الكتاب: تفسير الآلوسي
المؤلف: الآلوسي
الجزء: ٣
الوفاة: ١٢٧٠
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

* (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وءاتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شآء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جآءتهم البين‍ات ول‍اكن اختلفوا فمنهم من ءامن ومنهم من كفر ولو شآء الله ما اقتتلوا ول‍اكن الله يفعل ما يريد) *.
* (تلك الرسل) * استئناف مشعر بالترقي كأنه قيل: إنك لمن المرسلين وأفضلهم فضلا، والإشارة لجماعة الرسل الذين منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما فيه من معنى البعد - كما قيل - للإيذان بعلو طبقتهم وبعد منزلتهم، واللام للاستغراق، ويجوز أن تكون للجماعة المعلومة له صلى الله عليه وسلم أو المذكورة قصصها في السورة، واللام للعهد، واختيار جمع التكسير لقرب جمع التصحيح * (فضلنا بعضهم على بعض) * بأن خصصنا بعضهم بمنقبة ليست تلك المنقبة للبعض الآخر، وقيل: المراد التفضيل بالشرائع فمنهم من شرع ومنهم من لم يشرع، وقيل: هو تفضيل بالدرجات الأخروية ولا يخفى ما في كل، ويؤيد الأول قوله تعالى: * (منهم من كلم الله) * فإنه تفصيل للتفضيل المذكور إجمالا، والجملة لا محل لها من الإعراب، وقيل: بدل من * (فضلنا) * والمراد بالموصول إما موسى عليه السلام فالتعريف عهدي، أو كل من كلمه الله تعالى عن رضا بلا واسطة، وهم آدم - كما ثبت في الأحاديث الصحيحة وموسى وهو الشهير بذلك، ونبينا صلى الله عليه وسلم وهو المخصوص بمقام قاب والفائز بعرائس خطاب ما تعرض بالتعريض لها الخطاب، وقرىء * (كلم الله) * بالنصب وقرأ اليماني (كالم الله) من المكالمة قيل: وفي إيراد الاسم الجليل بطريق الالتفات تربية للمهابة ورمز إلى ما بين التكلم والرفع وبين ما سبق من مطلق التفضيل وما لحق من إيتاء البينات والتأييد بروح القدس من التفاوت * (ورفع بعضهم درج‍ات) * أي ومنهم من رفعه الله تعالى على غيره من الرسل بمراتب متباعدة ومن وجوه متعددة، وتغيير الأسلوب لتربية ما بينهم من اختلاف الحال في درجات الشرف، والمراد ببعضهم هنا النبي صلى الله عليه وسلم كما ينبىء عنه الإخبار بكونه صلى الله عليه وسلم منهم فإنه قد خص بمزايا تقف دونها الأماني حسرى. وامتاز بخواص علمية وعملية لا يستطيع لسان الدهر لها حصرا. ورقى أعلام فضل رفعت له على كواهله الأعلام وطأطأت له رؤوس شرفات الشرف فقبلت منه الأقدام فهو المبعوث رحمة للعالمين والمنعوت بالخلق العظيم بين المرسلين والمنزل عليه قرآن مجيد * (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) * (فصلت: 42) والمؤيد دينه المؤبد بالمعجزات المستمرة الباهرة والفائز بالمقام المحمود والشفاعة العظمى في الآخرة، والإبهام لتفخيم شأنه وللإشعار بأنه العلم الفرد الغني عن التعيين، وقيل: المراد به إبراهيم حيث خصه الله تعالى بمقام الخلة التي هي أعلا المراتب ولا يخفى ما فيه، وقيل: إدريس لقوله تعالى: * (ورفعناه مكانا عليا) * (مريم: 57)، وقيل: أولو العزم من الرسل، وفيه - كما " في الكشف " - أنه لا يلائم ذوق المقام الذي فيه الكلام ألبتة، وكذا الكلام عندي في سابقه إذ الرفعة عليه حقيقة والمقام يقتضي المجاز كما لا يخفى،
2

و - درجات - قيل: حال من (بعضهم) على معنى ذا درجات، وقيل: انتصابه على المصدر لأن الدرجة بمعنى الرفعة فكأنه قيل: ورفعنا بعضهم رفعات، وقيل: التقدير - على - أو - إلى - أو - في - درجات فلما حذف حرف الجر وصل الفعل بنفسه، وقيل: إنه مفعول ثان لرفع على أنه ضمن معنى بلغ، وقيل: إنه بدل اشتمال وليس بشيء.
* (وءاتينا عيسى ابن مريم البينات) * أي الآيات الباهرات والمعجزات الواضحات كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى والإخبار بما يأكلون ويدخرون، أو الإنجيل، أو كلما يدل على نبوته، وفي ذكر ذلك في مقام التفضيل إشارة إلى أنه السبب فيه، وهذا يقتضي أفضلية نبينا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء إذ له من قداح ذلك المعلى والرقيب. * (وأيدن‍اه بروح القدس) * قد تقدم تفسيره، وإفراده عليه السلام بما ذكر لرد ما بين أهل الكتابين في شأنه من التفريط والإفراط، والآية ناطقة بأن الأنبياء عليهم السلام متفاوتة الأقدار فيجوز تفضيل بعضهم على بعض ولكن بقاطع لأن الظن في الاعتقاديات لا يغنى من الحق شيئا * (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم) * أي جاءوا من بعد كل رسول كما يقتضيه المعنى لا جميع الرسل كما هو ظاهر اللفظ من الأمم المختلفة أي لو شاء الله تعالى عدم اقتتالهم ما اقتتلوا بأن جعلهم متفقين على الحق واتباع الرسل الذين جاءوا به فمفعول المشيئة محذوف لكونه مضمون الجزاء على القاعدة المعروفة، ومن قدر - ولو شاء الله هدى الناس جميعا ما اقتتل - الخ وعدل عما تقتضيه القاعدة ظنا بأن هذا العدم لا يحتاج إلى مشيئة وإرادة بل يكفي فيه عدم تعلق الإرادة بالوجود لم يأت بشيء * (من بعد ما جاءتهم) * من جهة أولئك الرسل، وقيل: الضمير عائد إلى (الذين من قبلهم) وهم الرسل، والمجرور متعلق - باقتتل - وقيل: بدل من نظيره مما قبله * (البينت) * أي المعجزات الباهرة والآيات الظاهرة الدالة على حقية الحق الموجبة للاتباع الزاجرة عن الإعراض المؤدي إلى الاقتتال * (ول‍اكن اختلفوا) * استدراك من الشرطية أشير به إلى قياس استثنائي مؤلف من وضع نقيض مقدمها منتج لنقيض تاليها إلا أنه قد وضع فيه الاختلاف موضع نقيض المقدم المترتب عليه للإيذان بأن الاقتتال ناشيء من قبلهم وسوء اختيارهم لا من جهته تعالى ابتداءا كأنه قيل: ولكن لم يشأ عدم اقتتالهم لأنهم اختلفوا اختلافا فاحشا.
* (فمنهم من آمن) * أي بما جاءت به أولئك الرسل وثبت على إيمانه وعمل بموجبه، وهذا بيان للاختلاف فلا محل للجملة من الإعراب * (ومنهم من كفر) * بذلك كفرا لا ارعواء له عنه فاقتضت الحكمة عدم مشيئته لعدم اقتتالهم فاقتتلوا بموجب ما اقتضته أحوالهم * (ولو شآء الله) * عدم اقتتالهم بعد هذه المرتبة أيضا من الاختلاف المستتبع للقتال عادة * (ما اقتتلوا) * وما رفعوا رأس التطاول والتعادي لما أن الكل بيد قهره فالتكرير ليس للتأكيد كما ظن بل للتنبيه على أن اختلافهم ذلك ليس موجبا لعدم مشيئته تعالى لعدم اقتتالهم كما يفهم ذلك من وضعه في الاستدراك موضعه بل هو سبحانمه مختار في ذلك حتى لو شاء بعد ذلك عدم اقتتالهم ما اقتتلوا كما يفصح عنه الاستدراك بقوله عز وجل: * (ولكن الله يفعل ما يريد) * حسبما يريد من غير أن يوجبه عليه موجب أو يمنعه (عنه) مانع كذا قرره المولى أبو السعود قدس سره وهو من الحسن بمكان إلا أنه قد اعترضه العلامة عبد الباقي البغدادي في " تفسيره " بنحو ما تقدم آنفا في نظير هذا القياس، وذكر أنه خلاف استعمال (لو) عند أرباب العربية وأرباب الاستدلال
3

ولعل الجواب عن هذا هو الجواب عن ذلك مع أدنى تغيير فلا تغفل، وما ذكره من توجيه التكرير مما تفرد به فيما أعلم، والأكثرون على أنه للتأكيد إلا أن وراءه سرا خص منه - كما ذكره صاحب " الانتصاف " - وهو أن العرب متى بنت أول كلامها على مقصد ثم اعترضها مقصد آخر وأرادت الرجوع إلى الأول طرت ذكره إما بتلك العبارة أو بقريب منها، وذلك عندهم مهيع من الفصاحة مسلوك وطريق معبد، وفي كتاب الله تعالى مواضع من ذلك منها قوله تعالى: * (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا) * (النحل: 106) وهذه الآية من هذا النمط فإنه لما صدر الكلام بأن اقتتالهم كان على وفق المشيئة ثم لما طال الكلام وأريد بيان أن مشيئة الله تعالى كما نفذت في هذا الأمر الخاص وهو اقتتال هؤلاء فهي نافذة في كل فعل واقع وهو المعبر عنه في قوله تعالى: * (ولكن الله يفعل ما يريد) * طرأ ذكر تعلق المشيئة بالاقتتال ليتلوه عموم تعلق المشيئة ليتناسب الكلام ويقرن كل بشكله وهذا سر ينشرح لبيانه الصدر ويرتاح به السر ولعله أحسن من القول بأن الأول بلا واسطة والثاني بواسطة المؤمنين أو بالعكس، هذا وفي الآية دليل على أن الحوادث تابعة لمشيئة الله تعالى خيرا كانت أو شرا إيمانا أو كفرا.
* (ياايها الذين ءامنوا أنفقوا مما رزقنكم من قبل أن يأتى يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة وا الكافرون هم االظالمون) *.
* (يا أيها الذين ءامنوا أنفقوا مما رزقنكم) * قيل: أراد به الفرض كالزكاة دون النفل لأن الأمر حقيقة في الوجوب ولاقتران الوعيد به وهو المروي عن الحسن، وقيل: يدخل فيه الفرض والنفل وهو المروي عن ابن جريج واختاره البلخي، وجعل الأمر لمطلق الطلب وليس فيما بعد سوى الأخبار بأهوال يوم القيامة وشدائدها ترغيبا في الإنفاق وليس فيه وعيد على تركه ليتعين الوجوب، وقال الأصم: المراد به الانفاق في الجهاد، والدليل عليه أنه مذكور بعد الأمر بالجهاد معنى، وبذلك ترتبط الآية بما قبلها ولا يخفى أن هذا الدليل مما لا ينبغي أن يسمع لأن الارتباط على تقدير العموم حاصل أيضا بدخول الانفاق المذكور فيه دخولا أوليا، وكذا على تقدير إرادة الفرض لأن الانفاق في الجهاد قد يكون فرضا إذا توقف الفرض عليه، و (ما) موصولة حذف عائدها والتعرض لوصوله منه تعالى للحث على الانفاق والترغيب فيه.
* (من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة) * أي لا مودة ولا صداقة * (ولا شفاعة) * أي لأحد إلا من بعد أن يأذن الرحمن لمن يشاء ويرضى وأراد بذلك يوم القيامة، والمراد - من وصفه بما ذكر - الإشارة إلى أنه لا قدرة لأحد فيه على تحصيل ما ينتفع به بوجه من الوجوه لأن من في ذمته حق مثلا إما أن يأخذ بالبيع ما يؤديه به وإما أن يعينه أصدقاؤه وإما أن يلتجىء إلى من يشفع له في حطه والكل منتف ولا مستعان إلا بالله عز وجل؛ و (من) متعلقة بما تعلقت به أختها ولا ضير لاختلاف معنييهما إذ الأولى: تبعيضية وهذه لابتداء الغاية وإنما رفعت هذه المنفيات الثلاثة مع أن المقام يقتضي التعميم والمناسب له الفتح لأن الكلام على تقدير - هل بيع فيه أو خلة أو شفاعة - والبيع وأخواه فيه مرفوعة فناسب رفعها في الجواب مع حصول العموم في الجملة وإن لم يكن بمثابة العموم الحاصل على تقدير الفتح، وقد فتحها ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب على الأصل في ذكر ما هو نص في العموم كذا قالوا، ولعل الأوجه القول بأن الرفع لضعف العموم في غالبها وهو الخلة والشفاعة للاستثناء الواقع في بعض الآيات، والمغلوب منقاد لحكم الغالب، وأما ما قالوه فيرد عليه أن ما بعد (يوم) جملة وقعت بعد نكرة فهي صفة غير مقطوعة ولا يقدر بين الصفة والموصوف إذا لم يكن قطع سؤال قطعا، واعتبار كون
4

النكرة موصوفة بما يفهمه التنوين من التعظيم فتقدر الجملة صفة مقطوعة تحقيقا لذلك وتقريرا له فيصح تقدير السؤال حينئذ مما لا يكاد يقبله الذهن السليم * (والكفرون هم الظ‍المون) * أي المستحقون لإطلاق هذا الوصف عليهم لتناهي ظلمهم، والجملة معطوفة على محذوف - أي فالمؤمنون المتقون موفون والكافرون - الخ والمراد بهم تاركو الانفاق رأسا، وعبر عن التارك بالكافر تغليظا حيث شبه فعله وهو ترك الإنفاق بالكفر، أو جعل مشارفة عليه، أو عبر بالملزوم عن اللازم فهو إما استعارة تبعية أو مجاز مشارفة أو مجاز مرسل أو كناية ومثل ذلك وضع من كفر موضع من لم يحج آخر آية الحج، وبعضهم لم يتجوز بالكفر وقال: إنه عبارة عن الكفر بالله تعالى حقيقة، وفائدة الإخبار حينئذ الإشارة إلى أن نفي تلك الأشياء بالنسبة إليهم وأن ذلك لا يعد منا ظلما لهم لأنهم هم الظالمون لأنفسهم المتسببون لذلك.
* (الله لا إله إلا هو الحى القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في االسماوات وما في الارض من ذا الذى يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شآء وسع كرسيه السم‍اوات والارض ولا يؤوده حفظهما وهو العلى العظيم) *.
* (الله لا إل‍اه إلا هو) * مبتدأ وخبر، والمراد هو المستحق للعبودية لا غير، قيل: وللناس - في رفع الضمير المنفصل وكذا في الاسم الكريم إذا حل محله - أقوال خمسة: قولان معتبران، وثلاثة لا معول عليها، فالقولان المعتبران: أحدهما: أن يكون رفعه على البدلية، وثانيهما: أن يكون على الخبرية - والأول هو الجاري على ألسنة المعربين - وهو رأي ابن مالك، وعليه إما أن يقدر للأخير أو لا، والقائلون بالتقدير اختلفوا فمن مقدر أمرا عاما كالوجود والإمكان؛ ومن مقدر أمرا خاصا كلنا وللخلق، واعترض تقدير العام بأنه يلزم منه أحد المحذورين إما عدم إثبات الوجود بالفعل لله تعالى شأنه وإما عدم تنزهه سبحانه عن إمكان الشركة، وكذا تقدير الخاص يرد عليه أنه لا دليل عليه أو فيه خفاء، ويمكن الجواب باختيار تقديره عاما، ولا محذور أما على تقدير الوجود فلأن نفي الوجود يستلزم نفي الإمكان إذ لو اتصف فرد آخر بوجوب الوجود لوجد ضرورة فحيث لم يوجد علم عدم اتصافه به وما لم يتصف بوجوب الوجود لم يمكن أن يتصف به لاستحالة الانقلاب، وأما على تقدير الإمكان فلأنا نقول قد ظهر أن إمكان اتصاف شيء بوجوب الوجود يستلزم اتصافه بالفعل بالضرورة فإذا استفيد إمكانه يستفاد وجوده أيضا إذ كل ما لم يوجد يستحيل أن يكون واجب الوجود على أنه قد ذكر غير واحد أن نفي وجود إله غيره تعالى يجوز أن يكون مرتبة من التوحيد يناط بها الإسلام ويكتفي بها من أكثر العوام، وإن لم يعلموا نفي إمكانه سيما مع الغفلة وعدم الشعور به فلا يضر عدم دلالة الكلمة عليه بل قال بعضهم: إن إيجاب النفي جاء والآلهة غير الله تعالى موجودة، وقد قامت عبادتها على ساق، وعكف عليها المشركون في سائر الآفاق، فأمر الناس بنفي وجودها من حيث إنها آلهة حقة ولو كان إذ ذاك قوم يقولون بإمكان وجود إله حق غيره تعالى لكنه غير
موجود أصلا لأمروا بنفي ذلك الإمكان ولا يخفى أن هذا ليس من المتانة بمكان، ويمكن الجواب باختيار تقديره خاصا بأن يكون ذلك الخاص مستحقا للعبادة والمقام قرينة واضحة عليه، واعترض بأنه لا يدل على نفي التعدد لا بالإمكان ولا بالفعل لجواز وجود إله غيره سبحانه لا يستحق العبادة وبأنه يمكن أن يقال: إن المراد إما نفي المستحق غيره تعالى بالفعل أو الإمكان، والأول: لا ينفي الإمكان، والثاني: لا يدل على استحقاقه تعالى بالفعل، وأجيب بأن من المعلوم بأن وجوب الوجود مبدأ جميع الكمالات فلا ريب أنه يوجب استحقاق التعظيم والتبجيل ولا معنى لاستحقاق العبادة سواه فإذا لم يستحق غيره تعالى للعبادة لم يوجد غيره تعالى وإلا لاستحق العبادة قطعا وإذا لم يوجد لم يكن ممكنا أيضا على ما أشير إليه فثبت أن نفي الاستحقاق يستلزم نفي التعدد مطلقا، والقائلون بعدم
5

تقدير الخبر ذهب الأكثر منهم إلى أن * (لا) * هذه لا خبر لها، واعترض بأنه يلزم حينئذ انتفاء الحكم والعقد وهو باطل قطعا ضرورة اقتضاء التوحيد ذلك، وأجيب بأن القول بعدم الاحتياج لا يخرج المركب من * (لا) * واسمها عن العقد لأن معناه انتفى هذا الجنس من غير هذا الفرد وإلا عند هؤلاء بمعنى غير تابعة لمحل اسم * (لا) * وظهر إعرابها فيما بعدها ولا مجال لجعلها للاستثناء إذ لو كانت له لما أفاد الكلام التوحيد لأن حاصله حينئذ أن هذا الجنس على تقدير عدم دخول هذا الفرد فيه منتف فيفهم منه عدم انتفاء أفراد غير خارج عنها ذلك وهو بمعزل عن التوحيد كما لا يخفى، واستشكل الإبدال من جهتين، الأول: أنه بدل بعض ولا ضمير للمبدل منه وهو شرط فيه، الثاني: أن بينهما مخالفة فإن البدل موجب والمبدل منه منفي، وأجيب عن الأول: بأن * (إلا) * تغني عن الضمير لإفهامها البعضية، وعن الثاني: بأنه بدل عن الأول في عمل العامل، وتخالفهما في الإيجاب والنفي لا يمنع البدلية على أنه لو قيل: إن البدل في الاستثناء على حدة لم يبعد. والثاني: من القولين الأولين وهو القول بخبرية ما بعد * (إلا) * ذهب إليه جماعة وضعف بأنه يلزم عمل (لا) في المعارف وهي لا تعمل فيها وبأن اسمها عام وما بعد (إلا) خاص فكيف يكون خبرا، وقد قالوا: بامتناع الحيوان إنسان، وأجيب عن الأول: بأن * (لا) * لا عمل لها في الخبر على رأي سيبويه وأنه حين دخولها مرفوع بما كان مرفوعا به قبل فلم يلزم عملها في المعرفة وهو كما ترى، وعن الثاني: بأنا لا نسلم أن في التركيب قد أخبر بالخاص عن العام إذ العموم منفي والكلام مسوق العموم، والتخصيص بواحد من أفراد ما دل عليه العام وفيه ما فيه. وأما الأقوال الثلاثة التي لا يعول عليها فأولها: أن (إلا) ليست أداة استثناء وإنما هي بمعنى غير وهي مع اسمه تعالى شأنه صفة لا إسم لا باعتبار المحل، والتقدير لا إله غير الله تعالى في الوجود، وثانيها: - وقد نسب للزمخشري - أن لا إله في موضع الخبر و * (إلا) * وما بعدها في موضع المبتدأ، والأصل هو، أو الله إله فلما أريد قصر الصفة على الموصوف قدم الخبر وقرن المبتدأ بإلا إذ المقصور عليه هو الذي يلي * (إلا) * والمقصور هو الواقع في سياق النفي، والمبتدأ إذا اقترن بإلا وجب تقديم الخبر عليه كماقرر في موضعه، وثالثها: أن ما بعد * (إلا) * مرفوع بإله كما هو حال المبتدأ إذا كان وصفا لأن إلها بمعنى مألوه فيكون قائما مقام الفاعل وسادا مسد الخبر كما في ما مضروب العمران، ويرد على الأول: أن فيه خللا من جهة المعنى لأن المقصود من الكلمة أمران نفي الإلهية عن غيره تعالى وإثباتها له سبحانه وهذا إنما يتم إذا كان * (إلا) * فيها للاستثناء إذ يستفاد النفي والإثبات حينئذ بالمنطوق، وأما إذا كانت بمعنى غير فلا يفيد الكلام بمنطوقه إلا نفي الإلهية عن غيره تعالى، وأما إثباتها له عن اسمه فلا يستفاد من التركيب واستفادته من المفهوم لا تكاد تقبل لأنه إن كان مفهوم لقب فلا عبرة به ولو عند القائلين بالمفهوم إذ لم يقل به إلا الدقاق وبعض الحنابلة، وإن كان مفهوم صفة فمن البين أنه غير مجموع عليه، ويرد على الثاني: أنه مع ما فيه من التمحل يلزم منه أن يكون الخبر مبنيا مع * (لا) * وهي لا يبنى معها إلا المبتدأ، وأيضا لو كان الأمر كما ذكر لم يكن لنصب الاسم الواقع بعد * (إلا) * في مثل هذا التركيب وجه، وقد جوزه فيه جماعة، وعلى الثالث: أنا لا نسلم أن إلها وصف وإلا لوجب إعرابه وتنوينه ولا قائل به. هذا ولي إن شاء الله تعالى عودة بعد عودة إلى ما في هذه الكلمة الطيبة من الكلام.
وفي قوله تعالى: * (الحي) * سبعة أوجه من وجوه الإعراب: الأول: أن يكون خبرا ثانيا للفظ الجلالة، الثاني: أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف أي هو الحي، الثالث: أن يكون بدلا من قوله سبحانه: * (لا إله إلا هو) *، الرابع: أن يكون
6

بدلا من * (هو) * وحده، الخامس: أن يكون مبتدأ خبره * (لا تأخذه) *، السادس: أنه بدل من (الله)، السابع أنه صفة له ويعضده القراءة بالنصب على المدح لاختصاصه بالنعت، وفي أصله قولان: الأول: أن أصله حيي بيائين من حي يحيى، والثاني: أنه حيو فقلبت الواو المتطرفة المنكسر ما قبلها ياءا، ولذلك كتبوا الحياة بواو في رسم المصحف تنبيها على هذا الأصل، ويؤيده الحيوان لظهور هذا الأصل فيه، ووزنه قيل: فعل وقيل: فيعل فخفف كميت في ميت، والحياة عند الطبيعي القوة التابعة للاعتدال النوعي التي تفيض عنها سائر القوى الحيوانية أو قوة التغذية أو قوة الحس أو قوة تقتضي الحس والحركة، والكل مما يمتنع اتصاف الله تعالى به لأنه من صفات الجسمانيات فهي فيه سبحانه صفة موجودة حقيقية قائمة بذاته لا يكتنه كنهها ولا تعلم حقيقتها كسائر صفاته جل شأنه زائدة على مجموع العلم والقدرة وليست نفس الذات حقيقة ولا ثابتة لا موجودة ولا معدومة - كما قيل بكل - فالحي ذات قامت به تلك الصفة، وفسره بعض المتكلمين (بأنه الذي يصح أن يعلم ويقدر، واعترضه الإمام بأن هذا القدر حاصل لجميع الحيوانات فكيف يحسن أن يمدح الله تعالى نفسه بصفة يشاركه بها أخس الحيوانات؟ ثم قال والذي عندي في هذا الباب أن الحي في أصل اللغة ليس عبارة عن نفس هذه الصحة بل كل شيء كان كاملا في جنسه يسمى حيا ألا يرى أن عمارة الأرض الخربة تسمى إحياء الموات، والصفة المسماة في عرف المتكلمين حياة إنما سميت بها لأنها كمال الجسم أن يكون موصوفا بتلك الصفة فلا جرم سميت تلك الصفة حياة، وكمال حال الأشجار أن تكون مورقة خضرة فلا جرم سميت هذه الحال حياة فالمفهوم الأصلي من الحي كونه واقعا على أكمل أحواله وصفاته وإذا كان كذلك زال الإشكال لأن المفهوم من الحي هو الكامل ولما لم يكن ذلك مقيدا دل على أنه كامل على الإطلاق، والكامل كذلك من لا يكون قابلا للعدم لا في ذاته ولا في صفاته الحقيقية ولا في صفاته السلبية والإضافية) انتهى، ولا يخفى أنه صرح ممرد من قوارير. أما أولا: فلأن قوله: إن الحي - بمعنى الذي يصح أن يعلم ويقدر مما يشترك به سائر الحيوانات فلا يحسن أن يمدح الله
تعالى به نفسه - في غاية السقوط لأنه إن أراد الاشتراك في إطلاق اللفظ فليس الحي وحده كذلك بل السميع والبصير أيضا مثله في الإطلاق على أخس الحيوانات، وقد مدح الله تعالى بهما نفسه ولم يستشكل ذلك أهل السنة، وإن أراد الاشتراك في الحقيقة فمعاذ الله تعالى من ذلك إذ الاشتراك فيها مستحيل بين التراب ورب الأرباب، وبين الأزلي والزائل، ومتى قلت إن الاشتراك في إطلاق اللفظ يوجب ذلك الاشتراك حقيقة، ولا مناص عنه إلا بالحمل على المجاز لزمك مثل ذلك في سائر الصفات ولا قائل به من أهل السنة، وأما ثانيا: فلأن كون الحياة في اللغة بمعنى الكمال مما لم يثبت في شيء من كتب اللغة أصلا وإنما الثابت فيها غير ذلك ووصف الجمادات بها إنما هو على سبيل المجاز دون الحقيقة كما وهم فإن قال: إنها مجاز في الله تعالى أيضا بذلك المعنى عاد الإشكال بحصول الاشتراك في الكمال مع الجمادات فضلا عن الحيوان، فإن قال: كمال كل شيء بالنسبة إلى ما يليق به قلنا: فحياة كل حي حقيقة بالنسبة إلى ما يليق به، وليس كمثل الله تعالى شيء، وكأني بك تفهم من كلامي الميل إلى مذهب السلف في مثل هذه المواطن فليكن ذلك فهم القوم كل القوم. ويا حبذا هند وأرض بها هند
والزمخشري فسر الحي بالباقي الذي لا سبيل عليه للموت والفناء وجعلوا ذلك منه تفسيرا بما هو المتعارف من كلام العرب وأرى أن في القلب منه شيء، ولعلي من وراء المنع لذلك، نعم روي عن قتادة أنه الذي لا يموت وهو ليس بنص في المدعي * (القيوم) * صيغة مبالغة للقيام وأصله قيووم على فيعول فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياءا
7

وأدغمت؛ ولا يجوز أن يكون فعولا وإلا لكان قووما لأنه واوي، ويجوز فيه قيام وقيم وبهما قرىء، وروي أولهما عن عمر رضي الله تعالى عنه، وقرىء (القائم) و (القيوم) بالنصب ومعناه كما قال الضحاك وابن جبير: الدائم الوجود، وقيل: القائم بذاته، وقيل: القائم بتدبير خلقه من إنشائهم ابتداءا، وإيصال أرزاقهم إليهم - وهو المروي عن قتادة - وقيل: هو العالم بالأمور من قولهم فلان يقوم بالكتاب أي يعلم ما فيه، وقال بعضهم: هو الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه، وذكر الراغب أنه يقال: قام كذا أي دام وقام بكذا أي حفظه، والقيوم القائم الحافظ لكل شيء والمعطي له ما به قوامه، والظاهر منه أن القيام بمعنى الدوام ثم يصير بالتعدية بمعنى الإدامة وهو الحفظ فأورد عليه أن المبالغة ليست من أسباب التعدية فإذا عرى القيوم عن أداتها كان بمعنى اللازم فلا يصح تفسيره بالحافظ ثم إن المبالغة في الحفظ كيف تفيد إعطاء ما به القوام، ولعله من حيث إن الاستقلال بالحفظ إنما يتحقق بذلك كما لا يخفى، وأورد على تفسيره بنحو القائم بذاته أن يكون معنى قيوم السموات والأرض الوارد في الأدعية المأثورة واجب السموات والأرض وهو كما ترى، فالظاهر أنه فيه بمعنى آخر مما يليق إذ لا يصح ذلك إلا بنوع تمحل، وذهب جمع إلى أن القيوم هو اسم الله تعالى الأعظم، وفسره هؤلاء بأنه القائم بذاته والمقوم لغيره، وفسروا القيام بالذات بوجوب الوجود المستلزم لجميع الكمالات والتنزه عن سائر وجوه النقص وجعلوا التقويم للغير متضمنا جميع الصفات الفعلية فصح لهم القول بذلك وأغرب الأقوال أنه لفظ سرياني ومعناه بالسريانية الذي لا ينام، ولا يخفى بعده لأنه يتكرر حينئذ في قوله تعالى:
* (لا تأخذه سنة ولا نوم) * السنة - بكسر أوله - فتور يتقدم النوم وليس بنوم لقول عدي بن الرقاع: وسنان أقصده العناس فرنقت * في عينه (سنة) وليس بنائم
والنوم بديهي التصور يعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس رأسا، وزعم السيوطي في بعض " رسائله " أن سببه شم هواء يهب من تحت العرش، ولعله أراد تصاعد الأبخرة من المعدة تحت القلب الذي هو عرش الروح وإلا فلا أعقله، وتقديم السنة عليه وقياس المبالغة يقتضي التأخير مراعاة للترتيب الوجودي فلتقدمها على النوم في الخارج قدمت عليه في اللفظ، وقيل: إنه على طريق التتميم وهو أبلغ لما فيه من التأكيد إذ نفي - السنة - يقتضي نفي النوم ضمنا فإذا نفي ثانيا كان أبلغ، ورد بأنه إنما هو على أسلوب الإحاطة والإحصاء وهو متعين فيه مراعاة الترتيب الوجودي والابتداء من الأخف فالأخف كما في قوله تعالى: * (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة) * (الكهف: 49) ولهذا توسطت كلمة * (لا) * تنصيصا على الإحاطة وشمول النفي لكل منهما، وقيل: إن تأخير النوم رعاية للفواصل ولا يخفى أنه من ضيق العطن، وقال بعض المحققين: هذا كله إنما يحتاج إليه إذا أخذ الأخذ بمعنى العروض والاعتراء، وأما لو أخذ بمعنى القهر والغلبة - كما ذكره الراغب وغيره من أئمة اللغة - ومنه قوله تعالى: * (أخذ عزيز مقتدر) * (القمر: 42) فالترتيب على مقتضى الظاهر إذ يكون المعنى لا تغلبه السنة ولا النوم الذي هو أكثر غلبة منها والجملة نفي للتشبيه وتنزيه له تعالى أن يكون له مثل من الأحياء لأنها لا تخلو من ذلك فكيف تشابهه، وفيها تأكيد لكونه تعالى حيا قيوما لأن النوم آفة تنافي دوام الحياة وبقاءها وصفاته تعالى قديمة لا زوال لها ولأن من يعتريه النوم والغلبة لا يكون واجب الوجود دائمه ولا عالما مستمر العلم ولا حافظا قوي الحفظ، وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس
8

رضي الله تعالى عنهما " أن بني إسرائيل قالوا: يا موسى هل ينام ربك؟ قال: اتقوا الله تعالى فناداه ربه يا موسى سألوك هل ينام ربك فخذ زجاجتين في يديك فقم الليل ففعل موسى فلما ذهب من الليل ثلث نعس فوقع لركبتيه ثم انتعش فضبطهما حتى إذا كان آخر الليل نعس فسقط الزجاجتان فانكسرتا فقال: يا موسى لو كنت أنام لسقطت السموات والأرض فهلكن كما هلكت الزجاجتان في يديك " ولما فيها من التأكيد كالذي بعدها ترك العاطف فيها وهي إما استئنافية لا محل لها من الإعراب وإما حال مؤكدة من الضمير المستكن في القيوم، وجوز أن تكون خبرا عن الحي أو عن الاسم الجليل.
* (له ما في السم‍اوات وما في الأرض) * تقريرا لقيوميته تعالى واحتجاج على تفرده في الألهية، والمراد بما فيهما ما هو أعم من أجزائهما الداخلة فيهما ومن الأمور الخارجة عنهما المتمكنة فيهما من العقلاء وغيرهم فيعلم من الآية نفي كون الشمس والقمر وسائر النجوم والملائكة. والأصنام والطواغيت آلهة مستحقة للعبادة * (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) * استفهام إنكاري ولذا دخلت * (إلا) * والمقصود منه بيان كبرياء شأنه تعالى وأنه لا أحد يساويه أو يدانيه بحيث يستقل أن يدفع ما يريده دفعا على وجه الشفاعة والاستكانة والخضوع فضلا عن أن يستقل بدفعه عنادا أو مناصبة وعداوة وفي ذلك تأييس للكفار حيث زعموا أن آلهتهم شفعاء لهم عند الله تعالى *
(يعلم ما بين أيديهم) * أي أمر الدنيا * (وما خلفهم) * أي أمر الآخرة قاله مجاهد وابن جريج وغيرهما، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة عكس ذلك، وقيل: يعلم ما كان قبلهم وما كان بعدهم، وقيل: ما بين أيديهم من خير أو شر وما خلفهم مما فعلوه كذلك، وقيل: ما يدركونه وما لا يدركونه أو ما يحسونه ويعقلونه والكل محتمل، ووجه الإطلاق فيه ظاهر، وضمير الجمع يعود على ما في * (ما في السموات) * الخ إلا أنه غلب من يعقل على غيره، وقيل: للعقلاء في ضمنه فلا تغليب، وجوز أن يعود على ما دل عليه * (من ذا) * من الملائكة والأنبياء، وقيل: الأنبياء خاصة، والعلم بما بين أيديهم وما خلفهم كناية عن إحاطة علمه سبحانه، والجملة إما استئناف أو خبر عما قبل أو حال من ضمير (يشفع) أو من المجرور في (بإذنه).
* (ولا يحيطون بشيء من علمه) * أي معلومه كقولهم: اللهم اغفر لنا علمك فينا، والإحاطة بالشيء علما علمه كما هو على الحقيقة، والمعنى لا يعلم أحد من هؤلاء كنه شيء ما من معلوماته تعالى * (إلا بما شاء) * أن يعلم، وجوز أن يراد (من علمه) معلومه الخاص وهو كل ما في الغيب * (فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول) * (الجن: 26، 27) وعطفت هذه الجملة على ما قبلها لمغايرتها له لأن ذلك يشعر بأنه سبحانه يعلم كل شيء وهذه تفيد أنه لا يعلمه غيره ومجموعهما دال على تفرده تعالى بالعلم الذاتي الذي هو من أصول صفات الكمال التي يجب أن يتصف الإله تعالى شأنه بها بالفعل * (وسع كرسيه السم‍اوات والأرض) * الكرسي جسم بين يدي العرش محيط بالسموات السبع، وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لو أن السموات السبع والأرضين السبع بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعته - أي الكرسي - إلا بمنزلة الحلقة في المفازة وهو غير العرش كما يدل عليه ما أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكرسي فقال: " يا أبا ذر ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وأن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة " وفي رواية الدارقطني والخطيب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
9

قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: * (وسع كرسيه) * الخ " قال: كرسيه موضع قدميه والعرش لا يقدر قدره " وقيل: هو العرش نفسه، ونسب ذلك إلى الحسن، وقيل: قدرة الله تعالى، وقيل: تدبيره، وقيل: ملك من ملائكته، وقيل: مجاز عن العلم من تسمية الشيء بمكانه لأن الكرسي مكان العالم الذي فيه العلم فيكون مكانا للعلم بتبعيته لأن العرض يتبع المحل في التحيز حتى ذهبوا إلى أنه معنى قيام العرض بالمحل، وحكي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: عن الملك أخذا من كرسي الملك، وقيل: أصل الكرسي ما يجلس عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد والكلام مساق على سبيل التمثيل لعظمته تعالى شأنه وسعة سلطانه وإحاطة علمه بالأشياء قاطبة، ففي الكلام استعارة تمثيلية وليس ثمة كرسي ولا قاعد ولا قعود وهذا الذي اختاره الجم الغفير من الخلف فرارا من توهم التجسيم، وحملوا الأحاديث التي ظاهرها حمل الكرسي على الجسم المحيط على مثل ذلك لا سيما الأحاديث التي فيها ذكر القدم كما قدمنا، وكالحديث الذي أخرجه البيهقي وغيره عن أبي موسى الأشعري الكرسي: موضع القدمين وله أطيط كأطيط الرحل؛ وفي رواية عن عمر مرفوعا " له أطيط كأطيط الرحل الجديد إذا ركب عليه من يثقله ما يفضل منه أربع أصابع " وأنت تعلم أن ذلك وأمثاله ليس بالداعي القوي لنفي الكرسي بالكلية فالحق أنه ثابت كما نطقت به الأخبار الصحيحة وتوهم التجسيم لا يعبأ به وإلا للزم نفي الكثير من الصفات وهو بمعزل عن اتباع الشارع والتسليم له.
وأكثر السلف الصالح جعلوا ذلك من المتشابه الذي لا يحيطون به علما وفوضوا علمه إلى الله تعالى مع القول بغاية التنزيه والتقديس له تعالى شأنه، والقائلون بالمظاهر من ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم لم يشكل عليهم شيء من أمثال ذلك، وقد ذكر بعض العارفين منهم أن الكرسي عبارة عن تجلي جملة الصفات الفعلية فهو مظهر إلهي ومحل نفوذ الأمر والنهي والإيجاد والإعدام المعبر عنهما بالقدمين، وقد وسع السموات والأرض وسع وجود عيني ووسع حكمي لأن وجودهما المقيد من آثار الصفات الفعلية التي هو مظهر لها وليست القدمان في الأحاديث عبارة عن قدمي الرجلين ومحل النعلين تعالى الله سبحانه عن ذلك علوا كبيرا، ولا " الأطيط " عبارة عما تسمعه وتفهمه في الشاهد بل هو إن لم تفوض علمه إلى العليم الخبير إشارة إلى بروز الأشياء المتضادة أو اجتماعها في ذلك المظهر الذي هو منشأ التفصيل والإبهام ومحل الإيجاد والإعدام ومركز الضر والنفع والتفريق والجمع، ومعنى ما يفضل منه إلا أربع أصابع إن كان الضمير راجعا إلى الرحل ظاهر وإن كان راجعا إلى الكرسي فهو إشارة إلى وجود حضرات هي مظاهر لبعض الأسماء لم تبرز إلى عالم الحس ولا يمكن أن يراها إلا من ولد مرتين، وليس المراد من الأصابع الأربع ما تعرفه من نفسك، وللعارفين في هذا المقام كلام غير هذا، ولعلنا نشير إلى بعض منه إن شاء الله تعالى؛ ثم المشهور أن الياء في الكرسي لغير النسب، واشتقاقه من الكرسي - وهو الجمع - ومنه الكراسة للصحائف الجامعة للعلم، وقيل: كأنه منسوب إلى - الكرس - بالكسر وهو الملبد وجمعه كراسي - كبختي وبخاتي - وفيه لغتان ضم كافة - وهي المشهورة - وكسرها للاتباع والجمهور على فتح الواو والعين، وكسر السين في * (وسع) * على أنه فعل والكرسي فاعله، وقرىء بسكون السين مع كسر الواو - كعلم - في علم، وبفتح الواو وسكون السين ورفع العين مع جر - كرسيه - ورفع السموات فهو حينئذ مبتدأ مضاف إلى ما بعده و (السموات والأرض) خبره * (ولا يؤده) * أي لا يثقله - كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - وهو مأخوذ من الأود بمعنى الاعوجاج لأن الثقيل يميل له ما تحته، وماضيه آد؛ والضمير لله تعالى. وقيل: الكرسي.
* (حفظهما) *
10

أي السموات والأرض وإنما لم يتعرض لذكر ما فيهما لما أن حفظهما مستتبع لحفظه، وخصهما بالذكر دون الكرسي لأن حفظهما هو المشاهد المحسوس، والقول بالاستخدام ليدخل هو والعرش وغيرهما مما لا يعلمه إلا الله تعالى بعيد * (وهو العلي) * أي المتعالي عن الأشباه والأنداد والأمثال. والأضداد وعن أمارات النقص ودلالات الحدوث، وقيل: هو من العلو الذي هو بمعنى القدرة والسلطان والملك وعلو الشأن والقهر والاعتلاء والجلال والكبرياء * (العظيم) * ذو العظمة وكل شيء
بالإضافة إليه حقير ولما جليت على منصة هذه الآية الكريمة عرائس المسائل الإلهية وأشرقت على صفحاتها أنوار الصفات العلية حيث جمعت أصول الصفات من الألوهية والوحدانية والحياة والعلم والملك والقدرة والإرادة، واشتملت على سبعة عشر موضعا فيها اسم الله تعالى ظاهرا في بعضها ومستترا في البعض ونطقت بأنه سبحانه موجود منفرد في ألوهيته حي واجب الوجود لذاته موجد لغيره منزه عن التحيز والحلول مبرأ عن التغير والفتور لا مناسبة بينه وبين الأشباح ولا يحل بساحة جلاله ما يعرض النفوس والأرواح مالك الملك والملكوت ومبدع الأصول والفروع ذو البطش الشديد العالم وحده بجلي الأشياء وخفيها وكليها وجزئيها واسع الملك والقدرة لكل ما من شأنه أن يملك ويقدر عليه لا يشق عليه شاق ولا يثقل شيء لديه متعال عن كل ما لا يليق بجنابه عظيم لا يستطيع طير الفكر أن يحوم في بيداء صفات قامت به تفردت بقلائد فضل خلت عنها أجياد أخواتها الجياد وجواهر خواص تتهادى بها بين أترابها ولا كما تتهادى لبنى وسعاد.
أخرج مسلم وأحمد وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن أعظم آية في القرآن آية الكرسي " وأخرج البيهقي من حديث أنس مرفوعا " من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة حفظ إلى الصلاة الأخرى ولا يحافظ عليها إلا نبي أو صديق أو شهيد " وأخرج الديلمي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: " لو تعلمون ما فيها لما تركتموها على حال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرش لم يؤتها نبي قبلي " والأخبار في فضلها كثيرة شهيرة إلا أن بعضها مما لا أصل له كخبر من " قرأها بعث الله تعالى ملكا يكتب من حسناته ويمحو من سيئآته إلى الغد من تلك الساعة "، وبعضها منكر جدا كخبر " إن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام أن اقرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة فإنه من يقرؤها في دبر كل صلاة مكتوبة أجعل له قلب الشاكرين ولسان الذاكرين وثواب المنيبين وأعمال الصديقين ". ولا يخفى أن أكثر الأحاديث في هذا الباب حجة لمن قال: إن بعض القرآن قد يفضل على غيره وفيه خلاف فمنعه بعضهم كالأشعري والباقلاني وغيرهما لاقتضائه نقص المفضول وكلام الله تعالى لا نقص فيه، وأولوا أعظم بعظيم وأفضل بفاضل، وأجازه إسحق بن راهويه وكثير من العلماء والمتكلمين - وهو المختار - ويرجع إلى عظم أجر قارئه ولله تعالى أن يخص ما شاء بما شاء لما شاء، ومناسبة هذه الآية الكريمة لما قبلها أنه سبحانه لما ذكر أن الكافرين هم الظالمون ناسب أن ينبههم جل شأنه على العقيدة الصحيحة التي هي محض التوحيد الذي درج عليه المرسلون على اختلاف درجاتهم وتفاوت مراتبهم بما أينعت من ذلك رياضه وتدفقت حياضه وصدح عندليبه وصدع على منابر البيان خطيبه فلله الحمد على ما أوضح الحجة وأزال الغبار عن وجه المحجة. هذا ومن باب الإشارة في الآيات: * (تلك آيات الله) * أي أسراره وأنواره ورموزه وإشاراته * (نتلوها) * بلسان الوحي * (عليك) * ملابسة للحق الثابت الذي لا يعتريه تغيير * (وإنك لمن المرسلين) * (البقرة: 252) الذين عبروا هذه المقامات
11

وصح لهم صفاء الأوقات * (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) * بمقتضى استعلاء أنوار استعداداتهم * (منهم من كلم الله) * عند تجليه على طور قلبه وفي وادي سره * (ورفع بعضهم درجات) * بفنائه عن ظلمة الوجود بالكلية وبقائه في حضرة الأنوار الإلهية وبلوغه مقام قاب قوسين وظفره بكنز فأوحى إلى عبده ما أوحى من أسرارهم النشأتين حتى عاد وهو نور الأنوار والمظهر الأعظم عند ذوي الأبصار * (وآتينا عيسى ابن مريم البينات) * والآيات الباهرات من إحياء أموات القلوب والأخبار عما يدخر في خزائن الأسرار من الغيوب * (وأيدناه بروح القدس) * الذي هو روح الأرواح المنزه عن النقائص الكونية والمقدس عن الصفات الطبيعية * (ولو شاء الله ما اقتتل الذين) * جاءوا * (من بعدهم) * بسيوف الهوى ونبال الضلال * (من بعد ما جاءتهم) * من أنوار الفطرة وإرشاد الرسل الآيات الواضحات * (ولكن اختلفوا) * حسبما اقتضاه استعدادهم الأزلي * (فمنهم من آمن) * بما جاء به الوحي * (ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا) * عن اختلاف بأن يتحد استعدادهم * (ولكن الله يفعل ما يريد) * (البقرة: 253) ولا يريد إلا ما في العلم وما كان فيه سوى هذا الاختلاف * (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم) * ببذل الأرواح وإرشاد العباد * (من قبل أن يأتي يوم) * القيامة الكبرى * (لا بيع فيه) * ولا تبدل صفة بصفة فلا يحصل تكميل النشأة * (ولا خلة) * لظهور الحقائق * (ولا شفاعة) * للتجلي الجلالي، * (والكافرون هم) * (البقرة: 254) الذين ظلموا أنفسهم بنقص حظوظها وما ظلمناهم إذ لم نقض عليهم سوى ما اقتضاه استعدادهم الغير المجعول * (الله لا إله) * في الوجود العلمي * (إلا هو الحي) * الذي حياته عين ذاته وكل ما هو حي لم يحي إلا بحياته * (القيوم) * الذي يقوم بنفسه ويقوم كل ما يقوم به، وقيل: الحي الذي ألبس حياته أسرار الموحدين فوحدوا به، والقيوم الذي ربي بتجلي الصفات وكشف الذات أرواح العارفين ففنوا في ذاته واحترقوا بنور كبريائه. * (لا تأخذه سنة ولا نوم) * بيان لقيوميته وإشارة إلى أن حياته عين ذاته له ما في سموات الأرواح وأرض الأشباح فلا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن ولا يخطر خاطر في بر أو بحر وسر أو جهر إلا بقدرته وإرادته وعلمه ومشيئته * (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) * إذ كلهم له ومنه وإليه وبه * (يعلم ما بين أيديهم) * من الخطرات * (وما خلفهم) * من العثرات، أو ما بين أيديهم من المقامات وما خلفهم من الحالات، أو يعلم منهم ما قبل إيجادهم من كمية استعدادهم وما بعد إنشائهم من العمل بمقتضى ذلك * (ولا يحيطون بشيء من) * معلوماته التي هي مظاهر أسمائه * (إلا بما شاء) * كما يحصل لأهل القلوب من معاينات أسرار الغيوب وإذا تقاصرت الفهوم عن الإحاطة بشيء من معلوماته فأي طمع لها في الإحاطة بذاته هيهات هيهات أني لخفاش الفهم أن يفتح عينه في شمس هاتيك الذات؟! * (وسع كرسيه) * الذي هي قلب العارف * (السموات والأرض) * لأنه معدن العلوم الإلهية والعلم اللدني الذي لا نهاية له ولا حد، ومن هنا قال أبو يزيد البسطامي: لو وقع العالم ومقدار ما فيه ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس به، وقيل: كرسيه عالم الملكوت وهو مطاف أرواح العارفين لجلال الجبروت * (ولا يؤده) * ولا يثقله * (حفظهما) * في ذلك الكرسي لأنهما غير موجودين بدونه * (وهو العلي) * الشأن الذي لا تقيده الأكوان * (العظيم) * الذي لا منتهى لعظمته ولا يتصور كنه ذاته لإطلاقه حتى عن قيد الإطلاق.
* (لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر با الطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة االوثقى لا اانفصام لها والله سميع عليم) *.
* (لا إكراه في الدين) * قيل: إن هذه إلى قوله سبحانه: * (خالدون) * (257) من بقية آية الكرسي، والحق أنها ليست منها بل هي جملة مستأنفة جيء بها إثر بيان دلائل التوحيد للإيذان بأنه لا يتصور الإكراه في الدين لأنه في الحقيقة إلزام الغير فعلا لا يرى فيه خيرا يحمله عليه والدين خير كله، والجملة على هذا خبر باعتبار
12

الحقيقة ونفس الأمر وأما ما يظهر بخلافه فليس إكراها حقيقيا، وجوز أن تكون إخبارا في معنى النهي أي لا تكرهوا في الدين وتجبروا عليه وهو حينئذ إما عام منسوخ بقوله تعالى: * (جاهد الكفار والمنافقين) * (التوبة: 73) وهو المحكي عن ابن مسعود وابن زيد وسليمان بن موسى، أو مخصوص بأهل الكتاب الذين قبلوا الجزية - وهو المحكي عن الحسن وقتادة والضحاك - وفي سبب النزول ما يؤيده فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما " أن رجلا من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين كان له ابنان نصرانيان وكان هو رجلا مسلما فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله تعالى فيه ذلك ". وأل في (الدين) للعهد، وقيل: بدل من الإضافة أي دين الله وهو ملة الإسلام، وفاعل الإكراه على كل تقدير غيره تعالى، ومن الناس من قال: إن المراد ليس في الدين إكراه من الله تعالى وقسر بل مبني الأمر على التمكين والاختيار ولولا ذلك لما حصل الابتلاء ولبطل الامتحان فالآية نظير قوله تعالى: * (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) * (الكهف: 29) وإلى ذلك ذهب القفال.
* (قد تبين الرشد من الغي) * تعليل صدر بكلمة التحقيق لزيادة تقرير مضمونه أي قد تميز بما ذكر من نعوته تعالى التي يمتنع توهم اشتراك الغير في شيء منها الإيمان من الكفر والصواب من الخطأ و - الرشد - بضم الراء وسكون الشين على المشهور مصدر - رشد - بفتح الشين يرشد بضمها، ويقرأ بفتح الراء والشين، وفعله رشد يرشد مثل علم يعلم وهو نقيض - الغي - وأصله سلوك طريق الهلاك، وقال الراغب، هو كالجهل إلا أن الجهل يقال اعتبارا بالاعتقاد، والغي اعتبارا بالأفعال، ولهذا قيل: زوال الجهل بالعلم، وزوال الغي بالرشد، ويقال لمن أصاب: رشد، ولمن أخطأ غوى، ويقال لمن خاب: غوى أيضا، ومنه قوله: ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره * ومن يغو لم يعدم على الغي (لائما)
* (فمن يكفر بالطاغوت) * أي الشيطان وهو المروي عن عمر بن الخطاب والحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما وبه قال مجاهد وقتادة وعن سعيد بن جبير وعكرمة أنه الكاهن، وعن أبي العالية أنه الساحر، وعن مالك بن أنس كل ما عبد من دون الله تعالى، وعن بعضهم الأصنام، والأولى أن يقال بعمومه سائر ما يطغى، ويجعل الاقتصار على بعض في تلك الأقوال من باب التمثيل وهو بناء مبالغة كالجبروت والملكوت، واختلف فيه فقيل: هو مصدر في الأصل ولذلك يوحد ويذكر كسائر المصادر الواقعة على الأعيان - وإلى ذلك ذهب الفارسي - وقيل: هو اسم جنس مفرد فلذلك لزم الإفراد والتذكير - وإليه ذهب سيبويه - وقيل: هو جمع - وهو مذهب المبرد - وقد يؤنث ضميره كما في قوله تعالى: * (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها) * (الزمر: 17) وهو تأنيث اعتباري واشتقاقه من طغى يطغى أو طغى يطغو ومصدر الأول: الطغيان. والثاني: الطغوان، وأصله على الأول: طغيوت، وعلى الثاني: طغووت فقدمت اللام وأخرت العين فتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفا فوزنه من قبل فعلوت والآن فلعوت، وقدم ذكر الكفر بالطاغوت على ذكر الإيمان بالله تعالى اهتماما بوجوب التخلية أو مراعاة للترتيب الواقعي أو للاتصال بلفظ الغي.
* (ويؤمن بالله) * أي يصدق به طبق ما جاءت به رسله عليهم الصلاة والسلام * (فقد استمسك) * أي بالغ في التمسك حتى كأنه وهو متلبس به يطلب من نفسه الزيادة فيه والثبات عليه * (بالعروة الوثقى) * وهي الإيمان - قاله مجاهد - أو القرآن - قاله أنس بن مالك - أو كلمة
13

الإخلاص - قاله ابن عباس - أو الاعتقاد الحق أو السبب الموصل إلى رضا الله تعالى أو العهد، وعلى كل تقدير يجوز أن يكون في العروة استعارة تصريحية واستمسك ترشيح لها أو استعارة أخرى تبعية، ويجوز أن يجعل الكلام تمثيلا مبنيا على تشبيه الهيئة العقلية المنتزعة من ملازمة الحق الذي لا يحتمل النقيض بوجه أصلا لثبوته بالبراهين النيرة القطعية بالهيئة الحسية المنتزعة من التمسك بالحبل المحكم المأمون انقطاعه من غير تعرض للمفردات، واختار ذلك بعض المحققين ولا يخلو عن حسن، وجعل العروة مستعارة للنظر الصحيح المؤدي للاعتقاد الحق - كما قيل - ليس بالحسن لأن ذلك غير مذكور في حيز الشرط أصلا * (لا انفصام لها) * أي لا انقطاع لها؛ والانفصام والانقصام لغتان وبالفاء أفصح - كما قال الفراء - وفرق بعضهم بينهما بأن الأول: انكسار بغير بينونة، والثاني: انكسار بها وحينئذ يكون انتفاء الثاني معلوما من نفي الأول بالأولوية، والجملة إما مستأنفة لتقرير ما قبلها من وثاقة العروة وإما حال من العروة، والعامل (استمسك) أو من الضمير المستكن في (الوثقى) لأنها للتفضيل تأنيث الأوثق، و * (لها) * في موضع الخبر * (والله سميع) * بالأقوال * (عليم) * بالعزائم والعقائد، والجملة تذييل حامل على الإيمان رادع عن الكفر والنفاق لما فيها من الوعد والوعيد، قيل: وفيها أيضا إشارة إلى أنه لا بد في الإيمان من الاعتقاد والإقرار.
* (الله ولي الذين ءامنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أوليآؤهم الطغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب ا النار هم فيها خالدون) *.
* (الله ولي الذين ءامنوا) * أي معينهم أو محبهم أو متولي أمورهم والمراد بهم من أراد الإيمان أو ثبت في علمه تعالى إيمانه أو آمن بالفعل * (يخرجهم) * بهدايته وتوفيقه وهو تفسير للولاية أو خبر ثان عند من يجوز كونه جملة أو حال من الضمير في * (ولي) *. * (من الظلم‍ات) * التابعة للكفر أو ظلمات المعاصي أو الشبه كيف كانت. * (إلى النور) * أي نور الإيمان أو نور الطاعات أو نور الإيقان بمراتبه، وعن الحسن أنه فسر الإخراج هنا بالمنع فالمعنى يمنعهم عن أن يدخلوا في شيء من الظلمات واقتصر الواقدي في تفسير الظلمات، والنور - على ذكر الكفر والإيمان وحمل كل ما في القرآن على ذلك سوى ما في الأنعام (1) من قوله تعالى: * (وجعل الظلمات والنور) * فإن المراد بهما هناك الليل والنهار، والأولى أن يحمل الظلمات على المعنى الذي يعم سائر أنواعها ويحمل النور أيضا على ما يعم سائر أنواعه، ويجعل في مقابلة كل ظلمة مخرج منها نور مخرج إليه حتى إنه سبحانه ليخرج من شاء من ظلمة الدليل إلى نور العيان، ومن ظلمة الوحشة إلى نور الوصلة
، ومن ظلمة عالم الأشباح إلى نور عالم الأرواح إلى غير ذلك " مما لا، ولا " وأفرد النور لوحدة الحق كما أن جمع الظلمات لتعدد فنون الضلال، أو أن الأول: إيماء إلى القلة والثاني: إلى الكثرة.
* (والذين كفروا) * أي أرادوا الكفر أو ثبت كفرهم في علمه سبحانه أو كفروا بالفعل * (أولياؤهم) * حقيقة أو فيما عندهم * (الط‍اغوت) * أي الشياطين أو الأصنام أو سائر المضلين عن طرق الحق، والموصول مبتدأ أول، و (أولياؤهم) مبتدأ ثان، و (الطاغوت) خبره، والجملة خبر الأول والجملة الحاصلة معطوفة على ما قبلها، قيل: ولعل تغيير السبك للاحتراز عن وضع الطاغوت في مقابلة الاسم الجليل ولقصد المبالغة بتكرير الإسناد مع الإيماء إلى التباين بين الفريقين من كل وجه حتى من جهة التعبير أيضا، وقرىء (الطواغيت) على الجمع وصح جمعه على القول بأنه مصدر لأنه صار اسما لما يعبد من دون الله تعالى: * (يخرجونهم) * بالوساوس وإلقاء الشبه أو بكونهم بحالة جرت اعتقادهم فيهم النفع والضر وأنهم يقربونهم إلى الله تعالى زلفى، والتعبير
14

عنهم بضمير العقلاء إما لأنهم منهم حقيقة أو ادعاء ونسبة الإخراج إليهم مجاز من باب النسبة إلى السبب فلا يأبى تعلق قدرته وإرادته تعالى بذلك * (من النور) * أي الفطري الذي جبل عليه الناس كافة، أو نور البينات المتتابعة التي يشاهدونها بتنزيل تمكنهم من الاستضاءة بها منزلة نفسها فلا يرد أنهم متى كانوا في نور ليخرجوا منه، وقيل: التعبير بذلك للمقابلة، وقيل: إن الإخراج قد يكون بمعنى المنع وهو لا يقتضي سابقية الدخول، وعن مجاهد أن الآية نزلت في قوم ارتدوا فلا شك في أنهم حينئذ أخرجوا من النور الذي كانوا فيه وهو نور الإيمان * (إلى الظلم‍ات) * وهي ظلمات الكفر والانهماك في الغي وعدم الارعواء والاهتداء بما يترى من الآيات ويتلى، والجملة تفسير لولاية الطاغوت فالانفصال لكمال الاتصال، ويجوز أن تكون خبرا ثانيا كما مر.
* (أول‍ائك) * إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما يتبع ذلك من القبائح، وجوز أن تكون إشارة إلى الكفار وأوليائهم، وفيه بعد * (أصح‍ابالنار) * أي ملابسوها وملازموها لعظم ما هم عليه * (هم فيها خ‍الدون) * ماكثون أبدا، وفي هذا وعد وتحذير للكافرين، ولعل عدم مقابلته بوعد المؤمنين كما قيل: للإشعار بتعظيمهم وأن أمرهم غير محتاج إلى البيان وأن شأنهم أعلى من مقابلة هؤلاء، أو أن ما أعد لهم لا تفي ببيانه العبارة، وقيل: إن قوله سبحانه: (ولي المؤمنين) دل على الوعد وكفى به.
* (ألم تر إلى الذى حآج إبراهيم فى ربه أن آت‍اه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذى يحى ويميت قال أنا أحى وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتى بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذى كفر والله لا يهدى القوم الظ‍المين) *.
* (ألم تر إلى الذي حآج إبراهيم في ربه) * بيان لتسديد المؤمنين إذ كان وليهم وخذلان غيرهم ولذا لم يعطف، واهتم ببيانه لأن منكري ولايته تعالى للمؤمنين كثيرون، وقيل: استشهاد على ما ذكر من أن الكفرة أولياؤهم الطاغوت وتقرير لهم كما أن ما بعده استشهاد على ولايته تعالى للمؤمنين وتقرير لها، وبدأ به لرعاية الاقتران بينه وبين مدلوله ولاستقلاله بأمر عجيب حقيق بأن يصدر به المقال وهو اجتراؤه على المحاجة في الله عز وجل، وما أتى به في أثنائها من العظمة المنادية بكمال حماقته، ولأن فيما بعد تعدادا وتفصيلا يورث تقديمه انتشار النظم على أنه قد أشير في تضاعيفه إلى هدايته تعالى أيضا بواسطة إبراهيم عليه الصلاة والسلام فإن ما يحكى عنه من الدعوة إلى الحق وادحاض حجة الكافرين من آثار ولايته تعالى ولا يخفى ما فيه، وهمزة الاستفهام لإنكار النفي وتقرير المنفي، والجمهور على أن في الكلام معنى التعجب أي - ألم تنظر، أو ألم ينته علمك - إلى قصة هذا الكافر الذي لست بولي له كيف تصدى لمحاجة من تكفلت بنصرته وأخبرت بأني ولي له ولمن كان من شيعته أي قد تحققت رؤية هذه القصة العجيبة وتقررت بناءا على أن الأمر من الظهور بحيث لا يكاد يخفى على أحد ممن له حظ من الخطاب فلتكن في الغاية القصوى من تحقق ما ذكرته لك من ولايتي للمؤمنين وعدمها للكافرين ولتطب نفسك أيها الحبيب وأبشر بالنصر فقد نصرت الخليل، وأين مقام الخليل من الحبيب، وخذلت رأس الطاغين فكيف بالأذناب الأرذلين، والمراد بالموصول نمروذ بن كنعان بن سنجاريب - وهو أول من تجبر وادعى الربوبية، كما قاله مجاهد وغيره - وإنما أطلق على ما وقع لفظ المحاجة وإن كانت مجادلة بالباطل لإيرادها موردها، واختلف في وقتها فقيل: عند كسر الأصنام وقبل إلقائه في النار - وهو المروي عن مقاتل - وقيل: بعد إلقائه في النار وجعلها عليه بردا وسلاما - وهو المروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه - وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام تشريف له وإيذان
15

من أول الأمر بتأييد وليه له في المحاجة فإن التربية نوع من الولاية.
* (أن ءات‍اه الله الملك) * أي لأن آتاه الله تعالى ذلك فالكلام على حذف اللام وهو مطرد في - أن، وإن - وليس هناك مفعولا لأجله منصوب لعدم اتحاد الفاعل، والتعليل فيه على وجهين: إما أن إيتاء الملك حمله على ذلك لأنه أورثه الكبر والبطر فنشأت المحاجة عنهما، وإما أنه من باب العكس في الكلام بمعنى أنه وضع المحاجة موضع الشكر إذ كان من حقه أن يشكر على ذلك فعلى الأول: العلة تحقيقية، وعلى الثاني: تهكمية - كما تقول: عاداني فلان لأني أحسنت إليه - وجوز أن يكون * (آتاه) * الخ واقعا موقع الظرف بدون تقدير أو بتقدير مضاف أي حاج وقت أن آتاه الله وأورد عليه أن المحاجة لم تقع وقت إيتاء الملك بل الإيتاء سابق عليها، وبأن النحاة نصوا على أنه لا يقوم مقام الظرف الزماني إلا المصدر الصريح بلفظه - كجئت خفوق النجم، وصياح الديك - ولا يجوز إن خفق وإن صاح. وأجيب باعتبار الوقت ممتدا، وبأن النص معارض بأنهم نصوا على أن (ما) المصدرية تنوب عن الزمان وليست بمصدر صريح، والذي جوز ذلك ابن جني والصفار في " شرح الكتاب "، والحق أن التعليل لما أمكن - وهو متفق عليه - خال عما يقال لا ينبغي أن يعدل عنه لا سيما وتقدير المضاف مع القول بالامتداد والتزام - قول ابن جني والصفار مع مخالفته لكلام الجمهور - في غاية من التعسف، والآية حجة على من منع إيتاء الله الملك لكافر وحملها على إيتاء الله تعالى ما غلب به وتسلط من المال
والخدام والاتباع، أو على أن الله تعالى ملكه امتحانا لعباده كما فعل المانع القائل بوجوب رعاية الأصلح - ليس بشيء إذ من له مسكة من الإنصاف يعلم أنه لا معنى لإيتاء الملك والتسليط إلا إيتاء الأسباب ولو سلم ففي إيتاء الأسباب يتوجه السؤال ولو سلم فما من قبيح إلا ويمكن أن يعتبر فيه غرض صحيح كالامتحان، ولقوة هذا الاعتراض التزم بعضهم جعل ضمير * (آتاه) * لإبراهيم عليه السلام لأنه تعالى قال: * (لا ينال عهدي الظالمين) * (البقرة: 124) وقال سبحانه: * (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما) * (النساء: 54) وهو المحكي عن أبي قاسم البلخي - ولا يخفى أنه خلاف المنساق إلى الذهن - وخلاف التفسير المأثور عن السلف الصالح، والواقع مع هذا يكذبه إذ ليس لإبراهيم عليه السلام إذ ذاك ملك ولا تصرف ولا نفوذ أمر.
وذهب بعض الإمامية إلى أن الملك الذي لا يؤتيه الله للكافر هو ما كان بتمليك الأمر والنهي، وإيجاب الطاعة على الخلق، وأما ما كان بالغلبة وسعة المال ونفوذ الكلمة قهرا كملك نمروذ فهو مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان أو تكون فيه كلمتان، والقول بأن هذا المارد أعطى الملك بالاعتبار الأول خارج عن الإنصاف بل الذي أوتي ذلك في الحقيقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا أنه قد عورض في ملكه وغولب على ما من الله تعالى به عليه إلى أن قضى الله تعالى ما قضى ومضى من مضى وللباطل جولة ثم يزول، وهو كلام أقرب ما يكون إلى الصواب لكني أشم منه ريح الضلال، ويلوح لي أنه تعريض بالأصحاب - والله تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور - وفي العدول عن الإضمار إلى الإظهار في هذا المقام ما لا يخفى.
* (إذ قال إبراهم) * ظرف لحاج، وجوز أن يكون بدلا من (آتاه) بناءا على القول الذي علمت، واعترضه أبو حيان بأن الظرفين مختلفان إذ وقت إيتائه الملك ليس وقت إبراهيم عليه السلام * (ربي الذي يحي ويميت) * فإنه على ما روي قاله بعد أن سجن لكسره الأصنام وإثر قول نمروذ له - وقد كان أوتي قبل الملك: من ربك الذي تدتو إليه؟ وأجاب السفاقسي بالتجوز في * (آتاه) * وعدم إرادة ابتداء الإتيان منه بل زمان الملك وهو ممتد يسع قولين بل أقوالا، واعترض أبو البقاء أيضا بأن المصدر غير الظرف فلو كان
16

بدلا لكان غلطا إلا أن يجعل (إذ) بمعنى أن المصدرية، وقد جاء ذلك، وقال الحلبي: - وهذا بناءا - منه على أن إن مفعول من أجله وليست واقعة موقع الظرف أما إذا كانت واقعة موقعه فلا يكون بدل - غلط بل بدل كل من كل، وفيه ما تقدم من الكلام، وقيل: يجوز أن يكون بدلا من * (آتاه) * بدل اشتمال، واستشكل بعضهم على جميع ذلك موقع قوله تعالى: * (قال أنا أحي وأميت) * إلا أن يجعل استئنافا جواب سؤال، وجعله بمنزلة المرئي يأبى ذلك، ومن هنا قيل: إن الظرف متعلق بقوله سبحانه: * (قال أنا) * الخ، ويقدر السؤال قبل إذ قال كأنه قيل: كيف حاج إبراهيم؟ فأجيب بما أجيب، ولا يخفى أن الإباء هو الإباء، فالأولى القول من أول الأمر بأن هذا القول بيان لقوله سبحانه: * (حاج) *، و * (ربي) * بفتح الياء، وقرىء بحذفها، وأراد عليه السلام - بيحيي ويميت - يخلق الحياة والموت في الأجساد، وأراد اللعين غير ذلك فقد روي عنه أنه أتي برجلين فقتل أحدهما وترك الآخر وقال ما قال، ولما كان هذا بمعزل عن المقصود وكان بطلانه من الجلاء والظهور بحيث لا يخفى على أحد والتعرض لإبطال مثل ذلك من قبيل السعي في تحصيل الحاصل أعرض الخليل عليه الصلاة والسلام عن إبطاله وأتى بدليل آخر أظهر من الشمس.
* (قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) * وفيه دليل على جواز انتقال المجادل من حجة إلى أخرى أوضح منها، وهي مسألة متنازع فيها، وحمل ذلك على هذا أحد طريقين مشهورين في الآية، وثانيهما أن الإنتقال إنما هو في المثال كأنه قال: ربي الذي يوجد الممكنات ويعدمها وأتى بالإحياء والإماتة مثالا فلما اعترض جاء بمثال أجلى دفعا للمشاغبة، قال الإمام: والإشكال عليهما من وجوه: الأول: أن صاحب الشبهة إذا ذكر الشبهة ووقعت تلك الشبهة في الأسماع وجب على المحق القادر على ذكر الجواب، وذكر الجواب في الحال إزالة للتلبيس والجهل عن العقول، فلما طعن المارد في الدليل أو في المثال الأول بتلك الشبهة كان الاشتغال بإزالتها واجبا مضيقا فكيف يليق المعصوم تركه والانتقال إلى شيء آخر؟ والثاني: أنه لما أورد المبطل ذلك السؤال كان ترك المحق الكلام عليه والتنبيه على ضعفه مما يوجب سقوط وقع الرسول وحقارة شأنه وأنه غير جائز. والثالث: انه وإن كان الانتقال من دليل إلى آخر أو من مثال إلى غيره لكنه يجب أن يكون المتنقل إليه أوضح وأقرب وههنا ليس كذلك لأن جنس الحياة لا قدرة للخلق عليه، وأما جنس تحريك الأجسام فللخلق قدرة عليه فلا يبعد وجود ملك عظيم الجثة يكون محركا للسموات فعلى هذا الاستدلال بالإماتة والإحياء أظهر وأقوى من الاستدلال بطلوع الشمس فكيف يليق بالنبي المعصوم أن ينتقل من الدليل الأوضح إلى الدليل الخفي؟ والرابع: أن المارد لما لم يستح من معارضة الإحياء والإماتة الصادرين من الله تعالى بالقتل والتخلية فكيف يؤمن منه عند الانتقال إلى طلوع الشمس أن يقول بل طلوع الشمس من المشرق مني فإن كان لك إله فقال له حتى يطلعها من المغرب وعند ذلك التزم المحققون أنه لو أورد هذا السؤال لكان الواجب أن يطلعها من المغرب، ومن المعلوم أن الاشتغال بإظهار فساد سؤاله في الإحياء والإماتة أسهل بكثير من التزام في الاطلاع، وأيضا فبتقدير أن يحصل طلوع الشمس من المغرب يكون الدليل على وجود الصانع هو هذا الطلوع لا الطلوع الأول، وحينئذ يصير ذلك ضائعا كما صار الأول كذلك، وأيضا فما الذي حمل الخليل عليه السلام على ترك الجواب عن السؤال الركيك وتمسك بدليل لا يمكن تمشيته إلا بالتزام اطلاع الشمس من المغرب وبتقدير ذلك يضيع الدليل الثاني كما ضاع
17

الأول، ومن المعلوم أن التزام هذه المحذورات لا تليق بأقل الناس علما فضلا عن أفضل العلماء وأعلم الفضلاء. فالحق أن هذا ليس دليلا آخر ولا مثال بل هو من تتمة الدليل الأول، وذلك أنه لما احتج إبراهيم عليه السلام بالإماتة والاحياء أورد الخصم عليه سؤالا وهو أنك إن ادعيت الإحياء والاماتة بلا واسطة فذلك لا تجد إلى إثباته سبيلا وإن ادعيت حصولهما بواسطة حركات الأفلاك فنظيره أو ما يقرب منه حاصل للبشر فأجاب الخليل عليه السلام بأن الإحياء والإماتة وإن حصلا بواسطة حركات الأفلاك لكن تلك الحركات حصلت من الله تعالى وذلك لا يقدح في كون الاحياء والاماتة منه بخلاف الخلق فإنهم لا قدرة لهم على تحريك الأفلاك فلا جرم لا يكون الإحياء
والإماتة صادرين منهم، ومتى حملت الآية على هذا الوجه لم يلزم شيء من المحذورات عليه انتهى.
ولا يخفي ما فيه. أما أولا: فلأن الشبهة إذا كانت في غاية السقوط ونهاية البطلان بحيث لا يكاد يخفى حالها ولا يغر أحدا من الناس الها لم يمتنع الإعراض عنها إلى ما هو بعيد عن التمويه دفعا للشغب وتحصيلا لما هو المقصود من غير كثير تعب، ولا يوجب ذلك سقوط وقع ولا حقارة شأن وأي تلبيس يحصل من هذه الشبهة للعقول حتى يكون الاشتغال بإزالتها واجبا مضيقا فيخل تركه بالمعصوم على أنه روي أنه ما انتقل حتى بين للمارد فساد قوله حيث قال له: إنك أحييت الحي ولم تحي الميت، وعن الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال له: أحي من قتلته إن كنت صادقا لكن لم يقص الله تعالى ذلك الإلزام علينا في الكتاب اكتفاءا بظهور الفساد جدا، وأما ثانيا: فلأنه من الواضح أن المنتقل إليه أوضح في المقصود من المنتقل عنه ويكاد القول بعكسه يكون مكابرة، وما ذكره في معرض الاستدلال لا يخفى ما فيه، وأما ثالثا: فلأن ما ذكره رابعا يرد أيضا على الوجه الذي اختاره إذ لا يؤمن المارد من أن يقول لو كانت حركات الأفلاك من ربك فقل له حتى يطلعها من المغرب - فما هو الجواب هنا هو الجواب - وقد أجابوا عن عدم قول اللعين ذلك بأن المحاجة كانت بعد خلاصه من النار فعلم أن من قدر على ذلك قدر على الاتيان بالشمس من مغربها فسكت، أو بأن الله تعالى أنساه ذلك نصرة لنبيه عليه السلام - وهو ضعيف - بل الجواب أنه عليه السلام استدل بأنه لا بد للحركة المخصوصة والمتحرك بها من محرك لأن حاجة المتحرك في الحركة إلى المحرك بديهية، وبديهي أنه ليس بنمروذ فقال: هو ذا ربي فإن ادعيت أنك الذي تفعل فأت بها من المغرب وهذا لا يتوجه عليه السؤال بوجه إذ لو ادعى أن الحركة بنفسها - مع أنها مسبوقة بالغير ولو بآحاد الحركات - كان منع البديهي ولو ادعى أنه الفاعل مع ظهور استحالته ألزم بالتغيير عن تلك الحالة فلا بد من الاعتراف بفاعل يأتي بها من المشرق، والمدعي أن ذلك الفاعل هو الرب، وأما رابعا: فلأن ما اختاره لا تدل عليه الآية الكريمة بوجه، وليس في كلام الكافر سوى دعواه الإحياء والإماتة ولم يستشعر منها بحث توسط حركات الأفلاك ولم يوقف له على أثر ليجاب بأن تلك الحركات أيضا من الله تعالى فلا يقدح توسطها في كون الاحياء والاماتة منه تعالى شأنه - ولا أظنك في مرية من هذا - ولعل الأظهر ما ذهب إليه الإمام ما ذكره بعض المحققين من أن المارد لما كان مجوزا لتعدد الآلهة لم يكن مدعيا أنه إله العالم ولو ادعاه لجنن على نحو من مذهب الصائبة أن الله تعالى فوض إلى الكواكب التدبير والأفعال من الإيجاد وغيره منسوبة إليهن، فجوز أن يكون في الأرض أيضا من يفوض إليه إما قولا بالحلول أو لاكتساء خواص فلكية أو غير ذلك أراد إبراهيم عليه السلام أن ينبه على قصوره عن هذه الرتبة وفساد رأيه من جهة علمه الضروري بأنه مولود أحدث بعد أن لم يكن
18

وأن من لا وجود له في نفسه لا يمكنه الإيجاد الذي هو إفاضة الوجود ألبتة ضرورة احتياجه إلى الموجد ابتداءا ودواما وهذا كاف في إبطال دعوى اللعين فلم يعمم الدعوى في تفرده تعالى بالإلهية على أنه لوح إليه من حيث إنه لا فرق بين الإيجاد والإعدام نوعين هما الإحياء والإماتة والقادر على إيجاد كل ممكن وإعدامه يلزمه أن يكون خارجا عن الممكنات واحدا من كل الوجوه لأن التعدد يوجب الإمكان والافتقار كما برهن عليه في محله، فعارضه اللعين بما أوهم أنه يجوز أن يكون الممكن لاستغنائه عن الفاعل في البقاء - كما عند بعض القاصرين من المتكلمين - مفوضا إليه بعد إيجاده ما يستقل بإيجاد الغير وتدبير الغير، وهذا قد خفي على الأذكياء فضلا عن الأغبياء، وقال: - أنا أحيي وأميت وأبدي - فعليه مشيرا إلى أن للدوام حكم الابتداء في طرف الإحياء وهو في ذلك مناقض نفسه من حيث لا يشعر إذ لو كان كذلك لم يكن التدبير مفوضا إلى غير الباري ولم يكن مستغنيا عن الموجد طرفة عين وإلا فليس العفو إحياءا إن سلم أن القتل إماتة فألزمه الخليل عليه السلام بأن القادر لا يفترق بالنسبة إليه الدوام والابتداء - فإن الله تعالى يأتي بالشمس من المشرق فأت بها أنت من المغرب - منبها على المناقضة المذكورة مصرحا بأنه غالط في إسناد الفعل دواما إلى غير ما أسند إليه ابتداءا مظهرا لدى السامعين ما كان عسى أن يغبي على البعض فهذا كلام وارد على الخطابة، والبرهان يتلقاه المواجه به طوعا أو كرها بالإذعان ليس فيه مجال للاعتراض سليم عن العراض، وعليه يكون المجموع دليلا واحدا وليس من الانتفال إلى دليل آخر لما فيه من القيل والقال، ولا من العدول إلى مثال أوضح حتى يقال كأنه قيل: ربي الذي يوجد الممكنات وأتى بالإحياء والإماتة مثالا، فلما اعترض جاء بآخر أجلى دفعا للمشاغبة لأنه مع أن فيه ما في الأول يرد عليه أن الكلام لم يسق هذا المساق - كما لا يخفى - هذا والله تعالى أعلم بحقائق كتابه المجيد فتدبر. وإنما أتى في الجملة الثانية بالاسم الكريم ولم يؤت بعنوان الربوبية كما أتى بها في الجملة الأولى بأن يقال: إن ربي ليكون في مقابلة أنا في ذلك القول مع ما فيه من الدلالة على ربوبيته تعالى له عليه السلام ولذلك المارد عليه اللعنة ففيه ترق عما في تلك الجملة كالترقي من الأرض إلى السماء وهو في هذا المقام حسن حسن التأكيد بأن والأمر للتعجيز والفاء الأولى للإيذان بتعلق ما بعدها بما قبلها، والمعنى إذا ادعيت الإحياء والإماتة لله تعالى وأخطأت أنت في الفهم أو غالطت فمريح البال ومزيح الالتباس والأشكال (إن الله يأتي بالشمس) الخ. والباء للتعدية و (من) في الموضعين لابتداء الغاية متعلقة بما تقدمها من الفعل، وقيل: متعلقة بمحذوف وقع حالا أي مسخرة أو منقادة
* (فبهت الذي كفر) * أي غلب وصار مبهوتا منقطعا عن الكلام متحيرا لاستيلاء الحجة عليه، وقرىء (بهت) بفتح الباء وضم الهاء - وبهت - بفتح الأولى وكسر الثانية وهما لغتان والفعل فيهما لازم - وبهت - بفتحهما فيجوز أن يكون لازما أيضا، و (الذي) فاعله وأن يكون متعديا وفاعله ضمير إبراهيم، و (الذي) مفعوله - أي فغلب إبراهيم عليه السلام الكافر وأسكته - وإيراد الكفر في حيز الصلة للإشعار بعلة الحكم، قال إلكيا: وفي الآية دليل على جواز المحاجة في الدين وإن كانت محاجة هذا الكافر كفرا * (والله لايهدي القوم الظ‍المين) * أي إلى مناهج الحق كما هدى أولياءه، وقيل: لا يهديهم إلى طريق الجنة يوم القيامة.
* (أو ك الذى مر على قرية وهى خاوية على عروشها قال أنى يحى ه‍اذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك ءاية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير) *.
* (أو كالذي مر على قرية) * عطف على سابقه والكاف إما اسمية بمعنى مثل معمولة - لأرأيت - محذوفا أي - أو أرأيت مثل الذي مر - وإلى ذلك ذهب الكسائي والفراء وأبو علي وأكثر
19

النحويين وحذف لدلالة - ألم تر - عليه على أنه قد قيل: إن مثال هذا النظم كثيرا ما يحذف منه فعل الرؤية كقوله: قال لها كلابها أسرعي * كاليوم (مطلوبا ولا طابا)
وجيء بهذه الكاف للتنبيه على تعدد الشواهد وعدم انحصارها فيما ذكر كما كما في قولك - الفعل الماضي - مثل: نصر، وتخصيص هذا بذلك على ما قيل: لأن منكر الإحياء كثير، والجاهل بكيفيته أكثر من أن يحصى بخلاف مدعي الربوبية، وقيل: إنها زائدة - وإلى ذلك ذهب الأخفش - أي: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم أو الذي مر الخ، وقيل: إنه عطف محمول على المعنى كأنه قيل: ألم تر كالذي حاج أو كالذي مر وقيل: إنه من كلام إبراهيم عليه السلام ذكره جوابا لمعارضة ذلك الكافر، وتقديره وإن كنت تحيي فأحي كإحياء الذي مر، ولا يخفى ضعفه للفصل وكثرة التقدير، وإنما لم تجعل الكاف أصلية والعطف على * (الذي) * نفسه في الآية السابقة لاستلزامه دخول (إلى) على الكاف، وفيه إشكال لأنها إن كانت حرفية فظاهر وإن كانت اسمية فلأنها مشبهة بالحرف في عدم التصرف لا يدخل عليها من الحروف إلا ما ثبت في كلامهم، وهو - عن - وذلك على قلة أيضا، وقال بعضهم: إن كلا من لفظ (ألم تر) و (أرأيت) مستعمل لقصد التعجب إلا أن الأول: تعلق بالتعجب منه فيقال: ألم تر إلى الذي صنع كذا بمعنى أنظر إليه فتعجب من حاله، والثاني: بمثل المتعجب منه فيقال - أرأيت مثل الذي صنع كذا بمعنى أنه من الغرابة بحيث لا يرى له مثل ولا يصح ألم تر إلى مثله إذ يكون المعنى أنظر إلى المثل وتعجب من الذي صنع، ولذا لم يستقم عطف (الذي مر) على (الذي حاج) (البقرة: 258) ويحتاج إلى التأويل في المعطوف بجعله متعلقا بمحذوف - أي أرأيت كالذي مر - فيكون من عطف الجملة أو في المعطوف عليه نظرا إلى أنه في معنى - أرأيت كالذي حاج - فيصح العطف عليه؛ ومن هذا يعلم أن عدم الاستقامة ليس لمجرد امتناع دخول (إلى) على الكاف بل لو قلت: ألم ترى إلى الذي حاج أو مثل الذي مر فعدم الاستقامة بحاله عند من له معرفة بأساليب الكلام، وإن هذا ليس من زيادة الكاف في شيء بل لا بد في التعجب بكلمة (أرأيت) من إثبات كاف، أو ما في معناه - ولا يخفى أن هذا من الغرابة بمكان - فإن (ألم تر) يستعمل للتعجب مع التشبيه في كلام العرب كما يشير إليه كلام سيبويه، و (أرأيت) كثيرا ما يستعمل بدون الكاف أو ما في معناه، وهو في القرآن كثير وكيف يفرق بينهما بأن الأول تعلق بالمتعجب منه، وفي الثاني بمثله، والمثلية إنما جاءت من ذكر الكاف ولو ذكرت في الأول لكان مثله بلا فرق فهذا مصادرة على المطلوب فليس إلا ما ذكر أولا سوى أن تقدير (أرأيت) مع الكاف أولى لأن استعماله معها أكثر فتدبر.
و (أو) للتخيير أو للتفصيل - والمار - هو عزيز بن شرخيا - كما أخرجه الحاكم عن علي كرم الله تعالى وجهه وإسحق بن بشر عن ابن عباس وعبد الله بن سلام، وإليه ذهب قتادة وعكرمة والربيع والضحاك والسدي وخلق كثير - وقيل: هو أرميا بن خلقيا من سبط هارون عليه السلام - وهو المروي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه - وإليه ذهب وهب، وقيل: هو الخضر عليه السلام - وحكي ذلك عن ابن إسحق - وزعم بعضهم أن هذين القولين واحد، وأن أرميا هو الخضر بعينه، وقيل: شعيا، وقيل: غلام لوط عليه السلام، وقال مجاهد: كان المار رجلا كافرا بالبعث وأيد بنظمه مع نمروذ في سلك واحد حيث سيق الكلام للتعجيب من حالهما، وبأن كلمة الاستبعاد في هذا المقام تشعر بالإنكار ظاهرا وليست هي فيه مثلها في * (أنى يكون لي غلام) * (آل عمران: 40) و * (أنى يكون لي ولد) * (آل عمران: 47) وعورض بما بين قصته إبراهيم الآتية بعد من التناسب المعنوي فإن كليهما طلبا
20

معاينة الإحياء مع أن ما جرى له في القصة مما يبعد أن يجري مع كافر - وإذا انضم إلى ذلك تحريه الظاهر في الاحتراز عن الكذب في القول الصادر قبل التبيين الموجب لإيمانه على زعم من يدعي كفره - قوى المعارض جدا، وإن قلنا: بأن دلالة الانتظام في سلك نمروذ على الإيمان أحق لينطبق على التفصيل المقدم في * (الله ولى الذين آمنوا) * (البقرة: 257) الخ حسب ما أشرنا إليه في القيل قبل لم يكد يتوهم القول بالكفر كما لا يخفى، - والقرية - قال ابن زيد: هي التي خرج منها الألوف، وقال الكلبي: دير سابراباد، وقال السدي: دير سلما باذ، وقيل: دير هرقل، وقيل: المؤتفكة، وقيل: قرية العنب على فرسخين من بيت المقدس، وقال عكرمة والربيع ووهب: هي بيت المقدس وكان قد خربها بخنتصر وهذا هو الأشهر، واشتقاقها من القرى وهو الجمع
* (وهي خاوية على عروشها) * أي ساقطة على سقوفها بأن سقط السقف أولا ثم تهدمت الجدران عليه، وقيل: المعنى خالية عن أهلها ثابتة على عروشها أي إن بيوتها قائمة والجار والمجرور على الأول متعلق - بخاوية - وعلى الثاني بمحذوف وقع خبرا بعد خبر - لهي - والجملة قيل: في موضع الحال من الضمير المستتر في (مر) وقيل: من (قرية) ويجيء الحال من النكرة على القلة، وقيل: في موضع الصفة لها ويبعده توسط الواو، ومن الناس من جوز كون * (على عروشها) * بدلا من * (قرية) * بإعادة الجار وكونه صفة لها، وجملة * (وهي خاوية) * إما حال من - العروش - أو من - القرية - أو من - ها - والعامل معنى الإضافة والكل مما لا ينبغي حمل التنزيل عليه * (قال) * في نفسه أو بلسانه * (أنى يحي ه‍اذه الله بعد موتها) * المشار إليه إما نفس القرية بدون تقدير كما هو الظاهر، فالإحياء والإماتة مجازان عن العمارة والخراب، أو بتقدير مضاف - أي أصحاب هذه القرية - فالإحياء والإماتة على حقيقتها، وإما عظام القرية البالية وجثثهم المتفرقة، والسياق دال على ذلك، والإحياء والإماتة على حالهما أيضا، فعلى القول بالمجاز يكون هذا القول على سبيل التلهف والتشوق إلى عمارة تلك القرية لكن مع استشعار اليأس عنها على أبلغ وجه وأوكده ولذا أراه الله تعالى أبعد الأمرين في نفسه ثم في غيره، ثم أراه ما استبعده صريحا مبالغة في إزاحة ما عسى يختلف في خلده، وعلى القول الثاني يكون اعترافا بالعجز عن معرفة طريق الإحياء واستعظاما لقدرة المحيي إذا قلنا: إن القائل كان مؤمنا وإنكارا للقدرة على ذلك إن كان كافرا، ورجح أول الاحتمالات الثلاثة في المشار إليه بأن إرادة إحياء - لأهل، أو عظامهم - يأباه التعرض لحال القرية دون حال من ذكر، والاقتصار على ذكر موتهم دون كونهم ترابا أو عظاما نخرة مع كونه أدخل في الاستبعاد لشدة مباينته للحياة وغاية بعده عن قبولها على أنه لم تتعلق إرادته تعالى بإحيائهم كما تعلقت إرادته تعالى بعمارتها ومعاينة المار
لها كما ستسمعه، وتقديم المفعول على الفاعل للاعتناء به من حيث إن الاستبعاد ناشىء من جهته لا من جهة الفاعل، و * (أنى) * نصب على الظرفية إن كانت بمعنى متى، وعلى الحالية من هذه إن كانت بمعنى كيف، والعامل فيه على أي حال * (يحيى) *.
* (فأماته الله مائة عام) * أي فألبثه ميتا مائة عام ولا بد من اعتبار هذا التضمين لأن الإماتة بمعنى إخراج الروح وسلب الحياة مما لا تمتد، - والعام - السنة من العوم وهو السباحة، وسميت بذلك لأن الشمس تعوم في جميع بروجها * (ثم بعثه) * أي أحياه من بعثت الناقة إذا أقمتها من مكانها، ولعل إيثاره على أحياه للدلالة على سرعته وسهولة
21

تأتيه على الباري عز اسمه، وللإيذان بأنه قام كهيئته يوم مات عاقلا فاهما مستعدا للنظر والاستدلال وكان ذلك بعد عمارة القرية، ففي " البحر " أنه لما مر له سبعون سنة من موته وقد منعه الله تعالى من السباع والطير ومنع العيون أن تراه أرسل ملكا إلى ملك عظيم من ملوك فارس يقال له: كوسك فقال: إن الله تعالى يأمرك أن تنفر بقومك فتعمر بيت المقدس وإيليا وأرضها حتى تعود أحسن مما كانت فانتدب الملك في ثلاثة آلاف قهرمان مع كل قهرمان ألف عامل وجعلوا يعمرونها وأهلك الله تعالى بختنصر ببعوضة دخلت دماغه ونجى الله تعالى من بقي من بني إسرائيل وردهم إلى بيت المقدس فعمروها ثلاثين سنة وكثروا حتى كانوا كأحسن ما كانوا عليه فعند ذلك أحياه الله تعالى * (قال) * استئناف مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا قال له؟ فقيل قال: * (كم لبثت) * ليظهر له العجز عن الإحاطة بشؤون الله تعالى على أتم وجه وتنحسم مادة استبعاده بالمرة و * (كم) * نصب على الظرفية ومميزها محذوف تقديره: كم وقتا والناصب له * (لبثت) * والظاهر أن القائل هو الله تعالى، وقيل: هاتف من السماء، وقيل: جبريل، وقيل: نبي، وقيل: رجل مؤمن شاهده يوم مات وعمر إلى حين إحيائه فيكون الإسناد إليه تعالى مجازا * (قال لبثت يوما أو بعض يوم) * قاله بناءا على التقريب والتخمين أو استقصارا لمدة لبثه، وقيل: إنه مات ضحى وبعث بعد المائة قبل الغروب فقال قبل النظر إلى الشمس: * (يوما) * ثم التفت فرأى بقية منها فقال: * (أو بعض يوم) * على الاضراب، واعترض بأنه لا وجه للجزم بتمام اليوم ولو بناءا على حسبان الغروب لتحقق النقصان من أوله * (قال بل لبثت مائة عام) * عطف على مقدر أي ما لبثت ذلك القدر بل هذا المقدار * (فانظر إلى طعامك وشرابك) * قيل: كان طعامه عنبا أو تينا وشرابه عصيرا أو لبنا * (لم يتسنه) * أي لم يتغير في هذه المدة المتطاولة، واشتقاقه من - السنة - وفي لامها اختلاف فقيل: هاء بدليل سانهت فلانا فهو مجزوم بسكون الهاء، وقيل: واو بدليل الجمع على سنوات فهو مجزوم بحذف الآخر والهاء هاء سكت ثبتت في الوقف وفي الوصل لإجرائه مجراه، ويجوز أن يكون التسنه عبارة عن مضي السنين كما هو الأصل ويكون عدم التسنه كناية عن بقائه على حاله غضا طريا غير متكرج، وقيل: أصله لم يتسنن ومنه - الحمأ المسنون - أي الطين المتغير ومتى اجتمع ثلاث حروف متجانسة يقلب أحدها حرف علة كما قالوا في تظننت: تظنيت وفي تقضضت: تقضيت، وقد أبدلت هنا النون الأخيرة في رأي ياء، ثم أبدلت الياء ألفا، ثم حذفت للجازم والجملة المنفية حال، وقد جاء مثلها بغير واو خلافا لمن تردد فيه كقوله تعالى: * (لم يمسسهم سوء) * (آل عمران: 174) و * (أوحي إلي ولم يوح إليه شيء) * (الأنعام: 93) وصاحبها إما الطعام والشراب، وإفراد الضمير لإجرائهما مجرى الواحد كالغذاء وإما الأخير واكتفى بدلالة حاله على حال الأول ويؤيده قراءة عبد الله، وهذا شربك - لم يتسنه - وقرأ أبي - لم يسنه - بإدغام التاء في السين واستشكل تفرع * (فانظر) * على - لبث المائة - بالفاء وهو يقتضي التغير، وأجيب بأن المفرع عليه ليس - لبث المائة - بل لبث المائة من غير تغير في جسمه حتى ظنه زمانا قليلا ففرع عليه ما هو أظهر منه وهو عدم تغير الطعام والشراب وبقاء الحيوان حيا من غير غذاء، وقيل: إن التقدير - إن حصل لك عدم طمأنينة في أمر البعث - فانظر إلى طعامك وشرابك السريع التغير حتى تعرف أن من لم يغيره يقدر على البعث. وفيه نظر لأنه مع كونه خلاف الظاهر يعكر عليه قوله تعالى: * (وانظر إلى حمارك) * كيف نخرت عظامه وتفرقت أوصاله وهذا
22

هو الظاهر لأنه أدل على الحال وأوفق بما بعده، وكون المراد - أنظر إليه سالما في مكانه كما ربطته حفظناه بلا ماء وعلف كما حفظنا الطعام والشراب - ليس بشيء ولا يساعده المأثور * (ولنجعلك) * متعلق بمقدر أي وفعلنا ذلك لنجعلك، ومنهم من قدره متأخرا، وقيل: إنه متعلق بما قبله والواو زائدة وعلى تقديره فهو معطوف على * (لبثت) * أو على مقدر بطريق الاستئناف أي فعلنا ذلك لتعاين ما استبعدت أو لتهدي ولنجعلك، وقيل: إنه عطف على * (قال) * ففيه التفات. * (ءاية) * أي عبرة أو مرشدا * (للناس) * أي جنسهم أو من بقي من قومه أو للموجودين في هذا القرن بأن يشاهدوك وأنت من أهل القرون الخالية ويأخذوا عنك ما انطوى عنهم منذ أحقاب من علم التوراة، وفيه دليل على ما ذكر من اللبث المديد ولذلك قرن بينه وبين الأمر بالنظر إلى حماره
* (وانظر إلى العظام) * أي عظام الحمار - كما قاله السدي - وكرر الأمر لما أن المأمور به أولا هو النظر إليها من حيث الدلالة على المكث المديد، وثانيا: هو النظر إليها من حيث تعتريها الحياة ومباديها، وقيل: عظام أموات أهل القرية، وعن قتادة. والضحاك. والربيع عظام نفسه قالوا: أول ما أحيا الله تعالى منه عيناه وسائر جسده ميت وعظامه نخرة فأمر بالنظر إليها، وقيل: عظامه وعظام حماره والكل لا يعول عليه. * (كيف ننشزها) * بالزاي المعجمة من الإنشاز وهو الرفع أي كيف نرفعها من الأرض فنردها إلى أماكنها من الجسد، وقال الكسائي: نلينها ونعظمها، وقرأ أبي (ننشيها)، وابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب - ننشرها - من أنشر الله تعالى الموتى أحياها ولعل المراد بالإحياء ما تقدم لا معناه الحقيقي لقوله تعالى: * (ثم نكسوها لحما) * أي نسترها به كما نستر الجسد باللباس، وقرأ أبان عن عاصم - ننشرها - بفتح النون وضم الشين والراء وهو حينئذ من النشر ضد الطي - كما قال الفراء - فالمعنى كيف نبسطها، والجملة قيل: إما حال من العظام أي وانظر إليها مركبة مكسوة لحما أو بدل اشتمال أي وانظر إلى العظام كيفية إنشازها وبسط اللحم عليها، واعترضت الحالية بأن الجملة استفهامية وهي لا تقع حالا، وأجيب بأن الاستفهام ليس حقيقته فما المانع من الحالية، ولعل عدم التعرض لكيفية نفخ الروح - كما قيل - لما أنها مما لا تقتضي الحكمة بيانها، وفي بعض الآثار إن ملكا نادى العظام فأجابت وأقبلت من كل ناحية ثم ألبسها العروق والعصب ثم كساها اللحم ثم أنبت عليها الجلد والشعر ثم نفخ فيه الروح فقام الحمار رافعا رأسه وأذنيه إلى
السماء ناهقا
* (فلما تبين له) * أي اتضح اتضاحا تاما له ما دل عليه الأمر من كيفية الإحياء بمباديه، والفاء للعطف على مقدر يستدعيه الأمر المذكور وإنما حذف للإيذان بظهور تحققه واستغنائه عن الذكر وللاشعار بسرعة وقوعه كأنه قيل: فأنشرها الله تعالى وكساها لحما فنظر إليها فتبين له كيفيته فلما تبين ذلك * (قال أعلم أن الله على كل شي) * ومن جلمته ما شوهد * (قدير) *. وقيل: فاعل (تبين) مضمر يفسره مفعول (أعلم) فالكلام من باب التنازع على مذهب البصريين، وأورد عليه أن شرط التنازع كما نص عليه النحاة اشتراك العاملين بعطف ونحوه بحيث يرتبطان فلا يجوز ضربني أهنت زيدا قيل: وليس بشيء لأنه لم يشترطه إلا ابن عصفور، وقد صرح بازات الفن بخلافه - كأبي علي وغيره - مع أنه لم يخص بالعطف إذ هو جار في قوله تعالى: * (هاؤم اقرؤوا كتابيه) * (الحاقة: 19) و - لما - رابطة للجملتين فيكفي مثله في
23

الربط وإن لم يصرحوا به، ومن الناس من استحسن أن يجعل من باب ما يكون المراد بالفعل نفس وقوعه لا التلبس بالفاعل فكان معناه فلما فلما حصل له التبين قال أعلم الخ، ويساعده قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما * (فلما تبين له) * على البناء للمفعول، وإيثار صيغة المضارع للدلالة على أن علمه بذلك مستمر نظرا إلى أن أصله لم يتغير بل إنما تبدل بالعيان وصفه، وفيه إشعار بأنه إنما قال ما قال بناءا على الاستبعاد العادي واستعظاما للأمر، وقرأ ابن مسعود - قيل اعلم - على وجه الأمر، وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن عباس أنه كان يقرأ * (قال اعلم) * ويقول: لم يكن بأفضل من إبراهيم عليه السلام قال الله تعالى له: * (اعلم أن الله) * وبذلك قرأ حمزة والكسائي، والآمر هو الله تعالى أو النبي أو الملك، ويحتمل أن يكون المخاطب هو نفسه على سبيل التجريد مبكتا لها موبخا على ما اعتراها من ذلك الاستبعاد، يروى أنه بعد هذا القول قام فركب حماره حتى أتى محلته فأنكره الناس وأنكرهم وأنكر منازلهم فانطلق على وهم منهم حتى أتى منزله فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة كانت أمة له وكان قد خرج عزير وهي بنت عشرين سنة فقال لها: يا هذه أهذا منزل عزير؟ قالت: نعم وبكت وقالت: ما رأيت أحدا منذ كذا وكذا وكذا سنة يذكر عزيرا وقد نسيه الناس قال: فإني أنا عزير قالت: سبحان الله فإن عزيرا قد فقدناه منذ مائة سنة فلم يسمع له بذكر قال: فإني عزير كان الله تعالى أماتني مائة سنة ثم بعثني قالت: فإن عزيرا كان رجلا مستجاب الدعوة يدعو للمريض ولصاحب البلاء بالعافية والشفاء فادع الله تعالى أن يرد علي بصري حتى أراك فإن كنت عزيرا عرفتك فدعا ربه ومسح يده على عينيها فصحتا وأخذ بيدها فقال: قومي بإذن الله تعالى فأطلق الله تعالى رجليها فقامت صحيحة كأنما نشطت من عقال فنظرت فقالت: أشهد أنك عزير فانطلقت إلى محلة بني إسرائيل وأنديتهم ومجالسهم، وابن العزير شيخ ابن مائة سنة وثمان عشرة سنة وبنو بنيه شيوخ في المجلس فنادتهم فقالت: هذا عزير قد جاءكم فكذبوها فقالت: أنا فلانة مولاتكم دعا إلى ربه فرد علي بصري وأطلق رجلي، وزعم أن الله تعالى كان أماته مائة سنة ثم بعثه فنهض الناس فأقبلوا عليه فنظروا إليه فقال ابنه: كانت لأبي شامة سوداء بين كتفيه فكشف عن كتفيه فإذا هو عزير فقالت بنو إسرائيل: فإنه لم يكن فينا أحد حفظ التوراة فيما حدثنا غير عزير وقد حرق بختنصر التوراة ولم يبق منها شيء إلا ما حفظت الرجال فاكتبها لنا وكان أبوه قد دفن التوراة أيام بختنصر في موضع لم يعرفه غير عزير فانطلق بهم إلى ذلك الموضع فحفره فاستخرج التوراة وكان قد عفن الورق ودرس الكتاب فجلس في ظل شجرة وبنو إسرائيل حوله فنزل من السماء شهابان حتى دخلا جوفه فتذكر التوراة فجددها لبني إسرائيل، وفي رواية أنه قرأها عليهم حين طلبوا منه ذلك عن ظهر قلب من غير أن يخرم منها حرفا فقال رجل من أولاد المسبيين مما ورد بيت المقدس بعد مهلك بختنصر: حدثني أبي عن جدي أنه دفن التوراة يوم سبينا في خابية في كرم فإن أريتموني كرم جدي أخرجتها لكم فذهبوا إلى كرم جده ففتشوها فوجدوها فعارضوها بما أملى عليهم عزير عن ظهر قلب فما اختلفا في حرف واحد - فعند قالوا: عزير ابن الله، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
ومن باب الإشارة والتأويل في الآيات: * (لا إكراه في الدين) * لأنه في الحقيقة هو الهدى المستفاد من النور القلبي اللازم للفطرة وهو لا مدخل للإكراه فيه * (قد تبين) * ووضح * (الرشد) * الذي هو طريق الوحدة وتميز * (من الغي) * الذي هو النظر إلى الأغيار * (فمن يكفر بالطاغوت) * وهو ما سوى الله تعالى * (ويؤمن بالله) * إيمانا حقيقيا شهوديا * (فقد استمسك بالعروة الوثقى) * التي هي الوحدة الذاتية * (لا انفصام لها) * في نفسها
24

لأنها الموافقة لما في نفس الأمر والممكنات والشؤون داخلة في دائرتها غير منقطعة عنها * (والله سميع) * يسمع قول كل ذي دين * (عليم) * (البقرة: 256) بنيته * (الله ولي الذين آمنوا) * وليس ولي سواه ولا ناصر ولا معين لهم غيره * (يخرجهم من) * ظلمات - النفس وشبه الخيال والوهم إلى نور اليقين والهداية وفضاء عالم الأرواح * (والذين كفروا) * بالميل إلى الاغيار * (أولياؤهم الطاغوت) * الذي حال بينهم وبين الله تعالى فلم يلتفتوا إليه * (يخرجونهم من) * نور الاستعداد والهداية الفطرية إلى ظلمات صفات النفس والشكوك والشبهات * (أولئك) * المبعدون عن الحضرة * (أصحاب النار) * الطبيعية * (هم فيها خالدون) * (البقرة: 257) * (ألم تر الذي حاج إبراهيم في ربه) * وهو نمروذ النفس الأمارة المجادلة لإبراهيم الروح القدسية التي ألقيت في نار الطبيعة فعادت عليها بردا وسلاما، أو نمروذ الجبار وإبراهيم الخليل عليه السلام * (أن آتاه الله الملك) * الذي هو عالم القوى البدنية وملك هذه الدنيا الدنية * (إذ قال إبراهيم) * الروح أو إبراهيم الخليل * (ربي) * أي من غذيت ببيان أنواره أو إيجاده وهدايته * (الذي يحيى) * من توجه إليه * (ويميت) * من أعرض عنه، أو يحيى ويميت الإحياء والإماتة المعهودتين * (قال) * نمروذ النفس الأمارة، أو الجبار * (أنا أحيي) * بعض القوى بصرفها في ميادين اللذات واستنشاق ريح الشهوات * (وأميت) * بعضها بتعطيله عن ذلك برهة، أو أحيى بالعفو وأميت بالقتل * (قال إبراهيم) * الروح، أو الخليل * (إن الله يأتي) * بشمس العرفان * (من مشرقها) * وهو جانب المبدأ الفياض * (فأت بها من المغرب) * أي أظهرها بعد غروبها وحيلولة أرض الوجود بينك وبينها، أو أن الله - يأتي بشمس الروح من مشرقها - وهو مبدأها الأصلي فتشرق أنوارها على صفحات البدن - فأت بها بعدما غربت - أي فأرجعها إلى من قتلته وأمته، وعلى هذا يكون من تتمة الأول * (فبهت) * وغلب * (الذي كفر) *
(البقرة: 258) وهو النفس الأمارة المدعية للربوبية على عرش البدن أو نمروذ اللعين * (أو كالذي مر) * وهو العقل الإنساني * (على قرية) * القلب الذي هو البيت المقدس، أو هو عزير النبي وكان قدم على بيت المقدس قبل التجلي باسمه تعالى المحيى * (وهي خاوية) * خالية من التجليات النافعة ثابتة * (على عروشها) * صورها أو ساقطة منهدمة لضعف أس الاستعداد على عروش العزائم * (قال) * لذهوله عن النظر إلى الحقائق * (أنى) * متى، أو كيف * (يحيى هذه) * القرية الله الجامع لصفات الجمال والجلال * (بعد موتها) * بداء الجهل والالتفات إلى السوى * (فأماته الله) * أبقاه جاهلا مائة عام أي مدة طويلة، وقيل: هي عبارة في الأصل عن ثمانية أعوام وأربعة أشهر أو خمسة وعشرين سنة ثم بعثه بالحياة الحقيقية وطلب منه الوقوف على مدة اللبث فما ظنها - إلا يوما أو بعض يوم - استصغارا لمدة اللبث في موت الجهل المنقضية بالنسبة إلى الحياة الأبدية، أو أماته بالموت الإرادي في إحدى المدد المذكورة فتكون المدة زمان رياضته وسلوكه ومجاهدته في سبيل الله تعالى، أو أماته حتف أنفه بالموت الطبيعي ثم بعثه بالإحياء قال: بل لبثت في الحقيقة مائة عام * (فانظر إلى طعامك) * وكان التين أو العنب، والأول: إشارة إلى المدركات الكلية لكونه لبا كله وكون الجزئيات فيه بالقوة كالحبات التي في التين، والثاني: إشارة إلى الجزئيات لبقاء اللواحق المادية معها في الإدراك كالقشر والعجم * (وشرابك) * وكان عصير العنب أو اللبن، والأول: إشارة إلى العشق والإرادة وعلوم المعارف والحقائق، والثاني: إشارة إلى العلم النافع كالشرائع * (لم يتسنه) * أي لم يتغير عما كان في الأول بحسب الفطر مودعا فيك فإن العلوم مخزونة في كل نفس بحسب استعداده والناس معادن كمعادن الذهب والفضة وإن حجبت بالمواد وخفيت مدة بالتقلب في البرازخ وظلماتها لم تبطل ولم تتغير عن حالها حتى إذا رفع الحجاب ظهرت كما كانت * (وانظر إلى حمارك) * وهو القالب الحامل للقلب أو
25

المعنى * (ولنجعلك آية) * أي دليلا للناس بعثناك * (وانظر إلى العظام) * من القوى * (كيف ننشزها) * ونرفعها عن أرض الطبيعة * (ثم نكسوها لحما) * وهو العرفان الذي يكون لباسا لها، وعبر عنه باللحم لنموه وزيادته كلما تغذت الروح بأطعمة الشهود وأشربة الوصال، والمعنى الظاهر ظاهر * (فلما تبين) * ووضح * (له) * ذلك * (قال أعلم) * علما مستمرا * (أن الله على كل شيء) * ومن جملته ما كان * (قدير) * لا يستعصي عليه ولا يعجزه.
* (وإذ قال إبراهيم رب أرنى كيف تحى الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ول‍اكن ليطمئن قلبى قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم) *.
* (وإذ قال إبراهيم) * بيان لتسديد المؤمنين إثر بيان ولمغايرته لما تقدم كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى غير الأسلوب والظرف منتصب إما بمضمر صرح بمثله في قوله تعالى: * (واذكروا إذ جعلكم خلفاء) * (الأعراف: 69) وإيجاب ذكر الوقت إيجاب لذكر ما فيه بطريق برهاني وإما - بقال - الآتي وقد تقدم تحقيق ذلك * (رب) * كلمة استعطاف شرع ذكرها قبل الدعاء مبالغة في استعداد الإجابة * (أرني) * من الرؤية البصرية المتعدية بهمزة النقل إلى مفعولين فالباء مفعوله الأول وقوله تعالى: * (كيف تحيى الموتى) * في محل مفعوله الثاني المعلق عنه، وإلى ذلك ذهب أكثر المعربين، واعترض بأن البصرية لا تعلق، وأجيب بأن ذلك إنما ذكره بعض النحاة، ورده ابن هشام بأنه سمع تعليقها، وفي " شرح التوضيح " يجوز كونها علمية، ومن الناس من لم يجعل (ما) هنا من التعليق في شيء وجعل كلمة * (كيف) * الخ في تأويل مصدر هو المفعول كما قاله ابن مالك في قوله تعالى: * (وتبين لكم كيف فعلنا بهم) * (إبراهيم: 45) ثم الاستفهام - بكيف - إنما هو سؤال عن شيء متقرر الوجود عند السائل والمسؤول، فالاستفهام هنا عن هيئة الإحياء المتقرر عند السائل أي - بصرني كيفية إحيائك للموتى - وإنما سأله عليه السلام لينتقل من مرتبة علم اليقين إلى عين اليقين، وفي الخبر " ليس الخبر كالمعاينة " وكان ذلك حين رأى جيفة تمزقها سباع البر والبحر والهواء قاله الحسن والضحاك وقتادة، وهو المروي عن أهل البيت، وروي عن ابن عباس والسدي وسعيد بن جبير أن الملك بشره عليه السلام بأن الله تعالى قد اتخذه خليلا وأنه يجيب دعوته ويحيى الموتى بدعائه فسأل لذلك، وروى عن محمد بن إسحق بن يسار أن سبب السؤال منازعة النمروذ إياه في الاحياء حيث رد عليه لما زعم أن العفو إحياء وتوعده بالقتل إن لم يحي الله تعالى الميت بحيث يشاهده فدعا حينئذ * (قال) * استئناف مبني على السؤال والضمير للرب * (أو لم تؤمن) * عطف على مقدر - أي ألم تعلم ولم تؤمن بأني قادر على الإحياء كيف أشاء حتى تسألني عنه - أو بأني قد اتخذتك خليلا، أو بأن الجبار لا يقتلك * (قال) * أي إبراهيم * (بلى) * آمنت بذلك * (ول‍اكن) * سألت * (ليطمئن) * أي يسكن * (قلبي) * بمضامة الأعيان إلى الإيمان والإيقان بأنك قادر على ذلك، أو: ليطمئن قلبي بالخلة أو بأن الجبار لا يقتلني، وعلى كل تقدير لا يعود نقص على إبراهيم من هذا السؤال ولا ينافي منصب النبوة أصلا، وللناس ولوع بالسؤال عن هذه الآية - وما ذكر هو المشهور فيها - ويعجبني ما حرره بعض المحققين في هذا المقام وبسطه في الذب عن الخليل عليه السلام من الكلام، وهو أن السؤال لم يكن عن شك في أمر ديني والعياذ بالله ولكنه سؤال عن كيفية الإحياء ليحيط علما بها وكيفية الإحياء لا يشترط في الإيمان الإحاطة بصورتها، فالخليل عليه السلام طلب علم ما لا يتوقف الإيمان على علمه، ويدل على ذلك ورود السؤال بصيغة * (كيف) * وموضوعها السؤال عن الحال، ونظير هذا أن يقول القائل: كيف يحكم زيد في الناس فهو لا يشك أنه يحكم فيهم ولكنه سأل عن كيفية حكمه المعلوم ثبوته ولو كان سائلا عن
26

ثبوت ذلك لقال - أيحكم زيد في الناس - ولما كان الوهم قد يتلاعب ببعض الخواطر فتنسب إلى إبراهيم وحاشاه شكا من هذه الآية قطع النبي صلى الله عليه وسلم دابر هذا الوهم بقوله على سبيل التواضع: " نحن أحق بالشك من إبراهيم " أي ونحن لم نشك فلأن لا يشك إبراهيم أحرى، وقيل: إن الكلام مع أفعل جاء هنا لنفي المعنى عن الحبيب والخليل عليهما الصلاة والسلام أي لا شك عندنا جميعا، ومن هذا الباب * (أهم خير أم قوم تبع) * (الدخان: 37) أي لا خير في الفريقين، وإنما جاء التقرير بعد لأن تلك الصيغة وإن كانت تستعمل ظاهرا في السؤال عن الكيفية كما علمت إلا أنها قد استعمل أيضا في الاستعجاز كما إذا ادعى مدع أنه يحمل ثقلا من
الأثقال وأنت جازم بعجزه عن حمله فتقول له: أرني كيف تحمل هذا وتريد أنك عاجز عن حمله فأراد سبحانه لما علم براءة الخليل عن الحوم حول حمى هذا المعنى أن ينطقه في الجواب بما يدفع عنه ذلك الاحتمال اللفظي في العبارة الأولى ليكون إيمانه مخلصا بعبارة تنص عليه بفهمها كل من يسمعها فهما لا يتخالجه فيه شك، ومعنى الطمأنينة حينئذ سكون القلب عن الجولان في كيفيات الإحياء المحتملة بظهور التصوير المشاهد، وعدم حصول هذه الطمأنينة قبل لا ينافي حصول الإيمان بالقدرة على الإحياء على أكمل الوجوه، ولا أرى رؤية الكيفية زادت في إيمانه المطلوب منه عليه السلام شيئا وإنما أفادت أمرا لا يجب الإيمان به، ومن هنا تعلم أن عليا كرم الله تعالى وجهه لم يثبت لنفسه مرتبة في الإيمان أعلى من مرتبة الخليل فيه بقوله: لو كشفت لي الغطاء ما ازددت يقينا كما ظنه جهلة الشيعة وكثير من أصحابنا لما لم يقف على ما حررنا تجشم لدفع ما عسى أن يتوهم من كلامي الخليل والأمير من أفضلية الثاني على الأول فبعض دفعه بأن اليقين يتصور أن يطرأ عليه الجحود لقوله تعالى: * (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) * (النمل: 14) والطمأنينة لا يتصور طرو ذلك عليها - ونسب هذا لحجة الإسلام الغزالي - وفي القلب منه شيء، وبعض قرر في دفعه أن مقام النبوة مغاير لمقام الصديقية، فلمقام النبوة طمأنينة وعدم طمأنينته بحسبه، ولمقام الصديقية طمأنينة وعدم طمأنينته بحسبه أيضا، وطمأنينة مقام النبوة كانت لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم كما كشف عنها بقوله تعالى: * (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل) * (الفرقان: 45) على ما يعرفه أهل الذوق من الآية وكان الاستعداد من إبراهيم وكذا من موسى عليهما السلام متوجها إلى ابتغاء تلك الطمأنينة كما أبانا عن أنفسهما ب * (رب أرني كيف تحيى الموتى) * و * (رب أرني أنظر إليك) * - (الأعراف: 143) وطمأنينة مقام الصديقية كانت للصديقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما أبدى عن نفسه إمام الصديقين كرم الله تعالى وجهه بقوله: " لو كشف " الخ، وكان الاستعداد في صديقي سائر الأنبياء متوجها إلى ابتغاء تلك الطمأنينة فثبتت الفضيلة لمحمد صلى الله عليه وسلم على سائر إخوانه من الأنبياء والصديقية على سائر الصديقين من أممهم ولم يثبت لصديقيه لوجدانهم طمأنينتهم الفضيلة على الأنبياء عند فقدانهم طمأنينتهم لأن ما فقدوه من الطمأنينة غير ما وجده الصديقون منها لأنهم إنما يفقدون الطمأنينة اللائقة بمقام النبوة والصديقون لم يجدوا مثل تلك الطمأنينة وإنما وجدوا طمأنينة لائقة بمقام الصديقين ولو رضي النبيون بمثله لكان حاصلا لهم، وأجل من ذلك بعدة مراتب ولقد اعترف الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه بهذا التخلف حين بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إني لأسهو فقال: يا ليتني كنت سهو محمد صلى الله عليه وسلم إذ علم أن ما يعده رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه الكريمة سهوا فوق أعلى يقظان الصديق إذ حسنات الأبرار سيآت المقربين وحسنات المقربين سيآت النبيين، وهذا أولى مما سبق، وبعض من المتصوفة كجهلة الشيعة التزموا ظاهر كل من الكلامين وزعموا أن أولياء هذه الأمة وصديقهم أعلى كعبا من الأنبياء ولو نالوا مقام الصديقية
27

محتجين بما روي عن الإمام الرباني سيدي وسندي عبد القادر الكيلاني قدس سره أنه قال: يا معشر الأنبياء الفرق بيننا وبينكم بالألقاب وأوتينا ما لم تؤتوه، وببعض عبارات للشيخ الأكبر قدس سره ينطق بذلك، وأنت تعلم أن التزام ذلك والقول به خرق لإجماع المسلمين ومصادم للأدلة القطعية على أفضلية الأنبياء على سائر الخلق أجمعين، ويوشك أن يكون القول به كفرا بل قد قيل به، وما روي عن الشيخ عبد القادر قدس سره فمما لم يثبت نقله عنه في كتاب يعول عليه، وما يعزى إلى الشيخ الأكبر قدس سره فتعارضه عبارات له أخر مثل قوله قدس سره - وهو الذي تعلم ترجمته لنفسه وعده إياها من أكبر الصديقين بل خاتم الولاية الخاصة - والمقام المحمدي فتح لي قدر خرم إبرة من مقام النبوة تجليا لا دخولا فكدت أحترق، وبتقدير تسليم ما نقل عمن نقل والقول بعدم قوة المعارض لنا أن نقول: إن ذلك القول صدر عن القائل عند فنائه في الحقيقة المحمدية والذات الأحمدية فاللسان حينئذ لسانها والقول قولها ولم يصدر ذلك منه حين رؤية نفسه، والوقوف عند رتبته - وهذا غير ما ذهب إليه الشيعة - وبعيد عنه بمراحل، ولعل النوبة تفضي إلى تحقيقه بأتم من هذا إن شاء الله تعالى، فخزائن الفكر ولله الحمد مملوءة، ولكل مقام مقال، هذا وذكر الزمخشري أن المراد بالطمأنينة هنا العلم الذي لا مجال للتشكيك فيه وهو علم الضرورة المخالف لعلم الاستدلال حيث يجوز معه ذلك، واعترض بأن العلم الموقوف على سبب لا يتصور فيه تشكيك ما دام سببه مذكورا في نفس العالم وإنما الذي قبل التشكيك قبولا مطلقا هو الاعتقاد وإن كان صحيحا وسببه باق في الذكر وبهذا ينحط الاعتقاد الصحيح عن العلم، وأجيب بأن هذا مبني على تفسير العلم بأنه صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض بوجه - على ما ذكره ابن الحاجب في " مختصره " - وقد قيل عليه ما قيل فتدبر، واللام في * (ليطمئن) * لام كي والفعل منصوب بعدها بإضمار أن، وليس بمبنى كما - زلق السمين - ومتعلق اللام محذوف كما أشرنا حذف - ما - منه الاستدراك، وقيل: المتعلق * (أرني) * ولا أراه شيئا، والماضي للفعل - اطمأن على وزن اقشعر، واختلف هل هو مقلوب أم لا؟ فمذهب سيبويه أنه مقلوب من - اطأمن - فالطاء فاء الكلمة والهمزة عينها، والميم لامها فقدمت اللام التي هي الميم على العين وهي الهمزة فوزنه افلعل، ومذهب الجرمي أنه غير مقلوب وكأنه يقول - اطأمن واطمأن - مادتان مستقلتان ومصدره الطمأنينة بسكون الميم وفتح الهمزة، وقيل: طمانينه بتخفيف الهمزة وهو قياس مطرد عند الكوفيين وهو على غير قياس المصادر عند الجميع إذ قياس اطمأن أن يكون مصدره على الاطمئنان، وقرىء - أرني - بسكون الراء.
* (قال) * أي الرب * (فخذ) * الفاء لجواب شرط محذوف أي إن أردت ذلك فخذ. * (أربعة من الطير) * المشهور أنه اسم جمع كركب وسفر، وقيل: بل هو جمع طائر كتاجر وتجر - وإليه ذهب أبو الحسن - وقيل: بل هو مخفف من طير بالتشديد، وقال أبو البقاء: هو في الأصل مصدر طار يطير ثم سمي به هذا الجنس وألحقت التاء في عدده لاعتباره مذكرا واسم الجنس لما لا يعقل يذكر ويؤنث والجار متعلق بمحذوف وقع صفة لما قبله أو متعلق - بخذ - والمروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها الغرنوق، والطاوس، والديك، والحمامة، وعن مجاهد بدل الغرنوق الغراب، وفي رواية بدل الحمامة بطة، وفي رواية نسر، وتخصيص الطير بذلك لأنه أقرب إلى الإنسان باعتبار طلبه المعاش والمسكن ولذلك وقع في الحديث " لو توكلتم على الله تعالى حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا " ولأنه أجمع لخواص الحيوان ولسهولة تأتي ما يفعل به من التجزئة والتفرقة ولما فيه من مزيد أجزاء من الريش ففي إحيائها مزيد من ظهور القدرة
28

ولأن من صفته الطيران في السماء وكان من همة إبراهيم عليه الصلاة والسلام الميل إلى جهة العلو والوصول إلى الملكوت فكان معجزته مشاكلة لهمته.
* (فصرهن) * قرأ حمزة ويعقوب بكسر الصاد، والباقون بضمها مع التخفيف من - صاره يصوره ويصيره - لغتان بمعنى قطعه أو أماله لأنه مشترك بينهما كما ذكره أبو علي، وقال الفراء: الضم مشترك بين المعنيين، والكسر بمعنى القطع فقط، وقيل: الكسر بمعنى القطع، والضم بمعنى الإمالة، وعن الفراء إن صاره مقلوب صراه عن كذا قطعه، والصحيح أنه عربي وعن عكرمة أنه نبطي، وعن قتادة أنه حبشي، وعن وهب أنه رومي، فإن كان المراد - أملهن - فقوله تعالى: * (إليك) * متعلق به وإن كان المراد - فقطعهن - فهو متعلق - بخذ - باعتبار تضمينه معنى الضم، واختار أبو البقاء أن يكون حالا من المفعول المضمر أي - فقطعهن مقربة ممالة - إليك - وزعم ابن هشام - تبعا لغيره - أنه لا يصح تعليق الجار - بصرهن - مطلقا إن لم يقدر مضاف أي إلى نفسك محتجا بأنه لا يتعدى فعل غير علمي عامل في ضمير متصل إلى المنفصل، ورد بأنه إنما يمنع إذا كان متعديا بنفسه أما المتعدي بحرف فهو جائز كما صرح به علماء العربية، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - فصرهن - بتشديد الراء مع ضم الصاد وكسرها من صره إذا جمعه، والراء إما مضمومة للاتباع أو مفتوحة للتخفيف، أو مكسورة لالتقاء الساكنين، وعنه أيضا - فصرهن - من التصرية بفتح الصاد وكسر الراء المشددة وأصلها تصررة فأبدل أحد أحرف التضعيف ياءا وهي في الأصل من صريت الشاة إذا لم تحلبها أياما حتى يجتمع اللبن في ضرعها ثم استعمل في مجرد معنى الجمع - أي اجمعهن وضمهن إليك لتتأملها وتعرف شأنها مفصلة حتى تعلم بعد الإحياء أن جزءا من أجزائها لم ينتقل من موضعه الأول أصلا -.
* (ثم اجعل) * أي ألق أو صير بعد ذبحهن وخلط لحومهن وريشهن ودمائهن كما قاله قتادة. * (على كل جبل) * يمكنك الوضع عليه ولم يعين له ذلك - كما روي عن مجاهد، والضحاك - وروي عن ابن عباس والحسن، وقتادة أن الجبال كانت أربعة، وعن ابن جريج، والسدي أنها كانت سبعة، وعن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنها كانت عشرة * (منهن) * أي من تلك الطير * (جزءا) * أي قطعة، وبعضا ربعا، أو سبعا أو عشرا أو غير ذلك؛ وقرىء (جزءا) بضمتين و (جزا) بطرح همزته تخفيفا ثم تشديده عند الوقف ثم إجراء الوصل مجرى الوقف وهو مفعول - لا جعل - والجاران قبله متعلقان بافعل، ويجوز أن يكون على كل مفعولا ثانيا له إن كان بمعنى صير، و * (منهن) * حال من * (جزءا) * لأنه في الأصل صفة للنكرة قدمت عليها * (ثم ادعهن) * أي نادهن، أخرج ابن المنذر عن الحسن قال: إنه عليه الصلاة والسلام نادى أيتها العظام المتمزقة واللحوم المتفرقة والعروق المتقطعة اجتمعي يرد الله تعالى فيكن أرواحكن فوثب العظم إلى العظم وطارت الريشة إلى الريشة وجرى الدم إلى الدم حتى رجع إلى كل طائر دمه ولحمه وريشه ثم أوحى الله تعالى إلى إبراهيم إنك سألتني كيف أحيي الموتى وأني خلقت الأرض وجعلت فيها أربعة أرواح الشمال والصبا والجنوب والدبور حتى إذا كان يوم القيامة نفخ نافخ في الصور فيجتمع من في الأرض من القتلى والموتى كما اجتمعت أربعة أطيار من أربعة جبال ثم قرأ: * (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) * (لقمان: 28) وعن مجاهد أنه دعاهن باسم إله إبراهيم تعالين، واستشكل بأن دعاء الجماد غير معقول، وأجيب بأنه من قبيل دعاء التكوين، وقيل: في الآية حذف كأنه قيل: فقطعهن ثم اجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءا فإن الله تعالى يحييهن فإذا أحياهن فادعهن.
29

* (يأتينك سعيا) * فالدعاء إنما وقع بعد الإحياء. ولا يخفى أن الآثار مع ما فيه من التكلف لا تساعده، وأعظم منه فسادا ما قيل: إنه عليه الصلاة والسلام جعل على كل جبل منهن طيرا حيا ثم دعاها فجاءت فإن ذلك مما يبطل فائدة الطلب ويعارض الأخبار الصحيحة فإن أكثرها ناطق بأنه دعاها ميتة متفرقة الأجزاء، وفي بعضها أن رؤوسهن كانت بيده فلما دعاهن جعل كل جزء منهن يأتي إلى صاحبه حتى صارت جثثا ثم أقبلن إلى رؤوسهن فانضمت كل جثة إلى رأسها فعادت كل واحدة منهن إلى ما كانت عليه من الهيئة، و (سعيا) حال من فاعل - يأتينك - أي ساعيات مسرعات، أو ذوات سعي طيرانا أو مشيا، وقيل: إطلاق السعي على الطيران مجاز، وجوز أن يكون منصوبا على المصدرية كقعدت جلوسا، ومن الغريب ما نقل عن النضر بن شميل قال: سألت الخليل بن أحمد عن قوله تعالى: * (يأتينك سعيا) * هل يقال الطائر إذا طار سعى؟ فقال: لا قلت: فما معناه؟ قال: معناه: يأتينك وأنت تسعى سعيا - وهو من التكلف الغير المحتاج إليه بمكان - وإنما اقتصر سبحانه على حكاية أوامره جل شأنه من غير تعرض لامتثال خليله عليه الصلاة والسلام، ولا لما ترتب عليه من آثار قدرته التي علمت النزر منها للإيذان بأن ترتب تلك الأمور على الأوامر الجليلة واستحالة تخلفها عنها من الجلاء والظهور بحيث لا حاجة له إلى الذكر أصلا، وزعم بعضهم أن الخليل عليه الصلاة والسلام لم يفعل شيئا مما اقتضاه ظاهر الكلام وأن الأوامر فيه مثلها في قولك لمن لا يعرف تركيب الحبر مثلا: خذ وكذا وأمكنهما سحقا وألق عليهما كذا وكذا وضع ذلك في الشمس مدة أيام ثم استعمله تجده حبرا جيدا فإنه لا يقتضي الامتثال إذ كان الغرض مجرد تعليم، و - الرؤية - هنا علمية كما نقل عن " شرح التوضيح "، وإبراهيم حصل له العلم التام بمجرد وصف الكيفية واطمأن قلبه وسكن لبه، ولهذا لم يذكر الله تعالى ما ترتب على هذه الأوامر من هاتيك الأمور ولم يتعرض للامتثال ولم يعبأ بالإيماء إليه - بقال - أو حال، ومال إلى هذا القول أبو مسلم فأنكر القصة أيضا، وقال: إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما طلب إحياء الموتى من ربه سبحانه وأراه مثالا محسوسا قرب الأمر عليه، والمراد - بصرهن - أملهن ومرنهن على الإجابة - أي عود الطيور الأربعة بحيث إذا دعوتها أجابتك حال الحياة - والغرض منه ذكر مثال محسوس لعود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة ولا يخفى أن هذا خلاف إجماع المسلمين، وضرب من الهذيان لا يركن إليه أرباب الدين وعدول عما يقتضيه ظاهر الآية المؤيد بالأخبار الصحيحة والآثار الرجيحة إلى ما تمجه الأسماع ولا يدعو إليه داع فالحق اتباع الجماعة ويد الله تعالى معهم، وفي الآية دليل لمن ذهب إلى أن إحياء الموتى يوم القيامة بجمع الأجزاء المتفرقة وإرسال الروح إليها بعد تركيبها وليس هو من باب إعادة المعدوم الصرف لأنه سبحانه بين الكيفية بالتفريق ثم الجمع وإعادة الروح ولم يعدم هناك سوى الجزء الصوري والهيئة التركيبية دون الأجزاء المادية، واحتج بها بعضهم أيضا على أن البنية ليست شرطا في الحياة لأنه تعالى جعل كل واحد من تلك الأجزاء
والأبعاض حيا قادرا على السعي والعدو، وقال القاضي: دلت الآية على أنه لا بد من البنية حيث أوجب التقطيع بطلان الحياة، وأجيب بأن حصول المقارنة لا يدل على وجوب المقارنة، والانفكاك في بعض الأحوال يدل على أن المقارنة حيث حصلت ما كانت واجبة ولما دلت الآية على حصول فهم النداء لتلك الأجزاء كانت دليلا قاطعا على أن البنية ليست شرطا للحياة - وفيه تأمل - والمشهور أنها حجة على من ذهب إلى أن الإيمان لا يزيد
30

ولا ينقص وهي ظاهرة في أنه يزيد في الكيف وإن كان لا يزيد في الكم لكن المكلف به هو الجزم الحاصل بالنظر والاستدلال، ويسميه البعض علم اليقين لا الجزم الكائن بالمشاهدة المسمى بعين اليقين فإن في التكليف به حرجا في الدين، وأنت تعلم أن في دلالة الآية على زيادة الإيمان ونقصه بناءا على الوجه الذي أشرنا إلى اختياره ترددا كما لا يخفى؛ وفيها أيضا دليل على فضل الخليل عليه الصلاة والسلام ويمن الضراعة في الدعاء وحسن الأدب في السؤال حيث أراه سبحانه ما سأله في الحال على أيسر ما يكون من الوجوه، وأرى عزيرا عليه السلام ما أراه بعد ما أماته مائة عام.
* (واعلم أن الله عزيز) * غالب على أمره * (حكيم) * ذو حكمة بالغة في أفعاله فليس بناء أفعاله على الأسباب العادية لعجزه عن خرق العادات بل لكونه متضمنا للحكم والمصالح، وحكي أن الله سبحانه لما وفى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام بما سأل قال له: يا إبراهيم نحن أريناك كيف نحيى الموتى فأرنا أنت كيف تميت الأحياء مشيرا إلى ما سيأمره به من ذبح ولده عليه الصلاة والسلام وهو من باب الانبساط مع الخليل ودائرة الخلة واسعة إلا أن حفاظ المحدثين لم يذكروا هذا الخبر وليس له رواية في " كتب الأحاديث " أصلا.
ومن باب الإشارة في هذه القصة: * (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيى الموتى) * أي موتى القلوب بداء الجهل * (قال أو لم تؤمن) * أي ألم تعلم ذلك علما يقينيا * (قال بلى) * أعلم ذلك. ولكن للعيان لطيف معنى * له سأل المشاهدة الخليل
وهو المشار إليه بقوله سبحانه: * (ليطمئن قلبي) * الذي هو عرشك * (قال فخذ أربعة من الطير) * إشارة إلى طيور الباطن التي في قفص الجسم، وهي أربعة من أطيار الغيب والعقل، والقلب، والنفس، والروح * (فصرهن إليك) * أي ضمهن واذبحهن، فاذبح طير العقل بسكين المحبة على باب الملكوت، واذبح طير القلب بسكين الشوق على باب الجبروت، واذبح طير النفس بسكين العشق في ميادين الفردانية، واذبح طير الروح بسكين العجز في تيه عزة أسرار الربانية * (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا) * فاجعل العقل على جبل العظمة حتى يتراكم عليه أنوار سلطنة الربوبية فيصير موصوفا بها ليدركني بي بعد فنائه في، واجعل القلب على جبل الكبرياء حتى ألبسه سناء قدسي فيتيه في بيداء التفكر منعوتا بصرف نور المحبة، واجعل النفس على جبل العزة حتى ألبسها نور العظمة لتصير مطمئنة عند جريان ربوبيتي عليها فلا تنازعني في العبودية ولا تطلب أوصاف الربوبية، واجعل الروح على جبل جمال الأزل حتى ألبسها نور النور وعز العز وقدس القدس لتكون منبسطة في السكر مطمئنة في الصحو عاشقة في الانبساط راسخة في التجليات * (ثم ادعهن) * ونادهن بصوت سر العشق * (يأتينك سعيا) * إلى محض العبودية بجمال الأحدية * (واعلم أن الله عزيز) * يعزك بعرفانك هذه المعاني واطلاعك على صفاته القديمة * (حكيم) * في ظهوره بغرائب التجلي لأسرار باطنك، وقد يقال: أشار سبحانه بالأربعة من الطير إلى القوى الأربعة التي تمنع العبد عن مقام العيان وشهود الحياة الحقيقية، ووقع في أثر أنها كانت طاوسا، وديكا، وغرابا، وحمامة، ولعل الطاوس إشارة إلى العجب والديك إلى الشهوة والغراب إلى الحرص، والحمامة إلى حب الدنيا لإلفها الوكر والبرج، وفي أثر بدل الحمامة بطة، وفي آخر نسر، وكان الأول: إشارة إلى الشره الغالب، والثاني: إلى طول الأمل، ومعنى * (فصرهن إليك) * حينئذ ضمهن وأملهن إليك بضبطها ومنعها عن الخروج إلى طلب لذاتها والنزوع إلى مألوفاتها، وفي الأثر أنه عليه الصلاة والسلام أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويخلط لحومها ودماءها بالدق ويحفظ رؤوسها عنده - أي يمنعها عن أفعالها ويزيد هيآتها عن النفس ويقمع دواعيها وطبائعها وعادتها بالرياضة
31

ويبقي أصولها فيه - ثم أمر أن يجعل على كل جبل من الجبال التي بحضرته وهي العناصر الأربعة التي هي أركان بدنه جزءا منهن وكأنه عليه الصلاة والسلام أمر بقمعها وإماتتها حتى لا يبقى إلا أصولها المركوزة في الوجود والمواد المعدة في طبائع العناصر التي هي فيه، وفي رواية أن الجبال كانت سبعة فعلى هذا يشير بها إلى الأعضاء السبعة التي هي أجزاء البدن، وفي أخرى أنها كانت عشرة وعليها ربما تكون إشارة إلى الحواس الظاهرة والباطنة، وأشار سبحانه بالأمر بالدعاء إلى أنه إذا كانت هاتيك الصفات حية بحياتها كانت غير منقادة وحشية ممتنعة عن قبول الأمر فإذا قتلت كانت حية بالحياة الحقيقية الموهومة بعد الفناء والمحو وهي حياة العبد وعند ذلك تكون مطيعة منقادة متى دعيت أتت سعيا وامتثلت طوعا وذلك هو الفوز العظيم.
* (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يض‍اعف لمن يشآء والله واسع عليم) *.
* (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله) * أي في وجوه الخيرات الشاملة للجهاد وغيره، وقيل: المراد الانفاق في الجهاد لأنه الذي يضاعف هذه الأضعاف، وأما الإنفاق في غيره فلا يضاعف كذلك وإنما تجزي الحسنة بعشر أمثالها * (كمثل حبة) * خبر عن المبتدا قبله ولا بد من تقدير مضاف في أحد الطرفين أي مثل نفقة الذين * (كمثل حبة) * أو مثلهم كمثل باذر حبة ولولا ذلك لم يصح التمثيل، والحبة واحدة الحب وهو ما يزرع للاقتيات وأكثر إطلاقه على البر وبذر ما لا يقتات به من البقل حبة بالكسر * (أنبتت سبع سنابل) * أي أخرجت تلك الحبة ساقا تشعب منه سبع شعب لكل واحد منها سنبلة.
* (في كل سنبلة مائة حبة) * كما نرى ذلك في كثير من الحب في الأراضي المغلة بل أكثر من ذلك، والسنبلة على وزن فنعلة فالنون زائدة لقولهم أسبل الزرع بمعنى سنبل إذا صار فيه السنبل، وقيل: وزنه فعلله فالنون أصلية والأول هو المشهور وإسناد الإنبات إلى الحبة مجاز لأنها سبب للإنبات - والمنبت في الحقيقة هو الله تعالى - وهذا التمثيل تصوير للإضعاف كأنها حاضرة بين يدي الناظر فهو من تشبيه المعقول بالمحسوس.
* (والله يضاعف) * هذه المضاعفة أو فوقها إلى ما شاء الله تعالى، واقتصر بعض على الأول، وبعض على الثاني، والتعميم أتم نفعا * (لمن يشآء) * من عباده المنفقين على حسب حالهم من الإخلاص والتعب وإيقاع الإنفاق في أحسن مواقعه، أخرج ابن ماجه وابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه، وأبي الدرداء، وأبي هريرة، وعمران بن حصين، وأبي أمامة، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهم كلهم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم ومن غزا بنفسه في سبيل الله تعالى وأنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم " ثم تلا هذه الآية وعن معاذ بن جبل: " إن غزاة المنفقين قد خبأ الله تعالى لهم من خزائن رحمته ما ينقطع عنه علم العباد ".
* (والله واسع) * لا يضيق عليه ما يتفضل به من الزيادة * (عليم) * بنية المنفق وسائر أحواله، ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر قصة المار على القرية، وقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام - وكانا من أدل دليل على البعث - ذكر ما ينتفع به يوم البعث وما يجد جزاءه هناك وهو الإنفاق في سبيل الله تعالى كما أعقب قصة * (الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت) * (البقرة: 243) بقوله تعالى عز شأنه: * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) * (البقرة: 245) وكما عقب قتل داود جالوت وقوله تعالى: * (ولو شاء الله ما اقتتلوا) * (البقرة: 253) بقوله سبحانه: * (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم) * (البقرة: 254) الخ.
32

وفي ذكره الحبة في التمثيل هنا إشارة أيضا إلى البعث وعظيم القدرة إذ من كان قادرا على أن يخرج من حبة واحدة في الأرض سبعمائة حبة فهو قادر على أن يخرج الموتى من قبورهم بجامع اشتركا فيه من التغذية والنمو.
* (الذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله ثم لا يتبعون مآ أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *.
* (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله) * استئناف جىء به لبيان كيفية الإنفاق الذي بين فضله. * (ثم لا يتبعون مآ انفقوا) * أي إنفاقهم أو ما أنفقوه * (منا) * على المنفق عليه * (ولا أذى) * أي له - والمن - عبد الإحسان وهو في الأصل القطع، ومنه قوله: حبل منين - أي ضعيف - وقد يطلق على النعمة لأن المنعم يقطع من ماله قطعة للمنعم عليه، و - الأذى - التطاول والتفاخر على المنفق عليه بسبب إنفاقه، وإنما قدم المن لكثرة وقوعه وتوسيط كلمة * (لا) * لشمول النفي لاتباع كل واحد منهما، و * (ثم) * للتفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى في الرتبة والبعد بينهما في الدرجة، وقد استعيرت من معناها الأصلي وهو تباعد الأزمنة لذلك - وهذا هو المشهور في أمثال هذه المقامات - وذكر في " الانتصاف " وجها آخر في ذلك وهو الدلالة على دوام الفعل المعطوف بها وإرخاء الطول في استصحابه وعلى هذا لا تخرج عن الإشعار ببعد الزمن ولكن معناها الأصلي تراخي زمن وقوع الفعل وحدوثه ومعناها المستعارة له دوام وجود الفعل وتراخي زمن بقائه وعليه يحمل قوله تعالى: * (ثم استقاموا) * (فصلت: 30) أي داوموا على الاستقامة دواما متراخيا ممتد الأمد وتلك الاستقامة هي المعتبرة لا ما هو منقطع إلى ضده من الحيد إلى الهوى والشهوات، وكذلك * (ثم لا يتبعون) * الخ أي يدومون على تناسي الإحسان وعلى ترك الاعتداد به والامتنان ليسوا بتاركيه في أزمنة ثم يثوبون إلى الإيذاء وتقليد المن، وبسببه مثله يقع في السين نحو * (إني ذاهب إلى ربي سيهدين) * (الصافات: 99) إذ ليس لتأخر الهداية معنى فيحمل على دوام الهداية الحاصلة له وتراخي بقائها وتمادي أمدها وهو كلام حسن - ولعله أولى مما ذكروه لأنه أبقى للحقيقة وأقرب للوضع على أحسن طريقة. والآية كما أخرج الواحدي عن الكلبي - والعهدة عليه - نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف أما عبد الرحمن فإنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة آلاف درهم صدقة فقال: كان عندي ثمانية آلاف درهم فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف درهم وأربعة آلاف أقرضها ربي فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت " وأما عثمان رضي الله تعالى عنه فقال: علي جهاز من لا جهاز له في غزوة تبوك فجهز المسلمين بألف بعير بأقتابها وأحلاسها وتصدق برومة ركية كانت له على المسلمين، وقال أبو سعيد الخدري: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعا يديه يدعو لعثمان ويقول: " يا رب عثمان بن عفان رضيت عنه فارض عنه فما زال رافعا يديه حتى طلع الفجر " فأنزل الله تعالى فيه * (الذين ينفقون) * الخ.
* (لهم أجرهم) * حسبما وعدهم في ضمير التمثيل وهو جملة من مبتدأ وخبر وقعت خبرا عن الموصول، وفي تكرير الإسناد وتقييد الأجر بقوله تعالى: * (لهم) * * (عند ربهم) * من التأكيد والتشريف ما لا يخفى وكان مقتضى الظاهر أن يدخل الفاء في حيز الموصول لتضمنه معنى الشرط كما في قولك: الذي يأتيني فله درهم لكنه عدل عن ذلك إيهاما بأن هؤلاء المنفقين مستحقون للأجر لذواتهم وما ركز في نفوسهم من نية الخير لا لوصف الإنفاق فإن الاستحقاق به استحقاق وصفي، وفيه ترغيب دقيق لا يهتدي إليه إلا بتوفيق، وجوز أن يكون تخلية الخبر عن الفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها للإيذان بأن
33

ترتيب الأجر على ما ذكر من الإنفاق وترك اتباع المن والأذى أمر بين لا يحتاج إلى التصريح بالسببية * (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * المراد بيان دوام انتفائهما لا بيان انتفاء دوامهما وقد تقدم الكلام على نظيرها.
* (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعهآ أذى والله غنى حليم) *.
* (قول معروف) * أي كلام جميل يرد به السائل مثل يرحمك الله يرزقك الله إن شاء الله تعالى أعطيك بعد هذا * (ومغفرة) * أي ستر لما وقع من السائل من الإلحاف في المسألة وغيره مما يثقل على المسؤول وصفح عنه * (خير) * للسائل * (من صدقة) * عليه * (يتبعها) * من المتصدق * (أذى) * له لكونها مشوبة بضرر ما يتبعها وخلوص الأوليين من الضرر، وقيل: يحتمل أن يراد بالمغفرة مغفرة الله تعالى للمسؤول بسبب تحمله ما يكره من السائل أو مغفرة السائل ما يشق عليه من رد المسؤول خير للمسؤول من تلك الصدقة، وفيه أن الأنسب أن يكون المفضل والمفضل عليه في هذا المقام كلاهما صفتي شخص واحد - وعلى هذين الوجهين -
ليس كذلك على أن اعتبار الخيرية فيهما يؤدي إلى أن يكون في القصة الموصوفة بالنسبة إليه خير في الجملة مع بطلانها بالمرة، وجعل الكلام من باب هو خير من لا شيء ليس بشيء، والجملة مستأنفة مقررة لاعتبار ترك اتباع المن والأذى، وإنما لم يذكر المن لأن الأذى يشمله وغيره، وذكره فيما تقدم اهتماما به لكثرة وقوعه من المتصدقين وعسر تحفظهم عنه، وصح الابتداء بالنكرة في الأول: لاختصاصها بالوصف وفي الثاني: بالعطف أو بالصفة المقدرة، وقال يقال: إن المعطوف تابع لا يفتقر إلى مسوغ. * (والله غني) * عن صدقات العباد وإنما أمرهم بها لمصلحة تعود إليهم أو عن الصدقة بالمن والأذى فلا يقبلها، أو غنى لا يحوج الفقراء إلى تحمل مؤونة المن والأذى ويرزقهم من جهة أخرى * (حليم) * فلا يعجل بالعقوبة على المن والإيذاء لا أنهم لا يستحقونها بسببهما، والجملة تذييل لما قبلها مشتملة على الوعد والوعيد مقررة لاعتبار الخيرية بالنسبة إلى السائل قطعا.
* (ياأيها الذين ءامنوا لا تبطلوا صدق‍اتكم بالمن والاذى ك الذى ينفق ماله رئآء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الاخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شىء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الك‍افرين) *.
* (ي‍اأيها الذين ءآمنوا) * أقبل عليهم بالخطاب إثر بيان ما بين بطريق الغيبة البالغة في إيجاب العمل بموجب النهي ولذلك ناداهم بوصف الإيمان * (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) * أي بكل واحد منهما لأن النفي أحق بالعموم وأدل عليه، والمراد بالمن المن على الفقير كما تقدم وهو المشهور، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المراد به المن على الله تعالى، وبالأذى الأذى للفقير، واستشكل ابن عطية هذه الآية بأن ظاهرها يستدعي أن أجر الصدقة يبطل بأحد هذين الأمرين ولا يمكن توجه الإبطال بذلك إلى نفس الصدقة لأنها قد ثبتت في الواقع فلا يعقل إبطالها؛ ومن العقيدة أن السيئات لا تبطل الحسنات خلافا للمعتزلة، والآية أحد متمسكاتهم، وأجيب بأن الصدقة التي يعلم الله تعالى من صاحبها أنه يمن ويؤدي ولا تقبل حتى قيل: إنه سبحانه يجعل للملك علامة فلا يكتبها، والإبطال المتنازع فيه إنما هو في عمل صحيح وقع عند الله تعالى في حيز القبول وما هنا ليس كذلك، فمعنى * (لا تبطلوا) * حينئذ لا تأتوا بهذا العمل باطلا كذا قالوا، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر إلا أن قوله تعالى: * (ك الذي ينفق ماله رئاء الناس) * فيه نوع تأييد له بناءا على أن * (كالذي) * في محل نصب إما على أنه نعت لمصدر محذوف أي لا تبطلوها إبطالا كإبطال الذي الخ وإما على أنه حال من فاعل * (لا تبطلوا) * أي لا تبطلوها مشابهين الذي ينفق أي الذي يبطل إنفاقه بالرياء، ووجه التأييد أن المرائي بالإجماع
34

لم يأت بالعمل مقبولا صحيحا، وإنما أتى به باطلا مردودا، وقد وقع التشبيه في البين فتدبر، وانتصاب (رياء) إما على أنه علة لينفق أي لأجل ريائهم؛ أو على أنه حال من فاعله أي ينفق ماله مرائيا، وجعله نعتا لمصدر محذوف أي إنفاقا رياء الناس ليس بشيء، وقريب منه جعل الجار حالا من ضمير المصدر المقدر لأنه لا يتمشى إلا على رأي سيبويه، وأصل رياء رئاء فالهمزة الأولى عين الكلمة والثانية بدل من ياء هي لام لأنها وقعت طرفا بعد ألف زائدة، ويجوز تخفيف الهمزة الأولى بأن تقلب ياءا فرارا من ثقل الهمزة بعد الكسرة، وقد قرأ به الخزاعي والشموني. وغيرهما، والمفاعلة في فعله عند السمين على بابها لأن المرائي يرى الناس أعماله والناس يرونه الثناء عليه والتعظيم له؛ والمراد من الموصول ما يشمل المؤمن والكافر - كما قيل - وغالب المفسرين على أن المراد به المنافق لقوله تعالى: * (ولا يؤمن بالله واليوم الأخر) * حتى يرجو ثوابا أو يخشى عقابا.
* (فمثله) * أي المرائي في الإنفاق، والفاء لربط ما بعدها بما قبلها * (كمثل صفوان) * أي حجر كبير أملس وهو جمع صفوانة أو صفاء أو اسم جنس ورجح بعود الضمير إليه مفردا في قوله تعالى: * (عليه تراب) * أي شيء يسير منه * (فأصابه وابل) * أي مطر شديد الوقع - والضمير للصفوان - وقيل: للتراب. * (فتركه صلدا) * أي أملس ليس عليه شيء من الغبار أصلا، وهذا التشبيه يجوز أن يكون مفرقا فالنافق المنافق كالحجر في عدم الانتفاع ونفقته كالتراب لرجاء النفع منهما بالأجر والإنبات، ورياؤه كالوابل المذهب له سريعا الضار من حيث يظن النفع ولو جعل مركبا لصح، وقيل: إنه هو الوجه والأول ليس بشيء. * (لا يقدرون على شيء مما كسبوا) * أي لا يجدون ثواب شيء مما أنفقوا رياءا ولا ينتفعون به قطعا، والجملة مبينة لوجه الشبه أو استئناف مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا يكون حالهم حينئذ فقيل: لا يقدرون، وجعلها حالا من (الذي) كما قال السمين مهزول من القول كما لا يخفى، والضمير راجع إلى الموصول باعتبار المعنى بعد ما روعي لفظه إذ هو صفة لمفر لفظا مجموع معنى كالجمع والفريق، أو هو مستعمل للجمع كما قوله تعالى: * (وخضتم كالذي خاضوا) * (التوبة: 69) على رأي، وقوله: إن الذي حانت بفلج دماؤهم * هم القوم كل القوم يا أم خالد
وقيل: إن من والذي يتعاقبان فعومل هنا معاملته، ولا يخفى بعده، ورجوع الضمير إلى (الذين آمنوا) من قبل بالالتفات مما لا يلتفت إليه * (والله لا يهدي القوم الكافرين) * إلى ما ينفعهم، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله، وفيه تعريض بأن كلا من الرياء والمن والأذى على الإنفاق من صفات الكفار ولا بد للمؤمنين أن يجتنبوها.
* (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغآء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فأتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير) *.
* (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغآء مرضاة الله) * أي لطلب رضاه أو طالبين له. * (وتثبيتا من أنفسهم) * أي ولتثبيت أو مثبتين بعض أنفسهم على الإيمان - فمن تبعيضية - كما في قولهم: هز من
35

عطفيه وحرك من نشاطه فإن للنفس قوى بعضها مبدأ بذل المال، وبعضها مبدأ بذل الروح فمن سخر قوة بذل المال لوجه الله تعالى فقد ثبت بعض نفسه، ومن سخر قوة بذل المال وقوة بذل الروح فقد ثبت كل نفس، وقد يجعل مفعول (تثبيتا) محذوفا أي تثبيتا للإسلام وتحقيقا للجزاء من أصل أنفسهم وقلوبهم - فمن - ابتدائية كما في قوله تعالى: * (حسدا من عند أنفسهم) * (البقرة: 109) ويحتمل أن يكون المعنى: وتثبيتا من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقة الإيمان مخلصة فيه، ويعضده قراءة
مجاهد (وتبيينا من أنفسهم)، وجوز أن تكون * (من) * بمعنى اللام والمعنى توطينا لأنفسهم على طاعة الله تعالى وإلى ذلك ذهب أبو علي الجبائي - وليس بالبعيد - وفيه تنبيه على أن حكمة الإنفاق للمنفق تزكية النفس عن البخل وحب المال الذي هو الداء العضال والرأس لكل خطيئة.
* (كمثل جنة بربوة) * أي بستان بنشز من الأرض، والمراد تشبيه نفقة هؤلاء في الزكاء بهذه الجنة، واعتبر كونها في ربوة لأن أشجار الربى تكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا للطافة هوائها وعدم كثافته بركوده. وقرأ ابن عامر وعاصم بربوة بالفتح، والباقون بالضم، وابن عباس بالكسر، وقرىء - رباوة - وكلها لغات، وقرىء - كمثل حبة - بالحاء والباء * (أصابها وابل) * مطر شديد * (فاتت) * أي أعطت صاحبها أو الناس ونسبة الإيتاء إليها مجاز * (أكلها) * بالضم الشيء المأكول والمراد ثمرها وأضيف إليها لأنها محله أو سببه، وقرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع بسكون الكاف تخفيفا * (ضعفين) * أي ضعفا بعد ضعف فالتثنية للتكثير، أو مثلي ما كانت تثمر في سائر الأوقات بسبب ما أصابها من الوابل، أو أربعة أمثاله بناءا على الخلاف في أن الضعف هل هو المثل أو المثلان، وقيل: المراد تأتي أكلها مرتين في سنة واحدة كما قيل في قوله تعالى: * (تؤتي أكلها كل حين) * (إبراهيم: 25) ونصبه على الحال من أكلها أي مضاعفا * (فإن لم يصبها وابل فطل) * أي فيصيبها، أو فالذي يصيبها طل أو فطل يكفيها، والمراد أن خيرها لا يخلف على كل حال لجودتها وكرم منبتها ولطافة هوائها و - الطل - الرذاذ من المطر وهو اللين منه.
وحاصل هذا التشبيه أن نفقات هؤلاء زاكية عند الله تعالى لا تضيع بحال وإن كانت تتفاوت بحسب تفاوت ما يقارنها من الإخلاص والتعب وحب المال والإيصال إلى الأحوج التقي وغير ذلك، فهناك تشبيه حال النفقة النامية لابتغاء مرضاة الله تعالى الزاكية عن الأدناس لأنها للتثبيت الناشىء عن ينبوع الصدق والإخلاص بحال جنة نامية زاكية بسبب الربوة وأحد الأمرين الوابل، والطل، والجامع النمو المقرون بالزكاء على الوجه الأتم، وهذا من التشبيه المركب العقلي ولك أن تعتبر تشبيه حال أولئك عند الله تعالى بالجنة على الربوة ونفقتهم القليلة والكثيرة بالوابل والطل؛ فكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكل تلك الجنة فكذلك نفقتهم جلت أو قلت بعد أن يطلب بها وجه الله تعالى زاكية زائدة في زلفاهم وحسن حالهم عند ربهم جل شأنه كذا قيل: - وهو محتمل - لأن يكون التشبيه حينئذ من المفرق - ويحتمل أن يكون من المركب - والكلام مساق للإرشاد إلى انتزاع وجه الشبه وطريق التركيب، والفرق إذ ذاك بأن الحال للنفقة في الأول وللمنفق في الثاني.
والحاصل أن حالهم في إنتاج القل والكثر منهم الأضعاف لأجورهم كحال الجنة في إنتاج الوابل والطل الواصلين إليها الإضعاف لأثمارها، واختار بعضهم الأول، وأبى آخرون الثاني فافهم * (والله بما تعملون بصير) * فيجازي كلا من المخلص والمرائي بما هو أعلم به، ففي الجملة ترغيب للأول، وترهيب للثاني مع ما فيها من الإشارة
36

إلى الحط على الأخير حيث قصد بعمله رؤية من لا تغني رؤيته من لا تغني رؤيته شيئا وترك وجه البصير الحقيقي الذي تغني وتفقر رؤيته عز شأنه.
* (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجرى من تحتها الأنه‍ار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفآء فأصابهآ إعصار فيه نار فاحترقت كذالك يبين الله لكم الآي‍ات لعلكم تتفكرون) *.
* (أيود أحدكم) * أي أيحب أحدكم، وكذلك قرأ عمر رضي الله تعالى عنه في رواية عنه والهمزة فيه للإنكار * (أن تكون له جنة) * وقرىء جنات * (من نخيل وأعناب) * أي كائنة من هذين الجنسين النفيسين على معنى أنهما الركن والأصل فيها لا على أن لا يكون فيها غيرهما، والنخيل - قيل: اسم جمع، وقيل: جمع نخل وهو اسم جنس جمعي، و (أعناب) جمع عنبة ويقال عنباء فلا ينصرف لألف التأنيث الممدودة وحيث جاء في القرآن ذكر هذين الأمرين فإنما ينص على النخل دون ثمرتها وعلى ثمرة الكرم دون شجرتها ولعل ذلك - لأن النخلة كلها منافع - ونعمت العمات هي أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها حين يأذن ربها، وأعظم منافع الكرم ثمرته دون سائره، وفي بعض الآثار - ولم أجده في كتاب يعول عليه - إن الله تعالى يقول: أتكفرون بي وأنا خالق العنب، و - الجنة - تطلق على الأشجار الملتفة المتكاثفة، وعلى الأرض المشتملة عليها، والأول أنسب بقوله تعالى: * (تجري من تحتها الأنهار) * إذ على الثاني يحتاج إلى تقدير مضاف أي من تحت أشجارها وكذا يحتاج إلى جعل إسناد الاحتراق إليها فيما سيأتي مجازيا؛ والجملة في موضع رفع صفة (جنة) أو في موضع نصب حال منها لوصفها بالجار والمجرور قبل.
* (له فيها من كل الثمرات) * الظرف الأول: في محل رفع خبر مقدم، والثاني: حال من الضمير المستتر في الخبر، والثالث: نعت لمبتدأ محذوف أي رزق أو ثمر كائن من كل الثمرات، وجوز زيادة (من) على مذهب الأخفش، وحينئذ لا يحتاج إلى القول بحذف المبتدأ، وعلى التقديرين ليس المراد بالثمرات العموم بل إنما هو الكثير، ومن الناس من جوز كون المراد من الثمرات المنافع، وهذا يجعل ذكر ذينك الجنسين لعدم احتواء الجنة على ما سواهما، ومنهم من قال: إن هذا من ذكر العام بعد الخاص للتتميم وليس بشيء * (وأصابه الكبر) * أي أثر فيه علو السن والشيخوخة وهو أبلغ من كبر، والواو للحال، والجملة بتقدير قد في موضع نصب على الحال من فاعل - يود - أي أيود أحدكم ذلك في هذه الحال التي هي مظنة شدة الحاجة إلى منافع تلك الجنة ومئنة العجز عن تدارك أسباب المعاش، وقيل: الواو للعطف ووضع الماضي موضع المضارع كما قاله الفراء، أو أول المضارع بالماضي أي لو كانت له جنة وأصابه الكبر، واعترضه أبو حيان بأن ذلك يقتضي دخول الإصابة في حيز التمني * (وأصابه الكبر) * لا يتمناها أحد، والجواب أن ذلك غير وارد لما أن الاستفهام للإنكار فهو ينكر الجمع بينهما لا يخفى ما فيه.
* (وله ذرية ضعفآء) * في موضع الحال من الضمير في - أصابه - أي أصابه الكبر، والحال أن له صبية ضعفاء لا يقدرون على الكسب وترتيب معاشه ومعاشهم، و - الضعفاء - جمع ضعيف كشركاء جمع شريك، وترك التعبير بصغار مع مقابلة الكبر لأنه أنسب كما لا يخفى، وقرىء - ضعاف - * (فأصابها إعصار) * أي
ريح تستدير على نفسها وتكون مثل المنارة وتسمى الزوبعة وهي قد تكون هابطة، وقد تكون صاعدة خلافا لما يفهمه ظاهر كلام البعض من تخصيصها بالثانية، وسبب الأولى: أنه إذا انفصل ريح من سحابة وقصدت النزول فعارضها في طريق نزولها قطعة من السحاب وصدمتها من تحتها ودفعها من فوقها سائر الرياح بقيت ما بين دافعين دافع من العلو ودافع من السفل فيعرض من الدفعين المتمانعين أن تستدير وربما
37

زادها تعوج المنافذ تلويا كما يعرض للشعر أن لا يتجعد بسبب التواء مسامه، وسبب الثانية: أن المادة الريحية إذا وصلت إلى الأرض وقرعتها قرعا عنيفا ثم أثبتت فقلبتها ريح أخرى من جهتها التوت واستدارت وقد تحدث أيضا من تلاقي ريحين شديدتين وربما بلغت قوتها إلى حيث تقلع الأشجار وتخطف المراكب من البحر، وعلامة النازلة أن تكون لفائفا تصعد وتنزل معا كالراقص، وعلامة الصاعدة أن لا يرى للفائفها إلا الصعود وقد يكون كل منهما بمحض قدرة الله تعالى من غير توسط سبب ظاهر وربما اشتمل دور الزوبعة على بخار مشتعل قوي فيكون نارا تدور أيضا، ولتعيين هذا النوع وصف الإعصار بقوله سبحانه: * (فيه نار) * وتذكير الضمير لاعتبار التذكير فيه وإنما سمي ذلك الهواء إعصارا لأنه يلتف كما يلتف الثوب المعصور، وقيل: لأنه يعصر السحاب أو يعصر الأجسام المار بها، والتنوين في النار للتعظيم وروي عن ابن عباس أن الإعصار الريح الشديدة مطلقا وأن المراد من النار السموم وذكر سبحانه الإعصار ووصفه بما ذكر، ولم يقتصر على ذكر النار كأن يقال - فأصابها نار - * (فاحترقت) * لما في تلك الجملة من البلاغة ما فيها لمن دقق النظر، والفعل المقرون بالفاء عطف على * (أصابها) * وقيل: على محذوف معطوف عليه أي فأحرقها - فاحترقت - وهذا كما روي عن السدي تمثيل حال من ينفق ويضم إلى إنفاقه ما يحبطه في الحسرة والأسف إذا كان يوم القيامة واشتدت حاجته إلى ذلك ووجده هباءا منثورا بحال من هذا شأنه.
وأخرج عبد بن حميد عن عطاء أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: آية من كتاب الله تعالى ما وجدت أحدا يشفيني عنها قوله تعالى: * (أيحب أحدكم أن تكون له) * الخ فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين إني أجد في نفسي منها فقال له عمر: فلم تحقر نفسك؟! فقال: يا أمير المؤمنين هذا مثل ضربه الله تعالى فقال: أيحب أحدكم أن يكون عمره يعمل بعمل أهل الخير وأهل السعادة حتى إذا كبر سنه وقرب أجله ورق عظمه وكان أحوج إلى ما يكون أن يختم عمله بخير عمل بعمل أهل الشقاء فأفسد عمله فأحرقه قال: فوقعت على قلب عمر وأعجبته. وفي رواية البخاري والحاكم وابن جرير وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال عمر يوما لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فيم ترون هذه الآية نزلت * (أيود أحدكم) * الخ؟ قالوا: الله تعالى أعلم فغضب عمر فقال: قولوا نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين فقال عمر: يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ضربت لرجل غني عمل بطاعة الله تعالى ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله، قيل: وهذا أحسن من أن يكون تمثيلا لمن يبطل صدقته بالمن والأذى والرياء، وفصل عنه لاتصاله بما ذكر بعده أيضا لأن ذلك لا عمل له، وأجيب بأن له عملا يجازى عليه بحسب ظاهر حاله وظنه وهو يكفي للتمثيل المذكور، وأنت تعلم أن هذا لا يدفع أحسنية ذلك لا سيما وقد قاله ترجمان القرآن وارتضاه الأمير المحدث رضي الله تعالى عنه.
* (كذالك) * أي مثل ذلك البيان الواضح الجاري في الظهور مجرى الأمور المحسوسة * (يبين الله لكم الأيات لعلكم تتفكرون) * أي كي تتفكروا فيها وتعتبروا بما تضمنته من العبر وتعملوا بموجبها، أو لعلكم تعملون أفكاركم فيما يفنى ويضمحل من الدنيا وفيما هو باق لكم في الأخرى فتزهدون في الدنيا وتنفقون مما آتاكم الله تعالى منها وترغبون في الآخرة ولا تفعلون ما يحزنكم فيها.
* (ياأيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيب‍ات ما كسبتم وممآ أخرجنا لكم من الارض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بأخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد) *.
* (ي‍اأيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبات) * أي جياد أو حلال
38

* (ما كسبتم) * أي الذي كسبتموه أو كسبكم أي مكسوبكم من النقد وعروض التجارة والمواشي. وأخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في * (طيبات ما كسبتم) *: من الذهب والفضة وفي قوله تعالى: * (ومما أخرجنا لكم من الأرض) * يعني من الحب والتمر وكل شيء عليه زكاة، والجملة لبيان حال ما ينفق منه إثر بيان أصل الإنفاق وكيفيته وأعاد (من) في المعطوف لأن كلا من المتعاطفين نوع مستقل، أو للتأكيد - ولعله أولى - وترك ذكر - الطيبات - لعلمه مما قبله، وقيل: لعلمه مما بعد، وبعض جعل (ما) عبارة عن ذلك.
* (ولا تيمموا) * أي تقصدوا وأصله تتيمموا بتاءين فحذفت إحداهما تخفيفا إما الأولى وإما الثانية على الخلاف، وقرأ عبد الله (ولا تأمموا)، وابن عباس (تيمموا) بضم التاء والكل بمعنى * (الخبيث) * أي الردىء وهو كالطيب من الصفات الغالبة التي لا تذكر موصوفاتها * (منه تنفقون) * الضمير المجرور للخبيث وهو متعلق - بتنفقون - والتقديم للتخصيص، والجملة حال مقدرة من فاعل * (تيمموا) * أي لا تقدصدوا الخبيث قاصرين الإنفاق عليه، أو من الخبيث أي مختصا به الإنفاق، وأيا ما كان لا يرد أنه يقتضي أن يكون النهي عن الخبيث الصرف فقط مع أن المخلوط أيضا كذلك لأن التخصيص لتوبيخهم بما كانوا يتعاطون من إنفاق الخبيث خاصة. فعن عبيدة السلماني قال: سألت عليا كرم الله تعالى وجهه عن هذه الآية فقال: نزلت في الزكاة المفروضة كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه فيعزل الجيد ناحية فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه من الردىء فقال الله تعالى: * (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) * وقيل: متعلق بمحذوف وقع حالا من (الخبيث)، والضمير راجع إلى المال الذي في ضمن القسمين، أو لما أخرجنا وتخصيصه بذلك لأن الرداءة فيه أكثر وكذا الحرمة لتفاوت أصنافه ومجالبه، و * (تنفقون) * حال من الفاعل المذكور - أي ولا تقصدوا الخبيث كائنا من المال - أو مما أخرجنا لكم منفقين إياه وقوله تعالى: * (ولستم بأخذيه) * حال على كل حال من ضمير * (تنفقون) * أي - والحال
أنكم لستم بآخذيه في وقت من الأوقات - أو بوجه من الوجوه * (إلا أن تغمضوا فيه) * إلا وقت إغماضكم أو إلا بإغماضكم فيه والإغماض كالغمض إطباق الجفن لما يعرض من النوم، وقد استعير هنا - كما قال الراغب - للتغافل والتساهل، وقيل: إنه كناية عن ذلك ولا يخلو عن تساهل وتغافل، وذكر أبو البقاء أنه يستعمل متعديا - وهو الأكثر - ولازما مثل أغضى عن كذا، والآية محتملة للأمرين، وعلى الأول: يكون المفعول محذوفا أي أبصاركم، والجمهور على ضم التاء وإسكان العين وكسر الميم، وقرأ الزهري - تغمضوا - بتشديد الميم، وعنه أيضا - تغمضوا - بضم الميم وكسرها مع فتح التاء، وقرأ قتادة - تغمضوا - على البناء للمفعول أي تحملوا على الإغماض أي توجدوا مغمضين وكلا المعنيين مما أثبته الحفاظ ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، والمنسبك من * (أن) * والفعل على كل تقدير في موضع الجر كما أشرنا إليه، وجوز أبو البقاء أن يكون في موضع النصب على الحالية، وسيبويه لا يجوز أن تقع * (أن) * وما في حيزها حالا، وزعم الفراء * (أن) * هنا شرطية لأن معناه إن أغمضتم أخذتم، وينبغي أن يغمض طرف القبول عنه، ومن البعيد في الآية ما قيل: إن الكلام تم عند قوله تعالى: * (ولا تيمموا الخبيث) * ثم استؤنف فقيل على طريقة التوبيخ والتقريع: * (منه تنفقون) * والحال - أنكم لا تأخذونه إلا إن أغمضتم - فيه ومآله الاستفهام الإنكاري فكأنه قيل: أمنه تنفقون الخ، وهو على بعده خلاف التفاسير المأثورة عن السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم.
39

* (واعلموآ أن الله غني) * عن نفقاتكم وإنما أمركم بها لانتفاعكم، وفي الأمر بأن يعلموا ذلك مع ظهور علمهم به توبيخ لهم على ما يصنعون من إعطاء الخبيث وإيذان بأن ذلك من آثار الجهل بشأنه عن شأنه * (حميد) * أي مستحق للحمد على نعمه، ومن جملة الحمد اللائق بجلاله تحري إنفاق الطيب مما أنعم به، وقيل: حامد بقبول الجيد والإثابة عليه، واحتج بالآية على وجوب زكاة قليل ما تخرجه الأرض وكثيره حتى البقل، واستدل بها على أن من زرع في أرض اكتراها فالزكاة عليه لا على رب الأرض لأن * (أخرجنا لكم) * يقتضي كونه على الزارع وعلى أن صاحب الحق لا يجبر على أخذ المعيب بل له الرد وأخذ سليم بدله.
* (الشيط‍ان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشآء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم) *.
* (الشيط‍ان يعدكم الفقر) * استئناف لبيان سبب تيمم الخبيث في الإنفاق وتوهين شأنه والوعد في أصل وضعه لغة شائع في الخير والشر، وأما في الاستعمال الشائع فالوعد في الخير والإيعاد في الشر حتى يحملوا خلافه على المجاز والتهكم، وقد استعمل هنا في الشر نظرا إلى أصل الوضع لأن الفقر مما يراه الإنسان شرا، ولهذا يخوف الشيطان به المتصدقين فيقول لهم: لا تنفقوا الجيد من أموالكم وأن عاقبة إنفاقكم أن تفتقروا، وتسمية ذلك وعدا مع أنه اعتبر فيه الإخبار بما سيكون من جهة المخبر والشيطان لم يضف مجىء الفقر إلى جهته للإيذان بمبالغة اللعين في الإخبار بتحقق مجيئه كأنه نزله في تقرر الوقوع منزلة أفعاله الواقعة حسب إرادته، أو لوقوعه في مقابلة وعده تعالى على طريق المشاكلة، ومن الناس من زعم أن استعمال الوعد هنا في الخير حسب الاستعمال الشائع، والمراد أن ما يخوفكم به هو وعد الخير لأن الفقر للإنفاق أجل خير، ولا يخفى أنه بمراحل عن مذاق التنزيل، وقرىء - الفقر - بالضم والسكون وبفتحتين وضمتين وكلها لغات في الفقر وأصله كسر فقار الظهر.
* (ويأمركم بالفحشآء) * أي الخصلة الفحشاء وهي البخل وترك الصدقات والعرب تسمي البخيل فاحشا قال كعب: أخي يا أخي (لا فاحشا) عند بيته * ولا برم عند اللقاء هيوب
والمراد بالأمر بذلك الإغراء والحث عليه ففي الكلام استعارة مصرحة تبعية، وقيل: المراد بالفحشاء سائر المعاصي وحملها على الزنا نعوذ بالله منه؛ وجوز أن تكون بمعنى الكلمة السيئة فتكون هذه الجملة كالتأكيد للأولى وقدم وعد الشيطان على أمره لأنه بالوعد يحصل الاطمئنان إليه فإذا اطمأن إليه وخاف الفقر تسلط عليه بالأمر إذ فيه استعلاء على المأمور * (والله يعدكم) * في الإنفاق على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم * (مغفرة) * لذنوبكم، وعن قتادة لفحشائكم، والتنوين فيها للتفخيم وكذا وصفها بقوله تعالى: * (منه) * فهو مؤكد لفخامتها، وفيه تصريح بما علم ضمنا من الوعد كما علمت مبالغة في توهين أمر الشيطان * (وفضلا) * أي رزقا وخلفا - وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - فتكون المغفرة إشارة إلى منافع الآخرة، وهذا إشارة إلى منافع الدنيا. وفي الحديث: " ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا " وقدم منافع الآخرة لأنها أهم عند المصدق بها، وقيل: المغفرة والفضل كلاهما في الآخرة وتقديم الأول حينئذ لتقدم التخلية على التحلية ولكون رفع المفاسد أولى من جلب المصالح، وفي الآية * (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) * (آل عمران: 185) وحذف صفة الثاني لدلالة المذكور عليها * (والله واسع) * بالرحمة والفضل * (عليم) * بما تنفقونه فيجازيكم عليه، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله ومثلها في [بم قوله تعالى:
40

* (يؤتى الحكمة من يشآء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألب‍اب) *.
* (يؤتى الحكمة) * أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنها المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله، وفي رواية عنه الفقه في القرآن، ومثله عن قتادة والضحاك وخلق كثير، وما روى ابن المنذر عن ابن عباس أنها النبوة يمكن أن يحمل على هذا لما أخرج البيهقي عن أبي أمامة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرأ ثلث القرآن أعطي ثلث النبوة ومن قرأ نصف القرآن أعطي نصف النبوة ومن قرأ ثلثيه أعطي ثلثي النبوة ومن قرأ القرآن كله أعطي كل النبوة ويقال له يوم القيامة اقرأ وارق بكل آية درجة حتى ينجز ما معه من القرآن فيقال له اقبض فيقبض فيقال له هل تدري ما في يديك؟ فإذا في يده اليمنى الخلد وفي الأخرى النعيم " وليس المراد من القراءة في هذا الخبر مجردها إذ ذلك مما يشترك فيه البر والفاجر ولكن المراد قراءة بفقه ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء - الحكمة قراءة القرآن والفكرة فيه - وعن مجاهد أنها الإصابة في القول والعمل، وفي رواية عنه أنها القرآن والعلم والفقه، وفي
أخرى العلم الذي تعظم منفعته وتجل فائدته، وعن عطاء أنها المعرفة بالله تعالى، وقال أبو عثمان: هي نور يفرق به بين الوسواس والإلهام، وقيل غير ذلك، وفي " البحر " أن فيها تسعة وعشرين قولا لأهل العلم قريب بعضها من بعض، وعد بعضهم الأكثر منها اصطلاحا واقتصارا على ما رآه القائل فردا مهما من الحكمة وإلا فهي في الأصل مصدر من الإحكام وهو الاتقان في علم أو عمل أو قول أو فيها كلها، وعن مقاتبل أنها فسرت في القرآن بأربعة أوجه فتارة بمواعظ القرآن وأخرى بما فيه من عجائب الأسرار ومرة بالعلم والفهم وأخرى بالنبوة. قيل: ولعل الأنسب بالمقام ما ينتظم الأحكام المبينة في تضاعيف الآية الكريمة من أحد والوجهين الأولين ومعنى إيتائها تبيينها والتوفيق للعمل بها أي تبيينها ويوفق للعلم والعمل بها.
* (من يشآء) * من عباده أن يؤتيها إياه بموجب سعة فضله وإحاطة علمه كما آتاكم ما بينه في ضمن الآي من الحكم البالغة التي يدور عليها فلك منافعكم فاغتنموها وسارعوا إلى العمل بها * (ومن يؤت الحكمة) * بناه للمفعول إما لأن المقصود بيان فضيلة من نال الحكمة بقطع النظر عن الفاعل وإما لتعين الفاعل والإظهار في مقام الإضمار للاعتناء بشأن هذا المظهر ولهذا قدم من قبل على المفعول الأول وللإشعار بعلة الحكم، وقرأ يعقوب - يؤتي - على البناء للغاعل وجعل * (من) * الشرطية مفعولا مقدما أو مبتدأ والعائد محذوف، ويؤيد الثاني قراءة الأعمش (ومن يؤته الحكمة)
* (فقد أوتى خيرا) * عظيما * (كثيرا) * إذ قد جمع له خير الدارين. أخرج الطبراني عن أبي أمامة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لقمان قال لابنه: يا بني عليك بمجالسة العلماء واسمع كلام الحكماء فإن الله تعالى يحيي القلب الميت بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر " وأخرج البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا حسد إلا اثنتين رجل آتاه الله تعالى مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله تعالى الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها " وأخرج الطبراني عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يبعث الله تعالى العباد يوم القيامة ثم يميز العلماء فيقول: يا معشر العلماء إني لم أضع فيكم علمي لأعذبكم اذهبوا فقد غفرت لكم " وفي رواية عن ثعلبة بن الحكم أنه سبحانه يقول: " إني لم أجعل علمي وحكمي فيكم إلا وأنا أريد أن
41

أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي " وهذا بالنسبة إلى حملة العلم الشرعي الذي جاء به حكيم الأنبياء ونبي الحكماء حضرة خاتم الرسالة ومحدد جهات العدالة والبسالة صلى الله عليه وسلم لا ما ذهب إليه جالينوس وديمقراطيس. وأفلاطون وأرسطاليس ومن مشى على آثارهم واعتكف في رواق أفكارهم فإن الجهل أولى بكثير مما ذهبوا إليه وأسلم بمراتب مما عولوا عليه حتى إن كثيرا من العلماء نهوا عن النظر في كتبهم واستدلوا على ذلك بما أخرجه الإمام أحمد وأبو يعلى من حديث جابر " أن عمر رضي الله تعالى عنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوامع كتبها من التوراة ليقرأها ويزداد بها علما إلى علمه فغضب ولم يأذن له وقال: لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي " وفي رواية " يكفيكم كتاب الله تعالى " ووجه الاستدلال أنه صلى الله عليه وسلم لم يبح استعمال الكتاب الذي جاء به موسى هدى ونورا في وقت كانت فيه أنوار النبوة ساطعة وسحائب الشبه والشكوك بالرجوع إليه منقشعة فكيف يباح الاشتغال بما وضعه المتخبطون من فلاسفة اليونان إفكا وزورا في وقت كثرت فيه الظنون وعظمت فيه الأوهام وعاد الإسلام فيه غريبا، وفي كتاب الله تعالى غنى عما سواه كما لا يخفى على من ميز القشر من اللباب والخطأ من الصواب * (وما يذكر إلا أولوا الألب‍اب) * أي ما يتعظ أو ما يتفكر في الآيات إلا ذوو العقول الخالصة عن شوائب الوهم وظلم اتباع الهوى وهؤلاء هم الذين أوتوا الحكمة ولاظهار الاعتناء بمدحهم بهذه الصفة أقيم الظاهر مقام المضمر، والجملة إما حال أو اعتراض تذييلي. ومن باب الإشارة في الآيات: أنها اشتملت على ثلاثة إنفاقات متفاضلة الأول: الانفاق في سبيل الله تعالى وهو إنفاق في عالم الملك عن مقام تجلي الأفعال، وإلى هذا أشار بقوله سبحانه: * (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة) * (البقرة: 261) الخ، والثاني: الإنفاق عن مقام مشاهدة الصفات وهو الانفاق لطلب رضا الله تعالى، وإليه أشار بقوله تعالى: * (الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله) * (البقرة: 265) ومن تمثيله بجنة يعلم مقدار فضله على الأول الممثل بحبة، ولعل فضل أحدهما على الآخر كفضل الجنة على الحبة، ومما يزيد في الفرق أن الجنة مع إيتاء أكلها تبقى بحالها بخلاف الحبة، ولتأكيد الإشارة إلى ارتفاع رتبة هذا الانفاق على الأول أتى بالربوة وهي المرتفع من الأرض، والثالث: الإنفاق بالله تعالى وهو عن مقام شهود الذات وهو إنفاق النفس بعد تزكيها وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم) * (البقرة: 267) والنفس مكتسبة بهذا الاعتبار وجزاء الإنفاق الأول الإضعاف إلى سبعمائة وتزيد لأن يد الطول طويلة، وجزاء الثاني الجنة الصفاتية المثمرة للإضعاف؛ وجزاء الثالث الحكمة اللازمة للوجود الموهوب بعد البذل وهي الخير العظيم الكثير لأنها أخص صفاته تعالى، وصاحب هذا الإنفاق لا يزال ينفق من الحكم الالهية والعلوم اللدنية لارتفاع البين وشهود العين وقد نبه سبحانه في أثناء ذلك على أن الإنفاق يبطله المن والأذى لأنه إنما يكون محمودا لثلاثة أوجه كونه موافقا للأمر - وهو حال له بالنسبة إليه تعالى - وكونه مزيلا لرذائل البخل - وهو حال له بالنسبة إلى المنفق نفسه - وكونه نافعا مريحا - وهو حال له بالنسبة إلى المستحق - فإذا من صاحبه وآذى فقد خالف أمر الله تعالى وأتى بما ينافي راحة المستحق ونفعه وظهرت نفسه بالاستطالة والاعتداد والعجب والاحتجاب بفعلها ورؤية النعمة منها لا من الله تعالى وكلها رذائل أردأ من البخل ولهذا كان القول الجميل خيرا من الصدقة المتبوعة بالأذى بل لا نسبة.
* (ومآ أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظ‍المين من أنصار) *.
* (وما أنفقتم من نفقة) * قليلة أو كثيرة سرا أو علانية في حق أو باطل، فالآية بيان لحكم كلي شامل
42

لجميع أفراد النفقات أو ما في حكمها إثر بيان حكم ما كان منها في سبيل الله تعالى * (أو نذرتم من نذر) * متعلق بالمال أو بالأفعال بشرط أو بغير شرط في طاعة أو معصية، والنذر عقد القلب على شيء والتزامه على وجه مخصوص قيل: وأصله الخوف لأن الشخص يعقد ذلك على نفسه خوف التقصير أو خوف وقوع أمر خطير
ومنه نذر الدم وهو العقد على سفكه للخوف من مضرة صاحبه قال عمرو بن معدى كرب: هم (ينذرون دمي) وأن‍ * - ذر إن لقيت بأن أشدا
وفعله كضرب ونصر، وعن يونس فيما حكاه الأخفش تقول العرب: نذر على نفسه نذرا ونذرت مالي فأنا أنذره نذرا * (فإن الله يعلمه) * كناية عن مجازاته سبحانه عليه وإلا فهو معلوم، والفاء داخلة في الجواب إن كانت * (ما) * شرطية وصلة في الخبر إن كانت موصولة وتوحيد الضمير مع أن متعلق العلم متعدد لاتحاد المرجع بناءا على كون العطف بكلمة أو وهي لأحد الشيئين، وقال ابن عطية: إن التوحيد باعتبار المذكور وكأنه لم يعتبر المذكور لاعتبار المرجع النفقة والنذر المذكورين دون المصدرين المفهومين من فعليهما وهما المتعاطفان - بأو دونهما، وعلى تسليم أن عطف الفعلين مستلزم لعطفهما لا ينبغي اعتبارهما أيضا لأن الضمير مذكر قطعا وهما مذكر ومؤنث، واعتبار أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح ولا يخفى ما فيه فإن مثل هذا الضمير قد يعتبر فيه حال المقدم مراعاة للأولية كما في قوله تعالى: * (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها) * (الجمعة: 11) وقد يعتبر فيه حال المؤخر مراعاة للقرب كما في قوله تعالى: * (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا) * (النساء: 112) وكل منهما سائغ شائع في الفصيح وما نحن فيه من الثاني إن اعتبر المذكور صريحا والتزام التأويل في جميع ما ورد تعسف مستغنى عنه كما لا يخفى، نعم جوز إرجاع الضمير إلى * (ما) * لكن على تقدير كونها موصولة كما قاله غير واحد.
* (وما للظ‍المين) * أي الواضعين للأشياء في غير مواضعها التي يحق أن توضع فيها فيشمل المنفقين بالرياء والمن والأذى والمتحرين للخبيث في الإنفاق والمنفقين في باطل والناذرين في معصية والممتنعين عن أداء ما نذروا في حق والباخلين بالصدقة مما آتاهم الله تعالى من فضله، وخصهم أبو سليمان الدمشقي بالمنفقين بالمن والأذى والرياء والمبذرين في المعصية؛ ومقاتل بالمشركين ولعل التعميم أولى * (من أنصار) * أي أعوان ينصرونه من بأس الله تعالى لا شفاعة ولا مدافعة وهو جمع نصير - كحبيب، وأحباب - أو ناصر - كشاهد وأشهاد - والإتيان به جمعا على طريق المقابلة فلا يرد أن نفي الأنصار لا يفيد نفي الناصر وهو المراد. والقول - بأن هذا إنما يحتاج إليه إذا جعلت * (من) * زائدة ولك أن تجعلها تبعيضية أي شيء من الأنصار ليس بشيء كما يخفى والجملة استئناف مقرر للوعيد المشتمل عليه مضمون ما قبله، ونفي أن يكون للظالم على رأي مقاتل ناصر مطلقا ظاهر، وأما على تقدير أخذ المظالم عاما أو خاصا بما قاله أبو سليمان فيحتاج إلى القول بأن الآية خارجة مخرج الترهيب لما أن العاصي غير المشرك كيف ما كانت معصيته يجوز أن يكون له ناصر يشفع له عند ربه، واستدل بالآية على مشروعية النذر والوفاء به ما لم يكن معصية وإلا فلا وفاء، فقد أخرج النسائي عن عمران بن الحصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: النذر نذران فما كان من نذر في طاعة الله تعالى فذلك لله تعالى وفيه الوفاء وما كان من نذر في معصية الله تعالى فذلك للشيطان ولا وفاء فيه، ويكره ما يكفر اليمين " وتفصيل الكلام في النذر يأتي بعد إن شاء الله تعالى.
* (إن تبدوا الصدق‍ات فنعما هى وإن تخفوها وتؤتوها الفقرآء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير) *.
* (إن تبدوا الصدقات) * أي تظهروا إعطاءها، قال الكلبي: لما نزلت * (وما أنفقتم من نفقة) * (البقرة: 270) الآية قالوا: يا رسول الله
43

أصدقة السر أفضل أم صدقة العلانية؟ فنزلت، فالجملة نوع تفصيل ما أجمل في الشرطية وبيان له ولذلك ترك العطف بينهما، والمراد من الصدقات على ما ذهب إليه جمهور المفسرين صدقات التطوع، وقيل: الصدقات المفروضة، وقيل: العموم * (فنعما هي) * الفاء - جواب للشرط، - ونعم - فعل ماض، و (ما) كما قال ابن جني: نكرة تامة منصوبة على أنها تمييز وهي مبتدأ عائد للصدقات على حذف مضاف أي إبداؤها أو لا حذف، والجملة خبر عن (هي)، والرابط العموم، وقرأ ابن كثير وورش وحفص بكسر النون والعين للاتباع وهي لغة هذيل قيل: ويحتمل أنه سكن ثم كسر لالتقاء الساكنين، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح النون وكسر العين على الأصل كعلم، وقرأ أبو عمرو وقالون وأبو بكر بكسر النون وإخفاء حركة العين، وروي عنه: الإسكان أيضا - واختاره أبو عبيدة - وحكاه لغة، والجمهور على اختيار الاختلاس على الإسكان حتى جعله بعضهم من وهم الرواة، وممن أنكره المبرد والزجاج والفارسي لأن فيه جمعا بين ساكنين على غيره حده
* (وإن تخفوها) * أي تسروها والضمير المنصوب إما للصدقات مطلقا وإما إليها لفظا لا معنى بناءا على أن المراد بالصدقات المبداة المفروضة وبالمخفاة المتطوع بها فيكون من باب - عندي درهم ونصفه - أي نصف درهم آخر، وفي جمع الإبداء والإخفاء من أنواع البديع الطباق اللفظي كما أن في قوله تعالى: * (وتوتوها الفقراء) * الطباق المعنوي لأنه لا يؤتي الصدقات إلا الأغنياء قيل: ولعل التصريح بإيتائها الفقراء مع أنه لا بد منه في الإبداء أيضا لما أن الإخفاء مظنة الالتباس والاشتباه فإن الغني ربما يدعي الفقر ويقدم على قبول الصدقة سرا ولا يفعل ذلك عند الناس، وتخصيص الفقراء بالذكر اهتماما بشأنهم، وقيل: إن المبداة لما كانت الزكاة لم يذكر فيها الفقراء لأن مصرفها غير مخصوص بهم، والمخفاة لما كانت التطوع بين أن مصارفها الفقراء فقط وليس بشيء لأنه بعد تسليم أن المبداة زكاة والمخفاة تطوع لا نسلم أن مصارف الثانية الفقراء فقط - ودون إثبات ذلك الموت الأحمر - وكأنه لهذا فسر بعضهم الفقراء بالمصارف.
* (فهو خير لكم) * أي فالإخفاء * (خير لكم) * من الإبداء، وخير لكم من جملة الخيور، والأول هو الذي دلت عليه الآثار، والأحاديث في أفضلية ازخفاء أكثر من أن تحصى. أخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة أن أبا ذر قال: يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال: " صدقة سر إلى فقير أو جهد من مقل ثم قرأ الآية "، وأخرج الطبراني مرفوعا " إن صدقة السر تطفىء غضب الرب ". وأخرج البخاري " سبعة يظلمهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله - إلى أن قال - ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " والأكثرون على أن هذه الأفضلية فيما إذا كان كل من صدقتي السر والعلانية تطوعا ممن لم يعرف بمال وإلا فإبداء الفرض لغيره أفضل لنفي التهمة وكذا الإظهار أفضل لمن يقتدى به وأمن نفسه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما " صدقة السر في التطوع تفضل على علانيتها سبعين ضعفا وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمس وعشرين ضعفا " وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها.
* (ويكفر عنكم من سيئاتكم) * أي والله يكفر أو الإخفاء، والإسناد مجازي، و * (من) * تبعيضية لأن الصدقات لا يكفر بها جميع السيئات، وقيل: مزيدة على رأي
الأخفش، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية ابن عياش ويعقوب - نكفر - بالنون مرفوعا على أنه جملة مبتدأة أو اسمية معطوفة على ما بعد الفاء
44

أي ونحن نكفر، وقيل: لا حاجة إلى تقدير المبتدأ، والفعل نفسه معطوف على محل (ما) بعد الفاء لأنه وحده مرفوع لأن الفاء الرابطة مانعة من جزمه لئلا يتعدد الرابط، وقرأ حمزة والكسائي - نكفر - بالنون مجزوما بالعطف على محل الفاء مع ما بعدها لأنه جواب الشرط قاله غير واحد، واستشكله البدر الدماميني بأنه صريح في أن الفاء، و (ما) دخلت عليه في محل جزم، وقد تقرر أن الجملة لا تكون ذات محل من الإعراب إلا إذا كانت واقعة موقع المفرد وليس هذا من محال المفرد حتى تكون الجملة واقعة ذات محل من الإعراب وذلك لأن جواب الشرط إنما يكون جملة ولا يصح أن يكون مفردا فالموضع للجملة بالأصالة وادعى أن جزم الفعل ليس بالعطف على محل الجملة وإنما هو لكونه مضارعا وقع صدر جملة معطوفة على جملة جواب الشرط الجازم وهي لو صدرت بمضارع كان مجزوما فأعطيت الجملة المعطوفة حكم الجملة المعطوف عليها وهو جزم صدرها إذا كان فعلا مضارعا ويمكن دفعه بالعناية فتدبر، وقرىء - وتكفر - بالتاء مرفوعا ومجزوما على حسب ما علمت والفعل للصدقات * (والله بما تعملون) * في صدقاتكم من الإبداء والإخفاء * (خبير) * عالم لا يخفى عليه شيء فيجازيكم على ذلك كله، ففي الجملة ترغيب في الإعلان والإسرار وإن اختلفا في الأفضلية، ويجوز أن يكون الكلام مساقا للترغيب في الثاني لقربه ولكون الخبرة بالإبداء ليس فيها كثير مدح.
* (ليس عليك هداهم ول‍اكن الله يهدى من يشآء وما تنفقوا من خير فلانفسكم وما تنفقون إلا ابتغآء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) *.
* (ليس عليك هداهم) * أي لا يجب عليك أيها الرسول أن تجعل هؤلاء المأمورين بتلك المحاسن المنهيين عن هاتيك الرذائل مهديين إلى الائتمار والانتهاء - إن أنت إلا بشير ونذير ما عليه إلا البلاغ المبين - * (ول‍اكن الله يهدي) * بهدايته الخاصة الموصلة إلى المطلوب قطعا * (من يشاء) * هدايته منهم، والجملة معترضة جيء بها على طريق تلوين الخطاب وتوجيهه إلى سيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم مع الالتفات إلى الغيبة فيما بين الخطابات المتعلقة بأولئك المكلفين مبالغة في حملهم على الامتثال، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن وأبو على الجبائي، وهو مبني على رجوع ضمير * (هداهم) * إلى المخاطبين في تلك الآيات السابقة، والذي يستدعيه سبب النزول رجوعه إلى الكفار، فقد أخرج ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن لا نتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية " وأخرج ابن جرير عنه قال: كان أناس من الأنصار لهم أنسباء وقرابة وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم ويريدونهم أن يسلموا فنزلت. وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تصدقوا إلا على أهل دينكم " فأنزل الله تعالى: * (ليس عليك هداهم) * أي ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل دخولهم في الإسلام وحينئذ لا التفات، وإنما هناك تلوين الخطاب فقط، والآية حث على الصدقة أيضا ولكن بوجه آخر والارتباط على التقديرين ظاهر، وجعلها مرتبطة - بقوله سبحانه: * (يؤتي الحكمة من يشاء) * (البقرة: 269) إشارة إلى قسم آخر من الناس لم يؤتها - ليس بشيء.
* (وما تنفقوا) * في وجوه البر * (من خير) * أي مال * (فلأنفسكم) * أي فهو لأنفسكم لا ينتفع به في الآخرة غيركم * (فلا تيمموا الخبيث) * ولا تبطلوه بالمن والأذى ورئاء الناس، أو فلا تمنعوه عن الفقراء كيف كانوا فإن نفعكم به ديني ونفع الكافر منهم دنيوي، و * (ما) * شرطية جازمة لتنفقوا منتصبة به على المفعولية و * (من) * تبعيضية متعلقة بمحذوف وقع صفة لاسم الشرط مبينة ومخصصة له * (وما تنفقون إلا ابتغآء وجه الله) *
45

استثناء من أعم العلل وأعم الأحوال أي ما تنفقون بسبب من الأسباب إلا لهذا السبب، أو في حال من الأحوال إلا في هذه الحال، والجملة إما حال أو معطوفة على ما قبلها على معنى: وما تنفقوا من خير فإنما يكون لكم لا عليكم إذا كان حالكم أن لا تنفقوا إلا لأجل طلب وجه الله تعالى، أو إلا طالبين وجهه سبحانه لا مؤذين ولا مانين ولا مرائين ولا متيممين الخبيث، أو على معنى ليست نفقتكم إلا لكذا أو حال كذا فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث أو تمنعونها فقراء المشركين من أهل الكتاب وغيرهم، وقيل: إنه نفي بمعنى النهي أي لا تنفقوا إلا كذا وإقحام الوجه للتعظيم ودفع الشركة لأنك إذا قلت فعلته لوجه زيد كان أجل من قولك: فعلته له لأن وجه الشيء أشرف ما فيه ثم كثر حتى عبر به عن الشرف مطلقا، وأيضا قول القائل: فعلت هذا الفعل لفلان يحتمل الشركة وأنه قد فعله له ولغيره ومتى قال: فعلته لوجهه انقطع عرق الشركة عرفا، وجعله كثير من الخلق بمعنى الذات وبعضهم حمله هنا على الرضا وجعل الآية على حد (إلا ابتغاء مرضاة الله) تعالى، والسلف بعد أن نزهوا فوضوا كعادتهم في المتشابه.
* (وما تنفقوا من خير يوف إليكم) * أي تعطون جزاءه وافرا وافيا كما تشعر به صيغة التفعيل في الآخرة حسبما تضمنته الآيات من قبل - وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - والمراد نفي أن يكون لهم عذر في مخالفة الأمر المشار إليه في الإنفاق، فالجملة تأكيد للشرطية السابقة وليس بتأكيد صرف وإلا لفصلت ولكنها تضمنت ذلك من كون سياقها للاستدلال على قبح ترك ذلك الأمر فكأنه قيل: كيف يمن أو يقصر فيما يرجع إليه نفعه أو كيف يفعل ذلك فيما له عوض وزيادة، وهي بهذا الاعتبار أمر مستقل، وقيل: إن المعنى يوفر عليكم خلفه في الدنيا ولا ينقص به من مالكم شيء استجابة لقوله صلى الله عليه وسلم: " اللهم اجعل لمنفق خلفا ولممسك تلفا " والتوفية إكمال الشيء وإنما حسن معها إليكم لتضمنها معنى التأدية وإسنادها إلى * (ما) * مجازي وحقيقته ما سمعت، والآية بناءا على سبب النزول دليل على جواز دفع الصدقة للكافر وهو في غير الواجبة أمر مقرر، وأما الواجبة التي للإمام أخذها كالزكاة فلا يجوز، وأما غيرها كصدقة الفطر والنذر والكفارة ففيه اختلاف، والإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يجوزه، وظاهر قوله تعالى: * (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) * (الإنسان: 8) يؤيده إذ الأسير في دار الإسلام لا يكون إلا مشركا. * (وأنتم لا تظلمون) * أي لا تنقصون شيئا مما وعدتم، والجملة حال من ضمير * (إليكم) * والعامل (يوف).
* (للفقرآء الذين أحصروا فى سبيل الله لا يستطيعون ضربا فى الارض يحسبهم الجاهل أغنيآء من التعفف تعرفهم بسيم‍اهم لا يس‍الون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن
الله به عليم) *.
* (للفقراء) * متعلق بمحذوف ينساق إليه الكلام ولهذا حذف أي اعمدوا للفقراء أو اجعلوا ما تنفقونه للفقراء أو صدقاتكم للفقراء، والجملة استئناف مبني على السؤال، وجوز أن يكون الجار متعلقا بقوله تعالى: * (وما تنفقوا) * (البقرة: 272) وقوله سبحانه: * (وأنتم لا تظلمون) * (البقرة: 272) اعتراض أي وما تنفقوا للفقراء. * (الذين أحصروا في سبيل الله) * أي حبسهم الجهاد أو العمل في مرضاة الله تعالى يوف إليكم ولا يخفى بعده * (لا يستطيعون) * لاشتغالهم بذلك * (ضربا في الأرض) * أي مشيا فيها وذهابا للتكسب والتجارة وهم أهل الصفة رضي الله تعالى عنهم، قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي - وكانوا نحوا من ثلثمائة ويزيدون وينقصون من فقراء المهاجرين يسكنون سقيفة المسجد يستغرقون أوقاتهم بالتعلم والجهاد وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن سعيد بن جبير هم قوم أصابتهم الجراحات في سبيل الله تعالى فصاروا زمنى فجعل لهم في أموال المسلمين
46

حقا؛ ولعل المقصود في الروايتين بيان بعض أفراد هذا المفهوم ودخوله فيه إذ ذاك دخولا أوليا لا الحصر إذ هذا الحكم باق يوم الدين * (يحسبهم) * أي يظنهم * (الجاهل) * الذي لا خبرة له بحالهم. * (أغنياء من التعفف) * أي من أجل تعففهم على المسألة - فمن - للتعليل وأتى بها لفقد شرط من شروط النصب وهو اتحاد الفاعل، وقيل: لابتداء الغاية والمعنى إن حسبان الجاهل غناهم نشأ من تعففهم، والتعفف ترك الشيء والاعراض عنه مع القدرة على تعاطيه، ومفعوله محذوف اختصارا كما أشرنا إليه، وحال هذه الجملة كحال سابقتها * (تعرفهم بسيماهم) * أي تعرف فقرهم واضطرارهم بالعلامة الظاهرة عليهم كالتخشع والجهد ورثاثة الحال.
أخرج أبو نعيم عن فضالة بن عبيد قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى بالناس تخر رجال من قيامهم في صلاتهم لما بهم من الخصاصة وهم أهل الصفة حتى يقول الأعراب إن هؤلاء مجانين ". وأخرج هو أيضا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: " كان من أهل الصفة سبعون رجلا ليس لواحد منهم رداء " والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل من له حظ من الخطاب مبالغة في بيان وضوح فقرهم، ووزن - سيما - عفلا لأنها من الوسم بمعنى السمة نقلت الفاء إلى موضع العين وقلبت ياءا لوقوعها بعد كسرة. * (لا يسئلون الناس إلحافا) * أي إلحاحا وهو أن يلازم المسؤول حتى يعطيه من قولهم لحفني من فضل لحافه أي أعطاني من فضل ما عنده، وقيل: سمي الإلحاح بذلك لأنه يغطي القلب كما يغطي اللحاف من تحته ونصبه على المصدر فإنه كنوع من السؤال أو على الحال أي ملحفين، والمعنى أنهم لا يسألون أصلا - وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وإليه ذهب الفراء والزجاج وأكثر أرباب المعاني - وعليه يكون النفي متوجها لأمرين على حد قول الأعشى: لا يغمز الساق من - أين ومن وصب - * ولا يغص على - شرسوفة الصغر -
واعترض بأن هذا إنما يحسن إذا كان القيد لازما للمقيد أو كاللازم حتى يلزم من نفيه نفيه بطريق برهاني وماهنا ليس كذلك إذ الإلحاف ليس لازما للسؤال ولا كلازمه، وأجيب بأن هذا مسلم إن لم يكن في الكلام ما يقتضيه وهو كذلك هنا لأن التعفف حتى يظنوا أغنياء يقتضي عدم السؤال رأسا، وأيضا * (تعرفهم بسيماهم) * مؤيد لذلك إذ لو سألوا لعرفوا بالسؤال واستغنى عن العرفان - بالسيما - وقيل: المراد إنهم لا يسألون وإن سألوا عن ضرورة لم يلحوا، ومن الناس من جعل المنصوب مفعولا مطلقا للنفي أي يتركون السؤال إلحاحا أي ملحين في الترك وهو كما ترى * (وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم) * فيجازيكم به وهو ترغيب في الإنفاق لا سيما على هؤلاء، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان إنما المسكين الذي يتعفف، واقرءوا إن شئتم * (لا يسألون الناس إلحافا) * " وتقديم الظرف مراعاة للفواصل أو إيماءا للمبالغة.
* (الذين ينفقون أموالهم باليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *.
* (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية) * أي يعممون الأوقات والأحوال بالخير والصدقة، فالمراد بالليل والنهار جميع الأوقات كما أن المراد بما بعده جميع الأحوال، وقدم الليل على النهار والسر على العلانية للإيذان بمزية الإخفاء على الإظهار، وانتصاب (سرا وعلانية) على أنهما مصدران في موضع الحال أي مسرين
47

ومعلنين، أو على أنهما حالان من ضمير الإنفاق على مذهب سيبويه، أو نعتان لمصدر محذوف أي إنفاقا سرا، والباء بمعنى في، واختلف فيمن نزلت، فأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه كانت له أربعة دراهم فأنفق بالليل درهما وبالنهار درهما، وسرا درهما وعلانية درهما، وفي رواية الكلبي " فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على هذا؟ قال: حملني أن استوجب على الله تعالى الذي وعدني فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن ذلك لك ".
وأخرج ابن المنذر عن ابن المسيب أن الآية كلها في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف في نفقتهم في جيش العسرة، وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم والواحدي من طريق حسن بن عبد الله الصنعاني أنه سمع ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول في هذه الآية: * (الذين ينفقون) * الخ هم الذين يعلفون الخيل في سبيل الله تعالى - وهو قول أبي أمامة وأبي الدرداء ومكحول والأوزاعي ورباح بن يزيد - ولا يأبى ذلك ذكر السر والعلانية كما لا يخفى، وقال بعضهم: إنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه تصدق بأربعين ألف دينار عشرة بالليل وعشرة بالنهار وعشرة بالسر وعشرة بالعلانية، وتعقبه الإمام السيوطي - بأن حديث تصدقه بأربعين ألف دينار رواه ابن عساكر في " تاريخه " عن عائشة رضي الله تعالى عنهما، وخبر إن الآية نزلت فيه - لم أقف عليه وكأن من ادعى ذلك فهمه مما أخرجه ابن المنذر عن ابن إسحق قال: لما فيض أبو بكر رضي الله تعالى عنه واستخلف عمر خطب الناس فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أيها الناس إن بعض الطمع فقر وإن بعض اليأس غنى وإنكم تجمعون مالا تأكلون وتؤملون ما لا تدركون واعلموا أن بعضا من الشح شعبة من النفاق فأنفقوا خيرا لأنفسكم فأين أصحاب هذه الآية وقرأ
الآية الكريمة، وأنت تعلم أنها لا دلالة فيها على المدعي * (فلهم أجرهم) * المخبوء لهم في خزائن الفضل * (عند ربهم) * والفاء داخلة في حيز الموصول للدلالة على سببية ما قبلها، وقيل: للعطف والخبر محذوف أي - ومنهم الذين - الخ، ولذلك جوز الوقف على علانية * (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * تقدم تفسيره والإشارة في الآيات ظاهرة.
* (الذين يأكلون الربواا لا يقومون إلا كما يقوم الذى يتخبطه الشيط‍ان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربواا وأحل الله البيع وحرم الربواا فمن جآءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأول‍ائك أصح‍ابالنار هم فيها خ‍الدون) *.
* (الذين يأكلون الرب‍اوا) * أي يأخذونه فيعم سائر أنواع الانتفاع والتعبير عنه بالأكل لأنه معظم ما قصد به، والربا في الأصل الزيادة من قولهم: ربا الشيء يربو إذا زاد، وفي الشرع عبارة عن فضل مال لا يقابله عوض في معاوضة مال بمال وإنما يكتب بالواو كالصلاة للتفخيم على لغة من يفخم وزيدت الألف بعدها تشبيها بواو الجمع فصار اللفظ به على طبق المعنى في كون كل منهما مشتملا على زيادة غير مستحقة فأخذ لفظ الربا الحرف الزائد وهو الألف بسبب اللفظ الذي يشابهه وهو واو الجمع حيث زيدت فيه الألف كما يأخذ معنى لفظ الربا بمشابهته معنى لفظ البيع لاشتمال المعنيين على معاوضة المال بالمال بالرضا - وإن كان أحد العوضين أزيد - وقيل: الكتابة بالواو والألف لأن للفظ نصيبا منهما، وإنما لم تكتب الصلاة والزكاة بهما لئلا يكون في مظنة الالتباس بالجمع، وقال الفراء: إنهم تعلموا الخط من أهل الحيرة وهم نبط لغتهم - ربوا - بواو ساكنة فكتب كذلك وهذا مذهب البصريين، وأجاز الكوفيون كتابته وكذا تثنيته بالياء لأجل الكسرة التي في أوله، قال أبو البقاء: وهو خطأ عندنا
* (لا يقومون) * أي يوم القيامة - وبه قرىء كما في " الدر المنثور ".
48

* (إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيط‍ان) * أي إلا قياما كقيام المتخبط المصروع في الدنيا - و - التخبط - تفعل بمعنى فعل وأصله ضرب متوال على أنحاء مختلفة، ثم تجوز به عن كل ضرب غير محمود، وقيام المرابي يوم القيامة كذلك مما نطقت به الآثار، فقد أخرج الطبراني عن عوف بن مالك قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إياك الذنوب التي لا تغفر، الغلول فمن غل شيئا أتى به يوم القيامة، وأكل الربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط " ثم قرأ الآية، وهو مما لا يحيله العقل ولا يمنعه، ولعل الله تعالى جعل ذلك علامة له يعرف بها يوم الجمع الأعظم عقوبة له كما جعل لبعض المطيعين أمارة تليق به يعرف بها كرامة له، ويشهد لذلك - أن هذه الأمة - يبعثون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء - وإلى هذا ذهب ابن عباس، وابن مسعود، وقتادة - واختاره الزجاج - وقال ابن عطية: المراد تشبيه المرابي في حرصه وتحركه في اكتسابه في الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقال لمن يسرع بحركات مختلفة: قد جن، ولا يخفى أنه مصادمة لما عليه سلف الأمة، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير داع سوى الاستبعاد الذي لا يعتبر في مثل هذه المقامات.
* (من المس) * أي الجنون يقال: مس الرجل فهو مسوس إذا جن وأصله اللمس باليد وسمي به لأن الشيطان قد يمس الرجل وأخلاطه مستعدة للفساد فتفسد ويحدث الجنون، وهذا لا ينافي ما ذكره الأطباء من أن ذلك من غلبة مرة السوداء لأن ما ذكروه سبب قريب - وما تشير إليه الآية سبب بعيد - وليس بمطرد أيضا بل ولا منعكس فقد يحصل مس ولا يحصل جنون كما إذا كان المزاج قويا وقد يحصل جنون ولم يحصل مس كما إذا فسد المزاج من دون عروض أجنبي، والجنون الحاصل بالمس قد يقع أحيانا، وله عند أهل الحاذقين أمارات يعرفونه بها، وقد يدخل في بعض الأجساد على بعض الكيفيات ريح متعفن تعلقت به روح خبيثة تناسبه فيحدث الجنون أيضا على أتم وجه وربما استولى ذلك البخار على الحواس وعطلها، واستقلت تلك الروح الخبيثة بالتصرف فتتكلم وتبطش وتسعى بآلات ذلك الشخص الذي قامت به من غير شعور للشخص بشيء من ذلك أصلا، وهذا كالمشاهد المحسوس الذي يكاد يعد منكره مكابرا منكرا للمشاهدات.
وقال المعتزلة والقفال من الشافعية: إن كون الصرع والجنون من الشيطان - باطل لأنه لا يقدر على ذلك كما قال تعالى حكاية عنه: * (وما كان لي عليكم من سلطان) * (إبراهيم: 22) الآية و * (ما) * هنا وارد على ما يزعمه العرب ويعتقدونه من أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع وأن الجني يمسه فيختلط عقله وليس لذلك حقيقة - وليس بشيء بل هو من تخبط الشيطان بقائله ومن زعماته المردودة بقواطع الشرع فقد ورد " ما من مولود يولد إلا يمسه الشيطان فيستهل صارخا " وفي بعض الطرق: " إلا طعن الشيطان في خاصرته " ومن ذلك يستهل صارخا إلا مريم وابنها لقول أمها: * (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) * " (آل عمران: 36) وقوله صلى الله عليه وسلم: " كفوا صبيانكم أول العشاء فإنه وقت انتشار الشياطين " وقد ورد في حديث المفقود الذي اختطفته الشياطين وردته في زمنه عليه الصلاة والسلام أنه حدث من شأنه معهم قال: " فجاءني طائر كأنه جمل قبعثري فاحتملني على خافية من خوافيه " إلى غير ذلك من الآثار، وفي " لقط المرجان في أحكام الجان " كثير منها، واعتقاد السلف وأهل السنة أن ما دلت عليه أمور حقيقية واقعة كما أخبر الشرع عنها والتزام تأويلها كلها يستلزم خبطا طويلا لا يميل إليه إلا المعتزلة ومن حذا حذوهم وبذلك ونحوه خرجوا عن قواعد الشرع القويم فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون، والآية التي ذكروها في معرض الاستدلال على مدعاهم لا تدل عليه إذ السلطان المنفي فيها إنما
49

هو القهر والإلجاء إلى متابعته لا التعرض للإيذاء والتصدي لما يحصل بسببه الهلاك، ومن تتبع الأخبار النبوية وجد الكثير منها قاطعا بجواز وقوع ذلك من الشيطان بل وقوعه بالفعل، وخبر " الطاعون من وخز أعدائكم الجن " صريح في ذلك، وقد حمله بعض مشايخنا المتأخرين على نحو ما حملنا عليه مسألة التخبط والمس حيث قال: إن الهواء إذا تعفن تعفنا مخصوصا مستعدا للخلط والتكوين تنفرز منه وتنحاز أجزاء سمية باقية على هوائيتها أو منقلبة بأجزاء نارية محرقة فيتعلق بها روح خبيثة تناسبها في الشرارة وذلك نوع من الجن فإنها على ما عرف في الكلام أجسام حية لا ترى إما الغالب عليها الهوائية أو النارية ولها أنواع عقلاء وغير عقلاء تتوالد وتتكون فإذا
نزل واحد منها طبعا، أو إرادة على شخص أو نفذ في منافذه، أو ضرب وطعن نفسه به يحصل فيه بحسب ما في ذلك الشر من القوة السمية وما في الشخص من الاستعداد للتأثر منه كما هو مقتضى الأسباب العادية في المسببات - ألم شديد مهلك غالبا مظهر للدماميل والبثرات في الأكثر بسبب إفساده للمزاج المستعد، وبهذا يحصل الجمع بين الأقوال في هذا الباب - وهو تحقيق حسن لم نجده لغيره كما لم نجد ما حققناه في شأن المس - لأحد سوانا فليحفظ. والجار والمجرور متعلق بما قبله من الفعل المنفي بناءا - على أن ما قبل (إلا) يعمل فيما بعدها إذا كان ظرفا كما في " الدر المصون " أي لا يقومون من جهة المس الذي بهم بسبب - أكلهم الربا - أو - بيقوم - أو - بيتخبطه -.
* (ذالك) * إشارة إلى الأكل أو إلى ما نزل بهم من العذاب * (بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربواا) * أرادوا نظمهما في سلك واحد لإفضائهما إلى الربح فحيث حل بيع ما قيمته درهم بدرهمين حل بيع درهم بدرهمين إلا أنهم جعلوا الربا أصلا في الحل وشبهوا البيع به روما للمبالغة كما في قوله: ومهمه مغبرة أرجاؤه * كأن (لون أرضه سماؤه)
وقيل: يجوز أن يكون التشبيه غير مقلوب بناءا على ما فهموه أن البيع إنما حل لأجل الكسب والفائدة وذلك في الربا متحقق وفي غيره موهوم * (وأحل الله البيع وحرم الربواا) * جملة مستأنفة من الله تعالى ردا عليهم وإنكارا لتسويتهم، وحاصله أن ما ذكرتم قياس فاسد الوضع لأنه معارض للنص فهو من عمل الشيطان على أن بين البابين فرقا، وهو أن من باع ثوبا يساوي درهما بدرهمين فقد جعل الثوب مقابلا لدرهمين فلا شيء منهما إلا وهو في مقابلة شيء من الثوب، وأما إذا باع درهما بدرهمين فقد أخذ الدرهم الزائد بغير عوض ولا يمكن جعل الإمهال عوضا إذ الإمهال ليس بمال حتى يكون في مقابلة المال، وقيل: الفرق بينهما أن أحد الدرهمين في الثاني ضائع حتما وفي الأول منجبر بمساس الحاجة إلى السلعة أو بتوقع رواجها، وجوز أن تكون الجملة من تتمة كلام الكفار إنكارا للشريعة وردا لها أي مثل هذا من الفرق بين المتماثلات لا يكون عند الله تعالى فهي حينئذ حالية، وفيها - قد - مقدرة ولا يخفى أنه من البعد بمكان، والظاهر عموم البيع والربا في كل بيع وفي كل ربا إلا ما خصه الدليل من تحريم بعض البيوع وإحلال بعض الربا، وقيل: هما مجملان فلا يقدم على تحليل بيع ولا تحريم ربا إلا ببيان، ويؤيده ما أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه وابن جرير عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: من آخر ما أنزل آية الربا وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها لنا فدعوا الربا والريبة.
* (فمن جاءه موعظة) * أي فمن بلغه وعظ وزجر كالنهي عن الربا واستحلاله، و (من)
50

شرطية أو موصولة، و * (موعظة) * فاعل جاء وسقطت التاء للفصل وكون التأنيث مجازيا مع ما في الموعظة معنى من التذكير، وقرأ أبي والحسن (جاءته) بإلحاق التاء * (من ربه) * متعلق بجاءه أو بمحذوف وقع صفة لموعظة وعلى التقديرين فيه تعظيم لشأنها وفي ذكر الرب تأنيس لقبول الموعظة إذ فيه إشعار بإصلاح عبده و (من) لابتداء الغاية أو للتبعيض وحذف المضاف * (فانتهى) * عطف على جاءه أي فاتعظ بلا تراخ وتبع النهي * (فله ما سلف) * أي ما تقدم أخذه قبل التحريم لا يسترد منه، وهذا هو المروي عن الباقر، وسعيد بن جبير، وقيل: المراد لا مؤاخذة عليه في الدنيا ولا في الآخرة فيما تقدم له أخذه من الربا قبل، والفاء إما للجواب أو صلة في الخبر، و * (ما) * في موضع الرفع بالظرف إن جعلت (من) موصولة، وبالإبتداء إن جعلت شرطية على رأي من يشترط الاعتماد، وكون المرفوع اسم حدث، ومن لا يشترطهما يجوز كونه فاعل الظرف * (وأمره) * أي المنتهى بعد التحريم * (إلى الله) * إن شاء عصمه من الربا فلم يفعل وإن شاء لم يفعل، وقيل: المراد إنه يجازيه على انتهائه إن كان عن قبول الموعظة وصدق النية أو يحكم في شأنه يوم القيامة بما شاء لا اعتراض لكم عليه.
ومن الناس من جعل الضمير المجرور لما سلف أو للربا وكلاهما خلاف الظاهر.
* (ومن عاد) * أي رجع إلى ما سلف ذكره من فعل الربا واعتقاد جوازه والاحتجاج عليه بقياسه على البيع * (فأول‍ائك) * إشارة إلى - من عاد - والجمع باعتبار المعنى * (أصح‍ابالنار) * أي ملازموها * (هم فيها خ‍الدون) * أي ماكثون أبدا لكفرهم، والجملة مقررة لما قبلها؛ وجعل الزمخشري متعلق - عاد - الربا فاستدل بالآية على تخليد مرتكب الكبيرة وعلى ما ذكرنا - وهو التفسير المأثور - لا يبقى للاستدلال بها مساغ، واعترض بأن الخلود لو جعل جزاءا للاستحلال بقي جزاء مرتكب الفعل من غير استحلال غير مذكور في الكلام أصلا لا عبارة ولا إشارة مع أنه المقصود الأهم بخلاف ما لو جعل ذلك جزاء أصل الفعل فإن المقصود يكون مذكورا صريحا مع إفادته جزاء الاستحلال وأنه أمر فوق الخلود، وأجيب بأن ما يكفر مستحله لا يكون إلا من كبائر المحرمات وجزاؤها معلوم ولذا لم ينبه عليه لظهوره، وقال بعض المحققين في الجواب: إن جعل ذلك إشارة إلى الأكل كان الجزاء القيام المذكور من القبور إلى الموقف وكفى به نكالا، ثم أخبر أن حاملهم على الأكل كان هذا القول فأشعر الوصف أولا أن الوعيد به ثم ذكر موجب اجترائهم فدل على أنه وعيد آكل سواء كان حامله عليه ذلك القول أو لا. وأما قوله سبحانه: * (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى) * وقوله تعالى: * (فمن عاد) * فهو في القائل المعتقد وإن جعل إشارة إلى القيام المذكور فالجزاء ما يفهم من ضم الفعل إلى القول فإنه لو لم يكن له مدخل في التعذيب لم يحسن في معرض الوعيد، والقول بأن المتعلق الربا والآية محمولة على التغليظ خلاف الظاهر فتدبر.
* (يمحق الله الربواا ويربى الصدق‍ات والله لا يحب كل كفار أثيم) *.
* (يمحق الله الرب‍اوا) * أي يذهب بركته ويهلك المال الذي يدخل فيه، أخرج أحمد، وابن ماجه، وابن جريح، والحاكم وصححه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الربا وإن كثر فعاقبته تصير إلى قل ". وأخرج عبد الرزاق عن معمر قال: سمعنا أنه لا يأتي على صاحب الربا أربعون سنة حتى يمحق، ولعل هذا مخرج مخرج الغالب، وعن الضحاك أن هذا المحق في الآخرة بأن يبطل ما يكون منه مما يتوقع نفعه فلا يبقى
51

لأهله منه شيء * (ويربي الصدقات) * يزيدها ويضاعف ثوابها ويكثر المال الذي أخرجت منه الصدقة. أخرج البخاري، ومسلم عن أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب - ولا يقبل الله تعالى إلا طيبا - فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل " وأخرج الشافعي، وأحمد مثل ذلك، والنكتة في الآية أن المربي إنما يطلب في الربا زيادة في المال ومانع الصدقة إنما يمنعها لطلب زيادة المال، فبين سبحانه أن الربا سبب النقصان دون النماء وأن الصدقة سبب النماء دون النقصان - كذا قيل - وجعلوه وجها لتعقيب آيات الانفاق بآية الربا.
* (والله لا يحب) * لا يرتضي * (كل كفار) * متمسك بالكفر مقيم عليه معتاد له * (أثيم) * منهمك في ارتكابه والآية لعموم السلب لا لسلب العموم إذ لا فرق بين واحد وواحد، واختيار صيغة المبالغة للتنبيه على فظاعة آكل الربا ومستحله، وقد ورد في شأن الربا وحده ما ورد فكيف حاله مع الاستحلال؟! أعاذنا الله تعالى من ذلك. فقد أخرج الطبراني والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " درهم ربا أشد على الله تعالى من ست وثلاثين زنية " وقال: " من نبت لحمه من سحت فالنار أولى به " وأخرج ابن ماجه وغيره عن أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الربا سبعون بابا أدناها مثل أن يقع الرجل على أمه وإن أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه ". وأخرج جميل بن دراج عن الإمامية عن أبي عبد الله الحسين رضي الله تعالى عنه قال: " درهم ربا أعظم عند الله تعالى من سبعين زنية كلها بذات محرم في بيت الله الحرام ". وأخرج عبد الرزاق وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الربا خمسة آكله وموكله وشاهديه وكاتبه ".
* (إن الذين ءامنوا وعملوا الص‍الح‍ات وأقاموا الصلواة وآتوا الزكواة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *.
* (إن الذين ءامنوا) * بما وجب الإيمان به * (وعملوا) * الأعمال * (الص‍الح‍ات) * على الوجه الذي أمروا به * (وأقاموا الصلواة وءاتوا الزكواة) * تخصيصهما بالذكر مع اندراجهما في الأعمال للتنبيه على عظم فضلهما، فإن الأولى: أعظم الأعمال البدنية والثانية: أفضل الأعمال المالية * (لهم أجرهم) * الموعود لهم حال كونه * (عند ربهم) * وفي التعبير بذلك مزيد لطف وتشريف * (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * لوفور حظهم.
* (ياأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربواا إن كنتم مؤمنين) *.
* (ي‍اايها الذين ءامنوا) * في الظاهر * (اتقوا الله) * أي قوا أنفسكم عقابه * (وذروا) * أي اتركوا * (ما بقي من الربوا) * لكن عند الناس * (إن كنتم مؤمنين) * عن صميم القلب فإن دليله امتثال ما أمرتم به وهو شرط حذف جوابه ثقة بما قبله، و * (من) * تبعيضية متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل بقي، وقيل: متعلقة - ببقي - وقرأ الحسن - بقي - بقلب الياء ألفا على لغة طىء، والآية كما قال السدي: نزلت في العباس رضي الله تعالى عنه ابن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة كانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى ناس من ثقيف من بني عمرة وهم بنو عمرو بن عمير فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة من الربا فتركوها حين نزلت. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: نزلت هذه الآية في بني عمرو بن عمير بن عوف الثقفي، ومسعود بن عمرو بن عبد ياليل بن عمر، وربيعة بن عمرو، وحبيب بن عمير وكلهم أخوة وهم الطالبون، والمطلوبون
52

بنو المغيرة من بني مخزوم وكانوا يداينون بني المغيرة في الجاهلية بالربا وكان النبي صلى الله عليه وسلم صالح ثقيفا فطلبوا رباهم إلى بني المغيرة وكان مالا عظيما فقال بنو المغيرة: والله لا نعطي الربا في الإسلام وقد وضعه الله تعالى ورسوله عن المسلمين فعرفوا شأنهم معاذ بن جبل - ويقال - عتاب بن أسيد فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني عمرو بن عمير يطلبون رباهم عند بني المغيرة فأنزل الله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا) * الخ، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل أن أعرض عليهم هذه الآية فإن فعلوا فلهم رؤوس أموالهم وإن أبوا فآذنهم بحرب من الله تعالى ورسوله وذلك [بم قوله تعالى:
* (فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون) *.
* (فإن لم تفعلوا) * أي ما أمرتم به من الاتقاء وترك البقايا إما مع إنكار حرمته وإما مع الاعتراف * (فأذنوا) * أي فأيقنوا - وبذلك قرأ الحسن - وهو التفسير المأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما * (بحرب من الله ورسوله) * وهو كحرب المرتدين على الأول وكحرب البغاة على الثاني، وقيل: لا حرب حقيقة وإنما هو تهديد وتخويف - وجمهور المفسرين على الأول - وقرأ حمزة وعاصم في رواية ابن عياش (فآذنوا) بالمد أي فاعلموا بها أنفسكم أو بعضكم بعضا أو غيركم، وهذا مستلزم لعلمهم بالحرب على أتم وجه وتنكير - حرب - للتعظيم، ولذا لم يقل بحرب الله تعالى بالإضافة، أخرج أبو يعلى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها لما نزلت قال: ثقيف لا يدي لنا بحرب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. * (وإن تبتم) * عما يوجب الحرب * (فلكم رؤوس أموالكم) * تأخذونها لا غير * (لا تظلمون) * غرماءكم بأخذ الزيادة * (ولا تظلمون) * أنتم من قبلهم بالنقص من رأس المال أو به وبنحو المطل، وقرأ المفضل عن عاصم - لا تظلمون - الأول بالبناء للمفعول والثاني بالبناء للفاعل على عكس القراءة الأولى، والجملة إما مستأنفة - وهو الظاهر - وإما في محل نصب على الحال من الضمير في (لكم) والعامل ما تضمنه الجار من الاستقرار لوقوعه خبرا - وهو رأي الأخفش - ومن ضرورة تعليق هذا الحكم بتوبتهم عدم ثبوته عند عدمها لأن عدمها إن كان مع إنكار الحرمة فهم المرتدون وما لهم المكسوب في حال الردة فيء للمسلمين عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وكذا سائر أموالهم عند الشافعي رضي الله تعالى عنه، وعندنا هو لورثتهم ولا شيء لهم على كل حال وإن كان مع الاعتراف فإن كان لهم شوكة فهم على شرف القتل لم يكد تسلم لهم رؤوسهم فكيف برؤوس أموالهم وإلا فكذلك عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج ابن جرير عنه أنه قال: من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع وإلا ضرب عنقه، ومثله عن الصادق رضي الله تعالى عنه، وأما عند غيرهما فهم محبوسون إلى أن تظهر توبتهم ولا يمكنون من التصرفات رأسا فما لم يتوبوا لم يسلم لهم شيء من أموالهم
بل إنما يسلم بموتهم لورثتهم، قال المولى أبو السعود، وغيره: واستدل بالآية على أن الممتنع عن أداء الدين مع القدرة ظالم يعاقب بالحبس وغيره وقد فصل ذلك الفقهاء أتم تفصيل.
* (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون) *.
* (وإن كان ذو عسرة) * أي إن وقع المطلوب - ذا إعسار لضيق حال من جهة عدم المال على - إن - كان تامة، وجوز بعض الكوفيين - إن - تكون ناقصة، و * (ذو) * اسمها والخبر محذوف أي - وإن كان ذو عسرة لكم عليه حق أو غريما أو من غرمائكم. وقرأ عثمان رضي الله تعالى عنه (ذا عسرة). وقرىء - ومن كان ذا عسرة - وعلى القراءتين * (كان) * ناقصة واسمها ضمير مستكن فيها يعود للغريم وإن لم يذكر، والآية نزلت - كما قال الكلبي: حين قالت بنو المغيرة لبني عمرو
53

بن عمير: نحن اليوم أهل عسرة فأخرونا إلى أن تدرك الثمرة فأبوا أن يؤخروهم * (فنظرة) * الفاء جواب الشرط - ونظرة - مبتدأ خبره محذوف أي فعليكم نظرة أو فاعل بفعل مضمر أي فتجب نظرة، وقيل: خبر مبتدأ محذوف أي - فالأمر، أو فالواجب نظرة، والنظرة كالنظرة - بسكون الظاء الانتظار، والمراد به الإمهال والتأخير، وقرأ عطاء (فناظره) بإضافة ناظر إلى ضمير * (ذو عسرة) * أي فالمستحق ناظره أي منتظره وممهله وصاحب نظرته على طريق - لابن، وتامر - وعنه أيضا - فناظره - أمرا من المفاعلة أي فسامحه بالنظرة * (إلى ميسرة) * أي إلى وقت أو وجوب يسار، وقرأ حمزة ونافع - ميسرة - بضم السين وهما لغتان كمشرقة ومشرقة، وقرىء بهما مضافين بحذف التاء وإقامة الإضافة مقامها فاندفع ما أورد على هذه القراءة بأن مفعلا بالضم معدوم أو شاذ وحاصله أنها مفعلة لا مفعل، وأجيب أيضا بأنه معدوم في الآحاد وهذا جمع ميسرة - كما قيل في مكرم - جمع مكرمة، وقيل: أصل ميسورة فخففت بحذف الواو بدلالة الضمة عليها.
* (وأن تصدقوا) * بحذف إحدى التاءين، وقرىء بتشديد الصاد على أن أصله تتصدقوا فقلبت التاء الثانية صادا وأدغمت أي وتصدقكم على معسري غرمائكم برؤوس أموالكم كلا أو بعضا * (خير لكم) * أي أكثر ثوابا من الإنظار، أو خير مما تأخذونه لنفاد ذلك وبقاء هذا. أخرج ابن المنذر عن الضحاك قال: النظرة واجبة وخير الله تعالى الصدقة على النظرة، وقيل: المراد بالتصدق الإنظار لما أخرج أحمد عن عمران بن الحصين قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان له على رجل حق فأخره كان له بكل يوم صدقة " وضعفه الإمام مع مخالفته للمأثور بأن وجوب الإنظار ثبت بالآية الأولى فلا بد من حمل هذه الآية على فائدة زائدة وبأن قوله سبحانه: * (خير لكم) * لا يليق بالواجب بل بالمندوب، واستدل بإطلاق الآية من قال بوجوب إنظار المعسر مطلقا سواء كان الدين دين ربا أم لا وهو الذي ذهب إليه ابن عباس رضي الله تعالى عنه والحسن والضحاك وأئمة أهل البيت، وذهب شريح وإبراهيم النخعي وابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية عنه إلى أنه لا يجب إلا في دين الربا خاصة وتأولوا الآية على ذلك. * (إن كنتم تعلمون) * جواب * (إن) * محذوف - أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتموه - وفيه تحريض على الفعل.
* (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) *.
* (واتقوا يوما) * وهو يوم القيامة أو يوم الموت وتنكيره للتفخيم كما أن تعليق الاتقاء به للمبالغة في التحذير عما فيه من الشدائد التي تجعل الولدان شيبا * (ترجعون فيه) * على البناء للمفعول من الرجع، وقرىء على البناء للفاعل من الرجوع والأول أدخل كما قيل: في التهويل، وقرىء - يرجعون - على طريق الالتفات، وقرأ أبي - تصيرون - وعبد الله - تردون - * (إلى الله) * أي حكمه وفصله * (ثم توفى) * أي تعطى كملا * (كل نفس) * كسبت خيرا أو شرا * (ما كسبت) * أي جزاء ذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر، والكسب العمل كيف كان كما نطقت به اللغة ودلت عليه الآثار، وكسب الأشعري لا يشعر به سوى الأشاعرة * (وهم لا يظلمون) * جملة حالية من كل نفس وجمع باعتبار المعنى، وأعاد الضمير أولا مفردا اعتبارا باللفظ، وقدم اعتبار اللفظ لأنه الأصل ولأن اعتبار المعنى وقع رأس فاصلة فكان تأخيره أحسن، ولك أن تقول: إن الجمع أنسب بما يكون في يومه كما أن الإفراد أولى فيما إذا كان قبله. أخرج غير واحد من غير طريق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن آية * (واتقوا يوما) * الخ آخر
54

ما نزل من القرآن، واختلف في مدة بقائه بعدها عليه الصلاة والسلام فقيل: تسع ليال، وقيل: سبعة أيام، وقيل: ثلاث ساعات، وقيل: أحدا وعشرين يوما، وقيل: أحدا وثمانين يوما ثم مات - بنفسي هو - حيا وميتا صلى الله عليه وسلم. روي أنه قال: اجعلوها بين آية الربا وآية الدين، وفي رواية أخرى أنه صلى الله عليه وسلم قال: " جاءني جبرائيل فقال: اجعلوها على رأس مائتين وثمانين آية من البقرة " ولا يعارض الرواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في أن هذه آخر آية نزلت ما أخرجه البخاري، وأبو عبيد، وابن جرير، والبيهقي من طريق الشعبي عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: آخر آية أنزلها الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم آية الربا، ومثله ما أخرجه البيهقي من طريق ابن المسيب عن عمر بن الخطاب - كما قاله محمد بن سلمة فيما نقله عنه علي بن أحمد الكرباسي - أن المراد من هذا أن آخر ما نزل من الآيات في البيوع آية الربا، أو أن المراد إن ذلك من آخر ما نزل كما يصرح به ما أخرجه الإمام أحمد، ولما أمر سبحانه بإنظار المعسر وتأجيله عقبه ببيان أحكام الحقوق المؤاجلة وعقود المداينة فقال عز من قائل:
* (ياأيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذى عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذى عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الاخرى ولا يأب الشهدآء إذا ما دعوا ولا تس‍اموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذالكم أقسط عند
الله وأقوم للشه‍ادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تج‍ارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم) *.
* (يأيها الذين ءامنوا) * بالله تعالى وبما جاء منه * (إذا تداينتم) * أي تعاملتم وداين بعضكم بعضا * (بدين) * فائدة ذكره تخليص المشترك ودفع الإيهام نصرا لأن (تداينتم) يجيء بمعنى تعاملتم بدين، وبمعنى تجازيتم، ولا يرد عليه أن السياق يرفع لأن الكلام في النصوصية على أن السياق قد لا يتنبه له إلا الفطن، وقي: ذكر ليرجع إليه الضمير إذ لولاه لقيل: فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن عند ذي الذوق العارف بأساليب الكلام، واعترض بأن التداين يدل عليه فيكون من باب * (اعدلوا هو أقرب) * (المائدة: 8) وأجيب بأن الدين لا يراد به المصدر بل هو أحد العوضين ولا دلالة للتداين عليه إلا من حيث السياق ولا يكتفي به في معرض البيان لا سيما وهو ملبس، وقيل: ذكر لأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل، وحال لما في التنكير من الشيوع والتبعيض لما خص بالغاية ولو لم يذكر لاحتمل أن الدين لا يكون إلا كذلك * (إلى أجل) * أي وقت وهو متعلق بتداينتم، ويجوز أن يكون صفة للدين أي مؤخر أو مؤجل إلى أجل * (مسمى) * بالأيام أو الأشهر، أو نظائرهما مما يفيد العلم ويرفع الجهالة لا بنحو الحصاد لئلا يعود على موضوعه بالنقض * (فاكتبوه) * أي الدين بأجله لأنه أرفق وأوقف؛ والجمهور على استحبابه لقوله سبحانه: * (فإن أمن بعضكم بعضا) * والآية عند بعض ظاهرة في أن كل دين حكمه ذلك، وابن عباس يخص الدين بالسلم فقد أخرج البخاري عنه أنه قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله تعالى أجله وأذن فيه - ثم قرأ الآية - واستدل الإمام مالك بها على جواز تأجيل القرض.
* (وليكتب بينكم كاتب بالعدل) * بيان لكيفية الكتابة المأمور بها وتعيين من يتولاها إثر الأمر بها إجمالا، ومفعول - يكتب - محذوف ثقة بانفهامه أو للقصد إلى إيقاع نفس الفعل والتقييد بالظرف للإيذان بأنه ينبغي للكاتب أن لا ينفرد به أحد المتعاملين دفعا للتهمة والجار متعلق بمحذوف وقع صفة للكاتب - أي ليكن الكاتب من شأنه التسوية وعدم الميل إلى أحد الجانبين بزيادة أو نقص - ويجوز أن يكون ظرفا لغوا متعلقا - بكاتب - أو بفعله، والمراد أمر المتداينين على طريق الكناية بكتابة عدل فقيه دين حتى يكون ما يكتبه موثوقا به متفقا عليه بين أهل العلم، فالكلام - كما قال الطيبي - مسوق لمعنى، ومدمج فيه آخر بإشارة النص - وهو اشتراط الفقاهة في الكاتب لأنه لا يقدر على التسوية في الأمور
55

الخطرة إلا من كان فقيها - ولهذا استدل بعضهم بالآية على أنه لا يكتب الوثائق إلا عارف بها عدل مأمون، ومن لم يكن كذلك يجب على الإمام أو نائبه منعه لئلا يقع الفساد ويكثر النزاع والله لا يحسب المفسدين.
* (ولا يأب كاتب) * أي لا يمتنع أحد من الكتاب الموصوفين بما ذكر * (أن يكتب) * بين المتداينين كتاب الدين * (كما علمه الله) * أي لأجل ما علمه الله تعالى من كتابة الوثائق وتفضل به عليه وهو متعلق - بيكتب - والكلام على حد - وأحسن كما أحسن الله تعالى إليك - أي - لا يأب أن يتفضل على الناس بكتابته لأجل أن الله تعالى تفضل عليه وميزه - ويجوز أن يتعلق الكاف - بأن يكتب - على أنه نعت لمصدر محذوف أو حال من ضمير المصدر على رأي سيبويه، والتقدير أن يكتب كتابة مثل علمه الله تعالى أو أن يكتبه أي الكتب مثل ما علمه الله تعالى وبينه له بقوله سبحانه: * (بالعدل) * وجوز أن يتعلق بقوله تعالى: * (فليكتب) * والفاء غير مانعة كما في * (وربك فكبر) * (المدثر: 3) لأنها صلة في المعنى، والأمر بالكتابة بعد النهي عن الأداء منها على الأول للتأكيد، واحتيج إليه لأن النهي عن الشيء ليس أمرا بضده صريحا على الأصح فأكده بذكره صريحا اعتناءا بشأن الكتابة، ومن هذا ذهب بعضهم إلى أن الأمر للوجوب ومن فروض الكفاية ولكن الأمر لما كان لنا لا علينا صرف عن ذلك لئلا يعود ما تقدم في مسألة جهالة الأجل، وأما على الوجه الثاني: فلا تأكيد وإنما هو أمر بالكتابة المقيدة بعد النهي عن الامتناع عن المطلقة وهذا لا يفيد التأكيد لأن النهي عن الامتناع عن المطلق لا يدل على الأمر بالمقيد ليكون ذكره بعده تأكيدا، وادعاه بعضهم لأنه إذا كان الامتناع عن مطلق الكتابة منهيا فلأن يكون الامتناع عن الكتابة الشرعية منهيا بطريق الأولى، والنهي عن الامتناع عن الكتابة الشرعية أمر بها فيكون الأمر بالكتابة الشرعية صريحا للتوكيد، وأيضا إذا ورد مطلق ومقيد والحادثة واحدة يحمل المطلق على المقيد سواء تقدم المطلق أو تأخر فكما حمل الأمر بمطلق الكتابة في الوجه الأول على الكتابة المقيدة ليفيد التأكيد، فلم لم يحمل النهي عن الامتناع عن مطلق الكتابة على الكتابة المقيدة للتأكيد، وهل التفرقة بين الأمرين إلا تحكم بحت كما لا يخفى؟!
و (ما) قيل: إما مصدرية أو كافة - وجوز أن تكون موصولة أو موصوفة - وعليهما فالضمير لها، وعلى الأولين للكاتب؛ وقدر بعضهم على كل تقدير المفعول الثاني لعلم كتابة الوثائق فافهم.
* (وليملل) * من الإملال بمعنى الإلقاء على الكاتب ما يكتبه وفعله أمللت، وقد يبدل أحد المضاعفين ياءا ويتبعه المصدر فيه وتبدل همزة لتطرفها بعد ألف زائدة فيقال: إملاءا فهو والإملال بمعنى، أي: وليكن الملقى على الكاتب ما يكتبه من الدين * (الذي عليه الحق) * وهو المطلوب لأنه المشهود عليه فلا بد أن يكون هو المقر لا غيره وانفهام الحصر من تعليق الحكم بالوصف فإن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية والأصل عدم علة أخرى * (وليتق) * أي الذي عليه الحق * (الله ربه) * جمع بين الاسم الجليل والوصف الجميل مبالغة في الحث على التقوى بذكر ما يشعر بالجلال والجمال * (ولا يبخس) * أي لا ينقص * (منه) * أي من الحق الذي يمليه على الكاتب * (شيئا) * وإن كان حقيرا، وقرىء (شيا) بطرح الهمزة (وشيا) بالتشديد. وهذا هو التفسير المأثور عن سعيد بن جبير، وقيل: يجوز أن يرجع ضمير - يتق - للكاتب وليس بشيء لأن ضمير ي (يبخس) لمن عليه الحق إذ هو الذي يتوقع منه البخس خاصة، وأما الكاتب فيتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه النقص فلو أريد نهيه لنهى
56

عن كليهما، وقد فعل ذلك حيث أمر بالعدل وإرجاع كل منهما لكل منهما تفكيك لا يدل عليه دليل، وإنما شدد في تكليف المملي حيث جمع فيه بين الأمر بالاتقاء والنهي
عن البخس لما فيه من الدواعي إلى المنهي عنه فإن الإنسان مجبول على دفع الضرر عنه ما أمكن، وفي * (منه) * وجهان: أحدهما: أن يكون متعلقا بيبخس و - من - لابتداء الغاية، وثانيهما: أن يكون متعلقا بمحذوف لأنه في الأصل صفة للنكرة فلما قدمت عليه نصبت حالا، و * (شيئا) * إما مفعول به وإما مصدر.
* (فإن كان الذي عليه الحق) * صرح بذلك في موضع الإضمار لزيادة الكشف لا لأن الأمر والنهي لغيره، وعليه متعلق بمحذوف أي وجب و (الحق) فاعل، وجوز أن يكون * (عليه) * خبرا مقدما و * (الحق) * مبتدءا مؤخرا فتكون الجملة اسمية، وعلى التقديرين لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول * (سفيها) * أي عاجزا أحمق قاله ابن زيد، أو جاهلا بالإملال قاله مجاهد، أو مبذرا لماله ومفسدا لدينه قاله الشافعي * (أو ضعيفا) * أي صبيا، أو شيخا خرفا * (أو لا يستطيع أن يمل هو) * جملة معطوفة على مفرد هو خبر (كان) لتأويلها بالمفرد أي - أو غير مستطيع للإملاء بنفسه لخرس - كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو لما هو أعم منه ومن الجهل باللغة وسائر العوارض المانعة، والضمير البارز توكيد للضمير المستتر في - أن يمل - وفائدة التوكيد به رفع المجاز الذي كان يحتمله إسناد الفعل إلى الضمير والتنصيص على أنه غير مستطيع بنفسه، وقيل: إن الضمير فاعل - ليمل - وتغيير الأسلوب اعتناءا بشأن النفي، ولا يخفى حسن الإدغام هنا والفك فيما تقدم، ومثله الفك في قوله تعالى: * (فليملل وليه) * أي متولي أمره وإن لم يكن خصوص الولي الشرعي فيشمل القيم والوكيل والمترجم، والإقرار عن الغير في مثل هذه الصورة مقبول وفرق بينه وبين الإقرار على الغير فاعرفه * (بالعدل) * بين صاحب الحق والمولى عليه فلا يزيد ولا ينقص ولم يكلف بعين ما كلف به من غير الحق لأنه يتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه البخس، واستدل بعضهم - بالآية على أنه لا يجوز أن يكون الوصي ذميا ولا فاسقا وأنه يجوز أن يكون عبدا أو امرأة لأنه لم يشترط في الأولياء إلا العدالة ذكره ابن الفرس - وليس بشيء كما لا يخفى. ومن الناس من استدل بقوله سبحانه: * (فليكتب) * * (ولا يأب) * على وجوب الكتابة، وإلى ذلك ذهب الشعبي والجبائي والرماني إلا أنهم قالوا: إنها واجبة على الكفاية - وإليه يميل كلام الحسن - وقال مجاهد والضحاك: واجب عليه أن يكتب إذا أمر، وقيل: هي مندوبة، وروي عن الضحاك أنها كانت واجبة ثم نسخ ذلك.
* (واستشهدوا شهيدين) * أي اطلبوهما ليتحملا الشهادة على ما جرى بينكما، وجوز أن تكون السين والتاء زائدتين أي اشهدوا؛ وفي اختيار صيغة المبالغة إيماء إلى طلب من تكررت منه الشهادة فهو عالم بموقعها مقتدر على أدائها وكأن فيه رمزا إلى العدالة لأنه لا يتكرر ذلك من الشخص عند الحكام إلا وهو مقبول عندهم ولعله لم يقل رجلين لذلك، والأمر للندب أو للوجوب على الخلاف في ذلك * (من رجالكم) * متعلق باستشهدوا - و * (من) * لابتداء الغاية أو بمحذوف على أنه صفة لشهيدين، و * (من) * تبعيضية والخطاب للمؤمنين المصدر بهم الآية، وفي ذكر الرجال مضافا إلى ضمير المخاطبين دلالة على اشتراط الإسلام والبلوغ والذكورة في الشاهدين والحرية لأن المتبادر من الرجال الكاملون والأرقاء بمنزلة البهائم، وأيضا خطابات الشرع لا تنتظم العبيد بطريق العبارة كما بين في محله، وذهب الإمامية إلى عدم اشتراط الحرية في قبول الشهادة وإنما
57

الشرط فيه عندهم الإسلام والعدالة، وإلى ذلك ذهب شريح وابن سيرين وأبو ثور وعثمان البتي وهو خلاف المروي عن علي كرم الله تعالى وجهه - فإنه لم يجوز شهادة العبد في شيء ولم تتعرض الآية لشهادة الكفار بعضهم على بعض، وأجاز ذلك قياسا الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وإن اختلفت مللهم.
* (فإن لم يكونا) * أي الشهيدان * (رجلين) * أي لم يقصد إشهادهما ولو كانا موجودين والحكم من قبيل نفي العموم لا عموم النفي وإلا لم يصح قوله تعالى: * (فرجل وامرأتان) * أي فإن لم يكونا رجلين مجتمعين فليشهد رجل وامرأتان، أو فرجل وامرأتان يشهدون أو يكفون، أو فالشاهد رجل وامرأتان أو فليستشهد رجل وامرأتان، أو فليكن رجل وامرأتان شهودا، وإن جعلت - يكن - تامة استغنى عن تقدير شهود، وكفاية الرجل والمرأتين في الشهادة فيما عدا الحدود والقصاص عندنا، وعند الشافعي في الأموال خاصة لا في غيرها كعقد النكاح، وقال مالك: لا تجوز شهادة أولئك في الحدود ولا القصاص ولا الولاء ولا الإحصان، وتجوز في الوكالة والوصية إذا لم يكن فيها عتق، وأما قبول شهادة النساء مفردات فقد قالوا به في الولادة والبكارة والاستهلال وما يجري مجرى ذلك مما بين في الكتب الفقهية، وقرىء - وامرأتان - بهمزة ساكنة، ولعل ذلك لاجتماع المتحركات * (ممن ترضون) * متعلق بمحذوف وقع صفة لرجل وامرأتان أي كائنون ممن ترضونهم والتصريح بذلك هنا مع تحقق اعتباره في كل شهيد لقلة اتصاف النساء به فلا يرد ما في " البحر " من أن جعله صفة للمذكور يشعر بانتفاء هذا الوصف عن شهيدين، وقيل: هو صفة لشهيدين - وضعف بالفصل الواقع بينهما، وقيل: بدل من - رجالكم - بتكرير العامل وضعف بالفصل أيضا، واختار أبو حيان تعلقه - باستشهدوا - ليكون قيدا في الجميع ويلزمه الفصل بين اشتراط المرأتين وتعليله - وهو كما ترى - والخطاب للمؤمنين، وقيل: للحكام ولم يقل من المرضيين لإفهامه اشتراط كونهم كذلك في نفس الأمر ولا طريق لنا إلى معرفته فإن لنا الظاهر والله تعالى يتولى السرائر * (من الشهداء) * متعلق بمحذوف على أنه حال من العائد المحذوف أي ممن ترضونهم حال كونهم كائنين بعض الشهداء لعلمكم بعدالتهم وإدراج النساء في الجمع بطريق التغليب.
* (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) * بيان لحكمة مشروعية الحكم واشتراط العدد في النساء أي شرع ذلك إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت إحداهما لما أن النسيان غالب على طبع النساء لكثرة الرطوبة في أمزجتهن، وقدرت الإرادة لما أن قيد الطلب يجب أن يكون فعلا للآمر وباعثا عليه وليس هو هنا إلا إرادة الله تعالى للقطع بأن الضلال والتذكير بعده ليس هو الباعث على الأمر بل إرادة ذلك، واعترض بأن النسيان وعدم الاهتداء للشهادة لا ينبغي أن يكون مراد الله تعالى بالإرادة الشرعية سيما وقد أمر بالاستشهاد، وأجيب بأن الإرادة لم تتعلق بالضلال نفسه أعني عدم الاهتداء للشهادة بل بالضلال المرتب عليه الإذكار، ومن قواعدهم أن القيد هو مصب الغرض فصار كأنه علق الإرادة بالإذكار المسبب عن الضلال والمرتب عليه فيؤول التعليل إلى ما ذكرنا، وهذا أولى مما ذهب إليه البعض في الجواب من أن المراد من الضلال الإذكار لأن الضلال سبب للإذكار فأطلق السبب وأريد المسبب لظهور أنه لا يبقى على ظاهره معنى لقوله تعالى: * (فتذكر) * قيل: والنكتة في
إيثار * (أن تضل) * الخ على - أن تذكر إن ضلت - الإيماء إلى شدة الاهتمام بشأن الإذكار بحيث صار
58

ما هو مكروه كأنه مطلوب لأجله من حيث كونه مفضيا إليه، و (إحداهما) الثانية يجوز أن تكون فاعل - تذكر - وليس من وضع المظهر موضع المضمر إذ ليست المذكرة هي الناسية، ويجوز أن تكون مفعولا لتذكر - والأخرى - فاعل وليس من قبيل ضرب موسى عيسى - كما وهم - حتى يتعين الأول بل من قبيل - أرضعت الصغرى الكبرى - لأن سبق إحداهما بعنوان نسبة الضلال رافع للضلال والسبب في تقديم المفعول على الفاعل التنبيه على الاهتمام بتذكير الضال ولهذا - كما قيل - عدل عن الضمير إلى الظاهر لأن التقديم حينئذ لا ينبه على الاهتمام كما ينبه عليه تقديم المفعول الظاهر الذي لو أخر لم يلزم شيء سوى وضعه موضعه الأصلي، وذكر غير واحد أن العدول عن - فتذكرها - الأخرى - وهي قراءة ابن مسعود كما رواه الأعمش - إلى ما في النظم الكريم لتأكيد الإبهام والمبالغة في الاحتراز عن توهم اختصاص الضلال - بإحداهما - بعينها والتذكير بالأخرى، وأبعد الحسين بن علي المغربي في هذا المقام فجعل ضمير (إحداهما) الأولى راجعا إلى الشهادتين، وضمير (إحداهما) الأخرى إلى المرأتين فالمعنى - أن تضل إحدى الشهادتين أي تضيع بالنسيان فتذكر إحدى المرأتين الأخرى منهما - وأيده الطبرسي بأنه لا يسمى ناسي الشهادة ضالا وإنما يقال: ضلت الشهادة إذا ضاعت كما قال سبحانه: * (ضلوا عنا) * (الأعراف: 37) أي ضاعوا منا، وعليه يكون الكلام عاريا عن شائبة توهم الإضمار في مقام الإظهار رأسا وليس بشيء إذ لا يكون لإحداهما أخرى في الكلام مع حصول التفكيك وعدم الانتظام، وما ذكر في التأييد ينبىء عن قلة الاطلاع على اللغة. ففي " نهاية ابن الأثير " وغيرها إطلاق الضال على الناسي، وقد روي ذلك في الآية عن سعيد بن جبير والضحاك والربيع والسدي وغيرهم، ويقرب هذا في الغرابة مما قيل: إنه من بدع التفسير وهو ما حكي عن ابن عيينة أن معنى * (فتذكر) * الخ فتجعل إحداهما الأخرى ذكرا يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر فإن فيه قصورا من جهة المعنى واللفظ لأن التذكير في مقابلة النسيان معنى مكشوف وغرض بين، ورعاية العدد لأن النسوة محل النسيان كذلك ولأن جعلها ذكرا مجازا عن إقامتها مقام الذكر ثم تجوز ثانيا لأنهما القائمتان مقامه فلم تجعل إحداهما الأخرى قائمة مقامه - وبعد التجوز ليس على ظاهره - لأن الاحتياج إلى اقتران ذكر ألبتة معهما.
وقوله سبحانه: * (فإن لم يكونا رجلين) * ينبئان عن قصورهما عن ذلك أيضا - والتزام توجيه مثل ذلك، وعرضه في سوق القبول - لا يعد فضلا بل هو عند أرباب الذوق عين الفضول، ولقد رأيت في " طراز المجالس " أن الخفاجي سأل قاضي القضاة شهاب الدين الغزنوي عن سر تكرار - إحدى - معرضا بما ذكره المغربي فقال: يا رأس أهل العلوم السادة البرره * ومن نداه على كل الورى نشره
ما سر تكرار - إحدى - دون تذكرها * في آية لذوي الأشهاد في البقره
وظاهر الحال إيجاز الضمير على * تكرار (إحداهما) لو أنه ذكره
وحمل الإحدى على نفس الشهادة في * أولاهما ليس مرضيا لدى المهره
فغص بفكرك لاستخراج جوهره * من بحر علمك ثم ابعث لنا درره
فأجاب القاضي يا من فوائده بالعلم منتشره * ومن فضائله في الكون مشتهره
يا من تفرد في كشف العلوم لقد * وافى سؤالك والأسرار مستتره
59

(تضل إحداهما) فالقول محتمل * كليهما فهي للإظهار مفتقره
ولو أتى بضمير كان مقتضيا * تعيين واحدة للحكم معتبره
ومن رددتم عليه الحل فهو كما * أشرتم ليس مرضيا لمن سبره
هذا الذي سمح الذهن الكليل به * والله أعلم في الفحوى بما ذكره
وقرىء * (أن تضل) * بالبناء للمفعول والتأنيث، وقرىء - فتذاكر - وقرأ ابن كثير ويعقوب وأبو عمرو والحسن - فتذكر - بسكون الذال وكسر الكاف، وحمزة * (أن تضل) * على الشرط فتذكر بالرفع وعلى ذلك فالفعل مجزوم والفتح لالتقاء الساكنين، والفاء في الجزاء قيل: لتقدير المبتدأ وهو ضمير القصة أو الشهادة، وقيل: لا تقدير لأن الجزاء إذا كان مضارعا مثبتا يجوز فيه الفاء وتركه، وقيل: الأوجه أن يقدر المبتدأ ضمير - الذاكرة - و (إحداهما) بدل عنه أو عن الضمير في (تذكر) وقال بعض المحققين: الأوجه من هذا كله تقدير ضمير التثنية أي فهما - تذكر إحداهما الأخرى - وعليه كلام كثير من المعربين، والقائلون عن ذلك تفرقوا أيدي سبا لما رأوا تنظير الزمخشري قراءة الرفع بقوله تعالى: * (ومن عاد فينتقم الله منه) * (المائدة: 95) ولم يتفطنوا بأن ذلك إنما هو من جهة تقدير ضمير بعد الفاء بحسب ما يقتضيه المقام لا من جهة خصوص الضمير إفرادا وتثنية والله تعالى الملهم للرشاد فتدبر.
* (ولا يأب الشهدآء إذا ما دعوا) * لأداء الشهادة أو لتحملها - وهو المروي عن ابن عباس والحسن رضي الله تعالى عنهم - وخص ذلك مجاهد وابن جبير بالأول وهو الظاهر لعدم احتياجه إلى ارتكاب المجاز إلا أن المروي عن الربيع أن الآية نزلت حين كان الرجل يطوف في القوم الكثير فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتبعه أحد منهم فإن ظاهره يستدعي القول بمجاز المشارفة، و * (ما) * صلة وهي قاعدة مطردة بعد * (إذا) * * (ولا تسئموا) * أي تملوا أو تضجروا، ومنه قول زهير: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش * ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
* (أن تكتبوه) * أي الدين أو (الحق) - أو الكتاب المشعر به الفعل والمنسبك مفعول به - لتسأموا - ويتعدى بنفسه، وقيل: يتعدى بحرف الجر وحذف للعلم به، وقيل: المراد من - السأم - الكسل إلا أنه كنى به عنه لأنه وقع في القرآن صفة للمنافقين كقوله تعالى: * (وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى) * (النساء: 142)
ولذا وقع في الحديث: " لا يقول المؤمن كسلت وإنما يقول ثقلت " وقرىء - ولا يسأموا - أن يكتبوه بالياء فيهما * (صغيرا أو كبيرا) * حالان من الضمير أي على كل حال قليلا أو كثيرا مجملا أو مفصلا، وقيل: منصوبان على أنهما خبرا كان المضمرة وقدم الصغير على الكبير اهتماما به وانتقالا من الأدنى إلى الأعلى * (إلى أجله) * حال من الهاء في - تكتبوه - أي مستقرا في ذمة المدين إلى وقت حلوله الذي أقر به وليس متعلقا بتكتبوه لعدم استمرار الكتابة إلى الأجل إذ هي مما ينقضي في زمن يسير.
* (ذالكم) * أي الكتب - وهو الأقرب - أو الإشهاد - وهو الأبعد - أو جميع ما ذكر - وهو الأحسن - والخطاب للمؤمنين * (أقسط) * أي أعدل * (عند الله) * أي في حكمه سبحانه. * (وأقوم للشهادة) * أثبت لها وأعون على إقامتها وأدائها وهما مبنيان من أقسط وأقام على رأي سيبويه فإنه يجيز بناء أفعل من الأفعال من غير شذوذ، وقيل: من قاسط بمعنى ذي قسط وقويم، وقال أبو حيان: قسط يكون بمعنى جار وعدل، وأقسط
60

بمعنى عدل لا غير حكاه ابن القطاع - وعليه لا حاجة إلى رأي سيبويه في أقسط - وقيل: هو من قسط بوزن كرم بمعنى صار ذا قسط أي عدل، وإنما صحت الواو في أقوم ولم يقل أقام لأنها لم تقلب في فعل التعجب نحو ما أقومه لجموده إذ هو لا يتصرف وأفعل التفضيل يناسبه معنى فحمل عليه * (وأدنى ألا ترتابوا) * أي أقرب إلى انتفاء ريبكم وشككم في جنس الدين وقدره وأجله ونحو ذلك، قيل: وهذا حكمة خلق اللوح المحفوظ، والكرام الكاتبين مع أنه الغني الكامل عن كل شيء تعليما للعباد وإرشادا للحكام، وحرف الجر مقدر هنا - وهو إلى كما سمعت - وقيل: اللام، وقيل: من، وقيل في، ولكل وجهة * (إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم) * استثناء منقطع من الأمر بالكتابة فقوله تعالى: * (فليكتب بينكم كاتب بالعدل) * إلى هنا جملة معترضة بين المستثنى والمستثنى منه أي لكن وقت كون تداينكم أو تجارتكم تجارة حاضرة بحضور البدلين تديرونها بينكم بتعاطيها يدا بيد - كذا قيل -. وفي " الدر المصون " يجوز أن يكون استثناءا متصلا من الاستشهاد فيكون قد أمر بالاستشهاد في كل حال إلا في حال حضور التجارة، وقيل: إنه استثناء من هذا وذاك وهو منقطع أيضا أي لكن التجارة الحاضرة يجوز فيها عدم الاستشهاد والكتابة؛ وقيل: غير ذلك - ولعل الأول أولى - ونصب عاصم (تجارة) على أنها خبر (تكون) واسمها مستتر فيها يعود إلى التجارة - كما قال الفراء - وعود الضمير في مثل ذلك على متأخر لفظا ورتبة جار في فصيح الكلام، وقال بعضهم: يعود إلى المداينة والمعاملة المفهومة من الكلام، وعليه فالتجارة مصدر لئلا يلزم الإخبار عن المعنى بالعين، ورفعها الباقون على أنها اسم * (تكون) * والخبر جملة * (تديرونها) * ويجوز أن تكون * (تكون) * تامة فجملة * (تديرونها) * صفة.
* (فليس عليكم جناح ألا تكتبوها) * أي فلا مضرة عليكم أو لا إثم في عدم كتابتكم لها لبعد ذلك عن التنازع والنسيان، أو لأن في تكليفكم الكتابة حينئذ مشقة جدا وإدخال الفاء للإيذان بتعلق ما بعدها بما قبلها * (وأشهدوا إذا تبايعتم) * أي هذا التبايع المذكور أو مطلقا * (ولا يضار كاتب ولا شهيد) * نهي عن المضارة - والفعل يحتمل البناء للفاعل والبناء للمفعول - والدليل عليه قراءة عمر رضي الله تعالى عنه - ولا يضار - بالفك والكسر، وقراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالفك والفتح - والمعنى على الأول: - نهي الكاتب والشاهد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما وعن التحريف والزيادة والنقصان، وعلى الثاني: النهي عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم أو لا يعطي الكاتب حقه من الجعل أو يحمل الشاهد مؤونة المجىء من بلد، ويؤيد هذا المعنى ما أخرجه ابن جرير عن الربيع قال: لما نزلت هذه الآية * (ولا يأب كاتب) * الخ كان أحدهم يجىء إلى الكاتب فيقول: اكتب لي فيقول: إني مشغول أو لي حاجة فانطلق إلى غيري فيلزمه ويقول: إنك قد أمرت أن تكتب لي فلا يدعه ويضاره بذلك، وهو يجد غيره فأنزل الله تعالى: * (ولا يضار كاتب ولا شهيد) * وحمل بعضهم الصيغة على المعنيين وليس بشيء كما لا يخفى، وقرأ الحسن - ولا يضار - بالكسر. وقرىء بالرفع على أنه نفي بمعنى النهي * (وإن تفعلوا) * ما نهيتم عنه من الضرار أو منه ومن غيره وبعيد وقوعه منكم * (فإنه) * أي ذلك الفعل * (فسوق بكم) * أي خروج عن طاعة متلبس بكم، وجوز كون الباء للظرفية، قيل: وهو أبلغ إذ جعلوا محلا للفسق * (واتقوا الله) * فيما أمركم به ونهاكم عنه * (ويعلمكم الله) * أحكامه المتضمنة لمصالحكم * (والله بكل شيء عليم) * فلا يخفى عليه حالكم وهو مجازيكم بذلك فإن قيل: كيف كرر سبحانه الاسم الجليل في الجمل الثلاث وقد استكرهوا مثل قوله:
61

فما للنوى جذ النوى قطع النوى
حتى قيل: سلط الله تعالى عليه شاة تأكل نواه؟ أجيب بأن التكرير منه المستحسن ومنه المستقبح، فالمستحسن كل تكرير يقع على طريق التعظيم أو التحقير في جمل متواليات كل جملة منها مستقلة بنفسها، والمستقبح هو أن يكون التكرير في جملة واحدة أو في جمل بمعنى ولم يكن فيه التعظيم والتحقير، وما في البيت من القسم الثاني لأن - جذ النوى قطع النوى - فيه بمعنى واحد وما في الآية درة تاج القسم الأول لأن * (اتقوا الله) * حث على تقوى الله تعالى * (ويعلمكم الله) * وعد بإنعامه سبحانه * (والله بكل شيء عليم) * تعظيم لشأنه عز شأنه، ومن هنا علمت وجه العطف فيها من اختلافها في الظاهر خبرا وإنشاءا، ومن الناس من جوز كون الجملة الوسطى حالا من فاعل * (اتقوا) * أي اتقوا الله مضمونا لكم التعليم، ويجوز أن تكون حالا مقدرة، والأولى ما قدمنا لقلة اقتران الفعل المضارع المثبت الواقع حالا بالواو.
* (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فره‍ان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذى اؤتمن أم‍انته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشه‍ادة ومن يكتمها فإنه ءاثم قلبه والله بما تعملون عليم) *.
* (وإن كنتم على سفر) * أي مسافرين ففيه استعارة تبعية حيث شبه تمكنهم في السفر بتمكن الراكب من مركوبه * (ولم تجدوا كاتبا) * يكتب لكم حسبما بين قبل، والجملة عطف على فعل الشرط أو حال. وقرأ أبو العالية (كتبا)، والحسن وابن عباس - كتابا جمع كات * (فرهان مقبوضة) * أي فالذي يستوثق به أو فعليكم أو
فليؤخذ أو فالمشروع رهان وهو جمع رهن وهو في الأصل مصدر ثم أطلق على المرهون من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول - وليس هذا التعليق لاشتراط السفر وعدم الكاتب في شرعية الارتهان لأن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه في المدينة من يهودي على ثلاثين صاعا من شعير كما في البخاري - بل لإقامة التوثق بالارتهان مقام التوثق بالكتبة في السفر الذي هو مظنة إعوازها، وأخذ مجاهد بظاهر الآية فذهب إلى أن الرهن لا يجوز إلا في السفر وكذا الضحاك فذهب إلى أنه لا يجوز في السفر إلا عند فقد الكاتب، وإنما لم يتعرض لحال الشاهد لما أنه في حكم الكاتب توثقا وإعوازا، والجمهور على وجوب القبض في تمام الرهن، وذهب مالك إلى أنه يتم بالإيجاب والقبول ويلزم الراهن بالعقد تسليمه ويشترط عنده بقاؤه في يد المرتهن حتى لو عاد إلى يد الراهن بأن أودعه المرتهن إياه أو أعاده له إعادة مطلقة فقد خرج من الرهن فلو قام الغرماء وهو بيد الراهن على أحد هذين الوجهين مثلا كان أسوة للغرماء فيه وكأنه إنما ذهب إلى ذلك لما في الرهن من اقتضاء الدوام أنشد أبو علي: فالخبز واللحم لهن راهن * وقهوة راووقها ساكب
وفي التعبير - بمقبوضة - دون تقبضونها إيماءا إلى الاكتفاء بقبض الوكيل ولا يتوقف على قبض المرتهن نفسه وقرىء - فرهن - كسقف وهو جمع رهن أيضا، وقرىء بسكون الهاء تخفيفا.
* (فإن أمن بعضكم بعضا) * أي بعض الدائنين بعض المديونين بحسن ظنه سفرا أو حضرا فلم يتوثق بالكتابة والشهود والرهن، وقرأ أبي - فإن أومن - أي أمنه الناس ووصفوا المديون بالأمانة والوفاء والاستغناء عن التوثق من مثله، و * (بعضا) * على هذا منصوب بنزع الخافض - كما قيل - * (فليؤد الذي اؤتمن) * وهو المديون وعبر عنه بذلك العنوان لتعينه طريقا للإعلام ولحمله على الأداء. * (أمانته) * أي دينه، والضمير لرب الدين أو للمديون باعتبار أنه عليه، والأمانة مصدر أطلق على الدين الذي في الذمة وإنما سمي أمانة وهو مضمون لائتمانه عليه بترك الإرتهان به.
62

وقرىء - الذيتمن - بقلب الهمزة ياءا، وعن عاصم أنه قرأ - الذتمن - بإدغام الياء في التاء، وقيل: هو خطأ لأن المنقلبة عن الهمزة في حكمها فلا يدغم، ورد بأنه مسموع في كلام العرب، وقد نقل ابن مالك جوازه لأنه قال: إنه مقصور على السماع، ومنه قراءة ابن محيصن - اتمن - ونقل الصاغاني أن القول بجوازه مذهب الكوفيين، وورد مثله في كلام أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وهي من الفصحاء المشهود لهم، ففي البخاري عنها كان صلى الله عليه وسلم يأمرني فأتزر فالمخطىء مخطىء * (وليتق الله ربه) * في الخيانة وإنكار الحق، وفي الجمع بين عنوان الألوهية وصفة الربوبية من التأكيد والتحذير ما لا يخفى، وقد أمر سبحانه - بالتقوى - عند الوفاء حسبما أمر بها عند الإقرار تعظيما لحقوق العباد وتحذيرا عما يوجب وقوع الفساد.
* (ولا تكتموا الشهادة) * أي لا تخفوها بالامتناع عن أدائها إذا دعيتم إليها وهو خطاب للشهود المؤمنين كما روي عن سعيد بن جبير وغيره وجعله خطابا للمديونين على معنى لا تكتموا شهادتكم على أنفسكم بأن تقروا بالحق عند المعاملة، أو لا تحتالوا بإبطال شهادة الشهود عليكم بالجرح ونحوه عند المرافعة خلاف الظاهر المأثور عن السلف الصالح، وقرىء (يكتموا) على الغيبة * (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) * الضمير في أنه راجع إلى * (من) * وهو الظاهر، وقيل: إنه ضمير الشأن والجملة بعده مفسرة له، و (آثم) خبر (إن) وقلبه فاعل له لاعتماده ولا يجىء هذا على القول بأن الضمير للشأن لأنه لا يفسر إلا بالجملة والوصف مع مرفوعه ليس بجملة عند البصري، والكوفي يجيز ذلك، وقيل: إنه خبر مقدم وقلبه مبتدأ مؤخر، والجملة خبر (إن) وعليه يجوز أن يكون الضمير للشأن وأن يكون - لمن - وقيل: (آثم) خبر (إن) وفيه ضمير عائد إلى ما عاد إليه ضمير - إنه - وقلبه بدل من ذلك الضمير بدل بعض من كل، وقيل: (آثم) مبتدأ وقلبه فاعل سد مسد الخبر، والجملة خبر (إن)، وهذا جائز عند الفراء من الكوفيين والأخفش من البصريين وجمهور النحاة لا يجوزونه وأضاف الآثم إلى القلب مع أنه لو قيل: (فإنه آثم) لتم المعنى مع الاختصار، لأن الآثم بالكتمان وهو مما يقع بالقلب وإسناد الفعل بالجارحة التي يعمل بها أبلغ، ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد هذا مما أبصرته عيني ومما سمعته أذني ومما عرفه قلبي؟ ولأن الإثم وإن كان منسوبا إلى جملة الشخص لكنه اعتبر الإسناد إلى هذا الجزء المخصوص متجوزا به عن الكل لأنه أشرف الأجزاء ورئيسها، وفعله أعظم من أفعال سائر الجوارح، فيكون في الكلام تنبيه على أن الكتمان من أعظم الذنوب، وقيل: أسند الإثم إلى القلب لئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط وليعلم أن القلب أصل متعلقه ومعدن اقترافه، وقيل: للإشارة إلى أن أثر الكتمان يظهر في قلبه كما جاء في الخبر " إذا أذنب العبد يحدث في قلبه نكتة سوداء وكلما أذنب زاد ذلك حتى يسود ذلك بتمامه "، أو للإشارة إلى أنه يفسد قلبه فيفسد بدنه كله، فقد ورد " إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " والكل ليس بشيء كما لا يخفى، وقرىء (قلبه) بالنصب على التشبيه بالمفعول به. و (آثم) صفة مشبهة، وجوز أبو حيان كونه بدلا من اسم إن بدل بعض من كل، وبعضهم كونه تمييزا واستبعده أبو البقاء، وقرأ ابن أبي عبلة * (آثم قلبه) * أي جعله آثما * (والله بما تعملون) * من كتمان الشهادة وأدائها على وجهها وغير ذلك * (عليم) * فيجازيكم بذلك إن خبرا فخير وإن شرا فشر.
* (لله ما في السم‍اوات وما فى الارض وإن تبدوا ما فيأنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشآء ويعذب من يشآء والله على كل شيء قدير) *.
63

* (لله ما في االسماوات وما في الأرض) * من الأمور الداخلة في حقيقتهما والخارجة عنهما كيف كانت أي كلها ملك له تعالى ومختصة به فله أن يلزم من شاء من مملوكاته بما شاء من تكليفاته وليس لأحد أن يقول المال مالي أتصرف به كيف شئت، ومن الناس من جعل هذه الجملة كالدليل لما قبلها * (وإن تبدوا) * أي تظهروا للناس * (ما في أنفسكم) * أي ما حصل فيها حصولا أصليا بحيث يوجب اتصافها به كالملكات الرديئة والأخلاق الذميمة كالحسد والكبر والعجب والكفران وكتمان الشهادة * (أو تخفوه) * بأن لا تظهروه.
* (يحاسبكم به الله) * أي يجازيكم به يوم القيامة، وأما تصور المعاصي والأخلاق الذميمة فهو لعدم إيجابه اتصاف النفس به لا يعاقب عليه ما لم يوجد في الأعيان،
وإلى هذا الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم " أي إن الله تعالى لا يعاقب أمتي على تصور المعصية وإنما يعاقب على عملها، فلا منافاة بين الحديث والآية خلافا لمن توهم ذلك ووقع في حيص بيص لدفعه. ولا يشكل على هذا أنهم قالوا: إذا وصل التصور إلى حد التصميم والعزم يؤاخذ به لقوله تعالى: * (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) * (البقرة: 225) لأنا نقول: المؤاخذة بالحقيقة على تصميم العزم على إيقاع المعصية في الأعيان وهو أيضا من الكيفيات النفسانية التي تلحق بالملكات ولا كذلك سائر ما يحدث في النفس ونظمه بعضهم بقوله: مراتب القصد خمس هاجس ذكروا * فخاطر فحديث النفس فاستمعا
يليه هم فعزم كلها رفعت * سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا
فالآية على ما قررنا محكمة، وادعى بعضهم أنها منسوخة محتجا بما أخرجه أحمد ومسلم عن أبي هريرة قال: " لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم * (وإن تبدوا ما في أنفسكم) * الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جثوا على الركب فقالوا: يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصوم والجهاد والصدقة وقد أنزل الله تعالى عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قلبكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير " فلما اقترأها القوم وزلت بها ألسنتهم أنزل الله تعالى في إثرها * (آمن الرسول) * (البقرة: 285) الآية فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل سبحانه * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * (البقرة: 286) الخ، وصح مثل ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وابن مسعود وعائشة رضي الله تعالى عنهم، وأخرج البخاري عن مروان الأصغر عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - أحسبه ابن عمر * (إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه) * قال: نسختها الآية التي بعدها، وعلى هذا لا يحتاج إلى التوفيق بين الآية وذلك الحديث الصحيح بوجه، ويكون الحديث إخبارا عما كان بعد النسخ، واستشكل ذلك بأن النسخ مختص بالإنشاء ولا يجري في الخبر والآية الكريمة من القسم الثاني. ومن هنا قال الطبرسي: وأخطأ أن الروايات في النسخ كلها ضعيفة، وأجيب بأن النسخ لم يتوجه إلى مدلول الخبر نفسه سواء قلنا إنه مما يتغير كإيمان زيد وكفر عمرو أم لا كوجود الصانع وحدوث العالم بل إن النهي المفهوم منه كما يدل عليه قول الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " كلفنا من الأعمال ما نطيق وقد أنزل الله تعالى عليك هذه الآية ولا نطيقها " فإن ذلك صريح في أنهم فهموا من الآية تكليفا، والحكم الشرعي المفهوم من
64

الخبر يجوز نسخه بالاتفاق كما يدل عليه كلام العضد وغيره؛ وبعض من ادعى أن الآية محكمة وتوقف في قبول هذا الجواب ذهب إلى أن المراد من النسخ البيان وإيضاح المراد مجازا كما مرت الإشارة إليه عند قوله تعالى: * (فاعفوا واصفحوا) * (البقرة: 109) كأنه قيل: كيف يحمل * (ما في أنفسكم) * على ما يعم الوساوس الضرورية وهو يستلزم التكليف بما ليس في الوسع والله لا يكلف نفسا إلا وسعها، واعترض هذا بأنه على بعده يستلزم أنه صلى الله عليه وسلم أقر الصحابة على ما فهموه وهو بمعزل عن مراد الله تعالى ولم يبينه لهم مع ما هم فيه من الاضطراب والوجل الذي جثوا بسببه على الركب حتى نزلت الآية الأخرى، ويمكن أن يجاب على بعد بأنه لا محذور في هذا اللازم ويلتزم بأنه من قبيل إقراره صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حين فسر الرؤيا بين يديه عليه الصلاة والسلام وقال: " أخطأت أم أصبت يا رسول الله؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: أصبت بعضها وأخطأت بعضها " ولم يبين له فيما أصاب وفيما أخطأ لأمر ما، ولعله هنا ابتلاؤهم وأن يمحص ما في صدورهم وهذا على العلات أولى من حمل النسخ على التخصيص لاستلزامه مع ما فيه وقوع التكليف بما لا يطاق كما لا يخفى، وقيل: معنى الآية إن تعلنوا ما في أنفسكم من السوء، أو لم تعلنوه بأن تأتوا به خفية يعاقبكم الله تعالى عليه، ويؤول إلى قولنا أن تدخلوا الأعمال السيئة في الوجود ظاهرا أو خفية يحاسبكم بها الله تعالى أو إن تظهروا ما في أنفسكم من كتمان الشهادة بأن تقولوا لرب الشهادة عندنا شهادة ولكن نكتمها ولا نؤديها لك عند الحكام، أو تخفوه بأن تقولوا له ليس في علمنا خبر ما تريد أن نشهد به وأنتم كاذبون في ذلك - يحاسبكم به الله - وأيد هذا بما أخرجه سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق مجاهد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في الآية الكريمة قال: نزلت في الشهادة، وقيل: الآية على ظاهرها، و * (ما في أنفسكم) * على عمومه الشامل لجميع الخواطر إلا أن معنى * (يحاسبكم) * يخبركم به الله تعالى يوم القيامة، وقد عدوا من جملة معنى الحسيب العليم، وجميع هذه الأقوال لا تخلوا عن نظر فتدبر. وارجع إلى ذهنك فلا إخالك تجد فوق ما ذكرناه أو مثله في كتاب. وتقديم الجار والمجرور على الفاعل للاعتناء به، وأما تقديم الإبداء على الإخفاء على عكس ما في قوله تعالى: * (قل إن تخفوا ما في أنفسكم أو تبدوه يعلمه الله) * فلما قيل: إن المعلق - بما في أنفسهم - هنا المحاسبة والأصل فيها الأعمال البادية، وأما العلم فتعلقه بها كتعلقه بالأعمال الخافية ولا يختلف الحال عليه تعالى بين الأشياء البارزة والكامنة بل لا كامن بالنسبة إليه سبحانه خلا أن مرتبة الإخفاء متقدمة على مرتبة الإبداء ما من شيء يبدو إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمر في النفس فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلق علمه بحالته الثانية.
* (فيغفر) * بالرفع على الاستئناف أي فهو يغفر بفضله * (لمن يشآء) * أن يغفر له من عباده * (ويعذب) * بعدله. * (من يشآء) * أن يعذبه من عباده، وتقديم المغفرة على التعذيب لتقدم رحمته على غضبه، وقرأ غير ابن عامر، وعاصم، ويعقوب بجزم الفعلين عطفا على جواب الشرط، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بنصبهما بإضمار - أن - وتكون هي وما في حيزها بتأويل مصدر معطوف على المصدر المتوهم من الفعل السابق، والتقدير تكن محاسبة فغفران وعذاب، ومن القواعد المطردة أنه إذا وقع بعد جزاء الشرط فعل بعد واو أو فاء جاء فيه الأوجه الثلاثة وقد أشار لها ابن مالك: والفعل من بعد الجزا إن يقترن * بالفاء أو الواو بتثليث قمن
65

وقرأ ابن مسعود - يغفر، ويعذب - بالجزم بغير فاء - ووجهه عند القائل بجواز تعدد الجزاء كالخبر ظاهر - وأما عند غيره فالجزم على أنهما بدل من * (يحاسبكم) *
بدل البعض من الكل أو الاشتمال، فإن كلا من المغفرة والتعذيب بعض من الحساب المدلول عليه - بيحاسبكم - ومطلق الحساب جامع لهما فإن اعتبر جمعه لهما على طريق اشتمال الكل على الأجزاء يكون بدل البعض من الكل وإن اعتبر على طريق الشمول كشمول الكلي لأفراده يكون بدل اشتمال كذا قيل، وقيل: إن أريد بيحاسبكم معناه الحقيقي فالبدل بدل اشتمال - كأحب زيدا علمه - وإن أريد به المجازاة فالبدل بدل بعض - كضربت زيدا رأسه - وقيل: غير ذلك، وذهب أبو حيان إلى تعين الاشتمال قال: ووقوعه في الأفعال صحيح لأن الفعل يدل على جنس تحته أنواع يشتمل عليها ولذلك إذا وقع عليه النفي انتفت جميع أنواع ذلك الجنس، وأما بدل البعض من الكل فلا يمكن في الفعل إذ الفعل لا يقبل التجزي فلا يقال فيه له كل وبعض إلا بمجاز بعيد، واعترضه الحلبي بأنه ليس بظاهر لأن الكلية والبعضية صادقتان على الجنس ونوعه فإن الجنس كل والنوع بعض فالصحيح وقوع النوعين في الفعل وقد قيل بهما في قوله: متى تأتنا - تلمم - بنا في ديارنا * تجد خير نار عندها خير موقد
فإنهم جعلوا الإلمام بدلا من الإتيان إما بدل بعض لأنه إتيان لا توقف فيه فهو بعضه أو اشتمال لأنه نزول خفيف، وروي عن أبي عمرو إدغام الراء في اللام، وطعن الزمخشري - على عادته في الطعن - في القراآت السبع إذا لم تكن على قواعد العربية ومن قواعدهم أن الراء لا تدغم إلا في الراء لما فيها من التكرار الفائت بالإدغام في اللام وقد يجاب بأن القراآت السبع متواترة والنقل بالمتواتر إثبات علمي، وقول النحاة نفي ظني ولو سلم عدم التواتر فأقل الأمر أن تثبت لغة بنقل العدول وترجح بكونه إثباتا، ونقل إدغام الراء في اللام عن أبي عمرو من الشهرة والوضوح بحيث لا مدفع له - وممن روى ذلك عنه - أبو محمد اليزيدي وهو إمام في النحو إمام في القراآت إمام في اللغات، ووجهه من حيث التعليل ما بينهما من شدة التقارب حتى كأنهما مثلان بدليل لزوم إدغام اللام في الراء في اللغة الفصيحة إلا أنه لمح تكرار الراء فلم يجعل إدغامه في اللام لازما على أن منع إدغام الراء في اللام مذهب البصريين، وقد أجازه الكوفيون وحكوه سماعا، منهم الكسائي، والفراء، وأبو جعفر الرواسي، ولسان العرب ليس محصورا فيما نقله البصريون فقط، والقراء من الكوفيين ليسوا بمنحطين عن قراء البصرة وقد أجازوه عن العرب فوجب قبوله والرجوع فيه إلى علمهم ونقلهم إذ من علم حجة على من لم يعلم.
* (والله على كل شيء قدير) * تذييل مقرر لمضمون ما قبله فإن كمال قدرته تعالى على جميع الأشياء موجب لقدرته على ما ذكر من المحاسبة وما فرع عليه من المغفرة والتعذيب، وفي الآية دليل لأهل السنة في نفي وجوب التعذيب حيث علق بالمشيئة واحتمال أن تلك المشيئة واجبة كمن يشاء صلاة الفرض فإنه لا يقتضي عدم الوجوب خلاف الظاهر.
* (ءامن الرسول بمآ أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل ءامن بالله ومل‍ائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) *.
* (ءامن الرسول) * قال الزجاج: لما ذكر الله تعالى عز وجل في هذه السورة الجليلة الشأن الواضحة البرهان فرض الصلاة الزكاة، والطلاق، والحيض، والإيلاء، والجهاد، وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والدين، والربا ختمها بهذا تعظيما لنبيه صلى الله عليه وسلم وأتباعه، وتأكيدا وفذلكة لجميع ذلك المذكور من قبل، وقد شهد سبحانه وتعالى هنا لمن تقدم في صدر السورة بكمال الإيمان وحسن الطاعة واتصافهم بذلك بالفعل وذكره صلى الله عليه وسلم بطريق الغيبة مع ذكره هناك
66

بطريق الخطاب لما أن حق الشهادة الباقية على مر الدهور أن لا يخاطب بها المشهود له ولم يتعرض سبحانه ههنا لبيان فوزهم بمطالبهم التي من جملتها ما حكى عنهم من الدعوات الآتية إيذانا بأنه أمر محقق غني عن التصريح لا سيما بعد ما نص عليه فيما سلف وإيراده صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة دون تعرض لاسمه الشريف تعظيم له وتمهيد لما يذكر بعده. أخرج الحاكم والبيهقي عن أنس قال: " لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم * (آمن الرسول) * قال عليه الصلاة والسلام: " وحق له أن يؤمن " وفي رواية عبد بن حميد عن قتادة وهي شاهد لحديث أنس - " فينجبر انقطاعه ويحق له أن يؤمن "
* (بما أنزل إليه من ربه) * من الأحكام المذكورة في هذه السورة وغيرها والمراد إيمانه بذلك إيمانا تفصيليا، وأجمله إجلالا لمحله صلى الله عليه وسلم وإشعارا بأن تعلق إيمانه عليه الصلاة والسلام بتفاصيل ما أنزل إليه وإحاطته بجميع ما انطوى عليه مما لا يكتنه كنهه ولا تصل الأفكار وإن حلقت إليه قد بلغ من الظهور إلى حيث استغنى عن ذكره واكتفى عن بيانه، وفي تقديم الانتهاء على الإبتداء مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى من التعظيم لقدره الشريف والتنويه برفعة محله المنيف * (والمؤمنون) * يجوز أن يكون معطوفا على الرسول مرفوعا بالفاعلية فيوقف عليه، ويدل عليه ما أخرجه أبو داود في " المصاحف " عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ - وآمن المؤمنون - وعليه يكون قوله تعالى: * (كل ءامن) * جملة مستأنفة من مبتدأ وخبر؛ وسوغ الابتداء بالنكرة كونها في تقدير الإضافة ويجوز أن يكون مبتدأ، و * (كل) * مبتدأ ثان، و * (آمن) * خبره، والجملة خبر الأول والرابط مقدر ولا يجوز كون * (كل) * تأكيدا لأنهم صرحوا بأنه لا يكون تأكيدا للمعرفة إلا إذا أضيف لفظا إلى ضميرها - ورجح الوجه الأول - بأنه أقضى لحق البلاغة وأولى في التلقي بالقبول لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حينئذ يكون أصلا في حكم الإيمان بما أنزل الله والمؤمنون تابعون له ويا فخرهم بذلك، ويلزم على الوجه في الثاني أن حكم المؤمنين أقوى من حكم الرسول صلى الله عليه وسلم لكون جملتهم إسمية ومؤكدة، وعورض بأن في الثاني إيذانا بتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وتأكيدا للإشعار بما بين إيمانه صلى الله عليه وسلم المبني على المشاهدة والعيان وبين إيمان سائر المؤمنين الناشيء عن الحجة والبرهان من التفاوت البين والفرق الواضح كأنهما مختلفان من كل وجه حتى في هيئة التركيب؛ ويلزم على الأول: أنه إن حمل كل من الإيمانين على ما يليق بشأنه صلى الله عليه وسلم من حيث الذات ومن حيث التعلق استحال إسنادهما إلى غيره عليه الصلاة والسلام وضاع التكرير، وإن حمل على ما يليق بشأن آحاد الأمة كان ذلك حطا لرتبته العلية وإذا حملا على ما يليق بكل واحد مما نسبا إليه ذاتا وتعلقا بأن يحملا بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم على الإيمان العياني المتعلق بجميع التفاصيل وبالنسبة إلى آحاد الأمة على الإيمان المكتسب من مشكاته صلى الله عليه وسلم واللائق بحالهم من الإجمال والتفصيل كان اعتسافا بينا ينزه عنه التنزيل والشبهة التي ظنت معارضة مدفوعة بأن الاتيان بالجملة الاسمية مع تكرار الإسناد المقوي للحكم لما في
الحكم بإيمان كل واحد منهم على الوجه الآتي من نوع خفاء محوج لذلك، وتوحيد الضمير في * (آمن) * مع رجوعه إلى كل المؤمنين لما أن المراد بيان إيمان كل فرد فرد منهم من غير اعتبار الاجتماع كما اعتبر في قوله تعالى: * (وكل أتوه داخرين) * (النمل: 87) وهو أبعد عن التقليد الذي هو إن لم يجرح خدش أي كل واحد
67

منهم على حياله - آمن - * (بالله) * أي صدق به وبصفاته ونفى التشبيه عنه وتنزيهه عما لا يليق بكبريائه من نحو الشريك في الألوهية والربوبية وغير ذلك * (ومل‍ائكته) * من حيث إنهم معصومون مطهرون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون من شأنهم التوسط بينه تعالى وبين الرسل بإنزال الكتب وإلقاء الوحي ولهذا ذكروا في النظم قبل قوله تعالى: * (وكتبه ورسله) * أي من حيث مجيئهما منه تعالى على وجه يليق بشأن كل منهما ويلزم الإيمان التفصيلي فيما علم تفصيلا من كل من ذلك والإجمالي فيما علم إجمالا وإنما لم يذكر ههنا الإيمان باليوم الآخر كما ذكر في قوله تعالى: * (ولكن البر من آمن) * (البقرة: 177) الخ لاندراجه في الإيمان بكتبه والثواني كثيرا ما يختصر فيها، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - وكتابه - بالإفراد فيحتمل أن يراد به القرآن بحمل الإضافة على العهد أو يراد الجنس فلا يختص به والفرق بينه وبين الجمع - على ما ذهب إليه إمام الحرمين، والزمخشري - وروي عن الإمام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - أن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع لأن المفرد يتناول جميع الآحاد ابتداءا فلا يخرج عنه شيء منه قليلا أو كثيرا بخلاف الجمع فإنه يستغرق الجموع أولا وبالذات ثم يسري إلى الآحاد - وهذا المبحث من معضلات علم المعاني - وقد فرغ من تحقيقه هناك.
* (لا نفرق بين أحد من رسله) * في حيز النصب بقول مقدر مسند إلى ضمير * (كل) * مراعى فيه اللفظ فيفرد أو المعنى فيجمع - ولعله أولى - والجملة منصوبة المحل على أنها حال من ضمير * (آمن) * أو مرفوعة على أنها خبر آخر - لكل - أي يقولون، أو يقول: لا نفرق بين رسل الله تعالى بأن نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعل أهل الكتابين بل نؤمن بهم جميعا ونصدق بصحة رسالة كل واحد منهم وقيدوا إيمانهم بذلك تحقيقا للحق وتنصيصا على مخالفة أولئك المفرقين من الفريقين بإظهار الإيمان بما كفروا به فلعنة الله على الكافرين.
ومن هنا يعلم أن القائلين هم آحاد المؤمنين خاصة إذ يبعد أن يسند إليه صلى الله عليه وسلم أن يقول لا أفرق بين أحد من رسله وهو يريد إظهار إيمانه برسالة نفسه وتصديقه في دعواها، ومن اعتبر إدراج الرسول في * (كل) * واستبعد هذا قال بالتغليب ههنا، ومن لم يستبعد إذ كان صلى الله عليه وسلم يأتي بكلمة الشهادة كما يأتي بها سائر الناس أو يبدل العلم فيها بضمير المتكلم لم يحتج إلى القول بالتغليب، وعدم التعرض لنفي التفريق بين الكتب لاستلزام المذكور إياه وإنما لم يعكس مع تحقق التلازم لما أن الأصل في تفريق المفرقين هو الرسل وكفرهم بالكتب متفرع على كفرهم بهم وإيثار إظهار الرسل على الإضمار الواقع مثله في قوله تعالى: * (وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم) * (البقرة: 136) إما للاحتراز عن توهم اندراج الملائكة ولو على بعد في الحكم وهو وإن لم يكن فيه بأس إلا أنه ليس في التعرض له كثير جدوى إذ لا مزاحم في الظاهر، وإن كان فقليل أو للإشعار بعلة عدم التفريق للإيماء إلى عنوانه لأن المعتبر عدم التفريق من حيث الرسالة دون سائر الحيثيات وقرأ يعقوب، وأبو عمرو في رواية عنه - لا يفرق - بالياء على لفظ * (كل) * وقرىء لا يفرقون حملا على معناه، والجملة نفسها حينئذ حال أو خبر على نحو ما تقدم في القول المقدر ولا حاجة إليه هنا، والكلام على * (أحد) * وإدخال * (بين) * عليه قد سبق في تفسير قوله تعالى: * (لا نفرق بين أحد منهم) * (البقرة: 136)
* (وقالوا) * عطف على * (آمن) * والجمع باعتبار المعنى وهو حكاية لامتثالهم الأوامر والنواهي إثر حكاية إيمانهم * (سمعنا) * أي أجبنا وهو المعنى
68

العرفي للسمع * (وأطعنا) * وقبلنا عن طوع ما دعوتنا إليه في الأوامر والنوهي، وقيل: (سمعنا) ما جاءنا من الحق وتيقنا بصحته، و (أطعنا) ما فيه من الأمر والنهي * (غفرانك ربنا) * أي اغفر غفرانك ما ينقص حظوظنا لديك، أو نسألك غفرانك ذلك، فغفران مصدر إما مفعول مطلق أو مفعول به - ولعل الأول أولى - لما في الثاني من تقدير الفعل الخاص المحوج إلى اعتبار القرينة وتقديم ذكر السمع على الطاعة لتقدم العام على الخاص، أو لأن التكليف طريقه السمع والطاعة بعده وتقديم ذكرهما على طلب الغفران لما أن تقدم الوسيلة على المسؤول أقرب إلى الإجابة والقبول، والتعرض لعنوان الربوبية قد تقدم سره غير مرة * (وإليك المصير) * أي الرجوع بالموت والبعث وهو مصدر ميمي، والجملة قيل: معطوفة على مقدر أي فمنك المبدأ وإليك المصير وهي تذييل لما قبله مقرر للحاجة إلى المغفرة وفيها إقرار بالمعاد الذي لم يصرح به قبل.
* (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنآ إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنآ أنت مول‍انا فانصرنا على القوم الك‍افرين) *.
* (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * جملة مستأنفة سيقت إخبارا منه تعالى بعد تلقيهم لتكاليفه سبحانه بالطاعة والقبول بما له عليهم في ضمن التكليف من محاسن آثار الفضل والرحمة ابتداءا لا بعد السؤال كما سيجيء - والتكليف - إلزام ما فيه كلفة ومشقة، و - الوسع - ما تسعه قدرة الإنسان أو ما يسهل عليه من المقدور وهو ما دون مدى طاقته أي سنته تعالى أنه - لا يكلف نفسا - من النفوس إلا ما تطيق وإلا ما هو دون ذلك كما في سائر ما كلفنا به من الصلاة والصيام مثلا فإنه كلفنا خمس صلوات والطاقة تسع ستا وزيادة. وكلفنا صوم رمضان والطاقة تسع شعبان معه وفعل ذلك فضلا منه ورحمة بالعباد أو كرامة ومنه على هذه الأمة خاصة. وقرأ ابن أبي عبلة - وسعها - بفتح السين والآية على التفسيرين تدل على عدم وقوع التكليف بالمحال لا على امتناعه، أما على الأول: فظاهر، وأما على الثاني: فبطريق الأولى، وقيل: إنها على التفسير الثاني لا تدل على ذلك لأن الخطاب حينئذ مخصوص بهذه الأمة وعلى كل تقدير لا دليل فيها على امتناع التكليف بالمحال كما وهم وقد تقدم لك بعض ما يتعلق بهذا المبحث وربما يأتيك ما ينفعك فيه إن شاء الله تعالى.
* (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) * جملة أخرى مستأنفة سيقت للترغيب والمحافظة على مواجب التكليف والتحذير عن الإخلال بها ببيان أن تكليف كل نفس مع مقارنته لنعمة التخفيف والتيسير يتضمن مراعاته منفعة زائدة وأنها تعود إليها لا إلى غيرها ويستتبع الإخلال بها مضرة تحيق بها لا بغيرها فإن اختصاص منفعة الفعل بفاعله من أقوى الدواعي إلى تحصيله واقتصار مضرته عليه من أشد الزواجر عن مباشرته - قاله المولى مفتي الديار الرومية قدس سره - وهو الذي ذهب إليه الكثير، وقيل: يجوز أن تجعل الجملتان في حيز القول ويكون ذلك حكاية للأقوال المتفرقة الغير المعطوفة بعضها على بعض للمؤمنين ويكون مدحا لهم بأنهم شكروا الله تعالى في تكليفه حيث يرونه بأنه لم يخرج عن وسعهم وبأنهم يرون أن الله تعالى لا ينتفع بعملهم الخير بل هو لهم ولا يتضرر بعملهم الشر بل هو عليهم - ولا يخفى أنه بعيد - من جهة - قريب من أخرى - والضمير في * (لها) * للنفس العامة والكلام على حذف مضاف هو ثواب في الأول وعقاب في الآخر، ومبين * (ما) * الأولى: الخير لدلالة اللازم الدالة على النفع عليه، ومبين * (ما) * الثانية: الشر لدلالة - على - الدالة على الضر عليه وإيراد الإكتساب في جانب الأخير لما فيه من زيادة المعنى وهو الاعتمال، والشر تشتهيه النفس وتنجذب إليه فكانت أجد في تحصيله،
69

ففيه إشارة إلى ما جبلت عليه النفوس ولما لم يكن مثل ذلك في الخير استعمل الصيغة المجردة عن الاعتمال.
* (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) * شروع في حكاية بقية دعواتهم إثر بيان سر التكليف، وقيل: استيفاء لحكاية الأقوال، وفي " البحر " - وهو المروي عن الحسن - أن ذلك على تقدير الأمر أي قولوا في دعائكم ذلك فهو تعليم منه تعالى لعباده كيفية الدعاء والطلب منه وهذا من غاية الكرم ونهاية الإحسان يعلمهم الطلب ليعطيهم ويرشدهم للسؤال ليثيبهم، ولذلك قيل وقد تقدم: لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه * من فيض جودك ما علمتني الطلبا
والمؤاخذة المعاقبة، وفاعل هنا بمعنى فعل، وقيل: المفاعلة على بابها لأن الله تعالى يؤاخذ المذنب بالعقوبة والمذنب كأنه يؤاخذ ربه بالمطالبة بالعفو إذ لا يجد من يخلصه من عذابه سواه فلذلك يتمسك العبد عند الخوف منه به فعبر عن كل واحد بلفظ المؤاخذة ولا يخفى فساد هذا إلا بتكلف، واختلفوا في المراد من النسيان والخطأ على وجوه، الأول: أن المراد من الأول الترك ومنه قوله: ولم أك عند الجود للجود قاليا * ولا كنت يوم الروع للطعن ناسيا
والمراد من الثاني العصيان لأن المعاصي توصف بالخطأ الذي هو ضد الصواب وإن كان فاعلها متعمدا كأنه قيل: ربنا لا تعاقبنا على ترك الواجبات وفعل المنهيات، الثاني: أن المراد منهما ما هما مسببان عنه من التفريط والإغفال إذ قلما يتفقان إلا عن تقصير سابق فالمعنى لا تؤاخذنا بذلك التقصير، الثالث: أن المراد بهما أنفسهما من حيث ترتبهما على ما ذكر، أو مطلقا إذ لا امتناع في المؤاخذة بهما عقلا فإن المعاصي كالسموم فكما أن تناولها ولو سهوا أو خطأ مؤد إلى الهلاك فتعاطى المعاصي أيضا لا يبعد أن يفضي إلى العقاب وإن لم يكن عن عزيمة ولكنه تعالى وعد التجاوز عنه رحمة منه وفضلا فيجوز أن يدعو الإنسان به استدامة واعتدادا بالنعمة فيه. ويؤيد ذلك مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الطبراني، وقال النووي حديث حسن: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه " وأورد على هذا بأنه لا يتم على مذهب المحققين من أهل السنة والمعتزلة من أن التكليف بغير المقدور غير جائز عقلا منه تعالى إذ لا يكون ترك المؤاخذة على الخطأ والنسيان حينئذ فضلا يستدام ونعمة يعتد بها
* (ربنا ولا تحمل علينا إصرا) * أي عبئا ثقيلا يأسر صاحبه أي يحبسه مكانه. والمراد به التكاليف الشاقة، وقيل: الإصر الذنب الذي لا توبة له فالمعنى اعصمنا من اقترافه، وقرىء (آصارا) على الجمع، وقرأ أبي - ولا تحمل - بالتشديد للمبالغة * (كما حملته على الذين من قبلنا) * في حيز النصب على أنه صفة لمصدر محذوف أي حملا مثل حملك إياه على من قبلنا، أو على أنه صفة لإصرا أي إصرا مثل الإصر الذي حملته على من قبلنا - وهو ما كلفه بنو إسرائيل - من قتل النفس في التوبة أو في القصاص لأنه كان لا يجوز غيره في شريعتهم وقطع موضع النجاسة من الثياب ونحوها، وقيل: من البدن وصرف ربع المال في الزكاة.
* (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) * استعفاء عن العقوبات التي لا تطاق بعد الاستعفاء عما يؤدي إليها والتعبير عن إنزال ذلك بالتحميل مجازبا باعتبار ما يؤدى إليه، وجوز أن يكون طلبا لما هو أعم من الأول لتخصيصه بالتشبيه إلا أنه صور فيه الإصر بصورة ما لا يستطاع مبالغة، وقيل: هو استعفاء عن التكليف بما لا تفي به القدر البشرية حقيقة فتكون الآية دليلا على جواز التكليف بما لا يطاق وإلا لما سئل التخلص عنه وليس بالقوي، والتشديد ههنا
70

لمجرد تعدية الفعل لمفعول ثان دون التكثير
* (واعف عنا) * أي امح آثار ذنوبنا بترك العقوبة. * (واغفر لنا) * بستر القبيح وإظهار الجميل * (وارحمنا) * وتعطف علينا بما يوجب المزيد، وقيل: * (اعف عنا) * من الأفعال * (واغفر لنا) * من الأقوال * (وارحمنا) * بثقل الميزان، وقيل: * (واعف عنا) * في سكرات الموت * (واغفر لنا) * في ظلمة القبور * (وارحمنا) * في أهوال يوم النشور، قال أبو حيان: ولم يأت في هذه الجمل الثلاث بلفظ ربنا لأنها نتائج ما تقدم من الجمل التي افتتحت بذلك فجاء - فاعف عنا - مقابلا لقوله تعالى: * (لا تؤاخذنا) * * (واغفر لنا) * لقوله سبحانه: * (ولا تحمل علينا إصرا) * * (وارحمنا) * لقوله عز شأنه: * (ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) * لأن من آثار عدم المؤاخذة بالنسيان والخطأ العفو، ومن آثار عدم حمل الإصر عليهم المغفرة، ومن آثار عدم تحميل ما لا يطاق الرحمة ولا يخفى حسن الترتيب * (أنت مول‍انا) * أي مالكنا وسيدنا، وجوز أن يكون بمعنى متولي الأمر وأصله مصدر أريد به الفاعل وإذا ذكر المولى والسيد وجب في الاستعمال تقديم المولى فيقال: مولانا وسيدنا كما في قول الخنساء: وإن صخرا - لمولانا وسيدنا - * وإن صخرا إذا اشتوا لمنحار
وخطئوا من قال: سيدنا ومولانا بتقديم السيد على المولى - كما قاله ابن أيبك - ولي فيه تردد قيل: والجملة على معنى القول أي قولوا أنت مولانا * (فانصرنا على القوم الكافرين) * أي الأعداء في الدين المحاربين لنا أو مطلق الكفرة وأتى بالفاء إيذانا بالسببية لأن الله تعالى لما كان مولاهم ومالكهم ومدبر أمورهم تسبب عنه أن دعوه
بأن ينصرهم على أعدائهم فهو كقولك أنت الجواد فتكرم علي وأنت البطل فاحم الجار.
ومن باب الإشارة في هذه الآيات: * (لله ما في السموات) * أي العوالم الروحانية كلها وما استتر في أستار غيوبه وخزائن علمه * (وما في الأرض) * أي العالم الجسماني والظواهر المشاهدة التي هي مظاهر الأسماء والأفعال * (وإن تبدوا ما في أنفسكم) * يشهده بأسمائه وظواهره فيحاسبكم به وإن تخفوه يشهده بصفاته وبواطنه ويحاسبكم به فيغفر لكم لمن يشاء لتوحيده وقوة يقينه وعروض سيآته وعدم رسوخها في ذاته * (ويعذب من يشاء) * لفساد اعتقاده ووجود شكه، أو رسوخ سيآته في نفسه * (والله على كل شيء قدير) * (البقرة: 284) لأن به ظهور كل ظاهر وبطون كل باطن فيقدر على المغفرة والتعذيب * (آمن الرسول) * الكامل الأكمل * (بما أنزل إليه من ربه) * أي صدقه بقبوله والتخلق به فقد كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن والترقي بمعانيه والتحقق به * (والمؤمنون كل آمن بالله) * وحده مشاهدة حين لم يروا في الوجود سواه * (وملائكته وكتبه ورسله) * حين رجوعهم إلى مشاهدتهم تلك الكثرة مظاهر للوحدة يقولون * (لا نفرق بين أحد من رسله) * برد بعض وقبول بعض لمشاهدة الحق فيهم بالحق * (وقالوا سمعنا) * أجبنا ربنا في كتبه ورسله ونزول ملائكته واستقمنا في سيرنا * (غفرانك ربنا) * أي اغفر وجوداتنا وصفاتنا واستر ذلك بوجودك وصفاتك فمنك المبدأ * (وإليك المصير) * (البقرة: 285) بالفناء فيك * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * إلا ما يسعها ولا يضيق به طوقها واستعدادها من التجليات * (لها ما كسبت) * من الخير والكمالات والكشوف سواء كان ذلك باعتمال أو بغير اعتمال * (وعليها ما اكتسبت) * وتوجهت إليه بالقصد من السوء * (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا) * عهدك بميلنا إلى ظلمة الطبيعة * (أو أخطأنا) * بالعمل على غير الوجه اللائق لحضرتك * (ربنا ولا تحمل علينا إصرا) * وهو عبء الصفات والأفعال الحابسة للقلوب من
71

معاينة الغيوب * (كما حملته على الذين من قلبنا) * من المحتجبين بظواهر الأفعال أو بواطن الصفات * (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) * من ثقل الهجران والحرمان عن وصالك ومشاهدة جمالك بحجب جلالك * (واعف عنا) * سيآت أفعالنا وصفاتنا فإنها سيآت حجبتنا عنك وحرمتنا برد وصالك ولذة رضوانك * (واغفر لنا) * ذنوب وجودنا فإنه أكبر الكبائر * (وارحمنا) * بالوجود الموهوب بعد الفناء * (أنت مولانا) * أي سيدنا ومتولي أمورنا لأنا مظاهرك وآثار قدرتك * (فانصرنا على القوم الكافرين) * من قوى نفوسنا الأمارة وصفاتها وجنود شياطين أوهامنا المحجوبين عنك الحاجبين إيانا لكفرهم وظلمتهم،
هذا وقد أخرج مسلم والترمذي من حديث ابن عباس لما نزلت هذه الآية فقرأها صلى الله عليه وسلم قيل له عقيب كل كلمة قد فعلت، وأخرج أبو سعيد والبيهقي عن الضحاك أن جبريل لما جاء بهذه الآية ومعه ما شاء الله تعالى من الملائكة وقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له بعد كل كلمة لك ذلك حتى فرغ منها، وأخرج أبو عبيد عن أبي ميسرة أن جبريل لقن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند خاتمة البقرة آمين، وأخرج الأئمة الستة في " كتبهم " عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه " وأخرج الطبراني بسند جيد عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى كتب كتابا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ولا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان " وأخرج ابن عدي عن ابن مسعود الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أنزل الله تعالى آيتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي عام من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل " وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في " الشعب " عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنزه الذي تحت العرش فتعلموهما وعلموهما نساءكم وأبناءكم فإنهما صلاة وقرآن ودعاء " وفي رواية أبي عبيد عن محمد بن المنكدر أنهن قرآن وأنهن دعاء وأنهن يدخلن الجنة وأنهن يرضين الرحمن، وأخرج مسدد عن عمر رضي الله تعالى عنه والدارمي عن علي كرم الله تعالى وجهه كلاهما قال: ما كنت أرى أحدا يعقل ينام حتى يقرأ هؤلاء الآيات من آخر سورة البقرة. والآثار في فضلها كثيرة وفيما ذكرنا كفاية لمن وفقه الله تعالى. اللهم اجعل لنا من إجابة هذه الدعوات أوفر نصيب، ووفقنا للعمل الصالح والقول المصيب، واجعل القرآن ربيع قلوبنا وجلاء أسماعنا ونزهة أرواحنا ويسر لنا إتمام ما قصدناه ولا تجعل لنا مانعا عما بتوفيقك أردناه، وصل وسلم على خليفتك الأعظم، وكنزك المطلسم، وعلى آله الواقفين على أسرار كتابك، وأصحابه الفائزين بحكم خطابك ما ارتاحت روح وحصل لقارع باب جودك فتوح.
72

سورة آل عمران
وهي مائتا آية. أخرج ابن الضريس والنحاس والبيهقي من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت بالمدينة، واسمها في التوراة - كما روى سعيد بن منصور - طيبة، وفي " صحيح مسلم " - تسميتها والبقرة الزهراوين - وتسمى الأمان. والكنز والمعنية والمجادلة وسورة الاستغفار، ووجه مناسبتها لتلك السورة أن كثيرا من مجملاتها تشرح بما في هذه السورة وأن سورة البقرة بمنزلة إقامة الحجة وهذه بمنزلة إزالة الشبهة ولهذا تكرر فيها ما يتعلق بالمقصود الذي هو بيان حقية الكتاب من إنزال الكتاب وتصديقه للكتب قبله والهدى إلى الصراط المستقيم، وتكررت آية * (قولوا آمنا بالله وما أنزل) * (البقرة: 136) بكمالها ولذلك ذكر في هذه ما هو تال لما ذكر في تلك أو لازم له، فذكر هناك خلق الناس، وذكر هنا تصويرهم في الأرحام، وذكر هناك مبدأ خلق آدم، وذكر هنا مبدأ خلق أولاده؛ وألطف من ذلك أنه افتتح البقرة بقصة آدم وخلقه من تراب ولا أم، وذكر في هذه نظيره في الخلق من غير أب وهو عيسى، ولذلك ضرب له المثل بآدم، واختصت البقرة بآدم لأنها أول السور وهو أول في الوجود وسابق، ولأنها الأصل وهذه كالفرع والتتمة لها فاختصت بالأغرب، ولأنها خطاب لليهود الذين قالوا في مريم ما قالوا وأنكروا وجود ولد بلا أب ففوتحوا بقصة آدم لتثبت في أذهانهم فلا تأتي قصة عيسى إلا وقد ذكر عندهم ما يشهد لها من جنسها، ولأن قصة عيسى قيست على قصة آدم والمقيس عليه لا بد وأن يكون معلوما لتتم الحجة بالقياس فكانت قصة آدم - والسورة التي هي فيها - جديرة بالتقديم.
وقد ذكر بعض المحققين من وجوه التلازم بين الصورتين أنه قال في البقرة (24) في صفة النار: * (أعدت للكافرين) * مع افتتاحها بذكر المتقين والكافرين معا،
وقال في آخر هذه: * (وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين) * (آل عمران: 133) فكأن السورتين بمنزلة سورة واحدة، ومما يقوي المناسبة والتلازم بينهما أن خاتمة هذه مناسبة لفاتحة تلك لأن الأولى افتتحت بذكر المتقين وأنهم المفلحون وختمت هذه بقوله تعالى: * (واتقوا الله لعلكم تفلحون) * (آل عمران: 200) وافتتحت الأولى بقوله سبحانه: * (الذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) * (البقرة: 4) وختمت آل عمران (199) بقوله تعالى: * (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم) * وقد ورد أن اليهود قالوا لما نزل * (من ذا الذي يقرض الله) * (البقرة: 245) الآية: يا محمد افتقر ربك يسأل عباده القرض فنزل * (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) * (آل عمران: 181) وهذا مما يقوي التلازم أيضا، ومثله أنه وقع في البقرة (129) حكاية قول إبراهيم: * (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم) * الآية وهنا * (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) * (آل عمران: 164) الآية إلى غير ذلك.
* (الم * الله لا إل‍اه إلا هو الحى القيوم) *.
قرأ أبو جعفر والأعشى والبرجمي عن أبي بكر عن عاصم بسكون الميم وقطع الهمزة ولا إشكال فيها لأن طريق التلفظ فيما لا تكون من هذه الفواتح مفردة - كص - ولا موازنة المفرد - كحم - حسبما ذكر في الكتاب الحكاية فقط ساكنة الإعجاز على الوقف سواء جعلت أسماء، أو مسرودة على نمط التعديد وإن لزمها التقاء الساكنين لما أنه مغتفر في باب الوقف قطعا، ولذا ضعفت قراءة عمرو بن عبيد بكسر الميم، والجمهور يفتحون الميم ويطرحون الهمزة من الاسم الكريم قيل:
73

وإنما فتحت لإلقاء حركة الهمزة عليها ليدل على أنها في حكم الثابت لأنها أسقطت للتخفيف لا للدرج فإن الميم في حكم الوقف كقوله: واحد اثنان لا لالتقاء الساكنين - كما قال سيبويه - فإنه غير محذور في باب الوقف ولذلك لم تحرك في لام - وإلى ذلك ذهب الفراء - وفي " البحر " إنه ضعيف لإجماعهم على أن الألف الموصولة في التعريف تسقط في الوصل وما يسقط لا تلقى حركته - كما قاله أبو علي وقولهم: إن الميم في حكم الوقف وحركتها حركة الإلقاء مخالف لإجماع العرب، والنحاة أنه لا يوقف على متحرك ألبتة سواء في ذلك حركة الإعراب والبناء والنقل والتقاء الساكنين والحكاية والاتباع فلا يجوز في * (قد أفلح) * (المؤمنون: 1) إذا حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى الدال أن تقف على دال * (قد) * بالفتحة بل تسكنها قولا واحدا، وأما تنظيرهم بواحد اثنان بإلقاء حركة الهمزة على الدال فإن سيبويه ذكر أنهم يشمون آخر واحد لتمكنه - ولم يحك الكسر - لغة فإن صح الكسر فليس واحد موقوفا عليه كما زعموا، ولا حركته حركة نقل من همزة الوصل ولكنه موصول بقولهم: اثنان فالتقى ساكنان دال واحد، وثاء اثنين فكسرت الدال لالتقائهما وحذفت الهمزة لأنها لا تثبت في الوصل، وأما قولهم: إنه غير محذور في باب الوقف ولذلك لم يحرك في لام، فجوابه أن الذي قال: إن الحركة لالتقاء الساكنين لم يرد بهما التقاء الياء والميم من - ألم - في الوقف بل أراد الميم الأخير من - ألم - ولام التعريف فهو كالتقاء نون من، ولام الرجل - إذ قلت من الرجل؟ على أن في قولهم تدافعا فإن سكون آخر الميم إنما هو على نية الوقف عليها وإلقاء حركة الهمزة عليها إنما هو على نية الوصل، ونية الوصل توجب حذف الهمزة، ونية الوقف على ما قبلها توجب ثباتها وقطعها، وهذا متناقض، ولذا قال الجاربردي: الوجه ما قاله سيبويه، والكثير من النحاة أن تحريك الميم لالتقاء الساكنين واختيار الفتح لخفته وللمحافظة على تفخيم الاسم الجليل، واختار ذلك ابن الحاجب - وادعى أن في مذهب الفراء حملا على الضعيف لأن إجراء الوصل مجرى الوقف ليس بقوي في اللغة.
وقال غير واحد: لا بد من القول بإجراء الوصل مجرى الوقف، والقول: بأنه ضعيف غير مسلم ولئن سلم فغير ناهض لأنه قوي فيما المطلوب منه الخفة - كثلاثة أربعة - وههنا الاحتياج إلى التخفيف أمس ولهذا جعلوه من موجبات الفتح، وإنما قيل ذلك لأن هذه الأسماء من قبيل المعربات وسكونها سكون وقف لا بناء وحقها أن يوقف عليها، و * (ألم) * رأس آية ثم إن جعلت اسم السورة فالوقف عليها لأنها كلام تام وإن جعلت على نمط التعديد لأسماء الحروف إما قرعا للعصا أو مقدمة لدلائل الإعجاز فالواجب أيضا القطع والابتداء بما بعدها تفرقة بينها وبين الكلام المستقل المفيد بنفسه فإذن القول بنقل الحركة هو المقبول لأن فيه إشعارا بإبقاء أثر الهمزة المحذوفة للتخفيف المؤذن بالابتداء والوقف ولا كذلك القول بأن الحركة لالتقاء الساكنين وحيث كانت حركة الميم لغيرها كانت في حكم الوقف على السكون دون الحركة كما توهم لئلا يلزم المحذر - وكلام الزمخشري في هذا المقام مضطرب ففي " الكشاف " اختار مذهب الفراء، وفي " المفصل " اختار مذهب سيبويه، ولعل الأول: مبني على الاجتهاد والثاني: على التقليد والنقل لما في " الكتاب " - لأن المفصل مختصره فتدبر.
وقد تقدم الكلام على ما يتعلق بالفواتح من حيث الإعراب وغيره، وفيه كفاية لمن أخذت العناية بيده، والاسم الجليل مبتدأ وما بعده خبره، والجملة مستأنفة أي هو المستحق للعبودية لا غير، و * (الحي القيوم) * خبر بعد خبر له أو خبر لمبتدأ محذوف أي هو الحي القيوم لا غير، وقيل: هو صفة للمبتدأ أو بدل منه أو من الخبر الأول أو هو الخبر وما قبله اعتراض بين المبتدأ والخبر مقرر لما يفيده الإسم الكريم، أو حال منه على رأي من يرى صحة ذلك أيا ما كان فهو كالدليل
74

على اختصاص استحقاق المعبودية به سبحانه، وقد أخرج الطبراني وابن مردويه من حديث أبي أمامة مرفوعا أن اسم الله الأعظم في ثلاث سور سورة البقرة وآل عمران وطه، وقال أبو أمامة: فالتمستها فوجدت في البقرة (552) * (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) * وفي آل عمران * (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) * وفي طه (111) * (وعنت الوجوه للحي القيوم) *.
وقرأ عمر وابن مسعود وأبي وعلقمة - الحي القيام - وهذا رد على النصارى الزاعمين أن عيسى عليه السلام كان ربا، فقد أخرج ابن إسحق وابن جرير وابن المنذر عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: " قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفد نجران وكانوا ستين راكبا فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة والعاقب وعبد المسيح والايهم السيد وهو من النصرانية على دين الملك مع اختلاف أمرهم يقولون: هو الله تعالى، ويقولون: هو ولد الله
تعالى، ويقولون: هو ثالث ثلاثة كذلك قول النصرانية، وهم يحتجون لقولهم يقولون: هو الله تعالى فإنه كان يحيي الموتى ويبرىء الأسقام ويخبر بالغيوب ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا، ويحتجون في قولهم إنه ولد الله تعالى: بأنه لم يكن له أب يعلم وقد تكلم في المهد وصنع ما لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله، ويحتجون في قولهم إنه ثالث ثلاثة: إن الله تعالى يقول فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا فلو كان واحدا ما قال إلا فعلت وأمرت وخلقت وقضيت ولكنه هو وعيسى ومريم، ففي كل ذلك من قولهم نزل القرآن وذكر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم فيه قولهم فلما كلمه الحبران وهما - العاقب، والسيد - كما في رواية الكبي. والربيع عن أنس قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلما قالا: قد أسلمنا قبلك قال: كذبتما منكما من الإسلام دعاؤكما لله تعالى ولدا وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير؟ قالا: فمن أبوه يا محمد؟ وصمت فلم يجب شيئا فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم، واختلاف أمرهم كله صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها فافتتح السورة بتنزيه نفسه مما قالوا وتوحيده إياها بالخلق والأمر لا شريك له فيه، ورد عليهم ما ابتدعوا من الكفر وجعلوا معه من الأنداد، واحتج عليهم بقولهم في صاحبهم ليعرفهم بذلك ضلالتهم فقال: * (ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم) * أي ليس معك غيره شريك في أمره الحي الذي لا يموت وقد مات عيسى عليه السلام في قولهم: (القيوم) القائم على سلطانه لا يزول وقد زال عيسى، وفي رواية ابن جرير عن الربيع قال: " إن النصارى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فخاصموه في عيسى ابن مريم وقالوا له: من أبوه؟ وقالوا على الله تعالى الكذب والبهتان فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟ قالوا: بلى قال: ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى قال: ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه؟ قالوا: بلى قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا: لا قال: ألستم تعلمون أن الله تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟ قالوا: بلى قال: فهل يعلم عيسى من ذلك شيئا إلا ما علم؟ قالوا: لا قال: ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء وأن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث؟ قالوا: بلى قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذي كما يغذى الصبي ثم كان يأكل الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث؟ قالوا: بلى قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فعرفوا ثم أبوا إلا جحودا فأنزل * (ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم) *.
* (نزل عليك الكت‍ابب الحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل) *.
* (نزل عليك الكتاب) * أي القرآن الجامع للأصول والفروع ولما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وفي التعبير عنه باسم الجنس إيذان بتفوقه على بقية الأفراد في الانطواء على كمالات
75

الجنس كأنه هو الحقيق بأن يطلق عليه اسم الكتاب دون ما عداه كما يلوح إليه التصريح باسم " التوراة " و " الإنجيل "، وفي الإتيان بالظرف وتقديمه على المفعول الصريح واختيار ضمير الخطاب، وإيثار - على - على إلى ما لا يخفى من تعظيمه صلى الله عليه وسلم والتنويه برفعة شأنه عليه الصلاة والسلام؛ والجملة إما مستأنفة أو خبر آخر للاسم الجليل أو هي الخبر، وما قبل كله اعتراض أو حال، و * (الحي القيوم) * (آل عمران: 2) صفة أو بدل، وقرأ الأعمش * (نزل) * بالتخفيف، ورفع الكتاب والجملة حينئذ منقطعة عما قبلها، وقيل: متعلقة به بتقدير من عنده * (بالحق) * أي بالصدق في أخباره أو بالعدل - كما نص عليه الراغب - أو بما يحقق أنه من عند الله تعالى من الحجج القطعية وهو في موضع الحال أي متلبسا بالحق أو محقا، وفي " البحر " يحتمل أن يكون الباء للسببية أي بسبب إثبات الحق * (مصدقا) * حال من الكتاب إثر حال أو بدل من موضع الحال الأول أو حال من الضمير في المجرور وعلى كل حال فهي حال مؤكدة * (لما بين يديه) * أي الكتب السالفة والظرف مفعول (مصدقا) واللام لتقوية العمل وكيفية تصديقه لما تقدم تقدمت * (وأنزل التوراة والاإنجيل) * ذكرهما تعيينا (لما بين يديه) وتبيينا لرفعة محله بذلك تأكيد لما قبل وتمهيد لما بعد ولم يذكر المنزل عليه فيهما لأن الكلام في الكتابين لا فيمن نزلا عليه والتعبير - بأنزل - فيهما للإشارة إلى أنه لم يكن لهما إلا نزول واحد وهذا بخلاف القرآن فإن له نزولين، نزول من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من سماء الدنيا جملة واحدة، ونزول من ذلك إليه صلى الله عليه وسلم منجما في ثلاث وعشرين سنة على المشهور، ولهذا يقال فيه: نزل وأنزل وهذا أولى مما قيل: إن - نزل - يقتضي التدريج وأنزل يقتضي الإنزال الدفعي إذ يشكل عليه * (لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) * (الفرقان: 32) حيث قرن - نزل - بكونه جملة، وقوله تعالى: * (وقد نزل عليكم في الكتاب) * (النساء: 140) وذكر بعض المحققين لهذا المقام أن التدريج ليس هو التكثير بل الفعل شيئا فشيئا كما في تسلسل، والألفاظ لا بد فيها من ذلك فصيغة - نزل - تدل عليه، والإنزال مطلق لكنه إذا قامت القرينة يراد بالتدريج التنجيم، وبالإنزال الذي قد قوبل به خلافه، أو المطلق بحسب ما يقتضيه المقام.
واختلف في اشتقاق " التوراة " و " الإنجيل " فقيل: اشتقاق الأول من ورى الزناد إذا قدح فظهر منه النار لأنها ضياء ونور بالنسبة لما عدا القرآن تجلو ظلمة الضلال، وقيل: من ورى في كلام إذا عرض لأن فيها رموزا كثيرة وتلويحات جليلة، ووزنها عند الخليل وسيبويه فوعلة كصومعة، وأصله وورية بواوين فأبدلت الأولى تاءا وتحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا فصارت - توراة - وكتبت بالياء تنبيها على الأصل ولذلك أميلت، وقال الفراء: وزنها تفعلة بكسر العين فأبدلت الكسرة فتحة وقلبت الياء ألفا وفعل ذلك تخفيفا كما قالوا في توصية توصاة، واعترضه البصريون بأن هذا البناء قليل وبأنه يلزم منه زيادة التاء أولا وهي لا تزاد كذلك إلا في مواضع ليس هذا منها، وذهب بعض الكوفيين إلى أن وزنها تفعلة بفتح العين فقلبت الياء ألفا، وقيل: اشتقاق الثاني من - النجل - بفتح فسكون وهو الماء الذي ينز من الأرض، ومنه النجيل لما ينبت فيه ويطلق على الوالد والولد وهو أعرف فهو ضد - كما قاله الزجاج - وهو من نجل بمعنى ظهر سمي به لأنه مستخرج من اللوح المحفوظ وظاهر منه أو من التوراة، وقيل: من النجل وهو التوسعة، ومنه عين نجلاء لسعتها لأن فيه توسعة ما لم تكن في التوراة إذ حلل فيه بعض ما حرم فيها، وقيل: مشتق من التناجل وهو التنازع يقال تناجل الناس إذا تنازعوا وسمي
76

به لكثرة التنازع فيه - كذا قيل - ولا يخفى أن أمر الاشتقاق والوزن على تقدير عربية اللفظين ظاهر، وأما على تقدير - أنهما أعجميان أولهما عبراني والآخر سرياني وهو الظاهر - فلا معنى له على الحقيقة لأن الاشتقاق من ألفاظ أخر أعجمية مما لا مجال لإثباته، ومن ألفاظ عربية كما سمعت استنتاج للضب من الحوت فلم يبق إلا أنه بعد التعريب أجروه مجرى أبنيتهم في الزيادة والأصالة وفرضوا له أصلا ليتعرف ذلك كما أشرنا إليه فيما قبل، والاستدلال - على عربيتهما بدخول اللام لأن دخولها في الأعلام العجمية محل نظر - محل نظر لأنهم ألزموا بعض الأعلام الأعجمية الألف واللام علامة للتعريف - كما في الإسكندرية - فإن أبا زكريا التبريزي قال: إنه لا يستعمل بدونها مع الاتفاق على أعجميته. ومما يؤيد أعجمية " الإنجيل " ما روي عن الحسن أنه قرأه بفتح الهمزة، وأفعيل ليس من أبنية العرب.
* (من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بأي‍ات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام) *.
* (من قبل) * متعلق - بأنزل - أي أنزلهما من قبل تنزيل الكتاب، وقيل: من قبلك والتصريح به مع ظهور الأمر للمبالغة في البيان كذا قالوا برمتهم، وأنا أقول التصريح به للرمز إلى أن إنزالهما متضمن للإرهاص لبعثته صلى الله عليه وسلم حيث قيد الإنزال المقيد بمن قبل بقوله سبحانه: * (هدى للناس) * أي أنزلهما كذلك لأجل هداية الناس الذين أنزلا عليهم إلى الحق الذي من جملته الإيمان به صلى الله عليه وسلم واتباعه حيث يبعث لما اشتملتا عليه من البشارة به والحث على طاعته عليه الصلاة والسلام والهداية بهما بعد نسخ أحكامهما بالقرآن إنما هي من هذا الوجه لا غير، والقول بأنه يهتدى بهما أيضا فيما عدا الشرائع المنسوخة من الأمور التي يصدقها القرآن - ليس بشيء لأن الهداية إذ ذاك بالقرآن المصدق لا بهما كما لا يخفى على المنصف، ويجوز أن ينتصب (هدى) على أنه حال منهما والإفراد لما أنه مصدر جعلا نفس الهدى مبالغة أو حذف منه المضاف أي ذوي هدى، وجعله حالا من * (الكتاب) * (آل عمران: 3) مما لا ينبغي أن يرتكب معه.
* (وأنزل الفرقان) * أخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه القرآن فرق به بين الحق والباطل فأحل فيه حلاله وحرم حرامه وشرع شرائعه وحد حدوده وفرائضه وبين بيانه وأمر بطاعته ونهى عن معصيته، وذكر بهذا العنوان بعد ذكره باسم الجنس تعظيما لشأنه ورفعا لمكانه، وأخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير أنه الفاصل بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى عليه السلام وغيره، وأيد هذا بأن صدر السورة كما قدمنا نزلت في محاجة النصارى للنبي صلى الله عليه وسلم في أمر أخيه عيسى عليه السلام وعليه يكون المراد - بالفرقان - بعض القرآن ولم يكتف باندراجه في ضمن الكل اعتناءا به، ومثل هذا القول ما روي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أن المراد به كل آية محكمة، وقيل: المراد به جنس الكتب الإلهية عبر عنها بوصف شامل لما ذكر منها وما لم يذكر على طريق التتميم بالتعميم إثر تخصيص بعض مشاهيرها بالذكر، وقيل: نفس الكتب المذكورة أعيد ذكرها بوصف خاص لم يذكر فيما سبق على طريق العطف بتكرير لفظ الإنزال تنزيلا للتغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي، وقيل: المراد به الزبور وتقديم الإنجيل عليه مع تأخره عنه نزولا لقوة مناسبته للتوراة في الاشتمال على الأحكام وشيوع اقترانهما في الذكر، واعترض بأن الزبور مواعظ فليس فيه ما يفرق بين الحق والباطل من الأحكام، وأجيب بأن المواعظ لما فيها من الزجر والترغيب فارقة أيضا ولخفاء الفرق فيها خصت بالتوصيف به، وأورد عليه بأن ذكر الوصف دون الموصوف يقتضي شهرته به حتى يغني عن ذكر موصوفه والخفاء إنما يقتضي إثبات الوصف دون التعبير به، وقيل: المراد به المعجزات المقرونة بإنزال الكتب المذكورة الفارقة بين المحق
77

والمبطل، وعلى أي تقدير كان فهو مصدر في الأصل كالغفران أطلق على الفاعل مبالغة.
* (إن الذين كفروا بآيات الله) * يحتمل أن تكون الإضافة للعهد إشارة إلى ما تقدم من آيات الكتب المنزلة، ويحتمل أن تكون للجنس فتصدق الآيات على ما يتحقق في ضمن ما تقدم وعلى غيره كالمعجزات وأضافها إلى الاسم الجليل تعيينا لحيثية كفرهم وتهويلا لأمرهم وتأكيدا لاستحقاقهم العذاب، والمراد بالموصول إما من تقدم في سبب النزول أو أهل الكتابين أو جنس الكفرة وعلى التقديرين يدخل أولئك فيه دخولا أوليا * (لهم عذاب شديد) * ابتداء وخبر في موضع خبر إن ويجوز أن يرتفع العذاب بالظرف والتنكير للتفخيم ففيه إشارة إلى أنه لا يقدر قدره وهو مناط الحصر المستفاد من تقديم الظرف والتعليق بالموصول الذي هو في حكم المشتق يشعر بالعلية وهو معنى تضمنه الشرط وترك فيه الفاء لظهوره فهو أبلغ إذا اقتضاه المقام * (والله عزيز) * أي غالب على أمره يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد * (ذو انتقام) * افتعال من النقمة وهي السطوة والتسلط يقال: انتقم منه إذا عاقبه بجنايته، ومجرده - نقم - بالفتح والكسر وجعله بعضهم بمعنى كره لا غير والتنوين للتفخيم، واختار هذا التركيب على منتقم مع اختصاره لأنه أبلغ منه إذ لا يقال صاحب سيف إلا لمن يكثر القتل لا لمن معه السيف مطلقا، والجملة اعتراض تذييلي مقرر للوعيد مؤكد له.
* (إن الله لا يخفى عليه شىء في الارض ولا فى السمآء) *.
استئناف لبيان سعة علمه سبحانه وإحاطته بجميع ما في العالم الذي من جملته إيمان من آمن وكفر من كفر إثر بيان كمال قدرته وعظيم عزته وفي بيان ذلك تربية للوعيد وإشارة إلى دليل كونه حيا وتنبيه على أن الوقوف على بعض المغيبات كما وقع لعيسى عليه السلام بمعزل من بلوغ رتبة الصفات الإلهية، والمراد من الأرض والسماء العالم بأسره، وجعله الكثير مجازا من إطلاق الجزء وإرادة الكل، ومن قال: إنه لا يصح في (كل) كل وجزء بناءا على اشتراط التركيب الحقيقي وزوال ذلك الكل بزوال ذلك الجزء جعل المذكور كناية لا مجازا، وتقديم الأرض على السماء إظهارا للاعتناء بشأن أحوال أهلها واهتماما بما يشير إلى وعيد ذوي الضلالة منهم وليكون ذكر السماء بعد من باب العروج قيل: ولذا وسط حرف النفي بينهما، والجملة المنفية خبر لأن، وتكرير الإسناد لتقوية الحكم وكلمة - في - متعلقة بمحذوف وقع صفة لشيء مؤكدة لعمومه المستفاد من وقوعه في سياق النفي أي لا يخفى عليه شيء ما كائن في العالم بأسره كيفما كانت الظرفية، والتعبير بعدم الخفاء أبلغ من التعبير بالعلم، وجوز أبو البقاء تعلق الظرف - بيخفي -. [بم وقوله تعالى:
* (هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشآء لا إل‍اه إلا هو العزيز الحكيم) *.
* (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء) * جملة مستأنفة على الصحيح ناطقة ببعض أحكام قيوميته تعالى مشيرة إلى تقرير علمه مع زيادة بيان لتعلقه بالأشياء قبل وجودها، و - التصوير - جعل الشيء على صورة لم يكن عليها، والصورة هيئة يكون عليها الشيء بالتأليف، والأرحام جمع رحم وهي معلومة وكأنها أخذت من الرحمة لأنها مما يتراحم بها ويتعاطف، وكلمة * (في) * متعلقة - بيصور - وجوز أن يكون حالا من المفعول أي يصوركم وأنتم في الأرحام مضغ، و * (كيف) * في موضع نصب - بيشاء - وهو حال، والمفعول محذوف تقديره يشاء تصويركم، وقيل: * (كيف) * ظرف - ليشاء - والجملة في موضع الحال أي: يصوركم على مشيئته أي مريدا إن كان الحال من الفاعل أو يصوركم متقلبين على مشيئته تابعين لها في قبول الأحوال المتغايرة من كونكم نطفا ثم علقا ثم مضغا - ثم، وثم - وفي الاتصاف بالصفات المختلفة من الذكورة والأنوثة والحسن
78

والقبح وغير ذلك، وفيه من الدلالة على بطلان زعم من زعم ربوبية عيسى عليه السلام مع تقلبه في الأطوار ودوره في فلك هذه الأدوار حسبما شاءه الملك القهار وركاكة عقولهم ما لا يخفى، وقرأ طاوس - تصوركم - على صيغة الماضي من التفعل أي اتخذ صوركم لنفسه وعبادته فهو من باب توسد التراب أي اتخذه وسادة فما قيل: كأنه من تصورت الشيء بمعنى توهمت صورته فالتصديق أنه توهم محض.
* (لا إلا - ه إلا هو العزيز الحكيم) * كرر الجملة الدالة على نفي الإلهية عن غيره تعالى وانحصارها فيه توكيدا لما قبلها ومبالغة في الرد على من ادعى إلهية عيسى عليه السلام وناسب مجيئها بعد الوصفين السابقين من العلم والقدرة إذ من هذان الوصفان له هو المتصف بالألوهية لا غيره ثم أتى بوصف العزة الدالة على عدم النظير أو التناهي في القدرة والحكمة لأن خلقهم على ما ذكر من النمط البديع أثر من آثار ذلك.
* (هو الذىأنزل عليك الكت‍ابمنه آي‍ات محكم‍ات هن أم الكت‍ابوأخر متش‍ابه‍ات فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تش‍ابه منه ابتغآء الفتنة وابتغآء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون ءامنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألب‍اب) *.
* (هو الذي أنزل عليك الكتاب) * استئناف لإبطال شبه الوفد وإخوانهم الناشئة عما نطق به القرآن في نعت المسيح عليه السلام إثر بيان اختصاص الربوبية ومناطها به سبحانه. قيل: إن الوفد قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألست تزعم أن عيسى كلمة الله تعالى وروح منه؟ قال: بلى قالوا: فحسبنا ذلك فنفى سبحانه عليهم زيفهم وفتنتهم وبين أن الكتاب مؤسس على أصول رصينة وفروع مبنية عليها ناطقة بالحق قاضية ببطلان ما هم عليه - كذا قيل - ومنه يعلم وجه مناسبة الآية لما قبلها، واعترض بأن هذا الأثر لم يوجد له أثر في الصحاح ولا سند يعول عليه في غيرها، وقصارى ما وجد عن الربيع أن المراد بالموصول الآتي الوفد، وفيه أن الأثر بعينه أخرجه في " الدر المنثور " عن أبي حاتم وابن جرير عن الربيع، وعن بعضهم أن الآية نزلت في اليهود، وذلك حين مر أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة (1، 2) * (ألم * ذلك الكتاب) * فأتى أخاه حي بن أخطب في رجال من يهود فقال: أتعلمون والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل عليه * (ألم ذلك الكتاب) * فقال: أنت سمعته؟ قال: نعم فمشى حي في أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك * (ألم ذلك الكتاب) *؟ فقال: بلى فقال: لقد بعث الله تعالى قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك. الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون فهذه إحدى وسبعون سنة هل مع هذا غيره؟ قال: نعم * (المص) * (الأعراف: 1) قال: هذه أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد تسعون فهذه مائة وإحدى وستون سنة هل مع هذا غيره؟ قال: نعم * (الر) * (يونس: 1) قال: هذه أثقل وأطول هل مع هذا غيره؟ قال: بلى * (المر) * (الرعد: 1) قال: هذه أثقل وأطول ثم قال: لقد لبس علينا أمرك حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا ثم قال: قوموا ثم قال أبو ياسر لأخيه ومن معه: وما يدريكم لعله لقد جمع هذا كله لمحمد؟ فقالوا: لقد تشابه علينا أمره ". وقد أخرج ذلك البخاري في " التاريخ " وابن جرير وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلا أن فيه فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم وهو مؤذن بعدم الجزم بذلك ومع هذا يبعده ما تقدم من رواية " إن الله تعالى أنزل في شأن أولئك الوفد من مصدر آل عمران إلى بضع وثمانين آية " وعلى تقدير الإغماض عن هذا يحتمل أن يكون وجه اتصال الآية بما قبلها أن في المتشابه خفاءا كما أن تصوير ما في الأرحام كذلك أو أن في هذه تصوير الروح بالعلم وتكميله به وفيما قبلها تصوير الجسد وتسويته فلما أن في كل منهما تصويرا وتكميلا في الجملة ناسب
79

ذكره معه ولما أن بين التصوير الحقيقي الجسماني والذي ليس هو كذلك من الروحاني من التفاوت والتباين ترك العطف.
وقوله سبحانه: * (منه آيات) * الظرف فيه خبر مقدم، وآيات مبتدأ مؤخر أو بالعكس، ورجح الأول: بأنه الأوفق بقواعد الصناعة، والثاني: بأنه أدخل في جزالة المعنى إذ المقصود الأصلي انقسام الكتاب إلى القسمين المعهودين لا كونهما من الكتاب، والجملة إما مستأنفة أو في حيزالنصب على الحالية من الكتاب أي هو الذي أنزل عليك الكتاب كائنا على هذه الحالة أي منقسما إلى محكم وغيره أو الظرف وحده حال و (آيات) مرتفع به على الفاعلية * (محكمات) * صفة آيات أي واضحة المعنى ظاهرة الدلالة محكمة العبارة محفوظة من الاحتمال والاشتباه * (هن أم الكتاب) * أي أصله والعمدة فيه يرد إليها غيرها والعرب تسمي كل جامع يكون مرجعا - أما - والجملة إما صفة لما قبلها أو مستأنفة وإنما أفرد - الأم - مع أن الآيات متعددة لما أن المراد بيان أصلية كل واحدة منها أو بيان أن الكل بمنزلة آية واحدة * (وأخر) * نعت لمحذوف معطوف على (آيات) أي - وآيات أخر - وهي كما قال الرضي: جمع أخرى التي هي مؤنث آخر ومعناه في الأصل أشد تأخرا فمعنى - جاءني زيد، ورجل آخر - جاءني زيد، ورجل أشد تأخرا منه في معنى من المعاني، ثم نقل إلى معنى غيره فمعنى رجل آخر رجل غير زيد ولا يستعمل إلا فيما هو من جنس المذكور أو لا فلا يقال: جاءني زيد وحمار آخر ولا امرأة أخرى، ولما خرج عن معنى التفضيل استعمل من دون لوازم أفعل التفضيل أعني - من - والإضافة واللام وطوبق بالمجرد عن اللام والإضافة ما هو له نحو رجلان آخران ورجال آخرون وامرأة أخرى وامرأتان أخريان ونسوة أخر، وذهب أكثر النحويين إلى أنه غير
منصرف لأنه وصف معدول عن الآخر قالوا: لأن الأصل في أفعل التفضيل أن لا يجمع إلا مقرونا بالألف واللام - كالكبر والصغر - فعدل عن أصله وأعطى من الجمعية مجردا ما لا يعطي غيره إلا مقرونا، وقيل: الدليل على عدل (أخر) أنه لو كان مع من المقدرة كما في - الله أكبر - للزم أن يقال بنسوة آخر على وزن أفعل لأن أفعل التفضيل ما دام بمن ظاهرة أو مقدرة لا يجوز مطابقته لمن هو له بل يجب إفراده، ولا يجوز أن يكون بتقدير الإضافة لأن المضاف إليه لا يحذف إلا مع بناء المضاف، أو مع ساد مسد المضاف إليه، أو مع دلالة ما أضيف إليه تابع المضاف أخذا من استقراء كلامهم فلم يبق إلا أن يكون أصله اللام، واعترض عليه أبو علي بأنه لو كان كذلك وجب أن يكون معرفة كسحر. وأجيب بأنه لا يلزم في المعدول عن شيء أن يكون بمعناه من كل وجه وإنما يلزم أن يكون قد أخرج عما يستحقه وما هو القياس فيه إلى صيغة أخرى، نعم قد تقصد إرادة تعريفه بعد النقل إما بألف ولام يضمن معناها فيبنى، أو إما بعلمية كما في سحر فيمنع من الصرف، ولما لم يقصد في (أخر) إرادة الألف واللام أعرب، ولا يصح إرادة العلمية لأنها تضاد الوصفية المقصودة منه. وقال ابن جني: إنه معدول عن آخر من، وزعم ابن مالك أنه التحقيق وظاهر كلام أبي حيان اختياره - واستدلوا عليه بما لا يخلو عن نظر -.
ووصف آخر بقوله سبحانه: * (متشابهات) * وهي في الحقيقة صفة لمحذوف أي محتملات لمعان متشابهات لا يمتاز بعضها عن بعض في استحقاق الإرادة ولا يتضح الأمر إلا بالنظر الدقيق، وعدم الاتضاح قد يكون للاشتراك أو للإجمال، أو لأن ظاهره التشبيه فالمتشابه في الحقيقة وصف لتلك المعاني وصف به الآيات على طريقة وصف الدال بما هو وصف للمدلول فسقط ما قيل: إن واحد متشابهات متشابهة،
80

وواحد (أخر) أخرى، والواحد هنا لا يصح أن يوصف بهذا الواحد فلا يقال: أخرى متشابهة إلا أن يكون بعض الواحدة يشبه بعضا - وليس المعنى على ذلك - وإنما المعنى أن كل آية تشبه آية أخرى فكيف صح وصف الجمع بهذا الجمع ولم يصح وصف مفرده بمفرده؟! ولا حاجة إلى ما تكلف في الجواب عنه بأنه ليس من شرط صحة وصف المثنى والمجموع صحة بسط مفردات الأوصاف على أفراد الموصوفات كما أنه لا يلزم من الإسناد إليهما صحة إسناده إلى كل واحد كما في * (فوجد فيها رجلين يقتتلان) * (القصص: 15) إذ الرجل لا يقتتل، وقيل: إنه لما كان من شأن الأمور المتشابهة أن يعجز العقل عن التمييز بها سمي كل ما لا يهتدي العقل إليه متشابها وإن لم يكن ذلك بسبب التشابه كما أن المشكل في الأصل ما دخل في أشكاله وأمثاله ولم يعلم بعينه ثم أطلق على كل غامض وإن لم يكن غموضه من تلك الجهة وعليه يكون المتشابه مجازا أو كناية عما لا يتضح معناه مثلا فيكون السؤال مغالطة غير واردة رأسا وهذا الذي ذكره في تفسير المحكم والمتشابه هو مذهب كثير من الناس - وعليه الشافعية -. وتقسيم الكتاب إليهما من تقسيم الكل إلى أجزائه بناءا على أن المراد من الكتاب ما بين الدفتين ولامه لتعريف العهد، وحينئذ إما أن يراد بالكتاب الثاني المضاف إليه أم الأول الواقع مقسما كما يشعر به حديث إعادة الشيء معرفة ويكون وضع المظهر موضع المضمر اعتناءا بشأن المظهر وتفخيما له والإضافة على معنى في - كما في واحد العشرة - فلا يلزم كون الشيء أصلا لنفسه لأن المعنى على أن الآيات المحكمات التي هي جزء مما بين الدفتين أصل فيما بين الدفتين يرجع إليه المتشابه منه، واعتبار ظرفية الكل للجزء يدفع توهم لزوم ظرفية الشيء لنفسه - وهذا أولى من القول بتقدير مضاف بين المتضايفين - بأن يقال التقدير أم بعض الكتاب فإنه وإن بقي فيه الكتاب على حاله إلا أنه لا يخلو عن تكلف، وإما أن يراد به الجنس فإنه كالقرآن يطلق على القدر المشترك بين المجموع وبين كل بعض منه له به نوع اختصاص كما بين في الأصول، ويراد من هذا الجنس ما هو في ضمن الآيات المتشابهات فاللام حينئذ للجنس والإضافة على معنى اللام ولا يعارضه حديث الإعادة إذ هو أصل كثيرا ما يعدل عنه ولا يتوهم منه كون الشيء - أما - لنفسه أصلا ولا أن المقام مقام الإضمار ليحتاج إلى الجواب عن ذلك، وبعض فضلاء العصر - العاصرين حميا العلم من كرم أذهانهم الكريمة أحسن عصر - جوز كون الإضافية - لامية -، و (الكتاب) المضاف إليه هو الكتاب الأول بعينه وليس في الكلام مضاف محذوف وما يلزم على ذلك من كون الشيء - أما - لنفسه وأصلا لها لا يضر لاختلاف الاعتبار فإن - أمومته - لغيره من المتشابه باعتبار رده إليه وإرجاعه له - وأمومته - لنفسه باعتبار عدم احتياجه لظهور معناه إلى شيء سوى نفسه، ولا يخفى عليك أن - الأم - إن كانت في كلا الاعتبارين حقيقة لزم استعمال المشترك في معنييه وإن كانت في كليهما مجازا لزم الجمع بين معنيين مجازيين، وإن كانت حقيقة في الأصل باعتبار ما يرجع إليه غيره كما يفهم من بعض عباراتهم مجازا في الأصل بمعنى المستغني عن غيره لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز ولا مخلص عن ذلك إلا بارتكاب عموم المجاز، هذا وجوز أن يكون التقسيم إلى القسمين المحكم والمتشابه من تقسيم الكلى إلى جزئياته فأل في - الكتاب - للجنس أولا وآخرا إلا أن المراد من الكتاب في الأول الماهية من حيث هي كما هو الأمر المعروف في مثل هذا التقسيم، وفي الثاني الماهية باعتبار تحققها في ضمن بعض الأفراد وهو المتشابه، ويجوز أن يراد من الثاني أيضا مجموع ما بين الدفتين والكلام فيه حينئذ على نحو ما سبق، قيل: وقصارى ما يلزم من هذا التقسيم بعد تحمل القول بأنه خلاف الظاهر صدق الكتاب على الأبعاض وهو
81

مما لا يتحاشى منه بل هو غرض من فسر الكتاب بالقدر المشترك، وأنت تعلم أن فيه غير ذلك إلا أنه يمكن دفعه بالعناية فتدبر.
وذهب ساداتنا الحنفية إلى أن المحكم الواضح الدلالة الظاهر الذي لا يحتمل النسخ، والمتشابه الخفي الذي لا يدرك معناه عقلا ولا نقلا وهو ما استأثر الله تعالى بعلمه كقيام الساعة والحروف المقطعة في أوائل السور؛ وقيل: المحكم الفرائض والوعد والوعيد، والمتشابه القصص والامثال، أخرج ابن أبي حاتم من طريق علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال - المحكمات - ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه، و - المتشابهات - ما يؤمن به ولا يعمل به، وأخرج الفريابي عن مجاهد قال - المحكمات - ما فيه الحلال والحرام وما سوى ذلك متشابه، وأخرج عبيد بن عمير عن الضحاك قال - المحكمات - ما لم ينسخ - والمتشابهات - ما قد نسخ، وقال الماوردي: المحكم ما كان معقول المعنى، والمتشابه بخلاف كأعداد الصلوات، واختصاص الصيام برمضان دون شعبان، وقيل: المحكم ما لم يتكرر ألفاظه، والمتشابه ما يقابله، وقيل: غير ذلك، وهذا الخلاف في - المحكم والمتشابه - هنا وإلا فقد يطلق المحكم بمعنى المتقن النظم، والمتشابه على ما يشبه بعضه بعضا في البلاغة،
وهما بهذا المعنى يطلقان على جميع القرآن وعلى ذلك خرج قوله تعالى: * (ألر كتاب أحكمت آياته) * (هود: 1) وقوله سبحانه: * (كتابا متشابها مثاني) *
* (فأما آلذين في قلوبهم زيغ) * أي عدول عن الحق وميل عنه إلى الأهواء. وقال الراغب: الزيغ الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين - وزاغ وزال ومال - متقاربة لكن زاغ لا يقال إلا فيما كان عن حق إلى باطل ومصدره زيغا وزيغوغة وزيغانا وزيوغا، والمراد بالموصول نصارى نجران أو اليهود - وإليه ذهب ابن عباس - وقيل: منكرو البعث، وقيل: المنافقون، وأخرج الإمام أحمد وغيره على أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم الخوارج وظاهر اللفظ العموم لسائر من زاغ عن الحق فليحمل ما ذكر على بيان بعض ما صدق عليه العام دون التخصيص، وفي جعل قلوبهم مقرا للزيغ مبالغة في عدولهم عن سنن الرشاد وإصرارهم على الشر والفساد. وزيغ مبتدأ أو فاعل * (فيتبعون ما تشابه منه) * أي يتعلقون بذلك وحده بأن لا ينظروا إلى ما يطابقه من المحكم ويردوه إليه وهو إما بأخذ ظاهره الغير المراد له تعالى أو أخذ أحد بطونه الباطلة وحينئذ يضربون القرآن بعضه ببعض ويظهرون التناقض بين معانيه إلحادا منهم وكفرا ويحملون لفظه على أحد محتملاته التي توافق أغراضهم الفاسدة في ذلك وهذا هو المراد بقوله سبحانه: * (ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) * أي طلب أن يفتنوا المؤمنين والمؤمنات عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتسابه - كما نقل عن الواقدي - وطلب أن يؤولوه حسبما يشتهون، فالإضافة في * (تأويله) * للعهد أي بتأويل مخصوص وهو ما لم يوافق المحكم بل ما كان موافقا للتشهي، والتأويل التفسير - كما قاله غير واحد - وقال الراغب: إنه من الأول وهو الرجوع إلى الأصل - ومنه الموئل - للموضع الذي يرجع إليه وذلك هو رد الشيء إلى الغاية المرادة منه علما كان أو فعلا، ومن الأول ما ذكر هنا، ومن الثاني قوله:
وللنوى قبل يوم البين تأويل
وقوله تعالى: * (يوم يأتي تأويله) * (الأعراف: 53) أي بيانه الذي هو غايته المقصودة منه وقوله سبحانه: * (ذلك خير وأحسن تأويلا) * (الإسرار: 35) قيل: أحسن ترجمة ومعنى، وقيل: أحسن ثوابا في الآخرة انتهى. وجوز في هاتين الطلبتين أن تكونا على سبيل التوزيع بأن يكون * (ابتغاء الفتنة) * طلبة بعض وابتغاء التأويل
82

حسب التشهي طلبة آخرين، ويجوز أن يكون الاتباع لمجموع الطلبتين وهو الخليق بالمعاند لأنه لقوة عناده ومزيد فساده يتشبث بهما معا وأن يكون ذلك لكل واحدة منهما على التعاقب وهو المناسب بحال الجاهل لأنه متحير تارة يتبع ظاهره وتارة يؤوله بما يشتهيه لكونه في قبضة هواه يتبعه كلما دعاه، ومن الناس من حمل الفتنة على المال فإن الله سبحانه قد سماه فتنة في مواضع من كلامه ولا يخفى أنه ليس بشيء مدعى - ودليلا، وفي تعليل الاتباع - باتبغاء تأويله - دون نفس (تأويله) وتجريد - التأويل - عن الوصف بالصحة والحقية إيذان بأنهم ليسوا من التأويل - في عير ولا نفير، ولا قبيل ولا دبير - وأن ما يتبعونه ليس بتأويل أصلا لا أنه تأويل غير صحيح قد يعذر صاحبه
* (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) * في موضع الحال من ضمير - يتبعون - باعتبار العلة الأخيرة أي يتبعون المتشابه لابتغاء تأويله، والحال أن التأويل المطابق للواقع كما شعر به التعبير بالعلم والإضافة إلى الله تعالى مخصوص به سبحنانه وبمن وفقه عز شأنه من عباده الراسخين في العلم أي الذين ثبتوا وتمكنوا فيه ولم يتزلزلوا في مزال الاقدام ومداحض الافهام دونهم حيث إنهم بمعزل عن تلك الرتبة هذا ما يقتضيه الظاهر في تفسير الراسخين، وأخرج ابن عساكر من طريق عبد الله بن يزيد الأزدي قال: " سمعت أنس بن مالك يقول: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الراسخين في العلم فقال: من صدق حديثه وبر في يمينه وعف بطنه وفرجه فذلك الراسخون في العلم ولعل ذلك بيان علامتهم وما ينبغي أن يكونوا عليه، والمراد بالعلم العلم الشرعي المقتبس من مشكاة النبوة فإن أهله هم الممدوحون.
* (يقولون ءامنا به) * استئناف موضح لحال الراسخين ولهذا فصل، والنحاة يقدرون له مبتدأ دائما - أي هم يقولون - وقد قيل: إنه لا حاجة إليه ولم يعرف وجه التزامهم لذلك فلينظر، وجوز أن يكون حالا من الراسخين - والضمير المجرور راجع إلى المتشابه وعدم التعريض لإيمانهم بالمحكم لظهوره وإن رجع إلى الكتاب فله وجه أيضا لأن مآله كل من أجزاء الكتاب أو جزئياته وذلك لا يخلو عن الأمرين، ثم هذا القول وإن لم يخص - الراسخين - لكن فيه تعريض بأن مقتضى الإيمان به أن لا يسلك فيه طريق لا يليق من تأويله على ما مر فكأن غيرهم ليس بمؤمن * (كل من عند ربنا) * من تمام مقولهم مؤكد لما قبله ومقرر له أي كل واحد منه ومن المحكم - أو كل واحد من متشابهه ومحكمه منزل من عنده تعالى لا مخالفة بينهما، وفي التعبير بالرب إشارة إلى سر إنزال المتشابه، والحكمة فيه لما أنه متضمن معنى التربية والنظر في المصلحة والإيصال إلى معارج الكمال أولا فأولا، وقد قالوا: إنما أنزل المتشابه لذلك ليظهر فضل العلماء ويزداد حرصهم على الاجتهاد في تدبره وتحصيل العلوم التي نيط بها استنباط ما أريد به من الأحكام الحقيقية فينالوا بذلك وبإتعاب القرائح واستخراج المقاصد الرائقة والمعاني اللائقة المدارج العالية ويعرجوا بالتوفيق بينه وبين المحكم إلى رفرف الإيقان وعرش الاطمئنان ويفوزوا بالمشاهد السامية وحينئذ ينكشف لهم الحجاب ويطيب لهم المقام في رياض الصواب، وذلك من التربية والإرشاد أقصى غاية ونهاية في رعاية المصلحة ليس وراءها نهاية.
* (وما يذكر إلا أولوا الألباب) * عطف على جملة * (يقولون) * سيق من جهته تعالى مدحا للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر لما أنهم قد تجردت عقولهم عما يغشاها من الركون إلى الأهواء الزائغة المكدرة لها واستعدوا إلى الاهتداء إلى معالم الحق والعروج إلى معارج الصدق، وللإشارة إلى ذلك وضع الظاهر موضع
83

الضمير هذا على تقدير أن يكون الوقف على (الراسخون) وهو الذي ذهب إليه الشافعية. وسائر من فسر المتشابه بما لم يتضح معناه، وأما على تقدير أن يكون الوقف على * (إلا الله) * وهو الذي ذهب إليه الحنفية القائلون بأن المتشابه ما استأثر الله تعالى بعلمه فالراسخون مبتدأ وجملة * (يقولون) * خبر عنه، ورجوح الأول بوجوه: أما أولا: فلأنه لو أريد بيان حظ الراسخين مقابلا لبيان حظ الزائغين لكان المناسب أن يقال وأما الراسخون فيقولون، وأما ثانيا: فلأنه لا فائدة حينئذ في قيد
الرسوخ بل هذا حكم العالمين كلهم، وأما ثالثا: فلأنه لا ينحصر حينئذ الكتاب في المحكم والمتشابه على ما هو مقتضى ظاهر العبارة حيث لم يقل - ومنه متشابهات - لأن ما لا يكون متضح المعنى ويهتدي العلماء ألى تأويله ورده إلى المحكم لا يكون محكما ولا متشابها بالمعنى المذكور وهو كثير جدا وأما رابعا: فلأن المحكم حينئذ لا يكون - أم الكتاب - بمعنى رجوع المتشابه إليه إذ لا رجوع إليه فيما استأثر الله تعالى بعلمه كعدد الزبانية مثلا، وأما خامسا: فلأنه قد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس فقال: " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " ولو كان التأويل مما لا يعلمه إلا الله تعالى لما كان للدعاء معنى، وأما سادسا: فلأن ابن عباس رضي الله تعالى عنه كان يقول: أنا ممن يعلم تأويله، وأما سابعا: فلأنه سبحانه وتعالى مدح الراسخين بالتذكر في هذا المقام وهو يشعر بأن لهم الحظ الأوفر من معرفة ذلك، وأما ثامنا: فلأنه يبعد أن يخاطب الله تعالى عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته، والقول بأن - أما - للتفصيل فلا بد في مقابلة الحكم على الزائغين من حكم على الراسخين ليتحقق التفصيل. غاية الأمر أنه حذفت - أما - والفاء، وبأن الآية من قبيل الجمع والتقسيم والتفريق فالجمع في قوله سبحانه: * (أنزل عليك الكتاب) * والتقسيم في قوله تعالى: * (منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) * والتفريق في قوله عز شأنه: * (فأما الذين في قلوبهم زيغ) * الخ فلا بد في مقابلة ذلك من حكم يتعلق بالمحكم وهو أن الراسخين يتبعونه ويرجعون المتشابه إليه على ما هو مضمون قوله سبحانه: * (والراسخون في العلم) * الخ مجاب عنه بأن كون - أما - للتفصيل أكثري لا كلي ولو سلم فليس ذكر المقابل في اللفظ بلازم. ثم لو سلم بأن الآية من قبيل الجمع والتقسيم والتفريق فذكر المقابل على سبيل الاستئناف أو الحال أعني: (يقولون) الخ كاف في ذلك، ورجح الثاني بأنه مذهب الأكثرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين وأتباعهم خصوصا أهل السنة، وهو أصح الروايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، ولم يذهب إلى القول الأول إلا شرذمة قليلة بالنسبة إلى الأكثرين كما نص عليه ابن السمعاني وغيره - ويد الله تعالى مع الجماعة - ويدل على صحة مذهبهم أخبار كثيرة: الأول ما أخرجه عبد الرزاق في " تفسيره ". والحاكم في " مستدركه " عن ابن عباس أنه كان يقرأ - وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به - فهذا يدل على أن الواو للاستئناف لأن هذه الرواية وإن لم تثبت بها القراءة فأقل درجاتها أن تكون خبرا بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن فيقدم كلامه على من دونه، وحكى الفراء أن في قراءة أبي بن كعب أيضا - ويقول الراسخون في العلم. وأخرج ابن أبي داود في " المصاحف " من طريق الأعمش قال في قراءة ابن مسعود - وإن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به - الثاني ما أخرج الطبراني في " الكبير " عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله وما يبتغي تأويله إلا الله تعالى ". الحديث الثالث: ما أخرج ابن مردويه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رسول الله
84

صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه فآمنوا به ". الرابع: عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد ونزل القرآن في سبعة أبواب على سبعة: زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه واعتبروا بأمثاله واعلموا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه وقولوا: آمنا به كل من عند ربنا ". وأخرج البيهقي في " الشعب " نحوه عن أبي هريرة، الخامس: ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس مرفوعا " أنزل القرآن على أربعة أحرف حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته وتفسير تفسره العلماء ومتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى ومن ادعى علمه سوى الله تعالى فهو كاذب " إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على أن المتشابه مما لا يعلم تأويله إلا الله تعالى، وذهب بعض المحققين إلى أن كلا من الوقف والوصل جائز - ولكل منهما وجه وجيه - وبين ذلك الراغب بأن القرآن عند اعتبار بعضه ببعض ثلاث أضرب - محكم على الإطلاق. ومتشابه على الإطلاق ومحكم من وجه متشابه من وجه، فالمتشابه في الجملة ثلاثة أضرب. متشابه من جهة اللفظ فقط. ومن جهة المعنى. ومن جهتهما معا، فالأول: ضربان. أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة أما من جهة الغرابة نحو الأب ويزفون، أو الاشتراك كاليد والعين. وثانيهما يرجع إلى جملة الكلام المركب وذلك ثلاثة أضرب. ضرب لاختصار الكلام نحو * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم) * (النساء: 3) وضرب لبسطه نحو * (ليس كمثله شيء) * (الشورى: 11) لأنه لو قيل: ليس مثله شيء كان أظهر للسامع. وضرب لنظم الكلام نحو * (أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا * قيما) * (الكهف: 1، 2) إذ تقديره - أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا - والمتشابه من جهة المعنى أوصاف الله تعالى وأوصاف يوم القيامة فإن تلك الصفات لا تتصور لنا إذ لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه أو ليس من جنسه، والمتشابه من جهتهما خمسة أضرب. الأول: من جهة الكمية كالعموم والخصوص نحو * (فاقتلوا المشركين) * (التوبة: 5). والثاني: من جهة الكيفية كالوجوب والندب في نحو * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * (النساء: 3). والثالث: من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ نحو * (اتقوا الله حق تقاته) * (آل عمران: 102). والرابع: من جهة المكان والأمور التي نزلت فيه الآية نحو * (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها) * (البقرة: 189) و * (إنما النسيء زيادة في الكفر) * (التوبة: 37) فإن من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه تفسير هذه، والخامس: من جهة الشروط التي يصح بها الفعل ويفسد كشرط الصلاة والنكاح، ثم قال: وهذه الجملة إذا تصورت علم أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم؛ ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب. ضرب لا سبيل للوقوف عليه كوقت الساعة وخروج الدابة وغير ذلك. وقسم للإنسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ الغريبة والأحكام الغلقة. وضرب متردد بين الأمرين يختص بمعرفة بعض الراسخين في العلم ويخفى على من دونهم، وهو المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله تعالى عنه: " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ".
وإذا عرفت هذا ظهر لك جواز الأمرين الوقف على * (إلا الله) * والوقف على * (الراسخون) * وقال بعض أئمة التحقيق: الحق أنه إن أريد بالمتشابه ما لا سبيل إليه للمخلوق فالحق الوقف على * (إلا الله) * وإن أريد ما لا يتضح بحيث يتناول المجمل ونحوه فالحق العطف، ويجوز الوقف أيضا لأنه لا يعلم جميعه أو لا يعلمه
بالكنه إلا الله تعالى، وأما إذا فسر بما دل القاطع أي النص النقلي أو الدليل الجازم العقلي على أن ظاهره غير مراد ولم يقم
85

دليل على ما هو المراد ففيه مذهبان. فمنهم من يجوز الخوض فيه وتأويله بما يرجع إلى الجادة في مثله فيجوز عنده الوقف وعدمه. ومنهم من يمنع الخوض فيه فيمتنع تأويله ويجب الوقف عنده، والذاهبون إلى الوقف من السادة الحنفية أجابوا عما ذكره غيرهم في ترجيح ما ذهبوا إليه من الوجوه، فعن الأول: بأنه أريد بيان حظ الراسخين مقابلا لبيان حظ الزائغين إلا أنه لم يقل - وأما الراسخون - مبالغة في الاعتناء بشأن الراسخين حيث لم يسلك بهم سبيل المعادلة اللفظية لهؤلاء الزائغين وصينوا عن أن يذكروا معهم كما يذكر المتقابلان في الأغلب في مثل هذه المقامات وقريب من هذا قوله تعالى: * (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت) * (البقرة: 257) حيث لم يقل - والطاغوت أولياء الذين كفروا، ولا الذين آمنوا وليهم الله - تعظيما لشأنه تعالى ورعاية للاعتناء بشأن المؤمنين، وعن الثاني: بأن فائدة قيد الرسوخ المبالغة في قصر علم تأويل المتشابه عليه تعالى لأنه إذا لم يعلموه هم كما يشعر به الحكم عليهم بأنهم يقولون آمنا به فغيرهم أولى بعدم العلم فلم يبق عالم به إلا الله تعالى. وعن الثالث: بأنه يلتزم القول بعد الحصر، وفي " الاتقان " أن بعضا قال: إن الآية لا تدل على الحصر في الشيئين إذ ليس فيها شيء من طرقه ولولا ذلك لأشكل قوله تعالى: * (لتبين للناس ما نزل إليهم) * (النمل: 44) لأن المحكم لا تتوقف معرفته على البيان والمتشابه لا يرجى بيانه فما هذا الذي يبينه النبي صلى الله عليه وسلم؟ وعن الرابع: بالتزام أن إضافة - أم - إلى (الكتاب) على معنى في، والمحكم - أم - في (الكتاب) ولكن لا للمتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه بل هو - أم - وأصل في فهم العبادات الشرعية كوجوب معرفته وتصديق رسله وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وعلى تقدير القول بأن الإضافة لامية يلتزم الأمومة للكتاب باعتبار بعضه وهو الواسطة بين القسمين لأن متضح الدلالة كثيرا ما يرجع إليه في خفيها مما لم يصل إلى حد الاستئثار، وعن الخامس: بأن التأويل الذي دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس لا يتعين حمله على تأويل ما اختص علمه به تعالى بل يجوز حمله على تفسير ما يخفى تفسيره من القسم المتردد بين الأمرين اللذين ذكرهما الراغب كما ذكره. وعن السادس: بأن الرواية عن ابن عباس أنه قال: " أنا ممن يعلم تأويله " معارضة بما هو أصح منها بدرجات فتسقط عن درجة الاعتبار، وعلى تقدير تسليم اعتبارها يمكن أن يقال: مراده رضي الله تعالى عنه - أنا ممن يعلم تأويله - أي المتشابه في الجملة حسبما دعا لي به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا وإن قيل: إنه متشابه لكنه في الحقيقة واسطة بين المحكم والمتشابه بالمعنى المراد، وعن السابع: بأن مدح الراسخين بالتذكر ليس لأن لهم حظا في معرفته بل لأنهم اتعظوا فخالفوا هواهم ووقفوا عند ما حد لهم مولاهم ولم يسلكوا مسلك الزائغين ولم يخوضوا مع الخائضين ويمكن على بعد أن يراد بالتذكر الانتفاع مجازا أي إن الراسخين هم الذين ينتفعون به حيث يؤمنون به لخوص عقولهم عن غشاوة الهوى كما أنهم آمنوا بالغيب وهذا بخلاف الزائغين حيث صار المتشابه ضررا عليهم ووبالا لهم إذ ضلوا فيه كثيرا وأضلوا عن سواء السبيل، وقد قال سبحانه من قبل فيما ضربه من المثل: * (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين) * (البقرة: 26) وعن الثامن: بأنه لا بعد في أن يخاطب الله تعالى عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته ويكون ذلك من باب الابتلاء كما ابتلى سبحانه عباده بتكاليف كثيرة وعبادات وفيرة لم يعرف أحد حقيقة السر فيها، والسر في هذا الابتلاء قص جناح العقل وكسر سورة الفكر وإذهاب عجب طاوس النفس ليتوجه القلب بشراشره تجاه كعبة العبودية ويخضع تحت سرادقات الربوبية ويعترف بالقصور ويقر بالعجز عن الوصول إلى ما في هاتيك القصور وفي
86

ذلك غاية التربية ونهاية المصلحة هذا إذا أريد بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته ما لا سبيل لأحد منهم إلى معرفته من طريق الفكر، وأما إذا أريد ما لا سبيل إلى معرفته مطلقا سواء كانت على الإجمال أو التفصيل بالوحي أو بالإلهام لنبي أو لولي فوجود مثل هذا المخاطب به في القرآن في حيز المنع، ولعل القائل بكون المتشابه مما استأثر الله تعالى بعلمه لا يمنع تعليمه للنبي صلى الله عليه وسلم بواسطة الوحي مثلا ولا إلقاءه في روع الولي الكامل مفصلا لكن لا يصل إلى درجة الإحاطة - كعلم الله تعالى - وإن لم يكن مفصلا فلا أقل من أن يكون مجملا ومنع هذا وذاك مما لا يكاد يقول به من يعرف رتبة النبي صلى الله عليه وسلم ورتبة أولياء أمته الكاملين وإنما المنع من الإحاطة ومن معرفة على سبيل النظر والفكر وهو الطريق المعتاد والسبيل المسلوك في معرفته المشكلات واستحصال النظريات ولتبادر هذا المعنى من يعلم إذا أسند إلى الراسخين منع إسناده إليهم ومتى أريد منه العلم لا من طريق الفكر صح الإسناد وجاز العطف ولكن دون توهم هذه الإرادة من ظاهر الكلام خرط القتاد، فلهذا شاع القول بعدم العطف وكان القول به أسلم.
ويؤيد ما قلنا ما ذكره الإمام الشعراني قال: أخبرني شيخنا علي الخواص قدس سره إن الله تعالى أطلعه على معاني سورة الفاتحة فخرج منها مائتي ألف علم وأربعين ألف علم وتسعمائة وتسعين علما وكان يقول: لا يسمى عالما أي عند أهل الله تعالى إلا من عرف كل لفظ جاءت به الشريعة، وقال في " الكشف " في نحو * (ق) * * (ص) * * (حم) * * (طس) *: لعل إدراك ما تحته عند أهله كإدراكنا للأوليات ولا يستبعد، ففيض الباري عم نواله غير محصور؛ واستعداد الإنسان الكامل عن القبول غير محسور، ومن لم يصدق إجمالا - بأن وراء مدركات الفكرة ومباديها طورا أو أطوارا حظ العقل منها حظ الحس من المعقولات - فهو غير متخلص عن مضيق التعطيل أو التشبيه وإن لم يتدارك حاله بقي بعد كشف الغظا في هذا التيه، ولتتحقق من هذا أن المراتب مختلفة وأن الإحاطة على الحقائق الإلهية كما هي مستحيلة إلا للباري جل ذكره وأنه لا بد للعارف وإن وصل إلى أعلى المراتب أن يبقى له ما يجب الإيمان به غيبا وهو من المتشابه الذي يقول الراسخون فيه: * (آمنا به كل من عند ربنا) * فهذا ما يجب أن يعتقد كي لا يلحد.
ثم اعلم أن كثيرا من الناس جعل الصفات النقلية من الاستواء واليد والقدم والنزول إلى السماء الدنيا والضحك والتعجب وأمثالها من المتشابه، ومذهب السلف - والأشعري رحمه الله تعالى من أعيانهم - كما أبانت عن حاله الإبانة - أنها صفات ثابتة وراء العقل ما كلفنا إلا اعتقاد ثبوتها مع اعتقاد عدم التجسيم والتشبيه لئلا يضاد النقل العقل، وذهب الخلف إلى تأويلها وتعيين مراد الله تعالى منها فيقولون: الاستواء مثلا بمعنى الاستيلاء والغلبة، وذلك أثر من آثار بعض الصفات الثمانية التي ليس
لله تعالى عندهم وراءها صفة حتى ادعى السكوتي - وليته سكت - أن ما وراء ذلك ممتنع إذ لا يلزم من نفيه محال وكل ما لا يلزم من نفيه محال لا يكون واجبا، والله تعالى لا يتصف إلا بواجب، وذكر الشعراني في " الدرر المنثورة " أن مذهب السلف أسلم وأحكم إذ المؤل انتقل عن شرح الاستواء الجسماني على العرش المكاني بالتنزيه عنه إلى التشبيه السلطاني الحادث وهو الاستيلاء على المكان فهو انتقال عن التشبيه بمحدث ما إلى التشبيه بمحدث آخر فما بلغ عقله في التنزيه مبلغ الشرع فيه في قوله تعالى: * (ليس كمثله شيء) * (الشورى: 11) ألا ترى أنه استشهد في التنزيه العقلي في الاستواء بقول شاعر:
87

قد - استوى - بشر على العراق * من غير حرب ودم مهراق
وأين استواء - بشر على العراق - من استواء الرحمن على العرش، ونهاية الأمر يحتاج إلى القول بأن المراد استيلاء يليق بشأن الرحمن جل شأنه فليقل من أول الأمر قبل تحمل مؤنة هذا التأويل استواء يليق بشأن من عز شأنه وتعالى عن إدراك العقول سلطانه، وهذا أليق بالأدب وأوفق بكمال العبودية وعليه درج صدر الأمة وساداتها - وإياها اختار أئمة الفقهاء وقاداتها - وإليها دعا أئمة الحديث في القديم والحديث حتى قال محمد بن الحسن كما أخرجه عنه اللالكائي: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه، وورد عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له ضبيع قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وقد أعد له عراجين النخل فقال: من أنت؟ فقال: أنا عبد الله ضبيع فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين فضربه حتى أدمى رأسه - وفي رواية - فضربه بالجريد حتى ترك ظهره دبرة ثم تركه حتى برىء ثم عاد إليه ثم تركه حتى برىء فدعا به ليعود فقال: إن كنت تريد قتلتي فاقتلني قتلا جميلا فأذن له إلى أرضه وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه أحد من المسلمين. لا يقال إن تركت أمثال هذه المتشابهات على ظواهرها دلت على التجسيم وإن لم ترد ظواهرها فقد أولت لأن التأويل على ما قالوا: إخراج الكلام عن ظاهره لأنا نقول: نختار الشق الثاني ولا نسلم أن التأويل إخراج الكلام عن ظاهره مطلقا بل إخراجه إلى معنى معين معلوم كما يقال الاستواء مثلا بمعنى الاستيلاء على أن للتأويل معنيين مشهورين لا يصدق شيء منهما على نفي الظاهر من غير تعيين للمراد، أحدهما: ترجمة الشيء وتفسيره الموضح له، وثانيهما: بيان حقيقته وإبرازها إما بالعلم أو بالعقل فإن من قال: بعد التنزيه لا أدري من هذه المتشابهات سوى أن الله تعالى وصف بها نفسه وأراد منها معنى لائقا بجلاله جل جلاله، ولا أعرف ذلك المعنى لم يقل في حقه أنه ترجم وأوضح ولا بين الحقيقة وأبرز المراد حتى يقال إنه أول، ومن أمعن النظر في مأخذ التأويل لم يشك في صحة ما قلنا، نعم ذهبت شرذمة قليلة من السلف إلى إبقاء نحو المذكورات على ظواهرها إلا أنهم ينفون لوازمها المنقدحة للذهن الموجبة لنسبة النقص إليه عز شأنه ويقولون: إنما هي لوازم لا يصح انفكاكها عن ملزوماتها في صفاتنا الحادثة، وأما في صفات من ليس كمثله شيء فليست بلوازم في الحقيقة ليكون القول بانفكاكها سفسطة - وأين التراب من رب الأرباب - وكأنهم إنما قالوا ذلك ظنا منهم أن قول الآخرين من السلف تأويل، و (الراسخون في العلم) لا يذهبون إليه أو أنهم وجدوا بعض الآثار يشعر بذلك مثل ما حكى مقاتل والكلبي عن ابن عباس في * (استوى) * (طه: 5) أنه بمعنى استقر، وما أخرجه أبو القاسم من طريق قرة بن خالد عن الحسن عن أمه عن أم سلمة في قوله تعالى: * (الرحمن على العرش استوى) * (طه: 5) إنها قالت: الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول والإقرار به من الإيمان والجحود به كفر.
وقريب من هذا القول ما يصرح به كلام كثير من ساداتنا الصوفية فإنهم قالوا: إن هذه المتشابهات تجرى على ظواهرها مع القول بالتنزيه الدال عليه قوله تعالى: * (ليس كمثله شيء) * (الشورى: 11) حيث إن وجود الحق تعالى شأنه لا تقيده الأكوان وإن تجلى فيما شاء منها إذ له كمال الإطلاق حتى عن قيد الإطلاق، ولا يخفى أن إجراء المتشابهات على ظاهرها مع التنزيه اللائق بجلال ذاته سبحانه طور ما وراء طور العقل وبحر لا يسبح فيه إلا من فاز بقرب النوافل. وذكر بعض أئمة التدقيق أن العقل سبيله في العلم بالصفات الثمانية المشهورة كعلمه بتلك الصفات التي يدعي الخلف رجوعها إليها إذا أحد النظر، فقد قام البرهان وشاهد العيان على عدم المماثلة ذاتا وصفات أيضا
88

لكن صفاته المتعالية وأسماؤه الحسنى قسمان، قسم يناسب ما عندنا من الصفات نوع مناسبة وإن كانت بعيدة، ولا يقال: فلا بد فيه في أفهامنا معاشر الناقصين من أن يسمى بتلك الأسماء المشتهرة عندنا فيسمى علما مثلا - لا دواة ولا قلما - وقسم ليس كذلك وهو المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم " أو استأثرت به في علم الغيب عندك " فقد يذكر له أسماء مشوقة لأن منه ما للإنسان الكامل منه نصيب بطريق التخلق والتحقق فيذكر تارة اليد والنزول والقدم ونحو ذلك من المخيلات مع العلم البرهاني والشهود الوجداني بتنزهه تعالى عن كل كمال يتصوره الإنسان ويحيط به فضلا عن النقصان، فيعلم أنه أشار إلى ذلك القسم الذي علم بالإجمال ويتوجه إذ ذاك بكليته شطر كعبة الجلال والجمال فيفاض عليه من ينبوع الكمال ما يستأنس عنده وينكشف له جلية الحال، وإذ ليس له مناسبة بما عندنا لا توجد عبارة يترجم عنها إلا على سبيل الخيال، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام: " من عرف الله تعالى كل لسانه " وأخرى بين مقصد الكل ومن أحبه سبحانه ما يصان عن تهمة إدراك الأغيار من نحو تلك الفواتح، ولعل إدراكها عند أهلها كإدراك الأوليات إلا أنه لا إحاطة بل لا بد من بقاء شيء كما أشير إليه، وعلى هذا أيضا الأليق أن يوقف لأنه شعار من لنا فيهم الأسوة الحسنة مع ظهور وجهه لكن لا تجعل الآية حجة على من تأول نحو * (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة) * (الزمر: 67) مثلا إذ لا يسلم أنه داخل في ذلك المتشابه والحمل على المجاز الشائع في كلام العرب والكناية البالغة في الشهرة مبلغ الحقيقة أظهر من الحمل على معنى مجهول، نعم لو قيل: إن تصوير العظمة على هذا الوجه دال على أن العقل غير مستقل بإدراكها وأنها أجل من أن تحيط بها العقول فالكنه من المتشابه الذي دلت الآية عليه ويجب الإيمان به كان حسنا، وجمعا بين ما عليه السلف ومشى عليه الخلف وهو الذي يجب أن يعتقد كيلا يلزم ازدراء بأحد الفريقين كما فعل ابن القيم حتى قال: لام الأشعرية كنون اليهودية أعاذنا الله تعالى من ذلك، وعلى هذا يجب أن يفسر المتشابه في الآية بما يعم القسمين، والمحكم (أم) يرجع إليه في تمييز القسمين أحدهما: فرعه الإيماني. والثاني: فرع
الإيقاني، وابن دقيق العيد توسط في مسألة التأويل، ويحتمل أنه لم يخرج ما قاله هذا المدقق أخيرا من المتشابه فقال: إذا كان التأويل قريبا من لسان العرب لم ينكر أو بعيدا توقفنا عنه وآمنا بمعناه على الوجه الذي أريد به مع التنزيه وما كان معناه من هذه الألفاظ ظاهرا معهودا من تخاطب العرب قلنا به من غير توقف كما في قوله تعالى: * (يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله) * (الزمر: 56) فنحمله على حق الله تعالى وما يجب له فليفهم هذا المقام فكم زلت فيه أقوام بعد أقوام.
* (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) *.
* (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) * يحتمل أن يكون من تمام مقالة الراسخين، ويحتمل أن يكون على معنى التعليم - أي قولوا: ربنا لا تزغ قلوبنا عن نهج الحق إلى اتباع المتشابه بتأويل لا ترتضيه بعد إذ هديتنا إلى معالم الحق من التفويض في المتشابه أو الإيمان بالقسمين، أو التأويل الصحيح، ويؤل المعنى إلى لا تضلنا بعد الهداية لأن زيغ القلوب في مقابلة الهداية ومقابلة الهداية الإضلال، وصحة نسبة ذلك إلى الله تعالى - على مذهب أهل السنة في أفعال العباد - ظاهرة، والمعتزلة يؤولون ذلك بنحو لا تبلنا ببلايا تزيغ قلوبنا ولا تمنعنا ألطافك بعد أن لطفت بنا، وإنما دعوا بذلك أو أمروا بالدعاء به لأن القلوب لا تتقلب، ففي " الصحيح " عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يدعو " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك قلت: يا رسول الله ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء؟ فقال: ليس من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أن يقيمه وإن شاء أن يزيغه أزاغه ".
89

وأخرج الحكيم الترمذيمن طريق عتبة بن عبد الله بن خالد بن معدان عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما الإيمان بمنزلة القميص مرة تقمصه ومرة تنزعه " والروايات بمعنى ذلك كثيرة وهي تدل على جواز عروض الكفر بعد الإيمان بطرو الشك مثلا والعياذ بالله تعالى، وفي كلام الصحابة رضي الله تعالى عنهم أيضا ما يدل على ذلك فقد أخرج ابن سعد عن أبي عطاف أن أبا هريرة كان يقول أي رب لا أزنين أي رب لا أسرقن أي رب لا أكفرن قيل له: أو تخاف؟ قال: آمنت بمحرف القلوب ثلاثا، وأخرج الحكيم الترمذي عن أبي الدرداء قال: " كان عبد الله بن رواحة إذا لقيني قال: اجلس يا عويمر فلنؤمن ساعة فنجلس فنذكر الله تعالى على ما يشاء ثم قال: يا عويمر هذه مجالس الإيمان إن مثل الإيمان ومثلك كمثل قميصك بينا أنا قد نزعته إذ لبسته وبينا أنت قد لبسته إذ نزعته يا عويمر للقلب أسرع تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا "، وعن أبي أيوب الأنصاري " ليأتين على الرجل أحايين وما في جلده موضع إبرة من النفاق وليأتين عليه أحايين وما في جلده موضع إبرة من إيمان ".
وادعى بعضهم أن هذا بالنسبة إلى الإيمان الغير الكامل وما رجع من رجع إلا من الطريق، وأما بعد حصول الإيمان الكامل والتصديق الجازم والعلم الثابت المطابق فلا يتصور رجعة وكفر أصلا لئلا يلزم انقلاب العلم جهلا وهو محال والتزم تأويل جميع ما يدل على ذلك، ولا يخفى أن هذا القول مما يكاد يجر إلى الأمن من مكر الله تعالى والتزام تأويل النصوص لشبهة اختلجت في الصدر هي أوهن من بيت العنكبوت في التحقيق مما لا يقدم عليه من له أدنى مسكة كما لا يخفى فتدبر، و * (بعد) * منصوب على الظرفية والعامل فيه * (تزغ) *، و * (إذ) * مضاف إليه وهي متصرفة كما ذكره أجلة النحوين، وأما القول بأنها بمعنى أن المصدرية المفتوحة الهمزة، والمعنى - بعد هدايتنا فمما ذكره الحوفي في " إعراب القرآن " ولم ير لغيره، والمذكور في النحو أنها تكون حرف تعليل فتؤل مع ما بعدها بالمصدر نحو * (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم) * (الزخرف: 39) أي لظلمكم فإن كان أخذ من هذا فهو كماترى، وقرىء - لا تزغ - بالياء والتاء ورفع (القلوب) * (وهب لنا من لدنك) * كلا الجارين متعلق - بهب - وتقديم الأول اعتناءا به وتشويقا إلى الثاني، ويجوز تعلق الثاني بمحذوف هو حال من المفعول أي كائنة من لدنك، و * (من) * لابتداء الغاية المجازية، و - لدن - ظرف، وهي لأول غاية زمان أو مكان أو غيرهما من الذوات نحو - من لدن زيد - وليست مرادفة لعند بل قد تكون بمعناها، وبعضهم يقيدها بظرف المكان وهي ملازمة للإضافة فلا تنفك عنها بحال، فتارة تضاف إلى المفرد، وتارة إلى الجملة الإسمية أو الفعلية وقلما تخلو عن (من)، وفيها لغتان، الإعراب - وهي لغة قيس - والبناء وهي اللغة المشهورة - وسببه شبهها بالحرف في لزوم استعمال واحد وامتناع الإخبار بها بخلاف - عند، ولدي - فإنهما لا يلزمان استعمالا واحدا إذ يكونان فضلة، وعمدة وغاية وغير غاية، قيل: ولقوة هذا الشبه لا تعرب إذا أضيفت في المشهور واللغتان المذكورتان من الإعراب والبناء مختصان - بلدن - المفتوحة اللام المضمومة الدال الواقع آخرها نون، وأما بقية لغاتها فإنها فيها مبنية عند جميع العرب وفيها لغات المشهورة منها ما تقدم - ولدن ولدن - بفتح الدال وكسرها - ولدن، ولدن - بفتح اللام وضمها مع سكون الدال - ولدن بفتح اللام وضم الدال وبإبدال الدال تاءا ساكنة ومتى أضيفت المحذوفة النون إلى ضمير وجب رد النون.
* (رحمة) * مفعول - لهب - وتنوينه للتفخيم، والمراد بالرحمة الإحسان والإنعام مطلقا، وقيل: الإنعام المخصوص وهو التوفيق للثبات على الحق، وفي سؤال ذلك بلفظ الهبة إشارة إلى أن ذلك منه تعالى تفضل محض من غير شائبة وجوب عليه عز شأنه وتأخير المفعول
90

الصريح للتشويق * (إنك أنت الوهاب) * تعليل للسؤال أو لإعطاء المسؤول، و * (أنت) * إما مبتدأ أو فصل أو تأكيد لاسم - إن - وحذف المعمول لإفادة العموم كما في قولهم: فلان يعطي واختيار صيغة المبالغة على فعال قيل: لمناسبة رؤوس الآي.
* (ربنآ إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد) *.
* (ربنا إنك جامع الناس) * المكلفين وغيرهم * (ليوم) * أي لحساب يوم، أو لجزاء يوم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه تهويلا لما يقع فيه، وقيل: اللام بمعنى إلى أي جامعهم في القبول إلى يوم * (لا ريب فيه) * أي لا ينبغي أن يرتاب في وقوعه ووقوع ما فيه من الحشر والحساب والجزاء، وقيل: الضمير المجرور للحكم أي لا ريب في هذا الحكم، فالجملة على الأول صفة ليوم، وعلى الثاني لتأكيد الحكم ومقصودهم من هذا - كما قال غير واحد - عرض كمال افتقارهم إلى
الرحمة وأنها المقصد الأسني عندهم، والتأكيد لإظهار ما هم عليه من كمال الطمأنينة وقوة اليقين بأحوال الآخرة لمزيد الرغبة في استنزال طائر الإجابة، وقرىء * (جامع الناس) * بالتنوين * (إن الله لا يخلف الميعاد) * تعليل لمضمون الجملة المؤكدة أو لانتفاء الريب، وقيل: تأكيد بعد تأكيد للحكم السابق وإظهار الاسم الجليل مع الالتفات للإشارة إلى تعظيم الموعود والإجلال الناشيء من ذكر اليوم المهيب الهائل، وللإشعار بعلة الحكم فإن الألوهية منافية للإخلاف؛ وهذا بخلاف ما في آخرة السورة حيث أتى بلفظ الخطاب فيه لما أن مقامه مقام طلب الإنعام، وقال الكرخي: الفرق بينهما أن ما هنا متصل بما قبله اتصالا لفظيا فقط وما في الآخرة متصل اتصالا معنويا ولفظيا لتقدم لفظ الوعد، وجوز أن تكون هذه الجملة من كلامه تعالى لتقرير قول الراسخين لا من كلام الراسخين فلا التفات حينئذ، قال السفاقسي: وهو الظاهر و (الميعاد) مصدر ميمي بمعنى الحدث لا بمعنى الزمان والمكان وهو اللائق بمفعولية - يخلف - وياؤه منقلبة عن واو لانكسار ما قبلها، واستدل بها الوعيدية على وجوب العقاب للعاصي عليه تعالى وإلا يلزم الخلف، وأجيب عنه بأن وعيد الفساق مشروط بعدم العفو بدلائل منفصلة كما هو مشروط بعدم التوبة وفاقا؛ وقيل: هو إنشاء فلا يلزم محذور في تخلفه، وقيل: ما في الآية ليس محلا للنزاع لأن الميعاد فيه مصدر بمعنى الوعد ولا يلزم من عدم خلف الوعد عدم خلف الوعيد لأن الأول مقتضى الكرم كما قال: وإني إذا أوعدته أو وعدته * لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
واعترض بأن الوعيد الذي هو محل النزاع داخل تحت الوعد بدليل قوله تعالى: * (قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا) * (الأعراف: 44) وأجيب بأنا لا نسلم الدخول والآية من باب التهكم فهي على حد * (فبشرهم بعذاب أليم) * (التوبة: 34) واعترض أيضا بأن كون - الخلف في الإيعاد - مقتضى الكرم لا يجوز الخلف على الله تعالى لأنه يلزم حينئذ صحة أن يسمى الله تعالى مكذب نفسه وهو مما لا يقدم عليه أحد من المسلمين، وأجيب عنه بما تركه أصوب من ذكره فالحق الرجوع إلى الجواب الأول.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: * (ألم) * (آل عمران: 1) تقدم الكلام عليه، وذكر بعض ساداتنا فيه أنه أشير به إلى كل الوجود من حيث هو كل لأن (أ) إشارة إلى الذات الذي هو أول الوجود وهو مرتبة الإطلاق، و (ل) إلى العقل المسمى بجبريل الذي هو وسط الوجود الذي يستفيض من المبدأ ويفيض إلى المنتهى، و (م) إلى محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو آخر الوجود، وبه تتم دائرته ولهذا كان الختم، وقال بعضهم: إن (ل) ركبت من ألفين أي وضعت بإذاء الذات مع صفة العلم اللذين هما عالمان من العوالم الثلاثة الإلهية التي أشرنا
91

إليها فهو اسم من أسمائه تعالى، وأما (م) فهي إشارة إلى الذات مع جميع الصفات والأفعال التي احتجبت بها في صورة المحمدية التي هي اسم الله تعالى الأعظم بحيث لا يعرفها إلا من يعرفها ألا ترى أن (أ) التي هي لصورة الذات كيف احتجبت فيها فإن الميم فيها الياء وفي الياء ألف ولتضمن * (ألم) * الإشارة إلى مراتب الوجود والحقيقة المحمدية ناسب أن تفتتح بها هذه الآيات المتضمنة للرد على النصارى الذين أخطأوا في التوحيد ولم يعرفوه على وجهه، ولهذا أردفه سبحانه بقوله: * (الله لا إله إلا هو) * إذ لا موجود في سائر العوالم حقيقة إلا هو إذ لا أحد أغير من الله تعالى جل جلاله * (الحي) * أي المتصف بالحياة الكاملة على وجه يليق بذاته * (القيوم) * (آل عمران: 2) بتدبير الأعيان الثابتة بظهوره فيها حسب استعدادها الأزلي الغير المجعول * (نزل عليك الكتاب) * وهو العلم المفيد لمقام الجمع وهو التوحيد الذي تفنى فيه الكثرة ولا يشاهد فيه التعدد متلبسا * (بالحق) * وهو الثابت الذي لا يعتريه تغير في ذاته * (مصدقا لما بين يديه) * من التوحيد الأول الأزلي السابق المعلوم في العهد الأول المخزون في غيب الاستعداد * (وأنزل التوراة والإنجيل) * (آل عمران: 3) * (من قبل هدى للناس) * إلى معالم التوحيد * (وأنزل الفرقان) * وهو التوحيد التفصيلي الذي هو الحق باعتبار الفرق وهو منشأ الاستقامة ومبدأ الدعوة * (إن الذين كفروا) * أي احتجبوا عن هذين التوحيدين بالمظاهر والأكوان ورؤية الأغيار ولم يؤمنوا * (بآيات الله) * تعالى الدالة على أن له سبحانه رتبة الإطلاق وله الظهور والتجلي بما شاء * (لهم عذاب شديد) * في البعد والحرمان عن حظائر العرفان * (والله عزيز) * قاهر * (ذو انتقام) * (آل عمران: 4) شديد بمقتضى صفاته الجلالية * (هو الذي يصوركم) * في أرحام الوجود * (كيف يشاء) * لأنكم المظاهر لأسمائه والمجلي لذاته * (لا إله) * في الوجود * (إلا هو العزيز) * القاهر للأعيان الثابتة فلا تشم رائحة الوجود بنفسها أبدا * (الحكيم) * (آل عمران: 6) الذي يظهرها بوجوده الحق ويتجلى بها حسبما تقتضيه الحكمة * (هو الذي أنزل عليك الكتاب) * متنوعا في الظهور * (منه آيات محكمات) * أحكمت من أن يتطرق إليها الاحتمال والاشتباه فلا تحتمل إلا معنى واحدا * (هن أم الكتاب) * والأصل * (وأخر متشابهات) * تحتمل معنيين فأكثر ويقع فيها الاشتباه وذلك أن الحق تعالى له وجه واحد وهو المطلق الباقي بعد فناء خلقه لا يحتمل التكثر من ذلك الوجه وله وجوه متكثرة بحسب المرايا والمظاهر بها يقع الاشتباه فورد التنزيل كذلك * (فأما الذين في قلوبهم زيغ) * أي ميل عن الحق * (فيتبعون ما تشابه) * لاحتجابهم بالكثرة عن الوحدة * (وما يعلم تأويله) * الذي يرجع إليه * (إلا الله) * ويعلمه الراسخون في العلم - الذين لم يحتجبوا بأحد الأمرين عن الآخر بعلمه الذي منحوه بواسطة قرب النوافل لا بالعلم الفكري الحاصل بواسطة الأقيسة المنطقية، وبهذا يحصل الجمع بين الوقف على * (إلا الله) * والوقف على * (الراسخون) * * (وما يذكر) * بذلك العلم الواحد المفصل في التفاصيل المتشابهة المتكثرة * (إلا أولوا الألباب) * (آل عمران: 7) الذين صفت عقولهم بنور الهداية وتجردت عن قشر الهوى والعادة * (ربنا لا تزغ قلوبنا) * بالنظر إلى الأكوان والاحتجاب بها عن مكونها * (بعد إذ هديتنا) * بنورك إلى صراطك المستقيم ومشاهدتك في مراتب الوجود والمرايا المتعددة * (وهب لنا من لدنك رحمة) * خاصة تمحو صفاتنا بصفاتك وظلماتنا بأنوارك * (إنك أنت الوهاب) * (آل عمران: 8) المعطي للقوابل حسب القابليات * (ربنا إنك جامع الناس) * على اختلاف مراتبهم * (ليوم لا ريب فيه) * وهو يوم الجمع الذي هو الوصول إلى مقام الوحدة عند كشف الغطا وطلوع شمس العيان * (إن الله لا يخلف الميعاد) * لتظهر صفاته الجمالية والجلالية ولذلك خلق الخلق وتجلى للأعيان فأظهرها كيف شاء؛ هذا ثم لما بين سبحانه الدين الحق والتوحيد وذكر أحوال الكتب الناطقة به
92

وشرح حال القرآن العظيم وكيفية إيمان الراسخين به أردف ذلك ببيان حال من كفر به [بم بقوله جل شأنه:
* (إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم ولا أول‍ادهم من الله شيئا وأول‍ائك هم وقود النار) *.
* (إن الذين كفروا) * الظاهر أن المراد بهم جنس الكفرة الشامل لجميع الأصناف، وقيل: وفد نجران، أو اليهود من قريظة والنضير، وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو مشركو العرب * (لن تغني عنهم) * أي لن تنفعهم، وقرىء بالتذكير وسكون الياء وهو من الجد في استثقال الحركة على حروف اللين * (أموالهم) * التي أعدوها لدفع المضار وجلب المصالح * (ولا أولادهم) * الذين يتناصرون بهم في الأمور المهمة ويعولون عليهم في الملمات المدلهمة وتأخيرهم عن الأموال مع توسيط حرف النفي - كما قال شيخ الإسلام إما لعراقتهم في كشف الكروب أو لأن الأموال أول عدة يفزع إليها عند نزول الخطوب - * (من الله) * أي من عذابه تعالى - فمن - لابتداء الغاية كما قال المبرد، وقوله تعالى: * (شيئا) * نصب على المصدرية أي شيئا من الإغناء، وجوز أن يكون مفعولا به لما في (أغنى) من معنى الدفع و * (من) * للتبعيض وهي متعلقة بمحذوف وقع صفة له إلا أنها قدمت عليه فصارت حالا، وأن يكون مفعولا ثانيا بناءا على أن معنى أغنى عنه كفاه ولا يخفى ما فيه، وقال أبو عبيدة: * (من) * هنا بمعنى عند وهو ضعيف، وقال غير واحد: هي بدلية مثلها في قوله: فليت لنا (من) ماء زمزم شربة * مبردة باتت على طهيان
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " ولا ينفع ذا الجد منك الجد " وقوله تعالى: * (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض) * (الزخرف: 60) والمعنى لن تغني عنهم بدل رحمة الله تعالى، أو بدل طاعته سبحانه أموالهم ولا أولادهم ونفى ذلك سبحانه مع أن احتمال سد أموالهم وأولادهم مسد رحمة الله تعالى وطاعته عز شأنه مما يبعد بل لا يكاد يخطر ببال حتى يتصدى لنفيه إشارة إلى أن هؤلاء الكفار قد ألهتهم أموالهم وأولادهم عن الله تعالى والنظر فيما ينبغي له إلى حيث يخيل للرائي أنهم ممن يعتقد أنها تسد مسد رحمة الله تعالى وطاعته.
وقريب من ذلك قوله تعالى: * (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى) * (سبأ: 37) واعترض بأن أكثر النحاة - كما في " البحر " - ينكرون إثبات البدلية - لمن - مع أن الأول هو الأليق في الظاهر بتهويل أمر الكفرة والأنسب بقوله تعالى: * (وأولائك هم وقود النار) * وكذا بما بعد، و - الوقود - بفتح الواو - وهي قراءة الجمهور - الحطب - أي أولئك المتصفون بالكفر المبعدون عن عز الحضور - حطب النار التي تسعر به لكفرهم، وقيل: الوقود بالفتح لغة في الوقود بالضم - وبه قرأ الحسن - مصدر بمعنى الإيقاد فيقدر حينئذ مضاد أي أهل وقودها - والأول هو الصحيح - وإيثار الجملة الإسمية للدلالة على تحقق الأمر وتقرره، أو للإيذان بأن حقيقة حالهم ذلك وأنهم في حال كونهم في الدنيا وقود النار بأعيانهم، وهي إما مستأنفة مقررة لعدم الإغناء أو معطوفة على الجملة الأولى الواقعة خبرا لأن، و * (هم) * يحتمل أن يكون مبتدأ ويحتمل أن يكون فصلا.
* (كدأب ءال فرعون والذين من قبلهم كذبوا بأي‍اتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب) *.
* (كدأب آل فرعون) * الدأب العادة والشأن، وأصله من دأب في الشيء دأبا ودءوبا إذا اجتهد فيه وبالغ - أي حال هؤلاء في الكفر واستحقاق العذاب كحال آل فرعون فالجار والمجرور خبر لمبتدأ محذوف، والجملة منفصلة عما قبلها متسأنفة استئنافا بيانيا بتقدير - ما سبب هذا - على ما قاله بعد المحققين. ومن الناس من جوز أن يكون الجار متعلقا بمحذوف وقع صفة لمصدر - تغني - أي إغناء كائنا كعدم إغناء،
93

أو بوقود أي توقد بهم كما توقد بأولئك - ولا يخفى ما في الوجهين - أما الأول: فقد قال فيه أبو حيان: إنه ضعيف للفصل بين العامل والمعمول بالجملة التي هي، و (أولئك) الخ إذا قدرت معطوفة، فإن قدرت استئنافية وهو بعيد جاز. وأما الثاني: فقد اعترضه الحلبي بأن الوقود على المشهور الأظهر فيه اسم لما يوقد به وإذا كان اسما فلا عمل له. فإن قيل إنه مصدر كما في قراءة الحسن صح لكنه لم يصح وأورد عليهما معا أنهما خلاف الظاهر لأن المذكور في تفسير الدأب إنما هو التكذيب والأخذ من غير تعرض لعدم الإغناء لا سيما على تقدير كون * (من) * بدلية - ولا - لإيقاد النار فليفهم * (والذين من قبلهم) * وهم كفار الأمم الماضية فالضمير لآل فرعون، وقيل: للذين كفروا، والمراد بالموصول معاصرو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كذبوا بآياتنا) * تفسير لدأبهم الذي فعلوا على سبيل الاستئناف البياني، والمراد بالآيات إما المتلوة في كتب الله تعالى أو العلامات الدالة على توحيد الله تعالى وصدق أنبيائه عليهم الصلاة والسلام * (فأخذهم الله) * تفسير - لدأبهم - الذي فعل بهم أي فعاقبهم الله تعالى ولم يجدوا من بأس الله تعالى محيصا، وقيل: إن جملة * (كذبوا) * الخ في حيز النصب على الحال من * (آل فرعون والذين من قبلهم) * بإضمار قد، ويجوز على بعد أن تكون في حيز الرفع على أنها خبر عن الذين والالتفات للتكلم أولا: في آياتنا للجري على سنن الكبرياء، وإلى الغيبة ثانيا: بإظهار الجلالة لتربية المهابة وإدخال الروعة. * (بذنوبهم) * أي بسببها أو متلبسين بها غير تائبين، والمراد من الذنوب على الأول: التكذيب بالآيات المتعددة، وجيء بالسببية تأكيدا لما تفيده الفاء، وعلى الثاني: سائر الذنوب، وفي ذلك إشارة إلى أن لهم ذنوبا أخر، وأصل الذنب التلو والتابع، ثم أطلق على الجريمة لأنها يتلو - أي يتبع - عقابها فاعلها * (والله شديد العقاب) * لمن كفر بآيات، والجملة تذييل مقررة لمضمون ما قبلها من الأخذ.
* (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد) *.
* (قل للذين كفروا ستغلبون) * روى أبو صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن يهود أهل المدينة قالوا لما هزم الله تعالى المشركين يوم بدر: هذا والله النبي الأمي الذي بشرنا به موسى عليه الصلاة والسلام ونجده في كتابنا بنعته وصفته وأنه لا يرد له راية وأرادوا تصديقه واتباعه ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى
تنظروا إلى وقعة له أخرى فلما كان يوم أحد ونكب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوا وقالوا: لا والله ما هو به وغلب عليهم الشقاء فلم يسلموا وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدة فنقضوا ذلك العهد وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى أهل مكة أبي سفيان وأصحابه فوافقوهم وأجمعوا أمرهم وقالوا: لتكونن كلمتنا واحدة ثم رجعوا إلى المدينة فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية.
وأخرج ابن جرير وابن إسحاق والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا " أن رسول الله لما أصاب ما أصاب من بدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال: يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله تعالى بما أصاب قريشا فقالوا: يا محمد لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وأنك لم تكن مثلنا " فأنزل الله تعالى: * (قل للذين كفروا) * إلى قوله سبحانه: * (لأولي الأبصار) * (آل عمران: 12، 13) فالمراد من الموصول اليهود، والسين لقرب الوقوع أي تغلبن عن قريب وأريد منه في الدنيا، وقد صدق الله تعالى وعده رسوله صلى الله عليه وسلم
94

فقتل - كما قيل - من بني قريظة في يوم واحد ستمائة جمعهم في سوق بني قينقاع وأمر السياف بضرب أعناقه وأمر بحفر حفيرة ورميهم فيها وأجلى بني النضير وفتح خيبر وضرب الجزية عليهم - وهذا من أوضح شواهد النبوة - * (وتحشرون) * عطف على * (ستغلبون) * والمراد في الآخرة * (إلى جهنم) * وهي غاية حشرهم ومنتهاه - فإلى - على معناها المتبادر، وقيل: بمعنى - في - والمعنى أنهم يجمعون فيها، والآية كالتوكيد لما قبلها فإن الغلبة تحصل بعدم الانتفاع بالأموال والأولاد، والحشر إلى جهنم مبدأ كونهم وقودا لها، وقرأ أهل الكوفة غير عاصم - سيغلبون ويحشرون - بالباء، والباقون بالتاء، وفرق بين القراءتين بأن المعنى على تقدير تاء الخطاب أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم من عند نفسه بمضمون الكلام حتى لو كذبوا كان التكذيب راجعا إليه، وعلى تقدير ياء الغيبة أمره بأن يؤدي ما أخبر الله تعالى به من الحكم بأنه - سيغلبون - بحيث لو كذبوا كان التكذيب راجعا إلى الله تعالى، وقوله سبحانه: * (وبئس المهاد) * إما من تمام ما يقال لهم أو استئناف لتهويل جهنم وتفظيع حال أهلها، ومهاد - كفراش لفظا ومعنى، والمخصوص بالذم مقدر وهو جهنم، أو ما مهدوه لأنفسهم.
* (قد كان لكم ءاية في فئتين التقتا فئة تق‍اتل فى سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين والله يؤيد بنصره من يشآء إن فى ذالك لعبرة لاولى الابص‍ار) *.
* (قد كان لكم) * من تتمة القول المأمور به جيء به لتقرير مضمون ما قبله وتحقيقه والخطاب لليهود أيضا - واختاره شيخ الإسلام - وذهب إليه البلخي أي قد كان لكم أيها اليهود المغترون بعددهم وعددهم * (آية) * أي علامة عظيمة دالة على صدق ما أقول لكم أنكم - ستغلبون - * (في فئتين) * أي فرقتين أو جماعتين من الناس كانت المغلوبة منهما مدلة بكثرتها معجبة بعزتها فأصابها ما أصابها * (التقتا) * يوم بدر * (فئة تقاتل في سبيل الله) * فهي في أعلى درجات الإيمان ولم يقل مؤمنة مدحا لهم بما يليق بالمقام ورمزا إلى الاعتداد بقتالهم، وقرىء - يقاتل - على تأويل الفئة بالقوم أو الفريق * (وأخرى كافرة) * بالله تعالى فهي أبعد من أن تقاتل في سبيله وإنما لم توصف بما يقابل صفة الفئة الأولى إسقاطا لقتالهم عن درجة الاعتبار وإيذانا بأنه لم يتصدوا له لما عراهم من الهيبة الوجل، و * (كان) * ناقصة - وعليه جمهور المعربين و * (آية) * اسمها وترك التأنيث في الفعل لأن المرفوع غير حقيقي التأنيث ولأنه مفصول ولأن الآية والدليل بمعنى، وفي الخبر وجهان: أحدهما * (لكم) * و * (في فئتين) * نعت - لآية - والثاني أن الخبر هو هذا النعت و * (لكم) * متعلق ب * (- كان) * على رأي من يرى ذلك، وجوز أن يكون * (لكم) * في موضع نصب على الحال - وقد تقدم مرارا أن وصف النكرة إذا قدم عليها كان حالا - و (التقتا) في حيز الجر نعت - لفئتين - وفئة خبر لمحذوف أي إحداهما فئة وأخرى نعت لمقدر أي - وفيه أخرى - والجملة مستأنفة لتقرير ما في الفئتين من الآية، وقيل: فئة وما عطف عليها بدل من الضمير في * (التقتا) * وما بعدهما صفة فلا بد من ضمير محذوف عائد إلى المبدل منه مسوغ لوصف البدل بالجلة العارية عن ضمير أي فئة منهما تقاتل الخ، وجوز أن يكون كل من المتعاطفين مبتدأ وما بعدهما خبر أي فئة منهما تقاتل الخ، وفئه أخرى كافرة، وقيل: كل منهما مبتدأ محذوف الخبر أي منهما فئة الخ، وقرىء (وأخرى) كافرة - بالنصب فيهما وهو على المدح في الأولى والذم في الثاني، وقيل: على الاختصاص، واعترضه أبو حيان بأن المنصوب عليه لا يكون نكرة، وأجيب بأن القائل لم يعن الاختصاص المبوب له في النحو كما في " نحن معاشر الأنبياء لا نورث " وإنما عنى النصب بإضمار فعل لائق وأهل البيان يسمون هذا النحو اختصاصا - كما قاله الحلبي -
95

وجوز أن يكونا حالين كأنه قيل: التقتا مؤمنة وكافرة، وفئة وأخرى على هذا توطئة للحال، وقرىء بالجر فيهما على البدلية من (فئتين) بدل بعض من كل والضمير العائد إلى المبدل منه مقدر على نحو ما مر ويسمى بدلا تفصيليا كما في قوله: وكنت كذي رجلين - رجل صحيحة * ورجل رماها صائب الحدثان
وقوله سبحانه: * (يرونهم مثليهم) * في حيز الرفع صفة للفئة الأخيرة أو مستأنفة مبينة لكيفية الآية. والمراد كما قال السدي: ترى الفئة الأخيرة الكافرة الفئة الأولى المؤمنة مثل عدد الرائين وقد كانوا تسعمائة وخمسين مقاتلا كلهم شاكو السلاح، وعن علي كرم الله تعالى وجهه، وابن مسعود كانوا ألفا وسقف بيت حلهم وربطهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وفيهم من صناديد قريش ورؤساء الضلال أبو جهل وأبو سفيان وغيرهما، ومن الإبل والخيل سبعمائة بعير ومائة فرس، روى محمد بن الفرات عن سعيد بن أوس أنه قال: أسر المشركون رجلا من المسلمين فسألوه كم كنتم؟ قال: ثلثمائة وبضعة عشر قالوا: ما كنا نراكم إلا تضعفون علينا وأرادوا ألفا وتسعمائة - وهو المراد من * (يرونهم مثليهم) * وزعم الفراء أنه يحتمل إرادة ثلاثة أمثالهم لأنك إذا قلت: عندي ألف وأحتاج إلى مثليها فإنما تريد إلى ألفين مضافين إليها لا بدلا منها فهم كانوا يرونهم ثلاثة أمثالهم، وأنكر هذا الوجه الزجاج لمخالفته لظاهر الكلام، أو مثلي عدد المرئيين أي ستمائة ونيفا وعشرين حيث كانوا عدة المرسلين سبعة وسبعون رجلا من المهاجرين ومائتا وستة وثلاثون من الأنصار وكان صاحب لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين علي الكرار كرم الله تعالى وجهه، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة وكان معهم من الإبل سبعون بعيرا، ومن الخيل فرسان فرس للمقداد بن عمرو، وفرس لمرثد بن أبي مرثد، ومن السلاح ست
أدرع وثمانية سيوف وكان أكثرهم رجالة، واستشهد منهم يومئذ أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار - وقد مرت إليه الإشارة - وإنما أراهم الله تعالى كذلك مع أنهم ليسوا كذلك ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم وهو نوع من التأييد والمدد المعنوي وكان ذلك عند تداني الفئتين بعد أن قللهم الله تعالى في أعينهم عند الترائي ليجترءوا عليهم ولا يرهبوا فيهربوا حيث ينفع الهرب، وذهب جماعة من العلماء إلى أن المراد ترى الفئة المؤمنة الفئة الكافرة مثلي أنفسهم مع كونهم ثلاثة أمثالهم ليثبتوا ويطمئنوا بالنصر الموعود في قوله تعالى: * (فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) * (الأنفال: 66) قال شيخ الإسلام مولانا مفتي الديار الرومية: والأول: هو أولى لأن رؤية المثلين غير متعينة من جانب المؤمنين بل وقد وقعت رؤية المثل بل أقل منه أيضا فإنه روي أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ثم نظرنا إليهم فلما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا ثم قللهم الله تعالى أيضا في أعينهم حتى رأوهم عددا يسيرا أقل من أنفسهم قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة فأسرنا منهم رجلا فقلنا كم كنتم؟ قال: ألفا فلو أريد رؤية المؤمنين المشركين أقل من عددهم في نفس الأمر - كما في الأنفال - لكانت رؤيتهم إياهم أقل من أنفسهم أحق بالذكر في كونها آية من رؤيتهم مثليهم على أن إبانة آثار قدرة الله تعالى وحكمته للكفرة بإراءتهم القليل كثيرا والضعيف قويا وإلقاء الرعب في قلوبهم بسبب ذلك أدخل في كونها آية لهم وحجة عليهم وأقرب إلى اعتراف المخاطبين بذلك لكثرة مخالطتهم للكفرة المشاهدين للحال وكذا تعلق الفعل بالفاعل أشد من تعلقه بالمفعول فجعل أقرب المذكورين السابقين فاعلا وأبعدهما مفعولا سواء جعل الجملة صفة أو مستأنفة أولى من العكس انتهى.
96

ويمكن أن يقال من طرف الجمهور الذاهبين إلى أن المراد رؤية المؤمنين المشركين مثلي أنفسهم بأنه التفسير المأثور عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، ولا نسلم أن رؤيتهم إياهم أقل من أنفسهم أحق بالذكر في كونها آية من رؤيتهم مثليهم لجواز أن تكون الآية والعلامة لليهود على أنهم سيغلبون قتال المؤمنين لهؤلاء المشركين وغلبتهم عليهم مع وجود السبب العادي للجبن وهو رؤية المؤمنين إياهم أكثر من أنفسهم وأوفر من عددهم فكأنه قيل: يا معشر اليهود تحققوا قتال المسلمين لكم وغلبتهم عليكم ولا تغتروا بعلمهم بقلتهم وكثرتكم فإنهم يقدمون على قتال من يرونه أكثر منهم عددا ولا يجبنون ولا يهابون وينتصرون فما ذاك إلا لأن الله تعالى قد ملأ قلوبهم إيمانا وشدة على من خالفهم وأحاطهم بتأييده ونصره ووعدهم الوعد الجميل.
لا يقال: إن الأوفق لهذا الغرض أن يرى المؤمنون المشركين على ما هم عليه من كون المشركين ثلاثة أمثالهم أو يرونهم أكثر من ذلك لأن إقدامهم حينئذ على قتالهم أدل على سبب الغلبة على اليهود لأنا نقول: نعم الأمر كما ذكر إلا أن هذه الرؤية لوفائها بالمقصود مع تضمنها مدح المؤمنين بالثبات الناشىء من قوة الإيمان بالنصر الموعود آخرا بقوله تعالى: * (فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) * (الأنفال: 66) اختيرت على ما ليس فيها إلا أمر واحد غير متضمن لذلك المدح المخصوص وعلى هذا لا يحتاج إلى التزام كون التثنية مجازا عن التكثير كما في قوله تعالى: * (ثم ارجع البصر كرتين) * (الملك: 4) ولا إلى القول بأن ضمير * (مثليهم) * راجع إلى - الفئة - الأخيرة أي ترى الفئة المؤمنة الفئة الكافرة مثلي عدد الفئة الكافرة أعني قريبا من ألفين - وإن ذهب إلى ذلك البعض - ويرد أيضا على قوله: على أن إبانة الخ بعد تسليم أن الإراءة نفسها كانت هي الآية أن إراءة القليل كثيرا لم تقع لليهود المخاطبين بصدر الآية لتكون إبانة آثار قدرته تعالى بذلك أدخل في كونها آية لهم وحجة عليهم وكون ذلك أقرب لاعترافهم لكثرة مخالطتهم الكفرة الرائين يتوقف على أن الرائين قد أخبروهم بذلك وأنهم صدقوا به ولم يحملوه على أنه خيل لهم لخوفهم بسبب عدم علمهم بالحرب والخائف - يخيل إليه أن أشجار البيداء شجعان شاكية، وأسد ضارية - وإثبات كل من هذه الأمور صعب على أن فيما روى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - من أن اليهود قالوا له صلى الله عليه وسلم بعد تلك الواقعة: لا يغرنك أنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة ولئن قاتلتنا لعلمت أنا نحن الناس - ما يشعر في الجملة بأنهم لو أخبروهم بذلك وصدقوا لحملوه على نحو ما ذكرنا، وما ذكر من أن تعلق الفعل بالفاعل أشد الخ، فمسلم إلا أنا لا نسلم أنه يستدعي أولوية جعل أول المذكورين السابقين فاعلا وأبعدهما مفعولا من العكس مطلقا بل ذلك إذا لم يكن في العكس معنى لطيف تحسن مراعاته نظرا للمقام - وهنا قد كان ذلك - لا سيما وقد سبق مدح الفئة الأولى بالمقاتلة في سبيل الله تعالى وعدل عن مدحهم بالإيمان الذي هو الأساس إليه ولا شك أن مقاتلتهم للمشركين مع رؤيتهم إياهم أكثر من أنفسهم ومثليهم أمدح وأمدح كما لا يخفى، وقرأ نافع ويعقوب ترونهم بالتاء - واستشكلت - على تقدير كون الخطاب لليهود بأنهم لم يروا المؤمنين مثلي أنفسهم ولا مثلي الكافرين ولم يروا الكافرين أيضا مثلي أنفسهم ولا مثلي المؤمنين، وأجيب بأنه يصح أن يقال: إنهم رأوا المؤمنين مثلي أنفسهم أو مثلي الكافرين على سبيل المجاز حيث نزلت رؤية المشركين منزلة رؤيتهم لما بينهم من الاتحاد في الكفر والاتفاق في الكلمة لا سيما بعد ما وقع بينهم بواسطة كعب بن الأشرف من العهد والميثاق فأسندت الرؤية إليهم مبالغة في البيان وتحقيقا لعروض مثل تلك الحالة لهم، وكذا يصح أن يقال: إنهم رأوا حقيقة الكافرين مثلي المؤمنين،
97

وتحمل الرؤية على العلم والاعتقاد الناشىء عن الشهرة والتواتر ويلتزم كون الآية لهم قتال المؤمنين الكافرين وغلبة الأولين الآخرين مع كونهم أكثر منهم إلا أنه اقتصر على أقل اللازم ويعلم منه كون قتال المؤمنين وغلبتهم على الفئة الكافرة مع كونها ثلاثة أمثالهم في نفس الأمر المعلوم لهم أيضا آية من باب أولى.
ولما في هذين الجوابين - كيفما كان - التزم بعضهم كون الخطاب من أول الأمر للمشركين ليتضح أمر هذه القراءة وأوجب عليه أن يكون قوله سبحانه: * (قد كان لكم) * خطابا لهم بعد ذلك ولا يكون داخلا تحت الأمر بناءا على أن الوعيد كان بوقعة بدر ولا معنى للاستدلال بها قبل وقوعها، وجعل ذلك داخلا في مفعول الأمر إلا أنه عبر عن المستقبل بلفظ الماضي لتحقق وقوعه لا يخلو عن شيء، وجعل بعضهم الخطاب في قراءة نافع للمؤمنين والتزم كون الخطاب السابق لهم أيضا على أنه ابتداء خطاب في معرض الامتنان عليهم بما سبق الوعد به، وقيل: إنه لجميع الكفرة، وقال بعض أئمة التحقيق: القول بأن الخطاب عام للمؤمنين واليهود ومشركي مكة هو
الذي يقتضيه المقام لئلا يقتطع الكلام ويقع التذييل بقوله سبحانه: * (والله يؤيد) * الخ موقع المسك في الختام، ثم إن من عد التعبير عن جماعة بطريق من الطرق الثلاثة مع التعبير بعد عن البعض بطريق آخر يخالفه منها من الالتفات قال بوجوده في الآية على بعض احتمالاتها، ومن لم يعد ذلك منه كما هو الظاهر أنكر الالتفات فيها وبهذا يجمع بين أقوال الناظرين في الآية من هذه الحيثية واختلافهم في وجود الالتفات وعدمه فيها فأمعن النظر فإنه لمثل هذا المبحث كله يدخر.
وقرأ ابن مصرف - يرونهم - على البناء للمفعول بالياء والتاء أي يريهم الله تعالى ذلك بقدرته * (رأي العين) * مصدر مؤكد - ليرونهم - على تقدير جعلها بصرية - فمثليهم - حينئذ حال، ويجوز أن يكون مصدرا تشبيهيا على تقدير جعلها علمية اعتقادية - أي رأيا مثل رأي العين - فمثليهم حينئذ مفعول ثان، وقيل: إن - رأى - منصوب على الظرفية أي في رأي العين * (والله) * المتصف بصفات الجمال والجلال * (يؤيد) * أي يقوي * (بنصره) * أي بعونه، وقيل: بحجته وليس بالقوى * (من يشآء) * أن يؤيده من غير توسط الأسباب المعتادة كما أيد الفئة المقاتلة في سبيله وهو من تمام القول المأمور به * (إن في ذالك) * المذكور من النصر، وقيل: من تلك الرؤية * (لعبرة) * أي اتعاظا ودلالة، وهي فعلة من العبور كالركبة والجلسة وهو التجاوز، ومنه عبرت النهر وسمي الاتعاظ عبرة لأن المتعظ يعبر من الجهل إلى العلم ومن الهلاك إلى النجاة، والتنوين للتعظيم أي عبرة عظيمة كائنة * (لأولي الأبصار) * جمع بصر بمعنى بصيرة مجازا أو بمعناه المعروف أي لذوي العقول والبصائر أو لمن أبصرهم ورآهم بعيني رأسه، وهذه الجملة إما من تمام الكلام الداخل تحت القول مقررة لما قبلها بطريق التذييل وإما واردة من جهته تعالى تصديقا لمقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* (زين للناس حب الشهوات من النسآء والبنين والقن‍اطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنع‍ام والحرث ذالك مت‍اع الحيواة الدنيا والله عنده حسن المأب) *.
* (زين للناس) * كلام مستأنف سيق للتنفير عن الحظوظ النفسانية التي كثيرا ما يقع القتال بسببها إثر بيان حال الكفرة والتنصيص على عدم نفع أموالهم وأولادهم لهم وقد كانوا يتعززون بذلك، والمراد من الناس الجنس * (حب الشهوات) * أي المشهيات وجعلها نفس الشهوات إشارة إلى ما ركز في الطباع من محبتها والحرص عليها حتى كأنهم يشتهون اشتهاءها كما قيل لمريض: ما تشتهي؟ فقال: أشتهي أن أشتهي، أو تنبيها على خستها لأن الشهوات خسيسة عند الحكماء
98

والعقلاء ففي ذلك تنفير عنها وترغيب فيما عند الله تعالى، والمزين هو الله تعالى كما أخرجه ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وروي عن الحسن - الشيطان - والله زينها لهم لأنا لا نعلم أحدا أذم لها من خالقها، وفي " الانتصاف " التزيين للشهوات يطلق ويراد به خلق حبها في القلوب وهو بهذا المعنى مضاف إليه تعالى حقيقة لأنه لا خالق إلا هو، ويطلق ويراد به الحض على تعاطي الشهوات المحظورة فزيينها بالمعنى الثاني مضاف إلى الشيطان تنزيلا لوسوسته وتحسينه منزلة الأمر بها والحض على تعاطيها، وكلام الحسن رحمه الله تعالى محمول على التزين بالمعنى الثاني لا بالمعنى الأول فإنه يتحاشى أن ينسب خلق الله تعالى إلى غيره والإسناد في كل حقيقة كما أشرنا إليه فيما تقدم، ومن قال: الظاهر أنه من قبيل - أقدمني بلدك حق لي عليك - إذ لا إقدام هنا بل قدوم محض أثبت له مقدم للمبالغة، والمراد أن الشهوات زينت في أعينهم لنقصانهم ولا زينة لها في الحقيقة من غير أن يكون هناك مزين إلا أنه أثبت مزين مبالغة في الزينة وتنزيلا لسبب الزينة منزلة الفاعل فقد تعسف وتصلف، ومن قال: المزين في الحقيقة هو الشيطان لأن التزيين صفة تقوم به. والقائل بأنه هو الله تعالى لأنه الخالق للأفعال والدواعي مخطىء في الدعوى وغير مصيب في الدليل فالمخطىء ابن أخت خالته، وقرأ مجاهد - زين - بالبناء للفاعل ونصب * (حب) *.
* (من النساء والبنين) * في محل النصب على الحال من الشهوات وهي مفسرة لها في المعنى، وقيل: * (من) * لبيان الجنس وقدم النساء لعراقتهن في معنى الشهوة وهن حبائل الشيطان، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء " ويقال: فيهن فتنتان قطع الرحم وجمع المال من الحلال والحرام، وثنى بالبنين لأنهم من ثمرات النساء في الفتن، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الولد مبخلة مجبنة " ويقال فيهم فتنة واحدة وهي جمع المال، ولم يتعرض لذكر البنات لعدم الاطراد في حبهن، وقيل: إن البنين تشملهن على سبيل التغليب * (والقناطير المقنطرة) * جمع قنطار وهو المال الكثير كما أخرجه ابن جرير عن الضحاك. وأخرج أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " القنطار إثنا عشر ألف أوقية " وأخرج الحاكم عن أنس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " القنطار ألف أوقية ". وفي رواية ابن أبي حاتم عنه القنطار ألف دينار. وأخرج ابن جرير عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " القنطار ألف أوقية ومائتا دينار " وعن معاذ ألف ومائتا أوقية، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اثنا عشر ألف درهم وألف دينار، وفي رواية أخرى عنه ألف ومائتا دينار ومن الفضة ألف ومائتا مثقال، وعن أبي سعيد الخدري ملء جلد الثور ذهبا، وعن مجاهد سبعون ألف دينار، وعن ابن المسيب ثمانون ألفا، وعن أبي صالح مائة رطل، وعن قتادة قال: كنا نحدث أن القنطار مائة رطل من الذهب أو ثمانون ألفا من الورق، وعن أبي جعفر خمسة عشر ألف مثقال والمثقال أربعة وعشرون قيراطا، وقيل: القنطار عند العرب وزن لا يحد، وقيل: ما بين السماء والأرض من مال وغير ذلك، ولعل الأولى كما قيل: ما روي عن الضحاك ويحمل التنصيص على المقدار المعين في هذه الأقوال على التمثيل لا التخصيص، والكثرة تختلف بحسب الاعتبارات والإضافات، واختلف في وزنه فقيل: فعلال، وقيل: فعنلان فالنون على الأول أصلية وعلى الثاني زائدة، ولفظ المقنطرة مأخوذ منه، ومن عادة العرب أن يصفوا الشيء بما يشتق منه للمبالغة - كظل ظليل - وهو كثير
99

في وزن فاعل ويرد في المفعول ك‍ * (حجرا محجورا) * (الفرقان: 22) و * (نسيا منسيا) * (مريم: 23) وقيل: المقنطرة المضعفة، وخصها بعضهم بتسعة قناطير، وقيل: المقنطرة المحكمة المحصنة من قنطرت الشيء إذا عقدته وأحكمته، وقيل: المضروبة دنانير أو دراهم، وقيل: المنضدة التي بعضها فوق بعض، وقيل
: المدفونة المكنوزة.
* (من الذهب والفضة) * بيان للقناطير وهو في موضع الحال منها، والذهب مؤنث يقال: هي الذهب الحمراء ولذلك يصغر على ذهيبة، وقال الفراء: وربما ذكر، ويقال في جمعه: أذهاب وذهوب وذهبان، وقيل: إنه جمع في المعنى لذهبة واشتقاقه من الذهاب، والفضة تجمع على فضض واشتقاقه من انفض الشيء إذا تفرق * (والخيل) * عطف على (النساء) أو (القناطير) لا على (الذهب والفضة) لأنها لا تسمى قنطارا وواحده خائل وهو مشتق من الخيلاء مثل طائر وطير، وقال قوم: لا واحد له من لفظه بل هو اسم جمع واحده فرس ولفظه لفظ المصدر وجوز أن يكون مخففا من خيل * (المسومة) * أي الراعية قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في إحدى الروايات عنه فهي من سوم ماشيته إذا أرسلها في المرعى، أو المطهمة الحسان - قاله مجاهد - فهي من السيما بمعنى الحسن أو المعلمة ذات الغرة والتحجيل - قاله عكرمة - فهي من السمة أو السومة بمعنى العلامة * (والأنعام) * أي الإبل والبقر والغنم وسميت بذلك لنعومة مشيها ولينه، والنعم مختصة بالإبل * (والحرث) * مصدر بمعنى المفعول أي المزروع سواء كان حبوبا أم بقلا أم ثمرا * (ذالك) * أي ما زين لهم من المذكور - ولهذا ذكر - وأفرد اسم الإشارة ويصح أن يكون ذلك لتذكير الخبر وإفراده وهو * (متاع الحيواة الدنيا) * أي ما يتمتع به أياما قلائل ثم يزول عن صاحبه * (والله عنده حسن المئاب) * أي المرجع الحسن فالمآب مفعل من آب يؤب أي رجع وأصله مأوب فنقلت حركة الواو إلى الهمزة الساكنة قبلها ثم قلبت ألفا وهو اسم مصدر ويقع اسم مكان وزمان والمصدر أوب وإياب. أخرج ابن جرير عن السدي أنه قال: (حسن المآب) حسن المنقلب وهي الجنة، وفي تكرير الإسناد إلى الإسم الجليل زيادة تأكيد وتفخيم ومزيد اعتناء بالترغيب فيما عند الله تعالى من النعيم المقيم والتزهيد في ملاذ الدنيا السريعة الزوال، ومن غريب ما استنبط من الآية - كما قال أبو حيان - وجوب الزكاة في الخيل السائمة لذكرها مع ما تجب فيه الصدقة أو النفقة، والثاني: النساء والبنون ولا يخفى ما فيه.
* (قل أؤنبئكم بخير من ذالكم للذين اتقوا عند ربهم جن‍ات تجرى من تحتها الانهار خ‍االدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد) *.
* (قل أؤنبئكم بخير من ذالكم) * تقرير وتثبيت لما فهم مما قبل من أن ثواب الله تعالى خير من مستلذات الدنيا، والمراد من الإنباء الإخبار و * (ذلكم) * إشارة إلى المذكور من النساء وما معه، والقراء فيما إذا اجتمع همزتان أولاهما: مفتوحة والثانية: مضمومة كما هنا وكما في سورة ص (8) * (أأنزل) * وسورة القمر (25) * (أألقى) * على خمس مراتب: إحداها: مرتبة قالون وهي تسهيل الثانية بين بين وإدخال ألف بين الهمزتين. الثانية: مرتبة ورش وابن كثير وهي تسهيل الثانية أيضا بين بين من غير إدخال ألف بينهما. الثالثة: مرتبة الكوفيين وابن ذكوان عن ابن عامر وهي تحقيق الثانية من غير إدخال ألف. الرابعة: مرتبة هشام وهي أنه روي عنه ثلاثة أوجه: الأول: التحقيق وعدم إدخال ألف بين الهمزتين. الوجه الثاني: التحقيق وإدخال ألف بينهما في السور الثلاث. الوجه الثالث:
100

التفرقة بين السور فيحقق ويقصر هنا ويمد في الأخيرتين. الخامسة: مرتبة أبي عمرو وهي تسهيل الثانية مع إدخال الألف وعدمه؛ والظرف الأول: متعلق بالفعل قبله. والثاني: متعلق بأفعل التفضيل ولا يجوز أن يكون صفة - كما قال أبو البقاء - لأنه يوجب أن تكون الجنة وما فيها مما رغبوا فيه بعضا لما زهدوا عنه من الأموال ونحوها.
وقوله تعالى: * (للذين اتقوا عند ربهم جنات) * استئناف مبين لذلك الخير المبهم على أن * (للذين) * خبر مقدم، و * (جنات) * مبتدأ مؤخر، و * (عند ربهم) * يحتمل وجهين كونه ظرفا للاستقرار وكونه صفة للجنات في الأصل قدم فانتصب حالا منها، وفي ذكر ذلك إشارة إلى علو رتبة الجنات ورفعة شأنها، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المتقين إيذان بمزيد اللطف بهم، والمراد منهم المتبتلون إليه تعالى المعرضون عمن سواه - كما ينبىء عن ذلك الأوصاف الآتية - وتعليق حصول الجنات وما يأتي بعد بهذا العنوان للترغيب في تحصيله والثبات عليه، وجوز أن تكون اللام متعلقة - بخير - أيضا أو بمحذوف صفة له، و - جنات - حينئذ خبر لمحذوف أي - هي جنات - والجملة مبينة - لخير - و - عند ربهم - حينئذ إما أن يتعلق بالفعل على معنى ثبت تقواهم عنده شهادة لهم بالإخلاص، وجاز أن يجعل خبرا مقدما فلا يحتاج إلى حذف المبتدأ، واعترض بأنه يقال: عند الله تعالى الثواب ولا يقال عند الله تعالى الجنة، وبذلك يصرح كلام السعد وغيره - وفي النفس منه شيء - وقرىء - جنات - بكسر التاء وفيه وجهان: أحدهما: أنه مجرور على البدلية من لفظ - خير - وثانيهما: أنه منصوب على إضمار أعني مثلا أو البدلية من محل - بخير - * (تجري) * في محل الرفع أو النصب أو الجر صفة - لجنات - على القراءتين * (من تحتها الأنه‍ار) * تقدم ما فيه * (خالدين فيها) * حال مقدرة من المستكن في - للذين - والعامل ما فيه من معنى الاستقرار، وجوز أبو البقاء كونه حالا من الهاء في - تحتها - أو من الضمير في - اتقوا - ولا يخفى ما فيه. * (وأزواج مطهرة) * أي منزهة مما يستقذر من النساء خلقا وخلقا، والعطف على - جنات - على قراءة الرفع وأما على قراءة النصب فلا بد من تقدير - لهم - في الكلام * (ورضوان) * أي رضا عظيم على ما يشعر به التنوين، وقرأه عاصم - بضم الراء - وهما لغتان وقراءتان سبعيتان في جميع القرآن إلا في قوله تعالى: * (من اتبع رضوانه سبل السلام) * (المائدة: 16) فإنه بالكسر بالاتفاق، وقيل: المكسور اسم والمضموم مصدر وهو قول لا ثبت له * (من الله) * صفة لرضوان مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة * (والله بصير بالعباد) * أي خبير بهم وبأحوالهم وأفعالهم فيثيب المحسن فضلا ويعاقب المسىء عدلا، أو خبير بأحوال الذين اتقوا فلذلك أعد لهم ما أعد، فالعباد على الأول: عام؛ وعلى الثاني: خاص، وقد بدأ سبحانه في هذه الآية أولا بذكر - المقر - وهو الجنات، ثم ثنى بذكر ما يحصل به الأنس التام وهو الأزواج المطهرة، ثم ثلث بذكر ما هو الإكسير الأعظم والروح لفؤاد الواله المغرم وهو رضا الله عز وجل. وفي الحديث: أنه سبحانه " يسأل أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول جل شأنه ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون يا رب وأي شيء أفضل من ذلك قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا ".
* (الذين يقولون ربنآ إننآ ءامنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار) *.
* (الذين يقولون ربنآ آمنا) * يجوز أن يكون في محل الرفع على أنه خبر لمحذوف كأن
101

أولئك المتقون؟ فقيل: هم الذين الخ، وأن يكون في موضع نصب على المدح، وأن يكون في حيز الجر على أنه تابع - للذين اتقوا - نعتا أو بدلا، أو العباد كذلك، واعترض كونه نعتا للعباد بأن فيه تخصيص الإبصار ببعض العباد، وفيه أن ذلك التخصيص لا يوهم الاختصاص لظهور الأمر بل يفيد الاهتمام بشأنهم ورفعة مكانهم، واعترض أيضا كونه تابعا للمتقين بأنه بعيد جدا لا سيما إذا جعل اللام متعلقا - بخير - لكثرة الفواصل بين التابع والمتبوع، وأجيب بأنه لا بأس بهذا الفصل كما لا بأس بالفصل بين الممدوح والمدح إذ الصفة المادحة المقطوعة تابعة في المعنى ولهذا يلزم حذف الناصب أو المبتدأ لئلا يخرج الكلام عن صورة التبعية فالفرق بين هذه وسائر التوابع في قبح الفصل وعدمه خفي لا بد له من دليل نبيل، وفيه أن قياس التبعية لفظا ومعنى على التبعية معنى فقط مما لا ينبغي من جاهل فضلا عن عالم فاضل، والتزام حذف الناصب أو المبتدأ في صورة القطع للمدح أو للذم قد يقال: إنه لدفع توهم الإخبار، والمقصود الإنشاء لا لئلا يخرج الكلام عن صورة التبعية، وتأكيد الجملة لإظهار أن إيمانهم ناشىء من وفور الرغبة وكمال النشاط، وفي ترتيب طلب المغفرة في قوله تعالى: * (فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار) * على مجرد الإيمان دليل على كفايته في استحقاق المغفرة والوقاية من النار من غير توقف على الطاعات، والمراد من الذنوب الكبائر والصغائر.
* (الص‍ابرين والص‍ادقين والق‍انتين والمنفقين والمستغفرين بالاسحار) *.
* (الص‍ابرين) * يجوز أن يكون مجرورا وأن يكون منصوبا صفة - للذين - إن جعلته في موضع جر أو نصب وإذا جعلته في محل رفع كان هذا منصوبا على المدح. والمراد بالصبر - الصبر على طاعة الله تعالى، والصبر عن محارمه - قاله قتادة، وحذف المتعلق يشعر بالعموم فيشمل الصبر على البأساء والضراء وحين البأس * (والص‍ادقين) * في نياتهم وأقوالهم سرا - وعلانية وهو المروي عن قتادة أيضا - * (والق‍انتين) * أي المطيعين - قاله ابن جبير - أو المداومين على الطاعة والعبادة - قاله الزجاج - أو القائمين بالواجبات - قاله القاضي - * (والمنفقين) * من أموالهم في حق الله تعالى - قاله ابن جبير - أيضا * (والمستغفرين بالأسحار) * قال مجاهد والكلبي وغيرهما: أي المصلين بالأسحار. وأخرج ابن أبي شيبة عن زيد بن أسلم قال: هم الذين يشهدون صلاة الصبح، وأخرج ابن جرير عن ابن عمر أنه كان يحيى الليل صلاة ثم يقول: يا نافع أسحرنا؟ فيقول: لا فيعاود الصلاة فإذا قال: نعم قعد يستغفر الله تعالى ويدعو حتى يصبح، وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستغفر بالأسحار سبعين استغفارة " وروى الرضا عن أبيه عن أبي عبد الله " أن من استغفر الله تعالى في وقت السحر سبعين مرة فهو من أهل هذه الآية " والباء في - بالأسحار - بمعنى في، وهي جمع - سحر - بفتح الحاء المهملة وسكونها سميت أواخر الليالي بذلك لما فيها من الخفاء - كالسحر - للشيء الخفي. وقال بعضهم: السحر من ثلث الليل الأخير إلى طلوع الفجر.
وتخصيص الأسحار بالاستغفار لأن الدعاء فيها أقرب إلى الإجابة إذ العبادة حينئذ أشد والنفس أصفى والروع أجمع، وفي " الصحيح ": " أنه تعالى - وتنزه عن سماة الحدوث - ينزل إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الأخير فيقول: من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر ". وأخرج ابن جرير وأحمد عن سعيد الجريري قال: " بلغنا أن داود عليه الصلاة والسلام سأل جبريل
102

عليه السلام فقال: يا جبريل أي الليل أفضل قال: يا داود ما أدري سوى أن العرش يهتز في السحر " وتوسيط الواو بين هذه الصفات المذكورة إما لأن الموصوف بها متعدد وإما للدلالة على استقلال كل منها وكمالهم فيها، وقول أبي حيان: لا نعلم أن العطف في الصفة بالواو يدل على الكمال رده الحلبي بأن علماء البيان علموه وهم هم.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: * (قد كان لكم) * يا معشر السالكين إلى مقصد الكل * (آية) * دالة على كمالكم وبلوغكم إلى ذروة التوحيد * (في فئتين التقتا) * للحرب * (فئة) * منهما وهي فئة القوى الروحانية التي هي جند الله تعالى * (تقاتل في سبيل الله) * وطريق الوصول إليه * (وأخرى) * منهما وهي جنود النفس وأعوان الشيطان * (كافرة) * ساترة للحق محجوبة عن حظائر الصدق ترى الفئة الأخيرة الفئة الأولى لحول عين بصيرتها * (مثليهم) * عند الالتقاء في معركة البدن رؤية مكشوفة ظاهرة لا خفاء فيها مثل رؤية العين، وذلك لتأييد الفئة المؤمنة بالأنوار الإلهية والإشراقات الجبروتية، وخذلان الفئة الكافرة بما استولى عليها من تراكم ظلمات الطبيعة وذل البعد عن الحضرة * (والله) * تعالى * (يؤيد بنصره من يشاء) * تأييده لقبول استعداده لذلك * (إن في ذلك) * التأييد * (لعبرة) * (آل عمران: 13) أي اعتبارا أو أمرا يعتبر به في الوصول إلى حيث المأمول للمستبصرين الفاتحين أعين بصائرهم لمشاهدة الأنوار الأزلية في آفاق المظاهر الإلهية * (زين للناس حب الشهوات) * بسبب ما فيهم من العالم السفلي والغشاوة الطبيعية والغواشي البدنية * (من النساء) * وهي النفوس * (والبنين) * وهي الخيالات المتولدة منها الناشئة عنها * (والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة) * وهي العلوم المتداولة وغير المتداولة، أو الأصول والفروع * (والخيل المسومة) * وهي مراكب الهوى وأفراس اللهو * (والأنعام) * وهي رواحل جمع الحطام وأسباب جلب المنافع الدنيوية * (والحرث) * وهو زرع الحرص وطول الأمل * (ذلك متاع الحياة الدنيا) * (آل عمران: 14) الزائل عما قليل بالرجوع إلى المبدأ الأصلي والموطن القديم. ولك أن تبقي هذه المذكورات على ظواهرها فإن النفوس المنغمسة في أوحال الطبيعة لها ميل كلي إلى ذلك أيضا * (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم) * المذكور * (للذين اتقوا) * النظر إلى الأغيار * (جنات) * جنة يقين وجنة مكاشفة وجنة مشاهدة وجنة رضا وجنة لا أقولها - وهي التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر - وليس في تلك الجنة عند العارفين إلا الله عز وجل * (تجري من تحتها) * أنهار التجليات المترعة بماء الغيوب * (خالدين فيها) * ببقائهم بعد فنائهم * (وأزواج مطهرة) * وهي الأرواح المقدسة عن أدناس الطبيعة
المقصورة في خيام الصفات الإلهية * (ورضوان من الله) * لا يقدر قدره * (والله بصير بالعباد) * (آل عمران: 15) في تقلب أرواحهم في عالم الملكوت محترقات من سطوات أنوار الجبروت حبا لجواره وشوقا إلى لقائه يجازيها بقدر همومها في طلب وجهه الأزلي وجماله الأبدي * (الذين يقولون ربنا (إننا) آمنا) * بأنوار أفعالك وصفاتك * (فاغفر لنا) * ذنوب وجوداتنا بذاتك * (وقنا عذاب) * (آل عمران: 16) نار الحرمان ووجود البقية * (الصابرين) * على مضض المجاهدة والرياضة * (والصادقين) * في المحبة والإرادة * (والقانتين) * في السلوك إليه * (والمنفقين) * ما عداه فيه * (والمستغفرين) * من ذنوب تلوناتهم وتعيناتهم في أسحار التجليات، ويقال: (الصابرين) الذين صبروا على الطلب ولم يحتشموا من التعب وهجروا كل راحة وطرب فصبروا على البلوى ورفضوا الشكوى حتى وصلوا إلى المولى ولم يقطعهم شيء من الدنيا والعقبى (والصادقين) الذين صدقوا في الطلب فوردوا، ثم صدقوا فشهدوا، ثم صدقوا فوجدوا، ثم صدقوا ففقدوا فحالهم قصد ثم ورود ثم شهود ثم وجود ثم خمود (والقانتين) الذين لازموا الباب
103

وداوموا على تجرع الاكتئاب وترك المحاب إلى أن تحققوا بالاقتراب (والمنفقين) الذين جادوا بنفوسهم من حيث الأعمال ثم جادوا بميسورهم من الأموال ثم جادوا بقلوبهم لصدق الأحوال ثم جادوا بكل حظ لهم في العاجل والآجل استهلاكا في أنوار الوصال (والمستغفرين) هم الذين يستغفرون عن جميع ذلك إذا رجعوا إلى الصحو وقت نزول الرب إلى السماء الدنيا وإشراق أنوار جماله على آفاق النفس وندائه " هل من سائل هل من مستغفر هل من كذا هل من كذا " ثم لما مدح سبحانه أحبابه أرباب الدين وذم أعداءه الكفارين عقب ذلك ببيان الدين الحق والعروة الوثقى على أتم وجه وآكدة [بم فقال سبحانه:
* (شهد الله أنه لا إل‍اه إلا هو والمل‍ائكة وأولوا العلم قآئما بالقسط لا إل‍اه إلا هو العزيز الحكيم) *.
* (شهد الله أنه لا إل‍اه إلا هو) * قال الكلبي: " لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي صلى الله عليه وسلم الذي يخرج في آخر الزمان فلما دخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفاه بالصفة والنعت فقالا له: أنت محمد؟ قال: نعم قالا. أنت أحمد؟ قال: نعم قالا: إنا نسألك عن شهادة فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلاني فقالا له: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله تعالى؟ فأنزل الله تعالى الآية وأسلما، وقيل: نزلت في نصارى نجران لما حاجوا في أمر عيسى عليه السلام وهو الذي يشعر به ما أشرنا إليه قبل من الآثار - ويميل إليه كلام محمد بن جعفر بن الزبير - وقيل: نزلت في اليهود والنصارى لما تركوا اسم الإسلام وتسموا باليهودية والنصرانية، وقيل: إنهم قالوا ديننا أفضل من دينك فنزلت.
والجمهور على قراءة * (شهد) * بلفظ الماضي وفتح همزة * (أنه) * على معنى بأنه أو على أنه، وقرىء * (إنه) * بكسر الهمزة إما بإجراء * (شهد) * مجرى قال، وإما بجعل الجملة اعتراضا وإيقاع الفعل على * (إن الدين) * (آل عمران: 19) الخ على قراءة من يفتح الهمزة كما ستراه والضمير راجع إليه تعالى، ويحتمل أن يكون ضمير الشأن وقرىء - شهداء لله - بالنصب والرفع على أنه جمع شهيد - كظرفاء - في جمع ظريف، أو جمع شاهد - كشعراء - في جمع شاعر، والنصب إما على الحالية من المذكورين، وإما على المدح، والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ومآله المدح أي هم شهداء، والاسم الجليل في الوجهين مجرور باللام متعلق بما عنده، وقرىء - شهداء الله - بالرفع والإضافة. وفي * (شهد) * مسندا إلى الله تعالى استعارة تصريحية تبعية لأن المراد أنه سبحانه دل على وحدانيته بل وسائر كمالاته بأفعاله الخاصة التي لا يقدر عليها غيره وما نصبه من الدلائل التكوينية في الآفاق والأنفس وبما أوحى من آياته الناطقة بذلك - كسورة الإخلاص، وآية الكرسي - وغيرهما فشبه سبحانه تلك الدلالة الواضحة بشهادة الشاهد في البيان والكشف ثم استعير لفظ المشبه به للمشبه ثم سرت الاستعارة من المصدر إلى الفعل، وجوز أن يكون هناك مجاز مرسل تبعي لما أن البيان لازم للشهادة، وقد ذكر اللفظ الدال عن الملزوم وأريد به اللازم، وهذا الحمل ضروري على قراءة الجمهور دون القراءة الشاذة.
* (والمل‍ائكة وأولوا العلم) * عطف على الاسم الجليل ولا بد حينئذ من حمل الشهادة على معنى مجازي شامل لما يسند إلى هذين الجمعين بطريق عموم المجاز أي أقر الملائكة بذلك وآمن العلماء به واحتجوا عليه، وبعضهم قدر في كل من المعطوفين لفظ * (شهد) * مرادا منه ما يصح نسبته إلى ما أسند إليه، ولعل القول بعموم المجاز أولى منه، قيل: والمراد - بأولوا العلم - الأنبياء عليهم السلام، وقيل: المهاجرون والأنصار،
104

وقيل: علماء مؤمني الكتاب، وقيل: جميع علماء المؤمنين الذين عرفوا وحدانيته تعالى بالدلائل القاطعة والحجج الباهرة، وقدم - الملائكة - لأن فيهم من هو واسطة لإفادة العلم لذويه، وقيل: لأن علمهم كله ضروري بخلاف البشر فإن علمهم ضروري واكتسابي، ثم إن ارتفاع هذين المرفوعين على ما شذ من القراءة على الابتدائية والخبر محذوف لدلالة الكلام عليه أي: والملائكة وأولوا العلم شهداء بذلك، وقيل: بالعطف على الضمير في شهداء وصح ذلك للفصل، واعترض بأن ذلك على قراءة النصب على الحالية يؤدي إلى تقييد حال المذكورين - بشهادة الملائكة وأولوا العلم - وليس فيه كثير فائدة كما لا يخفى.
وقوله تعالى: * (قآئما بالقسط) * بيان لكماله تعالى في أفعاله إثر بيان كماله في ذاته، و - القسط - العدل، والباء للتعدية أي مقيما بالعدل، وفي انتصاب * (قائما) * وجوه: الأول: أن يكون حالا لازمة من فاعل * (شهد) * ويجوز إفراد المعطوف عليه بالحال دون المعطوف إذا قامت قرينة تعينه معنوية أو لفظية، ومنه * (ووهبنا له إسحق ويعقوب نافلة) * (الأنبياء: 72) وأخرت الحال عن المعطوفين للدلالة على علو مرتبتهما وقرب منزلتهما، والمسارعة إلى إقامة شهود التوحيد اعتناءا بشأنه ولعله السر في تقديمه على المعطوفين مع الإيذان بأصالته تعالى في الشهادة به، والثاني: أن يكون منصوبا على المدح وهو وإن كان معروفا في المعرفة لكنه ثابت في غيرها أيضا، والثالث: أن يكون وصفا لاسم - لا - المبني، واستبعد بأنهم إنما يتسعون بالفصل بين الموصوف والصفة بفاصل ليس أجنبيا من كل وجه،
والمعطوف على فاعل * (شهد) * أجنبي مما هو في صلة - أن - لفظا ومعنى، وبأنه متلبس بالحال فينبغي على هذا أن يرفع حملا على محل اسم - لا - رفعا للالتباس. والرابع: أن يكون مفعول العلم أي: أولوا المعرفة قائما بالقسط ولا يخفى بعده، الخامس: - ولعله الأوجه - أن يكون حالا من الضمير والعامل فيها معنى الجملة أي تفرد أو أحقه لأنها حال مؤكدة ولا يضر تخلل المعطوفين هنا بخلافه في الصفة لأن الحال المؤكدة في هذا القسم جارية مجرى جملة مفسرة نوع تفسير فناسب أن يقدم المعطوفان لأن المشهود به واحد فهو نوع من تأكيده تمم بالحال المفسرة وعلى تقدير الحالية من الفاعل والمفعولية للعلم لا يندرج في المشهود به وعلى تقدير النصب على المدح يحتمل الاندراج وعدمه، وعلى التقديرين الأخيرين يندرج لا محالة. وقرأ عبد الله - القائم بالقسط - على أنه خبر لمبتدأ محذوف وكونه بدلا من * (هو) * لا يخلو عن شيء، وقرأ أبو حنيفة: * (قيما بالقسط) *.
* (لا إل‍اه إلا هو) * تكرير للمشهود به للتأكيد، وفيه إشارة إلى مزيد الاعتناء بمعرفة أدلته لأن تثبيت المدعى إنما يكون بالدليل، والاعتناء به يقتضي الاعتناء بأدلته ولينبني عليه قوله تعالى: * (العزيز الحكيم) * فيعلم أنه المنعوت بهما، وقيل: لا تكرار لأن الأول شهادة الله تعالى وحده، والثاني: شهادة الملائكة وأولى العلم، وهو ظاهر عند من يرفع - الملائكة - بفعل مضمر، ووجه الترتيب تقدم العلم بقدرته التي يفهمها (العزيز) على العلم بحكمته تعالى التي يؤذن بها (الحكيم) وجعل بعضهم (العزيز) ناظرا إلى قوله سبحانه: * (لا إله إلا هو) * و * (الحكيم) * ناظرا إلى قوله تعالى: * (قائما بالقسط) * ورفعهما على الخبرية لمبتدأ محذوف أو البدلية من * (هو) * أو الوصفية له بناءا على ما ذهب إليه السكاكي من جواز وصف ضمير الغائب، وجعلهما نعتا لفاعل * (شهد) * بعيد.
وقد روي في فضل الآية أخبار. أخرج الديلمي عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعا " لما نزلت الحمد لله رب العالمين، وآية الكرسي، وشهد الله،
105

وقل اللهم مالك الملك - إلى بغير حساب - تعلقن بالعرش وقلن: أتنزلنا على قوم يعملون بمعاصيك؟ فقال: وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا يتلوكن عبد عند دبر كل صلاة مكتوبة إلا غفرت له ما كان فيه وأسكنته جنة الفردوس ونظرت له كل يوم سبعين مرة وقضيت له سبعين حاجة أدناها المغفرة ". وأخرج ابن عدي والطبراني والبيهقي - وضعفه - والخطيب وابن النجار عن غالب القطان قال: " أتيت الكوفة فنزلت قريبا من الأعمش فلما كان ليلة أردت أن أنحدر قام فتهجد من الليل فمر بهذه الآية * (شهد الله) * الخ فقال: وأنا أشهد بما شهد الله تعالى به واستودع الله تعالى هذه الشهادة وهي لي وديعة عند الله تعالى قالها مرارا فقلت: لقد سمع فيها شيئا فسألته فقال: حدثني أبو وائل بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله تعالى عبدي عهد إلي عهدا وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة " وروي عن سعيد بن جبير " أنه كان حول المدينة ثلثمائة وستون صنما فلما نزلت هذه الآية الكريمة خررن سجدا للكعبة ".
* (إن الدين عند الله الإسل‍ام وما اختلف الذين أوتوا الكت‍ابإلا من بعد ما جآءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآي‍ات الله فإن الله سريع الحساب) *.
* (إن الدين عند الله الإسل‍ام) * جملة مبتدأة وقعت تأكيدا للأولى، وتعريف الجزئين للحصر - أي لا دين مرضي عند الله تعالى سوى الإسلام - وهو على ما أخرج ابن جرير عن قتادة " شهادة أن لا إله إلا الله تعالى والإقرار بما جاء من عند الله تعالى وهو دين الله تعالى الذي شرع لنفسه وبعث به رسله ودل عليه أولياؤه لا يقبل غيره ولا يجزى إلا به ". وروى علي بن إبراهيم عن أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه أنه قال في خطبة له لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي، الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل ثم قال: إن المؤمن أخذ دينه عن ربه ولم يأخذه عن رأيه إن المؤمن من يعرف إيمانه في عمله وإن الكافر يعرف كفره بإنكاره أيها الناس دينكم دينكم فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره إن السيئة فيه تغفر وإن الحسنة في غيره لا تقبل، وقرأ أبي - إن الدين عند الله للإسلام - والكسائي - أن الدين - بفتح الهمزة على أنه بدل الشيء من الشيء إن فسر الإسلام بالإيمان وأريد به الإقرار بوحدانية الله تعالى والتصديق بها الذي هو الجزء الأعظم وكذا إن فسر بالتصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مما علم من الدين بالضرورة لأن ذلك عين الشهادة بما ذكر باعتبار ما يلزمها فهي عينه مآلا، وأما إذا فسر بالشريعة فالبدل بدل اشتمال لأن الشريعة شاملة للإيمان والإقرار بالوحدانية، وفسرها بعضهم بعلم الأحكام وادعى أولوية هذا الشق نظرا لسياق الكلام مستدلا بأنه لم يقيد علم الأصول بالعندية لأنها أمور بحسب نفس الأمر لا تدور على الاعتبار ولهذا تتحد فيها الأديان الحقة كلها، وقيد الدين الإسلام بالعندية لأن الشرائع دائرة على اعتبار الشارع ولهذا تغير وتبدل بحسب المصالح والأوقات، ولا يخفى ما فيه، أو على أن * (شهد) * (آل عمران) 18) واقع عليه على تقدير قراءة - إنه - بالكسر كما أشير إليه، و * (عند) * على كل تقدير ظرف العامل فيه الثبوت الذي يشير إليه الجملة، وقيل: متعلق بكون خاص ينساق إليه الذهن يقدر معرفة وقع صفة للدين أي - إن الدين المرضي عند الله الإسلام - وقيل: متعلق بمحذوف وقع حالا في الدين، وقيل: متعلق به، وقيل: متعلق بمحذوف وقع خبرا عن مبتدأ محذوف، والجملة معترضة أي هذا الحكم ثابت عند الله، وأرى الكل ليس بشيء أما الأول: فلأن خلاف القاعدة المعروفة في الظروف إذا وقعت بعد النكرات، وأما الثاني:
106

فلأن المشهور أن * (إن) * لا تعمل في الحال، وأما الثالث: فلأنه لا وجه للتعلق بلفظ (الدين) إلا أن يكتفى بأنه في الأصل بمعنى الجزاء، وأما الرابع: فلأن التكلف فيه المستغنى عنه أظهر من أن يخفى، هذا وقد اختلف في إطلاق الإسلام على غير ما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم، والأكثرون على الإطلاق وأظن أنه بعد تحرير النزاع لا ينبغي أن يقع اختلاف. * (وما اختلف الذين أوتوا الكت‍اب) * قيل: المراد بهم اليهود واختلفوا فيما عهد إليهم موسى عليه الصلاة والسلام، أخرج ابن جرير عن الربيع قال: " إن موسى عليه الصلاة والسلام لما حضره الموت دعا سبعين حبرا من أحبار بني إسرائيل فاستودعهم التوراة وجعلهم أمناء عليها واستخلف يوشع بن نون فلما مضى القرن الأول والثاني والثالث وقعت الفرقة بينهم وهم الذين أوتوا العلم من أبناء السبعين حتى أهراقوا بينهم الدماء ووقع الشر طلبا لسلطان الدنيا وملكها وخزائنها وزخرفها فسلط الله تعالى عليهم جبابرتهم "، وقيل: النصارى واختلفوا في التوحيد، وقيل: المراد بالموصول اليهود والنصارى، و - بالكتاب -
الجنس واختلفوا في التوحيد، وقيل: في نبوته صلى الله عليه وسلم، وقيل: في الإيمان بالأنبياء، والظاهر أن المراد من الموصول ما يعم الفريقين، والذي اختلفوا فيه الإسلام كما يشعر به السياق والتعبير عنهم بهذا العنوان زيادة تقبيح لهم فإن الاختلاف بعد إتيان الكتاب أقبح.
وقوله تعالى: * (إلا من بعد ما جاءهم العلم) * زيادة أخرى فإن الاختلاف بعد مجيء العلم أزيد في القباحة والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أو أعم الأوقات، والمراد من مجيء العلم التمكن منه لسطوع براهينه، أو المراد منه حصول العلم بحقيقة الأمر لهم بالفعل ولم يقل علموا مع أنه أخصر إشارة إلى أنه علم بسبب الوحي، وقوله سبحانه: * (بغيا بينهم) * زيادة تشنيع، والاسم المنصوب مفعول له لما دل عليه * (ما) * و * (إلا) * من ثبوت الاختلاف بعد مجيء العلم كما تقول ما ضربت إلا ابني تأديبا، فلا دلالة للكلام على حصر الباعث، وادعاه بعضهم أي إن الباعث لهم على الاختلاف هو البغي والحسد لا الشبهة وخفاء الأمر، ولعل انفهام ذلك من المقام أو من الكلام بناءا على جواز تعدد الاستثناء المفرغ أي ما اختلفوا في وقت لغرض إلا بعد العلم لغرض البغي كما تقول: ما ضرب إلا زيد عمرا - أي ما ضرب أحدا إلا زيد عمرا.
* (ومن يكفر بئاي‍ات الله) * قيل: المراد بها حجهه، وقيل: التوراة، وقيل: هي والإنجيل، وقيل: القرآن، وقيل: آياته الناطقة بأن الدين عند الله الإسلام، والظاهر العموم أي أية آية كانت، والمراد - بمن أيضا أعم من المختلفين المذكورين وغيرهم ولك أن تخصه بهم * (فإن الله سريع الحساب) * قائم مقام جواب الشرط علة له - أي ومن يكفر يعاقبه الله تعالى ويجازه عن قريب - فإنه سريع الحساب - أي يأتي حسابه عن قريب أو يتم ذلك بسرعة، وقيل: إن سرعة الحساب تقتضي إحاطة العلم والقدرة فتفيد الجملة الوعيد، وباعتباره ينتظم الشرط والجزاء من غير حاجة إلى تقدير، ولعله أولى وأدق نظرا. وفي إظهار الاسم الجليل تربية للمهابة وإدخال الروعة، وفي ترتيب العقاب على مطلق الكفر إثر بيان حال أولئك المذكورين إيذان بشدة عقابهم.
فإن حآجوك فقل أسلمت وجهى لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكت‍ابوالاميين ءأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البل‍اغ والله بصير بالعباد
* (فإن حاجوك) * أي جادلوك في الدين بعد أن أقمت الحجج، والضمير - للذين أوتوا الكتاب - من اليهود والنصارى - قاله الحسن - وقال أبو مسلم: لجميع الناس، وقيل: وفد نصارى نجران؛ وإلى هذا يشير كلام محمد بن جعفر بن الزبير * (فقل أسلمت وجهي لله) * أي أخلصت
107

وخضعت بقلبي وقالبي لله لا أشرك به غيره، وفيه إشارة إلى أن الجدال معهم ليس في موقعه لأنه إنما يكون في أمر خفي والذي جادلوا به أمر مكشوف، وحكم حاله معروف وهو الدين القويم فلا تكون المحاجة والمجادلة إلا مكابرة، وحينئذ يكون هذا القول إعراضا عن مجادلتهم، وقيل: إنه محاجة وبيانه أن القوم كانوا مقرين بوجود الصانع وكونه مستحقا للعبادة فكأنه قال: هذا القول متفق عليه بين الكل فأنا مستمسك بهذا القدر المتفق عليه، وداعي الخلق إليه، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك فاليهود يدعون التشبيه والجسمية، والنصارى يدعون إلهية عيسى عليه السلام والمشركون يدعون وجوب عبادة الأوثان فهؤلاء هم المدعون فعليهم الإثبات، ونظير ذلك * (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا) * (آل عمران: 64)، وعن أبي مسلم أن الآية في هذا الموضع كقول إبراهيم عليه السلام: * (إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض) * (الأنعام: 79) فكأنه قيل: فإن نازعوك يا محمد في هذه التفاصيل فقل: أنا متمسك بطريق إبراهيم عليه السلام وأنتم معترفون بأنه كان محقا في قوله صادقا في دينه فيكون من باب التمسك بالإلزامات وداخلا تحت قوله تعالى: * (وجادلهم بالتي هي أحسن) * (النحل: 125) ولعل القول بالإعراض أولى لما فيه من الإشارة إلى سوء حالهم وحط مقدارهم، وعبر عن الجملة - بالوجه - لأنه أشرف الأعضاء الظاهرة ومظهر القوى والمشاعر ومجمع معظم ما يقع به العبادة وبه يحصل التوجه إلى كل شيء، وفتح الياء نافع وابن عامر وحفص وسكنها الباقون * (ومن اتبعن) * عطف على الضمير المتصل في * (أسلمت) * وحسن للفصل، أو مفعول معه وأورد عليهما أنهما يقتضيان اشتراكهم معه صلى الله عليه وسلم في إسلام وجهه وليس المعنى: أسلمت وجهي وهم أسلموا وجوههم إذ لا يصح - أكلت رغيفا وزيدا ووزيدا، وقد أكل كل منهما رغيفا، فالواجب أن يكون - من - مبتدأ والخبر محذوف أي: ومن اتبعن كذلك، أو يكون معطوفا على الجلالة وإسلامه صلى الله عليه وسلم لمن اتبعه بالحفظ والنصيحة، وأجيب بأن فهم المعنى وعدم الإلباس يسوغ كلا الأمرين ويستغني بذلك عن مئونة الحذف وتكلف خلاف الظاهر جدا، وأثبت الياء في - اتبعني - على الأصل أبو عمرو ونافع، وحذفها الباقون - وحذفها أحسن - لموافقة خط المصحف، وقد جاء الحذف في مثل ذلك كثيرا كقول الأعشى: * * شع فهل يمنعني ارتيادي البلاد من حذر الموت أن (يأتين)
* (وقل للذين أوتوا الكت‍ابوالأمين) * عطف على الجملة الشرطية، والمعنى فإن حاجك أهل الكتاب فقابلهم بذلك فإن أجدى فعمم الدعوة وقل للأسود والأحمر * (ءأسلمتم) * متبعين لي كما فعل المؤمنون فإنه قد جاءكم من الآيات ما يوجبه ويقتضيه أم أنتم على كفركم بآيات الله تعالى وإصراركم على العناد - وهذا كما تقول إذا لخصت لسائل مسألة ولم تدع من طرق البيان مسلكا إلا سلكته - فهل فهمتها؟ على طرز * (فهل أنتم منتهون) * (المائدة: 91) إثر تفصيل الصوارف عن تعاطي ما حرم تعاطيه، وفي ذلك تعيير لهم بالمعاندة وقلة الانصاف وتوبيخ البلادة وجمود القريحة، والكثيرون على أن الاستفهام للتقرير وفي ضمنه الأمر ووضع الموصول موضع الضمير لرعاية التقابل بين المتعاطفين، والمراد من الأميين الذين لا يكتبون من مشركي العرب قاله ابن عباس وغيره.
* (فإن أسلموا) * أي اتصفوا بالإسلام والدين الحق * (فقد اهتدوا) * على تضمين معنى الخروج أي اهتدوا خارجين من الضلال كذا قيل، وبعض يفسر الاهتداء باللازم وهو النفع أي فقد نفعوا أنفسهم قالوا: وسبب
108

إخراجه عن ظاهره أن الإسلام عين الاهتداء فإن فسر على الأصل اتحد الشرط والجزاء، وفيه معنى ظاهر.
* (وإن تولوا) * أي أعرضوا عن الإسلام ولم يقبلوا * (فإنما عليك البل‍اغ) * قائم مقام الجواب أي لا يضرك شيئا إذ ما عليك إلا البلاغ وقد أديته على أكمل وجه
وأبلغه، وهذا قبل الأمر بالقتال فهو منسوخ بآية السيف * (والله بصير بالعباد) * تذييل فيه وعد على الإسلام ووعيد على التولي عنه.
* (إن الذين يكفرون بآي‍ات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم) *.
* (إن الذين يكفرون بئاي‍ات الله) * أية آية كانت، ويدخل فيهم الكافرون بالآيات الناطقة بحقية الإسلام دخولا أوليا * (ويقتلون النبين بغير حق) * هم أهل الكتاب الذين كانوا في عصره صلى الله عليه وسلم إذ لا معنى لإنذار الماضين قال القطب: وإسناد القتل إليهم ولم يصدر منهم قتل لوجهين: أحدهما: أن هذه الطريقة لما كانت طريقة أسلافهم صحت إضافتها إليهم إذ صنع الأب قد يضاف إلى الابن لا سيما إذا كان راضيا به، الثاني: أن المراد من شأنهم القتل إن لم يوجد مانع، والتقييد بغير حق لما تقدم وتركت - أل - هنا دون ما سبق لتفاوت مخرج الجملتين وقد مر ما ينفعك في هذه الآية فتذكر. وقرأ الحسن (يقتلون النبيين).
* (ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس) * أي بالعدل، ولعل تكرير الفعل للإشعار بما بين القتلين من التفاوت أو باختلافهما في الوقت، أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي عبيدة بن الجراح " قال: قلت يا رسول الله: أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال: رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر - ثم قرأ الآية - ثم قال صلى الله عليه وسلم: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل وسبعون رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار من ذلك اليوم فهم الذين ذكر الله تعالى " وقرأ حمزة - ويقاتلون الذين - وقرأ عبد الله - وقاتلوا - وقرأ أبي - ويقتلون النبيين - و - الذين يأمرون - * (فبشرهم بعذاب أليم) * خبر * (إن) * ودخلت الفاء فيه لتضمن الاسم معنى الشرط ولا يمنع الناسخ الذي لم يغير معنى الابتداء من الدخول ومتى غير - كليت، ولعل - امتنع ذلك إجماعا، وسيبويه والأخفش يمنعانه عند النسخ مطلقا فالخبر عندهما [يم قوله تعالى:
* (أول‍ائك الذين حبطت أعم‍الهم في الدنيا والاخرة وما لهم من ن‍اصرين) *.
* (أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة) * وجملة * (فبشرهم) * (آل عمران: 21) معترضة بالفاء كما في قولك زيد - فافهم - رجل صالح، وقد صرح به النحاة في قوله: - فاعلم - فعلم المرء ينفعه * أن سوف يأتي كل ما قدرا
ومن لم يفهم هذا قال: إن الفاء جزائية وجوابها مقدم من تأخير والتقدير زيد رجل صالح؛ وإذا قلنا لك ذلك - فافهم - وعلى الأول هو استئناف، و * (أولئك) * مبتدأ، وما فيه من البعد على المشهور للإيذان ببعد منزلتهم في فظاعة الحال، والموصول خبره - أي أولئك المتصفون بتلك الصفات الشنيعة الذين بطلت أعمالهم وسقطت عن حيز الاعتبار وخلت عن الثمرة في الدنيا حيث لم تحقن دماؤهم وأموالهم ولم يستحقوا بها مدحا وثناءا وفي الآخرة حيث لم تدفع عنهم العذاب ولم ينالوا بسببها الثواب - وهذا شامل للأعمال المتوقفة على النية ولغيرها. ومن الناس من ذهب إلى أن العمل الغير المتوقف على النية كالصدقة وصلة الرحم ينتفع به الكافر في الآخرة ولا يحبط بالكفر، فالمراد بالأعمال هنا ما كان من القسم الأول، وإن أريد ما يشمل القسمين التزم كون هذا
109

الحكم مخصوصا بطائفة من الكفار وهم الموصوفون بما تقدم من الصفات وفيه تأمل.
* (وما لهم من ن‍اصرين) * ينصرونهم من بأس الله تعالى وعذابه في أحد الدارين، وجمع - الناصر - لرعاية ما وقع في مقابلته لا لنفي تعدد الأنصار لكل واحد منهم وقد يدعى أن مجيء الجمع هنا أحسن من مجيء المفرد لأنه رأس آية، والمراد من انتفاء - الناصرين - انتفاء ما يترتب على النصر من المنافع والفوائد وإذا انتفت من جمع فانتفاؤها من واحد أولى، ثم إن هذا الحكم وإن كان عاما لسائر الكفار كما يؤذن به قوله تعالى: * (وما للظالمين من أنصار) * (البقرة: 270) إلا أن له هنا موقعا حيث إن هؤلاء الكفرة وصفوا بأنهم يقتلون الذين يأمرون بالقسط وهم ناصرو الحق - على ما أشار إليه الحديث - ولا يوجد فيهم ناصر يحول بينهم وبين قتل أولئك الكرام فقوبلوا لذلك بعذاب لا ناصر لهم منه ولامعين لهم فيه. ومن الناس من زعم أن في الآية مقابلة ثلاثة أشياء بثلاث أشياء الكفر بالعذاب وقتل الأنبياء بحبط الأعمال، وقتل الآمرين بانتفاء الناصر وهو كما ترى.
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكت‍ابيدعون إلى كت‍ابالله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون
* (الم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكت‍اب) * تعجيب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى منه الرؤية من حال أهل الكتاب وأنهم إذا عضتهم الحجة فروا إلى الضجة وأعرضوا عن المحجة، وفيه تقرير لما سبق من أن الاختلاف إنما كان بعد مجيء العلم، وقيل: إنه تنوير لنفي الناصر لهم حيث يصيرون مغلوبين عند تحكيم كتابهم، والمراد بالموصول اليهود - وبالنصيب - الحظ، و * (من) * إما للتبعيض وإما للبيان على معنى (نصيبا) هو الكتاب، أو نصيبا منه لأن الوصول إلى كنه كلامه تعالى متعذر فإن جعل بيانا كان المراد إنزال الكتاب عليهم وإن جعل تبعيضا كان المراد هدايتهم إلى فهم ما فيه، وعلى التقديرين اللام في (الكتاب) للعهد، والمراد به التوراة - وهو المروي عن كثير من السلف - والتنوين للتكثير، وجوز أن يكون اللام في (الكتاب) للعهد والمراد به اللوح، وأن يكون للجنس؛ وعليه - النصيب - التوراة، و * (من) * للإبتداء في الأول: ويحتملها، والتبعيض في الثاني: والتنوين للتعظيم، ولك أن تجعله على الوجه السابق أيضا كذلك، وجوز على تقدير أن يراد - بالنصيب - ما حصل لهم من العلم أن يكون التنوين للتحقير، واعترض بأنه لا يساعده مقام المبالغة في تقبيح حالهم، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون المقصود تعييرهم بتمردهم واستكبارهم بالنصيب الحقير عن متابعة من له علم لا يوازنه علوم المرسلين كلهم، والتعبير عما أوتوه بالنصيب للاشعار بكمال اختصاصه بهم وكونه حقا من حقوقهم التي يجب مراعاتها والعمل بموجبها.
وقوله تعالى: * (يدعون إلى كت‍ابالله) * إما جملة مستأنفة مبينة لمحل التعجب، وإما حال من الموصول، والمراد بكتاب الله التوراة والإظهار في مقام الإضمار لإيجاب الإجابة، والإضافة للتشريف وتأكيد وجود المراجعة، وإلى ذلك ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنه وغيره. وقد أخرج ابن إسحق وجماعة عنه قال: " دخل
رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدارس على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله تعالى فقال النعمان بن عمرو، والحرث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ قال: على ملة إبراهيم ودينه قالا: فإن إبراهيم كان يهوديا فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلما إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبيا عليه فأنزل الله تعالى الآية " وفي " البحر ": " زنى رجل من اليهود بامرأة ولم يكن بعد في ديننا الرجم فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تخفيفا على الزانيين لشرفهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما
110

أحكم بكتابكم الرجم فجيء بالتوراة فوضع حبرهم ابن صوريا يده على آية الرجم فقال عبد الله بن سلام: جاوزها يا رسول الله فأظهرها فرجما فغضبت اليهود فنزلت " وهو المروي عن ابن جريج - وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أيضا - وذهب الحسن وقتادة إلى أن المراد بكتاب الله تعالى القرآن دعوا إليه لأن ما فيه موافق لما في التوراة من أصول الديانة وأركان الشريعة والصفة التي تقدمت البشارة بها أو لأنهم لا يشكون في أنه كتاب الله تعالى المنزل على خاتم رسله * (ليحكم بينهم) * قيل: أي ليفصل الحق من الباطل بين الذين أوتوا - وهم اليهود - وبين الداعي لهم - وهو النبي صلى الله عليه وسلم في أمر إبراهيم عليه السلام، أو في حكم الرجم، أو في شأن الإسلام، أو بين من أسلم منهم ومن لم يسلم حيث وقع بينهم اختلاف في الدين الحق، وعلى هذا - وهو المرضي عند البعض وإن لم يوافق سبب النزول - وربما أحوج إلى ارتكاب مجاز في مرجع الضمير لا يتعين أن يكون الداعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرىء * (ليحكم) * على البناء للمفعول ونسب ذلك إلى أبي حنيفة.
* (ثم يتولى فريق منهم) * عطف على (يدعون)، و * (ثم) * للتراخي الرتبي، وفيه استبعاد توليهم بعد علمهم بوجوب الرجوع إليه، و * (منهم) * صفة لفريق، ولعل المراد بهذا الفريق أكثرهم علما ليعلم تولي سائرهم من باب الأولى قيل: وهذا سبب العدول عن - ثم يتولون - وقيل: الذين لم يسلموا، ووجه العدول عليه ظاهر فتدبر * (وهم معرضون) * جوز أن يكون صفة معطوفة على الصفة قبلها فالواو للعطف، وأن تكون في محل نصب على الحال من الضمير المستكن في * (منهم) * أو من * (فريق) * لتخصيصه بالصفة فالواو حينئذ للحال وهي إما مؤكدة لأن التولي والإعراض بمعنى، وإما مبينة لاختلاف متعلقيهما بناءا على ما قيل: إن التولي عن الداعي والإعراض عن المدعو إليه أو التولي بالبدن والإعراض بالقلب، أو الأول كان من العلماء. والثاني: من أتباعهم، وجوز أن لا يكون لها محل من الإعراب بأن تكون تذييلا أو معترضة، والمراد وهم قوم ديدنهم الإعراض، وبعضهم فسر الجملة بهذا مع اعتبار الحالية ولعله رأي أنه لا يمنع عنها.
* (ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم فى دينهم ما كانوا يفترون) *.
* (ذالك) * أي المذكور من التولي والإعراض وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: * (بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات) * أي حاصل لهم بسبب هذا القول الذي رسخ اعتقادهم له وهونوا به الخطوب ولم يبالوا معه بارتكاب المعاصي والذنوب، والمراد - بالأيام المعدودات - أيام عبادتهم العجل، وجاء هنا * (معدودات) * بصيغة الجمع دون ما في البقرة (80) فإنه * (معدودة) * بصيغة المفرد تفننا في التعبير، وذلك لأن جمع التكسير لغير العاقل يجوز أن يعامل معاملة الواحدة المؤنثة تارة ومعاملة جمع الإناث أخرى فيقال: هذه جبال راسية، وإن شئت قلت راسيات، وجمال ماشية وإن شئت ماشيات، وخص الجمع هنا لما فيه من الدلالة على القلة كموصوفه وذلك أليق بمقام التعجيب والتشنيع * (وغرهم في دينهم) * أي أطمعهم في غير مطمع وخدعهم * (ما كانوا يفترون) * أي افتراؤهم وكذبهم أو الذي كانوا يفترونه من قولهم: * (لن تمسنا النار) * الخ - قاله مجاهد - أو من قولهم: * (نحن أبناء الله وأحباؤه) * (المائدة: 18) - قاله قتادة - أو مما يشمل ذلك ونحوه من قولهم: " إن آباءنا الأنبياء يشفعون لنا وإن الله تعالى وعد يعقوب أن لا يعذب أبناءه إلا تحلة القسم " والظرف متعلق - بما عنده - أو - بيفترون - واعترضه الخطيب بأن ما بعد الموصول لا يعمل فيما قبله؛ وأجيب بالتوسع.
* (فكيف إذا جمعن‍اهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) *.
* (فكيف) * استعظام وتهويل وهدم لما استندوا إليه، وكلمة الاستفهام
111

في موضع نصب على الحال والعامل فيه محذوف - أي كيف تكون حالهم - أو كيف يصنعون أو كيف يكونون، وجوز أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف أي كيف حالهم، وقولهم تعالى: * (إذا جمعناهم) * ظرف محض من غير تضمين شرط والعامل فيه العامل في (كيف) إن قدر أنها منصوبة بفعل مقدر، وإن قلنا: إنها خبر لمبتدأ مضمر كان العامل في (إذا) ذلك المقدر أي كيف حالهم في وقت جمعهم * (ليوم) * أي في يوم أو لجزاء يوم. * (لا ريب فيه) * أي في وقوعه ووقوع ما فيه، روي أنه أول راية ترفع لأهل الموقف من رايات الكفار راية اليهود فيفضحهم الله تعالى على رءوس الأشهاد ثم يأمر بهم إلى النار * (ووفيت كل نفس ما كسبت) * أي ما عملت من خير أو شر، والمراد جزاء ذلك إلا أنه أقيم المكسوب مقام جزائه إيذانا بكمال الاتصال والتلازم بينهما حتى كأنهما شيء واحد * (وهم لا يظلمون) * شيئا فلا ينقصون من ثوابهم ولا يزادون في عذابهم بل يعطي كل منهم مقدار ما كسبه، والضمير راجع إلى كل إنسان المشعر به كل نفس، وكل يجوز مراعاة معناه فيجمع ضميره ووجه التذكير ظاهر.
* (قل اللهم م‍الك الملك تؤتى الملك من تشآء وتنزع الملك ممن تشآء وتعز من تشآء وتذل من تشآء بيدك الخير إنك على كل شىء قدير) *.
* (قل اللهم م‍الك الملك) * تأكيد لما تشعر به الآية السابقة من مزيد عظمته تعالى وعظيم قدرته؛ وفيه أيضا إفحام لمن كذب النبي صلى الله عليه وسلم ورد عليه لاسيما المنافقين الذين هم أسوأ حالا من اليهود والنصارى، وبشارة له صلى الله عليه وسلم بالغلبة الحسية على من خالفه كغلبته بالحجة على من جادله، وبهذا تنتظم هذه الآية الكريمة بما قبلها. روى الواحدي عن ابن عباس وأنس بن مالك أنه لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وعد أمته ملك فارس والروم قالت المنافقون واليهود:
هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم هم أعز وأمنع من ذلك ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى يطمع في ملك فارس والروم؟!! فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروى أبو الحسن الثعالبي عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف قال: حدثني أبي عن أبيه قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق عام الأحزاب ثم قطع لكل عشرة أربعين ذراعا قال عمرو بن عوف: كنت أنا وسلمان الفارسي وحذيفة والنعمان بن مقرن المزني، وستة من الأنصار في أربعين ذراعا فحفرنا فأخرج الله تعالى من بطن الخندق صخرة مدورة كسرت حديدنا وشقت علينا فقلنا: يا سلمان إرق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره خبر هذه الصخرة فإما أن نعدل عنها أو يأمرنا فيها بأمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه قال: فرقى سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ضارب عليه قبة تركية فقال: يا رسول الله خرجت صخرة بيضاء مدورة من بطن الخندق وكسرت حديدنا وشقت علينا حتى يحتك فيها قليل ولا كثير فمرنا فيها بأمر فإنا لا نحب أن نجاوز خطك فهبط رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سلمان الخندق والتسعة على شفير الخندق فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المعول من سلمان فضربها ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم وكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح فكبر المسلمون ثم ضربها صلى الله عليه وسلم الثانية فبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم وكبر صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون ثم ضربها عليه الصلاة والسلام الثالثة فكسرها وبرق منها برق كذلك فكبر صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون وأخذ بيد سلمان ورقي فقال: سلمان بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئا
112

ما رأيت مثله قط فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القوم فقال: رأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا نعم يا رسول الله قال: ضربت ضربتي الأولى فبرق لي الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ثم ضربت الثانية فبرق لي الذي رأيتم أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروح كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ثم ضربت ضربتي الثالثة فبرق لي الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلام وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله موعد صدق وعدنا النصر بعد الحفر فقال المنافقون: ألا تعجبون ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا للقتال فأنزل الله تعالى القرآن: * (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا) * (الأحزاب: 12) وأنزل هذه الآية * (قل اللهم) * الخ، وأصل (اللهم) - يا ألله - فحذفت (يا) وعوض عنها - الميم - وأوثرت لقربها من الواو التي هي حرف علة، وشددت لكونها عوضا عن حرفين وجمعها مع - يا - كما في قوله: إني إذا ما حدث ألما * أقول - يا اللهم - يا اللهما
شاذ، وهذا من خصائص الاسم الجليل كعدم حذف حرف النداء منه من غير ميم ودخوله عليه مع حرف التعريف وقطع همزته ودخول تاء القسم عليه واللام في القسم التعجبي نحو - لله لا يؤخر الأجل - ودخول أيمن ويمين عليه في القسم أيضا، وميم في - م الله - ووقوع همزة الاستفهام خلفا عن حرف القسم نحو الله وحرف التنبيه في نحو - لاها الله ذا - وغير ذلك فسبحانه من إله كل شأنه غريب، وزعم الكوفيون أن أصله - يا الله آمنا بخير - أي أقصدنا به فخفف بحذف حرف النداء ومتعلقات الفعل وهمزته، ويجوز الجمع عندهم بين يا - والميم بلا بأس - ولا يخفى ما فيه - ويقتضي أن لا يلي هذه الكلمة أمر دعائي آخر إلا بتكلف الأبدال من ذلك الفعل أو العطف عليه بإسقاط حرف العطف - وأل - في الملك للجنس أو الاستغراق، و (الملك) بالضم على ما ذكره بعض أئمة التحقيق - نسبة بين من قام به ومن تعلق، وإن شئت قلت: صفة قائمة بذاته متعلقة بالغير تعلق التصرف التام المقتضي استغناء المتصرف وافتقار المتصرف فيه ولهذا لم يصح على الإطلاق إلا لله تعالى جده وهو أخص من الملك بالكسر لأنه تعلق باستيلاء مع ضبط وتمكن من التصرف في الموضوع اللغوي وبزيادة كونه حقا في الشرع من غير نظر إلى استغناء وافتقار - فمالك الملك - هو الملك الحقيقي المتصرف بما شاء كيف شاء إيجادا وإعداما إحياءا وإماتة وتعذيبا وإثابة من غير مشارك ولا ممانع، ولهذا لا يقال: ملك الملك إلا على ضرب من التجوز، وحمل (الملك) على هذا المعنى أوفق بمقام المدح، وقيل: المراد منه النبوة - وإليه ذهب مجاهد - وقيل: المال والعبيد، وقيل: الدنيا والآخرة، وانتصاب * (مالك) * على الوصفية عند المبرد والزجاج، وسيبويه يوجب كونه نداءا ثانيا، ولا يجوز أن يكون صفة - لأللهم - لأنه لاتصال الميم به أشبه أسماء الأصوات وهي لا توصف، ونقض دليل سيبويه بسيبويه فإنه مع كونه فيه اسم صوت يوصف، وأجيب بأن اسم الصوت تركب معه وصار كبعض حروف الكلمة بخلاف ما نحن فيه، ومن هنا قال أبو علي: قول سيبويه عندي أصح لأنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد - اللهم - ولذلك خالف سائر الأسماء ودخل في حيز ما لا يوصف نحو حيهل فإنهما صارا بمنزلة صوت مضموم إلى اسم فلم يوصف - والعلامة التفتازاني
113

على هذا - وأيد أيضا بأن وقوع خلف حرف النداء بين الموصوف والصفة كوقوع حرف النداء بينهما فلو جاز الوصف لكان مكان الخلف بعده.
* (تؤتي الملك من تشاء) * جملة مستأنفة مبينة لبعض وجوه التصرف الذي يستدعيه مالكية الملك وجوز جعلها حالا من المنادى وفي انتصاب الحال عنه خلاف، وصحح الجواز لأنه مفعول به، والحال تأتي منه كما تأتي من الفاعل، وجعل الجملة خبرا لمبتدأ محذوف أي أنت تؤتى - وأن اختاره أبو البقاء - ليس فيه كثير نفع * (وتنزع الملك ممن تشاء) * عطف على * (تؤتي) * وحكمه حكمه، ومفعول * (تشاء) * في الموضعين محذوف أي من تشاء إيتاءه إياه وممن تشاء نزعه منه، و (الملك) الثالث هو الثاني واللام فيهما للجنس أو العهد وليسا هما عين الأول لأن الأول عند المحققين حقيقي عام ومملوكيته حقيقية والآخران مجازيان خاصان ونسبتهما إلى صاحبهما مجازية، واعتبر بعضهم في التفرقة كون المراد من الأول الجميع ومن الآخرين البعض ضرورة أن المؤتى لا يمكن أن يكون الجميع والمنزوع هو ذاك لأنه معرفة معادة، ويراد بها إن لم يمنع مانع عين الأول ولأنه إذا لم يمكن إيتاء الكل لم يمكن نزع الكل لأن الثاني مسبوق بالأول. ومن الناس من حمل (الملك) هنا على النبوة ومعنى نزعها هنا نقلها من قوم إلى قوم أي تؤتى النبوة بني إسرائيل وتنقلها منهم إلى العرب، وقيل: المعنى تعطي أسباب الدنيا محمدا صلى الله عليه وسلم
وأمته وتسلبها من الروم وفارس فلا تقوم الساعة حتى تفتح بلادهم ويملك ما في أيديهم المسلمون، وروي ذلك عن الكلبي، وقيل: تنزعه من صناديد قريش.
* (وتعز من تشاء) * أن تعزه في الدنيا والآخرة أو فيهما بالنصر والتوفيق * (وتذل من تشاء) * أن تذله في إحداهما أو فيهما من غير ممانعة الغير، وقيل: المراد تعز محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأن تدخلهم مكة ظاهرين وتذل أبا جهل وأضغاث الشرك بالقتل والإلقاء في القليب، وقال عطاء: تعز المهاجرين والأنصار وتذل فارس والورم، وقيل: تعز المؤمنين بالظفر والغنيمة وتذل اليهود بالقتل والجزية، وقيل: تعز بالإخلاص وتذل بالرياء، وقيل: تعز الأحباب بالجنة والرؤية وتذل الأعداء بالنار والحجاب؛ وقيل: تعز بالقناعة والرضا وتذل بالحرص والطمع وقيل وقيل. وينبغي حمل سائر الأقوال على التمثيل لأنه لا مخصص في الآية، و * (تعز) * مضارع أعز ضد أذل، والمجرد من الهمزة منه - عز - ومضارعه يعز بكسر العين، ومنه ما في دعاء قنوت الشافعية، وله استعمالان آخران الضم والفتح، وقد نظم ذلك الإمام السيوطي بقوله: يا قارئا كتب الآداب كن يقظا * وحرر الفرق في الأفعال تحريرا
(عز) المضاعف يأتي في مضارعه * تثليث عين بفرق جاء مشهورا
فما كقل وضد (الذل) مع عظم * كذا كرمت علينا جاء مكسورا
وما - كعز - علينا الحال أي صعبت * فافتح مضارعه إن كنت نحريرا
وهذه الخمسة الأفعال لازمة * واضمم مضارع فعل ليس مقصورا
(عززت) زيدا بمعنى قد غلبت كذا * أعنته فكلا ذا جاء مأثورا
وقيل: إذا كنت في ذكر القنوت ولا * (يعز) يا رب من عاديت مكسورا
واشكر لأهل علوم الشرع إذ شرحوا * لك الصواب وأبدوا فيه تذكيرا
* (بيدك الخير) * جملة مستأنفة، وأجراها بعضهم على طرز ما قبلها، وتعريف الخير للتعميم وتقديم الخبر
114

للتخصيص أي: بيدك التي لا يكتنه كنهما، وبقدرتك التي لا يقدر قدرها الخير كله تتصرف به أنت وحدك حسب مشيئتك لا يتصرف به أحد غيرك ولا يملكه أحد سواك، وإنما خص الخير بالذكر تعليما لمراعاة الأدب وإلا فذكر الإعزاز والإذلال يدل على أن الخير والشر كلاهما بيده سبحانه، وكذا قوله تعالى المسوق لتعليل ما سبق وتحقيقه * (إنك على كل شيء قدير) * فلا يبعد أن تكون الآية من باب الاكتفاء، وقيل: إنما اقتصر عليه لما أن سبب نزول الآية ما آتى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من البشارة بالفتوح وترادف الخيرات، وقيل: لما أن الأشياء باعتبار الشر وعدمه تنقسم إلى خمسة أقسام. الأول: ما لا شر فيه أصلا. والثاني: ما يغلب خيره على شره. والثالث: ما يكون شرا محضا. والرابع: ما يكون شره غالبا على خيره. والخامس: ما يتساوى الخير والشر فيه، والموجود من هذه الأقسام في العالم - القسم الأول والثاني - والشر الذي فيه غير مقصود بالذات بل إنما قضاه الله تعالى لحكمة بالغة وهو وسيلة إلى خير أعظم وأعم نفعا؛ والشر اليسير متى كان وسيلة إلى الخير الكثير كان ارتكابه مصلحة تقتضيها الحكمة ولا يأباها الكرم المطلق، ألا ترى أن الفصد والحجامة وشرب الدواء الكريه وقطع السلعة ونحوها من الأمور المؤلمة لكونه وسيلة إلى حصول الصحة بحسن ارتكابه في مقتضى الحكمة ويعد خيرا لا شرا وصحة لا مرضا وكل قضاء الله تعالى بما نراه شرا من هذا القبيل، ولهذا ورد في الحديث " لا تتهم الله تعالى على نفسك " وورد " لا تكرهوا الفتن فإن فيها حصاد المنافقين ". وجاء " لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب العجب " ومن هنا قيل: يا من إفساده صلاح فما قدر من المفاسد لتضمنه المصالح العظيمة اغتفر ذلك القدر اليسير في جنبها لكونه وسيلة إليها وما أدى إلى الخير فهو خير فكل شر قدره الله تعالى لكونه لم يقصد بالذات لأن أحكام القضاء والقدر كما قالوا: جارية على سنن ما اتفقت عليه الشرائع كلها من النظر إلى جلب المصالح وذب المفاسد بل بالعرض لما يستلزمه من الخير الأعظم والنفع الأتم يصدق عليه بهذا الاعتبار أنه خير فدخل في قوله سبحانه: * (بيدك الخير) * فلذا اقتصر على الخير على وجه أنه شامل لما قصد أصلا ولما وقع استلزاما، وهذا من باب - ليس في الإمكان أبدع مما كان - وقد درج حكماء الإسلام عليه ولا يعبأ بمن وجه سهام الطعن إليه، وفي " شرح الهياكل " أن الشر مقضي بالعرض وصادر بالتبع لما أن بعض ما يتضمن الخيرات الكثيرة قد يستلزم الشر القليل فكان ترك الخيرات الكثيرة لأجل ذلك الشر القليل شرا كثيرا فصدر عنك ذلك الخير فلزمه حصول ذلك الشر وهو من حيث صدوره عنك خير إذ عدم صدوره شر لتضمنه فوات ذلك الخير فأنت المنزه عن الفحشاء مع أنه لا يجري في ملكك إلا ما تشاء وليس هذا من القول بوجوب الأصلح، ولا ينافيه * (لا يسئل عما يفعل) * (الأنبياء: 23) إذ لا يفعل ما يسئل عنه كرما وحكمة وجودا ومنة " لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع ".
* (تولج اليل فى النهار وتولج النهار فى اليل وتخرج الحى من الميت وتخرج الميت من الحى وترزق من تشآء بغير حساب) *.
* (تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل) * الولوج في الأصل الدخول والإيلاج الإدخال واستعير لزيادة زمان النهار في الليل وعكسه بحسب المطالع والمغارب في أكثر البلدان - وروي ذلك عن ابن عباس والحسن ومجاهد - ولا يضر تساوي الليل والنهار دائما عند خط الاستواء لأنه يكفي الزيادة والنقصان فيهما في الأغلب، وقال الجبائي: المراد بإيلاج أحدهما في الآخر إيجاد كل واحد منهما عقيب الآخر والأول أقرب إلى اللفظ، وعلى التقديرين الظاهر من الليل والنهار ليل التكوير ونهاره وهما المشهوران أن عند العامة الذين يفهمون ظاهر القول، ووراء ذلك أيام السلخ التي يعرفها العارفون وأيام الإيلاج الشانية التي يعقلها العلماء الحكماء.
115

وبيان ذلك على وجه الاختصار أن اليوم على ما ذكره القوم الالهيون عبارة عن دورة واحدة من دورات فلك الكواكب وهو من النطح إلى النطح ومن الشرطين إلى الشرطين ومن البطين إلى البطين وهكذا إلى آخر المنازل، ومن درجة المنزلة ودقيقتها إلى درجة المنزلة ودقيقتها، وأخفى من ذلك إلى أقصى ما يمكن الوقوف عنده وما
من يوم من الأيام المعروفة عند العامة وهي من طلوع الشمس إلى طلوع الشمس أو من غروبها إلى غروبها أو من استوائها إلى استوائها أو ما بين ذلك إلى ما بين ذلك إلا وفيه نهاية ثلثمائة وستين يوما فاليوم طوله ثلاثمائة وستون درجة لأنه يظهر فيه الفلك كله وتعمه الحركة وهذا هو اليوم الجسماني، وفيه اليوم الروحاني فيه تأخذ العقول معارفها والبصائر مشاهدها والأرواح أسرارها كما تأخذ الأجسام في هذا اليوم الجسماني أغذيتها وزيادتها ونموها وصحتها وسقمها وحياتها وموتها فالأيام من جهة أحكامها الظاهرة في العالم المنبعثة من القوة الفعالة للنفس الكلية سبعة من يوم الأحد إلى آخره ولهذه الأيام أيام روحانية لها أحكام في الأرواح والعقول تنبعث من القوة العلامة للحق الذي قامت به السموات والأرض وهو الكلمة الالهية، وعلى هذه السبعة الدوارة يدور فلك البحث فنقول: قال الله تعالى في المشهود من الأيام المحسوسة: * (يكور الليل على النهار ويكون النهار على الليل) * (الزمر: 5) وأبان عن حقيقتين من طريق الحكم بعد هذا فقال في آية: * (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار) * (يس: 37) فهذه أنبأت أن الليل أصل والنهار كان غيبا فيه ثم سلخ، وليس معنى السلخ معنى التكوير فلا بد أن يعرف ليل كل نهار من غيره حتى ينسب كل ثوب إلى لابسه ويرد كل فرع إلى أصله، ويلحق كل ابن بأبيه، وقال في الآية الكريمة كاشفا عن حقيقة أخرى: * (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) * فجعل بين الليل والنهار نكاحا معنويا لما كانت الأشياء تتولد منهما معا وأكد هذا المعنى بقوله عز قائلا: * (يغشى الليل النهار) * (الأعراف: 54) ولهذا كان كل منهما مولجا ومولجا فيه فكل واحد منهما لصاحبه أصل وبعل فكلما تولد في النهار فأمه النهار وأبوه الليل وكلما تولد في الليل فأمه الليل وأبوه النهار فليس إذا حكم الايلاج حكم السلخ فإن السلخ إنما هو في وقت أن يرجع النهار من كونه مولجا ومولجا فيه والليل كذلك إلا أنه ذكر السلخ الواحد ولم يذكر السلخ الآخر من أجل الظاهر والباطن والغيب والشهادة. والروح والجسم والحرف والمعنى - وشبه ذلك - فالايلاج روح كله والتكوير جسم هذا الروح الإيلاجي ولهذا كرر الليل والنهار في الإيلاج كما كررهما في التكوير هذا في عالم الجسم وهذا في عالم الروح، فتكوير النهار لإيلاج الليل وتكوير الليل لإيلاج النهار، وجاء السلخ واحدا للظاهر لأربابه، وقد اختلف العجم والعرب في أصالة أي المكورين على الآخر، فالعجم يقدمون النهار على الليل وزمانهم شمسي فليلة السبت عندهم مثلا الليلة التي تكون صبيحتها يوم الأحد وهكذا، والعرب يقدمون الليل على النهار وزمانهم قمري أولئك كتب في قلوبهم الإيمان فليلة الجمعة عندهم مثلا هي الليلة التي يكون صبيحتها يوم الجمعة وهم أقرب من العجم إلى العلم فإنه يعضدهم السلخ في هذا النظر غير أنهم لم يعرفوا الحكم فنسبوا الليلة إلى غير يومها كما فعل أصحاب الشمس وذلك لأن عوامهم لا يعرفون إلا أيام التكوير والعارفون من أهل هذه الدولة، وورثة الأنبياء يعلمون ما وراء ذلك من أيام السلخ وأيام الإيلاج الشاني، ولما كانت الأيام شيئا وكل شيء عندهم ظاهر وباطن وغيب وشهادة وروح وجسم وملك. وملكوت ولطيف وكثيف قالوا: إن اليوم نهار وليل في مقابلة باطن وظاهر، والأيام سبعة ولكل يوم نهار وليل من جنسه، والنهار ظل ذلك الليل وعلى صورته لأنه أصله المدرج هو فيه المنسلخ هو منه بالنفخة الآلهية، وقد أطلق سبحانه في آية السلخ ولم يبين أي نهار سلخ من أية ليلة ولم يقل ليلة كذا سلخ منها نهار كذا ليعقلها من ألهمه الله تعالى رشده فينال
116

فصل الخطاب، فعلى المفهوم من اللسان العربي بالحساب القمري أي ليلة الأحد سلخ الله تعالى منها نهار الأربعاء وسلخ من ليلة الاثنين نهار الخميس، ومن ليلة الثلاثاء نهار الجمعة، ومن ليلة الأربعاء نهار السبت، ومن ليلة الخميس نهار الأحد، ومن ليلة الجمعة نهار الاثنين ومن ليلة السبت نهار الثلاثاء فجعل سبحانه بين كل ليلة ونهارها المسلوخ منها ثلاث ليال وثلاثة نهارات فكانت ستة وهي نشأتك ذاك الجهات، فالليالي منها للتحت والشمال والخلف، والنهارات منها للفوق واليمين والامام فلا يكون الإنسان نهارا ونورا تشرق شمسه وتشرق به أرضه حتى ينسلخ من ليل شهوته ولا يقبل على من لا يقبل الجهات حتى يبعد عن جهات هيكله، وإنما نسبوا هذه النسبة من جهة الاشتراك في الشأن الظاهر لستر الحكمة الالهية على يد الموكلين بالساعات، وفي اليوم الإيلاجي الشاني يعتبرون ليلا ونهارا أيضا وهو عندهم أربع وعشرون ساعة قد اتحد فيها الشأن فلم ينبعث فيها إلا معنى واحد ويتنوع في الموجودات بحسب استعداداتها ولهذا قال سبحانه: * (كل يوم هو في شأن) * (الرحمان: 29) ولم يقل - في شؤون - وتنوينه للتعظيم الظاهر باختلاف القوابل وتكثر الأشخاص فإذا ساعات ذلك اليوم تحت حكم واحد ونظر وال واحد قد ولاه من لا يكون في ملكه إلا ما يشاء وتولاه وخصه بتلك الحركة وجعله أميرا في ذلك، والمتصرف الحقيقي هو الله تعالى لا هو من حيث هو، فاليوم الشاني ما كانت ساعاته كلها سواء ومتى اختلفت فليس بيوم واحد ولا يوجد هذا في أيام التكوير وكذا في أيام السلخ إلا قليلا فطلبنا ذلك في الأيام الإيلاجية فوجدناه مستوفى فيه، وقد أرسل سبحانه آية الإيلاج ولم يقل: * (يولج الليل) * الذي صبيحته الأحد في الأحد ولا النهار الذي مساؤه ليلة الاثنين في الاثنين فإذا لا يلتزم أن ليلة الأحد هي ليلة الكور ولا ليلة السلخ وإنما يطلب وحدانية اليوم من أجل أحدية الشأن فلا ينظر إلا إلى اتحاد الساعات، والحكم المولى من قبل المولى فليلة الأحد الايلاجي مركبة من الساعة الأولى من ليلة الخميس، والثانية منها، والثالثة من يوم الخميس، والعاشرة منها، والخامسة من ليلة الجمعة، والثانية عشرة منها، والسابعة من يوم الجمعة، والثامنة من ليلة السبت، والتاسعة منها، والرابعة من يوم السبت، والحادية عشرة منه، والسادسة من ليلة الأحد فهذه ساعات ليله. وأما ساعات نهاره من أيام التكوير فالأولى من يوم الأحد، والثامنة والثالثة من يوم الاثنين والعاشرة منه، والخامسة من يوم الاثنين والثانية عشرة منه والسابعة من ليلة الثلاثة والثانية من يوم الثلاثاء والتاسعة منه، والرابعة من ليلة الأربعاء والحادية عشرة منها والسادسة من يوم الأربعاء فهذه أربعة وعشرون ساعة ظاهرة كالشمس ليوم الأحد الإيلاجي الشاني كلها كنفس واحدة لأنها من معدن واحد، وهكذا تقول في سائر الأيام حتى تكمل سبعة أيام متميزة بعضها من بعض مولجة بعضها في بعض نهارها في ليلها وليلها في نهارها لحكمة التوالد والتناسل وذلك كسريان الحكم الواحد في الأيام، ويظهر ذلك من أيام التكوير. وقد ذكر مولانا الشيخ الأكبر قدس سره الشأن في كل يوم في رسالته " المسماة بالشأن الالهي "، ولعلي إن شاء الله تعالى أذكر ذلك عند قوله تعالى: * (كل يوم هو في شأن) * (الرحمان: 29) وهذه الأيام أيضا غير يوم المثل وهو عمر الدنيا ويوم الرب ويوم المعارج ويوم القمر ويوم الشمس ويوم زحل ويوح الحمل ولكل كوكب من السيارات والبروج يوم - وقد ذكر كل ذلك في " الفتوحات " - وإنما تعرضنا لهذا المقدار وإن كان
الاستقصاء في بيان مشرب القوم ليس بدعا في هذا الكتاب تعليما لبعض طلبة العلم ما الليل والنهار إذ قد ظنوا لجهلهم بسبب بحث جرى بنا الظنون، وفي هذا كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد فحمدا لك اللهم على ما علمت ولك الشكر على ما أنعمت.
117

* (وتخرج الحي من الميت) * أي تكون الحيوانات من موادها أو من النطفة، وعليه ابن عباس وابن مسعود وقتادة ومجاهد والسدى وخلق كثير * (وتخرج الميت من الحي) * أي النطفة من الحيوانات كما قال عامة السلف. وأخرج ابن مردويه من طريق أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام أخرج ذريته فقبض قبضة بيمينه فقال: هؤلاء أهل الجنة ولا أبالي وقبض بالأخرى قبضة فجاء فيها كل ردىء فقال هؤلاء أهل النار ولا أبالي فخلط بعضهم ببعض فيخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر " فذلك قوله تعالى: * (وتخرج الحي من الميت) * الآية - وإلى هذا ذهب الحسن - وروي عن أئمة أهل البيت، فالحي والميت مجازيان، ولطف هذه الجملة بعد الأولى لا يخفى، والقائلون بعموم المجاز قالوا: المراد تخرج الحيوانات من النطف والنطف من الحيوانات، والنخلة من النواة والنواة من النخلة، والطيب من الخبيث والخبيث من الطيب، والعالم من الجاهل والجاهل من العالم، والذكي من البليد والبليد من الذكي إلى غير ذلك. ولا يلزم من الآية أن يكون إخراج كل حي من ميت وكل ميت من حي ليلزم التسلسل في جانب المبدىء إذ غاية ما تفهمه الآية أن لله تعالى هذه الصفة وأما أنه لا يخلق شيئا إلا من شيء فلا كما لا يخفى، وقرىء * (الميت) * بالتخفيف في الموضعين.
* (وترزق من تشاء بغير حساب) * الظرف في محل الحال من المفعول أي ترزق من تشاء غير محاسب له، أو من الفاعل أي ترزقه غير محاسب له، أو غير مضيق عليه، وجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف، أو مفعول محذوف أي رزقا غير قليل، وفي ذكر هذه الأفعال العظيمة التي تحير العقول ونسبتها إليه تعالى دلالة على أن من يقدر على ذلك لا يعجزه أن ينزع الملك من العجم ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم بل هو أهون عليه من كل هين. هذا وقد تقدم ما يشير إلى فضل هذه الآية، وقد أخرج ابن أبي الدنيا عن معاذ بن جبل قال: شكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم دينا كان علي فقال: " يا معاذ أتحب أن يقضى دينك؟ قلت: نعم قال: * (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير) * (آل عمران: 26) رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطي منهما من تشاء وتمنع منهما من تشاء اقض عني ديني فلو كان عليك ملء الأرض ذهبا أدى عنك " وفي رواية للطبراني الآية بتمامها.
ومن باب الإشارة في الآيات: * (شهد الله أنه لا إله إلا هو) * أي أبان بدلائل الآفاق والأنفس أنه لا إله في الوجود سواه، أو شهد بذاته في مقام الجمع على وحدانيته حيث لا شاهد ولا مشهود غيره، وشهد الملائكة وأولو العلم - بذلك وهي شهادة مظاهره سبحانه في مقام التفصيل، ومن القوم من فرق بين الشهادتين بأن شهادة الملائكة من حيث اليقين وشهادة أولي العلم من حيث المشاهدة، وأيضا قالوا: شهادة الملائكة من رؤية الأفعال وشهادة أولي العلم من رؤية الصفات، وقيل: شهادة الملائكة من رؤية العظمة ولذا يغلب عليهم الخوف، وشهادة العلماء من رؤية الجمال ولذا يغلب عليهم الرجاء. وشهادة العلماء متفاوتة فشهادتهم بعض من الحالات، وشهادة آخرين من المقامات، وشهادة طائفة من المكاشفات، وشهادة فرقة من المشاهدات؛ وخواص أهل العلم يشهدون به له بنعت إدراك القدم وبروز نور التوحيد من جمال الوحدانية، فشادتهم مستغرقة في شهادة الحق لأنهم في محل المحو * (قائما بالقسط) * أي مقيما للعدل بإعطاء كل من الظهور ما هو له بحسب الاستعداد
118

فيتجلى عليه على قدر دعائه * (لا إله إلا هو العزيز) * فلا يصل أحد إلى معرفة كنهه وكنه معرفته * (الحكيم) * (آل عمران: 18) الذي يدبر كل شيء فيعطيه من مراتب التوحيد ما يطيق * (ان الدين) * المرضي * (عند الله الإسلام) * (آل عمران: 19) وهو المقام الإبراهيمي المشار إليه بقوله: * (أسلمت وجهي) * (آل عمران: 20) أي نفسي وجملتي وانخلعت عن آنيتي لله تعالى ففنيت فيه * (إن الذين يكفرون بآيات الله) * وهم المحجوبون عن الدين والساترون للحق بالميل مع الشهوات * (ويقتلون النبيين) * الداعين إلى التوحيد وهم العباد والواصلون الكاملون * (ويقتلون الذين يأمرون بالقسط) * وهو نفي الأغيار وقصر الوجود الحق على الله تعالى * (من الناس) *، (آل عمران: 21) ويحتمل أن يشار - بالذين كفروا - إلى قوى النفس الأمارة - وبالنبيين - إلى أنبياء القلوب المشرفة بوحي إلهام الغيوب، وبالآمرين بالقسط القوى الروحانية التي هي من جنود أولئك الأنبياء وأتباعهم، فبشر أولئك الكافرين بعذاب أليم وهو عذاب الحجاب والبعد عن حضرة رب الأرباب * (أولئك الذين حبطت) * أي بطلت وانحطت عن حيز الاعتبار * (أعمالهم) * لعدم شرطها وهو التوحيد * (في الدنيا) * وهي عالم الشهادة * (والآخرة) * وهي عالم الغيب * (وما لهم من ناصرين) * (آل عمران: 22) لسوء حظهم وقلة استعدادهم * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) * كعلماء السوء وأحبار الضلال * (يدعون إلى كتاب الله) * الناطق بمقام الجمع والفرق * (ليحكم بينهم) * وبين الموحدين * (ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون) * (آل عمران: 23) عن قبول الحق لفرط حجابهم واغترارهم بما أوتوا * (ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار) * نار البعد * (إلا أياما معدودات) * أي قليلة يسيرة * (وغرهم في دينهم) * الذي هم عليه * (ما كانوا يفترون) * (آل عمران: 24) من القضايا والأقيسة التي جاءت بها عقولهم المشوبة بظلمات الوهم والخيال * (فكيف) * يكون حالهم * (إذا جمعناهم) * بعد تفرقهم في صحراء الشكوك وتمزيق سباع الأوهام لهم * (ليوم لا ريب فيه) * وهو يوم القيامة الكبرى الذي يظهر فيه الحق لمنكره، * (ووفيت كل نفس) * صالحة وطالحة * (ما كسبت) * بواسطة استعدادها * (وهم لا يظلمون) * (آل عمران: 25) جزاء ذلك * (قل اللهم مالك الملك) * أي الملك المتصرف في مظاهرك من غير معارض ولا مدافع حسبما تقتضيه الحكمة * (تؤتي الملك من تشاء) * وهو من اخترته للرياسة الباطنة وجعلته متصرفا بإرادتك وقدرتك * (وتنزع الملك ممن تشاء) * بأن تنقله إلى غيره باستيفاء مدة إقامته في عالم الأجسام وتكميل النشأة، أو تحرم من تشاء عن إيتاء ذلك الملك لظلمه المانع له من أن ينال عهدك أو يمنح رفدك * (وتعزمن تشاء) * بإلقاء نور من أنوار عزتك عليه فإن العزة لله جميعا * (وتذل من تشاء) * بسلب لباس عزتك عنه فيبقى ذليلا * (بيدك الخير) * (آل عمران: 26) كله وأنت القادر مطلقا تعطي على حسب مشيئتك وتتجلى طبق إرادتك وتمنح بقدر قابلية مظاهرك * (تولج الليل في النهار) *
تدخل ظلمة النفس في نور القلب فيظلم * (وتولج النهار في الليل) * وتدخل نور القلب في ظلمة النفس فتستنير وتخلطهما معا مع بعد المناسبة بينهما * (وتخرج) * حي القلب من ميت النفس وميت النفس من حي القلب، أو تخرج حي العلم من ميت الجهل وميت الجهل من حي العلم * (وترزق من تشاء) * من النعم الظاهرة والباطنة، أو من إحداهما فقط * (بغير حساب) * إذ لا حجر عليك.
هذا ولما بين سبحانه أن إعطاء الملك والإعزاز من الله تعالى وأنه على كل شيء قدير نبه المؤمنين على أنه لا ينبغى أن يوالوا أعداء الله تعالى لقرابة أو صداقة جاهلية أو نحوهما أو أن لا يستظهروا بهم لأنه تعالى هو المعز والقادر المطلق بقوله عز قائلا:
* (لا يتخذ المؤمنون الك‍افرين أوليآء من دون المؤمنين ومن يفعل ذالك فليس من الله في شىء إلا أن تتقوا منهم تق‍اة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير) *.
* (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أوليآء) * قال ابن عباس: كان الحجاج بن عمرو. وكهمس بن أبي الحقيق وقيس بن زيد - والكل من اليهود - يباطنون نفرا من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا
119

لزومهم ومباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم وملازمتهم فأنزل الله هذه الآية، وقال الكلبي: نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى الآية ونهى المؤمنين عن فعلهم. وروى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري وكان بدريا نقيبا وكان له حلفاء من اليهود فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قال عبادة: يا نبي الله معي خمسمائة من اليهود وقد رأيت أن يخرجوا معي فاستظهر بهم على العدو فأنزل الله تعالى * (لا يتخذ) * الخ، والفعل مجزوم بلا النهاية، وأجاز الكسائي فيه الرفع على الخبر والمعنى على النهي أيضا وهو متعد لمفعولين، وجوز أن يكون متعديا لواحد - فأولياء - مفعول ثان، أو حال وهو جمع ولي بمعنى الموالي من الولي وهو القرب، والمراد لا يراعوا أمورا كانت بينهم في الجاهلية بل ينبغي أن يراعوا ما هم عليه الآن مما يقتضيه الإسلام من بغض وحب شرعيين يصح التكليف بهما وإنما قيدنا بذلك لما قالوا: إن المحبة لقرابة أو صداقة قديمة أو جديدة خارجة عن الاختيار معفوة ساقطة عن درجة الاعتبار، وحمل الموالاة على ما يعم الاستعانة بهم في الغزو مما ذهب إليه البعض ومذهبنا وعليه الجمهور - أنه يجوز ويرضخ لهم لكن إنما يستعان بهم على قتال المشركين لا البغاة على ما صرحوا به، وما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لبدر فتبعه رجل مشرك كان ذا جراءة ونجدة ففرح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حين رأوه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ارجع فلن أستعين بمشرك " فمنسوخ بأن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بيهود بني قينقاع ورضخ لهم واستعان بصفوان بن أمية في هوازن، وذكر بعضهم جواز الاستعانة بشرط الحاجة والوثوق أما بدونهما فلا تجوز وعلى ذلك يحمل خبر عائشة، وكذا ما رواه الضحاك عن ابن عباس في سبب النزول - وبه يحصل الجمع بين أدلة المنع وأدلة الجواز - على أن بعض المحققين ذكر أن الاستعانة المنهي عنها إنما هي استعانة الذليل بالعزيز وأما إذا كانت من باب استعانة العزيز بالذليل فقد أذن لنا بها، ومن ذلك اتخاذ الكفار عبيدا وخدما ونكاح الكتابيات منهم وهو كلام حسن كما لا يخفى. ومن الناس من استدل بالآية على أنه لا يجوز جعلهم عمالا ولا استخدامهم في أمور الديوان وغيره وكذا أدخلوا في الموالاة المنهى عنها السلام والتعظيم والدعاء بالكنية والتوقير بالمجالس، وفي " فتاوى العلامة ابن حجر " جواز القيام في المجلس لأهل الذمة وعد ذلك من باب البر والإحسان المأذون به في قوله تعالى: * (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) * (الممتحنة: 8) ولعل الصحيح أن كل ما عده العرف تعظيما وحسبه المسلمون موالاة فهو منهي عنه ولو مع أهل الذمة لا سيما إذا أوقع شيئا في قلوب ضعفاء المؤمنين ولا أرى القيام لأهل الذمة في المجلس إلا من الأمور المحظورة لأن دلالته على التعظيم قوية وجعله من الإحسان لا أراه من الإحسان كما لا يخفي.
* (من دون المؤمنين) * حال من الفاعل أي متجاوزين المؤمنين إلى الكافرين استقلالا أو اشتراكا ولا مفهوم لهذا الظرف إما لأنه ورد في قوم بأعيانهم والوا الكفار دون المؤمنين فهو لبيان الواقع أو لأن ذكره للاشارة إلى أن الحقيق بالموالاة هم المؤمنون وفي موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفار وكون هذه النكتة تقتضي أن يقال مع وجود المؤمنين دون من دون المؤمنين في حيز المنع، وكونه إشارة إلى أن ولايتهم لا تجامع ولاية المؤمنين في غاية الخفاء.
120

وقيل: الظرف في حيز الصفة لأولياء، وقيل: متعلق بفعل الاتخاذ، و * (من) * لابتداء الغاية أي لا تجعلوا ابتداء الولاية من مكان دون مكان المؤمنين * (ومن يفعل ذالك) * أي الاتخاذ، والتعبير عنه بالفعل - كما قال شيخ الإسلام - للاختصار أو لإيهام الاستهجان بذكره، و * (من) * شرطية، و * (يفعل) * فعل الشرط، وجوابه. * (فليس من الله في شيء) * والكلام على حذف مضاف أي من ولايته، أو من دينه، والظرف الأول حال من * (شيء) * والثاني خبر - ليس - وتنوين * (شي) * للتحقير أي ليس في شيء يصح أن يطلق عليه اسم الولاية أو الدين لأن موالاة المتضادين مما لا تكاد تدخل خيمة الوقوع ولهذا قيل: تود عدوي ثم تزعم أنني * صديقك ليس النوك عنك بعازب
وقيل أيضا: إذا والى صديقك من تعادي * فقد عاداك وانقطع الكلام
والجملة معترضة، وقوله تعالى: * (إلا أن تتقوا) * على صيغة الخطاب بطريق الغيبة استثناء مفرغ من أعم الأحوال والعامل فيه فعل النهي معتبرا فيه الخطاب أي لا تتخذوهم أولياء في حال من الأحوال إلا حال اتقائكم، وقيل: استثناء مفرغ من المفعول لأجله أي لا يتخذ المؤمن الكافر وليا لشيء من الأشياء إلا للتقية * (منهم) * أي من جهتهم؛ و - من - للابتداء متعلق بمحذوف وقع حالا من قوله تعالى: * (تقاة) * لأنه نعت النكرة وقد تقدم عليها، والمراد - بالتقاة - ما يتقى منه وتكون بمعنى اتقاء وهو الشائع فعلى الأول: يكون مفعولا به لتتقوا، وعلى الثاني: مفعولا مطلقا له، و * (منهم) * متعلق به، وتعدى - بمن - لأنه بمعنى خاف، وخاف
يتعدى بها نحو * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا) * (النساء: 128) * (فمن خاف من موص جنفا) * (البقرة: 182) والمجرور في موضع أحد المفعولين وترك المفعول الآخر للعلم به أي ضررا ونحوه، وأصل تقاة وقية بواو مضمومة وياء متحركة بعد القاف المفتوحة فأبدلت الواو المضمومة تاءا كتجاه وأبدلت الياء المتحركة ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ووزنه فعلة - كتخمة، وتؤدة - وهو في المصادر غير مقيس وإنما المقيس اتقاء - كاقتداء - وقرأ أبو الرجاء وقتادة - تقية - بالياء المشددة ووزنها فعيلة والتاء بدل من الواو أيضا
وفي الآية دليل على مشروعية التقية وعرفوها بمحافظة النفس أو العرض أو المال من شر الأعداء، والعدو قسمان: الأول: من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين كالكافر والمسلم، والثاني: من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية كالمال والمتاع والملك والإمارة، ومن هنا صارت التقية قسمين: أما القسم الأول: فالحكم الشرعي فيه أن كل مؤمن وقع في محل لا يمكن له أن يظهر دينه لتعرض المخالفين وجب عليه الهجرة إلى محل يقدر فيه على إظهار دينه ولا يجوز له أصلا أن يبقى هناك ويخفي دينه ويتشبث بعذر الاستضعاف فإن أرض الله تعالى واسعة، نعم إن كان ممن لهم عذر شرعي في ترك الهجرة كالصبيان والنساء والعميان والمحبوسين والذين يخوفهم المخالفون بالقتل أو قتل الأولاد أو الآباء أو الأمهات تخويفا يظن معه إيقاع ما خوفوا به غالبا سواء كان هذا القتل بضرب العنق أو بحبس القوت أو بنحو ذلك فإنه يجوز له المكث مع المخالف والموافقة بقدر الضرورة ويجب عليه أن يسعى في الحيلة للخروج والفرار بدينه ولو كان التخويف بفوات المنفعة أو بلحوق المشقة التي يمكنه تحملها كالحبس مع القوت والضرب القليل الغير المهلك لا يجوز له موافقتهم، وفي صورة الجواز أيضا موافقتهم رخصة وإظهار مذهبه عزيمة فلو تلفت نفسه لذلك فإنه شهيد قطعا، ومما يدل على أنها رخصة - ما روي عن الحسن -
121

أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم فقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم ثم دعا بالآخر فقال له: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم فقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إني أصم قالها ثلاثا، وفي كل يجيبه بأني أصم فضرب عنقه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما هذا المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضله فهنيئا له. وأما الآخر فقد رخصه الله تعالى فلا تبعة عليه وأما القسم الثاني: فقد اختلف العلماء في وجوب الهجرة وعدمه فيه فقال بعضهم: تجب لقوله تعالى: * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * (البقرة: 195) وبدليل النهي عن إضاعة المال، وقال قوم: لا تجب إذ الهجرة عن ذلك المقام مصلحة من المصالح الدنيوية ولا يعود من تركها نقصان في الدين لاتحاد الملة وعدوه القوي المؤمن لا يتعرض له بالسوء من حيث هو مؤمن، وقال بعضهم: الحق أن الهجرة هنا قد تجب أيضا إذا خاف هلاك نفسه أو أقاربه أو هتك حرمته بالإفراط ولكن ليست عبادة وقربة حتى يترتب عليها الثواب فإن وجوبها لمحض مصلحة دنيوية لذلك المهاجر لا لإصلاح الدين ليترتب عليها الثواب وليس كل واجب يثاب عليه لأن التحقيق أن كل واجب لا يكون عبادة بل كثير من الواجبات ما لا يترتب عليه ثواب كالأكل عند شدة المجاعة والاحتراز عن المضرات المعلومة أو المظنونة في المرض، وعن تناول السموم في حال الصحة وغير ذلك، وهذه الهجرة أيضا من هذا القبيل وليست هي كالهجرة إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لتكون مستوجبة بفضل الله تعالى لثواب الآخرة،
وعد قوم من باب التقية مداراة الكفار والفسقة والظلمة وإلانة الكلام لهم والتبسم في وجوههم والانبساط معهم وإعطائهم لكف إذاهم وقطع لسانهم وصيانة العرض منهم ولا يعد ذلك من باب الموالاة المنهي عنها بل هي سنة وأمر مشروع. فقد روى الديلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله تعالى أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض " وفي رواية " بعثت بالمداراة " وفي " الجامع " " سيأتيكم ركب مبغضون فإذا جاءوكم فرحبوا بهم " وروى ابن أبي الدنيا " رأس العقل بعد الإيمان بالله تعالى مداراة الناس " وفي رواية البيهقي " رأس العقل المداراة " وأخرج الطبراني " مداراة الناس صدقة " وفي رواية له " ما وقى به المؤمن عرضه فهو صدقة ". وأخرج ابن عدي وابن عساكر " من عاش مداريا مات شهيدا قوا بأموالكم أعراضكم وليصانع أحدكم بلسانه عن دينه " وعن بردة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: " استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بئس ابن الشعيرة - أو أخو العشيرة - ثم أذن له فألان له القول فلما خرج قلت: يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول؟ فقال: يا عائشة إن من أشر الناس من يتركه الناس أو يدعه الناس اتقاء فحشه " وفي " البخاري " عن أبي الدرداء " إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم " وفي رواية الكشميهني " وإن قلوبنا لتقليهم " وفي رواية ابن أبي الدنيا وإبراهيم الحرمي بزيادة " ونضحك إليهم " إلى غير ذلك من الأحاديث لكن لا تنبغي المداراة إلى حيث يخدش الدين ويرتكب المنكر وتسيء الظنون.
ووراء هذا التحقيق قولان لفئتين متباينتين من الناس وهم الخوارج والشيعة. أما الخوارج فذهبوا إلى أنه لا تجوز التقية بحال ولا يراعى المال وحفظ النفس والعرض في مقابلة الدين أصلا ولهم تشديدات في هذا الباب عجيبة منها أن أحدا لو كان يصلي وجاء سارق أو غاصب ليسرق أو يغصب ماله الخطير لا يقطع الصلاة بل يحرم عليه قطعها وطعنوا على بريدة الأسلمي صحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب أنه كان يحافظ فرسه
122

في صلاته كي لا يهرب، ولا يخفى أن هذا المذهب من التفريط بمكان، وأما الشيعة فكلامهم مضطرب في هذا المقام فقال بعضهم: إنها جائزة في الأقوال كلها عند الضرورة وربما وجبت فيها لضرب من اللطف والاستصلاح ولا تجوز في الأفعال كقتل المؤمن ولا فيما يعلم أو يغلب على الظن أنه إفساد في الدين؛ وقال المفيد: إنها قد تجب أحيانا وقد يكون فعلها في وقت أفضل من تركها وقد يكون تركها أفضل من فعلها، وقال أبو جعفر الطوسي: إن ظاهر الروايات يدل على أنها واجبة عند الخوف على النفس، وقال غيره: إنها واجبة عند الخوف على المال أيضا ومستحبة لصيانة العرض حتى يسن لمن اجتمع مع أهل السنة أن يوافقهم في صلاتهم وصيامهم وسائر ما يدينون به، ورووا عن بعض أئمة أهل البيت " من صلى وراء سني تقية فكأنما صلى وراء نبي "، وفي وجوب قضاء تلك الصلاة عندهم خلاف، وكذا في
وجوب قضاء الصوم على من أفطر تقية حيث لا يحل الإفطار قولان أيضا، وفي أفضلية التقية من سني واحد - صيانة لمذهب الشيعة عن الطعن - خلاف أيضا، وأفتى كثير منهم بالأفضلية. ومنهم من ذهب إلى جواز - بل وجوب - إظهار الكفر لأدنى مخافة أو طمع، ولا يخفى أنه من الإفراط بمكان، وحملوا أكثر أفعال الأئمة مما يوافق مذهب أهل السنة ويقوم به الدليل على رد مذهب الشيعة على التقية وجعلوا هذا أصلا أصيلا عندهم وأسسوا عليه دينهم - وهو الشائع الآن فيما بينهم - حتى نسبوا ذلك للأنبياء عليهم السلام؛ وجل غرضهم من ذلك إبطال خلافة الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم ويأبى الله تعالى ذلك.
ففي كتبهم ما يبطل كون أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه وبنيه رضي الله تعالى عنهم ذوي تقية بل ويبطل أيضا فضلها الذي زعموه ففي كتاب " نهج البلاغة " الذي هو أصح الكتب - بعد كتاب الله تعالى - في زعمهم أن الأمير كرم الله تعالى وجهه قال: علامة الإيمان إيثارك الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك، وأين هذا من تفسيرهم قوله تعالى: * (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) * (الحجرات: 13) بأكثركم تقية؟! وفيه أيضا أنه كرم الله تعالى وجهه قال: إني والله لو لقيتهم واحدا وهم طلاع الأرض كلها ما باليت ولا استوحشت وإني من ضلالتهم التي هم فيها والهدى الذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسي ويقين من ربي وإلى لقاء الله تعالى وحسن ثوابه لمنتظر راج. وفي هذا دلالة على أن الأمير لم يخف وهو منفرد من حرب الأعداء وهم جموع، ومثله لا يتصور أن يتأتى فيما فيه هدم الدين، وروى العياشي عن زرارة بن أعين عن أبي بكر بن حزم أنه قال: توضأ رجل ومسح على خفيه فدخل المسجد فجاء علي كرم الله تعالى وجهه فوجأ على رقبته فقال: ويلك تصلي وأنت على غير وضوء فقال: أمرني عمر فأخذ بيده فانتهى إليه ثم قال: انظر ما يقول هذا عنك ورفع صوته على عمر رضي الله تعالى عنه فقال عمر: أنا أمرته بذلك فانظر كيف رفع الصوت وأنكر ولم يتأق.
وروى الراوندي شارح " نهج البلاغة " ومعتقد الشيعة عن سلمان الفارسي أن عليا بلغه عن عمر أنه ذكر شيعته فاستقبله في بعض طرقات بساتين المدينة وفي يد علي قوس فقال: يا عمر بلغني عنك ذكرك لشيعتي فقال: أربع على صلعتك فقال علي إنك ههنا ثم رمى بالقوس على الأرض فإذا هي ثعبان كالبعير فاغرا فاه وقد أقبل نحو عمر ليبتلعه فقال عمر: الله الله يا أبا الحسن لأعدت بعدها في شيء فجعل يتضرع فضرب بيده على الثعبان فعادت القوس كما كانت فمضى عمر إلى بيته قال سلمان: فلما كان الليل دعاني علي فقال: سر إلى عمر فإنه حمل إليه مال من ناحية المشرق وقد عزم أن يخبئه فقل له يقول لك علي: أخرج ما حمل إليك من المشرق ففرقه على من هو لهم ولا تخبه فأفضحك قال سلمان: فمضيت إليه وأديت الرسالة فقال: أخبرني عن أمر صاحبك من أين
123

علم به؟ فقلت وهل يخفى عليه مثل هذا؟ فقال: يا سلمان أقبل عني ما أقول لك ما علي إلا ساحر وإني لمستيقن بك والصواب أن تفارقه وتصير من جملتنا قلت: ليس كما قلت لكنه ورث من أسرار النبوة ما قد رأيت منه وعنده أكثر من هذا، قال: ارجع إليه فقل: السمع والطاعة لأمرك فرجعت إلى علي فقال: أحدثك عما جرى بينكما فقلت: أنت أعلم مني فتكلم بما جرى بيننا ثم قال: إن رعب الثعبان في قلبه إلى أن يموت، وفي هذه الرواية ضرب عنق التقية أيضا إذ صاحب هذه القوس تغنيه قوسه عنها ولا تحوجه أن يزوج ابنته أم كلثوم من عمر خوفا منه وتقية.
وروى الكليني عن معاذ بن كثير عن أبي عبد الله أنه قال: إن الله عز وجل أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم كتابا فقال جبريل: يا محمد هذه وصيتك إلى النجباء فقال: ومن النجباء يا جبريل؟ فقال: علي بن أبي طالب وولده وكان على الكتاب خواتم من ذهب فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي وأمره أن يفك خاتما منه فيعمل بما فيه، ثم دفعه إلى الحسن ففك منه خاتما فعمل بما فيه ثم دفعه إلى الحسين ففك خاتما فوجد فيه أن اخرج بقومك إلى الشهادة فلا شهادة لهم إلا معك واشتر نفسك لله تعالى ففعل، ثم دفعه إلى علي بن الحسين ففك خاتما فوجد فيه أن اطرق واصمت والزم منزلك واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ففعل، ثم دفعه إلى ابنه محمد بن علي ففك خاتما فوجد فيه حدث الناس وأفتهم وانشر علوم أهل بيتك وصدق آباءك الصالحين ولا تخافن أحدا إلا الله تعالى فإنه لا سبيل لأحد عليك، ثم دفعه إلى جعفر الصادق ففك خاتما فوجد فيه حدث الناس وافتهم ولا تخافن إلا الله تعالى وانشر علوم أهل بيتك وصدق آباءك الصالحين فإنك في حرز وأمان ففعل، ثم دفعه إلى موسى - وهكذا إلى المهدي -. ورواه من طريق آخر عن معاذ أيضا عن أبي عبد الله، وفي الخاتم الخامس - وقل الحق في الأمن والخوف ولا تخش إلا الله تعالى وهذه الرواية أيضا صريحة بأن أولئك الكرام ليس دينهم التقية كما تزعمه الشيعة، وروى سليم بن قيس الهلالي الشيعي من خبر طويل أن أمير المؤمنين قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومال الناس إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فبايعوه حملت فاطمة وأخذت بيد الحسن والحسين ولم تدع أحدا من أهل بدر وأهل السابقة من المهاجرين والأنصار إلا ناشدتهم الله تعالى حقي ودعوتهم إلى نصرتي فلم يستجب لي من جميع الناس إلى أربعة: الزبير وسلمان وأبو ذر والمقداد، وهذه تدل على أن التقية لم تكن واجبة على الإمام لأن هذا الفعل عند من بايع أبا بكر رضي الله تعالى عنه فيه ما فيه.
وفي " كتاب أبان بن عياش " أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه بعث إلى علي قنفذا حين بايعه الناس ولم يبايعه علي وقال: انطلق إلى علي وقل له أجب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق فبلغه فقال له: ما أسرع ما كذبتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتددتم والله ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري، وفيه أيضا أنه لما يجب على غضب عمر وأضرم النار بباب علي وأحرقه ودخل فاستقبلته فاطمة وصاحت يا أبتاه ويا رسول الله فرفع عمر السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها المبارك ورفع السوط فضرب به ضرعها فصاحت يا أبتاه فأخذ علي بتلابيب عمر وهزه ووجأ أنفه ورقبته، وفيه أيضا أن عمر قال لعلي: بايع أبا بكر رضي الله تعالى عنه قال: إن لم أفعل ذلك؟ قال: إذا والله تعالى لأضربن عنقك قال: كذبت والله يا ابن صهاك لا تقدر على ذلك أنت ألأم وأضعف من ذلك، فهذه الروايات تدل صريحا أن التقية بمراحل عن ذلك الإمام إذ لا معنى لهذه المناقشة والمسابة مع وجوب التقية، وروى محمد بن سنان أن أمير المؤمنين قال لعمر: يا مغرور إني أراك في الدنيا قتيلا بجراحة من عند أم معمر تحكم عليه جورا فيقتلك ويدخل بذلك الجنان على رغم منك.
124

وروي أيضا أنه قال لعمر مرة: إن لك ولصاحبك الذي قمت مقامه هتكا وصلبا تخرجان من جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم فتصلبان على شجرة يابسة فتورق فيفتتن بذلك من والاكما ثم يؤتى بالنار التي أضرمت لإبراهيم ويأتي جرجيس ودانيال وكل نبي وصديق فتصلبان فيها فتحرقان وتصيران رمادا ثم تأتي ريح فتنسفكما في اليم نسفا فانظر بالله تعالى عليك من يروي هذه الأكاذيب عن الإمام كرم الله تعالى وجهه هل ينبغي له أن يقول بنسبة التقية إليه سبحان الله تعالى، هذا العجب العجاب والداء العضال، ومما يرد قولهم أيضا: إن التقية لا تكون إلا لخوف، والخوف قسمان: الأول: الخوف على النفس وهو منتف في حق حضرات الأئمة بوجهين: أحدهما: أن موتهم الطبيعي باختيارهم كما أثبت هذه المسألة الكليني في " الكافي "، وعقد لها بابا وأجمع عليها سائر الإمامية، وثانيهما: أن الأئمة يكون لهم علم بما كان وما يكون فهم يعلمون آجالهم وكيفيات موتهم وأوقاته بالتفصيل والتخصيص فقبل وقته لا يخافون على أنفسهم ويتأقون في دينهم ويغرون عوام المؤمنين، القسم الثاني: خوف المشقة والإيذاء البدني والسب والشتم وهتك الحرمة ولا شك أن تحمل هذه الأمور والصبر عليها وظيفة الصلحاء فقد كانوا يتحملون البلاء دائما في امتثال أوامر الله تعالى وربما قابلوا السلاطين الجبابرة وأهل البيت النبوي أولى بتحمل الشدائد في نصرة دين جدهم صلى الله عليه وسلم. وأيضا لو كانت التقية واجبة لم يتوقف إمام الأئمة عن بيعة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر وماذا منعه من أداء الواجب أول وهلة، ومما يرد قولهم في نسبة التقية إلى الأنبياء عليهم السلام بالمعنى الذي أراده قوله تعالى في حقهم: * (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا) * (الأحزاب: 39) وقوله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) * (المائدة: 67) إلى غير ذلك من الآيات، نعم لو أرادوا بالتقية المداراة التي أشرنا إليها لكان لنسبتها إلى الأنبياء والأئمة وجه، وهذا أحد محملين لما أخرجه عبد بن حميد عن الحسن أنه قال: التقية جائزة إلى يوم القيامة، والثاني: حمل التقية على ظاهرها وكونها جائزة إنما هو على التفصيل الذي ذكرناه.
ومن الناس من أوجب نوعا من التقية خاصا بخواص المؤمنين وهو حفظ الأسرار الإلهية عن الإفشاء للأغيار الموجب لمفاسد كلية فتراهم متى سئلوا عن سر أبهموه وتكلموا بكلام لو عرض على العامة بل وعلى علمائهم ما فهموه، وأفرغوه بقوالب لا يفهم المراد منها إلا من حسى من كأسهم أو تعطرت أرجاء فؤاده من عبير عنبر أنفاسهم، وهذا وإن ترتب عليه ضلال كثير من الناس وانجر إلى الطعن بأولئك السادة الأكياس حتى رمي الكثير منهم بالزندقة وأفتى بقتلهم من سمع كلامهم وما حققه إلا أنهم رأوا هذا دون ما يترتب على الإفشاء من المفاسد التي تعم الأرض. وحنانيك بعض الشر أهون من بعض
وكتم الأسرار عن أهلها فيه فوات خير عظيم وموجب لعذاب أليم وقد يقال: ليس هذا من باب التقية في شيء إلا أن القوم تكلموا بما طفح على ألسنتهم وظهر على علانيتهم وكانت المعاني المرادة لهم بحيث تضيق عنها العبارة ولا يحوم حول حماها سوى الإشارة، ومن حذا حذوهم واقتفى في التجرد إثرهم فهم ما قالوا وتحقق ما إليه مالوا، ويؤيد هذا ما ذكره الشعراني قدس سره في " الدرر المنثورة في بيان زبدة العلوم المشهورة " مما نصه، وأما زبدة علم التصوف الذي وضع القوم فيه رسائلهم فهو نتيجة العمل بالكتاب والسنة فمن عمل بما علم تكلم كما تكلموا وصار جميع ما قالوه بعض ما عنده لأنه كلما ترقى العبد في باب الأدب مع الله تعالى دق كلامه على الأفهام حتى قال بعضهم لشيخه. إن كلام أخي فلان يدق على فهمه فقال: لأن لك قميصين وله قميص واحد فهو أعلى مرتبة منك - وهذا هو الذي دعا
125

الفقهاء ونحوهم من أهل الحجاب إلى تسمية علم الصوفية بعلم الباطن، وليس ذلك بباطن إذ الباطن إنما هو علم الله تعالى وأما جميع ما علمه الخلق على اختلاف طبقاتهم فهو من علم الظاهر لأنه ظهر للخلق فاعلم ذلك انتهى. فعلى هذا، الإنكار على القوم ليس في محله
* (ويحذركم الله نفسه) * أي عقاب نفسه - قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه - وفيه تهديد عظيم مشعر بتناهي المنهي عنه في القبح حيث علق التحذير بنفسه، وإطلاق النفس عليه تعالى بالمعنى الذي أراده جائز من غير مشاكلة على الصحيح، وقيل: النفس بمعنى الذات وجواز إطلاقه حينئذ بلا مشاكلة مما لا كلام فيه عند المتقدمين، وقد صرح بعض المتأخرين بعدم الجواز وإن أريد به الذات إلا مشاكلة * (وإلى الله المصير) * أي المرجع، والإظهار في مقام الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة. قيل: والكلام على حذف مضاف أي إلى حكمه أو جزائه وليس باللازم، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله ومحقق لوقوعه حتما.
* (قل إن تخفوا ما فى صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما فى السم‍اوات وما فى الارض والله على كل شىء قدير) *.
* (قل إن تخفوا ما في صدوركم) * أي تسروا ما في قلوبكم من الضمائر التي من جملتها ولاية الكفار، وإنما ذكر الصدر لأنه محل القلب * (أو تبدوه) * أي تظهروه فيما بينكم. * (يعلمه الله) * فيؤاخذكم به عند مصيركم إليه ولا ينفعكم إخفاؤه، وتقديم الإخفاء على الإبداء قد مرت الإشارة إلى سره * (ويعلم ما في السم‍اوات وما في الأرض) * من إيراد العام بعد الخاص تأكيدا له وتقريرا، والجملة مستأنفة غير معطوفة على جواب الشرط. * (والله على كل شيء قدير) * إثبات لصفة القدرة بعد إثبات صفة العلم وبذلك يكمل وجه التحذير، فكأنه سبحانه قال: - ويحذركم الله نفسه لأنه متصف بعلم ذاتي محيط بالمعلومات كلها وقدرة ذاتية شاملة للمقدورات بأسرها فلا تجسروا على عصيانه وموالاة أعدائه إذ ما من معصية خفية كانت أو ظاهرة إلا وهو مطلع عليها وقادر على العقاب بها - والإظهار في مقام الإضمار لما علمت.
* (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد) *.
* (يوم تجد كل نفس) * من النفوس المكلفة. * (ما عملت) * في الدنيا * (من خير) * وإن كان مثقال ذرة * (محضرا) * لديها مشاهدا في الصحف، وقيل: ظاهرا في صور، وقيل: تجد جزاء أعمالها محضرا بأمر الله تعالى، وفيه من التهويل ما ليس في - حاضرا - وهو مفعول ثان لتجد * (وما عملت من سوء) * عطف على * (ما عملت) * و * (محضرا) * محضر فيه معنى إلا أنه خص بالذكر في - الخير - للإشعار بكون الخير مرادا بالذات وكون إحضار الشر من
مقتضيات الحكمة التشريعية - كما قال شيخ الإسلام - وتقدير * (محضرا) * في النظم وحذفه للاقتصار بقرينة ذكره في الأول مما قاله الأكثرون ويكون من العطف على المفعولين وهو جائز - كما في " الدر المصون " - ولم يجعلوه من قبيل - علمت زيدا فاضلا وعمرا - وهو ليس من باب الاقتصار على المفعول الأول بل من قبيل - زيد قائم وعمرو - وهو مما حذف فيه الخبر كما صرحوا به فيلزم الاقتصار ضرورة، والفرق بين المبتدأ والمفعول في هذا الباب وهم، ولك أن تجعل * (تجد) * بمعنى تصيب فيتعدى لواحد، و * (محضرا) * حال * (تود) * أي تتمنى وهو عامل في الظرف أي تتمنى يوم ذلك. * (لو أن بينها وبينه) * أي بين ذلك اليوم * (أمدا بعيدا) * وقيل: الضمير - لما عملت - لقربه ولأن اليوم أحضر فيه الخير والشر والمتمني بعد الشر لا ما فيه مطلقا فلا يحسن إرجاع الضمير - اليوم - وإلى ذلك ذهب في " البحر "،
126

ورد بأنه أبلغ لأنه يود البعد بينه وبين اليوم مع ما فيه من الخير لئلا يرى ما فيه من السوء، و - الأمد - غاية الشيء ومنتهاه، والفرق بينه وبين الأبد أن الأبد مدة من الزمان غير محدودة، والأمد مدة لها حد مجهول والمراد هنا الغاية الطويلة، وقيل: مقدار العمر، وقيل: قدر ما يذهب به من المشرق إلى المغرب، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالأمد البعيد المسافة البعيدة - ولعله الأظهر -، فالتمني هنا من قبيل التمني في قوله تعالى: * (يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين) * (الزخرف: 38) وهذا الذي ذكر في نظم الآية هو ما ذهب إليه كثير من أئمة التفسير، وقال أبو حيان: إنه الظاهر في بادىء الرأي مبني على أمر اختلف النحاة في جوازه وهو كون الفاعل ضميرا عائدا على ما اتصل به معمول الفعل المتقدم نحو غلام هند ضربت هي، والآية من هذا القبيل على ذلك التخريج لأن الفاعل بيود عائد على شيء اتصل بمعمول - يود - وهو يوم لأنه مضاف إلى تجد كل نفس، والتقدير: تود كل نفس يوم وجدانها ما عملت من خير وشر محضرا لو أن بينها الخ؛ وجمهور البصريين على جواز ذلك وهو الصحيح، ومنه قوله: - أجل المرء يستحث - ولا يد * ري - إذا يبتغي حصول الأماني -
أي المرء في وقت ابتغائه حصول الأماني يستحث أجله ولا يدري، والفراء والأخفش وغيره من البصريين على عدم الجواز لأن هذا المعمول فضلة فيجوز الاستغناء عنه، وعود الضمير على ما اتصل به يخرجه عن ذلك لأنه يلزم ذكر المعمول ليعود الضمير الفاعل على ما اتصل به ولا يخفى وهنه وفي الآية أوجه أخر: منها أن ناصب الظرف * (قدير) * (آل عمران: 29)، ولا يرد عليه تقييد قدرته سبحانه بذلك اليوم لأنه إذ قدر في مثله علم قدرته في غيره بالطريق الأولى، ومنها أنه منصوب بالمصير أو بالذكر أو بيحذركم مقدرا فيكون مفعولا به أو بالعقاب المضاف الذي أشعر به كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وصرحوا بأنه على تقدير تعلقه بنحو - اذكروا - يجوز في * (ما عملت) * أن يكون مبتدأ خبره جملة * (تود) * وأن يكون معطوفا على * (ما) * الأولى، وجملة * (تود) * إما مستأنفة جوابا لسؤال مقدر كأن سائلا قال حين أمروا بذكر ذلك اليوم: فماذا يكون إذ ذاك؟ فقيل: * (تود لو أن بينها) * الخ، أو حال من فاعل * (تجد) * أي - اذكروا يوم تجد كل نفس ما عملت من خير وشر محضرا وادت تباعد ما بينها وبينه - وجوز أن يكون حالا من ضمير * (عملت) * لقربه، واعترض بأن - الوداد - إنما هو وقت وجدان العمل حاضرا في الآخرة لا وقت العمل في الدنيا، والحالية من ضمير * (عملت) * تقتضيه فلا وجه لها، وأجيب بأنها حال مقدرة على معنى: يوم تجد كل نفس كذا مقدرا وداده - أي حال كونه ثابتا في قدرنا وداده - فالوداد وإن لم يكن مقارنا للعمل إلا أن كون الوداد ثابتا في قدر الله تعالى وقضائه مقارن له، وهذا مثل ما قيل في قوله تعالى: * (وبشرناه بإسحق نبيا من الصالحين) * (لاصافات: 112)، واعترض أيضا بأنه على تقدير الحالية من ضمير * (عملت) * يلزم تخصيص العمل والمقام لا يناسب، وأجيب بأنه ليس القصد التخصيص بل بيان سوء حالهم وحسرتهم ولا بأس به، وجوز أيضا أبو البقاء أن تكون (ما) في * (ما عملت من سوء) * شرطية - وإلى ذلك مال السفاقسي - ورفع * (تود) * ليس بمانع لأنه إذا كان الشرط ماضيا والجزاء مضارعا جاز في الجزاء الرفع والجزم من غير تفرقة بين إن الشرطية وأسماء الشرط، واعترض بأن رفع المضارع في الجزاء شاذ كرفعه في الشرط كما نص عليه المبرد وشهد به الاستعمال حيث لم يوجد إلا في قول زهير: (وإن) أتاه خليل يوم مسغبة * يقول لا غائب مالي ولا حرم
127

فلا يستسهل تخريج القراءة المتفق عليها عليه، نعم لا بأس بتخريج الشواذ كقراءة * (أينما تكونوا يدرككم الموت) * (النساء: 78) يرفع يدرك عليه، وأجيب بأنا لا نسلم الشذوذ، وقد ذكر أبو حيان أن الرفع مسموع كثيرا في لسان العرب حتى ادعى بعض المغاربة أنه أحسن من الجزم. وبيت زهير مثله قول أبي صخر: ولا بالذي إن بان منه حبيبه * يقول ويخفى الصبر إني لجازع
وقول الآخر: إن يسألوا الخير يعطوه وإن خبروا * في الجهد أدرك منهم طيب إخبار
برفع أدرك وهو مضارع وقع جواب الشرط، وقوله: وإن بعدوا لا يأمنون اقترابه * تشوف أهل الغائب المتنظر
إلى غير ذلك، وفي " البحر ": إن ضعف تخريج الرفع على ذلك ليس بذلك لما علمت ولكن يمتنع أن يكون ما في الآية جزاءا لما ذكر سيبويه أن النية في المرفوع التقديم ويكون إذ ذاك دليلا على الجواب لا نفس الجواب وحينئذ يؤدي إلى تقديم المضمر على ظاهره في غير الأبواب المستثناة لأن ضمير - وبينه - عائد على اسم الشرط وهو * (ما) * فيصير التقدير - تود كل نفس لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ما عملت من سوء - وذلك لا يجوز، ورده السفاقسي بأنا لو تنزلنا على مذهب سيبويه لا يلزم محذور أيضا لأن الجملة لاشتمالها على ضمير الشرط يلزم تأخيرها وإن كانت متقدمة في النية ألا ترى أن الفاعل إذا اشتمل على ضمير يعود على المفعول يمتنع تقديمه عليه عند الأكثر، وإن كان متقدما عليه في النية، وقرأ عبد الله - ودت - وعليها يرتفع مانع الارتفاع بالإجماع وتصح الشرطية إلا أن العلامة الثاني قال: إن في الصحة كلاما لأن الجملة على تقدير الموصولية حال أو عطف على * (تجد) * والشرطية لا تقع حالا ولا مضافا إليها الظرف فلا يبق إلا عطفها على اذكر - وهو بتقدير صحته يخل بالمعنى - وهو كون هذه الحالة والودادة في ذلك اليوم ولا محيص سوى جعلها حالا بتقدير مبتدأ أي - وهي ما عملت من سوء ودت - ولا يخفى ما
فيه فإنهم أعربوا أن الوصلية مع جملتها على الحالية ولم ينص النحاة على منع الإضافة إليها، وقال غير واحد من الأئمة: إن الموصولية أوفق بقراءة العامة وأجرى على سنن الاستقامة لأنه كلام - كحكاية الحال الكائنة في ذلك اليوم - فيجب أن يحمل على ما يفيد الوقوع ولا كذلك الشرطية على أنها تفيد الاستقبال ولا عمل سوء في استقبال ذلك اليوم وهذا لا ينفي الصحة لأنها وإن لم تدل على الوقوع لا تنافيه، وحديث الاستقبال يدفعه تقدير - وما كان عملت كما في نظائر له، فتدبر وافهم فعلك لا يقطعك عن اختيار الموصولية شيء
* (ويحذركم الله نفسه) * قيل: ذكره أولا للمنع عن موالاة الكفار وهنا حثا على عمل الخير والمنع من عمل السوء مطلقا. وجوز أن يكون معطوفا على * (تود) * أي تهاب من ذلك اليوم ومن العمل السيء * (ويحذركم الله نفسه) * بإظهار قهاريته وهو مما لا يكاد ينبغي أن يخرج الكتاب العزيز عليه، وأهون منه عطفه على * (تجد) * والظرف معمول - لاذكروا - أي اذكروا ذلك اليوم واذكروا يوم يحذركم الله نفسه بإظهار كبريائه وقهاريته، وقد يقال: إنه تكرار لما سبق وإعادة له لكن لا للتأكيد فقط بل لإفادة ما يفيده، وقوله تعالى: * (والله رؤف بالعباد) * من أن تحذيره تعالى نفسه من رحمته الواسعة للعباد لأنهم إذا عرفوه وحذروه جرهم ذلك إلى طلب رضاه واجتناب سخطه وذلك هو الفوز العظيم، أو من أن تحذيره سبحانه ليس مبنيا على تناسي صفة الرحمة بل هو متحقق مع تحققها أيضا.
128

فالجملة علي الاول تذييل. وعلى الثاني حال والى الاول يشير كلام الحسن رضى الله عنه و - ال - فى العباد للاستغراق وتكرير الاسم الجليل لتربية المهابة واذهاب الغفلة بتوجه الذهن الى هذا الحكم اتم توجه.
* (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني) * ذهب عامة المتكلمين إلى أن المحبة نوع من الإرادة وهي لا تتعلق حقيقة إلا بالمعاني والمنافع فيستحيل تعلقها بذاته تعالى وصفاته فهي هنا بمعنى إرادة العبد اختصاصه تعالى بالعبادة وذلك إما من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم أو من باب الاستعارة التبعية بأن شبه إرادة العبد ذلك ورغبته فيه بميل قلب المحب إلى المحبوب ميلا لا يلتفت معه إلا إليه أو من باب مجاز النقص أي - إن كنتم تحبون طاعة الله تعالى أو ثوابه فاتبعوني فيما آمركم به وأنهاكم عنه - كذا قيل، وهو خلاف مذهب العارفين من أهل السنة والجماعة فإنهم قالوا: المحبة تتعلق حقيقة بذات الله تعالى وينبغي للكامل أن يحب الله سبحانه لذاته وأما محبة ثوابه فدرجة نازلة، قال الغزالي عليه الرحمة في " الإحياء ": الحب عبارة عن ميل الطبع إلى الشيء الملذ فإن تأكد ذلك الميل وقوي يسمى عشقا، والبغض عبارة عن نفرة الطبع عن المؤلم المتعب فإذا قوي سمي مقتا، ولا يظن أن الحب مقصور على مدركات الحواس الخمس حتى يقال: إنه سبحانه لا يدرك بالحواس ولا يتمثل بالخيال فلا يحب لأنه صلى الله عليه وسلم سمى الصلاة - قرة عين - وجعلها أبلغ المحبوبات، ومعلوم أنه ليس للحواس الخمس فيها حظ بل حس سادس مظنته القلب والبصيرة الباطنة أقوى من البصر الظاهر والقلب أشد إدراكا من العين وجمال المعاني المدركة بالعقل أعظم من جمال الصور الظاهرة للأبصار فتكون لا محالة لذة القلوب بما تدركه من الأمور الشريفة الإلهية التي تجل أن تدركها الحواس أتم وأبلغ فيكون ميل الطبع السليم والعقل الصحيح إليه أقوى، ولا معنى للحب إلا الميل إلى ما في إدراكه لذة فلا ينكر إذا حب الله تعالى إلا من قعد به القصور في درج البهائم فلم يجز إدراكه الحواس أصلا، نعم هذا الحب يستلزم الطاعة كما قال الوراق:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه * هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته * إن المحب لمن يحب مطيع
والقول بأن المحبة تقتضي الجنسية بين المحب والمحبوب - فلا يمكن أن تتعلق بالله تعالى - ساقط من القول لأنها قد تتعلق بالأعراض بلا شبهة ولا جنسية بين العرض والجوهر.
* (يحببكم الله) * جواب الأمر وهو رأي الخليل. وأكثر المتأخرين على أن مثل ذلك جواب شرط مقدر أي إن تتبعوني يحببكم أي يقربكم - رواه ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة، وقيل: يرض عنكم وعبر عن ذلك بالمحبة على طريق المجاز المرسل أو الاستعارة أو المشاكلة، وجعل بعضهم نسبة المحبة لله تعالى من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله تعالى.
* (ويغفر لكم ذنوبكم) * أي يتجاوز لكم عنها * (والله غفور رحيم) * أي لمن تحبب إليه بطاعته وتقرب إليه باتباعه نبيه صلى الله عليه وسلم، والجملة تذييل مقرر لما سبق مع زيادة وعد الرحمة، ووضع الاسم الجليل مع الإضمار لما مر وللاشعار باستتباع وصف الألوهية للمغفرة والرحمة، وقرىء - تحبوني، ويحبكم، ويحببكم - من حبه، ومنه قوله: - أحب - أبا ثروان من - حب - تمره * وأعلم أن الرفق بالجار أرفق
ووالله لولا تمره - ما حببته - * ولا كان أدنى من عبيد ومشرق
129

ومناسة الآية لما قبلها كما قال الطيبي: أنه سبحانه لما عظم ذاته وبين جلالة سلطانه بقوله جل وعلا: * (قل اللهم مالك الملك) * (آل عمران: 26) الخ تعلق قلب العبد المؤمن بمولى عظيم الشأن ذي الملك والملكوت والجلال والجبروت، ثم لما ثنى بنهي المؤمنين عن موالاة أعدائه وحذر عن ذلك غاية التحذير بقوله عز قائلا: * (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء) * (آل عمران: 28) الخ؛ ونبه على استئصال تلك الموالاة بقوله عز شأنه: * (إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه) * (آل عمران: 29) الآية وأكد ذلك بالوعيد الشديد زاد ذلك التعلق أقصى غايته فاستأنف قوله جل جلاله: * (قل إن كنتم تحبون الله) * ليشير إلى طريق الوصول إلى هذا المولى جل وعلا فكأن قائلا يقول: بأي شيء ينال كمال المحبة وموالاة الرب؟ فقيل: بعد قطع موالاة أعدائنا تنال تلك الدرجة بالتوجه إلى متابعة حبيبنا إذ كل طريق سوى طريقه مسدود وكل عمل سوى ما أذن به مردود.
واختلف في سبب نزولها فقال الحسن وابن جريج: زعم أقوام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله تعالى فقالوا يا محمد: إنا نحب ربنا فأنزل الله
تعالى هذه الآية، وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: " وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قريش في المسجد الحرام وقد نصبوا أصنامهم وعلقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانها الشنوف وهم يسجدون لها فقال يا معشر قريش لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسمعيل ولقد كانا على الإسلام فقالت قريش: يا محمد إنما نعبد هذه حبا لله تعالى لتقربنا إلى الله سبحانه زلفى فأنزل الله تعالى: * (قل إن كنتم تحبون) * الخ، وفي رواية أبي صالح " إن اليهود لما قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه أنزل هذه الآية فلما نزلت عرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليهود فأبوا أن يقبلوها " وروى محمد بن إسحق عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: " نزلت في نصارى نجران وذلك أنهم قالوا: إنما نعظم المسيح ونعبده حبا لله تعالى وتعظيما له فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم " يروى أنها لما نزلت قال عبد الله بن أبي إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله تعالى ويأمرنا أن نحبه كما أحب النصارى عيسى [بم فنزل قوله تعالى:
* (قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الك‍افرين) *.
* (قل أطيعوا الله والرسول) * أي في جميع الأوامر والنواهي ويدخل في ذلك الأمر السابق دخولا أوليا، وإيثار الإظهار على الإضمار بطريق الالتفات لتعيين حيثية الإطاعة والاشعار بعلتها، وفيه إشارة إلى رد شبهة المنافق كأنه يقول: إنما أوجب الله تعالى عليكم متابعتي لا لما يقول النصارى في عيسى بل لكوني رسول الله * (فإن تولوا) * أي أعرضوا أو تعرضوا على أن تكون إحدى التائين محذوفة فيكون حينئذ داخلا في حيز المقول وفي ترك ذكر احتمال الإطاعة تلويح إلى أنها غير محتملة منهم * (فإن الله لا يحب الكافرين) * أي لا يقربهم أو لا يرضى عنهم بل يبعدهم عن جوار قدسه وحظائر عزه ويسخط عليهم يوم رضاه عن المؤمنين. والمراد من الكافرين من تولى ولم يعبر بضميرهم للإيذان بأن التوالي عن الطاعة كفر وبأن محبته عز وجل مخصوصة بالمؤمنين لأن نفيها - عن هؤلاء الكفار المستلزم لنفيها عن سائرهم لاشتراك العلة - يقتضي الحصر في ضدهم.
* (إن الله اصطفى آدم ونوحا وءال إبراهيم وءال عمران على الع‍المين) *.
* (إن الله اصطفى ءادم ونوحا وءال إبراهيم وءال عمران على العالمين) * روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن اليهود قالوا: نحن أبناء إبراهيم وإسحق ويعقوب عليهم الصلاة والسلام ونحن على دينهم فنزلت، وقيل: إن نصارى نجران لما غلوا في عيسى عليه الصلاة والسلام وجعلوه ابن الله سبحانه واتخذوه إلها نزلت ردا عليهم وإعلاما لهم بأنه من ذرية البشر المنتقلين في الأطوار المستحيلة على الإله وهذا وجه مناسبة الآية لما قبلها.
130

وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في وجه المناسبة: إن سبحانه لما بين * (إن الدين عند الله الإسلام) * (آل عمران: 19) وإن اختلاف أهل الكتابين فيه إنما هو للبغي والحسد وأن الفوز برضوانه ومغفرته ورحمته منوط باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم شرع في تحقيق رسالته وأنه من أهل بيت النبوة القديمة فبدأ ببيان جلالة أقدار الرسل عليهم الصلاة والسلام وأتبعه ذكر مبدأ عيسى وأمه وكيفية دعوته الناس إلى الإيمان تحقيقا للحق وإبطالا لما عليه أهل الكتابين من الإفراط والتفريط في شأنهما ثم بين محاجتهم في إبراهيم وادعائهم الانتماء إلى ملته ونزه ساحته العلية عما عم عليه من اليهودية والنصرانية ثم نص على أن جميع الرسل دعاة إلى عبادة الله تعالى وتوحيده وأن أممهم قاطبة مأمورون بالإيمان بمن جاءهم من رسول مصدق لما معهم تحقيقا لوجوب الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وتحتم الطاعة له حسبما يأتي تفصيله انتهى - وهو وجه وجيه -.
وبدأ بآدم عليه الصلاة والسلام لأنه أول النوع، وثنى بنوح عليه الصلاة والسلام لأنه آدم الأصغر والأب الثاني وليس أحد على وجه البسيطة إلا من نسله لقوله سبحانه: * (وجعلنا ذريته هم الباقين) * (الصافات: 77) وذكر آل إبراهيم لترغيب المعترفين باصطفائهم في الإيمان بنبوة واسطة قلادتهم واستمالتهم نحو الاعتراف باصطفائه بواسطة كونه من زمرتهم وذكر آل عمران مع اندراجهم في الآل الأول لإظهار مزيد الاعتناء بأمر عيسى عليه الصلاة والسلام لكمال رسوخ الاختلاف في شأنه وهذا هو الداعي إلى إضافة الآل في الأخيرين دون الأولين. وقيل: المراد بالآل في الموضعين بمعنى النفس أي - اصطفى آدم ونوحا وإبراهيم وعمران، وذكر الآل فيهما اعتناءا بشأنهما وليس بشيء، والمراد بآل إبراهيم كما قال مقاتل: إسمعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وروي عن ابن عباس والحسن رضي الله تعالى عنهم أنهم من كان على دينه كآل محمد صلى الله عليه وسلم في أحد الإطلاقات، والمراد بآل عمران عيسى عليه الصلاة والسلام وأمه مريم بنت عمران بن ماثان من ولد سليمان بن داود عليهما السلام قاله الحسن ووهب، وقيل: المراد بهم موسى وهارون عليهما السلام، فعمران حينئذ هو عمران بن يصهر أبو موسى - قاله مقاتل - وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة - والظاهر هو القول الأول - لأن السورة تسمى آل عمران ولم تشرح قصة عيسى ومريم في سورة أبسط من شرحها في هذه السورة، وأما موسى وهارون فلم يذكر من قصتهما فيها طرف فدل ذلك على أن عمران المذكور هو أبو مريم، وأيضا يرجح كون المراد به أبا مريم أن الله تعالى ذكر اصطفاءها بعد ونص عليه وأنه قال سبحانه: * (إذ قالت امرأة عمران) * (آل عمران: 35) الخ، والظاهر أنه شرح لكيفية الاصطفاء المشار إليه بقوله تعالى: * (وآل عمران) * فيكون من قبيل تكرار الاسم في جملتين فيسبق الذهن إلى أن الثاني هو الأول نحو أكرم زيدا إن زيدا رجل فاضل، وإذا كان المراد بالثاني غير الأول كان في ذلك إلباس على السامع، وترجيح القول الأخير بأن موسى يقرن بإبراهيم في الذكر ليس في القوة - كمرجح الأول كما لا يخفى، والاصطفاء الاختيار، وأصله أخذ صفوة الشيء كالاستصفاء، ولتضمينه معنى التفضيل عدي بعلى، والمراد - بالعالمين - أهل زمان كل واحد منهم أي اصطفى كل واحد منهم على عالمي زمامه، ويدخل الملك في ذلك، والتأويل خلاف الأصل.
ومن هنا استدل بعضهم بالآية على أفضلية الأنبياء على الملائكة، ووجه الاصطفاء في جميع الرسل أنه سبحانه خصهم بالنفوس القدسية وما يليق بها من الملكات الروحانية والكمالات الجسمانية حتى إنهم امتازوا كما قيل على سائر الخلق خلقا وخلقا وجعلوا خائن أسرار الله تعالى ومظهر أسمائه وصفاته ومحل تجليه الخاص
131

من عباده ومهبط وحيه ومبلغ أمره ونهيه، وهذا ظاهر في المصطفين المذكورين في الآية من الرسل، وأما مريم فلها الحظ الأوفر من بعض ذلك، وقيل: اصطفى آدم بأن خلقه بيديه وعلمه الأسماء وأسجد له الملائكة وأسكنه جواره، واصطفى نوحا بأنه أول رسول بعث بتحريم البنات والأخوات والعمات والخالات وسائر ذوي المحارم وأنه أب الناس بعد آدم وباستجابة دعوته في حق الكفرة والمؤمنين، واصطفى آل إبراهيم بأن جعل فيهم النبوة والكتاب، ويكفيهم فخرا أن سيد الأصفياء منهم، واصطفى عيسى وأمه بأن جعلهما آية للعالمين. وإن أريد بآل عمران موسى وهارون فوجه اصطفاء موسى عليه الصلاة والسلام تكليم الله تعالى إياه وكتابة التوراة له بيده، ووجه اصطفاء هارون جعله وزيرا لأخيه، وأما اصطفاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام فمفهوم بطريق الأولى وعدم التصريح به للإيذان بالغنى عنه لكمال شهرة أمره بالخلة وكونه شيخ الأنبياء وقدوة المرسلين، وأما اصطفاء نبينا صلى الله عليه وسلم فيفهم من دخوله في آل إبراهيم كما أشرنا إليه وينضم إليه أن سياق هذا المبحث لأجله كما يدل عليه بيان وجه المناسبة في كلام شيخ الإسلام، وروي عن أئمة أهل البيت أنهم يقرءون - وآل محمد على العالمين - وعلى ذلك لا سؤال، ومن الناس من قال: المراد بآل إبراهيم محمد صلى الله عليه وسلم جعل كأنه كل الآل مبالغة في مدحه، وفيه أن نبينا وإن كان في نفس الأمر بمنزلة الأنبياء كلهم فضلا عن آل إبراهيم فقط إلا أن هذه الإرادة هنا بعيدة، ويشبه ذلك في البعد بل يزيد عليه ما ذكره بعضهم في الآية أنه لما أمرهم بمتابعته صلى الله عليه وسلم وإطاعته، وجعل إطاعته ومتابعته سببا لمحبة الله تعالى إياهم وعدم إطاعته سببا لسخط الله تعالى عليهم وسلب محبته عنهم أكد ذلك بتعقيبه بما هو عادة الله تعالى من اصطفاء أنبيائه على مخالفيهم وقمعهم وتذليلهم وإعدامهم لهم تخويفا لهؤلاء المتمردين عن متابعته صلى الله عليه وسلم فذكر اصطفاء آدم على العالم الأعلى فإنه رجحه على سائر الملائكة وجعلهم ساجدين له وجعل الشيطان في لعنة لتمرده، واصطفاء نوح على العالم مع نهاية كثرتهم فأهلكهم بالطوفان وحفظ نوحا وأتباعه، واصطفاء آل إبراهيم على العالم مع أن العالم كانوا كافرين فجعل دينهم شائعا وذلل مخالفيهم، واصطفاء موسى وهارون على العلم فجعل السحرة مع كثرتهم مغلوبين لهما وفرعون مع عظمته وغلبة جنوده مغلوبا وأهلكهم، ولذا خص آدم بالذكر ونوحا والآلين، ولم يذكر إبراهيم ونبينا صلى الله تعالى عليهما وسلم إذ إبراهيم لم يغلب، وهذا الكلام لبيان أن نبينا صلى الله عليه وسلم سيغلب - وليس المراد الاصطفاء بالنبوة حتى يخفى وجه التخصيص - وبهذا ظهر ضعف الاستدلال به على فضلهم على الملائكة انتهى.
وفيه أن المتبادر من الاصطفاء الاجتباء والاختيار لا النصر على الأعداء على أن المقام بمراحل عن هذا الحمل، وقد أخرج ابن عساكر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر الاصطفاء هنا بالاختيار للرسالة - ومثله فيما أخرجه ابن جرير عن الحسن - وأيضا حمل آل عمران على موسى وهارون مما لا ينساق إليه الذهن كما علمت، وكأن القائل لما لم يتيسر له إجراء الاصطفاء بالمعنى الذي أراده في عيسى عليه الصلاة والسلام وأمه اضطر إلى الحمل على خلاف الظاهر، وأنت تعلم أن الآية غنية عن الولوج في مثل هذه المضايق.
* (ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم) *.
* (ذرية بعضها من بعض) * نصب على البدلية من الآلين أو الحالية منهما، وقيل: بدل من * (نوح) * وما بعده، وجوز أن يكون بدلا من * (آدم) * و * (ما) * عطف عليه ورده أبو البقاء بأن آدم ليس بذرية، وأجيب بأنه مبني على ما صرح به الراغب وغيره من أن الذرية تطلق على الآباء والأبناء لأنه من الذرء بمعنى الخلق، والأب
132

ذرىء منه الولد، والولد ذريء من الأب إلا أن المتبادر من الذرية النسل - وقد تقدم الكلام عليه -. والمعنى أنهم ذرية واحدة متشبعة البعض من البعض في النسب كما ينبىء عنه التعرض لكونهم ذرية، وروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه - واختاره الجبائي - وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: * (بعضها من بعض) * في النية والعمل والاخلاص والتوحيد، و * (من) * على الأول: ابتدائية والاستمالة تقريبية وعلى الثاني: اتصالية والاستمالة برهانية، وقيل: هي اتصالية فيهما * (والله سميع) * لأقوال العباد * (عليم) * بأفعالهم وما تكنه صدورهم فيصطفي من يشاء منهم، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها.
* (إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم) *.
* (إذ قالت امرأت عمران) * تقرير للاصطفاء وبيان لكيفيته، والظرف في حيز النصب على المفعولية بفعل محذوف أي اذكر لهم وقت قولها، وقيل: هو منصوب على الظرفية لما قبله، وهو * (سميع عليم) * (آل عمران: 34) على سبيل التنازل أو - السميع - ولا يضر الفصل بينهما بالأجنبي لتوسعهم في الظروف، وقيل: هو ظرف لمعنى الاصطفاء المدلول عليه - باصطفى - المذكور كأنه قيل: واصطفى آل عمران. * (إذ قالت) * الخ فكان من عطف الجمل لا المفردات على المفردات ليلزم كون اصطفاء الكل في ذلك الوقت، وامرأة عمران هي حنة بنت فاقوذا - كما رواه إسحق بن بشر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، والحاكم عن أبي هريرة - وهي جدة عيسى عليه الصلاة والسلام وكان لها أخت اسمها إيشاع تزوجها زكريا عليه الصلاة والسلام - هي أم يحيى - فعيسى ابن خالة يحيى - كما ذكر ذلك غير واحد من الإخباريين - ويشكل عليه ماأخرجه الشيخان في حديث المعراج من قوله صلى الله عليه وسلم: " فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا " وأجاب صاحب " التقريب " بأن الحديث مخرج على المجاز فإنه كثيرا ما يطلق الرجل اسم الخالة على بنت خالته لكرامتها عليه، والغرض أن بينهما عليهما الصلاة والسلام هذه الجهة من القرابة وهي جهة الخؤلة، وقيل: كانت إيشاع أخت حنة من الأم وأخت مريم من الأب على أن عمران نكح أولا أم حنة فولدت له إيشاع ثم نكح حنة بناءا على حل نكاح الربائب في شريعتهم فولدت مريم فكانت إيشاع أخت مريم من الأب وخالتها من الأم لأنها أخت حنة من الأم، وفيه أنه مخالف لما ذكره محيي السنة من أن إيشاع وحنة بنتا فاقوذا على أنه بعيد لعدم الرواية في الأمرين. أخرج ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن حنة امرأة عمران كانت حبست عن الولد والمحيض فبينا هي ذات يوم في ظل شجرة إذ نظرت إلى طير يزق فرخا له فتحركت نفسها للولد فدعت الله تعالى أن يهب لها ذكرا فحاضت من ساعتها
فلما طهرت أتاها زوجها فلما أيقنت بالولد قالت: لئن نجاني الله تعالى ووضعت ما في بطني لأجعلنه محررا ولم يكن يحرر في ذلك الزمان إلا الغلمان فقال لها زوجها: أرأيت إن كان ما في بطنك أنثى - والأنثى عورة - فكيف تصنعين؟ فاغتمت لذلك فقالت عند ذلك:
* (رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني) * وهذا في الحقيقة استدعاء للولد الذكر لعدم قبول الأنثى فيكون المعنى - رب إني نذرت لك ما في بطني فاجعله ذكرا على حد أعتق عبدك عني - وجعله بعض الأئمة تأكيدا لنذرها وإخراجا له عن صورة التعليق إلى هيئة التنجيز واللام من * (لك) * للتعليل، والمراد لخدمة بيتك - والمحرر - من لا يعمل للدنيا ولا يتزوج ويتفرغ لعمل الآخرة ويعبد الله تعالى ويكون في خدمة الكنيسة - قاله ابن عباس
133

رضي الله تعالى عنهما - وقال مجاهد: المحرر الخادم للبيعة، وفي رواية عند الخالص الذي لا يخالطه شيء من أمر الدنيا، وقال محمد بن جعفر بن الزبير: أرادت عتيقا خالصا لطاعتك لا أصرفه في حوائجي، وعلى كل هو من الحرية - وهي ضربان - أن لا يجري عليه حكم السبي وأن لا تتملكه الأخلاق الرديئة والرذائل الدنيوية. وانتصابه على الحالية من * (ما) * والعامل فيه * (نذرت) *؛ وقيل: من الضمير الذي في الجار والمجرور، والعامل فيه حينئذ الاستقرار - ولا يخفى رجحان الوجه الأول - والحال إما مقدرة أو مصاحبة، وجوز أبو حيان أن ينصب على المصدر أي - تحريرا - لأنه بمعنى النذر، وتأكيد الجملة للإيذان بوفور الرغبة في مضمونها وتقديم الجار والمجرور لكمال الاعتناء به والتعبير عن الولد بما لإبهام أمره وقصوره عن درجة العقلاء، و - التقبل - أخذ الشيء على وجه الرضا وأصله المقابلة بالجزاء - وتقبل - هنا بمعنى اقبل.
* (إنك أنت السميع) * لسائر المسموعات فتسمع دعائي * (العليم) * بما كان ويكون فتعلم نيتي وهو تعليل لاستدعاء القبول من حيث إن علمه تعالى بصحة نيتها وإخلاصها مستدع لذلك تفضلا وإحسانا، وتأكيد الجملة لغرض قوة يقينها بمضمونها وقصر صفتي السمع والعلم عليه تعالى لغرض اختصاص دعائها وانقطاع حبل رجائها عما عداه سبحانه بالكلية مبالغة في الضراعة والابتهال - قاله شيخ الإسلام - وتقديم صفة السمع لأن متعلقاتها وإن كانت غير متناهية إلا أنها ليست كمتعلقات صفة العلم في الكثرة.
* (فلما وضعتها قالت رب إنى وضعتهآ أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر ك الانثى وإنى سميتها مريم وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيط‍ان الرجيم) *.
* (فلما وضعتها) * الضمير - لما - ولما علم المتكلم أن مدلولها مؤنث جاز له تأنيث الضمير العائد إليه وإن كان اللفظ مذكرا، وأما التأنيث في قوله تعالى: * (قالت رب إني وضعتها أنثى) * فليس باعتبار العلم بل باعتبار أن كل ضمير وقع بين مذكر ومؤنث هما عبارتان عن مدلول واحد جاز فيه التذكير والتأنيث نحو الكلام يسمى جملة، و * (أنثى) * حال بمنزلة الخبر فأنث العائد إلى (ما) نظرا إلى الحال من غير أن يعتبر فيه معنى الأنوثة ليلزم اللغو أو باعتبار التأويل بمؤنث لفظي يصلح للمذكر والمؤنث - كالنفس، والحبلة، والنسمة - فلا يشكل التأنيث ولا يلغو * (أنثى) * بل هي حالة مبينة - كذا قيل - ولا يخلو عن نظر، فالحق أن الضمير لما - في بطني - والتأنيث في الأول لما أن المقام يستدعي ظهور أنوثته واعتباره في حيز الشرط إذ عليه يترتب جواب (لما) لا على وضع ولد ما، والتأنيث في الثاني للمسارعة إلى عرض ما دهمها من خيبة الرجاء وانقطاع حبل الأمل، و * (أنثى) * حال مؤكدة من الضمير أو بدل منه، وليس الغرض من هذا الكلام الإخبار لأنه إما للفائدة أو للازمها، وعلم الله تعالى محيط بهما بل لمجرد التجسر والتحزن، وقد قال الإمام المرزوقي: إنه قد يرد الخبر صورة لأغراض سوى الإخبار كما في قوله: قومي هم قتلوا أميم أخي * فإذا رميت (يصيبني سهمي)
فإن هذا الكلام تحزن وتفجع وليس بإخبار، وحاصل المعنى هنا على ما قرر - فلما وضعت بنتا تحسرت إلى مولاها وتفجعت إذ خاب منها رجاها - وعلى هذا لا إشكال أصلا في التأنيث ولا في الجزاء نفسه، ولا في ترتبه على الشرط، وما قيل: إنه يحتمل أن يكون فائدة هذا الكلام - التحقير للمحرر استجلابا للقبول لأنه من تواضع لله تعالى رفعه الله سبحانه - فمستحقر من القول بالنسبة إلى ما ذكرنا؛ والتأكيد هنا قيل: للرد على اعتقادها الباطل وربما أنه يعود إلى الاعتناء والمبالغة في التحسر الذي قصدته والرمز إلى أنه صادر عن قلب كسير وفؤاد
134

بقيود الحرمان أسير.
* (والله أعلم بما وضعت) * ليس المراد الرد عليها في إخبارها بما هو سبحانه أعلم به كما يتراءى من السياق بل الجملة اعتراضية سيقت لتعظيم المولود الذي وضعته وتفخيم شأنه والتجهيل لها بقدره - أي والله أعلم بالشيء الذي وضعته وما علق به من عظائم الأمور ودقائق الأسرار وواضح الآيات، وهي غافلة عن ذلك كله، و (ما) على هذه عبارة عن الموضوعة، قيل: والاتيان بها دون - من - يلائم التجهيل فإنها كثيرا ما يؤتى بها لما يجهل به وجعلها عبارة عن الواضعة أي والله تعالى أعلم بشأن أم مريم حين تحسرها وتحزنها من توهم خيبة رجاها وأنها ليست من الولي إلى الله تعالى في شيء إذ لها مرتبة عظمى وتحريرها تحرير لا يوجد منه - مما لا وجه له وجزالة النظم تأباه، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما * (بما وضعت) * على خطاب الله تعالى لها، والمراد به تعظيم شأن الموضوع أيضا أي إنك لا تعلمين قدر ما وضعته وما أودع الله تعالى فيه. وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم، ويعقوب * (بما وضعت) * على أنه من كلامها قالته اعتذارا إلى الله تعالى حيث وضعت مولودا لا يصلح للغرض، أو تسلية لنفسها أي ولعل لله تعالى في ذلك سرا وحكمة - ولعل هذه الأنثى خير من الذكر فالجملة حينئذ لنفي العلم لا للتجهيل لأن العبد ينظر إلى ظاهر الحال ولا يقف على ما في خلاله من الأسرار، وحمل قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على هذا المعنى بجعل الخطاب منها لنفسها في غاية البعد، ووضع الظاهر موضع ضمير المخاطب إظهارا لغاية الإجلال.
* (وليس الذكر كالأنثى) * اعتراض آخر مبين لما اشتمل عليه الأول من التعظيم وليس بيانا لمنطوقه حتى يلحق بعطف البيان الممتنع فيه العطف. واللام في الذكر
والأنثى للعهد، أما التي في الأنثى فلسبق ذكرها صريحا في قوله سبحانه حكاية: * (إني وضعتها أنثى) * وأما التي في الذكر فلقولها: * (إني نذرت) * (آل عمران: 35) الخ إذ هو الذي طلبته والتحرير لا يكون إلا للذكر وسمي هذا العهد التقديري - وهو غير الذهني لأن قولها: * (ما في بطني) * (آل عمران: 35) صالح للصنفين، وقولها: * (محررا) * (آل عمران: 35) تمن لأن يكون ذكرا فأشير إلى ما في البطن حسب رجائها، وجوز أن تكون الجملة من قولها فيكون مرادها نفي مماثلة الذكر للأنثى، فاللام للجنس - كما هو الظاهر - لأنه لم يقصد خصوص ذكر وأنثى بل إن المراد أن هذا الجنس ليس كهذا الجنس، وأورد عليه أن قياس كون ذلك من قولها أن يكون وليست الأنثى كالذكر فإن مقصودها تنقيص الأنثى بالنسبة إلى الذكر والعادة في مثله أن ينفى عن الناقص شبهه بالكامل لا العكس، وأجيب بأنه جار على ما هو العادة في مثله أيضا لأن مراد أم مريم ليس تفضيل الذكر على الأنثى بل العكس تعظيما لعطية الله تعالى على مطلوبها أي وليس الذكر الذي هو مطلوبي كالأنثى التي وهبها الله تعالى لي علما منها بأن ما يفعله الرب خير مما يريده العبد - وفيه نظر - أما أولا: فلأن اللام في الذكر والأنثى على هذا يكون للعهد وهو خلال الظاهر الذي ذهب إليه أكثر المفسرين، وأما ثانيا: فلأنه ينافي التحسر والتحزن المستفاد من قولها: * (رب إني وضعتها أنثى) * فإن تحزنها ذلك إنما هو لترجيحها الذكر على الأنثى، والمفهوم من هذا الجواب ترجيحها الأنثى على الذكر اللهم إلا أن يحمل قولها ذلك على تسلية نفسها بعد ما تحزنت على هبة الأنثى بدل الذكر الذي كانت طلبته إلا أنه تبقى مخالفة الظاهر على ما هي، فالأولى في الجواب عدم الخروج عما هو الظاهر والبحث فيما اقتضته العادة فقد قال في " الانتصاف " بعد نقل الإيراد وذكر القاعدة: وقد وجدت الأمر في ذلك مختلفا فلم يثبت لي تعين ما قالوه ألا ترى إلى قوله تعالى: * (لستن كأحد من النساء) * (الأحزاب: 32) فنفى عن الكامل شبه الناقص لأن الكمال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ثابت بالنسبة إلى عموم النساء - وعلى ذلك جاءت عبارة امرأة عمران - ومنه أيضا * (أفمن يخلق كمن لا يخلق) * (النحل: 17) انتهى.
135

وتمام الكلام في هذا المقام ما ذكره بعض المحققين أنه إذا دخل نفي بلا أو غيرها، أو ما في معناه على تشبيه مصرح بأركانه، أو ببعضها احتمل معنيين تفضيل المشبه بأن يكون المعنى أنه لا يشبه بكذا لأن وجه الشبه فيه أولى وأقوى - كقولك ليس زيد كحاتم في الجود - ويحتمل عكسه بأن يكون المعنى أنه لا يشبه به لبعد المسافة بينهما كقول العرب - ماء ولا كصداء، ومرعى ولا كالسعدان، وفتى ولا كمالك - وقوله: طرف الخيال ولا كليلة مدلج ووقع في شروح " المقامات " وغيرها أن العرب لم تستعمل النفي بلا على هذا الوجه إلا للمعنى الثاني وأن استعماله لتفضيل المشبه من كلام المولدين حتى اعترضوا على قول الحريري في قوله: غدوت ولا اغتداء الغراب وعيب قول صاحب " التلويح " في خطبته: نال حظا من الاشتهار ولا اشتهار الشمس نصف النهار، ومبنى الاعتراض على هذا، ولعله ليس بلازم كما أشار إليه صاحب " الانتصاف " بما أورد منه الآيات، ومما أورده الثعالبي من خلافه أيضا في كتابه " المنتخب " - فلا حسن ولا القمر، وجواد ولا المطر - على أنه لو سلم ما ذكروه فالمعاني لا حجر فيها على أن ما ورد في النفي بلا المعترضة بين الطرفين لا في كل نفي انتهى. - وهو كما قال: من نفائس المعاني التي ينبغي حفظها -.
وقوله تعالى: * (وإني سميتها مريم) * عطف على * (إني وضعتها أنثى) * المنصوبة المحل على المفعولية للقول - وما بينهما كما علمت - اعتراض بجملتين غير محكيتين الثانية من تتمة الأولى معنى على ما بين ولهذا أجراه البعض مجرى الاعتراض في الاعتراض فجعله نظير قوله تعالى: * (إنه لقسم لو تعلمون عظيم) * (الواقعة: 76). واعترض بأنه كيف يجوز الاعتراض بين كلامي أم مريم وكلام متكلم لا يجوز أن يكون معترضا بين كلامي متكلم آخر، وأجيب بأن كلام أم مريم من كلام الله تعالى نقلا عن أم مريم ولا بعد في أن يكون كلامه تعالى اعتراضا بين كلاميها اللذين هما من كلام الله تعالى نقلا عنها، هذا على تقدير أن لا تكون تانك الجملتان من كلام أم مريم أما إذا كانتا من كلامها بناءا على ما سبق من القراءة والاحتمال فلا اعتراض. قيل: والغرض من عرضه التسمية على علام الغيوب التقرب إليه تعالى واستدعاء العصمة لها فإن مريم في لغتهم بمعنى العابدة - ولا يخفى بعده - إذ مجرد ذكر تسميتها مريم لا يكاد يكون مقربا لها إليه تعالى لأن التقرب إليه تعالى إنما يكون بسبب العبادة - ومجرد عرض التسمية ليس بعبادة - فكيف يكون مقربا اللهم إلا أن يقال: إن التقرب إلى الله تعالى بحبها للعبادة الذي أشعر به تسميتها بنتها عابدة، أو اعتقاد أن الله تعالى مستعاذ يجير من يستعيذ به عما يخافه. واعترض بأن هذا لا يدفع الشبهة بل هي باقية أيضا لأن المقرب حينئذ ما في القلب من الحب والاعتقاد لا عرض ذلك على من لا تخفى عليه خافية، والأولى أن يقال: إن الغرض من ذلك إظهار أنها غير راجعة عن نيتها وإن كان ما وضعته أنثى وأنها وإن لم تكن خليقة بسدانة بيت المقدس فلتكن من العابدات فيه واستقلالها بالتسمية لكون أبيها قد مات وأمها حامل بها فتقديم المسند إليه للتخصيص يعني التسمية مني لا يشاركني فيها أبوها، قيل: وفي ذلك تعريض بيتمها استعطافا له تعالى وجعلا ليتمها شفيعا لها، والقول بأن فائدة عرض تسميتها التحسر والتحزن أيضا أي إني سميتها لا أبوها لعدم احتفاله بها والتفاته إليها لكراهة الرجال في الغالب البنات فمع أنه خلاف ما دل عليه أكثر الآثار ونطق به غالب الأخبار من موت أبيها وهي حمل يجر إلى ما ينبغي أن تنزه عنه ساحة الرجل الصالح عمران كما لا يخفى، وقد تقدم الكلام في مريم وزنا ومعنى، وقد اختار بعض المتأخرين أنها معربة مارية بمعنى - جارية - ويقرب أن يكون القول المعول عليه، واستدل بالآية على جواز تسمية الأطفال يوم الولادة لا يوم السابع لأن الظاهر أنها إنما قالت ذلك بإثر الوضع، واستدل بتغاير المفعولين على
136

تغاير الاسم والمسمى، وقد تقدم البحث فيه * (وإنيأعيذها بك) * عطف على * (إني سميتها) * وأتى هنا بخبر إن فعلا مضارعا دلالة على طلبها استمرار الاستعاذة دون انقطاعها وهذا بخلاف (وضعتها، وسميتها) حيث أتى بالخبرين ماضيين لانقطاعهما وقدم المعاذ به على المعطوف الآتي اهتماما به، ومعنى * (أعيذها بك) * أمنعها وأجيرها بحفظك، وأصل العوذ كما قال الراغب: الالتجاء إلى الغير والتعلق به يقال: عاذ فلان بفلان إذا استجار به، ومنه أخذت العوذة وهي التميمة والرقية؛ وقرأ أبو جعفر - ونافع - أني - بفتح ياء المتكلم وكذا في سائر المواضع التي بعد الياء ألف مضمومة إلا في موضعين * (بعهدي أوف) * (البقرة: 40) و * (آتوني أفرغ) * (الكهف: 96) و * (ذريتها) * عطف على الضمير المنصوب، وفي التنصيص على إعاذتها وإعاذة ذريتها رمز إلى طلب بقائها حية حتى تكبر،
وطلب للتناسل منه هذا إذا أريد بالإعاذة * (من الشيطان الرجيم) * أي المطرود، وأصل الرجم الرمي بالحجارة الحفظ من إغوائه الموقع في الخطايا لأنه إنما يكون بعد البلوغ إذ لا تكليف قبله، وأما إذا أريد منها الحفظ منه مطلقا فيفهم طلب الأمرين من الأمر الأخير، ويؤيد هذا ما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل من مسه صارخا إلا مريم وابنها " وفي بعض طرقه أنه ضرب بينه وبينها حجاب وأن الشيطان أراد أن يطعن بإصبعه فوقعت الطعنة في الحجاب، وفي رواية إسحق بن بشر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل ولد آدم ينال منه الشيطان يطعنه حين يقع بالأرض بإصبعه ولهذا يستهل إلا ما كان من مريم وابنها فإنه لم يصل إبليس إليهما " وطعن القاضي عبد الجبار بإصبع فكره في هذه الأخبار بأنها خبر واحد على خلاف الدليل، وذلك أن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من له تمييز ولأنه لو تمكن من هذا الفعل لجاز أن يهلك الصالحين، وأيضا لم خص عيسى وأمه دون سائر الأنبياء؟ وأنه لو وجد المس أو النخس لدام أثره وليس فليس، والزمخشري زعم أن المعنى على تقدير الصحة أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها فإنهما كانا معصومين، وكذلك كل من كان في صفتهما كقوله تعالى: * (لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين) * (ص: 82، 83) واستهلاله صارخا من مسه تخييل وتصوير لطمعه فيه كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ونحوه من التخييل قول ابن الرومي:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها * - يكون بكاء الطفل ساعة يولد -
وأما حقيقة النخس والمس كما يتوهم أهل الحشو فكلا ولو سلط إبليس على الناس ينخسهم لامتلأت الدنيا صراخا وعياطا مما يبلون به من نخسه انتهى.
ولا يخفى أن الأخبار في هذا الباب كثيرة وأكثرها مدون في " الصحاح " والأمر لا امتناع فيه، وقد أخبر به الصادق عليه الصلاة والسلام فليتلق بالقبول، والتخييل الذي ركن إليه الزمخشري ليس بشيء لأن المس باليد ربما يصلح لذلك أما الاستهلال صارخا فلا على أن أكثر الروايات لا يجري فيها مثل ذلك، وقوله: لامتلأت الدنيا عياطا قلنا: هي مليئة فما من مولود إلا يصرخ، ولا يلزم من تمكنه من تلك النخسة تمكنه منها في جميع الأوقات كيف وفي " الصحيح ": " لولا أن الملائكة يحفظونكم لاحتوشتكم الشياطين كما يحتوش الذباب العسل " وفي رواية " لاختطفتكم الجن " وقسر قوله تعالى: * (له معقبات من بين يديه) * (الرعد: 11) في أحد الوجوه به، وبهذا يندفع أيضا قول القاضي
137

من أنه لو تمكن من هذا الفعل لجاز أن يهلك الصالحين وبقاء الأثر بل وحصوله أيضا ليس أمرا ضروريا للمس ولا للنخس والحصر باعتبار الأغلب والاقتصار على عيسى عليه السلام وأمه إيذانا باستجابة دعاء امرأة عمران على أتم وجه ليتوجه أرباب الحاج إلى الله تعالى بشراشرهم، أو يقدر له ما يخصصه، وعلى التقديرين يخرج النبي صلى الله عليه وسلم من العموم فلا يلزم تفضيل عيسى عليه الصلاة والسلام في هذا المعنى، ويؤيده خروج المتكلم من عموم كلامه، وقد قال به جمع ويشهد له ما روى الجلال في " البهجة السنية " عن عكرمة قال: لما ولد النبي صلى الله عليه وسلم أشرقت الأرض نورا فقال إبليس: لقد ولد الليلة ولد يفسد علينا أمرنا فقالت له جنوده: لو ذهبت إليه فجاءه فركضه جبريل عليه السلام فوقع بعدن، وهذا أولى من إبقاء العام على عمومه، والقول بأنه لا يبعد اختصاص عيسى وأمه بهذه الفضيلة دون الأنبياء عليهم السلام ولا يلزم منه تفضيله عليهم عليهم السلام إذ قد يوجد في الفاضل ما لا يوجد في الأفضل، وعلى كلا الأمرين الفاضل والمفضول لا إشكال في الإخبار من تلك الحيثية، نعم قد يشكل على ظاهرها أن إعاذة أم مريم كانت بعد الوضع فلا يصح حملها على الإعاذة من المس الذي يكون حين الولادة، وأجيب بأن المس ليس إلا بالانفصال وهو الوضع ومعه الإعاذة، غايته أنه عبر عنه بالمضارع كما أشرنا إليه لقصد الاستمرار فليتأمل، والعجب من بعض أهل السنة كيف يتبع المعتزلة في تأويل مثل هذه الأحاديث الصحيحة لمجرد الميل إلى ترهات الفلاسفة مع أن إبقاءها على ظاهرها مما لا يرنق لهم شربا ولا يضيق عليهم سربا، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لمراضيه ويجعل مستقبل حالنا خيرا من ماضيه.
* (فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يامريم أنى لك ه‍اذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشآء بغير حساب) *.
* (فتقبلها) * أي رضي بمريم في النذر مكان الذكر ففيه تشبيه النذر بالهدية ورضوان الله تعالى بالقبول * (ربها) * أي رب مريم المبلغ لها إلى كمالها اللائق بها، وقيل: الضمير لامرأة عمران بدليل أنها التي خاطبت ونادت بقولها: * (رب إني وضعتها) * (آل عمران: 36) الخ، والأول أولى * (بقبول حسن) * الباء مثلها في - كتبت بالقلم - و - القبول - ما يقبل به الشيء - كالسعوط واللدود - ما يسعط به ويلد أي تقبلها بوجه حسن تقبل به النذائر وهو اختصاصه سبحانه إياها بإقامتها مقام الذكر في النذر ولم يقبل قبلها أنثى، أو تسلمها من أمها عقب الولادة قبل أن تنشأ وتصلح للسدانة والخدمة. فقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لما وضعتها خشيت حنة أن لا تقبل الأنثى محررة فلفتها في الخرقة ووضعتها في بيت المقدس عند القراء فتساهم القراء عليها - لأنها كانت بنت إمامهم - أيهم يأخذها فقال زكريا وهو رأس الأحبار: أنا آخذها وأنا أحقهم بها لأن خالتها عندي، فقالت القراء: ولكنا نتساهم عليها فمن خرج سهمه فهو أحق بها فدعوا بأقلامهم التي يكتبون بها الوحي وجمعوها في موضع ثم غطوها، وقال زكريا لبعض من الغلمان الذين لم يبلغوا الحلم ممن في بيت المقدس: أدخل يدك فأخرج فأدخل يده فأخرج قلم زكريا فقالوا: لا نرضى ولكن نلقي الأقلام في الماء فمن خرج قلمه في جرية الماء ثم ارتفع فهو يكفلها فألقوا أقلامهم في نهر الأردن فارتفع قلم زكريا في جري الماء فقالوا: نقترع الثالثة فمن جرى قلمه مع الماء فهو يكفلها فألقوا أقلامهم فجرى قلم زكريا مع الماء وارتفعت أقلامهم في جرية الماء وقبضها عند ذلك زكريا، ويجوز أن تكون الباء للملابسة، و - القبول - مصدر وهو من المصادر الشاذة وهناك مضاف محذوف، والمعنى رضي بها متلبسة بأمر ذي قبول، ووجه ذي رضا وهو ما يقيمها مقام الذكور لما اختصت به من الإكرام، ويجوز أن يكون تفعل بمعنى استفعل - كتعجل بمعنى استعجل - والمعنى فاستقبلها ربها وتلقاها من أول وهلة من ولادتها بقبول
138

حسن وأظهر الكرامة فيها حينئذ - وفي المثل خذ الأمر بقوابله - وجوز أن تكون الباء زائدة، و - القبول - مصدر مؤكد للفعل السابق بحذف الزوائد أي قبلها قبولا حسنا، وعدل عن الظاهر للإيذان بمقارنة التقبل لكمال الرضا وموافقته للعناية الذاتية فإن صيغة التفعل مشعرة بحسب أصل الوضع بالتكلف وكون الفعل على خلاف طبع الفاعل وإن كان المراد بها في حقه تعالى ما يترتب عليه من كمال قوة الفعل وكثرته، ويحتمل على بعد بعيد أن تكون الباء للمصاحبة بمعنى مع - أي تقبل نذرها - مع قبول حسن لدعاء أمها في حقها وحق ذريتها حيث أعاذهما من الشيطان الرجيم من أول الولادة إلى خاتمة الحياة
* (وأنبتها نباتا حسنا) * أي رباها الرب تربية حسنة في عبادة وطاعة لربها قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفي رواية عنه أنه سوى خلقها فكانت تشب في يوم ما يشب غيرها في عام، وقيل: تعهدها بما يصلحها في سائر أحوالها، ففي الكلام استعارة تمثيلية أو مجاز مرسل بعلاقة اللزوم فإن الزارع يتعهد زرعه بسقيه عند الاحتياج وحمايته عن الآفات وقلع ما يخنقه من النبات. و * (نباتا) * هنا مصدر على غير لفظ الفعل المذكور وهو نائب عن إنبات، وقيل: التقدير فنبتت نباتا، والنبات والنبت بمعنى. وقد يعبر بهما عن النابت * (وكفلها زكريا) * وهو من ولد سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام - أي ضمها الله تعالى إليه وجعله كافلا لها وضامنا لمصالحها - على ما ذكر في حديث ابن عباس، وكل ذلك من آثار قدرته تعالى، ولم يكن هناك وحي إليه بذلك، وقرأ بتشديد الفاء حمزة والكسائي وعاصم، وقصروا * (زكريا) * غير عاصم في رواية ابن عياش - وهو مفعول به لكفلها - وقرأ الباقون بتخفيف الفاء ومدوا * (زكريا) * ورفعوه على الفاعلية - وفيه لغتان أخريان - إحدهما: - زكرى - بياء مشددة من غير ألف، وثانيتهما: - زكر - بغير ياء ومنعه من الصرف للعلمية والعجمة، وقيل: لألف التأنيث، وقرأ أبي (وأكفلها)، وقرأ مجاهد - فتقبلها ربها وأنبتها وكفلها - على صيغة الدعاء في الأفعال الثلاثة ونصب - ربها - على النداء أي فاقبلها يا ربها وربها، واجعل زكريا كافلا لها، وقد استجاب الله تعالى دعاءها في جميع ذلك، والذي عليه الأكثرون وشهدت له الأخبار أن كفالة زكريا كانت من أول أمرها، وزعم بعضهم أنه كفلها بعد أن فطمت ونبتت النبات الحسن وليس بالقوي
* (كلما دخل عليها زكريا المحراب) * بيان لقبولها ولهذا لم يعطف، والمحراب على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما غرفة بنيت لها في بيت المقدس وجعلت بابها في وسط الحائط وكانت لا يصعد عليها إلا بسلم مثل باب الكعبة، وقيل: المراد به المسجد إذ قد كانت مساجدهم تسمى المحاريب؛ وقيل: أشرف مواضعه ومقدمها وهو مقام الإمام من المسجد في رأي، وأصله مفعال صيغة مبالغة - كمطعان - فسمي به المكان لأن المحاربين نفوسهم كثيرون فيه، وقيل: إنه يكون اسم مكان وسمي به لأن محل محاربة الشيطان فيه أو لتنافس الناس عليه ولبعض المغاربة في المدح: جمع الشجاعة والخشوع لربه * ما أحسن المحراب في المحراب
وتقديم الظرف على الفاعل لإظهار كمال العناية بأمرها، ونصب * (المحراب) * على التوسع إذ حق الفعل أن يتعدى بفي؛ أو بإلى وإظهار الفاعل قيل: لفصل الجملة، و * (كلما) * ظرف على أن (ما) مصدرية، والزمان محذوف أو نكرة موصوفة معناها الوقت، والعائد محذوف والعامل فيها جوابها بالاتفاق لأن ما في حيز المضاف إليه لا يعمل في المضاف ولا يجري فيها الخلاف المذكور في أسماء الشرط، ومن الناس من وهم فقال: إن ناصبه فعل
139

الشرط، وادعى أنه الأنسب معنى فزاد في الشطرنج جملا والمعنى كل زمان دخل عليها أو كل وقت دخل عليها فيه
* (وجد عندها رزقا) * أي أصاب ولقي بحضرتها ذلك أو ذلك كائنا بحضرتها، أخرج ابن جرير عن الربيع قال: إنه كان لا يدخل عليها غيره وإذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب فكان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، والتنوين للتعظيم فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ذلك من ثمار الجنة والذي عليه الجل أن ذلك عوض لها عن الرضاعة، فقد روي أنها لم ترضع ثديا قط، وقيل: إن هذا كان بعد أن ترعرعت، ففي رواية ابن بشر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما " أن زكريا عليه الصلاة والسلام استأجر لها ظئرا فلما تم لها حولان فطمت وتركت في المحراب وحدها وأغلقت عليها الباب ولم يتعهد أمرها سواه "
* (قال يا مريم) * استئناف بياني * (انى لك ه‍اذا) * أي من أين لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا والأبواب مغلقة دونك، ومجىء * (أنى) * بمعنى من أين، أو كيف تقدم الكلام عليه، واستشهد للأول بقوله: تمنى بوادي الرمث زينب ضلة * فكيف ومن (أنى) بذي الرمث تطرق
وللثاني بقوله: - أنى ومن أين - أبك الطرب * من حيث لا صبوة ولا ريب
وحذف حرف الجر من * (أنى) * نحو حذف - في - من الظروف اللازمة للظرفية من نحو - مع، وسحر - لأن الشيء إذا علم في موضع جاز حذفه، والتحقيق أن الظروف محل التوسع لكثرة استعمالهم إياها وكل ظرف يستعمل مع حرف صلته التي يكثر معها استعمالها - لأن اتصالها بمظروفها بتلك الحروف - فجاز حذفها كما جاز حذف - في - إلا أنها لما كانت الأصل لوضعها للظرفية اطرد حذفها من المتصرفة وغير المتصرفة، وغيرها من صلات الظروف لا يحذف إلا مع ما يكثر من غير المتصرفة حطا لرتبتها عن رتبة - في - كما في " الكشف "، واستدل بالآية على جواز الكرامة للأولياء لأن مريم لا نبوة لها على المشهور، وهذا هو الذي ذهب إليه أهل السنة والشيعة وخالف في ذلك المعتزلة، وأجاب البلخي منهم عن الآية بأن ذلك كان إرهاصا وتأسيسا لنبوة عيسى عليه الصلاة والسلام، وأجاب الجبائي بأنه كان معجزة لزكريا عليه الصلاة والسلام، ورد الأخير بأن اشتباه الأمر عليه يأبى ذلك، ولعله مبني على الظاهر، وإلا ففي اقتضاء هذه العبارة في نفس الأمر الاشتباه نظر لأنه يجوز أن يكون لإظهار ما فيها من العجب بتكلمها ونحوه، والقول - بأن اشتباه زكريا في أنها معجزة لا ينافي كونها معجزة لاشتباه أنه من الجنة أو من بساتين الدنيا ليس بشيء كما لا يخفى
* (قالت) * استئناف كالذي قبله * (هو من عند الله) * قيل: أرادت من الجنة، وقيل: مما رزقنيه هو لا بواسطة البشر فلا تعجب ولا تستبعد، وقيل: تكلمت بذلك صغيرة كعيسى عليه الصلاة والسلام وقد جمع من تكلم كذلك فبلغوا أحد عشر نفسا، وقد نظمهم الجلال السيوطي فقال: تكلم في المهد النبي (محمد) * (ويحيى
وعيسى والخليل ومريم)
ومبرى (جريج) ثم (شاهد يوسف) * (وطفل لذي الأخدود) يرويه مسلم
(وطفل) عليه مر بالأمة التي * يقال لها تزني ولا تتكلم
وماشطة في عهد فرعون (طفلها) * وفي زمن الهادي (المبارك) يختم
140

* (إن الله يرزق من يشاء) * من عباده أن يرزقه * (بغير حساب) * تقدم معناه، والجملة تعليل لكونه من عند الله، والظاهر أنها من كلام مريم فحينئذ تكون في محل النصب داخلة تحت القول، وقال الطبري: إنها ليست من كلامها بل هي مستأنفة من كلامه تعالى إخبارا لنبيه صلى الله عليه وسلم، والأول أولى، وقد أخرج أبو يعلى عن جابر: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام أياما لم يطعم طعاما حتى شق ذلك عليه فطاف في منازل أزواجه فلم يجد عند واحدة منهن شيئا فأتى فاطمة فقال: يا بنية هل عندك شيء آكله فإني جائع؟ فقالت: لا والله فلما خرج من عندها بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم فأخذته منها فوضعته في جفنة لها وقالت: لأوثرن بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي ومن عندي وكانوا جميعا محتاجين إلى شبعة طعام فبعثت حسنا أو حسينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إليها فقالت له: بي أنت وأمي قد أتى الله تعالى بشيء قد خبأته لك قال: هلمي يا بنية بالجفنة فكشفت عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزا ولحما فلما نظرت إليها بهتت وعرفت أنها بركة من الله تعالى فحمدت الله تعالى وقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه حمد الله تعالى، وقال: من أين لك هذا يا بنية؟ قالت: يا أبتي هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب فحمد الله سبحانه ثم قال: الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل فإنها كانت إذا رزقها الله تعالى رزقا فسئلت عنه قالت: هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ثم جمع عليا والحسن والحسين وجمع أهل بيته حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو فأوسعت فاطمة رضي الله تعالى عنها على جيرانها ".
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: * (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) * نهى عن موالاة المؤمنين الكافرين لعدم المناسبة بينهم في الحقيقة ولفرق بين الظلمة والنور والظل والحرور، والولاية تقتضي المناسبة ومتى لم تحصل كانت الولاية عن محض رياء أو نفاق والله تعالى لا يحب المرائين ولا المنافقين، ومن هنا نهى أهل الله تعالى المريدين عن موالاة المنكرين لأن ظلمة الإنكار - والعياذ بالله تعالى - تحاكي ظلمة الكفر وربما تراكمت فسدت طريق الإيمان، ومن يفعل ذلك فليس من ولاية الله تعالى في شيء معتد به إذ ليس فيه نورية صافية يناسب بها الحضرة الإلهية * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) * فحينئذ تجوز الموالاة ظاهرا، وهذا بالنسبة للضعفاء وأما من قوي يقينه فلا يخشى إلا الله تعالى * (ويحذركم الله نفسه) * أي يدعوكم إلى التوحيد العياني لئلا يكون خوفكم من غيره * (وإلى الله المصير) * (آل عمران: 28) فلا تحذروا إلا إياه، والأكثرون على أن هذا خطاب للخواص العارفين إذ لا يحذر نفسه من لا يعرفه وقد حذر من دونهم بقوله سبحانه: * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) * (البقرة: 281) قال إبراهيم الخواص: وعلامة الخوف في القلب دوام المراقبة وعلامة المراقبة التفقد للأحوال النازلة * (قل إن تخفوا ما في صدوركم) * من الموالاة * (أو تبدوه يعلمه الله) * لأنه مع كل نفس وخطرة * (ويعلم ما في) * سموات الأرواح وأرض الأجسام * (والله على كل شيء قدير) * (آل عمران: 29) فلا يشغله شأن عن شأن ولا يقيده مظهر عن مظهر * (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء) * لأن كل ما يعمله الإنسان أو يقوله ينتقش منه أثر في نفسه ويسطر في صحائف النفوس السماوية إلا أنه لاشتغاله بالشواغل الحسية والإدراكات الوهمية والخيالية لا يرى تلك النقوش ولا يبصر هاتيك السطور فإذا تجرد عن عالم الكثافة بصر ورأى وشاهد ما به قلم الاستعداد جرى فإذا وجد سوءا * (تود) * نفسه وتتمنى * (لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا) * لتعذبها به * (ويحذركم الله نفسه) * كرره تأكيدا لئلا يعملوا ما يستحقون به عقابه * (والله رءوف بالعباد) * (آل عمران: 30) أي بسائرهم فلهذا حذرهم،
141

أو بمن اتصف بمقام العبودية وانقطع إليه بالكلية * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني) * لأني سيد المحبين * (يحببكم الله) * وحقيقة المحبة عند العارفين احتراق القلب بنيران الشوق، وروح الروح بلذة العشق، واستغراق الحواس في بحر الأنس، وطهارة النفس بمياه القدس، ورؤية الحبيب بعين الكل، وغمض عين الكل عن الكونين، وطيران السر في غيب الغيب، وتخلق المحل بخلق المحبوب - وهذا أصل المحبة - وأما فرعها فهو موافقة المحبوب في جميع ما يرضاه وتقبل بلائه بنعت الرضا والتسليم في قضائه وقدره بشرط الوفا، ومتابعة سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأما آدابها فالانقطاع عن الشهوات واللذات المباحة والسكون في الخلوات، والمراقبات، واستنشاق نفحات الصفات، والتواضع والذل في الحركات والسكنات.
مساكين أهل العشق حتى قبورهم * عليها تراب الذل بين المقابر
وهذا لا يكون إلا بعد أن ترى الروح بعين السر مشاهدة الحق بنعت الجمال وحسن القدم لا بنعت الآلاء والنعم لأن المحبة متى كانت من تولد رؤية النعماء كانت معلولة وحقيقة المحبة ما لا علة فيها بين المحب والحبيب سوى ذات الحبيب، ولذا قالوا: لا تصح المحبة ممن يميز بين النار والجنة وبين السرور والمحنة وبين الفرض والسنة وبين الاعتواض والاعتراض ولا تصح إلا ممن نسي الكل واستغرق في مشاهدة المحبوب وفني فيه. خليلي لو أحببتما لعلمتما * محل الهوى من مغرم القلب صبه
تذكر والذكرى تشوق وذو الهوى * يتوق ومن يعلق به الحب يصبه
غرام على يأس الهوى ورجائه * وشوق على بعد المراد وقربه
وقد يقال: المحبة ثلاثة أقسام، القسم الأول: محبة العوام وهي مطالعة المنة من رؤية إحسان المحسن جبلت القلوب على محبة من أحسن إليها وهو حب يتغير وهو
لمتابعي الأعمال الذين يطلبون أجرا على ما يعملون، وفيه يقول أبو الطيب: وما أنا بالباغي على الحب رشوة * ضعيف هوى يرجى عليه ثواب
القسم الثاني: محبة الخواص المتبعين للأخلاق الذين يحبونه إجلالا وإعظاما ولأنه أهل لذلك، وإلى هذا القسم أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: " نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه "، وقالت رابعة رحمها الله تعالى: أحبك حبين حب الهوى * وحب لأنك أهل لذاكا
وهذا الحب لا يتغير إلى الأبد لبقاء الجمال والجلال إلى السرمد القسم الثالث: محبة خواص الخواص المتبعين للأحوال وهي الناشئة من الجذبة الإلهية في مكامن " كنت كنزا مخفيا " وأهل هذه المحبة هم المستعدون لكمال المعرفة، وحقيقتها أن يفنى المحب بسطوتها فيبقى بلا هو وربما بقي صاحبها حيران سكران لا هو حي فيرجى ولا ميت فيبكى، وفي مثل ذلك قيل: يقولون إن الحب كالنار في الحشا * ألا كذبوا فالنار تذكو وتخمد
وما هو إلا جذوة مس عودها * ندى فهي لا تذكو ولا تتوقد
ويكفي في شرح الحب لفظه فإنه - حاء وباء - والحاء من حروف الحلق، والباء شفوية، ففيه إشارة إلى أن الهوى ما لم يستول على قلبه ولسانه وباطنه وظاهره وسره وعلنه لا يقال له: حب، وشرح ذاك يطول، وهذه محبة العبد لربه، وأما محبة ربه سبحانه له فمختلفة أيضا، وإن صدرت من محل واحد فتعلقت بالعوام من حيث
142

الرحمة فكأنه قيل لهم: اتبعوني بالأعمال الصالحة يخصكم الله تعالى برحمته، وتعلقت بالخواص من حيث الفضل فكأنه قيل لهم: اتبعوني بمكارم الأخلاق يخصكم بتجلي صفات الجمال، وتعلقت بخواص الخواص من حيث الجذبة فكأنه قيل لهم: اتبعوني ببذل الوجود يخصكم بجذبه لكم إلى نفسه، وهناك يرتفع البون من البين، ويظهر الصبح لذي عينين والقطرة من هذه المحبة تغني عن الغدير: وفي سكرة منها ولو عمر ساعة * ترى الدهر عبدا طائعا وله الحكم
* (ويغفر لكم ذنوبكم) * أي معاصيكم التي سلفت منكم على خلاف المتابعة ولا يعاقبكم عليها أو يغفر لكم ذنوبكم بستر ظلمة صفاتكم بأنوار صفاته أو يغفر لكم ذنوب وجودكم ويثيبكم مكانه وجودا لا يفنى كما قال: " فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به " الحديث * (والله غفور) * يكفر خطاياكم ويمحو ذنوب صفاتكم ووجودكم * (رحيم) * (آل عمران: 31) يهب لكم عوض ذاك حسنات وصفات ووجودا حقانية خيرا من ذلك * (قل أطيعوا الله والرسول) * فإن المريد يلزمه متابعة المراد * (فإن تولوا) * أي فإن أعرضوا فهم كفار منكرون محجوبون * (فإن الله لا يحب الكافرين) * (آل عمران: 32) لقصور استعدادهم عن ظهور جماله فيهم * (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) * (آل عمران: 33) الاصطفاء أعم من المحبة والخلة فيشمل الأنبياء كلهم وتتفاضل فيه مراتبهم كما يشير إليه قوله تعالى: * (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) * (البقرة: 253) فأخص المراتب هو المحبة، وإليه يشير قوله تعالى: * (ورفع بعضهم درجات) * (البقرة: 253) ثم الخلة، وفي لفظها إشارة إلى ذلك من طريق مخارج الحروف وأعمها الاصطفاء، فاصطفى آدم بتعليم الصفات وجمع اليدين وإسجاد الأكوان له، ونوحا الذي هو الأب الثاني بتلك الأبوة وبما كان له مع قومه، واصطفى آل إبراهيم وهم الأنبياء من ذريته بظهور أنوار تجليه الخاص على آفاق وجودهم، وآل عمران بجعلهم آية للعالمين ذرية بعضها من بعض في الدين والحقيقة إذ الولادة قسمان: صورية ومعنوية، وكل نبي تبع نبيا في التوحيد والمعرفة وما يتعلق بالباطن من أصول الدين فهو ولده كأولاد المشايخ والولد سر أبيه، ويمكن أن يقال: آدم هو الروح في أول مقامات ظهورها، ونوح هو هي في مقامها الثاني من مقامات التنزل وإبراهيم هو القلب الذي ألقاه نمرود النفس في نيران الفتن ورماه فيها بمنجنيق الشهوات، وآله القوى الروحانية، وعمران هو العقل الإمام في بيت مقدس البدن، وآله التابعون له في ذلك البيت المقتدون به، وكل ذلك ذرية بعضها من بعض لوحدة المورد واتفاق المشرب * (إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا) * (آل عمران: 35) عن رق النفس مخلصا في عبادتك عن الميل إلى السوي * (فتقبلها ربها بقبول حسن) * قال الواسطي: محفوظ عن إدراك الخلق * (وأنبتها نباتا حسانا) * حيث سقاها من مياه القدرة وأثمرها شجرة النبوة * (وكفلها زكريا) * لطهارة سره، وشبيه الشيء منجذب إليه * (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا) * هو ما علمت، ويجوز أن يراد الرزق الروحاني من المعارف والحقائق والعلوم والحكم الفائضة عليها من عند الله تعالى إذ الاختصاص بالعندية يدل على كونه أشرف من الأرزاق البدنية.
وأخرج ابن أبي حاتم من بعض الطرق عن مجاهد أنه قال: رزقا أي علما، وقد يقال على نحو الأول ليتم تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس * (إذ قالت امرأة عمران) * وهي النفس في أول مراتب طاعتها لعمران العقل * (إني نذرت لك ما في بطني) * وهو غلام القلب * (محررا) * ليس في رق شيء من المخلوقات * (فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى) * وهي نفس أيضا إلا أنها أكمل منها في المرتبة، والجنس يلد الجنس * (والله أعلم بما وضعت) * لعلمه أنه سيظهر من هذه الأنثى العجب العجاب، وغيره سبحانه تخفى عليه الأسرار * (وإني سميتها مريم) * وهي العابدة
143

* (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) * وهوالشهوات النفسانية الحاجبة للنفس القدسية عن رياض الملكوت * (فتقبلها ربها بقبول حسن) * وهو اختصاصه إياها بإفاضة أنواره عليها * (وأنبتها نباتا حسنا) * ورقاها فيما تكمل به نشأتها ترقيا حسنا غير مشوب بالعوائق والعلائق * (وكفلها زكريا) * الاستعداد * (كلما دخل عليها زكريا) * وتوجه نحوها في محراب تعبدها المبني لها في بيت مقدس القلب * (وجد عندها رزقا) * تتغذى به الأرواح في عالم الملكوت * (قال أنى لك هذا) * الرزق العظيم قالت: هو مفاض من عند الله منزه عن الحمل بيد الأفكار * (إن الله) * الجامع لصفات الجمال والجلال * (يرزق من يشاء) * ويفيض عليهم من علمه حسب قابليتهم * (بغير حساب) * فسبحانه من إله وجواد كريم وهاب.
* (هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لى من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعآء) *.
* (هنالك دعا زكريا ربه) * قصة مستقلة سيقت في أثناء قصة مريم لكمال الارتباط مع ما في إيرادها من تقرير ما سيقت له، و (هنا) ظرف مكان، و - اللام -
للبعد، و - الكاف - للخطاب أي في ذلك المكان حيث هو قاعد عند مريم في المحراب، وهي ظرف ملازم للظرفية وقد تجر بمن وإلى؛ وجوز أن يراد بها الزمان مجازا فإن (هنا) وثم وحيث كثيرا ما تستعار له وهي متعلقة - بدعا - وتقديم الظرف للإيذان بأنه أقبل على الدعاء من غير تأخير، وقال الزجاج: إن (هنا) هنا مستعارة للجهة والحال - أي من تلك الحال دعا زكريا - كما تقول: من ههنا قلت كذا، ومن هنالك قلت كذا - أي من ذلك الوجه وتلك الجهة.
أخرج ابن بشر وابن عساكر عن الحسن قال: لما وجد زكريا عند مريم ثمر الشتاء في الصيف وثمر الصيف في الشتاء يأتيها به جبريل قال لها: أنى لك هذا في غير حينه. قالت: هو رزق من عند الله يأتيني به الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب فطمع زكريا في الولد فقال: إن الذي أتى مريم بهذه الفاكهة في غير حينها لقادر على أن يصلح لي زوجتي ويهب لي منها ولدا فعند ذلك دعا ربه وذلك لثلاث ليال بقين من المحرم قام زكريا فاغتسل ثم ابتهل في الدعاء إلى الله تعالى، وقيل: أطمعه في الولد فدعا مع أنه كان شيخا فانيا وكانت امرأته عاقرا لما أن الحال نبهته على جواز ولادة العاقر من الشيخ من وجوه. الأول: ما أشار إليه الأثر من حيث إن الولد بمنزلة الثمر والعقر بمنزلة غير أوانه، والثاني: أنه لما رأى تقبل أنثى مكان الذكر تنبه لأنه يجوز أن يقوم الشيخ مقام الشاب والعاقر مقام الناتج، والثالث: أنه لما رأى تقبل الطفل مقام الكبير للتحرير تنبه لذلك. والرابع: أنه لما رأى تكلم مريم في غير أوانه تنبه لجواز أن تلد امرأته في غير أوانه، والخامس: أنه لما سمع من مريم * (إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) * (آل عمران: 37) تنبه لجواز أن تلد من غير استعداد؛ ولا يخفى ما في بعض هذه الوجوه من الخدش، وعلى العلات ليس ما رأى فقط علة موجبة للإقبال على الدعاء بل كان جزءا من العلة التامة التي من جملتها كبر سنه عليه السلام وضعف قواه وخوف مواليه حسبما فصل في سورة مريم
* (قال) * شرح للدعاء وبيان لكيفيته * (رب هب لي من لدنك) * الجاران متعلقان بما قبلهما وجاز لاختلاف المعنى، و * (من) * لابتداء الغاية مجازا أي أعطني من عندك * (ذرية طيبة) * أي مباركة كما قال السدي، وقيل: صالحة تقية نقية العمل، ويجوز أن يتعلق الجار الأخير بمحذوف وقع حالا من ذرية، وجاء الطلب بلفظ الهبة لأن الهبة إحسان محض ليس في مقابلة شيء وهو يناسب ما لا دخل فيه للوالد لكبر سنه ولا للوالدة لكونها عاقرة لا تلد فكأنه قال: أعطني ذرية من غير وسط معتاد، والذرية في المشهور النسل تقع على الواحد والجمع والذكر والأنثى. والمراد ههنا ولد واحد؛ قال الفراء: وأنث - الطيبة - لتأنيث لفظ الذرية والتأنيث والتذكير تارة يجيئان على اللفظ
144

وأخرى على المعنى وهذا في أسماء الأجناس كما في قوله: أبوك خليفة ولدته أخرى * وأنت خليفة ذاك الكمال
بخلاف الأعلام فإنه لا يجوز أن يقال: جاءت طلحة لأن اسم العلم لا يفيد إلا ذلك الشخص فإذا كان مذكرا لم يجز فيه إلا التذكير. * (إنك سميع الدعآء) * أراد كثير الإجابة لمن يدعوك من خلقك وهو تعليل لما قبله وتحريك لسلسلة الإجابة، وفي ذلك اقتداء بجده الأعلى إبراهيم عليه السلام إذ قال: * (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسمعيل وإسحق إن ربي لسميع الدعاء) * (إبراهيم: 39) قيل: قد ذكر الله تعالى في كيفية دعائه ثلاث صيغ. إحداها: هذه والثانية: * (إني وهن العظم مني) * (مريم: 4) الخ، والثالثة: * (رب لا تذرني فردا) * (الأنبياء: 89) الخ، فدل على أن الدعاء تكرر منه ثلاث مرات كل مرة بصيغة، ويدل على أن بين الدعاء والإجابة زمانا، ويصرح به ما نقل في بعض الآثار أن بينهما أربعين سنة، وفيه منع ظاهر لجواز أن تكون الصيغ الثلاث حكاية لدعاء واحد مرة على سبيل الإيجاز، وتارة على سبيل الإسهاب، وأخرى على سبيل التوسط، وهذه الحكاية في هذه الضيع إنما هي بالمعنى إذ لم يكن لسانهم عربيا؛ ولهذا ورد عن الحسن أنه عليه السلام حين دعا قال: يا رازق مريم ثمار الصيف في الشتاء وثمار الشتاء في الصيف * (هب لي من لدنك ذرية) * ولم يذكر في الدعاء - يا رب - قيل: ويدل على أنه دعاء واحد متعقب بالتبشير العطف بالفاء في [بم قوله تعالى:
* (فنادته المل‍ائكة وهو قائم يصلى فى المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الص‍الحين) *.
* (فنادته الملائكة) * وفي قوله سبحانه: * (فاستجبنا له ووهبنا له يحيى) * (الأنبياء: 90) وظاهر قوله جل شأنه في مريم: * (إنا نبشرك) * (مريم: 7) اعتقاب التبشير الدعاء لا تأخره عنه، وأثر - إن بين الدعاء والإجابة أربعين سنة - لم نجد له أثرا في الصحاح، نعم ربما يشعر بعض الأخبار الموقوفة أن بين الولادة والتبشير مدة كما سنشير إلى ذلك قريبا إن شاء الله تعالى، والمراد من الملائكة جبريل عليه السلام فإنه المنادي وحده - كما أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود - وذكر عبد الرحمن بن أبي حماد أنه كان يقرأ فناداه جبريل، فالجمع هنا مجاز عن الواحد للتعظيم، أو يكون هذا من إسناد فعل البعض للكل، وقيل: الجمع فيه مثله في قولك: فلان يركب الخيل ويلبس الديباج، واعترض بأن هذا إنما يصح إذا أريد واحد لا بعينه وههنا أريد المعين فلعل ما تقدم أولى بالإرادة، وقيل: الجمع على حاله والمنادي كان جملة من الملائكة، وقرأ حمزة والكسائي فناديه بالإمالة والتذكير. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قال: ذكروا الملائكة ثم تلا * (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى) * (النجم: 27) وكان يقرأها - فناداه الملائكة - ويذكر في جميع القرآن، وأخرج الخطيب عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ كذلك.
* (وهو قائم) * جملة حالية من مفعول النداء مقررة لما أشارت إليه الفاء على ما أشرنا إليه، وقوله تعالى: * (يصلي) * حال من المستكن في * (قائم) * أو حال أخرى من المفعول على القول بجواز تعددها من غير عطف ولا بدلية، أو خبر ثان للمتدأ على رأي من يرى مثل ذلك، وقيل: الجملة صفة - لقائم - والمراد بالصلاة ذات الأقوال والأفعال كما هو الظاهر - وعليه أكثر المفسرين -. وأخرج ابن المنذر عن ثابت قال: الصلاة خدمة الله تعالى في الأرض ولو علم الله تعالى شيئا أفضل من الصلاة ما قال: * (فنادته الملائكة وهو قائم يصلي) *، وقيل: المراد بها الدعاء والأول يدل على مشروعية الصلاة في شريعتهم * (في المحراب) * أي في المسجد، أو في موقف الإمام منه، أو في غرفة مريم. والظرف متعلق
145

- بيصلي - أو - بقائم - على تقدير كون * (يصلي) * حالا من ضمير * (قائم) * لأن العامل فيه وفي الحال شيء واحد فلا يلزم الفصل بالأجنبي كما يلزم على التقادير الباقية كذا قالوا: والذي يظهر أن المسألة من باب التنازع فإن كلا من * (قائم) * و * (يصلي) * يصح أن يتسلط على * (في المحراب) * على أي وجه تقدم من وجه الإعراب فتدبر. ثم اعلم أن الصلاة في المحاريب المشهورة الموجودة الآن في مساجد المسلمين قد كرهها جماعة من الأئمة - وإلى ذلك ذهب علي كرم الله وجهه وإبراهيم رحمه الله فيما أخرجه عنهما ابن أبي شيبة - وهي من البدع التي لم تكن في العصر الأول، فعن أبي موسى الجهني قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزال أمتي بخير ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح النصارى " وعن عبد الله بن أبي الجعد قال: " كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقولون: إن من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح في المساجد " وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اتقوا هذه المذابح " يعني المحاريب، والروايات في ذلك كثيرة، والإمام السيوطي " رسالة " مستقلة فيها.
* (أن الله يبشرك بيحيى) * أي بأن الله، وبعد إسقاط حرف الجر المطرد في - أن وإن - يجوز في المنسبك اعتبار النصب واعتبار الجر، والأول: مذهب سيبويه، والثاني: مذهب الخليل، وقرأ نافع وابن عامر بكسر همزة * (إن) * وخرج على إضمار القول، وهو مذهب البصريين، أو على إجراء النداء مجرى القول لأنه نوع منه - وهو مذهب الكوفيين - وقرأ حمزة والكسائي * (يبشرك) * من الإبشار، وقرأ * (يبشرك) * من الثلاثي. وأخرج ابن جرير عن معاذ الكوفي قال: من قرأ يبشر مثقلة فإنه من البشارة، ومن قرأ يبشر مخففة بنصب الياء فإنه من السرور - ويحيى - اسم أعجمي على الصحيح، وقيل: عربي منقول من الفعل والمانع له من الصرف على الأول العلمية والعجمة، وعلى الثاني العلمية ووزن الفعل، والقول - بأنه لا قاطع لمنع صرفه لاحتمال أن يكون مبنيا يجعل العلم جملة بأن يكون فيه ضمير كما في قوله: نبئت أخوالي بني يزيد
ليس بشيء لما في ذلك الاحتمال من التكلف المستغنى عنه ما يكاد يكون دليلا قطعيا للقطع، والقائلون بعربيته منهم من وجه تسميته بذلك بأن الله تعالى أحيا به عقر أمه، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ومنهم من وجه ذلك بأن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان، وروي عن قتادة، وقيل: سمي بيحيى لأنه علم الله سبحانه أن يستشهد والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وقيل: لأنه يحيا بالعلم والحكمة اللتين يؤتاهما، وقيل: لأن الله يحيي به الناس بالهدى، قال القرطبي: " كان اسمه في الكتاب الأول حيا "، ورأيت في " إنجيل متى " أنه عليه السلام كان يدعى يوحنا المعمداني لما أنه كان يعمد الناس في زمانه على ما يحكيه " كتب النصارى "، وجمع - يحيى - يحيون رفعا، ويحيين جرا ونصبا، وتثنيته كذلك يحييان ويحيين، ويقال في النسب إليه يحي بحذف الألف، ويحيوي - بقلبها واوا - ويحياوي بزيادة ألف قبل الواو المنقلبة عن الألف الأصلية، وفي تصغيره - يحيى - بوزن فعيعل قال مولانا شيخ الإسلام: وينبغي أن يكون هذا الكلام إلى آخره محكيا بعبارة من الله عز وجل على منهاج * (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) * (الزمر: 53) الآية كما يلوح به مراجعته عليه السلام في الجواب إليه تعالى بالذات لا بواسطة الملك، والعدول عن إسناد التبشير بنون العظمة حسبما وقع في - سورة مريم - للجري على سنن الكبرياء - كما في قول الخلفاء: أمير المؤمنين يرسم لك كذا - وللإيذان بأن ما حكى هناك من النداء والتبشير وما يترتب عليه من المحاورة كان كل ذلك بواسطة الملك بطريق الحكاية منه سبحانه لا بالذات - كما هو المتبادر - وبهذا يتضح اتحاد المعنى في السورتين الكريمتين فتأمل انتهى، وكان الداعي إلى
146

اعتبار ما هنا محكيا بعبارة من الله تعالى ظهور عدم صحة كون ما في سورة مريم من عبارة الملك غير محكي من الله تعالى، وأن الظاهر اتحاد الدعاءين وإلا فما هنا مما لا يجب حمله على ما ذكر لولا ذلك، والملوح غير موجب - كما لا يخفى - ولا بد في الموضعين من تقدير مضاف كالولادة إذ التبشير لا يتعلق بالأعيان، ويؤل في المعنى إلى ما هناك أي - إن الله يبشرك بولادة علام اسمه يحيى.
* (مصدقا بكلمة من الله) * نصب على الحال المقدرة من (يحيى)، والمراد بالكلمة عيسى عليه السلام - وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة - وعليه أجلة المفسرين وإنما سمي عيسى عليه السلام بذلك لأنه وجد بكلمة - كن - من دون توسط سبب عادي فشابه البديعيات التي هي عالم الأمر، و * (من) * لابتداء الغاية مجازا متعلقة بمحذوف وقع صفة لكلمة - أي بكلمة كائنة منه تعالى - وأريد بهذا التصديق الإيمان وهو أول من آمن بعيسى عليه السلام وصدق أنه كلمة الله تعالى وروح منه في المشهور. أخرج أحمد عن مجاهد قال: " قالت امرأة زكريا لمريم: إني أجد الذي في بطني يتحرك للذي في بطنك ". وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عن ابن عباس قال: " كان يحيى وعيسى ابني خالة وكانت أم يحيى تقول لمريم إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك " فذلك تصديقه له وكان أكبر من عيسى بستة أشهر كما قال الضحاك وغيره، وقيل: بثلاث سنين، قيل: وعلى كل تقدير يكون بين ولادة يحيى وبين البشارة بها زمان مديد لأن مريم ولدت وهي بنت ثلاث عشرة سنة أو بنت عشر سنين، واعترض بأن هذا إنما يتم لو كان دعاء زكريا عليه السلام زمن طفولية مريم قبل العشر أو الثلاث عشرة، وليس في الآية سوى ما يشعر بأن زكريا عليه السلام لما تكرر منه الدخول على مريم ومشاهدته الرزق لديها وسؤاله لها وسماعه منها ذلك الجواب اشتاق إلى الولد فدعا بما دعا، وهذا الدعاء كما يمكن أن يكون في مبادىء الأمر يمكن أن يكون في أواخره قبيل حمل مريم وكونه في الأواخر غير بعيد لما أن الرغبة حينئذ أوفر حيث شاهد عليه السلام دوام الأمر وثباته زمن الطفولية وبعدها، وهذا قلما يوجد في الأطفال إذ الكثير منهم قد يلقي الله تعالى على لسانه في صغره ما قد يكون عنه بمراحل في كبره فليس عندنا ما يدل صريحا على أن بين الولادة والتبشير مدة مديدة ولا بين الدعاء والتبشير أيضا، نعم عندنا ما يدل على أن يحيى أكبر من عيسى عليهما السلام وهو مما اتفق عليه المسلمون وغيرهم، ففي " إنجيل متى " ما يصرح بأنه ولد قبله وقتله هيردوس قبل رفعه وأنه عمد المسيح والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. وحكي عن أبي عبيدة أن معنى * (بكلمة من الله) * بكتاب منه، والمراد به الإنجيل وإطلاق الكلمة عليه كإطلاقها على القصيدة في قولهم - كلمة الحويدرة - للعينية المعروفة بالبلاغة.
* (وسيدا) * عطف على (مصدقا)، وفسره ابن عباس بالكريم، وقتادة بالحليم، والضحاك بالحسن الخلق، وسالم بالتقي، وابن زيد بالشريف، وابن المسيب بالفقيه العالم، وأحمد بن عاصم بالراضي بقضاء الله تعالى، والخليل بالمطاع الفائق أقرانه، وأبو بكر الوراق بالمتوكل، والترمذي بالعظيم الهمة، والثوري بمن لا يحسد، وأبو إسحق بمن يفوق بالخير قومه، وبعض أهل اللغة بالمالك الذي تجب طاعته، إلى غير ذلك من الأقوال وكل ما فيها من الأوصاف مما يصلح ليحيى عليه السلام لأنها صفات كمال، وأحق الناس بصفات الكمال النبيون إلا أن التحقيق أن أصل معنى السيد من يسود قومه يكون له أتباع ثم أطلق على كل فائق في دين أو دنيا، ويجوز أن يراد به هنا الفائق في الدين حيث إنه عليه السلام لم يهم بمعصية أصلا كما ورد ذلك من طريق عديدة.
147

وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن أبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل ابن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلا يحيى بن زكريا " وجوز أن يراد ما هو أصل معناه فإنه عليه السلام كان سيد قومه وله أتباع منهم، غاية الأمر أن تلك رياسة شرعية والاتيان به إثر قوله تعالى: * (مصدقا) * للإشارة إلى أنه نبي - كعيسى عليه السلام - وليس من أمته كما يفهمه ظاهرا قوله سبحانه: * (مصدقا بكلمة من الله) *. * (وحصورا) * عطف على ما قبله ومعناه الذي لا يأتي النساء مع القدرة على ذلك - قاله ابن عباس في إحدى الروايات عنه - وفي بعضها إنه العنين الذي لا ذكر له يتأتى به النكاح ولا ينزل، وروي الحفاظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ما معه عليه السلام كان كالأنملة، وفي بعض الروايات كالقذاة، وفي أخرى كالنواة وفي بعض كهدبة الثوب، قيل: والأصح الأول إذ العنة عيب لا يجوز على الأنبياء، وبتسليم أنها ليست بعيب فلا أقل أنها ليست بصفة مدح، والكلام مخرج مخرج المدح، وما أخرجه الحافظ على تقدير صحته يمكن أن يقال: إنه من باب التمثيل والإشارة إلى عدم انتفاعه عليه السلام بما عنده لعدم ميله للنكاح لما أنه في شغل شاغل عن ذلك. ومن هنا قيل: إن التبتل لنوافل العبادات أفضل من الاشتغال بالنكاح استدلالا بحال يحيى عليه السلام ومن ذهب إلى خلافه احتج بما أخرجه الطبراني عن أبي أمامة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أربعة لعنوا في الدنيا والآخرة وأمنت الملائكة، رجل جعله الله تعالى ذكرا فأنث نفسه وتشبه بالنساء، وامرأة جعلها الله تعالى أنثى فتذكرت وتشبهت بالرجال، والذي يضل الأعمى، ورجل حصور ولم يجعل الله تعالى حصورا إلا يحيى بن زكريا " وفي رواية " لعن الله تعالى والملائكة رجلا تحصر بعد يحيى بن زكريا " ويجوز أن يراد بالحصور المبالغ في حصر النفس وحبسها عن الشهوات مع القدرة وقد كان حاله عليه السلام أيضا كذلك. أخرج عبد الرزاق عن قتادة موقوفا وابن عساكر عن معاذ بن جبل مرفوعا أنه عليه السلام مر في صباه بصبيان يلعبون فدعوه إلى اللعب فقال: ما للعب خلقت.
* (ونبيا) * عطف على ما قبله مترتب على ما عدد من الخصال الحميدة * (من الصالحين) * أي ناشئا منهم أو معدودا في عدادهم - فمن - على الأول للابتداء، وعلى الثاني للتبعيض قيل: ومعناه على الأول ذو نسب، وعلى الثاني معصوم، وعلى التقديرين لا يلغو ذكره بعد - نبيا - وقد يقال: المراد من الصلاح ما فوق الصلاح الذي لا بد منه في منصب النبوة ألبتة من أقاصي مراتبه وعليه مبنى دعاء سليمان عليه السلام: * (وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) * (النمل: 19) ولعله أولى مما قبل.
* (قال رب أنى يكون لي غل‍ام وقد بلغني الكبر وامرأتى عاقر قال كذالك الله يفعل ما يشآء) *.
* (قال رب أنى يكون لي غلام) * استئناف مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا قال زكريا عليه السلام حينئذ؟ فقيل: * (قال رب) * الخ، وخاطب عليه السلام ربه سبحناه ولم يخاطب الملك المنادي طرحا للوسائط مبالغة في التضرع وجدا في التبتل، و * (أنى) * بمعنى كيف، أو من أين، وكان يجوز أن تكون تامة وفاعلها * (غلام) * و * (أنى) * واللام متعلقان بها، ويجوز أن تكون ناقصة، و * (لي) * متعلق بمحذوف وقع حالا لأنه لو تأخر لكان صفة، وفي الخبر حينئذ وجهان: أحدهما: * (أنى) * لأنها بمعنى كيف، أو من أين والثاني: أن الخبر الجار، و * (أنى) * منصوب على الظرفية، وفي التنصيص على ذكر الغلام دلالة على أنه قد أخبر به عند التبشير كما في قوله تعالى: * (إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى) * (مريم: 7).
* (وقد بلغني الكبر) * حال من ياء المتكلم أي أدركني الكبر وأثر
148

في، وأسند البلوغ إلى الكبر توسعا في الكلام كأن الكبر طالب له وهو المطلوب. روي عن ابن عباس أنه كان له عليه السلام - حين بشر بالولد - مائة وعشرون سنة وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة، وقيل: كان له من العمر تسع وتسعون سنة، وقيل: اثنتان وتسعون، وقيل خمس وثمانون، وقيل: خمس وسبعون، وقيل سبعون، وقيل: ستون * (وامرأتي عاقر) * جملة حالية أيضا إما من ياء * (لي) * أو ياء * (بلغني) * و - العاقر - العقيم التي لا تلد من العقر - وهو القطع لأنها ذات عقر من الأولاد، وصيغة فاعل فيه للنسب وهو في المعنى مفعول أي معقورة، ولذلك لم تلحق تاء التأنيث - قاله أبو البقاء - وكانت الجملة الأولى فعلية لأن الكبر يتجدد شيئا فشيئا ولم يكن وصفا لازما (وكانت) الثانية اسمية لأن كونها عاقرا وصف لازم لها وليس أمرا طارئا عليها، وإنما قال ذلك عليه السلام مع سبق دعائه بذلك وقوة يقينه بقدرة الله تعالى عليه لاسيما بعد مشاهدته عليه السلام الشواهد السالفة استفسارا عن كيفية حصول الولد أيعطاه على ما هو عليه من الشيب ونكاح امرأة عاقر أم يتغير الحال - قاله الحسن - وقيل: اشتبه عليه الأمر أيعطي الولد من امرأته العجوز أم من امرأة أخرى شابة فقال ما قال، وقيل: قال ذلك على سبيل الاستعظام لقدرة الله تعالى والتعجب الذي يحصل للإنسان عند ظهور آية عظيمة كمن يقول لغيره: كيف سمحت نفسك بإخراج ذلك الملك النفيس من يدك؟! تعجبا من جوده، وقيل: إن الملائكة لما بشرته بيحيى لم يعلم أنه يرزق الولد من جهة التبني؛ أو من صلبه فذكر ذلك الكلام ليزول هذا الاحتمال، وقيل: إن العبد إذا كان في غاية الاشتياق إلى شيء وطلبه من السيد ووعده السيد باعطائه ربما تكلم بما يستدعي إعادة الجواب ليلتذ بالإعادة وتسكن نفسه بسماع تلك الإجابة مرة أخرى فيحتمل أن يكون كلام زكريا عليه السلام هذا من هذا الباب، وقيل: قال ذلك استبعادا من حيث العادة لأنه لما دعا كان شابا ولما أجيب كان شيخا بناءا على ما قيل: إن بين الدعاء والإجابة أربعين
سنة أو ستين سنة - كما حكي عن سفيان بن عيينة - وكان قد نسي دعاءه ولا يخفى ما في أكثر هذه الأقوال من البعد، وأبعد منها ما نقل عن السدي - أن زكريا عليه السلام جاءه الشيطان عند سماع البشارة فقال: إن هذا الصوت من الشيطان وقد سخر منك فاشتبه الأمر عليه فقال: رب أنى يكون لي ولد - وكان مقصوده من ذلك أن يريه الله تعالى آية تدل على أن ذلك الكلام من الوحي لا من الشيطان، ومثله ما روى ابن جرير عن عكرمة أنه قال: " أتاه الشيطان فأراد أن يكدر عليه نعمة ربه فقال: هل تدري من ناداك؟ قال: نعم ناداني ملائكة ربي قال: بل ذلك الشيطان ولو كان هذا من ربك لأخفاه إليك كما أخفيت نداءاك فقال: رب أنى يكون لي - الخ، واعترضه القاضي وغيره بأنه لا يجوز أن يشتبه كلام الملائكة بكلام الشيطان عند الوحي على الأنبياء عليهم السلام إذ لو جوزنا ذلك لارتفع الوثوق عن كل الشرائع، وأجيب بأنه يمكن أن يقال: إنه لما قامت المعجزات على صدق الوحي في كل ما يتعلق بالدين فلا جرم يحصل الوثوق هناك بأن الوحي من الله تعالى بواسطة الملك ولا يدخل الشيطان فيه، وأما فيما يتعلق بمصالح الدنيا - والولد أشبه شيء بها - فربما لم يتأكد ذلك بالمعجز، فلا جرم بقي احتمال كون ذلك الكلام من الشيطان ولهذا رجع إلى الله تعالى في أن يزيل عن خاطره ذلك الاحتمال، وأنت تعلم أن الاعتراض - ذكر - والجواب - أنثى - ولعل هذا المبحث يأتيك إن شاء الله تعالى مستوفى عند تفسير قوله تعالى: * (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) * (الحج: 52) الآية. وبالجملة القول باشتباه الأمر على زكريا عليه السلام في غاية البعد لا سيما وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر
149

عن قتادة أنه قال: إن الملائكة شافهته عليه السلام بذلك مشافهة فبشرته بيحيى.
* (قال) * أي الرب، والجملة استئناف على طرز ما مر * (كذالك الله يفعل ما يشآء) * أي يفعل الله ما يشاء أن يفعله من الأفعال العجيبة الخارقة للعادة فعلا مثل ذلك الفعل العجيب والصنع البديع الذي هو خلق الولد مع الحالة التي يستبعد معها الخلق بحسب العادة، فالكاف في محل نصب على أنها صفة لمصدر محذوف، والإشارة لذلك المصدر، وقدم الجار لإفادة القصر بالنسبة إلى ما هو أدنى من المشار إليه واعتبرت الكاف مقحمة لتأكيد الفخامة المشعر بها اسم الإشارة على ما أشير إليه من قبل في نظيره، ويحتمل الكلام أوجها أخر. الأول: أن يكون الكاف في موضع الحال من ضمير المصدر المقدر معرفة أي يفعل الفعل كائنا مثل ذلك، الثاني: أن يكون في موضع الرفع على أنه خبر مقدم، و * (الله) * مبتدأ مؤخر أي كهذا الشأن العجيب شأن الله تعالى، وتكون جملة * (يفعل ما يشاء) * بيانا لذلك الشأن المبهم، الثالث: أن يكون * (كذلك) * في موضع الخبر لمبتدأ محذوف أي: الأمر كذلك وتكون جملة * (الله يفعل ما يشاء) * بيانا أيضا، الرابع: أن يكون ذلك إشارة إلى المذكور من حال زكريا عليه السلام كأنه قال: رب على أي حال يكون لي الغلام؟ فقيل له: كما أنت يكون الغلام لك، وتكون الجملة حينئذ تعليلا لما قبلها كذا قالوا، ولا يخفى ما في بعض الأوجه من البعد، وعلى كل تقدير التعبير بالاسم الجليل روما للتعظيم.
* (قال رب اجعل لىءاية قال ءايتك ألا تكلم الناس ثل‍اثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشى والإبك‍ار) *.
* (قال رب اجعل ليءاية) * أي علامة تدلني على العلوق وإنما سألها استعجالا للسرور قاله الحسن، وقيل ليتلقى تلك النعمة بالشكر حين حصولها ولا يؤخر حتى تظهر ظهورا معتادا، ولعل هذا هو الأنسب بحال أمثاله عليه السلام، وقول السدي: إنه سأل الآية - ليتحقق أن تلك البشارة منه تعالى لا من الشيطان - ليس بشيء كما أشرنا إليه آنفا، والجعل إما بمعنى التصيير فيتعدى إلى مفعولين أولهما: * (آية) *، وثانيما: * (لي) * والتقديم لأنه المسوغ لكون * (آية) * مبتدأ عند الانحلال، وإما بمعنى الخلق والإيجاد فيتعدى إلى مفعول واحد وهو * (آية) * و * (لي) * حينئذ في محل نصب على الحال من * (آية) * لأنه لو تأخر عنها كان صفة لها، وصفة النكرة إذا تقدمت عليها أعربت حالا منها كما تقدمت الإشارة إليه غير مرة - ويجوز أن يكون متعلقا بما عنده وتقديمه للاعتناء به والتشويق لما بعده.
* (قال ءايتك الا تكلم الناس) * أي أن لا تقدر على تكليمهم من غير آفة وهو الأنسب بكونه آية والأوفق لما في سورة مريم، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن جبير بن معتمر قال: ربا لسانه في فيه حتى ملأه فمنعه الكلام، والآية فيه عدم منعه من الذكر والتسبيح، وعلى كلا التقديرين عدم التكليم اضطراري، وقال أبو مسلم: إنه اختياري، والمعنى - آيتك أن تصير مأمورا بعدم التكلم إلا بالذكر والتسبيح - ولا يخفى بعده هنا، وعليه وعلى القولين قبله يحتمل أن يراد من عدم التكليم ظاهره فقط وهو الظاهر، ويحتمل أن يكون كناية عن الصيام لأنهم كانوا إذ ذاك إذا صاموا لم يكلموا أحدا - وإلى ذلك ذهب عطاء - وهو خلاف الظاهر، ومع هذا يتوقف قبوله على توقيف، وإنما خص تكليم الناس للإشارة إلى أنه غير ممنوع من التكلم بذكر الله تعالى * (ثلاثة أيام) * أي متوالية، وقال بعضهم المراد ثلاثة أيام ولياليها، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي ليالي ثلاثة أيام لقوله سبحانه في سورة (مريم: 10) * (ثلاث ليال) * والحق أن الآية كانت عدم التكليم ستة أفراد إلا أنه اقتصر تارة على ذكر * (ثلاث أيام) * منها وأخرى على * (ثلاث ليال) * وجعل ما لم يذكر في كل تبعا لما ذكر، قيل: وإنما قدم التعبير بالأيام لأن يوم كل ليلة
150

قبلها في حساب الناس يومئذ، وكونه بعدها إنما هو عند العرب خاصة كما تقدمت الإشارة إليه، واعترض بأن - آية الليالي - متقدمة نزولا لأن السورة التي هي فيها مكية والسورة التي فيها - آية الأيام - مدنية، وعليه يكون أول ظهور هذه الآية ليلا ويكون اليوم تبعا لليلة التي قبلها على ما يقتضيه حساب العرب فتدبر. فالبحث محتاج إلى تحرير بعد، وإنما جعل عقل اللسان آية العلوق لتخلص المدة لذكر الله تعالى وشكره قضاءا لحق النعمة كأنه قيل له: آية حصول النعمة أن تمنع عن الكلام إلا بشكرها، وأحسن الجواب على ما قيل ما أخذ من السؤال كما قيل لأبي تمام لم تقول ما لا نفهم؟ فقال: لم لا نفهم ما يقال؟ وهذا مبني على أن سؤال الآية منه عليه السلام إنما كان لتلقي النعمة بالشكر، ولعل دلالة كلامه على ذلك بواسطة المقام وإلا ففي ذلك خفاء كما لا يخفى. وأخرج عبد الرزاق وغيره عن قتادة أن حبس لسانه عليه السلام كان من باب العقوبة حيث طلب الآية بعد مشافهة الملائكة له بالبشارة ولعل الجناية حينئذ من باب - حسنات الأبرار سيآت المقربين - ومع هذا حسن الظن يميل إلى الأول، ومذهب قتادة - لا آمن على الأقدام الضعيفة - قتادة * (إلا رمزا) * أي إيماءا وأصله التحرك يقال: ارتمز أي تحرك، ومنه قيل للبحر: الراموز،
وأخرج الطيبي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن الرمز فقال: الإشارة باليد والوحي بالرأس فقال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم أما سمعت قول الشاعر: ما في السماء من الرحمن (مرتمز) * إلا إليه وما في الأرض من وزر
وعن مجاهد أن الرمز هنا كان تحريك الشفتين، وقيل: الكتابة على الأرض، وقيل: الإشارة بالمسبحة، وقيل: الصوت الخفي وقيل: كل ما أوجب اضطرابا في الفهم كان رمزا وهو استثناء منقطع بناءا على أن الرمز الإشارة والإفهام من دون كلام - وهو حينئذ ليس من قبيل المستثنى منه - وجوز أن يكون متصلا بناءا على أن المراد بالكلام ما فهم منه المرام ولا ريب في كون الرمز من ذاك القبيل، ولا يخفى أن هذا التأويل خلاف الظاهر ويلزم منه أن لا يكون استثناء منقطع في الدنيا أصلا إذ ما من استثناء إلا ويمكن تأويله بمثل ذلك مما يجعله متصلا ولا قائل به، وتعقب ابن الشجري النصب على الاستثناء هنا مطلقا وادعى أن * (رمزا) * مفعول به منتصب بتقدير حذف الخافض، والأصل أن لا تكلم الناس إلا برمز، فالعامل الذي قبل * (إلا) * مفرغ في هذا النحو للعمل فيما بعدها بدليل أنك لو حذفت * (إلا) * وحرف النفي استقام الكلام تقول في نحو - ما لقيت إلا زيدا - لقيت زيدا، وفي - ما خرج إلا زيد - خرج زيد، وكذا لو قلت - آيتك أن تكلم الناس رمزا - استقام وليس كذلك الاستثناء، فلو قلت: ليس القوم في الدار إلا زيدا أو إلا زيد - ثم حذفت النفي وإلا - فقلت: القوم في الدار زيدا، أو زيد لم يستقم، فكذا المنقطع نحو - ما خرج القوم إلا حمارا - لو قلت: خرج القوم حمارا لم يستقم قاله السفاقسي، وقرأ يحيى بن وثاب * (إلا رمزا) * بضمتين جمع رموز كرسول ورسل. وقرىء * (ورمزا) * بفتحتين جمع رامز - كخادم وخدم - وهو من نادر الجمع وعلى القراءتين يكون حالا من الفاعل والمفعول معا أي مترامزين. ومثله قول عنترة: متى ما تلقني (فردين) ترجف * روانف أليتيك وتستطارا
وجوز أبو البقاء أن يكون * (رمزا) * على قراءة الضم مصدرا، وجعله مسكن الميم في الأصل والضم عارض للاتباع كاليسر واليسر، وعليه لا يختلف إعرابه فافهم.
* (واذكر ربك) * أي في أيام الحبسة شكرا لتلك النعمة
151

كما يشعر به التعرض لعنوان الربوبية، وقيل: يحتمل أن يكون الأمر بالذكر شكرا للنعمة مطلقا لا في خصوص تلك الأيام، وأن يكون في جميع أيام الحمل لتعود بركاته إليه، والمنساق إلى الذهن هو الأول، والجملة مؤكدة لما قبلها مبينة للغرض منها، واستشكل العطف من وجهين: الأول عطف الإنشاء على الإخبار، والثاني: عطف المؤكد على المؤكد، وأجيب بأنه معطوف على محذوف أي اشكر واذكر، وقيل: لا يبعد أن يجعل الأمر بمعنى الخبر عطفا على (لا تكلم) فيكون في تقدير: أن لا تكلم وتذكر ربك، ولا يخفى ما فيه * (كثيرا) * صفة لمصدر محذوف أو زمان كذلك أي ذكرا كثيرا وزمانا كثيرا * (وسبح بالعشي) * وهو من الزوال إلى الغروب - قاله مجاهد - وقيل: من العصر إلى ذهاب صدر الليل * (والإبكار) * أي وقته وهو من الفجر إلى الضحى، وإنما قدر المضاف لأن الإبكار بكسر الهمزة مصدر لا وقت فلا تحسن المقابلة كذل قيل: وهو مبني على أن * (العشى) * - جمع عشية - الوقت المخصوص، وإليه ذهب أبو البقاء، والذي ذهب إليه المعظم أنه مصدر أيضا على فعيل لا جمع. وإليه يشير كلام الجوهري فافهم؛ وقرىء * (والأبكار) * بفتح الهمزة فهو حينئذ جمع بكر كسحر لفظا ومعنى - وهو نادر الاستعمال - قيل: والمراد بالتسبيح الصلاة بدليل تقييده بالوقت كما في قوله تعالى: * (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) * (الروم: 17) وقيل: الذكر اللساني كما أن المراد بالذكر الذكر القلبي، وعلى كلا التقديرين لا تكرار في ذكر التسبيح مع الذكر، و - أل - في الوقتين للعموم. وأبعد من جعلها للعهد أي عشي تلك الأيام الثلاثة وأبكارها والجار والمجرور متعلق بما عنده، وليس من باب التنازع في المشهور، وجوزه بعضهم فيكون الأمر بالذكر مقيدا بهذين الوقتين أيضا، وزعم بعضهم أن تقييده بالكثرة يدل على أنه لا يفيد التكرار. وفيه بعد تسليم أنه مقيد به فقط أن الكثرة أخص من التكرار.
وهذا ومن باب البطون: في الآيات أن زكريا عليه السلام كان شيخا هما وكان مرشدا للناس فلما رأى ما رأى أي تحركت غيرة النبوة فطلب من ربه ولدا حقيقيا يقوم مقامه في تربية الناس وهدايتهم فقال: * (رب هب لي من لدنك ذرية طيبة) * (آل عمران: 38) أي مطهرة من لوث الاشتغال بالسوى منفرذة عن إراداتها مقدسة من شهواتها * (فنادته الملائكة وهو قائم) * على ساق الخدمة * (يصلي في المحراب) * وهو محل المراقبة ومحاربة النفس * (أن الله يبشرك بيحيى) * وسمي به لأن من شاهد الحق في جمال نبوته يحيا قلبه من موت الفترة، أو لأنه هو يحيا بالنبوة والشهادة * (مصدقا بكلمة من الله) * وهو ما ينزل به الملك على القلوب المقدسة * (وسيدا) * وهو الذي غلب عليه نور هيبة عزة الحق، وقال الصادق: هو المباين للخلق وصفا وحالا وخلقا؛ وقال الجنيد: هو الذي جاد بالكونين طلبا لربه، وقال ابن عطاء: هو المتحقق بحقيقة الحق، وقال ابن منصور: هو من خلا عن أوصاف البشرية وحلى بنعوت الربوبية، وقال محمد بن علي: هو من استوت أحواله عند المنع والاعطاء والرد والقبول * (وحصورا) * وهو الذي حصر ومنع عن جميع الشهوات وعصم بالعصمة الأزلية، وقال الاسكندراني: هو المنزه عن الأكوان وما فيها * (ونبيا) * أي مرتفع القدر بهبوط الوحي عليه ومعدودا * (من الصالحين) * (آل عمران: 39) وهم أهل الصف الأول من صفوف الأرواح المجندة المشاهدة للحق في مرايا الخلق قال استعظاما للنعمة: * (أنى يكون لي غلام) * والحال * (قد بلغني الكبر) * وهو أحد الموانع العادية * (وامرأتي عاقر) * وهو مانع آخر * (قال كذلك الله يفعل ما يشاء) * (آل عمران: 40) حسبما تقتضيه الحكمة * (قال رب اجعل لي آية) * على العلوق لأشكرك على هذه النعمة إذ شكر المنعم واجب وبه تدوم المواهب الإلهية * (قال آيتك
152

ألا تكلم الناس) * بأن يحصر لسانك عن محادثتهم ليتجرد سرك لربك ويكون ظاهرك وباطنك مشغولا به * (إلا رمزا) * تدفع به ضيق القلب عند الحاجة، وحقيقة الرمز عند العارفين تعريض السر إلى السر وإعلام الخاطر للخاطر بنعت تحريك سلسلة المواصلة بين المخاطب والمخاطب * (واذكر ربك كثيرا) * بتخليص النية عن
الخطرات وجمع الهموم بنعت تصفية السر في المناجاة وتحير الروح في المشاهدات * (وسبح) * أي نزه ربك عن الشركة في الوجود * (بالعشي والإبكار) * بالفناء والبقاء.
وإن أردت تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس فتقول: * (هنالك دعا زكريا) * الاستعداد * (ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة) * وهي النفس الطاهرة المقدسة عن النقائص * (إنك سميع الدعاء) * (آل عمران: 38) ممن صدق في الطلب * (فنادته) * ملائكة القوى الروحانية * (وهو قائم) * منتهض لتكميل النشأة * (يصلي) * ويدعو في محراب التضرع إلى الله تعالى المفيض على القوابل بحسب القابليات * (أن الله يبشرك بيحيى) * وهو الروح الحي بروح الحق والصفات الإلهية * (مصدقا بكلمة من الله) * وهي ما تلقيها ملائكة الإلهام من قبل الفياض المطلق * (وسيدا) * لم تملكه الشهوات النفسانية * (وحصورا) * أي مبالغا في الامتناع عن اللذائذ الدنيوية * (ونبيا) * بما يتلقاه من عالم الملكوت ومعدودا * (من الصالحين) * (آل عمران: 39) لهاتيك الحضرة القائمين بحقوق الحق والخلق لاتصافه بالبقاء بعد الفناء * (قال رب أنى) * أي كيف * (يكون لي غلام وقد بلغني الكبر) * وضعف القوى الطبيعية * (وامرأتي) * وهي النفس الحيوانية * (عاقر) * عقيم عن ولادة مثل هذا الغلام إذ لا تلد الحية إلا حيية * (قال كذلك الله) * في غرابة الشأن * (يفعل ما يشاء) * (آل عمران: 40) من العجائب التي يستبعدها من قيده النظر إلى المألوفات، وبقي أسيرا في سجن العادات * (قال رب اجعل لي آية) * على ذلك لأشكرك مستمطرا زيادة نعمك التي لا منتهى لها * (قال آيتك ألا تكلم الناس) * وهم ما يأنس به من اللذائذ المباحة * (ثلاثة أيام) * وهي يوم الفناء بالأفعال ويوم الفناء بالصفات ويوم الفناء بالذات * (إلا رمزا) * أي قدرا يسيرا تدعو الضرورة إليه * (واذكر ربك) * الذي رباك حتى أوصلك إلى هذه الغاية * (كثيرا) * حيث من عليك بخير كثير * (وسبح) * أي نزه ربك عن نقائص التقيد بالمظاهر * (بالعشي والإبكار) * أي وقتي الصحو والمحو. وبعض الملتزمين لذكر البطون ذكر في تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس أن القوى البدنية امرأة عمران الروح نذرت ما في قوتها من النفس المطمئنة فوضعت أنثى النفس فكفلها زكريا الفكر فدخل عليها زكريا محراب الدماغ فوجد عندها رزقا من المعاني الحدسية التي انكشفت لها بصفائها فهنالك دعا زكريا الفكر بتركيب تلك المعاني واستوهب ولدا مقدسا من لوث الطبيعة فسمع الله تعالى دعاءه فنادته ملائكة القوى الروحانية وهو قائم في أمره بتركيب المعلومات يناجي ربه باستنزال الأنوار في محراب الدماغ * (أن الله يبشرك بيحيى) * العقل مصدقا بعيسى القلب الذي هو كلمة من الله لتقدسه عن عالم الأجرام * (وسيدا) * لجميع أصناف القوى * (وحصورا) * عن مباشرة الطبيعة * (ونبيا) * بالإخبار عن المعارف والحقائق وتعليم الأخلاق ومنتظما في سلك الصالحين وهم المجردات ومقربو الحضرة * (قال (رب) أنى يكون) * ذلك * (وقد بلغني) * كبر منتهى الطور * (وامرأتي) * وهي طبيعة الروح النفسانية * (عاقر) * بالنور المجرد فطلب لذلك علامة فقيل له: علامة ذلك الإمساك عن مكالمة القوى البدنية في تحصيل مآربهم من اللذائذ * (ثلاثة أيام) * كل يوم عقد تام من أطوار العمر وهو عشر سنين * (إلا) * بالإشارة الخفية، وأمر بالذكر في هذه الأيام التي هي مع العشر الأول التي هي سن التميز أربعون سنة
153

انتهى - وهو قريب مما ذكرته - ولعل ما ذكرته على ضعفي أولى منه، وباب التأويل واسع وبطون كلام الله تعالى لا تحصى.
* (وإذ قالت الملائكة يامريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نسآء االعالمين) *.
* (وإذ قالت الملائكة) * تتمة لشرح أحكام اصطفاء آل عمران، ووقعت قصة زكريا، ويحيى عليهما السلام في البين لما فيها مما يؤكد ذلك الاصطفاء، و * (إذ) * في المشهور منصوب بالذكر، والجملة معطوفة على الجملة السابقة عطف القصة على القصة وبينهما كمال المناسبة لأن تلك مسوقة أولا وبالذات لشرح حال الأم وهذه لشرح حال البنت، والمراد من الملائكة رئيسهم جبريل عليه السلام، والكلام هنا كالكلام فيما تقدم، وجوز أبو البقاء كون الظرف معطوفا على الظرف السابق وناصبه ناصبه والأول أولى، والمراد: أذكر أيضا من شواهد اصطفاء أولئك الكرام وقت قول الملائكة عليهم السلام * (يا مريم إن الله اصطفاك) * أي اختارك من أول الأمر ولطف بك وميزك على كل محرر وخصك بالكرامات السنية، والتأكيد اعتناءا بشأن الخبر وقول الملائكة لها ذلك كان شفاها على ما دلت عليه الأخبار ونطقت به الظواهر، وفي بعض الآثار ما يقتضي تكرر هذا القول من الملائكة لها، فقد أخرج ابن جرير عن ابن إسحاق أنه قال: كانت مريم حبيسا في الكنيسة ومعها فيها غلام اسمه يوسف وقد كان أمه وأبوه جعلاه نذيرا حبيسا فكانا في الكنيسة جميعا وكانت مريم إذا نفد ماؤها وماء يوسف أخذا قلتيهما فانطلقا إلى المغارة التي فيها الماء فيملآن ثم يرجعان والملائكة في ذلك مقبلة على مريم بالبشارة يا مريم إن الله اصطفاك الآية فإذا سمع ذلك زكريا عليه السلام قال: إن لابنة عمران لشأنا، وقيل: إن الملائكة عليهم السلام ألهموها ذلك، ولا يخفى أن تفسير القول بالإلهام وإسناده للملائكة خلاف الظاهر وإن كان لا منع من أن يكون بواسطتهم أيضا على أنه قول لا يعضده خبر أصلا، وعلى القول الأولى يكون التكليم من باب الكرامة التي يمن بها الله سبحانه على خواص عباده، ومن أنكرها زعم أن ذلك إرهاص وتأسيس لنبوة عيسى عليه السلام أو معجزة لزكريا عليه السلام، وأورد على الأول أن الإرهاص في المشهور أن يتقدم على دعوى النبوة ما يشبه المعجزة كإظلال الغمام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتكلم الحجر معه، وهذا بظاهره يقتضي وقوع الخارق عل يد النبي صلى الله عليه وسلم لكن قبل أن ينبأ لا على يد غيره كما فيما نحن فيه، ويمكن أن يدفع بالعناية؛ وأورد على الثاني بأنه بعيد جدا إذ لم يقع الكلام مع زكريا عليه السلام ولم يقترن ذلك بالتحدي أيضا فكيف يكون معجزة له، واستدل بهذه الآية من ذهب إلى نبوة مريم لأن تكليم الملائكة يقتضيها، ومنعه اللقاني بأن الملائكة قد كلموا من ليس بنبي إجماعا فقد روي أنهم كلموا رجلا خرج لزيارة أخ له في الله تعالى وأخبروه أن الله سبحانه يحبه كحبه لأخبه فيه ولم يقل أحد بنبوته، وادعى أن من توهم أن النبوة مجرد الوحي ومكالمة الملك فقد حاد عن الصواب. ومن الناس من استدل على عدم استنباء النساء بالإجماع وبقوله تعالى: * (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا) * (الأنبياء: 7) ولا يخفى ما فيه، أما أولا: فلأن حكاية الإجماع في غاية الغرابة فإن الخلاف في
نبوة نسوة - كحواء، وآسية، وأم موسى، وسارة، وهاجر، ومريم - موجود خصوصا مريم فإن القول بنبوتها شهير، بل مال الشيخ تقي الدين السبكي في " الحلبيات "، وابن السيد إلى ترجيحه، وذكر أن ذكرها مع الأنبياء في سورتهم قرينة قوية لذلك. وأما ثانيا: فلأن الاستدلال بالآية لا يصح لأن المذكور فيها الإرسال وهو أخص من الاستنباء على الصحيح المشهور، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم فافهم.
* (وطهرك) * أي من الأدناس والأقذار التي تعرض للنساء
154

مثل الحيض والنفاس حتى صرت صالحة لخدمة المسجد - قاله الزجاج - وروي عن الحسن وابن جبير أن المراد طهرك بالإيمان عن الكفر وبالطاعة عن المعصية، وقيل: نزهك عن الأخلاق الذميمة والطباع الرديئة، والأولى الحمل على العموم أي طهرك من الأقذار الحسية والمعنوية والقلبية والقالبية. * (واصطفاك على نساء العالمين) * يحتمل أن يراد بهذا الاصطفاء غير الاصطفاء الأول وهو ما كان آخرا من هبة عيسى عليه السلام لها من غير أب ولم يكن ذلك لأحد من النساء، وجعلها وإياه آية للعالمين، ويحتمل أن يراد به الأول وكرر للتأكيد وتبيين من اصطفاها عليهن، وعلى الأول يكون تقديم حكاية هذه المقاولة على حكاية بشارتها بعيسى عليه السلام للتنبيه على أن كلا منهما مستحق للاستقلال بالتذكر وله نظائر قد مر بعضها، وعلى الثاني لا إشكال في الترتيب وتكون حكمة تقدم هذه المقاولة - على البشارة - الإشارة إلى كونها عليها السلام قبل ذلك مستعدة لفيضان الروح عليها بما هي عليه من التبتل والانقياد حسب الأمر، ولعل الأول أولى - كما قال الإمام - لما أن التأسيس خير من التأكيد. والمراد من نساء العالمين قيل: جميع النساء في سائر الأعصار، واستدل به على أفضليتها على فاطمة، وخديجة، وعائشة رضي الله تعالى عنهن، وأيد ذلك بما أخرجه ابن عساكر في أحد الطرق عن ابن عباس أنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران، ثم فاطمة، ثم خديجة، ثم آسية امرأة فرعون " وبما أخرجه ابن أبي شيبة عن مكحول، وقريب منه ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أحناه على ولد في صغره وأرعاه على بعل في ذات يده ولو علمت أن مريم ابنة عمران ركبت بعيرا ما فضلت عليها أحدا " وبما أخرجه ابن جرير عن فاطمة صلى الله عليه وسلم على أبيها وعليها أنها قالت: " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم البتول ".
وقيل: المراد نساء عالمها فلا يلزم منه أفضليتها على فاطمة رضي الله تعالى عنها، ويؤيده ما أخرجه ابن عساكر من طريق مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أربع نسوة سادات عالمهن، مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخدجية بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وأفضلهن عالما فاطمة " وما رواه الحرث بن أسامة في " مسنده " بسند صحيح لكنه مرسل " مريم خير نساء عالمها " وإلى هذا ذهب أبو جعفر رضي الله تعالى عنه وهو المشهور عن أئمة أهل البيت - والذي أميل إليه - أن فاطمة البتول أفضل النساء المتقدمات والمتأخرات من حيث إنها بضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل ومن حيثيات أخر أيضا، ولا يعكر على ذلك الأخبار السابقة لجواز أن يراد بها أفضلية غيرها عليها من بعض الجهات وبحيثية من الحيثيات - وبه يجمع بين الآثار - وهذا سائغ على القول بنبوة مريم أيضا إذ البضعية من روح الوجود وسيد كل موجود لا أراها تقابل بشيء،
وأين الثريا من يد المتناول
ومن هنا يعلم أفضليتها على عائشة رضي الله تعالى عنها الذاهب إلى خلافها الكثير محتجين بقوله صلى الله عليه وسلم: " خذوا ثلثي دينكم عن الحميراء " وقوله عليه الصلاة والسلام: " فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام " وبأن عائشة يوم القيامة في الجنة مع زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة يومئذ فيها مع زوجها علي كرم الله تعالى وجهه، وفرق عظيم بين مقام النبي صلى الله عليه وسلم ومقام علي كرم الله تعالى وجهه.
وأنت تعلم ما في هذا الاستدلال وأنه ليس بنص على أفضلية الحميراء على الزهراء، أما أولا: فلأن
155

قصارى ما في الحديث الأول على تقدير ثبوته إثبات أنها عالمة إلى حيث يؤخذ منها ثلثا الدين، وهذا لا يدل على نفي العلم المماثل لعلمها عن بضعته عليه الصلاة والسلام، ولعلمه صلى الله عليه وسلم أنها لا تبقى بعده زمنا معتدا به يمكن أخذ الدين منها فيه لم يقل فيها ذلك، ولو علم لربما قال: خذوا كل دينكم عن الزهراء، وعدم هذا القول في حق من دل العقل والنقل على علمه لا يدل على مفضوليته وإلا لكانت عائشة أفضل من أبيها رضي الله تعالى عنه لأنه لم يرو عنه في الدين إلا قليل لقلة لبثه وكثرة غائلته بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن قوله عليه الصلاة والسلام: " إني تركت فيكم الثقلين كتاب الله تعالى وعترتي لا يفترقان حتى يردا على الحوض " يقوم مقام ذلك الخبر وزيارة - كما لا يخفى - كيف لا وفاطمة رضي الله تعالى عنها سيدة تلك العترة؟!. وأما ثانيا: فلأن الحديث الثاني معارض بما يدل على أفضلية غيرها رضي الله تعالى عنها عليها، فقد أخرج ابن جرير عن عمار بن سعد أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين " بل هذا الحديث أظهر في الأفضلية وأكمل في المدح عند من انجاب عن عين بصيرته عين التعصب والتعسف لأن ذلك الخبر وإن كان ظاهرا في الأفضلية لكنه قيل ولو على بعد: إن - أل - في النساء فيه للعهد؛ والمراد بها الأزواج الطاهرات الموجودات حين الإخبار ولم يقل مثل ذلك في هذا الحديث. وأما ثالثا: فلأن الدليل الثالث يستدعي أن يكون سائر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من سائر الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام لأن مقامهم بلا ريب ليس كمقام صاحب المقام المحمود صلى الله عليه وسلم فلو كانت الشركة في المنزل مستدعية للأفضلية لزم ذلك قطعا ولا قائل به.
وبعد هذا كله الذي يدور في خلدي أن أفضل النساء فاطمة، ثم أمها، ثم عائشة بل لو قال قائل إن سائر بنات النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من عائشة لا أرى عليه بأسا؛ وعندي بين مريم وفاطمة توقف نظرا للأفضلية المطلقة، وأما بالنظر إلى الحيثية فقد علمت ما أميل إليه، وقد سئل الإمام السبكي عن هذه المسألة فقال: الذي نختاره وندين الله تعالى به أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم أفضل، ثم أمها، ثم عائشة - ووافقه في ذلك البلقيني - وقد صحح ابن العماد أن خديجة أيضا أفضل
من عائشة لما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال لعائشة حين قالت: قد رزقك الله تعالى خيرا منها، فقال لها: لا والله ما رزقني الله تعالى خيرا منها آمنت بي حين كذبني الناس وأعطتني مالها حين حرمني الناس؛ وأيد هذا بأن عائشة أقرأها السلام النبي صلى الله عليه وسلم من جبريل، وخديجة أقرأها السلام جبريل من ربها، وبعضهم لما رأى تعارض الأدلة في هذه المسألة توقف فيها - وإلى التوقف مال القاضي أبو جعفر الاستروشني منا - وذهب ابن جماعة إلى أنه المذهب الأسلم. وأشكل ما في هذا الباب حديث الثريد ولعل كثرة الأخبار الناطقة بخلافه تهون تأويله، وتأويل واحد لكثير أهون من تأويل كثير لواحد، والله تعالى هو الهادي إلى سواء السبيل.
* (يامريم اقنتى لربك واسجدى واركعى مع الراكعين) *.
* (يا مريم اقنتي لربك) * الظاهر أنه من مقول الملائكة أيضا وصوها بالمحافظة على الصلاة بعد أن أخبروها بعلو درجتها وكمال قربها إلى الله تعالى لئلا تفتر ولا تغفل عن العبادة، وتكرير النداء للإشارة إلى الاعتناء بما يرد بعد كأنه هو المقصود بالذات وما قبله تمهيد له. والقنوت إطالة القيام في الصلاة - قاله مجاهد - أو إدامة الطاعة - قاله قتادة - وإليه ذهب الراغب، أو الإخلاص في العبادة - قاله سعيد بن جبير - أو أصل القيام في الصلاة - قاله بعضهم - والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بعلة
156

وجوب امتثال الأوامر * (واسجدي واركعي مع الراكعين) * يحتمل أن يكون المراد من ذلك كله الأمر بالصلاة إلا أنه أمر سبحانه بها بذكر أركانها مبالغة في إيجاب المحافظة عليها لما أن في ذكر الشيء تفصيلا تقريرا ليس في الإجمال، ولعل تقديم السجود على الركوع لأنه كذلك في صلاتهم، وقيل: لأنه أفضل أركان الصلاة وأقصى مراتب الخضوع، وفي الخبر " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد " أو للتنبيه على أن الواو لا توجب الترتيب أو ليقترن * (اركعي) * - بالراكعين - للإيذان بأن من ليس في صلاتهم ركوع ليسوا مصلين، وكل من هذه الأوجه لا يخلو عن دغدغة، أما أولا: فلأنه إنما يتم على القول بأن القيام ليس أفضل من السجود كما نقل عن الإمام الشافعي، وأما الثاني: فلأن خطاب القرآن مع من يعلم لغة العرب لا مع من يتعلم منه اللغة، وأما الثالث: فلأن تماميته تتوقف على بيان وجه أنه لم يعبر بالساجدين تنبيها على أن من لا سجدة في صلاته ليس من المصلين؟ وكان وجه ذلك ما يستفاد من كلام الزمخشري حيث قال: " ويحتمل أن يكون في زمانها من كان يقوم ويسجد في صلاته ولا يركع "، وفيه من يركع فأمرت بأن تركع مع الراكعين ولا تكون مع من لا يركع، فالنكتة في التعبير ما جعلت نكتة في ذكر * (واركعي مع الراكعين) * واعترضه أيضا بعضهم بأنه إذا قدم الركوع، وقيل: (واركعي مع الراكعين واسجدي) يحصل ذلك المقصود، ولا مدخل للتقديم والتأخير في إفادة ذلك، وقيل: المراد بالسجود وحده الصلاة كما في قوله تعالى: * (وأدبار السجود) * (ق: 40) والتعبير عن الصلاة بذلك من التعبير بالجزء عن الكل ويراد بالركوع الخشوع والتواضع وكأن أمرها بذلك حفظا لها من الوقوع في مهاوي التكبر والاستعلاء بما لها من علو الدرجة، والاحتمال الأول هو الظاهر، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن الأوزاعي قال: " كانت تقوم حتى يسيل القيح من قدميها " وما أخرجه ابن عساكر في الآية عن أبي سعيد قال: " كانت مريم تصلي حتى تورم قدماها " والأكثرون على أن فائدة قوله سبحانه: * (مع الراكعين) * الإرشاد إلى صلاة الجماعة، وإليه ذهب الجبائي، وذكر بعض المحققين على أن نكتة التعبير بذلك في المقام دون - واسجدي مع الساجدين - الإشارة إلى أن من أدرك الركوع مع الإمام فقد أدرك ركعة من الصلاة، وعورض بأنه لو قيل: - واسجدي مع الساجدين - لربما كان فيه إشارة إلى أن من أدرك السجود مع الإمام فقد أدرك الجماعة، ولعل هذه الإشارة أولى من الأولى في هذا المقام، واستلزام ذلك أن من أدرك ما بعد السجود معه لا يدرك الجماعة في حيز المنع، ولا يخفى أن المعارض والمعارض ليسا بشيء عند المنصفين، وأحسن منهما ما أشار إليه صاحب " الكشاف "، وزعم بعضهم أن * (مع) * مجاز عن الموافقة في الفعل فقط دون اجتماع - أي افعلي كفعل الراكعين وإن لم توقعي الصلاة معهم - قال: لأنها كانت تصلي في محرابها، وأيضا إنها كانت شابة وصلاة الشواب في الجماعة مكروهة، واعترض بأنه ارتكاب للتجوز الذي هو خلاف الأصل من غير داع، وكونها كانت تصلي في محرابها أحيانا مسلم لكن لا يدل على المدعى، ودائما مما لا دليل عليه وبفرضه لا يدل على المدعي أيضا لجواز اقتدائها وهي في المحراب، وكراهة صلاة الشابة في الجماعة لم يتحقق عندنا ثبوتها في شرع من قبلنا، على أن الماتريدي نفى كراهة صلاة مريم في الجماعة وإن كانت شابة، وقلنا: بكراهة صلاة الشواب في شرعهم أيضا، وعلله بكون القوم الذين كانت تصلي معهم كانوا ذوي قرابة منها ورحم، ولذلك اختصموا في ضمها وإمساكها، وربما يعلل بعدم خشية الفتنة وإن كانوا أجانب، ويستأنس لهذا بذهابها مع يوسف لملء القلة في المغارة، ولعل أولئك الذين تركع معهم من هذا القبيل، وإن قلنا: إنها تقتدي وهي في محرابها إما وحدها أو مع نسوة زال الإشكال، وجاء * (مع الراكعين) * دون الراكعات
157

لأن هذا الجمع أعم إذ يشمل الرجال والنساء على سبيل التغليب، ولمناسبة رؤوس الآي، ولأن الاقتداء بالرجال أفضل إن قلنا: إنها مأمورة بصلاة الجماعة. وادعى بعضهم أن في التعبير بذلك مدحا ضمنيا لمريم عليها السلام ولم يقيد الأمرين الأخيرين بما قيد به الأمر الأول اكتفاءا بالتقييد من أول وهلة، وقال شيخ الإسلام: إن تجريد الأمر بالركنين الأخيرين عما قيد به الأول لما أن المراد تقييد الأمر بالصلاة بذلك، وقد فعل حيث قيد به الركن الأول منها، ولعل ما ذكرناه أولى لأنه مطرد على سائر الأقوال في القنوت، وأهرج ابن أبي داود في " المصاحف " عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه كان يقرأ (واركعي واسجدي في الساجدين).
* (ذالك من أنبآء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقل‍امهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون) *.
* (ذالك) * إشارة إلى ما تقدم ذكره من تلك الأخبار البديعة الشأن المرتقية من الغرابة إلى أعلى مكان، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: * (من أنبآء الغيب) * أي من أخبار ما غاب عنك وعن قومك مما لا يعرف إلا بالوحي على ما يشير إليه المقام، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، وقوله تعالى: * (نوحيه إليك) * جملة مستقلة مبينة للأولى، و - الإيحاء - إلقاء المعنى إلى الغير على وجه خفي، ويكون بمعنى إرسال الملك إلى الأنبياء، وبمعنى الإلهام، والضمير في * (نوحيه) *
عائد إلى ذلك في المشهور، واستحسن عوده إلى الغيب لأنه حينئذ يشمل ما تقدم من القصص وما لم يتقدم منها بخلاف ما إذا عاد إلى ذلك فإنه حينئذ يوهم الاختصاص بما مضى، وجوز أن تكون هذه الجملة خبرا عن المبتدأ قبلها، و * (من أنباء الغيب) * إما متعلق - بنوحيه - أو حال من مفعوله أي: نوحيه حال كونه بعض أنباء الغيب وجعله حالا من المبتدأ رأي البعض، وجوز أبو البقاء أن يكون التقدير: الأمر ذلك فيكون * (ذلك) * خبرا لمبتدأ محذوف والجار والمجرور حال منه، وهو وجه مرذول لا ينبغي أن يخرج عليه كلام الملك الجليل. وصيغة الاستقبال عند قوم للإيذان بأن الوحي لم ينقطع بعد * (وما كنت لديهم) * أي عند المتنازعين فالضمير عائد إلى غير مذكور دل عليه المعنى، والمقصود من هذه الجملة تحقيق كون الأخبار بما ذكر عن وحي على سبيل التهكم بمنكريه كأنه قيل: إن رسولنا أخبركم بما لا سبيل إلى معرفته بالعقل مع اعترافكم بأنه لم يسمعه ولم يقرأه في كتاب، وتنكرون أنه وحي فلم يبق مع هذا ما يحتاج إلى النفي سوى المشاهدة التي هي أظهر الأمور انتفاءا لاستحالتها المعلومة عند جميع العقلاء، ونبه على ثبوت قصة مريم مع أن ما علم بالوحي قصة زكريا عليه السلام أيضا لما أن * (تلك) * هي المقصودة بالأخبار أولا، وإنما جاءت القصة الأخرى على سبيل الاستطراد ولاندراج بعض قصة زكريا في ذكر من تكفل فما خلت الجملة عن تنبيه على قصته في الجملة، وروي عن قتادة أن المقصود من هذه الجملة تعجيب الله سبحانه نبيه عليه الصلاة والسلام من شدة حرص القوم على كفالة مريم والقيام بأمرها، وسيق ذلك تأكيدا لاصطفائها عليها السلام ويبعد هذا الفصل بين المؤكد والمؤكد، ومع هذا هو أولى مما قيل: إن المقصود منها التعجيب من تدافعهم لكفالتها لشدة الحال ومزيد الحاجة التي لحقتهم حتى وفق لها خير الكفلاء زكريا عليه السلام، بل يكاد يكون هذا غير صحيح دراية ورواية، وعلى كل تقدير لا يشكل نفي المشاهدة مع ظهور انتفائها عند كل أحد. * (إذ يلقون أقلامهم) * أي يرمونها ويطرحونها للاقتراع، و - الأقلام - جمع قلم وهي التي كانوا يكتبون
158

بها التوراة واختاروها تبركا بها، وقيل: هي السهام من النشاب وهي القداح، وحكى الكازروني أنها كانت من نحاس وهي مأخوذة من القلم بمعنى القطع، ومنه قلامة الظفر وقد تقدم بيان كيفية الرمي - وفي عدة الأقلام خلاف - وعن الباقر أنها كانت ستة، والظرف معمول للاستقرار العامل في * (لديهم) * وجعله ظرفا لكان - كما قال أبو البقاء - ليس بشيء * (أيهم يكفل مريم) * من تتمة الكلام الأول، وجعله ابتداء استفهام مفسد للمعنى، ولما لم يصلح * (يلقون) * للتعلق بالاستفهام لزم أن يقدر ما يرتبط به النظام فذكر الجل له ثلاثة أوجه: أحدها: أن يقدر: ينظرون أيهم يكفل وحيث كان النظر مما يؤدي إلى الإدراك جاز أن يتعلق باسم الاستفهام كالأفعال القلبية - كما صرح به ابن الحاجب، وابن مالك في " التسهيل " - وثانيها: أن يقدر: ليعلموا أيهم يكفل وعلى الأول الجملة حال مما قبلها وعلى الثاني في موضع المفعول له، ولا يخفى أن الإلقاء سبب لنفس العلم لكنه سبب بعيد، والقريب هو النظر إلى ما ارتفع من الأقلام، وثالثها: أن يقدر يقولون، أو ليقولوا أيهم واعترض بأنه لا فائدة يعتد بها في تقدير يقولون ولا ينساق المعنى إليه بل هو مجرد إصلاح لفظي لموقع * (أيهم) * وأجيب بأنه مفيد، وينساق المعنى إليه بناءا على أن المراد بالقول القول للبيان والتعيين، واعترض أيضا تقدير القول مقرونا بلام التعليل بأن هذا التعليل هنا مما لا معنى له، وأجيب بتأويله كما أول في سابقه، وقيل: يؤل بالحكم أي: ليقولوا وليحكموا أيهم الخ، والسكاكي يقدر ههنا ينظرون ليعلموا، ولعل ذلك لمراعاة المعنى واللفظ وإلا فتقدير النظر، أو العلم يغني عن الآخر، وبعض المحققين لم يقدر شيئا أصلا وجعل * (أيهم) * بدلا عن ضمير الجمع - أي يلقي كل من يقصد الكفالة - وتتأتى منه، ولا يخفى أنه من التكلف بمكان
* (وما كنت لديهم إذ يختصمون) * في شأنها تنافسا على كفالتها وكان هذا الاختصام بعد الاقتراع في رأي، وقبله في آخر، وتكرير * (ما كنت لديهم) * مع تحقق المقصود بعطف * (إذ يختصمون) * على * (إذ يلقون) * للإيذان بأن كل واحد من عدم الحضور عند الإلقاء، وعدم الحضور عند الاختصام مستقل بالشهادة على نبوته صلى الله عليه وسلم لا سيما على الرأي الثاني في وقت الاختصام لأن تغيير الترتيب في الذكر مؤكد لذلك - قاله شيخ الإسلام -. واختلف في وقت هذا الإقتراع والتشاح على قولين: أحدهما: وهو المشهور المعول عليه أنه كان حين ولادتها وحمل أمها لها إلى الكنيسة على ما أشرنا إليه من قبل، وثانيهما: أنه كان وقت كبرها وعجز زكريا عليه السلام عن تربيتها، وهو قول مرجوح، وأوهن منه قول من زعم أن الاقتراع وقع مرتين مرة في الصغر وأخرى في الكبر، وفي هذه الآية دلالة على أن القرعة لها دخل في تمييز الحقوق، وروي عن الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال: ما تقارع قوم ففوضوا أمرهم إلى الله عز وجل إلا خرج سهم المحق، وقال أي قضية أعدل من القضية إذا فوض الأمر إلى الله سبحانه، أليس الله تعالى يقول: * (فساهم فكان من المدحضين) *؟ (الصافات: 141) وقال الباقر رضي الله تعالى عنه: أول من سوهم عليه مريم بنت عمران ثم تلا * (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم) *.
* (إذ قالت المل‍ائكة يامريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والاخرة ومن المقربين) *.
* (إذ قالت الملائكة) * شروع في قصة عيسى عليه السلام، والمراد بالملائكة جبريل عليه السلام على المشهور، والقول شفاهي كما رواه ابن أبي حاتم عن قتادة، و * (إذ) * المضافة إلى ما بعدها بدل من نظيرتها السابقة بدل كل من كل، وقيل: بدل اشتمال ولا يضر الفصل إذ الجملة الفاصلة بين البدل والمبدل منه اعتراض جيء به تقريرا
159

لما سبق وتنبيها على استقلاله وكونه حقيقيا بأن يعد على حياله من شواهد النبوة قالوا: وترك العطف بناءا على اتحاد المخاطب والمخاطب وإيذانا بتقارن الخطابين أو تقاربهما في الزمان، وجوز أبو البقاء كون الظرف منصوبا باذكر مقدرا، وأن يكون ظرفا - ليختصمون - وقيل: إنه بدل من * (إذ) * المضافة إليه، واعترض بأن زمن الاختصام قبل زمن البشارة بمدة - فلا تصح هذه البدلية والتزام أنه بدل غلط - غلط إذ لا يقع في فصيح الكلام، وأجيب بأنه يعتبر زمان ممتد يقع الاختصام في بعضه والبشارة في بعض آخر وبهذا الاعتبار يصح أن يقال: إنهما في زمان واحد كما يقال وقع القتال والصلح في سنة واحدة مع أن القتال واقع في أولها مثلا والصلح في آخرها، قيل: ولا يحتاج إلى هذا على الاحتمال الثاني مما ذكره أبو البقاء بناءا على ما روي عن الحسن أنها عليها السلام كانت عاقلة في حال الصغر فيحتمل أنها
وردت عليها البشرى إذ ذاك، وفيه بعد بل الآثار ناطقة بخلافه.
* (يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه) * كلمة - من - لابتداء الغاية مجازا وهي متعلقة بمحذوف وقع صفة - لكلمة - وإطلاق الكلمة على من أطلقت عليه باعتبار أنه خلق من غير واسطة أب بل بواسطة كن فقط على خلاف أفراد بني آدم فكان تأثير الكلمة في حقه أظهر وأكمل فهو كقولك لمن غلب عليه الجود مثلا: محض الجود - وعلى ذلك أكثر المفسرين - وأيدوا ذلك بقوله تعالى: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) * (آل عمران: 59)، وقيل: أطلق عليه ذلك لأن الله تعالى بشر به في الكتب السالفة، ففي " التوارة " - في الفصل العشرين من السفر الخامس - أقبل الله تعالى من سينا وتجلى من ساعير وظهر من جبال فاران - وسينا - جبل التجلي لموسى - وساعير - جبل بيت المقدس وكان عيسى يتعبد فيه - وفاران - جبل مكة، وكان متحنث سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وهذا كقول من يخبر بالأمر إذا خرج موافقا لما أخبر به: قد جاء كلامي، وقيل: لأن الله تعالى يهدي به كما يهدي بكلمته. ومن الناس من زعم أن - الكلمة - بمعنى البشارة كأنه قيل ببشارة منه ويبعده ظاهر قوله تعالى: * (إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم) * (النساء: 171) ولعله يرجح أول الأقوال كما يرجحه عدم اطراد الأقوال الأخر وإن لم يكن لازما في مثل ذلك، وفي * (يبشرك) * هنا من القراآت مثل ما فيها فيما تقدم * (اسمه) * الضمير راجع إلى - الكلمة - وذكره رعاية للمعنى لكونها عبارة عن مذكر واسم مبتدأ خبره * (المسيح) * وقوله تعالى: * (عيسى) * يحتمل أن يكون بدلا، أو عطف بيان، أو توكيدا بالمرادف كما أشار إليه الدنوشري، أو خبرا آخر، أو خبر مبتدأ محذوف، أو منصوبا بإضمار أعني مدحا، وحذف المبتدأ والفعل قيل: على سبيل الجواز ومقتضى ما ذكروه في النعت المقطوع أن يكون على سبيل الوجوب، وقوله تعالى: * (ابن مريم) * صفة لعيسى وعلى تقدير كونه منصوبا يلتزم القول بالقطع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، ومن جعل هذه الثلاثة أخبارا عن المبتدأ أو رد عليه بأن الاسم في الحقيقة عيسى والمسيح لقب؛ و * (ابن) * صفة فكيف جعلت الثلاثة خبرا عنه؟! وأجيب بأن المراد بالاسم معناه المصطلح وهو العلم مطلقا وليس هو بمعنى مقابل اللقب بل ما يعمه وغيره وأن إضافته تفيد العموم لأن إضافة اسم الجنس قد يقصد بها الاستغراق، وأن إطلاقه على ابن مريم على طريق التغليب، وقيل: المراد بالاسم معناه اللغوي - وهو السمة والعلامة المميزة - لا العلم.
160

ولا مانع حينئذ من جعل مجموع الثلاثة خبرا إذ التمييز بذلك أشد من التمييز بكل واحد فيؤول المعنى إلى قولك الذي يعرف به ويميز به عما سواه مجموع الثلاثة وبهذا - كما في " الانتصاف " - خلاص من إشكال يوردونه فيقولون: * (المسيح) * في الآية إن أريد به التسمية - وهو الظاهر - فما موقع * (عيسى ابن مريم) * والتسمية لا توصف بالنبوة؟! وإن أريد به المسمى بهذه التسمية لم يلتئم مع قوله سبحانه: * (اسمه) * ووجه الخلاص ظاهر، ولعدم ظهور هذا التوجيه لبعضهم التزم الخلاص من ذلك بأن المسيح خبر عن قوله تعالى: * (اسمه) * والمراد التسمية، وأما * (عيسى ابن مريم) * فخبر مبتدأ محذوف تقديره هو، ويكون الضمير عائدا إلى المسمى بالتسمية المذكورة منقطعا عن * (المسيح) * والمشهور أن المسيح لقبه عليه السلام وهو له من الألقاب المشرفة كالفاروق، وأصله بالعبرية مشيحا ومعناه المبارك، وعن إبراهيم النخعي الصديق، وعن أبي عمرو بن العلاء الملك، وعيسى معرب أيشوع، ومعناه السيد، وعن كثير من السلف أن المسيح مشتق من المسح، واختلفوا في وجه إطلاقه على عيسى عليه السلام فقيل: لأنه مسح البركة واليمن، وروي ذلك عن الحسن وابن جبير، وقيل: لأنه كان يمسح عين الأكمه فيبصر، وروي ذلك عن الكلبي، وقيل: لأنه كان لا يمسح ذا عاهة بيده إلا برىء، ورواه عطاء والضحاك عن ابن عباس، وقال الجبائي: لأنه كان يمسح بدهن زيت بورك فيه وكانت الأنبياء تتمسح به، وقيل: لأن جبريل مسحه بجناحيه وقت الولادة ليكون عوذة من الشيطان الرجيم، وقيل: لأنه حين مسح الله تعالى ظهر آدم عليه السلام فاستخرج منه ذرات ذريته لم يرده إلى مقامه كما فعل بباقي الذرات بل حفظه عنده حتى ألقاه إلى مريم فكان قد بقي عليه اسم المسيح أي الممسوح وقيل: وقيل. وهذه الأقوال تشعر بأن اللفظ عربي لا عبري، وكثير من المحققين على الثاني، واختاره أبو عبيدة، وعليه لا اشتقاق لأنه لا يجري على الحقيقة في الأسماء الأعجمية، وفي " الكشف " أن الظاهر فيه الاشتقاق لأنه عربي دخل عليه خواص كلامهم جعل لقب تشريف له عليه السلام - كالخليل - لإبراهيم، وجعله معربا ثم إجراؤه مجرى الصفات في إدخال اللام لأنه في كلامهم بمعنى الوصف خلاف الظاهر. ومن الناس من ادعى أن دخول اللام لا ينافي العجمة فإن - التوراة والإنجيل والإسكندر - لم تسمع إلا مقرونة بها مع أنها أعجمية، ولعل ذلك لا ينافي أظهرية كون محل النزاع عربيا، نعم قيل في عيسى: إنه مشتق من العيس وأنه إنما سمي به عليه السلام لأنه كان في لونه عيس أي بياض تعلوه حمرة كما يشير إليه خبر " كأنما خرج من ديماس " إلا أن المعول عليه فيه أنه لا اشتقاق له، وأن القائل به كالراقم على الماء.
وهذا الخلاف إنما هو في هذا المسيح وأما المسيح الدجال فعربي إجماعا وسمي به لأنه مسحت إحدى عينيه، أو لأنه يمسح الأرض أي يقطعها في المدة القليلة، وفرق النخعي بين لقب روح الله وعدوه بأن الأول: بفتح الميم والتخفيف، والثاني: بكسر الميم وتشديد السين - كشرير - وأنكره غيره - وهو المعروف - ثم القائلون باللقبية في الآية وكون عيسى بدلا مثلا خص الكثير منهم منع تقديم اللقب على الاسم بما إذا لم يكن أشهر منه حقيقة أو ادعاءا أما إذا كان أشهر كما هنا فإنه يجوز التقديم كما نص عليه ابن الأنباري ولا يختص بغير الفصيح كما فيما إذا لم يكن كذلك. والمشهور فيما إذا كان الاسم واللقب مفردين إضافة الأول للثاني، وفي " المفصل " تعينها، وصنيع سيبويه يشير إلى ذلك، ومن جوز التبعية استدل بقولهم: هذا يحيى - عينان - إذ لو أضيف لقيل عينين، وحمله على لغة من يلزم المثنى الألف يرده أن الرواية بضم النون ولو كانت الرواية بالكسر لأمكن ذلك الحمل فلا يتم الاستدلال، وكذا
161

لو كانت بالفتح لأنه يمكن حينئذ أن يكون اللقب مجرورا بالإضافة إلا أن الفتحة فيه نائبة عن الكسرة بناءا على القول بأن المسمى به يجوز أن يعرب كما لا ينصرف لكن أنت تعلم أن قصارى ما يثبته هذا الاستدلال الورود في هذا الجزئي. وأما أنه يثبت الاطراد فلا، ولعل المانع إنما يمنع ذلك، ويدعي أن المطرد هو الإضافة لكن بشرط أن لا يمنع منها مانع فلا تجوز فيما إذا قارنت - أل - الوضع لمنعها عن ذلك فلا يقال: الحرث - كرز - بالإضافة، وكذا إذا كان اللقب وصفا في الأصل نحو إبراهيم
الخليل - على ما نص عليه ابن الحاجب في " شرح المفصل " - لأن الموصوف لا يضاف إلى صفته في المشهور.
ومن الناس من جعل ما نحن فيه من هذا القبيل، وهو مبني على مذهب من يقول: إن المسيح صفة في العربية ومع هذا في المسألة خلاف ابن هشام فإنه يجوز الإضافة في هذا القسم أيضا وتمام البحث في " كتبنا النحوية " فليفهم، وإنما قيل: * (ابن مريم) * مع كون الخطاب لها تنبيها على أنه يولد من غير أب ولو كان له أب لنسب إليه، وفي ذلك رمز إلى تفضيل الأم أيضا، وقيل: إن في ذلك ردا للنصارى، وأبعد من ادعى أن هذه الإضافة لمدح عيسى عليه السلام لأن الكلام حينئذ في قوة ابن عابدة، هذا واعلم أن لفظ * (ابن) * في الآية يكتب بغير همزة بناءا على وقوعه صفة بين علمين إذ القاعدة أنه متى وقع كذلك لم تكتب همزته بل تحذف في الخط تبعا لحذفها في اللفظ لكثرة استعماله كذلك ومتى تقدمه علم لكن أضيف إلى غير علم - كزيد ابن السلطان - أو تقدمه غير علم، وأضيف إلى علم - كالسلطان ابن زيد - أو وقع بين ما ليسا علمين - كزيد العاقل ابن الأمير عمرو - كتبت الألف ولم تحذف في الخط في جميع تلك الصور، والكتاب كثيرا ما يخطئون في ذلك فيحذفون الهمزة منه في الكتابة أينما وقع، وقد نص على خطئهم في ذلك ابن قتيبة وغيره. ومن هنا قيل: إن الرسم يرجح التبعية، نعم في كون ذلك مطردا فيما إذا كان المضاف إليه علم الأم خلاف، والذي أختاره الحذف أيضا إذا كان ذلك مشهورا.
* (وجيها في الدنيا والآخرة) * الوجيه ذو الجاه والشرف والقدر، وقيل: الكريم على من يسأله فلا يرد لكرم وجهه عنده خلاف من يبذل وجهه للمسألة فيرد، ووجاهته في الدنيا بالنبوة والتقدم على الناس، وفي الآخرة بقبول شفاعته وعلو درجته، وقيل: وجاهته في الدنيا بقبول دعائه بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وقيل: بسبب أنه كان مبرءا من العيوب التي افتراها اليهود عليه، وفي الآخرة ما تقدم وليست الوجاهة بمعنى الهيئة والبزة ليقال: كيف كان - وجيها - في الدنيا مع أن اليهود قاتلهم الله عاملوه بما عاملوه على أنه لو كان المعنى على ذلك لا تقدح تلك المعاملة فيه كما لا تقدح على التقادير الأول كما لا يخفى على المتأمل، ونصب * (وجيها) * على أنه حال مقدرة من * (كلمة) * وسوغ مجىء الحال منها مع أنها نكرة وصفها بما بعدها والتذكير باعتبار المعنى - كما أشير إليه - وجعلت الحال مقدرة لأن الوجاهة كانت بعد البشارة. ومن الناس من جعل الحال من * (عيسى) * وقال أبو البقاء: لا يجوز ذلك وكذا لا يجوز جعله حالا من * (المسيح) * أو من * (ابن مريم) * لأنها أخبار، والعامل فيها الابتداء، أو المبتدأ أو هما وليس شيء من ذلك يعمل في الحال، وكذا لا يجوز أيضا أن يكون حالا من الهاء في اسمه للفصل الواقع بينهما ولعدم العامل في الحال، والظرف متعلق بما عنده لما فيه من معنى الفعل * (ومن المقربين) * أي عند الله يوم القيامة قاله قتادة، وقيل: هو إشارة إلى رفعه إلى السماء وصحبته الملائكة، وقيل: من المقربين من الناس بالقبول والإجابة وهو معطوف
162

على * (وجيها) * أي ومقربا من جملة المقربين.
* (ويكلم الناس فى المهد وكهلا ومن الص‍الحين) *.
* (ويكلم الناس في المهد وكهلا) * عطف على الحال الأولى أيضا وعطف الفعل على الاسم لتأويله به سائغ شائع - وهو في القرآن كثير - والظرف حال من الضمير المستكن في الفعل ولم يجعل ظرفا لغوا متعلقا به مع صحته لعطف * (وكهلا) * عليه، والمراد يكلمهم حال كونه طفلا وكهلا، والمقصود التسوية بين الكلام في حال الطفولية وحال الكهولة، وإلا فالكلام في الثاني ليس مما يختص به عليه السلام وليس فيه غرابة، وعلى هذا فالمجموع حال لا كل على الاستقلال، وقيل: إن كلا منهما حال، والثاني: تبشير ببلوغ سن الكهولة وتحديد لعمره، والمهد مقر الصبي في رضاعه وأصله مصدر سمي به وكان كلامه في المهد ساعة واحدة بما قص الله تعالى لنا، ثم لم يتكلم حتى بلغ أوان الكلام قاله ابن عباس، وقيل: كان يتكلم دائما وكان كلامه فيه تأسيسا لنبوته وإرهاصا لها على ما ذهب إليه ابن الأخشيد وعليه يكون قوله: * (وجعلني نبيا) * (مريم: 30) إخبارا عما يؤول إليه، وقال الجبائي: إنه سبحانه أكمل عقله عليه السلام إذ ذاك وأوحى إليه بما تكلم به مقرونا بالنبوة، وجوز أيضا أن يكون ذلك كرامة لمريم دالة على طهارتها وبراءة ساحتها مما نسبه أهل الإفك إليها، والقول: بأنه معجزة لها بعيد - وإن قلنا بنبوتها - وزعمت النصارى أنه عليه السلام لم يتكلم في المهد ولم ينطق ببراءة أمه صغيرا بل أقام ثلاثين سنة واليهود تقذف أمه بيوسف النجار - وهذا من أكبر فضائحهم الصادحة برد ما هم عليه من دعوى الألوهية له عليه السلام - وكذا تنقله في الأطوار المختلفة المتنافية لأن من هذا شأنه بمعزل عن الألوهية، واعترضوا بأن كلامه في المهد من أعجب الأمور فلو كان لنقل ولو نقل لكان النصارى أولى الناس بمعرفته، وأجيب بأن الحاضرين إذ ذاك لم يبلغوا مبلغ التواتر، ولما نقلوا كذبوا فسكتوا، وبقي الأمر مكتوما إلى أن نطق القرآن به، وهذا قريب على قول ابن عباس: إنه لم يتكلم إلا ساعة من نهار - وعلى القول الآخر - وهو أنه بقي يتكلم يقال: إن الناس اشتغلوا بعد بنقل ما هو أعجب من ذلك من أحواله كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإخبار عن الغيوب والخلق من الطين كهيئة الطير حتى لم يذكر التكلم منهم إلا النزر ولا زال الأمر بقلة حتى لم يبق مخبر عن ذلك وبقي مكتوما إلى أن أظهره القرآن.
وبعد هذا كله لك أن تقول لا نسلم إجماع النصارى على عدم تكلمه في المهد، وظاهر الأخبار، وقد تقدم بعضها يشير إلى أن بعضهم قائل بذلك، وبفرض إجماعهم نهاية ما يلزم الاستبعاد وهو بعد إخبار الصادق لا يسمن ولا يغني من جوع عند من رسخ إيمانه. وقوي إيقانه، وكم أجمع أهل الكتابين على أشياء نطق القرآن الحق بخلافها والحق أحق بالاتباع، ولعل مرامهم من ذلك أن يطفئوا نور الله بأفواههم * (ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) * (التوبة: 32) والكهل ما بين الشاب والشيخ، ومنه اكتهل النبت إذا طال وقوي، وقد ذكر غير واحد أن ابن آدم ما دام في الرحم فهو جنين، فإذا ولد فهو وليد؛ ثم ما دام يرضع فهو رضيع، ثم إذا قطع اللبن فهو فطيم، ثم إذا دب ونما فهو دارج، فإذا بلغ خمسة أشبار فهو خماسي، فإذا سقطت رواضعه فهو مثغور، فإذا نبتت أسنانه فهو - مثغر بالتاء والثاء - كما قال أبو عمرو - فإذا قارب عشر سنين أو جاوزها فهو مترعرع وناشىء؛ فإذا كان يبلغ الحلم أو بلغه فهو يافع ومراهق، فإذا احتلم واجتمعت قوته فهو حزور، واسمه في
جميع هذه الأحوال غلام فإذا اخضر شاربه وأخذ عذاره يسيل قيل: قد بقل وجهه، فإذا صار ذا فتاء فهو فتى وشارخ، فإذا اجتمعت لحيته وبلغ غاية شبابه فهو مجتمع، ثم ما دام بين الثلاثين والأربعين فهو شاب، ثم كهل إلى أن يستوفي الستين. ويقال لمن لاحت فيه أمارات الكبر وخطه الشيب، ثم يقال شاب، ثم شمط، ثم شاخ، ثم كبر، ثم هرم،
163

ثم دلف، ثم خرف، ثم اهتر، ومحاظله - إذا مات - وهذا الترتيب إنما هو في الذكور - وأما في الإناث فيقال للأنثى ما دامت صغيرة: طفلة، ثم وليدة إذا تحركت، ثم كاعب إذا كعب ثديها ثم ناهد، ثم معصر إذا أدركت، ثم عانس إذا ارتفعت عن حد الإعصار، ثم خود إذا توسطت الشباب، ثم مسلف إذا جاوزت الأربعين، ثم نصف إذا كانت بين الشباب والتعجيز، ثم شهلة كهلة إذا وجدت من الكبر - وفيها بقية وجلد - ثم شهربة إذا عجزت - وفيها تماسك - ثم حيزبون إذا صارت عالية السن ناقصة العقل، ثم قلعم ولطلط إذا انحنى قدها وسقطت أسنانها.
وعلى ما ذكر في سن الكهولة يراد بتكليمه عليه السلام كهلا تكليمه لهم كذلك بعد نزوله من السماء وبلوغه ذلك السن بناءا على ما ذهب إليه سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وغيرهما " أنه عليه السلام رفع إلى السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وأنه سينزل إلى الأرض ويبقى حيا فيها أربعا وعشرين سنة " كما رواه ابن جرير بسند صحيح عن كعب الأحبار، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال: قد كلمهم عيسى في المهد وسيكلمهم إذا قتل الدجال وهو يومئذ كهل * (ومن الصالحين) * أي ومعدودا في عدادهم وهو معطوف على الأحوال السابقة.
* (قالت رب أنى يكون لى ولد ولم يمسسنى بشر قال كذالك الله يخلق ما يشآء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) *.
* (قالت) * استئناف مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا كان منها حين قالت لها الملائكة ذلك؟ فقيل: * (قالت رب أنى يكون لي ولد) * يحتمل أن يكون الاستفهام مجازيا والمراد التعجب من ذلك والاستبعاد العادي، ويحتمل أن يكون حقيقيا على معنى أنه يكون بتزوج أو غيره، وقيل: يحتمل أن يكون استفهاما عن أنه من أي شخص يكون، وإعراب هذه الجملة على نحو إعراب الجملة السابقة في قصة زكريا عليه السلام * (ولم يمسسني بشر) * جملة حالية محققة لما مر ومقوية له، والمسيس هنا كناية عن الوطء وهذا نفي عام للتزوج وغيره، والبشر يطلق على الواحد والجمع، والتنكير للعموم، والمراد عموم النفي لا نفي العموم، وسمي بشرا لظهور بشرته أو لأن الله تعالى باشر أباه وخلقه بيديه.
* (قال) * استئناف كسابقه، والفاعل ضمير الرب والملك حكى لها المقول وهو قوله سبحانه: * (كذالك الله يخلق مايشاء) * إما بلا تغيير فيكون فيه التفات، وإما بتغيير، وقيل: إن الله تعالى قال لها ذلك بلا واسطة ملك، والأول: مبني على أنه تعالى لم يكلم غير الأنبياء بل غير خاصتهم عليهم الصلاة والسلام، وقيل: القائل جبريل عليه السلام وليس على سبيل الحكاية والقرينة عليه ذكر الملائكة عليهم السلام قبله، وحمل * (رب) * فيما تقدم على ذلك أبعد بعيد، وقد مر عليك الكلام في مثل هذه الجملة خلا أن التعبير هنا - بيخلق - وهناك - بيفعل - لاختلاف القصتين في الغرابة فإن الثانية: أغرب فالخلق المنبىء عن الاختراع أنسب بها ولهذا عقبه ببيان كيفيته فقال سبحانه: * (إذا قضى أمرا) * أي أراد شيئا - فالأمر - واحد الأمور، والقضاء في الأصل الأحكام، وأطلق على الإرادة الإلهية القطعية المتعلقة بإيجاد المعدوم وإعدام الموجود وسميت بذلك لإيجابها ما تعلقت به ألبتة ويطلق على الأمر، ومنه * (وقضى ربك) * (الإسراء: 23).
* (فإنما يقول له كن فيكون) * أي فهو - يكون - أي يحدث وهذا عند الأكثرين تمثيل لتأثير قدرته في مراده بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور من غير امتناع، وتوقف وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة، فالممثل الشيء المكون بسرعة من غير عمل وآلة، والممثل به أمر الآمر
164

المطاع لمأمور به مطيع على الفور، وهذا اللفظ مستعار لذلك منه. وأنت تعلم أنه يجوز فيه أن يكون حقيقة بأن يراد تعلق الكلام النفسي بالشيء الحادث على أن كيفية الخلق على هذا الوجه، وعلى كلا التقديرين المراد من هذا الجواب بيان أن الله تعالى لا يعجزه أن يخلق ولدا بلا أب لأنه أمر ممكن في نفسه فيصح أن يكون متعلق الإرادة والقدرة كيف لا وكثيرا ما نشاهد حدوث كثير من الحيوانات على سبيل التولد كحدوث الفأر عن المدر والحيات عن الشعر المتعفن والعقارب عن البادورج والذباب عن الباقلاء إلى غير ذلك غايته الاستبعاد، وهو لا يوجب ظنا فضلا عن علم، وبعد إخبار الصادق عن وجود ذلك الممكن يجب القطع بصحته، والقول: - بأن المادة فيما عد ونحوه موجودة وبعد وجودها لا ريب في الإمكان دون ما نحن فيه لأن مادة الآدمي منيان وليس هناك إلا مني واحد أو لا مني أصلا فكيف يمكن الخلق - ليس بشيء، أما على مذهبنا فلأن الإيجاد لا يتوقف على سبق المادة وإلا لتسلسل الأمر، وأما على مذهب المنكرين فيجوز أن يكون مني الأنثى بنفسه أو بما ينضم إليه مما لا يعلمه إلا الله تعالى بحالة يصلح أن يكون مادة، وقصارى ما يلزم من ذلك الاستبعاد وهو لا يجدي نفعا في أمثال هذه المقامات، ويجوز أيضا أن يقيم الله تعالى غير المني مقام المني، وأي محال يلزم من ذلك ألا ترى كيف أقيم التراب مقام المني في أصل النوع ودعوى أن الإقامة مشروطة بكون ذلك الغير خارج الرحم، وأما الإقامة في الرحم فمما لا إمكان لها غير بينة ولا مبينة بل العقل لا يفرق بين الأمرين في الإمكان وإنما يفرق بينهما في موافقة العادة وعدمها وهو أمر وراء ما نحن فيه. ومن الناس من بين هذا المطلب بأن التخيلات الذهنية كثيرا ما تكون أسبابا لحدوث الحوادث كتصور حضور المنافي للغضب وكتصور السقوط بحصول السقوط للماشي على جذع ممدود فوق فضاء بخلافه لو كان على قرار من الأرض وقد جعلت الفلاسفة هذا كالأصل في بيان جواز المعجزات والكرامات - فما المانع أن يقال: إنها لما تخيلت صورة جبريل كفى ذلك في علوق الولد في رحمها لأن مني الرجل ليس إلا لأجل العقد فإذا حصل الانعقاد لمني المرأة بوجه آخر أمكن علوق الولد النتهى. وليس بشيء لأنه يعود بالنقص لحضرة البتول وأنها لتنزه ساحتها عن مثل هذا التخيل كما لا يخفى، وفي جواب هذه الطاهرة ليوسف النجار ما يؤيد ما قلناه، فقد أخرج إسحق بن بشر وابن عساكر عن وهب أنه قال: لما استقر حمل مريم وبشرها جبريل وثقت بكرامة الله تعالى واطمأنت وطابت نفسا، وأول من اطلع على حملها ابن خال لها يقال له
يوسف، واهتم لذلك وأحزنه وخشي البلية منه لأنه كان يخدمها فلما رأى تغير لونها وكبر بطنها عظم عليه ذلك فقال معرضا لها: هل يكون زرع من غير بذر؟! قالت: نعم قال: وكيف يكون ذلك قالت: إن الله تعالى خلق البذر الأول من غير نبات وأنبت الزرع الأول من غير بذر، ولعلك تقول: لم يقدر أن يخلق الزرع الأول إلا بالبذر؟ ولعلك تقول: لولا أن استعان الله تعالى عليه بالبذر لغلبه حتى لا يقدر على أن يخلقه ولا ينبته؟ قال يوسف: أعوذ بالله أن أقول ذلك قد صدقت وقلت بالنور والحكم، وكما قدر أن يخلق الزرع الأول وينبته من غير بذر يقدر أن يجعل زرعا من غير بذر فأخبريني هل ينبت الشجر من غير ماء ولا مطر؟ قالت: ألم تعلم أن للبذر والماء والمطر والشجر خالقا واحدا فلعلك تقول: لولا الماء والمطر لم يقدر على أن ينبت الشجر؟ قال أعوذ بالله تعالى أن أقول ذلك قد صدقت فأخبريني خبرك قالت: بشرني الله تعالى بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم إلى قوله تعالى: * (ومن الصالحين) * فعلم يوسف أن ذلك أمر من الله تعالى لسبب خير أراده بمريم فسكت عنها فلم تزل على ذلك حتى ضربها الطلق فنوديت أن اخرجي من
165

المحراب فخرجت.
* (ويعلمه الكت‍ابوالحكمة والتوراة والإنجيل) *.
* (ويعلمه الكت‍اب) * عطف على * (يبشرك) * (آل عمران: 45) أي: إن الله يبشرك بكلمة ويعلم ذلك المولود المعبر عنه بالكلمة الكتاب ولا يرد عليه طول الفصل لأنه اعتراض لا يضر مثله، أو على - * (يخلق) * (آل عمران: 47) - أي كذلك الله يخلق ما يشاء ويعلمه أو على - * (يكلم) * (آل عمران: 46) - فتكون في محل نصب على الحال والتقدير - يبشرك بكلمة مكلما الناس ومعلما الكتاب - أو على * (وجيها) * (آل عمران: 45) وجوز أن تكون جملة مستأنفة ليست داخلة في حيز قول الملائكة عليهم السلام، و - الواو - تكون للاستئناف وتقع في ابتداء الكلام كما صرح به النحاة فلا حاجة - كما قال الشهاب - إلى التأويل بأنها معطوفة على جملة مستأنفة سابقة وهي * (إذ قالت) * (آل عمران: 45) الخ ولا إلى مقدرة، ولا إشكال في العطف كما قال النحرير، وكذا لا يدعي أن الواو زائدة كما قال أبو حيان، فهذه أوجه من الإعراب مختلفة بالأولوية، وأغرب ما رأيته ما نقله الطبرسي عن بعضهم أن العطف على جملة * (نوحيه إليك) * (آل عمران: 44) بل لا يكاد يستطيبه من سلم له ذوقه، و * (الكتاب) * مصدر بمعنى الكتابة أي يعلمه الخط باليد - قاله ابن عباس وإليه ذهب ابن جريج، وروي عنه أنه قال: أعطى الله تعالى عيسى عليه السلام تسعة أجزاء من الخط وأعطى سائر الناس جزءا واحدا، وذهب أبو علي الجبائي إلى أن المراد بعض الكتب التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه عليهم السلام سوى التوراة والإنجيل مثل الزبور وغيره، وذهب كثيرون إلى أن - أل - فيه للجنس والمراد جنس الكتب الإلهية إلا أن المأثور هو الأول، والقول - بأن المراد بالكتاب الجنس لكن في ضمن فردين هما التوراة والإنجيل، وتجعل الواو فيما بعد زائدة مقحمة وما بعدها بدلا أو عطف بيان - من الهذيان بمكان. وقرأ أهل المدينة وعاصم ويعقوب وسهل - ويعلمه - بالياء، والباقون بالنون قيل: وعلى ذلك لا يحسن بعض تلك الوجوه إلا بتقدير القول أي إن الله - يبشرك بعيسى - ويقول: نعلمه أو وجيها ومقولا فيه نعلمه الكتاب * (والحكمة) * أي الفقه وعلم الحلال والحرام - قاله ابن عباس - وقيل: جميع ما علمه من أمور الدين، وقيل: سنن الأنبياء عليهم السلام، وقيل: الصواب في القول والعمل، وقيل: إتقان العلوم العقلية، وقد تقدم الكلام على ذلك.
* (والتوراة والاإنجيل) * أفردا بالذكر على تقدير أن يراد بالكتاب ما يشملهما لوفور فضلهما وسمو شأوهما على غيرهما، وتعليمه ذلك قيل: بالإلهام، وقيل: بالوحي، وقيل: بالتوفيق والهداية للتعلم، وقد صح أنه عليه السلام لما ترعرع - وفي رواية الضحاك عن ابن عباس - لما بلغ سبع سنين أسلمته أمه إلى المعلم لكن الروايات متضافرة أنه جعل يسأل المعلم كلما ذكر له شيئا عما هو بمعزل عن أن ينبض فيه ببنت شفة، وذلك يؤيد أن علمه محض موهبة إلهية وعطية ربانية، وذكر - الإنجيل - لكونه كان معلوما عند الأنبياء والعلماء متحققا لديهم أنه سينزل.
* (ورسولا إلى بنىإسراءيل أنى قد جئتكم بآية من ربكم أنىأخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرىء الاكمه والابرص وأحى الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون فى بيوتكم إن في ذالك لأية لكم إن كنتم مؤمنين) *.
* (ورسولا إلى بنيإسراءيل) * منصوب بمضمر يجر إليه المعنى معطوفا على * (يعلمه) * (آل عمران: 48) أي ونجعله رسولا - وهو الذي اختاره أبو حيان - وقيل: إنه منصوب بمضمر معمول لقول مضمر معطوف على - يعلمه - أي ويقول عيسى أرسلت رسولا، ولا يخفى أن عطف هذا القول على * (يعلمه) * إذا كان مستأنفا مما ليس فيه كثير بأس، وأما على تقدير عطفه على * (يبشرك) * (آل عمران: 45) أو * (يخلق) * (آل عمران: 47) فقد طعن فيه العلامة التفتازاني بأنه يكون التقدير - إن الله يبشرك - أو إن الله يخلق ما يشاء - ويقول عيسى كذا، وفيه العطف على الخبر ولا رابط بينهما إلا بتكلف عظيم، وفي " البحر ": إن هذا الوجه مطلقا ضعيف إذ فيه إضمار شيئين القول ومعموله، والاستغناء عنهما باسم منصوب على الحال المؤكدة؛ واختار بعضهم عطفه على الأحوال المتقدمة مضمنا معنى
166

النطق فلا يضر كونها في حكم الغيبة مع كون هذا في حكم التكلم إذ يكون المعنى حال كونه - وجيها - ورسولا ناطقا بكذا، والرسول على سائر التقادير صفة كشكور وصبور، وفعول هنا بمعنى مفعل، واحتمال - أن يكون مصدرا كما قال أبو البقاء مثله في قول الشاعر: أبلغ أبا سلمى (رسولا) تروعه
ويجعل معطوفا على * (الكتاب) * (آل عمران: 48) أي ويعلمه رسالة - بعيد لفظا ومعنى، أما الأول: فلأن المتبادر الوصفية لا المصدرية، وأما ثانيا: فلأن تعليم الرسالة مما لا يكاد يوجد في كلامهم، والظرف إما متعلق - برسولا - أو بمحذوف وقع صفة له أي - رسولا كائنا إلى بني إسرائيل أي كلهم، قيل: وتخصيصهم بالذكر للإيذان بخصوص بعثته، أو للرد على من زعم من اليهود أنه مبعوث إلى غيرهم. ولي في نسبة هذا الزعم لبعض اليهود تردد - وليس ذلك في الكتب المشهورة - والذي رأيناه فيها أنهم في عيسى الذي قص الله تعالى علينا من أمره ما قص فرقتان: فرقة ترميه - وحاشاه بأفظع ما رمت به أمة نبيها - وهم أكثر اليهود، وفرقة
يقال لهم (العنانية أصحاب عنان بن داود رأس الجالوت يصدقونه في مواعظه وإشاراته ويقولون: إنه لم يخالف التوراة ألبتة بل قررها ودعا الناس إليها، وإنه من المستجيبين لموسى عليه السلام، ومن بني إسرائيل المتعبدين وليس برسول ولا نبي، ويقولون: إن سائر اليهود ظلموه حيث كذبوه أولا ولم يعرفوا مدعاه وقتلوه آخرا ولم يعرفوا مرامه ومغزاه) نعم من اليهود فرقة يقال لهم العيسوية - أصحاب أبي عيسى إسحق بن يعقوب الأصفهاني الذي يسميه بعضهم (بعرقيد الوهيم) - يزعمون: أن لله تعالى رسولا بعد موسى عليه السلام يسمى المسيح إلا أنه لم يأت بعد ويدعون أن له خمسة من الرسل يأتون قبله واحدا بعد واحد وأن صاحبهم هذا أحد رسله - وكل من هذه الأقوال بعيد - عما ادعاه صاحب القيل بمراحل - ولعله وجد ما يوافق دعواه، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. هذا واختلف في زمن رسالته عليه السلام فقيل: في الصبا وهو ابن ثلاث سنين. وفي " البحر ": أن الوحي أتاه بعد البلوغ وهو ابن ثلاثين سنة فكانت نبوته ثلاث سنين قيل: وثلاثة أشهر وثلاثة أيام ثم رفع إلى السماء وهو القول المشهور، وفيه أن أول أنبياء بني إسرائيل يوسف وقيل: موسى وآخرهم عيسى - على سائرهم أفضل الصلاة وأكمل السلام - وقرأ اليزيدي - ورسول - بالجر على أنه معطوف على (كلمة) - أي يبشرك بكلمة وبرسول -.
* (أني قد جئتكم) * معمول - لرسولا - لما فيه من معنى النطق. وجوز أبو البقاء كونه معمولا لمحذوف وقع صفة - لرسولا - أي رسولا ناطقا أو مخبرا بأني وكونه بدلا من * (رسولا) * إذا جعلته مصدرا أي ونعلمه أني قد جئتكم، أو خبرا لمبتدأ محذوف على تقدير المصدرية أيضا أي هو أني، فالمنسبك إما في محل جر أو نصب أو رفع، وقوله تعالى: * (بآية) * في موضع الحال أي محتجا أو متلبسا بآية أو متعلق - بجئتكم - والباء للملابسة أو للتعدية، والتنوين للتفخيم دون الوحدة لظهور ما ينافيها، وقرىء بآيات. * (من ربكم) * متعلق بمحذوف وقع صفة - لآية - وجوز تعلقه بجئت، و * (من) * في التقديرين لابتداء الغاية مجازا، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لتأكيد إيجاب الامتثال لما سيأتي من الأوامر، أو لأن وصف الربوبية يناسب حال الإرسال إليهم.
وقوله تعالى: * (أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير) * بدل من قوله سبحانه: * (أني قد جئتكم) * أو من * (آية) * أو منصوب على المفعولية لمحذوف أي أعني، أو مرفوع على
167

أنه خبر لمقدر أي: هي أني الخ؛ وقرأ نافع * (إني) * بكسر الهمزة على الاستئناف، والمراد بالخلق التصوير والإبراز على مقدار معين لا الإيجاد من العدم كما يشير إليه ذكر المادة، والهيئة مصدر بمعنى المهيأ كالخلق بمعنى المخلوق، وقيل: إنها اسم لحال الشيء وليست مصدرا وإنما المصدر الهىء والتهيؤ فهي على الأول: جوهر وعلى الثاني: عرض، وفسروها بالكيفية الحاصلة - من إحاطة الحد الواحد أو الحدود - بالجسم، والمعنى أني أقدر - لأجل تحصيل إيمانكم ودفع تكذيبكم إياي - من الطين شيئا مثل الطير المهيأ أو هيئة كائنة كهيئته والكاف إما اسم - كما ذهب إليه أبو الحسن - في موضع نصب على المفعولية - لأخلق - أو نعت لمفعول محذوف له، وإما حرف - كما ذهب إليه الجمهور - فتتعلق بمحذوف وقع نعتا أيضا لما وقع هو نعتا له على تقدير الاسمية. وقرأ يزيد وحمزة - كهية - بتشديد الياء. وكان ابن المقسم يقول: بلغني أن خلفا يقول: إن حمزة يترك الهمزة ويحرك الياء بحركتها. وقرأ أهل المدينة ويعقوب - الطائر - ومثله في المادة.
* (فأنفخ فيه) * الضمير للهيئة المقدرة في نظم الكلام لكن بمعنى الشيء المهيأ لا بمعنى العرض القائم به إذ لا يصح أن يكون ذلك محلا للنفخ. وذكر الضمير هنا مراعاة للمعنى كما أنث في المائدة مراعاة للفظ قيل: وصح هذا لعدم الإلباس، ووقع في كلام غير واحد كون الضمير للكاف بناءا على أنها اسم ويعود ذلك في الحقيقة إلى عود الضمير إلى الموصوف بها. واعترضه ابن هشام بأنه لو كان كما زعموا لسمع في الكلام مررت - بكالأسد - وبعضهم بأن عود الضمير إليها غير معهود. وقرىء - فيها - * (فيكوه طيرا) * حيا طيارا كسائر الطيور. وقرأ المفضل - فتكون - بتاء التأنيث، ويعقوب وأبو جعفر ونافع - طائرا - * (بإذن الله) * متعلق - بيكون - أو - بطيرا - والمراد بأمر الله، وأشار بذلك إلى أن إحياءه من الله تعالى ولكن بسبب النفخ، وليس ذلك لخصوصية في عيسى عليه السلام وهي تكونه من نفخ جبريل عليه السلام، وهو روح محض - كما قيل - بل لو شاء الله تعالى الإحياء بنفخ أي شخص كان لكان من غير تخلف ولا استعصاء، قيل: وفي هذه المعجزة مناسبة لخلقه من غير أب، واختلف هل كان ذلك بطلب واقتراح أم لا؟ فذهب المعظم إلى الأول قالوا: إن بني إسرائيل طلبوا منه على سبيل التعنت جريا على عادتهم مع أنبيائهم أن يخلق لهم خفاشا فلما فعل قالوا: ساحر وإنما طلبوا هذا النوع دون غيره لأنه أكمل الطير خلقا وأبلغ دلالة على القدرة لأن له نابا وأسنانا ويحيض ويلد ويطير بغير ريش، وله آذان وثدي وضرع ويخرج منه اللبن، ويرى ضاحكا كما يضحك الإنسان، ولا يبصر في ضوء النهار، ولا في ظلمة الليل، وإنما يرى في ساعتين بعد غروب الشمس ساعة وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جدا، والمشهور أنه لم يخلق غير الخفاش، وأخرجه أبو الشيخ عن ابن عباس، قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز عن خلق الله تعالى بلا واسطة، وقيل: خلق أنواعا من الطير. وذهب بعضهم إلى الثاني فقد أخرج ابن جرير عن ابن إسحق أن عيسى عليه السلام جلس يوما مع غلمان من الكتاب فأخذ طينا، ثم قال: أجعل لكم من هذا الطين طائرا؟ قالوا: أو تستطيع ذلك؟ قال: نعم بإذن ربي، ثم هيأه حتى إذا جعله في هيئة الطائر نفخ فيه، ثم قال: كن طائرا بإذن الله تعالى فخرج يطير من بين كفيه، وخرج الغلمان بذلك من أمره فذكروه لمعلمهم وأفشوه في الناس.
* (وأبرىء الأكمه) * عطف على * (أخلق) * فهو
168

داخل في حيز * (أني) * والأكمه هو الذي ولد أعمى أخرجه ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عباس. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عطاء عنه أنه الممسوح العين الذي لم يشق بصره ولم يخلق له حدقة، قيل ولم يكن في صدر هذه الأمة أكمه بهذا المعنى غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب " التفسير "، وعن مجاهد أنه الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل، وعن عكرمة أنه الأعمش أي: أخلص الأكمه من الكمه * (والأبرص) * وهو الذي به الوضح المعروف وتخصيص هذين الأمرين
لأنهما أمران معضلان أعجزا الأطباء وكانوا في غاية الحذاقة مع كثرتهم في زمنه، ولهذا أراهم الله تعالى المعجزة من جنس الطب كما أرى قوم موسى عليه السلام المعجزة بالعصا واليد البيضاء حيث كان الغالب عليهم السحر، والعرب المعجزة بالقرآن حيث كان الغالب عليهم عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاغة، والاقتصار على هذين الأمرين لا يدل على نفي ما عداهما فقد روي أنه عليه السلام أبرأ أيضا غيرهما، وروي عن وهب أنه ربما اجتمع على عيسى عليه السلام من المرضى خمسون ألفا من أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق ذلك منهم أتاه عيسى عليه السلام فمشى إليه، وكان يداويهم بالدعاء إلى الله تعالى بشرط الإيمان وكان دعاؤه الذي يدعو للمرضى والزمنى والعميان والمجانين وغيرهم " اللهم أنت إله من في السماء وإله من في الأرض لا إله فيهما غيرك وأنت جبار من في السماء وجبار من في الأرض لا جبار فيهما غيرك وأنت ملك من في السماء وملك من في الأرض لا ملك فيهما غيرك قدرتك في الأرض كقدرتك في السماء وسلطانك في الأرض كسلطانك في السماء أسألك باسمك الكريم ووجهك المنير وملكك القديم إنك على كل شيء قدير " ومن خواص هذا الدعاء - كما قال وهب - أنه إذا قرىء على الفزع والمجنون وكتب له وسقى منه نفع إن شاء الله تعالى. * (وأحيى الموتى بإذن الله) * عطف على خبر * (أني) * وقيد الإحياء بالاذن كما فعل في الأول لأنه خارق عظيم يكاد يتوهم منه ألوهية فاعله لأنه ليس من جنس أفعال البشر وكان إحياؤه بالدعاء وكان دعاؤه - يا حي يا قيوم - وخبر " إنه كان إذا أراد أن يحيى الموتى صلى ركعتين يقرأ في الأولى: تبارك الذين بيده الملك، وفي الثانية: تنزيل السجدة فإذا فرغ مدح الله تعالى وأثنى عليه ثم دعا بسبعة أسماء يا قديم، يا خفي، يا دائم، يا فرد، يا وتر، يا أحد، يا صمد " قال البيهقي: ليس بالقوي، وقيل: إنه كان إذا أراد أن يحيى ميتا ضرب بعصاه الميت، أو القبر، أو الجمجمة فيحيا بإذن الله تعالى ويكلمه ويموت سريعا. وأخرج محيي السنة عن ابن عباس أنه قال: قد أحيا عليه السلام أربعة أنفس، عازر، وابن العجوز، وابنة العاشر، وسام بن نوح، فأما عازر فكان صديقا له فأرسلت أخته إلى عيسى أن أخاك عازر مات وكان بينه وبين عازر مسيرة ثلاثة أيام فأتاه هو وأصحابه فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيام فقال لأخته: انطلقي بنا إلى قبره فانطلقت معهم إلى قبره فدعا الله تعالى عيسى فقام عازر وودكه يقطر فخرج من قبره، وبقي زمانا وولد له. وأما ابن العجوز فمر به ميتا على عيسى عليه السلام على سرير يحمل فدعا الله تعالى عيسى فجلس على سريره ونزل عن أعناق الرجال ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله فبقي زمانا وولد له، وأما ابنة العاشر فكان أبوها رجلا يأخذ العشور ماتت له بنت الأمس فدعا الله تعالى وأحياها وبقيت زمانا وولدها. وأما سام بن نوح فإن عيسى عليه السلام جاء إلى قبره فدعى باسم الله تعالى الأعظم فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه خوفا من قيام الساعة ولم يكونوا يشيبون في ذلك الزمان فقال: أقد قامت الساعة؟
169

قال: لا ولكن دعوتك باسم الله تعالى الأعظم ثم قال له: مت قال: بشرط أن يعيذني الله تعالى من سكرات الموت فدعا الله تعالى له ففعل، وفي بعض الآثار أن إحياءه ساما كان بعد قولهم له عليه السلام إنك تحيى من كان قريب العهد من الموت ولعلهم لم يموتوا بل أصابتهم سكتة فأحي لنا سام بن نوح فأحياه وكان بينه وبين موته أكثر من أربعة آلاف سنة فقال للقوم: صدقوه فإني نبي فآمن به بعضهم وكذبه آخرون فقالوا: هذا سحر فأرنا آية فنبأهم بما يأكلون وما يدخرون، وقد ورد أيضا أنه عليه السلام أحيا ابن ملك ليستخلفه في قصة طويلة، وأحيا خشفا وشاة وبقرة؛ ولفظ * (الموتى) * يعم كل ذلك.
* (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) * (ما) في الموضعين موصولة، أو نكرة موصوفة والعائد محذوف - أي تأكلونه وتدخرونه - والظرف متعلق بما عنده وليس من باب التنازع، والادخار - الخبء - وأصل تدخرون تذتخرون بذال معجمة فتاء فأبدلت التاء ذالا ثم أبدلت الذال دالا وأدغمت، ومن العرب من يقلب التاء دالا ويدغم، وقد كان هذا الإخبار بعد النبوة وإحيائه الموتى عليه السلام على ما في بعض الإخبار، وقيل: قبل، فقد أخرج ابن عساكر عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: كان عيسى عليه السلام وهو غلام يلعب مع الصبيان يقول لأحدهم: تريد أن أخبرك ما خبأت لك أمك؟ فيقول: نعم فيقول: خبأت لك كذا وكذا فيذهب الغلام منهم إلى أمه فيقول لها: أطعميني ما خبأت لي فتقول: وأي شيء خبأت لك؟ فيقول: كذا وكذا فتقول: من أخبرك؟! فيقول: عيسى ابن مريم فقالوا: والله لأن تركتم هؤلاء الصبيان مع عيسى ليفسدنهم فجمعوهم في بيت وأغلقوه عليهم فخرج عيسى يلتمسهم فلم يجدهم حتى سمع ضوضاهم في بيت فسأل عنهم فقال: ما هؤلاء أكان هؤلاء الصبيان؟ قالوا: لا إنما هي قردة وخنازير قال: اللهم اجعلهم قردة وخنازير فكانوا كذلك، وذهب بعضهم أن ذلك كان بعد نزول المائدة وأيد بما أخرجه عبد الرزاق وغيره عن عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه في الآية أنه قال: * (وأنبئكم بما تأكلون) * من المائدة * (وما تدخرون) * منها، وكان أخذ عليهم في المائدة حين نزلت أن يأكلوا ولا يدخروا فادخروا وخانوا فعلوا قردة وخنازير، ويمكن أن يقال: إن كل ذلك قد وقع - وعلى سائر التقادير - فالمراد الاخبار بخصوصية هذين الأمرين كما يشعر به الظاهر، وقيل: المراد الإخبار بالمغيبات إلا أنه قد اقتصر على ذكر أمرين منها ولعل وجه تخصيص الإخبار بأحوالهم لتيقنهم بها فلا يبقى لهم شبهة، والسر في ذكر هذين الأمرين بخصوصهما أن غالب سعي الإنسان وصرف ذهنه لتحصيل الأكل الذي به قوامه والادخار الذي يطمئن به أكثر القلوب ويسكن منه غالب النفوس فليفهم. وقرىء - تذخرون - بالذال المعجمة.
* (إن في ذالك) * أي المذكور من الخوارق الأربعة العظيمة، وهذا من كلام عيسى عليه السلام حكاه الله تعالى عنه، وقيل: هو من كلام الله تعالى سيق للتوبيخ * (لآية) * أي جنسها، وقرىء لآيات * (لكم) * دالة على صحة الرسالة دلالة واضحة حيث لم يكن ذلك بتخلل آلات وتوسط أسباب عادية كما يفعله الأطباء والمنجمون. ومن هنا يعلم أن علم الجفر وعلم الفلك ونحوهما لما كانت مقرونة بأصول وضوابط لا يقال عنها: إنها علم غيب أبدا إذ علم الغيب شرطه أن يكون مجردا عن المواد والوسائط الكونية وهذه العلوم ليست كذلك
170

لأنها مرتبة على قواعد معلومة عند أهلها لولاها ما علمت تلك العلوم، وليس ذلك كالعلم بالوحي لأنه غير مكتسب بل الله تعالى يختص به من يشاء وكذا العلم بالإلهام فإنه لا مادة له إلا الموهبة الإلهية والمنحة الأزلية، على أن بعضهم ذهب إلى أن تلك العلوم لا يحصل بها العلم المقابل للظن بل نهاية ما يحصل الظن الغالب وبينه وبين علم
الغيب بون بعيد، وسيأتي لهذا تتمة إن شاء الله تعالى * (إن كنتم مؤمنين) * فيه مجاز المشارفة أي إن كنتم موفقين للإيمان، ويحتمل أن يكون المعنى إن كنتم مصدقين، وجواب الشرط على التقديرين محذوف أي انتفعتم بذلك.
* (ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بأية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون) *.
* (ومصدقا لما بين يدي من التوراة) * عطف إما على المضمر الذي تعلق به قوله تعالى: * (بآية) * (آل عمران: 49) أي قد جئتكم محتجا، أو متلبسا بآية الخ ومصدقا لما الخ، وإما على * (رسولا) * (آل عمران: 49) وفيه معنى النطق مثله، وجوز أن يكون منصوبا بفعل دل عليه * (قد جئتكم) * (آل عمران: 49) أي وجئتكم مصدقا الخ. وقوله سبحانه: * (من التوراة) * في موضع نصب على الحال من الضمير المستتر في الظرف والعامل فيه الاستقرار، أو الظرف نفسه لقيامه مقام الفعل، ويجوز أن يكون حالا من (ما) فيكون العامل فيه * (مصدقا) * ومعنى تصديقه عليه السلام للتوراة الإيمان بأن جميع ما فيها حكمة وصواب، وقيل: إن تصديقه لها مجيئه رسولا طبق ما بشرت به * (ولأحل لكم) * معمول لمقدر بعد الواو أي - وجئتكم لأحل - فهو من عطف الجملة على الجملة، أو معطوف على * (بآية) * من قوله سبحانه: * (جئتكم بآية) * (آل عمران: 49) لأنه في معنى - لأظهر لكم آية ولأحل - فلا يرد أنه لا يصح عطف المفعول له على المفعول به، أو معطوف على * (مصدقا) * ويلتزم التأويل بما يجعلهما من باب واحد، وإن كان الأول: حالا، والثاني: مفعولا له فكأنه قيل: جئتكم لأصدق ولأحل، وقيل: لا بد من تقدير - جئتكم - فيها كلها إذ لا يعطف نوع من المعمولات على نوع آخر.
* (بعض الذي حرم عليكم) * أي في شريعة موسى عليه السلام. أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع أنه قال: كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى عليهما السلام وكان قد حرم عليهما فيما جاء به موسى عليه السلام لحوم الإبل والثروب فأحلها لهم على لسان عيسى وحرمت عليهم شحوم الإبل فأحلت لهم فيما جاء به عيسى، وفي أشياء من السمك، وفي أشياء من الطير مما لا صيصية له، وفي أشياء أخر حرمها عليهم وشدد عليهم فيها فجاء عيسى بالتخفيف منه في " الإنجيل ". وأخرج عبد بن حميد عن قتادة مثله، وهذا يدل على أن " الإنجيل " مشتمل على أحكام تغاير ما في " التوراة " وأن شريعة عيسى نسخت بعض شريعة موسى، ولا يخل ذلك بكونه مصدقا للتوراة فإن النسخ بيان لانتهاء زمان الحكم الأول لا رفع وإبطال كما تقرر، وهذا مثل نسخ القرآن بعضه ببعض، وذهب بعضهم إلى أن " الإنجيل " لم يخص أحكاما ولا حوى حلالا وحراما ولكنه رموز وأمثال ومواعظ وزواجر، وما سوى ذلك من الشرائع والأحكام فمحالة على " التوراة "، وإلى أن عيسى عليه السلام لم ينسخ شيئا مما في " التوراة "، وكان يسبت ويصلي نحو البيت المقدس، ويحرم لحم الخنزير، ويقول بالختان إلا أن النصارى غيروا ذلك بعد رفعه فاتخذوا يوم الأحد بدل يوم السبت لما أنه أول يوم الأسبوع ومبدأ الفيض، وصلوا نحو المشرق لما تقدم، وحملوا الختان على ختان القلب وقطعه عن العلائق الدنيوية والعوائق عن الحضرة الإلهية وأحلوا لحم الخنزير مع أن مرقس حكى في " إنجيله " أن المسيح أتلف الخنزير وغرق منه في البحر قطيعا كبيرا وقال لتلامذته: لا تعطوا القدس الكلاب ولا تلقوا جواهركم قدام الخنازير فقرنها بالكلاب، وسبب ذلك زعمهم أن بطرس رأى في
171

النوم صحيفة نزلت من السماء، وفيها صور الحيوانات وصورة الخنزير وقيل له: يا بطرس كل منها ما أحببت ونسب هذا القول إلى وهب بن منبه، والذاهبون إليه أولوا الآية بأن المراد ما حرمه علماؤهم تشهيا أو خطأ في الاجتهاد، واستدلوا على ذلك بأن المسيح عليه السلام قال في " الإنجيل ": ما جئت لأبطل التوراة بل جئت لأكملها، ولا يخفى أن تأويل الآية بما أولوه به بعيد في نفسه، ويزيده بعدا أنه قرىء - حرم - بالبناء للفاعل وهو ضمير ما * (بين يدي) * أو الله تعالى، وقرىء أيضا - حرم - بوزن كرم، وأن ما ذكروه من كلام المسيح عليه السلام لا ينافي النسخ لما علمت أنه ليس بإبطال وإنما هو بيان لانتهاء الحكم الأول، ومعنى التكميل ضم السياسة الباطنة التي جاء بها إلى السياسة الظاهرة التي جاء بها موسى عليه السلام - على ما قيل - أو نسخ بعض أحكام التوراة بأحكام هي أوفق بالحكمة وأولى بالمصلحة وأنسب بالزمان، وعلى هذا يكون قول المسيح حجة للأولين لا عليهم، ولعل ما ذهبوا إليه هو المعول عليه كما لا يخفى على ذوي العرفان * (وجئتكم بئاية من ربكم) * الكلام فيه كالكلام في نظيره، وقرىء - بآيات - * (فاتقوا الله) * في عدم قبول ما جئتكم به * (وأطيعون) * فيما آمركم به وأنهاكم بأمر الله تعالى.
* (إن الله ربى وربكم فاعبدوه ه‍اذا صراط مستقيم) *.
* (إن الله ربي وربكم فاعبدوه هاذا صراط مستقيم) * بيان للآية المأتي بها على معنى: هي قولي: إن الله ربي وربكم. ولما كان هذا القول مما أجمع الرسل على حقيته ودعوا الناس إليه كان آية دالة على رسالته، وليس المراد بالآية على هذا المعجزة ليرد أن مثل هذا القول قد يصدر عن بعض العوام بل المراد أنه بعد ثبوت النبوة بالمعجزة كان هذا القول لكونه طريقة الأنبياء عليهم السلام علامة لنبوته تطمئن به النفوس، وجوز أن يراد من الآية المعجزة على طرز ما مر، ويقال: إن حصول المعرفة والتوحيد والاهتداء للطريق المستقيم في الاعتقادات والعبادات عمن نشأ بين قوم غيروا دينهم وحرفوا كتب الله تعالى المنزلة وقتلوا أنبياءهم ولم يكن ممن تعلم من بقايا أخبارهم من أعظم المعجزات وخوارق العادات. أو يقال من الجائز أن يكون قد ذكر الله تعالى في التوراة إذا جاءكم شخص من نعته كذا وكذا يدعوكم إلى كيت وكيت فاتبعوه فإنه نبي مبعوث إليكم فإذا قال: أنا الذي ذكرت بكذا وكذا من النعوت كان من أعظم الخوارق، وقرىء - أن الله - بفتح همزة - أن - على أن المنسبك بدل من (آية) أو أن المعنى: جئتكم بآية دالة على أن الله الخ، ومثل هذا محتمل على قراءة الكسر أيضا لكن بتقدير القول، وعلى كلا التقديرين يكون قوله تعالى: * (فاتقوا الله وأطيعون) * (آل عمران: 50) اعتراضا، وقد ذكر غير واحد أن الظاهر أن هذه الجملة معطوفة عل جملة * (جئتكم) * الأولى وكررت ليتعلق بها معنى زائد وهو قوله سبحانه: * (إن الله ربي) * أو للاستيعاب كقوله تعالى: * (ثم ارجع البصر كرتين) * (الملك: 4) أي: جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم من خلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص والإحياء والإنباء بالمخفيات، ومن ولادتي بغير أب، ومن كلامي في المهد ونحو ذلك والكلام الأول: لتمهيد الحجة عليهم، والثاني
: لتقريبها إلى الحكم وهو إيجاب حكم تقوى الله تعالى وطاعته ولذلك جيء بالفاء في * (فاتقوا الله) * كأنه قيل: لما جئتكم بالمعجزات الباهرات والآيات الظاهرات فاتقوا الله الخ، وعلى هذا يكون قوله تعالى: * (إن الله) * الخ ابتداء كلام وشروعا في الدعوة المشار إليها بقول مجمل، فإن الجملة الاسمية المؤكدة بأن للإشارة إلى استكمال القوة النظرية بالاعتقاد الحق الذي غايته التوحيد، وقوله تعالى: * (فاعبدوه) * إشارة إلى استكمال القوة العملية فإنه ملازمة الطاعة التي هي الاتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي،
172

وتعقيب هذين الأمرين بقوله سبحانه: * (هذا صراط مستقيم) * تقرير لما سبق ببيان أن الجمع بين الأمرين الاعتقاد الحق، والعمل الصالح هو الطريق المشهود له بالاستقامة، ومعنى قراءة الفتح على ما ذكر - لأن الله - ربي وربكم فاعبدوه - قوله تعالى: * (لإيلاف قريش) * (قريش: 1) الخ، والإشارة إما إلى مجموع الأمرين، أو إلى الأمر الثاني المعلول للأمر الأول، والتنوين إما للتعظيم أو للتبعيض؛ وجملة * (هذا) * الخ على ما قيل: استئناف لبيان المتقضي للدعوة.
هذا والإشارة في هذه الآيات ظاهرة كالعبارة: سوى أن تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس يحتاج إلى بيان فنقول: قال الله سبحانه: * (وإذ قالت الملائكة) * أي ملائكة القوى الروحانية لمريم النفس الطاهرة الزكية * (إن الله اصطفاك) * لكمال استعدادك ووفور قابليتك * (وطهرك) * عن الرذائل والأخلاق الردية * (واصطفاك على نساء) * (آل عمران: 42) النفوس الشهوانية المتدرعة بجلباب الأفعال الذميمة * (يا مريم اقنتي لربك) * أي داومي على الطاعة له بالائتمار بما أمر والانزجار عما نهى * (واسجدي) * في مساجد الذل * (واركعي) * (آل عمران: 43) في محاريب الخدوع مع الخاضعين فإن في ذلك إقامة مراسم العبودية وأداء حقوق الربوبية، ولله تعالى در من قال: ويحسن إظهار التجلد للعدا * ويقبح إلا العجز عند الحبائب
* (ذلك من أنباء الغيب) * أي من أخبار غيب وجودك * (نوحيه إليك) * يا نبي الروح * (وما كنت لديهم) * أي لدى القوى الروحانية والنفسانية، والمراد ما كنت ملتفتا إليهم بل كنت في شغل شاغل عنهم * (إذ يلقون) * أقلام استعداداتهم التي يكتبون بها صحف أحوالهم وتوراة أطوارهم ويطرحونها في بحر التدبير * (أيهم يكفل) * ويدبر * (مريم) * النفس بحسب رأيه ومقتضى طبعه * (وما كنت لديهم إذ يختصمون) * (آل عمران: 44) في مقام الصدر الذي هو محل اختصام القوى في طلب الرياسة قبل الرياضة وفي حالها * (إذ قالت) * ملائكة القوى الروحانية حين غلبت * (يا مريم إن الله يبشرك) * بمقتضى التوجيه إليه * (بكلمة منه) * جامعة لحروف الأكوان وهو القلب المحيط بالعوالم * (اسمه المسيح) * لأنه يمسحك بالنور، أو لأنه مسح به * (وجيها في الدنيا) * لتدبيره أمر المعاش فيطيعه أنس القوى الظاهرة وجن القوى الباطنة، ووجيها في الآخرة لقيامه بتدبير المعاد فيطيعه ملكوت سماء الأرواح، أو شريفا مرفوعا في الدنيا وهي عبارة عن تجلي الأفعال، وفي الآخرة وهي عبارة عن تجلي الأسماء * (ومن المقربين) * (آل عمران: 45) أي المعدودين من جملة مقربي الحضرة القابلين لتجلي الذات، وفي الخبر " ما وسعتني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن " * (ويكلم الناس) * بما يرشدهم في مهد البدن وقت تغذيه بلبان السلوك إلى ملك الملوك * (وكهلا) * (آل عمران: 46) بالغا طور شيخ الروح وواصلا وسط الطريق * (قالت رب أنى يكون لي ولد) * مثل هذا * (ولم يمسسني بشر) * وهو تعجب من ولادتها ذلك من غير تربية معلم بشري لما أن العادة جرت بأن الوصول إلى المقامات العلية إنما هو بواسطة شيخ مرشد يعرف الطريق ويدفع الآفات، وقد شاع أن الإنسان متى سلك بنفسه ضل أو لم يفز بكثير، ومن كلامهم الشجرة التي تنبت بنفسها لا تثمر * (قال كذلك الله يخلق ما يشاء) * (آل عمران: 47) فله أن يصطفي من شاء من غير تربية مرب ولا إرشاد مرشد بل بمجرد الجذبة الإلهية، وهذا أن المرادين وبعض المريدين: رب شخص تقوده الأقدار * للمعالي وما لذاك اختيار
غافل والسعادة احتضنته * وهو عنها مستوحش نفار
* (ويعلمه) * (آل عمران: 48) بالتعليم الإلهي الغني عما يعهد من الوسائط كتاب العلوم المعقولة وحكم الشرائع ومعارف الكتب الإلهية من توراة الظاهر وإنجيل الباطن؛ * (و) * يجعله * (رسولا) * * (إلى) * الروحانيين من * (بني إسرائيل) * الروح قائلا:
173

* (أني قد جئتكم) * من عالم الغيب * (بآية) * عظيمة وهي * (أني أخلق لكم) * بالتربية من طين النفوس البشرية * (كهيئة) * الطائر إلى جناب القدس بجناحي الرجاء والخوف * (فأنفخ فيه) * بنفث العلم الإلهي ونفس الحياة الحقيقية * (فيكون طيرا) * أي نفسا حية طائرة في فضاء الجمال والجلال إلى رياض جناب الحق سبحانه * (بإذن الله وأبرىء الأكمه) * أي الأعمى المحجوب برؤية الأغيار عن رؤية نور الأنوار * (والأبرص) * المبتلى بأمراض الرذائل والعقائد الفاسدة التي أوجبت مخالفة لون بشرته الفطرية * (وأحيي) * موتى الجهل بحياة العلم الحقيقية * (بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون) * أي تتناولون من الشهوات واللذات * (وما تدخرون) * في بيوت نياتكم من الآمال التي هي كسراب بقيعة * (إن في ذلك) * المذكور * (لآية لكم) * نافعة * (إن كنتم مؤمنين) * (آل عمران: 49)، * (ومصدقا لما بين يدي من) * توراة الظاهر فإنه أحد المظاهر * (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم) * بسبب عنادكم وقصركم الحق على بعض مظاهره، وأشير بذلك إلى علم الباطن، والمراد من البعض إما الكل على حد ما قيل في قوله تعالى: * (يصبكم بعض الذي يعدكم) * (غافر: 28) وإما ظاهر معناه فيكون إشارة إلى أن من الباطن ما يحرم كشفه، فقد قال مولانا زين العابدين: ورب جوهر علم لو أبوح به * لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثنا
ولا استحل أناس مسلمون دمي * يرون أقبح ما يأتونه حسنا
وقد تقدم في هذا أبو حسن * إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا
* (وجئتكم بآية) * بعد أخرى * (من ربكم فاتقوا الله) * في مخالفتي * (وأطيعون) * (آل عمران: 50) فيما فيه كمال نشأتكم * (إن الله ربي وربكم) * فهو الذي يوصلكم إلى ما فيه كمالكم * (فاعبدوه) * بالذل والانكسار والوقوف على بابه بالعجز والافتقار وامتثلوا أمره ونهيه * (هذا صراط مستقيم) * يوصلكم إليه ويفد
كم عليه.
* (فلمآ أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصارىإلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله ءامنا بالله واشهد بأنا مسلمون) *.
* (فلما أحس عيسى منهم الكفر) * شروع في بيان مآل أحواله عليه السلام، وقيل: يحتمل أن يكون كله من قبل الملائكة شرحا لطرف منها داخلا تحت القول، ويحتمل أن يكون الكلام قد تم عند قوله تعالى: * (ورسولا إلى بني إسرائيل) * (آل عمران: 49) ولا يكون * (أني قد جئتكم) * (آل عمران: 49) متعلقا بما قبله، ولا يكون داخلا تحت القول ويكون المحذوف هناك فجاء عيسى كما بشر الله تعالى رسولا إلى بني إسرائيل بأني قد جئتكم بآية من ربكم الآية، والفاء هنا مفصحة بمثل القدر هناك على التقدير الثاني، وأصل الإحساس الإدراك بإحدى الحواس الخمس الظاهرة وقد استعير هنا استعارة تبعية للعلم بلا شبهة، وقيل: إنه مجاز مرسل عن ذلك من باب ذكر الملزوم وإرادة اللازم والداعي لذلك أن الكفر مما لا يحس، والقول - بأن المراد إحساس آثار الكفر - ليس بشيء، والمراد من الكفر إصرارهم عليه وعتوهم فيه مع العزيمة على إيقاع مكروه به عليه السلام، وقد صح أنه عليه السلام لقي من اليهود قاتلهم الله تعالى شدائد كثيرة. أخرج إسحق بن بشر وابن عساكر من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: " كان اليهود يجتمعون على عيسى عليه السلام ويستهزءون به ويقولون له: يا عيسى ما أكل فلان البارحة وما ادخر في بيته لغد؟! فيخبرهم ويسخرون منه حتى طال ذلك به وبهم وكان عيسى عليه السلام ليس له قرار ولا موضع يعرف إنما هو سائح في الأرض فمر ذات يوم بامرأة قاعدة عند قبر وهي تبكي فسألها فقالت: ماتت ابنة لي لم يكن لي ولد غيرها فصلى عيسى ركعتين ثم نادى يا فلانة قومي بإذن الرحمن فاخرجي فتحرك القبر ثم نادى الثانية فانصدع القبر. ثم نادى الثالثة فخرجت وهي تنفض رأسها من التراب فقالت: يا أماه ما حملك على أن أذوق كرب الموت مرتين؟ يا أماه اصبري واحتسبي فلا حاجة لي في الدنيا يا روح الله سل ربي أن يردني إلى الآخرة وأن يهون علي كرب الموت
174

فدعا ربه فقبضها إليه فاستوت عليها الأرض فبلغ ذلك اليهود فازدادوا عليه غضبا " وروي عن مجاهد أنهم أرادوا قتله ولذلك استنصر قومه، و - من - لابتداء الغاية متعلق - بأحس - أي ابتدأ الإحساس من جهتهم؛ وجوز أبو البقاء أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الكفر أي لما أحس الكفر حال كونه صادرا منهم.
* (قال من أنصاريإلى الله) * المقول لهم الحواريون كما يشير إليه آية - الصف (14) - * (كما قال عيسى ابن مريم للحواريين) * الآية. وكونه - جميع بني إسرائيل لقوله تعالى: * (فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة) * (الصف: 14) - ليس بشيء إذ الآية ليست بنص في المدعى إذ يكفي في تحقق الانقسام بلوغ الدعوة إلى الجميع، و - الأنصار - جمع نصير كالأشراف جمع شريف، وقال قوم: هو جمع نصر، وضعفه أبو البقاء إلا أن يقدر فيه مضاف أي من صاحب نصري، أو تجعله مصدرا وصف به، والجار والمجرور إما أن يتعلق بمحذوف وقع حالا من الياء وهي مفعول به معنى، والمعنى من ينصرني حال كوني ملتجئا إلى الله تعالى أو ذاهبا إلى الله، وإما أن يتعلق - بأنصاري - مضمنا معنى الإضافة أي من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله في نصري، وفي " الكشاف " في تفسير سورة الصف ما حاصله مما يخالف ما ذكره هنا أن إضافة - أنصار - للياء إضافة ملابسة أي من حزبي ومشاركي في توجهي لنصرة الله تعالى ليطابق جوابهم الآتي ولا يصح أن يكون معناه من ينصرني مع الله لعدم المطابقة، وفيه أن عدم المطابقة غير مسلم إذ نصرة الله تعالى في الجواب ليست على ظاهرها بل لا بد من تجوز، أو إضمار في نصرهم لله تعالى، ويضمر ما تحصل به المطابقة، نعم كون * (إلى) * بمعنى - مع - لا يخلو عن شيء فقد ذكر الفراء أنها إنما تكون كذلك إذا ضم شيء إلى آخر نحو الذود إلى الذود إبل أي إذا ضممته إليه صار إبلا، ألا تراك تقول قدم زيد ومعه مال، ولا تقول: وإليه - وكذا نظائره - فالسالم عن هذا الحمل من التفاسير مع اشتماله على قلة الاضمار أولى، و * (من) * هنا اختار بعضهم كون إلى بمعنى اللام، وآخرون كونها بمعنى - في -. وقال في " الكشف ": لعل الأشبه في معنى الآية - والله تعالى أعلم - أن يحمل على معنى - من ينصرني منهيا نصره إلى الله تعالى - كما يقتضيه حرف الانتهاء دون تضمين كأنه عليه السلام طلب منهم أن ينصروه لله تعالى لا لغرض آخر مدمجا أن نصرة الله تعالى في نصرة رسوله، وجوابهم المحكي عنهم بقوله سبحانه:
* (قال الحواريون نحن أنصار الله) * شديد الطباق له كأنهم قالوا: نحن ناصروك لأنه نصر الله تعالى للغرض الذي رمز إليه، ولو قالوا مكانه: نحن أنصارك لما وقع هذا الموقع انتهى. وأنت تعلم أن جعل * (إلى) * بمعنى اللام، أو في التعليليتين يحصل طلبة المسيح التي أشير إليها على وجه لعله أقل تكلفا مما ذكر، وكأن اختيار ذلك لما قاله الزجاج من أنه لا يجوز أن يقال: إن بعض الحروف من حروف المعاني بمعنى الآخر لكن الحرفين قد يتقاربان في الفائدة فيظن الضعيف العلم باللغة أن معناهما واحد وليس بذلك فليفهم، و - الحواريون - جمع حواري يقال: فلان حواري فلان أي خاصته من أصحابه وناصره، وليس الحواري جمعا ككراسي على ما وهم بل هو مفرد منصرف كما صرح به المحققون، وذكر العلامة التفتازاني أنه مفرد وألفه من تغييرات النسب؛ وفيه أن الألف إذا زيدت في النسبة وغيرت بها تخفف الياء في الأفصح في أمثاله، والحواري بخلافه لأن تخفيف يائه شاذ كما صرحوا به، وبه قرىء في الآية، وأصله من التحوير أي التبييض، ومنه الخبز الحواري الذي نخل مرة بعد أخرى؛ والحواريات للحضريات نساء المدن والقرى لما أنه يغلب فيهن البياض لعدم البروز للشمس، ويطلق الحواري على - القصار - أيضا لأنه
175

يبيض الثياب وهو بلغة النبط، هواري بضم الهاء وتشديد الواو وفتح الراء قاله الضحاك واختلف في سبب تسمية أولئك القوم بذلك فقيل: سموا بذلك لبياض ثيابهم - وهو المروي عن سعيد بن جبير - وقيل: لأنهم كانوا قصارين يبيضون الثياب للناس - وهو المروي عن مقاتل وجماعة - وقيل: لنقاء قلوبهم وطهارة أخلاقهم - وإليه يشير كلام قتادة - وفي تعيين أنهم من أي الطوائف من الناس خلاف أيضا فقيل: قوم كانوا يصطادون السمك فيهم يعقوب، وشمعون، ويوحنا فمر بهم عيسى عليه السلام فقال لهم: أنتم تصيدون السمك فإن اتبعتموني صرتم بحيث تصيدون الناس بالحياة الأبدية؟ فقالوا له من أنت؟ قال: عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله فطلبوا منه المعجزة، وكان شمعون قد رمى شبكته تلك الليلة فما اصطاد شيئا فأمر عيسى عليه السلام بإلقائها في الماء مرة أخرى ففعل فاصطاد ما ملأ سفينتين فعند ذلك آمنوا به عليه السلام،
وقيل: هم اثنا عشر رجلا، أو تسعة وعشرون من سائر الناس اتبعوا عيسى عليه السلام وكانوا إذا جاعوا قالوا: يا روح الله جعنا فيضرب بيده على الأرض فيخرج لكل واحد رغيفان، وإذا عطشوا قالوا: عطشنا فيضرب بيده على الأرض فيخرج الماء فيشربون فقالوا: من أفضل منا إذا شئنا أطعمتنا وإذا شئنا أسقيتنا وقد آمنا بك؟ فقال: أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه فصاروا يغسلون الثياب بالكراء ويأكلون، وقيل: إن واحدا من الملوك صنع طعاما وجمع الناس عليه وكان عيسى عليه السلام على قصعة فكانت القصعة لا تنقص فذكر ذلك للملك فذهب إليه الملك مع أقاربه فقالوا له: من أنت؟ قال: عيسى ابن مريم فقال الملك: إني تارك ملكي ومتبعك فتبعه مع أقاربه فأولئك هم الحواريون، وقيل: إن أمه دفعته إلى صباغ فكان إذا أراد أن يعلمه شيئا وجده أعلم به منه فغاب الصباغ يوما لمهم وقال له: ههنا ثياب مختلفة وقد جعلت على كل منها علامة فاصبغها بتلك الألوان فطبخ عيسى عليه السلام حبا واحدا وجعل الجميع فيه، وقال: كوني بإذن الله كما أريد فرجع الصباغ فأخبره بما فعل فقال: أفسدت على الثياب قال: قم فانظر فكان يخرج ثوبا أحمر وثوبا أخضر وثوبا أصفر كما كان يريد فتعجب الحاضرون منه وآمنوا به وكانوا الحواريين، ونقل جمع عن القفال أنه يجوز أن يكون بعضهم من الملوك، وبعضهم من الصيادين، وبعضهم من القصارين، وبعضهم من الصباغين، وبعضهم من سائر الناس وسموا جميعا بالحواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى عليه السلام والمخلصين في محبته وطاعته. والاشتقاق كيف كانوا هو الاشتقاق، ومأخذه إما أن يؤخذ حقيقيا وإما أن يؤخذ مجازيا وهو الأوفق بشأن أولئك الأنصار، وقيل: إنه مأخوذ من حار بمعنى رجع ومنه قوله تعالى: * (إنه ظن أن لن يحور) * (الإنشقاق: 14) وكأنهم سموا بذلك لرجوعهم إلى الله تعالى.
ومن الناس من فسر الحواري بالمجاهد فإن أريد بالجهاد ما هو المتبادر منه أشكل ذلك حيث إنه لم يصح أن عيسى عليه السلام أمر به؛ وادعاه بعضهم مستدلا بقوله تعالى: * (فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين) * (الصف: 14) ولا يخفى أن الآية ليست نصا في المقصود لجواز أن يراد بالتأييد التأييد بالحجة وإعلاء الكلمة، وإن أريد بالجهاد جهاد النفس بتجريعها مرائر التكاليف لم يشكل ذلك. نعم استشكل أن عيسى عليه السلام إذا لم يكن مأمورا بالقتال فما معنى طلبه الأنصار؟ وأجيب بأنه عليه السلام لما علم أن اليهود يريدون قتله استنصر للحماية منهم - كما قاله الحسن ومجاهد - ولم يستنصر للقتال معهم على الإيمان بما جاء به، وهذا هو الذي لم يؤمر به لا ذلك بل ربما يدعى أن ذلك مأمور به لوجوب المحافظة
176

على حفظ النفس، وقد روي أن اليهود لما طلبوه ليقتلوه قال للحواريين: أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن يلقى فيه شبهي فيقتل مكاني؟ فأجابه إلى ذلك بعضهم، وفي بعض الأناجيل أن اليهود لما أخذوا عيسى عليه السلام سل شمعون سيفه فضرب به عبدا كان فيهم لرجل من الأحبار عظيم فرمى بإذنه فقال له عيسى عليه السلام: حسبك ثم أدنى أذن العبد فردها إلى موضعها فصارت كما كانت، وقيل: يجوز أن يكون طلب النصرة للتمكين من إقامة الحجة ولتمييز الموافق من المخالف وذلك لا يستدعي الأمر بالجهاد كما أمر نبينا روح جسد الوجود صلى الله عليه وسلم وهو الظاهر لمن أنصف، والمراد من أنصار الله أنصار دينه ورسوله وأعوانهما على ما هو المشهور.
* (ءامنا بالله) * مستند لتلك الدعوى جارية مجرى العلة لها * (واشهد) * عطف على * (آمنا) * ولا يضر اختلافهما إنشائية وإخبارية لما تحقق في محله، وقيل: إن * (آمنا) * لإنشاء الإيمان أيضا فلا اختلاف * (بأنا مسلمون) * أي منقادون لما تريده منا ويدخل فيه دخولا أوليا نصرتهم له، أو بأن ديننا الإسلام الذي هو دين الأنبياء من قبلك فهو إقرار معنى بنبوة من قبله عليه السلام وهذا طلب منهم شهادته عليه السلام لهم يوم القيامة حين تشهد الرسل لقومهم وعليهم إيذانا - كما قال الكرخي - بأن مرمى غرضهم السعادة الأخروية وجاء في المائدة (111) * (بأننا) * لأن ما فيها - كما قيل - أول كلام الحواريين فجاء على الأصل، وما هنا تكرار له بالمعنى فناسب فيه التخفيف لأن كلا من التخفيف والتكرار فرع، والفرع بالفرع أولى.
* (ربنآ ءامنا بمآ أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الش‍اهدين) *.
* (ربنا ءامنا بما أنزلت) * عرض لحالهم عليه تعالى بعد عرضها على رسوله استمطارا لسحائب إجابة دعائهم الآتي، وقيل: مبالغة في إظهار أمرهم * (واتبعنا الرسول) * أي امتثلنا ما أتى به منك إلينا * (فاكتبنا مع الش‍اهدين) * أي محمد صلى الله عليه وسلم وأمته لأنهم يشهدون للرسل بالتبليغ ومحمد صلى الله عليه وسلم يشهد لهم بالصدق - رواه عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - وروى أبو صالح عنه أنهم من آمن من الأمم قبلهم، وقيل: المراد من * (الشاهدين) * الأنبياء لأن كل نبي شاهد لأمته وعليها، وقال مقاتل: هم الصادقون، وقال الزجاج: هم الشاهدون للأنبياء بالتصديق، وقيل: أرادوا مع المستغرقين في شهود جلالك بحيث لا نبالي بما يصل إلينا من المشاق والآلام فيسهل علينا الوفاء بما التزمنا من نصرة رسولك، وقيل: أرادوا اكتب ذكرنا في زمرة من شهد حضرتك من الملائكة المقربين كقوله تعالى: * (إن كتاب الأبرار لفي عليين) * (المطففين: 18) ولا يخفى ما في هذا الأخير من التكلف والمعنى على ما عداه أدخلنا في عداد أولئك، أو في عداد أتباعهم، قيل: وعبروا عن فعل الله تعالى ذلك بهم بلفظ * (فاكتبنا) * إذ كانت الكتابة تقيد وتضبط ما يحتاج إلى تحقيقه وعلمه في ثاني حال، وقيل: المراد اجعل ذلك وقدره في صحائف الأزل. ومن الناس من جعل الكتابة كناية عن تثبيتهم على الإيمان في الخاتمة، والظرف متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعول - اكتبنا -.
* (ومكروا ومكر الله والله خير الم‍اكرين) *.
* (ومكروا) * أي الذين أحس منهم الكفر إذ وكلوا به من يقتله غيلة * (ومكر الله) * بأن ألقى شبهه عليه السلام على غيره فصلب ورفعه إليه، قال ابن عباس: لما أراد ملك بني إسرائيل قتل عيسى عليه السلام دخل خوخة وفيها كوة فرفعه جبريل عليه السلام من الكوة إلى السماء فقال الملك لرجل منهم خبيث: أدخل عليه فاقتله فدخل الخوخة فألقى الله تعالى عليه شبه عيسى عليه السلام فخرج إلى أصحابه يخبرهم
177

أنه ليس في البيت فقتلوه وصلبوه وظنوا أنه عيسى، وقال وهب: أسروه ونصبوا خشبة ليصلبوه فأظلمت الأرض فأرسل الله الملائكة فحالوا بينه وبينهم فأخذوا رجلا يقال له يهودا - وهو الذي دلهم على عيسى - وذلك أن عيسى جمع الحواريين تلك الليلة وأوصاهم ثم قال ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك فيبيعني بدراهم يسيرة فخرجوا وتفرقوا وكانت اليهود تطلبه فأتى أحد الحواريين إليهم وقال: ما تجعلون لي إن دللتكم عليه؟ فجعلوا له ثلاثين درهما فأخذها ودلهم عليه فألقى الله تعالى عليه شبه عيسى عليه السلام فأدخل البيت ورفع وقال: أنا الذي دللتكم عليه فلم يلتفتوا إلى قوله وصلبوه - وهم يظنون أنه عيسى - فلما صلب شبه عيسى وأتى على ذلك سبعة أيام قال الله تعالى لعيسى: اهبط على مريم ثم لتجمع لك الحواريين وبثهم في الأرض دعاة فهبط عليها واشتعل الجبل نورا فجمعت له الحواريين فبثهم في الأرض دعاة ثم رفعه الله سبحانه، وتلك الليلة هي الليلة التي تدخن فيها النصارى فلما أصبح الحواريون قصد كل منهم بلدة من أرسله عيسى إليهم.
وروي عن غير واحد أن اليهود لما عزموا على قتله عليه السلام اجتمع الحواريون في غرفة فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة فأخبر بهم إبليس جمع اليهود فركب منهم أربعة آلاف رجل فأخذوا باب الغرفة فقال المسيح للحواريين: أيكم يخرج ويقتل ويكون معي في الجنة؟ فقال واحد منهم: أنا يا نبي الله فألقى عليه مدرعة من صوف وعمامة من صوف وناوله عكازه وألقى عليه شبه عيسى عليه السلام فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه وأما عيسى عليه السلام فكساه الله النور وقطع عنه شهوة المطعم والمشرب ورفعه إليه، ثم إن أصحابه لما رأوا ذلك تفرقوا ثلاث فرق فقالت فرقة: كان الله تعالى فينا فصعد إلى السماء، وقالت فرقة أخرى: كان فينا ابن الله عز وجل ثم رفعه الله سبحانه إليه، وقالت فرقة أخرى منهم: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه إليه وهؤلاء هم المسلمون، فتظاهرت عليهم الفرقتان الكافرتان فقتلوهم فلم يزل الإسلام مندرس الآثار إلى أن بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم، وروي عن ابن إسحق أن اليهود عذبوا الحواريين بعد رفع عيسى عليه السلام ولقوا منهم الجهد فبلغ ذلك ملك الروم وكان ملك اليهود من رعيته واسمه داود بن نوذا فقيل له: إن رجلا من بني إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول الله تعالى وأراهم إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص - فعل وفعل - فقال: لو علمت ذلك ما خليت بينهم وبينه ثم بعث إلى الحواريين فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه السلام فأخبروه فبايعهم على دينهم وأنزل المصلوب فغيبه وأخذ الخشبة فأكرمها ثم غزا بني إسرائيل فقتل منهم خلقا عظيما، ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم ثم جاء بعده ملك آخر يقال له طيطوس وغزا بيت المقدس بعد رفع عيسى عليه السلام بنحو من أربعين سنة فقتل وسبى ولم يترك في بيت المقدس حجرا على حجر فخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز.
هذا وأصل المكر قيل: الشر، ومنه: مكر الليل إذا أظلم، وقيل: الالتفات ومنه - المكور - لضرب من الشجر ذي التفات، واحده مكر، والممكورة من النساء للملتفة الخلق مطويته وفسره البعض بصرف الغير عما يقصده بحيلة، وآخرون باختداع الشخص لإيقاعه في الضرر، وفرقوا بينه وبين الحيلة بأنها قد تكون لإظهار ما يعسر من الفعل من غير قصد إلى الإضرار، والمكر حيلة على الشخص توقعه في مثل الوهق، وقالوا: لا يطلق على الله تعالى إلا بطريق المشاكلة لأنه منزه عن معناه وغير محتاج إلى حيلة فلا يقال ابتداءا مكر الله سبحانه - وإلى ذلك ذهب العضد وجماعة - وخالفهم الأبهري وغيره؛ فجوزوا الإطلاق بلا مشاكلة مستدلين بقوله تعالى
178

: * (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله) * (الأعراف: 99) فإنه نسب إليه سبحانه ابتداءا. ونقل عن الإمام أن المكر إيصال المكروه إلى الغير على وجه يخفى فيه، وأنه يجوز صدوره عنه تعالى حقيقة، وقال غير واحد: إنه عبارة عن التدبير المحكم وهو ليس بممتنع عليه تعالى، وفي الحديث: " اللهم امكر لي ولا تمكر بي " ومن ذهب إلى عدم الإطلاق - إلا بطريق المشاكلة - أجاب عن الاستدلال بالآية ونحوها بأن ذلك من المشاكلة التقديرية كما في قوله تعالى: * (صبغة الله) * (البقرة: 138) ولا يخفى ما فيه، فالأولى: القول بصحة الإطلاق عليه سبحانه ابتداءا بالمعنى اللائق بجلاله جل جلاله، ومما يؤيد ذلك قوله سبحانه: * (والله خير الماكرين) * أي أقواهم مكرا وأشدهم، أو أن مكره أحسن وأوقع في محله لبعده عن الظلم فإنه يبعد المشاكلة.
* (إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القي‍امة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون) *.
* (إذ قال الله) * ظرف - لمكر - أو لمحذوف نحو وقع ذلك ولو قدر أذكر - كما في أمثاله - لم يبعد وتعلقه بالماكرين بعيد إذ لا يظهر وجه حسن لتقييد قوة مكره تعالى بهذا الوقت * (ي‍اعيسىإني متوفيك ورافعك إلي) * أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: هذا من المقدم والمؤخر أي: رافعك إلي ومتوفيك، وهذا أحد تأويلات اقتضاها مخالفة ظاهر الآية للمشهور المصرح به في الآية الأخرى، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: " إن عيسى لم يمت وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة ". وثانيها: أن المراد إني مستوفي أجلك ومميتك حتف أنفك لا أسلط عليك من يقتلك فالكلام كناية عن عصمته من الأعداء وما هم بصدده من الفتك به عليه السلام لأنه يلزم من استيفاء الله تعالى أجله وموته حتف أنفه ذلك. وثالثها: أن المراد قابضك ومستوفي شخصك من الأرض - من توفى المال - بمعنى استوفاه وقبضه. ورابعها: أن المراد بالوفاة هنا النوم لأنهما أخوان ويطلق كل منهما على الآخر، وقد روي عن الربيع أن الله تعالى رفع عيسى عليه السلام إلى السماء وهو نائم رفقا به، وحكي هذا القول والذي قبله أيضا عن الحسن. وخامسها: أن المراد أجعلك كالمتوفى لأنه بالرفع يشبهه، وسادسها: أن المراد آخذك وافيا بروحك وبدنك فيكون * (ورافعك إلي) * كالمفسر لما قبله، وسابعها: أن المراد بالوفاة موت القوى الشهوانية العائقة عن إيصاله بالملكوت، وثامنها: أن المراد مستقبل عملك، ولا يخلو أكثر هذه الأوجه عن بعد لا سيما الأخير، وقيل: الآية محمولة على ظاهرها، فقد أخرج ابن جرير عن وهب أنه قال: توفى الله تعالى عيسى ابن مريم ثلاث ساعات من النهار حتى رفعه إليه. وأخرج الحاكم عنه أن الله تعالى توفى عيسى سبع ساعات ثم أحياه، وأن مريم حملت به ولها ثلاث عشرة سنة وأنه رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين، وأن أمه بقيت بعد رفعه ست سنين، وورد ذلك في رواية ضعيفة عن ابن عباس - والصحيح كما قاله القرطبي - أن الله تعالى رفعه من غير وفاة ولا نوم - وهو اختيار الطبري -
والرواية الصحيحة عن ابن عباس، وحكاية أن الله تعالى توفاه سبع ساعات ذكر ابن إسحق أنها من زعم النصارى. ولهم في هذا المقام كلام تقشعر منه الجلود، ويزعمون أنه في الإنجيل وحاشا الله ما هو إلا افتراء وبهتان عظيم، ولا بأس بنقله ورده فإن في ذلك رد عواهم فيه عليه السلام الربوبية على أتم وجه، فنقول: قالوا: بينما المسيح مع تلاميذه جالس ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر نيسان إذ جاء يهودا الأسخريوطي أحد الاثني عشر ومعه جماعة معهم السيوف والعصي من عند رؤساء الكهنة ومشايخ الشعب وقد قال لهم يهودا: الرجل الذي أقبل هو هو فأمسكوه فلما رأى يهودا المسيح قال: السلام عليك يا معلم ثم أمسكوه فقال يسوع: مثل ما يفعل باللصوص خرجتم لي بالسيوف والعصي وأنا عندكم في الهيكل كل يوم أعلم فلم تتعرضوا لي لكن
179

هذه ساعة سلطان الظلمة فذهبوا به إلى رئيس الكهنة حيث تجتمع الشيوخ وتبعه بطرس من بعيد ودخل معه الدار ليلا وجلس ناحية منها متنكرا ليرى ما يؤول أمره إليه فالتمس المشايخ على يسوع شهادة يقتلونه بها فجاء جماعة من شهود الزور فشهد منهم اثنان أن يسوع قال: أنا أقدر أن أنقض هيكل الله تعالى وأبنيه في ثلاثة أيام فقال له الرئيس: ما تجيب عن نفسك بشيء؟ فسكت يسوع فأقسم عليه رئيس الكهنة بالله الحي أنت المسيح؟ فقال أنت قلت ذاك وأنا أقول لكم من الآن لا ترون ابن الإنسان حتى تروه جالسا عن يمين القوة وآتيا في سحاب السماء وأن ناسا من القيام ههنا لا يذوقون الموت حتى يرون ابن الإنسان آتيا في ملكوته فلما سمع رئيس الكهنة ذلك شق ثيابه وقال: ما حاجتنا إلى شهادة يهودا قد سمعتم ماذا ترون في أمره؟ فقالوا: هذا مستوجب الموت فحينئذ بصقوا في وجه البعيد ولطموه وضربوه وهزأوا به وجعلوا يلطمونه ويقولون: بين لنا من لطمك ولما كان من الغد أسلموه لفيلاطس القائد فتصايح الشعب بأسره - يصلب يصلب - فتحرج فيلاطس من قتله، وقال: أي شر فعل هذا فقال الشيوخ: دمه عليهم وعلى أولادهم فحينئذ ساقه جند القائد إلى الأبروطوريون فاجتمع عليه الشعب ونزعوه ثيابه وألبسوه لباسا أحمر وضفوا إكليلا من الشوك وتركوه على رأسه وجعلوا في يده قصبة ثم جثوا على ركبهم يهزأون به ويقولون: السلام عليك يا ملك اليهود وشرعوا يبصقون عليه ويضربونه في رأسه ثم ذهبوا به وهو يحمل صليبه إلى موضع يعرف بالجمجمة فصلبوه وسمروا يديه على الخشبة فسألهم شربة ماء فأعطوه خلا مدافا بمر فذاقه ولم يسغه وجلس الشرط فاقتسموا ثيابه بينهم بالقرعة وجعلوا عند رأسه لوحا مكتوبا هذا يسوغ ملك اليهود استهزاءا به، ثم جاءوا بلصين فجعلوهما عن يمينه وشماله تحقيرا له وكان اليهود يقولون له: يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خلص نفسك وإن كنت ابن الله كما تقول انزل عن الصليب، وقال اليهود: هذا يزعم أنه خلص غيره فكيف لم يقدر على خلاص نفسه إن كان متوكلا على الله تعالى فهو ينجيه مما هو فيه؟ ولما كان ست ساعات من يوم الجمعة صرخ يسوع وهو على الصليب بصوت عظيم - آلوي آلوي إيما صاصا - أي إلهي إلهي لم تركتني وخذلتني وأخذ اليهود سفنجة فيها خل ورفعها أحدهم على قصبة وسقاه، وقال آخر: دعوه حتى نرى من يخلصه فصرخ يسوع وأمال رأسه وأسلم الروح وانشق حجاب الهيكل وانشقت الصخور وتفتحت القبور وقام كثير من القديسين من قبورهم ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا للناس ولما كان المساء جاء رجل من ألزامه يسمى يوسف بلفائف نقية وتركه في قبر كان قد نحته في صخرة ثم جعل على باب القبر حجرا عظيما وجاء مشايخ اليهود من الغد الذي بعد الجمعة إلى فيلاطس القائد فقالوا: يا سيدي ذكرنا أن ذاك الضال كان قد ذكر لتلاميذه أنا أقوم بعد ثلاثة أيام فلو أمرت من يحرس القبر حتى تمضي المدة كي لا تأتي تلاميذه ويسرقوه ثم يشيعون في الشعب أنه قام فتكون الضلالة الثانية شرا من الأولى فقال لهم القائد: اذهبوا وسدوا عليه واحرسوه كما تريدون فمضوا وفعلوا ما أرادوا، وفي عشية يوم السبت جاءت مريم المجدلانية ومريم رفيقتها لينظرن إلى القبر. وفي " إنجيل مرقص " إنما جاءت مريم يوم الأحد بغلس وإذا ملك قد نزل من السماء برجة عظيمة فألقى الحجر عن القبر وجلس عنده وعليه ثياب بيض كالبرق فكاد الحرس أن يموتوا من هيبته ثم قال للنسوة: لا تخافا قد علمت أنكما جئتما تطلبان يسوع المصلوب ليس هو ههنا إنه قد قام تعالين انظرن إلى المكان الذي كان فيه الرب واذهبا وقولا لتلاميذه إنه سبقكم إلى الخليل فمضتا وأخبرتا التلاميذ ودخل الحراس وأخبروا رؤساء الكهنة الخبر
180

فقالوا: لا تنطقوا بهذا ورشوهم بفضة على كتمان القضية فقبلوا ذلك منهم وأشاعوا أن التلاميذ جاءوا وسرقوه ومهدت المشايخ عذرهم عند القائد ومضت الأحد عشر تلميذا إلى الخليل وقد شك بعضهم، وجاء لهم يسوع وكلمهم وقال لهم: اذهبوا فعمدوا كل الأمم وعلموهم ما أوصيكم به، وهو ذا أنا معكم إلى انقضاء الدهر انتهى.
وههنا أمور: الأول: أنه يقال للنصارى: ما ادعيتموه من قتل المسيح وصلبه أتنقلونه تواترا أو آحادا فإن زعموا أنه آحاد لم تتم بذلك حجة ولم يثبت العلم إذ الآحاد لم يؤمن عليهم السهو والغفلة والتواطؤ على الكذب، وإذا كان الآحاد يعرض لهم ذلك فكيف يحتج بقولهم في القطعيات؟! وإن عزوا ذلك إلى التواتر قلنا لهم: أحد شروط التواتر استواء الطرفين فيه والواسطة بأن يكون الإخبار في كل طبقة ممن لا يمكن مواطأته على الكذب فإن زعمتم أن خبر قتل المسيح كذلك أكذبتم نصوص الإنجيل الذي بأيديكم إذ قال نقلته الذين دونوه لكم - وعليه معولكم -: إن المأخوذ للقتل كان في شرذمة قليلة من تلامذته فلما قبض عليه هربوا بأسرهم ولم يتبعه سوى بطرس من بعيد فلما دخل الدار حيث اجتمعوا نظرت جارية منهم إليه فعرفته فقالت: هذا كان مع يسوع فحلف أنه لا يعرف يسوع ولا يقول بقوله وخادعهم حتى تركوه وذهب، ولم يكد يذهب وأن شابا آخر تبعه وعليه إزار فتعلقوا به فترك إزاره بأيديهم وذهب عريانا فهؤلاء أصحابه وأتباعه لم يحضر أحد منهم بشهادة الإنجيل، وأما أعداؤه اليهود الذين تزعمون أنهم حضروا الأمر فلا نسلم أنهم بلغوا عدد التواتر بل كانوا آحادا وهم أعداء يمكن تواطؤهم على الكذب على عدوهم إيهاما منهم أنهم ظفروا به وبلغوا منه أمانيهم فانخرم شرط التواتر. ويؤيد هذا أن رؤساء الكهنة فيما زعمتم رشوا الحراس فلا يبعد أن تكون هذه العصابة من اليهود صلبوا شخصا من أصحاب يسوع وأوهموا الناس أنه المسيح لتتم لهم أغراضهم على أن الأخباريين ذكروا أن بختنصر قتل علماء اليهود في مشارق الأرض ومغاربها لأنهم حرفوا التوراة وزادوا فيها ونقصوا حتى لم يبق منهم إلا شرذمة، فالمخبرون لم يبلغوا حد التواتر في الطبقة الوسطى أيضا.
الثاني: أن في هذا الفصل ما تحكم البداهة بكذبه، وما تضحك الثكلى منه، وما يبعده العقل مثل قوله للكهنة: إنكم من الآن ما ترون ابن الإنسان - يريدون بالإنسان
الرب سبحانه - فإنه لم يرد إطلاق ذلك عليه جل شأنه في كتاب، وقوله: إن ناسا من القيام ههنا الخ فإنه لم ير أحد من القيام هناك قبل موتة عيسى عليه السلام آتيا في ملكوته، وقول الملك للنسوة: تعالين فانظرن إلى الموضع الذي كان فيه الرب فإنه يقال فيه: أرب يقبر وإله يلحد، أف لتراب يغشى وجه هذا الإله، وتبا لكفن ستر محاسنه، وعجبا للسماء كيف لم تبد - وهو سامكها - وللأرض لم تمد - وهو ماسكها - وللبحار كيف لم تغض - وهو مجريها - وللجبال كيف لم تسر - وهو مرسيها - وللحيوان كيف لم يصعق - وهو مشبعه - وللكون كيف لم يمحق - وهو مبدعه - سبحان الله كيف استقام الوجود والرب في اللحود، وكيف ثبت العالم على نظام والإله في الرغام إنا لله وإنا إليه راجعون على المصيبة بهذا الرب والرزية بهذا الإله لقد ثكلته أمه، وعدمه لا أبا لك قومه؟! وقوله: إلهي إلهي لم خذلتني فإنه ينافي الرضا بمر - القضاء، ويناقض التسليم لأحكام الحكيم، وذلك لا يليق بالصالحين فضلا عن المرسلين على أنه يبطل دعوى الربوبية التي تزعمونها والألوهية التي تعتقدونها، وقولهم: إنه قام كثير من القديسين من قبورهم الخ فإنه كذب صريح لأنه لو كان صحيحا لأطبق الناس على نقله ولزال الشك عن تلك الجموع في أمر يسوع، وقولهم: مضت الأحد عشر
181

تلميذا إلى الخليل الخ فإنه قد انطفأ فيه سراج التلميذ الثاني عشر على ما يقتضيه قول المسيح: ويل لمن يسلم ابن الإنسان مع أن يسوع بزعمكم قال لتلاميذه الاثني عشر وفيهم يهودا الإسخريوطي الذي أسلمه للقتل: إنكم ستجلسون يوم القيامة على اثني عشر كرسيا تدينون اثني عشر سبط بني إسرائيل، وقولهم: إنهم سألهم شربة ماء فإنه في غاية البعد لأن الإنجيل مصرح بأن المسيح كان يطوي أربعين يوما وأربعين ليلة ومثله لا يجزع من فراق الماء ساعة لا سيما وقد كان يقول لتلاميذه: إن لي طعاما لا تعرفونه إلى غير ذلك.
الثالث: إن ما ذكروا من قيام المسيح من قبره ليلة السبت مع صلبه يوم الجمعة مخالف لما رواه " متى في إنجيله " فإنه قال فيه: سأل اليهود المسيح أن يريهم آية فقال: الجيل الشرير الفاسق يطلب آية فلا يعطى إلا آية يونيان النبي - يعني يونس عليه السلام - لأنه أقام في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال وكذلك ابن الإنسان يقيم في بطن الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال الرابع: أن في هذه القصة ما يدل دلالة واضحة على أن المصلوب هو الشبه وأن الله تعالى حمى المسيح عليه السلام عن الصلب كما سيتضح لك مع زيادة تحقيق عند قوله تعالى: * (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) * (النساء: 157) هذا وإنما أكد الحكم السابق اعتناءا به أو لأن تسلط الكفار عليه جعل المقام مقام اعتقاد أنهم يقتلونه، وأراد سبحانه بقوله: * (ورافعك إلي) * رافعك إلى سمائي، وقيل: إلى كرامتي، وعلى كل فالكلام على حذف مضاف إذ من المعلوم أن البارىء سبحانه ليس بمتحيز في جهة، وفي رفعه إلى أي سماء خلاف، والذي اختاره الكثير من العارفين أنه رفع إلى السماء الرابعة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه رفعه إلى السماء الدنيا فهو فيها يسبح مع الملائكة ثم يهبطه الله تعالى عند ظهور الدجال على صخرة بيت المقدس.
وفي الخازن أنه سبحانه لما رفعه عليه السلام إليه كساه الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فطار مع الملائكة فهو معهم حول العرش وصار إنسيا ملكيا أرضيا سماويا، وأورد بعض الناس ههنا إشكالات وهي أن الله تعالى كان قد أيده بجبريل عليه السلام كما قال سبحانه: * (وأيدناه بروح القدس) * (البقرة: 87) ثم إن طرف جناح من أجنحة جبريل كان يكفي للعالم فكيف لم يكف في منع أولئك اليهود عنه؟! وأيضا أنه عليه السلام لما كان قادرا على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فكيف لم يقدر على إماتتهم ودفع شوكتهم، أو على إسقامهم وإلقاء الزمانة والفلج عليهم حتى يصيروا عاجزين من التعرض له؟ وأيضا لما خلصه من الأعداء بأن رفعه إلى السماء فما الفائدة في إلقاء شبهه على الغير؟ وأجيب عن الكل بأن بناء التكليف على الاختيار، ولو أقدر الله تعالى جبريل، أو عيسى عليهما السلام على دفع الأعداء، أو رفعه من غير إلقاء شبهه إلى السماء لبلغت معجزته إلى حد الإلجاء، والقول - بأن فتح باب إلقاء الشبه يوجب ارتفاع الأمان عن المحسوسات وأنه يفضي إلى سقوط الشرائع وإبطال التواتر، وأيضا إن في ذلك الإلقاء تمويها وتخليطا وذلك لا يليق بحكمة الله تعالى - ليس بشيء، أما أولا: فلأن إلقاء شبه شخص على آخر وإن كان ممكنا في نفسه إلا أن الأصل عدم الإلقاء واستقلال كل من الحيوان بصورته التي هي له، نعم لو أخبر الصادق بإلقاء صورة شخص على آخر قلنا به واعتقدناه فحينئذ لا يرتفع الأمان عن المحسوسات بل هي باقية على الأصل فيها فيما لم يخبر الصادق بخلافه على أن إبطال التواتر بفتح هذا الباب ممنوع لأنه لم يشترط في الخبر أن يكون عن أمر ثابت في نفس الأمر بل يكفي فيه كونه عن أمر محسوس على ما قاله بعض المحققين، وأما ثانيا: فلأن التمويه والتلبيس إن كان على الأعداء فلا نسلم أنه مما لا يليق بالحكمة وإن كانت النجاة مما تمكن بدون الإلقاء وإن كان ذلك على أوليائه فلا نسلم أن في الإلقاء تمويها لأنهم كانوا عارفين يقينا بأن المطلوب الشبه لا عيسى عليه السلام كما ستعرفه إن شاء
182

الله تعالى، والقول - بأن المطلوب قد ثبت بالتواتر أنه بقي حيا زمانا طويلا فلولا أنه كان عيسى لأظهر الجزع وعرف نفسه ولو فعل ذلك لاشتهر وتواتر - ليس بشيء أيضا، أما أولا: فلأن دعوى تواتر بقاء المصلوب حيا زمانا طويلا مما لم يثبتها برهان والثابت أن المصلوب إنما صلب في الساعة الثانية من يوم الجمعة ومات في الساعة السادسة من ذلك اليوم وأنزل ودفن، ومقدار أربع ساعات لا يعد زمانا طويلا كما لا يخفى، وأما ثانيا: فلأن عدم تعريف المصلوب نفسه إما لأنه أدركته دهشة منعته من البيان والإيضاح، أو لأن الله تعالى أخذ على لسانه لم يستطع أن يخبر عن نفسه صونا لنبيه عليه السلام أن يفصح الرجل عن أمره، أو لأنه لصديقيته آثر المسيح بنفسه وفعل ذلك بعهد عهده إليه رغبة في الشهادة، ولهذا ورى في الجواب الذي نقلته النصارى في القصة وقد وعد المسيح عليه السلام التلاميذ - على ما نقلوا قبل - بقولهم لو دفعنا إلى الموت معك لمتنا والشبه من جملتهم فوفى بما وعد من نفسه على عادة الصديقين من أصحاب الأنبياء عليهم السلام فهو من رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ومن ذهب إلى أن الشبه كان من الأعداء لا من الأولياء روى أنه جعل يقول لليهود عند الصلب: لست المسيح وإنما أنا صاحبكم لكنه لم يسمع ولم يلتفت إلى قوله وصلبوه، والقول - بأنه لو كان ذلك لتواتر - لا يخفى ما فيه لمن أحاط بما ذكرناه خبرا فتأمل.
* (ومطهرك من الذين كفروا) * يحتمل أن يكون تطهيره عليه السلام بتبعيده منهم بالرفع، ويحتمل أن يكون بنجاته مما قصدوا فعله به من القتل، وفي الأول: جعلهم كأنهم نجاسة، وفي الثاني: جعل فعلهم كذلك والأول هو الظاهر - وإلى الثاني ذهب الجبائي -. والمراد من الموصول اليهود، وأتى بالظاهر - على ما قيل - دون الضمير: إشارة إلى علة النجاسة وهي الكفر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن أن المراد من الموصول اليهود والنصارى والمجوس وكفار قومه.
* (وجاعل الذين اتبعوك) * قال قتادة والحسن وابن جريج وخلق كثير: هم أهل الإسلام اتبعوه على ملته وفطرته من أمة محمد صلى الله عليه وسلم * (فوق الذين كفروا) * وهم اليهود أو سائر من شمله هذا المفهوم فإن المؤمنين يعلونهم بالحجة، أو السيف في غالب الأمر. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد أن المراد من الموصول الأول النصارى، ومن الثاني اليهود وقد جعل سبحانه النصارى فوق اليهود فليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق اليهود في شرق الدنيا وغربها، وعلى هذا يكون المراد من الأتباع مجرد الادعاء والمحبة ولا يضر في غلبتهم على اليهود غلبة المسلمين عليهم، وإذا أريد بالأتباع ما يشمل أتباع المسلمين، وهذا الاتباع يصح أن يراد بالمتبعين ما يشمل المسلمين والنصارى مطلقا من آمن به قبل مجىء نبينا صلى الله عليه وسلم ونسخ شريعته، ومن آمن بزعمه بعد ذلك - وقد يراد من الأتباع - الأتباع بالمعنى الأول فيجوز أن يراد من المتبعين المسلمون، والقسم الأول: من النصارى، وتخصيص المتبعين بهذه الأمة - وحمل الأتباع على المجىء بعد - مما لا ينبغي أن يخرج عليه الكتاب الكريم كجعل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأن الوقف على * (الذين كفروا) * * (إلى يوم القي‍امة) * متعلق بالجعل أو بالاستقرار المقدر في الظرف، وليس المراد أن ذلك ينتهي حينئذ ويتخلص الذين كفروا من الذلة بل المراد أن المتبعين يعلونهم إلى تلك الغاية فأما بعدها فيفعل الله تعالى ما يريد. ومن الناس من حمل الفوقية - على العلو الرتبي والفوقية بحسب الشرف وجعل التقييد بيوم القيامة للتأييد
183

كما في قولهم ما دامت السماء، وما دار الفلك بناءا على ظن أن عدم انتهاء علو المؤمنين وذلة الكافرين إلى ذلك اليوم موجب لهذا الجعل - وليس بذلك * (ثم إلي مرجعكم) * أي مصيركم بعد يوم القيامة ورجوعكم، والضمير لعيسى عليه السلام والطائفتين، وفيه تغليب على الأظهر، و * (ثم) * للتراخي؛ وتقديم الظرف للقصر المفيد لتأكيد الوعد والوعيد، ويحتمل أن يكون الضمير لمن اتبع وكفر فقط، وفيه التفات للدلالة على شدة إرادة إيصال الثواب والعقاب لدلالة الخطاب على الاعتناء. * (فأحكم بينكم) * أي فأقضي بينكم إثر رجوعكم إلي ومصيركم بين يدي * (فيما كنتم فيه تختلفون) * من أمور الدين، أو من أمر عيسى عليه السلام، والظرف متعلق بما بعده وقدم رعاية للفواصل.
* (فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والاخرة وما لهم من ن‍اصرين) *.
* (فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا) * تفسير للحكم المدلول عليه بقوله سبحانه: * (فأحكم) * (آل عمران: 55) وتفصيل له على سبيل التقسيم بعد الجمع، وإلى ذلك ذهب كثير من المحققين، واعترض بأن الحكم مرتب على الرجوع إلى الله تعالى وذلك في القيامة لا محالة، فكيف يصح تفسيره بالعذاب المقيد بقوله تعالى: * (في الدنيا والآخرة) *؟! وأجيب بوجوه الأول: أن المقصود التأبيد وعدم الانقطاع من غير نظر إلى الدنيا والآخرة، الثاني: أن المراد بالدنيا والآخرة مفهومهما اللغوي أي الأول والآخر، ويكون ذلك عبارة عن الدوام وهذا أبعد من الأول جدا. الثالث: ما ذكر صاحب " الكشف " من أن المرجع أعم من الدنيوي والأخروي، وقوله سبحانه: * (إلى يوم القيامة) * (آل عمران: 55) غاية الفوقية لا غاية الجعل، والرجوع متراخ عن الجعل وهو غير محدود على وزان قولك: سأعيرك سكنى هذا البيت إلى شهر ثم أخلع عليك بثوب من شأنه كذا وكذا فإنه يلزم تأخر الخلع عن الإعارة لا الخلع، وعلى هذا توفية الأجر لغنم الدارين، ولا يخفى أن في لفظ * (كنتم) * في قوله جل وعلا: * (فيما كنتم فيه تختلفون) * (آل عمران: 55) بعض نبوة عن هذا المعنى، وأن المعنى - أحكم بينكم في الآخرة فيما كنتم فيه تختلفون في الدنيا -. الرابع: أن العذاب في الدنيا هو الفوقية عليهم، والمعنى أضم إلى عذاب الفوقية السابقة عذاب الآخرة قال في " الكشف ": وفيه تقابل حسن وإن هذه الفوقية مقدمة عذاب الآخرة ومؤكدته، وإدماج أنها فوقية عدل لا تسلط وجود، ولا يخفى أنه بعيد من اللفظ جدا إذ معنى أعذبه في الدنيا والآخرة ليس إلا أني أفعل عذاب الدارين إلا أن يقال: إن اتخاذ الكل لا يلزم أن يكون باتخاذ كل جزء فيجوز أن يفعل في الآخرة تعذيب الدارين بأن يفعل به عذاب الآخرة وقد فعل في الدنيا عذاب الدنيا فيكون تمام العذابين في الآخرة. الخامس: أن في الدنيا والآخرة متعلق - بشديد - تشديدا لأمر الشدة وليس بشيء كما لا يخفى، والأولى من هذا كله ما ذكره بعض المحققين أن يحمل معنى * (ثم) * على التراخي الرتبي والترقي من كلام إلى آخر لا على التراخي في الزمان فحينئذ لا يلزم أن يكون رجوعهم إلى الله تعالى متأخرا عن الجعل في الزمان سواء كان قوله جل شأنه: * (إلى يوم القيامة) * (آل عمران: 55) غاية للجعل أو الفوقية فلا محذور، ثم إن المراد بالعذاب في الدنيا إذلالهم بالقتل والأسر والسبي وأخذ الجزية ونحو ذلك، ومن لم يفعل معه شيء من وجوه الإذلال فهو على وجل إذ يعلم أن الإسلام يطلبه وكفى بذلك عذابا، وبالعذاب في الآخرة عقاب الأبد في النار * (وما لهم من ن‍اصرين) * أي أعوان يدفعون عنهم عذاب الله، وصيغة الجمع - كما قال مولانا مفتي الروم - لمقابلة ضمير الجمع أي ليس لكل واحد منهم ناصر واحد. ع
* (وأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين) *.
184

* (وأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات) * بيان لحال القسم الثاني، وبدأ بقسم * (الذين كفروا) * (آل عمران: 56) لأن ذكر ما قبله من حكم الله تعالى بينهم أول ما يتبادر منه في بادىء النظر التهديد فناسب البداءة بهم ولأنهم أقرب في الذكر لقوله تعالى: * (فوق الذين كفروا) * (آل عمران: 55) ولكون الكلام مع اليهود الذين كفروا بعيسى عليه السلام وهموا بقتله * (فيوفيهم أجورهم) * أي فيوفر عليهم ويتمم جزاء أعمالهم القلبية والقالبية ويعطيهم ثواب ذلك وافيا من غير نقص. وزعم بعضهم أن توفية الأجور هي قسم المنازل في الجنة - والظاهر أنها أعم من ذلك - وعلق التوفية على الإيمان والعمل الصالح ولم يعلق العذاب بسوى الكفر تنبيها على
درجة الكمال في الإيمان ودعاءا إليها وإيذانا بعظم قبح الكفر، وقرأ حفص. ورويس عن يعقوب - فيوفيهم - بياء الغيبة، وزاد رويس ضم الهاء، وقرأ الباقون بالنون جريا على سنن العظمة والكبرياء، ولعل وجه الالتفات إلى الغيبة على القراءة الأولى الإيذان بأن توفية الأجر مما لا يقتضي لها نصب نفس لأنها من آثار الرحمة الواسعة ولا كذلك العذاب، والموصول في الآيتين مبتدأ خبره ما بعد الفاء، وجوز أن يكون منصوبا بفعل محذوف يفسره ما ذكر، وموضع المحذوف بعد الصلة - كما قال أبو البقاء - ولا يجوز أن يقدر قبل الموصول لأن - أما - لا يليها الفعل. * (والله لا يحب الظ‍المين) * أي لا يريد تعظيمهم ولا يرحمهم ولا يثني عليهم، أو المراد يبغضهم على ما هو الشائع في مثل هذه العبارة، والجملة تذييل لما قبل مقرر لمضمونه.
* (ذلك نتلوه عليك من الآي‍ات والذكر الحكيم) *.
* (ذلك) * أي المذكور من أمر عيسى عليه السلام والإتيان بما يدل على البعد للإشارة إلى عظم شأن المشار إليه وبعد منزلته في الشرف. * (نتلوه عليك) * أي نسرده ونذكره شيئا بعد شيء، والمراد تلوناه إلا أنه عبر بالمضارع استحضارا للصورة الحاصلة اعتناءا بها، وقيل: يمكن الحمل على الظاهر لأن قصة عيسى عليه السلام لم يفرغ منها بعد * (من الآي‍ات) * أي الحجج الدالة على صدق نبوتك إذ أعلمتهم بما لا يعلمه إلا قارىء كتاب، أو معلم ولست بواحد منهما فلم يبق إلا أنك قد عرفته من طريق الوحي * (والذكر) * أي القرآن، وقيل: اللوح المحفوظ وتفسيره به لاشتماله عليه، و * (من) * تبعيضية على الأول، وابتدائية على الثاني وحملها على البيان وإرادة بعض مخصوص من القرآن بعيد * (الحكيم) * أي المحكم المتقن نظمه، أو الممنوع من الباطل، أو صاحب الحكمة، وحينئذ يكون استعماله لما صدر عنه مما اشتمل على حكمته؛ إما على وجه الإستعارة التبعية في لفظ حكيم، أو الإسناد المجازي بأن أسند للذكر ما هو لسببه وصاحبه، وجعله من باب الإستعارة المكنية التخييلية بأن شبه القرآن بناطق بالحكمة وأثبت له الوصف - بحكيم - تخييلا محوج إلى تكلف مشهور في دفع شبهة ذكر الطرفين حينئذ فتأمل، وجوز في الآية أوجه من الإعراب، الأول: أن ذلك مبتدأ، و * (نتلوه) * خبره، و * (عليك) * متعلق بالخبر، و * (من الآيات) * حال من الضمير المنصوب، أو خبر بعد خبر، أو هو الخبر وما بينهما حال من اسم الاشارة على أن العامل فيه معنى الإشارة لا الجار والمجرور قيل: لأن الحال لا يتقدم العامل المعنوي، الثاني: أن يكون ذلك خبرا لمحذوف أي: الأمر ذلك، و * (نتلوه) * في موضع الحال من * (ذلك) * و * (من الآيات) * حال من الهاء، الثالث: أن يكون ذلك في موضع نصب بفعل دل عليه - نتلو - فيكون * (من الآيات) * حالا من الهاء أيضا.
* (إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) *.
* (إن مثل عيسى) *
185

ذكر غير واحد أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك تشتم صاحبنا؟ قال: ما أقول؟ قالوا: تقول: إنه عبد الله قال: أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول فغضبوا وقالوا: هل رأيت إنسانا قط من غير أب فإن كنت صادقا فأرنا مثله فأنزل الله تعالى هذه الآية ". وأخرج البيهقي في " الدلائل " من طريق سلمة بن عبد يسوع عن أبيه عن جده " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه * (ط - س) * (النمل: 1) سليمان: بسم إله إبراهيم وإسحق ويعقوب من محمد رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران إن أسلمتم فإني أحمد الله إليكم إله إبراهيم وإسحق ويعقوب أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية فإن أبيتم فقد أذنتم بحرب والسلام، فلما قرأ الأسقف الكتاب فظع به وذعر ذعرا شديدا فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة فدفع إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه فقال له الأسقف: ما رأيك؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله تعالى إبراهيم في ذرية إسمعيل من النبوة فما يؤمن أن يكون هذا الرجل نبيا وليس لي في النبوة رأي لو كان أمر من أمر الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت لك فبعث الأسقف إلى واحد بعد واحد من أهل نجران فكلهم قال مثل قول شرحبيل فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا شرحبيل وعبد الله بن شرحبيل، وحيار بن قنص فيأتونهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق الوفد حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم وسألوه فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا: ما تقول في عيسى ابن مريم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما عندي فيه شيء يومي هذا فأقيموا حتى أخبركم بما يقال لي في عيسى صبح الغداة فأنزل الله هذه الآية * (إن مثل عيسى) * إلى قوله سبحانه: * (فنجعل لعنة الله على الكاذبين) * (آل عمران: 61) فأبوا أن يقروا بذلك فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملا على الحسن والحسين في خميلة له وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة وله يومئذ عدة نسوة فقال شرحبيل لصاحبيه: إنى أرى أمرا ثقيلا إن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فتلاعناه لا يبقى على ظهر الأرض منا شعر ولا ظفر إلا هلك فقالا له: ما رأيك؟ فقال: رأيي أن أحكمه فإني أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا فقالا له: أنت وذاك فتلقى شرحبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت خيرا من ملاعنتك قال: وما هو؟ قال: حكمك اليوم إلى الليل وليلك إلى الصباح فما حكمت فينا فهو جائز فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلاعنهم وصالحهم على الجزية، وروي غير ذلك كما سيأتي قريبا، و - المثل - هنا ليس هو المثل المستعمل في التشبيه والكاف زائدة - كما قيل به - بل بمعنى الحال والصفة العجيبة أي: إن صفة عيسى عند الله أي: في تقديره وحكمه، أو فيما غاب عنكم ولم تطلعوا على كنهه، والظرف متعلق فيما تعلق به الجار في قوله سبحانه: * (كمثل ءادم) * أي كصفته وحاله العجيبة التي لا يرتاب فيها مرتاب
* (خلقه من تراب) * جملة ابتدائية لا محل لها من الإعراب مبينة لوجه الشبه باعتبار أن في كل الخروج عن العادة وعدم استكمال الطرفين، ويحتمل أنه جيء بها لبيان أن المشبه به أغرب وأخرق للعادة فيكون ذلك أقطع للخصم وأحسم للمادة شبهته، و * (من) * لابتداء الغاية متعلقة بما عندها، والضمير المنصوب - لآدم - والمعنى ابتدأ خلق قالبه من هذا الجنس * (ثم قال له كن فيكون) * أي صر بشرا فصار، فالتراخي على هذا زماني إذ بين إنشائه مما ذكر وإيجاد الروح فيه وتصييره
لحما ودما زمان طويل، فقد روي أنه بعد أن خلق قالبه بقي ملقى
186

على باب الجنة أربعين سنة لم تنفخ فيه الروح؛ والتعبير بالمضارع مع أن المقام مقام المضي لتصوير ذلك الأمر الكامل بصورة المشاهد الذي يقع الآن إيذانا بأنه من الأمور المستغربة العجيبة الشأن، وجوز أن يكون التعبير بذلك لما أن الكون مستقبل بالنظر إلى ما قبله، وذهب كثير من المحققين إلى أن * (ثم) * للتراخي في الأخبار لا في المخبر به، وحملوا الكلام على ظاهره، ولا يضر تقدم القول على الخلق في هذا الترتيب والتراخي - كما لا يخفى، والضمير المجرور عائد على ما عاد عليه الضمير المنصوب، والقول - بأنه عائد على عيسى - ليس بشيء لما فيه من التفكيك الذي لا داعي إليه ولا قرينة تدل عليه، قيل: وفي الآية دلالة على صحة النظر والاستدلال لأنه سبحانه احتج على النصارى وأثبت جواز خلق عيسى عليه السلام من غير أب بخلق آدم عليه السلام من غير أب ولا أم، ثم إن الظاهر أن عيسى عليه السلام خلقه الله سبحانه من نطفة مريم عليها السلام بجعلها قابلة لذلك ومستعدة له كما أشرنا إليه فيما تقدم. والقول - بأنه خلق من الهواء كما خلق آدم من التراب - مما لا مستند له من عقل ولا نقل * (فنفخنا فيه من روحنا) * (الأنبياء: 91) لا يدل عليه بوجه أصلا.
* (الحق من ربك فلا تكن من الممترين) *.
* (الحق من ربك) * خبر لمحذوف أي هو الحق، وهو راجع إلى البيان، والقصص المذكور سابقا. والجار والمجرور حال من الضمير في الخبر، وجوز أن يكون * (الحق) * مبتدأ، و * (من ربك) * خبره، ورجح الأول بأن المقصود الدلالة على كون عيسى مخلوقا كآدم عليهما السلام هو * (الحق) * لا ما يزعمه النصارى، وتطبيق كونهما مبتدأ وخبرا على هذا المعنى لا يتأتي إلا بتكلف إرادة أن كل حق، أو جنسه من الله تعالى، ومن جملته هذا الشأن، أو حمل اللام على العهد بإرادة * (الحق) * المذكور، ولا يخفى ما في التعرض لعنوان الربوبية من الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من اللطافة الظاهرة * (فلا تكن من الممترين) * خطاب له صلى الله عليه وسلم، ولا يضر فيه استحالة وقوع الامتراء منه عليه الصلاة والسلام كما في قوله تعالى: * (ولا تكونن من المشركين) * (يونس: 105) بل قد ذكروا في هذا الأسلوب فائدتين. إحداهما: أنه صلى الله عليه وسلم إذا سمع مثل هذا الخطاب تحركت منه الأريحية فيزداد في الثبات على اليقين نورا على نور وثانيتهما: أن السامع يتنبه بهذا الخطاب على أمر عظيم فينزع وينزجر عما يورث الامتراء لأنه صلى الله عليه وسلم مع جلالته التي لا تصل إليها الأماني إذا خوطب بمثله فما يظن بغيره ففي ذلك زيادة ثبات له صلوات الله تعالى وسلامه عليه ولطفه بغيره، وجوز أن يكون خطابا لكل من يقف عليه ويصلح للخطاب.
* (فمن حآجك فيه من بعد ما جآءك من العلم فقل تعالوا ندع أبنآءنا وأبنآءكم ونسآءنا ونسآءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الك‍اذبين) *.
* (فمن حآجك) * أي جادلك وخاصمك من وفد نصارى نجران إذ هم المتصدون لذلك * (فيه) * أي في شأن عيسى عليه السلام لأنه المحدث عنه وصاحب القصة، وقيل: الضمير للحق المتقدم لقربه وعدم بعد المعنى * (من بعد ما جاءك من العلم) * أي الآيات الموجبة للعلم، وإطلاق العلم عليها إما حقيقة لأنها كما قيل: نوع منه، وإما مجاز مرسل، والقرينة عليه ذكر المحاجة المقتضية للأدلة، والجار والمجرور الأخير حال من فاعل * (جاءك) * الراجع إلى * (ما) * الموصولة، و * (من) * من ذلك تبعيضية، وقيل: لبيان الجنس * (فقل) * أي - لمن حاجك - * (تعالوا) * أي أقبلوا بالرأي والعزيمة، وأصله طلب الإقبال إلى مكان مرتفع، ثم توسع فيه فاستعمل في مجرد طلب المجيء * (ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم) * أي يدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه للمباهلة، وفي تقديم من قدم على النفس في المباهلة مع أنها من مظان
187

التلف والرجل يخاطر لهم بنفسه إيذانا بكمال أمنه صلى الله عليه وسلم وكمال يقينه في إحاطة حفظ الله تعالى بهم، ولذلك - مع رعاية الأصل في الصيغة فإن غير المتكلم تبع له في الإسناد - قدم صلى الله عليه وسلم جانبه على جانب المخاطبين * (ثم نبتهل) * أي نتباهل، فالافتعال هنا بمعنى المفاعلة، وافتعل وتفاعل أخوان في كثير من المواضع - كاشتور وتشاور، واجتور وتجاور -، والأصل في البهلة - بالضم، والفتح فيه - كما قيل - اللعنة، والدعاء بها، ثم شاعت في مطلق الدعاء كما يقال: فلان يبتهل إلى الله تعالى في حاجته، وقال الراغب: بهل الشيء والبعير إهماله وتخليته ثم استعمل في الاسترسال في الدعاء سواء كان لعنا أو لا إلا أنه هنا يفسر باللعن لأنه المراد الواقع كما يشير إليه قوله تعالى: * (فنجعل لعنة الله على الك‍اذبين) * أي في أمر عيسى عليه السلام فإنه معطوف على (نبتهل) مفسر للمراد منه أي نقول لعنة الله على الكاذبين، أو اللهم العن الكاذبين. أخرج البخاري ومسلم " أن العاقب والسيد أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يلاعنهما فقال أحدهما لصاحبه: لا تلاعنه فوالله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا فقالوا له: نعطيك ما سألت فابعث معنا رجلا أمينا فقال: قم يا أبا عبيدة فلما قام قال هذا أمين هذه الأمة، وأخرج أبو نعيم في " الدلائل " من طريق عطاء، والضحاك عن ابن عباس " أن ثمانية من أساقفة أهل نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم العاقب والسيد فأنزل الله تعالى * (قل تعالوا) * الآية فقالوا: أخرنا ثلاثة أيام فذهبوا إلى بني قريظة والنضير وبني قينقاع فاستشاروهم فأشاروا عليهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه، وقالوا: هو النبي الذي نجده في التوراة فصالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على ألف حلة في صفر وألف في رجب ودراهم " وروي أنهم صالحوه على أن يعطوه في كل عام ألفي حلة وثلاثا وثلاثين درعا وثلاثة وثلاثين بعيرا وأربعا وثلاثين فرسا. وأخرج في " الدلائل " أيضا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس " أن وفد نجران من النصارى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم منهم السيد - وهو الكبير - والعاقب - وهو الذي يكون بعده وصاحب رأيهم - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلما قالا: أسلمنا قال: ما أسلمتما قالا: بلى قد أسلمنا قبلك قال: كذبتما يمنعكما من الإسلام ثلاث فيكما، عبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير، وزعمكما أن لله ولدا، ونزل * (إن مثل عيسى) * (آل عمران: 59) الآية فلما قرأها عليهم قالوا: ما نعرف ما تقول، ونزل * (فمن حاجك) * الآية فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى قد أمرني إن لم تقبلوا هذا أن أباهلكم فقالوا: يا أبا القاسم بل
نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك فخلا بعضهم ببعض وتصادقوا فيما بينهم قال السيد للعاقب: قد والله علمتم أن الرجل نبي مرسل ولئن لاعنتموه أنه لاستئصالكم وما لاعن قوم نبيا قط فبقي كبيرهم ولا نبث صغيرهم فإن أنتم لن تتبعوه وأبيتم إلا إلف دينكم فوادعوه وارجعوا إلى بلادكم وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ومعه علي والحسن والحسين وفاطمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أنا دعوت فأمنوا أنتم فأبوا أن يلاعنوه وصالحوه على الجزية ". وعن الشعبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد أتاني البشير بهلكة أهل نجران حتى الطير على الشجر لو تموا على الملاعنة " وعن جابر " والذي بعثني بالحق لو فعلا لأمطر الوادي عليهما نارا ". وروي أن أسقف نجران " لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا ومعه علي وفاطمة والحسنان رضي الله تعالى عنهم قال: يا معشر
188

النصارى: إني لأرى وجوها لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تباهلوا وتهلكوا ". هذا وإنما ضم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النفس الأبناء والنساء مع أن القصد من المباهلة تبين الصادق من الكاذب وهو يختص به وبمن يباهله لأن ذلك أتم في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه، وأكمل نكاية بالعدو وأوفر إضرارا به لو تمت المباهلة، وفي هذه القصة أوضح دليل على نبوته صلى الله عليه وسلم وإلا لما امتنعوا عن مباهلته، ودلالتها على فضل آل الله ورسوله صلى الله عليه وسلم مما لا يمتري فيها مؤمن، والنصب جازم الإيمان، واستدل بها الشيعة على أولوية علي كرم الله تعالى وجهه بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بناءا على رواية مجيء علي كرم الله تعالى وجهه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجه أن المراد حينئذ بأبنائنا الحسن والحسين وبنسائنا فاطمة، وبأنفسنا الأمير، وإذا صار نفس الرسول - وظاهر أن المعنى الحقيقي مستحيل - تعين أن يكون المراد المساواة، ومن كان مساويا للنبي صلى الله عليه وسلم فهو أفضل وأولى بالتصرف من غيره، ولا معنى للخليفة إلا ذلك، وأجيب عن ذلك أما أولا: فبأنا لا نسلم أن المراد بأنفسنا الأمير بل المراد نفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم، ويجعل الأمير داخلا في الأبناء، وفي العرف يعد الختن ابنا من غير ريبة، ويلتزم عموم المجاز إن قلنا: إن إطلاق الإبن على ابن البنت حقيقة، وإن قلنا: إنه مجاز لم يحتج إلى القول بعمومه وكان إطلاقه على الأمير وابنيه رضي الله تعالى عنهم على حد سواء في المجازية. وقول الطبرسي وغيره من علمائهم - إن إرادة نفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم من أنفسنا لا تجوز لوجود * (ندع) * والشخص لا يدعو نفسه - هذيان من القول، إذ قد شاع وذاع في القديم والحديث - دعته - نفسه إلى كذا، ودعوت نفسي إلى كذا، وطوعت له نفسه، وآمرت نفسي، وشاورتها إلى غير ذلك من الاستعمالات الصحيحة الواقعة في كلام البلغاء فيكون حاصل * (ندع أنفسنا) * نحضر أنفسنا وأي محذور في ذلك على أنا لو قررنا الأمير من قبل النبي صلى الله عليه وسلم لمصداق أنفسنا فمن نقرره من قبل الكفار مع أنهم مشتركون في صيغة * (ندع) * إذ لا معنى لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم وأبناءهم ونساءهم بعد قوله: * (تعالوا) * كما لا يخفى. وأما ثانيا: فبأنا لو سلمنا أن المراد بأنفسنا الأمير لكن لا نسلم أن المراد من النفس ذات الشخص إذ قد جاء لفظ النفس بمعنى القريب والشريك في الدين والملة، ومن ذلك قوله تعالى: * (ولا تخرجون أنفسهم من دياركم) * (البقرة: 84) * (ولا تلمزوا أنفسكم) * (الحجرات: 11) * (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا) * (النور: 12) فلعله لما كان للأمير اتصال بالنبي صلى الله عليه وسلم في النسب والمصاهرة واتحاد في الدين عبر عنه بالنفس، وحينئذ لا تلزم المساواة التي هي عماد استدلالهم على أنه لو كان المراد مساواته في جميع الصفات يلزم الاشتراك في النبوة والخاتمية والبعثة إلى كافة الخلق ونحو ذلك - وهو باطل بالإجماع - لأن التابع دون المتبوع ولو كان المراد المساواة في البعض لم يحصل الغرض لأن المساواة في بعض صفات الأفضل والأولى بالتصرف لا تجعل من هي له أفضل وأولى بالتصرف بالضرورة، وأما ثالثا: فبأن ذلك لو دل على خلافة الأمير كما زعموا لزم كون الأمير إماما في زمنه صلى الله عليه وسلم - وهو باطل بالاتفاق - وإن قيد بوقت دون وقت فمع أن التقييد مما لا دليل عليه في اللفظ لا يكون مفيدا للمدعي إذ هو غير متنازع فيه لأن أهل السنة يثبتون إمامته في وقت دون وقت فلم يكن هذا الدليل قائما في محل النزاع، ولضعف الاستدلال به في هذا المطلب بل عدم صحته كالاستدلال به على أفضلية الأمير علي كرم الله تعالى وجهه على الأنبياء والمرسلين عليهم السلام لزعم ثبوت مساواته للأفضل منهم فيه لم يقمه محققو الشيعة على أكثر
189

من دعوى كون الأمير والبتول والحسين أعزة على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع عبد الله المشهدي في كتابه - " إظهار الحق " -. وقد أخرج مسلم والترمذي وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال: " لما نزلت هذه الآية * (قل تعالوا ندع) * الخ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال: اللهم هؤلاء أهلي " وهذا الذي ذكرناه من دعائه صلى الله عليه وسلم هؤلاء الأربعة المتناسبة رضي الله تعالى عنهم هو المشهور المعول عليه لدى المحدثين، وأخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه رضي الله تعالى عنهم " أنه لما نزلت هذه الآية جاء بأبي بكر وولده وبعمر وولده وبعثمان وولده وبعلي وولده " وهذا خلاف ما رواه الجمهور.
واستدل ابن أبي علان من المعتزلة بهذه القصة أيضا على أن الحسنين كانا مكلفين في تلك الحال لأن المباهلة لا تجوز إلا مع البالغين، وذهب الإمامية إلى أنها يشترط فيها كمال العقل والتمييز، وحصول ذلك لا يتوقف على البلوغ فقد يحصل كمال قبله ربما يزيد على كمال البالغين فلا يمتنع أن يكون الحسنان إذ ذاك غير بالغين إلا أنهما في سن لا يمتنع معها أن يكونا كاملي العقل على أنه يجوز أن يخرق الله تعالى العادات لأولئك السادات ويخصهم بما لا يشاركهم فيه غيرهم، فلو صح أن كمال العقل غير معتاد في تلك السن لجاز ذلك فيهم إبانة لهم عمن سواهم ودلالة على مكانهم من الله تعالى واختصاصهم به - وهم القوم الذين لا تحصى خصائصهم -. وذهب النواصب إلى أن المباهلة جائزة لإظهار الحق إلى اليوم إلا أنه يمنع فيها أن يحضر الأولاد والنساء، وزعموا رفعهم الله تعالى لا قدرا، وحطهم ولا حط عنهم وزرا أن ما وقع منه صلى الله عليه وسلم كان لمجرد إلزام الخصم وتبكيته وأنه لا يدل على فضل أولئك الكرام على نبينا وعليهم أفضل الصلاة وأكمل السلام، وأنت تعلم أن هذا الزعم ضرب من الهذيان، وأثر من مس الشيطان. وليس يصح في الأذهان شيء * إذا احتاج النهار إلى دليل
ومن ذهب إلى جواز المباهلة اليوم على طرز ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم استدل بما أخرجه عبد بن حميد عن قيس بن سعد أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان بينه وبين آخر شيء فدعاه إلى المباهلة، وقرأ الآية ورفع يديه فاستقبل الركن وكأنه يشير بذلك رضي الله تعالى عنه إلى كيفية الابتهال وأن الأيدي ترفع فيه، وفيما أخرجه الحاكم تصريح بذلك وأنها ترفع حذو المناكب.
* (إن هذا لهو القصص الحق وما من إل‍اه إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم) *.
* (إن هذا) * أي المذكور في شأن عيسى عليه السلام قاله ابن عباس * (لهو القصص الحق) * جملة اسمية خبر * (إن) * ويجوز أن يكون - هو - ضمير فصل لا محل له من الإعراب، و (القصص) هو الخبر، وضمير الفصل يفيد القصر الإضافي كما يفيده تعريف الطرفين و (الحق) صفة القصص وهو المقصود بالإفادة أي - إن هذا هو الحق - لا ما يدعيه النصارى من كون المسيح عليه السلام إلها وابن الله سبحانه وتعالى عما يقوله الظالمون علوا كبيرا، وقيل: إن الضمير للقصر والتأكيد لو لم يكن في الكلام ما يفيد ذلك وإن كان كما هنا فهو لمجرد التأكيد، والأول: هو المشهور - وعليه الجمهور ولعله الأوجه، واللام لام الابتداء والأصل فيها أن تدخل على المبدأ إلا أنهم يزحلقونها إلى الخبر لئلا يتوالى حرفا تأكيد وإذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل أجوز لأنه أقرب إلى المبتدأ فافهم. و (القصص) على ما في " البحر " مصدر قولهم: قص فلأن الحديث يقصه قصا وقصصا؛ وأصله تتبع الأثر يقال:
190

خرج فلأن يقص أثر فلان أي يتتبعه ليعرف أين ذهب، ومنه قوله تعالى: * (وقالت لأخته قصيه) * (القصص: 11) أي تتبعي أثره، وكذلك القاص في الكلام لأنه يتتبع خبرا بعد خبر، أو يتتبع المعاني ليوردها، وهو هنا فعل بمعنى مفعول أي المقصوص الحق، وقرىء * (لهو) * بسكون الواو
* (وما من آله إلا الله) * رد النصارى في تثليثهم، وكذا فيه رد على سائر الثنوية، و * (من) * زائدة للتأكيد كما هو شأن الصلات، وقد فهم أهل اللسان - كما قال الشهاب - أنها لتأكيد الاستغراق المفهوم من النكرة المنفية لاختصاصها بذلك في الأكثر، وقد توقف محب الدين في وجه إفادة الكلمات المزيدة للتأكيد بأي طريق هي فإنها ليست وضعية، وأجاب بأنها ذوقية يعرفها أهل اللسان، واعترض بأن هذا حوالة على مجهول فلا تفيد، فالأولى أن يقال: إنها وضعية لكنه من باب الوضع النوعي فتدبر
* (وإن الله لهو العزيز) * أي الغالب غلبة تامة، أو القادر قدرة كذلك، أو الذي لا نظير له * (الحكيم) * أي المتقن فيما صنع، أو المحيط بالمعلومات، والجملة تذييل لما قبلها، والمقصود منها أيضا قصر الإلهية عليه تعالى ردا على النصارى أي قصر إفراد فالفصل والتعريف هنا كالفصل والتعريف هناك فما قيل: إنهما ليسا للحصر إذ الغالب على الأغيار لا يكون إلا واحدا فيلغو القصر فيه إلا أن يجعل قصر قلب، والمقام لا يلائمه مما لا عصام له كما لا يخفى.
* (فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين) *.
* (فإن تولوا) * أي أعرضوا عن اتباعك وتصديقك بعد هذه الآيات البينات، وهذا على تقدير أن يكون الفعل ماضيا، ويحتمل أن يكون مضارعا وحذفت منه إحدى التاءين تخفيفا، وأصله تتولوا * (فإن الله عليم بالمفسدين) * أي بهم أو بكم، والجملة جواب الشرط في الظاهر لكن المعنى على ما يترتب على علمه * (بالمفسدين) * من معاقبته لهم، فالكلام للوعيد ووضع الظاهر موضع الضمير تنبيها على العلة المقتضية للجزاء والعقاب وهي الإفساد، وقيل: المعنى على أن الله عليم بهؤلاء المجادلين بغير حق وبأنهم لا يقدمون على مباهلتك لمعرفتهم نبوتك وثبوت رسالتك، والجملة على هذا أيضا عند التحقيق قائمة مقام الجواب إلى أنه ليس الجزاء والعقاب، والكلام منساق لتسليته صلى الله عليه وسلم ولا يخفى ما فيه.
ومن باب الإشارة في الآيات: * (فلما أحس) * أي شاهد عيسى بواسطة النور الإلهي المشرق عليه * (منهم الكفر) * أي ظلمته، أو نفسه فإن المعاني تظهر للكمل على صور مختلفة بختلافها فيرونها. وحكي عن الباز قدس سره أنه قال: إن الليل والنهار يأتياني فيخبراني بما يحدث فيهما، وعن بعض العارفين أنه يشاهد أعمال العباد كيف تصعد إلى السماء ويرى البلاء النازل منها * (قال من أنصاري) * في حال دعوتي * (إلى الله) * سبحانه بأن يلتفت إلى الاشتغال بتكميل نفسه وتهذيب أخلاقها حتى يصلح لتربية الناقصين فينصرني ويعينني في تكميل الناقص وإرشاد الضال * (قال الحواريون) * المبيضون ثياب وجودهم بمياه العبادة ومطرقة المجاهدة وشمس المراقبة * (نحن أنصار الله) * أي أعوان الفانين فيه الباقين به ومنهم عيسى عليه السلام * (آمنا بالله) * الإيمان الكامل * (واشهد بأنا مسلمون) * (آل عمران: 52) أي مناقدون لأمرك حيث إنه أمر الله سبحانه * (ربنا آمنا بما أنزلت) * وهو ما نورت به قلوب أصفيائك من علوم غيبك * (واتبعنا الرسول) * فيما أظهر من أوامرك ونواهيك رجاء أن يوصلنا ذلك إلى محبتك * (فاكتبنا مع الشاهدين) * (آل عمران: 53) أي مع من يشهدك ولا يشهد معك سواك، أو الحاضرين لك المراقبين لأمرك * (ومكروا) * أي الذين أحس منهم الكفر واحتالوا مع أهل الله بتدبير النفس فكان مكرهم مكر الحق عليهم لأنه المزين ذلك لهم كما قال سبحانه: * (كذلك زينا لكل أمة عملهم) * (الأنعام: 108) فهو الماكر
191

في الحقيقة وهذا معنى * (ومكر الله) * (آل عمران: 54) عند بعض، والأولى القول باختلاف المكرين على ما يقتضيه مقام الفرق، وقد سئل بعضهم كيف يمكر الله؟ فصاح وقال: لا علة لصنعه وأنشأ يقول: فديتك قد جبلت على هواكا * ونفسي لا تنازعني سواكا
أحبك لا ببعضي بل بكلي * وإن لم يبق حبك لي حراكا
ويقبح من - سواك الفعل - عندي * - وتفعله فيحسن منك ذاكا -
* (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك) * عن رسم الحدوثية * (ورافعك إلي) * بنعت الربوبية * (ومطهرك من الذين كفروا) * (آل عمران: 55) بشغل سرك عن
مطالعة الأغيار، أو متوفيك عنك، وقابضك منك، ورافعك عن نعوت البشرية ومطهرك من إرادتك بالكلية، وقيل: إن عيسى عليه الصلاة والسلام لما أحس منهم الكفر وعلم أنهم بعثوا من يقتله قال للحواريين: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم السماوي أي متصل بروح القدس ومتطهر من علاقة عالم الرجس فأمدكم بالفيض كي تستجاب دعوتكم الخلق بعدي، فشبه للقوم صورة جسدانية هي مظهر عيسى روح الله تعالى بصورة حقيقة عيسى فظنوها هو فصلبوها ولم يعلموا أن الله تعالى رفعه إلى السماء الرابعة التي هي فلك الشمس، وحكمة رفعه إلى ذلك أن روحانيته عبارة عن إسرافيل عليه الصلاة والسلام ويشاركه المسيح في سر النفخ. ومن قال: إنه رفع إلى السماء الدنيا بين الحكمة بأن إفاضة روحه كانت بواسطة جبريل عليه السلام وهو عبارة عن روحانية فلك القمر، وبأن القمر في السماء الدنيا وهو آية ليلية تناسب علم الباطن الذي أوتيه المسيح عليه السلام، ولم يعتبر الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم القول: بأنه يدور حول العرش لأن ذلك مقام النهاية في الكمال، ولهذا لم يعرج إليه سوى صاحب المقام المحمود صلى الله عليه وسلم الجامع بين الظاهر والباطن * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم) * في أن كلا منهما خارق للعادة خارج عن دائرتها وإن افترقا في أن عيسى عليه الصلاة والسلام بلا ذكر بل من نطفة أنثى فقط كان في بعضها قوة العقد وفي البعض الآخر قوة الانعقاد كسائر النطف المركبة من منيين في أحدهما القوة العاقدة وفي الأخرى المنعقدة، وأن آدم عليه الصلاة والسلام بلا ذكر ولا أنثى خلقه من تراب أي صور قالبه من ذلك * (ثم قال له كن فيكون) * (آل عمران: 59) إشارة إلى نفخ الروح فيه وكونه من عالم الأمر نظرا إلى روحه المقدسة التي لم ترتكض في رحم * (فمن حاجك فيه) * أي الحق، أو في عيسى عليه السلام بالحجج الباطلة * (فقل تعالوا) * (آل عمران: 61) الخ أي فادعه إلى المباهلة بالهيئة المذكورة. قال بعض العارفين: اعلم أن لمباهلة الأنبياء عليهم السلام تأثيرا عظيما سببه اتصال نفوسهم بروح القدس وتأييد الله تعالى إياهم به وهو المؤثر بإذن الله تعالى في العالم العنصري فيكون انفعال العالم العنصري منه كانفعال أبداننا من روحنا بالعوارض الواردة عليه - كالغضب والخوف والفكر في أحوال المعشوق وغير ذلك - وانفعال النفوس البشرية منه كانفعال حواسنا وسائر قوانا من عوارض أرواحنا فإذا اتصل نفس قدسي به، أو ببعض أرواح الأجرام السماوية والنفوس الملكوتية كان تأثيرها في العالم عند التوجه الاتصالي تأثير ما يتصل به فينفعل أجرام العناصر والنفوس الناقصة الإنسانية منه بما أراد حسب ذلك الاتصال ولذا انفعلت نفوس النصارى من نفسه عليه الصلاة والسلام بالخوف وأحجمت عن المباهلة وطلبت الموادعة بقبول الجزية انتهى. وادعى بعضهم أن لكل نفس تأثيرا لكنه يختلف حسب اختلاف مراتب النفوس وتفاوت مراتب التوجهات إلى عام التجرد - وفيه كلام طويل - ولعل النوبة تفضي إلى تحقيقه، وهذا وتطبيق ما في الآفاق على
192

ما في الأنفس ظاهر لمن أحاط خبرا بما قدمناه في الآيات الأول، والله تعالى الموفق.
* (قل ياأهل الكت‍ابتعالوا إلى كلمة سوآء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) *.
* (قل يا أهل الكت‍اب) * نزلت في وفد نصارى نجران - قاله السدي والحسن وابن زيد ومحمد بن جعفر بن الزبير - وروي عن قتادة والربيع وابن جريج أنها نزلت في يهود المدينة، وذهب أبو علي الجبائي أنها نزلت في الفريقين من أهل الكتاب، واستظهره بعض المحققين لعمومه * (تعالوا) * أي هلموا * (إلى كلمة) * أي كلام - كما قال الزجاج - وإطلاقها على ذلك في كلامهم من باب المجاز المرسل وعلاقته تجوز إطلاقها على المركب الناقص إلا أنه لم يوجد بالاستقراء، وقيل: إنه من باب الاستعارة وليس بالبعيد - وقرىء - * (كلمة) * بكسر الكاف وإسكان اللام على التخفيف والنقل * (سواء) * أي عدل - قاله ابن عباس والربيع وقتادة - وقيل: إن سواء مصدر بمعنى مستوية أي لا يختلف فيها التوراة والإنجيل والقرآن، أو لا اختلاف فيها بكل الشرائع، وهو في قراءة الجمهور مجرور على أنه نعت - لكلمة - وقرىء بنصبه على المصدر.
* (بيننا وبينكم) * متعلق بسواء * (ألا نعبد) * أي نحن وأنتم * (إلا الله) * بأن نوحده بالعبادة ونخلص فيها، وفي موضع (أن) وما بعدها وجهان - كما قال أبو البقاء - الأول: الجر على البدلية من * (كلمة) *، والثاني: الرفع على الخبرية لمحذوف أي هي أن لا نعبد إلا الله، ولولا عمل (أن) لجاز أن تكون تفسيرية، وقيل: إن الكلام تم على * (سواء) * ثم استؤنف فقيل: * (بيننا وبينكم ألا نعبد) *، فالظرف خبر مقدم، و (أن) وما بعدها مبتدأ مؤخر * (ولا نشرك به شيئا) * من الأشياء على معنى لا نجعل غيره شريكا له في استحقاق العبادة ولا نراه أهلا لأن يعبد، وبهذا المعنى يكون الكلام تأسيسا والظاهر أنه تأكيد لما قبله إلا أن التأسيس أكثر فائدة، وقيل: المراد * (لا نشرك به شيئا) * من الشرك وهو بعيد جدا. * (ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله) * أي لا يطيع بعضنا بعضا في معصية الله تعالى - قاله ابن جريج - ويؤيده ما أخرجه الترمذي وحسنه من حديث عدي بن حاتم " أنه لما نزلت هذه الآية قال: ما كنا نعبدهم يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم: أما كانوا يحللون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم؟ قال: نعم فقال عليه الصلاة والسلام: هو ذاك " قيل: وإلى هذا أشار سبحانه بقوله عز من قائل: * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) * (التوبة: 31) وعن عكرمة أن هذا الاتخاذ هو سجود بعضهم لبعض، وقيل: هو مثل اعتقاد اليهود في عزير أنه ابن الله، واعتقاد النصارى في المسيح نحو ذلك، وضمير - نا - على كل تقدير للناس لا للممكن - وإن أمكن - حتى يشمل الأصنام لأن أهل الكتاب لم يعبدوها. وفي التعبير - بالبعض - نكتة وهي الإشارة إلى أنهم بعض من جنسنا فكيف يكونون أربابا؟! فإن قلت: إن المخاطبين لم يتخذوا البعض أربابا من دون الله بل اتخذوهم آلهة معه سبحانه أجيب: بأنه أريد من دون الله وحده، أو يقال: بأنه أتى بذلك للتنبيه على أن الشرك لا يجامع الاعتراف بربوبيته تعالى عقلا - قاله بعضهم - وللنصارى - سود الله تعالى حظهم - الحظ الأوفر من هذه المنهيات، وسيأني إن شاء الله تعالى بيان فرقهم وتفصيل كفرهم على أتم وجه.
* (فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) * المراد فإن تولوا عن موافقتكم فيما ذكر مما اتفق عليه الكتب والرسل بعد عرضه عليهم فاعلموا أنهم لزمتهم الحجة وإنما
أبوا عنادا فقولوا
193

لهم: أنصفوا واعترفوا بأنا على الدين الحق وهو تعجيز لهم أو هو تعريض بهم لأنهم إذا شهدوا بالإسلام لهم فكأنهم قالوا: إنا لسنا كذلك، وإلى هذا ذهب بعض المحققين، وقيل: المراد فإن تولوا فقولوا: إنا لا نتحاشى عن الإسلام ولا نبالي بأحد في هذا الأمر - فاشهدوا بأنا مسلمون - فإنا لا نخفي إسلامنا كما أنكم تخافون وتخفون كفركم ولا تعترفون به لعدم وثوقكم بصر الله تعالى، ولا يخفى أن هذا على ما فيه إنما يحسن لو كان الكلام في منافقي أهل الكتاب لأن المنافقين هم الذين يخافون فيخفون، وأما هؤلاء فهم معترفون بما هم عليه كيف كان فلا يحسن هذا الكلام فيهم، و * (تولوا) * هنا ماض ولا يجوز أن يكون التقدير تتولوا لفساد المعنى لأن * (فقولوا) * خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، (وتتولوا) خطاب للمشركين، وعند ذلك لا يبقى في الكلام جواب.
* (ياأهل الكت‍ابلم تحآجون فىإبراهيم ومآ أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون) *.
* (يا أهل الكت‍اب) * خطاب لليهود والنصارى * (لم تحاجون في إبراهيم) * أي تنازعون وتجادلون فيه ويدعي كل منكم أنه عليه السلام كان على دينه، أخرج ابن إسحق، وابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: " اجتمعت نصارى نجران، وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا عنده فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيا فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية " والظرف الأول متعلق بما بعده وكذا الثاني، و - ما - استفهامية، والغرض الإنكار والتعجب - عند السمين - وحذفت ألفها لما دخل الجار للفرق بينها وبين الموصولة، والكلام على حذف مضاف أي دين إبراهيم أو شريعته لأن الذوات لا مجادلة فيها * (وما أنزلت التوراة) * على موسى عليه السلام * (والإنجيل) * على عيسى عليه السلام * (إلا من بعده) * حيث كان بينه وبين موسى عليهما السلام خمسمائة وخمس وستون سنة، وقيل: سبعمائة، وقيل: ألف سنة وبين موسى وعيسى عليهما السلام ألف وتسعمائة وخمس وعشرون سنة، وقيل: ألفا سنة، وهناك أقوال أخر.
* (أفلا تعقلون) * الهمزة داخلة على مقدر هو المعطوف عليه بالعاطف المذكور على رأي - أي ألا تتفكرون فلا تعقلون بطلان قولكم - أو أتقولون ذلك فلا تعقلون بطلانه، وهذا تجهيل لهم في تلك الدعوى وتحميق، وهو ظاهر إن كانوا قد ادعوا - كما قال الشهاب - إنه عليه السلام منهم حقيقة، وإن كان مدعاهم أن دين إبراهيم يوافق دين موسى، أو دين عيسى فهو يهودي، أو نصراني بهذا المعنى فتجهيلهم، ونفي العقل عنهم بنزول التوراة والإنجيل بعده - مشكل إلا أن يدعى بأن المراد أنه لو كان الأمر كذلك لما أوتي موسى عليه السلام التوراة، ولا عيسى عليه السلام الإنجيل بل كانا يؤمران بتبليغ صحف إبراهيم - كذا قيل - وأنت تعلم أن هذا لا يشفي الغليل إذ لقائل أن يقول: أي مانع من اتحاد الشريعة مع إنزال هذين الكتابين لغرض آخر غير بيان شريعة جديدة على أن الصحف لم تكن مشتملة على الأحكام بل كانت أمثالا ومواعظ كما جاء في الحديث، ثم ما قاله الشهاب - وإن كان وجه التجهيل عليه ظاهرا، إلا أن صدور تلك الدعوى من أهل الكتاب في غاية البعد لأن القوم لم يكونوا بهذه المثابة من الجهالة وفيهم أحبار اليهود ووفد نجران، وقد ذكر أن الأخيرين كانت لهم شدة في البحث، فقد أخرج ابن جرير عبد الله بن الحرث الزبيدي أنه قال: " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ليت بيني وبين أهل نجران حجابا فلا أراهم ولا يروني " من شدة ما كانوا يمارون النبي صلى الله عليه وسلم اللهم
194

إلا أن يقال: إن الله تعالى أعمى بصائرهم في هذه الدعوى ليكونوا ضحكة لأطفال المؤمنين، أو أنهم قالوا ذلك على سبيل التعنت والعناد ليغيظ كل منهم صاحبه؛ أو ليوهموا بعض المؤمنين ظنا منهم أنهم لكونهم أميين غير مطلعين على تواريخ الأنبياء السالفين يزلزلهم مثل ذلك ففضحهم الله تعالى، أو أن القوم في حد ذاتهم جهلة لا يعلمون وإن كانوا أهل كتاب - وما ذكره ابن الحرث - لا يدل على علمهم كما لا يخفى، وقيل: إن مراد اليهود بقولهم: إن إبراهيم عليه السلام كان يهوديا أنه كان مؤمنا بموسى عليه السلام قبل بعثته على حد ما يقوله المسلمون في سائر المرسلين عليهم الصلاة والسلام من أنهم كانوا مؤمنين بنبينا صلى الله عليه وسلم قبل بعثته كما يدل عليه تبشيرهم به، وأن مراد النصارى بقولهم: إن إبراهيم كان نصرانيا نحو ذلك فرد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه: * (وما أنزل التوراة والإنجيل إلا من بعده) * أي ومن شأن المتأخر أن يشتمل على أخبار المتقدم لا سيما مثل هذا الأمر المهم والمفخر العظيم والمنة الكبرى أفلا تعقلون ما فيهما لتعلموا خلوهما عن الأخبار بيهوديته ونصرانيته اللتين زعمتموهما، ثم نبه سبحانه على حماقتهم بقوله جل وعلا:
* (هاأنتم ه‍اؤلاء ح‍اججتم فيما لكم به علم فلم تحآجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) *.
* (ها أنتم ه‍اؤلاء) * أي: أنتم هؤلاء الحمقى * (ح‍اججتم فيما لكم به علم) * كأمر موسى، وعيسى عليهما السلام * (فلم تحآجون فيما ليس لكم به علم) * وهو أمر إبراهيم عليه السلام حيث لا ذكر لدينه في كتابكم، أو لا تعرض لكونه آمن بموسى وعيسى قبل بعثتيهما أصلا، وليس المراد وصفهم بالعلم حقيقة وإنما المراد هب أنكم تحاجون فيما تدعون علمه على ما يلوح لكم من خلال عبارات كتابكم وإشارته في زعمكم فكيف تحاجون فيما لا علم لكم به ولا ذكر، ولا رمز له في كتابكم ألبتة؟! و (ها) حرف تنبيه، واطرد دخولها على المبتدأ إذا كان خبره اسم إشارة نحو - ها أناذا - وكررت هنا للتأكيد، وذهب الأخفش أن الأصل أأنتم على الاستفهام فقلبت الهمزة هاءا، ومعنى الاستفهام عنده التعجب من جهالتهم، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يحسن ذلك لأنه لم يسمع إبدال همزة الاستفهام هاءا في كلامهم إلا في بيت نادر، ثم الفصل بين الهاء المبدلة وهمزة (أنتم) لا يناسب لأنه إنما يفصل لاستثقال اجتماع الهمزتين، وهنا قد زال الاستثقال بإبدال الأولى هاءا، والإشارة للتحقير والتنقيص، ومنها فهم الوصف الذي يظهر به فائدة الحمل، وجملة * (حاججتم) * مستأنفة مبينة للأولى، وقيل: إنها حالية بدليل أنه يقع الحال موقعها كثيرا نحو - ها أناذا قائما - وهذه الحال لازمة؛ وقيل: إن الجملة خبر عن (أنتم) و * (هؤلاء) * منادى حذف منه حرف النداء، وقيل: * (هؤلاء) * بمعنى الذي خبر المتبدأ، وجملة * (حاججتم) * صلة؛ وإليه ذهب الكوفيون، وقراؤهم يقرءون * (ها أنتم) * بالمد والهمز، وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو بغير همز ولا مد إلا بقدر خروج الألف الساكن
، وقرأ ابن كثير ويعقوب بالهمز والقصر بغير مد، وقرأ ابن عامر بالمد دون الهمز * (والله يعلم) * حال إبراهيم وما كان عليه * (وأنتم لا تعلمون) * ذلك، ولك أن تعتبر المفعول عاما ويدخل المذكور فيه دخولا أوليا، والجملة تأكيد لنفي العلم عنهم في شأن إبراهيم عليه السلام ثم صرح بما نطق به البرهان المقرر [بم فقال سبحانه:
* (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين) *.
* (ما كان إبراهيم يهوديا) * كما قالت اليهود * (ولا نصرانيا) * كما قالت النصارى * (ول‍اكن كان حنيفا) * أي مائلا عن العقائد الزائغة * (مسلما) * أي منقادا لطاعة الحق، أو موحدا لأن الإسلام يرد بمعنى التوحيد أيضا؛ قيل: وينصره قوله تعالى: * (وما كان من المشركين) * أي عبدة الأصنام كالعرب الذي كانوا يدعون
195

أنهم على دينه، أو سائر المشركين ليعم أيضا عبدة النار كالمجوس، وعبدة الكواكب كالصابئة، وقيل: أراد بهم اليهود والنصارى لقول اليهود عزير ابن الله وقول النصارى المسيح ابن الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وأصل الكلام وما كان منكم إلا أنه وضع المظهر موضع المضمر للتعريض بأنهم مشركون، والجملة حينئذ تأكيد لما قبلها، وتفسير الإسلام بما ذكر - هو ما اختاره جمع من المحققين وادعوا أنه لا يصح تفسيره هنا بالدين المحمدي لأنه يرد عليه أنه كان بعده بكثير فكيف يكون مسلما؟ فيكون كادعائهم تهوده وتنصره المردود بقوله سبحانه: * (وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده) * (آل عمران: 65) فيرد عليه ما ورد عليهم، ويشترك الإلزام بينهما، وفسره بعضهم بذلك، وأجاب عن اشتراك الإلزام بأن القرآن أخبر بأن إبراهيم كان مسلما وليس في التوراة والإنجيل أنه عليه الصلاة والسلام كان يهوديا أو نصرانيا فظهر الفرق، قال العلامة النيسابوري: فإن قيل: قولكم: إن إبراهيم عليه السلام على دين الإسلام إن أردتم به الموافقة في الأصول فليس هذا مختصا بدين الإسلام، وإن أردتم في الفروع لزم أن لا يكون نبينا صلى الله عليه وسلم صاحب شريعة بل مقرر لشرع من قبله. قيل: يختار الأول، والاختصاص ثابت لأن اليهود والنصارى مخالفون للأصول في زماننا لقولهم بالتثليث وإشراك عزير عليه السلام إلى غير ذلك، أو الثاني ولا يلزم ما ذكر لجواز أنه تعالى نسخ تلك الفروع بشرع موسى عليه السلام ثم نسخ نبينا صلى الله عليه وسلم شرع موسى بشريعته التي هي موافقة لشريعة إبراهيم صلوات الله تعالى وسلامه عليه فيكون عليه الصلاة والسلام صاحب شريعة مع موافقة شرعه شرع إبراهيم في معظم الفروع انتهى، ولا يخفى ما في الجواب على الاختيار الثاني من مزيد البعد، بل عدم الصحة لأن نسخ شريعة إبراهيم بشريعة موسى، ثم نسخ شريعة موسى بشريعة نبينا عليهم الصلاة والسلام الموافقة لشريعة إبراهيم لا يجعل نبينا صاحب شريعة جديدة بل يقال له أيضا: إنه مقرر لشرع من قبله وهو إبراهيم عليه السلام، وأيضا موافقة جميع فروع شريعتنا لجميع فروع شريعة إبراهيم مما لا يمكن بوجه أصلا إذ من جملة فروع شريعتنا فرضية قراءة القرآن في الصلاة ولم ينزل على غير نبينا صلى الله عليه وسلم بالبديهة، ونحو ذلك كثير. وموافقة المعظم في حيز المنع ودون إثباتها الشم الراسيات، وقوله تعالى: * (أن اتبع ملة إبراهيم) * (النحل: 123) ليس بالدليل على الموافقة في الفروع إذ الملة فيه عبارة عن التوحيد أو عنه وعن الأخلاق كالهدى في قوله تعالى: * (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) * (الانعام: 90) واعترض الشهاب على الجواب - على الاختيار الأول - بالبعد كاعتراضه على الجواب على الاختيار الثاني بمجرده أيضا، وذكر أن ذلك سبب عدول بعض المحققين عما يقتضيه كلام هذا العلامة من أن المراد بكون إبراهيم مسلما أنه على ملة الإسلام إلى أن المراد بذلك أنه منقاد بحمل الإسلام على المعنى اللغوي، وادعى أنه سالم من القدح، ونظر فيه - بأن أخذ الإسلام لغويا لا يناسب بحث الأديان والكلام فيه - فلا يخلو هذا الوجه عن بعد، ولعله لا يقصر عما ادعاه من بعد الجواب الأول كما لا يخفى على صاحب الذوق السليم.
هذا وفي الآية وجه آخر - ولعله يخرج من بين فرث ودم - وهو أن أهل الكتاب لما تنازعوا فقالت اليهود إبراهيم منا، وقالت النصارى إنه منا أرادت كل طائفة أنه عليه السلام كان إذ ذاك على ما هو عليه الآن من الحال وهو حال مخالف لما عليه نبيهم في نفس الأمر موافق له زعما على معنى موافقة الأصول للأصول،
196

أو الموافقة فيما يعد في العرف موافقة ولو لم تكن في المعظم وليست هذه الدعوى من البطلان بحيث لا تخفى على أحد فرد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه: * (وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده) * (آل عمران: 65) أي وليسا مشتملين على ذلك وهو من الحري بالذكر لو كان، ثم أشار سبحانه إلى ما هم عليه من الحماقة على وجه أتم، ثم صرح سبحانه بما أشار أولا فقال: * (ما كان إبراهيم يهوديا) * أي من الطائفة اليهودية المخالفة لما جاء به موسى عليه السلام في نفس الأمر * (ولا نصرانيا) * أي من الطائفة النصرانية المخالفة لما جاء به عيسى عليه السلام كذلك * (ولكن كان حنيفا مسلما) * أي على دين الإسلام الذي ليس عند الله دين مرضي سواه وهو دين جميع الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم، وفي ذلك إشارة إلى أن أولئك اليهود والنصارى ليسوا من الدين في شيء لمخالفتهم في نفس الأمر لما عليه النبيان بل الأنبياء، ثم أشار إلى سبب ذلك بما عرض به من قوله سبحانه: * (وما كان من المشركين) * فعلى هذا يكون المسلم - كما قال الجصاص، وأشرنا إليه فيما مر مرارا - المؤمن ولو من غير هذه الأمة خلافا للسيوطي في زعمه أن الإسلام مخصوص بهذه الأمة - هذا ما عندي في هذا المقام - فتدبر فلمسلك الذهن اتساع.
* (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وه‍اذا النبى والذين ءامنوا والله ولى المؤمنين) *.
* (إن أولى الناس بإبراهيم) * * (أولى) * أفعل تفضيل من وليه يليه وليا وألفه منقلبة عن ياء لأن فاءه واو فلا تكون لامه واوا إذ ليس في الكلام ما فاؤه ولامه واوان إلا واو، وأصل معناه أقرب، ومنه ما في الحديث " لأولى رجل ذكر " ويكون بمعنى أحق كما تقول: العالم أولى بالتقديم، وهو المراد هنا - أي أقرب الناس وأخصهم بإبراهيم * (للذين اتبعوه) * أي كانوا على شريعته في زمانه، أو اتبعوه مطلقا فالعطف في قوله سبحانه: * (وه‍اذا النبي) * من عطف الخاص على العام وهو معطوف على الموصول قبله الذي هو خبر * (إن) * وقرىء بالنصب عطفا على الضمير المفعول، والتقدير - للذين اتبعوا إبراهيم واتبعوا هذا النبي - وقرىء
بالجر عطفا على إبراهيم أي - إن أولى الناس بإبراهيم، وهذا النبي للذين اتبعوه - واعترض بأنه كان ينبغي أن يثني ضمير * (اتبعوه) * ويقال اتبعوهما، وأجيب بأنه من باب * (والله ورسوله أحق أن يرضوه) * (التوبة: 62) إلا أن فيه على ما قيل الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي، وقوله تعالى: * (والذين ءامنوا) * إن كان عطفا على - الذين اتبعوه - يكون فيه ذلك أيضا، وإن كان عطفا على هذا النبي - فلا فائدة فيه إلا أن يدعى أنها للتنويه بذكرهم، وأما التزام أنه من عطف الصفات بعضها على بعض حينئذ فهو كما ترى، ثم إن كون المتبعين لإبراهيم عليه السلام في زمانه أولى الناس به ظاهر، وكون نبينا صلى الله عليه وسلم أولاهم به لموافقة شريعته للشريعة الإبراهيمية أكثر من موافقة شرائع سائر المرسلين لها، وكون المؤمنين من هذه الأمة كذلك لتبعيتهم نبيهم فيماجاء به ومنه الموافق.
* (والله ولي المؤمنين) * ينصرهم ويجازيهم بالحسنى كما هو شأن الولي، ولم يقل - وليهم - تنبيها على الوصف الذي يكون الله تعالى به وليا لعباده - وهو الإيمان - بناءا على أن التعليق بالمشتق يقتضي عليه مبدأ الاشتقاق. ومن ذلك يعلم ثبوت الحكم للنبي بدلالة النص، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال رؤساء اليهود: والله يا محمد لقد علمت أنا أولى بدين إبراهيم منك ومن غيرك وأنه كان يهوديا وما بك إلا الحسد فأنزل الله تعالى
197

هذه الآية، وأخرج عبد بن حميد من طريق شهر بن حوشب قال: حدثني ابن غنم أنه لما خرج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي أدركهم عمرو بن العاص وعمارة بن أبي معيط فأرادوا عنتهم والبغي عليهم فقدموا على النجاشي وأخبروه أن هؤلا الرهط الذين قدموا عليك من أهل مكة يريدون أن يحيلوا عليك ملكك ويفسدوا عليك أرضك ويشتموا ربك فأرسل إليهم النجاشي فلما أن أتوه قال: ألا تسمعون ما يقول صاحباكم هذان - لعمرو بن العاص وعمارة بن أبي معيط - يزعمان أنما جتئم لتحيلوا علي ملكي وتفسدوا علي أرضي فقال عثمان بن مظعون، وحمزة: إن شئتم خلوا بين أحدنا وبين النجاشي فليكلمه أينا أحدثكم سنا فإن كان صوابا فالله يأتي به، وإن كان أمرا غير ذلك قلتم رجل شاب لكم في ذلك عذر، فجمع النجاشي قسيسيه ورهبانيته وتراجمته ثم سألهم أرأيتكم صاحبكم هذا الذي من عنده جئتم ما يقول لكم وما يأمركم به وما ينهاكم عنه هل له كتاب يقرؤه؟ قالوا: نعم هذا الرجل يقر أما أنزل الله تعالى عليه وما قد سمع منه ويأمر بالمعروف ويأمر بحسن المجاورة، ويأمر باليتيم، ويأمر بأن يعبد الله تعالى وحده ولا يعبد معه إله آخر فقرأ عليه - سورة الروم والعنكبوت وأصحاب الكهف ومريم فلما أن ذكر عيسى في القرآن أراد عمرو أن يغضبه عليهم قال: والله إنهم يشتمون عيسى ويسبونه قال النجاشي: ما يقول صاحبكم في عيسى: قال يقول: إن عيسى عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم، فأخذ النجاشي نفثة من سواكه قدر ما يقذى العين فحلف ما زاد المسيح على ما يقول صاحبكم بما يزن ذلك القذى في يده من نفثة سواكه فأبشروا ولا تخافوا فلا دهونة - يعني بلسان الحبشة - اللوم على حزب إبراهيم قال عمرو بن العاص: ما حزب إبراهيم؟ قال: هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاءوا من عنده ومن اتبعهم فأنزلت ذلك اليوم في خصومتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة * (إن أولى الناس بإبراهيم) * الآية.
* (ودت طآئفة من أهل الكت‍ابلو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون) *.
* (ودت طآئفة من أهل الكت‍ابلو يضلونكم) * المشهور أنها نزلت حين دعا اليهود حذيفة وعمارا ومعاذا إلى اليهودية، فالمراد بأهل الكتاب اليهود، وقيل: المراد بهم ما يشمل الفريقين، والآية بيان لكونهم دعاة إلى الضلالة إثر بيان أنهم ضالون، وأخرج ابن المنذر عن سفيان أنه قال: كل شيء في آل عمران من ذكر أهل الكتاب فهو في النصارى، ولعله جحار مجرى الغالب، و * (من) * للتبعيض، والطائفة رؤساؤهم وأحبارهم، وقيل: لبيان الجنس - والطائفة - جميع أهل الكتاب وفيه بعد، و * (لو) * بمعنى أن المصدرية، والمنسبك مفعول - ود - وجوز إقرارها على وضعها، ومفعول ود محذوف، وكذا جواب * (لو) * والتقدير: ودت إضلالكم لو يضلونكم لسروا بذلك، ومعنى * (يضلونكم) * يردونكم إلى كفركم - قاله ابن عباس - أو يهلكونكم - قاله ابن جرير الطبري - أو يوقعونكم في الضلال ويلقون إليكم ما يشككونكم به في دينكم - قاله أبو علي - وهو قريب من الأول.
* (وما يضلون إلا أنفسهم) * الواو للحال، والمعنى على تقدير إرادة الإهلاك من الإضلال أنهم ما يهلكون إلا أنفسهم لاستحقاقهم بإيثارهم إهلاك المؤمنين سخط الله تعالى وغضبه، وإن كان المراد من الإهلاك الإيقاع في الضلال فيحتاج إلى تأويل لأن القوم ضالون فيؤدي إلى جعل الضال ضالا فيقال: إن المراد من الإضلال ما يعود من وباله إما على سبيل المجاز المرسل، أو الاستعارة أي ما يتخطاهم الإضلال ولا يعود وباله إلا إليهم لما أنهم يضاعف به عذابهم، أو المراد بأنفسهم أمثالهم المجانسون لهم، وفيه على ما قيل: الإخبار بالغيب فهو استعارة أو تشبيه بتقدير أمثال أنفسهم إذ لم يتهود مسلم - ولله تعالى الحمد - وقيل: إن معنى
198

إضلالهم أنفسهم إصرارهم على الضلال بما سولت لهم أنفسهم مع تمكنهم من اتباع الهدى بإيضاح الحجج، ولا يخلو عن شيء * (وما يشعرون) * أي وما يفطنون بكون الإضلال مختصا بهم لما اعترى قلوبهم من الغشاوة - قاله أبو علي - وقيل: * (وما يشعرون) * بأن الله تعالى يعلم المؤمنين بضلالهم وإضلالهم، وفي نفي الشعور عنهم مبالغة في ذمهم.
* (ياأهل الكتاب لم تكفرون بأيات الله وأنتم تشهدون) *.
أي لم تكفرون بما يتلى عليكم من آيات القرآن وأنتم تعلمون ما يدل على صحتها ووجوب الإقرار بها من التوراة والإنجيل، وقيل: المراد: لم تكفرون بما في كتبكم من الآيات الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم وأنتم تشهدون الحجج الدالة على ذلك، أو: لم تكفرون بما في كتبكم من أن الدين عند الله الإسلام وأنتم تشاهدون ذلك، أو: لم تكفرون بالحجج الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم وأنتم تشهدون أن ظهور المعجزة يدل على صدق مدعي الرسالة أو - أنتم تشهدون - إذا خلوتم بصحة دين الإسلام، أو: لم تكفرون بآيات الله جميعا وأنتم تعلمون حقيتها بلا شبهة بمنزلة علم المشاهدة.
* (ياأهل الكت‍ابلم تلبسون الحق بالب‍اطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) *.
* (ي‍اأهل الكت‍ابلم تلبسون الحق بالب‍اطل) * أي تسترونه به، أو تخلطونه به، والباء صلة، وفي المراد أقوال: أحدها: أن المراد تحريفهم التوراة والإنجيل - قاله الحسن وابن زيد - وثانيها: أن المراد إظهارهم الإسلام وإبطانهم النفاق - قاله ابن عباس وقتادة - وثالثها: أن المراد الإيمان بموسى وعيسى والكفر بمحمد عليهم الصلاة والسلام، ورابعها أن المراد ما يعلمونه في قلوبهم من حقية رسالته صلى الله عليه وسلم وما يظهرونه من تكذيبه، عن أبي علي وأبي مسلم، وقرىء * (تلبسون) * بالتشديد وهو بمعنى المخفف، وقرأ يحيى بن وثاب * (تلبسون) * وهو من لبست الثوب، والباء بمعنى مع، والمراد من اللبس الاتصاف بالشيء، والتلبس به وقد جاء ذلك فيما رواه البخاري في " الصحيح " عن عائشة " أنه صلى الله عليه وسلم قال: المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور " * (وتكتمون الحق) * أي نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما وجدتموه في كتبكم من نعته والبشارة به * (وأنتم تعلمون) * أنه حق، وقيل: تعلمون الأمور التي يصح بها التكليف وليس بشيء.
* (وقالت طآئفة من أهل الكت‍ابءامنوا بالذيأنزل على الذين ءامنوا وجه النهار واكفروا ءاخره لعلهم يرجعون) *.
* (ودت طائفة) * أي جماعة وسميت بها لأنه يسوى بها حلقة يطاف حولها * (من أهل الكت‍اب) * أي اليهود لبعضهم * (ءامنوا) * أي أظهروا الإيمان * (بالذي أنزل على الذين ءامنوا) * وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه * (وجه النهار) * أي أوله كما في قول الربيع بن زياد: من كان مسرورا بمقتل مالك * فليأت نسوتنا (بوجه نهار)
وسمي وجها لأنه أول ما يواجهك منه، وقيل: لأنه كالوجه في أنه أعلاه وأشرف ما فيه؛ وذكر الثعالبي أنه في ذلك استعارة معروفة * (واكفروا ءاخره لعلهم يرجعون) * بسبب هذا الفعل عن اعتقادهم حقية ما أنزل عليهم - قال الحسن والسدي - تواطأ اثنا عشر رجلا من أحبار يهود خبير، وقرى عرينة، وقال بعضهم لبعض: أدخلوا في دين محمد - أول النهار - باللسان دون الاعتقاد - واكفروا آخر النهار - وقولوا إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدا ليس بذاك وظهر لنا كذبه وبطلان دينه فإذا فعلتم ذلك شك
199

أصحابه في دينهم فقالوا: إنهم أهل الكتاب وهم أعلم به فيرجعون عن دينهم إلى دينكم، وقال مجاهد ومقاتل والكلبي: كان هذا في شأن القبلة لما حولت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود فقال كعب بن الأشرف لأصحابه آمنوا بالذي أنزل على محمد من أمر الكعبة وصلوا إليها أول النهار وارجعوا إلى قبلتكم آخره لعلهم يشكون، والتعبير بما أنزل بناءا على ما يقوله المؤمنون وإلا فهم يكذبون ولا يصدقون أن الله تعالى أنزل شيئا على المؤمنين، وظاهر الآية يدل على وقوع أمر بعضهم لبعض أن يقولوا ذلك، وأما امتثال الأمر من المأمور فمسكوت عن بيان وقوعه وعدمه، وعن بعضهم أن في الأخبار ما يدل على وقوعه
* (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتىاأحد مثل مآ أوتيتم أو يحآجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشآء والله واسع عليم) *.
* (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم) * في نظم الآية ومعناها أوجه لخصها الشهاب من كلام بعض المحققين، أحدها: أن التقدير: ولا تؤمنوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وهم المسلمون أوتوا كتابا سماويا كالتوراة ونبيا مرسلا كموسى - وبأن يحاجوكم - ويغلبوكم بالحجة يوم القيامة إلا لاتباعكم، وحاصله أنهم نهوهم عن إظهار هذين الأمرين للمسلمين لئلا يزدادوا تصلبا ولمشركي العرب لئلا يبعثهم على الإسلام وأتى - بأو - على وزان * (ولا تطع منهم آثما أو كفورا) * (الإنسان: 24) وهو أبلغ. والحمل على معنى حتى صحيح مرجوح، وأتى بقوله تعالى: * (قل إن الهدى هدى الله) * معترضا بين الفعل ومتعلقه، وفائدة الاعتراض الإشارة إلى أن كيدهم غير ضار لمن لطف الله تعالى به بالدخول في الإسلام، أو زيادة التصلب فيه. ويفيد أيضا أن الهدى هداه فهو الذي يتولى ظهوره * (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره) * (الصف: 8) فالمراد بالإيمان إظهاره كما ذكره الزمخشري، أو الإقرار اللساني كما ذكره الواحدي، والمراد من التابعين المتصلب منهم، وإلا وقع ما فروا منه، وثانيها: أن المراد: ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر الذي أتيتم به وجه النهار إلا لمن كان تابعا لدينكم أولا وهم الذين أسلموا منهم أي لأجل رجوعهم لأنه كان عندهم أهم وأوقع، وهم فيه أرغب وأطمع، وعند هذا تم الكلام، ثم قيل: * (إن الهدي هدى الله) * أي فمن يهدي الله فلا مضل له ويكون قوله تعالى: * (أن يؤتى) * الخ على هذا معللا لمحذوف أي - لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم - ولما يتصل به من الغلبة بالحجة يوم القيامة دبرتم ما دبتم. وحاصله أن داعيكم إليه ليس إلا الحسد، وإنما أتى - بأو - تنبيها على استقلال كل من الأمرين في غيظهم وحملهم على الحسد حتى دبروا ما دبروا ولو أتى بالواو لم تقع هذا الموقع للعلم بلزوم الثاني للأول لأنه إذا كان ما أوتوا حقا غلبوا يوم القيامة مخالفهم لا محالة فلم يكن فيه فائدة زائدة، وأما - أو - فتشعر بأن كلا مستقل في الباعثية على الحسد والاحتشاد في التدبير، والحمل على معنى حتى ليس له موقع يروع السامع وإن كان وجها ظاهرا.
ويؤيد هذا الوجه قراءة ابن كثير - أأن يؤتى - بزيادة همزة الاستفهام للدلالة على انقطاعه عن الفعل واستقلاله بالإنكار، وفيه تقييد الإيمان بالصادر أول النهار بقرينة إن الكلام فيه، وتخصيص من تبع بمسلميهم بقرينة المضي فإن غيرهم متبع دينهم الآن أيضا، وعن الزمخشري أن * (أن يؤتى) * الخ من جملة المقول كأنه قيل: قل لهم هذين القولين ومعناه أكد عليهم أن الهدى ما فعل الله تعالى من إيتاء الكتاب غيركم، وأنكر عليهم أن يمتعضوا من أن يؤتى أحد مثله - كأنه قيل - إن الهدى هدى الله، وقل - لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم - قلتم ما قلتم وكدتم ما كدتم، وثالثها: أن يقرر ولا تؤمنوا على ما قرر عليه الثاني، ويجعل * (أن يؤتى) * خبر * (إن) * و * (هدى الله) * بدل من اسمها - وأو - بمعنى حتى على أنها غاية سببية، وحينئذ لا ينبغي أن يخص عند ربكم بيوم القيامة بل بالمحاجة الحقة كما أشير إليه في البقرة، ولو حملت على العطف لم يلتئم الكلام، ورابعها: أن يكون * (ولا تؤمنوا إلا لمن) *
200

الخ باقيا على إطلاقه أي واكفروا آخره واستمروا على ما كنتم فيه من اليهودية ولا تقروا لأحد إلا لمن هو على دينكم وهو من جملة مقول الطائفة ويكون * (قل إن الهدى) * الخ أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك في جوابهم، على معنى: قل إن الهدى هدى الله فلا تنكروا أن يؤتى حتى تحاجوا؛ وقرينة الإضمار إن * (
ولا تؤمنوا) * الخ تقرير على اليهودية وأنه لا دين يساويها فإذا أمر صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم علم أن ما أنكروه غير منكر وأنه كائن، وحمل - أو - على معناها الأصلي حينئذ أيضا حسن لأنه تأييد للإيتاء وتعريض بأن من أوتي مثل ما أوتوا هم الغالبون، وقرىء - إن يؤتى - بكسر همزة إن على أنها نافية - أي قولوا لهم ما يؤتى - وهو خطاب لمن أسلم منهم رجاء العود، والمعنى لا إيتاء ولا محاجة - فأو - بمعنى حتى، وقدر قولوا توضيحا وبيانا لأنه ليس استئنافا تعليلا، وقوله تعالى: * (قل إن الهدى) * الخ اعتراض ذكر قبل أن يتم كلامهم للاهتمام ببيان فساد ما ذهبوا إليه؛ وأرجح الأوجه الثاني لتأيده بقراءة ابن كثير وأنه أفيد من الأول وأقل تكلفا من باقي الأوجه، وأقرب إلى المساق انتهى.
وأقول: ما ذكره في الوجه الرابع من تقرير فلا تنكروا أن يؤتى الخ هو قول قتادة والربيع والجبائي لكنهم لم يجعلوا - أو - بمعنى حتى وهو أحد الاحتمالين اللذين ذكرهما وكذا القول بإبدال أن يؤتى من الهدى قول السدي وابن جريج إلا أنهم قدروا - لا - بين أن ويؤتى، واعترض عليهما أبو العباس المبرد بأن - لا - ليست مما تحذف ههنا، والتزم تقدير مضاف شاع تقديره في أمثال ذلك وهو كراهة، والمعنى إن الهدى كراهة - أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم - أي ممن خالف دين الإسلام لأن الله لا يهدي من هو كاذب كفار فهدى الله تعالى بعيد من غير المؤمنين، ولا يخفى أنه معنى متوعر، وليس بشيء، ومثله ما قاله قوم من أن * (أن يؤتى) * الخ تفسير للهدى، وأن المؤتى هو الشرع وأن * (أو يحاجوكم) * عطف على * (أوتيتم) *، وأن ما يحاج به العقل وأن تقدير الكلام أن هدى الله تعالى ما شرع أو ما عهد به في العقل، ومن الناس من جعل الكلام من أول الآية إلى آخرها من الله تعالى خطابا للمؤمنين قال: والتقدير ولا تؤمنوا أيها المؤمنون إلا لمن تبع دينكم وهو دين الإسلام ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الدين فلا نبي بعد نبيكم عليه الصلاة والسلام ولا شريعة بعد شريعتكم إلى يوم القيامة ولا تصدقوا بأن يكون لأحد حجة عليكم عند ربكم لأن دينكم خير الأديان، وجعل * (قل إن الهدى هدى الله) * اعتراضا للتأكيد وتعجيل المسرة - ولا يخفى ما فيه - واختيار البعض له والاستدلال عليه بما قاله الضحاك - إن اليهود قالوا: إنا نحج عند ربنا من خالفنا في ديننا فبين الله تعالى لهم أنهم هم المدحضون المغلوبون وأن المؤمنين هم الغالبون - ليس بشيء لأن هذا البيان لا يتعين فيه هذا الحمل كما لا يخفى على ذي قلب سليم، والضمير المرفوع من * (يحاجوكم) * على كل تقدير عائد إلى * (أحد) * لأنه في معنى الجمع إذ المراد به غير أتباعهم.
واستشكل ابن المنير قطع * (أن يؤتى) * عن * (لا تؤمنوا) * على ما في بعض الأوجه السابقة بأنه يلزم وقوع (أحد) في الواجب لأن الاستفهام هنا إنكار، واستفهام الإنكار في مثله إثبات إذ حاصله أنه أنكر عليهم ووبخهم على ما وقع منهم وهو إخفاء الإيمان بأن النبوة لا تخص بني إسرائيل لأجل العلتين المذكورتين فهو إثبات محقق، ثم قال: ويمكن أن يقال: روعيت صيغة الاستفهام وإن لم يكن المراد حقيقته فحسن دخول (أحد) في سياقه لذلك - وفيه تأمل - فتأمل وتدبر، فقد قال الواحدي: إن هذه الآية من مشكلات القرآن وأصعبه تفسيرا * (قل إن الفضل بيد الله) * رد وإبطال لما زعموه بأوضح حجة، والمراد من الفضل الإسلام - قاله ابن جريج - وقال غيره: النبوة،
201

وقيل: الحجج التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، وقيل: نعم الدين والدنيا ويدخل فيه ما يناسب المقام دخولا أوليا * (يؤتيه من يشاء) * أي من عباده * (والله واسع) * رحمة، وقيل: واسع القدرة يفعل ما يشاء * (عليم) * بمصالح العباد، وقيل: يعلم حيث يجعل رسالته.
* (يختص برحمته من يشآء والله ذو الفضل العظيم) *.
* (يختص برحمته من يشاء) * قال الحسن: هي النبوة، وقال ابن جريج: الإسلام والقرآن، وقال ابن عباس هو وكثرة الذكر لله تعالى، والباء داخلة على المقصور وتدخل على المقصور عليه وقد نظم ذلك بعضهم فقال: والباء بعد الاختصاص يكثر * دخولها على الذي قد قصروا
وعكسه مستعمل وجيد * ذكره الحبر الإمام السيد
* (والله ذو الفضل العظيم) * قال ابن جبير: يعني الوافر.
* (ومن أهل الكت‍ابمن إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قآئما ذالك بأنهم قالوا ليس علينا فى الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) *.
* (ومن أهل الكت‍ابمن إن تأمنه بقنطار يؤده إليك) * شروع في بيان نوع آخر من معايبهم، و * (تأمنه) * من أمنته بمعنى ائتمنته والباء قيل: بمعنى على، وقيل: بمعنى في أي في حفظ قنطار والقنطار تقدم - قنطار من الكلام فيه - يروى أن عبد الله بن سلام استودعه قرشي ألفا ومائتي أوقية ذهبا فأداه إليه. * (ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك) * كفنحاص بن عازوراء فإنه يروى أنه استودعه قرشي آخر دينارا فجحده، وقيل: المأمون على الكثير النصارى إذ الغالب فيهم الأمانة، والخائنون في القليل اليهود إذ الغالب عليهم الخيانة، وروي هذا عن عكرمة، و - الدينار - لفظ أعجمي وياؤه بدل عن نون وأصله دنار فأبدل أول المثلين ياءا لوقوعه بعد كسرة، ويدل على الأصل جمعه على دنانير فإن الجمع يرد الشيء إلى أصله، وهو في المشهور أربعة وعشرون قيراطا والقيراط ثلاث حبات من وسط الشعير فمجموعه اثنتان وسبعون حبة قالوا: ولم يختلف جاهلية ولا إسلاما، ومن الغريب ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مالك بن دينار أنه قال: إنما سمي الدينار دينارا لأنه - دين ونار - ومعناه أن من أخذه بحقه فهو دينه، ومن أخذه بغير حقه فله النار، ولعله إبداء إشارة من هذا اللفظ لا أنه في نفس الأمر كذلك كما لا يخفى على - مالك درهم من عقل فضلا عن مالك دينار - وقرىء * (يؤده) * بكسر الهاء مع وصلها بياء في اللفظ وبالكسر من غير ياء، وبالإسكان إجراءا للوصل مجرى الوقف وبضم الهاء ووصلها بواو في اللفظ وبضمها من غير واو.
* (إلا ما دمت عليه قائما) * استثناء من أعم الأحوال أو الأوقات أي: لا يؤده إليك في حال من الأحوال، أو في وقت من الأوقات إلا في حال دوام قيامك، أو في وقت دوام قيامك، والقيام مجاز عن المبالغة في المطالبة، وفسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالإلحاح، والسدي بالملازمة والاجتماع معه، والحسن بالملازمة والتقاضي، والجمهور على ضم دال - دمت - فهو عندهم كقلت، وقرىء بكسر الدال فهو حينئذ على وزان خفت وهو لغة، والمضارع على اللغة الأولى: يدوم كيقوم، وعلى الثانية: يدام كيخاف * (ذالك) * أي ترك الأداء المدلول عليه بقوله سبحانه وتعالى: * (لا يؤده) *. * (بأنهم قالوا) * ضمير الجمع عائد على * (من) * في * (من إن تأمنه بدينار) * وجمع حملا على المعنى والباء للسببية أي بسبب قولهم * (ليس علينا في الأميين سبيل) * أي ليس علينا فيما أصبناه من أموال العرب عتاب وذم.
202

أخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: بايع اليهود رجال من المسلمين في الجاهلية فلما أسلموا تقاضوهم عن بيوعهم فقالوا: ليس علينا أمانة ولا قضاء لكم عندنا لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم فقال الله تعالى: * (ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) * أي أنهم كاذبون، وقال الكلبي: قالت اليهود: الأموال كلها كانت لنا فما في أيدي العرب منها فهو لنا وأنهم ظلمونا وغصبونا فلا إثم علينا في أخذ أموالنا منهم، وأخرج ابن المنذر وغيره عن سعيد بن جبير قال: " لما نزلت * (ومن أهل الكتاب) * إلى قوله سبحانه: * (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل) * قال النبي صلى الله عليه وسلم: كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر " والجار والمجرور متعلق بيقولون، والمراد يفترون، ويجوز أن يكون حالا من الكذب مقدما عليه، ولم يجوز أبو البقاء تعلقه به لأن الصلة لا تتقدم على الموصول، وأجازه غيره لأنه كالظرف يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره.
* (بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين) *.
* (بلى) * جواب لقولهم * (ليس علينا في الأميين سبيل) * (آل عمران: 75)، وإيجاب لما نفوه، والمعنى بلى عليهم في الأميين سبيل. * (من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين) * استئناف مقرر للجملة التي دلت عليها * (بلى) * حيث أفادت بمفهومها المخالف ذم من لم يف بالحقوق مطلقا فيدخلون فيه دخولا أوليا، و * (من) * إما موصولة أو شرطية، و * (أوفى) * فيه ثلاث لغات: إثبات الهمزة وحذفها مع تخفيف الفاء وتشديدها، والضمير في - عهده - عائد على * (من) * وقيل: يعود على * (الله) * فهو على الأول: مصدر مضاف لفاعله، وعلى الثاني: مصدر مضاف لمفعوله أو لفاعله ولا بد من ضمير يعود على * (من) * من الجملة الثانية، فإما أن يقام الظاهر مقام المضمر في الربط إن كان * (المتقين) * من * (أوفى) * وإما أن يجعل عمومه وشموله رابطا إن كان * (المتقين) * عاما؛ وإنما وضع الظاهر موضع الضمير على الأول تسجيلا على الموفين بالعهد بالتقوى وإشارة إلى علة الحكم ومراعاة لرؤوس الآي، ورجح الأول بقوة الربط فيه، وقال ابن هشام: الظاهر أنه لا عموم وأن * (المتقين) * مساو لمن تقدم ذكره والجواب لفظا، أو معنى محذوف تقديره يحبه الله، ويدل عليه * (فإن الله) * الخ، واعترضه الحلبي بأنه تكلف لا حاجة إليه، وقوله: الظاهر أنه لا عموم في حيز المنع فإن ضمير * (بعهده) * إذا كان لله فالالتفات عن الضمير إلى الظاهر لإفادة العموم كما هو المعهود في أمثاله قاله بعض المحققين.
* (إن الذين يشترون بعهد الله وأيم‍انهم ثمنا قليلا أول‍ائك لا خل‍اق لهم فى الاخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القي‍امة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) *.
* (إن الذين يشترون بعهد الله وأيم‍انهم ثمنا قليلا) * أخرج الستة وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقطع بها مال امرىء مسلم لقي الله وهو عليه غضبان فقال الأشعث بن قيس: في والله كان ذلك كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألك بينة؟ قلت: لا فقال لليهودي: احلف فقلت: يا رسول الله إذا يحلف فيذهب مالي فأنزل الله تعالى * (إن الذين) * " الخ. وأخرج البخاري وغيره عن عبد الله بن أبي أوفى أن رجلا أقام سلعة له في السوق فحلف بالله لقد أعطى بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت هذه الآية. وأخرج أحمد وابن جرير - واللفظ له - عن عدي بن عميرة قال: كان بين امرىء القيس ورجل من حضرموت
203

خصومة فارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال للحضرمي: بينتك وإلا فيمينه قال: يا رسول الله إن حلف ذهب بأرضي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها حق أخيه لقي الله تعالى وهو عليه غضبان فقال امرؤ القيس: يا رسول الله فما لمن تركها وهو يعلم أنها حق؟ قال: الجنة قال: فإني أشهدك أني قد تركتها " فنزلت، وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال: نزلت هذه الآية في أبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وحي بن أخطب حرفوا التوراة وبدلوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكم الأمانات وغيرهما وأخذوا على ذلك رشوة، وروي غير ذلك ولا مانع من تعدد سبب النزول كما حققوه.
والمراد - بيشترون - يستبدلون، وبالعهد أمر الله تعالى، وما يلزم الوفاء به، وقيل: ما عهده إلى اليهود في التوراة من أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: ما في عقل الإنسان من الزجر عن الباطل والانقياد إلى الحق، و - بالأيمان - الأيمان الكاذبة، و - بالثمن القليل - الأعواض النزرة أو الرشا، ووصف ذلك بالقلة لقلته في جنب ما يفوتهم من الثواب ويحصل لهم من العقاب * (أول‍ائك لا خل‍اق لهم في الآخرة) * أي لا نصيب لهم من نعيمها بسبب ذلك الاستبدال * (ولا يكلمهم الله) * أي بما يسرهم بل بما يسوؤهم وقت الحساب لهم - قاله الجبائي - أو لا يكلمهم بشيء أصلا وتكون المحاسبة بكلام الملائكة لهم بأمر الله تعالى إياهم استهانة بهم، وقيل: المراد إنهم لا ينتفعون بكلمات الله تعالى وآياته ولا يخفى بعده، واستظهر أن يكون هذا كناية عن غضبه سبحانه عليهم. * (ولا ينظر إليهم يوم القي‍امة) * أي لا يعطف عليهم ولا يرحمهم كما يقول القائل - أنظر إلي - يريد ارحمني، وجعله الزمخشري مجازا عن الاستهانة بهم والسخط عليهم، وفرق بين استعماله فيمن يجوز عليه النظر المفسر بتقليب الحدقة وفيمن لا يجوز عليه ذلك بأن أصله فيمن يجوز عليه الكناية لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه، ثم كثر حتى صار عبارة عن
الاعتداد والإحسان وإن لم يكن ثم نظر، ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجردا لمعنى الإحسان مجازا عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر، وفي " الكشف " إن في هذا تصريحا بأن الكناية يعتبر فيها صلوح إرادة الحقيقة وإن لم ترد وأن الكنايات قد تشتهر حتى لا تبقى تلك الجهة ملحوظة وحينئذ تلحق بالمجاز ولا تجعل مجازا إلا بعد الشهرة لأن جهة الانتقال إلى المعنى المجازي أولا غير واضحة بخلاف المعنى المكنى عنه، وبهذا يندفع ما ذكره غير واحد من المخالفة بين قولي الزمخشري في جعل بسط اليد في قوله تعالى: * (بل يداه مبسوطتان) * (المائدة: 64) مجازا عن الجود تارة وكناية أخرى إذ حاصله أنه إن قطع النظر عن المانع الخارجي كان كناية ثم ألحق بالمجاز فيطلق عليه أنه كناية باعتبار أصله قبل الإلحاق ومجاز بعده فلا تناقض بينهم كما توهموه فتدبر. والظرف متعلق بالفعلين وفيه تهويل للوعيد.
* (ولا يزكيهم) * أي ولا يحكم عليهم بأنهم أزكياء ولا يسميهم بذلك بل يحكم بأنهم كفرة فجرة - قاله القاضي - وقال الجبائي: لا ينزلهم منزلة الأزكياء، وقيل: لا يطهرهم عن دنس الذنوب والأوزار بالمغفرة * (ولهم عذاب أليم) * أي مؤلم موجع، والظاهر أن ذلك في القيامة إلا أنه لم يقيد به اكتفاءا بالأول، وقيل: إنه في الدنيا بالإهانة وضرب الجزية بناءا على أن الآية في اليهود.
* (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكت‍ابلتحسبوه من الكت‍ابوما هو من الكت‍ابويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) *.
* (وإن منهم لفريقا) * أي إن من أهل الكتاب الخائنين لجماعة * (يلوون ألسنتهم بالكت‍اب) * أي يحرفونه - قاله مجاهد - وقيل: أصل - اللي - الفتل من قولك: لويت يده إذا فتلتها، ومنه لويت الغريم إذا مطلته
204

حقه قال الشاعر:
تطيلين لياني وأنت (ملية) * وأحسن يا ذات الوشاح التقاضيا
وفي الخبر " لي الواجد ظلم " فالمعنى يفتلون ألسنتهم في القراءة بالتحريف في الحركات ونحوها تغييرا يتغير به المعنى ويرجع هذا في الآخرة إلى ما قاله مجاهد، وقريب منه ما قيل: إن المراد يميلون الألسنة بمشابه الكتاب، و - الألسنة - جمع لسان، وذكر ابن الشحنة أنه يذكر ويؤنث. ونقل عن أبي عمرو بن العلاء أن من أنثه جمعه على ألسن، ومن ذكره جمعه على ألسنة، وعن الفراء أنه قال: اللسان بعينه لم أسمعه من العرب إلا مذكرا ولا يخفى أن المثبت مقدم على النافي؛ والباء صلة أو للآلة أو للظرفية أو للملابسة، والجار والمجرور حال من الألسنة أي ملتبسة بالكتاب، وقرأ أهل المدينة - يلوون - بالتشديد فهو على حد * (لووا رءوسهم) * (المنافقون: 5) وعن مجاهد وابن كثير - يلون - على قلب الواو المضمومة همزة ثم تخفيفها بحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها كذا قيل، واعترض عليه بأنه لو نقلت ضمة الواو لما قبلها فحذفت لالتقاء الساكنين كفى في التوجيه فأي حاجة إلى قلب الواو همزة، ورد بأنه فعل ذلك ليكون على القاعدة التصريفية بخلاف نقل حركة الواو ثم حذفها على ما عرف في التصريف، ونظر فيه بعض المحققين بأن الواو المضمومة إنما تبدل همزة إذا كانت ضمتها أصلية فهو مخالف للقياس أيضا. نعم قرىء - يلؤون - بالهمز في الشواذ وهو يؤيده، وعلى كل ففيه اجتماع إعلالين ومثله كثير، وأما جعله من - الولي - بمعنى القرب أي يقربون ألسنتهم بميلها إلى المحرف فبعيد من الصحيح قريب إلى المحرف.
* (لتحسبوه من الكت‍اب) * أي لتظنوا أيها المسلمون أن المحرف المدلول عليه - باللي - أو المشابه من كتاب الله تعالى المنزل على بعض أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، وقرىء (ليحسبوه) بالياء والضمير أيضا للمسلمين. * (وما هو من الكت‍اب) * ولكنه من قبل أنفسهم * (ويقولون هو من عند الله) * أي ويزعمون صريحا غير مكتفين بالتورية والتعريض أن المحرف أو المشابه نازل من عند الله * (وما هو من عند الله) * أي وليس هو نازلا من عند الله تعالى، و - الواو - للحال والجملة حال من ضمير المبتدأ في الخبر، وفي جملة * (ويقولون) * الخ تأكيد للنفي الذي قبلها وليس الغرض التأكيد فقط وإلا لما توجه العطف بل التشنيع أيضا بأنهم لم يكتفوا بذلك التعريض حتى ارتكبوا هذا التصريح وبهذا حصلت المغايرة المقتضية للعطف، والإظهار في موضع الإضمار لتهويل ما قدموا عليه، واستدل الجبائي والكعبي بالآية على أن فعل العبد ليس بخلق الله تعالى وإلا صدق أولئك المحرفون بقولهم * (هو من عند الله) * تعالى لكن الله ورد بأن القوم ما ادعوا أن التحريف من عند الله وبخلقه وإنما ادعوا أن المحرف منزل من عند الله، أو حكم من أحكامه فتوجه تكذيب الله تعالى إياهم إلى هذا الذي زعموا. والحاصل أن المقصود بالنفي كما أشرنا إليه نزوله من عنده سبحانه وهو أخص من كونه من فعله وخلقه، ونفي الخاص لا يستلزم نفي العام فلا يدل على مذهب المعتزلة القائلين بأن أفعال العباد مخلوقة لهم لا لله تعالى:
* (ويقولون على الله الكذب) * أي في نسبتهم ذلك إلى الله تعالى تعريضا وتصريحا * (وهم يعلمون) * أنهم كاذبون عليه سبحانه وهو تسجيل عليهم بأن ما افتروه عن عمد لا خطأ، وقيل: يعلمون ما عليهم في ذلك من العقاب، روى الضحاك عن ابن عباس أن الآية نزلت في اليهود والنصارى جميعا وذلك أنهم حرفوا التوراة والإنجيل وألحقوا بكتاب الله تعالى ما ليس منه، وروى غير واحد أنها في طائفة من اليهود، وهم كعب بن الأشرف
205

ومالك وحيي بن أخطب وأبو ياسر وشعبة بن عمرو الشاعر غيروا ما هو حجة عليهم من التوراة.
واختلف الناس في أن المحرف هل كان يكتب في التوراة أم لا؟ فذهب جمع إلى أنه ليس في التوراة سوى كلام الله تعالى وأن تحريف اليهود لم يكن إلا تغييرا وقت القراءة أو تأويلا باطلا للنصوص، وأما أنهم يكتبون ما يرومون في التوراة على تعدد نسخها فلا، واحتجوا لذلك بما أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه أنه قال: إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى لم يغير منهما حرف ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم ويقولون: إن ذلك من عند الله وما هو من عند الله فأما كتب الله تعالى فإنها محفوظة لا تحول وبأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لليهود إلزاما لهم: " ائتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " وهم يمتنعون عن ذلك فلو كانت مغيرة إلى ما يوافق مرامهم ما امتنعوا بل وما كان يقول لهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه يعود على مطلبه الشريف بالإبطال.
وذهب آخرون إلى أنهم بدلوا وكتبوا ذلك في نفس كتابهم واحتجوا على ذلك بكثير من الظواهر ولا يمنع من ذلك تعدد النسخ إما لاحتمال الطواطؤ أو فعل ذلك في البعض دون البعض وكذا لا يمنع منه قول الرسول لهم ذلك لاحتمال علمه صلى الله عليه وسلم ببقاء بعض ما يفي بغرضه سالما عن التغيير إما لجهلهم بوجه دلالته، أو لصرف الله تعالى إياهم عن تغييره، وأما ما روي عن وهب فهو على تقدير ثبوته عنه يحتمل أن يكون قولا عن اجتهاد، أو ناشئا عن عدم استقراء تام، ومما يؤيد وقوع التغيير في كتب الله تعالى وأنها لم تبق كيوم نزلت وقوع التناقض في الأناجيل وتعارضها وتكاذبها وتهافتها ومصادمتها بعضها ببعض، فأنها أربعة أناجيل: الأول: " إنجيل متى " وهو من الاثني عشر الحواريين - وإنجيله باللغة السريانية - كتبه بأرض فلسطين بعد رفع المسيح إلى السماء بثماني سنين وعدة إصحاحاته ثمانية وستون إصحاحا، والثاني: " إنجيل مرقس " وهو من السبعين - وكتب إنجيله باللغة الفرنجية بمدينة رومية بعد رفع المسيح باثنتي عشرة سنة - وعدة إصحاحاته ثمانية وأربعون إصحاحا، والثالث: " إنجيل لوقا " وهو من السبعين أيضا - كتب إنجيله باللغة اليونانية بمدينة الإسكندرية بعد ذلك - وعدة إصحاحاته ثلاثة وثمانون إصحاحا، والرابع: " إنجيل يوحنا " وهو حبيب المسيح - كتب إنجيله بمدينة إقسس من بلاد رومية بعد رفع المسيح بثلاثين سنة - وعدة إصحاحاته في النسخ القبطية ثلاثة وثلاثون إصحاحا، وقد تضمن كل إنجيل من الحكايات والقصص ما أغفله الآخر، واشتمل على أمور وأشياء قد اشتمل الآخر على نقيضها أو ما يخالفها، وفيها ما تحكم الضرورة بأنه ليس من كلام الله تعالى أصلا، فمن ذلك أن متى ذكر أن المسيح صلب وصلب معه لصان أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله وأنهما جميعا كانا يهزءان بالمسيح مع اليهود ويعيرانه، وذكر لوقا خلاف ذلك فقال: إن أحدهما كان يهزأ به والآخر يقول له: أما تتقي الله تعالى أما نحن فقد جوزينا وأما هذا فلم يعمل قبيحا ثم قال للمسيح: يا سيدي أذكرني في ملكوتك فقال: حقا إنك تكون معي اليوم في الفردوس ولا يخفى أن هذا يؤول إلى التناقض فإن اللصين عند متى كافران وعند لوقا أحدهما مؤمن والآخر كافر، وأغفل هذه القصة مرقس ويوحنا، ومنه أن لوقا ذكر أنه قال يسوع: إن ابن الإنسان لم يأت ليهلك نفوس الناس ولكن ليحيى وخالفه أصحابه وقالوا بل قال: إن ابن الإنسان لم يأت ليلقي على الأرض سلامة لكن سيفا ويضرم فيها نارا، ولا شك أن هذا تناقض، أحدهما: يقول جاء رحمة للعالمين، والآخر يقول: جاء نقمة على الخلائق أجمعين، ومن ذلك أن متى قال: قال يسوع للتلاميذ الإثني عشر: أنتم الذين تكونون في الزمن الآتي جلوسا على إثني عشر
206

كرسيا تدينون إثني عشر سبط إسرائيل فشهد للكل بالفوز والبر عامة في القيامة ثم نقض ذلك متى وغيره وقال: مضى واحد من التلاميذ الإثني عشر وهو يهوذا صاحب صندوق الصدقة فارتشى على يسوع بثلاثين درهما وجاء بالشرطي فسلم إليهم يسوع فقال يسوع: الويل له خير له أن لا يولد، ومنه أن متى أيضا ذكر أنه لما حمل يسوع إلى فيلاطس القائد قال: أي شر فعل هذا فصرخ اليهود وقالوا: يصلب يصلب فلما رأى عزمهم وأنه لا ينفع فيهم أخذ ماءا وغسل يديه وقال: أنا برىء من دم هذا الصديق وأنتم أبصر، وأكذب يوحنا ذلك فقال: لما حمل يسوع إليه قال لليهود: ما تريدون؟ قالوا: يصلب فضرب يسوع ثم سلمه إليهم إلى غير ذلك مما يطول، فإذا وقع هذا التغيير والتحريف في أصول القوم ومتقدميهم فما ظنك في فروعهم ومتأخريهم.
وإذا كان في الأنابيب حيف * وقع الطيش في صدور الصعاد
ويا ليت شعري هل تنبه ابن منبه لهذا أم لم يتنبه فقال: إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى سبحان الله هذا من العجب العجاب؟!.
* (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكت‍ابوالحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لى من دون الله ول‍اكن كونوا رب‍انيين بما كنتم تعلمون الكت‍ابوبما كنتم تدرسون) *.
* (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكت‍ابوالحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله) * تنزيه لأنبياء الله تعالى عليهم الصلاة والسلام إثر تنزيه الله تعالى عن نسبة ما افتراه أهل الكتاب إليه، وقيل: تكذيب ورد على عبدة عيسى عليه السلام. وأخرج ابن إسحق وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: " قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام: أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس: أو ذاك تريد منا يا محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني " فأنزل الله تعالى الآية. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: بلغني أن رجلا قال: " يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال: لا ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله تعالى " فنزلت، وأخرج ابن أبي حاتم قال: " كان ناس من يهود يتعبدون الناس من دون ربهم بتحريفهم كتاب الله تعالى عن موضعه فقال: ما كان لبشر " الخ، والمعنى ما يصح، وقيل: ما ينبغي، وقيل لا يجوز لأحد، وعبر بالبشر إيذانا بعلة الحكم فإن البشرية منافية للأمر الذي أسنده الكفرة إلى أولئك الكرام عليهم الصلاة والسلام.
والجار خبر مقدم - لكان - والمنسبك من * (أن) * والفعل بعد اسمها ولا بد لاستقامة المعنى من ملاحظة العطف إذ لو سكت عنه لم يصح لأن الله تعالى قد آتى كثيرا من البشر الكتاب وأخويه، وعطف الفعل على منصوب أن - بثم - تعظيما لهذا القول فإنه إذا انتفى بعد مهلة كان انتفاؤه بدونها أولى وأحرى فكأنه قيل: إن هذا الإيتاء العظيم لا يجامع هذا القول أصلا وإن كان بعد مهلة من هذا الإنعام والحكم بمعنى الحكمة، وقد تقدم معناها، و - العباد - جمع عبد قال القاضي: وهو هنا من العبادة ولم يقل عبيدا لأنه من العبودية وهي لا تمتنع أن تكون لغير الله تعالى، ولهذا يقال: هؤلاء عبيد زيد ولا يقال: عباده، والظرف الذي بعده متعلق بمحذوف وقع صفة له أي عبادا كائنين لي و * (من دون الله) * متعلق بلفظ * (عبادا) * لما فيه من معنى الفعل، ويجوز أن يكون صفة ثانية وأن يكون حالا لتخصيص النكرة بالوصف أي متجاوزين الله تعالى إشراكا وإفرادا - كما قال الجبائي - فإن التجاوز متحقق
207

فيهما حتما، ثم إن هذا الإيتاء في الآية حقيقة على الروايتين الأوليين مجاز على الرواية الأخيرة كما لا يخفى.
* (ول‍اكن كونوا رب‍انيين) * إثبات لما نفى سابقا، وهو القول المنصوب بأن كأنه قيل: ما كان لذلك البشر أن يقول ذلك لكن يقول كونوا ربانيين، فالفعل هنا منصوب
أيضا عطفا عليه، وجوز رفعه على المعنى لأنه في معنى لا يقول، وقيل: يصح عدم تقدير القول على معنى لا تكونوا قائلين لذلك ولكن كونوا ربانيين وفسر علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس الرباني بالفقيه العالم، وقتادة والسدي بالعالم الحكيم، وابن جبير بالحليم التقي، وابن زيد بالمدبر أمر الناس - وهي أقوال متقاربة - وهو لفظ عربي لا سرياني على الصحيح. وزعم أبو عبيدة أن العرب لا تعرفه، وهو منسوب إلى الرب كإلهي والألف والنون يزادان في النسب للمبالغة كثيرا - كلحياني - لعظيم اللحية، والجماني لوافر الجمة، ورقباني بمعنى غليظ الرقبة، وقيل: إنه منسوب إلى ربان صفة كعطشان بمعنى مربي.
* (بما كنتم تعلمون الكت‍ابوبما كنتم تدرسون) * الباء السببية متعلقة - بكونوا - أي كونوا كذلك بسبب مثابرتكم على تعليمكم الكتاب ودراستكم له، والمطلوب أن لا ينفك العلم عن العمل إذ لا يعتد بأحدهما بدون الآخر، وقيل: متعلقة - بربانيين - لأن فيه معنى الفعل، وقيل: بمحذوف وقع صفة له - والدراسة - التكرار يقال: درس الكتاب أي كرره، وتطلق على القراءة، وتكرير * (بما كنتم) * للإشعار باستقلال كل من استمرار التعليم، واستمرار القراءة المشعر به جعل خبر (كان) مضارعا بالفضل، وتحصيل الربانية، وقدم تعليم الكتاب على دراسته لوفور شرفه عليها، أو لأن الخطاب الأول: لرؤسائهم، والثاني: لمن دونهم، وقيل: لأن متعلق التعليم الكتاب بمعنى القرآن، ومتعلق الدراسة الفقه - وفيه بعد بعيد - وإن أشعر به كلام بعض السلف. وقرأ نافع وابن كثير ويعقوب وأبو عمرو ومجاهد * (تعلمون) * بمعنى عالمين، وقرىء * (تدرسون) * بالتشديد من التدريس، وتدرسون من الإدراس بمعناه، ومجىء أفعل بمعنى فعل كثير، وجوز كون القراءة المشهورة أيضا بهذا المعنى على أن يكون المراد تدرسونه للناس.
* (ولا يأمركم أن تتخذوا المل‍ائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) *.
* (ولا يأمركم أن تتخذوا المل‍ائكة والنبيين أربابا) * قرأ ابن عامر وحمزة وعاصم ويعقوب - ولا يأمركم - بالنصب عطفا على * (يقول) * (آل عمران: 79)، * (ولا) * إما مزيدة لتأكيد معنى النفي الشائع في الاستعمال سيما عند طول العهد وتخلل الفصل، والمعنى ما كان لبشر أن يؤتيه الله تعالى ذلك ويرسله للدعوة إلى اختصاصه بالعبادة وترك الأنداد، ثم يأمر الناس بأن يكونوا عبادا له، ويأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا فهو كقولك: ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ولا يستخف بي، وإما غير زائدة بناءا على أنه صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن عبادة الملائكة والمسيح وعزير عليهم السلام فلما قيل له: أنتخذك ربا؟ قيل لهم: ما كان لبشر أن يتخذه الله تعالى نبيا ثم يأمر الناس بعبادته وينهاهم عن عبادة الملائكة والأنبياء مع أن من يريد أن يستعبد شخصا يقول له: ينبغي أن تعبد أمثالي وأكفائي وعلى هذا يكون المقصود - من عدم الأمر - النهي وإن كان أعم منه لكونه أمس بالمقصود وأوفق للواقع، وقرأ باقي السبعة * (ولا يأمركم) * بالرفع على الاستئناف، ويحتمل الحالية، وقيل: والرفع على الاستئناف أظهر، وينصره قراءة * (ولن يأمركم) * ووجهت الأظهرية بالخلو عن تكلف جعل عدم الأمر بمعنى النهي، وبأن العطف يستدعي تقديمه على * (لكن) * وكذا الحالية أيضا.
208

وقرىء بإسكان الراء فرارا من توالي الحركات وعلى سائر القراآت ضمير الفاعل عائد على - بشر - وجوز عوده في بعضها على الله تعالى، وجوز الأمران أيضا في قوله تعالى: * (أيأمركم بالكفر) * والاستفهام فيه للإنكار وكون مرجع الضمير في أحد الاحتمالين نكرة يجعله عاما
* (بعد إذ أنتم مسلمون) * استدل به الخطيب على أن الآية نزلت في المسلمين القائلين " أفلا نسجد لك؟ " بناءا على الظاهر، ووجه كون الخطاب للكفار وأن الآية نزلت فيهم بأنه يجوز أن يقال لأهل الكتاب: * (أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) * أي منقادون مستعدون للدين الحق إرخاءا للعنان واستدراجا، والقول - بأن كل مصدق بنبيه مسلم ودعواه أنه أمره نبيه بما يوجب كفره دعوى أنه أمره بالكفر بعد إسلامه فدلالة هذا على أن الخطاب للمسلمين ضعيفة - في غاية السقوط كما لا يخفى.
* (وإذ أخذ الله ميث‍اق النبيين لمآ ءاتيتكم من كت‍ابوحكمة ثم جآءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذالكم إصرى قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الش‍اهدين) *.
* (وإذ أخذ الله ميث‍اق النبين لما ءاتيتكم من كت‍ابوحكمة ثم جآءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه) * الظرف منصوب بفعل مقدر مخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم - أي اذكر وقت ذلك - واختار السمين كونه معمولا لأقررتم الآتي، وضعفه عبد الباقي بأن خطاب * (أأقررتم) * بعد تحقق أخذ الميثاق، وفيه تردد، وعطفه على ما تقدم من قوله تعالى: * (وإذ قالت الملائكة) * (آل عمران: 42) كما نقله الطبرسي بعيد. واختلف في المراد من الآية فقيل: إنها على ظاهرها ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: لم يبعث الله تعالى نبيا آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ويأمره فيأخذ العهد على قومه ثم تلا الآية، وعدم ذكر الأمم فيها حينئذ إما لأنهم معلومون بالطريق الأولى أو لأنه استغنى بذكر النبيين عن ذكرهم، ففي الآية اكتفاء وليس فيها الجمع بين المتنافيين، وقيل: إن إضافة الميثاق إلى النبيين إضافة إلى الفاعل، والمعنى وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه النبيون على أممهم - وإلى هذا ذهب ابن عباس - فقد أخرج ابن المنذر، وغيره عن سعيد بن جبير أنه قال: قلت لابن عباس: إن أصحاب عبد الله يقرءون * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لما آتيتكم) * الخ ونحن نقرأ ميثاق النبيين فقال ابن عباس إنما أخذ الله تعالى ميثاق النبيين على قومهم، وأشار بذلك رضي الله تعالى عنه إلى أنه لا تناقض بين القراءتين كما توهم حتى ظن أن ذلك منشأ قول مجاهد فيما رواه عنه ابن المنذر وغيره أن * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين) * خطأ من الكتاب - وأن الآية كما قرأ عبد الله - وليس كذلك إذ لا يصلح ذلك وحده منشأ وإلا لزم الترجيح بلا مرجح بل المنشأ لذلك إن صح، ولا أظن ما يعلم بعد التأمل فيما أسلفناه في المقدمات وبسطنا الكلام عليه - في " الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية " - وقيل: المراد أمم النبيين على حذف المضاف، وإليه ذهب الصادق رضي الله تعالى عنه؛ وقيل: المضاف المحذوف أولاد، والمراد بهم على الصحيح بنو إسرائيل لكثرة أولاد الأنبياء فيهم وأن السياق في شأنهم، وأيد بقراءة عبد الله المشار إليها - وهي قراءة أبي بن
كعب - أيضا، وقيل: المراد - وإذ أخذ الله ميثاقا مثل ميثاق النبيين - أي ميثاقا غليظا على الأمم، ثم جعل ميثاقهم نفسه ميثاقهم بحذف أداة التشبيه مبالغة، وقيل: المراد من النبيين بنو إسرائيل وسماهم بذلك تهكما لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد لأنا أهل الكتاب والنبيون كانوا منا، وهذا كما تقول لمن ائتمنته على شيء فخان فيه ثم زعم الأمانة: يا أمين ماذا صنعت بأمانتي؟؟! وتعقبه الحلبي بأنه بعيد جدا إذ لا قرينة تبين ذلك، وأجيب بأن القائل بعد لعله
209

اتخذ مقالهم المذكور قرينة حالية، وقيل: إن الإضافة للتعليل لأدنى ملابسة كأنه قيل: وإذ أخذ الله الميثاق على الناس لأجل النبيين، ثم بينه بقوله سبحانه: * (لما آتيتكم) * الخ ولا يخفى أن هذا أيضا من البعد بمكان، وقال الشهاب: لم نر من ذكر أن الإضافة تفيد التعليل في غير كلام هذا القائل، واختار كثير من العلماء القول الأول، وأخذ الميثاق من النبيين له صلى الله عليه وسلم - على ما دل عليه كلام الأمير كرم الله تعالى وجهه مع علمه سبحانه أنهم لا يدركون وقته - لا يمنع من ذلك لما فيه مع ما علمه الله تعالى من التعظيم له صلى الله عليه وسلم والتفخيم ورفعة الشأن والتنويه بالذكر ما لا ينبغي إلا لذلك الجناب، وتعظم الفائدة إذا كان ذلك الأخذ عليهم في كتبهم لا في عالم الذر فإنه بعيد كبعد ذلك الزمان - كما عليه البعض - ويؤيد القول - بأخذ الميثاق من الأنبياء الموجب لإيمان من أدركه عليه الصلاة والسلام منهم به - ما أخرجه أبو يعلى عن جابر قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا فإما أن تصدقوا بباطل، وإما أن تكذبوا بحق وإنه والله لو كان موسى حيا بين أظهركم ماحل له إلا أن يتبعني " وفي معناه أخبار كثيرة وهي تؤيد بظاهرها ما قلنا، ومن هنا ذهب العارفون إلى أنه صلى الله عليه وسلم هو النبي المطلق والرسول الحقيقي والمشرع الاستقلالي، وأن من سواه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في حكم التبعية له صلى الله عليه وسلم.
وهذا وقد عدوا هذه الآية من مشكلات القرآن إعرابا وقد غاص النحويون في تحقيق ذلك وشقوا الشعر فيه ولنذكر بعض الكلام في ذلك فنقول: قال غير واحد: اللام في * (لما آتيتكم) * على قراءة الفتح والتخفيف - وهي قراءة الجمهور - موطئة للقسم المدلول عليه بأخذ الميثاق لأنه بمعنى الاستحلاف وسميت بذلك لأنها تسهل تفهم الجواب على السامع، وعرفها النحاة كما قال الشهاب: بأنها اللام التي تدخل على الشرط سواء - إن - وغيرها لكنها غلبت في - إن - بعد تقدم القسم لفظا أو تقديرا لتؤذن أن الجواب له لا للشرط - كقولك: لئن أكرمتني لأكرمنك - ولو قلت: أكرمك، أو فإني أكرمك، أو ما أشبهه مما يجاب به الشرط لم يجز على ما صرح به ابن الحاجب - وخالفه الفراء فيه - فجوز أن يجاب الشرط مع تقدم القسم عليه لكن الأول هو المصحح وكونها يجب دخولها على الشرط هو المشهور - وخالف فيه بعض النحاة، قال: يجوز دخولها على غير الشرط إما مطلقا أو بشرط مشابهته للشرط كما الموصولة دون الزائدة وقال الزمخشري في سورة هود: إنه لا يجب دخولها على كلم المجازاة، ونقله الأزهري عن الأخفش، وذكر أن ثعلبا غلطه فيه فالمسألة خلافية، و - ما - شرطية في موضع نصب - بآتيت - والمفعول الثاني ضمير المخاطب، و * (من) * بيان - لما - واعترض بأن حمل * (من) * على البيان شائع بعد الموصولة، وأما بعد الشرطية فيحتاج إلى النقل، ومثل ذلك القول بزيادتها لأن زيادتها بعد الموصولة أيضا كزيادتها بعد الشرطية محتاج لما ذكر، وأجيب بأن السمين نقل ما يدل على الوقوع عند الأئمة، وفي " جني الداني ". ومن الناس من قال: إن (من) تزاد بالشروط في غير باب التمييز، وأما فيه فتزاد وإن لم تستوف الشروط نحو لله درك من رجل، ومن هنا قال مولانا عبد الباقي: يجوز أن تكون (من) تبعيضية ذكرت لبيان (ما) الشرطية، أو زائدة داخلة على التمييز، و * (لتؤمنن) * جواب القسم وحده على الصحيح، ولدلالته على جواب الشرط واتحاد معناهما تسامح بعضهم فجعله سادا مسد الجوابين، ولم يرد أنه جواب القسم وجواب الشرط لتنافيهما من حيث إن الأول: لا محل له، والثاني: له محل، والقول بأن الجملة الواحدة قد يحكم عليها بالأمرين باعتبارين التزام لما لا يلزم، وجوزوا كون (ما) موصولة واللام الداخلة عليها حينئذ لام الابتداء، ويشعر كلام البعض أن اللام بعد موطئة وكأنه مبني على مذهب من جوز دخول الموطئة على غير الشرط من النحاة - كما مر - وهي على هذا التقدير مبتدأ، والخبر
210

إما مقدر أو جملة * (لتؤمنن) * مع القسم المقدر، والكلام في مثله شهير، وأورد عليه أن الضمير في * (به) * إن عاد على المبتدأ على ما هو الظاهر كان الميثاق هو إيمانهم بما آتاهم، والمقصود من الآية أخد الميثاق بالإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم ونصرته، وإن عاد على الرسول كالضمير الثاني المنصوب العائد عليه مطلقا دفعا للزوم التفكيك خلت الجملة التي هي خبر عن العائد، وأجيب بأن الجملة المعطوفة لما كانت مشتملة على ما هو بمعنى المبتدأ الموصول، ولذلك استغنى عن ضميره فيها مع لزومه في الصلتين المتعاطفتين في المشهور وكان ضمير * (به) * راجعا للرسول مع ملاحظة * (مصدق لما معكم) * القائم مقام الضمير العائد على (ما) اكتفى بمجرد ذلك عن ضمير في خبرها لارتباط الكلام بعضه ببعض، وإلى ذلك يشير كلام الإمام السهيلي في " الروض الأنف "، ولا يخفى أنه مع ما فيه من التكلف مبني على اتحاد ما أوتوه، وما هو معهم، وفي ذلك إشكال - لأن آتيناكم، وجاءكم - إن كان كلاهما مستقبلين فالظاهر أن المراد - بما آتيناكم - القرآن لأنه الذي يؤتوه في المستقبل باعتبار إيتائه للرسول الذي كلفوا باتباعه وبما معهم الكتب التي أوتوها، وحمله على القرآن يأباه الذوق لأنه مع كونه ليس معهم بحسب الظاهر لا يظهر حسن لكون القرآن مصدقا للقرآن وهو لازم على ذلك التقدير وإن كانا ماضيين ظهر الفساد من جهة أن هذا الرسول الذي أوجب الله تعالى عليهم الإيمان به ونصرته لم يجيء إذا ذاك، وإن كان الفعل الأول ماضيا. والثاني: مستقبلا جاء عدم التناسب بين المعطوفين وهما ماضيان لفظا، وفيه نوع بعد، ولعل المجيب يختار هذا الشق ويتحمل هذا البعد لما أن ثم مع كونه لا يعبأ بمثله لضعفه تهون أمره، وجوز أبو البقاء على ذلك التقدير كون الخبر من كتاب أي الذي آتيتكموه من الكتاب، وجعل النكرة هنا كالمعرفة وسوغ كون العائد على الموصول من المعطوف محذوفا - أي جاءكم به - مع عدم تحقق شروط حذف مثل هذا الضمير عند الجمهور بل مع خلل في المعنى لأن المؤتى كتاب كل نبي في زمان بعثته وشريعته؛ والجائي به الرسول هو القرآن بحسب الظاهر لا كتاب كل نبي، وعود الضمير المقدر يستدعي ذلك، وعلى تقدير التزام كون المؤتى القرآن أيضا كما يقتضيه حمل الفعلين على الاستقبال يرد أنه لا معنى لمجيء الرسول إليهم بالقرآن بعد إيتائهم القرآن بمهلة، والعطف بثم كالنص بهذا المعنى، وعلى تقدير التزام كون الجائي به الرسول هو كتاب كل نبي بنوع من التكلف يكون وصف الرسول بكونه مصدقا لما معكم كالمستغني عنه فتدبر.
وقرأ حمزة - لما آتيتكم - بكسر اللام على أن (ما) مصدرية - واللام - جارة أجلية متعلقة - بلتؤمنن - أي لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب ثم مجيء رسول مصدق له أخذ الله الميثاق لتؤمنن به ولتنصرنه، واعترض بأن فيه إعمال (ما) بعد لام القسم فيما قبلها وهو لا يجوز، وأجيب بأنه غير مجمع عليه فإن ظاهر كلام الزمخشري يشعر بجوازه ولعل من يمنعه يخصه بما إذا لم يكن المعمول المتقدم ظرفا لأن ذاك يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره، نعم الأولى حسما للنزاع تعلقه بأقسم المحذوف، وجوز أن تكون (ما) في هذه القراءة موصولة أيضا، والجار متعلق - بأخذ - وروى عبد بن حميد عن سعيد بن جبير أنه قرأ - لما آتيتكم - بالتشديد، وفيها احتمالان: الأول: أن تكون ظرفية بمعنى حين - كما قاله الجمهور - خلافا لسيبويه، وجوابها مقدر من جنس جواب القسم - كما ذهب إليه الزمخشري - أي - لما آتيتكم بعض الكتاب والحكمة ثم جاءكم رسول مصدق وجب عليكم الإيمان به ونصرته - وقدره ابن عطية من جنس ما قبلها - أي لما كنتم بهذه الحال رؤساء الناس وأماثلهم أخذ عليكم الميثاق - وكذا وقع في تفسير الزجاج، ومآل معناها التعليل، الثاني: أن أصلها من (ما) فأبدلت
211

النون ميما لمشابهتها إياها فتوالت ثلاث ميمات فحذفت الثانية لضعفها بكونها بدلا وحصول التكرير بها، ورجحه أبو حيان في " البحر ". وزعم ابن جني أنها الأولى، ونظر فيه الحلبي، و * (من) * إما مزيدة في الإيجاب على رأي الأخفش، وإما تعليلية على ما اختاره ابن جني قيل: وهو الأصح - لاتضاح المعنى عليه وموافقته لقراءة التخفيف - واللام إما زائدة، أو موطئة بناءا على عدم اشتراط دخولها على أداة الشرط، وقرأ نافع - آتيناكم - على لفظ الجمع للتعظيم، والباقون - آتيتكم - على التوحيد، ولكل من القراءتين حسن من جهة - فافهم ذاك - فبعيد أن تظفر بمثله يداك
* (قال) * أي الله تعالى للنبيين وهو بيان لأخذ الميثاق، أو مقول بعده للتأكيد * (ءأقررتم) * بذلك المذكور * (وأخذتم) * أي قبلتم على حد * (إن أوتيتم هذا فخذوه) * (المائدة: 41). وقيل: معناه هل أخذتم * (على ذالكم إصري) * على الأمم. - والإصر - بكسر الهمزة كما قال ابن عباس، وأصله من - الإصار - وهو ما يعقد به ويشد وكأنه إنما سمي العهد بذلك لأنه يشد به، وقرىء بالضم وهو إما لغة فيه - كعبر وعبر - في قولهم ناقة عبر أسفار أو هم بالضم جمع - إصار - استعير للعهد، وجمع إما لتعدد المعاهدين وهو الظاهر، أو للمبالغة * (قالوا) * استئناف مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا قالوا عند ذلك؟ فقيل: قالوا: * (أقررنا) *، وكان الظاهر في الجواب أقررنا على ذلك إصرك لكنه لم يذكر الثاني اكتفاءا بالأول * (قال) * أي الله تعالى لهم * (فاشهدوا) * أي فليشهد بعضكم على بعض بذلك الإقرار، فاعتبر المقر بعضا، والشاهد بعضا آخر لئلا يتحد المشهود عليه والشاهد، وقيل: الخطاب فيه للأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقط أمروا بالشهادة على أممهم ونسب ذلك إلى علي كرم الله تعالى وجهه، وقيل: للملائكة فكيون ذلك كناية عن غير مذكور ونسب إلى سعيد بن المسيب * (وأنا معكم من الش‍اهدين) * أي على إقراركم وتشاهدكم - على ما يقتضيه المعنى - لأنه لا بد في الشهادة من مشهود عليه. وهنا ما ذكرناه للمقام. وعن ابن عباس أن المراد اعلموا وأنا معكم أعلم. وعلى كل تقدير فيه توكيد وتحذير عظيم، والجار والمجرور خبر - أنا - و * (معكم) * حال، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب. وجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير * (فاشهدوا) *.
* (فمن تولى بعد ذالك فأول‍ائك هم الف‍اسقون) *.
* (فمن تولى) * أي أعرض عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ونصرته - قاله علي كرم الله وجهه - * (بعد ذالك) * أي الميثاق والإقرار والتوكيد بالشهادة * (فأول‍ائك) * إشارة إلى (من) مراعى معناه كما روعي من قبل لفظها * (هم الف‍اسقون) * أي الخارجون في الكفر إلى أفحش مراتبه، والمشهور عدم دخول الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في حكم هذه الشرطية، أو ما هي في حكمها لأنهم أجل قدرا من أن يتصور في حقهم ثبوت المقدم ليتصفوا، وحاشاهم بما تضمنه التالي بل هذا الحكم بالنسبة إلى أتباعهم، وجوز أن يراد العموم والآية من قبيل: * (لئن أشركت ليحبطن عملك) * (الزمر: 65).
* (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من فى السم‍اوات والارض طوعا وكرها وإليه يرجعون) *.
* (أفغير دين الله يبغون) * ذكر الواحدي عن ابن عباس أنه قال اختصم أهل الكتابين إلى رسول الله
212

صلى الله عليه وسلم فيما اختلفوا بينهم من دين إبراهيم عليه السلام كل فرقة زعمت أنها أولى بدينه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم فغضبوا وقالوا: والله ما نرضى بقضائك ولانأخذ بدينك فأنزل الله تعالى هذه الآية، والجملة في النظم معطوفة على مجموع الشرط والجزاء، وقيل: على الجزاء فقط، وعطف الإنشاء على الأخبار مغتفر هنا عند المانعين، والهمزة على التقديرين متوسطة بين المعطوف والمعطوف عليه للانكار، وقيل: إنها معطوفة على محذوف تقديره - أيتولون فغير دين الله يبغون - قال ابن هشام: والأول: مذهب سيبويه والجمهور، وجزم به الزمخشري في مواضع، وجوز الثاني في بعض - ويضعفه ما فيه من التكلف - وأنه غير مطرد، أما الأول: فلدعوى حذف الجملة فإن قوبل بتقديم بعض المعطوف فقد يقال إنه أسهل منه لأن المتجوز فيه على قولهم: أقل لفظا مع أن في هذا التجوز تنبيها على أصالة شيء في شيء أي أصالة الهمزة في التصدر، وأما الثاني: فلأنه غير ممكن في نحو * (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) * (الرعد: 33) انتهى.
وتعقبه الشمس بن الصائغ بأنه أي مانع من تقدير ألا مدبر للموجودات - فمن هو قائم على كل نفس - على الاستفهام التقريري المقصود به تقرير ثبوت الصانع، والمعنى - أنتفى المدبر فلا أحد قائم على كل نفس - لا يمكن ذلك بل المدبر موجود فالقائم على كل نفس هو - وهو أولى من تقدير البدر ابن الدماميني - أهم ضالون فمن هو قائم على كل نفس بما كسبت لم يوحدوه، وجعله الهمزة للإنكار التوبيخي، وعلى العلات يوشك أن يكون التفصيل في هذه المسألة أولى بأن يقال: إن انساق ذلك المقدر للذهن قيل: بالتقدير، وإلا قيل: بما قاله الجماعة، وتقديم المفعول لأنه المقصود بالإنكار لا للحصر كما توهم لأن المنكر اتخاذ غير الله ربا ولو معه، ودعوى أنه إشارة
إلى أن دين غير الله لا يجامع دينه في الطلب، فالتقديم للتخصيص، والإنكار متوجه إليه أي أيخصون غير دين الله بالطلب - تكلف، وقول أبي حيان: إن تعليل التقديم بما تقدم لا تحقيق فيه لأن الإنكار الذي هو معنى الهمزة لا يتوجه إلى الذوات، وإنما يتوجه إلى الأفعال التي تتعلق بالذوات، فالذي أنكر إنما هو الابتغاء الذي متعلقه غير دين الله، وإنما جاء تقديم المفعول من باب الاتساع، ولشبه * (يبغون) * بالفاصلة لا تحقيق فيه عند ذوي التحقيق لأنا لم ندع توجه الإنكار إلى الذوات كما لا يخفى، وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية لحفص ويعقوب - يبغون - بالياء التحتية، وقرأ الباقون بالتاء الفوقانية على معنى - أتتولون - - أو - أتفسقون، وتكفرون فغير دين الله تبغون - وذهب بعضهم إلى أنه التفات فعنده لا تقدير، وعلى تقدير التقدير يجيء قصد الإنكار فيما أشير إليه ولا ينافيه لأنه منسحب عليه
* (وله أسلم من في السم‍اوات والأرض) * جملة حالية مؤكدة للإنكار - أي كيف يبغون ويطلبون غير دينه، والحالة هذه - * (طوعا وكرها) * مصدران في موضع الحال أي طائعين وكارهين، وجوز أبو البقاء أن يكونا مصدرين على غير المصدر لأنه أسلم بمعنى انقاد وأطاع قيل: وفيه نظر لأنه ظاهر في * (طوعا) * لموافقة معناه ما قبله لا في * (كرها) * والقول بأن يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل غير نافع، وقد يدفع بأن الكره فيه انقياد أيضا، والطوع مصدر طاع يطوع، كالإطاعة مصدر أطاع يطيع ولم يفرقوا بينهما، وقيل: طاعه يطوعه انقاد له، وأطاعه يطيعه بمعنى مضى لأمره، وطاوعه بمعنى وافقه، وفي معنى الآية أقوال: الأول: أن المراد من الإسلام بالطوع الإسلام الناشيء عن العلم مطلقا سواء كان حاصلا للاستدلال كما في الكثير منا، أو بدون استدلال وإعمال فكر - كما في الملائكة - ومن الإسلام بالكره ما كان حاصلا بالسيف ومعاينة ما يلجىء إلى الإسلام، الثاني: أن المراد انقادوا له تعالى مختارين لأمره - كالملائكة والمؤمنين - ومسخرين لإرادته - كالكفرة - فإنهم مسخرون لإرادة كفرهم
213

إذ لا يقع ما لا يريده تعالى، وهذا لا ينافي على ما قيل: الجزء الاختياري حتى لا يكون لهم اختيار في الجملة فيكون قولا بمذهب الجبرية، ولا يستدعي عدم توجه تعذيبهم على الكفر ولا عدم الفرق بين المؤمن والكافر بناءاعلى أن الجميع لا يفعلون إلا ما أراده الله تعالى بهم كما وهم، الثالث: ما إشار إليه بعض ساداتنا الصوفية نفعنا الله تعالى بهم أن الإسلام طوعا هو الانقياد والامتثال لما أمر الله تعالى من غير معارضة ظلمة نفسانية وحيلولة حجب الأنانية، والإسلام كرها هو الانقياد مع توسط المعارضات والوساوس وحيلولة الحجب والتعلق بالوسائط، والأول: مثل إسلام الملائكة وبعض من في الأرض من المصطفين الأخيار، والثاني: مثل إسلام الكثير ممن تقلبه الشكوك جنبا إلى جنب حتى غدا يقول: لقد طفت في تلك المعاهد كلها * وسرحت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر * على ذقن أو قارعا سن نادم
والكفار من القسم الثاني عند أهل الله تعالى لأنهم أثبتوا صانعا أيضا إلا أن ظلمة أنفسهم حالت بينهم وبين الوقوف على الحق * (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) * (يوسف: 106) * (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض... ليقولن الله) * (العنكبوت: 61) وإلى هذا يشير كلام مجاهد، وأخرج ابن جرير، وغيره عن أبي العالية أنه قال: كل آدمي أقر على نفسه بأن الله تعالى ربي وأنا عبده فمن أشرك في عبادته فهذا الذي أسلم كرها، ومن أخلص لله تعالى العبودية فهو الذي أسلم طوعا، وقرأ الأعمش - كرها - بالضم * (وإليه يرجعون) * أي إلى جزائه تصيرون على المشهور فبادروا إلى دينه، ولا تخالفوا الإسلام، وجوزوا في الجملة أن تكون مستأنفة للأخبار بما تضمنته من التهديد، وأن تكون معطوفة على * (وله أسلم) * فهي حالية أيضا، وقرأ عاصم بياء الغيبة، والضمير - لمن - أو لمن عاد إليه ضمير * (يبغون) * فإن قرىء بالخطاب فهو التفات، وقرأ الباقون بالخطاب، والضمير عائد لمن عاد إليه ضمير * (يبغون) * فعلى الغيبة فيه التفات أيضا.
* (قل ءامنا بالله ومآ أنزل علينا ومآ أنزل على إبراهيم وإسم‍اعيل وإسح‍اق ويعقوب والاسباط وما أوتى موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) *.
* (قل ءامنا بالله) * أمر للرسول صلى الله عليه وسلم أن يخبر عن نفسه والمؤمنين بالإيمان بما ذكر، فضمير (آمنا) للنبي صلى الله عليه وسلم والأمة، وقال المولى عبد الباقي: لما أخذ الله تعالى الميثاق من النبيين أنفسهم أن يؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام وينصروه أمر محمدا أيضا صلى الله عليه وسلم أن يؤمن بالأنبياء المؤمنين به وبكتبهم فيكون * (آمنا) * في موضع آمنت لتعظيم نبينا عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام، أو لما عهد مع النبيين وأممهم أن يؤمنوا أمر محمدا عليه الصلاة والسلام وأمته أن يؤمنوا بهم وبكتبهم. والحاصل أخذ الميثاق من الجانبين على الإيمان على طريقة واحدة ولم يتعرض هنا لحكمة الأنبياء السالفين إما لأن الإيمان بالكتاب المنزل إيمان بما فيه من الحكمة، أو للإشارة إلى أن شريعتهم منسوخة في زمن هذا النبي صلى الله عليه وسلم وكلاهما على تقدير كون الحكمة بمعنى الشريعة ولم يتعرض لنصرته عليه الصلاة والسلام لهم إذ لا مجال بوجه لنصرة السلف، ويؤيد دعوى أخذ الميثاق من الجانبين ما أخرجه عبد الرزاق وغيره عن طاوس أنه قال: أخذ الله تعالى ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا.
* (وما أنزل علينا) * وهو القرآن المنزل عليه صلى الله عليه وسلم أولا وعليهم بواسطة تبليغه إليهم، ومن هنا أتى بضمير الجمع، وقد يعتبر الإنزال عليه عليه الصلاة والسلام وحده، ولكن نسب إلى الجمع ما هو منسوب لواحد منه مجازا على ما قيل، ويحتمل أن تكون النون نون العظمة لا ضمير الجماعة،
214

وعدى الإنزال هنا - بعلى - وفي البقرة (136) - بإلى - لأنه له جهة علو باعتبار ابتدائه وانتهاء باعتبار آخره، وقد جعل الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم فناسبه الاستعلاء وهناك للعموم، فناسب الانتهاء كذا قيل، ويرد عليه قوله تعالى: * (آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا) * (آل عمران: 72) والتحقيق أنه لا فرق بين المعدى - بإلى - والمعدى - بعلى - إلا بالاعتبار، فإن اعتبرت مبدأه عديته - بعلى - لأنه فوقاني وإن اعتبرت انتهاءه إلى من هو له عديته - بإلى - ويلاحظ أحد الاعتبارين تارة والآخر أخرى تفننا بالعبارة، وفرق الراغب بأن ما كان واصلا من الملأ الأعلى بلا واسطة كان لفظ - على - المختص بالعلو أولى به، وما لم يكن
كذلك كان لفظ - إلى - المختص بالإيصال أولى به وقيل: أنزل عليه يحمل على أمر المنزل عليه أن يبلغه غيره، وأنزل إليه يحمل على ما خص به نفسه لأن إليه انتهاء الإنزال - وكلا القولين - لا يخلو عن نظر
* (وما أنزل على إبراهيم وإسم‍اعيل وإسح‍اق ويعقوب والأسباط) * قيل: خص هؤلاء الكرام بالذكر لأن أهل الكتاب يعترفون بنبوتهم وكتبهم، والمراد بالموصول الصحف - كما هو الظاهر - وقدم المنزل عليه عليه الصلاة والسلام على المنزل عليهم إما لتعظيمه والاعتناء به، أو لأنه المعرف له ومعرفة المعرف تتقدم على معرفة المعرف، والأسباط الأحفاد لا أولاد البنات، والمراد بهم على رأي أبناء يعقوب الإثنا عشر وذراريهم، وليس كلهم أبناءا خلافا لزاعمه * (وما أوتي موسى وعيسى) * من " التوراة " " والإنجيل " وسائر المعجزات - كما يشعر به إيثار الإيتاء على الإنزال الخاص بالكتاب - وقيل: هو خاص بالكتابين، وتغيير الأسلوب للاعتناء بشأن الكتابين، وتخصيص هذين النبيين بالذكر لما أن الكلام مع اليهود والنصارى * (والنبيون) * عطف على * (موسى وعيسى) * أي - وبما أوتي النبيون - على تعدد أفرادهم واختلاف أسمائهم * (من ربهم) * متعلق بأوتي، وفي التعبير بالرب مضافا إلى ضميرهم ما لا يخفى من اللطف.
* (لا نفرق بين أحد منهم) * أي بالتصديق والتكذيب - ما فعل اليهود والنصارى - والتفريق بغير ذلك كالتفضيل جائز * (ونحن له مسلمون) * أي مستسلمون بالطاعة والانقياد في جميع ما أمر به ونهى عنه، أو مخلصون له في العبادة، وعلى التقديرين لا تكون هذه الجملة مستدركة بعد جملة الإيمان كما هو ظاهر، وقيل: إن أهل الملل المخالفة للإسلام كانوا كلهم يقرون بالإيمان ولم يكونوا يقرون بلفظ الإسلام فلهذا أردف تلك الجملة بهذه.
* (ومن يبتغ غير الإسل‍ام دينا فلن يقبل منه وهو فى الاخرة من الخ‍اسرين) *.
* (ومن يبتغ غير الاسل‍ام دينا فلن يقبل منه) * نزلت في جماعة ارتدوا وكانوا اثني عشر رجلا وخرجوا من المدينة وأتوا مكة كفارا، منهم الحرث بن سويد الأنصاري، والإسلام قيل: التوحيد والانقياد، وقيل: شريعة نبينا عليه الصلاة والسلام بين تعالى أن من تحرى بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم غير شريعته فهو غير مقبول منه، وقبول الشيء هو الرضا به وإثابة فاعله عليه، وانتصاب * (دينا) * على التمييز من * (غير) * وهي مفعول * (يبتغ) * وجوز أن يكون * (دينا) * مفعول * (يبتغ) * و * (غير) * صفة قدمت فصارت حالا، وقيل: هو بدل من * (غير الإسلام) * والجمهور على إظهار الغينين، وروي عن أبي عمرو الادغام، وضعفه أبو البقاء بأن كسرة الغين الأولى تدل على الياء المحذوفة
* (وهو في الآخرة من الخ‍اسرين) * إما معطوفة على جواب الشرط فتكون في محل جزم، وإما في محل الحال من الضمير المجرور فتكون في محل نصب، وإما مستأنفة فلا محل لها من الإعراب، و * (في الآخرة) * متعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده - أي وهو خاسر في الآخرة - أو متعلق - بالخاسرين - على
215

أن الألف واللام ليست موصولة بل هي حرف تعريف، والخسران في الآخرة هو حرمان الثواب وحصول العقاب، وقيل: أصل الخسران ذهاب رأس المال، والمراد به هنا تضييع ما جبل عليه من الفطرة السليمة المشار إليها في حديث " كل مولود يولد على الفطرة " وعدم الانتفاع بذلك وظهوره بتحقق ضده * (يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم) * (الشعراء: 88، 89) والتعبير - بالخاسرين - أبلغ من التعبير بخاسر كما أشرنا إليه فيما قبل وهو منزل منزلة اللازم ولذا ترك مفعوله، والمعنى - وهو من جملة الواقعين في الخسران - واستدل بالآية على أن الإيمان هو الإسلام إذ لو كان غيره لم يقبل، واللازم باطل بالضرورة فالملزوم مثله، وأجيب بأن * (فلن يقبل منه) * ينفي قبول كل دين يباين دين الإسلام والإيمان، وإن كان * (غير الإسلام) * لكنه لا يغاير دين الإسلام بل هو هو بحسب الذات، وإن كان غيره بحسب المفهوم، وذكر الإمام أن ظاهر هذه الآية يدل على عدم المغايرة، وقوله تعالى: * (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) * (الحجرات: 14) يدل على المغايرة، ووجه التوفيق بينهما أن تحمل الآية الأولى على العرف الشرعي، والثانية على الوضع اللغوي.
* (كيف يهدى الله قوما كفروا بعد إيم‍انهم وشهدوا أن الرسول حق وجآءهم البين‍ات والله لا يهدى القوم الظ‍المين) *.
* (كيف يهدي الله) * إلى الدين الحق * (قوما كفروا بعد إيم‍انهم) * أخرج عبد بن حميد وغيره عن الحسن أنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى رأوا نعت محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم وأقروا وشهدوا أنه حق فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك فأنكروه وكفروا بعد إقرارهم حسدا للعرب حين بعث من غيرهم. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس مثله، وقال عكرمة: هم أبو عامر الراهب والحرث بن سويد في اثني عشر رجلا رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش ثم كتبوا إلى أهلهم هل لنا من توبة؟ فنزلت الآية فيهم وأكثر الروايات على هذا والمراد من الآية استبعاد أن يهديهم - أي يدلهم دلالة موصولة - لا مطلق الدلالة قاله بعضهم، وقيل: إن المعنى كيف يسلك بهم سبيل المهديين بالإثابة لهم والثناء عليهم وقد فعلوا ما فعلوا، وقيل: إن الآية على طريق التبعيد كما يقال: كيف أهديك إلى الطريق وقد تركته أي لا طريق يهديهم به إلى الإيمان إلا من الوجه الذي هداهم به وقد تركوه ولا طريق غيره، وقيل: إن المراد كيف يهديهم إلى الجنة ويثيبهم والحال ما ترى؟!
* (وشهدوا أن الرسول) * وهو محمد صلى الله عليه وسلم * (حق) * لا شك في رسالته * (وجاءهم البين‍ات) * أي البراهين والحجج الناطقة بحقية ما يدعيه، وقيل: القرآن، وقيل: ما في كتبهم من البشارة به عليه الصلاة والسلام، * (وشهدوا) * عطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل لأنه بمعنى آمنوا، والظاهر أنه عطف على المعنى كما في قوله تعالى: * (إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله) * (الحديد: 18) لا على التوهم كما توهم؛ واختار بعضهم تأويل المعطوف ليصح عطفه على الاسم الصريح قبله بأن يقدر معه أن المصدرية أي: وإن شهدوا أي وشهادتهم على حد قوله: ولبس عباءة وتقر عيني * أحب إلي من لبس الشفوف
وإلى هذا ذهب الراغب وأبو البقاء، وجوز عطفه على * (كفروا) * وفساد المعنى يدفعه أن العطف لا يقتضي الترتيب فليكن المنكر الشهادة المقارنة بالكفر أو المتقدمة
عليه، واعترض بأن الظاهر تقييد المعطوف بما قيد به المعطوف عليه وشهادتهم هذه لم تكن بعد إيمانهم بل معه أو قبله؛ وأجيب بالمنع لأنه لا يلزم تقييد
216

المعطوف بما قيد به المعطوف عليه ولو قصد ذلك لأخر، وقيل: يمنع من ذلك العطف أنهم ليسوا جامعين بين الشهادة والكفر، وأجيب بالمنع بل هم جامعون وإن لم يكن ذلك معا، ومن الناس من جعله معطوفا على * (كفروا) * ولم يتكلم شيئا مما ذكر، وزعم أن ذلك في المنافقين وهو خلاف المنقول والمعقول، والأكثرون من المحققين على اختيار الحالية من الضمير في * (كفروا) * وقد معه مقدرة، ولا يجوز أن يكون العامل - يهدي - لأنه يهدي من شهد أن الرسول حق وعليه، وعلى تقدير العطف على الإيمان استدل على أن الإقرار باللسان خارج عن حقيقة الإيمان، ووجه ذلك أن العطف يقتضي بظاهره " المغايرة " بين المعطوف والمعطوف عليه وأن الحالية تقتضي التقييد ولو كان الإقرار داخلا في حقيقة الإيمان لخلا ذكره عن الفائدة، ولو كان عينه يلزم تقييد الشيء بنفسه ولا يخفى ما فيه، وادعى بعضهم أن المراد من الإيمان الإيمان بالله، ومن الشهادة المذكورة الإيمان برسول صلى الله عليه وسلم، والأمر حينئذ واضح فتدبر * (والله لا يهدي القوم الظ‍المين) * أي الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بالإخلال بالنظر، ووضع الكفر موضع الإيمان فكيف من جاءه الحق وعرفه ثم أعرض عنه؛ ويجوز حمل الظلم مطلقه فيدخل فيه الكفر دخولا أوليا، والجملة اعتراضية أو حالية.
* (أول‍ائك جزآؤهم أن عليهم لعنة الله والمل‍ائكة والناس أجمعين) *.
* (أول‍ئك) * أي المذكورون المتصفون بأشنع الصفات وهو مبتدأ، وقوله سبحانه: * (جزآؤهم) * أي جزاء فعلهم مبتدأ ثان، وقوله عز شأنه: * (أن عليهم لعنة الله والمل‍ائكة والناس أجمعين) * خبر المبتدأ الثاني، وهو وخبره خبر المبتدأ الأول قيل: وهذا يدل بمنطوقه على جواز لعنهم، ومفهومه ينفي جواز لعن غيرهم، ولعل الفرق بينهم وبين غيرهم حتى خص اللعن بهم أنهم مطبوع على قلوبهم ممنوعون بسبب خياثة ذواتهم وقبح استعدادهم من الهدى آيسون من رحمة الله تعالى بخلاف غيرهم، والخلاف في لعن أقوام بأعيانهم ممن ورد لعن أنواعهم - كشارب خمر معين مثلا مشهور - والنووي على جوازه استدلالا بما ورد أنه صلى الله عليه وسلم مر بحمار وسم في وجهه فقال: لعن الله تعالى من فعل هذا وبما صح أن الملائكة تلعن من خرجت من بيتها بغير إذن زوجها، وأجيب بأن اللعن هناك للجنس الداخل فيه الشخص أيضا، واعترض بأنه خلاف الظاهر كتأويل إن وراكبها بذلك - والاحتياط لا يخفى - والمراد من - الناس - إما المؤمنون لأنهم هم الذين يلعنون الكفرة، أو المطلق لأن كل واحد يلعن من لم يتبع الحق، وإن لم يكن غير متبع بناءا على زعمه.
* (خ‍الدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون) *.
* (خ‍الدين فيها) * حال من الضمير في * (عليهم) * (آل عمران: 87) والعامل فيه الاستقرار، والضمير المجرور - للعنة - أو للعقوبة أو للنار، وإن لم يجر لها ذكر اكتفاءا بدلالة اللعنة عليها * (لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون) * أي لا يمهلون ولا يؤخر عنهم العذاب من وقت إلى وقت آخر، أو لا ينظر إليهم ولا يعتد بهم، والجملة إما مستأنفة أو في محل نصب على الحال.
* (إلا الذين تابوا من بعد ذالك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) *.
* (إلا الذين تابوا من بعد ذلك) * أي الكفر الذي ارتكبوه بعد الإيمان * (وأصلحوا) * أي دخلوا في الصلاح بناءا على أن الفعل لازم من قبيل - أصبحوا - أي دخلوا في الصباح، ويجوز أن يكون متعديا والمفعول محذوف - أي أصلحوا ما أفسدوا - ففيه إشارة كما قيل إلى أن مجرد الندم على ما مضى من الارتداد، والعزم على تركه في الاستقبال غير كاف لما أخلوا به من الحقوق، واعترض بأن مجرد التوبة يوجب تخفيف العذاب ونظر الحق إليهم، فالظاهر أنه ليس تقييدا بل بيان لأن يصلح ما فسد. وأجيب بأنه ليس بوارد لأن مجرد الندم والعزم
217

على ترك الكفر في المستقبل لا يخرجه منه فهو بيان للتوبة المعتد بها، فالمآل واحد عند التحقيق. * (فإن الله غفور رحيم) * أي فيغفر كفرهم ويثيبهم، وقيل: * (غفور) * لهم في الدنيا بالستر على قبائحهم * (رحيم) * بهم في الآخرة بالعفو عنهم - ولا يخفى بعده - والجملة تعليل لما دل عليه الاستثناء.
* (إن الذين كفروا بعد إيم‍انهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأول‍ائك هم الضآلون) *.
* (إن الذين كفروا بعد إيم‍انهم ثم ازدادوا كفرا) * قال عطاء وقتادة: نزلت في اليهود كفروا بعيسى عليه السلام والإنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم وكتبهم، ثم * (ازداودا كفرا) * بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، وقيل: في أهل الكتاب آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، ثم كفروا به بعد مبعثه، ثم ازدادوا كفرا بالإصرار والعناد والصد عن السبيل، ونسب ذلك إلى الحسن، وقيل: في أصحاب الحرث بن سويد فإنه لما رجع قالوا: نقيم بمكة على الكفر ما بدا لنا فمتى أردنا الرجعة رجعنا فينزل فينا ما نزل في الحرث، وقيل: في قوم من أصحابه ممن كان يكفر ثم يراجع الإسلام، وروي ذلك عن أبي صالح مولى أم هانىء. و * (كفرا) * تمييز محول عن فاعل، والدال الأولى في * (ازدادوا) * بدل من تاء الافتعال لوقوعها بعد الزاي.
* (لن تقبل توبتهم) * قال الحسن وقتادة والجبائي: لأنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت والمعاينة وعند ذلك لا تقبل توبة الكافر، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لأنها لم تكن عن قلب، وإنما كانت نفاقا، وقيل: إن هذا من قبيل: ولا ترى الضب بها ينجحر
أي لا توبة لهم حتى تقبل لأنهم لم يوفقوا لها فهو من قبيل الكناية - كما قال العلامة - دون المجاز حيث أريد بالكلام معناه لينتقل منه إلى الملزوم، وعلى كل تقدير لا ينافي هذا ما دل عليه الاستثناء وتقرر في الشرع كما لا يخفى، وقيل: إن هذه التوبة لم تكن عن الكفر وإنما هي عن ذنوب كانوا يفعلونها معه فتابوا عنها مع إصرارهم على الكفر فردت عليهم لذلك، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن أبي العالية قال: هؤلاء اليهود والنصارى كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا بذنوب أذنبوها ثم ذهبوا
يتوبون من تلك الذنوب في كفرهم فلم تقبل توبتهم ولو كانوا على الهدى قبلت ولكنهم على ضلالة، وتجيء على هذا مسألة تكليف الكافر بالفروع وقد بسط الكلام عليها في الأصول.
* (وأول‍ئك هم الضالون) * عطف إما على خبر * (إن) * فمحلها الرفع، وإما على * (إن) * مع اسمها فلا محل لها، و * (الضالون) * المخطؤون طريق الحق والنجاة، وقيل: الهالكون المعذبون والحصر باعتبار أنهم كاملون في الضلال فلا ينافي وجود الضلال في غيرهم.
* (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الارض ذهبا ولو افتدى به أول‍ائك لهم عذاب أليم وما لهم من ن‍اصرين) *.
* (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار) * أي على كفرهم. * (فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض) * من مشرقها إلى مغربها * (ذهبا) * نصب على التمييز، وقرأ الأعمش - ذهب - بالرفع، وخرج على البدلية من * (ملء) * أو عطف البيان، أو الخبر لمحذوف، وقيل عليه: إنه لا بد من تقدير وصف ليحسن البدل ولا دلالة عليه ولم يعهد بيان المعرفة بالنكرة، وجعله خبرا إنما يحسن إذا جعلت الجملة صفة، أو حالا ولا يخلو عن ضعف، وملء الشيء بالكسر مقدار ما يملؤه، وأمل ملء بالفتح فهو مصدر ملأه ملأ، وأما الملاءة بالضم والمد فهي الملحفة.
وههنا سؤال مشهور وهو أنه لم دخلت الفاء في خبر * (إن) * هنا ولم تدخل في الآية السابقة مع أن الآيتين سواء في صحة إدخال الفاء لتصور السببية ظاهرا؟ وأجاب غير واحد بأن الصلة في الآية الأولى الكفر وازدياده وذلك لا يترتب عليه عدم قبول التوبة بل إنما يترتب على
218

الموت عليه إذ لو وقعت على ما ينبغي لقبلت بخلاف الموت على الكفرة في هذه الآية فإنه يترتب عليه ذلك ولذلك لو قال: من جاءني له درهم كان إقرارا بخلاف ما لو قرنه بالفاء - كما هو معروف بين الفقهاء - ولا يرد أن ترتب الحكم على الوصف دليل على السببية لأنا لا نسلم لزومه لأن التعبير بالموصول قد يكون لأغراض كالإيماء إلى تحقق الخبر كقوله: إن التي ضربت بيتا مهاجرة * بكوفة الجند غالت دونها غول
وقد فصل ذلك في المعاني؛ وقرىء - فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض - على البناء للفاعل وهو الله تعالى ونصب - ملء وملء الأرض - بتخفيف الهمزتين. * (ولو افتدى به) * قال ابن المنير في " الانتصاف ": إن هذه الواو المصاحبة للشرط تستدعي شرطا آخر تعطف عليه الشرط المقترنة به ضرورة والعادة في مثل ذلك أن يكون المنطوق به منبها على المسكوت عنه بطريق الأولى مثاله قولك: أكرم زيدا ولو أساء فهذه الواو عطفت المذكور على محذوف تقديره - أكرم زيدا لو أحسن ولو أساء - إلا أنك نبهت بإيجاب إكرامه وإن أساء على أن إكرامه إن أحسن بطريق الأولى؛ ومنه * (كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم) * (النساء: 135) فإن معناه - والله تعالى أعلم - لو كان الحق على غيركم ولو كان عليكم ولكنه ذكر ما هو أعسر عليهم فأوجبه تنبيها على أن ما كان أسهل أولى بالوجوب، ولما كانت هذه الآية مخالفة لهذا النمط من الاستعمال لأن قوله سبحانه: * (ولو افتدى به) * يقتضي شرطا آخر محذوفا يكون هذا المذكور منبها عليه بطريق الأولى، والحالة المذكورة أعني حالة افتدائهم - بملء الأرض ذهبا - هي أجدر الحالات بقبول الفدية، وليس وراءها حالة أخرى تكون أولى بالقبول منها - خاض المفسرون بتأويلها - فذكر الزمخشري ثلاثة أوحه حاصل الأول: أن عدم قبول - ملء الأرض - كناية عن عدم قبول فدية ما لدلالة السياق على أن القبول يراد للخلاص وإنما عدل تصويرا للتكثير لأنه الغاية التي لا مطمح وراءها في العرف، وفي الضمير يراد * (ملء الأرض) * على الحقيقة فيصير المعنى لا تقبل منه فدية ولو افتدى - بملء الأرض ذهبا - ففي الأول نظر إلى العموم وسده مسد فدية ما، وفي الثاني إلى الحقيقة أو لكثرة المبالغة من غير نظر إلى القيام مقامها، وحاصل الثاني: أن المراد ولو افتدى بمثله معه كما صرح به في آية أخرى ولأنه علم أن الأول فدية أيضا كأنه قيل: لا يقبل ملء الأرض فدية ولو ضوعف، ويرجع هذا إلى جعل الباء بمعنى مع، وتقدير مثل بعده أي مع مثله، وحاصل الثالث: أنه يقدر وصف يعينه المساق من نحو كان متصدقا به، وحينئذ لا يكون الشرط المذكور من قبل ما يقصد به تأكيد الحكم السابق بل يكون شرطا محذوف الجواب ويكون المعنى لا يقبل منه - ملء الأرض ذهبا لو تصدق ولو افتدى به أيضا لم يقبل منه - وضمير * (به) * للمال من غير اعتبار وصف التصدق فالكلام من قبيل * (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره) * (فاطر: 11)، وعندي درهم ونصفه انتهى، ولا يخفى ما في ذلك من الخفاء والتكلف، وقريب من ذلك ما قيل: إن الواو زائدة، ويؤيد ذلك أنه قرىء في الشواذ بدونها وكذا القول: بأن * (لو) * ليست وصلية بل شرطية، والجواب ما بعد أو هو ساد مسده، وذكر ابن المنير في الجواب مدعيا أن تطبيق الآية عليه أسهل وأقرب بل ادعى أنه من السهل الممتنع أن قبول الفدية التي هي ملء الأرض ذهبا تكون على أحوال تارة تؤخذ قهرا كأخد الدية، وكرة يقول المفتدي: أنا أفدي نفسي بكذا ولا يفعل، وأخرى يقول ذلك والفدية عتيدة ويسلمها لمن يؤمل قبولها منه فالمذكور في الآية أبلغ الأحوال وأجدرها بالقبول، وهي أن يفتدي بملء الأرض ذهبا افتداءا محققا بأن
219

يقدر على هذا الأمر العظيم ويسلمه اختيارا، ومع ذلك لا يقبل منه فلأن لا يقبل منه مجرد قوله: أبذل المال وأقدر عليه، أو ما يجري هذا المجرى بطريق الأولى فتكون الواو والحالة هذه على بابها تنبيها على أن ثم أحوالا أخر لا يقع فيها القبول بطريق الأولى بالنسبة إلى الحالة المذكورة، وقوله تعالى: (ولو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به) مصرح بذلك، والمراد به أنه لا خلاص لهم من الوعيد وإلا فقد علم أنهم في ذلك اليوم أفلس من ابن المذلق لا يقدرون على شيء، ونظير هذا قولك: لا أبيعك هذا الثوب بألف دينار ولو سلمتها إلي في يدي انتهى، وقريب منه ما ذكره أبو حيان قائلا: إن الذي يقتضيه هذا التركيب وينبغي أن يحمل عليه أن الله تعالى أخبر أن من مات كافرا لا يقبل منه ما يملأ الأرض من ذهب على كل حال يقصدها ولو في حال افتدائه من العذاب لأن حالة الافتداء لا يمتن فيها المفتدي على المفتدى منه إذ هي حالة قهر من المفتدى منه، وقد قررنا في نحو هذا التركيب أن (لو) تأتي منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء وما بعدها جاء تنصيصا على الحالة التي يظن أنه لا تندرج فيما قبلها كقوله عليه الصلاة والسلام: " أعطوا السائل ولو جاء على فرس " و " ردوا السائل ولو بظلف محرق " كأن هذه الأشياء مما
لا ينبغي أن يؤتى بها لأن كون السائل على فرس يشعر بغناه فلا يناسب أن يعطى، وكذلك الظلف المحرق لا غناء فيه فكان يناسب أن لا يرد السائل به. وكذلك حال الافتداء يناسب أن يقبل منه ملء الأرض ذهبا لكنه لا يقبل، ونظيره * (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين) * (يوسف: 17) لأنهم نفوا أن يصدقهم على كل حال حتى في حالة صدقهم وهي الحالة التي ينبغي أن يصدقوا فيها ولو لتعميم النفي والتأكيد له. هذا وقد أخرج الشيخان وابن جرير - واللفظ له - عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت مفتديا به؟ فيقول: نعم فيقال: لقد سئلت ما هو أيسر من ذلك فلم تفعل فذلك قوله تعالى: * (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به) *.
* (أول‍ئك لهم عذاب أليم) * إسم الإشارة مبتدأ والظرف خبر ولاعتماده على المبتدأ رفع الفاعل، ويجوز أن يكون * (لهم) * خبرا مقدما، و * (عذاب) * مبتدأ مؤخرا، والجملة خبر عن اسم الإشارة والأول أحسن، وفي تعقيب ما ذكر بهذه الجملة مبالغة في التحذير والإقناط لأن من لا يقبل منه الفداء ربما يعفى عنه تكرما * (وما لهم من ن‍اصرين) * في رفع العذاب أو تخفيفه، و * (من) * مزيدة بعد النفي للاستغراق وتزاد بعده سواء دخلت على مفرد أو جمع خلافا لمن زعم أن ذلك مخصوص بالمفرد، وصيغة الجمع لمراعاة الضمير، وفيها توافق الفواصل، والمراد ليس لواحد منهم ناصر واحد.
وما باب الإشارة: * (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) * (آل عمران: 64) وهي كلمة التوحيد وترك اتباع الهوى والميل إلى السوى فإن ذلك لم يختلف فيه نبي ولا كتاب قط * (ما كان إبراهيم) * الخليل يهوديا متعلقا بالتشبيه * (ولا نصرانيا) * قائلا بالتثليث * (ولكن كان حنيفا) * مائلا عن الكون برؤية المكون * (مسلما) * (آل عمران: 67) منقادا عند جريان قضائه وقدره، أو ذاهبا إلى ما ذهب إليه المسلمون المصطفون القائلون * (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) * (الشورى: 11)، * (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه) * بشرط التجرد عن الكونين ومنع النفوس عن الالتفات إلى العالمين فإن الخليل لما بلغ حضرة القدس زاغ بصره عن عرائس الملك والملكوت فقال * (إني بريء مما تشركون *
220

إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض) * (الأنعام: 78، 79) * (وهذا النبي) * العظيم يعني محمدا عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل التسلم أولى أيضا بمتابعة أبيه الخليل وسلوك منهجه الجليل لأنه زبدة مخيض محبته وخلاصة حقيقة فطرته * (والذين آمنوا) * به صلى الله عليه وسلم وأشرقت عليهم أنواره وأينعت في رياض قلوبهم أسراراه * (والله ولي المؤمنين) * (آل عمران: 68) كافة يحفظهم عن آفات القهر ويدخلهم في قباب العصمة ويبيح لهم ديار الكرامة * (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) * جعله أهل الله سبحانه خطابا للمؤمنين كما قال بذلك بعض أهل الظاهر أي لا تفشوا أسرار الحق إلا إلى أهله ولا تقروا بمعاني الحقيقة للمحجوبين من الناس فيقعون فيكم ويقصدون سفك دمائكم * (قل إن الهدى) * أعني * (هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم) * من علم الباطن، أو مثل ما يحاجوكم به في زعمهم عند ربكم وهو علم الظاهر. وحاصل المعنى: إن الهدى بين الظاهر والباطن وأما الاقتصار على علم الظاهر وإنكار الباطن فليس بهدى * (قل إن الفضل بيد الله) * فيتصرف به حسب مشيئته التابعة لعلمه التابع للمعلوم في أزل الآزال * (والله واسع عليم) * (آل عمران: 73) فكيف يتقيد بالقيود بل يتجلى حسبما تقتضيه الحكمة في المظاهر لأهل الشهود * (يختص برحمته) * الخاصة * (من يشاء من عباده) * وهي المعرفة به وهي فوق مكاشفة غيب الملكوت ومشاهدة سر الجبروت، * (والله ذو الفضل العظيم) * (آل عمران: 74) الذي لا يكتنه * (بلى من أوفى بعهده) * وهو عهد الروح بنعت الكشف؛ وعهد القلب بتلقي الخطاب، وعهد العقل بامتثال الأوامر والنواهي * (واتقى) * من خطرات النفوس وطوارق الشهوات * (فإن الله يحب المتقين) * (آل عمران: 76) أي فهو بالغ مقام حقيقة المحبة * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) * (آل عمران: 77) الآية إشارة إلى من مال إلى خضرة الدنيا وآثرها على مشاهدة حضرة المولى وزين ظاهره بعبادة المقربين ومزجها بحب الرياسة فذلك الذي سقط عن رؤية اللقاء ومخاطبة الحق في الدنيا والآخرة * (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله) * لأن الاستنباء لا يكون إلا بعد الفناء في التوحيد فمن محا الله تعالى بشريته بإفنائه عن نفسه وأثابه وجودا نورانيا حقيا قابلا للكتاب والحكمة العقلية لا يمكن أن يدعو إلى نفسه إذ الداعي إليها لا يكون إلا محجوبا بها، وبين الأمرين تناقض * (ولكن) * يقول: * (كونوا ربانيين) * (آل عمران: 79) أي منسوبين إلى الرب، والمراد عابدين مرتاضين بالعلم والعمل والمواظبة على الطاعات لتغلب على أسراركم أنوار الرب، ولهم في الرباني عبارات كثيرة، فقال الشبلي: الرباني الذي لا يأخذ العلوم إلا من الرب ولا يرجع في شيء إلا إليه، وقال سهل: الرباني الذي لا يختار على ربه حالا، وقال القاسم: هو المتخلق بأخلاق الرب علما وحكما، وقيل: هو الذي محق في وجوده ومحق عن شهوده، وقيل: هو الذي لا تؤثر فيه تصاريف الأقدار على اختلافها وقيل وقيل. وكل الأقوال ترد من منهل واحد، * (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا) * فإنها بعض مظاهره وهو سبحانه المطلق حتى عن قيد الإطلاق * (أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) * (آل عمران: 80) أي أيأمركم بالاحتجاب برؤية الأشكال والنظر إلى الأمثال بعد أن لاح في أسراركم أنوار التوحيد وطلعت في قلوبكم شموس التفريد * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين) * (آل عمران: 81) الآية فيه إشارة إلى أنه سبحانه أخذ العهد من نواب الحقيقة المحمدية في الأزل بالانقياد والطاعة والإيمان بها، وخصهم بالذكر لكونهم أهل الصف الأول ورجال الحضرة، وقيل: إن الله تعالى أخذ عليهم ميثاق التعارف بينهم وإقامة الدين وعدم التفرق وتصديق بعضهم بعضا ودعوة الخلق إلى التوحيد وتخصيص العبادة بالله تعالى وطاعة النبي وتعريف بعضهم بعضا لأممهم، وهذا غير الميثاق العام المشار إليه بقوله تعالى: * (وإذ أخذ ربك
221

من بني آدم) * (الأعراف: 172) الخ * (فمن تولى بعد ذلك) * أي بعد ما علم عهد الله تعالى مع النبيين وتبليغ الأنبياء إليه ما عهد إليهم * (فأولئك هم الفاسقون) * (آل عمران: 82) أي الخارجون عن دين الله تعالى ولا دين غيره معتدا به في الحقيقة إلا توهما * (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض) * أي من في عالم الأرواح وعالم النفوس، أو من في عالم الملكوت وعالم الملك * (طوعا) * باختياره وشعوره * (وكرها) * من حيث لا يدري ولا يدري أنه لا يدري
بسبب احتجابه برؤية الأغيار، ولهذا سقط عن درجة القبول * (وإليه يرجعون) * (آل عمران: 83) في العاقبة حين يكشف عن ساق * (ومن يبتغ غير الإسلام) * وهو التوحيد * (دينا) * له * (فلن يقبل منه) * لعدم وصوله إلى الحق لمكان الحجاب * (وهو في الآخرة) * ويوم القيامة الكبرى * (من الخاسرين) * (آل عمران: 85) الذين خسروا أنفسهم * (كيف يهدي الله قوما) * (آل عمران: 86) الآية استبعاد لهداية من فطره الله على غير استعداد المعرفة، وحكم عليه بالكفر في سابق الأزل فإن من لم يكن له استعداد لم يقع في أنوار التجلي، ومن خاض في بحر القهر ولزم قعر بعد البعد لم يكن له سبيل إلى ساحل قرب القرب والله غالب على أمره ولله در من قال:
إذ المرء لم يخلق سعيدا تحيرت * ظنون مربيه وخاب المؤمل
فموسى الذي رباه جبريل كافر * وموسى الذي رباه فرعون مرسل
هذا والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
* (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * كلام مستأنف لبيان ما ينفع المؤمنين ويقبل منهم - إثر بيان ما لا ينفع الكفار ولا يقبل منهم، و - تنال - من نال نيلا إذا أصاب ووجد، ويقال: نال العلم إذا وصل إليه واتصف به، والبر الاحسان وكمال الخير، وبعضهم يفرق بينه وبين الخير بأن البر هو النفع الواصل إلى الغير مع القصد إلى ذلك، والخير هو النفع مطلقا وإن وقع سهوا، وضد البر العقوق، وضد الخير الشر، و - أل - فيه إما للجنس والحقيقة، والمراد لن تكونوا أبرارا حتى تنفقوا وهو المروي عن الحسن، وإنا لتعريف العهد، والمراد لن تصيبوا بر الله تعالى يا أهل طاعته حتى تنفقوا، وإلى ذلك ذهب مقاتل وعطاء. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه تفسير البر بالجنة، وروي مثله عن مسروق والسدي وعمرو بن ميمون، وذهب بعضهم إلى أن الكلام على حذف مضاف أي - لن تنالوا ثواب البر، وحتى بمعنى إلى، و - من - تبعيضية، ويؤيده قراءة عبد الله (بعض ما تحبون)، وقيل: بيانية، وعليه أيضا لا تخالف بين القراءتين معنى، و (ما) موصولة أو موصوفة، وجعلها مصدرية والمصدر بمعنى المفعول جائز على رأي أبي علي. وفي المراد من قوله سبحانه: * (مما تحبون) * أقوال، فقيل المال وكنى بذلك عنه لأن جميع الناس يحبونه، وقيل: نفائس الأموال وكرائمها، وقيل: ما يعم ذلك وغيره من سائر الأشياء التي يحبها الإنسان ويهواها، والإنفاق على هذا مجاز، وعلى الأولين حقيقة.
وكان السلف رضي الله تعالى عنهم إذا أحبوا شيئا جعلوه لله تعالى، فقد أخرج الشيخان والترمذي والنسائي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار نخلا بالمدينة وكان أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب فلما نزلت * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * قال أبو طلحة: يا رسول الله إن الله تعالى يقول: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * وإن أحب أموالي إلي بيرحاء وإنها صدقة لله تعالى أرجو برها وذخرها عند الله تعالى فضعها يا رسول الله حيث أراك الله تعالى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بخ بخ ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة
222

في أقاربه وبني عمه " وفي رواية لمسلم وأبي داود " فجعلها بين حسان بن ثابت وأبي بن كعب ". وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن محمد بن المنكدر قال: " لما نزلت هذه الآية جاء زيد بن حارثة بفرس يقال لها سبل لم يكن له مال أحب إليه منها فقال: هي صدقة فقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمل عليها ابنه أسامة فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في وجه زيد فقال: إن الله تعالى قد قبلها منك ". وأخرج عبد بن حميد عن ابن عمر قال: " حضرتني هذه الآية * (لن تنالوا البر) * الخ فذكرت ما أعطاني الله تعالى فلم أجد أحب إلي من مرجانة جارية لي رومية فقلت هي حرة لوجه الله تعالى فلو أني أعود في شيء جعلته لله تعالى لنكحتها فأنكحتها نافعا، وأخرج ابن المنذر عن نافع قال: كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يشتري السكر يتصدق به فنقول له: لو اشتريت لهم بثمنه طعاما كان أنفع لهم من هذا فيقول: أنا أعرف الذي تقولون ولكن سمعت الله تعالى يقول: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * وأن ابن عمر يحب السكر.
وظاهر هذه الأخبار يدل على أن الإنفاق في الآية يعم المستحب، وروي عن ابن عباس أن المراد به إخراج الزكاة الواجبة وما فرضه الله تعالى في الأموال فكأنه قيل: - لن تنالوا البر حتى تخرجوا زكاة أموالكم - وهو مبني على أن المراد من ما تحبون المال لا كرائمه، فقول النيسابوري: إنه يرد عليه أنه لا يجب على المزكي أن يخرج أشرف أمواله وأكرمها، ناشيء من قلة التأمل، ولو تأمل ما اعترض على ترجمان القرآن وحبر الأمة، ونقل الواحدي عن مجاهد والكلبي أن الآية منسوخة بآية الزكاة، وضعف بأن إيجاب الزكاة لا ينافي الترغيب في بذل المحبوب في سبيل الله تعالى، واستشكلت هذه الآية بأن ظاهرها يستدعي أن الفقير الذي لم ينفق طول عمره مما يحبه لعدم إمكانه لا يكون بارا أو لا يناله بر الله تعالى بأهل طاعته مع أنه ليس كذلك، وأجيب بأن الكلام خارج مخرج الحث على الإنفاق وهو مقيد بالإمكان وإنما أطلق على سبيل المبالغة في الترغيب، وقيل: الأولى أن يكون المراد: لن تنالوا البر الكامل الواقع على أشرف الوجوه حتى تنفقوا مما تحبون والفقير الذي لم ينفق طول عمره لا يبعد القول بأنه لا يكون بارا كاملا ولا يناله بر الله تعالى الكامل بأهل طاعته، وقيل: الأولى من هذا الأولى أن يقال: إن المراد: لن تنالوا البر على الإنفاق حتى تنفقوا مما تحبون وحاصله أن الإنفاق من المحبوب يترتب عليه نيل البر وأن الإنفاق مما عداه لا يترتب عليه نيل البر، وليس في الآية ما يدل على حصر ترتب البر على الإنفاق من المحبوب، ونفي ترتب البر على فعل آخر من الأفعال المأمور بها، وحينئذ لا يبعد أن يكون الفقير الغير المنفق بارا أو نائلا بر الله تعالى بأهل طاعته من جهة أخرى، وربما تستدعي أفعاله الخالية عن إنفاق المال من البر ما هو أكمل وأوفر مما يستدعيه الإنفاق المجرد منه؛ وينجر الكلام إلى مسألة تفضيل الفقير الصابر على الغني الشاكر، وهي مسألة طويلة الذيل قد ألفت فيها الرسائل * (وما تنفقوا من شيء) * أي أي شيء تنفقونه من الأشياء، أو أى شيء تنفقوا طيب تحبونه، أو
خبيث تكرهونه - فمن - على الأول متعلقة بمحذوف وقع صفة لاسم الشرط، وعلى الثاني في محل نصب على التمييز * (فإن الله به عليم) * تعليل لجواب الشرط واقع موقعه - أي فيجازيكم يحسبه - فإنه تعالى عليم بكل ما تنفقونه، وقيل: إنه جواب الشرط، والمراد أن الله تعالى يعلمه موجودا على الحد الذي تفعلونه من حسن النية وقبحها، وتقديم الظرف لرعاية الفواصل، وفي الآية ترغيب وترهيب قيل: وفيها إشارة إلى الحث على إخفاء الصدقة.
223