما ذكرنا أنه لا منافاة بين أن
يكون تقابل التقييد وعدمه تقابل العدم والملكة، وأن يكون تقابل اللا بشرطية
والبشرط لائية والبشرط شيئية تقابل التضاد، هذا إلا أن التمسك بحديث الرفع
حيث إنه مبنى على نفي الجزئية لا نفي الوجوب النفسي للأكثر لمكان التعارض،
مع ما عرفت في كون الجزئية مجعولا تشريعيا فلا مناص من الاشكال بناء على
عدم الانحلال عقلا.
وغاية ما يمكن أن يقال إنه لا أثر لتعلق الامر النفسي بالأقل بحده حتى

(1) (خ ل): على قيام عرض غرض.
(2) (خ ل): لا تتقابل.
650

يعارض به الامر النفسي بالأكثر الذي له الأثر من حيث المؤاخذة على تركه بترك
الجزء المشكوك، وتعلق أصل الامر النفسي بذات الأقل غير معارض بتعلقه
بالأكثر، لان أصل تعلقه بذات الأقل معلوم وإن لم يوجب هذا التعلق انحلال
العلم على الفرض فما هو النافع في استحقاق العقاب على ترك الأقل غير
معارض بشئ، لعدم المنافاة بين الاستحقاق بترك ذات الأقل والاستحقاق بترك
الجزء الزائد، وما هو الطرف للعلم الاجمالي الموهم للمعارضة لا أثر له حتى
لا يمكن رفع ماله الأثر فلا بأس حينئذ بشمول حديث الرفع للامر النفسي بالأكثر
من حيث كونه مشكوكا في نفسه. ومنه يظهر الجواب عما أشكلناه سابقا على
رفع جزئية الزائد بمعارضته (1) بالتبع برفع كلية الأقل، فان كليته وكونه تمام
المتعلق لا أثر له على ما مر.
274 - قوله: نسبة الاستثناء (2) الخ:
إن كانت أدلة الاجزاء مثبتة لجزئيتها واقعا لحديث الرفع وشبهه ليس في مرتبة
الواقع حتى يكون بمنزلة الاستثناء وإن كانت مثبتة لجزئيتها فعلا، فحديث الرفع
وإن كان بلحاظ أصل الفعلية صالحا لان يكون بمنزلة الاستثناء إلا أنه مخدوش
من وجهين.
أحدهما، عدم تكفل الأدلة واقعا للفعلية البعثية والزجرية بل الانشاء بداعي
جعل الداعي وهو الفعلي من قبل المولى وصيرورته مصداقا لجعل الداعي
بالفعل متقوم بوصوله عقلا، فهو غير فعلى بقول مطلق مع قطع النظر عن حديث
الرفع، وأما رفع الفعلية من قبل المولى فهو غير معقول لان معناه رفع الواقع حيث
لا واقع عندنا إلا الانشاء بداعي جعل الداعي، لان الانشاء المحض محال
والانشاء بداع آخر لا يترقب منه فعلية الحكم البعثي والزجري.
وثانيهما، أن الفعلية المطلقة لو كانت واقعية فالشك فيها لا يعقل أن يكون
محكوما بعدم الفعلية لان احتمال المتناقضين كالقطع بهما في الاستحالة.

(1) (خ ل): بمعارضة.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 238 وكفاية الأصول: ص 367، (ت، آل البيت).
651

" في تنبيهات الأقل والأكثر "
التنبيه الأول: في الشك في القيد
275 - قوله: فان الانحلال المتوهم في الأقل والأكثر (1) الخ
تقريب الانحلال من وجوه.
أحدها: ان المقيد بما هو مقيد كما يتوقف وجوده على وجود (2) القيد كذلك
على وجود ذات المقيد، فذات المقيد واجبة بقول مطلق إما بوجوب نفسي أو
بوجوب مقدمي. والجواب بالفرق بين مقدمية ذات المقيد ومقدمية (3) القيد،
فان الثاني مقدمة خارجية مبائنة لذيها في الوجود فيمكن وجوبها المقدمي،
بخلاف ذات المقيد فإنها من علل قوام المقيد بما هو مقيد كالاجزاء بالإضافة إلى
المركب فهي غير مبائنة لذيها في الوجود، فلا يعقل وجوبها المقدمي مع فرض
وجوب المقيد المتقوم بها، فسبقها عليه بالتجوهر في مقام الماهية وسبقها عليه
بالطبع في الوجود لا يجدي إلا في أصل المقدمية لا فيما هو ملاك الوجوب
المقدمي.
ثانيها: أن ذات المقيد وإن لم يكن لها وجوب غيري مقدمي إلا أنها متعلق
الوجوب النفسي فللوجوب النفسي تعلق بها وبتقيدها كالمركب من الاجزاء
المستقلة بالوجود في الخارج. بيانه أن ذات المقيد لها وجود حقيقي استقلالي
في الخارج، ولتقيدها وجود انتزاعي ولا جهة وحدة لهما إلا اللحاظ. بداهة أن

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 238، س 7 وكفاية الأصول: ص 367، (ت، آل البيت).
(2) (خ ل): وجوده.
(3) (خ ل): مقدمته.
652

الماهيات في حدود ذواتها متبائنات، ولا يعقل أن تكون ماهية من الماهيات
جهة جامعة لماهيتين متبائنتين، فالجامع الذي به يتحد الماهيات بعضها مع
بعض ليس إلا لحاظها أو وجودها الخارجي، وبه يستدل على أصالة الوجود
واعتبارية الماهية. وكما أن الجمع في اللحاظ في المركب الاعتباري المؤتلف من
أجزاء مستقلة بالوجود لا ينافي انبساط الامر على الاجزاء فلكل منها حظ من
الوجوب المتعلق بها، كذلك وحدة ذات المقيد والتقييد في اللحاظ، حيث لا
جهة وحدة لهما سواه لا تأبى انبساط الوجوب عليهما، وكون كل واحد منهما
متعلق الوجوب ولو بتعلق واحد كالاجزاء في المركب.
والجواب: أن نحوي وجود ذات المقيد ووجود التقيد وإن كانا متغايرين
والجامع الموحد لهما هو اللحاظ إلا أن التقيد ربما يلاحظ على وجه المعنى
الأسمى فلا محالة يكون في عرض ذات المقيد فيوجب انبساط الامر على ذات
المقيد والتقيد، وربما يلاحظ على وجه المعنى الحرفي، وهو ملاحظة المقيد
بما هو مقيد بحيث يكون التقيد ملحوظا آليا فيتعلق الامر بالحصة الخاصة،
فبمقتضى هذه الملاحظة يكون الملحوظ خاصا لا أن الملحوظ معنيان
مجموعان في اللحاظ. وحينئذ فلا معنى لانبساط الامر على جزئين.
ثالثها: أن المطلق عين المقيد في الوجود، فالوجوب المضاف إلى المقيد
مضاف إلى المطلق. فالمطلق إما له وجوب مضاف إليه بنفسه أو وجوب مضاف
إليه من حيث إنه عين المقيد.
والجواب: أن عينية المطلق للمقيد لا أصل لها لا ماهية ولا وجودا، إذ
الحصة الموجودة ليست عين الوجود بل متحدة به اتحاد اللا متحصل مع
المتحصل، فالجامع بين الحصص أولى بأن لا يكون عين الوجود كما أن تباين
الحصة مع الجامع - ماهية ومفهوما - معلوم لا يحمل أحدهما على الاخر بالحمل
الذاتي الذي هو مناط العينية من حيث الذات، بل حيث إن الحصة متحدة مع
653

الوجود والجامع ينطبق على كل حصة من حصصه بلحاظ الوجود، فالوجود
المضاف إلى الحصة بالذات مضاف إلى الجامع بالعرض فيكون الحصة واسطة
في العروض وإذا عرفت نحو وجود الجامع تعرف نحو وجوبه أيضا فان حكم
أحد المتحدين بالذات ينسب إلى الاخر بالعرض سواء كان المحمول هو الوجود
أو الوجوب أو غيرهما.
وعليه فلا علم بوجوب الجامع إلا بالمعنى الأعم من ما بالذات وما بالعرض
فيما إذا كان هناك ما بالذات وهو المقيد، فان الجامع إما هو واجب بالذات إذا
كان المطلق واجبا، وإما واجب بالعرض إذا كان المقيد بما هو واجبا.
وأما في غير هذه الحصة فليس إلا احتمال الوجوب للجامع بالذات دون
احتمال الوجوب بالعرض حتى يكون الوجوب بالمعنى الأعم معلوما.
وبالجملة لا وجه لدعوى أن وجوب الجامع معلوم لكنه لا يفيد في مقام
إحراز الامتثال بل الصحيح من وجوب الجامع نحو وجوب لا ينطبق
إلا على المقيد هذا كله في دفع ما يتوهم في مقام الانحلال والبراءة العقلية من
الشرطية.
والتحقيق: أن كل خصوصية ليست شرطا في قبال الجزء بل كما مر مرارا أن
ذات ما يفي بالغرض هو المقتضى بسيطا أو مركبا، غاية الأمر أنه إذا كان مركبا
كان ما يأتلف منه المركب كل واحد منه موصوفا بأنه بعض ما يفي بالغرض، أو
بعض المطلوب بلحاظ مقام جعل الطلب. ثم إن المقتضى أو أجزاءه ربما يكون
أمرا خاصا فالخاص هو المقتضى لا أنه خصوصية واردة على المقتضى أو يكون
الجزء أمرا خاصا فيكون الخاص بعض ما يفي بالغرض لا أن الخصوصية واردة
على الجزء المفروغ عن جزئيته، فمثل هذه الخصوصية مقوم الجزء ولا يستحق
إطلاق الشرط المقابل للجزء عليها.
وربما تكون الخصوصية دخيلة في فعلية تأثير المقتضى البسيط أو المركب
654

ومثلها تسمى بالشرط، لأن الشرط حقيقة إما من مصححات فاعلية الفاعل أو من
متممات قابلية القابل، فلا محالة له دخل إما في طرف المؤثر أو في طرف
المتأثر، والتقليد الخطابي على طبق التقيد الواقعي، فالإناطة ليست جزافية. إذا
عرفت اختلاف الخصوصيات بحسب المقامات فاعلم أن التقيد المقوم للجزء
مقوم للمطلوب بالطلب النفسي المنبسط عليه، وحاله ما عرفت مفصلا.
وأما التقيد الذي له دخل في فعلية التأثير فغير مطلوب بعين الطلب النفسي.
بداهة أن الغرض لا يدعوا إلا إلى ما يقوم به وما يفي به. وأما ماله دخل في ترتب
الغرض على ما يقوم به فهو مراد بإرادة منبعثة عن إرادة متعلقة بنفس المقتضى
المنبعة عن الغرض القائم به، فمثل هذه الخصوصية مطلوب بطلب مقدمي
منبعث عن طلب نفسي، فمرجع الشك في الشرطية الحقيقة إلى الشك في
طلب غير مستقل منبعث عن طلب نفسي، والانحلال فيه ليس فيه مجال
الاشكال.
فان قلت: هذا في القيد الذي له وجود استقلالي يمكن تعلق الطلب الغيري
به وأما القيد الذي ليس له استقلال في الوجود كقيد الايمان في الرقبة فلا يعقل
أن يكون مطلوبا بطلب غيري.
قلت: بعد فرض شرطيته واقعا وعدم دخله في اقتضاء الغرض بل في وجود
الغرض من المقيد المقتضى له فلا محالة لا يعقل أن يكون مطلوبا بعين الطلب النفسي
بل الواجب المفروغ عن وجوبه متقيد به وحينئذ فلا شك في أن عتق الرقية
واجب نفسي على أي تقدير وإنما الشك في تقيد الواجب النفسي بقيد وعدمه
فليس متعلق الوجوب النفسي دائرا بين المقيد وغيره فلا ريب حينئذ في الانحلال.
ومن جميع ما ذكرنا تبين أن الشك في جزئية شئ بذاته مورد الانحلال للعلم
بانبساط الأمر على سائر الأجزاء والشك في انبساطه على الزائد وكذلك الشك
في شرطية شئ حقيقة مورد الانحلال للعلم بوجوب ذات المشروط والشك في
655

انبعاث وجوب آخر من وجوبه بالإضافة إلى الشرط أو تقيد الواجب المعلوم به.
وأما إذا دار الأمر بين جزئية شئ بذاته أو بماله من الخصوصية فلا انحلال أصلا
لعدم العلم تفصيلا بجزئية ذات الشئ كما عرفت تفصيلا وكذا لو كانت
الخصوصية مقومة للمركب أو البسيط.
276 - قوله: لدلالة مثل حديث الرفع على عدم شرطية (1) الخ:
قد عرفت حال رفع الأمر المجعول بالتبع من غير فرق بين الجزئية والشرطية
إلا أنه بناء على صحة الرفع لا فرق بين التقيد الراجع إلى الشرطية الحقيقية
والتقيد الراجع إلى كونه مقوما للمقتضى أو كونه مقوما للجزء فان التقيد في
مرحلة الطلب مجعول بجعل الطلب على أي حال، لكنه بينهما فرق من حيث
كون ذات المشروط بعد نفي الشرطية معلوم الوجوب، بل قد عرفت انه لا حاجة
فيه إلى نفي الشرطية لكفاية نفي الحكم التكليفي المقدمي عقلا وشرعا بخلاف
نفي تقيد الجزء المقوم لجزئيته فان الأمر لم يتعلق بذاته على أي حال حتى يفيد
في الخروج من جهدته بعد نفي الخصوصية الجعلية.
277 - قوله: وليس كذلك خصوصية الخاص (2) الخ:
لا يخفى عليك أن المركب من جزئين حقيقيين " كالجنس والفصل " تارة،
يلاحظ جزئاه على ما هما عليه من الجزئية - وأخرى، يلاحظ أحدهما متقيدا
بالآخر. وبالاعتبار الأول يتوهم انبساط الأمر على الجميع فيكون حاله حال
الشك في الجزئية. وبالاعتبار الثاني يتوهم الاطلاق والتقييد فيجرى البراءة من
القيد وكلا التوهمين فاسد.
أما الأول: فلأن مورد الانبساط ما إذا كان كل من الجزئين مستقلا في
التحصل لينبعث من الأمر به استقلالا أو انبساطا إرادة مخرجة له من العدم إلى

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 238 وكفاية الأصول: ص 367، (ت، آل البيت).
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 238، س 15.
656

الوجود والجنس والفصل متحدان: إذ نسبة أحد إلى الآخر نسبة القوة إلى الفعل
ولا يعقل انبساط الأمر عليهما كما لا يعقل تعلقه استقلالا بكل منهما.
وأما الثاني: فمبنى الانحلال، إما أن الجامع متيقن الوجود والمقيد مشكوك
فهو أولا: غير صحيح كما قدمناه (1)، وثانيا: غير مجد هنا، لأن الجامع هناك من
حيث إنه نوع تام متحصل الماهية والهوية أمكن تعلق الوجود به وأما ما نحن فيه
فان الجنس لا تعين له من حيث الماهية إلا بفصله، ولا تحصل له من حيث الهوية
إلا به، فلا يعقل تعلق الوجوب به، وإما أن القيد واجب بوجوب آخر غير
وجوب ذات المقيد فلا محالة يؤل الأمر إلى الشك في تكليف زائد. وما نحن فيه
لا يجرى فيه هذا البيان لا من حيث ذات المقيد ولا من حيث نفس القيد.
والوجه واضح مما سمعت انفا. بل لا يجري فيه الانحلال الذي وجهنا في القيد
الغير المستقل في الوجود كوصف الايمان في الرقبة، وذلك لأن ذات المقيد
القائم به الغرض النفسي هناك قابل للوجوب فيشك في تقيد الواجب النفسي به
بخلاف ما نحن فيه فان ذات المقيد لا تعين له ولا تحصل له حتى يقوم به غرض
نفسي ليجب بوجوب نفسي، فتدبر جيدا.
واما ما في المتن (2) من أن الخصوصية انتزاعية من ذات الخاص فمرجعه إلى
أنها ليست جعلية كخصوصية الاقتران بالطهارة حتى يمكن نفيها بأدلة البراءة
فليس هناك شرطية جعلية قابلة للرفع وهو وإن كان صحيحا إلا أنه لا تصل النوبة
إليه مع استحالة تعلق الوجوب بذات الخاص على أي تقدير.

(1) التعليقة: 275، ص 652.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 238.
657

التنبيه الثاني: حكم ناسي الجزئية
278 - قوله: لولا مثل حديث الرفع مطلقا (1) الخ:
أما إذا نسى الجزئية فواضح، لان الجزئية المنسية حكم شرعي وضعي تبعي
فهو مرفوع. وأما إذا نسى ذات الجزء فتارة، يقال إن الجزئية منسية بتبع نسيان
ذات الجزء فهي مرفوعة. وأخرى، أن رفع ذات الجزء برفع حكمه وهي الجزئية.
وأما دعوى أن رفع الجزئية برفع منشأ انتزاعها وهو الامر بالكل، ومع رفع
منشأ الانتزاع لا أمر بما عدا المنسى (2).
فمندفعة: بأن عنوان الجزء منتزع من ذات الجزء فمبدء العنوان وهي
الجزئية قائمة به بقيام انتزاعي، والامر مصحح الانتزاع، وله دخل في منشئيته
للانتزاع. ومن الواضح أن مصحح انتزاع الجزئية من ذات الجزء تعلقه بذات الجزء
في ضمن تعلقه بالمجموع، فتعلق الامر بالمجموع مصحح انتزاع الكلية من
التمام، ومصحح انتزاع الجزء أحد تعلقاته التحليلية وانبساطه على ذات الجزء،
فالشك في الجزئية شك في ذلك التعلق التحليلي وانبساط الامر، فالمرفوع هو
ذلك التعلق التحليلي لا الامر بالكل فيبقى الامر بسائر تعلقاته واقتضائاته على
حاله ولو عبر عن ذلك برفع الامر بالكل، فالمراد رفع الامر بالكل بما هو كل
لا رفع الامر باته وبكليته.
ولعله الوجه في دعوى أن المفهوم عرفا من رفع الجزئية رفع خصوصها مع
بقاء الامر بالباقي، أو دعوى أن نسبة حديث الرفع إلى أدلة الاجزاء نسبة (2)

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 240 وكفاية الأصول: ص 368، (ت، آل البيت).
(2) (خ ل): عد المنسى.
(3) (خ ل): نسبته.
658

الاستثناء، وإلا فهو ليس في مرتبة الأدلة المكفلة للأحكام الواقعية حتى يكون
بمنزلة الاستثناء منها، فتدبر.
وأما بناء على عدم امكان اختصاص الناسي بالامر بما عد المنسى (1) كما عن
الشيخ المحقق الأنصاري (2) - قده - على ما سيأتي انشاء الله تعالى بيانه وبيان
دفعه (3). فربما يقال إنه لو كان محالا لما أمكن تخصيص الناسي بالامر بما عدا
المنسى، فان حديث الرفع لا يوجب انقلاب المحال ممكنا.
ويمكن دفعه بأن اشكال الاستحالة إنما يلزم من تنويع المكلف إلى الملتفت
والناسي، فيختص الناسي بحسب الدليل الاجتهادي بالامر بما عدا المنسى فيلزم
المحال الآتي، ولزوم التنويع بملاحظة أن عنوان المكلف ليس مأمورا بتمام
الاجزاء وإلا لزم اجتماع أمرين وبعثين على الناسي، أحدهما بعنوان عام، والاخر
بعنوان خاص، وهذا بخلاف ما إذا قلنا بأن المكلف بعنوان مأمور بتمام الاجزاء
واقعا والنسيان كالجهل مانع شرعا من فعلية الامر بالإضافة إلى الجزء المجهول أو
الجزء المنسى ولا مانع من اجتماع الامر الواقعي بالأصالة إلى المكلف بالتمام
مع الامر الفعلي بما عدا المنسى لنسيانه. وفيه أن كيفية التمسك بحديث الرفع
مختلفة.
فتارة يقال: إن جزئية الامر المنسى مجهولة فهي مرفوعة من حيث الجهل بها
لا من حيث نسيانها بحيث لو لم يكن النسيان أحد النسبة بصح رفعها برفع الجهل
بها فالايراد وارد، لان معنى الشك في جزئيتها احتمال تعلق الامر بالكل واحتمال
تعلق الامر بما عدا المنسى والمفروض انه محال فكيف يجامع الاحتمال.
وأخرى يقال: إن المنسى وإن كان جزء واقعا إلا أن النسيان مانع عن فعلية
الجزئية، فالمأتي موافق للمأمور به الفعلي فهو حينئذ لا يستلزم احتمال المحال.
نعم، لا مجال للتمسك بحديث الرفع على التقديرين إلا مع استيعاب النسيان في
تمام الوقت، لان طبيعي الصلاة المشتملة على الجزء المنسى انما يجب مطلق

(1) (خ ل): عد المنسى.
(2) الرسائل: ج 2، ص 484.
(3) التعليقة: 279، ص 660.
659

وجوده بين مبدء الوقت ومنتهاه، ومطلق وجود الجزء لا يكون منسيا إلا
باستيعاب النسيان في تمام الوقت. وأما المنع (1) عن التمسك حتى مع
الاستيعاب نظرا إلى أن ترك الجزء ليس موضوعا لحكم حتى يرتفع في عالم
التشريع فهو عجيب، لان الجزئية المجعولة حكم ذات الجزء والجزء حيث إنه
منسي فترك، لا أن الترك منسي فرفع الجزئية التي هي حكم ذات الجزء المنسى
فتدبر.
279 - قوله: كذلك يمكن تخصيصها بهذا الحال (2) الخ:
بيان الاشكال أن الأدلة المتكفلة للجزئية مع عدم اطلاقها لحال النسيان
بحسب مقام الاثبات إذا شك في جزئية شئ من تلك الأجزاء في حال النسيان،
فمقتضى البرهان كونه جزء في تلك الحال كما في حال الالتفات، لان تخصيص
الناسي واقعا بما عدا الجزء المنسى يوجب تنويع المكلف إلا الملتفت المأمور
بتمام الاجزاء والناسي المأمور بما عدا المنسى.
ومع التنويع وتخصيص الناسي لا يكون الحكم المرتب على عنوانه فعليا إلا
بفعلية ذلك العنوان، ولا يكون ذلك العنوان فعليا موجبا لتوجيه التكليف فعليا إلا
بالالتفات إلى العنوان، والالتفات إلى النسيان موجب لارتفاعه الموجب لارتفاع
حكمه، فهذا البعث المختص بعنوان الناسي محال على أي حال، إذ بوجوده
الواقعي المنوط بالنسيان واقعا لا باعثية له، وليس الغرض من التكليف إلا بعث
المكلف. وحمله على الفعل وبوجوده الواصل بوصول موضوعه يلزم من فرض
وجوده عدمه لما عرفت.
وأما لزوم التنويع المتفرع عليه هذا المحال فلانه لو اختص الناسي بحكم مع
عموم عنوان التكليف بالتمام يلزم منه توجه بعثين نحو الناسي، أحدهما، بعنوان
خاص وهو عنوان الناسي والاخر، بعنوان عام وهو عنوان المكلف بخلاف ما إذا
اختص التكليف بالتام بعنوان الملتفت.
ومنه تعرف انه لو لم يؤخذ عنوان الناسي في التكليف بما عدا المنسى بل

(1) أجود التقريرات: ج 2، 175.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 240 وكفاية الأصول: ص 368، (ت، آل البيت).
660

أخذ عنوان المكلف يلزم توجه بعثين أيضا إلى الناسي، لأنه كالملتفت في توجه
التكليف بالتام إليه، لعدم خصوصيته في عنوانه توجب عدم توجهه إليه، وحيث
إن النسيان علة لتوجه تكليف آخر بما عدا المنسى فلا محالة يكون مكلفا بذاته
بتكليف آخر. نعم، الملتفت لعدم العلة الموجبة لتوجه تكليف آخر إليه ليس له
إلا التكليف بالتمام.
وعليه، فنقول: إن الناسي إما لا تكليف له أصلا أوله التكليف بما عدا المنسى،
أوله التكليف بالتمام. والأول خلاف الاجماع والضرورة، إذ محل الكلام هو
التكليف بالمنسي واقعا لا التكليف مطلقا ولو بما عداه. والثاني يلزم منه المحال
بالتقريب المتقدم. والثالث هو المطلوب غاية الامر أنه في حال الغفلة والنسيان لا
يؤاخذ بترك التام إلا أنه بعد الالتفات يجب عليه اتيان ما هو مكلف به واقعا. هذه
غاية تقريب ما سلكه شيخنا العلامة الأنصاري (1) - قدس سره - في عموم الجزئية
لحال النسيان. وأجيب عنه بوجوه.
أحدها: أن يكون المكلف بعنوانه مأمورا بما عدا الجزء المنسى ويكون مطلقا
من حيث فعل ذلك الجزء وتركه، ثم يقيد ذلك الاطلاق في حق الملتفت باتيان
ذلك الجزء فالملتفت عنوان التكليف بذلك الجزء، وما أتى به الناسي مطابق
لامره الواقعي من دون لزوم التكليف بما عدا المنسى بما هو معنون بعنوان
الناسي، وفيه أنه خلاف ما وصل إلينا من أدلة الاجزاء ودليل المركب حيث إنه
أمر فيها بالتمام بعنوان ذاته لا أنه أمر المكلف بما عدا المنسى مطلقا، مضافا إلى
أنه لا تعين للمنسي حتى يؤمر بما عداه مطلقا وبه مقيدا بالالتفات فلابد من
الالتزام بتعدد البعث بعدد ما يتصور من أنحاء نسيان الجزء إطلاقا وتقييدا.
ثانيها: أن يختص الناسي بما عدا المنسى لا بعنوان النسيان حتى يلزم
المحال، بل بعنوان واقعي يلازمه كأن يقول من كثرت رطوبة مزاجه فهو مكلف
بالتكبيرة والقرائة وغيرها مع عدم عد ذكر الركوع مثلا في عدادها، فالمأتي به في

(1) الرسائل: ج 2، ص 484 والرسائل: ص 287، مخطوط.
661

حال النسيان مطابق للمأمور به في حقه من دون لزوم الانقلاب في النسيان،
حيث لم يؤخذ عنوانا للمكلف بل أخذ ملازمه الذي لا يوجب الالتفات إليه
انقلابا. ولابد من أخذ عنوان الملتفت أو ما يلازمه في التكليف بالتمام وإلا لكان
متوجها إلى الناسي أيضا فيلزم منه اجتماع البعثين بالإضافة إليه.
وفيه أيضا عدم تعين المنسى حتى يؤمر بما عداه بعنوان ملازم، مضافا إلى أن
وجود ذلك العنوان الملازم للنسيان عموما أو في خصوص الصلاة مع أنه أمر
وهمي لا يكون الحكم عليه فعليا إلى بوصوله، ولم يصل إلى أحد من المكلفين
مثل هذا العنوان، ومع فرض وصوله لابد أن لا يكون ملازمته عند الناسي معلومة
وإلا فيلزم الالتفات إلى النسيان فيعود المحذور المتقدم.
ثالثها: الالتزام بعدم تكليف الناسي ولو بما عدا المنسى واقعا مع كون اتيان
ما عدا المنسى ذا مصلحة ملزمة في حقه لئلا يلزم خلاف الاجماع والضرورة.
وانما لم يؤمر بما عدا المنسى لان الانشاء بداعي جعل الداعي ليس إلا لبعث
المكلف وحمله على المطلوب منه واقعا، وحيث إن الغافل غافل عن غفلته
فيرى توجه التكليف إليه لاعتقاده أن ما التفت إليه من الاجزاء هو تمام المطلوب
منه، فمع وجود ما يحركه بحسب اعتقاده لا مجال لتحريكه نحو ما عدا المنسى،
وحيث إن الفعل ذا مصلحة ملزمة في حقه ومحبوب منه واقعا فيصدر الفعل منه
قريبا.
ولا بد في هذا الوجه أيضا من تقييد الامر بالتمام بالملتفت، وإلا لو كان بعنوان
المكلف لعم الناسي واقعا فيجب عليه التمام بعد زوال غفلته، غاية الامر أن
الناسي يرى نفسه ملتفتا إلى التمام كسائر المكلفين لغفلته عن غفلته ولم يتعرض
شيخنا العلامة الأستاذ - قده - لهذا الجواب في الكتاب مع تعرضه له أيضا في
تعليقته الأنيقة على رسالة البراءة (1)، ولعله لأجل أن ما اعتقده من الامر وتحرك

(1) حاشية الرسائل للمحقق الخراساني: ص 156 والرسائل: ج 2، ص 483، س 4، لان ما كان
جزأ في حال العمد.
662

على طبقه لم يكن في حقه فلا إطاعة حقيقة للامر، حيث لا أمر، وأما محبوبيته
واقعا فكفى بها مقربه له، لكنه ما أتى بالفعل بداعي محبوبيته فما يصلح للدعوة
المقربة ما دعاه وما دعاه لا واقعية له حتى يضاف الفعل إلى المولى بسبب
الداعي من قبله. والامر وإن كان بوجوده العلمي داعيا وهو غير متقوم بوجوده
العيني لكنا قد بينا سابقا أن كون الفعل إطاعة لأمر المولى حقيقة بوجوده الواقعي
باعتبار أن الامر بوجوده العلمي صورة شخصه، فينسب إلى الصورة بالذات وإلى
مطابقها بالعرض، وإذا لم يكن لها مطابق فلا أمر من المولى حقيقة حتى يكون
الفعل إطاعة حقيقية بل انقيادا وهو حسن عقلا لا عبادة شرعا هذا، إلا إذا فرض
ترتب المصلحة على العمل المأتى به ولو بعنوان الانقياد وهو كلام آخر.
وحيث عرفت عدم خلو الأجوبة المذكورة عن المحذور فاعلم أنه يمكن أن
يقال في دفع اشكال الاستحالة بنحو لا ينافي ما وصل إلينا من الأدلة أن ما عدا
الاجزاء الأركانية يمكن أن يكون متقيدا بالالتفات إليه بأن يكون الدخيل في
الغرض الجزء الذي التفت إليه المكلف بطبعه لا الجزء عن التفات، كالصلاة عن
طهارة حتى يجب تحصيله بقيده بل القيد سنخ قيد بوجوده بطبعه ومن باب
الاتفاق، أو يكون الجزء بذاته دخيلا في الغرض لكنه لا مصلحة في الالزام به إلا
إذا التفت إليه.
وعلى أي حال فلا جزئية إلا لذات الجزء الملتفت إليه فالتكليف بنحو القضية
الحقيقية متعلق بالمكلف بالإضافة إلى كل جزء من الاجزاء المعلومة بالأدلة مع
الالتفات إليه فمن التفت إلى الجميع فهو مأمور واقعا بالجميع ومن التفت إلى
البعض فهو واقعا مأمور بالبعض وليس في أخذ الالتفات إلى ذات الجزء محذور
أخذ النسيان كما لا يلزم منه سائر المحاذير الواردة على سائر الأجوبة. ومع
معقولية هذا الاحتمال لا قطع بالامر الواقعي بالتمام بالإضافة إلى الناسي حتى
يكون الشك فيه راجعا إلى سقوطه باتيان ما عدا المنسى لحصول ملاكه به، بل
لاشك في أصل تعلق التكليف به مع الالتفات إليه. هذا كله بالنظر إلى مقام
الثبوت وامكان الامر بما عدا المنسى.
663

وأما بالنظر إلى مقام الاثبات فربما يقال (1) بأن اطلاق دليل الواجب من حيث
قطعات الزمان ومنها زمان النسيان معارض باطلاق دليل الجزئية والترجيح
للثاني. بيانه أن مقتضى اطلاق دليل الواجب الزمان النسيان هو أن الامر بالصلاة
موجود حتى في زمان النسيان، وحيث إن الامر بالمركب من المنسى وغيره غير
معقول لعدم القدرة على ايجاد المنسى فلا محالة يكون الامر متعلقا بما عدا
المنسى. ومقتضى إطلاق دليل الجزئية الوضعية لحال النسيان كون المنسى جزء
للصلاة حتى حال النسيان، وحيث إن عدم القدرة على الجزء موجب لعدم
القدرة على المركب فلا أمر بالمركب ولا دليل على أمر آخر بما عدا ذلك الجزء،
فاطلاق دليل الجزئية لا مانع منه.
وفيه: أن الجزئية تارة، تلاحظ بالإضافة إلى الوفاء بالغرض وهي من الأمور
الواقعية التي لا مدخل للعلم والجهل والذكر والنسيان فيها وأخرى، تلاحظ
بالإضافة إلى مرحلة الطلب وكون الشئ بعض المطلوب وهذه حالها حال الامر
بالمركب، لان مصحح انتزاعها هو الامر بالمركب، فإذا لم يعقل الامر بالمركب من
المنسى وغيره لم يعقل جزئية المنسى بالجزئية الوضعية الجعلية التي بيانها
وظيفة الشارع وحيث إن ظاهر الارشاد إلى الجزئية هي الجزئية شرعا لا واقعا فإنه
أجنبي عن الشارع بما هو شارع وجاعل للأحكام، فلا محالة يكون حاله حال الامر
النفسي التحليلي والمتعلق بالجزء من حيث اختصاصه بغير صورة النسيان وعدم
القدرة.
ومما ذكرنا يتبين أنه لا فرق بين أن يكون لسان دليل الجزء لسان التكليف أو
لسان الوضع، ولا فرق بين أن يكون دليل التكليف بالجزء متكفلا للتكليف
الحقيقي الذي هو انحلال الامر المنبسط على الاجزاء، أو كان إرشادا إلى الجزئية
الوضعية المعدودة من أحكام الوضع فإما أن لا يعقل الكل أو يعقل الكل بلا فرق
بين الأقسام المزبورة.

(1) أجود التقريرات: ج 2، ص 305، اما الكلام من الجهة الأولى.
664

وعن الشيخ الأعظم - قده - في رسالة (1) البراءة الفرق بين ما إذا كانت المانعية
مسببة عن التكليف النفسي كالنهي عن لبس الحرير وما إذا كان التكليف مسببا
عن المانعية فان المانعية على الأول مختصة بحال القدرة دون الثاني وعن بعض
الاعلام (2) تقريبه بان الوجوب والحرمة متضادان فعدم الوجوب متوقف على
وجود الحرمة ومع عدمها لا مانع من الامر فجعل المسألة متوقفة على توقف
عدم الضدين على الاخر، فاورد عليه بعدم التوقف وأن عدم الامر ووجود النهى
ملزومان لثالث وهي المبغوضية الناشية عن المفسدة وعدم أحد الملزومين
لخصوصية لا يوجب ارتفاع الملزوم الاخر مع بقاء علته واقعا. وفيه مواقع للنظر.
منها: دعوى ابتناء كلام الشيخ الأعظم - قده - على القول بالمقدمية في
مسألة الضد مع أن مسلكه - قده - ومسلك جل المحققين عدم المقدمية.
ومنها كونهما ملزومين لثالث وهي المبغوضية مع أن عدم الامر بعدم
المصلحة أو بعدم صلاحيتها للتأثير لأقوائية المفسدة فعله عدم الامر عدم علة
وجوده لا علة وجود ضده كما هو واضح.
ومنها: أن المفسدة الواقعية وإن كانت لا تتغير بالقدرة وعدمها إلا أن تأثيرها
في المبغوضية الفعلية المؤثرة في الزجر الجدي منوط بها فمع عدم القدرة حيث
لا مبغوضية فعلية فلا نهى فعلا فلا مزاحم لتأثير المصلحة الموجودة في وجود
الامر كما أوضحناه في مسألة اجتماع الأمر والنهي (3) وهذا هو الوجه فيما أفاده
الشيخ - قده - لا مسألة المقدمية.
نعم الكلام في الشق الاخر وهو انبعاث النهى عن المانعية علم حاله مما
قدمناه. هذا تمام الكلام في نسيان ذات الجزء وأما نسيان الجزئية ابتداء فهو
كالجهل بالحكم لا يعقل أن يؤخذ في موضوع ذلك الحكم للزوم الدور على

(1) الرسائل: ج 2، ص 481، ثم إن مرجع الشك في المانعية إلى الشك في الشرطية.
(2) فوائد الأصول: ج 4، ص 246 وأجود التقريرات: ج 2، ص 306.
(3) نهاية الدراية: ج 1، ص 531.
665

المشهور والخلف على التحقيق وقد مر مرارا أن مقتضى النظر الدقيق عدم ورود
ما تقدم من المحذور وربما يوجه ذلك بالالتزام بأمرين، أحدهما أمر عام بعنوان
المكلف توطئة وتمهيدا لأمر آخر ثانيهما تقييد ذلك الامر بما إذا التفت المكلف
إلى جزئيته بمقتضى الامر الأول فيكون ما أتى به الناسي مطابقا لذلك الامر العام
بعد تقييده بما لا جزئية له إلا في حق الملتفت وفيه أن الامر الأول إن كان بداع
البعث والتحريك الذي هو الحكم الحقيقي المقتضى للامتثال فلا محالة يكون
منبعثا عن المصلحة القائمة بذوات الاجزاء في حق المكلف بعنوانه فكيف يقيد
بالالتفات إلى جزئية بعض أجزائه في حق الملتفت إلى جزئيته. وإن كان لابداع
البعث الحقيقي فهو غير منبعث عن مصلحة الفعل، ولا هو مناط الامتثال ليكون
موافقته امتثالا من الناسي، فان الانشاء بداع التوطئة بنفسه مقدمة لأمر آخر
لا يطلب منه إلا التوطئة لفعل الامر من دون مساس له ببعث المأمور. ويمكن أن
يقال إن الامر الأول بداع البعث حقيقة وهو منبعث عن مصلحة الفعل المركب
من الاجزاء من دون دخل للالتفات بكون الفعل ذا مصلحة بل الالتفات إلى
الجزئية بهذا البعث دخيل في ترتب المصلحة على الفعل لا في اقتضائه لها، غاية
الامر أن القيد سنخ قيد لا يجب تحصيله كما مر نظيره سابقا (1) فيشك حينئذ في
شمول ذلك البعث العام بالإضافة إلى المنسى في حق الناسي فتدبر.

(1) التعليقة: 279، ص 663.
666

التنبيه الثالث: في زيادة الجزء عمدا أو سهوا
280 - قوله: حال زيادة الجزء إذا اعتبر عدمها (1) الخ:
تحقيق المقام في تحقق الزيادة بحيث لو اعتبر عدمها في المركب كان من
باب اعتبار عدم المانع لا بحيث يرجع إلى نقص الجزء يتوقف على بيان
اعتبارات الجزء، فنقول:
تارة، يلاحظ الجزء بشرط لا فيعتبر الركوع الغير الملحوق بمثله جزء في
الصلاة فمع لحوق الركوع بمثله لم يتحقق ما هو جزء الصلاة فلا موقع لاعتبار
عدمه في الصلاة من باب اعتبار عدم المانع، بل اعتبر عدمه باعتبار نفس الجزء،
فهو وإن كان زيادة في الصلاة بنحو من الاعتبار لكن مثل هذه الزيادة لاحكم لها
بما هي زيادة لما عرفت.
وأخرى، يلاحظ الجزء لا بشرط بمعنى أخذ طبيعة الجزء بنحو تصدق على
الواحد والمتعدد والقليل والكثير، فيكون من موارد التخيير بين الأقل والأكثر فلا
يتحقق موضوع الزيادة أصلا، كما لا يلزم منه النقص رأسا فيخرج عن محل الكلام
أيضا.
وثالثة، أخذ الجزء لا بشرط بمعنى اللا بشرط القسمي أي لا مقترنا بلحوق
مثله ولا مقترنا بعدمه فاللاحق لا دخيل في الجزء ولا مانع عن تحققه، والا
فمصداق طبيعة الجزء المأخوذ في الصلاة أول ركوع مثلا يتحقق منه ولكن مراد
من يقول باعتبار الجزء لا بشرط هذا المعنى لا اللا بشرط المقسمي، لان اللا
بشرط المقسمي كما مر مرارا هو اللا بشرط من حيث تعيناته الثلاثة وهي بشرط

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 244، فالعبارة هكذا، حال زيادة الجزء إذا شك في اعتبار عدمها شرطا.
667

الشئ وبشرط لا ولا بشرط، لا اللا بشرط من حيثية أخرى غير تلك الحيثيات.
وأما لحاظ الجزء بذاته مع قطع النظر عن جميع الاعتبارات فهو لحاظه بنحو
الماهية المهملة. والماهية من حيث هي وقد مر مرارا انه لا يصح الحكم عليها إلا
بذاتها وذاتياتها، لقصر النظر على ذاتها. فما عن بعض أجلاء (1) تلامذة شيخنا
العلامة الأنصاري - قدهما - أن محل الكلام هو هذا القسم الأخير غير صحيح كما
أن إرادة اللا بشرط المقسمي أيضا غير صحيحة كما عرفت، بل الصحيح
ملاحظة الجزء على الوجه الثالث.
ومن الواضح أنه لا منافاة بين عدم كون اللاحق ضائرا بالمأتى به أولا من حيث
جزئيته وكون عدمه بنفسه جزء معتبرا في المركب كما أن الركوع بالإضافة إلى
السجود مثلا كذلك فإنه مطلق من حيث فعله وتركه، ففعله غير دخيل في ذات
الجزء شرعا ولا مانع عن تحقق ذات الجزء، مع أن فعله بنفسه معتبر في المركب
على حد اعتبار الركوع، ولا فرق في هذا المعنى بين الجزء الوجودي والعدمي.
وربما يقال، تارة بأن الجزء وإن لوحظ بشرط لا إلى أن لحوق الجزء وإن كان
موجبا لنقص الجزء السابق لكنه لا منافاة بينه وبين كونه زيادة عرفا، وقد مر دفعه
بأنه لا كلام في زيادته عرفا إلا أن مثله لا يعقل أن يكون له اعتبار المانعية شرعا
بعد فرض اعتبار عدمه شرعا بعين اعتبار الجزء بشرط لا، وأخرى بأن الجزء هو
ناقض العدم وهو أول الوجودات فلا محالة يكون ما عداه زيادة. وفيه، أن اعتبار
أول الوجودات إن كان بنحو البشرط لائية أي لا غيره عاد محذور البشرط لائية
وإن كان بنحو اللا بشرطية من حيث الوحدة والتعدد، لان الاثنين والثلاثة فرد
واحد للطبيعة الجامع بين الأقل والأكثر فيكون ناقض عدم الطبيعة تارة هو الأقل
وأخرى هو الأكثر، فتعود محذور عدم تعقل الزيادة فلابد من فرض اللا بشرطية
بالمعنى الذي قدمناه.
كما أن ما أجيب به ثالثة من أن المعتبر جزء عدد خاص فيكون غيره زائدا

(1) بحر الفوائد: ج 2، ص 181 ذيل قوله - قده - المسألة الثانية في زيادة الجزء عمدا - أقول...
668

عليه. مدفوع، بان مراتب الاعداد إذا لوحظت بحدها الذي بتحقق به تعدد
المرتبة فمعناه ملاحظة العدد بشرط لا، فعاد المحذور وإن لم يعتبر إلا ذات
العدد فالواحد في ضمن الاثنين محفوظ أيضا، كيف والاعداد تتقوم بالآحاد
وعليه فالواحد الملحوظ لا بشرط يوجب عود المحذور اللا بشرطية، فالصحيح
في معنى اللا بشرطية ما ذكرناه من دون لزوم التزام بهذه التكلفات فافهم
واستقم.
وإذا عرفت أن تحقق أصل زيادة الجزء منوط بملاحظة الجزء بنحو اللا بشرط
القسمي على الوجه الثالث. فاعلم أن مثل هذا الزائد إذا اعتبر عدمه في المركب
كان ذلك زيادة من وجه ونقصا من وجه آخر، فمن حيث نفسه زيادة ومن حيث
إن نقيضه معتبر بنفسه في المركب نقص في المركب فكونه زيادة لا يتوقف على
ثبوت حكم من الشارع بخلاف كونه نقصا فإنه بملاحظة اعتبار عدمها في
المركب بأدلة مانعية الزيادة التي لا معنى لها إلا اعتبار عدمها في المركب. ثم إن
اعتبار عدم شئ في المركب بأحد نحوين.
إما بعنوان الجزئية فيكون المركب مؤتلفا من أجزاء وجودية وعدمية.
وإما بعنوان الشرطية الحقيقية، فان الشرط بمعنى ماله دخل في فعلية تأثير
المركب أثره أمر خارج عن المركب من الاجزاء، فنقيض هذا العدم زيادة نفسه
ونقص الشرط بلحاظ حكمه وهو اعتباره في المركب بنحو الشرطية. وأما التقيد
الراجع إلى المقوم فالمركب بما هو لا وجود له غير وجود أجزائه حتى يتصور
تقيده بشئ مع لا بشرطية أجزائه فلا محالة يرجع إلى أخذ اجزائه بشرط لا،
فيخرج عن محل الكلام. فان اعتبار العدم ح بنفس اعتبار الاجزاء الخاصة لا
باعتبار عدم المانع في المركب وحيث إن جزئية الامر العدمي للمركب المؤثر في
وجود شئ غير معقولة فلا محالة ليس اعتبار هذا العدمي إلا بنحو الشرطية،
لكون نقيضه مانعا عن تأثير المركب وعدم المانع شرط فالشرطية في مقام
الثبوت تابعة للمانعية. وفي مقام الاثبات ربما يكون الامر بايقاع الصلاة في حال
669

عدم شئ، فالشرطية مستفادة بالأصالة والمانعية بالتبع وربما يكون النهى عن
ايقاع الصلاة في حال وجود شئ فالمانعية مستفادة بالأصالة والشرطية بالتبع
فتدبر.
281 - قوله: وإلا لم يكن من زيادته بل من نقصانه الخ:
قد عرفت الوجه فيه (1) إلا أن الحكم بعدم كونه زيادة باعتبار عدم صلوحه
للحكم عليه بالمانعية حيث إنه اعتبر عدمه بنفس اعتبار الجزء لا باعتبار نفس
موضوع الزيادة، فإنه زيادة موضوعا في المركب بناء على أن مجرد الزيادة المأتى
به بقصد الجزئية لا بمعنى ما يوافق الجزء بحده فان الجزء بحده هو الركوع مثلا
بشرط لا لا ذات الركوع الا انه لا حكم لها. وعليه فإن قلنا بأن الجزء اللاحق منهى
عنه لكونه نقيضا لما اعتبر في الجزء المأمور به أو لحرمة إبطال العمل فلا يمكن
التدارك به. وأما إن قلنا بان نقيض الخاص تركه وهو المنهى عنه وترك ذات
الخاص كترك الخصوصية لازم النقيض وحرمة الشئ لا تسرى إلى لازمه وأن
الابطال المحرم إبطال العمل التام كالصلاة لا مثل جزء الصلاة، فلنا أن نقول
بامكان جعل الركوع الثاني مثلا المفسد للأول تداركا له حيث إن الامر بالركوع
الخاص باق على حاله وسقوط الركوع الأول عن القابلية لوقوعه امتثالا لامره
مقارن لوقوع الثاني امتثالا للامر الخاص فلا نقص كما لا زيادة موضوعا وحكما،
إلا أن يقال إن الجزء اللاحق حيث إنه مصداق للمأمور به لغرض وقوعه بشرط لا
فلا يعقل أن يكون محققا للزيادة.
بل قد عرفت أن مثل هذه الزيادة لا يمكن اعتبار مانعيته إلا أن الجزء
السابق - بعد سقوطه عن الصلاحية لوقوعه مصداقا للجزء بشرط لا - تكون
مصداقا للزيادة بقاء بحيث يمكن اعتبار مانعيتها، حيث لا مانع منه ولو نوقش في
شمول الزيادة للزيادة من حيث البقاء، لعدم وقوعه زيادة حال حدوثه، فلا مانع
من اعتبار الزيادة إذا قصد اتيان ذات الجزء ملحوقا بمثله فإنه زيادة من حال
حدوثه فتدبر.

(1) التعليقة: 280، ص 667.
670

ثم إن هذا كله إذا أريد بالبشرط لائية (1) عدم لحوقه بمثله ولو كان أعم من
عدم لحوقه وعدم سبقه بمثله فلا يحق شئ من الركوعين مصداقا للجزء فالأول
يوجب نقص الثاني والثاني يوجب نقص الأول فكل منهما حيث أتى بهما بقصد
الجزئية يكون زيادة فتدبر.
282 - قوله: وذلك لاندراجه في الشك في دخل شئ (2) الخ:
أما إذا كان اعتبار عدم الزيادة بنحو الجزئية في المركب، فلان الجزء العدمي
كالوجودي في انبساط الامر على كل جزء فينحل عقلا عندنا كما أنه لا فرق
بينهما في دفع الجزئية المشكوكة عندنا وعنده - قده -.
نعم، أصل جزئية العدم غير معقول وفرض مانعية الزيادة فرض شرطية
عدمها لا فرض جزئية عدمها. وأما إذا كان اعتبار عدم الزيادة بنحو الشرطية
للمركب فقد عرفت (3) سابقا أن الشرطية الحقيقية المنبعثة عن دخل الشئ في
فعلية ترتب المقتضى على (4) المقتضى قابلة للانحلال، لان الشرط الخارج عن
حقيقة المركب لا يعقل أن يكون مرادا بنفس إرادة المركب بل بإرادة أخرى. فإذا
شك فيها مع القطع (5) بإرادة ذات المركب جرى فيها البراءة عقلا ونقلا نعم،
الشرط بمعنى مقوم الجزء لا يجرى فيه البراءة عقلا، لكن تقوم المقتضي
للأثر الوجودي بأمر عدمي غير معقول، وليس اعتباره اعتبار عدم المانع بل
اعتبار مقوم الجزء فما هو قابل لاعتبار صحيح يجرى فيه البراءة عقلا ونقلا
وما لا يجرى فيه غير معقول في حد ذاته.
فان قلت: فعلية اعتبار الجزء بشرط لا غير معقول.
قلت: أولا: إن كونه بشرط لا معناه شرطية العدم للجزء حقيقة، بمعنى أن
فعلية وفاء الجزء بالغرض عند انضمام سائر الأجزاء منوط باقترانه بعدم الزيادة

(1) (خ ل): بالشرط لاتيه.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 244، س 4 وكفاية الأصول: 368، (ت، آل البيت).
(3) التعليقة: 280، ص 667.
(4) (خ ل): أعلى...
(5) (خ ل): قطع القطع.
671

لا أن اقتضاء الجزء منوط به.
وثانيا، يمكن أن يكون المراد من الجزء بشرط لا هو الجزء الخاص الملزوم
لأمر عدمي فاعتبار أول ركوع في المركب أو الموصوف بصفة الوحدة أمر ثبوتي
ملزوم لأمر عدمي فجزء المقتضى أمر ثبوتي محض وإن كان تحديده بأمر عدمي
يلزمه فتدبر.
283 - قوله: نعم لو كان عبادة وأتى به كذلك على نحو (1) الخ:
لما بين - قده - ان مقتضى البراءة نقلا عدم مانعية الزيادة وعدم اعتبار عدمها
في المركب أراد أن يبين عدم المانع من حيث الامتثال أيضا إلا في بعض الصور.
وبيانه أن الآتي بالزيادة إذا كان العمل عبادة إما أن يأتي بها بقصد الجزئية شرعا أو
تشريعا.
والأول: على قسمين.
أحدهما: أن يكون الامر الخاص المتشخص بموضوعه الخاص بحده
يدعوه إلى اتيان هذا الخاص المشتمل على الزيادة بحده بحيث لو لم يكن
مشتملا على هذه الزيادة لما كان الامر داعيا له، وهذه الحيثية لبيان دعوة الامر
الخاص بنحو خاص لا أن عدم دعوته على تقدير عدم الجزئية مناف لوقوع
العمل عبادة، لان القضية التقديرية لا تنافي الدعوة الفعلية. وعليه يجب عليه
الإعادة بعد الالتفات إلى أن الامر لم يكن كما اعتقده - سواء قطع بعدم جزئية
الزائد أولم يقطع بعدمها بل بقى مترددا - لأنه على أي تقرير لم يقطع بموافقة
المأتى به للمأمور به بحده والمفروض انه دعاه الامر إلى المأتى به بحده وإن كان
فرض الكلام في الزيادة وبيان حكمها هو فرض الالتفات إلى الزيادة وأنه لا دخل
لها في المأمور به فيقطع بعدم كون المأتى به موافقا للمأمور به بحده كما أن ما
أفاده - قده - (2) لبيان حكم المعتقد للجزئية بعد زوال اعتقاده لا لبيان الواقع في

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 244 وكفاية الأصول: 369، (ت، آل البيت).
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 244.
672

نظير الغير وإلا فلا شبهة انه زيادة وان العمل على الوجه المزبور باطل، لعدم
حصول الامتثال لا لمانعية الزيادة شرعا ولا لبيان حكم المعتقد مع بقائه على
اعتقاده، فإنه لا مجال للحكم عليه بالإعادة بقاعدة الاشتغال.
نعم، كان الأنسب أن يحكم بالإعادة سواء كان الزائد دخيلا في المأمور به
واقعا أم لا مع أن ظاهره - ره - (1) الترديد بين بطلان العمل مطلقا أو في صورة عدم
الدخل. ومما ذكرنا تبين أن - كما عن بعض الأجلة - قده - (2) - تعليل البطلان " بان
المأمور به واقعا إما بشرط لا أولا بشرط فقد قصد خلاف الامرين " لا يخلو عن
مسامحة، إذ كون المركب بشرط لا مفروض العدم لجريان أدلة البراءة في نفي
اعتبار عدم الزيادة في المركب فلا قطع بأنه مخالف للمأمور به الواقعي بل مجرد
احتمال عدم موافقة المأتى به للمأمور به كاف في الحكم بالإعادة إذا دعاه الامر
على الوجه المتقدم لا مطلقا.
ثانيهما: أن يكون الامر داعيا إلى متعلقه وان اعتقد أن متعلقه هذا الخاص
فهو قاصد لامتثال الامر على ما هو عليه لا إلى هذا الخاص بما هو بحيث يكون
للامر به ولدعوته إلى الخاص بما هو خاص خصوصية في نظره في مقام امتثال
أمر المولى بما هو أمره فإنه عناية زائدة على امتثال الامر بما هو، فالمأتي به
موافق للمأمور به الواقعي والزيادة غير ملحوظة في مقام امتثال الامر الواقعي
على ما هو عليه فإنه على الفرض قاصد لامتثال الامر الواقعي على ما هو عليه
بما يأتي به خارجا واعتقاد جزئية الزائد للمأمور به لا يضر بامتثال الامر حيث
لم يقيده به على الفرض وان اعتقد تقيده به فتدبر.
والثاني: وهو الاتيان بقصد الجزئية تشريعا فهو يتصور على وجوه.
أحدها: أن يشرع في الامر بالمشتمل على الزائد فيبنى على صدور الامر من
الشارع متعلقا بما يعم الزائد، ويأتي بما بنى على تعلق الامر به أعمالا لبنائه

(1) المصدر المتقدم: ذيل قوله - ره - نعم....
(2) بحر الفوائد: ج 2، ص 182.
673

وتتميما لفرضه وانجازا لتشريعه، فالفعل صادر عن أمر فرضي بنائي لا واقع له
فلا امتثال للامر الواقعي بوجه.
ثانيها: أن يبنى على أن الامر الواقعي أمر بما يعم الزائد فهو في الحقيقة من
باب تطبيق الامر الواقعي على ما فرضه من الامر، فإنما يأتي بما يأتي به امتثالا
للامر الواقعي بعد البناء على أنه بنفسه أمر بما أتى به بحده، فهو تصرف منه في
أمر عقلي بدعوى تطبيق الامر المحقق على ما نزله منزلته، فالعمل صادر عن
نفس الامر الواقعي بعد تنزيله منزلة الامر بما يعم الزائد.
ثالثها: أن يبنى على أن المأتى به مطابق للمأمور به من دون تصرف في الامر
لا أصلا ولا تطبيقا بل تصرف في ما يوافق متعلقه فالمأتي به صادر عن الامر
الواقعي بعد تنزيل المأتى به منزلة المأمور به تطبيقا لا تعلقا فان دعوى كون
المأتى به في حد ذاته هو المأمور به مرجعه إلى دعوى تعلق الامر به بخلاف
دعوى أن المأتى به خارجا مطابق للمأمور به، فإنه تشريع في مرحلة الامتثال
وكون مثله داخلا في التشريع الذي هو شأن المولى ليكون تصرفا منه في سلطان
المولى حتى يكون قبيحا عقلا كما في القسمين الأولين باعتبار أن الفعل المأتى
به موجود تسبيبي منه تعالى لرجوع أمره تعالى إلى التسبيب إلى ايجاد الفعل من
المكلف فجعل الفعل المأتى به بحيث ينطبق عليه المأمور به هو دعوى انه
موجود تسبيبي منه تعالى فله مساس بالمولى وبما هو تحت سلطانه بهذه
الملاحظة وبهذا الاعتبار يمكن دعوى أن التشريع عنوان الفعل.
رابعها: أن يبنى على وجوب غيري منبعث عن الامر الواقعي بالإضافة إلى
الزائد أو يبنى على اقتضاء من قبل الامر الواقعي بالإضافة إليه فلا تشريع في أصل
الوجوب النفسي المتعلق بالمركب ولا في سائر اقتضائاته لسائر الاجزاء فما عد
الزائد منبعث عن أمر محقق ينبعث منه وجوبات غيرية حقيقية أو عن اقتضائات
واقعية للامر المحقق ونفس الزائد قد انبعث عن ايجاب غيري مفروض أو عن
اقتضاء فرض ولا يضر هذا البناء، والفرض الغير المحقق بذلك الامر المحقق
والاقتضائات المحققة فتدبره فإنه حقيق به. ثم إن هذا كله إذا أتى بالزائد بقصد
الجزئية استقلالا.
674

وهنا صورتان أخريان ذكرهما الشيخ الأعظم - قدس سره - في الرسائل (1).
إحديهما: أن يأتي بالزائد والمزيد عليه معا جزء واحدا، وذلك لا يكون إلا
إذا اعتقد كون الجزء جنس الركوع الصادق على الواحد والمتعدد، وهو بمجرده
غير مجد، لسقوط الامر بمجرد اتيان الركوع الأول، بل لابد من فرض طبيعي
الركوع بنحو ينطبق على الواحد بشرط لا وعلى المتعدد كما تصورناه في التخيير
بين الأقل والأكثر، وقد بنى الشيخ الأعظم - قده - على صحة هذا الفرض، إذ لا
مانع إلا مانعية الزيادة واعتبار عدمها، وبعد إجراء البراءة عقلا ونقلا يكون العمل
صحيحا.
وأنت خبير أن حيثية مانعية الزيادة شرعا مغايرة لحيثية اخلالها بالامتثال
عقلا، فتصحيح هذه الصورة بعدم مانعية الزيادة شرعا وابطال الصورة الأولى في
كلامه بالاخلال بمقام الامتثال بلا وجه لاشتراكهما معا في عدم مانعية الزيادة
كاشتراكهما في الاخلال بمقام الامتثال. والتحقيق ما عرفت من أن الامر إذا كان
داعيا إلى متعلقه بحده الخاص كان مضرا بالامتثال وإلا فلا، فراجع.
ثانيهما: ما إذا أتى بالزائد بدلا عن المزيد عليه إما لفساد الجزء السابق أو
لرفع اليد منه مع فرض صحته، فإن كان لفساد السابق فالزائد هو الجزء الفاسد وإلا
فالثاني واقع موقعه ولا يعتبر في الزيادة إلا الاتيان بقصد الجزئية، والمفروض أن
المأتى به أولا كذلك ولا يشترط في صدق الزيادة في المركب سبقه بمثله، ولا
قصد عنوان الزيادة ولا كونه ممضى شرعا، كما ربما يتوهم، كما لا موجب لتوهم
أن تداركه يوجب اتصافه بالزيادة فلم يقع حال حدوثه زيادة بل التدارك موجب
لسد باب النقص في المركب فقط.
وأما كون الأول زيادة فيكفي فيه مجرد اتيان عمل بقصد الجزئية بحيث لا
يحسب من الصلاة شرعا. نعم، لو أمكن إفساد الجزء الصحيح كان من باب لحوق
وصف الزيادة مع أن الكلام في مانعية هذا الجزء الفاسد شرعا سمى زيادة أم لا،

(1) الرسائل: ج 2، ص 487.
675

كان كذلك حدوثا أو بقاء وإن كان لرفع اليد عن الجزء الصحيح فهو، تارة برفع اليد
عن جزئيته بهدمه واسقاطه وجعله كأن لم يكن، وأخرى يرفع اليد عنه بتبديل
الامتثال بامتثال أفضل بجعل الامتثال مستقرا على الثاني فقط.
فعلى الأول لا زيادة أصلا لسقوط الأول عن الجزئية فلا شئ حتى يتصف
بالزيادة بقاء كما أنه لم يكن حدوثا زيادة لوقوعه في محله والثاني واقع في موقعه
بعد هدم الأول. وعلى الثاني يكون الجزء المأتى به أولا زيادة بقاء لا حدوثا،
لأنه حال حدوثه اتى به بعنوان امتثال الامر به وانما سقط عن هذه الحيثية بعد
جعل الامتثال مستقرا على الثاني، وقد مر أن البحث عن مانعيته غير منوط
بعنوان الزيادة إلا أن اخبار الزيادة ربما يدعى عدم شمولها لما صار زيادة بل لما
أوجد زيادة. وأما امكان رفع اليد عن الجزئية أو امكان تبديل الامتثال بامتثال اخر
فقد أشبعنا الكلام في الثاني في الجزء الأول من الكتاب في مسألة (1) الاجزاء.
وأما الأول فمجمل القول فيه انه ربما يقال إن التركيب في المركبات
الاعتبارية اعتباري منوط باعتبار الفاعل وارادته فمتى رفع اليد عما اعتبره جزء
من المركب فقد اختار التيام صلوته مما عداه فيكون رفع اليد عن الجزء في
المركبات الاعتبارية بمنزلة هدم البناء والاسقاط في المركبات الحقيقية.
والجواب أن الفرق بين المركبات الحقيقية والمركبات الاعتبارية كما أوضحناه
في محله هو أن المركب، تارة يتألف من جزئين بحيث يكون لكل منهما جهة
افتقار إلى الاخر بحيث يكون أحدهما ما به القوة للاخر والاخر ما به الفعل لما به
القوة فلا يكون هناك إلا فعلية واحدة كالمادة والصورة لتأبى كل فعلية عن فعلية
أخرى فلا محالة يكون لهما الوحدة الحقيقية مع قطع النظر عن أمر خارج عن
مقام ذات المركب، وحيث انه (2) للافتقار الموجب لتقوم كل من الجزئين بالآخر
حقيقي تكون الجزئية حقيقية وحيث انه لهما فعلية واحدة فالتركب والاتحاد
حقيقيان وينحصر ذلك في النوع المركب من المادة والصورة، وأخرى يتألف من

(1) نهاية الدراية: ج 1، ص 269.
(2) (خ ل): إن الافتقار.
676

جزئين أو من اجزاء بحيث يكون لكل واحد فعلية مبائنة لفعلية الاخر فلا محالة
لا جزئية بالذات ولا وحدة بالذات فلا تركب بالذات بل لو فرض جزئية ووحدة
وتركب فبلحاظ أمر آخر، كما في الصلاة المركب من افراد مقولات متبائنة فان
جهات الوحدة عرضية فان جهة الوحدة إما قيام غرض واحد بها أو قيام لحاظ
واحد بها أو تعلق طلب واحد بها، فالواحد بالحقيقة إما الغرض أو اللحاظ أو
الطلب وتلك الأفعال المتعددة ذاتا ووجودا واحدة بالعرض وبالاعتبار فكلها كل
ما يفي بالغرض أو كل الملحوظ أو كل المطلوب ولك واحد منها بعض ما يفي
بالغرض أو بعض الملحوظ أو بعض المطلوب فهذا معنى اعتبارية التركيب
واعتبارية الوحدة واعتبارية الجزئية لا ان اعتبار شئ جزء من شئ مناط جزئيته
للمركب. وقد ذكرنا في محله (1) أيضا أنه لا معنى لجعل المركب واختراعه
واحداثه شرعا إلا جعله في حيز الطلب شرعا فإنه الجعل التشريعي وإلا
فالماهية من حيث هي لا مجعولة ولا غير مجعولة وجعلها التكويني في الماهية
الشخصية سواء تعلق الجعل بها أو بوجودها قائم بالمصلى لا بالشارع واعتبارها
في مقام الطلب ليس إلا لحاظها مقدمة للحكم عليها كما في كل موضوع وحكم
فلا دخل له بالاحداث والجعل والاختراع وعلى أي حال فهو اعتبار جاعل
الحكم لا جاعل الفعل تكوينا حتى يتقوم جزئية الجزء باعتبار المصلي ليرتفع
برفعه فتدبر جيدا.
284 - قوله: ويأتي تحقيقه في مبحث الاستصحاب (2) الخ:
حيث إنه - قده - لم يف بما وعده فرأينا من المناسب الوفاء بوعده - قده - هنا
فنقول تحقيق حال استصحاب الصحة موقوف على تحقيق المراد من المانع
والقاطع حتى يعلم أن الصحة المستصحبة بأي معنى
وملخص الكلام: انه ليس المانع كل ما اعتبر عدمه في المركب بنحو الجزئية

(1) نهاية الدراية: ج 1، ص 55.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 245 وكفاية الأصول: ص 370، (ت، آل البيت).
677

أو بنحو الخصوصية المقومة للجزء، بل العدم المأخوذ في المركب ما اخذ بنحو
الشرطية بمعنى دخل في فعلية التأثير ولا دخل للعدم بما هو عدم شئ في
التأثير جزءا بل (1) لكون وجوده البديل له مانعا والمانع ما يزاحم المقتضى الاخر
في التأثير فلا محالة يكون عدمه شرطا في فعلية التأثير وإلا لزم انفكاك المعلول
عن علته التامة. وتقريب مانعيته بفرض كون كل جزء يوجب مقدارا من
الاستعداد الذي يتم شيئا فشيئا إلى أن يحصل المستعد له المترقب حصوله من
المركب والمانع يرفع ذلك الاستعداد ويبطله فيزاحمه إذا كان بعده بقاء، كما
يدفعه إذا كان مقارنا له حدوثا، وبعد بطلان الاستعداد الحاصل من الجزء السابق
يستحيل تأثير الجزء اللاحق، لأنه يوجب تكميل الاستعداد السابق، والطفرة
مستحيلة، أو بفرض كون كل جزء يوجب مقدارا من القرب والأثر الناقص
فيستكمل شيئا فشيئا إلى أن يتم الأثر، ويحصل الأثر الكامل المترقب من
المركب والمانع يرفع هذا الأثر فيستحيل حصول المراتب المكملة له.
وربما لا يكون المانع رافعا للأثر بل دافعا فقط لتأثر اللاحق، فيوجب وقوف
الاستعداد الحاصل على حده، ويمنع عن استكماله فقط.
وربما يكون الرفع والدفع معا وحينئذ فلا يبقى شأن للقاطع إلا دعوى أن
المركب مؤتلف من جزء مادي - وهي التكبيرة والقرائة إلى اخر الاجزاء - ومن
جزء صوري - وهي الهيئة الاتصالية المستكشفة عن التعبير بالقاطع - فالقاطع
ليس شانه ابتداء رفع أثر الجزء المادي أو الصوري، فإنه شأن المانع بل شانه رفع
نفس الجزء الصوري فهو مناف لنفس الجزء الصوري ومضاد له، لا أنه رافع لاثره
كي لا يبقى فرق بينه وبين المانع.
إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم: أن الصحة المستصحبة ليست بمعنى موافقة
الامر حتى يقال إنها متيقنة (2) بالفعل لا مشكوكة ولا بمعنى أن الاجزاء السابقة
بحيث لو انضمت إليها الاجزاء اللاحقة لحصل المركب حتى يقال إن الشرطية

(1) (خ ل): قابل - جزافا.
(2) (خ ل): منبعثة.
678

متيقنة (1) بالفعل أيضا، ولا ينافي القطع بها الشك في امكان الانضمام بعد
عروض العارض المشكوك، فان صدق الشرطية لا يستدعى صدق طرفيها بل
بمعنى بقاء الاجزاء السابقة على ما كان لها من الاستعداد المترتب عليه، أو ذلك
الأثر الناقص الحاصل منها، فإن بقائهما بعد عروض العارض مشكوك
فيستصحب، فالصحة بمعنى التمامية من حيث الأثر، فالاستصحاب من حيث
اليقين السابق والشك اللاحق لا محذور فيه إلا أن الأثر المترقب منه أمران.
أحدهما: عدم وجوب استيناف الاجزاء السابقة.
وثانيهما: حصول المركب بانضمام ذوات الاجزاء اللاحقة، فان ترتب الأول
ظاهرا لا يقتضى التعبد بالثاني إلا على الأصل المثبت. وترتب كل منهما على
الصحة المستصحبة لا يخلو عن إشكال.
أما الأول: فإن وجوب الاستيناف وعدمه ليسا حكمين جديدين من الشارع
بحيث يترتب الأول على فساد الاجزاء السابقة والثاني على صحتها، بل إما
حكمان عقليان مترتبان على بقاء الامر وسقوطه كما في وجوب الإعادة وعدمه
بعد العمل، أوهما عبارتان عن نفس بقاء الامر وسقوطه. وعدم قبول الأول
للتعبد واضح وترتب الثاني كذلك عند التحقيق. فان المجعول هو الامر بالاجزاء
وعدم الامر بها لابقاء الامر مع عدم اتيانها وسقوطه مع اتيانها فإنهما أيضا عقليان
لا شرعيان فان متعلق الامر المقوم له والمطلوب به هو المترتب عليه الحكم
شرعا بعين تعلقه به ليس عدم اتيانه خارجا، كما أنه ليس متعلق عدمه عين
اتيانه الخارجي، فليس الترتب شرعيا إلا بالإضافة إلى نفس متعلقه المطلوب
تحصيله أو متعلقه الذي يطلب تحصيله.
وعليه فمقتضى الأصل في نفس الحكم هنا هو بقاء الامر باقتضائاته، إذ ليس
عدم المانع جزء في عرض سائر الأجزاء حتى يقال إن الامر الغيري متعلق بذات
الجزء وحينئذ يسقط قهرا باتيان ذات الجزء يناء على عدم القول بالمقدمة
الموصلة أو أن اقتضاء الامر النفسي يسقط شيئا فشيئا باتيان ذوات الاجزاء

(1) (خ ل): منبعثة.
679

فيرجع الشك إلى عود الامر المقدمي أو عود اقتضاء الامر النفسي بعد بطلان
المقدمة بسبب وجود العارض المشكوك بل لو كان عدم العارض مأخوذا في
المركب لكان مأخوذا بنحو الشرطية فيكون بسقوط الامر الغيري أو اقتضائات
الامر النفسي منوطا واقعا بحصول الشرط ليقع الجزء على ما ينبغي وقوعه عليه
من التأثير بسبب وجود ماله دخل في فعلية تأثيره، وحينئذ يشك في أن الاقتضاء
سقط لعدم دخل لعدم العارض فيه أو باق على حاله لدخله في سقوطه.
ومنه تعرف ما فيما أفاده بعض الأجلة - قده - (1) من أن الامر الغيري بالجزء
اللاحق تعليقي قبل اتيان الجزء السابق، وتنجيزي بعد اتيانه، فيشك بعد عروض
العارض في سقوط الوجوب التنجيزي، وذلك لان وصول النوبة إلى فعلية الامر
باللاحق أو فعلية اقتضائه مشكوك، فلا معنى لاستصحابه.
وأما الثاني فلان حصول المركب - بانضمام سائر الأجزاء إلى الاجزاء
السابقة - لازم عقلي لبقاء الاجزاء السابقة على ما كان عليه من الاستعداد والأثر
الناقص فلا يترتب على التعبد ببقائها، وأما دعوى استلزام التعبد ببقاء الاجزاء
السابقة على ما هي عليه للتعبد بحصول المركب من انضمام الاجزاء اللاحقة
عرفا كما في نظير المقام (2) عن شيخنا العلامة - رفع الله مقامه - فمدفوعة
بأن ما استثناه شيخنا - قده - في البحث عن الأصل المثبت صورتان لا ينطبق شئ
منهما على ما نحن فيه.
إحديهما: التعبد بأحد المتضايفين فإنه تعبد بالآخر نظرا إلى أنه كواحد ذي
وجهين.
ثانيتهما: التعبد بالعلة التامة أو الجزء الأخير منها، فإنه يستلزم التعبد
بالمعلول عرفا وإن كانا اثنين، ومن الواضح أنه لا تضائف بين القابلية والفعلية

(1) تعليقة المحقق الهمداني للرسائل: ص 113، وإن شئت قلت في توجيه استصحاب الصحة
بتقريب آخر...
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 327 وحاشية الرسائل: ص 220.
680

على تقدير الانضمام، كيف المتضايفان متكافئان في القوة والفعلية، فلا يعقل
فعلية القابلية وتقديرية مضائفها، وأما القابل والمقبول فهما متضايفان إلا أن
مضائف القابل هو المقبول في مرتبة ذات القابل لا في مرتبة وجوده الخاص به
في نظام الوجود. ومن البين أن وجوده في مرتبة ذات القابل لا يجدى شيئا،
كما هو واضح، ومن البديهي أيضا أن الاجزاء السابقة وإن كانت من علل قوام
المركب لكنها ليست علة تامة له ولا جزئها الأخير.
ودعوى الاستلزام بوجه آخر غير الوجهين المتقدمين بلا وجه. نعم،
استصحاب حصول المركب على تقدير انضمام ذوات الاجزاء اللاحقة إلى
السابقة قبل عروض العارض لا مانع منه في نفسه إلا أنه لا يترتب عليه أثر إلا
سقوط الامر بالمركب، وقد مر أنه عقلي لا جعلي فتدبر جيدا. هذا كله في
استصحاب الصحة بلحاظ المانع.
وأما بلحاظ القاطع فربما يستصحب بقاء الهيئة الاتصالية بعد عروض
العارض، فان بقاء تلك الهيئة الواحدة بوحدة اتصالية مشكوك فيستصحب إما
بالمسامحة في موضوعها أو بالمسامحة في نفس المستصحب، إلا أن اعتبار
القاطع بهذا المعنى في قبال المانع بلا موجب إلا مجرد التعبير بالقاطع. والتحقيق
أن الهيئة الاتصالية والجزء الصوري للمركب غير معقولة سواء أريد بها الجزء
الصوري حقيقة أو اعتبارا أو عنوانا.
أما حقيقة، فلأن الصلاة مركبة من مقولات عرضية متبائنة وليس للاعراض
مادة وصورة خارجية لأنها بسائط وجنسها وفصلها عقليان، فلا يعقل أن يكون
لواحد منها جزء صوري حقيقي فضلا من أن يكون لمجموعها جزء صوري
حقيقي.
وأما عنوانا واعتبارا فلان الحركة والاشتداد والوحدة الاتصالية لا تكون إلا في
بعض المقولات فضلا عن الاعتبارات ولا يوصف العناوين الاعتبارية بالاشتداد
والاتصال إلا بتبع معنوناتها، وهي مقولات متبائنة، بل لو كانت افراد مقولة واحدة
681

لم يعقل جريان الاشتداد فيها، فان شرطه (1) الوحدة وليس هنا وجود واحد من
مقولة حتى يتحرك من حد إلى حد فلا يعقل هيئة اتصالية حقيقية ولا اعتبارية
لاجزاء الصلاة.
فان قلت: ما ذكرت من التبعية انما هو في الأمور الانتزاعية التابعة لمناشئ
انتزاعها في الوحدة والتعدد فلم لا يكن من الاعتبارات المختصة، فكما أن
الصلاة واحدة بالاعتبار إما لوحدة الغرض وإما لوحدة الطلب فلتكن واحدة
باعتبار آخر وهو وحدة العنوان الاعتباري المنطبق على المجموع لا على كل
جزء حتى لا يلزم الخلف من فرض وحدة العنوان.
قلت: فمع تخلل هذا المسمى بالقاطع لا يتحقق العنوان من رأس، فإنه فرض
انطباقه على المجموع فلا واحد حتى يقطعه ويزيل (2) الاتصال الحقيقي أو
الاعتباري إلا أن يقتصر على هذا المقدار من الفرق بين المانع والقاطع، وهو أن
الشئ المتخلل إذا كان مقتضيا لما ينافي أثر الجزء فهو مانع، وإذا كان ضدا بنفسه
للامر الاعتباري فيمنع عن تحققه لا عن تأثيره فهو قاطع، ومع هذا كله فالالتزام
بالقاطع المقابل للمانع ولو بهذا المعنى بل ملزم بلا القاطع سنخ من المانع، فان
المانع، إذا كان مقارنا للشئ أو لأول العمل كان دافعا محضا، وإذا كان بعده كان
رافعا محضا، وإذا كان في أثنائه كان رافعا لما سبقه ودافعا لما لحقه. وهذا
الاعتبار اختص المانع الواقع في أثناء العمل بالقاطع، والحدث المقارن لأول
الصلاة مانع دافع، والواقع في أثنائه قاطع والواقع بعد الوضوء ناقض له ورافع
لاثره.
ثم إن هذا كله في استصحاب الصحة من حيث المانع أو القاطع. وأما جريان
الأصل في المانع - سواء كان الشك في مانعية أمر موجود أو وجود المانع -
فتحقيق القول فيه، أما إذا كان الشك في المانعية فلا أصل فيها. بيانه: أن المعروف

(1) (خ ل): شرطة.
(2) (خ ل): يقطعه يزيل.
682

إن المانعية مستفادة من النهى الغيري، ومن البين أن النهى الغيري، تارة يكون
ذاتيا وهو فيما إذا كان محرم نفسي يتوقف على مقدمة، فمقدمته الأخيرة أو
مطلق المقدمة حرام غيري مع أنه ليس هناك نهى عن شئ ينبعث منه نهي عن
الصلاة المقترنة بوجود المسمى بالمانع. وأخرى يكون عرضيا وهو ما إذا أمر
بمركب مقرون بعدم شئ فيكون ذلك العدم واجبا غيريا بالذات، ونقيضه - وهو
وجود المانع - حرام غيري بالعرض، وإلا فمن الواضح أن كل حكم لا ينحل إلى
حكمين نفيا واثباتا.
ومنه يتضح للمتأمل أن المجعول بالجعل التشريعي التبعي شرطية عدم
المانع الواقعي لا مانعية وجوده، لعدم تعقل النهى الغيري الذاتي وعدم الجدوى
في النهى الغيري العرضي، حيث إنه ليس من حقيقة الحكم المجعول بل ينسب
إليه بالعرض والمجاز، بل هذا النهى الغيري العرضي أيضا لا يصحح انتزاع
المانعية، فان المصحح لانتزاع الجزئية أو الشرطية هو الامر النفسي بالمركب
والمقيد بما هو دون الوجوب الغيري بل الوجوب الغيري متفرع على جزئيته
وشرطيته، فإذا كان الوجوب الغيري المتعلق بعدم شئ كذلك فالنهي الغيري
العرضي عن وجوده أولى بذلك. ومنه يتضح أن التعبير بالنهي الضمي الذي هو
مرجعه إلى طلب العدم الذي هو مدلول منطوقي للأمر بالمركب والمقيد بعدم
شئ لا يجدى شيئا، لان الطلب الضمني التحليلي - سواء تعلق بالوجود أو
العدم - لا يصحح الجزئية ولا الشرطية فضلا عن المانعية، مع أن النهى الضمني
إنما يتصور إذا أخذ العدم بنحو الجزئية لا بنحو الشرطية كما مر (1) مرارا، كما أن
الارشاد إلى المانعية ليس من حقيقة الحكم الذي يكون المانعية مجعولة بجعله
بل ارشاد إلى المانعية الواقعية بلحاظ التأثير والتأثر لا بلحاظ مقام الجعل،
فالارشاد إلى المانعية الجعلية غير معقول حيث لا مورد لجعلها فليس المجعول

(1) التعليقة: 281، ص 670.
683

إلا شرطية العدم بجعل الامر بالمركب المقرون بعدم الشئ.
وعليه فنقول: أما بالإضافة إلى المجعول بالأصالة وهو الامر بالصلاة فمن
باب تعيين الحادث بالأصل، لانقلاب العدم الأزلي إلى الوجود ودوران الموجود
بين أن يكون الامر بالمركب المقرون بعدم ذلك الشئ أو الغير المقرون به
ولا حالة سابقة له.
وأما بالإضافة إلى المجعول بالتبع أعني شرطية العدم للصلاة، فان أريد العدم
الرابط فليس له حالة سابقة، إذ متى كانت الصلاة واجبة ولم يكن العدم شرطا لها؟
وإن أريد العدم المحمولي فله حالة سابقة بنحو السالبة بانتفاء الموضوع، إلا أنه
لا يجدي لا لان بقاء العدم المحمولي غير مشكوك - لأنه في زمان الجعل إما قد
انقلب إلى الوجود أو إلى العدم النعتي نظرا إلى أن العدم حال وجود الموضوع،
نعتي مع أن جر العدم المحمولي لاثبات العدم النفسي، مثبت، وذلك لما مر
مرارا من أن العدم المحمولي كالوجود المحمولي قابل للفرض سواء كان
الموضوع موجودا أولا، إذ لا مقابلة بين المحمولي والناعتي، بل المقابلة بين
المحمولي والرابط وبين الناعتي والنفسي - بل لان استصحاب العدم المحمولي
بنحو السالبة بانتفاء الموضوع إلى جعل الامر بالصلاة لا يثبت أن الصلاة المأمور
بها ليست مقيدة بكذا بنحو العدم الرابطي إلا أنا قد بينا (1) في المباحث السابقة
وفي غيرها أصولا وفقها (2) أنا لا نحتاج إلى استصحاب العدم المحمولي بل
نحتاج إلى تشكيل قضية سالبة تعبدية وهي أن الصلاة ليس مقيدة بكذا، والسالبة
كما تصح مع وجود الموضوع كذلك مع عدمه، إذ لا شأن للسالبة دائما إلا نفي
النسبة لا أنها نسبة عدمية ولا معنى للعدم الرابط على حد الوجود الرابط بل
العدم النقيض للوجود الرابط رفعه وهو عدم الربط، فيصح أن الصلاة مطلوبة،
وانها من أزل الآزال إلى الان لم تتقيد بكذا، غاية الامر انها كذلك، تارة في ظرف

(1) التعليقة: 217، ص 499.
(2) تعليقة المكاسب للمحقق الأصفهاني - ره -: ج 2، ص 144، كتاب الخيارات.
684

عدم الموضوع واقعا، وأخرى في ظرف وجوده تعبدا.
ومن الواضح: أن عدم كون الصلاة متقيدة بشئ ليس مضمون قضية لفظية
ليستظهر منها السالبة بانتفاء المحمول في ظرف وجود الموضوع كما يدعى في
عدم القرشية أو عدم المخالفة للكتاب وأشباهها فافهم جيدا.
نعم، أصالة عدم اقتران الصلاة المأتى بها بعدم ما يعتبره الشارع مانعا إذا كان
عروض مشكوك المانعية في الأثناء جارية، وهي مجدية أيضا وإن لم يعلم حال
العارض من حيث إنه مانع شرعا أم لا، إذ الغرض يحصل بمجرد التعبد بعدم
اقتران الصلاة بكل ما يكون مانعا شرعا وهو أصل نافع في الشبهة الحكمية
والموضوعية إذا كان العروض في أثناء العمل، إلا أن يكون العارض بحيث
يحتمل رافعيته ودافعيته معا، فإنه لا حالة سابقة بالإضافة إلى الاجزاء اللاحقة
وكذا لو كان العارض أمرا مستمرا مع الاجزاء اللاحقة.
نعم، إذا كان العدم من اجزاء المركب في عرض سائر الأجزاء لا من اعتباراتها
فأصالة العدم مستمرة إلى آخر العمل ولو لم يحرز صدور الاجزاء مقترنة به. هذا
في شك في المانعية. وأما إذا شك في وجود المانع فان كان عدمه من
أجزاء الصلاة فهو مسبوق بالعدم لا محالة فيحرز بالأصل إلى اخر العمل.
وإن كان من اعتبارات الصلاة كما هو معنى عدم المانع المجعول شرطا في
الصلاة فجريان الأصل موقوف على كونه في ابتداء العمل خاليا عن المانع قطعا،
فيستصحب اقتران العمل بعدم المانع، إذ كان وجوده مشكوكا من أول الامر
فلا حالة سابقة له.
وأما العدم الأزلي أو العدم قبل الصلاة فلا يثبت به اقتران الصلاة به، نعم، في
استصحاب وجود الشرط وعدم المانع كلية اشكال، وهو أن الغرض منه سقوط
الامر بالمركب بالتعبد بوجود شرطه أو عدم مانعه وهو ترتب عقلي لا شرعي، إذ
الترتب الشرعي للحكم بالإضافة إلى متعلقه بتحصيل ذاته وشرطه وعدم مانعه
لا ترتب بقائه على عدم متعلقه ذاتا أو شرطا وجودا أو عدما، ولا ترتب سقوطه
685

على اتيان متعلقه بذاته أو بشرطه الوجودي أو العدمي. وأما قاعدة التجاوز
وقاعدة الفراغ فهما ابتداء تعبد بعدم وجوب ايجاد المشكوك وجوده وبعدم
ايجاد المشكوك صحته لا بلسان التعبد الاستصحابي باتيان المشكوك وجوده أو
صحته كما فيما نحن فيه، كقاعدة الشك بعد الوقت، فإنه تعبد بعدم وجوب
الفعل لا بلسان التعبد باتيانه في وقته، مع أنه لو كان لسان بعضها البناء على
الوجود لزم صرفه إلى التعبد بعدم الامر لئلا يلزم اللغوية، وليس كالاستصحاب
الغير المختص بهذا المورد ليلزم صرفه إلى ما ذكرنا إلا ان يقال بملاحظة ورود
بعض أدلة الاستصحاب في مورد استصحاب وجود الشرط أن التعبد بتحقق
الشرط - وجوديا كان أو عدميا - تعبد بشرطية مثله تطبيقا، فمرجعه إلى أن
الوجود الاستصحابي أو العدم الاستصحابي شرط بلسان البناء على أنه الشرط
الواقعي، فيفيد تعلق الامر بالتقيد بمثله أيضا فتدبر جيدا.
ثم إنه بأس بالتعرض لحكم الزيادة من حيث الاخبار فنقول أخبار الباب
على أقسام.
فمنها: ما يستفاد منه عدم مبطلية الزيادة في غير الأركان كقوله (ع) " لا تعاد
الصلاة إلا من خمسة " (1).
ومنها: ما يدل بظاهره أن مطلق الزيادة مبطل كقوله (ع) " من زاد في صلوته
فعليه الإعادة " (2) (3). وكقوله - ع - فيمن أتم في السفر: " إنه يعيده " قال: " لأنه زاد
في فرض الله " (4).

(1) الوسائل: ج 1، ب 3، ص 260، ح 8.
(2) (خ ل): فعلية الإعادة.
(3) الكافي: ج 3، ص 355، ح 5 والتهذيب: ج 2، ص 194، ح 65، ب 23.
(4) الوسائل: ج 5، ب 17، ح 8، ص 532، صلاة المسافر. بحار الأنوار: ج 86 (89) ص 5، ب 1،
ح 26 وتفسير العياشي: ص 50.
686

ومنها: ما يدل على أن الزيادة السهوية مبطلة مطلقا كقوله (1) (ع) " إذا استيقن
أنه زاد في المكتوبة فليستقبل صلوته ".
ومنها: ما يدل بظاهره أن الزيادة مطلقا غير مبطلة كقوله (2) (ع) " لكل زيادة
ونقيصة تدخل (3) عليك تسجد سجدتي السهو ". والمهم بيان ما يستفاد من
قوله (4) (ع) " لا تعاد " من حيث شموله للعمد والسهو ومن حيث شموله للزيادة
والنقص. أما شموله للعمد والسهو فربما يتخيل أن شموله للنقص عن عمد وعلم
ينافي الجزئية والشرطية حتى بلحاظ مرتبة الفعلية فلا معنى لصحة الصلاة مع
ترك الجزء الثابت الجزئية.
وفيه: أن الصحة بمعنى موافقة المأتي به للمأمور به الفعلي كذلك إلا أن
الصحة بمعنى التمامية من حيث الأثر وقيام الغرض الملزم بالمأتي به بمرتبة -
بحيث لا يبقى مجال لاستيفاء ما بقى - معقولة (5) كما في القصر والاتمام والجهر
والإخفات، فحيث أن المأتي به واف بمرتبة من الغرض صحت صلوته، وحيث
إن الباقي لا يمكن استيفائه لا تجب الإعادة، وحيث إن الفائت مرتبة ملزمة من
الغرض يستحق العقاب على تركه، بل ربما يقال بصحة الأمر بالناقص مع الأمر
بالتام. وسيجيئ انشاء الله تعالى في آخر البراءة (6) البحث عن معقوليته إلا أن
الظاهر من قوله " لا تعاد " أنه في مقام عدم لزوم الإعادة لما تركه من عذر لا عدم
لزوم إعادة ما يجب فعله ويحرم تركه فعلا بحيث يعاقب عليه.
نعم، تخصيصه بخصوص السهو والنسيان بلا موجب فلا مانع من تعميمه
.

(1) الكافي: ج 3، ص 348، ح 3 والكافي: ج 3، ص 354، ح 2 والتهذيب: ج 2، ص 143،
ح م 16، ب 23 والوسائل: ج 5، ص 332، ب 19، مع اختلاف يسير.
(2) التهذيب: ج 2، ص 155، ب 23، ح 66.
(3) (خ ل): فدخل.
(4) الوسائل: ج 1، ص 260، ب 3، ح 8.
(5) (خ ل): معقوله.
(6) التعليقة: 306، ص 737.
687

لكل ما ترك عن عذر كالجهل عن قصور لا عن تقصير وأما من حيث شموله
للزيادة والنقص فنقول محتملاته أربعة.
أحدها: أنه لا تعاد الصلاة من قبل نقص كل جزء وجودي من أجزائها إلا
الخمسة.
ثانيها: أنه لا تعاد الصلاة من قبل نقص كل جزء من أجزائها الأعم من
الوجودي والعدمي كعدم الزيادة المأخوذ شرطا في الصلاة بدليله.
ثالثها: أنه لا تعاد الصلاة بسبب الخلل من ناحية أجزائها إلا بالخلل من قبل
الخمسة.
رابعها: أنه لا تعاد الصلاة بسبب نقص جزء أو زيادة جزء إلا الخمسة.
والأول: لا دلالة له على حكم الزيادة بوجه، فلا يعارض أخبار الزيادة أصلا.
والثاني: يدل على أن نقص الجزء العدمي مط - سواء كان عدم زيادة الركن
أو غيره - لا يوجب الإعادة، لأن المستثنى نقص الخمسة وعدم الزيادة ح نقص
في الصلاة لمكان اعتبار عدمها، لا أنه نقص في الركن (1).
والثالث: يدل على أن كل خلل من ناحية الخمسة يوجب الإعادة دون
غيرها، ومع اعتبار عدم زيادة الركوع والسجود تكون الزيادة خللا في الصلاة من
ناحية زيادة الركوع أو السجود، فزيادة الركوع خلل من ناحية الركوع وليست نقصا
من ناحية الركوع.
ومفاد الاحتمال الرابع واضح، إلا أن الفرق بينه وبين الاحتمال الثاني والثالث
أن لسانه على هذين الاحتمالين لسان الحكومة وعلى الرابع لسان التعارض، لأن
كون الزيادة نقصا في الصلاة من حيث الجزء العدمي أو كونها خللا فيها من ناحية
الركوع مثلا يتوقف على ثبوت اعتبار عدمها بمثل قوله (2) (ع) " من زاد في
صلوته " فيكون ناظرا إليه وشارحا له ومبينا لمقدار مدلوله من حيث عدم شموله
.

(1) (خ ل): الركوع.
(2) راجع المصادر السابقة: ص 666 والاستبصار: ج 1، ص 376، ب 219، ح 2.
688

للنقص والخلل عن سهو أو في غير الأركان، بخلاف من زاد، فإنه حكم الزيادة
بعنوانها وبيان اعتبار عدمها في الصلاة كسائر أدلة الاجزاء والشرائط.
" ولا تعاد " على الاحتمال الرابع موضوعه عين موضوع " من زاد "، لأن مفاده
عدم وجوب الإعادة بسبب الزيادة بعنوانها، ونفس موضوع الزيادة لا يتوقف
على اعتبار عدمها في الصلاة حتى يكون لا تعاد مبنيا على اعتبار عدمها بدليله
حتى يكون مبينا لمقدار مدلوله، بل هما حكما وموضوعا على نهج واحد وإن
كان بينهما عموم من وجه لكنه سيجيئ (1) إنشاء الله تعالى تقريب الحكومة على
هذا الوجه أيضا.
إذا عرفت ما ذكرناه من عدم المعارضة أصلا على احتمال أو من الحكومة على
احتمالين ومن التعارض المحض على احتمال آخر فلا بد من ترجيح أحد
الاحتمالات حتى يلاحظ نسبته مع اخبار الزيادة، فنقول: الأرجح من
الاحتمالات هو الاحتمال الثاني.
أما كونه أرجح من الأول، إذ لا موجب للاقتصار على خصوص الاجزاء
الوجودية وإن كان المستثنى من الوجوديات، بل الظاهر أن الصلاة المركبة من
الأمور الوجودية والعدمية لا تعاد بنقص شئ منها إلا بنقص هذه الخمسة لا أن
الصلاة لا تعاد بنقص بعض أجزائها إلا بنقص بعض بعضها، وحذف المتعلق في
طرف المستثنى منه دليل العموم واستثناء خصوص بعض الوجوديات ليس
دليلا على أن المستثنى منه أيضا خصوص الوجوديات.
وأما كونه أرجح من الثالث، فلزيادة عناية في الثالث باعتبار عنوان الخلل
الصادق على النقص والزيادة بخلاف اعتبار النقص، فان المركب المطلوب
تحصيله لا تعاد من قبل تحصيله بل من قبل تركه، فتعاد من قبل ترك الخمسة
لا من قبل وجودها، فكذا " لا تعاد " من قبل ترك ما عدا الخمسة فإنه لا يحتاج إلى
.

(1) التعليقة: ص 690.
689

عناية زائدة على ترك ما يطلب تحصيله.
وأما كونه أرجح من الرابع، فإنه دليل أولا على تقدير الزيادة والنقص
بعنوانهما ولا يصح ثانيا تعلقهما بالخمسة، إذ لا يعقل الزيادة فيما عدا الركوع
والسجود من الوقت والقبلة والطهور وجعل الزيادة باعتبار المجموع - مع أن كل
واحد من الخمسة مستثنى لا مجموعها - بلا وجه.
نعم، بناء على صحة هذا الوجه في نفسه يصح تقريب حكومة (لا تعاد) على
قوله (ع) " من زاد " فان دليل " لا تعاد " ليس على حد قوله (ع) " من زاد " بصدد نفي
جزئية عدم الزيادة حتى يكون معارضا له، بل بصدد نفي وجوب الإعادة عن
الزيادة المفروغ عن جزئية عدمها واقعا إذا صدرت عن عذر، فتدبر.
وعليه فمفاد " لا تعاد " أن نقص كل جزء وجودي أو عدمي يعتبر في الصلاة لا
تعاد الصلاة منه إذا كان عن عذر إلا نقص الخمسة، فزيادة الركن وإن كان من
حيث عدمها المعتبر في الصلاة راجعة إلى النقص إلا أنه داخل في نقص جزء من
الصلاة لا نقص الركن، فيدل على عدم مبطلية مطلق الزيادة العذرية ركنية كانت أو
غير ركنية، وحينئذ فان لوحظ " لا تعاد " بالإضافة إلى قوله (ع) " من زاد " فيكون
حاكما عليه ويوجب قصد مدلوله على الزيادة العمدية، وعلى فرض المعارضة
فقوله (ع) " لا تعاد " في شموله للمستثنى منه بعد اخراج الخمسة من حيث تأكد
ظهوره بالاستثناء أظهر من شمول " من زاد " للزيادة السهوية، وان لوحظ " لا تعاد "
بالإضافة إلى قوله (ع)، " لأنه زاد في فرض الله " الدال على أن كل زيادة في فرض
الله توجب الإعادة فله الحكومة عليه أيضا - سواء أريد الزيادة في الصلاة التي
هي فريضة الله تعالى أو أريد الزيادة في الجزء المقوم حقيقة كالركن - فإنه فريضة
وغيره سنة كما في بعض الروايات (1) من جعل بعض الاجزاء الواجبة فريضة (2)
وبعضها الآخر سنة، فإن عموم العلة على الثاني وإن كان أخص من حيث

(1) الخصال: ص 604.
(2) (خ ل): فريضته - سنته.
690

اختصاصه بالزيادة الركنية دون " لا تعاد " إلا أنه أعم من حيث شموله للعمد
والسهو دون " لا تعاد " مع أنه إذا كان اللسان من باب الحكومة لا يلاحظ العموم
والخصوص بين الحاكم والمحكوم. نعم، إذا أريد الجزء الركني من فرض الله كان
دليلا بنفسه على عدم مبطلية زيادة غير الركن، لأن من زاد صلوته ركعتين أو ركعة
مثلا كانت زيادة الركوع والسجود مسبوقة بزيادات أخر، فلو كانت الزيادة مبطلة
مطلقا كان البطلان مستندا إلى الجزء السابق فإنه أسبق العلل، ولا يصح استناد
البطلان إلى العلة اللاحقة وهي زيادة الركوع إلا أن الظاهر من هذه الرواية الزيادة
في الصلاة لا في الفريضة بمعنى الركن أو ما فرضه الله في قبال ما فرضه النبي -
صلى الله عليه وآله - وإن لوحظ " لا تعاد " بالإضافة إلى قوله (ع) " إذا استيقن " الخ،
فلا حكومة حينئذ، لأن قوله (ع) " إذا استيقن " متكفل لحكم العمل بعنوان السهو
إلا ان الترجيح لقوله (ع) " لا تعاد " لوجوه من الخلل في خبر " إذا استيقن ".
أحدها: ضعف السند.
ثانيها: أنه في نسخة الكافي (1) " إذا استيقن أنه زاد في المكتوبة ركعة "،
وصاحب الكافي - قده - أضبط في الروايات من صاحب التهذيب - ره - ولا أقل
من الاجمال، والمتيقن منه زيادة الركعة لا الركن ولا مطلق الزيادة، ولعل لزيادة
الركعة التامة خصوصية بل يمكن ان يقال إن قوله " لا تعاد " لا يعم زيادة الركعة بل
ظاهره (2) زيادة كل جزء اعتبر عدمها في الصلاة لا زيادة مجموع الأجزاء.
ثالثها: أنه لا محذور في تخصيص " إذا استيقن " بزيادة الركن بخلاف ما إذا
خصصنا " لا تعاد " بقصره على النقص المحض لما ادعى من الاجماع على
الملازمة بين مبطلية الزيادة السهوية ومبطلية النقص السهوي، فبملاحظة هذه
الملازمة لا بد إما من تخصيص " إذا استيقن " بقصره على زيادة الركن لانحفاظ
الملازمة حينئذ، أو تخصيص " لا تعاد " وبقائه بلا مورد للزوم إلحاق النقص
.

(1) راجع المصادر السابقة: ص 666.
(2) (خ ل): ظاهرة.
691

السهوي في غير الركن إلى الزيادة السهوية فيه.
نعم، يندفع الوجه الأول الذي أجاب به من حيث ضعف السند بعض السادة
الأعلام (1) - قده -، ومن حيث اضطراب المتن، واختلاف الكافي والتهذيب،
بعض الأجلة - قده - في مصباح الفقيه (2). وذلك لأن السند حسن كالصحيح
بإبراهيم بن هاشم ولا اختلاف بين التهذيب والكافي بل في الكافي روايتان،
إحديهما: في باب السهو في الركوع عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي
عمير عن عمر بن أذينة عن زرارة عن أبي جعفر (ع) قال " إذا استيقن أنه قد زاد
في الصلاة المكتوبة لم يعتد بها واستقبل صلاة استقبالا "، الخبر (3).
ثانيهما: في باب من سهى في الأربع والخمس، عن علي بن إبراهيم عن أبيه
عن ابن أبي عمير عن عمر بن أذينة عن زرارة وبكير ابني أعين عن أبي جعفر،
قال: " إذا استيقن أنه قد زاد في صلوته المكتوبة لم يعتد بها واستقبل صلوته
استقبالا "، الخبر (4).
والذي حكاه في التهذيب (5) كما شاهدته هي الرواية الثانية بسندها الممتاز
عن الأولى بضميمة بكير بن أعين إلى زرارة في الثانية بعبارتها المختلفة مع
الأولى في الجملة، والعجب من صاحب الوسائل (6) حيث روى عن صاحب
الكافي ما هو بحسب السند عين الثانية ومع ذلك هو متضمن لزيادة الركعة،
وأعجب منه أنه ذكر بعد ذلك وروى محمد بن الحسن بالاسناد مثله مع أن الشيخ
روى الثانية الخالية عن إضافة الركعة.
.

(1) الرسائل الفشاركية: ص 174، ولكن في سند " من استيقن " ضعف يغنى عن التعرض بعلاج
معارضاته، (ط، جامعة المدرسين).
(2) كتاب الصلاة، للعلامة الفقيه الهمداني: ص 534، أقول.
(3) الكافي: ج 3، ص 348، ح 3.
(4) الكافي: ج 3، ص 354، ح 2.
(5) التهذيب: ج 2، ص 143، ح 16، ب 23 والتهذيب: ج 2، ص 194.
(6) (خ ل): الرسائل - والوسائل: ج 5، ص 332، ب 19، ح 1.
692

وبالجملة إذا كانت هناك روايتان فلا تنافي بينهما، لأنهما مثبتان وإن كانت
رواية واحدة فهي مجملة ولا مانع من كونهما روايتين إلا مجرد الاستبعاد.
وأما ملاحظة النسبة بين سائر الأخبار فمجملها أن قوله (ع) " من زاد " مع
قوله (ع) " إذا استيقن " مثبتان لا معارضة بينهما، بل المعارضة بين كل من
قوله (ع) " من زاد " وقوله (ع) " إذا استيقن " مع قوله (ع) " لكل زيادة ونقيصة ".
فنقول: حيث إن قوله (ع) " لكل زيادة ونقيصة " بمنزلة عامين لا عام واحد كما هو
ظاهر، فهو مع أنه حكم بعنوان السهو فله الحكومة، لكنه مع ذلك أخص من
قوله (ع) " من زاد " الشامل للعمد أيضا، إلا أن قوله (ع) " لكل زيادة " الخ مسوق
لبيان آخر وهو وجوب سجدتي السهو وإن كان يظهر منه أن الزيادة والنقيصة
ليست بمبطلة على الاطلاق فهو متكفل لحكم الزيادة الغير المبطلة، وحكم
النقيصة كذلك. ومنه يظهر حاله بالنسبة إلى المستثنى في قوله (ع) " لا تعاد " مع
أنه أخص من حيث اختصاصه بنقص الخمسة دون قوله (ع) لكل نقيصة. وأما
قوله (ع) " إذا استيقن " مع سلامة سنده ودلالته أظهر من قوله (ع) " لكل زيادة " الخ
حيث إن الثاني مسوق لبيان حكم آخر. ومن جميع ما ذكرنا تبين أنه لا دليل على
مبطلية الزيادة السهوية حتى في الأركان فتأمل.
693

التنبيه الرابع: الشك في اطلاق الشرطية والجزئية
285 - قوله: من (1) اطلاق دليل اعتبار جزء (2) الخ:
لا يخفي عليك أن الجزئية تارة، بلحاظ الوفاء بالغرض. وأخرى، بلحاظ
المطلوبية شرعا، والجزئية المجعولة هي الجزئية باللحاظ الثاني، ومن الواضح أن
دليل الاعتبار - سواء كان متكفلا للتكليف أو للوضع - لا يكاد يجدى إلا بعد
المعقولية في مقام الثبوت، والجزئية الجعلية لا يعقل لعدم إمكان تعلق الطلب لا
بطلب (3) المركب ولا بطلب (4) غيري مولوي ولا يطلب نفسي تحليلي لإناطة
الكل بالقدرة، والجزئية الواقعية بلحاظ مقام التأثر غير مجعولة فلا بد من جعل
الامر بالجزء إرشادا إلى جزئيته بلحاظ الغرض، وهو بعيد، إذ الظاهر هو الارشاد
إلى كونه جزء شرعا.
ومنه ظهر عدم الفرق بين كون الامر به نفسيا تحليليا أو غيريا مولويا أو
ارشاديا. نعم، اطلاق المادة في طرف الامر بالجزء يقتضي عدم دخل القدرة
شرعا في وفائه بالغرض (5) والقدرة المعتبرة عقلا في مقام فعلية التكليف أجنبية
عن هذه المرحلة. وبعد تقيد اطلاق الأمر بالمركب باطلاق المادة في الأمر
بالجزء فلا محالة يكون حجة على تقيد المركب به مطلقا فلا أمر بغير المتعذر.
وأما تصور إطلاق دليل الواجب فمبني على الوضع للأعم وكون الجامع مطلوبا
.

(1) (خ ل): مع اطلاق.
(2) كفاية الأصول ج 2، ص 245 وكفاية الأصول: ص 369، (ت، آل البيت) والرسائل: ج 2، ص 496.
(3) (خ ل) يطلب.
(4) (خ ل) يطلب.
(5) (خ ل): بالعرض.
694

أو على الوضع للجامع بين مراتب الصحيحة المختلفة كما وكيفا وإلا فمع الوضع
للجامع بين أفراد المرتبة العليا كما هو المنسوب إلى الصحيحي فلا معنى
للاطلاق، لإجمال المرتبة العليا فتدبر.
286 - قوله: لاستقل العقل بالبراءة (1) الخ:
هذا في صورة العجز الابتدائي من حين توجه التكليف مما لا شبهة فيه، وأما
في صورة المعجز الطاري بعد فعلية التكليف بالمركب فربما يتخيل أن مقتضى
قاعدة الاشتغال لزوم الخروج عن عهدته بالمقدار الذي يتمكن منه للشك في
سقوط الامتثال، ويمكن أن يقال إن الخروج عن عهدة المركب بما هو غير لازم،
قطعا، والخروج عن عهدة الميسور منه حيث إن (2) عهدته تبعية أيضا غير لازم،
للقطع بأن تلك العهدة تابعة لعهدة المركب وكونه بنفسه في العهدة مشكوك من
أول الامر.
ومنه تعرف حال استصحاب الاشتغال ولو بتقريب أن الاشتغال أمر مجعول
تبعي منتزع من تعلق التكليف بشئ، فان عهدة الميسور عهدة تبعية لا شك في
زوالها إلا بالوجوه الآتية (3) في استصحاب وجوب الميسور من الاجزاء. ومنه
تعرف أيضا أنه لا مجال لدعوى لزوم المخالفة القطعية من عدم اتيان الميسور، إذ
لا علم ولو اجمالا بتعلق التكليف النفسي من أول الامر بالميسور فلا يقاس بباب
الأقل والأكثر.
287 - قوله: انه لا مجال ها هنا لمثله بداهة الخ:
بل لا مجال له أصلا، إذ الجزئية والشرطية المجعولتان بالأمر بالمركب
والمشروط مقطوع الانتفاء، لفرض التعذر والجزئية والشرطية بلحاظ مقام الغرض
مشكوك الثبوت إلا أنهما واقعيتان لا مجعولتان حتى يعقل رفعهما بحديث الرفع،
.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 245، س 10 وكفاية الأصول: 369، (ت، آل البيت).
(2) (خ ل): الميسود منه أن عهدته.
(3) التعليقة: 288، ص 697.
695

مضافا إلى أن دليل الواجب إن كان له اطلاق لكفى في نفي الجزئية والشرطية
عند التعذر، وإن لم يكن له إطلاق كما هو مفروض الكلام فلا يفيد نفي الجزئية
والشرطية بحديث الرفع، للتعبد بالباقي، إذ ليس شأنه إلا الرفع دون الاثبات، فلا
تصل النوبة إلى منافاته للامتنان، فإنه إنما تصل النوبة إذا كان مقتضى الحديث في
نفسه التعبد بالباقي بالتعبد برفع الجزئية والشرطية.
696

" مقتضى استصحاب الوجوب الباقي "
288 - قوله: نعم ربما يقال بأن قضية الاستصحاب (1) الخ:
يقرر الاستصحاب بوجوه أربعة.
أحدها: ما في المتن (2) وفي كلام الشيخ الأعظم - قده - (3) وهو استصحاب
الجامع بين الوجوب الغيري الثابت للباقي من الأول والوجوب النفسي المحتمل
ثبوته بعد زوال الوجوب الغيري، حيث إن الأول بحده وإن كان مقطوع الارتفاع
والثاني بحده وإن كان مشكوك الحدوث إلا أنه بما هو وجوب كان متيقنا ويشك
في بقائه بما هو وجوب في ضمن الوجوب النفسي المحتمل، فان زواله بحده لا
ينافي بقائه بجامعه ولو في ضمن فرد آخر.
والجواب أولا، أنه لا وجوب غيري للأجزاء حتى يتعقل الجامع بين الوجوب
الغيري والنفسي.
وثانيا، بأن الجامع موجود بوجودات متعددة وليس وجوده في ضمن فرد
بقائه لوجوده في ضمن فرد آخر إلا إذا كان بينهما وحدة اتصالية كالبياض الشديد
الذي يزول شدته ويبقى أصله، فان القطع بزواله بما هو شديد لا ينافي الشك في
بقائه بما هو بياض. ومن الواضح أنه ليس بين الوجوب والاستحباب ولا بين
الوجوبين وحدة اتصالية فإنهما (4) من الاعتباريات التي لا يجرى فيها الحركة
.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 245 وكفاية الأصول: ص 370، (ت، آل البيت).
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 249 و 245.
(3) الرسائل: ج 2، ص 497 والرسائل: ص 294، مخطوط.
(4) (خ ل): فإنها.
697

والاشتداد، بل يجرى في بعض المقولات، مع أنه يستحيل أن يكون الوجوب
النفسي من مراتب الوجوب الغيري المعلولي المنبعث عن وجوب المركب
نفسيا.
وثالثا، بأن المستصحب وإن كان حكما فلا يحتاج التعبدية إلى أثر شرعي آخر
إلا أنه بالإضافة إلى ما هو المهم في المقام من لزوم امتثاله، واستحقاق العقوبة
على مخالفته، إما مثبت أو غير مفيد فيلغو، فإنه لو قلنا بأن التعبد بالجامع يستلزم
التعبد بوجوب الباقي نفسيا فيترتب عليه الأثر المهم فهو أصل مثبت، لأن لازم
بقاء الوجوب الجامع عقلا كونه في ضمن الوجوب النفسي للباقي ولو قلنا بمجرد
التعبد بالجامع، فالجامع بين ما يترتب عليه العقاب وما لا يترتب عليه لا يعقل أن
يكون لازمه العقلي استحقاق العقاب.
ثانيها: استصحاب الوجوب النفسي الشخصي بدعوى المسامحة العرفية في
موضوعه نظرا إلى أن الباقي في نظر العرف متحد مع المركب، فيكون وجوبه
وجوبه.
والجواب: أنه إنما يصح إذا كان المتعذر بحيث لا يمنع عن دعوى الاتحاد
بين المركب والباقي، فلا مجال للاستصحاب على الاطلاق بل في مثله كما أن
استصحاب كرية الماء كذلك فإنه إنما يصح إذا كان الموجود من الماء متحدا مع
الماء السابق عرفا بلحاظ كون المأخوذ منه قليلا يتسامح فيه عرفا.
وربما يتخيل بقاء الموضوع هنا وفي مسألة الكريه (1) بالدقة العقلية. أما فيما
نحن فيه فبالنظر إلى أن مثل الصلاة التي لها جامع ينطبق على المراتب المختلفة
كما وكيفا لا تفسد بزوال جزء ولا تختل بفقده، فالموضوع وهي حقيقة الصلاة
محفوظة بالدقة وأما في الكرية فبدعوى أن الكرية كمية الماء والكم عرض
لا يزول بزواله موضوعه، وأخذ مقدار من الماء لا يوجب زوال الجسم الطبيعي،
.

(1) (خ ل): الكونه.
698

لأن الاتصال عرض يزول الجسم بزواله وإن بقى منه شئ يسير وهو تخيل
عجيب وتوهم غريب.
أما في الصلاة فبأنها وإن كانت ذات مراتب إلا أن كل مرتبة مطلوبة من طائفة لا
من كل أحد والكلام في المرتبة المطلوبة من هذا المكلف والمفروض اختلال
موضوع تكليفه الشخصي فلا مجال إلا بالمسامحة في بقاء موضوع تكليفه، وإلا
فبقائه بالمراتب الأخر المطلوبة من اشخاص آخرين ليس بالحقيقة بقاء للموجود
سابقا في حقه. وأما في الكرية فبأنها كم خاص للمتكمم مخصوص فلا ينفك هذا
الكم الخاص عن هذا المتكمم المخصوص وعرضيته غير منافية لملازمته
لمتكمم بالخصوص بحيث يزول بزواله، وإن بقى بما هو جسم، فان موضوع
الكم هو الجسم التعليمي الذي نسبته إلى الجسم الطبيعي نسبة المتعين إلى اللا
متعين فلا محالة يكون زوال الكمية الخاصة مساوقا لانتفاء تلك المرتبة من
الجسم التعليمي وتعين الجسم الطبيعي بمرتبة أخرى منه فاسقاط الجسم
التعليمي من البين أو توهم أنه عين العرض أوجب هذا الاشكال. ومنه يعلم حال
عرضية الاتصال فان معنى عرضية أنه لا يزول الجسم بعروض الانفصال لا أنه
يبقى بحد ينتزع منه ذلك الكم الخاص وهو من الوضوح بمكان.
ثالثها: استصحاب الوجوب للباقي مع قطع النظر عن نفسيته وغيريته لعدم
التمايز بينهما في نظر العرف، بل العرف يرى الباقي واجبا سابقا، ويشك في بقائه
على الوجوب، حيث إنهم يرونهما متحدين وهذا راجع إلى المسامحة في
المستصحب لا إلى أخذ الجامع بين الوجوب من الغيري والنفسي. والجواب:
أن عدم التمايز من حيث النفسية والغيرية غير عدم التمايز من حيث الوجود
فالوجوب السابق واللاحق وإن لم يكن بينهما تمايز من حيث النفسية والغيرية،
لكنهما متمائزان من حيث الوجود، بداهة، أن وجوب الباقي لاحقا غير وجوبه
سابقا غيرية وجودية، لا غيرية صنفية بحيث يكون الأول من صنف الغيري
699

والثاني من صنف النفسي. وملاك البقاء عدم التمايز من حيث الوجود وإلا فلو
كان الوجود واحدا وكان حدوثا معنونا بعنوان وبقاء معنونا بعنوان آخر لما كان
ضائرا بالوحدة التي هي ملاك البقاء.
رابعها: استصحاب الوجوب النفسي الشخصي مع قطع النظر عن متعلقه
نظير استصحاب وجود الكر.
لا يقال: بقاء الكر بحده محتمل بخلاف الوجوب النفسي المتيقن فإنه بحده
مقطوع الارتفاع، ولو كان هناك وجوب نفسي لكان وجودا آخر من طبيعي
الوجوب النفسي، فلا مجال إلا لاستصحاب طبيعي الوجوب النفسي فيدخل في
القسم الثالث من استصحاب الكلي.
لأنا نقول: تعدد الملاك لا يوجب تعدد الوجوب النفسي فيكون حدوثا
بملاك وبقاء بملاك آخر، بل يمكن أن يكون عين ذلك الملاك باقيا لدخل الجزء
المتعذر في الغرض عند التمكن منه لا مطلقا. والجواب أن مجرد التعبد ببقاء
الوجوب النفسي لا يجدى ما لم يكن الباقي واجبا نفسيا، والتعبد بوجوبه النفسي
بعد التعبد ببقائه الملازم عقلا لتعلقه بالباقي من الأصول المثبتة. هذا ما قيل في
تقرير الاستصحاب، ويمكن أن يقال إن الأجزاء الباقية وإن لم يكن لها وجوب
غيري ولا وجوب نفسي لكن الوجوب النفسي المتعلق بالمركب له حقيقة ودقة
تعلق بالباقي لانبساط الوجوب النفسي على الاجزاء بالأسر، فيشك بعد زوال
انبساطه وتعلقه عن الجزء المتعذر في ارتفاع تعلقاته وانبساطه على سائر الأجزاء
فيستصحب بلا مسامحة في الموضوع ولا في المستصحب من دون أخذ الجامع.
هذا في صورة تعد الجزء.
وأما في صورة تعذر الشرط فإن أريد به الخصوصية المقومة للجزء فلا
استصحاب. لما مر من عدم انبساط الأمر على الجزء بذاته بل بما هو جزء وهو
الخاص. وإن أريد به الخصوصية الدخيلة في تأثير الاجزاء بالأسر فلا ينبغي
700

الاشكال في جريان الاستصحاب، لما مر من أن الشرائط غير مرادة في عرض
إرادة المشروط بل ينبعث عن ارادته إرادة الشرط، والقطع بزوال الإرادة
المتعلقة بالشرط لا يقتضي القطع بزوال الإرادة النفسية المتعلقة بذات
المشروط. فاستصحاب شخص وجوب المشروط بلا مسامحة أصلا مما لا
ينبغي الارتياب.
نعم، يمكن الاشكال في استصحاب وجوب الاجزاء الباقية بتقريب أن
الحكم يتشخص بموضوعه فذلك الوجوب النفسي المنبسط على الاجزاء
بالأسر لتشخصه بها زال قطعا، والمتشخص بالاجزاء الباقية لو كان لكان وجوبا
آخر فلا بد من المسامحة حينئذ. ومنه يتضح ما في الوجه الرابع مع وحدة الملاك
أو تعدده فان الإرادة أيضا تتشخص بموضوعها فلا محالة هي إرادة أخرى. نعم،
بقائها لموضوعها بملاك آخر لا ينافي الوحدة الاتصالية لا بقائها لغير موضوعها -
سواء كان بعين ذلك الملاك أو بغيره - فتدبر جيدا.
701

" مقتضى قاعدة الميسور "
* دلالة النبوي صلى الله عليه وآله وسلم
289 - قوله: ودلالة الأول مبنية على كون كلمة الخ (1):
لا يخفى عليك أن كلمة " من " إما تبعيضية (2) أو بيانية أو بمعنى الباء، ولفظ
" بشئ " إما أن يراد منه المركب أو العام أو الكلي. وكلمة " ما " في قوله (3) (ص)
" ما استطعتم " أن يراد منها الموصولة أو المصدرية الزمانية.
ولا ريب أنه لا معنى لكون كلمة " من بيانية، لأن مدخولها الضمير ولا يمكن
أن يكون بيانا لشئ، كيف وهو مبهم. وكونها بمعنى الباء غير متعين لأن الاتيان
يتعدى بنفسه تارة، وبالباء أخرى. فمن الأول قوله تعالى (واللاتي (4) يأتين
الفاحشة)، وقوله تعالى (5) (ولا يأتون البأس إلا قليلا) ومن الثاني قوله
تعالى (6) (يأتين بفاحشة مبينة)، ولفظ الشئ لا يكنى به عن المتعدد بل
عن الواحد، وإنما يكنى عن المتعدد بأشياء فيدور الأمر بين الكلي الذي له وحدة
جنسية أو نوعية أو صنفية أو المركب الذي له وحدة اعتبارية وحيث أن التبعيض
لا يلائم (7) الكلي إذ الفرد ليس بعض الكلي بل مصداقه فلا محالة يراد منه
المركب الذي له أجزاء كما أن كلمة " ما " ظاهرة في الموصول دون المصدرية
الزمانية فيكون مفعولا لقوله - ع - " فأتوا " فالمراد إذا أمرتكم بمركب ذي أجزاء
.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 249 والرسائل: ج 2، ص 497.
(2) (خ ل): بنقضية.
(3) عوالي اللآلي: ج 4، ص 58.
(4) النساء: الآية 15.
(5) الأحزاب: الآية 18.
(6) النساء: الآية 19.
(7) (خ ل): يلاثم.
702

فاتوا ما تستطيعونه منه لا فأتوا به مدة استطاعتكم إلا أن مورد الرواية كما في
المتن (1) لا يلائم (2) المركب من أجزاء كما أنه أجنبي عن الامر بالعام الذي له أفراد
بل يلائم الكلي الذي يصدق على الافراد. وقد عرفت عدم ملائمة التبعيض له.
فالتحقيق: أن كلمة " من " ليست للتبعيض بعنوانه حتى لا يلائم الكلي بل
لمجرد اقتطاع مدخولها عن متعلقه وإن كان توافق التبعيض أحيانا. ومن الواضح
ان الفرد منشعب من الكلي الذي ينطبق على ما يستطاع وما لا يستطاع فما
يستطاع منه مقتطع من مثله لا يتعين إرادة المركب، والمتيقن بحسب مورد
الرواية هو الكلي الذي يلائمه لفظ " الشئ " وكلمة " من " وكون " ما " بمعنى
الموصول لا بمعنى المصدرية الزمانية، فتدبر جيدا.
* دلالة العلوي الأول
290 - قوله: حيث لم يظهر في عدم سقوط الميسور من الاجزاء (3)
الخ:
حيث إن السقوط لا يكون إلا متفرعا على الثبوت بوجه من الوجوه، فلو كان
المراد الميسور من الافراد لم يكن موهم لسقوط الحكم عن فرد بسبب سقوطه
عن فرد آخر ليحكم عليه بعدم سقوطه، فإن مجرد الجمع في العبارة لا يوجب
توهم السقوط إلا من الغافل، فلا يناسب توهم السقوط إلا في الميسور من
الاجزاء فيصح ضرب القاعدة والحكم بعدم سقوطه هذا.
ثم إن الجملة إما خبرية محضة عن ثبوت الحكم بثبوت ملاكه، أو بمرتبة منه،
وإما خبرية بداعي البعث نحو الميسور بعنوان عدم سقوط حكمه الثابت أولا،
.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 249، س 10
2 - (خ ل): يلاثم.
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 252 وكفاية الأصول: ص 371، (ت، آل البيت) والرسائل: ج 2، ص 497.
703

وأما جعله انشاء ابتدائيا فغير معقول، لأن السقوط وعدمه ليسا من أفعال المكلف
حتى يؤمر به، ولا فرق في عدم المعقولية بين إضافة السقوط وعدمه إلى نفس
الميسور أو إلى حكمه بل الحكم بعدم سقوط الحكم أولى بعدم المعقولية.
ولا يقاس بحرمة نقض الحكم المتيقن، فان النقض العملي عنوان لترك العمل
بالواجب المتيقن وجوبه مثلا فالنهي عنه نهي عن ترك العمل، والأمر بالابقاء
العملي أمر بالعمل، بخلاف السقوط وعدمه فإنه ليس عنوانا لفعل المكلف
وتركه.
نعم، إن كان لا يسقط بالبناء للمجهول من الاسقاط كان نهيا عن الاسقاط وهو
عنوان لترك العمل بالحكم الثابت أولا فيكون كالنهي عن النقض العملي، وهذا
بخلاف ما إذا كان بعنوان الحكاية عن عدم السقوط فإنه يناسب التعبد بثبوت
الحكم كناية، لأن لازم جعل الحكم للميسور كونه ثابتا غير ساقط، فتدبر جيدا.
291 - قوله: لا انها عبارة عن عدم سقوطه بنفسه الخ:
ليس المراد من عدم سقوطه بنفسه بقائه في عهدة المكلف وهو الذي ينسب
إلى نفس الميسور لا إلى حكمه حتى لا يعم المستحبات، إذ لا عهدة لها، وليس
المراد من عدم سقوطه كونه مطلوبا بالمطلوبية المطلقة حتى لا يجدى في
الواجبات، بل ثبوت الموضوعات وسقوطها التشريعي المناسب لاخبار الشارع
ثبوتها على وجه الموضوعية لحكمها أو سقوطها عن الموضوعية فالميسور من
الواجب باق على موضوعيته للوجوب والميسور من المستحب باق على
موضوعيته للاستحباب، وحيث إن الظاهر تعلق عدم السقوط بنفس الميسور
الذي له معنى معقول فلا داعي إلى صرفه عن ظاهره بإرادة عدم سقوط حكمه
بل المسامحة فيه أهون من المسامحة في عدم سقوط حكمه.
لأن وجوبه الغيري ساقط قطعا ولا يعقل التعبد بعدمه. ووجوبه النفسي غير
ثابت من رأس فلا سقوط له ولا عدم السقوط. فلا بد من المسامحة بأحد الوجوه
704

المتقدمة في الاستصحاب (1) بخلاف عدم سقوطه عن الموضوعية للحكم. فان
الغرض أن موضوعيته للحكم الأول مستمرة غير ساقطة وإن كان حكمه فعلا غير
حكمه قبلا، فان سقوط حكمه الأول مع قيام حكم آخر مقامه لا يوجب بقاء
الحكم، لكن كونه على أي تقدير موضوعا للحكم يوجب بقائه على صفة
الموضوعية.
وهذا أيضا وإن كان بنحو من المسامحة، لأن تشخص الحكم بتشخص
موضوعه وحيثية موضوعيته لحكم غير حيثية موضوعيته لحكم آخر، لكن هذا
بالدقة العقلية، لا بالنظر العرفي فتأمل.
ولا يخفى عليك أن المسامحة هنا ليس كالمسامحة في الاستصحاب
موضوعا أو من حيث المستصحب، لإمكان عدم الالتزام بالمسامحة هناك،
وملاحظة المستصحب أو الموضوع على وجه الدقة إلا أنه هنا مما لا بد منه
لفرض الميسور والمعسور في المركب من الاجزاء، فالتعبد بعدم السقوط مبني
على مقدار من المسامحة وإلا كانت القاعدة بلا مورد إلا أن يحمل على الافعال
المتعددة، فان ثبوتها وسقوطها تحقيقي غير مبني على المسامحة، لكنك قد
عرفت أنه لا موجب لتوهم السقوط حتى يقوم الشارع بصدد التعبد بالثبوت
وعدم السقوط.
* دلالة العلوي الثاني
292 - قوله: واما الثالث فبعد تسليم ظهور كون الكل في
المجموعي (2) الخ:
قد عرفت سابقا أن الموصول لا يكنى به إلا عن الواحد لا عن المتعدد وإن
.

(1) التعليقة - 288، ص 697.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 253، س 4 وكفاية الأصول: ص 372، (ت، آل البيت).
705

كان عاما، فان معنى عمومه كل فعل لا يدرك لا كل أفعال لا تدرك. ومن الواضح
أن الفعل الواحد لا كل له إلا إذا كان له بعض فلا محالة يراد منه المركب من
الاجزاء فإنه القابل لأن يكون له كل وبعض.
نعم، لا مانع من إرادة الكلي الذي يندرج تحته أفراد بأن يراد أن الكلي الذي
لا يدرك بكليته لا يترك بكليته فهو من حيث وحدته يكنى عنه بالموصول ومن
حيث سعته لأفراده له الكلية فالموصول يعم المركب والكلي.
وعن الشيخ الأعظم (1) - قدس سره - أنه لو أريد من الموصول الأفعال
المتعددة كان الكل مجموعيا أيضا، إذ لو كان أفراديا لكان معناه أن ما لا يدرك
شئ منه لا يترك شئ منه ولا معنى له، إذ المفروض عدم ادراك هذا الفرد
وذلك الفرد إلى آخر الافراد فكيف يعقل أن يقال لا يترك شئ منه.
وأورد عليه بان كون الكل مجموعيا أو أفراديا لا مدخل له في ذلك بل المناط
كون العموم مسلوبا أو السلب عاما مستشهدا بان الحكم في المحصورة على
الافراد لا يكون مفاد ليس كل حيوان انسانا بنحو الكل المجموعي بل بنحو الكل
الافرادي وإنما السلب فيه من باب سلب العموم لا من باب عموم السلب، وعليه
فإذا كان ما لا يدرك كله بنحو سلب العموم يجدى فيما نحن فيه وإن كان الكل
أفراديا، ويندفع بأن ما ذكره أهل الميزان (2) من أن الحكم في المحصورة على
الافراد في قبال القضية الطبيعية التي يكون الحكم فيها على الطبيعة بما هي
طبيعة كلية فلا منافاة بين أن يكون الحكم على الافراد وأن يكون المراد، تارة كل
واحد من الافراد، وأخرى مجموع الافراد. وأما أن سلب العموم يجامع الكل
الافرادي، ففيه، أن السلب في سلب العموم واحد وفي عموم السلب متعدد
ومقتضى التضايف بين السلب والمسلوب والمسلوب عنه أن وحدة السلب
يقتضي وحدة المسلوب والمسلوب عنه ويستحيل وحدة السلب وتعدد
.

(1) الرسائل: ج 2، ص 499.
(2) تصحيح شرح المنظومة: ج 1، ص 243، للأستاذ العلامة حسن زاده - دام ظله -.
706

المسلوب ويستحيل وحدة المسلوب وتعدد المسلوب عنه كما أن تعدد السلب
يقتضي تعدد المسلوب والمسلوب عنه بعين هذا البرهان، فمع لحاظ الكل
أفراديا بملاحظة الكثرات بما هي كثرات يستحيل وحدة الايجاب ووحدة
السلب، غاية الأمر أن سلب العموم، تارة لسلب مجموع الاجزاء، وأخرى
لسلب مجموع الافراد فالحق حينئذ مع الشيخ - قده - حيث أفاد أن مفاد القضية
هو الكل المجموعي وإن أريد من الموصول الافعال المتعددة. ثم إن فعل
المجموع مساوق لفعل الجميع فتركه البديل له أيضا مساوق لترك الجميع، فصح
أن يقال ما لا يدرك مجموعه لا يترك مجموعه ولازمه فعل البعض حتى لا يكون
المجموع المساوق للجميع متروكا.
293 - قوله: ثم انه حيث كان الملاك في قاعدة (1) الخ:
لا يخفي عليك أن الخاص بما هو خاص مبائن لذات الخاص عقلا وإن كان
غير مبائن له عرفا أحيانا، وكذا المركب بما هو مبائن عقلا لما هو فاقد لجزء منه
ولو يسيرا وإن كان غير مبائن عرفا بالفاقد اليسير (2) إلا أن موضوع القاعدة هو
الميسور في قبال المعسور، وليس هو إلا المقدور عقلا وشرعا وعرفا. ومن البين
أن الجزء الواحد مقدور من العشرة وذات الخاص مقدور من الخاص بما هو
خاص عقلا وشرعا وعرفا، ولا فرق بين مطلق الميسور والميسور من الشئ إلا
بعدم لزوم الارتباط في الأول، ولزوم الارتباط في الثاني إما بأن يكون جزء من
مركب أو فردا من عام.
نعم، كونه ميسورا بلحاظ مقام تعلق الحكم أو بلحاظ مقام الوفاء بالغرض (3)
الراجع في الحقيقة إلى ثبوته بلحاظ تعلق الحكم به أو ثبوته بلحاظ وفائه
بالغرض (4) اللازم في صدق عدم سقوطه ربما يختلف العقل والشرع والعرف فيه
مثلا الجزء وإن كان يسيرا مما تعلق به الحكم فله ثبوت فعلا فيصح أن يتقيد

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 253 وكفاية الأصول: ص 372، (ت، آل البيت).
(2) فالفاقد اليسير.
(3) (خ ل): بالعرض.
(4) (خ ل): بالعرض.
707

بعدم سقوطه، وأما ذات الخاص فلا تعلق للحكم به عقلا وإن كان يختلف بنظر
العرف، فربما يرى تعلق الحكم به لوحدة الواجد والفاقد عرفا، وربما لا يرى تعلق
الحكم به لتبائن الواجد والفاقد عرفا.
وكذا في مقام الوفاء بالغرض فإن كان الميسور واقعا وافيا بالغرض فله ثبوت
موجب للتعبد بعدم سقوطه. وإن لم يكن وافيا به فلا ثبوت له حتى يتعبد بعدم
سقوطه، لكن هذا المعنى لا يوجب أن يكون الاخراج عن الحكم أو الادراج في
الحكم من باب التخطئة، أما من حيث الوفاء بالغرض فهو وإن كان له واقع
محفوظ لكنه لا طريق للعرف إليه حتى يعقل تصويب نظرهم.
وأما من حيث تعلق الطلب به فان كان الموضوع ما يراه العرف مما له حكم
ثابت سابقا بما هو كذلك بحيث كان نظرهم مقوم الموضوع، فلا محالة يكون
الاخراج تقييدا في الحكم، لأن الموضوع بحده محفوظ وإن كان الموضوع ماله
ثبوت واقعا وكان نظر العرف طريقا إلى الموضوع فالجزء وإن كان يسيرا له الحكم
واقعا بحكم العقل دائما، وذات الخاص لا حكم له واقعا دائما فكيف يعقل
التصويب تارة والتخطئة أخرى، فلا معنى لجعل نظره حجة بالاطلاق وتخطئة في
الاخراج والادراج، بل الواقع معلوم دائما، إذ لا مقام للثبوت من حيث الحكم إلا
مرحلة تعلق الحكم، بل تقييد في مرحلة الاخراج وتشريك في مرحلة الادراج،
فعلم أن التخطئة والتصويب مما لا مجال له لا من حيث صدق الميسور بذاته
ولا من حيث ثبوت الحكم ولا من حيث الوفاء بالغرض، وأن الجزء الميسور مما
لا تعمه القاعدة مط، وأن ذات المشروط مما لا تعمه القاعدة. نعم المشروط
بالشرط الحقيقي الذي له دخل في التأثير لا بمعنى المقوم للجزء له الحكم دائما
وإن سقط الحكم عن شرطه كما بيناه سابقا.
294 - قوله: كان المرجع هو الاطلاق الخ:
أي إطلاق المقام لا إطلاق الكلام، لأن الموضوع هو الميسور واقعا
ولا يتخلف عنه حكمه ولا يتضيق بالاخراج ولا يتسع بالادراج، بل حيث رتب
708

الشارع الحكم بعدم السقوط على الميسور الواقعي ولم يتعين (1) طريقا إليه كان
نظر العرف طريقا إليه، وإلا لزم نقض الغرض. فنظر العرف حجة باطلاق المقام
وعدم نصب الطريق، فيكون الاخراج تخطئة للنظر العرفي والادراج كذلك.
وأما حديث استكشاف الوفاء بالغرض بتمامه أو بمعظمه ففيه، إن كانت
القضية خبرية محضة كان بقاء الحكم حقيقة، وعدم سقوطه كاشفا عن بقاء ملاكه
من باب كشف المعلول عن علته. وإن كانت القضية تعبدية لجعل الحكم المماثل
كحرمة النقض في الاستصحاب فهو حيث إنه حكم فعلي (2) مماثل يكشف عن
انبعاثه عن مصلحة داعية، إما أنها عين مصلحة الحكم الثابت سابقا، أو مصلحة
أخرى، فلا دليل عليه كما هو كذلك في التعبد الاستصحابي.
295 - قوله: فيخرج أو يدرج (3) تخطئته الخ:
أي على مسلكه (4) - قده - مطلقا، وأما على مسلك غيره فمن باب التخصيص
في الأول ومن باب التشريك المحض في الثاني. وقوله (5) - قده - فافهم، إما إشارة
إلى أن الاخراج تخطئة حيث إن الحكم مرتب على الميسور الواقعي بطريقية
الميسور العرفي إليه فنفي الحكم لا بد من أن يكون من باب خطئة نظر العرف
بخلاف الاندراج (6) فإنه حيث لا يراه العرف ميسورا لا يحكم بعدم سقوطه (7)
فلا طريق حتى يكون الاندراج (8) تخطئة لا أنه هناك طريق إلى عدمه حتى يتصور
التخطئة. ويندفع بأن مقتضى ترتيب الحكم على الميسور الواقعي وعدم نصب
الطريق أن يكون ما يراه العرف ميسورا طريقا إلى موضوع الحكم وأن ما لا يراه
ميسورا طريقا إلى عدمه فكما أن القاعدة متكفلة للحكم على الميسور الواقعي
بالمطابقة ولعدم الحكم بالالتزام كذلك في جعل نظرهم طريقا إلى الموضوع
فمجرد عدم كونه ميسورا بنظرهم كاف في عدم الحكم ولا حاجة إلى حكم

(1) (خ ل): ولم يعين.
(2) (خ ل): تعلق.
(3) (خ ل): أو يخرج تخطئة.
(4) كفاية الأصول: ج 2، ص 254، س 7.
(5) كفاية الأصول: ج 2، ص 254، س 12.
(6) (خ ل): الادراج.
(7) (خ ل): سقوط.
(8) (خ ل): الادراج.
709

العرف بأنه ليس بميسور واقعا، وإما إشارة إلى أن الادراج إن كان بعنوان أنه
ميسور واقعا كان تخطئة لنظر العرف وإلا لكان تشريكا محضا في الحكم ومن
البين أنه ليس في الدليل المتكفل المخالف لظاهر قاعدة الميسور الحكم على
شئ بعنوان أنه ميسور حتى يكون تخطئة لنظر (1) العرف الحاكم بأنه ليس
بميسور. ثم انه ربما يورد على هذه القاعدة كبعض القواعد الأخر بلزوم
التخصيص الكثير أو الأكثر عن شيخنا الأستاذ (2) - قده - أن الباقي تحت هذه
القاعدة بالنسبة إلى الخارج عنها كالقطرة من البحر وأجاب - قده - على مسلكه
بان الخارج عنها بنحو التخصص لا التخصيص فإن الحكم مرتب على الميسور
الواقعي ولعل الخارج ليس ميسورا واقعيا بتخطئة نظر العرف إلا أنه صحيح
بالإضافة إلى نفس موضوع الحكم حيث أنه لم يعلم تخلف الحكم عن موضوعه
الواقعي ولو في مورد. وأما بالإضافة إلى الاطلاق المقتضي لحجية نظر العرف
وأن كل ما هو ميسور عرفا فهو ميسور واقعا فالاشكال باق، إذ لا فرق في
الاستهجان بين أن يكون أكثر افراد الميسور الواقعي خارجا عن حكمه وأن يكون
الأكثر افراد الميسور العرفي خارجا عن كونه طريقا إلى الميسور الواقعي هذا.
وأما على مسلك من يرى الاخراج تخصيصا والادراج تشريكا فقد أجيب عن
لزوم الاستهجان بوجهين.
أحدهما: أن يكون موضوع العام معنونا بعنوان واقعي لا يكون الخارج عن
تحته إلا بنحو الخروج عن موضوعه تخصصا ولو بأن يكون الموضوع محفوفا
بقرينة مختفية علينا، ولذا تقتصر في العمل بمثل هذه القواعد على صورة عمل
الأصحاب بها، لأنه يكشف عن تحقق الموضوع بعنوانه، وأنهم اطلعوا على تلك
القرينة المختفية لكن هذا الوجه إنما يصح إذا كان عملهم كاشفا قطعيا عن تحقق
العنوان ووجود القرينة الحافة باللفظ، وإلا فالظن بالمراد إذا لم يكن ناشئا عن
ظهور اللفظ لا دليل على حجيته، وليس كعملهم بالخبر الضعيف حتى يكون
.

(1) (خ ل): تخطئة النظر.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 253.
710

الخبر بسببه موثوقا به ليتم به موضوع دليل حجية الخبر، إذ الحجة في باب
الدلالة هو الظهور، والعمل لا يوجب ظهور اللفظ بل يظن به ما يوجب الظهور
وهي تلك القرينة المختفية عنا.
ثانيهما: أن يكون الخارج عن تحت العام خارجا عنه بعنوان واحد، فليس
هناك إلا إخراج واحد وإن كان المندرج تحت ذلك العنوان أكثر مما بقى تحت
العام. وفيه أن ذلك إنما يجدى إذا كان مصاديق العام هي العناوين المعبر عنها
بعبارة جامعة، فإن خروج عنوان لا يضر، وإما إذا كان مصاديقه ذوات الافراد
فكثرتها موجبة للاستهجان وإن اندرجت تحت عنوان واحد حيث إن وحدة
العنوان أجنبية عما هو مناط الفردية للعام.
نعم، في أصل استهجان التخصيص الأكثر كلام تعرضنا له في بعض
المقامات، وعلى فرضه فالمسلم منه ما إذا كان التخصيص في حد ذاته أكثر من
الباقي لا ما إذا كان أكثر بالإضافة إلى الباقي بحيث يكون الباقي في حد ذاته كثيرا
أيضا، مع أنه سيأتي في قاعدة الضرر انشاء الله تعالى أن الخارج ليس بأكثر (1).
296 - قوله: لامكان الاحتياط باتيان العمل الخ:
والوجه فيه أن مورد دوران الأمر بين المحذورين يكون المطلوب في كل
واقعة أحد الأمرين اللذين لا يتمكن من موافقة التكليف فيه، والفعل في واقعة
والترك في أخرى ليس موافقة قطعية للتكليف، لأنه هناك بعدد الوقايع تكاليف
متعددة فالفعل موافقة احتمالية لتكليف والترك موافقة احتمالية لتكليف آخر
لا للتكليف في الواقعة الأولى، بخلاف ما نحن فيه فإنه ليس المطلوب إلا صلاة
واحدة متخصصة إما بجزء وجودي أو بجزء عدمي ويتمكن من موافقة التكليف
بذلك الخاص قطعيا باتيانه مرتين فتدبر.
.

(1) التعليقة: 318، ص 758.
711

" خاتمة: في شرائط الأصول "
1 - شرط الاحتياط
297 - قوله: وتوهم كون التكرار عبثا أو لعبا بأمر المولى (1) الخ:
قد مر في مباحث القطع (2) أنه لا لعب ولا عبث في الإطاعة والامتثال لا من
حيث انبعاث العمل عن داع شيطاني لفرض دعوة الأمر المحتمل في كل عمل،
ولا من حيث انبعاث العمل عن داعي الأمر وداع نفساني لفرض استقلال الأمر
المحتمل في الدعوة، وإلا لكان العمل باطلا من حيث التشريك في الداعي ولو
كان الشريك داعيا عقلائيا. ولا من حيث انطباق عنوان اللعب على العمل
بنفسه، لأن العمل بنفسه وبذاته عبادة ذاتية، وانطباق عنوان آخر عليه من قبل
الداعي بعد فرض دعوة الأمر المحتمل واستقلاله في الدعوة غير معقول، ولا من
حيث انطباق عنوان اللعب على العمل المأتي به بداعي الأمر، إذ مثله لا يعقل إلا
إذا كان الداعي إلى جعل الأمر داعيا أمرا شيطانيا نفسانيا، مع أن المفروض أن
داعي الداعي هنا كما في غيره وهو إسقاط العقاب، أو تحصيل مرضاته تعالى أو
غيرهما. فعلم مما ذكرنا أن الامتثال بجميع ما يتقوم به ليس مصداقا للعب، فكما
لا يكون لاغيا لاعبا في أصل امتثاله كذلك في كيفية امتثاله.
وأما اللعب في تحصيل اليقين بامتثال أمر المولى الخارج عن مرحلة امتثال
.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 40 وكفاية الأصول: ج 2، ص 253 وكفاية الأصول: ص 372،
(ت، آل البيت) والرسائل: ج 2، ص 506 والرسائل: ص 298، مخطوط.
(2) التعليقة: 49، ص 110.
712

الأمر واقعا فنقول لا لعب في أصل تحصيل اليقين أيضا، لأن الداعي إلى أصله هو
الداعي إليه في غير المورد وهو الخروج عن تبعة التكليف في ظرف وجدان
العقل، فلو كان هناك لعب فهو في كيفية تحصيل اليقين بتقريب أن تحصيل
اليقين تارة، بتعيين الواجب واتيانه مرة واحدة وأخرى، بترك يقينه تفصيلا
والجمع بين محتملاته، والداعي إلى اختيار هذا الطريق المحصل لليقين أحد
أمور.
منها: اشتغاله في مدة من الزمان بالانقياد للمولى وهو داع محبوب.
ومنها: كون الجمع بين المحتملات عنده من باب الاتفاق أخف مؤنة وأسهل
تناولا من تعيين الواجب بتحصيل طريقه وهو داع عقلائي.
ومنها: ما لا يكون هذا ولا ذاك فلا محالة يكون لاغيا عابثا، فالداعي إلى
تحصيل اليقين بهذه الكيفية داع شيطاني لا الداعي إلى نفس فعل المحتملات
المتولد منه تحصيل اليقين، ولا اتحاد بين الفعل التوليدي والمتولد منه كما مر
مرارا.
وأما دعوى (1) أن العقل لا يستقل بحسن الامتثال الاجمالي مع التمكن من
الامتثال التفصيلي إما لحكمه جزما بدخل دعوة شخص الأمر دون احتماله في
العبادية المفروض عدم حصول الغرض إلا مع وقوع الفعل على وجه التعبدية،
وإما لاحتماله ذلك. فيكون الفعل المأتي به بداعي احتمال الأمر، إما مشكوك
المحصلية للعبادية ومع الشك في المحصل والقطع بلزوم أصل التعبد به يجب
تحصيل ما يقطع بكونه محصلا، وإما لدوران الأمر بين التخيير والتعيين وهو مورد
الاشتغال.
فهي مدفوعة، بأن الانقياد للأمر المحتمل - كالانقياد للأمر المعلوم - حسن
بذاته بحكم العقل، إذ لا نعني بذلك إلا ما ينطبق عليه عنوان ممدوح عليه عند
العقلاء. وعدم التمكن، إما دخيل في تحقق أصل الانقياد المحكوم بالحسن ذاتا،
.

(1) فوائد الأصول: ج 3، ص 72.
713

وإما دخيل في حسنه الفعلي (1). فهو على الأول مقوم الحسن الذاتي، وعلى
الثاني مقوم الحسن الفعلي. ولا ريب أن عدم التمكن من الامتثال ليس دخيلا في
تحقق الانقياد فلا يكون مقوما لحسنه الذاتي، كما لا ريب في أن ما كان حسنا
بذاته - أي لو خلي ونفسه - يصدر في الخارج حسنا بالفعل إلا إذا انطبق عليه
عنوان قبيح كالصدق المعنون بعنوان المهلك للمؤمن. ومن الواضح ن التمكن
من الامتثال لا هو عنوان قبيح ولا موجب لعنوان قبيح حتى يمنع من صيرورة
الحسن الذاتي فعليا. وبعد كون الانقياد المنطبق على الاتيان بداعي الأمر
المحتمل حسنا ذاتا وفعلا فنقول إن العبادة وغيرها تمتازان بمساوقة الغرض
اللازم لوقوع الشئ حسنا مضافا إلى المولى وبعدم كونه مساوقا له فلا مجال
للشك في حصول الغرض ولا في حصول القرب ولا في حصول الفعل معنونا
بعنوان يؤثر فيهما فضلا عن الحكم جزما بعدم الحسن أو بعدم التعبدية أو بعدم
حصول الغرض، فتدبر جيدا.
298 - قوله: " بل يحسن أيضا فيما قامت الحجة على البراءة " الخ:
توضيح المقام، أن رجحان الاحتياط إما عقلي أو شرعي، والحجة، تارة على
البراءة عن التكليف كأدلة البراءة الشرعية، وأخرى على نفي الوجوب أو الحرمة
واقعا كالدليل الاجتهادي مثل الخبر الصحيح. فإن كان الاحتياط راجحا شرعا
وقامت الحجة على البراءة - سواء كان مفاد أدلة البراءة المعذرية عن مخالفة
الواقع أو رفع الوجوب الفعلي أو الحرمة الفعلية - فلا ينافي احتمال التكليف
الموضوع لرجحان الاحتياط، ضرورة اجتماع المعذرية مع التكليف الواقعي
كاجتماع عدم الفعلية ظاهرا مع ثبوت التكليف الواقعي.
وإن كان الاحتياط راجحا شرعا وقام الخبر الصحيح على عدم التكليف واقعا
فلا ريب في رفع موضوع الاحتياط بنحو الحكومة أو الورود التنزيلي، لأن معنى
الأمر بتصديق العادل الحاكي عن عدم الوجوب واقعا الغاء احتمال خلافه،
.

(1) (خ ل): العقلي.
714

وخلاف عدم الوجوب هو الوجوب ومعنى الغاء احتمال الخلاف الغاء حكمه
وهو وجوب الاحتياط أو استحبابه، هذا على الحكومة كما يراها شيخنا العلامة
الأنصاري - قده - (1).
وأما الورود التنزيلي فتقريبه أن مفاد أدلة حجية الخبر جعل الوصول الظني
بالخبر منزلا منزلة الوصول الحقيقي الذي اثره التنجيز تارة والاعذار أخرى أو
جعل الحكم المماثل بلسان وصول الواقع عنوانا كما سيجئ انشاء الله تعالى تفصيله في
محله، فمع الوصول التنزيلي لا شك ولا احتمال تنزيلا كي يترتب عليه حكمه
براءة كان أو احتياطا أولا واقع عنونا حتى يحتمل فيرتب عليه حكمه، وأما إن
كان الاحتياط حسنا وراجحا عقلا فقط فلا حكومة ولا ورود تنزيلي لدليل
الحجية، إذ لا حكم للاحتمال شرعا حتى يعقل التعبد بعدمه بأحد الوجوه
المتقدمة. لكنك قد عرفت سابقا أن رجحان الاحتياط شرعا بمعنى تعلق الطلب
الوجوبي أو الاستحبابي من الشارع بما هو شارع بملاك مولوي لا يعقل إلا مع
رجحان الاحتياط نفسيا وهو خلاف ظاهر عنوان الاحتياط الذي ليس له شأن إلا
التحفظ على الواقع فلا غرض منه إلا الواقع فلا معنى لرجحانه الشرعي، بل
الأوامر الاحتياطية إما إرشادية أو طريقية لا مصلحة فيها إلا الواقع، فعلى
الارشادية لا حكم من الشارع حتى يتوهم التعارض أو الورود والحكومة، وعلى
الطريقية فمعناها جعل الاحتمال مبلغا للمحتمل إلى مرتبة الفعلية وجوبا كان أو
استحبابا فإذا كان الخبر الحاكي عن عدم الحكم طريقيا أيضا كان معناه جعل
عدمه فعليا فلا محالة يتعارض دليل الاحتياط الشرعي ودليل حجية الخبر على
وجه الطريقية بالمعنى المذكور. ثم إن رجحان الاحتياط عقلا ليس بملاك احراز
المصلحة والتحرز عن المفسدة كما هو ظاهر المتن (2)، بل لأن الانقياد للأمر
المحتمل من حيث إنه انقياد للمولى حسن بل الانقياد فيه أعظم من الانقياد للأمر
.

(1) الرسائل: ج 2، ص 506 والرسائل: ص 298، مخطوط.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 255.
715

المعلوم. والسر في عدم رجحانه بعنوان احراز المصلحة والتحرز عن المفسدة أن
الفعل ما لم يرتبط بالمولى بنحو من الارتباط لا يتعنون بعنوان حسن بملاك
التحسين والتقبيح العقليين الراجعين إلى كونه بحيث يمدح عليه فاعله أو يذم
عليه فاعله لما فيه من مصلحة عامة ينحفظ بها النظام أو مفسدة عامة يختل بها
النظام. فاحراز المصلحة بما هي هنا كجلب المنفعة في غيره ليس داخلا في مورد
التحسين والتقبيح العقليين فتدبر.
" 2 - في اشتراط البراءة العقلية بالفحص "
299 - قوله: " وأما البراءة العقلية فلا يجوز اجرائها " الخ (1):
بأحد تقريبين: الأول: أن المراد بالبيان ما يصلح لقطع عذر العبد في مخالفة
التكليف والدليل على التكليف إذا كان بحيث لو تفحص عنه لظفر به كان صالحا
لقطع عذر العبد فاحتماله قبل الفحص احتمال البيان المصحح للعقوبة،
فموضوع القاعدة وهو عدم البيان غير محرز حتى يقبح العقاب. والوجه في
صلاحه (2) لقطع العذر أن ملاك الوصول الذي تكون المخالفة معه ظلما على المولى
هو وصوله العادي، وهو قهرا متقوم بمقدار من الفحص، إذ ما كان عليه طريق
منصوب من قبل المولى لا يصل عادة إلا بالفحص عنه.
الثاني: أن الاقتحام في المشتبه مع أن أمر المولى ونهيه لا يعلم عادة إلا
بالفحص عنه خروج عن زي الرقية ورسم العبودية، فالاقتحام بلا فحص ظلم،
والفرق بين الوجهين أن العقوبة في الأول على مخالفة التكليف الذي عليه حجة
واقعية وفي الثاني على الاقدام بلا فحص فإنه بنفسه ظلم، وملاك استحقاق
العقاب تحقق عنوان الظلم سواء كان مخالفة للتكليف حقيقة أولا، كما في
التجري، ومجرد كون المتجري بملاحظة علمه لا عذر له لا يكون فارقا، إذ عدم
.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 255.
(2) (خ ل): صلوحه.
716

الحجة للعبد على مولاه لا يسوغ العقوبة بل لا بد للمولى من حجة على عبده في
مؤاخذته وليست الحجة له عليه إلا كونه ظالما على مولاه فلا فرق بين ما نحن
فيه وبين التجري.
وعليه فموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان وإن كان محرزا إلا أنها تنفي
العقاب على مخالفة التكليف لا العقاب ولو من أجل انطباق عنوان آخر، فمعاقبة
المولى عبده على مخالفة التكليف ظلم من المولى على عبده كما أن إقدام العبد
بنفسه بلا فحص ظلم منه على مولاه ولكل واحد منهما حكمه.
نعم، التحقيق أن الظلم غير منطبق على الاقدام والاقتحام، فان ترك الفحص
ليس عنوانا لهما بل مقارن لهما وإنما ينطبق الظلم على نفس ترك الفحص عن
التكليف الذي لا يعلم عادة إلا بالفحص وهذا أيضا فرق آخر بين الوجهين.
وفي كلا الوجهين نظر: أما في الأول: فلما تقدم (1) في البحث عن الشبهة
الموضوعية من أن الحكم ما لم يصل حقيقة بوجوده العلمي في أفق النفس غير
قابل للباعثية أو الزاجرية بنفسه على أي تقدير، بداهة أن وجوده الواقعي لا يعقل
أن يكون موجبا لانقداح الداعي في النفس بل بوجوده الحاضر في أفق النفس
لعدم السنخية والمناسبة إلا بين وجوده النفساني وانقداح الداعي في النفس،
ومن الواضح أن الأمر بدعوته بوجوده العنواني - لفنائه في معنونه وهو الأمر
بوجوده الخارجي - يوجب اتصاف الأمر الخارجي بالدعوة بالعرض، كما في
المعلوم بالذات والمعلوم بالعرض والمراد بالذات والمراد بالعرض، ومن البين
أيضا أن الأمر بوجوده الحاضر في النفس إنما يكون داعيا على أي تقدير إذا كان
داعيا بوجوده العلمي التصديقي، وأما الأمر المحتمل فإنما يوجب اتصاف الأمر
الخارجي بالدعوة بالعرض على تقدير مطابقة الاحتمال للواقع، ففرض جعل
الأمر الخارجي داعيا بدعوة الأمر بوجوده النفساني - بنفسه لا على تقدير - هو
فرض جعل وجوده العلمي التصديقي داعيا لا الأعم منه ومن وجوده
.

(1) التعليقة: 230، 548.
717

الاحتمالي، فيكون وجوده الاحتمالي داعيا على أي تقدير يستدعى جعل
الاحتمال منجزا والمفروض أنه ليس في البين إلا التكليف الواقعي الذي قام عليه
طريق واقعي.
وعليه فلا يعقل فعلية الأمر الواقعي الذي عليه طريق واقعي بنحو الباعثية
والمحركية إلا بعد وصوله حقيقة، إذ لم يكن فعليا وباعثا حقيقيا فكيف يعقل
أن يكون منجزا حتى يكون احتماله احتمال المنجز ليمنع من جريان قاعدة قبح
العقاب بلا بيان، كما أن الأمر الطريقي الموجب لحجية الخبر مثلا، حيث إنه بداع
ايصال الواقع بعنوان آخر أو أنه يوجب اعتبار الخبر وصولا فلا محالة ليس
وجوده الواقعي كوجود التكليف الواقعي فعليا يترتب عليه الأثر، إذ ما لا وصول
له فعلا كيف يكون وصولا للواقع عنوانا أو اعتبارا فاحتماله احتمال حكم طريقي
غير فعلي، ومجرد الاحتمال لا دليل عقلا على كونه مبلغا للحكم الطريقي إلى
مرتبة الفعلية كما لا يشك أحد في أنه لا يكون مبلغا للواقع إلى مرتبة فعلية
الباعثية والزاجرية فتدبره فإنه حقيق به.
وأما في الثاني: فبيانه أن مورد الاحتياط:
تارة يكون فيما إذا كان علم اجمالي بعناوين خاصة كوجوب الظهر أو
الجمعة ونحوهما.
وأخرى، فيما إذا كان علم اجمالي بواجبات ومحرمات لا بعناوين خاصة
كما للمكلف في بدو أمره قبل الاطلاع على التكاليف الشرعية نوعا، فإنه لا علم
إجمالي له بالواجبات بعناوينها الخاصة أو المحرمات كذلك، بل يعلم إجمالا
بتعلق التكاليف نحو أفعال وتروك لا يعرفها بعناوينها الخاصة ولو إجمالا.
وثالثة، ما إذا لم يكن له علم اجمالي بأحد الوجهين كما إذا ظفر بمقدار
معلومه الاجمالي وإنما يحتمل بدوا تعلق التكليف بشئ بعنوانه الخاص،
ولا ريب في وجوب الاحتياط عليه في الأول من دون لزوم فحص عليه في تعيين
معلومه بالاجمال، كما أنه لا ريب أيضا في لزوم الفحص عليه في تعيين
الواجبات والمحرمات ولو بنحو الاجمال في الثاني مقدمة للامتثال، والكلام في
718

الثالث ولا نسلم أن ترك الفحص عن مثله خروج عن زي الرقية ورسم العبودية،
إذ ليس قبل وصول التكليف إليه بنحو من الأنحاء ما يكون ترك الفحص عنه
خروجا عن ذي الرقية فلا يقاس ترك الفحص في الشبهة البدوية المحضة بترك
الفحص عما لا يعرفه بعنوانه الخاص ولو إجمالا.
كما لا يقاس بوجوب النظر في معجزة من يدعي النبوة فإنه.
تارة يكون قبل ثبوت نبوة نبي رأسا فان الوجه فيه علمه بأنه لا بد من نبي مبلغ
عن الله تعالى فتجب معرفته ويتوقف على الفحص بالنظر إلى معجزة من يدعيها
فيحب.
وأخرى يكون بعد ثبوت نبوة نبي فإنه لا علم له بنبوة غيره لامكان بقاء
شريعته بعده وعدم لزوم معرفة غيره لكنه حيث يحتمل بعثة نبي آخر كما هو
سنة الله تعالى في عبادة فيحتمل صدق مدعي النبوة ولمكان أهمية أمر النبوة
وانه لو كان نبيا كان انكاره موجبا للخلود في النار يحكم العقل بمنجزية احتمال
نبوته لمكان الأهمية على تقدير واقعيتها ومثله أيضا لو فرض في التكاليف
كما في الشبهات الموضوعية يستكشف منه جعل احتماله منجزا شرعا أيضا
بخلاف مطلق التكاليف بعد احراز مقدار المعلوم بالاجمال وتمحض الشك في
التكليف، فليس سد باب وصول مطلق التكليف كسد باب الوصول في النبوات.
" 3 - في اشتراط البراءة النقلية بالفحص "
300 - قوله: واما البراءة النقلية فقضية اطلاق أدلتها (1) الخ:
بيانه أن المراد من عدم العلم المأخوذ في موضوع أدلة البراءة الشرعية إن كان
عدم الحجة القاطعة للعذر فحالها حال البراءة العقلية من حيث إن وجود الحجة
.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 255، س 14.
719

الواقعية إذا كانت بحيث لو تفحص عنها لظفر بها كاف في تنجيز الواقع، فمع
احتمالها قبل الفحص يشك في تحقق موضوع البراءة و ح لا مجال لاطلاقها وإن
كان نفس عدم العلم الوجداني فهو قابل للاطلاق من حيث التمكن من الاستعلام
إلا مثل قوله " ما حجب الله علمه عن العباد " (1) لا من حيث إن المراد به " ما
حجب الله علمه " بعدم الوحي أو الالهام إلى النبي أو الوصي، ولا من حيث إن
المراد به ما لم يأمر تعالى نبيه أو وليه بتبليغهما فإنهما أجنبيان عما نحن فيه.
إذ الكلام في الاطلاق وعدمه لا في الدلالة على البراءة وعدمها بل من حيث
إن الحجب وإن شمل الحجب بالواسطة ولو بأسباب طارئة نظير قوله - ع - " ما
غلب الله عليه فهو أولى بالعذر " (2) إلا أن الحجب هنا ليس بواسطة أسباب طارئة
بل بترك الفحص من المكلف فهو الحاجب للتكليف عن نفسه لا هو تعالى شانه
بواسطة الأسباب الطارئة فتدبر. وعليه فمقتضى الاطلاقات جريان البراءة شرعا
- قبل الفحص وبعده - في الشبهة الحكمية والموضوعية فلا بد من التماس مقيد
لها بالإضافة إلى ما قبل الفحص في الشبهة الحكمية.
فان قلت: المقيد لها عقلي، لأن الغرض من التكليف صيرورته باعثا أو زاجرا
أو ناهيا بوصوله العادي، فسد باب وصوله العادي بالترخيص في ترك الفحص
نقض للغرض وأما بعد الفحص فعدم وصول التكليف بعدم الطريق العادي
المؤدي إليه لا بترخيص الشارع في الاقدام والاقتحام، بخلاف الشبهة
الموضوعية، فان المفروض فيها وصول التكليف الكلي فليس ترخيصه في ترك
الفحص عن الموضوع الجزئي سدا لباب الوصول المضاف إلى التكليف
المجعول حتى يكون نقضا للغرض من الانشاء بداعي جعل الداعي بوصوله
.

(1) التوحيد: ص 413، والكافي: ج 1، ص 164، ح 3.
(2) الكافي: ج 3، ص 412، ح 1 والكافي: ج 3، ص 413، ح 7 والتهذيب: ج 3، ص 302،
ب 13، ح 130.
720

العادي.
قلت: أولا: إن الغرض من التكليف إذا كان صيرورته داعيا بوصوله العادي
فلا يعقل دعوته كذلك إلا بوصول نفس التكليف وموضوعه الكلي وموضوعه
الجزئي وإلا لا يعقل باعثيته وانقداح الداعي المحرك للعضلات نحو فعل شئ
خارجا مثلا كما مر بيانه في البحث عن الشبهة الموضوعية، فلا فرق في هذه
الجهة بين وصول التكليف الكلي وتطبيقه على الموضوع الجزئي.
وثانيا: أن الغرض من التكليف دائما هو صيرورته داعيا بوصوله إلا أن الغرض
من التكليف.
تارة، يكون من الأهمية وبحيث يوجب قيام المولى مقام ايصاله بنصب
طريق موافق أو بجعل الاحتياط الراجع إلى جعل احتماله منجزا لئلا يفوت
الغرض الواقعي بسبب عد وصوله حقيقة و ح فعدم جعل الاحتياط خلف،
وجعل الترخيص مضاد لما فرضناه من الأهمية.
وأخرى، يكون الغرض لا بتلك الأهمية بل بحيث يوجب ايكال المولى
للعبد إلى طرقه العادية، فسد باب وصوله العادي حينئذ نقض للغرض.
وثالثة، يكون الغرض بحد لو وصل التكليف من باب الاتفاق لكان لازم
التحصيل، و ح فسد باب وصوله العادي لا ينافي كون الغرض غرضا لو وصل من
باب الاتفاق، والاطلاق كاشف عن أن سنخ الغرض من قبيل الثالث كما أن جعل
الاحتياط في بعض الشبهات كاشف عن أن سنخ الغرض من قبيل الأول، كما أنه
إذا ثبت التفصيل بين الشبهات الحكمية والموضوعية كان كاشفا عن أن سنخ
الغرض بحيث لو كان الموضوع معلوما يمنع من سد باب وصوله العادي
لا مطلقا.
وبالجملة فأصل الغرض تام الاقتضاء من حيث السببية للانشاء بداعي جعل
الداعي إلى الموضوع الواقعي ما هو ظاهر الأدلة، إلا أن اقتضائه لجعل احتمال
721

التكليف المنبعث عنه منجزا على أي حال أو منجزا قبل الفحص أو عدم
منجزيته رأسا يختلف باختلاف الاغراض من حيث الأهمية مط أو بمرتبة من
الأهمية أو عدمها مط فتدبر جيدا.
وحيث عرفت عدم المقيد العقلي للاطلاق بما بيناه وعدم صلوح الاجماع
للتقييد بما في المتن (1) وعدم العلم الاجمالي كما هو المفروض، فاعلم أنه
ينحصر القيد في الأخبار الدالة على وجوب التفقه والتعلم ونحوهما المختصة
بمعرفة الأحكام الكلية بالفحص عن طرقها وسيجئ انشاء الله تعالى بيان مفاد
هذه الأخبار.
301 - قوله: " فلا مجال للتوفيق بحمل هذه " الخ:
قد مر أن العلم بوجود الواجبات والمحرمات لا ينافي عدم العلم ولو اجمالا
بعناوينها الخاصة فمع العلم الاجمالي بأصل الواجبات والمحرمات يبقى مجال
لتحصيل العلم ولو اجمالا بعناوينها الخاصة مقدمة للعمل فيكون التوبيخ على
ترك التعلم مع العلم الاجمالي بهذا الاعتبار ولعله أشار - قده - إليه بقوله فافهم (2).
في أحكام العمل بالبراءة قبل الفحص وتبعته
302 - قوله: " أما التبعة فلا شبهة في استحقاق العقوبة (3) الخ:
ينبغي التكلم في المقامات ثلاثة، الأول: أن العقاب هل هو على ترك
الفحص أو على مخالفة التكليف قبل الفحص. الثاني: أن الحكم المزبور يختص
بصورة الالتفات إلى التكليف المحتمل أم يعم صورة الغفلة عنه. الثالث: هل
.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 256.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 258، س 2.
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 258، س 5 وكفاية الأصول: ص 376، (ت، آل البيت) والرسائل:
ج 2، ص 512 والرسائل: ص 302، مخطوط.
722

الحكم يختص بالتكاليف المطلقة الغير المؤقتة أو يعم المشروطة والمؤقتة.
فنقول: أما الأول: فلزوم الفحص إن كان لأجل أن ترك الفحص عن تكليف
المولى الذي لا يعلم عادة إلا بالفحص والبحث عنه ظلم بنفسه فالعقاب على
نفس ترك الفحص دون مخالفة التكليف المحتمل مع ثبوته واقعا وإن كان لأجل
أن الحجة الواقعية إذا كانت بحيث إذا تفحص عنها المكلف ظفر بها تكون منجزة
للتكليف فمع احتمالها لا يجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان لاحتمال البيان
المصحح للعقوبة فلا محالة يكون العقاب على مخالفة التكليف إذا كان ثابتا إلا أن
الامر فيه دائر بين أمور.
منها: كون احتمال التكليف قبل الفحص منجزا للواقع فعلى تقدير ثبوته
واقعا يعاقب على مخالفته لفرض تنجزه باحتماله.
ومنها كون احتمال التكليف الذي قام عليه طريق واقعي يصل بالفحص إذا
كان، فحينئذ يكون من باب احتمال التكليف المنجز بوجود الحجة، فمع عدم
الطريق الخاص واقعا لا عقاب على مخالفة التكليف وإن كان ثابتا بنفسه واقعا أو
بطريقه الذي لا يصل عادة بالفحص عنه.
ومنها: كون احتمال التكليف الذي عليه طريق منجزا للطريق من قبيل منجز
المنجز لا من باب احتمال التكليف المنجز بالطريق الواقعي، فالعقاب على
مخالفة التكليف الذي قام عليه طريق منجز باحتماله. والصحيح هو الوجه الأخير
دون الأولين.
أما منجزية الاحتمال فهي لا توجب الفحص، إذ المفروض استحقاق العقاب
على تقدير ثبوته واقعا - قام عليه طريق أم لا - والفحص لا يوجب زوال احتمال
التكليف ولا جزاف في حكم العقل بحيث يحكم بمنجزية احتمال التكليف قبل
الفحص لا بعده مع كون الفحص وعدمه لا يوجب زوال الاحتمال ولا زوال
خصوصية فيه مقتضية للتنجيز، بخلاف احتمال الحجة فإنه يزول بالفحص، فإنه
723

لو كان بحيث يصل لوصل بالفحص.
وأما منجزية الحجة الواقعية ليكون احتمالها احتمال المنجز فقد عرفت سابقا
برهانا أن الحكم مطلقا - طريقيا كان أو حقيقيا - لا يصير فعليا إلا بوصوله حقيقة لا
بحيث إذا تفحص عنه لوصل خصوصا في الأول، بخلاف منجزية احتمال الحجة
للحجة فإنه معقول، لكنه يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه عقلا.
وأما الدليل النقلي فيكفي فيه الأدلة الدالة على التفقه وتحصيل العلم
بالأحكام، إذ بعد ما عرفت أن العلم بالتكليف العملي ليس مطلوبا نفسيا لا منشأ
للالزام به إلا من حيث الوقوع في عقاب مخالفة الواقع لو لم يتفحص عنه
ولو يتفقه فيه. ومن الواضح أن العقاب على مخالفة الواقع بما هي غير معقول
فلا بد من فرض المنجز ووجود الطرق الواقعية بما هي غير منجزة.
لأنها كالواقعيات فلو أمكن تنجز الواقع بما هو لما كانت حاجة إلى تنجيزها
بمثلها فلا محالة يكون المنجز هو الاحتمال، وحيث إن احتمال التكليف لا
يتفاوت تنجيزه بالفحص وعدمه فالمنجز هو احتمال الطريق من قبيل منجز
المنجز، بأن جعل احتماله للاهتمام به في تنجيز الواقعيات بمنزلة وصوله، وقد
عرفت أن مثله يتفاوت حاله قبل الفحص وعدمه.
ويمكن أن يقال بأن الفحص والسؤال بعد ما لم يكن مصلحة نفسية ليكون
واجبا نفسيا ولا ذا مصلحة مقدمية ليكون واجبا مقدميا، لأن العلم الحاصل
بالفحص ليس مقدمة وجودية للعمل ولا معنى للايجاب للغير في قبال الوجوب
النفسي والغيري، فان الايجاب بداعي جعل الداعي لا يعقل إلا مع المصلحة
المترتبة على فعل المكلف بأحد النحوين فلا محالة يكون الأمر بالفحص والتفقه
بداعي ايصال الواقع بطريقه، فان الفحص مقدمة لحصول العلم الشرعي وهو
الخبر المنزل منزلته، وهذا المعنى من الوصول مترتب على الفحص خارجا لا
على الأمر به، فلا منجز لا للواقع ولا للطريق، فالقابل لأن يكون غرضا مترتبا على
724

الأمر بالفحص كون هذا الواصل ايصالا للطريق تشريعا لا تكوينا وتنزيلا
لا حقيقة.
ومنه تعرف أن المنجز للطريق نفس هذا الأمر لا احتمال الواقع أو احتمال
الطريق كما أنه تعرف أنه يستحيل ترتب العقاب على ترك الفحص ولو من حيث
استلزامه لمخالفة الواقع، فان هذا المعنى شأن نفس الطريق حيث يكون العمل
به نفس اتيان ما تكفل لوجوبه، فان التصديق العملي للخبر ليس إلا بفعل صلاة
الجمعة مثلا ففي مثله يصح أن يقال إنه لا فرق بين القول باستحقاق العقاب على
مخالفة الواقع والقول باستحقاقه على مخالفة الطريق، بخلاف الأمر بالتفقه
بالفحص الذي لا شأن له إلا ايصال الطريق تشريعا وتنزيلا فتدبره فإنه حقيق به.
والتحقيق: أن ما ذكرنا وإن كان كافيا في تنجيز الواقع الذي عليه طريق واقعا
ويستحق على مخالفته العقاب لا على ترك الفحص وترك التفقه من دون محذور،
إلا أن ظاهر الأخبار الآمرة بالتفقه والتعلم أن المطلوب بها هو التفقه والتعلم وأن
الايجاب حقيقي لا بداعي ايصال الواقع أو الطريق، وتصحيحه بحيث يكون
الأمر متكفلا لتكليف عملي بلا لزوم محذور يتوقف على تمهيد مقدمة هي أن
الغرض من الواجب غير الغرض من الايجاب، فان أغراض الواجبات وهي
مصالحها مختلفة والغرض من الايجاب دائما هو جعل الداعي، سواء كان
الواجب تعبديا أو توصليا، وسواء كان نفسيا أو غيريا مقدميا
وأيضا ليس تفاوت الواجب النفسي مع الغيري أن الغرض من الأول مطلوب
ومحبوب بذاته وأن الغرض من الثاني التوصل إلى ذلك المحبوب الذاتي، فانا قد
بينا في مباحث الألفاظ (1) أن النفسي بهذا المعنى منحصر في معرفة الله تعالى و
إلا فما عداه من الواجبات يكون أغراضها مقدمة لغرض أقصى إلى أن ينتهي إلى
الغاية الحقيقية وهي المعرفة.

(1) نهاية الدراية: ج 1، ص 372.
725

وكذا ليس ملاك النفسية كون الواجب حسنا بنفسه فان الحسن بذاته لا لغاية
مترتبة على ذاته أيضا منحصر في المعرفة، ولا لذاته يوجب انتفاء الفارق بين
النفسي والغيري، لأنها جميعا حسنة بالتبع، بل الحق في الفرق ان ما وجب على
المكلف لا لواجب آخر عليه فهو واجب نفسي، وما وجب لواجب آخر عليه فهو
واجب غيري، فالصلاة وإن كانت لغرض إلا أنها واجبة لا لواجب آخر حيث لا
يجب الغرض وشرائط الصلاة واجبة لوجوب الصلاة، ولذا قلنا إنه لو أمر زيدا
بشراء اللحم فهو واجب نفسي وإن كان الغرض من شرائه طبخه ثم أكله، بل ربما
يكون الطبخ واجبا على عمرو، وعليه فلا مانع من أن يكون الفحص واجبا نفسيا
أي واجبا لا لواجب آخر عليه، فان الغرض من الفحص هو وصول التكليف
المصحح لباعثيته، فالغرض منه مرتبط بالغرض من الايجاب لا بالغرض من
الواجب حتى يكون الفحص مقدمة وجودية لترتب الغرض من الواجب الواقعي
فهو من حيث إنه واجب لا لواجب آخر عليه لعدم ترشح وجوبه من وجوبه
واجب نفسي، وحيث إن الغرض منه جعل التكليف قابلا للباعثية فهو واجب
طريقي، فالواجب النفسي في قبال الواجب الغيري، والواجب الحقيقي في قبال
الواجب الطريقي، فالواجب النفسي على قسمين لا أن الواجب الغيري على
قسمين ايجاب مقدمي غيري وايجاب للغير كما قيل، فإنه كما مر بلا وجه
لانحصار جعل الداعي في الواجب النفسي والواجب المقدمي الغيري للبرهان
المتقدم.
فان قلت: إذا كان الغرض من أوامر التفقه ايصال الواقع الذي عليه طريق
تنزيلا واعتبارا فهو منجز للواقع المزبور. وإذا كان بداعي جعل الداعي ليحصل
العلم حتى يتنجز الواقع بوصوله فنتيجة (1) ترك تحصيله عدم وصول المولى إلى
غرضه من الايجاب والواقعي فيكون تفويتا للتكليف وللغرض منه فما المنجز
.

(1) (خ ل): فنتيجته.
726

للواقع حتى يستحق على مخالفته العقوبة.
قلت: الغرض من الأمر بالتفقه وإن كان بدوا مرتبطا بالايجاب لا بالواجب ولذا
جعلناه أمرا طريقيا إلا أن تفويت هذا الغرض مستلزم لتفويت الغرض من
الواجب.
فان قلت: سلمنا الاستلزام المزبور إلا أن تفويت الغير الواصل لا عقاب عليه
والمفروض أن الغرض من الواجب الواقعي غير واصل لعدم العلم لا حقيقة ولا
تنزيلا.
قلت: الأمر بالتفقه حجة بالمطابقة على الغرض من التفقه وهو صيرورة
الايجاب الواقعي باعثا وحجة بالالتزام على الغرض من الواجب الواقعي، لأن
الايجاب الواقعي مقدمة لحصول الغرض من الواجب الواقعي بتحصيله، والحجة
على العلة حجة على معلولها، فتفويت الغرض من التكليف تفويت للغرض من
المكلف به الواصل بوصوله، فالفرق بين هذا المسلك والمسلك المتقدمة أنه
لا تكليف عملي على المسلك المتقدم فلا موافقة ولا مخالفة، فعدم العقاب على
الأمر بالتفقه بنحو السالبة بانتفاء الموضوع بخلاف هذا المسلك، فان الأمر بالتفقه
تكليف عملي له موافقة ومخالفة، إلا أن مخالفة مثله لا يوجب العقاب على
نفسها بل العقاب على ما يستلزمه من مخالفة الواجب الواقعي المنجز بالالتزام
فتدبر جيدا.
وأما المقام الثاني: فظاهر شيخنا - قده - في المتن (1) صحة العقاب على
التكليف المغفول عنه، لانتهاء مخالفته إلى أمر اختياري وهو ترك الفحص
والتعلم لكنه غير خال عن المحذور، لأن عدم التمكن من الانبعاث بالبعث
الواقعي مستند إلى الغفلة عن التكليف، لكن الغفلة مستندة إلى ترك التحفظ
لا إلى ترك الفحص، والتحفظ غير لازم في صورة العلم بالتكليف فضلا عن
.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 258، س 5.
727

احتماله مع الغفلة مانعة عن توجه التكليف لا عن الفعل والترك، وإلا فالقدرة
على الفعل والترك بذاتهما على حالها والمفقود هي القدرة على الانبعاث بالبعث
المغفول عنه ومتعلق التكليف ذات الفعل والترك لا الانبعاث بالبعث، ومنه
تعرف أن معرفة الحكم ليست مقدمة وجودية لمتعلق التكليف حتى يستند تركه
إلى تركها بل مقدمة للانبعاث به على أي تقدير وهو غير متعلق التكليف.
نعم التعلم لموضوع التكليف كتعلم القراءة مثلا مقدمة وجودية لمتعلق
التكليف وهي القراءة، لكنه أجنبي عن مسألة الفحص عن التكليف مقدمة لاجراء
البراءة مضافا إلى أن الزمان إن كان بحيث لا يفي بالتعلم والعمل فقط فالتكليف
ساقط، لعدم التمكن من المكلف به بسبب ترك التعلم لا بسبب الغفلة ففرض
الغفلة لغو حينئذ وإن كان يفي بهما معا، فالتكليف، ساقط للغفلة لا لعدم التمكن
بسبب ترك التعلم فالجمع بينهما غير وجيه، ولا يخفى عليك أنه يمكن حمل
كلامه (زيد في علو مقامه) (1) على صورة استناد الغفلة المسقطة للتكليف المنجز
باحتماله إلى ترك الفحص أحيانا بتقريب أنه حيث لم يقم بصدد الفحص عن
التكليف المحتمل زالت عن ذهنه صورة التكليف المحتمل فالغفلة مستندة إلى
عدم قيامه مقام الفحص إلا أنه لا يجدى في الموسع إذا عرضه الغفلة المستندة
إلى ترك الفحص فإنه لا يجب المبادرة إلى الفحص فهو معذور في ترك الفحص
في أول زمان الالتفات إلى التكليف الذي يحتمله فالمخالفة المنتهية بالآخرة إلى
ترك الفحص المعذور فيه لا تكون موجبة للعقوبة. نعم يتم في الواجب المضيق
الذي لا يتمكن من الفحص عنه إلا في أول زمان الالتفات إليه فلو تركه لم يكن
معذورا في تركه عقلا فالمخالفة للتكليف المنقول عنه منتهية إلى ترك الفحص
الذي لا يعذر فيه فتدبر جيدا.
وأما المقام الثالث: فالاشكال في موردين أحدهما: ما إذا لم يمكن فعل
.

(1) نفس المصدر السابق.
728

الواجب في ظرفه إلا بالتعلم قبل وقته لعدم قابلية الوقت لهما معا ونظيره الغسل
قبل الفجر للامساك النهاري فامتناع ذي المقدمة حينئذ مستند إلى ترك المقدمة
قبل الوقت.
وثانيهما: ما إذا لم يتمكن من فعل الواجب في ظرفه للغفلة المانعة عن
التكليف الفعلي في وقته ولو مع قابلية الوقت له وللتعلم أو ساير مقدماته معا
والأجوبة المذكورة متنا (1) وهامشا (2) من الالتزام بالواجب المعلق أو المشروط
بالشرط المتأخر كما أفاده - قده - في مبحث (3) مقدمة الواجب أو بحكم العقل
بلزوم المقدمة ولو قبل الوقت أو بحكم الشرع بلزوم التعلم نفسيا انما تجدي في
دفع الاشكال في المورد الأول لا في الثاني.
أما الوجوب المعلق أو المشروط بالشرط المتأخر فهو انما يعقل إذا أمكن
الانبعاث في ظرف العمل ومع الغفلة المانعة عن الانبعاث فلا يعقل البعث نحو
العمل في الزمان المتأخر لفرض الغفلة المانعة. وأما حكم العقل بلزوم المقدمة
فهو انما يعقل إذا أمكن امتثال ذي المقدمة وكان المانع عدم وجوب الاتيان
بمقدمته فمع فرض لزومها عقلا لا مانع من ايجاب ذي المقدمة. وأما إذا لم يعقل
ايجابه لفرض الغفلة عنه فلا معنى لالزام العقل بمقدمة مالا تكليف به - لا فعلا
ولا في ظرفه.
وأما وجوب التعلم نفسيا فإن كان التعلم واجبا بذاته كما في أصول العقايد فلا
.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 258.
(2) حقائق الأصول: ج 2، ص 365. إلا أن يقال بصحة المؤاخذة على ترك المشروط أو الموقت
عند العقلاء إذا تمكن في الجملة ولو بأن تعلم وتفحص إذا التفت، وعدم لزوم التمكن منهما بعد
حصول الشرط ودخول الوقت مطلقا، كما يظهر ذلك من مراجعة العقلاء ومؤاخذتهم العبيد على ترك
الواجبات المشروطة أو الموقتة بترك تعلمها قبل الشرط أو الوقت المؤدى إلى تركها بعد حصوله أو دخوله
فتأمل (منه قدس سره) وكفاية الأصول: 369، (ت، آل البيت).
(3) كفاية الأصول: ج 1، ص 166، 160، 158.
729

محالة لا ربط له بالعمل في الوقت وأما إذا كان وجوبه نفسيا للتهيؤ للعمل
الواجب في ظرفه فمع عدم وجوبه في ظرفه للغفلة عنه لا معنى لايجاب التعلم
من باب التهيؤ مع عدم وجوب ما يتهيأ له إلا أن يدعى أن تفويت التكليف التام
الاقتضاء في ظرفه بترك الفحص الموجب للغفلة المسقطة للتكليف أو تفويت
المكلف به بسبب ترك التعلم مصحح للمؤاخذة على تفويت الغرض، فإنه سد
باب وصول المولى إلى غرضه اللزومي لكنه مختص بما إذا علم أن الغرض (1)
هكذا لا ما إذا كان بحيث لو تنجز التكليف من باب الاتفاق بعدم عروض الغفلة
ولو بسبب ترك الفحص يكون الغرض لزوميا للمولى، ومما لا بد له منه لا مطلقا.
فان قلت: إذا فرض أن الغفلة المانعة عن توجه التكليف في الوقت مستندة
إلى ترك الفحص وترك التعلم، فالوجوه المزبورة كلها جارية في المورد الثاني
أيضا.
لأن عدم تمكن المكلف من الانبعاث في ظرف العمل مستند إلى الغفلة
المستندة إلى ترك تحصيل المعرفة والتعلم، والمفروض وجوب تحصيلهما
لوجوب الفعل قبل الوقت، فيستند عدم التمكن من الانبعاث إلى ترك المقدمة
الواجبة، ومثله لا يمنع من استحقاق العقاب على ترك الواجب في ظرفه ولو
انقطع خطابه فيه للغفلة. وكذا ايجاب التعلم والمعرفة من باب التهيؤ ليتمكن
من امتثال الواجب في ظرفه، والمفروض أنه لو حصل المعرفة لما عرضه الغفلة
عن التكليف، فعدم ما يتهيؤ له مستند إلى ترك الواجب من باب التهيؤ لا إلى غيره
لئلا يعقل الايجاب من باب التهيؤ، وكذا الزام العقل بالمعرفة والتعلم من باب
المقدمة ولو قبل الوقت لئلا يعرضه الغفلة الموجبة لفوات الواجب في ظرفه.
قلت: إذا فرض قبول الوقت للفحص والتعلم مع العمل، فالفحص والتعلم
قبل الوقت على جميع الوجوه ليس بأدون من الواجب الموسع، فترك الواجب
.

(1) (خ ل): العرض.
730

بترك مقدمته الواجبة التي لا تجب المبادرة إليها، بل يعذر في تركها، لفرض قابلية
الوقت في حد ذاته لهما لا يوجب المؤاخذة على ترك الواجب ولا على ترك
المقدمة الواجبة نفسا من باب التهيؤ، كما عرفت وجهه، فلا محيص في مثله إلا
عن الدعوى التي قررناها، كما أنه إذا لم نقل بالواجب المعلق وبالواجب
المشروط بالشرط المتأخر وبالواجب النفسي ينحصر دفع الاشكال في المورد
الأول بدعوى قبح تفويت الغرض اللزومي من التكليف أو المكلف به إذا كان
الفعل تام الاقتضاء ولم يكن الوقت أو الشرط دخيلا في كونه ذا مصلحة، بخلاف
ما إذا كان كذلك فان تفويته غير قبيح، لأنه ليس من المنع عن وصول المولى إلى
غرضه بل إلى المنع من صيرورته غرضا (1) للمولى فتدبر.
303 - قوله: " لكنه قد اعتبر على نحو لا تتصف " الخ:
بأن يحكم بوجوب الصلاة المتمكن من جميع مقدماتها في وقتها إلا المعرفة،
فلا محالة لا تجب المبادرة إلى ما عدا المعرفة من المقدمات، إذ مع عدم القدرة
في وقت الصلاة ينكشف عدم وجوبها بخلاف المعرفة فإنها تجب بوجوب
الصلاة فعلا ولو لم يقدر على تحصيلها في وقت الصلاة، وبمثله يندفع الاشكال
عن وجوب الغسل قبل الفجر للصوم، لكنه ينتقض بوجوب الوضوء قبل الوقت
إذا علم بالقدرة عليه في الوقت، مع أنه لا يجوز اتيانه بقصد الوجوب قبل الوقت
ولا يمكن جعل القدرة في الوقت شرطا لوجوبه بنحو الشرط المقارن، إذ
المفروض الالتزام بالوجوب المطلق للصلاة فكيف يكون وجوب مقدماتها
مشروطا، وأما تقييد الوضوء بالوقت كالصلاة حتى لا يكون مقدورا قبل الوقت
فهو يدفع جواز اتيانه بقصد الوجوب، لكنه لا يدفع تحصيل مقدماته قبل الوقت
كنفس الصلاة، ولا يندفع بجعل القدرة عليه قدرة حاصلة من باب الاتفاق
فتحصيلها غير لازم، لأنه مناف لغرض قيدية حصولها بطبعها، فان لازمه عدم
.

(1) (خ ل): عرضا.
731

صحة الوضوء بتحصيل القدرة عليه في الوقت أو قبله مع أنه صحيح قطعا.
304 - قوله: " فلا محيص عن الالتزام بكون وجوب التعلم نفسيا " (1)
الخ:
لكنه لا يجدى إلا في وجوب هذه المقدمة دون بعض المقدمات التي لا بد
من اتيانها قبل ذيها ك‍ " الغسل قبل الفجر للصوم " مع عدم وجوبه قبل الفجر،
ووجه الاشكال هو التسالم من الكل على انبعاث الوجوب المقدمي والإرادة
الغيرية من الوجوب النفسي والإرادة النفسية، والمعلول يستحيل تقدمه على
علته.
والتحقيق عدم الانبعاث والمعلولية بوجه لا بنحو الاقتضاء ولا بنحو
الشرطية ولا بنحو الاعداد. والكلام، تارة في الوجوب والإرادة، وأخرى في
مباديها من الملائمة والميل والحب. أما الكلام في الوجوب والإرادة فمجمله أن
المقدمة كما يكون مقدمة هنا على ذيها في الوجود كذلك الإرادة المتعلقة بها
المحركة للعضلات نحوها، فإنها الجزء الأخير من العلة التامة فلو كانت منبعثة عن
إرادة ذيها التي هي الجزء الأخير من علته لزم إما انفكاك المعلول عن علته التامة
أو تقدم المعلول على علته، هذا في الإرادة التكوينية.
وأما الإرادة التشريعية فهي الجزء الأخير من العلة التامة للبعث والتشريع، ومن
الواضح أن الايجاب ايجاد تسبيبي من المولى لفعل عبده فكما أن وجود المقدمة
وارادتها مقدم على وجود ذيها وارادته فكذا ايجادها التسبيبي بايجابها متقدم
على ايجاده التسبيبي بايجابه، إذ ليس الايجاب إلا جعل الداعي المحقق لإرادة
المكلف عند انقياده لمولاه، فلا بد أن يكون محقق إرادة المقدمة متقدما على
محقق إرادة ذيها فإرادة المقدمة تشريعا أيضا متقدمة على إرادة ذيها تشريعا.
نعم، حيث إن الغاية المتأصلة في ذي المقدمة فهي بمحصلاتها ومنها ايجادها
.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 259، س 13 وكفاية الأصول: ص 376، (ت، آل البيت).
732

التسبيبي بمنزلة العلة الغائية لإرادة المقدمة وايجادها التسبيبي، فكما أن
المكلف يوجد المقدمة مباشرة ليتمكن من ايجاد ذيها مباشرة كذلك المولى
يوجدها تسبيبا ليتمكن من ايجاد ذيها تسبيبا.
وأما حديث انبعاث الإرادة والوجوب في المقدمة عن إرادة ذيها وايجابها
- سواء كان بنحو انبعاث المقتضى عن مقتضيه (1) أو المشروط عن شرطه أو
المعد له عن معده - فغير معقول، إذ لا يتأخر المقتضي ولا الشرط ولا المعد عن
مقتضاه ومشروطه والمعد له، مضافا إلى أن ترشح ذات الإرادة عن مقام ذات
إرادة أخرى فضلا عن انبعاث الوجوب الاعتباري عن مقام ذات وجوب اعتباري
آخر بنفسه غير معقول.
وأما الكلام في مبادي الإرادة فمختصره أن انبعاث الحب التبعي أو الميل
التبعي عن الميل الذاتي بنحو انبعاث المقتضى عن المقتضي قد عرفت أخيرا أنه
غير معقول، إذ لا يتصور اشتمال ذات صفة الحب المتعلق بشئ على ما وراء
ذاتها وذاتياتها كي يترشح من مقام ذاتها صفة مثلها إلى مقدماته، فلو أمكن دخل
الحب الأصلي في الحب التبعي لكان إما بنحو الشرطية أو بنحو الاعداد والشرط
ليس إلا ما يصحح فاعلية الفاعل أو ما يتمم قابلية القابل، والمعد ليس إلا
ما يقرب الأثر إلى مؤثره، والمعلول إلى علته، وكلاهما في مورد يكون له سبب
ومقتض يترشح الميل والحب منه حتى يتوقف على ما له دخل في تأثيره أو على
ما يقرب الأثر من مؤثره. ومن الواضح أن أصل حب الذات لذاته ولما يلائم ذاته
أمر فطري طبعي جبلي لا لاقتضاء أمر خارج عن ذاته حتى وجود ما فيه فائدة
عائدة إلى جوهر ذات الفاعل أو إلى قوة من قواه، لا بوجوده الخارجي
ولا بوجوده العلمي.
أما وجوده الخارجي، فهو منبعث عن حبه له فكيف ينبعث حبه عنه والتذاذ
.

(1) (خ ل): مقتضية - معدة - ولا المعد له.
733

النفس بتأثرها - أو تأثر قوة من قواها بنيل المحبوب - لا دخل له بالحب بل هو أمر
متأخر عن وجود ما يوجب الالتذاذ.
وأما وجوده العلمي، فلانه تصديق بكون الشئ محبوبا بالجبلة والفطرة
لا موجب لحبه بالفطرة، فلو لم يكن ما فيه الفائدة (1) محبوبا بالجبلة والفطرة
لم يوجب تصوره والتصديق به حبه له، بل الحب الكلي الجبلي يتخصص بهذا
الجزئي بعد تصوره وتصديقه لا أنه مقتض لتحققه ومما يترشح منه. فإذا عرفت
منشأ الحب في نفسه فنقول الأشياء يتفاوت في محبوبيتها بالفطرة، فبعضها
محبوب بذاته لما فيه من الفائدة العائدة إلى الشخص، وبعضها محبوب لكونه
مما يتوصل به إلى المحبوب الذاتي، فتصور المقدمة تصور ما هو محبوب
توصلي لا موجب له فمنشأ الحب واحد، لكنه، تارة بالذات، وأخرى بالعرض،
لا أن هناك مقتض لوجود الحب التبعي ويتوقف تأثيره أو قربه إليه على وجود
الحب الذاتي، فمقدمة المحبوب محبوبة بالفطرة والحب الذاتي بمنزلة علل
القوام للمحبوب التبعي فيكون الحب الذاتي الجزئي بالإضافة إلى أمر خاص
متقدما طبعا على الحب التبعي كما في كل شئ متقوم بجزئين، فان الجزئين في
مقام الذات لهما التقدم بالماهية والتجوهر على الذات، ولهما التقدم الطبعي
عليها في الوجود لا العلية بنحو الاقتضاء أو بنحو الشرط أو بنحو الاعداد، فتدبره
فإنه حقيق به.
305 - قوله: " بل للتهيؤ لايجابه، فافهم " الخ:
إن كان ملاك الوجوب النفسي عدم انبعاثه عن وجوب غيره كان الايجاب
للتهيؤ داخلا في الايجاب النفسي كما أفاده - قده - (2) وإن كان ملاك الوجوب
النفسي كون متعلقه حسنا بنفسه، وإن كان الغرض منه التوصل إلى غرض
مطلوب بذاته كما هو مبناه - قده - وبه دفع الاشكال عن الواجبات النفسية

(1) (خ ل): ما فيه لفائدة.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 260، س 3.
734

فايجاب التعلم والمعرفة لا يدخل كالوجوب النفسي، لأن عنوان التهيؤ ليس
حسنا بذاته بل حسنه مقدمي لتمكين المولى من تحصيل غرضه الأصيل بالبعث
إليه، ولعل لذا قال - قده - فافهم (1).
306 - قوله: " إن قلت كيف يحكم بصحتها مع عدم الأمر بها " (2) الخ:
توضيح المقام أن الاشكال هنا من وجوه.
أحدها: في استحقاق العقاب بمجرد ترك القصر في زمان فان ظاهر المشهور
عدم لزوم الإعادة مع بقاء الوقت وارتفاع الجهل مع أنه لا عقاب إلا على ترك
الواجب في تمام الوقت.
ثانيها: في اتصاف الاتمام بالصحة والتمامية مع أنه لم يكن بها أمر فما معنى
الصحة وهي موافقة الأمر وإن كان بها أمر لزم أن يكون على المكلف صلوتان في
وقت واحد مع أن فريضة الوقت واحدة.
ثالثها: من حيث عدم اجتماع استحقاق العقاب على ترك القصر ولو مع
استمرار الجهل إلى آخر الوقت مع صحة الاتمام، لان الاتمام إن كانت واجدة
لمصلحة القصر فهي مجزية عنها فما معنى استحقاق العقاب على تركها وإن لم
يكن واجدة لمصلحتها فما معنى عدم وجوب إعادة القصر؟ وما معنى توصيفها
بالتمامية بقوله (3) (ع) " تمت صلوته ". فان ظاهر السؤال والجواب أداء فريضة
الوقت والفراغ عنها بفعل الاتمام جهلا.
واعلم أن ما أفاده - قده - في مقام الجواب (4) باشتمال الاتمام على
مصلحة القصر بمقدار لا يبقى معه مجال (5) لاستيفاء بقية المصلحة اللزومية،
.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 260، س 4.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 260 وكفاية الأصول: ص 377، (ت، آل البيت).
(3) الوسائل: ج 2، ب 7 و 8، ص 948، ح 2 - 3 والمستدرك: ج 6، ب 20، ص 36، ح 6363.
والمستدرك: ج 6، ب 17، ص 414، ح 7113.
(4) كفاية الأصول: ج 2، ص 261.
(5) (خ ل): لا يبغي معه محال.
735

واف بدفع الاشكال من جميع الوجوه، فان الصحة والتمامية من حيث
قيامها بملاك الامر بالقصر لا من حيث الأمر بها بالخصوص ولذا صح توصيفها
بالتمامية من حيث اسقاط فريضة الوقت وعدم وجوب اعادتها، وحيث إن
المقدار الباقي غير قابل للاستيفاء صح عدم ايجاب الإعادة واستحقاق العقاب
على تركه.
307 - قوله: " وإنما لم يؤمر بها لأجل أنه أمر بما كانت " (1) الخ:
ظاهره - قده - أن الأمر بالقصر مانع عن الأمر بالاتمام، بيانه: أن الأمر بالاتمام
مع فرض الامر بالقصر بأحد وجوه، إما بنحو الأمر التعييني، أو بنحو الامر
التخييري، أو بنحو تعدد المطلوب، أو بنحو الترتب، أو بنحو الأمر بالطريق بعد
الامر بالواقع. والكل لا يخلو عن محذور.
أما الأمر التعييني بهما فهو خلاف الإجماع والضرورة، لوضوح أنه لو أتى
بالقصر لما كان عليه شئ أصلا لا تكليفا ولا وضعا.
وأما الأمر التخييري فلأن الإتمام إن كان وافيا بتمام مصلحة القصر صح
التخيير إلا أن لازمه عدم العقاب على ترك القصر مع فعل الإتمام، كما في كل
واجبين بنحو التخيير. والمفروض العقاب على ترك القصر، وإن لم يكن وافيا
بتمام مصلحتها لم يصح التخيير، إذ التخيير بين التام والناقص (2) غير معقول،
لعدم البدل للمقدار الزائد.
واما الأمر بهما بنحو تعدد المطلوب فغاية تقريبه أن طبيعي الصلاة مشتمل
على مصلحة لزومية والطبيعي المتخصص بخصوصية القصر مشتمل على
مصلحة لزومية أخرى، ولا يلزم منه اجتماع أمرين في القصر بل ينبعث من
المصلحتين فيها إرادة أكيدة، وينبعث منها ايجاب أكيد، فالاتمام من حيث كونها
.

(1) كفاية الأصول: ج 2. ص 261 وكفاية الأصول: ص 378، (ت، آل البيت).
(2) (خ ل): ناقض.
736

فرد طبيعي الصلاة المطلوبة مطلوبة (1).
والجواب أن الإرادة المنبعثة عن المصلحتين في القصر وإن كانت واحدة
والايجاب المنبعث عنها كذلك إلا أن الطبيعي المنطبق على الإتمام لا بد من أن
يكون مأمورا به بأمر آخر. بداهة أن وجوب الحصة المتخصصة بالقصر غير
الحصة المتخصصة بالإتمام فلا تسرى المطلوبية والبعث منها إليها. ومن الواضح
أيضا أن الامر بالاتمام ليس أمرا بها بما هي إتمام، إذ لا خصوصية لحدها كحد
القصر، بل الأمر إليها من حيث الأمر بطبيعي الصلاة المنطبقة على الإتمام وعلى
القصر، فيلزم سريان الأمر إلى القصر أيضا كالاتمام، فيلزم توجه بعثين نحو القصر،
أحدهما، بجامعها والآخر، بما هي خاص، ولا يعقل مع تعدد البعث حقيقة
تأكده، إذ لا اشتداد في الاعتباريات، بل فرض إرادة أخرى - مغائرة لإرادة الحصة
المتغائرة مع الجامع - توجب عدم تأكد الإرادة، إذ الإرادة بعد الإرادة لا توجب
التأكد بل توجب اجتماع المثلين، كما لا يخفى. هذا إذا كان الأمر بالجامع والأمر
بالقصر بنحو التعيين.
وأما بنحو التخيير فغير معقول في نفسه، لأن التخيير بين الكلي وفرده غير
معقول لأول الأمر إلى التخيير بين الشئ ونفسه.
وأما الأمر بالاتمام بنحو الترتب على معصية (2) الأمر بالقصر بناء على معقولية
الترتب في نفسه كما اخترناه في محله فهو غير صحيح أيضا، إذ العصيان المنوط
به الأمر بالاتمام إما بترك القصر في تمام الوقت أو بامتناع تحصيل الغرض منه،
والمفروض بقاء الوقت، كما أن المفروض عدم امتناع الملاك إلا بوجود الاتمام
بالتمام حتى يترتب عليه المصلحة التي لا يبقى معها مجال لاستيفاء بقية
.

(1) نهاية الأفكار: ج 3، ص 484 ولكن يمكن الذب عن الاشكال بالالتزام بتعدد المطلوب.
ومصباح الفقيه، كتاب الصلاة: ص 317 وحاشية الرسائل للفقيه الهمداني: 126.
(2) (خ ل): معصيته - فوائد الأصول: ج 3، ص 102.
737

المصلحة المترتبة على فعل القصر، فلا أمر بالاتمام مقارنا لفعله المقارن لعصيان
الأمر بالقصر بأحد الوجهين.
وأما الأمر بالاتمام على حد الأمر بالطريق فتارة، يكون الأمر بالاتمام مرتبا
على الجهل بالتكليف الواقعي على حد سائر الأحكام الظاهرية. وأخرى، يكون
مرتبا على اعتقاد المكلف للأمر بالاتمام.
فإن كان الأول: فمع كونه خلاف المتفق عليه، إذ لا يقول أحد بأن المتردد في
تكليفه من حيث القصر والاتمام يجب عليه الاتمام، يرد عليه أن هذا التكليف
الظاهري إن كان مطلقا من حيث الفحص عن التكليف الواقعي فما وجه العقاب
على ترك القصر، وإن كان مقيدا بالفحص فلا تكليف بالاتمام قبل الفحص، فاما
لا تكليف بالاتمام أو لا عقاب على ترك القصر.
وإن كان الثاني: ففيه أن الأمر في فرض اعتقاد الأمر غير معقول، لأن الانشاء
بداعي جعل الداعي لا يترقب منه إلا الدعوة، فمع فرض الأمر في اعتقاد
المكلف لا يعقل ترتب هذا الغرض فيلغو البعث في نظره، بل لا يتمكن من
تصديقه، مضافا إلى أن الاتمام لو كان ذا مصلحة بدلية عن مصلحة القصر بحدها
فلا معنى لاستحقاق العقاب على ترك القصر، وإن لم يكن ذا مصلحة تامة بل
بحيث يمكن استيفاء الباقي بالقصر فلا موجب لعدم الإعادة مع بقاء الوقت. وإن
لم يمكن استيفاء الباقي بسبب فعل الاتمام فتركه مقدمة لفعل القصر على وجه
يؤثر في المصلحة التامة فتركه واجب، وما وجب تركه يستحيل وجوب فعله.
وإن لم يحرم فعله (1) فوجوب الاتمام بنحو يجتمع مع عقاب تارك القصر غير
معقول. وسيجيئ انشاء الله تعالى وجه مقدمية ترك الاتمام لفعل القصر
المحصل للغرض (2).
ويمكن تقريب المنع عن الأمر بالاتمام بوجه آخر بلحاظ المصلحة المقتضية
.

(1) (خ ل): وإن لم فعله.
(2) التعليقة: ص 741.
738

لوجوبه. فنقول مصلحة القصر والاتمام، إما متضادتان وإما متماثلتان. وعلى
فرض التماثل، إما بنحو يمنع المحل عن قبولهما معا، أو بنحو يقبلهما لقبول
التأكد. وعلى كلا التقديرين، إما متساويتان، أو متفاوتتان من حيث التمامية
والنقصان.
فإن كانتا متضادتين فلا يعقل الأمر بهما تعيينا لاستحالة اجتماع الضدين،
فلا بد من الأمر بهما تخييرا فيصح كل منهما ولا معنى للعقاب على ترك القصر مع
فعل الإتمام.
وإن كانتا متماثلتين مع عدم قبول المحل لهما فلا يعقل الأمر بهما تعيينا أيضا،
لاستحالة اجتماعهما على الفرض.
وحينئذ إن كانتا متساويتين وجب الأمر بهما تخييرا ويسقط عقاب ترك القصر
بفعل الاتمام.
وإن كانتا متفاوتتين استحال تخيير بينهما لاستحالة التخيير بين التام والناقص.
وإن كانتا متماثلتين مع قبول المحل لهما بالتأكد وكانتا تامتين أو متفاوتتين
وجب الأمر بهما تعيينا فلا معنى لعدم وجوب إعادة القصر بعد فعل الاتمام
وبقاء الوقت.
308 - قوله: " لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة التي كانت " الخ:
يمكن أن يقال إن امتناع استيفاء بقية المصلحة إنما هو بسبب حصول
المصلحة القائمة بالاتمام بمجرد فعله، مع أن مقتضى ما سلكه - قده - في
محله (1) من إمكان تبديل الامتثال بالامتثال، لعدم كون الفعل علة تامة لحصول
الغرض، فله تبديل الامتثال بامتثال أو في بالغرض، وجوب التبديل تحصيلا
للغرض اللازم المراعى على الفرض، فكيف يجتمع مع هذا المسلك مع امتناع
الاستيفاء بمجرد وجود الفعل المقتضى لحصول الغرض. وما سلكه - قده - وإن
.

(1) كفاية الأصول: ج 1، ص 127 ونهاية الدراية: ج 1، ص 268.
739

كان لا ينافي ورود الدليل على كون الفعل علة تامة لحصول الغرض فلا يستحب
الإعادة إلا أن الفرق بين الإتمام في مورد وجوبه في نفسه والإتمام في موضع
القصر بذلك مستبعد جدا، بل لا أظن أن يقول أحد بعدم استحباب إعادة الإتمام
حتى في هذا المورد جماعة، فيعلم منه بناء على هذا المسلك أن الإتمام المأتي
به أولا لم يكن علة تامة للغرض، وكونه علة تامة له إذا تعقبه القصر، وعدم كونه
علة تامة إذا تعقبه الإتمام لا معنى محصل له إلا أن يقال إن في القصر مصلحتين،
إحديهما، قائمة بذات الصلاة، وأخرى، بأول وجود منها يؤتى به في مقام أداء
فريضة الوقت فالإتمام المأتي به أولا مفوت لمحل تلك المصلحة، فالإتمام وإن
أمكن إعادته لتحصيل الغرض من طبيعي الصلاة بوجه أوفى إلا أن محل تلك
المصلحة الأخرى حيث إنه أول ما يؤتى به بعنوان أداء فريضة الوقت فلا يمكن
استيفاء تلك المصلحة القائمة بالقصر. ويشكل بأن لازمه عدم اشتمال القصر
المأتي به ثانيا بعد اتيانه بنفسه أولا على تلك المصلحة بل على مصلحة طبيعة
الصلاة فقط مع أن استحباب الإعادة أو المعادة لا يختص بخصوص تلك
المصلحة والله العالم.
309 - قوله: " غايته أن يكون مضادا له وقد حققنا في محله " الخ:
لا يخفى عليك أن المحقق في محله عدم مقدمية الضد، لعدم ضده، وعدم
الضد لوجود ضده لا عدم المقدمية بين سببي الضدين فان سبب أحد الضدين
في مقام تأثيره منوط بعدم سبب ضده لتزاحمهما في التأثير، إذ لو كان السبب
وحده لاثر في مسببه فلا يكون عدم تأثيره مع وجوده، كما لو كان وحده إلا لخلل
في عليته التامة وإلا لزم انفكاك المعلول عن علته التامة، ولا خلل إلا لفقد
المقتضى أو المعد والمفروض وجودهما.
فالخلل في شرط تأثيره وهو عدم المانع المزاحم له في تأثيره، ومن الواضح
أن المتضادين بالذات هنا هما المصلحة القائمة بالاتمام والمصلحة القائمة
740

بالقصر بمعنى تعاندهما في الوجود لعدم قبول المحل لهما، والاتمام والقصر
سببان للضدين وليس حالهما حال الصلاة والإزالة، فإنهما متضادان من حيث
ذاتهما، لعدم قابلية الزمان لهما معا، فإذا فرض سببية الاتمام والقصر فعدم كل
منهما شرط لوجود الآخر على صفة التأثير في المصلحة، وحيث إن القصر أهم
فوجوده منوط بعدم سبق الآخر في الوجود، فعدم الاتمام بعد ما كان شرطا فهو
واجب فلا يعقل أن يكون تركه أيضا واجبا.
وعليه فيبقى الكلام في حرمته ومبغوضيته المولوية حقيقة ومن البين أن ترك
الواجب ليس بحرام حيث لا ينحل كل حكم تكليفي إلى حكمين فعلا وتركا بل
ترك الواجب، حيث إنه ترك ما يجب فعله يستحق عليه العقاب فلا يمكن التقرب
من هذه الجهة، إذا المبعد (1) لا يكون مقربا.
لا يقال: يكفي في مقامنا هذا المقدار وإن لم يكن فعل الاتمام بحرام.
لأنا نقول: تارة، يلاحظ مقدمية فعل الاتمام لترك القصر. وأخرى، يلاحظ
مقدمية ترك الاتمام لفعل القصر. فان لوحظت الأولى فالجواب منع المقدمية،
لأن ترك القصر وإن كان مبعدا لكن الترك لا يحتاج إلى فاعل وقابل حتى يتوقف
على الشرط المصحح لفاعلية الفاعل أو المتمم لقابلية القابل، فلا يعقل أن يكون
فعل الاتمام شرطا لترك القصر وعدم كونه سببا ومقتضيا أوضح، لأن العدم
لا يترشح من الوجود. وإن لوحظت الثانية فالجواب أن ترك الاتمام شرط، حيث
إن القصر لا يعقل تأثيره إلا مقترنا بعدم الاتمام المزاحم له في تأثيره إلا أن ترك
هذا الشرط ترك الواجب المقدمي وهو مبعد تبعي فترك ترك الاتمام هو ترك
الشرط الواجب لا فعل الاتمام، وفعل الاتمام ملازم لترك الواجب فهو ملازم
للمبعد ولازم المبعد لا يسرى إليه المبعدية كما لا تسرى الحرمة إلى لازم الحرام،
بل لا بد من المقدمية في السراية. وقد عرفت عدم مقدمية فعل الاتمام لترك
.

(1) (خ ل): المتعد.
741

القصر الذي يكون مبعدا، وانتساب البعد إليه بالعرض لا أثر له وإلا لم تكن حاجه
في مسألة الضد إلى تكلف مؤنة اثبات المقدمية، فتدبره جيدا فإنه حقيق به.
742

قاعدة
لا ضرر
ولا ضرار
743

- التحقيق في قاعدة لا ضرر -
في بيان مفاد " لا ضرر (1) " " ولا ضرار "
310 - قوله: وأما دلالتها فالظاهر أن الضرر هو ما يقابل النفع الخ:
ظاهر أهل اللغة (2) أن تقابل الضرر والنفع تقابل التضاد، وظاهر شيخنا الأستاذ
- قده - (3) أن تقابلهما تقابل العدم والملكة، ولا يخلو كلاهما عن محذور.
أما الأول: فواضح إذ ليس الضرر المفسر بالنقص في النفس أو المال أو
العرض أمر وجوديا ليكون مع النفع الذي هو أمر وجودي متقابلين بتقابل
التضاد.
وأما الثاني: فلان النفع هي الزيادة العائدة إلى من له علاقة بما فيه الفائدة
العائدة إليه، وعدمها عدم ما من شأنه أن يكون له فائدة عائدة إلا أن عدم النفع
ليس بضرر، والضرر هو النقص في الشئ وهو عدم ما من شأنه التمامية فهو عدم
التمامية لا عدم الزيادة ليكون مقابلا لها بتقابل العدم والملكة وعدم الزيادة ليس
بنقص حتى يرجع إلى الضرر.
نعم، النقص والزيادة متقابلان بتقابل العدم والملكة بالعرض، لأن الزيادة
.

(1) الكافي: ج 5، ص 280، 292، 293، 294 ح 4، 2، 6، 8 والتهذيب: ج 7، ص 146، 164،
ب 22، ح 36، 4 والفقيه: ج 3، ص 147، ح 18 والفقيه: ج 4، ص 243، ح 1 - 2، باب ميراث أهل
الملل والوسائل: ج 12، ب 17، ص 364، ح 5 و 4 و 3 والوسائل: ج 17، ب 5، ص 319 و 333،
ح 1 - 2 والوسائل: ج 17، ب 1، ص 376، ح 10 والوسائل: ج 17، ب 12، ص 341، ح 4 و 3.
(2) الصحاح: ج 2، ص 719 - لسان العرب: ج 8، ص 45 ومجمع البحرين: ج 3، ص 373 - تاج
العروس: ج 3، ص 348 والعين: ص 470، (ط، جماعة المدرسين).
(3) كفاية الأصول: ج 2، ص 266.
745

تستدعي بقاء المزيد عليه على حده الوجودي فالنقص بمعنى عدم بقائه على
صفة التمامية يستلزم عدم الزيادة فيقابل الزيادة بالعرض.
311 - قوله: كما أن الأظهر أن يكون الضرار بمعنى الضرر الخ:
لا يخفى عليك أن الضرار وإن كان مصدرا لباب المفاعلة - وهو كما في
المتن (1) - الأصل فيه أن يكون فعل الاثنين كما هو المشهور إلا أنه لا أصل (2) له
كما تشهد له الاستعمالات الصحيحة الفصيحة القرآنية وغيرها، فان فيها ما لا
يصح ذلك، وفيها ما لا يراد (3) منه ذلك كقوله تعالى: (يخادعون الله والذين
آمنوا) (4) فان الغرض نسبة الخديعة منهم إلى الله، والى المؤمنين، لا منهما
إليهم أيضا، وقوله تعالى (ومن يهاجر في سبيل الله) (5) و (ويراؤون) (6)
(وناديناه) (7) و (نافقوا) (8) و (شاقوا) (9) و (مسجدا
ضرارا) (10) (ولا تمسكوهن ضرارا) (11) و (لا تؤاخذني) (12) إلى
غير ذلك (13).
ومن الاستعمالات عاجله بالعقوبة، وبارزه بالحرب، وباشر الحرب، وساعده
التوفيق، وخالع المرأة وواراه في الأرض، فان جميع ذلك بين ما لا يصح فيه
إرادة الانتساب إلى الاثنين، وما لا يراد منه ذلك. مع أنهم فرقوا بين المفاعلة
والتفاعل بعد الاشتراك في التقوم بفعل الاثنين بالانتساب إليهما بالأصالة
.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 266، س 14.
(2) حاشية المكاسب للمحقق الأصفهاني - ره -: ج 1، ص 2.
(3) (خ ل): وفيها ما لا يراد يراد.
(4) البقرة: 9.
(5) النساء: 100.
(6) النساء: 142 يراؤن الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا.
(7) الصافات: 104 وناديناه أن يا إبراهيم.
(8) آل عمران: 167 وليعلم الذين نافقوا.
(9) الأنفال: 13، ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله.
(10) التوبة: 107.
(11) البقرة: 231.
(12) الكهف: 73 قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري.
(13) مريم: 52 وآل عمران: 17 والحشر: 4 - 11 ومحمد: 32 والماعون: 6.
746

والصراحة في الثاني، وبالأصالة إلى أحدهما والتبعية إلى الآخر في الأول، مع أنه
غير معقول.
والوجه فيه أن كل هيئة لا تكون موضوعة إلا بإزاء نسبة خاصة من النسب
فليس مفاد هيئة " تضارب زيد وعمرو " نسبة " ضرب زيد عمروا " ونسبة " ضرب
عمرو زيدا " بل ضرب كل منهما للآخر، لوحظ نسبة واحدة بينهما، وعلى نهج
إضافة مادة واحدة إلى طرفين يعبر عنها في الفارسية بقولهم " بهم زدن " فزيد
وعمرو طرفا هذه النسبة الوحدانية وعليه فمفاد " ضارب زيد عمروا " إن كان هذه
النسبة الخاصة فلا فرق بينها وبين " تضارب زيد وعمرو " فما وجه عدم انتساب
المادة إلى طرفيها كما في " تضارب زيد وعمرو ".
أما الأصالة والتبعية: فان أريد الأصالة والتبعية ثبوتا فلا بد من تعدد النسبة
حتى تكون إحديهما أصيلة والأخرى تابعة لا النسبة الواحدة متقومة باثنين حيث
لا يعقل الأصالة والتبعية ثبوتا مع وحدة النسبة.
وإن أريد الأصالة والتبعية إثباتا بأن تكون هناك دلالتان، إحديهما بالأصالة،
والأخرى بالتبع. ففيه أن التبعية في الدلالة فرع التبعية في المدلول، كالمدلول
الالتزامي للمدلول المطابقي والدلالة المفهومية للدلالة المنطوقية، وليس
" ضرب عمرو زيدا " تابعا " لضرب زيد عمروا " ثبوتا حتى تنحل النسبة الخاصة
إلى نسبتين إحديهما لازمة للأخرى.
فالحق: أن مفاد هيئة (1) المفاعلة غير مفاد هيئة التفاعل وأنه لا يتقوم بطرفين
كما في التفاعل.
والتحقيق: في الفرق بين مفاد هيئة المجرد ومفاد هيئة المزيد فيه من باب
المفاعلة أن مفاد الهيئة في الأول سواء كان بنفسه لازما " كجلس " أو متعديا لكنه
لا يتعدى إلى شخص آخر " ككتب الحديث " إلا بتوسط " إلى " فيقال " كتب
الحديث إليه " أو كان متعديا إلى الآخر " كخدعه " لا يكون في الكل إلا متكفلا
.

(1) (خ ل): هيته.
747

لنسبة لازمة أو متعدية بأداة إلى الاخر أو بلا أداة للتعدية، بخلاف هيئة المفاعلة
فان قولنا " جالسه " يتضمن التعدي الاخر بنفسه فيكون مفاده بنفسه مفاد " جلس
إليه " ومفاد " كاتبه " مفاد " كتب إليه " ومفاد " خادعه " هو التصدي لإنهاء الخديعة
إليه فحيثية التعدية بالأداة أو بنفسه ملحوظة في هيئة المفاعلة بنفسها، فقولنا
" ضرب زيد عمروا " أو " خدع زيد عمروا " وإن كان متعديا إلى غيره إلا أن هذه
التعدية ذاتي مفادهما، بخلاف " خادع " و " ضارب " فان هذه الحيثية ملحوظة في
مقام إفادة النسبة فإذا فعل فعلا كان أثره خداع الغير صدق عليه أنه خدعه لا أنه
خادعه (1)، إلا إذا تصدى لخديعته، وكذلك إذا صدر منه " ضرب " واقع على
" عمرو " صدق عليه أنه ضربه ولا يصدق انه ضاربه (2) إلا إذا تصدى لضربه.
ولذا لما أبى سمرة عن الاستئذان قال - ص - " انك رجل مضار " (3) أي متصد
لإضرار الأنصاري، لا مجرد كون دخولك ضررا عليه فيكون حاصل قوله (ص)
" لا ضرر ولا ضرار " نفي أصل الضرر ولو بدون التصدي له ونفي التصدي للإضرار
لا لمجرد التأكيد كما أفيد ولا لغيره من دون لزوم الالتزام بكونه على خلاف
أصله.
مفاد الجملة التركيبية
312 - قوله: كما أن الظاهر أن يكون لا لنفي الحقيقة (4) الخ:
توضيح المقام أن القضية إن كانت خبرية محضة وكان المنفي (5) هو الحكم
صح نفيه حقيقة، لأن تشريعه وجعله عين تكوينه حقيقة، وإن كان المنفى هو
.

(1) (خ ل): خادعة.
(2) (خ ل): ضاربة.
(3) الكافي: ج 5، ص 294.
(4) قال الآخوند - ره - ان المراد من " لا ضرر " نفي الحكم بلسان نفي الموضوع والحقيقة ادعاء.
وقال الشيخ الأعظم - ره - ان المراد من " لا ضرر " نفي الحكم الضرري.
(5) (خ ل): النفي.
748

الموضوع الخارجي فنفيه حقيقة خلاف الواقع فلا محالة يجب حمله على نفيه
ادعاء إلا أن النفي ادعاء كالاثبات ادعاء لا يصح إلا بلحاظ عدم ترتب الأثر
المترقب من الشئ فيصح نفيه ادعاء لكونه بمنزلة العدم، لعدم ترتب الأثر عليه،
كما أنه لا يصح الاثبات ادعاء إلا بلحاظ ترتب أثر الحقيقة على شئ آخر.
ومن الواضح أن المصالح والمفاسد هي الآثار المترقبة من حقايق الواجبات
والمحرمات فالصلاة التي لا تترتب عليها المصلحة المترقبة منها ليست بصلاة
ادعاء وهكذا.
وأما الحكم التكليفي فليس من آثار حقيقة الفعل في الخارج حتى يصح نفي
الموضوع بلحاظ عدم ترتب الحكم عليه إلا مثل اللزوم والصحة من الأحكام الوضعية
فإنها تعد أثرا للمعاملة فيصح نفيها بنفيها فمع عدم ترتب الملكية على
المعاطاة شرعا يصح نفي البيع حقيقة، إذ ليس حقيقة البيع إلا التمليك المتحد
مع الملكية ذاتا، واختلافهما اعتبارا.
مضافا إلى أن الفعل الخارجي ليس موضوعا للحكم التكليفي حتى يصح نفيه
ادعاء بعنوان نفي الحكم بنفي موضوعه وبلحاظ وجوده العنواني يصح نفيه
حقيقة لا ادعاء كما سيأتي انشاء الله تعالى (1).
وإن كانت القضية انشائية إما بمعنى نفي الحكم تشريعا حيث إن جعله وسلبه
بيد الشارع، أو بمعنى نفي الموضوع تشريعا فالنفي حقيقي لا ادعائي أما نفي
الحكم فواضح، وأما نفي الموضوع فان الموضوع في مرتبة موضوعيته للحكم
مجعول بجعل الحكم بالعرض - لما مر منا غيره مرة أن حقيقة الحكم بالإضافة
إلى موضوعه المتقوم به في مرحلة تحققه بحقيقة الحكمية من قبيل عوارض
الماهية ومثل هذا العارض يكون ثبوت معروضه بثبوته، فالحكم مجعول بالذات
ومعروضه المقوم له مجعول بالعرض، وجعله كجعل الحكم جعل بسيط، وسلبه
التشريعي كسلب الحكم سلب بسيط.
فان قلت: حيث إن جعل الموضوع تشريعا بعين جعل حكمه فكذا سلبه

(1) التعليقة: ص 750.
749

بعين سلب حكمه فإذا كانت القضية خبرية صح الاخبار عن سلب الموضوع
بالعرض بنحو المطابقة، وعن سلب حكمه بالذات بنحو الالتزام. وأما إذا كانت
القضية انشائية فسلب الموضوع بالعرض لا يستقل بالوجود بل بعين سلب
الحكم فمرجع القضية إلى انشاء سلب الحكم بالمطابقة فيستتبع سلب موضوعه
بالعرض بالالتزام وإلا فانشاء سلب الموضوع مستقلا وبالذات فهو غير معقول.
قلت: نعم سلبه حقيقة بالاستقلال غير معقول، إلا أن انشاء سلبه عنوانا
وانشاء سلب حكمه حقيقة ولبا، أمر معقول، فسلبه الحقيقي سلب بالعرض لا
سلبه الانشائي كانشاء الترخيص في التصرف قاصدا به التمليك، فان الترخيص
المتفرع على الملك حقيقة متأخر عن حقيقة الملك فلا يعقل تقدمه عليه إلا أن
جعله إنشاء - قاصدا به جعل الملكية حقيقة - أمر معقول. وحيث عرفت معنى
نفي الموضوع تشريعا تعرف أنه لا حاجة إلى تخصيصه بما إذا كان الحكم سببا
لوجود موضوعه في الخارج نظرا إلى استتباع نفيه التشريعي لنفيه تكوينا
كاستتباع إثباته التشريعي لثبوته التكويني، ولا محالة لا مجال له في مثل " لا شك
لكثير الشك " فإن نفيه التشريعي غير مستتبع لنفيه التكويني بل يتفرع على ثبوته.
ووجه عدم الحاجة أن السلب إن كان متعلقا بالموضوع الخارجي أمكن إعمال
نكتة نفي السبب بنفي مسببه، وإن كان متعلقا بالموضوع في مقام موضوعيته، فلا
فرق بين موضوع وموضوع إن لم يكن حكمه مستتبعا لوجوده في الخارج، بل
نكتة نفي الحكم بنفي موضوعه في مقام موضوعيته تشريعا أنسب من نكتة نفي
السبب بنفي مسببه، ضرورة أن الموضوع في مقام موضوعيته مجعول بنفس
جعل حكمه وهما متحدان في الوجود، فنفي الموضوع حقيقة عين نفي الحكم
بخلاف السبب والمسبب فإنهما متعددان في الوجود فنفي أحدهما يستلزم نفي
الآخر، لا أن نفيه نفيه، والمناسب للشارع بما هو شارع أيضا أن يكون جعله إثباتا
ونفيا راجعا إلى حيثية شارعيته بالحقيقة.
750

ومما ذكرنا تبين أنه لا اختصاص لنفي الموضوع تشريعا بما إذا كان الموضوع
من الماهيات المخترعة ابتداء أو إمضاء، فإنها وغيرها في حيثية المجعولية
بجعل الحكم عرضا على حد سواء، مع أنه لا معنى لجعل الماهية من الشارع إلا
جعلها في حيز التكليف، ولحاظ مجموع أمور وافية بغرض واحد لا يزيد على
لحاظ موضوع الحكم لا أنه جعل للمركب.
نعم، كل لحاظ جعل الملحوظ تكوينا بالكون الذهني - كما أن وجوده خارجا
جعل تكويني من المكلف بالتكوين الخارجي كما أن نفي الحكم بنفي موضوعه
- لا ينافي حكومة القاعدة على أدلة الاحكام بدعوى أن الدليل الحاكم إذا كان
ناظرا إلى الموضوع الضرري المشمول للعمومات والاطلاقات المتكفلة
للأحكام، فمفاده تحديد موضوعاتها أو تقيدها وسلب الحكم عن الموضوع
الضرري منها، فالسلب سلب تركيبي حينئذ. مع أن ظاهر قوله (ع) " لا ضرر " هو
السلب البسيط، فلا بد في فرض الحكومة من نفي الحكم الضرري وسلب الحكم
كجعله سلب بسيط، فدليل اللزوم باطلاقه يعم ما إذا كان اللزوم ضرريا وقوله (ع)
" لا ضرر " يقيده بغير صورة الضرر بنفي اللزوم الضرري.
ووجه عدم المنافاة أن جعل الموضوع في مقام موضوعيته ومقام مقوميته
للحكم كنفس جعل الحكم بسيط، وكذا سلبه، غاية الأمر أنه بالعرض فإذا كان
سلب الوجوب الضرري بضررية موضوعه سلبا بسيطا فكذا سلب موضوعه
المقوم له أيضا سلب بسيط بالعرض وكما أن نتيجة سلب الوجوب الضرري
بسيطا تقييد الوجوب بما إذا لم يكن ضرريا بنفسه أو من قبل موضوعه، فكذا
نتيجة سلب الموضوع الضرري بسيطا تقييد الموضوع المقوم لحكم بغير صورة
الضرر.
وبالجملة تحديد الثابت بالعموم أو الاطلاق موضوعا أو حكما يجامع بساطة
السلب، غاية الأمر أنه في الحكم بالذات، وفي الموضوع بالعرض، ولا يعقل أن
751

يكون السلب الواحد بسيطا بالإضافة إلى الحكم ومركبا بالنسبة إلى الموضوع فان
ما هو بالعرض نفس ما هو بالذات وإلا كان بالذات أيضا فتدبر جيدا.
313 - قوله: ضرورة بشاعة استعمال الضرر وإرادة خصوص سبب (1)
الخ:
وهو الحكم الناشئ منه الضرر إلا أن الضرر دائما ناش إما من الحكم، أو من
الموضوع فنسبة كليهما إليه نسبة (2) السبب إلى مسببه فإرادة خصوص الحكم
كإرادة خصوص الموضوع. نعم، عنوان الضرر وإن كان قابلا لأن يراد منه الحكم
الضرري أو الموضوع الضرري، إلا أن سنخ هذا التركيب دائما متعلق بالموضوع
دون الحكم كقولهم (ع) " لا صلاة ولا صيام ولا بيع ولا عتق ولا طلاق ولا (3)
وطي " وفي الكتاب العزيز " فلا رفث ولا فسوق ولا جدال " (4) وهكذا ولم يظفر
بمورد واحد تعلق النفي صريحا بالحكم تكليفا أو وصفا فيقرب إرادة نفي
الموضوع الضرري.
ولمثله أيضا يبعد القول بإرادة مطلق الأمر الضرري موضوعا كان أو حكما فان
ملاحظة نظائره تقوى إرادة الموضوع الضرري لا خصوص الحكم ولا الأعم منه
ومن غيره وإن كان إرادة الجامع بمكان من الامكان.
أما على ما سلكناه فواضح لأن النفي على أي حال حقيقي وأما بناء على أن
نفي الموضوع ادعائي فلا مانع من كون النفي بالإضافة إلى بعض أفراد الجامع
حقيقيا وبالإضافة إلى بعضها الآخر ادعائيا حيث لا تجوز بعد الادعاء لا في
الكلمة ولا في الاسناد، بل الامر كذلك إن كان نفي الموضوع باعتبار الأثر، فان
الاسناد إلى الحكم اسناد إلى ما هو له والى الموضوع إلى غير ما هو له.
.

(1) كفاية الأصول: ج 2، ص 268.
(2) (خ ل): نسبته.
(3) عوالي اللئالي: ج 4، ص 311 - 310.
(4) البقرة: 197 - وقد أشار المحقق الأصفهاني إلى بعض المطالب في حاشية المكاسب ج 2،
ص 54 الطبعة الأولى.
752

فربما يقال بأن الجميع بينهما في إسناد واحد محال، إلا أنا بينا (1) وجه
التفصي عنه في حديث الرفع بناء على شموله للحكم والموضوع معا فتدبر.
314 - قوله: أو خصوص الغير المتدارك منه (2) الخ:
سواء كان بنحو الاستعمال في الخاص مجازا أو إرادة الخاص بدالين فإنه مع
عدم القرينة ومع عدم الدال على الخصوصية لا موجب لرفع اليد عن أصالة
الحقيقة وعن أصالة الاطلاق. مضافا إلى أنه إنما يصح إذا كان مطلقه متداركا، وإلا
فتدارك البعض لا يصحح نفيه مطلقا.
مع أنه يختص بموارد التضمينات والتغريمات وأشباهها المتضمنة لتدارك
المضار.
واما ما عن شيخنا العلامة الأنصاري (3) - قده - من أن الضرر الخارجي انما
يصح تنزيله منزلة العدم بفعلية تداركه لا بالحكم بتداركه والمناسب لنفي الحقيقة
هو الأول دون الثاني ".
فمندفع بان الضرر الناشي من تلف العين إذا صح تنزيله منزلة العدم بمالية
أخرى مماثلة لمالية التالف بأداء المال خارجا كذلك باشتغال ذمة المتلف بمالية
مماثلة لماليتها فان المالية على أي حال محفوظة غير تالفة. نعم، مجرد التكليف
بأداء المال لا يوجب انحفاظ المالية، فالضرر على الأول متدارك باعتبار وجود
مالية التالف في الذمة، وعلى الثاني محكوم بالتدارك.
وأما التضرر الناشي من عدم وصول المال بعينه أو ببدله فلا دخل له بالضرر
الناشي من تلف المال فان تداركه بوصوله إليه أو ببدل الحيلولة له، وحيث عرفت
أن الضرر الناشي من التلف متدارك بمجرد التضمين المنحفظ به المالية، تعرف
.

(1) التعليقة: 186، ص 437.
(2) كفاية الأصول: ج 2، ص 268 وكفاية الأصول: ص 382، (ت، آل البيت).
(3) رسالة نفي الضرر - المطبوعة ضمن المكاسب: ص 372.
753

أنه لا فرق بين أن يكون الضرر المنفي هو الضرر في عالم التكوين أو في عالم
التشريع فان تكوين تداركه وتشريعه واحد باعتبار المالية في ذمة الضار، غاية
الأمر أنه لا ضرر غير مضمون في عالم التشريع حقيقة ولا ضرر في عالم التكوين
تنزيلا فتدبره جيدا.
وأما ما يقال في دفع هذا الاحتمال بأن الظاهر من موضوعات الاحكام
ومتعلقاتها هي الهويات المعراة عن الوجود والعدم، ومبنى هذا الاحتمال على
فرض وجود الضرر لاقتضاء تنزيله منزلة العدم لفرض وجوده، وكفى به مخالفة
للظاهر.
فمدفوع، بأن التدارك وإن كان يقتضي تنزيل الموجود منزلة المعدوم إلا أن
طبيعي الضرر المفروض وجوده كسائر الطبايع أخذ بنحو الموضوع في القضية
الحقيقية فالموضوع هو الضرر المفروض الوجود الغير المنزل منزلة عدمه، وهو
أمر عنواني ربما يكون محققا في الخارج، وربما لا يكون وهو الذي ورد عليه
السلب.
مع أنه يمكن أن يقال إن المنفي هو طبيعي الضرر لمكان تداركه بالتضمين
لا أن المنفي هو الضرر الغير المتدارك ليتوقف على فرض الوجود - وبين الجوابين
فرق ظاهر - فتدبره جيدا.
315 - قوله: وإرادة النهي من النفي وإن كان ليس بعزيز الخ:
إرادة النهي من النفي كإرادة البعث من الجملة الخبرية فكما أن الإخبار
بالوقوع كناية عن إرادة الوقوع بحيث جعل الوقوع مفروغا عنه كذلك الإخبار
بعدمه كناية عن كراهة وقوعه وإرادة لا وقوعه حتى جعل عدمه مفروغا عنه، فان
الاخبار بالوقوع أو اللا وقوع يناسب البعث والزجر دون سائر الدواعي التي
لا مساس لها بالوقوع وعدمه كداعي التهديد والتعجيز والتسخير وأشباهها.
وبتقريب آخر، حيث إن البعث مقتض لايجاد الفعل في الخارج فان حقيقته
754

جعل الداعي فهو إيجاد تسبيبي من المولى، والزجر مقتض لعدمه، وإعدام
تسبيبي من المولى فيصح إظهار المقتضى بالاخبار عن مقتضاه إلى غير ذلك من
البيانات التي قدمناها في الجزء الأول من التعليقة (1)، لا أن مفاد صيغة الماضي
والمضارع مع الأمر والنهي مندرجة في جامع واحد وهو ايقاع التلبس بالمبدء في
عالم التشريع كما قيل، لأن مفاد الأمر والنهي وإن كان إيجادا أو إعداما تسبيبيا
تشريعيا إلا أن مفاد صيغة الماضي والمضارع وقوع التلبس بالمبدء في المضي أو
في غيره لا الايقاع حتى يكون التفاوت بمجرد التشريع والتكوين فتدبر.
316 - قوله: إلا أنه لم يعهد من مثل هذا التركيب الخ:
بل ربما لا يمكن إرادة النهي منه كقوله (ع) " لا ربا بين الوالد والولد " (2)
وقوله (ع) " لا شك لكثير الشك " (3) وقوله - ع - " لا سهو في سهو " (4) وأما عدم
معهوديته من مثل هذا التركيب فغير مسلمة. نعم، لا موجب لرفع اليد عن ظهوره
في نفي الحقيقة ولا تصل النوبة إلى إرادة النهي إلا مع عدم إمكان النفي كما
قد يتفق أحيانا.
ولكن هنا شبهة ربما تقوى إرادة النهي، وهي أن الضرر عبارة عن النقص في
النفس أو العرض أو المال فان النقص بأحد الوجوه المزبورة ضرر بالإضافة إلى
من يضاف إليه الناقص ولعنوان الضرر قيام بنفس النقص قيام العنوان بالمعنون،
وأما بالنسبة إلى سبب النقص موضوعا كان أو حكما فلا قيام له به، فان الصدق
بالقيام بما يصدق عليه لا بالقيام عنه، ولذا لا يوصف العلة بمعلولها بل الوصف
المنتزع عنه باعتبار ترتبه عليها فالسبب للضرر يوصف بعنوان المضر والضار

(1) نهاية الدراية: ج 1، ص 513.
(2) المستدرك: ج 13، ب 7، ص 339، ح 15536، تحقيق مؤسسة آل البيت.
(3) قاعدة فقهية مستفادة من روايات وقد يعبر عن هذه القاعدة بأنه لا حكم للسهو مع كثرته.
والقواعد الفقهية للمحقق الحاج السيد ميرزا حسن الموسوي البجنوردي: ج 2، ص 295.
(4) الكافي ج 3 ص 358، ح 5، التهذيب ج 3، ص 54، ح 99.
755

والضائر لا بعنوان الضرر والضرار وظاهر الخبر نفي الضرر والضرار فالوضوء
المضر واللزوم الضائر غير منفي بالخبر حتى يكون الثاني منفيا بنفسه تشريعا،
والأول منفيا إما بنفسه تشريعا أو يكون حكمه منفيا بنفي موضوعه مبالغة وادعاء
وليس للضرر بعنوانه المنطبق على نفس النقص المسبب عن الوضوء، أو عن
اللزوم هذه الأحكام التكليفية، أو الوضعية المتداول نفيها بالقاعدة بل ليس
لايجاد الضرر بأسبابها المتولد عنها إلا الجواز المتوهم لولا القاعدة ونفيه أو
النهي عنه على حد واحد.
نعم، ربما يستفاد من وقوعه في ذيل قضاء رسول الله (ص) بالشفعة (1)
واثبات استحقاق تملك حصة الشريك بعد بيعها عدم تمحضه في النهي، أو ما
هو كالنهي، لعدم مساس لهذا الذيل بالنهي حيث لا ريب في جواز البيع، كما أنه
ربما يستفاد النهي من وقوعه في ذيل قضاء رسول الله - ص - " فإنه لا يمنع فضل
الماء ليمنع فضل الكلاء " (2) حيث لا ريب في عدم ثبوت حكم وضعي، ولا نفي
حكم وضعي، بل غايته كراهة منع ما يفضل من الماء إلا أن المظنون عدم وقوع
هذه القضية منه (ص) في ذيل القضيتين - كما هو ظاهر خبر عقبة بن خالد، إذ
القضايا النبوية المحكية في مسند أحمد بن حنبل (3) كما شاهدناها غير مذيلة
بهذا الذيل بل قوله " قضى أن لا ضرر ولا ضرار " قضية برأسها، وبينها وبين
القضيتين المزبورتين من الفصل ما لا يخفى على المراجع إليها.
وقد استظهر بعض الأجلة - قده - (4) أن ما ورد في خبر عقبة بن خالد عن
الصادق (ع) في حكاية القضايا النبوية هو بعينه ما ورد في خبر عبادة بن الصامت
الأنصاري المحكي في مسند أحمد بن حنبل، وأن تفريق رواية عقبة بن خالد
.

(1) التهذيب، ج 7، ص 164، ح 4.
(2) الوسائل: ج 17، ص 333، باب 7، من أبواب احياء الموات، ح 3 - 2.
(3) في مسند أحمد بن حنبل: 5، ص 327.
(4) وهو قول النائيني - ره - في منية الطالب: ج 2، ص 194.
756

على الأبواب المناسبة للقضايا أوجب هذا التذييل من الأصحاب والله أعلم
بالصواب.
317 - قوله: ثم الحكم الذي أريد نفيه بنفي الضرر الخ:
حيث إن الظاهر من كل محمول مرتب على عنوان، كون العنوان بما
هو موضوعا لذلك المحمول، فمفاد لا ضرر حينئذ نفي الحكم المرتب على
الضرر بعنوانه، أو نفي الحكم الضرري بذاته فيعارض ما دل على ثبوت
الحكم لعنوان الضرر في الموضوعات الضررية بنفسها كما مر نظيره في رفع
أثر الخطاء والنسيان بما هما خطأ ونسيان، وقد قدمنا (1) الكلام فيه في حديث
الرفع.
وملخص ما ينبغي أن يقال في هذا المجال أن مفاد " لا ضرر " إما نفي الحكم
عن الضرر أو نفي الحكم بنفي موضوعه وهو الضرر كما استظهرناه من الخبر.
فإن كان الأول: فالضرر بعنوانه موضوع لنفي الحكم لا للحكم المنفي
والموضوع بعنوانه له نحو من الاقتضاء لمحموله، وإذا كان الضرر بعنوانه مقتضيا
لنفي الحكم فمقتضى الثبوت غيره برهانا، لان الشئ لا يكون مقتضيا لطرفي
النقيض فحينئذ لا يعارض ما دل على الحكم المرتب على الموضوع الضرري
بعنوانه.
وإن كان الثاني: فموضوع الحكم المنفي بحسب الفرض هو الضرر كما هو
ظاهر الخبر، ولا يعقل أن يكون موضوع الحكم المنفي موضوعا للنفي وإلا لأفاد
ضد المقصود لرجوعه إلى نفي النفي وحينئذ فيعارض ما دل على ثبوت الحكم
للموضوع الضرري بما هو ضرري.
ومنه يعلم أن ما ذكره شيخنا - قدس سره - (2) من البرهان وفرع عليه الجمع
يناسب الأول مع أن مبنى الكلام على الثاني وقد عرفت الكلام فيهما أصلا
.

(1) التعليقة: 190، ص 441.
(2) الكفاية، ج 2، ص 269.
757

وفرعا.
والتحقيق: أن الظاهر من قاعدة الضرر والحرج وأشباهها والحرج وأشباههما أن المقتضى
لنفي الحكم هو الضرر والحرج والخطاء وأشباهها، فموضوع الحكم المنفي نفس
ما يعرضه الضرر والحرج ونحوهما، فنفي الحكم بنفي ذات ما يعرضه الضرر لا
بنفي الضرر بما هو ضرر فلا فرق بين نفي الحكم عن الضرر، ونفي الحكم بنفي
موضوعه فان معناه عدم جعل الحكم بعدم موضوعه المقوم له في مقام التشريع
بخلاف ما إذا كانت القضية جعلية إنشائية فان عدم الحكم مجعول كثبوت الحكم
فيحتاج إلى موضوع فكيف يعقل جعل عدم الحكم بجعل عدم الموضوع، لأنا
نقول نفس عدم الحكم حيث إنه جعلي فيحتاج إلى موضوع لنفس العدم
المجعول، وأما الحكم المنفي فليس له جعل حتى يحتاج إلى فرض موضوع
مجعول لينافي نفيه بنفي موضوعه والمفروض أن الموضوع للحكم المنفي ذات
ما يعرضه الضرر فلا منافاة بين فرض عدمه وفرض ثبوت الضرر المجعول
موضوعا لجعل عدم الحكم.
في بيان نسبة القاعدة مع أدله الاحكام
318 - قوله: حيث إنه يوفق بينهما عرفا بأن الثابت للعناوين الخ:
توضيحه: ن قاعدة نفي الضرر تارة: تلاحظ بالإضافة إلى الأدلة المتكفلة
للأحكام مترتبة على موضوعات ضررية بذاتها " كالجهاد والزكاة " وأشباههما.
وأخرى: تلاحظ بالإضافة إلى الأدلة المتكفلة لما يترتب على الموضوعات
التي ليست بذاتها ضررية لكنها باطلاقها تعم ما إذا عرضها الضرر.
وثالثة: بالإضافة إلى الأدلة الدالة على ثبوت الحكم للموضوع الذي يعرضه
الضرر بالخصوص مع عدم كونه في حد ذاته ضرريا.
758

فنقول أما بالنسبة إلى الطائفة الأولى: فإن كان المنفي هو الحكم
الضرري فلا محيص عن التخصيص لأن اتصاف الحكم بالضررية من قبل ضررية
موضوعه لا يختلف باختلاف ذاتية الضرر لموضوعه وعرضيته له فان اتصافه بها
بلحاظ اقتضائه لايجاد موضوع ضرري بذاته أو بالعرض. وإن كان المنفي هو
الموضوع الضرري بأحد الوجهين المتقدمين فحيث استظهرنا رافعية الضرر
واقتضائه لنفي الحكم المقتضى لكون مقتضى ثبوته له غيره فلا محالة لا يعارض
ما دل على حكم ثابت لموضوع ضرري بذاته.
لا يقال: إذا كان الضرر عرضيا وكان مقتضيا للنفي فإذا كان ذاتيا كان أولى
الرافعية، واقتضاء النفي.
لأنا نقول: إذا كان الضرر عرضيا صح رفع الحكم لأجله أحيانا امتنانا بخلاف
ما إذا كان ذاتيا ولازما لذات الموضوع، فان رفع الحكم لأجله يوجب إبطاله
وإلقائه بالكلية ولا منة في تفويت المصلحة من رأسها فلا أولوية بل لا مساواة.
ومنه يعلم أن مقتضى النفي وإن كان في الضرر الذاتي والعرضي على حد
واحد قوة وضعفا إلا أن الامتنان يقتضي رعاية المقتضى العرضي دون الذاتي لما
ذكرناه.
ولا يخفى عليك أن ما ذكرناه في وجه التخصص وعدم المعارضة أولى مما
قيل بأن المراد نفي الضرر الزائد على طبيعة التكليف فإنه قليل الفائدة، إذ
الموضوع وإن كان في غاية القوة من الضرر لم يكن زائدا على ما يقتضيه طبع
التكليف به كما أنما قيل (1) من أن تداركه بالمصالح الدنيوية أو الأجور الأخروية
يخرجه عن الضررية.
مدفوع بأن مقتضاه لغوية نفي الضرر، إذ ما من تكليف ضرري الا وله
.

(1) عوائد الأيام للمولى النراقي - ره -: ص 23 نعم انما يصح الاستشكال فيما لم يكن بإزائه ثواب
دنيوي أو أخروي.
759

مصلحة، وامتثاله يترتب عليه المثوبة.
وكذا ما قيل (1) بأن اعطاء الحق لمستحقه لا يعد ضررا وبعد اعتبار الاستحقاق
لأرباب الحقوق المالية إما عرفا أو شرعا لا يكون الحكم بأدائها إلى أربابها ضرريا
وأن دفع القذارات العرفية ببذل مال في تحصيله مما يتعارف عرفا ولا يعد ذلك
ضرارا وبعد كشف الشارع عن قذارة واقعية لا يعد الحكم بإزالتها ولو ببذل المال
ضرريا.
مدفوع، بأن نفس اعتبار الاستحقاق والحكم باشتغال ذمة المكلف به حكم
ضرري وإن كان ذا مصلحة عظيمة كما أن الضرر المالي ليس إلا الخسارة المالية
وإن كان حسنا عرفا وشرعا لتحصيل غاية مطلوبة، فترتب الفائدة لا يخرج
الخسارة المالية عن كونها نقصا ماليا وضررا.
وكذا ما قيل من ترتب الضرر الأعظم على ترك امتثال التكاليف الضررية وما
يجيئ من قبل اعمال قاعدة الضرر لا يعقل أن ينفى بقاعدة الضرر.
مدفوع، بأن ذلك من باب ترجيح ارتكاب أقل الضررين لدفع أكثرهما فيكون
حسنا عقلا لا أنه ليس ذلك تكليفا ضرريا وليس ايجاب الجهاد والزكاة إلا
بدليلهما لا بدليل نفي الضرر حتى لا يعقل شمول لا ضرر لمثل هذه التكاليف
الضررية هذا تمام الكلام في الطائفة الأولى.
وأما بالنسبة إلى الطائفة الثانية: فعن شيخنا العلامة الأنصاري (2) - قدس
سره - حكومة القاعدة على العمومات والاطلاقات الشاملة لصورة عروض الضرر
إلا أن حكومتها على مسلكه - قده - تابعة لنظرها بمدلولها اللفظي إلى التكاليف
المجعولة حتى يكون مفادها أن الاحكام المجعولة مقصورة على غير صورة
الضرر، لا مجرد عدم تشريع حكم ضرري في الاسلام فإنه معارض محض للدليل
.

(1) تعليقة المحقق الهمداني - ره - للرسائل: ص 131، في ذيل قوله: إلا ان الذي يرهن فيها هي
كثرة التخصيصات فيها.
(2) الرسائل: ج 2، ص 535
760

الشامل لصورة عروض الضرر.
وعن شيخنا العلامة الأستاذ (1) - قده - كما في المتن حمل الاحكام المترتبة
على الافعال بعناوينها الأولية على كونها اقتضائية، وحمل القاعدة كغيرها من
الأدلة المتكفلة لأحكام العناوين الثانية على كونها فعلية مدعيا أنه مقتضى
التوفيق العرفي بين أدلتهما.
وتوضيحه، أن المراد من الحكم الاقتضائي تارة هو الاقتضائي الثبوتي
وأعني به ثبوت الحكم بثبوت مقتضيه، ويقابله ثبوته بالفعل بثبوت مختص به
في نظام الوجود. وأخرى هو الاقتضائي الاثباتي وأعني به الحكم المرتب على
الموضوع بطبعه من دون نظر إلى عوارضه من كونه ضرريا أو حرجيا أو غير ذلك
فمع عدم ذلك العارض يكون فعليا، ومع وجوده يكون اقتضائيا لقيام الدليل على
ثبوته لنفس ذات الموضوع فله اقتضاء ثبوته، ومع عدم المانع يكون فعليا وقد
بينا في غير مقام أن الاقتضائي بالمعنى الأول بالدقة لا معنى له، إذ ليس
المقتضى بمعنى السبب الفاعلي للحكم إلا الحاكم، والمصلحة علة غائية، وليس
ذو الغاية، وما ينبعث عنها في مرتبة ذات الغاية ومترشحا عنها ليكون ثبوته
بثبوتها كما أن المصلحة ليست كالمادة القابلة للحكم حتى يكون الحكم ثابتا
بثبوتها بنحو ثبوت المقبول بثبوت القابل نعم، المصلحة لمكان ترتبها على
الفعل إذا وجد في الخارج لها في مرتبة تقررها الماهوي استعداد ماهوي للدعوة
إلى الحكم بحيث لو لم يكن هناك مانع لاثر وجودها العلمي في ايجاد الحكم
فالايجاب مثلا له شأنية الوجود، والفعل واجب (2) شأني لكنه ليس هناك ثبوت
لشئ بالذات حتى يكون ثبوتا بالعرض للحكم، فلا ثبوت للحكم بأي معنى كان.
مضافا إلى أن الكلام في الانشاء الموجود الذي يتكفله الدليل فلا ربط له
بالثبوت العرضي والانشاء المزبور لا محالة منبعث عن داع من الدواعي فإنه
.

(1) الكفاية: ج 2، ص 269.
(2) (خ ل): واجب واجب شأني.
761

بدونه غير معقول. فيدور الأمر بين أحد أمور.
إما الانبعاث عن داع الارشاد إلى بيان الملاك والمقتضي، وإما الانبعاث عن
داعي جعل الداعي بالإضافة إلى ذات الموضوع مع قطع النظر عن العوارض،
وإما الانبعاث عن داعي جعل الداعي اقتضاء بمعنى أن الحكم إذا كان له ملاك
في جميع موارد ثبوت الموضوع فللبعث مقتضي الثبوت بمعنى الغاية الداعية
فالانشاء لبيان هذا البعث الحقيقي سنخ وجوده، نظير وجود المقتضي بوجود
المقتضى، فكما يمكن الانشاء بداعي جعل الداعي فعلا حيث لا مانع منه كذلك
يمكن الانشاء بداعي جعل الداعي اقتضاء بحيث لو لم يكن هناك هذا الانشاء
بنفسه مصداقا لجعل الداعي بالفعل، ومع وجوده اقتضائي. وهذه غاية ما يمكن
أن يوجه به الحكم المنشأ بحمله على الاقتضائي.
وإلا (1) فالانشاء بداعي بيان الملاك إرشادا لا دخل له بحقيقة الحكم، ولا
يمكن حمل التكاليف الشاملة لصورة الضرر على الارشاد، إذ لا يختلف مفادها
بالإضافة إلى مورد الضرر وغيره كما أن الانشاء بداعي البعث بالإضافة إلى
الموضوع بذاته وبطبعه معناه الالتزام بعدم الاطلاق ولا كاشف حينئذ عن ثبوت
الملاك حتى في مورد الضرر، سواء قلنا بأن أدلة الاحكام بنفسها ظاهرة في
الاقتضائية بهذا المعنى، أو كان ذلك مقتضى الجمع بينها وبين القاعدة وأشباهها،
بخلاف ما ذكرناه أخيرا فإنه حيث إنه انشاء بداعي جعل الداعي فالمولوية
محفوظة، وحيث إنه جعل الداعي اقتضاء فلا ينافي الاطلاق لصورة الضرر. نعم
الانشاء بهذا الداعي دقيق لا معنى لجعله مقتضى الجمع والتوفيق عرفا.
ويمكن أن يقال: في وجه الجمع بين أدلة الاحكام ودليل نفي الضرر مع
كون النسبة بينهما بالعموم من وجه - أن إطلاق دليل كل حكم بالإضافة إلى
عروض الضرر وعدمه، وإطلاق دليل نفي الضرر بالإضافة إلى موارده من الوضوء
.

(1) (خ ل): واما.
762

وغيره، والثاني قابل لأن يكون مقيدا للأول دون العكس، لأن غير مورد الضرر هو
المتيقن من دليل كل حكم فيمكن أن يكون له إطلاق بالنسبة إلى عروض الضرر،
ويمكن أن لا يكون له إطلاق بل كان مقصورا على غير مورد الضرر بخلاف دليل
نفي الضرر فإنه متساوي النسبة إلى موارد أدلة الاحكام وليس بعضها متيقنا
بالإضافة إلى بعضها الآخر فدليل نفي الضرر يصلح لأن يكون مقيدا لاطلاق كل
واحد من أدلة الاحكام بقصره على غير مورد الضرر ولا يصلح دليل كل حكم لأن
يكون مقيدا له بقصره على غير مورد ذلك الحكم لأنه تخصيص بلا مخصص،
وتقييده بالجميع إلغاء له بالكلية.
وبالجملة فدليل نفي الضرر صالح للتصرف به في أدلة الاحكام ولا تصلح هي
للتصرف بها فيه فتدبر جيدا.
ويمكن أن يقال: أيضا في وجه التقديم أن الحكم إذا لم يكن له مقتضى
الثبوت حتى في مورد الضرر فهو منفي بعدم المقتضى فلا معنى لنفيه امتنانا،
وإنما المناسب للنفي امتنانا ما إذا كان له مقتضى الثبوت ومقتضى النفي فيترجح
مقتضى النفي في نظر المنان على عباده كما أنه لو لم يكن للحكم مقتضى الاثبات
من إطلاق أو عموم كان الحكم منفيا فعلا بعدم قيام الحجة عليه من دون حاجة
إلى نفيه تشريعا امتنانا فيعلم من قيام المولى مقام المنة على عباده بنفيه، أنه في
مقام تحديد مقتضى الاثبات بقصره على غير مورد الضرر والحرج ونحوهما،
وبهذا المقدار يمكن دعوى التعرض لحال أدلة الاحكام حتى يصح دعوى
الحكومة لا النظر إليها بمدلوله اللفظي.
وأما الكلام بالنسبة إلى الطائفة الثالثة: فلا محيص عن التخصيص لقوة
مقتضي ثبوت الحكم ومقتضي إثباته إلا أن الكلام في ما ادعى من كثرة
التخصيص الموجبة لوهن ظهور عموم لقاعدة المحتاجة إلى جبر وهنه بعمل
763

الأصحاب كما عن الشيخ المحقق الأنصاري (1) - قده -، أو دعوى (2) خروج
الخارج بعنوان واحد لئلا يكون التخصيص كثيرا فضلا من أن يكون أكثر، وقد بينا
ما فيهما عند التكلم في قاعدة الميسور (3) فراجع.
نعم دعوى كثرة التخصيص في نفسها غير مسموعة: توضيحه: أنا قد قدمنا (4)
أن الضرر عنوان لنفس النقص في المال أو العرض أو النفس، ولا يكون عنوانا
لسببه، إذ المعلول لا يعقل أن يكون عنوانا لعلته سببا كانت أو شرطا أو معدا بل
العنوان المنتزع بلحاظه كعنوان الضائر، أو المضر وصف للعلة، وبعد تعميم
الضرر لما يكون عنوانا لعلته نقول إن العلة، تارة تكون مقتضيا، وأخرى شرطا،
وثالثة معدا، فإذا ترتب الضرر من دون وساطة شئ على علته بأحد الوجوه
المزبور كان مشمولا لقاعدة الضرر قطعا، وأما إذا توسط بين السبب المقدور أو
الشرط كذلك أو المعد كذلك واسطة إلى أن انتهى الأمر إلى الضرر فشأن الواسطة
المترتبة قهرا على العلة المقدورة شأن نفس الضرر المترتب عليها، فحينئذ
توصف بالاختيارية وتكون مشمولة للقاعدة وإن لم يكن للواسطة ترتب على
العلة المقدورة، فهي على قسمين:
أحدهما: ما إذا كان شرطا فان الشرط لا ترتب له على مشروطه، ولا على
معده، وإن توقف تأثيرهما عليه ففي الحقيقة الترتب الطبيعي لهما عليه دون
عكسه.
ثانيهما: ما إذا كان معدا آخر في عرض المعد المقدور فإنه أيضا على الفرض
لا ترتب له على المعد المقدور وبلحاظه يقال بعدم استناد الضرر إلى موجد
المقتضى، أو موجد المعد المقدور.
أما الأول: فالفعل الاختياري الذي يترتب عليه الضرر بواسطة شرط غير
.

(1) الرسائل: ج 2، ص 537.
(2) هذه الدعوى من الشيخ فيه. فراجع.
(3) التعليقة: 295، ص 709.
(4) التعليقة: 310، ص 745.
764

اختياري لا يخرج المترتب عليه عن كونه مقدورا بالواسطة بسبب عدم اختيارية
شرطه كما في " القاء النار " بالاختيار فان يبوسة المحل شرط فإذا حصل اليبوسة لا
بالاختيار ولو بسبب النار لم يكن الاحراق المترتب على الالقاء خارجا عن
الاختيار ومن الواضح أن المقتضي الاختياري، يكون مقتضاه اختياريا ولو كانت
شرائط تأثيره غير اختيارية.
وأما الثاني: فإن كان عدم مقدورية الضرر لعدم كون معداته جميعا اختيارية
فقد عرفت أنه لا يجب أن يكون شرط تأثيره اختياريا فضلا عن معده، ولذا لا
شبهة في أنه إذا تقدم المعد الغير الاختياري ثم وجد المعد الاختياري كان
المعلول المترتب عليهما اختياريا وإن كان عدم المقدورية لمكان تأخر المعد
الغير الاختياري الذي يترتب عليه الضرر.
ففيه: أن المناط تحقق التسبيب سواء تقدم المعد الغير الاختياري أو تأخر
فتأجيج النار فيما إذا كان علو الهواء مترقبا يوجب الاستناد كما في التأجيج في
صورة علو الهواء الموجب لإلقاء النار على الحطب مثلا، وإن لم يكن الهواء عاليا،
ولا في معرض العلو فلا تسبيب إلى الاحراق، وإن اتفق علو الهواء فلا يدور
التسبيب مدار اختيارية المعدات العرضية جميعا ولا مدار تأخر المعد الاختياري
الذي يترتب عليه المعلول.
إذا عرفت ذلك فاعلم إذا تحقق التسبيب إلى الضرر سواء كان بايجاد مقتضيه
أو بايجاد شرطه، أو بايجاد معده كان مستتبعا لما يناسبه من الحكم تكليفا أو
وضعا دون ما إذا لم يتحقق التسبيب وإن أوجد المقتضى، أو الشرط، أو المعد
وليست العلة التوليدية قسما آخر من العلة في قبال المقتضى والشرط والمعد.
ومنه يتضح أن الموارد التي يتوهم فيها استناد الضرر، ومع ذلك لا يقولون فيه
بالضمان مثلا خارجة عن الضابط المذكور.
منها، ما إذا وعده بشئ على أن يهب ماله لرحمه فوهب ورجع الواعد عن
765

وعده فإنه أضره بإذهاب ماله من يده بوعده.
ومنها، ما إذا تمتع امرأة، فحبسه حابس إلى ذهبت مدة التمتع فإنه إضرار
من الحابس على المحبوس بذهاب ما بذله للتمتع.
ومنها، ما إذا تزوج بامرئة جميلة أعطى عليها مهرا كثيرا، فقتلها رجل فإنه
أضره بإذهاب المهر الكثير هدرا.
ومنها، ما إذا اشترى دارا مثلا، وأخذ عليه كتابا بشهادة الشهود فقتل الشهود
رجل فإنه أضره باسقاط كتابه عن الاعتبار الموجب من ذهاب ماله من يده إلى
غير ذلك من الموارد الضررية التي لا يقولون فيها بالضمان.
ويندفع الأول: بأن الوعد والتوعيد وإن اشتركا في جعل الداعي إلى فعل
الغير بإرادته واختياره له إلا أن الثاني يحقق التسبيب حيث إنه ليس له بد من
فعله، فكان ترتب الفعل على توعيده الذي هو بمنزلة المعد لفعله قهري بخلاف
الأول حيث إن الوعد لا يوجب اللابدية المحققة لترتب الفعل قهرا. ولا ينتقض
بموارد التقرير حيث يقولون بالضمان مع أنه كالوعد في عدم اقتضاء اللابدية،
وذلك لان استقرار الضمان على الغار لقاعدة الغرور لا لقاعدة الضرر.
ويندفع الثاني، بأن الحبس لا يوجب إلا عدم انتفاعه بها وهو ليس بمال.
وأما ما بذله للتمتع فقد بذله بنفسه بداعي التمتع بإزائه فلا يستند ذهاب
المبذول إلا إلى الباذل، والمستند إلى الحابس ذهاب ما ليس بمال، ولذا لو حبسه
عن سكنى الدار كان تفويتا للمنفعة، وهي مال فيضمنه إذا منعه بكل وجه.
ويندفع الثالث: بما عرفت فان بذل المهر مستند إلى الزوج لا إلى القاتل
والمستند إليه ليس بمال.
ويندفع الرابع، بأن سقوط كتابه عن الاعتبار بقتل الشهود الذي يمتنع
عليهم أداء الشهادة ليس في نفسه إضرارا ماليا، وأما بذل الثمن بإزاء ما اشتراه
فمستند إلى المشتري، وأما عدم تسليم المثمن فمستند إلى البايع، وأما عدم
766

تمكن المشتري بواسطة عدم الشاهد فليس بنفسه ضررا ماليا فلا يضر استناده
بالواسطة إلى القاتل ومما ذكرنا يتبين حال نظائره، فالتحقيق إن هذا العام كسائر
العمومات في ورود التخصيص عليها وليس فيه تخصيص كثير يحتاج إلى
الأجوبة الغير الصحيحة.
قم المقدسة
تم والحمد لله وحده وصلى الله على محمد وآله في تأريخ 13 رجب
المرجب 1415 ه‍ ق الموافق 26 من آذر 1373 ش في اليوم المبارك
لميلاد مولى الكونين علي بن أبي طالب عليه السلام مولود الكعبة على يد
الحقير المذنب الراجي إلى رحمة ربه الشيخ رمضان قلى زاده
المازندراني وقد قمت في تحقيق هذا الكتاب وحل عقدها وجبر
نواقصها ومحذوفها وتقابلها مع النسخ القديمة والحديثة - أرجو من
الله القبول ومن الأفاضل الطلاب النظر بعين اللطف والمرحمة
والسلام.
767