الكتاب: أضواء البيان
المؤلف: الشنقيطي
الجزء: ٦
الوفاة: ١٣٩٣
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: مكتب البحوث والدراسات.
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤١٥ - ١٩٩٥م
المطبعة: بيروت. - دار الفكر للطباعة والنشر.
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر
ردمك:
ملاحظات:

((سورة الفرقان))
* (تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا * الذى له ملك السماوات والا رض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك وخلق كل شىء فقدره تقديرا * واتخذوا من دونه ءالهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حيواة ولا نشورا * وقال الذين كفروا إن هاذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم ءاخرون فقد جآءوا ظلما وزورا * وقالوا أساطير الا ولين اكتتبها فهى تملى عليه بكرة وأصيلا * قل أنزله الذى يعلم السر فى السماوات والا رض إنه كان غفورا رحيما) * * (تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه * (نزل الفرقان) *، وهو هذا القرءان العظيم * (على عبده) *، وهو محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأجل أن يكون * (للعالمين نذيرا) *، أي: منذرا، وقد قدمنا مرارا أن الإنذار هو الإعلام المقترن بتهديد وتخويف، وأن كل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذارا، كما أوضحناه في أول سورة (الأعراف).
وهذه الآية الكريمة تدل على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم للأسود والأحمر والجن والإنس، لدخول الجميع في قوله تعالى: * (للعالمين نذيرا) *.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آيات أخر؛ كقوله تعالى: * (قل ياأيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعا) *، وقوله تعالى: * (وما أرسلناك إلا كافة للناس) *، أي: أرسلناك للناس كافة، أي: جميعا. وقوله تعالى: * (قل أى شىء أكبر شهادة قل الله شهيد بينى وبينكم وأوحى إلى هاذا القرءان لانذركم به ومن بلغ) *، وقوله تعالى: * (الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان والارض وضعها للانام فيها فاكهة والنخل ذات الاكمام والحب ذو العصف والريحان فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *، وقوله تعالى: * (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرءان فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين * قالوا يأبانا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم * مستقيم * ياقومنا أجيبوا داعى الله وءامنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم * ومن لا يجب داعى الله فليس بمعجز فى الارض) *. وفي معنى قوله تعالى: * (تبارك) * أقوال لأهل العلم، قال القرطبي: * (تبارك) * اختلف في معناه، فقال
3

الفراء: هو في العربية بمعنى: تقدس وهما للعظمة، وقال الزجاج: * (تبارك) *: تفاعل من البركة. قال: ومعنى البركة: الكثرة من كل ذي خير، وقيل: * (تبارك) *: تعالى، وقيل: تعالى عطاؤه، أي: زاد وكثر. وقيل المعنى: دام وثبت إنعامه. قال النحاس: وهذا أولاها في اللغة والاشتقاق من برك الشئ إذا ثبت ومنه برك الجمل والطير على الماء، أي: دام وثبت، انتهى محل الغرض من كلام القرطبي.
وقال أبو حيان في (البحر المحيط): قال ابن عباس: * (تبارك) *: لم يزل، ولا يزول. وقال الخليل: تمجد. وقال الضحاك: تعظم. وحكى الأصمعي: تباركت عليكم من قول عربي صعد رابية، فقال ذلك لأصحابه، أي: تعاليت وارتفعت. ففي هذه الأقوال تكون صفة ذات. وقال ابن عباس أيضا، والحسن، والنخعي: هو من البركة، وهو التزايد في الخير من قبله. فالمعنى زاد خيره وعطاؤه وكثر، وعلى هذا يكون صفة فعل، انتهى محل الغرض من كلام أبي حيان.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الأظهر في معنى * (تبارك) * بحسب اللغة التي نزل بها القرءان أنه تفاعل من البركة، كما جزم به ابن جرير الطبري، وعليه فمعنى * (تبارك) *: تكاثرت البركات والخيرات من قبله، وذلك يستلزم عظمته وتقدسه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله؛ لأن من تأتي من قبله البركات والخيرات ويدر الأرزاق على الناس هو وحده المتفرد بالعظمة، واستحقاق إخلاص العبادة له، والذي لا تأتي من قبله بركة ولا خير، ولا رزق كالأصنام، وسائر المعبودات من دون الله لا يصح أن يعبد، وعبادته كفر مخلد في نار جهنم، وقد أشار تعالى إلى هذا في قوله: * (إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون) *، وقوله تعالى: * (ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والارض شيئا ولا يستطيعون) *، وقوله تعالى: * (وهو يطعم ولا يطعم) *، وقوله تعالى: * (ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) *، وقوله تعالى: * (هو الذى يريكم ءاياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب * فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون) *.
تنبيه
اعلم أن قوله: * (تبارك) * فعل جامد لا يتصرف، فلا يأتي منه مضارع، ولا مصدر،
4

ولا اسم فاعل، ولا غير ذلك، وهو مما يختص به الله تعالى، فلا يقال لغيره تبارك خلافا لما تقدم عن الأصمعي، وإسناده * (تبارك) * إلى قوله: * (الذى نزل الفرقان) *، يدل على أن إنزاله الفرقان على عبده من أعظم البركات والخيرات والنعم التي أنعم بها على خلقه، كما أوضحناه في أول سورة (الكهف)، في الكلام على قوله تعالى: * (الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب) *، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك، وإطلاق العرب * (تبارك) * مسندا إلى الله تعالى معروف في كلامهم، ومنه قول الطرماح: اعلم أن قوله: * (تبارك) * فعل جامد لا يتصرف، فلا يأتي منه مضارع، ولا مصدر، ولا اسم فاعل، ولا غير ذلك، وهو مما يختص به الله تعالى، فلا يقال لغيره تبارك خلافا لما تقدم عن الأصمعي، وإسناده * (تبارك) * إلى قوله: * (الذى نزل الفرقان) *، يدل على أن إنزاله الفرقان على عبده من أعظم البركات والخيرات والنعم التي أنعم بها على خلقه، كما أوضحناه في أول سورة (الكهف)، في الكلام على قوله تعالى: * (الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب) *، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك، وإطلاق العرب * (تبارك) * مسندا إلى الله تعالى معروف في كلامهم، ومنه قول الطرماح:
* تباركت لا معط لشئ منعته
* وليس لما أعطيت يا رب مانع
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* فليست عشيات الحمى برواجع
* لنا أبدا ما أورق السلم النضر
*
* ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى
* تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر
*
وقد قدمنا الشاهد الأخير في سورة (الأنبياء)، في الكلام على قوله تعالى: * (فظن أن لن نقدر عليه) *، وقوله: * (الفرقان) *، يعني: هذا القرءان العظيم، وهو مصدر زيدت فيه الألف والنون كالكفران والطغيان والرجحان، وهذا المصدر أريد به اسم الفاعل؛ لأن معنى كونه فرقانا أنه فارق بين الحق والباطل، وبين الرشد والغي، وقال بعض أهل العلم: المصدر الذي هو * (الفرقان) * بمعنى اسم المفعول؛ لأنه نزل مفرقا، ولم ينزل جملة.
واستدل أهل هذا القول بقوله تعالى: * (وقرءانا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث) *، وقوله: * (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرءان جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا) *، وقوله في هذه الآية الكريمة: * (نزل) * بالتضعيف يدل على كثرة نزوله أنجما منجما. قال بعض أهل العلم: ويدل على ذلك قوله في أول سورة (آل عمران): * (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل) *، قالوا: عبر في نزول القرءان ب: * (نزل) * بالتضعيف لكثرة نزوله. وأما التوراة والإنجيل، فقد عبر في نزولهما ب: * (أنزل) * التي لا تدل على تكثير؛ لأنهما نزلا جملة في وقت واحد، وبعض الآيات لم يعتبر فيها كثرة نزول القرءان؛
5

كقوله تعالى: * (الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب) *، وقوله في هذه الآية: * (على عبده) *، قال فيه بعض العلماء: ذكره صفة العبودية مع تنزيل الفرقان، يدل على أن العبودية لله هي أشرف الصفات، وقد بينا ذلك في أول سورة (بني إسرائيل). * (الذى له ملك السماوات والا رض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك وخلق كل شىء فقدره تقديرا) *. قوله: * (الذى له ملك السماوات والارض) *، بدل من الذي في قوله تعالى: * (تبارك الذى نزل) *، وقال بعضهم: هو مرفوع على المدح، وقال بعضهم: هو منصوب على المدح. وقد أثنى جل وعلا على نفسه في هذه الآية الكريمة بخمسة أمور، هي أدلة قاطعة على عظمته، واستحقاقه وحده لإخلاص العبادة له:
الأول: منها أنه هو الذي له ملك السماوات والأرض.
والثاني: أنه لم يتخذ ولدا، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
والثالث: أنه لا شريك له في ملكه.
والرابع: أنه هو خالق لك شئ.
والخامس: أنه قدر كل شئ خلقه تقديرا، وهذه الأمور الخمسة المذكورة في هذه الآية الكريمة جاءت موضحة في آيات أخر.
أما الأول منها: وهو أنه له ملك السماوات والأرض، فقد جاء موضحا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى في سورة (المائدة): * (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والارض) *، وقوله تعالى في سورة (النور): * (ولله ملك السماوات والارض وإلى الله المصير) *، وقوله تعالى: * (ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير) *، وجميع الآيات التي ذكر فيها جل وعلا أن له الملك، فالملك فيها شامل لملك السماوات والأرض وما بينهما، وغير ذلك. كقوله تعالى: * (قل اللهم مالك الملك) *، وقوله تعالى: * (تبارك الذى بيده الملك) * وقوله تعالى: * (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) *، وقوله تعالى: * (وله الملك يوم ينفخ فى الصور) *، وقوله تعالى: * (مالك
6

يوم الدين) *، والآيات الدالة على أن له ملك كل شئ كثيرة جدا معلومة.
وأما الأمر الثاني: وهو كونه تعالى لم يتخذ ولدا، فقد جاء موضحا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: * (لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد) *، وقوله تعالى: * (وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا) *، وقوله تعالى: * (بديع السماوات والارض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة) * وقوله تعالى: * (وقالوا اتخذ الرحمان ولدا * لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمان ولدا * وما ينبغى للرحمان أن يتخذ ولدا * إن كل من فى السماوات والارض إلا اتى الرحمان عبدا) *، وقوله تعالى: * (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا * ما لهم به من علم ولا لائبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا) *، وقوله تعالى: * (أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملئكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما) *، وقوله تعالى: * (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله) *، إلى قوله: * (سبحان الله عما يصفون) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة، وقد قدمنا ذلك في مواضع من هذا الكتاب المبارك في سورة (الكهف) وغيرها.
وأما الأمر الثالث: وهو كونه تعالى لم يكن له شريك في الملك، فقد جاء موضحا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى في آخر سورة (بني إسرائيل): * (وقل الحمد لله الذى لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك) *، وقوله تعالى في سورة (سبأ): * (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة فى * السماوات ولا فى الارض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير) *، وقوله تعالى: * (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) *؛ لأن قوله: * (الواحد القهار) * يدل على تفرده بالملك، والقهر، واستحقاق إخلاص العبادة، كما لا يخفى، إلى غير ذلك من الآيات.
وأما الأمر الرابع: وهو أنه تعالى خلق كل شئ، فقد جاء موضحا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: * (بديع السماوات والارض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شىء وهو بكل شىء عليم * ذالكم الله ربكم لا إلاه إلا هو خالق كل شىء فاعبدوه وهو على
7

كل * شىء وكيل) *، وقوله تعالى: * (ذلكم الله ربكم خالق كل شىء لا إلاه إلا هو فأنى تؤفكون كذلك يؤفك الذين كانوا بئايات الله يجحدون) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وأما الأمر الخامس: وهو أنه قدر كل شئ خلقه تقديرا، فقد جاء أيضا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى: * (الذى خلق فسوى * والذى قدر فهدى) *، وقوله تعالى: * (وكل شىء عنده بمقدار) *، وقوله تعالى: * (إنا كل شىء خلقناه بقدر) *، إلى غير ذلك من الآيات. وقال ابن عطية: تقدير الأشياء هو حدها بالأمكنة، والأزمان، والمقادير، والمصلحة، والإتقان، انتهى بواسطة نقل أبي حيان في (البحر).
تنبيه
في هذه الآية الكريمة سؤال معروف، وهو أن يقال: الخلق في اللغة العربية، معناه التقدير. ومنه قول زهير: في هذه الآية الكريمة سؤال معروف، وهو أن يقال: الخلق في اللغة العربية، معناه التقدير. ومنه قول زهير:
* ولأنت تفري ما خلقت وبع
* ض القوم يخلق ثم لا يفري
*
قال بعضهم: ومنه قوله تعالى: * (فتبارك الله أحسن الخالقين) *، قال: أي أحسن المقدرين، وعلى هذا فيكون معنى الآية * (وخلق كل شىء) *، أي: قدر كل شئ فقدره تقديرا، وهذا تكرار كما ترى، وقد أجاب الزمخشري عن هذا السؤال، وذكر أبو حيان جوابه في (البحر)، ولم يتعقبه.
والجواب المذكور هو قوله: فإن قلت في الخلق معنى التقدير، فما معنى قوله: * (وخلق كل شىء فقدره تقديرا) *، كأنه قال: وقدر كل شئ فقدره.
قلت: المعنى أنه أحدث كل شئ إحداثا مراعي فيه التقدير والتسوية فقدره وهيأه لما يصلح له.
مثاله: أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدر المسوى، الذي تراه فقدره للتكاليف والمصالح المنوطة به في بابي الدين والدنيا، وكذلك كل حيوان وجماد جاء به على الحيلة المستوية المقدرة بأمثلة الحكمة والتدبير، فقدره لأمر ما ومصلحة مطابقا لما قدر له غير
8

متجاف عنه، أو سمى إحداث الله خلقا؛ لأنه لا يحدث شيئا لحكمته إلا على وجه التقدير غير متفاوت، فإذا قيل: خلق الله كذا، فهو بمنزلة قولك: أحدث وأوجد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق، فكأنه قيل: وأوجد كل شئ فقدره في إيجاده لم يوجده متفاوتا. وقيل: فجعل له غاية ومنتهى، ومعناه: فقدره للبقاء إلى أمد معلوم، انتهى كلام صاحب (الكشاف) وبعضه له اتجاه، والعلم عند الله تعالى. * (واتخذوا من دونه ءالهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حيواة ولا نشورا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الآلهة التي يعبدها المشركون من دونه، متصفة بستة أشياء كل واحد منها برهان قاطع، أن عبادتها مع الله، لا وجه لها بحال، بل هي ظلم متناه، وجهل عظيم، وشرك يخلد به صاحبه في نار جهنم، وهذا بعد أن أثنى على نفسه جل وعلا بالأمور الخمسة المذكورة في الآية التي قبلها التي هي براهين قاطعة، على أن المتصف بها هو المعبود وحده، والأمور الستة التي هي من صفات المعبودات من دون الله:
الأول منها: أنها لا تخلق شيئا، أي: لا تقدر على خلق شئ.
والثاني منها: أنها مخلوقة كلها، أي: خلقها خالق كل شئ.
والثالث: أنها لا تملك لأنفسها ضرا ولا نفعا.
الرابع والخامس والسادس: أنها لا تملك موتا، ولا حياة، ولا نشورا، أي: بعثا بعد الموت، وهذه الأمور الستة المذكورة في هذه الآية الكريمة، جاءت مبينة في مواضع أخر من كتاب الله تعالى.
أما الأول منها: وهو كون الآلهة المعبودة من دون الله لا تخلق شيئا، فقد جاء مبينا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: * (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له) *، وقوله تعالى: * (والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون * أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون) *، وقوله تعالى في سورة (فاطر): * (قل أرءيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أرونى ماذا خلقوا من الارض أم لهم شرك فى * السماوات قل أرءيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أرونى ماذا خلقوا من الارض أم لهم) *
9

، وقوله تعالى في سورة (لقمان): * (هاذا خلق الله فأرونى ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون فى ضلال مبين) *، وقوله تعالى في (الأحقاف): * (قل أرأيتم
ما تدعون من دون الله أرونى ماذا خلقوا من الارض أم لهم شرك فى * السماوات ائتونى بكتاب من قبل هاذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين) *، وقوله تعالى: * (ما أشهدتهم خلق * السماوات والارض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا) *، وقد بين تعالى في آيات من كتابه الفرق بين من يخلق، ومن لا يخلق؛ لأن من يخلق هو المعبود، ومن لا يخلق لا تصح عبادته؛ كقوله تعالى: * (ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم) *، أي: وأما من لم يخلقكم، فليس برب، ولا بمعبود لكم، كما لا يخفى. وقوله تعالى: * (أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون) *، وقوله تعالى: * (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شىء وهو الواحد القهار) *، أي: ومن كان كذلك، فهو المعبود وحده جل وعلا، وقوله تعالى: * (أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون) *.
وأما الأمر الثاني منها: وهو كون الآلهة المعبودة من دونه مخلوقة، فقد جاء مبينا في آيات من كتاب الله؛ كآية (النحل)، و (الأعراف)، المذكورتين آنفا.
أما آية (النحل)، فهي قوله تعالى: * (والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون) *، فقوله: * (وهم يخلقون) * صريح في ذلك. وأما آية (الأعراف)، فهي قوله تعالى: * (أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وأما الأمر الثالث منها: وهو كونهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، فقد جاء مبينا في مواضع من كتاب الله؛ كقوله تعالى: * (قل من رب السماوات والارض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لانفسهم نفعا ولا ضرا) *، وكقوله تعالى: * (أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون * ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون) *، ومن لا ينصر نفسه فهو لا يملك لها ضرا ولا نفعا. وقوله تعالى: * (والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون) *،
10

وقوله تعالى: * (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون * إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين * لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم ءاذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون) *.
وفيها الدلالة الواضحة على أنهم لا يملكون لأنفسهم شيئا، وقوله تعالى: * (وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وأما الرابع والخامس والسادس، من الأمور المذكورة: أعني كونهم لا يملكون موتا، ولا حياة، ولا نشورا. فقد جاءت أيضا مبينة في آيات من كتاب الله؛ كقوله تعالى: * (الله الذى خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شىء سبحانه وتعالى عما يشركون) *.
فقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شىء سبحانه وتعالى عما يشركون) *، يدل دلالة واضحة على أن شركاءهم ليس واحد منهم يقدر أن يفعل شيئا من ذلك المذكور في الآية، ومنه الحياة المعبر عنها ب: * (خلقكم) *، والموت المعبر عنه بقوله: * (ثم يميتكم) *، والنشور المعبر بقوله: * (ثم يحييكم) *، وبين أنهم لا يملكون نشورا بقوله: * (أم اتخذوا الهة من الارض هم ينشرون) *. وبين أنهم لا يملكون حياة لا نشورا، في قوله تعالى: * (قل هل من شركائكم من البلاغ المبين * أولم يروا كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده) *. وبين أنه وحده الذي بيده الموت والحياة في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: * (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا) *، وقوله تعالى: * (ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها) *، وقوله تعالى: * (إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر) * وقوله تعالى: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم) *، وقوله تعالى: * (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) *، إلى غير ذلك من الآيات. وهذا الذي ذكرنا من بيان هذه الآيات بعضها لبعض معلوم بالضرورة من الدين.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ولا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا) *، أظهر الأقوال فيه أن المعنى لا يملكون لأنفسهم دفع ضرر ولا جلب نفع؛ كما قاله القرطبي
11

وغيره. وغاية ما في هذا التفسير حذف مضاف دل المقام عليه، وهو كثير في القرءان وفي كلام العرب، وقد أشار إليه في (الخلاصة) بقوله: وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ولا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا) *، أظهر الأقوال فيه أن المعنى لا يملكون لأنفسهم دفع ضرر ولا جلب نفع؛ كما قاله القرطبي وغيره. وغاية ما في هذا التفسير حذف مضاف دل المقام عليه، وهو كثير في القرءان وفي كلام العرب، وقد أشار إليه في (الخلاصة) بقوله:
* وما يلي المضاف يأتي خلفا
* عنه في الإعراب إذا ما حذفا
*
وقيل المعنى: لا يقدرون أن يضروا أنفسهم، أو ينفعوها بشئ، والأول هو الأظهر، أي: وإذا عجزوا عن دفع ضر عن أنفسهم وجلب نفع لها فهم عن الموت والحياة والنشور أعجز؛ لأن ذلك لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ولا نشورا) *، اعلم أن النشور يطلق في العربية إطلاقين:
الأول: أن يكون مصدر نشر الثلاثي المتعدي، تقول: نشر الله الميت ينشره نشرا ونشورا.
والثاني: أن يكون مصدر نشر الميت ينشر نشورا لازما، والميت فاعل نشر.
والحاصل أن في المادة ثلاث لغات، الأولى: أنشره رباعيا بالهمزة ينشره بضم الياء إنشارا، ومنه قوله تعالى: * (ثم إذا شاء أنشره) *، وقوله تعالى: * (وانظر إلى العظام كيف) *، بضم النون وبالراء المهملة في قراءة نافع، وابن كثير، وأبي عمرو، وهو مضارع أنشره. والثانية نشر الله الميت ينشره بصيغة الثلاثي المتعدي، والمصدر في هذه اللغة النشر والنشور، ومنه قوله هنا: * (حيواة ولا نشورا) *، أي لا يملكون أن ينشروا أحدا، بفتح الياء وضم الشين. والثالثة: نشر الميت
بصيغة الثلاثي اللازم، ومعنى أنشره ونشره متعديا أحياه بعد الموت، ومعنى نشر الميت لازما حيى الميت وعاش بعد موته، وإطلاق النشر والنشور على الإحياء بعد الموت، وإطلاق النشور على الحياة بعد الموت معروف في كلام العرب، ومن إطلاقهم نشر الميت لازما فهو ناشر، أي: عاش بعد الموت، قول الأعشى: والحاصل أن في المادة ثلاث لغات، الأولى: أنشره رباعيا بالهمزة ينشره بضم الياء إنشارا، ومنه قوله تعالى: * (ثم إذا شاء أنشره) *، وقوله تعالى: * (وانظر إلى العظام كيف) *، بضم النون وبالراء المهملة في قراءة نافع، وابن كثير، وأبي عمرو، وهو مضارع أنشره. والثانية نشر الله الميت ينشره بصيغة الثلاثي المتعدي، والمصدر في هذه اللغة النشر والنشور، ومنه قوله هنا: * (حيواة ولا نشورا) *، أي لا يملكون أن ينشروا أحدا، بفتح الياء وضم الشين. والثالثة: نشر الميت بصيغة الثلاثي اللازم، ومعنى أنشره ونشره متعديا أحياه بعد الموت، ومعنى نشر الميت لازما حيى الميت وعاش بعد موته، وإطلاق النشر والنشور على الإحياء بعد الموت، وإطلاق النشور على الحياة بعد الموت معروف في كلام العرب، ومن إطلاقهم نشر الميت لازما فهو ناشر، أي: عاش بعد الموت، قول الأعشى:
* لو أسندت ميتا إلى نحرها
* عاش ولم ينقل إلى قابر
*
* حتى يقول الناس مما رأوا
* يا عجبا للميت الناشر
*
ومن إطلاق النشور بمعنى الإحياء بعد الموت، مصدر الثلاثي المتعدي، قوله هنا:
12

* (ولا نشورا) *، أي: بعثا بعد الموت، ومن إطلاقهم النشور بمعنى الحياة بعد الموت مصدر الثلاثي اللازم، قول الآخر: مصدر الثلاثي المتعدي، قوله هنا: * (ولا نشورا) *، أي: بعثا بعد الموت، ومن إطلاقهم النشور بمعنى الحياة بعد الموت مصدر الثلاثي اللازم، قول الآخر:
* إذا قبلتها كرعت بفيها
* كروع العسجدية في الغدير
*
* فيأخذني العناق مبرد فيها
* بموت في عظامي أو فتور
*
* فنحيا تارة ونموت أخرى
* ونخلط ما نموت بالنشور
*
فقد جعل الغيبوبة من شدة اللذة موتا، والإفاقة منها نشورا، أي: حياة بعد الموت.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (واتخذوا من دونه ءالهة) *، حذف فيه أحد المفعولين، أي: اتخذوا من دونه أصناما آلهة؛ كقوله تعالى: * (وإذ قال إبراهيم لابيه وإذ قال إبراهيم لابيه) *، والآلهة جمع إلاه، فهو فعال مجموع على أفعلة، لأن الألف التي بعد الهمزة مبدلة من همزة ساكنة هي فاء الكلمة، كما قال في (الخلاصة): وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (واتخذوا من دونه ءالهة) *، حذف فيه أحد المفعولين، أي: اتخذوا من دونه أصناما آلهة؛ كقوله تعالى: * (وإذ قال إبراهيم لابيه وإذ قال إبراهيم لابيه) *، والآلهة جمع إلاه، فهو فعال مجموع على أفعلة، لأن الألف التي بعد الهمزة مبدلة من همزة ساكنة هي فاء الكلمة، كما قال في (الخلاصة):
* ومدا أبدل ثاني الهمزين من
* كلمة إن يسكن كآثر وأتمن
*
والإلاه المعبود فهو فعال بمعنى مفعول، وإتيان الفعال بمعنى المفعول جاءت منه أمثلة في اللغة العربية كالإلاه بمعنى المألوه، أي: المعبود، والكتاب بمعنى المكتوب، واللباس بمعنى: الملبوس، والإمام بمعنى المؤتم به، ومعلوم أن المعبود بحق واحد وغيره من المعبودات أسماء سماها الكفار، ما أنزل الله بها من سلطان: * (وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا * الظن وإن هم إلا يخرصون) *، * (إن هى إلا أسماء سميتموها أنتم وءاباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان) *. * (وقال الذين كفروا إن هاذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم ءاخرون فقد جآءوا ظلما وزورا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الذين كفروا وكذبوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا في هذا القرءان العظيم، الذي أوحاه الله إليه: * (إن هاذا إلا إفك افتراه) *، أي: ما هذا القرءان إلا كذب اختلقه محمد صلى الله عليه
وسلم، وأعانه عليه على الإفك الذي افتراه قوم آخرون، قيل: اليهود، وقيل: عداس مولى حويطب بن عبد العزى، ويسار مولى العلاء بن الحضرمي، وأبو فكيهة الرومي، قال ذلك النضر بن الحر العبدري.
13

وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن الكفار كذبوه وادعوا عليه أن القرءان كذب اختلقه، وأنه أعانه على ذلك قوم آخرون جاء مبينا في آيات أخر؛ كقوله تعالى: * (وعجبوا أن جاءهم م نذر منهم وقال الكافرون هاذا ساحر كذاب) *، وقوله تعالى: * (وإذا بدلنآ ءاية مكان ءاية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون) *، وقوله تعالى: * (بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم فى أمر مريج) *، وقوله تعالى: * (وكذب به قومك وهو الحق) *، والآيات في ذلك كثيرة معلومة.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنهم افتروا على النبي صلى الله عليه وسلم، أنه أعانه على افتراء القرءان قوم آخرون جاء أيضا موضحا في آيات أخر؛ كقوله تعالى: * (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر) *، وقوله تعالى: * (فقال إن هاذا إلا سحر يؤثر) *، أي: يرويه محمد صلى الله عليه وسلم عن غيره * (إن هاذا إلا قول البشر) *، وقوله تعالى: * (وليقولوا درست) *، كما تقدم إيضاحه في (الأنعام)، وقد كذبهم الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة فيما افتروا عليه من البهتان بقوله: * (فقد جاءوا ظلما وزورا) *، قال الزمخشري: ظلمهم أن جعلوا العربي يتلقن من الأعجمي الرومي كلاما عربيا أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب، والزور هو أن بهتوه بنسبة ما هو بريء منه إليه، انتهى. وتكذيبه جل وعلا لهم في هذه الآية الكريمة، جاء موضحا في مواضع أخر من كتاب الله؛ كقوله تعالى: * (لسان الذى يلحدون إليه أعجمى وهاذا لسان عربى مبين) *، كما تقدم إيضاحه في سورة (النحل)، وقوله: * (وكذب به قومك وهو الحق) *، وقوله تعالى: * (فقال إن هاذا إلا سحر يؤثر * إن هاذا إلا قول البشر * سأصليه سقر * وما أدراك ما سقر) *، لأن قوله: * (سأصليه سقر) * بعد ذكر افترائه على القرءان العظيم يدل على عظم افترائه وأنه سيصلى بسببه عذاب سقر، أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منها، ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل.
واعلم: أن العرب تستعمل جاء وأتى بمعنى: فعل، فقوله: * (فقد جاءوا ظلما) *، أي: فعلوه، وقيل: بتقدير الباء، أي: جاءوا بظلم، ومن إتيان أتى بمعنى فعل قوله تعالى: * (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا) *، أي: بما فعلوه. وقول زهير بن أبي سلمى
14

: واعلم: أن العرب تستعمل جاء وأتى بمعنى: فعل، فقوله: * (فقد جاءوا ظلما) *، أي: فعلوه، وقيل: بتقدير الباء، أي: جاءوا بظلم، ومن إتيان أتى بمعنى فعل قوله تعالى: * (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا) *، أي: بما فعلوه. وقول زهير بن أبي سلمى:
* فما يك من خير أتوه فإنما
* توارثه آباء آبائهم قبل
*
واعلم بأن الإفك هو أسوأ الكذب، لأنه قلب للكلام عن الحق إلى الباطل، والعرب تقول: أفكه بمعنى قلبه، ومنه قوله تعالى في قوم لوط: * (والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات) *، وقوله: * (والمؤتفكة أهوى) *، وإنما قيل لها مؤتفكات؛ لأن الملك أفكها، أي: قلبها؛ كما أوضحه تعالى بقوله: * (جعلنا عاليها سافلها) *. * (وقالوا أساطير الا ولين اكتتبها فهى تملى عليه بكرة وأصيلا * قل أنزله الذى يعلم السر فى السماوات والا رض إنه كان غفورا رحيما) *. ذكر جل وعلا في الأولى من هاتين الآيتين أن الكفار، قالوا: إن هذا القرءان * (أساطير الاولين) *، أي: مما كتبه، وسطره الأولون كأحاديث رستم واسفنديار، وأن النبي صلى الله عليه وسلم جمعه، وأخذه من تلك الأساطير، وأنه اكتتب تلك الأساطير، قال الزمخشري: أي كتبها لنفسه وأخذها، كما تقول: استكب الماء واصطبه إذا سكبه وصبه لنفسه وأخذه، وقوله: * (فهى تملى عليه) *، أي: تلقى إليه، وتقرأ عليه عند إرادته كتابتها ليكتبها، والإملاء إلقاء الكلام على الكاتب ليكتبه، والهمزة مبدلة من اللام تخفيفا، والأصل في الإملاء الإملال باللام، ومنه قوله تعالى: * (فليكتب وليملل الذى عليه الحق) *.
وقوله: * (بكرة وأصيلا) *، البكرة: أول النهار، والأصيل: آخره.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية من أن الكفار، قالوا: إن القرءان أساطير الأولين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تعلمه من غيره، وكتبه جاء موضحا في آيات متعددة؛ كقوله تعالى: * (وإذا تتلى عليهم ءاياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هاذا إن هاذا إلا أساطير الاولين) *.
وقد ذكرنا آنفا الآيات الدالة على أنهم افتروا عليه أنه تعلم القرءان من غيره، وأوضحنا تعنتهم، وكذبهم في ذلك في سورة (النحل)، ودلالة الآيات على ذلك في الكلام على قوله تعالى: * (لسان الذى يلحدون إليه أعجمى) *، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
15

ومن الآية الدالة على كذبهم في قوله: * (اكتتبها فهى تملى عليه) *، قوله تعالى: * (وما كنت * تتلوا منه قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون) *، وقوله تعالى: * (الذين يتبعون الرسول النبى الامى) *، إلى قوله تعالى: * (قل ياأيها الناس إنى رسول) *، والأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، وما ذكر جل وعلا في الآية الأخيرة من قوله: * (قل أنزله الذى يعلم السر فى * السماوات والارض) *، جاء أيضا موضحا في آيات أخر؛ كقوله تعالى: * (قل نزله روح القدس من ربك) *، وقوله تعالى: * (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) *، وقوله تعالى: * (وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الامين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربى مبين) *، وقوله تعالى: * (ولا تعجل بالقرءان من قبل إن يقضى إليك وحيه) * وقوله تعالى: * (لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرءانه * فإذا قرأناه فاتبع قرءانه * ثم إن علينا بيانه) *، وقوله تعالى: * (فلا أقسم بما تبصرون * وما لا تبصرون * إنه لقول
رسول كريم * وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين) *، وقوله تعالى: * (تنزيلا ممن خلق الارض والسماوات العلى) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله هنا: * (الذى يعلم السر فى * السماوات والارض) *، أي: ومن يعلم السر، فلا شك أنه يعلم الجهر.
ومن الآيات الدالة على ما دلت عليه هذه الآية الكريمة، من كونه تعالى يعلم السر في السماوات والأرض، قوله تعالى: * (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) *، وقوله تعالى: * (وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور) *، وقوله تعالى: * (ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب) *، وقوله تعالى: * (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون) *، وقوله تعالى: * (ذالك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم) *، وقوله تعالى: * (واعلموا أن الله يعلم ما فى * السماوات وما في أنفسكم فاحذروه) *، وقوله تعالى: * (وما من غائبة فى السماء والارض إلا فى كتاب مبين) *،
16

والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (إنه كان غفورا رحيما) *، قال فيه ابن كثير: هو دعاء لهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار لهم بأن رحمته واسعة، وأن حلمه عظيم، وأن من تاب إليه تاب عليه، فهؤلاء مع كذبهم، وافترائهم، وفجورهم، وبهتانهم، وكفرهم، وعنادهم، وقولهم عن الرسول والقرءان ما قالوا يدعوهم إلى التوبة والإقلاع عما هم فيه إلى الإسلام والهدى؛ كما قال تعالى: * (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إلاه إلا إلاه واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون) *، وقال تعالى: * (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق) *.
قال الحسن البصري: انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه، وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة، انتهى كلام ابن كثير رحمه الله تعالى، وما ذكره واضح.
والآيات الدالة على مثله كثيرة؛ كقوله تعالى: * (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) *، وقوله تعالى: * (وإنى لغفار لمن تاب وامن وعمل صالحا) *، إلى غير ذلك من الآيات.
* (وقالوا ما لهاذا الرسول يأكل الطعام ويمشى فى الا سواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا * انظر كيف ضربوا لك الا مثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا * تبارك الذى إن شآء جعل لك خيرا من ذالك جنات تجرى من تحتها الا نهار ويجعل لك قصورا * بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا * إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا) * * (وقالوا ما لهاذا الرسول يأكل الطعام ويمشى فى الا سواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار قالوا في نبينا صلى الله عليه وسلم: ما لهذا الذي يدعي أنه رسول، وذلك كقول فرعون في موسى: * (إن رسولكم الذى أرسل إليكم لمجنون) *، أي: ما له يأكل الطعام كما نأكله، فهو محتاج إلى الأكل كاحتياجنا إليه، ويمشي في الأسواق أي لاحتياجه إلى البيع والشراء، ليحصل بذلك قوته يعنون أنه لو كان رسولا من عند الله، لكان ملكا من الملائكة لا يحتاج إلى الطعام، ولا إلى المشي في الأسواق، وادعاء الكفار أن الذي يأكل كما يأكل الناس، ويحتاج إلى المشي في الأسواق، لقضاء حاجته منها، لا يمكن أن يكون رسولا، وأن الله لا يرسل إلا ملكا لا يحتاج للطعام، ولا للمشي في الأسواق، جاء موضحا في آيات كثيرة، وجاء في آيات أيضا تكذيب الكفار في دعواهم هذه الباطلة.
17

فمن الآيات الدالة على قولهم مثل ما ذكر عنهم في هذه الآية، قوله تعالى: * (وقال الملا من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الاخرة وأترفناهم فى الحيواة الدنيا ما هاذا إلا بشر مثلكم يأكل) *، وقوله تعالى: * (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا) *، وقوله تعالى عنهم: * (قالوا أنؤمن * لبشرين مثلنا) *، وقوله تعالى: * (أبشرا منا واحدا نتبعه) *، وقوله: * (فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله) *، وقوله تعالى: * (قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد ءاباؤنا) *. ومن الآيات التي كذبهم الله بها في دعواهم هذه الباطلة، وبين فيها أن الرسل يأكلون ويمشون في الأسواق ويتزوجون ويولد لهم، وأنهم من جملة البشر، إلا أنه فضلهم بوحيه ورسالته، وأنه لو أرسل للبشر ملكا لجعله رجلا، وأنه لو كانت في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين، لنزل عليهم ملكا رسولا، لأن المرسل من جنس المرسل إليهم، قوله تعالى في هذه السورة الكريمة: * (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون فى الاسواق) * وقوله تعالى: * (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية) * وقوله تعالى: * (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحى إليهم * من أهل القرى) *، أي ولم نجعلهم ملائكة، لأن كونهم رجالا وكونهم من أهل القرى، صريح في أنهم ليسوا ملائكة، وقوله تعالى: * (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون) *، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار: إنه بشر، وإنه رسول. وذلك لأن البشرية لا تنافي الرسالة في قوله تعالى: * (قل سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا) *، وقوله تعالى: * (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلاهكم إلاه واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا) *، وقوله تعالى: * (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلاهكم إلاه واحد فاستقيموا إليه واستغفروه) * الآية. وبين جل وعلا أن الرسل قالوا مثل ذلك في قوله: * (قالت رسلهم * إن نحن إلا بشر مثلكم ولاكن الله يمن على من يشاء من عباده) * الآية، وقال تعالى: * (قل لو كان فى الارض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا) *، وقوله تعالى: * (ويمشى فى الاسواق) *
18

جمع سوق وهي مؤنثة، وقد تذكر. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها) *. اعلم أولا أن لولا في هذه الآية الكريمة حرف تحضيض على التحقيق، والتحضيض. هو الطلب بحث، وشدة، وإليه أشار في الخلاصة بقوله: أن يقول للكفار: إنه بشر، وإنه رسول. وذلك لأن البشرية لا تنافي الرسالة في قوله تعالى: * (قل سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا) *، وقوله تعالى: * (قل إنما أنا بشر مثلكم
يوحى إلى أنما إلاهكم إلاه واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا) *، وقوله تعالى: * (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلاهكم إلاه واحد فاستقيموا إليه واستغفروه) * الآية. وبين جل وعلا أن الرسل قالوا مثل ذلك في قوله: * (قالت رسلهم * إن نحن إلا بشر مثلكم ولاكن الله يمن على من يشاء من عباده) * الآية، وقال تعالى: * (قل لو كان فى الارض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا) *، وقوله تعالى: * (ويمشى فى الاسواق) * جمع سوق وهي مؤنثة، وقد تذكر. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها) *. اعلم أولا أن لولا في هذه الآية الكريمة حرف تحضيض على التحقيق، والتحضيض. هو الطلب بحث، وشدة، وإليه أشار في الخلاصة بقوله:
* وبهما التحضيض مزوهلا
* ألا ألا وأولينها الفعلا
*
وبه تعلم أن المضارع في قوله: فيكون معه نذيرا منصوب بأن مسترة وجوبا، لأن الفاء في جواب الطلب المحض الذي هو التحضيض، كما أشار له في الخلاصة بقوله: وبه تعلم أن المضارع في قوله: فيكون معه نذيرا منصوب بأن مسترة وجوبا، لأن الفاء في جواب الطلب المحض الذي هو التحضيض، كما أشار له في الخلاصة بقوله:
* وبعد فاجواب نفي أو طلب
* محضين أن وسترها حتم نصب
*
ونظير هذا من النصب بأن السترة بعد الفاء التي هي جواب التحضيض. قوله تعالى: * (فيقول رب لولا أخرتنى إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين) * لأن قوله: لولا أخرتني طلب منه للتأخير بحث وشدة، كما دل عليه حرف التحضيض الذي هو لولا، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر: ونظير هذا من النصب بأن السترة بعد الفاء التي هي جواب التحضيض. قوله تعالى: * (فيقول رب لولا أخرتنى إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين) * لأن قوله: لولا أخرتني طلب منه للتأخير بحث وشدة، كما دل عليه حرف التحضيض الذي هو لولا، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر:
* لولا تعوجين يا سلمى على دنف
* فتخمدي نار وجد كاد يفنيه
*
فقوله تعالى في الآية الكريمة: فأصدق بالنصب، وقول الشاعر: فتخمدي منصوب أيضا، بحذف النون، لأن الفاء في جواب الطلب المحض الذي هو التحضيض.
واعلم أن جزم الفعل المعطوف على الفعل المنصوب أعني قوله: * (وأكن من الصالحين) * إنما ساغ فيه الجزم، لأنه عطف على المحل لأن الفاء لو حذفت مع قصد جواب التحضيض لجزم الفعل، وجواز الجزم المذكور عند الحذف المذكور، هو الذي سوغ عطف المجزوم على المنصوب، وقد أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله: واعلم أن جزم الفعل المعطوف على الفعل المنصوب أعني قوله: * (وأكن من الصالحين) * إنما ساغ فيه الجزم، لأنه عطف على المحل لأن الفاء لو حذفت مع قصد جواب التحضيض لجزم الفعل، وجواز الجزم المذكور عند الحذف المذكور، هو الذي سوغ عطف المجزوم على المنصوب، وقد أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله:
* وبعد غير النفي جزما اعتمد
* إن تسقط ألفا والجزاء قد قصد
*
وبما ذكرنا تعلم أن ما ذكره القرطبي وغيره، وأشار له الزمخشري من أن لولا في الآية للاستفهام، ليس بصحيح.
19

واعلم أن الكفار في هذه الآية الكريمة اقترحوا بحث وشدة عليه صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمور:
الأول: أن ينزل إليه ملك، فيكون معه نذيرا أي يشهد له بالصدق، ويعينه على التبليغ.
الثاني: أن يلقى إليه كنز، أي ينزل عليه كنز من المال ينفق منه، ويستغني به عن المشي في الأسواق.
الثالث: أن تكون له جنة يأكل منها، والجنة في لغة العرب البستان ومنه قول زهير: كأن عيني في غربي مقتلة ن النواضح تسقى جنة سحقا
فقوله: تسقى جنة أي بستانا، وقوله: سحقا يعني أن نخله طوال.
وهذه الأمور الثلاثة المذكورة في هذه الآية الكريمة التي اقترحها الكفار وطلبوها بشدة وحث، تعنتا منهم وعنادا، جاءت مبينة في غير هذا الموضع، فبين جل وعلا في سورة هود اقتراحهم، لنزول الكنز، ومجئ الملك معه، وأن ذلك العناد والتعنت قد يضيق به صدره صلى الله عليه وسلم وذلك في قوله تعالى: * (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك) *، وبين جلا وعلا في سورة بني إسرائيل اقتراحهم الجنة، وأوضح أنهم يعنون بها بستانا من نخيل وعنب، وذلك في قوله تعالى: * (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا * أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الانهار خلالها تفجيرا
) * واقتراحهم هذا شبيه بقول فرعون في موسى: * (فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملئكة مقترنين) * تشابهت قلوبهم فتشابهت أقوالهم.
وقد قدمنا في الكلام على آية سورة بني إسرائيل، هذه الآيات الدالة على كثرة اقتراح الكفار، وشدة تعنتهم وعنادهم، وأن الله لو فعل لهم كل ما اقترحوا لما آمنوا كما قال تعالى: * (ولو نزلنا عليك كتابا فى قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هاذا إلا سحر مبين) * وقال تعالى: * (ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون) * وقال تعالى: * (ولو أننا نزلنا إليهم الملئكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شىء قبلا ما
20

كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله) * الآية، وقال تعالى: * (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل ءاية) * الآية. إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم.
وقال الزمخشري في تفسير آية الفرقان هذه: يأكل الطعام كما نأكل، ويتردد في الأسواق كما نتردد. يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيش، ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكا إلى اقتراح أن يكون إنسانا معه ملك، حتى يتساعدا في الإنذار والتخويف، ثم نزلوا أيضا فقالوا إن لم يكن مرفودا بذلك، فليكن مرفودا بكنز يلقى إليه من السماء، يستظهر به، ولا يحتاج إلى تحصيل المعاض، ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون له بستان يأكل منه، ويرتزق كالدهاقين أو يأكلون هم من ذلك البستان، فينتفعون به في دنياهم، ومعاشهم. انتهى منه، وكل تلك الاقتراحات لشدة تعنتهم، وعنادهم. وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة والكسائي بأكل منها بالمثناة التحتية، وقرأ حمزة والكسائي: جنة نأكل منها بالنون، وهذه القراءة هي مراد الزمخشري بقوله: أو يأكلون هم من ذلك البستان. قوله تعالى: * (وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا * انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الظالمين وهم الكفار قالوا للذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم: * (إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) * يعنون: أنه أثر فيه السحر فاختلط عقله فالتبس عليه أمره، وقال مجاهد: مسحورا: أي مخدوعا كقوله: فأنى تسحرون: أي من أين تخدعون، وقال بعضهم: مسحورا: أي له سحر أي رئة فهو لا يستغني عن الطعام والشراب، فهو بشر مثلكم، وليس بملك، وقد قدمنا كلام أهل العلم في قوله: مسحورا بشواهده العربية في سورة طه في الكلام على قوله تعالى: * (ولا يفلح الساحر حيث أتى) * ولما ذكر الله هذا الذي قاله الكفار في نبيه صلى الله عليه وسلم، من الإفك والبهتان خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: * (انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا) *، وما قاله الكفار في هذه الآية أعني قولهم: * (إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) * وما قاله الكفار في هذه الآية أعني قوله: * (انظر كيف ضربوا لك الامثال) *. جاء كله مصرحا به في سورة بني إسرائيل في قوله تعالى: * (نحن
21

أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) *.
قال الزمخشري: ضربوا لك الأمثال قالوا: فيك تلك الأقوال، واقترحوا لك تلك الصفات والأحوال النادرة، من نبوة مشتركة بين إنسان وملك، وإلقاء كنز عليك من السماء، وغير ذلك، فبقوا متحيرين ضلالا لا يجدون قولا يستقرون عليه، أو فضلوا عن الحق، فلا يجدون طريقا إليه ا ه.
والأظهر عندي في معنى الآية ما قاله غير واحد من أن معنى: ضربوا لك الأمثال: أنها تارة يقولون إنك ساحر، وتارة مسحور، وتارة مجنون، وتارة شاعر، وتارة كاهن، وتارة كذاب، ومن ذلك ما ذكر الله عنهم من قوله هنا: * (وقال الذين كفروا إن هاذا إلا إفك افتراه) * الآية، وقوله: * (وقالوا أساطير الاولين) * وقوله: * (وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) * وقوله تعالى: * (فضلوا) * أي عن طريق الحق، لأن الأقوال التي قالوها، والأمثال التي ضربوها كلها كذب وافتراء، وكفر مخلد في نار جهنم، فالذين قالوها هم أضل الضالين، وقوله تعالى: * (فلا يستطيعون سبيلا) * فيه أقوال كثيرة متقاربة.
وأظهرها أن معنى: فلا يستطيعون سبيلا: أي طريقا إلى الحق والصواب، ونفي الاستطاعة المذكور هنا كقوله تعالى: * (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) * وقوله تعالى: * (الذين كانت أعينهم فى غطاء عن ذكرى وكانوا لا يستطيعون سمعا) * وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة هود في الكلام على قوله تعالى * (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) * وقد قدمنا أيضا معنى الظلم والضلال والضلال وما فيهما من الإطلاقات في اللغة مع الشواهد العربية في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. قوله تعالى: * (بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار كذبوا بالساعة أي أنكروا القيامة من أصلها لإنكارهم البعث بعد الموت والجزاء، وأنه جل وعلا اعتد أي هيأ وأعد لمن كذب بالساعة: أي أنكر يوم القيامة سعيرا: أي نارا شديدة الحر يعذبه بها يوم القيامة.
22

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا) * يدل على أن التكذيب بالساعة كفر مستوجب لنار جهنم، كما سترى الآيات الدالة على ذلك قريبا إن شاء الله تعالى. وهذان الأمران المذكوران في هذه الآية الكريمة، وهما تكذيبهم بالساعة، ووعيد الله لمن كذب بها بالسعير جاءا موضحين في آيات أخر، أما تكذيبهم بيوم القيامة لإنكارهم البعث، والجزاء بعد الموت، فقد جاء في آيات كثيرة عن طوائف الكفار كقوله تعالى: * (إن هؤلاء ليقولون * إن هى إلا موتتنا الاولى وما نحن بمنشرين) * وقوله تعالى: * (من يحى العظام وهى رميم) * إلى غير ذلك من الآيات.
وأما كفر من كذب بيوم القيامة ووعيده بالنار، فقد جاء في آيات كثيرة كقوله تعالى: * (وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندرى ما الساعة إن نظن إلا ظنا) * إلى قوله: * (ومأواكم النار وما لكم من ناصرين) * فقوله: ومأواكم النار بعد قوله: * (قلتم ما ندرى ما الساعة) *، يدل على أن قولهم: ما تدري ما الساعة هو سبب كون النار مأواهم، وقوله بعده * (ذلكم بأنكم اتخذتم ءايات الله هزوا) * لا ينافي ذلك لأن من اتخاذهم آيات الله هزوا تكذيبهم بالساعة، وإنكارهم البعث كما لا يخفى، وكقوله تعالى: * (وإن تعجب فعجب قولهم أءذا كنا ترابا أءنا لفى خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الاغلال فى أعناقهم وأولئك أصحاب
النار هم فيها خالدون) * فقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة من سورة الرعد أن إنكارهم البعث، الذي عبروا عنه باستفهام الإنكار في قوله تعالى عنهم * (مزقتم كل ممزق إنكم لفى خلق جديد) * جامع بين أمرين.
الأول منهما: أنه عجب من العجب لكثرة البراهين القطعية الواضحة الدالة على ما أنكروه.
والثاني منهما: وهو محل الشاهد من الآية أن إنكارهم البعث المذكور كفر مستوجب للنار وأغلالها والخلود فيها، وذلك في قوله تعالى مشيرا إلى الذين أنكروا البعث * (أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الاغلال فى أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * ومعلوم أن إنكار البعث إنكار للساعة، وكقوله تعالى: * (فلا
23

يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى) * أي لا يصدنك من لا يؤمن بالساعة عن الإيمان بها، فتردى: أي تهلك لعدم إيمانك بها، والردى الهلاك، وهو هنا عذاب النار بسبب التكذيب بالساعة، وقد قال تعالى: * (وما يغنى عنه ماله إذا تردى) * وقوله تعالى في آية طه هذه: فتردى، يدل دلالة واضحة على أنه إن صده من لا يؤمن بالساعة من التصديق بها، أن ذلك يكون سببا لرداه أي هلاكه بعذاب النار كما لا يخفى، وكقوله تعالى: * (وأما الذين كفروا وكذبوا بئاياتنا ولقاء الاخرة فأولئك فى العذاب محضرون) * فآية الروم هذه، تدل على أن الذين كذبوا بلقاء الآخرة وهم الذين كذبوا بالساعة معدودون مع الذين كفروا وكذبوا بآيات الله، وأنهم في العذاب محضرون. وهو عذاب النار. والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (بل كذبوا بالساعة) * أظهر الأقوال فيه عندي أنه متصل بما يليه، وأن بل فيه للإضراب الانتقالي، وقد أوضحنا معنى السعير مع بعض الشواهد العربية في أول سورة الحج، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن النار يوم القيامة، إذا رأت الكفار من مكان بعيد: أي في عرصات المحشر اشتد غيظها على من كفر بربها وعلا زفيرها فسمع الكفار صوتها من شدة غيظها، وسمعوا زفيرها.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة بين بعضه في سورة الملك، فأوضح فيها شدة غيظها على من كفر بربها، وأنهم يسمعون لها أيضا شهيقا مع الزفير الذي ذكره في آية الفرقان هذه، وذلك في قوله تعالى: * (إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهى تفور * تكاد تميز من الغيظ) * أي يكاد بعضها ينفصل عن بعض من شدة غيظها، على من كفر بالله تعالى.
وللعلماء أقوال في معنى الزفير والشهيق، وأقربها أنهما يمثلهما معا صوت الحمار في نهيقه، فأوله زفير، وآخره الذي يردده في صدره شهيق.
والأظهر أن معنى قوله تعالى: * (سمعوا لها تغيظا) * أي سمعوا غليانها من شدة غيظها، ولما كان سبب الغليان التغيظ أطلقه عليه، وذلك أسلوب عربي معروف. وقال
24

بعض أهل العلم: سمعوا لها تغيظا: أي أدركوه، والإدراك يشمل الرؤية والسمع، وعلى هذا فالسمع مضمن معنى الإدراك، وما ذكرنا أظهر.
وقال القرطبي: قيل المعنى إذا رأتهم جهنم سمعوا لها صوت التغيظ عليهم، ثم ذكر في آخر كلامه أن هذا القول هو الأصح. مسألة
اعلم أن التحقيق أن النار تبصر الكفار يوم القيامة، كما صرح الله بذلك في قوله هنا: * (إذا رأتهم من مكان بعيد) * ورؤيتها إياهم من مكان بعيد، تدل على حدة بصرها كما لا يخفى، كما أن النار تتكلم كما صرح الله به في قوله: * (يوم نقول لجهنم هل امتلات وتقول هل من مزيد) * والأحاديث الدالة على ذلك كثير، كحديث محاجة النار مع الجنة، وكحديث اشتكائها إلى ربها، فأذن لها في نفسين، ونحو ذلك، ويكفى في ذلك أن الله جل وعلا صرح في هذه الآية، أنها تراهم وأن لها تغيظا على الكفار، وأنها تقول: هل من مزيد.
واعلم أن ما يزعمه كثير من المفسرين وغيرهم، من المنتسبين للعلم من أن النار لا تبصر، ولا تتكلم، ولا تغتاظ. وأن ذلك كله من قبيل المجاز، أو أن الذي يفعل ذلك خزنتها كله باطل ولا معول عليه لمخالفته نصوص الوحي الصحيحة بلا مستند، والحق هو ما ذكرنا.
وقد أجمع من يعتد به من أهل العلم على أن النصوص من الكتاب والسنة، لا يجوز صرفها عن ظاهرها إلا لدليل يجب الرجوع إليه، كما هو معلوم في محله.
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: إن القول بأن النار تراهم هو الأصح، ثم قال لما روى مرفوعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كذب علي متعمدا فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا. قيل يا رسول الله أولها عينان؟ قال: أو ما سمعتم الله عز وجل يقول: إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا، يخرج عنق من النار له عينان تبصران ولسان ينطق فيقول: وكلت بكل من جعل مع الله آلها آخر فهو أبصر بهم من الطير بحب السمسم فيلتقطه) وفي رواية (يخرج عنق من النار فيلتقط الكفار لقط الطائر حب السمسم) ذكره رزين في كتابه، وصححه ابن العربي في قبسه، وقال: أي تفصلهم عن
25

الخلق في المعرفة، كما يفصل الطائر حب السمسم عن التربة، وخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق فيقول: إني وكلت بثلاث: بكل جبار عنيد وبكل من دعا مع الله آلها آخر وبالمصورين) وفي الباب عن أبي سعيد قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح. انتهى محل الغرض من كلام القرطبي.
وقال صاحب الدر المنثور: وأخرج الطبراني، وابن مردويه من طريق مكحول، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعدا من بين عيني جهنم. قالوا يا رسول الله: وهل لجهنم من عين؟ قال: نعم أما سمعتم الله يقول: إذا رأتهم من مكان بعيد. فهل تراهم إلا بعينين) وأخرج عبد الله بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، من طريق خالد بن دريك، عن رجل من الصحابة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يقل علي
ما لم أقل، أو ادعى إلى غير والديه، أو انتمى إلى غير مواليه، فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا قيل: يا رسول الله وهل لها من عينين؟ قال: نعم أما سمعتم الله يقول: إذا رأتهم من مكان بعيد إلى آخر كلامه)، وفيه شدة هول النار، وأنها تزفر زفرة يخاف منها جميع الخلائق.
نرجو الله جل وعلا أن يعيذنا وإخواننا المسلمين منها، ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل. * (وإذآ ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا * لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا * قل أذالك خير أم جنة الخلد التى وعد المتقون كانت لهم جزآء ومصيرا * لهم فيها ما يشآءون خالدين كان على ربك وعدا مسئولا * ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أءنتم أضللتم عبادى هاؤلاء أم هم ضلوا السبيل * قالوا سبحانك ما كان ينبغى لنآ أن نتخذ من دونك من أوليآء ولاكن متعتهم وءابآءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا * فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا * ومآ أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون فى الا سواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا * وقال الذين لا يرجون لقآءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا فى أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا * يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا * وقدمنآ إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هبآء منثورا * أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا * ويوم تشقق السمآء بالغمام ونزل الملئكة تنزيلا * الملك يومئذ الحق للرحمان وكان يوما على الكافرين عسيرا * ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتنى اتخذت مع الرسول سبيلا * ياويلتا ليتنى لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلنى عن الذكر بعد إذ جآءنى وكان الشيطان للإنسان خذولا) * قوله تعالى: * (وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا * لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن أهل النار إذا ألقوا: أي طرحوا في مكان ضيق من النار، في حال كونهم مقرنين، دعوا هنالك: أي في ذلك المكان الضيق ثبورا، فيقال لهم: لا تدعو ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا، فقوله: مكانا منصوب على الظرف، كما قال أبو حيان في البحر المحيط.
وما ذكره هنا من أنهم يلقون في مكان ضيق من النار، جاء مذكورا أيضا في غير هذا الموضع كقوله تعالى: * (إنها عليهم مؤصدة * فى عمد ممددة) * وقوله تعالى: * (والذين كفروا بئاياتنا هم أصحاب المشئمة * عليهم نار مؤصدة) *
26

ومعنى مؤصدة في الموضعين بهمز، وبغير همز: مطبقة أبوابها، مغلقة عليهم كما أوضحناه بشواهده العربية في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: * (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد) * ومن كان في مكان مطبق مغلق عليه، فهو في مكان ضيق، والعياذ بالله، وقد ذكر أن الواحد منهم يجعل في محله من النار بشدة كما يدق الوتد في الحائط، وعن ابن مسعود: أن جهنم تضيق على الكافر كتضييق الزج على الرمح. والزج بالضم: الحديدة التي في أسفل الرمح.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: مقرنين: أي في الأصفاد بدليل قوله تعالى في سورة إبراهيم * (وترى المجرمين يومئذ مقرنين فى الاصفاد) * والأصفاد والقيود. والأظهر أن معنى مقرنين: أن الكفار يقرن بعضهم إلى بعض في الأصفاد والسلاسل، وقال بعض أهل العلم: كل كافر يقرن هو وشيطانه، وقد قال تعالى: * (حتى إذا جاءنا قال ياليت ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين) *.
وهذا أظهر من قول من قال: مقرنين مكتفين، ومن قول من قال: مقرنين: أي قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال، والثبور: الهلاك والويل والخسران.
وقال ابن كثير: والأظهر أن الثبور يجمع الخسار والهلاك والويل والدمار. كما قال موسى لفرعون: * (وإنى لاظنك يافرعون * فرعون مثبورا) * أي هالكا، قال عبد الله بن الزبعري السهمي: وقال ابن كثير: والأظهر أن الثبور يجمع الخسار والهلاك والويل والدمار. كما قال موسى لفرعون: * (وإنى لاظنك يافرعون * فرعون مثبورا) * أي هالكا، قال عبد الله بن الزبعري السهمي:
* إذا جارى الشيطان في سنن الغس
* ى ومن مال ميله مثبور. ا ه
*
وقال الجوهري في صحاحه: والثبور الهلاك والخسران أيضا، قال الكميت: وقال الجوهري في صحاحه: والثبور الهلاك والخسران أيضا، قال الكميت:
* ورأت قضاعة في الأيا
* من رأى مثبور وثابر
*
أي مخسور وخاسر يعني في انتسابها لليمن. ا ه منه.
وقوله تعالى: * (دعوا هنالك ثبورا) * معنى دعائهم الثبور هو قولهم: واثبوراه، يعنون: يا ويل، ويا هلاك، تعال، فهذا حينك وزمانك.
وقال الزمخشري: ومعنى وادعوا ثبورا كثيرا أنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدا، إنما هو ثبور كثير، إما لأن العذاب أنواع وألوان، كل نوع منها ثبور، لشدته
27

وفظاعته، أو لأنهم كلمانضجت جلودهم بدلوا غيرها، فلا غاية لهلاكهم. ا ه. تنبيه
اعلم أنه تعالى في هذه الآية الكريمة قال: مكانا ضيقا، وكذلك في الأنعام في قوله تعالى: * (يجعل صدره ضيقا حرجا) * وقال في هود * (وضائق به صدرك) * فما وجه التعبير في سورة هود، بقوله: ضائق على وزن فاعل، وفي الفرقان والأنعام بقوله: ضيقا على وزن فيعل، مع أنه في المواضع الثلاثة هو الوصف من ضاق يضيق، فهو ضيق.
والجواب عن هذا هو أنه تقرر في فن الصرف أن جميع أوزان الصفة المشبهة باسم الفاعل إن قصد بها الحدوث والتجدد جاءت على وزن فاعل مطلقا، كما أشار له ابن مالك في لاميته بقوله: والجواب عن هذا هو أنه تقرر في فن الصرف أن جميع أوزان الصفة المشبهة باسم الفاعل إن قصد بها الحدوث والتجدد جاءت على وزن فاعل مطلقا، كما أشار له ابن مالك في لاميته بقوله:
* وفاعل صالح للكل إن قصد ال
* حدوث نحو غدا ذا فارح جذلا
*
وإن لم يقصد به الحدوث، والتجدد بقي على أصله.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن قوله تعالى في سورة هود * (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك) * أريد به أنه يحدث له ضيق الصدر، ويتجدد له بسبب عنادهم وتعنتهم في قولهم: * (لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك) * ولما كان كذلك، قيل فيه: ضائق بصيغة اسم الفاعل، أما قوله: ضيقا في الفرقان والأنعام فلم يرد به حدوث، ولذلك بقي على أصله.
ومن أمثلة إتيان الفيعل على فاعل إن قصد به الحدوث قوله تعالى: * (وضائق به صدرك) * وقول قيس بن الخطيم الأنصاري: ومن أمثلة إتيان الفيعل على فاعل إن قصد به الحدوث قوله تعالى: * (وضائق به صدرك) * وقول قيس بن الخطيم الأنصاري:
* أبلغ خداشا أنني ميت
* كل امرئ ذي حسب مائت
*
فلما أراد حدوث الموت قال: مائت بوزن فاعل، وأصله ميت على وزن فيعل.
ومن أمثلته في فعل يفتح فكسر قول أبي عمرو أشجع بن عمرو السلمي يرثى
28

قتيبة بن مسلم:
* فما أنا من زرء وإن جل جازع
* ولا بسرور بعد موتك فارح
*
فلما نفى أن يحدث له في المستقبل فرح ولا جزع قال جازع وفارح، والأصل: جزع وفرع.
ومثاله في فعيل قول لبيد: ومثاله في فعيل قول لبيد:
* حسبت التقى والجود خير تجارة
* رباحا إذا ما المرء أصبح ثاقلا
*
فلما أراد حدوث الثقل قال: ثاقلا والأصل ثقيل، وقول السمهري العكلي: فلما أراد حدوث الثقل قال: ثاقلا والأصل ثقيل، وقول السمهري العكلي:
* بمنزلة أما اللئيم فسا من
* بها وأكرم الناس باد شحوبها
*
فلما أراد حدوث السمن قال: فسا من والأصل سمين.
واعلم أن قراءة ابن كثير ضيقا بسكون الياء في الموضعين راجعه في المعنى إلى قراءة الجمهور بتشديد الياء لأن إسكان الياء تخفيف كهين ولين، في هين ولين. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (أذالك خير أم جنة الخلد التى وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا * لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدا * مسؤولا) *. التحقيق إن الإشارة في قوله: أذلك راجعة إلى النار، وما يلقاه الكفار فيها من أنواع العذاب كما ذكره جلا وعلا بقوله: * (وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا) * إلى قوله تعالى: * (وادعوا ثبورا كثيرا) *، وغير هذا من الأقوال لا يعول عليه، كقول من قال: إن الإشارة راجعة إلى الكنز والجنة في قوله تعالى: * (أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة) * الآية، وكقول من قال: إنها راجعة إلى الجنات والقصور المعلقة على المشيئة في قوله تعالى: * (تبارك الذى إن شاء جعل لك خيرا من ذالك جنات تجرى من تحتها الانهار ويجعل لك قصورا) * والتحقيق إن شاء الله أنه لما ذكر شدة عذاب النار وفظاعته قال: أذلك العذاب خير أم جنة الخلد الآية.
وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة، جاء أيضا في غير هذا الموضع
29

كقوله تعالى في سورة الصافات * (إن هاذا لهو الفوز العظيم * لمثل هاذا فليعمل العاملون * أذالك خير نزلا أم شجرة الزقوم * إنا جعلناها فتنة للظالمين * إنها شجرة
تخرج فى أصل الجحيم * طلعها كأنه * رءوس الشياطين فإنهم لاكلون منها فمالئون منها البطون) * إلى قوله: * (يهرعون) * وكقوله تعالى: * (إن الذين يلحدون فىءاياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى فى) * الآية.
وفي هذه الآيات وأمثالها في القرآن إشكال معروف، وهو أن يقال: لفظة خير في الآيات المذكورة صيغة تفضيل كما قال في الكافية: وفي هذه الآيات وأمثالها في القرآن إشكال معروف، وهو أن يقال: لفظة خير في الآيات المذكورة صيغة تفضيل كما قال في الكافية:
* وغالبا أغناهم خير وشر
* عن قولهم أخير منه وأشر
*
كما قدمناه موضحا في صورة النحل، في الكلام على قوله تعالى: * (للذين أحسنوا فى هاذه الدنيا حسنة ولدار الاخرة خير) *.
والمعروف في علم العربية أن صيغة التفضيل تقتضي المشاركة بين المفضل والمفضل عليه فيما فيه التفضيل، إلا أن المفضل أكثر فيه وأفضل من المفضل عليه، ومعلوم أن المفضل عليه في الآيات المذكورة الذي هو عذاب النار لا خير فيه البتة، وإذن فصيغة التفضيل فيها إشكال.
والجواب عن هذا الإشكال من وجهين:
الأول: أن صيغة التفضيل قد تطلق في القرآن، وفي اللغة مرادا بها مطلق الاتصاف، لا تفضيل شيء على شيء. وقدمناه مرارا وأكثرنا من شواهده العربية في سورة النور وغيرها.
الثاني: أن من أساليب اللغة العربية أنهم إذا أرادوا تخصيص شيء بالفضيلة، دون غيره جاءوا بصيغة التفضيل، يريدون بها خصوص ذلك الشيء بالفضل، كقول حسان بن ثابت رضي الله عنه: الثاني: أن من أساليب اللغة العربية أنهم إذا أرادوا تخصيص شيء بالفضيلة، دون غيره جاءوا بصيغة التفضيل، يريدون بها خصوص ذلك الشيء بالفضل، كقول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
* أتهجوه ولست له بكفء
* فشر كما لخيركما الفداء
*
وكقول العرب: الشقاء أحب إليك، أم السعادة؟ وقوله تعالى: * (قال رب السجن أحب إلى) * الآية.
30

قال أبو حيان في البحر المحيط في قوله تعالى: * (أذالك خير) *، وخير هنا ليست تدل على الأفضلية، بل هي على ما جرت به عادة العرب في بيان فضل الشيء، وخصوصيته بالفضل دون مقابله كقوله: قال أبو حيان في البحر المحيط في قوله تعالى: * (أذالك خير) *، وخير هنا ليست تدل على الأفضلية، بل هي على ما جرت به عادة العرب في بيان فضل الشيء، وخصوصيته بالفضل دون مقابله كقوله:
* فشركما لخيركما الفداء وكقول العرب: الشقاء أحب إليك أم السعادة، وكقوله: * (السجن أحب إلى مما يدعوننى إليه) * وهذا الاستفهام على سبيل التوقيف والتوبيخ. ا ه. الغرض من كلام أبي حيان.
* وعلى كل حال فعذاب النار شر محض لا يخالطه خير البتة كما لا يخفى، والوجهان المذكوران في الجواب متقاربان. وقوله تعالى في هذه الآية: * (أم جنة الخلد التى وعد المتقون) * العائد محذوف: أي وعدها المتقون، والآية تدل على أن الوعد الصادق بالجنة، يحصل بسبب التقوى. وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك بإيضاح في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: * (كذلك يجزى الله المتقين) * وقوله تعالى: * (لهم فيها ما يشاءون) * العائد أيضا محذوف كالذي قبله: أي ما يشاءونه، وحذف العائد المنصوب بالفعل أو الوصف كثير، كما قال في الخلاصة:
* والحذف عندهم كثير منجلى
* في عائد متصل إن انتصب
*
* بفعل أو وصف
* كمن نرجو يهب
*
وهذه الآية الكريمة، تدل على أن أهل الجنة يجدون كل ما يشاءونه من أنواع النعيم.
وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: * (جنات عدن يدخلونها تجرى من تحتها الانهار لهم فيها ما يشاءون) * والآيات المذكورة تدل على أن حصول كل ما يشاءه الإنسان لا يكون إلا في الجنة، وقوله: * (كانت لهم جزاء ومصيرا) * المصير مكان الصيرورة، وقد مدح الله جزاءهم ومحله كقوله تعالى: * (نعم الثواب وحسنت مرتفقا) * لأن حسن المكان وجودته من أنواع النعيم.
31

وقوله في هذه الآية الكرية: * (كان على ربك وعدا مسئولا) * فيه وجهان معروفان.
أحدهما: أن معنى كونه مسئولا أن المؤمنين كانوا يسألونه، وكانت الملائكة أيضا تسأله لهم، أما سؤال المسلمين له فقد ذكره تعالى: بقوله عنهم: * (ربنا وءاتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد) * وسؤال الملائكة لهم إياه ذكره تعالى أيضا في قوله: * (ربنا وأدخلهم جنات عدن التى وعدتهم) * الآية، وقال بعض العلماء: مسئولا: أي واجبا لأن ما وعد الله به واجب الوقوع، لأنه لا يخلف الميعاد، وهو جل وعلا يوجب على نفسه بوعده الصادق ما شاء لا معقب لحكمه ويستأنس لهذا القول بلفظة على في قوله: * (كان على ربك وعدا مسئولا) * كقوله تعالى: * (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) * وقال بعض أهل العلم: إن المسلمين يوم القيامة يقولون: قد فعلنا في دار الدنيا كل ما أمرتنا به فأنجز لنا ما وعدتنا، والقولان الأولان أقرب من هذا. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول * ءأنتم أضللتم عبادى هؤلاء أم هم ضلوا السبيل * قالوا سبحانك ما كان ينبغى لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولاكن متعتهم وءاباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا) *. قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير ابن كثير وحفص عن عاصم: نحشرهم، بالنون الدالة على العظمة، وقرأ ابن كثير، وحفص، عن عاصم: يحشرهم بالياء المثناة التحتية، وقرأ عامة السبعة غير ابن عامر، فيقول بالياء المثناة التحتية، وقرأ ابن عامر فنقول بنون العظمة.
فتحصل أن ابن كثير وحفصا يقرآن بالياء التحتية فيهما، وأن ابن عامر يقرأ بالنون فيهما، وأن باقي السبعة يقرءون: نحشرهم بالنون، فيقول بالياء، وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه يحشر الكفار يوم القيامة، وما كانوا يعبدون من دونه: أن يجمعهم جميعا فيقول للمعبودين: أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء فزينتم لهم أن يعبدوكم من دوني، أم هم ضلوا السبيل: أي كفروا وأشركوا بعبادتهم إياكم من دوني من تلقاء أنفسهم من غير أن تأمروهم بذلك ولا أن تزينوه لهم، وأن المعبودين يقولون: سبحانك أي تنزيها لك عن
32

الشركاء وكل ما لا يليق بجلالك وعظمتك، ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء: أي ليس للخلائق كلهم، أن يعبدوا أحدا سواك لا نحن ولا هم، فنحن ما دعوناهم إلى ذلك، بل فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم، من غير أمرنا، ونحن برآء منهم، ومن عبادتهم، ثم قال: * (ولاكن متعتهم وءاباءهم) * أي طال عليهم العمر، حتى نسوا الذكرى أي نسوا ما أنزلته عليهم على ألسنة رسلك، من الدعوة إلى عبادتك وحدك، لا شريك لك، وكانوا قوما بورا قال ابن عباس أي هلكى، وقال الحسن البصري ومالك عن الزهري: أي لا خير فيهم ا ه. الغرض من كلام ابن كثير.
وقال أبو حيان في البحر: ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء: أي ما كان يصح لنا ولا يستقيم إلى آخر كلامه.
وإذا عرفت ما ذكره جل وعلا في هذه الآية من سؤاله للمبعودين وجوابهم له، فاعلم أن العلماء اختلفوا في المعبودين. فقال بعضهم: المراد بهم الملائكة وعيسى وعزير قالوا: هذا القول يشهد له القرآن، لأن فيه سؤال عيسى والملائكة عن عبادة عن عبدهم، كما قال في الملائكة: * (ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون * قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون) * وقال في عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام * (وإذ قال الله ياعيسى عيسى ابن مريم قلت للناس اتخذونى وأمى إلاهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لى أن أقول ما ليس لى بحق) * وجواب الملائكة وجواب عيسى كلاهما شبيه بجواب المعبودين في آية الفرقان هذه، ولذلك اختار غير واحد من العلماء أن المعبودين الذين يسألهم الله في سورة الفرقان هذه هم خصوص العقلاء، دون الأصنام.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الأظهر عندي شمول المعبودين المذكورين للأصنام، مع الملائكة وعيسى، وعزير لأن ذلك تدل عليه قرينتان قرآنيتان.
الأولى: أنه عبر عن المعبودين المذكورين بما التي هي لغير العاقل في قوله: * (ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله) * الآية. فلفظة ما تدل على شمول غير العقلاء، وأنه غلب غير العاقل لكثرته.
33

القرينة الثانية: هي دلالة آيات من كتاب الله، على أن المعبودين غافلون عن عبادة من عبدهم: أي لا يعلمون بها لكونهم غير عقلاء كقوله تعالى في سورة يونس * (وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون * فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين) * وإنما كانوا غافلين عنها لأنهم جماد لا يعقلون. وإطلاق اللفظ المختص بالعقلاء عليهم، نظرا إلى أن المشركين نزلوهم منزلة العقلاء كما أوضحناه في غير هذا الموضع، وكقوله تعالى في الأحقاف: * (ومن أضل ممن * يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين) * فقد دل قوله تعالى: * (وهم عن دعائهم غافلون) * على أنهم لا يعقلون، ومع ذلك قال: * (وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين) * وكقوله تعالى في العنكبوت * (وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم فى الحيواة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن) * الآية. فصرح بأنهم أوثان، ثم ذكر أنهم هم وعبدتهم يلعن بعضهم بعضا. وكقوله تعالى: * (كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة * (حتى نسوا الذكر) * الظاهر أن معنى نسوا تركوا. والأظهر أن الذكر هو ما جاءت به الرسل من التوحيد، وقيل ذكر الله بشكر نعمه، والأصح أن قوله بورا معناه هلكى، وأصله اسم مصدر يقع على الواحد وعلى الجماعة، فمن إطلاقه على الجماعة قوله هنا * (وكانوا قوما بورا) * وقوله في سورة الفتح * (وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا) * ومن إطلاقه على المفرد قول عبد الله بن الزبعري السهمي رضي الله عنه. وقوله في هذه الآية الكريمة * (حتى نسوا الذكر) * الظاهر أن معنى نسوا تركوا. والأظهر أن الذكر هو ما جاءت به الرسل من التوحيد، وقيل ذكر الله بشكر نعمه، والأصح أن قوله بورا معناه هلكى، وأصله اسم مصدر يقع على الواحد وعلى الجماعة، فمن إطلاقه على الجماعة قوله هنا * (وكانوا قوما بورا) * وقوله في سورة الفتح * (وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا) * ومن إطلاقه على المفرد قول عبد الله بن الزبعري السهمي رضي الله عنه.
* يا رسول المليك إن لساني
* راتق ما فتقت إذ أنا بور
*
ويطلق البور على الهلاك. وعن ابن عباس أنها لغة أهل عمان، وهم من أهل اليمن، ومنه قول الشاعر: ويطلق البور على الهلاك. وعن ابن عباس أنها لغة أهل عمان، وهم من أهل اليمن، ومنه قول الشاعر:
* فلا تكفروا ما قد صنعنا إليكم
* وكافوا به فالكفر بور لصانعه
*
واعلم أن ما ذكره الزمخشري في هذه الآية، وأطنب فيه من أن الله لا يضل أحدا
34

مذهب المعتزلة، وهو مذهب باطل وبطلانه في غاية الوضوح من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإياك أن تغتر به، وما ذكر عن الحسن البصري، ومالك، عن الزهري من أن معنى بورا لا خير فيهم له وجه في اللغة العربية، ولكن التحقيق أنه ليس معنى الآية، وأن معنى بورا هلكى كما تقدم، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: * (فقد كذبوكم بما تقولون) *.
ذكر جل وعلا في هذه الآية: أن المعبودين كذبوا العابدين وذلك في قوله عنهم: * (قالوا سبحانك ما كان ينبغى لنا أن نتخذ من دونك من أولياء) *.
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من تكذيب المعبودين للعابدين، جاء في آيات أخر كقوله تعالى: * (وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين) * وكقوله تعالى: * (وإذا رءا الذين أشركوا شركآءهم قالوا ربنا هؤلآء شركآؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون) * وقوله: * (فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون) * وقوله تعالى: * (كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا) * والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة. قوله تعالى: * (ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا) *. قال ابن كثير: ومن يظلم منكم أي يشرك بالله، وذكره القرطبي عن ابن عباس رضي الله عنهما. وهذا التفسير تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى: * (والكافرون هم الظالمون) * وقوله تعالى: * (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين) * وقوله تعالى: * (إن الشرك لظلم عظيم) * وقد ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الظلم في قوله تعالى: * (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) * فقال: أي بشرك كما قدمناه موضحا. قوله تعالى: * (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه جعل بعض الناس فتنة لبعض.
وهذا المعنى الذي دلت عليه الآية ذكره في قوله تعالى: * (وكذالك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) * الآية.
35

وقال القرطبي في تفسير قوله: * (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة) * ومعنى هذا: أن كل واحد مختبر بصاحبه، فالغنى ممتحن بالفقير عليه أن يواسيه، ولا يسخر منه، والفقير ممتحن بالغنى عليه أن لا يحسده ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق، كما قال الضحاك في معنى: أتصبرون: أي على الحق، وأصحاب البلايا يقولون: لم لم نعاف، والأعمى يقول لم لم أجعل كالبصير؟ وهكذا صاحب كل آفة، والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس من الكفار في عصره وكذلك العلماء، وحكام العدل ألا ترى إلى قولهم: * (لولا نزل هاذا القرءان على رجل من القريتين عظيم) * فالفتنة أن يحسد المبتلى المعافى، ويحقر المعافى المبتلى، والصبر أن يحبس كلاهما نفسه هذا عن البطر، وذلك عن الضجر. انتهى محل الغرض من كلام القرطبي.
وإذا علمت معنى كون بعضهم فتنة لبعض. فاعلم أن قوله تعالى: * (وكذالك فتنا بعضهم ببعض) * الآية. فيه فتنة أغنياء الكفار بفقراء المسلمين، حيث احتقروهم وازدروهم، وأنكروا أن يكون الله من عليهم دونهم لأنهم في زعمهم لفقرهم، ورثاثة حالهم، لا يمكن أن يرحمهم الله ويعطيهم من فضله الواسع كما قال تعالى عنهم إنهم قالوا فيهم * (لو كان خيرا ما سبقونا إليه) * وقال * (عليه الذكر من بيننا بل) * إلى غير ذلك من الآيات، وسيوبخهم الله يوم القيامة على احتقارهم لهم في الدنيا كما قال تعالى: * (أهاؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون) * وقوله تعالى: * (إن الذين أجرموا كانوا من الذين ءامنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون) * إلى قوله تعالى: * (فاليوم الذين ءامنوا من الكفار يضحكون على الارائك ينظرون * هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون) * وقوله تعالى: * (ويسخرون من الذين ءامنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة) * وقوله تعالى: أتصبرون، أي على الحق أم لا تصبرون. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملئكة أو نرى ربنا لقد استكبروا فى أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا) *.
36

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الذين لا يرجون لقاء الله قالوا. لولا أنزل علينا الملائكة، أو نرى ربنا، ولولا في هذه الآية للتحضيض.
والمعنى أنهم طلبوا بحث وشدة أن تنزل عليهم الملائكة أو يرون ربهم، وهذا التعنت الذي ذكره الله عنهم هنا من طلبهم إنزال الملائكة عليهم، أو رؤيتهم ربهم ذكره في غير هذا الموضع كقوله تعالى: * (أو تأتى بالله والملئكة قبيلا) * وقولهم: * (لولا أنزل علينا الملئكة) * قيل: فتوحى إلينا كما أوحت إليك، وهذا القول يدل له قوله تعالى: * (قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله) * الآية وقيل: لولا أنزل علينا الملائكة فنراهم عيانا، وهذا يدل له قوله تعالى: * (أو تأتى بالله والملئكة قبيلا) * أي معاينة على القول بذلك، وقد قدمنا الأقوال في ذلك في سورة بني إسرائيل.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: لا يرجون قال بعض العلماء: لا يرجون أي لا يخافون لقاءنا لعدم إيمانهم بالبعث. والرجاء يطلق على الخوف كما يطلق على الطمع
. قال بعض العلماء: ومنه قوله تعالى: * (مالكم لا ترجون لله وقارا) * قال أي لا تخافون لله عظمة، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي: وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: لا يرجون قال بعض العلماء: لا يرجون أي لا يخافون لقاءنا لعدم إيمانهم بالبعث. والرجاء يطلق على الخوف كما يطلق على الطمع. قال بعض العلماء: ومنه قوله تعالى: * (مالكم لا ترجون لله وقارا) * قال أي لا تخافون لله عظمة، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي:
* إذا لسعته النحل لم يرج لسعها
* وخالفها في بيت نوب عواسل
*
فقوله لم يرج لسعها: أي لم يخف لسعها، وقال بعض أهل العلم: إطلاق الرجاء على الخوف لغة تهامة، وقال بعض العلماء: لا يرجون لقاءنا لا يأملون، وعزاه القرطبي لابن شجرة وقال: ومنه قول الشاعر: فقوله لم يرج لسعها: أي لم يخف لسعها، وقال بعض أهل العلم: إطلاق الرجاء على الخوف لغة تهامة، وقال بعض العلماء: لا يرجون لقاءنا لا يأملون، وعزاه القرطبي لابن شجرة وقال: ومنه قول الشاعر:
* أترجو أمة قتلت حسينا
* شفاعة جده يوم الحساب
*
أي أتأمل أمة الخ. والذي لا يؤمن بالبعث لا يخاف لقاء الله، لأنه لا يصدق بالعذاب، ولا يأمل الخير من تلقائه، لأنه لا يؤمن بالثواب.
وقوله جلا وعلا: * (لقد استكبروا فى أنفسهم) * أي أضمروا التكبر عن الحق في قلوبهم، واعتقدوه عنادا وكفرا، ويوضح هذا المعنى قوله تعالى: * (إن فى صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه) * وقوله تعالى: * (وعتوا عتوا كبيرا) * أي تجاوزوا الحد
37

في الظلم والطغيان يقال: عتا علينا فلان: أي تجاوز الحد في ظلمنا، ووصفه تعالى عتوهم المذكور بالكبر، يدل على أنه بالغ في إفراطه، وأنهم بلغوا غاية الاستكبار، وأقصى العتو، وهذه الآية الكريمة تدل على أن تكذي بالرسل بعد دلالة المعجزات، ووضوح الحق وعنادهم والعتنت عليهم بطلب إنزال الملائكة، أو رؤية الله استكبار عن الحق عظيم وعتو كبير يستحق صاحبه النكال، والتفريع، ولذا شدد الله النكير على من تعنت ذلك التعنت واستكبر عن قبول الحق، كما في وله تعالى: * (أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) * وقوله تعالى: * (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذالك فقالوا أرنا الله جهرة) * الآية وقوله تعالى: * (وإذ قلتم ياموسى موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون) * واستدلال المعتزلة بهذه الآية، وأمثالها على أن رؤية الله مستحيلة استدلال باطل ومذهبهم والعياذ بالله من أكبر الضلال، وأعظم الباطل، وقول الزمخشري في كلامه على هذه الآية: إن الله لا يرى قول باطل، وكلام فاسد.
والحق الذي لا شك فيه: أن المؤمنين يرون الله بأبصارهم يوم القيامة كما تواترت به الأحاديث عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ودلت عليه الآيات القرآنية منطوقا ومفهوما. كما أوضحناه في غير هذا الموضع.
وقد قدمنا في هذه السورة وفي سورة بني إسرائيل الآيات الدالة على أن الله لو فعل لهم كل ما اقترحوا لما آمنوا، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. قوله تعالى: * (يوم يرون الملئكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار الذين طلبوا إنزال الملائكة عليهم، أنهم يوم يرون الملائكة لا بشرى لهم أي لا تسرهم رؤيتهم ولا تكون لهم في ذلك الوقت بشارة بخير، ورؤيتهم للملائكة تكون عند احتضارهم، وتكون يوم القيامة ولا بشرى لهم في رؤيتهم في كلا الوقتين.
أما رؤيتهم الملائكة عند حضور الموت فقد دلت آيات من كتاب الله أنهم لا بشارة لهم فيها لما يلاقون من العذاب من الملائكة عند الموت، كقوله تعالى: * (ولو ترى إذ
38

يتوفى الذين كفروا الملئكة يضربون وجوههم وأدبارهم) * الآية وقوله تعالى: * (ولو ترى إذ الظالمون فى غمرات الموت والملئكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن ءاياته تستكبرون) * وقوله تعالى: * (فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم * ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم) * وأما رؤيتهم الملائكة يوم القيامة فلا بشرى لهم فيها أيضا، ويدل لذلك قوله تعالى: * (ولو أنزلنا ملكا لقضى الامر ثم لا ينظرون) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (لا بشرى يومئذ للمجرمين) * يدل بدليل خطابه: أي مفهوم مخالفته، أن غير المجرمين يوم يرون الملائكة تكون لهم البشرى، وهذا المفهوم من هذه الآية جاء مصرحا به في قوله تعالى: * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملئكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة. * (ويقولون حجرا محجورا) * أظهر القولين فيه عندي أنه من كلام الكفار، يوم يرون الملائكة. لا من كلام الملائكة وإيضاحه: أن الكفار الذين اقترحوا إنزال الملائكة إذا رأوا الملائكة توقعوا العذاب من قبلهم، فيقولون حينئذ للملائكة: حجرا محجورا: أي حراما محرما عليكم أن تسمونا بسوء أي لأننا لم نركتب ذنبا نستوجب به العذاب، كما أوضحه تعالى بقوله عنهم * (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما
كنتم تعملون) * فقولهم: ما كنا نعمل من سوء: أي لم نستوجب عذابا فتعذبينا حرام محرم، وقد كذبهم الله في دعواهم هذه بقوله: * (بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون) * وعادة العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، أنهم يقولون هذا الكلام: أي حجرا محجورا عند لقاء عود موتور أو هجوم نازلة أو نحو ذلك.
وقد ذكر سيبويه هذه الكلمة أعني: حجرا محجورا في باب المصادر غير المتصرفة المنصوبة فأفعال متروك إظهارها نحو: معاذ الله، وعمرك الله، ونحو ذلك
39

وقوله: حجرا محجورا، أصله من حجره بمعنى منعه، والحجر الحرام، لأنه ممنوع ومنه قوله: * (وقالوا هاذه أنعام وحرث حجر) * أي حرام * (لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم) * ومنه قول المتلمس: وقد ذكر سيبويه هذه الكلمة أعني: حجرا محجورا في باب المصادر غير المتصرفة المنصوبة فأفعال متروك إظهارها نحو: معاذ الله، وعمرك الله، ونحو ذلك وقوله: حجرا محجورا، أصله من حجره بمعنى منعه، والحجر الحرام، لأنه ممنوع ومنه قوله: * (وقالوا هاذه أنعام وحرث حجر) * أي حرام * (لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم) * ومنه قول المتلمس:
* حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها
* حجر حرام ألا تلك الدهاريس
*
فقوله حرام تأكيد لقوله حجر لأن معناه حرام وقول الآخر: فقوله حرام تأكيد لقوله حجر لأن معناه حرام وقول الآخر:
* ألا أصبحت أسماء حجرا محرما
* وأصبحت من أدنى حموتها حما
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* قالت وفيها حيرة وذعر
* عوذ بربي منكم وحجر
*
وقوله: محجورا توكيد لمعنى الحجر. قال الزمخشري: كقول العرب: ذيل ذائل. والذيل الهوان، وموت مائت، وأما على القول بأن حجرا محجورا من قول الملائكة، فمعناه: أنهم يقولون للكفار حجرا محجورا. أي حراما محرما أن تكون للكفار اليوم بشرى، أو أن يغفر لهم، أو يدخلون الجنة وهذا القول اختاره ابن جرير، وابن كثير وغير واحد.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (يوم يرون الملئكة) * قال الزمخشري: يوم منصوب بأحد شيئين، إما بما دل عليه بلا بشرى أي يوم يرون الملائكة يمنعون البشرى، أو يعدمونها، ويومئذ للتكرير، وإما بإضمار اذكر: أي اذكر يوم يرون الملائكة، ثم قال لا بشرى يومئذ للمجرمين. قوله تعالى: * (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: * (ومن أراد الاخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن) * الآية. وفي سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: * (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن) * الآية. وغير ذلك فأغنى ذلك عن إعادته هنا. قوله تعالى: * (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) *.
40

استنبط بعض العلماء من هذه الآية الكريمة: أن حساب أهل الجنة يسير، وأنه ينتهي في نصف نهار، ووجه ذلك أن قوله: مقيلا: أي مكان قيلولة وهي الاستراحة في نصف النهار، قالوا: وهذا الذي فهم من هذه الآية الكريمة، جاء بيانه في قوله تعالى: * (فأما من أوتى كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا) *.
ويفهم من قوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا) * الآية. أن أصحاب النار ليسوا كذلك وأن حسابهم غير يسير.
وهذا المفهوم دلت عليه آيات أخر كقوله تعالى قريبا من هذه الآية: * (الملك يومئذ الحق للرحمان وكان يوما على الكافرين عسيرا) * فقوله: على الكافرين يدل على أنه على المؤمنين غير عسير، كما قال تعالى: * (لا يحزنهم الفزع الاكبر) * الآية. وقوله تعالى: * (مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هاذا يوم عسر) * وإذا علمت مما ذكرنا ما جاء من الآيات فيه بيان لقوله: أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا، فهذه أقوال بعض المفسرين في المعنى الذي ذكرنا في الآية.
قال صاحب الدر المنثور: وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: * (خير مستقرا وأحسن مقيلا) * قال في الغرف من الجنة، وكان حسابهم أن عرضوا على ربهم عرضة واحدة، وذلك الحساب اليسير، وذلك مثل قوله: * (فأما من أوتى كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا) * وأخرج ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، وصححه عن ابن مسعود. قال: لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء ثم قرأ: * (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) * وقرأ * (ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم) * وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إنما هي ضحوة. فيقيل أولياء الله على الأسرة مع الحور العين، ويقيل أعداء الله مع الشياطين مقرنين.
وأخرج ابن المبارك وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر، وأبو نعيم في الحلية
41

، عن إبراهيم النخعي: كانوا يرون أنه يفرغ من حساب الناس يوم القيامة، نصف النهار. فيقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، فذلك قوله: * (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) *.
وأخرج ابن جرير، عن سعيد بن الصواف قال: بلغني أن يوم القيامة يقصر على المؤمن، حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس، وإنهم ليقيلون في رياض الجنة، حين يفرغ الناس من الحساب، وذلك قوله: * (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) * إلى أن قال: وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: إني لأعرف الساعة التي يدخل فيها أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، الساعة التي يكون فيها ارتفاع الضحى الأكبر، إذا انقلب الناس إلى أهليهم، للقيولة، فينصرف أهل النار إلى النار، وأما أهل الجنة فينطلق بهم إلى الجنة، فكانت قيلولتهم في الجنة، وأطعموا كبد الحوت فأشبعهم كلهم فذلك قوله. * (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) * انتهى منه.
وذكر نحوه القرطبي مرفوعا وقال: ذكره المهدوي. والظاهر أنه لا يصح مرفوعا، وقال القرطبي أيضا: (وذكر قاسم بن أصبغ من حديث أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فقلت ما أطول هذا اليوم. فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة) وهو ضعيف أيضا، وما ذكره عن ابن مسعود من أنه قرأ ثم * (ءان * مرجعهم لإلى الجحيم) * معلوم أن ذلك شاذ لا تجوز القراءة به، وأن القراءة * (الحق * ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم) *.
واعلم أن قول قتادة في هذه الآية معروف مشهور، وعليه فلا دليل في الآية لما ذكرنا، وقول قتادة هو أن معنى قوله: * (وأحسن مقيلا) * أي منزلا ومأوى، وهذا التفسير لا دليل فيه على القيلولة في نصف النهار كما ترى.
وقد بينا في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب: وجه الجمع بينا ما دل عليه قوله هنا * (وأحسن مقيلا) * من انقضاء الحساب في نصف نهار، وبين ما دل عليه قوله تعالى: * (فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) * وذكرنا الآيات المشيرة إلى الجمع، وبعض الشواهد العربية.
42

واعلم أن المشهود في كلام العرب أن المقيل القيلولة أو مكانها، وهي الاستراحة نصب النهار زمن الحر مثلا، وإن لم يكن معها نوم، ومنه قوله: واعلم أن المشهود في كلام العرب أن المقيل القيلولة أو مكانها، وهي الاستراحة نصب النهار زمن الحر مثلا، وإن لم يكن معها نوم، ومنه قوله:
* جزى الله خير الناس خير جزائه
* رفيقين قالا خيمتي أو معبد
*
أي نزلا فيها وقت القائلة، كما قاله صاحب اللسان، وما فسر به قتادة الآية، من أن المقيل المنزل والمأوى، معروف أيضا في كلام العرب. ومنه قول ابن رواحة: كما قاله صاحب اللسان، وما فسر به قتادة الآية، من أن المقيل المنزل والمأوى، معروف أيضا في كلام العرب. ومنه قول ابن رواحة:
* اليوم نضربكم على تنزيله
* ضربا يزيل الهام عن مقيله
*
فقوله: يزيل الهام عن مقيله، يعني: يزيل الرؤوس عن مواضعها من الأعناق، ومعلوم أن المقيل فيه المحل الذي تسكن فيه الرؤوس والظاهر أن من هذا القبيل قول أحيحة بن الجلاح الأنصاري: فقوله: يزيل الهام عن مقيله، يعني: يزيل الرؤوس عن مواضعها من الأعناق، ومعلوم أن المقيل فيه المحل الذي تسكن فيه الرؤوس والظاهر أن من هذا القبيل قول أحيحة بن الجلاح الأنصاري:
* وما تدري وإن أجمعت أمرا
* بأي الأرض يدركك المقيل
*
وعليه فالمعنى: بأي الأرض يدركك الثواب والإقامة بسبب الموت أو غيره من الأسباب، وصيغة التفضيل في قوله هنا: * (خير مستقرا وأحسن مقيلا) * تكلمنا على مثلها قريبا في الكلام على قوله تعالى: * (قل أذالك خير أم جنة الخلد) *. قوله تعالى: * (ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن السماء تتشق يوم القيامة بالغمام، وأن الملائكة تنزل تنزيلا. وقال القرطبي: تتشقق السماء بالغمام أي عن الغمام. قال: والباء وعن يتعاقبان كقولك: رميت بالقوس، وعن القوس انتهى. ويستأنس لمعنى عن بقوله تعالى: * (يوم تشقق الارض عنهم سراعا) *.
وهذه الأمور الثلاثة المذكورة في هذه الآية الكريمة من تشقق السماء يوم القيامة ووجود الغمام، وتنزيل الملائكة كلها جاءت موضحة في غير هذا الموضع.
أما تشقق السماء يوم القيامة فقد بيه جل وعلا في آيات كثيرة من كتابه كقوله تعالى: * (فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان) * وقوله تعالى: * (فيومئذ وقعت الواقعة * وانشقت السماء فهى يومئذ واهية) * وقوله
43

: * (إذا السماء انشقت) * الآية وقوله تعالى: * (فإذا النجوم طمست * وإذا السماء فرجت) * الآية فقوله: فرجت: أي شقت، فكان فيها فروج أي شقوق كقوله،
* (إذا السماء انفطرت) * وقوله تعالى: * (وفتحت السماء فكانت أبوابا) * وأما الغمام ونزول الملائكة، فقذ ذكرهما معا في قوله تعالى: * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة) * الآية. وقد ذكر جل وعلا نزول الملائكة في أيات أخرى كقوله * (وجاء ربك والملك صفا صفا) * وقوله تعالى: * (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتى ربك) * الآية وقوله تعالى: * (ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين) *.
قال الزمخشري: والمعنى: أن السماء تنفتح بغمام يخرج منها، وفي الغمام الملائكة ينزلون، وفي أيديهم صحف أعمال العباد. انتهى منه.
وقرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وابن عامر تشقق بتشديد الشين، والباقون بتخفيفها بحذف إحدى التاءين، وقرأ ابن كثير: وننزل الملائكة بنونين الأولى مضمومة، والثانية ساكنة مع تخفيف الزاي، وضم اللام، مضارع أنزل، والملائكة بالنصب مفعول به، والباقون بنون واحدة وكسر الزاي المشددة ماضيا مبنيا للمفعول، والملائكة مرفوعا نائب فاعل نزل، والأظهر أن يوم منصوب باذكر مقدرا، كما قاله القرطبي، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (الملك يومئذ الحق للرحمان وكان يوما على الكافرين عسيرا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الملك الحق يوم القيامة له جل وعلا دون غيره، وأن يوم القيامة كان عسيرا على الكافرين.
وهذان الأمران المذكوران في هذه الآية الكريمة جاءا موضحين في آيات من كتاب الله أما كون الملك له يوم القيامة، فقد ذكره تعالى في آيات من كتابه كقوله جلا وعلا: * (مالك يوم الدين) * وقوله: * (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) * وقوله تعالى: * (وله الملك يوم ينفخ فى الصور) * الآية إلى غير ذلك من الآيات.
44

وأما كون يوم القيامة عسيرا على الكافرين، فقد قدمنا الآيات الدالة عليه قريبا في الكلام على قوله تعالى: * (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا) *. قوله تعالى: * (ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتنى * ليتنى اتخذت مع الرسول سبيلا سبيلا * ياويلتا ليتنى لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلنى عن الذكر بعد إذ جاءنى وكان الشيطان للإنسان خذولا) *. من المشهور عند علماء التفسير أن الظالم الذي نزلت فيه هذه الآية، هو عقبة بن أبي معيط، وأن فلانا الذي أضله عن الذكر أمية بن خلف، أو أخوه أبي بن خلف، وذكر بعضهم أن في قراءة بعض الصحابة. ليتني لم أتخذ أبيا خليلا، وهو على تقدير ثبوته من قبيل التفسير، لا القراءة، وعلى كل حال فالعبرة بعموم الألفاظ، لا بخصوص الأسباب، فكل ظالم أطاع خليله في الكفر، حتى مات على ذلك يجري له مثل ما جرى لابن أبي معطي.
وما ذكره جلا وعلا في هذه الآيات الكريمة جاء موضحا في غيرها. فقوله: * (ويوم يعض الظالم على يديه) * كناية عن شدة الندم والحسرة، لأن النادم ندما شديدا، يعض على يديه، وندم الكافر يوم القيامة وحسرته الذي دلت عليه هذه الآية، جاء موضحا في آيات أخر، كقوله تعالى في سورة يونس: * (وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضى بينهم بالقسط) * الآية. وقوله تعالى في سورة سبأ: * (وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الاغلال فى أعناق الذين كفروا) * الآية. وقوله تعالى: * (قالوا يأبانا ياحسرتنا على ما فرطنا فيها) *. والحسرة أشد الندامة وقوله تعالى: * (كذالك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار) * إلى غير ذلك من الآيات، وما ذكره هنا من أن الكافر يتمنى أن يكون آمن بالرسول في دار الدنيا، واتخذ معه سبيلا: أي طريقا إلى الجنة في قوله هنا: * (يقول ياليتنى اتخذت مع الرسول سبيلا) * جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى: * (يوم تقلب وجوههم فى النار يقولون ياليتنا ياليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا) * وقوله تعالى: * (يقول ياليتنى * ليتنى قدمت لحياتى) * وقوله تعالى: * (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) * إلى غير ذلك من الآيات.
45

والسبيل التي يتمنى الكافر أن يتخذها مع الرسول المذكورة في هذه الآية، ذكرت أيضا في آيات أخر كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة سورة الفرقان * (قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا) * وقوله تعالى: * (إن هاذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) * في المزمل والإنسان، ويقرب من معناه المآب المذكور في قوله تعالى: * (ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مئابا) * وما ذكره هنا من أن الكافر ينادي بالويل، ويتمنى أنه لم يتخذ من أضله خليلا، ذكره في غير هذا الموضع، أما دعاء الكفار بالويل: فقد تقدم في قوله تعالى: * (وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا * لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا) * وأما تمنيهم لعدم طاعة من أضلهم، فقد ذكره أيضا في غير هذا الموضع كقوله تعالى: * (وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا) * فلفظة لو في قوله * (لو أن لنا كرة) * للتمني، ولذلك نصب الفعل المضار بعد الفاء في قوله * (فنتبرأ منهم) * الآية. وهو دليل واضح على ندمهم على موالاتهم، وطاعتهم في الدنيا، وما ذكره جل وعلا هنا من أن أخلاء الضلال من شياطين الإنس والجن، يضلون أخلاءهم عن الذكر بعد إذ جاءهم ذكره في غير هذا الموضع كقوله تعالى: * (وإخوانهم يمدونهم فى الغى ثم لا يقصرون) * وقوله تعالى: * (وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم) * الآية وقوله تعالى: * (ويوم يحشرهم جميعا يامعشر يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس) *، وقوله تعالى: * (ويوم يحشرهم جميعا يامعشر يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس) *؛ وقوله تعالى: * (وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) * وقوله تعالى: * (حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لاولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فئاتهم عذابا ضعفا من النار) * وقوله تعالى: * (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم) * الآيات. إلى غير ذلك من الآيات، وقوله: تعالى هنا: * (وكان الشيطان للإنسان خذولا) * الأظهر أنه من كلام الله، وليس من كلام الكافر النادم يوم القيامة، والخذول صيغة مبالغة، والعرب تقول: خذله إذا ترك نصره مع كونه يترقب النصر منه، ومنه قوله تعالى: * (وإن يخذلكم فمن ذا الذى ينصركم من بعده) * وقول الشاعر:
46

ويتمنى أنه لم يتخذ من أضله خليلا، ذكره في غير هذا الموضع، أما دعاء الكفار بالويل: فقد تقدم في قوله تعالى: * (وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا * لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا) * وأما تمنيهم لعدم طاعة من أضلهم، فقد ذكره أيضا في غير هذا الموضع كقوله تعالى: * (وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا) * فلفظة لو في قوله * (لو أن لنا كرة) * للتمني، ولذلك نصب الفعل المضار بعد الفاء في قوله * (فنتبرأ منهم) * الآية
. وهو دليل واضح على ندمهم على موالاتهم، وطاعتهم في الدنيا، وما ذكره جل وعلا هنا من أن أخلاء الضلال من شياطين الإنس والجن، يضلون أخلاءهم عن الذكر بعد إذ جاءهم ذكره في غير هذا الموضع كقوله تعالى: * (وإخوانهم يمدونهم فى الغى ثم لا يقصرون) * وقوله تعالى: * (وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم) * الآية وقوله تعالى: * (ويوم يحشرهم جميعا يامعشر يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس) *، وقوله تعالى: * (ويوم يحشرهم جميعا يامعشر يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس) *؛ وقوله تعالى: * (وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) * وقوله تعالى: * (حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لاولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فئاتهم عذابا ضعفا من النار) * وقوله تعالى: * (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم) * الآيات. إلى غير ذلك من الآيات، وقوله: تعالى هنا: * (وكان الشيطان للإنسان خذولا) * الأظهر أنه من كلام الله، وليس من كلام الكافر النادم يوم القيامة، والخذول صيغة مبالغة، والعرب تقول: خذله إذا ترك نصره مع كونه يترقب النصر منه، ومنه قوله تعالى: * (وإن يخذلكم فمن ذا الذى ينصركم من بعده) * وقول الشاعر:
* إن المرء ميتا بانقضاء حياته
* ولكن بأن يبغي عليه فيخذلا
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* إن الألى وصفوا قومي لهم فبهم
* هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولا
*
ومن الآيات الدالة على أن الشيطان يخذل الإنسان قوله تعالى: * (وقال الشيطان لما قضى الامر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى فلا تلومونى ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخى) * وقوله تعالى: * (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص) * الآية. وقوله تعالى في هذه الآية * (لقد أضلنى عن الذكر) * الأظهر أن الذكر القرآن وقوله: * (لم أتخذ فلانا) * العرب تطلق لفظة فلان كناية عن العلم: أي لم اتخذ أبيا أو أمية خليلا، ويكنون عن علم الأنثى بفلانة ومنه قول عروة بن حزام العذرى:
* ألا قاتل الله الوشاة وقولهم
* فلانة أضحت خلة لفلان
*
وقوله: * (بعض الظالمين) * من عضض بكسر العين في الماضي، يعض بفتحها في المضارع على القياس، ومنه قول الحارث بن وعلة الدهلي: وقوله: * (بعض الظالمين) * من عضض بكسر العين في الماضي، يعض بفتحها في المضارع على القياس، ومنه قول الحارث بن وعلة الدهلي:
* الآن لما ابيض مسربتي
* وعضضت من نابى على جذم
*
فإن الرواية المشهورة في البيت عضضت بكسر الضاد الأولى وفيها لغة بفتح العين في الماضي، والكسر أشهر، وعض تتعدى بعلى كما في الآية وبيت الحارث بن وعلة، المذكورين وربما عديت بالباء ومنه قوله ابن أبي ربيعة: فإن الرواية المشهورة في البيت عضضت بكسر الضاد الأولى وفيها لغة بفتح العين في الماضي، والكسر أشهر، وعض تتعدى بعلى كما في الآية وبيت الحارث بن وعلة، المذكورين وربما عديت بالباء ومنه قوله ابن أبي ربيعة:
* فقالت وعضت بالبنان فضحتني
* وأنت امرؤ ميسور أمرك أعسر
*
وهذه الآية الكريمة تدل على أن قرين السوء، قد يدخل قرينه النار والتحذير من قرين السوء مشهور معروف، وقد بين جل وعلا في سورة الصافات: أن رجلا من أهل الجنة أقسم بالله أن قرينه كاد يرديه أي يهلكه بعذاب النار، ولكن لطف الله به فتداركه برحمته وإنعامه فهداه وأنقذه من النار، وذلك في قوله تعالى: * (قال قائل منهم إنى كان لى
47

قرين) * يقول: أئنك لمن المصدقين، إلى قوله تعالى: * (فاطلع فرءاه فى سواء الجحيم * قال تالله إن كدت لتردين * ولولا نعمة ربى لكنت من المحضرين) *. * (وقال الرسول يارب إن قومى اتخذوا هاذا القرءان مهجورا) *.) *
معنى هذه الآية الكريمة ظاهر، وهو أن نبينا صلى الله عليه وسلم شكا إلى ربه هجر قومه، وهم كفار قريش لهذا القرءان العظيم، أي: تركهم لتصديقه، والعمل به،
وهذه شكوى عظيمة، وفيها أعظم تخويف لمن هجر هذا القرءان العظيم، فلم يعمل بما فيه من الحلال والحرام والآداب والمكارم، ولم يعتقد ما فيه من العقائد، ويعتبر بما فيه من الزواجر والقصص والأمثال.
واعلم أن السبكي قال إنه استنبط من هذه الآية الكريمة من سورة (الفرقان) مسألة أصولية، وهي أن الكف عن الفعل فعل. والمراد بالكف الترك، قال في طبقاته: لقد وقفت على ثلاثة أدلة تدل على أن الكف فعل لم أر أحدا عثر عليها.
أحدها: قوله تعالى: * (وقال الرسول يارب * رب إن قومى اتخذوا هاذا القرءان مهجورا) *، فإن الأخذ التناول والمهجور المتروك، فصار المعنى تناولوه متروكا، أي: فعلوا تركه، انتهى محل الغرض منه بواسطة نقل صاحب (نشر البنود، شرح مراقي السعود)، في الكلام على قوله: أحدها: قوله تعالى: * (وقال الرسول يارب * رب إن قومى اتخذوا هاذا القرءان مهجورا) *، فإن الأخذ التناول والمهجور المتروك، فصار المعنى تناولوه متروكا، أي: فعلوا تركه، انتهى محل الغرض منه بواسطة نقل صاحب (نشر البنود، شرح مراقي السعود)، في الكلام على قوله:
* فكفنا بالنهي مطلوب النبي
* قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: استنباط السبكي من هذه الآية أن الكف فعل وتفسيره لها بما يدل على ذلك، لم يظهر لي كل الظهور، ولكن هذا المعنى الذي زعم أن هذه الآية الكريمة دلت عليه، وهو كون الكف فعلا دلت عليه آيتان كريمتان من سورة (المائدة)، دلالة واضحة لا لبس فيها، ولا نزاع. فعلى تقدير صحة ما فهمه السبكي من آية (الفرقان) هذه، فإنه قد بينته بإيضاح الآيتان المذكورتان من سورة (المائدة). أما الأولى منهما، فهي قوله تعالى: * (لولا ينهاهم الربانيون والاحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون) * (5 / 36)، فترك الربانيين والأحبار نهيهم عن قول الإثم وأكل السحت سماه الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة صنعا في قوله: * (لبئس ما كانوا يصنعون) *، أي: وهو تركهم النهي المذكور، والصنع أخص من مطلق الفعل، فصراحة
48

دلالة هذه الآية الكريمة على أن الترك فعل في غاية الوضوح؛ كما ترى. وأما الآية الثانية، فهي قوله تعالى: * (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) * (5 / 97)، فقد سمى جل وعلا في هذه الآية الكريمة تركهم التناهي عن المنكر فعلا، وأنشأ له الذم بلفظة بئس التي هي فعل جامد لإنشاء الذم في قوله: * (لبئس ما كانوا يفعلون) * (5 / 97)، أي: وهو تركهم التناهي، عن كل منكر فعلوه، وصراحة دلالة هذه الآية أيضا على ما ذكر واضحة، كما ترى. وقد دلت أحاديث نبوية على ذلك؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، فقد سمى صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ترك أذى المسلمين إسلاما، ومما يدل من كلام العرب على أن الترك فعل قول بعض الصحابة في وقت بنائه صلى الله عليه وسلم لمسجده بالمدينة:
* لئن قعدنا والنبي يعمل
* لذاك منا العمل المضلل
*
فسمى قعودهم عن العمل، وتركهم له عملا مضللا، وقد أشار صاحب (مراقي السعود)، إلى أن الكف فعل على المذهب، أي: وهو الحق. وبين فروعا مبنية على ذلك نظمها الشيخ الزقاق في نظمه المسمى بالمنهج المنتخب، وأورد أبيات الزقاق في ذلك، وقال: وجلبتها هنا على سبيل التضمين، وهذا النوع يسمى استعانة، وهو تضمين بيت فأكثر بقوله: وأورد أبيات الزقاق في ذلك، وقال: وجلبتها هنا على سبيل التضمين، وهذا النوع يسمى استعانة، وهو تضمين بيت فأكثر بقوله:
* فكفنا بالنهي مطلوب النبي
* والكف فعل في صحيح المذهب
*
* له فروع ذكرت في المنهج
* وسردها من بعد ذا البيت يجي
*
* من شرب أو خيط ذكاة فضل ما
* وعمد رسم شهادة وما
*
* عطل ناظر وذو الرهن كذا
* مفرط في العلف فادر المآخذا
*
* وكالتي ردت بعيب وعدم
* وليها وشبهها مما علم
*
فالأبيات الثلاثة الأخيرة من نظم الشيخ الزقاق المسمى بالمنهج المنتخب، وفيها بعض الفروع المبنية على الخلاف في الكف، هل هو فعل، وهو الحق أو لا؟ وقول الزقاق في الأول من أبياته من شرب متعلق بقوله قبله: فالأبيات الثلاثة الأخيرة من نظم الشيخ الزقاق المسمى بالمنهج المنتخب، وفيها بعض الفروع المبنية على الخلاف في الكف، هل هو فعل، وهو الحق أو لا؟ وقول الزقاق في الأول من أبياته من شرب متعلق بقوله قبله:
* وهل كمن فعل تارك كمن
* له بنفع قدرة لكن كمن
*
من شرب.. الخ.
49

فقوله: من شرب بيان للنفع الكامن في قوله: له بنفع قدرة لكن كمن، أي: لكنه ترك النفع مع قدرته عليه، فتركه له كفعله لما حصل بسبب تركه من الضرر على القول بأن الترك فعل، ومراده بقوله: من شرب أن من عنده فضل شراب، وترك إعطاءه لمضطر حتى مات عطشا، فعلى أن الترك فعل يضمن ديته، وعلى أنه ليس بفعل، فلا ضمان عليه، وفضل الطعام كفضل الشراب في ذلك، وقوله: أو خيط يعني أن من منع خيطا عنده ممن شق بطنه، أو كانت به جائفة، حتى مات ضمن الدية على القول بأن الترك فعل، وعلى عكسه فلا ضمان، وقوله: ذكاة، يعني: أن من مر بصيد لم ينفذ مقتله وأمكنته تذكيته فلم يذكه حتى مات، هل يضمنه أو لا على الخلاف المذكور؟
وقوله: فضل ما، يعني: أن من عنده ماء فيه فضل عن سقي زرعه ولجاره زرع ولا ماء له إذا منع منه الماء حتى هلك زرعه، هل يضمنه أو لا على الخلاف المذكور، وقوله: وعمد، يعني: أنه إذا كانت عنده عمد جمع عمود، فمنعها من جار له جدار يخاف سقوطه حتى سقط، هل يضمن أو لا؟ وقوله: رسم شهادة، يعني: أن من منع وثيقة فيها الشهادة بحق حتى ضاع الحق، هل يضمنه أو لا؟ وقوله: وما عطل ناظر، يعني: أن الناظر على مال اليتيم مثلا إذا عطل دوره فلم يكرها، حتى فات الانتفاع بكرائها زمنا أو ترك الأرض حتى تبورت هل يضمن أو لا؟ وقوله: وذو الرهن: يعني إذا عطل المرتهن كراء الرهن، حتى فات الانتفاع به زمنا، وكان كراؤ له أهمية، هل يضمن أولا؟ وقوله: كذا مفرط في العلف: يعني أن من ترك دابة عند أحد ومعها علفها، وقال له قدم لها العلف، فترك تقديمه لها حتى ماتت، هل يضمن أو لا، والعلف في البيت بسكون الثاني، وهو تقديم العلف بفتح الثاني.
وقوله: وكالتي ردت بعيب وعدم. وليها: يعني أن الولي القريب إذا زوج وليته، وفيها عيب يوجب رد النكاح وسكتت الزوجة، ولم تبين عيب نفسها وفلس الولي هل يرجع الزوج على الزوجة بالصداق أو لا؟ فهذه الفروع وما شابهها مبنية على الخلاف في الكف هل هو فعل أو لا؟ والصحيح أن الكف فعل، كما دل عليه الكتاب والسنة واللغة؛ كما تقدم إيضاحه. وعليه: فالصحيح لزوم الضمان، فيما ذكر. * (وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا * وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرءان جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا * ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا) *.) *
لما شكا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه في قوله: * (وقال الرسول يارب * رب إن قومى اتخذوا هاذا
50

القرءان مهجورا) *، أنزل الله قوله تعالى: * (وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا) * الآية (52 / 13)، تسلية له صلى الله عليه وسلم، أي: كما جعلنا الكفار أعداء لك يكذبونك، ويتخذون القرءان الذي أنزل إليك مهجورا، كذلك الجعل * (جعلنا لكل نبى عدوا) *، أي: جعلنا لك أعداء، كما جعلنا لكل نبي عدوا.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا) * الآية، قد قدمنا إيضاحه في (الأنعام)، في الكلام على قوله تعالى: * (وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا شياطين الإنس) * الآية (6 / 211)، وقوله تعالى: * (وكفى بربك هاديا ونصيرا) *، قد قدمنا الكلام مستوفى على كفى اللازمة، والمتعدية بشواهده العربية في سورة (الإسراء)، في الكلام على قوله: * (كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) * (71 / 41)، وقوله: * (وكفى بربك هاديا) *، جاء معناه موضحا في آيات كثيرة؛ كقوله: * (من يهد الله فهو المهتد) * (71 / 79)، وقوله تعالى: * (قل إن هدى الله هو الهدى) * (6 / 17)، وقوله: * (ونصيرا) *، أي: وكفى بربك نصيرا، جاء معناه أيضا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: * (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذى ينصركم من بعده) * (3 / 061).
* (كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا) *. تقدمت الآيات التي بمعناه في آخر سورة (الإسراء)، في الكلام على قوله تعالى: * (وقرءانا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث) *، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (كذلك لنثبت به فؤادك) *، أي: كذلك الإنزال مفرقا بحسب الوقائع أنزلناه لا جملة كما اقترحوا، وقوله: * (لنثبت به فؤادك) *، أي: أنزلناه مفرقا، لنثبت فؤادك بأنزاله مفرقا.
قال بعضهم: معناه لنقوي بتفريقه فؤادك على حفظه؛ لأن حفظه شيئا فشيئا أسهل من حفظه مرة واحدة، ولو نزل جملة واحدة.
وقال بعضهم: ومما يؤكد ذلك أنه صلوات الله وسلامه عليه أمي لا يقرأ ولا يكتب.
* (الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولائك شر مكانا وأضل سبيلا * ولقد ءاتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا * فقلنا اذهبآ إلى القوم الذين كذبوا بأاياتنا فدمرناهم تدميرا * وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس ءاية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما * وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذالك كثيرا *
وكلا ضربنا له الا مثال وكلا تبرنا تتبيرا * ولقد أتوا على القرية التى أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا * وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهاذا الذى بعث الله رسولا * إن كاد ليضلنا عن ءالهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا) * * (الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولائك شر مكانا وأضل سبيلا) *.
51

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار يحشرون على وجوههم إلى جهنم يوم يالقيامة، وأنهم شر مكانا وأضل سبيلا. وبين في مواضع أخر أنهم تكب وجوههم في النار ويسحبون على وجوههم فيها؛ كقوله تعالى: * (ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم فى النار) *، وقوله تعالى: * (يوم تقلب وجوههم فى النار) *، وقوله تعالى: * (يوم يسحبون فى النار على وجوههم ذوقوا مس سقر) *، وبين جل وعلا في سورة (بني إسرائيل) أنهم يحشرون على وجوههم، وزاد مع ذلك أنهم يحشرون عميا وبكما وصما، وذكر في سورة (طه)، أن الكافر يحشر أعمى، قال في سورة (بني إسرائيل): * (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا) *، وقال في سورة (طه): * (ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتنى أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذالك أتتك اياتنا فنسيتها) *.
وقد بينا وجه الجمع في آية (بني إسرائيل)، وآية (طه) المذكورتين مع الآيات الدالة على أن الكفار يوم القيامة يبصرون ويتكلمون ويسمعون؛ كقوله تعالى: * (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا) *، وقوله تعالى: * (ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون) *، وقوله تعالى: * (ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها) *، في سورة (طه)، في الكلام على قوله تعالى: * (ونحشره يوم القيامة أعمى) *، وكذلك بينا أوجه الجمع بين الآيات المذكورة في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)، في الكلام على آية (بني إسرائيل) المذكورة.
وصيغة التفضيل في قوله: * (أولئك شر مكانا وأضل سبيلا) *، قد قدمنا الكلام في مثلها في الكلام على قوله: * (أذالك خير * ءان جنة الخلد التى وعد المتقون) *، والمكان محل الكينونة. والظاهر أنه يكون حسيا، ومعنويا. فالحسي ظاهر، والمعنوي؛ كقوله تعالى: * (قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف فى نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر) *، والسبيل الطريق وتذكر وتؤنث كما تقدم، ومن تذكير السبيل قوله تعالى: * (وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغى يتخذوه سبيلا) *، ومن تأنيثها قوله تعالى: * (قل هاذه سبيلى أدعو إلى الله على بصيرة) *.
52

* (ولقد ءاتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا * فقلنا اذهبآ إلى القوم الذين كذبوا بأاياتنا فدمرناهم تدميرا) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (مريم)، في الكلام على قوله تعالى: * (وناديناه من جانب الطور الايمن وقربناه نجيا) *. * (وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس ءاية) *. قد قدمنا بعض الآيات الدالة على كيفية إغراقهم في سورة (الأعراف)، في الكلام على قوله تعالى: * (فكذبوه فأنجيناه والذين معه) *. * (وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذالك كثيرا) *. الأظهر عندي أن قوله: * (وعادا وثمودا) * معطوف على قوله: * (وقوم نوح) *، وأن قوم نوح مفعول به لأغرقنا محذوفة دل عليها قوله بعده: * (وقوم نوح لما كذبوا) *، على حد قوله في (الخلاصة): وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذالك كثيرا) *. الأظهر عندي أن قوله: * (وعادا وثمودا) * معطوف على قوله: * (وقوم نوح) *، وأن قوم نوح مفعول به لأغرقنا محذوفة دل عليها قوله بعده: * (وقوم نوح لما كذبوا) *، على حد قوله في (الخلاصة):
* فالسابق انصبه بفعل أضمرا
* حتما موافق لما قد ذكرا
*
أي: أهلكنا قوم نوح بالغرق، وأهلكنا عادا وثمودا وأصحاب الرس، وقرونا بين ذلك كثيرا، أي: وأهلكنا قرونا كثيرة بين ذلك المذكور من قوم نوح، وعاد وثمود.
والأظهر أن القرون الكثير المذكور بعد قوم نوح، وعاد، وثمود، وقبل أصحاب الرس وقد دلت آية من سورة (إبراهيم) على أن بعد عاد، وثمود، خلقا كفروا وكذبوا الرسل، وأنهم لا يعلمهم إلا الله جل وعلا.
وتصريحه بأنهم بعد عاد وثمود يوضح ما ذكرنا، وذلك في قوله تعالى: * (ألم يأتكم نبؤا الذين * من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم فى) *.
وقد قدمنا كلام أهل العلم في معنى قوله: * (فردوا أيديهم فى أفواههم) *، والإشارة في قوله: * (بين ذالك) *، راجعة إلى عاد وثمود وأصحاب الرس، أي: بين ذلك المذكور
53

ورجوع الإشارة، أو الضمير بالإفراد مع رجوعهما إلى متعدد باعتبار المذكور أسلوب عربي معروف، ومنه في الإشارة قوله تعالى: * (قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذالك) *، أي: ذلك المذكور من الفارض والبكر، وقوله تعالى: * (وكان بين ذلك قواما) *، أي: بين ذلك المذكور من الإسراف والقتر، وقول عبد الله بن الزبعري السهمي: وقد قدمنا كلام أهل العلم في معنى قوله: * (فردوا أيديهم فى أفواههم) *، والإشارة في قوله: * (بين ذالك) *، راجعة إلى عاد وثمود وأصحاب الرس، أي: بين ذلك المذكور ورجوع الإشارة، أو الضمير بالإفراد مع رجوعهما إلى متعدد باعتبار المذكور أسلوب عربي معروف، ومنه في الإشارة قوله تعالى: * (قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذالك) *، أي: ذلك المذكور من الفارض والبكر، وقوله تعالى: * (وكان بين ذلك
قواما) *، أي: بين ذلك المذكور من الإسراف والقتر، وقول عبد الله بن الزبعري السهمي:
* إن للخير وللشر مدى
* وكلا ذلك وجه وقبل
*
أي: وكلا ذلك المذكور من الخير والشر، ومنه في الضمير قول رؤبة: أي: وكلا ذلك المذكور من الخير والشر، ومنه في الضمير قول رؤبة:
* فيها خطوط من سواد وبلق
* كأنه في الجلد توليع البهق
*
أي: كأنه، أي: ما ذكر من خطوط السواد والبلق، وقد قدمنا هذا البيت.
أما عاد وثمود فقد جاءت قصة كل منهما مفصلة في آيات متعددة. وأما أصحاب الرس فلم يأت في القرءان تفصيل قصتهم ولا اسم نبيهم، وللمفسرين فيهم أقوال كثيرة تركناها لأنها لا دليل على شئ منها.
والرس في لغة العرب: البئر التي ليست بمطوية، وقال الجوهري في (صحاحه): إنها البئر المطوية بالحجارة، ومن إطلاقها على البئر قول الشاعر: والرس في لغة العرب: البئر التي ليست بمطوية، وقال الجوهري في (صحاحه): إنها البئر المطوية بالحجارة، ومن إطلاقها على البئر قول الشاعر:
* وهم سائرون إلى أرضهم
* فيا ليتهم يحفرون الرساسا
*
وقول النابغة الجعدي: وقول النابغة الجعدي:
* سبقت إلى فرط ناهل
* تنابلة يحفرون الرساسا
*
والرساس في البيتين جمع رس، وهي البئر، والرس واد في قول زهير في معلقته: والرساس في البيتين جمع رس، وهي البئر، والرس واد في قول زهير في معلقته:
* بكرن بكورا واستحرن بسحرة
* فهن لوادي الرس كاليد للفم
*
وقوله في هذه الآية: * (وقرونا بين ذالك كثيرا) *، جمع قرن، وهو هنا الجيل من الناس الذي اقترنوا في الوجود في زمان من الأزمنة. * (وكلا ضربنا له الا مثال وكلا تبرنا تتبيرا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن كلا من الماضين المهلكين من قوم نوح،
54

وعاد، وثمود، وأصحاب الرس، والقرون الكثيرة بين ذلك: أنه ضرب لكل منهم الأمثال ليبين لهم الحق بضرب المثل؛ لأنه يصير به المعقول كالمحسوس، وأنه جل وعلا تبر كلا منهم تتبيرا، أي: أهلكهم جميعا إهلاكا مستأصلا، والتتبير الإهلاك والتكسير، ومنه قوله تعالى: * (وليتبروا ما علوا تتبيرا) *، وقوله تعالى: * (إن هؤلاء متبر ما هم فيه) *، أي: باطل، وقوله تعالى: * (ولا تزد الظالمين إلا تبارا) *، أي: هلاكا، وهذان الأمران المذكوران في هذه الآية الكريمة، وهما أنه جل وعلا ضرب لكل منهم الأمثال، وأنه تبرهم كلهم تتبيرا جاءا مذكورين في غير هذا الموضع.
أما ضربه الأمثال للكفار، فقد ذكره جل وعلا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى في سورة (إبراهيم): * (أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال وسكنتم فى مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الامثال) *. وأما تتبيره جميع الأمم لتكذيبها رسلها، فقد جاء موضحا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى في سورة (الأعراف): * (وما أرسلنا فى قرية من نبى إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون * ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس ءاباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون) *، وقوله تعالى في سورة (سبأ): * (وما أرسلنا فى قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون) *، وقوله في (الزخرف): * (وكذلك ما أرسلنا من قبلك فى قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا ءاباءنا على أمة وإنا على) *، وقوله تعالى: * (ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث) *، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن جميع الأمم كذبوا رسلهم، وأن الله أهلكهم بسبب ذلك، وقد بين جل وعلا في آية أخرى أن هذا العموم لم يخرج منه إلا قوم يونس دون غيرهم، وذلك في قوله تعالى: * (فلولا كانت قرية ءامنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزى فى الحيواة الدنيا ومتعناهم) *.
ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: * (وأرسلنا * إلى مائة ألف أو يزيدون فئامنوا فمتعناهم إلى حين) *، وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه ضرب الأمثال لكل منهم، لم يبين فيه هنا هل ضرب الأمثال أيضا لهذه الأمة الكريمة التي هي آخر الأمم في هذا القرءان، كما ضربها لغيرهم من الأمم، ولكنه تعالى بين في آيات كثيرة أنه
55

ضرب لهذه الأمة الأمثال في هذا القرءان العظيم، ليتفكروا بسببها، وبين أنها لا يعقلها إلا أهل العلم، وأن الله يهدي بها قوما، ويضل بها آخرين.
وهذه الآيات الدالة على ذلك كله، فمنها قوله تعالى: * (إن الله لا خالدون * إن الله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين ءامنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم) *، وقوله تعالى: * (ولقد ضربنا للناس فى هاذا القرءان من كل مثل لعلهم يتذكرون) *، وقوله تعالى: * (وتلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) *، وقوله تعالى: * (وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) *، وقوله تعالى: * (يأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له) *، والآيات الدالة على ذلك كثيرة معلومة، والعلم عند الله تعالى. * (ولقد أتوا على القرية التى أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا) *. أقسم جل وعلا في هذه الآية، أن الكفار الذين كذبوا نبينا صلى الله عليه وسلم، قد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء، وهو أن الله أمطر عليها حجارة من سجيل، وهي سذوم قرية قوم لوط، وهذان الأمران المذكوران في هذه الآية الكريمة، وهما أن الله أمطر هذه القرية مطر السوء الذي هو حجارة السجيل، وأن الكفار أتوا عليها، ومروا بها جاء موضحا في آيات أخرى.
أما كون الله أمطر عليها الحجارة المذكورة، فقد ذكره جل وعلا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: * (فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل) *، وبين في سورة (الذاريات)، أن السجيل المذكور نوع من الطين، وذلك في قوله تعالى: * (إنآ أرسلنآ إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين) *، ولا شك أن هذا الطين وقعه أليم، شديد مهلك؛ وكقوله تعالى: * (وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين) *، وقوله تعالى: * (لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون * فأخذتهم الصيحة مشرقين * فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل) *.
56

وأما كونهم قد أتوا على تلك القرية المذكورة، فقد جاء موضحا أيضا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى: * (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وباليل أفلا تعقلون) *، والمراد بأنهم مروا على قرية قوم لوط، وأن مرورهم عليها، ورأيتهم لها خالية من أهلها ليس فيها داع، ولا مجيب؛ لأن الله أهلك أهلها جميعا لكفرهم وتكذيبهم رسوله لوطا، فيه أكبر واعظ وأعظم زاجر عن تكذيب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لئلا ينزل بالذين كذبوه مثل ما نزل بقوم لوط من العذاب والهلاك، وبذا وبخهم على عدم الاعتبار بما أنزل بها من العذاب؛ كقوله في آية (الصافات) المذكورة: * (أفلا تعقلون) *، وكقوله تعالى في آية (الفرقان) هذه: * (أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا) *، فقوله: * (أفلم يكونوا يرونها) * توبيخ لهم على عدم الاعتبار؛ كقوله في الآية الأخرى: * (أفلا تعقلون) *، ومعلوم أنهم يمرون عليها مصبحين، وبالليل وأنهم يرونها؛ وكقوله تعالى: * (وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل * إن فى ذلك لآيات للمتوسمين * وإنها لبسبيل مقيم) *، يعني: أن ديار قوم لوط بسبيل مقيم، أي: بطريق مقيم، يمرون فيه عليها في سفرهم إلى الشام، وقوله تعالى: * (بل كانوا لا يرجون نشورا) *، أي: لا يخافون بعثا ولا جزاء، أو لا يرجون بعثا وثوابا. * (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهاذا الذى بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن ءالهتنا لولا أن صبرنا عليها) *. تقدم إيضاحه في سورة (الأنبياء)، في الكلام على قوله تعالى: * (وإذا راك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهاذا الذى يذكر الهتكم وهم بذكر الرحمان هم كافرون) *، وما قالوه هنا من أنهم صبروا على آلهتهم، بين في سورة (ص) أن بعضهم أمر به بعضا، في قوله تعالى: * (وانطلق الملا منهم أن امشوا واصبروا علىءالهتكم) *.
* (أرءيت من اتخذ إلاهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا * أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالا نعام بل هم أضل سبيلا * ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شآء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا * ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا * وهو الذى جعل لكم اليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا) * * (أرءيت من اتخذ إلاهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا) *. قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: * (أرءيت من اتخذ إلاهه هواه) *، أي: مهما استحسن من شئ ورآه حسنا في هوى نفسه كان دينه ومذهبه، إلى أن قال: قال ابن عباس: كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زمانا، فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك الأول، اه منه.
57

وذكر صاحب (الدر المنثور): أن ابن أبي حاتم وابن مردويه أخرجا عن ابن عباس أن عبادة الكافر للحجر الثاني مكان الأول هي سبب نزول هذه الآية، ثم قال صاحب (الدر المنثور): وأخرج ابن مردويه عن أبي رجاء العطاردي، قال: كانوا في الجاهلية يأكلون الدم بالعلهز ويعبدون الحجر، فإذا وجدوا ما هو أحسن منه، رموا به وعبدوا الآخر، فإذا فقدوا الآخر أمروا مناديا فنادى: أيها الناس إن إلاهكم قد ضل فالتمسوه، فأنزل الله هذه الآية: * (أرءيت من اتخذ إلاهه هواه) *، وأخرج ابن منذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: * (أرءيت من اتخذ إلاهه هواه) *، قال: ذلك الكافر اتخذ دينه بغير هدى من الله ولا برهان.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الحسن: * (أرءيت من اتخذ إلاهه هواه) *، قال: لا يهوى شيئا إلا تبعه.
وأحرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة: * (أرءيت من اتخذ إلاهه هواه) *، قال: كل ما هوى شيئا ركبه، وكل ما اشتهى شيئا أتاه لا يحجزه عن ذلك ورع، ولا تقوى.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن، أنه قيل له: أفي أهل القبلة شرك؟ قال: نعم، المنافق مشرك، إن المشرك يسجد للشمس والقمر من دون الله، وإن المنافق عبد هواه، ثم تلا هذه الآية: * (أرءيت من اتخذ إلاهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا) *.
وأخرج الطبراني عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تحت ظل السماء من إلاه يعبد من دون الله أعظم عند الله من هوى متبع)، انتهى محل الغرض من كلام صاحب (الدر المنثور).
وإيضاح أقوال العلماء المذكورة في هذه الآية أن الواجب الذي يلزم العمل به، هو أن يكون جميع أفعال المكلف مطابقة لما أمره به معبوده جل وعلا، فإذا كانت جميع أفعاله تابعة لما يهواه، فقد صرف جميع ما يستحقه عليه خالقه من العبادة والطاعة إلى هواه، وإذن فكونه اتخذ إلاهه هواه في غاية الوضوح.
وإذا علمت هذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، فاعلم: أن الله جل وعلا بينه في غير هذا الموضع، في قوله: * (أفرأيت من اتخذ إلاهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه) *،
58

وقوله تعالى: * (أفمن زين له سوء عمله فرءاه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدى من يشاء) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (أفأنت تكون عليه وكيلا) *، استفهام إنكار فيه معنى النفي.
والمعنى: أن من أضله الله فاتخذ إلاهه هواه، لا تكون أنت عليه وكيلا، أي: حفيظا تهديه وتصرف عنه الضلال الذي قدره الله عليه؛ لأن الهدى بيد الله وحده لا بيدك، والذي عليك إنما هو البلاغ، وقد بلغت.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، جاء موضحا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: * (إنك لا تهدى من أحببت ولاكن الله يهدى من يشاء) *، وقوله تعالى: * (إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدى من يضل) *، وقوله تعالى: * (أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من فى النار) *، وقوله تعالى: * (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين * وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله) *، وقوله في آية (فاطر) المذكورة آنفا: * (فإن الله يضل من يشاء ويهدى من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) *، وقوله تعالى في آية (الجاثية) المذكورة آنفا أيضا: * (فمن يهديه من بعد الله) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة، والعلم عند الله تعالى. * (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالا نعام بل هم أضل سبيلا) *. * (أم) *، في هذه الآية الكريمة هي المنقطعة وأشهر معانيها أنها جامعة بين معنى بل الإضرابية، واستفهام الإنكار معا، والإضراب المدلول عليه بها هنا إضراب انتقالي.
والمعنى: بل * (تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون) *، أي: لا تعتقد ذلك ولا تظنه، فإنهم لا يسمعون الحق ولا يعقلونه، أي: لا يدركونه بعقولهم: * (إن هم إلا كالانعام) *، أي: ما هم إلا كالأنعام، التي هي الإبل والبقر والغنم في عدم سماع الحق وإدراكه
59

، * (بل هم أضل) * من الأنعام، أي: أبعد عن فهم الحق وإدراكه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (بل هم أضل سبيلا) *، قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جعلوا أضل من الأنعام؟
قلت: لأن الأنعام تنقاد لأربابها التي تعلفها وتتعهدها، وتعرف من يحسن إليها ممن يسيء إليها، وتطلب ما ينفعها، وتجتنب ما يضرها، وتهتدي لمراعيها ومشاربها، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه إليهم من إسارة الشيطان الذي هو عدوهم، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع، ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار والمهالك، ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهني والعذب الروي، اه منه.
وإذا علمت ما دلت عليه هذه الآية الكريمة، فاعلم أن الله بينه في غير الموضع،؛ كقوله تعالى في سورة (الأعراف): * (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم ءاذان) *، وقوله تعالى في (البقرة): * (ومثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمى فهم لا يعقلون) *. * (وهو الذى جعل لكم اليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي جعل لخلقه الليل لباسا، والنوم سباتا، وجعل لهم النهار نشورا، أما جعله لهم الليل لباسا، فالظاهر أنه لما جعل الليل يغطي جميع من في الأرض بظلامه صار لباسا لهم، يسترهم كما يستر اللباس عورة صاحبه، وربما انتفعوا بلباس الليل كهروب الأسير المسلم من الكفار في ظلام الليل، واستتاره به حتى ينجو منهم، ونحو ذلك من الفوائد التي تحصل بسبب لباس الليل؛ كما قال أبو الطيب المتنبي: يسترهم كما يستر اللباس عورة صاحبه، وربما انتفعوا بلباس الليل كهروب الأسير المسلم من الكفار في ظلام الليل، واستتاره به حتى ينجو منهم، ونحو ذلك من الفوائد التي تحصل بسبب لباس الليل؛ كما قال أبو الطيب المتنبي:
* وكم لظلام الليل عندي من يد
* تخبر أن المانوية تكذب
*
* وقاك ردى الأعداء تسري إليهم
* وزارك فيه ذو الدلال المحجب
*
وأما جعله لهم النوم سباتا، فأكثر المفسرين على أن المراد بالسبات: الراحة من تعب العمل بالنهار؛ لأن النوم يقطع العمل النهاري، فينقطع به التعب، وتحصل الاستراحة، كما هو معروف.
وقال الجوهري في (صحاحه): السبات النوم وأصله الراحة، ومنه قوله تعالى
60

: * (وجعلنا نومكم سباتا) *، وقال الزمخشري في (الكشاف): والسبات: الموت، والمسبوت: الميت؛ لأنه مقطوع الحياة، وهذا كقوله: * (وهو الذى يتوفاكم باليل) *.
فإن قلت: هل لا فسرته بالراحة؟
قلت: النشور في مقابلته يأباه إباء العيوف الورد، وهو مرنق، اه محل الغرض منه.
وإيضاح كلامه: أن النشور هو الحياة بعد الموت، كما تقدم إيضاحه. وعليه فقوله: * (وجعل النهار نشورا) *، أي: حياة بعد الموت، وعليه فالموت هو المعبر عنه بالسبات في قوله: * (والنوم سباتا) *، وإطلاق الموت على النوم معروف في القرءان العظيم؛ كقوله تعالى: * (وهو الذى يتوفاكم باليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه) *، وقوله: * (ثم يبعثكم فيه) * فيه دليل على ما ذكره الزمخشري؛ لأن كلا من البعث والنشور يطلق على الحياة بعد الموت؛ وكقوله تعالى: * (الله يتوفى الانفس حين موتها والتى لم تمت فى منامها فيمسك التى قضى عليها الموت ويرسل الاخرى إلى أجل) *، وقال الجوهري في (صحاحه): والمسبوت الميت والمغشى عليه، اه.
والذين قالوا: إن السبات في الآية الراحة بسبب النوم من تعب العمل بالنهار، قالوا: إن معنى قوله تعالى: * (وجعل النهار نشورا) *، أنهم ينشرون فيه لمعايشهم، ومكاسبهم، وأسبابهم. والظاهر أن هذا التفسير فيه حذف مضاف، أو هو من النعت بالمصدر، وهذا التفسير يدل عليه قوله تعالى: * (وجعلنا النهار معاشا) *، وقوله تعالى في (القصص): * (ومن رحمته جعل لكم اليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله) *، أي: لتسكنوا في الليل، ولتبتغوا من فضله بالنهار في السعي للمعاش.
وإذا علمت هذا، فاعلم أن ما دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحا في مواضع أخر؛ كقوله تعالى: * (وجعلنا نومكم سباتا * وجعلنا اليل لباسا * وجعلنا النهار معاشا) *، وقوله تعالى: * (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم اليل سرمدا إلى يوم القيامة من إلاه غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون) *.
61

وقوله تعالى: * (وجعلنا اليل والنهار ءايتين فمحونا ءاية اليل وجعلنا ءاية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب) *.
وقد أوضحنا هذا في الكلام على هذه الآية.
وكقوله تعالى: * (واليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى) *، وقوله تعالى: * (والنهار إذا جلاها * واليل إذا يغشاها) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وفي الآيات المذكورة بيان أن الليل والنهار آيتان من آياته، ونعمتان من نعمه جل وعلا.
* (وهو الذى أرسل الرياح بشرى بين يدى رحمته وأنزلنا من السمآء مآء طهورا * لنحيى به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنآ أنعاما وأناسى كثيرا * ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا * ولو شئنا لبعثنا فى كل قرية نذيرا * فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا * وهو الذى مرج البحرين هاذا عذب فرات وهاذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا) * * (وهو الذى أرسل الرياح بشرى بين يدى رحمته) *. قد قدمنا الآية الموضحة له في سورة (الأعراف)، في الكلام على قوله تعالى: * (وهو الذى يرسل الرياح * بشرا بين يدى رحمته) *، على قراءة من قرأ * (بشرا) * بالباء.
وآية (الأعراف)، وآية (الفرقان) المذكورتان تدلان على أن المطر رحمة من الله لخلقه.
وقد بين ذلك في مواضع أخر؛ كقوله تعالى: * (فانظر إلىءاثار رحمة الله كيف يحى الارض بعد موتها) *، وقوله تعالى: * (وهو الذى ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته) *. * (ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا) *. التحقيق: أن الضمير في قوله: * (ولقد صرفناه) *، راجع إلى ماء المطر المذكور في قوله تعالى: * (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) *، كما روي عن ابن عباس، وابن مسعود، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة وغير واحد، خلافا لمن قال: إن الضمير المذكور
62

راجع إلى القرءان، كما روي عن عطاء الخراساني وصدر به القرطبي، وصدر الزمخشري بما يقرب منه.
وإذا علمت أن التحقيق أن الضمير في: * (صرفناه) *، عائد إلى ماء المطر.
فاعلم أن المعنى: ولقد صرفنا ماء المطر بين الناس فأنزلنا مطرا كثيرا في بعض السنين على بعض البلاد، ومنعنا المطر في بعض السنين عن بعض البلاد، فيكثر الخصب في بعضها، والجدب في بعضها الآخر، وقوله: * (ليذكروا) *، أي: صرفناه بينهم لأجل أن يتذكروا، أي: يتذكر الذين أخصبت أرضهم لكثرة المطر نعمة الله عليهم، فيشكروا له، ويتذكر الذين أجدبت أرضهم ما نزل بهم من البلاء، فيبادروا بالتوبة إلى الله جل وعلا ليرحمهم ويسقيهم، وقوله: * (فأبى أكثر الناس إلا كفورا) *، أي: كفرا لنعمة من أنزل عليهم المطر، وذلك بقولهم: مطرنا بنوء كذا.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، أشار له جل وعلا في سورة (الواقعة)، في قوله تعالى: * (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) *، فقوله: * (رزقكم) *، أي: المطر؛ كما قال تعالى: * (وينزل لكم من السماء رزقا) *، وقوله: * (أنكم تكذبون) *، أي: بقولكم: مطرنا بنوء كذا، ويزيد هذا إيضاحا الحديث الثابت في صحيح مسلم، وقد قدمناه بسنده ومتنه مستوفى، وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوما على أثر سماء أصابتهم من الليل: (أتدرون ماذا قال ربكم)؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (قال: أصبح عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذاك مؤمن بي كافر بالكوكب. وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب).
وقد قدمنا أن قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (فأبى أكثر الناس إلا كفورا) *، يدخل فيه من قال: مطرنا بنوء كذا. ومن قال: مطرنا بالبخار، يعني أن البحر يتصاعد منه بخار الماء، ثم يتجمع ثم ينزل على الأرض بمقتضى الطبيعة لا بفعل فاعل، وأن المطر منه؛ كما تقدم إيضاحه فسبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. * (ولو شئنا لبعثنا فى كل قرية نذيرا * فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا) *.
63

المعنى: لو شئنا لخففنا عنك أعباء الرسالة، وبعثنا في كل قرية نذيرا يتولى مشقة إنذارها عنك، أي: ولكننا اصطفيناك، وخصصناك بعموم الرسالة لجميع الناس تعظيما لشأنك، ورفعا من منزلتك، فقابل ذلك بالاجتهاد والتشدد التام في إبلاغ الرسالة، و * (لا تطعه * الكافرين) *.
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من اصطفائه صلى الله عليه وسلم بالرسالة لجميع الناس، جاء موضحا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: * (قل ياأيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعا) *، وقوله تعالى: * (وما أرسلناك إلا كافة للناس) *، وقوله: * (وأوحى إلى هاذا القرءان لانذركم به ومن بلغ) *، وقوله: * (ومن يكفر به من الاحزاب فالنار موعده) *.
وقد قدمنا إيضاح هذا في أول هذه السورة الكريمة، في الكلام على قوله تعالى: * (تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) *، وقوله: * (فلا تطع الكافرين) *، ذكره أيضا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى: * (ولا تطع الكافرين والمنافقين) *، وقوله: * (ولا تطع منهم ءاثما أو كفورا) *، وقوله تعالى: * (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه) *، وقوله تعالى: * (ولا تطع كل حلاف مهين) *.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (وجاهدهم به) *، أي: بالقرءان، كما روي عن ابن عباس.
والجهاد الكبير المذكور في هذه الآية هو المصحوب بالغلظة عليهم؛ كما قال تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة) *، وقال تعالى: * (ياأيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) *، وقوله تعالى: * (فلا تطع الكافرين) *، من المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لا يطيع الكافرين، ولكنه يأمر وينهى ليشرع لأمته على لسانه، كما أوضحناه في سورة (بني إسرائيل). * (وهو الذى مرج البحرين هاذا عذب فرات وهاذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا) *
64

. اعلم أن لفظة: * (مرج) *، تطلق في اللغة إطلاقين:
الأول: مرج بمعنى: أرسل وخلى، من قولهم: مرج دابته إذا أرسلها إلى المرج، وهو الموضع الذي ترعى فيه الدواب؛ كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه: الأول: مرج بمعنى: أرسل وخلى، من قولهم: مرج دابته إذا أرسلها إلى المرج، وهو الموضع الذي ترعى فيه الدواب؛ كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
* وكانت لا يزال بها أنيس
* خلال مروجها نعم وشاء
*
وعلى هذا، فالمعنى: أرسل البحرين وخلاهما لا يختلط أحدهما بالآخر.
والإطلاق الثاني: مرج بمعنى: خلط، ومنه قوله تعالى: * (فى أمر مريج) *، أي: مختلط، فعلى القول الأول: فالمراد بالبحرين الماء العذب في جميع الدنيا، والماء الملح في جميعها.
وقوله: * (هدا عذب فرات) *، يعني: به ماء الآبار، والأنهار والعيون في أقطار الدنيا.
وقوله: * (وهاذا ملح أجاج) *، أي: البحر الملح، كالبحر المحيط وغيره من البحار التي هي ملح أجاج، وعلى هذا التفسير فلا إشكال.
وأما على القول الثاني بأن * (مرج) * بمعنى خلط، فالمعنى: أنه يوجد في بعض المواضع اختلاط الماء الملح والماء العذب في مجرى واحد، ولا يختلط أحدهما بالآخر، بل يكون بينهما حاجز من قدرة الله تعالى، وهذا محقق الوجود في بعض البلاد، ومن المواضع التي هو واقع فيها المحل الذي يختلط فيه نهر السنغال بالمحيط الأطلسي بجنب مدينة سان لويس، وقد زرت مدينة سان لويس عام ست وستين وثلاثمائة وألف هجرية، واغتسلت مرة في نهر السنغال، ومرة في المحيط، ولم آت محل اختلاطهما، ولكن أخبرني بعض المرافقين الثقاة أنه جاء إلى محل اختلاطهما، وأنه جالس يغرف بإحدى يديه عذبا وفراتا، وبالأخرى ملحا أجاجا، والجميع في مجرى واحد، لا يختلط أحدهما بالآخر، فسبحانه جل وعلا ما أعظمه، وما أكمل قدرته.
وهذا الذي ذكره جل وعلا في هذه الآية، جاء موضحا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى في سورة (فاطر): * (وما يستوى البحران هاذا عذب فرات سائغ شرابه وهاذا ملح أجاج) *، وقوله تعالى: * (مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان) *،
65

أي: لا يبغي أحدهما على الآخر فيمتزج به، وهذا البرزخ الفاصل بين البحرين المذكور في سورة (الفرقان) و سورة (الرحمان)، قد بين تعالى في سورة (النمل) أنه حاجز حجز به بينهما، وذلك في قوله جل وعلا: * (أمن جعل الارض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسى وجعل بين البحرين حاجزا أءلاه مع الله بل أكثرهم لا يعلمون) *، وهذا الحاجز هو اليبس من الأرض الفاصل بين الماء العذب، والماء الملح على التفسير الأول.
وأما على التفسير الثاني: فهو حاجز من قدرة الله غير مرئي للبشر، وأكد شدة حجزه بينهما بقوله هنا: * (وحجرا محجورا) *، والظاهر أن قوله هنا: * (حجرا) *، أي: منعا وحراما قدريا، وأن * (محجورا) * توكيد له، أي: منعا شديدا للاختلاط بينهما، وقوله: * (هاذا عذب) *، صفة مشبهة من قولهم: عذب الماء
بالضم فهو عذب. وقوله: * (فرات) * صفة مشبهة أيضا، من فرت الماء بالضم، فهو فرات، إذا كان شديد العذوبة، وقوله: * (وهاذا ملح) *، صفة مشبهة أيضا من قولهم: ملح الماء بالضم والفتح، فهو ملح.
قال الجوهري في (صحاحه): ولا يقال مالح إلا في لغة ردية، اه.
وقد أجاز ذلك بعضهم، واستدل له بقول القائل: وقد أجاز ذلك بعضهم، واستدل له بقول القائل:
* ولو تفلت في البحر والبحر مالح
* لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا
*
وقوله: * (أجاج) *، صفة مشبهة أيضا، من قولهم: أج الماء يؤج أجوجا فهو أجاج، أي: ملح مر، فالوصف بكونه أجاجا يدل على زيادة المرارة على كونه ملحا، والعلم عند الله تعالى.
* (وهو الذى خلق من المآء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا * ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا * ومآ أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا * قل مآ أسألكم عليه من أجر إلا من شآء أن يتخذ إلى ربه سبيلا * وتوكل على الحى الذى لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا * الذى خلق السماوات والا رض وما بينهما فى ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمان فاسأل به خبيرا * وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا * تبارك الذى جعل فى السمآء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا * وهو الذى جعل اليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا * وعباد الرحمان الذين يمشون على الا رض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما * والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما * والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما * إنها سآءت مستقرا ومقاما * والذين إذآ أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما * والذين لا يدعون مع الله إلاها ءاخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذالك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وءامن وعمل عملا صالحا فأولائك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما * ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا * والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما * والذين إذا ذكروا بأايات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا * والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما * أولائك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما * خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما * قل ما يعبؤا بكم ربى لولا دعآؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما) * * (وهو الذى خلق من المآء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا) *. قال الزمخشري في (الكشاف)، في تفسير هذه الآية الكريمة: فقسم البشر قسمين، ذوى نسب، أي: ذكورا ينسب إليهم، فيقال: فلان بن فلان وفلانة بنت فلان، وذوات صهر، أي: إناثا يطاهر بهن؛ كقوله: * (فجعل منه الزوجين الذكر والانثى) *، * (وكان ربك قديرا) *، حيث خلق من النطفة الواحدة بشرا نوعين ذكر وأنثى، انتهى منه.
66

وهذا التفسير الذي فسر به الآية، يدل له ما استدل عليه به، وهو قوله تعالى: * (ألم يك نطفة من منى يمنى * ثم كان علقة فخلق فسوى * فجعل منه الزوجين الذكر والانثى) *، وهو دليل على أن آية (الفرقان) هذه بينتها آية (القيامة) المذكورة، وفي هذه الآية الكريمة أقوال أخر غير ما ذكره الزمخشري.
منها ما ذكر ابن كثير، قال: * (فجعله نسبا وصهرا) *، فهو في ابتداء أمره ولد نسيب ثم يتزوج فيصهر صهرا، وانظر بقية الأقوال في الآية في تفسير القرطبي و (الدر المنثور) للسيوطي.
مسألة
استنبط بعض العلماء من هذه الآية الكريمة أن بنت الرجل من الزنى، لا يحرم عليه نكاحها. قال ابن العربي المالكي في هذه الآية: والنسب عبارة عن خلط الماء بين الذكر والأنثى، على وجه الشرع، فإن كان بمعصية كان خلقا مطلقا، ولم يكن نسبا محققا، ولذلك لم يدخل تحت قوله: * (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم) *، بنته من الزنى؛ لأنها ليست ببنت له في أصح القولين لعلمائنا، وأصح القولين في الدين، وإذا لم يكن نسب شرعا فلا صهر شرعا، فلا يحرم الزنى بنت أم، ولا أم بنت، وما يحرم من الحلال، لا يحرم من الحرام؛ لأن الله امتن بالنسب، والصهر على عباده ورفع قدرهما، وعلق الأحكام في الحل والحرمة عليهما، فلا يلحق الباطل بهما، ولا يساويهما، انتهى منه بواسطة نقل القرطبي عنه.
وقال القرطبي: اختلف الفقهاء في نكاح الرجل ابنته من زنى، أو أخته، أو بنت ابنه من زنى فحرم ذلك قوم منهم: ابن القاسم وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وأجاز ذلك آخرون، منهم: عبد الملك بن الماجشون، وهو قول الشافعي، وقد مضى هذا في (النساء) مجودا، انتهى منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الخلاف في هذه المسألة مشهور معروف، وأرجح القولين دليلا فيما يظهر أن الزنى لا يحرم به حلال، فبنته من الزنى ليست بنتا له شرعا، وقد أجمع أهل العلم أنها لا تدخل في قوله تعالى: * (يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين) *، فالإجماع على أنها لا ترث، ولا تدخل في آيات
67

المواريث، دليل صريح على أنها أجنبية منه، وليست بينا شرعا، ولكن الذي يظهر لنا أنه لا ينبغي له أن يتزوجها بحال، وذلك لأمرين:
الأول: أن كونها مخلوقة من مائه، يجعلها شبيهة شبها صوريا بابنته شرعا، وهذا الشبه القوي بينهما ينبغي أن يزعه عن تزويجها.
الأمر الثاني: أنه لا ينبغي له أن يتلذذ بشئ سبب وجوده معصيته لخالقه جل وعلا، فالندم على فعل الذنب الذي هو ركن من أركان التوبة، لا يلائم التلذذ بما هو ناشىء
عن نفس الذنب، وما ذكره عن الشافعي من أنه يقول: إن البنت من الزنى لا تحرم، هو مراد الزمخشري بقوله: الأمر الثاني: أنه لا ينبغي له أن يتلذذ بشئ سبب وجوده معصيته لخالقه جل وعلا، فالندم على فعل الذنب الذي هو ركن من أركان التوبة، لا يلائم التلذذ بما هو ناشىء عن نفس الذنب، وما ذكره عن الشافعي من أنه يقول: إن البنت من الزنى لا تحرم، هو مراد الزمخشري بقوله:
* وإن شافعيا قلت قالوا بأنني
* أبيح نكاح البنت والبنت تحرم
*
تنبيه
اعلم أن ما ذكره صاحب (الدر المنثور) عن قتادة مما يقتضي أنه استنبط من قوله تعالى في هذه الآية: * (فجعله نسبا وصهرا) *، أن الصهر كالنسب في التحريم، وأن كل واحد منهما تحرم به سبع نساء لم يظهر لي وجهه، ومما يزيده عدم ظهور ضعف دلالة الاقتران عند أهل الأصول؛ كما تقدم إيضاحه مرارا، والعلم عند الله تعالى. * (ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم) *. تقدم إيضاحه في سورة (الحج)، وغيرها. * (وكان الكافر على ربه ظهيرا) *. الظهير في اللغة: المعين، ومنه قول تعالى: * (والملئكة بعد ذالك ظهير) *، وقوله تعالى: * (قال رب بما أنعمت على فلن أكون ظهيرا للمجرمين) *.
ومعنى قوله في هذه الآية الكريمة: * (وكان الكافر على ربه ظهيرا) *، على أظهر الأقوال: وكان الكافر معينا للشيطان، وحزبه من الكفرة على عداوة الله ورسله، فالكافر من حزب الشيطان يقاتل في سبيله أولياء الله، الذين يقاتلون في سبيل الله، فالكافر يعين الشيطان وحزبه في سعيهم؛ لأن تكون كلمة الله ليست هي العليا، وهذا المعنى دلت عليه
68

آيات من كتاب الله؛ كقوله تعالى: * (الذين ءامنوا يقاتلون فى سبيل الله والذين كفروا يقاتلون فى سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان) *، ومعلوم أن الذي يقاتل في سبيل الطاغوت، المقاتلين في سبيل الله، أنه على ربه ظهير.
وقوله تعالى: * (واتخذوا من دون الله ءالهة لعلهم ينصرون * لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند م حضرون) *، على قول من قال: إن الجند المحضرون هم الكفار، يقاتلون عن آلهتهم ويدافعون عنها، ومن قاتل عن الأصنام مدافعا عن عبادتها، فهو على ربه ظهير، وكونه ظهيرا على ربه، أي: معينا للشيطان، وحزبه على عداوة الله ورسله؛ ككونه عدوا له المذكور في قوله تعالى: * (من كان عدوا لله وملئكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) *، وقوله تعالى: * (ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون) *، ومعلوم بالضرورة أن جميع الخلق لو تعاونوا على عداوة الله لا يمكن أن يضروه بشئ، وإنما يضرون بذلك أنفسهم: * (ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنى الحميد) *. * (ومآ أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا) *. قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في أول سورة (الأعراف)، وأول سورة (الكهف). * (قل مآ أسألكم عليه من أجر إلا من شآء أن يتخذ إلى ربه سبيلا) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (هود)، في الكلام على قوله تعالى: * (كارهون وياقوم لا أسألكم عليه مالا إن أجرى إلا على الله) *. * (وتوكل على الحى الذى لا يموت) *. قد قدمنا الآيات الموضحة لمثله في سورة (الفاتحة)، في الكلام على قوله تعالى: * (وإياك نستعين) *. * (وكفى به بذنوب عباده خبيرا) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى:
69

* (وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا) *. * (الذى خلق السماوات والا رض وما بينهما فى ستة أيام) *. قد قدمنا الآية التي فيها تفصيل ذلك في سورة (الأعراف)، في الكلام على قوله تعالى: * (إن ربكم الله الذى خلق السماوات والارض في ستة أيام) *. * (ثم استوى على العرش الرحمان فاسأل به خبيرا) *. قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة (الأعراف)، في الكلام على قوله تعالى: * (ثم استوى على العرش) *. * (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار إذا قيل لهم: * (اسجدوا للرحمان) *، أي: قال لهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، تجاهلوا الرحمان، وقالوا: * (وما الرحمان) *، وأنكروا السجود له تعالى، وزادهم ذلك نفورا عن الإيمان والسجود للرحمان، وما ذكره هنا من أنهم أمروا بالسجود له وحده جل وعلا مذكورا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى: * (لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذى خلقهن إن كنتم إياه تعبدون) *.
وقوله تعالى: * (فاسجدوا لله واعبدوا) *، وقد وبخهم تعالى على عدم امتثال ذلك في قوله تعالى: * (وإذا قرىء عليهم القرءان لا يسجدون) *، وقوله تعالى: * (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون) *، وتجاهلهم للرحمان هنا أجابهم عنه تعالى بقوله: * (الرحمان * علم القرءان * خلق الإنسان * علمه البيان) *.
وقوله تعالى: * (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أيا ما تدعوا فله الاسماء الحسنى) *، وقد قدمنا طرفا من هذا في الكلام على هذه الآية، وقد قدمنا أيضا أنهم يعلمون أن الرحمان هو الله، وأن تجاهلهم له تجاهل عارف، وأدلة ذلك. وقوله هنا: * (وزادهم نفورا) *، جاء معناه في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى: * (ولقد صرفنا فى هاذا
70

القرءان ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا) *، وقوله تعالى: * (بل لجوا فى عتو ونفور) *، إلى غير ذلك من الآيات. * (تبارك الذى جعل فى السمآء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا) *. قد قدمنا كلام أهل العلم في معنى * (تبارك) *، في أول هذه السورة الكريمة.
والبروج في اللغة: القصور العالية، ومنه قوله تعالى: * (ولو كنتم فى بروج مشيدة) *.
واختلف العلماء في المراد بالبروج في الآية، فقال بعضهم: هي الكواكب العظام. قال ابن كثير: وهو قول مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي صالح، والحسن، وقتادة، ثم قال: وقيل هي قصور في السماء للحرس. ويروى هذا عن علي، وابن عباس، ومحمد بن كعب، وإبراهيم النخعي، وسليمان بن مهران الأعمش، وهو رواية عن أبي صالح أيضا، والقول الأول أظهر، اللهم إلا أن تكون الكواكب العظام، هي قصور للحرس فيجتمع القولان؛ كما قال تعالى: * (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح) *، اه محل الغرض من كلام ابن كثير.
وقال الزمخشري في (الكشاف): البروج منازل الكواكب السبعة السيارة: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت، سميت البروج التي هي القصور العالية؛ لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها، واشتقاق البرج من التبرج لظهور، اه منه.
وما ذكره جل وعلا هنا من أنه جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وهو الشمس، وقمرا منيرا، بينه في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى: * (ولقد جعلنا فى السماء بروجا وزيناها للناظرين) *، وقوله تعالى: * (والسماء ذات البروج) *، وقوله تعالى: * (وجعلنا سراجا وهاجا) *، وقوله تعالى: * (ألم تروا كيف خلق الله سبع * سماوات طباقا * وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا) *، وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة والكسائي: * (وجعل فيها سراجا) *، بكسر السين وفتح الراء بعدها ألف على الإفراد، وقرأه حمزة والكسائي: * (سرجا) * بضم السين، والراء جمع سراج، فعلى قراءة الجمهور بإفراد السراج، فالمراد
71

به الشمس، بدليل قوله تعالى: * (نورا وجعل الشمس سراجا) * وعلى قراءة حمزة والكسائي بالجمع، فالمراد بالسرج: الشمس والكواكب العظام.
وقد قدمنا في سورة (الحجر)، أن ظاهر القرءان أن القمر في السماء المبنية لا السماء التي هي مطلق ما علاك؛ لأن الله بين في سورة (الحجر)، أن السماء التي جعل فيها البروج هي المحفوظة، والمحفوظة هي المبنية في قوله تعالى: * (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون) *، وقوله: * (وبنينا فوقكم سبعا شدادا) *، وليست مطلق ما علاك، والبيان المذكور في سورة (الحجر) في قوله تعالى: * (ولقد جعلنا فى السماء بروجا وزيناها للناظرين * وحفظناها) *، فآية (الحجر) هذه دالة على أن ذات البروج هي المبنية المحفوظة، لا مطلق ما علاك.
وإذا علمت ذلك، فاعلم أنه جل وعلا في آية (الفرقان) هذه، بين أن القمر في السماء التي جعل فيها البروج؛ لأنه قال هنا: * (تبارك الذى جعل فى السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا) *، وذلك دليل على أنها ليست مطلق ما علاك، وهذا الظاهر لا ينبغي للمسلم العدول عنه إلا بدليل يجب الرجوع إليه، مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: يوجد في كلام بعض السلف، أن القمر في فضاء بعيد من السماء، وأن علم الهيئة دل على ذلك، وأن الأرصاد الحديثة بينت ذلك.
قلنا: ترك النظر في علم الهيئة عمل بهدى القرءان العظيم؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم لما تاقت نفوسهم إلى تعلم هيئة القمر منه صلى الله عليه وسلم، وقالوا له: يا نبي اللها ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم لم يزل يكبر حتى يستدير بدرا؟ نزل القرءان بالجواب بما فيه فائدة للبشر، وترك ما لا فائدة فيه، وذلك في قوله تعالى: * (يسئلونك عن الاهلة قل هى مواقيت للناس والحج) *، وهذا الباب الذي أرشد القرءان العظيم إلى سده لما فتحه الكفرة كانت نتيجة فتحه الكفر، والإلحاد وتكذيب الله ورسوله من غير فائدة دنيوية، والذي أرشد الله إليه في كتابه هو النظر في غرائب صنعه وعجائبه في السماوات والأرض، ليستدل بذلك على كمال قدرته تعالى، واستحقاقه للعبادة وحده، وهذا المقصد الأساسي لم يحصل للناظرين في الهيئة من الكفار.
وعلى كل حال، فلا يجوز لأحد ترك ظاهر القرءان العظيم إلا لدليل مقنع يجب الرجوع إليه، كما هو معلوم في محله.
72

ولا شك أن الذين يحاولون الصعود إلى القمر بآلاتهم ويزعمون أنهم نزلوا على سطحه سينتهي أمرهم إلى ظهور حقارتهم، وضعفهم، وعجزهم، وذلهم أمام قدرة خالق السماوات والأرض جل وعلا.
وقد قدمنا في سورة (الحجر)، أن ذلك يدل عليه قوله تعالى: * (أم لهم م لك * السماوات والارض وما بينهما فليرتقوا * فى الاسباب جند ما هنالك مهزوم من الاحزاب) *.
فإن قيل: الآيات التي استدللت بها على أن القمر في السماء المحفوظة فيها احتمال على أسلوب عربي معروف، يقتضي عدم دلالتها على ما ذكرت، وهو عود الضمير إلى اللفظ وحده، دون المعنى.
وإيضاحه أن يقال في قوله: * (جعل فى السماء بروجا) *، هي السماء المحفوظة، ولكن الضمير في قوله: * (وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا) *، راجع إلى مطلق لفظ السماء الصادق بمطلق ما علاك في اللغة، وهذا أسلوب عربي معروف وهو المعبر عنه عند علماء العربية، بمسألة: عندي درهم ونصفه، أي: نصف درهم آخر، ومنه قوله تعالى: * (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا فى كتاب) *، أي: ولا ينقص من عمر معمر آخر.
قلنا: نعم هذا محتمل، ولكنه لم يقم عليه عندنا دليل يجب الرجوع إليه، والعدول عن ظاهر القرءان العظيم لا يجوز إلا لدليل يجب الرجوع إليه، وظاهر القرءان أولى بالاتباع والتصديق من أقوال الكفرة ومقلديهم، والعلم عند الله تعالى. * (وعباد الرحمان الذين يمشون على الا رض هونا) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (ولا تمش فى الارض مرحا إنك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولا) *. * (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا
سلاما) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (مريم)، في الكلام على قوله تعالى: * (قال سلام عليك سأستغفر لك ربي) *.
73

* (والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما) *. ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة، من أن عباده الصالحين، يبيتون لربهم سجدا وقياما يعبدون الله ويصلون له، بينه في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى: * (أمن هو قانت ءاناء اليل ساجدا وقائما يحذر الاخرة ويرجوا * رحمة ربه) *، وقوله تعالى: * (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا) *، وقوله تعالى: * (إنهم كانوا قبل ذلك محسنين * كانوا قليلا من اليل ما يهجعون * وبالاسحار هم يستغفرون) *، وقوله تعالى: * (يبيتون) *، قال الزجاج: بات الرجل يبيت، إذا أدركه الليل، نام أو لم ينم، قال زهير: والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما) *. ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة، من أن عباده الصالحين، يبيتون لربهم سجدا وقياما يعبدون الله ويصلون له، بينه في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى: * (أمن هو قانت ءاناء اليل ساجدا وقائما يحذر الاخرة ويرجوا * رحمة ربه) *، وقوله تعالى: * (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا) *، وقوله تعالى: * (إنهم كانوا قبل ذلك محسنين * كانوا قليلا من اليل ما يهجعون * وبالاسحار هم يستغفرون) *، وقوله تعالى: * (يبيتون) *، قال الزجاج: بات الرجل يبيت، إذا أدركه الليل، نام أو لم ينم، قال زهير:
* فبتنا قياما عند رأس جوادنا
* يزاولنا عن نفسه ونزاوله
*
انتهى بواسطة نقل القرطبي. * (والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما) *. الأظهر أن معنى قوله: * (كان غراما) *، أي: كان لازما دائما غير مفارق، ومنه سمى الغريم لملازمته، ويقال: فلان مغرم بكذا، أي: لازم له، مولع به.
وهذا المعنى دلت عليه آيات من كتاب الله؛ كقوله تعالى: * (ولهم عذاب مقيم) *، وقوله: * (لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون) *، وقوله: * (فسوف يكون لزاما) *، وقوله تعالى: * (فلن نزيدكم إلا عذابا) *، وقوله: * (لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون) *، وقوله: * (ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزى كل كفور) *، وقوله تعالى: * (كلما خبت زدناهم سعيرا) *، وقوله تعالى: * (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقال الزجاج: الغرام أشد العذاب. وقال ابن زيد: الغرام الشر. وقال أبو عبيدة: الهلاك، قاله القرطبي. وقول الأعشى: وقال الزجاج: الغرام أشد العذاب. وقال ابن زيد: الغرام الشر. وقال أبو عبيدة: الهلاك، قاله القرطبي. وقول الأعشى:
* إن يعاقب يكن غراما وإن يع
* ط جزيلا فإنه لا يبال
*
74

يعني: يكن عذابه دائما لازما، وكذلك قول بشر بن أبي حازم: يعني: يكن عذابه دائما لازما، وكذلك قول بشر بن أبي حازم:
* ويوم النسار ويوم الجفا
* ركانا عذابا وكان غراما
*
وذلك هو الأظهر أيضا في قول الآخر:
* وما أكلة إن نلتها بغنيمة
* ولا جوعة إن جعتها بغرام
* والذين إذآ أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) *. قرأ هذا الحرف نافع وابن عامر: * (ولم يقتروا) * بضم الياء المثناة التحتية وكسر التاء مضارع أقتر الرباعي، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو: * (ولم يقتروا) * بفتح المثاة التحتية، وكسر المثناة الفوقية مضارع قتر الثلاثي كضرب، وقرأه عاصم وحمزة، والكسائي، * (ولم يقتروا) * بفتح المثناة التحتية، وضم المثناة الفوقية مضارع قتر الثلاثي كنصر، والإقتار على قراءة نافع وابن عامر، والقتر على قراءة الباقين معناهما واحد، وهو التضييق المخل بسد الخلة اللازم، والإسراف في قوله تعالى: * (لم يسرفوا) *، مجاوزة الحد في النفقة.
واعلم أن أظهر الأقوال في هذه الآية الكريمة، أن الله مدح عباده الصالحين بتوسطهم في إنفاقهم، فلا يجاوزون الحد بالإسراف في الإنفاق، ولا يقترون، أي: لا يضيقون فيبخلون بإنفاق القدر اللازم.
وقال بعض أهل العلم: الإسراف في الآية: الإنفاق في الحرام والباطل، والإقتار منع الحق الواجب، وهذا المعنى وإن كان حقا فالأظهر في الآية هو القول الأول.
قال ابن كثير رحمه الله: * (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا) *، أي: ليسوا مبذرين في إنفاقهم، فيصرفوا فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم، فيقصروا في حقهم فلا يكفوهم بل عدلا خيارا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا، انتهى محل الغرض منه.
وقوله تعالى: * (وكان بين ذلك قواما) *، أي: بين ذلك المذكور من الإسراف والقتر * (قواما) * أي: عدلا وسطا سالما من عيب الإسراف والقتر.
وأظهر أوجه الإعراب عندي في الآية هو ما ذكره القرطبي، قال: * (قواما) * خبر
75

* (كان) *، واسمها مقدر فيها، أي: كان الإنفاق بين الإسراف والقتر قواما، ثم قال: قاله الفراء، وباقي أوجه الإعراب في الآية ليس بوجيه عندي؛ كقول من قال: إن لفظة * (بين) * هي اسم * (كان) *، وأنها لم ترفع لبنائها بسبب إضافتها إلى مبني، وقول من قال: إن * (بين) * هي خبر * (كان) *، و * (قواما) * حال مؤكدة له، ومن قال إنهما خبران كل ذلك ليس بوجيه عندي، والأظهر الأول. والظاهر أن التوسط في الإنفاق الذي مدحهم به شامل لإنفاقهم على أهليهم، وإنفاقهم المال في أوجه الخير.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، جاء موضحا في غير هذا الموضع؛ فمن ذلك أن الله أوصى نبيه صلى الله عليه وسلم بالعمل بمقتضاه في قوله تعالى: * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) *، فقوله: * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) *، أي: ممسكة عن الإنفاق إمساكا كليا، يؤدي معنى قوله هنا: * (ولم يقتروا) *. وقوله: * (ولا تبسطها كل البسط) *، يؤدي معنى قوله هنا: * (لم يسرفوا) *، وأشار تعالى إلى هذا المعنى في قوله: * (وءات ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا) *، وقوله تعالى: * (يسئلونك عن ينفقون قل العفو) *، على أصح التفسيرين.
وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا المعنى في أول سورة (البقرة)، في الكلام على قوله تعالى: * (ومما رزقناهم ينفقون) *.
مسألة
هذه الآية الكريمة التي هي قوله تعالى: * (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا) *، والآيات التي ذكرناها معها، قد بينت أحد ركني ما يسمى الآن بالاقتصاد.
وإيضاح ذلك أنه لا خلاف بين العقلاء أن جميع مسائل الاقتصاد على كثرتها واختلاف أنواعها راجعة بالتقسيم الأول إلى أصلين، لا ثالث لهما.
الأول منهما: اكتساب المال.
والثاني منهما: صرفه في مصارفه، وبه تعلم أن الاقتصاد عمل مزدوج، ولا فائدة في واحد من الأصلين المذكورين إلا بوجود الآخر، فلو كان الإنسان أحسن الناس نظرا في
76

أوجه اكتساب المال، إلا أنه أخرق جاهل بأوجه صرفه، فإن جميع ما حصل من المال يضيع عليه بدون فائدة، وكذلك إذا كان الإنسان أحسن الناس نظرا في صرف المال في مصارفه المنتجة إلا أنه أخرق جاهل بأوجه اكتسابه، فإنه لا ينفعه حسن نظره في الصرف مع أنه لم يقدر على تحصيل شئ يصرفه، والآيات المذكورة أرشدت الناس ونبهتهم على الاقتصاد في الصرف.
وإذا علمت أن مسائل الاقتصاد كلها راجعة إلى الأصلين المذكورين، وأن الآيات المذكورة دلت على أحدهما، فاعلم أن الآخر منهما وهو اكتساب المال أرشدت إليه آيات أخر دلت على فتح الله الأبواب إلى اكتساب المال بالأوجه اللائقة، كالتجارات وغيرها؛ كقوله تعالى: * (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) *، وقوله تعالى: * (فإذا قضيت الصلواة فانتشروا فى الارض وابتغوا من فضل الله) *، وقوله تعالى: * (علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرءان علم أن) *، والمراد بفضل الله في الآيات المذكورة ربح التجارة؛ وكقوله تعالى: * (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) *، وقد قدمنا في سورة (الكهف)، في الكلام على قوله تعالى: * (فابعثوا أحدكم بورقكم هاذه إلى المدينة) *، أنواع الشركات وأسماءها، وبينا ما يجوز منها، وما لا يجوز عند الأئمة الأربعة وأوضحنا ما اتفقوا على منعه، وما اتفقوا على جوازه، وما اختلفوا فيه، وبه تعلم كثرة الطرق التي فتحها الله لاكتساب المال، بالأوجه الشرعية اللائقة.
وإذا علمت مما ذكرنا أن جميع مسائل الاقتصاد راجعة إلى أصلين، هما: اكتساب المال، وصرفه في مصارفه، فاعلم أن كل واحد من هذين الأصلين، لا بد له من أمرين ضروريين له:
الأول منهما: معرفة حكم الله فيه، لأن الله جل وعلا لم يبح اكتساب المال بجميع الطرق التي يكتسب بها المال، بل أباح بعض الطرق، وحرم بعضها؛ كما قال تعالى: * (وأحل الله البيع وحرم الربواا) *، ولم يبح الله جل وعلا صرف المال في كل شئ، بل أباح بعض الصرف وحرم بعضه؛ كما قال تعالى: * (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) *، وقال تعالى في الصرف الحرام: * (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله
77

فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة) *، فمعرفة حكم الله في اكتساب المال وفي صرفه في مصارفه أمر ضروري لا بد منه، لأن من لم يعلم ذلك قد يكتسب المال من وجه حرام، والمال المكتسب من وجه حرام، لا خير فيه البتة، وقد يصرف المال في وجه حرام، وصرفه في ذلك حسرة على صاحبه.
الأمر الثاني: هو معرفة الطريق الكفيلة باكتساب المال، فقد يعلم الإنسان مثلا أن التجارة في النوع الفلاني مباحة شرعا، ولكنه لا يعلم أوجه التصرف بالمصلحة الكفيلة بتحصيل المال، من ذلك الوجه الشرعي، وكم من متصرف يريد الربح، فيعود عليه تصرفه بالخسران، لعدم معرفته بالأوجه التي يحصل بها الربح. وكذلك قد يعلم الإنسان أن الصرف في الشئ الفلاني مباح، وفيه مصلحة، ولكنه لا يهتدي إلى معرفة الصرف المذكور، كما هو مشاهد في المشاريع الكثيرة النفع إن صرف فيها المال بالحكمة والمصلحة، فإن جواز الصرف فيها معلوم، وإيقاع الصرف على وجه المصلحة، لا يعلمه كل الناس.
وبهذا تعلم أن أصول الاقتصاد الكبار أربعة:
الأول: معرفة حكم الله في الوجه الذي يكتسب به المال، واجتناب الاكتساب به، إن كان محرما شرعا.
الثاني: حسن النظر في اكتساب المال بعد معرفة ما يبيحه خالق السماوات والأرض، وما لا يبيحه.
الثالث: معرفة حكم الله في الأوجه التي يصرف فيها المال، واجتناب المحرم منها.
الرابع: حسن النظر في أوجه الصرف، واجتناب ما لا يفيد منها، فكل من بنى اقتصاده على هذه الأسس الأربعة كان اقتصاده كفيلا بمصلحته، وكان مرضيا لله جل وعلا، ومن أخل بواحد من هذه الأسس الأربعة كان بخلاف ذلك؛ لأن من جمع المال بالطرق التي لا يبيحها الله جل وعلا فلا خير في ماله، ولا بركة؛ كما قال تعالى: * (يمحق الله الربواا ويربى الصدقات) *، وقال تعالى: * (قل لا يستوى الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث) *.
وقد تكلمنا على مسائل الربا في آية الربا في سورة (البقرة)، وتكلمنا على أنواع
78

الشركات وأسمائها، وبينا ما يجوز منها وما لا يجوز في سورة (الكهف)، في الكلام على قوله تعالى: * (فابعثوا أحدكم بورقكم هاذه إلى المدينة) *.
ولا شك أنه يلزم المسلمين في أقطار الدنيا التعاون على اقتصاد يجيزه خالق السماوات والأرض، على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ويكون كفيلا بمعرفة طرق تحصيل المال بالأوجه الشرعية، وصرفه في مصارفه المنتجة الجائزة شرعا؛ لأن الاقتصاد الموجود الآن في أقطار الدنيا لا يبيحه الشرع الكريم، لأن الذين نظموا طرقه ليسوا بمسلمين، فمعاملات البنوك والشركات لا تجد شيئا منها يجوز شرعا، لأنها إما مشتملة على زيادات ربوية، أو على غرر، لا تجوز معه المعاملة كأنواع التأمين المتعارفة عند الشركات اليوم في أقطار الدنيا، فإنك لا تكاد تجد شيئا منها سالما من الغرر، وتحريم بيع الغرر ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن من يدعي إباحة أنواع التأمين المعروفة عند الشركات، من المعاصرين أنه مخطىء في ذلك، ولأنه لا دليل معه بل الأدلة الصحيحة على خلاف ما يقول، والعلم عند الله تعالى. * (وإذا مروا باللغو مروا كراما) *. أي: إذا مروا بأهل اللغو والمشتغلين به مروا معرضين عنهم كراما مكرمين أنفسهم عن الخوض معهم في لغوهم، وهو كل كلام لا خير فيه، كما تقدم.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، أوضحه جل وعلا بقوله: * (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغى الجاهلين) *، وقد قدمنا الآيات الدالة على معاملة عباد الرحمان للجاهلين، في سورة (مريم)، في الكلام على قوله تعالى: * (قال سلام عليك سأستغفر لك ربي) *. * (والذين إذا ذكروا بأايات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا) *. قال الزمخشري: لم يخروا عليها ليس بنفي للخرور، وإنما هو إثبات له، ونفي للصمم والعمى؛ كما تقول: لا يلقاني زيد مسلما، وهو نفي للسلام لا للقاء.
والمعنى: أنهم إذا ذكروا به أكبوا عليها، حرصا على استماعها وأقبلوا على المذكر
79

بها، وهم في أكبابهم عليها سامعون بآذان واعية مبصرون بعيون راعية، انتهى محل الغرض منه.
ولا يخفى أن لهذه الآية الكريمة دلالتين: دلالة بالمنطوق، ودلالة بالمفهوم، فقد دلت بمنطوقها على أن من صفات عباد الرحمان، أنهم إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها، لم يكبوا عليها في حال كونهم صما عن سماع ما فيها من الحق، وعميانا عن إبصاره، بل هم يكبون عليها سامعين ما فيها من الحق مبصرين له.
وهذا المعنى دلت عليه آيات أخر من كتاب الله؛ كقوله تعالى: * (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله) *، ومعلوم أن من تليت عليه آيات هذا القرءان، فزادته إيمانا أنه لم يخر عليها أصم أعمى؛ وكقوله تعالى: * (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هاذه إيمانا فأما الذين ءامنوا فزادتهم إيمانا وهم) *، وقوله تعالى: * (مبين الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد دلت الآية المذكورة أيضا بمفهومها أن الكفرة المخالفين، لعباد الرحمان الموصوفين في هذه الآيات: إذا ذكروا بآيات ربهم خروا عليها صما وعميانا، أي: لا يسمعون ما فيها من الحق، ولا يبصرونه، حتى كأنهم لم يسمعوها أصلا.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة بمفهومها، جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله؛ كقوله تعالى في سورة (لقمان): * (وإذا تتلى عليه ءاياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن فى أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم) *، وقوله تعالى في (الجاثية): * (ويل لكل أفاك أثيم * يسمع ءايات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم * وإذا علم من ءاياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين) *، وقوله تعالى: * (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هاذه إيمانا فأما الذين ءامنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما) *، إلى غير ذلك من الآيات.
والظاهر: أن معنى خرور الكفار على الآيات، في حال كونهم صما وعميانا، هو إكبابهم على إنكارها والتكذيب بها، خلافا لما ذكره الزمخشري في (الكشاف)، والصم في
80

الآية جمع أصم، والعميان جمع أعمى، والعلم عند الله تعالى. * (أولائك يجزون الغرفة بما صبروا) *. الظاهر أن المراد بالغرفة في هذه الآية الكريمة جنسها الصادق بغرف كثيرة؛ كما يدل عليه قوله تعالى: * (وهم فى الغرفات ءامنون) *، وقوله تعالى: * (لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجرى من تحتها الانهار) *.
وقد أوضحناه هذا في أول سورة (الحج)، وفي غيرها. * (ويلقون فيها تحية وسلاما) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (يونس)، في الكلام على قوله تعالى: * (وتحيتهم فيها سلام) *. * (خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الكهف)، في الكلام على قوله تعالى: * (نعم الثواب وحسنت مرتفقا) *. * (قل ما يعبؤا بكم ربى لولا دعآؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما) *. العرب الذين نزل القرءان بلغتهم، يقولون: ما عبأت بفلان، أي: ما باليت به، ولا اكترثت به، أي: ما كان له عندي وزن، ولا قدر يستوجب الإكتراث والمبالاة به، وأصله من العبء وهو الثقل، ومنه قول أبي زيد يصف
أسدا: قل ما يعبؤا بكم ربى لولا دعآؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما) *. العرب الذين نزل القرءان بلغتهم، يقولون: ما عبأت بفلان، أي: ما باليت به، ولا اكترثت به، أي: ما كان له عندي وزن، ولا قدر يستوجب الإكتراث والمبالاة به، وأصله من العبء وهو الثقل، ومنه قول أبي زيد يصف أسدا:
* كان بنحره وبمنكبيه
* عبيرا بات يعبؤه عروس
*
وقوله: يعبؤه، أي: يجعل بعضه فوق بعض لمبالاته به واكتراثه به.
وإذا علمت ذلك، فاعلم أن كلام أهل التفسير في هذه الآية الكريمة يدور على أربعة أقوال.
واعلم أولا أن العلماء اختلفوا في المصدر في قوله: * (لولا دعاؤكم) *، هل هو مضاف إلى فاعله، أو إلى مفعوله، وعلى أنه مضاف إلى فاعله فالمخاطبون بالآية داعون،
81

لا مدعوون، أي: * (ما يعبؤا بكم ربى لولا دعاؤكم) *، أي: عبادتكم له. وأما على أن المصدر مضاف إلى مفعوله فالمخاطبون بالآية مدعوون لا داعون، أي: ما يعبؤا بكم لولا دعاؤه إياكم إلى توحيده، وعبادته على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام.
واعلم أيضا أن ثلاثة من الأقوال الأربعة المذكورة في الآية مبنية على كون المصدر فيها مضافا إلى فاعله. والرابع: مبني على كونه مضافا إلى مفعوله.
أما الأقوال الثلاثة المبنية على كونه مضافا إلى فاعله.
فالأول منها أن المعنى: * (ما يعبؤا بكم ربى لولا دعاؤكم) *، أي: عبادتكم له وحده جل وعلا، وعلى هذا القول فالخطاب عام للكافرين والمؤمنين، ثم أفرد الكافرين دون المؤمنين بقوله: * (فقد كذبتم) *.
والثاني منها: أن المعنى: * (لولا دعاؤكم) * أيها الكفار له وحده عند الشدائد والكروب، أي: ولو كنتم ترجعون إلى شرككم، إذا كشف الضر عنكم.
والثالث: أن المعنى * (ما يعبؤا بكم ربى) *، أي: ما يصنع بعذابكم، * (لولا دعاؤكم) * معه آلهة أخرى، ولا يخفى بعد هذا القول، وأن فيه تقدير ما لا دليل عليه، ولا حاجة إليه.
أما القول الرابع المبنى على أن المصدر في الآية، مضاف إلى مفعوله فهو ظاهر، أي: * (ما يعبؤا بكم ربى لولا) * دعاؤه إياكم على ألسنة رسله.
وإذا عرفت هذه الأقوال، فاعلم أن كل واحد منها، قد دل عليه قرءان وسنبين هنا إن شاء الله تعالى دليل كل قول منها من القرءان مع ذكر ما يظهر لنا أنه أرجحها.
أما هذا القول الأخير المبني على أن المصدر في الآية مضاف إلى مفعوله، وأن المعنى: * (ما يعبؤا بكم ربى لولا) * دعاؤه إياكم إلى الإيمان به وتوحيده وعبادته على ألسنة رسله، فقد دلت عليه آيات من كتاب الله؛ كقوله تعالى في أول سورة (هود): * (وهو الذى خلق السماوات والارض فى ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا) *، وقوله تعالى في أول سورة (الكهف): * (إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا) *، وقوله في أول سورة (الملك):
82

* (الذى خلق الموت والحيواة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) *.
فهذه الآيات قد أوضحت أن الحكمة في خلقه السماوات والأرض، وجميع ما على الأرض، والموت والحياة، هي أن يدعوهم على ألسنة رسله ويبتليهم، أي: أن يختبرهم أيهم أحسن عملا.
وهذه الآيات تبين معنى قوله تعالى: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) *.
وفي هذه الآيات إيضاح لأن معنى قوله: * (لولا دعاؤكم) *، أي: دعاؤه إياكم على ألسنة رسله، وابتلاؤكم أيكم أحسن عملا، وعلى هذا فلا إشكال في قوله: * (فقد كذبتم) *، أي: * (ما يعبؤا بكم * لولا) * دعاؤه إياكم، أي: وقد دعاكم فكذبتم، وهذا القول هو وحده الذي لا إشكال فيه، فهو قوي بدلالة الآيات المذكورة عليه.
وأما القول بأن معنى: * (لولا دعاؤكم) *، أي: إخلاصكم الدعاء له أيها الكفار عند الشدائد والكروب، فقد دلت على معناه آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: * (فإذا ركبوا فى الفلك دعوا الله مخلصين له الدين) *، وقوله تعالى: * (جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين) *.
وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا المعنى في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (وإذا مسكم الضر فى البحر ضل من تدعون إلا إياه) *، وهذا القول وإن دلت عليه آيات كثيرة، فلا يظهر كونه هو معنى آية (الفرقان) هذه.
وأما على القول بأن المعنى: ما يصنع بعذابكم، * (لولا دعاؤكم) * معه آلهة أخرى؛ فقد دل على معناه قوله تعالى: * (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وءامنتم) *.
والقول الأول الذي هو أشهر الأقوال وأكثرها قائلا، وهو أن المعنى: * (لولا دعاؤكم) *، أي: عبادتكم له وحده، قد دل عليه جميع الآيات الدالة على ما يعطيه الله لمن أطاعه، وما أعده لمن عصاه، وكثرتها معلومة لا خفاء بها.
واعلم أن لفظة * (ما) *، في قوله: * (قل ما يعبؤا بكم ربى) *، قال بعض أهل
83

العلم: هي استفهامية، وقال بعضهم: هي نافية وكلاهما له وجه من النظر.
واعلم أن قول من قال: * (لولا دعاؤكم) *، أي: دعاؤكم إياي لأغفر لكم، وأعطيكم ما سألتم، راجع إلى القول الأول؛ لأن دعاء المسألة داخل في العبادة، كما هو معلوم. وقوله: * (فقد كذبتم) *، أي: بما جاءكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد قدمنا في الكلام على قوله تعالى: * (إن عذابها كان غراما) *، أن معنى قوله تعالى: * (فسوف يكون لزاما) *، أي: سوف يكون العذاب ملازما لهم غير مفارق، كما تقدم إيضاحه.
وقال جماعة من أهل العلم: إن المراد بالعذاب اللازم لهم المعبر عن لزومه لهم، بقوله: * (فسوف يكون لزاما) *، أنه ما وقع من العذاب يوم بدر، لأنهم قتل منهم سبعون وأسر سبعون، والذين قتلوا منهم أصابهم عذاب القتل، واتصل به عذاب البرزخ والآخرة فهو ملازم لا يفارقهم بحال، وكون اللزام المذكور في هذه الآية العذاب الواقع يوم بدر، نقله ابن كثير عن عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، ومحمد بن كعب القرظي، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والسدي، وغيرهم، ثم قال: وقال الحسن البصري: * (فسوف يكون لزاما) *، أي: يوم القيامة ولا منافاة بينهما، انتهى من ابن كثير، ونقله صاحب (الدر المنثور) عن أكثر المذكورين وغيرهم.
وقال جماعة من أهل العلم: إن يوم بدر ذكره الله تعالى في آيات من كتابه، قالوا هو المراد بقوله تعالى: * (ولنذيقنهم من العذاب الادنى) *، أي: يوم بدر، * (دون العذاب الاكبر) *، أي: يوم القيامة، وأنه هو المراد بقوله: * (فسوف يكون لزاما) *، وأنه هو المراد بالبطش والانتقام، في قوله تعالى: * (يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون) *، وأنه هو الفرقان الفارق بين الحق والباطل في قوله تعالى: * (واعلموا أنما غنمتم من شىء فأن لله خمسه وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين) *، وهو يوم بدر، وأنه هو الذي فيه النصر في قوله تعالى: * (ولقد نصركم الله ببدر) *، وكون المراد بهذه الآيات المذكورة يوم بدر ثبت بعضه في الصحيح، عن ابن مسعود، وهو المراد بقول الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي في الكلام على بدر، وقد أتى منوها في الذكر
84

: وأنه هو الفرقان الفارق بين الحق والباطل في قوله تعالى: * (واعلموا أنما غنمتم من شىء فأن لله خمسه وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين) *، وهو يوم بدر، وأنه هو الذي فيه النصر في قوله تعالى: * (ولقد نصركم الله ببدر) *، وكون المراد بهذه الآيات المذكورة يوم بدر ثبت بعضه في الصحيح، عن ابن مسعود، وهو المراد بقول الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي في الكلام على بدر، وقد أتى منوها في الذكر:
* لأنه العذاب واللزام
* وأنه البطش والانتقام
*
* وأنه الفرقان بين الكفر
* والحق والنصر سجيس الدهر
*
ومعنى سجيس الدهر، أي: مدته.
وأظهر الأقوال في الآية عندي، هو القول بأن المصدر فيها مضاف إلى مفعوله لجريانه على اللغة الفصيحة من غير إشكال ولا تقدير، وممن قال به قتادة، والعلم عند الله تعالى.
85

((سورة الشعراء))
قوله تعالى: * (طسم * تلك ءايات الكتاب المبين * لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين * إن نشأ ننزل عليهم من السمآء ءاية فظلت أعناقهم لها خاضعين * وما يأتيهم من ذكر من الرحمان محدث إلا كانوا عنه معرضين * فقد كذبوا فسيأتيهم أنباؤا ما كانوا به يستهزءون * أولم يروا إلى الا رض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم * إن في ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم * وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين * قوم فرعون ألا يتقون * قال رب إنى أخاف أن يكذبون * ويضيق صدرى ولا ينطلق لسانى فأرسل إلى هارون * ولهم على ذنب فأخاف أن يقتلون * قال كلا فاذهبا بأاياتنآ إنا معكم مستمعون * فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين * أن أرسل معنا بنى إسراءيل) *.) * قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة (الكهف)، في الكلام على قوله تعالى: * (فلعلك باخع نفسك علىءاثارهم إن لم يؤمنوا بهاذا الحديث أسفا) *، وفي آخر سورة (الحجر)، في الكلام على قوله تعالى: * (ولا تحزن عليهم) *، وقوله تعالى: * (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون) *. * (أولم يروا إلى الا رض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم * إن في ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين) *. أشار جل وعلا في هذه الآية الكريمة إلى أن كثرة ما أنبت في الأرض، * (من كل زوج كريم) *، أي؛ صنف حسن من أصناف النبات، فيه آية دالة على كمال قدرته.
وقد أوضحنا في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك أن إحياء الأرض بعد موتها، وإنبات النبات فيها بعد عدمه من البراهن القاطعة على بعث الناس بعد الموت.
وقد أوضحنا دلالة الآيات القرآنية على ذلك في سورة (البقرة)، في الكلام على قوله تعالى: * (ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم) *، إلى قوله: * (وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) *، وفي أول سورة (النحل)، في الكلام على قوله تعالى: * (هو الذى أنزل من السماء مآء لكم منه شراب ومنه
شجر فيه تسيمون * ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والاعناب ومن كل الثمرات) *. * (وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين * قوم فرعون ألا يتقون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (مريم)، في الكلام على قوله تعالى: * (وناديناه من جانب الطور الايمن وقربناه نجيا) *. * (قال رب إنى أخاف أن يكذبون ويضيق صدرى ولا ينطلق لسانى) *
86

. قوله تعالى في هذه الآية الكريمة عن نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: * (إنى أخاف أن يكذبون) *، أي: بسبب أني قتلت منهم نفسا، وفررت منهم لما خفت أن يقتلوني بالقتيل الذي قتلته منهم، ويوضح هذا المعنى الترتيب بالفاء في قوله تعالى: * (قال رب إنى قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون) *؛ لأن من يخاف القتل فهو يتوقع التكذيب، وقوله: * (ولا ينطلق لسانى) *، أي: من أجل العقدة المذكورة في قوله تعالى عن موسى: * (واحلل عقدة من لسانى * يفقهوا قولي) *، قدمنا في الكلام على آية (طه)، هذه بعض الآيات الدالة على ما يتعلق بهذا المبحث. * (فأرسل إلى هارون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (مريم)، في الكلام على قوله تعالى: * (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا) *. قوله تعالى عن نبيه موسى: * (ولهم على ذنب فأخاف أن يقتلون) *. لم يبين هنا هذا الذنب الذي لهم عليه الذي يخاف منهم أن يقتلوه بسببه، وقد بين في غير هذا الموضع أن الذنب المذكور هو قتله لصاحبهم الغبطي، فقد صرح تعالى بالقتل المذكور في قوله تعالى: * (قال رب إنى قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون) *، فقوله: * (قتلت منهم نفسا) * مفسر لقوله: * (ولهم على ذنب) *، ولذا رتب بالفاء على كل واحد منهما. قوله: * (فأخاف أن يقتلون) *، وقد أوضح تعالى قصة قتل موسى له بقوله في (القصص): * (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هاذا من شيعته وهاذا من عدوه فاستغاثه الذى) *، وقوله: * (فقضى عليه) *، أي: قتله، ولك هو الذنب المذكور في آية (الشعراء) هذه.
وقد بين تعالى أنه غفر لنبيه موسى ذلك الذنب المذكور، وذلك في قوله تعالى: * (قال رب إنى ظلمت نفسى فاغفر لى فغفر له) *. * (قال كلا فاذهبا بأاياتنآ إنا معكم مستمعون) *. صيغة الجمع في قوله: * (إنا معكم مستمعون) *، للتعظيم، وما ذكره جل وعلا في
87

هذه الآية من رده على موسى خوفه القتل من فرعون وقومه، بحرف الزجر الذي هو * (كلا) *، وأمره أن يذهب هو وأخوه بآياته مبينا لهما أن الله معهم، أي: وهي معية خاصة بالنصر والتأييد، وأنه مستمع لكل ما يقول لهم فرعون، أوضحه أيضا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى: * (قال لا تخافا إننى معكما أسمع وأرى) *، وقوله تعالى: * (قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما باياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون) *. * (فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (مريم)، و (طه)، وبينا في سورة (طه)، في الكلام على قوله تعالى: * (فقولا إنا رسولا ربك) *، وجه تثنيته الرسول في (طه)، وإفراده هنا في (الشعراء)، مع شواهده العربية.
* (قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين * وفعلت فعلتك التى فعلت وأنت من الكافرين * قال فعلتهآ إذا وأنا من الضآلين * ففررت منكم لما خفتكم فوهب لى ربى حكما وجعلنى من المرسلين * وتلك نعمة تمنها على أن عبدت بنى إسراءيل * قال فرعون وما رب العالمين * قال رب السماوات والا رض وما بينهمآ إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب ءابآئكم الا ولين * قال إن رسولكم الذى أرسل إليكم لمجنون * قال رب المشرق والمغرب وما بينهمآ إن كنتم تعقلون * قال لئن اتخذت إلاها غيرى لأجعلنك من المسجونين * قال أولو جئتك بشىء مبين * قال فأت به إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هى ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هى بيضآء للناظرين * قال للملإ حوله إن هاذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون * قالوا أرجه وأخاه وابعث فى المدآئن حاشرين * يأتوك بكل سحار عليم * فجمع السحرة لميقات يوم معلوم * وقيل للناس هل أنتم مجتمعون * لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين * فلما جآء السحرة قالوا لفرعون أإن لنا لاجرا إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين * قال لهم موسى ألقوا مآ أنتم ملقون * فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون * فألقى موسى عصاه فإذا هى تلقف ما يأفكون * فألقى السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون * قال ءامنتم له قبل أن ءاذن لكم إنه لكبيركم الذى علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين * قالوا لا ضير إنآ إلى ربنا منقلبون * إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانآ أن كنآ أول المؤمنين * وأوحينآ إلى موسى أن أسر بعبادى إنكم متبعون * فأرسل فرعون فى المدآئن حاشرين * إن هاؤلاء لشرذمة قليلون * وإنهم لنا لغآئظون * وإنا لجميع حاذرون * فأخرجناهم من جنات وعيون * وكنوز ومقام كريم * كذلك وأورثناها بنى إسراءيل * فأتبعوهم مشرقين * فلما ترآءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معى ربى سيهدين * فأوحينآ إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم * وأزلفنا ثم الا خرين * وأنجينا موسى ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا الا خرين * إن فى ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم * واتل عليهم نبأ إبراهيم * إذ قال لابيه وقومه ما تعبدون * قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين * قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنآ ءابآءنا كذلك يفعلون * قال أفرءيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وءابآؤكم الا قدمون * فإنهم عدو لى إلا رب العالمين * الذى خلقنى فهو يهدين * والذى هو يطعمنى ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين * والذى يميتنى ثم يحيين * والذى أطمع أن يغفر لى خطيئتى يوم الدين * رب هب لى حكما وألحقنى بالصالحين * واجعل لى لسان صدق فى الا خرين * واجعلنى من ورثة جنة النعيم * واغفر لابى إنه كان من الضآلين * ولا تخزنى يوم يبعثون * يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم * وأزلفت الجنة للمتقين * وبرزت الجحيم للغاوين * وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون * من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون * فكبكبوا فيها هم والغاوون * وجنود إبليس أجمعون * قالوا وهم فيها يختصمون * تالله إن كنا لفى ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين * ومآ أضلنآ إلا المجرمون * فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم * فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين * إن فى ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم * كذبت قوم نوح المرسلين * إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * ومآ
أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين * فاتقوا الله وأطيعون * قالوا أنؤمن لك واتبعك الا رذلون * قال وما علمى بما كانوا يعملون * إن حسابهم إلا على ربى لو تشعرون * ومآ أنا بطارد المؤمنين * إن أنا إلا نذير مبين * قالوا لئن لم تنته يانوح لتكونن من المجرمين * قال رب إن قومى كذبون * فافتح بينى وبينهم فتحا ونجنى ومن معى من المؤمنين * فأنجيناه ومن معه فى الفلك المشحون * ثم أغرقنا بعد الباقين * إن فى ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم * كذبت عاد المرسلين * إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون * إنى لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * ومآ أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين * أتبنون بكل ريع ءاية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين * فاتقوا الله وأطيعون * واتقوا الذى أمدكم بما تعلمون * أمدكم بأنعام وبنين * وجنات وعيون * إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم * قالوا سوآء علينآ أوعظت أم لم تكن من الواعظين * إن هاذا إلا خلق الا ولين * وما نحن بمعذبين * فكذبوه فأهلكناهم إن فى ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم * كذبت ثمود المرسلين * إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون * إنى لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * ومآ أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين * أتتركون فى ما هاهنآ ءامنين * فى جنات وعيون * وزروع ونخل طلعها هضيم * وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين * فاتقوا الله وأطيعون * ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون فى الا رض ولا يصلحون * قالوا إنمآ أنت من المسحرين * مآ أنت إلا بشر مثلنا فأت بأاية إن كنت من الصادقين * قال هاذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم * ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم * فعقروها فأصبحوا نادمين * فأخذهم العذاب إن فى ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم * كذبت قوم لوط المرسلين * إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون * إنى لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * ومآ أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين * أتأتون الذكران من العالمين * وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون * قالوا لئن لم تنته يالوط لتكونن من المخرجين * قال إنى لعملكم من القالين * رب نجنى وأهلى مما يعملون * فنجيناه وأهله أجمعين * إلا عجوزا فى الغابرين * ثم دمرنا الا خرين * وأمطرنا عليهم مطرا فسآء مطر المنذرين * إن فى ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم * كذب أصحاب لأيكة المرسلين * إذ قال لهم شعيب ألا تتقون * إنى لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * ومآ أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين * أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين * وزنوا بالقسطاس المستقيم * ولا تبخسوا الناس أشيآءهم ولا تعثوا فى الا رض مفسدين) * * (قال ألم نربك فينا وليدا) *. تربية فرعون لموسى هذه التي ذكرها له هي التي ذكر مبدؤها في قوله تعالى: * (وقالت امرأت فرعون قرة عين لى ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون) *، وقوله تعالى: * (وألقيت عليك محبة منى ولتصنع على عينى) *. قوله تعالى في كلام فرعون لموسى: * (وفعلت فعلتك التى فعلت وأنت من الكافرين) *. أبهم جل وعلا هذه الفعلة التي فعلها لتعبيره عنها بالاسم المبهم الذي هو الموصول في قوله: * (التى فعلت) *، وقد أوضحها في آيات أخر، وبين أن الفعلة المذكورة هي قتله نفسا منهم؛ كقوله تعالى: * (فوكزه موسى فقضى عليه) *، وقوله تعالى: * (قال رب إنى قتلت منهم نفسا) *، وقوله عن الإسرائيلي الذي استغاث بموسى مرتين: * (قال ياءادم موسى أتريد أن تقتلنى كما قتلت نفسا بالامس إن تريد إلا أن تكون جبارا فى الارض وما تريد أن تكون) *.
وأظهر الأقوال عندي في معنى قوله: * (وأنت من الكافرين) *، أن المراد به كفر
88

النعمة، يعني أنعمنا عليك بتربيتنا إياك صغيرا، وإحساننا إليك تتقلب في نعمتنا فكفرت نعمتنا، وقابلت إحساننا بالإساءة لقتلك نفسا منا، وباقي الأقوال تركناه؛ لأن هذا أظهرها عندنا.
وقال بعض أهل العلم: رد موسى على فرعون امتنانه عليه بالتربية، بقوله: * (وتلك نعمة تمنها على أن عبدت بنى) *، يعني: تعبيدك لقومي، وإهانتك لهم لا يعتبر معه إحسانك إلي لأني رجل واحد منهم، والعلم عند الله تعالى. * (قال فعلتهآ إذا وأنا من الضآلين) *. أي: قال موسى مجيبا لفرعون: * (قال فعلتها إذا) *، أي: إذ فعلتها * (وأنا) * في ذلك الحين * (من الضالين) *، أي: قبل أن يوحي الله إلي، ويبعثني رسولا، وهذا هو التحقيق إن شاء الله في معنى الآية.
وقول من قال من أهل العلم: * (وأنا من الضالين) *، أي: من الجاهلين، راجع إلى ما ذكرنا؛ لأنه بالنسبة إلى ما علمه الله من الوحي يعتبر قبله جاهلا، أي: غير عالم بما أوحى الله إليه.
وقد بينا مرارا في هذا الكتاب المبارك أن لفظ الضلال يطلق في القرءان، وفي اللغة العربية ثلاثة إطلاقات:
الإطلاق الأول: يطلق الضلال مرادا به الذهاب عن حقيقة الشئ، فتقول العرب في كل من ذهب عن علم حقيقة شئ ضل عنه، وهذا الضلال ذهاب عن علم شئ ما، وليس من الضلال في الدين.
ومن هذا المعنى قوله هنا: * (وأنا من الضالين) *، أي: من الذاهبين عن علم حقيقة العلوم، والأسرار التي لا تعلم إلا عن طريق الوحي، لأني في ذلك الوقت لم يوح إلي، ومنه على التحقيق: * (ووجدك ضالا فهدى) *، أي: ذاهبا عما علمك من العلوم التي لا تدرك إلا بالوحي.
ومن هذا المعنى قوله تعالى: * (قال علمها عند ربى فى كتاب لا يضل ربى ولا ينسى) *، فقوله: * (لا يضل ربى) *، أي: لا يذهب عنه علم شئ كائنا ما كان،
89

وقوله تعالى: * (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الاخرى) *، فقوله: * (أن تضل إحداهما) *، أي: تذهب عن علم حقيقة المشهود به بدليل قوله بعده: * (فتذكر إحداهما الاخرى) *، وقوله تعالى عن أولاد يعقوب: * (إن أبانا لفى ضلال مبين) *، وقوله: * (قالوا تالله إنك لفى ضلالك القديم) *، على التحقيق في ذلك كله. ومن هذا المعنى قول الشاعر: وقوله: * (قالوا تالله إنك لفى ضلالك القديم) *، على التحقيق في
ذلك كله. ومن هذا المعنى قول الشاعر:
* وتظن سلمى أنني أبغي بها
* بدلا أراها في الضلال تهيم
*
والإطلاق الثاني: وهو المشهور في اللغة، وفي القرءان هو إطلاق الضلال على الذهاب عن طريق الإيمان إلى الكفر، وعن طريق الحق إلى الباطل، وعن طريق الجنة إلى النار، ومنه قوله تعالى: * (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) *.
والإطلاق الثالث: هو إطلاق الضلال على الغيبوبة والاضمحلال، تقول العرب: ضل الشئ إذا غاب واضمحل، ومنه قولهم: ضل السمن في الطعام، إذا غاب فيه واضمحل، ولأجل هذا سمت العرب الدفن في القبر إضلالا؛ لأن المدفون تأكله الأرض فيغيب فيها ويضمحل.
ومن هذا المعنى قوله تعالى: * (وقالوا أءذا ضللنا فى الارض) *، يعنون: إذا دفنوا وأكلتهم الأرض، فضلوا فيها، أي: غابوا فيها واضمحلوا.
ومن إطلاقهم الإضلال على الدفن، قول نابغة ذبيان يرثي النعمان بن الحارث بن أبي شمر الغساني: ومن إطلاقهم الإضلال على الدفن، قول نابغة ذبيان يرثي النعمان بن الحارث بن أبي شمر الغساني:
* فإن تحيي لا أملك حياتي وأن تمت
* فما في حياة بعد موتك طائل
*
* فآب مضلوه بعين جلية
* وغودر بالجولان حزم ونائل
*
وقول المخبل السعدي يرثي قيس بن عاصم: وقول المخبل السعدي يرثي قيس بن عاصم:
* أضلت بنو قيس بن سعد عميدها
* وفارسها في الدهر قيس بن عاصم
*
فقول الذبياني: فآب مضلوه، يعني: فرجع دافنوه، وقول السعدي: أضلت، أي: دفنت، ومن إطلاق الضلال أيضا على الغيبة والاضمحلال قول الأخطل
90

: فقول الذبياني: فآب مضلوه، يعني: فرجع دافنوه، وقول السعدي: أضلت، أي: دفنت، ومن إطلاق الضلال أيضا على الغيبة والاضمحلال قول الأخطل:
* كنت القذى في موج أكدر مزيد
* قذف الأتى به فضل ضلالا
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* ألم تسأل فتخبرك الديار
* عن الحي المضلل أين ساروا
*
وزعم بعض أهل العلم أن للضلال إطلاقا رابعا، قال: ويطلق أيضا على المحبة، قال: ومنه قوله: * (قالوا تالله إنك لفى ضلالك القديم) *، قال: أي في حبك القديم ليوسف، قال: ومنه قول الشاعر: وزعم بعض أهل العلم أن للضلال إطلاقا رابعا، قال: ويطلق أيضا على المحبة، قال: ومنه قوله: * (قالوا تالله إنك لفى ضلالك القديم) *، قال: أي في حبك القديم ليوسف، قال: ومنه قول الشاعر:
* هذا الضلال أشاب مني المفرقا
* والعارضين ولم أكن متحققا
*
* عجبا لعزة في اختيار قطيعتي
* بعد الضلال فحبلها قد أخلقا
*
وزعم أيضا أن منه قوله: * (ووجدك ضالا) *، قال: أي محب للهداية فهداك، ولا يخفى سقوط هذا القول، والعلم عند الله تعالى. * (ففررت منكم لما خفتكم) *. خوفه منهم هذا الذي ذكر هنا أنه سبب لفراره منهم، قد أوضحه تعالى وبين سببه في قوله: * (وجاء رجل من من أقصى المدينة يسعى قال ياموسى إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إنى لك من الناصحين * فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجنى من القوم الظالمين) *، وبين خوفه المذكور بقوله تعالى: * (فأصبح فى المدينة خائفا يترقب) *. * (فوهب لى ربى حكما وجعلنى من المرسلين) *. قد قدمنا الآيات الموضحة لابتداء رسالته المذكورة هنا في سورة (مريم)، وغيرها.
وقوله: * (فوهب لى ربى حكما) *، قال بعضهم: الحكم هنا هو النبوة، وممن يروى عنه ذلك السدي.
والأظهر عندي: أن الحكم هو العلم الذي علمه الله إياه بالوحي، والعلم عند الله تعالى. * (قال فرعون وما رب العالمين) *.
91

ظاهر هذه الآية الكريمة أن فرعون لا يعلم شيئا عن رب العالمين، وكذلك قوله تعالى عنه: * (قال فمن ربكما ياموسى موسى) *، وقوله: * (ما علمت لكم من إلاه غيرى) *، وقوله: * (لئن اتخذت إلاها غيرى لاجعلنك من المسجونين) *، ولكن الله جل وعلا بين أن سؤال فرعون في قوله: * (وما رب العالمين) *، وقوله: * (فمن ربكما ياموسى موسى) *، تجاهل عارف أنه عبد مربوب لرب العالمين، بقوله تعالى: * (قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والارض بصائر وإنى لاظنك يافرعون * فرعون مثبورا) *، وقوله تعالى عن فرعون وقومه: * (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا) *.
وقد أوضحنا هذا في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) *، وفي سورة (طه)، في الكلام على قوله تعالى: * (قال فمن ربكما ياموسى موسى) *. * (قال أولو جئتك بشىء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه) *، إلى آخر القصة. قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة (طه) و (الأعراف).
قوله تعالى: * (واتل عليهم نبأ إبراهيم * إذ قال لابيه وقومه ما تعبدون * قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين) *، إلى قوله * (إلا رب العالمين) *.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (مريم)، في الكلام على قوله تعالى: * (واذكر فى الكتاب * إبراهيم) *. * (فكبكبوا فيها هم والغاوون * وجنود إبليس أجمعون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في مواضع من هذا الكتاب المبارك في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا) *، وفي (الحجر)، في الكلام على قوله تعالى: * (وإن جهنم لموعدهم أجمعين * لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم) *.
92

* (قالوا وهم فيها يختصمون * تالله إن كنا لفى ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين) *. ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن أهل النار يختصمون، فيها جاء موضحا في مواضع أخر من كتاب الله تعالى؛ كقوله تعالى: * (هاذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالو النار * قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم) *، إلى قوله تعالى: * (إن ذلك لحق تخاصم أهل النار) *.
وقد قدمنا إيضاح هذا بالآيات القرآنية في سورة (الأعراف)، في الكلام على قوله تعالى: * (حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لاولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فئاتهم عذابا ضعفا من النار) *، وفي سورة (البقرة)، في الكلام على قوله تعالى: * (إذ تبرأ الذين اتبعوا) *. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (تالله إن كنا لفى ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين) *، قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة (الأنعام)، في الكلام على قوله تعالى: * (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) *. * (فما لنا من شافعين) *. قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (البقرة)، في الكلام على قوله تعالى: * (ولا يقبل منها شفاعة) *، وفي سورة (الأعراف)، في الكلام على قوله تعالى: * (فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا) *. * (فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين) *. دلت هذه الآية الكريمة على أمرين:
الأول منهما أن الكفار يوم القيامة، يتمنون الرد إلى الدنيا، لأن * (لو) * في قوله هنا: * (فلو أن لنا) * للتمني، وال * (كرة) * هنا: الرجعة إلى الدنيا، وإنهم زعموا أنهم إن ردوا إلى الدنيا كانوا من المؤمنين المصدقين للرسل، فيما جاءت به، وهذان الأمران قد قدمنا الآيات الموضحة لكل واحد منهما.
أما تمنيهم الرجوع إلى الدنيا، فقد أوضحناه بالآيات القرآنية في سورة (الأعراف)، في الكلام على قوله تعالى: * (أو نرد فنعمل غير الذى كنا نعمل) *. وأما زعمهم
93

أنهم إن ردوا إلى الدنيا آمنوا، فقد بينا الآيات الموضحة له في (الأعراف)، في الكلام على الآية المذكورة، وفي (الأنعام)، في الكلام على قوله تعالى: * (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) *.
* (كذبت قوم نوح المرسلين) *،.
قد قدمنا الكلام عليها في سورة (الحج) وفي غيرها، وتكلمنا على قوله تعالى: * (وما أسئلكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين) *، في قصة نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب. وبينا الآيات الموضحة لذلك في سورة (هود)، في الكلام على قوله تعالى: * (كارهون وياقوم لا أسألكم عليه مالا إن أجرى إلا على الله) *. * (قالوا أنؤمن لك واتبعك الا رذلون) *. قد قدمنا الكلام عليه في سورة (هود)، في الكلام على قوله تعالى عن قوم نوح: * (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا) *. * (ومآ أنا بطارد المؤمنين) *. قد قدمنا ما يدل عليه من القرءان في سورة (هود)، في الكلام على قوله تعالى عن نوح: * (وما أنا بطارد الذين ءامنوا إنهم * ملاقوا ربهم ولاكنى أراكم قوما تجهلون تجهلون * وياقوم من ينصرنى من الله إن طردتهم) *.
وأوضحناه بالآيات القرءانية في سورة (الأنعام)، في الكلام على قوله تعالى: * (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه) *، إلى قوله: * (
فتطردهم فتكون من الظالمين) *، وفي سورة (الكهف)، في الكلام على قوله تعالى: * (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه) *. * (قال رب إن قومى كذبون * فافتح بينى وبينهم فتحا ونجنى ومن معى من المؤمنين * فأنجيناه ومن معه فى الفلك المشحون * ثم أغرقنا بعد الباقين) *. قوله تعالى هنا عن نوح: * (قال رب إن قومى كذبون) *، أوضحه في غير هذا الموضع؛ كقوله: * (قال رب إنى دعوت قومى ليلا ونهارا * فلم يزدهم دعائى إلا فرارا *
94

وإنى كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم فىءاذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا) *، وقوله هنا: * (فافتح بينى وبينهم فتحا) *، أي: احكم بيني وبينهم حكما، وهذا الحكم الذي سأل ربه إياه هو إهلاك الكفار، وإنجاؤه هو ومن آمن معه، كما أوضحه تعالى في آيات أخر؛ كقوله تعالى: * (فدعا ربه أنى مغلوب فانتصر) *، وقوله تعالى: * (وقال نوح رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا) *، إلى غير ذلك من الآيات. وقوله هنا عن نوح: * (ونجنى ومن معى من المؤمنين) *، قد بين في آيات كثيرة أنه أجاب دعاءه هذا؛ كقوله هنا: * (فأنجيناه ومن معه فى الفلك المشحون) *، وقوله تعالى: * (فأنجيناه وأصحاب السفينة) *، وقوله تعالى: * (ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون * ونجيناه وأهله من الكرب العظيم) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقوله هنا: * (ثم أغرقنا بعد الباقين) *، جاء موضحا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: * (فأخذهم الطوفان وهم ظالمون) *، وقوله تعالى: * (ولا تخاطبنى فى الذين ظلموا إنهم مغرقون) *، إلى غير ذلك من الآيات.
و * (المشحون) * المملوء، ومنه قول عبيد بن الأبرص: و * (المشحون) * المملوء، ومنه قول عبيد بن الأبرص:
* شحنا أرضهم بالخيل حتى
* تركناهم أذل من الصراط
*
والفلك: يطلق على الواحد والجمع، فإن أطلق على الواحد جاز تذكيره؛ كقوله هنا: * (فى الفلك المشحون) *، وإن جمع أنث، والمراد بالفلك هنا السفينة؛ كما صرح تعالى بذلك في قوله: * (فأنجيناه وأصحاب السفينة) *. * (كذب أصحاب لأيكة المرسلين) *. قال أكثر أهل العلم: إن أصحاب الأيكة هم مدين. قال ابن كثير: وهو الصحيح، وعليه فتكون هذه الآية بينتها الآيات الموضحة قصة شعيب مع مدين، ومما استدل به أهل هذا القول، أنه قال هنا لأصحاب الأيكة: * (أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين * وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا فى الارض مفسدين) *، وهذا الكلام ذكر الله عنه أنه قاله لمدين في مواضع متعددة؛ كقوله في (هود): * (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم قوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره ولا تنقصوا
95

المكيال والميزان إنى أراكم بخير وإنى أخاف عليكم عذاب يوم) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا في سورة (الأعراف)، قولنا: فإن قيل الهلاك الذي أصاب قوم شعيب ذكر الله جل وعلا في (الأعراف) أنه رجفة، وذكر في (هود) أنه صيحة، وذكر في (الشعراء)، أنه عذاب يوم الظلة.
فالجواب ما قاله ابن كثير رحمه الله في تفسيره، قال: وقد اجتمع عليهم ذلك كله، أصابهم عذاب يوم الظلة، وهي سحابة أظلتهم فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم، ثم جاءتهم صيحة من السماء، ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم فزهقت الأرواح، وفاضت النفوس، وخمدت الأجسام، انتهى. وعلى القول بأن شعيبا أرسل إلى أمتين: مدين وأصحاب الأيكة، وأن مدين ليسوا هم أصحاب الأيكة، فلا إشكال. وقد جاء ذلك في حديث ضعيف عن عبد الله بن عمرو، وممن روي عنه هذا القول: قتادة، وعكرمة وإسحاق بن بشر.
وقد قدمنا بعض الآيات الموضحة لهذا في سورة (الحجر)، في الكلام على قوله تعالى: * (وإن كان أصحاب الايكة لظالمين * فانتقمنا منهم) *، وأوضحنا هنالك أن نافعا، وابن عامر، وابن كثير قرأوا * (ليكة) * في سورة (الشعراء)، و سورة (ص)، بلام مفتوحة أول الكلمة، وتاء مفتوحة آخرها من غير همز، ولا تعريف على أن اسم للقرية غير منصرف، وأن الباقين قرأوا: * (أصحاب لئيكة) * بالتعريف والهمز وكسر التاء، وأن الجميع اتفقوا على ذلك في (ق) و (الحجر)، وأوضحنا هنالك توجيه القراءتين في (الشعراء) و (ص)، ومعنى * (لئيكة) * في اللغة مع بعض الشواهد العربية. * (واتقوا الذى خلقكم والجبلة الا ولين * قالوا إنمآ أنت من المسحرين * ومآ أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين * فأسقط علينا كسفا من السمآء إن كنت من الصادقين * قال ربى أعلم بما تعملون * فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم * إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم * وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الا مين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربى مبين * وإنه لفى زبر الا ولين * أو لم يكن لهم ءاية أن يعلمه علماء بنى إسراءيل * ولو نزلناه على بعض الا عجمين * فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين * كذلك سلكناه في قلوب المجرمين * لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الا ليم * فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون * فيقولوا هل نحن منظرون * أفبعذابنا يستعجلون * أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جآءهم ما كانوا يوعدون * مآ أغنى عنهم ما كانوا يمتعون * ومآ أهلكنا من قرية إلا لها منذرون * ذكرى وما كنا ظالمين * وما تنزلت به الشياطين * وما ينبغى لهم وما يستطيعون * إنهم عن السمع لمعزولون * فلا تدع مع الله إلاها ءاخر فتكون من المعذبين * وأنذر عشيرتك الا قربين * واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين * فإن عصوك فقل إنى برىء مما تعملون * وتوكل على العزيز الرحيم * الذى يراك حين تقوم * وتقلبك فى الساجدين * إنه هو السميع العليم * هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم * يلقون السمع وأكثرهم كاذبون * والشعرآء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم فى كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون * إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب
ينقلبون) *.) * * (الجبلة) *: الخلق، ومنه قوله تعالى: * (مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا) *، وقد استدل بآية (يس)، المذكورة على آية (الشعراء) هذه ابن زيد نقله عنه ابن كثير، ومن ذلك قول الشاعر: * (الجبلة) *: الخلق، ومنه قوله تعالى: * (مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا) *، وقد استدل بآية (يس)، المذكورة على آية (الشعراء) هذه ابن زيد نقله عنه ابن كثير، ومن ذلك قول الشاعر:
* والموت أعظم حادث
* مما يمر على الجبلة
*
96

وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الا مين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربى مبين) *. أكد جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن هذا القرءان العظيم تنزيل رب العالمين، وأنه نزل به الروح الأمين الذي هو جبريل على قلب نبينا صلى الله عليهما وسلم ليكون من المنذرين به، وأنه نزل عليه بلسان عربي مبين، وما ذكره جل وعلا هنا أوضحه في غير هذا الموضع. أما كون هذا القرءان تنزيل رب العالمين، فقد أوضحه جل وعلا في آيات من كتابه؛ كقوله تعالى: * (إنه لقرءان كريم * فى كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون * تنزيل من رب العالمين) *، وقوله تعالى: * (وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين) *، وقوله تعالى: * (طه * ما أنزلنا عليك القرءان لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى * تنزيلا ممن خلق الارض * والسماوات العلى) *، وقوله تعالى: * (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم) *، وقوله: * (حم * تنزيل من الرحمان الرحيم كتاب فصلت ءاياته قرءانا عربيا) *، وقوله تعالى: * (يس * والقرءان الحكيم * إنك لمن المرسلين * على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم * لتنذر قوما ما أنذر ءاباؤهم فهم غافلون) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقوله: * (نزل به الروح الامين) *، بينه أيضا في غير هذا الموضع؛ كقوله: * (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) *، وقوله: * (لتكون من المنذرين) *، أي: نزل به عليك لأجل أن تكون من المنذرين به، جاء مبينا في آيات أخر؛ كقوله تعالى: * (المص * كتاب أنزل إليك فلا يكن فى صدرك حرج منه لتنذر به) *، أي: أنزل إليك لتنذر به، وقوله تعالى: * (تنزيل العزيز الرحيم * لتنذر قوما ما أنذر ءاباؤهم) *. وقوله: * (بلسان عربى مبين) *، ذكره أيضا في غير هذا الموضع؛ كقوله: * (لسان الذى يلحدون إليه أعجمى وهاذا لسان عربى مبين) *، وقوله تعالى: * (كتاب فصلت ءاياته * قرءانا عربيا) *.
وقد بينا معنى اللسان العربي بشواهده في سورة (النحل)، في الكلام على قوله تعالى: * (وهاذا لسان عربى مبين) *، وقد أوضحنا معنى إنزال جبريل القرءان
97

على قلبه صلى الله عليه وسلم بالآيات القرآنية في سورة (البقرة)، في الكلام على قوله تعالى: * (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) *. * (ولو نزلناه على بعض الا عجمين * فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين) *. قد قدمنا هذه الآية الكريمة، مع ما يوضحها من الآيات في (النحل)، في الكلام على قوله تعالى: * (لسان الذى يلحدون إليه أعجمى) *.
واعلم أن كل صوت غير عربي تسميه العرب أعجم، ولو من غير عاقل، ومنه قول حميد بن ثور يذكر صوت حمامة: واعلم أن كل صوت غير عربي تسميه العرب أعجم، ولو من غير عاقل، ومنه قول حميد بن ثور يذكر صوت حمامة:
* فلم أر مثلي شاقه صوت مثلها
* ولا عربيا شاقه صوت أعجما
* كذلك سلكناه في قلوب المجرمين * لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الا ليم) *. قوله: * (سلكناه) *، أي: أدخلناه، كما قدمنا إيضاحه بالآيات القرءانية والشواهد العربية في سورة (هود)، في الكلام على قوله تعالى: * (قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين) *، والضمير في * (سلكناه) *، قيل: للقرءان، وهو الأظهر. وقيل: للتكذيب والكفر، المذكور في قوله: * (ما كانوا به مؤمنين) *، وهؤلاء الكفار الذين ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، هم الذين حقت عليهم كلمة العذاب، وسبق في علم الله أنهم أشقياء؛ كما يدل لذلك قوله تعالى: * (إن الذين حقت عليهم * كلمت ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل ءاية حتى يروا العذاب الاليم) *، وقد أوضحنا شدة تعنت هؤلاء، وأنهم لا يؤمنون بالآيات في سورة (الفرقان)، وفي سورة (بني إسرائيل) وغيرهما. وقوله: * (كذلك سلكناه) * نعت لمصدر محذوف، أي: كذلك السلك، أي: الإدخال، * (سلكناه) *، أي: أدخلناه في قلوب المجرمين، وإيضاحه على أنه القرءان: أن الله أنزله على رجل عربي فصيح بلسان عربي مبين، فسمعوه وفهموه لأنه بلغتهم، ودخلت معانيه في قلوبهم، ولكنهم لم يؤمنوا به؛ لأن كلمة العذاب حقت عليهم، وعلى أن الضمير في * (سلكناه) * للكفر والتكذيب، فقوله عنهم: * (ما كانوا به مؤمنين) *، يدل على إدخال الكفر والتكذيب في قلوبهم، أي: كذلك السلك سكناه، الخ.
98

* (فيقولوا هل نحن منظرون) *. لفظة: * (هل) * هنا يراد بها التمني، والآية تدل على أنهم تمنوا التأخير والإنظار، أي: الإمهال، وقد دلت آيات أخر على طلبهم ذلك صريحا، وأنهم لم يجابوا إلى ما طلبوا؛ كقوله تعالى: * (وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا) *، وأوضح أنهم لا ينظرون في آيات من كتابه؛ كقوله تعالى: * (فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون) *، وقوله تعالى: * (وما كانوا إذا منظرين) *، إلى غير ذلك من الآيات. * (أفبعذابنا يستعجلون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الرعد)، في الكلام على قوله تعالى: * (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة) *، وذكرنا طرفا منه في سورة (يونس)، في الكلام على قوله تعالى: * (قل أرءيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه
المجرمون * أثم إذا ما وقع ءامنتم به * ءآلن وقد كنتم به تستعجلون) *. * (أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جآءهم ما كانوا يوعدون * مآ أغنى عنهم ما كانوا يمتعون) *. قد قدمنا إيضاحه في سورة (البقرة)، في الكلام على قوله تعالى: * (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر) *. * (ومآ أهلكنا من قرية إلا لها منذرون) *. قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) *. * (ذكرى وما كنا ظالمين) *. قد قدمنا الآيات الدالة عليه؛ كقوله تعالى: * (إن الله لا يظلم الناس شيئا ولاكن الناس أنفسهم يظلمون) *، وقوله تعالى: * (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك
99

حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما) *، إلى غير ذلك من الآيات. وقوله: * (ذكرى) *، أعربه بعضهم مرفوعا، على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هذه ذكرى، وأعربه بعضهم منصوبا، وفي إعرابه على أنه منصوب أوجه:
منها أنه ما ناب عن المطلق، من قوله: * (منذرون) *، لأن أنذر وذكر متقاربان.
ومنها أنه مفعول من أجله، أي: منذرون من أجل الذكرى بمعنى التذكرة.
ومنها أنها حال من الضمير في * (منذرون) *، أي: ينذرونهم في حال كونهم ذوي تذكرة. * (إنهم عن السمع لمعزولون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الحجر)، في الكلام على قوله تعالى: * (ولقد جعلنا فى السماء بروجا وزيناها للناظرين * وحفظناها) *. * (فلا تدع مع الله إلاها ءاخر فتكون من المعذبين) *. قد أوضحنا في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (لا تجعل مع الله إلاها ءاخر فتقعد مذموما مخذولا) *، بالدليل القرءاني أن النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب بمثل هذا الخطاب، والمراد التشريع لأمته مع بعض الشواهد العربية، وقوله هنا: * (فلا تدع مع الله إلاها ءاخر) * الآية، جاء معناه في آيات كثيرة؛ كقوله: * (لا تجعل مع الله إلاها ءاخر فتقعد مذموما مخذولا) *، وقوله تعالى: * (ولا تجعل مع الله إلاها ءاخر فتلقى فى جهنم ملوما مدحورا) *، وقوله تعالى: * (لئن أشركت ليحبطن عملك) *، إلى غير ذلك من الآيات. * (وأنذر عشيرتك الا قربين) *. هذا الأمر في هذه الآية الكريمة بإنذاره خصوص عشيرته الأقربين، لا ينافي الأمر بالإنذار العام، كما دلت على ذلك الآيات القرآنية؛ كقوله تعالى: * (تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) *، وقوله تعالى: * (وأوحى إلى هاذا القرءان لانذركم به ومن بلغ) *، وقوله تعالى: * (وتنذر به قوما لدا) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة.
100

* (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (المائدة)، في الكلام على قوله تعالى: * (فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) *، وفي (الحجر)، في الكلام على قوله تعالى: * (واخفض جناحك للمؤمنين) *، وقد وعدنا في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) *، بأنا نوضح معنى خفض الجناح، وإضافته إلى الذل في سورة (الشعراء)، في هذا الموضع، وهذا وفاؤنا بذلك الوعد، ويكفينا في الوفاء به أن ننقل كلامنا في رسالتنا المسماة: (منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز).
فقد قلنا فيها، ما نصه: والجواب عن قوله تعالى: * (واخفض لهما جناح الذل) *، أن الجناح هنا مستعمل في حقيقته؛ لأن الجناح يطلق لغة حقيقة على يد الإنسان وعضده وإبطه. قال تعالى: * (واضمم إليك جناحك من الرهب) *، والخفض مستعمل في معناه الحقيقي، الذي هو ضد الرفع؛ لأن مريد البطش يرفع جناحيه، ومظهر الذل والتواضع يخفض جناحيه، فالأمر بخفض الجناح للوالدين كناية عن لين الجانب لهما، والتواضع لهما؛ كما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) *، وإطلاق العرب خفض الجناح كناية عن التواضع، ولين الجانب أسلوب معروف، ومنه قول الشاعروإطلاق العرب خفض الجناح كناية عن التواضع، ولين الجانب أسلوب معروف، ومنه قول الشاعر
* وأنت الشهير بخفض الجنا
* ح فلا تك في رفعه أجدلا
*
وأما إضافة الجناح إلى الذل، فلا تستلزم المجاز كما يظنه كثير؛ لأن الإضافة فيه كالإضافة في قولك: حاتم الجود.
فيكون المعنى: واخفض لهما الجناح الذليل من الرحمة، أو الذلول على قراءة الذل بالكسر، وما يذكر عن أبي تمام من أنه لما قال: فيكون المعنى: واخفض لهما الجناح الذليل من الرحمة، أو الذلول على قراءة الذل بالكسر، وما يذكر عن أبي تمام من أنه لما قال:
* لا تسقني ماء الملام فإنني
* صب قد استعذبت ماء بكائي
*
جاءه رجل فقال له: صب لي في هذا الإناء شيئا من ماء الملام، فقال له: إن أتيتني
101

بريشة من جناح الذل صببت لك شيئا من ماء الملام، فلا حجة فيه؛ لأن الآية لا يراد بها أن للذل جناحا، وإنما يراد بها خفض الجناح المتصف بالذل للوالدين من الرحمة بهما، وغاية ما في ذلك إضافة الموصوف إلى صفته كحاتم الجود، ونظيره في القرءان الإضافة في قوله: * (مطر السوء) *، و * (عذاب الهون) *، أي: مطر حجارة السجيل الموصوف بسوئه من وقع عليه، وعذاب أهل النار الموصوف بهون من وقع عليه، والمسوغ لإضافة خصوص الجناح إلى الذل مع أن الذل
من صفة الإنسان لا من صفة خصوص الجناح، أن خفض الجناح كني به عن ذل الإنسان، وتواضعه ولين جانبه لوالديه رحمة بهما، وإسناد صفات الذات لبعض أجزائها من أساليب اللغة العربية، كإسناد الكذب والخطيئة إلى الناصية في قوله تعالى: * (ناصية كاذبة خاطئة) *، وكإسناد الخشوع والعمل والنصب إلى الوجوه في قوله تعالى: * (وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة) *، وأمثال ذلك كثيرة في القرءان، وفي كلام العرب. وهذا هو الظاهر في معنى الآية، ويدل عليه كلام السلف من المفسرين.
وقال ابن القيم في (الصواعق): إن معنى إضافة الجناح إلى الذل أن للذل جناحا معنويا يناسبه لا جناح ريش، والله تعالى أعلم، انتهى. وفيه إيضاح معنى خفض الجناح.
والتحقيق أن إضافة الجناح إلى الذل من إضافة الموصوف إلى صفته؛ كما أوضحنا، والعلم عند الله تعالى. وقال الزمخشري في (الكشاف)، في تفسير قوله تعالى: * (لمن اتبعك من المؤمنين) *، فإن قلت: المتبعون للرسول هم المؤمنون، والمؤمنون هم المتبعون للرسول، فما قوله: * (لمن اتبعك من المؤمنين) *.
قلت: فيه وجهان، أن يسميهم قبل الدخول في الإيمان مؤمنين، لمشارفتهم ذلك. وأن يريد بالمؤمنين المصدقين بألسنتهم، وهم صنفان: صنف صدق واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، وصنف لم يوجد منهم إلا التصديق فحسب، ثم إما أن يكونوا منافقين أو فاسقين، والمنافق والفاسق، لا يخفض لهما الجناح.
والمعنى: المؤمنين من عشريتك وغيرهم، أي: أنذر قومك فإن اتبعوك وأطاعوك، فاخفض لهم جناحك، وإن عصوك ولم يتبعوك فتبرأ منهم ومن أعمالهم من الشرك بالله وغيره، انتهى منه.
102

والأظهر عندي في قوله: * (لمن اتبعك من المؤمنين) *، أنه نوع من التوكيد يكثر مثله في القرءان العظيم؛ كقوله: * (يقولون بأفواههم) *، ومعلوم أنهم إنما يقولون بأفواههم. وقوله تعالى: * (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) *، ومعلوم أنهم إنما يكتبونه بأيديهم، وقوله تعالى: * (ولا طائر يطير بجناحيه) *، وقوله تعالى: * (حسدا من عند أنفسهم) *، إلى غير ذلك من الآيات. * (وتوكل على العزيز الرحيم * الذى يراك حين تقوم * وتقلبك فى الساجدين) *. قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك، أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا، وتكون في الآية قرينة، تدل على عدم صحته، وذكرنا أمثلة متعددة لذلك في الترجمة، وفيما مضى من الكتاب.
وإذا علمت ذلك، فاعلم أن قوله هنا: * (وتقلبك فى الساجدين) *، قال فيه بعض أهل العلم المعنى: وتقلبك في أصلاب آبائك الساجدين، أي: المؤمنين بالله كآدم ونوح، وإبراهيم، وإسماعيل.
واستدل بعضهم لهذا القول فيمن بعد إبراهيم من آبائه، بقوله تعالى عن إبراهيم: * (وجعلها كلمة باقية فى عقبه) *، وممن روي عنه هذا القول ابن عباس نقله عنه القرطبي، وفي الآية قرينة تدل على عدم صحة هذا القول، وهي قوله تعالى قبله مقترنا به: * (الذى يراك حين تقوم) *، فإنه لم يقصد به أن يقوم في أصلاب الآباء إجماعا، وأول الآية مرتبط بأخرها، أي: الذي يراك حين تقوم إلى صلاتك، وحين تقوم من فراشك ومجلسك، ويرى * (وتقلبك فى الساجدين) *، أي: المصلين، على أظهر الأقوال؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يتقلب في المصلين قائما، وساجدا وراكعا، وقال بعضهم: * (الذى يراك حين تقوم) *، أي: إلى الصلاة وحدك، و * (وتقلبك فى الساجدين) *، أي: المصلين إذا صليت بالناس.
وقوله هنا: * (الذى يراك حين تقوم) *، يدل على الاعتناء به صلى الله عليه وسلم، ويوضح ذلك قوله تعالى: * (فاصبر لحكم ربك * فإنك بأعيننا) *.
103

وقوله: * (وتوكل) * قرأه عامة السبع غير نافع وابن عامر: * (وتوكل) * بالواو، وقرأه نافع وابن عامر: * (فتوكل) * بالفاء، وبعض نسخ المصحف العثماني فيها الواو وبعضها فيها الفاء، وقوله هنا: * (وتوكل على العزيز الرحيم) *، قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الفاتحة)، في الكلام على قوله تعالى: * (وإياك نستعين) *، وبسطنا إيضاحه بالآيات القرآنية مع بيان معنى التوكل في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (وءاتينآ موسى الكتاب وجعلناه هدى لبنى إسراءيل ألا تتخذوا من دونى وكيلا) *. * (والشعرآء يتبعهم الغاوون) *. * (الشعراء) *: جمع شاعر، كجاهل وجهلاء، وعالم وعلماء. و * (يتبعهم الغاوون) *: جمع غاو وهو الضال، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (يتبعهم الغاوون) * يدل على أن اتباع الشعراء من اتباع الشيطان، بدليل قوله تعالى: * (إن عبادى ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) *، وقرأ هذا الحرف نافع وحده: * (يتبعهم) * بسكون التاء المثناة، وفتح الباء الموحدة، وقرأه الباقون * (يتبعهم) * بتشديد المثناة، وكسر الموحدة، ومعناهما واحد.
وما ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة، في قوله: * (والشعراء يتبعهم الغاوون) *، يدل على تكذيب الكفار في دعواهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم شاعر؛ لأن الذين يتبعهم الغاوون، لا يمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم منهم.
ويوضح هذا المعنى ما جاء من الآيات، مبينا أنهم ادعوا عليه صلى الله عليه وسلم أنه شاعر وتكذيب الله لهم في ذلك، أما دعواهم أنه صلى الله عليه وسلم شاعر، فقد ذكره تعالى في قوله عنهم: * (بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر) *، وقوله تعالى: * (ويقولون لتاركو ءالهتنا لشاعر مجنون * بل) *، وقوله تعالى: * (أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون) *. وأما تكذيب الله لهم في ذلك، فقد ذكره في قوله تعالى: * (وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون) *، وقوله تعالى: * (وما علمناه الشعر وما ينبغى له إن هو إلا ذكر وقرءان مبين) *، وقوله تعالى: * (ويقولون أءنا لتاركو ءالهتنا لشاعر مجنون * بل جاء بالحق وصدق المرسلين) *؛ لأن
104

قوله تعالى: * (بل جاء بالحق) *، تكذيب لهم في قولهم إنه شاعر مجنون.
مسألتان تتعلقان بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى: اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قال: (لأن يمتلئ جوف رجل قيحا يريه خير له من أن يمتلئ شعرا)، رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقوله في الحديث: (يريه) بفتح المثناة التحتية وكسر الراء بعدها ياء، مضارع ورى القيح جوفه، يريه، وريا إذا أكله وأفسده، والأظهر أن أصل وراه أصاب رئته بالإفساد.
واعلم أن التحقيق لا ينبغي العدول عنه أن الشعر كلام حسنه حسن، وقبيحه قبيح.
ومن الأدلة القرءانية على ذلك أنه تعالى لما ذم الشعراء، بقوله: * (يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم فى كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون) *، استثنى من ذلك الذين آمنوا وعملوا الصالحات، في قوله: * (إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا) *.
وبما ذكرنا تعلم أن التحقيق أن الحديث الصحيح المصرح بأن امتلاء الجوف من القيح المفسد له خير من امتلائه من الشعر، محمول على من أقبل على الشعر، واشتغل به عن الذكر، وتلاوة القرءان، وطاعة الله تعالى، وعلى الشعر القبيح المتضمن للكذب، والباطل كذكر الخمر ومحاسن النساء الأجنبيات، ونحو ذلك.
المسألة الثانية: اعلم أن العلماء اختلفوا في الشاعر إذا اعترف في شعره بما يستوجب حدا، هل يقام عليه الحد؟ على قولين:
أحدهما: أنه يقام عليه لأنه أقر به، والإقرار تثبت به الحدود.
والثاني: أنه لا يحد بإقراره في الشعر؛ لأن كذب الشاعر في شعره أمر معروف معتاد، واقع لا نزاع فيه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين عندي: أن الشاعر إذا أقر في شعره بما يستوجب الحد، لا يقام عليه الحد؛ لأن الله جل وعلا صرح هنا بكذبهم في شعرهم في قوله: * (وأنهم يقولون ما لا يفعلون) *، فهذه الآية الكريمة تدرأ عنهم الحد،
105

ولكن الأظهر أنه إن أقر بذلك استوجب بإقراره به الملام والتأديب وإن كان لا يحد به، كما ذكره جماعة من أهل الأخبار في قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه المشهورة مع النعمان بن عدي بن نضلة.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: وقد ذكر بن محمد بن إسحاق، ومحمد بن سعد في (الطبقات)، والزبير بن بكار في كتاب الفكاهة: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل النعمان بن عدي بن نضلة على ميسان من أرض البصرة، وكان يقول الشعر، فقال: قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: وقد ذكر بن محمد بن إسحاق، ومحمد بن سعد في (الطبقات)، والزبير بن بكار في كتاب الفكاهة: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل النعمان بن عدي بن نضلة على ميسان من أرض البصرة، وكان يقول الشعر، فقال:
* ألا هل أتى الحسناء أن حليلها
* بميسان يسقى في زجاج وحنتم
*
* إذا شئت غنتني دهاقين قرية
* ورقاصة تجذو على كل منسم
*
* فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني
* ولا تسقني بالأصغر المتثلم
*
* لعل أمير المؤمنين يسوءه
* تنادمنا بالجوسق المتهدم
*
فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: إي والله إنه ليسوءني ذلك، ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته، وكتب إليه عمر: بسم الله الرحمان الرحيم، * (حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذى الطول لا إلاه إلا هو إليه المصير) *، أما بعد: فقد بلغني قولك: قال: إي والله إنه ليسوءني ذلك، ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته، وكتب إليه عمر: بسم الله الرحمان الرحيم، * (حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذى الطول لا إلاه إلا هو إليه المصير) *، أما بعد: فقد بلغني قولك:
* لعل أمير المؤمنين يسوءه
* تنادمنا بالجوسق المتهدم
*
وأيم الله إنه ليسوءني، وقد عزلتك. فلما قدم على عمر بكته بهذا الشعر، فقال: والله يا أمير المؤمنينا ما شربتها قط، وما ذلك الشعر إلا شئ طفح على لساني، فقال عمر: أظن ذلك، ولكن والله لا تعمل لي عملا أبدا، وقد قلت ما قلت، فلم يذكر أنه حده على الشراب، وقد ضمنه شعره لأنهم يقولون ما لا يفعلون، ولكنه ذمه عمر ولامه على ذلك وعزله به، انتهى محل الغرض من كلام ابن كثير، وهذه القصة يستأنس بها لما ذكرنا.
وقد ذكر غير واحد من المؤرخين أن سليمان بن عبد الملك، لما سمع قول الفرزدق: وقد ذكر غير واحد من المؤرخين أن سليمان بن عبد الملك، لما سمع قول الفرزدق:
* فبتن بجانبي مصرعات
* وبت أفض أغلاق الختام
*
قال له: قد وجب عليك الحد، فقال الفرزدق: يا أمير المؤمنينا قد درأ الله عني
106

الحد، بقوله: * (وأنهم يقولون ما لا يفعلون) *، فلم يحده مع إقراره بموجب الحد. * (وأنهم يقولون ما لا يفعلون) *. هذا الذي ذكره هنا عن (الشعراء) من أنهم يقولون ما لا يفعلون، بين في آية أخرى أنه من أسباب المقت عنده جل وعلا، وذلك في قوله تعالى: * (يأيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) *، والمقت في لغة العرب: البغض الشديد، فقول الإنسان ما لا يفعل، كما ذكر عن الشعر يبغضه الله، وإن كان قوله ما لا يفعل فيه تفاوت، والعلم عند الله تعالى. * (إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة (الكهف)، في الكلام على قوله تعالى: * (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا) *، مع شواهده العربية. * (وذكروا الله كثيرا) *. أثنى الله تعالى في هذه الآية الكريمة على الذين آمنوا وعملوا الصالحات بذكرهم الله كثيرا، وهذا الذي أثنى عليهم به هنا من كثرة ذكر الله، أمر به في آيات أخر، وبين جزاءه؛ قال تعالى: * (واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) *، وقال تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا * وسبحوه بكرة وأصيلا) *، وقال تعالى: * (إن في خلق السماوات والارض واختلاف اليل والنهار لايات لاولى الالباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم) *، وقال تعالى: * (والذكرين الله كثيرا والذكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما) *. * (وانتصروا من بعد ما ظلموا) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له؛ كقوله تعالى: * (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل * إنما السبيل على الذين يظلمون الناس) *، في آخر سورة (النحل)، في الكلام على قوله تعالى: * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) *.
107

* (وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون) *. المنقلب هنا المرجع والمصير، والأظهر أنه هنا مصدر ميمي، وقد تقرر في فن الصرف أن الفعل إذا زاد على ثلاثة أحرف كان كل من مصدره الميمي، واسم مكانه، واسم زمانه على صيغة اسم المفعول.
والمعنى: * (وسيعلم الذين ظلموا) * أي مرجع يرجعون، وأي مصير يصيرون، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة، من أن الظالمين سيعلمون يوم القيامة المرجع الذي يرجعون، أي: يعلمون العاقبة السيئة التي هي مآلهم، ومصيرهم ومرجعهم، جاء في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: * (كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون * كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين) *، وقوله تعالى: * (وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا) *، وقوله تعالى: * (وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا.
وقوله: * (أى منقلب) *، ما ناب عن المطلق من قوله: * (ينقلبون) *، وليس مفعولا به، لقوله: * (وسيعلم) *، قال القرطبي: و * (أي) * منصوب * (ينقلبون) *، وهو بمعنى المصدر، ولا يجوز أن يكون منصوبا ب * (سيعلم) *، لأن أيا وسائر أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها فيما ذكره النحويون، قال النحاس: وحقيقة القول في ذلك أن الاستفهام معنى وما قبله معنى آخر، فلو عمل فيه ما قبله لدخل بعض المعاني في بعض، انتهى منه. والعلم عند الله تعالى.
108

((سورة النمل))
* (طس تلك ءايات القرءان وكتاب مبين * هدى وبشرى للمؤمنين * الذين يقيمون الصلواة ويؤتون الزكواة وهم بالا خرة هم يوقنون * إن الذين لا يؤمنون بالا خرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون * أولائك الذين لهم سوء العذاب وهم فى الا خرة هم الا خسرون * وإنك لتلقى القرءان من لدن حكيم عليم * إذ قال موسى لاهله إنى آنست نارا سأاتيكم منها بخبر أو ءاتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون * فلما جآءها نودى أن بورك من فى النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين * ياموسى إنه أنا الله العزيز الحكيم * وألق عصاك فلما رءاها تهتز كأنها جآن ولى مدبرا ولم يعقب ياموسى لا تخف إنى لا يخاف لدى المرسلون * إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإنى غفور رحيم * وأدخل يدك فى جيبك تخرج بيضآء من غير سوء فى تسع ءايات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين * فلما جآءتهم ءاياتنا مبصرة قالوا هاذا سحر مبين * وجحدوا بها واستيقنتهآ أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين * ولقد ءاتينا داوود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذى فضلنا على كثير من عباده المؤمنين * وورث سليمان داوود وقال ياأيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شىء إن هاذا لهو الفضل المبين * وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون * حتى إذآ أتوا على وادى النمل قالت نملة ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون * فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعنى أن أشكر نعمتك التى أنعمت على وعلى والدى وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلنى برحمتك فى عبادك الصالحين * وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغآئبين *
لأعذبنه عذابا شديدا أو لاذبحنه أو ليأتينى بسلطان مبين * فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين * إنى وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شىء ولها عرش عظيم * وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون * ألا يسجدوا لله الذى يخرج الخبء فى السماوات والا رض ويعلم ما تخفون وما تعلنون * الله لا إلاه إلا هو رب العرش العظيم * قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين * اذهب بكتابى هاذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون * قالت ياأيها الملأ إنى ألقى إلى كتاب كريم * إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمان الرحيم * ألا تعلوا على وأتونى مسلمين * قالت ياأيها الملأ أفتونى فى أمرى ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون * قالوا نحن أولوا قوة وأولو بأس شديد والا مر إليك فانظرى ماذا تأمرين * قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلهآ أذلة وكذالك يفعلون * وإنى مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون * فلما جآء سليمان قال أتمدونن بمال فمآ ءاتانى الله خير ممآ ءاتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون * ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منهآ أذلة وهم صاغرون * قال ياأيها الملأ أيكم يأتينى بعرشها قبل أن يأتونى مسلمين * قال عفريت من الجن أنا ءاتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإنى عليه لقوى أمين * قال الذى عنده علم من الكتاب أنا ءاتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رءاه مستقرا عنده قال هاذا من فضل ربى ليبلونى أءشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربى غنى كريم * قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدى أم تكون من الذين لا يهتدون * فلما جآءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين * وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين * قيل لها ادخلى الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إنى ظلمت نفسى وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) * قوله تعالى: * (هدى وبشرى للمؤمنين) *. تقدم إيضاحه بالآيات القرءانية في أول سورة (البقرة)، في الكلام على قوله تعالى: * (فيه هدى للمتقين) *. * (إذ قال موسى لاهله إنى آنست نارا) *. إلى آخر القصة، تقدم إيضاحه في (مريم) و (طه)، و (الأعراف). * (وورث سليمان داوود) *. قد قدمنا أنها وراثة علم ودين، لا وراثة مال في سورة (مريم)، في الكلام على قوله تعالى: * (فهب لى من لدنك وليا * يرثنى ويرث من ءال يعقوب) *، وبينا هناك الأدلة على أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا يورث عنهم المال. * (ألا يسجدوا لله الذى يخرج الخبء فى السماوات والا رض ويعلم ما تخفون وما تعلنون) *. تقدم إيضاحه بالآيات القرآنية في أول سورة (هود)، في الكلام على قوله تعالى: * (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور) *، وقوله: * (ألا يسجدوا لله) *، كقوله تعالى: * (لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذى خلقهن إن كنتم إياه تعبدون) *، وقوله تعالى: * (فاسجدوا لله واعبدوا) *، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (الذى يخرج الخبء) *، قال بعض أهل العلم: * (الخبء فى * السماوات) *: المطر، والخبء في الأرض: النبات، والمعادن، والكنوز، وهذا المعنى ملائم لقوله: * (يخرج الخبء) *، وقال بعض أهل العلم: الخبء: السر والغيب، أي:
109

يعلم ما غاب في السماوات والأرض؛ كما يدل عليه قوله بعده: * (ويعلم ما * يخافون وما يعلنون) *، وكقوله في هذه السورة الكريمة: * (وما من غائبة فى السماء والارض إلا فى كتاب مبين) *، وقوله: * (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الارض ولا فى السماء ولا أصغر من ذالك ولا أكبر إلا) *، كما أوضحناه في سورة (هود)، وقرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير الكسائي: * (ألا يسجدوا لله) * بتشديد اللام في لفظة * (إلا) *، ولا خلاف على هذه القراءة أن يسجدوا فعل مضارع منصوب بأن المدغمة في لفظة لا، فالفعل المضارع على هذه القراءة، وأن المصدرية المدغمة في لا ينسبك منهما مصدر في محل نصب على الأظهر، وقيل في محل جر وفي إعرابه أوجه:
الأول: أنه منصوب على أنه مفعول من أجله، أي: * (وزين لهم الشيطان أعمالهم) *، من أجل * (ألا يسجدوا لله) *، أي: من أجل عدم سجودهم لله، أو * (فصدهم عن السبيل) *، لأجل * (ألا يسجدوا لله) *، وبالأول قال الأخفش. وبالثاني قال الكسائي، وقال اليزيدي وغيره: هو منصوب على أنه بدل من * (أعمالهم) *، أي: * (وزين لهم الشيطان أعمالهم) * * (ألا يسجدوا) *، أي: عدم سجودهم، وعلى هذا فأعمالهم هي عدم سجودهم لله، وهذا الإعراب يدل على أن الترك عمل؛ كما أوضحناه في سورة (الفرقان)، في الكلام على قوله تعالى: * (وقال الرسول يارب * رب إن قومى اتخذوا هاذا القرءان مهجورا) *، وقال بعضهم: إن المصدر المذكور في محل خفض على أنه بدل من * (السبيل) *، أو على أن العامل فيه * (فهم لا يهتدون) *، وعلى هذين الوجهين فلفظة لا صلة، فعلى الأول منهما. فالمعنى: * (فصدهم عن السبيل) * سجودهم لله، وعلى هذا فسبيل الحق الذي صدوا عنه هو السجود لله، ولا زائدة للتوكيد. وعلى الثاني، فالمعنى: * (فهم لا يهتدون) * لأن يسجدوا لله، أي: للسجود له، ولا زائدة أيضا للتوكيد، ومعلوم في علم العربية أن المصدر المنسبك من فعل، وموصول حرفي إن كان الفعل منفيا ذكرت لفظة عدم قبل المصدر، ليؤدى بها معنى النفي الداخل على الفعل، فقولك مثلا: عجبت من أن لا تقوم، إذا سبكت مصدره لزم أن تقول: عجبت من عدم قيامك، وإذا كان الفعل مثبتا لم تذكر مع المصدر لفظة عدم، فلو قلت: عجبت من أن تقوم، فإنك تقول في سبك مصدره: عجبت من قيامك؛ كما لا يخفى. وعليه: فالمصدر
110

المنسبك من قوله: * (ألا يسجدوا) * يلزم أن يقال فيه عدم السجود إلا إذا اعتبرت لفطة لا زائدة، وقد أشرنا في سورة (الأعراف)، في الكلام على قوله تعالى: * (قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) *، إلى أنا أوضحنا الكلام على زيادة لا لتوكيد الكلام في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)، في أول سورة (البلد)، في الكلام على قوله تعالى: * (لا أقسم بهاذا البلد) *، وسنذكر طرفا من كلامنا فيه هنا.
فقد قلنا فيه: الأول وعليه الجمهور: أن لا هنا صلة على عادة العرب، فإنها ربما لفظت بلفظة لا من غير قصد معناها الأصلي بل لمجرد تقوية الكلام وتوكيده؛ كقوله تعالى: * (ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * ألا تتبعن) *، يعني أن تتبعني، وقوله تعالى: * (ما منعك ألا تسجد) *، أي: أن تسجد على أحد القولين. ويدل له قوله
تعالى في سورة (ص): * (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى) *، وقوله تعالى: * (لئلا يعلم أهل الكتاب) *، وقوله تعالى: * (فلا وربك لا يؤمنون) *، أي: فوربك، وقوله تعالى: * (ولا تستوى الحسنة ولا السيئة) *، أي: والسيئة، وقوله تعالى: * (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون) *، على أحد القولين. وقوله تعالى: * (وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون) *، على أحد القولين. وقوله تعالى: * (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا) *، على أحد الأقوال الماضية؛ وكقول أبي النجم: فقد قلنا فيه: الأول وعليه الجمهور: أن لا هنا صلة على عادة العرب، فإنها ربما لفظت بلفظة لا من غير قصد معناها الأصلي بل لمجرد تقوية الكلام وتوكيده؛ كقوله تعالى: * (ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * ألا تتبعن) *، يعني أن تتبعني، وقوله تعالى: * (ما منعك ألا تسجد) *، أي: أن تسجد على أحد القولين. ويدل له قوله تعالى في سورة (ص): * (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى) *، وقوله تعالى: * (لئلا يعلم أهل الكتاب) *، وقوله تعالى: * (فلا وربك لا يؤمنون) *، أي: فوربك، وقوله تعالى: * (ولا تستوى الحسنة ولا السيئة) *، أي: والسيئة، وقوله تعالى: * (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون) *، على أحد القولين. وقوله تعالى: * (وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون) *، على أحد القولين. وقوله تعالى: * (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا) *، على أحد الأقوال الماضية؛ وكقول أبي النجم:
* فما ألوم البيض ألا تسخرا
* لما رأين الشمط القفندر
*
يعني: أن تسخر، وقول الآخر: يعني: أن تسخر، وقول الآخر:
* وتلحينني في اللهو ألا أحبه
* وللهو داع دائب غير غافل
*
يعني: أن أحبه، ولا زائدة. وقول الآخر: يعني: أن أحبه، ولا زائدة. وقول الآخر:
* أبى جوده لا البخل واستعجلت به
* نعم من فتى لا يمفع الجود قاتله
*
يعني: أبا جوده البخل، ولا زائدة على خلاف في زيادتها في هذا البيت الأخير، ولا سيما على رواية البخل بالجر؛ لأن لا عليها مضاف بمعنى لفظة لا، فليست زائدة على رواية الجر، وقول امرئ القيس
111

: يعني: أبا جوده البخل، ولا زائدة على خلاف في زيادتها في هذا البيت الأخير، ولا سيما على رواية البخل بالجر؛ لأن لا عليها مضاف بمعنى لفظة لا، فليست زائدة على رواية الجر، وقول امرئ القيس:
* فلا وأبيك أنبت العامري
* لا يدعي القوم أني أفر
*
يعني: وأبيك، وأنشد الفراء لزيادة لا في الكلام الذي فيه معنى الجحد، قول الشاعر: يعني: وأبيك، وأنشد الفراء لزيادة لا في الكلام الذي فيه معنى الجحد، قول الشاعر:
* ما كان يرضى رسول الله دينهم
* والأطيبان أبو بكر ولا عمر
*
يعني: عمر ولا صلة، وأنشد الجوهري لزيادتها قول العجاج:
* في بئر لا حور سرى وما شعر
* بإفكه حتى رأى الصبح جشر
*
والحور: الهلكة، يعني: في بئر هلكة ولا صلة، قاله أبو عبيدة وغيره. وأنشد الأصمعي لزيادتها قول ساعدة الهذلي: والحور: الهلكة، يعني: في بئر هلكة ولا صلة، قاله أبو عبيدة وغيره. وأنشد الأصمعي لزيادتها قول ساعدة الهذلي:
* أفعنك لا برق كان وميضه
* غاب تسنمه ضرام مثقب
*
ويروى: أفمنك، وتشيمه بدل أفعنك وتسنمه، يعني: أفعنك برق، ولا صلة، ومن شواهد زيادتها قول الشاعرويروى: أفمنك، وتشيمه بدل أفعنك وتسنمه، يعني: أفعنك برق، ولا صلة، ومن شواهد زيادتها قول الشاعر
* تذكرت ليلى فاعترتني صبابة
* وكاد صميم القلب لا يتقطع
*
يعني: كاد يتقطع، وأما استدلال أبي عبيدة لزيادتها بقول الشماخ: يعني: كاد يتقطع، وأما استدلال أبي عبيدة لزيادتها بقول الشماخ:
* أعائش ما لقومك لا أراهم
* يضيعون الهجان مع المضيع
*
فغلط منه، لأن لا في بيت الشماخ هذا نافية لا زائدة، ومقصوده أنها تنهاه عن حفظ ماله، مع أن أهلها يحفظون مالهم، أي: لا أرى قومك يضيعون مالهم وأنت تعاتبينني في حفظ مالي، وما ذكره الفراء من أن لفظة لا، لا تكون صلة إلا في الكلام الذي فيه معنى الجحد، فهو أغلبي لا يصح على الإطلاق، بدليل بعض الأمثلة المتقدمة التي لا جحد فيها كهذه الآية، على القول بأن لا فيها صلة، وكبيت ساعدة الهذلي، وما ذكره الزمخشري من زيادة لا في أول الكلام دون غيره، فلا دليل عليه، انتهى محل الغرض من كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب).
وقرأ هذا الحرف الكسائي وحده من السبعة: * (ألا يسجدوا) * بتخفيف اللام من قوله: * (إلا) *، وعلى قراءة الكسائي هذه، فلفظة * (إلا) * حرف استفتاح، وتنبيه ويا
112

حرف نداء، والمنادى محذوف تقديره: ألا يا هؤلاء اسجدوا، واسجدوا فعل أمر ومعلوم في علم القراءات، أنك إذا قيل لك: قف على كل كلمة بانفرادها في قراءة الكسائي، أنك تقف في قوله: * (ألا يسجدوا) *، ثلاث وقفات، الأولى: أن تقف على ألا. والثانية: أن تقف على يا. والثالثة: أن تقف على اسجدوا، وهذا الوقف وقف اختبار لا وقف اختيار، وأما على قراءة الجمهور، فإنك تقف وقفتين فقط: الأولى: على * (إلا) *، ولا تقف على أن لأنها مدغمة في لا، والثانية: أنك تقف على * (يسجدوا) *.
واعلم أنه على قراءة الكسائي قد حذف في الخط ألفان، الأولى: الألف المتصلة بياء النداء، والثانية: ألف الوصل في قوله: * (اسجدوا) *، ووجه بعض أهل العلم إسقاطهما في الخط، بأنهما لما سقطتا في اللفظ، سقطتا في الكتابة، قالوا: ومثل ذلك في القرءان كثير.
واعلم أن جمهور أهل العلم على ما ذكرنا في قراءة الكسائي من أن لفظة * (إلا) * للاستفتاح والتنبيه، وأن يا حرف نداء حذف منه الألف في الخط، واسجدوا فعل أمر، قالوا: وحذف المنادى مع ذكر أداة النداء أسلوب عربي معروف، ومنه قول الأخطل: واعلم أن جمهور أهل العلم على ما ذكرنا في قراءة الكسائي من أن لفظة * (إلا) * للاستفتاح والتنبيه، وأن يا حرف نداء حذف منه الألف في الخط، واسجدوا فعل أمر، قالوا: وحذف المنادى مع ذكر أداة النداء أسلوب عربي معروف، ومنه قول الأخطل:
* ألا يا اسلمي يا هند هند بني بكر
* وإن كان حيانا عدى آخر الدهر
*
وقول ذي الرمة: وقول ذي الرمة:
* ألا يا سلمى يا دارمي على البلا
* ولا زال منهلا بجرعائك القطر
*
فقوله في البيتين: ألا يا اسلمي، أي: يا هذه اسلمي، وقول الآخر: فقوله في البيتين: ألا يا اسلمي، أي: يا هذه اسلمي، وقول الآخر:
* لا يا اسلمي ذات الدماليج والعقد.
* وقول الشماخ:
* ألا يا اصبحاني قبل غارة سنجالي
* وقبل منايا قد حضرن وآجالي
*
يعني: ألا يا صحبي اصبحاني، ونظيره قول الآخر: ألا يا صحبي اصبحاني، ونظيره قول الآخر:
* ألا يا اسقياني قبل خيل أبي بكر ومنه قول الآخر:
113

*
* فقالت ألا يا اسمع أعظك بخطبة
* فقلت سمعنا فانطقي وأصيبي
*
يعني: ألا يا هذا اسمع، وأنشد سيبويه لحذف المنادى مع ذكر أداته، قول الشاعر: يعني: ألا يا هذا اسمع، وأنشد سيبويه لحذف المنادى مع ذكر أداته، قول الشاعر:
* يا لعنة الله والأقوام كلهم
* والصالحين على سمعان من جار
*
بضم التاء من قوله: لعنة الله، ثم قال: فيالغير اللعنة، يعني أن المراد: يا قوم لعنة الله، إلى آخره. وأنشد صاحب اللسان لحذف المنادى، مع ذكر أداته مستشهدا لقراءة الكسائي المذكورة، قول الشاعر: بضم التاء من قوله: لعنة الله، ثم قال: فيالغير اللعنة، يعني أن المراد: يا قوم لعنة الله، إلى آخره. وأنشد صاحب اللسان لحذف المنادى، مع ذكر أداته مستشهدا لقراءة الكسائي المذكورة، قول الشاعر:
* يا قاتل الله صبيانا تجيء بهم
* أم الهنينين من زندلها وارى
*
ثم قال: كأنه أراد: يا قوم قاتل الله صبيانا، وقول الآخر: ثم قال: كأنه أراد: يا قوم قاتل الله صبيانا، وقول الآخر:
* يا من رأى بارقا أكفكفه
* بين ذراعي وجبهة الأسد
*
ثم قال: كأنه دعا يا قوم يا إخوتي، فلما أقبلوا عليه قال: من رأى. وأنشد بعضهم لحذف المنادى مع ذكر أداته، قول عنترة في معلقته: ثم قال: كأنه دعا يا قوم يا إخوتي، فلما أقبلوا عليه قال: من رأى. وأنشد بعضهم لحذف المنادى مع ذكر أداته، قول عنترة في معلقته:
* يا شاة ما قنص لمن حلت له
* حرمت على وليتها لم تحرم
*
قالوا: التقدير: يا قوم انظروا شاة ما قنص.
واعلم أن جماعة من أهل العلم، قالوا: إن يا علي قراءة الكسائي، وفي جميع الشواهد التي ذكرنا ليست للنداء، وإنما هي للتنبيه فكل من ألا ويا: حرف تنبيه كرر للتوكيد، وممن روي عنه هذا القول: أبو الحسن بن عصفور، وهذا القول اختاره أبو حيان في (البحر المحيط)، قال فيه: والذي أذهب إليه أن مثل هذا التركيب الوارد عن العرب ليست يا فيه للنداء، وحذف المنادى؛ لأن المنادى عندي لا يجوز حذفه، لأنه قد حذف الفعل العامل في النداء، وانحذف فاعله لحذفه، ولو حذف المنادى لكان في ذلك حذف جملة النداء، وحذف متعلقه، وهو المنادى، فكان ذلك إخلالا كبيرا، وإذا أبقينا المنادى ولم نحذفه كان ذلك دليلا على العامل فيه جملة النداء، وليس حرف النداء حرف جواب كنعم، ولا، وبلى، وأجل، فيجوز حذف الجمل بعدهن لدلالة ما سبق من السؤال على الجمل المحذوفة، فيا عندي في تلك التراكيب حرف تنبيه أكد به إألا التي للتنبيه، وجاز ذلك لاختلاف الحرفين ولقصد المبالغة في التوكيد، وإذا كان قد وجد التوكيد في اجتماع
114

الحرفين المختلفي اللفظ، العاملين في قوله: فأصبحن لا يسألنني عن بما به، والمتفقي اللفظ العاملين في قوله: واعلم أن جماعة من أهل العلم، قالوا: إن يا علي قراءة الكسائي، وفيجميع الشواهد التي ذكرنا ليستللنداء، وإنما هي للتنبيه فكل من ألا ويا: حرف تنبيهكرر للتوكيد، وممن روي عنه هذا القول: أبو الحسن بن عصفور، وهذا القول اختاره أبو حيان في (البحر المحيط)، قال فيه: والذيأذهب إليه أن مثل هذا التركي بالوارد عن العرب ليست يا فيه للنداء، وحذف المنادى؛ لأن المنادى عندي لا يجوز حذفه، لأنهقد حذف الفعل العامل في النداء، وانحذف فاعله لحذفه، ولو حذف المنادى لكان في ذلك حذف جملة النداء، وحذف متعلقه، وهو المنادى، فكان ذلك إخلالا كبيرا، وإذا أبقينا المنادى ولم نحذفه كان ذلك دليلا على العامل فيه جملة النداء، وليسحرف النداء حرفجواب كنعم، ولا، وبلى، وأجل، فيجوز حذف الجملبعدهن لدلالة ما سبق من السؤال على الجمل المحذوفة، فيا عندي في تلك التراكيب حرف تنبيه أكد به إألاالتي للتنبيه، وجاز ذلك لاختلاف الحرفين ولقصد المبالغة
فيالتوكيد، وإذا كان قد وجد التوكيد فياجتماع الحرفين المختلفي اللفظ، العاملين في قوله: فأصبحن لا يسألنني عن بما به، والمتفقي اللفظ العاملين في قوله: ولا للما بهم أبدا دواء
وجاز ذلك، وإن عدوه ضرورة أو قليلا، فاجتماع غير العاملين وهما مختلفا اللفظ يكون جائزا، وليس يا في قوله:
; يا لعنة الله والأقوام كلهم
حرف نداء عندي، بل حرف تنبيه جاء بعده المبتدأ، وليس مما حذف منه المنادى، لما ذكرناه. انتهى الغرض من كلام أبي حيان، وما اختاره له وجه من النظر.
;
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ومما له وجه من النظر عندي في قراءة الكسائي، أن يكون قوله: يا اسجدوا فعل مضارع حذفت منه نون الرفع، بلا ناصب، ولا جازم، ولا نون توكيد، ولا نون وقاية.
وقد قال بعض أهل العلم: إن حذفها لا لموجب، مما ذكر لغة صحيحة.
قال النووي في (شرح مسلم)، في الجزء السابع عشر في صفحة 702، ما نصه: قوله: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يسمعوا وأنى يجيبوا وقد جيفوا، كذا هو في عامة النسخ، كيف يسمعوا، وأنى يجيبوا من غير نون، وهي لغة صحيحة، وإن كانت قليلة الاستعمال، وسبق بيانها مرات. ومنها الحديث السابق في (الإيمان): (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا)، انتهى منه. وعلى أن حذف نون الرفع لغة صحيحة، فلا مانع من أن يكون قوله تعالى: * (يسجدوا) *، في قراءة الكسائي فعل مضارع، ولا شك أن هذا له وجه من النظر، وقد اقتصرنا في سورة (الحجر)، على أن حذفها مقصور على السماع، وذكرنا بعد شواهده، والعلم عند الله تعالى.
تنبيهان
الأول: اعلم أن التحقيق أن آية (النمل) هذه، محل سجدة على كلتا القراءتين؛ لأن قراءة الكسائي فيها الأمر بالسجود، وقراءة الجمهور فيها ذم تارك السجود وتوبيخه، وبه تعلم أن قول الزجاج ومن وافقه أنها ليست محل سجدة على قراءة الجمهور، وإنما هي
115

محل سجود على قراءة الكسائي خلاف التحقيق، وقد نبه على هذا الزمخشري وغيره.
التنبيه الثاني: اعلم أنه على قراءة الجمهور، لا يحسن الوقف على قوله: * (لا يهتدون) *، وعلى قراءة الكسائي، يحسن الوقف عليه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ويعلم ما تخفون وما تعلنون) *، قرأه حفص والكسائي بالتاء الفوقية على الخطاب، وقرأه الباقون: يخفون، ويعلنون بالتحتية على الغيبة، والعلم عند الله تعالى. * (ومن شكر فإنما يشكر لنفسه) *. جاء معناه موضحا في آيات متعددة؛ كقوله تعالى: * (من عمل صالحا فلنفسه) *، وقوله: * (ومن عمل صالحا فلانفسهم يمهدون) *، وقوله تعالى: * (إن أحسنتم أحسنتم لانفسكم) *. * (ومن كفر فإن ربى غنى كريم) *. جاء معناه موضحا أيضا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: * (وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن فى الارض جميعا فإن الله لغنى حميد) *، وقوله تعالى: * (فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غنى حميد) *، وقوله تعالى: * (ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنى الحميد) *، وقوله تعالى: * (والله الغنى وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) *، إلى غير ذلك من الآيات.
* (ولقد أرسلنآ إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون * قال ياقوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون * قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون * وكان فى المدينة تسعة رهط يفسدون فى الا رض ولا يصلحون * قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون * ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون * فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين * فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن فى ذالك لاية لقوم يعلمون * وأنجينا الذين ءامنوا وكانوا يتقون * ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون * أءنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النسآء بل أنتم قوم تجهلون * فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا ءال لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون * فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين * وأمطرنا عليهم مطرا فسآء مطر المنذرين * قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفىءآلله خير أما يشركون * أمن خلق السماوات والا رض وأنزل لكم من السمآء مآء فأنبتنا به حدآئق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإلاه مع الله بل هم قوم يعدلون * أمن جعل الا رض قرارا وجعل خلالهآ أنهارا وجعل لها رواسى وجعل بين البحرين حاجزا أءلاه مع الله بل أكثرهم لا يعلمون * أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم حلفآء الا رض أءلاه مع الله قليلا ما تذكرون * أمن يهديكم فى ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرى بين يدى رحمته أءلاه مع الله تعالى الله عما يشركون * أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السمآء والا رض أءلاه مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين * قل لا يعلم من فى السماوات والا رض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون * بل ادارك علمهم فى الا خرة بل هم فى شك منها بل هم منها عمون * وقال الذين كفروا أءذا كنا ترابا وءابآؤنآ أءنا لمخرجون * لقد وعدنا هاذا نحن وءابآؤنا من قبل إن هاذآ إلا أساطير الا ولين * قل سيروا فى الا رض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين * ولا تحزن عليهم ولا تكن فى ضيق مما يمكرون * ويقولون متى هاذا الوعد إن كنتم صادقين * قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذى تستعجلون * وإن ربك لذو فضل على الناس ولاكن أكثرهم لا يشكرون * وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون * وما من غآئبة فى السمآء والا رض إلا فى كتاب مبين * إن هاذا القرءان يقص على بنى إسراءيل أكثر الذى هم فيه يختلفون * وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين * إن ربك يقضى بينهم بحكمه وهو العزيز العليم
* فتوكل على الله إنك على الحق المبين) * * (ولقد أرسلنآ إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه أرسل نبيه صالحا إلى ثمود، * (فإذا هم فريقان يختصمون) *، ولم يبين هنا خصومة الفريقين، ولكنه بين ذلك في سورة (الأعراف)، في قوله تعالى: * (قال الملا الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن ءامن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا) *، فهذه خصومتهم وأعظم أنواع الخصومة، الخصومة في الكفر والإيمان.
116

* (قال ياقوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الرعد)، في الكلام على قوله تعالى: * (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات) *. * (قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون) *. قوله: * (اطيرنا بك) *، أي: تشاءمنا بك، وكان قوم صالح إذا نزل بهم قحط أو بلاء أو مصائب، قالوا: ما حاءنا هذا إلا من شؤم صالح، ومن آمن به. والتطير: التشاؤم، وأصل اشتقاقه من التشاؤم بزجر الطير.
وقد بينا كيفية التشاؤم والتيامن بالطير في سورة (الأنعام)، في الكلام على قوله تعالى: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) *، وقوله تعالى: * (قال طائركم عند الله) *، قال بعض أهل العلم: أي سببكم الذي يجيء منه خيركم وشركم عند الله، فالشر الذي أصابكم بذنوبكم لا بشؤم صالح، ومن آمن به من قومه.
وقد قدمنا معنى طائر الإنسان في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (وكل إنسان ألزمناه طئره فى عنقه) *، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من تشاؤم الكفار بصالح ومن معه من المؤمنين، جاء مثله موضحا في آيات أخر من كتاب الله؛ كقوله تعالى في تشاؤم فرعون وقومه بموسى: * (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هاذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولاكن) *، وقوله تعالى في تطير كفار قريش بنبينا صلى الله عليه وسلم: * (وإن تصبهم حسنة يقولوا هاذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هاذه من عندك قل كل من عند) *، والحسنة في الآيتين: النعمة كالرزق والخصب والعافية، والسيئة: المصيبة بالجدب والقحط، ونقص الأموال، والأنفس، والثمرات؛ وكقوله تعالى: * (قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم * قالوا طائركم معكم) *، أي: بليتكم جاءتكم من ذنوبكم وكفركم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (بل أنتم قوم تفتنون) *، قال بعض العلماء:
117

تختبرون. وقال بعضهم: تعذبون؛ كقوله: * (يوم هم على النار يفتنون) *، وقد قدمنا أن أصل الفتنة في اللغة، وضع الذهب في النار ليختبر بالسبك أزائف هو أم خالص؟ وأنها أطلقت في القرءان على أربعة معان:
الأول: إطلاقها على الإحراق بالنار؛ كقوله تعالى: * (يوم هم على النار يفتنون) *، وقوله تعالى: * (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات) *، أي: حرقوهم بنار الأخدود على أحد التفسيرين، وقد اختاره بعض المحققين..
المعنى الثاني: إطلاق الفتنة على الاختبار، وهذا هو أكثرها استعمالا؛ كقوله تعالى: * (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) *، وقوله تعالى: * (وألو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقا * لنفتنهم فيه) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة.
الثالث: إطلاق الفتنة على نتيجة الاختبار إن كانت سيئة خاصة، ومن هنا أطلقت الفتنة على الكفر والضلال؛ كقوله تعالى: * (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) *، أي: لا يبقى شرك، وهذا التفسير الصحيح، دل عليه الكتاب والسنة.
أما الكتاب، فقد دل عليه قوله بعده في (البقرة): * (ويكون الدين لله) *، وفي (الأنفال): * (ويكون الدين كله لله) *، فإنه يوضح أن معنى: * (لا تكون فتنة) *، أي: لا يبقى شرك؛ لأن الدين لا يكون كله لله، ما دام في الأرض شرك، كما ترى.
وأما السنة: ففي قوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إلاه إلا الله)، الحديث. فقد جعل صلى الله عليه وسلم الغاية التي ينتهي إليها قتاله للناس، هي شهادة ألا إلاه إلا الله، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو واضح في أن معنى: * (لا تكون فتنة) *: لا يبقى شرك، فالآية والحديث كلاهما دال على أن الغاية التي ينتهي إليها قتال الكفاء هي ألا يبقى في الأرض شرك، إلا أنه تعالى في الآية عبر عن هذا المعنى بقوله: * (حتى تكون فتنة) *، وقد عبر صلى الله عليه وسلم عنه بقوله: (حتى يشهدوا ألا إلاه إلا الله)، فالغاية في الآية والحديث واحدة في المعنى، كما ترى.
الرابع: هو إطلاق الفتنة على الحجة، في قوله تعالى: * (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن
118

قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) *، أي: لم تكن حجتهم، كما قاله غير واحد، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون) *. قد دلت هذه الآية الكريمة على أن نبي الله صالحا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام نفعه الله بنصرة وليه، أي: أوليائه؛ لأنه مضاف إلى معرفة، ووجه نصرتهم له: أن التسعة المذكورين في قوله تعالى: * (وكان فى المدينة تسعة رهط يفسدون فى الارض ولا يصلحون * قالوا تقاسموا) *، أي: تحالفوا بالله، * (لنبيتنه) *، أي: لنباغتنه بياتا، أي: ليلا فنقتله ونقتل أهله معه، * (ثم لنقولن لوليه) *، أي: أوليائه وعصبته، * (ما شهدنا مهلك أهله) *، أي: ولا مهلكه هو، وهذا يدل على أنهم لا يقدرون أن يقتلوه علنا، لنصرة أوليائه له، وإنكارهم شهود مهلك أهله دليل على خوفهم من أوليائه، والظاهر أن هذه النصرة عصبية نسبية لا تمت إلى الدين بصلة، وأن أولياءه ليسوا مسلمين.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا المعنى في سورة (هود)، في الكلام على قوله تعالى: * (قالوا يأبانا * شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا
رهطك لرجمناك) *، وفي سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) *. وقوله تعالى في هذه الآية: * (تقاسموا) *، التحقيق أنه فعل أمر محكي بالقول. وأجاز الزمخشري، وابن عطية أن يكون ماضيا في موضع الحال، والأول هو الصواب إن شاء الله، ونسبه أبو حيان للجمهور، وقوله في هذه الآية: * (وإنا لصادقون) *، التحقيق فيه أنهم كاذبون في قولهم: * (وإنا لصادقون) *، كما لا يخفى، وبه تعلم أن ما تكلفه الزمخشري في (الكشاف)، من كونهم صادقين لا وجه له، كما نبه عليه أبو حيان وأوضحه، وقرأ عامة السبعة غير حمزة والكسائي * (لنبيتنه) * بالنون المضمومة بعد اللام، وفتح الفوقية المثناة التي بعد التحتية المثناة، وقرأ حمزة والكسائي: * (لنبيتنه) * بالتاء الفوقية المضمومة بعد اللام، وضم التاء الفوقية التي بعد الياء التحتية، وقرأ عامة السبعة أيضا غير حمزة والكسائي: * (ثم لنقولن) *، بالنون المفتوحة موضع التاء، وفتح اللام الثانية، وقرأ حمزة والكسائي: * (ثم) *، بفتح التاء الفوقية
119

بعد اللام الأولى، وضم اللام الثانية، وقرأ عاصم: * (شهدنا مهلك أهله) * بفتح الميم، والباقون بضمها، وقرأ حفص عن عاصم: * (مهلك) * بكسر اللام، والباقون بفتحها.
فتحصل أن حفصا عن عاصم قرأ * (مهلك) * بفتح الميم وكسر اللام، وأن أبا بكر أعني شعبة قرأ عن عاصم: * (مهلك) * بفتح الميم واللام، وأن غير عاصم قرأ: * (مهلك أهله) *، بضم الميم وفتح اللام، فعلى قراءة من قرأ * (مهلك) * بفتح الميم، فهو مصدر ميمي من هلك الثلاثي، ويحتمل أن يكون اسم زمان أو مكان، وعلى قراءة من قرأ * (مهلك) * بضم الميم، فهو مصدر ميمي من أهلك الرباعي، ويحتمل أن يكون أيضا اسم مكان أو زمان. قوله تعالى: * (فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين * فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن فى ذالك لاية لقوم يعلمون * وأنجينا الذين ءامنوا وكانوا يتقون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآيات الكريمة، ثلاث أمور:
الأول: أنه دمر جميع قوم صالح، ومن جملتهم تسعة رهط الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وذلك في قوله: * (أنا دمرناهم وقومهم أجمعين) *، أي: وهم قوم صالح ثمود، * (فتلك بيوتهم خاوية) *، أي: خالية من السكان لهلاك جميع أهلها، * (بما ظلموا) *، أي: بسبب ظلمهم الذي هو كفرهم وتمردهم وقتلهم ناقة الله التي جعلها آية لهم، وقال بعضهم: * (خاوية) *، أي: ساقطا أعلاها على أسفلها.
الثاني: أنه جل وعلا جعل إهلاكه قوم صالح آية، أي: عبرة يتعظ بها من بعدهم، فيحذر من الكفر، وتكذيب الرسل، لئلا ينزل به ما نزل بهم من التدمير، وذلك في قوله: * (إن فى ذالك لاية لقوم يعلمون) *.
الثالث: أنه تعالى أنجى الذين آمنوا وكانوا يتقون من الهلاك والعذاب، وهو نبي الله صالح ومن آمن به من قومه، وذلك في قوله تعالى: * (وأنجينا الذين ءامنوا وكانوا يتقون) *، وهذه الأمور الثلاثة التي ذكرها جل وعلا هنا، جاءت موضحة في آيات أخر.
أما إنجاؤه نبيه صالحا، ومن آمن به وإهلاكه ثمود، فقد أوضحه جل وعلا في
120

مواضع من كتابه؛ كقوله في سورة (هود): * (فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين ءامنوا معه برحمة منا ومن خزى يومئذ إن ربك هو القوى العزيز وأخذ) *. وآية (هود) هذه، قد بينت أيضا التدمير المجمل في آية (النمل) هذه، فالتدمير المذكور في قوله تعالى: * (أنا دمرناهم وقومهم أجمعين) *، بينت آية (هود) أنه الإهلاك بالصيحة، في قوله تعالى: * (وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا فى ديارهم جاثمين) *، أي: وهم موتى. وأما كونه جعل إهلاكه إياهم أية، فقد أوضحه أيضا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى فيهم: * (فعقروها فأصبحوا نادمين * فأخذهم العذاب إن فى ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم) *، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (أنا دمرناهم وقومهم أجمعين) *، قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: * (أنا دمرناهم) * بكسرة همزة * (أنا) * على الاستئناف، وقرأه الكوفيون وهم: عاصم وحمزة والكسائي: * (أنا دمرناهم) *، بفتح همزة * (أنا) *. وفي إعراب المصدر المنسبك من أن وصلتها على قراءة الكوفيين أوجه، منها: أنه بدل من عاقبة مكرهم، ومنها: أنه خبر مبتدأ محذوف، وتقديره هي، أي: عاقبة مكرهم تدميرنا إياهم.
وهذان الوجهان هما أقرب الأوجه عندي للصواب، ولذا تركنا غيرهما من الأوجه، والضمير في قوله: * (مكرهم) *، وفي قوله: * (دمرناهم) *، راجع إلى التسعة المذكورين في قوله: * (وكان فى المدينة تسعة رهط) *، وقوله: * (خاوية) * حال في بيوتهم، والعامل فيه الإشارة الكامنة في معنى تلك. قوله تعالى: * (ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون) * إلى قوله تعالى * (فسآء مطر المنذرين) *. قد قدمنا الآيات التي فيها إيضاح قصة لوط وقومه في سورة (هود)، في الكلام على قصة لوط وقومه، وبينا هناك كلام أهل العلم ومناقشة أدلتهم في عقوبة فاعل فاحشة اللواط، وذكرنا الآيات المبينة لها أيضا في سورة (الحجر)، في الكلام على قصة لوط وقومه، وذكرنا بعض ذلك في سورة (الفرقان).
121

وقوله تعالى: * (أمن خلق السماوات والا رض وأنزل لكم من السمآء مآء فأنبتنا به حدآئق ذات بهجة ما) *. وقوله تعالى: * (أمن جعل الا رض قرارا وجعل خلالهآ أنهارا) *. قد أوضحنا ما تضمنته من البراهين على البعث في أول سورة (البقرة)، وأول سورة (النحل). قوله تعالى: * (قل لا يعلم من فى السماوات والا رض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الأنعام)، في الكلام على قوله تعالى: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) *، وفي مواضع أخر. قوله تعالى: * (بل ادارك علمهم فى الا خرة بل هم فى شك منها بل هم منها عمون) *. أظهر أقوال أهل العلم عندي في هذه الآية الكريمة أن المعنى: * (بل ادرك علمهم) *، أي: تكامل علمهم في الآخرة حين يعاينونها، أي: يعلمون في الآخرة علما كاملا، ما كانوا يجهلونه في الدنيا،
وقوله: * (بل هم فى شك منها بل هم منها عمون) *، أي: في دار الدنيا، فهذا الذي كانوا يشكون فيه في دار الدنيا، ويعمون عنه مما جاءتهم به الرسل، يعلمونه في الآخرة علما كاملا لا يخالجه شك، عند معاينتهم لما كانوا ينكرونه منه البعث والجزاء.
وإنما اخترنا هذا القول دون غيره من أقوال المفسرين في الآية، لأن القرءان دل عليه دلالة واضحة في آيات متعددة؛ كقوله تعالى: * (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لاكن الظالمون اليوم فى ضلال مبين) *، فقوله: * (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا) *، بمعنى: ما أسمعهم وما أبصرهم للحق الذي كانوا ينكرونه يوم يأتوننا، أي: يوم القيامة، وهذا يوضح معنى قوله: * (بل ادرك علمهم فى الاخرة) *، أي: تكامل علمهم فيها لمبالغتهم في سمع الحق وإبصاره في ذلك الوقت، وقوله: * (لاكن الظالمون اليوم فى ضلال مبين) *، يوضح معنى قوله: * (بل هم فى شك منها بل هم منها عمون) *، لأن ضلالهم المبين اليوم، أي: في دار الدنيا، هو شكهم في الآخرة، وعماهم
122

عنها؛ وكقوله تعالى: * (فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) *، أي: علمك اليوم بما كنت تنكره في الدنيا مما جاءتك به الرسل حديد، أي: قوي كامل.
وقد بينا في كتابنا (دفع إبهام الاضطراب عن آيات الكتاب)، في سورة (الشورى)، في الجواب عما يتوهم من التعارض بين قوله تعالى: * (ينظرون من طرف خفى) *، وقوله تعالى: * (فبصرك اليوم حديد) *، أن المراد بحدة البصر في ذلك اليوم: كما العلم وقوة المعرفة. وقوله تعالى: * (ولو ترى المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون) *، فقوله: * (إنا موقنون) * أي: يوم القيامة، يوضح معنى قوله هنا: * (بل ادرك علمهم فى الاخرة) *، وكقوله تعالى: * (وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا) *، فعرضهم على ربهم صفا يتدارك به علمهم، لما كانوا ينكرونه، وقوله: * (بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا) *، صريح في أنهم في الدنيا كانوا في شك وعمى عن البعث والجزاء كما ترى، إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم أن قوله: * (بل ادرك) *، فيه اثنتا عشرة قراءة اثنتان منها فقط سبعيتان، فقد قرأه عامة السبعة، غير ابن كثير وأبي عمرو: * (بل ادرك) * بكسر اللام من * (بل) * وتشديد الدال بعدها ألف والألف التي قبل الدال همزة وصل، وأصله: تدارك بوزن: تفاعل، وقد قدمنا وجه الإدغام، واستجلاب همزة الوصل في تفاعل وتفعل وأمثلة ذلك في القرءان، وبعض شواهده العربية في سورة (طه)، في الكلام على قوله تعالى: * (فإذا هى تلقف ما يأفكون) *، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو: * (بل ادرك) * بسكون اللام من * (بل) *، وهمزة قطع مفتوحة، مع سكون الدال على وزن: أفعل.
والمعنى على قراءة الجمهور: * (بل ادرك علمهم) *، أي: تدارك بمعنى تكامل؛ كقوله: * (حتى إذا اداركوا فيها جميعا) *، وعلى قراءة ابن كثير وأبي عمرو: * (بل ادرك) *.
قال البغوي: أي بلغ ولحق، كما يقال: أدرك علمي إذا لحقه وبلغه، والإضراب في قوله تعالى: * (بل ادرك) *، * (بل هم فى شك) *، * (بل هم منها عمون) *، إضراب انتقالي، والظاهر أن من في قوله تعالى: * (بل هم منها عمون) *، بمعنى: عن،
123

و * (عمون) * جمع عم، وهو الوصف من عمى يعمي فهو أعمى وعم، ومنه قوله تعالى: * (إنهم كانوا قوما عمين) *، وقول زهير في معلقته: قال البغوي: أي بلغ ولحق، كما يقال: أدرك علمي إذا لحقه وبلغه، والإضراب في قوله تعالى: * (بل ادرك) *، * (بل هم فى شك) *، * (بل هم منها عمون) *، إضراب انتقالي، والظاهر أن من في قوله تعالى: * (بل هم منها عمون) *، بمعنى: عن، و * (عمون) * جمع عم، وهو الوصف من عمى يعمي فهو أعمى وعم، ومنه قوله تعالى: * (إنهم كانوا قوما عمين) *، وقول زهير في معلقته:
* وأعلم علم اليوم والأمس قبله
* ولكنني عن علم ما في غدعم
* إن هاذا القرءان يقص على بنى إسراءيل أكثر الذى هم فيه يختلفون) *. ومن ذلك اختلافهم في عيسى، فقد قدمنا في سورة (مريم)، ادعاءهم على أمه الفاحشة، مع أن طائفة منهم آمنت به؛ كما يشير إليه قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا كونوا يأيها الذين ءامنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن) *، والطائفة التي آمنت قالت الحق في عيسى، والتي كفرت افترت عليه وعلى أمه، كما تقدم إيضاحه في سورة (مريم).
وقد قص الله عليهم في سورة (مريم) و سورة (النساء) وغيرهما، حقيقة عيسى ابن مريم، وهي أنه * (عبد الله) * ورسوله * (وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) *، ولما بين لهم حقيقة أمره مفصلة في سورة (مريم)، قال: * (ذالك عيسى ابن مريم قول الحق الذى فيه يمترون) *، وذلك يبين بعض ما دل عليه قوله تعالى هنا: * (إن هاذا القرءان يقص على بنى إسراءيل أكثر الذى هم فيه يختلفون) *. قوله تعالى: * (وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة (الكهف)، في الكلام على قوله تعالى: * (الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب) *.
* (إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعآء إذا ولوا مدبرين * ومآ أنت بهادى العمى عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بأاياتنا فهم مسلمون * وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دآبة من الا رض تكلمهم أن الناس كانوا بأاياتنا لا يوقنون * ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بأاياتنا فهم يوزعون * حتى إذا جآءوا قال أكذبتم بأاياتى ولم تحيطوا بها علما أما ذا كنتم تعملون * ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون * ألم يروا أنا جعلنا اليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن فى ذلك لايات لقوم يؤمنون * ويوم ينفخ فى الصور ففزع من فى السماوات ومن فى الا رض إلا من شآء الله وكل أتوه داخرين * وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب صنع الله الذى
أتقن كل شىء إنه خبير بما تفعلون * من جآء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ ءامنون * ومن جآء بالسيئة فكبت وجوههم فى النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون * إنمآ أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذى حرمها وله كل شىء وأمرت أن أكون من المسلمين * وأن أتلو القرءان فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فقل إنمآ أنا من المنذرين * وقل الحمد لله سيريكم ءاياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون) * قوله تعالى: * (إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعآء إذا ولوا مدبرين) *. اعلم أن التحقيق الذي دلت عليه القرائن القرءانية واستقراء القرءان، أن معنى قوله: * (إنك لا تسمع الموتى) *، لا يصح فيه من أقوال العلماء، إلا تفسيران:
الأول: أن المعنى: * (إنك لا تسمع الموتى) *، أي: لا تسمع الكفار الذين أمات الله قلوبهم، وكتب عليهم الشقاء في سابق علمه إسماع هدى وانتفاع؛ لأن الله كتب عليهم الشقاء، فختم على قلوبهم، وعلى سمعهم، وجعل على قلوبهم الأكنة، وفي آذانهم الوقر،
124

وعلى أبصارهم الغشاوة، فلا يسمعون الحق سماع اهتداء وانتفاع. ومن القرائن القرآنية الدالة على ما ذكرنا، أنه جل وعلا قال بعده: * (وما أنت بهادى العمى عن ضلالتهم إن تسمع) *.
فاتضح بهذه القرينة أن المعنى: * (إنك لا تسمع الموتى) *، أي: الكفار الذين هم أشقياء في علم الله إسماع هدى وقبول للحق، ما تسمع ذلك الإسماع * (وما أنت بهادى العمى عن ضلالتهم) *، فمقابلته جل وعلا بالإسماع المنفي في الآية عن الموتى بالإسماع المثبت فيها، لمن يؤمن بآياته، فهو مسلم دليل واضح على أن المراد بالموت في الآية موت الكفر والشقاء، لا موت مفارقة الروح للبدن، ولو كان المراد بالموت في قوله: * (إنك لا تسمع الموتى) *، مفارقة الروح للبدن لما قابل قوله: * (إنك لا تسمع الموتى) *، بقوله: * (وما أنت بهادى العمى عن ضلالتهم) *، بل لقابله بما يناسبه، كأن يقال: آن تسمع إلا من لم يمت، أي: يفارق روحه بدنه، كما هو واضح.
وإذا علمت أن هذه القرينة القرءانية دلت على أن المراد بالموتى هنا الأشقياء، الذين لا يسمعون الحق سماع هدى وقبول.
فاعلم أن استقراء القرءان العظيم يدل على هذا المعنى؛ كقوله تعالى: * (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون) *، وقد أجمع من يعتد به من أهل العلم أن المراد بالموتى في قوله: * (والموتى يبعثهم الله) *: الكفار، ويدل له مقابلة الموتى في قوله: * (والموتى يبعثهم الله) * بالذين يسمعون، في قوله: * (إنما يستجيب الذين يسمعون) *، ويوضح ذلك قوله تعالى قبله: * (وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغى نفقا فى الارض أو سلما فى السماء فتأتيهم بئاية) *، أي: فافعل، ثم قال: * (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين * إنما يستجيب الذين يسمعون) *، وهذا واضح فيما ذكرنا. ولو كان يراد بالموتى من فارقت أرواحهم أبدانهم لقابل الموتى بما يناسبهم؛ كأن يقال: إنما يستجيب الأحياء، أي: الذين لم تفارق أرواحهم أبدانهم، وكقوله تعالى: * (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به فى الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) *
125

.
فقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (أو من كان ميتا) *، أي: كافرا فأحييناه، أي: بالإيمان والهدى، وهذا لا نزاع فيه، وفيه إطلاق الموت وإرادة الكفر بلا خلاف؛ وكقوله: * (لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين) *، وكقوله تعالى: * (وما يستوى الاحياء ولا الاموات) *، أي: لا يستوي المؤمنون والكافرون.
ومن أوضح الأدلة على هذا المعنى، أن قوله تعالى: * (إنك لا تسمع الموتى) * الآية، وما في معناها من الآيات كلها، تسلية له صلى الله عليه وسلم، لأنه يحزنه عدم إيمانهم، كما بينه تعالى في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: * (قد نعلم إنه ليحزنك الذى يقولون) *، وقوله تعالى: * (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون) *، وقوله: * (ولا تحزن عليهم) *، وقوله تعالى: * (فلا تأس على القوم الكافرين) *، وكقوله تعالى: * (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) *، وقوله تعالى: * (فلعلك باخع نفسك علىءاثارهم إن لم يؤمنوا بهاذا الحديث أسفا) *، وقوله تعالى: * (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) *، إلى غير ذلك من الآيات، كما تقدم إيضاحه. ولما كان يحزنه كفرهم وعدم إيمانهم، أنزل الله آيات كثيرة تسلية له صلى الله عليه وسلم بين له فيها أنه لا قدرة له صلى الله عليه وسلم على هدي من أضله الله، فإن الهدى والإضلال بيده جل وعلا وحده، وأوضح له أنه نذير، وقد أتى بما عليه فأنذرهم على أكمل الوجوه وأبلغها، وأن هداهم وإضلالهم بيد من خلقهم.
ومن الآيات النازلة تسلية له صلى الله عليه وسلم، قوله هنا: * (إنك لا تسمع الموتى) *، أي: لا تسمع من أضله الله إسماع هدى وقبول، * (وما أنت بهادى العمى عن ضلالتهم) *، يعني: ما تسمع إسماع هدى وقبول، إلا من هديناهم للإيمان بآياتنا * (فهم مسلمون) *.
والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة؛ كقوله تعالى: * (إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدى من يضل) *، وقوله تعالى: * (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم) *، وقوله تعالى: * (إنك لا تهدى من أحببت ولاكن الله يهدى من يشاء) *، وقوله تعالى: * (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين * وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون) *، إلى غير
126

ذلك من الآيات. ولو كان معنى الآية وما شابهها: * (إنك لا تسمع الموتى) *، أي: الذين فارقت أرواحهم أبدانهم لما كان في ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم، كما ترى.
واعلم: أن آية (النمل) هذه، حاءت آيتان أخريان بمعناها:
الأولى منهما: قوله تعالى في سورة (الروم): * (فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين * وما أنت بهادى العمى عن ضلالتهم إن تسمع إلا من
يؤمن بئاياتنا فهم مسلمون) *، ولفظ آية (الروم) هذه، كلفظ آية (النمل) التي نحن بصددها، فيكفي في بيان آية (الروم)، ما ذكرنا في آية (النمل).
والثانية منهما: قوله تعالى في سورة (فاطر): * (إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من فى القبور) *، وآية (فاطر) هذه كآية (النمل) و (الروم) المتقدمتين، لأن المراد بقوله فيها: * (من فى القبور) * الموتى، فلا فرق بي قوله: * (إنك لا تسمع الموتى) *، وبين قوله: * (وما أنت بمسمع من فى القبور) *؛ لأن المراد بالموتى ومن في القبور واحد؛ كقوله تعالى: * (وأن الله يبعث من فى القبور) *، أي: يبعث جميع الموتى من قبر منهم ومن لم يقبر، وقد دلت قرائن قرءانية أيضا على أن معنى آية (فاطر) هذه كمعنى آية (الروم)، منها قوله تعالى قبلها: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة) *، لأن معناها: لا ينفع إنذارك إلا من هداه الله ووفقه فصار ممن يخشى ربه بالغيب ويقيم الصلاة، * (وما أنت بمسمع من فى القبور) *، أي: الموتى، أي: الكفار الذين سبق لهم الشقاء، كما تقدم. ومنها قوله تعالى أيضا: * (وما يستوى الاعمى والبصير) *، أي: المؤمن والكافر. وقوله تعالى (بعدها): * (وما يستوى الاحياء ولا الاموات) *، أي: المؤمنون والكفار. ومنها قوله تعالى بعده: * (إن أنت إلا نذير) * (52 / 32)، أي: ليس الإضلال والهدى بيدك ما أنت إلا نذير، أي: وقد بلغت.
التفسير الثاني: هو أن المراد بالموتى الذين ماتوا بالفعل، ولكن المراد بالسماع المنفي في قوله: * (إنك لا تسمع الموتى) * خصوص السماع المعتاد الذي ينتفع صاحبه به، وأن هذا مثل ضرب للكفار، والكفار يسمعون الصوت، لكن لا يسمعون سماع قبول بفقه واتباع؛ كما قال تعالى: * (ومثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق بما لا يسمع إلا دعاء
127

ونداء) *، فهكذا الموتى الذين ضرب بهم المثل لا يجب أن ينفى عنهم جميع أنواع السماع، كما لم ينف ذلك عن الكفار، بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد الذين ينتفعون به، وأما سماع آخر فلا، وهذا التفسير الثاني جزم به واقتصر عليه أبو العباس ابن تيمية، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله في هذا المبحث.
وهذا التفسير الأخير دلت عليه أيضا آيات من كتاب الله، جاء فيها التصريح بالبكم والصمم والعمى مسندا إلى قوم يتكلمون ويسمعون ويبصرون، والمراد بصممهم، صممهم عن سماع ما ينفعهم دون غيره، فهم يسمعون غيره، وكذلك في البصر والكلام، وذلك كقوله تعالى في المنافقين: * (صم بكم عمى فهم لا يرجعون) *، فقد قال فيهم: * (صم بكم) * مع شدة فصاحتهم وحلاوة ألسنتهم، كما صرح به في قوله تعالى فيهم: * (وإن يقولوا تسمع لقولهم) *، أي: لفصاحتهم، وقوله تعالى: * (فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد) *، فهؤلاء الذين إن يقولوا تسمع لقولهم، وإذا ذهب الخوف سلقوا المسلمين بألسنة حداد، هم الذين قال الله فيهم: * (صم بكم عمى) *، وما ذلك إلا أن صممهم وبكمهم وعماهم بالنسبة إلى شئ خاص، وهو ما ينتفع به من الحق، فهذا وحده هو الذي صموا عنه فلم يسمعوه، وبكموا عنه فلم ينطقوا به، وعموا عنه فلم يروه مع أنهم يسمعون غيره ويبصرونه، وينطقون به؛ كما قال تعالى: * (وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شىء) *، وهذا واضح كما ترى.
وقد أوضحنا هذا غاية الإيضاح مع شواهده العربية في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)، في سورة (البقرة)، في الكلام على وجه الجمع بين قوله في المنافقين: * (صم بكم عمى) *، مع قوله فيهم: * (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم) *، وقوله فيهم: * (سلقوكم بألسنة حداد) *، وقوله فيهم أيضا: * (وإن يقولوا تسمع لقولهم) *، وقد أوضحنا هناك أن العرب تطلق الصمم وعدم السماع على السماع، الذي لا فائدة فيه، وذكرنا بعض الشواهد العربية على ذلك.
مسألة تتعلق بهذه الآية الكريمة
اعلم أن الذي يقتضي الدليل رجحانه هو أن الموتى في قبورهم يسمعون كلام من
128

كلمهم، وأن قول عائشة رضي الله عنها ومن تبعها: إنهم لا يسمعون، استدلالا بقوله تعالى: * (إنك لا تسمع الموتى) *، وما جاء بمعناها من الآيات غلط منها رضي الله عنها، وممن تبعها.
وإيضاح كون الدليل يقتضي رجحان ذلك، مبني على مقدمتين:
الأولى منهما: أن سماع الموتى ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث متعددة، ثبوتا لا مطعن فيه، ولم يذكر صلى الله عليه وسلم أن ذلك خاص بإنسان ولا بوقت.
والمقدمة الثانية: هي أن النصوص الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم في سماع الموتى لم يثبت في الكتاب، ولا في السنة شئ يخالفها، وتأويل عائشة رضي الله عنها بعض الآيات على معنى يخالف الأحاديث المذكورة، لا يجب الرجوع إليه؛ لأن غيره في معنى الآيات أولى بالصواب منه، فلا ترد النصوص الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بتأول بعض الصحابة بعض الآيات، وسنوضح هنا إن شاء الله صحة المقدمتين المذكورتين، وإذا ثبت بذلك أن سماع الموتى ثابت عنه صلى الله عليه وسلم من غير معارض صريح، علم بذلك رجحان ما ذكرنا، أن الدليل يقتضي رجحانه.
أما المقدمة الأولى، وهي ثبوت سماع الموتى عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال البخاري في صحيحه: حدثني عبد الله بن محمد، سمع روح بن عبادة، حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، قال: ذكر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش، فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى واتبعه أصحابه، وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفة الركي، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: (يا فلان ابن فلان، ويا فلان ابن فلان، أيسركم
أنكم أطعتم الله ورسوله، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا)؟ قال: فقال عمر: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تكلم من أجساد لا أرواح لهاا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)، قال قتادة: أحياهم الله له، حتى أسمعهم توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما، فهذا الحديث الصحيح أقسم فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن الأحياء الحاضرين ليسوا بأسمع لما يقول صلى الله عليه وسلم من أولئك الموتى بعد ثلاث، وهو نص صحيح صريح في سماع الموتى، ولم يذكر صلى الله عليه وسلم في ذلك
129

تخصيصا، وكلام قتادة الذي ذكره عنه البخاري اجتهاد منه، فيما يظهر.
وقال البخاري في (صحيحه) أيضا: حدثني عثمان، حدثني عبدة عن هشام عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر، فقال: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقا)؟ ثم قال: (إنهم الآن يسمعون ما أقول)، فذكر لعائشة، فقالت: إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق)، ثم قرأت: * (إنك لا تسمع الموتى) *، حتى قرأت الآية، انتهى من صحيح البخاري. وقد رأيته أخرج عن صحابيين جليلين، هما: ابن عمر، وأبو طلحة، تصريح النبي صلى الله عليه وسلم بأن أولئك الموتى يسمعون ما يقول لهم، ورد عائشة لرواية ابن عمر بما فهمت من القرءان مردود، كم سترى إيضاحه إن شاء الله تعالى.
وقد أوضحنا في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) *، أن ردها على ابن عمر أيضا روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن الميت يعذب ببكاء أهله بما فهمت من الآية مردود أيضا، وأوضحنا أن الحق مع ابن عمر في روايته لا معها، فيما فهمت من القرءان. وقال البخاري في (صحيحه) أيضا: حدثنا عياش، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد، قال: وقال لي خليفة: حدثنا ابن زريع، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذ وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال: أنظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا في الجنة) الحديث، وقد رأيت في هذا الحديث الصحيح تصريح النبي صلى الله عليه وسلم بأن الميت في قبره، يسمع قرع نعال من دفنوه إذا رجعوا، وهو نص صحيح صريح في سماع الموتى، ولم يذكر صلى الله عليه وسلم فيه تخصيصا.
وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في (صحيحه): حدثني إسحاق بن عمر بن سليط الهذلي، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، قال: قال أنس: كنت مع عمر (ح)، وحدثنا شيبان بن فروخ، واللفظ له: حدثنا سليمان بن المغيرة بن ثابت، عن أنس بن مالك، قال: كنا مع عمر بين مكة والمدينة فتراءينا الهلال، الحديث. وفيه: فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس، يقول: (هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله)، قال: فقال عمر: فوالذي بعثه بالحق ما أخطأوا الحدود التي حد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلوا في بئر
130

بعضهم على بعض، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم، فقال: (يا فلان ابن فلان، ويا فلان ابن فلان، هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا؟ فإني قد وجدت ما وعدني الله حقا)، قال عمر: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها؟ قال: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علي شيئا). حدثنا هداب بن خالد، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك قلتي بدر ثلاثا ثم أتاهم، فقام عليهم فناداهم، فقال: (يا أبا جهل بن هشام، يا أمية بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، أليس قد وجدتم ما وعدكم الله حقا، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا)، فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللها كيف يسمعوا وأنى يجيبوا، وقد جيفوا؟ قال: (والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا)، ثم أمر بهم فسحبوا، فألقوا في قليب بدر. ثم ذكر مسلم بعد هذا رواية أنس عن أبي طلحة، التي ذكرناها عن البخاري، فترى هذه الأحاديث الثابتة في الصحيح عن عمر وابنه، وأنس، وأبي طلحة رضي الله عنهم، فيها التصريح من النبي صلى الله عليه وسلم بأن الأحياء الحاضرين ليسوا بأسمع من أولئك الموتى لما يقوله صلى الله عليه وسلم، وقد أقسم صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم يذكر تخصيصا، وقال مسلم رحمه الله في (صحيحه) أيضا: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا شيبان بن عبد الرحمان، عن قتادة، حدثنا أنس بن مالك، قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم)، قال: (يأتيه ملكان فيعقدانه) الحديث، وفيه تصريح النبي صلى الله عليه وسلم بسماع الميت في قبره قرع النعال، وهو نص صحيح صريح في سماع الموتى، وظاهره العموم في كل من دفن وتولى عنه قومه، كما ترى.
ومن الأحاديث الدالة على عموم سماع الموتى، ما رواه مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي، ويحيى بن أيوب، وقتيبة بن سعيد، قال يحيى بن يحيى: أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا إسماعيل بن جعفر عن شريك، وهو ابن أبي نمر، عن عطاء بن يسار، عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما كان ليلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الفرقد)، ولم يقم قتيبة قوله: (وأتاكم ما توعدون)، وفي رواية في صحيح مسلم عنها، قالت: كيف أقول لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: (قولي: السلام على أهل
131

الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون)، ثم قال مسلم رحمه الله: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب، قالا: حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا
خرجوا إلى المقابر، فكان قائلهم يقول في رواية أبي بكر: (السلام على أهل الديار)، وفي رواية زهير: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية)، انتهى من (صحيح مسلم). وخطابه صلى الله عليه وسلم لأهل القبور بقوله: (السلام عليكم)، وقوله: (وإنا إن شاء الله بكم)، ونحو ذلك يدل دلالة واضحة على أنهم يسمعون سلامه لأنهم لو كانوا لا يسمعون سلامه وكلامه لكان خطابه لهم من جنس خطاب المعدوم، ولا شك أن ذلك ليس من شأن العقلاء، فمن البعيد جدا صدوره منه صلى الله عليه وسلم، وسيأتي إن شاء الله ذكر حديث عمرو بن العاص الدال على أن الميت في قبره يستأنس بوجود الحي عنده.
وإذا رأيت هذه الأدلة الصحيحة الدالة على سماع الموتى، فاعلم أن الآيات القرآنية؛ كقوله تعالى: * (إنك لا تسمع الموتى) *، وقوله: * (وما أنت بمسمع من فى القبور) * لا تخالفها، وقد أوضحنا الصحيح من أوجه تفسيرها، وذكرنا دلالة القرائن القرآنية عليه، وأن استقراء القرءان يدل عليه.
وممن جزم بأن الآيات المذكورة لا تنافي الأحاديث الصحيحة التي ذكرنا أبو العباس ابن تيمية، فقد قال في الجزء الرابع من (مجموع الفتاوي) من صحيفة خمس وتسعين ومائتين، إلى صحيفة تسع وتسعين ومائتين، ما نصه: وقد تعاد الروح إلى البدن في غير وقت المسألة، كما في الحديث الذي صححه ابن عبد البر عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (ما من رجل يمر بقبر الرجل الذي كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه، إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام). وفي سنن أبي داود وغيره عن أوس بن أبي أوس الثقفي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن خير أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي)، قالوا: يا رسول اللها كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)، وهذا الباب فيه من الأحاديث والآثار، ما يضيق هذا الوقت عن استقصائه، مما يبين أن الأبدان التي في القبور تنعم وتعذب إذا شاء الله ذلك كما يشاء، وأن الأرواح باقية بعد مفارقة البدن ومنعمة أو معذبة، ولذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام على الموتى، كما ثبت في الصحيح والسنن أنه كان يعلم
132

أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم). وقد انكشف لكثير من الناس ذلك حتى سمعوا صوت المعذبين في قبورهم، ورأوهم بعيونهم يعذبون في قبورهم في آثار كثيرة معروفة، ولكن لا يجب أن يكون دائما على البدن في كل وقت، بل يجوز أن يكون في حال.
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثا ثم أتاهم فقام عليهم، فقال: (يا أبا جهل بن هشام، يا أمية بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة ا أليس قد وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا)، فسمع عمر رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللها كيف يسمعون وقد جيفوا؟ فقال: (والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا)، ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في قليب بدر، وقد أخرجاه في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر، فقال: (هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا)؟ وقال: (إنهم ليسمعون الآن ما أقول)، فذكر ذلك لعائشة فقالت: وهم ابن عمر، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنهم ليعلمون الآن أن الذي قلت لهم هو الحق)، ثم قرأت قوله تعالى: * (إنك لا تسمع الموتى) *، حتى قرأت الآية.
وأهل العلم بالحديث اتفقوا على صحة ما رواه أنس وابن عمر، وإن كانا لم يشهدا بدرا، فإن أنسا روى ذلك عن أبي طلحة، وأبو طلحة شهد بدرا كما روى أبو حاتم في صحيحه، عن أنس، عن أبي طلحة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش، فقذفوا في طوى من أطواء بدر، وكان إذا ظهر على قوم أحب أن يقيم في عرصتهم ثلاث ليال، فلما كان اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها فحركها، ثم مشى وتبعه أصحابه، وقالوا: ما نراه ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفاء الركي، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: (يا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا)، قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تكلم من أجساد ولا أرواح فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)، قال قتادة: أحياهم الله
133

حتى أسمعهم توبيخا، وتصغيرا، ونقمة، وحسرة، وتنديما، وعائشة قالت فيما ذكرته كما تأولت.
والنص الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على تأويل من تأول من أصحابه وغيره، وليس في القرءان ما ينفى ذلك، فإن قوله تعالى: * (إنك لا تسمع الموتى) *، إنما أراد به السماع المعتاد الذي ينفع صاحبه، فإن هذا مثل ضربه الله للكفار، والكفار تسمع الصوت، لكن لا تسمع سماع قبول بفقه واتباع؛ كما قال تعالى: * (ومثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء) *، فهكذا الموتى الذين ضرب بهم المثل لا يجب أن ينفى عنهم جميع أنواع السماع، بل السماع المعتاد كما لم ينف ذلك عن الكفار، بل انتفى عنهم السماع المعتاد الذي ينتفعون به. وأما سماع آخر فلا ينفى عنهم، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن الميت يسمع خفق نعالهم، إذا ولوا مدبرين، فهذا موافق لهذا فكيف يرفع ذلك، انتهى محل الغرض من كلام أبي العباس ابن تيمية. وقد تراه صرح فيه بأن تأول عائشة لا يرد به النص الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس في القرءان ما ينفي السماع الثابت للموتى في الأحاديث الصحيحة.
وإذا علمت به أن القرءان ليس فيه ما ينفي السماع المذكور، علمت أنه ثابت بالنص الصحيح، من غير معارض.
والحاصل أن تأول عائشة رضي الله عنها بعض آيات القرءان، لا ترد به روايات الصحابة العدول الصحيحة الصريحة عنه صلى الله عليه وسلم، ويتأكد، ذلك بثلاثة أمور:
الأول: هو ما ذكرناه الآن من أن رواية العدل لا ترد بالتأويل.
الثاني: أن عائشة رضي الله عنها لما أنكرت رواية ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنهم ليسمعون الآن ما أقول)، قالت: إن الذي قاله صلى الله عليه وسلم: (إمهم ليعلمون الآن أن الذي كنت أقول لهم هو الحق)، فأنكرت السماع ونفته عنهم، وأثبتت لهم العلم، ومعلوم أن من ثبت له العلم صح منه السماع، كما نبه عليه بعضهم.
الثالث: هو ما جاء عنها مما يقتضي رجوعها عن تأويلها، إلى الروايات الصحيحة.
قال ابن حجر في (فتح الباري): ومن الغريب أن في المغازي لابن إسحاق رواية يونس بن بكير بإسناد جيد، عن عائشة مثل حديث أبي طلحة، وفيه: (ما أنتمع بأسمع لما
134

أقول منهم)، وأخرجه أحمد بإسناد حسن، فإن كان محفوظا فكأنها رجعت عن الإنكار لما ثبت عندها من رواية هؤلاء الصحابة؛ لكونها لم تشهد القصة، انتهى منه. واحتمال رجوعها لما ذكر قوي، لأن ما يقتضي رجوعها ثبت بإسنادين.
قال ابن حجر: إن أحدهما جيد، والآخر حسن. ثم قال ابن حجر: قال الإسماعيلي: كان عند عائشة من الفهم والذكاء وكثرة الرواية والغوص على غوامض العلم، ما لا مزيد عليه، لكن لا سبيل إلى رد رواية الثقة إلا بنص مثله يدل على نسخه أو تخصيصه، أو استحالته، انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر.
وقال ابن القيم في أول (كتاب الروح): المسألة الأولى: وهي هل تعرف الأموات زيارة الأحياء وسلامهم أم لا؟ قال ابن عبد البر: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (ما من مسلم يمر على قبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه، إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام)، فهذا نص في أنه يعرفه بعينه، ويرد عليه السلام.
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة: أنه أمر بقتلى بدر فألقوا في قليب، ثم جاء حتى وقف عليهم وناداهم بأسمائهم: (يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، فإني وجدت ما وعدني ربي حقا)، فقال له عمر: يا رسول اللها ما تخاطب من أقوام قد جيفوا، فقال: (والذي بعثني بالحق، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون جوابا)، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم: أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه، وقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته إذا سلموا على أهل القبور، أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه، فيقول: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين)، وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد، والسلف مجمعون على هذا، وقد تواترت الآثار عنهم أن الميت يعرف زيارة الحي له، ويستبشر له، قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن أبي الدنيا في (كتاب القبور):
باب في معرفة الموتى بزيارة الأحياء
حدثنا محمد بن عون، حدثنا يحيى بن يمان، عن عبد الله بن سمعان، عن زيد بن أسلم، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به ورد عليه، حتى يقوم). حدثنا محمد بن قدامة الجوهري، حدثنا معن بن عيسى القزاز، أخبرنا هشام بن سعد، حدثنا زيد بن أسلم، عن أبي هريرة
135

رضي الله تعالى عنه، قال: إذا مر الرجل بقبر أخيه يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام وعرفه، وإذا مر بقبر لا يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام.
وذكر ابن القيم في كلام أبي الدنيا وغيره آثارا تقتضي سماع الموتى، ومعرفتهم لمن يزورهم، وذكر في ذلك مرائي كثيرا جدا، ثم قال: وهذه المرائي، وإن لم تصلح بمجردها لإثبات مثل ذلك، فهي على كثرتها، وأنها لا يحصيها إلا الله قد تواطأت على هذا المعنى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر)، يعني ليلة القدر، فإذا تواطأت رؤيا المؤمنين على شئ، كان كتواطىء روايتهم له، ومما قاله ابن القيم في كلامه الطويل المذكور، وقد ثبت في الصحيح أن الميت يستأنس بالمشيعين لجنازته بعد دفنه، فروى مسلم في صحيحه من حديث عبد الرحمان بن شماسة المهري، قال: حضرنا عمرو بن العاص، وهو في سياق الموت، فبكى طويلا وحول وجهه إلى الجدار.. الحديث، وفيه: فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فسنوا علي التراب سنا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر الجزور، ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي، فدل على أن الميت يستأنس بالحاضرين عند قبره ويسر بهم، اه.
ومعلوم أن هذا الحديث له حكم الرفع، لأن استئناس المقبور بوجود الأحياء عند قبره لا مجال للرأي فيه. ومما قاله ابن القيم في كلامه الطويل المذكور: ويكفي في هذا تسمية المسلم عليهم زائرا، ولولا أنهم يشعرون به لما صح تسميته زائرا، فإن المزور إن لم يعلم بزيارة من زاره، لم يصح أن يقال: زاره، وهذا هو المعقول من الزيارة عند جميع الأمم، وكذلك السلام عليهم أيضا، فإن السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلم محال، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته إذا زاروا القبور أن يقولوا: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية)، وهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع، ويخاطب، ويعقل، ويرد، وإن لم يسمع المسلم الرد.
ومما قاله ابن القيم في كلامه الطويل، قوله: وقد ترجم الحافظ أبو محمد عبد الحق الأشبيلي على هذا، فقال: ذكر ما جاء أن الموتى يسألون عن الأحياء، ويعرفون أقوالهم وأعمالهم، ثم قال: ذكر أبو عمر بن عبد البر من حديث ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من
136

رجل يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه فيسلم عليه، إلا عرفه ورد عليه السلام).
ويروى من حديث أبي هريرة مرفوعا، قال: (فإن لم يعرفه وسلم عليه رد عليه السلام)، قال: ويروى من حديث عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من رجل يزور قبر أخيه فيجلس عنده، إلا استأنس به حتى يقوم)، واحتج الحافظ أبو محمد في هذا الباب بما رواه أبو داود في سننه، من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام). ثم ذكر ابن القيم عن عبد الحق وغيره مرائي وآثارا في الموضوع، ثم قال في كلامه الطويل: ويدل على هذا أيضا ما جرى عليه عمل الناس قديما وإلى الآن، من تلقين الميت في قبره ولولا أنه يسمع ذلك وينتفع به لم يكن فيه فائدة، وكان عبثا. وقد سئل عنه الإمام أحمد رحمه الله، فاستحسنه واحتج عليه بالعمل.
ويروى فيه حديث ضعيف: ذكر الطبراني في معجمه من حديث أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب، فليقم أحدكم على رأس قبره، فيقول: يا فلان ابن فلانة)، الحديث. وفيه: (اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة ألا إلاه إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأنك رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، وبالقرءان إماما)، الحديث. ثم قال ابن القيم: فهذا الحديث وإن لم يثبت، فاتصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار كاف في العمل به، وما أجرى الله سبحانه العادة قط، بأن أمة طبقت مشارق الأرض ومغاربها، وهي أكمل الأمم عقولا، وأوفرها معارف تطبق على مخاطبة من لا يسمع، وتستحسن ذلك لا ينكره منها منكر بل سنه الأول للآخر، ويقتدي فيه الآخر بالأول، فلولا أن الخطاب يسمع لكان ذلك بمنزلة الخطاب للتراب، والخشب والحجر والمعدوم، وهذا وإن استحسنه واحد فالعلماء قاطبة على استقباحه واستهجانه.
وقد روى أبو داود في سننه بإسناد لا بأس به: أن النبي صلى الله عليه وسلم حضر جنازة رجل، فلما دفن قال: (سلوا لأخيكم التثبيت، فإنه الآن يسأل)، فأخبر أنه يسأل حينئذ، وإذا كان يسأل فإنه يسمع التلقين، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الميت يسمع قرع نعالهم إذا ولوا مدبرين. ثم ذكر ابن القيم قصة الصعب بن جثامة، وعوف بن مالك، وتنفيذ عوف لوصية الصعب له في المنام بعد موته، وأثنى على عوف بن مالك بالفقه في تنفيذه وصية الصعب بعد موته، لما
137

علم صحة ذلك بالقرائن، وكان في الوصية التي نفذها عوف إعطاء عشرة دنانير ليهودي من تركة الصعب كانت دينا له عليه، ومات قبل قضائها.
قال ابن القيم: وهذا من فقه عوف بن مالك رضي الله عنه، وكان من الصحابة حيث نفذ وصية الصعب بن جثامة بعد موته، وعلم صحة قوله بالقرائن التي أخبره بها، من أن الدنانير عشرة وهي في القرن، ثم سأل اليهودي فطابق قوله ما في الرؤيا فجزم عوف بصحة الأمر، فأعطى اليهودي الدنانير، وهذا فقه إنما يليق بأفقه الناس وأعلمهم، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعل أكثر المتأخرين ينكر ذلك، ويقول: كيف جاز لعوف أن ينقل الدنانير من تركة صعبة، وهي لأيتامه وورثته إلى يهودي بمنام. ثم ذكر ابن القيم تنفيذ خالد وأبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وصية ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه بعد موته، وفي وصيته المذكورة قضاء دين عينه لرجل في المنام، وعتق بعض رقيقه، وقد وصف للرجل الذي رآه في منامه الموضع الذي جعل فيه درعه الرجل الذي سرقها، فوجدوا الأمر كما قال، وقصته مشهورة.
وإذا كانت وصية الميت بعد موته قد نفذها في بعض الصور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك يدل على أنه يدرك ويعقل ويسمع، ثم قال ابن القيم في خاتمه كلامه الطويل: والمقصود جواب السائل وأن الميت إذا عرف مثل هذه الجزئيات وتفاصيلها، فمعرفته بزيارة الحي له وسلامه عليه ودعائه له أولى وأحرى، اه.
فكلام ابن القيم هذا الطويل الذي ذكرنا بعضه جملة وبعضه تفصيلا، فيه من الأدلة المقنعة ما يكفي في الدلالة على سماع الأموات، وكذلك الكلام الذي نقلنا عن شيخه أبي العباس بن تيمية، وفي كلامهما الذي نقلنا عنهما أحاديث صحيحة، وآثار كثيرة، ومرائي متواترة وغير ذلك، ومعلوم أن ما ذكرنا في كلام ابن القيم من تلقين الميت بعد الدفن، أنكره بعض أهل العلم، وقال: إنه بدعة، وأنه لا دليل عليه، ونقل ذلك عن الإمام أحمد وأنه لم يعمل به إلا أهل الشام، وقد رأيت ابن القيم استدل له بأدلة، منها: أن الإمام أحمد رحمه الله سئل عنه فاستحسنه. واحتج عليه بالعمل. ومنها: أن عمل المسلمين اتصل به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار. ومنها: أن الميت يسمع قرع نعال الدافنين إذا ولوا مدبرين، واستدلاله بهذا الحديث الصحيح استدلال قوي جدا؛ لأنه إذا كان في ذلك الوقت يسمع قرع النعال، فلأن يسمع الكلام الواضح بالتلقين من أصحاب النعال أولى
138

وأحرى، واستدلاله لذلك بحديث أبي داود: (سلوا لأخيكم التثبيت فإنه الآن يسأل)، له وجه من النظر؛ لأنه إذا كان يسمع سؤال السائل فإنه يسمع تلقين الملقن، والله أعلم.
والفرق بين سماعه سؤال الملك وسماعه التلقين من الدافنين محتمل احتمالا قويا، وما ذكره بعضهم من أن التلقين بعد الموت لم يفعله إلا أهل الشام، يقال فيه: إنهم هم أول من فعله، ولكن الناس تبعوهم في ذلك، كما هو معلوم عند المالكية والشافعية. قال الشيخ الحطاب في كلامه على قول خليل بن إسحاق المالكي في مختصره: وتلقينه الشهادة، وجزم النووي باستحباب التلقين بعد الدفن. وقال الشيخ زروق في شرح الرسالة والإرشاد، وقد سئل عنه أبو بكر بن الطلاع من المالكية، فقال: هو الذي نختاره ونعمل به، وقد روينا فيه حديثا عن أبي أمامة ليس بالقوي، ولكنه اعتضد بالشواهد، وعمل أهل الشام قديما، إلى أن قال: وقال في المدخل: ينبغي أن يتفقده بعد انصراف الناس عنه، من كان من أهل الفضل والدين، ويقف عند قبره تلقاء وجهه ويلقنه؛ لأن الملكين عليهما السلام، إذ ذاك يسألانه وهو يسمع قرع نعال المنصرفين.
وقد روى أبو داود في سننه عن عثمان رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، وقال: (استغفروا لأخيكم واسألوا
له التثبيت، فإنه الآن يسأل)، إلى أن قال: وقد كان سيدي أبو حامد بن البقال، وكان من كبار العلماء والصلحاء، إذا حضر جنازة عزى وليها بعد الدفن، وانصرف مع من ينصرف، فيتوارى هنيهة حتى ينصرف الناس، ثم يأتي إلى القبر، فيذكر الميت بما يجاوب به الملكين عليهما السلام، انتهى محل الغرض من كلام الحطاب. وما ذكره من كلام أبي بكر بن الطلاع المالكي له وجه قوي من النظر، كما سترى إيضاحه إن شاء الله تعالى. ثم قال الحطاب: واستحب التلقين بعد الدفن أيضا القرطبي والثعالبي وغيرهما، ويظهر من كلام الأبي في أول كتاب الجنائز يعني من صحيح مسلم، وفي حديث عمرو بن العاص في كتاب (الإيمان) ميل إليه، انتهى من الحطاب. وحديث عمرو بن العاص المشار إليه، هو الذي ذكرنا محل الغرض منه في كلام ابن القيم الطويل المتقدم.
قال مسلم في (صحيحه): حدثنا محمد بن المثنى العنزي، وأبو معن الرقاشي، وإسحاق بن منصور، كلهم عن أبي عاصم. واللفظ لابن المثنى: حدثنا الضحاك، يعني أبا عاصم، قال: أخبرنا حيوة بن شريح، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شماسة
139

المهري، قال: حضرنا عمرو بن العاص، وهو في سياقة الموت، فبكى طويلا وحول وجهه إلى الجدار، الحديث. وقد قدمنا محل الغرض منه بلفظه في كلام ابن القيم المذكور، وقدمنا أن حديث عمرو هذا له حكم الرفع، وأنه دليل صحيح على استئناس الميت بوجود الأحياء عند قبره.
وقال النووي في (روضة الطالبين)، ما نصه: ويستحب أن يلقن الميت بعد الدفن، فيقال: يا عبد الله ابن أمة الله اذكر ما خرجت عليه من الدنيا: شهادة ألا إلاه إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن البعث حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأنت رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، وبالقرءان إماما، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخوانا، ورد به الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: هذا التلقين استحبه جماعات من أصحابنا، منهم القاضي حسين، وصاحب التتمة، والشيخ نصر المقدسي في كتابه (التهذيب) وغيرهم، ونقله القاضي حسين عن أصحابنا مطلقا، والحديث الوارد فيه ضعيف، لكن أحاديث الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم من المحدثين وغيرهم، وقد اعتضد هذا الحديث بشواهد من الأحاديث الصحيحة؛ كحديث: (اسألوا له التثبيت)، ووصية عمرو بن العاص: أقيموا عند قبري قدر ما تنحر جزور، ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وأعلم ماذا أراجع به رسل ربي، رواه مسلم في صحيحه، ولم يزل أهل الشام على العمل بهذا التلقين، من العصر الأول، وفي زمن من يقتدى به، اه محل الغرض من كلام النووي.
وبما ذكر ابن القيم وابن الطلاع، وصاحب المدخل من المالكية، والنووي من الشافعية، كما أوضحنا كلامهم تعلم أن التلقين بعد الدفن له وجه قوي من النظر؛ لأنه جاء فيه حديث ضعيف، واعتضد بشواهد صحيحة، وبعمل أهل الشام قديما، ومتابعة غيرهم لهم.
وبما علم في علم الحديث من التساهل في العمل بالضعيف، في أحاديث الفضائل، ولا سيما المعتضد منها بصحيح، وإيضاح شهادة الشواهد له أن حقيقة التلقين بعد الدفن، مركبة من شيئين:
أحدهما: سماع الميت كلام ملقنه بعد دفنه.
140

والثاني: انتفاعه بذلك التلقين، وكلاهما ثابت في الجملة، أما سماعه لكلام الملقن فيشهد له سماعه لقرع نعل الملقن الثابت في الصحيحين، وليس سماع كلامه بأبعد من سماع قرع نعله؛ كما ترى. وأما انتفاعه بكلام الملقن، فيشهد له انتفاعه بدعاء الحي وقت السؤال في حديث: (سلوا لأخيكم التثبيت فإنه يسأل الآن)، واحتمال الفرق بين الدعاء والتلقين قوى جدا كما ترى، فإذا كان وقت السؤال ينتفع بكلام الحي الذي هو دعاؤه له، فإن ذلك يشهد لانتفاعه بكلام الحي الذي هو تلقينه إياه، وإرشاده إلى جواب الملكين، فالجميع في الأول سماع من الميت لكلام الحي، وفي الثاني انتفاع من الميت بكلام الحي وقت السؤال، وقد علمت قوة احتمال الفرق بين الدعاء والتلقين.
وفي ذلك كله دليل على سماع الميت كلام الحي، ومن أوضح الشواهد للتلقين بعد الدفن السلام عليه، وخطابه خطاب من يسمع، ويعلم عند زيارته، كما تقدم إيضاجه؛ لأن كلا منهما خطاب له في قبره، وقد انتصر ابن كثير رحمه الله في تفسير سورة (الروم)، في كلامه على قوله تعالى: * (فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء) *، إلى قوله: * (فهم مسلمون) *، لسماع الموتى، وأورد في ذلك كثيرا من الأدلة التي قدمنا في كلام ابن القيم، وابن أبي الدنيا وغيرهما، وكثيرا من المرائي الدالة على ذلك، وقد قدمنا الحديث الدال على أن المرائي إذا تواترت أفادت الحجة، ومما قال في كلامه المذكور: وقد استدلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بهذه الآية: * (فإنك لا تسمع الموتى) *، على توهيم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، في روايته مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم القتلى الذين ألقوا في قليب بدر بعد ثلاثة أيام، إلى أن قال: والصحيح عند العلماء رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، لما لها من الشواهد على صحتها، من أشهر ذلك ما رواه ابن عبد البر مصححا له عن ابن عباس مرفوعا: (ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم كان يعرفه)، الحديث.
وقد قدمناه في هذا المبحث مرارا، وبجميع ما ذكرنا في هذا المبحث، في الكلام على آية (النمل) هذه، تعلم أن الذي يرجحه الدليل: أن الموتى يسمعون سلام الأحياء وخطابهم سواء قلنا: إن الله يرد عليهم أرواحهم حتى يسمعوا الخطاب ويردوا الجواب، أو قلنا: إن الأرواح أيضا تسمع وترد بعد فناء الأجسام، لأنا قد قدمنا أن هذا ينبني على مقدمتين، ثبوت سماع الموتى بالسنة الصحيحة، وأن القرءان لا يعارضها على التفسير
141

الصحيح الذي تشهد له القرائن القرءانية، واستقراء القرءان، وإذا ثبت ذلك بالسنة الصحيحة من غير معارض من كتاب، ولا سنة ظهر بذلك رجحانه على تأول عائشة رضي الله عنها، ومن تبعها بعض آيات القرءان، كما تقدم إيضاحه. وفي الأدلة التي ذكرها ابن القيم في كتاب الروح على ذلك مقنع للمنصف، وقد زدنا عليها ما رأيت، والعلم عند الله تعالى. * (ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بأاياتنا فهم يوزعون) *. ظاهر هذه الآية الكريمة خصوص الحشر بهذه الأفواج المكذبة بآيات الله
، ولكنه قد دلت آيات كثيرة على عموم الحشر لجميع الخلائق؛ كقوله تعالى بعد هذا بقليل: * (وكل أتوه داخرين) *، وقوله تعالى: * (وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا) *، وقوله تعالى: * (ويوم نحشرهم جميعا) *، وقوله تعالى: * (وما من دابة فى الارض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا فى الكتاب من شىء ثم إلى ربهم يحشرون) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد أوضحنا في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)، في آية (النمل) هذه، في الكلام على وجه الجمع بين قوله تعالى فيها: * (ويوم نحشر من كل أمة فوجا) * الآية، وبين قوله تعالى: * (وكل أتوه داخرين) *، ونحوها من الآيات، وذكرنا قول الألوسي في تفسيره أن قوله: * (وكل أتوه داخرين) * في الحشر العام لجميع الناس للحساب والجزاء. وقوله تعالى: * (ويوم نحشر من كل أمة فوجا) *، في الحشر الخاص بهذه الأفواج المكذبة؛ لأجل التوبيخ المنصوص عليه في قوله هنا: * (حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بئاياتى ولم تحيطوا بها علما) *، وهذا يدل عليه القرءان، كما ترى.
وقال بعضهم: هذه الأفواج التي تحشر حشرا خاصا هي رؤساء أهل الضلال وقادتهم، وعليه فالآية كقوله تعالى: * (فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا * ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمان عتيا) *، والفوج: الجماعة من الناس. ومنه قوله تعالى: * (يدخلون فى دين الله أفواجا) *، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (فهم يوزعون) *، أي: يرد أولهم على
142

آخرهم حتى يجتمعوا، ثم يدفعون جميعا، كما قاله غير واحد. * (حتى إذا جآءوا قال أكذبتم بأاياتى ولم تحيطوا بها علما أما ذا كنتم تعملون) *. قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة: أي يسألون عن اعتقادهم وأعمالهم، ومقصوده بسؤالهم عن اعتقادهم قوله تعالى: * (حتى إذا) *، لأن التصديق بآيات الله التي هي هذا القرءان من عقائد الإيمان التي لا بد منها، كما هو معلوم في حديث جبريل وغيره، ومقصوده بسؤالهم عن أعمالهم قوله تعالى: * (بما كنتم تعملون) *، والسؤال المذكور سؤال توبيخ وتقريع، فقد وبخهم تعالى فيه على فساد الاعتقاد، وفساد الأعمال، والتوبيخ عليهما معا المذكور هنا جاء مثله في قوله تعالى: * (فلا صدق ولا صلى * ولاكن كذب وتولى) *، كما أشار له ابن كثير رحمه الله، فقوله تعالى: * (فلا صدق) *، وقوله: * (ولاكن كذب) *، توبيخ على فساد الاعتقاد. وقوله: * (ولا صلى) *: توبيخ على إضاعة العمل. * (ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون) *. الظاهر أن القول الذي وقع عليهم هو كلمة العذاب، كما يوضحه قوله تعالى: * (ولو شئنا لاتينا كل نفس هداها ولاكن حق القول منى لاملان جهنم من الجنة والناس أجمعين) *، ونحو ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (فهم لا ينطقون) *، ظاهره أن الكفار لا ينطقون يوم القيامة؛ كما يفهم ذلك من قوله تعالى: * (هاذا يوم لا ينطقون * ولا يؤذن لهم فيعتذرون) *، وقوله تعالى: * (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما) *، مع أنه بينت آيات أخر من كتاب الله أنهم ينطقون يوم القيامة ويعتذرون؛ كقوله تعالى عنهم: * (والله ربنا ما كنا مشركين) *، وقوله تعالى عنهم: * (فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء) *، وقوله: * (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا) *، وقوله تعالى عنهم: * (ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون) *، وقوله تعالى: * (ونادوا يا
143

مالك ملك) *، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على كلامهم يوم القيامة.
وقد بينا الجواب عن هذا في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)، في سورة (المرسلات)، في الكلام على قوله تعالى: * (هاذا يوم لا ينطقون) *، وما ذكرنا من الآيات. فذكرنا أن من أوجه الجواب عن ذلك أن القيامة مواطن، ففي بعضها ينطقون، وفي بعضها لا ينطقون، فإثبات النطق لهم ونفيه عنهم كلاهما منزل على حال ووقت غير حال الآخر ووقته. ومنها أن نطقهم المثبت لهم خاص بما لا فائدة لهم فيه، والنطق المنفي عنهم خاص بما لهم فيه فائدة ومنها غير ذلك، وقد ذكرنا شيئا من أجوبة ذلك في (الفرقان) و (طه)، و (الإسراء). * (ألم يروا أنا جعلنا اليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن فى ذلك لايات لقوم يؤمنون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (وجعلنا اليل والنهار ءايتين فمحونا ءاية اليل) *. * (وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب صنع الله الذى أتقن كل شىء إنه خبير بما تفعلون) *. قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا، ويكون في الآية قرينة تدل على بطلان ذلك القول، وذكرنا في ترجمته أيضا أن من أنواع البيان التي تضمنها الاستدلال على المعنى، بكونه هو الغالب في القرءان؛ لأن غلبته فيه، تدل على عدم خروجه من معنى الآية، ومثلنا لجميع ذلك أمثلة متعددة في هذا الكتاب المبارك، والأمران المذكوران من أنواع البيان قد اشتملت عليهما معا آية (النمل) هذه.
وإيضاح ذلك أن بعض الناس قد زعم أن قوله تعالى: * (وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب) *، يدل على أن الجبال الآن في دار الدنيا يحسبها رائيها جامدة، أي: واقفة ساكنة غير متحركة، وهي تمر مر السحاب، ونحوه قول النابغة يصف جيشا: وإيضاح ذلك أن بعض الناس قد زعم أن قوله تعالى: * (وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب) *، يدل على أن الجبال الآن في دار الدنيا يحسبها رائيها جامدة، أي: واقفة ساكنة غير متحركة، وهي تمر مر السحاب، ونحوه قول النابغة يصف جيشا:
* بأرعن مثل الطود تحسب أنهم
* وقوف لحاج والركاب تهملج
*
والنوعان المذكوران من أنواع البيان، يبينان عدم صحة هذا القول.
144

أما الأول منهما: وهو وجود القرينة الدالة على عدم صحته، فهو أن قوله تعالى: * (وترى الجبال) * معطوف على قوله: * (ففزع) *، وذلك المعطوف عليه مرتب بالفاء على قوله تعالى: * (ويوم ينفخ فى الصور ففزع من فى السماوات) *، أي: ويوم ينفخ في الصور، فيفزع من في السماوات وترى الجبال، فدلت هذه القرينة القرآنية الواضحة على أن مر الجبال مر السحاب كائن يوم ينفخ في الصور، لا الآن.
وأما الثاني: وهو كون هذا المعنى هو الغالب في القرءان فواضح؛ لأن جميع الآيات التي فيها حركة الجبال كلها في يوم القيامة؛ كقوله تعالى: * (يوم تمور السماء مورا * وتسير الجبال سيرا) *، وقوله تعالى: * (ويوم نسير الجبال وترى الارض بارزة) *، وقوله تعالى: * (وسيرت الجبال فكانت سرابا) *، وقوله تعالى: * (وإذا الجبال سيرت) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (صنع الله الذى أتقن كل شىء) *، جاء نحوه في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: * (فتبارك الله أحسن الخالقين) *، وقوله تعالى: * (ما ترى فى خلق الرحمان من تفاوت) *، وتسيير الجبال وإيجادها ونصبها قبل تسييرها، كل ذلك صنع متقن.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (إنه خبير بما تفعلون) *، قد قدمنا الآيات التي بمعناه في أول سورة (هود)، في الكلام على قوله تعالى: * (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه) *، إلى قوله: * (إنه عليم بذات الصدور) *. * (من جآء بالحسنة فله خير منها) *. اعلم: أن الحسنة في هذه الآية الكريمة، تشمل نوعين من الحسنات:
الأول: حسنة هي فعل خير من أفعال العبد، كالإنفاق في سبيل الله، وبذل النفس والمال في إعلاء كلمة الله، ونحو ذلك، ومعنى قوله تعالى: * (فله خير منها) *، بالنسبة إلى هذا النوع من الحسنات، أن الثواب مضاعف، فهو خير من نفس العمل؛ لأن من أنفق درهما واحدا في سبيل الله فأعطاه الله ثواب هو سبعمائة درهم فله عند الله ثواب هو سبعمائة درهم مثلا، خير من الحسنة التي قدمها التي هي إنفاق درهم واحد، وهذا لا إشكال فيه كما ترى.
145

وهذا المعنى توضحه آيات من كتاب الله؛ كقوله تعالى: * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) *، ومعلوم أن عشر أمثال الحسنة خير منها هي وحدها؛ وكقوله تعالى: * (وإن تك حسنة يضاعفها) *، وقوله تعالى: * (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف) *.
وأما النوع الثاني من الحسنة: فكقول من قال من أهل العلم: إن المراد بالحسنة في هذه الآية: لا إلاه إلا الله، ولا يوجد شئ خير من لا إلاه إلا الله، بل هي أساس الخير كله، والذي يظهر على هذا المعنى أن لفظة * (خير) * ليست صيغة تفضيل.
وأن المعنى: * (فله خير) * عظيم عند الله حاصل له منها، أي: من قبلها ومن أجلها، وعليه فلفظة * (من) * في الآية؛ كقوله تعالى: * (مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا) *، أي: من أجل خطيآتهم أغرقوا، فأدخلوا نارا. وأما على الأول فخير صيغة تفضيل، ويحتمل عندي أن لفظة * (خير) * على الوجه الثاني صيغة تفضيل أيضا، ولا يراد بها تفضيل شئ على لا إلاه إلا الله، بل المراد أن كلمة لا إلاه إلا الله تعبد بها العبد في دار الدنيا، وتعبده بها فعله المحض، وقد أثابه الله في الآخرة على تعبده بها، وإثابة الله فعله جل وعلا، ولا شك أن فعل الله خير من فعل عبده، والعلم عند الله تعالى. * (وهم من فزع يومئذ ءامنون) *. دلت على معناه آيات من كتاب الله؛ كقوله تعالى في أمنهم من الفزع: * (لا يحزنهم الفزع الاكبر وتتلقاهم الملئكة) *، وقوله تعالى في أمنهم: * (وما أموالكم ولا أولادكم بالتى تقربكم عندنا زلفى إلا من) *، وقوله تعالى: * (أفمن يلقى فى النار خير * من إن الذين يلحدون فى) *، وقوله تعالى: * (وهم من فزع يومئذ) *، قرأه عاصم، وحمزة، والكسائي بتنوين * (فزع) *، وفتح ميم * (يومئذ) *، وقرأه الباقون بغير تنوين، بل بالإضافة إلى * (يومئذ) *، إلا أن نافعا قرأ بفتح ميم * (يومئذ) * مع إضافة * (فزع) * إليه، وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو بإضافة * (فزع) * إلى * (يومئذ) * مع كسر ميم * (يومئذ) *، وفتح الميم وكسرها من نحو * (يومئذ) *، قد أوضحناه بلغاته وشواهده العربية مع بيان المختار من اللغات في سورة
146

(مريم)، في الكلام على قوله تعالى: * (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت) *. * (ومن جآء بالسيئة فكبت وجوههم فى النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون) *. قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: وقال ابن مسعود، وابن عباس، وأبو هريرة، وأنس بن مالك رضي الله عنهم، وعطاء، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، وأبو وائل، وأبو صالح، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، والزهري، والسدي، والضحاك، والحسن، وقتادة، وابن زيد، في قوله تعالى: * (ومن جاء بالسيئة) *، يعني: الشرك.
وهذه الآية الكريمة تضمنت أمرين:
الأول: أن من جاء ربه يوم القيامة بالسيئة كالشرك يكب وجهه في النار.
والثاني: أن السيئة إنما تجزى بمثلها من غير زيادة، وهذان الأمران جاءا موضحين في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى في الأول منهما: * (إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى) *، وكقوله تعالى في الثاني منهما: * (ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها) *، وقوله تعالى: * (ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون) *، وقوله تعالى: * (جزاء وفاقا) *.
وإذا علمت أن السيئات لا تضاعف، فاعلم أن السيئة قد تعظم فيعظم جزاؤها بسبب حرمة المكان؛ كقوله تعالى: * (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) *، أو حرمة الزمان؛ كقوله تعالى في الأشهر الحرام: * (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) *.
وقد دلت آيات من كتاب الله أن العذاب يعظم بسبب عظم الإنسان المخالف؛ كقوله تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم: * (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا * إذا لأذقناك ضعف الحيواة وضعف الممات) *، وقوله تعالى: * (ولو تقول علينا بعض الاقاويل *
147

لاخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين) *، وكقوله تعالى في أزواجه صلى الله عليه وسلم: * (عظيما يانساء النبى من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين) *، وقد قدمنا طرفا من الكلام على هذا، في الكلام على قوله تعالى: * (إذا لأذقناك ضعف الحيواة وضعف الممات) *، مع تفسير الآية، ومضاعفة السيئة المشار إليها في هاتين الآيتين، إن كانت بسبب عظم الذنب، حتى صار في عظمه كذنبين، فلا إشكال، وإن كانت مضاعفة جزاء السيئة كانت هاتان الآيتان مخصصتين للآيات المصرحة، بأن السيئة لا تجزى إلا بمثلها، والجميع محتمل، والعلم عند الله تعالى. * (إنمآ أمرت أن أعبد رب هذه البلدة) *. جاء معناه موضحا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: * (قل ياأيها الناس إن كنتم فى شك من دينى فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولاكن أعبد الله الذى يتوفاكم) *، وقوله تعالى: * (فليعبدوا رب هاذا البيت * الذى أطعمهم من جوع وءامنهم من خوف) *، إلى غير ذلك من الآيات. * (وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرءان) *. قد قدمنا الآيات التي فيها زيادة إيضاح لقوله: * (وأمرت أن أكون من المسلمين) *، في سورة (الأنعام)، في الكلام على قوله تعالى: * (وأمرت أن أكون أول من أسلم) *.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لقوله تعالى هنا: * (وأن علم القرءان) *، في سورة (الكهف)، في الكلام على قوله تعالى: * (واتل ما أوحى إليك من كتاب ربك) *. * (المسكين) *. جاء معناه مبينا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: * (فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب) *، وقوله تعالى: * (إنما أنت نذير والله على كل شىء وكيل) *، وقوله تعالى: * (فتول عنهم فما أنت بملوم) *، إلى غير ذلك من الآيات.
148

* (وقل الحمد لله سيريكم ءاياته فتعرفونها) *. جاء معناه في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى: * (سنريهم ءاياتنا فى الافاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) *. * (وما ربك بغافل عما تعملون) *. جاء معناه موضحا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: * (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الابصار) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عامص: * (عما تعملون) * بتاء الخطاب، وقرأ الباقون * (عما يعملون) * بياء الغيبة.
149

((سورة القصص))
* (طسم * تلك ءايات الكتاب المبين * نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون * إن فرعون علا فى الا رض وجعل أهلها شيعا يستضعف طآئفة منهم يذبح أبنآءهم ويستحى نساءهم إنه كان من المفسدين * ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الا رض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم فى الا رض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون * وأوحينآ إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه فى اليم ولا تخافى ولا تحزنى إنا رآدوه إليك وجاعلوه من المرسلين * فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين * وقالت امرأت فرعون قرة عين لى ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون * وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدى به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين * وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون * وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون * فرددناه إلى أمه كى تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولاكن أكثرهم لا يعلمون * ولما بلغ أشده واستوى ءاتيناه حكما وعلما وكذلك نجزى المحسنين * ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هاذا من شيعته وهاذا من عدوه فاستغاثه الذى من شيعته على الذى من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هاذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين * قال رب إنى ظلمت نفسى فاغفر لى فغفر له إنه هو الغفور الرحيم * قال رب بمآ أنعمت على فلن أكون ظهيرا للمجرمين * فأصبح فى المدينة خآئفا يترقب فإذا الذى استنصره بالا مس يستصرخه قال له موسى إنك لغوى مبين * فلمآ أن أراد أن يبطش بالذى هو عدو لهما قال ياموسى أتريد أن تقتلنى كما قتلت نفسا بالا مس إن تريد إلا أن تكون جبارا فى الا رض وما تريد أن تكون من المصلحين * وجآء رجل من أقصى المدينة يسعى قال ياموسى إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إنى لك من الناصحين * فخرج منها خآئفا يترقب قال رب نجنى من القوم الظالمين * ولما توجه تلقآء مدين قال عسى ربى أن يهدينى سوآء السبيل * ولما ورد مآء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقى حتى يصدر الرعآء وأبونا شيخ كبير * فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إنى لمآ أنزلت إلى من خير فقير * فجآءته إحداهما تمشى على استحيآء قالت إن أبى يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جآءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين * قالت إحداهما ياأبت استأجره إن خير من استأجرت القوى الأمين * قال إنى أريد أن أنكحك إحدى ابنتى هاتين على أن تأجرنى ثمانى حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك ومآ أريد أن أشق عليك ستجدنى إن شاء الله من الصالحين * قال ذلك بينى وبينك أيما الا جلين قضيت فلا عدوان على والله على ما نقول وكيل * فلما قضى موسى الا جل وسار بأهله ءانس من جانب الطور نارا قال لاهله امكثوا إنىءانست نارا لعلى ءاتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون * فلمآ أتاها نودى من شاطىء الوادى الأيمن فى البقعة المباركة من الشجرة أن ياموسى إنى أنا الله رب العالمين * وأن ألق عصاك فلما رءاها تهتز كأنها جآن ولى مدبرا ولم يعقب ياموسى أقبل ولا تخف إنك من الا منين * اسلك يدك فى جيبك تخرج بيضآء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين * قال رب إنى قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون * وأخى هرون هو أفصح منى لسانا فأرسله معى ردءا يصدقنى إنى أخاف أن يكذبون * قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بأاياتنآ أنتما ومن اتبعكما الغالبون * فلما جآءهم موسى بأاياتنا بينات قالوا ما هاذآ إلا سحر مفترى وما سمعنا بهاذا فىءابآئنا الا ولين * وقال موسى ربى أعلم بمن جآء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون * وقال فرعون ياأيها الملأ ما علمت لكم من إلاه غيرى فأوقد لى ياهامان على
الطين فاجعل لى صرحا لعلى أطلع إلى إلاه موسى وإنى لأظنه من الكاذبين * واستكبر هو وجنوده فى الا رض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون * فأخذناه وجنوده فنبذناهم فى اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين * وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون) * قوله تعالى: * (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الا رض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) *. قد قدمنا أن قوله هنا: * (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا) *، هو الكلمة في قوله تعالى: * (وتمت كلمت ربك الحسنى على بنى) *، ولم يبين هنا السبب الذي جعلهم به أئمة جمع إمام، أي: قادة في الخير، دعاة إليه على أظهر القولين. ولم يبين هنا أيضا الشئ الذي جعلهم وارثيه، ولكنه تعالى بين جميع ذلك في غير هذا الموضع؛ فبين السبب الذي جعلهم به أئمة في قوله تعالى: * (إسراءيل وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بئاياتنا يوقنون) *، فالصبر واليقين هما السبب في ذلك، وبين الشئ الذي جعلهم له وارثين بقوله تعالى: * (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها) *، وقوله تعالى: * (كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوما ءاخرين) *، وقوله تعالى: * (فأخرجناهم من جنات وعيون * وكنوز ومقام كريم * كذلك وأورثناها بنى) *. * (فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) *. اعلم أن التحقيق إن شاء الله، أن اللام في قوله: * (فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) *، لام التعليل المعروفة بلام كي، وذلك على سبيل الحقيقة لا المجاز، ويدل على ذلك قوله تعالى: * (وما تشاءون إلا أن يشاء الله) *.
وإيضاح ذلك أن قوله تعالى: * (وما تشاءون إلا أن يشاء الله) *، صريح في أن الله تعالى يصرف مشيئة العبد وقدرته بمشيئته جل وعلا، إلى ما سبق به علمه، وقد صرف مشيئة فرعون، وقومه بمشيئته جل وعلا، إلى التقاطهم موسى؛ ليجعله لهم عدوا وحزنا،
150

فكأنه يقول: قدرنا عليهم التقاطه بمشيئتنا ليكون لهم عدوا وحزنا، وهذا معنى واضح، لا لبس فيه ولا إشكال، كما ترى.
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: ولكن إذا نظر إلى معنى السياق، فإنه تبقى اللام للتعليل؛ لأن معناه: أن الله تعالى قيضهم لالتقاطه، ليجعله عدوا لهم وحزنا، فيكون أبلغ في إبطال حذرهم منه، انتهى محل الغرض من كلامه. وهذا المعنى هو التحقيق في الآية إن شاء الله تعالى، ويدل عليه قوله تعالى: * (وما تشاءون إلا أن يشاء الله) *، كما بينا وجهه آنفا.
وبهذا التحقيق تعلم أن ما يقوله كثير من المفسرين، وينشدون له الشواهد من أن اللام في قوله: * (ليكون) *، لام العاقبة والصيرورة خلاف الصواب، وأن ما يقوله البيانيون من أن اللام في قوله: * (ليكون) * فيها استعارة تبعية، في متعلق معنى الحرف، خلاف الصواب أيضا.
وإيضاح مراد البيانيين بذلك، هو أن من أنواع تقسيمهم لما يسمونه الاستعارة، التي هي عندهم مجاز علاقته المشابهة أنهم يقسمونها إلى استعارة أصلية، واستعارة تبعية، ومرادهم بالاستعارة الأصلية الاستعارة في أسماء الأجناس الجامدة والمصادر، ومرادهم باستعارة التبعية قسمان:
أحدهما: الاستعارة في المشتقات، كاسم الفاعل والفعل.
والثاني: الاستعارة في متعلق معنى الحرف، وهو المقصود بالبيان.
فمثال الاستعارة الأصلية عندهم: رأيت أسدا على فرسه، ففي لفظة أسد في هذا المثال، استعارة أصلية تصريحية عندهم، فإنه أراد تشبيه الرجل الشجاع بالأسد لعلاقة الشجاعة، فحذف المشبه الذي هو الرجل الشجاع، وصرح بالمشبه به الذي هو الأسد، على سبيل الاستعارة التصريحية، وصارت أصلية؛ لأن الأسد اسم جنس جامد.
ومثال الاستعارة التبعية في المشتق عندهم قولك: الحال ناطقة بكذا، فالمراد عندهم: تشبيه دلالة الحال بالنطق بجامع الفهم، والإدراك بسبب كل منهما، فحذف الدلالة التي هي المشبه، وصرح بالنطق الذي هو المشبه به على سبيل الاستعارة التصريحية، واشتق من النطق اسم الفاعل الذي هو ناطقة، فجرت الاستعارة التبعية في اسم الفاعل الذي هو ناطقة، وإنما قيل لها تبعية؛ لأنها إنما جرت فيه تبعا لجريانها في
151

المصدر، الذي هو النطق؛ لأن المشتق تابع للمشتق منه، ولا يمكن فهمه بدون فهمه، وهذا التوجيه أقرب من غيره مما يذكرونه من توجيه ما ذكر.
ومثال الاستعارة التبعية عندهم في متعلق معنى الحرف، في زعمهم هذه الآية الكريمة، قالوا: اللام فيها كلفظ الأسد في المثال الأول، فإنه أطلق على غير الأسد لمشابهة بينهما، قالوا: وكذلك اللام أصلها موضوعة للدلالة على العلة الغائية، وعلة الشئ الغائية، هي ما يحمل على تحصيله ليحصل بعد حصوله، قالوا: والعلة الغائية للالتقاط في قوله تعالى: * (فالتقطه) *، هي المحبة والنفع والتبني، أي: اتخاذهم موسى ولدا، كما صرحوا بأن هذا هو الباعث لهم على التقاطه وتربيته، في قوله تعالى عنهم: * (قرة عين لى ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا) *، فهذه العلة الغائية عندهم هي التي حملتهم على التقاطه، لتحصل لهم هذه العلة بعد الالتقاط.
قالوا: ولما كان الحاصل في نفس الأمر بعد الالتقاط، هو ضد ما رجوه وأملوه، وهو العداوة والحزن، شبهت العداوة والحزن الحاصلان بالالتقاط بالمحبة والتبني والنفع، التي هي علة الالتقاط الغائية بجامع الترتب في كل منهما، فالعلة الغائية تترتب على معلولها دائما ترتب رجاء للحصول، فتبنيهم لموسى ومحبته كانوا يرجون ترتبهما على التقاطهم له، ولما كان المترتب في نفس الأمر على التقاطهم له، هو كونه عدوا لهم وحزنا، صار هذا الترتب الفعلي شبيها بالترتب الرجائي، فاستعيرت اللام الدالة على العلة الغائية المشعرة بالترتب الرجائي للترتب الحصولي الفعلي الذي لا رجاء فيه.
وإيضاحه أن ترتب الحزن والعداوة على الالتقاط أشبه ترتب المحبة والتبني على الالتقاط، فأطلقت لام العلة الغائية في الحزن والعداوة، لمشابهتهما للتنبي والمحبة في
الترتب، كما أطلق لفظ الأسد على الرجل الشجاع، لمشابهتهما في الشجاعة.
وبعض البلاغيين يقول: في هذا جرت الاستعارة الأصلية أولا بين المحبة والتبني، وبين العداوة والحزن اللذين حصولهما هو المجرور، فكانت الاستعارة في اللام تبعا للاستعارة في المجرور؛ لأن اللام لا تستقل فيكون ما اعتبر فيها تبعا للمجرور، الذي هو متعلق معنى الحرف، وبعضهم يقول: فجرت الاستعارة أولا في العلية والغرضية، وتبعيتها في اللام، وهناك مناقشات في التبعية في معنى الحرف تركناها، لأن غرضنا بيان مرادهم بالاستعارة التبعية في هذه الآية بإيجاز.
152

وإذا علمت مرادهم بما ذكر، فاعلم أن التحقيق إن شاء الله هو ما قدمنا، وقد أوضحنا في رسالتنا المسماة (منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز)، أن التحقيق أن القرءان لا مجاز فيه، وأوضحنا ذلك بالأدلة الواضحة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين) *، أي: مرتكبين الخطيئة التي هي الذنب العظيم؛ كقوله تعالى: * (مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا) *، وقوله تعالى: * (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) *.
ومن إطلاق الخاطىء على المذنب العاصي، قوله تعالى: * (ولا طعام إلا من غسلين * لا يأكله إلا الخاطئون) *، وقوله تعالى: * (ناصية كاذبة خاطئة) *، وقوله: * (إنك كنت من الخاطئين) *، والعلم عند الله تعالى. * (قال لاهله امكثوا إنىءانست نارا) *. قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة (مريم).
واعلم أنا ربما تركنا كثيرا من الآيات التي تقدم إيضاحها من غير إحالة عليها، لكثرة ما تقدم إيضاحه.
* (وأتبعناهم فى هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين * ولقد ءاتينا موسى الكتاب من بعد مآ أهلكنا القرون الا ولى بصآئر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون * وما كنت بجانب الغربى إذ قضينآ إلى موسى الا مر وما كنت من الشاهدين * ولكنآ أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا فى أهل مدين تتلو عليهم ءاياتنا ولكنا كنا مرسلين * وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولاكن رحمة من ربك لتنذر قوما مآ أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون * ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع ءاياتك ونكون من المؤمنين * فلما جآءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتى مثل مآ أوتى موسى أولم يكفروا بمآ أوتى موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون * قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهمآ أتبعه إن كنتم صادقين * فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهوآءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدى القوم الظالمين * ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون * الذين ءاتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا ءامنا به إنه الحق من ربنآ إنا كنا من قبله مسلمين * أولائك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤن بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون * وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنآ أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغى الجاهلين * إنك لا تهدى من أحببت ولاكن الله يهدى من يشآء وهو أعلم بالمهتدين * وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنآ أولم نمكن لهم حرما ءامنا يجبى إليه ثمرات كل شىء رزقا من لدنا ولاكن أكثرهم لا يعلمون * وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين * وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث فى أمها رسولا يتلو عليهم ءاياتنا وما كنا مهلكى القرى إلا وأهلها ظالمون * ومآ أوتيتم من شىء فمتاع الحيواة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون * أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحيواة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين * ويوم يناديهم فيقول أين شركآئى الذين كنتم تزعمون * قال الذين حق عليهم القول ربنا هاؤلاء الذين أغوينآ أغويناهم كما غوينا تبرأنآ إليك ما كانوا إيانا يعبدون * وقيل ادعوا شركآءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون * ويوم يناديهم فيقول ماذآ أجبتم المرسلين * فعميت عليهم الا نبآء يومئذ فهم لا يتسآءلون * فأما من تاب وءامن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين * وربك يخلق ما يشآء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون * وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون * وهو الله لا إلاه إلا هو له الحمد فى الا ولى والا خرة وله الحكم وإليه ترجعون * قل أرأيتم إن جعل الله عليكم اليل سرمدا إلى يوم القيامة من إلاه غير الله يأتيكم بضيآء أفلا تسمعون * قل أرءيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إلاه غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون * ومن رحمته جعل لكم اليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون * ويوم يناديهم فيقول أين شركآئي الذين كنتم تزعمون * ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون * إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وءاتيناه من الكنوز مآ إن مفاتحه لتنوأ بالعصبة أولى القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين * وابتغ فيمآ ءاتاك الله الدار الا خرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كمآ أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد فى الا رض إن الله لا يحب المفسدين * قال إنمآ أوتيته على علم عندى أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون * فخرج على قومه فى زينته قال الذين يريدون الحيواة الدنيا ياليت لنا مثل مآ أوتى قارون إنه لذو حظ عظيم * وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن ءامن وعمل صالحا ولا يلقاهآ إلا الصابرون * فخسفنا به وبداره الا رض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين * وأصبح الذين تمنوا مكانه بالا مس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشآء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون * تلك الدار الا خرة نجعلها للذين لا يريدون علوا فى الا رض ولا فسادا والعاقبة للمتقين * من جآء بالحسنة فله خير منها ومن جآء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون * إن الذى فرض عليك القرءان لرآدك إلى معاد قل ربى أعلم من جآء بالهدى ومن هو فى ضلال مبين * وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين * ولا يصدنك عن ءايات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين * ولا تدع مع الله إلاها ءاخر لا إلاه إلا هو كل شىء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون) * * (وأتبعناهم فى هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين) *. ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من اتباعه اللعنة لفرعون وجنوده، بينه أيضا في سورة (هود)، بقوله فيهم: * (وأتبعوا فى هاذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود) *، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (من المقبوحين) *، قال الزمخشري:
أي من المطرودين المبعدين، ولا يخفى أن المقبوحين اسم مفعول، قبحه إذا صبره قبيحا، والعلم عند الله تعالى. * (إنك لا تهدى من أحببت ولاكن الله يهدى من يشآء وهو أعلم بالمهتدين) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن نبيه صلى الله عليه وسلم لا يهدي من أحب هدايته، ولكنه جل
153

وعلا هو الذي يهدي من يشاء هداه، وهو أعلم بالمهتدين.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية جاء موضحا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: * (إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدى من يضل) *، وقوله: * (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم) *، إلى غير ذلك من الآيات، كما تقدم إيضاحه.
وقوله: * (وهو أعلم بالمهتدين) *، جاء معناه موضحا في آيات كثيرة؛ كقوله: * (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى) *، وقوله تعالى: * (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة، وقد أوضحنا سابقا أن الهدى المنفي عنه صلى الله عليه وسلم، في قوله تعالى هنا: * (إنك لا تهدى من أحببت) *، هو هدى التوفيق؛ لأن التوفيق بيد الله وحده، وأن الهدى المثبت له صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: * (وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم) *، هو هدى الدلالة على الحق والإرشاد إليه، ونزول قوله تعالى: * (إنك لا تهدى من أحببت) *، في أبي طالب مشهور معروف. * (وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة (الكهف)، في الكلام على قوله تعالى: * (الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب) *. * (كل شىء هالك إلا وجهه) *. كقوله تعالى: * (كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) *، والوجه من الصفات التي يجب الإيمان بها مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق، كما أوضحناه في سورة (الأعراف)، وفي غيرها. * (له الحكم وإليه ترجعون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الكهف)، في الكلام على قوله تعالى: * (ولا يشرك فى حكمه أحدا) *، وقد تركنا ذكر إحالات كثيرة في سورة (القصص)، هذه.
154

((سورة العنكبوت))
* (ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين * أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا سآء ما يحكمون * من كان يرجو لقآء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم * ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغنى عن العالمين * والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذى كانوا يعملون * ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهمآ إلى مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون * والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم فى الصالحين * ومن الناس من يقول ءامنا بالله فإذآ أوذى فى الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جآء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما فى صدور العالمين * وليعلمن الله الذين ءامنوا وليعلمن المنافقين) * قوله تعالى: * (ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون) *. قد قدمنا الكلام على الحروف المقطعة مستوفي في أول سورة (هود)، والاستفهام في قوله: * (أحسب الناس) *، للإنكار.
والمعنى: أن الناس لا يتركون دون فتنة، أي: ابتلاء واختبار، لأجل قولهم: آمنا، بل إذا قالوا: أمنا فتنوا، أي: امتحنوا واختبروا بأنواع الابتلاء، حتى يتبين بذلك الابتلاء الصادق في قوله: * (من) * من غير الصادق.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، جاء مبينا في آيات أخر من كتاب الله؛ كقوله تعالى: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول) *، وقوله: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) *، وقوله تعالى: * (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم) *، وقوله تعالى: * (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب) *، وقوله تعالى: * (وليبتلى الله ما فى صدوركم وليمحص ما فى قلوبكم والله عليم بذات الصدور) *، وقوله تعالى: * (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين) *، إلى غير ذلك من الآيات، وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله هنا:
* (ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا) *.
وقد بينت السنة الثابتة أن هذا الابتلاء المذكور في هذه الآية يبتلى به المؤمنون على
155

قدر ما عندهم من الإيمان؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل). * (أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا سآء ما يحكمون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له. * (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) *. * (ومن الناس من يقول ءامنا بالله فإذآ أوذى فى الله جعل فتنة الناس كعذاب الله) *. يعني أن من الناس من يقول: * (بالله فإذا) * بلسانه، * (فإذا أوذى فى الله) *، أي: آذاه الكفار إيذاءهم للمسلمين جعل فتنة الناس صارفة له عن الدين إلى الردة، والعياذ بالله؛ كعذاب الله فإنه صارف رادع عن الكفر والمعاصي. ومعنى * (فتنة الناس) *، الأذى الذي يصيبه من الكفار، وإيذاء الكفار للمؤمنين من أنواع الابتلاء الذي هو الفتنة، وهذا قال به غير واحد.
وعليه فمعنى الآية الكريمة؛ كقوله تعالى: * (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر) *. * (ولئن جآء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن المنافقين الذين يقولون: آمنا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، إذا حصل للمسلمين من الكفار أذى، وهم معهم جعلوا فتنة للناس، أي: أذاهم كعذاب الله، وأنه إن جاء نصر من الله لعباده المؤمنين فنصرهم على الكفار، وهزموهم وغنموا منهم الغنائم، قال
أولئك المنافقون: ألم نكن معكم، يعنون: أنهم مع المؤمنين ومن جملتهم، يريدون أخذ نصيبهم من الغنائم.
وهذا المعنى جاء في آيات أخر من كتاب الله؛ كقوله تعالى: * (الذين يتربصون بكم
156

فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم) *، وقوله تعالى: * (وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله على إذ لم أكن معهم شهيدا * ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة ياليتنى ليتنى كنت معهم فأفوز فوزا عظيما) *، وقد قدمنا طرفا من هذا في سورة (النساء).
وقد بين تعالى أنهم كاذبون في قولهم: * (إنا كنا معكم) *، وبين أنه عالم بما تخفى صدورهم من الكفار والنفاق، بقوله: * (أو ليس الله بأعلم بما فى صدور العالمين) *.
* (وقال الذين كفروا للذين ءامنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شىء إنهم لكاذبون * وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون * ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون * فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناهآ ءاية للعالمين * وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذالكم خير لكم إن كنتم تعلمون * إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون * وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين * أولم يروا كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده إن ذالك على الله يسير * قل سيروا فى الا رض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشىء النشأة الا خرة إن الله على كل شىء قدير * يعذب من يشآء ويرحم من يشآء وإليه تقلبون * ومآ أنتم بمعجزين فى الا رض ولا فى السمآء وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير * والذين كفروا بأايات الله ولقآئه أولائك يئسوا من رحمتى وأولائك لهم عذاب أليم * فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن فى ذالك لايات لقوم يؤمنون * وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم فى الحيواة الدنيا
157

ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين * فأامن له لوط وقال إنى مهاجر إلى ربى إنه هو العزيز الحكيم * ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا فى ذريته النبوة والكتاب وءاتيناه أجره فى الدنيا وإنه فى لا خرة لمن الصالحين * ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون فى ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين * قال رب انصرنى على القوم المفسدين * ولما جآءت رسلنآ إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هاذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين * قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين * ولمآ أن جآءت رسلنا لوطا سىء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين * إنا منزلون على أهل هاذه القرية رجزا من السمآء بما كانوا يفسقون * ولقد تركنا منهآ ءاية بينة لقوم يعقلون) * * (وقال الذين كفروا للذين ءامنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم) *، إلى قوله: * (وليسئلن يوم القيامة عما كانوا يفترون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له، زيادة إيضاحها من السنة الصحيحة في سورة (النحل)، في الكلام على قوله تعالى: * (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا سآء ما يزرون) *. * (فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناهآ ءاية للعالمين) *. تقدم إيضاحه في (هود) وغيرها.
وقوله تعالى هنا: * (وجعلناها ءاية للعالمين) *، يعني سفينة نوح؛ كقوله تعالى: * (وءاية لهم أنا حملنا ذريتهم فى الفلك المشحون * وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) *، ونحو ذلك من الآيات. * (إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه) *.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (النحل)، في الكلام على قوله تعالى: * (ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والارض شيئا ولا يستطيعون) *، وفي (سورة الفرقان). * (وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم فى الحيواة الدنيا) * إلى قوله * (وما لكم من ناصرين) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الأعراف)، في الكلام على قوله تعالى: * (حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لاولاهم ربنا هؤلاء أضلونا) *، وفي سورة (الفرقان) وغير ذلك. * (وجعلنا فى ذريته النبوة والكتاب) *. الضمير في قوله: * (ذريته) *، راجع إلى إبراهيم.
والمعنى: أن الأنبياء والمرسلين الذين أنزلت عليهم الكتب بعد إبراهيم كلهم من ذرية إبراهيم، وما ذكره هنا عن إبراهيم ذكر في سورة (الحديد): أن نوحا مشترك معه فيه، وذلك واضح لأن إبراهيم من ذرية نوح، مع أن بعض الأنبياء من ذرية نوح دون إبراهيم؛ وذلك في قوله تعالى: * (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا فى ذريتهما النبوة والكتاب) *. * (وءاتيناه أجره فى الدنيا وإنه فى لا خرة لمن الصالحين) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه آتى إبراهيم أجره، أي: جزاء عمله في الدنيا، وإنه في الآخرة أيضا من الصالحين.
وقال بعض أهل العلم: المراد بأجره في الدنيا: الثناء الحسن عليه في دار الدنيا من جميع أهل الملل على اختلافهم إلى كفار ومؤمنين، والثناء الحسن المذكور هو لسان الصدق، في قوله: * (واجعل لى لسان صدق فى الاخرين) *، وقوله تعالى: * (وجعلنا لهم لسان صدق عليا) *، وقوله: * (وإنه فى الاخرة لمن الصالحين) *، لا يخفى أن الصلاح في الدنيا يظهر بالأعمال الحسنة، وسائر الطاعات، وأنه في الآخرة يظهر بالجزاء الحسن، وقد أثنى الله في هذه الآية الكريمة على نبيه إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقد أثنى على إبراهيم أيضا في آيات أخر؛ كقوله تعالى: * (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إنى جاعلك للناس إماما) *، وقوله تعالى: * (وإبراهيم * الذى وفى) *، وقوله تعالى: * (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين * شاكرا لانعمه اجتباه وهداه إلى
صراط مستقيم * وءاتيناه فى
158

الدنيا حسنة وإنه فى الاخرة لمن الصالحين) *. * (ولما جآءت رسلنآ إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هاذه القرية) *. قد قدمنا إيضاحه في سورة (هود)، في الكلام على قوله تعالى: * (وجاءته البشرى يجادلنا فى قوم لوط) *. * (ولمآ أن جآءت رسلنا لوطا) *، إلى قوله: * (لقوم يعقلون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له مع بعض الشواهد، في سورة (هود)، في الكلام على قصة لوط، وفي سورة (الحجر).
* (وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال ياقوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الا خر ولا تعثوا فى الا رض مفسدين * فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا فى دارهم جاثمين * وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين * وقارون وفرعون وهامان ولقد جآءهم موسى بالبينات فاستكبروا فى الا رض وما كانوا سابقين * فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الا رض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون * مثل الذين اتخذوا من دون الله أوليآء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون * إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شىء وهو العزيز الحكيم * وتلك الا مثال نضربها للناس وما يعقلهآ إلا العالمون * خلق الله السماوات والا رض بالحق إن فى ذالك لآية للمؤمنين * اتل ما أوحى إليك من الكتاب وأقم الصلواة إن الصلواة تنهى عن الفحشآء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون * ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا ءامنا بالذى أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلاهنا وإلاهكم واحد ونحن له مسلمون * وكذلك أنزلنآ إليك الكتاب فالذين ءاتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هاؤلاء من يؤمن به وما يجحد باياتنآ إلا الكافرون * وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون * بل هو ءايات بينات فى صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بأاياتنآ إلا الظالمون * وقالوا لولا أنزل عليه ءايات من ربه قل إنما الا يات عند الله وإنمآ أنا نذير مبين * أولم يكفهم أنآ أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن فى ذالك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون * قل كفى بالله بينى وبينكم شهيدا يعلم ما فى السماوات والا رض والذين ءامنوا بالباطل وكفروا بالله أولائك هم الخاسرون * ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجآءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون * يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين * يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون * ياعبادى الذين ءامنوا إن أرضى واسعة فإياى فاعبدون * كل نفس ذآئقة الموت ثم إلينا ترجعون * والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجرى من تحتها الا نهار خالدين فيها نعم أجر العاملين * الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون) * * (وإلى مدين أخاهم شعيبا) *، إلى قوله: * (فى دارهم جاثمين) *. تقدم إيضاحه في سورة (الأعراف)، في الكلام على قصته مع قومه، وفي (الشعراء) أيضا. * (وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين * وقارون وفرعون وهامان ولقد جآءهم موسى بالبينات فاستكبروا فى الا رض وما كانوا سابقين فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الا رض ومنهم من أغرقنا) *. الظاهر أن قوله: * (وعادا) * مفعول به لأهلكنا مقدرة، ويدل على ذلك قوله قبله: * (فأخذتهم الرجفة) *، أي: أهلكنا مدين بالرجفة، وأهلكنا عادا، ويدل للإهلاك المذكور قوله بعده: * (وقد تبين لكم من مساكنهم) *، أي: هي خالية منهم لإهلاكهم، وقوله بعده أيضا: * (فكلا أخذنا بذنبه) *.
وقد أشار جل وعلا في هذه الآيات الكريمة إلى إهلاك عاد، وثمود، وقارون، وفرعون، وهامان، ثم صرح بأنه أخذ كلا منهم بذنبه، ثم فصل على سبيل ما يسمى في البديع باللف والنشر المرتب أسباب إهلاكهم، فقال: * (فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا) *،
159

وهي: الريح، يعني: عادا، بدليل قوله: * (وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية) *، وقوله: * (وفى عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم) *، ونحو ذلك من الآيات. وقوله تعالى: * (ومنهم من أخذته الصيحة) *، يعني: ثمود، بدليل قوله تعالى فيهم: * (وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا فى ديارهم جاثمين * كأن لم يغنوا فيها ألا إن * ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود) *. وقوله: * (ومنهم من خسفنا به الارض) *، يعني: قارون، بدليل قوله تعالى فيه: * (فخسفنا به وبداره الارض) *. وقوله تعالى: * (ومنهم من أغرقنا) *، يعني: فرعون وهامان، بدليل قوله تعالى: * (ثم أغرقنا الاخرين) *، ونحو ذلك من الآيات.
والأظهر في قوله في هذه الآية: * (وكانوا مستبصرين) *، أن استبصارهم المذكور هنا بالنسبة إلى الحياة الدنيا خاصة؛ كما دل عليه قوله تعالى: * (يعلمون ظاهرا من الحيواة الدنيا وهم عن الاخرة هم غافلون) *، وقوله تعالى: * (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا فى أصحاب السعير) *، ونحو ذلك من الآيات. وقوله: * (وما كانوا سابقين) *، كقوله تعالى: * (أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون) *. * (مثل الذين اتخذوا من دون الله أوليآء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون * إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شىء وهو العزيز الحكيم * وتلك الا مثال نضربها للناس وما يعقلهآ إلا العالمون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الأعراف)، في الكلام على قوله تعالى: * (فمثله كمثل الكلب) *، وفي مواضع أخر. * (اتل ما أوحى إليك من الكتاب) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الكهف)، في الكلام على قوله تعالى: * (واتل ما أوحى إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته) *. * (وأقم الصلواة إن الصلواة تنهى عن الفحشآء والمنكر) *.
160

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (البقرة)، في الكلام على قوله تعالى: * (واستعينوا بالصبر والصلواة) *. * (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن إلا الذين ظلموا منهم) *. قد قدمنا إضاحه، وتفسير * (إلا الذين ظلموا منهم) * في آخر سورة (النحل)، في الكلام على قوله تعالى: * (وجادلهم بالتى هى أحسن) *. * (أولم يكفهم أنآ أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن فى ذالك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة (الكهف)، وفي آخر سورة (طه)، في الكلام على قوله تعالى: * (أو لم تأتهم بينة ما فى الصحف الاولى) *، وغير ذلك. * (ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى
لجآءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون * يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الأنعام)، في الكلام على قوله تعالى: * (ما عندى ما تستعجلون به) *، وفي سورة (يونس)، في الكلام على قوله تعالى: * (أثم إذا ما وقع ءامنتم به ءآلن وقد كنتم به تستعجلون) *، وفي سورة (الرعد) في الكلام على قوله تعالى: * (ويستعجلونك بالسيئة قبل) *. * (ياعبادى الذين ءامنوا إن أرضى واسعة فإياى فاعبدون) *. نادى الله جل وعلا عباده المؤمنين، وأكد لهم أن أرضه واسعة، وأمرهم أن يعبدوه وحده دون غيره، كما دل عليه تقديم المعمول الذي هو إياي؛ كما بيناه في الكلام على قوله تعالى: * (الدين إياك نعبد وإياك نستعين) *.
والمعنى: أنهم إن كانوا في أرض لا يقدرون فيها على إقامة دينهم، أو يصيبهم فيها أذى الكفار، فإن أرض ربهم واسعة فليهاجروا إلى موضع منها يقدرون فيه على إقامة دينهم، ويسلمون فيه من أذى الكفار، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون.
161

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء في آيات أخر؛ كقوله تعالى: * (إن الذين توفاهم الملئكة ظالمى أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين فى الارض قالوا ألم تكن أرض الله) *، وقوله تعالى: * (وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) *. * (كل نفس ذائقة الموت) *. جاء معناه موضحا في آيات أخر؛ كقوله تعالى في سورة (آل عمران): * (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة) *، وقوله: * (كل من عليها فان) *، وقوله تعالى: * (كل شىء هالك إلا وجهه) *. * (والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا) *. قد قدمنا معنى * (وعملوا الصالحات) *، موضحا في أول سورة (الكهف)، وقدمنا معنى * (لنبوئنهم) * في سورة (الحج)، في الكلام على قوله تعالى: * (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) *، وذكرنا الآيات التي ذكرت فيها الغرف في آخر (الفرقان)، في الكلام على قوله تعالى: * (أولئك يجزون الغرفة) *.
* (وكأين من دآبة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم * ولئن سألتهم من خلق السماوات والا رض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون * الله يبسط الرزق لمن يشآء من عباده ويقدر له إن الله بكل شىء عليم * ولئن سألتهم من نزل من السمآء مآء فأحيا به الا رض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون * وما هاذه الحيواة الدنيآ إلا لهو ولعب وإن الدار الا خرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون * فإذا ركبوا فى الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون * ليكفروا بمآ ءاتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون * أولم يروا أنا جعلنا حرما ءامنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون * ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جآءه أليس فى جهنم مثوى للكافرين * والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) *
* (وكأين من دآبة لا تحمل رزقها الله يرزقها) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن كثيرا من الدواب التي لا تحمل رزقها لضعفها، أنه هو جل وعلا يرزقها، وأوضح هذا المعنى في قوله تعالى: * (وما من دابة في الارض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل فى كتاب مبين) *. * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والا رض وسخر الشمس والقمر) *، إلى قوله * (قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له غاية الإيضاح في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) *. * (فإذا ركبوا فى الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) *.
162

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (وإذا مسكم الضر فى البحر ضل من تدعون إلا إياه) *، إلى قوله: * (تبيعا) *، وفي مواضع أخر. * (أولم يروا أنا جعلنا حرما ءامنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل) *. امتن الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة على قريش، بأنه جعل لهم حرما آمنا، يعني: حرم مكة، فهم آمنون فيه على أموالهم ودمائهم، والناس الخارجون عن الحرم، يتخطفون قتلا وأسرا.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، جاء مبينا في آيات أخر؛ كقوله تعالى في (القصص): * (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم لم نمكن لهم حرما ءامنا) *، وقوله تعالى: * (ومن دخله كان ءامنا) *، وقوله تعالى: * (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس) *، وقوله تعالى: * (فليعبدوا رب هاذا البيت * الذى أطعمهم من جوع وءامنهم من خوف) *. * (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الذين جاهدوا فيه، أنه يهديهم إلى سبل الخير والرشاد، وأقسم على ذلك بدليل اللام في قوله: * (لنهدينهم) *.
وهذا المعنى جاء مبينا في آيات أخر؛ كقوله تعالى: * (والذين اهتدوا زادهم هدى) *، وقوله تعالى: * (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم) *، كما تقدم إيضاحه. * (وإن الله لمع المحسنين) *. قد قدمنا إيضاحه في آخر سورة (النحل)، في الكلام على قوله تعالى: * (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) *.
163

((سورة الروم))
* (ألم * غلبت الروم * فى أدنى الا رض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * فى بضع سنين لله الا مر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشآء وهو العزيز الرحيم * وعد الله لا يخلف الله وعده ولاكن أكثر الناس لا يعلمون * يعلمون ظاهرا من الحيواة الدنيا وهم عن الا خرة هم غافلون) * قوله تعالى: * (وعد الله لا يخلف الله وعده ولاكن أكثر الناس لا يعلمون * يعلمون ظاهرا من الحيواة الدنيا وهم عن الا خرة هم غافلون) *. قوله تعالى: * (وعد الله) *، مصدر مؤكد لنفسه، لأن قوله قبله: * (وهم من بعد غلبهم سيغلبون) * إلى قوله: * (ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله) *، هو نفس الوعد كما لا يخفى، أي: وعد الله ذلك وعدا.
وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أربعة أمور:
الأول: أنه لا يخلف وعده.
والثاني: أن أكثر الناس وهم الكفار لا يعلمون.
والثالث: أنهم يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا.
والرابع: أنهم غافلون عن الآخرة. وهذه الأمور الأربعة جاءت موضحة في غير هذا الموضع.
أما الأول منها: وهو كونه لا يخلف وعده، فقد جاء في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: * (إن الله لا يخلف الميعاد) *. وقد بين تعالى أن وعيده للكفار لا يخلف أيضا في آيات من كتابه؛ كقوله تعالى: * (قال لا تختصموا لدى وقد قدمت إليكم بالوعيد * ما يبدل القول لدى) *.
والتحقيق: أن القول الذي لا يبدل لديه في هذه الآية الكريمة، هو وعيده للكفار.
وكقوله تعالى: * (كل كذب الرسل فحق وعيد) *، وقوله: * (إن كل إلا كذب الر سل فحق عقاب) *، فقوله: * (حق) * في هاتين الآيتين، أي: وجب وثبت، فلا يمكن تخلفه بحال.
164

وأما الثاني منها: وهو أن أكثر الناس وهم الكفار لا يعلمون، فقد جاء موضحا في آيات كثيرة، فقد بين تعالى في آيات أن أكثر الناس هم الكافرون؛ كقوله تعالى: * (ولاكن أكثر الناس لا يؤمنون) *، وقوله تعالى: * (ولقد ضل قبلهم أكثر الاولين) *، وقوله تعالى: * (إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين) *، وقوله تعالى: * (وإن تطع أكثر من فى الارض يضلوك) *، وقوله تعالى: * (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد بين جل وعلا أيضا في آيات من كتابه أن الكفار لا يعلمون؛ كقوله تعالى: * (أو * لو كان لا يعقلون شيئا ولا يهتدون * ومثل) *، وقوله تعالى: * (أو * لو كان لا يعلمون شيئا ولا يهتدون * يأيها) *، وقوله تعالى: * (ومثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمى فهم لا يعقلون) *، وقوله تعالى: * (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالانعام بل هم أضل سبيلا) *، وقوله تعالى: * (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم ءاذان) *، وقوله تعالى: * (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا فى أصحاب السعير) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وأما الثالث منها: وهو كونهم يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، فقد جاء أيضا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى: * (وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين) *، أي: في الدنيا، وقوله تعالى: * (فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحيواة الدنيا * ذلك مبلغهم من العلم) *.
وأما الرابع منها: وهو كونهم غافلين عن الآخرة، فقد جاء في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى عنهم: * (هيهات هيهات لما توعدون إن هى إلا حياتنا الدنيا) *.
وقوله تعالى عنهم: * (وما نحن بمنشرين) *، * (وما نحن بمبعوثين) *، * (من يحى العظام وهى رميم) *، والآيات في ذلك كثيرة معلومة.
165

تنبيه
اعلم أنه يجب على كل مسلم في هذا الزمان أن يتدبر آية (الروم) هذه تدبرا كثيرا، ويبين ما دلت عليه لكل من استطاع بيانه له من الناس.
وإيضاح ذلك أن من أعظم فتن آخر الزمان التي ابتلى الله بها ضعاف العقول من المسلمين، شدة إتقان الإفرنج لأعمال الحياة الدنيا، ومهارتهم فيها على كثرتها، واختلاف أنواعها مع عجز المسلمين عن ذلك، فظنوا أن من قدر على تلك الأعمال أنه على الحق، وأن من عجز عنها متخلف وليس على الحق، وهذا جهل فاحش، وغلط فادح. وفي هذه الآية الكريمة إيضاح لهذه الفتنة، وتخفيف لشأنها أنزله الله في كتابه قبل وقوعها بأزمان كثيرة، فسبحان الحكيم الخبير ما أعلمه، وما أعظمه، وما أحسن تعليمه.
فقد أوضح جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن * (أكثر الناس لا يعلمون) *، ويدخل فيهم أصجاب هذه العلوم الدنيوية دخولا أوليا، فقد نفى عنهم جل وعلا اسم العلم بمعناه الصحيح الكامل، لأنهم لا يعلمون شيئا عمن خلقهم، فأبرزهم من العدم إلى الوجود، ورزقهم، وسوف يميتهم، ثم يحييهم، ثم يجازيهم على أعمالهم، ولم يعلموا شيئا عن مصيرهم الأخير الذي يقيمون فيه إقامة أبدية في عذاب فظيع دائم، ومن غفل عن جميع هذا فليس معدودا من جنس من يعلم؛ كما دلت عليه الآيات القرءانية المذكورة، ثم لما نفى عنهم جل وعلا اسم العلم بمعناه الصحيح الكامل، أثبت لهم نوعا من العلم في غاية الحقارة بالنسبة إلى غيره.
وعاب ذلك النوع المذكور من العلم، بعيبين عظيمين:
أحدهما: قلته وضيق مجاله، لأنه لا يجاوز * (ظاهرا من الحيواة الدنيا) *، والعلم المقصور على ظاهر من الحياة الدنيا في غاية الحقارة، وضيق المجال بالنسبة إلى العلم بخالق السماوات والأرض جل وعلا، والعلم بأوامره ونواهيه، وبما يقرب عبده منه، وما يبعده عنه، وما يخلد في النعيم الأبدي والعذاب الأبدي، من أعمال الخير والشر.
والثاني منهما: هو دناءه هدف ذلك العلم، وعدم نبل غايته، لأنه لا يتجاوز الحياة الدنيا، وهي سريعة الانقطاع والزوال، ويكفيك من تحقير هذا العلم الدنيوي أن أجود
166

أوجه الإعراب في قوله: * (يعلمون ظاهرا) *، أنه بدل من قوله قبله * (لا يعلمون) *، فهذا العلم كلا علم لحقارته.
قال الزمخشري في (الكشاف): وقوله: * (يعلمون) * بدل من قوله: * (لا يعلمون) *، وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه وجعله بحيث يقوم مقامه، ويسد مسده ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا.
وقوله: * (ظاهرا من الحيواة الدنيا) * يفيد أن للدنيا ظاهرا وباطنا فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها، والتنعم بملاذها، وباطنها وحقيتها أنها مجاز إلى
الآخرة، يتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة، وفي تنكير الظاهر أنهم لا يعلمون إلا ظاهرا واحدا من ظواهرها. و * (هم) * الثانية يجوز أن يكون مبتدأ، و * (غافلون) * خبره، والجملة خبر * (هم) * الأولى، وأن يكون تكريرا للأولى، و * (غافلون) * خبر الأولى، وأية كانت فذكرها مناد على أنهم معدن الغفلة عن الآخرة، ومقرها، ومحلها وأنها منهم تنبع وإليهم ترجع، انتهى كلام صاحب (الكشاف).
وقال غيره: وفي تنكير قوله: * (ظاهرا) * تقليل لمعلومهم، وتقليله يقربه من النفي، حتى يطابق المبدل منه، اه، ووجهه ظاهر.
واعلم أن المسلمين يجب عليهم تعلم هذه العلوم الدنيوية، كما أوضحنا ذلك غاية الإيضاع في سورة (مريم)، في الكلام على قوله تعالى: * (أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمان عهدا) *، وهذه العلوم الدنيوية التي بينا حقارتها بالنسبة إلى ما غفل عنه أصحابها الكفار، إذا تعلمها المسلمون، وكان كل من تعليمها واستعمالها مطابقا لما أمر الله به على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، كانت من أشرف العلوم وأنفعها؛ لأنها يستعان بها على إعلاء كلمة الله ومرضاته جل وعلا، وإصلاح الدنيا والآخرة، فلا عيب فيها إذن؛ كما قال تعالى: * (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) *، فالعمل في إعداد المستطاع من القوة امتثالا لأمر الله تعالى وسعيا في مرضاته، وإعلاء كلمته ليس من جنس علم الكفار الغافلين عن الآخرة كما ترى، والآيات بمثل ذلك كثيرة، والعلم عند الله تعالى.
* (أولم يتفكروا فى أنفسهم ما خلق الله السماوات والا رض وما بينهمآ إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقآء ربهم لكافرون * أولم يسيروا فى الا رض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الا رض وعمروهآ أكثر مما عمروها وجآءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون * ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بأايات الله وكانوا بها يستهزئون * الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون * ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون * ولم يكن لهم من شركآئهم شفعاء وكانوا بشركآئهم كافرين * ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون * فأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فهم فى روضة يحبرون * وأما الذين كفروا وكذبوا بأاياتنا ولقآء الاخرة فأولائك فى العذاب محضرون * فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون * وله الحمد فى السماوات والا رض وعشيا وحين تظهرون * يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى ويحى الا رض بعد موتها وكذلك تخرجون) * * (أولم يتفكروا فى أنفسهم ما خلق الله السماوات والا رض وما بينهمآ إلا بالحق وأجل
167

مسمى وإن كثيرا من الناس بلقآء ربهم لكافرون) *. لما بين جل وعلا أن أكثر الناس وهم الكفار لا يعلمون، ثم ذكر أنهم يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، وهم غافلون، أنكر عليهم غفلتهم عن الآخرة، مع شدة وضوع أدلتها بقوله: * (أو لم يتفكروا فى أنفسهم) *، والتفكر: التأمل والنظر العقلي، وأصله إعمال الفكر، والمتأخرون يقولون: الفكر في الاصطلاح حركة النفس في المعقولات، وأما حركتها في المحسوسات فهو في الاصطلاح تخييل.
وقال الزمخشري في (الكشاف): * (فى أنفسهم) *، يحتمل أن يكون ظرفا كأنه قيل: أو لم يحدثوا التفكر في أنفسهم، أي: في قلوبهم الفارغة من الفكر، والفكر لا يكون إلا في القلوب، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين؛ كقولك: اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك وأن يكون صلة للتفكر كقولك: تفكر في الأمر أجال فيه فكره، و * (ما خلق) * متعلق بالقول المحذوف، معناه: أو لم يتفكروا فيقولوا هذا القول. وقيل معناه: فيعلموا، لأن في الكلام دليلا عليه * (إلا بالحق وأجل مسمى) *، أي: ما خلقها باطلا وعبثا بغير غرض صحيح، وحكمة بالغة، ولا لتبقى خالدة، وإنما خلقها مقرونة بالحق، مصحوبة بالحكمة، وبتقدير أجل مسمى لا بد لها أن تنتهي إليه، وهو قيام الساعة، ووقت الحساب، والثواب، والعقاب.
ألا ترى إلى قوله: * (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون) *، كيف سمى تركهم غير راجعين إليه عبثا، والباء في قوله: * (إلا بالحق) * مثلها في قولك: دخلت عليه بثياب السفر، واشترى الفرس بسرجه ولجامه، تريد: اشتراه وهو متلبس بالسرج واللجام غير منفك عنها، وكذلك المعنى: ما خلقها إلا وهي متلبسة بالحق مقترنة به.
فإن قلت: إذا جعلت في أنفسهم صلة للتفكر فما معناه؟
قلت: معناه أو لم يتفكروا في أنفسهم التي هي أقرب إليهم من غيرها من المخلوقات، وهم أعلم وأخبر بأحوالها منهم بأحوال ما عداها، فتدبروا ما أودعها الله ظاهرا وباطنا، من غرائب الحكم الدالة على التدبير دون الإهمال، وأنه لا بد لها من انتهاء إلى وقت يجازيها فيه الحكم الذي دبر أمرها على الإحسان إحسانا، وعلى الإساءة مثلها، حتى يعلموا عند ذلك أن سائر الخلائق كذلك أمرها جار على الحكمة والتدبير، وأنه لا بد
168

لها من الانتهاء إلى ذلك الوقت، والمراد بلقاء ربهم: الأجل المسمى، انتهى كلام صاحب (الكشاف)، في تفسير هذه الآية.
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن خلقه تعالى للسماوات والأرض، وما بينهما لا يصح أن يكون باطلا ولا عبثا، بل ما خلقهما إلا بالحق؛ لأنه لو كان خلقهما عبثا لكان ذلك العبث باطلا ولعبا، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، بل ما خلقهما وخلق جميع ما فيهما وما بينهما إلا بالحق، وذلك أنه يخلق فيهما الخلائق، ويكلفهم فيأمرهم، وينهاهم، ويعدهم ويوعدهم، حتى إذا انتهى الأجل المسمى لذلك بعث الخلائق، وجازاهم فيظهر في المؤمنين صفات رحمته ولطفه وجوده وكرمه وسعة رحمته ومغفرته، وتظهر في الكافرين صفات عظمته، وشدة بطشه، وعظم نكاله، وشدة عدله وإنصافه، دلت عليه آيات كثيرة من كتاب الله؛ كقوله تعالى: * (وما خلقنا * السماوات والارض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق ولاكن أكثرهم لا يعلمون إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين) *، فقوله تعالى: * (إن يوم الفصل) *، بعد قوله: * (ما خلقناهما إلا بالحق) *، يبين ما ذكرنا. وقوله تعالى: * (وما خلقنا * السماوات والارض وما بينهمآ إلا بالحق وإن الساعة لآتية) *.
فقوله تعالى: * (وإن الساعة لآتية) *، بعد قوله: * (وما خلقنا * السماوات والارض وما بينهما إلا بالحق) * يوضح ذلك، وقد أوضحه تعالى في قوله: * (ولله
ما فى * السماوات وما في الارض ليجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى) *.
وقد بين جل وعلا أن الذين يظنون أنه خلقهما باطلا لا لحكمه الكفار، وهددهم على ذلك الظن الكاذب بالويل من النار؛ وذلك في قوله تعالى: * (وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا ذالك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) *، وبين جل وعلا أنه لو لم يبعث الخلائق ويجازهم، لكان خلقه لهم أولا عبثا، ونزه نفسه عن ذلك العبث سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله علوا كبيرا؛ وذلك في قوله تعالى: * (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق لا إلاه إلا هو رب العرش الكريم) *.
فهذه الآيات القرآنية تدل على أنه تعالى ما خلق الخلق إلا بالحق، وأنه لا بد
169

باعثهم، ومجازيهم على أعمالهم، وإن كان أكثر الناس لا يعلمون هذا، فكانوا غافلين عن الآخرة، كافرين بلقاء ربهم.
وقوله تعالى في الآيات المذكورة: * (وما بينهما) *، أي: ما بين السماوات والأرض، يدخل فيه السحاب المسخر بين السماء والأرض، والطير صافات، ويقبض بين السماء والأرض والهواء الذي لا غنى للحيوان عن استنشاقه. * (أولم يسيروا فى الا رض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) *، إلى قوله تعالى: * (كانوا أنفسهم يظلمون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الحجر)، في الكلام على قوله تعالى: * (وإنها لبسبيل مقيم) *. وفي (المائدة)، في الكلام على قوله تعالى: * (من أجل ذالك كتبنا على بنى) *. وفي (هود)، في الكلام على قوله تعالى: * (ربك وما هى من الظالمين ببعيد) *. وفي (الإسراء)، في الكلام على قوله تعالى: * (وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح) *، وفي غير ذلك.
وقوله تعالى في آية (الروم) هذه: * (كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الارض وعمروها أكثر مما عمروها) *، جاء موضحا في آيات أخر؛ كقوله تعالى: * (أفلم يسيروا فى الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وءاثارا فى الارض) *، ونحو ذلك من الآيات. * (ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بأايات الله وكانوا بها يستهزئون) *. قرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وأبو عمرو: * (كان عاقبة) *، بضم التاء اسم كان، وخبرها * (السوأى) *. وقرأه ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي: * (يظلمون ثم كان عاقبة الذين) *، بفتح التاء خبر * (كان) * قدم على اسمها على حد قوله في (الخلاصة): ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بأايات الله وكانوا بها يستهزئون) *. قرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وأبو عمرو: * (كان عاقبة) *، بضم التاء اسم كان، وخبرها * (السوأى) *. وقرأه ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي: * (يظلمون ثم كان عاقبة الذين) *، بفتح التاء خبر * (كان) * قدم على اسمها على حد قوله في (الخلاصة):
* وفي جميعها توسط الخبر
* أجز...
*
وعلى هذه القراءة ف * (السوأى) * اسم * (إن كان) *، وإنما جرد الفعل من التاء مع أن * (السوأى) * مؤنثة لأمرين:
170

الأول: أن تأنيثها غير حقيقي.
والثاني: الفصل بينها وبين الفعل، كما هو معلوم. وأما على قراءة ضم التاء فوجه تجريد الفعل من التاء هو كون تأنيث العاقبة غير حقيقي فقط.
وأظهر الأقوال في معنى الآية عندي، أن المعنى على قراءة ضم التاء، كانت عاقبة المسيئين السوأى، وهي تأنيث الأسوإ، بمعنى: الذي هو أكثر سوءا، أي: كانت عاقبتهم العقوبة، التي هي أسوأ العقوبات، أي: أكثرها سوءا وهي النار أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منها.
وأما على قراءة فتح التاء، فالمعنى: كانت السوأى عاقبة الذين أساءوا، ومعناه واضح مما تقدم، وأن معنى قوله: * (السوءى أن كذبوا) *، أي: كانت عاقبتهم أسوأ العقوبات لأجل أن كذبوا.
وهذا المعنى تدل عليه آيات كثيرة توضح أن الكفر والتكذيب، قد يؤدي شؤمه إلى شقاء صاحبه، وسوء عاقبته، والعياذ بالله؛ كقوله تعالى: * (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) *، وقوله: * (فى قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) *، وقوله: * (بل طبع الله عليها بكفرهم) *.
وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفىءاذانهم وقرا) *. وفي (الأعراف)، في الكلام على قوله تعالى: * (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل) *، وفي غير ذلك.
وبما ذكرنا تعلم أن قول من قال: إن * (السوأى) * منصوب ب * (الذين أساءوا) *، أي: اقترفوا الجريمة السوأى خلاف الصواب، وكذلك قول من قال: إن * (ءان) * في قوله: * (أن كذبوا) * تفسيرية، فهو خلاف الصواب أيضا، والعلم عند الله تعالى. * (الله يبدأ الخلق ثم يعيده) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في (البقرة)، و (النحل)، و (الحج)، وغير ذلك. * (ولم يكن لهم من شركآئهم شفعاء) *
171

. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (البقرة)، في الكلام على قوله تعالى: * (ولا يقبل منها شفاعة) *، وفي غير ذلك. * (وكانوا بشركآئهم كافرين) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (مريم)، في الكلام على قوله تعالى: * (كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا) *، وفي غير ذلك. * (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون * وله الحمد فى السماوات والا رض وعشيا وحين تظهرون) *. قد قدمنا في سورة (النساء)، في الكلام على قوله تعالى: * (فإذا
قضيتم الصلواة فاذكروا الله قياما وقعودا) *، أن قوله هنا: * (فسبحان الله حين تمسون) *، الآيتين من الآيات التي أشير فيها إلى أوقات الصلوات الخمس، وأوضحنا وجه ذلك مع إيضاح جميع الآيات التي أشير فيها إلى أوقات الصلوات الخمس. * (ويحى الا رض بعد موتها وكذلك تخرجون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في ذكرنا براهين البعث في سورة (البقرة)، في الكلام على قوله تعالى: * (وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) *. وفي سورة (النحل)، في الكلام على قوله تعالى: * (ينبت لكم به الزرع والزيتون) *، وفي غير ذلك.
* (ومن ءاياته أن خلقكم من تراب ثم إذآ أنتم بشر تنتشرون * ومن ءاياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن فى ذلك لأيات لقوم يتفكرون * ومن ءاياته خلق السماوات والا رض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن فى ذالك لأيات للعالمين * ومن ءاياته منامكم باليل والنهار وابتغآؤكم من فضله إن فى ذلك لايات لقوم يسمعون * ومن ءاياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السمآء مآء فيحى به الا رض بعد موتها إن فى ذلك لايات لقوم يعقلون * ومن ءاياته أن تقوم السمآء والا رض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الا رض إذآ أنتم تخرجون * وله من فى السماوات والا رض كل له قانتون * وهو الذى يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى فى السماوات والا رض وهو العزيز الحكيم * ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركآء فى ما رزقناكم فأنتم فيه سوآء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الا يات لقوم يعقلون * بل اتبع الذين ظلموا أهوآءهم بغير علم فمن يهدى من أضل الله وما لهم من ناصرين * فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولاكن أكثر الناس لا يعلمون * منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلواة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون * وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذآ أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون * ليكفروا بمآ ءاتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون * أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون * وإذآ أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون * أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر إن فى ذلك لأيات لقوم يؤمنون * فأات ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولائك هم المفلحون * ومآ ءاتيتم من ربا ليربوا فى أموال الناس فلا يربوا عند الله ومآ ءاتيتم من زكواة تريدون وجه الله فأولائك هم المضعفون * الله الذى خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركآئكم من يفعل من ذلكم من شىء سبحانه وتعالى عما يشركون * ظهر الفساد فى البر والبحر بما كسبت أيدى الناس ليذيقهم بعض الذى عملوا لعلهم يرجعون * قل سيروا فى الا رض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين * فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتى يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون * من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلانفسهم يمهدون * ليجزى الذين ءامنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين * ومن ءاياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجرى الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون * ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجآءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين * الله الذى يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه فى السمآء كيف يشآء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذآ أصاب به من يشآء من عباده إذا هم يستبشرون * وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين * فانظر إلىءاثار رحمة الله كيف يحى الا رض بعد موتهآ إن ذلك لمحى الموتى وهو على كل شىء قدير * ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون * فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعآء إذا ولوا مدبرين * ومآ أنت بهاد العمى عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بأاياتنا فهم مسلمون) * * (ومن ءاياته أن خلقكم من تراب) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (طه)، في الكلام على قوله تعالى: * (منها خلقناكم) *، وفي غير ذلك. * (ومن ءاياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (النحل)، في الكلام على قوله تعالى: * (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا) *. * (ومن ءاياته خلق السماوات والا رض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن فى ذالك لأيات للعالمين) *
172

. قوله: * (ومن ءاياته خلق * السماوات والارض) *، قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (البقرة)، في الكلام على قوله تعالى: * (إن في خلق السماوات والارض) *. وقوله: * (واختلاف ألسنتكم وألوانكم) *، قد أوضح تعالى في غير هذا الموضع أن اختلاف ألوان الآدميين واختلاف ألوان الجبال، والثمار، والدواب، والأنعام، كل ذلك من آياته الدالة على كمال قدرته، واستحقاقه للعبادة وحده، قال تعالى: * (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف) *، واختلاف الألوان المذكورة من غرائب صنعه تعالى وعجائبه، ومن البراهين القاطعة على أنه هو المؤثر جل وعلا، وأن إسناد التأثير للطبيعة من أعظم الكفر والضلال.
وقد أوضح تعالى إبطال تأثير الطبيعة غاية الإيضاج في سورة (الرعد): * (وفى الارض قطع متجاورات) *، إلى قوله: * (لقوم يعقلون) *. وقرأ هذا الحرف حفص وحده عن عاصم: * (إن فى ذالك لايات للعالمين) * بكسر اللام، جمع عالم الذي هو ضد الجاهل. وقرأه الباقون: * (للعالمين) * بفتح اللام؛ كقوله: * (رب العالمين) *. * (ومن ءاياته منامكم باليل والنهار وابتغآؤكم من فضله إن فى ذلك لايات لقوم يسمعون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (فمحونا ءاية اليل وجعلنا ءاية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم) *، وفي سورة (الفرقان)، وغير ذلك. * (ومن ءاياته يريكم البرق خوفا وطمعا) *. قد قدمنا ما يوضحه من الآيات مع تفسير قوله: * (خوفا وطمعا) * في سورة (الرعد)، في الكلام على قوله تعالى: * (هو الذى يريكم البرق خوفا وطمعا) *، وسنحذف هنا بعض الإحالاث لكثرتها.
173

* (ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركآء فى ما رزقناكم) *. قد قدمنا إيضاجه بالقرءان في سورة (النحل)، في الكلام على قوله تعالى: * (والله فضل بعضكم على بعض فى الرزق) *. * (ومآ ءاتيتم من ربا ليربوا فى أموال الناس فلا يربوا عند الله) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (
البقرة)، في الكلام على قوله تعالى: * (يمحق الله) *. * (يومئذ يصدعون) *. أي: يتفرقون فريقين، أحدهما: في الجنة، والثاني: في النار.
وقد دلت على هذا آيات من كتاب الله؛ كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة: * (ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون * فأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فهم فى روضة يحبرون * وأما الذين كفروا وكذبوا بئاياتنا ولقاء الاخرة فأولئك فى العذاب محضرون) *، وقوله تعالى: * (وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق فى الجنة وفريق فى السعير) *، ويدل لهذا قوله بعده: * (من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلانفسهم يمهدون * ليجزى الذين ءامنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين) *، وقد أشار تعالى أيضا للتفرق المذكور هنا في قوله تعالى: * (يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم) *. * (فإنك لا تسمع الموتى) *، إلى قوله: * (إن تسمع إلا من يؤمن بأاياتنا فهم مسلمون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة في له سورة (النمل)، في الكلام على قوله تعالى: * (إنك لا تسمع الموتى) *.
* (الله الذى خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشآء وهو العليم القدير * ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون * وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم فى كتاب الله إلى يوم البعث فهاذا يوم البعث ولاكنكم كنتم لا تعلمون * فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون * ولقد ضربنا للناس فى هاذا القرءان من كل مثل ولئن جئتهم بأاية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون * كذالك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون * فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) * * (الله الذى خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة) *
174

. قد بين تعالى الضعف الأول الذي خلقهم منه في آيات من كتابه، وبين الضعف الأخير في آيات أخر؛ قال في الأول: * (ألم نخلقكم من ماء مهين) *، وقال: * (خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين) *، وقال تعالى: * (أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة) *، وقال: * (فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من ماء دافق) *، وقال: * (كلا إنا خلقناهم مما يعلمون) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقال في الضعف الثاني: * (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر) *، وقال: * (ومن نعمره ننكسه فى الخلق أفلا يعقلون) *، إلى غير ذلك من الآيات. وأشار إلى القوة بين الضعفين في آيات من كتابه؛ كقوله: * (فإذا هو خصيم مبين) *، وإطلاقه نفس الضعف، على ما خلق الإنسان منه، قد أوضحنا وجهه في سورة (الأنبياء)، في الكلام على قوله تعالى: * (خلق الإنسان من عجل) *. وقرأ عاصم وحمزة: * (من ضعف) * في المواضع الثلاثة المخفوضين والمنصوب بفتح الضاد في جميعها، وقرأ الباقون بالضم.
واختار حفص القراءة بالضم وفاقا للجمهور؛ للحديث الوارد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، من طريق عطية العوفي أنه أعني ابن عمر قرأ عليه صلى الله عليه وسلم: * (من ضعف) * بفتح الضاد، فرد عليه صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يقرأها بضم الضاد، والحديث رواه أبو داود والترمذي وحسنه، ورواه غيرهما، والعلم عند الله تعالى. * (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (يونس)، في الكلام على قوله تعالى: * (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار) *، وفي غير ذلك. * (وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم فى كتاب الله إلى يوم البعث فهاذا يوم البعث ولاكنكم كنتم لا تعلمون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار إذا بعثوا يوم القيامة، وأقسموا أنهم ما لبثوا غير ساعة يقول لهم الذين أوتوا العلم والإيمان، ويدخل فيهم الملائكة، والرسل،
175

والأنبياء، والصالحون: والله لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث، فهذا يوم البعث، ولكنكم كنتم لا تعلمون.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحا في سورة (يس) على أصح التفسيرين، وذلك في قوله تعالى: * (قالوا يأبانا ياويلنا من بعثنا من مرقدنا) *.
والتحقيق أن هذا قول الكفار عن البعث، والآية تدل دلالة لا لبس فيها، على أنهم ينامون نومة قبل البعث، كما قاله غير واحد، وعند بعثهم أحياء من تلك النومة التي هي نومة موت يقول لهم الذين أوتوا العلم والإيمان: * (هذا ما وعد الرحمان وصدق المرسلون) *، أي: هذا البعث بعد الموت، الذي وعدكم الرحمان على ألسنة رسله، وصدق المرسلون في ذلك، كما شاهدتموه عيانا، فقوله في (يس): * (هذا ما وعد الرحمان) *، قول الذين أوتوا العلم والإيمان، على التحقيق، وقد اختاره ابن جرير، وهو مطابق لمعنى قوله: * (وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم فى كتاب الله إلى يوم البعث) *.
والتحقيق أن قوله هذا إشارة إلى ما وعد الرحمان وأنها من كلام المؤمنين، وليست إشارة إلى المرقد في قول الكفار: * (من بعثنا من مرقدنا هذا) *، وقوله: * (فى كتاب الله) *، أي: فيما كتبه وقدره وقضاه. وقال بعض العلماء: أن قوله: * (هذا ما وعد الرحمان) *، من قول الكفار، ويدل له قوله في (الصافات): * (وقالوا يأيها * ياويلنا هاذا يوم الدين * هاذا يوم الفصل) *. * (ولا هم يستعتبون) *. قد قدمنا ما فيه من اللغات، والشواهد العربية في سورة (النحل)، في الكلام على قوله تعالى: * (ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون) *. * (ولئن جئتهم بأاية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الأنعام)، في الكلام على قوله تعالى: * (ولو نزلنا عليك كتابا فى قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هاذا إلا سحر مبين) *، وفي سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (وقالوا لن نؤمن
176

لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا) *، وفي سورة (يونس)، في الكلام على قوله تعالى: * (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون) * الآية (01 / 69)، وفي غير ذلك. * (ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) *. قد قدمنا في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (لا تجعل مع الله إلاها ءاخر فتقعد مذموما مخذولا) *، أن الله تعالى قد بين في بعض الآيات القرآنية أنه يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بخطاب لا يريد به نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما
يريد به التشريع.
وبينا أن من أصرح الآيات في ذلك قوله تعالى مخاطبا له صلى الله عليه وسلم: * (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف) *، ومعلوم أن والديه قد ماتا قبل نزول: * (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما) *، بزمن طويل، فلا وجه البتة لاشتراط بلوغهما، أو بلوغ أحدهما الكبر عنده، بل المراد تشريع بر الوالدين لأمته، بخطابه صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن قول من يقول: إن الخطاب في قوله: * (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما) *، لمن يصح خطابه من المكلفين، وأنه كقول طرفة بن العبد: واعلم أن قول من يقول: إن الخطاب في قوله: * (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما) *، لمن يصح خطابه من المكلفين، وأنه كقول طرفة بن العبد:
* ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلا
;
خلاف الصواب.
والدليل على ذلك قوله بعد ذكر المعطوفات، على قوله: * (فلا تقل لهما أف) *، * (ذالك مما أوحى إليك ربك من الحكمة) *، ومعلوم أن قوله: * (ذالك مما أوحى إليك ربك) * خطاب له صلى الله عليه وسلم، كما ترى. وذكرنا بعض الشواهد العربية على خطاب الإنسان، مع أن المراد بالخطاب في الحقيقة غيره.
وبهذا تعلم أن مثل قوله تعالى: * (ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) *، وقوله: * (لئن أشركت ليحبطن عملك) *، وقوله: * (ولا تطع منهم ءاثما أو كفورا) *، وقوله: * (لا تجعل مع الله إلاها ءاخر) *، يراد به التشريع لأمته
177

؛ لأنه صلى الله عليه وسلم معصوم من ذلك الكفر الذي نهى عنه.
فائدة
روى من غير وجه أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ناداه رجل من الخوارج في صلاة الفجر، فقال: * (ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) *، فأجابه علي رضي الله عنه وهو في الصلاة: * (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) *.
178

((سورة لقمان))
* (ألم * تلك ءايات الكتاب الحكيم * هدى ورحمة للمحسنين * الذين يقيمون الصلواة ويؤتون الزكواة وهم بالا خرة هم يوقنون * أولائك على هدى من ربهم وأولائك هم المفلحون * ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولائك لهم عذاب مهين * وإذا تتلى عليه ءاياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن فى أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم * إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم * خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم * خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى فى الا رض رواسى أن تميد بكم وبث فيها من كل دآبة وأنزلنا من السمآء مآء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم) * قوله تعالى: * (ألم * تلك ءايات الكتاب الحكيم * هدى ورحمة للمحسنين) *. قد قدمنا الآيات الموضحة لقوله: * (هدى ورحمة للمحسنين) *، في أول سورة (البقرة)، في الكلام على قوله تعالى: * (ألم * ذالك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) *. * (وإذا تتلى عليه ءاياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن فى أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكافر إذا تتلى عليه آيات الله، وهي هذا القرءان العظيم: * (ولى مستكبرا) *، أي: متكبرا عن قبولها، كأنه لم يسمعها * (كأن فى أذنيه وقرا) *، أي: صمما وثقلا مانعا له من سماعها، ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبشره بالعذاب الأليم.
وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: * (ويل لكل أفاك أثيم * يسمع ءايات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم * وإذا علم من ءاياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين * من ورائهم جهنم ولا يغنى عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم) *، وقد قال تعالى هنا: * (كأن فى أذنيه وقرا) *، على سبيل التشبيه، وصرح في غير هذا الموضع أنه جعل في أذنيه الوقر بالفعل في قوله: * (ومن أظلم ممن ذكر بئايات ربه فأعرض عنها ونسى ما) *، والظاهر أن الوقر المذكور على سبيل التشبيه الوقر الحسي؛ لأن الوقر المعنوي يشبه الوقر الحسي والوقر المجعول على آذانهم بالفعل، هو الوقر المعنوي المانع من سماع الحق فقط، دون سماع غيره، والعلم عند الله تعالى.
179

* (خلق السماوات بغير عمد ترونها) *. قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرءانية في أول سورة (الرعد)، في الكلام على قوله تعالى: * (الله الذى رفع * السماوات بغير عمد ترونها) *.
* (هاذا خلق الله فأرونى ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون فى ضلال مبين * ولقد ءاتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غنى حميد * وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يابنى لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم * ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله فى عامين أن اشكر لى ولوالديك إلى المصير * وإن جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما فى الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلى ثم إلى مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون * يابنى إنهآ إن تك مثقال حبة من خردل فتكن فى صخرة أو فى السماوات أو فى الا رض يأت بها الله إن الله لطيف خبير * يابنى أقم الصلواة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على مآ أصابك إن ذلك من عزم الا مور * ولا تصعر خدك للناس ولا تمش فى الا رض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور * واقصد فى مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الا صوات لصوت الحمير * ألم تروا أن الله سخر لكم ما فى السماوات وما فى الا رض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة
وباطنة ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير * وإذا قيل لهم اتبعوا مآ أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه ءابآءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير * ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الا مور * ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور * نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ * ولئن سألتهم من خلق السماوات والا رض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون * لله ما فى السماوات والا رض إن الله هو الغنى الحميد * ولو أنما فى الا رض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم * ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير * ألم تر أن الله يولج اليل فى النهار ويولج النهار فى اليل وسخر الشمس والقمر كل يجرى إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير * ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلى الكبير * ألم تر أن الفلك تجرى فى البحر بنعمت الله ليريكم من ءاياته إن فى ذلك لايات لكل صبار شكور * وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بأاياتنآ إلا كل ختار كفور * ياأيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحيواة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور * إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما فى الا رحام وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأى أرض تموت إن الله عليم خبير) * * (هاذا خلق الله فأرونى ماذا خلق الذين من دونه) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الرعد)، في الكلام على قوله تعالى: * (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم) *، وفي أول سورة (الفرقان). * (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يابنى لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) *. دلت هذه الآية الكريمة على أن الشرك ظلم عظيم.
وقد بين تعالى ذلك في آيات أخر؛ كقوله تعالى: * (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين) *، وقوله تعالى: * (والكافرون هم الظالمون) *، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الظلم في قوله تعالى: * (الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) *، بأنه الشرك، وبين ذلك بقوله هنا: * (إن الشرك لظلم عظيم) *، وقد أوضحنا هذا سابقا. * (ولا تصعر خدك للناس) *. معناه: لا تتكبر على الناس، ففي الآية نهي عن التكبر على الناس، والصعر: الميل، والمتكبر يميل وجهه عن الناس، متكبرا عليهم، معرضا عنهم، والصعر: الميل، وأصله: داء يصيب البعير يلوي منه عنقه، ويطلق على المتكبر يلوي عنقه ويميل خده عن الناس تكبرا عليهم، ومنه قول عمرو بن حني التغلبي: ولا تصعر خدك للناس) *. معناه: لا تتكبر على الناس، ففي الآية نهي عن التكبر على الناس، والصعر: الميل، والمتكبر يميل وجهه عن الناس، متكبرا عليهم، معرضا عنهم، والصعر: الميل، وأصله: داء يصيب البعير يلوي منه عنقه، ويطلق على المتكبر يلوي عنقه ويميل خده عن الناس تكبرا عليهم، ومنه قول عمرو بن حني التغلبي:
* وكنا إذا الجبار صعر خده
* أقمنا له من ميله فتقوما
*
وقول أبي طالب: وقول أبي طالب:
* وكنا قديما لا نقر ظلامة
* إذا ما ثنوا صعر الرءوس نقيمها
*
180

ومن إطلاق الصعر على الميل، قول النمر بن تولب العلكي: ومن إطلاق الصعر على الميل، قول النمر بن تولب العلكي:
* إنا أتيناك وقد طال السفر
* نقود خيلا ضمرا فيها صعر
*
وإذا علمت أن معنى قوله: * (ولا تصعر خدك للناس) *، لا تتكبر عليهم.
فاعلم أنا قدمنا في سورة (الأعراف)، في الكلام على قوله تعالى: * (فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين) *، الآيات القرآنية الدالة على التحذير من الكبر المبينة لكثرة عواقبه السيئة، وأوضحنا ذلك مع بعض الآيات الدالة على حسن التواضع، وثناء الله على المتواضعين. * (ولا تمش فى الا رض مرحا) *. قد قدمنا إيضاحه وتفسير الآية في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (ولا تمش فى الارض مرحا إنك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولا) *. * (واقصد فى مشيك) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في مواضع؛ كقوله: * (وعباد الرحمان الذين يمشون على الارض هونا) *، وقوله تعالى: * (ولا تمش فى الارض مرحا) *. * (ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) *. قد قدمنا إيضاحه في أول سورة (الحج). وكذلك قوله تعالى: * (أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير) *. قدمنا الآيات الموضحة له أيضا في أول سورة (الحج)، في الكلام على قوله تعالى: * (كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير) *. * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والا رض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) *.
181

* (ولو أنما فى الا رض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله) *. قد قدمنا إيضاحه في سورة (الكهف)، في الكلام على قوله تعالى
: * (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى) *. * (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) *. قد قدمنا إيضاحه في أول سورة (البقرة)، في الكلام على قوله تعالى: * (كذالك يحى الله الموتى ويريكم آياته) *. * (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (وإذا مسكم الضر فى البحر ضل من تدعون إلا إياه) *، وفي (الأنعام)، في الكلام على قوله تعالى: * (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين * بل إياه تدعون) *، وفي غير ذلك. * (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما فى الا رحام وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأى أرض تموت إن الله عليم خبير) *. قد قدمنا في سورة (الأنعام)، أن هذه الخمسة المذكورة في خاتمة سورة (لقمان)، أنها هي مفاتح الغيب المذكورة في قوله تعالى: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) *، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أوضح ذلك بالسنة الصحيحة.
182

((سورة السجدة))
* (ألم * تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما مآ أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون * الله الذى خلق السماوات والا رض وما بينهما فى ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون * يدبر الا مر من السمآء إلى الا رض ثم يعرج إليه فى يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون * ذالك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم * الذى أحسن كل شىء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من مآء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والا بصار والا فئدة قليلا ما تشكرون * وقالوا أءذا ضللنا فى الا رض أءنا لفى خلق جديد بل هم بلقآء ربهم كافرون) * قوله تعالى: * (أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما مآ أتاهم من نذير من قبلك) *. قد قدمنا إيضاحه في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) *. * (يدبر الا مر من السمآء إلى الا رض ثم يعرج إليه فى يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، وأنه يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة.
وأشار تعالى إلى هذا المعنى في قوله: * (الله الذى خلق سبع * سماوات ومن الارض مثلهن يتنزل الامر بينهن) *، وقد بين في سورة (الحج)، أن اليوم عنده تعالى كألف سنة مما يعده الناس، وذلك في قوله تعالى: * (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) *، وقد قال تعالى في سورة (سأل سائل): * (تعرج الملئكة والروح إليه فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) *.
وقد ذكرنا في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)، الجمع بين هذه الآيات من وجهين:
الأول: هو ما أخرجه ابن أبي حاتم، من طريق سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس من أن يوم الألف في سورة (الحج)، هو أحد الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض، ويوم الألف في سورة (السجدة)، هو مقدار سير الأمر وعروجه إليه تعالى، ويوم الخمسين ألفا هو يوم القيامة.
183

الوجه الثاني: أن المراد بجميعها يوم القيامة، وأن الاختلاف باعتبار حال المؤمن والكافر، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: * (فذلك يومئذ يوم عسير * على الكافرين غير يسير) *، وقوله تعالى: * (يقول الكافرون هاذا يوم عسر) *.
وقد أوضحنا هذا الوجه في سورة (الفرقان)، في الكلام على قوله تعالى: * (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) *، وقد ذكرنا في (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب): أن أبا عبيدة روى عن إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة أنه حضر كلا من ابن عباس وسعيد بن المسيب سئل عن هذه الآيات، فلم يدر ما يقول فيها، ويقول: لا أدري.
* (قل يتوفاكم ملك الموت الذى وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون * ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنآ أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون * ولو شئنا لاتينا كل نفس هداها ولاكن حق القول منى لاملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين * فذوقوا بما نسيتم لقآء يومكم هاذآ إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون * إنما يؤمن بأاياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون * تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون * فلا تعلم نفس مآ أخفى لهم من قرة أعين جزآء بما كانوا يعملون * أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون * أما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون * وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلمآ أرادوا أن يخرجوا منهآ أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون * ولنذيقنهم من العذاب الا دنى دون العذاب الا كبر لعلهم يرجعون) * * (قل يتوفاكم ملك الموت الذى وكل بكم) *. ظاهر هذه الآية الكريمة أن الذي يقبض أرواح الناس ملك واحد معين، وهذا هو المشهور، وقد جاء في بعض الآثار أن اسمه عزرائيل.
وقد بين تعالى في آيات أخر أن الناس تتوفاهم ملائكة لا ملك واحد؛ كقوله تعالى: * (إن الذين توفاهم الملئكة ظالمى أنفسهم) *، وقوله تعالى: * (فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم) *، وقوله تعالى: * (ولو ترى إذ الظالمون فى غمرات الموت والملئكة باسطوا أيديهم) *، وقوله تعالى: * (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وإيضاح هذا عند أهل العلم: أن الموكل بقبض الأرواح ملك واحد، هو المذكور هنا، ولكن له أعوان يعملون بأمره ينتزعون الروح إلى الحلقوم، فيأخذها ملك الموت، أو يعينونه إعانة غير ذلك.
وقد جاء في حديث البراء بن عازب الطويل المشهور: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فيه: (أن ملك الموت إذا أخذ روح الميت أخذها من يده بسرعة ملائكة
فصعدوا بها إلى السماء)، وقد بين فيه صلى الله عليه وسلم ما تعامل به روح المؤمن وروح الكافر بعد أخذ الملائكة له من ملك الموت حين يأخذها من البدن، وحديث البراء المذكور صححه غير واحد، وأوضح ابن القيم في كتاب (الروح)، بطلان تضعيف ابن حزم له.
184

والحاصل: أن حديث البراء المذكور، دل على أن مع ملك الموت ملائكة أخرين يأخذون من يده الروح، حين يأخذه من بدن الميت. وأما قوله تعالى: * (الله يتوفى الانفس حين موتها) *، فلا إشكال فيه؛ لأن الملائكة لا يقدرون أن يتوفوا أحدا إلا بمشيئته جل وعلا: * (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا) *.
فتحصل: أن إسناد التوفي إلى ملك الموت في قوله هنا: * (قل يتوفاكم ملك الموت الذى وكل بكم) *، لأنه هو المأمور بقبض الأرواح، وأن إسناده للملائكة في قوله تعالى: * (فكيف إذا توفتهم الملائكة) *، ونحوها من الآيات؛ لأن لملك الموت أعوانا يعملون بأمره، وأن إسناده إلى الله في قوله تعالى: * (الله يتوفى الانفس حين موتها) *، لأن كل شئ كائنا ما كان لا يكون إلا بقضاء الله وقدره، والعلم عند الله تعالى. * (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنآ أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الأعراف)، في الكلام على قوله تعالى: * (يوم يأتى تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء) *، وفي سورة (مريم)، في الكلام على قوله تعالى: * (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا) *. * (ولو شئنا لاتينا كل نفس هداها ولاكن حق القول منى لاملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (يونس)، في الكلام على قوله تعالى: * (ولو شاء ربك لآمن من فى الارض كلهم جميعا) *.
* (ومن أظلم ممن ذكر بأايات ربه ثم أعرض عنهآ إنا من المجرمين منتقمون * ولقد ءاتينا موسى الكتاب فلا تكن فى مرية من لقآئه وجعلناه هدى لبنى إسراءيل * وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بأاياتنا يوقنون * إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون * أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون فى مساكنهم إن فى ذلك لايات أفلا يسمعون * أولم يروا أنا نسوق المآء إلى الا رض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون * ويقولون متى هاذا الفتح إن كنتم صادقين * قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون * فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون) * * (ومن أظلم ممن ذكر بأايات ربه ثم أعرض عنهآ إنا من المجرمين منتقمون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له مع بيان الآيات الدالة على العواقب السيئة الناشئة عن الإعراض، عن التذكير بآيات الله في سورة (الكهف)، في الكلام على قوله تعالى: * (ومن
185

أظلم ممن ذكر بئايات ربه فأعرض عنها ونسى ما قدمت يداه) *. * (أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون فى مساكنهم) *. قد قدمنا بعض الآيات الموضحة له في آخر سورة (مريم)، في الكلام على قوله تعالى: * (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا) *. * (أولم يروا أنا نسوق المآء إلى الا رض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (طه)، في الكلام على قوله تعالى: * (الذى جعل لكم الارض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى) *، وقد أوضحنا تفسير الأرض الجرز مع بعض الشواهد العربية في سورة (الكهف)، في الكلام على قوله تعالى: * (وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا) *. * (ويقولون متى هاذا الفتح إن كنتم صادقين * قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون) *. أظهر أقوال أهل العلم عندي هو أن الفتح في هذه الآية الكريمة هو الحكم والقضاء، وقد قدمنا أن الفتاح: القاضي، وهي لغة حميرية قديمة، والفتاحة: الحكم والقضاء، ومنه قوله: ويقولون متى هاذا الفتح إن كنتم صادقين * قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون) *. أظهر أقوال أهل العلم عندي هو أن الفتح في هذه الآية الكريمة هو الحكم والقضاء، وقد قدمنا أن الفتاح: القاضي، وهي لغة حميرية قديمة، والفتاحة: الحكم والقضاء، ومنه قوله:
* ألا من مبلغ عمرا رسولا
* بأني عن فتاحتكم غني
*
وقد جاءت آيات تدل على أن الفتح الحكم؛ كقوله تعالى عن نبيه شعيب: * (على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) *، أي: احكم بيننا بالحق، وأنت خير الحاكمين.
وقوله تعالى عن نبيه نوح: * (قال رب إن قومى كذبون * فافتح بينى وبينهم فتحا) *، أي: احكم بيني وبينهم حكما. وقوله تعالى: * (قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم) *، وقوله تعالى: * (إن تستفتحوا
186

فقد جاءكم الفتح) *، أي: إن تطلبوا الحكم بهلاك الظالم منكم، ومن النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاءكم الفتح، أي: الحكم بهلاك الظالم وهو هلاكهم يوم بدر؛ كما قاله غير واحد. وقد ذكروا أنهم لما أرادوا الخروج إلى بدر، جاء أبو جهل، وتعلق بأستار الكعبة، وقال: اللهم إنا قطان بيتك نسقي الحجيج، ونفعل ونفعل، وإن محمدا قطع الرحم وفرق الجماعة، وعاب الدين، وشتم الآلهة، وسفه أحلام الآباء، اللهم أهلك الظالم منا ومنه، فطلب الحكم على الظالم، فجاءهم الحكم على الظالم فقتلوا ببدر، وصاروا إلى الخلود في النار، إلى غير ذلك من الآيات.
وعلى قول من قال من أهل العلم: إن المراد بالفتح في الآية الحكم والقضاء بينهم يوم القيامة، فلا إشكال في قوله تعالى: * (قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم) *، وعلى القول بأن المراد بالفتح في الآية الحكم بينهم في الدنيا بهلاك الكفار، كما وقع يوم بدر. فالظاهر أن معنى قوله تعالى: * (قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا
إيمانهم) *، أي: إذا عاينوا الموت وشاهدوا القتل، بدليل قوله تعالى: * (فلما رأوا بأسنا قالوا ءامنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التى قد خلت فى عباده وخسر هنالك الكافرون) *، وقوله تعالى: * (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إنى تبت الان) *، وقوله تعالى في فرعون: * (حتى إذا أدركه الغرق قال ءامنت أنه لا إلاه إلا الذىءامنت به بنوا إسراءيل وأنا من المسلمين * ءالئن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) *. ولا يخفى أن قول من قال من أهل العلم: إن الفتح في هذه الآية فتح مكة أنه غير صواب، بدليل قوله تعالى: * (قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم) * ومعلوم أن فتح مكة لا يمنع انتفاع المؤمن في وقته بإيمانه، كما لا يخفى. * (* (فأعرض عنهم وانتظر) *. جاء معناه موضحا في آيات أخر؛ كقوله تعالى: * (أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون * قل تربصوا فإنى معكم من المتربصين) *، ومعلوم أن التربص هو الانتظار. وقوله تعالى: * (قل انتظروا إنا منتظرون) *، إلى غير ذلك من الآيات.
187

((سورة الأحزاب))
* (يأيها النبى اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما * واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا * وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا * ما جعل الله لرجل من قلبين فى جوفه وما جعل أزواجكم اللائى تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعيآءكم أبنآءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدى السبيل * ادعوهم لابآئهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا ءاباءهم فإخوانكم فى الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولاكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما * النبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولو الا رحام بعضهم أولى ببعض فى كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليآئكم معروفا كان ذلك فى الكتاب مسطورا) * قوله تعالى: * (يأيها النبى اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين) *. قد قدمنا الآيات الموضحة لمثله في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (لا تجعل مع الله إلاها ءاخر) *، وما دلت عليه آية (الأحزاب) هذه، من أن الخطاب الخاص لفظه بالنبي صلى الله عليه وسلم يشمل حكمه جميع الأمة، قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (المائدة)، في الكلام على قوله تعالى: * (من أجل ذالك كتبنا على بنى إسراءيل أنه من قتل نفسا بغير نفس) *. * (وما جعل أزواجكم اللائى تظاهرون منهن أمهاتكم) *. في هذه الحرف أربع قراءات سبعية: قرأه عاصم وحده: * (تظاهرون) * بضم التاء وتخفيف الظاء بعدها ألف فهاء مكسورة مخففة، وقرأه حمزة والكسائي: * (تظاهرون) * بفتح التاء بعدها ظاء مفتوحة مخففة، فألف فهاء مفتوحة مخففة، وقرأه ابن عامر وحده كقراءة حمزة والكسائي، إلا أن ابن عامر يشدد الظاء، وهما يخففانها. وقرأه نافع، وابن كثير وأبو عمرو: * (تظهرون) * بفتح التاء بعدها ظاء فهاء مفتوحتان مشددتان بدون ألف، فقوله تعالى: * (تظاهرون) *، على قراءة عاصم مضارع ظاهر بوزن فاعل، وعلى قراءة حمزة والكسائي، فهو مضارع تظاهر بوزن تفاعل حذفت فيه إحدى التاءين على حد قوله في (الخلاصة): وما جعل أزواجكم اللائى تظاهرون منهن أمهاتكم) *. في هذه الحرف أربع قراءات سبعية: قرأه عاصم وحده: * (تظاهرون) * بضم التاء وتخفيف الظاء بعدها ألف فهاء مكسورة مخففة، وقرأه حمزة والكسائي: * (تظاهرون) * بفتح التاء بعدها ظاء مفتوحة مخففة، فألف فهاء مفتوحة مخففة، وقرأه ابن عامر وحده كقراءة حمزة والكسائي، إلا أن ابن عامر يشدد الظاء، وهما يخففانها. وقرأه نافع، وابن كثير وأبو عمرو: * (تظهرون) * بفتح التاء بعدها ظاء فهاء مفتوحتان مشددتان بدون ألف، فقوله تعالى: * (تظاهرون) *، على قراءة عاصم مضارع ظاهر بوزن فاعل، وعلى قراءة حمزة والكسائي، فهو مضارع تظاهر بوزن تفاعل حذفت فيه إحدى التاءين على حد قوله في (الخلاصة):
* وما بتاءين ابتدى قد يقتصر
* فيه على تا كتبين العبر
*
فالأصل على قراءة الأخوين تتظاهرون، فحذفت إحدى التاءين. وعلى قراءة ابن عامر، فهو مضارع تظاهر أيضا، كقراءة حمزة والكسائي، إلا أن إحدى التاءين أدغمت في الظاء ولم تحذف، وماضيه أظاهر ك * (ادرك) *، و * (اثاقلتم) *، و * (ادارءتم) *، بمعنى تدارك، الخ.
188

وعلى قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو، فهو مضارع تظهر على وزن تفعل، وأصله تتظهرون بتاءين، فأدغمت إحدى التاءين في الظاء، وماضيه: اظهر، نحو: * (قالوا اطيرنا) * * (وازينت) *، بمعنى: تطيرنا، وتزينت؛ كما قدمنا إيضاحه في سورة (طه)، في الكلام على قوله تعالى: * (فإذا هى تلقف ما يأفكون) *، فعلم مما ذكرنا أن قولهم ظاهر من امرأته، وتظاهر منها، وتظهر منها كلها بمعنى واحد، وهو أن يقول لها: أنت علي كظهر أمي، يعني: أنها حرام عليه، وكانوا يطلقون بهذه الصيغة في الجاهلية.
وقد بين الله جل وعلا في قوله هنا: * (وما جعل أزواجكم اللائى تظاهرون منهن أمهاتكم) *، أن من قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي، لا تكون أما له بذلك، ولم يزد هنا على ذلك، ولكنه جل وعلا أوضح هذا في سورة (المجادلة)، فبين أن أزواجهم اللائي ظاهروا منهن لسن أمهاتهم، وأن أمهاتهم هن النساء التي ولدنهم خاصة دون غيرهن، وأن قولهم: أنت علي كظهر أمي، منكر من القول وزور.
وقد بين الكفارة اللازمة في ذلك عند العود، وذلك في قوله تعالى: * (الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائى ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا) *.
فقوله تعالى في آية (الأحزاب) هذه: * (وما جعل أزواجكم اللائى تظاهرون منهن أمهاتكم) *، كقوله تعالى في سورة (المجادلة): * (الذين يظاهرون منكم من
نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائى ولدنهم) *، وقد رأيت ما في سورة (المجادلة)، من الزيادة والإيضاح لما تضمنته آية (الأحزاب) هذه.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى: قد علمت من القرءان أن الإقدام على الظهار من الزوجة حرام حرمة شديدة؛ كما دل عليه قوله تعالى: * (وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا) *، فما صرح
189

الله تعالى بأنه منكر وزور فحرمته شديدة، كما ترى. وبين كونه كذبا وزورا، بقوله: * (ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائى ولدنهم) *، وقوله تعالى: * (ما جعل الله لرجل من قلبين فى جوفه وما جعل أزواجكم اللائى تظاهرون منهن أمهاتكم) *.
وأشار بقوله تعالى: * (وإن الله لعفو غفور) *، أن من صدر منه منكر الظهار وزوره، إن تاب إلى الله من ذلك توبة نصوحا غفر له ذلك المنكر والزور وعفا عنه، فسبحانه ما أكرمه وما أحلمه.
المسألة الثانية: في بيان العود الذي رتب الله عليه الكفارة، في قوله: * (ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا) *، وإزالة إشكال في الآية.
اعلم أن هذه المسألة قد بيناها في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)، وسنذكر هنا كلامنا المذكور فيه تتميما للفائدة.
ففي (دفع إيهام الاضطراب)، ما نصه: قوله تعالى: * (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا) *، لا يخفى أن ترتيبه تعالى الكفارة بالعتق على الظهار والعود معا يفهم منه أن الكفارة لا تلزم إلا بالظهار والعود معا، وقوله تعالى: * (من قبل أن يتماسا) * صريح في أن التكفير يلزم كونه من قبل العود إلى المسيس.
اعلم أولا: أن ما رجحه ابن حزم من قول داود الظاهري، وحكاه ابن عبد البر عن بكير بن الأشج والفراء وفرقة من أهل الكلام، وقال به شعبة: من أن معنى: * (ثم يعودون لما قالوا) * هو عودهم إلى لفظ الظهار، فيكررونه مرة أخرى قول باطل، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل المرأة التي نزلت فيها آية الظهار، هل كرر زوجها صيغة الظهار أو لا؟ وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال، كما تقدم مرارا.
والتحقيق: أن الكفارة ومنع الجماع قبلها، لا يشترط فيهما تكرير صيغة الظهار، وما زعمه بعضهم أيضا من أن الكلام فيه تقديم وتأخير، وتقديره: * (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا) *، سالمين من الإثم بسبب الكفارة غير صحيح أيضا، لما تقرر في الأصول من وجوب الحمل على بقاء الترتيب، إلا لدليل. وإليه الإشارة بقول صاحب (مراقي السعود): والتحقيق: أن الكفارة ومنع الجماع قبلها، لا يشترط فيهما تكرير صيغة الظهار، وما زعمه بعضهم أيضا من أن الكلام فيه تقديم وتأخير، وتقديره: * (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا) *، سالمين من الإثم بسبب الكفارة غير صحيح أيضا، لما تقرر في الأصول من وجوب الحمل على بقاء الترتيب، إلا لدليل. وإليه الإشارة بقول صاحب (مراقي السعود):
* كذاك تريب لإيجاب العمل
* بما له الرجحان مما يحتمل
*
190

وسنذكر إن شاء الله الجواب عن هذا الإشكال على مذاهب الأئمة الأربعة، رضي الله عنهم وأرضاهم.
فنقول وبالله تعالى نستعين: معنى العود عند مالك فيه قولان، تؤولت المدونة على كل واحد منهما، وكلاهما مرجح.
الأول: أنه العزم على الجماع فقط.
الثاني: أنه العزم على الجماع وإمساك الزوجة معا، وعلى كلا القولين فلا إشكال في الآية.
لأن المعنى حينئذ: والذين يظاهرون من نسائهم، ثم يعزمون على الجماع أو عليه مع الإمساك، فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا فلا منافاة بين العزم على الجماع، أو عليه مع الإمساك، وبين الإعتاق قبل المسيس.
وغاية ما يلزم على هذا القول حذف الإرادة، وهو واقع في القرءان؛ كقوله تعالى: * (يأيها الذين ءامنوا إذا) *، أي: أردتم القيام إليها، وقوله تعالى: * (فإذا قرأت القرءان) *، أي: أردت قراءته * (فاستعذ بالله) *.
ومعنى العود عند الشافعي: أن يمسكها بعد المظاهرة زمانا يمكنه أن يطلقها فيه فلا يطلق، وعليه فلا إشكال في الآية أيضا؛ لأن إمساكه إياها الزمن المذكور، لا ينافي التكفير قبل المسيس، كما هو واضح.
ومعنى العود عند أحمد: هو أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه. أما العزم، فقد بينا أنه لا إشكال في الآية على القول به، وأما على القول بأنه الجماع.
فالجواب: أنه إن ظاهر وجامع قبل التكفير يلزمه الكف عن المسيس مرة أخرى حتى يكفر، ولا يلزم من هذا جواز الجماع الأول قبل التكفير؛ لأن الآية على هذا القول، إنما بينت حكم ما إذا وقع الجماع قبل التكفير، وأنه وجوب التكفير قبل مسيس آخر، وأما الإقدام على المسيس الأول، فحرمته معلومة من عموم قوله تعالى: * (من قبل أن يتماسا) *.
ومعنى العود عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى: هو العزم على الوطء، وعليه فلا
191

إشكال كما تقدم. وما حكاه الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره عن مالك، من أنه حكى عنه أن العود الجماع، فهو خلاف المعروف من مذهبه، وكذلك ما حكاه عن أبي حنيفة من أن العود هو العود إلى الظهار بعد تحريمه، ورفع ما كان عليه أمر الجاهلية، فهو خلاف المقرر في فروع الحنفية من أنه العزم على الوطء؛ كما ذكرنا. وغالب ما قيل في معنى العود راجع إلى ما ذكرنا من أقوال الأئمة رحمهم الله.
وقال بعض العلماء: المراد بالعود الرجوع إلى الاستمتاع بغير الجماع، والمراد بالمسيس في قوله: * (من قبل أن يتماسا) *، خصوص الجماع وعليه فلا إشكال، ولا يخفى عدم ظهور هذا القول.
والتحقيق: عدم جواز الاستمتاع بوطء أو غيره قبل التكفير، لعموم قوله: * (من قبل أن يتماسا) *، وأجاز بعضهم الاستمتاع بغير الوطء، قائلا: إن المراد بالمسيس في قوله: * (من قبل أن يتماسا) *، نفس الجماع لا مقدماته، وممن قال بذلك: الحسن البصري، والثوري، وروي عن الشافعي في أحد القولين.
وقال بعض العلماء: اللام في قوله: * (لما قالوا) *، بمعنى: في، أي: يعودون فيما قالوا بمعنى يرجعون فيه؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: (الواهب العائد في هبته) الحديث، وقيل: اللام بمعنى: عن، أي: يعودون عما قالوا، أي: يرجعون عنه، وهو قريب مما قبله.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي والله تعالى أعلم: أن العود له مبدأ ومنتهى، فمبدؤه العزم على الوطء ومنتهاه الوطء بالفعل، فمن عزم على الوطء فقد عاد بالنية، فتلزمه الكفارة لإباحة الوطء، ومن وطء بالفعل تحتم في حقه اللزوم، وخالف بالإقدام على الوطء قبل التكفير.
ويدل لهذا قوله صلى الله عليه وسلم لما قال: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)، قالوا: يا رسول اللها قد عرفنا القاتل، بما بال المقتول؟ قال: (إنه كان حريصا على قتل صاحبه)، فبين أن العزم على الفعل عمل يؤاخذ به الإنسان.
فإن قيل: ظاهر الآية المتبادر منها يوافق قول الظاهرية، الذي قدمنا بطلانه؛ لأن الظاهر المتبادر من قوله: * (لما قالوا) *، أنه صيغة الظهار، فيكون العود لها تكريرها مرة أخرى.
192

فالجواب: أن المعنى * (لما قالوا) *: أنه حرام عليهم، وهو الجماع، ويدل لذلك وجود نظيره في القرءان، في قوله تعالى: * (ونرثه ما يقول) *، أي: ما يقول إنه يؤتاه من مال وولد في قوله: * (لاوتين مالا وولدا) *، وما ذكرنا من أن من جامع قبل التكفير، يلزمه الكف عن المسيس مرة أخرى، حتى يكفر، هو التحقيق خلافا لمن قال: تسقط الكفارة بالجماع قبل المسيس؛ كما روي عن الزهري، وسعيد بن جبير، وأبي يوسف. ولمن قال: تلزم به كفارتان؛ كما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وذكره بعضهم عن عمرو بن العاص، وعبد الرحمان بن مهدي. ولمن قال: تلزمه ثلاث كفارات؛ كما رواه سعيد بن منصور، عن الحسن، وإبراهيم، والعلم عند الله تعالى. انتهى بطوله من (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب).
المسألة الثالثة: أظهر قولي أهل العلم عندي أنه لو قال لها: أنت علي كظهر ابنتي، أو أختي، أو جدتي، أو عمتي، أو أمي من الرضاع، أو أختي من الرضاع، أو شبهها بعضو آخر غير الظهر، كأن يقول: أنت علي كرأس ابنتي أو أختي الخ، أو بطن من ذكر، أو فرجها، أو فخذها أن ذلك كله ظهار، إذ لا فرق في المعنى بينه وبين: أنت علي كظهر أمي؛ لأنه في جميع ذلك شبه امرأته بما هي في تأبيد الحرمة كأمه، فمعنى الظهار محقق الحصول في ذلك.
قال ابن قدامة في (المغني): وهذا قول أكثر أهل العلم، منهم: الحسن، وعطاء، وجابر بن زيد، والشعبي، والنخعي، والزهري، والثوري، والأوزاعي، ومالك، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وهو جديد قولي الشافعي. وقال في القديم: لا يكون الظهار إلا بأم أو جدة، لأنها أم أيضا؛ لأن اللفظ الذي ورد به القرءان مختص بالأم، فإذا عدل عنه لم يتعلق به ما أوجبه الله تعالى فيه، ولنا أنهن محرمات بالقرابة، فأشبهن الأم. فأما الآية فقد قال فيها: * (وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا) *، وهذا موجود في مسألتنا، فجرى مجراه، وتعليق الحكم بالأم لا يمنع ثبوت الحكم في غيرها، إذا كانت مثلها.
الضرب الثالث: أن يشبهها بظهر من تحرم عليه على التأبيد سوى الأقارب، كالإمهات المرضعات والأخوات من الرضاعة، وحلائل الآباء، والأبناء، وأمهات النساء، والربائب اللاتي دخل بأمهن فهو ظهار أيضا، والخلاف فيها كالتي قبلها، ووجه المذهبين
193

ما تقدم، ويزيد في الأمهات المرضعات دخولها في عموم الأمهات فتكون داخلة في النص، وسائرهن في معناها، فثبت فيهن حكمها، انتهى من (المغني)، وهو واضح كما ترى.
فرعان يتعلقان بهذه المسألة
الأول: اعلم أن أهل العلم اختلفوا فيما إذا شبه امرأته بظهر من تحرم عليه تحريما مؤقتا، كأخت امرأته، وعمته وكالأجنبية، فقال بعض أهل العلم: هو ظهار وهو قول أصحاب مالك، وهو عندهم من نوع الكناية الظاهرة، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، واختارها الخرقي. والرواية الأخرى عن أحمد: أنه ليس بظهار، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي.
وحجة القول الأول: أنه شبه امرأته بمحرمة، فأشبه ما لو شبهها بالأم، لاشتراك الجميع في التحريم؛ لأن مجرد قوله: أنت علي حرام، إذا نوى به الظهار، يكون ظهارا على الأظهر، والتشبيه بالمحرمة تحريم، فيكون ظهارا.
وحجة القول الثاني: أن التي شبه بها امرأته، ليست محرمة على التأبيد، فلا يكون لها حكم ظهر الأم إلا إن كان تحريمها مؤبدا كالأم، ولما كان تحريمها غير مؤبد كان التشبيه بها ليس بظهار، كما لو شبهها بظهر حائض، أو محرمة من نسائه، وأجاب المخالفون عن هذا: بأن مجرد التشبيه بالمحرمة يكفي في الظهار لدخوله في عموم
قوله: * (وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا) *، قالوا: وأما الحائض، فيباح الاستمتاع بها في غير الفرج، والمحرمة يحل له النظر إليها ولمسها من غير شهوة، وليس في وطء واحدة منهما حد بخلاف مسألتنا، انتهى من (المغني)، مع تصرف يسير لا يخل بالمعنى.
وقال صاحب (المغني): واختار أبو بكر: أن الظهار لا يكون إلا من ذوات المحرم من النساء، قال: فبهذا أقول.
وقال بعض العلماء: إن شبه امرأته بظهر الأجنبية، كان طلاقا. قاله بعض المالكية، اه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر أقوال أهل العلم عندي وأجراها على الأصول، هو قول من قال: إنه يكون مظاهرا، ولو كانت التي شبه امرأته بظهرها غير مؤبدة
194

التحريم، إذ لا حاجة لتأبيد التحريم؛ لأن مدار الظهار على تحريم الزوجة بواسطة تشبيهها بمحرمة، وذلك حاصل بتشبيهها بامرأة محرمة في الحال، ولو تحريما مؤقتا لأن تحريم الزوجة حاصل بذلك في قصد الرجل، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثاني: في حكم ما قال لها: أنت علي كظهر أبي أو ابني أو غيرهما من الرجال، لا أعلم في ذلك نصا من كتاب ولا سنة، والعلماء مختلفون فيه. فقال بعضهم: لا يكون مظاهرا بذلك، قال ابن قدامة في (المغني): وهو قول أكثر العلماء، لأنه شبيه بما ليس بمحل للاستمتاع، فأشبه ما لو قال: أنت علي كمال زيد، وهل فيه كفارة؟ على روايتين: إحداهما: فيه كفارة، لأنه نوع تحريم فأشبه ما لو حرم ماله. والثانية: ليس فيه شئ، ونقل ابن القاسم عن أحمد، فيمن شبه امرأته بظهر الرجل، لا يكون ظهارا، ولم أره يلزم فيه شئ، وذلك لأنه تشبيه لامرأته بما ليس بمحل للاستمتاع، أشبه التشبيه بمال غيره. وقال بعضهم: يكون مظاهرا بالتشبيه بظهر الرجل. وعزاه في (المغني) لابن القاسم صاحب مالك، وجابر بن زيد. وعن أحمد روايتان، كالمذهبين المذكورين، وكون ذلك ظهارا هو المعروف عند متأخري المالكية.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر جريان هذه المسألة على مسألة أصولية فيها لأهل الأصول ثلاثة مذاهب، وهي في حكم ما إذا دار اللفظ بين الحقيقة العرفية والحقيقي اللغوية، على أيهما يحمل؟ والصحيح عند جماعات من الأصوليين: أن اللفظ يحمل على الحقيقة الشرعية أولا إن كانت له حقيقة شرعية، ثم إن لم تكن شرعية حمل على العرفية، ثم اللغوية. وعن أبي حنيفة: أنه يحمل على اللغوية قبل العرفية، قال: لأن العرفية، وإن ترجحت بغلبة الاستعمال فإن الحقيقة اللغوية مترجحة بأصل الوضع.
والقول الثالث: أنهما لا تقدم إحداهما على الأخرى بل يحكم باستوائهما، فيكون اللفظ مجملا لاستواء الاحتمالين فيهما، فيحتاج إلى بيان المقصود من الاحتمالين بنية أو دليل خارج، وإلى هذه المسألة أشار في (مراقي السعود)، بقوله: والقول الثالث: أنهما لا تقدم إحداهما على الأخرى بل يحكم باستوائهما، فيكون اللفظ مجملا لاستواء الاحتمالين فيهما، فيحتاج إلى بيان المقصود من الاحتمالين بنية أو دليل خارج، وإلى هذه المسألة أشار في (مراقي السعود)، بقوله:
* واللفظ محمول على الشرعي
* إن لم يكن فمطلق العرفي
*
* فاللغوي على الجلي ولم يجد
* بحث عن المجاز في الذي انتخب
*
* ومذهب النعمان عكس ما مضى
* والقول بالإجمال فيه مرتضى
*
وإذا علمت ذلك، فاعلم أن قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أبي مثلا لا ينصرف
195

في الحقيقة العرفية، إلى الاستمتاع بالوطء أو مقدماته؛ لأن العرف ليس فيه استمتاع بالذكور، فلا يكون فيه ظهار. وأما على تقديم الحقيقة اللغوية، فمطلق تشبيه الزوجة بمحرم ولو ذكرا يقتضي التحريم، فيكون بمقتضى اللغة له حكم الظهار، والظاهر أن قوله: أنت علي كالميتة والدم، وكظهر البهيمة، ونحو ذلك؛ كقوله: أنت علي كظهر أبي، فيجري على حكمه، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الرابعة: اعلم أن قول الرجل لامرأته: أنت علي حرام، أو إن دخلت الدار فأنت حرام، ثم دخلتها فيها للعلماء نحو عشرين قولا، كما هو معروف في محله.
وقد دلت آية الظهار هذه على أن أقيس الأقوال، وأقربها لظاهر القرءان قول من قال: إن تحريم الزوجة ظهار، تلزم فيه كفارة الظهار، وليس بطلاق.
وإيضاح ذلك: أن قوله: أنت علي كظهر أمي، معناه: أنت علي حرام، وقد صرح تعالى بلزوم الكفارة في قوله: أنت علي كظهر أمي، ولا يخفى أن: أنت علي حرام، مثلها في المعنى، كما ترى.
وقال في (المغني): وذكر إبراهيم الحربي عن عثمان، وابن عباس، وأبي قلابة، وسعيد بن جبير، وميمون بن مهران، والبتي، أنهم قالوا: التحريم ظهار، اه.
وأقرب الأقوال بعد هذا لظاهر القرءان القول بكفارة اليمين، والاستغفار لقوله: * (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) *، وقوله: * (والله غفور رحيم) *، بعد قوله: * (لم تحرم) *.
المسألة الخامسة: الأظهر أن قوله: أنت عندي أو مني أو معي كظهر أمي، لا فرق بينه وبين قوله: أنت علي كظهر أمي، فهو ظهار كما قاله غير واحد، وهو واضح كما ترى.
المسألة السادسة: أظهر أقوال العلم عندي فيمن قال لامرأته: أنت علي كأمي أو مثل أمي، ولم يذكر الظهر أنه لا يكون ظهارا إلا أن ينوي به الظهار؛ لاحتمال اللفظ معاني أخرى غير الظهار، مع كون الاستعمال فيها مشهورا، فإن قال: نويت به الظهار، فهو ظهار في قول عامة العلماء، قاله في (المغني). وإن نوى به أنها مثلها في الكرامة عليه والتوقير، أو أنها مثلها في الكبر أو الصفة فليس بظهار، والقول قوله في نيته، قاله في (المغني).
وأما إن لم ينو شيئا، فقد قال في (المغني): وإن أطلق، فقال أبو بكر: هو صريح في
196

الظهار، وهو قول مالك، ومحمد بن الحسن. وقال ابن أبي موسى: فيه روايتان، أظهرهما: أنه ليس بظهار حتى ينويه، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي؛ لأن هذا اللفظ يستعمل في الكرامة أكثر مما يستعمل في التحريم، فلم ينصرف إليه بغير نية ككنايات الطلاق، انتهى منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: وهذا القول هو الأظهر عندي، لأن اللفظ المذكور لا يتعين لا عرفا، ولا لغة، إلا لقرينة تدل على قصده الظهار.
قال ابن قدامة في (المغني): ووجه الأول، يعني القول بأن ذلك ظهار أنه شبه امرأته بجملة أمه، فكان مشبها لها بظهرها، فيثبت الظهار؛ كما لو شبهها به منفردا.
والذي يصح عندي في قياس المذهب أنه إن وجدت قرينة تدل على الظهار مثل أن يخرجه مخرج الحلف، فيقول: إن فعلت كذا فأنت علي مثل أمي، أو قال ذلك حال الخصومة والغضب فهو ظهار؛ لأنه إذا خرج مخرج الحلف فالحلف يراد للامتناع من شئ أو الحث عليه، وإنما يحصل ذلك بتحريمها عليه، ولأن كونها مثل أمه في صفتها أو كرامتها لا يتعلق على شرط، فيدل على أنه إنما أراد الظهار، ووقوع ذلك في حال الخصومة والغضب دليل على أنه أراد به ما يتعلق بأذاها، ويوجب اجتنابها وهو الظهار، وإن عدم هذا فليس بظهار؛ لأنه محتمل لغير الظهار احتمالا كثيرا، فلا يتعين الظهار فيه بغير دليل، ونحو هذا قول أبي ثور، انتهى محل الغرض من (المغني)، وهو الأظهر فلا ينبغي العدول عنه، والعلم عند الله تعالى.
المسألة السابعة: أظهر أقوال أهل العلم عندي أنه إن قال: الحل علي حرام، أو ما أحل الله علي حرام، أو ما انقلب إليه حرام، وكانت له امرأة أنه يكون مظاهرا، وذلك لدخول الزوجة في عموم الصيغ المذكورة.
قال في (المغني): نص على ذلك أحمد في الصور الثلاث، ا ه. وهو ظاهر.
وهذا على أقيس الأقوال، وهو كون التحريم ظهارا، وأظهر القولين عندي فيمن قال: ما أحل الله من أهل ومال حرام علي أنه يلزمه الظهار، مع لزوم ما يلزم في تحريم ما أحل الله من مال، وهو كفارة يمين عند من يقول بذلك، وعليه فتلزمه كفارة ظهار وكفارة يمين.
197

وهذا الذي استظهرنا هو الذي اختاره ابن عقيل، خلافا لما نقله في (المغني)، عن أحمد ونصره من أنه يكفي فيه كفارة الظهار عن كفارة اليمين، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثامنة: أظهر أقوال أهل العلم عندي، فيمن قال لامرأته: أنت علي حرام كظهر أمي، أو أنت علي كظهر أمي حرام أنه يكون مظاهرا مطلقا، ولا ينصرف للطلاق، ولو نواه؛ لأن الصيغة صريحة في الظهار.
المسألة التاسعة: أظهر أقوال أهل العلم عندي، فيمن قال لامرأته: أنت طالق كظهر أمي، أن الطلاق إن كان بائنا بانت به، ولا يقع ظهار بقوله: كظهر أمي؛ لأن تلفظه بذلك وقع، وهي أجنبية فهو كالظهار من الأجنبية، وإن كان الطلاق رجعيا، ونوى بقوله: كظهر أمي، الظهار كان مظاهرا؛ لأن الرجعية زوجة يلحقها الظهار والطلاق، وإن لم ينو به الظهار، فلا يكون ظهارا، لأنه أتى بصريح الطلاق أولا، وجعل قوله: كظهر أمي، صفة له، وصريح الطلاق لا ينصرف إلى الظهار. ونقل في (المغني)، هذا الذي استظهرنا عن القاضي، وقال: وهو مذهب الشافعي. وأما لو قدم الظهار على الطلاق، فقال: أنت علي كظهر أمي طالق، فالأظهر وقوع الظهار والطلاق معا، سواء كان الطلاق بائنا أو رجعيا؛ لأن الظهار لا يرفع الزوجية، ولا تحصل به البينونة، لأن الكفارة ترفع حكمه، فلا يمنع وقوع الطلاق على المظاهر منها، والعلم عند الله تعالى.
المسألة العاشرة: أظهر أقوال أهل العلم عندي أنه إن شبه أي عضو من امرأته بظهر أمه، أو بأي عضو من أعضائها، فهو مظاهر لحصول معنى تحريم الزوجة بذلك. وسواء كان عضو الأم يجوز له النظر إليه كرأسها ويدها أو لا يجوز له كفرجها وفخذها، وهذا قول مالك، والشافعي، وإحدى الروايتين عن أحمد، ورواية أخرى: أنه لا يكون مظاهرا حتى يشبه جملة امرأته؛ لأنه لو حلف بالله لا يمس عضوا
198

معينا منها لم يسر إلى غيره من أعضائها، فكذلك المظاهرة، ولأن هذا ليس بمنصوص عليه، ولا هو في معنى المنصوص، وعن أبي حنيفة: إن شبهها بما يحرم النظر إليه من الأم كالفخذ والفرج فهو ظهار، وإن شبهها بما يجوز النظر إليه، كاليد والرأس فليس بظهار؛ لأن التشبيه بعضو يحل النظر إليه كالتشبيه بعضو زوجة له أخرى، فلا يحصل به الظهار، وإنما استظهرنا أنه ظهار مطلقا؛ لأن معنى التحريم حاصل به، فهو في معنى صريح الظهار، فقولهم: ولا هو في معنى المنصوص ليس بمسلم، بل هو في معناه، وقياسه على حلفه بالله لا يمس عضوا معينا منها ظاهر السقوط؛ لأن معنى التحريم يحصل ببعض، والحلف عن بعض لا يسري إلى
بعض آخر، كما ترى. وقول أبي حنيفة: إن العضو الذي يحل النظر إليه، لا يحصل الظهار بالتشبيه به غير مسلم أيضا؛ لأنه وإن جاز النظر إليه فإن التلذذ به حرام، والتلذذ هو المستفاد من عقد النكاح، فالتشبيه به مستلزم للتحريم، والظهار هو نفس التحريم بواسطة التشبيه بعضو الأم المحرم.
واعلم أن القول بأن الظهار يحصل بقوله: شعرك، أو ريقك، أو كلامك علي كظهر أمي، له وجه قوي من النظر؛ لأن الشعر من محاسن النساء التي يتلذذ بها الأزواج كما بيناه في سورة (الحج)، وكذلك الريق فإن الزوج يمصه ويتلذذ به من امرأته، وكذلك الكلام، كما هو معروف. وأما لو قال لها: سعالك أو بصاقك، أو نحو ذلك علي كظهر أمي، فالظاهر أن ذلك ليس بشئ؛ لأن السعال والبصاق وما يجري مجراهما، كالدمع ليس مما يتمتع به عادة، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الحادية عشرة: اختلف العلماء فيمن قال لأمته: أنت علي كظهر أمي، أو قال ذلك لأم ولده، فقال بعض أهل العلم: لا يصح الظهار من المملوكة، وهو مروي عن ابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وسعيد بن المسيب، ومجاهد، والشعبي، وربيعة، والأوزاعي، والشافعي، وأبي حنيفة وأصحابه، وأحمد. وقال بعضهم: يصح الظهار من الأمة أم ولد كانت أو غيرها، وهو مذهب مالك، وهو مروي أيضا عن الحسن، وعكرمة، والنخعي، وعمرو بن دينار، وسليمان بن يسار، والزهري، والحكم، والثوري، وقتادة، وهو رواية عن أحمد، وعن الحسن، والأوزاعي: إن كان يطؤها فهو ظهار، وإلا فلا. وعن عطاء: إن ظاهر من أمته، فعليه نصف كفارة الظهار من الحرة.
واحتج الذين قالوا: إن الأمة لا يصح الظهار منها، بأدلة:
منها أنهم زعموا أن قوله: * (يظاهرون من نسائهم) *، يختص بالأزواج دون الإماء.
199

ومنها أن الظهار لفظ يتعلق به تحريم الزوجة، فلا تدخل فيه الأمة قياسا على الطلاق.
ومنها أن الظهار كان طلاقا في الجاهلية، فنقل حكمه وبقي محله، ومحل الطلاق الأزواج دون الإماء.
ومنها أن تحريم الأمة تحريم لمباح من ماله، فكانت فيه كفارة يمين كتحريم سائر ماله عند من يقول: بأن تحريم المال فيه كفارة يمين، كما تقدم في سورة (الحج).
قالوا: ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم جاريته مارية، فلم يلزمه ظهار بل كفارة يمين؛ كما قال تعالى في تحريمه إياها: * (ياأيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك) *، ثم قال: * (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) *.
واحتج القائلون بصحة الظهار من الأمة، بدخولها في عموم قوله تعالى: * (والذين يظاهرون من نسائهم) *، قالوا: وإماؤهم من نسائهم؛ لأن تمتعهم بإمائهم من تمتعهم بنسائهم، قالوا: ولأن الأمة يباح وطؤها، كالزوجة فصح الظهار منها كالزوجة، قالوا: وقوله تعالى: * (ياأيها النبى لم تحرم) *، نزلت في تحريمه صلى الله عليه وسلم شرب العسل في القصة المشهورة، لا في تحريم الجارية. وحجة الحسن والأوزاعي، وحجة عطاء كلتاهما واضحة، كما تقدم.
وقال ابن العربي المالكي في قول مالك وأصحابه: بصحة الظهار من الأمة، وهي مسألة عسيرة علينا؛ لأن مالكا يقول: إذا قال لأمته أنت علي حرام لا يلزم، فكيف يبطل فيها صريح التحريم وتصح كنايته؟ ولكن تدخل الأمة في عموم قوله: * (من نسائهم) *؛ لأنه أراد من محللاتهم.
والمعنى فيه: أنه لفظ يتعلق بالبضع دون رفع العقد، فصح في الأمة أصله الحلف بالله تعالى، اه منه، بواسطة نقل القرطبي.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: لا يبعد بمقتضى الصناعة الأصولية، والمقرر في علوم القرءان: أن يكون هناك فرق بين تحريم الأمة وتحريم الزوجة.
وإيضاح ذلك: أن قوله تعالى: * (لم تحرم ما أحل الله لك) *، جاء في بعض الروايات الصحيحة في السنن وغيرها، أنه نزل في تحريم النبي صلى الله عليه وسلم جاريته مارية أم إبراهيم، وإن كان جاء في الروايات الثابتة في الصحيحين: أنه نزل في تحريمه العسل الذي كان شربه عند بعض نسائه، وقصة ذلك مشهورة صحيحة؛ لأن المقرر في علوم القرءان أنه إذا ثبت نزول الآية في شئ معين، ثم ثبت بسند آخر صحيح أنها نزلت في شئ آخر معين غير
200

الأول، وجب حملها على أنها نزلت فيهما معا، فيكون لنزولها سببان، كنزول آية اللعان في عويمر، وهلال معا.
وبه تعلم أن ذلك يلزمه أن يقال: إن قوله تعالى: * (ياأيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك) * الآية، نزل في تحريمه صلى الله عليه وسلم العسل على نفسه، وفي تحريمه جاريته، وإذا علمت بذلك نزول قوله: * (لم تحرم) *، في تحريم الجارية، علمت: أن القرءان دل على أن تحريم الجارية لا يحرمها، ولا يكون ظهارا منها، وأنه تلزم فيه كفارة يمين؛ كما صح عن ابن عباس ومن وافقه. وقد قال ابن عباس: لما بين أن فيه كفارة يمين * (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة) *، ومعناه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كفر عن تحريمه جاريته كفارة يمين؛ لأن الله تعالى قال: * (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) *، بعد تحريمه صلى الله عليه وسلم جاريته المذكورة في قوله: * (لم تحرم ما أحل الله لك) *، ومن قال من أهل العلم: إن من حرم جاريته لا تلزمه كفارة يمين، وإنما يلزمه الاستغفار فقط، فقد احتج بقوله تعالى: * (والله غفور رحيم) *، بعد قوله: * (لم تحرم) *، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما حرم جاريته، قال مع ذلك: (والله لا أعود إليها)، وهذه اليمين هي التي نزل في شأنها: * (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) *، ولم تنزل في مطلق تحريم الجارية، واليمين المذكورة مع التحريم في قصة الجارية، قال في (نيل الأوطار): رواها الطبراني بسند صحيح عن زيد بن أسلم التابعي المشهور، لكنه أرسله، اه. وكذلك رواه عنه ابن جرير.
وقال ابن كثير في (تفسيره): إن الهيثم بن كليب رواه في مسنده بسند صحيح وساق السند المذكور عن رضي الله عنه، والمتن فيه التحريم واليمين كما ذكرنا، وعلى ما ذكرنا من أن آية: * (لم تحرم ما أحل الله لك) *، نزلت في تحريمه صلى الله عليه وسلم جاريته، فالفرق بين تحريم الجارية والزوجة ظاهر؛ لأن آية * (لم تحرم) * دلت على أن تحريم الجارية لا يحرمها ولا يكون ظهارا، وآية: * (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة) *، دلت على أن تحريم
الزوجة تلزم فيه كفارة الظهار المنصوص عليه في (المجادلة)؛ لأن معنى: * (يظاهرون من نسائهم) * على جميع القراءات هو أن يقول أحدهم لامرأته: أنت علي كظهر أمي، وهذا لا خلاف فيه. وقوله: أنت علي كظهر أمي، معناه: أنت علي حرام، كما تقدم إيضاحه. وعلى هذا: فقد دلت آية (التحريم)، على حكم تحريم الأمة، وآية (المجادلة) على حكم تحريم الزوجة، وهما حكمان متغايران
201

، كما ترى. ومعلوم أن ابن عباس رضي الله عنهما لم يقل بالفرق بينهما، بل قال: إن حكم تحريم الزوجة، كحكم تحريم الجارية المنصوص في آية (التحريم)، ونحن نقول: إن آية الظهار تدل بفحواها على أن تحريم الزوجة ظهار؛ لأن أنت علي كظهر أمي، وأنت علي حرام معناهما واحد، كما لا يخفى. وعلى هذا الذي ذكرنا، فلا يصح الظهار من الأمة، وإنما يلزم في تحريمها بظهار، أو بصريح التحريم كفارة يمين أو الاستغفار، كما تقدم. وهذا أقرب لظاهر القرءان، وإن كان كثير من العلماء على خلافه.
وقد قدمنا أن تحريم الرجل امرأته فيه للعلماء عشرون قولا، وسنذكرها هنا باختصار ونبين ما يظهر لنا رجحانه بالدليل منها، إن شاء الله تعالى.
القول الأول: هو أن تحريم الرجل امرأته لغو باطل، لا يترتب عليه شئ. قال ابن القيم في (إعلام الموقعين): وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس، وبه قال مسروق، وأبو سلمة بن عبد الرحمان، وعطاء، والشعبي، وداود، وجميع أهل الظاهر، وأكثر أصحاب الحديث، وهو أحد قولي المالكية، اختاره أصبغ بن الفرج. وفي الصحيح عن سعيد بن جبير أنه سمع ابن عباس يقول: إذا حرم الرجل امرأته، فليس بشئ * (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة) *، وصح عن مسروق أنه قال: ما أبالي أحرمت امرأتي أو قصعة من ثريد. وصح عن الشعبي في تحريم المرأة: لهو أهون علي من نعلي. وقال أبو سلمة: ما أبالي أحرمت امرأتي أو حرمت ماء النهر. وقال الحجاج بن منهال: إن رجلا جعل امرأته عليه حراما، فسأل عن ذلك حميد بن عبد الرحمان، فقال حميد: قال الله تعالى: * (فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب) *، وأنت رجل تلعب، فاذهب فالعب، اه منه.
واستدل أهل هذا القول بقوله تعالى: * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هاذا حلال وهاذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله) *، وقوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) *. وعموم قوله تعالى: * (قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هاذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم) *. وعموم قوله تعالى: * (ياأيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك) *، وعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا، فهو رد)، ومعلوم أن تحريم ما أحل الله ليس من أمرنا.
202

القول الثاني: أن التحريم ثلاث تطليقات، قال في (إعلام الموقعين): وبه قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وزيد بن ثابت، وابن عمر، والحسن البصري، ومحمد بن عبد الرحمان بن أبي ليلى. وقضى فيها أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بالثلاث في عدي بن قيس الكلابي، وقال: والذي نفسي بيده، لئن مسستها قبل أن تتزوج غيرك لأرجمنك. وقال في (زاد المعاد): وروي عن الحكم بن عتيبة، ثم قال: قلت: الثابت عن زيد بن ثابت، وابن عمر أن في ذلك كفارة يمين، وذكر في (الزاد) أيضا: أن ابن حزم نقل عن علي الوقف في ذلك، وحجة هذا القول بثلاث أنها لا تحرم عليه إلا بالثلاث، فكان وقوع الثلاث من ضرورة كونها حراما عليه.
القول الثالث: أنها حرام عليه بتحريمه إياها، قال في (إعلام الموقعين): وصح هذا أيضا عن أبي هريرة، والحسن، وخلاس بن عمرو، وجابر بن زيد، وقتادة، ولم يذكر هؤلاء طلاقا بل أمروه باجتنابها فقط. وصح ذلك أيضا عن علي رضي الله عنه، فإما أن يكون عنه روايتان، وإما أن يكون أراد تحريم الثلاث، وحجة هذا القول أن لفظه إنما اقتضى التحريم، ولم يتعرض لعدد الطلاق، فحرمت عليه بمقتضى تحريمه.
القول الرابع: الوقف. قال في (إعلام الموقعين): صح ذلك أيضا عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وهو قول الشعبي، وحجة هذا القول: أن التحريم ليس بطلاق، وهو لا يملك تحريم الحلال، إنما يملك إنشاء السبب الذي يحرم به، وهو الطلاق وهذا ليس بصريح في الطلاق، ولا هو مما ثبت له عرف الشرع في تحريم الزوجة، فاشتبه الأمر فيه فوجب الوقف للاشتباه.
القول الخامس: إن نوى به الطلاق فهو طلاق، وإلا فهو يمين. قال في (الإعلام): وهذا قول طاوس، والزهري، والشافعي، ورواية عن الحسن، اه.
وحكي هذا القول أيضا عن النخعي، وإسحاق، وابن مسعود، وابن عمر. وحجة هذا القول: أن التحريم كناية في الطلاق، فإن نواه به كان طلاقا، وإن لم ينوه كان يمينا؛ لقوله تعالى: * (ياأيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك) *، إلى قوله تعالى: * (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) *.
القول السادس: أنه إن نوى به الثلاث فثلاث، وإن نوى واحدة فواحدة بائنة، وإن
203

نوى يمينا فهو يمين، وإن لم ينو شيئا هو كذبة لا شئ فيها، قاله سفيان، وحكاه النخعي عن أصحابه، وحجة هذا القول: أن اللفظ محتمل لما نواه من ذلك، فيتبع نيته.
القول السابع: مثل هذا إلا أنه إن لم ينو شيئا فهو يمين يكفرها، وهو قول الأوزاعي. وحجة هذا القول ظاهر قوله تعالى: * (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) *.
القول الثامن: مثل هذا أيضا، إلا أنه إن لم ينو شيئا فواحدة بائنة إعمالا للفظ التحريم، هكذا ذكر هذا القول في (إعلام الموقعين)، ولم يعزه لأحد.
وقال صاحب (نيل الأوطار): وقد حكاه ابن حزم عن إبراهيم النخعي.
القول التاسع: أن فيه كفارة الظهار. قال في (إعلام الموقعين): وصح ذلك عن ابن عباس أيضا، وأبي قلابة، وسعيد بن جبير، ووهب بن منبه، وعثمان البتي، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد. وحجة هذا القول: أن الله تعالى جعل تشبيه المرأة بأمه المحرمة عليه ظهارا وجعله منكرا من القول وزورا، فإذا كان التشبيه بالمحرمة يجعله مظاهرا، فإذا صرح بتحريمها كان أولى بالظهار، وهذا أقيس الأقوال وأفقهها. ويؤيده: أن الله لم يجعل للمكلف التحريم والتحليل، وإنما ذلك إليه تعالى
، وإنما جعل له مباشرة الأفعال والأقوال، التي يترتب عليها التحريم والتحليل، فالسبب إلى العبد وحكمه إلى الله تعالى، فإذا قال: أنت علي كظهر أمي، أو قال: أنت علي حرام، فقد قال المنكر من القول والزور، وقد كذب، فإن الله لم يجعلها كظهر أمه، ولا جعلها عليه حراما، فأوجب عليه بهذا القول من المنكر والزور أغلظ الكفارتين، وهي كفارة الظهار.
القول العاشر: أنه تطليقة واحدة، وهي إحدى الروايتين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقول حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة، وحجة هذا القول: أن تطليق التحريم لا يقتضي التحريم بالثلاث، بل يصدق بأقله والواحدة متيقنة، فحمل اللفظ عليها؛ لأنها اليقين فهو نظير التحريم بانقضاء العدة.
القول الحادي عشر: أنه ينوي فيما أراد من ذلك، فيكون له نيته في أصل الطلاق وعدده، وإن نوى تحريما بغير طلاق، فيمين مكفرة. قال ابن القيم: وهو قول الشافعي.
وحجة هذا القول: أن اللفظ صالح لذلك كله، فلا يتعين واحد منها إلا بالنية، فإن نوى تحريما مجردا كان امتناعا منها بالتحريم كامتناعه باليمين، ولا تحرم عليه في
204

الموضعين، اه. وقد تقدم أن مذهب الشافعي هو القول الخامس.
قال في (نيل الأوطار): وهو الذي حكاه عنه في (فتح الباري)، بل حكاه عنه ابن القيم نفسه.
القول الثاني عشر: أنه ينوي في أصل الطلاق وعدده، إلا أنه إن نوى واحدة كانت بائنة، وإن لم ينو الطلاق فهو مؤل، وإن نوى الكذب فليس بشئ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
وحجة هذا القول: احتمال اللفظ لما ذكره، إلا أنه إن نوى واحدة كانت بائنة، لاقتضاء التحريم للبينونة، وهي صغرى وكبرى، والصغرى هي المتحققة، فاعتبرت دون الكبرى. وعنه رواية أخرى: إن نوى الكذب دين، ولم يقبل في الحكم بل كان مؤليا، ولا يكون ظهارا عنده، نواه أو لم ينوه، ولو صرح به فقال: أعني بها الظهار، لم يكن مظاهرا، انتهى من (إعلام الموقعين).
وقال الشوكاني في (نيل الأوطار)، بعد أن ذكر كلام ابن القيم الذي ذكرناه آنفا، إلى قوله: وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، هكذا قال ابن القيم. وفي (الفتح) عن الحنفية: أنه إذا نوى اثنتين فهي واحدة بائنة، وإن لم ينو طلاقا فهي يمين ويصير مؤليا، اه.
القول الثالث عشر: أنه يمين يكفره ما يكفر اليمين. قال ابن القيم في (إعلام الموقعين): صح ذلك عن أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وابن عباس، وعائشة، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعكرمة، وعطاء، ومكحول، وقتادة، والحسن، والشعبي، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وجابر بن زيد، وسعيد بن جبير، ونافع، والأوزاعي، وأبي ثور، وخلق سواهم رضي الله عنهم.
وحجة هذا القول ظاهر القرءان العظيم، فإن الله تعالى ذكر فرض تحلة الأيمان عقب تحريم الحلال، فلا بد أن يتناوله يقينا، فلا يجوز جعل تحلة الأيمان لغير المذكور قبلها، ويخرج المذكور عن حكم التحلة التي قصد ذكرها لأجله، اه منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الظاهر أن ابن القيم أراد بكلامه هذا أن صورة سبب النزول قطعية الدخول، وأن قوله: * (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) *، نازل في تحريم الحلال المذكور في قوله تعالى: * (لم تحرم ما أحل الله لك) *، وما ذكره من
205

شمول قوله: * (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) *، لقوله: * (لم تحرم ما أحل الله لك) *، على سبيل اليقين. والجزم لا يخلو عندي من نظر، لما قدمنا عن بعض أهل العلم من أن قوله: * (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) *، نازل في حلف النبي صلى الله عليه وسلم لا يعود لما حرم على نفسه لا في أصل التحريم، وقد أشرنا للروايات الدالة على ذلك في أول هذا المبحث.
القول الرابع عشر: أنه يمين مغلظة يتعين فيها عتق رقبة. قال ابن القيم: وصح ذلك أيضا عن ابن عباس، وأبي بكر، وعمر، وابن مسعود، وجماعة من التابعين.
وحجة هذا القول: أنه لما كان يمينا مغلظة غلظت كفارتها بتحتم العتق، ووجه تغليظها تضمنها تحريم ما أحل الله، وليس إلى العبد. وقول المنكر والزور، وإن أراد الخبر فهو كاذب في إخباره معتد في إقسامه، فغلظت كفارته بتحتم العتق؛ كما غلظت كفارة الظهار به أو بصيام شهرين، أو بإطعام ستين مسكينا.
القول الخامس عشر: أنه طلاق، ثم إنها إن كانت غير مدخول بها، فهو ما نواه من الواحدة وما فوقها. وإن كانت مدخولا بها، فثلاث. وإن نوى أقل منها، وهو إحدى الروايتين عن مالك.
وحجة هذا القول: أن اللفظ لما اقتضى التحريم وجب أن يرتب عليه حكمه، وغير المدخول بها تحرم بواحدة، والمدخول بها لا تحرم إلا بالثلاث.
وبعد: ففي مذهب مالك خمسة أقوال هذا أحدها، وهو مشهورها. والثاني: أنها ثلاث بكل حال نوى الثلاث أو لم ينوها، اختاره عبد الملك في مبسوطه. والثالث: أنها واحدة بائنة مطلقا، حكاه ابن خويز منداد رواية عن مالك. والرابع: أنه واحدة رجعية، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة. والخامس: أنه ما نواه من ذلك مطلقا، سواء قبل الدخول أو بعده، وقد عرفت توجيه هذه الأقوال، انتهى من (إعلام الموقعين).
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: المعروف أن المعتمد من هذه الأقوال عند المالكية: اثنان، وهما القول بالثلاث وبالواحدة البائنة، وقد جرى العمل في مدينة فاس بلزوم الواحدة البائنة في التحريم. قال ناظم عمل فاس: قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: المعروف أن المعتمد من هذه الأقوال عند المالكية: اثنان، وهما القول بالثلاث وبالواحدة البائنة، وقد جرى العمل في مدينة فاس بلزوم الواحدة البائنة في التحريم. قال ناظم عمل فاس:
* وطلقة بائنة في التحريم
* وحلف به لعرف الإقليم
*
206

ثم قال ابن القيم في (إعلام الموقعين): وأما تحرير مذهب الشافعي فإنه إن نوى به الظهار كان ظهارا، وإن نوى التحريم كان تحريما لا يترتب عليه إلا تقدم الكفارة، وإن نوى الطلاق كان طلاقا، وكان ما نواه. وإن أطلق فلأصحابه فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه صريح في إيجاب الكفارة.
والثاني: لا يتعلق به شئ.
والثالث: أنه في حق الأمة صريح في التحريم الموجب للكفارة، وفي حق الحرة كناية، قالوا: إن أصل الآية إنما ورد في الأمة، قالوا: فلو قال: أنت علي حرام، وقال: أردت بها الظهار والطلاق. فقال ابن الحداد: يقال له عين أحد الأمرين؛ لأن اللفظة الواحدة لا تصلح للظهار والطلاق معا. وقيل: يلزمه ما بدأ به منهما، قالوا: ولو ادعى رجل على رجل حقا أنكره، فقال: الحل عليك حرام والنية نيني لا نيتك ما لي عليك شئ، فقال: الحل علي حرام والنية في ذلك نيتك ما لك عندي شئ، كانت النية نية الحالف لا المحلف؛ لأن النية إنما تكون ممن إليه الإيقاع، ثم قال: وأما تحرير مذهب الإمام أحمد فهو أنه ظهار بمطلقه، وإن لم ينوه إلا أن ينوي الطلاق أو اليمين، فيلزمه ما نواه، وعنه رواية ثانية أنه يمين بمطلقه، إلا أن ينوي به الطلاق أو الظهار، فيلزمه ما نواه. وعنه رواية ثالثة: أنه ظهار بكل حال، ولو نوى به الطلاق أو اليمين لم يكن يمينا ولا طلاقا؛ كما لو نوى الطلاق أو اليمين، بقوله: أنت علي كظهر أمي، فإن اللفظين صريحان في الظهار، فعلى هذه الرواية لو وصله بقوله: أعني به الطلاق، فهل يكون طلاقا أو ظهارا؟ على روايتين، إحداهما: يكون ظهارا؛ كما لو قال: أنت علي كظهر أمي، أعني به الطلاق أو التحريم، إذ التحريم صريح في الظهار. والثانية: أنه طلاق؛ لأنه قد صرح بإرادته بلفظ يحتمله، وغايته أنه كناية فيه، فعلى هذه الرواية، إن قال: أعني به طلاقا طلقت واحدة، وإن قال: أعني به الطلاق، فهل تطلق ثلاثا أو واحدة؟ وعلى روايتين مأخذهما هل اللام على الجنس أو العموم، وهذا تحرير مذهبه وتقريره، وفي المسألة مذهب آخر وراء هذا كله، وهو أنه إن أوقع التحريم كان ظهارا، ولو نوى به الطلاق، وإن حلف به كان يمينا مكفرة، وهذا اختيارابن تيمية، وعليه يدل النص والقياس، فإنه إذا أوقعه كان قد أتى منكرا من القول وزورا، وكان أولى بكفارة الظهار ممن شبه امرأته بالمحرمة، وإذا حلف به كان يمينا من الأيمان كما لو حلف بالتزام الحج والعتق والصدقة، وهذا
207

محض القياس والفقه، ألا ترى أنه إذا قال: لله علي أن أعتق، أو أحج، أو أصوم، لزمه. ولو قال: إن كلمت فلانا فلله علي ذلك على وجه اليمين، فهو يمين. وكذلك لو قال: هو يهودي أو نصراني كفر بذلك، ولو قال: إن فعل كذا فهو يهودي أو نصراني كان يمينا. وطرد هذا بل نظيره من كل وجه، أنه إذا قال: أنت علي كظهر أمي كان ظهارا، فلو قال: إن فعلت كذا، فأنت علي كظهر أمي كان يمينا، وطرد هذا أيضا إذا قال: أنت طالق كان طلاقا، ولو قال: إن فعلت كذا فأنت طالق كان يمينا، فهذه هي الأصول الصحيحة المطردة المأخوذة من الكتاب والسنة والميزان، وبالله التوفيق. انتهى كلام ابن القيم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر أقوال أهل العلم عندي مع كثرتها وانتشارها: أن التحريم ظهار، سواء كان منجزا أو معلقا؛ لأن المعلق على شرط من طلاق أو ظهار يجب بوجود الشرط المعلق عليه، ولا ينصرف إلى اليمين المكفرة على الأظهر عندي، وهو قول أكثر أهل العلم.
وقال مالك في (الموطأ): فقال القاسم بن محمد: إن رجلا جعل امرأة عليه كظهر أمه إن هو تزوجها، فأمره عمر بن الخطاب إن هو تزوجها ألا يقربها حتى يكفر كفارة المتظاهر، اه.
ثم قال: وحدثني عن مالك: أنه بلغه أن رجلا سأل القاسم بن محمد وسليمان بن يسار، عن رجل تظاهر من امرأة قبل أن ينكحها، فقالا: إن نكحها فلا يمسها حتى يكفر كفارة المتظاهر، اه.
والمعروف عن جاهير أهل العلم: أن الطلاق المعلق يقع بوقوع المعلق عليه، وكذلك الظهار.
وأما الأمة فالأظهر أن في تحرمها كفارة اليمين أو الاستغفار، كما دلت عليه آية سورة (التحريم) كما تقدم إيضاحه، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثانية عشرة: اعلم أن العلماء اختلفوا في العبد والذمي، هل يصح منهما ظهار؟ وأظهر أقوالهم عندي في ذلك: أن العبد يصح منه الظهار؛ لأن الصحيح دخوله في عموم النصوص العامة، إلا ما أخرجه منه دليل خاص، كما تقدم. وإليه الإشارة بقول صاحب (مراقي السعود)
208

: المسألة الثانية عشرة: اعلم أن العلماء اختلفوا في العبد والذمي، هل يصح منهما ظهار؟ وأظهر أقوالهم عندي في ذلك: أن العبد يصح منه الظهار؛ لأن الصحيح دخوله في عموم النصوص العامة، إلا ما أخرجه منه دليل خاص، كما تقدم. وإليه الإشارة بقول صاحب (مراقي السعود):
* والعبد والموجود والذي كفر
* مشمولة له لدى ذوي النظر
*
وعليه: فهو داخل في عموم قوله: * (والذين يظاهرون من نسائهم) *، ولا يقدح في هذا أن قوله: * (فتحرير رقبة) * لا يتناوله؛ لأنه مملوك لا يقدر على العتق
، لدخوله في قوله: * (فمن لم يجد فصيام شهرين) *، فالأظهر صحة ظهار العبد، وانحصار كفارته في الصوم؛ لعدم قدرته على العتق والإطعام، وأن الذمي لا يصح ظهاره، لأن الظهار منكر من القول وزور يكفره الله بالعتق، أو الصوم، أو الإطعام، والذمي كافر، والكافر لا يكفر عنه العتق أو الصوم أو الإطعام ما ارتكبه من المنكر والزور لكفره لأن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثالثة عشرة: اعلم أن أهل العلم اختلفوا في الظهار المؤقت، كأن يقول: أنت علي كظهر أمي شهرا، أو حتى ينسلخ شهر رمضان مثلا، فقال بعض أهل العلم: يصح الظهار المؤقت، وإذا مضى الوقت زال الظهار وحلت المرأة بلا كفارة، ولا يكون عائدا بالوطء بعد انقضاء الوقت.
قال في (المغني): وهذا قول أحمد، وبه قال ابن عباس، وعطاء، وقتادة، والثوري، وإسحاق، وأبو ثور، وأحد قولي الشافعي، وقوله الأخير: لا يكون ظهارا، وبه قال ابن أبي ليلى، والليث؛ لأن الشرع ورد بلفظ الظهار مطلقا، وهذا لم يطلق فأشبه ما لو شبهها بمن تحرم عليه في وقت دون وقت. وقال طاوس: إذا ظاهر في وقت فعليه الكفارة، وإن بر. وقال مالك: يسقط التوقيت ويكون ظهارا مطلقا؛ لأن هذا لفظ يوجب تحريم الزوجة، فإذا وقته لم يتوقت، كالطلاق.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أقرب الأقوال عندي للصواب في هذه المسألة، قول من قال: إن الظهار المؤقت بصح ويزول بانقضاء الوقت؛ لأنه جاء ما يدل عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث حسنه الترمذي، وصححه ابن خزيمة، وابن الجارود، وبعض طرقه لا يقل عن درجة الحسن، وإن أعل عبد الحق وغيره بعض طرقه بالإرسال؛ لأن حديثا صححه بعض أهل العلم أقرب للصواب مما لم يرد فيه شئ أصلا.
قال أبو داود في (سننه): حدثنا عثمان بن أبي شيبة، ومحمد بن العلاء المعنى، قالا: ثنا ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن عمرو بن عطاء، قال ابن
209

العلاء بن علقمة بن عياش، عن سليمان بن يسار، عن سلمة بن صخر، قال ابن العلاء البياضي، قال: كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري، فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئا يتابع بي حتى أصبح، فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان، فبينا هي تخدمني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شئ، فلم ألبث أن نزوت عليها فلما أصبحت خرجت إلى قومي، فأخبرتهم الخبر... الحديث بطوله، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بعتق رقبة، فذكر أنه لا يجد رقبة، فأمره بصيام شهرين فذكر أنه لا يقدر، فأمره بإطعام ستين مسكينا فذكر كذلك، فأعطاه صلى الله عليه وسلم صدقة قومه بني زريق من التمر، وأمره أن يطعم، وسقا منها ستين مسكينا ويستعين بالباقي، ومحل الشاهد من الحديث: أنه ظاهر من امرأته ظهارا مؤقتا بشهر رمضان، وجامع في نفس الشهر الذي جعله وقتا لظهاره، فدل ذلك على أن الظهار المؤقت يصح، ويلزم ولو كان توقيته لا يصح لبين صلى الله عليه وسلم ذلك، ولو كان يتأبد ويسقط حكم التوقيت لبينه صلى الله عليه وسلم؛ لأن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة إليه.
وقال أبو عيسى الترمذي في (جامعه): حدثنا إسحاق بن منصور، ثنا هارون بن إسماعيل الخزاز، ثنا علي بن المبارك، ثنا يحيى بن أبي كثير، ثنا أبو سلمة، ومحمد بن عبد الرحمان: أن سلمان بن صخر الأنصاري أحد بني بياضة، جعل امرأته عليه كظهر أمه حتى يمضي رمضان... الحديث، ثم قال الترمذي، بعد أن ساقه: هذا حديث حسن، يقال سلمان بن صخر، ويقال: سلمة بن صخر البياضي، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم في كفارة الظهار، اه. وهذه الطريق التي أخرج بها الترمذي هذا الحديث غير طريق أبي داود التي أخرجه بها، وكلتاهما تقوي الأخرى، والظاهر أن إسناد الترمذي هذا لا يقل عن درجة الحسن، وما ذكروه من أن علي بن المبارك المذكور فيه، كان له عن يحيى بن أبي كثير كتابان أحدهما سماع، والآخر إرسال، وأن حديث الكوفيين عنه فيه شئ لا يضر الإسناد المذكور؛ لأن الراوي عنه فيه وهو هارون بن إسماعيل الخزاز بصري لا كوفي، ولما ساق المجد في (المنتقى) حديث سلمة بن صخر المذكور، قال: رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن. وقال الشوكاني في (نيل الأوطار): وأخرجه أيضا الحاكم، وصححه ابن خزيمة، وابن الجارود، وقد أعله عبد الحق بالانقطاع، وأن سليمان بن يسار لم يدرك سلمة، وقد حكى ذلك الترمذي عن البخاري، وفي إسناده أيضا محمد بن إسحاق، اه كلام الشوكاني.
وقد علمت أن الإسناد الذي ذكرنا عن الترمذي ليس فيه سليمان بن يسار، ولا ابن
210

إسحاق، فالظاهر صلاحية الحديث للاحتجاج، كما ذكره الترمذي وغيره.
وبذلك تعلم أن الصواب في هذه المسألة إن شاء الله هو ما ذكرنا، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الرابعة عشرة: الأظهر عندي، أنه لو قال: أنت علي كظهر أمي إن شاء الله أساء الأدب، ولا تلزمه الكفارة، وإن الاستثناء بالمشيئة يرفع عنه حكم الكفارة، كما يرفع كفارة اليمين بالله، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الخامسة عشرة: الأظهر أنه إن مات أو ماتت أو طلقها قبل التكفير، لم يلزمه شئ، وأنه إن عاد فتزوجها بعد الطلاق لا يجوز له مسيسها حتى يكفر؛ لأن الله أوجب الكفارة على المظاهر قبل الحنث بالعود، فلا يعود إلا بعد التكفير، ولا وجه لسقوط الكفارة بالطلاق فيما يظهر، مع أن بعض أهل العلم يقول: إن كان الطلاق بعد الظهار بائنا، ثم تزوجها لم تلزمه كفارة، وهو مروي عن قتادة. وبعضهم يقول: إن كانت البينونة بالثلاث، ثم تزوجها بعد زوج لم تلزمه الكفارة لسقوطها بالبينونة الكبرى، كما أسقطها صاحب القول الذي قبله بالبينونة الصغرى، والعلم عند الله تعالى.
المسألة السادسة عشرة: إذا ظاهر من نسائه الأربع بكلمة واحدة، كأن يقول لهن: أنتن علي كظهر أمي، فقال بعض أهل العلم: تكفي في ذلك كفارة واحدة.
قال في (المغني): ولا خلاف في هذا في مذهب أحمد، وهو قول علي، وعمر، وعروة، وطاوس، وعطاء، وربيعة، ومالك، والأوزاعي، وإسحاق، وأبي ثور، والشافعي في القديم. وقال الحسن، والنخعي، والزهري، ويحيى الأنصاري، والحكم، والثوري، وأصحاب الرأي، والشافعي في الجديد: عليه لكل امرأة كفارة
؛ لأنه وجد الظهار والعود في حق كل امرأة منهن فوجب عليه عن كل واحدة كفارة، كما لو أفردها به، ولنا عموم قول عمر وعلي رضي الله عنهما، رواه عنهما الأثرم، ولا يعرف لهما مخالف فكان إجماعا، ولأن الظهار كلمة تجب بمخالفتها الكفارة، فإذا وجدت في جماعة أوجبت كفارة واحدة كاليمين بالله تعالى، وفارق ما إذا ظاهر منها بكلمات، فإن كل كلمة تقتضي كفارة ترفعها وتكفر إثمها، وهاهنا الكلمة واحدة، فالكفارة واحدة ترفع حكمها، وتمحو إثمها، فلا يبقى لها حكم. انتهى منه.
211

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أقيس القولين الاكتفاء بكفارة واحدة، وأحوطهما التكفير عن كل واحدة منهن. وأما إن ظاهر منهن بكلمات متعددة، بأن قال لكل واحدة منهن بانفرادها: أنت علي كظهر أمي، فالأظهر تعدد الكفارة؛ لأن كل كلمة من تلك الكلمات منكر من القول وزور، فكل واحدة منها تقتضي كفارة.
قال في (المغني): وهذا قول عروة، وعطاء. وقال أبو عبد الله بن حامد: المذهب رواية واحدة في هذا. قال القاضي: المذهب عندي ما ذكره الشيخ أبو عبد الله. قال أبو بكر: فيه رواية أخرى أنه تجزئه كفارة واحدة، واختار ذلك، وقال: هذا الذي قلناه اتباعا لعمر بن الخطاب، والحسن، وعطاء، وإبراهيم، وربيعة، وقبيصة، وإسحاق؛ لأن كفارة الظهار حق لله تعالى فلم تتكرر بتكرر سببها كالحد، وعليه يخرج الطلاق. ولنا بها أنها أيمان متكررة على أعيان متفرقة، فكان لكل واحدة كفارة كما لو كفر ثم ظاهر، ولأنها أيمان لا يحنث في إحداها بالحنث في الأخرى، فلا تكفرها كفارة واحدة، ولأن الظهار معنى يوجب الكفارة، فتعدد الكفارة بتعدده في المحال المختلفة كالقتل، ويفارق الحد، فإنه عقوبة تدرأ بالشبهات، انتهى منه.
وقد علمت أن أظهر الأقوال عندنا: تعدد الكفارة في هذه المسألة. وأما إن كرر الظهار من زوجته الواحدة، فالظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه: أنه إن كان كرره قبل أن يكفر عن الظهار الأول، فكفارة واحدة تكفي، وإن كان كفر عن ظهاره الأول، ثم ظاهر بعد التكفير، فعليه كفارة أخرى لظهاره الواقع بعد التكفير، والعلم عند الله تعالى.
المسألة السابعة عشرة: اعلم أن كفارة الظهار هي التي أوضحها الله تعالى، بقوله: * (فتحرير رقبة) * إلى قوله: * (فإطعام ستين مسكينا) *.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: اعلم أن أهل العلم اختلفوا في الرقبة في كفارة الظهار، هل يشترط فيها الإيمان أو لا يشترط فيها؟ فقال بعضهم: لا يشترط فيها الإيمان، فلو أعتق المظاهر عبدا ذميا مثلا أجزأه، وممن قال بهذا القول: أبو حنيفة وأصحابه، وعطاء، والثوري، والنخعي، وأبو ثور، وابن المنذر، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، قاله في (المغني).
وحجة أهل هذا القول أن الله تعالى قال في هذه الآية الكريمة: * (فتحرير رقبة) *،
212

ولم يقيدها بالإيمان، فوجب أن يجزئ ما تناوله إطلاق الآية، قالوا: وليس لأحد أن يقيد ما أطلقه الله في كتابه، إلا بدليل يجب الرجوع إليه. وممن قال باشتراط الإيمان في رقبة كفارة الظهار: مالك، والشافعي، والحسن، وإسحاق، وأبو عبيدة، وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد، قاله في (المغني). واحتج لأهل هذا القول بما تقرر في الأصول من حمل المطلق على المقيد.
وقد بينا مسألة حمل المطلق على المقيد في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)، في سورة (النساء)، في الكلام على قوله تعالى في كفارة القتل الخطأ: * (ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة) *، بقولنا فيه وحاصل تحرير المقام في مسألة تعارض المطلق والمقيد: أن لها أربع حالات:
الأولى: أن يتحد حكمهما وسببهما معا كتحرير الدم، فإن الله قيده في سورة (الأنعام)، بكونه مسفوحا في قوله تعالى: * (إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا) *، وأطلقه عن القيد بكونه مسفوحا في سورة (النحل) و (البقرة) و (المائدة). قال في (النحل): * (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل لغير الله به) *، وقال في (البقرة): * (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله) *، وقال في (المائدة): * (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) *. وجمهور العلماء يقولون بحمل المطلق على المقيد في هذه الحالة التي هي اتحاد السبب والحكم معا، ولذلك كانوا لا يرون بالحمرة التي تعلو القدر من أثر تقطيع اللحم بأسا؛ لأنه دم غير مسفوح، قالوا: وحمله عليه أسلوب من أساليب اللغة العربية، لأنهم يثبتون ثم يحذفون اتكالا على المثبت، ومنه قول قيس بن الخطيم الأنصاري: الأولى: أن يتحد حكمهما وسببهما معا كتحرير الدم، فإن الله قيده في سورة (الأنعام)، بكونه مسفوحا في قوله تعالى: * (إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا) *، وأطلقه عن القيد بكونه مسفوحا في سورة (النحل) و (البقرة) و (المائدة). قال في (النحل): * (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل لغير الله به) *، وقال في (البقرة): * (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله) *، وقال في (المائدة): * (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) *. وجمهور العلماء يقولون بحمل المطلق على المقيد في هذه الحالة التي هي اتحاد السبب والحكم معا، ولذلك كانوا لا يرون بالحمرة التي تعلو القدر من أثر تقطيع اللحم بأسا؛ لأنه دم غير مسفوح، قالوا: وحمله عليه أسلوب من أساليب اللغة العربية، لأنهم يثبتون ثم يحذفون اتكالا على المثبت، ومنه قول قيس بن الخطيم الأنصاري:
* نحن بما عندنا وأنت بما
* عندك راض والرأي مختلف
*
فحذف راضون، لدلالة راض عليه. وقول ضابىء بن الحارث البرجمي: فحذف راضون، لدلالة راض عليه. وقول ضابىء بن الحارث البرجمي:
* فمن يك أمسى بالمدينة رحله
* فإني وقيار بها لغريب
*
والأصل: فإني غريب وقيار أيضا غريب، فحذف إحدى الكلمتين لدلالة الأخرى عليها. وقول عمرو بن أحمر الباهلي
213

: والأصل: فإني غريب وقيار أيضا غريب، فحذف إحدى الكلمتين لدلالة الأخرى عليها. وقول عمرو بن أحمر الباهلي:
* رماني بأمر كنت منه ووالدي
* بريئا ومن أجل الطوى رماني
*
يعني: كنت بريئا منه، وكان والدي بريئا منه أيضا. وقول النابغة الجعدي: يعني: كنت بريئا منه، وكان والدي بريئا منه أيضا. وقول النابغة الجعدي:
* وقد زعمت بنو سعد بأني
* وما كذبوا كبير السن فاني
*
يعني: زعمت بنو سعد أني فان وما كذبوا.. الخ.
وقالت جماعة من أهل الأصول: إن حمل المطلق على المقيد بالقياس، لا بدلالة اللفظ وهو أظهرها. وقيل: بالعقل، وهو أضعفها وأبعدها.
الحالة الثانية: هي أن يتحد الحكم، ويختلف السبب، كالمسألة التي نحن بصددها، فإن الحكم في آية المقيد وآية المطلق واحد، وهو عتق رقبة في كفارة، ولكن السبب فيهما مختلف؛ لأن سبب المقيد قتل خطأ، وسبب المطلق ظهار، ومثل هذا المطلق يحمل على المقيد عند الشافعية، والحنابلة، وكثير من المالكية، ولذا شرطوا الإيمان في كفارة الظهار حملا لهذا المطلق على المقيد، خلافا لأبي حنيفة ومن وافقه، قالوا: ويعتضد حمل هذا المطلق عن المقيد بقوله صلى الله عليه وسلم في قصة معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه: (اعتقها فإنها مؤمنة)، ولم يستفصله عنها، هل هي في كفارة أو لا؟ وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في الأقوال. قال في (مراقي السعود): في قصة معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه: (اعتقها فإنها مؤمنة)، ولم يستفصله عنها، هل هي في كفارة أو لا؟ وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في الأقوال. قال في (مراقي السعود):
* ونزلن ترك الاستفصال
* منزلة العموم في الأقوال
*
الحالة الثالثة: عكس هذه، وهي الاتحاد في السبب مع الاختلاف في الحكم، فقيل: يحمل فيها المطلق على المقيد. وقيل: لا، وهو قول أكثر العلماء، ومثلوا له بصوم الظهار، وإطعامه، فسببهما واحد وهو الظهار، وحكمهما مختلف؛ لأن أحدهما تكفير بصوم، والآخر تكفير بإطعام، وأحدهما مقيد بالتتابع، وهو الصوم. والثاني مطلق عن قيد التتابع، وهو الإطعام، فلا يحمل هذا المطلق على هذا المقيد. والقائلون بحمل المطلق على المقيد في هذه الحالة، مثلوا لذلك بإطعام الظهار، فإنه لم يقيد بكونه من قبل أن يتماسا، مع أن عتقه وصومه قد قيدا بقوله: * (من قبل أن يتماسا) *، فيحمل هذا المطلق على المقيد، فيجب كون الإطعام قبل المسيس، ومثل له اللخمي بالإطعام في كفارة اليمين حيث قيد بقوله: * (من أوسط ما تطعمون أهليكم) *، مع إطلاق الكسوة عن القيد بذلك، في قوله: * (أو كسوتهم) * فيحمل هذا المطلق على المقيد، فيشترط في
214

الكسوة أن تكون من أوسط ما تكسون أهليكم.
الحالة الرابعة: أن يختلفا في الحكم والسبب معا، ولا حمل في هذه إجماعا وهو واضح، وهذا فيما إذا كان المقيد واحدا. أما إذا ورد مقيدان بقيدين مختلفين، فلا يمكن حمل المطلق على كليهما لتنافي قيديهما، ولكنه ينظر فيهما، فإن كان أحدهما أقرب للمطلق من الآخر حمل المطلق على الأقرب له منهما عند جماعة من العلماء، فيقيد بقيده. وإن لم يكن أحدهما أقرب له، فلا يقيد بقيد واحد منهما، ويبقى على إطلاقه إذ لا ترجيح بلا مرجح، ومثال كون أحدهما أقرب للمطلق من الآخر صوم كفارة اليمين، فإنه مطلق عن قيد التتابع والتفريق، مع أن صوم الظهار مقيد بالتتابع، في قوله تعالى: * (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) *، وصوم التمتع مقيد بالتفريق في قوله تعالى: * (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم) *، واليمين أقرب إلى الظهار من التمتع؛ لأن كلا من صوم الظهار واليمين صوم كفارة بخلاف صوم التمتع، فيقيد صوم كفارة اليمين بالتتابع عند من يقول بذلك، ولا يقيد بالتفريق الذي في صوم التمتع.
وقراءة ابن مسعود: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) لم تثبت؛ لإجماع الصحابة على عدم كتب متتابعات في المصاحف العثمانية، ومثال كونهما ليس أحدهما أقرب للمطلق من الآخر: صوم قضاء رمضان، فإن الله تعالى قال فيه: * (فعدة من أيام أخر) *، ولم يقيده بتتابع ولا تفريق، مع أنه تعالى قيد صوم الظهار بالتتابع، وصوم التمتع بالتفريق، وليس أحدهما أقرب إلى صوم قضاء رمضان من الآخر، فلا يقيد بقيد واحد دمنهما بل يبقى على الاختيار، إن شاء تابعه، وإن شاء فرقه، والعلم عند
الله تعالى. انتهى من (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)، مع زيادة يسيرة للإيضاح.
الفرع الثاني: اعلم أن أهل العلم اختلفوا في رقبة كفارة الظهار، هل يشترط فيها سلامتها من العيوب أو لا؟ فحكي عن داود الظاهري أنه جوز كل رقبة يقع عليها الاسم، ولو كانت معيبة بكل العيوب تمسكا بإطلاق الرقبة، في قوله تعالى: * (فتحرير رقبة) *، قال: ظاهره ولو معيبة؛ لأن الله لم يقيد الرقبة بشئ.
وذهب أكثر أهل العلم إلى اشتراط السلامة من العيوب القوية مع اختلافهم في بعض العيوب، قالوا: يشترط سلامتها من العيوب المضرة بالعمل ضررا بينا؛ لأن المقصود
215

تمليك العبد منافعه، وتمكينه من التصرف لنفسه، ولا يحصل هذا مع ما يضر بالعمل ضررا بينا، فلا يجزئ الأعمى؛ لأنه لا يمكنه العمل في أكثر الصنائع، ولا المقعد، ولا المقطوع اليدين أو الرجلين؛ لأن اليدين آلة البطش، فلا يمكنه العمل مع فقدهما، والرجلان آلة المشي فلا يتهيأ له كثير من العمل مع تلفهما، والشلل كالقطع في هذا.
قالوا: ولا يجوز المجنون جنونا مطبقا؛ لأنه وجد فيه المعنيان: ذهاب منفعة الجنس، وحصول الضرر بالعمل، قاله في (المغني). ثم قال: وبهذا كله قال الشافعي، ومالك، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، انتهى محل الغرض منه.
وبه تعلم إجماع الأئمة الأربعة على اشتراط السلامة من مثل العيوب المذكورة.
وقال ابن قدامة في (المغني): ولا يجزئ مقطوع اليد أو الرجل، ولا أشلهما، ولا مقطوع إبهام اليد أو سبابتها أو الوسطى؛ لأن نفع اليد يذهب بذهاب هؤلاء، ولا يجزئ مقطوع الخنصر والبنصر من يد واحدة؛ لأن نفع اليدين يزول أكثره بذلك. وإن قطعت كل واحدة من يد جاز؛ لأن نفع الكفين باق وقطع أنملة الإبهام كقطع جميعها، فإن نفعها يذهب بذلك لكونها أنملتين، وإن كان من غير الإبهام لم يمنع؛ لأن منفعتها لا تذهب، فإنها تصير كالأصابع القصار، حتى لو كانت أصابعه كلها غير الإبهام قد قطعت من كل واحد منها أنملة لم يمنع، وإن قطع من الإصبع إنملتان فهو كقطعها؛ لأنه يذهب بمنفعتها، وهذا جميعه مذهب الشافعي، أي: وأحمد.
وقال أبو حنيفة: يجزئ مقطوع إحدى الرجلين أو إحدى اليدين، ولو قطعت رجله ويده جميعا من خلاف أجزأت؛ لأن منفعة الجنس باقية، فأجزأت في الكفارة كالأعور، فأما إن قطعتا من وفاق، أي: من جانب واحد لم يجز؛ لأن منفعة المشي تذهب، ولنا أن هذا يؤثر في العمل، ويضر ضررا بينا، فوجب أن يمنع إجزاءها كما لو قطعتا من وفاق. ويخالف العور، فإنه لا يضر ضررا بينا، والاعتبار بالضرر أولى من الاعتبار بمنفعة الجنس، فإنه لم ذهب شمه أو قطعت أذناه معا أجزأ مع ذهاب منفعة الجنس. ولا يجزئ الأعرج إذا كان عرجا كثيرا فاحشا؛ لأنه يضر بالعمل، فهو كقطع الرجل، إلى أن قال: ويجزىء الأعور في قولهم جميعا.
وقال أبو بكر: فيه قول آخر: إنه لا يجزئ؛ لأنه نقص يمنع التضحية والإجزاء في الهدي، فأشبه العمى، والصحيح ما ذكرناه. فإن المقصود تكميل الأحكام وتمليك العبد
216

المنافع، والعور لا يمنع ذلك؛ ولأنه لا يضر بالعمل فأشبه قطع إحدى الأذنين، ويفارق العمى فإنه يضر بالعمل ضررا بينا ويمنع كثيرا من الصنائع، ويذهب بمنفعة الجنس ويفارق قطع إحدى اليدين والرجلين، فإنه لا يعمل بإحداهما ما يعمل بهما، والأعور يدرك بإحدى العينين ما يدرك بهما.
وأما الأضحية والهدي، فإنه لا يمنع منهما مجرد العور، وإنما يمنع انخساف العين وذهاب العضو المستطاب؛ ولأن الأضحية يمنع فيها قطع الأذن والقرن، والعتق لا يمنع فيه إلا ما يضر بالعمل، ويجزىء المقطوع الأذنين. وبذلك قال أبو حنيفة والشافعي.
وقال مالك وزفر: لا يجزئ؛ لأنهما عضوان فيها الدية، فأشبها اليدين. ولنا أن قطعهما لا يضر بالعمل الضرر البين، فلم يمنع كنقص السمع، بخلاف اليدين، ويجزىء مقطوع الأنف لذلك، ويجزىء الأصم إذا فهم بالإشارة، والأخرس إذا فهمت إشارته وفهم الإشارة، وهذا مذهب الشافعي وأبي ثور.
وقال أصحاب الرأي: لا يجزئ؛ لأن منفعة الجنس ذاهبة، فأشبه زائل العقل، وهذا المنصوص عليه عن أحمد؛ لأن الخرس نقص كثير يمنع كثيرا من الأحكام، مثل القضاء والشهادة. أكثر الناس لا يفهم إشارته، فيتضرر في ترك استعماله، وإن اجتمع الخرس والصمم. فقال القاضي: لا يجزئ، وهو قول بعض الشافعية لاجتماع النقصين فيه وذهاب منفعتي الجنس، ووجه الإجزاء أن الإشارة تقوم مقام الكلام في الإفهام، ويثبت في حقه أكثر الأحكام فيجزىء؛ لأنه لا يضر بالعمل ولا بغيره.
وأما المريض، فإن كان مرجو البرء كالحمى وما أشبهها أجزأ في الكفارة، وإن كان غير مرجو الزوال لم يجز.
وأما نضو الخلق يعني النحيف المهزول خلقة، فإن كان يتمكن من العمل أجزأ، وإلا فلا. ويجزىء الأحمق وهو الذي يصنع الأشياء لغير فائدة، ويرى الخطأ صوابا. وكذلك يجزئ من يخنق في بعض الأحيان، والخصي والمجبوب، والرتقاء، والكبير الذي يقدر على العمل؛ لأن ما لا يضر بالعمل لا يمنع تمليك العبد منافعه، وتكميل أحكامه، فيحصل الإجزاء به، كالسالم من العيوب، انتهى من (المغني)، مع حذف يسير لا يضر بالمعنى.
ثم قال صاحب (المغني): ويجزىء عتق الجاني والمرهون وعتق المفلس عبده، إذا
217

قلنا بصحة عتقهم، وعتقد المدبر والخصي وولد الزنا؛ لكمال العتق فيهم. ولا يجزئ عتق المغصوب، لأنه لا يقدر على تمكينه من منافعه، ولا غائب غيبة منقطعة لا يعلم خبره؛ لأنه لا تعلم حياته فلا تعلم صحة عتقه، وإن لم ينقطع خبره أجزأ عتقه؛ لأنه عتق صحيح.
ولا يجزئ عتق الحمل؛ لأنه لم تثبت له أحكام الدنيا، ولذلك لم تجب فطرته، ولا يتيقن أيضا وجوده وحياته. ولا عتق أم الولد؛ لأن عتقها مستحق بسبب غير الكفارة والملك فيها غير كامل، ولهذا لم يجز بيعها.
وقال طاوس والبتي: يجزئ عتقها؛ لأنه عتق صحيح. ولا يجزئ عتق مكاتب أدى من كتابته شيئا، انتهى من كلام صاحب (المغني). وقد ذكر فيه غالب ما في مذاهب الأئمة الأربعة في المسألة.
ومعلوم أن مذهب مالك رحمه الله: اشترط الإيمان في رقبة الظهار، واشتراط سلامتها من العيوب المضرة، فلا يجوز عنده عتق جنين في بطن أمه، وإن وضعته عتق من غير إجزاء عن الكفارة.
ولا يجزئ عنده مقطوع اليد الواحدة، أو الإصبعين، أو الأصابع، أو الإبهام، أو الأذنين، أو أشل، أو أجذم، أو أبرص، أو أصم، أو مجنون وإن أفاق أحيانا، ولا أخرس، ولا أعمى، ولا مقعد، ولا مفلوج، ولا يابس الشق، ولا غائب منقطع خبره، ولا المريض مرضا يشرف به على الموت، ولا الهرم هرما شديدا، ولا الأعرج عرجا شديدا، ولا رقيق مشترى بشرط العتق لما يوضع من ثمنه في مقابلة شرط العتق، ولا من يعتق عليه بالملك كأبيه، ولا عبد، قال: إن اشتريته فهو حر، فلو قال: إن اشتريته فهو حر عن ظهاري، ففيه لهم تأويلان بالإجزاء وعدمه.
ولا يجزئ عنده المدبر، ولا المكاتب، ولو أعتق شركا له في عبد، ثم قوم عليه نصيب شريكه لم يجزه عن ظهاره عنده؛ لأن عتق نصيب الشريك وجب عليه بحكم سراية المعتق، وكذلك لو أعتق نصفه عن ظهاره، ثم بعد ذلك اشترى نصفه الآخر فأعتقه تكميلا لرقبة الظهار، لم يجزه على ظاهر المدونة لتبعيض العتق إن كانت معسرا وقت عتق النصف الأول،
218

ولأن عتق النصف الباقي يلزمه بالحكم، إن كان موسرا وقت عتق النصف الأول، ولو أعتق ثلاث رقاب عن أربع زوجات ظاهر منهن لم يجزه من ذلك شئ؛ لأنه لم تتعين رقبة كاملة عن واحدة منهن.
ويجزىء عند المالكية عتق المغصوب والمريض مرضا خفيفا، والأعرج عرجا خفيفا، ولا يضر عندهم قطع أنملة واحدة أو أذن واحدة، ويجزىء عندهم الأعور، ويكره عندهم الخصي، ويجوز عندهم عتق المرهون والجاني إن افتديا، انتهى.
ومعلوم أن أبا حنيفة لا يشترط الإيمان في كفارة الظهار، كما تقدم. ولم يجزئ عنده الأعمى ولا مقطوع اليدين معا أو الرجلين معا، ولا مقطوع إبهامي اليدين، ولا الأخرس، ولا المجنون، ولا أم الولد، ولا المدبر، ولا المكاتب إن أدى شيئا من كتابته، فإن لم يؤد منها شيئا أجزأ عنده، وكذلك يجزئ عنده قريبه الذي يعتق عليه بالملك إن نوى بشرائه إعتاقه عن الكفارة، وكذلك لو أعتق نصف عبده عن الكفارة، ثم حرر باقية عنها أجزأه ذلك، ويجزىء عنده الأصم، والأعور، ومقطوع إحدى الرجلين، وإحدى اليدين من خلاف، ويجزىء عنده الخصي، والمجبوب، ومقطوع الأذنين، اه.
وقد قدمنا أكثر العيوب المانعة من الإجزاء، وغير المانعة عند الشافعي في كلام صاحب (المغني) ناقلا عنه، وكذلك ما يمنع وما لا يمنع عند أحمد، فاكتفينا بذلك خشية كثرة الإطالة.
الفرع الثالث: اعلم أنه قد دل الكتاب والسنة والإجماع، على أن الصوم لا يجزئ في الظهار إلا عند العجز عن تحرير الرقبة، فإن عجز عن ذلك انتقل إلى الصوم، وقد صرح تعالى بأنه صيام شهرين متتابعين، ولا خلاف في ذلك.
الفرع الرابع: اختلف العلماء في تحقيق مناط العجز عن الرقبة الموجب للانتقال إلى الصوم، وقد أجمعوا على أنه إن قدر على عتق رقبة فاضلة عن حاجته أنه يجب عليه العتق، ولا يجوز له الانتقال إلى الصوم، وإن كانت له رقبة يحتاج إليها لكونه زمنا أو هرما أو مريضا، أو نحو ذلك من الأسباب التي تؤدي إلى عجزه عن خدمة نفسه.
قال بعضهم: وككونه ممن لا يخدم نفسه عادة، فقال بعضهم: لا يلزمه الإعتاق، ويجوز له الانتقال إلى الصوم نظرا لحاجته إلى الرقبة الموجودة عنده.
قال في (المغني): وبهذا قال الشافعي، أي: وأحمد. وقال أبو حنيفة، ومالك،
219

والأوزاعي: متى وجد رقبة لزمه إعتاقها ولم يجز له الانتقال إلى الصيام، سواء كان محتاجا إليها أو لم يكن؛ لأن الله تعالى شرط في الانتقال إلى الصيام ألا يجد رقبة، بقوله: * (فمن لم يجد) *، وهذا واجد وإن وجد ثمنها وهو محتاج إليها، لم يلزمه شراؤها، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: يلزمه؛ لأن وجدان ثمنها كوجدانها. ولنا أن ما استغرقته حاجة الإنسان، فهو كالمعدوم في جواز الانتقال إلى الصيام، كمن وجد ماء يحتاج إليه للعطش يجوز له الانتقال إلى التيمم، انتهى محل الغرض منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الأظهر عندي في هذه المسألة: أن الرقبة إن كان يحتاج إليها حاجة قوية؛ ككونه زمنا أو هرما لا يستغنى عن خدمتها، أو كان عنده مال يمكن شراء الرقبة منه، لكنه محتاج إليه في معيشته الضرورية أنه يجوز له الانتقال إلى الصوم، وتعتبر الرقبة كالمعدومة، وأن المدار في ذلك على ما يمنعه استحقاق الزكاة من اليسار، فإن كانت الرقبة فاضلة عن ذلك، لزم إعتاقها، وإلا فلا. والأدلة العامة المقتضية عدم الحرج في الدين تدل على ذلك؛ كقوله تعالى: * (وما جعل عليكم فى الدين من حرج) *، ونحو ذلك. والعلم عند الله تعالى.
الفرع الخامس: إن كان المظاهر حين وجوب الكفارة غنيا إلا أن ماله غائب، فالأظهر عندي أنه إن كان مرجو الحضور قريبا، لم يجز الانتقال إلى الصوم؛ لأن ذلك بمنزلة الانتظار لشراء الرقبة. وإن كان بعيدا جاز الانتقال إلى الصوم؛ لأن المسيس حرام عليه قبل التكفير، ومنعه من التمتع بزوجته زمنا طويلا إضرار بكل من الزوجين، وفي الحديث: (لا ضرر ولا ضرار)، خلافا لبعض أهل العلم في ذلك.
الفرع السادس: إن كان عنده مال يشتري به الرقبة، ولكنه لم يجد رقبة يشتريها فله الانتقال إلى الصيام؛ لدخوله في قوله تعالى: * (فمن لم يجد فصيام شهرين) *، وهذا واضح. وأما إن وجد رقبة تباع بزيادة على ثمن مثلها، ولم يجد رقبة بثمن مثلها، فلأهل العلم في ذلك خلاف: هل يلزمه شراؤها بأكثر من مثل المثل، أو لا يلزمه؟ وأظهر أقوالهم في ذلك عندي: هو أن الزيادة المذكورة على ثمن المثل إن كانت تجحف بماله حتى يصير بها من مصارف الزكاة، فله الانتقال إلى الصوم، وإلا فلا، والعلم عند الله تعالى.
الفرع السابع: أجمع أهل العلم على أن صوم شهري الظهار يجب تتابعه، أي
220

: موالاة صيام أيامه من غير فضل بينها، ولا خلاف بينهم في أن من قطع تتابعه لغير عذر، أن عليه استئناف الشهرين من جديد، وهل يفتقر التتابع إلى نية؟ فيه لأهل العلم ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يفتقر لنية؛ لأنه تتابع واجب في العبادة، فلم يفتقر لنية تخصه، كالمتابعة بين ركعات الصلاة.
والثاني: يفتقر لنية التتابع وتجدد النية كل ليلة؛ لأن ضم العبادة إلى عبادة أخرى إذا كان شرطا وجبت فيه النية، كالجمع بين الصلاتين.
والثالث: تكفي نية التتابع في الليلة الأولى عن تجديد النية كل ليلة، وهذا أقربها؛ لأنا لا نسلم أن صوم كل يوم عبادة مستقلة، بل الأظهر أن صوم الشهرين جميعا عبادة واحدة؛ لأنه كفارة واحدة، فإذا نوى هذا الصوم أول ليلة فاللازم أن ينويه على وجهه المنصوص في الكتاب والسنة وهو شهران متتابعان، وهذا يكفيه عن تجديد النية كل ليلة، وهذا ظاهر مذهب مالك. ومذهب أحمد عدم الاحتياج إلى نية التتابع مطلقا. وللشافعية وجهان، أحدهما: أحمد، والثاني: يفتقر إلى النية كل ليلة.
الفرع الثامن: اختلف أهل العلم فيما إذا كان قطع تتابع الصوم لعذر كمرض ونحوه، فقال بعض أهل العلم: إن كان قطع التتابع لعذر، فإنه لا يقطع حكم التتابع، وله أن يبني على ما صام قبل حصول العذر، وهذا مذهب أحمد.
قال في (المغني): وروي ذلك عن ابن عباس، وبه قال ابن المسيب، والحسن، وعطاء، والشعبي، وطاوس، ومجاهد، ومالك، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وابن المنذر، والشافعي في القديم. وقال في الجديد: ينقطع التتابع، وهذا قول سعيد بن جبير، والنخعي، والحكم، والثوري. وأصحاب الرأي قالوا: لأنه أفطر بفعله فلزمه الاستئناف.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الأظهر عندي في هذا الفرع أن قطع تتابع صوم كفارة الظهار بلإفطار في أثناء الشهرين إن كان لسبب لا قدرة له على التحرز عنه، كالمرض الشديد الذي لا يقدر معه على الصوم أنه يعذر في ذلك ولا ينقطع حكم التتابع؛ لأنه لا قدرة له على التحرز عن ذلك، والله جل وعلا يقول: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) *، ويقول: * (فاتقوا الله ما استطعتم) *، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم)، وإن كان يمكنه التحرز عن الإفطار الذي قطع به
221

التتابع كالإفطار للسفر في أثناء صوم الكفارة، وكما لو كان ابتداء صومه الكفارة من شعبان، لأن شهره الثاني رمضان، وهو لا يمكن صومه عن الكفارة، وكما لو ابتدأ الصوم في مدة يدخل فيها يوم النحر أو يوم الفطر أو أيام التشريق، فإن التتابع ينقطع بذلك؛ لأنه قادر على التحرز عن قطعه بما ذكر لقدرته على تأخير السفر عن الصوم كعكسه، ولقدرته أيضا على الصوم في مدة لا يتخللها رمضان، ولا العيدان، ولا أيام التشريق، كما لا يخفى. وإذا قطع التتابع بإفطار هو قادر على التحرز عنه بما ذكر، فكونه يستأنف صوم الشهرين من جديد ظاهر؛ لقوله تعالى: * (فصيام شهرين متتابعين) *، وقد ترك التتابع مع قدرته عليه، هذا هو الأظهر عندنا، والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
الأظهر: أنه إن وجب على النساء صوم يجب تتابعه لسبب اقتضى ذلك أن حكمهن في ذلك كما ذكرنا، فيعذرن في كل ما لا قدرة لهن على التحرز عنه كالحيض، والمرض دون غيره كالإفطار للسفر والنفاس؛ لأن النفاس يمكن التحرز عنه بالصوم قبله أو بعده، أما الحيض فلا يمكن التحرز عنه في صوم شهرين أو شهر، لأن المرأة تحيض عادة في كل شهر، والله تعالى أعلم.
الفرع التاسع: في حكم ما لو جامع المظاهر منها أو غيرها ليلا، في أثناء صيام شهري الكفارة، وفي هذا الفرع تفصيل لأهل العلم.
اعلم أنه إن جامع في نهار صوم الكفارة عمدا نقطع تتابع صومه إجماعا، ولزمه استئناف الشهرين من جديد، وسواء في ذلك كانت الموطوءة هي المظاهر منها أو غيرها وهذا لا نزاع فيه، وكذلك لو أكل أو شرب عمدا في نهار الصوم المذكور، وأما إن كان جماعه ليلا في زمن صوم الكفارة، فإن كانت المرأة التي جامعها زوجة أخرى غير المظاهر منها، فإن ذلك لا يقطع التتابع؛ لأن وطء غير المظاهر منها ليلا زمن الصوم مباح له شرعا، ولا يخل بتتابع الصوم في أيام الشهرين كما ترى، وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه.
وقال في (المغني): وليس في هذا اختلاف نعلمه، وأما إن كان التي وطئها ليلا زمن الصوم هي الزوجة المظاهر منها، فقد اختلف في ذلك أهل العلم، فقال بعضهم: ينقطع التتابع بذلك ويلزمه استئناف الشهرين. وبه قال أبو حنيفة، ومحمد بن الحسن، وهو مذهب مالك، وأحمد في المشهور عنهما.
222

وقال ابن قدامة في (المغني)، في شرحه لقول الخرقي: وإن أصابها في ليال الصوم أفسد ما مضى من صيامه وابتدأ الشهرين، ما نصه: وبهذا قال مالك، والثوري، وأبو عبيد، وأصحاب الرأي؛ لأن الله تعالى قال: * (فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا) *، فأمر بهما خاليين عن وطء، ولم يأت بهما على ما أمر، فلم
يجزئه، كما لو وطئ نهارا ولأنه تحريم للوطء لا يختص بالنهار، فاستوى فيه الليل والنهار، كالاعتكاف.
وروى الأثرم عن أحمد: أن التتابع لا ينقطع بهذا ويبني، وهو مذهب الشافعي، وأبي ثور، وابن المنذر؛ لأنه وطء لا يبطل الصوم، فلا يوجب الاستئناف كوطء غيرها، ولأن التتابع في الصيام عبارة عن اتباع صوم يوم للذي قبله من غير فارق، وهذا متحقق، وإن وطء ليلا، وارتكاب النهي في الوطء قبل إتمامه إذا لم يخل بالتتابع المشترط لا يمنع صحته وإجزاءه، كما لو وطئ قبل الشهرين، أو وطئ ليلة أول الشهرين، وأصبح صائما، والإتيان بالصوم قبل التماس في حق هذا لا سبيل إليه، سواء بنى أو استأنف، انتهى محل الغرض من كلام صاحب (المغني)، وممن قال بهذا القول: أبو يوسف.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: هذا القول الأخير الذي هو عدم انقطاع التتابع بجماعه للمظاهر منها في ليال الصوم، هو الأظهر عندي؛ لأن الصوم فيه مطابق لمنطوق الآية في التتابع، لأن الله تعالى قال: * (فصيام شهرين متتابعين) *، وهذا قد صام شهرين متتابعين، ولم يفصل بين يومين منهما بفاصل، فالتتابع المنصوص عليه واقع قطعا؛ كما ترى. وكون صومهما متابعين قبل المسيس واجب، بقوله تعالى: * (من قبل أن يتماسا) *، لا يظهر أنه يبطل حكم التتابع الواقع بالفعل، ومما يوضحه ما ذكرنا آنفا في كلام صاحب (المغني)، من أنه لو جامعها قبل شروعه في صوم الشهرين، ثم صامهما متتابعين بعد ذلك، فلا يبطل حكم التتابع بالوطء قبل الشروع في الصوم، ولا يقتضي قوله تعالى: * (من قبل أن يتماسا) * بطلانه، والعلم عند الله تعالى.
الفرع العاشر: اعلم أنه إن جامع المظاهر منها في نهار صوم الكفارة ناسيا، فقد اختلف أهل العلم هل يعذر بالنسيان، فلا ينقطع حكم التتابع، أو لا يعذر به ويلزمه الاستئناف؟ فقال بعضهم: لا يعذر بالنسيان، وينقطع التتابع بوطئه ناسيا وهذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، وإحدى الروايتين عند أحمد، ومن حجتهم: أن الوطء لا يعذر فيه بالنسيان. وقال بعضهم: يعذر بالنسيان، ولا ينقطع حكم التتابع بوطئه ناسيا، وهو قول
223

الشافعي، وأبي ثور، وابن المنذر. قالوا: لأنه فعل المفطر ناسيا، فأشبه ما لو أكل ناسيا، اه.
وهذا القول له وجه قوي من النظر؛ لأن الله تعالى يقول: * (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولاكن ما تعمدت قلوبكم) *، وقد قدمنا من حديث ابن عباس، وأبي هريرة في صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ: (* (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) *، قال الله تعالى: نعم قد فعلت).
الفرع الحادي عشر: إن أبيح له الفطر لعذر يقتضي ذلك، وقلنا إن فطر العذر لا يقطع حكم التتابع فوطىء غيرها نهارا لم ينقطع التتابع؛ لأن الوطء لا أثر له في قطع التتابع، لأن أصل الإفطار لسبب غيره، وإن كانت الموطوءة نهارا هي المظاهر منها جرى على حكم وطئها ليلا، وقد تكلمنا عليه قريبا، قال ذلك صاحب (المغني)، ووجهه ظاهر. وقال أيضا: وإن لمس المظاهر منها أو باشرها فيما دون الفرج على وجه يفطر به قطع التتابع لإخلاله بموالاة الصيام، وإلا فلا يقطع، والله تعالى أعلم، اه. ووجهه ظاهر أيضا.
الفرع الثاني عشر أجمع العلماء على أن المظاهر إن لم يستطع الصوم انتقل إلى الإطعام، وهو إطعام ستين مسكينا، وقد نص الله تعالى على ذلك بقوله: * (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا) *.
ومن الأسباب المؤدية إلى العجز عن الصوم الهرم وشدة الشبق، وهو شهوة الجماع التي لا يستطيع صاحبها الصبر عنه، ومما يدل على أن الهرم من الأسباب المؤدية للعجز عن الصوم، ما جاء في قصة أوس بن الصامت الذي نزلت في ظهاره من امرأته آية الظهار، ففي القصة من حديث خولة بنت مالك بن ثعلبة التي ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت، ونزل في ذلك قوله تعالى: * (قد سمع الله قول التى تجادلك فى زوجها) *، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يعتق رقبة) يعني زوجها أوسا قالت: لا يجد، قال: (يصوم شهرين متتابعين)، قالت: يا رسول اللها إنه شيخ كبير ما به من صيام، قال: (فليطعم ستين مسكينا) الحديث، ومحل الشاهد منه أنها لما قالت له: إنه شيخ كبير اقتنع صلى الله عليه وسلم بأن ذلك عذر في الانتقال عن الصوم إلى الإطعام، فدل على أنه سبب من أسباب العجز عنه، والحديث وإن تكلم فيه، فإنه لا يقل بشواهده عن درجة الاحتجاج.
224

وأما الدليل على أن شدة الشبق عذر، كذلك هو ما جاء في حديث سلمة بن صخر الذي تكلمنا عليه سابقا في هذا المبحث، أنه قال: كنت امرءا قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري، فلما دخل رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان، فرقا من أن أصيب في ليلتي شيئا فأتتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار، الحديث. وفيه قال: (فصم شهرين متتابعين)، قال: قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل أصابني ما أصابني إلا في الصوم؟ قال: (فتصدق). ومحل الشاهد منه أنه لما قال له: (صم شهرين)، أخبره أن جماعه في زمن الظهار، إنما جاءه من عدم صبره عن الجماع؛ لأنه ظاهر من امرأته خوفا من أن تغلبه الشهوة، فيجامع في النهار، فلما ظاهر غلبته الشهوة فجامع في زمن الظهار، فاقتنع صلى الله عليه وسلم بعذره، وأباح له الانتقال إلى الإطعام، وهذا ظاهر.
وقال ابن قدامة في (المغني): بعد أن ذكر أن الهرم والشبق كلاهما من الأسباب المؤدية للعجز عن الصوم، للدليل الذي ذكرنا آنفا، وقسنا عليهما ما يشبههما في معناهما.
الفرع الثالث عشر: أظهر قولي أهل العلم عندي: أنه لا يجزئ في الإطعام أقل من إطعام ستين مسكينا وهو مذهب مالك، والشافعي. والمشهور من مذهب أحمد خلافا لأبي حنيفة القائل: بأنه لو أطعم مسكينا واحدا ستين يوما أجزأه، وهو رواية عن أحمد، وعلى هذا يكون المسكين في الآية مأولا بالمد، والمعنى: فإطعام ستين مدا، ولو دفعت لمسكين واحد في ستين يوما.
وإنما قلنا: إن القول بعدم إجزاء أقل من الستين هو الأظهر؛ لأن قوله تعالى: * (مسكينا) * تمييز لعدد هو الستون، فحمله على مسكين واحد خروج بالقرءان عن
ظاهره المتبادر منه بغير دليل يجب الرجوع إليه، وهو لا يصح، ولا يخفى أن نفع ستين مسكينا أكثر فائدة من نفع مسكين واحد في ستين يوما، لفضل الجماعة، وتضافر قلوبهم على الدعاء للمحسن إليهم بالإطعام، فيكون ذلك أقرب إلى الإجابة من دعاء واحد، وستون جمع كثير من المسلمين لا يخلو غالبا من صالح مستجاب الدعوة فرجاء الاستجابة فيهم أقوى منه في الواحد، كما لا يخفى. وعلى كل حال، فقوله تعالى في محكم كتابه: * (فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا) *، لا يخفى فيه أن قوله: * (فإطعام ستين) * مصدر مضاف إلى مفعوله، فلفظ: * (ستين) * الذي أضيف إليه المصدر هو عين المفعول به الواقع عليه الإطعام، وهذا العدد الذي هو المفعول به للإطعام، مبين بالتمييز الذي هو قوله تعالى:
225

* (مسكينا) *، وبذلك يتحقق أن الإطعام في الآية واقع على نفس العدد الذي هو ستون، فالاقتصار به على واحد خروج بنص القرءان، عن ظاهره المتبادر منه بلا دليل يجب الرجوع إليه، كما ترى. وحمل المسكين في هذه الآية الكريمة على المد من أمثلة المالكية والشافعية في أصولهم لما يسمونه التأويل البعيد والتأويل الفاسد، وقد أشار إلى ذلك صاحب (مراقي السعود)، بقوله: وإنما قلنا: إن القول بعدم إجزاء أقل من الستين هو الأظهر؛ لأن قوله تعالى: * (مسكينا) * تمييز لعدد هو الستون، فحمله على مسكين واحد خروج بالقرءان عن ظاهره المتبادر منه بغير دليل يجب الرجوع إليه، وهو لا يصح، ولا يخفى أن نفع ستين مسكينا أكثر فائدة من نفع مسكين واحد في ستين يوما، لفضل الجماعة، وتضافر قلوبهم على الدعاء للمحسن إليهم بالإطعام، فيكون ذلك أقرب إلى الإجابة من دعاء واحد، وستون جمع كثير من المسلمين لا يخلو غالبا من صالح مستجاب الدعوة فرجاء الاستجابة فيهم أقوى منه في الواحد، كما لا يخفى. وعلى كل حال، فقوله تعالى في محكم كتابه: * (فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا) *، لا يخفى فيه أن قوله: * (فإطعام ستين) * مصدر مضاف إلى مفعوله، فلفظ: * (ستين) * الذي أضيف إليه المصدر هو عين المفعول به الواقع عليه الإطعام، وهذا العدد الذي هو المفعول به للإطعام، مبين بالتمييز الذي هو قوله تعالى: * (مسكينا) *، وبذلك يتحقق أن الإطعام في الآية واقع على نفس العدد الذي هو ستون، فالاقتصار به على واحد خروج بنص القرءان، عن ظاهره المتبادر منه بلا دليل يجب الرجوع إليه، كما ترى. وحمل المسكين في هذه الآية الكريمة على المد من أمثلة المالكية والشافعية في أصولهم لما يسمونه التأويل البعيد والتأويل الفاسد، وقد أشار إلى ذلك صاحب (مراقي السعود)، بقوله:
* فجعل مسكين بمعنى المد
* عليه لائح سمات البعد
*
الفرع الرابع عشر: في كلام أهل العلم في القدر الذي يعطاه كل مسكين من الطعام، اعلم أن العلماء اختلفوا في ذلك، فمذهب مالك أنه يعطي كل مسكين من البر الذي هو القمح مدا وثلثي مد، وإن كان إطعامه من غير البر، كالتمر والشعير، لزمه منه ما يقابل المد والثلثين من البر. قال خليل المالكي في مختصره في إطعام كفارة الظهار: لكل مد وثلثان برا، وإن اقتاتوا تمرا أو مخرجا في الفطر فعدله، انتهى محل الغرض منه.
وقال شارحه المواق ابن يونس: ينبغي أن يكون الشبع مدين إلا ثلثا بمد النبي صلى الله عليه وسلم، وهي عيار مد هشام، فمن أخرج به أجزأه، قاله مالك. قال ابن القاسم: فإن كان عيش بلدهم تمرا أو شعيرا أطعم منه المظاهر عدل مد هشام من البر، انتهى محل الغرض منه. ومذهب أبي حنيفة: أنه يعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا كاملا من تمر أو شعير. ومذهب الشافعي: أنه يعطي كل مسكين مدا مطلقا. ومعلوم: أن المد النبوي ربع الصاع، قال في (المغني): وقال أبو هريرة: ويطعم مدا من أي الأنواع كان، وبهذا قال عطاء والأوزاعي والشافعي، اه. ومذهب أحمد: أنه يعطي كل مسكين مدا من بر أو نصف صاع من تمر أو شعير، اه.
وإذا عرفت مذاهب الأئمة في هذا الفرع، فاعلم أنا أردنا هنا أن نذكر كلام ابن قدامة في (المغني) في أدلتهم وأقوالهم، قال: وجملة الأمر أن قدر الطعام في الكفارات كلها مد من بر لكل مسكين، ونصف صاع من تمر أو شعير، وممن قال مد بر: زيد بن ثابت، وابن عباس، وابن عمر، حكاه عنهم الإمام أحمد، ورواه عنهم الأثرم، وعن عطاء وسليمان بن موسى. وقال سليمان بن يسار: أدركت الناس إذا أعطوا في كفارة اليمين أعطوا مدا من حنطة بالمد الأصغر مد النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أبو هريرة: يطعم مدا من أي الأنواع كان، وبهذا قال الأوزاعي، وعطاء والشافعي، لما روى أبو داود بإسناده عن عطاء، عن أوس أخي
226

عبادة بن الصامت: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه يعني المظاهر خمسة عشر صاعا من شعير إطعام ستين مسكينا.
وروى الأثرم بإسناده، عن أبي هريرة في حديث المجامع في رمضان: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتي بعرق فيه خمسة عشر صاعا، فقال: (خذه وتصدق به). وإذا ثبت في المجامع في رمضان بالخبر ثبت في المظاهر بالقياس عليه، ولأنه إطعام واجب، فلم يختلف باختلاف أنواع المخرج، كالفطرة وفدية الأذى. وقال مالك: لكل مسكين مدان من جميع الأنواع، وممن قال مدان من قمح: مجاهد، وعكرمة، والشعبي، والنخعي؛ لأنها كفارة تشتمل على صيام وإطعام، فكان لكل مسكين نصف صاع كفدية الأذى. وقال الثوري وأصحاب الرأي: من القمح مدان، ومن التمر والشعير صاع لكل مسكين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سلمة بن صخر رضي الله عنه: (فأطعم وسقا من تمر).
رواه الإمام أحمد في المسند، وأبو داود وغيرهما، وروى الخلال بإسناده، عن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن خويلة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فليطعم ستين مسكينا وسقا من تمر). وفي رواية أبي داود: والعرق ستون صاعا. وروى ابن ماجة بإسناده عن ابن عباس، قال: كفر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وأمر الناس (فمن لم يجد فنصف صاع من بر).
وروى الأثرم بإسناده عن عمر رضي الله عنه، قال: أطعم عني صاعا من تمر أو شعير أو نصف صاع من بر، ولأنه إطعام للمساكين، فكان صاعا من تمر أو شعير، أو نصف صاع من بر، كصدقة الفطر.
ولنا ما روى الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب، عن أبي يزيد المدني، قال: جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق شعير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمظاهر: (أطعم هذا فإن مدي شعير مكان مد بر)، وهذا نص ويدل على أنه مد بر أنه قول زيد، وابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة، ولم نعرف لهم في الصحابة مخالفا، فكان إجماعا.
ويدل على أنه نصف صاع من التمر والشعير، ما روى عطاء بن يسار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخولة امرأة أوس بن الصامت: (اذهبي إلى فلان الأنصاري، فإن عنده شطر وسق من تمر أخبرني أنه يريد أن يتصدق به، فلتأخذيه فليتصدق به على ستين مسكينا).
227

وفي حديث أوس بن الصامت: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إني سأعينه بعرق من تمر)، قلت: يا رسول اللها فإني سأعينه بعرق آخر، قال: (قد أحسنت، اذهبي فأطعمي بهما عنه ستين مسكينا وارجعي إلى ابن عمك).
وروى أبو داود بإسناده، عن أبي سلمة بن عبد الرحمان، أنه قال: العرق: زنبيل يأخذ خمسة عشر صاعا، فعرقان يكونان ثلاثين صاعا لكل مسكين نصف صاع، ولأنها كفارة تشتمل على صيام وإطعام، فكان لكل مسكين نصف صاع من التمر والشعير، كفدية الأذى.
فأما رواية أبي داود: أن العرق ستون صاعا فقد ضعفها، وقال: غيرها أصح منها، وفي الحديث ما يدل على الضعف؛ لأن ذلك في سياق قوله: (إني سأعينه بعرق)، فقالت امرأته: إني سأعينه بعرق آخر، (فأطعمي بهما عنه ستين مسكينا)، فلو كان العرق ستين صاعا لكانت الكفارة مائة وعشرين صاعا ولا قائل به. وأما حديث المجامع الذي أعطاه خمسة عشر صاعا، فقال: (تصدق به)، فيحتمل أنه اقتصر عليه إذ لم يجد سواه، ولذلك لما أخبره بحاجته إليه أمره بأكله.
وفي الحديث المتفق عليه قريب من عشرين صاعا، وليس ذلك مذهبا لأحد، فيدل على أنه اقتصر على البعض الذي لم يجد سواه، وحديث أوس أخي عبادة بن الصامت مرسل يرويه عنه عطاء، ولم يدركه على أنه حجة لنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه عرقا، وأعانته امرأته بآخر، فصارا جميعا ثلاثين صاعا، وسائر الأخبار يجمع بينها وبين أخبارنا، بحملها على الجواز، وحمل أخبارنا على الإجزاء. وقد عضد هذا أن ابن عباس راوي بعضها، ومذهبه: أن المد من البر يجزئ. وكذلك أبو هريره، وسائر ما ذكرنا من الأخبار مع الإجماع الذي نقله سليمان بن يسار، والله أعلم. انتهى بطوله من (المغني) لابن قدامة، وقد جمع فيه أقوال أهل العلم وأدلتهم، وما نقل عن مالك في هذا المبحث أصح منه عنه ما ذكرناه قبله في هذا المبحث.
وقال الشوكاني في (نيل الأوطار)، في رواية: والعرق ستون صاعا، هذه الرواية تفرد بها معمر بن عبد الله بن حنظلة. قال الذهبي: لا يعرف، ووثقه ابن حبان، وفيها أيضا محمد بن إسحاق، وقد عنعن. والمشهور عرفا أن العرق يسع خمس عشر صاعا، كما روى ذلك الترمذي بإسناد صحيح من حديث سلمة نفسه، اه منه.
228

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: قد رأيت أقوال أهل العلم في قدر ما يعطى المسكين من إطعام كفارة الظهار واختلافها، وأدلتهم واختلافها.
وأحوط أقوالهم في ذلك قول أبي حنيفة ومن وافقه؛ لأنه أحوطها في الخروج من عهدة الكفارة، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الخامس عشر: في كيفية الإطعام وجنس الطعام ومستحقه. أما مستحقه، فقد نص الله تعالى على أنه المسكين في قوله: * (فإطعام ستين مسكينا) *، والمقرر عند أهل العلم أن المسكين إن ذكر وحده شمل الفقير، كعكسه.
وأما كيفيته: فظاهر النصوص أنه يملك كل مسكين قدر ما يجب له من الطعام، وهو مذهب مالك، والشافعي. والرواية المشهورة عن أحمد، وعلى هذا القول لو غدى المساكين، وعشاهم بالقدر الواجب في الكفارة، لم يجزئه حتى يملكهم إياه.
وأظهر القولين عندي: أنه إن غدى كل مسكين وعشاه، ولم يكن ذلك الغداء والعشاء أقل من القدر الواجب له، أنه يجزئه؛ لأنه داخل في معنى قوله: * (فإطعام ستين مسكينا) *، وهذا مروي عن أبي حنيفة، والنخعي، وهو رواية عن أحمد، وقصة إطعام أنس لما كبر، وعجز عن الصوم عن فدية الصيام مشهورة. وأما جنس الطعام الذي يدفعه للمساكين، فقد تقدم في الأحاديث ذكر البر والتمر والشعير، ولا ينبغي أن يختلف في هذه الثلاثة.
ومعلوم أن أهل العلم اختلفوا في طعام كفارة الظهار، فقال بعضهم: المجزىء في ذلك هو ما بجزىء في صدقة الفطر، سواء كان هو قوت المكفر أو لا؟ ولا يجزئه غير ذلك، ولو كان قوتا له.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر أقوال أهل العلم عندي: أن جميع الحبوب التي هي قوت بلد المظاهر يجزئه الإخراج منها، لأنها هي طعام بلده، فيصدق على من أطعم منها المساكين، أنه أطعم ستين مسكينا، فيدخل ذلك في قوله تعالى: * (فإطعام ستين مسكينا) *، ويؤيد ذلك أن القرءان أشار إلى اعتبار أوسط قوت أهله في كفارة اليمين، في قوله تعالى: * (فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم) *، وهذا مذهب الشافعي، واختيار أبي الخطاب من الحنابلة.
229

الفرع السادس عشر: اعلم أن أكثر أهل العلم على أن الإطعام لا يجب فيه التتابع؛ لأن الله تعالى أطلقه عن قيد التتابع، ولأن أكثر أهل الأصول، على أن المطلق لا يحمل على المقيد إن اتحد سببهما، واختلف حكمهما؛ كما في هذه المسألة. ولا سيما على القول الأصح في حمل المطلق على المقيد أنه من قبيل القياس، لامتناع قياس فرع على أصل مع اختلافهما في الحكم، كما هو معروف في محله.
الفرع السابع عشر: اعلم أن أهل العلم اختلفوا فيما إذا جامع المظاهر زوجته التي ظاهر منها في أثناء الإطعام، هل يلزمه إعادة ما مضى من الإطعام، لبطلانه بالجماع
قبل إتمام الإطعام، أو لا يلزمه ذلك؟ فقال بعض أهل العلم: لا يلزمه ذلك؛ لأن جماعه في أثناء ما لا يشترط فيه التتابع، فلم يوجب الاستئناف، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد. وأما مذهب مالك: فهو أنه يستأنف الإطعام لأنه جامع في أثنار كفارة الظهار، فوجب الاستئناف كالصيام، والأول أظهر؛ لأن الواقع من الإطعام قبل جماعه يحتاج بطلانه وإلغاؤه إلى دليل يجب الرجوع إليه وليس موجودا، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثامن عشر: إذا قالت المرأة لزوجها: أنت علي كظهر أبي، وقالت: إن تزوجت فلانا فهو علي كظهر أبي، فهل يكون ذلك ظهارا منها، أو لا؟ فقال أكثر أهل العلم: لا يكون ظهارا، وهو قول الأئمة الأربعة وأصحابهم، وإسحاق، وأبو ثور وغيرهم. وقال بعض أهل العلم: تكون مظاهرة، وبه قال الزهري، والأوزاعي. وروي عن الحسن والنخعي، إلا أن النخعي قال: إذا قالت ذلك بعدما تزوج، فليس بشئ، اه. والتحقيق أن المرأة لا تكون مظاهرة؛ لأن الله جل وعلا لم يجعل لها شيئا من الأسباب المؤدية لتحريم زوجها عليها، كما لا يخفى.
تنبيه
اعلم أن الجمهور القائلين: إن المرأة لا تكون مظاهرة، اختلفوا فيما يلزمها إذا قالت ذلك، إلى ثلاثة مذاهب:
الأول: أن عليها كفارة ظهار، وإن كانت غير مظاهرة.
والثاني: أن عليها كفارة يمين.
والثالث: لا شئ عليها.
230

واحتج من قال بأن عليها كفارة ظهار، وهو رواية عن أحمد: بأنها قالت منكرا من القول وزورا، فلزمها أن تكفر عنه كالرجل، وبما روى الأثرم بإسناده عن إبراهيم، عن عائشة بنت طلحة، قالت: إن تزوجت مصعب بن الزبير فهو علي كظهر أبي، فسألت أهل المدينة، فرأوا أن عليها الكفارة. وبما روى علي بن مسهر عن الشيباني، قال: كنت جالسا في المسجد، أنا وعبد الله بن معقل المزني، فجاء رجل حتى جلس إلينا، فسألته: من أنت؟ فقال: أنا مولى عائشة بنت طلحة التي أعتقتني عن ظهارها، خطبها مصعب بن الزبير، فقالت: هو علي كظهر أبي إن تزوجته، ثم رغبت فيه، فاستفتت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يومئذ كثير فأمروها أن تعتق رقبة، وتتزوجه، فأعتقتني، وتزوجته. وروى سعيد هذين الأثرين مختصرين، اه من (المغني). وانظر إسناد الأثرين المذكورين.
وأما الذين قالوا: تلزمها كفارة يمين، وهو قول عطاء، فقد احتجوا بأنها حرمت على نفسها زوجها وهو حلال لها، فلزمتها كفارة اليمين اللازمة في تحريم الحلال، المذكورة في قوله تعالى: * (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) *، بعد قوله: * (لم تحرم ما أحل الله لك) *. وأما الذين قالوا: لا شئ عليها، ومنهم الشافعي، ومالك، وإسحاق، وأبو ثور وغيرهم، فقد احتجوا بأنها قالت: * (منكرا من القول وزورا) *، فلم يوجب عليها كفارة، كالسب والقذف ونحوهما من الأقوال المحرمة الكاذبة.
وأظهر أقوالهم عندنا: أن من يرى في تحريم الحلال كفارة يمين يلزمها على قوله كفارة يمين، ومن يرى أنه لا شئ فيه، فلا شئ عليها على قوله، وقد قدمنا أقوال أهل العلم في تحريم الحلال في الحج، وفي هذا المبحث، اه.
واعلم أن الذين قالوا: تجب عليها كفارة الظهار، قالوا: لا تجب عليها حتى يجامعها وهي مطاوعة له، فإن طلقها أو مات أحدهما قبل الوطء، أو أكرهها على الوطء فلا كفارة عليها؛ لأنها يمين، فلا تجب كفارتها قبل الحنث، كسائر الأيمان، وعليها تمكين زوجها من وطئها قبل التكفير؛ لأنه حق له عليها، فلا يسقط بيمينها، ولأنه ليس بظهار، انتهى من (المغني)، وهو ظاهر. ولنكتف بما ذكرنا من الأحكام المتعلقة بهذه الآية الكريمة، ومن أراد استقصاء ذلك فهو في كتب فروع المذاهب.
231

* (وأزواجه أمهاتهم) *. قال ابن كثير: أي في الحرمة والاحترام والتوقير والإكرام والإعظام، ولكن لا يجوز الخلوة بهن، ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع، اه. محل الغرض منه. وما ذكر من أن المراد بكون أزواجه صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين هو حرمتهن عليهم، كحرمة الأم، واحترامهم لهن، كاحترام الأم إلخ. واضح لا إشكال فيه. ويدل له قوله تعالى: * (يأيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوت النبى) *؛ لأن الإنسان لا يسأل أمه الحقيقية من وراء حجاب. وقوله تعالى: * (إن أمهاتهم إلا اللائى ولدنهم) *، ومعلوم أنهن رضي الله عنهن، لم يلدن جميع المؤمنين الذين هن أمهاتهم، ويفهم من قوله تعالى: * (وأزواجه أمهاتهم) *، أنه هو صلى الله عليه وسلم أب لهم. وقد روي عن أبي بن كعب، وابن عباس، أنهما قرءا: * (وأزواجه أمهاتهم) * وهو أب لهم، وهذه الأبوة أبوة دينية، وهو صلى الله عليه وسلم أرأف بأمته من الوالد الشفيق بأولاده، وقد قال جل وعلا في رأفته ورحمته بهم: * (عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم) *، وليست الأبوة أبوة نسب؛ كما بينه تعالى بقوله: * (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) *، ويدل لذلك أيضا حديث أبي هريرة عند أبي داود والنسائي وابن ماجة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ولا يستطب بيمينه)، وكان يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن الروث والرمة، فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (إنما أنا لكم بمنزلة الوالد)، يبين معنى أبوته المذكورة، كما لا يخفى.
مسألة
اعلم أن أهل العلم اختلفوا هل يقال لبنات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أخوات المؤمنين، أو لا؟ وهل يقال لإخوانهن كمعاوية، وعبد الله بن أبي أمية أخوال المؤمنين، أو لا؟ وهل يقال لهن: أمهات المؤمنات؟ قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن، وأخواتهن بالإجماع، وإن سمى بعض العلماء
بناتهن أخوات المسلمين، كما هو منصوص الشافعي رضي الله عنه في المختصر، وهو من باب إطلاق العبارة لا إثبات الحكم، وهل يقال لمعاوية وأمثاله خال المؤمنين؟ فيه قولان للعلماء رضي الله عنهم. ونص الشافعي رضي الله عنه، على أنه لا يقال ذلك. وهل يقال لهن: أمهات المؤمنات؟
232

فيدخل النساء في الجمع المذكر السالم تغليبا، فيه قولان: صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لا يقال ذلك، وهذا أصح الوجهين في مذهب الشافعي رضي الله عنه، انتهى محل الغرض من كلام ابن كثير.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الأظهر عندي في ذلك أنه لا يطلق منه إلا ما ورد النص بإطلاقه؛ لأن الإطلاق المراد به غير الظاهر المتبادر يحتاج إلى دليل صارف إليه، والعلم عند الله تعالى. * (وأولو الا رحام بعضهم أولى ببعض) *. قد قدمنا إيضاحه وكلام أهل العلم، فيما يتعلق به من الأحكام في آخر (الأنفال)، في الكلام على قوله تعالى: * (وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) *.
* (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا * ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما * ياأيها الذين ءامنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جآءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا * إذ جآءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الا بصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا * وإذ يقول المنافقون والذين فى قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا * وإذ قالت طآئفة منهم ياأهل. يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبى يقولون إن بيوتنا عورة وما هى بعورة إن يريدون إلا فرارا * ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لاتوها وما تلبثوا بهآ إلا يسيرا * ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الا دبار وكان عهد الله مسئولا * قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا * قل من ذا الذى يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا * قد يعلم الله المعوقين منكم والقآئلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا * أشحة عليكم فإذا جآء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذى يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولائك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذالك على الله يسيرا * يحسبون الا حزاب لم يذهبوا وإن يأت الا حزاب يودوا لو أنهم بادون فى الا عراب يسألون عن أنبآئكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا * لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الا خر وذكر الله كثيرا * ولما رأى المؤمنون الا حزاب قالوا هاذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما * من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا * ليجزى الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شآء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما * ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا * وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف فى قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا * وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شىء قديرا * ياأيها النبى قل لا زواجك إن كنتن تردن الحيواة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الا خرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما * يانسآء النبى من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا * ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتهآ أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما * يانسآء النبى لستن كأحد من النسآء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذى فى قلبه مرض وقلن قولا معروفا * وقرن فى بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الا ولى وأقمن الصلواة وءاتين الزكواة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا * واذكرن ما يتلى فى بيوتكن من ءايات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا * إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما * وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا * وإذ تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكى لا يكون على المؤمنين حرج فى أزواج أدعيآئهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا * ما كان على النبى من حرج فيما فرض الله له سنة الله فى الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا * الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا * ما كان محمد أبآ أحد من رجالكم ولاكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شىء عليما) * * (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه أخذ من النبيين ميثاقهم، ثم خص منهم بذلك خمسة: هم أولوا العزم من الرسل، وهم محمد صلى الله عليه وسلم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى. ولم يبين هنا الميثاق الذي أخذه عليهم، ولكنه جل وعلا بين ذلك في غير هذا الموضع؛ فبين الميثاق المأخوذ على جميع النبيين بقوله تعالى في سورة (آل عمران): * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما ءاتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه) *. وقد قدمنا الكلام على هذه الآية في سورة (مريم)، في الكلام على قصة الخضر، وقد بين جل وعلا الميثاق الذي أخذه على خصوص الخمسة الذين هم أولوا العزم من الرسل في سورة (الشورى)، في قوله تعالى: * (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا إليك وما وصينا به * إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) *.
وبما ذكرنا تعلم أن آية (آل عمران)، وآية (الشورى)، فيهما بيان لآية (الأحزاب) هذه.
233

وقوله في هذه الآية الكريمة: * (ومنك ومن نوح) * من عطف الخاص على العام، وقد تكلمنا عليه مرارا، والعلم عند الله تعالى. * (ياأيها الذين ءامنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جآءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها) *. أمر الله جل وعلا المؤمنين في هذه الآية الكريمة أن يذكروا نعمته عليهم حين جاءتهم جنود وهم
جيش الأحزاب، فأرسل جل وعلا عليهم ريحا وجنودا لم يرها المسلمون، وهذه الجنود التي لم يروها التي امتن عليهم بها هنا في سورة (الأحزاب)، بين أنه من عليهم بها أيضا في غزوة حنين، وذلك في قوله تعالى: * (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الارض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها) *، وهذه الجنود هي الملائكة، وقد بين جل وعلا ذلك في (الأنفال)، في الكلام على غزوة بدر، وذلك في قوله تعالى: * (إذ يوحى ربك إلى الملئكة أني معكم فثبتوا الذين ءامنوا سألقى في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الاعناق) *، وهذه الجنود التي لم يروها التي هي الملائكة، قد بين الله جل وعلا في (براءة)، أنه أيد بها نبيه صلى الله عليه وسلم وهو في الغار، وذلك في قوله: * (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما فى الغار إذ يقول لصاحبه لا) *. * (ولما رأى المؤمنون الا حزاب قالوا هاذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن المؤمنين لما رأوا الأحزاب يعني جنود الكفار الذين جاءوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، في غزوة الخندق، قالوا: * (هاذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله) *، ولم يبين هنا الآية التي وعدهم إياه فيها، ولكنه بين ذلك في سورة (البقرة)، في قوله تعالى: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول) *، وممن قال إن آية (البقرة) المذكورة مبينة لآية
234

(الأحزاب) هذه: ابن عباس، وقتادة وغير واحد، وهو ظاهر.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (وما زادهم إلا إيمانا) *، صريح في أن الإيمان يزيد، وقد صرح الله بذلك في آيات من كتابه، فلا وجه للاختلاف فيه مع تصريح الله جل وعلا به في كتابه، في آيات متعددة؛ كقوله تعالى: * (ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم) *، وقوله تعالى: * (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم) *، إلى غير ذلك من الآيات. * (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه رد الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا، وأنه كفى المؤمنين القتال، وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ولم يبين هنا السبب الذي رد به الذين كفروا وكفى به المؤمنين القتال، ولكنه جل وعلا بين ذلك بقوله: * (فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها) *، أي: وبسبب تلك الريح وتلك الجنود ردهم بغيظهم وكفاكم القتال، كما هو ظاهر. * (يانسآء النبى من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين) *. قد قدمنا الآية الموضحة له في آخر سورة (النمل)، في الكلام على قوله تعالى: * (ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم فى النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون) *، وفي سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (إذا لأذقناك ضعف الحيواة وضعف الممات) *. * (ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتهآ أجرها مرتين) *. ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن من قنت من نساء نبيه صلى الله عليه وسلم لله ولرسوله، وعمل عملا صالحا أن الله جل وعلا يؤتها أجرها مرتين. والقنوت: الطاعة. وما وعد الله به جل وعلا من أطاع منهن بإيتائها أجرها مرتين في هذه الآية الكريمة، جاء الوعد بنظيره لغيرهن في غير هذا الموضع، فمن ذلك وعده لمن آمن من أهل الكتاب بنبيه، ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم بإتيائه أجره مرتين، وذلك في قوله تعالى: * (ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون * الذين ءاتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا ءامنا به إنه
235

الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين * أولئك يؤتون أجرهم مرتين) *.
ومن ذلك وعده لجميع المطيعين من أمته صلى الله عليه وسلم بإيتائهم كفلين من رحمته تعالى، وذلك في قوله جل وعلا: * (ياأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وءامنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم) *.
واعلم: أن ظاهر هذه الآية الكريمة من سورة (الحديد)، الذي لا ينبغي العدول عنه، أن الخطاب بقوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وءامنوا برسوله) *، عام لجميع هذه الأمة كما ترى. وليس في خصوص مؤمني أهل الكتاب، كما في آية (القصص) المذكورة آنفا، وكونه عاما هو التحقيق إن شاء الله؛ لظاهر القرءان المتبادر الذي لم يصرف عنه صارف، فما رواه النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما من حمله آية (الحديد) هذه على خصوص أهل الكتاب، كما في آية (القصص)، خلاف ظاهر القرءان، فلا يصح الحمل عليه إلا بدليل يجب الرجوع إليه، وإن وافق ابن عباس في ذلك الضحاك، وعتبة بن أبي حكيم وغيرهما، واختاره ابن جرير الطبري.
والصواب في ذلك إن شاء الله هو ما ذكرنا، لأن المعروف عند أهل العلم: أن ظاهر القرءان المتبادر منه، لا يجوز العدول عنه، إلا لدليل يجب الرجوع إليه.
وقال ابن كثير: وقال سعيد بن جبير: لما افتخر أهل الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين، أنزل الله تعالى على نبيه هذه الآية في حق هذه الأمة: * (ياأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وءامنوا برسوله يؤتكم كفلين) *، أي: ضعفين * (من رحمته) *، وزادهم * (ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم) *، ففضلهم بالنور والمغفرة، اه. نقله عنه ابن جرير، وابن كثير، والعلم عند الله تعالى. * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) *. قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا، ويكون في نفس الآية قرينة تدل على عدم صحة ذلك القول، وذكرنا لذلك أمثلة متعددة في الترجمة، وفي مواضع كثيرة من هذا الكتاب المبارك.
ومما ذكرنا من أمثلة ذلك في الترجمة قولنا فيها: ومن أمثلته قول بعض أهل العلم:
236

إن أزواجه صلى الله عليه وسلم لا يدخلن في أهل بيته، في قوله تعالى: * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) *، فإن قرينة السياق صريحة في دخولهن؛ لأن الله تعالى قال: * (قل لازواجك إن كنتن تردن) *، ثم قال في نفس خطابه لهن: * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) *،
ثم قال بعده: * (واذكرن ما يتلى فى بيوتكن) *.
وقد أجمع جمهور علماء الأصول على أن صورة سبب النزول قطعية الدخول، فلا يصح إخراجها بمخصص، وروي عن مالك أنها ظنية الدخول، وإليه أشار في (مراقي السعود)، بقوله: وقد أجمع جمهور علماء الأصول على أن صورة سبب النزول قطعية الدخول، فلا يصح إخراجها بمخصص، وروي عن مالك أنها ظنية الدخول، وإليه أشار في (مراقي السعود)، بقوله:
* واجزم بإدخال ذوات السبب
* وارو عن الإمام ظنا تصب
*
فالحق أنهن داخلات في الآية، اه. من ترجمة هذا الكتاب المبارك.
والتحقيق إن شاء الله: أنهن داخلات في الآية، وإن كانت الآية تتناول غيرهن من أهل البيت.
أما الدليل على دخولهن في الآية، فهو ما ذكرناه آنفا من أن سياق الآية صريح في أنها نازلة فيهن.
والتحقيق: أن صورة سبب النزول قطعية الدخول؛ كما هو مقرر في الأصول.
ونظير ذلك من دخول الزوجات في اسم أهل البيت، قوله تعالى في زوجة إبراهيم: * (قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت) *.
وأما الدليل على دخول غيرهن في الآية، فهو أحاديث جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال في علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم: (إنهم أهل البيت)، ودعا لهم الله أن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا. وقد روى ذلك جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم منهم أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، وأبو سعيد، وأنس، وواثلة بن الأسقع، وأم المؤمنين عائشة، وغيرهم رضي الله عنهم.
وبما ذكرنا من دلالة القرءان والسنة، تعلم أن الصواب شمول الآية الكريمة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ولعلي وفاطمة والحسن والحسين، رضي الله عنهم كلهم.
237

تنبيه
فإن قيل: إن الضمير في قوله: * (ليذهب عنكم الرجس) *، وفي قوله: * (ويطهركم تطهيرا) *، ضمير الذكور، فلو كان المراد نساء النبي صلى الله عليه وسلم لقيل: ليذهب عنكن ويطهركن.
فالجواب من وجهين:
الأول: هو ما ذكرنا من أن الآية الكريمة شاملة لهن ولعلي والحسن والحسين وفاطمة، وقد أجمع أهل اللسان العربي على تغليب الذكور على الإناث في الجموع ونحوها، كما هو معلوم في محله.
الوجه الثاني: هو أن من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرءان أن زوجة الرجل يطلق عليها اسم الأهل، وباعتبار لفظ الأهل تخاطب مخاطبة الجمع المذكر، ومنه قول تعالى في موسى: * (فقال لاهله امكثوا) *، وقوله: * (سئاتيكم) *، وقوله: * (لعلىءاتيكم) *، والمخاطب امرأته؛ كما قاله غير واحد، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر: الوجه الثاني: هو أن من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرءان أن زوجة الرجل يطلق عليها اسم الأهل، وباعتبار لفظ الأهل تخاطب مخاطبة الجمع المذكر، ومنه قول تعالى في موسى: * (فقال لاهله امكثوا) *، وقوله: * (سئاتيكم) *، وقوله: * (لعلىءاتيكم) *، والمخاطب امرأته؛ كما قاله غير واحد، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر:
* فإن شئت حرمت النساء سواكم
* وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
*
وبما ذكرنا تعلم أن قول من قال: إن نساء النبي صلى الله عليه وسلم لسن داخلات في الآية، يرد عليه صريح سياق القرءان، وأن من قال: إن فاطمة وعليا والحسن والحسين ليسوا داخلين فيها، ترد عليه الأحاديث المشار إليها.
وقال بعض أهل العلم: إن أهل البيت في الآية هم من تحرم عليهم الصدقة، والعلم عند الله تعالى. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) *، يعني: أنه يذهب الرجس عنهم، ويطهرهم بما يأمر به من طاعة الله، وينهى عنه من معصيته؛ لأن من أطاع الله أذهب عنه الرجس، وطهره من الذنوب تطهيرا.
وقال الزمخشري في (الكشاف): ثم بين أنه إنما نهاهن وأمرهن ووعظهن لئلا يقارف أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المآثم، وليتصونوا عنها بالتقوى، واستعار للذنوب الرجس، وللتقوى الطهر؛ لأن عرض المقترف للمقبحات يتلوث بها ويتدنس كما يلتوث بدنة بالأرجاس. وأما الحسنات فالعرض منها نقي مصون كالثوب الطاهر، وفي هذه الاستعارة
238

ما ينفر أولي الألباب عما كرهه الله لعباده، ونهاهم عنه، ويرغبهم فيما يرضاه لهم، وأمرهم به. وأهل البيت نصب على النداء أو على المدح، وفي هذا دليل بين على أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته.
تنبيه
اعلم أنه يكثر في القرءان العظيم، وفي اللغة إتيان اللام المكسورة منصوبا بعدها المضارع بعد فعل الإرادة؛ كقوله هنا: * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس) *، وقوله: * (يريد الله ليبين لكم) *، وقوله: * (يريدون ليطفئوا نور الله) *، وقوله تعالى: * (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولاكن يريد ليطهركم) *، إلى غير ذلك من الآيات. وكقول الشاعر: اعلم أنه يكثر في القرءان العظيم، وفي اللغة إتيان اللام المكسورة منصوبا بعدها المضارع بعد فعل الإرادة؛ كقوله هنا: * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس) *، وقوله: * (يريد الله ليبين لكم) *، وقوله: * (يريدون ليطفئوا نور الله) *، وقوله تعالى: * (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولاكن يريد ليطهركم) *، إلى غير ذلك من الآيات. وكقول الشاعر:
* أريد لأنسى ذكرها فكأنما
* تمثل لي ليلى بكل سبيل
*
وللعلماء في اللام المذكورة أقوال، منها: أنها مصدرية بمعنى أن، وهو قول غريب. ومنها: أنها لام كي، ومفعول الإرادة محذوف، والتقدير: إنما يريد الله أن يأمركم وينهاكم، لأجل أن يذهب عنكم الرجس، والرجس كل مستقذر تعافه النفوس، ومن أقذر المستقذرات معصية الله تعالى. * (وتخفى فى نفسك ما الله مبديه) *. قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها بيان الإجمال الواقع بسبب الإبهام في صلة موصول، وذكرنا أن من أمثلة ذلك قوله تعالى: * (وتخفى فى نفسك ما الله مبديه) *، لأن جملة: * (الله مبديه) * صلة الموصول الذي هو * (ما) *. وقد قلنا في الترجمة المذكورة: فإنه هنا أبهم هذا الذي أخفاه صلى الله عليه وسلم في نفسه وأبداه الله، ولكنه أشار إلى أن المراد به زواجه صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش رضي الله عنها، حيث أوحى إليه ذلك، وهي في ذلك الوقت تحت زيد بن حارثة؛ لأن زواجه إياها هو الذي أبداه الله بقوله: * (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها) *، وهذا هو التحقيق في معنى الآية الذي دل عليه القرءان، وهو اللائق بجنابه صلى الله عليه وسلم.
وبه تعلم أن ما يقوله كثير من المفسرين من أن ما أخفاه في نفسه صلى الله عليه وسلم وأبداه الله وقوع
239

زينب في قلبه ومحبته لها، وهي تحت زيد، وأنها سمعته، قال: (سبحان مقلب القلوب) إلى آخر القصة، كله لا صحة له، والدليل عليه أن الله لم يبد من ذلك شيئا، مع أنه صرح بأنه مبدي ما أخفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهى محل الغرض من كلامنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك.
وقال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: واختلف الناس في تأويل هذه الآية، فذهب قتادة، وابن زيد، وجماعة من المفسرين، منهم: الطبري. وغيره: إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه استحسان لزينب بنت جحش وهي في عصمة زيد، وكان حريصا على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو، إلى أن قال: وهذا الذي كان يخفي في نفسه، ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف، يعني قوله: * (أمسك عليك زوجك) *، اه. ولا شك أن هذا القول غير صحيح، وأنه غير لائق به صلى الله عليه وسلم.
ونقل القرطبي نحوه عن مقاتل، وابن عباس أيضا، وذكر القرطبي عن علي بن الحسين أن الله أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أن زيدا سيطلق زينب، وأن الله يزوجها رسوله صلى الله عليه وسلم، وبعد أن علم هذا بالوحي. قال لزيد: (أمسك عليك زوجك). وأن الذي أخفاه في نفسه، هو أن الله سيزوجه زينب رضي الله عنها، ثم قال القرطبي، بعد أن ذكر هذا القول: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: وهذا القول أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية. وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين، والعلماء الراسخين، كالزهري، والقاضي بكر بن العلاء القشيري، والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم، إلى أن قال: فأما ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم هوى زينب امرأة زيد، وربما أطلق بعض المجان لفظ عشق، فهذا إنما يصدر عن جاهل بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا أو مستخف بحرمته.
قال الترمذي الحكيم في نوارد الأصول، وأسند إلى علي بن الحسين قوله: فعلي بن الحسين جاء بهذا من خزانة العلم جوهرا من الجواهر ودرا من الدرر أنه إنما عتب الله عليه في أنه قد أعلمه، أن ستكون هذه من أزواجم، فكيف قال بعد ذلك لزيد: (أمسك عليك زوجك)، وأخذتك خشية الناس أن يقولوا: تزوج امرأة ابنه، والله أحق أن تخشاه، انتهى محل الغرض منه.
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير هاهنا آثارا عن بعض السلف رضي الله عنهم، أحببنا أن نضرب عنها صفحا لعدم صحتها، فلا نوردها
240

إلى آخر كلامه، وفيه كلام علي بن الحسين الذي ذكرنا آنفا.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: التحقيق إن شاء الله في هذه المسألة، هو ما ذكرنا أن القرءان دل عليه، وهو أن الله أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بأن زيدا يطلق زينب، وأنه يزوجها إياه صلى الله عليه وسلم، وهي في ذلك الوقت تحت زيد، فلما شكاها زيد إليه صلى الله عليه وسلم قال له: (أمسك عليك زوجك واتق الله)، فعاتبه الله على قوله: (أمسك عليك زوجك) بعد علمه أنها ستصير زوجته هو صلى الله عليه وسلم، وخشي مقالة الناس أن يقولوا: لو أظهر ما علم من تزويجه إياها أنه
يريد تزويج زوجة ابنه في الوقت الذي هي فيه في عصمة زيد.
والدليل على هذا أمران:
الأول: هو ما قدمنا من أن الله جل وعلا، قال: * (وتخفى فى نفسك ما الله مبديه) *، وهذا الذي أبداه الله جل وعلا، هو زواجه إياها في قوله: * (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها) *، ولم يبد جل وعلا شيئا مما زعموه أنه أحبها، ولو كان ذلك هو المراد لأبداه الله تعالى، كما ترى.
الأمر الثاني: أن الله جل وعلا صرح بأنه هو الذي زوجه إياها، وأن الحكمة الإلاهية في ذلك التزويج هي قطع تحريم أزواج الأدعياء في قوله تعالى: * (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكى لا يكون على المؤمنين حرج فى أزواج أدعيائهم) *، فقوله تعالى: * (لكى لا يكون على المؤمنين حرج) *، تعليل صريح لتزويجه إياها لما ذكرنا، وكون الله هو الذي زوجه إياها لهذه الحكمة العظيمة صريح في أن سبب زواجه إياها ليس هو محبته لها التي كانت سببا في طلاق زيد لها كما زعموا، ويوضحه قوله تعالى: * (فلما قضى زيد منها وطرا) * الآية؛ لأنه يدل على أن زيدا قضى وطره منها، ولم تبق له بها حاجة، فطلقها باختياره، والعلم عند الله تعالى.
* (ياأيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا * وسبحوه بكرة وأصيلا * هو الذى يصلى عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما * تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما * ياأيها النبى إنآ أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا * وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا * ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا * ياأيها الذين ءامنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا * ياأيها النبى إنآ أحللنا لك أزواجك اللاتىءاتيت أجورهن وما ملكت يمينك ممآ أفآء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتى هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبى إن أراد النبى أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم فى أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما * ترجى من تشآء منهن وتؤوى إليك من تشآء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بمآ ءاتيتهن كلهن والله يعلم ما فى قلوبكم وكان الله عليما حليما * لا يحل لك النسآء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شىء رقيبا * ياأيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوت النبى إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذى النبى فيستحيى منكم والله لا يستحى من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من ورآء حجاب ذالكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذالكم كان عند الله عظيما * إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شىء عليما * لا جناح عليهن فىءابآئهن ولا أبنآئهن ولا إخوانهن ولا أبنآء إخوانهن ولا أبنآء أخواتهن ولا نسآئهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شىء شهيدا * إن الله وملائكته يصلون على النبى ياأيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما * إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله فى الدنيا والا خرة وأعد لهم عذابا مهينا * والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا * ياأيها النبى قل لازواجك وبناتك ونسآء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذالك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما * لئن لم ينته المنافقون والذين فى قلوبهم مرض والمرجفون فى المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيهآ إلا قليلا * ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا * سنة الله فى الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا * يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا * إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا * خالدين فيهآ أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا * يوم تقلب وجوههم فى النار يقولون ياليتنآ أطعنا الله وأطعنا الرسولا * وقالوا ربنآ إنآ أطعنا سادتنا وكبرآءنا فأضلونا السبيلا * ربنآ ءاتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا * ياأيها الذين ءامنوا لا تكونوا كالذين ءاذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها * ياأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما) * * (ياأيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا) *. ما تضمنته هذه الآية الكريمة من الأمر بالإكثار من الذكر، جاء معناه في آيات أخر؛ كقوله تعالى: * (فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم) *، وقوله تعالى: * (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم) *، وقوله تعالى: * (والذكرين الله كثيرا والذكرات) *، إلى غير ذلك من الآيات.
241

* (وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا) *. لم يبين هنا المراد بالفضل الكبير في هذه الآية الكريمة، ولكنه بينه في سورة (الشورى)، في قوله تعالى: * (والذين ءامنوا وعملوا الصالحات فى روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير) *. * (وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من ورآء حجاب ذالكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) *. قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها، أن يقول بعض العلماء في الآية قولا، وتكون في نفس الآية قرينة تدل على عدم صحة ذلك القول، وذكرنا له أمثلة في الترجمة، وأمثلة كثيرة في الكتاب لم تذكر في الترجمة، ومن أمثلته التي ذكرنا في الترجمة هذه الآية الكريمة، فقد قلنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك، ومن أمثلته قول كثير من الناس إن آية (الحجاب)، أعني قوله تعالى: * (وإذا * سألتموهن متاعا فاسئلوهن من وراء حجاب) *، خاصة بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فإن تعليله تعالى لهذا الحكم الذي هو إيجاب الحجاب بكونه أطهر لقلوب الرجال والنساء من الريبة في قوله تعالى: * (ذالكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) *، قرينة واضحة على إرادة تعميم الحكم، إذ لم يقل أحد من جميع المسلمين إن غير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا حاجة إلى أطهرية قلوبهن وقلوب الرجال من الريبة منهن، وقد تقرر في الأصول: أن العلة قد تعمم معلولها، وإليه أشار في (مراقي السعود)، بقوله: لا حاجة إلى أطهرية قلوبهن وقلوب الرجال من الريبة منهن، وقد تقرر في الأصول: أن العلة قد تعمم معلولها، وإليه أشار في (مراقي السعود)، بقوله:
* وقد تخصص وقد تعمم
* لأصلها لكنها لا تخرم
*
انتهى محل الغرض من كلامنا في الترجمة المذكورة.
وبما ذكرنا، تعلم أن في هذه الآية الكريمة الدليل الواضح على أن وجوب الحجاب حكم عام في جميع النساء، لا خاص بأزواجه صلى الله عليه وسلم، وإن كان أصل اللفظ خاصا بهن؛ لأن عموم علته دليل على عموم الحكم فيه، ومسلك العلة الذي دل على أن قوله تعالى: * (ذالكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) *، هو علة قوله تعالى: * (يأيها الذين ءامنوا لا) *، هو المسلك المعروف في الأصول بمسلك الإيماء والتنبيه، وضابط هذا المسلك المنطبق على جزئياته، هو أن يقترن وصف بحكم شرعي على وجه لو لم يكن فيه ذلك الوصف علة
242

لذلك الحكم لكان الكلام معيبا عند العارفين، وعرف صاحب (مراقي السعود)، دلالة الإيماء والتنبيه في مبحث دلالة الاقتضاء والإشارة والإيماء والتنبيه، بقوله:، وإن كان أصل اللفظ خاصا بهن؛ لأن عموم علته دليل على عموم الحكم فيه، ومسلك العلة الذي دل على أن قوله تعالى: * (ذالكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) *، هو علة قوله تعالى: * (يأيها الذين ءامنوا لا) *، هو المسلك المعروف في الأصول بمسلك الإيماء والتنبيه، وضابط هذا المسلك المنطبق على جزئياته، هو أن يقترن وصف بحكم شرعي على وجه لو لم يكن فيه ذلك الوصف علة لذلك الحكم لكان الكلام معيبا عند العارفين، وعرف صاحب (مراقي السعود)، دلالة الإيماء والتنبيه في مبحث دلالة الاقتضاء والإشارة والإيماء والتنبيه، بقوله:
* دلالة الإيماء والتنبيه
* في الفن تقصد لدى ذويه
*
* أن يقرن الوصف بحكم إن يكن
* لغير علة يعبه من فطن
*
وعرف أيضا الإيماء والتنبيه في مسالك العلة، بقوله: وعرف أيضا الإيماء والتنبيه في مسالك العلة، بقوله:
* والثالث الإيما اقتران الوصف
* بالحكم ملفوظين دون خلف
*
* وذلك الوصف أو النظير
* قرانه لغيرها يضير
*
فقوله تعالى: * (ذالكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) *، لو لم يكن علة لقوله تعالى: * (يأيها الذين ءامنوا لا) *، لكان الكلام معيبا غير منتظم عند الفطن العارف.
وإذا علمت أن قوله تعالى: * (ذالكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) *، هو علة قوله: * (يأيها الذين ءامنوا لا) *، وعلمت أن حكم العلة عام.
فاعلم أن العلة قد تعمم معلولها، وقد تخصصه كما ذكرنا في بيت (مراقي السعود)، وبه تعلم أن حكم آية الحجاب عام لعموم علته، وإذا كان حكم هذه الآية عاما، بدلالة القرينة القرءانية.
فاعلم أن الحجاب واجب، بدلالة القرءان على جميع النساء.
واعلم أنا في هذا المبحث نريد أن نذكر الأدلة القرءانية على وجوب الحجاب على العموم، ثم الأدلة من السنة، ثم نناقش أدلة الطرفين، ونذكر الجواب عن أدلة من قالوا بعدم وجوب الحجاب، على غير أزواجه صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا آنفا أن قوله: * (ذالكم أطهر لقلوبكم) *، قرينة على عموم حكم آية الحجاب.
ومن الأدلة القرءانية على احتجاب المرأة وسترها جميع بدنها حتى وجهها، قوله تعالى: * (يأيها النبى قل لازواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن) *، فقد قال غير واحد من أهل العلم: إن معنى: * (يدنين عليهن من جلابيبهن) *: أنهن يسترن بها جميع وجوههن، ولا يظهر منهن شئ إلا عين واحدة تبصر بها، وممن قال به: ابن مسعود، وابن عباس، وعبيدة السلماني وغيرهم.
243

فإن قيل: لفظ الآية الكريمة، وهو قوله تعالى: * (يدنين عليهن من جلابيبهن) *، لا يستلزم معناه ستر الوجه لغة، ولم يرد نص من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع على استلزامه ذلك، وقول بعض المفسرين: إنه يستلزمه معارض بقول بعضهم: إنه لا يستلزمه، وبهذا يسقط الاستدلال بالآية على وجوب ستر الوجه.
فالجواب: أن في الآية الكريمة قرينة واضحة على أن قوله تعالى فيها: * (يدنين عليهن من جلابيبهن) *، يدخل في معناه ستر وجوههن بإدناء جلابيبهن عليها، والقرينة المذكورة هي قوله تعالى: * (قل لازواجك) *، ووجوب احتجاب أزواجه وسترهن وجوههن، لا نزاع فيه بين المسلمين. فذكر الأزواج مع البنات ونساء
المؤمنين يدل على وجوب ستر الوجوه بإدناء الجلابيب، كما ترى.
ومن الأدلة على ذلك أيضا: هو ما قدمنا في سورة (النور)، في الكلام على قوله تعالى: * (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) *، من أن استقراء القرءان يدل على أن معنى: * (إلا ما ظهر منها) * الملاءة فوق الثياب، وأنه لا يصح تفسير: * (إلا ما ظهر منها) * بالوجه والكفين، كما تقدم إيضاحه.
واعلم أن قول من قال: إنه قد قامت قرينة قرءانية على أن قوله تعالى: * (يدنين عليهن من جلابيبهن) *، لا يدخل فيه ستر الوجه، وأن القرينة المذكورة هي قوله تعالى: * (ذالك أدنى أن يعرفن) *، قال: وقد دل قوله: * (أن يعرفن) * على أنهن سافرات كاشفات عن وجوههن؛ لأن التي تستر وجهها لا تعرف باطل، وبطلانه واضح، وسياق الآية يمنعه منعا باتا؛ لأن قوله: * (يدنين عليهن من جلابيبهن) *، صريح في منع ذلك.
وإيضاحه: أن الإشارة في قوله: * (ذالك أدنى أن يعرفن) * راجعة إلى إدنائهن عليهن من جلابيبهن، وإدناؤهن عليهن من جلابيبهن، لا يمكن بحال أن يكون أدنى أن يعرفن بسفورهن، وكشفهن عن وجوههن كما ترى، فإدناء الجلابيب مناف لكون المعرفة معرفة شخصية بالكشف عن الوجوه، كما لا يخفى.
وقوله في الآية الكريمة: * (لازواجك) * دليل أيضا على أن المعرفة المذكورة في الآية، ليست بكشف الوجوه؛ لأن احتجابهن لا خلاف فيه بين المسلمين.
والحاصل: أن القول المذكور تدل على بطلانه أدلة متعددة:
244

الأول: سياق الآية، كما أوضحناه آنفا.
الثاني: قوله: * (لازواجك) *، كما أوضحناه أيضا.
الثالث: أن عامة المفسرين من الصحابة فمن بعدهم فسروا الآية مع بيانهم سبب نزولها، بأن نساء أهل المدينة كن يخرجن بالليل لقضاء حاجتهن خارج البيوت، وكان بالمدينة بعض الفساق يتعرضون للإماء، ولا يتعرضون للحرائر، وكان بعض نساء المؤمنين يخرجن في زي ليس متميزا عن زي الإماء، فيتعرض لهن أولئك الفساق بالأذى ظنا منهم أنهن إماء، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يتميزن في زيهن عن زي الإماء، وذلك بأن يدنين عليهن من جلابيبهن، فإذا فعلن ذلك ورآهن الفساق، علموا أنهن حرائر، ومعرفتهم بأنهن حرائر لا إماء هو معنى قوله: * (ذالك أدنى أن يعرفن) *، فهي معرفة بالصفة لا بالشخص. وهذا التفسير منسجم مع ظاهر القرءان، كما ترى. فقوله: * (يدنين عليهن من جلابيبهن) *، لأن إدنائهن عليهن من جلابيبهن يشعر بأنهن حرائر، فهو أدنى وأقرب لأن يعرفن، أي: يعلم أنهن حرائر، فلا يؤذين من قبل الفساق الذين يتعرضون للإماء، وهذا هو الذي فسر به أهل العلم بالتفسير هذه الآية، وهو واضح، وليس المراد منه أن تعرض الفساق للإماء جائز هو حرام، ولا شك أن المتعرضين لهن من الذين في قلوبهم مرض، وأنهم يدخلون في عموم قوله: * (والذين في قلوبهم مرض) * (33 / 06)، في قوله تعالى: * (لئن لم ينته المنافقون والذين فى قلوبهم مرض والمرجفون فى المدينة نخسف بهم) *، إلى قوله: * (وقتلوا تقتيلا) *.
ومما يدل على أن المتعرض لما لا يحل من النساء من الذين في قلوبهم مرض، قوله تعالى: * (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذى فى قلبه مرض) *، وذلك معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الأعشى: ومما يدل على أن المتعرض لما لا يحل من النساء من الذين في قلوبهم مرض، قوله تعالى: * (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذى فى قلبه مرض) *، وذلك معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الأعشى:
* حافظ للفرج راض بالتقى
* ليس ممن قلبه فيه مرض
*
وفي الجملة: فلا إشكال في أمر الحرائر بمخالفة زي الإماء ليابهن الفساق، ودفع ضرر الفساق عن الإماء لازم، وله أسباب أخر ليس منها إدناء الجلابيب.
تنبيه
قد قدمنا في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (إن هاذا القرءان
245

يهدى للتى هى أقوم) *، أن الفعل الصناعي عند النحويين ينحل عن مصدر وزمن؛ كما قال ابن مالك في (الخلاصة): قد قدمنا في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) *، أن الفعل الصناعي عند النحويين ينحل عن مصدر وزمن؛ كما قال ابن مالك في (الخلاصة):
* المصدر اسم ما سوى الزمان من
* مدلولي الفعل كأمن من أمن
*
وأنه عند جماعات من البلاغيين ينحل عن مصدر، وزمن ونسبة.
وإذا علمت ذلك، فاعلم أن المصدر والزمن كامنان في مفهوم الفعل إجماعا، وقد ترجع الإشارات والضمائر تارة إلى المصدر الكامن في مفهوم الفعل، وتارة إلى الزمن الكامن فيه.
فمثال رجوع الإشارة إلى المصدر الكامن فيه، قوله تعالى هنا: * (يدنين عليهن) *، ثم قال: * (ذالك أدنى أن يعرفن) *، أي: ذلك الإدناء المفهوم من قوله: *
(يدنين) *.
ومثال رجوع الإشارة للزمن الكامن فيه قوله تعالى: * (ونفخ فى الصور ذلك يوم الوعيد) *، فقوله: * (ذالك) * يعني زمن النفخ المفهوم من قوله: * (ونفخ) *، أي: ذلك الزمن يوم الوعيد.
ومن الأدلة على أن حكم آية الحجاب عام هو ما تقرر في الأصول، من أن خطاب الواحد يعم حكمه جميع الأمة، ولا يختص الحكم بذلك الواحد المخاطب، وقد أوضحنا هذه المسألة في سورة (الحج)، في مبحث النهي عن لبس المعصفر، وقد قلنا في ذلك؛ لأن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لواحد من أمته يعم حكمه جميع الأمة، لاستوائهم في أحكام التكليف، إلا بدليل خاص يجب الرجوع إليه، وخلاف أهل الأصول في خطاب الواحد، هل هو من صيغ العموم الدالة على عموم الحكم؟ خلاف في حال لا خلاف حقيقي، فخطاب الواحد عند الحنابلة صيغة عموم، وعند غيرهم من المالكية والشافعية وغيرهم، أن خطاب الواحد لا يعم؛ لأن اللفظ للواحد لا يشمل بالوضع غيره، وإذا كان لا يشمله وضعا، فلا يكون صيغة عموم. ولكن أهل هذا القول موافقون على أن حكم خطاب الواحد عام لغيره، ولكن بدليل آخر غير خطاب الواحد وذلك الدليل بالنص والقياس.
أما القياس فظاهر، لأن قياس غير ذلك المخاطب عليه بجامع استواء المخاطبين في أحكام التكليف من القياس الجلي. والنص كقوله صلى الله عليه وسلم في مبايعة النساء: (إني لا أصافح
246

النساء، وما قولي لامرأة واحدة إلا كقولي لمائة امرأة).
قالوا: ومن أدلة ذلك حديث: (حكمي على الواحد حكمي على الجماعة). قال ابن قاسم العبادي في الآيات البينات: اعلم أن حديث (حكمي على الواحد حكمي على الجماعة)، لا يعرف له أصل بهذا اللفظ، ولكن روى الترمذي، وقال: حسن صحيح. والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان، قوله صلى الله عليه وسلم في مبايعة النساء: (إني لا أصافح النساء)، وساق الحديث كما ذكرناه، وقال صاحب كشف الخفاء ومزيل الإلباس، عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس: (حكمي على الواحد حكمي على الجماعة)، وفي لفظ: (كحكمي على الجماعة)، ليس له أصل بهذا اللفظ؛ كما قاله العراقي في تخريج أحاديث البيضاوي. وقال في (الدرر) كالزركشي: لا يعرف. وسئل عنه المزي والذهبي فأنكراه، نعم يشهد له ما رواه الترمذي والنسائي من حديث أميمة بنت رقيقة، فلفظ النسائي: (ما قولي لامرأة واحدة إلا كقولي لمائة امرأة)، ولفظ الترمذي: (إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة)، وهو من الأحاديث التي ألزم الدارقطني الشيخين بإخراجها لثبوتها على شرطهما، وقال ابن قاسم العبادي في (شرح الورقات الكبير): (حكمي على الواحد) لا يعرف له أصل إلى آخره، قريبا مما ذكرناه عنه، انتهى.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الحديث المذكور ثابت من حديث أميمة بنت رقيقة بقافين مصغرا، وهي صحابية من المبايعات، ورقيقة أمها، وهي أخت خديجة بنت خويلد، وقيل: عمتها، واسم أبيها بجاد بموحدة ثم جيم، ابن عبد الله بن عمير التيمي، تيم بن مرة. وأشار إلى ذلك في (مراقي السعود)، بقوله: قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الحديث المذكور ثابت من حديث أميمة بنت رقيقة بقافين مصغرا، وهي صحابية من المبايعات، ورقيقة أمها، وهي أخت خديجة بنت خويلد، وقيل: عمتها، واسم أبيها بجاد بموحدة ثم جيم، ابن عبد الله بن عمير التيمي، تيم بن مرة. وأشار إلى ذلك في (مراقي السعود)، بقوله:
* خطاب واحد لغير الحنبل
* من غير رعى النص والقيس الجلي
*
انتهى محل الغرض منه.
وبهذه القاعدة الأصولية التي ذكرنا، تعلم أن حكم آية الحجاب عام، وإن كان لفظها خاصا بأزواجه صلى الله عليه وسلم؛ لأن قوله لامرأة واحدة من أزواجه، أو من غيرهن كقوله لمائة امرأة، كما رأيت إيضاحه قريبا.
ومن الأدلة القرءانية الدالة على الحجاب، قوله تعالى: * (والقواعد من النساء اللائى لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير
247

لهن والله سميع عليم) *؛ لأن الله جل وعلا بين في هذه الآية الكريمة أن القواعد أي العجائز اللاتي لا يرجون نكاحا، أي: لا يطعمن في النكاح لكبر السن وعدم حاجة الرجال إليهن يرخص لهن برفع الجناح عنهن في وضع ثيابهن، بشرط كونهن غير متبرجات بزينة، ثم إنه جل وعلا مع هذا كله قال: * (وأن يستعففن خير لهن) *، أي: يستعففن عن وضع الثياب خير لهن، أي: واستعفافهن عن وضع ثيابهن مع كبر سنهن وانقطاع طمعهن في التزويج، وكونهن غير متبرجات بزينة خير لهن.
وأظهر الأقوال في قوله: * (أن يضعن ثيابهن) *، أنه وضع ما يكون فوق الخمار، والقميص من الجلابيب، التي تكون فوق الخمار والثياب.
فقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: * (وأن يستعففن خير لهن) *، دليل واضح على أن المرأة التي فيها جمال ولها طمع في النكاح، لا يرخص لها في وضع شئ من ثيابها ولا الإخلال بشئ من التستر بحضرة الأجانب.
وإذا علمت بما ذكرنا أن حكم آية الحجاب عام، وأن ما ذكرنا معها من الآيات فيه الدلالة على احتجاب جميع بدن المرأة عن الرجال الأجانب، علمت أن القرءان دل على الحجاب، ولو فرضنا أن آية الحجاب خاصة بأزواجه صلى الله عليه وسلم، فلا شك أنهن خير أسوة لنساء المسلمين في الآداب الكريمة المقتضية للطهارة التامة وعدم
التدنس بأنجاس الريبة، فمن يحاول منع نساء المسلمين كالدعاة للسفور والتبرج والاختلاط اليوم، من الاقتداء بهن في هذا الأدب السماوي الكريم المتضمن سلامة العرض والطهارة من دنس الريبة غاش لأمة محمد صلى الله عليه وسلم مريض القلب؛ كما ترى.
واعلم أنه مع دلالة القرءان على احتجاب المرأة عن الرجال الأجانب، قد دلت على ذلك أيضا أحاديث نبوية، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما وغيرهما من حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والدخول على النساء)، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرأيت الحمو؟ قال: (الحمو الموت). أخرج البخاري هذا الحديث في كتاب (النكاح)، في باب: لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم الخ. ومسلم في كتاب (السلام)، في باب: تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها، فهذا الحديث الصحيح صرح فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالتحذير الشديد من الدخول على النساء، فهو دليل واضح على منع الدخول عليهن وسؤالهن متاعا إلا من وراء
248

حجاب؛ لأن من سألها متاعا لا من وراء حجاب فقد دخل عليها، والنبي صلى الله عليه وسلم حذره من الدخول عليها، ولما سأله الأنصاري عن الحمو الذي هو قريب الزوج الذي ليس محرما لزوجته، كأخيه وابن أخيه وعمه وابن عمه ونحو ذلك، قال له صلى الله عليه وسلم: (الحمو الموت)، فسمى صلى الله عليه وسلم دخول قريب الرجل على امرأته وهو غير محرم لها باسم الموت، ولا شك أن تلك العبارة هي أبلغ عبارات التحذير؛ لأن الموت هو أفظع حادث يأتي على الإنسان في الدنيا، كما قال الشاعر: دخول قريب الرجل على امرأته وهو غير محرم لها باسم الموت، ولا شك أن تلك العبارة هي أبلغ عبارات التحذير؛ لأن الموت هو أفظع حادث يأتي على الإنسان في الدنيا، كما قال الشاعر:
* والموت أعظم حادث
* مما يمر على الجبلة
*
والجبلة: الخلق، ومنه قوله تعالى: * (واتقوا الذى خلقكم والجبلة الاولين) *، فتحذيره صلى الله عليه وسلم هذا التحذير البالغ من دخول الرجال على النساء، وتعبيره عن دخول القريب على زوجة قريبه باسم الموت، دليل صحيح نبوي على أن قوله تعالى: * (يأيها الذين ءامنوا لا) * عام في جميع النساء، كما ترى. إذ لو كان حكمه خاصا بأزواجه صلى الله عليه وسلم لما حذر الرجال هذا التحذير البالغ العام من الدخول على النساء، وظاهر الحديث التحذير من الدخول عليهن ولو لم تحصل الخلوة بينهما، وهو كذلك، فالدخول عليهن والخلوة بهن كلاهما محرم تحريما شديدا بانفراده، كما قدمنا أن مسلما رحمه الله أخرج هذا الحديث في باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها، فدل على أن كليهما حرام. وقال ابن حجر في (فتح الباري)، في شرح الحديث المذكور: (إياكم والدخول)، بالنصب على التحذير، وهو تنبيه المخاطب على محذور ليتحرز عنه؛ كما قيل: إياك والأسد، وقوله: (إياكم)، مفعول لفعل مضمر تقديره: اتقوا.
وتقدير الكلام: اتقوا أنفسكم أن تدخلوا على النساء، والنساء أن يدخلن عليكم. ووقع في رواية ابن وهب، بلفظ: (لا تدخلوا على النساء)، وتضمن منع الدخول منع الخلوة بها بطريق الأولى، انتهى محل الغرض منه. وقال البخاري رحمه الله في (صحيحه)، باب: * (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) *. وقال أحمد بن شبيب: حدثنا أبي عن يونس، قال ابن شهاب، عن عروة عن عائشة رضي الله عنها، قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: * (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) *، شققن مروطهن فاختمرن بها.
حدثنا أبو نعيم، حدثنا إبراهيم بن نافع، عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة:
249

أن عائشة رضي الله عنها، كانت تقول: لما نزلت هذه الآية * (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) *، أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي، فاختمرن بها، انتهى من صحيح البخاري. وقال ابن حجر في (الفتح)، في شرح هذا الحديث: قوله: فاختمرن، أي غطين وجوههن، وصفة ذلك أن تضع الخمار على رأسها وترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر، وهو التقنع. قال الفراء: كانوا في الجاهلية تسدل المرأة خمارها من ورائها وتكشف ما قدامها فأمرن بالاستتار. انتهى محل الغرض من (فتح الباري). وهذا الحديث الصحيح صريح في أن النساء الصحابيات المذكورات فيه فهمن أن معنى قوله تعالى: * (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) *، يقتضي ستر وجوههن، وأنهن شققن أزرهن فاختمرن، أي: سترن وجوههن بها امتثالا لأمر الله في قوله تعالى: * (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) *، المقتضي ستر وجوههن، وبهذا يتحقق المنصف: أن احتجاب المرأة عن الرجال وسترها وجهها عنهم ثابت في السنة الصحيحة المفسرة لكتاب الله تعالى، وقد أثنت عائشة رضي الله عنها على تلك النساء بمسارعتهن لامتثال أوامر الله في كتابه، ومعلوم أنهن ما فهمن ستر الوجوه من قوله: * (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) *، إلا من النبي صلى الله عليه وسلم لأنه موجود وهن يسألنه عن كل ما أشكل عليهن في دينهن، والله جل وعلا يقول: * (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) *، فلا يمكن أن يفسرنها من تلقاء أنفسهن. وقال ابن حجر في (فتح الباري): ولابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن صفية ما يوضح ذلك، ولفظه: ذكرنا عند عائشة نساء قريش وفضلهن، فقالت: إن لنساء قريش لفضلا، ولكن والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقا بكتاب الله، ولا إيمانا بالتنزيل، ولقد أنزلت سورة (النور): * (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) *، فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل فيها، ما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها فأصبحن يصلين الصبح معتجرات كأن على رءوسهن الغربان، انتهى محل الغرض من (فتح الباري). ومعنى معتجرات: مختمرات، كما جاء موضحا في رواية البخاري المذكورة آنفا، فترى عائشة رضي الله عنها مع علمها وفهمها وتقاها، أثنت عليهن هذا الثناء العظيم، وصرحت بأنها ما رأت أشد منهن تصديقا بكتاب الله، ولا إيمانا بالتنزيل،
وهو دليل واضح على أن فهمهن لزوم ستر الوجوه من قوله تعالى: * (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) *، من تصديقهن بكتاب الله وإيمانهن بتنزيله، وهو صريح في أن احتجاب النساء عن الرجال وسترهن وجوههن تصديق بكتاب الله وإيمان بتنزيله، كما ترى.
250

فالعجب كل العجب، ممن يدعي من المنتسبين للعلم أنه لم يرد في الكتاب ولا السنة ما يدل على ستر المرأة وجهها عن الأجانب، مع أن الصحابيات فعلن ذلك ممتثلات أمر الله في كتابه إيمانا بتنزيله، ومعنى هذا ثابت في الصحيح، كما تقدم عن البخاري. وهذا من أعظم الأدلة وأصرحها في لزوم الحجاب لجميع نساء المسلمين، كما ترى.
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: وقال البزار أيضا: حدثنا محمد بن المثنى، حدثني عمرو بن عاصم، حدثنا همام، عن قتادة، عن مورق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إن المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون بروحة ربها وهي في قعر بيتها)، ورواه الترمذي عن بندار، عن عمرو بن عاصم به نحوه، اه منه.
وقد ذكر هذا الحديث صاحب (مجمع الزوائد)، وقال: رواه الطبراني في (الكبير)، ورجاله موثقون، وهذا الحديث يعتضد بجميع ما ذكرنا من الأدلة، وما جاء فيه من كون المرأة عورة، يدل على الحجاب للزوم ستر كل ما يصدق عليه اسم العورة.
ومما يؤيد ذلك: ما ذكر الهيثمي أيضا في (مجمع الزوائد)، عن ابن مسعود قال: إنما النساء عورة، وإن المرأة لتخرج من بيتها وما بها من بأس فيستشرفها الشيطان، فيقول: إنك لا تمرين بأحد إلا أعجبتيه، وإن المرأة لتلبس ثيابها فقال: أين تريدين؟ فتقول: أعود مريضا أو أشهد جنازة، أو أصلي في مسجد، وما عبدت امرأة ربها، مثل أن تعبده في بيتها، ثم قال: رواه الطبراني في (الكبير)، ورجاله ثقات، اه منه. ومثله له حكم الرفع إذ لا مجال للرأي فيه.
ومن الأدلة الدالة على ذلك الأحاديث التي قدمناها، الدالة على أن صلاة المرأة في بيتها خير لها من صلاتها في المساجد، كما أوضحناه في سورة (النور)، في الكلام على قوله تعالى: * (يسبح له فيها بالغدو والاصال رجال) *، والأحاديث بمثل ذلك كثيرة جدا، وفيما ذكرنا كفاية لمن يريد الحق.
فقد ذكرنا الآيات القرءانية الدالة على ذلك، والأحاديث الصحيحة الدالة على الحجاب، وبينا أن من أصرحها في ذلك آية (النور)، مع تفسير الصحابة لها، وهي قوله تعالى: * (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) *، فقد أوضحنا غير بعيد تفسير الصحابة لها، والنبي صلى الله عليه وسلم موجود بينهم ينزل عليه الوحي، بأن المراد بها يدخل فيه ستر الوجه وتغطيته عن
251

الرجال، وأن ستر المرأة وجهها عمل بالقرءان، كما قالته عائشة رضي الله عنها.
وإذا علمت أن هذا القدر من الأدلة على عموم الحجاب يكفي المنصف، فسنذكر لك أجوبة أهل العلم، عما استدل به الذين قالوا بجواز إبداء المرأة وجهها ويديها، بحضرة الأجانب.
فمن الأحاديث التي استدلوا بها على ذلك حديث خالد بن دريك عن عائشة رضي الله عنها: أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها، وقال: (يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت الحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا)، وأشار إلى وجهه وكفيه؛ وهذا الحديث يجاب عنه بأنه ضعيف من جهتين:
الأولى: هي كونه مرسلا؛ لأن خالد بن دريك لم يسمع من عائشة، كما قاله أبو داود، وأبو حاتم الرازي كما قدمناه في سورة (النور).
الجهة الثانية: أن في إسناده سعيد بن بشير الأزدي مولاهم، قال فيه في (التقريب): ضعيف، مع أنه مردود بما ذكرنا من الأدلة على عموم الحجاب، ومع أنه لو قدر ثبوته قد يحمل على أنه كان قبل الأمر بالحجاب.
ومن الأحاديث التي استدلوا بها على ذلك حديث جابر الثابت في الصحيح، قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان، ولا إقامة، ثم قام متوكئا على بلال فأمر بتقوى الله، وحث على طاعته، ووعظ الناس، وذكرهم ثم مضى حتى أتى النساء، فوعظهن وذكرهن، فقال: (تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم)، فقامت امرأة من سطة النساء سفعاء الخدين، فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: (لأنكن تكثرن الشكاة، وتكفرن العشير)، قال: فجعلن يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب بلال من أقرطهن وخواتمهن، اه. هذا لفظ مسلم في (صحيحه)، قالوا: وقول جابر في هذا الحديث: سفعاء الخدين يدل على أنها كانت كاشفة عن وجهها، إذ لو كانت محتجبة لما رأى خديها، ولما علم بأنها سفعاء الخدين. وأجيب عن حديث جابر هذا: بأنه ليس فيه ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كاشفة عن وجهها، وأقرها على ذلك، بل غاية ما يفيده الحديث أن جابرا رأى وجهها، وذلك لا يستلزم كشفها عنه قصدا، وكم من امرأة يسقط خمارها عن وجهها من غير قصد، فيراه بعض الناس في تلك الحال، كما قال نابغة ذبيان
252

: رآها كاشفة عن وجهها، وأقرها على ذلك، بل غاية ما يفيده الحديث أن جابرا رأى وجهها، وذلك لا يستلزم كشفها عنه قصدا، وكم من امرأة يسقط خمارها عن وجهها من غير قصد، فيراه بعض الناس في تلك الحال، كما قال نابغة ذبيان:
* سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
* فتناولته واثقتنا باليد
*
فعلى المحتج بحديث جابر المذكور، أن يثبت أنه صلى الله عليه وسلم رآها سافرة، وأقرها على ذلك، ولا سبيل له إلى إثبات ذلك. وقد روى القصة المذكورة غير جابر، فلم يذكر كشف المرأة المذكورة عن وجهها، وقد ذكر مسلم في (صحيحه)، ممن رواها غير جابر أبا سعيد الخدري، وابن عباس، وابن عمر، وذكره غيره عن غيرهم. ولم يقل أحد ممن روى القصة غير جابر أنه رأى خدي تلك المرأة السفعاء الخدين، وبذلك تعلم أنه لا دليل على السفور في حديث جابر المذكور. وقد قال النووي في شرح حديث جابر هذا عند مسلم، وقوله: فقامت امرأة من سطة النساء، هكذا هو في النسخ سطة بكسر السين، وفتح الطاء المخففة. وفي بعض النسخ: واسطة النساء. قال القاضي: معناه: من خيارهن، والوسط العدل والخيار، قال: وزعم حذاق شيوخنا أن هذا الحرف مغير في كتاب مسلم، وأن صوابه من سفلة النساء، وكذا رواه ابن أبي شيبة في مسنده، والنسائي في سننه. في رواية لابن أبي شيبة: امرأة ليست من علية النساء، وهذا ضد التفسير الأول ويعضده قوله بعده: سفعاء الخدين هذا كلام القاضي، وهذا الذي ادعوه من تغيير الكلمة غير مقبول، بل هي صحيحة، وليس المراد بها من خيار النساء؛ كما فسره به هو، بل المراد: امرأة من وسط النساء جالسة في وسطهن. قال الجوهري وغيره من أهل اللغة: يقال: وسطت القوم أسطهم وسطا وسطة، أي: توسطتهم، اه منه. وهذا التفسير الأخير هو الصحيح، فليس في حديث جابر ثناء البتة على سفعاء الخدين المذكورة، ويحتمل أن جابرا ذكر سفعة خديها ليشير إلى أنها ليست ممن شأنها الافتتان بها؛ لأن سفعة الخدين قبح في النساء. قال النووي: سفعاء الخدين، أي: فيها تغير وسواد. وقال الجوهري في (صحاحه): والسفعة في الوجه: سواد في خدي المرأة الشاحبة، ويقال للحمامة سفعاء لما في عنقها من السفعة، قال حميد بن ثور: رآها سافرة، وأقرها على ذلك، ولا سبيل له إلى إثبات ذلك. وقد روى القصة المذكورة غير جابر، فلم يذكر كشف المرأة المذكورة عن وجهها، وقد ذكر مسلم في (صحيحه)، ممن رواها غير جابر أبا سعيد الخدري، وابن عباس، وابن عمر، وذكره غيره عن غيرهم. ولم يقل أحد ممن روى القصة غير جابر أنه رأى خدي تلك المرأة السفعاء الخدين، وبذلك تعلم أنه لا دليل على السفور في حديث جابر المذكور. وقد قال النووي في شرح حديث جابر هذا عند مسلم، وقوله: فقامت امرأة من سطة النساء، هكذا هو في النسخ سطة بكسر السين، وفتح الطاء المخففة. وفي بعض النسخ: واسطة النساء. قال القاضي: معناه: من خيارهن، والوسط العدل والخيار، قال: وزعم حذاق شيوخنا أن هذا الحرف مغير في كتاب مسلم، وأن صوابه من سفلة النساء، وكذا رواه ابن أبي شيبة في مسنده، والنسائي في سننه. في رواية لابن أبي شيبة: امرأة ليست من علية النساء، وهذا ضد التفسير الأول ويعضده قوله بعده: سفعاء الخدين هذا كلام القاضي، وهذا الذي ادعوه من تغيير الكلمة غير مقبول، بل هي صحيحة، وليس المراد بها من خيار النساء؛ كما فسره به هو، بل المراد: امرأة من وسط النساء جالسة في وسطهن. قال الجوهري وغيره من أهل اللغة: يقال: وسطت القوم أسطهم وسطا وسطة، أي: توسطتهم، اه منه. وهذا التفسير الأخير هو الصحيح، فليس في حديث جابر ثناء البتة على سفعاء الخدين المذكورة، ويحتمل أن جابرا ذكر سفعة خديها ليشير إلى أنها ليست ممن شأنها الافتتان بها؛ لأن سفعة الخدين قبح في النساء. قال النووي: سفعاء الخدين، أي: فيها تغير وسواد. وقال الجوهري في (صحاحه): والسفعة في الوجه: سواد في خدي المرأة الشاحبة، ويقال للحمامة سفعاء لما في عنقها من السفعة، قال حميد بن ثور:
* من الورق سفعاء العلاطين باكرت
* فروع أشاء مطلع الشمس أسحما
*
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: السفعة في الخدين من المعاني المشهورة في كلام العرب: أنها سواد وتغير في الوجه، من مرض أو مصيبة أو سفر شديد، ومن ذلك قول متمم بن نويرة التميمي يبكي أخاه مالكا: السفعة في الخدين من المعاني المشهورة في كلام العرب: أنها سواد وتغير في الوجه، من مرض أو مصيبة أو سفر شديد، ومن ذلك قول متمم بن نويرة التميمي يبكي أخاه مالكا:
* تقول ابنة العمري ما لك بعدما
* أراك خضيبا ناعم البال أروعا
*
253

* فقلت لها طول الأسى إذ سألتني
* ولوعة وجد تترك الخد أسفعا
*
ومعلوم أن من السفعة ما هو طبيعي كما في الصقور، فقد يكون في خدي الصقر سواد طبيعي، ومنه قول زهير بن أبي سلمى: ومعلوم أن من السفعة ما هو طبيعي كما في الصقور، فقد يكون في خدي الصقر سواد طبيعي، ومنه قول زهير بن أبي سلمى:
* أهوى لها أسفع الخدين مطرق
* ريش القوادم لم تنصب له الشبك
*
والمقصود: أن السفعة في الخدين إشارة إلى قبح الوجه، وبعض أهل العلم يقول: إن قبيحة الوجه التي لا يرغب فيها الرجال لقبحها، لها حكم القواعد اللاتي لا يرجون
نكاحا.
ومن الأحاديث التي استدلوا بها على ذلك، حديث ابن عباس الذي قدمناه، قال: أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم الفضل بن عباس رضي الله عنهما، يوم النحر خلفه على عجز راحلته، وكان الفضل رجلا وضيئا فوقف النبي صلى الله عليه وسلم يفتيهم، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطفق الفضل ينظر إليها، وأعجبه حسنها فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم، والفضل ينظر إليها، فأخلف بيده، فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها، فقالت: يا رسول اللها إن فريضة الله في الحج على عباده، أدركت أبي شيخا كبيرا... الحديث، قالوا: فالإخبار عن الخثعمية بأنها وضيئة يفهم منه أنها كانت كاشفة عن وجهها.
254

وأجيب عن ذلك أيضا من وجهين:
الأول: الجواب بأنه ليس في شئ من روايات الحديث التصريح بأنها كانت كاشفة عن وجهها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كاشفة عنه، وأقرها على ذلك بل غاية ما في الحديث أنها كانت وضيئة، وفي بعض روايات الحديث: أنها حسناء، ومعرفة كونها وضيئة أو حسناء لا يستلزم أنها كانت كاشفة عن وجهها، وأنه صلى الله عليه وسلم أقرها على ذلك، بل قد ينكشف عنها خمارها من غير قصد، فيراها بعض الرجال من غير قصد كشفها عن وجهها، كما أوضحناه في رؤية جابر سفعاء الخدين. ويحتمل أن يكون يعرف حسنها قبل ذلك الوقت لجواز أن يكون قد رآها قبل ذلك وعرفها، ومما يوضح هذا أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الذي روي عنه هذا الحديث لم يكن حاضرا وقت نظر أخيه إلى المرأة، ونظرها إليه لما قدمنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم قدمه بالليل من مزدلفة إلى منى في ضعفة أهله، ومعلوم أنه إنما روى الحديث المذكور من طريق أخيه الفضل، وهو لم يقل له: إنها كانت كاشفة عن وجهها، واطلاع الفضل على أنها وضيئة حسناء لا يستلزم السفور قصدا لاحتمال أن يكون رأى وجهها، وعرف حسنه من أجل انكشاف خمارها من غير قصد منها، واحتمال أنه رآها قبل ذلك وعرف حسنها.
فإن قيل: قوله: إنها وضيئة، وترتيبه على ذلك بالفاء، قوله: فطفق الفضل ينظر إليها، وقوله: وأعجبه حسنها، فيه الدلالة الظاهرة على أنه كان يرى وجهها، وينظر إليه لإعجابه بحسنه.
فالجواب: أن تلك القرائن لا تستلزم استلزاما، لا ينفك أنها كانت كاشفة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كذلك، وأقرها لما ذكرنا من أنواع الاحتمال، مع أن جمال المرأة قد يعرف وينظر إليها لجمالها وهي مختمرة، وذلك لحسن قدها وقوامها، وقد تعرف وضاءتها وحسنها من رؤية بنانها فقط، كما هو معلوم. ولذلك فسر ابن مسعود: * (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) *، بالملاءة فوق الثياب، كما تقدم. ومما يوضح أن الحسن يعرف من تحت الثياب، قول الشاعر: كما هو معلوم. ولذلك فسر ابن مسعود: * (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) *، بالملاءة فوق الثياب، كما تقدم. ومما يوضح أن الحسن يعرف من تحت الثياب، قول الشاعر:
* طافت أمامة بالركبان آونة
* يا حسنها من قوام ما ومنتقبا
*
فقد بالغ في حسن قوامها، مع أن العادة كونه مستورا بالثياب لا منكشفا.
الوجه الثاني: أن المرأة محرمة وإحرام المرأة في وجهها وكفيها، فعليها كشف وجهها إن لم يكن هناك رجال أجانب ينظرون إليه، وعليها ستره من الرجال في الإحرام، كما هو معروف عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن، ولم يقل أحد أن هذه المرأة الخثعمية نظر إليها أحد غير الفضل بن عباس رضي الله عنهما، والفضل منعه النبي صلى الله عليه وسلم من النظر إليها، وبذلك يعلم أنها محرمة لم ينظر إليها أحد فكشفها عن وجهها إذا لإحرامها لا لجواز السفور.
فإن قيل: كونها مع الحجاج مظنة أن ينظر الرجال وجهها إن كانت سافرة؛ لأن الغالب أن المرأة السافرة وسط الحجيج، لا تخلو ممن ينظر إلى وجهها من الرجال.
فالجواب: أن الغالب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الورع وعدم النظر إلى النساء، فلا مانع عقلا ولا شرعا ولا عادة، من كونها لم ينظر إليها أحد منهم، ولو نظر إليها لحكي كما حكي نظر الفضل إليها، ويفهم من صرف النبي صلى الله عليه وسلم بصر الفضل عنها، أنه لا سبيل إلى ترك
255

الأجانب ينظرون إلى الشابة، وهي سافرة كما ترى، وقد دلت الأدلة المتقدمة على أنها يلزمها حجب جميع بدنها عنهم.
وبالجملة، فإن المنصف يعلم أنه يبعد كل البعد أن يأذن الشارع للنساء في الكشف عن الوجه أمام الرجال الأجانب، مع أن الوجه هو أصل الجمال، والنظر إليه من الشابة الجميلة هو أعظم مثير للغريزة البشرية وداع إلى الفتنة، والوقوع فيما لا ينبغي، ألم تسمع بعضهم يقول: وبالجملة، فإن المنصف يعلم أنه يبعد كل البعد أن يأذن الشارع للنساء في الكشف عن الوجه أمام الرجال الأجانب، مع أن الوجه هو أصل الجمال، والنظر إليه من الشابة الجميلة هو أعظم مثير للغريزة البشرية وداع إلى الفتنة، والوقوع فيما لا ينبغي، ألم تسمع بعضهم يقول:
* قلت اسمحوا لي أن أفوز بنظرة
* ودعوا القيامة بعد ذاك تقوم
*
أترضى أيها الإنسان أن تسمح له بهذه النظرة إلى نسائك وبناتك وأخوانك، ولقد صدق من قال: أترضى أيها الإنسان أن تسمح له بهذه النظرة إلى نسائك وبناتك وأخوانك
، ولقد صدق من قال:
* وما عجب أن النساء ترجلت
* ولكن تأنيث الرجال عجاب
*
مسألة تتعلق بهذه الآية الكريمة أعني آية الحجاب هذه
اعلم: أنه لا يجوز للرجل الأجنبي أن يصافح امرأة أجنبية منه.
ولا يجوز له أن يمس شئ من بدنه شيئا من بدنها.
والدليل على ذلك أمور:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قال: (إني لا أصافح النساء)، الحديث. والله يقول: * (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة) *، فيلزمنا ألا نصافح النساء اقتداء به صلى الله عليه وسلم، والحديث المذكور موضحا في سورة (الحج)، في الكلام على النهي عن لبس المعصفر مطلقا في الإحرام، وغيره للرجال. وفي سورة (الأحزاب)، في آية الحجاب هذه.
وكونه صلى الله عليه وسلم لا يصافح النساء وقت البيعة دليل واضح على أن الرجل لا يصافح المرأة، ولا يمس شئ من بدنه شيئا من بدنها؛ لأن أخف أنواع اللمس المصافحة، فإذا امتنع منها صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي يقتضيها وهو وقت المبايعة، دل ذلك على أنها لا تجوز، وليس لأحد مخالفته صلى الله عليه وسلم، لأنه هو المشرع لأمته بأقواله وأفعاله وتقريره.
256

الأمر الثاني: هو ما قدمنا من أن المرأة كلها عورة يجب عليها أن تحتجب، وإنما أمر بغض البصر خوف الوقوع في الفتنة، ولا شك أن مس البدن للبدن، أقوى في إثارة الغريزة، وأقوى داعيا إلى الفتنة من النظر بالعين، وكل منصف يعلم صحة ذلك.
الأمر الثالث: أن ذلك ذريعة إلى التلذذ بالأجنبية، لقلة تقوى الله في هذا الزمان وضياع الأمانة، وعدم التورع عن الريبة، وقد أخبرنا مرارا أن بعض الأزواج من العوام، يقبل أخت امرأته بوضع الفم على الفم ويسمون ذلك التقبيل الحرام بالإجماع سلاما، فيقولون: سلم عليها، يعنون: قبلها، فالحق الذي لا شك فيه التباعد عن جميع الفتن والريب وأسبابها، ومن أكبرها لمس الرجل شيئا من بدن الأجنبية، والذريعة إلى الحرام يجب سدها؛ كما أوضحناه في غير هذا الموضع، وإليه الإشارة بقول صاحب (مراقي السعود): الأمر الثالث: أن ذلك ذريعة إلى التلذذ بالأجنبية، لقلة تقوى الله في هذا الزمان وضياع الأمانة، وعدم التورع عن الريبة، وقد أخبرنا مرارا أن بعض الأزواج من العوام، يقبل أخت امرأته بوضع الفم على الفم ويسمون ذلك التقبيل الحرام بالإجماع سلاما، فيقولون: سلم عليها، يعنون: قبلها، فالحق الذي لا شك فيه التباعد عن جميع الفتن والريب وأسبابها، ومن أكبرها لمس الرجل شيئا من بدن الأجنبية، والذريعة إلى الحرام يجب سدها؛ كما أوضحناه في غير هذا الموضع، وإليه الإشارة بقول صاحب (مراقي السعود):
* سد الذرائع إلى المحرم
* حتم كفتحها إلى المنحتم
* يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله) *. أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول للناس الذين يسألونه عن الساعة: * (إنما علمها عند الله) *، ومعلوم أن * (إنما) * صيغة حصر.
فمعنى الآية: أن الساعة لا يعلمها إلا الله وحده.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، جاء واضحا في آيات أخر من كتاب الله؛ كقوله تعالى: * (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث) *.
وقد بين صلى الله عليه وسلم أن الخمس المذكورة في قوله: * (إن الله عنده علم الساعة) *، هي المراد بقوله تعالى: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) *، وكقوله تعالى: * (يسئلونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت فى السماوات والارض لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت فى السماوات والارض لا تأتيكم إلا بغتة يسئلونك كأنك حفى عنها قل) *، وقوله تعالى: * (يسئلونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها) *، وقوله تعالى:
257

* (إليه يرد علم الساعة) *، وفي الحديث: (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل). * (وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الساعة التي هي القيامة لعلها تكون قريبا، وذكر نحوه في قوله في (الشورى): * (وما يدريك لعل الساعة قريب) *، وقد أوضح جل وعلا اقترابها في آيات أخر؛ كقوله: * (اقتربت الساعة) *، وقوله: * (اقترب للناس حسابهم وهم فى غفلة معرضون) *، وقوله تعالى: * (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) *. * (إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا) *، إلى قوله: * (لعنا كبيرا) *. تقدمت الآيات الموضحة له مرارا.
* (إنا عرضنا الا مانة على السماوات والا رض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا * ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما) * * (إنا عرضنا الا مانة على السماوات والا رض والجبال فأبين أن يحملنها
وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه عرض الأمانة، وهي التكاليف مع ما يتبعها من ثواب وعقاب على السماوات والأرض والجبال، وأنهن أبين أن يحملنها وأشفقن منها، أي: خفن من عواقب حملها أن ينشأ لهن من ذلك عذاب الله وسخطه، وهذا العرض والإباء، والإشفاق كله حق، وقد خلق الله للسماوات والأرض والجبال إدراكا يعلمه هو جل وعلا، ونحن لا بعلمه، وبذلك الإدراك أدركت عرض الأمانة عليها، وأبت وأشفقت، أي: خافت.
ومثل هذا تدل عليه آيات وأحاديث كثيرة، فمن الآيات الدالة على إدرام الجمادات المذكور: قوله تعالى في سورة (البقرة)، في الحجارة: * (وإن منها لما يهبط من خشية الله) *، فصرح بأن من الحجارة ما يهبط من خشية الله، وهذه الخشية التي نسبها الله لبعض الحجارة بإدراك يعلمه هو تعالى.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: * (تسبح له السماوات السبع والارض ومن
258

فيهن وإن من شىء إلا يسبح بحمده ولاكن لا تفقهون تسبيحهم) *، ومنها قوله تعالى: * (وسخرنا مع * داوود الجبال يسبحن) *، إلى غير ذلك من الآيات.
ومن الأحاديث الصحيحة الدالة على ذلك قصة حنين الجذع، الذي كان يخطب عليه صلى الله عليه وسلم لما انتقل بالخطبة إلى المنبر، وهي في صحيح البخاري وغيره.
ومنها ما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (إني لأعرف حجرا كان يسلم علي في مكة)، وأمثال هذا كثيرة. فكل ذلك المذكور في الكتاب والسنة إنما يكون بإدراك يعلمه الله، ونحن لا نعلمه؛ كما قال تعالى: * (ولاكن لا تفقهون تسبيحهم) *، ولو كان المراد بتسبيح الجمادات دلالتها على خالقها لكنا نفقهه، كما هو معلوم، وقد دلت عليه آيات كثيرة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) *، الظاهر أن المراد بالإنسان آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأن الضمير في قوله: * (إنه كان ظلوما جهولا) *، راجع للفظ: * (الإنسان) *، مجردا عن إرادة المذكور منه، الذي هو آدم.
والمعنى: أنه أي الإنسان الذي لا يحفظ الأمانة * (كان ظلوما جهولا) *، أي: كثير الظلم والجهل، والدليل على هذا أمران:
أحدهما: قرينة قرءانية دالة على انقسام الإنسان في حمل الأمانة المذكورة إلى معذب ومرحوم في قوله تعالى بعده، متصلا به: * (ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما) *، فدل هذا على أن الظلوم الجهول من الإنسان هو المعذب، والعياذ بالله، وهم المنافقون والمنافقات، والمشركون والمشركات، دون المؤمنين والمؤمنات. واللام في قوله: * (ليعذب) *: لام التعليل، وهي متعلقة بقوله: * (وحملها الإنسان) *.
الأمر الثاني: أن الأسلوب المذكور الذي هو رجوع الضمير إلى مجرد اللفظ دون اعتبار المعنى التفصيلي معروف في اللغة التي نزل بها القرءان، وقد جاء فعلا في آية من كتاب الله، وهي قوله تعالى * (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا فى كتاب) *؛
259

لأن الضمير في قوله: * (ولا ينقص من عمره) *، راجع إلى لفظ المعمر دون معناه التفصيلي؛ كما هو ظاهر، وقد أوضحناه في سورة (الفرقان)، في الكلام على قوله تعالى: * (وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا) *، وبينا هناك أن هذه المسألة هي المعروفة عند علماء العربية بمسألة: عندي درهم ونصفه، أي: نصف درهم آخر، كما ترى. وبعض من قال من أهل العلم إن الضمير في قوله: * (إنه كان ظلوما جهولا) *، عائد إلىءادم، قال: المعنى أنه كان ظلوما لنفسه جهولا، أي: غرا بعواقب الأموار، وما يتبع الأمانة من الصعوبات، والأظهر ما ذكرنا، والعلم عند الله تعالى.
260

((سورة سبأ))
* (الحمد لله الذى له ما فى السماوات وما فى الا رض وله الحمد فى الا خرة وهو الحكيم الخبير * يعلم ما يلج فى الا رض وما يخرج منها وما ينزل من السمآء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور * وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربى لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السماوات ولا فى الا رض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا فى كتاب مبين * ليجزى الذين ءامنوا وعملوا الصالحات أولائك لهم مغفرة ورزق كريم * والذين سعوا فىءاياتنا معاجزين أولائك لهم عذاب من رجز أليم * ويرى الذين أوتوا العلم الذى أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدى إلى صراط العزيز الحميد * وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفى خلق جديد * أفترى على الله كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالا خرة فى العذاب والضلال البعيد * أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السمآء والا رض إن نشأ نخسف بهم الا رض أو نسقط عليهم كسفا من السمآء إن فى ذلك لاية لكل عبد منيب * ولقد ءاتينا داوود منا فضلا ياجبال أوبى معه والطير وألنا له الحديد * أن اعمل سابغات وقدر فى السرد واعملوا صالحا إنى بما تعملون بصير) * قوله تعالى: * (وله الحمد فى الا خرة) *. قد ذكرنا ما هو بمعناه من الآيات في أول سورة (الفاتحة)، في الكلام على قوله: * (الحمد لله رب العالمين) *. * (يعلم ما يلج فى الا رض وما يخرج منها وما ينزل من السمآء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه * (يعلم ما يلج فى الارض) *، أي: ما يدخل فيها كالماء النازل من السماء، الذي يلج في الأرض؛ كما أوضحه بقوله تعالى: * (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع فى الارض) *.
وقوله: * (وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه فى الارض) *، فهو جل وعلا يعلم عدد القطر النازل من السماء إلى الأرض، وكيف لا يعلمه من خلقه: * (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) *، ويعلم أيضا ما يلج في الأرض من الموتى الذين يدفنون فيها؛ كما قال جل وعلا: * (منها خلقناكم وفيها نعيدكم) *، وقال: * (ألم نجعل الارض كفاتا * أحياء وأمواتا) *، والكفات من الكفت: وهو الضم، لأنها تضمهم أحياء على ظهرها، وأمواتا في بطنها، ويعلم أيضا ما يلج في الأرض
من البذر؛ كما قال تعالى: * (ولا حبة فى ظلمات الارض ولا رطب ولا يابس إلا فى كتاب مبين) *، وكذلك ما في بطنها من المعادن، وغير ذلك.
قوله: * (وما يخرج منها) *، أي: من الأرض كالنبات والحبوب، والمعادن، والكنوز، والدفائن وغير ذلك، ويعلم * (ما ينزل من السماء) * من المطر، والثلج، والبرد، والرزق وغير ذلك. * (وما يعرج) *، أي: يصعد فيها، أي: السماء، كالأعمال
261

الصالحة؛ كما بينه بقوله: * (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) *، وكأرواح المؤمنين وغير ذلك؛ كما قال تعالى: * (تعرج الملئكة والروح إليه فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) *.
وقال تعالى: * (يدبر الامر من السماء إلى الارض ثم يعرج إليه فى يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون) *، وما ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه يعلم جميع ما ذكر، ذكره في سورة (الحديد)، في قوله: * (يعلم ما يلج فى الارض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم * أينما كنتم والله بما تعملون بصير) *.
وقد أوضحنا الآيات الدالة على كمال إحاطة علم الله بكل شئ في أول سورة (هود)، في الكلام على قوله تعالى: * (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه) *، وفي مواضع أخر متعددة. * (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربى لتأتينكم) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار أنكروا البعث، وقالوا: * (لا تأتينا الساعة) *، أي: القيامة، وأنه جل وعلا أمر نبيه أن يقسم لهم بربه العظيم أن الساعة سوف تأتيهم مؤكدا ذلك توكيدا متعددا.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من إنكار الكفار للبعث، جاء موضحا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم ولا يبعث الله من يموت) *، وقوله تعالى: * (وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحى العظام وهى رميم) *، وقوله تعالى: * (ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا) *، وقوله تعالى عنهم: * (وما نحن بمبعوثين) *، * (وما نحن بمنشرين) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا، وما ذكره جل وعلا من أنه أمر نبيه بالإقسام لهم على أنهم يبعثون، جاء موضحا في مواضع أخر.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة: هذه إحدى الآيات الثلاث التي لا رابعة لهن، مما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد، لما أنكره من أنكره من أهل الكفر والعناد، فإحداهن في سورة (يونس) عليه السلام، وهي قوله تعالى:
262

* (ويستنبئونك أحق هو قل إى وربى إنه لحق وما أنتم بمعجزين) *، والثانية هذه: * (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربى لتأتينكم) *، والثالثة في سورة (التغابن)، وهي قوله تعالى: * (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربى لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم) *.
وقد قدمنا البراهين الدالة على البعث بعد الموت من القرءان في سورة (البقرة)، و سورة (النحل) وغيرهما.
وقد قدمنا الآيات الدالة على إنكار الكفار البعث، وما أعد الله لمنكري البعث من العذاب في (الفرقان)، في الكلام على قوله تعالى: * (وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا) *، وفي مواضع أخر. وقوله: * (قل بلى) * لفظة: * (بلى) * قد قدمنا معانيها في اللغة العربية بإيضاح في سورة (النحل)، في الكلام على قوله تعالى: * (فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى) *. * (عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السماوات ولا فى الا رض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا فى كتاب) *. ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه * (لا يعزب عنه مثقال ذرة فى * السماوات ولا فى الارض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر) *، جاء موضحا في آيات أخر؛ كقوله تعالى: * (وما تكون فى شأن وما تتلوا منه من قرءان ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من) *، وقوله تعالى: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما فى البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة، وقد بيناها في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (لا يعزب) *، أي: لا يغيب عنه مثقال ذرة، ومنه قول كعب بن سعد الغنوي: وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (لا يعزب) *، أي: لا يغيب عنه مثقال ذرة، ومنه قول كعب بن سعد الغنوي:
* أخي كان أما حلمه فمروح
* عليه وأما جهله فعزيب
263

*
يعني: أن الجهل غائب عنه ليس متصفا به. وقرأ هذا الحرف نافع وابن عامر: * (عالم الغيب) *، بألف بعد العين وتخفيف اللام المكسورة، وضم الميم على وزن فاعل. وقرأه حمزة والكسائي: * (علم الغيب) *، بتشديد الميم وألف بعد اللام المشددة وخفض الميم على وزن فعال. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وعاصم: * (عالم الغيب) *؛ كقراءة نافع وابن عامر، إلا أنهم يخفضون الميم. وعلى قراءة نافع وابن عامر بضم الميم، من قوله: * (عالم الغيب) *، فهو مبتدأ خبره جملة: * (لا يعزب عنه) * الآية، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: هو عالم الغيب.
وعلى قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم: * (عالم الغيب) *، بخفض الميم فهو نعت لقوله: * (ربى) *، أي: قل: بلى وربي عالم الغيب لتأتينكم، وكذلك على قراءة حمزة والكسائي: * (علم الغيب) *. وقرأ هذا الحرف عامة القراء غير الكسائي: * (لا يعزب عنه) *، بضم الزاي من * (يعزب) *، وقرأه الكسائي بكسر الزاي. * (والذين سعوا فىءاياتنا معاجزين أولائك لهم عذاب من رجز أليم) *. لم يبين هنا نوع هذا العذاب، ولكنه بينه بقوله في (الحج): * (والذين سعوا
فىءاياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم) *، وقوله: * (معاجزين) *، أي: مغالبين ومسابقين، يظنون أنهم يعجزون ربهم، فلا يقدر على بعثهم وعذابهم. والرجز: العذاب؛ كما قال: * (فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا) *، وقرأ هذا الحرف ابن كثير، وأبو عمرو: * (معاجزين) *، بلا ألف بعد العين مع تشديد الجيم المكسورة. وقرأه الباقون بألف بعد العين، وتخفيف الجيم، ومعنى قراءة التشديد أنهم يحسبون أنهم يعجزون ربهم، فلا يقدر على بعثهم وعقابهم.
وقال بعضهم: أن معنى * (معاجزين) * بالتشديد، أي: مثبطين الناس عن الإيمان. وقرأ ابن كثير وحفص: * (من رجز أليم) *، بضم الميم من قوله: * (أليم) * على أنه نعت؛ لقوله: * (عذاب) * وقرأ الباقون: * (أليم) * بالخفض على أنه نعت لقوله: * (رجز) *. * (وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفى خلق جديد) *، إلى قوله: * (والضلال البعيد) *.
264

ما تضمنته هذه الآية الكريمة من إنكار البعث، وتكذيب الله لهم في ذلك، قدم موضحا في مواضع كثيرة من هذا الكتاب في (البقرة) و (النحل) وغيرهما.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (إذا مزقتم كل ممزق) *، أي: تمزقت أجسادكم وتفرقت وبليت عظامكم، واختلطت بالأرض، وتلاشت فيها. وقوله عنهم: * (إنكم لفى خلق جديد) *، أي: البعث بعد الموت، وهو مصب إنكارهم قبحهم الله، وهو جل وعلا يعلم ما تلاشى في الأرض من أجسادهم وعظامهم؛ كما قال تعالى: * (قد علمنا ما تنقص الارض منهم وعندنا كتاب حفيظ) *. * (أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السمآء والا رض) *. ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من توبيخ الكفار، وتقريعهم على عدم تفكرهم ونظرهم إلى ما بين أيديهم، وما خلفهم من السماء والأرض، ليستدلوا بذلك على كمال قدرة الله على البعث، وعلى كل شئ، وأنه هو المعبود وحده، جاء موضحا في مواضع أخر؛ كقوله تعالى: * (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج * والارض مددناها وألقينا فيها رواسى وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج * تبصرة وذكرى لكل عبد منيب) *، وقوله تعالى: * (أولم ينظروا فى ملكوت السماوات والارض وما خلق الله من شىء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم) *، وقوله تعالى: * (وكأين من ءاية فى السماوات والارض يمرون عليها وهم عنها معرضون) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة معروفة.
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: قال عبد بن حميد، أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر عن قتادة: * (أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والارض) *، قال: إنك إن نظرت عن يمينك، أو عن شمالك، أو من بين يديك، أو من خلفك، رأيت السماء والأرض. * (إن نشأ نخسف بهم الا رض أو نسقط عليهم كسفا من السمآء) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أمرين:
أحدهما: أنه إن شاء خسف الأرض بالكفار، خسفها بهم لقدرته على ذلك.
265

والثاني: أنه إن شاء أن يسقط عليهم كسفا من السماء، فعل ذلك أيضا لقدرته عليه.
أما الأول: الذي هو أنه لو شاء أن يخسف بهم الأرض لفعل، فقد ذكره تعالى في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى: * (من فى السماء أن يخسف بكم الارض فإذا هى تمور أم) *، وقوله تعالى: * (أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر) *، وقوله تعالى: * (لولا أن من الله علينا لخسف بنا) *، وقوله تعالى في (الأنعام): * (أو من تحت أرجلكم) *.
وقوله هنا: * (أو نسقط عليهم كسفا من السماء) *، قد بينا في سورة (بني إسرائيل)، أنه هو المراد بقوله تعالى عن الكفار: * (أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا) *. وقرأه حمزة والكسائي: * (إن يشأ يخسف بهم الارض أو نسقط عليهم كسفا من السماء) * بالياء المثناة التحتية في الأفعال الثلاثة، أعني: يشأ، ويخسف، ويسقط؛ وعلى هذه القراءة فالفاعل ضمير يعود إلى الله تعالى، أي: إن يشأ هو، أي: الله يخسف بهم الأرض، وقرأ الباقون بالنون الدالة على العظمة في الأفعال الثلاثة، أي: إن نشأ نحن.. الخ، وقرأ حفص عن عاصم: * (كسفا) * بفتح السين، والباقون بسكونها والكسف بفتح السين القطع، والكسف بسكون السين واحدها. * (ولقد ءاتينا داوود منا فضلا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه آتى داود منه فضلا تفضل به عليه، وبين هذا الفضل الذي تفضل به على داود في آيات أخر؛ كقوله تعالى: * (وقتل داوود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء) *، وقوله تعالى: * (وشددنا ملكه وءاتيناه الحكمة وفصل الخطاب) *، وقوله تعالى: * (ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أواب) *، وقوله تعالى: * (فغفرنا له ذالك وإن له عندنا لزلفى وحسن مئاب) *، وقوله تعالى: * (مئاب ياداوود إنا جعلناك خليفة فى الارض) *، وقوله تعالى: * (ولقد ءاتينا * داوود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذى فضلنا على كثير من عباده المؤمنين) *، وقوله تعالى: * (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وءاتينا * داوود زبورا) *، إلى غير ذلك من الآيات.
266

* (ياجبال أوبى معه والطير) *.
قد بينا الآيات الموضحة له مع إيضاح معنى * (أوبى معه) * في سورة (الأنبياء)، في الكلام على قوله تعالى: * (وسخرنا مع * داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين) *. * (وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر فى السرد) *.
قد قدمنا الآيات التي فيها إيضاحه مع بعض الشواهد، وتفسير قوله: * (وقدر فى السرد) *، في سورة (الأنبياء)، في الكلام على قوله تعالى: * (وعلمناه صنعة لبوس لكم) *. وفي (النحل)، في الكلام على قوله تعالى: * (وسرابيل تقيكم بأسكم) *.
* (ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير * يعملون له ما يشآء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا ءال داوود شكرا وقليل من عبادى الشكور * فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الا
رض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا فى العذاب المهين * لقد كان لسبإ فى مسكنهم ءاية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور * فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجناتهم جنتين ذواتى أكل خمط وأثل وشىء من سدر قليل * ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجزى إلا الكفور * وجعلنا بينهم وبين القرى التى باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالى وأياما ءامنين * فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن فى ذلك لايات لكل صبار شكور * ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين * وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالا خرة ممن هو منها فى شك وربك على كل شىء حفيظ * قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة فى السماوات ولا فى الا رض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلى الكبير * قل من يرزقكم من السماوات والا رض قل الله وإنآ أو إياكم لعلى هدى أو فى ضلال مبين * قل لا تسألون عمآ أجرمنا ولا نسأل عما تعملون * قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم * قل أرونى الذين ألحقتم به شركآء كلا بل هو الله العزيز الحكيم * ومآ أرسلناك إلا كآفة للناس بشيرا ونذيرا ولاكن أكثر الناس لا يعلمون * ويقولون متى هاذا الوعد إن كنتم صادقين * قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون * وقال الذين كفروا لن نؤمن بهاذا القرءان ولا بالذى بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين * قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جآءكم بل كنتم مجرمين * وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر اليل والنهار إذ تأمروننآ أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الا غلال فى أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون * ومآ أرسلنا فى قرية من نذير إلا قال مترفوهآ إنا بمآ أرسلتم به كافرون * وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين * قل إن ربى يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر ولاكن أكثر الناس لا يعلمون * ومآ أموالكم ولا أولادكم بالتى تقربكم عندنا زلفى إلا من ءامن وعمل صالحا فأولائك لهم جزآء الضعف بما عملوا وهم فى الغرفات ءامنون * والذين يسعون فىءاياتنا معاجزين أولائك فى العذاب محضرون * قل إن ربى يبسط الرزق لمن يشآء من عباده ويقدر له ومآ أنفقتم من شىء فهو يخلفه وهو خير الرازقين) * * (ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر) *. قد بينا الآيات التي فيها إيضاح له في سورة (الأنبياء)، في الكلام على قوله: * (ولسليمان الريح عاصفة تجرى بأمره إلى الارض) *، مع الأجوبة عن بعض الأسئلة الواردة على الآيات المذكورة * (ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه) *، إلى قوله تعالى: * (وقدور راسيات) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الأنبياء)، في الكلام على قوله تعالى: * (ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذالك وكنا لهم حافظين) *. * (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الحجر)، في الكلام على قوله تعالى عنه: * (لازينن لهم فى الارض ولاغوينهم أجمعين) *. وفي سورة (الأعراف)، في الكلام على قوله تعالى: * (ولا تجد أكثرهم شاكرين) *، وقوله: * (ولقد صدق) *، قرأه عاصم وحمزة والكسائي بتشديد الدال، والباقون بالتخفيف. * (وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالا خرة) *.
267

قد بينا الأيات الموضحة له في سورة (الحجر)، في الكلام على قوله تعالى: * (إلا عبادك منهم المخلصين) *، وفي غير ذلك من المواضع. * (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة فى السماوات ولا فى الا رض) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا) *. * (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (البقرة)، في الكلام على قوله تعالى: * (ولا يقبل منها شفاعة) *. * (قل من يرزقكم من السماوات والا رض قل الله) *. أمر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة، نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار: * (من يرزقكم من * السماوات والارض) *، أي: يرزقكم من السماوات بإنزال المطر مثلا، والأرض بإنبات الزروع والثمار، ونحو ذلك. ثم أمره أن يقول: * (الله) *، أي: الذي يرزقكم من السماوات والأرض هو الله، وأمره تعالى له صلى الله عليه وسلم بأن يجيب بأن رازقهم هو الله يفهم منه أنهم مقرون بذلك، وأنه ليس محل نزاع.
وقد صرح تعالى بذلك في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: * (قل من يرزقكم من السماء والارض أمن يملك السمع والابصار ومن يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى) *، وإقرارهم بربوبيته تعالى يلزمه الاعتراف بعبادته وحده، والعلم بذلك.
وقد قدمنا كثيرا من الآيات الموضحة لذلك في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) *. * (قل لا تسألون عمآ أجرمنا ولا نسأل عما تعملون) *
268

. أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول للكفار: إنهم وإياهم ليس أحد منهم مسؤولا عما يعمله الآخر، بل كل منهم مؤاخذ بعمله، والآخر بريء منه.
وأوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى: * (وإن كذبوك فقل لى عملى ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا برىء مما تعملون) *، وقوله تعالى: * (قل ياأهل أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) *، إلى قوله: * (لكم دينكم ولى دين) *، وفي معنى ذلك في الجملة قوله تعالى: * (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون) *؛ وكقوله تعالى عن نبيه هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: * (قال إنى أشهد الله واشهدوا أنى برىء مما تشركون * من دونه فكيدونى جميعا ثم لا تنظرون) *. * (قل أرونى الذين ألحقتم به شركآء كلا بل هو الله العزيز الحكيم) *. أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول لعبدة الأوثان: أروني أوثانكم التي ألحقتموها بالله شركاء له في عبادته كفرا منكم، وشركاء وافتراء، وقوله: * (أرونى الذين ألحقتم به
شركاء) *، لأنهم إن أروه إياها تبين برؤيتها أنها جماد لا ينفع ولا يضر، واتضح بعدها عن صفات الألوهية، فظهر لكل عاقل برؤيتها بطلان عبادة ما لا ينفع ولا يضر، فإحضارها والكلام فيها، وهي مشاهدة أبلغ من الكلام فيها غائبة، مع أنه صلى الله عليه وسلم يعرفها، وكما أنه في هذه الآية الكريمة أمرهم أن يروه إياها ليتبين بذلك بطلان عبادتها، فقد أمرهم في آية أخرى أن يسموها بأسمائها؛ لأن تسميتها بأسمائها يظهر بها بعدها عن صفات الألوهية، وبطلان عبادتها لأنها أسماء إناث حقيرة كاللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى؛ كما قال تعالى: * (إن يدعون من دونه إلا إناثا) *، وذلك في قوله تعالى: * (وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم فى الارض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل) *.
والأظهر في قوله: * (أرونى الذين ألحقتم به) * في هذه الآية: هو ما ذكرنا من أن الرؤية بصرية، وعليه فقوله: * (شركاء) * حال، وقال بعض أهل العلم: إنها من رأى
269

العلمية، وعليه ف * (شركاء) * مفعول ثالث ل * (أرونى) *، قال القرطبي: يكون * (أرونى) * هنا من رؤية القلب، فيكون: * (شركاء) * مفعولا ثالثا، أي: عرفوني الأصنام والأوثان التي جعلتموها شركاء لله عز وجل، وهل شاركت في خلق شئ، فبينوا ما هو وإلا فلم تعبدونها، اه محل الغرض منه. واختار هذا أبو حيان في (البحر المحيط). وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (كلا) * ردع لهم، وزجر عن إلحاق الشركاء به. وقوله: * (بل هو الله العزيز الحكيم) *، أي: المتصف بذلك هو المستحق للعبادة، وقد قدمنا معنى * (العزيز الحكيم) * بشواهده مرارا. * (ومآ أرسلناك إلا كآفة للناس بشيرا ونذيرا) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الأعراف)، في الكلام على قوله تعالى: * (قل ياأيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعا) *، وفي غير ذلك من المواضع. وقوله تعالى: * (إلا كافة للناس) *، استشهد به بعض علماء العربية على جواز تقدم الحال على صاحبها المجرور بالحرف؛ كما أشار له ابن مالك في (الخلاصة)، بقوله: بقوله:
* وسبق حال ما بحرف جر قد
* أبوا ولا أمنعه فقد ورد
*
قالوا: لأن المعنى: * (وما أرسلناك إلا للناس كافة) *، أي: جميعا، أي: أرسلناك للناس في حال كونهم مجتمعين في رسالتك، وممن أجاز ذلك أبو علي الفارسي، وابن كيسان، وابن برهان، ولذلك شواهد في شعر العرب؛ كقول طليحة بن خويلد الأسدي: قالوا: لأن المعنى: * (وما أرسلناك إلا للناس كافة) *، أي: جميعا، أي: أرسلناك للناس في حال كونهم مجتمعين في رسالتك، وممن أجاز ذلك أبو علي الفارسي، وابن كيسان، وابن برهان، ولذلك شواهد في شعر العرب؛ كقول طليحة بن خويلد الأسدي:
* فإن تك أذواد أصبن ونسوة
* فلن يذهبوا فرغا بقتل حبال
*
وكقول كثير: وكقول كثير:
* لئن كان برد الماء هيمان صاديا
* إلى حبيبا إنها لحبيب
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* تسليت طرا عنكم بعد بينكم
* بذكركم حتى كأنكم عندي
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* غافلا تعرض المنية للمر
* ء فيدعي ولات حين إباء
*
270

وقوله: وقوله:
* مشغوفة بك قد شغفت وإنما
* حم الفراق فما إليك سبيل
*
وقوله: وقوله:
* إذا المرء أعيته المروءة ناشئا
* فمطلبها كهلا عليه شديد
*
فقوله في البيت الأول: فرغا، أي: هدرا، حال وصاحبه المجرور بالباء الذي هو بقتل، وحبال اسم رجل. وقوله في البيت الثاني: هيمان صاديا، حالان من ياء المتكلم المجرورة بإلى في قوله: إلي حبيبا. وقوله في البيت الثالث: طرا حال من الضمير المجرور بعن، في قوله: عنكم، وهكذا وتقدم الحال على صاحبها المجرور بالحرف منعه أغلب النحويين.
وقال الزمخشري في (الكشاف)، في تفسير قوله تعالى: * (وما أرسلناك إلا كافة للناس) *، إلا رسالة عامة لهم محيطة بهم؛ لأنهم إذا شملتهم، فإنها قد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم.
وقال الزجاج: المعنى: أرسلناك جامعا للناس في الإنذار والإبلاغ فجعله حالا من الكاف، وحق التاء على هذا أن تكون للمبالغة كتاء الراوية والعلامة، ومن جعله حالا من المجرور متقدما عليه فقد أخطأ؛ لأن تقدم حال المجرور عليه في الإحالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار، وكم ترى ممن يرتكب هذا الخطأ ثم لا يقنع به حتى يضم إليه أن يجعل اللام بمعنى إلى؛ لأنه لا يستوي له الخطأ الأول إلا بالخطأ الثاني، فلا بد له من ارتكاب الخطأين، اه منه.
وقال الشيخ الصبان في حاشيته على الأشموني: جعل الزمخشري * (كافة) * صفة لمصدر محذوف، أي: رسالة كافة للناس، ولكن اعترض بأن * (كافة) * مختصة بمن يعقل وبالنصب على الحال كطرا، وقاطبة، انتهى محل الغرض منه. وما ذكره الصبان في * (كافة) * هو المشهور المتداول في كلام العرب، وأوضح ذلك أبو حيان في (البحر)، والعلم عند الله تعالى. * (ولاكن أكثر الناس لا يعلمون) *.
271

قد بينا الآيات الموضحة له في سورة (الأنعام)، في الكلام على قوله تعالى: * (وإن تطع أكثر من فى الارض يضلوك) *، وغير ذلك من المواضع. * (قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (يونس)، في الكلام على قوله تعالى: * (لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) *. * (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم) *، إلى قوله: * (إذ تأمروننآ أن نكفر بالله ونجعل له أندادا) *. ذكرنا بعض الآيات التي فيها بيان له في سورة (البقرة)، في الكلام على قوله تعالى: * (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا) *، وبيناه في مواضع أخر من هذا الكتاب المبارك. * (وجعلنا الا غلال فى أعناق الذين كفروا) *. جاء موضحا في مواضع أخر؛ كقوله تعالى: * (إذ الاغلال فى أعناقهم والسلاسل) *، وقوله: * (أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الاغلال فى أعناقهم) *، وقوله: * (ثم فى سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه) *، إلى غير ذلك من الآيات. * (ومآ أرسلنا فى قرية من نذير إلا قال مترفوهآ إنا بمآ أرسلتم به كافرون) *. قد بينا الآيات الموضحة له في سورة (الأنعام)، في الكلام على قوله تعالى: * (وكذالك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها) *، وأوضحنا ذلك في سورة (قد أفلح المؤمنون)، في الكلام على قوله تعالى: * (ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه) *. * (وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين) *. وقوله تعالى: * (وما أموالكم ولا أولادكم بالتى تقربكم عندنا زلفى) *.
272

قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة (الكهف)، في الكلام على قوله تعالى: * (ولئن رددت إلى ربى لاجدن خيرا منها منقلبا) *.
* (ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهاؤلاء إياكم كانوا يعبدون * قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون * فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التى كنتم بها تكذبون * وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات قالوا ما هاذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد ءابآؤكم وقالوا ما هاذآ إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جآءهم إن هاذآ إلا سحر مبين * ومآ ءاتيناهم من كتب يدرسونها ومآ أرسلنا إليهم قبلك من نذير * وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار مآ ءاتيناهم فكذبوا رسلى فكيف كان نكير * قل إنمآ أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدى عذاب شديد * قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجرى إلا على الله وهو على كل شىء شهيد * قل إن ربى يقذف بالحق علام الغيوب * قل جآء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد * قل إن ضللت فإنمآ أضل على نفسى وإن اهتديت فبما يوحى إلى ربى إنه سميع قريب * ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب * وقالوا ءامنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد * وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد * وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا فى شك مريب) * * (ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهاؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الفرقان)، في الكلام على قوله تعالى: * (ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أءنتم أضللتم عبادى هؤلاء أم هم ضلوا السبيل * قالوا سبحانك ما كان ينبغى لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولاكن متعتهم) *. * (وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات قالوا ما هاذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد ءابآؤكم) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا) *. * (ومآ ءاتيناهم من كتب يدرسونها ومآ أرسلنا إليهم قبلك من نذير) *. قد قدمنا الآيات التي بمعناه في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) *. * (وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار مآ ءاتيناهم فكذبوا رسلى فكيف كان نكير) *. ما ذكره جل
وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه أهلك الأمم الماضية لما كذبت رسله، وأن الأمم الماضية أقوى، وأكثر أموالا وأولادا، وأن كفار مكة عليهم أن يخافوا من إهلاك الله لهم بسبب تكذيب رسوله صلى الله عليه وسلم، كما أهلك الأمم التي هي أقوى منهم، ولم يؤتوا، أي: كفار مكة، معشار ما أتى الله الأمم التي أهلكها من قبل من القوة، جاء موضحا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: * (كانوا أكثر منهم وأشد قوة وءاثارا فى الارض) *، وقد قدمنا بعض الكلام على هذا في سورة (الروم)، في الكلام على قوله
273

تعالى: * (وأثاروا الارض وعمروها أكثر مما عمروها) *. * (ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدى عذاب شديد) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (المؤمنون)، في الكلام على قوله تعالى: * (أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون) *. * (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (هود)، في الكلام على قوله تعالى: * (كارهون وياقوم لا أسألكم عليه مالا إن أجرى إلا على الله) *. * (قل جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) *.
* (قل إن ضللت فإنما أضل على نفسى وإن اهتديت فبما يوحى إلى ربى) *.
قد قدمنا الآيات التي بمعناه في سورة (الأنبياء)، في الكلام على قوله تعالى: * (وداوود وسليمان إذ يحكمان فى الحرث) *، في معرض بيان حجج الظاهرية في دعواهم منع الاجتهاد.
* (وقالوا ءامنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد) *.
ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الكفار يوم القيامة يؤمنون بالله، وأن ذلك الإيمان لا ينفعهم لفوات وقت نفعه، الذي هو مدة دار الدنيا جاء موضحا في آيات كثيرة.
وقد قدمنا الآيات الدالة عليه في سورة (الأعراف)، في الكلام على قوله تعالى: * (يوم يأتى تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق) *. وفي سورة (مريم)، في الكلام على قوله تعالى: * (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لاكن الظالمون اليوم فى ضلال مبين) *، وفي غير ذلك من المواضع. وقوله تعالى في
274

هذه الآية الكريمة: * (وأنى لهم التناوش من مكان بعيد) *، * (إنى) * تدل على كمال الاستبعاد هنا، و * (التناوش) *: التناول، وقال بعضهم: هو خصوص التناول السهل للشئ القريب.
والمعنى: أنه يستبعد كل الاستبعاد ويبعد كل البعد، أن يتناول الكفار الإيمان النافع في الآخرة بعدما ضيعوا ذلك وقت إمكانه في دار الدنيا، وقيل الاستبعاد لردهم إلى الدنيا مرة أخرى ليؤمنوا، والأول أظهر، ويدل عليه قوله قبله: * (وقالوا ءامنا به) *، ومن أراد تناول شئ من مكان بعيد لا يمكنه ذلك، والعلم عند الله تعالى.
275

((سورة فاطر))
* (الحمد لله فاطر السماوات والا رض جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد فى الخلق ما يشآء إن الله على كل شىء قدير * ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم * ياأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السمآء والا رض لا إلاه إلا هو فأنى تؤفكون * وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الا مور * ياأيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحيواة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور * إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير * الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير * أفمن زين له سوء عمله فرءاه حسنا فإن الله يضل من يشآء ويهدى من يشآء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون * والله الذى أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الا رض بعد موتها كذلك النشور * من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولائك هو يبور * والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا فى كتاب إن ذلك على الله يسير * وما يستوى البحران هاذا عذب فرات سآئغ شرابه وهاذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون * يولج اليل فى النهار ويولج النهار فى اليل وسخر الشمس والقمر كل يجرى لاجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير * إن تدعوهم لا يسمعوا دعآءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير * ياأيها الناس أنتم الفقرآء إلى الله والله هو الغنى الحميد) * قوله تعالى: * (لله فاطر السماوات والا رض جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع) *. الألف واللام في قوله: * (الحمد لله) *، للاستغراق، أي: جميع المحامد ثابت لله جل وعلا، وقد أثنى جل وعلا على نفسه بهذا الحمد العظيم معلما خلقه في كتابه أن يثبوا عليه بذلك، مقترنا بكونه * (فاطر السماوات والارض جاعل الملائكة رسلا) *، وذلك يدل على أن خلقه للسماوات والأرض، وما ذكر معه يدل على عظمته، وكمال قدرته، واستحقاقه للحمد لذاته لعظمته وجلاله وكمال قدرته، مع ما في خلق السماوات والأرض من النعم على بني آدم فهو بخلقهما مستحق للحمد لذاته، ولإنعامه على الخلق بهما، وكون خلقهما جامعا بين استحقاق الحمدين المذكورين، جاءت آيات من كتاب الله تدل عليه. أما كون ذلك يستوجب حمد الله لعظمته وكماله، واستحقاقه لكل ثناء جميل، فقد جاء في آيات من كتاب الله تعالى؛ كقوله تعالى في أول سورة (الأنعام): * (الحمد لله الذى خلق * السماوات والارض وجعل الظلمات والنور) *، وقوله في أول سورة (سبأ): * (الحمد لله الذى له ما فى * السماوات وما في الارض) *، وقوله تعالى في أول سورة (الفاتحة): * (الحمد لله رب العالمين) *. وقد قدمنا أن قوله: * (رب العالمين) *، بينه قوله تعالى: * (قال فرعون وما رب العالمين * قال رب السماوات والارض وما بينهما
إن كنتم موقنين) *، وكقوله تعالى: * (وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين) *، وقوله: * (وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين) *.
وأما استحقاقه للحمد على خلقه بخلق السماوات والأرض، لما في ذلك من إنعامه على بني آدم، فقد جاء في آيات من كتاب الله، فقد بين تعالى أنه أنعم على خلقه، بأن
276

سخر لهم ما في السماوات وما في الأرض في آيات من كتابه؛ كقوله تعالى: * (وسخر لكم ما فى * السماوات وما في الارض جميعا منه) *، وقوله تعالى: * (وسخر لكم الشمس والقمر دائبين) *، وقوله تعالى: * (والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين) *.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لمعنى تسخير ما في السماوات لأهل الأرض في سورة (الحجر)، في الكلام على قوله تعالى: * (وحفظناها من كل شيطان رجيم) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (جاعل الملائكة رسلا) *، قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الحج)، في الكلام على قوله تعالى: * (الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (فاطر السماوات والارض) *، أي: خالق السماوات والأرض، ومبدعهما على غير مثال سابق.
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: قال سفيان الثوري، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه: أنا فطرتها، أي: بدأتها. * (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن ما يفتحه للناس من رحمته وإنعامه عليهم بجميع أنواع النعم، لا يقدر أحد كائنا ما كان أن يمسكه عنهم، وما يمسكه عنهم من رحمته وإنعامه لا يقدر أحد كائنا من كان أن يرسله إليهم، وهذا معلوم بالضرورة من الدين، والرحمة المذكورة في الآية عامة في كل ما يرحم الله به خلقه من الإنعام الدنيوي والأخروي، كفتحه لهم رحمة المطر؛ كما قال تعالى: * (فانظر إلىءاثار رحمة الله كيف يحى الارض بعد موتها) *.
وقوله تعالى: * (وهو الذى يرسل الرياح * بشرا بين يدى رحمته) *، وقوله
277

تعالى: * (وهو الذى ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته) *، ومن رحمته إرسال الرسل، وإنزال الكتب؛ كقوله تعالى: * (وما كنت * ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك) *، كما تقدم إيضاحه في سورة (الكهف)، في الكلام على قوله تعالى: * (فوجدا عبدا من عبادنا ءاتيناه رحمة من عندنا) *.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: * (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله) *، وقوله تعالى: * (قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا) *، وقوله تعالى: * (قل من ذا الذى يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا بعض الكلام على هذا في سورة (الأنعام)، في الكلام على قوله تعالى: * (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شىء قدير) *، و * (ما) * في قوله تعالى: * (ما يفتح الله) *، وقوله: * (وما يمسك) * شرطية، وفتح الشئ التمكين منه وإزالة الحواجز دونه، والإمساك بخلاف ذلك. * (هل من خالق غير الله يرزقكم من السمآء والا رض) *. الاستفهام في قوله: * (هل من خالق غير الله) *، إنكاري فهو مضمن معنى النفي.
والمعنى: لا خالق إلا الله وحده، والخالق هو المستحق للعبادة وحده.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة (الرعد)، في الكلام على قوله تعالى: * (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه) *. وفي سورة (الفرقان)، في الكلام على قوله تعالى: * (واتخذوا من دونه ءالهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون) *، وفي غير ذلك من المواضع.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (يرزقكم من السماء والارض) *، يدل على أنه تعالى هو الرازق وحده، وأن الخلق في غاية الاضطرار إليه تعالى.
والآيات الدالة على ذلك كثيرة؛ كقوله تعالى: * (أمن هاذا الذى يرزقكم إن أمسك
278

رزقه) *، وقوله: * (فابتغوا عند الله الرزق) *.
وقد قدمنا كثيرا من الآيات الدالة على ذلك في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) *. * (وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الا مور) *. ما تضمنته هذه الآية الكريمة من تسليته صلى الله عليه وسلم، بأن ما لاقاه من قومه من التكذيب لاقاه الرسل الكرام من قومهم قبله صلوات الله وسلامه عليهم جميعا، جاء موضحا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: * (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا) *، وقوله تعالى: * (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة معروفة. * (ذو مرة فاستوى) *. قد قدمنا الآيات التي بمعناه في مواضع من هذا الكتاب المبارك؛ كقوله تعالى في (الكهف): * (أفتتخذونه وذريته أولياء من دونى وهم لكم عدو) *. * (إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الحج)، في الكلام على قوله تعالى: * (كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير) *. * (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الأنعام)، في الكلام على قوله تعالى: * (قد نعلم إنه ليحزنك الذى يقولون) *. وفي (الكهف)، في الكلام على قوله تعالى: * (فلعلك باخع نفسك علىءاثارهم) *، وغير ذلك من المواضع. * (والله الذى أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الا رض بعد موتها كذلك النشور) *. ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن إحياءه تعالى الأرض بعد موتها المشاهد في دار الدنيا برهان قاطع على قدرته على البعث، قد تقدم إيضاحه بالآيات القرآنية في مواضع
279

كثيرة في سورة (البقرة)، و (النحل)، و (الأنبياء) وغير ذلك، وقد تقدمت الإحالة عليه مرارا. * (من كان يريد العزة فلله العزة جميعا) *. بين جل وعلا في
هذه الآية الكريمة أن من كان يريد العزة فإنها جميعها لله وحده، فليطلبها منه وليتسبب لنيلها بطاعته جل وعلا، فإن من أطاعه أعطاه العزة في الدنيا والآخرة. أما الذين يعبدون الأصنام لينالوا العزة بعبادتها، والذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، يبتغون عندهم العزة، فإنهم في ضلال وعمى عن الحق؛ لأنهم يطلبون العزة من محل الذل.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، جاء موضحا في آيات من كتاب الله تعالى؛ كقوله تعالى: * (واتخذوا من دون الله ءالهة ليكونوا لهم عزا * كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا) *، وقوله تعالى: * (الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا) *، وقوله تعالى: * (ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم) *، وقوله تعالى: * (يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل ولله العزة ولرسوله) *، وقوله تعالى: * (سبحان ربك رب العزة عما يصفون) *، والعزة: الغلبة والقوة. ومنه قول الخنساء: وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، جاء موضحا في آيات من كتاب الله تعالى؛ كقوله تعالى: * (واتخذوا من دون الله ءالهة ليكونوا لهم عزا * كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا) *، وقوله تعالى: * (الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا) *، وقوله تعالى: * (ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم) *، وقوله تعالى: * (يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل ولله العزة ولرسوله) *، وقوله تعالى: * (سبحان ربك رب العزة عما يصفون) *، والعزة: الغلبة والقوة. ومنه قول الخنساء:
* كأن لم يكونوا حمى يختشى
* إذ الناس إذ ذاك من عزيزا
*
أي: من غلب استلب، ومنه قوله تعالى: * (وعزنى فى الخطاب) *، أي: غلبني وقوي علي في الخصومة.
وقول من قال من أهل العلم: إن معنى الآية: * (من كان يريد العزة) *، أي: يريد أن يعلم لمن العزة أصوب منه ما ذكرنا، والعلم عند الله تعالى. * (والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد) *. قد تقدم بعض الكلام عليه في سورة (النحل)، مع إعراب السيئات.
280

وقد قدمنا في مواضع أخر أن من مكرهم السيئات كفرهم بالله وأمرهم أتباعهم به؛ كما قال تعالى: * (وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر اليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا) *، وكقوله تعالى: * (ومكروا مكرا كبارا * وقالوا لا ءالهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا * وقد) *، والعلم عند الله تعالى. * (والله خلقكم من تراب ثم من نطفة) *. قد تقدم إيضاحه بالآيات القرءانية في أول سورة (الحج)، في الكلام على قوله تعالى: * (ياأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب) *. * (وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الرعد)، في الكلام على قوله تعالى: * (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الارحام وما تزداد وكل شىء عنده بمقدار) *، مع بيان الأحكام المتعلقة بالآية. * (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا فى كتاب) *. قد قدمنا بعض الكلام عليه في آخر سورة (الأحزاب)، في الكلام على قوله تعالى: * (وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) *. وفي سورة (الفرقان)، في الكلام على قوله تعالى: * (وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا) *. * (وما يستوى البحران هاذا عذب فرات سآئغ شرابه وهاذا ملح أجاج) *. تقدم إيضاحه في سورة (الفرقان)، في الكلام على قوله تعالى: * (وهو الذى مرج البحرين هاذا عذب فرات وهاذا ملح أجاج) *. * (ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها) *. قد تقدم الكلام عليه مع بسط أحكام فقهية تتعلق بذلك في سورة (النحل)، في
281

الكلام على قوله تعالى: * (وهو الذى سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها) *.
وتقدم في سورة (الأنعام)، في الكلام على قوله تعالى: * (يكسبون يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم) *.
أن قوله في آية (فاطر) هذه: * (ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها) *، دليل قرءاني واضح على بطلان دعوى من ادعى من العلماء أن اللؤلؤ والمرجان لا يخرجان إلا من البحر الملح خاصة.
* (ويوم القيامة يكفرون بشرككم) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (مريم)، في الكلام على قوله تعالى: * (كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا) *، وفي غيره من المواضع. * (ياأيها الناس أنتم الفقرآء إلى الله والله هو الغنى الحميد) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه غني عن خلقه، وأن خلقه مفتقر إليه، أي: فهو يأمرهم وينهاهم لا لينتفع بطاعتهم، ولا ليدفع الضر بمعصيتهم، بل النفع في ذلك كله لهم، وهو جل وعلا الغني لذاته الغني المطلق.
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة مع كونه معلوما من الدين بالضرورة، جاء في مواضع كثيرة من كتاب الله؛ كقوله تعالى: * (والله الغنى وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم) *، وقوله تعالى: * (فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غنى حميد) *، وقوله تعالى: * (وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن فى الارض جميعا فإن الله لغنى حميد) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وبذلك تعلم عظم افتراء * (الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) *، وقد هددهم الله على ذلك، بقوله: * (سنكتب ما قالوا وقتلهم الانبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق) *.
* (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز * ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شىء ولو كان ذا قربى إنما تنذر
الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلواة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير * وما يستوى الا عمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور * ولا الظل ولا الحرور * وما يستوى الا حيآء ولا الا موات إن الله يسمع من يشآء ومآ أنت بمسمع من فى القبور * إن أنت إلا نذير * إنآ أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير * وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جآءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير * ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير * ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود * ومن الناس والدوآب والا نعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور * إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلواة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور * ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور * والذى أوحينآ إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير) * * (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (النساء)، في الكلام على قوله تعالى: * (إن
282

يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت باخرين وكان الله على ذالك قديرا) *. * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له مع الجواب عن بعض الأسئلة الواردة على الآية في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) *. * (وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شىء) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (النحل)، في الكلام على قوله تعالى: * (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا سآء ما يزرون) *، ووجه الجمع بين أمثال هذه الآية وبين قوله تعالى: * (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) *، ونحوها من الآيات. * (إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلواة) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن إنذاره صلى الله عليه وسلم محصور في الذين يخشون ربهم بالغيب، وأقاموا الصلاة، وهذا الحصر الإضافي؛ لأنهم هم المنتفعون بالإنذار، وغير المنتفع بالإنذار كأنه هو والذي لم ينذر سواء، بجامع عدم النفع في كل منهما.
وهذا المعنى جاء موضحا في آيات من كتاب الله تعالى؛ كقوله تعالى: * (وسوآء عليهم أءنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون * إنما تنذر من اتبع الذكر وخشى الرحمان بالغيب) *، وقوله: * (إنما أنت منذر من يخشاها) *، ويشبه معنى ذلك في الجملة قوله تعالى: * (فذكر بالقرءان من يخاف وعيد) *، وقد قدمنا معنى الإنذار وأنواعه موضحا في سورة (الأعراف)، في الكلام على قوله تعالى: * (فلا يكن فى صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين) *. * (وما يستوى الا عمى والبصير) *. قد قدمنا إيضاحه بالآيات في أول سورة (هود)، في الكلام على قوله تعالى: * (مثل الفريقين كالاعمى والاصم والبصير والسميع) *. * (وما يستوى الا حيآء ولا الا موات) *.
283

* (الاحياء) * هنا: المؤمنون، و * (الاموات) *: الكفار؛ فالحياة هنا حياة إيمان، والموت موت كفر.
وهذا المعنى جاء موضحا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى: * (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به فى الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) *، فقوله: * (أو من كان ميتا) *، أي: موت كفر فأحييناه حياة إيمان؛ وكقوله تعالى: * (لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين) *، فيفهم من قوله: * (من كان حيا) *، أي: وهي حياة إيمان إن الكافرين الذين حق عليهم القول ليسوا كذلك، وقد أطبق العلماء على أن معنى قوله: * (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله) *، أن المعنى: والكفار يبعثهم الله.
وقد قدمنا هذا موضحا بالآيات القرءانية في سورة (النمل)، في الكلام على قوله تعالى: * (إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء) *. * (إن الله يسمع من يشآء ومآ أنت بمسمع من فى القبور) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له وما جاء في سماع الموتى في سورة (النمل)، في الكلام على قوله تعالى: * (إنك لا تسمع الموتى) *. * (ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدوآب والا نعام مختلف ألوانه كذلك) *. قد قدمنا الكلام عليه في سورة (الروم)، في الكلام على قوله تعالى: * (ومن ءاياته خلق * السماوات والارض واختلاف ألسنتكم وألوانكم) *، وبينا هناك دلالة الآيات على أنه جل وعلا هو المؤثر وحده، وأن الطبائع لا تأثير لها إلا بمشيئته تعالى.
* (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير * جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير * وقالوا الحمد لله الذى أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور * الذى أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب * والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزى كل كفور * وهم يصطرخون فيها ربنآ أخرجنا نعمل صالحا غير الذى كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجآءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير * إن الله عالم غيب السماوات والا رض إنه عليم بذات الصدور * هو الذى جعلكم خلائف فى الا رض فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا * قل أرءيتم شركآءكم الذين تدعون من دون الله أرونى ماذا خلقوا من الا رض أم لهم شرك فى السماوات أم ءاتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا * إن الله يمسك السماوات والا رض أن تزولا ولئن زالتآ إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا * وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جآءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الا مم فلما جآءهم نذير ما زادهم إلا نفورا * استكبارا فى الا رض ومكر السيىء ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة آلا ولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا * أولم يسيروا فى الا رض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شىء فى السماوات ولا فى الا رض إنه كان عليما قديرا * ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دآبة ولاكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جآء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا) * * (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) *، إلى قوله: * (ولباسهم فيها حرير) *. قد قدمنا الكلام على هذه الآية، مع نظائرها من آيات
الرجاء استطرادا، وذكرنا معنى الظالم والمقتصد والسابق، ووجه تقديم الظالم عليهما بالوعد في الجنات في سورة (النور)، في الكلام على قوله تعالى: * (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى
284

القربى) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ولباسهم فيها حرير) * قد قدمناه مع الآيات المماثلة. والمشابهة له في سورة (النحل) في الكلام على قوله تعالى: * (وتستخرجوا منه حلية تلبسونها) *. * (وهم يصطرخون فيها ربنآ أخرجنا نعمل صالحا غير الذى كنا نعمل) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الأعراف)، في الكلام على قوله تعالى: * (يوم يأتى تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا) *.
* (قل أرءيتم شركآءكم الذين تدعون من دون الله أرونى ماذا خلقوا من الا رض) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الفرقان)، في الكلام على قوله تعالى: * (واتخذوا من دونه ءالهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون) *. وفي سورة (الرعد)، في الكلام على قوله تعالى: * (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شىء) *. * (إن الله يمسك السماوات والا رض أن تزولا) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الحج)، في الكلام على قوله تعالى: * (ويمسك السماء أن تقع على الارض إلا بإذنه) *. * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جآءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الا مم) *. قد قدمنا الكلام عليه في سورة (الأنعام)، في الكلام على قوله تعالى: * (أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم) *. * (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دآبة) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له وشواهده العربية في سورة (النحل)، في الكلام على قوله تعالى: * (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دآبة) *.
285

((سورة يس))
* (يس * والقرءان الحكيم * إنك لمن المرسلين * على صراط مستقيم * تنزيل العزيز الرحيم * لتنذر قوما مآ أنذر ءابآؤهم فهم غافلون * لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون * إنا جعلنا فى أعناقهم أغلالا فهى إلى الا ذقان فهم مقمحون * وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون * وسوآء عليهم أءنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون * إنما تنذر من اتبع الذكر وخشى الرحمان بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم * إنا نحن نحى الموتى ونكتب ما قدموا وءاثارهم وكل شىء أحصيناه فى إمام مبين * واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جآءها المرسلون * إذ أرسلنآ إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنآ إليكم مرسلون * قالوا مآ أنتم إلا بشر مثلنا ومآ أنزل الرحمان من شىء إن أنتم إلا تكذبون * قالوا ربنا يعلم إنآ إليكم لمرسلون * وما علينآ إلا البلاغ المبين) * قوله تعالى: * (يس) *. التحقيق إنه من جملة الحروف المقطعة في أوائل السور، والياء المذكورة فيه ذكرت في فاتحة سورة (مريم)، في قوله تعالى: * (كهيعص) *، والسين المذكورة فيه ذكرت في أول (الشعراء) و (القصص)، في قوله: * (طسم) * وفي أول (النمل)، في قوله: * (طس) *، وفي أول (الشورى)، في قوله تعالى: * (حم * عسق) *.
وقد قدمنا الكلام مستوفى على الحروف المقطعة في أوائل السورة في أول سورة (هود). * (والقرءان الحكيم * إنك لمن المرسلين) *. قد بينا أن موجب التوكيد لكونه من المرسلين، هو إنكار الكفار لذلك في قوله تعالى: * (ويقول الذين كفروا لست مرسلا) *، في سورة (البقرة)، في الكلام على قوله تعالى: * (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين) *. * (لتنذر قوما مآ أنذر ءابآؤهم فهم غافلون) *. لفظة * (ما) * في قوله تعالى: * (ما أنذر ءاباؤهم) *، قيل: نافية، وهو الصحيح. وقيل: موصولة، وعليه فهو المفعول الثاني * (لتنذر) *، وقيل: مصدرية.
وقد قدمنا دلالة الآيات على أنها نافية، وأن مما يدل على ذلك ترتيبه بالفاء عليه قوله عبده: * (فهم غافلون) *؛ لأن كونهم غافلين يناسب عدم الإنذار لا الإنذار، وهذا هو الظاهر مع آيات أخر دالة على ذلك؛ كما أوضحنا ذلك كله في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) *.
286

* (لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون) *. الظاهر أن القول في قوله: * (لقد حق القول على أكثرهم) *، وفي قوله تعالى: * (وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول) *، وفي قوله تعالى: * (قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا) *. وفي قوله تعالى: * (ويحق القول على الكافرين) *، وقوله تعالى: * (فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون) *، والكلمة في قوله تعالى: * (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل ءاية حتى يروا العذاب الاليم) *، وفي قوله تعالى: * (قالوا بلى ولاكن حقت كلمة العذاب على الكافرين) *، أن المراد بالقول والكلمة أو الكلمات على قراءة: * (حقت عليهم كلمات ربك) * بصيغة الجمع، هو قوله تعالى: * (لاملان جهنم من الجنة والناس أجمعين) *، كما دلت على ذلك آيات من كتاب الله تعالى؛ كقوله تعالى في آخر سورة (هود): * (ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذالك خلقهم وتمت كلمة ربك لاملان جهنم من الجنة والناس أجمعين) *، وقوله تعالى في (السجدة): * (ولو شئنا لاتينا كل نفس هداها ولاكن حق القول منى لاملان جهنم من الجنة والناس أجمعين) *.
وقوله تعالى في أخريات (ص): * (قال فالحق والحق أقول * لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (لقد حق القول على أكثرهم) *، يدل على أن أكثر الناس من أهل جهنم، كما دلت على ذلك آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: * (ولاكن أكثر الناس لا يؤمنون) *، * (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) *، * (ولقد ضل قبلهم أكثر الاولين) *، * (إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين) *.
وقد قدمنا الكلام على هذا في سورة (الأنعام)، في الكلام على قوله تعالى: * (وإن تطع أكثر من فى الارض يضلوك عن سبيل الله) *.
287

وبينا بالسنة الصحيحة في أول سورة (الحج): أن نصيب النار من الألف تسعة وتسعون وتسعمائة، وأن نصيب الجنة منها واحد. * (إنا جعلنا فى أعناقهم أغلالا فهى إلى الا ذقان فهم مقمحون * وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون) *. الأغلال: جمع غل وهو الذي يجمع الأيدي إلى الأعناق. والأذقان: جمع ذقن وهو ملتقى اللحيين. والمقمح بصيغة اسم المفعول، وهو الرافع رأسه. والسد بالفتح والضم: هو الحاجز الذي يسد طريق الوصول إلى ما وراءه.
وقوله: * (فأغشيناهم) *، أي: جعلنا على أبصارهم الغشاوة، وهي الغطاء الذي يكون على العين يمنعها من الإبصار، ومنه قوله تعالى: * (وعلى أبصارهم غشاوة) *، وقوله تعالى: * (وجعل على بصره غشاوة) *، وقول الشاعر وهو الحارث بن خالد بن العاص: وقوله: * (فأغشيناهم) *، أي: جعلنا على أبصارهم الغشاوة، وهي الغطاء الذي يكون على العين يمنعها من الإبصار، ومنه قوله تعالى: * (وعلى أبصارهم غشاوة) *، وقوله تعالى: * (وجعل على بصره غشاوة) *، وقول الشاعر وهو الحارث بن خالد بن العاص:
* هويتك إذ عيني عليها غشاوة
* فلما انجلت قطعت نفسي ألومها
*
والمراد بالآية الكريمة: أن هؤلاء الأشقياء الذين سبقت لهم الشقاوة في علم الله المذكورين في قوله تعالى: * (لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون) *، صرفهم الله عن الإيمان صرفا عظيما مانعا من وصوله إليهم؛ لأن من جعل في عنقه غل، وصار الغل إلى ذقنه، حتى صار رأسه مرفوعا لا يقدر أن يطأطئه، وجعل أمامه سد، وخلفه سد، وجعل على بصره الغشاوة لا حيلة له في التصرف، ولا في جلب نفع لنفسه، ولا في دفع ضر عنها، فالذين أشقاهم الله بهذه المثابة لا يصل إليهم خير.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة من كونه جل وعلا يصرف الأشقياء الذين سبقت لهم الشقاوة في علمه عن الحق ويحول بينهم وبينه، جاء موضحا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: * (ومن أظلم ممن ذكر بئايات ربه فأعرض عنها ونسى ما) *، وقوله تعالى: * (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة) *، وقوله تعالى: * (أفرأيت من اتخذ إلاهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة) *، وقوله تعالى: * (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد فى السماء) *، وقوله تعالى: * (ومن يضلل الله *
288

فلا هادي له) *، وقوله تعالى: * (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم) *.
وقوله تعالى: * (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون) *، وقوله تعالى: * (وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) *، وقوله تعالى: * (الذين كانت أعينهم فى غطاء عن ذكرى وكانوا لا يستطيعون سمعا) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقد قدمنا أن هذا الطبع والختم على القلوب، وكذلك الأغلال في الأعناق، والسد من بين أيديهم ومن خلفهم، أن جميع تلك الموانع المانعة من الإيمان، ووصول الخير إلى القلوب أن الله إنما جعلها عليهم بسبب مسارعتهم لتكذيب الرسل، والتمادي على الكفر، فعاقبهم الله على ذلك، بطمس البصائر والختم على القلوب والطبع عليها، والغشاوة على الأبصار؛ لأن من شؤم السيئات أن الله جل وعلا يعاقب صاحبها عليها بتماديه على الشر، والحيلولة بينه وبين الخير جزاه الله بذلك على كفره جزاء وفاقا.
والآيات الدالة على ذلك كثيرة؛ كقوله تعالى: * (بل طبع الله عليها بكفرهم) *، فالباء سببية. وفي الآية تصريح منه تعالى أن سبب ذلك الطبع على قلوبهم هو كفرهم؛ وكقوله تعالى: * (ذلك بأنهم ءامنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم) *، ومعلوم أن الفاء من حروف التعليل، أي: فطبع على قلوبهم بسبب كفرهم ذلك، وقوله تعالى: * (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) *، وقوله تعالى: * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم فى طغيانهم يعمهون) *، وقوله تعالى: * (فى قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) *، إلى غير ذلك من الآيات، كما تقدم إيضاحه.
وقد دلت هذه الآيات على أن شؤم السيئات يجر صاحبه إلى التمادي في السيئات، ويفهم من مفهوم مخالفة ذلك، أن فعل الخير يؤدي إلى التمادي في فعل الخير، وهو كذلك؛ كما قال تعالى: * (والذين اهتدوا زادهم هدى وءاتاهم تقواهم) *، وقوله
289

تعالى: * (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) *، وقوله تعالى: * (ومن يؤمن بالله يهد قلبه) *، إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم أن قول من قال من أهل العلم: إن معنى قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (إنا جعلنا فى أعناقهم أغلالا) *، أن المراد بذلك الأغلال التي يعذبون بها في الآخرة؛ كقوله تعالى: * (إذ الاغلال فى أعناقهم والسلاسل يسحبون * فى الحميم ثم فى النار يسجرون) *، خلاف التحقيق، بل المراد بجعل الأغلال في أعناقهم، وما ذكر معه في الآية هو صرفهم عن الإيمان والهدى في دار الدنيا؛ كما أوضحنا. وقرأ هذا الحرف: حمزة، والكسائي، وحفص، عن عاصم: * (سدا) *، بالفتح في الموضعين، وقرأه الباقون بضم السين، ومعناهما واحد على الصواب، والعلم عند الله تعالى. * (إنما تنذر من اتبع الذكر وخشى الرحمان بالغيب) *. تقدم إيضاحه مع نظائره من الآيات في سورة (فاطر)، في الكلام على قوله تعالى: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة) *. * (إنا نحن نحى الموتى ونكتب ما قدموا وءاثارهم وكل شىء أحصيناه فى إمام مبين) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أربعة أشياء:
الأول: أنه يحيي الموتى، مؤكدا ذلك متكلما عن نفسه بصيغة التعظيم.
الثاني: أنه يكتب ما قدموا في دار الدنيا.
الثالث: أنه يكتب آثارهم.
الرابع: أنه أحصى كل شئ * (فى إمام مبين) *، أي: في كتاب بين واضح، وهذه الأشياء الأربعة جاءت موضحة في غير هذا الموضع.
أما الأول منها وهو كونه يحيي الموتى بالبعث، فقد جاء في آيات كثيرة من كتاب الله تعالى، كقوله تعالى: * (قل بلى وربى لتبعثن) *، وقوله تعالى: * (قل إى وربى إنه لحق) *، وقوله تعالى: * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة.
290

وقد قدمناها بكثرة في سورة (البقرة)، و سورة (النحل)، في الكلام على براهين البعث، وقدمنا الإحالة على ذلك مرارا.
وأما الثاني منها وهو كونه يكتب ما قدموا في دار الدنيا، فقد جاء في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: * (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون) *، وقوله تعالى: * (هاذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) *، وقوله تعالى: * (وكل إنسان ألزمناه طئره فى عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) *، وقوله تعالى: * (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا ياويلتنا ما لهاذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) *، وقوله تعالى: * (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) *. وقد قدمنا بعض الكلام على هذا في سورة (الكهف).
وأما الثالث منها وهو كونهم تكتب آثارهم، فقد ذكر في بعض الآيات أيضا.
واعلم أن قوله: * (وءاثارهم) *، فيه وجهان من التفسير معروفان عند العلماء.
الأول منهما: أن معنى * (ما قدموا) *: ما باشروا فعله في حياتهم، وأن معنى * (ءاثارهم) *: هو ما سنوه في الإسلام من سنة حسنة أو سيئة، فهو من آثارهم التي يعمل بها بعدهم.
الثاني: أن معنى * (ءاثارهم) *: خطاهم إلى المساجد ونحوها من فعل الخير، وكذلك خطاهم إلى الشر، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم)، يعني: خطاكم من بيوتكم إلى مسجده صلى الله عليه وسلم.
أما على القول الأول: فالله جل وعلا قد نص على أنهم يحملون أوزار من أضلوهم وسنوا لهم السنن السيئة؛ كما في قوله تعالى: * (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) *، وقوله تعالى: * (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) *.
وقد أوضحنا ذلك في سورة (النحل)، في الكلام على قوله تعالى: * (ومن أوزار
291

الذين يضلونهم بغير علم) *، وذكرنا حديث جرير وأبي هريرة، في صحيح مسلم في إيضاح ذلك.
ومن الآيات الدالة على مؤاخذة الإنسان بما عمل به بعده مما سنه من هدى أو ضلالة، قوله تعالى: * (ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر) *، بناء على أن المعنى * (بما قدم) *: مباشرا له، * (وأخر) *: مما عمل به بعده مما سنه من هدى أو ضلال، وقوله تعالى: * (علمت نفس ما قدمت وأخرت) *، على القول بذلك.
وأما على التفسير الثاني: وهو أن معنى * (ءاثارهم) *: خطاهم إلى المساجد ونحوها، فقد جاء بعض الآيات دالا على ذلك المعنى؛ كقوله تعالى: * (ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم) *، لأن ذلك يستلزم أن تكتب لهم خطاهم التي قطعوا بها الوادي في غزوهم.
وأما الرابع: وهو قوله تعالى: * (وكل شىء أحصيناه فى إمام مبين) *، فقد تدل عليه الآيات الدالة على الأمر الثاني، وهو كتابة جميع الأعمال التي قدموها بناء على أن المراد بذلك خصوص الأعمال.
وأما على فرض كونه عاما، فقد دلت عليه آيات أخر؛ كقوله تعالى: * (وأحاط بما لديهم وأحصى كل شىء عددا) *، وقوله تعالى: * (ما فرطنا فى الكتاب من * شىء) *، بناء على أن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ، وهو أصح القولين، والعلم عند الله تعالى. * (قالوا مآ أنتم إلا بشر مثلنا ومآ أنزل الرحمان من شىء إن أنتم إلا تكذبون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة عن الكفار: * (وما أنزل الرحمان من شىء إن أنتم إلا تكذبون) *، قد بين أنهم قد قالوا ذلك في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى: * (كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله
292

من شىء) *، وقد بين تعالى أن الذين أنكروا إنزال الله الوحي كهؤلاء أنهم لم يقدروه حق قدره، أي: لن يعظموه حق عظمته، وذلك في قوله تعالى: * (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شىء) *.
* (قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم * قالوا طائركم معكم أءن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون * وجآء من أقصى المدينة رجل يسعى قال ياقوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون * وما لى لا أعبد الذى فطرنى وإليه ترجعون * أءتخذ من دونه ءالهة إن يردن الرحمان بضر لا تغن عنى شفاعتهم شيئا ولا ينقذون * إنى إذا لفى ضلال مبين * إنىءامنت بربكم فاسمعون * قيل ادخل الجنة قال ياليت قومى يعلمون * بما غفر لى ربى وجعلنى من المكرمين *
ومآ أنزلنا على قومه من بعده من جند من السمآء وما كنا منزلين * إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون * ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون * ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون * وإن كل لما جميع لدينا محضرون * وءاية لهم الا رض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون * وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون * ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون * سبحان الذى خلق الا زواج كلها مما تنبت الا رض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون * وءاية لهم اليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون * والشمس تجرى لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم * والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم * لا الشمس ينبغى لهآ أن تدرك القمر ولا اليل سابق النهار وكل فى فلك يسبحون) * * (قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الأعراف)، في الكلام على قوله تعالى: * (وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه) *، وذكرنا بعض الكلام عليه في سورة (النمل)، في الكلام على قوله تعالى: * (قالوا اطيرنا بك وبمن معك) *.
* (اتبعوا من لا يسألكم أجرا) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له، وما يتعلق بها من الأحكام في سورة (هود)، في الكلام على قوله تعالى: * (كارهون وياقوم لا أسألكم عليه مالا إن أجرى إلا على الله) *. * (وما لى لا أعبد الذى فطرنى وإليه ترجعون) *. قوله: * (فطرنى) *، معناه: خلقني وابتدعني، كما تقدم إيضاحه في أول سورة (فاطر).
والمعنى: أي شئ ثبت لي يمنعني من أن أعبد الذي خلقني، وابتدعني، وأبرزني من العدم إلى الوجود، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الذي يخلق هو وحده الذي يستحق أن يعبد وحده، جاء موضحا في آيات كثيرة من كتاب الله.
وقد قدمنا إيضاح ذلك في سورة (الفرقان)، في الكلام على قوله تعالى: * (واتخذوا من دونه ءالهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون) *، وفي سورة (الرعد)، في الكلام على قوله تعالى: * (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه) *. * (أءتخذ من دونه ءالهة إن يردن الرحمان بضر لا تغن عنى شفاعتهم شيئا ولا ينقذون * إنى إذا لفى ضلال مبين) *.
293

الاستفهام في قوله تعالى: * (أءتخذ) * للإنكار، وهو مضمن معنى النفي، أي: لا أعبد من دون الله معبودات، إن أرادني الله بضر لا تقدر على دفعه عني، ولا تقدر أن تنقذني من كرب.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من عدم فائدة المعبودات من دون الله جاء موضحا في آيات من كتاب الله تعالى؛ كقوله تعالى: * (قل أفرايتم ما تدعون من دون الله إن أرادنى الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادنى برحمة هل) *، وقوله تعالى: * (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا) *، وقوله تعالى: * (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة فى * السماوات ولا فى الارض) *، وقوله تعالى: * (ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم فى * السماوات ولا فى الارض سبحانه وتعالى عما يشركون) *، وقوله تعالى: * (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (لا تغن عنى شفاعتهم شيئا) *، أي: لا شفاعة لهم أصلا حتى تغني شيئا، ونحو هذا أسلوب عربي معروف، ومنه قول امرئ القيس: وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (لا تغن عنى شفاعتهم شيئا) *، أي: لا شفاعة لهم أصلا حتى تغني شيئا، ونحو هذا أسلوب عربي معروف، ومنه قول امرئ القيس:
* على لا حب لا يهتدي بمناره
* إذا سافه العود النباطي جرجرا
*
فقوله: لا يهتدي بمناره، أي: لا منار له أصلا حتى يهتدي به، وقول الآخر: فقوله: لا يهتدي بمناره، أي: لا منار له أصلا حتى يهتدي به، وقول الآخر:
* لا تفزع الأرنب أهوالها
* ولا ترى الضب بها ينجحر
*
أي: لا أرنب فيها، حتى تفزعها أهوالها، ولا ضب فيها حتى ينجحر، أي: يتخذ جحرا.
وهذا المعنى هو المعروف عند المنطقيين، بقولهم: السالبة لا تقتضي وجود الموضوع؛ كما تقدم إيضاحه. * (ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون) *
294

. بين جل وعلا أن العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون غير مكتفين بتكذيبه، بل جامعين معه الاستهزاء.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ما يأتيهم من رسول) *، نص صريح في تكذيب الأمم لجميع الرسل لما تقرر في الأصول، من أن النكرة في سياق النفي إذا زيدت قبلها * (من) *، فهي نص صريح في عموم النفي، كما هو معروف في محله.
وهذا العموم الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آيات أخر، وجاء في بعض الآيات إخراج أمة واحدة عن حكم هذا العموم بمخصص متصل، وهو
الاستثناء.
فمن الآيات الموضحة لهذا العموم، قوله تعالى: * (وما أرسلنا فى قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون) *، وقوله تعالى: * (وكذلك ما أرسلنا من قبلك فى قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا ءاباءنا على أمة وإنا على) *، وقوله تعالى: * (وما أرسلنا فى قرية من نبى إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء) *، إلى قوله: * (فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون) *.
وقد قدمنا الكلام على هذا في سورة (قد أفلح المؤمنون)، في الكلام على قوله تعالى: * (ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه) *.
وقدمنا طرفا من الكلام عليه في سورة (الأنعام)، في الكلام على قوله تعالى: * (وكذالك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها) *.
وأماالأمة التي أخرجت من هذا العموم فهي أمة يونس، والآية التي بينت ذلك هي قوله تعالى: * (فلولا كانت قرية ءامنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزى فى الحيواة الدنيا ومتعناهم) *، وقوله تعالى: * (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون * فئامنوا فمتعناهم إلى حين) *، والحسرة أشد الندامة، وهو منصوب على أنه منادى عامل في المجرور بعده، فأشبه المنادى المضاف.
والمعنى: * (خامدون ياحسرة على العباد) * تعالي واحضري فإن الاستهزاء بالرسل هو أعظم الموجبات لحضورك. * (وءاية لهم الا رض الميتة) *، إلى قوله: * (أفلا يشكرون) *) *.
295

قد قدمنا أن إحياء الأرض المذكور في هذه الآية، برهان قاطع على البعث في سورة (البقرة)، في الكلام على قوله تعالى: * () *. قد قدمنا أن إحياء الأرض المذكور في هذه الآية، برهان قاطع على البعث في سورة (البقرة)، في الكلام على قوله تعالى: * (وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) *. وفي سورة (النحل)، في الكلام على قوله تعالى: * (هو الذى أنزل من السماء مآء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون) *، وفي غير ذلك من المواضع. وأوضحنا في المواضع المذكورة، بقية براهين البعث بعد الموت.
* (وءاية لهم أنا حملنا ذريتهم فى الفلك المشحون * وخلقنا لهم من مثله ما يركبون * وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون * إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين * وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون * وما تأتيهم من ءاية من ءايات ربهم إلا كانوا عنها معرضين * وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين ءامنوا أنطعم من لو يشآء الله أطعمه إن أنتم إلا فى ضلال مبين * ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين * ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون * فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون * ونفخ فى الصور فإذا هم من الا جداث إلى ربهم ينسلون * قالوا ياويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمان وصدق المرسلون * إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون * فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون * إن أصحاب الجنة اليوم فى شغل فاكهون * هم وأزواجهم فى ظلال على الا رآئك متكئون * لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون * سلام قولا من رب رحيم * وامتازوا اليوم أيها المجرمون * ألم أعهد إليكم يابنىءادم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدونى هاذا صراط مستقيم * ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون * هاذه جهنم التى كنتم توعدون * اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون * اليوم نختم على أفواههم وتكلمنآ أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون * ولو نشآء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون * ولو نشآء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون * ومن نعمره ننكسه فى الخلق أفلا يعقلون * وما علمناه الشعر وما ينبغى له إن هو إلا ذكر وقرءان مبين * لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين * أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينآ أنعاما فهم لها مالكون * وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون * * (ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون * واتخذوا من دون الله ءالهة لعلهم ينصرون * لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند م حضرون * فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون * أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم م بين * وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحى العظام وهى رميم * قل يحييها الذى أنشأهآ أول مرة وهو بكل خلق عليم * الذى جعل لكم من الشجر الا خضر نارا فإذآ أنتم منه توقدون * أوليس الذى خلق السماوات والا رض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم * إنمآ أمره إذآ أراد شيئا أن يقول له كن فيكون * فسبحان الذى بيده ملكوت كل شىء وإليه ترجعون) * * (وءاية لهم أنا حملنا ذريتهم فى الفلك المشحون * وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (النحل)، في الكلام على قوله تعالى: * (وهو الذى سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا) *. * (وما تأتيهم من ءاية من ءايات ربهم إلا كانوا عنها معرضين) *. ذم جل وعلا في هذه الآية الكريمة الكفار بإعراضهم عن آيات الله.
وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية، جاء في آيات أخر من كتاب الله؛ كقوله تعالى في أول سورة (الأنعام): * (وما تأتيهم من ءاية من ءايات ربهم إلا كانوا عنها معرضين * فقد كذبوا بالحق لما جاءهم) *، وقوله تعالى في آخر (يوسف): * (وكأين من ءاية فى السماوات والارض يمرون عليها وهم عنها معرضون) *، وقوله تعالى: * (اقتربت الساعة وانشق القمر * وإن يروا ءاية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر) *، وقوله تعالى: * (وإذا ذكروا لا يذكرون * وإذا رأوا ءاية يستسخرون) *، وأصل الإعراض مشتق من العرض بالضم، وهو الجانب؛ لأن المعرض عن الشئ يوليه بجانب عنقه صادا عنه. * (ونفخ فى الصور فإذا هم من الا جداث إلى ربهم ينسلون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة النفخة الأخيرة، والصور قرن من نور ينفخ فيه الملك نفخة البعث، وهي النفخة الأخيرة، وإذا نفخها قام جميع أهل القبور من قبورهم، أحياء إلى الحساب والجزاء.
وقوله: * (فإذا هم من الاجداث) *، جمع جدث بفتحتين، وهو القبر، وقوله:
296

* (ينسلون) *، أي: يسرعون في المشي من القبور إلى المحشر؛ كما قال تعالى: * (يوم يخرجون من الاجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون) *، وقال
تعالى: * (يوم تشقق الارض عنهم سراعا) *، وكقوله تعالى: * (يخرجون من الاجداث كأنهم جراد منتشر * مهطعين إلى الداع) *، وقوله: * (مهطعين إلى الداع) *، أي: مسرعين مادي أعناقهم على أشهر التفسيرين، ومن إطلاق نسل بمعنى أسرع، قوله تعالى: * (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون) *، وقول لبيد: وقول لبيد:
* عسلان الذئب أمسى قاربا
* برد الليل عليه فنسل
*
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من أن أهل القبور يقومون أحياء عند النفخة الثانية، جاء موضحا في آيات كثيرة من كتاب الله تعالى؛ كقوله تعالى: * (ونفخ فى الصور فصعق من فى السماوات ومن فى الارض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) *، وقوله تعالى: * (إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم * لدينا محضرون) *، وهذه الصيحة هي النفخة الثانية؛ كقوله تعالى: * (يوم يسمعون الصيحة * الحق ذالك يوم الخروج) *، أي: الخروج من القبور. وقوله تعالى: * (فإنما هى زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة) *، والزجرة: هي النفخة الثانية. والساهرة: وجه الأرض والفلاة الواسعة، ومنه قول أبي كبير الهذلي: وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من أن أهل القبور يقومون أحياء عند النفخة الثانية، جاء موضحا في آيات كثيرة من كتاب الله تعالى؛ كقوله تعالى: * (ونفخ فى الصور فصعق من فى السماوات ومن فى الارض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) *، وقوله تعالى: * (إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم * لدينا محضرون) *، وهذه الصيحة هي النفخة الثانية؛ كقوله تعالى: * (يوم يسمعون الصيحة * الحق ذالك يوم الخروج) *، أي: الخروج من القبور. وقوله تعالى: * (فإنما هى زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة) *، والزجرة: هي النفخة الثانية. والساهرة: وجه الأرض والفلاة الواسعة، ومنه قول أبي كبير الهذلي:
* يرتدن ساهرة كأن جميمها
* وعميمها أسداف ليل مظلم
*
وقول الأشعث بن قيس: وقول الأشعث بن قيس:
* وساهرة يضحي السراب مجللا
* لأقطارها قد حببتها متلثما
*
وكقوله تعالى: * (فإنما هى زجرة واحدة فإذا هم ينظرون) *، وقوله تعالى: * (ومن ءاياته أن تقوم السماء والارض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الارض إذا أنتم تخرجون) *، وهذه الدعوة بالنفخة الثانية. وقوله تعالى: * (يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده) *، إلى غير ذلك من الآيات.
297

* (قالوا ياويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمان وصدق المرسلون) *. قد قدمنا الكلام عليه في سورة (الروم)، في الكلام على قوله تعالى: * (وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم فى كتاب الله إلى يوم البعث فهاذا يوم البعث) *. * (ألم أعهد إليكم يابنىءادم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدونى هاذا صراط مستقيم) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة (الكهف)، في الكلام على قوله تعالى: * (ولا يشرك فى حكمه أحدا) *، وأوضحنا فيه التفصيل بين النظم الوضعية، وفي سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) *. * (ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون) *. قوله: * (جبلا كثيرا) *، أي: خلقا كثيرا؛ كقوله تعالى: * (واتقوا الذى خلقكم والجبلة الاولين) *، وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من كون الشيطان أضل خلقا كثيرا من بني آدم جاء مذكورا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى: * (ويوم يحشرهم جميعا يامعشر يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس) *، أي: قد استكثرتم أيها الشياطين، من إضلال الإنس، وقد قال إبليس: * (لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلا) *، وقد بين تعالى أن هذا الظن الذي ظنه بهم من أنه يضلهم جميعا إلا القليل صدقه عليهم؛ وذلك في قوله تعالى: * (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين) *، كما تقدم إيضاحه. وقرأ هذا الحرف نافع وعاصم: * (جبلا) * بكسر الجيم والباء، وتشديد اللام. وقرأه ابن كثير وحمزة والكسائي: * (جبلا) *، بضم الجيم والباء وتخفيف اللام. وقرأه أبو عمرو وابن عامر: * (جبلا) *، بضم الجيم وتسكين الباء مع تخفيف اللام، وجميع القراءات بمعنى واحد، أي: خلقا كثيرا.
298

* (وتكلمنآ أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون) *. ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من شهادة بعض جوارح الكفار عليهم يوم القيامة، جاء موضحا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى في سورة (النور): * (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) *، وقوله تعالى في (فصلت): * (حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون * وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذى أنطق كل * شىء) *. وقد قدمنا الكلام على هذا في سورة (النساء)، في الكلام على قوله تعالى: * (ولا يكتمون الله حديثا) *.
وبينا هناك أن آية (يس) هذه توضح الجمع بين الآيات؛ كقوله تعالى عنهم: * (ولا يكتمون الله حديثا) * مع قوله عنهم: * (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) *، ونحو ذلك من الآيات. * (ومن نعمره ننكسه فى الخلق أفلا يعقلون) *. قوله تعالى: * (ننكسه فى الخلق) *، أي: نقلبه فيه، فنخلقه على
عكس ما خلقناه من قبل، وذلك أنا خلقناه على ضعف في جسده، وخلو من عقل وعلم، ثم جعلناه يتزايد وينتقل من حال إلى حال، ويرتقي من درجة إلى درجة إلى أن يبلغ أشده، ويستكمل قوته ويعقل ويعلم ما له وما عليه، فإذا انتهى نكسناه في الخلق، فجعلناه يتناقص حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبي في ضعف جسده، وقلة عقله، وخلوه من العلم. وأصل معنى التنكيس: جعل أعلا الشئ أسفله.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، جاء موضحا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى: * (الله الذى خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة) *، وقوله تعالى: * (لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين) *، على أحد التفسيرين. وقوله تعالى في (الحج): * (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا) *، وقوله تعالى في (النحل): * (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكى لا يعلم بعد علم شيئا) *، وقوله تعالى في سورة (المؤمن): * (ثم لتكونوا شيوخا) *.
299

وقد قدمنا الكلام على هذا في سورة (النحل)، وقرأ هذا الحرف عاصم، وحمزة: * (ننكسه) * بضم النون الأولى، وفتح الثانية وتشديد الكاف المكسورة، من التنكيس، وقرأه الباقون بفتح النون الأولى، وإسكان الثانية، وضم الكاف مخففة مضارع نكسه المجرد وهما بمعنى واحد. وقرأ نافع وابن ذكوان عن ابن عامر: * (أفلا تعقلون) * بتاء الخطاب. وقرأه الباقون: * (أفلا يعقلون) *، بياء الغيبة. * (وما علمناه الشعر وما ينبغى له) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الشعراء)، في الكلام على قوله تعالى: * (والشعراء يتبعهم الغاوون) *، وذكرنا الأحكام المتعلقة بذلك هناك. * (لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (النمل)، في الكلام على قوله تعالى: * (إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء) *. وفي سورة (فاطر)، في الكلام على قوله تعالى: * (وما يستوى الاحياء ولا الاموات) *. * (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم م بين) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (النحل)، في الكلام على قوله تعالى: * (خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين) *. * (وضرب لنا مثلا ونسى خلقه) * قد بينا الآيات الموضحة له في سورة (البقرة) و (النحل)، مع بيان براهين البعث. * (إنمآ أمره إذآ أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (النحل)، في الكلام على قوله تعالى: * (إنما قولنا لشىء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) *، وبينا هناك أن الآيات المذكورة لا تنافي مذهب أهل السنة في إطلاق اسم الشئ على الموجود دون المعدوم، وقد قدمنا القراءتين وتوجيههما في قوله: * (كن فيكون) *، هناك.
300

((سورة الصافات))
* (والصافات صفا * فالزاجرات زجرا * فالتاليات ذكرا * إن إلاهكم لواحد * رب السماوات والا رض وما بينهما ورب المشارق * إنا زينا السمآء الدنيا بزينة الكواكب * وحفظا من كل شيطان مارد * لا يسمعون إلى الملإ الا على ويقذفون من كل جانب * دحورا ولهم عذاب واصب * إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب) * قوله تعالى: * (والصافات صفا * فالزاجرات زجرا * فالتاليات ذكرا * إن إلاهكم لواحد * رب السماوات والا رض وما بينهما ورب المشارق) *. أكثر أهل العلم على أن المراد ب: * (الصافات) * هنا، و * (الزاجرات) *، و * (التاليات) *: جماعات الملائكة، وقد جاء وصف الملائكة بأنهم صافون، وذلك في قوله تعالى عنهم: * (وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون) *، ومعنى كونهم صافين: أن يكونوا صفوفا متراصين بعضهم جنب بعض في طاعة الله تعالى، من صلاة وغيرها. وقيل: لأنهم يصفون أجنحتهم في السماء، ينتظرون أمر الله، ويؤيد القول الأول حديث حذيفة الذي قدمنا في أول سورة (المائدة)، في صحيح مسلم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت لنا تربتها طهورا إذا لم نجد الماء)، وهو دليل صحيح على أن الملائكة يصفون كصفوف المصلين في صلاتهم، وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على أنهم يلقون الذكر على الأنبياء، لأجل الإعذار والإنذار به؛ كقوله تعالى: * (فالملقيات ذكرا * عذرا أو نذرا) *، فقوله: * (فالملقيات ذكرا) *، كقوله هنا: * (فالتاليات ذكرا) *، لأن الذكر الذي تتلوه تلقيه إلى الأنبياء، كما كان جبريل ينزل بالوحي على نبينا وغيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه على الجميع، وقوله: * (عذرا أو نذرا) *، أي: لأجل الإعذار والإنذار، أي: بذلك الذكر الذي نتلوه وتلقيه، والإعذار: قطع العذر بالتبليغ.
والإنذار قد قدمنا إيضاحه وبينا أنواعه في أول سورة (الأعراف)، في الكلام على قوله تعالى: * (المص * كتاب أنزل إليك فلا يكن فى صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين) *، وقوله في هذه الآية: * (فالزجرات زجرا) *، الملائكة تزجر السحاب، وقيل: تزجر الخلائق عن معاص الله بالذكر الذي تتلوه، وتلقيه إلى الأنبياء.
301

وممن قال بأن * (الصافات) * و * (الزجرات) * و * (التاليات) * في أول هذه السورة الكريمة هي جماعات الملائكة: ابن عباس، وابن مسعود، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة؛ كما قاله القرطبي وابن كثير وغيرهما. وزاد ابن كثير وغيره ممن قال به: مسروقا والسدي والربيع بن أنس، وقد قدمنا أنه قول أكثر أهل العلم.
وقال بعض أهل العلم: * (الصافات) * في الآية الطير تصف أجنحتها في الهواء، واستأنس لذلك بقوله تعالى: * (أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمان) *، وقوله تعالى: * (ألم تر أن الله يسبح له من فى * السماوات والارض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه) *.
وقال بعض العلماء: المراد ب: * (الصافات) * جماعات المسلمين يصفون في مساجدهم للصلاة، ويصفون في غزوهم عند لقاء العدو؛ كما قال تعالى: * (تفعلون إن الله يحب الذين يقاتلون فى سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) *.
وقال بعض العلماء أيضا: المراد ب: * (فالزجرات زجرا) *، و * (منه ذكرا) *: جماعات العلماء العاملين يلقون آيات الله على الناس، ويزجرون عن معاص الله بآياته، ومواعظه التي أنزلها على رسله.
وقال بعضهم: المراد ب: * (فالزجرات زجرا) *: جماعات الغزاة يزجرون الخيل لتسرع إلى الأعداء، والقول الأول أظهر وأكثر قائلا. ووجه توكيده تعالى قوله: * (إن إلاهكم لواحد) *، بهذه الأقسام، وبأن اللام هو أن الكفار أنكروا كون الإلاه واحدا إنكارا شديدا وتعجبوا من ذلك تعجبا شديدا؛ كما قال تعالى عنهم: * (أجعل الالهة إلاها واحدا إن هاذا لشىء عجاب) *، ولما قال تعالى: * (إن إلاهكم لواحد) * أقام الدليل على ذلك بقوله: * (رب * السماوات والارض وما بينهما ورب المشارق) *، فكونه خالق السماوات والأرض الذي جعل فيها المشارق والمغارب، برهان قاطع على أنه المعبود وحده.
وهذا البرهان القاطع الذي أقامه هنا على أنه هو الإلاه المعبود وحده، أقامه على ذلك أيضا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى في سورة (البقرة): * (وإلاهكم إلاه واحد لا إلاه إلا هو الرحمان الرحيم) *، فقد أقام البرهان على ذلك بقوله بعده متصلا به: * (إن
302

في خلق السماوات والارض واختلاف الليل والنهار والفلك التى تجرى فى البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا) *.
وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة: فإن قلت: ما حكم الفاء إذا جاءت عاطفة في الصفات؟ قلت: إما أن تدل على ترتب معانيها في الوجود؛ كقوله: وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة: فإن قلت: ما حكم الفاء إذا جاءت عاطفة في الصفات؟ قلت: إما أن تدل على ترتب معانيها في الوجود؛ كقوله:
* يا لهف زيابة للحارث ال
* صابح فالغانم فالآئب
*
كأنه قيل: الذي صبح فغنم فآب، وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه؛ كقولك: خذ الأفضل فالأكمل، واعمل الأحسن فالأجمل. وإما على ترتب موصوفاتها في ذلك؛ كقوله: رحم الله المحلقين فالمقصرين، فعلى هذه القوانين الثلاثة ينساق أمر الفاء العاطفة في الصفات.
فإن قلت: فعلى أي هذه القوانين هي فيما أنت بصدده؟
قلت: إن وحدت الموصوف كانت للدلالة على ترتب الصفات في التفاضل، وإن ثلثته فهي للدلالة على ترتب الموصوفات فيه.
بيان ذلك: أنك إذا أجريت هذه الأوصاف على الملائكة، وجعلتهم جامعين لها فعطفها بالفاء يفيد ترتبا لها في الفضل، إما أن يكون الفضل للصف، ثم للزجر ثم للتلاوة. وإما على العكس، وكذلك إن أردت العلماء وقواد الغزاة. وإن أجريت الصفة الأولى على طوائف والثانية والثالثة على أخر، فقد أفادت ترتب الموصوفات في الفضل أعني أن الطوائف الصافات ذوات فضل، والزاجرات أفضل، والتاليات أبهر فضلا أو على العكس، وكذلك إذا أردت بالصافات الطير، وبالزاجرات كل ما يزجر عن معصية، وبالتاليات كل نفس تتلو الذكر، فإن الموصوفات مختلفة، انتهى كلام الزمخشري في (الكشاف).
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: كلام صاحب الكشاف هذا نقله عنه أبو حيان، والقرطبي وغيرهما، ولم يتعقبوه، والظاهر أنه كلام لا تحقيق فيه، ويوضح ذلك اعتراف الزمخشري نفسه بأنه لا يدري ما ذكره: هل هو كذا أو على العكس، وذلك صريح
303

في أنه ليس على علم مما يقوله؛ لأن من جزم بشئ ثم جوز فيه النقيضين دل ذلك على أنه ليس على علم مما جزم به.
والأظهر الذي لا يلزمه إشكال أن الترتيب بالفاء لمجرد الترتيب الذكري والإتيان بأداة الترتيب لمجرد الترتيب الذكرى فقط، دون إرادة ترتيب الصفات أو الموصوفات أسلوب عربي معروف جاء في القرءان في مواضع، وهو كثير في كلام العرب.
ومن أمثلته في القرءان العظيم، قوله تعالى: * (فلا اقتحم العقبة وما ادرك ما العقبة * فك رقبة * أو إطعام فى يوم ذى مسغبة * يتيما ذا مقربة * أو مسكينا ذا متربة * ثم كان من الذين ءامنوا) *، فلا يخفى أن * (ثم) * حرف ترتيب وأن المرتب به الذي هو كونه * (من الكتاب يؤمنون) * لا ترتب له على ما قبله إلا مطلق الترتيب الذكري، ومن ذلك أيضا قوله تعالى: * (وأن هاذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذالكم وصاكم به لعلكم تتقون * ثم ءاتينا موسى الكتاب تماما على الذى أحسن وتفصيلا لكل شىء) *، كما لا يخفى أن الترتيب فيه ذكري.
وقد قدمنا الكلام على هذا في سورة (البقرة)، في الكلام على قوله تعالى: * (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) *، ومن أمثلة ذلك في كلام العرب قوله: وقد قدمنا الكلام على هذا في سورة (البقرة)، في الكلام على قوله تعالى: * (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) *، ومن أمثلة ذلك في كلام العرب قوله:
* إن من ساد ثم ساد أبوه
* ثم قد ساد قبل ذلك جده
*
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ورب المشارق) *، لم يذكر في هذه الآية إلا المشارق وحدها، ولم يذكر فيها المغارب.
وقد بينا في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب): وجه اختلاف ألفاظ الآيات في ذلك، فقلنا فيه في الكلام على قوله تعالى: * (ولله المشرق والمغرب) *، ما لفظه أفرد في هذه الآية الكريمة المشرق والمغرب، وثناهما في سورة (الرحمان)، في قوله تعالى: * (رب المشرقين ورب المغربين) *، وجمعهما في سورة
(سأل سائل)، في قوله تعالى: * (فلا أقسم برب المشارق والمغارب) *، وجمع المشارق في سورة (الصافات)، في قوله تعالى: * (رب * السماوات والارض وما بينهما ورب المشارق) *.
304

والجواب: أن قوله هنا: * (ولله المشرق والمغرب) *، المراد به جنس المشرق والمغرب، فهو صادق بكل مشرق من مشارق الشمس التي هي ثلاثمائة وستون، وكل مغرب من مغاربها التي هي كذلك، كما روي عن ابن عباس وغيره.
قال ابن جرير في تفسير هذه الآية الكريمة، ما نصه: وإنما معنى ذلك: * (ولله المشرق) * الذي تشرق منه الشمس كل يوم، * (والمغارب) * الذي تغرب فيه كل يوم.
فتأويله إذا كان ذلك معناه: ولله ما بين قطري المشرق وقطري المغرب إذا كان شروق الشمس كل يوم من موضع منه لا تعود لشروقها منه إلى الحول الذي بعده، وكذلك غروبها، انتهى منه بلفظه.
وقوله: * (رب المشرقين ورب المغربين) *، يعني مشرق الشتاء، ومشرق الصيف ومغربهما، كما عليه الجمهور. وقيل: مشرق الشمس والقمر ومغربهما.
وقوله: * (برب المشارق والمغارب) *، أي: مشارق الشمس ومغاربها، كما تقدم. وقيل: مشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها، والعلم عند الله تعالى.
* (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب) *.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الأنعام)، في الكلام على قوله تعالى: * (وهو الذى جعل لكم النجوم لتهتدوا بها) *. وقرأ هذا الحرف السبعة غير عاصم وحمزة، بإضافة * (زينة) * إلى * (الكواكب) *، أي: بلا تنوين في * (زينة) * مع خفض الباء في * (الكواكب) *. وقرأه حمزة وحفص عن عاصم بتنوين * (زينة) *، وخفض * (الكواكب) * على أنه بدل من * (زينة) *. وقرأه أبو بكر عن عاصم: * (بزينة الكواكب) *، بتنوين * (زينة) *، ونصب * (الكواكب) *، وأعرب أبو حيان * (الكواكب) * على قراءة النصب إعرابين:
أحدهما: أن * (الكواكب) * بدل من * (السماء) * في قوله تعالى: * (إنا زينا السماء) *.
والثاني: أنه مفعول به ل: * (زينة) * بناء على أنه مصدر منكر؛ كقوله تعالى: * (أو إطعام فى يوم ذى مسغبة * يتيما) *.
305

والأظهر عندي: أنه مفعول فعل محذوف، تقديره: أعني * (الكواكب) *، على حد قوله في (الخلاصة): والأظهر عندي: أنه مفعول فعل محذوف، تقديره: أعني * (الكواكب) *، على حد قوله في (الخلاصة):
* ويحذف الناصبها إن علما
* وقد يكون حذفه متلزما
* وحفظا من كل شيطان مارد) * إلى قوله: * (شهاب ثاقب) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في الكلام على قوله تعالى: * (وحفظناها من كل شيطان رجيم * إلا من استرق السمع) *، في سورة (الحجر).
* (فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنآ إنا خلقناهم من طين لازب * بل عجبت ويسخرون * وإذا ذكروا لا يذكرون * وإذا رأوا ءاية يستسخرون * وقالوا إن هاذآ إلا سحر مبين * أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمبعوثون * أو ءابآؤنا الا ولون * قل نعم وأنتم داخرون * فإنما هى زجرة واحدة فإذا هم ينظرون * وقالوا ياويلنا هاذا يوم الدين * هاذا يوم الفصل الذى كنتم به تكذبون * احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون * من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم * وقفوهم إنهم مسئولون * ما لكم لا تناصرون * بل هم اليوم مستسلمون * وأقبل بعضهم على بعض يتسآءلون * قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين * قالوا بل لم تكونوا مؤمنين * وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين * فحق علينا قول ربنآ إنا لذآئقون * فأغويناكم إنا كنا غاوين * فإنهم يومئذ فى العذاب مشتركون * إنا كذلك نفعل بالمجرمين * إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إلاه إلا الله يستكبرون) * * (فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنآ إنا خلقناهم من طين لازب) *. ذكر في هذه الآية الكريمة برهانين من براهين البعث، التي قدمنا أنها يكثر في القرءان العظيم الاستدلال بها على البعث.
الأول: هو المراد بقوله: * (فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا) *، لأن معنى: * (فاستفتهم) *، استخبرهم والأصل في معناه: اطلب منهم الفتوى، وهي الإخبار بالواقع فيما تسألهم عنه * (أهم أشد خلقا) *، أي: أصعب إيجادا واختراعا، * (أم من خلقنا) * من المخلوقات التي هي أعظم وأكبر منهم، وهي ما تقدم ذكره من الملائكة المعبر عن جماعاتهم بالصافات، والزاجرات، والتاليات، والسماوات والأرض، والشمس والقمر، ومردة الشياطين؛ كما ذكر ذلك كله في قوله تعالى: * (رب * السماوات والارض وما بينهما ورب المشارق إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد) *.
وجواب الاستفتاء المذكور الذي لا جواب له غيره، هو أن يقال: من خلقت يا ربنا من الملائكة، ومردة الجن، والسماوات والأرض، والمشارق، والمغارب، والكواكب، أشد خلقا منا؛ لأنها مخلوقات عظام أكبر وأعظم منا، فيتضح بذلك البرهان القاطع على قدرته جل وعلا على البعث بعد الموت؛ لأن من المعلوم بالضرورة أن من خلق الأعظم الأكبر كالسماوات والأرض، وما ذكر معهما قادر على أن يخلق الأصغر الأقل؛ كما قال تعالى: * (لخلق السماوات والارض أكبر من خلق الناس) *، أي: ومن قدر
306

على خلق الأكبر فلا شك أنه قادر على خلق الأصغر، كخلق الإنسان خلقا جديدا بعد الموت. وقال تعالى: * (أو ليس الذى خلق السماوات والارض * بقادر على أن
يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم) *، وقال تعالى: * (أو لم يروا أن الله الذى خلق السماوات والارض ولم يعى بخلقهن بقادر على أن يحى الموتى بلى إنه على كل شىء قدير) *، وقال تعالى: * (أو لم يروا أن الله الذى خلق السماوات والارض قادر على أن يخلق مثلهم) *، وقال تعالى في (النازعات)، موضحا الاستفتاء المذكور في آية (الصافات) هذه: * (أشد خلقا أم السماء بناها رفع * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها * والارض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها * متاعا لكم ولانعامكم) *.
وقد علمت أن وحه العبارة بمن التي هي للعالم، في قوله تعالى: * (أم من خلقنا) *، عن السماوات والأرض والكواكب هو تغليب ما ذكر معها من العالم كالملائكة على غير العالم، وذلك أسلوب عربي معروف.
وأما البرهان الثاني: فهو في قوله: * (إنا خلقناهم من طين لازب) *؛ لأن من خلقهم أولا من طين، وأصله التراب المبلول بالماء لا يشك عاقل في قدرته على خلقهم مرة أخرى بعد أن صاروا ترابا، لأن الإعادة لا يعقل أن تكون أصعب من البدء والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة جدا؛ كقوله تعالى: * (قل يحييها الذى أنشأها أول مرة) *، وقوله تعالى: * (وهو الذى يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) *، وقوله تعالى: * (ياأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب) *.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذين البرهانين وغيرهما من براهين البعث في سورة (البقرة)، و (النحل)، و (الحج) وغير ذلك.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (من طين لازب) *، اللازب: هو ما يلزق باليد مثلا إذا لاقته، وعبارات المفسرين فيه تدور حول ما ذكرنا، والعرب تطلق اللازب واللاتب واللازم، بمعنى واحد، ومنه في اللازب قول علي رضي الله عنه: وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (من طين لازب) *، اللازب: هو ما يلزق باليد مثلا إذا لاقته، وعبارات المفسرين فيه تدور حول ما ذكرنا، والعرب تطلق اللازب واللاتب واللازم، بمعنى واحد، ومنه في اللازب قول علي رضي الله عنه:
* تعلم فإن الله زادك بسطة
* وأخلاق خير كلها لك لازب
*
وقول نابغة ذبيان
307

: وقول نابغة ذبيان:
* ولا يحسبون الخير لا شر بعده
* ولا يحسبون الشر ضربة لازب
*
فقوله: ضربة لازب، أي: شيئا ملازما لا يفارق، ومنه في اللاتب قوله: فقوله: ضربة لازب، أي: شيئا ملازما لا يفارق، ومنه في اللاتب قوله:
* فإن يك هذا من نبيذ شربته
* فإني من شرب النبيذ لتائب
*
* صداع وتوصيم العظام وفترة
* وغم مع الإشراق في الجوف لاتب
*
والبرهانان المذكوران على البعث يلقمان الكفار حجرا في إنكارهم البعث المذكور بعدهما قريبا منهما، في قوله تعالى: * (وقالوا إن هاذا إلا سحر مبين * أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمبعوثون * أو ءاباؤنا الاولون * قل نعم وأنتم داخرون * فإنما هى زجرة واحدة فإذا هم ينظرون) *. * (بل عجبت ويسخرون) *. قرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير حمزة والكسائي: * (عجبت) * بالتاء المفتوحة وهي تاء الخطاب، المخاطب بها النبي صلى الله عليه وسلم. وقرأ حمزة والكسائي: * (بل عجبت) *، بضم التاء وهي تاء المتكلم، وهو الله جل وعلا.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن القراءتين المختلفتين يحكم لهما بحكم الآيتين.
وبذلك تعلم أن هذه الآية الكريمة على قراءة حمزة والكسائي فيها إثبات العجب لله تعالى، فهي إذا من آيات الصفات على هذه القراءة.
وقد أوضحنا طريق الحق التي هي مذهب السلف في آيات الصفات، وأحاديثها في سورة (الأعراف)، في الكلام على قوله تعالى: * (ثم استوى على العرش) *، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. * (وقالوا ياويلنا هاذا يوم الدين * هاذا يوم الفصل الذى كنتم به تكذبون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الروم)، في الكلام على قوله تعالى: * (وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم فى كتاب الله إلى يوم البعث فهاذا يوم البعث) *.
308

* (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون * من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم) *. المراد ب: * (الذين ظلموا) * الكفار، كما يدل عليه قوله بعده: * (وما كانوا يعبدون * من دون الله) *.
وقد قدمنا إطلاق الظلم على الشرك في آيات متعددة؛ كقوله تعالى: * (إن الشرك لظلم عظيم) *، وقوله تعالى: * (والكافرون هم الظالمون) *، وقوله تعالى: * (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين) *.
وقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الظلم بالشرك، في قوله تعالى: * (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) *، وقوله تعالى: * (وأزواجهم) *، جمهور أهل العلم منهم: عمر وابن عباس، على أن المراد به أشباههم ونظراؤهم، فعابد الوثن مع عابد الوثن، والسارق مع السارق، والزاني مع الزاني، واليهودي مع اليهودي، والنصراني مع النصراني، وهكذا وإطلاق الأزواج على الأصناف مشهور في القرءان، وفي كلام العرب؛ كقوله تعالى: * (والذى خلق الازواج كلها) *، وقوله تعالى: * (سبحان الذى خلق الازواج كلها مما تنبت الارض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون) *، وقوله تعالى: * (فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى) *، وقوله تعالى: * (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم) *، إلى غير ذلك من الآيات.
فقوله تعالى: * (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم) *، أي: اجمعوا الظالمين وأشباههم ونظراءهم، فاهدوهم إلى النار ليدخلها جميعهم، وبذلك تعلم أن قول من قال: المراد ب * (أزواجهم) * نساؤهم اللاتي على دينهم، خلاف الصواب. وقوله تعالى: * (وما كانوا يعبدون * من دون الله) *، أي: احشروا مع الكفار الشركاء التي كانوا يعبدونها من دون الله ليدخل العابدون والمعبودات جميعا النار؛ كما أوضح ذلك بقوله تعالى: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان هؤلاء ءالهة ما وردوها وكل فيها خالدون) *. وقد بين تعالى أن الذين عبدوا من دون الله من الأنبياء، والملائكة، والصالحين؛ كعيسى وعزير خارجون عن هذا، وذلك في
309

قوله تعالى: * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون) *، إلى قوله: * (هاذا يومكم الذى كنتم توعدون) *، وأشار إلى ذلك في قوله تعالى: * (ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون * وقالوا ءأالهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون * إن هو إلا عبد أنعمنا عليه) *.
وقوله تعالى: * (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (فاهدوهم) *، من الهدى العام، أي: دلوهم وأرشدوهم * (إلى صراط الجحيم) *، أي: طريق النار ليسلكوها إليها، والضمير في قوله تعالى: * (فاهدوهم) *، راجع إلى الثلاثة، أعني: * (الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون * من دون الله) *.
وقد دلت هذه الآية أن الهدى يستعمل في الإرشاد والدلالة على الشر، ونظير ذلك في القرءان قوله: * (كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير) *، ولذلك كان للشر أئمة يؤتم بهم فيه؛ كقوله تعالى: * (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) *. * (وقفوهم إنهم مسئولون * ما لكم لا تناصرون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الأعراف)، في الكلام على قوله تعالى: * (فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين) *، وبينا هناك وجه الجمع بين الآيات في نحو قوله تعالى: * (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) *، وقوله تعالى: * (فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان) *، مع قوله تعالى: * (فوربك لنسئلنهم أجمعين * عما كانوا يعملون) *، وقوله تعالى: * (فلنسئلن الذين أرسل إليهم) *. وقوله هنا: * (وقفوهم إنهم) *. * (وأقبل بعضهم على بعض يتسآءلون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له مع التعرض لإزالة إشكالين في بعض الآيات المتعلقة بذلك، في سورة (قد أفلح المؤمنون)، في الكلام على قوله تعالى: * (يبعثون فإذا نفخ فى الصور
310

فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) *. * (فحق علينا قول ربنآ إنا لذآئقون * فأغويناكم إنا كنا غاوين) *. قد قدمنا الآيات المبينة للمراد بالقول الذي حق عليهم في سورة (يس)، في الكلام على قوله تعالى: * (لقد حق القول على أكثرهم) *، وما ذكره جل وعلا عنهم من أنهم قالوا: إنه لما حق عليهم القول، الذي هو: * (لاملان جهنم من الجنة والناس أجمعين) *، فكانوا غاوين أغووا أتباعهم، لأن متبع الغاوي في غيه لا بد أن يكون غاويا مثله، ذكره تعالى في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى في سورة (القصص): * (قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا) *، والإغواء: الإضلال. * (فإنهم يومئذ فى العذاب مشتركون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الضالين والمضلين مشتركون في العذاب يوم القيامة، وبين في سورة (الزخرف)، أن ذلك الاشتراك ليس بنافعهم شيئا؛ وذلك في قوله تعالى: * (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم فى العذاب مشتركون) *، وبين في مواضع أخر أن الأتباع يسألون الله، أن يعذب المتبوعين عذابا مضاعفا لإضلالهم إياهم؛ كقوله تعالى: * (حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لاولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فئاتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف) *، وقوله تعالى: * (وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا ءاتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا) *.
وقد قدمنا الكلام على تخاصم أهل النار، وسيأتي إن شاء الله له زيادة إيضاح في سورة (ص)، في الكلام على قوله تعالى: * (إن ذلك لحق تخاصم أهل النار) *. * (إنا كذلك نفعل بالمجرمين * إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إلاه إلا الله يستكبرون) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن ذلك العذاب الذي فعله بهؤلاء المعذبين،
311

المذكورين في قوله تعالى: * (إنا لذائقون) *، أي: العذاب الأليم. وقوله تعالى: * (فإنهم يومئذ فى العذاب مشتركون) *، أنه يفعل مثله من التعذيب والتنكيل بالمجرمين، والمجرمون جمع مجرم، وهو مرتكب الجريمة وهي الذنب الذي يستحق صاحبه عليه التنكيل الشديد، ثم بين العلة لذلك التعذيب؛ لأنها هي امتناعهم من كلمة التوحيد التي هي لا إلاه إلا الله، إذا طلب منهم الأنبياء وأتباعهم أن يقولوا ذلك في دار الدنيا. فلفظة إن في قوله تعالى: * (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إلاه إلا الله
يستكبرون) *، من حروف التعليل؛ كما تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه.
وعليه فالمعنى: * (كذلك نفعل بالمجرمين) * لأجل أنهم كانوا في دار الدنيا، إذا قيل لهم: * (لا إلاه إلا الله يستكبرون) *، أي: يتكبرون عن قبولها ولا يرضون أن يكونوا أتباعا للرسل.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، من كون ذلك هو سبب تعذيبهم بالنار، دلت عليه آيات؛ كقوله تعالى مبينا دخولهم النار: * (ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلى الكبير) *، وقوله تعالى في ذكر صفات الكفار وهم أهل النار: * (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالاخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) *.
* (ويقولون أءنا لتاركو ءالهتنا لشاعر مجنون * بل جآء بالحق وصدق المرسلين * إنكم لذآئقو العذاب الا ليم * وما تجزون إلا ما كنتم تعملون * إلا عباد الله المخلصين * أولائك لهم رزق معلوم * فواكه وهم مكرمون * فى جنات النعيم * على سرر متقابلين * يطاف عليهم بكأس من معين * بيضآء لذة للشاربين * لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون * وعندهم قاصرات الطرف عين * كأنهن بيض مكنون * فأقبل بعضهم على بعض يتسآءلون * قال قآئل منهم إنى كان لى قرين * يقول أءنك لمن المصدقين * أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمدينون * قال هل أنتم مطلعون * فاطلع فرءاه فى سوآء الجحيم * قال تالله إن كدت لتردين * ولولا نعمة ربى لكنت من المحضرين * أفما نحن بميتين * إلا موتتنا الا ولى وما نحن بمعذبين * إن هاذا لهو الفوز العظيم * لمثل هاذا فليعمل العاملون * أذالك خير نزلا أم شجرة الزقوم * إنا جعلناها فتنة للظالمين * إنها شجرة تخرج فى أصل الجحيم * طلعها كأنه رءوس الشياطين * فإنهم لاكلون منها فمالئون منها البطون * ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم * ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم * إنهم ألفوا ءابآءهم ضآلين * فهم علىءاثارهم يهرعون * ولقد ضل قبلهم أكثر الا ولين * ولقد أرسلنا فيهم منذرين * فانظر كيف كان عاقبة المنذرين * إلا عباد الله المخلصين * ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون * ونجيناه وأهله من الكرب العظيم * وجعلنا ذريته هم الباقين * وتركنا عليه فى الا خرين * سلام على نوح فى العالمين * إنا كذلك نجزى المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين * ثم أغرقنا الا خرين * وإن من شيعته لإبراهيم * إذ جآء ربه بقلب سليم * إذ قال لابيه وقومه ماذا تعبدون * أءفكا ءالهة دون الله تريدون * فما ظنكم برب العالمين * فنظر نظرة فى النجوم * فقال إنى سقيم * فتولوا عنه مدبرين * فراغ إلىءالهتهم فقال ألا تأكلون * ما لكم لا تنطقون * فراغ عليهم ضربا باليمين * فأقبلوا إليه يزفون * قال أتعبدون ما تنحتون * والله خلقكم وما تعملون * قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه فى الجحيم * فأرادوا به كيدا فجعلناهم الا سفلين * وقال إنى ذاهب إلى ربى سيهدين * رب هب لى من الصالحين * فبشرناه بغلام حليم * فلما بلغ معه السعى قال يابنى إنى أرى فى المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت افعل ما تؤمر ستجدنى إن شآء الله من الصابرين * فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه أن ياإبراهيم * قد صدقت الرؤيآ إنا كذلك نجزى المحسنين * إن هاذا لهو البلاء المبين * وفديناه بذبح عظيم * وتركنا عليه فى الا خرين * سلام على إبراهيم * كذلك نجزى المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين * وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين * وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين) * * (ويقولون أءنا لتاركو ءالهتنا لشاعر مجنون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الشعراء)، في الكلام على قوله تعالى: * (والشعراء يتبعهم الغاوون) *. * (لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون) *. قد قدمنا تفسيره مع ذكر الآيات الدالة على معناه في سورة (المائدة)، في الكلام على قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا إنما * الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) *، وبينا هنا كلام أهل العلم في نجاسة عين خمر الدنيا دون خمر الآخرة، وأن ذلك يشير إلى قوله تعالى: * (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) *.
312

* (وعندهم قاصرات الطرف عين * كأنهن بيض مكنون) *.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ثلاث صفات من صفات نساء أهل الجنة:
الأولى: أنهن * (قاصرات الطرف) *، وهو العين، أي: عيونهن قاصرات على أزواجهن، لا ينظرن إلى غيرهم لشدة اقتناعهن واكتفائهن بهم.
الثانية: أنهن * (عين) *، والعين جمع عيناء، وهي واسعة دار العين، وهي النجلاء.
الثالثة: أن ألوانهن بيض بياضا مشربا بصفرة؛ لأن ذلك هو لون بيض النعام الذي شبههن به، ومنه قول امرئ القيس في نحو ذلك: الثالثة: أن ألوانهن بيض بياضا مشربا بصفرة؛ لأن ذلك هو لون بيض النعام الذي شبههن به، ومنه قول امرئ القيس في نحو ذلك:
* كبكر المقانات البياض بصفرة
* غذاها غير الماء نمير المحلل
*
لأن معنى قوله: كبكر المقانات البياض بصفرة: أن لون المرأة المذكورة كلون البيضة البكر المخالط بياضها بصفرة، وهذه الصفات الثلاث المذكورة هنا، جاءت موضحة في غير هذا الموضع مع غيرها من صفاتهن الجميلة، فبين كونهن قاصرات الطرف على أزواجهن، بقوله تعالى في (ص): * (وعندهم قاصرات الطرف أتراب) *، وكون المرأة قاصرة الطرف من صفاتها الجميلة، وذلك معروف في كلام العرب، ومنه قول امرئ القيس: لأن معنى قوله: كبكر المقانات البياض بصفرة: أن لون المرأة المذكورة كلون البيضة البكر المخالط بياضها بصفرة، وهذه الصفات الثلاث المذكورة هنا، جاءت موضحة في غير هذا الموضع مع غيرها من صفاتهن الجميلة، فبين كونهن قاصرات الطرف على أزواجهن، بقوله تعالى في (ص): * (وعندهم قاصرات الطرف أتراب) *، وكون المرأة قاصرة الطرف من صفاتها
الجميلة، وذلك معروف في كلام العرب، ومنه قول امرئ القيس:
* من القاصرات الطرف لو دب محمول
* من الذر فوق الأتب منها لأثرا
*
وذكر كونهن عينا في قوله تعالى فيهن: * (وحور عين) *، وذكر صفا ألوانهن وبياضها في قوله تعالى: * (كأمثال اللؤلؤ المكنون) *، وقوله تعالى: * (كأنهن الياقوت والمرجان) *، وصافتهن كثيرة معروفة في الآيات القرآنية.
واعلم أن الله أثنى عليهن بنوعين من أنواع القصر:
أحدهما: أنهن * (قاصرات الطرف) *، والطرف العين، وهو لا يجمع ولا يثنى لأن أصله مصدر، ولم يأت في القرءان إلا مفردا؛ كقوله تعالى: * (لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء) *، وقوله تعالى: * (ينظرون من طرف خفى) *، ومعنى كونهن * (قاصرات الطرف) * هو ما قدمنا من أنهن لا ينظرن إلى غير أزواجهن بخلاف نساء الدنيا.
313

والثاني من نوعي القصر: كونهن مقصورات في خيامهن، لا يخرجن منها؛ كما قال تعالى لأزواج نبيه صلى الله عليه وسلم: * (وقرن فى بيوتكن) *، وذلك في قوله تعالى: * (حور مقصورات فى الخيام) *، وكون المرأة مقصورة في بيتها لا تخرج منه من صفاتها الجميلة، وذلك معروف في كلام العرب؛ ومنه قوله:: * (وقرن فى بيوتكن) *، وذلك في قوله تعالى: * (حور مقصورات فى الخيام) *، وكون المرأة مقصورة في بيتها لا تخرج منه من صفاتها الجميلة، وذلك معروف في كلام العرب؛ ومنه قوله:
* من كان حربا للنساء
* فإنني سلم لهنه
*
* فإذا عثرن دعونني
* وإذا عثرت دعوتهنه
*
* وإذا برزن لمحفل
* فقصارهن ملاحهنه
*
فقوله: قصارهن، يعني: المقصورات منهن في بيوتهن اللاتي لا يخرجن إلا نادرا، كما أوضح ذلك كثير عزة في قوله: قصارهن، يعني: المقصورات منهن في بيوتهن اللاتي لا يخرجن إلا نادرا، كما أوضح ذلك كثير عزة في قوله:
* وأنت التي حببت كل قصيره
* إلى وما تدري بذاك القصائر
*
* عنيت قصيرات الحجال ولم أرد
* قصار الخطا شر النساء البحاتر
*
والحجال: جمع حجلة، وهي البيت الذي يزين للعروس، فمعنى قصيرات الحجال: المقصورات في حجالهن. وذكر بعضهم أن رجلا سمع آخر، قال: لقد أجاد الأعشى في قوله: والحجال: جمع حجلة، وهي البيت الذي يزين للعروس، فمعنى قصيرات الحجال: المقصورات في حجالهن. وذكر بعضهم أن رجلا سمع آخر، قال: لقد أجاد الأعشى في قوله:
* غراء فرعاء مصقول عوارضها
* تمشي الهوينا كما يمشي الوجى الوحل
*
* كأن مشيتها من بيت جارتها
* مر السحابة لا ريث ولا عجل
*
* ليست كمن يكره الجيران طلعتها
* ولا تراها لسر الجار تختتل
*
فقال له: قاتلك الله، تستحسن غير الحسن هذه الموصوفة خراجة ولاجة، والخراجة الولاجة لا خير فيها ولا ملاحة لها، فهل لا قال كما قال أبو قيس بن الأسلت: فقال له: قاتلك الله، تستحسن غير الحسن هذه الموصوفة خراجة ولاجة، والخراجة الولاجة لا خير فيها ولا ملاحة لها، فهل لا قال كما قال أبو قيس بن الأسلت:
* وتكسل عن جاراتها قيزنها
* وتعتل من إنيانهن فتعذر
* أذالك خير نزلا أم شجرة الزقوم) *. قد قدمنا إيضاحه بالقرءان في سورة (الفرقان)، في الكلام على قوله تعالى: * (قل أذالك خير أم جنة الخلد التى وعد المتقون) *.
314

* (إنا جعلناها فتنة للظالمين * إنها شجرة تخرج فى أصل الجحيم) *. قد قدمنا إيضاحه في سورة (بني إسرائيل)، في الكلام على قوله تعالى: * (وما جعلنا الرءيا التى أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة فى القرءان) *. * (فإنهم لاكلون منها فمالئون منها البطون * ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم) *. ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن الكفار في النار يأكلون من شجرة الزقوم، فيملؤون منها بطونهم، ويجمعون معها: * (لشوبا من حميم) *، أي: خلطا من الماء البالغ غاية الحرارة، جاء موضحا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى في (الواقعة): * (ثم إنكم أيها الضالون المكذبون * لاكلون من شجر من زقوم * فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم * فشاربون شرب الهيم) *. وقوله: * (شرب الهيم) *، الهيم: جمع أهيم وهيماء وهي الناقة مثلا التي أصابها الهيام، وهو شدة العطش بحيث لا يرويها كثرة شراب الماء فهي تشرب كثيرا من الماء، ولا تزال مع ذلك في شدة العطش. ومنه قول غيلان ذي الرمة: فإنهم لاكلون منها فمالئون منها البطون * ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم) *. ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن الكفار في النار يأكلون من شجرة الزقوم، فيملؤون منها بطونهم، ويجمعون معها: * (لشوبا من حميم) *، أي: خلطا من الماء البالغ غاية الحرارة، جاء موضحا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى في (الواقعة): * (ثم إنكم أيها الضالون المكذبون * لاكلون من شجر من زقوم * فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم * فشاربون شرب الهيم) *. وقوله: * (شرب الهيم) *، الهيم: جمع أهيم وهيماء وهي الناقة مثلا التي أصابها الهيام، وهو شدة العطش بحيث لا يرويها كثرة شراب الماء فهي تشرب كثيرا من الماء، ولا تزال مع ذلك في شدة العطش. ومنه قول غيلان ذي الرمة:
* فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد
* صداها ولا يقضى عليها هيامها
*
وقوله تعالى في (الواقعة): * (فشاربون عليه من الحميم * فشاربون شرب الهيم) *، يدل على أن الشوب، أي: الخلط من الحميم المخلوط لهم بشجرة الزقوم المذكور هنا في (الصافات)، أنه شوب كثير من الحميم لا قليل.
وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية: * (لشوبا من حميم) *، الشوب: الخلط، والشوب والشوب لغتان، كالفقر والفقر، والفتح أشهر. قال الفراء: شاب طعامه وشرابه إذا خلطهما بشئ يشوبهما شوبا وشيابة، انتهى منه. * (إنهم ألفوا ءابآءهم ضآلين * فهم علىءاثارهم يهرعون) *. ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الكفار الذين أرسل إليهم نبينا صلى الله عليه وسلم: * (إنهم ألفوا ءاباءهم) *، أي: وجدوهم على الكفر، وعبادة الأوثان، * (فهم علىءاثارهم
315

يهرعون) *، أي: يتبعونهم في ذلك الضلال والكفر مسرعين فيه، جاء موضحا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى عنهم: * (قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه ءاباءنا) *، وقوله عنهم: * (قالوا حسبنا ما وجدنا عليه ءاباءنا) *، وقوله عنهم: * (وكذلك ما أرسلنا من قبلك فى قرية من نذير) *، وقوله عنهم: * (قالت رسلهم أفى الله شك فاطر السماوات والارض يدعوكم ليغفر لكم من) *. ورد الله عليهم في الآيات القرآنية معروف؛ كقوله تعالى: * (أو * لو كان لا يعقلون شيئا ولا يهتدون * ومثل) *، وقوله: * (أو * لو كان لا يعلمون شيئا ولا يهتدون * يأيها) *، وقوله تعالى: * (قال أوحى لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه ءاباءكم) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (فهم علىءاثارهم) *، أي: فهم على اتباعهم والاقتداء بهم في الكفر والضلال؛ كما قال تعالى عنهم: * (وكذلك ما أرسلنا من) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (يهرعون) *، قد قدمنا في سورة (هود)، أن معنى: * (يهرعون) *: يسرعون ويهرولون، وأن منه قول مهلهل: وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (يهرعون) *، قد قدمنا في سورة (هود)، أن معنى: * (يهرعون) *: يسرعون ويهرولون، وأن منه قول مهلهل:
* فجاءوا يهرعون وهم أسارى
* تقودهم على رغم الأنوف
* ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون * ونجيناه وأهله من الكرب العظيم * وجعلنا ذريته هم الباقين) *. تقدم إيضاحه بالآيات القرآنية، وتفسيره في سورة (الأنبياء)، في الكلام على قوله تعالى: * (ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم) *. * (إذ قال لابيه وقومه ماذا تعبدون * أءفكا ءالهة دون الله تريدون) *
316

. قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية بكثرة في سورة (مريم)، في الكلام على قوله تعالى: * (واذكر فى الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا * إذ قال لابيه ياأبت * ياأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا) *. * (وقال إنى ذاهب إلى ربى سيهدين * رب هب لى من الصالحين فبشرناه بغلام حليم) *، إلى قوله تعالى: * (وفديناه بذبح عظيم) *. اعلم أولا: أن العلماء اختلفوا في هذا الغلام الذي أمر إبراهيم في المنام بذبحه، ومعلوم أن رؤيا الأنبياء وحي، ثم لما باشر عمل ذبحه امتثالا للأمر، فداه الله بذبح عظيم، هل هو إسماعيل أو إسحاق؟ وقد وعدنا في سورة (الحجر)، بأنا نوضح ذلك بالقرءان في سورة (الصافات)، وهذا وقت إنجاز الوعد.
اعلم، وفقني الله وإياك، أن القرءان العظيم قد دل في موضعين، على أن الذبيح هو إسماعيل لا إسحاق أحدهما في (الصافات)، والثاني في (هود).
أما دلالة آيات (الصافات) على ذلك، فهي واضحة جدا من سياق الآيات، وإيضاح ذلك أنه تعالى قال عن نبيه إبراهيم: * (وقال إنى ذاهب إلى ربى سيهدين * رب هب لى من الصالحين * فبشرناه بغلام حليم * فلما بلغ معه السعى قال يابنى بنى إنى أرى فى المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت قبلهم أكثر الاولين * ولقد أرسلنا فيهم منذرين * فانظر كيف كان عاقبة المنذرين * إلا عباد الله المخلصين * ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون * ونجيناه وأهله من الكرب العظيم * وجعلنا ذريته هم الباقين * وتركنا عليه فى الاخرين * سلام على نوح فى العالمين * إنا كذلك نجزى المحسنين) *، قال بعد ذلك عاطفا على البشارة الأولى: * (وبشرناه بإسحاق نبيا من * الصالحين) *، فدل ذلك على أن البشارة الأولى شئ غير المبشر به في الثانية؛ لأنه لا يجوز حمل كتاب الله على أن معناه: فبشرناه بإسحاق، ثم بعد انتهاء قصة ذبحه يقول أيضا: * (وبشرناه بإسحاق) *، فهو تكرار لا فائدة فيه ينزه عنه كلام الله، وهو واضح في أن الغلام المبشر به أولا الذي فدي بالذبح العظيم، هو إسماعيل، وأن البشارة بإسحاق نص الله عليها مستقلة بعد ذلك.
وقد أوضحنا في سورة (النحل)، في الكلام على قوله تعالى: * (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حيواة طيبة) *، أن المقرر في الأصول: أن
317

النص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إذا احتمل التأسيس والتأكيد معا وجب حمله على التأسيس، ولا يجوز حمله على التأكيد، إلا لدليل يجب الرجوع إليه.
ومعلوم في اللغة العربية، أن العطف يقتضي المغايرة، فآية (الصافات) هذه، دليل واضح للمنصف على أن الذبيح إسماعيل لا إسحاق، ويستأنس لهذا بأن المواضع التي ذكر فيها إسحاق يقينا عبر عنه في كلها بالعلم لا الحلم، وهذا الغلام الذبيح وصفه بالحلم لا العلم.
وأما الموضع الثاني الدال على ذلك الذي ذكرنا أنه في سورة (هود)، فهو قوله تعالى: * (وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) *؛ لأن رسل الله من الملائكة بشرتها بإسحاق، وأن إسحاق يلد يعقوب، فكيف يعقل أن يؤمر إبراهيم بذبحه، وهو صغير، وهو عنده علم يقين بأنه يعيش حتى يلد يعقوب.
فهذه الآية أيضا دليل واضح على ما ذكرنا، فلا ينبغي للمنصف الخلاف في ذلك بعد دلالة هذه الأدلة القرآنية على ذلك، والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
اعلم أن قصة الذبيح هذه تؤيد أحد القولين المشهورين عند أهل الأصول في حكمة التكليف، هل هي للامتثال فقط، أو هي مترددة بين الامتثال والابتلاء؟ لأنه بين في هذه الآية الكريمة أن حكمة تكليفه لإبراهيم بذبحه ولده ليست هي امتثاله ذلك بالفعل، لأنه لم يرد ذبحه كونا وقدرا، وإنما حكمة تكليفه بذلك مجرد الابتلاء والاختبار، هل يصمم على امتثال ذلك أو لا؟ كما صرح بذلك في قوله تعالى: * (إن هاذا لهو البلاء المبين * وفديناه بذبح عظيم) *، فتبين بهذا أن التحقيق أن حكمة التكليف مترددة بين الامتثال والابتلاء. وإلى الخلاف المذكور أشار في (مراقي السعود)، بقوله: وإنما حكمة تكليفه بذلك مجرد الابتلاء والاختبار، هل يصمم على امتثال ذلك أو لا؟ كما صرح بذلك في قوله تعالى: * (إن هاذا لهو البلاء المبين * وفديناه بذبح عظيم) *، فتبين بهذا أن التحقيق أن حكمة التكليف مترددة بين الامتثال والابتلاء. وإلى الخلاف المذكور أشار في (مراقي السعود)، بقوله:
* للامتثال كلف الرقيب
* فموجب تمكنا مصيب
*
* أو بينه والابتلا ترددا
* شرط تمكن عليه انفقدا
*
وقد أشار بقوله: فموجب تمكنا مصيب، وقوله: شرط تمكن عليه انفقدا، إلى أن شرط التمكن من الفعل في التكليف، مبني على الخلاف المذكور، فمن قال: إن الحكمة في التكليف هي الامتثال فقط اشترط في التكليف التمكن من الفعل، لأنه لا امتثال إلا مع
318

التمكن من الفعل، ومن قال إن الحكمة مترددة بين الامتثال والابتلاء، لم يشترط من الفعل؛ لأن حكمة الابتلاء تتحقق مع عدم التمكن من الفعل، كما لا يخفى. ومن الفروع المبنية على هذا الخلاف أن تعلم المرأة بالعادة المطردة أنها تحيض بعد الظهر غدا من نهار رمضان، ثم حصل لها الحيض بالفعل، فتصبح مفطرة قبل إتيان الحيض، فعلى أن حكمة التكليف الامتثال فقط، فلا كفارة عليها، ولها أن تفطر؛ لأنها عالمة بأنها لا تتمكن من الامتثال، وعلى أن الحكمة تارة تكون الامتثال، وتارة تكون الابتلاء، فإنها يجب عليها تبييت الصوم، ولا يجوز لها الإفطار إلا بعد مجيء الحيض بالفعل، وإن أفطرت قبله كفرت. وكذلك من أفطر لحمي تصيبه غدا، وقد علم ذلك بالعادة، فهو أيضا ينبني على الخلاف المذكور. * (ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين) *. قد قدمنا الكلام عليه في سورة (البقرة)، في الكلام على قوله تعالى: * (قال لا ينال عهدي الظالمين) *.
* (ولقد مننا على موسى وهارون * ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم *
319

ونصرناهم فكانوا هم الغالبون * وءاتيناهما الكتاب المستبين * وهديناهما الصراط المستقيم * وتركنا عليهما فى الا خرين * سلام على موسى وهارون * إنا كذلك نجزى المحسنين * إنهما من عبادنا المؤمنين * وإن إلياس لمن المرسلين * إذ قال لقومه ألا تتقون * أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين * الله ربكم ورب ءابآئكم الا ولين * فكذبوه فإنهم لمحضرون * إلا عباد الله المخلصين * وتركنا عليه فى الا خرين * سلام على إل ياسين * إنا كذلك نجزى المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين * وإن لوطا لمن المرسلين * إذ نجيناه وأهله أجمعين * إلا عجوزا فى الغابرين * ثم دمرنا الا خرين * وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وباليل أفلا تعقلون * وإن يونس لمن المرسلين * إذ أبق إلى الفلك المشحون * فساهم فكان من المدحضين * فالتقمه الحوت وهو مليم * فلولا أنه كان من المسبحين * للبث فى بطنه إلى يوم يبعثون * فنبذناه بالعرآء وهو سقيم * وأنبتنا عليه شجرة من يقطين * وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون * فأامنوا فمتعناهم إلى حين * فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون * أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون * ألا إنهم من إفكهم ليقولون * ولد الله وإنهم لكاذبون * أصطفى البنات على البنين * مالكم كيف تحكمون * أفلا تذكرون * أم لكم سلطان مبين * فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين * وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون * سبحان الله عما يصفون * إلا عباد الله المخلصين * فإنكم وما تعبدون * مآ أنتم عليه بفاتنين * إلا من هو صال الجحيم * وما منآ إلا له مقام معلوم * وإنا لنحن الصآفون * وإنا لنحن المسبحون * وإن كانوا ليقولون * لو أن عندنا ذكرا من الا ولين * لكنا عباد الله المخلصين * فكفروا به فسوف يعلمون * ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون * فتول عنهم حتى حين * وأبصرهم فسوف يبصرون * أفبعذابنا يستعجلون * فإذا نزل بساحتهم فسآء صباح المنذرين * وتول عنهم حتى حين * وأبصر فسوف يبصرون * سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين) * * (ولقد مننا على موسى وهارون) *. ذكر جل وعلا منته عليهما في غير هذا الموضع؛ كقوله فيه (طه): * (قال قد أوتيت سؤلك ياموسى موسى * ولقد مننا عليك مرة أخرى) *؛ لأن من سؤله الذي أوتيه إجابة دعوته في رسالة أخيه هارون معه، ومعلوم أن الرسالة من أعظم المنن. * (ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم) *. قوله: * (وقومهما) *، يعني بني إسرائيل.
والمعنى: أنه نجى موسى وهارون وقومهما من الكرب العظيم، وهو ما كان يسومهم فرعون وقومه من العذاب، كذبح الذكور من أبنائهم وإهانة الإناث، وكيفية إنجائه لهم مبينة في انفلاق البحر لهم، حتى خاضوه سالمين، وإغراق فرعون وقومه وهم ينظرون.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة (البقرة)، في الكلام على قوله تعالى: * (وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا ءال فرعون وأنتم تنظرون) *، وقدمنا تفسير الكرب العظيم في سورة (الأنبياء)، في الكلام على قوله تعالى في قصة نوح: * (فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم) *. * (ونصرناهم فكانوا هم الغالبون) *. بين جل وعلا أنه نصر موسى وهارون وقومهما على فرعون وجنوده، * (فكانوا هم الغالبون) *، أي: وفرعون وجنوده هم المغلوبون، وذلك بأن الله أهلكهم جميعا بالغرق، وأنجى موسى وهارون وقومهما من ذلك الهلاك، وفي ذلك نصر عظيم لهم عليهم، وقد بين جل وعلا ذلك في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى: * (قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما باياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون) *، إلى غير ذلك من الآيات. * (وءاتيناهما الكتاب المستبين) *. * (الكتاب) * هو التوراة، كما ذكره في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: * (ولقد ءاتينا موسى الكتاب فلا تكن فى مرية من لقائه وجعلناه هدى لبنى) *، وقوله تعالى: * (ثم ءاتينا موسى الكتاب تماما على الذى أحسن وتفصيلا لكل شىء) *، وقوله تعالى: * (ولقد ءاتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون) *، وقوله تعالى: * (ولقد ءاتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا بعض الكلام على ذلك في سورة (البقرة)، في الكلام على قوله تعالى: * (ولقد ءاتينا موسى الكتاب * والفرقان) *. * (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وباليل أفلا تعقلون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الحجر)، في الكلام على قوله تعالى: * (وإنها لبسبيل مقيم) *. وفي سورة (المائدة)، في الكلام على قوله تعالى: * (من أجل ذالك كتبنا على بنى إسراءيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد فى الارض فكأنما قتل الناس جميعا) *، وغير ذلك من المواضع. * (فلولا أنه كان من المسبحين * للبث فى بطنه إلى يوم يبعثون) *. تسبيح يونس هذا، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام المذكور في (الصافات)، جاء موضحا في (الأنبياء)، في قوله تعالى: * (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه
320

فنادى فى الظلمات أن لا إلاه إلا أنت سبحانك) *. وقد قدمنا تفسير هذه الآية وإيضاحها في سورة (الأنبياء). * (فأامنوا فمتعناهم إلى حين) *. ما ذكره في هذه الآية الكريمة من إيمان قوم يونس وأن الله متعهم إلى حين، ذكره أيضا في سورة (يونس)، في قوله تعالى: * (فلولا كانت قرية ءامنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزى فى الحيواة الدنيا ومتعناهم) *. * (فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون) *، إلى قوله: * (مالكم كيف تحكمون) *. قد قدمنا
الآيات الموضحة له بكثرة في سورة (النحل)، في الكلام على قوله تعالى: * (ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون) *، إلى قوله تعالى: * (ساء ما يحكمون) *. * (وإن كانوا ليقولون * لو أن عندنا ذكرا من الا ولين * لكنا عباد الله المخلصين * فكفروا به فسوف يعلمون) *. قد قدمنا الكلام على ما في معناه من الآيات في سورة (الأنعام)، في الكلام على قوله تعالى: * (أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم) *. * (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون) *. هذه الآية الكريمة تدل على أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وأتباعهم منصورون دائما على الأعداء بالحجة والبيان، ومن أمر منهم بالجهاد منصور أيضا بالسيف والسنان، والآيات الدالة على هذا كثيرة؛ كقوله تعالى: * (كتب الله لاغلبن أنا ورسلى) *، وقوله تعالى: * (إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا فى الحيواة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد) *، وقوله تعالى: * (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) *،
321

وقوله تعالى: * (فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين * ولنسكننكم الارض من بعدهم) *.
وقد قدمنا إيضاح هذا بالآيات القرآنية في سورة (آل عمران)، في الكلام على قوله تعالى: * (وكأين من نبى قاتل معه ربيون كثير) *، وسيأتي له إن شاء الله زيادة إيضاح في آخر سورة (المجادلة). * (أفبعذابنا يستعجلون * فإذا نزل بساحتهم فسآء صباح المنذرين) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة (الرعد)، في الكلام على قوله تعالى: * (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات) *. وذكرنا بعض الكلام على ذلك في سورة (يونس)، في الكلام على قوله تعالى: * (أثم إذا ما وقع ءامنتم به) *، وفي غير ذلك من المواضع. * (وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين) *. ختم هذه السورة الكريمة بالسلام على عباده المرسلين، ولا شك أنهم من عباده الذين اصطفى مع ثنائه على نفسه، بقوله تعالى: * (والحمد لله رب العالمين) *، معلما خلقه أن يثنوا عليه بذلك، وما ذكره هنا من حمده هذا الحمد العظيم، والسلام على رسله الكرام، ذكره في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى في سورة (النمل): * (قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى) *، ويشبه ذلك قوله تعالى: * (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وءاخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) *.
322

((سورة ص))
* (ص والقرءان ذى الذكر * بل الذين كفروا فى عزة وشقاق * كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص * وعجبوا أن جآءهم م نذر منهم وقال الكافرون هاذا ساحر كذاب * أجعل الا لهة إلاها واحدا إن هاذا لشىء عجاب * وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا علىءالهتكم إن هاذا لشىء يراد * ما سمعنا بهاذا فى الملة الا خرة إن هاذا إلا اختلاق * أءنزل عليه الذكر من بيننا بل هم فى شك من ذكرى بل لما يذوقوا عذاب * أم عندهم خزآئن رحمة ربك العزيز الوهاب * أم لهم م لك السماوات والا رض وما بينهما فليرتقوا فى الا سباب * جند ما هنالك مهزوم من الا حزاب) * قوله تعالى: * (ص والقرءان ذى الذكر) *. قرأه الجمهور: ص بالسكون منهم القراء السبعة، والتحقيق أن ص من الحروف المقطعة في أوائل السور كص في قوله تعالى * (المص) *، وقوله تعالى: * (كهيعص) *.
وقد قدمنا الكلام مستوفى على الحروف المقطعة في أوائل السور في أول سورة هود، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وبذلك التحقيق المذكور، تعلم أن قراءة من قرأ ص بكسر الدال غير منونة، ومن قرأها بكسر الدال منونة، ومن قرأها بفتح الدال، ومن قرأها بضمها غير منونة، كلها قراءات شاذة لا يعول عليها.
وكذلك تفاسير بعض العلماء المبنية على تلك القراءات، فإنها لا يعول عليها أيضا.
كما روي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: إن صاد بكسر الدال فعل أمر من صادى يصادي مصاداة إذا عارض، ومنه الصدى. وهو ما يعارض الصوت في الأماكن الصلبة الخالية من الأجسام، أي عارض بعملك القرآن وقابله به، يعني امتثل أوامره واجتنب نواهيه واعتقد عقائده واعتبر بأمثاله واتعظ بمواعظه.
وعن الحسن أيضا: أن ص بمعنى حادث وهو قريب من الأول.
وقراءة ص بكسر الدال غير منونة: مروية عن أبي بن كعب، والحسن وابن أبي إسحاق وأبي السمال وابن أبي عيلة ونصر بن عاصم.
والأظهر في هذه القراءة الشاذة، أن كسر الدال سببه التخفيف لالتقاء الساكنين وهو حرف هجاء لا فعل أمر من صادى.
وفي رواية عن ابن أبي إسحاق، أنه قرأ * (ص) * بكسر الدال مع التنوين على أنه
323

مجرور بحرف قسم محذوف، وهو كما ترى، فسقوطه ظاهر.
وكذلك قراءة من قرأ * (ص) * بفتح الدال من غير تنوين، فهي قراءة شاذة والتفاسير المبنية إليها ساقطة.
كقول من قال: صاد محمد قلوب الناس واستمالهم حتى آمنوا به.
وقول من قال: هو منصوب على الإغراء.
أي الزموا صاد، أي هذه السورة، وقول من قال معناه أتل، وقول من قال: إنه منصوب بنزع الخافض، الذي هو حرف القسم المحذوف.
وأقرب الأقوال على هذه القراءات الشاذة، أن الدال فتحت تخفيفا لالتقاء الساكنين، واختير فيها الفتح إتباعا للصاد، ولأن الفتح أخف الحركات، وهذه القراءة المذكورة قراءة عيسى بن عمر، وتروى عن محبوب عن أبي عمرو.
وكذلك قراءة من قرأ صاد بضم الدال من غير تنوين، على أنه علم للسورة، وأنه خبر مبتدأ محذوف، والتقدير هذه صاد وأنه منع من الصرف للعلمية والتأنيث لأن السورة مؤنثة لفظا.
وهذه القراءة مروية عن الحسن البصري وابن السميقع وهارون الأعور.
ومن قرأ صاد بفتح الدال قرأ: ق، ون كذلك، وكذلك من قرأها * (ص) * بضم الدال فإنه قرأ * (ق) *: و * (ن) * بضم الفاء والنون.
والحاصل أن جميع هذه القراءات، وجميع هذه التفاسير المبنية عليها، كلها ساقطة، لا معول عليها.
وإنما ذكرناها لأجل التنبيه على ذلك.
ولا شك أن التحقيق هو ما قدمنا من أن * (ص) * من الحروف المقطعة في أوائل السور، وأن القراءة التي لا يجوز العدول عنها هي قراءة الجمهور التي ذكرناها.
وقد قال بعض العلماء: إن ص مفتاح بعض أسماء الله تعالى كالصبور والصمد.
وقال بعضهم معناه: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يبلغ عن الله، إلى غير ذلك من
324

الأقوال.
وقد ذكرنا أنا قدمنا الكلام على ذلك مستوفى في أول سورة هود.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (والقرءان ذى الذكر) *، قد قدمنا أن أصل القرآن مصدر، زيد فيه الألف والنون. كما زيدتا في الطغيان، والرجحان، والكفران، والخسران، وأن هذا المصدر أريد به الوصف.
وأكثر أهل العلم، يقولون: إن هذا الوصف المعبر عنه بالمصدر هو اسم المفعول.
وعليه فالقرآن بمعنى المقروء من قول العرب: قرأت الشيء إذا أظهرته وأبرزته، ومنه قرأت الناقة السلا والجنين إذا أظهرته وأبرزته من بطنها، ومنه قول عمرو بن كلثوم في معلقته: وعليه فالقرآن بمعنى المقروء من قول العرب: قرأت الشيء إذا أظهرته وأبرزته، ومنه قرأت الناقة السلا والجنين إذا أظهرته وأبرزته من بطنها، ومنه قول عمرو بن كلثوم في معلقته:
* تريك إذا دخلت على خلاء
* وقد أمنت عيون الكاشحينا
*
* ذراعي عيطل أدماء بكر
* هجان اللون لم تقرأ جنينا
*
على إحدى الروايتين في البيت.
ومعنى القرآن على هذا المقروء الذي يظهره القارئ، ويبرزه من فيه، بعباراته الواضحة.
وقال بعض أهل العلم: إن الوصف المعبر عنه بالمصدر، هو اسم الفاعل.
وعليه فالقرآن بمعنى القارئ، وهو اسم فاعل قرأت، بمعنى جمعت.
ومنه قول العرب: قرأت الماء في الحوض أي جمعته فيه.
وعلى هذا فالقرآن بمعنى القارئ أي الجامع لأن الله جمع فيه جميع ما في الكتب المنزلة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ذى الذكر) * فيه وجهان من التفسير معروفان عند العلماء.
أحدهما: أن الذكر بمعنى الشرف، والعرب تقول فلان مذكور يعنون له ذكر أي شرف.
325

ومنه قوله تعالى: * (وإنه لذكر لك ولقومك) * أي شرف لكم على أحد القولين.
الوجه الثاني: أن الذكر اسم مصدر بمعنى التذكير، لأن القرآن العظيم فيه التذكير والمواعظ، وهذا قول الجمهور واختاره ابن جرير.
تنبيه
اعلم أن العلماء اختلفوا في تعيين الشيء الذي أقسم الله عليه في قوله تعالى: * (والقرءان ذى الذكر) *، فقال بعضهم: إن المقسم عليه مذكور، والذين قالوا إنه مذكور، اختلفوا في تعيينه وأقوالهم في ذلك كلها ظاهرة السقوط.
فمنهم من قال: إن المقسم عليه هو قوله تعالى * (إن ذلك لحق تخاصم أهل النار) *.
ومنهم من قال هو قوله: * (إن هاذا لرزقنا ما له من نفاد) *.
ومنهم من قال هو قوله تعالى: * (إن كل إلا كذب الر سل فحق عقاب) * كقوله * (تالله إن كنا لفى ضلال مبين) *. وقوله: * (والسمآء والطارق * ومآ أدراك ما الطارق * النجم الثاقب * إن كل نفس لما عليها حافظ) *.
ومنهم من قال هو قوله: * (كم أهلكنا من قبلهم) *، ومن قال هذا قال: إن الأصل لكم أهلكنا ولما طال الكلام، حذفت لام القسم، فقال: كم أهلكنا بدون لام.
قالوا: ونظير ذلك قوله تعالى: * (والشمس وضحاها) * لما طال الكلام بين القسم والمقسم عليه، الذي هو قد أفلح من زكاها، حذفت منه لام القسم.
ومنهم من قال: إن المقسم عليه هو قوله: ص قالوا معنى ص صدق رسول الله والقرآن ذي الذكر. وعلى هذا فالمقسم عليه هو صدقه صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من قال المعنى: هذه ص أي السورة التي أعجزت العرب، * (والقرءان ذى الذكر) *، إلى غير ذلك من الأقوال التي لا يخفى سقوطها.
وقال بعض العلماء إن المقسم عليه محذوف، واختلفوا في تقديره، فقال الزمخشري
326

في الكشاف، التقدير * (والقرءان ذى الذكر) *. إنه لمعجز، وقدره ابن عطية وغيره فقال: * (والقرءان ذى الذكر) * ما الأمر كما يقوله الكفار، إلى غير ذلك من الأقوال.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر صوابه بدليل استقراء القرآن: أن جواب القسم محذوف وأن تقديره * (والقرءان ذى الذكر) * ما الأمر كما يقوله الكفار، وأن قولهم المقسم على نفيه شامل لثلاثة أشياء متلازمة.
الأول: منها أن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل من الله حقا وأن الأمر ليس كما يقال الكفار في قوله تعالى عنهم: * (ويقول الذين كفروا لست مرسلا) *.
والثاني: أن الإلاه المعبود جل وعلا واحد، وأن الأمر ليس كما يقوله الكفار في قوله تعالى عنهم: * (أجعل الا لهة إلاها واحدا إن هاذا لشىء عجاب) *.
والثالث: أن الله جل وعلا يبعث من يموت، وأن الأمر ليس كما يقوله الكفار في قوله تعالى عنهم: * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت) * وقوله: * (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا) * وقوله تعالى: * (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة) *.
أما الدليل من القرآن على أن المقسم عليه محذوف فهو قوله تعالى: * (بل الذين كفروا فى عزة وشقاق) *، لأن الإضراب بقوله بل، دليل واضح على المقسم عليه المحذوف. أي ما الأمر كما يقوله الذين كفروا، بل الذين كفروا في عزة، أي في حمية وأنفة واستكبار عن الحق، وشقاق، أي مخالفة ومعاندة.
وأما دلالة استقراء القرآن على أن المنفي المحذوف شامل للأمور الثلاثة المذكورة، فلدلالة آيات كثيرة: أما صحة رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكون الإلاه المعبود واحدا لا شريك له فقد أشار لهما هنا.
أما كون الرسول مرسلا حقا ففي قوله تعالى هنا: * (وعجبوا أن جآءهم م نذر منهم وقال الكافرون هاذا ساحر كذاب) * يعني أي لا وجه للعجب المذكور. لأن يجيء المنذر الكائن منهم.
لا شك في أنه بإرسال من الله حقا.
327

وقولهم * (هاذا ساحر كذاب) * إنما ذكره تعالى إنكارا عليهم وتكذيبا لهم. فعرف بذلك أن في ضمن المعنى والقرآن ذي الذكر إنك مرسل حقا ولو عجبوا من مجيئك منذرا لهم، وزعموا أنك ساحر كذاب، أي فهم الذين عجبوا من الحق الذي لا شك فيه، وزعموا أن خاتم الرسل، وأكرمهم على الله، ساحر كذاب.
وأما كون الإلاه المعبود واحدا لا شريك له، ففي قوله هنا: * (أجعل الا لهة إلاها واحدا إن هاذا لشىء عجاب) *، لأن الهمزة في قوله: أجعل للإنكار المشتمل على معنى النفي، فهي تدل على نفي سبب تعجبهم من قوله صلى الله عليه وسلم: إن الإلاه المعبود واحد.
وهذان الأمران قد دلت آيات أخر من القرآن العظيم، على أن الله أقسم على تكذيبهم فيها وإثباتها بالقسم صريحا كقوله تعالى مقسما على أن الرسول مرسل حقا * (يس * والقرءان الحكيم * إنك لمن المرسلين) * فهي توضح معنى ص والقرآن ذي الذكر إنك لمن المرسلين.
وقد جاء تأكيد صحة تلك الرسالة في آيات كثيرة كقوله تعالى * (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين) *، وأما كونه تعالى هو المعبود الحق لا شريك له، فقد أقسم تعالى عليه في غير هذا الموضع، كقوله تعالى * (والصافات صفا * فالزاجرات زجرا * فالتاليات ذكرا * إن إلاهكم لواحد) * ونحو ذلك من الآيات فدل ذلك على أن المعنى تضمن ما ذكر أي والقرآن ذي الذكر، إن إلاهكم لواحد كما أشار إليه بقوله * (أجعل الا لهة) *.
وأما كون البعث حقا، فقد أقسم عليه إقساما صحيحا صريحا، في آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: * (قل بلى وربى لتبعثن) *. وقوله تعالى: * (قل بلى وربى لتأتينكم) * أي الساعة. وقوله: * (قل إى وربى إنه لحق) *.
وأقسم على اثنين من الثلاثة المذكورة وحذف المقسم عليه الذي هو الاثنان المذكوران، وهي كون الرسول مرسلا، والبعث حقا، وأشار إلى ذلك إشارة واضحة، وذلك في قوله تعالى * (ق والقرءان المجيد * بل عجبوا أن جآءهم منذر منهم فقال الكافرون هاذا شىء عجيب * أءذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد) *
328

فاتضح بذلك أن المعنى ق والقرآن المجيد، إن المنذر الكائن منكم الذي عجبتم من مجيئه لكم منذرا رسول منذر لكم من الله حقا، وإن البعث الذي أنكرتموه واستبعدتموه غاية الإنكار، والاستبعاد، في قوله تعالى عنكم * (أءذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد) * أي ذلك الرجع الذي هو البعث.
رجع بعيد في زعمكم واقع لا محالة وإنه حق لا شك فيه، كما أشار له في قوله تعالى: * (قد علمنا ما تنقص الا رض منهم وعندنا كتاب حفيظ) * إذ المعنى أن ما أكلته الأرض، من لحومهم، ومزقته من أجسامهم، وعظامهم، يعلمه جل وعلا، لا يخفى عليه منه شيء فهو قادر على رده كما كان.
وإحياء تلك الأجساد البالية، والشعور المتمزقة، والعظام النخرة كما قدمنا موضحا بالآيات القرآنية، في سورة يس في الكلام على قوله تعالى * (ونفخ فى الصور فإذا هم من الا جداث إلى ربهم ينسلون) * وكونه صلى الله عليه وسلم مرسل من الله حقا، يستلزم استلزاما لا شك فيه، أن القرآن العظيم منزل من الله حقا وأنه ليس بسحر ولا شعر ولا كهانة ولا أساطير الأولين.
ولذلك أقسم تعالى، في مواضع كثيرة، على أن القرآن أيضا منزل من الله كقوله تعالى في أول سورة الدخان * (حم * والكتاب المبين إنآ أنزلناه فى ليلة مباركة) *، وقوله تعالى في أول سورة الزخرف * (حم * والكتاب المبين * إنا جعلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون * وإنه فى أم الكتاب لدينا لعلى حكيم) *. قوله تعالى: * (بل الذين كفروا فى عزة وشقاق) *. قد قدمنا الكلام قريبا على الإضراب ببل في هذه الآية.
وقوله تعالى هنا في عزة أي حمية واستكبار عند قبول الحق، وقد بين جل وعلا في سورة البقرة أن من أسباب أخذ العزة المذكورة بالإثم للكفار أمرهم بتقوى الله، وبين أن تلك العزة التي هي الحمية والاستكبار عن قبول الحق من أسباب دخولهم جهنم، وذلك في قوله عن بعض الكفار الذين يظهرون غير ما يبطنون * (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد) *.
والظاهر أن وجه إطلاق العزة على الحمية والاستكبار: أن من اتصف بذلك كأنه
329

ينزل نفسه منزلة الغالب، القاهر، وإن كان الأمر ليس كذلك، لأن أصل العزة في لغة العرب الغلبة والقهر، ومنه قوله تعالى: * (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) *، والعرب يقولون: من عز بز، يعنون من غلب استلب، ومنه قول الخنساء: ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) *، والعرب يقولون: من عز بز، يعنون من غلب استلب، ومنه قول الخنساء:
* كأن لم يكونوا حمى يحتشى
* إذ الناس إذ ذاك من عز بزا
*
وقوله تعالى عن الخصم الذين تسوروا على داود: وعزني في الخطاب أي غلبني، وقهرني في الخصومة.
والدليل من القرآن على أن العزة التي أثبتها الله للكفار في قوله: * (بل الذين كفروا فى عزة) *. وقوله: * (أخذته العزة بالإثم) *، ليست هي العزة التي يراد بها القهر والغلبة بالفعل، أن الله خص بهذه العزة المؤمنين دون الكافرين والمنافقين، وذلك في قوله تعالى: * (يقولون لئن رجعنآ إلى المدينة ليخرجن الا عز منها الا ذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) *.
ولذلك فسرها علماء التفسير، بأنها هي الحمية والاستكبار، عن قبول الحق.
والشقاق: هي المخالفة، والمعاندة كما قال تعالى: * (وإن تولوا فإنما هم فى شقاق) *. قال بعض العلماء: وأصله من الشق الذي هو الجانب، لأن المخالف المعاند، يكون في الشق أي في الجانب الذي ليس فيه من هو مخالف له ومعاند.
وقال بعض أهل العلم: أصل الشقاق من المشقة لأن المخالف المعاند يجتهد في إيصال المشقة إلى من هو مخالف معاند.
وقال بعضهم: أصل الشقاق من شق العصا وهو الخلاف والتفرق. قوله تعالى: * (كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص) *. كم هنا هي الخبرية، ومعناها الإخبار عن عدد كثير، وهي في محل نصب، على أنها مفعول به لأهلكنا وصيغة الجمع في أهلكنا للتعظيم، ومن في قوله: من قرن، مميزة لكم، والقرن يطلق على الأمة وعلى بعض من الزمن، أشهر الأقوال فيه أنه مائة سنة، والمعنى أهلكنا كثيرا من الأمم السالفة من أجل الكفر، وتكذيب الرسل
330

فعليكم أن تحذروا يا كفار مكة من تكذيب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الكفر بما جاء به لئلا نهلككم بسبب ذلك كما أهلكنا به القرون الكثيرة الماضية.
وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل:
الأولى: أنه أهلك كثيرا من القرون الماضية، يهدد كفار مكة بذلك.
الثانية: أنهم نادوا أي عند معاينة أوائل الهلاك.
الثالثة: أن ذلك الوقت الذي هو وقت معاينة العذاب ليس وقت نداء، أي فهو وقت لا ملجأ فيه، ولا مفر من الهلاك بعد معاينته.
وقد ذكر جل وعلا هذه المسائل الثلاث المذكورة هنا موضحة في آيات كثيرة من كتابه.
أما المسألة الأولى وهي كونه أهلك كثيرا من الأمم، فقد ذكرها في آيات كثيرة، كقوله تعالى: * (وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح) * وقوله تعالى: * (فكأين من قرية أهلكناها وهى ظالمة) *. وقوله تعالى: * (ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله) *. والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقد ذكر جل وعلا في آيات كثيرة أن سبب إهلاك تلك الأمم الكفر بالله وتكذيب رسله كقوله في هذه الآية الأخيرة مبينا سبب إهلاك تلك الأمم التي صرح بأنها (لا يعلمها إلا الله) * (جآءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم فى أفواههم وقالوا إنا كفرنا بمآ أرسلتم به وإنا لفى شك مما تدعوننآ إليه مريب) *.
وقد قدمنا في الكلام على هذه الآية من سورة إبراهيم، أقوال أهل العلم في قوله تعالى: * (فردوا أيديهم فى أفواههم) * وبينا دلالة القرآن على بعضها، وكقوله تعالى * (وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا) * وقوله تعالى: * (وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس ءاية) * إلى قوله: * (وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذالك كثيرا وكلا ضربنا له الا مثال وكلا تبرنا تتبيرا) * وقوله
331

تعالى: * (إن كل إلا كذب الر سل فحق عقاب) *. وقوله تعالى * (كل كذب الرسل فحق وعيد) * والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقد بين تعالى أن المراد بذكر إهلاك الأمم الماضية بسبب الكفر وتكذيب الرسل تهديد كفار مكة، وتخويفهم من أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك إن تمادوا على الكفر وتكذيبه صلى الله عليه وسلم.
ذكر تعالى ذلك في آيات كثيرة كقوله تعالى: * (أفلم يسيروا فى الا رض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها) * لأن قوله تعالى: * (وللكافرين أمثالها) * تهديد عظيم بذلك.
وقوله تعالى: * (جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هى من الظالمين ببعيد) * فقوله: وما هي من الظالمين ببعيد فيه تهديد عظيم لمن يعمل عمل قوم لوط من الكفر وتكذيب نبيهم، وفواحشهم المعروفة، وقد وبخ تعالى من لم يعتبر بهم، ولم يحذر أن ينزل به مثل ما نزل بهم، كقوله في قوم لوط: * (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وباليل أفلا تعقلون) * وقوله تعالى: * (ولقد أتوا على القرية التى أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا) *. وقوله فيهم: * (ولقد تركنا منهآ ءاية بينة لقوم يعقلون) *. وقوله فيهم: * (وإنها لبسبيل مقيم) *. وقوله فيهم وفي قوم شعيب * (وإنهما لبإمام مبين) * والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وأما المسألة الثانية: وهي نداؤهم إذا أحسوا بأوائل العذاب فقد ذكر تعالى في آيات من كتابه نوعين من أنواع ذلك النداء.
أحدهما: نداؤهم باعترافهم أنهم كانوا ظالمين، وذلك في قوله تعالى: * (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما ءاخرين فلمآ أحسوا بأسنآ إذا هم منها يركضون) * إلى قوله * (قالوا ياويلنآ إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين) * وقوله تعالى: * (وكم من قرية أهلكناها فجآءها بأسنا بياتا أو هم قآئلون فما كان دعواهم إذ جآءهم بأسنآ إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين) *.
الثاني: من نوعي النداء المذكور نداؤهم بالإيمان بالله مستغيثين من ذلك العذاب
332

الذي أحسوا أوائله، كقوله تعالى: * (فلما رأوا بأسنا قالوا ءامنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التى قد خلت فى عباده وخسر هنالك الكافرون) * وهذا النوع الأخير هو الأنسب والأليق بالمقام، لدلالة قوله: * (ولات حين مناص) * عليه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (ولات حين مناص) * الذي هو المسألة الثالثة، معناه: ليس الحين الذي نادوا فيه، وهو وقت معاينة العذاب، حين مناص، أي ليس حين فرار ولا ملجأ من ذلك العذاب الذي عاينوه.
فقوله: ولات هي لا النافية زيدت بعدها تاء التأنيث اللفظية كما زيدت في ثم، فقيل فيها ثمت، وفي رب، فقيل فيها ربت.
وأشهر أقوال النحويين فيها، أنها تعمل عمل ليس وأنها لا تعمل إلا في الحين خاصة، أو في لفظ الحين ونحوه من الأزمنة، كالساعة والأوان، وأنها لا بد أن يحذف اسمها أو خبرها والأكثر حذف المرفوع منهما وإثبات المنصوب، وربما عكس، وهذا قول سيبويه وأشار إليه ابن مالك في الخلاصة بقوله: وأشهر أقوال النحويين فيها، أنها تعمل عمل ليس وأنها لا تعمل إلا في الحين خاصة، أو في لفظ الحين ونحوه من الأزمنة، كالساعة والأوان، وأنها لا بد أن يحذف اسمها أو خبرها والأكثر حذف المرفوع منهما وإثبات المنصوب، وربما عكس، وهذا قول سيبويه وأشار إليه ابن مالك في الخلاصة بقوله:
* في النكرات أعملت كليس (لا
* وقد تلى (لات) و (إن) ذا العملا
*
* وما للات في سوى حين عمل
* وحذف ذي الرفع فشا والعكس قل
*
والمناص مفعل من النوص، والعرب تقول: ناصه ينوصه إذا فاته وعجز عن إدراكه، ويطلق المناص على التأخر لأن من تأخر ومال إلى ملجأ ينقذه مما كان يخافه فقد وجد المناص.
والمناص والملجأ والمفر والموئل معناها واحد، والعرب تقول: استناص إذا طلب المناص، أي السلامة والمفر مما يخافه، ومنه قول حارثة بن بدر: والمناص والملجأ والمفر والموئل معناها واحد، والعرب تقول: استناص إذا طلب المناص، أي السلامة والمفر مما يخافه، ومنه قول حارثة بن بدر:
* غمر الجراء إذا قصرت عنانه
* بيدي استناص ورام جري المسحل
*
والأظهر أن إطلاق النوص على الفوت والتقدم، وإطلاقه على التأخر والروغان كلاهما راجع إلى شيء واحد. لأن المناص مصدر ميمي معناه المنطبق على جزئياته، أن يكون صاحبه في كرب وضيق، فيعمل عملا، يكون به خلاصه ونجاته من ذلك.
333

فتارة يكون ذلك العمل بالجري والإسراع أمام من يريده بالسوء، وتارة يكون بالتأخر والروغان حتى ينجو من ذلك.
والعرب تطلق النوص على التأخر. والبوص بالباء الموحدة التحتية على التقدم، ومنه قول امرئ القيس: والعرب تطلق النوص على التأخر. والبوص بالباء الموحدة التحتية على التقدم، ومنه قول امرئ القيس:
* أمن ذكر سلمى إذ نأتك تنوص
* فتقصر عنها خطوة وتبوص
*
وأصوب الأقوال في لات أن التاء منفصلة عن حين وأنها تعمل عمل ليس خلافا لمن قال: إنها تعمل عمل إن، ولمن قال: إن التاء متصلة بحين وأنه رآها في الإمام، وهو مصحف أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه متصلة بها.
وعلى قول الجمهور منهم القراء السبعة، أن التاء ليست موصولة بحين، فالوقف على لات بالتاء عند جميعهم، إلا الكسائي فإنه يقف عليها بالهاء.
أما قراءة كسر التاء وضمها فكلتاهما شاذة لا تجوز القراءة بها، وكذلك قراءة كسر النون من حين، فهي شاذة لا تجوز، مع أن تخريج المعنى عليها مشكل.
وتعسف له الزمخشري وجها لا يخفى سقوطه، ورده عليه أبو حيان في البحر المحيط، واختار أبو حيان أن تخريج قراءة الكسر أن حين مجرورة بمن محذوفة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (فنادوا) * أصل النداء: رفع الصوت، والعرب تقول: فلان أندى صوتا من فلان، أي أرفع، ومنه قوله: فنادوا) * أصل النداء: رفع الصوت، والعرب تقول: فلان أندى صوتا من فلان، أي أرفع، ومنه قوله:
* فقلت ادعى وأدعو إن أندا
* لصوت أن ينادي داعيان
*
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الأمم الماضية المهلكة ينادون عند معاينة العذاب، وأن ذلك الوقت ليس وقت نداء إذ لا ملجأ فيه ولا مفر ولا مناص. ذكره في غير هذا الموضع كقوله تعالى: * (فلما رأوا بأسنا قالوا ءامنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) *. وقوله تعالى: * (فلمآ أحسوا بأسنآ إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى مآ أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون قالوا ياويلنآ إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين) * إلى غير ذلك من الآيات.
334

وقد بين تعالى وقوع مثل ذلك في يوم القيامة في آيات من كتابه كقوله تعالى: * (استجيبوا لربكم من قبل أن يأتى يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير) *. وقوله تعالى: * (فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر) * والوزر: الملجأ، ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه: كلا لا وزر) * والوزر: الملجأ، ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
* والناس إلب علينا فيك ليس لنا
* إلا الرماح وأطراف القنا وزر
*
وكقوله تعالى: * (بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا) * والموئل اسم مكان من وأل يئل إذا وجد ملجأ يعتصم به، ومنه قول الأعشى ميمون بن قيس: بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا) * والموئل اسم مكان من وأل يئل إذا وجد ملجأ يعتصم به، ومنه قول الأعشى ميمون بن قيس:
* وقد أخالس رب البيت غفلته
* وقد يحاذر مني ثم مائيل
*
أي ثم ما ينجو. قوله تعالى: * (وعجبوا أن جآءهم م نذر منهم) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن كفار قريش عجبوا من أجل أن جاءهم رسول منذر منهم، وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة، من عجبهم المذكور، ذكره في غير هذا الموضع وأنكره عليهم وأوضح تعالى سببه ورده عليهم في آيات أخر، فقال في عجبهم المذكور * (ق والقرءان المجيد بل عجبوا أن جآءهم منذر منهم) *.
وقال تعالى في إنكاره عليهم في أول سورة يونس * (الر تلك ءايات الكتاب الحكيم أكان للناس عجبا أن أوحينآ إلى رجل منهم أن أنذر الناس) * وذكر مثل عجبهم المذكور في سورة الأعراف عن قوم نوح وقوم هود، فقال عن نوح مخاطبا لقومه * (أو عجبتم أن جآءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون) *.
وقال عن هود مخاطبا لعاد: * (أو عجبتم أن جآءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفآء من بعد قوم نوح) *، وبين أن سبب عجبهم من كون المنذر منهم أنه بشر مثلهم زاعمين أن الله لا يرسل إليهم أحدا من جنسهم. وأنه لو أراد أن يرسل إليهم أحدا لأرسل إليهم ملكا لأنه ليس بشرا مثلهم وأنه لا يأكل
335

ولا يشرب ولا يمشي في الأسواق.
والآيات في ذلك كثيرة كقوله تعالى: * (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان فى الا رض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السمآء ملكا رسولا) * وقوله تعالى: * (أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون) * وقوله تعالى: * (وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقآء الا خرة وأترفناهم فى الحيواة الدنيا ما هاذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون) *. وقوله تعالى: * (وقالوا ما لهاذا الرسول يأكل الطعام ويمشى فى الا سواق) *. وقوله تعالى: * (ذالك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا) *. وقوله تعالى: * (كذبت ثمود بالنذر فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنآ إذا لفى ضلال وسعر) *. وقوله تعالى: * (قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا) *. وقوله تعالى: * (وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الا مر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون) * وقوله تعالى: * (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود إذ جآءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شآء ربنا لانزل ملائكة فإنا بمآ أرسلتم به كافرون) * وقوله تعالى: * (فقال الملؤا الذين كفروا من قومه ما هاذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شآء الله لانزل ملائكة ما سمعنا بهاذا فىءابآئنا الا ولين) * وقوله تعالى: * (وقالوا ياأيها الذى نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين) *. وقوله تعالى: * (لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا) * وقوله تعالى: * (وقال الذين لا يرجون لقآءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا فى أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين) *. وقوله تعالى عن فرعون مع موسى: * (فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جآء معه الملائكة مقترنين) *.
وقد رد الله تعالى على الكفار عجبهم من إرسال الرسل من البشر في آيات من كتابه
336

.
كقوله تعالى: * (ومآ أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون فى الا سواق) * وقوله تعالى: * (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية) * وقوله تعالى: * (ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم من أهل القرى) * وقوله تعالى: * (ومآ أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحى إليهم فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين) * وقوله تعالى: * (قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولاكن الله يمن على من يشآء من عباده) * أي بالرسالة والوحي ولو كان بشرا مثلكم إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا علىءالهتكم) *. قد قدمنا الكلام عليه في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى: * (إن كاد ليضلنا عن ءالهتنا لولا أن صبرنا عليها) *. قوله تعالى: * (أءنزل عليه الذكر من بيننا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن كفار مكة، أنكروا أن الله خص نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بإنزال القرآن عليه وحده، ولم ينزله على أحد آخر منهم، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة، جاء في آيات أخر، مع الرد على الكفار في إنكارهم خصوصه صلى الله عليه وسلم بالوحي، كقوله تعالى عنهم: * (وقالوا لولا نزل هاذا القرءان على رجل من القريتين عظيم) * يعنون بالقريتين مكة والطائف، وبالرجلين من القريتين الوليد بن المغيرة في مكة، وعروة بن مسعود في الطائف زاعمين أنهما أحق بالنبوة منه.
وقد رد جل وعلا ذلك عليهم في قوله تعالى: * (أهم يقسمون رحمة ربك) * لأن الهمزة في قوله: أهم يقسمون، للإنكار المشتمل على معنى النفي، وكقوله تعالى: * (قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل مآ أوتى رسل الله) *.
وقد رد الله تعالى ذلك عليهم في قوله: * (الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون) * وأشار إلى رد ذلك عليهم في آية ص هذه في قوله: * (بل هم فى شك من ذكرى بل لما يذوقوا عذاب أم عندهم خزآئن رحمة ربك العزيز الوهاب أم لهم م لك السماوات والا رض وما بينهما) *
337

. لأنه لا يجعل الرسالة حيث يشاء، ويخص بها من يشاء، إلا من عنده خزائن الرحمة. وله ملك السماوات والأرض.
وقوله تعالى: * (أءنزل عليه الذكر من بيننا) * قد بين في موضع آخر أن ثمود قالوا مثله لنبي الله صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وذلك في قوله تعالى عنهم: * (أءلقى الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر) * وقد رد الله تعالى عليهم ذلك في قوله: * (سيعلمون غدا من الكذاب الا شر) *. قوله تعالى: * (أم لهم م لك السماوات والا رض وما بينهما) *. قد قدمنا بعض الكلام عليه في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى: * (وحفظناها من كل شيطان رجيم) *.
* (كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الا وتاد * وثمود وقوم لوط وأصحاب لأيكة أولائك الا حزاب * إن كل إلا كذب الر سل فحق عقاب * وما ينظر هاؤلآء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق * وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب * اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الا يد إنه أواب * إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والإشراق * والطير محشورة كل له أواب * وشددنا ملكه وءاتيناه الحكمة وفصل الخطاب * وهل أتاك نبؤا الخصم إذ تسوروا المحراب * إذ دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنآ إلى سوآء الصراط * إن هذآ أخى له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزنى فى الخطاب * قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطآء ليبغى بعضهم على بعض إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب * فغفرنا له ذالك وإن له عندنا لزلفى وحسن مأاب * ياداوود إنا جعلناك خليفة فى الا رض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب * وما خلقنا السمآء والا رض وما بينهما باطلا ذالك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) * قوله تعالى: * (كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الا وتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب لأيكة أولائك الا حزاب إن كل
إلا كذب الر سل فحق عقاب) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى: * (وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح) * وفي غير ذلك من المواضع. قوله تعالى: * (وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب) *. وقد قدمنا الآيات الموضحة له في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: * (ما عندى ما تستعجلون به) *. وفي سورة يونس في الكلام على قوله تعالى: * (أثم إذا ما وقع ءامنتم به) * وفي سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى: * (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة) *. وفي سورة الحج في الكلام على قوله تعالى: * (ويستعجلونك بالعذاب) *.
وقد قدمنا أن القط، النصيب من الشيء، أي عجل لنا نصيبنا من العذاب الذي توعدنا به.
وأن أصل القط كتاب الجائزة لأن الملك يكتب فيه النصيب الذي يعطيه لذلك الإنسان، وجمعه قطوط، ومنه قول الأعشى:
338

وأن أصل القط كتاب الجائزة لأن الملك يكتب فيه النصيب الذي يعطيه لذلك الإنسان، وجمعه قطوط، ومنه قول الأعشى:
* ولا الملك النعمان حين لقيته
* بغبطته يعطي القطوط ويأفق
*
وقوله: ويأفق أي يفضل بعضهم على بعض في العطاء المكتوب في القطوط. قوله تعالى: * (إنا سخرنا الجبال معه) * إلى قوله * (أواب) *. وقد قدمنا الآيات الموضحة له، في سورة الأنبياء، في الكلام على قوله تعالى: * (وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير) *. قوله تعالى: * (وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذالك) *. قد قدمنا الكلام على مثل هذه الآية، من الآيات القرآنية التي يفهم منها صدور بعض الشيء، من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وبينا كلام أهل الأصول في ذلك في سورة طه، في الكلام على قوله تعالى: * (وعصىءادم ربه فغوى) *.
واعلم أن ما يذكره كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية الكريمة، مما لا يليق بمنصب داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، كله راجع إلى الإسرائيليات، فلا ثقة به، ولا معول عليه، وما جاء منه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح منه شيء. قوله تعالى: * (ياداوود إنا جعلناك خليفة فى الا رض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) *. قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (إنا جعلناك خليفة فى الا رض) *، قد بينا الحكم الذي دل عليه، في سورة البقرة، في الكلام على قوله تعالى: * (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل فى الأرض خليفة) *. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) * قد أمر نبيه داود فيه، بالحكم بين الناس بالحق ونهاه فيه عن اتباع الهوى، وأن اتباع الهوى، علة للضلال عن سبيل الله، لأن الفاء في قوله فيضلك عن سبيل الله تدل على العلية.
وقد تقرر في الأصول، في مسلك الإيماء والتنبيه، أن الفاء من حروف التعليل كقوله: سهى فسجد، وسرق فقطعت يده، أو لعلة السهو في الأول، ولعلة السرقة في الثاني، وأتبع ذلك بالتهديد لمن اتبع الهوى، فأضله ربنا عن سبيل الله، في قوله تعالى بعده يليه: * (إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) *.
339

ومعلوم أن نبي الله داود، لا يحكم بغير الحق، ولا يتبع الهوى، فيضله عن سبيل الله، ولكن الله تعالى، يأمر أنبياءه عليهم الصلاة والسلام، وينهاهم، ليشرع لأممهم.
ولذلك أمر نبينا صلى الله عليه وسلم، بمثل ما أمر به داود، ونهاه أيضا عن مثل ذلك، في آيات من كتاب الله كقوله تعالى: * (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط) *. وقوله تعالى: * (وأن احكم بينهم بمآ أنزل الله ولا تتبع أهوآءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض مآ أنزل الله إليك) * وكقوله تعالى: * (ولا تطع الكافرين والمنافقين) * وقوله تعالى: * (ولا تطع منهم ءاثما أو كفورا) * وقوله تعالى: * (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه) *.
وقد قدمنا الكلام على هذا، في سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى: * (لا تجعل مع الله إلاها ءاخر فتقعد مذموما مخذولا) *.
وبينا أن من أصرح الأدلة القرآنية الدالة على أن النبي يخاطب بخطاب، والمراد بذلك الخطاب غيره يقينا قوله تعالى: * (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما) *، ومن المعلوم أن أباه صلى الله عليه وسلم توفي قبل ولادته، وأن أمه ماتت وهو صغير، ومع ذلك فإن الله يخاطبه بقوله تعالى: * (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما) * ومعلوم أنه لا يبلغ عنده الكبر أحدهما، ولا كلاهما لأنهما قد ماتا قبل ذلك بزمان.
فتبين أن أمره تعالى لنبيه ونهيه له في قوله * (فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) *: إنما يراد به التشريع على لسانه لأمته، ولا يراد به هو نفسه صلى الله عليه وسلم، وقد قدمنا هناك أن من أمثال العرب. إياك أعني واسمعي يا جارة، وذكرنا في ذلك رجز سهل بن مالك الفزاري الذي خاطب به امرأة، وهو يقصد أخرى وهي أخت حارثة بن لأم الطائي وهو قوله:، وقد قدمنا هناك أن من أمثال العرب. إياك أعني واسمعي يا جارة، وذكرنا في ذلك رجز سهل بن مالك الفزاري الذي خاطب به امرأة، وهو يقصد أخرى وهي أخت حارثة بن لأم الطائي وهو قوله:
* يا أخت خير البدو والحضارة
* كيف ترين في فتى فزاره
*
* أصبح يهوى حرة معطاره
* إياك أعني واسمعي يا جاره
*
وذكرنا هناك الرجز الذي أجابته به المرأة، وقول بعض أهل العلم إن الخطاب في
340

قوله: * (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما) *، هو الخطاب بصيغة المفرد، الذي يراد به عموم كل من يصح خطابه. كقول طرفة بن العبد في معلقته: إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما) *، هو الخطاب بصيغة المفرد، الذي يراد به عموم كل من يصح خطابه. كقول طرفة بن العبد في معلقته:
* ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
* ويأتيك بالأخبار من لم تزود
*
أي ستبدي لك ويأتيك أيها الإنسان الذي يصح خطابك، وعلى هذا فلا دليل في الآية، غير صحيح، وفي سياق الآيات قرينة قرآنية واضحة دالة على أن المخاطب بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم وعليه. فالاستدلال بالآية، استدلال قرآني صحيح، والقرينة القرآنية المذكورة، هي أنه تعالى قال في تلك الأوامر والنواهي التي خاطب بها رسوله صلى الله عليه وسلم، التي أولها * (وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر) *. ما هو صريح، في أن المخاطب بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم، لا عموم كل من يصح منه الخطاب، وذلك في قوله تعالى: * (ذالك ممآ أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلاها ءاخر فتلقى فى جهنم ملوما مدحورا) *. قوله تعالى: * (وما خلقنا السمآء والا رض وما بينهما باطلا) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في آخر سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى: * (وما خلقنا السماوات والا رض وما بينهمآ إلا بالحق) * وفي آخر سورة قد أفلح المؤمنون. في الكلام على قوله: * (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا) *. قوله تعالى: * (ذالك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) *. الإشارة في قوله ذلك راجعة إلى المصدر الكامن في الفعل الصناعي، ذلك أي خلقنا السماوات والأرض باطلا هو ظن الذين كفروا بنا، والنفي في قوله ما خلقنا، منصب على الحال لا على عاملها الذي هو خلقنا، لأن المنفي بأداة النفي التي هي ما: ليس خلقه للسماوات والأرض، بل هو ثابت، وإنما المنفي بها، هو كونه باطلا، فهي حال شبه العمدة وليست فضلة صريحة، لأن النفي منصب عليها هي خاصة، والكلام لا يصح دونها. والكلام في هذا معلوم في محله، ونفي كون خلقه تعالى للسماوات والأرض باطلا نزه عنه نفسه ونزهه عنه عباده الصالحون، لأنه لا يليق بكماله وجلاله تعالى.
أما تنزيهه نفسه عنه ففي قوله تعالى: * (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا
341

لا ترجعون) *.
ثم نزه نفسه، عن كونه خلقهم عبثا، بقوله تعالى: * (فتعالى الله الملك الحق لا إلاه إلا هو رب العرش الكريم) * أي تعالى وتقدس وتنزه عن كونه خلقهم عبثا.
وأما تنزيه عباده الصالحين له عن ذلك، ففي قوله تعالى: * (إن فى خلق السماوات والا رض واختلاف اليل والنهار لايات لا ولى الا لباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون فى خلق السماوات والا رض ربنآ ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار) *، فقوله تعالى عنهم سبحانك أي تنزيها لك، عن أن تكون خلقت السماوات والأرض باطلا. فقولهم سبحانك تنزيه له، كما نزه نفسه عن ذلك بقوله تعالى: * (فتعالى الله الملك الحق) *.
وقوله تعالى في هذه الآية: * (فويل للذين كفروا من النار) * يدل على أن من ظن بالله ما لا يليق به جل وعلا، فله النار.
وقد بين تعالى في موضع آخر أن من ظن بالله ما لا يليق به أراده وجعله من الخاسرين، وجعل النار مثواه. وذلك في قوله تعالى: * (ولاكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذى ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين فإن يصبروا فالنار مثوى لهم) *.
وقولنا في أول هذا المبحث الإشارة في قوله ذلك راجعة إلى المصدر الكامن في الفعل الصناعي قد قدمنا إيضاحه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: * (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) *، وبينا هناك أن الفعل نوعان، أحدهما الفعل الحقيقي، والثاني الفعل الصناعي، أما الفعل الحقيقي، فهو الحدث المتجدد المعروف عند النحويين بالمصدر.
وأما الفعل الصناعي، فهو المعروف في صناعة علم النحو بالفعل الماضي، والفعل المضارع، وفعل الأمر على القول بأنه مستقل عن المضارع.
ومعلوم أن الفعل الصناعي ينحل عند النحويين، عن مصدر وزمن، كما أشار له في الخلاصة بقوله:
342

* المصدر اسم ما سوى الزمان من
* مدلولي الفعل كأمن من أمن
*
وعند جماعات من البلاغيين، أنه ينحل عن مصدر، وزمن ونسبة، وهو الأقرب، كما حرره بعض علماء البلاغة في مبحث الاستعارة التبعية، وبذلك تعلم أنه لا خلاف بينهم في أن المصدر، والزمن كامنان في الفعل الصناعي فيصح رجوع الإشارة والضمير إلى كل من المصدر والزمن الكامنين في الفعل الصناعي.
فمثال رجوع الإشارة إلى المصدر الكامن في الفعل، قوله هنا * (ذالك ظن الذين كفروا) *، فإن المصدر الذي هو الخلق، كامن في الفعل الصناعي، الذي هو الفعل
الماضي في قوله: * (وما خلقنا السمآء والا رض وما بينهما باطلا ذالك) * أي خلق السماوات المذكور الكامن في مفهوم خلقنا ظن الذين كفروا.
ومثال رجوع الإشارة إلى الزمن الكامن في مفهوم الفعل الصناعي، قوله تعالى: * (ونفخ فى الصور ذلك يوم الوعيد) * أي ذلك الزمن الكامن في الفعل هو يوم الوعيد.
ومثال رجوع الضمير للمصدر الكامن في مفهوم الفعل قوله تعالى: * (اعدلوا هو أقرب للتقوى) * فقوله: هو، أي العدل الكامن في مفهوم اعدلوا، كما تقدم إيضاحه.
* (أم نجعل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين فى الا رض أم نجعل المتقين كالفجار * كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا ءاياته وليتذكر أولو الا لباب * ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أواب * إذ عرض عليه بالعشى الصافنات الجياد * فقال إنى أحببت حب الخير عن ذكر ربى حتى توارت بالحجاب * ردوها على فطفق مسحا بالسوق والا عناق * ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب * قال رب اغفر لى وهب لى ملكا لا ينبغى لاحد من بعدى إنك أنت الوهاب * فسخرنا له الريح تجرى بأمره رخآء حيث أصاب * والشياطين كل بنآء وغواص * وءاخرين مقرنين فى الا صفاد * هاذا عطآؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب * وإن له عندنا لزلفى وحسن مأاب * واذكر عبدنآ أيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب * اركض برجلك هاذا مغتسل بارد وشراب * ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لا ولى الا لباب * وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب * واذكر عبادنآ إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولى الا يدى والا بصار * إنآ أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار * وإنهم عندنا لمن المصطفين الا خيار * واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الا خيار * هاذا ذكر وإن للمتقين لحسن مأاب * جنات عدن مفتحة لهم الا بواب * متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب * وعندهم قاصرات الطرف أتراب * هاذا ما توعدون ليوم الحساب) * قوله تعالى: * (أم نجعل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين فى الا رض أم نجعل المتقين كالفجار) *. أم في قوله: أم نجعل الذين، وقوله، أم نجعل المتقين، كلتاهما، منقطعة وأم المنقطعة، فيها لعلماء العربية ثلاثة مذاهب:
الأول: أنها بمعنى همزة استفهام الإنكار.
الثاني: أنها بمعنى بل الإضرابية.
والثالث: أنها تشمل معنى الإنكار والإضراب معا، وهو الذي اختاره بعض المحققين.
وعليه فالإضراب بها هنا انتقالي لا إبطالي ووجه الإنكار بها عليهم واضح، لأن
343

من ظن بالله الحكيم الخبير، أنه يساوي بين الصالح المصلح، والمفسد الفاجر، فقد ظن ظنا قبيحا جديرا بالإنكار.
وقد بين جل وعلا هذا المعنى، في غير هذا الموضع، وذم حكم من يحكم به، وذلك في قوله تعالى الجاثية: * (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين ءامنوا وعملوا الصالحات سوآء محياهم ومماتهم سآء ما يحكمون) *. قوله تعالى: * (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا ءاياته وليتذكر أولو الا لباب) *. قوله تعالى: كتاب خبر مبتدأ محذوف أي هذا كتاب، وقد ذكر جل وعلا، في هذه الآية الكريمة، أنه أنزل هذا الكتاب، معظما نفسه جل وعلا، بصيغة الجمع، وأنه كتاب مبارك وأن من حكم إنزاله، أن يتدبر الناس آياته، أي يتفهموها ويتعقلوها ويمعنوا النظر فيها، حتى يفهموا ما فيها من أنواع الهدى، وأن يتذكر أولوا الألباب، أي يتعظ أصحاب العقول السليمة، من شوائب الاختلال.
وكل ما ذكره في هذه الآية الكريمة جاء واضحا في آيات أخر.
أما كونه جل وعلا، هو الذي أنزل هذا القرآن، فقد ذكره في آيات كثيرة كقوله تعالى: * (إنا أنزلناه فى ليلة القدر) * وقوله تعالى: * (إنآ أنزلناه فى ليلة مباركة) * وقوله تعالى: * (هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وأما كون هذا الكتاب مباركا، فقد ذكره في آيات من كتابه كقوله تعالى: * (وهاذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذى بين يديه) *. وقوله تعالى: * (وهاذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون) *. والمبارك كثير البركات، من خير الدنيا والآخرة.
ونرجو الله القريب المجيب، إذ وفقنا لخدمة هذا الكتاب المبارك، أن يجعلنا مباركين أينما كنا، وأن يبارك لنا وعلينا، وأن يشملنا ببركاته العظيمة في الدنيا والآخرة، وأن يعم جميع إخواننا المسلمين، الذين يأتمرون بأوامره بالبركات والخيرات، في الدنيا والآخرة، إنه قريب مجيب.
344

وأما كون تدبر آياته، من حكم إنزاله: فقد أشار إليه في بعض الآيات، بالتحضيض على تدبره، وتوبيخ من لم يتدبره، كقوله تعالى * (أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوب أقفالهآ) *. وقوله تعالى: * (أفلا يتدبرون القرءان ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * وقوله تعالى: * (أفلم يدبروا القول أم جآءهم ما لم يأت ءابآءهم الا ولين) *.
وأما كون تذكر أولي الألباب، من حكم إنزاله، فقد ذكره في غير هذا الموضع، مقترنا ببعض الحكم الأخرى، التي لم تذكر في آية ص هذه كقوله تعالى في سورة إبراهيم * (هاذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إلاه واحد وليذكر أولوا الألباب) * فقد بين في هذه الآية الكريمة، أن تذكر أولي الألباب، من حكم إنزاله مبينا منها حكمتين أخريين، من حكم إنزاله، وهما إنذار الناس به، وتحقيق معنى لا إله إلا الله، وكون إنذار الناس وتذكر أولي الألباب، من حكم إنزاله، ذكره في قوله تعالى: * (المص كتاب أنزل إليك فلا يكن فى صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين) * لأن اللام في قوله لتنذر، متعلقة بقوله: أنزل، والذكرى اسم مصدر
بمعنى التذكير، والمؤمنون في الآية لا يخفى أنهم هم أولوا الألباب.
وذكر حكمة الإنذار في آيات كثيرة كقوله: * (تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) *. وقوله تعالى: * (وأوحى إلى هاذا القرءان لا نذركم به ومن بلغ) *. وقوله تعالى: * (تنزيل العزيز الرحيم لتنذر قوما مآ أنذر ءابآؤهم) *. وقوله تعالى: * (لينذر من كان حيا) *.
وذكر في آيات أخر، أن من حكم إنزاله، الإنذار والتبشير معا، كقوله تعالى: * (فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا) *. وقوله تعالى: * (الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات) *.
وبين جل وعلا أن من حكم إنزاله أن يبين صلى الله عليه وسلم للناس ما أنزل إليهم ولأجل أن يتفكروا، وذلك قوله تعالى: * (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) *.
345

وقد قدمنا مرارا كون لعل من حروف التعليل، وذكر حكمة التبيين المذكورة مع حكمة الهدى والرحمة، في قوله تعالى: * (ومآ أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذى اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) *.
وبين أن من حكم إنزاله، تثبيت المؤمنين والهدى والبشرى للمسلمين في قوله تعالى: * (قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين ءامنوا وهدى وبشرى للمسلمين) *.
وبين أن من حكم إنزاله، إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أن يحكم بين الناس بما أراه الله، وذلك في قوله تعالى: * (إنآ أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بمآ أراك الله) *.
والظاهر أن معنى قوله: * (بمآ أراك الله) * أي بما علمك من العلوم في هذا القرآن العظيم، بدليل قوله تعالى: * (وكذلك أوحينآ إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولاكن جعلناه نورا نهدى به من نشآء من عبادنا) *. وقوله تعالى: * (نحن نقص عليك أحسن القصص بمآ أوحينآ إليك هاذا القرءان وإن كنت من قبله لمن الغافلين) *.
وبين جل وعلا أن من حكم إنزاله إخراج الناس من الظلمات إلى النور وذلك في قوله تعالى: * (الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم) *.
وبين أن من حكم إنزاله التذكرة لمن يخشى في قوله تعالى: * (طه مآ أنزلنا عليك القرءان لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى) * أي ما أنزلناه إلا تذكرة لمن يخشى.
وهذا القصر على التذكرة إضافي، وكذلك القصر في قوله تعالى الذي ذكرناه قبل هذا * (ومآ أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذى اختلفوا فيه) *، بدليل الحكم الأخرى التي ذكرناها.
وبين أن من حكم إنزاله قرآنا عربيا وتصريف الله فيه من أنواع الوعيد أن يتقي
346

الناس الله، أو يحدث لهم هذا الكتاب ذكرا، أي موعظة وتذكرا، يهديهم إلى الحق، وذلك في قوله تعالى: * (وكذالك أنزلناه قرءانا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا) * والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ووهبنا لداوود سليمان) *. ذكر في هذه الآية الكريمة، أنه وهب سليمان لداود، وقد بين في سورة النمل أن الموهوب ورث الموهوب له، وذلك في قوله تعالى: * (وورث سليمان داوود) *.
وقد بينا في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى عن زكريا * (فهب لى من لدنك وليا يرثنى ويرث من ءال يعقوب) * أنها وراثة علم ودين لا وراثة مال. قوله تعالى: * (ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا) *. قد قدمنا الكلام على هذه الآية، وعلى ما يذكره المفسرون فيها، من الروايات التي لا يخفى سقوطها، وأنها لا تليق بمنصب النبوة، في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: * (ولا تقولن لشىء إنى فاعل ذالك غدا إلا أن يشآء الله) *. وما روي عنه من السلف من جملة تلك الروايات، أن الشيطان أخذ خاتم سليمان، وجلس على كرسيه وطرد سليمان إلى آخره يوضح بطلانه، قوله تعالى: * (إن عبادى ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) * واعتراف الشيطان بذلك في قوله: * (إلا عبادك منهم المخلصين) *. قوله تعالى: * (فسخرنا له الريح تجرى بأمره رخآء حيث أصاب) *. قد قدمنا الكلام عليه موضحا بالآيات القرآنية في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى: * (ولسليمان الريح عاصفة تجرى بأمره) *.
وفسرنا هناك قوله هنا حيث أصاب وذكرنا هناك أوجه الجمع، بين قوله هنا: * (رخآء) *، وقوله هناك: * (ولسليمان الريح عاصفة) * ووجه الجمع أيضا بين عموم الجهات المفهوم من قوله هنا * (حيث أصاب) * أي حيث أراد وبين خصوص الأرض المباركة المذكورة هناك في قوله * (تجرى بأمره إلى الا رض التى باركنا فيها) *.
347

قوله تعالى: * (والشياطين كل بنآء وغواص) *. قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى: * (ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذالك وكنا لهم حافظين) *. قوله تعالى: * (واذكر عبدنآ أيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب) * إلى قوله * (لا ولى الا لباب) *. قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية مع التعرض لإزالة ما فيه من الإشكال في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى: * (وأيوب إذ نادى ربه) * إلى قوله: * (وذكرى للعابدين) *. قوله تعالى: * (واذكر عبادنآ إبراهيم وإسحاق) *. أمر الله جل وعلا، نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة، أن يذكر عبده إبراهيم ولم يقيد ذلك الذكر بكونه في الكتاب، مع أنه قيده بذلك في سورة مريم، في قوله تعالى: * (واذكر فى الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا) *. قوله تعالى: *
(واذكر إسماعيل واليسع) *. أطلق هنا أيضا الأمر بذكر إسماعيل وقيده في سورة مريم بكونه في الكتاب في قوله تعالى: * (واذكر فى الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد) *، وفي ذلك إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم مأمور أيضا بذكر جميع المذكورين في الكتاب. ولذلك جاء ذكرهم كلهم في القرآن العظيم كما لا يخفى. قوله تعالى: * (وعندهم قاصرات الطرف أتراب) *. قد قدمنا الكلام عليه، في سورة الصافات في الكلام على قوله تعالى: * (وعندهم قاصرات الطرف عين) *.
* (إن هاذا لرزقنا ما له من نفاد * هاذا وإن للطاغين لشر مأاب * جهنم يصلونها فبئس المهاد * هاذا فليذوقوه حميم وغساق * وءاخر من شكله أزواج * هاذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالو النار * قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار * قالوا ربنا من قدم لنا هاذا فزده عذابا ضعفا فى النار * وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الا شرار * أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار * إن ذلك لحق تخاصم أهل النار * قل إنمآ أنا منذر وما من إلاه إلا الله الواحد القهار * رب السماوات والا رض وما بينهما العزيز الغفار * قل هو نبأ عظيم * أنتم عنه معرضون * ما كان لى من علم بالملإ الا على إذ يختصمون * إن يوحى إلى إلا أنمآ أنا نذير مبين * إذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين * قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى أستكبرت أم كنت من العالين * قال أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين * قال فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك لعنتى إلى يوم الدين * قال رب فأنظرنى إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم * قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين * قال فالحق والحق أقول * لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين * قل مآ أسألكم عليه من أجر ومآ أنآ من المتكلفين * إن هو إلا ذكر للعالمين * ولتعلمن نبأه بعد حين) * قوله تعالى: * (إن هاذا لرزقنا ما له من نفاد) *. ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن نعيم الجنة، لا نفاد له، أي لا انقطاع له ولا زوال، ذكره جل وعلا في آيات أخر كقوله تعالى فيه: * (عطآء غير مجذوذ) *.
348

وقوله تعالى: * (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) *. قوله تعالى: * (إن ذلك لحق تخاصم أهل النار) *. قد قدمنا ما يوضحه، من الآيات القرآنية في مواضع متعددة، من هذا الكتاب المبارك، ذكرنا بعضها في سورة البقرة، في الكلام على قوله تعالى: * (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا) *، وذكرنا بعضه في سورة الأعراف، في الكلام على قوله تعالى: * (حتى إذا اداركوا فيها جميعا) * وغير ذلك من المواضع. قوله تعالى: * (قال أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين) *. قد تقدم إيضاحه، مع بعض المباحث في سورة البقرة، في الكلام على قوله تعالى: * (إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين) *. قوله تعالى: * (قل مآ أسألكم عليه من أجر ومآ أنآ من المتكلفين) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة هود، وذكرنا الأحكام المتعلقة بالآيات، في الكلام على قوله تعالى عن نبيه نوح * (وياقوم لا أسألكم عليه مالا إن أجرى إلا على الله) *. قوله تعالى: * (ولتعلمن نبأه بعد حين) *. الحين المذكور هنا، قال بعض العلماء: المراد به بعد الموت، ويدل له ما قدمنا في سورة الحجر، في الكلام على قوله تعالى: * (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) *.
وقال بعض العلماء: الحين المذكور هنا، هو يوم القيامة ولا منافاة بين القولين، لأن الإنسان بعد الموت تتبين له حقائق الهدى والضلال.
واللام في لتعلمن موطئه للقسم، وقد أكد في هذه الآية الكريمة أنهم سيعلمون نبأ القرآن أي صدقه، وصحة جميع ما فيه بعد حين بالقسم، ونون التوكيد.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تهديد الكفار بأنهم سيعلمون نبأه بعد حين، قد أشار إليه تعالى، في سورة الأنعام، في قوله تعالى: * (وكذب به قومك وهو الحق قل لست
349

عليكم بوكيل لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون) *.
قال غير واحد من العلماء: لكل نبإ مستقر، أي لكل خبر حقيقة ووقوع، فإن كان حقا تبين صدقه ولو بعد حين، وإن كان كذبا تبين كذبه، وستعلمون صدق هذا القرآن ولو بعد حين.
350

((سورة الزمر))
* (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم * إنآ أنزلنآ إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين * ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أوليآء ما نعبدهم إلا ليقربونآ إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فى ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدى من هو كاذب كفار * لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشآء سبحانه هو الله الواحد القهار * خلق السماوات والا رض بالحق يكور اليل على النهار ويكور النهار على اليل وسخر الشمس والقمر كل يجرى لاجل مسمى ألا هو العزيز الغفار * خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الا نعام ثمانية أزواج يخلقكم فى بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق فى ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إلاه إلا هو فأنى تصرفون) * قوله تعالى: * (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم) *. قد دل استقراء القرآن العظيم، على أن الله جل وعلا، إذا ذكر تنزيله لكتابه، أتبع ذلك ببعض أسمائه الحسنى، المتضمنة صفاته العليا.
ففي أول هذه السورة الكريمة، لما ذكر تنزيله كتابه، بين أن مبدأ تنزيله كائن منه جل وعلا، وذكر اسمه الله، واسمه العزيز، والحكيم، وذكر مثل ذلك في أول سورة الجاثية، في قوله تعالى: * (حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إن فى السماوات والا رض لايات للمؤمنين) *، وفي أول سورة الأحقاف في قوله تعالى: * (حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ما خلقنا السماوات والا رض وما بينهمآ إلا بالحق) *.
وقد تكرر كثيرا في القرآن، ذكره بعض أسمائه وصفاته، بعد ذكر تنزيل القرآن العظيم، كقوله في أول سورة * (حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب
وقابل التوب شديد العقاب ذى الطول لا إلاه إلا هو إليه المصير) * وقوله تعالى في أول فصلت * (حم تنزيل من الرحمان الرحيم) *. وقوله تعالى في أول هود * (الر كتاب أحكمت ءاياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) * وقوله في فصلت * (وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) * وقوله تعالى في صدر يس * (تنزيل العزيز الرحيم لتنذر قوما مآ أنذر ءابآؤهم) * وقوله تعالى: * (وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الا مين) *. وقوله تعالى: * (تنزيل من رب العالمين ولو تقول علينا بعض الا قاويل) *.
ولا يخفى أن ذكره جل وعلا هذه الأسماء الحسنى العظيمة، بعد ذكره تنزيل هذا القرآن العظيم، يدل بإيضاح، على عظمة القرآن العظيم، وجلالة شأنه وأهمية نزوله،
351

والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص) *. أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم. في هذه الآية الكريمة، أن يعبده في حال كونه، مخلصا له الدين، أي مخلصا له في عبادته، من جميع أنواع الشرك صغيرها وكبيرها، كما هو واضح من لفظ الآية.
والإخلاص، إفراد المعبود بالقصد، في كل ما أمر بالتقرب به إليه، وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من كون الإخلاص في العبادة لله وحده، لا بد منه، جاء في آيات متعددة، وقد بين جل وعلا، أنه ما أمر بعبادة، إلا عبادة يخلص له العابد فيها.
أما غير المخلص فكل ما أتى به من ذلك، جاء به من تلقاء نفسه، لا بأمر ربه، قال تعالى: * (ومآ أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) *، وقال جل وعلا * (قل إنى أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لان أكون أول المسلمين) * إلى قوله تعالى: * (قل الله أعبد مخلصا له دينى فاعبدوا ما شئتم من دونه) *.
وقد قدمنا الكلام على العمل الصالح، وأنه لا بد فيه من الإخلاص، في أول سورة الكهف، في الكلام على قوله تعالى: * (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات) *. وفي غير ذلك من المواضع.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ألا لله الدين الخالص) * أي التوحيد الصافي من شوائب الشرك، أي هو المستحق لذلك وحده، وهو الذي أمر به.
وقول من قال من العلماء: إن المراد بالدين الخالص كلمة لا إله إلا الله موافق لما ذكرناه. والعلم عند الله تعالى.
ثم لما ذكر جل وعلا إخلاص العبادة له وحده، بين شبهة الكفار التي احتجوا بها، للإشراك به تعالى، في قوله تعالى هنا: * (والذين اتخذوا من دونه أوليآء ما نعبدهم إلا ليقربونآ إلى الله زلفى) *. فبين أنهم يزعمون أنهم ما عبدوا الأصنام، إلا لأجل أن تقربهم من الله زلفى، والزلفى القرابة.
352

فقوله: زلفى، ما ناب عن المطلق من قوله ليقربونا، أي ليقربونا إليه قرابة تنفعنا بشفاعتهم في زعمهم.
ولذا كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك.
وقد قدمنا في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى: * (وابتغوا إليه الوسيلة) * أن هذا النوع من ادعاء الشفعاء، واتخاذ المعبودات من دون الله وسائط من أصول كفر الكفار.
وقد صرح تعالى بذلك في سورة يونس في قوله جل وعلا * (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هاؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم فى السماوات ولا فى الا رض سبحانه وتعالى عما يشركون) *.
فصرح تعالى بأن هذا النوع، من ادعاء الشفعاء شرك بالله، ونزه نفسه الكريمة عنه، بقوله جل وعلا * (سبحانه وتعالى عما يشركون) * وأشار إلى ذلك في آية الزمر هذه، لأنه جل وعلا لما قال عنهم: * (ما نعبدهم إلا ليقربونآ إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فى ما هم فيه يختلفون) * أتبع ذلك بقوله تعالى: * (إن الله لا يهدى من هو كاذب كفار) *.
وقوله: كفار، صيغة مبالغة، فدل ذلك على أن الذين قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى جامعون بذلك، بين الكذب والمبالغة في الكفر بقولهم ذلك، وسيأتي إن شاء الله لهذا زيادة إيضاح في سورة الناس. قوله تعالى: * (لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشآء سبحانه هو الله الواحد القهار) *. قد قدمنا الآيات الموضحة، بكثرة في سورة النحل، في الكلام على قوله تعالى: * (ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون) *. قوله تعالى: * (خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه خلق بني آدم من نفس واحدة هي أبوهم
353

آدم، ثم جعل من تلك النفس، زوجها يعني حواء. أي وبث جميع بني آدم منهما، وأوضح هذا في مواضع أخر من كتابه، كقوله تعالى في أول سورة النساء * (ياأيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونسآء) * وقوله في الأعراف: * (هو الذى خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها) *، وتأنيث الوصف، بقوله واحدة، مع أن الموصوف به مذكر، وهو آدم نظرا إلى تأنيث لفظ النفس، وإن كان المراد بها مذكرا، ونظير ذلك من كلام العرب قوله: هو الذى خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها) *، وتأنيث الوصف، بقوله واحدة، مع أن الموصوف به مذكر، وهو آدم نظرا إلى تأنيث لفظ النفس، وإن كان المراد بها مذكرا، ونظير ذلك من كلام العرب قوله:
* أبوك خليفة ولدته أخرى
* وأنت خليفة ذاك الكمال
* وأنزل لكم من الا نعام ثمانية أزواج) *. قد قدمنا إيضاح هذه الأزواج الثمانية بنص القرآن العظيم، في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى * (والخيل المسومة والأنعام والحرث) *. قوله تعالى: * (يخلقكم فى بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الحج، في الكلام على قوله
تعالى: * (ياأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب) * وبينا هناك المراد بالظلمات الثلاث المذكورة هنا.
* (إن تكفروا فإن الله غنى عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور * وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسى ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار * أمن هو قانت ءانآء اليل ساجدا وقآئما يحذر الا خرة ويرجوا رحمة ربه قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الا لباب * قل ياعباد الذين ءامنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا فى هاذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب * قل إنى أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين * وأمرت لان أكون أول المسلمين * قل إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم * قل الله أعبد مخلصا له دينى * فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين * لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذالك يخوف الله به عباده ياعباد فاتقون * والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولائك الذين هداهم الله وأولائك هم أولو الا لباب * أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من فى النار * لاكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجرى من تحتها الا نهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد * ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء فسلكه ينابيع فى الا رض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن فى ذلك لذكرى لا ولى الا لباب * أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولائك فى ضلال مبين * الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدى به من يشآء ومن يضلل الله فما له من هاد * أفمن يتقى بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظلمين ذوقوا ما كنتم تكسبون * كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون * فأذاقهم الله الخزى فى الحيواة الدنيا ولعذاب الا خرة أكبر لو كانوا يعلمون * ولقد ضربنا للناس فى هاذا القرءان من كل مثل لعلهم يتذكرون * قرءانا عربيا غير ذى عوج لعلهم يتقون * ضرب الله مثلا رجلا فيه شركآء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون * إنك ميت وإنهم ميتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون * فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جآءه أليس فى جهنم مثوى للكافرين * والذى جآء بالصدق وصدق به أولائك هم المتقون * لهم ما يشآءون عند ربهم ذلك جزآء المحسنين * ليكفر الله عنهم أسوأ الذى عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذى كانوا يعملون) * قوله تعالى: * (إن تكفروا فإن الله غنى عنكم) *. قد بين جل وعلا، في هذه الآية الكريمة، أنه غني عن خلقه الغنى المطلق، وأنه لا يضره كفرهم به، والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة، كقوله تعالى * (وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن فى الا رض جميعا فإن الله لغنى حميد) * وقوله تعالى: * (فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غنى حميد) *، وقوله تعالى: * (قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني) *. وقوله تعالى: * (ياأيها الناس أنتم الفقرآء إلى الله والله هو الغنى الحميد) * وقوله تعالى: * (نفسه والله الغنى وأنتم) *، وقد أوضحنا هذا بالآيات في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك.
354

قوله تعالى: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم) *. قد قدمنا إيضاحه مع إزالة الإشكال، والجواب عن الأسئلة الواردة، على تلك الآيات في سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) *، وأوضحنا ذلك، مع إزالة الإشكال في بعض الآيات، في سورة النحل، في الكلام على قوله تعالى: * (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) *. قوله تعالى: * (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسى ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يونس، في الكلام على قوله تعالى: * (وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قآئما) *. قوله تعالى: * (قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له مع الإشارة إلى بحث أصوله في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى * (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الا مل فسوف يعلمون) *. قوله تعالى: * (وأرض الله واسعة) *. الظاهر أن معنى الآية، أن الإنسان إذا كان في محل لا يتمكن فيه من إقامة دينه على الوجه المطلوب، فعليه أن يهاجر منه، في مناكب أرض الله الواسعة، حتى يجد محلا تمكنه فيه إقامة دينه.
وقد أوضح تعالى هذا المعنى في غير هذا الموضع كقوله تعالى: * (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين فى الا رض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) *. وقوله تعالى: * (ياعبادى الذين ءامنوا إن أرضى واسعة فإياى فاعبدون) *، ولا يخفى أن الترتيب بالفاء في قوله: * (فإياى فاعبدون) * على قوله: * (إن أرضى واسعة) * دليل واضح على ذلك. قوله تعالى: * (قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين) *.
355

قد قدمنا الآيات الموضحة له، من أوجه في سورة يونس، في الكلام على قوله تعالى * (قد خسر الذين كذبوا بلقآء الله وما كانوا مهتدين) *. قوله تعالى: * (لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذالك يخوف الله به عباده) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له، في سورة الأنبياء، في الكلام على قوله تعالى: * (لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم) *، وذكرنا طرفا من ذلك، في سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى: * (وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا) *. قوله تعالى: * (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله) *. ما تضمنته هذه الآية الكريمة، من تحقيق معنى لا إله إلا الله، قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية، في سورة الفاتحة، في الكلام على قوله تعالى: * (إياك نعبد) *. قوله تعالى: * (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) *. أظهر الأقوال في الآية الكريمة، أن المراد بالقول، ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، من وحي الكتاب والسنة، ومن إطلاق القول على القرآن قوله تعالى: * (أفلم يدبروا القول) *. وقوله تعالى: * (إنه لقول فصل وما هو بالهزل) *. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (فيتبعون أحسنه) * أي يقدمون الأحسن، الذي هو
أشد حسنا، على الأحسن الذي هو دونه في الحسن، ويقدمون الأحسن مطلقا على الحسن. ويدل لهذا آيات من كتاب الله.
أما الدليل على أن القول الأحسن المتبع. ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم من الوحي، فهو في آيات من كتاب الله كقوله تعالى: * (واتبعوا أحسن مآ أنزل إليكم من ربكم) * وقوله تعالى لموسى يأمره بالأخذ بأحسن ما في التوراة * (فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) *.
وأما كون القرآن فيه الأحسن والحسن، فقد دلت عليه آيات من كتابه.
واعلم أولا أنه لا شك في أن الواجب أحسن من المندوب، وأن المندوب أحسن من
356

مطلق الحسن، فإذا سمعوا مثلا قوله تعالى: * (وافعلوا الخير لعلكم تفلحون) * قدموا فعل الخير الواجب، على فعل الخير المندوب، وقدموا هذا الأخير، على مطلق الحسن الذي هو الجائز، ولذا كان الجزاء بخصوص الأحسن الذي هو الواجب والمندوب، لا على مطلق الحسن، كما قال تعالى: * (ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) * وقال تعالى * (ويجزيهم أجرهم بأحسن الذى كانوا يعملون) * كما قدمنا إيضاحه في سورة النحل، في الكلام على قوله تعالى: * (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حيواة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) *، وبينا هناك دلالة الآيات على أن المباح حسن، كما قال صاحب المراقي: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حيواة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) *، وبينا هناك دلالة الآيات على أن المباح حسن، كما قال صاحب المراقي:
* ما ربنا لم ينه عنه حسن
* وغيره القبيح والمستهجن
*
ومن أمثلة الترغيب في الأخذ بالأحسن وأفضليته مع جواز الأخذ بالحسن قوله تعالى: * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) * فالأمر في قوله: * (فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) * للجواز، والله لا يأمر إلا بحسن. فدل ذلك على أن الانتقام حسن، ولكن الله بين أن العفو والصبر، خير منه وأحسن في قوله: * (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) * وأمثال ذلك كثيرة في القرآن، كقوله تعالى في إباحة الانتقام، * (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولائك ما عليهم من سبيل) *، مع أنه بين أن الصبر والغفران خير منه، في قوله بعده: * (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الا مور) *، وكقوله في جواز الانتقام * (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) * مع أنه أشار إلى أن العفو خير منه، وأنه من صفاته جل وعلا مع كمال قدرته وذلك في قوله بعده: * (إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا) *. وكقوله جل وعلا مثنيا على من تصدق، فأبدى صدقته * (إن تبدوا الصدقات فنعما هى) * ثم بين أن إخفاءها وإيتاءها الفقراء، خير من إبدائها الذي مدحه بالفعل الجامد، الذي هو لإنشاء المدح الذي هو نعم، في قوله * (إن تبدوا الصدقات فنعما هى وإن تخفوها وتؤتوها الفقرآء فهو خير لكم) *.
357

وكقوله في نصف الصداق اللازم، للزوجة بالطلاق، قبل الدخول، فنصف ما فرضتم، ولا شك أن أخذ كل واحد من الزوجين النصف حسن، لأن الله شرعه في كتابه في قوله * (فنصف ما فرضتم) * مع أنه رغب كل واحد منهما، أن يعفو للآخر عن نصفه، وبين أن ذلك أقرب للتقوى وذلك في قوله بعده * (وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم) *.
وقد قال تعالى: * (وجزآء سيئة سيئة مثلها) * ثم أرشد إلى الأحسن بقوله * (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) * وقال تعالى: * (والجروح قصاص) * ثم أرشد إلى الأحسن، في قوله: * (فمن تصدق به فهو كفارة له) *.
واعلم أن في هذه الآية الكريمة أقوالا غير الذي اخترنا.
منها ما روي عن ابن عباس، في معنى * (فيتبعون أحسنه) * قال (هو الرجل يسمع الحسن والقبيح فيتحدث بالحسن، وينكف عن القبيح، فلا يتحدث به).
وقيل يستمعون القرآن وغيره، فيتبعون القرآن.
وقيل: إن المراد بأحسن القول لا إله إلا الله، وبعض من يقول بهذا يقول: إن الآية نزلت فيمن كان يؤمن بالله قبل بعث الرسول صلى الله عليه وسلم، كزيد بن عمرو بن نفيل العدوي، وأبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، إلى غير ذلك من الأقوال. قوله تعالى: * (أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من فى النار) *. أظهر القولين في الآية الكريمة، أنهما جملتان مستقلتان، فقوله أفمن حق عليه كلمة العذاب جملة مستقلة، لكن فيها حذفا، وحذف ما دل المقام عليه واضح، لا إشكال فيه.
والتقدير: أفمن حق عليه كلمة العذاب، تخلصه أنت منه، والاستفهام مضمن معنى النفي، أي لا تخلص أنت يا نبي الله أحدا سبق في علم الله أنه يعذبه من ذلك العذاب، وهذا المحذوف دل عليه قوله بعده * (أفأنت تنقذ من فى النار) *.
وقد قدمنا مرارا قولي المفسرين في أداة الاستفهام المقترنة بأداة عطف كالفاء والواو
358

وثم كقوله:
هنا: * (أفمن حق) * وقوله: * (أفأنت تنقذ) *.
أما القول بأن الكلام جملة واحدة شرطية، كما قال الزمخشري: أصل الكلام: أمن حق عليه كلمة العذاب، فأنت تنقذه جملة شرطية، دخل عليها همزة الإنكار، والفاء
فاء الجزاء، ثم دخلت الفاء التي في أولها للعطف على محذوف يدل عليه الخطاب، تقديره: أأنت مالك أمرهم، فمن حق عليه العذاب فأنت تنقذه، والهمزة الثانية هي الأولى كررت لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد، ووضع من في النار موضع الضمير، فالآية على هذا جملة واحدة، فإنه لا يظهر كل الظهور.
واعلم أن ما دلت عليه هذه الآية الكريمة قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في أول سورة يس في الكلام على قوله تعالى: * (لقد حق القول على أكثرهم) *، وبينا دلالة الآيات على المراد بكلمة العذاب. قوله تعالى: * (لاكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية) *. ما تضمنته هذه الآية الكريمة، من وعد أهل الجنة بالغرف المبنية، ذكره جل وعلا في غير هذا الموضع، كقوله تعالى في سورة سبأ * (إلا من ءامن وعمل صالحا فأولائك لهم جزآء الضعف بما عملوا وهم فى الغرفات ءامنون) *. وقوله تعالى في سورة التوبة: * (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة فى جنات عدن) *. وقوله تعالى في سورة الصف: * (يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الا نهار ومساكن طيبة فى جنات عدن ذلك الفوز العظيم) *، لأن المساكن الطيبة المذكورة في التوبة والصف صادقة بالغرف المذكورة في الزمر وسبأ، وقد قدمنا طرفا من هذا في سورة الفرقان، في الكلام على قوله تعالى: * (أولائك يجزون الغرفة بما صبروا) *. قوله تعالى: * (ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء فسلكه ينابيع فى الا رض) *. الينابيع: جمع ينبوع، وهو الماء الكثير.
وقوله: فسلكه أي أدخله، كما قدمنا إيضاحه بشواهده العربية، والآيات القرآنية في سورة هود، في الكلام على قوله تعالى: * (قلنا احمل فيها من كل زوجين
359

اثنين) *.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من سورة الزمر، قد أوضحناه في أول سورة سبأ في الكلام على قوله تعالى: * (يعلم ما يلج فى الا رض وما يخرج منها) *. قوله تعالى: * (ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه) *. قد قدمنا الكلام على ما يماثله من الآيات في سورة الروم في الكلام على قوله تعالى: * (ومن ءاياته خلق السماوات والا رض واختلاف ألسنتكم وألوانكم) * وأحلنا عليه في سورة فاطر، في قوله تعالى: * (ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها) *. قوله تعالى: * (ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن فى ذلك لذكرى لا ولى الا لباب) *. قوله ثم يهيج: أي ثم بعد نضارة ذلك الزرع وخضرته ييبس، ويتم جفافه ويثور من منابته فتراه أيها الناظر مصفرا يابسا، قد زالت خضرته ونضارته. ثم يجعله حطاما أي فتاتا، متكسرا، هشيما، تذروه الرياح، إن في ذلك المذكور من حالات ذلك الزرع، المختلف الألوان، لذكري أي عبرة وموعظة وتذكيرا لأولي الألباب، أي لأصحاب العقول السليمة من شوائب الاختلال، فقد ذكر جل وعلا مصير هذا الزرع على سبيل الموعظة والتذكير، وبين في موضع آخر، أن ما وعظ به خلقه هنا من حالات هذا الزرع شبيه أيضا بالدنيا. فوعظ به في موضع وشبه به حالة الدنيا في موضع آخر، وذلك في قوله تعالى في سورة الحديد * (اعلموا أنما الحيواة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر فى الا موال والا ولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما) *. ويبين في سورة الروم أن من أسباب اصفراره المذكور إرسال الريح عليه، وذلك في قوله: * (ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون) *. قوله تعالى: * (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه) *. قد تقدم الكلام عليه في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: * (فمن يرد الله
360

أن يهديه يشرح صدره للإسلام) *. قوله تعالى: * (ومن يضلل الله فما له من هاد) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: * (إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدى من يضل) *، وفي غير ذلك من الموضع. قوله تعالى: * (قرءانا عربيا غير ذى عوج) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة الكهف، في الكلام على قوله تعالى: * (ولم يجعل له عوجا قيما) *. وقوله في هذه الآية الكريمة: قرآنا انتصب على الحال وهي حال مؤكدة، والحال في الحقيقة هو عربيا، وقرآنا توطئة له وقيل انتصب على المدح.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: عربيا، أي لأنه بلسان عربي كما قال تعالى: * (لسان الذى يلحدون إليه أعجمى وهاذا لسان عربى مبين) *. وقال تعالى في أول سورة يوسف * (إنآ أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) *. وقال في أول الزخرف * (إنا جعلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون) *. وقال في طه * (وكذالك أنزلناه قرءانا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا) * وقال تعالى في فصلت: * (ولو جعلناه قرءانا أعجميا لقالوا لولا فصلت ءاياته ءاعجمى وعربى) * وقال تعالى في الشعراء * (وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الا مين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربى مبين) * وقال تعالى في سورة شورى * (وكذلك أوحينآ إليك قرءانا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها) *. وقال تعالى في الرعد * (وكذالك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جآءك من العلم ما لك من الله من ولى ولا واق) * إلى غير ذلك من الآيات.
وهذه الآيات القرآنية تدل على شرف اللغة العربية وعظمها، دلالة لا ينكرها إلا مكابر.
361

قوله تعالى: * (والذى جآء بالصدق) *. أوضح جل وعلا، أن الذي في هذه الآية بمعنى الذين، بدليل قوله بعده * (أولائك هم المتقون لهم ما يشآءون عند ربهم ذلك جزآء المحسنين) *.
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن الذي تأتي بمعنى الذين، في القرآن وفي كلام العرب، فمن أمثلة ذلك في القرآن، قوله تعالى في آية الزمر هذه: * (والذى جآء بالصدق) *. وقوله تعالى في سورة البقرة * (مثلهم كمثل الذى استوقد نارا) * أي الذين استوقدوا بدليل قوله بعده: * (ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون) * وقوله فيها أيضا * (كالذى ينفق ماله رئآء الناس) * أي كالذين ينفقون بدليل قوله بعده * (لا يقدرون على شىء مما كسبوا) *. وقوله تعالى في التوبة * (وخضتم كالذي خاضوا) * على القول بأن الذي موصولة لا مصدرية، ونظيره من كلام العرب قول أشهب بن رميلة: وخضتم كالذي خاضوا) * على القول بأن
الذي موصولة لا مصدرية، ونظيره من كلام العرب قول أشهب بن رميلة:
* وإن الذي حانت بفلج دماؤهم
* هم القوم كل القوم يا أم خالد
*
وقول عديل بن الفرخ العجلي: وقول عديل بن الفرخ العجلي:
* فبت أساقي القوم إخوتي الذي
* غوايتهم غي ورشدهم رشد
*
وقول الراجز: وقول الراجز:
* يا رب عبس لا تبارك في أحد
* في قائم منها ولا فيمن قعد
*
إلا الذي قاموا بأطراف المسد قوله تعالى: * (لهم ما يشآءون عند ربهم ذلك جزآء المحسنين) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النحل، في الكلام على قوله تعالى * (جنات عدن يدخلونها تجرى من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشآءون) *. قوله تعالى: * (ويجزيهم أجرهم بأحسن الذى كانوا يعملون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له، في هذه السورة الكريمة، في الكلام على قوله تعالى: * (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) * وفي سورة
362

النحل في الكلام على قوله تعالى: * (ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) *.
* (أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد * ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذى انتقام * ولئن سألتهم من خلق السماوات والا رض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من
363

دون الله إن أرادنى الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادنى برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبى الله عليه يتوكل المتوكلون * قل ياقوم اعملوا على مكانتكم إنى عامل فسوف تعلمون * من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم * إنآ أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ومآ أنت عليهم بوكيل * الله يتوفى الا نفس حين موتها والتى لم تمت فى منامها فيمسك التى قضى عليها الموت ويرسل الا خرى إلى أجل مسمى إن فى ذلك لايات لقوم يتفكرون * أم اتخذوا من دون الله شفعآء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون * قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والا رض ثم إليه ترجعون * وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالا خرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون * قل اللهم فاطر السماوات والا رض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فى ما كانوا فيه يختلفون * ولو أن للذين ظلموا ما فى الا رض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون * وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون * فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنمآ أوتيته على علم بل هى فتنة ولاكن أكثرهم لا يعلمون * قد قالها الذين من قبلهم فمآ أغنى عنهم ما كانوا يكسبون * فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هاؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين * أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر إن فى ذلك لايات لقوم يؤمنون * قل ياعبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم * وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون * واتبعوا أحسن مآ أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون * أن تقول نفس ياحسرتى على ما فرطت فى جنب الله وإن كنت لمن الساخرين * أو تقول لو أن الله هدانى لكنت من المتقين * أو تقول حين ترى العذاب لو أن لى كرة فأكون من المحسنين * بلى قد جآءتك ءاياتى فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين * ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس فى جهنم مثوى للمتكبرين * وينجى الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون * الله خالق كل شىء وهو على كل شىء وكيل * له مقاليد السماوات والا رض والذين كفروا بأايات الله أولائك هم الخاسرون * قل أفغير الله تأمرونى أعبد أيها الجاهلون * ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين * وما قدروا الله حق قدره والا رض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون * ونفخ فى الصور فصعق من فى السماوات ومن فى الا رض إلا من شآء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون * وأشرقت الا رض بنور ربها ووضع الكتاب وجىء بالنبيين والشهدآء وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون * ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون) * قوله تعالى: * (أليس الله بكاف عبده) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الأنفال، في الكلام على قوله تعالى: * (ياأيها النبى حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) * وعلى قراءة الجمهور بكاف عبده، بفتح العين وسكون الباء، بإفراد العبد، والمراد به، النبي صلى الله عليه وسلم. كقوله: * (فسيكفيكهم الله) * وقوله تعالى: * (ياأيها النبى حسبك الله) *.
وأما على قراءة حمزة والكسائي عباده بكسر العين وفتح الباء بعدها ألف على أنه جمع عبد، فالظاهر أنه يشمل عباده الصالحين من الأنبياء وأتباعهم. قوله تعالى: * (ويخوفونك بالذين من دونه) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن الكفار عبدة الأوثان، يخوفون النبي صلى الله عليه وسلم، بالأوثان التي يعبدونها من دون الله
، لأنهم يقولون له: إنها ستضره وتخبله، وهذه عادة عبدة الأوثان لعنهم الله، يخوفون الرسل بالأوثان ويزعمون أنها ستضرهم وتصل إليهم بالسوء.
ومعلوم أن أنبياء الله عليهم صلوات الله وسلامه، لا يخافون غير الله ولا سيما الأوثان، التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تضر ولا تنفع، ولذا قال تعالى عن نبيه إبراهيم لما خوفوه بها * (وكيف أخاف مآ أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأى الفريقين أحق بالا من) *.
وقال عن نبيه هود وما ذكره له قومه من ذلك * (إن نقول إلا اعتراك بعض ءالهتنا بسوء قال إنى أشهد الله واشهدوا أنى برىء مما تشركون من دونه فكيدونى جميعا ثم لا تنظرون إنى توكلت على الله ربى وربكم ما من دآبة إلا هو ءاخذ بناصيتهآ إن ربى على صراط مستقيم) *.
وقال تعالى في هذه السورة الكريمة، مخاطبا نبينا صلى الله عليه وسلم، بعد أن ذكر تخويفهم له بأصنامهم * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والا رض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادنى الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادنى برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبى الله عليه يتوكل المتوكلون) *.
ومعلوم أن الخوف من تلك الأصنام من أشنع أنواع الكفر والإشراك بالله.
وقد بين جل وعلا في موضع آخر، أن الشيطان يخوف المؤمنين أيضا، الذين هم أتباع الرسل من أتباعه وأوليائه من الكفار، كما قال تعالى: * (إنما ذالكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) *.
والأظهر أن قوله * (يخوف أولياءه) * حذف فيه المفعول الأول، أي يخوفكم أولياءه، بدليل قوله بعده: * (فلا تخافوهم وخافون) *. قوله تعالى: * (قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادنى الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادنى برحمة هل هن ممسكات رحمته) *. ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن المعبودات من دونه، لا تقدر أن تكشف ضرا أراد الله به أحدا، أو تمسك رحمة أراد بها أحدا، جاء موضحا في آيات كثيرة، كقوله تعالى: * (لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا) * وقوله تعالى: * (قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنآ ءابآءنا كذلك يفعلون) *. وقوله تعالى: * (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم) * وقوله تعالى * (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا رآد لفضله يصيب به من يشآء من عباده) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة. قوله تعالى: * (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالا خرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الصافات، في الكلام على قوله تعالى * (إنا كذلك نفعل بالمجرمين إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إلاه إلا الله يستكبرون) *. قوله تعالى: * (ولو أن للذين ظلموا ما فى الا رض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء
364

العذاب يوم القيامة) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الذين ظلموا وهم الكفار، ولو كان لهم في الآخرة ما في الأرض جميعا ومثله معه، لفدوا أنفسهم به من سوء العذاب الذي عاينوه يوم القيامة، وبين هذا المعنى في مواضع أخر وصرح فيها بأنه لا فداء البتة يوم القيامة كقوله تعالى: * (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الا رض ذهبا ولو افتدى به أولائك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين) *. وقوله تعالى * (إن الذين كفروا لو أن لهم ما فى الا رض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم) * وقوله تعالى * (فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هى مولاكم وبئس المصير) *. وقوله تعالى: * (وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منهآ أولائك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) *. فقوله * (وإن تعدل كل عدل) * أي وإن تفتد كل فداء، وقوله تعالى * (ولا يؤخذ منها عدل) *. وقوله * (ولا يقبل منها عدل) *، والعدل الفداء وقوله تعالى * (والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما فى الا رض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولائك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد) *.
وقد قدمنا طرفا من هذا في سورة آل عمران، في الكلام على قوله تعالى * (فلن يقبل من أحدهم ملء الا رض ذهبا ولو افتدى به) *. قوله تعالى: * (وبدا لهم سيئات ما كسبوا) *. قوله وبدا لهم أي ظهر لهم سيئات ما كسبوا، أي جزاء سيئاتهم التي اكتسبوها في الدنيا، فالظاهر أنه أطلق السيئات هنا مرادا بها جزاؤها.
ونظيره من القرآن قوله تعالى * (وجزآء سيئة سيئة مثلها) *.
ونظير ذلك أيضا إطلاق العقاب، على جزاء العقاب، في قوله تعالى * (ذالك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله) *.
365

وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من أنهم يبدوا لهم يوم القيامة، حقيقة ما كانوا يعملونه في الدنيا جاء موضحا في آيات أخر، كقوله تعالى * (هنالك تبلوا كل نفس مآ أسلفت) * وقوله تعالى * (ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر) * وقوله تعالى * (علمت نفس ما قدمت وأخرت) *. وقوله تعالى: * (ويقولون ياويلتنا ما لهاذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا) *. وقوله تعالى * (وكل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنمآ أوتيته على علم) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يونس، في الكلام على قوله تعالى * (وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه) *. قوله تعالى: * (واتبعوا أحسن مآ أنزل إليكم من ربكم) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في هذه السورة الكريمة في قوله تعالى * (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) * وقدمنا طرفا منه في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: * (ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) *. قوله تعالى: * (أو تقول حين ترى العذاب لو أن لى كرة فأكون من المحسنين) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له من جهات في سورة الأعراف، في الكلام على قوله تعالى * (يوم يأتى تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جآءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعآء فيشفعوا لنآ أو نرد فنعمل غير الذى كنا نعمل) *. قوله تعالى: * (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة) *. قد قدمنا
الكلام عليه وعلى ما يماثله من الآيات في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى * (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) *.
366

قوله تعالى: * (أليس فى جهنم مثوى للمتكبرين) *. تقدم إيضاحه بالآيات القرآنية، مع بيان جملة من آثار الكبر السيئة، في سورة الأعراف، في الكلام على قوله تعالى * (قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين) *. قوله تعالى: * (ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك) *. قد تقدم الكلام عليه في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى * (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) *.
وقد ذكرنا في سورة المائدة الآية المتضمنة للقيد الذي لم يذكر في هذه الآيات على قوله تعالى * (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله) *. قوله تعالى: * (ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يس، في الكلام على قوله تعالى * (ونفخ فى الصور فإذا هم من الا جداث إلى ربهم ينسلون) *. قوله تعالى: * (ووضع الكتاب) *. قد قدمنا إيضاحه، بالآيات القرآنية، في سورة الكهف، في الكلام على قوله تعالى * (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه) * وفي سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى * (ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) *. قوله تعالى: * (وجىء بالنبيين والشهدآء وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت) *. اختلف العلماء في المراد بالشهداء في هذه الآية الكريمة، فقال بعضهم: هم الحفظة من الملائكة الذين كانوا يحصون أعمالهم في الدنيا، واستدل من قال هذا بقوله تعالى * (وجآءت كل نفس معها سآئق وشهيد) *.
وقال بعض العلماء: الشهداء أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يشهدون على الأمم، كما قال تعالى: * (وكذالك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهدآء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) *.
367

وقيل: الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله، وأظهر الأقوال في الآية عندي، أن الشهداء هم الرسل من البشر، الذين أرسلوا إلى الأمم، لأنه لا يقضي بين الأمة حتى يأتي رسولها، كما صرح تعالى بذلك في سورة يونس في قوله تعالى: * (ولكل أمة رسول فإذا جآء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون) * فصرح جل وعلا بأنه يسأل الرسل عما أجابتهم به أممهم، كما قال تعالى: * (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذآ أجبتم) * وقال تعالى * (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين) * وقد يشير إلى ذلك قوله تعالى: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هاؤلاء شهيدا) * لأن كونه صلى الله عليه وسلم هو الشهيد على هؤلاء الذين هم أمته، يدل على أن الشهيد على كل أمة هو رسولها.
وقد بين تعالى أن الشهيد على كل أمة من أنفس الأمة، فدل على أنه ليس من الملائكة، وذلك في قوله تعالى * (ويوم نبعث فى كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم) * والرسل من أنفس الأمم كما قال تعالى في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: * (لقد جآءكم رسول من أنفسكم) *. وقال تعالى: * (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) *.
والمسوغ للإيجاز بحذف الفاعل في قوله تعالى: * (وجىء بالنبيين) * هو أنه من المعلوم الذي لا نزاع فيه، أنه لا يقدر على المجيء بهم إلا الله وحده جل وعلا.
وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير الكسائي وهشام عن ابن عامر، وجئ بكسر الجيم كسرة خالصة.
وقرأه الكسائي وهشام عن ابن عامر بإشمام الكسرة الضم.
وإنما كان الإشمام هنا جائزا، والكسر جائزا، لأنه لا يحصل في الآية البتة، لبس بين المبني للفاعل، والمبني للمفعول، إذ من المعلوم أن قوله هنا: وجئ مبني للمفعول ولا يحتمل البناء للفاعل بوجه، وما كان كذلك جاز فيه الكسر الخالص وإشمام الكسرة الضم كما أشار له في الخلاصة بقوله: وإنما كان الإشمام هنا جائزا، والكسر جائزا، لأنه لا يحصل في الآية البتة، لبس بين المبني للفاعل، والمبني للمفعول، إذ من المعلوم أن قوله هنا: وجئ مبني للمفعول ولا يحتمل البناء للفاعل بوجه، وما كان كذلك جاز فيه الكسر الخالص وإشمام الكسرة الضم كما أشار له في الخلاصة بقوله:
* واكسر أو أشمم فا ثلاثي أعل
* عينا وضم حاء كبوع فاحتمل
*
368

أما إذا أسند ذلك الفعل إلى ضمير الرفع المتصل، فإن ذلك قد يؤدي إلى اللبس، فيشتبه المبني للمفعول، بالمبني للفاعل، فيجب حينئذ اجتناب الشكل الذي يوجب اللبس، والإتيان بما يزيل اللبس من شكل أو إشمام كما أشار له في الخلاصة بقوله: وإن بشكل خيف لبس يجتنب
ومن أمثلة ذلك قول الشاعر، وقد أنشده صاحب اللسان: ومن أمثلة ذلك قول الشاعر، وقد أنشده صاحب اللسان:
* وإني على المولى وإن قل نفعه
* دفوع إذا ما صمت غير صبور
*
فقوله صمت أصله صيمت بالبناء للمفعول فيجب الإشمام أو الضم لأن الكسر الخالص يجعله محتملا للبناء للفاعل كبعت وسرت. وقول جرير يرثي المرار بن عبد الرحمن بن أبي بكرة: فقوله صمت أصله صيمت بالبناء للمفعول فيجب الإشمام أو الضم لأن الكسر الخالص يجعله محتملا للبناء للفاعل كبعت وسرت. وقول جرير يرثي المرار بن عبد الرحمن بن أبي بكرة:
* وأقول من جزع وقد فتنا به
* ودموع عيني في الرداء غزار
*
* للدافنين أخا المكارم والندا
* لله ما ضمنت بك الأحجار
*
أصله فوتنا بالبناء للمفعول فيجب الكسر أو الإشمام لأن الضم الخالص يجعله محتملا للبناء للفاعل، كقلنا وقمنا.
* (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جآءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتهآ ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم ءايات ربكم وينذرونكم لقآء يومكم هاذا قالوا بلى ولاكن حقت كلمة العذاب على الكافرين * قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين * وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جآءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين * وقالوا الحمد لله الذى صدقنا وعده وأورثنا الا رض نتبوأ من الجنة حيث نشآء فنعم أجر العاملين * وترى الملائكة حآفين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين) * قوله تعالى: * (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا) *. الزمر الأفواج المتفرقة، واحده زمرة، وقد عبر تعالى عنها هنا بالزمر، وعبر عنها في الملك بالأفواج في قوله تعالى: * (كلما ألقى فيها فوج) *، وعبر عنها في الأعراف بالأمم في قوله تعالى: * (قال ادخلوا فى أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس فى النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لا ولاهم) *.
وقال في فصلت * (وحق عليهم القول فى أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين) * وقال تعالى: * (هاذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالو النار) *.
ومن إطلاق الزمر على ما ذكرنا قوله:
369

ومن إطلاق الزمر على ما ذكرنا قوله:
* وترى الناس إلى منزله
* زمرا تنتابه بعد زمر
*
وقول الراجز: وقول الراجز:
* إن العفاة بالسيوب قد غمر
* حتى احزألت زمرا بعد زمر
* حتى إذا جآءوها وفتحت أبوابها) *. لم يبين جل وعلا هنا عدد أبوابها المذكورة، ولكنه بين ذلك، في سورة الحجر في قوله * (وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم) *.
وقوله تعالى * (وفتحت أبوابها) * قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: (فتحت) بتشديد التاء دلالة على التكثير. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي (فتحت) بتخفيف التاء. قوله تعالى: * (وقال لهم خزنتهآ ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم ءايات ربكم وينذرونكم لقآء يومكم هاذا قالوا بلى ولاكن حقت كلمة العذاب على الكافرين) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له، في سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) *. قوله تعالى: * (وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له، في سورة النحل، في الكلام على قوله تعالى: * (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) *. قوله تعالى: * (وقالوا الحمد لله الذى صدقنا وعده وأورثنا الا رض نتبوأ من الجنة حيث نشآء) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن أهل الجنة إذا دخلوها وعاينوا ما فيها من النعيم، حمدوا ربهم وأثنوا عليه، ونوهوا بصدق وعده لهم، وذكر هذا المعنى في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى: * (ونزعنا ما فى صدورهم من غل تجرى من تحتهم الا نهار
370

وقالوا الحمد لله الذى هدانا لهاذا وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله لقد جآءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) *. وقوله تعالى: * (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا) *.
وقوله تعالى: * (جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وقالوا الحمد لله الذى أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذى أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب) *.
371

((سورة غافر))
* (حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذى الطول لا إلاه إلا هو إليه المصير * ما يجادل فىءايات الله إلا الذين كفروا فلا
يغررك تقلبهم فى البلاد * كذبت قبلهم قوم نوح والا حزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب * وكذالك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار * الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين ءامنوا ربنا وسعت كل شىء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم * ربنا وأدخلهم جنات عدن التى وعدتهم ومن صلح من ءابآئهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم * وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم * إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون) * قوله تعالى: * (غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذى الطول) *. جمع جل وعلا في هذه الآية الكريمة، بين الترغيب والترهيب والوعد والوعيد، لأن مطامع العقلاء محصورة في أمرين، هما جلب النفع ودفع الضر، وهذ المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى: * (نبىء عبادى أنى أنا الغفور الرحيم وأن عذابى هو العذاب الا ليم) * وقوله تعالى: * (قال عذابى أصيب به من أشآء ورحمتى وسعت كل شىء فسأكتبها للذين يتقون) *. وقوله تعالى في آخر الأنعام: * (إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم) *. وقوله في الأعراف: * (إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم) * والآيات بمثل ذلك كثيرة معروفة. قوله تعالى: * (ما يجادل فىءايات الله إلا الذين كفروا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه لا يجادل في آيات الله، أي لا يخاصم فيها محاولا ردها، وإبطال ما جاء فيها، إلا الكفار.
وقد بين تعالى في غير هذا الموضع الغرض الحامل لهم على الجدال فيها مع بعض صفاتهم، وذلك في قوله * (ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا ءاياتى وما أنذروا هزوا) * وأوضح ذلك الغرض، في هذه السورة الكريمة، في قوله * (وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق) *.
وقد قدمنا في سورة الحج أن الذين يجادلون في الله منهم، أتباع يتبعون رؤساءهم المضلين، من شياطين الإنس والجن، وهم المذكورون في قوله تعالى * (ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير) *.
372

وإن منهم قادة هم رؤساؤهم المتبوعون وهم المذكورون في قوله تعالى: * (ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثانى عطفه ليضل عن سبيل الله) *.
وبين تعالى في موضع آخر أن من أنواع جدال الكفار، جدالهم للمؤمنين الذين استجابوا لله وآمنوا به وبرسوله، ليردوهم إلى الكفر بعد الإيمان، وبين بطلان حجة هؤلاء، وتوعدهم بغضبه عليهم، وعذابه الشديد وذلك في قوله تعالى: * (والذين يحآجون فى الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد) *. قوله تعالى: * (فلا يغررك تقلبهم فى البلاد) *.
نهى الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة، ليشرع لأمته عن أن يغره تقلب الذين كفروا في بلاد الله، بالتجارات والأرباح، والعافية وسعة الرزق، كما كانت قريش تفيض عليها الأموال من أرباح التجارات، وغيرها من رحلة الشتاء والصيف المذكورة في قوله تعالى: * (إيلافهم رحلة الشتآء والصيف) * أي إلى اليمن والشام وهم مع ذلك كفرة فجرة، يكذبون نبي الله ويعادونه.
والمعنى: لا تغتر بإنعام الله عليهم تقلبهم في بلاده، في إنعام وعافية فإن الله جل وعلا يستدرجهم بذلك الإنعام، فيمتعهم به قليلا، ثم يهلكهم فيجعل مصيرهم إلى النار.
وقد أوضح هذا المعنى في آيات من كتابه كقوله تعالى: * (لا يغرنك تقلب الذين كفروا فى البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد) *. وقوله تعالى: * (ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ) * وقوله تعالى: * (قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير) * وقوله تعالى * (قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع فى الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون) * إلى غير ذلك من الآيات.
والفاء في قوله: فلا يغررك، سببية أي لا يمكن تقلبهم في بلاد الله. متنعمين
373

بالأموال والأرزاق، سببا لاغترارك بهم، فتظن بهم ظنا حسنا لأن ذلك التنعم، تنعم استدراج، وهو زائل عن قريب، وهم صائرون إلى الهلاك والعذاب الدائم. قوله تعالى: * (وكذالك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار) *. قرأ هذا الحرف نافع وابن عامر (كلمات) بصيغة الجمع المؤنث السالم وقرأه الباقون (كلمة ربك) بالإفراد.
وقد أوضحنا معنى الكلمة والكلمات فيما يماثل هذه الآية في سورة يس في الكلام على قوله تعالى. * (لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون) *. قوله تعالى: * (ربنا وأدخلهم جنات عدن التى وعدتهم ومن صلح من ءابآئهم وأزواجهم وذرياتهم) *. لم يبين هنا الآية المتضمنة لوعدهم بالجنات، هم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم.
ولكنه جل وعلا أوضح وعده إياهم بذلك في سورة الرعد في قوله تعالى: * (والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلواة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولائك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من ءابائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب) *.
* (قالوا ربنآ أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل * ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلى الكبير * هو الذى يريكم ءاياته وينزل لكم من السمآء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب * فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون * رفيع الدرجات ذو العرش يلقى الروح من أمره على من يشآء من عباده لينذر يوم التلاق * يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شىء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار * اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم
إن الله سريع الحساب * وأنذرهم يوم الا زفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع * يعلم خآئنة الا عين وما تخفى الصدور * والله يقضى بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشىء إن الله هو السميع البصير * أولم يسيروا فى الا رض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وءاثارا فى الا رض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق * ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوى شديد العقاب * ولقد أرسلنا موسى بأاياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وهامان وقشرون فقالوا ساحر كذاب * فلما جآءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبنآء الذين ءامنوا معه واستحيوا نسآءهم وما كيد الكافرين إلا فى ضلال * وقال فرعون ذرونى أقتل موسى وليدع ربه إنى أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر فى الا رض الفساد * وقال موسى إنى عذت بربى وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب) * قوله تعالى: * (قالوا ربنآ أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) *. التحقيق الذي لا ينبغي العدول عنه، أن المراد بالإماتتين في هذه الآية الكريمة، الإماتة الأولى، التي هي كونهم في بطون أمهاتهم نطفا وعلقا، ومضغا. قبل نفخ الروح فيهم، فهل قبل نفخ الروح فيهم لا حياة لهم، فأطلق عليهم بذلك الاعتبار اسم الموت.
والإماتة الثانية هي إماتتهم وصيرورتهم إلى قبورهم عند انقضاء آجالهم في دار الدنيا.
وأن المراد بالإحياءتين، الإحياءة الأولى في دار الدنيا، والإحياءة الثانية، التي هي البعث من القبور إلى الحساب، والجزاء والخلود الأبدي، الذي لا موت فيه، إما في الجنة وإما في النار.
374

والدليل من القرآن على أن هذا القول في الآية هو التحقيق، أن الله صرح به واضحا في قوله جل وعلا * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) * وبذلك تعلم أن ما سواه من الأقوال الآية لا معول عليه.
والأظهر عندي أن المسوغ الذي سوغ إطلاق اسم الموت على العلقة، والمضغة مثلا، في بطون الأمهات، أن عين ذلك الشيء، الذي هو نفس العلقة والمضغة، له أطوار كما قال تعالى: * (وقد خلقكم أطوارا) * * (يخلقكم فى بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق) *، ولما كان ذلك الشيء، تكون فيه الحياة في بعض تلك الأطوار، وفي بعضها لا حياة له، صح إطلاق الموت والحياة عليه من حيث إنه شيء واحد، ترتفع عنه الحياة تارة وتكون فيه أخرى، وقد ذكر له الزمخشري مسوغا غير هذا، فانظره إن شئت. قوله تعالى: * (فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل) *. قد بين جل وعلا في غير هذا الموضع، أن الاعتراف بالذنب في ذلك الوقت لا ينفع، كما قال تعالى: * (فاعترفوا بذنبهم فسحقا لاصحاب السعير) * وقال تعالى * (ربنآ أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: فهل إلى خروج من سبيل، قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية، في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى * (يوم يأتى تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جآءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعآء فيشفعوا لنآ أو نرد فنعمل غير الذى كنا نعمل) *. قوله تعالى: * (ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا) *. قد تقدم الكلام عليه في سورة الصافات، في الكلام على قوله تعالى * (إنا كذلك نفعل بالمجرمين إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إلاه إلا الله يستكبرون) *. قوله تعالى: * (فالحكم لله العلى الكبير) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الكهف، في الكلام على قوله تعالى: * (ولا يشرك فى حكمه أحدا) *.
375

قوله تعالى: * (هو الذى يريكم ءاياته) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه جل وعلا هو الذي يري خلقه آياته، أي الكونية القدرية ليجعلها علامات لهم على ربوبيته، واستحقاقه العبادة وحده ومن تلك الآيات الليل والنهار والشمس والقمر كما قال تعالى: * (ومن ءاياته اليل والنهار والشمس والقمر) *.
ومنها السماوات والأرضون، وما فيهما والنجوم، والرياح والسحاب، والبحار والأنهار، والعيون والجبال والأشجار وآثار قوم هلكوا، كما قال تعالى: * (إن في خلق السماوات والا رض واختلاف الليل والنهار) * إلى قوله * (لآيات لقوم يعقلون) *. وقال تعالى: * (إن فى خلق السماوات والا رض واختلاف اليل والنهار لايات لا ولى الا لباب. وقال تعالى: * (إن فى السماوات والا رض لايات للمؤمنين وفى خلقكم وما يبث من دآبة ءايات لقوم يوقنون واختلاف اليل والنهار ومآ أنزل الله من السمآء من رزق فأحيا به الا رض بعد موتها وتصريف الرياح ءايات لقوم يعقلون) * وقال تعالى * (إن فى اختلاف اليل والنهار وما خلق الله فى السماوات والا رض لآيات لقوم يتقون) *.
وما ذكره جل وعلا في آية المؤمن هذه، من أنه هو الذي يري خلقه آياته، بينه وزاده إيضاحا في غير هذا الموضع، فبين أنه يريهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم، وأن مراده بذلك البيان أن يتبين لهم أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم حق، كما قال تعالى: * (سنريهم ءاياتنا فى الا فاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) *.
والآفاق جمع أفق وهو الناحية، والله جل وعلا قد بين من غرائب صنعه، وعجائبه، في نواحي سماواته وأرضه، ما يتبين به لكل عاقل أنه هو الرب المعبود وحده. كما أشرنا إليه، من الشمس والقمر والنجوم والأشجار والجبال، والدواب والبحار، إلى غير ذلك.
وبين أيضا أن من آياته التي يريهم ولا يمكنهم أن ينكروا شيئا منها تسخيره لهم الأنعام ليركبوها ويأكلوا من لحومها، وينتفعوا بألبانها، وزبدها وسمنها، وأقطها ويلبسوا من جلودها، وأصوافها وأوبارها وأشعارها، كما قال تعالى: * (الله الذى جعل لكم الا نعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة فى صدوركم وعليها
376

وعلى الفلك تحملون ويريكم ءاياته فأى ءايات الله تنكرون) *.
وبين في بعض المواضع، أن من آياته التي يريها بعض خلقه، معجزات رسله، لأن المعجزات آيات، أي دلالات، وعلامات على صدق الرسل، كما قال تعالى في فرعون * (ولقد أريناه ءاياتنا كلها فكذب وأبى) * وبين في موضع آخر، أن من آياته التي يريها خلقه، عقوبته المكذبين رسله، كما قال تعالى في قصة إهلاكه قوم لوط * (ولقد تركنا منهآ ءاية بينة لقوم يعقلون) *.
وقال في عقوبته فرعون وقومه بالطوفان والجراد والقمل إلخ: * (فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ءايات مفصلات) *. قوله تعالى: * (وينزل لكم من السمآء رزقا) *. أطلق جل وعلا في هذه الآية الكريمة، الرزق وأراد المطر، لأن المطر سبب الرزق، وإطلاق المسبب وإرادة سببه لشدة الملابسة بينهما، أسلوب عربي معروف، وكذلك عكسه الذي هو إطلاق السبب وإرادة المسبب كقوله: وينزل لكم من السمآء رزقا) *. أطلق جل وعلا في هذه الآية الكريمة، الرزق وأراد المطر، لأن المطر سبب الرزق، وإطلاق المسبب وإرادة سببه لشدة الملابسة بينهما، أسلوب عربي معروف، وكذلك عكسه الذي هو إطلاق السبب وإرادة المسبب كقوله:
* أكنت دما إن لم أرعك بضرة
* بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
*
فأطلق الدم وأراد الدية، لأنه سببها.
وقد أوضحنا في رسالتنا المسماة: منع جواز المجاز، في المنزل للتعبد والإعجاز، أن أمثال هذا أساليب عربية، نطقت بها العرب في لغتها، ونزل بها القرآن، وأن ما يقوله علماء البلاغة من أن في الآية ما يسمونه المجاز المرسل الذي يعدون من علاقاته السببية والمسببية، لا داعي إليه، ولا دليل عليه، يجب الرجوع إليه.
وإطلاق الرزق في آية المؤمن هذه على المطر جاء مثله، في غير هذا الموضع كقوله تعالى في أول سورة الجاثية * (ومآ أنزل الله من السمآء من رزق فأحيا به الا رض بعد موتها) * فأوضح بقوله * (فأحيا به الا رض بعد موتها) * أن مراده بالرزق المطر، لأن المطر هو الذي يحيي الله به الأرض بعد موتها.
وقد أوضح جل وعلا، أنه إنما سمي المطر رزقا، لأن المطر سبب الرزق، في آيات كثيرة من كتابه، كقوله تعالى في سورة البقرة * (وأنزل من السمآء مآء فأخرج به من
377

الثمرات رزقا لكم) *، والباء في قوله فأخرج به سببية كما ترى.
وكقوله تعالى في سورة إبراهيم: * (الله الذى خلق السماوات والا رض وأنزل من السمآء مآء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك) *. وقوله تعالى في سورة ق: * (ونزلنا من السمآء مآء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد) *.
وبين في آيات أخر أن الرزق المذكور، شامل لما يأكله الناس، وما تأكله الأنعام، لأن ما تأكله الأنعام، يحصل بسببه للناس الانتفاع بلحومها، وجلودها وألبانها، وأصوافها وأوبارها، وأشعارها، كما تقدم كقوله تعالى: * (أولم يروا أنا نسوق المآء إلى الا رض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون) * وقوله تعالى * (هو الذى أنزل من السماء مآء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات) *.
فقوله: فيه تسيمون، أي تتركون أنعامكم سائمة فيه تأكل منه من غير أن تتكلفوا لها مؤونة العلف كما تقدم إيضاحه بشواهده العربية، في سورة النحل وكقوله تعالى * (وأنزل من السمآء مآء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم) *. وقوله تعالى: * (أخرج منها مآءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولانعامكم) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (وما يتذكر إلا من ينيب) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن الناس ما يتذكر منهم، أي ما يتعظ بهذه الآيات المشار إليها في قوله: * (هو الذى يريكم ءاياته وينزل لكم من السمآء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب) * أي من رزقه الله الإنابة إليه.
والإنابة: الرجوع عن الكفر والمعاصي، إلى الإيمان والطاعة.
وهؤلاء المنيبون، المتذكرون، المتعظون، هم أصحاب العقول السليمة من شوائب الاختلال، المذكورون في قوله تعالى في أول سورة آل عمران * (وما يذكر إلا أولوا الألباب) * وفي قوله تعالى في سورة إبراهيم * (وليعلموا أنما هو إلاه واحد
378

وليذكر أولوا الألباب) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقد دلت آية المؤمن هذه، وما في معناها من الآيات، على أن غير أولي الألباب المتذكرين المذكورين آنفا، لا يتذكر ولا يتعظ بالآيات، بل يعرض عنها أشد الإعراض.
وقد جاء هذا المعنى موضحا، في آيات كثيرة من كتاب الله، كقوله تعالى: * (وكأين من ءاية فى السماوات والا رض يمرون عليها وهم عنها معرضون) *. وقوله تعالى: * (وإن يروا ءاية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر) * وقوله * (وإذا رأوا ءاية يستسخرون) *. وقوله تعالى: * (قل انظروا ماذا فى السماوات والا رض وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) * وقوله * (وما تأتيهم من ءاية من ءايات ربهم إلا كانوا عنها معرضين) * في الأنعام ويس إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (فادعوا الله مخلصين له الدين) *. قد قدمنا الكلام على نحوه من الآيات في أول سورة الزمر، في الكلام على قوله * (فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص) *. قوله تعالى: * (يلقى الروح من أمره على من يشآء من عباده لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون) *. قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية، في أول
سورة النحل، في الكلام على قوله تعالى * (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشآء من عباده أن أنذروا أنه لا إلاه إلا أنا فاتقون) *. وقوله تعالى في آية المؤمن هذه * (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شىء) * جاء مثله في آيات كثيرة، كقوله في بروزهم ذلك اليوم * (يوم تبدل الا رض غير الا رض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار) * وقوله تعالى * (وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا) *.
وكقوله في كونهم لا يخفى على الله منهم شيء ذلك اليوم * (يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية) *. وقوله تعالى: * (إن ربهم بهم يومئذ لخبير) *. وقوله تعالى: * (إن الله لا يخفى عليه شىء في الا رض ولا فى السمآء) * والآيات بمثل ذلك كثيرة، وقد بيناها في أول سورة هود في الكلام على قوله تعالى * (ألا إنهم
379

يثنون صدورهم ليستخفوا منه) *، وذكرنا طرفا من ذلك، في أول سورة سبأ، في الكلام على قوله تعالى * (عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السماوات ولا فى الا رض) *. قوله تعالى: * (وأنذرهم يوم الا زفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين) *. الإنذار، والإعلام المقترن بتهديد خاصة، فكل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذارا.
وقد أوضحنا معنى الإنذار وأنواعه في أول سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى * (كتاب أنزل إليك فلا يكن فى صدرك حرج منه لتنذر به) *.
والظاهر أن قوله هنا * (يوم الا زفة) * هو المفعول الثاني للإنذار لا ظرف له لأن الإنذار والتخويف من يوم القيامة، واقع في دار الدنيا. والآزفة القيامة. أي أنذرهم يوم القيامة، بمعنى خوفهم إياه وهددهم بما فيه من الأهوال العظام ليستعدوا لذلك في الدنيا بالإيمان والطاعة.
وإنما عبر عن القيامة بالآزفة لأجل أزوفها أي قربها، والعرب تقول: أزف الترحل بكسر الزاي، يأزف بفتحها، أزفا بفتحتين، على القياس، وأزوفا فهو آزف، على غير قياس، في المصدر الأخير، والوصف بمعنى قرب وقته وحان وقوعه، ومنه قول نابغة ذبيان: ومنه قول نابغة ذبيان:
* أزف الترحل غير أن ركابنا
* لما تزل برحالنا وكأن قد
*
ويروى أفد الترحل، ومعناهما واحد.
والمعنى * (وأنذرهم يوم الا زفة) * أي يوم القيامة القريب مجيؤها ووقوعها.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من اقتراب قيام الساعة، جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى * (أزفت الا زفة ليس لها من دون الله كاشفة) * وقوله تعالى * (اقتربت الساعة) *. وقوله تعالى * (اقترب للناس حسابهم) *. وقوله تعالى في الأحزاب: * (وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا) * وقوله تعالى في الشورى * (وما يدريك لعل الساعة قريب) *.
380

وقد قدمنا هذا في أول سورة النحل في الكلام على قوله تعالى * (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين) * الظاهر فيه، أن إذ، بدل من يوم، وعليه فهو من قبيل المفعول به، لا المفعول فيه، كما بينا آنفا.
والقلوب: جمع قلب وهو معروف.
ولدى: ظرف بمعنى عند.
والحناجر: جمع حنجرة وهي معروفة.
ومعنى كون القلوب لدى الحناجر، في ذلك الوقت فيه لعلماء التفسير وجهان معروفان.
أحدهما: ما قاله قتادة وغيره، من أن قلوبهم يومئذ، ترتفع من أماكنها في الصدور، حتى تلتصق بالحلوق، فتكون لدى الحناجر، فلا هي تخرج من أفواههم فيموتوا، ولا هي ترجع إلى أماكنها في الصدور فيتنفسوا. وهذا القول هو ظاهر القرآن.
والوجه الثاني: هو أن المراد بكون القلوب، لدى الجناجر، بيان شدة الهول، وفظاعة الأمر، وعليه فالآية كقوله تعالى: * (وإذ زاغت الا بصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا) * وهو زلزال خوف وفزع لا زلزال حركة الأرض.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (كاظمين) * معناه مكروبين ممتلئين خوفا وغما وحزنا.
والكظم: تردد الخوف والغيظ والحزن في القلب حتى يمتلئ منه، ويضيق به.
والعرب تقول: كظمت السقاء إذا ملأته ماء، وشددته عليه.
وقول بعضهم كاظمين، أي ساكتين، لا ينافي ما ذكرنا، لأن الخوف والغم الذي ملأ قلوبهم يمنعهم من الكلام، فلا يقدرون عليه، ومن إطلاق الكظم على السكوت
381

قول العجاج: وقول بعضهم كاظمين، أي ساكتين، لا ينافي ما ذكرنا، لأن الخوف والغم الذي ملأ قلوبهم يمنعهم من الكلام، فلا يقدرون عليه، ومن إطلاق الكظم على السكوت قول العجاج:
* ورب أسراب حجيج كظم
* عن اللغا ورمث التكلم
*
ويرجع إلى هذا القول معنى قول من قال: كاظمين أي لا يتكلمون إلا من أذن له الله، وقال الصواب، كما قال تعالى: * (لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمان وقال صوابا) *.
وقوله: * (كاظمين) * حال من أصحاب القلوب على المعنى. والتقدير إذ القلوب لدى الحناجر أي إذ قلوبهم لدى حناجرهم في حال كونهم كاظمين، أي ممتلئين خوفا وغما وحزنا، ولا يبعد أن يكون حالا من نفس القلوب، لأنها وصفت بالكظم الذي هو صفة أصحابها.
ونظير ذلك في القرآن: * (إنى رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين) * فإنه أطلق في هذه الآية الكريمة، على الكواكب والشمس والقمر صفة العقلاء في قوله تعالى: * (رأيتهم لى ساجدين) *، والمسوغ لذلك وصفه الكواكب والشمس والقمر بصفة العقلاء التي هي السجود.
ونظير ذلك أيضا قوله تعالى * (إن نشأ ننزل عليهم من السمآء ءاية فظلت أعناقهم لها خاضعين) * وقوله تعالى: * (قالتآ أتينا طآئعين) *. قوله تعالى: * (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) *. قد قدمنا الكلام عليه في سورة البقرة وسورة الأعراف، وأحلنا عليه مرارا. قوله تعالى: * (يعلم خآئنة الا عين وما تخفى الصدور) *. قد قدمنا الكلام على ما يماثله من الآيات في أول سورة هود، وفي غيرها وأحلنا عليه أيضا مرارا. قوله تعالى: * (ولقد أرسلنا موسى بأاياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وهامان وقشرون فقالوا ساحر كذاب) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه أرسل نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، بآياته وحججه الواضحة كالعصا واليد البيضاء إلى فرعون وهامان وقارون
382

فكذبوه، وزعموا أنه ساحر.
وأوضح هذا المعنى، في آيات كثيرة كقوله تعالى عن فرعون وقومه: * (وقالوا مهما تأتنا به من ءاية لتسحرنا بها) *، وقوله تعالى عن فرعون * (إنه لكبيركم الذى علمكم السحر) *. وقوله تعالى: * (قال للملإ حوله إن هاذا لساحر عليم) * والآيات بمثل ذلك كثيرة. وقد بيناها في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك. قوله تعالى: * (وقال موسى إنى عذت بربى وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، عاذ بربه، أي اعتصم به، وتمنع من كل متكبر، أي متصف بالكبر، لا يؤمن بيوم الحساب، أي لا يصدق بالبعث والجزاء.
وسبب عياذ موسى بربه المذكور، أن فرعون قال لقومه: * (ذرونى أقتل موسى وليدع ربه إنى أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر فى الا رض الفساد) *.
فعياذ موسى المذكور بالله إنما هو في الحقيقة من فرعون، وإن كانت العبارة أعم من خصوص فرعون، لأن فرعون لا شك أنه متكبر، لا يؤمن بيوم الحساب فهو داخل في الكلام دخولا أوليا، وهو المقصود بالكلام.
وما ذكره جل وعلا في آية المؤمن هذه، من عياذ موسى بالله من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب كفرعون، وعتاة قومه، ذكر نحوه في سورة الدخان في قوله تعالى عن موسى مخاطبا فرعون وقومه: * (وإنى عذت بربى وربكم أن ترجمون) *.
* (وقال رجل مؤمن من ءال فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله وقد جآءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذى يعدكم إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب * ياقوم لكم الملك اليوم ظاهرين فى الا رض فمن ينصرنا من بأس الله إن جآءنا قال فرعون مآ أريكم إلا مآ أرى ومآ أهديكم إلا سبيل الرشاد * وقال الذىءامن ياقوم إنى أخاف عليكم مثل يوم الا حزاب * مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد * وياقوم إنى أخاف عليكم يوم التناد * يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد * ولقد جآءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم فى شك مما جآءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب * الذين يجادلون فىءايات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين ءامنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار * وقال فرعون ياهامان ابن لى صرحا لعلى أبلغ الا سباب * أسباب السماوات فأطلع إلى إلاه موسى وإنى لاظنه كاذبا وكذالك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا فى تباب * وقال الذىءامن ياقوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد * ياقوم إنما هاذه الحيواة الدنيا متاع وإن الا خرة هى دار القرار * من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولائك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب * وياقوم ما لى أدعوكم إلى النجواة وتدعوننى إلى النار * تدعوننى لاكفر بالله وأشرك به ما ليس لى به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار * لا جرم أنما تدعوننى إليه ليس له دعوة فى الدنيا ولا فى الا خرة وأن مردنآ إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار * فستذكرون مآ أقول لكم وأفوض أمرى إلى الله إن الله بصير بالعباد * فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بأال فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا ءال فرعون أشد العذاب) * قوله تعالى: * (وقال رجل مؤمن من ءال فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن رجلا مؤمنا من آل فرعون يكتم إيمانه، أي يخفي عنهم أنه مؤمن، أنكر على فرعون وقومه إرادتهم قتل نبي الله موسى عليه
383

وعلى نبينا الصلاة والسلام، حين قال فرعون * (ذرونى أقتل موسى وليدع ربه) *. مع أنه لا ذنب له، يستحق به القتل، إلا أنه يقول: ربي الله.
وقد بين في آيات أخر أن من عادة المشركين قتل المسلمين، والتنكيل بهم، وإخراجهم من ديارهم من غير ذنب، إلا أنهم يؤمنون بالله ويقولون: ربنا الله، كقوله تعالى في أصحاب الأخدود، الذين حرقوا المؤمنين * (قتل أصحاب الا خدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن
يؤمنوا بالله العزيز الحميد) * وقوله تعالى * (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) *. وقوله تعالى: عن الذين كانوا سحرة لفرعون، وصاروا من خيار المؤمنين، لما هددهم فرعون قائلا: * (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين) * أنهم أجابوه، بما ذكره الله عنهم، في قوله: * (قالوا إنآ إلى ربنا منقلبون وما تنقم منآ إلا أن ءامنا بأايات ربنا لما جآءتنا) * إلى غير ذلك من الآيات.
والتحقيق أن الرجل المؤمن المذكور في هذه الآية من جماعة فرعون كما هو ظاهر قوله تعالى: (من آل فرعون).
فدعوى أنه إسرائيلي، وأن في الكلام تقديما وتأخيرا. وأن من آل فرعون متعلق بيكتم، أي وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون أي يخفي إيمانه عن فرعون وقومه خلاف التحقيق كما لا يخفى.
وقيل: إن هذا الرجل المؤمن هو الذي قال لموسى * (إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج) * وقيل غيره.
واختلف العلماء في اسمه اختلافا كثيرا فقيل: اسمه حبيب، وقيل اسمه شمعان، وقيل اسمه حزقيل، وقيل غير ذلك ولا دليل على شيء من ذلك.
والظاهر في إعراب المصدر المنسبك من أن وصلتها في قوله تعالى، في هذه الآية الكريمة، أن يقول ربي الله، أنه مفعول من أجله.
384

وقال البخاري رحمه الله في صحيحه في تفسير هذه الآية الكريمة: حدثنا علي بن عبد الله حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي قال حدثني يحيى بن أبي كثير قال حدثني محمد بن إبراهيم التيمي حدثني عروة بن الزبير قال قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص أخبرني بأشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله قد جاءكم بالبينات من ربكم). قوله تعالى: * (قال فرعون مآ أريكم إلا مآ أرى ومآ أهديكم إلا سبيل الرشاد) *. الظاهر أن أرى في هذه الآية الكريمة علمية، عرفانية، تتعدى لمفعول واحد، كما أشار له في الخلاصة بقوله: كما أشار له في الخلاصة بقوله:
* لعلم عرفان وظن تهمه
* تعدية لواحد ملتزمه
*
وعليه فالمعنى: قال فرعون ما أعلمكم وأعرفكم، من حقيقة موسى وأنه ينبغي أن يقتل، خوف أن يبدل دينكم، ويظهر الفساد في أرضكم، إلا ما أرى أي أعلم وأعرف أنه الحق والصواب فما أخفى عنكم خلاف ما أظهره لكم، وما أهديكم بهذا إلا سبيل الرشاد، أي طريق السداد والصواب.
وهذان الأمران اللذان ذكر تعالى عن فرعون أنه قالهما في هذه الآية الكريمة، قد بين في آيات أخر أن فرعون كاذب في كل واحد منهما.
أما الأول منهما وهو قوله: * (مآ أريكم إلا مآ أرى) * فقد بين تعالى كذبه فيه في آيات من كتابه وأوضح فيها أنه يعلم ويتيقن أن الآيات التي جاءه بها موسى حق، وأنها ما أنزلها إلا الله، وأنه جحدها هو ومن استيقنها معه من قومه ليستخفوا بها عقول الجهلة منهم كقوله تعالى في سورة النمل * (وأدخل يدك فى جيبك تخرج بيضآء من غير سوء فى تسع ءايات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما جآءتهم ءاياتنا مبصرة قالوا هاذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتهآ أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) *.
385

فقوله تعالى: في هذه الآية * (وجحدوا بها واستيقنتهآ أنفسهم ظلما وعلوا) * دليل واضح على أن فرعون كاذب في قوله: * (ما أريكم إلا ما أرى) *.
وكقوله تعالى في سورة بني إسرائيل: * (قال لقد علمت مآ أنزل هاؤلاء إلا رب السماوات والا رض بصآئر وإنى لأظنك يافرعون مثبورا) * فقول نبي الله موسى لفرعون * (لقد علمت مآ أنزل هاؤلاء إلا رب السماوات والا رض) * مؤكدا إخباره بأن فرعون عالم بذلك بالقسم، وقد دل أيضا على أنه كاذب في قوله: ما أريكم إلا ما أرى.
وكان غرض فرعون بهذا الكذب، التدليس والتمويه ليظن جهلة قومه، أن معه الحق، كما أشار تعالى إلى ذلك في قوله: * (فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين) *.
وأما الأمر الثاني وهو قوله: * (ومآ أهديكم إلا سبيل الرشاد) * فقد بين تعالى كذبه فيه في آيات من كتابه كقوله تعالى: * (فاتبعوا أمر فرعون ومآ أمر فرعون برشيد) *. وقوله تعالى: * (وأضل فرعون قومه وما هدى) *.
وقال بعض العلماء في قوله: * (مآ أريكم إلا مآ أرى) * أي ما أشير عليكم إلا بما أرى لنفسي، من قتل موسى. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها) *. هذه الآية الكريمة، وأمثالها من الآيات الدالة عن أن السيئات لا تضاعف، ولا تجزي إلا بمثلها بينها وبين الآيات الأخرى الدالة على أن السيئات ربما ضوعفت في بعض الأحوال، كقوله تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم * (إذا لأذقناك ضعف الحيواة وضعف الممات) * وقوله تعالى في نسائه رضي الله عنهن * (يانسآء النبى من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين) * إشكال معروف. وقد قدمنا الجواب عنه موضحا في سورة النمل، في الكلام على قوله تعالى: * (ومن جآء بالسيئة فكبت وجوههم فى النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون) *. قوله تعالى: * (ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولائك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب) *.
386

قد أوضحنا معنى هذه الآية الكريمة، وبينا العمل الصالح بالآيات القرآنية، وأوضحنا الآيات المبينة لمفهوم المخالفة، في قوله: * (وهو مؤمن) * في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك، في سورة النحل، في الكلام على قوله تعالى * (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حيواة طيبة) *. وفي أول سورة الكهف، في الكلام على قوله تعالى: * (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا) *. قوله تعالى: * (وتدعوننى إلى النار تدعوننى لاكفر بالله وأشرك به ما ليس لى به علم) *. الظاهر أن جملة قوله تدعونني لأكفر بالله، بدل من قوله: وتدعونني إلى النار، لأن الدعوة إلى الكفر بالله والإشراك به دعوة إلى النار.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الكفر والإشراك بالله مستوجب لدخول النار، بينه تعالى في آياته كثيرة من كتابه كقوله: * (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار) *، وقد قدمنا ما فيه كفاية من ذلك، في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى: * (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السمآء) *. قوله تعالى: * (فستذكرون مآ أقول لكم وأفوض أمرى إلى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بأال فرعون سوء العذاب) *. التحقيق الذي لا شك فيه، أن هذا الكلام، من كلام مؤمن آل فرعون الذي ذكر الله عنه، وليس لموسى فيه دخل.
وقوله * (فستذكرون مآ أقول لكم) *، يعني أنهم يوم القيامة، يعلمون صحة ما كان يقول لهم، ويذكرون نصيحته، فيندمون حيث لا ينفع الندم، والآيات الدالة على مثل هذا من أن الكفار تنكشف لهم يوم القيامة حقائق ما كانوا يكذبون به في الدنيا كثيرة، كقوله تعالى: * (وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون) * وقوله تعالى: * (ولتعلمن نبأه بعد حين) *. وقوله تعالى: * (كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون) * وقوله تعالى: * (كلا سوف
387

تعلمون ثم كلا سوف تعلمون) *. وقوله تعالى: * (فكشفنا عنك غطآءك فبصرك اليوم حديد) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وأفوض أمرى إلى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا) * دليل واضح على أن التوكل الصادق على الله، وتفويض الأمور إليه، سبب للحفظ والوقاية من كل سوء، وقد تقرر في الأصول أن الفاء من حروف التعليل، كقولهم سها فسجد، أي سجد لعلة سهوه، وسرق فقطعت يده، أي لعلة سرقته، كما قدمناه مرارا.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من كون التوكل على الله سببا للحفظ، والوقاية من السوء، جاء مبينا في آيات أخر، كقوله تعالى * (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) *. وقوله تعالى: * (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء) *.
وقد ذكرنا الآيات الدالة على ذلك بكثرة، في أول سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى * (ألا تتخذوا من دونى وكيلا) *.
والظاهر أن ما في قوله * (سيئات ما مكروا) * مصدرية، أي فوقاه الله سيئات مكرهم، أي أضرار مكرهم وشدائده، والمكر: الكيد.
فقد دلت هذه الآية الكريمة، على أن فرعون وقومه أرادوا أن يمكروا بهذا المؤمن الكريم وأن الله وقاه، أي حفظه ونجاه، من أضرار مكرهم وشدائده بسبب توكله على الله، وتفويضه أمره إليه.
وبعض العلماء يقول: نجاه الله منهم مع موسى وقومه وبعضهم يقول: صعد جبلا فأعجزهم الله عنه ونجاه منهم، وكل هذا لا دليل عليه، وغاية ما دل عليه القرآن أن الله وقاه سيئات مكرهم، أي حفظه ونجاه منها.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وحاق بأال فرعون سوء العذاب) * معناه أنهم لما أرادوا أن يمكروا بهذا المؤمن، وقاه الله مكرهم، ورد العاقبة السيئة عليهم، فرد سوء مكرهم إليهم، فكان المؤمن المذكور ناجيا، في الدنيا والآخرة وكان فرعون وقومه هالكين،
388

في الدنيا والآخرة والبرزخ.
فقال في هلاكهم في الدنيا: * (وأغرقنآ ءال فرعون) *، وأمثالها من الآيات.
وقال في مصيرهم في البرزخ * (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا) *.
وقال في عذابهم في الآخرة: * (ويوم تقوم الساعة أدخلوا ءال فرعون أشد العذاب) *.
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة، من حيق المكر السئ، بالماكر أوضحه تعالى في قوله * (ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله) *.
والعرب تقول حاق به المكروه يحيق به حيقا وحيوقا، إذا نزل به وأحاط به، ولا يطلق إلا على إحاطة المكروه خاصة.
يقال حاق به السوء والمكروه، ولا يقال حاق به الخير، فمادة الحيق من الأجوف الذي هو يائي العين، والوصف منه حائق على القياس، ومنه قول الشاعر: يقال حاق به السوء والمكروه، ولا يقال حاق به الخير، فمادة الحيق من الأجوف الذي هو يائي العين، والوصف منه حائق على القياس، ومنه قول الشاعر:
* فأوطأ جرد الخيل عقر ديارهم
* وحاق بهم من يأس ضبة حائق
*
وقد قدمنا أن وزن السيئة بالميزان الصرفي، فيعلة من السوء فأدغمت ياء الفيعلة الزائدة في الواو، التي هي عين الكلمة، بعد إبدال الواو ياء على القاعدة التصريفية
المشار إليها، في الخلاصة بقوله: وقد قدمنا أن وزن السيئة بالميزان الصرفي، فيعلة من السوء فأدغمت ياء الفيعلة الزائدة في الواو، التي هي عين الكلمة، بعد إبدال الواو ياء على القاعدة التصريفية المشار إليها، في الخلاصة بقوله:
* إن يسكن السابق من واو ويا
* واتصلا ومن عروض عريا
*
* فياء الواو فلين مدغما
* وشذ معطي غير ما قد رسما
*
* (وإذ يتحآجون فى النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار * قال الذين استكبروا إنا كل فيهآ إن الله قد حكم بين العباد * وقال الذين فى النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب * قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا فى ضلال * إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا فى الحيواة الدنيا ويوم يقوم الا شهاد * يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار * ولقد ءاتينا موسى الهدى وأورثنا بنى إسراءيل الكتاب * هدى وذكرى لا ولى الا لباب * فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشى والابكار * إن الذين يجادلون فىءايات الله بغير سلطان أتاهم إن فى صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير * لخلق السماوات والا رض أكبر من خلق الناس ولاكن أكثر الناس لا يعلمون * وما يستوى الا عمى والبصير والذين ءامنوا وعملوا الصالحات ولا المسىء قليلا ما تتذكرون * إن الساعة لاتية لا ريب فيها ولاكن أكثر الناس لا يؤمنون * وقال ربكم ادعونى أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلون جهنم داخرين * الله الذى جعل لكم اليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولاكن أكثر الناس لا يشكرون * ذلكم الله ربكم خالق كل شىء لا إلاه إلا هو فأنى تؤفكون * كذلك يؤفك الذين كانوا بأايات الله يجحدون * الله الذى جعل لكم الا رض قرارا والسمآء بنآء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين * هو الحى لا إلاه إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين * قل إنى نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جآءنى البينات من ربى وأمرت أن أسلم لرب العالمين * هو الذى خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون * هو الذى يحى ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * ألم تر إلى الذين يجادلون فىءايات الله أنى يصرفون * الذين كذبوا بالكتاب وبمآ أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون * إذ الا غلال فى أعناقهم والسلاسل يسحبون * فى الحميم ثم فى النار يسجرون * ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون * من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين * ذلكم بما كنتم تفرحون فى الا رض بغير الحق وبما كنتم تمرحون * ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين * فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون) * قوله تعالى: * (وإذ يتحآجون فى النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيهآ إن الله قد حكم بين العباد) *. قوله تعالى * (يتحآجون فى النار) * أصله يتفاعلون من الحجة أي يختصمون، ويحتج بعضهم على بعض، وما تضمنته هذه الآية الكريمة، جاء موضحا في آيات من كتاب الله، كقوله تعالى * (إن ذلك لحق تخاصم أهل النار) * وقوله تعالى * (ولو
389

ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جآءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر اليل والنهار إذ تأمروننآ أن نكفر بالله ونجعل له أندادا) *. وقوله تعالى: * (كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لا ولاهم ربنا هاؤلاء أضلونا فأاتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولاكن لا تعلمون وقالت أولاهم لا خراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون) * وقوله تعالى، * (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الا سباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا) * وقوله تعالى: * (وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شىء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سوآء علينآ أجزعنآ أم صبرنا ما لنا من محيص وقال الشيطان لما قضى الا مر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى فلا تلومونى ولوموا أنفسكم مآ أنا بمصرخكم ومآ أنتم بمصرخى إنى كفرت بمآ أشركتمون من قبل) * والآيات بمثل هذا كثيرة، وقد قدمنا الكلام عليها في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك. قوله تعالى: * (وقال الذين فى النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن أهل النار طلبوا من خزنة جهنم أن يدعوا لهم الله أن يخفف عنهم من شدة عذاب النار.
وقد بين في سورة الزخرف أنهم نادوا مالكا خاصة، من خزنة أهل النار، ليقضي الله عليهم، أي ليميتهم فيستريحوا بالموت من عذاب النار.
وقد أوضح جل وعلا في آيات من كتابه، أنهم لا يحابون في واحد من الأمرين.
فلا يخفف عنهم العذاب، الذي سألوا تخفيفه، في سورة المؤمن هذه.
ولا يحصل لهم الموت الذي سألوه في سورة الزخرف، فقال تعالى في عدم تخفيف العذاب عنهم في
390

هذه الآية. * (قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا فى ضلال) * وقال تعالى * (ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزى
كل كفور) * وقال تعالى: * (فلن نزيدكم إلا عذابا) *: وقال تعالى: * (لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون) *: وقال تعالى: * (إن عذابها كان غراما) * وقال تعالى: * (فسوف يكون لزاما) * وقال تعالى * (لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون) *. وقال تعالى: * (ولهم عذاب مقيم) *.
وقال تعالى في عدم موتهم في النار: * (لا يقضى عليهم فيموتوا) *. وقال تعالى: * (ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت) *. وقال تعالى: * (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب) *. وقال تعالى: * (إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى) *. وقال تعالى: * (ويتجنبها الا شقى الذى يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيا) * ولما قالوا * (ليقض علينا ربك) * أجابهم بقوله: * (قال إنكم ماكثون) *. قوله تعالى: * (قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات) *. قد قدمنا الكلام عليه مع الآيات التي بمعناه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) *. قوله تعالى: * (إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا فى الحيواة الدنيا ويوم يقوم الا شهاد) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى: * (وكأين من نبى قاتل معه ربيون كثير) *، وذكرنا طرفا من ذلك في الصافات، في الكلام على قوله تعالى: * (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون) * وستأتي له زيادة إيضاح إن شاء الله في سورة المجادلة. قوله تعالى: * (ولقد ءاتينا موسى الهدى وأورثنا بنى إسراءيل الكتاب هدى وذكرى لا ولى الا لباب) *
391

. اللام في قوله: * (ولقد ءاتينا موسى الهدى) * موطئة للقسم وصيغة الجمع في آتينا وأورثنا للتعظيم.
والمراد بالهدى ما تضمنه التوراة من الهدى في العقائد والأعمال: وأورثنا بني إسرائيل الكتاب وهو التوراة، وقوله: هدى وذكرى لأولي الألباب مفعول من أجله أي لأجل الهدى والتذكير.
وقال بعضهم: هدى حال، وورود المصدر المنكر حالا معروف، كما أشار له في الخلاصة بقوله: وقال بعضهم: هدى حال، وورود المصدر المنكر حالا معروف، كما أشار له في الخلاصة بقوله:
* ومصدر منكر حالا يقع
* بكثرة كبغتة زيد طلع
*
وقال القرطبي: هدى بدل من الكتاب، أو خبر مبتدأ محذوف، وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من أن الله أنزل التوراة على موسى وأنزل فيها الهدى لبني إسرائيل جاء موضحا في آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: * (وءاتينآ موسى الكتاب وجعلناه هدى لبنى إسراءيل ألا تتخذوا من دونى وكيلا) *. وقوله تعالى: * (ولقد ءاتينا موسى الكتاب فلا تكن فى مرية من لقآئه وجعلناه هدى لبنى إسراءيل) *. وقوله تعالى: * (إنآ أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والا حبار) * وقوله تعالى: * (ولقد ءاتينا موسى الكتاب من بعد مآ أهلكنا القرون الا ولى بصآئر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون) * وقوله تعالى: * (ثم ءاتينا موسى الكتاب تماما على الذى أحسن وتفصيلا لكل شىء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون) *. وقوله تعالى: * (وكتبنا له فى الالواح من كل شىء موعظة وتفصيلا لكل شىء) * الآية. إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (إن فى صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه) *. قد قدمنا إيضاحه في سورة الأعراف، في الكلام على قوله تعالى: * (قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها) *، وذكرنا هناك بعض النتائج السيئة الناشئة عن الكبر. قوله تعالى: * (لخلق السماوات والا رض أكبر من خلق الناس) *.
392

قد قدمنا أن هذه الآية من البراهين الدالة على البعث، وأوضحنا كل البراهين الدالة على البعث بالآيات القرآنية بكثرة في سورة البقرة، وسورة النحل، وأحلنا على مواضع ذلك مرارا. قوله تعالى: * (وما يستوى الا عمى والبصير والذين ءامنوا وعملوا الصالحات ولا المسىء) *. قوله تعالى في هذه الآية الكريمة، وما يستوي الأعمى والبصير، قد قدمنا الكلام عليه في سورة هود، في الكلام على قوله تعالى: * (مثل الفريقين كالا عمى والا صم والبصير والسميع) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (والذين ءامنوا وعملوا الصالحات ولا المسىء) * قد قدمنا إيضاح معناه بالآيات القرآنية، في سورة ص في الكلام على قوله تعالى: * (أم نجعل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين فى الا رض أم نجعل المتقين كالفجار) *. قوله تعالى: * (إن الساعة لاتية لا ريب فيها ولاكن أكثر الناس لا يؤمنون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الفرقان، في الكلام على قوله تعالى: * (بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا) *. قوله تعالى: * (وقال ربكم ادعونى أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلون جهنم داخرين) *. قال بعض العلماء * (ادعونى أستجب لكم) *: اعبدوني أثبكم من عبادتكم، ويدل لهذا قوله بعده: * (إن الذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلون جهنم داخرين) *.
وقال بعض العلماء: * (ادعونى أستجب لكم) * أي اسألوني أعطكم.
ولا منافاة بين القولين، لأن دعاء الله من أنواع عبادته.
وقد أوضحنا هذا المعنى، وبينا وجه الجمع بين قوله تعالى: * (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) * مع قوله تعالى: * (فيكشف ما
393

تدعون إليه إن شآء) * فأغنى ذلك عن إعادته هنا. قوله تعالى: * (الله الذى جعل لكم اليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولاكن أكثر الناس لا يشكرون) *. قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية، في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى: * (وهو الذى جعل لكم اليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا
) * وفي سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى: * (فمحونآ ءاية اليل وجعلنآ ءاية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم) *. قوله تعالى: * (هو الذى خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون) *. قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية، في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى: * (ياأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة) *، وفي غير ذلك من المواضع. قوله تعالى: * (فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) *. قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: * (إنما قولنا لشىء إذآ أردناه أن نقول له كن فيكون) *. وبينا أوجه القراءة في قوله: فيكون هناك. قوله تعالى: * (ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين) *. لم يبين هنا جل وعلا عدد أبواب جهنم، ولكنه بين ذلك في سورة الحجر، في قوله تعالى: * (وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم) *.
* (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتى بأاية إلا بإذن الله فإذا جآء أمر الله قضى بالحق وخسر هنالك المبطلون * الله الذى جعل لكم الا نعام لتركبوا منها ومنها تأكلون * ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة فى صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون * ويريكم ءاياته فأى ءايات الله تنكرون * أفلم يسيروا فى الا رض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وءاثارا فى الا رض فمآ أغنى عنهم ما كانوا يكسبون * فلما جآءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون * فلما رأوا بأسنا قالوا ءامنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التى قد خلت فى عباده وخسر هنالك الكافرون) * قوله تعالى: * (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك) *. ما تضمنته هذه الآية الكريمة، من أن الله تبارك وتعالى قص على نبيه صلى الله عليه وسلم، أنباء بعض
394

الرسل، أي كنوح وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب، وموسى، وأنه لم يقصص عليه أنباء رسل آخرين، بينه في في غير هذا الموضع، كقوله في سورة النساء: * (ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما) *، وأشار إلى ذلك في سورة إبراهيم في قوله: * (ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جآءتهم رسلهم بالبينات) *. وفي سورة الفرقان في قوله تعالى: * (وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذالك كثيرا) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (فإذا جآء أمر الله قضى بالحق وخسر هنالك المبطلون) *. قوله هنا: فإذا جاء أمر الله أي قامت القيامة، كما قدمنا إيضاحه في قوله تعالى: * (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) * أي فإذا قامت القيامة، قضى بين الناس بالحق الذي لا يخالطه حيف ولا جور، كما قال تعالى: * (وأشرقت الا رض بنور ربها ووضع الكتاب وجىء بالنبيين والشهدآء وقضى بينهم بالحق) *.
وقال تعالى: * (وترى الملائكة حآفين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضى بينهم بالحق) *.
والحق المذكور في هذه الآيات: هو المراد بالقسط المذكور في سورة يونس في قوله تعالى: * (ولكل أمة رسول فإذا جآء رسولهم قضى بينهم بالقسط) *).
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من أنه إذا قامت القيامة يخسر المبطلون، أوضحه جل وعلا في سورة الجاثية في قوله تعالى: * (ولله ملك السماوات والا رض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون) *.
والمبطل هو: من مات مصرا على الباطل.
وخسران المبطلين المذكور هنا، قد قدمنا بيانه في سورة يونس، في الكلام على قوله تعالى: * (قد خسر الذين كذبوا بلقآء الله وما كانوا مهتدين) *. قوله تعالى: * (الله الذى جعل لكم الا نعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة فى صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون) *.
395

قد قدمنا أن لفظة جعل، تأتي في اللغة العربية لأربعة معان، ثلاثة منها في القرآن.
الأول: إتيان جعل بمعنى اعتقد، ومنه قوله تعالى: * (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان إناثا) * أي اعتقدوهم إناثا، ومعلوم أن هذه تنصب المبتدأ والخبر.
الثاني: جعل بمعنى صير، كقوله: * (حتى جعلناهم حصيدا خامدين) * وهذه تنصب المبتدأ والخبر أيضا.
الثالث: جعل بمعنى خلق، كقوله تعالى: * (الحمد لله الذى خلق السماوات والا رض وجعل الظلمات والنور) * أي خلق السماوات والأرض وخلق الظلمات والنور.
والظاهر، أن منه قوله هنا: * (الله الذى جعل لكم الا نعام) * أي خلق لكم الأنعام، ويؤيد ذلك قوله تعالى: * (والا نعام خلقها لكم) *، وقوله: * (أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينآ أنعاما) *.
الرابع: وهو الذي ليس في القرآن جعل بمعنى شرع، ومنه قوله: الرابع: وهو الذي ليس في القرآن جعل بمعنى شرع، ومنه قوله:
* وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني
* ثوبي فانهض نهض الشارب السكر
*
وما ذكره الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة، من الامتنان بهذه النعم الكثيرة، التي أنعم عليهم بها، بسبب خلقه لهم الأنعام وهي الذكور والإناث، من الإبل والبقر والضأن والمعز، كما قدمنا إيضاحه في سورة آل عمران في الكلام على قوله: والأنعام والحرث بينه أيضا في مواضع أخر، كقوله تعالى: * (والا نعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس) *. والدفء ما يتدفؤون به في
الثياب المصنوعة من جلود الأنعام وأوبارها وأشعارها وأصوافها.
وقوله تعالى: * (جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الا نعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارهآ أثاثا ومتاعا إلى حين) *.
396

وقوله تعالى: * (أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينآ أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون * (ولهم فيها منافع ومشارب) *، وقوله تعالى: * (وإن لكم فى الا نعام لعبرة نسقيكم مما فى بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سآئغا للشاربين) *. وقوله تعالى: * (وإن لكم فى الا نعام لعبرة نسقيكم مما فى بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون) *. وقوله تعالى: * (ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين) * إلى قوله: * (أم كنتم شهدآء إذ وصاكم الله بهاذا) * وقوله تعالى: * (وأنزل لكم من الا نعام ثمانية أزواج) *. وقوله تعالى: * (جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الا نعام أزواجا) *. وقوله تعالى: * (والذى خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والا نعام ما تركبون) *، إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (أفلم يسيروا فى الا رض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) *. قد ذكرنا الآيات الموضحة له في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك، وبينا مواضعها في سورة الروم، في الكلام على قوله تعالى: * (أولم يسيروا فى الا رض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) *. قوله تعالى: * (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التى قد خلت فى عباده وخسر هنالك الكافرون) *. قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية، في سورة يونس في الكلام على قوله تعالى: * (أثم إذا ما وقع ءامنتم به ءآأن وقد كنتم به تستعجلون) *، وفي سورة ص في الكلام على قوله تعالى * (فنادوا ولات حين مناص) *.
397